الكتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المؤلف: شهاب الدين محمود بن عبد الله الحسيني الألوسي (المتوفى: 1270هـ) المحقق: علي عبد الباري عطية الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة: الأولى، 1415 هـ عدد الأجزاء: 16 (15 ومجلد فهارس)   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير] ---------- تفسير الألوسي = روح المعاني الألوسي، شهاب الدين الكتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المؤلف: شهاب الدين محمود بن عبد الله الحسيني الألوسي (المتوفى: 1270هـ) المحقق: علي عبد الباري عطية الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة: الأولى، 1415 هـ عدد الأجزاء: 16 (15 ومجلد فهارس)   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير] بسم الله الرحمن الرحيم خطبة المفسر حمدا لمن جعل روح معاني الأكوان تفسيرا لآيات قدرته. وصير نقوش أشباح الأعيان بيانا لبينات وحدته. وأظهر من غيب هويته قرآنا غدا فرقانه كشافا عن فرق الكتب الإلهية الغياهب. وأبرز من سجف ألوهيته نورا أشرق على مرايا الكائنات. بحسب مزايا الاستعدادات. فاتضحت من معالم العوالم المراتب. وصلاة وسلاما على أول درة أضاءت من الكنز المخفي في ظلمة عماء القدم. فأبصرتها عين الوجود. وعلة إيجاد كل درة برأتها يد الحكيم إذ تردت في هوة العدم. فعادت ترفل بأردية كرم وجود مهبط الوحي الشفاهي الذي ارتفع رأس الروح الأمين بالهبوط إلى موطىء أقدامه ومعدن السر الإلهي. الذي انقطع فكر الملأ الأعلى دون ذكر الوصول إلى أدنى مقامه. فهو النبي الذي أبرزه مولاه من ظهور الكمون إلى حواشي متون الظهور. ليكون شرحا لكتاب صفاته وتقريرا ورفعه بتخصيصه من بين العموم بمظهرية سره المستور. وأنزل عليه قرآنا عربيا غير ذي عوج ليكون للعالمين نذيرا. وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد وعلى آله وأصحابه مطالع أنوار التنزيل ومغارب أسرار التأويل. الذين دخلوا عكاظ الحقائق بالوساطة المحمدية. فما برحوا حتى ربحوا فباعوا نفوسا وشروا نفيسا وقطعوا أسباب العلائق بالهمم الحقيقية. فما عرجوا حتى عرجوا فلقوا عزيزا وألقوا خسيسا. فهم النجوم المشرقة بنور الهدى والرجوم المحرقة لشياطين الردى رضي الله عنهم وأرضاهم. ووالى متبعيهم وأولاهم، ما سرحت روح المعاني في رياض القرآن، وسبحت أشباح المباني في حياض العرفان. «أما بعد» فيقول عيبة العيوب وذنوب الذنوب. أفقر العباد إليه عز شأنه مدرس دار السلطنة العلية، ومفتي بغداد المحمية أبو الثناء شهاب الدين السيد محمود الألوسي البغدادي عفي عنه. إن العلوم وإن تباينت أصولها، وغربت وشرقت فصولها، واختلفت أحوالها. وأتهمت وأنجدت أقوالها. وتنوعت أبوابها. وأشأمت وأعرقت أصحابها وتغايرت مسائلها. وأيمنت وأيسرت وسائلها، فهي بأسرها مهمة ومعرفتها على العلات نعمة. إلا أن أعلاها قدرا، وأغلاها مهرا وأسناها مبنى، وأسماها معنى وأدقها فكرا وأرقها سرا، وأعرقها نسبا وأعرفها أبا وأقومها قيلا وأقواها قبيلا وأحلاها لسانا وأجلاها بيانا وأوضحها سبيلا وأصحها دليلا وأفصحها نطقا. وأمنحها رفقا العلوم الدينية. والفهوم اللدنية. فهي شمس ضحاها وبدر دجاها وخال وجنتها ولعس شفتها ودعج عيونها وغنج جفونها وحبب رضابها، وتنهد كعابها، ورقة كلامها، ولين قوامها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 على نفسه فليبك من ضاع عمره ... وليس له منها نصيب ولا سهم فلا ينبغي لعاقل أن يستغرق النهار والليل إلا في غوص بحارها، أو يستنهض الرجل والخيل، إلا في سبر أغوارها. أو يصرف نفائس الأنفاس إلا في مهور أبكارها، أو ينفق بدر الأعمار إلا لتشوف بدر أسرارها. إذا كان هذا الدمع يجري صبابة ... على غير سلمى فهو دمع مضيع وإن من ذلك علم التفسير الباحث عما أراده الله سبحانه بكلامه المجيد، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. فهو الحبل المتين والعروة الوثقى. والصراط المبين، والوزر الأقوى والأوقى، وإني ولله تعالى المنة مذ ميطت عني التمائم، ونيطت على رأسي العمائم لم أزل متطلبا لاستكشاف سره المكتوم، مترقبا لارتشاف رحيقه المختوم طالما فرقت نومي لجمع شوارده وفارقت قومي لوصال خرائده. فلو رأيتني وأنا أصافح بالجبين صفحات الكتاب من السهر، وأطالع- إن أعوز الشمع يوما- على نور القمر، في كثير من ليالي الشهر وأمثالي إذ ذاك يرفلون في مطارف اللهو. ويرقلون في ميادين الزهو. ويؤثرون مسرات الأشباح على لذات الأرواح. ويهبون نفائس الأوقات، لنهب خسائس الشهوات. وأنا مع حداثة سني وضيق عطني لا تغرني حالهم ولا تغيرني أفعالهم. كأن لبني لبانتي، ووصال سعدي سعادتي. حتى وقفت على كثير من حقائقه، ووفقت لحل وفير من دقائقه. وثقبت- والثناء لله تعالى- من دره بقلم فكري درا مثمنا ولا بدع فأنا من فضل الله الشهاب وأبو الثناء. وقبل أن يكمل سني عشرين جعلت أصدح به وأصدع. وشرعت أدفع كثيرا من إشكالات الأشكال وأدفع وأتجاهر بما ألهمنيه ربي مما لم أظفر به في كتاب من دقائق التفسير. وأعلق على ما أغلق مما لم تعلق به ظفر كل ذي ذهن خطير. ولست أنا أول من منّ الله تعالى عليه بذلك، ولا آخر من سلك في هاتيك المسالك. فكم وكم للزمان ولد مثلي، وكم تفضل الفرد عز شأنه على كثير بأضعاف فضلي. ألا إنما الأيام أبناء واحد ... وهذي الليالي كلها أخوات إلا أن رياض هذه الأعصار عراها إعصار، وحياض تيك الأمصار اعتراها اعتصار. فصار العلم بالعيوق والعلماء أعز من بيض الأنوق، والفضل معلق بأجنحة النسور وميت حي الأدب لا يرجى له نشور. كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر ولكن الملك المنان أبقى من فضله الكثير قليلا من ذوي العرفان في هذه الأزمان، دينهم اقتناص الشوارد وديدنهم افتضاض أبكار الفوائد. يروون فيروون ويقدحون فيورون. لكل منهم مزية لا يستتر نورها ومرتبة لا ينتثر نورها. طالما اقتطفت من أزهارهم واقتبست من أنوارهم. وكم صدر منهم أودعت علمه صدري. وحبر فيهم أفنيت في فوائده حبري. ولم أزل مدة على هذه الحال لا أعبأ بما عبالي مما قيل أو يقال: كتاب الله لي أفضل مؤانس وسميري إذا احلولكت ظلمة الحنادس. نعم السمير كتاب الله إن له ... حلاوة هي أحلى من جنى الضرب به فنون المعاني قد جمعن فما ... تفترّ من عجب إلا إلى عجب أمر ونهي وأمثال وموعظة ... وحكمة أودعت في أفصح الكتب لطائف يجتليها كل ذي بصر ... وروضة يجتنيها كل ذي أدب وكانت كثيرا ما تحدثني في القديم نفسي أن أحبس في قفص التحرير ما اصطاده الذهن بشبكة الفكر أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 اختطفه بأن الإلهام في جو حدسي. فأتعلل تارة بتشويش البال (1) بضيق الحال وأخرى بفرط الملال لسعة المجال. إلى أن رأيت في بعض ليالي الجمعة من رجب الأصم سنة الألف والمائتين والاثنتين والخمسين بعد هجرة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رؤية لا أعدها أضغاث أحلام ولا أحسبها خيالات أوهام أن الله جل شأنه وعظم سلطانه أمرني بطي السماوات والأرض، ورتق فتقهما على الطول والعرض فرفعت يدا إلى السماء وخفضت الأخرى إلى مستقر الماء ثم انتبهت من نومتي، وأنا مستعظم رؤيتي، فجعلت أفتش لها عن تعبير فرأيت في بعض الكتب أنها إشارة إلى تأليف تفسير. فرددت حينئذ على النفس تعللها القديم وشرعت مستعينا بالله تعالى العظيم، وكأني إن شاء الله تعالى عن قريب عند إتمامه بعون عالم سري ونجواي أنادي وأقول غير مبال بتشنيع جهول: هذا تأويل رؤياي، وكان الشروع في الليلة السادسة عشرة من شعبان المبارك من السنة المذكورة وهي السنة الرابعة والثلاثون من سني عمري جعلها الله تعالى بسني لطفه معمورة وقد تشرف الذهن المشتت بتأليفه وأحكمت غرف مغاني المعاني بمحكم ترصيفه، زمن خلافة خليفة الله الأعظم، وظله المبسوط على خليقته في العالم مجدد نظام القواعد المحمدية، ومحدد جهات العدالة الإسلامية سورة الحمد الذي أظهره الرحمن في صورة الملك لكسر سورة الكافرين، وآية السيف الذي عوده الفاطر والفتح والنصر وأيده بمرسلات الذاريات في كل عصر فويل للمنافقين، من نازعات أرواحهم إذا عبس صمصام عزمه المتين، حضرة مولانا السلطان ابن السلطان سلطان الثقلين وخادم الحرمين المجدد الغازي محمود خان العدلي ابن السلطان عبد الحميد خان أيده الرحمن وأبد ملكه ما دام الدوران آمين، وبعد أن أبرمت حبل النية ونشرت مطوي الأمنية وعرا المخاض قريحة الأذهان وقرب ظهور طفل التفسير للعيان جعلت أفكر ما اسمه وبماذا أدعوه إذا وضعته أمه فلم يظهر لي اسم تهتش له الضمائر وتبتش من سماعه الخواطر فعرضت الحال لدى حضرة وزير الوزراء ونور حديقة البهاء ونور حدقة الوزراء آية الله التي لا تنسخها آية، ورب النهى الذي ليس له نهاية وصاحب الأخلاق التي ملك بها القلوب ومعدن الأذواق التي يكاد أن يعلم معها الغيوب مولانا علي رضا باشا لا زال له الرضا غطاء وفراشا فسماه على الفور وبديهة ذهنه تغني عن الغور «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» فيا له اسم ما اسماه نسأل الله تعالى أن يطابقه مسماه وأحمد الله تعالى حمدا غضا، وأصلي وأسلم على نبيه النبيه حتى يرضى. وقد آن وقت الشروع في المقصود مقدما عليه عدة فوائد يليق أن تكتب بسواد العيون على صفحات الخدود فأقول: «الفائدة الأولى» في معنى التفسير والتأويل وبيان الحاجة إلى هذا العلم وشرفه. وأما معناهما فالتفسير تفعيل من الفسر وهو لغة البيان والكشف والقول بأنه مقلوب السفر مما لا يسفر له وجه، ويطلق التفسير على التعرية للانطلاق يقال فسرت الفرس إذا عريته لينطلق ولعله يرجع لمعنى الكشف كما لا يخفى بل كل تصاريف حروفه لا تخلو عن ذلك كما هو ظاهر لمن أمعن النظر. ورسموه بأنه علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها وأحكامها الإفرادية والتركيبية ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب وتتمات لذلك كمعرفة النسخ وسبب النزول وقصة توضح ما أبهم في القرآن ونحو ذلك. والتأويل من الأول وهو الرجوع والقول بأنه من الإيالة وهي السياسة كأن المؤول للكلام ساس الكلام ووضع المعنى فيه موضعه ليس بشيء واختلف في الفرق بين التفسير والتأويل فقال أبو عبيدة: هما بمعنى، وقال الراغب: التفسير أعم وأكثر استعماله في الألفاظ ومفرداتها في الكتب الإلهية وغيرها والتأويل في المعاني والجمل في   (1) أنكر جماعة من أهل اللغة مجيء مشوش وقالوا الصواب أن يقال هوشته فهو مهوش لأنه من الهوش وهو اختلاط الشيء. وأثبته الجوهري فقال التشويش التخليط ووهمه صاحب القاموس. وقال ابن بري: إنه من كلام المولدين ولا أصل له في العربية. وقد اشتهر هذا اللفظ ووقع في كلام الزمخشري وغيره من أهل المعاني كقولهم هذا لف ونشر مشوش. اهـ مصححه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 الكتب الإلهية خاصة وقال الماتريدي: التفسير القطع بأن مراد الله تعالى كذا والتأويل ترجيح أحد المحتملات بدون قطع، وقيل: التفسير ما يتعلق بالرواية، والتأويل ما يتعلق بالدراية. وقيل غير ذلك، وعندي أنه إن كان المراد الفرق بينهما بحسب العرف فكل الأقوال فيه ما سمعتها وما لم تسمعها مخالفة للعرف اليوم إذ قد تعارف من غير نكير أن التأويل إشارة قدسية ومعارف سبحانية تنكشف من سجف العبارات للسالكين وتنهل من سحب الغيب على قلوب العارفين، والتفسير غير ذلك وإن كان المراد الفرق بينهما بحسب ما يدل عليه اللفظ مطابقة فلا أظنك في مرية من رد هذه الأقوال أو بوجه ما فلا أراك ترضى إلا أن في كل كشف إرجاعا وفي كل إرجاع كشفا فافهم، وأما بيان الحاجة إليه فلأن فهم القرآن العظيم- المشتمل على الأحكام الشرعية التي هي مدار السعادة الأبدية وهو العروة الوثقى والصراط المستقيم- أمر عسير لا يهتدى إليه إلا بتوفيق من اللطيف الخبير حتى أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم على علو كعبهم في الفصاحة واستنارة بواطنهم بما أشرق عليها من مشكاة النبوة كانوا كثيرا ما يرجعون إليه صلى الله تعالى عليه وسلم بالسؤال عن أشياء لم يعرجوا عليها ولم تصل أفهامهم إليها بل ربما التبس عليهم الحال ففهموا غير ما أراده الملك المتعال كما وقع لعدي بن حاتم في الخيط الأبيض والأسود، ولا شك أنا محتاجون إلى ما كانوا محتاجين إليه وزيادة «وأما بيان شرفه» فلأن شرف العلم بشرف موضوعه وشرف معلومه وغايته وشدة الاحتياج إليه وهو حائز لجميعها، فإن موضوعه كلام الله تعالى وماذا عسى أن يقال فيه، ومعلومه مع أنه مراد الله تعالى الدال عليه كلامه جامع للعقائد الحقة والأحكام الشرعية وغيرها، وغايته الاعتصام بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها والوصول إلى سعادة الدارين وشدة الاحتياج إليه ظاهرة مما تقدم بل هو رئيس جميع العلوم الدينية لكونها مأخوذة من الكتاب وهي تحتاج من حيث الثبوت أو من حيث الاعتداد إلى علم التفسير وهذا لا ينافي كون الكلام رئيسها أيضا لأن علم التفسير لتوقفه على ثبوت كونه تعالى متكلما يحتاج إلى الكلام والكلام لتوقف جميع مسائله من حيث الثبوت أو الاعتداد على الكتاب يتوقف على التفسير فيكون كل منهما رئيسا للآخر من وجه على أن رياسة التفسير بناء على ذلك الشرف مما لا ينتطح فيه كبشان، وأما الآثار الدالة على شرفه فكثيرة. أخرج ابن أبي حاتم وغيره من طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ قال: المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله، وأخرج أبو عبيدة عن الحسن قال: ما أنزل الله آية إلا وهو يحب أن تعلم فيما أنزلت وما أراد بها، وأخرج ابن أبي حاتم عن عمرو بن مرة قال: ما مررت بآية لا أعرفها إلا أحزنتني لأني سمعت الله يقول: «وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون» إلى غير ذلك. «الفائدة الثانية» فيما يحتاجه التفسير ومعنى التفسير بالرأي- وحكم كلام السادة الصوفية في القرآن، فأما ما يحتاجه التفسير فأمور: «الأول» علم اللغة لأن به يعرف شرح مفردات الألفاظ ومعلولاتها بحسب الوضع ولا يكفي اليسير إذ قد يكون اللفظ مشتركا وهو يعلم أحد المعنيين والمراد الآخر فمن لم يكن عالما بلغات العرب لا يحل له التفسير كما قاله مجاهد وينكل كما قاله مالك- وهذا مما لا شبهة فيه- نعم روي عن أحمد أنه سئل عن القرآن يمثل له الرجل ببيت من الشعر فقال ما يعجبني- وهو ليس بنص في المنع عن بيان المدلول اللغوي للعارف كما لا يخفى. «الثاني» معرفة الأحكام التي للكلم العربية من جهة إفرادها وتركيبها ويؤخذ ذلك من علم النحو أخرج أبو عبيدة عن الحسن أنه سئل عن الرجل يتعلم العربية يلتمس بها حسن المنطق ويقيم بها قراءته فقال: حسن فتعلمها فإن الرجل يقرأ الآية فيعيا بوجهها فيهلك فيها- وفي قصة الأسود ما يغني عن الإطالة. «الثالث» علم المعاني والبيان والبديع، ويعرف بالأول خواص تراكيب الكلام من جهة إفادتها المعنى- وبالثاني خواصها من حيث اختلافها، وبالثالث وجوه تحسين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 الكلام وهو الركن الأقوم واللازم الأعظم في هذا الشأن كما لا يخفى ذلك على من ذاق طعم العلوم ولو بطرف اللسان. «الرابع» تعيين مبهم وتبيين مجمل وسبب نزول ونسخ ويؤخذ ذلك من علم الحديث. «الخامس» معرفة الإجمال والتبيين والعموم والخصوص والإطلاق والتقييد ودلالة الأمر والنهي وما أشبه هذا وأخذوه من أصول الفقه. «السادس» الكلام فيما يجوز على الله وما يجب له وما يستحيل عليه والنظر في النبوة ويؤخذ هذا من علم الكلام ولولاه يقع المفسر في ورطات. «السابع» علم القراءات لأنه به يعرف كيفية النطق بالقرآن، وبالقراءات ترجح بعض الوجوه المحتملة على بعض هذا- وعد السيوطي مما يحتاج إليه المفسر علم التصريف وعلم الاشتقاق- وأنا أظن أن المهارة ببعض ما ذكرنا يترتب عليها ما يترتب عليهما من الثمرة وعد أيضا علم الفقه ولم يعده غيره ولكل وجهة- وعد علم الموهبة أيضا من ذلك. قال: وهو علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم وإليه الإشارة بالحديث «من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم» ثم قال: ولعلك تستشكل علم الموهبة وتقول هذا شيء ليس في قدرة الإنسان تحصيله وليس كما ظننت والطريق في تحصيله ارتكاب الأسباب الموجبة له من العمل والزهد إلى آخر ما قاله، وفيه أن علم الموهبة بعد تسليم أنه كسبي إنما يحتاج إليه في الاطلاع على الأسرار لا في أصل فهم معاني القرآن كما يفهمه كلام البرهان وكثير من المفسرين بصدد الثاني والواقفون على الأسرار- وقليل ما هم- لا يستطيعون التعبير عن كثير مما أفيض عليهم فضلا عن تحريره وإقامة البرهان عليه على أن ذلك تأويل لا تفسير فلعل السيوطي أراد من عبارته معنى آخر يظهر لك بالتدبير فتدبر «وأما التفسير بالرأي» فالشائع المنع عنه واستدل عليه بما أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» وفي رواية عن أبي داود «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» ولا دليل في ذلك أما أولا فلأن في صحة الحديث الأول مقالا قال في المدخل في صحته نظر وإن صح فإنما أراد به- والله تعالى أعلم- فقد أخطأ الطريق إذ الطريق الرجوع في تفسير ألفاظه إلى أهل اللغة وفي نحو الناسخ والمنسوخ إلى الأخبار وفي بيان المراد منه إلى صاحب الشرع فإن لم يجد هناك وهنا فلا بأس بالفكرة ليستدل بما ورد على ما لم يرد أو أراد من قال بالقرآن قولا يوافق هواه بأن يجعل المذهب أصلا والتفسير تابعا له فيرد إليه بأي وجه فقد أخطأ فالباء على ذلك سببية أو يقال ذلك في المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله أو في الجزم بأن مراد الله تعالى كذا على القطع من غير دليل، وأما الحديث الثاني فله معنيان، الأول من قال في مشكل القرآن بما لا يعلم فهو متعرض لسخط الله تعالى، والثاني وصحح من قال: «في القرآن قولا يعلم أن الحق غيره فليتبوأ مقعده في النار» وأما ثانيا فلأن الأدلة على جواز الرأي والاجتهاد في القرآن كثيرة وهي تعارض ما يشعر بالمنع فقد قال تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء: 83] وقال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد: 24] وقال تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ [ص: 29] وأخرج أبو نعيم وغيره من حديث ابن عباس «القرآن ذلول ذو وجوه فاحملوه على أحسن وجوهه» وقد دعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لابن عباس بقوله «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» وقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه سئل هل خصكم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بشيء؟ فقال: ما عندنا غير ما في هذه الصحيفة أو فهم يؤتاه الرجل في كتابه إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة، والعجب كل العجب مما يزعم أن علم التفسير مضطر إلى النقل في فهم معاني التراكيب ولم ينظر إلى اختلاف التفاسير وتنوعها ولم يعلم أن ما ورد عنه صلى الله تعالى عليه وسلم في ذلك كالكبريت الأحمر فالذي ينبغي أن يعول عليه أن من كان متبحرا في علم اللسان مترقيا منه إلى ذوق العرفان وله في رياض العلوم الدينية أوفى مرتع، وفي حياضها أصفى مكرع يدرك إعجاز القرآن بالوجدان لا بالتقليد وقد غدا ذهنه لما أغلق من دقائق التحقيقات أحسن إقليد فذاك يجوز له أن يرتقي من علم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 التفسير ذروته ويمتطي منه صهوته، وأما من صرف عمره بوساوس أرسطاطاليس واختار شوك القنافذ على ريش الطواويس فهو بمعزل عن فهم غوامض الكتاب وإدراك ما تضمنه من العجب العجاب، وأما كلام السادة الصوفية في القرآن فهو من باب الإشارات إلى دقائق تنكشف على أرباب السلوك ويمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة وذلك من كمال الإيمان ومحض العرفان لا أنهم اعتقدوا أن الظاهر غير مراد أصلا وإنما المراد الباطن فقط إذ ذاك اعتقاد الباطنية الملاحدة توصلوا به إلى نفي الشريعة بالكلية وحاشى سادتنا من ذلك كيف وقد حضوا على حفظ التفسير الظاهر وقالوا لا بد منه أولا إذ لا يطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر ومن ادعى فهم أسرار القرآن قبل إحكام التفسير الظاهر فهو كمن ادعى البلوغ إلى صدر البيت قبل أن يجاوز الباب ومما يؤيد أن للقرآن ظاهرا وباطنا ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس قال: القرآن ذو شجون وفنون، وظهور وبطون، لا تنقضي عجائبه، ولا تبلغ غايته فمن أوغل فيه برفق نجا ومن أوغل فيه بعنف هوى أخبار وأمثال وحلال وحرام وناسخ ومنسوخ ومحكم ومتشابه وظهر وبطن فظهره التلاوة وبطنه التأويل فجالسوا به العلماء وجانبوا به السفهاء. وقال ابن مسعود: من أراد علم الأولين والآخرين فليتل القرآن، ومن المعلوم أن هذا لا يحصل بمجرد تفسير الظاهر وقد قال بعض من يوثق به: لكل آية ستون ألف فهم، وروي عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «لكل آية ظهر وبطن ولكل حرف حد ولكل حد مطلع» قال ابن النقيب: إن ظاهرها ما ظهر من معانيها لأهل العلم بالظاهر وباطنها ما تضمنته من الأسرار التي أطلع الله تعالى عليها أرباب الحقائق، ومعنى قوله ولكل حرف حد أن لكل حرف منتهى فيما أراده الله تعالى من معناه ومعنى قوله: ولكل حد مطلع أن لكل غامض من المعاني والأحكام مطلعا يتوصل به إلى معرفته ويوقف عن المراد به وقيل في رواية لكل آية ظهر وبطن وحد ومطلع والمذكور بوساطة الألفاظ وتأليفاتها وضعا وإفادة وجعلها طرقا إلى استنباط الأحكام الخمسة هو الظهر وروح الألفاظ أعني الكلام المعتلي عن المدارك الآلية بجواهر الروح القدسية هو البطن وإليه الإشارة بقول الأمير السابق. والحد إما بين الظهر والبطن يرتقى منه إليه وهو المدرك بالجمعية من الجمعية وإما بين البطن والمطلع فالمطلع مكان الاطلاع من الكلام النفسي إلى الاسم المتكلم المشار إليه بقول الصادق لقد تجلى الله تعالى في كتابه لعباده ولكن لا يبصرون، والحد بينهما يرتقى به من البطن إليه عند إدراك الرابطة بين الصفة والاسم واستهلاك صفة العبد تحت تجليات أنوار صفة المتكلم تعالى شأنه، وقيل الظهر التفسير والبطن التأويل والحد ما تتناهى إليه الفهوم من معنى الكلام والمطلع ما يصعد إليه منه فيطلع على شهود الملك العلام انتهى. فلا ينبغي لمن له أدنى مسكة من عقل بل أدنى ذرة من إيمان أن ينكر اشتمال القرآن على بواطن يفيضها المبدأ الفياض على بواطن من شاء من عباده ويا ليت شعري ماذا يصنع المنكر بقوله تعالى: وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ [يوسف: 111، الأنعام: 154، الأعراف: 145] وقوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 38] ويا لله تعالى العجب كيف يقول باحتمال ديوان المتنبي وأبياته المعاني الكثيرة ولا يقول باشتمال قرآن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وآياته وهو كلام رب العالمين المنزل على خاتم المرسلين على ما شاء الله تعالى من المعاني المحتجبة وراء سرادقات تلك المباني سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ [النور: 16] بل ما من حادثة ترسم بقلم القضاء في لوح الزمان إلا وفي القرآن العظيم إشارة إليها فهو المشتمل على خفايا الملك والملكوت وخبايا قدس الجبروت. وقد ذكر ابن خلكان في تاريخه أن السلطان صلاح الدين لما فتح مدينة حلب أنشد القاضي محيي الدين قصيدة بائية أجاد فيها كل الإجادة وكان من جملتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 وفتحك القلعة الشهباء في صفر ... مبشر بفتوح القدس في رجب فكان كما قال فسأل القاضي من أين لك هذا فقال: أخذته من تفسير ابن برجان في قوله تعالى: الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم: 1- 4] قال المؤرخ: فلم أزل أتطلب التفسير المذكور حتى وجدته على هذه الصورة وذكر له حسابا طويلا وطريقا في استخراجه وله نظائر كثيرة، ومن المشهور استنباط ابن الكمال فتح مصر على يد السلطان سليم من قوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء: 105] فالإنصاف كل الإنصاف التسليم للسادة الصوفية الذين هم مركز للدائرة المحمدية ما هم عليه واتهام ذهنك السقيم فيما لم يصل لكثرة العوائق والعلائق إليه. وإذا لم تر الهلال فسلم ... لأناس رأوه بالأبصار وسيأتي تتمة لهذا البحث إن شاء الله تعالى والله الهادي إلى سواء السبيل. «الفائدة الثالثة» اعلم أن لكتاب الله تعالى أسماء أنهاها شيدلة في البرهان خمسة وخمسين اسما وذكر السيوطي بعد عدها في الإتقان وجوه تسميته بها ولم يذكر غير ذلك وعندي أنها كلها ترجع بعد التأمل الصادق إلى القرآن والفرقان رجوع أسماء الله تعالى إلى صفتي الجمال والجلال فهما الأصل فيها، وقد اختلف الناس في تحقيق لفظ القرآن، فالمروي عن الشافعي وبه قال جماعة أنه اسم علم غير مشتق خاص بهذا الكلام المنزل على النبي المرسل صلى الله تعالى عليه وسلم وهو معرفا غير مهموز عنده كما حكاه عنه البيهقي والخطيب وغيرهما، والمنقول عن الأشعري وأقوام أنه مشتق من قرنت الشيء بالشيء إذا ضممته إليه وسمي به عندهم لقران السور والآيات والحروف فيه بعضها ببعض، وقال الفراء هو مشتق من القرائن لأن الآيات فيه يصدق بعضها بعضا ويشبه بعضها بعضا وهو على هذين القولين بلا همز أيضا ونونه أصلية، وقال الزجاج: هذا القول غلط والصواب أن ترك الهمزة فيه من باب التخفيف ونقل حركتها إلى ما قبلها فهو عنده وصف مهموز على فعلان مشتق من القرء بمعنى الجمع ومنه قرأت الماء في الحوض إذا جمعته وسمي به لأنه جمع السور كما قال أبو عبيدة أو ثمرات الكتب السالفة كما قال الراغب أو لأن القارئ يظهره من فيه أخذا من قولهم ما قرأت الناقة سلى قط (1) كما حكي عن قطرب وعند اللحياني وجماعة هو مصدر كالغفران سمي به المقروء تسمية المفعول بالمصدر، قال السيوطي: قلت والمختار عندي في هذه المسألة ما نص عليه الشافعي رضي الله تعالى عنه انتهى- وأنا متبرئ من حولي- أقول قول الزجاج أرق من وجه إذ الشائع فيه الهمز وبه قرأ السبعة ما عدا ابن كثير وقد وجه إسقاطها بما مر آنفا ولم يوجه إثباتها وكأن قول السيوطي محض تقليد لإمام مذهبه حيث لم يذكر الدليل ولم يوضح السبيل، وعندي أنه في الأصل وصف أو مصدر كما قال الزجاج واللحياني لكنه نقل وجعل علما شخصيا كما ذهب إليه الشافعي ومحققو الأصوليين وعليه لا يعرف القرآن لأن التعريف لا يكون إلا للحقائق الكلية ولعل من عرفه بالكلام المنزل للإعجاز بسورة منه أراد تصوير مفهوم لفظ القرآن وكذا من قال كالغزالي إنه ما نقل بين دفتي المصحف تواترا أراد تخصيص الاسم بأحد الأقسام الثلاثة مما نقل بين الدفتين ومما لم ينقل كالمنسوخ تلاوته نحو- إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة- وما نقل ولم يتواتر نحو- ثلاثة أيام متتابعات- ليعلم أن ذلك هو الدليل وعليه الأحكام من نحو منع التلاوة والمس محدثا وإلا فيرد على الأول إن أريد التمييز أن كونه للإعجاز ليس لازما بينا إذ لا يعرفه إلا الأفراد من العلماء فضلا عن أن يكون ذاتيا فكيف يصح لتعريف الحقيقة وتمييزها وهو إنما يكون بالذاتيات أو باللوازم البينة،   (1) أي ما أسقطت ولدا أي ما حملت قط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وأيضا ان معرفة السورة منه متوقفة على معرفته فيدور. ويرد على الثاني مثل ثاني ما ورد على الأول إذ معرفة المصحف موقوفة على معرفة القرآن إذ ليس هو إلا ما كتب فيه القرآن فأخذه في تعريفه دور أيضا، هذا وقد قال ساداتنا الصوفية أفاض الله تعالى علينا من فتوحاتهم القدسية: إن القرآن إشارة إلى الذات التي يضمحل بها جميع الصفات فهي المجلى المسمى بالأحدية أنزلها الحق تعالى شأنه على نبيه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ليكون مشهد الأحدية من الأكوان، ومعنى هذا الإنزال أن الحقيقة الأحدية المتعالية في ذراها ظهرت فيه صلى الله تعالى عليه وسلم بكمالها وما ادخر عنه شيء بل أفيض عليه الكل كرما إلهيّا ذاتيا ووصف القرآن في بعض الآيات بالكريم لذلك إذ أي كرم يضاهي هذا الكرم، وأنى تقاس هذه النعمة بسائر النعم، وأما القرآن الحكيم فهوية الحقائق الإلهية يعرج العبد بالتحقق بها في الذات شيئا فشيئا على ما اقتضته الحكمة وإلى ذلك أشار الحق تعالى بقوله: وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا [الفرقان: 32] وهذا الحكم لا ينقطع أبدا إذ لا يزال العبد في ترقّ والحق في تجلّ فسبحان من لا تقيده الأكوان وهو كل يوم في شأن، وأما القرآن العظيم في قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر: 87] فهو إشارة إلى الجملة الذاتية لا باعتبار النزول ولا باعتبار المكانة بل مطلق الأحدية الذاتية التي هي في مطلق الهوية الجامعة لجميع المراتب والصفات والشؤون والاعتبارات ولهذا قرن بالعظيم، وأما السبع المثاني فهو ما ظهر عليه في وجوده من التحقق بالصفات السبع، وأما قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرحمن: 2] فهو إشارة إلى أن العبد إذا تجلى عليه الرحمن وجد لذة رحمانية تكسبه معرفة قرآنية فلا يعلم الحق إلا من طريق أسمائه وصفاته، وأما الفرقان عندهم فإشارة إلى حقيقة الأسماء والصفات على اختلاف تنوعاتها فباعتباراتها تتميز كل صفة واسم من غيرها فحصل الفرق في نفس الحق من حيث أسماؤه وصفاته فإن اسمه المنعم غير اسمه المنتقم وصفة الرضا غير صفة الغضب وإليه الإشارة بقوله: «سبقت رحمتي غضبي» وهي متفاوتة المراتب في الفضل نظرا إلى أعيانها لا باعتبار أن في شيء منها نقصا أو مفضولية ولهذا حكمت بعضها على بعض كما يشير إليه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «أعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك» فكانت المعافاة أفضل من العقوبة والرضا أفضل من السخط فأعاذه بالفاضل مما يليه، وكذا أعاذه بذاته من ذاته فكما أن الفرق حاصل في الأفعال كذلك في الصفات بل في نفس وأحدية الذات التي لا فرق فيها لكن من غريب شؤونها جمعها النقيضين. قال أبو سعيد: عرفت الله تعالى بجمعه بين الضدين، ولكونه صلى الله تعالى عليه وسلم مظهرا للقرآن والفرقان كان خاتم النبيين، وإمام المرسلين. لأنه ما ترك شيئا يحتاج إليه إلا وقد جاء به فلا يجد الذي يأتي بعده من الكمال شيئا مما ينبغي أن ينبه عليه. قال تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 38] . وقال تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا [الإسراء: 12] . إلى غير ذلك من الآيات. «وقد يقال» : القرآن والفرقان إشارتان إلى مقام الجمع والفرق بأقسامهما. قالوا: ولا بد للعبد الكامل منهما، فإن من لا تفرقة له لا عبودية له، ومن لا جمع له لا معرفة له. والجمع عندهم شهود الأشياء بالله تعالى والتبري من الحول والقوة إلا بالله وجمع الجمع الاستهلاك بالكلية والفناء عما سوى الله تعالى وهو المرتبة الأحدية، والفرق أنواع فرق أول وهو الاحتجاب بالخلق عن الحق وبقاء رسوم الخليقة بحالها وفرق ثان وهو شهود قيام الخلق بالحق ورؤية الوحدة في الكثرة والكثرة في الوحدة من غير احتجاب إحداهما عن الأخرى، وفرق الوصف وهو ظهور الذات الأحدية بأوصافها في الحضرة الواحدة، وفرق الجمع وهو تكثر الواحد بظهوره في المراتب التي هي ظهور شؤون الذات الأحدية وتلك الشؤون في الحقيقة اعتبارات محضة لا تحقق لها إلا عند بروز الواحد بصورها وكثيرا ما يطلقون القرآن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 على العلم اللدني الإجمالي الجامع للحقائق كلها والفرقان على العلم التفصيلي الفارق بين الحق والباطل وكتاب الله تعالى جامع لذلك كله كما لا يخفى على أهله، وذكر الشيخ الأكبر قدس سره أن القرآن يتضمن الفرقان، والفرقان لا يتضمن القرآن لأن تفاصيل المراتب والأسماء المقتضية لها موجودة في الجمع والجمع لا يوجد في التفاصيل ولهذا ما اختص بالقرآن إلا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فليفهم. ونسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا ويزيل بعلمه جهلنا إنه على ما يشاء قدير. «الفائدة الرابعة» في تحقيق معنى أن القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق: «اعلم» أن هذه المسألة من أمهات المسائل الدينية والمباحث الكلامية كم زلت فيها أقدام وضلت عن الحق بها أقوام وهي وإن كانت مشروحة في كتب المتقدمين مبسوطة في زبر المتأخرين لكني بحول من عز حوله وفضل من غمرنا فضله أوردها في هذا الكتاب ليتذكر أولو الألباب بأسلوب عجيب وتحقيق غريب لا أظنك شنفت سمعك بمثل لآليه، ولا نورت بصرك بشبه بدر لياليه، فماء ولا كصدي ومرعى ولا كالسعدان. وما كل زهر ينبت الروض طيب ... ولا كل كحل للنواظر إثمد «فأقول» إن الإنسان له كلام بمعنى التكلم الذي هو مصدر وكلام بمعنى المتكلم به الذي هو الحاصل بالمصدر. ولفظ الكلام موضوع لغة للثاني قليلا كان أو كثيرا حقيقة كان أو حكما. وقد يستعمل استعمال المصدر كما ذكره الرضي وكل من المعنيين إما لفظي أو نفسي «فالأول» من اللفظي فعل الإنسان باللسان وما يساعده من المخارج «والثاني» منه كيفية في الصوت المحسوس «والأول» من النفسي فعل قلب الإنسان ونفسه الذي لم يبرز إلى الجوارح «والثاني» كيفية في النفس إذ لا صوت محسوسا عادة فيها وإنما هو صوت معنوي مخيل. أما الكلام اللفظي بمعنييه فمحل وفاق. وأما النفسي فمعناه الأول تكلم الإنسان بكلمات ذهنية وألفاظ مخيلة يرتبها في الذهن على وجه إذا تلفظ بها بصوت محسوس كانت عين كلماته اللفظية، ومعناه الثاني هو هذه الكلمات الذهنية والألفاظ المخيلة المرتبة ترتيبا ذهنيا منطبقا عليه الترتيب الخارجي. والدليل على أن للنفس كلاما بالمعنيين الكتاب والسنة فمن الآيات قوله تعالى: فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً [يوسف: 77] فإن «قال» بدل من «أسر» أو استئناف بياني كأنه قيل فماذا قال في نفسه في ذلك الإسرار فقيل: قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً. وعلى التقديرين فالآية دالة على أن للنفس كلاما بالمعنى المصدري وقولا بالمعنى الحاصل بالمصدر وهو بدل من أسر والجملة بعدها وقوله تعالى: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى [الزخرف: 80] وفسر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم السر بما أسره ابن آدم في نفسه. وقوله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ [الأعراف: 205] وقوله تعالى: يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا [آل عمران: 154] أي يقولون في أنفسهم كما هو الأسرع انسياقا إلى الذهن، والآيات في ذلك كثيرة. ومن الأحاديث ما رواه الطبراني عن أم سلمة أنها سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقد سأله رجل فقال: «إني لأحدث نفسي بالشيء لو تكلمت به لأحبطت أجري فقال: لا يلقى ذلك الكلام إلا مؤمن» فسمى صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك الشيء المحدث به كلاما مع أنه كلمات ذهنية والأصل في الإطلاق الحقيقة ولا صارف عنها. وقوله تعالى في الحديث القدسي «أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي» الحديث. وفيه دليل على أن للعبد كلاما نفسيا بالمعنيين، وللرب أيضا كلاما نفسيا كذلك ولكن أين التراب من رب الأرباب؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 «فالمعنى الأول» للحق تعالى شأنه صفة أزلية منافية للآفة الباطنية التي هي بمنزلة الخرس في التكلم الإنساني اللفظي ليس من جنس الحروف والألفاظ أصلا وهي واحدة بالذات تتعدد تعلقاتها بحسب تعدد المتكلم به، وحاصل الحديث من تعلق تكلمه بذكر اسمي تعلق تكلمي بذكر اسمه، والتعلق من الأمور النسبية التي لا يضر تجددها، وحدوث المتعلق إنما يلزم في التعلق التنجيزي ولا ننكره، وأما التعلق المعنوي التقديري ومتعلقة فأزليان، ومنه ينكشف وجه صحة نسبة السكوت عن أشياء رحمة غير نسيان كما في الحديث إذ معناه أن تكلمه الأزلي لم يتعلق ببيانها مع تحقق اتصافه أزلا بالتكلم النفسي، وعدم هذا التعلق الخاص لا يستدعي انتفاء الكلام الأزلي كما لا يخفى. «والمعنى الثاني» له تعالى شأنه كلمات غيبية وهي ألفاظ حكمية مجردة عن المواد مطلقا نسبية كانت أو خيالية أو روحانية، وتلك الكلمات أزلية مترتبة من غير تعاقب في الوضع الغيبي العلمي لا في الزمان إذ لا زمان، والتعاقب بين الأشياء من توابع كونها زمانية ويقربه من بعض الوجوه وقوع البصر على سطور الصفحة المشتملة على كلمات مرتبة في الوضع الكتابي دفعة فهي مع كونها مترتبة لا تعاقب في ظهورها فجميع معلومات الله الذي هو نور السماوات والأرض مكشوفة له أزلا كما هي مكشوفة له فيما لا يزال ثم تلك الكلمات الغيبية المترتبة ترتبا وضعيا أزليا يقدر بينها التعاقب فيما لا يزال، والقرآن كلام الله تعالى المنزل بهذا المعنى فهو كلمات غيبية مجردة عن المواد مترتبة في علمه أزلا غير متعاقبة تحقيقا بل تقديرا عند تلاوة الألسنة الكونية الزمانية، ومعنى تنزيلها إظهار صورها في المواد الروحانية والخيالية والحسية من الألفاظ المسموعة والذهنية والمكتوبة، ومن هنا قال السنيون: القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق وهو مكتوب في المصاحف محفوظ في الصدور مقروء بالألسن مسموع بالآذان غير حال في شيء منها وهو في جميع هذه المراتب قرآن حقيقة شرعية معلوم من الدين بالضرورة، فقولهم غير حال إشارة إلى مرتبته النفسية الأزلية فإنه من الشؤون الذاتية ولم تفارق الذات ولا تفارقها أبدا ولكن الله تعالى أظهر صورها في الخيال والحس فصارت كلمات مخيلة وملفوظة مسموعة ومكتوبة مرئية فظهر في تلك المظاهر من غير حلول إذ هو فرع الانفصال وليس فليس، فالقرآن كلامه تعالى غير مخلوق وإن تنزل في هذه المراتب الحادثة ولم يخرج عن كونه منسوبا إليه «أما» في مرتبة الخيال فلقوله صلّى الله عليه وسلم: «أغنى الناس حملة القرآن من جعله الله تعالى في جوفه» وأما في مرتبة اللفظ فلقوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [الأحقاف: 29] وأما في مرتبة الكتابة فلقوله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج: 21، 22] وقول الإمام أحمد: لم يزل الله متكلما كيف شاء وإذا شاء بلا كيف إشارة إلى مرتبتين، فالأول إلى كلامه في مرتبة التجلي والتنزل إلى مظهر له كقوله صلّى الله عليه وسلم: «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة أجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان» الحديث، والثاني إلى مرتبة الكلام النفسي إذ الكيف من توابع مراتب التنزلات والكلام النفسي في مرتبة الذات مجرد عن المادة فارتفع الكيف بارتفاعها «فالحاصل» لم يزل الله تعالى متكلما وموصوفا بالكلام من حيث تجلى ومن حيث لا، فمن حيث تجليه في مظهر لكلامه كيف وإذا شاء لم يتكلم بما اقتضاه مظهر تجليه فيكون متكلما بلا كيف كما كان ولم يزل، والأشعري إذا حققت الحال وجدته قائلا: بأن لله تعالى كلاما بمعنى التكلم وكلاما بمعنى المتكلم به وأنه بالمعنى الثاني لم يزل متصفا بكونه أمرا ونهيا وخبرا فإنها أقسام المتكلم به وأن الكلام النفسي بالمعنى الثاني حروفه غير عارضة للصوت في الحق والخلق غير أنها في الحق كلمات غيبية مجردة عن المواد أصلا إذ كان الله تعالى ولم يكن شيء غيره، وفي الخلق كلمات مخيلة ذهنية فهي في مادة خيالية، فكلمات الكلام النفسي في جنابه تعالى كلمات حقيقية لكنها ألفاظ حكمة ولا يشترط اللفظ الحقيقي في كون الكلمة حقيقية إذ قد أطلق الفاروق الكلمة على أجزاء مقالته المخيلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 في خبر يوم السقيفة (1) والأصل في الإطلاق الحقيقة، فالأجزاء كلمات حقيقية لغوية مع أنها ليست ألفاظا كذلك إذ ليست حروفها عارضة لصوت واللفظ الحقيقي ما كانت حروفه عارضة وهو لكونه صورة اللفظ النفسي الحكمي دال عليه وهو دال في النفس على معناه بلا شبهة ولا انفكاك فيصدق على اللفظ النفسي بمعناه أنه مدلول اللفظ الحقيقي ومعناه، فتفسير المعنى النفسي المشهور عن الأشعري بمدلول اللفظ وحده كما نقله صاحب المواقف عن الجمهور لا ينافي تفسيره بمجموع اللفظ والمعنى كما فسره هو أيضا وذلك بأن يحمل اللفظ في قوله على النفسي وفي قول الجمهور على الحقيقي، ولا شك حينئذ أن مجموع النفسي ومعناه من حيث المجموع يصدق عليه أنه مدلول اللفظ الحقيقي وحده لأن اللفظ الحقيقي لكونه صورة النفسي في مرتبة تنزله دال عليه، ويدل على أن المراد المجموع قول إمام الحرمين في الإرشاد: ذهب أهل الحق إلى إثبات الكلام القائم بالنفس وهو القول أي المقول الذي يدور في الخلد وهو اللفظ النفسي الدال على معناه بلا انفكاك- نعم عبارة صاحب المواقف غير واضحة في المقصود وله مقالة مفردة في ذلك. ومحصولها كما قال السيد قدس سره أن لفظ المعنى يطلق تارة على مدلول اللفظ وأخرى على الأمر القائم بالغير فالشيخ لما قال الكلام النفسي هو المعنى النفسي فهم الأصحاب منه أن مراده مدلول اللفظ وحده وهو القديم عنده، وأما العبارات فإنما تسمى كلاما مجازا لدلالته على ما هو كلام حقيقي حتى صرحوا بأن الألفاظ خاصة حادثة على مذهبه أيضا لكنها ليست كلامه حقيقة، وهذا الذي فهموه من كلام الشيخ له لوازم كثيرة فاسدة كعدم إكفار من أنكر كلامية ما بين دفتي المصحف مع أنه علم من الدين ضرورة كونه كلام الله تعالى حقيقة، وكعدم المعارضة والتحدي بكلام الله الحقيقي، وكعدم كون المقروء والمحفوظ كلامه حقيقة إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتفطن في الأحكام الدينية، فوجب حمل كلام الشيخ على أنه أراد به المعنى الثاني فيكون الكلام النفسي عنده أمرا شاملا للفظ والمعنى جميعا قائما بذات الله تعالى وهو مكتوب في المصاحف مقروء بالألسن محفوظ في الصدور وهو غير الكتابة والقراءة والحفظ الحادثة «وما يقال» من أن الحروف والألفاظ مترتبة متعاقبة فجوابه أن ذلك الترتب إنما هو في التلفظ بسبب عدم مساعدة الآلة، فالتلفظ حادث والأدلة الدالة على الحدوث يجب حملها على حدوثه دون حدوث الملفوظ جمعا بين الأدلة وهذا الذي ذكرناه وإن كان مخالفا لما عليه متأخر وأصحابنا إلا أنه بعد التأمل يعرف حقيته انتهى «واعتراضه» الدواني بوجوه قال «أما أولا» فلأن مذهب الشيخ أن كلامه تعالى واحد وليس بأمر ولا نهي ولا خبر وإنما يصير أحد هذه الأمور بحسب التعلق وهذه الأوصاف لا تنطبق على الكلام اللفظي وإنما يصح تطبيقه على المعنى المقابل للفظ بضرب من التكلف «وأما ثانيا» فلأن كون الحروف والألفاظ قائمة بذاته تعالى من غير ترتب يفضي إلى كون الأصوات مع كونها أعراضا سيالة موجودة بوجود لا تكون فيه سيالة وهو سفسطة من قبيل أن يقال الحركة توجد في بعض الموضوعات من غير ترتب وتعاقب بين أجزائها «وأما ثالثا» فلأنه يؤدي إلى أن يكون الفرق بين ما يقوم بالقارىء من الألفاظ وبين ما يقوم بذاته تعالى باجتماع الأجزاء وعدم اجتماعها بسبب قصور الآلة «فنقول» هذا الفرق إن أوجب اختلاف الحقيقة فلا يكون القائم بذاته من جنس الألفاظ وإن لم يوجب وكان ما يقوم بالقارىء وما   (1) حيث قال: فلما سكت أي خطيب الأنصار: - أردت أن أتكلم وكنت زورت في نفسي مقالة أعجبتي أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر- إلى أن قال- فكان هو أعلم مني وأوقر والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها- الأثر بطوله اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 يقوم بذاته تعالى حقيقة واحدة والتفاوت بينهما إنما يكون باجتماعه وعدمه اللذين هما من عوارض الحقيقة الواحدة كان بعض صفاته الحقيقية مجانسا لصفات المخلوقات. «وأما رابعا» فلأن لزوم ما ذكره من المفاسد وهم، فإن تكفير من أنكر كون ما بين الدفتين كلام الله تعالى إنما هو إذا اعتقد أنه من مخترعات البشر أما إذا اعتقد أنه ليس كلام الله بمعنى أنه ليس بالحقيقة صفة قائمة بذاته بل هو دال على الصفة القائمة بذاته لا يجوز تكفيره أصلا كيف وهو مذهب أكثر الأشاعرة ما خلا المصنف وموافقيه. وما علم من الدين من كون ما بين الدفتين كلام الله تعالى حقيقة إنما هو بمعنى كونه دالا على ما هو كلام الله تعالى حقيقة لا على أنه صفة قائمة بذاته تعالى وكيف يدعي أن من ضروريات الدين مع أنه خلاف ما نقله عن الأصحاب وكيف يزعم أن هذا الجم الغفير من الأشاعرة أنكروا ما هو من ضروريات الدين حتى يلزم تكفيرهم حاشاهم عن ذلك «وأما خامسا» فلأن الأدلة الدالة على النسخ لا يمكن حملها على التلفظ بل ترجع إلى الملفوظ كيف وبعضها مما لا يتعلق النسخ بالتلفظ به كما نسخ حكمه وبقي تلاوته انتهى «والجواب» أما عن الأول فهو أن الحق عز اسمه له كلام بمعنى التكلم وكلام بمعنى المتكلم به. وما هو أمر واحد، المعنى الأول وهو صفة واحدة تتعدد تعلقاتها بحسب تعدد المتكلم به من الكتب والكلمات وأنها ليست من جنس الحروف والألفاظ أصلا لا الحقيقية ولا الحكمية وما ذكر في الاعتراض ينطبق عليه بلا كلفة «والدليل» على أن المنعوت بهذه الأوصاف عند الشيخ هو المعنى الأول، نقل الإمام أن الكلام الأزلي لم يزل متصفا بكونه أمرا نهيا خبرا ولا شك أن هذه أقسام المتكلم به وكل من كان قائلا بانقسام الثاني كان المنعوت بالوحدة ذاتا والتعدد تعلقا المعنى الأول عنده جمعا بين الكلامين «وأما» عن الثاني فهو أن ذلك إنما يلزم إذا أريد من اللفظ الحقيقي وأما إذا أريد النفسي الحكمي فلا ورود له لأن الألفاظ النفسية كلها مجتمعة الأجزاء في الوجود العلمي مع كونها مترتبة كما ذكره هو نفسه وكلام صاحب المواقف محتمل للتأويل كما تقدم فليحمل عليه سعيا بالإصلاح مهما أمكن «وأما» الثالث فهو أن الإيراد مبني على ظن ان المراد باللفظ الحقيقي مع أنه محتمل لأن يراد النفسي كما يقتضيه ظاهر تشبيهه بالقائم بنفس الحافظ. «وأما» الرابع فهو أن الكلام النفسي عند أهل الحق هو مجموع اللفظ النفسي والمعنى، ولكن ظاهر كلام صاحب المواقف يدل على أنه فهم من ظاهر كلام بعض الأصحاب أن مرادهم بالمعنى هو المقابل للفظ مجردا عن اللفظ مطلقا وقد سمعهم يقولون: إن الكلام اللفظي ليس كلامه تعالى حقيقة بل مجازا، فإذا انضم قولهم بنفي كونه كلاما حقيقة شرعية إلى قولهم في ظنه أن النفسي هو المعنى المقابل للفظ لزم من هذا ما هو في معنى القول يكون اللفظي من مخترعات البشر ولا يخفى استلزامه للمفاسد ولكن لم يريدوا بالمجاز الشرعي فإن إطلاق كلام الله تعالى المسموع متواتر فلا يتأتى نفيه لأحد بل المراد أن الكلام إنما يتبادر منه ما هو وصف للمتكلم وقائم به قياما يقتضيه حقيقة الكلام وذات المتكلم في الحق والخلق على الوجه اللائق بكل- وأما ما يتلى فهو حروف عارضة للصوت الحادث ولا شك أنه ليس قائما بذاته سبحانه من حيث هو هو بل هو صورة من صور كلامه القديم القائم به تعالى ومظهر من مظاهر تنزلاته فهو دال على الحقيقي القائم فسمي كلاما حقيقة شرعية لذلك وفيه إطلاق لاسم الحقيقة على الصورة فيكون مجازا من هذا الوجه وإلى هذا يشير كلام التفتازاني فلا يلزم شيء من المفاسد واعتراض صاحب المواقف مبني على ظنه «وأما الخامس» فهو أن كلام صاحب المواقف ليس نصا في أن الضمير راجع إلى التلفظ بل يحتمل أن يكون راجعا إلى الملفوظ وذلك أنه قال المعنى الذي في النفس لا ترتب فيه كما هو قائم بنفس الحافظ ولا ترتب فيه وقد مر أن المراد به مجموع اللفظ النفسي والمعنى كما يقتضيه ظاهر التشبيه بالقائم بنفس الحافظ ولا شك أنه لا ترتب فيه أي لا تعاقب فيه في الوجود العلمي وحينئذ فقولهم نعم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 الترتب إنما يحصل في التلفظ معناه أن الترتب في المعنى النفسي الذي هو مجموع اللفظ النفسي والمعنى إنما يحصل في التلفظ الخارجي لضرورة عدم مساعدة الآلة، فقوله: وهو الذي هو حادث أي الملفوظ بالتلفظ الخارجي الذي هو الصورة حادث لا اللفظ النفسي وتحمل الأدلة التي تدل على الحدوث على حدوثه أي الملفوظ بالتلفظ الخارجي وعلى هذا لا ورود للاعتراض أصلا «ومنهم» ومن اعترض أيضا بأنهم اشتركوا في المعجزة أن تكون فعل الله تعالى أو ما يقوم مقامه كالنزول فلا يكون القرآن اللفظي الذي هو معجزة قديما صفة له تعالى ولا يخفى أن المعجزة هو القرآن في مرتبة تنزله إلى الألفاظ الحقيقية العربية فكونه لفظا حقيقيا عربيا مجعول (1) بالنص فيكون معجزة بلا شبهة، والقديم على ما حقق هو القرآن اللفظي النفسي الذي هو مجموع اللفظ النفسي والمعنى، وهذا واضح لمن ساعدته العناية، وقد شنع على الشيخ الأشعري في هذا المقام أقوام تشابهت قلوبهم- واتحدت أغراضهم- وإن اختلفت أساليبهم- وها أنا بحوله تعالى راد لاعتراضاتهم بعد نقلها غير هياب ولا وكل وإن اتسع علم أهلها فالبعوضة قد تدمي مقلة الأسد- وفضل الله تعالى ليس مقصورا على أحد. «فأقول» قال تلميذ مولانا الدواني عفيف الدين الايجي ما حاصله أن هذا الذي تدعيه الأشاعرة من أن للكلام معنى آخر يسمى النفسي باطل فإنا إذا قلنا زيد قائم فهناك أربعة أشياء «الأول» العبارة الصادرة عنه «والثاني» مدلول هذه العبارة وما وضع له هذه الألفاظ من المعاني المقصودة بها «الثالث» علمه بثبوت تلك النسبة وانتفائها. «الرابع» ثبوت تلك النسبة وانتفاؤها في الواقع، والأخيران ليسا كلاما اتفاقا، والأول لا يمكن أن يكون كلام الله حقيقة على مذهبهم فبقي الثاني وكذا نقول في الأمر والنهي هاهنا ثلاثة أمور «الأول» الإرادة والكراهة الحقيقية «الثاني» اللفظ الصادر عنه «الثالث» مفهوم لفظه ومعناه- والأول ليس كلاما اتفاقا- والثاني كذلك على مذهبهم فبقي الثالث وبه صرح أكثر محققيهم وكونه كلاما نفسيا ثابتا لله تعالى شأنه محكوما عليه بأحكام مختلفة باطل من وجوه: «الأول» أنه مخالف للعرف واللغة فإن الكلام فيهما ليس إلا المركب من الحروف «الثاني» أنه لا يوافق الشرع إذ قد ورد فيما لا يحصى كتابا وسنة أن الله تعالى ينادي عباده ولا ريب أن النداء لا يكون إلا بصوت بل قد صرح به في الأخبار الصحيحة (2) وباب المجاز وإن لم يغلق بعد إلا أن حمل ما يزيد على نحو مائة ألف من الصرائح على خلاف معناها مما لا يقبله العقل السليم «الثالث» أن ما قالوه من كون هذا المعنى النفسي واحدا يخالف العقل فإنه لا شك أن مدلول اللفظ في الأمر يخالف ومدلوله في النهي- ومدلول الخبر يخالف مدلول الإنشاء بل مدلول أمر مخصوص غير مدلول أمر آخر وكذا في الخبر- ولا يرتاب عاقل أن مدلول اللفظ لا يمكن أن يكون غير القرآن وسائر الكتب السماوية فيلزم أن يكون كل واحد مشتملا على ما اشتمل عليه الآخر وليس كذلك وكيف يكون معنى واحد خبرا وإنشاء محتملا للتصديق والتكذيب وغير محتمل وهو جمع بين النفي والإثبات انتهى. «ولا يخفى» أن مبنى جميع اعتراضاته على فهمه أن مرادهم بالمعنى النفسي هو مدلول اللفظ وحده أي المعنى المجرد عن مقارنة اللفظ. مطلقا ولو حكميا وقد عرفت أنه ليس كذلك بل المراد به مجموع اللفظ النفسي والمعنى وهو الذي يدور في الخلد وتدل عليه العبارات كما صرح به إمام الحرمين- وعليه إذا قال القائل زيد قائم فهناك أربعة   (1) قال تعالى إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا هـ منه. (2) منها ما رواه البخاري عن أبي سعيد قال صلى الله عليه وسلم «قال الله يا آدم فيقول لبيك وسعديك فينادى بصوت إن الله يأمرك ان تخرج من ذريتك بعثا إلى النار» الحديث اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 أشياء كما ذكر المعترض وشيء خامس تركه وهو المراد وهي هذه الجملة بشرط وجودها في الذهن بألفاظ مخيلة ذهنية دالة على معانيها في النفس وهذا يعنونه بالكلام النفسي فلا محذور «ونقول» على سبيل التفصيل «أما الأول» فجوابه أنه إنما تتم المخالفة إذا لم يكن عندهم مجموع اللفظ النفسي والمعنى فحيث كان لا مخالفة لأن الكلام حينئذ مركب من الحروف إلا أنها نفسية غيبية في الحق- خيالية في الخلق «وأما الثاني» فجوابه أن هذا الذي لا يحصى ليس فيه سوى أن الحق سبحانه وتعالى متكلم بكلام حروفه عارضة للصوت لا أنه لا يتكلم إلا به فلا ينتهض ما ذكر حجة على الشيخ بل إذا أمعنت النظر رأيت ذلك حجة له حيث بين ان الله تعالى لا يتكلم بالوحي لفظا حقيقيا إلا على طبق ما في علمه وكلما كان كذلك كان الكلام اللفظي صورة من صور الكلام النفسي ودليلا من أدلة ثبوتها وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الأحزاب: 4] . «وأما الثالث» فجوابه أن المنعوت بأنه واحد بالذات تتعدد تعلقاته هو الكلام بمعنى صفة المتكلم ووحدته مما لا شك لعاقل فيها- وأما الكلام النفسي بمعنى المتكلم به فليس عنده واحدا بل نص في الإبانة على انقسامه إلى الخبر والأمر والنهي في الأزل فلا اعتراض- وقال النجم سليمان الطوفي: إنما كان الكلام حقيقة في العبارة مجازا في مدلولها لوجهين «أحدهما» أن المتبادر إلى فهم أهل اللغة من إطلاق الكلام إنما هو العبارة والمبادرة دليل الحقيقة «الثاني» أن الكلام مشتق من الكلم لتأثيره في نفس السامع والمؤثر فيها إنما هو العبارات لا المعاني النفسية بالفعل- نعم هي مؤثرة للفائدة بالقوة، والعبارة مؤثرة بالفعل فكانت أولى بأن تكون حقيقة والأخرى مجازا- وقال المخالفون: استعمل لغة في النفسي والعبارة «قلنا» نعم لكن بالاشتراك أو بالحقيقة فيما ذكرناه وبالمجاز فيما ذكرتموه والأول ممنوع- قالوا الأصل في الإطلاق الحقيقة قلنا والأصل عدم الاشتراك- ثم أن لفظ الكلام أكثر ما يستعمل في العبارات والكثرة دليل الحقيقة- وأما قوله تعالى: يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ [المجادلة: 8] فمجاز دل على المعنى النفسي بقرينة «في أنفسهم» ولو أطلق لما فهم إلا العبارة، وأما قوله تعالى: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ [الملك: 13] الآية فلا حجة فيه لأن الإسرار خلاف الجهر وكلاهما عبارة عن أن يكون أرفع صوتا من الآخر- وأما بيت الأخطل فالمشهور أن البيان- وبتقدير أن يكون الكلام فهو مجاز عن مادته وهو التصورات المصححة له إذ من لم يتصور ما يقول لا يوجد كلاما ثم هو مبالغة من هذا الشاعر بترجيح الفؤاد على اللسان انتهى وفيه ما لا يخفى. أما أولا فلأن ما ادعاه من التبادر إنما هو لكثرة استعماله في اللفظي لمسيس الحاجة إليه لا لكونه الموضوع له خاصة بدليل استعماله لغة وعرفا في النفسي والأصل في الإطلاق الحقيقة- وقوله والأصل عدم الاشتراك قلنا: نعم إن أردت به الاشتراك اللفظي ونحن لا ندعيه وإنما ندعي الاشتراك المعنوي وذلك أن الكلام في اللغة بنقل النحويين ما يتكلم به قليلا كان أو كثيرا حقيقة أو حكما «وأما ثانيا» فلأن ما ادعاه من أن المؤثر في نفس السامع إنما هو العبارات لا المعاني النفسية الأمر فيه بالعكس بدليل أن الإنسان إذا سمع كلاما لا يفهم معناه لا تؤثر ألفاظه في نفسه شيئا وقد يتذكر الإنسان في حالة سروره كلاما يحزنه- وفي حالة حزنه كلاما يسره فيتأثر بهما ولا صوت ولا حرف هناك وإنما هي حروف وكلمات مخيلة نفسية وهو الذي عناه الشيخ بالكلام النفسي وعلى هذا فالسامع في قولهم- لتأثيره في نفس السامع ليس بقيد والتأثير في النفس مطلقا معتبر في وجه التسمية «وأما ثالثا» فلأن ما قاله في قوله تعالى: يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ من أنه مجاز دل على المعنى النفسي فيه بقرينة فِي أَنْفُسِهِمْ ولو أطلق لما فهم إلا العبارة يرده قوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ [آل عمران: 167] وفي آية بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح: 11] إذ لو كان مجرد ذكر «في أنفسهم» قرينة على كون القول مجازا في النفسي لكان ذكر «بأفواههم- وبألسنتهم» قرينة على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 كونه مجازا في العبارة واللازم باطل فكذا الملزوم- نعم التقييد دليل على أن القول مشترك معنى بين النفسي واللفظي وعين به المراد من فرديه فهو لنا لا علينا «وأما رابعا» فلأن ما ذكره في قوله تعالى: وَأَسَرُّوا [الملك: 13] الآية تحكم بحت لأن السر كما قال الزمخشري ما حدث به الرجل نفسه أو غيره في مكان خال ويساعده الكتاب والأثر واللغة كما لا يخفى على المتتبع «وأما خامسا» فلأن ما ذكره في بيت الأخطل خطل من وجوه «أما أولا» فعلى تقدير أن يكون المشهور البيان بدل الكلام يكفينا في البيان لأنه (1) إما اسم مصدر بمعنى ما يبين به أو مصدر بمعنى التبيين وعلى الأول هو بمعنى الكلام ولا فرق بينهما إلا في اللفظ، وعلى الثاني هو مستلزم للكلام النفسي بمعنى المتكلم به إن كان المراد به التبيين القلبي أعني ترتيب القلب للكلمات الذهنية على وجه إذا عبر عنها باللسان فهم غيره ما قصده منها «وأما ثانيا» فلأن قوله وبتقدير أن يكون إلخ إقرار بالكلام النفسي من غير شعور. «وأما ثالثا» فلأن دعوى المجاز تحكم مع كون الأصل في الإطلاق الحقيقة «وأما رابعا» فلأن دعوى أن ذلك مبالغة من هذا الشاعر خلاف الواقع بل هو تحقيق من غير مبالغة كما يفهم مما سلف، فما ذكره هذا الشاعر كلمة حكمة سواء نطق بها على بينة من الأمر أو كانت منه رمية من غير رام فإن معناه موجود في حديث أبي سعيد «العينان دليلان والأذنان قمعان واللسان ترجمان- إلى أن قال- والقلب ملك فإذا صلح» الحديث وفي حديث أبي هريرة «القلب ملك وله جنود- إلى أن قال- واللسان ترجمان» الحديث فما قيل (2) إن هذا الشاعر نصراني عدو الله تعالى ورسوله فيجب اطراح كلام الله تعالى ورسوله تصحيحا لكلامه أو حمله على المجاز صيانة لكلمة هذا الشاعر عنه، وأيضا يحتاجون إلى إثبات هذا الشعر والشهرة غير كافية فقد فتش ابن الخشاب دواوين الأخطل العتيقة فلم يجد فيها البيت انتهى كلام أوهن وأوهى من بيت العنكبوت وإنه لأوهن البيوت «أما أولا» فلأن كلام هذا العدو موافق لكلام الحبيب حتى لكلام المنكرين للكلام النفسي حيث اعترفوا به في عين إنكارهم «وأما ثانيا» فلأنا أغنانا الله تعالى ورسوله من فضله عن إثبات هذا الشعر «وأما ثالثا» فلأن عدم وجدان ابن الخشاب لا يدل على انتفائه بالكلية كما لا يخفى، والحاصل أن الناس أكثروا القال والقيل في حق هذا الشيخ الجليل وكل ذلك من باب. وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم نعم البحث دقيق لا يرشد إليه إلا توفيق كم أسهر أناسا وأكثر وسواسا وأثار فتنة وأورث محنة وسجن أقواما وأم إماما. مرام شط مرمى العقل فيه ... ودون مداه بيد لا تبيد ولكن بفضل الله تعالى قد أتينا فيه بلب اللباب، وخلاصة ما ذكره الأصحاب، وقد اندفع به كثير مما أشكل على الأقوام، وخفي على أفهام ذوي الأفهام، ولا حاجة معه إلى ما قاله المولى المرحوم غني زاده في التخلص عن هاتيك الشبه مما نصه، ثم اعلم أني بعد ما حررت البحث بعثني فرط الإنصاف إلى أنه لا ينبغي لذي الفطرة السليمة أن يدعي قدم اللفظ لاحتياجه إلى هذه التكلفات وكذا كون الكلام عبارة عن المعنى القديم لركاكة توصيف الذات به كيف ومعنى قصة نوح مثلا ليس بشيء يمكن اتصاف الذات به إلا بتمحل بعيد، فالحق الذي لا محيد عنه هو أن المعاني كلها موجودة في العلم الأزلي بوجود علمي قديم لكن لما كان في ماهية بعضها داعية البروز في الخارج بوجود لفظي حادث حسبما يستدعيه حدوث الحوادث فيما لا يزال اقتضى الذات اقتضاء أزليا إبراز ذلك البعض في   (1) فيه استخدام فلا تغفل اهـ منه. (2) قائله الموفق بن قدامة اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 الخارج بذلك الوجود الحادث فيما لا يزال فهذا الاقتضاء صفة قديمة للذات هو بها في الأزل مسماة بالكلام النفسي وأثره الذي هو ظهور المعنى القديم باللفظ الحادث إنما يكون فيما لا يزال والمغايرة بينه وبين صفة العلم ظاهرة وهذا هو غاية الغايات في هذا الباب، والحمد لله على ما خصني بفهمه من بين أرباب الألباب انتهى. وفيه أنه غاية الغايات في الجسارة على رب الأرباب وإحداث صفة قديمة ما أنزل الله تعالى بها من كتاب إذ لم يرد في كتاب الله تعالى ولا في سنة نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم ولا روي عن صحابي ولا تابعي تسمية ذلك الاقتضاء كلاما بل لا يقتضيه عقل ولا نقل على أنه لا يحتاج إليه عند من أخذت الغاية بيديه، هذا وإذا سمعت ما تلوناه، ووعيت ما حققناه فاسمع الآن تحقيق الحق في كيفية سماع موسى عليه السلام كلام الحق «فأقول» الذي انتهى إليه كلام أئمة الدين كالماتريدي والأشعري وغيرهما من المحققين أن موسى عليه السلام سمع كلام الله تعالى بحرف وصوت كما تدل عليه النصوص التي بلغت في الكثرة مبلغا لا ينبغي معه تأويل، ولا يناسب في مقابلته قال وقيل، فقد قال تعالى: وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ [مريم: 52] ، وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى [الشعراء: 10] ، نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ [القصص: 30] إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً [النازعات: 16] ، نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها [النمل: 8] واللائق بمقتضى اللغة والأحاديث أن يفسر النداء بالصوت (1) بل قد ورد إثبات الصوت لله تعالى شأنه في أحاديث لا تحصى، وأخبار لا تستقصى. «روى» البخاري في الصحيح «يحشر الله العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب أنا الملك أنا الديان» ومن علم أن لله تعالى الحكيم أن يتجلى بما شاء وكيف شاء وأنه منزه في تجليه قريب في تعاليه لا تقيده المظاهر عند أرباب الأذواق إذ له الإطلاق الحقيقي حتى عن قيد الإطلاق زالت عنه إشكالات واتضحت لديه متشابهات (2) . ومما يدل على ثبوت التجلي في المظهر لله تعالى قول ابن عباس ترجمان القرآن في قوله تعالى: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ كما في الدر المنثور يعني تبارك وتعالى نفسه كان نور رب العالمين في الشجرة، وفي رواية عنه كان الله في النور ونودي من النور، وفي صحيح مسلم حجابه النور، وفي رواية له حجابه النار ودفع الله سبحانه توهم التقييد بما ينافي التنزيه بقوله: وَسُبْحانَ اللَّهِ أي عن التقييد بالصورة والمكان والجهة وإن ناداك منها لكونه موصوفا بصفة رب العالمين فلا يكون ظهوره مقيدا له بل هو المنزه عن التقييد حين الظهور يا مُوسى إِنَّهُ أي المنادي المتجلي أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ فلا أتقيد لعزتي ولكني الْحَكِيمُ [النمل: 9] فاقتضت حكمتي الظهور والتجلي في صورة مطلوبك فالمسموع على هذا صوت وحرف سمعهما موسى عليه السلام من الله تعالى المتجلي بنوره في مظهر النار لما اقتضته الحكمة فهو عليه السلام كليم الله تعالى بلا واسطة لكن من وراء حجاب مظهر النار وهو عين تجلي الحق تعالى له، وأما ما شاع عن الأشعري من القول بسماع الكلام النفسي القائم بذات الله تعالى فهو من باب التجويز والإمكان لا أن موسى عليه السلام سمع ذلك بالفعل إذ هو خلاف البرهان، ومما يدل على جواز سماع الكلام النفسي بطريق خرق العادة قوله تعالى في الحديث القدسي «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به» الحديث، ومن الواضح أن الله تبارك وتعالى إذا كان بتجليه النوري المتعلق بالحروف غيبية   (1) قال في القاموس: النداء بالكسر والضم الصوت اهـ منه (2) مثل قوله تعالى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وحديث «إذا كان يوم الجمعة نزل ربنا تبارك وتعالى من عليين على كرسيه - إلى أن قال- ثم يصعد تبارك وتعالى على كرسيه، وحديث «فإذا الرب قد أشرف عليها من فوقهم فقال السلام عليكم يا أهل الجنة» إلى غير ذلك اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 كانت أو خيالية أو حسية سمع العبد على الوجه اللائق المجامع ل لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] عند من يتحقق معنى الإطلاق الحقيقي صح أن يتعلق سمع العبد بكلام ليس حروفه عارضة لصوت لأنه بالله يسمع إذ ذاك والله سبحانه يسمع السر والنجوى. والإمام الماتريدي أيضا يجوز سماع ما ليس بصوت على وجه خرق العادة كما يدل عليه كلام صاحب التبصرة في كتاب التوحيد. فما نقله ابن الهمام عنه من القول بالاستحالة فمراده الاستحالة العادية فلا خلاف بين الشيخين عند التحقيق، ومعنى قول الأشعري أن كلام الله تعالى القائم بذاته يسمع عند تلاوة كل تال وقراءة كل قارئ أن المسموع أولا وبالذات عند التلاوة إنما هو الكلام اللفظي الذي حروفه عارضة لصوت القارئ بلا شك لكن الكلمات اللفظية صور الكلمات الغيبية القائمة بذات الحق فالكلام النفسي مسموع بعين سماع الكلام اللفظي لأنه صورته لا من حيث الكلمات الغيبية فإنها لا تسمع إلا على طريق خرق العادة «وقول» الباقلاني إنما تسمع التلاوة دون المتلو والقراءة دون المقروء يمكن حمله على أنه أراد إنما يسمع أولا وبالذات التلاوة أي المتلو اللفظي الذي حروفه عارضة لصوت التالي لا النفسي الذي حروفه غيبية مجردة عن المواد الحسية والخيالية فلا نزاع في التحقيق أيضا. والفرق بين سماع موسى عليه السلام كلام الله تعالى وسماعنا له على هذا أن موسى عليه السلام سمع من الله عز وجل بلا واسطة لكن من وراء حجاب ونحن إنما نسمعه من العبد التالي بعين سماع الكلام اللفظي المتلو بلسانه العارض حروفه لصوته لا من الله تعالى المتجلي من وراء حجاب العبد فلا يكون سماعا من الله تعالى بلا واسطة وهذا واضح عند من له قدم راسخة في العرفان وظاهر عند من قال بالمظاهر مع تنزيه الملك الديان. وأنت إذا أمنعت النظر في قول أهل السنة القرآن كلام الله عز وجل غير مخلوق وهو مقروء بألسنتنا مسموع بآذاننا محفوظ في صدورنا مكتوب في مصاحفنا غير حال في شيء منها رأيته قولا بالمظاهر ودالا على أن تنزل القرآن القديم القائم بذات الله تعالى فيها غير قادح في قدمه لكونه غير حال في شيء منها مع كون كل منها قرآنا حقيقة شرعية بلا شبهة وهذا عين الدليل على أن تجلي القديم في مظهر حادث لا ينافي قدمه وتنزيهه وليس من باب الحلول ولا التجسيم، ولا قيام الحوادث بالقديم ولا ما يشاكل ذلك من شبهات تعرض لمن لا رسوخ له في هاتيك المسالك، ومنه يظهر معنى ظهور القرآن في صورة الرجل الشاحب يلقى صاحبه حين ينشق عنه القبر وظهوره خصما لمن حمله فخالف أمره وخصما دون من حمله فحفظ الأمر بل من أحاط خبرا بأطراف ما ذكرناه وطاف فكره المتجرد عن مخبط الهوى في كعبة حرم ما حققناه اندفع عنه كل إشكال في هذا الباب ورأى أن تشنيع ابن تيمية وابن القيم وابن قدامة وابن قاضي الجبل والطوفي وأبي نصر وأمثالهم (1) صرير باب أو طنين ذباب وهم وإن كانوا فضلاء محققين وأجلاء مدققين لكنهم كثيرا   (1) وما ذكره المؤلف رحمه الله تعالى في حق هؤلاء الأئمة مبالغ فيه. ولعله لم يطلع على مؤلفاتهم فإن للإمام ابن تيمية كتابا شرح فيه النزول وبين صفة الكلام والنزول وغير ذلك من صفات الله تعالى وأنه لا فرق بينها في الاعتقاد بإبقائها على ظاهرها بدون تحريف ولا تأويل ولا تصحيف وأورد كلام علماء السلف في ذلك. وللإمام ابن القيم أيضا كتاب سماه اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية عنى بهؤلاء المؤولين لصفات الله بما لم يرد به دليل من كتاب ولا سنة ولا قول لصحابي ولا تابعي، وحاصل اعتقاد السلف في ذلك أن لله كلاما هو صفته كما أخبر بذلك في كتابه وعلى لسان رسوله وأنه ليس كمثله شيء، والبحث في ذلك ليس من سنة السلف وأئمة الدين بل هو من المتكلمين الذين أشرب في قلوبهم نقل علوم اليونانيين زمن المأمون فأكسبهم خيالات وهمية في أذهانهم وفرضيات فاسدة واحتمالات ما أنزل الله بها من سلطان. نسأل الله إصلاح الأمة والعمل بما كان عليه سلفها: اهـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 ما انحرفت أفكارهم واختلطت أنظارهم فوقعوا في علماء الأمة وأكابر الأئمة وبالغوا في التعنيف والتشنيع وتجاوزوا في التسخيف والتفظيع ولولا الخروج عن الصدد لوفيتهم الكيل صاعا بصاع ولتقدمت إليهم بما قدموا باعا بباع ولعلمتهم كيف يكون الهجاء بحروف الهجاء. ولعرفتهم إلام ينتهي المراء بلا مراء. فلي فرس للحلم بالحلم ملجم ... ولي فرس للجهل بالجهل مسرج فمن رام تقويمي فإني مقوم ... ومن رام تعويجي فإني معوج على أن العفو أقرب للتقوى والإغضاء مبنى الفتوة وعليه الفتوى. والسادة الذين تكلم فيهم هؤلاء إذا مروا باللغو مروا كراما، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، وحيث تحرر الكلام في الكلام على مذهب أهل السنة واندفع عنه بفضل الله تعالى كل محنة ومهنة، فلا بأس بأن نحكي بعض الأقوال، كما حكى الله تعالى كثيرا من أقوال ذوي الضلال، وبعد أن رسخ الحق في قلبك، وتغلغل في سويدائه كلام ربك لا أخشى عليك من سماع باطل لا يزيدك إلا حقا. وكاذب لا يورثك إلا صدقا «فنقول» أما المعتزلة فاتفقوا كافة على أن معنى كونه تعالى متكلما أنه خالق الكلام على وجه لا يعود إليه منه صفة حقيقية كما لا يعود إليه من خلق الأجسام وغيرها صفة حقيقية، واتفقوا أيضا على أن كلام الرب تعالى مركب من الحروف والأصوات وأنه محدث مخلوق ثم اختلفوا فذهب الجبائي وابنه أبو هاشم إلى أنه حادث في محل، ثم زعم الجبائي أن الله تعالى يحدث عند قراءة كل قارئ كلاما لنفسه في محل القراءة وخالفه الباقون، وذهب أبو الهذيل بن العلاف وأصحابه إلى أن بعضه في محل وهو قوله كن، وبعضه لا في محل كالأمر والنهي والخبر والاستخبار، وذهب الحسن بن محمد النجار إلى أن كلام الباري إذا قرىء فهو عرض وإذا كتب فهو جسم، وذهبت الإمامية والخوارج والحشوية إلى أن كلام الرب تعالى مركب من الحروف والأصوات، ثم اختلف هؤلاء فذهب الحشوية إلى أنه قديم أزلي قائم بذات الرب تعالى لكن منهم من زعم أنه من جنس كلام البشر وبعضهم قال لا بل الحرف حرفان والصوت صوتان قديم وحادث والقديم منهما ليس من جنس الحادث، وأما الكرامية فقالوا: إن الكلام قد يطلق على القدرة على التكلم وقد يطلق على الأقوال والعبارات وعلى كلا التقديرين فهو قائم بذات الله تعالى لكن إن كان بالاعتبار الأول فهو قديم متحد لا كثرة فيه وإن كان بالاعتبار الثاني فهو حادث متكثر، وأما الواقفية فقد أجمعوا على أن كلام الرب تعالى كائن بعد أن لم يكن لكن منهم من توقف في إطلاق اسم القديم والمخلوق عليه ومنهم من توقف في إطلاق اسم المخلوق وأطلق اسم الحادث ومن القائلين بالحدوث من قال ليس جوهرا ولا عرضا، وذهب بعض المعترفين بالصانع إلى أنه لا يوصف بكونه متكلما لا بكلام ولا بغير كلام والذي أوقع الناس في حيص بيص أنهم رأوا قياسين متعارضي النتيجة وهما كلام الله تعالى صفة له وكل ما هو صفة له فهو قديم فكلام الله تعالى قديم، وكلام الله تعالى مركب من حروف مرتبة متعاقبة في الوجود وكل ما هو كذلك فهو حادث فكلام الله تعالى حادث، فقوم (1) ذهبوا إلى أن كلامه تعالى حروف وأصوات وهي قديمة ومنعوا أن كل ما هو مؤلف من حروف وأصوات فهو حادث ونسب إليهم أشياء هم براء منها، وآخرون (2) قالوا بحدوث كلامه تعالى وأنه مؤلف من أصوات وحروف وهو قائم بغيره ومعنى كونه متكلما عندهم أنه موجد لتلك الحروف والأصوات في جسم كاللوح أو ملك كجبريل أو غير ذلك فهم منعوا أن المؤلف من الحروف والأصوات صفة الله تعالى، وأناس (3) لما رأوا مخالفة الأولين   (1) هم الحنابلة اهـ منه. (2) هم المعتزلة اهـ منه. (3) هم الكرامية اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 للضرورة والظاهرة التي هي أشنع من مخالفة الدليل ومخالفة الآخرين فيما ذهبوا إليه للعرف واللغة ذهبوا إلى أن كلامه تعالى صفة له مؤلفة من الحروف والأصوات الحادثة القائمة بذاته تعالى فهم منعوا أن كل ما هو صفة له تعالى فهو قديم، وجمع قالوا: كلامه تعالى معنى واحد بسيط قائم بذاته تعالى قديم فهم منعوا أن كلامه تعالى مؤلف من الحروف والأصوات وكثر في حقهم القال والقيل والنزاع الطويل، وبعضهم تحير فوقف وحبس ذهنه في مسجد الدهشة واعتكف، وعندي القياسان صحيحان والنتيجتان صادقتان ولكل مقام مقال ولكل كلام أحوال ولا أظنك تحوجني إلى التفصيل بعد ما وعاه فكرك الجميل بل ولا تكلفني رد هذه الأقوال الشنيعة التي هي لديك إذا أخذت العناية بيديك كسراب بقيعة فليطر شحرور القلم إلى روضة أخرى وليغرد بفائدة لعلها أولى من الإطالة وأحرى والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب لا رب غيره. «الفائدة الخامسة» في بيان المراد بالأحرف السبعة التي نزل بها القرآن أقول روى أحد وعشرون صحابيا (1) حديث نزول القرآن على سبعة أحرف حتى نص أو عبيدة على تواتره وفي مسند أبي يعلى أن عثمان رضي الله عنه قال على المنبر أذكر الله رجلا سمع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف كلها شاف كاف لما قام فقاموا حتى لم يحصوا فشهدوا بذلك فقال وأنا أشهد معهم، واختلف في معناه على أقوال «أحدها» أنه من المشكل الذي لا يدرى لاشتراك الحرف (2) وفيه أن مجرد الاشتراك لا يستدعي ذلك اللهم إلا أن يكون بالنظر إلى هذا القائل «ثانيها» أن المراد التكثير لا حقيقة العدد وقد جروا على تكثير الآحاد بالسبعة والعشرات بالسبعين والمئات بسبعمائة وسر التسبيع لا يخفى وإليه جنح عياض وفيه مع عدم ظهور معناه أن حديث أبيّ كما رواه النسائي «أن جبريل وميكائيل أتياني فقعد جبريل عن يميني وميكائيل عن يساري فقال جبريل اقرأ القرآن على حرف فقال ميكائيل استزده حتى بلغ سبعة أحرف» ونحوه من الأحاديث لا سيما حديث أبي بكرة الذي في آخره «فنظرت إلى ميكائيل فسكت فعلمت أنه قد انتهت العدة» أقوى دليل على إرادة الانحصار بل في جمع القلة نوع إشارة إلى عدم الكثرة كما لا يخفى «ثالثها» أن المراد بها سبع قراءات وفيه أن ذلك لا يوجد في كلمة واحدة إلا نادرا (3) والقول أن كلمة تقرأ بوجه أو وجهين إلى سبع يشكل عليه ما قرىء على أكثر اللهم إلا أن يقال ورد ذلك مورد الغالب وفيه ما لا يخفى حتى قال السيوطي قد ظن كثير من القوم أن المراد بها القراءات السبعة وهو جهل قبيح فتدبر «رابعها» أن المراد بها سبعة أوجه من المعاني المتفقة على ألفاظ مختلفة نحو أقبل وتعال وهلم. وعجل وأسرع، وإليه ذهب ابن عيينة وجمع وأيد برواية حتى بلغ سبعة أحرف قال: كلها شاف كاف ما لم تختم آية عذاب برحمة أو رحمة بعذاب، وبما حكي أن ابن مسعود أقرأ رجلا إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ [الدخان: 43، 44] فقال الرجل طعام اليثيم فردها عليه فلم يستقم بها لسانه فقال أتستطيع أن تقول الفاجر؟ قال نعم قال فافعل، وفيه أن ذلك كان رخصة لعسر تلاوته بلفظ واحد على الأميين ثم نسخ وإلا لجازت روايته بالمعنى ولذهب التعبد بلفظه ولا تسع الخرق ولفات كثير من الأسرار والأحكام وهذا يستدعي   (1) وهم أبيّ بن كعب وأنس وحذيفة وزيد بن أرقم وسمرة بن جندب وسليمان بن صبرة وابن عباس وابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وعمر بن الخطاب وعمر بن أبي سلمة وعمرو بن العاص ومعاذ بن جبل وهشام بن حكيم وأبو بكرة وأبو جهم وأبو سعيد الخدري وأبو طلحة الأنصاري وأبو هريرة وأم أيوب اهـ منه. [ ..... ] (2) أي لغة بين الكلمة والمعنى والجهة قاله ابن سعدان النحوي اهـ منه. (3) مثل (عبد الطاغوت) (ولا تقل لهما أف) اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 نسخ الحديث وفيه بعد بل لا قائل به «خامسها» أن المراد بها كيفية النطق بالتلاوة من إدغام وإظهار وتفخيم وترقيق وإشباع ومد وقصر وتشديد وتخفيف وتليين وتحقيق، وفيه أن ذلك ليس من الاختلاف الذي يتنوع فيه اللفظ والمعنى، واللفظ الواحد بهذه الصفات باق على وحدته فليس فيه حينئذ جليل فائدة. «سادسها» أن المراد سبعة أصناف وعليه كثيرون ثم اختلفوا في تعيينها فقيل: محكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ وخصوص وعموم وقصص، وقيل: إظهار الربوبية وإثبات الوحدانية وتعظيم الألوهية والتعبد لله ومجانبة الإشراك والترغيب في الثواب، والترهيب من العقاب، وقيل أمر ونهي ووعد ووعيد وإباحة وإرشاد واعتبار. وقيل غير ذلك والكل محتمل بل وأضعاف أمثاله إلا أنه لا مستند له ولا وجه للتخصيص. «سابعها» أن المراد سبع لغات وإليه ذهب ثعلب وأبو عبيد والأزهري وآخرون واختاره ابن عطية وصححه البيهقي. واعترض بأن لغات العرب أكثر، وأجيب بأن المراد أفصحها وهي لغة قريش وهذيل وتميم والأزد وربيعة وهوازن وسعد بن بكر واستنكره ابن قتيبة قائلا: لم ينزل القرآن إلا بلغة قريش بدليل وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ [إبراهيم: 4] وعليه يلتزم كون السبع في بطون قريش، وبه جزم أبو علي الأهوازي وليس المراد أن كل كلمة تقرأ على سبع لغات بل أنها مفرقة فيه ولعل بعضها أسعد من بعض وأكثر نصيبا. وقيل السبع في مضر خاصة لقول عمر رضي الله عنه: نزل القرآن بلغة مضر، وقال بعضهم: إنهم هذيل وكنانة وقيس وضبة وتيم الرباب وأسيد بن خزيمة وقريش، وقيل أنزل أولا بلسان قريش ومن جاورهم من الفصحاء ثم أبيح للعرب أن تقرأه بلغاتها دفعا للمشقة ولما كان فيهم من الحمية ولم يقع ذلك بالتشهي بل المرعي فيه السماع من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وكيفية نزول القرآن على هذه السبع أن جبريل عليه السلام كان يأتي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في كل عرضة بحرف إلى أن تمت. قال السيوطي بعد نقل هذا القول وذكر ما له وما عليه وبعد هذا كله هو مردود بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهشام بن حكيم كلاهما قرشي من لغة واحدة وقبيلة واحدة وقد اختلفت قراءتهما ومحال أن ينكر عليه عمر لغته فدل على أن المراد بالأحرف السبعة غير اللغات انتهى، ويا ليت شعري ادعى أحد من المسلمين أن معنى إنزال القرآن على هذه السبع من لغات هؤلاء العرب أنه أنزل كيفما كان وأنهم هم الذين هذبوه بلغاتهم ورشحوه بكلماتهم بعد الإذن لهم بذلك فإذا لا تختلف أهل قبيلة واحدة في كلمة ولا يتنازع اثنان منهم فيها أبدا أم أن الله تعالى شأنه ظهر كلامه في مرايا هذه اللغات على حسب ما فيها من المزايا والنكات. فنزل بها وحيه. وأداها نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم، ووعاها أصحابه فكم صحابي هو من قبيلة وعى كلمة نزلت بلغة قبيلة أخرى وكلاهما من السبع وليس له أن يغير ما وعى بل كثيرا ما يختلف صحابيان من قبيلة في الرواية عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكل من روايتيهما على غير لغتهما كل ذلك اتباعا لما أنزل الله تعالى وتسليما لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ينفي صحابي غير روايته وينكر رواية غيره وكل ذلك يدل على أن مرجع السبع الرواية لا الدراية فرد الإمام السيوطي لا أدري ماذا أرد منه وما الذي أسكت عنه، فها هو بين يديك، فاعمل ما شئت فيه، وسلام الله تعالى عليك، ومما ذكرناه علمت أن القلب يميل إلى هذا السابع فافهم، وقد حققنا بعض الكلام في هذا المقام في كتابنا الأجوبة العراقية، عن الأسئلة الإيرانية فارجع إليه إن أردته والله سبحانه وتعالى أعلم «الفائدة السادسة» في جمع القرآن وترتيبه، اعلم أن القرآن جمع أولا بحضرة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقد أخرج الحاكم بسند على شرط الشيخين عن زيد بن ثابت قال: كنا عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم نؤلف القرآن في الرقاع. وثانيا بحضرة أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقد أخرج البخاري في صحيحه عن زيد بن ثابت أيضا قال «أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده فقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر بقراء القرآن (1) وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن فقلت لعمر كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال عمر: هذا والله خير فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت الذي رأى عمر قال زيد قال أبو بكر: إنك شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه فو الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل على ما أمرني به من جمع القرآن قلت كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؟ قال: هو والله خير فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر فتتبعت القرآن أجمعه من العسب (2) واللخاف وصدور الرجال ووجدت آخر سورة التوبة مع خزيمة الأنصاري لم أجدها مع غيره لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ [التوبة: 128] حتى خاتمة براءة فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله تعالى ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر» وأخرج ابن أبي داود بسند رجاله ثقات مع انقطاع أن أبا بكر قال لعمر وزيد مع أنه كان حافظا اقعدا على باب المسجد فمن جاء كما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه، ولعل الغرض من الشاهدين أن يشهدا على أن ذلك كتب بين يدي الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أو على أنه مما عرض عليه صلى الله تعالى عليه وسلم عام وفاته وإنما اكتفوا في آية التوبة بشهادة خزيمة لأن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جعل شهادته بشهادة رجلين والقول بأن المراد بالشاهدين الحفظ والكتابة مما لا حجار له (3) وما شاع أن عليا كرم الله وجه لما توفي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تخلف لجمعه فبعض طرقه ضعيف (4) ، وبعضها موضوع (5) وما صح (6) فمحمول كما قيل على الجمع في الصدر، وقيل كان جمعا بصورة أخرى لغرض آخر، ويؤيده أنه قد كتب فيه الناسخ والمنسوخ فهو ككتاب علم، وقد أخرج ابن أبي داود بسند حسن عن عبد خير قال: سمعت عليا يقول أعظم الناس في المصاحف أجرا أبو بكر رضي الله تعالى عنه رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع كتاب الله أي على الوجه الذي تقدم فلا ينافي ما في مختصر القرماني أن أول من جمعه عمر رضي الله تعالى عنه. وما روي عن أبي بريدة أنه قال أول من جمع القرآن في مصحف سالم مولى أبي حذيفة أقسم لا يرتدي برداء حتى يجمعه فهو مع غرابته وانقطاعه محمول على أنه أحد الجامعين بأمر أبي بكر رضي الله تعالى عنه قاله الإمام السيوطي وهي عثرة منه لا يقال لصاحبها لعا لأن سالما هذا قتل في وقعة اليمامة كما يدل عليه كلام الحافظ ابن حجر في إصابته ونص عليه السيوطي نفسه في إتقانه بعد هذا المبحث بأوراق ولا شك أن الأمر بالجمع وقع من الصديق بعد تلك الوقعة وهي التي كانت سببا له كما يدل عليه حديث البخاري الذي قدمناه فسبحان من لا ينسى، وما اشتهر أن جامعه عثمان فهو على ظاهره باطل لأنه رضي الله تعالى عنه إنما حمل الناس في سنة خمس وعشرين (7) على القراءة   (1) وقد روي انه قتل يوم اليمامة سبعون من القراء منهم سالم مولى أبي حذيفة اهـ منه. (2) العسب جمع عسيب وهو جريد النخل كانوا يكشطون الخوص ويكتبون في الطرف العريض، واللخاف بكسر اللام وبخاء معجمة خفيفة آخره فاء جمع لخفة بفتح اللام وسكون الخاء هي الحجارة الرقاق وقال الخطابي صفائح الحجارة اهـ منه. (3) هذا القول لابن حجر قاله على سبيل الظن وهو من بعضه اهـ منه. (4) وهو ما أخرجه أبو داود من طريق ابن سيرين اهـ منه. (5) وهو ما أخرجه غير واحد من رواية أبي حيان التوحيدي أحد زنادقة الدنيا اهـ منه. (6) كرواية أبي الضريس في فضائل علي رضي لله تعالى عنه اهـ منه. (7) وقيل في حدود سنة ثلاثين ولا مستند له اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 بوجه واحد باختيار وقع بينه وبين من شهده من المهاجرين والأنصار لما خشي الفتنة من اختلاف أهل العراق والشام في حروف القراءات، فقد روى البخاري عن أنس أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وآذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال لعثمان: أدرك الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى فأرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت (1) وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف. وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنه إنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف (2) مما نسخوا وأمر بما سواه من القراءات في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق. قال زيد: ففقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقرأ بها فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب: 23] ألحقناها في سورتها في المصحف. وقد ارتضى ذلك أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى أن المرتضى كرم الله تعالى وجهه قال على ما أخرج ابن أبي داود بسند صحيح عن سويد بن غفلة عنه: لا تقولوا في عثمان إلا خيرا فو الله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا. وفي رواية لو وليت لعملت بالمصحف الذي عمله عثمان، وما نقل عن ابن مسعود أنه قال لما أحرق مصحفه: لو ملكت كما ملكوا لصنعت بمصحفهم كما صنعوا بمصحفي كذب كسوء معاملة عثمان معه التي يزعمها الشيعة حين أخذ المصحف منه، وهذا الذي ذكرناه من فعل عثمان هو ما ذكره غير واحد من المحققين حتى صرحوا بأن عثمان لم يصنع شيئا فيما جمعه أبو بكر من زيادة أو نقص أو تغيير ترتيب سوى أنه جمع الناس على القراءة بلغة قريش محتجا بأن القرآن نزل بلغتهم. ويشكل عليه ما مر آنفا من قول زيد ففقدت آية من الأحزاب إلخ فإنه بظاهره يستدعي أن في المصاحف العثمانية زيادة لم تكن في هاتيك الصحف والأمر في ذلك هين إذ مثل هذه الزيادة اليسيرة لا توجب مغايرة يعبأ بها ولعلها تشبه مسألة التضاريس، ولو كان هناك غيرها لذكر وليس فليس، ولا تقدح أيضا في الجمع السابق إذ يحتمل أن يكون سقوطها منه من باب الغفلة وكثيرا ما تعتري السارحين في رياض حظائر قدس كلام رب العالمين فيذكرهم سبحانه بما غفلوا فيتداركون ما أغفلوا. وزيد هذا كان في الجمعين ولعله الفرد المعول عليه في البين لكن عراه في أولهما ما عراه. وفي ثانيهما ذكره من تكفل بحفظ الذكر فتدارك ما نساه. وبعد انتشار هذه المصاحف بين هذه الأمة المحفوظة لا سيما الصدر الأول الذي حوى من الأكابر ما حوى وتصدر فيه للخلافة الراشدة على المرتضى. وهو باب مدينة العلم لكل عالم. والأسد الأشد الذي لا تأخذه في الله لومة لائم لا يبقى في ذهن مؤمن احتمال سقوط شيء بعد من القرآن وإلا لوقع الشك في كثير من ضروريات هذا الدين الواضح البرهان وزعمت الشيعة أن عثمان بل أبا بكر وعمر أيضا حرفوه وأسقطوا كثيرا من آياته وسوره، فقد روى الكليني منهم عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله أن القرآن الذي جاء به جبريل إلى محمد صلّى الله عليه وسلم سبعة عشر ألف آية (3)   (1) وأخرج ابن أبي داود أنه جمع اثني عشر رجلا من قريش والأنصار اهـ منه. (2) فأرسل إلى مكة وإلى الشام وإلى اليمن وإلى البحرين وإلى البصرة وإلى الكوفة وحبس بالمدينة واحدا كما أخرج ذلك ابن أبي داود من طريق حمزة الزيات اهـ منه. (3) والمشهور عندنا أنه ستة آلاف وستمائة وست عشرة آية اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 وروى محمد بن نصر عنه أنه قال كان في لم يكن اسم سبعين رجلا من قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم، وروي عن سالم بن سليمة، قال قرأ رجل على أبي عبد الله- وأنا أسمعه- حروفا من القرآن ليس ما يقرأها الناس فقال أبو عبد الله مه عن هذه القراءات واقرأ كما يقرأ الناس حتى يقوم القائم فإذا قام القائم فاقرأ كتاب الله على حده، وروي عن محمد ابن جهم الهلالي وغيره عن أبي عبد الله أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ [النحل: 92] ليس كلام الله بل محرف عن موضعه والمنزل- أئمة هي أزكى من أئمتكم- وذكر ابن شهرآشوب المازندراني في كتاب المثالب له أن سورة الولاية أسقطت بتمامها وكذا أكثر سورة الأحزاب فإنها كانت مثل سورة الأنعام فأسقطوا منها فضائل أهل البيت، وكذا أسقطوا لفظ- ويلك من قبل لا تحزن إن الله معنا، وعن ولاية علي من بعد، وقفوهم إنهم مسؤولون، وبعلي بن أبي طالب من بعد، وكفى الله المؤمنين القتال، وآل محمد من بعد وسيعلم الذين ظلموا- إلى غير ذلك فالقرآن الذي بأيدي المسلمين اليوم شرقا وغربا وهو كرة الإسلام ودائرة الأحكام مركزا وقطبا أشد تحريفا عند هؤلاء من التوراة والإنجيل وأضعف تأليفا منهما وأجمع للأباطيل، وأنت تعلم أن هذا القول أوهى من بيت العنكبوت وأنه لأوهن البيوت ولا أراك في مرية من حماقة مدعيه وسفاهة مفتريه، ولما تفطن بعض علمائهم لما به جعله قولا لبعض أصحابه قال الطبرسي في مجمع البيان (1) أما الزيادة فيه أي القرآن فمجمع على بطلانها، وأما النقصان فقد روي عن قوم من أصحابنا وقوم من حشوية العامة والصحيح خلافه وهو الذي نصره المرتضى واستوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء في جواب المسائل الطرابلسيات، وذكر في مواضع أن العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار والوقائع العظام، والكتب المشهورة، وأشعار العرب المسطورة، فإن الغاية اشتدت والدواعي توفرت عى نقله وحراسته وبلغت إلى حد لم تبلغه فيما ذكرناه لأن القرآن مفجر النبوة ومأخذ العلوم الشرعية والأحكام الدينية، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية حتى عرفوا كل شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته فكيف يجوز أن يكون مغيرا أو منقوصا مع العناية الصادقة والضبط الشديد، وقال أيضا: إن العلم بتفصيل القرآن وأبعاضه في صحة نقله كالعلم بجملته وجرى ذلك مجرى ما علم ضرورة من الكتب المصنفة ككتاب سيبويه والمزني فإن أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من تفصيلها ما يعلمونه من جملتها حتى لو أن مدخلا أدخل في كتاب سيبويه بابا من النحو ليس من الكتاب لعرف وميزانه ملحوق وأنه ليس من أصل الكتاب وكذا القول في كتاب المزني ومعلوم أن العناية بنقل القرآن وضبطه أصدق من العناية بضبط كتاب سيبويه ودواوين الشعراء. وذكر أيضا أن القرآن كان على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مجموعا مؤلفا على ما هو عليه الآن واستدل على ذلك بأن القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان وأنه كان يعرض على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ويتلى عليه وأن جماعة من الصحابة مثل عبد الله بن مسعود وأبيّ بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عدة ختمات وكل ذلك يدل بأدنى تأمل على أنه كان مجموعا مرتبا غير مثبور ولا مبثوث، وذكر أن من خالف ذلك من الإمامية والحشوية لا يعتد بخلافهم فإن الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخبارا ضعيفة ظنوا صحتها لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع بصحته انتهى. وهو كلام دعاه إليه ظهور فساد مذهب أصحابه حتى للأطفال- والحمد لله على أن ظهر الحق وكفى الله المؤمنين القتال- إلا أن الرجل قد دس في الشهد سمّا وأدخل الباطل في حمى الحق الأحمى «أما أولا» فلأن نسبة ذلك إلى قوم من حشوية العامة الذين يعني بهم أهل السنة والجماعة فهو كذب أو سوء فهم لأنهم   (1) هو تفسير مطبوع في العجم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 أجمعوا على عدم وقوع النقص فيما تواتر قرآنا كما هو موجود بين الدفتين اليوم، نعم أسقط زمن الصديق ما لم يتواتر وما نسخت تلاوته وكان يقرأه من لم يبلغه النسخ وما لم يكن في العرضة الأخيرة ولم يأل جهدا رضي الله تعالى عنه في تحقيق ذلك إلا أنه لم ينتشر نوره في الآفاق إلا زمن ذي النورين فلهذا نسب إليه كما روي عن حميدة بنت يونس أن في مصحف عائشة رضي الله عنها إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب: 56]- وعلى الذين يصلون الصفوف الأول- وأن ذلك قبل أن يغير عثمان المصاحف فما أخرج أحمد عن أبيّ قال قال لي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك فقرأ عليّ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة: 1- 4] إن الدين عند الله الحنيفية غير المشركة ولا اليهودية ولا النصرانية ومن يفعل ذلك فلن يكفره» - وفي رواية «ومن يعمل صالحا فلن يكفره وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة» إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وفارقوا الكتاب لما جاءهم أولئك عند الله شر البرية ما كان الناس إلا أمة واحدة ثم أرسل الله النبيين مبشرين ومنذرين يأمرون الناس يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويعبدون الله وحده أولئك عند الله خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه» وفي رواية الحاكم «فقرأ فيها ولو أن ابن آدم سأل واديا من مال فأعطيه يسأل ثانيا ولو سأل ثانيا فأعطيه يسأل ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب» وما روي عنه أيضا أنه كتب في مصحفه سورتي الخلع والحفد- اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك بالكفار ملحق - فهو من ذلك القبيل ومثله كثير، وعليه يحمل ما رواه أبو عبيد عن ابن عمر قال: لا يقولن أحدكم قد أخذت القرآن كله وما يدريه ما كله قد ذهب منه قرآن كثير ولكن ليقل قد أخذت منه ما ظهر، والروايات في هذا الباب أكثر من أن تحصى إلا أنها محمولة على ما ذكرناه، وأين ذلك مما يقوله الشيعي الجسور وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [النور: 40] . وأما ثانيا فلأن قوله: إن القرآن كان على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مجموعا مؤلفا على ما هو عليه الآن إلخ إن أراد به أنه مرتب الآي والسور كما هو اليوم وأنه يقرأه من حفظه في الصدر من الأصحاب كذلك لكنه كان مفرقا في العسب واللخاف فمسلم إلا أنه خلاف الظاهر من سياق كلامه وسباقه وإن أراد أنه كان في العهد النبوي مقروءا كما هو الآن لا غير وكان مرتبا ومجموعا في مصحف واحد غير متفرق في العسب واللخاف فممنوع والدليل الذي استدل به لا يدل عليه كما لا يخفى، ويا لله العجب كيف ذكر في هذا المعرض ختمات ابن مسعود وأبيّ على النبي صلّى الله عليه وسلم وجعل ذلك من أدلة مدعاه مع أن مروي كل منهما يخالف مروي الآخر وكلاهما يخالفان ما في المصحف العثماني فالسور مثلا في مصحفنا مائة وأربع عشرة بإجماع من يعتدّ به وقيل ثلاث عشرة بجعل الأنفال وبراءة سورة واحدة وفي مصحف ابن مسعود مائة واثنتا عشرة سورة لأنه لم يكتب المعوذتين (1) بل صح عنه (2) أنه كان يحكهما من المصاحف ويقول ليستا من كتاب الله تعالى وإنما أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يتعوذ بهما   (1) ولم يكتب الفاتحة أيضا لكن لا لاعتقاد انها ليست من القرآن معاذ الله ولكن للاكتفاء بحفظها الوجوب قراءتها في الصلاة فلا يخشى ضياعها اهـ منه. [ ..... ] (2) كما أخرجه عبد الرحمن بن أحمد والطبراني عن النخعي اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 ولهذا عوذ بهما الحسن والحسين ولم يتابعه أحد من الصحابة على ذلك وقد صح أنه صلّى الله عليه وسلم قرأهما في الصلاة، فالظاهر أنهما غير متواترتين قرآنا عنده والقول بأنه إنما أنكر الكتابة وأراد بالكتاب المصحف ليتم التأويل مستبعد جدا بل لا يصح كما لا يخفى، وفي مصحف أبيّ خمس عشرة لأنه كتب في آخره بعد «العصر» سورتي الخلع والحفد وجعل سورة «الفيل وقريش» فيه سورة واحدة وترتيب كل أيضا متغاير ومغاير لترتيب مصحفنا مغايرة لا سترة عليها فسورة «ن» في مصحف ابن مسعود بعد «الذاريات» و «لا أقسم بيوم القيامة» بعد «عم» «والنازعات» بعد «الطلاق» «والفجر» بعد «التحريم» إلى غير ذلك وسورة «بني إسرائيل» في مصحف أبيّ بعد «الكهف» و «الحجرات» بعد «ن» و «تبارك» بعد «الحجرات» «والنازعات» بعد «الواقعة» و «ألم نشرح» بعد «قل هو الله أحد» مع اختلاف كثير يظهر لمن رجع إلى الكتب المتقنة في هذا الباب، وكأن ران البغض غطى على قلب هذا البعض فقال ما قال ولم يتفكر في حقيقة الحال ولم يبال يوقع النبال قاصدا أن يستر بمنخل مختل كذبه نور ذي النورين الساطع عليه من برج شمس الكونين ومن بدر صحبه مع أن نسبة هذا الجمع إليهما من أوضح الأمور بل أشهر من المشهور، وهو شائع أيضا عند الشيعة وليس لهم إلى إنكاره ذريعة ولكن مركب التعصب عثور ومذهب التعسف محذور، وإذا حققت ما ذكرناه ووعيت ما عليك تلوناه فاعلم أن ترتيب آية وسورة بتوقيف من النبي صلّى الله عليه وسلم أما ترتيب الآي فكونه توقيفيا مما لا شبهة فيه حتى نقل جمع منهم الزركشي (1) وأبو جعفر (2) الإجماع عليه من غير خلاف بين المسلمين والنصوص متظافرة على ذلك. وما يدل بظاهره من الآثار على أنه اجتهادي معارض ساقط عن درجة الاعتبار كالخبر الذي أخرجه ابن أبي داود بسنده عن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر سورة براءة فقال: أشهد أني سمعتهما من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ووعيتهما فقال عمرو أنا أشهد لقد سمعتهما ثم قال لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة فانظروا آخر سورة من القرآن فألحقوهما في آخرها- فإنه معارض بما لا يحصى مما يدل على خلافه، بل لابن أبي داود مخرجه خبر يعارضه أيضا فقد أخرج أيضا عن أبيّ أنهم جمعوا القرآن فلما انتهوا إلى الآية التي في سورة براءة ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [التوبة: 127] ظنوا أن هذا آخر ما نزل فقال أبيّ: إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أقرأني بعد هذا آيتين لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ [التوبة: 128] إلى آخر السورة. وأما ترتيب السور ففي كونه اجتهاديا أو توقيفيا خلاف والجمهور على الثاني (3) قال أبو بكر الأنباري: أنزل الله تعالى القرآن كله إلى سماء الدنيا ثم فرقه في بضع وعشرين فكانت السورة تنزل لأمر يحدث والآية جوابا بالمستخبر فيوقف جبريل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على موضع الآية والسورة، فمن قدم أو أخر فقد أفسد (4) نظم القرآن وقال الكرماني: ترتيب السور هكذا هو عند الله تعالى في اللوح المحفوظ وعليه كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يعرض على جبريل كل سنة ما كان يجتمع عنده منه وعرض عليه في السنة التي توفي فيها مرتين، وقال الطيبي   (1) في البرهان اهـ منه. (2) في المناسبات اهـ منه. (3) وهذا آخر قوله اهـ منه. (4) وبعضهم استنبط عمر النبي صلّى الله عليه وسلم ثلاثا وستين سنة من قوله في سورة المنافقين وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها فإنها رأس ثلاث وستين سورة وعقبها بالتغابن للإشارة إلى ظهور التغابن بعد فقده صلّى الله عليه وسلم اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 مثله وهو المروي عن جمع غفير إلا أنه يشكل على هذا ما أخرجه أحمد والترمذي وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال قلت لعثمان ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين (1) فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال؟ فقال عثمان: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم ينزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول دعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن نزولا وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها فقبض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتهما في السبع الطوال. فهذا يدل على أن الاجتهاد دخل في ترتيب السور ولهذا ذهب البيهقي إلى أن جميع السور ترتيبها توقيفي إلا براءة والأنفال وله انشرح صدر الإمام السيوطي لما ضاق ذرعا عن الجواب، والذي ينشرح له صدر هذا الفقير هو ما انشرحت له صدور الجمع الغفير من أن ما بين اللوحين الآن موافق لما في اللوح من القرآن وحاشا أن يهمل صلى الله تعالى عليه وسلم أمر القرآن وهو نور نبوته وبرهان شريعته فلا بد إما من التصريح بمواضع الآي والسور وإما من الرمز إليهم بذلك وإجماع الصحابة في المآل على هذا الترتيب وعدولهم عما كان أولا من بعضهم على غيره من الأساليب، وهم الذين لا تلين قناتهم لباطل، ولا يصدهم عن اتباع الحق لوم لائم ولا قول قائل، أقوى دليل على أنهم وجدوا ما أفادهم علما، ولم يدع عندهم خيالا ولا وهما، وعثمان رضي الله تعالى عنه وإن لم يقف على ما يفيده القطع في براءة والأنفال وفعل ما فعل بناء على ظنه إلا أن غيره وقف، وقبل ما فعله ولم يتوقف، وكم لعمر رضي الله تعالى عنه موافقات لربه أدى إليها ظنه فليكن لعثمان هذه الموافقة التي ظفر غيره بتحقيقها من النصوص أو الرموز فسكت على أن ذلك كان قبل ما فعل عثمان عند التحقيق ولكن لما رفعت الأقلام وجفت الصحف واجتمعت الكلمة في أيامه واقتدت المسلمون في سائر الآفاق بإمامه نسب ذلك إليه، وقصر من دونهم عليه والسؤال منه وجوابه ليسا قطعيين في الدلالة على الاستقلال لجواز أن يكون السؤال للاستخبار عن سر عدم المخالفة، والجواب لابدائه على ما خطر في البال، وبالجملة بعد إجماع الأمة على هذا المصحف لا ينبغي أن يصاخ إلى آحاد الأخبار ولا يشرأب إلى تطلع غرائب الآثار فافهم ذاك والله سبحانه وتعالى يتولى هداك. «الفائدة السابعة» في بيان وجه إعجاز القرآن: «اعلم» أن إعجاز القرآن مما لا مرية فيه ولا شبهة تعتريه وأرى الاستدلال هنا عليه مما لا يحتاج إليه والشبه صرير باب أو طنين ذباب والأهم بالنسبة إلينا بيان وجه الإعجاز والكلام فيه على سبيل الإيجاز «فنقول» : قد اختلف الناس في ذلك فذهب بعض المعتزلة إلى أن وجه إعجازه اشتماله على النظم الغريب والوزن العجيب والأسلوب المخالف لما استنبطه البلغاء من العرب في مطالعه وفواصله ومفاصله ورد بوجهين «الأول» أنا لا نسلم المخالفة فإن كثيرا من آياته على وزن أبيات العرب نحو قوله تعالى وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ [فاطر: 18] وقوله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2] ومثله كثير «الثاني» أنا لو سلمنا المخالفة لكن لا نسلم أنه لمجردها يكون معجزا وإلا لكانت حماقات مسيلمة إذ هي على وزنه كذلك، وذهب الجاحظ إلى أنه اشتماله على البلاغة التي تتقاصر عنها سائر ضروب البلاغات ورد بوجوه «الأول» أنا إذا نظرنا إلى أبلغ الخطب وأجزل الشعر وقطعنا النظر عن الوزن وقسناه بقصار القرآن كان الأمر في التفاوت ملتبسا، والمعجز لا بد أن ينتهي إلى   (1) المئين ما تزيد على مائة آية أو تقاربها والمثاني هنا ما ولي المئين اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 حد لا يبقى معه لبس ولا ريبة «الثاني» أن القرآن غير خارج عن كلام العرب وما من أحد من بلغائهم إلا وقد كان مقدورا له الإتيان بقليل من مثل ذلك والقادر على البعض قادر على الكل «الثالث» أن الصحابة اختلفوا في البعض ولو كان منتهيا إلى الإعجاز بلاغة لعرفوه وما اختلفوا «الرابع» أنهم طلبوا البينة ممن أتى بشيء منه ولو كانت بلاغته منتهية إلى حد الإعجاز ما طلبوها «الخامس» أن في كل عصر من تنتهي إليه البلاغة وذلك غير موجب للإعجاز ولا للدلالة على صدق مدعي الرسالة لجواز أن يكون هو من انتهت إليه، وقيل هو اشتماله على الاخبار بالغيب ورد، أما أولا فبأن الإصابة في المرة والمرتين ليست من الخوارق والحد الذي يصير به الاخبار خارقا غير مضبوط فإذا لا يمتنع أن يقال ما اشتمل عليه القرآن لم يصل إليه، وأما ثانيا فبأنه يلزم أن يكون أخبار المنجمين والكهنة عن الأمور المغيبة مع كثرة إصابتها معجزة، وأما ثالثا فبأنه يلزم أن تكون التوراة كذلك لاشتمالها كاشتماله. وأما رابعا فبأنه يلزم أن يكون الخالي عن الاخبار بالغيب من القرآن غير معجز. وقيل هو كونه مع طوله وامتداده غير متناقض ولا مختلف وأبطل بوجهين «الأول» أنا لا نسلم عدم التناقض والاختلاف فيه أما التناقض فقوله تعالى وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ [يس: 69] والبحور كلها فيه وقال تعالى: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ [المؤمنون: 101] ثم قال: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصافات: 27، الطور: 25] وقال تعالى: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا [الكهف: 55] فحصر المانع في أحد السببين وقال وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا [الإسراء: 94] فحصر المانع في غيرهما إلى غير ذلك، وأما الاختلاف فكقوله تعالى «كالصوف المنفوش» بدل كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة: 5] وقوله تعالى: «ضربت عليهم المسكنة والذلة» بدل قوله: الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ [البقرة: 61] وقوله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الأحزاب: 6] وهو أب لهم وقوله تعالى في خلق آدم مرة من تراب ومرة من حمأ ومرة من طين ومرة من صلصال على أن فيه تكرارا لفظيا ومعنويا كما في الرحمن وقصة موسى مثلا وتعرضا لإيضاح الواضحات كما في قوله تعالى: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ [البقرة: 196] وقال عثمان: إن في القرآن لحنا ستقيمه العرب بألسنتها «الثاني» أنا لو سلمنا السلامة من جميع ذلك لكنه ليس بإعجاز إذ هو موجود في كثير من الخطب والشعر ويظهر كليا فيما يكون على مقدار بعض السور القصار بتقدير التحدي بها، وقيل هو موافقته لقضية العقل ودقيق المعنى ورد بأنه معتاد في أكثر كلام البلغاء وينتقض أيضا بكلام الرسول الغير المعجز وبالتوراة والإنجيل، وقيل إعجازه قدمه واعترض بأنه يستدعي أن يكون كل من صفاته تعالى كذلك وأيضا الكلام القديم مما لا يمكن الوقوف عليه فلا يتصور التحدي به «وقال» الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني والنظام: إعجازه بصرف دواعي بلغاء العرب عن معارضته، وقال المرتضى: بسلبهم العلوم التي لا بد منها في المعارضة واعترض بأربعة أوجه «الأول» أنه يستلزم أن يكون المعجز الصرفة لا القرآن وهو خلاف ما عليه إجماع المسلمين من قبل «الثاني» أن التحدي وقع بالقرآن على كل العرب فلو كان الإعجاز بالصرفة لكانت على خلاف المعتاد بالنسبة إلى كل واحد ضرورة تحقق الصرفة بالنسبة إليه فيكون الإتيان بمثل كلام القرآن معتادا له والمعتاد لكل ليس هو الكلام الفصيح بل خلافه فيلزم أن يكون القرآن كذلك وليس كذلك. «الثالث» أنه يستلزم أن يكون مثل القرآن معتادا من قبل لتحقق الصرفة من بعد فتجوز المعارضة بما وجد من كلامهم مثل القرآن قبلها «الرابع» وهو خاص بمذهب المرتضى أنه لو كان الإعجاز بفقدهم العلوم لتناطقوا به ولو تناطقوا لشاع إذ العادة جارية بالتحدث بالخوارق فحيث لم يكن دل على فساد الصرفة بهذا الاعتبار، واستدل بعضهم على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 فساد القول بها بقوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ [الإسراء: 88] الآية فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرهم ولو سلبوا القدرة لم تبق فائدة لاجتماعهم لأنه بمنزلة اجتماع الموتى وليس عجز الموتى مما يحتفل بذكره ولا بأس بانضمامه إلى ما ذكرناه، وأما الاكتفاء به في الاستدلال فلا أظنك ترضاه. وقال الآمدي وغيره الإعجاز بجملته (1) وبالنظر إلى نظمه وبلاغته وإخباره عن الغيب وارتضاه الكثير، وقولهم فيما قيل: لا نسلم المخالفة إلخ يجاب عنه بأن ما ذكروه وإن كان على وزن الشعر إلا أنه لا يعد شعرا ولا قائله شاعرا لأن الشعر ما قصد وزنه وحيث لا قصد لا شعر وقد يعرض للبلغاء في سرد خطبهم المنسجمة مثل ذلك بل قد يتفق لمن لا يعرف الشعر رأسا من العوام كلمات متزنة نحو قول السيد لعبده مثلا ادخل السوق واشتر اللحم واطبخ، ولهذا قال الوليد (2) : «لما قرأ عليه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم القرآن فكأنما رق له فاقترح عليه أبو جهل أن يقول فيه ما يبلغ قومه أنه منكر له وكاره ماذا أقول فو الله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا برجزه ولا بقصيدة ولا بأشعار الجن والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا وو الله إن لقوله الذي يقوله حلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه ومغدق أسفله وإنه ليعلو ولا يعلى وإنه ليحطم ما تحته» وقولهم: إنا لو سلمنا إلخ مسلم لكن لا يلزم أن لا يكون مع البلاغة والاخبار بالغيب معجزا ومن هنا يعلم الجواب عن الاعتراض على أن وجه إعجازه بلاغته على أن الأوجه الخمسة التي ذكروها فيه باطلة. «أما الأول» فلأن التفاوت بين لمن تحدى به من البلغاء ولذا لم يعارض وغيرهم عم عن ذلك لقصوره في الصناعة فلا اعتداد به ولا مضرة لثبوت الإعجاز بعجز أولئك ثم قياس أقصر سورة على ما ذكروه (3) عدول عن سواء السبيل «وأما الثاني» فلأن القدرة على البعض لا تستلزم القدرة على الكل ولهذا نجد الكثير قادرا على بليغ فقرة أو فقرتين أو بيت أو بيتين ولا يقدر على وضع خطبة ولا نظم قصيدة. «وأما الثالث» فلأن الصحابة لم يختلفوا فيما اختلفوا فيه أنه نازل على النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من ربه أو أن بلاغته غير معجزة ولكنهم اختلفوا في أنه قرآن وذلك لا يضر فيما نحن بصدده. «وأما الرابع» فلأن طلب البينة لما قدمناه في الفائدة السادسة أو للوضع والترتيب كما قيل أو لمزيد الاحتياط في الأمر الخطير «وأما الخامس» فلأن المعجز يظهر في كل زمان من جنس ما يغلب ويبلغ فيه الغاية القصوى ويوقف فيه على الحد المعتاد حتى إذا شوهد ما هو خارج عن الحد علم أنه من عند الله وإلا لم يتحقق عند القوم معجزة النبي ولظنوا أنهم لو كانوا من أهل تلك الصنعة أو متناهين فيها لأمكنهم أن يأتوا بمثلها والبلاغة قد بلغت في ذلك العهد حدها وكان فيها فخارهم حتى علقت السبع بباب الكعبة تحديا بمعارضتها فلما أتى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بما عجزوا عن مثله مع كثرة المنازعة والتشاجر والافتراق علم أن ذلك من عند الله تعالى بلا ريب، واعتراضهم على كون الأخبار بالغيب معجزا مكابرة فإن الاخبار عن الغائبات مع التكرر والإصابة غير معتاد ولا معنى لكونه معجزا غير هذا وما ذكروه من الوجوه باطل. «أما الأول» فلأنه لا يلزم من عدم كون الإصابة في المرة والمرتين من الخوارق أن لا تكون الإصابة في الكرات   (1) كون الإعجاز بجملته نسبة الإمام السيوطي لبعض المعتزلة وقد ورد التحدي بكل القرآن وبعشر سور وبسورة قيل ولو قصيرة لظاهر الإطلاق وقيل تبلغ مبلغا يتبين فيه رتب ذوي البلاغة فأفهم وتدبر اهـ منه. (2) والخبر طويل أخرجه الحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس اهـ منه. (3) على انه يكفينا في الغرض كون القرآن بجملته أو بسوره الطوال معجزا فافهم اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 الكثيرة منها والضابط العرف ولا يخفى أن ما ورد من أخبار الغيب في القرآن مما يعد في نظر أهل العرف كثيرا لا تعتاد الإصابة فيه بجملته «وأما الثاني» فلأن أخبار المنجمين ما كان كاذبا منها لا احتجاج وما كان صادقا وتكررت الإصابة فيه كالكسوف والخسوف غير وارد لأنه من الحساب المعتاد لمن يتعاطى صناعة التنجيم وأخبار القرآن بالغيوب ليست كذلك وأما أخبار الكهنة فالقول فيها كما في السحر. «وأما الثالث» فلأن ما في التوراة من الأخبار بالغيب إن كان كثيرا خارقا للعادة ووقع التحدي به فهو أيضا معجز وآية صدق لمن أتى به ولا يضرنا التزام ذلك «وأما الرابع» فلأنه لا يرد على من يقول وجه الإعجاز مجموع ما تقدم أصلا. ومن يقول وجهه مجرد الإخبار بالغيب يقول بأن الخالي من ذلك غير معجز وإنما الإعجاز في القرآن بجملته ويكفي ذلك في غرضه، والاعتراض على كون وجه الإعجاز عدم التناقض والاختلاف مع الطول والامتداد بوجهيه مدفوع «أما الأول» فلأن اشتمال القرآن على الشعر قد سبق جوابه فلا يناقض وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ [يس: 69] وأما الآيتان الأوليتان فقد أجاب عنهما ابن عباس حين سأله رجل عن آيات من هذا القبيل بأن نفى المسألة قبل النفخة الثانية وإثباتها فيما بعد، والسدي بأن نفى المسألة عند تشاغلهم بالصعق والمحاسبة والجواز على الصراط وإثباتها فيما عداها وابن مسعود بأن المسألة المنفية طلب بعضهم العفو من بعض والمثبتة على ظاهر معناها فلا منافاة. وأما الآيتان الأخريتان فمعنى الأولى منهما وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا [الإسراء: 94، الكهف: 55] إلا إرادة الله أن تأتيهم سنة الأولين من نحو الخسف أو يأتيهم العذاب قبلا في الآخرة ولا شك أن إرادة الله تعالى مانعة من وقوع ما ينافي المراد، فهذا حصر في السبب الحقيقي. ومعنى الثانية «وما منع الناس أن يؤمنوا» إلا استغراب بعثة البشر رسولا وهو مدلول القول التزاما والدال لا يناسب المانعية والمدلول ليس مانعا حقيقيا بل عادي لجواز وجود الإيمان معه فهو حصر في المانع العادي فلا تناقض وسيأتي لهذا إن شاء الله تعالى زيادة تحقيق. وكذا لأمثاله مما يضيق عنه هذا المبحث، وأما الاختلاف المذكور فليس هو المنفي في قوله تعالى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء: 82] لأن المراد به أحد أمرين، الأول الاختلاف المناقض للبلاغة، والثاني الاختلاف فيما أخبر عنه من قصص الماضين وسير الأولين مع أمية من جاء به وعدم دراسته للعلوم ومطالعته للكتب ولا شك أنه لم يوجد في القرآن شيء من هذه الاختلافات على أن أمثال بعض ما ذكر من الاختلاف ليس بقرآن لأنه لم يتواتر وأمثال البعض الآخر اختلاف مقال لاختلاف الأحوال، والمرجع إلى جوهر واحد وهو التراب في خلق آدم مثلا ومنه تدرجت تلك الأحوال وأي ضرر في ذلك، وأما التكرار اللفظي والمعنوي فلا يخلو عن فائدة لا تحصل من غير تكرار كبيان اتساع العبارة وإظهار البلاغة وزيادة التأكيد والمبالغة إلى غير ذلك مما قد أمعن المفسرون في تحقيقه وبيانه وستراه بحوله تعالى، وأما ما يتوهم فيه أنه من قبيل إيضاح الواضحات فليس يخلو عن درء احتمال ورفع خيال، فإنه لو لم يقل فيما ذكر من الآية تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ [البقرة: 196] لتوهم ولو على بعد أن المراد وتمام سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ [البقرة: 196] بل في ذلك غير هذا أسرار ستأتيك بعون باريك، وأما قول عثمان إن في القرآن لحنا إلخ فهو مشكل جدا إذ كيف يظن بالصحابة أولا اللحن في الكلام فضلا عن القرآن وهم هم ثم كيف يظن بهم ثانيا اجتماعهم على الخطأ وكتابته ثم كيف يظن بهم ثالثا عدم التنبه والرجوع ثم كيف يظن بعثمان عدم تغييره وكيف يتركه لتقيمه العرب وإذا كان الذين تولوا جمعه لم يقيموه وهم الخيار فكيف يقيمه غيرهم فلعمري إن هذا مما يستحيل عقلا وشرعا وعادة. فالحق إن ذلك لا يصح عن عثمان والخبر ضعيف مضطرب منقطع. وقد أجابوا عنه بأجوبة لا أراها تقابل مؤنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 نقلها والذي أراه أن رواة هذا الخبر سمعوا شيئا ولم يتقنوه فحرفوه فلزم الإشكال وحل الداء العضال وهو ما روي بالسند عن عبد الله بن عبد الأعلى قال: لما فرغ من المصحف أتى به عثمان فنظر فيه فقال أحسنتم وأجملتم أرى شيئا سنقيمه بألسنتنا، وهذا لا إشكال فيه لأنه عرض عليه عقيب الفراغ من كتابته فرأى فيه ما كتب على غير لسان قريش ثم وفى بذلك عند العرض والتقويم ولم يترك فيه شيئا ولا أحسبك في مرية من ذلك. نعم يبقى ما روي بسند صحيح على شرط الشيخين عن هشام بن عروة عن أبيه قال سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن لحن القرآن عن قوله تعالى: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ [طه: 63] وعن قوله: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ [النساء: 162] وعن قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ [المائدة: 69] ؟ فقالت يا ابن أخي هذا عمل الكتاب أخطؤوا في الكتاب، وكذا ما روي عن سعيد بن جبير كان يقرأ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ ويقول هو لحن من الكاتب ويجاب عن الأول بأن معنى قولها أخطؤوا أي في اختيار الأولى من الأحرف السبعة لجمع الناس عليه لا أن الذي كتبوه من ذلك خطأ لا يجوز فإن ما لا يجوز مردود وإن طالت مدة وقوعه، وهذا الذي رأته عائشة وكم لها من رأي رضي الله تعالى عنها. وعن الثاني بأن معنى قوله لحن من الكاتب لغة وقراءة له وفي الآية قراءة أخرى وللنحويين في توجيه هذه القراءات كلام طويل ستسمعه فيما بعد إن شاء الله تعالى. وأما الوجه الثاني «فلأن من ذهب» إلى أن وجه الإعجاز عدم التناقض والاختلاف مع الطول والامتداد يقول القرآن بجملته معجز. لذلك فسلامة كثير من الخطب والشعر من ذلك وظهور ذلك كليا فيما يكون على مقدار بعض السور القصار لا يضره شيئا كما لا يخفى فتدبر. وقد أطال العلماء الكلام على وجه إعجاز القرآن وأتوا بوجوه شتى الكثير منها خواصه وفضائله مثل الروعة التي تلحق قلوب سامعيه وأنه لا يمله تاليه بل يزداد حبا له بالترديد مع أن الكلام يعادي إذا أعيد وكونه آية باقية لا تعدم ما بقيت الدنيا مع تكفل الله تعالى بحفظه والذي يخطر بقلب هذا الفقير أن القرآن بجملته وأبعاضه حتى أقصر سورة منه معجز بالنظر إلى نظمه وبلاغته وإخباره عن الغيب وموافقته لقضية العقل ودقيق المعنى وقد يظهر كلها في آية وقد يستتر البعض كالإخبار عن الغيب ولا ضير ولا عيب فما يبقى كاف وفي الغرض واف. نجوم سماء كلما انقضّ كوكب ... بدا كوكب تأوي إليه كواكب أما بيان كون النظم معجزا فلأن مراتب تأليف الكلام على ما قيل خمس «الأولى» ضم الحروف المبسوطة بعضها إلى بعض فتحصل الكلمات الثلاث الاسم والفعل والحرف «والثانية» تأليف هذه الكلمات بعضها إلى بعض فتحصل الجمل المفيدة وهو النوع الذي يتداوله الناس جميعا في مخاطباتهم وقضاء حوائجهم ويقال له: المنثور «والثالثة» ضم ذلك إلى بعض ضما له مباد ومقاطع ومداخل ومخارج ويقال له المنظوم «والرابعة» أن يعتبر في أواخر الكلام مع ذلك تسجيع ويقال له المسجع «والخامسة» أن يحصل له مع ذلك وزن ويقال له إن قصد الشعر والمنظوم إما محاورة ويقال له الخطابة وإما مكاتبة ويقال له الرسالة فأنواع الكلام لا تخرج عن هذه الأقسام ولكل من ذلك نظم مخصوص والقرآن جامع لمحاسن الجميع بنظم مكتس أبهى حلل، ومتعر عن كل خلل، ومشتمل على خواص ما شامها سواه، ومزايا ما سامها عند أهل النقد نظم إلا إياه. من كل لفظ تكاد الأذن تجعله ... ربا ويعبده القرطاس والقلم ويؤيد ذلك أنه لا يصح أن يقال له رسالة أو خطابة أو سجع كما يصح أن يقال هو كلام، والبليغ إذا قرع سمعه فصل بينه وبين ما عداه من النظم بلا ترديد وهذا مما لا خفاء فيه على الرجال حتى على الوليد، وأما بيان ذلك في البلاغة فهو أن أجناس الكلام مختلفة ومراتبها في البيان متفاوتة، فمنها البليغ الرصين الجزل، ومنها الفصيح القريب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 السهل، ومنها الجاري الطلق الرسل وهذه أقسام الكلام الفاضل المحمود فالأول أعلاها والثاني أوسطها والثالث أدناها وأقربها وقد حازت بلاغة القرآن من كل قسم من هذه الأقسام أوفر حصة وأخذت من كل نوع أعظم شعبة فانتظم لها بانتظام هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة وهما كالمتضادين فكان اجتماع الأمرين فيه مع نبو كل منهما عن الآخر فضيلة ومنزلة جليلة وقد خص بذلك القرآن كما لا يخفى (1) على ذوي الفطر السليمة ومن كان له في علم البلاغة إتقان. وأما بيان إعجاز اشتماله على الإخبار بالغيب فلأنه تضمن ما يحكم العرف بكثرته من أخبار القرون الماضية والأمم البادية والشرائع الداثرة مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب الذي قطع عمره في تعلم ذلك وتتبعه فيورده القرآن على وجهه ويأتي به على نصه، ومن المعلوم أن من أتى به أمي لا يقرأ ولا يكتب صلى الله تعالى عليه وسلم مع الإعلام بما في ضمائر كثيرين من غير أن يظهر ذلك منهم بقول أو فعل كقوله تعالى: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا [آل عمران: 122] وقوله تعالى: وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ [المجادلة: 8] والإعلان بالحوادث المستقبلة في الأعصار الآتية كقوله تعالى: الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم: 1- 4] وأخبار أقوام في قضايا أنهم لا يفعلونها فما فعلوا ولا قدروا كقوله تعالى خطابا لليهود فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً [البقرة: 94] فما تمناه أحد منهم إلى أضعاف مضاعفة من مثل ذلك قد اشتمل القرآن عليها واختص من بين الكتب بها حتى أن أقصر سورة فيه وهي الكوثر تشير إلى أربعة أخبار عن الغيب مع أنها ثلاث آيات «الأول» في قوله تعالى إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر: 1] إذا أريد به كما في بعض الروايات كثرة الأتباع «والثاني» في قوله «وانحر» حيث أريد به كما هو الظاهر الأمر بالنحر فهو إشارة إلى اليسار حتى يمكنه الإقدام عليه «والثالث والرابع» في قوله تعالى: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [الكوثر: 3] حيث صرح ورمز بأن شانئك لا أنت أبتر لا عقب له فكان كما أخبر ولا شك عند كل عاقل أن مجموع ما ذكرنا يعجز عنه البشر وأما إعجاز موافقته لقضية العقل ودقيق المعنى فلأنه اشتمل على توحيد الله تعالى وتنزيهه والدعاء إلى طاعته وبيان طرق عبادته من تحليل وتحريم ووعظ وتعليم وأمر بمعروف ونهي عن منكر وإشارة إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساويها واضعا كل شيء منها موضعه الذي لا يرى أولى منه ولا أليق ولا يتصور أحرى من ذاك ولا أخلق جامعا بين الحجة والمحتج له والدليل والمدلول عليه ليكون ذلك أوكد للزوم ما دعا إليه وامتثال ما أمر به واجتناب ما نهي عنه مع إشارة أنيقة ورموز دقيقة وأسرار جزيلة وحكم جليلة ستقف إن شاء الله تعالى على الكثير منها بحيث لا تبقى في شك من رد من يقول بأن ذلك معتاد في أكثر كلام البلغاء وأنه ينتقض بالتوراة والإنجيل وبكلام الرسول الغير المعجز فأين الثريا من يد المتناول. وما كل مخضوب البنان بثينة ... ولا كل مصقول الحديد يماني فهذه الأوجه الأربعة هي الظاهرة في وجه إعجاز القرآن والمشهور عند الجمهور الاقتصار على بلاغته وفصاحته حيث بلغت الرتبة العليا والغاية القصوى التي لم تكد تخفى على أهل هذا الشأن حتى النساء كما يحكى أن الأصمعي وقف متعجبا من امرأة تنشد شعرا فقالت أتعجب من هذا أين أنت من قوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 7] ؟ فقد   (1) وقال السكاكي اعلم أن إعجاز القرآن يدرك ولا يمكن وصفه كاستقامة الوزن والملاحظة وطيب النغم ولا يدرك تفصيله لغير ذوي الفطر السليمة إلا بإتقان علم المعاني والبيان والتمرن فيهما فليفهم اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 جمع أمرين ونهيين وبشارتين أي مع ما فيه مما يدرك بالذوق وبعضهم جعل المدار النظم المخصوص والباقي تابع له قائلا إن الإعجاز المتعلق بالفصاحة والبلاغة لا يتعلق بعنصره الذي هو اللفظ والمعنى فإن الألفاظ ألفاظهم كما قال تعالى قُرْآناً عَرَبِيًّا [الزخرف: 3، يوسف: 2، طه: 113، الزمر: 28، فصلت: 3، الشورى: 7] بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ [الشعراء: 195] ولا بمعانيه فإن كثيرا منها موجود في الكتب المتقدمة كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [الشعراء: 196] وما فيه من المعارف الإلهية وبيان المبدأ والمعاد والإخبار بالغيب فإعجازه ليس براجع إلى القرآن من حيث هو قرآن بل لكونه حاصلا من غير سبق تعليم وتعلم ولكون الإخبار بالغيب إخبارا بما لا يعتاد سواء كان بهذا النظم أو بغيره موردا بالعربية أو بلغة أخرى بعبارة أو إشارة، فإذا هو متعلق بالنظم المخصوص الذي هو صورة القرآن وباختلاف الصور يختلف حكم الشيء واسمه لا بعنصره كالخاتم والقرط والسوار إذا كان الكل من ذهب مثلا فإن الاسم مختلف والعنصر واحد وكالخاتم المتخذ من ذهب وفضة وحديد يسمى خاتما والعنصر مختلف فظهر أن الإعجاز المختص بالقرآن متعلق بنظمه المخصوص وإعجاز نظمه قد سلف بيانه وأنت تعلم ما فيه وإن كان قريبا إلى الحق، وأبعد الأقوال عندي كونه بالصرفة المحضة حتى أن قول المرتضى فيها غير مرتضى كما لا يخفى على من أنصفه ذهنه واتسع عطنه، وأبعد من ذلك كونه بالقدم كما هو قريب ممن هو حديث عهد بما تقدم- وسيأتي إن شاء الله تعالى- تتمة لهذا الكلام من بيان اختلاف الناس أيضا في تفاوت مراتب الفصاحة والبلاغة في آياته ويتضح لك ما هو الحق الحقيق بالقبول والله تعالى المبتغى والمسئول، ولنقتصر من الفوائد على هذا المقدار وفي السبعة ما لا يحصى من الأسرار، وهذا أوان تقبيل شفاه الأقلام، حروف سبحان كلام الله تعالى العلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 سورة الفاتحة اختلف فيها، فالأكثرون على أنها مكية بل من أوائل ما نزل من القرآن على قول (1) وهو المروي عن علي وابن عباس وقتادة وأكثر الصحابة وعن مجاهد أنها مدنية (2) وقد تفرد بذلك حتى عد هفوة منه، وقيل: نزلت بمكة حين فرضت الصلاة وبالمدينة لما حولت القبلة ليعلم أنها في الصلاة كما كانت وقيل بعضها مكي وبعضها مدني ولا يخفى ضعفه، وقد لهج الناس بالاستدلال على مكيتها بآية الحجر وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر: 87] وهي مكية لنص العلماء والرواية عن ابن عباس ولها حكم مرفوع لا لأن ما قبلها وما بعدها في حق أهل مكة كما قيل لأنه مبني على أن المكي ما كان في حق أهل مكة والمشهور خلافه، والأقوى الاستدلال بالنقل عن الصحابة الذين شاهدوا الوحي والتنزيل لأن ذلك موقوف أولا على تفسير السبع المثاني بالفاتحة وهو وإن كان صحيحا ثابتا في الأحاديث (3) إلا أنه قد صح أيضا عن ابن عباس وغيره تفسيرها بالسبع الطوال، وثانيا على امتناع الامتنان بالشيء قبل إيتائه مع أن الله تعالى قد امتن عليه صلى الله تعالى عليه وسلم بأمور قبل إيتائه إياها كقوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الفتح: 1] فهو قبل الفتح بسنين والتعبير بالماضي تحقيق للوقوع وهذا وإن كان خلاف الظاهر لا سيما مع إيراد اللام وكلمة «قد» ووروده في معرض المنة والغالب فيها سبق الوقوع وعطف وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ [الحجر: 88، طه: 131] الآية إلا أنه قد خدش الدليل، لا يقال: إن هذا وذلك لا يدلان إلا على أنها نزلت بمكة، وأما على نفي نزولها بالمدينة أيضا فلا لأنا نقول: النفي هو الأصل وعلى مدعي الإثبات الإثبات وأنى به وما قالوا في الجواب عن الاعتراض بأن النزول ظهور من عالم الغيب إلى الشهادة والظهور بها لا يقبل التكرر فإن ظهور الظاهر ظاهر البطلان كتحصيل الحاصل من دعوى أنه كان في كل لفائدة أو أنه على حرف مرة وآخر أخرى لورود مالك وملك أو ببسملة تارة وتارة بدونها وبه تجمع المذاهب والروايات مصحح للوقوع لا موجب له كما لا يخفى، والسورة مهموزة وغير مهموزة بإبدال إن كانت من السور وهو البقية لأن بقية كل شيء بعضه وبدونه إن كانت من   (1) فقد روينا عن أبي ميسرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا برز سمع مناديا يناديه يا محمد فإذا سمع الصوت انطلق هاربا فقال له ورقة بن نوفل إذا سمعت النداء فاثبت حتى تسمع ما يقول لك قال فلما برز سمع النداء: يا محمد قال لبيك قال قل أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ثم قال: (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين) حتى فرغ من فاتحة القرآن ولولا صحة الأخبار على غير هذا النحو كان هذا الخبر أقوى دليل على مكيتها فافهم اهـ. (2) ويلزم منه أنه صلّى الله عليه وسلم صلى بضع عشرة سنة بلا فاتحة وهي خاتمة في البعد اهـ منه. (3) فقد روينا عن أبي هريرة قال «إن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قرأ عليه أبيّ بن كعب أم القرآن فقال والذي نفسي بيده ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها إنها لهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 سور البناء وهي المنزلة أو سور المدينة لإحاطتها (1) بآياتها، أو من التسور وهو العلو والارتفاع لارتفاعها بكونها كلام الله تعالى وتطلق على المنزلة الرفيعة كما في قول النابغة: ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك حولها يتذبذب وحدها قرآن يشتمل على ذي فاتحة وخاتمة. وقيل طائفة أي قطعة مستقلة لتخرج آية الكرسي مترجمة توقيفا وقد ثبتت أسماء الجميع بالأحاديث والآثار فمن قال بكراهة أن يقال سورة كذا بل سورة يذكر فيها كذا بناء على ما روي عن أنس وابن عمر من النهي عن ذلك لا يعتد به إذ حديث أنس ضعيف أو موضوع وحديث ابن عمر موقوف عليه وإن روي عنه بسند صحيح «والفاتحة» في الأصل صفة جعلت اسما لأول الشيء لكونه واسطة في فتح الكل والتاء للنقل أو المبالغة ولا اختصاص لها بزنة علامة أو مصدر أطلقت على الأول (2) تسمية للمفعول بالمصدر إشعارا بأصالته كأنه نفس الفتح إذ تعلقه به أولا ثم بواسطته يتعلق بالمجموع لكونه جزءا منه، وكذا يقال في الخاتمة فإن بلوغ الآخر يعرض الآخر أولا والكل بواسطته وليس هذا كالأول لقلة فاعلة في المصادر إلا أنه أولى من كونه للآلة أو باعثا لأن هذه ملتبسة بالفعل ومقارنة له، والغالب أن لا تتصف الآلة ولا يقارن الباعث على أن الآلة هنا غير مناسبة لإيهام أن يكون البعض غير مقصود وجوزوا أن يكون للنسبة أي ذات فتح مع وجوه أخر مرجوحة «والكتاب» هو المجموع الشخصي وفتح الفاتحة بالقياس إليه لا إلى القدر المشترك بينه وبين أجزائه وهو متحقق في العلم أو اللوح أو بيت العزة فلا ضير في اشتهار السورة بهذا الاسم في الأوائل، والإضافة الأولى من إضافة الاسم إلى المسمى وهي مشهورة، والثانية بمعنى اللام كما في جزء الشيء لا بمعنى من كما في خاتم فضة لأن المضاف جزء لا جزئي قاله شيخ الإسلام (3) وهو مذهب بعض في كل، وقال ابن كيسان والسيرافي وجمع إضافة الجزء على معنى «من» التبعيضية بل في اللمع وشرحه إن من المقدرة في الإضافة مطلقا كذلك من غير فرق بين الجزء والجزئي، وبعضهم جعل الإضافة في الجزئي بيانية مطلقا وبعضهم خصها بالعموم والخصوص الوجهي كما في المثال وجعلها في المطلق كمدينة بغداد لامية والشهرة لا تساعده. ولهذه السورة الكريمة أسماء أوصلها البعض إلى نيف وعشرين «أحدها» فاتحة الكتاب لأنها مبدؤه على الترتيب المعهود لا لأنها يفتتح بها في التعليم وفي القراءة في الصلاة كما زعمه الإمام السيوطي ولا لأنها أول سورة نزلت كما قيل. أما الأول والثالث فلأن المبدئية من حيث التعليم أو النزول تستدعي مراعاة الترتيب في بقية أجزاء الكتاب من   (1) ومنه السوار لإحاطته بالساعد اهـ منه. [ ..... ] (2) المراد بالأول ما يعم الاضافي فلا حاجة إلى الاعتذار بأن اطلاق الفاتحة على السورة باعتبار جزئها الأول اهـ منه. (3) هو ابو السعود صاحب التفسير اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 تينك الحيثيتين ولا ريب في أن الترتيب التعليمي والنزولي ليسا كالترتيب المعهود، وأما الثاني فلما عرفت أن ليس المراد بالكتاب القدر المشترك الصادق على ما يقرأ في الصلاة حتى يعتبر في التسمية مبدئيتها له. وحكى المرسي أنها سميت بذلك لأنها أول سورة كتبت في اللوح (1) ويحتاج إلى نقل وإن صححنا أن ترتيب القرآن الذي في مصاحفنا كما في اللوح فلربما كتب التالي ثم كتب المتلو وغلبة الظن أمر آخر «وثانيها» فاتحة القرآن لما قدمنا حذو القذة بالقذة «وثالثها ورابعها» أم الكتاب وأم القرآن وحديث (2) «لا يقولن أحد كم أم الكتاب وليقل فاتحة الكتاب» لا أصل له بل قد ثبت في الصحاح (3) تسميتها به كما لا يخفى على المتتبع، وسميت بذلك لأن الابتداء كتابة أو تلاوة أو نزولا على قول أو صلاة بها وما بعدها تال لها فهي كالأم التي يتكون الولد بعدها، ويقال أيضا للراية أم لتقدمها واتباع الجيش لها ومنه أم القرى أو لاشتمالها- كما قال العلامة- على مقاصد المعاني التي في القرآن من الثناء على الله تعالى بما هو أهله ومن التعبد بالأمر والنهي ومن الوعد والوعيد، أما الثناء فظاهر، وأما التعبد فأما من الحمد لله لأنه للتعليم فيقدر أمر يفيده والأمر الإيجابي يلزمه النهي عن الضد في الجملة ولا نرى (4) فيه بأسا أو من اهدنا الصراط المستقيم إن أريد به ملة الإسلام أو من تقدير قولوا بسم الله ومن تأخير متعلقه، وإما من إياك نعبد فإنه إخبار عن تخصيصه بالعبادة وهي التحقق بالعبودية بارتسام ما أمر السيد أو نهى فيدل في الجملة على أنهم متعبدون، ولا يرد على المعتزلة عدم سبق أمر ونهي أصلا، ويجاب عندنا بعد تسليم العدم للأولية بأن رأس العبادة التوحيد وفي الصدر ما يرشد إليه (5) لا سيما وقد سبق تكليفه صلّى الله تعالى عليه وسلم بالتوحيد وتبليغ السورة وذلك يكفي، وأما الوعد والوعيد فمن قوله تعالى: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ أو من يوم الدين أي الجزاء، والمجزي أما ما يسر أو ما يضر وهما الثواب والعقاب وإنما كانت المقاصد هذه لأن بعثة الرسل وإنزال الكتب رحمة للعباد وإرشادا إلى ما يصلحهم معاشا ومعادا وذلك بمعرفة من يقدر على إيصال النعم إيجادا وإمدادا، ثم التوصل إليه بما يربط العتيد، ويجلب المزيد عملا واعتقادا والتنصل عما يفضي به إلى رجع المحصل ومنع المستحصل قلوبا وأجسادا والثناء فرع معرفة المثني عليه مع الاستحقاق وتدخل المعرفة بصفات الجلال والجمال، ومنها ما منه (6) الإرسال والإنزال والتفاوت بين المطيع والمذنب فدخل الإيمان بالله تعالى وصفاته والنبوات والمعاد على الإجمال، والتعبد يتمكن به من التوصل والتنصل ويدخل فيه من وجه الإيمان بالنبوات وما يتعلق بها من الكتاب والملائكة إذ الأمر والنهي فرع ثبوت ذلك في الجملة، والوعد والوعيد يتضمنان الإيمان بالمعاد، ويبعثان على التعبد، والناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة والأكثرون بعثتهم الرغبة والرهبة، وأوسطهم الرجاء والخوف. والخواص- وقليل ما هم- الأنس والهيبة فبالثلاثة تم الإرشاد إلى مصالح المعاش والمعاد ولا أحصر لك وجه الحصر بهذا فلمسلك الذهن اتساع ولك أن ترد الثلاثة إلى اثنين فتدرج الثناء في التعبد إذ لا حكم للعقل ولعله إنما جعله قسيما له تلميحا إلى أن شكر المنعم واجب عقلا مراعاة لمذهب الاعتزال ولم يبال البيضاوي   (1) وقيل في التعليل لأنها فاتحة كل كتاب ورد بأن ذلك الحمد لا الكل وبأن الظاهر أن المراد بالكتاب القرآن لا جنسه اهـ منه. (2) وبه أخذ الحسن البصري اهـ منه. (3) أخرج الدارقطني وصححه من حديث أبي هريرة مرفوعا «إذ قرأتم الحمد فاقرؤوا بسم الله الرحمن الرحيم إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني» اهـ منه. (4) أي معاشر أهل السنة أما المعتزلة فليس الأمر بالشيء نهيا عن ضده عندهم فحينئذ لا يتأتى ذلك اهـ منه. (5) وهو إجراء الأوصاف وقد يوجد منه التعبد ابتداء اهـ منه. (6) كالقدرة والرحمة والحكمة اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 بذلك فعبر بما عبر به من المقال. أو لاشتمالها على جملة معانيه من الحكم النظرية والأحكام العملية التي هي سلوك الصراط المستقيم والاطلاع على مراتب السعداء ومنازل الأشقياء، والأول مستفاد من أول السورة إلى قوله يَوْمِ الدِّينِ والثاني من قوله إِيَّاكَ نعبد وما بعده وسلوك الصراط المستقيم من قوله اهْدِنَا الآية والاطلاع من قوله أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ إلخ وفيه وعد ووعيد فدخلا فيه والأمثال والقصص المقصود بها الاتعاظ وكذا الدعاء والثناء، وهذه جملة المعاني القرآنية إجمالا مطابقة والتزاما وأبسط من هذا أن يقال: إنها مشتملة على أربعة أنواع من العلوم التي هي مناط الدين «الأول» علم الأصول ومعاقده معرفة الله تعالى وصفاته وإليها الإشارة بقوله رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ومعرفة النبوات وهي المرادة بقوله تعالى أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ والمعاد المؤمى إليه بقوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ «الثاني» علم الفروع وأسه العبادات وهو المراد بقوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ وهي بدنية ومالية وهما مفتقران إلى أمور المعاش من المعاملات والمناكحات ولا بد لها من الحكومات فتمهدت الفروع على الأصول. «الثالث» علم ما به يحصل الكمال وهو علم الأخلاق وأجله الوصول إلى الحضرة الصمدانية والسلوك لطريقة الاستقامة في منازل هاتيك الرتب العلية وإليه الإشارة بقوله إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ «الرابع» علم القصص والإخبار عن الأمم السالفة السعداء والأشقياء وما يتصل بها من الوعد والوعيد وهو المراد بقوله تعالى أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ وإذا انبسط ذهنك أتيت بأبسط من ذلك، وهذان الوجهان يستدعيان حمل الكتاب على المعاني أو تقديرها في التركيب الإضافي، والوجه الأول لا يقتضيه ومن هذا رجحه البعض وإن كان أدق وأحلى لا لأنه يشكل عليهما ما ورد من أن الفاتحة تعدل ثلثي القرآن إذ يزيله إذا ثبت أن الإجمال لا يساوي التفصيل فزيادة مبانيه منزلة منزلة ثلث آخر من الثواب قاله الشهاب ثم قال: ومن العجب ما قيل هنا من أن ذلك لاشتمالها على دلالة التضمن والالتزام وهما ثلثا الدلالات انتهى. وأنا أقول الأعجب من هذا توجيهه رحمه الله مع ما رواه الديلمي في الفردوس عن أبي الدرداء فاتحة الكتاب تجزي ما لا يجزىء شيء من القرآن ولو أن فاتحة الكتاب جعلت في كفة الميزان وجعل القرآن في الكفة الأخرى لفضلت فاتحة الكتاب على القرآن سبع مرات فإنه لا يتبادر منه إلا الفضل في الثواب فيعارض ظاهره ذلك الخبر على توجيهه وعلى توجيه صاحب القيل لا تعارض. نعم إنه بعيد ويمكن التوفيق بين الخبرين وبه يزول الإشكال بأن الأول كان أولا وتضاعف الثواب ثانيا ولا حجر على الرحمة الواسعة أو بأن اختلاف المقال لاختلاف الحال أو بأن ما يعدل الشيء كله يعدل ثلثيه أو بأن القرآن في أحد الخبرين أو فيهما بمعنى الصلاة مثله في قوله تعالى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً [الإسراء: 78] وذلك يختلف باختلاف مراتب الناس في قراءتهم وصلواتهم فليتدبر، وعلى العلات لا يقاسان بما قيل في وجه التسمية بذلك لأنها أفضل السور أو لأن حرمتها كحرمة القرآن كله أو لأن مفزع أهل الإيمان إليها أو لأنها محكمة والمحكمات أم الكتاب ولا أعترض على البعض بعدم الاطراد لأن وجه التسمية لا يجب اطراده ولكني أفوض الأمر إليك وسلام الله تعالى عليك «لا يقال» إذا كانت الفاتحة جامعة لمعاني الكتاب فلم سقط منها سبعة أحرف الثاء والجيم والخاء والزاي والشين والظاء والفاء؟ لأنا نقول لعل ذلك للإشارة إلى أن الكمال المعنوي لا يلزمه الكمال الصوري ولا ينقصه نقصانه إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وكانت سبعة موافقة لعدد الآي المشتمل على الكثير من الأسرار وكانت من الحروف الظلمانية التي لم توجد في المتشابه من أوائل السور ويجمعها بعد إسقاط المكرر- صراط على حق نمسكه- وهي النورانية المشتملة عليها بأسرها الفاتحة للإشارة إلى غلبة الجمال على الجلال المشعر بها تكرر ما يدل على الرحمة في الفاتحة وإنما لم يسقط السبعة الباقية من هذا النوع فتخلص النورانية ليعلم أن الأمر مشوب فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 [الأعراف: 99] وفي قوله تعالى: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ [الحجر: 49] إشارة وأي إشارة إلى ذلك لمن تأمل حال الجملتين على أن في كون النورانية- وهي أربعة عشر حرفا- مذكورة بتمامها والظلمانية مذكورة منها سبعة وإذا طوبقت الآحاد بالآحاد يحصل نوراني معه ظلماني ونوراني خالص إشارة إلى قسمي المؤمنين فمؤمن لم تشب نور إيمانه ظلمة معاصيه ومؤمن قد شابه ذلك، وفيه رمز إلى أنه لا منافاة بين الإيمان والمعصية فلا تطفئ ظلمتها نوره «ولا يزني الزاني وهو مؤمن» محمول على الكمال وليس البحث لهذا وإذا لوحظ الساقط وهو الظلماني المحض المشير إلى الظالم المحض الساقط عن درجة الاعتبار والمذكور وهو النوراني المحض المشير إلى المؤمن المحض والنوراني المشوب المشير إلى المؤمن المشوب يظهر سر التثليث في فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [فاطر: 32] وإنما كان الساقط هذه السبعة بخصوصها من تلك الأربعة عشر ولم يعكس فيسقط المثبت ويثبت الساقط أو يسقط سبعة تؤخذ من هذا وهذا لسر علمه من علمه وجهله من جهله، نعم في كون الساقط معجما فقط إشارة إلى أن الغين في العين، والرين في البين، فلهذا وقع الحجاب، وحصل الارتياب، وهذا ما يلوح لأمثالنا من أسرار كتاب الله تعالى وأين هو مما يظهر للعارفين الغارفين من بحاره، المتضلعين من ماء زمزم أسراره (1) . ولمولانا العلامة فخر الدين الرازي في هذا المقام كلام ليس له في التحقيق أدنى إلمام حيث جعل سبب إسقاط هذه الحروف أنها مشعرة بالعذاب فالثاء تدل على الثبور والجيم أول حرف من جهنم والخاء يشعر بالخزي والزاي والشين من الزفير والشهيق، وأيضا الزاي تدل على الزقوم والشين تدل على الشقاء والظاء أول الظل في قوله تعالى: انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ [المرسلات: 30] ، وأيضا تدل على لظى والفاء على الفراق، ثم قال فإن قالوا: لا حرف من الحروف إلا وهو مذكور في اسم شيء يوجب نوعا من العذاب فلا يبقى لما ذكرتم فائدة فتقول الفائدة فيه أنه قال في صفة جهنم لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [الحجر: 44] ثم إنه تعالى أسقط سبعة من الحروف من هذه السورة وهي أوائل ألفاظ دالة على العذاب تنبيها على أن من قرأ هذه السورة وآمن بها وعرف حقائقها صار آمنا من الدركات السبع في جهنم انتهى، ولا يخفى ما فيه وجوابه لا ينفعه ولا يغنيه إذ لقائل أن يقول فلتسقط الذال والواو، والنون والحاء والعين والميم والغين إذ الواو من الويل والذال من الذلة والنون من النار والحاء من الحميم والعين من العذاب والميم من المهاد والغين من الغواشي والآيات ظاهرة والكل في أهل النار وتكون الفائدة في إسقاطها كالفائدة في إسقاط تلك من غير فرق أصلا على أن في كلامه رحمه الله تعالى غير ذلك بل ومع تسليم   (1) اعلم أن ما ذكره المفسر رحمه الله تعالى ونقله عن بعض مفسري الصوفية في المعاني التي تستنبط من الحروف بطريق الرمز والإشارة لا يدل عليه كتاب ولا سنة صحيحة وليست هذه المعاني من مدلولات الكلمات لغة ولا سياقا ولا يخفى على أهل العلم بالشريعة الاسلامية والسنة النبوية ان مدلولات الكلمات القرآنية، والألفاظ المصطفوية هو ما دل عليه اللفظ لغة منطوقا أو مفهوما أو سياقا حقيقة أو مجازا بحسب القرائن وباعتبار النزول وسببه وما ورد فيه عن الصحابة الأخيار والتابعين الأبرار ونصون كلام صاحب الشريعة عن تأويل أو تصحيف أو تحريف ولو كان قائل ذلك أيّا كان من العلماء ونضرب على يد من يتجرأ على مثل ذلك بسوط من حديد وعلى لسانه بمقارض من نار فإن القرآن أنزل لهداية الأمة وبيان طريق سعادتها دنيا وأخرى والعمل بما دل عليه لفظه المنزل به وقد أخبر الله تعالى أنه أنزل بلسان عربي مبين فلا تغتر بما سطره المفسر هنا أو ما سيأتي من الإشارات إلى مدلولات ما جاء بها اثر عن النبي صلّى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة الذين هم هداة الامة من بعده صلّى الله عليه وسلم وليسعنا ما وسعهم من العلم النافع والعمل المثمر ونسأل الله توفيق الأمة للعمل بما جاء به كتابنا المعصوم وسنة نبينا التي ليلها كنهارها سواء اهـ مصححه منير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 سلامته مما قيل أو يقال لا أرتضيه للفخر وهو السيد الذي غدا سعد الملة وحجة الإسلام وناصرا أهله، وأما نسبته لأمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه حين سأل قيصر الروم معاوية عن ذلك فلم يجب فسأل عليا فأجاب فلا أصل له وعلى تقدير التسليم فما مرام الأمير بالاكتفاء على هذا المقدار إلا التنبيه للسائل والمسئول على ما لا يخفى عليك من الأسرار فافهم ذاك والله تعالى يتولى هداك «وخامسها وسادسها وسابعها» الكنز والوافية والكافية لما مر من اشتمالها على الجواهر المكنوزة فتفي وتكفي أو لأنها لا تنصف في الصلاة ولا يكفي فيها غيرها «وثامنها الأساس» لأنها أصل القرآن وأول سورة فيه «وتاسعها وعاشرها والحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر» سورة الحمد وسورة الشكر وسورة الدعاء وسورة تعليم المسألة وسورة السؤال لاشتمالها على ذلك، أما اشتمالها على الحمد فظاهر وكذا على الشكر لدى من أنعم الله تعالى عليه بالفهم ويمكن أن يكون الاسمان كأم القرآن وأم الكتاب. وأما الاشتمال على الثالث فكالاشتمال على الأول بل أظهر، وأما تعليم المسألة فلأنها بدئت بالثناء قبله والخامس كالثالث وهما كذينك الثالث والرابع كما لا يخفى «والرابع عشر والخامس عشر» سورة المناجاة وسورة التفويض لأن العبد يناجي ربه بقوله إياك نعبد وإياك نستعين» وبالثاني يحصل التفويض «والسادس عشر والسابع عشر والثامن عشر» الرقية والشفاء والشافية والأحاديث الصحيحة مشعرة بذلك «والتاسع عشر» سورة الصلاة لأنها واجبة أو فريضة فيها والاستحباب مذهب بعض المجتهدين ورواية عن البعض في النفل، قيل ومن أسمائها الصلاة لحديث «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين» وأراد السورة والمجاز اللغوي لعلاقة الكلية والجزئية أو اللزوم حقيقة أو حكما كالمجاز في الحذف محتمل «والعشرون» النور لظهورها بكثرة استعمالها أو لتنويرها القلوب لجلالة قدرها أو لأنها لما اشتملت عليه من المعاني عبارة عن النور بمعنى القرآن «والحادي والعشرون» القرآن العظيم وهو ظاهر مما قدمناه «والثاني والعشرون» السبع المثاني لأنها سبع آيات (1) باتفاق وما رأينا مشاركا لها سوى أَرَأَيْتَ [الماعون: 1] والقول بأنها ثمان كالقول بأنها تسع شاذ لا يعبأ به أو وهم من الراوي إلا أن منهم من عد التسمية آية دون أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ومنهم من عكس والمدار الرواية فلا يوهن الثاني أن وزان الآية لا يناسب وزان فواصل السور على أن في سورة النصر ما هو من هذا الباب، وتثني وتكرر في كل ركعة وصلاة ذات ركوع أو المراد المتعارف الأغلب من الصلاة فلا ترد الركعة الواحدة ولا صلاة الجنازة على أن في البتيراء اختلافا وصلاة الجنازة دعاء لا صلاة حقيقة وقيل وصفت بذلك لأنها تثنى بسورة أخرى أو لأنها نزلت مرتين أو لأنها على قسمين دعاء وثناء أو لأنها كلما قرأ العبد منها آية ثناه الله تعالى بالأخبار عن فعله كما في الحديث المشهور. وقيل غير ذلك، وهذه الأقوال مبنية على أن تكون المثاني من التثنية ويحتمل أن تكون من الثناء لما فيها من الثناء على الله تعالى أو لما ورد من الثناء على من يتلوها وأن تكون من الثنيا لأن الله تعالى استثناها لهذه الأمة، والحمد لله على هذه النعمة، ثم الحكمة في تسوير القرآن سورا كالكتب خلافا للزركشي أن يكون أنشط للقارىء وأبعث على التحصيل كالمسافر إذا قطع ميلا أو فرسخا نفس ذلك منه ونشط للمسير وإذا أخذ الحافظ السورة اعتقد أنه أخذ من كتاب الله تعالى طائفة مستقلة فيعظم عنده ما حفظ، وأيضا الجنس إذا انطوى تحته أنواع وأصناف كان أحسن من أن يكون تحته باب واحد مع أن في ذلك تحقيق كون السورة بمجردها معجزة وآية من آيات الله تعالى والحكمة في كونها طوالا وقصارا أظهر من أن تخفى.   (1) والقول بأنها سبع لأن فيها آداب في كل آية أدب بعيد وأبعد منه أنها سميت السبع لأنها خلت عن سبعة أحرف التاء والجيم والخاء والزاي والشين والظاء والهاء والفاء وذلك لأن الشيء على المشهور يسمى بما وجد فيه لا بما فقد منه اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 بسم الله الرحمن الرحيم فيها أبحاث «البحث الأول» اختلف العلماء فيها هل هي من خواص هذه الأمة أم لا؟ فنقل العلامة أبو بكر التونسي إجماع علماء كل ملة على أن الله تعالى افتتح كل كتاب بها وروى السيوطي فيما نقله عنه السرميني والعهدة عليه بسم الله الرحمن الرحيم فاتحة كل كتاب، وذهب هذا الراوي إلى أن البسملة من الخصوصيات لما روي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يكتب (1) باسمك اللهم إلى أن نزل بسم الله مجراها فأمر بكتابة بسم الله حتى نزل قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ [الإسراء: 110] فأمر بكتابة بسم الله الرحمن الرحيم إلى أن نزلت آية النمل فأمر بكتابة بسم الله الرحمن الرحيم، ولما اشتهر أن معاني الكتب في القرآن ومعانيه في الفاتحة ومعانيها في البسملة ومعاني البسملة في الباء فلو كانت في الكتب القديمة لأمر من أول الأمر بكتابتها ولكانت معاني القرآن في كل كتاب واللازم منتف فكذا الملزوم، وفيه أن الأمر بذلك التفصيل لا يستلزم النفي لاحتمال نفي العلم إذ ذاك ولا ضير وأن المختص بالقرآن اللفظ العربي بهذا الترتيب والكتب السماوية بأسرها خلافا للغيطي غير عربية وما في القرآن منها مترجم فلربما لهذه الألفاظ مدخل في الاشتمال على جميع المعاني فلا تكون في غير القرآن كما توهمه السرميني وإن كان هناك بسملة على أن في أول الدليلين بظاهره دليلا على عدم الخصوصية «البحث الثاني» وهو من أمهات المسائل حتى أفرده جمع (2) بالتصنيف اختلف الناس في البسملة في غير النمل إذ هي فيها بعض آية بالاتفاق على عشرة أقوال «الأول» أنها ليست آية من السور أصلا «الثاني» أنها آية من جميعها غير براءة «الثالث» أنها آية من الفاتحة دون غيرها «الرابع» أنها بعض آية منها فقط «الخامس» أنها آية فذة أنزلت لبيان رؤوس السور تيمنا للفصل بينها «السادس» أنه يجوز جعلها آية منها وغير آية لتكرر نزولها بالوصفين «السابع» أنها بعض آية من جميع السور «الثامن» أنها آية من الفاتحة وجزء آية من السور «التاسع» عكسه «العاشر» أنها آيات فذة وإن أنزلت مرارا (3) فابن عباس وابن المبارك وأهل مكة كابن كثير وأهل الكوفة كعاصم والكسائي وغيرهما سوى حمزة (4) وغالب أصحاب الشافعي والإمامية على الثاني، وقال بعض الشافعية وحمزة ونسب للإمام أحمد بالثالث وأهل المدينة ومنهم مالك، والشام ومنهم الأوزاعي والبصرة ومنهم أبو عمرو ويعقوب على الخامس وهو المشهور من مذهبنا وعلى المرء نصرة مذهبه والذب عنه وذلك بإقامة الحجج   (1) أي يأمر اهـ منه. (2) كالإمام أبي بكر بن خزيمة صاحب الصحيح والحافظ أبي بكر الخطيب وابن عبد الله وغيرهم اهـ منه (وانظر كتاب التوحيد له) . (3) عبارة الشهاب (العاشر) آية فذة إلخ فليتأمل. (4) فيه رد على البيضاوي اهـ. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 على إثباته وتوهين أدلة نفاته وكنت من قبل أعد السادة الشافعية لي غزية ولا أعد نفسي إلا منها، وقد ملكت فؤادي غرة أقوالهم كما ملكت فؤاد قيس ليلى العامرية فحيث لاحت لا متقدم ولا متأخر لي عنها. أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبا خاليا فتمكنا إلى أن كان ما كان فصرت مشغولا بأقوال السادة الحنفية، وأقمت منها برياض شقائق النعمان واستولى عليّ من حبها ما جعلني أترنم بقول القائل: محا حبها حب الأولى كنّ قبلها ... وحلت مكانا لم يكن حلّ من قبل وقد أطال الفخر في هذا المقام المقال وأورد ست عشرة حجة لإثبات أنها آية من الفاتحة كما هو نص كلامه ولا عبرة بالترجمة فها أنا بتوفيق الله تعالى راده ولا فخر وناصر مذهبي بتأييد الله تعالى ومنه التأييد والنصر (1) فأقول قال «الحجة الأولى» روى الشافعي عن ابن جريج عن أبي مليكة عن أم سلمة أنها قالت: «قرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فاتحة الكتاب فعد بسم الله الرحمن الرحيم آية الحمد لله رب العالمين آية الرحمن الرحيم آية مالك يوم الدين آية إياك نعبد وإياك نستعين آية اهدنا الصراط المستقيم آية صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين آية» وهذا نص صريح «الحجة الثانية» روى سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: فاتحة الكتاب سبع آيات أولاهن بسم الله الرحمن الرحيم» . «الحجة الثالثة» روى الثعلبي بإسناده عن أبي بردة عن أبيه قال «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ألا أخبرك بآية لم تنزل على أحد بعد سليمان بن داود غيري؟ فقلت بلى قال: بأي شيء تستفتح القرآن إذا افتتحت الصلاة؟ فقلت بسم الله الرحمن الرحيم قال هي هي» «الحجة الرابعة» روى الثعلبي بإسناده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله «أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال له كيف تقول إذا قمت إلى الصلاة؟ قال أقول الحمد لله رب العالمين قال قل بسم الله الرحمن الرحيم» وروى أيضا بإسناده عن أم سلمة «أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين» وروى أيضا بإسناده عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان إذا افتتح السورة في الصلاة يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم وكان يقول من ترك قراءتها فقد نقص» . وروى أيضا بإسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر: 87] قال فاتحة الكتاب فقيل لابن عباس فأين السابعة فقال بسم الله الرحمن الرحيم وبإسناده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال «إذا قرأتم أم القرآن فلا تدعوا بسم الله الرحمن الرحيم فإنها إحدى آياتها» وبإسناده أيضا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم «قال يقول الله عز وجل قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى مجدني عبدي وإذا قال الحمد لله رب العالمين قال الله حمدني عبدي وإذا قال الرحمن الرحيم قال أثنى عليّ عبدي فإذا قال مالك يوم الدين قال الله تعالى فوض إليّ عبدي وإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال الله تعالى هذا بيني وبين عبدي وإذا قال اهدنا الصراط المستقيم قال الله تعالى هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» . وبإسناده أيضا عن أبي هريرة قال «كنت مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في المسجد والنبي يحدث أصحابه إذ دخل رجل يصلي فافتتح الصلاة وتعوذ ثم قال الحمد لله رب العالمين فسمع النبي صلى الله تعالى عليه   (1) سامح الله المصنف على هذه المقالة التي أضرت بالمسلمين وجعلتهم أحزابا كل حزب بما لديهم فرحون، ولا يخفى على العاقل فسادها وبطلانها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وسلم ذلك فقال له يا رجل قطعت على نفسك الصلاة أما علمت أن بسم الله الرحمن الرحيم من الحمد فمن تركها فقد ترك آية منها ومن ترك آية منها فقد قطع عليه صلاته فإنه لا صلاة إلا بها فمن ترك آية منها فقد بطلت صلاته» وبإسناده عن طلحة بن عبيد الله قال «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من ترك بسم الله الرحمن الرحيم فقد ترك آية من كتاب الله» . «الحجة الخامسة» قراءة بسم الله الرحمن الرحيم واجبة في أول الفاتحة وإذا كان كذلك وجب أن تكون آية منها بيان الأول اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1] ولا يجوز أن يقال الباء صلة لأن الأصل أن تكون لكل حرف من كلام الله تعالى فائدة وإذا كان الحرف مفيدا كان التقدير اقرأ مفتتحا باسم ربك وظاهر الأمر الوجوب ولم يثبت في غير القراءة للصلاة فوجب إثباته في القراءة فيها صونا للنص عن التعطيل. «الحجة السادسة» التسمية مكتوبة بخط القرآن وكل ما ليس من القرآن فإنه غير مكتوب بخط القرآن ألا ترى أنهم منعوا كتابة أسامي السور في المصحف ومنعوا من العلامات على الأعشار والأخماس، والغرض من ذلك كله أن يمنعوا أن يختلط بالقرآن ما ليس بقرآن فلو لم تكن التسمية من القرآن لما كتبوها بخط القرآن. «الحجة السابعة» أجمع المسلمون على أن ما بين الدفتين كلام الله تعالى والبسملة موجودة بينهما فوجب جعلها منه «الحجة الثامنة» أطبق الأكثرون على أن الفاتحة سبع آيات إلا أن الشافعي قال بسم الله الرحمن الرحيم آية وأبو حنيفة قال: إنها ليست آية لكن صراط الذين أنعمت عليهم آية، وسنبين أن قوله مرجوح ضعيف فحينئذ يبقى أن الآيات لا تكون سبعا إلا بجعل البسملة آية تامة منها «الحجة التاسعة» أن نقول قراءة التسمية قبل الفاتحة واجبة فوجب كونها آية منها، بيان الأول أن أبا حنيفة يسلم أن قراءتها أفضل وإذا كان كذلك فالظاهر أنه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قرأها فوجب أن يجب علينا قراءتها لقوله تعالى: وَاتَّبِعُوهُ [الأعراف: 158] وإذا ثبت الوجوب ثبت أنها من السورة لأنه لا قائل بالفرق وقوله عليه الصلاة والسلام: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر» وأعظم الأعمال بعد الإيمان الصلاة فقراءة الفاتحة بدون قراءتها توجب كون الصلاة عملا أبتر ولفظه يدل على غاية النقصان والخلل بدليل أنه ذكر ذما للكافر الشانئ فوجب أن يقال للصلاة الخالية عنها في غاية النقصان والخلل وكل من أقر بذلك قال بالفساد وهو يدل على أنها من الفاتحة «الحجة العاشرة» ما روي أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال لأبيّ بن كعب ما أعظم آية في القرآن؟ قال بسم الله الرحمن الرحيم فصدقه النبي في قوله. وجه الاستدلال أن هذا يدل على أن هذا المقدار آية تامة ومعلوم أنها ليست بتامة في النمل فلا بد أن تكون في غيرها وليس إلا الفاتحة «الحجة الحادية عشرة» عن أنس أن معاوية قدم المدينة فصلى بالناس صلاة جهرية فقرأ أم القرآن ولم يقرأ البسملة فلما قضى صلاته ناداه المهاجرون والأنصار من كل ناحية أنسيت أين بسم الله الرحمن الرحيم حين استفتحت القرآن؟! فأعاد معاوية الصلاة وجهر بها. «الحجة الثانية عشرة» أن سائر الأنبياء كانوا عند الشروع في أعمال الخير يبتدئون باسم الله فقد قال نوح: بسم الله مجراها وسليمان بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي فوجب أن يجب على رسولنا ذلك لقوله تعالى: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] وإذا ثبت ذلك في حقه صلّى الله عليه وسلم ثبت أيضا في حقنا لقوله تعالى: فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام: 153، 155] وإذا ثبت في حقنا ثبت أنها آية من سورة الفاتحة. «الحجة الثالثة عشرة» أنه تعالى قديم والغير محدث فوجب بحكم المناسبة العقلية أن يكون ذكره سابقا على ذكر غيره والسبق في الذكر لا يحصل إلا إذا كانت قراءة البسملة سابقة وإذا ثبت أن القول بوجوب هذا التقديم فما رآه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن وإذا ثبت وجوب القراءة ثبت أنها آية من الفاتحة لأنه لا قائل بالفرق «الحجة الرابعة عشرة» أنه لا شك أنها من القرآن في سورة النمل ثم إنا نراه مكررا بخط القرآن فوجب أن يكون من القرآن كما أنا لما رأينا قوله تعالى: فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [من سورة المرسلات] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [من سورة الرحمن] مكررا كذلك قلنا إن الكل منه «الحجة الخامسة عشرة» روي أنه عليه السلام كان يكتب باسمك اللهم الحديث وهو يدل على أن أجزاء هذه الكلمة كلها من القرآن مجموعها منه وهو مثبت فيه فوجب الجزم بأنه من القرآن إذ لو جاز إخراجه مع هذه الموجبات والشهرة لكان جواز إخراج سائر الآيات أولى وذلك يوجب الطعن في القرآن العظيم «الحجة السادسة عشرة» قد بينا أنه ثبت بالتواتر أن الله تعالى كان ينزل هذه الكلمة على محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وكان عليه السلام يأمر بكتابتها بخط المصحف فيه وبينا أن حاصل الخلاف في أنه هل تجب قراءته وهل يجوز للمحدث مسه؟ فنقول ثبوت هذه الأحكام أحوط فوجب المصير إليه لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم «دع ما يرييك إلى ما لا يرييك» انتهى كلامه وليس بشيء لأن البعض منه مجاب عنه والبعض لا يقوم حجة علينا لأن الصحيح من مذهبنا أن بسم الله الرحمن الرحيم آية مستقلة وهي من القرآن وإن لم تكن من الفاتحة نفسها وقد أوجب الكثير منا قراءتها في الصلاة وذكر الزيلعي في شرح الكنز أن الأصح أنها واجبة، وذكر الزاهدي عن المجتبى أن الصحيح أنها واجبة في كل ركعة تجب فيها القراءة وهي الرواية الصحيحة عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، وقال ابن وهبان في منظومته: ولو لم يبسمل ساهيا كل ركعة ... فيسجد إذ إيجابها قال الأكثر وفي غنية المتملي وهو الأحوط وبه أقول خلافا لقاضيخان وصاحب الخلاصة وغيرهم والحق أحق بالاتباع (1) والقول عن بعض هذا أنه من طغيان القلم غاية الطغيان ونهاية في التعصب من غير إتقان ولنتكلم على ما ذكره هذا العلامة على التفصيل «فنقول» أما ما ذكره في الحجة الأولى من حديث أم سلمة بالوجه الذي رواه مخالف لما في البيضاوي المخالف (2) لما في الكتب الحديثية فيجاب عنه بأن أبا مليكة لم يثبت سماعه عن أم سلمة وبتقديره للمعاصرة يقال: إن هذا اللفظ لم يوجد في المشهور ولعله نقل بالمعنى لبعض الروايات الآتية على حسب ما يلوح له فقد أخرج أبو عبيد وأحمد وأبو داود بلفظ «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقطع قراءته آية آية بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين» وابن الأنباري والبيهقي «كان إذا قرأ قطع قراءته آية آية يقول بسم الله الرحمن الرحيم ثم يقف ثم يقول الحمد لله رب العالمين ثم يقف ثم يقول الرحمن الرحيم ثم يقف ثم يقول مالك يوم الدين» وابن خزيمة والحاكم بلفظ «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قرأ في الصلاة بسم الله الرحمن الرحيم فعدها آية الحمد لله رب العالمين اثنين الرحمن الرحيم ثلاث آيات مالك يوم الدين أربع آيات وقال هكذا إياك نعبد وإياك نستعين وجمع خمس أصابعه» والدارقطني بلفظ «كان يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين إلى آخرها قطعها آية آية وعدها عد الاعراب وعد بسم الله الرحمن الرحيم ولم يعد عَلَيْهِمْ والرواية الأولى والثانية يمكن أن يقال عنت بهما بيان كيفية قراءة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لسائر القرآن وذكرت بعضا منه على سبيل التمثيل ولم تستوعب وليس فيهما سوى إثبات أنها آية وهو مسلم لكن من القرآن وأما أنها من الفاتحة فلا، وكذا   (1) هذا اعتراض على الشهاب اهـ منه. (2) اعتراض على البيضاوي اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 في الرواية الثالثة إثبات أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقرؤها في الصلاة ويعدها آية لوقوفه عليها وهو مسلمنا أيضا وهي الآية الأولى من القرآن والآية الثانية منه الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وهكذا إلى الخامسة وجمعت الأصابع وانقطع الكلام وأما الرواية الرابعة فليست نصا أيضا في أن البسملة آية من الفاتحة إذ يحتمل أن يكون المعنى كان صلى الله تعالى عليه وسلم يقرأ في بعض الأوقات في الصلاة أو غيرها ولا دوام لا وضعا ولا استعمالا من كتاب الله تعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ إلى آخرها أي الآيات قطعها آية آية ولم يوصل بعضها ببعض وعدها عد الاعراب واحدة واحدة وعد بسم الله الرحمن الرحيم ولم يسقطها لوجوبها في الصلاة وللاعتناء بها في غيرها لما فيها من عظائم الأسرار ودقائق الأفكار، ومن هذا أوجب الكثير من علمائنا سجود السهو على من تركها وقد أزال صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك ظن أنها ليست من القرآن لاستعمالها في أوائل الرسائل ومبادئ الشؤون ولم يعد صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ولم يقف عليها بل وصل صلى الله تعالى عليه وسلم تلك المرة لبيان الجواز وعدم تخيل شيء ينافي كونها آية بل هناك ما يشعر به فإن تقارب الآي في الطول والقصر كتقارب الفقرات شيء مرغوب فيه وعدم التشابه في المقاطع لا يضر فأين أفواجا من الفتح (1) فلزوم الرعاية غير لازم وكون الموصوف في آية والصفة في آية أخرى مسبوق بالمثل وسابق على الأمثال ومن أنعم الله تعالى عليه وعرف الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ وجده تاما وعد توقفه على الشرط المفهوم من غَيْرِ الْمَغْضُوبِ كلاما ناقصا وعلى هذا لم يثبت في هذه الرواية سوى أن البسملة آية من القرآن وهو مسلم عند الطرفين وأما إنها من الفاتحة فدونه خرط القتاد. «وأما» ما ذكره في الحجة الثانية من حديث أبي هريرة فقد أخرجه الطبراني وابن مردويه والبيهقي بلفظ «الحمد لله رب العالمين سبع آيات بسم الله الرحمن الرحيم» إحداهن وفي السبع المثاني والقرآن العظيم وهي أم القرآن وهي فاتحة الكتاب» وأخرجه الدارقطني بلفظ «إذا قرأتم الحمد فاقرؤوا بسم الله الرحمن الرحيم إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها» ومعنى الرواية الأولى الحمد لله رب العالمين إلى آخر الآيات سبع آيات، وبه قال الحنفيون، ولما لاحظ صلى الله تعالى عليه وسلم توهم السامعين من عدم التعرض للبسملة مع تلك الشبهة السالفة كونها ليست بآية من القرآن أزال هذا التوهم بوجه بليغ فقال بسم الله الرحمن الرحيم إحداهن أي مثل إحداهن في كونها آية من القرآن ومعنى الثانية إذا أردتم قراءة الحمد إلى آخر ما يليه فاقرؤوا قبله بسم الله الرحمن الرحيم إنها- أي الحمد- إلى الآخر أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني. وهذا كالتعليل أو الترغيب بقراءة الحمد لله رب العالمين إلى آخرها وقوله وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها على حد ما ذكر في معنى الرواية الأولى وهو كالتعليل أو الترغيب أيضا في قراءة البسملة وما ذكرناه وإن كان فيه ارتكاب مجاز لكن دعانا إليه إجراء صدر الكلام على حقيقته وإن أجري هذا على ظاهره فلابد من ارتكاب المجاز في الصدر كما لا يخفى وهو ارتكاب خلاف الأصل قبل الحاجة إليه «وأما» ما ذكره في الحجة الثالثة فليس سوى إثبات أن التسمية من القرآن كما أقرّ هو به ولسنا ممن نخالفه فيه «وأما» ما ذكره في الرابعة فالحديث الأول والثاني والثالث والسادس مع ضعفه والثامن لا تدل على المقصود ونحن نقول بما تدل عليه، والرابع موقوف على ابن عباس ولا نسلم أن حكمه الرفع لجواز الاجتهاد وإن قلنا إن الصحيح أن الآية إنما تعلم بتوقيف من الشارع كمعرفة السورة مثلا ولذلك عدوا «الم» آية حيث وقعت ولم يعدوا «المر» لأنا لم نقل إنها جزء آية واجتهد فجعلها آية بل قلنا إنها آية مستقلة من القرآن واجتهد وجعلها آية من الفاتحة أو   (1) رد على الرازي في ثلاثة مواضع اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 نقول إنه قال ذلك أيضا عن توقيف لكن على ظنه واجتهاده أنه توقيف، والخامس لي شك في صحته بهذا اللفظ ولعله باللفظ الذي خرجه به الدارقطني وقد سلف بتقريره وليس لي اعتماد على الفخر في الأحاديث وليس من حفاظها وأراه إذا نقل بالمعنى غير وليس عندي تفسير الثعلبي لأراه فإن النقل منه، والسابع لا تلوح عليه طلاوة كلام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولا فصاحته وهو أفصح من نطق بالضاد بل من مارس الأحاديث جزم بوضع هذا ولعمري لو كان صحيحا لاكتفى به الشافعية أو لقدموه على سائر أدلتهم ويا ليته ذكر إسناده لنراه «وأما» الحجة الخامسة ففيها أنا لا نسلم أن وجوبها في أول الفاتحة مستلزم لكونها آية منها واستدلاله في هذا المقام بقوله «اقرأ باسم ربك» واه جدا من وجوه أظهر من الشمس فلا نتعب البنان ببيانها «وأما» الحجة السادسة فهو أقوى ما يستدل به على كون البسملة من القرآن وأما على أنها من الفاتحة فلا، وتعرض نفاة كونها قرآنا للتكلم في هذا الدليل مما لا يرضاه الطبع السليم، والذهن المستقيم، والإنصاف نصف الدين، والانقياد للحق من أخلاق المؤمنين «وأما» الحجة السابعة فلنا لا علينا كما لا يخفى «وأما» الحجة الثامنة فدون إثبات مدارها- وهو توهين كلام مولانا أبي حنيفة رحمه الله تعالى- جبال راسيات. «وأما» الحجة التاسعة فهي كالحجة الخامسة حذو القذة بالقذة واستدلاله بقوله صلّى الله عليه وسلم «كل أمر ذي بال» إلخ ليس بشيء لأن الفاتحة جزء من الصلاة المفتتحة بالتكبير المقارن للنية الذي هو ركن منها فحيث لم تفتتح بالبسملة عدت بتراء فبطلت وكذا الركوع والسجود الذي أقرب ما يكون العبد فيه إلى ربه كل منهما أمر ذو بال فإذا لم يفتتح بالبسملة كان أبتر باطلا فحسن الظن بديانة العلامة وعلمه أنه كان يبسمل أول صلاته وعند ركوعه وسجوده وسائر انتقالاته رحمة الله تعالى عليه «وأما» الحجة العاشرة فلا تقوم علينا لأنا أعلمناك بمذهبنا «وأما» الحجة الحادية عشرة فقصارى ما تدل عليه ظاهرا بعد تسليمها أن معاوية لما لم يقرأ البسملة وترك الواجب ولم يسجد للسهو أعاد الصلاة لتقع سليمة من الخلل ولهذا أمهلوه إلى أن فرغ ليروا أيجبر الخلل بسجود السهو أم لا واعتراضهم عليه بترك واجب يجبر بالسجود ليس أغرب من اعتراضهم عليه في تلك الصلاة أيضا بترك هيئة حيث روى الشافعي نفسه كما نقله الفخر نفسه أن معاوية قدم المدينة فصلى بهم ولم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ولم يكبر عند الخفض إلى الركوع والسجود فلما سلم ناداه المهاجرون والأنصار يا معاوية سرقت من الصلاة أين بسم الله الرحمن الرحيم وأين التكبير عند الرجوع والسجود ثم إنه أعاد الصلاة مع التسمية والتكبير وهذا لا يضرنا، نعم يبقى الجهر والبحث عنه مخفي الآن «وأما» الحجة الثانية عشرة ففيها كما تقدم أن الوجوب لا يستلزم الجزئية على أن قوله أن سائر الأنبياء يبتدئون عند الشروع بأعمال الخير بذكر الله فوجب أن يجب على رسولنا ذلك إلخ واستدل على الوجوب عليه إذ وجب عليهم عليهم السلام بقوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ لا أدري ما أقول فيه سوى أنه جهل بالتفسير وعدم اطلاع على أخبار البشير النذير «وأما» الحجة الثالثة عشرة فلا تجديه نفعا في مقابلتنا أيضا وفيها ما في أخواتها «وأما» الحجج الباقية فككثير من الماضية لا تنفع في البحث معنا إلا بتسويد القرطاس وتضييع نفائس الأنفاس على أن بعض ما ذكره معارض بما أخرج مسلم وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول قال الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال: العبد الحمد لله رب العالمين قال الله تعالى حمدني عبدي وإذا قال الرحمن الرحيم قال أثنى عليّ عبدي وإذا قال مالك يوم الدين قال الله تعالى مجدني عبدي وإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال الله تعالى هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل» وهذا يدل على أن البسملة ليست من الفاتحة وأنها سبع بدونها حيث جعل الوسطى إياك نعبد وإياك نستعين والثلاث قبلها لله تعالى والثلاث بعدها للعبد وليس فيه نفي أنها من القرآن، ولا شك أن هذه الرواية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 أصح من رواية الثعلبي ولا أقدم ثعلبيا على مسلم، وكذا من رواية السجستاني ومتى خالف الراوي الثقة من هو أوثق منه بزيادة أو نقص فحديثه شاذ وليس هذا من باب النفي والإثبات (1) كما ظنه من ليس له في هذا الفن رسوخ ولا ثبات (2) وحمل النصف فيه على النصف في المعنى أو الصنف من عدم الإنصاف إذ ذاك مجاز ولا حاجة إليه ولا قرينة عليه وجعله حقيقة لكن باعتبار الدعاء والثناء يكذبه العد والقول بأن مدار الرواية العلاء وقد ضعفه ابن معين فهو على جلالة الرجل (3) لا يسمن ولا يغني من جوع لأن الموثق كثير وتقديم الجرح على التعديل ليس بالمطلق (4) بل إن لم يكثر المعدلون جدا وقد كثروا هنا (5) وكون التقسيم لما يخص الفاتحة والبسملة مشتركة مع كونه خلاف الظاهر لا تقتضيه الحكمة إذ هي عند الخصم أشرف الأجزاء (6) وكون المراد بعض قراءة الصلاة إذ الظاهر لا يمكن أن يراد لوجود الأعمال وضم السورة ويتحقق البعض بهذا البعض ليس بشيء إذ اللائق أن يكون البعض مستقلا بمبدأ ومقطع والثاني موجود والأول على قولنا وأيضا الفاتحة سورة كالكوثر والملك وقد نص صلى الله تعالى عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة عنه بأن الأولى ثلاث آيات والثانية ثلاثون ووقفهم عليها ولم يعد البسملة ولو عدها مستقلة لزاد العدد أو جزءا لو رد، وعلى المثبت البيان وأنى هو، على أنه يرد على الثاني استلزامه للتحكم بدعوى الاستقلال في الفاتحة والبعضية في غيرها (7) وقول الرازي هذا غير بعيد فالحمد لله رب العالمين آية تارة وجزء آية أخرى كما في وَآخِرُ دَعْواهُمْ [يونس: 10] الآية بعيد بل قياس باطل لوجود المقتضي للجزئية هناك وانتفائه هنا وأيضا نزل الكثير من السور بلا بسملة ثم ضمت بعد، وحديث الصحيح في بدء الوحي يبدي صحة ما قلنا وهذا يبعد كونها آية من السورة أو جزء آية وكونها لم تنزل بعد يبعد الثاني إن لم يبعد الأول وحديث أنها أول ما نزلت ليس بالقوي بل الثابت ويشكل عليه ما روي أنه صلّى الله عليه وسلم كان يكتب باسمك اللهم إلخ على أن الأولية إن سلمت وسلمت لا تضرنا، وبالجملة يكاد أن يكون اعتقاد عدم كون البسملة جزءا من سورة من الفطريات كما لا يخفى على من سلم له وجدانه فهي آية من القرآن مستقلة (8) ولا ينبغي لمن وقف على الأحاديث أن يتوقف في قرآنيتها أو ينكر وجوب قراءتها ويقول بسنيتها فو الله لو ملئت لي الأرض ذهبا لا أذهب إلى هذا القول وإن أمكنني- والفضل لله تعالى- توجيهه كيف وكتب الأحاديث ملأى   (1) اعتراض على الرازي اهـ منه. (2) اعتراض على الرازي أيضا اهـ منه. (3) رد على ما في الشهاب اهـ منه. (4) قاله السبكي وغيره اهـ منه. (5) رد على ما في الشهاب أيضا اهـ منه. (6) رد على العز بن عبد السلام اهـ منه. (7) رد على الرازي اهـ منه. (8) استشكل بعضهم الإثبات والنفي فإن القرآن لا يثبت بالظن وينفى به وهو إشكال كالجبل العظيم، وأجيب عنه أن حكم البسملة في ذلك حكم الحروف المختلف فيها بين القراء السبعة فتكون قطعية الإثبات والنفي معا ولهذا قرأ بعض السبعة بإثباتها وبعضهم بإسقاطها وإن اجتمعت المصاحف على الإثبات فإن من القراءات ما جاء على خلاف خطها كالصراط ومصيطر فإنهما قرئا بالسين ولم يكتبا إلا بالصاد وما هو على الغيب بضنين تقرأ بالظاء ولم تكتب إلا بالضاد ففي البسملة التخيير وتتحتم قراءتها في الفاتحة عند الشافعي احتياطا وخروجا عن عهدة الصلاة الواجبة بيقين لتوقف صحتها على ما سماه الشرع فاتحة الكتاب فافهم والله تعالى أعلم بالصواب اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 بما يدل على خلافه وهو الذي صح عندي عن الإمام (1) والقول بأنه لم ينص بشيء ليس بشيء وكيف لا ينص إلى آخر عمره في مثل هذا الأمر الخطير الدائر عليه أمر الصلاة من صحتها أو استكمالها ويمكن أن يناط به بعض الأحكام الشرعية وأمور الديانات كالطلاق والحلف والتعليق وهو الإمام الأعظم والمجتهد الأقدم رضي الله تعالى عنه والإخفاء بها في الجهرية لا يدل على السنية فإن القول بوجوبها لا ينافي إخفاءها اتباعا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فعن ابن عباس لم يجهر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بالبسملة حتى مات، وروى مسلم عن أنس «صليت خلف النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع منهم أحدا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ولم يرد نفي القراءات بل سماعها للإخفاء بدليل ما صرح به عنه فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم» رواه أحمد والنسائي بإسناد على شرط الشيخين، وروى الطبراني بإسناد عنه «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يسر ببسم الله الرحمن الرحيم وأبا بكر وعمر وعثمان وعليا رضي الله تعالى عنهم» وروي عن عبد الله بن المغفل ولا نسلم ضعفه أنه قال: سمعني أبي وأنا أقول بسم الله الرحمن الرحيم فقال: أي بني إياك والحدث في الإسلام فقد صليت خلف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فابتدؤوا القراءة بالحمد لله رب العالمين فإذا صليت فقل الحمد لله رب العالمين اي اجهر بها وأخف البسملة وهو مذهب الثوري وابن المبارك وابن مسعود وابن الزبير وعمار بن ياسر والحسن بن أبي الحسين والشعبي والنخعي وقتادة وعمر بن عبد العزيز والأعمش والزهري ومجاهد وأحمد وغيرهم خلق كثير وأحاديث الجهر لم يصح منها سوى حديث ابن عباس الذي أخرجه الشافعي عنه كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم وهو معارض بما تقدم عنه أو محمول على أنه كان يجهر بها أحيانا لبيان أنه تقرأ فيها كل جهر عمر رضي الله تعالى عنه بالثناء للتعليم وكما شرع الجهر بالتكبير للإعلام وحتى مات هناك قيد للمنفي لا للنفي فلا يتنافيان على أنه روي عن بعض الحفاظ ليس حديث صريح في الجهر إلا وفي إسناده مقال. وعن الدارقطني أنه صنف كتابا في الجهر فأقسم عليه بعض المالكية ليعرفه الصحيح فقال: لم يصح في الجهر حديث والقول (2) بأن الرواية عن أنس ست متعارضة فتارة يروى عنه الجهر وأخرى الإخفاء للخوف من بني أمية المخالفين لعلي كرم الله تعالى وجهه إذ مذهبه الجهر لا يضرنا إذ يقدم عند التعارض الأقوى إسنادا وهو هنا ما يوافقنا إذ هو على شرط الشيخين، وتهمة الراوي المخالف بالكذب على أنس أهون عندي من تهمة أنس صاحب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالكذب على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومقدمي أصحابه. «ومن عجائب الرازي» كيف يبدي احتمال التهمة ويروي اعتراض أهل المدينة على سيد ملوك بني أمية بذلك اللفظ الشنيع والمحل الرفيع فهلا خافوا وسكتوا وصافوا، والأعجب من هذا أنه ذكر ست حجج لإثبات الجهر هي أخفى من العدم «الأولى» أن البسملة من السورة فحكمها حكمها سرا وجهرا وكون البعض سريا والبعض جهريا مفقود ويرده ما علمته في الردود وبفرض تسليم أنها من السورة أي مانع من إسرار البعض والجهر بالبعض وقد فعله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام: 153، 155] ولعل السر فيه كالسر في الجهر والإخفاء في ركعات صلاة واحدة، أو يقال: إن حال المنزل عليه القرآن كان خلوة أولا وجلوة ثانيا فناسب حاله حاله بل إذا تأملت قوله   (1) رد على البيضاوي اهـ منه. (2) رد للرازي اهـ منه. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 تعالى في الحديث القدسي الثابت عند أهل الله «كنت كنزا مخفيا» إلخ ظهر لك سر أعظم (1) فرضي الله تعالى عن المجتهد الأقدم «الثانية» أنها ثناء وتعظيم فوجب الإعلان بها لقوله تعالى فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً [البقرة: 200] ويرده أن غالب مشتملات الصلاة كذلك أفيجهر بها. «الثالثة» أن الجهر بذكر الله يدل على الافتخار به وعدم المبالاة بمنكره وهو مستحسن عقلا فيكون كذلك شرعا ولا يخفى إلا ما فيه عيب ثم قال وهذه الحجة قوية في نفسي راسخة في عقلي لا تزول البتة بسبب كلمات المخالفين ويرده ما رد سابقه وقد يخفى الشريف. ليس الخمول بعار ... على امرئ ذي جلال فليلة القدر تخفى ... وتلك خير الليالي ويا ليت شعري أكان تسبيحه الله تعالى في ركوعه وسجوده معيبا فيخفيه أو جيدا فيجهر به ويبديه ولا أظن بالرجل إلا خيرا فإن الحجة قوية في نفسه راسخة في عقله «الرابعة» ما أخرجه الشافعي عن أنس «أن معاوية صلى بأهل المدينة ولم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم فاعترض عليه المهاجرون والأنصار فأعاد الحديث بمعناه ويرده معارضوه أو يقال لم يقرأ على ظاهره وعلموا ذلك ببعض القرائن وما راء كمن سمعا «الخامسة» ما روى البيهقي عن أبي هريرة كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يجهر في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم وهو المروي عن عمر وابنه وابن عباس وابن الزبير، وأما علي فقد تواتر عنه ومن اقتدى في دينه بعلي فقد اهتدى ويرده المعارض وبتقدير نفيه يقال: إن الجهر كان أحيانا لغرض وفي الأخبار التي ذكرناها ما يعارض أيضا نسبته إلى عمر وعلي وابن عباس وما زعم من تواتر نسبته إلى علي ممنوع عند أهل السنة، نعم ادعته الشيعة فذهبوا إلى الجهر في السرية والجهرية ولو عمل أحد بجميع ما يزعمون تواتره عن الأمير كفر فليس إلا الإيمان ببعض والكفر ببعض وما ذكره من أن من اقتدى في دينه بعلي فقد اهتدى مسلم لكن إن سلم لنا خبر ما كان عليه عليّ رضي الله تعالى عنه ودونه مهامه فيح على أن الشائع عند أهل السنة تقديم ما عليه الشيخان وإذا اختلفا فما عليه الصديق حيث إن النبي صلّى الله عليه وسلم ترقى في التخصيص إليه فقال أولا «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» وثانيا «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي» وثالثا «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» ورابعا «إن لم تجديني فأتي أبا بكر «السادسة» أنها متعلقة بفعل مضمر نحو بإعانة بسم الله اشرعوا ولا شك أن استماع هذه الكلمة ينبه العقل على أنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله وينبهه على أنه لا يتم شيء من الخيرات إلا إذا وقع الابتداء فيه بذكر الله تعالى وبإظهارها أمر بمعروف ويرده مع ركاكة هذا التقدير وعدم قائل به أن انفهام الأمر بالمعروف من هذه الجملة يحتاج إلى فكر لو صرف عشر معشاره في قوله تعالى إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ لحصل ضعف أضعافه من دون غائلة كثيرة فيغني عنه ثم إنه رحمه الله تعالى ذكر كلاما لا ينفع إلا في تكثير السواد وإرهاب ضعفاء الطلبة بجيوش المداد. «البحث الثالث في معناها» فالباء إما للاستعانة أو المصاحبة أو الإلصاق أو الاستعلاء أو زائدة أو قسمية والأربعة الأخيرة ليست بشيء وإن استؤنس لبعض ببعض الآيات واختلف في الأرجح من الأولين فالذي يشعر به كلام البيضاوي أرجحية الأول وأيد بأن جعله للاستعانة يشعر بأن له زيادة مدخل في الفعل حتى كأنه لا يتأتى ولا يوجد   (1) ففي المنزل جل شأنه وخلوة وجلوة وفي المنزل عليه كذلك فروعي ذلك في المنزل أيضا ليظهر التناسب بينه وبين الطرفين وخلوة كل وجلوته بمعنى يليق به والله تعالى الموفق اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 بدون اسم الله تعالى ولا يخلو عن لطف وما يدل عليه كلام الزمخشري أرجحية الثاني وأيد بأن باء المصاحبة أكثر في الاستعمال من باء الاستعانة لا سيما في المعاني وما يجري مجراها من الأفعال وبأن التبرك باسم الله تعالى تأدب معه وتعظيم له بخلاف جعله للآلة فإنها مبتذلة غير مقصودة بذاتها وأن ابتداء المشركين بأسماء آلهتهم كان على وجه التبرك فينبغي أن يرد عليهم في ذلك، وأن الباء إذا حملت على المصاحبة كانت أدل على ملابسة جميع أجزاء الفعل لاسم الله تعالى منها إذا جعلت داخلة على الآلة ويناسبه ما روي في الحديث تسمية الله تعالى في قلب كل مسلم يسمي أو لم يسم وأن التبرك باسم الله تعالى معنى ظاهر يفهمه كل أحد ممن يبتدىء به والتأويل المذكور في كونه آلة لا يهتدي إليه إلا بنظر دقيق وأن كون اسم الله تعالى آلة للفعل ليس إلا باعتبار أنه يوصل إليه ببركته فقد رجع بالآخرة إلى معنى التبرك فلنقل به أولا وأن جعل اسمه تعالى آلة لقراءة الفاتحة لا يتأتى على مذهب من يقول إن البسملة من السورة وأن قوله صلى الله تعالى عليه وسلم بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء مما يستأنس به له وأن في الأول جعل الموجود حسا كالمعدوم وأن بسم الله موجود في القراءة فإذا جعلت الباء للاستعانة كان سبيله سبيل القلم فلا يكون مقروءا وهو مقروء وأن فيه الإيجاز والتوصل بتقليل اللفظ إلى تكثير المعنى لتقدير متبركا وهو لكونه حالا فيه بيان هيئة الفاعل وقد ثبت أن لا بد لكل فعل متقرب به إلى الله تعالى من إعانته جل شأنه فدل الحال على زائد «وعندي» أن الاستعانة أولى بل يكاد أن تكون متعينة إذ فيها من الأدب والاستكانة وإظهار العبودية ما ليس في دعوى المصاحبة ولأن فيها تلميحا من أول وهلة إلى إسقاط الحول والقوة ونفي استقلال قدر العباد وتأثيرها وهو استفتاح لباب الرحمة وظفر بكنز لا حول ولا قوة إلا بالله ولأن هذا المعنى أمس بقوله تعالى وإياك نستعين ولأنه كالمتعين في قوله اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1] ليكون جوابا لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم لست بقارئ على أتم وجه وأكمله وما ذكروه في تأييد المصاحبة كله مردود «أما الأول» فلأن دون إثبات الأكثرية خرط القتاد «وأما الثاني» فلأنه توهم نشأ من تمثيلهم في الآلة بالمحسوسات وليست كل استعانة بآلة ممتهنة ولا شك في صحة استعنت بالله وقد ورد في الشرع قال تعالى: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا [الأعراف: 128] فهو إذن على أن جهة الابتذال مما لا تمر ببال والقلب قد أحاط بجهاته جهة أخرى وأيضا في تخصيص الاستعانة بالآلة نظر لأنها قد تكون بها والقدرة ولو سلم فأي مانع من الإشارة بها هنا إلى أنه كما هو المقصود بالذات فهو المقصود بالعرض إذ لا حول ولا قوة إلا به. «وأما الثالث» فلأن المشركين إلى الاستعانة بآلهتهم أقرب إذ هم وسائطهم في التقرب إليه تعالى وهي أشبه بالآلة. «وأما الرابع» فلأن الآلة لا بد من وجودها في كل جزء إلى آخر الفعل وإلا لم يتم ولا نسلم اللزوم بين مصاحبة شيء لشيء وملابسته لجميع أجزائه وما ذكره من الحديث فهو بالاستعانة أنسب لأنها مشعرة بتبري العبد من حوله وقوته وإثبات الحول والقوة لله تعالى وهذا من باب العقائد التي عقد عليها قلب كل مسلم يسمي أو لم يسم. «وأما الخامس» فلأنه إن أراد أن معنى المصاحبة التبرك فظاهر البطلان وقد رجع بخفي حنين وإن أراد أنه يفهم منها بالقرينة فندعيه نحن بها إذا قصد الآلية لتوقف الاعتداد الشرعي عليها وأما كون التبرك معنى ظاهرا لكل أحد فلا نسلم أنه من خصوص المصاحبة «وأما السادس» فلأن الانحصار فيه ممنوع «وأما السابع» فلأن ما يفتتح به الشيء لا مانع من كونه جزءا فالفاتحة مفتتح القرآن وجزؤه ولو سلم فجعلها مفتتحا بالنسبة إلى ما عداها قاله الشهاب ولا يضر الحنفي ما فيه. «وأما الثامن» فلأن معنى الحديث أفعل كذا مستعينا باسم الله الذي لا يضرني مع ذكر اسمه مستعينا به شيء إذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 من استعان بجنابه أعانه ومن لاذ ببابه حفظه وصانه، وإن استبعدت هذا ورددت ما قيل في الرد من أن المراد بالحديث الإخبار بأنه لا يضر مع ذكر اسمه شيء من مخلوق والمصاحبة تستدعي أمرا حاصلا عندها نحو جاءكم الرسول بالحق والقراءة لم تحصل بعد فتعذرت حقيقة المصاحبة بأن المصاحبة هنا ليست محسوسة وكونها إخبارا بنفي صحبة الضرر يفهم منه صحبة النفع والبركة وهي دفع الوسوسة عن القارئ مع جزيل الثواب فلا ضير أيضا لأنه مجرد استئناس ولا يوحشنا إذ ما نستأنس به كثير «وأما التاسع» فلأن جعل الموجود كالمعدوم للجري لا على المقتضي من المحسنات والنكتة هاهنا أن شبه اسم الله بناء على يقين المؤمن بما ورد من السنة والقطع بمقتضاها بالأمر المحسوس وهو حصول الكتب بالقلم وعدم حصوله بعدمه ثم أخرج مخرج الاستعارة التبعية (1) لوقوعها في الحرف. «وأما العاشر» فلأنه لا يخفى حال التشبيه بالقلم «وأما الحادي عشر» فلأنه لا نسلم أن التبرك معنى المصاحبة أو لازم معناه بل هو معلوم من أمر خارج هو أن مصاحبة اسمه سبحانه يوجد معها ذلك وهو جار في الاستعانة باسمه عز شأنه على أن في الاستعانة من اللطف ما لا يخفى ويمكن على بعد أن يكون عدم اختيار الزمخشري لها لنزغات الشيطان الاعتزالية من استقلال العبد بفعله فقد ذهب إليه هو وأصحابه وسيأتي إن شاء الله تعالى رده، وقد اختلف في متعلق الجار فذهب الإمام ابن جرير إلى تقديره أتلو لأن تاليه متلو وهكذا يضمر الخاص الفعلي كل فاعل فعلا يجعل التسمية مبدأ له وهو من المعاني القرآنية كنظائر للزومها في متعارف اللسان وبه يندفع كلام الصادقي (2) وليس المقصود هنا متكلما مخصوصا فهو على حد ولو ترى فينوي كل بالضمير نفسه فلا يضر تقدمها على قراءة هذا القارئ بل على وجوده ويتأتى القول بجزئيتها من الكل أو الجزء بلا خفاء ولما خفي ذلك على البعض جعل المقدم فعل أمر متوجه إلى العباد ليتحد قائل الملفوظ والمقدر واختاره الفراء عن اختيار. وروي عن ابن عباس لأنه تعالى قدم التسمية حثا للعباد على فعل ذلك وهو المناسب للتعليم وذهب النحويون إلى تقديره عاما نحو أبتدىء وأيد بوجوه. «منها» أن فعل الابتداء يصح تقديره في كل تسمية دون فعل القراءة وتقدير العام أولى ألا تراهم يقدرون متعلق الجار الواقع خبرا أو صفة أو حالا أو صلة بالكون والاستقرار حيثما وقع ويؤثرونه لعموم صحة تقديره. «ومنها» أنه مستقل بالغرض من التسمية وهو وقوعها مبتدأ فتقديره أوقع بالمحل. وأنت إذا قدرت اقرأ قدرت ابتدئ بالقراءة لأن الواقع في أثنائها قراءة أيضا والبسملة غير مشروعة فيها «ومنها» ظهور فعل الابتداء في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أقطع» ، وأما ظهور القراءة في قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1] فلأن الأهم ثم هو القراءة غير منظور فيه إلى ابتدائها ولذا قدم الفعل ولا كذلك في التسمية. وما ذهب إليه الإمام أمس وأخص بالمقصود وأتم شمولا فإنه يقتضي أن القراءة واقعة بكمالها مقرونة بالتسمية مستعانا باسم الله تعالى عليها كلها بخلاف تقدير أبتدىء إذ لا تعرض له لذلك، وما ذكر أولا من الاستشهاد بتقدير النحاة الكون والاستقرار فليس بجيد لأنهم فعلوه تمثيلا حيث لا يقصدون عاملا بعينه بل يريدون الكلام على العامل من حيث هو فهو كتمثيلهم بزيد وعمرو لا لخصوصيتهما بل ليقع الكلام على مثال فيكون أقرب إلى الفهم ولا يقال إذا أبهم الفاعل   (1) ولذا صرح بالمؤمن وضم إليه الاعتقاد والسنة اهـ منه. (2) حيث قال هو من كلام البشر والقرآن قديم معجز فيلزم أن يكون المعجز محتاجا لتقدير هذا المحذوف الغير المعجز الحادث وهذا الاحتياج نقص والمركب من المعجز وغير المعجز غير معجز ومن القديم والحادث حادث فيا علماء الإسلام أرشدوني اهـ على أن ما يرد على هذا الكلام أكثر من ألفاظه فتأمل اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 يقدر بهما على أن الابتداء هنا ليس أعم من القراءة لأن المراد به ابتداء القراءة وهو أخص من القراءة لصدقها على قراءة الأول والوسط والآخر، واختصاص ابتداء القراءة بالأول فليس هذا هو الكون والاستقرار الذي قدرهما النحاة فيما تقدم، ودعوى عموم أبتدىء باعتبار أنه منزل منزلة اللازم لكنه يعلم بقرينة المقام أن المبتدأ به هو القراءة وباعتبار أصل العامل في الجميع لا يخفي فسادها فإنه إذا دل المقام على إرادته فما معنى تنزيله منزلة اللازم حينئذ وكونه باعتبار اللفظ والأصل لا يدفع السؤال في الحال فافهم «وأما ما ذكر ثانيا» من أن فعل البداءة مستقل بالغرض فغير مسلم وقد قدمنا أن القراءة أمس وأشمل والوقوع في الابتداء بالبداية فعلا لا بإضمار الابتداء فمتى ابتدأ بالبسملة حصل له المقصود غير مفتقر إلى شيء كمن صلى فبدأ بتكبيرة الإحرام لا يحتاج في كونه بادئا إلى الإضمار لكنه مفتقر إلى بركتها وشمولها لجميع ما فعله، ومن هذا يظهر ما في باقي الكلام من الوهن «وأما ما ذكر ثالثا» ففيه أن كون التسمية مبتدأ بها حاصل بالفعل لا بإضمار الفعل ولم يرد الحديث بأن كل أمر ذي بال لم يقل أو لم يضمر فيه أبدأ ببسم الله فهو كذا على أن المحافظة على موافقة لفظ الحديث إنما يليق أن يجعل نكتة في كلام المصنفين ومن ينخرط في سلكهم لا في كلام الله جل شأنه كما لا يخفى على من له طبع سليم، وأيضا البحث إنما هو في ترجيح تقدير الفعل العام كأبدأ أو أشرع وما شاكلهما لا في ترجيح خصوص اقرأ أعني فعلا مصدره القراءة على خصوص أبدأ أعني فعلا مصدره البداءة ففيما ذكر خروج عن قانون الأدب وموضع النزاع. وذهب البعض إلى تقدير ابتدائي مثلا وفيه زيادة إضمار لوجوب إضمار الخبر حينئذ فيكون المضمر ثلاث كلمات ودلالة الاسمية على الثبوت معارضة بدلالة المضارع على الاستمرار التجددي المناسب للمقام إلا أنه تبقى المخالفة بين جملتي البسملة والحمد ولعل الأمر فيه سهل وجعل الشيخ الأكبر قدس سره هذا الجار خبر مبتدأ مضمر هو ابتداء العالم وظهوره لأن سبب وجوده الأسماء الإلهية وهي المسلطة عليه كجعله متعلقا بما بعده إذ لا يحمد الله تعالى إلا بأسمائه من باب الإشارة فلا ينظر فيه إلى الظاهر ولا يتقيد بالقواعد ولا أرى الاعتراض عليه من الإنصاف، وقد ذهب الكثير إلى أن تقدير المتعلق هنا مؤخرا أحرى لأن اسم الله تعالى مقدم على الفعل ذاتا فليقدم على الفعل ذكرا، وفيه إشارة إلى البرهان اللمي وهو أشرف من البرهان الإنيّ، ولذا قال بعض العارفين ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله وتحنيك طفل الذهن بحلاوة هذا الاسم يعين على فطامه عن رضع ضرع السوي بدون وضع مرارة الحدوث، على أن بركة التبرك طافحة بالأهمية وإن قلنا بأن في التقديم قطع عرق الشركة ردا على من يدعيها ناسب مقام الرسالة وظهر سر تقديم الفعل في أول آية نزلت إذ المقام إذ ذاك مقام نبوة ولا رد ولا تبليغ فيها ولكل مقام مقال والبلاغة مطابقة الكلام لمقتضى الحال، وقد اعتركت الأفهام هنا في توجيه القصر لظنه من ذكر الاختصاص حتى ادعاه بعضهم بأنواعه الثلاثة وأفرد البعض البعض، فمقتصر على قصر الإفراد، وقائل به وبالقلب، وفي القلب من كل شيء وعندي هنا يقدر مقدما، وبه قال الأكثرون وإن تقديره مؤخرا مؤخر عن ساحة التحقيق لأنه إما أن يقدر بعد الباء أو بعد اسم أو بعد اسم الله، أو بعد البعد، أما تقديره بعد الباء فلا يقوله من عرف الباء. وأما بعد الاسم فلاستلزامه الفصل ولو تعقلا حيث أوجبوا الحذف هنا بين المتضايفين وأما بعد اسم الله فلاستلزامه الفصل كذلك بين الصفة والموصوف وأما بين الصفتين فيتسع الخرق، وأما بعد التمام فيظهر نقص دقيق لأن في الجملة تعليق الحكم بما يشعر بالعلية فكان الرحمن الرحيم علة للقراءة المقيدة باسم الله فإذا تأخر العامل المقيد المعلول وتقدمت علته أشعر بالانحصار ولا يظهر وجهه، وإذا قدرنا العامل مقدما كما هو الأصل أمنا من المحذور ويحصل اختصاص أيضا إذ كأنه قيل مثلا اقرأ مستعينا أو متبركا بسم الله الرحمن الرحيم لأنه الرحمن الرحيم، وانتفاء العلة يستلزم انتفاء المعلول في المقام الخطابي إذا لم تظهر علة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 أخرى فيفيد الاختصاص لا سيما عند القائل بمفهوم الصفة فيشعر بأن من لم يتصف بذلك خارج عن الدائرة والاقتصار هنا ليس كالاقتصار هناك والتخلص بتقدير التركيب مستعينا باسم الله لأنه الرحمن الرحيم اقرأ فيه ما لا يخفى على الطبع السليم، وفي تقديم الحادث تعقلا وحذفه ذكرا وعدم وجود شيء في الظاهر مستقلا سوى الاسم القديم رمز خفي إلى تقديم الأعيان الثابتة في العلم وإن لم يكن على وجود الله تعالى إذ له جل شأنه التقدم المطلق وعدم ظهور شيء سواه وكل شيء هالك إلا وجهه، وللإشارة إلى أنه لا ضرر في ذلك ارتكب، والتبرك كالوجوب يقتضي التقدم بالذكر مكسورا لا مضموما وها هو كما ترى ومن الأكابر من قال ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله تعالى فيه ولا حلول وقد عد أكمل من الأول والمراتب أربع وتحنيك الرحمة يغني عن كل در ويفطم طفل الذهن عن ثدي جواري الفكر وكأن من قدر العامل مؤخرا رأى بسم الله مجراها، وباسمك ربي وضعت جنبي وأمثالهما فجرى مجراها والفرق ظاهر للناظر وهذا من نسائم الأسحار فتيقظ له ونم عن غيره. والظرف مستقر عند بعض ولغو عند آخرين وقد اختلف في تفسيرهما، فقيل اللغو ما يكون عامله مذكورا، والمستقر ما يكون عامله محذوفا مطلقا وقيل المستقر ما يكون عامله عاما (1) كالحصول والاستقرار وهو مقدر واللغو بخلافه، وقيل اللغو ما يكون عامله خارجا عن الظرف غير مفهوم منه سواء ذكر أو لا، والمستقر ما فهم منه معنى عامله المقدر الذي هو من الأفعال العامة وكل ذلك اصطلاح وحيث لا مشاحة فيه اختار الأول فيكون الظرف هنا مستقرا كيفما قدر العامل، وإنما كسرت الباء وحق الحروف المفردة أن تفتح لأنها مبنية والأصل في البناء لثقله وكونه مقابلا للإعراب الوجودي السكون لخفته وكونه عدميا إلا أنها من حيث كونها كلمات برأسها مظنة للابتدار وهو بالساكن متعذر أو متعسر كان حقها الفتح إذ هو أخو السكون في الخفة المطلوبة في كثير الدور على الألسنة لامتيازها من بين الحروف بلزوم الحرفية والجر وكل منهما يناسب الكسر، أما الحرفية فلأنها تقتضي عدم الحركة والكسر لقلته إذ لا يوجد في الفعل ولا في غير المنصرف ولا في الحروف إلا نادرا يناسب العدم. وأما الجر فلموافقة حركة الباء أثرها ولا نقض بواو العطف اللازمة للحرفية ولا بكاف التشبيه اللازمة للجر لأن المجموع سبب الامتياز ولم يوجد في كل لكن يبقى النقض واو القسم وتائه ويجاب بأن عملها بالنيابة عن الباء التي هي الأصل في حروفه فكأن الجر ليس أثرا لهما وهذه علل نحوية مستخرجة بعد الوقوع لإبداء مناسبة فلا تتحمل مناقشة لضعفها كما قيل: عهد الذي أهوى وميثاقه ... أضعف من حجة نحوي فلا نسهر جفن الفكر فيما لها وعليها، وقال بعضهم من باب الإشارة: كسرت الباء في البسملة تعليما للتوصل إلى الله تعالى والتعلق بأسمائه بكسر الجناب والخضوع وذل العبودية فلا يتوصل إلى نوع من أنواع المعرفة إلا بنوع من أنواع الذل والكسر كما أشار إلى ذلك سيدي عمر بن الفارض قدس الله سره الفائض بقوله: ولو كنت لي من نقطة الباء خفضة ... رفعت إلى ما لم تنله بحيله بحيث ترى أن لا ترى ما عددته ... وأن الذي أعددته غير عده فإن الخفض يقابل الرفع فمن خفضه النظر إلى ذل العبودية، رفعه القدر إلى مشاهدة عز الربوبية، ولا ينال هذا الرفع بحيلة بل هو بمحض الموهبة الإلهية الجليلة، ومن تنزل ليرتفع فتنزله معلول، وسعيه غير مقبول انتهى.   (1) ويسمى مستقرا التقدير معنى الاستقرار اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وهو أمر مخصوص بباء البسملة لا يمكن أن يجري في باء الجر مطلقا كما لا يخفى، وعندي في سر ذلك أن الباء هي المرتبة الثانية بالنسبة إلى الألف البسيطة المجردة المتقدمة على سائر المراتب فهي إشارة إلى الوجود الحق، والباء إما إشارة إلى صفاته التي أظهرتها نقطة الكون ولذلك لما قيل للعارف الشبلي أنت الشبلي؟ فقال أنا النقطة تحت الباء، وقال سيدي الشيخ الأكبر قدس سره: الباء للعارف الشبلي معتبر ... وفي نقيطتها للقلب مدكر سر العبودية العلياء مازجها ... لذاك ناب مناب الحق فاعتبروا أليس يحذف من بسم حقيقته ... لأنه بدل منه فذا وزر والصفات إما جمالية أو جلالية، وللأولى السبق كما يشير اليه حديث «سبقت رحمتي غضبي» وباء الجر إشارة إليها لأنها الواسطة في الإضافة والإفاضة فناسبها الكسر وخفض الجناح ليتم الأمر ويظهر السر، وفي الابتداء بها هنا تعجيل للبشارة ورمز إلى أن المدار هو الرحمة كما قال صلّى الله عليه وسلم: «لن يدخل أحدكم الجنة عمله قيل حتى أنت يا رسول الله قال حتى أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته» وقد تدرج سبحانه وتعالى بإظهارها فرمز بالباء وأشار بالله وصرح أتم تصريح بالرحمن الرحيم، وإما إشارة إلى الحقيقة المحمدية والتعين الأول المشار إليه بقوله صلّى الله عليه وسلم «أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر» وبواسطته حصلت الإفاضة كما يشير إليه لولاك ما خلقت الأفلاك ولكون الغالب عليه عليه الصلاة والسلام صفة الرحمة لا سيما على مؤمني الأمة كما يشير إليه قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] وقوله تعالى: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128] ناسب ظهور الكسر فيما يشير إلى مرتبته وفي الابتداء به هنا رمز إلى صفة من أنزل عليه الكتاب والداعي إلى الله. وفي ذلك مع بيان صفة المدعو اليه بأنه الرحمن الرحيم تشويق تام وترغيب عظيم وقد تدرج أيضا جل شأنه في وصفه صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك في القرآن إلى أن قال سبحانه وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4] واكتفى بالرمز هاهنا لعدم ظهور الآثار بعد وأول الغيث قطر ثم ينهمل، وما من سورة إلا افتتحها الرب بالرمز إلى حاله صلى الله تعالى عليه وسلم تعظيما له وبشارة لمن ألقى السمع وهو شهيد ولما كان الجلال في سورة براءة ظاهرا ترك الإشارة بالبسملة وأتى بباء مفتوحة لتغير الحال وإرخاء الستر على عرائس الجمال ولم يترك سبحانه وتعالى الرمز بالكلية إلى الحقيقة المحمدية ولا يسعنا الإفصاح بأكثر من هذا في هذا الباب خوفا من قال أرباب الحجاب وخلفه سر جليل والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل، والاسم عند البصريين من الأسماء العشرة التي بنيت أوائلها على السكون وهي ابن وابنة وابنم واسم واست واثنان واثنتان وامرؤ وامرأة وأيمن الله وايم الله منه وإلا فأحد عشر إن اعتد بابنم فإذا نطقوا بها (1) زادوا همزة لبشاعة الابتداء بالساكن غير المدات عندهم وفيها يمتنع والأمر ذوقي (2) وهو مما حذف عجزه كيد وما عدا الثلاثة الأخيرة (3) مما تقدم. وأصله سمو حذفت الواو تخفيفا لكثرة الاستعمال ولتعاقب الحركات وسكن السين وحرك الميم واجتلبت ألف   (1) إلا أن ذلك فيها لذاتها لا لسكونها اهـ منه. (2) وقد استدل على الجواز بأنه لولا ذلك لتوقف التلفظ بالحرف المبتدأ به على التلفظ بالحركة فيدور لأن الحركة موقوفة على الحرف في التلفظ توقف العارض على المعروض ويجاب بأن امتناع الابتداء بالساكن يستلزم امتناع انفكاك الحركة عن الحرف المبتدأ به لا توقفه عليها إذ يجوز أن تكون الحركة تابعة له غير منفكة عنه اهـ منه. (3) فبين ما حذف عجزه وما بني أوله على السكون عموم من وجه اهـ. منه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 الوصل فوزنه أفع وتصريفه إلى أسماء (1) وسمى وسميت دون أوسام ووسيم ووسمت يشهد له والجرح بالقلب لا يقبل، واشتقاقه من السمو كالعلو لأنه لدلالته على مسماه يعليه من حضيض الخفاء إلى ذروة الظهور والجلاء. وقال الكوفيون هو من السمة لأنه علامة على مسماه وأصله وسم فحذفت الواو وعوضت عنها همزة الوصل وكفى الله المؤمنين القتال، فوزنه أعل ويرد عليهم أن الهمزة لم تعهد داخلة على ما حذف صدره وزيادة الاعلال أقيس من عدم النظير وأيضا كونها عوضا يقتضي كونها مقصودة لذاتها ووصلا كونها مقصودة تبعا والعوض كجزء أصل دون الوصل فما هو إلا جمع بين الضب والنون فلذا قيل لا حذف ولا تعويض وإنما قلبت الواو همزة كإعاء وإشاح ثم كثر استعماله فجعلت همزته همزة وصل وقد تقطع للضرورة ورجح الأول لهاتيك الشهادة وفيه لغات أوصلها البعض إلى ثماني عشرة ونظمها فقال: للاسم عشر لغات مع ثمانية ... بنقل جدي شيخ الناس أكملها سم سمات سما واسم وزد سمة ... كذا سماء بتثليث لأولها هذا وقد طال التشاجر في أن الاسم هل هو عين المسمى أو غيره؟ فالأشاعرة على الأول والمعتزلة على الثاني وقد تحير نحارير الفضلاء في تحرير محل البحث على وجه يكون حريا بهذا التشاجر حتى قال مولانا الفخر في التفسير الكبير: إن هذا البحث يجري مجرى العبث وذكر وجها (2) ادعى لطفه ودقته (3) وقد كفانا الشهاب مؤنة رده (4) وقد أراد السيد النحرير في شرح المواقف فلم يتم له، وللسهيلي في ذلك كلام ادعى أنه الحق وصنف في رده ابن السيد رسالة مستقلة وادعى الشهاب أنه إلى الآن لم يتحرر وأنه لم ير مع سعة اطلاعه في هذه المسألة ما فيه ثلج الصدور ولا شفاء الغليل ولم يأت رحمه الله تعالى في حواشيه على البيضاوي من قبل نفسه بشيء يزيح الإشكال ويريح البال وها أنا من فضل الله تعالى ذاكر شيئا إذا قبل فهو غاية ما أتمناه وقد يوجد في الاسقاط ما لا يوجد في الأسفاط وإن رد فقد رد قبلي كلام ألوف كل منهم فرد يقابل بصفوف. وابن اللبون إذا ما لز في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس «فأقول» الاسم يطلق على نفس الذات والحقيقة والوجود والعين وهي عندهم أسماء مترادفة كما نقله الإمام أبو بكر بن فورك في كتابه الكبير في الأسماء والصفات والأستاذ أبو القاسم السهيلي في شرح الإرشاد وهما ممن يعض عليه بالنواجذ، ومنه قوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ [الأعلى: 1] إذ التسبيح في المعروف إنما يتوجه إلى الذات الأقدس وحمله على تنزيه اللفظ كحمله على المجاز والكناية مما لا يليق إذ بعد الثبوت لا يحتاج إليه ومن حفظ حجة على من لم يحفظ ويؤيده قوله تعالى: ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها [يوسف: 40] حيث أطلق الأسماء وأراد الذوات لأن الكفار إنما عبدوا حقيقة ذوات الأصنام دون ألفاظها وإن استقام على بعد، وقال سيبويه وهو   (1) وأصل اسماء اسما وقلبت الواو همزة لوقوعها رابعة بعد ألف، وأصل سمى سميو اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت، وأصل سميت سموت قلبت الواو لوقوعها رابعة ولم ينضم ما قبلها ياء اهـ منه. (2) هو أن لفظ الاسم اسم لكل لفظ دال على معنى في نفسه غير مقترن بزمان ولفظ الاسم كذلك فيكون اسما لنفسه وعين مسماه وفيه أنه إنما يصح لو كان النزاع في لفظ (اس م) ولا يصح محلا للخلاف حتى ينكره المعتزلة وأيضا لفظ كلمة وموضوع كذلك قاله الشهاب فافهم ولا تغفل اهـ منه. (3) وفي كلام البيضاوي إيماء إليه لمن أنصف اهـ منه. (4) رد على البيضاوي وغيره اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 إمام الصناعة وشيخ الجماعة: والفعل أمثلة أحداث من لفظ أحدث الأسماء ومن العلوم أن الألفاظ لا احداث لها فليس المراد إلا الذوات وهو بهذا المعنى عين المسمى ولا ينافيه أخذ الاسم من السمو لأن سمو المعلوم في الحقيقة إنما هو بوجوده إن كان موجودا حيث ارتفع عن نقص العدم وبمعقوليته عن الالتباس بمعلوم آخر إن لم يكن ولو كنا نرى الموجودات كلها ونعلم المعلومات بأسرها لم نحتج إلى مسمياتها لكن لما صحت غيبتها عنا لمانع في أبصارنا وبصائرنا احتجنا إلى ما يدلنا عليها في التخاطب والإخبار عنها فمن الله تعالى بهذه الأوضاع لطفا بنا وحكمة من حكيم عليم فلما سمت المعلومات بمعقوليتها عن الالتباس وبوجود ما كان موجودا منها عن العدم قيل لها أسماء، ولما دلت الألفاظ عليها قيل لها ذلك أيضا تسمية للشيء باسم ما هو دليل عليه ويطلق الاسم أيضا على الدال وهو قسمان، قديم وهو ما سمى الله تعالى به نفسه في كلامه القديم والقول فيه كالقول في كلامه الذي هو صفة له من أنه لا عين ولا غير، وحادث وهو ما سمى به تعالى شأنه في غير ذلك وهو غير، فالمعتزلة لا يثبتون إلا القسم الثاني من هذا الإطلاق لعدم ثبوت الأول عندهم ولنفيهم الكلام القديم، وأهل السنة لما رأوا أن نزاعهم لهم في القسم الأول من الإطلاق الثاني يعود إلى النزاع في منشئه تركوه واكتفوا بالنزاع في المنشأ عنه حتى برهنوا فيه على مدعاهم ونوروا بالبينات القطعية دعواهم وقد تقدم ذلك لك في المقدمات ونازعوهم في الإطلاق الأول وأثبتوه بظواهر الآيات ونقل الثقات وقالوا ضد قولهم إن الاسم عين المسمى فكأنه ترقي صورد من نفي الغيرية وإثبات لا ولا إلى القول بالعينية التي أنكروها ولعدم فهم المراد من ذلك اعترض بأنه لو كان الاسم هو المسمى لتكثر المسمى عند تكثر الأسماء وأيضا الأسماء تتبدل والمسمى لا يتبدل والاسم يطرأ بعد وجود المسمى والشيء لا يتقدم على نفسه ولا يتأخر فليس هو هو والكل غير وارد إلا على تقدير القول بالعينية بناء على القسم الثاني من الإطلاق الثاني وليس فليس، فاتضح من هذا أن قول المعتزلة بالغيرية ناشىء عن ضلالة في الاعتقاد وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الزمر: 23] والاسم في البسملة عند بعض بالمعنى الأول لأن الاستعانة بالألفاظ مجردها مما لا معنى لها وليس من التسعة والتسعين ما لفظه اسم فلا يحسن إلا أن يراد به الذات وأمر الإضافة هين وفيه أنه فرق بين الاستعانة المتعدية بنفسها والاستعانة المعتدية بالباء المتعلقة بغير ذوي العلم نحو استعينوا بالصبر والصلاة وقال غير واحد سلمنا أن الاستعانة لا تكون إلا بالذات إلا أن التبرك لا يكون بها وقد قالوا به ولهذا أو للفرق بين اليمين والتيمن أو لئلا يختص التبرك باسم دون اسم أو ليكون أشد وفاقا لحديث الابتداء على ما قيل قال بسم الله ولم يقل بالله ولم تكتب همزة الوصل مع أن الأصل في كل كلمة أن ترسم باعتبار ما يتلفظ بها في الوقف وفي الابتداء بل حذفت تبعا لحذفها في التلفظ للكثرة (1) وقيل لأنها دخلت للابتداء بالسين الساكنة فلما نابت الباء عنها سقطت في الخط بخلاف اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1] إذ الباء لا تنوب منا بها فيه إذ يمكن حذفها مع بقاء المعنى فيقال- اقرأ اسم ربك- وظاهره أن الذي منع من الإسقاط في الآية إمكان حذف الباء فقط وهو مخالف لما ذكره الدماميني من أنه لا بد للحذف من أمرين عدم ذكر المتعلق وإضافة لفظ اسم للجلالة وكلاهما منتف في الآية وهل يشترط تمام البسملة فيه؟ فيه تردد وظاهر كلام التسهيل اشتراطه. وقيل لا حذف فيه والباء داخلة على سم أحد اللغات السابقة ثم سكنت السين هربا من توالي كسرتين أو انتقاله من كسرة لضمة وهو مع غرابته بعيد، وعندي أن هذا رسم عثماني وهو مما لا يكاد يعرف السر فيه أرباب الرسوم والكثير من عللهم غير مطردة وبذلك اعتذر البعض (2) عن عدم حذف ألف الله مع كثرة استعماله واستغنى به عن الجواب بشدة الامتزاج وبأنها عوض وبأنه يلزم   (1) وقيل قابله الخليل اهـ منه. (2) البعض هو الشهاب اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 الإجحاف لو حذفت أو الالتباس بقولنا لله مجرورا فالرأي إبداء سر ذوقي لذلك وقد حرره الشيخ الأكبر قدس سره في الفتوحات بما لا مزيد عليه (1) ولست ممن يفهمه والقريب من الفهم أن الهمزة إنما حذفت في الخط ليكون اتصال السين بالباء المشير إلى ما تقدم أتم وتلقي الفيض أقوى مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء: 80] وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فاطر: 45] وفيه إشارة من أول الأمر إلى عموم الرحمة وشمول البعثة لأن السين لما كان ساكنا وتوصل إلى النطق به بالألف أشبه حال المعدوم الذي ظهر بالله وحيث كان ذلك عاما إذ ما من معدوم يطلب الظهور إلا يكون ظهوره بالله سبحانه وتعالى أعطى ذلك الحكم لما قام مقامه واتصل اتصاله وأدى في اللفظ مؤداه فإن كان عبارة عن صفات الجمال ظهر عموم الرحمة وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف: 156] وإن كان عبارة عن الحقيقة المحمدية ظهر شمول البعثة لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان: 1] بل والرحمة أيضا وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] وتناسبت أجزاء البسملة إشارة وعبارة وإنما طولت الباء للإشارة إلى أن الظهور تام أو إلى أنها وإن انخفضت لكنها إذا اتصلت هذا الاتصال ارتفعت واستعلت، وفيه رمز إلى أن من تواضع لله رفعه الله وأنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي. وقال الرسميون طولت لتدل على الألف المحذوفة ولتكون عوضا عنها وليكون افتتاح كتاب الله تعالى بحرف مفخم ولذا قال صلّى الله عليه وسلم لمعاوية فيما روي «ألق الدواة وحرف القلم وانصب الباء وفرق السين ولا تعور الميم وحسن الله ومد الرحمن وجود الرحيم وضع قلمك على أذنك اليسرى فإنه أذكر لك» ولعل منه أخذ عمر بن عبد العزيز قوله لكاتبه طول الباء وأظهر السينات ودور الميم، ولبعضهم (2) في التعليل ما ادعي أنه ليس من عمل الأفهام بل مبذولات الإلهام وهو في التحقيق من مبتذلات الأوهام وليس له في التحقيق أدنى إلمام على أن في تعليلهم السابق خفاء بالنظر إلى مشربهم أيضا فافهم ذلك كله «والله» أصله الاعلالي إله كما في الصحاح أو الإله كما في الكشاف- ولكل وجهة- فحذفت الهمزة اعتباطا (3) على الأظهر وعوض عنها الألف واللام (4) ولذلك قيل: يا الله (5) بالقطع في الأكثر لتمحض الحرف للعوضية فيه احترازا عن اجتماع أداتي تعريف وأما في غيره فيجري الحرف على أصله، وذكر الرضي أن القطع لاجتماع شيئين لزوم الهمزة الكلمة إلا نادرا كما في لاهه الكبار وكونها بدل همزة إله، وقال السعد: قد يقال فيه: إنه نوى الوقف على حرف النداء (6) تفخيما للاسم الشريف واختلفوا في الفرق بين الإله والله فقال السيد السند: هما علم لذاته إلا أنه قبل الحذف قد يطلق على غيره تعالى وبعده لا يطلق على غيره سبحانه أصلا، وقال العلامة السعد: إن الإله اسم لمفهوم كلي هو المعبود بحق والله علم لذاته تعالى، وقال الرضي: هما قبل الإدغام وبعده مختصان بذاته تعالى لا يطلقان على غيره أصلا إلا أنه قبل الإدغام من   (1) فالرأي اعتراض على علماء الرسوم على العموم اهـ منه. [ ..... ] (2) قال وإنما عوض ليكون الباء بمنزلة ألف اسم الله فيكون الابتداء ببسم الله ابتداء باسم الله فاعرفه فإنه إلخ وفيه أنه بما به يقتضي تخصيص الامتثال بالابتداء الخطي فقط وغير ذلك فافهمه اهـ منه. (3) ومقابله أنها حذفت بعد نقل حركتها إلى ما قبلها وحذفها لالتقاء الساكنين هي واللام قبلها ولزوم الحذف والتعويض وعدم منع الإدغام بل وجوبه مع أن المحذوف لعلة كالموجود من الأمور الشاذة التي اختص بها هذا الاسم الأعظم فافهم اهـ منه. (4) فلا يجتمعان إلا نادرا كما في الرضي كقوله «معاذ إله أن تكون كظبية اهـ منه. (5) وكون القطع في النداء أكثريا نص عليه الرضي اهـ منه. (6) ونقل عن سيبويه وقيل في توجيهه إن المعظم الجليل المقدم بعد ندائه باسمه من سوء الأدب فلذا جعل النداء كالمنقطع عما بعده والاسم الكريم كأنه غير منادى وفرق بين النداء بالعلم المجرد والنداء بالوصف المادح فلا يرد يا رحمن الدنيا والآخرة فتدبر اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 الأعلام الغالبة وبعده من الأعلام الخاصة، وادعى ابن مالك أن الله من الأعلام التي قارن وضعها أل وليس أصله الإله ثم قال ولو لم يرد على من قال ذلك إلا أنه ادعى ما لا دليل عليه لكان ذلك كافيا لأن الله والإله مختلفان لفظا ومعنى، أما لفظا فلأن أحدهما معتل العين، والثاني مهموز الفاء صحيح العين واللام فهما من مادتين، فردهما إلى أصل واحد تحكم من سوء التصريف «وأما معنى» فلأن الله خاص به تعالى جاهلية وإسلاما والإله ليس كذلك لأنه اسم لكل معبود ومن قال أصله الإله لا يخلو حاله من أمرين لأنه إما أن يقول: إن الهمزة حذفت ابتداء ثم أدغمت اللام أو يقول: إنها نقلت حركتها إلى اللام قبلها وحذفت على القياس وهو باطل، أما الأول فلأنه ادعى حذف الفاء بلا سبب ولا مشابهة ذي سبب من ثلاثي فلا يقاس بيد لأن الآخر وكذا ما يتصل به محل التغيير ولا بعدة مصدر يعد لحمله على الفعل فحذف للتشاكل ولا برقة بمعنى ورق لشبهه بعدة وزنا وإعلالا ولولا أنه بمعناه لتعين إلحاقه بالثنائي المحذوف اللام كلثة، وأما ناس وأناس فمن نوس وأنس على أن الحمل عليه على تقدير تسليم الأخذ زيادة في الشذوذ وكثرة مخالفة الأصل بلا سبب يلجىء لذلك «وأما الثاني» فلأنه يستلزم مخالفة الأصل من وجوه، أحدها نقل حركة بين كلمتين على سبيل اللزوم، ولا نظير له، والثاني نقل حركة همزة إلى مثل ما بعدها وهو يوجب اجتماع مثلين متحركين وهو أثقل من تحقيق الهمزة بعد ساكن، الثالث من مخالفة الأصل تسكين المنقول إليه الحركة فيوجب كونه عملا كلا عمل وهو بمنزلة من نقل في بئس ولا يخفى ما فيه من القبح مع كونه في كلمة فما هو في كلمتين أمكن في الاستقباح وأحق بالإطراح، الرابع إدغام المنقول إليه فيما بعد الهمزة وهو بمعزل عن القياس لأن الهمزة المنقولة الحركة في تقدير الثبوت فإدغام ما قبلها فيما بعدها كإدغام أحد المنفصلين، وقد اعتبر أبو عمرو في الإدغام الكبير الفصل بواجب الحذف نحو يَبْتَغِ غَيْرَ [آل عمران: 85] فلم يدغم فاعتبار غير واجب الحذف أولى ومن زعم أن أصله إله يقول: إن الألف واللام عوض من الهمزة ولو كان كذلك لم يحذفا في لاه أبوك أي لله أبوك إذ لا يحذف عوض ومعوض في حالة واحدة وقالوا لهى أبوك أيضا فحذفوا لام الجر والألف واللام وقدموا الهاء وسكنوها فصارت الألف ياء وعلم بذلك أن الألف كانت منقلبة لتحركها وانفتاح ما قبلها فلما وليت ساكنا عادت إلى أصلها وفتحتها فتحة بناء، وسبب البناء تضمن معنى التعريف عند أبي علي (1) ومعنى حرف التعجب إذ لم يقع في غيره وإن لم يوضع له حرف عندي وهو مع بنائه في موضع جر باللام المحذوفة واللام ومجرورها في موضع رفع خبر أبوك اهـ ملخصا، قال ناظر الجيش: إنه لا مزيد عليه في الحسن، وأنا أقول لا بأس به لولا قوله: إن الإله اسم لكل معبود فقد بالغ البلقيني في رده وادعى أنه لا يقع إلا على المعبود بالحق جل شأنه ومن أطلقه على غيره حكم الله تعالى بكفره وأرسل الرسل لدعائه وكان نظير إطلاق النصارى الله على عيسى على أن فيه ما يمكن الجواب عنه كما لا يخفى واشتقاقه من أله كعبد إلاهة كعبادة وألوهة كعبودة وألوهية كعبودية فإله صفة مشبهة بمعنى مألوه ككتاب بمعنى مكتوب وكونه مصدرا كما ذهب إليه المرزوقي وصاحب المدارك خلاف المشهور أو من أله كفرح إذا تحير لتحير العقول في كنه ذاته وصفاته وفيه أن الأصل في الاشتقاق أن يكون لمعنى قائم بالمشتق والحيرة قائمة بالخلق لا بالحق أو من ألهت إلى فلان إذا سكنت إليه أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28] أو من له إذا فزع والله مفزوع إليه وهو يجير ولا يجار عليه أو من أله الفصيل إذا ولع بأمه والعباد مولعون بالتضرع إليه في الشدائد، وقيل هو من وله الواوي بمعنى تحير أيضا وأصله ولاه فقلبت الواو همزة لاستثقال الكسرة عليها فهو كإعاء وإشاح في وعاء ووشاح ويرده الجمع على آلهة دون أولهة وقلب الواو ألفا إذا   (1) وأورد عليه أن الألف واللام في الله زائدة في التسمية مستغنى عن معناها بالعلمية وإذا حذفت لم يبق لها معنى يتضمن فلذا عدل عنه لكن قد يجاب بأن القول بزيادتها ليس متعينا عند أبي علي: وتمام الكلام في التسهيل وبعضه في الشهاب اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 لم تتحرك مخالف للقياس وتوهم أصالة الهمزة لعدم ولاه خلاف الظاهر ولعلك لا تعبأ بذلك هنا فالشأن عجيب، وزعم بعضهم أن أصله لاه مصدر لاه يليه (1) أو لاه يلوه ليها ولاها إذا ارتفع واحتجب وهو المحتجب بسرادقات الجلال والمرتفع عن إدراك الخيال وقد قرىء شاذا «وهو الذي في السماء لاه» وقول ميمون بن قيس الأعشى: كحلفه من أبي رباح ... يشهدها لاهه الكبار ووجه قطع الهمزة في حال النداء حينئذ بعض ما تقدم من الوجوه، وقيل أصله الكناية لأنها للغائب وهو سبحانه الغائب عن أن تدركه الأبصار أو تحيط به الأفكار، وأيضا الهاء يخرج مع الأنفاس فهو المذكور وإن لم تشعر الحواس ومتى انقطع خروجه انقطعت الحياة وحل بالحي الممات فيه وباسمه قوام الأرواح والأبدان واستقامة كل متنفس من الحيوان فزيد عليها لام الملك ثم مدّ بها الصوت تعظيما ثم ألزم اللام واستأنس لهذا إن الاسم الكريم إذا حذفت منه الهمزة بقي لله وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الفتح: 4، 7] وإذا تركت اللام بقي على صورة له لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [النساء: 171، طه: 6، الحج: 64، الشورى: 4] وإن تركت اللام الباقية بقي الهاء المضمومة من هو لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [البقرة: 163 وغيرها] والواو زائدة بدليل سقوطها في هما وهم فالأصل هو إذ لا يبقى سواه وأنت إذا أمعنت النظر يظهر لك مناسبات أخر ولهذا مال كثير من الصوفية إلى هذا القول وهو إلى المشرب قريب، وزعم البلخي أنه ليس بعربي بل هو عبراني (2) أو سرياني معرب لاها ومعناه ذو القدرة ولا دليل عليه فلا يصار إليه واستعمال اليهود والنصارى لا يقوم دليلا إذ احتمال توافق اللغات قائم مع أن قولهم تأله وأله يأباه على أن التصرف فيه كما قيل بحذف المدة وإدخال أل عليه وجعله بهذه الصفة دليل على أنه لم يكن علما في غير العربية إذ اشترطوا في منع الصرف للعجمة كون الأعجمي علما في اللغة الأعجمية والتصرف مضعف لها، فهذا الزعم ساقط عن درجة الاعتبار لا يساعده عقل ولا نقل والذي عليه أكابر المعتبرين كالشافعي ومحمد بن الحسن والأشعري (3) وغالب أصحابه والخطابي وإمام الحرمين والغزالي والفخر الرازي وأكثر الأصوليين والفقهاء، ونقل عن اختيار الخليل وسيبويه والمازني وابن كيسان أنه عربي وعلم من أصله لذاته تعالى المخصوصة أما أنه عربي فلا يكاد يحتاج إلى برهان وأما أنه علم كذلك فقد استدل عليه بوجوه. الأول أنه يوصف ولا يوصف به وقراءة صراط العزيز الحميد الله بالجر محمولة على البيان وتجويز الزمخشري في سورة «فاطر» كون الاسم الكريم صفة اسم الإشارة من باب قياس العلم على الجوامد في وقوعها صفة لاسم الإشارة على خلاف القياس إذ المنظور فيها رفع الإبهام فقط وقد تفرد به، «الثاني» أنه لا بد له من اسم يجري عليه صفاته فإن كل شيء تتوجه إليه الأذهان ويحتاج إلى التعبير عنه قد وضع له اسم توقيفي أو اصطلاحي فكيف يهمل خالق الأشياء ومبدعها ولم يوضع له اسم يجري عليه ما يعزى إليه ولا يصلح له مما يطلق عليه سواه وكونه اسم جنس معرف مما لا يليق لأنه غير خاص وضعا وكونه علما منقولا من الوصفية يستدعي أن لا يكون في الأصل ما تجري عليه الصفات وهو كما ترى «الثالث» أنه لو كان وصفا لم تكن الكلمة توحيدا مثل لا إله   (1) وهذا القول ينسب إلى سيبويه لكن القول بأن لاه مصدر لم ينسب إليه لكن ذكره بعض الثقات فافهم اهـ منه. (2) العبراني لغة بني إسرائيل والسرياني لغة آدم قال ابن حبيب: كان اللسان الذي نزل به آدم من الجنة عربيا ثم حرف وصار سريانيا وهو منسوب إلى أرض سريانة جزيرة كان بها نوح عليه السلام وقومه قبل الغرق وهو يشاكل العربي إلا أنه محرف وكان لسان جميع من في الأرض إلا رجلا واحدا يقال له حر فلسانه عربي كذا قاله ابن الأنباري وهم يلحقون ألفا في أواخر الكلم يقولون لاها رحمانا كما في الفارسية فليحفظ اهـ منه. (3) وحكى ابن جماعة أن الأشعري رئي في المنام فقيل له ما فعل الله تعالى بك؟ قال غفر لي قيل بماذا قال بقولي بعلمية الله اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 إلا الرحمن إذ لا منع من الشركة وكذا لو كان اسم جنس والإجماع منعقد على إفادتها له دون الثاني والسر أنه لو كان صفة كان مدلوله المعنى لا الذات المعينة فلا يمنع من الشركة وإن اختص استعمالا بذاته تعالى بخلاف ما إذا كان علما فإن مدلوله حينئذ الذات المعينة وإن تعقل بوجه كلي إذ كليته لا تستلزم كلية المعلوم وقد اعترفوا بعموم الوضع وخصوص الموضوع له وقد انحل بهذا عصام قربة من قال: إنه لو كفى في التوحيد الاختصاص في الواقع فلا إله إلا الرحمن أيضا توحيد وإن لم يكف واقتضى ما يعين بحيث لا تجوز فيه الشركة لم يكن لا إله إلا الله كذلك إذ لا تحضر ذاته تعالى لنا على وجه التشخص (1) ولا حاجة إلى ما ذكره من الجواب أخطأ فيه أم أصاب ولا يرد قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1] معارضا فإنه لو دل على التوحيد لم يكن للوصف فائدة لما سيأتي إن شاء الله تعالى من تفسيره لعدم قبول التعدد بوجه وهو ليس من لوازم العلمية ولا يغير هذه الوجوه المفسرة ما قيل إنها لا تستلزم المدعى إذ الاختلاف إنما وقع بعد تسليم الاختصاص في كونه صفة فيكون كالرحمن أو اسما فيكون علما، وهذا القدر يكفي بعد ذلك في المقصود كما لا يخفى على من لم يركب مطية الجحود، والإمام البيضاوي مع أن له اليد البيضاء في التحقيق لم يتبلج له صبح هذا القول وهو لا يحتاج إلى النظر الدقيق فاختار أنه وصف في أصله لكنه لما غلب عليه بحيث لا يستعمل في غيره وصار له كالعلم مثل الثريا والصعق أجرى مجراه في إجراء الوصف عليه وامتناع الوصف به وعدم تطرق احتمال الشركة إليه لأن ذاته من حيث هو بلا اعتبار أمر آخر حقيقي أو غيره غير معقول للبشر فلا يمكن أن يدل عليه بلفظ ولأنه لو دلّ على مجرد ذاته المخصوص لما أفاد ظاهر قوله تعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ معنى صحيحا ولأن معنى الاشتقاق كون أحد اللفظين مشاركا للآخر في المعنى والتركيب وهو حاصل بينه وبين الأصول المذكورة هذا كلامه، وقد أبطل فيه الأدلة الثلاث وحيث لم يلزم من إبطال الدليل إبطال المدلول أبطله بوجهين ونظم في سلكهما ثالثا يدل على الوصفية وفيه أن الوجه الأول قد اعترضه هو نفسه حيث قال في تعليقاته وفيه نظر إذ يكفي في وضع العلم تعقله بوجه يمتاز به عن غيره من غير أن يعتبر ما به الامتياز في المسمى فيمكن وضع العلم لمجرد الذات المعقولة في ضمن بعض الصفات وقد تقرر في الكلام أنه يمكن أن يخلق الله تعالى العلم بكنه ذاته في البشر ولأنه إنما يتمشى إذا لم يكن الواضع هو الله تعالى والتحقيق أن تصوير الموضوع له بوجه ما كاف في وضع العلم وكذا في فهم السامع عند استعماله انتهى، والمرء مؤاخذ بإقراره وهذا اكتفاء بأقل اللازم وإلا فالمحققون قد أبطلوا هذا الدليل بما لا مزيد عليه، وأما الثاني ففيه إن لم نقل إن الآية من المتشابه أن العلم قد يلاحظ معه معنى به يصلح لتعلق الطرف كقولك أنت عندي حاتم وقوله: أسد عليّ وفي الحروب نعامة ... فتخاء تنفر من صفير الصافر فليلاحظ هنا المعبود بالحق لاشتهاره سبحانه بذلك في ضمن هذا الاسم المقدس على أنه يحتمل التعلق بيعلم في قوله تعالى: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ [الأنعام: 3] الآية والجملة خبر ثان أو هي الخبر ولفظ الله بدل والظاهر أن قوله ظاهر لهذا. «وأما الثالث» ففيه أن المنكر لاشتقاقه لا يسلم التوافق في المعنى على أنه لا يستلزم الوصفية (2) أيضا وكون   (1) وقيل إحضاره تعالى على الوجه المذكور تكليف بما لا يطاق فالمطلوب إنما هو إحضاره على وجه كلي منحصر في فرد وعدم حصول التوحيد بالرحمن لإطلاقه مضافا على غيره كرحمن اليمامة فتدبر اهـ منه. (2) ككتاب وإمام اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 المدعى ظني (1) فيكفي فيه الحدس من مثل ذلك لا يجدي نفعا إذ لنا أن نقول مثله والمنشأ أتم والظن أقوى والوجوه التي ذكرت في الابطال ترهقها ذلة لأنها كلها متوجهة تلقاء الغلبة وهي وإن لم تكن تحقيقية ضعيفة بل تقديرية قوية لكنها على كل حال دون العلمية الأصلية قوة وشرفا فالعدول عن الأشرف في هذا الاسم الأقدس مما لا أسوغ الإقدام عليه ودون إثبات الداعي نفي الرقاد وخرط القتاد. وقد رأيت بعض ذلك فالذي أرتضيه لا عن تقليد أن هذا الاسم الأعظم موضوع للذات الجامعة لسائر الصفات وإلى ذلك يشير كلام ساداتنا النقشبندية بلغنا الله تعالى ببركاتهم كل أمنية في الوقوف القلبي وهو أن يلاحظ الذاكر في قلبه كلما كرر ذكر هذا الاسم الأقدس ذاتا بلا مثل، وحققه الشيخ الأكبر قدس سره في مواضع عديدة من كتبه هذا، وتفخيم اللام من هذا الاسم الكريم إذا انفتح ما قبله أو انضم طريقه معروفة عند القراء وقيل مطلقا، وحذف ألفه لغة حكاها ابن الصلاح، وفي التيسير إنها لغة ثابتة في الوقف دون الوصل والأفصح الإثبات حتى قال بعضهم إن الحذف لحن تفسد به الصلاة ولا ينعقد به صريح اليمين ولا يرتكب إلا في الضرورة كقوله: ألا لا بارك الله في سهيل ... إذا ما بارك الله في الرجال وقد أطال الشيخ قدس سره الكلام في الفتوحات عن أسرار حروفه وأتى بالعجب العجاب، وفي ظهور الألف تارة وخفائها أخرى وسكون اللام أولا وتحركها ثانيا والختم باطنا بما به البدء ظاهرا واشتمال الكلمة على متحرك وساكن وصالح لأن يظهر بأحد الأمرين إشارات لا تخفى على العارفين فارجع إلى كتبهم فهم أعرف بالله تعالى منا، وسبحان من احتجب بنور العظمة حتى تحيرت الأفهام في اللفظ الدال عليه إذ انعكست له من تلك الأنوار أشعة بهرت أعين المستبصرين فلم يستطيعوا أن يمعنوا النظر فيه وإليه والقصور في القابل لا في الفاعل: توهمت قدما أن ليلى تبرقعت ... وأن حجابا دونها يمنع اللثما فلاحت فلا والله ما ثم حاجب ... سوى أن طرفي كان عن حسنها أعمى والرحمن الرحيم المشهور أنهما صفتان مشبهتان بنيتا لإفادة المبالغة وأنهما من رحم مكسور العين نقل إلى رحم مضمومها بعد جعله لازما وهذا مطرد في باب المدح والذم وأن الرحمة في اللغة رقة القلب ولكونها من الكيفيات التابعة للمزاج المستحيل عليه سبحانه تؤخذ باعتبار غايتها إما على طريقة المجاز المرسل بذكر لفظ السبب وإرادة المسبب وإما على طريقة التمثيل بأن شبه حاله تعالى بالقياس إلى المرحومين في إيصال الخير إليهم بحال الملك إذا رق لهم فأصابهم بمعروفه وإنعامه فاستعمل الكلام الموضوع للهيئة الثانية في الأولى من غير أن يتمحل في شيء من مفرداته وإما على طريقة الاستعارة المصرحة بأن يشبه الإحسان على ما اختاره القاضي أبو بكر أو وإرادته على ما اختاره الأشعري بالرحمة بجامع ترتب الانتفاع على كل ويستعار له الرحمة ويشتق منها الرحمن الرحيم على حد- الحال ناطقة بكذا- وإما على طريقة الاستعارة المكنية التخييلية بأن يشبه معنى الضمير فيهما العائد إليه تعالى بملك رق قلبه على رعيته تشبيها مضمرا في النفس ويحذف المشبه به ويثبت له شيء من لوازمه وهو الرحمة، وقيل الرحمة في ذلك حقيقة شرعية وأن الرحمن أبلغ من الرحيم لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى فتؤخذ تارة باعتبار الكمية وأخرى باعتبار الكيفية فعلى الأول قيل: يا رحمن الدنيا لأنه يعم المؤمن والكافر ورحيم الآخرة لأنه يخص المؤمن وعلى الثاني قيل يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا لأن النعم الأخروية كلها جسام وأما النعم الدنيوية فجليلة وحقيرة وأنه إنما قدم   (1) كذا بخطه اهـ مصحح الأصل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 الرحمن والقياس يقتضي الترقي لتقدم رحمة الدنيا ولأنه صار كالعلم من حيث إنه لا يوصف به غيره لأن معناه المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها وذلك لا يصدق على غيره، وقول بني حنيفة (1) في مسيلمة رحمن اليمامة وقول شاعرهم فيه: سموت بالمجد يا ابن الأكرمين أبا ... وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا غلو في الكفر (2) أو التقديم لأن الرحمن لما دل على جلائل النعم وأصولها ذكر الرحيم ليتناول ما خرج منها فيكون كالتتمة (3) والرديف له أو للمحافظة على رؤوس الآي هذا وجميعه لا يخلو عن مقال ولا يسلم من رشق نبال أما أولا فلأن الصفة المشبهة لا تبنى إلا من لازم ولذا قال في التسهيل: إن ربا وملكا ورحمانا ليست منها لتعدي أفعالها ولم يقل أحد بنقل ما تعدى منها لفعل المضموم العين والمسطور في المتون المعول عليها أن فعل المفتوح والمكسور إذا قصد به التعجب يحول إلى فعل المضموم كقضو الرجل بمعنى ما أقضاه وحينئذ فيه اختلاف هل يعطى حكم نعم أو فعل التعجب كما فصلوه ثمة وإلحاقهم له بنعم كالصريح في عدم تصرفه وأنه لا يؤخذ منه صفة أصلا وكون رفيع الدرجات بمعنى رفيع درجاته لا رافع الدرجات لا يجدي نفعا وإنما فسروره بما ذكر لأن المراد درجات عزه وجبروته ليناسب المراد من قوله ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [غافر: 15] وهي بسطة ملكه وسعة ملكوته وتلك الدرجات ليست مرفوعة بفعل. ونقل ذلك عن الزمخشري في الفائق بعد تسليم أنه مذكور (4) فيه معارض بما صرح به هو في غيره كالمفصل على أن قولهم رحمن الدنيا ورحيم الآخرة بالإضافة إلى المفعول كما نص (5) عليه دون الفاعل يقتضي عدم اللزوم وأنهما ليسا بصفة مشبهة فالأصح أنهما من أبنية المبالغة الملحقة باسم الفاعل وأخذا من فعل متعد وذلك في الرحيم ظاهر وقد نص عليه سيبويه في قولهم رحيم فلانا وكذا الزجاج والصيغة تساعده وللاشتباه في الرحمن وعدم ذكر النحاة له في أبنية المبالغة قال الأعلم وابن مالك: إنه علم في الأصل لا صفة ولا علم بالغلبة التقديرية التي ادعاها الجل من العلماء، وأما ثانيا فلأن نقل فعل المكسور إلى فعل المضموم لا يتوقف على جعله لازما (6) أولا لأنه بمجرد النقل يصير كذلك وتحصيل المناسبة بين المنقول والمنقول إليه باللزوم لعدم الاكتفاء فيها بمطلق الفعلية مما لا يخفى ما فيه. وأما ثالثا فلأن كون الرحمة في اللغة رقة القلب إنما هو فينا وهذا لا يستلزم ارتكاب التجوز عند إثباتها لله تعالى لأنها حينئذ صفة لائقة بكمال ذاته كسائر صفاته ومعاذ الله تعالى أن تقاس بصفات المخلوقين وأين التراب من رب الأرباب. ولو أوجب كون الرحمة فينا رقة القلب ارتكاب المجاز في الرحمة الثابتة له تعالى لاستحالة اتصافه بما نتصف به فليوجب كون الحياة والعلم والإرادة والقدرة والكلام والسمع والبصر ما نعلمه منها فينا ارتكاب المجاز أيضا فيها إذا أثبتت لله تعالى وما سمعنا أحدا قال بذلك وما ندري ما الفرق بين هذه وتلك وكلها بمعانيها القائمة فينا يستحيل وصف الله تعالى بها فإما أن يقال بارتكاب المجاز فيها كلها إذا نسبت إليه   (1) لا يخفى على المتأمل أنه لا حاجة إلى الاعتذار لأن معنى لا يوصف به غيره لا يصح وصف غيره به تعالى كما يدل عليه التعليل بعدم تحقق معناه في غيره ومعلوم أن عدم الصدق في نفس الأمر لا يستلزم عدم الإطلاق فافهم اهـ منه. (2) إذ سموا المخلوق باسم الخالق كما سموا الحجارة آلهة اهـ منه. [ ..... ] (3) أي لا من باب الترقي والتتميم تقييد الكلام بتابع يفيد مبالغة نحو (ويطعمون الطعام على حبه) اهـ منه. (4) قال الشهاب راجعته فلم أجد فيه اهـ منه. (5) الناص الشهاب اهـ منه. (6) ومن يدعي اللزوم يقول إنه على التوسع كما بينه النحاة في باب الظروف وقاله الشهاب أيضا اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 عز شأنه أو بتركه كذلك وإثباتها له حقيقة بالمعنى اللائق بشأنه تعالى شأنه. والجهل بحقيقة تلك الحقيقة كالجهل بحقيقة ذاته مما لا يعود منه نقص إليه سبحانه بل ذلك من عزة كماله وكمال عزته والعجز عن درك الإدراك إدراك فالقول بالمجاز في بعض والحقيقة في آخر لا أراه في الحقيقة إلا تحكما بحتا بل قد نطق الإمام السكوني في كتابه التمييز لما للزمخشري من الاعتزال في تفسير كتاب الله العزيز بأن جعل الرحمة مجازا نزغة اعتزالية قد حفظ الله تعالى منها سلف المسلمين وأئمة الدين فإنهم أقروا ما ورد على ما ورد وأثبتوا لله تعالى ما أثبته له نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم من غير تصرف فيه بكناية أو مجاز وقالوا لسنا أغير على الله من رسوله لكنهم نزهوا مولاهم عن مشابهة المحدثات. ثم فوضوا اليه سبحانه تعيين ما أراده هو أو نبيه من الصفات المتشابهات. والأشعري إمام أهل السنة ذهب في النهاية إلى ما ذهبوا إليه. وعول في الإبانة على ما عولوا عليه فقد قال في أول كتاب الإبانة الذي هو آخر مصنفاته: أما بعد فإن كثيرا من الزائغين عن الحق من المعتزلة وأهل القدر مالت بهم أهواؤهم إلى التقليد لرؤسائهم ومن مضى من أسلافهم فتأولوا القرآن على آرائهم تأويلا لم ينزل الله به سلطانا ولا أوضح به برهانا. ولا نقلوه عن رسول رب العالمين صلى الله تعالى عليه وسلم ولا عن السلف المتقدمين وساق الكلام إلى أن قال: فإن قال لنا قائل قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون. وديانتكم التي بها تدينون قيل له قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها التمسك بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون وبما كان عليه أحمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون. ولمن خالف قوله مجانبون لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله تعالى به الحق عند ظهور الضلال وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين. وشك الشاكين فرحمة الله عليه من إمام مقدم وكبير معظم مفخم وعلى جميع أئمة المسلمين ثم سرد الكلام في بيان عقيدته مصرحا بإجراء ما ورد من الصفات على حالها بلا كيف غير متعرض لتأويل ولا ملتفت إلى قال وقيل: فما نقل عنه من تأويل صفة الرحمة إما غير ثابت أو مرجوع عنه والأعمال بالخواتيم (1) . وكذا يقال في حق غيره من القائلين به من أهل السنة على أنه إذا سلم الرأس كفى ومن ادعى ورود ذلك عن سلف المسلمين فليأت ببرهان مبين فما كل من قال يسمع ولا كل من ترأس يتبع. أما الخيام فإنها كخيامهم ... وأرى نساء الحي غير نسائهم والعجب من علماء أعلام، ومحققين فخام كيف غفلوا عما قلناه، وناموا عما حققناه ولا أظنك في مرية منه وإن قل ناقلوه وكثر منكروه «وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله» وأما رابعا فلأن إجراء الاستعارة التمثيلية هنا مع أنه تكلف لا سيما على مذهب السيد السند قدس سره فيه ظاهرا نوع من سوء الأدب إذ لا يقال إن لله تعالى هيئة شبيهة بهيئة الملك ولم يرد إطلاق الحال عليه سبحانه وتعالى فهل هذا إلا تصرف في حق الله تعالى بما لم يأذن به الله، ومثل هذا أيضا مكنى في المكنية وبلاغة القرآن غنية عن تكلف مثل ذلك وأما خامسا فلأن وجه تشبيه الإحسان في احتمال الاستعارة المصرحة بالرحمة التي هي رقة القلب غير صريح لأنه لا ينتفع بها نفسها وإنما الانتفاع بآثارها وكم من رق قلبه على شخص حتى أرق له لم ينفعه بشيء ولا أعانه بحي ولا لي. أهمّ بأمر الحزم لا أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان   (1) وهذا مذهب السلف الصالح وعليه عمل ابن تيمية وتلميذه ابن قيم واضرابهما انظر كتاب الإبانة فإننا طبعناه والحمد لله اهـ منير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 ولا كذلك الانتفاع بالإحسان وأما الإرادة فهي إن قلنا بصحة إرادتها هنا لا تصح في وجه المجاز المرسل بالنظر إليه تعالى بل إنك إذا تأملت وأنصفت وجدت الرحمة إن تسببت الإحسان أو إرادته فإنما تسببه إذا كانت هي وهو صفتين لنا ومجرد السببية والمسببية في هذه الحالة لا يوجب كون الرحمة المنسوبة إليه عز شأنه مجازا مرسلا عن أحد الأمرين وبفرض وجود الرحمة بذلك المعنى فيه تعالى كيفما كان الفرض لا نجزم بالسببية والمسببية أيضا وقياس الغائب على الشاهد مما لا ينبغي والفرق مثل الصبح ظاهر والذهن مقيد عن دعوى الإطلاق لما لا يخفى عليك فتأمل في هذا المقام فقد غفل عنه أقوام بعد أقوام، وأما سادسا فلأن كون الرحمن أبلغ من الرحيم غير مسلم وإن قال الراغب إن فعيلا لمن كثر منه الفعل وفعلان لمن كثر منه وتكرر حتى قيل الرحيم أبلغ لتأخره، وقول ابن المبارك الرحمن إذا سئل أعطى والرحيم إذا لم يسأل غضب وقيل هما سواء لظاهر الحديث الذي أخرجه الحاكم في المستدرك مرفوعا «رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما» وإليه ذهب الجويني وقرره بأن فعلان لمن تكرر منه الفعل وكثر وفعيل لمن ثبت منه الفعل ودام وفرق بعضهم بينهما بأن الرحمن دال على الصفة القائمة به تعالى والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم فكان الأول للوصف والثاني للصفة فالأول دال على أن الرحمة صفته والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته وإذا أردت فهم ذلك فتأمل قوله تعالى وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [الأحزاب: 43] إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 117] ولم يجىء قط رحمن فإنه يستشعر منه أن رحمن هو الموصوف بالرحمة ورحيم هو الراحم برحمته وما ذكر من قولهم لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى قاعدة أغلبية أسسها ابن جني فلعلها لا تثبت مع بسم الله الرحمن الرحيم وقد نقضت بحذر فإنه أبلغ من حاذر مع زيادة حروفه، فإن أجيب بأنها أكثرية فيأمر حبا بالوفاق وإن أجيب بأن ما ذكر لا ينافي أن يقع في البناء إلا نقص زيادة معنى بسبب آخر كالإلحاق بالأمور الجبلية مثل شره ونهم فجاز أن حاذرا أبلغ من حذر لدلالته على زيادة الحذر وإن لم يدل على ثبوته ولزومه فهو على ما فيه لا يصفو على كدر لأنهم صرحوا بأنه قد كثر استعمال فعيل في الغرائز كشريف وكريم وفعلان في غيرها كغضبان وسكران فيقتضي أنه أبلغ ولو من وجه أولا فسواء وإن أجيب بأن القاعدة فيما إذا كان اللفظان المتلاقيان في الاشتقاق متحدي النوع في المعنى كغرث وغرثان وصد وصديان ورحيم ورحمن لا كحذر وحاذر للاختلاف فإن أحدهما اسم فاعل والآخر صفة مشبهة فيقال قد صرح ابن الحاجب بأنه من أبنية المبالغة المعدودة من اسم الفاعل فهما متحدان نوعا أيضا فيحصل الانتقاض البتة ثم إنهم استشكلوا الأبلغية بأن أصل المبالغة مما لا يمكن هنا لأنها عبارة عن أن تثبت للشيء أكثر مما له وذلك فيما يقبل الزيادة والنقص، وصفاته تعالى منزهة عن ذلك لاستلزامه التغير المستلزم للحدوث، وأجيب بأن المراد الأكثرية في التعلقات والمتعلقات لا في الصفة نفسها وهذا إذا كانت صفة ذات وإن كانت صفة فعل فلا إشكال على ما ذهب إليه الأشاعرة من القول بحدوثها، وأما على ما ذهب إليه ساداتنا الماتريدية القائلون بقدوم صفة التكوين فيجاب بما أجيب به عن الأول. وأما سابعا فلأن قولهم فعلى الأول قيل يا رحمن الدنيا لأنه يعم المؤمن والكافر ورحيم الآخرة لأنه يخص المؤمن إن أرادوا به أن أبلغية الرحمن هاهنا باعتبار كثرة أفراد الرحمة في الدنيا لوجودها في المؤمن والكافر فلا يستقيم عليه، ورحيم الآخرة إذ النعم الأخروية غير متناهية وإن خصت المؤمن، وإن أرادوا أنها باعتبار كثرة أفراد المرحومين فلا يخفى أن كثرة أفرادهم إنما تؤثر في الأبلغية باعتبار اقتضائها كثرة أفراد الرحمة في الدنيا أيضا ومعلوم أن أفراد الرحمة في الآخرة أكثر منها بكثير بل لا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي أصلا فهذا الوجه مخدوش على الحالين على أن في اختصاص رحمة الآخرة بالمؤمنين مقالا إذ قد ورد في الصحيح شفاعته صلى الله تعالى عليه وسلم لعامة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 الناس من هول الموقف عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الإسراء: 79] وروي تخفيف العذاب عن بعض الأشقياء في الآخرة وكون الكفار في الأول تبعا غير مقصودين كيف وهم بعد الموقف يلاقون ما هو أشد منه فليس ذلك رحمة في حقهم والتخفيف في الثاني على تقدير تحققه نزول من مرتبة من مراتب الغضب إلى مرتبة دونها فليس رحمة من كل الوجوه ليس بشيء أما أولا فلأن القصد تبعا وأصالة لا مدخل له وحبذا الولد من أين جاء، وأما ثانيا فلأن ملاقاتهم بعد لما هو أشد فلا يكون ذلك رحمة في حقهم يستدعي أن لا رحمة من الله تعالى لكافر في الدنيا كما قد قيل به لقوله تعالى وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ [آل عمران: 178] وقوله تعالى: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها [التوبة: 55] فيبطل حينئذ دعوى شمول الرحمة المؤمن والكافر في الدنيا إذ لا فرق بين ما يكون للكافر في الدنيا مما يتراءى أنه رحمة وما يكون له في الآخرة فوراء كل عذاب شديد، وأما ثالثا فلأن كون التخفيف ليس برحمة من كل الوجوه لا يضر وكل أهل النار يتمنى التخفيف وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ [غافر: 49] وحنانيك بعض الشر أهون من بعض، وأما ثامنا فلأن قولهم وعلى الثاني قيل يا رحمن الدنيا والآخرة إلخ فيه بعض شيء وهو أنه يصح أن يكون بالاعتبار الأول لأن نعم الدنيا والآخرة تزيد على نعم الآخرة نعم يجاب عنه بأنه يلزم حينئذ أن يكون ذكر رحيم الدنيا لغوا ولا يلزم ذلك على اعتبار الكيفية إذ المراد يا موليا لجسام النعم في الدارين ولما دونها في الدنيا. وأيضا مقصود القائل التوسل بكلا الاسمين المشتقين من الرحمة في مقام طلبها مشيرا إلى عموم الأول وخصوص الثاني ويحصل في ضمنه الاهتمام برحمته الدنيوية الواصلة إليه الباعثة لمزيد شكره إلا أنه يرد عليه كسابقه أن الأثر لا يعرف والمعروف المرفوع «رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما» وكفاية كونه من كلام السلف ليس بشيء كما لا يخفى، وأما تاسعا فلأن السؤال عن تقديم الرحمن معترض بمقبول ومردود، وذكر ابن هشام (1) أنه غير متجه لأن هذا خارج عن كلام العرب إذ لم يستعمل صفة ولا مجردا من أل فهو بدل لا نعت والرحيم نعت له لا نعت لاسم الله سبحانه إذ لا يتقدم البدل على النعت ومما يوضح لك أن الرحمن غير صفة مجيئه كثيرا غير تابع نحو الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرحمن: 1] قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ [الإسراء: 110] وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ [الفرقان: 60] وقال ابن خروف هو صفة غالبة ولم يقع تابعا إلا لله تعالى في البسملة والحمدلة ولذا حكم عليه بغلبة الاسمية وقل استعماله منكرا ومضافا فوجب كونه بدلا لا صفة لكون لفظة الله أعرف المعارف، وقال غير واحد: إنهما ذكرا لإفادة الشمول والعموم كما تقول الكبير والصغير يعرفه ولو عكست صح وكان المعنى بحاله ومثله لا يلزم فيه الترتيب كما فصل في المثل السائر. وللعلماء في هذا الترتيب كلام كثير وادعى العلامة المدقق في الكشف أن التحقيق يقتضي أن يرد النظم على هذا الوجه ولا يجوز غيره لأن الله اسم للذات الإلهية باعتبار أن الكل منه وإليه وجودا ورتبة وماهية والرحمن اسم له باعتبار إفاضة الرحمة العامة أعني الوجود على الممكنات والرحيم اسم له باعتبار تخصيص كل ممكن بحصة من الرحمة وهي الوجود الخاص وما يتبعه من وجود كمالاته فلو لم يورد كذلك لم يكن على النهج الواقع المحقق ذوقا وشهودا عقلا ووجودا، وأيضا لما كان المقصود تعليم وجه التيمن بأسمائه الحسنى وتقديمها عند كل ملم كان المناسب أن يبدأ من الأعلى فالأعلى إرشادا لمن يقتصر على واحد أن يقتصر على الأولى فالأولى وتقريرا في ذهن السامع لوجه التنزل أولا فأولا انتهى، ويؤيد   (1) قال الشهاب بعد نقل كلام ابن هشام ولا يخفى ما فيه وإن استفاضة إضافته نحو رحمن الدنيا تنافيه فتأمل اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 بعضه بعض ما أسلفناه من الآثار (1) والبعض الآخر في القلب منه شيء لأن تخصيص الرحمن بالوجود العام والرحيم بالكمالات تحكم غير مرضي وربما ينافي المأثور على أنه لا معنى لإفاضة الوجود على الكل إلا تخصيص كل ممكن بحصة منه وهل يوجد في الخارج من النوع إلا الحصص الإفرادية فتخصيص الإفاضة بالرحمن والتخصيص بالرحيم على ما يلوح بمعزل عن التحقيق والعجب ممن فاته ذلك (2) ، وأما عاشرا فلأن ما ذكروه في الجواب عن قول بني حنيفة بأنه غلو في الكفر فيكون الإطلاق غير صحيح لغة وشرعا فيه أنه (3) إذا كان إطلاقه عليه تعالى شأنه مجازا كما زعموا وبالغلبة فكيف يقال: إن استعماله في حقيقته وأصل معناه خطأ لغة وقد ذهب السبكي إلى أن المخصوص به تعالى هو المعرف دون المنكر والمضاف لوروده لغيره ورد به على القول بأنه مجاز لا حقيقة له وأن صحة المجاز إنما تقتضي الوضع للحقيقة لا الاستعمال نعم هو في لسان الشرع يمنع إطلاقه على غيره مطلقا وإن جاز لغة كالصلاة (4) على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبذلك صرح العز بن عبد السلام وقيل: إن رحمانا في البيت مصدر لا صفة مشبهة والمراد لا زلت ذا رحمة وفيه ما لا يخفى وافهم كلامه أن الرحيم يوصف به غيره تعالى وهو المعروف لكن أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن البصري أنه قال: الرحيم لا يستطيع الناس أن ينتحلوه ولعل مراده المعرف دون المنكر والمضاف فافهم، وأما الحادي عشر فلأن المحافظة على رؤوس الآي إنما تحسن- كما قال الزمخشري- بعد إيقاع المعاني على النهج الذي يقتضيه حسن النظم والتئامه فأما أن تهمل المعاني ويهتم للتحسين وحده فليس من قبيل البلاغة (5) . وقال الشيخ عبد القاهر: أصل الحسن في جميع المحسنات اللفظية أن تكون الألفاظ تابعة للمعاني فمجرد المحافظة على الرؤوس لا يصير نكتة للتقديم إلا بعد أن يثبت أن المعاني إذا أرسلت على سجيتها كانت تقتضي التقديم على أن المحافظة لا تجري في كل سورة بل فيها ما يقتضي خلاف هذا كسورة الرحمن، وأيضا هو مبني على أن الفاتحة أول نازل فروعي فيها ذلك ثم اطرد في غيرها وعلى أن البسملة آية من السورة ودون ذلك سور من حديد، وعندي من باب الإشارة أن تأخير الرحيم لأنه صفة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم قال تعالى: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128] وبه عليه السلام كمال الوجود وبالرحيم تمت البسملة وبتمامها تم العالم خلقا وإبداعا وكان صلى الله تعالى عليه وسلم مبتدأ وجود العالم عقلا ونفسا فبه بدأ الوجود باطنا وبه ختم المقام ظاهرا في عالم التخطيط فقال لا رسول بعدي فالرحيم هو نبينا عليه الصلاة والسلام وبسم الله هو أبونا آدم عليه السلام وأعني في مقام ابتداء الأمر ونهايته وذلك أن آدم عليه السلام حامل الأسماء قال تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ومحمد صلى الله تعالى عليه وسلم حامل معاني تلك الأسماء التي حملها آدم عليه السلام. لك ذات العلوم من عالم الغي ... ب ومنها لآدم الأسماء وهي الكلم قال صلى الله تعالى عليه وسلم «أوتيت جوامع الكلم» (6) ومن أثنى على نفسه أمكن وأتم ممن أثنى عليه كيحيى وعيسى عليهما السلام ومن حصل له الذات فالأسماء تحت حكمه وليس كل من حصل اسما يكون   (1) وهو أنه صلّى الله عليه وسلم كان يكتب بسم الله الرحمن الرحيم حتى نزلت سورة النمل اهـ منه. (2) هو الشهاب اهـ منه. (3) واعترضه ابن السبكي أيضا بأن الغلو لا يفيد جوابا إذ غايته أن ذلك السبب الحامل لهم على الإطلاق فافهم اهـ منه. (4) أي على رأي. (5) وبني على ذلك أن التقديم في وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ليس لمجرد الفاصلة بل لرعاية الاختصاص اهـ منه. (6) وقد حقق ذلك الشيخ قدس سره في النصوص فراجعه إن أردته اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 المسمى محصلا عنده ولهذا فضلت الصحابة علينا رضوان الله تعالى عليهم فإنهم حصلوا الذات وحصلنا الأسماء، ولما راعينا الاسم مراعاتهم الذات ضوعف لنا الأجر فللعامل منا أجر خمسين ممن يعمل بعمل الصحابة لا من أعيانهم بل من أمثالهم والحسرة الغيبة التي لم تكن لهم فكان تضعيف على تضعيف (1) فنحن الإخوان وهم الأصحاب وهو صلى الله تعالى عليه وسلم إلينا بالأشواق وما أفرحه بلقاء واحد منا وكيف لا يفرح وقد ورد عليه من كان بالأشواق إليه، وأيضا وجدنا بين الله والرحمن من المناسبة ما ليس بينه وبين الرحيم فلهذا قدم الرحمن على الرحيم. بيان ذلك أما أولا فلاقتران الرحمن بالجلالة في قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الإسراء: 110] وقد يشعر هذ الاقتران بجعلهما للذات ولذلك اختار من اختار البدل على النعت وجعلوه إشارة إلى مقام الجمع المرموز إليه بما صح عند القوم من طريق الكشف أن الله تعالى خلق آدم على صورته والرحيم ليس كذلك، وأما ثانيا فلأن في الله وفي الرحمن ألفين ألف الذات وألف العلم والأولى في كل خفية والثانية ظاهرة وإنما خفيت الأولى في الأول لرفع الالتباس في الخط بين الله والإله وفي الثاني على ما عليه أهل الله في رسمه وهو أحد الرسمين عند أهل الرسوم لدلالة الصفات عليهما دلالة ضرورية من حيث قيام الصفة بالموصوف فخفيت الذات وتجلت للعالم الصفات فلم يعرفوا من الإله غيرها والجهل هنا كمال وذلك حقيقة العبودية. زدني بفرط الحب فيك تحيرا ... وارحم حشا بلظى هواك تسعرا فالرحمن مشير إلى الذات وسائر الصفات فالألف الظاهرة واللام والراء إشارة إلى العلم والإرادة والقدرة والحاء والميم والنون إشارة إلى الكلام والسمع والبصر، وشرط هذه الصفات الحياة ولا يتحقق المشروط بدون الشرط فظهرت الصفات السبع بأسرها وخفيت الذات كما ترى وادعى بعض العارفين أن الألف الخفية هنا ظهرت من حيث الجزئية من هذا اللفظ في الشيطان بناء على أخذه من شطن وزيادة الألف فيه للإشارة إلى عموم الرحمة الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى فللشيطان أيضا حصة منها ومنها وجوده وبقي سر لا يمكن كشفه ولا كذلك الرحيم إذ ليس فيه إلا ألف العلم ولما كان هذا الاسم مشيرا إلى سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم باعتبار رتبته ظهرت فيه لكونه المرسل إلى الناس كافة فطلب التأييد فأعطيها فظهر بها، وأما ثالثا فقد طال النزاع في تحقيق لفظ الرحمن كما طال في تحقيق لفظ الله حتى توهم أنه ليس بعربي لنفور العرب منه فإنهم لما قيل لهم اعبدوا الله لم يقولوا وما الله ولما قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن ولعل سبب ذلك توهمهم التعدد وأنهم خافوا أن يكون المعبود الذي يدلهم عليهم من جنسهم فأنكروه لذلك لا لأنه ليس بعربي، واختلف أيضا في الصرف وعدمه قال ابن الحاجب: النون والألف إذا كانا (2) في اسم فشرطه العلمية وفي صفة فانتفاء فعلانة وقيل وجود فعلي، ومن ثمة اختلف في رحمن دون سكران وندمان وبنو أسد يصرفون جميع فعلان لأنهم يقولون في كل مؤنث له فعلانة اهـ وقال في التسهيل واختلف فيما لزم تذكيره كلحيان بمعنى كبير اللحية فمن منعه ألحقه بباب سكران لأنه أكثر ومن حذفه رأى أنه ضعف داعي منعه والأصل الصرف، واختار الزمخشري والشيخ الرضي وابن مالك واستظهره البيضاوي عدم الصرف إلحاقا له بما هو أغلب في بابه لأن الغالب في فعلان صفة فعلى حتى ذكر الإمام (3) السيوطي أن ما مؤنثه فعلانة لم يجىء إلا أربعة عشر لفظا بل إن فعلان صفة من فعل بالكسر لم يجئ منه ما مؤنثه فعلانة أصلا إلا ما رواه المرزوقي من خشيان   (1) هذا مضمون أثر صح عند الصوفية اهـ منه. (2) وهاتان الزيادتان في الصفة مشابهتان لألف التأنيث في عدم قبولها هاء التأنيث فلذا لو قبلتها انصرفت كندمان ندمانة فافهم اهـ منه. [ ..... ] (3) أي في شرح الألفية اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وخشيانة وإنما اقتضى الإلحاق أظهرية ذلك مع أن كون الأصل في الاسم الصرف يقتضي خلافه لأن رعاية ما هو الغالب في النوع أولى من رعاية الأصل، والحشر مع الجماعة عيد ولما رأى السعد أن هذه المسألة مما تعارض فيها الأصل والغالب ولم يترجح عنده أحدهما مال إلى جواز الصرف وعدمه عملا بالأمرين والأعمال في الجملة أولى من الإهمال بالكلية وحيث لم يسمع هذا الاسم إلا مضافا أو معرفا بأل أو منادى وما ورد شاذا كما في البيت لا يصلح شاهدا لأحد الأمرين لاحتمال أن يكون ممنوعا وألفه للإطلاق عدلوا إلى الاستدلال واتسعت دائرة المقال والرحيم سليم من هذا فافهم ذاك والله يتولى هداك، وإنما جعل الله البسملة مبدأ كلامه لوجهين، أما الأول فلأنها إجمال ما بعدها وهي آية عظيمة ونعمة للعارف جسيمة لا نهاية لفوائدها ولا غاية لقيمة فوائدها والباحث عنها مع قصرها إذا أراد ذرة من علمها ودرة من عيلمها احتاج إلى باع طويل في العلوم واطلاع عريض في المنطوق والمفهوم مثلا إذا أراد أن يبحث عن الباء من حيث إنها حرف جر بل عن سائر كلماتها من حيث الإعراب والبناء احتاج إلى علم النحو وإذا أراد أن يبحث عن أصول كلماتها كيف كانت وكيف آلت احتاج إلى علمي الصرف والاشتقاق وإن أراد أن يبحث عن نحو القصر بأقسامه وهل يوجد فيها شيء منه احتاج إلى علم المعاني وإن أراد أن يبحث عما فيها من الحقيقة والمجاز احتاج إلى علم البيان وإن أراد أن يبحث عما بين كلماتها من المحسنات اللفظية احتاج إلى علم البديع وإن أراد أن يبحث عنها من حيث إنها شعر أو نثر موزون أو غير موزون مثلا احتاج إلى علمي العروض والقوافي وإن أراد أن يعرف مدلولات الألفاظ لغة احتاج إلى مراجعة اللغة وإن أراد أن يعرف من أي الأقسام وضع هاتيك الألفاظ احتاج إلى علم الوضع وإن أراد معرفة ما في رسمها احتاج إلى علم الخط وإن أراد البحث عن كونها قضية ومن أي قسم من أقسامها أو غير قضية احتاج إلى علم المنطق وإن أراد أن يعرف أن كنه ما فيها من الأسماء هل يعلم أولا احتاج إلى علم الكلام وإن أراد معرفة حكم الابتداء بها وهل يختلف باختلاف المبدوء به احتاج إلى علم الفقه وإن أراد معرفة أن ما فيها ظاهر أو نص مثلا احتاج إلى علم الأصول وإن أراد معرفة تواترها احتاج إلى علم المصطلح وإن أراد معرفة أنها من أي مقولة من الأعراض احتاج إلى علم الحكمة وإن أراد معرفة طبائع حروفها احتاج إلى علم الحرف وإن أراد معرفة أنواع الرحمة المشار إليها بها احتاج إلى علم الأفلاك وعلم تشريح الأعضاء وخواص الأشياء وعلم المساحة وغير ذلك وإن أراد معرفة ما يمكن التخلق به مما تدل عليه الأسماء احتاج إلى علم الأخلاق وإن أراد معرفة ما خفي على أرباب الرسوم من الإشارات فليضرع إلى ربه وإن أراد أن يقف على جميع ما فيها من الأسرار فليعد غير المتناهي وكيف يطمع في ذلك وهي عنوان كلام الله تعالى المجيد وخال وجنة القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. وعلى تفنن واصفيه بوصفه ... يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف وإن أردت أن تمتحن ذهنك في بعض أسرارها فتأمل سر افتتاحها واختتامها بحرفين شفويين ومع كل ألف صورية متصلة بأول الأول وآخر الآخر وتحت الأول دائرة غيبية ظهرت في صورة الثاني وسر ما وقع فيها من أنواع التثليث أما أولا ففي مخارج الحروف فإنها ثلاثة الشفة واللسان والحلق في الباء واللام والهام. وأما ثانيا ففي المحذوف من حروفها فإنها ثلاثة أيضا ألف الاسم وألف الله وألف الرحمن. وأما ثالثا ففي المنطوق منها والمرسوم فإنه ثلاثة أنواع أيضا منطوق به مرسوم كالباء ومنطوق به غير مرسوم كألف الرحمن ومرسوم غير منطوق به كاللام منه مثلا، وأما رابعا ففي المتحرك والساكن، فمتحرك لا يسكن كالباء وساكن لا يتحرك كالألف، وقابل لهما كميم الرحيم وقفا ووصلا، وأما خامسا ففي أنواع كلماتها الملفوظة والمقدرة فهي على رأي اسم وفعل وحرف، وأما سادسا ففي أنواع الجر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 الذي فيها فهو جر بحرف وبإضافة وبتبعية على المشهور، وأما سابعا ففي الأسماء الحسنى التي ذبحتها فهي الله والرحمن والرحيم، وأما ثامنا ففي العاملية والمعمولية فكلمة عاملة غير معمولة ومعمولة غير عاملة وعاملة معمولة. وأما تاسعا ففي الاتصال والانفصال فمتصل بما بعده فقط وبما قبله فقط وبما بعده وقبله، وفي كل واحد من هذه الثلاثيات أسرار تحير الأفكار وتبهر أولي الأبصار وانظر لم اشتملت حروفها على الطبائع الأربع وتقدم في الظهور الهواء (1) ولم كانت تسعة عشر، ولم اعتنق اللام الألف واتصلت الميم باللام والهاء بالراء والنون بها نطقا لا خطا ولم فتح ما قبل الألف حتى لم يتغير في موضع أصلا؟ وتفكر في سر تربيع الألفاظ وسكون السين وتحرك الميم ونقطتي الياء ونقطة النون والباء، والأمر وراء ما يظنه أرباب الرسوم ونهاية ما ذكروه البحث عن المدلولات وتوسيع دائرة المقال بإبداء الاحتمالات، وقد صرح السرميني بإبداء خمسة آلاف ألف وثلاثمائة ألف وأحد وتسعين ألفا وثلاثمائة وستين احتمالا وزدت عليه من فضل الله تعالى حين سئلت عن ذلك بما يقرب أن يكون بمقدار ضرب هذا العدد بنفسه والدائرة أوسع إلا أن الواقع البعض، ولقد خلوت ليلة بليلى هذه الكلمة وأوقدت مصباح ذلي في مشكاة حضرتها المكرمة وفرشت لها سري وضممتها سحرا إلى سحري ونحري. فكان ما كان مما لست أذكره ... فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر وأما الوجه الثاني فلتعليم العبادة إذا بدؤوا بأمر كيف يبدؤون به ولهذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم فيما رواه عنه أبو هريرة وأخرجه الحافظ عبد القادر الرهاوي «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر» والبال الحال والشأن فمعنى ذي بال شريف يحتفل به ويهتم كأنه شغل القلب وملكه حتى صار صاحبه، وقيل شبه الأمر العظيم بذي قلب على سبيل الاستعارة المكنية والتخييلية، وفي هذا الوصف فائدتان إحداهما رعاية تعظيم اسم الله تعالى لأن يبتدىء به في الأمور المعتد بها. والأخرى التيسير على الناس في محقرات الأمور كذا قالوه، وعندي أن الأظهر جعل الوصف للتعميم كما في قوله تعالى: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام: 38] أي كل أمر يخطر بالبال جليلا كان أو حقيرا لا يبدأ به إلخ. وفي هذا غاية الإظهار لعظمة الله تعالى وحث على التبري عن الحول والقوة إلا بالله. وإشارة إلى أن قدر العباد غير مستقلة في الأفعال فحمل تبنة كحمل جبل إن لم يعن الله الملك المتعال وقد أمر سبحانه وتعالى بالإكثار من ذكره فقال تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً [البقرة: 200] وحيث لم يجب ذلك كما هو معلوم يحصل للناس تيسير، وقد سن صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بعض الأشياء ونفى الحرج بنفي وجوبها وفي قوله عليه الصلاة والسلام «ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شثع نعله» وما روي «أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام يا موسى سلني حتى ملح قدرك وشراك نعلك» ما يدفع عنك توهم عدم رعاية التعظيم في ذكره تعالى عند محقرات الأمور وأي فرق عند المنصف بين ذكره سبحانه عندها وطلبها منه. على أن العارف الجليل لا يقع بصره على شيء حقير ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ [الملك: 3، 4] نعم التسمية على الحرام والمكروه مما لا ينبغي بل هي حرام في الحرام لا كفر على الصحيح مكروهة في المكروه وقيل مكروهة فيهما إن لم يقصد استخفافا وإن قصده- والعياذ بالله   (1) قال الشيخ الأكبر قدس سره: وحق الهوى إن الهوى سبب الهوى ... لولا الهوى في الكون ما عبد الهوى اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 تعالى- كفر مطلقا وهذا لا يضر فيما قلناه كما لا يخفى. وقد اضطرب الحديث هنا فوقع في بعض الروايات لا يبدأ فيه بالحمد لله وفي بعضها بحمد الله وفي البعض أجذم وفي أخرى أقطع وفي خبر كل كلام وفي أثر يبدأ وفي آخر يفتتح وفي موضع وضع الذكر بدل الحمد إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتتبع حتى قيل: إنه مضطرب سندا ومتنا ولولا أنه في فضائل الأعمال ما اغتفر فيه ذلك على أنه تقوى بالمتابعة معنى أيضا والشهرة في دفع التعارض بين الروايات تغني عن التعرض للاستيفاء، واستحسن فيه أن روايتي البسملة والحمدلة تعارضتا فسقط قيداهما كما في مسألة التسبيع في الغسلات عند الشافعي ورجع للمعنى الأعم وهو إطلاق الذكر المراد منه إظهار صفة الكمال وقيل إن المراد في كل رواية الابتداء بأحدهما أو بما يقوم مقامه ولو ذكرا آخر بقرينة تعبيره تارة بالبسملة وأخرى بالحمدلة وطورا بغيرهما ولا يرد على كل أنا نرى كثيرا من الأمور يبدأ فيه بما ورد في الحديث مع أنه لا يتم ونرى كثيرا منها بالعكس لأنا نقول المراد من الحديث أن لا يكون معتبرا في الشرع فهو غير تام معنى وإن كان تاما حسا فباسم الله تعالى تتم معاني الأشياء ومن مشكاة بسم الله الرحمن الرحيم تشرق على صفحات الأكوان أنوار البهاء. ولو جليت سرا على أكمه غدا ... بصيرا ومن راووقها تسمع الصم ولو أن ركبا يمموا ترب أرضها ... وفي الركب ملسوع لما ضره السم ولو رسم الراقي حروف اسمها على ... جبين مصاب جن أبرأه الرسم وفوق لواء الجيش لو رقم اسمها ... لأسكر من تحت اللوا ذلك الرقم ولما افتتح سبحانه وتعالى كتابه بالبسملة وهي نوع من الحمد ناسب أن يردفها بالحمد الكلي الجامع لجميع أفراده البالغ أقصى درجات الكمال فقال جل شأنه: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وهو أول الفاتحة وآخر الدعوات الخاتمة كما قال تعالى: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس: 10] . كأن الحب دائرة بقلبي ... فأوله وآخره سواء وقد قيل للجنيد قدس سره ما النهاية؟ فقال الرجوع إلى البداية وفيه أسرار شتى، والحمد على المشهور هو الثناء باللسان على الجميل سواء تعلق بالفضائل أم بالفواضل، قالوا ولا بد لتحققه من خمسة أمور محمود به ومحمود عليه وحامد ومحمود وما يدل على اتصاف المحمود بصفة فالأول صفة تظهر اتصاف الشيء بها على وجه مخصوص ويجب كونه صفة كمال ولو ادعاء إذ المناط التعظيم ولا فرق عند الإمام الرازي قدس سره بين كونه ثبوتيا أو سلبيا متعديا أو غير متعد بل ولا بين كونه صادرا عن المحمود باختياره أولا كما قرره العلامة الدواني وصدر الأفاضل في حواشي التجريد والمطالع وجزم به المحقق الملا خسرو وادعى أنه الأشهر إلا أن العلامة في شرح التهذيب نقل عن البعض وجوب كونه اختياريا واختاره كما في المحمود عليه فكما لم يسمع الحمد على رشاقة القدر وصباحة الخد لم يسمع الحمد بهما وعدم حمد اللؤلؤة كما يمكن كونه من جهة حال المحمود عليه يمكن كونه من جهة المحمود فجعله دليلا على أحدهما فقط تحكم، الثاني ما يقع الثناء بإزائه ويقابله بمعنى أن المثنى عليه لما اتصف به أظهر كماله ولولاه لم يتحقق ذلك فهو كالعلة الباعثة وقد يكون الشيء الواحد محمودا به وعليه معا كأن رأى من ينعم أو يصلي فأظهر اتصافه بذلك فهناك يتحقق الأمران لحيثيتين ويجب أن يكون كمالا على نحو ما سبق وظاهر كلام الجمهور أنه أعم من كونه فعلا صادرا من المحمود أو كيفية قائمة به ويفهم كلام الإمام اختيار الأول واشترط أن يكون حصوله من المحمود باختياره، واستشكل الحمد على صفاته تعالى الذاتية سواء جعلت عين ذاته أو زائدة عليها، وأجيب بأن الحمد عليها بتنزيلها منزلة الاختياري لكون ذاته كافية فيها أو بأن المراد بالفعل الاختياري المنسوب إلى الفاعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 المختار سواء كان مختارا فيه أولا. وقيل إنها صادرة بالاختيار بمعنى إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل لا بمعنى صحة الفعل والترك أو بمعناه والصفات صادرة بالاختيار وسبقه عليها ذاتي فلا يلزم حدوثها، وقيل إنه بالنظر إلى حمد البشر فالمراد ما جنسه اختياري كما قيل في قيد اللسان وأورد على الأول مع ما فيه أنه إنما يحسن إذا كان المعتاد في الأفعال الاختيارية كون فاعلها مستقلا في إيجادها من غير احتياج إلى شيء آخر من آلة وغيرها ليظهر استقامة التنزيل وليس كذلك فإن العمل الاختياري يحتاج إلى العلم والقدرة والكثير إلى آلة وأسباب وعلى الثاني أنه خلاف المتبادر وعلى الثالث أن هذا المعنى ادعاه الحكماء حين قالوا بقدم العالم للإيجاب فلزمهم أن لا يكون لموجده إرادة وقالوا: إن صدق الشرطية لا يقتضي وجود مقدمها ولا عدمه فمقدم الأولى بالنسبة إلى وجود العالم دائم الوقوع ومقدم الثانية دائم اللاوقوع ولهذا أطلق عليه الصانع وهو من له الإرادة وهو صرح ممرد من قوارير لأن ما بالإرادة يصح وجوده بالنظر إلى ذات الفاعل فإن أريد بالدوام الدوام مع صحة وقوع النقيض فهو مخالف لما صرحوا به من إيجاب العالم بحيث لا يصح عدم وقوعه منه وإن أريد مع امتناع الوقوع فليس هناك من الإرادة إلا لفظها ومتعلقها لا محيص عن حدوثه والعالم عندهم قديم واختيار الشق الأول ثم القول بأن الصادر عن الموجب بالذات ليس واجبا كذلك بل ممكن بذاته والقدم زماني لا ذاتي وصحة وقوع النقيض لا يقتضي الوقوع إذا أحجم القلم عنه إنما يظهر في العالم ويبقى ما نحن فيه من الصفات ولا أقدم على إطلاق القول بإمكانها لاحتياجها للذات واستنادها إليها وعلى الرابع أن اتصاف الصفات بالصدور لو انشرحت لتوجيهه الصدور يبقى الإشكال في صفة القدرة ولا قدرة لدعوى صدورها بالاختيار وإلا لزم تقدم الشيء على نفسه فلا حسم وعلى الخامس أن هاتيك الصفات مقدسة عن أن تشرك مع صفة البشر في جنس وأين الأزلي من الزائل؟ على أنه على ما فيه خلاف المنساق إلى الذهن ولكثرة المقال والقيل لم يشترط بعضهم في المحمود عليه أن يكون اختياريا لأنه الباعث على الحمد وأي مانع من أن لا يكون كذلك ومن ذلك عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الإسراء: 79] وعند الصباح يحمد القوم السرى، وجاورته فما حمدت جواره. والصبر يحمد في المواطن كلها ... إلا عليك فإنه مذموم والحق الحقيق بالاتباع أن الحمد اللغوي لا يكون إلا على الأفعال الاختيارية والحمد على الصفات الذاتية إما لغوي راجع لما يترتب عليها من الآثار الاختيارية، أو عرفي ولا ضرر في تعلقه بها، وما ذكر من الأمثلة ونحوها فالحمد فيها مجاز عن الرضا، ويقال في الآية زيادة عليه إن محمودا حال من الضمير المنصوب أو نعت لمقاما والمعنى محمودا فيه النبي لشفاعته أو الله تعالى لتفضله عليه بالإذن وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه «والثالث» وهو من يتحقق منه الحمد وشرطه أن يكون معظما بثنائه للمحمود ظاهرا وباطنا كما حققه الصدر نعم لا يلزم اعتقاد اتصاف المحمود بالجميل عند المحققين بل الشرط عدم اقترانه ثبوت تحقير فيدخل الوصف بما قطع بانتفائه ولا يناقضه كما قال الدواني توجيه الشريف اشتراط التعظيمين بأنه إذا عري عن مطابقة الاعتقاد لم يكن حمدا بل سخرية لأنه أراد بالاعتقاد لازمه وهو إنشاء التعظيم لا معناه الحقيقي فإن الحمد قد يكون إنشائيا ولا معنى لمطابقة الاعتقاد فيه لأن ما لا يتعلق به الاعتقاد لا يوصف حقيقة بمطابقته إذ المتبادر منها الاتحاد في الإيجاب والسلب أو ما يستلزمه أو يؤول إليه وذا لا يوجد إلا في القضايا ولذا لا تسمع أحدا يقول إن التصور يطابقه بل لو قال قائل إن مفهوم اضرب يطابق الاعتقاد ضرب عنه صفحا وربما نسب لما يكره وحمل المطابقة على هذا أقرب من التزام اتصاف التصورات بالمطابقة واللامطابقة إذ ليس فيه سوى ذكر الملزوم وإرادة اللازم مع أن أهل العرف العام قد يطلقون الاعتقاد بهذا المعنى فيقولون فلان له اعتقاد في فلان ويريدون ما أردنا ولا بعد فيه لأن الناس يعدون الوصف بالجميل المعلوم الانتفاء إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 كان كذلك مدحا وحمدا كما في كثير من القصائد «وأما الجواب» بأن الواصف يعتقد الاتصاف وبأن المراد معان مجازية واتصاف المنعوت بها معتقد فيرده أن الأول خلاف البديهة والثاني خلاف الواقع والجواب عن الأول بأنه لو كان خلاف البديهة لم يقصد العقلاء إفادته ولم يكن اللفظ مستعملا في معناه الحقيقي وعن الثاني بأنه لو كان خلاف الواقع لما كان مستعملا في معناه المجازي فيلزم أن لا يكون الكلام حقيقة ولا مجازا كلام نشأ من ضيق الصدر إذ لا يلزم من عدم اعتقاد المدلول أن لا يكون الكلام مستعملا فيه فالأخبار الغير المعتقدة كقول السني الخفي حاله: العبد خالق لأفعاله مستعمل في حقيقته غير معتقد بل جميع الأكاذيب التي يعتمدها أهلها كذلك ثم إن المجيب حمل أن الأول خلاف البديهة على أن مضمون تلك الأخبار خلافها وفرع عليه أنه يلزم أن لا يقصد العقلاء إفادته ويرد عليه المنع فإن الأكاذيب التي يعتمدها العاقل قد تخالف البديهة مع قصد إفادتها لغرض ما كالتغليط أو التنكيت أو الامتحان أو للتخبل كما في كثير من القضايا حتى قال بعض المحققين: لا يلزم أن يكون ذلك الكلام حقيقة ولا مجازا وفيه تأمل «الرابع» المحمود وقد علمت ما يشترط فيه. «الخامس» وهو ذكر ما يدل على اتصاف المحمود بالمحمودية وقد اشتهر تقييده باللسان وأريد به جارحة النطق ولما كان الواقع كون آلة التكلم في الغالب هي تلك الجارحة خصوه بها فلو فقد إنسان لسانه فأثنى بحروفه الشفوية أو خلق النطق في بعض جوارحه فأثنى به- كما شوهد في مقطوع جميع اللسان- فهو حمد وقضية التقييد أن لا يكون الصادر عمن لا جارحة له حمدا وقد قال تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء: 44] وأما حمد الله تعالى نفسه نفسه مثلا فذهب الأكثر إلى أنه إخبار باستحقاق الحمد وأمر به أو مقول على ألسنة العباد أو مجاز عن إظهار الصفات الكمالية الذي هو الغاية القصوى من الحمد ومال السيد إلى الأخير. وقال الدواني كون الحمد في حقه سبحانه مجازا بعيد عن قاعدة أهل الحق من إثبات الكلام له حقيقة والقول مساوق للكلام فالأظهر أن الحصر في اللسان إضافي لمقابلة الجنان والأركان والمراد الأمر الذي مصدره اللسان غالبا أو هو قيد غالبي يسوغ الاستعمال فيه واللفظ قد يكون موضوعا في أصل اللغة لعام ويشتهر في بعض مخصوص بحيث يصير فيه حقيقة عرفية وسبب الاشتهار إما كثرة تداول ذلك الفرد كما في الدابة، وإما عدم الاطلاع على فرد آخر فيستعمله أهل اللسان في ذلك الفرد حتى إذا استمر ولم يطلع على إطلاقه على فرد آخر ظن أنه موضوع لخصوصه كما في الميزان فإنه في الأصل موضوع لآلة الوزن، ثم من لم يطلع إلا على ما له لسان وعمود ربما يجزم بأنه موضوع له فقط ولا يدري أن وراء ذلك موازين (1) ومثل هذا يجري في كثير من الألفاظ والأمر في المشتقات لا يكاد يخفى على من له أدنى فطنة لظهوره بالرجوع إلى قاعدة الاشتقاق وفي غيرها ربما يشتبه على الجماهير وبذلك يفوت كثير من حقائق الكتاب والسنة فإن أكثرهما وارد على أصل اللغة وعلى ذلك فقس الحمد فإن حقيقته عندهم إظهار صفات الكمال، ولما كان الإظهار القولي أظهر أفراده وأشهرها عند العامة شاع استعمال لفظ الحمد فيه حتى صار كأنه مجاز في غيره مع أنه بحسب الأصل أعم بل الإظهار الفعلي أقوى وأتم فهو بهذا الاسم أليق وأولى كما هو شأن القول بالتشكيك وفرقوا بين الحمد والمدح بأمور. «أحدها» أن الحمد يختص بالثناء على الفعل الاختياري لذوي العلم والمدح يكون في الاختياري وغيره ولذوي العلم وغيرهم كما يقال مدحت اللؤلؤة على صفائها «وثانيها وثالثها» أن الحمد يشترط صدوره عن علم لا ظن وأن   (1) لموازين المياه وغيرها من موازين الحكمة اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 تكون الصفات المحمودة صفات كمال والمدح قد يكون عن ظن وبصفة مستحسنة وإن كان فيها نقص ما. «ورابعها» أن في الحمد من التعظيم والفخامة ما ليس في المدح وهو أخص بالعقلاء والعظماء وأكثر إطلاقا على الله تعالى. «وخامسها» أن الحمد إخبار عن محاسن الغير مع المحبة والإجلال والمدح إخبار عن المحاسن ولذا كان الحمد إخبارا يتضمن إنشاء والمدح خبرا محضا «وسادسها» أن الحمد مأمور به مطلقا ففي الأثر «من لم يحمد الناس لم يحمد الله» والمدح ليس كذلك «احثوا في وجوه المداحين التراب» ويشعر كلام الزمخشري في الكشاف والفائق بترادفهما ففي الأول أنهما أخوان وجعل فيه نقيض المدح أعني الذم نقيضا للحمد وفي الثاني الحمد المدح والوصف بالجميل فالمدح عنده مخصوص بالاختياري وتأول المدح بالجمال وصباحة الوجه واحتمال أن يراد من الأخوين ما يكون بينهما اشتقاق كبير بأن يشتركا في الحروف الأصول من غير ترتيب كجبذ وجذب وأن الأدباء يجوزون التعريف بالأعم والنقيض هناك بالمعنى اللغوي ويجوز أن يكون شيء واحد نقيضا لشيئين بينهما عموم وخصوص بهذا المعنى لا ينفي ما قلناه بل إذا أنصفت تكاد تجزم بأن الزمخشري قائل بالترادف ولا تستفزك هذه الاحتمالات لأنها كسراب بقيعة نعم هذا القول بعيد منه وهو شيخ العربية وفتاها فالحق الذي لا ينبغي العدول عنه أن المدح يكون على غير الاختياري وكأنه لذلك لم يقل عز شأنه المدح لله كما قالوا إظهارا لأن الله تعالى فاعل مختار وفي ذلك من الترغيب والترهيب المناسبين لمقام البعثة والتبليغ ما لا يخفى «وأما الشكر» فهو أيضا مغاير للحمد إلا أن بعضهم خصه بالعمل والحمد بالقول، وبعض جعله على النعم الظاهرة، والآخر على النعم الباطنة وادعى آخرون اختصاصه بفعل اللسان كالحمد في المشهور إلا أنه على النعمة وإليه يشير كلام الراغب (1) ، والمعروف أنه ما كان في مقابلتها قولا باللسان وعملا وخدمة بالأركان واعتقادا ومحبة بالجنان، وقول الطيبي إن هذا عرف أهل الأصول فإنهم يقولون شكر المنعم واجب ويريدون منه وجوب العبادة وهي لا تتم إلا بهذه الثلاثة وإلا فالشكر اللغوي ليس إلا باللسان غير طيب فإن ظاهر الكتاب والسنة إطلاق الشكر على غير اللسان قال تعالى: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً [سبأ: 13] وروى الطبراني (2) عن النواس بن سمعان «أن ناقة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الجدعاء سرقت فقال لئن ردها الله تعالى عليّ لأشكرن ربي فلما ردت قال الحمد لله فانتظروا هل يحدث صوما أو صلاة فظنوا أنه نسي فقالوا له: فقال ألم أقل الحمد لله؟!» فلو لم يفهموا رضي الله تعالى عنهم إطلاق الشكر على العمل لم ينتظروه، وزاد بعضهم في أقسام الشكر رابعا وهو شكر الله تعالى بالله فلا يشكره حق شكره إلا هو ذكره صاحب التجريد وأنشد: وشكري ذوي الإحسان بالقلب تارة ... وبالقول أخرى ثم بالعمل الاثني وشكري لربي لا بقلبي وطاعتي ... ولا بلساني بل به شكرنا عنا والذي أطبق عليه الناس التثليث وعلى كل حال بينه وبين الحمد عموم وخصوص من وجه والحمد أقوى شعبة لأن حقيقته إشاعة النعمة والكشف عنها كما أن كفرانها إخفاؤها وسترها وتلك بالقول أتم لأن الاعتقاد أمر خفي في نفسه وعمل الجوارح وإن كان ظاهرا إلا أنه يحتمل خلاف ما قصد به وكم فرق بين حمدت الله وشكرته ومجدته وعظمته وبين أفعال العبادة وهي كلها موافقة للعادة ولسان الحال أنطق من لسان المقال أمر ادعائي كما هو المعروف في أمثاله، ولهذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم فيما رواه ابن عمر رضي الله تعالى عنهما «الحمد رأس الشكر ما شكر   (1) قال: الشكر هو الثناء على المحسن اهـ منه. (2) والحديث الآتي أيضا فيه دلالة على هذا فافهم اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 الله تعالى عبد لا يحمده» وهو وإن كان فيه انقطاع إلا أن له شاهدا (1) يتقوى به وإن كان مثله فحيث كان النطق يجلي كل مشتبه وكان الحمد أظهر الأنواع وأشهرها حتى إذا فقد كان ما عداه بمنزلة العدم شبهه صلى الله تعالى عليه وسلم بالرأس الذي هو أظهر الأعضاء وأعلاها والأصل لها والعمدة في بقائها وكأنه لهذا أتى به الرب سبحانه ليكون الرأس للرئيس ويفتتح النفيس بالنفيس أو لأنه لو قال جل شأنه الشكر لله كان ثناء عليه تعالى بسبب إنعام وصل إلى ذلك القائل والحمد لله ليس كذلك فهو أعلى كعبا وأظهر عبودية ويمكن أن يقال: إن الشكر على الإعطاء وهو متناه والحمد يكون على المنع وهو غير متناه فالابتداء بشكر دفع البلاء الذي لا نهاية له على جانب من الحسن لا نهاية له ودفع الضر أهم من جلب النفع فتقديمه أحرى، وأيضا مورد الحمد في المشهور خاص ومتعلقه عام والشكر بالعكس موردا ومتعلقا ففي إيراده دونه إشارة قدسية ونكتة على ذوي الكثرة خفية وإلى الله ترجع الأمور وكأنه لمراعاة هذه الإشارة لم يأت بالتسبيح مع أنه مقدم على التحميد إذ يقال سبحان الله والحمد لله على أن التسبيح داخل في التحميد دون العكس فإن الأول يدل على كونه سبحانه وتعالى مبرأ في ذاته وصفاته عن النقائص والثاني يشير إلى كونه محسنا إلى العباد ولا يكون محسنا إليهم إلا إذا كان عالما قادرا غنيا ليعلم مواقع الحاجات فيقدر على تحصيل ما يحتاجون إليه ولا يشغله حاجة نفسه عن حاجة غيره، وإن أبيت- ولا أظن- قلنا كل تسبيح حمد وليس كل حمد تسبيحا لأن التسبيح يكون بالصفات السلبية فحسب والحمد بها وبالثبوتية على ما سلف فهو أعم منه بذلك الاعتبار (2) فافتتح به لأنه لجمعيته وشموله أوفق بحال القرآن وتقديم التسبيح هناك لغرض آخر ولكل مقام مقال والتعريف هنا للجنس ومعناه الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من أن الحمد ما هو مثله في قول لبيد يصف العير وأتنه: وأرسلها العراك ولم يذدها ... ولم يشفق على نفض (3) الدخال وعليه جمع منهم الزمخشري حتى قال والاستغراق الذي يتوهمه كثير من الناس وهم وقد صار هذا معترك الافهام ومزدحم أفكار العلماء الأعلام، فقيل: إنه مبني على مسألة خلق الأعمال فإن أفعال العباد لما كانت مخلوقة لهم عند المعتزلة كانت المحامد عليها راجعة إليهم فلا يصح تخصيص المحامد كلها به تعالى ورد بأن اختصاص الجنس يستلزم اختصاص أفراده أيضا إذ لو وجد فرد منه لغيره ثبت الجنس له في ضمنه وصح هذا عندهم لأن الأفعال الحسنة التي يستحق بها الحمد إنما هي بأقدار الله تعالى وتمكينه فبهذا الاعتبار يرجع الأمر إليه كله وأما حمد غيره فاعتداد بأن النعمة جرت على يده، وقيل إنه جعل الجنس في المقام الخطابي منصرفا إلى الكامل كأنه كل الحقيقة ورد بأنه يجوز في الاستغراق أيضا بأن يجعل ما عدا محامده كالعدم فلا فرق بين اختصاص الجنس والاستغراق في منافاتهما ظاهرا لمذهبه ودفعهما بالعناية، وقيل مبناه على أن المصادر نائبة مناب الأفعال وهي لا تعد ودلالتها عن الحقيقة إلى الاستغراق ورد بأن ذلك لا ينافي قصد الاستغراق بمعونة القرائن، وقيل إنما اختاره بناء على أنه المتبادر الشائع لا سيما في المصادر وعند خفاء القرائن ورد بأن المحلى بلام الجنس في المقامات الخطابية يتبادر منه   (1) فعن أنس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «إن إبراهيم سأل ربه فقال يا رب ما جزاء من حمدك؟ قال الحمد مفتاح الشكر والشكر يعرج به إلى رب العرش رب العالمين قال فما جزاء من سبحك؟ قال لا يعلم تأويل التسبيح إلا رب العالمين» اهـ منه. (2) فعن محمد بن النصر قال قال آدم عليه السلام: يا رب شغلتني بكسب يدي فعلمني شيئا فيه مجامع الحمد والتسبيح فأوحى الله تبارك وتعالى إليه إذا أصبحت فقل ثلاثا وإذا أمسيت فقل ثلاثا الحمد لله رب العالمين حمدا يوافي نعمه ويكافي مزيده فذلك مجامع الحمد والتسبيح اهـ. (3) المعروف في كتب اللغة نغص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 الاستغراق وهو الشائع هناك مطلقا وأي مقام أولى بملاحظة الشمول والاستغراق من مقام تخصيص الحمد به سبحانه تعظيما، فقرينة الاستغراق كنار على علم فالحق أن سبب الاختيار هو أن اختصاص الجنس مستفاد من جوهر الكلام ومستلزم لاختصاص جميع الأفراد فلا حاجة في تأدية المقصود من إثبات الحمد له تعالى وانتفائه عن غيره إلى أن يلاحظ بمعونة الأمور الخارجية بل نقول على ما اختاره يكون اختصاص الأفراد بطريق برهاني فيكون أقوى من إثباته ابتداء وفيه أن فهم اختصاص الجنس من جوهر الكلام يدل على سرعته وهو معنى التبادر وقد رده، وأيضا إذا كان الاختصاص بطريق برهاني فلا شبهة في خفائه فأين النار وأين العلم؟ وقيل غير ذلك ولا يبعد إن يقال إن اختيار الزمخشري كون التعريف للجنس وكون القول بالاستغراق وهم لا يبعد أن يكون رعاية لنزغة اعتزالية وأن يكون لنكتة عربية لأنه جعل أصل المعنى نحمد الله حمدا وزعم أن إياك نعبد وإياك نستعين بيان لحمدهم كأنه قيل: كيف تحمدوني فقيل إياك نعبد ثم سئل وأجاب فقيل في توجيه ذلك إنه لما كان معناه نحمد الله حمدا كان إخبارا عن ثبوت حمد غير معين من المتكلم له تعالى على أن المصدر للعدد فاتجه أن يقال كيف تحمدونه أي بينوا كيفية حمدكم فإنها غير معلومة فبين بقوله تعالى إياك نعبد إلخ أي نقول هذه الكلمات ونحمده بهذا الحمد ورد السؤال عن التعريف لأن المناسب للإبهام ثم البيان التنكير وأجاب أنه لتعريف الجنس من حيث وجوده في فرد غير معين ولذا بين، وقيل لما كان المعنى نحمد حمدا كان المصدر للتأكيد فيكون دالا على الحقيقة من غير دلالة على الفردية والسؤال المقدر عن كيفية صدور تلك الحقيقة والجواب أنا نحمد حمدا مقارنا لفعل الجوارح وفعل القلب ولا نقتصر على مجرد القول ثم أورد بأنه يكفي لإفادة هذا المصدر المنكر فما فائدة التعريف؟ فأجاب بأنه تعريف للجنس للإشارة إلى الماهية المعلومة للمخاطب من حيث هي، وعلى هذين التوجيهين يكون اختياره الجنس ومنعه الاستغراق لرعاية مذهبه والاختصاص على الأول اختصاص الفرد وعلى الثاني اختصاص الجنس باعتبار الكمال ولا يخفى سقوط اعتراض السعد حينئذ بأن الاختصاصين متلازمان وكل منهما مخالف لمذهبه ظاهرا موافق له تأويلا فلا يكون رعاية المذهب موجبا لاختيار الجنس دون الاستغراق ولا يرد ما أورد السيد على الثاني من أنه كما يجوز الحمل على الجنس باعتبار الكمال على مذهبه يجوز الحمل على الاستغراق باعتبار تنزيل محامد غيره منزلة العدم لأن فيه تطويل المسافة والالتجاء إلى معونة المقام من غير حاجة، وقيل حاصل الجواب عن كيفية صدور تلك الحقيقة بتخصيص العبادة المشتملة على الحمد وغيره لأن انضمام غيره معه نوع بيان لكيفيته أي حال حمدنا أنا نجمعه بسائر عبادات الجوارح والاستعانة في المهمات ونخص مجموعها بك وتقدير السؤال والجواب بحاله وحينئذ لا يصح أن يكون الاختيار للرعاية لأن الاختصاصين متلازمان بل لأن الحمد مصدر ساد مسد الفعل وهو لا يدل إلا على الحقيقة فكذا ما ينوب منابه وإن كان معرفة ليصح بيانه بإياك نعبد والحمل على الاستغراق يبطل النيابة إذ يصير الكلام مسوقا لبيان العموم ولا يصح البيان، وهذا الاختيار مستفاد من جعل إياك نعبد بيانا لحمدهم ولعل الذي دعاه إليه ترك العاطف فظن أنه لذلك لا يكون إلا بيانا وهو من التعكيس لأن جعل الصدر متبوعا للعجز أولى من العكس فالمحققون المحقون على تعميم الحمد وأن الفصل (1) لأن الكلام الأول جار على المدح للغائب بسبب استحقاقه كل الحمد والثاني جار على الحكاية عن نفس الحامد وبيان أحواله بين يدي الباطن الظاهر والأول الآخر فترك العطف للتفرقة بين الحالتين لا للبيان، ويدل على ذلك أن أحسن الالتفات أن يكون النقل من إحدى الصيغتين إلى الأخرى في سياق واحد لمعلوم   (1) وهو ترك العاطف اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 واحد ولا بيان له على البيان على أن جعل إياك نعبد بيانا ربما يناقض ما ادعاه من أن الشكر بالقلب والجوارح واللسان والحمد بالأخير لأن العبادة تكون بها كلها فيلزم أن يكون الحمد كذلك وأيضا الذهاب إلى فسحة الالتفات والقول بأن قوله الحمد إلخ وارد على الشكر اللساني وإياك نعبد مشعر بالشكر بالجوارح وإياك نستعين مؤذن بالشكر القلبي أولى من الفرار إلى مضيق القول بالبيان، وأيضا في تعقيب هذه الصفات للحمد إشعار بأن استحقاقه له لاتصافه بها وقد تقرر أن في اقتران الوصف المناسب بالحكم إشعارا بالعلية وهاهنا الصفات بأسرها تضمنت العموم فينبغي أن يكون العموم في الحمد أيضا لأن الشكر يقتضي المنعم والمنعم عليه والنعمة فالمنعم هو الله تعالى والاسم الأعظم جامع لمعاني الأسماء الحسنى ما علم منها وما لم يعلم والمنعم عليه العالمون وقد اشتمل على كل جنس مما سمي به وموجب النعم الرحمن الرحيم وقد استوعب ما استوعب فإذن لا يستدعي تخصيص الحكم بالبعض سوى التحكم أو التوهم، هذا وأنا لو خليت وطبعي لا أمنع أن تكون أل للحقيقة من حيث هي كما في قولهم الرجل خير من المرأة أو لها من حيث وجودها في فرد غير معين كما في أدخل السوق أو لها في جميع الأفراد وهو الاستغراق كما في إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر: 2] والقول بأن هذا المقام آب عن الاستغراق لأن اختصاص حقيقة الحمد به تعالى أبلغ من اختصاص أفرادها جمعا وفرادى لاستلزام الأول الثاني وسلوك طريقة البرهان أقضى لحق البلاغة، وأيضا أصل الكلام نحمد الله تعالى حمدا وحمدنا بعض لا كل وفي اختصاص الجنس إشعار بأن حمد كل حامد لكل محمود حمد لله تعالى على الحقيقة لأنه إنما حمده على الصفات الكمالية المفاضة عليه من الفياض الحق جل وعلا فهو فعله على الحقيقة والحمد على الفعل الجميل والمعتزلي وإن قال بالاستقلال لا يمنع أن الاقدار والتمكين منه تعالى فيمكنه من هذا الوجه أن يعمم عند المقتضى له وقد صرح بهذا الزمخشري أول التغابن فقال في قوله تعالى: لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ [التغابن: 1] قدم الظرفان ليدل بتقديمهما على معنى اختصاص الملك والحمد بالله تعالى ثم قال وأما حمد غيره فاعتداد بأن نعمة الله تعالى جرت على يده وقد يقال أيضا على أصله إن الحمد المستغرق لا يجوز أن يختص بل الحمد الحقيقي الكامل الذي يقتضيه إجراء هذه الصفات فاللام للحقيقة ويراد أكمل أنواعها فهو من باب ذلك الكتاب وحاتم الجود لأنه الذي يحق أن يطلق عليه الحقيقة حتى كأنه كلها لا لأنها للاستغراق في المقام الخطابي وتنزيل غير ذلك منزلة العدم فإنه تطويل للمسافة مع قصرها كلام لا أقبله وإن جل قائله ويعرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال كيف ومن سنة الله تعالى التي لا تبديل لها إجراء الكلام على سبيل الخطابة وإن كان برهانيا فهي أكثر تأثيرا في النفوس وأنفع لعوام الناس كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل: 125] فالتحرز عن الاستغراق احترازا عن المقام الخطابي ذهول عن مقرىء كلام الله تعالى، ثم لما كان المقام مقتضيا لدقائق النعم وروادفها لم يكن تنزيل الحمد الغير الكامل منزلة العدم من مقتضيات المقام وتصريح الزمخشري في التغابن بالتعميم ممنوع للتفرقة بين استغراق أفراد الحمد الخارجية والذهنية الحقيقية والمجازية الكاملة وغير الكاملة وبين اختصاص حقيقة الحمد كما يشعر به قوله وذلك لأن الملك على الحقيقة له وكذلك الحمد فكما أنه لا ينفي الملك عن غيره مطلقا فكذلك لا ينفي الحمد عنه كذلك فإن من أصل المعتزلة أن نعمة الله تعالى جارية على يد العبد لكنه موجد لانعمامه فله حمد يليق بإيجاده ولله تعالى حمد يليق بتمكينه وإفاضته وهو الحمد الكامل المختص به عز شأنه لا ذاك وفي الكشاف ما يؤيد (1) ما قلناه لمن أمعن النظر، وأما حديث إن   (1) فإنه قال: وهذه الأوصاف التي أجريت على الله سبحانه وتعالى- إلى قوله- دليل على أن من كانت هذه صفاته لم يكن أحق منه بالحمد اهـ. منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 اختصاص حقيقة الحمد أبلغ من اختصاص الأفراد لاستلزام الأول الثاني فيجاب عنه بأن اختصاص الأفراد الخارجية والذهنية كما قررنا مستلزم لاختصاص الحقيقة أيضا إذ لم يبق لها فرد غير مختص فأين توجد فالاستلزام متعاكس على أن حقيقة الحمد يصدق عليها الحمد فهي فرد من أفراده كما قال الدامغاني: فإذا خصص جميع أفراد الحمد به اختص حقيقته أيضا وكون الأصل نحمد الله تعالى حمدا ليس بقاطع احتمال الاستغراق الآن فقد تغير الحال، وأنت إذا تأملت بعد يرتفع عنك سجاف الاشكال ولست أقول إن الحمد أينما وقع يفيد ذلك بل إذا دعا المقام إليه أجبناه ولهذا فرقوا بين هذا الحمد وحمد الانعام إذ عموم الربوبية وشمول الرحمة واستمرار الملك هنا تقتضي استغراق الأفراد توفية لحق هذه السورة وحرصا على التئام نظمها بخلاف ما في تلك السورة فإن العمومات مفقودة فيها «ومن الغريب» أن بعضهم جعلها للعهد، قال الفاكهي: سمعت شيخنا أبا العباس المرسي يقول قلت لابن النحاس ما تقول في الألف واللام في الحمد أجنسية هي أم عهدية؟ فقال يا سيدي قالوا: إنها جنسية فقلت له الذي أقول إنها عهدية وذلك أن الله تعالى لما علم عجز خلقه عن كنه حمده حمد نفسه بنفسه في أزله نيابة عن خلقه قبل أن يحمده فقال أشهدك أنها للعهد واستأنس له بما صح عنه صلى الله تعالى عليه وسلم من قوله «اللهم لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» وأغرب من هذا ما ذهب إليه بعض ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم وليس بالغريب عندهم أن الحمد لله على حد الكبرياء لله وأَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: 54] فهو الحامد والمحمود والجميع شؤونه ولهم كلام غير هذا والكل يسقى بماء واحد، وعن إمامنا الماتريدي روح الله تعالى روحه أنه جعل هذا حمدا من الله تعالى لنفسه قال وإنما حمد نفسه ليعلم الخلق ولا ضير في ذلك لأنه سبحانه هو المستحق لذاته والحقيق بما هنالك إذ لا عيب يمسه ولا آفة تحل به «ثم إن الحمد» فيما تواتر مرفوع وهو مبتدأ خبره لله وقرأ الحسن البصري وزيد بن علي الحمد لله باتباع الدال اللام وإبراهيم بن عبلة وأهل البادية بالعكس وجاز ذلك استعمالا مع أن الإتباع إنما يكون في كلمة واحدة لتنزيلهما لكثرة استعمالهما مقترنين منزلة الكلمة الواحدة، واختلف في الترجيح مع الإجماع على الشذوذ فقيل قراءة ابراهيم أسهل لأمرين أحدهما أن اتباع الثاني للأول أيسر من العكس وإن ورد كما في مد وشد وأقبل وأدخل لأنه جار مجرى السبب والمسبب وينبغي أن يكون السبب أسبق رتبة من المسبب، وثانيهما أن ضمة الدال إعراب وكسرة اللام بناء وحرمة الإعراب أقوى من حرمة البناء والمطرد غلبة الأقوى الأضعف وقيل إن قراءة الحسن أحسن لأن الأكثر جعل الثاني متبوعا لأن ما مضى فات ولأن جعل غير اللازم تابعا للازم أولى والاستقامة عين الكرامة وكأنه لتعارض الترجيح قال الزمخشري: وأشف القراءتين قراءة إبراهيم فعبر بأشف وهو من الأضداد، وقرأ هارون بن موسى الحمد لله بالنصب وعامة بني تميم وكثير من العرب ينصبون المصادر بالألف واللام وهو بفعل محذوف قدروه نحمد بنون الجماعة لأنه مقول على ألسنة العباد ومناسب لنعبد ونستعين لا بنون العظمة لعدم مناسبته لمقام العبادة المقتضي لغاية التذلل والخضوع ويجوز أن يكون من باب. وإن حدثوا عنها فكلي مسامع ... وكلي إذا حدثتهم ألسن تتلو وحمل الغزالي قدس سره حديث صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة على ذلك وأرفع القراءات قراءة الرفع لدلالة الجملة الاسمية على الثبوت والدوام بقرينة المقام بخلاف الفعلية فإنها تدل على التجدد والحدوث وإن كان هناك ظرف فإن قدر متعلقه اسما فهو ظاهر وإلا فقد قيل الخبر الفعلي إنما يفيد الحدوث إذا كان مصرحا به على أنه قيل لا تقدير، وما ذكره النحاة لأمر صناعي اقتضاه كقولهم الظرفية اختصار الفعلية، وقيل إن الجملة الاسمية بمجردها لا تدل على ذلك بل مع انضمام العدول وإن أعجبك فالتزمه فقد قيل بالعدول هنا ولكن ليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 هذا في كلام الشيخ عبد القاهر (1) بل من تدبر كلامه في بحث الحال من الدلائل دفع بأقوى دليل الحال الذي عرض للناظرين، وقولهم المضارع يفيد الاستمرار أرادوا به الاستمرار التجددي في المستقبل لا في جميع الأزمنة فلا ينافي ما قلنا، واختار الجملة الاسمية هاهنا إجابة لداعي المقام، وقد قال غير واحد إن أصل هذا المصدر النصب لأن المصادر أحداث متعلقة بمحالها فيقتضي أن تدل على نسبتها إليها والأصل في بيان النسبة في المتعلقات الأفعال فينبغي أن تلاحظ معها ويؤيد ذلك كثرة النصب في بعضها والتزامه في بعض آخر وقد تنزل منزلة أفعالها فتسد مسدها وتستوفي حقها لفظا ومعنى فيكون ذكرها معها كالشريعة المنسوخة يستنكرها المتدين بعقائد اللغة. «وبقي هاهنا أمور» الأول اختلف في جملة الحمد هل هي إخبارية أم إنشائية فالذي عليه معظم العلماء أنها إخبارية كما يقتضيه الظاهر لما يلزم على الإنشاء من انتفاء الاتصاف بالجميل قبل حمد الحامد ضرورة أن الإنشاء يقارن معناه لفظه في الوجود واللازم باطل فالملزوم مثله ولا يرد أن القصد إحداث الحمد لا الإخبار بثبوته لأن الإخبار بثبوت جميع المحامد لله تعالى هو عين الحمد كما أن قولك الله واحد عين التوحيد، وألف العلامة البخاري في الانتصار لذلك ورد من زعم أنها إنشائية وأطال فيه واهتم برده ابن الهمام وذكر أن ما ذكر باطل لأن اللازم من المقارنة انتفاء وصف الواصف لا الاتصاف إذ الحمد إظهار الصفات لا ثبوتها، وأيضا المخبر بالحمد لا يقال له حامد إذ لا يصاغ لغة للمخبر عن غيره من متعلق إخباره اسم قطعا فلا يقال لقائل زيد له القيام قائم فلو كان الحمد إخبارا محضا لم يقل لقائل الحمد لله حامد وهو باطل نعم يتراءى لزوم أن يكون كل مخبر منشئا حيث كان واصفا للواقع ومظهرا له وهو توهم فإن الحمد مأخوذ فيه مع ذكر الواقع كونه على وجه التعظيم وهذا ليس جزء ماهية الخبر فاختلفت الحقيقتان فالجملة إنشائية لا محالة، وقال الملا خسرو (2) هي وأمثالها إخبارية لغة ونقلها الشارع للإنشاء لمصلحة الأحكام واعترض على إنشائيتها بأن الاستغراق ينافيه ويستلزم كون الحامد منشئا لكل حمد ومن المحال إنشاء الحمد القائم بغيره، وأجيب بأنه لا منافاة ولا استلزام ويكفي كونه منشئا للأخبار بأن كل حمد ثابت له ومحمود به والذي أرتضيه أنها إخبارية كما عليه المعظم ويد الله تعالى مع الجماعة والمراد الاخبار بأن الله تعالى مستحق الحمد كما قال سبحانه لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ [القصص: 70] والمتكلم بها عن اعتقاد واصف ربه سبحانه بالجميل ومعظم له جل شأنه فيقال له حامد لذلك لا لمحض الأخبار بما فيه لفظ الحمد بل إذا غير الصيغة إلى ما ليس فيها ذلك اللفظ مما هو مشتمل على الوصف بالجميل بقصد التعظيم قيل له أيضا حامد فللحمد صيغ شتى وعبارات كثيرة حتى جعل منها الإقرار بالعجز عن الحمد، وقد نقل أن داود عليه السلام قال: يا رب كيف أشكرك والشكر من آلائك؟ فقال: يا داود لما علمت عجزك عن شكري فقد شكرتني، فما ذكره ابن الهمام أولا من أن المخبر بالحمد لا يقال له   (1) فإنه قال في بحث الحال من الدلائل رق لطيف تمس الحاجة في علم البلاغة إليه، بيانه أن موضوع الاسم على أن يثبت به المعنى للشيء من غير أن يقتضي تجدده شيئا فشيئا، وأما الفعل فموضوعه على أن يقتضي تجدد المعنى المثبت به شيئا بعد شيء فإذا قلت زيد منطلق فقد أثبت الانطلاق فعلا له من غير أن تجعله يتجدد ويحدث منه شيئا فشيئا بل يكون المعنى فيه كالمعنى في قولك زيد طويل وعمرو قصير فكما لا تقصد هاهنا إلى أن تجعل الطول والقصر يتجدد ويحدث بل توجبهما وتثبتهما فقط وتقضي بوجودهما على الإطلاق كذلك لا يتعرض في قولك زيد منطلق لأكثر من إثباته لزيد، وأما الفعل فإنك تقصد فيه إلى ذلك، فإن قلت زيد ينطلق فقد زعمت أن الانطلاق يقع منه جزءا فجزءا وجعلته يزاوله ويوجبه اهـ فليحفظ اهـ منه يقول مصححه محمد منير الدمشقي: فتشت في كتاب الدلائل في بحث الحال فلم أجد هذا الكلام هناك ولعله سقط من النسخة المطبوعة. (2) وقال الزمخشري إنه خبر عدل به عن الأمر كما في حواشي البيضاوي للإمام السيوطي اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 حامد إن أراد أن المخبر من حيث إنه مخبر لا يقال له ذلك فمسلم والدليل تام لكنا بمعزل عن هذه الدعوى وإن أراد أن المخبر مطلقا ولو قصد التعظيم لا يقال له ذلك فممنوع ولا تقريب في الدليل كما لا يخفى، وما ذكره ثانيا من قوله نعم إلخ يعلم دفعه من خبايا زوايا كلامنا وما ذكره الملا خسرو يرد عليه أن النقل في أمثال ما نحن فيه بلا ضرورة ممنوع ولا تظن من كلامي هذا أني أمنع أن يكون الحمد بجملة إنشائية رأسا معاذ الله ولكني أقول إن الجملة هنا إخبارية وإن الحمد يصح بها بناء على ما ذكرناه والبحث بعد محتاج إلى تحرير ولعل الله تعالى يوفقه لنا في مظانه والظن بالله تعالى حسن. «الثاني» أنه شاع السؤال عن معنى كون حمد العباد لله تعالى مع أن حمدهم حادث وهو سبحانه القديم ولا يجوز قيام الحادث به وأجيب (1) بأن المراد تعلق الحمد به تعالى ولا يلزم من التعلق القيام كتعلق العلم بالمعلومات فلا يتوجه الاشكال أصلا، وقيل إن الحمد مصدر بناء المجهول فيكون الثابت له عز شأنه هو المحمودية وصيغة المصدر تحتمل ذلك وغيره ولهذا جعل بعضهم في الحمد لله أوائل الكتب اثنين وأربعين احتمالا (2) وقيل وهو من الغرابة بمكان أن اللام للتعليل أي الحمد ثابت لأجل الله تعالى «الثالث» أنه أتى باسم الذات في الحمدلة لئلا يتوهم لو اقتصر على الصفة اختصاص استحقاقه الحمد بوصف دون وصف وذلك لأن اللام على ما قيل للاستحقاق فإذا قيل الحمد لله يفيد استحقاق الذات له وإذا علق بصفة أفاد استحقاق الذات الموصوفة بتلك الصفة له والاختصاص إفادة التعريف ولكون الاختصاص كذلك حكما باطلا في نفسه جعل متوهما لا لأن تعليق الحكم بالوصف يدل على العلية لا على الاختصاص لأنه مستفاد من تعريف المسند إليه ومعنى الاستحقاق الذاتي ما لا يلاحظ معه خصوصية صفة حتى الجميع لا ما يكون الذات البحث مستحقا له فإن استحقاق الحمد ليس إلا على الجميل وسمي ذاتيا لملاحظة الذات فيه من غير اعتبار خصوصية صفة أو لدلالة اسم الذات عليه أو لأنه لما لم يكن مستندا إلى صفة من الصفات المخصوصة كان مسندا إلى الذات وقد قسم بعض ساداتنا قدس الله تعالى أسرارهم الحمد باعتبار صدوره إلى قسمين فمصدره باعتبار الفرق من محلين ومنبعه من عينين فإن وجد من الحق وصدر من الوجود المطلق فتارة يكون على الذات بانفرادها ووحدتها وغيبتها في عماء هويتها وتارة بكمال إطلاقها في وجودها وتارة بتنزلاتها إلى حظيرات شهودها وتارة بكمال أوصافها ونعوتها وتارة بكمال آثارها وأفعالها وتارة يثني على أوصافها من حيث الجملة وتارة من حيث التفصيل فيثني على العلم من حيث إحاطته بكل معلوم من حق وخلق وغيب وشهادة وملك وملكوت وبرزخ وجبروت واستقلاله بالوجود من غير مدة ولا مادة ولا معلم ولا مفيد وتقدسه عن النقص وتنزهه عما يخطر في الوهم وكذلك على سائر الصفات بما يليق بها ويجب لها، وإن وجد من الخلق والوجود المقيد فتارة يكون على ذات الحق وتارة على صفاته وتارة على أسمائه ومرة على أفعاله وطورا على أسراره وكرة على لطيف صنعه وخفي حكمته في أفعاله وآثاره وذلك بحسب مبلغ الناس في العلم ومنتهاهم في العقل والفهم وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر: 67،   (1) المجيب محيي الدين الكافيجي اهـ منه. (2) فإن للحمد معنيين مشهورين لغوي وعرفي وعلى كلا التقديرين إما أن يراد المعنى المبني للفاعل أو المعنى المبني للمفعول أو الحاصل بالمصدر ويجوز أن يراد ما يطلق عليه لفظ الحمد ليعم الكل ولام التعريف يحتمل أن يكون للاستغراق وأن يكون للجنس وأن يكون للعهد الخارجي إشارة إلى الفرد الكامل ولام لله يحتمل أن يكون لاختصاص الصفة بالموصوف وأن يكون لاختصاص المتعلق بالمتعلق فهناك اثنان وأربعون احتمالا حاصلة من ضرب الثلاثة في اثنين أولا وضرب الثلاثة في سبعة ثانيا وضرب الاثنين في أحد وعشرين ثالثا فتأمل اهـ منه. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 الأنعام: 91] ولا يحيطون به علما وسبحان ربك رب العزة عما يصفون وإذا اعتبر الجمع كان الكل منه وإليه وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النجم: 42] فلا حامد ولا محمود سواه. أورى بسعدى والرباب وزينب ... وأنت الذي يعنى وأنت المؤمل وهناك يرتفع كل إشكال وينقطع كل مقال وإنما قدم الحمد على الاسم الكريم لاقتضاء المقام مزيد اهتمام به لكونه بصدد صدور مدلوله فهو نصب العين وإن كان ذكر الله تعالى أهم في نفسه والأهمية تقتضي التقديم إلا أن المقتضي العارض بحسب المقام أقوى عند المتكلم وتأخير ما قدم هنا في نحو قوله تعالى: وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ [الروم: 18] لغرض آخر سيأتيك مع أمور أخر في محله إن شاء الله تعالى، والرب في الأصل مصدر بمعنى التربية (1) وهي تبليغ الشيء إلى كماله بحسب استعداده الأزلي شيئا فشيئا وكأنها من ربا الصغير كعلا إذا نشأ فعدي بالتضعيف ووصف به للمبالغة الحقيقية والصورية فالتجوز فيه إما عقلي من قبيل فإنما هي إقبال وإدبار أو لغوي كاسأل القرية وقيل هو صفة مشبهة، وفي شرح التسهيل أنه ممنوع والظاهر أنه من مبالغة اسم الفاعل أو هو اسم فاعل وأصله راب فحذفت ألفه كما قالوا رجل بار وبر قاله أبو حيان، ويؤيده إضافته إلى المفعول وقد ذكروا أن الصفة المشبهة تضاف إلى الفاعل ويطلق أيضا على الخالق والسيد والملك والمنعم والمصلح والمعبود والصاحب إلا أن المشهور كونه بمعنى التربية فلهذا قال بعض المحققين إنه حقيقة فيه لأن التبادر أمارتها وفي البواقي إما مجاز أو مشترك والأول أرجح لأن في جميعها يوجد معنى التربية ووجود العلاقة أمارة المجاز ولأن اللفظ إذا دار بين المجاز والاشتراك يحمل على المجاز كما تقرر في مبادئ اللغة وحمله الزمخشري هنا على معنى المالك ولعل ما اخترناه خير منه لأنه بعد تسليم أنه حقيقة في ذلك يؤدي إلى أن يكون مالك يوم الدين تكرارا لدخوله في رب العالمين وإن قلنا بالتخصيص بعد التعميم يحتاج إلى بيان نكتة إدراج الرحمن الرحيم بينهما ولا تظهر لهذا العبد على أن مختارنا أنسب بالمقام لأن التربية أجل النعم بالنسبة إلى المنعم عليه وأدل على كمال فعله تعالى وقدرته وحكمته، تدلك على ذلك الآثار وما فيها من الأسرار، واستطيب بعضهم ما اختاره الطيبي من وجوب حمل الرب على كلا مفهوميه والقدر المشترك المتصرف ألزم وسبيل أعمال المشترك في كلا مفهوميه إذا اتفقا في أمر سبيل الكناية من أنها لا تنافي إرادة التصريح مع إرادة ما عبر عنه وإذا اختلف سبيل الحقيقة والمجاز وعلى كل حال (2) لا يطلق لغة على غيره تعالى إطلاقا مستفيضا إلا مقيدا بإضافة ونحوها مما يدل على ربوبية مخصوصة، وقول ابن حلزة في المنذر بن ماء السماء: وهو الرب والشهيد على يو ... م الخيارين (3) والبلاء بلاء نادر واستظهر الإمام السيوطي أن المراد نفي إطلاقه على غيره تعالى شرعا والشعر جاهلي وفي كلام الجوهري ما يؤيده، وقال الشهاب: لو كان بمعنى غير المالك جاز مع القرينة إطلاقه على غيره تعالى، وجوز بعضهم إطلاقه منكرا كما في قول النابغة: نحث إلى النعمان حتى نناله ... فدى لك من رب طريفي وتالدي وكره بعضهم إطلاقه مقيدا بالإضافة إلى عاقل كرب العبد لإيهام الاشتراك، وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي   (1) وقيل أصله رباه تربية فجعلت الباء ياء اهـ منه. (2) ولا يضر إطلاق الجمع ففي التنزيل أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ إذ لا اشتباه اهـ منه. (3) والخياران اسم بلدين اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 الله تعالى عنه «لا يقل أحدكم أطعم ربك وضئ ربك ولا يقل أحد ربي وليقل سيدي ومولاي» (1) وأجابوا عن قول يوسف عليه السلام ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ [يوسف: 50] وإِنَّهُ رَبِّي [يوسف: 23] ونحوه بأنه مثل وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً [يوسف: 100] مخصوص جوازه بزمانه والعالمين في المشهور جمع عالم واعترض بأنه يعم العقلاء وغيرهم وعالمون خاص بالعقلاء وأجيب بكونه جمعا له بعد تخصيصه بهم وهو في حكم الصفات كما سيعلم بتوفيقه تعالى من تعريفه أو نقول بالتغليب وقيل نزل من ليس له العلم لكونه دالا على معنى العلم منزلة من له العلم فجمع بالواو والنون كما في أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: 11] ورَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يوسف: 4] وقيل هو اسم جمع على وزن السلامة ولا نظير له وفيه نظر لأن الاسم الدال على أكثر من اثنين إن كان موضوعا للآحاد المجتمعة دالا عليها دلالة تكرار الواحد بالعطف فهو الجمع وإن كان موضوعا للحقيقة ملغى فيه اعتبار الفردية فهو اسم الجنس الجمعي كتمر وتمرة وإن كان موضوعا لمجموع الآحاد فهو اسم جمع سواء كان له واحد كركب أولا كرهط فانظر أي التعريفات صادقة عليه وفي الكشف لو قيل عالم وعالمون كعرفة وعرفات لم يبعد وفيه أنه أبعد بعيد لأنه قياس فيما يعرف بالسماع على أنه للعالمين آحادا يسمى كل منها عالما فلا مرية في كونه جمعا له بخلاف عرفات فإنه ليس لها آحاد كل منها عرفة والعالم كالخاتم اسم لما يعلم به وغلب فيما يعلم به الخالق تعالى شأنه وهو كل ما سواه من الجواهر والأعراض ويطلق على مجموع الأجناس وهو الشائع كما يطلق على واحد منها فصاعدا فكأنه اسم للقدر المشترك وإلا يلزم الاشتراك أو الحقيقة والمجاز والأصل نفيهما، ولا يطلق على فرد منها فلا يقال عالم زيد كما يقال عالم الإنسان ولعله ليس إلا باعتبار الغلبة والاصطلاح وأما باعتبار الأصل فلا ريب في صحة الإطلاق قطعا لتحقق المصداق حتما فإنه كما يستدل على الله سبحانه وتعالى بمجموع ما سواه، وبكل جنس من أجناسه يستدل عليه تعالى بكل جزء من أجزاء ذلك المجموع وبكل فرد من أفراد تلك الأجناس لتحقق الحاجة إلى المؤثر الواجب لذاته في الكل فإن كل ما ظهر في المظاهر مما عز وهان وحضر في هذه المحاضر كائنا ما كان لإمكانه وافتقاره دليل لائح على الصانع المجيد وسبيل واضح إلى عالم التوحيد. فيا عجبا كيف يعصي الإل ... هـ أم كيف يجحده الجاحد وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد وإنما أتى الرب سبحانه بالجمع المعرف لأنه لو أفرد وعرف بلام الاستغراق لم يكن نصا فيه لاحتمال العهد بأن يكون إشارة إلى هذا العالم المحسوس لأن العالم وإن كان موضوعا للقدر المشترك إلا أنه شاع استعماله بمعنى المجموع كالوجود في الوجود الخارجي وقد غلب استعماله في العرف بهذا المعنى في العالم المحسوس لألف النفس بالمحسوسات فجمع ليفيد الشمول قطعا لأنه حينئذ لا يكون مستعملا في المجموع حتى يتبادر منه هذا العالم المحسوس فيكون مستعملا في كل جنس إذ لا ثالث فيكون المعنى رب كل جنس سمي بالعالم والتربية للأجناس إنما تتعلق باعتبار أفرادها فيفيد شمول آحاد الأجناس المخلوقة كلها نظرا إلى الحكم، وحديث أن استغراق المفرد (2)   (1) قيل هذا الحديث منسوخ فافهم اهـ منه. (2) قال الطيبي فإن قلت ليس هذا مخالفا لقولهم الاستغراق في المفرد أشمل قلت لا لأنهم يريدون أن الجمع قد يحتمل غير الشمول في بعض المقامات والمفرد وإن دل على الشمول والاستغراق لكن الغرض استغراق الأجناس المختلفة فلو أفرد وقيل رب العالم لاحتمل الاستغراق شمول أفراد كل ما يصح عليه اطلاق اسم العالم فلا يعلم نصوصية تعدد الإجناس وكثرتها كالجن والإنس والملائكة وغيرها كما يعلم من الجمعية فجمع ليشمل ذلك المعنى اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 أشمل على ما فيه أمر فرغ عنه ولا ضرر لنا منه كما لا يخفى على المتأمل، وبعضهم خص العالمين بذوي العلم من الملائكة والثقلين ورب أشرف الموجودات رب غيرهم قال الإمام الأسيوطي: وعليه هو مشتق من العلم وعلى القول بالعموم من العلامة، وفيه أن الكل في كل محتمل والتخصيص دعوى من غير دليل وقيل هم الجن والإنس لقوله تعالى: لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان: 1] وقيل هم الإنس لقوله تعالى: أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ [الشعراء: 165] وهو المنقول عن جعفر الصادق والمأخوذ من بحر أهل البيت ورب البيت أدرى ولعل الوجه فيه الإشارة إلى أن الإنسان هو المقصود بالذات من التكليف بالحلال والحرام وإرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام ولأنه فذلكة جميع الموجودات ونسخة جميع الكائنات المنقولة من اللوح الرباني بالقلم الرحماني، ومن هذا الباب ما نسب لباب مدينة العلم كرم الله وجهه. دواؤك فيك وما تبصر ... وداؤك منك وما تشعر وتزعم أنك جرم صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبر ومن تأمل في ذاته وتفكر في صفاته ظهرت له عظمة باريه وآيات مبديه وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 2، 21] بل من عرف نفسه فقد عرف ربه والمناسب للمقام هنا العموم والعوالم كثيرة لا تحصيها الأرقام وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ [لقمان: 27] وروي في بعض الأخبار أن الله تعالى خلق مائة ألف قنديل وعلقها بالعرش والسماوات والأرض وما فيهن حتى الجنة والنار في قنديل واحد ولا يعلم ما في باقي القناديل إلا الله تعالى. وقال كعب الأحبار لا يحصى عدد العالمين إلا الله تعالى: وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ [النحل: 8] وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر: 31] وما من ذرة من ذرات العوالم إلا وهي في حيطة تربيته سبحانه بل ما من شيء مما أحاط به نطاق الإمكان والوجود من العلويات والسفليات والمجردات والماديات والروحانيات والجسمانيات إلا وهو في حد ذاته بحيث لو فرض انقطاع آثار التربية عنه آنا واحدا لما استقر له القرار ولا اطمأنت به الدار إلا في مطمورة العدم ومهاوي البوار لكن يفيض عليه من الجناب الأقدس تعالى شأنه وتقدس في كل زمان يمضي وكل آن يمر وينقضي من فنون الفيوض المتعلقة بذاته ووجوده وصفاته وكمالاته ما لا يحيط بذلك فلك التعبير ولا يعلمه إلا اللطيف الخبير ضرورة أنه كما لا يستحق شيء من الممكنات بذاته الوجود ابتداء لا يستحقه بقاء وإنما ذلك من جناب المبدأ الأول عز وعلا فكما لا يتصور وجوده ابتداء ما لم ينسد عليه جميع أنحاء عدمه الأصلى لا يتصور بقاؤه على الوجود بعد تحققه بعلته ما لم ينسد عليه جميع أنحاء عدمه الطارئ لما أن الدوام من خصائص الوجود الواجبي، وظاهر أن ما يتوقف عليه وجوده من الأمور الوجودية التي هي علله وشرائطه وإن كانت متناهية لوجوب تناهي ما دخل تحت الوجود لكن الأمور العدمية التي لها دخل في وجوده وهي المعبر عنها بارتفاع الموانع ليست كذلك إذ لا استحالة في أن يكون لشيء واحد موانع غير متناهية يتوقف وجوده أو بقاؤه على ارتفاعها أي بقائها على العدم مع إمكان وجودها في أنفسها، فإبقاء تلك الموانع التي لا تتناهى على العدم تربية لذلك الشيء من وجوه غير متناهية، وبالجملة آثار تربيته تعالى واضحة المنار ساطعة الأنوار فسبحانه من رب لا يضاهى ومنان لا يحصى كرمه ولا يتناهى ونحن في تيار بحر جوده سابحون وعن إقامة مراسم شكره قاصرون، وما أحسن قول بعض العارفين إنه تعالى يملك عبادا غيرك وأنت ليس لك رب سواه ثم إنك تتساهل في خدمته والقيام في وظائف طاعته كأن لك ربا بل أربابا غيره وهو سبحانه يعتني بتربيتك حتى كأنه لا عبد له سواك فسبحانه ما أتم تربيته وأعظم رحمته، وإنما كان الجمع بالواو والنون مع أنه في المشهور جمع قلة والظاهر مستدع لجمع الكثرة تنبيها على أن العوالم وإن كثرت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 قليلة بل أقل من القليل في جنب عظمة الله تعالى وكبريائه وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67] على أن جمع القلة كثيرا ما يوصله المقام إلى جمع الكثرة على أن بعض المحققين المحقين من أرباب العربية ذهب إلى أن الجمع المذكر السالم صالح للقلة والكثرة فاختر لنفسك ما يحلو. وقد أشار سبحانه وتعالى بقوله رَبِّ الْعالَمِينَ إلى حضرة الربوبية التي هي مقام العارفين وهي اسم للمرتبة المقتضية للأسماء التي تطلب الموجودات فدخل تحتها العليم والسميع والبصير والقيوم والمريد والملك وما أشبه ذلك لأن كل واحد من هذه الأسماء والصفات يطلب ما يقع عليه فالعليم يقتضي معلوما والقادر مقدورا والمريد مرادا إلى غير ذلك والأسماء التي تحت اسم الرب هي الأسماء المشتركة بين الحق والخلق والأسماء المختصة بالخلق اختصاصا تأثيريا فمن القسم الأول العليم مثلا فإن له وجهين وجه يختص بالجناب الإلهي ومنه يقال يعلم نفسه ووجه ينظر إلى المخلوقات ومنه يقال يعلم غيره ومن القسم الثاني الخالق ونحوه من الأسماء الفعلية فله وجه واحد ومنه يقال خالق للموجودات ولا يقال خالق لنفسه تعالى عن ذلك وهذا القسم من الأسماء تحت اسمه الملك ومنه يظهر الفرق بينه وبين الرب، وأما الفرق بين الرب، والرحمن فهو أن الرحمن عندهم اسم لمرتبة اختصت بجميع الأوصاف العلية الإلهية سواء انفردت الذات به كالعظيم والفرد أو حصل الاشتراك أو الاختصاص بالخلق كالقسمين المتقدمين فهو أكثر شمولا من الرب ومن مرتبة الربوبية ينظر الرحمن إلى الموجودات «وأما اسمه تعالى الله» فهو اسم لمرتبة ذاتية جامعة وفلك محيط بالحقائق وهو مشير إلى الألوهية التي هي أعلى المراتب وهي التي تعطي كل ذي حق حقه وتحتها الأحدية وتحتها الواحدية وتحتها الرحمانية وتحتها الربوبية وتحتها الملكية ولهذا كان اسمه الله أعلى الأسماء وأعلى من اسمه الأحد فالأحدية أخص مظاهر الذات لنفسها والألوهية أفضل مظاهر الذات لنفسها أو لغيرها ومن ثم منع أهل الله تعالى تجلي الأحدية ولم يمنعوا تجلي الألوهية لأن الأحدية ذات محض لا ظهور لصفة فيها فضلا عن أن يظهر فيها مخلوق فما هي إلا للقديم القائم بذاته. ومما قررنا يعلم سر كثرة افتتاح العبد دعاءه بيا رب يا رب مع أنه تعالى ما عين هذا الاسم الكريم في الدعاء ونفى ما سواه بل قال سبحانه قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ [الإسراء: 11] وقال وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها [الأعراف: 180] وقال أرباب الظاهر الداعي لا يطلب إلا ما يظنه صلاحا لحاله وتربية لنفسه فناسب أن يدعوه بهذا الاسم ونداء المربي في الشاهد بوصف التربية أقرب لدر ثدي الإجابة وأقوى لتحريك عرق الرحمة، وعند ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم يختلف الكلام باختلاف المقام فرقا وجمعا وعندي وهو قبس من أنوارهم أن الأرواح أول ما شنفت آذانها وعطرت أردانها بسماع وصف الربوبية كما يشعر بذلك قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الأعراف: 172] فهم ينادونه سبحانه بأول اسم قررهم به فأقروا وأخذ به عليهم العهد فاستقاموا واستقروا فهو حبيبهم الأول ومفزعهم إذا أشكل الأمر وأعضل. تركت هوى سعدى وليلى بمعزل ... وعدت إلى مصحوب أول منزل ونادتني الأهواء مهلا فهذه ... منازل من تهوى رويدك فانزل وقريب من هذا ما ذكره الشيخ الأكبر قدس سره الأنور مما حاصله أن الله تعالى لما أوجد الكلمة المعبر عنها بالروح الكلي إيجاد إبداع وأعماه عن رؤية نفسه فبقي لا يعرف من أين صدر ولا كيف صدر فحرك همته لطلب ما عنده ولا يدري أنه عنده. قد يرحل المرء لمطلوبه ... والسبب المطلوب في الراحل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] فأخذ في الرحلة بهمته فأشهده الحق ذاته فعلم ما أودع الله تعالى فيه من الأسرار والحكم وتحقق عنده حدوثه وعرف ذاته معرفة إحاطية فكانت تلك المعرفة غذاء معينا يتقوت به وتدوم حياته فقال له عند ذلك التجلي الأقدس ما اسمي عندك فقال أنت ربي فلم يعرفه إلا في حضرة الربوبية وتفرد القديم بالألوهية فإنه لا يعرفه إلا هو فقال له سبحانه أنت مربوبي وأنا ربك أعطيتك أسمائي وصفاتي ولا يحصل لك العلم إلا من حيث الوجود ولو أحطت علما بي لكنت أنت أبا ولكنت محاطا لك وأمدك بالأسرار الإلهية وأربيك بها فتجدها مجعولة فيك فتعرفها وقد حجبتك عن معرفة كيفية إمدادي لك بها إذ لا طاقة لك أن تحمل مشاهدتها إذ لو عرفتها لاتحدت الآنية وأين المركب من البسيط ولا سبيل إلى قلب الحقائق إلى آخر ما قال، ويعلم منه إشارة سر افتتاح الأوصاف في الفاتحة برب العالمين، وفيه أيضا مناسبة لحال البعثة وإرساله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى من أرسل إليه لأن ذلك أعظم تربية للعباد ورمز خفي إلى طلب الشفقة والرأفة بالخلق كيف كانوا لأن الله تعالى ربهم أجمعين. داريت أهلك في هواك وهم عدا ... ولأجل عين ألف عين تكرم وقد قرأ رب العالمين بالنصب ونسب ذلك إلى زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما، وقد اختلف في توجيهه فقيل نصب على القطع ويقدر العامل هنا أمدح للمقام أو أذكر لا أعني لأن ذلك إذا لم يكن المنعوت متعينا كما في شرح العمدة وضعف بالاتباع بعد القطع في النعت وأجيب بأن الرحمن بدل لا نعت وروي أنه قرىء بنصب الرحمن الرحيم فلا ضعف حينئذ وقيل بفعل مقدر دل عليه الحمد وليس على التوهم كما توهم أبو حيان فضعفه بزعمه أنه من خصائص العطف وقيل بالحمد المذكور واعترض بأن فيه إعمال المصدر المحلى باللام وبأنه يلزم الفصل بين العامل والمعمول بالخبر الأجنبي وأجيب عن الأول بأن سيبويه وهو هو جوز أعمال المحلى مطلقا والظرف تكفيه رائحة الفعل نعم منعه الكوفيون مطلقا وجوزه على قبح الفارسي وبعض البصريين وفصل البعض بين ما تعاقب أل فيه الضمير فيجوز وما لا فلا، وعن الثاني بأن هذا الخبر كان معمولا لهذا المبتدأ في موضع المفعول كما تقول حمدا له فليس بأجنبي صرف على أن المبتدأ والخبر لاتحادهما معنى كشيء واحد فلا أجنبي. وحكي عن بعض النحاة جواز الأعمال مطلقا وقيل بالنداء ولا يخفى ما فيه من اللبس والفصل والالتفات الذي لا يكاد لخلوه عما يأتي إن شاء الله تعالى يلتفت إليه وقيل رب فعل ماض وفيه أن أمره مضارع في البعد لما تقدم وأن الجملة لا تكون صفة والحالية غير حسنة الحال مع أنه قرىء بنصب ما بعد والمناسب المناسبة وأهون الأمور عندي أولها بل يكاد يقطع الظاهر بالقطع، ثم إنه سبحانه وتعالى بعد ما ذكر عموم تربيته صرح بعظيم رحمته فقال عز شأنه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وقد تقدم الكلام عليهما والجمهور على خفضهما، ونصبهما زيد وأبو العالية وابن السميفع وعيسى بن عمرو، ورفعهما أبو رزين العقيلي والربيع بن خثيم وأبو عمران الجولي (1) واستدل بعض ساداتنا بتكرارهما على أن البسملة ليست آية من الفاتحة وليس بالقوي لأن التكرار لفائدة، فذكرهما في البسملة تعليل للابتداء باسمه عز شأنه، وذكرهما هنا تعليل لاستحقاقه تعالى الحمد، وقال الإمام الرازي قدس سره في بيان حكمة التكرار التقدير كأنه قيل له اذكر أني إله ورب مرة واحد واذكر أني رحمن رحيم مرتين لتعلم أن العناية بالرحمة أكثر منها بسائر الأمور ثم لما بين الرحمة المضاعفة فكأنه قال: لا تغتروا بذلك فإني مالك يوم الدين ونظيره قوله تعالى غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ [غافر: 3]   (1) كذا بخطه الجولي باللام وصوابه بالنون اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 انتهى، وفي القلب منه شيء فإن الألوهية مكررة أيضا كما ترى وعندي بمسلك صوفي أن ذكر الرحمن الرحيم تفصيل من وجه لما في رب العالمين من الإجمال وذلك أن التربية تنقسم ببعض الاعتبارات إلى قسمين، أحدهما التربية بغير واسطة كالكلمة لأنه لا يتصور في حقه واسطة البتة، وثانيهما التربية بواسطة كما فيمن دون الكلمة وهذا الثاني له قسمان أيضا، قسم ممزوج بألم كما في تربية العبد بأمور مؤلمة له شاقة عليه، وقسم لا مزج فيه كما في تربية كثير ممن شمله اللطف السبحاني. غافل والسعادة احتضنته ... وهو عنها مستوحش نفار فالرحمن يشير إلى التربية بالوسائط وغيرها في عالمه والرحيم يشير إلى التربية بلا واسطة في كلماته ورحمة الرحمن أيضا قد تمزج بالألم كشرب الدواء الكره الطعم والرائحة فإنه وإن كان رحمة بالمريض لكن فيه ما لا يلائم طبعه ورحمة الرحيم لا يمازجها شوب فهي محض النعمة ولا توجد إلا عند أهل السعادات الكاملة. اللهم اجعلنا سعداء الدارين بحرمة سيد الثقلين صلى الله تعالى عليه وسلم مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قرأ مالك كفاعل مخفوضا عاصم والكسائي وخلف في اختياره ويعقوب وهي قراءة العشرة إلا طلحة والزبير وقراءة كثير من الصحابة، منهم أبيّ وابن مسعود ومعاذ وابن عباس، والتابعين منهم قتادة والأعمش، وقرأ ملك كفعل بالخفض أيضا باقي السبعة وزيد وأبو الدرداء وابن عمرو والمسور وكثير من الصحابة والتابعين، وقرأ ملك على وزن سهل أبو هريرة وعاصم الجحدري ورواها الجعفي وعبد الوارث عن أبي عمرو وهي لغة بكر بن وائل، وقرأ ملكي بإشباع كثرة الكاف أحمد بن صالح عن ورش عن نافع، وقرأ ملك على وزن عجل أبو عثمان والشعبي وعطية، وقرأ أنس بن مالك وأبو نوفل عمرو بن مسلم البصري ملك يوم الدين بنصب الكاف من غير ألف، وقرأ كذلك إلا أنه رفع الكاف سعد بن أبي وقاص وعائشة، وقرأ ملك فعلا ماضيا أبو حنيفة على ما قيل وأبو حيوة وجبير بن مطعم وأبو عاصم عبيد بن عمير الليثي وينصبون اليوم وذكر ابن عطية أن هذه قراءة علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه والحسن ويحيى بن يعمر، وقرأ مالك بالنصب الأعمش أيضا وابن السميفع وعثمان بن أبي سليمان وعبد الملك قاضي الهند، وذكر ابن عطية أنها قراءة عمر بن عبد العزيز وأبي صالح السمان وروى ابن عاصم عن اليماني مالكا بالنصب والتنوين، وقرأ مالك برفع الكاف والتنوين، ورويت عن خلف وابن هشام وأبي عبيد وأبي حاتم فينصب اليوم، وقرأ مالك يوم بالرفع والإضافة أبو هريرة وأبو حيوة وعمر بن عبد العزيز بخلاف عنهم ونسبها صاحب اللوامع إلى ابن شداد العقيلي البصري وقرأ مليك كفعيل أبو هريرة في رواية وأبو رجاء العطاردي، وقرأ مالك بالامالة البليغة يحيى بن يعمر وأيوب السختياني وببين بين قتيبة بن مهران عن الكسائي ولم يطلع على ذلك أبو علي الفارسي فقال لم يمل أحد وذكر أنه قرأ ملاك بالألف وتشديد اللام وكسر الكاف فهذه عدة قراءات ذكرتها لغرابة وقوع مثلها في كلمة واحدة بعضها راجعة إلى الملك وبعضها إلى المالك، قال بعض اللغويين: وهما راجعان إلى الملك وهو الشد والربط ومنه ملك العجين وأنشدوا قول قيس بن الحطيم: ملكت بها كفي فأنهرت فتقها ... يرى قائما من دونها ما وراءها والمتواتر منها قراءة مالك وملك فهما نيرا سواريها وقطبا فلك دراريها، واختلف في الأبلغ منهما قال الزمخشري: وملك هو الاختيار لأنه قراءة أهل الحرمين ولقوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ [غافر: 16] ولقوله تعالى مَلِكِ النَّاسِ [الناس: 2] ولأن الملك يعم والملك يخص ورجحه صاحب الكشف أيضا بأنه يلزم على قراءة مالك نوع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 تكرار لأن الرب بمعناه أيضا وبأنه تعالى وصف ذاته المتعالية بالملكية عند المبالغة في قوله مالك الملك بالضم دون المالكية. واعترض ذلك كله، أما أولا فلأن قراءة أهل الحرمين لا تدل على الرجحان لأنه لو سلم كون أوائلهم أعلم بالقرآن لا نسلم ذلك في عهد القراء المشهورين ألا ترى أن صحيح البخاري مقدم على موطأ مالك وهو عالم المدينة على أن القراءات المشهورة كلها متواترة وبعد التواتر المفيد للقطع لا يلتفت إلى أصول الرواة، وقول الشهاب: لا يخفى أن أهل الحرمين قديما وحديثا أعلم بالقرآن والأحكام فمن وراء المنع أيضا ودون إثباته التعب الكثير كما لا يخفى على من لم ترعه القعاقع، وأما ثانيا فلأن الاستدلال بقوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ يخدشه قوله: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً [الانفطار: 19] فإنه سبحانه أراد باليوم يوم القيامة وهو يوم الدين ونفي المالكية عن غيره يقتضي إثباتها له إذ السياق لبيان عظمته تعالى والأمر آخر الآية واحد الأمور لا الأوامر وإن كثر استعماله فيه. «وأما ثالثا» فلأن ما في الناس مغاير لما هنا لأن مالك الناس لو كان هناك كما قرىء به شذوذا يتكرر مع رب الناس وأما هنا فلا تكرار لاختلاف المقام «وأما رابعا» فلأن ما ادعاه من أن الملك بضم الميم يعم والملك بالكسر يخص خلاف الظاهر والظاهر أن بين المالك والملك عموما وخصوصا من وجه لغة عرفا فيوسف الصديق عليه السلام بناء على أنه مالك رقاب المصريين في القحط بمقتضى شرعهم ملك ومالك والتاجر مالك غير ملك والسلطان على بلد لا ملك له فيها ملك غير مالك. وأما خامسا فبأن التكرار الذي زعمه صاحب الكشف قد كشف أمره على أنه مشترك الإلزام إذ الجوهري ذكر أن الرب كان يطلق على الملك. «وأما سادسها» فلأن الدليل الأخير الذي ساقه لك أن تقلبه بأنه تعالى وصف ذاته بالمالكية دون الملكية وأيضا إضافة المالك إلى الملك تدل على أن المالك أبلغ من الملك لأن الملك بالضم قد جعل تحت حيطة المالكية فكأنه أحد مملوكاته كذا قالوه ولهم ما كسبوا وعليهم ما اكتسبوا، وعندي لا ثمرة للخلاف والقراءتان فرسا رهان ولا فرق بين المالك والملك صفتين لله تعالى كما قاله السمين ولا التفات إلى من قال إنهما كحاذر وحذر ومتى أردت ترجيح أحد الوصفين تعارضت لدي الأدلة وسدت على الباب الآثار وانقلب إليّ بصر البصيرة خاسئا وهو حسير إلا أني أقرأ كالكسائي مالك لأحظى بزيادة عشر حسنات ولأن فيه إشارة واضحة إلى الفضل الكبير والرحمة الواسعة والطمع بالمالك من حيث إنه مالك فوق الطمع بالملك من حيث إنه ملك فأقصى ما يرجى من الملك أن ينجو الإنسان منه رأسا برأس ومن المالك يرجى ما هو فوق ذلك فالقراءة به أرفق بالمذنبين مثلي وأنسب بما قبله وإضافته إلى يوم الدين بهذا المعنى ليكسر حرارته فإن سماع يوم الدين يقلقل أفئدة السامعين ويشبه ذلك من وجه قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: 43] والمدار على الرحمة لا سيما والأمر جدير والترغيب فيه أرغب على أنه لا يخلو الحال عن ترهيب وكأني بك تعارض هذه النكت وما عليّ فهذا الذي دعاني إليه حسن الظن «واليوم» في العرف عبارة عما بين طلوع الشمس وغروبها من الزمان وفي الشرع عند أهل السنة ما عدا الأعمش عبارة عما بين طلوع الفجر الثاني وغروب الشمس ويطلق على مطلق الوقت ويوم القيامة حقيقة شرعية في معناه المعروف وتركيبه غريب إذ فاء الكلمة فيه ياء وعينها واو ولم يأت من ذلك كما في البحر المحيط إلا يوم وتصاريفه «والدين» الجزاء ومنه الحديث المرسل عن أبي قلابة رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم البر لا يبلى والإثم لا ينسى والديان لا يموت فكن كما شئت كما تدين تدان» وقيل فرق بينهما فإن الدين ما كان بقدر فعل المجازي والجزاء أعم. وقيل الدين اسم للجزاء المحبوب المقدر بقدر ما يقتضيه الحساب إذا كان ممن معه وقع الأمر المجزي به فلا يقال لمن جازى عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 غيره أو أعطى كثيرا في مقابلة قليل دين ويقال جزاء والأرجح عندي أن الدين والجزاء بمعنى فيوم الدين هو يوم الجزاء ويؤيده قوله تعالى: الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [غافر: 17] والْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية: 28] وإضافة مالك إلى يوم على التوسع وقد قال النحاة الظرف إما متصرف وهو الذي لا يلزم الظرفية أو غير متصرف وهو مقابله والأول كيوم وليلة فلك أن تتوسع فيهما بأن ترفع أو تجر أو تنصب من غير أن تقدر فيه معنى «في» فيجري مجرى المفعول للتساوي في عدم التقدير فإذا قلت سرت اليوم كان منصوبا انتصاب «زيد» في ضربت زيدا ويجري سرت مجرى ضربت في التعدي مجازا لأن السير لا يؤثر في اليوم تأثير الضرب في زيد ولا يخرج بذلك عن معنى الظرفية ولذا يتعدى إليه الفعل اللازم ولا يظهر في الاسم الظاهر وإنما يظهر في الضمير كقوله: ويوما شهدناه سليما وعامرا ... قليل سوى طعن النهار نوافله وإذا توسع في الظرف فإن كان فعله غير متعد تعدى وإن كان متعديا إلى واحد تعدى إلى اثنين وإن كان متعديا إلى اثنين تعدى إلى ثلاثة وهو قليل ومنعه البعض وإن كان متعديا إلى ثلاثة لم يتعد إلى رابع في المشهور إذ لا نظير له. وحكى ابن السراج جوازه والتوسع هذا تجوّز حكمي في النسبة الظرفية الواقعة بعد نسبة المفعول به الحقيقي فالمتعدي قبله باق على حاله حتى إذا لم يذكر مفعوله قدر أو نزل منزلة اللازم والجمع بين الحقيقة والمجاز في المجاز الحكمي ليس محل الخلاف ولذا قال الرضي: اتفقوا على أن معنى الظرف متوسعا فيه وغير متوسع فيه سواء والمعنى مالك الأمر كله في يوم الدين وهذا ثابت له سبحانه أولا وأبدا لأنه إما من الصفات الذاتية المتفق على ثبوتها له سبحانه كذلك أو من الصفات الفعلية وهي عند الماتريدية مثلها بل قال الزركشي من الأشاعرة في إطلاق الخالق والرازق ونحوهما في حقه تعالى قبل وجود الخلق والرزق حقيقة وإن قلنا بحدوث صفات الأفعال أو المعنى ملك الأمور يوم الدين على حد وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ [الأعراف: 44] ففي الآية استعارة تبعية كما يفهمه كلام العلامة البيضاوي في تفسيره (1) وعلى التقديرين يصح وقوعه صفة للمعرفة لأن الإضافة حينئذ حقيقية ولا ينافي ذلك التوسع في الظرف لأنه مفعول من حيث المعنى لا من حيث الإعراب أي يتعلق المالك به تعلق المملوكية حتى لو كانت شرائط العمل حاصلة عمل فيه كما قاله الشريف وفيه تأمل والأولى باستمرار الاعتبار اعتبار الاستمرار والمستمر يصح أن تكون إضافته معنوية كما يصح أن لا تكون كذلك والتعيين مفوض للمقام وذلك لاشتماله على الأزمنة الثلاث ولا يرد أن يوم الدين وما فيه ليس مستمرا في جميع الأزمنة فكيف يتصور كونه تعالى مالكا على الاستمرار لأنا نقول ليس عند ربك صباح ولا مساء وهو سبحانه ليس بزماني والأزل والأبد عنده نقطة واحدة والفرق بينهما بالاعتبار والتعبيرات المختلفة في كلامه عز شأنه بالنظر إلى حال المخاطب فالاستمرار بالنظر إليه تعالى متحقق بلا شبهة ومن هنا يستنبط جواب للسؤال المشهور بأن المالك لا يكون مالكا للشيء إلا إذا كان موجودا ويوم الدين غير موجود الآن، وأجاب (2) غير واحد بأن يوم الدين لما كان محققا جعل كالقائم في الحال وأيضا من مات فقد قامت قيامته فكأن القيامة حاصلة في الحال فزال السؤال، ولا يخفى أن السؤال باق على مذهب بعض المتكلمين القائلين بأن الزمان معدوم إذ يقال بعد   (1) ونقل عنه أنه مجاز في الماضي المنقطع لا مطلقا وهو خلاف المشهور وبني عليه أن مالك يوم الدين حقيقة عنده وإن لم يعتبر استمراره اهـ منه. (2) وقيل عليه إن اسم الفاعل ليس حقيقة في المستمر فيكون مجازا على المجاز اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 إن تملك المعدوم محال إلا أن يقال يجعل الكلام كناية عن كونه مالكا للأمر كله لأن تملك الزمان كتملك المكان يستلزم تملك جميع ما فيه ولا يلزم في الكناية إمكان المعنى الحقيقي والاستلزام بمعنى الانتقال في الجملة لا بمعنى عدم الانفكاك فلا يرد المنع وأنت إذا قرأت ملك تسلم من هذا القيل والقال إن جعلته صفة مشبهة أو ألحقته بأسماء الأجناس الجامدة كسلطان وأما إذا جعلته صيغة مبالغة كحذر- وهو ملحق باسم الفاعل- فيرد عليك ما ورد علينا وأنا من فضل الله تعالى لا تحركني العواصف بل ذلك يزيدني في المالك حبا، وإنما قال مالك يوم الدين ولم يقل يوم القيامة مراعاة للفاصلة وترجيحا للعموم فإن الدين بمعنى الجزاء يشمل جميع أحوال القيامة من ابتداء النشور إل السرمد الدائم بل يكاد يتناول النشأة الأولى بأسرها على أن يوم القيامة لا يفهم منه الجزاء مثل يوم الدين ولا يخلو اعتباره عن لطف، وأيضا للدين معان شاع (1) استعماله فيها كالطاعة والشريعة فتذهب نفس السامع إلى كل مذهب سائغ وقد قال بكل من هذين المعنيين بعض والمعنى حينئذ على تقدير مضاف فعلى الأول يوم الجزاء الكائن للدين وعلى الثاني يوم الجزاء الثابت في الدين وإذا أريد بالطاعة في الأول الانقياد المطلق لظهوره ذلك اليوم ظاهرا وباطنا وجعل إضافة يوم للدين في الثاني لما بينهما من الملابسة باعتبار الجزاء لم يحتج إلى تقدير، وتخصيص اليوم بالإضافة مع أنه تعالى مالك وملك جميع الأشياء في كل الأوقات والأيام إما للتعظيم وأما لأن الملك والملك الحاصلين في الدنيا لبعض الناس بحسب الظاهر يزولان وينسلخ الخلق عنهما انسلاخا ظاهرا في الآخرة وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً [مريم: 95] وينفرد سبحانه في ذلك اليوم بهما انفرادا لا خفاء فيه ولذلك قال سبحانه يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار: 19] ولِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16] وأيضا هنالك يجتمع الأولون والآخرون ويقوم الروح والملائكة صفا وتجتمع العبيد في صعيد واحد وتظهر صفة الجمال والجلال أتم ظهور فتعلم صفة المالكية والملكية للمجموع في آن واحد فوق ما علمت لكل فرد فرد أو جمع جمع على توالي الأزمان وإنما ختم سبحانه هذه الأوصاف بهذا الوصف إشارة إلى الإعادة كما افتتح بما يشير إلى الإبداء وفي إجرائها عليه تعالى تعليل لإثبات ما سبق وتمهيد لما لحق وفيه إيماء إلى أن الحمد ليس مجرد الحمد لله بل مع العلم بصفات الكمال ونعوت الجلال وهذه أمهاتها ولم تك تصلح إلا له ولم يك يصلح إلا لها وقد يقال في إجراء هذه الأوصاف بعد ذكر اسم الذات الجامع لصفات الكمال إشارة إلى أن الذي يحمده الناس ويعظمونه إنما يكون حمده وتعظيمه لأحد أمور أربعة: إما لكونه كاملا في ذاته وصفاته وإن لم يكن منه إحسان إليهم، وإما لكونه محسنا إليهم ومتفضلا عليهم، وإما لأنهم يرجون لطفه وإحسانه في الاستقبال، وإما لأنهم يخافون من كمال قدرته فهذه هي الجهات الموجبة للحمد والتعظيم فكأنه سبحانه يقول يا عبادي إن كنتم تحمدون وتعظمون للكمال الذاتي والصفاتي فاحمدوني فإني أنا الله وإن كان للإحسان والتربية والانعام فإني أنا رب العالمين وإن كان للرجاء والطمع في المستقبل فإني أنا الرحمن الرحيم وإن كان للخوف فإني أنا مالك يوم الدين. ومن الناس من استدل كما قال الإمام على وجوب الشكر عقلا قبل مجيء الشرع بأنه تعالى أثبت الحمد هنا لذاته ووصفه بكونه ربا للعالمين رحمانا رحيما بهم مالكا لعاقبة أمورهم في القيامة، وترتب الحكم على الوصف المناسب يدل على كون الحكم معللا به فدل ذلك على ثبوت الحمد له قبل الشرع وبعده وهو على ما فيه دليل عليه لا له لأنه بيان من الله تعالى لا يجابه فهو سمعي لا عقلي فالمستدل به كناطح صخرة، هذا وفي ذكر هذه الأسماء الخمسة أيضا لطائف فالإنسان بدن ونفس شيطانية ونفس سبعية ونفس بهيمية   (1) قال الراغب: الدين الطاعة والجزاء واستعير للشريعة فافهم اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وجوهر ملكي عقلي فالتجلي باسمه تعالى الله للجوهر الملكي أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28] وباسم الرب للنفس الشيطانية رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ [المؤمنون: 97] وباسم الرحمن للنفس السبعية بناء على أنه مركب من لطف وقهر الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ [الفرقان: 26] وباسم الرحيم للنفس البهيمية أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ [المائدة: 5] وبمالك يوم الدين للبدن الكثيف سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ [الرحمن: 31] . وآثار هذا التجلي طاعة الأبدان بالعبادة وطاعة النفس الشيطانية بطلب الاستعانة والسبعية بطلب الهداية والبهيمية بطلب الاستقامة، وتواضعت الروح القدسية فعرضت لطلب إيصالها إلى الأرواح العالية المطهرة وأيضا دعائم الإسلام خمس فالشهادة من أنوار تجلي الله والصلاة من أنوار تجلي الرب وإيتاء الزكاة من أنوار تجلي الرحمن وصيام رمضان من أنوار تجلي الرحيم والحج من أنوار تجلي مالك يوم الدين وكأنه لهذا طلبت الفاتحة في الصلاة التي هي العماد ولما بلغ الثناء الغاية القصوى قال سبحانه إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ايا في المشهور ضمير نصب منفصل واللواحق حروف زيدت لبيان الحال، وقيل أسماء أضيف هو إليها، وقيل الضمير هي تلك اللواحق وايا عامة، وقيل الضمير هو المجموع، وقيل ايا مظهر مبهم مضاف إلى اللواحق وزعم أبو عبيدة اشتقاقه وهو جهل عجيب والبحث مستوفى في علم النحو، وقد جاء وياك بقلب الهمزة واوا ولا أدري أهو عن القراء أم عن العرب وقرأ عمرو بن فائدة عن أبيّ إياك بكسر الهمزة وتخفيف الياء وعلي وأبو الفضل الرقاشي أياك بفتح الهمزة والتشديد وأبو السوار الغنوي هياك بابدال الهمزة مكسورة ومفتوحة هاء والجمهور إياك بالكسر والتشديد، والعبادة أعلى مراتب الخضوع ولا يجوز شرعا ولا عقلا فعلها إلا لله تعالى لأنه المستحق لذلك لكونه موليا لأعظم النعم من الحياة والوجود وتوابعهما ولذلك يحرم السجود لغيره سبحانه لأن وضع أشرف الأعضاء على أهون الأشياء هو التراب وموطىء الأقدام والنعال غاية الخضوع وقيل: لا تستعمل إلا في الخضوع له سبحانه وما ورد من نحو قوله تعالى إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنبياء: 98] وارد على زعمهم تعريضا لهم ونداء على غباوتهم وتستعمل بمعنى الطاعة ومنه أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ وبمعنى الدعاء منه إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي [غافر: 60] وبمعنى التوحيد ومنه وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] وكلها متقاربة المعنى وذكر بعض المحققين أن لها ثلاث درجات (1) لأنه إما أن يعبد الله تعالى رغبة في ثوابه أو رهبة من عقابه ويختص باسم الزاهد حيث يعرض عن متابعة الدنيا وطيباتها طمعا فيما هو أدوم وأشرف وهذه مرتبة نازلة عند أهل الله تعالى وتسمى عبادة وإما أن يعبد الله تعالى تشرفا بعبادته أو لقبوله لتكاليفه أو بالانتساب إليه وهذه مرتبة متوسطة وتسمى بالعبودية (2) وإما أن يعبد الله تعالى لاستحقاقه الذاتي من غير نظر إلى نفسه بوجه من الوجوه ولا يقتضيه إلا الخضوع والذلة وهذه أعلى الدرجات وتسمى بالعبودة وإليه الإشارة بقول المصلى. أصلي لله تعالى فإنه لو قال أصلي لثوابه تعالى مثلا أو للتشرف بعبادته فسدت صلاته. والاستعانة طلب المعونة وياء فعله منقلبة عن واو وتمسكت الجبرية والقدرية بهذه الآية أما الجبرية فقالوا لو كان العبد مستقلا لما كان للاستعانة على الفعل فائدة، وأما القدرية فقالوا: السؤال إنما يحسن لو كان العبد متمكنا في أصل الفعل فيطلب الإعانة من الغير أما إذا لم يقدر عليه لم يكن للاستعانة فائدة، وقد أشار ناصر الملة والدين البيضاوي بيض الله تعالى وجه حجته ببيان المعونة إلى أنه لا تمسك لواحد من الفريقين في ذلك حيث قال: وهي إما ضرورية أو غيرها والضرورية ما لا يتأتى الفعل دونه   (1) وبما ذكرنا سقط ما قيل إن العبادة إذا كانت أعلى مراتب الخضوع يلزم أن لا يكون أكثر المؤمنين عابدين اهـ منه. (2) والإمام الرازي في التفسير لم يضع للثانية اسما وسمى الثالثة بالعبودية اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 كاقتدار الفاعل وتصوره وحصول آلة ومادة يفعل بها فيها وعند استجماعها يصح أن يوصف الرجل بالاستطاعة ويصح أن يكلف بالفعل وغير الضرورية تحصيل ما يتيسر به الفعل ويسهل كالراحلة في السفر للقادر على المشي أو يقرب الفاعل إلى الفعل ويحثه عليه وهذا القسم لا يتوقف عليه صحة التكليف انتهى. وحاصله أن الاستعانة طلب ما يتمكن به العبد من الفعل أو يوجب اليسر عليه وشيء منهما لا يوجب الجبر ولا القدر وعندي أن الآية إن استدل بها على شيء من بحث خلق الأفعال فليستدل بها على أن للعباد قدرا مؤثرة بإذن الله تعالى لا بالاستقلال كما عقدت عليه خنصر عقيدتي لا أنهم ليس لهم قدرة أصلا بل جميع أفعالهم كحركة المرتعش كما يقوله الجبرية إذ الضرورة تكذبه ولا أن لهم قدرة غير مؤثرة أبدا كاليد المشلولة كما هو الشائع من مذهب الأشاعرة إذ هو في المآل كقول الجبرية وأي فرق بين قدرة لا أثر لها وبين عدم القدرة بالكلية إلا بما هو كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ولا أن لهم قدرة مستقلة بالأفعال يفعلون بها ما شاؤوا فالله تعالى يريد ما لا يفعله العبد ويفعل العبد ما لا يريده الله تعالى كما يقوله المعتزلة إذ يرد ذلك النصوص القواطع كما ستسمعه إن شاء الله تعالى، ووجه الاستدلال أن إياك نعبد مشير إلى صدور الفعل من العباد وذلك يستدعي قدرة يكون بها الإيجاد ومن لا قدرة له أو له قدرة لا مدخل لها في الإيجاد لا يقال له أوجد وصحة ذلك باعتبار الكسب كيفما فسر لا يرتضيه المنصف العاقل. وقوله وإياك نستعين يدل على نفي الاستقلال فيه وأنه بإذن الله تعالى وإعانته كما يشير إليه لا حول ولا قوة إلا بالله وهذا هو اللبن السائغ الذي يخرج من بين فرث ودم فلا جبر ولا تفويض فاحفظه وانتظر تتمته. ولو كان هذا موضع القول لاشتفى ... فؤادي ولكن للمقال مواضع «وهاهنا أبحاث» الأول في سر تقديم الضمير على الفعلين وذكروا له وجوها الدلالة على الحصر والاختصاص كما يشعر به عدول البليغ عما هو الأصل من غير ضرورة، ولذلك قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: معناه لا نعبد غيرك وهو حقيقي لا يستدعي رد خطأ المخاطب والمقصود منه التبرئة عن الشرك وتعريض بالمشركين وتقديم ما هو مقدم في الوجود فإنه تعالى مقدم على العابد والعبادة ذاتا فقدم وضعا ليوافق الوضع الطبع. وتنبيه العابد من أول الأمر على أن المعبود هو الله تعالى الحق فلا يتكاسل في التعظيم ولا يلتفت يمينا وشمالا والاهتمام فإن ذكره تعالى أهم للمؤمنين في كل حال لا سيما حال العبادة لأنها محل وساوس الشيطان من الغفلة والكسل والبطالة والتصريح من أول وهلة بأن العبادة له سبحانه فهو أبلغ في التوحيد وأبعد عن احتمال الشرك فإنه لو أخر فقبل أن يذكر المفعول يحتمل أن تكون العبادة لغيره تعالى. والإشارة إلى حال العارف وأنه ينبغي أن يكون نظره إلى المعبود أولا وبالذات وإلى العبادة من حيث إنها وصلة إليه وراحلة تغذ به عليه فيبقى مستغرقا في مشاهدة أنوار جلاله مستقرا في فردوس أنوار جماله وكم من فرق بين قوله تعالى للمحمديين فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة: 152] وبين قوله للإسرائيلين: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة: 47] وبين ما حكي عن الحبيب من قوله: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة: 40] وبين ما حكاه عن الكليم من قوله: إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: 62] . الثاني في سر قوله نعبد دون أعبد فقد قيل: هو الإشارة إلى حال العبد كأنه يقول إلهي ما بلغت عبادتي إلى حيث أذكرها وحدها لأنها ممزوجة بالتقصير ولكن أخلطها بعبادة جميع العابدين وأذكر الكل بعبارة واحدة حتى لا يلزم تفريق الصفقة وقيل النكتة في العدول إلى الأفراد التحرز عن الوقوع في الكذب فإنا لم نزل خاضعين لأهل الدنيا متذللين لهم مستعينين في حوائجنا بمن لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا حياة ولا موتا ولا نشورا ويا ليت الفحل يهضم نفسه فكيف يقول أحدنا إياك أعبد وإياك أستعين بالإفراد ويمكن في الجمع أن يقصد تغليب الأصفياء المتقين من الأولياء والمقربين وقيل لو قال إياك أعبد لكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 ذلك بمعنى أنا العابد ولما قال إياك نعبد كان المعنى أني واحد من عبيدك وفرق بين الأمرين كما يرشدك إليه قوله تعالى حكاية عن الذبيح عليه السلام: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات: 102] وقوله تعالى: حكاية عن موسى سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً [الكهف: 69] فصبر الذبيح لتواضعه بعدّ نفسه واحدا من جمع ولم يصبر الكليم لإفراده نفسه مع أن كلّا منهما عليهما السلام قال: إن شاء الله وقيل الضمير في الفعلين للقارىء ومن معه من الحفظة وحاضري الجماعة وقيل هو من باب «صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ» على ما ذكره الغزالي قدس سره وقد تقدم، الثالث في سر تقديم فعل العبادة على فعل الاستعانة وله وجوه: الأول أن العبادة أمانة كما قال تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ [الأحزاب: 73] فاهتم للأداء فقدم، الثاني: أنه لما نسب المتكلم العبادة إلى نفسه أوهم ذلك تبجحا واعتدادا منه بما صدر عنه فعقبه بقوله: وإياك نستعين ليدل على أن العبادة مما لا تتم إلا بمعونة وتوفيق وإذن منه سبحانه، الثالث: أن العبادة مما يتقرب بها العبد إلى الله تعالى والاستعانة ليست كذلك فالأول أهم، الرابع: أنها وسيلة فتقدم على طلب الحاجة لأنه ادعى للإجابة. الخامس: أنها مطلوبة لله تعالى من العبادة، والاستعانة مطلوبهم منه سبحانه فتقديم العبد ما يريده مولاه منه أدل على صدق العبودية من تقديم ما يريده من مولاه، السادس: أن العبادة واجبة حتما لا مناص للعباد عن الإتيان بها حتى جعلت كالعلة لخلق الإنس والجن فكانت أحق بالتقديم، السابع: أنها أشد مناسبة بذكر الجزاء والاستعانة أقوى التئاما بطلب الهداية، الثامن: أن مبدأ الإسلام التخصيص بالعبادة والخلوص من الشرك والتخصيص بالاستعانة بعد الرسوخ. التاسع: أن في تأخير فعل الاستعانة توافق رؤوس الآي، العاشر: أن أحدهما إذا كان مرتبطا بالآخر لم يختلف التقديم والتأخير كما يقال قضيت حقي فأحسنت إلي وأحسنت إلي فقضيت حقي. الحادي عشر: أن مقام السالكين ينتهي عند قوله: إياك نعبدوا بعده يطلب التمكين وذلك أن الحمد مبادي حركة المريد فإن نفس السالك إذا تزكت ومرآة قلبه إذا انجلت فلاحت فيها أنوار العناية الموجبة للولاية تجردت النفس الزكية للطلب فرأت آثار نعم الله تعالى عليها سابغة وألطافه غير متناهية فحمدت على ذلك وأخذت في الذكر فكشف لها الحجاب من وراء أستار العزة عن معنى رب العالمين فشاهدت ما سوى الله سبحانه على شرف الفناء مفتقرا إلى المبقى محتاجا إلى التربية فترقت لطلب الخلاص من وحشة الأدبار وظلمة السكون إلى الأغيار فهبت لها من نفحات جناب القدس نسائم ألطاف الرحمن الرحيم فعرجت للمعات بوارق الجلال من وراء سجاف الجمال إلى الملك الحقيقي فنادت بلسان الاضطرار في مقام لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16] أسلمت نفسي إليك وأقبلت بكليتي عليك وهناك خاضت لجة الوصول وانتهت إلى مقام العين فحققت نسبة العبودية فقال إياك نعبد وهنا انتهاء مقام السالك ألا يرى إلى سيد الخلق وحبيب الحق كيف عبر عن مقامه هذا بقوله: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء: 1] فطلب التمكين بقوله: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ واستعاذ عن التلوين بقوله غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ فصعد مستكملا ورجع مكملا وكأنه لهذا سميت الصلاة معراج المؤمنين، البحث الرابع في سر الالتفات من الغيبة إلى الخطاب وقد ازدحمت فيه أذهان العلماء بعد بيان نكتته العامة وهي التفنن في الكلام والعدول من أسلوب إلى آخر تطرية له وتنشيطا للسامع فقيل لما ذكر الحقيق بالحمد ووصف بصفات عظام تميّز بها عن سائر الذوات وتعلق العلم بمعلوم معين خوطب بذلك ليكون أدل على الاختصاص والترقي من البرهان إلى العيان والانتقال من الغيبة إلى الشهود وكأن المعلوم صار عيانا والمعقول مشاهدا والغيب حضورا، وقيل: لما شرح الله تعالى صدر عبده وأفاض على قلبه وقالبه نور الإيمان والإسلام من عنده ترقى بذريعة الحمد المستجلب لمزيد النعم إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 رتبة الإحسان وهو «أن تعبد الله تعالى كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» وأيضا حقيقة العبادة انقياد النفس الأمارة لأحكام الله تعالى وصورته وقالبه الإسلام ومعناه وروحه الإيمان ونوره ونوره الإحسان وفي نعبد والالتفات تتم الأمور الثلاثة وأيضا لما تبين أنه ملك في الأزل ما في أحايين الأبد علم أن الشاهد والغائب والماضي والمستقبل بالنسبة إليه على حد سواء فلذلك عدل عن الغيبة إلى الخطاب ويحتمل أن يكون السر أن الكلام من أول السورة إلى هنا ثناء والثناء في الغيبة أولى ومن هنا إلى الآخر دعاء وهو في الحضور أولى والله تعالى حي كريم. وقيل إنه لما كان الحمد لا يتفاوت غيبة وحضورا بل هو مع ملاحظة الغيبة أدخل وأتم وكانت العبادة إنما يستحقها الحاضر الذي لا يغيب كما حكى سبحانه عن إبراهيم عليه السلام فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الأنعام: 76] لا جرم عبر سبحانه وتعالى عن الحمد بطريق الغيبة وعنها بطريق الخطاب إعطاء لكل منهما ما يليق من النسق المستطاب وأيضا من تشبه بقوم فهو منهم، فالعابد لما رام ذلك سلك مسلك القوم في الذكر ومزج عبادته بعبادتهم وتكلم بلسانهم وساق كلامه على طبق مساقهم عسى أن يصير محسوبا في عدادهم مندرجا في سياقهم. إن لم تكونوا منهم فتشبهوا ... إن التشبه بالكرام فلاح وأيضا فيه إشارة إلى أن من لزم جادة الأدب والانكسار ورأى نفسه بعيدا عن ساحة القرب لكمال الاحتقار فهو حقيق أن تدركه رحمة إلهية وتلحقه عناية أزلية تجذبه إلى حظائر القدس وتطلعه على سرائر الأنس فيصير واطئا على بساط الاقتراب فائزا بعز الحضور وسعادة الخطاب. وأيضا أنه لما لم يكن في الحمد مزيد كلفة بخلاف العبادة فإن خطبها عظيم ومن دأب المحب تحمل المشاق العظيمة في حضور المحبوب قرن سبحانه العبادة بما يشعر بحضوره ليأتي بها العابد خالية عن الكلال عارية عن الفتور والملال مقرونة بكمال النشاط موجبة لتمام الانبساط. حمامة جرعى حومة الجندل اسجعي ... فأنت بمرأى من سعاد ومسمع وأيضا إن الحمد ليس إلا إظهار صفات الكمال على الغير فما دام للأغيار وجود في نظر السالك فهو يواجههم بإظهار مزايا المحبوب عليهم ويخاطبهم بذكر مآثره الجميلة لديهم وأما إذا آل أمره بملازمة الأذكار إلى ارتفاع الحجب والأستار واضمحلال جميع الأغيار لم يبق في نظره سوى المعبود الحق والجمال المطلق وانتهى إلى مقام الجمع وصار في مقعد فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة: 115] فبالضرورة لا يصير توجيه الخطاب إلا إليه ولا يمكن إظهار السر إلا لديه فينعطف عنان لسانه إلى جنابه ويصير كلامه منحصرا في خطابه، وثم وراء الذوق معنى يدق عن مدارك أرباب العقول السليمة وعندي وهو من نسائم الأسحار أن الله سبحانه بعد أن ذكر يوم الدين وهو يوم القيامة التفت إلى الخطاب للإشارة إلى أنه إذا قامت القيامة على ساق وكان إلى ربك يومئذ المساق هنالك يفوز المؤمن بلذة الحضور ويتبلج جبينه بأنوار الفرح والسرور ويخلو به الديان وليس بينه وبينه ترجمان ويكشف الحجاب وتدور بين الأحباب كؤوس الخطاب، فتأمل في عظيم الرحمة كيف قرن سبحانه هذا الترهيب برحمتين فصرح قبل يوم الدين بما صرح ورمز بعد ذكره بما رمز ولن يغلب عسر يسرين «ومن باب الإشارة» أن يوم الدين تلويح إلى مقام الفناء لأنه موت النفس عن شهواتها وخروجها عن جسد تعلقها بالأغيار والتفاتها ومن مات فقد قامت قيامته فعند ذلك يحصل البقاء في جنة الشهود ويتحقق الجمع في مقام صدق عند المليك المعبود وفوق هذا مقام آخر لا يفي بتقريره الكلام ولا تقدر على تحريره الأقلام بل لا يزيده البيان إلا خفاء ولا يكسبه التقريب إلا بعدا واعتلاء. ولو أن ثوبا حيك من نسج تسعة ... وعشرين حرفا في علاه قصير اللهم أغرقنا في بحار مشاهدتك ومنّ علينا بخندريس وحدتك حتى لا نحدث إلا عنك ولا نسمع إلا منك ولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 نرى إلا إياك، هذا وقد ذكر الإمام السيوطي نقلا عن الشيخ بهاء الدين أنه قال اتفقوا على أن فيما نحن فيه التفاتا واحدا وفيه نظر لأن الزمخشري ومن تابعه على أن الالتفات خلاف الظاهر مطلقا فإن كان التقدير قولوا الحمد لله ففي الكلام المأمور به التفاتان، أحدهما في لفظ الجلالة وأصله الحمد لك لأنه تعالى حاضر، والثاني في إياك لمجيئه على خلاف أسلوب ما قبله وإن لم يقدر كان في الحمد لله التفات من التكلم للغيبة لأنه تعالى حمد نفسه ولا يكون في إياك التفات لتقدير قولوا معها قطعا فأحد الأمرين لازم للزمخشري والسكاكي إما أن يكون في الآية التفاتان أو لا يكون التفات أصلا هذا إن قلنا برأي السكاكي كما يشعر به كلام الزمخشري في الكشاف لأنه جعل في الشعر الذي ذكره ثلاث التفاتات وإن قلنا برأي الجمهور ولم نقدر قولوا إياك نعبد فإن قدر قولوا قبل الحمد لله كان فيه التفات واحد وبطل قول الزمخشري إن في البيت ثلاث التفاتات انتهى. وهو كلام يغني النظر فيه عن شرح حاله فليفهم. «البحث الخامس» في سر تكرار إياك فقيل للتنصيص على طلب العون منه تعالى فإنه لو قال سبحانه إياك نعبد ونستعين لاحتمل أن يكون إخبارا بطلب المعونة من غير أن يعين ممن يطلب وقيل إنه لو اقتصر على واحد ربما توهم أنه لا يتقرب إلى الله تعالى إلا بالجمع بينهما والواقع خلافه. وقيل إنه جمع بينهما للتأكيد كما يقال: الدار بين زيد وبين عمرو، وفيه أن التكرير إنما يكون تأكيدا إذا لم يكن معمولا لفعل ثان وإياك الثاني في الآية معمول لنستعين مفعول له فكيف يكون تأكيدا، وقيل إنه تعليم لنا في تجديد ذكره تعالى عند كل حاجة، وعندي أن التكرار للإشعار أن حيثية تعلق العبادة به تعالى غير حيثية تعلق طلب الاستعانة منه سبحانه ولو قال إياك نعبد ونستعين لتوهم أن الحيثية واحدة والشأن ليس كذلك إذ لا بد في طلب الإعانة من توسط صفة ولا كذلك في العبادة فلاختلاف التعلق أعاد المفعول ليشير بها إليه. «البحث السادس» في سر إطلاق الاستعانة فقيل ليتناول كل مستعان فيه فالحذف هنا مثله في قولهم فلأن يعطي في الدلالة على العموم ورجح بلزوم الترجيح بلا مرجح في الحمل على البعض وأيضا قرينة التقييد خفية وبأنه المروي عن ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وبأن عموم المفعول متضمن لنفي الحول والقوة عن نفسه والانقطاع بالكلية إليه تعالى عمن سواه فهو أولى بمقام العبادة وإلى ترجيحه يشير صنيع العلامة البيضاوي، وقال صاحب الكشاف: الأحسن أن يراد الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادة ويكون قوله تعالى: اهْدِنَا بيانا للمطلوب من المعونة كأنه قيل كيف أعينكم فقالوا اهدنا الصراط المستقيم وإنما كان أحسن لتلاؤم الكلام وأخذ بعضه بحجزة بعض انتهى، ووجه التخصيص حينئذ كمال احتياج العبادة إلى طلب الإعانة لكونها على خلاف مقتضى النفس إن النفس لأمّارة بالسوء إلا ما رحم ربي والقرينة مقارنة العبادة ولا خفاء في وضوحها وكون عموم المفعول متضمنا لما ذكر معارض بنكتة التخصيص والرواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لعلها لم تثبت كذا قيل: والإنصاف عندي أن الحمل على العموم أولى ليتوافق ألفاظ هذه السورة الكريمة في المعنى المطلوب منها ولأن التوسل بالعبادة إلى تحصيل مرام يستوعب جميع ما يصح أن يستعان فيه ليدخل فيه التوفيق دخولا أوليا أولى من مجرد التوفيق ويلائمه الصراط المستقيم فإنه أعم من العبادات والاعتقادات والأخلاق والسياسات والمعاملات والمناكحات وغير ذلك من الأمور الدينية والنجاة من شدائد القبر والبرزخ والحشر والصراط والميزان ومن عذاب النار والوصول إلى دار القرار والفوز بالدرجات العلى وكلها مفتقر إلى إعانة الله تعالى وفضله. وأيضا طرق الضلالات التي يستعاذ منها بغير المغضوب عليهم ولا الضالين لا نهاية لها وباستعانته يتخلص من مهالكها. وأيضا لا يخفى أن المراد بالعبادة في إياك نعبد هي وما يتعلق بها وما تتوقف عليه فإذا توافق الاستعانة في العموم. وأيضا قوله أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مطلق شامل كل إنعام، وأيضا لو كان المراد الاستعانة به وبتوفيقه، على أداء العبادة يبقى حكم الاستعانة في غيرها غير معلوم في أم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 الكتاب ولا أظن أحدا يقول إنه يعلم من هذا التخصيص فلا أختار أنا إلا العموم وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال لابن عباس: «إذا استعنت فاستعن بالله» الحديث وهو ظاهر فيه ولعل ابن عباس من هنا قال به في الآية إذا قلنا بثبوت ذلك عنه وهو الظن الغالب فمن استعان بغيره في المهمات بل وفي غيرها فقد استسمن ذا ورم ونفخ في غير ضرم أفلا يستعان به وهو الغني الكبير أم كيف يطلب من غيره والكل إليه فقير؟ وإني لأرى أن طلب المحتاج من المحتاج سفه من رأيه وضلة من عقله فكم قد رأينا من أناس طلبوا العزة من غيره فذلوا وراموا الثروة من سواه فافتقروا وحاولوا الارتفاع فاتضعوا فلا مستعان إلا به ولا عون إلا منه. إليك وإلا لا تشد الركائب ... ومنك وإلا فالمؤمل خائب وفيك وإلا فالغرام مضيع ... وعنك وإلا فالمحدث كاذب وقد قرأ عبيد بن عمير الليثي وزيد بن حبيش ويحيى بن وثاب والنخعي نعبد- بكسر النون- وهي لغة قيس وتميم وأسد وربيعة وهذيل وكذلك حكم حروف المضارعة في هذا الفعل وما أشبهه كنستعين مما لم ينضم ما بعدها فيه سوى الياء لاستثقال الكسرة عليها على أن بعضهم قال يجل بكسر ياء المضارعة من وجل وقرأ بعضهم يعلمون وقرأ الحسن وابن المتوكل وأبو مخلف يعبد بالياء مبنيا للمفعول وهو غريب وعن بعض أهل مكة أنه قرأ نعبد بإسكان الدال وقرأ الجمهور نعبد- بفتح النون وضم الدال- وهي لغة أهل الحجاز وهي الفصحى اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ الهداية دلالة بلطف لدلالة اشتقاقه ومادته عليه ولذا أطلق على المشي برفق تهاد وسميت الهداية لطفا وقوله تعالى: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ [الصافات: 23] وارد على الصحيح مورد التهكم على حد فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: 21، التوبة: 34، الانشقاق: 24] ويقال هداه لكذا وإلى كذا فتعديه باللام وإلى إذا لم يكن فيه وهداه كذا بدونهما محتمل للحالين حتى لا يجوز في وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [العنكبوت: 69] لسبلنا أو إلى سبلنا إلا بإرادة الإرادة في جاهدوا أو إرادة تحصيل المراتب العلية في سبلنا ومن ثم جمعها وقد ورد: من عمل بما علم ورثه الله تعالى علم ما لم يعلم، وقد يقال المراد بيان الاستعمال الحقيقي، وأما باب التجوز فواسع وهل يعتبر في الدلالة الإيصال أم لا فيه اختلاف المتأخرين من أهل اللسان ففريق خصها بالدلالة الموصلة وآخرون بالدلالة على ما يوصل، وقليل قال: إن تعدت إلى المفعول الثاني بنفسها كانت بمعنى الإيصال ولا تسند إلا إليه تعالى كما في الآية وإن تعدت باللام أو إلى كانت بمعنى إراءة الطريق فكما تسند إليه سبحانه تسند إلى القرآن كقوله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9] وإلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كقوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: 52] والكل من هذه الآراء غير خال عن خلل، أما الأول فيرد عليه قوله تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [فصلت: 17] والجواب بجواز وقوعهم في الضلال بالارتداد بعد الوصول إلى الحق لا يساعده ما في التفاسير والتواريخ فإنها ناطقة بأن الجم الغفير من قوم ثمود لم يتصفوا بالإيمان قطعا وما آمن من قومه إلا قليل وقد بقوا على إيمانهم ولم يرتدوا على أن صاحب الذوق يدرك من نفس الآية خلاف الفرض كما لا يخفى، وأما الثاني فيرد عليه قوله تعالى لحبيبه صلى الله تعالى عليه وسلّم إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص: 56] وما يقال إنه على حد قوله تعالى: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الأنفال: 17] أو أن المعنى أنك لا تتمكن من إراءة الطريق لكل من أحببت بل إنما يمكنك إراءته لمن أردنا لا يخلو عن تكلف، وأما الثالث فإن كلام أهل اللغة لا يساعده بل ينادي بما ينافيه ومع ذلك فالقول بأن المتعدية لا تسند إلا إلى الله تعالى منتقض بقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا [مريم: 43] وعن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 مؤمن آل فرعون يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ [غافر: 38] ولهذا الخلل قال طائفة بالاشتراك والبحث لغوي لا دخل للاعتزال فيه وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمته والصِّراطَ الطريق وأصله بالسين من السرط وهو اللقم ولذلك يسمى لقما كأن سالكه يبتلعه أو يبتلع سالكه ففي الأزهري أكلته المفازة إذا نهكته لسيره فيها وأكل المفازة إذا قطعها بسهولة قال أبو تمام: رعته الفيافي بعد ما كان حقبة ... رعاها وماء المزن ينهلّ ساكبه وبالسين على الأصل قرأ ابن كثير برواية قنبل ورويس اللؤلؤي عن يعقوب وقرأ الجمهور بالصاد وهي لغة قريش وقرأ حمزة بإشمام الصاد زايا والزاي الخالصة لغة لعذرة وكعب والصاد عندي أفصح وأوسع وأهل الحجاز يؤنثون الصراط كالطريق والسبيل والزقاق والسوق وبنو تميم يذكرون هذا كله وتذكيره هو الأكثر ويجمع في الكثرة على صراط ككتاب وكتب وفي القلة قياسه أصرطة هذا إذا كان الصراط مذكرا وأما إذا أنث فقياسه أفعل نحو ذراع وأذرع والْمُسْتَقِيمَ المستوي الذي لا اعوجاج فيه واختلف في المراد منه فقيل الطريق الحق. وقيل ملة الإسلام. وقيل القرآن وردهما الرازي قدس سره بأن قوله تعالى صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ يدل على الصراط المستقيم وهم المتقدمون من الأمم وما كان لهم القرآن والإسلام وفيه ما لا يخفى والعجب كل العجب من هذا المولى أنه ذكر في أحد الوجوه المرضية عنده أن الصراط المستقيم هو الوسط بين طرفي الإفراط والتفريط في كل الأخلاق وفي كل الأعمال وأكد ذلك بقوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143] فيا ليت شعري ماذا يقول لو قيل له لم يكن هذا للمتقدمين من الأمم وتلونا عليه الآية التي ذكرها وسبحان من لا يرد عليه وقيل المراد به معرفة ما في كل شيء من كيفية دلالته على الذات والصفات وقيل المراد منه صراط الأولين في تحمل المشاق العظيمة لأجل مرضاة الله تعالى وقيل العبادة لقوله تعالى: وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ [يس: 61] والقرآن يفسر بعضه بعضا وفيه نظر، وقيل هو الاعراض عن السوي والإقبال بالكلية على المولى وقال الشيخ الأكبر قدس سره: هو ثبوت التوحيد في الجمع والتفرقة، ولهم أقوال غير ذلك قريبة وبعيدة، وعندي بعد الاطلاع على ما للعلماء وكل حزب بما لديهم فرحون أن الصراط المستقيم يتنوع إلى عام للناس وخاص بخواصهم والكل منهما صراط المنعم عليهم على اختلاف درجاتهم فالأول جسر بين العبد وبين الله سبحانه ممدود على متن جهنم الكفر والفسق والجهل والبدع والأهواء وهو الاستقامة على ما ورد به الشرع الشريف القويم علما وعملا وخلقا وحالا وهو الذي يظهر في الآخرة على متن جهنم الجزاء ممثلا مصورا بالتمثيل الرباني والتصوير الإلهي على حسب ما عليه العبد اليوم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد دون ذلك فلا يلومن إلا نفسه وللتذكير بذلك الصراط لم يقل السبيل ولا الطريق وإن كان الكل واحدا، الثاني طريق الوصول إلى الله تعالى ومن شهد الخلق لا فعل لهم فقد فاز ومن شهدهم لا حياة لهم فقد جاز ومن شهدهم عين العدم فقد وصل وتم سفره إلى الله تعالى ثم يتجدد له السفر فيه سبحانه وهو غير متناه لأن نعوت جماله وجلاله غير متناهية ولا يزال العبد يرقي من بعضها إلى بعض كما يشير إليه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة» وهناك يكون عز شأنه يده وسمعه وبصره فبه يبطش وبه يسمع وبه يبصر ووراء ذلك ما يحرم كشفه فمتى قال العامي اهدنا الصراط المستقيم أراد أرشدنا إلى الاستقامة على امتثال أوامرك واجتناب نواهيك ومتى قال ذلك أحد الخواص أراد ثبتنا على ما منحتنا به وهو المروي عن يعسوب المؤمنين كرم الله تعالى وجهه وأبيّ رضي الله تعالى عنه وذلك لأن طالب هداية الطريق المستقيم ليسلكه له في سلوكه مقامات وأحوال ولكل منها بداية ونهاية ولا يصل إلى النهاية ما لم يصحح البداية ولا ينتقل إلى مقام أو حال إلا بعد الرسوخ فيما تحته والثبات عليه فما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 دام هو في أثناء المقام أو الحال ولم يصل إلى نهاية يطلب الثبات على ما منح به ليرسخ له ذلك المقام ويصير ملكه فيرقى منه إلى ما فوقه وذلك هو الفضل الكبير والفوز العظيم، وللمحققين في معنى اهدنا وجوه دفعوا بها ما يوشك أن يسأل عنه من أن المؤمن مهتد فالدعاء طلب لتحصيل الحاصل. أحدها أن معناه ثبتنا على الدين كيلا تزلزلنا الشبه وفي القرآن رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا [آل عمران: 8] وفي الحديث «اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك» وثانيها أعطنا زيادة الهدى كما قال تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [محمد: 17] وثالثها أن الهداية الثواب كقوله تعالى: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ [يونس: 9] فالمعنى اهدنا طريق الجنة ثوابا لنا وأيد بقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا [الأعراف: 43] ورابعها أن المراد دلنا على الحق في مستقبل عمرنا كما دللتنا عليه في ماضيه ولهم بعد أيضا كلمات متقاربة غير هذا ولعله يغنيك عن الكل ما ذكره الفقير فتدبره ولا تغفل. بقي الكلام في ربط هذه الجملة بما قبلها وقد قيل ان عندنا احتمالات أربعة لأن طلب المعونة إما في المهمات كلها أو في أداء العبادة والصراط المستقيم إما أن يؤخذ بمعنى خاص كملة الإسلام أو بمعنى عام كطريق الحق خلاف الباطل فعلى تقديري عموم الاستعانة والصراط وخصوصهما يكون اهدنا بيانا للمعونة المطلوبة كأنه قال كيف أعينكم في المهمات أو في العبادة فقالوا اهدنا طريق الحق في كل شيء أو ملة الإسلام فيكون الفصل لشبه كمال الاتصال وعلى تقدير عموم الاستعانة وخصوص الصراط يكون اهدنا إفرادا للمقصود الأعظم من جميع المهمات فيكون الفصل حينئذ لكمال الاتصال، وأما على تقدير خصوص الاستعانة وعموم الصراط فلا ارتباط، وما عندي غير خفي عليك إن أحطت خبرا بما قدمناه لديك، وقد قرأ الحسن والضحاك وزيد بن علي صراطا مستقيما دون تعريف وقرأ جعفر الصادق صراط المستقيم بالإضافة والمتواتر ما تلوناه صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ بدل من الصراط الأول بدل الكل من الكل وهو الذي يسميه ابن مالك البدل الموافق أو المطابق تحاشيا من إطلاق الكل على الله تعالى في مثل صراط العزيز الحميد الله. وفائدة الإبدال تأكيد النسبة بناء على أن البدل في حكم تكرير العامل والاشعار بأن الصراط المستقيم بيانه وتفسيره صراط المسلمين فيكون ذلك شهادة لاستقامة صراطهم على أبلغ وجه وآكده، وقيل صفة له. ومن غريب المنقول أن الصراط الثاني غير الأول وكأنه نوى فيه حرف العطف وفي تعيين ذلك اختلاف، فعن جعفر بن محمد هو العلم بالله والفهم عنه وقيل موافقة الباطن للظاهر في إسباغ النعمة وقيل التزام الفرائض والسنن ولا يخفى أن هذا القول خروج عن الصراط المستقيم فلا نتعب جواد القلم فيه. وقرأ ابن مسعود وزيد بن علي صراط من أنعمت عليهم وهو المروي عن عمر وأهل البيت رضي الله تعالى عنهم. قال الشهاب: وفيه دليل على جواز إطلاق الأسماء المبهمة «كمن» على الله تعالى انتهى وهو خبط ظاهر إذ الإضافة إلى المفعول لا الفاعل. والإنعام إيصال الإحسان إلى الغير من العقلاء كما قاله الراغب فلا يقال أنعم على فرسه ولذا قيل: إن النعمة نفع الإنسان من دونه لغير عوض، واختلف في هؤلاء المنعم عليهم فقيل المؤمنون مطلقا وقيل الأنبياء وقيل أصحاب موسى وعيسى عليهما السلام قبل التحريف والنسخ، وقيل أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم. وقيل محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما. وقيل الأولى ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد بالذين أنعمت عليهم الأنبياء والملائكة والشهداء والصديقون ومن أطاع الله تعالى وعبده وإليه يشير قوله تعالى: فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النساء: 69] فما في هاتيك الأقوال اقتصار على بعض الأفراد. ولم يقيد الإنعام ليعم وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم: 34، النحل: 18] وقيل أنعم عليهم بخلقهم للسعادة. وقيل بأن نجاهم من الهلكة. وقيل بالهداية وفي بناء أنعمت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 للفاعل استعطاف فكأن الداعي يقول أطلب منك الهداية إذ سبق إنعامك فاجعل من إنعامك إجابة دعائنا وإعطاء سؤلنا وسبحانه ما أكرمه كيف يعلمنا الطلب ليجود على كلّ بما طلب. لو لم ترد نيل ما نرجو ونطلبه ... من فيض جودك ما علمتنا الطلبا وحكى اللغويون في عَلَيْهِمْ عشر لغات ضم الهاء وإسكان الميم- وهي قراءة حمزة- وكسرها وإسكان الميم- وهي قراءة الجمهور- وكسر الهاء والميم وياء بعدها- وهي قراءة الحسن- قيل وعمر بن خالد وكذلك بغير ياء- وهي قراءة عمرو بن فائد- وكسر الهاء وضم الميم بواو بعدها- وهي قراءة ابن كثير وقالون- بخلاف عنه وضم الهاء والميم وواو بعدها- وهي قراءة الأعرج ومسلم بن جندب وجماعة- وضمهما بغير واو ونسبت لابن هرمز وكسر الهاء وضم الميم بغير واو ونسبت للأعرج والخفاف عن أبي عمرو وضم الهاء وكسر الميم بياء بعدها وكذلك بغير ياء وقرىء بهما أيضا. وحاصلها ضم الهاء مع سكون الميم أو ضمها بإشباع أو دونه أو كسرها بإشباع أو دونه وكسر الهاء مع سكون الميم أو كسرها بإشباع أو دونه أو ضمها بإشباع أو دونه. وحجج كل في كتب العربية غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ بدل من الذين بدل كل من كل. وقيل من ضمير عَلَيْهِمْ ولا يخلو من الركاكة بحسب المعنى وأما أنه يلزم عليه خلو الصلة عن الضمير فلا لأن المبدل منه ليس في نية الطرح حقيقة والقول بأن غَيْرِ في الأصل صفة بمعنى مغاير والبدل بالوصف ضعيف ضعيف لأنها غلبت عليها الاسمية ولذا لم تجر على موصوف في الأكثر. وعن سيبويه أنها صفة الذين مبينة أو مقيدة ولا يرد أن غَيْرِ من الأسماء المتوغلة في الإبهام فلا تتعرف بالإضافة فلا توصف بها المعرفة بل ولا تبدل منها على المشهور لأنا نقول الموصوف هنا معنى كالنكرة فيصح أن يوصف بها وذلك لأن الموصول بعد اعتبار تعريفه بالصلة يكون كالمعرف باللام في استعمالاته فإذا استعمل في بعض ما اتصف بالصلة كان كالمعرف باللام للعهد الذهني فكما أن المعرف المذكور لكون التعريف فيه للجنس يكون معرفة بالنظر إلى مدلوله وفي حكم النكرة بالنظر إلى قرينة البعضية المبهمة ولذا يعامل به معاملتهما كذلك الموصول المذكور بالنظر إلى التعيين الجنسي المستفاد من مفهوم الصلة معرفة وبالنظر إلى البعضية المستفادة من خارج كالنكرة فيعامل به معاملتهما أيضا فالذين أنعمت عليهم إذا لم يقصد به معهود كذلك إذ لا صحة لإرادة جنس المنعم عليم من حيث هو إذ لا صراط له ولا غرض يتعلق بطلب صراط من أنعم عليهم على سبيل الاستغراق سواء أريد استغراق الأفراد والجماعات أو المجموع من حيث المجموع فالمطلوب صراط جماعة ممن أنعم عليهم بالنعم الأخروية أعني طائفة من المؤمنين لا بأعيانها فإن نظر إلى البعضية المبهمة المستفادة من إضافة الصراط إليهم كان كالنكرة وإن نظر إلى مفهومه الجنسي أعني المنعم عليهم كان معرفة قاله العلامة الساليكوتي وغيره ولا يخلو عن دغدغة أو يقال وهو المعول عليه عند من يعول عليه أن غَيْرِ هنا معرفة لأن المحققين من علماء العربية قالوا إنها قد تتعرف بالإضافة وذلك إذا وقعت بين متضادين معرفتين نحو عليك بالحركة غير السكون، وقال ابن السري وغيره إذا أضيفت غَيْرِ إلى معرف له ضد واحد فقط تعرفت لانحصار الغيرية وهنا المنعم عليهم ضد لما بعده ولا يرد على هذا قوله تعالى. رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [فاطر: 37] لجواز أن يكون صالحا حالا قدمت على صاحبها وهو غير الذي أو غير الذي بدلا من صالحا ولو قيل ضد الصالح الطالح والذي كانوا يعملون فرد من أفراده فليس بضد لم يبعد، وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه غَيْرِ بالنصب وروي ذلك شاذا عن ابن كثير وهو حال من ضمير عليهم والعامل فيه أنعمت ويضعف أن يكون حالا من الذين لأنه مضاف إليه والصراط لا يصح بنفسه أن يعمل في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 الحال وقيل يجوز والعامل فيه معنى الإضافة، وجوز الأخفش أن يكون النصب على الاستثناء المنقطع أو المتصل إن فسر الإنعام بما يعم ومنعه الفراء لأنه حينئذ بمعنى سوى فلا يجوز أن يعطف عليه «بلا» لأنها نفي وجحد ولا يعطف الجحد إلا على مثله، وأجيب بزيادة لا مثلها في قوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف: 12] وفي قول الأحوص: ويلحينني في اللهو أن لا أحبه ... وللهو داع دائب غير غافل واعترض بأنه لم تسمع زيادتها بعد واو العطف والكلام فيه، وحكى بعضهم عن الأخفش أن الاستثناء في معنى النفي فيجوز العطف عليه «بلا» حملا على المعنى فحينئذ لا يرد ما ورد، وعند الخليل النصب بفعل محذوف أعني أعني وبه أقول لأن الاستثناء كما ترى والحالية تقتضي التنكير ولا يتحقق إلا بعدم تحقق التضاد أو يجعل غير بمعنى مغاير لتكون إضافته لفظية وكلاهما غير مرضيّ لما علمت وقال بعضهم في الآية حذف والتقدير غير صراط المغضوب عليهم وهو ممكن على هذه القراءة فيكون غير حينئذ إما صفة لقوله الصراط وهو ضعيف لتقدم البدل على الوصف إذا قلنا به والأصل العكس أو بدل أو صفة للبدل أو بدل منه أو حال من أحد الصراطين والصراط السوي عدم التقدير. والغضب أصله الشدة ومنه الغضبة الصخرة الصلبة الشديدة المركبة في الجبل والغضوب الحية الخبيثة والناقة العبوس وفسر تارة بحركة للنفس مبدؤها إرادة الانتقام كما في شرح المفتاح للسعد وتارة بإرادة الانتقام كما في شرح الكشاف له وأخرى بكيفية تعرض للنفس فيتبعها حركة الروح إلى خارج طلبا للانتقام كما في شرح المقاصد. ويقرب منه ما قيل تغير يحدث عند غليان دم القلب، وفي الحديث «اتقوا الغضب فإنه جمرة تتوقد في قلب ابن آدم ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه» وفي الكشاف معنى غضب الله تعالى إرادة الانتقام من العصاة وإنزال العقوبة بهم وأن يفعل بهم ما يفعله الملك إذا غضب على من تحت يده وأنا أقول كما قال سلف الأمة هو صفة لله تعالى لائقة بجلال ذاته لا أعلم حقيقتها ولا كيف هي والعجز عن درك الإدراك إدراك والكلام فيه كالكلام في الرحمة حذو القذة بالقذة فهما صفتان قديمتان له سبحانه وتعالى. وحديث «سبقت رحمتي غضبي» محمول على الزيادة في الآثار أو تقدم ظهورها. وأصل الضلال الهلاك ومنه قوله تعالى: أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ [السجدة: 10] أي هلكنا وقوله تعالى: وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ [محمد: 8] أي أهلكها والضلال في الدين الذهاب عن الحق، وقرأ أبو أيوب السختياني «ولا الضألين» بإبدال الألف همزة فرارا من التقاء الساكنين مع أنه في مثله جائز. وحكى أبو زيد دأبة وشأبة وعلى هذه اللغة قراءة عمرو بن عبيد فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن: 39] وقوله: والأرض أما سودها فتجللت ... بياضا وأما بيضها فادهأمت وهل يقاس عليه أم لا؟ قولان وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وعبد الله بن الزبير أنهما كانا يقرآن وغير الضالين والمتواتر لا كما في الإمام وهو سيف خطيب أتى بها لتأكيد ما في غَيْرِ من معنى النفي والكوفيون يجعلونها هنا بمعناها والمراد بالمغضوب عليهم اليهود وبالضالين النصارى وقد روى ذلك أحمد في مسنده وحسنه ابن حبان في صحيحه مرفوعا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وأخرجه ابن جرير عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم، وقال ابن أبي حاتم: لا أعلم فيه خلافا للمفسرين فمن زعم أن الحمل على ذلك ضعيف لأن منكري الصانع والمشركين أخبث دينا من اليهود والنصارى فكان الاحتراز منهم أولى بل الأولى أن يحمل المغضوب عليهم على كل من أخطأ في الأعمال الظاهرة وهم الفساق ويحمل الضالون على كل من أخطأ في الاعتقاد لأن اللفظ عام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 والتقييد خلاف الأصل فقد ضل ضلالا بعيدا إن كان قد بلغه ما صح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإلا فقد تجاسر على تفسير كتاب الله تعالى مع الجهل بأحاديث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وما قاله في منكري الصانع لا يعتد به لأن من لا دين له لا يعتد بذكره، والعجب من الإمام الرازي أنه نقل هذا ولم يتعقبه بشيء سوى أنه زاد في الشطرنج بغلا فقال ويحتمل أن يقال المغضوب عليهم هم الكفار والضالون هم المنافقون وعلله بما في أول البقرة من ذكر المؤمنين ثم الكفار ثم المنافقين فقاس ما هنا على ما هناك وهل بعد قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصادق الأمين قول لقائل أو قياس لقائس هيهات هيهات دون ذلك أهوال، واستدل بعضهم على أن المغضوب عليهم هم اليهود بقوله تعالى: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ [المائدة: 60] وعلى أن الضالين النصارى بقوله تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا [المائدة: 77] والأولى الاستدلال بالحديث لأن الغضب والضلال وردا جميعا في القرآن لجميع الكفار على العموم فقد قال تعالى: وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ [النحل: 106] وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً [النساء: 167] ووردا لليهود والنصارى جميعا على الخصوص كما ذكره المستدل وإنما قدم سبحانه المغضوب عليهم على الضالين- مع أن الضلال في بادىء النظر سبب للغضب إذ يقال ضل فغضب عليه- لتقدم زمان المغضوب عليهم وهم اليهود على زمان الضالين وهم النصارى أو لأن الإنعام يقابل بالانتقام ولا يقابل بالضلال فبينهما تقابل معنوي بناء على أن الأول إيصال الخير إلى المنعم عليه والثاني إيصال الشر إلى المغضوب عليه أو لأن اليهود أشد في الكفر والعناد وأعظم في الخبث والفساد وأَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا [المائدة: 82] ولذا ضربت عليهم الذلة والمسكنة. وورد في الحديث «من لم يكن عنده صدقة فليلعن اليهود» رواه السلفي والديلمي وابن عدي والنصارى دون ذلك وأقرب للإسلام منهم ولذا وصفوا بالضلال لأن الضال قد يهتدي، ومما يدل على أن اليهود أسوأ حالا من النصارى أنهم كفروا بنبيين محمد صلّى الله عليه وسلّم وعيسى عليه السلام والنصارى كفروا بنبي واحد وهو نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم وفضائحهم وفظائعهم أكثر مما عند النصارى كما ستقرؤه وتراه إن شاء الله تعالى، وقول النصارى بالتثليث ليس أفظع من قول اليهود إن الله فقير ونحن أغنياء وقولهم يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة: 64] وقولهم عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ فمن زعم أن النصارى أسوأ حالا متوكئا على ما في دلائل الأسرار لم يعرف أسرار الدلائل وهي بعد العيوق عنه وليست المسألة من الفروع ليكتفي مثلنا فيها بالتقليد المحض لا سيما وفضل الله تعالى ليس بمقصور على البعض. وقال بعضهم: تأخير الضالين لموافقة رؤوس الآي ولا بأس بضمه إلى تلك الوجوه وإلا فالاقتصار عليه من ضيق العطن وإنما أسند النعمة إليه تعالى تقربا والمقصود طلب الهداية إلى صراط من ثبت إنعام الله تعالى عليه وتحقق، ولذلك أتى بالفعل ماضيا وانحرف عن ذلك عند ذكر الغضب إلى الغيبة تأدبا ولأن من طلب منه الهداية ونسب الإنعام إليه لا يناسب نسبة الغضب إليه لأنه مقام تلطف وترفق وتذلل لطلب الإحسان فلا يناسب مواجهته بوصف الانتقام. وقد عد ابن الأثير في كنز البلاغة والتنوخي في الأقصى القريب بناء الفعل للمفعول بعد خطاب فاعله نوعا غريبا من الالتفات فإن كان الالتفات كما في استعمال الأدباء والمتقدمين بمعنى الافتنان فلا غبار عليه وإن كان بالمعنى المتعارف فلك أن تقول على رأي السكاكي الذي لا يشترط تعدد التعبير بل مخالفة مقتضى الظاهر أن المخاطب إذا ترك خطابه وبني ما أسند إليه للمفعول والمحذوف كالغائب فلا مانع من أن يسمى التفاتا فكما يجري في الانتقال من مقدر إلى محقق يجري في عكسه وهو معنى بديع كما قاله الشهاب، ويسن بعد الختام أن يقول القارئ «آمين» فقد روى ابن أبي شيبة في مصنفه والبيهقي في الدلائل عن أبي ميسرة «أن جبريل أقرأ النبي صلّى الله عليه وسلّم فاتحة الكتاب فلما قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 ولا الضالين قال له قل آمين» فقال آمين ويقولها المأموم لقراءة إمامه فقد أخرج مسلم وأبو: داود والنسائي وابن ماجة وابن أبي شيبة عن أبي موسى الأشعري قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا قرأ - يعني الإمام- غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين يحبكم الله» وإخفاؤها مذهب ساداتنا الحنفية وهو مذهب أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه، وعبد الله بن مسعود، وعند الشافعية يجهر بها. وعن الحسن لا يقولها الإمام لأنه الداعي. وعن أبي حنيفة في رواية غير مشهورة مثله والمشهور أن يخفيها، وروى الإخفاء عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عبد الله بن مغفل وأنس رضي الله تعالى عنهما كما في الكشاف ورواية الجمهور محمولة على التعليم، والبحث فقهي وهذا القدر يكفي فيه وليست من القرآن إجماعا ولذا سن الفصل بينها وبين السورة بسكتة لطيفة وما قيل: إنها من السورة عند مجاهد فمما لا ينبغي أن يلتفت إليه إذ هو في غاية البطلان إذ لم يكتب في الإمام ولا في غيره من المصاحف أصلا حتى ذكر غير واحد أن من قال: إن آمين من القرآن كفر، وهي اسم فعل مبني على الفتح كأين لالتقاء الساكنين والبحث عن أسماء الأفعال مفروغ عنه في كتب النحو والصحيح أنها كلمة عربية ومعناها استجب وقيل موضوعة لما هو أعم منه ومن مرادفه ومن الغريب ما قيل: إنه عجمي معرب همين لما أن فاعيل كقابيل ليس من أوزان العرب ورد بأنه يكون وزنا لا نظير له وله نظائر ولذا قيل: إنه في الأصل مقصور ووزنه فعيل فأشبع، ومن العجيب ما قيل إنه اسم الله تعالى والقول في توجيهه أنه لما كان مشتملا على الضمير المستتر الراجع إليه تعالى قيل إنه من أسمائه أعجب منه وقد تمد ألفه وتقصر وإلى أصالة كلّ ذهب طائفة، وأما تشديد ميمه فذكر الواحدي أنه لغة فيه، وقيل إنه جمع آم بمعنى قاصد منصوب باجعلنا ونحوه مقدرا، وقيل إنه خطأ ولحن وحيث إنه ليس من القرآن بل دعاء ومعناه صحيح قال بعضهم لا تفسد به الصلاة وإن كان لحنا، وفضل هذه السورة مما لا يخفى ويكفي في فضلها ما روي بأسانيد صحيحة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج على أبي بن كعب فقال: يا أبي وهو يصلي فالتفت أبيّ فلم يجبه فصلى أبيّ فخفف ثم انصرف إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك؟ فقال: يا رسول الله إني كنت في الصلاة، قال: أفلم تجد فيما أوحى الله إليّ أن استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم؟ قال بلى ولا أعود إن شاء الله تعالى، قال: تحب أن أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها؟ قال نعم يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: كيف تقرأ في الصلاة فقرأ بأم القرآن فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: والذي نفسي بيده ما نزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها وإنها للسبع من المثاني- أو قال السبع المثاني- والقرآن العظيم الذي أعطيته» والأحاديث في ذلك كثيرة ولا بدع فهي أم الكتاب والحاوية من دقائق الأسرار العجب العجاب حتى أن بعض الربانيين استخرج منها الحوادث الكونية وأسماء الملوك الإسلامية وشرح أحوالهم وبيان مآلهم، وبالجملة هي كنز العرفان بل اللوح المحفوظ لما يلوح في عالم الإمكان «نسأل الله تعالى» أن يمن علينا بإشراق أنوارها والاطلاع على مخزونات أسرارها إنه ولي التوفيق والهادي إلى معالم التحقيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 سورة البقرة هذا هو الاسم المشهور وفي الصحيح عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة وهو معارض لما روي من منع ذلك وتعين أن يقال السورة التي يذكر فيها البقرة وكذا في سور القرآن كله ومن ثمة أجاز الجمهور ذلك من غير كراهة ويمكن أن يوفق بأنه كان مكروها في بدأ الإسلام لاستهزاء الكفار ثم بعد سطوع نوره نسخ النهي عنه فشاع من غير نكير وورد في الحديث بيانا لجوازه وقد تقدم بعض الكلام على هذا، وكان خالد ابن معدان يسميها فسطاط القرآن وورد في حديث مرفوع في مسند الفردوس وذلك لعظمها ولما جمع فيها من الأحكام التي لم تذكر في غيرها حتى قال بعض الأشياخ: إن فيها ألف أمر وألف نهي وألف خبر قيل وفيها خمسة عشر مثلا ولهذا أقام ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ثماني سنين على تعلمها وورد في حديث المستدرك تسميتها سنام القرآن وسنام كل شيء أعلاه وكأنه لذلك أيضا، وروي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «أي القرآن أفضل فقالوا الله ورسوله أعلم قال سورة البقرة ثم قال وأيها أفضل؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال آية الكرسي، وهي مدنية وآياتها مائتان وسبع وثمانون على المشهور وقيل ست وثمانون وفيها آخر آية نزلت وهي قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة: 281] وقد نزلت في حجة الوداع يوم النحر ولا تخرج بذلك عن كونها مدنية كما لا يخفى، ووجه مناسبتها لسورة الفاتحة أن الفاتحة مشتملة على بيان الربوبية أولا والعبودية ثانيا وطلب الهداية في المقاصد الدينية والمطالب اليقينية ثالثا، وكذا سورة البقرة مشتملة على بيان معرفة الرب أولا كما في يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: 3] وأمثاله وعلى العبادات وما يتعلق بها ثانيا وعلى طلب ما يحتاج إليه في العاجل والآجل آخرا وأيضا في آخر الفاتحة طلب الهداية وفي أول البقرة إيماء إلى ذلك بقوله هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] ولما افتتح سبحانه الفاتحة بالأمر الظاهر وكان وراء كل ظاهر باطن افتتح هذه السورة بما بطن سره وخفي إلا على من شاء الله تعالى أمره فقال سبحانه وتعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم هي وسائر الألفاظ التي يتهجى بها «كبا تا ثا» أسماء مسمياتها الحروف المبسوطة التي ركبت منها الكلمة لصدق حد الاسم المتفق عليه واعتوار خواصه المجمع عليها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 على كل منها، ويحكى عن الخليل أنه سأل أصحابه كيف تنطقون في الباء من ضرب والكاف من لك فقالوا- باء كاف- فقال: إنما جئتم بالاسم لا الحرف وأنا أقول- به كه- وما روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه «قال سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: من قرأ حرفا من كتاب الله تعالى فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول لم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف» فالمراد به غير المصطلح إذ هو عرف جديد بل المعنى اللغوي وهو واحد حروف المباني فمعنى ألف حرف إلخ مسمى ألف وهكذا ولعله صلى الله تعالى عليه وسلم سمى ذلك حرفا باسم مدلوله فهو معنى حقيقي له وما قيل: انه سماه حرفا مجازا لكونه اسم الحرف وإطلاق أحد المتلازمين على الآخر مجاز مشهور ليس بشيء فإن أريد من الم مفتتح سورة الفيل يكون المراد أيضا منه مسماه وتكون الحسنات ثلاثين وفائدة النفي دفع توهم أن يكون المراد بالحرف فيمن قرأ حرفا الكلمة وإن أريد نحو ما هنا فالمراد نفسه ويكون عدد الحسنات حينئذ تسعين وفائدة الاستئناف دفع أن يراد بالحرف الجملة المستقلة كما في الإبانة لأبي نصر عن ابن عباس قال: آخر حرف عارض به جبريل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ والمعنى لا أقول إن مجموع الأسماء الثلاثة حرف بل مسمى كل منها حرف وإنما لم يذكر تلك الحروف من حيث إنها أجزاء بأن يقابل (1) ألف حرف ولام حرف تنبيها على أن المعتبر في عدد الحسنات الحروف المقروءة التي هي المسميات سواء كانت أجزاء لها أو لكلمات أخر لا من حيث إنها أجزاء لتلك الأسماء فيكون عدد الحسنات في نحو ضرب ثلاثين. والحاصل أن الحروف المذكورة من حيث إنها مسميات تلك الأسماء أجزاء لجميع الكلم مفردة بقراءتها ومن حيث إنها أجزاء تلك الأسماء لا تكون مفردة إلا عند قراءة تلك الأسماء والمعتبر في عدد الحسنات الاعتبار الأول دون الثاني ذكر ذلك بعض المحققين ثم إنهم راعوا في هذه التسمية لطيفة حيث جعلوا المسمى صدر كل اسم له كما قاله ابن جني وذلك ليكون تأديتها بالمسمى أول ما يقرع السمع ألا ترى أنك إذا قلت جيم فأول حروفه جيم وإذا قلت ألف فأول حروفه ألف التي نطقت بها همزة ولما لم يمكن للواضع أن يبتدىء بالألف التي هي مدة ساكنة دعمها باللام قبلها متحركة ليمكن الابتداء بها فقالوا لا كما- لا- كما يقوله المعلمون لام ألف فإنه خطأ (2) وخص اللام بالدعامة لأنهم توصلوا إلى اللام بأختها في التعريف فكأنهم قصدوا ضربا من المعاوضة فالألف هي أول حرف المعجم صورة الهمزة في الحقيقة ويضاهي هذا في إيداع اللفظ دلالة على المعنى البسملة والحمدلة والحوقلة وتسميه النحاة نحتا وحكم أسماء الحروف سكون الإعجاز ما لم تكن معمولة وهل هي معربة أم مبنية أم لا ولا خلاف مبني على الاختلاف في تفسير المعرب والمبني فالخلاف لفظي. وللناس فيما يعشقون مذاهب. والبحث مستوفى في كتبنا النحوية، وقد كثر الكلام في شأن أوائل السور والذي أطبق عليه الأكثر وهو مذهب سيبويه وغيره من المتقدمين أنها أسماء لها وسميت بها إشعارا بأنها كلمات معروفة التركيب فلو لم تكن وحيا من الله تعالى لم تتساقط مقدرتهم دون معارضتها وذلك كما سموا بلام والد حارثة بن لام الطائي وبصاد النحاس وبقاف الجبل واستدل عليه بأنها لو لم تكن مفهمة كان الخطاب بها كالخطاب بالمهمل والتكلم بالزنجي مع العربي ولم يكن القرآن بأسره بيانا وهدى ولما أمكن التحدي به وإن كانت مفهمة فأما أن يراد بها السور التي هي مستهلها على   (1) قوله بأن بقابل إلخ كذا بخطه وفيه ما يحتاج إلى التأمل اهـ مصححه. (2) وما قاله بشار في وصف سكران يخط في الطريق لام ألف فأراد بخط معوجا كلام ومستقيما كألف فافهم اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 أنها ألقابها بناء على ذلك الإشعار أو غير ذلك والثاني باطل لأنه إما أن يكون المراد ما وضعت له في لغة العرب وظاهر أنه ليس كذلك أو غيره وهو باطل لأن القرآن نزل بلسان عربي مبين فلا يحمل على ما ليس في لغتهم وعورض بوجوه، الأول أنا نجد سورا كثيرة افتتحت «بالم- وحم» والمقصود رفع الاشتباه، الثاني لو كانت أسماء لوردت ولاشتهرت بها والشهرة بخلافها كسورة البقرة وآل عمران، الثالث أن العرب لم تتجاوز ما سموا به مجموع اسمين كبعلبك ولم يسم أحد منهم بمجموع ثلاثة أسماء وأربعة وخمسة فالقول بأنها أسماء السور خروج عن لغتهم، الرابع أنه يؤدي إلى اتحاد الاسم والمسمى، الخامس أن هذه الألفاظ داخلة في السور وجزء الشيء متقدم على الشيء بالرتبة واسم الشيء متأخر عنه فيلزم أن يكون متقدما متأخرا معا وهو محال، وأجيب عن الأول بما يجاب عن الأعلام المشتركة من أنها ليست بوضع واحد، وعن الثاني بأنه ورد عنه صلى الله تعالى عليه وسلم «يس قلب القرآن ومن قرأ حم حفظ إلى أن يصبح» وفي السنن «أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سجد في «ص» وإذا ثبت في البعض ثبت الجميع إذ لا فارق مع أن شهرة أحد العلمين لا يضر علمية الآخر فكم من مسمى لا يعرف اسمه إلا بعد التنقير لاشتهاره بغيره كأبي هريرة وذي اليدين وعدم اشتهار بعضها لكونه مشتركا فترك لاحتياجه إلى ضميمة «كالم» هنا، وعن الثالث بأن التسمية بثلاثة أسماء مثلا إنما تمتنع إذا ركبت وجعلت اسما واحدا فأما إذا نثرت نثر أسماء الأعداد فلا لأنها من باب التسمية بما حقه أن يحكى. وقد وردت التسمية بثلاثة ألفاظ- كشاب قرناها، وسر من رأى، ودارابجرد- وسوى سيبويه بين التسمية بالجملة والبيت من الشعر وطائفة من أسماء حروف المعجم، وعن الرابع بأن هذه التسمية من تسمية مؤلف بمفرد والمفرد غير المؤلف فلا اتحاد ألا ترى أنهم جعلوا اسم الحرف مؤلفا منه ومن غيره «كصاد» فهما متغايران ذاتا وصفة، وعن الخامس بأن تأخر ما هو متقدم باعتبار آخر غير مستحيل والجزء مقدم من حيث ذاته مؤخر من حيث وصفه وهو الاسمية فلا محذور، وقال بعضهم: كونها أسماء الحروف المقطعة أقرب إلى التحقيق لظهوره وعدم التجوز فيه وسلامته مما يرد على غيره ولأنه الأمر المحقق وأوفق للطائف التنزيل لدلالته على الإعجاز قصدا ووقوع الاشتراك في الأعلام من واضع واحد فإنه يعود بالنقض على ما هو مقصود العلمية وكلام سيبويه وغيره ليس نصا فيها لاحتمال أنهم أرادوا أنها جارية مجراها- كما يقولون- قرأت بانت سعاد وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1] أي ما أوله ذلك فلما غلب جريانها على الألسنة صارت بمنزلة الأعلام الغالبة فذكرت في باب العلم وأثبتت لها أحكامه على أن ما ذكر في الاعتراض الثالث مما لا محيص عنه إذ عدم وجود التسمية بثلاثة أسماء وأربعة وخمسة في كلام العرب مما لا شك فيه وما نقل عن سيبويه مجرد قياس محتاج للإثبات كما ذكره السيد السند، هذا ووراء هذين القولين أقوال أخشى من نقلها الملال والذي يغلب على الظن أن تحقيق ذلك علم مستور وسر محجوب عجزت العلماء- كما قال ابن عباس- عن إدراكه وقصرت خيول الخيال عن لحاقه، ولهذا قال الصديق رضي الله تعالى عنه: لكل كتاب سر وسر القرآن أوائل السور، وقال الشعبي: سر الله تعالى فلا تطلبوه. بين المحبين سر ليس يفشيه ... قول ولا قلم للخلق يحكيه فلا يعرفه بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا الأولياء الورثة فهم يعرفونه من تلك الحضرة وقد تنطق لهم الحروف عما فيها كما كانت تنطق لمن سبح بكفه الحصى وكلمه الضب والظبي صلّى الله عليه وسلّم كما صح ذلك من رواية أجدادنا أهل البيت رضي الله تعالى عنهم بل متى جنى العبد ثمرة شجرة قرب النوافل علمها وغيرها بعلم الله تعالى الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وما ذكره المستدل سابقا من أنه لو لم تكن مفهمة كان الخطاب بها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 كالخطاب بالمهمل إلخ فمهمل من القول وإن جل قائله لأنه إن أراد إفهام جميع الناس فلا نسلم أنه موجود في العلمية وإن أراد إفهام المخاطب بها وهو هنا الرسول صلّى الله عليه وسلّم فهو مما لا يشك فيه مؤمن وإن أراد جملة من الناس فيا حيهلا إذ أرباب الذوق يعرفونها وهم كثيرون في المحمديين والحمد لله. نجوم سماء كلما انقض كوكب ... بدا كوكب تأوي إليه كواكبه وجهل أمثالنا بالمراد منها لا يضر فإن من الأفعال التي كلفنا بها ما لا نعرف وجه الحكمة فيه كرمي الجمرات والسعي بين الصفا والمروة والرمل والاضطباع والطاعة في مثله أدل على كمال الانقياد ونهاية التسليم فلم لا يجوز أن يأمرنا من لا يسأل عما يفعل جل شأنه بما لم نقف على معناه من الأقوال ويكون المقصود من ذلك ظهور كمال الانقياد من المأمور للآمر ونهاية التسليم والامتثال للحكيم القادر. لو قال تيها قف على جمر الغضى ... لوقفت ممتثلا ولم أتوقف على أن فيه فائدة أخرى هي أن الإنسان إذا وقف على المعنى وأحاط به سقط وقعه عن القلب وإذا لم يقف على المقصود منه مع القطع بأن المتكلم به حكيم فإنه يبقى قلبه منقلبا إليه أبدا ومتلفتا نحوه سرمدا ومتفكرا فيه وطائرا إلى وكره بقدامى ذهنه وخوافيه وباب التكليف اشتغال السر بذكر المحبوب والتفكر فيه وفي كلامه فلا يبعد أن يعلم الله تعالى أن في بقاء العبد ملتفت الذهن مشتغل الخاطر بذلك أبدا مصلحة عظيمة ومنة منه عليه جسيمة ربما يرقى بواسطتها إلى حظائر القدس ومعالم الأنس وأول العشق خيال وهذا لا ينافي كون القرآن عربيا مبينا مثلا لأنه بالنسبة إلى من علمت. وأما التحدي فليس بجميع أجزائه وكون أول السورة مما ينبغي أن يكون مما يتحدى به غير مسلم، ومن عجائب هذه الفواتح أنها نصف حروف المعجم على قول وهي موجودة في تسع وعشرين سورة عدد الحروف كلها على قول، واشتملت على أنصاف أصنافها من المهموسة والمجهورة والشديدة والمطبقة والمستعلية والمنخفضة وحروف القلقلة وقد تكلم الشيخ الأكبر قدس سره على سر عدد حروفها بالتكرار وعدد حروفها بغير تكرار وعلى جملتها في السور وعلى إفرادها في «ص» و «ق» و «ن» وتثنيتها في «يس» و «طه» وأخواتهما وجمعها من ثلاثة فصاعدا ولم بلغت خمسة حروف ولم وصل بعضها وقطع بعض؟ فقال قدس سره في فتوحاته أعاد الله تعالى علينا من طيب نفحاته ما حصله: اعلم أن مبادئ السور المجهولة لا يعلم حقيقتها إلا أهل الصور المعقولة فجعلها تبارك وتعالى تسعا وعشرين سورة وهو كمال الصورة وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ [يس: 39] والتاسع والعشرون القطب الذي به قوام الفلك وهو علة وجوده وهو سورة آل عمران الم اللَّهُ [آل عمران: 1] ولولا ذلك ما ثبتت الثمانية والعشرون وجملتها على تكرار الحروف ثمانية وسبعون حرفا فالثمانية حقيقة البضع قال صلّى الله عليه وسلّم: «الإيمان بضع وسبعون» وهذه الحروف ثمانية وسبعون فلا يكمل عبد أسرار الإيمان حتى يعلم حقائق هذه الحروف في سورها كما أنه إذا علمها من غير تكرار علم تنبيه الله فيها على حقيقة الإيجاد وتفرد القديم سبحانه وتعالى بصفاته الأزلية فأرسلها في قرآنه أربعة عشر حرفا مفردة مبهمة فجعل الثمانية لمعرفة الذات والسبع الصفات منا وجعل الأربعة للطبائع المؤلفة فجاءت اثنتا عشرة موجودة وهذا هو الإنسان من هذا الفلك ومن فلك آخر متركب من أحد عشر ومن عشرة ومن تسعة ومن ثمانية حتى يصل إلى فلك الاثنين ولا يتحلل إلى الأحدية أبدا فإنها مما انفرد بها الحق سبحانه ثم إنه تعالى جعل أولها الألف في الخط والهمزة في اللفظ وآخرها النون، فالألف لوجود الذات على كمالها لأنها غير مفتقرة إلى حركة، والنون لوجود الشطر من العالم وهو عالم التركيب وذلك نصف الدائرة الظاهرة لنا من الفلك والنصف الآخر النون المعقولة عليها التي لو ظهرت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 للحس وانتقلت إلى عالم الروح لكانت دائرة محيطة ولكن أخفى هذه النون الروحانية التي بها كمال الوجود وجعلت نقطة النون المحسوسة دالة عليها فالألف كاملة من جميع وجوهها والنون ناقصة فالشمس كاملة والقمر ناقص لأنه محو فصفة ضوئه معارة وهي الأمانة التي حملها وعلى قدر محوه وسراره إثباته وظهوره ثلاثة لثلاثة فثلاثة غروب القمر القلبي الإلهي في الحضرة الأحدية وثلاثة طلوع القمر القلبي الإلهي في الحضرة الربانية وما بينهما في الخروج والرجوع قدما بقدم لا يختل أبدا ثم جعل سبحانه وتعالى هذه الحروف على مراتب منها موصول ومنها مقطوع ومنها مفرد ومثنى ومجموع ثم نبه أن في كل وصل قطعا وليس في كل قطع وصل فكل وصل يدل على فصل وليس كل فصل يدل على وصل والوصل والفصل في الجمع وغير الجمع والفصل وحده في عين الفرق فما أفرده من هذا فإشارة إلى فناء رسم العبد أولا أو ما أثبته فإشارة إلى وجود رسم العبودية حالا وما جمعه فإشارة إلى الأبد بالموارد التي لا تتناهى والإفراد للبحر الأزلي والجمع للبحر الأبدي والمثنى للبرزخ المحمدي الإنساني والألف فيما نحن فيه إشارة إلى التوحيد والميم إشارة إلى الملك الذي لا يبيد واللام بينهما واسطة ليكون بينهما رابطة، فانظر إلى السطر الذي يقع عليه الخط من اللام فتجد الألف إليه ينتهي أصلها وتجد الميم منه يبتدىء نشؤها ثم تنزل من أحسن تقويم وهو موضع السطر إلى أسفل سافلين منتهى تعريف الميم ونزول الألف إلى السطر مثل قوله «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا» وهو أول عالم التركيب لأنه سماء آدم عليه السلام ويليه فلك النار فلذلك نزل إلى أول السطر فإنه سبحانه وتعالى نزل من مقام الأحدية إلى مقام إيجاد الخليفة نزول تقدس وتنزيه لا نزول تمثيل وتشبيه وكانت اللام واسطة وهي نائبة مناب المكون والكون فهي القدرة التي عنها وجد العالم فأشبهت الألف في النزول إلى أول السطر ولما كانت ممتزجة من المكون والكون فإنه سبحانه وتعالى لا يتصف بالقدرة على نفسه وإنما هو قادر على خلقه فكان وجه القدرة مصروفا إلى الخلق فلا بد من تعلقها بهم ولما كانت حقيقتها لا تتم بالوصول إلى السطر فتكون هي والألف على مرتبة واحدة طلبت بحقيقتها النزول تحت السطر أو عليه كما نزل الميم فنزلت إلى إيجاده ولم تتمكن أن تنزل على صورته فكان لا يوجد عنها إلا الميم فنزلت نصف دائرة حتى بلغت إلى السطر من غير الجهة التي نزلت منها فصارت نصف فلك محسوس تطلب نصف فلك معقول فكان منهما فلك دائر فكان العالم كله في ستة أيام أجناسا من أول يوم الأحد إلى آخر يوم الجمعة وبقي يوم السبت للانتقال من مقام إلى مقام ومن حال إلى حال فصار الم فلكا محيطا من ورائه علم الذات والصفات والأفعال والمفعولات فمن قرأها بهذه الحقيقة حضر بالكل للكل مع الكل إلى آخر ما قال، وذكر في كتاب الإسراء إلى المقام الأسرى ما يشير إلى دقائق أفكار وخفايا أسرار مبنية على أعداد الحروف وهي ثلاثة آلاف وخمسمائة واثنين وثلاثين (1) وأول التفصيل من نوح إلى إشراق يوح ثم إلى آخر التركيب الذي نزل فيه الكلمة والروح فبعد عدده تضربه وتجمعه وتحط منه طرحا وتضعه يبدو لك تمام الشريعة حتى إلى انخرام الطبيعة، ومما يستأنس به لذلك ما رواه العز ابن عبد السلام أن عليا رضي الله تعالى عنه استخرج وقعة معاوية من «حمعسق» واستخرج أبو الحكم عبد السلام بن برجان في تفسيره فتح بيت المقدس سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة من قوله تعالى: الم غُلِبَتِ الرُّومُ [الروم: 1] وذكر الشيخ قدس سره كيفية استخراج ذلك بغير الطريق الذي ذكره وهو أن تأخذ عدد «الم» بالجزم الصغير فيكون ثمانية وتجمعها إلى ثمانية البضع في الآية فتكون ستة عشر فتزيل الواحد الذي للألف للأس فتبقى خمسة عشر فتمسكها عندك ثم ترجع إلى العمل في ذلك بالجمل الكبير. وهو الجزم فتضرب ثمانية البضع في   (1) قوله واثنين وثلاثين كذا بخط المؤلف ولعله سبق قلم منه إذ مقامه الرفع فيقال واثنان وثلاثون اهـ مصححه. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 أحد وسبعين واجعل ذلك كله سنين يخرج لك في الضرب خمسمائة وثمانية وستون سنة فتضيف إليها الخمسة عشر التي مسكتها عندك فتصير ثلاثة وثمانين وخمسمائة سنة وهو زمان فتح بيت المقدس على قراءة غلبت بفتح الغين واللام وسيغلبون بضم الياء وفتح اللام انتهى وإذا علمت أن هذه الفواتح السر الأعظم والبحر الخضم والنور الأتم. صفاء ولا ماء ولطف ولا هوا ... ونور ولا نار وروح ولا جسم «فاعلم» أن كل ما ذكر الناس فيها رشفة من بحار معانيها ومن ادعى قصرا فمن قصوره أو زعم أنه أتى بكثير فمن قلة نوره والعارف يقول باندماج جميع ما ذكروه في صدف فرائدها وامتزاج سائر ما سطروه في طمطام فوائدها فإن شئت فقل كما أنها مشتملة على هاتيك الأسرار يشير كل حرف منها إلى اسم من أسمائه تعالى وإن شئت فقل أتى بها هكذا لتكون كالإيقاظ وقرع العصا لمن تحدى بالقرآن وإن شئت فقل جاءت كذلك ليكون مطلع ما يتلى عليهم مستقلا بضرب من الغرابة أنموذجا لما في الباقي من فنون الإعجاز فإن النطق بأنفس الحروف في تضاعيف الكلام وإن كان على طرف الثمام يتناوله الخواص والعوام لكن التلفظ بأسمائها إنما يتأتى ممن درس وخط. وأما من لم يحم حول ذلك قط فأعز من بيض الأنوق وأبعد من مناط العيوق ولا سيما إذا كان على نمط عجيب وأسلوب غريب منبىء عن سر سرى مبني على نهج عبقري بحيث يحار فيه أرباب العقول ويعجز عن إدراكه ألباب الفحول وإن شئت فقل فيها جلب لإصغاء الأذهان وإلجام كل من يلغو من الكفار عند نزول القرآن لأنهم إذا سمعوا ما لم يفهموه من هذا النمط العجيب تركوا اللغط وتوفرت دواعيهم للنظر في الأمر المناسب بين حروف الهجاء التي جاءت مقطعة وبين ما يجاورها من الكلم رجاء أنه ربما جاء كلام يفسر ذلك المبهم ويوضح ذلك المشكل وفي ذلك رد شر كثير من عنادهم وعتوهم ولغوهم الذي كان إذ ذاك يظهر منهم وفي ذلك رحمة منه تعالى للمؤمنين ومنة للمستبصرين وإن شئت فقل: إن بعض مركباتها بالمعنى الذي يفهمه أهل الله تعالى منها يصح إطلاقه عليه سبحانه فيجري ما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: يا كهيعص ويا حمعسق على ظاهره، وإن أبيت فقل المراد يا منزلهما وإن شئت فقل غير ذلك حدث عن البحر ولا حرج. وعندي فيما نحن فيه لطائف وسبحان من لا تتناهى أسرار كلامه فقد أشار سبحانه بمفتتح الفاتحة حيث أتى به واضحا إلى اسمه الظاهر وبمبدأ سورة البقرة إلى اسمه الباطن فهو الأول والآخر والظاهر والباطن وأشار بتقديم الأول إلى أن الظاهر مقدم وبه عموم البعثة نحن نحكم بالظاهر والله تعالى يتولى السرائر، وأيضا في الأول إشارة إلى مقام الجمع وفي الثاني رمز إلى الفرق بعد الجمع وأيضا افتتاح هذه السورة بالمبهم ثم تعقيبه بالواضح فيه أتم مناسبة لقصة البقرة التي سميت السورة بها وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة: 72] وأيضا في الحروف رمز إلى ثلاثة أشياء فالألف إلى الشريعة واللام إلى الطريقة والميم إلى الحقيقة فهناك يكون العبد كالدائرة نهايتها عين بدايتها وهو مقام الفناء في الله تعالى بالكلية وأيضا الألف من أقصى الحلق واللام من طرف اللسان وهو وسط المخارج والميم من الشفة وهو آخرها فيشير بها إلى أن أول ذكر العبد ووسطه وآخره لا ينبغي إلا لله عز وجل، وأيضا في ذلك إشارة إلى سر التثليث فالألف مشير إلى الله تعالى واللام إلى جبريل والميم إلى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وقد قال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه في الألف ست صفات من صفات الله تعالى الابتداء والله تعالى هو الأول والاستواء والله تعالى هو العدل الذي لا يجور والانفراد والله تعالى هو الفرد وعدم الاتصال بحرف وهو سبحانه بائن عن خلقه وحاجة الحروف إليها مع عدم حاجتها وأنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني ومعناها الألفة وبالله تعالى الائتلاف، وبقيت أسرار وأي أسرار يغار عليها العارف الغيور من الأغيار. ومن الظرف أن بعض الشيعة استأنس بهذه الحروف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 لخلافة الأمير عليّ كرم الله تعالى وجهه فإنه إذا حذف منها المكرر يبقى ما يمكن أن يخرج منه «صراط على حق نمسكه» ولك أيها السني أن تستأنس بها لما أنت عليه فإنه بعد الحذف يبقى ما يمكن أن يخرج منه ما يكون خطابا للشيعي وتذكيرا له بما ورد في حق الأصحاب رضي الله تعالى عنهم أجمعين وهو «طرق سمعك النصيحة» وهذا مثل ما ذكروه حرفا بحرف وإن شئت قلت «صح طرقك مع السنة» ولعله أولى وألطف، وبالجملة عجائب هذه الفواتح لا تنفد ولا يحصرها العد. وكل يدّعي وصلا لليلى ... وليلى لا تقر لهم بذاكا وقد اختلف الناس في إعرابها حسبما اختلفت أقوالهم فيها فإن جعلت أسماء للسور مثلا كان لها حظ من الإعراب رفعا ونصبا وجرا فالرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف والنصب بتقدير فعل القسم أو فعل يناسب المقام وجاز النصب بتقدير فعل القسم فيما وقع بعده مجرور مع الواو ونحو ق وَالْقُرْآنِ [ق 1] مع أنه يلزم المخالفة بين المتعاطفين في الإعراب أن جعلت الواو للعطف واجتماع قسمين على شيء واحد إن جعلت للقسم وهو مستكره كما قاله الخليل وسيبويه لأن المعطوف عليه في محل يقع فيه المجرور فيكون العطف على المحل ويقدر الجواب من جنس ما بعد أن كانت للقسم أولا حاجة للتقدير ويكتفى بجواب واحد إذ لا مانع من أحد القسمين مؤكدا للآخر من غير عطف أو يقال هما لما كانا مؤكدين لشيء واحد وهو الجواب جاز ذلك ولا وجه وجيه للاستكراه وإن كان للضلالة أب فالتقليد أبوها والجر على إضمار حرف القسم. وقول ابن هشام أنه وهم لأن ذلك مختص عند البصريين باسم الله سبحانه وبأنه لا جواب للقسم في سورة البقرة ونحوها ولا يصح جعل ما بعد جوابا وحذفت اللام كحذفها في قوله: ورب السماوات العلى وبروجها ... والأرض وما فيها المقدر كائن لأن ذلك على قلته مخصوص باستطالة القسم وهم لا يخفى على الوليد إذ مذهبنا كوفي واتباع البصري ليس بفرض وكثيرا ما يستغنى عن الجواب بما يدل عليه والمقسم عليه مضمون ما بعده وهو قرينة قريبة وبهذا صرح في التسهيل وشروحه، وحديث الاستطالة ليس بلازم بل هو الأغلب كما صرح به ابن مالك. ثم ما كان من هذه الفواتح مفردا كص أو موازنا له كحم بزنة قابيل يتأتى فيه الإعراب لفظا أو محلا بأن يسكن حكاية لحاله قبل ويقدر إعرابه وهو غير منصرف للعلمية والتأنيث وما خالفهما نحو كهيعص يحكى لا غير وجازت الحكاية في هذه الأسماء مع أنها مختصة بالأعلام التي نقلت من الجمل كتأبط شرا لرعاية صورها المنبئة عن نقلها إلى العلمية وفي الألفاظ التي وقعت أعلاما لأنفسها كضرب فعل ماض لحفظ المجانسة مع المسمى في الإشعار بأنها لم تنقل عن أصلها بالكلية لأنها لكثرة استعمالها معدودة موقوفة صارت هذه الحالة كأنها أصل فلما جعلت أعلاما جازت حكايتها على تلك الهيئة الراسخة تنبيها على أن فيها سمة من ملاحظة الأصل وهو الحروف المبسوطة. والمقصد الإيقاظ وقرع العصا فتجويز الحكاية مخصوص بهذه الأسماء أعلاما للسور وإلا فلم تجز الحكاية كذا في الحواشي الشريفة الشريفية وإطباق النحاة على أن المفردات تحكي بعد من وأي الاستفهاميتين وبدونهما كقولهم دعنا من تمرتان مخالف لدعوى الاختصاص التي حكاها كما لا يخفى وإن أبقيت على معانيها مسرودة على نمط التعديد لم تعرب لعدم المقتضي والعامل وكذا إذا جعلت أبعاضا على الصحيح (1) أو مزيدة للفصل   (1) وقيل لها محل لتنزيلها منزلة ما هي أبعاض له وهو واه وإن ذهب إليه صاحب الدر المصون اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 مثلا نعم إن قدرت بالمؤلف من هذه الحروف كانت في حيز الرفع على ما مر وإن جعلت مقسما بها يكون كل كلمة منها منصوبا أو مجرورا على اللغتين في الله لأفعلن وهل ذلك المجموع نحو «الم» و «حم» أو للألف والحاء مثلا على طريق الرمان حلو حامض؟ خلاف والظاهر الأول وجوز بعضهم الرفع بالابتداء والخبر قسمي محذوفا وتصريح الرضي باختصاص ذلك فيما إذا كان المبتدأ صريحا في القسمية يجعله غير مرتضى، وجعل بعضهم النصب في البعض مخصوصا بما إذا لم يمنع مانع كما في ص وَالْقُرْآنِ [ص: 1] فيتعين الجر للزوم المخالفة بين المتعاطفين واجتماع القسمين حينئذ وفيه ما تقدم فلا تغفل، وبقيت أقوال مبنية على أقوال لا أظنها تخفى عليك إن أحطت خبرا بما قدمناه لديك فتدبر، وفي كون هذه الفواتح آية خلاف فقال الكوفيون: الم آية أينما وقعت وكذلك المص وطسم وأخواتهما وطه ويس وحم وأخواتها وكهيعص آية وحم عسق آيتان وأما المر وأخواتها الخمس فليست بآية وكذلك طس وص وق ون. وقال البصريون: ليس شيء من ذلك آية وفي المرشد أن الفواتح في السور كلها آيات عند الكوفيين من غير تفرقة وليس بشيء كقول بعض أن الم في آل عمران ليست بآية ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ جملة مستأنفة وابتداء كلام أو متعلقة بما قبلها وفيه احتمالات أطالوا فيها وكتاب الله تعالى يحمل على أحسن المحامل وأبعدها من التكلف وأسوغها في لسان العرب وذلك إشارة إلى الكتاب الموعود به صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا كما قال الواحدي أو على لسان موسى وعيسى عليهما السلام لقوله تعالى: وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا الآية ويؤيده ما روي عن كعب عليكم بالقرآن فإنه فهم العقل ونور الحكمة وينابيع العلم وأحدث الكتب بالله عهدا، وقال في التوراة يا محمد إني منزل عليك توراة حديثة تفتح بها «أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا كما قاله غير واحد أو إلى ما بين أيدينا والإشارة بذلك للتعظيم وتنزيل البعد الرتبي منزلة البعد الحقيقي كما في قوله تعالى: فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ [يوسف: 32] كما اختاره في المفتاح أو لأنه لما نزل عن حضرة الربوبية وصار بحضرتنا بعد ومن أعطى غيره شيئا أو أوصله إليه أو لاحظ وصوله عبر عنه بذلك لأنه بانفصاله عنه بعيد أو في حكمه، وقد قيل: كل ما ليس في يديك بعيد. ولما لم يتأت هذا المعنى في قوله تعالى: هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ [الإنعام: 92، 155] لأنه إشارة إلى ما عنده سبحانه لم يأت بذلك مع بعد الدرجة وهذا الذكر حروف التهجي في الأول وهي تقطع بها الحروف وهو لا يكون إلا في حقنا وعدم ذكرها في الثاني فلذا اختلف المقامان وافترقت الإشارتان كما قاله السهيلي، وهو عند قوم تحقيق ويرشدك إلى ما فيه عندي نظر دقيق وأبعد بعضهم فوجه البعد بأن القرآن لفظ وهو من قبيل الأعراض السيالة الغير القارة فكل ما وجد منه اضمحل وتلاشى وصار منقضيا غائبا عن الحس وما هو كذلك في حكم البعيد، وقيل لأن صيغة البعيد والقريب قد يتعاقبان كقوله تعالى في قصة عيسى عليه السلام: ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ [آل عمران: 58] ثم قال تعالى: إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [آل عمران: 62] وله نظائر في الكتاب الكريم ونقله الجرجاني عن طائفة وأنشدوا: أقول له والرمح يأطر متنه ... تأمل خفافا إنني أنا ذلكا وليس بنص لاحتمال أن يكون المراد إنني أنا ذلك الذي كنت تحدث عنه وتسمع به، وقول الإمام الرازي: إن ذلك للبعيد عرفا لا وضعا فحمله هنا على مقتضى الوضع اللغوي لا العرفي مخالف لما نفهمه من كتب أرباب العربية وفوق كل ذي علم عليم والقول بأن الإشارة إلى التوراة والإنجيل- كما نقل عن عكرمة- إن كان قد ورد فيه حديث صحيح قبلناه وتكلفنا له وإلا ضربنا به الحائط وما كل احتمال يليق، وأغرب ما رأيناه في توجيه الإشارة أنها إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 الصراط المستقيم في الفاتحة كأنهم لما سألوا الهداية لذلك قيل لهم ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب وهذا إن قبلته يتبين به وجه ارتباط سورة البقرة بسورة الحمد على أتم وجه وتكون الإشارة إلى ما سبق ذكره والذي تنفتح له الآذان أنه إشارة إلى القرآن. ووجه البعد ما ذكره صاحب المفتاح ونور القرب يلوح عليه، والمعتبر في أسماء الإشارة هو الإشارة الحسية التي لا يتصور تعلقها إلا بمحسوس مشاهد فإن أشير بها إلى ما يستحيل إحساسه نحو ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ [غافر: 62، 64، الإنعام: 102، يونس: 3، فاطر: 13، الزمر: 6] أو إلى محسوس غير مشاهد نحو تِلْكَ الْجَنَّةُ [مريم: 63] فلتصييره كالمشاهد وتنزيل الإشارة العقلية منزلة الحسية كما في الرضي فالإشارة هنا لا تخلو عن لطف، وقول بعضهم إن اسم الإشارة إذا كان معه صفة له لم يلزم أن يكون محسوسا- وهم محسوس- والكتاب كالكتب مصدر كتب ويطلق على المكتوب كاللباس بمعنى الملبوس والكتب- كما قال الراغب- ضم أديم إلى أديم بالخياطة، وفي المتعارف ضم الحروف بعضها إلى بعض والأصل في الكتابة النظم بالخط وقد يقال ذلك للمضموم بعضه إلى بعض باللفظ ولذا يستعار كل واحد للآخر ولذا سمي كتاب الله وإن لم يكن كتابا والكتاب هنا إما باق على المصدرية وسمي به المفعول للمبالغة أو هو بمعنى المفعول وأطلق على المنظوم عبارة قبل أن تنظم حروفه التي يتألف منها في الخط تسمية بما يؤول إليه مع المناسبة وقول الإمام- إن اشتقاق الكتاب من كتبت الشيء إذا جمعته وسميت الكتيبة لاجتماعها فسمي الكتاب كتابا لأنه كالكتيبة على عساكر الشبهات أو لأنه اجتمع فيه جميع العلوم أو لأن الله تعالى ألزمك فيه التكاليف على الخلق- كلام ملفق لا يخفى ما فيه، ويطلق الكتاب كالقرآن على المجموع المنزل على النبي المرسل صلّى الله عليه وسلّم وعلى القدر الشائع بين الكل والجزء ولا يحتاج هنا إلى ما قيل في دفع المغالطة المعروفة بالجذر الأصم ولا أرى فيه بأسا إن احتجته واللام في الكتاب للحقيقة مثلها في أنت الرجل والمعنى ذلك هو الكتاب الكامل الحقيق بأن يخص به اسم الكتاب لغاية تفوقه على بقية الأفراد في حيازة كمالات الجنس حتى كأن ما عداه من الكتب السماوية خارج منه بالنسبة إليه، وقال ابن عصفور: كل لام وقعت بعد اسم الإشارة وأي في النداء وإذ الفجائية فهي للعهد الحضوري وقرىء تنزيل الكتاب، والريب الشك وأصله مصدر رابني الشيء إذا حصل فيك الريبة وهي قلق النفس ومنه ريب الزمان لنوائبه فهو مما نقل من القلق إلى ما هو شبيه به ويستعمل أيضا لما يختلج في القلب من أسباب الغيظ، وقول الإمام الرازي: إن هذين قد يرجعان إلى معنى الشك لأن ما يخاف من الحوادث محتمل فهو كالمشكوك وكذلك ما اختلج في القلب فإنه غير مستيقن مستيقن رده، فالمنون من الريب أو يشك فيه ويختلج في القلب من أسباب الغيظ على الكفار مثلا مما «لا ريب فيه» أو فيه ريب وفرق أبو زيد بين رابني وأرابني فيقال رابني من فلان أمر إذا كنت مستيقنا منه بالريب وإذا أسأت به الظن ولم تستيقن منه قلت أرابني وعليه قول بشار: أخوك الذي إن ربته قال إنما ... أراب وإن عاتبته لان جانبه وبعض فرق بين الريب والشك بأن الريب شك مع تهمة، وقال الراغب: الشك وقوف النفس بين شيئين متقابلين بحيث لا يترجح أحدهما على الآخر بأمارة، والمرية التردد في المتقابلين وطلب الأمارة من مري الضرع أي مسحه للدر، والريب أن يتوهم في الشيء ثم ينكشف عما توهم فيه، وقال الجولي: يقال الشك لما استوى فيه الاعتقادان أو لم يستويا ولكن لم ينته أحدهما لدرجة الظهور الذي تنبني عليه الأمور والريب لما لم يبلغ درجة اليقين وإن ظهر نوع ظهور ولذا حسن هنا لا رَيْبَ فِيهِ للإشارة إلى أنه لا يحصل فيه ريب فضلا عن شك ونفى سبحانه الريب فيه مع كثرة المرتابين- لا كثرهم الله تعالى- على معنى أنه في علو الشأن وسطوع البرهان بحيث لا يرتاب العاقل بعد النظر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 في كونه وحيا من الله تعالى لا أن لا يرتاب فيه حتى لا يصح ويحتاج إلى تنزيل وجود الريب عن البعض منزلة العدم لوجود ما يزيله، وقيل: إنه على الحذف كأنه قال لا سبب ريب فيه لأن الأسباب التي توجبه في الكلام التلبيس والتعقيد والتناقض والدعاوى العارية عن البرهان وكل ذلك منتف عن كتاب الله تعالى، وقيل معناه النهي وإن كان لفظه خبرا أي لا ترتابوا فيه على حد فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ [البقرة: 197] وقيل معناه لا ريب فيه للمتقين فالظرف صفة وللمتقين خبر وهُدىً حال من الضمير المجرور أي لا ريب كائنا فيه للمتقين حال كونه هاديا وهي حال لازمة فيفيد انتفاء الريب في جمع الأزمنة والأحوال ويكون التقييد كالدليل على انتفاء الريب و «لا» لنفي اتصاف الاسم بالخبر لا لنفي قيد الاسم فلا تتوجه إليه ليختل المعنى نعم هو قول قليل الجدوى مع أن الغالب في الظرف الذي بعد لا هذه كونه خبرا وإنما لم يقل سبحانه لا فيه ريب على حد لا فِيها غَوْلٌ [الصافات: 47] لأن التقديم يشعر بما يبعد عن المراد وهو أن كتابا غيره فيه الريب كما قصد في الآية تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها فليس فيها ما في غيرها من العيب قاله الزمخشري وبعضهم لم يفرق بين ليس في الدار رجل وليس رجل في الدار حتى أنكر أبو حيان إفادة تقديم الخبر هنا الحصر وهو مما لا يلتفت إليه، وقرأ سليم أبو الشعثاء لا ريب فيه بالرفع وهو لكونه نقيضا لريب فيه وهو محتمل لأن يكون إثباتا لفرد ونفيه يفيد انتفاءه فلا يوجب الاستغراق كما في القراءة المشهورة ولهذا جاز لا رجل في الدار بل رجلان دون لا رجل فيها بل رجلان فلا لعموم النفي لا لنفي العموم والوقف على فِيهِ هو المشهور وعليه يكون الكتاب نفسه هدى وقد تكرر ذلك في التنزيل وعن نافع وعاصم الوقف على لا رَيْبَ ولا ريب في حذف الخبر، وذهب الزجاج إلى جعل لا رَيْبَ بمعنى حقا فالوقف عليه تام إلا أنه أيضا دون الأول، وقرأ ابن كثير «فيهي» بوصل الهاء ياء في اللفظ وكذلك كل هاء كناية قبلها ياء ساكنة فإن كان قبلها ساكن غير الياء وصلها بالواو ووافقه حفص في فِيهِ مُهاناً [الفرقان: 69] وملاقيه وسأصليه، والباقون لا يشبعون وإذا تحرك ما قبل الهاء أشبعوه، وقرأ الزهري وابن جندب بضم الهاء من الكنايات في جميع القرآن على الأصل «والهدى» في الأصل مصدر هدى أو عوض عن المصدر وكل في كلام سيبويه ولم يجئ من المصادر بهذه الزنة إلا قليل كالتقى، والسرى، والبكى بالقصر في لغة ولقى كما قال الشاطبي وأنشد: وقد زعموا حلما لقاك فلم أزد ... بحمد الذي أعطاك حلما ولا عقلا والمراد منه هنا اسم الفاعل بأحد الوجوه المعروفة في أمثاله وهو لفظ مؤنث عند ابن عطية ومذكر عند اللحياني وبنو أسد يؤنثون كما قال الفراء فهو كالهداية وقد تقدم معناها. وفي الكشاف هي الدلالة الموصلة إلى البغية واستدل عليه بثلاثة وجوه، الأول وقوع الضلال في مقابله كما في قوله تعالى: لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ [سبأ: 24] والضلال عبارة عن الخيبة وعدم الوصول إلى البغية فلو لم يعتبر الوصول في مفهوم الهدى لم يتقابلا لجواز الاجتماع بينهما، والثاني أنه يقال مهدي في موضع المدح كمهتد ومن حصل له الدلالة من غير الاهتداء لا يقال له ذلك فعلم أن الإيصال معتبر في مفهومه، والثالث أن اهتدى مطاوع هدى ولن يكون المطاوع في خلاف معنى أصله ألا ترى إلى نحو كسره فانكسر وفيه بحث. أما أولا فلأن المذكور في مقابلة الضلالة هو الهدى اللازم بمعنى الاهتداء مجازا أو اشتراكا وكلامنا في المتعدي ومقابله الإضلال ولا استدلال به إذ ربما يفسر بالدلالة على ما لا يوصل ولا يجعله ضالا على أنه لو فسرت الهداية بمطلق الدلالة على ما من شأنه الإيصال أوصل أم لا، وفسر الضلال المقابل لها- تقابل الإيجاب والسلب- بعدم تلك الدلالة المطلقة لزم منه عدم الوصول لأن سلب الدلالة المطلقة سلب للمقيدة إذ سلب الأعم يستلزم سلب الأخص فليس في هذا التقابل ما يرجح المدعى، وأما ثانيا فلأنا لا نسلم أن الضلالة عبارة عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 الخيبة إلخ بل هو العدول عن الطريق الموصل إلى البغية فيكون الهدى عبارة عن الدلالة على الطريق الموصل، نعم إن عدم الوصول إلى البغية لازم للضلالة ويجوز أن يكون اللازم أعم، وأما ثالثا فلأنه لا يلزم من عدم إطلاق المهدي إلا على المهتدي أن يكون الوصول معتبرا في مفهوم الهدى لجواز غلبة المشتق في فرد من مفهوم المشتق منه، وأما رابعا فلأنا لا نسلم أن اهتدى مطاوع هدى بل هو من قبيل أمره فأتمر من ترتب فعل يغاير الأول فإن معنى هداه فاهتدى دله على الطريق الموصل فسلكه بدليل أنه يقال هداه فلم يهتد على أن جمعا يعتد بهم قالوا: لا يلزم من وجود الفعل وجود مطاوعه مطلقا ففي المختار لا يجب أن يوافق المطاوع أصله ويجب في غيره ويؤيده قوله تعالى: وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً [الإسراء: 59] مع قوله سبحانه: وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً [الإسراء: 60] فقد وجد التخويف بدون الخوف ولا يقال كسرته فما انكسر والفرق بينهما مفصل في عروس الأفراح، وأما خامسا فلأن ما ذكره معارض بما فيه الهداية وليس فيه وصول إلى البغية وقد مر بعضه ولهذا اختلفوا هل هي حقيقة في الدلالة المطلقة مجاز في غيرها أو بالعكس أو هي مشتركة بينهما أو موضوعة لقدر مشترك؟ وإلى كل ذهب طائفة، قيل (1) والمذكور في كلام الأشاعرة أن المختار عندهم ما ذكر في الكشاف وعند المعتزلة ما ذكرناه والمشهور هو العكس- والتوفيق بأن كلام الأشاعرة في المعنى الشرعي والمشهور مبني على المعنى اللغوي أو العرفي- يخدشه اختيار صاحب الكشاف مع تصلبه في الاعتزال ما اختاره مع أن الظاهر في القرآن المعنى الشرعي فالأظهر للموفق عكس هذا التوفيق، والحق عند أهل الحق أن الهداية مشتركة بين المعنيين المذكورين وعدم الإهلاك وبه يندفع كثير من القال والقيل «والمتقين» جمع متق اسم فاعل من وقاه فاتقى ففاؤه واو لا تاء، والوقاية لغة الصيانة مطلقا وشرعا صيانة المرء نفسه عما يضر في الآخرة والمراتب متعددة لتعدد مراتب الضرر فأولاها التوقي عن الشرك والثانية التجنب عن الكبائر- ومنها الإصرار على الصغائر- والثالثة ما أشير إليه بما رواه الترمذي عنه صلّى الله عليه وسلّم «لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس» وفي هذه المرتبة يعتبر ترك الصغائر ولذا قيل: خل الذنوب كبيرها ... وصغيرها فهو التقى واصنع كماش فوق أر ... ض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرن صغيرة ... إن الجبال من الحصى وفي هذه المرتبة اختلفت عبارات الأكابر، فقيل: التقوى أن لا يراك الله حيث نهاك ولا يفقدك حيث أمرك، وقيل: التبري عن الحول والقوة، وقيل: التنزه عن كل ما يشغل السر عن الحق، وفي هذا الميدان تراكضت أرواح العاشقين وتفانت أشباح السالكين حتى قال قائلهم: ولو خطرت لي في سواك إرادة ... على خاطري سهوا حكمت بردتي وهداية الكتاب المبين شاملة لأرباب هذه المراتب أجمعين فإن أريد بكونه هُدىً لِلْمُتَّقِينَ إرشاده إياهم إلى تحصيل المرتبة الأولى فالمراد بهم المشارفون مجازا لاستحالة تحصيل الحاصل وإيثاره على العبارة المعربة عن ذلك للإيجاز، وتصدير السورة الكريمة بذكر أوليائه تعالى وتفخيم شأنهم واعتبار المشارفة بالنظر إلى زمان نسبة الهدى فلا ينافي حسن التعقيب ب الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ لأن ذلك كما قيل بالنظر إلى زمان إثبات تلك النسبة كما يقال قتل قتيلا (2)   (1) قائله الجلال الدواني اهـ منه. (2) قوله قتل قتيلا كذا بخطه اهـ مصححه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 دفن في موضع كذا وربما جعل التقدير هم الذين في جواب من المتقون وحمل الكل على المشارفة يأباه السوق وقد يقال المتقين مجاز بالمشارفة والصفة ترشيح بلا مشارفة ولا تجوز كما هو المعهود في أمثاله أو نقول هو على حد نبينا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الشفيع يوم المحشر فلا إشكال وإن أريد به إرشاده إلى تحصيل إحدى المرتبتين الأخيرتين فإن عني بالمتقين أصحاب المرتبة الأولى تعينت الحقيقة وإن عني بهم أصحاب إحدى الطبقتين الأخيرتين تعين المجاز لأن الوصول إليهما إنما يتحقق بهدايته المرقية، وكذا الحال فيما بين المرتبة الثانية والثالثة فإن أريد بالهدى الإرشاد إلى تحصيل المرتبة الثالثة فإن عني بالمتقين أصحاب المرتبة الثانية تعينت الحقيقة وإن عني بهم أصحاب المرتبة الثالثة تعين المجاز، ولفظ الهداية حقيقة في جميع الصور وأما إن أريد بكونه هدى لهم تثبيتهم على ما هم عليه وإرشادهم إلى الزيادة فيه على أن يكون مفهوما داخلا في المعنى المستعمل فيه فهو مجاز لا محالة ولفظ المتقين حقيقة على كل حالة كذا حققه مولانا مفتي الديار الرومية ومنه يعلم اندفاع ما قيل إن الهداية إن فسرت بالدلالة الموصلة يقتضي أن يكون هُدىً لِلْمُتَّقِينَ دالا على تحصيل الحاصل كأنه قيل دلالة موصلة إلى المطلوب للواصلين إليه وإن فسرت بالدلالة على ما يوصل كان هناك محذور آخر فإن المهتدي إلى مقصوده يكون دلالته على ما يوصله إليه لغوا، ووجه الاندفاع ظاهر لكن حقق بعض المحققين أن الأظهر أنه لا حاجة إلى التجوز هنا لأنه إذا قيل السلاح عصمة للمعتصم والمال غنى للغني على معنى سبب غناه وعصمته لم يلزم أن يكون السلاح والمال سببي عصمة وغنى حادثين غير ما هما فيه، فما نحن فيه غير محتاج للتأويل وليس من المجاز في شيء إذ المتقي مهتد بهذا الهدى حقيقة، وقد اختلف أهل العربية والأصول في الوصف المشتق هل هو حقيقة في الحال أو الاستقبال وهل المراد زمان النسبة أو التكلم من غير واسطة بينهما؟ والذي عليه المحققون أنه زمان النسبة، وقد ذهب السبكي والكرماني إلى أن من قتل قتيلا فله سلبه حقيقة وخطآ من قال إنه مجاز ولا يقال إنه لا مفاد لإثبات القتل لمقتول به لأن قصد البليغ بمعونة القرينة العقلية أن القتل المتصف به صادر عن هذا القاتل دون غيره فكأنه قيل لم يشاركه فيه غيره فسلبه له دون غيره، ومن هنا جعل المعنى فيما نحن فيه لا هدى للمتقين إلا بكتاب الله تعالى المتلالئ نور هدايته الساطع برهان دلالته وإذا علق حكم على اسم الإشارة الموصوف نحو عصرت هذا الخل مثلا فهناك تعليقان في الحقيقة تعليق الحكم السابق بذات المشار إليه وتعليق الإشارة والمعتبر زمان الإشارة لا زمان الحكم السابق فإذا صح إطلاق الخل على المشار إليه واتصافه بالخلية مثلا في زمان الإشارة- مع قطع النظر- عن الحكم السابق كان حقيقة وإلا فمجاز فافهم وتدبر. ثم لا يقدح في كونه هدى ما فيه من المجمل والمتشابه لأنه لا يستلزم كونه هدى هدايته باعتبار كل جزء منه فيجوز أن يذكر فيه ما فيه ابتلاء لذوي الألباب من الفحول بما لا تصل إليه الأفهام والعقول أو لأن ذلك لا ينفك عن بيان المراد منه كما ذهب إليه الشافعية فهو بعد التبيين هدى وتوقف هدايته على شيء لا يضر فيها كما أنه على رأي متوقف على تقدم الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فقد نص الإمام علي أنه (1) كل ما يتوقف صحة كون القرآن حجة على صحته لا يكون القرآن هدى فيه كمعرفة ذات الله وصفاته ومعرفة النبوات لئلا يلزم الدور إلا أن يكون هدى في تأكيد ما في العقول والاعتداد به، وبعض صحح أن القرآن في نفسه هدى في كل شيء حتى معرفة الله تعالى لمن تأمل في أدلته العقلية وحججه اليقينية كما يشعر به ظاهر قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ   (1) لعلها أن اهـ مصححه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 هُدىً لِلنَّاسِ [البقرة: 185] ويكون الاقتصار على المتقين هنا بناء على تفسيرنا الهداية مدحا لهم ليبين سبحانه أنهم الذين اهتدوا وانتفعوا به كما قال تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النازعات: 45] مع عموم إنذاره صلى الله تعالى عليه وسلم وأما غيرهم فلا وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً [الإسراء: 45] ولا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الإسراء: 82] وأما القول بأن التقدير- هدى للمتقين والكافرين- فحذف لدلالة المتقين على حد سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] فمما لا يلتفت إليه هذا ولا يخفى ما في هذه الجمل والآيات من التناسق ف الم أشارت إلى ما أشارت وذلِكَ الْكِتابُ قررت بعض إشارتها بأنه الكتاب الكامل الذي لا يحق غيره أن يسمى كتابا في جنسه أي باب التحدي والهداية ولا رَيْبَ فِيهِ كالتأكيد لأحد الركنين وهُدىً لِلْمُتَّقِينَ كالتأكيد للركن الآخر. وخلاصته هو الحقيق بأن يتحدى به لكمال نظمه في باب البلاغة وكماله في نفسه وفيما هو المقصود منه، وقيل: بالحمل على الاستئناف كأنه سئل ما باله صار معجزا؟ فأجيب بأنه كامل بلغ أقصى الكمال لفظا ومعنى وهو معنى ذلك الكتاب ثم سئل عن مقتضى الاختصاص بكونه هو الكتاب الكامل فأجيب بأنه لا يحوم حوله ريب ثم لما طولب بالدليل على ذلك استدل بكونه هُدىً لِلْمُتَّقِينَ لظهور اشتماله على المنافع الدينية والدنيوية والمصالح المعاشية والمعادية بحيث لا ينكره إلا من كابر نفسه وعاند عقله وحسه، وقد يقال الإعجاز مستلزم غاية الكمال وغاية كمال الكلام البليغ ببعده من الريب والشبه لظهور حقيته وذلك مقتض لهدايته وإرشاده فإن نظر إلى اتحاد المعاني بحسب المال كان الثاني مقررا للأول فلذا ترك العطف وإن نظر إلى أن الأول مقتض لما بعده للزومه بعد التأمل الصادق فالأول لاستلزامه ما يليه وكونه في قوته يجعله منزلا منه منزلة بدل الاشتمال لما بينهما من المناسبة والملازمة فوزانه وزان حسنها في أعجبتني الجارية حسنها وترك العطف حينئذ لشدة الاتصال بين هذه الجمل. وفيها أيضا من النكت الرائقة والمزايا الفائقة ما لا يخفى جلالة قدره على من مرّ ما ذكرناه على فكره. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ صفة للمتقين قبل، فإن أريد بالتقوى أولى مراتبها فمخصصة أو ثانيتها فكاشفة أو ثالثتها فمادحة وفي شرح المفتاح الشريفي إن حمل المتقي على معناه الشرعي- أعني الذي يفعل الواجبات ويترك السيئات- فإن كان المخاطب جاهلا بذلك المعنى كان الوصف كاشفا وإن كان عالما كان مادحا وإن حمل على ما يقرب من معناه اللغوي كان مخصصا، واستظهر كون الموصول مفصولا قصد الإخبار عنه بما بعده لا إثباته لما قبله وإن فهم ضمنا فهو وإن لم يجر عليه كالجاري وهذا كاف في الارتباط، والاستئناف إما نحوي أو بياني كأنه قيل ما بال المتقين خصوا بذلك الهدى، والوقف على المتقين تام على هذا الوجه حسن على الوجه الأول والإيمان في اللغة التصديق أي إذعان حكم المخبر وقبوله وجعله صادقا وهو إفعال من الأمن كأن حقيقة آمن به آمنه التكذيب والمخالفة ويتعدى باللام كما في قوله تعالى: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشعراء: 111] وبالباء كما في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الإيمان أن تؤمن بالله» الحديث، قالوا: والأول باعتبار تضمينه معنى الإذعان والثاني باعتبار تضمينه معنى الاعتراف إشارة إلى أن التصديق لا يعتبر ما لم يقترن به الاعتراف وقد يطلق بمعنى الوثوق من حيث إن الواثق صار ذا أمن وهو فيه حقيقة عرفية أيضا كما في الأساس ويفهم مجازيته- ظاهر كلام الكشاف- وأما في الشرع فهو التصديق بما علم مجيء النبي صلّى الله عليه وسلّم به ضرورة تفصيلا فيما علم تفصيلا وإجمالا فيما علم إجمالا وهذا مذهب جمهور المحققين لكنهم اختلفوا في أن مناط الأحكام الأخروية مجرد هذا المعنى أم مع الإقرار؟ فذهب الأشعري وأتباعه إلى أن مجرد هذا المعنى كاف لأنه المقصود والإقرار إنما هو ليعلم وجوده فإنه أمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 باطن ويجري عليه الأحكام فمن صدق بقلبه وترك الإقرار مع تمكنه منه كان مؤمنا شرعا فيما بينه وبين الله تعالى ويكون مقره الجنة لكن ذكر ابن الهمام أن أهل هذا القول اتفقوا على أنه يلزم أن يعتقد أنه متى طلب منه الإقرار أتى به فإن طولب ولم يقر فهو كفر عناد، وذهب إمامنا أبو حنيفة رحمه الله وغالب من تبعه إلى أن الإقرار وما في حكمه كإشارة الأخرس لا بد منه فالمصدق المذكور لا يكون مؤمنا إيمانا يترتب عليه الأحكام الأخروية كالمصلي مع الرياء فإنه لا تنفعه صلاته ولعل هذا لأنه تعالى ذم المعاندين أكثر مما ذم الجاهلين المقصرين وللمانع أن يجعل الذم للإنكار اللساني ولا شك أنه علامة التكذيب أو للإنكار القلبي الذي هو التكذيب، وحاصل ذلك منع حصول التصديق للمعاند فإنه ضد الإنكار وإنما الحاصل له المعرفة التي هي ضد النكارة والجهالة، وقد اتفقوا على أن تلك المعرفة خارجة عن التصديق اللغوي وهو المعتبر في الإيمان نعم اختلفوا في أنها هل هي داخلة في التصور أم في التصديق المنطقي فالعلامة الثاني على الأول وأنه يجوز أن تكون الصورة الحاصلة من النسبة التامة الخبرية تصورا وأن التصديق المنطقي بعينه التصديق اللغوي ولذا فسره رئيسهم في الكتب الفارسية «بكرويدن» وفي العربية بما يخالف التكذيب والإنكار وهذا بعينه المعنى اللغوي. ويؤيده ما أورده السيد السند في حاشية شرح التلخيص أن المنطقي إنما يبين ما هو في العرف واللغة إلا أنه يرد أن المعنى المعبر عنه «بكرويدن» أمر قطعي وقد نص عليه العلامة في المقاصد ولذا يكفي في باب الإيمان التصديق البالغ حد الجزم والإذعان مع أن التصديق المنطقي يعم الظني بالاتفاق فإنهم يقسمون العلم بالمعنى الأعم تقسيما حاصرا إلى التصور والتصديق توسلا به إلى بيان الحاجة إلى المنطق بجميع أجزائه التي منها القياس الجدلي المتألف من المشهورات، والمسلمات ومنها القياس الخطابي المتألف من المقبولات والمظنونات، والشعري المتألف من المخيلات فلو لم يكن التصديق المنطقي عاما لم يثبت الاحتياج إلى هذه الأجزاء وهو ظاهر وصدر الشريعة على الأخير فإن الصورة الحاصلة من النسبة التامة الخبرية تصديق قطعا فإن كان حاصلا بالقصد والاختيار بحيث يستلزم الإذعان والقبول فهو تصديق لغوي وإن لم يكن كذلك كمن وقع بصره على شيء فعلم أنه جدار مثلا فهو معرفة يقينية وليس بتصديق لغوي فالتصديق اللغوي عنده أخص من المنطقي. وذهب الكرامية إلى أن الإيمان شرعا إقرار اللسان بالشهادتين لا غير، والخوارج والعلاف وعبد الجبار من المعتزلة إلى أن كل طاعة إيمان فرضا كانت أو نفلا، والجبائي وابنه وأكثر معتزلة البصرة إلى أنه الطاعات المفترضة دون النوافل منها، والقلانسي من أهل السنة والنجار من المعتزلة- وهو مذهب أكثر أهل الأثر- إلى أنه المعرفة بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان، قيل: وسر هذا الاختلاف- الاختلاف- في أن المكلف هو الروح فقط أو البدن فقط أو مجموعهما والحق أن منشأ كل مذهب دليل دعا صاحبه إلى السلوك فيه، وأوضح المذاهب أنه التصديق ولذا قال يعسوب المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه إن الإيمان معرفة والمعرفة تسليم والتسليم تصديق، ويؤيد هذا المذهب قوله تعالى: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ [المجادلة: 22] وقوله تعالى: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 14] وقوله تعالى: وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النحل: 106] وقوله صلّى الله عليه وسلم: «اللهم ثبت قلبي على دينك» حيث نسبه فيها وفي نظائرها الغير المحصورة إلى القلب فدل ذلك على أنه فعل القلب وليس سوى التصديق إذ لم يبين في الشرع بمعنى آخر فلا نقل وإلا لكان الخطاب بالإيمان خطابا بما لا يفهم ولأنه خلاف الأصل فلا يصار إليه بلا دليل واحتمال أن يراد بالنصوص الإيمان اللغوي فهو الذي محله القلب لا الإيمان الشرعي فيجوز أن يكون الإقرار أو غيره جزءا من معناه يدفعه أن الإيمان من المنقولات الشرعية بحسب خصوص المتعلق ولذا بين صلى الله تعالى عليه وسلم متعلقه دون معناه فقال: «أن تؤمن بالله وملائكته» الحديث فهو في المعنى اللغوي مجاز في كلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 الشارع والأصل في الإطلاق الحقيقة، وأيضا ورد عطف الأعمال على الإيمان كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [البقرة: 277 وغيرها] والجزء لا يعطف على كله وتنزل الملائكة والروح على أحد الوجهين بتأويل الخروج لاعتبار خطابي وتخصيصها بالنوافل بناء على خروجها خلاف الظاهر وكفى بالظاهر حجة، وأيضا جعل الإيمان شرط صحة الأعمال كقوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ [النساء: 124، طه 112] وهو مؤمن مع القطع بأن المشروط لا يدخل في الشرط لامتناع اشتراط الشيء لنفسه إذ جزء الشرط شرط، وأيضا ورد إثبات الإيمان لمن ترك بعض الأعمال كما في قوله تعالى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات: 9] مع أنه لا يتحقق للشيء بدون ركنه، وأيضا ما ذكرناه أقرب إلى الأصل إذ لا فرق بينهما إلا باعتبار خصوص المتعلق كما لا يخفى، وقد أورد الخصم وجوها في الإلزام، الأول أن الإيمان لو كان عبارة عن التصديق لما اختلف مع أن إيمان الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم لا يشبهه إيمان العوام بل ولا الخواص، الثاني أن الفسوق يناقض الإيمان ولا يجامعه بنص وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ، وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ [الحجرات: 7] ولو كان بمعنى التصديق لما امتنع مجامعته، الثالث أن فعل الكبيرة مما ينافيه لقوله تعالى: وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [الأحزاب: 43] مع قوله تعالى في المرتكب وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ [النور: 2] ولو كان بمعنى التصديق ما نافاه، الرابع أن المؤمن غير مخزي لقوله تعالى: يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [التحريم: 8] وقال سبحانه في قطاع الطريق ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ [المائدة: 33] فهم ليسوا بمؤمنين مع أنهم مصدقون. الخامس مستطيع الحج إذا تركه من غير عذر كافر لقوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ [آل عمران: 97] مع أنه مصدق، السادس من لم يحكم بما أنزل الله مصدق مع أنه كافر بنص وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ [المائدة: 44] السابع أن الزاني كذلك بنص قوله صلى الله تعالى عليه وسلم «لا يزني الزاني وهو مؤمن» وكذا تارك الصلاة عمدا من غير عذر وأمثال ذلك، الثامن أن المستخف بنبي مثلا مصدق مع أنه كافر بالإجماع. التاسع أن فعل الواجبات هو الدين لقوله تعالى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البيّنة: 50] والدين هو الإسلام لقوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران: 19] والإسلام هو الإيمان لأنه لو كان غيره لما قبل من مبتغيه لقوله سبحانه وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران: 85] العاشر أنه لو كان هو التصديق لما صح وصف المكلف به حقيقة إلا وقت صدوره منه كما في سائر الأفعال مع أن النائم والغافل يوصفان به إجماعا مع أن التصديق غير باق فيهما، الحادي عشر أنه يلزم أن يقال لمن صدق بإلهية غير الله سبحانه مؤمن وهو خلاف الإجماع، الثاني عشر أن الله تعالى وصف بعض المؤمنين به عز وجل بكونه مشركا فقال: وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف: 106] ولو كان هو التصديق- لامتنع مجامعته للشرك- سلمنا أنه هو ولكن ما المانع أن يكون هو التصديق باللسان كما قاله الكرامية كيف وأهل اللغة لا يفهمون من التصديق غير التصديق باللسان؟ وأجيب عن الأول بأن التصديق الواحد وإن سلمنا عدم الزيادة والنقصان فيه من النبي والواحد منا إلا أنه لا يمتنع التفاوت بين الإيمانين بسبب تخلل الفعلة والقوة بين أعداد الإيمان المتجددة وقلة تخللها أو بسبب عروض الشبه والتشكيكات وعدم عروضها، وللنبي الأكمل الأكمل صلى الله تعالى عليه وسلم: وللزنبور والبازي جميعا ... لدى الطيران أجنحة وخفق ولكن بين ما يصطاد باز ... وما يصطاده الزنبور فرق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وعن الثاني بأن الآية ليس فيها ما يدل على أن الفسوق لا يجامع الإيمان فإنه لو قيل حبب إليكم العلم وكره إليكم الفسوق لم يدل على المناقضة بين العلم والفسوق وكون الكفر مقابلا للإيمان لم يستفد من الآية بل من خارج ولئن سلمنا دلالة الآية على ما ذكرتم إلا أن ذلك معارض بما يدل على عدمه كقوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [الإنعام: 82] فإنه يدل على مقارنة الظلم للإيمان في بعض، وعن الثالث بأنا لا نسلم أن فعل الكبيرة مناف للإيمان وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور: 2] على معنى لا تحملنكم الشفقة على إسقاط حدود الله تعالى بعد وجوبها، وعن الرابع بأن ما ذكر من الآيتين ليس فيه دلالة لأن آية نفي الخزي إنما دلت على نفيه في الآخرة عن المؤمنين مطلقا أو أصحابه صلى الله تعالى عليه وسلم وآية القاطع دالة على الخزي في الدنيا ولا يلزم من منافاة الخزي يوم القيامة للإيمان منافاته للإيمان في الدنيا، وعن الخامس بأنا لا نسلم كفر من ترك الحج من غير عذر وَمَنْ كَفَرَ [البقرة: 126، آل عمران: 97، النور: 55، لقمان: 23] ابتداء كلام أو المراد من لم يصدق بمناسك الحج وجحدها ولا يتصور مع ذلك التصديق، وعن السادس بأن معنى مَنْ لَمْ يَحْكُمْ [المائدة: 44، 45، 47] الآية من لم يصدق أو من لم يحكم بشيء مما نزل الله أو المراد بذلك التوراة بقرينة السابق، وعن السابع بأنه يمكن أن يقال معنى «لا يزني الزاني وهو مؤمن» أي آمن من عذاب الله أي إن زنى- والعياذ بالله- فليخف عذابه سبحانه وتعالى ولا يأمن مكره أو المراد لا يزني مستحلا لزناه وهو مؤمن أو لا يزني وهو على صفات المؤمن من اجتناب المحظورات، وهذا التأويل أولى من مخالفة الأوضاع اللغوية لكثرته دونها وكذا يقال في نظائر هذا، وعن الثامن بأنا لا ننكر مجامعة الكبائر للإيمان عقلا غير أن الأمة مجمعة على إكفار المستخف فعلمنا انتفاء التصديق- عند وجود الاستخفاف مثلا سمعا- والجمع بين العمل بوضع اللغة وإجماع الإمة على الإكفار أولى من إبطال أحدهما، وعن التاسع بأن الآية قد فرقت بين الدين وفعل الواجبات للعطف وهو ظاهرا دليل المغايرة، سلمنا أن الدين فعل الواجبات وأن الدين هو الإسلام لكن لا نسلم أن الإسلام هو الإيمان وليس المراد بغير الإسلام في الآية ما هو مغاير له بحسب المفهوم وإلا يلزم أن لا تقبل الصلاة والزكاة مثلا بل المغاير له بحسب الصدق فحينئذ يحتمل أن يكون الإسلام أعم وهذا كما إذا قلت من يبتغ غير العلم الشرعي فقد سها فإنك لا تحكم بسهو من ابتغى الكلام، وظاهر أن ذم غير الأعم لا يستلزم ذم الأخص فإن قولك غير الحيوان مذموم لا يستلزم أن يكون الإنسان مذموما، وعن العاشر بأنه مشترك الإلزام فما هو جوابكم فهو جوابنا على أنا نقول التصديق في حالة النوم والغفلة باق في القلب والذهول إنما هو عن حصوله والنوم ضد لإدراك الأشياء ابتداء لا أنه مناف لبقاء الإدراك الحاصل حالة اليقظة، سلمنا إلا أن الشارع جعل المحقق الذي لا يطرأ عليه ما يضاده في حكم الباقي حتى كان المؤمن اسما لمن آمن في الحال أو في الماضي ولم يطرأ عليه ما هو علامة التكذيب، وعن الحادي عشر بأن عدم تسمية من صدق بإلهية غير الله مؤمنا إنما هو لخصوصية متعلق الإيمان شرعا فتسميته مؤمنا يصح نظرا إلى الوضع اللغوي ولا يصح نظرا إلى الاستعمال الشرعي، وعن الثاني عشر بأن الإيمان ضد الشرك بالإجماع وما ذكروه لازم على كل مذهب ونحن نقول: إن الإيمان هناك لغوي إذ في الشرعي يعتبر التصديق بجميع ما علم مجيئه به صلّى الله عليه وسلّم كما تقدم فالمشرك المصدق ببعض لا يكون مؤمنا إلا بحسب اللغة دون الشرع لإخلاله بالتوحيد والآية إشارة إليه، وقولهم أهل اللغة لا يفهمون إلخ مجرد دعوى لا يساعدها البرهان. نعم لا شك أن المقر باللسان وحده يسمى مؤمنا لغة لقيام دليل الإيمان الذي هو التصديق القلبي فيه كما يطلق الغضبان والفرحان على سبيل الحقيقة لقيام الدلائل الدالة عليها من الآثار اللازمة للغضب والفرح ويجري عليه أحكام الإيمان ظاهرا ولا نزاع في ذلك وإنما النزاع في كونه مؤمنا عند الله تعالى والنبي صلّى الله عليه وسلّم ومن بعده كما كانوا يحكمون بإيمان من تكلم بالشهادتين كانوا يحكمون بكفر المنافق فدل على أنه لا يكفي في الإيمان فعل اللسان وهذا مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان وكأنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 لهذا اشترط الرقاشي والقطان مواطأة القلب مع المعرفة عند الأول والتصديق المكتسب بالاختيار عند الثاني، وقال الكرامية: من أضمر الإنكار وأظهر الإذعان وإن كان مؤمنا لغة وشرعا لتحقق اللفظ الدال الذي وضع لفظ الإيمان بإزائه إلا أنه يستحق ذلك الشخص الخلود في النار لعدم تحقق مدلول ذلك اللفظ الذي هو مقصود من اعتبار دلالته، هذا وبعد سبر الأقوال في هذا المقام لم يظهر لي بأس فيما ذهب إليه السلف الصالح وهو أن لفظ الإيمان موضوع للقدر المشترك بين التصديق وبين الأعمال فيكون إطلاقه على التصديق فقط وعلى مجموع التصديق والأعمال حقيقة كما أن المعتبر في الشجرة المعينة- بحسب العرف- القدر المشترك بين ساقها ومجموع ساقها مع الشعب والأوراق فلا يطلق الانعدام عليها ما بقي الساق فالتصديق بمنزلة أصل الشجرة والأعمال بمنزلة فروعها وأغصانها فما دام الأصل باقيا يكون الإيمان باقيا وقد ورد في الصحيح «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» وقريب من هذا قول من قال: إن الأعمال آثار خارجة عن الإيمان مسببة له ويطلق عليها لفظ الإيمان مجازا ولا مخالفة بين القولين إلا بأن إطلاق اللفظ عليها حقيقة على الأول مجاز على الثاني وهو بحث لفظي. والمتبادر من الإيمان هاهنا التصديق كما لا يخفى «والغيب» مصدر أقيم مقام الوصف وهو غائب للمبالغة بجعله كائن هو وجعله بمعنى المفعول يرده كما في البحر أن الغيب مصدر غاب وهو لازم لا يبنى منه اسم مفعول وجعله تفسيرا بالمعنى لأن الغائب يغيب بنفسه تكلف من غير داع أو فيعل خفف كقيل وميت- وفي البحر- لا ينبغي أن يدعى ذلك إلا فيما سمع مخففا ومثقلا، وفسره جمع هنا بما لا يقع تحت الحواس ولا تقتضيه بداهة العقل، فمنه ما لم ينصب عليه دليل وتفرد بعلمه اللطيف الخبير سبحانه وتعالى كعلم القدر مثلا، ومنه ما نصب عليه دليل كالحق تعالى وصفاته العلا فإنه غيب يعلمه من أعطاه الله تعالى نورا على حسب ذلك النور فلهذا تجد الناس متفاوتين فيه- وللأولياء نفعنا الله تعالى بهم الحظ الأوفر منه. ومن هنا قيل: الغيب مشاهدة الكل بعين الحق فقد يمنح العبد قرب النوافل فيكون الحق سبحانه بصره الذي يبصر به وسمعه الذي يسمع به ويرقى من ذلك إلى قرب الفرائض فيكون نورا فهناك يكون الغيب له شهودا والمفقود لدينا عنده موجودا ومع هذا لا أسوغ لمن وصل إلى ذلك المقام أن يقال فيه إنه يعلم الغيب قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل: 65] . وقل لقتيل الحب وفيت حقه ... وللمدعي هيهات ما الكحل الكحل واختلف الناس في المراد به هنا على أقوال شتى حتى زعمت الشيعة أنه القائم وقعدوا عن إقامة الحجة على ذلك والذي يميل إليه القلب أنه- ما أخبر به- الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام وهو الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره لأن الإيمان المطلوب شرعا هو ذاك لا سيما وقد انضم إليه الوصفان بعده وكون ذلك مستلزما لإطلاق الغيب عليه سبحانه ضمنا والغيب والغائب ما يجوز عليه الحضور والغيبة مما لا يضر إذ ليس فيه إطلاقه عليه سبحانه بخصوصه فهذا ليس من قبيل التسمية على أنه لا نسلم أن الغيب لا يستعمل إلا فيما يجوز عليه الحضور وبعض أهل العلم فرق بين الغيب والغائب فيقولون الله تعالى غيب وليس بغائب ويعنون بالغائب ما لا يراك ولا تراه وبالغيب ما لا تراه أنت، ولا يبعد أن يقال بالتغليب ليدخل إيمان الصحابة رضي الله تعالى عنهم به صلى الله تعالى عليه وسلم إذ ليس بغيب بالنسبة إليهم أو يقال الإيمان به عليه الصلاة والسلام راجع إلى الإيمان برسالته مثلا إذ لا معنى للإيمان به نفسه معرى عن الحيثيات. ورسالته غيب نصب عليها الدليل كما نصب لنا وإن افترقنا بالخبر والمعاينة أو أنه من إسناد ما للبعض إلى الكل مجازا كبنو فلان قتلوا فلانا أو المراد أنهم يؤمنون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 بالغيب كما يؤمنون بالشهادة فاستوى عندهم المشاهد وغيره. واختار أبو مسلم الأصفهاني أن المراد أن هؤلاء المتقين يؤمنون بالغيب أي حال الغيبة عنكم كما يؤمنون حال الحضور لا كالمنافقين الذين إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [البقرة: 14] فهو على حد قوله تعالى: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [يوسف: 52] ويحتمل أن يقال حال غيبة المؤمن به، ففي سنن الدارمي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن الحارث بن قيس قال له عند الله نحتسب ما سبقتمونا إليه من رؤية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال ابن مسعود عند الله نحتسب إيمانكم بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم ولم تروه إن أمر محمد صلى الله تعالى عليه وسلم كان بينا لمن رآه والذي لا إله إلا هو ما من أحد أفضل من إيمان بغيب ثم قرأ الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ إلى قوله: الْمُفْلِحُونَ ولا يلزم من تفضيل إيمان على آخر من حيثية تفضيله عليه من سائر الحيثيات ولا تفضيل المتصف بأحدهما على المتصف بالآخر فإن الأفضلية تختلف بحسب الإضافات والاعتبارات وقد يوجد في المفضول ما ليس في الفاضل، ويا ليت ابن مسعود رضي الله تعالى عنه سكن لوعة الحارث بما ورد عنه صلّى الله عليه وسلّم مرفوعا «نعم قوم يكونون بعدكم يؤمنون بي ولم يروني» وما كان أغناه رضي الله تعالى عنه عما أجاب به إذ يخرج الصحابة رضي الله تعالى عنهم عن هذا العموم الذي في هذه الآية كما يشعر به قراءته لها مستشهدا بها، وبه قال بعض أهل العلم وأنا لا أميل إلى ذلك وقيل المراد بالغيب القلب أي يؤمنون بقلوبهم لا كمن يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والباء على الأول للتعدية وعلى الثاني والثالث للمصاحبة وعلى الرابع للآلة وقرأ أبو جعفر وعاصم في رواية الأعشى عن أبي بكر بترك الهمزة من يؤمنون وكذا كل همزة ساكنة قد يتركان كثيرا من المتحركة مثل لا يُؤاخِذُكُمُ [البقرة: 225] ويُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ [آل عمران: 13] وتفصيل مذهب أبي جعفر طويل وأما أبو عمرو فيترك كل همزة ساكنة إلا أن يكون سكونها علامة للجزم مثل يُهَيِّئْ لَكُمْ [الكهف: 16] وَنَبِّئْهُمْ [الحجر: 51، القمر: 28] واقْرَأْ كِتابَكَ [الإسراء: 14] فإنه لا يترك الهمزة فيها وروي عنه أيضا الهمز في الساكنة وأما نافع فيترك كل همزة ساكنة ومتحركة إذا كانت فاء الفعل نحو «يؤمنون» و «لا يؤاخذكم» واختلفت قراءة الكسائي وحمزة ولكل مذهب يطول ذكره وَيُقِيمُونَ من الإقامة يقال أقمت الشيء إقامة إذا وفيت حقه قال تعالى لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ [المائدة: 68] أي توفوا حقهما بالعلم والعمل ومعنى يقيمون الصلاة يعدلون أركانها بأن يوقعوها مستجمعة للفرائض والواجبات أولها مع الآداب والسنن من أقام العود إذا قومه أو يواظبون عليها ويداومون (1) من قامت السوق إذا نفقت وأقمتها إذا جعلتها نافقة أو يتشمرون لأدائها بلا فترة عنها ولا توان من قولهم قام بالأمر وأقامه إذا جدّ فيه أو يؤدونها ويفعلونها وعبر عن ذلك بالإقامة لأن القيام بعض أركانها فهذه أربعة أوجه، وفي الكلام على الأولين منها استعارة تبعية وعلى الأخيرين مجاز مرسل، وبيان ذلك في الأول أن يشبه تعديل الأركان بتقويم العود بإزالة اعوجاجه فهو قويم تشبيها له بالقائم ثم استعير الإقامة من تسوية الأجسام التي صارت حقيقة فيها لتسوية المعاني كتعديل أركان الصلاة على ما هو حقها، وقيل الإقامة بمعنى التسوية حقيقة في الأعيان والمعاني بل التقويم في المعاني كالدين والمذهب أكثر فلا حاجة إلى الاستعارة ولا يخفى ما فيه فإن المجازية ما لا شبهة فيها دراية ورواية وذاك الاستعمال مجاز مشهور أو حقيقة عرفية، وفي الثاني بأن نفاق السوق كانتصاب الشخص في حسن   (1) فإن قلت إذا كان بمعنى المداومة ينبغي أن يتعدى بعلى لأنها تتعدى بها كما في قوله تعالى الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ أجيب بأنه إذا تجوز بلفظ عن معنى آخر وكان عملهما في الحرف الذي تعديا به مختلفا يجوز فيه إعمال عمل لفظ الحقيقة وعمل لفظ المجاز ويكون ذلك كالترشيح والتجريد ألا ترى ان نطقت الحال يعني دلت وتعديه بعلى اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 الحال والظهور التام فاستعمل القيام فيه والإقامة في إنفاقها ثم استعيرت منه للمداومة فإن كلّا منهما يجعل متعلقه مرغوبا متنافسا فيه متوجها إليه وهذا معنى لطيف لا يقف عليه إلا الخواص إلا أن فيه تجوزا من المجاز وكأنه لهذا مال الطيبي إلى أن في هذا الوجه كناية تلويحية حيث عبر عن الدوام بالإقامة. فإن إقامة الصلاة بالمعنى الأول مشعرة بكونها مرغوبا فيها وإضاعتها تدل على ابتذالها كالسوق إذا شوهدت قائمة دلت على نفاق سلعتها ونفاقها على توجه الرغبات إليها وهو يستدعي الاستدامة بخلافها إذا لم تكن قائمة، وفي الثالث بأن القيام بالأمر يدل على الاعتناء بشأنه ويلزمه التشمر فأطلق القيام على لازمه، وقد يقال بأن قام بالأمر معناه جد فيه وخرج عن عهدته بلا تأخير ولا تقصير فكأنه قام بنفسه لذلك وأقامه أي رفعه على كاهله بجملته فحينئذ يصح أن يكون فيه استعارة تمثيلية أو مكنية أو تصريحية ويجوز أن يكون أيضا مجازا مرسلا لأن من قام لأمر على أقدام الإقدام ورفعه على كاهل الجد فقد بذل فيه جهده، وفي الرابع بأن الأداء المراد به فعل الصلاة والقيد خارج عبر عنه بالإقامة بعلاقة اللزوم إذ يلزم من تأدية الصلاة وإيجادها كلها فعل القيام وهو الإقامة لأن فعل الشيء فعل لأجزائه أو العلاقة الجزئية لأن الإقامة جزء أو جزئي لمطلق الفعل ويجوز أن يكون هناك استعارة لمشابهة الأداء للإقامة في أن كلّا منهما فعل متعلق بالصلاة. وإلى ترجيح أول الأوجه مال جمع لأنه أظهر وأقرب إلى الحقيقة وأفيد وهو المروي عن ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عنه ولعل ذلك منه عن توقيف من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أو حمل لكلام الله سبحانه وتعالى على أحسن محامله حيث إنه المناسب لترتيب الهدى الكامل والفلاح التام الشامل وفيه المدح العظيم والثناء العميم ولا يبعد أن يقال باستلزامه لما في الأوجه الأخيرة وتعين الأخير كما قيل في حديث «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام» لا يضر في أرجحية الأول في الكلام القديم إذ يرد أنه لو أريد ذلك قيل يصلون والعدول عن الأخصر الأظهر بلا فائدة لا يتجه في كلام بليغ فضلا عن أبلغ الكلام ولكل مقام مقال فافهم والصَّلاةَ في الأصل عند بعض بمعنى الدعاء ومنه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم «إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب وإن كان صائما فليصل» وهي عند أهل الشرع مستعملة في ذات الأركان لأنها دعاء بالألسنة الثلاثة الحال والفعل والمقال، والمشهور في أصول الفقه أن المعتزلة على أن هذه وأمثالها حقائق مخترعة شرعية لأنها منقولة عن معان لغوية والقاضي أبو بكر منا على أنها مجازات لغوية مشهورة لم تصر حقائق وجماهير الأصحاب على أنها حقائق شرعية عن معان لغوية. وقال أبو علي ورجحه السهيلي الصلاة من الصلوين لعرقين في الظهر لأن أول ما يشاهد من أحوالها تحريكهما للركوع واستحسنه ابن جني وسمّي الداعي مصليا تشبيها له في تخشعه بالراكع الساجد، وقيل أخذت الصلاة من ذاك لأنها جاءت ثانية للإيمان فشبهت بالمصلي من الخيل للآتي مع صلوى السابق وأنكر الإمام الاشتقاق من الصلوين مستندا إلى أن الصلاة من أشهر الألفاظ فاشتقاقها من غير المشهور في غاية البعد وأكاد أوافقه وإن قيل: إن عدم الاستشهار لا يقدح في النقل وقيل من صليت العصا إذا قومتها بالصلي، فالمصلي كأنه يسعى في تعديل ظاهره وباطنه مثل ما يحاول تعديل الخشبة بعرضها على النار وهي فعلة- بفتح العين- على المشهور وجوز بعضهم سكونها فتكون حركة العين منقولة من اللام وقد اتفقت المصاحف على رسم الواو مكان الألف في مشكوة، ونجاة، ومناة، وصلاة، وزكاة، وحياة حيث كن موحدات مفردات محلات باللام وعلى رسم المضاف منها كصلاتي بالألف وحذفت من بعض المصاحف العثمانية، واتفقوا على رسم المجموع منها بالواو على اللفظ قال الجعبري: ووجه كتابة الواو الدلالة على أن أصلها المنقلبة عنه واو وهو اتباع للتفخيم وهذا معنى قول ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 قتيبة بعض العرب يميلون الألف إلى الواو ولم أختر التعليل به لعدم وقوعه في القرآن العظيم وكلام الفصحاء والمراد بالصلاة هنا الصلاة المفروضة وهي الصلوات الخمس كما قاله مقاتل أو الفرائض والنوافل كما قاله الجمهور والأول هو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وادعى الإمام أنه هو المراد لأنه الذي يقع عليه الفلاح لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم لما بين للأعرابي صفة الصلاة المفروضة قال «والله لا أزيد عليها ولا أنقص منها فقال عليه الصلاة والسلام أفلح الأعرابي إن صدق» «والرزق» بالفتح لغة الإعطاء لما ينتفع الحيوان به. وقيل: إنه يعم غيره كالنبات وبالكسر اسم منه ومصدر أيضا على قول. وقيل أصل الرزق الحظ ويستعمل بمعنى المرزوق المنتفع به. وبمعنى الملك وبمعنى الشكر عند أزد- واختلف المتكلمون في معناه- شرعا فالمعول عليه عند الأشاعرة ما ساقه الله تعالى إلى الحيوان فانتفع به سواء كان حلالا أو حراما من المطعومات أو المشروبات أو الملبوسات أو غير ذلك والمشهور أنه اسم لما يسوقه الله تعالى إلى الحيوان ليتغذى به ويلزم على الأول أن تكون العواري رزقا لأنها مما ساقه الله تعالى للحيوان فانتفع به وفي جعلها رزقا بعد بحسب العرف كما لا يخفى، ويلزم أيضا أن يأكل شخص رزق غيره لأنه يجوز أن ينتفع به الآخر بالأكل إلا أن الآية توافقه إذ يجوز أن يكون الانتفاع من جهة الإنفاق على الغير بخلاف التعريف الثاني إذ ما يتغذى به لا يمكن إنفاقه إلا أن يقال إطلاق الرزق على المنفق مجاز لكونه بصدده والمعتزلة فسروه في المشهور تارة بما أعطاه الله تعالى عبده ومكنه من التصرف فيه وتارة بما أعطاه الله لقوامه وبقائه خاصة، وحيث إن الإضافة إلى الله تعالى معتبرة في معناه وأنه لا رازق إلا الله سبحانه وأن العبد يستحق الذم والعقاب على أكل الحرام وما يستند إلى الله تعالى عز وجل عندهم لا يكون قبيحا ولا مرتكبه مستحقا ذما وعقابا قالوا: إن الرزق هو الحلال والحرام ليس برزق وإلى ذلك ذهب الجصاص منا في كتاب أحكام القرآن وعندنا الكل منه وبه وإليه قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء: 78] ولا حول ولا قوة إلا بالله وإِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشورى: 53] والذم والعقاب لسوء مباشرة الأسباب بالاختيار نعم الأدب من خير رأس مال المؤمن فلا ينبغي أن ينسب إليه سبحانه إلا الأفضل فالأفضل كما قال إبراهيم عليه السلام: وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء: 80] وقال تعالى: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7] فالحرام رزق في نفس الأمر لكنا نتأدب في نسبته إليه سبحانه والدليل على شمول الرزق له ما أخرجه ابن ماجة وأبو نعيم والديلمي من حديث صفوان بن أمية قال جاء عمرو بن قرة «فقال يا رسول الله إن الله قد كتب عليّ الشقوة فلا أراني أرزق إلا من دفي بكفي فأذن لي في الغنى من غير فاحشة فقال صلّى الله عليه وسلّم لا إذن لك ولا كرامة ولا نعمة كذبت أي عدو الله لقد رزقك الله تعالى رزقا حلالا طيبا فاخترت ما حرم الله تعالى عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله» وحمله على المشاكلة كالقول بأنه يحتمل قوله عليه الصلاة والسلام فاخترت إلخ كونه رزقا لمن أحل له فيسقط الاستدلال لقيام الاحتمال خلاف الظاهر جدا. ومثل هذا الاحتمال إن قدح في الاستدلال لا يبقى على وجه الأرض دليل والطعن في السند لا يقبل من غير مستند وهو مناط الثريا كما لا يخفى والاستدلال على هذا المطلب كما فعل البيضاوي وغيره بأنه لو لم يكن الحرام رزقا لم يكن المتغذي به طول عمره مرزوقا وليس كذلك لقوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود: 6] ليس بشيء لأن للمعتزلة أن لا يخصوا الرزق بالغذاء بل يكتفوا بمطلق الانتفاع دون الانتفاع بالفعل بل التمكن فيه فلا يتم الدليل إلا إذا فرض أن ذلك الشخص لم ينتفع من وقت وفاته إلى وقت موته بشيء انتفاعا محللا لا رضعة من ثدي ولا شربة من ماء مباح ولا نظرة إلى محبوب ولا وصلة إلى مطلوب بل ولا تمكن من ذلك أصلا والعادة تقضي بعدم وجوده ومادة النقض لا بد من تحققها على أنه لو قدر وجوده لقالوا: إن ذلك ليس محرما بالنسبة إليه، ومن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه- وأيضا لهم أن يعترضوا بمن عاش يوما مثلا ثم مات قبل أن يتناول حلالا ولا حراما وما يكون جوابنا لهم يكون جوابهم لنا على أن الآية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 لم تدل على أن الله تعالى يوصل جميع ما ينتفع به كل أحد إليه فإن الواقع خلافه بل دلت على أنه سبحانه وتعالى يسوق الرزق ويمكن من الانتفاع به فإذا حصل الإعراض من الحلال إلى الحرام لم يقدح في تحقق رازقيته جل وعلا، وأيضا قد يقال: معنى الآية ما من دابة متصفة بالمرزوقية فلا تدخل مادة النقض ليضر خروجها كما لا يدخل السمك في قولهم كل دابة تذبح بالسكين أي كل دابة تتصف بالمذبوحية فالاتصاف أن هذا لا يصلح دليلا، والأحسن الاستدلال بالإجماع قبل ظهور المعتزلة على أن من أكل الحرام طول عمره مرزوق طول عمره ذلك الحرام والظواهر تشهد بانقسام الرزق إلى طيب وخبيث وهي تكفي في مثل هذه المسألة والأصل الذي بني عليه التخصيص قد تركه أهل السنة قاعا صفصفا «والإنفاق» الانفاد يقال أنفقت الشيء وأنفدته بمعنى والهمزة للتعدية وأصل المادة تدل على الخروج والذهاب ومنه نافق والنافقاء ونفق وإنما قدم سبحانه وتعالى المعمول اعتناء بما خول الله تعالى العبد أو لأنه مقدم على الانفاق في الخارج ولتناسب الفواصل والمراد بالرزق هنا الحلال لأنه في معرض وصف المتقي ولا مدح أيضا في إنفاق الحرام قيل ولا يرد قول الفقهاء إذا اجتمع عند أحد مال لا يعرف صاحبه ينبغي أن يتصدق به فإذا وجد صاحبه دفع قيمته أو مثله إليه فهذا الانفاق مما يثاب عليه لأنه لما فعله بإذن الشارع استحق المدح لأنه لما لم يعرف صاحبه كان له التصرف فيه وانتقل بالضمان إلى ملكه وتبدلت الحرمة إلى ثمنه على أنه قد وقع الخلاف فيما لو عمل الخير بمال مغصوب عرف صاحبه كما قال ابن القيم في بدائع الفوائد فذهب ابن عقيل إلى أنه لا ثواب للغاصب فيه لأنه آثم ولا لرب المال لأنه لا نية له ولا ثواب بدونها وإنما يأخذ من حسنات الغاصب بقدر ماله. وقيل: إنه نفع حصل بماله وتولد منه ومثله يثاب عليه كالولد الصالح يؤجر به وإن لم يقصده، ويفهم كلام البعض- وهو من الغرابة بمكان- أن الغاصب أيضا يؤجر إذا صرفها بخير وإن تعد واقتص من حسناته بسبب أخذه لأنه لو فسق به عوقب مرتين مرة على الغصب ومرة على الفسق فإذا عمل به خيرا ينبغي أن يثاب عليه- ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره- ولا يرد على ذلك قوله صلى الله تعالى عليه وسلم «لا يقبل الله صدقة من غلول» وقوله: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا» لأن مآل ما ذكر أن الثواب على نفس العدول من الصرف في المعصية إلى الصرف فيما هو طاعة في نفسه لا على نفس الصدقة مثلا بالمال الحرام من حيث إنه حرام والفرق دقيق لا يهتدى إليه إلا بتوفيق. وقد اختلف في الإنفاق هاهنا فقيل- وهو الأولى- صرف المال في سبل الخيرات أو البذل من النعم الظاهرة والباطنة وعلم لا يقال به ككنز لا ينفق منه. وعن ابن عباس الزكاة، وعنه وعن ابن مسعود نفقة العيال، وعن الضحاك التطوع قبل فرض الزكاة أو النفقة في الجهاد. ولعل هذه الأقوال تمثيل للمنفق لا خلاف فيه، وبعضهم جعلها خلافا ورجح كونها الزكاة المفروضة باقترانها بأختها الصلاة في عدة مواضع من القرآن ومن التبعيضية حينئذ مما لا يسأل عن سرها إذ الزكاة المفروضة لا تكون بجميع المال وأما إذا كان المراد بالإنفاق مطلقه الأعم مثلا ففائدة إدخالها الإشارة إلى أن إنفاق بعض المال يكفي في اتصاف المنفق بالهداية والفلاح ولا يتوقف على إنفاق جميع المال وقول مولانا البيضاوي تبعا للزمخشري: إنه للكف عن الإسراف المنهي عنه مخصوص بمن لم يصبر على الفاقة ويتجرع مرارة الإضافة وإلا فقد تصدق الصديق رضي الله تعالى عنه بجميع ماله ولم ينكره عليه صلى الله تعالى عليه وسلم لعلمه بصبره واطلاعه على ما وقر في صدره، ومن هاهنا لما قيل للحسن بن سهل لا خير في الإسراف قال لا إسراف في الخير، وقيل النكتة في إدخال من التبعيضية هي أن الرزق أعم من الحلال والحرام فأدخلت إيذانا بأن الإنفاق المعتد به ما يكون من الحلال وهو بعض من الرزق و «ما» في الآية إما موصولة أو مصدرية أو موصوفة والأول أولى فالعائد محذوف، واستشكل بأنه إن قدر متصلا يلزم اتصال ضميرين متحدي الرتبة والانفصال في مثله واجب وإن قدر منفصلا امتنع حذفه إذ قد أوجبوا ذكر المنفصل معللين بأنه لم ينفصل إلا لغرض وإذا حذف فاتت الدلالة عليه، وأجيب على اختيار كل. أما الأول فبأنه لما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 اختلف الضميران جمعا وإفرادا جاز اتصالهما وإن اتحدا رتبة كقوله: لوجهك في الإحسان بسط وبهجة ... أنا لهماه قفو أكرم والد وأيضا لا يلزم من منع ذلك ملفوظا به منعه مقدرا لزوال القبح اللفظي، وأما الثاني فبأن الذي يمنع حذفه ما كان منفصلا لغرض معنوي كالحصر لا مطلقا كما قال ابن هشام في الجامع الصغير، وأشار إليه غير واحد وكتبت من متصلة بما محذوفة النون لأن الجار والمجرور كشيء واحد وقد حذفت النون لفظا فناسب حذفها في الخط قاله في البحر وجعل سبحانه صلات الَّذِينَ أفعالا مضارعة ولم يجعل الموصول أل فيصله باسم الفاعل لأن المضارع فيما ذكره البعض مشعر بالتجدد والحدوث مع ما فيه هنا من الاستمرار التجددي وهذه الأوصاف متجددة في المتقين واسم الفاعل عندهم ليس كذلك، ورتبت هذا النحو من الترتيب لأن الأعمال إما قلبية وأعظمها اعتقاد حقيقة التوحيد والنبوة والمعاد إذ لولاه كانت الأعمال كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء أو قالبية وأصلها الصلاة لأنها الفارقة بين الكفر والإسلام وهي عمود الدين ومعراج الموحدين والأم التي يتشعب منها سائر الخيرات والمبرات ولهذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم «وجعلت قرة عيني في الصلاة» وقد أطلق الله تعالى عليها الإيمان كما قاله جمع من المفسرين في قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة: 143] أو مالية وهي الإنفاق لوجه الله تعالى وهي التي إذا وجدت علم الثبات على الإيمان وهذه الثلاثة متفاوتة الرتب فرتب سبحانه وتعالى ذلك مقدما الأهم فالأهم والألزم فالألزم لأن الإيمان لازم للمكلف في كل آن والصلاة في أكثر الأوقات والنفقة في بعض الحالات فافهم ذاك والله يتولى هداك. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ عطف على الموصول الأول مفصولا وموصولا والمروي عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم أنهم مؤمنو أهل الكتاب وحيث إن المتبادر من العطف أن الإيمان بكل من المنزلين على طريق الاستقلال اختص ذلك بهم لأن إيمان غيرهم بما أنزل من قبل إنما هو على طريق الإجمال والتبع للإيمان بالقرآن لا سيما في مقام المدح، وقد دلت الآيات والأحاديث على أن لأهل الكتاب أجرين بواسطة ذلك وبهذا غايروا من قبلهم وقيل التغاير باعتبار أن الإيمان الأول بالعقل وهذا بالنقل أو بأن ذاك بالغيب وهذا بما عرفوه كما يعرفون أبناءهم فأولئك على هدى حينئذ إشارة إلى الطائفة الأولى لأن إيمانهم بمحض الهداية الربانية وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ إشارة إلى الثانية لفوزهم بما كانوا ينتظرونه أو بأن أولئك من حيث المجموع كان فيهم شرك وهؤلاء لم يشركوا ولم ينكروا، وقيل التغاير بالعموم والخصوص مثله في قوله تعالى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ [القدر: 4] والتخصيص هنا بعد التعميم للإشارة إلى الأفضلية من حيثية أنهم يعطون أجرهم مرتين وقد يوجد في المفضول ما ليس في الفاضل وفي ذلك ترغيب أهل الكتاب في الدخول في الإسلام، وقال بعضهم إن هؤلاء هم الأولون بأعيانهم وتوسيط العطف جار في الأسماء والصفات باعتبار تغاير المفهومات ويكون بالواو والفاء وثم باعتبار تعاقب الانتقال في الأحوال والجمع المستفاد من الواو هنا واقع بين معاني الصفات المفهومة من المتعاطفين والإيمان الذي مع أولهما إجمالي وعقلي ومع ثانيها تفصيلي ونقلي وإعادة الموصول للتنبيه على تغاير القبيلين وتباين السبيلين وقد يعطف على المتقين والموصول غير مفصول لما يلزم على الوصل الفصل بأجنبي بين المبتدأ وخبره والمعطوف والمعطوف عليه والتغاير بين المتعاطفين باعتبار أن المراد بالمعطوف عليه من آمن من العرب الذين ليسوا بأهل كتاب وبالمعطوف من آمن به صلى الله تعالى عليه وسلم من أهل الكتاب وقد رجح بعض المحققين احتمال أن يكون هؤلاء هم الأولون وتوسط الواو بين الصفات بأن الإيمان بالمنزلين مشترك بين المؤمنين قاطبة فلا وجه لتخصيصه بمؤمني أهل الكتاب والإفراد بالذكر لا يدل على أن الإيمان بكل بطريق الاستقلال فقد أفرد الكتب المنزلة من قبل في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 قوله تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ [البقرة: 136] ولم يقتض الإيمان بها على الانفراد وبأن أهل الكتاب لم يكونوا مؤمنين بجميع ما أنزل من قبل لأن اليهود لم يؤمنوا بالإنجيل ودينهم منسوخ به وبأن الصفات السابقة ثابتة لمن آمن من أهل الكتاب فالتخصيص بمن عداهم تحكم وجعل الكلام من قبيل عطف الخاص على العام لا يلائم المقام. وأجيب أما أولا فبأن المتبادر من السياق الإيمان بالاستقلال لا سيما في مقام المدح وإليه يشير ما جاء أنهم يؤتون أجرهم مرتين والخطاب في الآية للمسلمين بأن يقولوا دفعة ولم يعد فيها الإيمان والمؤمن فلا ترد نقضا، وأما ثانيا فلأن إيمان أهل الكتاب بكل وحي إنما هو بالنظر إلى جميعهم فاليهود اشتمل إيمانهم على القرآن والتوراة، والنصارى اشتمل إيمانهم على الإنجيل أيضا، ويكفي هذا في توجيه المروي عمن شاهدوا نزول الوحي ولا يرغب عنه إذا أمكن توجيهه وكون المفهوم المتبادر ثبوت الحكم لكل واحد إن سلم لا يرده ولا يرد أن اليهود الذين آمنوا على عهد نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم لم يؤمنوا قبل ذلك بالتوراة وإلا لتنصروا لأن فيها نبوة عيسى كما فيها نبوة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذ قد ورد فيها- إن الله جاء من طور سيناء وظهر بساعير وعلن بفاران- وساعير بيت المقدس الذي ظهر فيه عيسى، وفاران جبال مكة التي كانت مظهر المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم لأنا نقول إنهم آمنوا بالتوراة وتأولوا ما دل منها على نبوة المسيح عليه السلام فبعض أنكر نبوته رأسا ورموه بما رموه- وحاشاه وهم الكثيرون- وبعض كالعنانية قالوا: إنه من أولياء الله تعالى المخلصين العارفين بأحكام التوراة وليس بنبي وهؤلاء قليلون مخالفون لسائر اليهود في السبت والأعياد ويقتصرون على أكل الطير والظباء والسمك والجراد وهذا الإيمان وإن لم يكن نافعا في النجاة من النار إلا أنه يقلل الشر بالنسبة إلى الكفر بالتوراة وإنكارها بالكلية مع الكفر بعيسى عليه السلام وربما يمدحون بالنظر إلى أصل الإيمان بها وإن ذموا بحيثية أخرى وكأنه لهذا يكتفى منهم بالجزية ولم يكونوا طعمة للسيوف مطلقا والقول بأنهم مدحوا بعد إيمانهم بالقرآن بالإيمان بالتوراة نظرا إلى أسلافهم الذين كانوا على عهد موسى عليه السلام فإنهم مؤمنون بها إيمانا صحيحا على وجهها كما أنهم ذموا بما صنع آباؤهم على عهده على ما ينطق به كثير من الآيات ليس بشيء إذ لا معنى لإيتائهم أجرين حينئذ والفرق بين البابين واضح. ثم النسخ الذي ادعاه المرجح خلاف ما ذكره الشهرستاني وغيره من أن الإنجيل لم يبين أحكاما ولا استبطن حلالا وحراما ولكنه رموز وأمثال ومواعظ والأحكام محالة إلى التوراة وقد قال المسيح ما جئت لأبطل التوراة بل جئت لأكملها وهذا خلاف ما تقتضيه الظواهر وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه، وأما ثالثا فلأن ثبوت الصفات لمن آمن من أهل الكتاب لا يضرنا لأنها مذكورة في الأول صريحا وفي الثاني التزاما، وأما رابعا فلأنا لا نسلم أن ذلك العطف لا يلائم المقام فنكات عطف الخاص على العام لا تخفى كثرتها على ذوي الأفهام فدع ما مر وخذ ما حلا، وعندي بعد هذا كله أن الاعتراض ذكر والجواب أنثى لكن الرواية دعت إلى ذلك ولعل أهل مكة أدرى بشعابها وفوق كل ذي علم عليم على أن الدراية قد تساعده كما قيل بناء على أن إعادة الموصول وتوصيفه بالإيمان بالمنزلين مع اشتراكه بين جميع المؤمنين واشتمال الإيمان بما أنزل إليك على الإيمان بما أنزل من قبلك يستدعي أن يراد به من لهم نوع اختصاص بالصلة وهم مؤمنو أهل الكتاب حيث كانوا مطالبين بالإيمان بالقرآن خصوصا قال تعالى: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ [البقرة: 41] مؤمنين بالكتب استقلالا في الجملة بخلاف سائر المؤمنين، ثم المتبادر من أهل الكتاب أهل التوراة والإنجيل وحمله على أهل الإنجيل خاصة وقد آمن منهم أربعون واثنان وثلاثون جاؤوا مع جعفر من أرض الحبشة وثمانية من الشام لا تساعده رواية ولا دراية كما لا يخفى، والإنزال الإيصال والإبلاغ ولا يشترط أن يكون من أعلى خلافا لمن ادعاه نحو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ [الصافات: 177] أي وصل وحل وإنزال الكتب الإلهية قد مر في المقدمات ما يطلعك إلى معارجه، وذكر أن معنى إنزال القرآن أن جبريل سمع كلام الله تعالى كيف شاء الله تعالى فنزل به أو أظهره في اللوح كتابة فحفظه الملك وأداه بأي نوع كان من الأداء. وذهب بعض السلف إلى أنه من المتشابه الذي نجزم به من غير بحث عن كيفيته. وقال الحكماء إن نفوس الأنبياء عليهم السلام قدسية فتقوى على الاتصال بالملأ الأعلى فينتقش فيها من الصور ما ينتقل إلى القوة المتخيلة والحس المشترك فيرى كالمشاهد وهو الوحي وربما يعلو فيسمع كلاما منظوما ويشبه أن نزول الكتب من هذا وعندي أن هذا قد يكون لأرباب النفوس القدسية والأرواح الإنسية إلا أن أمر النبوة وراء ذلك وأين الثريا من يد المتناول. وفعلا الإنزال مبنيان للمفعول وقرأهما النخعي وأبو حيوة ويزيد بن قطيب مبنيين للفاعل وقرىء شاذا- بما أنزل إليك- بتشديد اللام ووجه ذلك أنه أسكن لام أنزل ثم حذف همزة إلى ونقل كسرتها إلى اللام فالتقى المثلان فأدغم. وضمير الفاعل قيل الله وقيل جبريل عليه السلام وفي البحر أن فيه التفاتا لتقدم.. مِمَّا رَزَقْناهُمْ فخرج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة ولو جرى على الأول لجاء- بما أنزلنا إليك وما أنزلنا من قبلك- وأتى سبحانه بصلة ما الأولى فعلا ماضيا مع أن المراد بالمنزل جميعه لاقتضاء السياق، والسباق له من ترتب الهدى والفلاح الكاملين عليه ولوقوعه في مقابلة ما أنزل قبل ولاقتضاء يؤمنون المنبئ عن الاستمرار والجميع لم ينزل وقت تنزل الآية لأمرين: الأول أنه تغليب لما وجد نزوله على ما لا يوجد فهو من قبيل إطلاق الجزء على الكل والثاني تشبيه جميع المنزل بشيء نزل في تحقق الوقوع لأن بعضه نزل وبعضه سينزل قطعا فيصير إنزال مجموعه مشبها بإنزال ذلك الشيء الذي نزل فتستعار صيغة الماضي من إنزاله لإنزال المجموع، هذا ما حققه من يعقد عند ذكرهم الخناصر وفيه دغدغة كبرى. وأهون منه أن التعبير بالماضي هنا للمشاكلة لوقوع غير المتحقق في صحبة المتحقق، وأهون من ذلك كله أن المراد به حقيقة الماضي ويدل على الإيمان بالمستقبل بدلالة النص. وما قيل من أن الإيمان بما سينزل ليس بواجب إلا أن حمله على الجميع أكمل فلذا اقتصر عليه لا وجه له إذ لا شبهة في أنه يلزم المؤمن أن يؤمن بما نزل وبأن كل ما سينزل حق وإن لم يجب تفصيله وتعيينه، وقد ذكر العلماء أن الإيمان إجمالا بالكتب المنزلة مطلقا فرض عين وتفصيلا بالقرآن المتعبد بتفاصيله فرض كفاية إذ لو كان فرض عين أدى إلى الحرج والمشقة والدين يسر لا عسر، وهذا مما لا شبهة فيه حتى قال الدواني: يجب على الكفاية تفصيل الدلائل الأصولية بحيث يتمكن معه من إزالة الشبه وإلزام المعاندين وإرشاد المسترشدين، وذكر الفقهاء أنه لا بد أن يكون في كل حد من مسافة القصر شخص متصف بهذه الصفة ويسمى المنصوب للذب ويحرم على الإمام إخلاؤها من ذلك كما يحرم إخلاؤها عن العالم بالأحكام التي يحتاج إليها العامة وقيل لا بد من شخص كذلك في كل إقليم وقيل يكفي وجوده في جميع البلاد المعمورة الإسلامية ولعل هذا التنزل لنزول الأمر وقلة علماء الدين في الدنيا بهذا العصر. أمست يبابا وأمسى أهلها احتملوا ... أخنى عليها الذي أخنى على لبد وإلى الله تعالى المشتكى وإليه الملتجى. إلى الله أشكو إن في القلب حاجة ... تمر بها الأيام وهي كما هيا «والآخرة» تأنيث الآخر اسم فاعل من أخر الثلاثي بمعنى تأخر وإن لم يستعمل كما أن الآخر- بفتح الخاء- اسم تفضيل منه وهي صفة في الأصل كما في- الدار الآخرة. وينشىء النشأة الآخرة- ثم غلبت كالدنيا. والوصف الغالب قد يوصف به دون الاسم الغالب فلا يقال قيد أدهم للزوم التكرار في المفهوم وهو وإن كان من الدهمة إلا أنه يستعمله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 من لا تخطر بباله أصلا فافهم. وقد تضاف الدار لها كقوله تعالى: وَلَدارُ الْآخِرَةِ [يوسف: 109] أي دار الحياة الآخرة وقد يقابل بالأولى كقوله سبحانه وتعالى: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ [القصص: 70] والمعنى هنا الدار الآخرة أو النشأة الآخرة والجمهور على تسكين لام التعريف وإقرار الهمزة التي تكون بعدها للقطع، وورش يحذف وينقل الحركة إلى اللام «والإيقان» التحقق للشيء كسكونه ووضوحه يقال يقن الماء إذا سكن وظهر ما تحته وهو واليقين بمعنى خلافا لمن وهم فيه قال الجوهري اليقين العلم وزوال الشك يقال منه يقنت بالكسر يقينا وأيقنت واستيقنت كلها بمعنى، وذهب الواحدي وجماعة إلى أنه ما يكون عن نظر واستدلال فلا يوصف به البديهي ولا علم الله تعالى. وذهب الإمام النسفي وبعض الأئمة إلى أنه العلم الذي لا يحتمل النقيض، وعدم وصف الحق سبحانه وتعالى به لعدم التوقيف، وذهب آخرون إلى أنه العلم بالشيء بعد أن كان صاحبه شاكا فيه سواء كان ضروريا أو استدلاليا، وذكر الراغب أن اليقين من صفة العلم فوق المعرفة والدراية وأخواتها يقال علم يقين ولا يقال معرفة يقين وهو سكون النفس مع ثبات الحكم، وفي الأحياء- والقلب إليه يميل- أن اليقين مشترك بين معنيين. الأول عدم الشك فيطلق على كل ما لا شك فيه سواء حصل بنظر أو حس أو غريزة عقل أو بتواتر أو دليل وهذا لا يتفاوت. الثاني وهو ما صرح به الفقهاء والصوفية وكثير من العلماء وهو ما لا ينظر فيه إلى التجويز والشك بل إلى غلبته على القلب حتى يقال فلان ضعيف اليقين بالموت وقوي اليقين بإثبات الرزق فكل ما غلب على القلب واستولى عليه فهو يقين وتفاوت هذا ظاهر، وقرأ الجمهور يُوقِنُونَ بواو ساكنة بعد الياء وهي مبدلة منها لأنه من أيقن وقرأ النميري بهمزة ساكنة بدل الواو وشاع عندهم أن الواو إذا ضمت ضمة غير عارضة كما فصل في العربية يجوز إبدالها همزة كما قيل في وجوه جمع وجه أجوه فلعل الإبدال هنا لمجاورتها للمضموم فأعطيت حكمه وقد يؤخذ الجار بظلم الجار، وغاير سبحانه بين الإيمان بالمنزل والإيمان بالآخرة فلم يقل- وبالآخرة هم يؤمنون- دفعا لكلفة التكرار أو لكثرة غرائب متعلقات الآخرة وما أعد فيها من الثواب والعقاب وتفصيل أنواع التنعيم والتعذيب ونشأة أصحابهما على خلاف النشأة الدنيوية مع إثبات المعاد الجسماني كيفما كان. إلى غير ذلك مما هو أغرب من الإيمان بالكتاب المنزل حتى أنكره كثير من الناس وخلا عن تفاصيله على ما عندنا التوراة والإنجيل فليس في الأول- على ما في شرح الطوالع- ذكر المعاد الجسماني وإنما ذكر في كتب حزقيل وشعياء والمذكور في الإنجيل إنما هو المعاد الروحاني فناسب أن يقرن هذا الأمر المهم الغريب الذي حارت عقول الكثيرين في إثباته وتهافتوا على إنكاره تهافت الفراش على النار بالإيقان وهو هو إظهارا لكمال المدح وإبداء لغاية الثناء، وتقديم المجرور للإشارة إلى أن إيقانهم مقصور على حقيقة الآخرة لا يتعداها إلى خلاف حقيقتها مما يزعمه اليهود مثلا حيث قالوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً [البقرة: 111] ولَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [البقرة: 80] وزعموا أنهم يتلذذون بالنسيم والأرواح إذ ليس ذلك من الآخرة في شيء وفي بناء يوقنون على «هم» إشارة إلى أن اعتقاد مقابليهم في الآخرة جهل محض وتخييل فارغ وليسوا من اليقين في ظل ولا فيء أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ الظاهر أنه جملة مرفوعة المحل على الخبرية فإن جعل الموصول الأول مفصولا على أكثر التقادير في الثاني ويتبعه فصله بحسب الظاهر إذ لا يقطع المعطوف عليه دون المعطوف فالخبرية له وإن جعل موصولا وأريد بالثاني طائفة مما تقدمه وجعل هو مفصولا كان الإخبار عنه وذكر الخاص بعد العام كما يجوز أن يكون بطريق التشريك بينهما في الحكم السابق- أعني هدى للمتقين- يجوز أن يكون بطريق إفراده بالحكم عن العام وحينئذ تكون الجملة المركبة من الموصول الثاني وجملة الخبر معطوفة على جملة هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الموصوفين- بالذين يؤمنون بالغيب- والجملة الأولى وإن كانت مسوقة لمدح الكتاب والثانية لمدح الموصوفين بالإيمان بجميع الكتب إلا أن مدحهم ليس إلا باعتبار إيمانهم بذلك الكتاب فهما متناسبتان باعتبار إفادة مدحه وفائدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 جعل المدح مقصودا بالذات ترغيب أمثالهم والتعريض على ما قيل بمن ليس على صفتهم والتخصيص المستفاد من المعطوف بالقياس إلى من لم يتصف بأوصافهم فلا ينافي ما استفيد من المعطوف عليه من ثبوت الهدى للمتقين مطلقا. نعم ليس هذا الوجه في البلاغة بمرتبة فصل الموصول الأول فهو أولى، وعليه تكون الجملة مشيرة إلى جواب سؤال إما عن الحكم أي إن المتقين هل يستحقون ما أثبت لهم من الاختصاص بالهدى أو عن السبب كأنه قيل ما سبب اختصاصهم أو عن مجموع الأمرين أي هل هم أحقاء بذلك وما السبب فيه حتى يكونوا كذلك؟ فأجيب بأن هؤلاء لأجل اتصافهم بالصفات المذكورة متمكنون على الهدى الكامل الذي منحهم إياه ربهم تعالى بكتابه. ومعلوم أن العلة مختصة بهم فيكونون مستحقين للاختصاص. فالجواب مشتمل على الحكم المطلوب مع تلخيص موجبه وضم نتيجة الهدى تقوية للمبالغة التي ضمنها تنكير هدى أو تحقيقا للحكم بالبرهان الآتي أيضا ولذا استغنى عن تأكيد النسبة أو الجملة الاسمية مؤكدة، وقد يقال: إنه بين الجواب مرتبا عليه مسببيه أعني الهدى والفلاح لأن ذلك أوصل إلى معرفة السبب ولا حاجة حينئذ إلى التأكيد، والأمر على التقدير الثالث ظاهر وجعل الجملة مشيرة إلى الجواب على احتمال وصل الأول وفصل الثاني مما لا يخفى انفصاله عن ساحة القبول، وإذا وصل الأول وعطف الثاني تكون هذه الجملة مستأنفة استئنافا نحويا، والفصل لكمال الاتصال إذ هي كالنتيجة للصفات السابقة أو بيانيا والفصل لكونها كالمتصلة فكأن سائلا يقول ما للموصوفين بهذه الصفات اختصوا بالهدى؟ فأجيب بأن سبب اختصاصهم أنه سبحانه قدر في الأزل سعادتهم وهدايتهم فجبلتهم مطبوعة على الهداية والسعيد سعيد في بطن أمه لا سيما إذا انضم إليه الفلاح الأخروي الذي هو أعظم المطالب، أو يقال: إن الجواب بشرح ما انطوى عليه اسمهم إجمالا من نعوت الكمال وبيان ما تستدعيه من النتيجة أي الذين هذه شؤونهم أحقاء بما هو أعظم من ذلك، وهذا المسلك يسلك تارة بإعادة من استؤنف عنه الحديث- كأحسنت إلى زيد- زيد حقيق بالإحسان وأخرى بإعادة صفته- كأحسنت إلى زيد صديقك القديم- أهل لذلك وهذا أبلغ لما فيه من بيان الموجب للحكم وإيراد اسم الإشارة هنا بمنزلة إعادة الموصوف بصفاته المذكورة مع ما فيه من الإشعار بكمال تميزه بها وانتظامه لذاك في سلك الأمور المشاهدة مع الإيماء إلى بعد منزلته وعلو درجته، هذا وجعل أولئك وحده خبرا وعَلى هُدىً حال بعيد كجعله بدلا من- الذين- والظرف خبرا. وإنما كتبوا واوا في أُولئِكَ للفرق بينه وبين إليك الجار والمجرور كما قيل، وقيل: إنه لما كان مشارا به لجمع المذكر وكان مبنيا ومباينا للشائع من صيغ الجموع جبر في الجملة بكتابة حرف يكون في الجمع في بعض الآنات. ومن المشهور- ردوا السائل ولو بظلف محرق- وفي قوله سبحانه عَلى هُدىً استعارة تمثيلية تبعية حيث شبهت حال أولئك- وهي تمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه وتمسكهم به- بحال من اعتلى الشيء وركبه ثم استعير للحال التي هي المشبه المتروك كلمة الاستعلاء المستعملة في المشبه به وإلى ذلك ذهب السعد، وأنكر السيد اجتماع التمثيلية والتبعية لأن كونها تبعية يقتضي كون كل من الطرفين معنى مفردا لأن المعاني الحرفية مفردة وكونها تمثيلية يستدعي انتزاعهما من أمور متعددة وهو يستلزم تركبه. وأبدى قدس سره في الآية ثلاثة أوجه. الأول أنها استعارة تبعية مفردة بأن شبه تمسك المتقين بالهدى باستعلاء الراكب على مركوبه في التمكن والاستقرار فاستعير له الحرف الموضوع للاستعلاء. الثاني أن يشبه هيئة منتزعة من المتقي والهدى وتمسكه به بالهيئة المنتزعة من الراكب والمركوب واعتلائه عليه فيكون هناك استعارة تمثيلية تركب كل من طرفيها لكن لم يصرح من الألفاظ التي بإزاء المشبه به إلا بكلمة عَلى فإن مدلولها هو العمدة في تلك الهيئة وما عداه تابع له ملاحظ في ضمن ألفاظ منوية وإن لم تقدر في نظم الكلام فليس في «على» استعارة أصلا بل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 هي على حالها قبل الاستعارة كما إذا صرح بتلك الألفاظ كلها. الثالث أن يشبه الهدى بالمركوب على طريق الاستعارة بالكناية وتجعل كلمة عَلى قرينة لها على عكس الوجه الأول. وهذا الخلاف بين الشيخين في هذه المسألة مما سارت به الركبان وعقدت له المجالس وصنفت فيه الرسائل، وأول ما وقع بينهما في مجلس تيمور- وكان الحكم نعمان الخوارزمي المعتزلي- فحكم- والظاهر أنه لأمر ما- للسيد السند والعلماء إلى اليوم فريقان في ذلك ولا يزالون مختلفين فيه إلا أن الأكثر مع السعد وأجابوا عن شبهة السيد بأن انتزاع شيء من أمور متعددة يكون على وجوه شتى فقد يكون من مجموع تلك الأمور كالوحدة الاعتبارية وقد يكون من أمر بالقياس إلى آخر كالإضافات وقد يكون بعضه من أمر وبعضه من آخر وعلى الأولين لا يقتضي تركيبه بل تعدد مأخذه فيجوز حينئذ أن يكون المدلول الحرفي لكونه أمرا إضافيا كالاستعلاء حالة منتزعة من أمور متعددة فلجريانها في الحرف تكون تبعية ولكون كل من الطرفين حالة إضافية منتزعة من أمور متعددة تمثيلية، ولعل اختيار القوم في تعريف التمثيلية لفظ الانتزاع دون التركيب يرشد المنصف إلى عدم اشتراط التركيب في طرفيه وإلا لكان الأظهر لفظ التركيب، وقد أشبعنا القول في ذلك وذكرنا ما له وما عليه في كتابنا- الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية- وفي هذا القدر هنا كفاية. وفي تنكير هُدىً إشارة إلى عظمته فلا يعرف حقيقته ومقداره إلا اللطيف الخبير وإنما ذكر الرب مع أن الهدى لا يكون إلا منه سبحانه تأكيدا لذلك بإسناده إليه جل شأنه، وفيه مناسبة واضحة إذ حيث كان ربهم ناسب أن يهيئ لهم أسباب السعادتين ويمنّ عليهم بمصلحة الدارين وقد تكون ثم صفة محذوفة أي عَلى هُدىً أي هدى وحذف الصفة لفهم المعنى جائز وقيل يحتمل أن يكون التنوين للإفراد أي على هدى واحد إذ لا هدى إلا هدى ما أنزل إليه صلى الله تعالى عليه وسلم لنسخه ما قبله. ومِنْ لابتداء الغاية أو للتبعيض على حذف مضاف أي من هدى ربهم، ومعنى كون ذلك منه سبحانه أنه هو الموفق لهم والمفيض عليهم من بحار لطفه وكرمه وإن توسطت هناك أسباب عادية ووسائط صورية على أن تلك الوسائط قد ترتفع من البين فيتبلج صبح العيان لذي عينين. وقد قرأ ابن هرمز- من ربهم- بضم الهاء وكذلك سائر هاءات جمع المذكر والمؤنث على الأصل من غير أن يراعي فيها سبق كسر أو ياء وأدغم النون في الراء بلا غنة الجمهور وعليه العمل، وذهب كثير من أهل الأداء إلى الإدغام مع الغنة ورووه عن نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وعاصم وأبي جعفر ويعقوب، وأظهر النون أبو عون عن قالون، وأبو حاتم عن يعقوب، وهذه الأوجه جارية أيضا في النون والتنوين إذا لاقت (1) لاما وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفلاح الفوز والظفر بإدراك البغية وأصله الشق والقطع ويشاركه في معنى الشق مشاركه في الفاء والعين نحو- فلى وفلق وفلذ- وفي تكرار اسم الإشارة إشارة إلى أن هؤلاء المتصفين بتلك الصفات يستحقون بذلك الاستقلال بالتمكن في الهدى والاستبداد بالفلاح والاختصاص بكل منهما ولولاه لربما فهم اختصاصهم بالمجموع فيوهم تحقق كل واحد منهما بالانفراد فيمن عداهم وإنما دخل العاطف بين الجملتين لكونهما واقعتين بين كمال الاتصال والانفصال لأنهما وإن تناسبا مختلفان مفهوما ووجودا فإن الهدى في الدنيا والفلاح في الآخرة وإثبات كل منهما مقصود في نفسه وبهذا فارقا قوله تعالى: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ [الأعراف: 179] فالثانية فيه مؤكدة للأولى إذ لا معنى للتشبيه إلا بالإنعام المبالغة في الغفلة فلا مجال للعطف بينهما وهُمُ يحتمل أن يكون فصلا أو بدلا فيكون الْمُفْلِحُونَ خبرا عن أولئك أو مبتدأ- والمفلحون- خبره والجملة خبر.. أُولئِكَ وهذه الجملة لا تخلو عن إفادة الحصر كما لا يخفى. وقد ذكر غير   (1) قوله إذا لاقت كذا بخطه والأولى لاقتا كما هو ظاهر اهـ مصححه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 واحد أن اللام في- المفلحون- حرف تعريف بناء على أن المراد الثبات على الفلاح فهو حينئذ مما غلبت عليه الاسمية أو ألحق بالصفة المشبهة فهي إما للعهد الخارجي للدلالة على أن المتقين هم الذين بلغك أنهم مفلحون في العقبى وضمير الفصل إما للقصر- أو لمجرد تأكيد النسبة ولا استبعاد في جريان القصر قلبا أو تعيينا بل إفرادا أيضا أو للجنس- فتشير إلى ما يعرفه كل أحد من هذا المفهوم فإن أريد القصر كان الفصل لتأكيد النسبة ولتأكيد الاختصاص أيضا وإن أريد الاتحاد كان لمجرد تأكيد النسبة. وتشبث المعتزلة والخوارج بهذه الآية لخلود تارك الواجب في العذاب لأن قصر جنس الفلاح على الموصوفين يقتضي انتفاء الفلاح عن تارك الصلاة والزكاة فيكون مخلدا في العذاب وهذا أوهن من بيت العنكبوت فلا يصلح للاستدلال لأن الفلاح عدم الدخول أو لأن انتفاء كمال الفلاح كما يقتضيه السياق، والسباق لا يقتضي انتفاءه مطلقا ولا حاجة إلى حمل المتقين على المجتنبين للشرك ليدخل العاصي فيهم لأن الإشارة ليست إليه فقط فلا يجدي نفعا ككون الصفة مادحة كما لا يخفى، وهاهنا سر دقيق وهو أنه سبحانه وتعالى حكى في مفتتح كتابه الكريم مدح العبد لباريه بسبب إحسانه إليه وترقى فيه ثم مدح الباري هنا عبده بسبب هدايته له وترقى فيه على أسلوب واحد فسبحانه من إله ماجدكم أسدى جميلا، وأعطى جزيلا، وشكر قليلا، فله الفضل بلا عد، وله الحمد بلا حد. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ كلام مستأنف يتميز به حال الكفرة الغواة المردة العتاة سيق إثر بيان بديع أحوال أضدادهم المتصفين بنعوت الكمال الفائزين بمطالبهم في الحال والمآل، ولم يعطف على سابقه عطف القصة على القصة لأن المقصود من ذلك بيان اتصاف الكتاب بغاية الكمال في الهداية تقريرا لكونه يقينا لا مجال للشك فيه، ومن هذا بيان اتصاف الكفار بالإصرار على الكفر والضلال بحيث لا يجدي فيهم الإنذار، والقول إنهما مسوقان لبيان حال الكتاب وإنه هدى لقوم وليس هدى لآخرين لا يجدي نفعا لأن عدم كونه هدى لهم مفهوم تبعا لا مقصود أصالة على أن الانتفاع به صفة كمال له يؤيد ما سبق من تفخيم شأنه وإعلاء مكانه بخلاف عدم الانتفاع. وقيل إن ترك العطف لكونه استئنافا آخر كأنه قيل ثانيا ما بال غيرهم لم يهتدوا به؟ فأجيب بأنهم لإعراضهم وزوال استعدادهم لم ينجع فيهم دعوة الكتاب إلى الإيمان وليس بشيء لأنه بعد ما تقرر أن تلك الأوصاف المختصة هي المقتضية لم يبق لهذا السؤال وجه، وأغرب من هذا تخيل أن الترك لغاية الاتصال زعما أن شرح تمرد الكفار يؤكد كون الكتاب كاملا في الهداية نعم يمكن على بعد أن يوجه السؤال بأن يقال: لو كان الكتاب كاملا لكان هدى للكفار أيضا فيجاب بأن عدم هدايته إياهم لتمردهم وتعنتهم لا لقصور في الكتاب. والنجم تستصغر الأبصار رؤيته ... والذنب للطرف لا للنجم في الصغر والعطف في قوله تعالى إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ لاتحاد الجامع إذ الجملة الأولى مسوقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 لبيان ثواب الأخيار، والثانية لذكر جزاء الأشرار مع ما فيهما من الترصيع والتقابل وقد عد التضاد وشبهه جامعا يقتضي العطف لأن الوهم ينزل المتضادين منزلة المتضايفين فيجتهد في الجمع بينهما في الذهن حتى قالوا: إن الضد أقرب خطورا بالبال مع الضد من الأمثال. وصدرت الجملة بأن اعتناء بمضمونها وقد تصدر بها الأجوبة لأن السائل لكونه مترددا يناسبه التأكيد وتعريف الموصول إما للعهد (1) والمراد من شافههم صلّى الله عليه وسلّم بالإنذار في عهده وهم مصرون على كفرهم أو للجنس كما في قوله تعالى: كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ [البقرة: 171] وكقول الشاعر: ويسعى إذا أبني ليهدم صالحي ... وليس الذي يبني كمن شأنه الهدم فهو حينئذ عام خصه العقل بغير المصرين، والإخبار بما ذكر قرينة عليه أو المخصص عود ضمير خاص عليه من الخبر لا الخبر نفسه وقد ذكر الأصوليون ثلاثة أقوال فيما إذا عاد ضمير خاص على العام فقيل يخصصه وقيل لا وقيل بالوقف ومثلوه بقوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: 228] فإن الضمير في بعولتهن للرجعيات فقط. وما ذكره بعض أجلة المفسرين أن المخصص هنا الخبر أورد عليه أن تعين المخبر عنه بمفهوم الخبر ينافي ما تقرر من أن المخبر عنه لا بد أن يكون متعينا عند المخاطب قبل ورود الخبر فلو توقف تعين المخبر عنه على الخبر لزم الدور. والكفر بالضم مقابل الإيمان وأصله المأخوذ منه الكفر- بالفتح- مصدر بمعنى الستر يقال كفر يكفر من باب قتل، وما في الصحاح من أنه من باب ضرب فالظاهر أنه غير صحيح (2) وإن لم ينبه عليه في القاموس وشاع استعماله في ستر النعمة خاصة وفي مقابل الإيمان لأن فيه ستر الحق ونعم الفيض المطلق، وقد صعب على المتكلمين تعريف الكفر الشرعي الغير التبعي واختلفوا في تعريفه على حسب اختلافهم في تعريف الإيمان إلا أن الذي عول عليه الشافعية رحمهم الله تعالى أنه إنكار ما علم مجيء الرسول صلّى الله عليه وسلّم به مما اشتهر حتى عرفه الخواص والعوام فلا يكفر جاحد المجمع عليه على الإطلاق بل من جحد مجمعا عليه فيه نص وهو من الأمور الظاهرة التي يشترك في معرفتها سائر الناس كالصلاة وتحريم الخمر ومن جحد مجمعا عليه لا يعرفه إلا الخواص كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب فليس بكافر ومن جحد مجمعا عليه ظاهرا لا نص فيه ففي الحكم بتكفيره خلاف، وأما ساداتنا الحنفية رضي الله تعالى عنهم فلم يشترطوا في الإكفار سوى القطع بثبوت ذلك الأمر الذي تعلق به الإنكار لا بلوغ العلم به حد الضرورة وهذا أمر عظيم وكأنه لذلك قال ابن الهمام: يجب حمله على ما إذا علم المنكر ثبوته قطعا لأن مناط التكفير التكذيب أو الاستخفاف ولا يرد على أخذ الإنكار في التعريف أن أهل الشرع حكموا على بعض الأفعال والأقوال بأنها كفر وليست إنكارا من فاعلها ظاهرا لأنهم صرحوا بأنها ليست كفرا وإنما هي دالة عليه فأقيم الدال مقام مدلوله حماية لحريم الدين وصيانة لشريعة سيد المرسلين صلّى الله عليه وسلّم وليست بعض المنهيات التي تقتضيها الشهوة النفسانية كذلك فلا يبطل الطرد بغير الكفر من الفسق فلبس شعار الكفار مثلا ليس في الحقيقة كفرا كما قاله مولانا الإمام الرازي وغيره إلا أنهم كفروا به لكونه علامة ظاهرة على أمر باطن وهو التكذيب لأن الظاهر أن من يصدق الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم لا يأتي به فحيث أتى به دل على عدم التصديق وهذا إذا لم تقم قرينة على ما ينافي تلك الدلالة ولهذا قال بعض المحققين: إن لبس شعار الكفرة سخرية بهم وهزلا ليس بكفر. وقال مولانا الشهاب وليس ببعيد إذا   (1) وهو الأولى دراية ورواية اهـ منه. (2) مثل ذلك لابن الطيب في حاشية القاموس وفيه أن الذي قال الجوهري: انه من باب ضرب هو الكفر بمعنى الستر وهو صحيح باتفاق وهو غير الكفر الذي هو ضد الإيمان فإنّه من باب نصر أفاده شارح القاموس اهـ مصححه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 قامت القرينة وأنا أقول إذا قامت القرينة على غرض آخر غير السخرية والهزل لا كفر به أيضا كما يظنه بعض من ادعى العلم اليوم وليس منه في قبيل ولا دبير ولا في العير ولا النفير ثم الإنكار هنا بمعنى الجحود ولا يرد أن من تشكك أو كان خاليا عن التصديق والتكذيب ليس بمصدق ولا جاحد وأنه قول بالمنزلة بين المنزلتين وهو باطل عند أهل السنة لأنه يجوز أن يكون كفر الشاك والخالي لأن تركهما الإقرار مع السعة والأعمال بالكلية دليل كما قاله السالكوتي على التكذيب كما أن التلفظ بكلمة الشهادة دليل على التصديق وقيل هو هاهنا من أنكرت الشيء جهلته فلا ورود أيضا، وفيه أن الإنكار بمعنى الجهل يقابل المعرفة فيلزم أن يكون العارف الغير المصدق كأحبار اليهود واسطة فالمحذور باق بحاله. وعرف في المواقف الكفر بأنه عدم تصديق الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في بعض ما علم مجيئه به بالضرورة ولعله أيضا يقول بإقامة بعض الأفعال والأقوال مقام عدم التصديق واعترض على أخذ الضرورة بأن ما ثبت بالإجماع قد يخرج من الضروريات وكذا براءة عائشة رضي الله تعالى عنها ثبتت بالقرآن، وأدلته اللفظية غير موجبة للعلم فتخرج عن الضروريات أيضا. وأجيب بأن خروج ما ثبت بالإجماع عن الضروريات ممنوع والدلالة اللفظية تفيد العلم بانضمام القرائن وهي موجودة في براءة عائشة رضي الله تعالى عنها ولقد عد أصحابنا رضي الله تعالى عنهم في باب الاكفار أشياء كثيرة لا أراها توجب إكفارا والإخراج عن الملة أمر لا يشبهه شيء فينبغي الاتئاد في هذا الباب مهما أمكن، وقول ابن الهمام: ارفق بالناس وفي أبكار الأفكار- في هذا البحث- ما يقضي منه العجب ولا أرغب في طول بلا طول وفضول بلا فضل. واستدل المعتزلة بهذه الآية ونحوها على حدوث كلامه سبحانه وتعالى لاستدعاء صدق الإخبار بمثل هذا الماضي سابقه المخبر عنه أعني النسبة بالزمان وكل مسبوق بالزمان حادث، وأجيب بأن سبق المخبر عنه يقتضي تعلق كلامه الأزلي بالمخبر عنه فاللازم سبق المخبر عنه على التعلق وحدوثه وهو لا يستلزم حدوث الكلام كما في علمه تعالى بوقوع الأشياء فإن له تعلقا حادثا مع عدم حدوثه أو يقال: إن ذاته تعالى وصفاته لما لم تكن زمانية يستوي إليها جميع الأزمنة استواء جميع الأمكنة فالأنواع كل منها حاضر عنده في مرتبته واختلاف التعبيرات بالنظر إلى المخاطب الزماني رعاية للحكمة في باب التفهيم، وقيل غير ذلك مما يطول ذكره، وقد ذكرنا في الفائدة الرابعة ما يفيدك ذكره هنا فتذكر وسَواءٌ اسم مصدر بمعنى الاستواء وهو لا يثنى ولا يجمع وقد استغنوا عن تثنيته بتثنية «سي» إلا شذوذا وكأنه في الأصل مصدر كما قاله الرضي ورفع على أنه خبر أن وما بعده مرتفع به على الفاعلية كأنه قيل: إن الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه- أو خبر مبتدأ محذوف- تقديره الأمران سواء ثم بين الأمرين بقوله سبحانه أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ أو خبر لما بعده أي إنذارك وعدمه سيان وهو المشهور على ألسنة الطلبة في مثله وأورد عليه أمور: الأول أن الفعل لا يسند إليه. الثاني أنه مبطل لصدارة الاستفهام. الثالث أن الهمزة وأَمْ موضوعان لأحد الأمرين وكل ما يدل على الاستواء لا يسند إلا إلى متعدد فلذا يقال: استوى وجوده وعدمه ولا يقال أو عدمه. الرابع أنه على تقدير كونه خبرا يلزم أن لا يصح تقديمه لالتباس المبتدأ بالفاعل. ويجاب أما عن الأول فبأنه من جنس الكلام المهجور فيه جانب اللفظ إلى جانب المعنى، والعرب تميل في مواضع من كلامهم مع المعاني ميلا بينا ومن ذلك- لا تأكل السمك وتشرب اللبن- أي لا يكن منك أكل السمك وشرب اللبن ولو أجري على ظاهره لزم عطف الاسم المنصوب على الفعل بل المفرد على جملة لا محل لها. ودعوى البيضاوي- بيض الله تعالى غرة أحواله- أنه استعمل فيه اللفظ في جزء معناه وهو الحدث تجوزا فلذا صح الإخبار عنه كما يجوز الإخبار عما يراد به مجرد لفظه كضرب ماض مفتوح الباء على ما فيها لا تتأتى فيما إذا كان المعادلان- أو أحدهما بعد همزة التسوية- جملة اسمية كما في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 قوله تعالى: سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ [الأعراف: 193] ويدخل في الميل مع المعنى مع أنه لا يلزم عليه الخروج عن الحقيقة وقد نقل ابن جني عن أبي علي (1) أنه قال: الجملة المركبة من المبتدأ والخبر تقع موقع الفعل المنصوب بأن إذا انتصب وانصرف القول به والرأي فيه إلى مذهب المصدر كقوله تعالى: هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ [الروم: 28] وكقوله سبحانه وتعالى: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى [النجم: 35] ألا ترى أن الفاء جواب الاستفهام وهي تصرف الفعل بعدها إلى الانتصاب بأن مضمرة والفعل المنصوب مصدر لا محالة حتى كأنه قال أعنده علم الغيب فرؤيته وهل بينكم شركة فاستواء، وأما عن الثاني والثالث فبأن الهمزة وأَمْ انسلخا عن معنى الاستفهام عن أحد الأمرين ولما كانا مستويين في علم المستفهم جعلا مستويين في تعلق الحكم بكليهما، ولهذا قيل تجوز بهما عن معنى الواو العاطفة الدالة على اجتماع متعاطفيها في نسبة ما من غير ملاحظة تقدم أو تأخر، ثم إن مثل هذا المعنى وإن كان مرادا إلا أنه لا يلاحظ في عنوان الموضوع بعد السبك كما لا يلاحظ معنى العاطف فلا يقال في الترجمة هنا إلا الإنذار وعدمه سواء من غير نظر إلى التساوي حتى يقال إذا كان تقدير المبتدأ المتساويان يلغو حمل سواء عليه فيدفع بما يدفع، وقد قال الإمام الآقسراي: إن أنذرتهم إلخ انتقل عن أن يكون المقصود أحدهما إلى أن يكون المراد كليهما وهذا معنى الاستواء الموجود فيه، وأما الحكم بالاستواء في عدم النفع فلم يحصل إلا من قوله سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ وذكر أنه ظفر بمثله عن أبي علي الفارسي، وكلام المولى الفناري يحوم حول هذا الحمى، وذهب بعض المحققين إلى أنهما في الأصل للاستفهام عن أحد الأمرين وهما مستويان في علم المستفهم، وقد ذهب ذلك الاستواء هنا إذ سلخ عنهما الاستفهام وبقي الاستواء في العلم وهو معنى قول من قال الهمزة وأَمْ مجردتان لمعنى الاستواء فيكون الحاصل فيما نحن فيه المتساويان في علمك مستويان في عدم الجدوى وهذا على ما فيه تكلف مستغنى عنه بما ذكرناه ومثله ما ذكر العاملي من أن تمام معناهما الاستواء والاستفهام معا فجردا عن معنى الاستفهام وصار المجرد الاستواء ولتكرر الحكم بالاستواء بمعنى واحد يحصل التأكيد كأنه قيل سواء الإنذار وعدمه سواء وهو بعيد عن ساحة التحقيق كما لا يخفى ويوهم قولهم بالتجريد أن هناك مجازا مرسلا استعمل فيه الكل في جزئه، والتحقيق أنه إما استعارة أو مستعمل في لازم معناه ثم المشهور أنه لا يجوز العطف بعد سواء بأو إن كان هناك همزة التسوية حتى قال في المغني: إنه من لحن الفقهاء، وفي شرح الكتاب للسيرافي سَواءٌ إذا دخلت بعدها ألف الاستفهام لزمت أَمْ كسواء على أقمت أم قعدت فإذا عطف بعدها أحد اسمين على آخر عطف بالواو لا غير نحو سواء عندي زيد وعمرو فإذا كان بعدها فعلان بغير استفهام عطف أحدهما على الآخر- بأو- كقولك سواء عليّ قمت أو قعدت فإن كان بعدها مصدران مثل سواء عليّ قيامك وقعودك فلك العطف بالواو وبأو. وإنما دخلت في الفعلين بغير استفهام لما في ذلك من معنى المجازاة، فتقدير المثال إن قمت أو قعدت فهما عليّ سواء، والظاهر من هذا بيان استعمالات العرب- لسواء- ولم يحك في شيء من ذلك شذوذا فقراءة ابن محيصن من طريق الزعفراني- سواء عليهم أنذرتهم أو لم تنذرهم- شاذة رواية فقط لا استعمالا كما يفهمه كلام ابن هشام فافهم هذا المقام فقد غلط فيه أقوام بعد أقوام. وأما عن الرابع فبأن النحاة قد صرحوا بتخصيص ذلك بالخبر الفعلي دون الصفة نحو زيد قام فلا يقدم لالتباس المبتدأ بالفاعل حينئذ فإذا لم يمتنع في صريح الصفة فعدم امتناعه هنا أولى على ما قيل، وإنما عدل سبحانه عن المصدر فلم يأت به على الأصل لوجهين:   (1) أي في إعراب الحماسة اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 لفظي وهو حسن دخول الهمزة وأم لأنهما في الأصل للاستفهام وهو بالفعل أولى، ومعنوي وهو إيهام التجدد نظرا لظاهر الصيغة، وفيه إشارة إلى أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أحدث ذلك وأوجده فأدى الأمانة وبلغ الرسالة وإنما لم يؤمنوا لسبق الشقاء ودرك القضاء لا لتقصير منه وحاشاه فهو وإن أفاد اليأس فيه تسلية له صلى الله تعالى عليه وسلم. وعلى هنا باعتبار أصل معناه لأن الاستواء يتعدى بعلى كقوله تعالى: اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف: 54، يونس: 3، الرعد: 2، الفرقان: 59، السجدة: 4، الحديد: 4] وقيل بمعنى عند- ففي المغني- على تجرد للظرفية، وعلى ذلك أكثر المفسرين والقول بأنها هنا للمضرة كدعاء عليه ليس بشيء لأن سَواءٌ تستعمل مع على مطلقا فيقال- مودتي دائمة سواء علي أزرت أم لم تزر- «والإنذار» التخويف مطلقا أو الإبلاغ وأكثر ما يستعمل في تخويف عذاب الله تعالى ويتعدى إلى اثنين كقوله تعالى: نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً [النبأ: 40] فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً [فصلت: 13] فالمفعول الثاني هنا محذوف أي العذاب ظاهرا ومضمرا واستحسن أن لا يقدر ليعم، وفي البحر: الإنذار الإعلام مع التخويف في مدة تسع التحفظ من المخوف فإن لم تسع فهو إشعار وإخبار لا إنذار ولم يذكر سبحانه البشارة لأنها تفهم بطريق دلالة النص لأن الإنذار أوقع في القلب وأشد تأثيرا فإذا لم ينفع كانت البشارة بعدم النفع أولى. وقيل لا محل للبشارة هنا لأن الكافر ليس أهلا لها. وقوله عز من قائل لا يُؤْمِنُونَ يحتمل أن تكون مفسرة لإجمال ما قبلها مما فيه الاستواء والكفر وعدم نفع الإنذار في الماضي بحسب الظاهر مسكوت فيه عن الاستمرار ولا يُؤْمِنُونَ دال عليه ومبين له فلا حاجة إلى القول بأن هذا بالنظر إلى مفهوم اللفظ مع قطع النظر عن أنه إخبار عن المصرين وهي حينئذ لا محل لها من الإعراب كما هو شأن الجمل المفسرة، وعند الشلوبين لها محل لأنها عطف بيان عنده ويحتمل أن تكون حالا مؤكدة لما قبلها وصاحب الحال ضمير عليهم أو أنذرتهم وليس هذا كزيد أبوك عطوفا لفقد ما يشترط (1) في هذا النوع هاهنا وأن تكون بدلا، إما بدل اشتمال لاشتمال عدم نفع ما مر على عدم الإيمان، أو بدل كل لأنه عينه بحسب المآل أو خبرا بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف- أي هم لا يؤمنون- أو خبر إن والجملة قبلها اعتراض. وفي التسهيل: الاعتراضية هي المفيدة تقوية وهي هنا كالعلة للحكم لدلالتها على قسوة قلوبهم وعدم تأثرها بالإنذار وهو مقتض لعدم الإيمان، وحيث إن الموضوع دال على عدم الإيمان في الماضي والمحمول على استمراره في المستقبل اندفع توهم عدم الفائدة في الإخبار وجعل الجملة دعائية بعيد، وأبعد منه ما روي أن الوقف على- أم لم تنذر- والابتداء- بهم لا يؤمنون- على أنه مبتدأ وخبر بل ينبغي أن لا يلتفت إليه، وقرأ الجحدري سَواءٌ بتخفيف الهمزة على لغة الحجاز فيجوز أنه أخلص الواو ويجوز أنه جعل الهمزة بين بين أي بين الهمزة والواو (2) وعن الخليل أنه قرأ: «سوء» عليهم بضم السين مع واو بعدها فهو عدول عن معنى المساواة إلى السب والقبح وعليه لا تعلق أعرابيا له بما بعده كما في البحر، وقرأ الكوفيون وابن ذكوان- وهي لغة بني تميم- أَأَنْذَرْتَهُمْ بتحقيق الهمزتين وهو الأصل، وأهل الحجاز لا يرون الجمع بينهما طلبا للتخفيف فقرأ الحرميان وأبو عمرو وهشام بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية إلا أن أبا عمرو وقالون وإسماعيل بن جعفر عن نافع وهشام يدخلون بينهما ألفا وابن كثير لا يدخل، وروي تحقيقهما عن هشام مع إدخال ألف بينهما وهي قراءة ابن عباس وابن أبي إسحاق. وروي عن ورش كابن كثير وكقالون إبدال الهمزة الثانية ألفا فيلتقي ساكنان على غير حدهما عند البصريين، وزعم الزمخشري أن ذلك لحن وخروج عن كلام العرب من وجهين «أحدهما» الجمع بين ساكنين على غير حده «الثاني» أن طريق تخفيف الهمزة   (1) فقد اشترط النحاة فيه الوقوع بعد جملة اسمية طرفاها معرفتان جامدان وعاملها محذوف أبدا اهـ منه (2) ولامها على هذا واو لا ياء وفي المشهور همزتها منقلبة عن ياء فهو من باب طويت اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 المتحركة المفتوح ما قبلها هو بالتسهيل بين بين لا بالقلب ألفا لأنه طريق الهمزة الساكنة وما قالوه مذهب البصريين، والكوفيون أجازوا الجمع على غير الحد الذي أجازه البصريون، وهذه القراءة من قبيل الأداء، ورواية المصريين عن ورش وأهل بغداد يروون التسهيل بين بين كما هو القياس فلا يكون الطعن فيها طعنا فيما هو من السبع المتواتر إلا أن المعتزلي أساء الأدب في التعبير، وقد احتج بهذه الآية وأمثالها من قال بوقوع التكليف بالممتنع لذاته بناء على أن يراد بالموصول ناس بأعيانهم، وحاصل الاستدلال أنه سبحانه وتعالى أخبر بأنهم لا يؤمنون وأمرهم بالإيمان وهو ممتنع إذ لو كان ممكنا لما لزم من فرض وقوعه محال لكنه لازم إذ لو آمنوا انقلب خبره كذبا وشمل إيمانهم الإيمان بأنهم لا يؤمنون لكونه مما جاء به صلى الله تعالى عليه وسلم وإيمانهم بأنهم لا يؤمنون فرع اتصافهم بعدم الإيمان فيلزم اتصافهم بالإيمان وعدم الإيمان فيجتمع الضدان، وكلا الأمرين من انقلاب خبره تعالى كذبا واجتماع الضدين محال وما يستلزم المحال محال «وأجيب» بأن إيمانهم ليس من المتنازع فيه لأنه أمر ممكن في نفسه وبإخباره سبحانه وتعالى بعدم الإيمان لا يخرج من الإمكان، غايته أنه يصير ممتنعا بالغير واستلزام وقوعه الكذب أو اجتماع الضدين بالنظر إلى ذلك لأن إخباره تعالى بوقوع الشيء أو عدم وقوعه لا ينفي القدرة عليه ولا يخرجه من الإمكان الذاتي لامتناع الانقلاب وإنما ينفي عدم وقوعه أو وقوعه فيصير ممتنعا بالغير واللازم للمكن أن لا يلزم من فرض وقوعه نظرا إلى ذاته محال، وأما بالنظر إلى امتناعه بالغير فقد يستلزم الممتنع بالذات كاستلزام عدم المعلول الأول عدم الواجب. وقيل في بيان استحالة إيمانهم بأنهم لا يؤمنون أنه تكليف بالنقيضين لأن التصديق في الإخبار بأنهم لا يصدقونه في شيء يستلزم عدم تصديقهم في ذلك والتكليف بالشيء تكليف بلوازمه، وقوبل بالمنع لا سيما اللوازم العدمية. وقيل لأن تصديقهم في أن لا يصدقوه يستلزم أن لا يصدقوه وما يستلزم وجوده عدمه محال، ورد بأنه يجوز أن يكون ذلك الاستلزام لامتناعه بالغير كما فيما نحن فيه، وقيل لأن إذعان الشخص بخلاف ما يجد في نفسه محال. واعترض بأنه يجوز أن لا يخلق الله تعالى العلم بتصديقه فيصدقه في أن لا يصدقه نعم إنه خلاف العادة لكنه ليس من الممتنع بالذات كذا قيل، ولا يخلو المقام بعد عن شيء وأي شيء، والبحث طويل واستيفاؤه هنا كالتكليف بما لا يطاق وسيأتيك إن شاء الله تعالى على أتم وجه. ثم فائدة الإنذار بعد العلم بأنه لا يثمر استخراج سر ما سبق به العلم التابع للمعلوم من الطوع والإباء في المكلفين لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165] فإن الله تعالى لو أدخل ابتداء كلّا داره التي سبق العلم بأنها داره لكان شأن المعذب منهم ما وصف الله تعالى بقوله: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى [طه: 134] فأرسل رسلا مبشرين ومنذرين ليستخرج ما في استعدادهم من الطوع والإباء- فيهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيي عن بينة- فإن الذكرى تنفع المؤمنين- وتقوم به الحجة على الآخرين إذ بعد الذكرى وتبليغ الرسالة تتحرك الدواعي للطوع والإباء بحسب الاستعداد الأزلي فيترتب عليه الفعل أو الترك بالمشيئة السابقة التابعة للعلم التابع للمعلوم الثابت الأزلي فيترتب عليه النفع والضرّ من الثواب والعقاب وإنما قامت الحجة على الكافر لأن ما امتنع من الإتيان به بعد بلوغ الدعوة وظهور المعجزة من الإيمان. لو كان ممتنعا لذاته مطلقا لما وقع من أحد لكنه قد وقع فعلم أن عدم وقوعه منه كان عن إباء ناشىء من استعداده الأزلي باختياره السيئ وإن كان إباؤه بخلق الله تعالى به فإن فعل الله تعالى تابع لمشيئته التابعة لعلمه التابع للمعلوم والمعلوم من حيث ثبوته الأزلي غير مجعول فتعلق العلم به على ما هو عليه في ثبوته الغير المجعول مما يقتضيه استعداده الأزلي ثم الإرادة تعلقت بتخصيص ما سبق العلم به من مقتضى استعداده الأزلي فأبرزته القدرة على طبق الإرادة قال تعالى: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ [طه: 50] فلهذا قال: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ [الإنعام: 149] لكنه لم يشأ إذ لم يسبق به العلم لكونه كاشفا للمعلوم وما في استعداده الأزلي فالمعلوم المستعد للهداية في نفسه كشفه عما هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 عليه من قبوله لها، والمستعد للغواية تعلق به على ما هو عليه من عدم قبوله لها فلم يشأ إلا ما سبق به العلم من مقتضيات الاستعداد فلم تبرز القدرة إلا ما شاء الله تعالى فصح أن لله الحجة البالغة سبحانه إذا نوزع لأن الله تعالى قد «أعطى كل شيء خلقه» وما يقتضيه استعداده وما نقص منه شيئا ولهذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «فمن وجد خيرا فليحمد الله» فإن الله متفضل بالإيجاد لا واجب عليه ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه لأنه ما أبرز قدرته بجوده ورحمته مما اقتضته الحكمة من الأمر الذي لا خير فيه له إلا لكونه مقتضى استعداده فالحمد لله على كل حال ونعوذ به من أحوال أهل الزيغ والضلال، وإنما قال سبحانه سَواءٌ عَلَيْهِمْ ولم يقل عليك لأن الإنذار وعدمه ليسا سواء لديه صلى الله تعالى عليه وسلم- لفضيلة الإنذار الواجب عليه- على تركه، وإذا أريد بالموصول ناس معينون على أنه تعريف عهدي كما مر كان فيه معجزة لإخباره بالغيب وهو موت أولئك على الكفر كما كان خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ إشارة إلى برهان لميّ للحكم السابق كما أن سواء عليهم إلخ على تقدير كونه اعتراضا برهان إني، فالختم والتغشية مسببان عن نفس الكفر، واقتراف المعاصي سببان للاستمرار على عدم الإيمان أو لاستواء الإنذار وعدمه فالقطع لأنه سؤال عن سبب الحكم، والختم الوسم بطابع ونحوه والأثر الحاصل، ويتجوز بذلك تارة في الاستيثاق من الشيء والمنع منه اعتبارا بما يحصل من المنع بالختم على الكتب والأبواب، وتارة في تحصيل أثر عن أثر اعتبارا بالنقش الحاصل، وتارة يعتبر معه بلوغ الآخر، ومنه ختمت القرآن والغشاوة- على ما عليه السبعة- بكسر الغين المجمعة من غشاه إذا غطاه، قال أبو علي: ولم يسمع منه فعل إلا يائي فالواو مبدلة من الياء عنده أو يقال لعل له مادتين وفعالة عند الزجاج لما اشتمل على شيء كاللفافة ومنه أسماء الصناعات كالخياطة لاشتمالها على ما فيها وكذلك ما استولى على شيء كالخلافة، وعند الراغب: هي لما يفعل به الفعل كاللف في اللفافة فإن استعملت في غيره فعلى التشبيه، وبعضهم فرق بين ما فيه هاء التأنيث وبين ما ليس فيه، فالأول اسم لما يفعل به الشيء كالآلة نحو حزام وإمام، والثاني لما يشتمل على الشيء ويحيط به (1) وحمل الظاهريون الختم والتغشية على حقيقتهما وفوضوا الكيفية إلى علم من لا كيفية له سبحانه، وروي عن مجاهد أنه قال: إذا أذنب العبد ضم من القلب هكذا- وضم الخنصر- ثم إذا أذنب ضم هكذا- وضم البنصر- وهكذا إلى الإبهام ثم قال: وهذا هو الختم والطبع والرين، وهو عندي غير معقول، والذي ذهب إليه المحققون أن الختم استعير من ضرب الخاتم على نحو الأواني لإحداث هيئة في القلب والسمع مانعة من نفوذ الحق إليهما كما يمنع نقش الخاتم- تلك الظروف- من نفوذ ما هو بصدد الانصباب فيها فيكون استعارة محسوس لمعقول بجامع عقلي وهو الاشتمال على منع القابل عما من شأنه أن يقبله ثم اشتق من الختم ختم، ففيه استعارة تصريحية تبعية، وأما الغشاوة فقد استعيرت من معناها الأصلي لحالة في أبصارهم مقتضية لعدم اجتلائها الآيات والجامع ما ذكر، فهناك استعارة تصريحية أصلية أو تبعية إذا أولت الغشاوة بمشتق أو جعلت اسم آلة على ما قيل، ويجوز أن يكون في الكلام استعارة تمثيلية بأن يقال شبهت حال قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم مع الهيئة الحادثة فيها المانعة من الاستنفاع بها بحال أشياء معدة للانتفاع بها في مصالح مهمة مع المنع من ذلك بالختم والتغطية ثم يستعار للمشبه اللفظ الدال على المشبه به فيكون كل واحد من طرفي التشبيه مركبا والجامع عدم الانتفاع بما أعد له بسبب عروض مانع يمكن فيه كالمانع الأصلي وهو أمر عقلي منتزع من تلك   (1) وهذا في غير المصادر وأما فيها فعن أبي علي فعالة- بالكسر في المصادر- يجيء بما كان صنعة ومعنى متقلدا كالكتابة والخلافة وبالفتح في غيره فافهم. اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 العدة (1) ثم إن إسناد الختم إليه عز وجل باعتبار الخلق والذم والتشنيع الذي تشير إليه الآية باعتبار كون ذلك مسببا عما كسبه الكفار من المعاصي كما يدل عليه قوله تعالى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ [النساء: 155] وإلا أشكل التشنيع والذم على ما ليس فعلهم كذا قاله مفسر وأهل السنة عن آخرهم فيما أعلم. والمعتزلة لما رأوا أن الآية يلزم منها أن يكون سبحانه مانعا عن قبول الحق وسماعه بالختم وهو قبيح يمتنع صدوره عنه تعالى على قاعدتهم التزموا. للآية تأويلات ذكر الزمخشري جملة منها حتى قال: الشيطان هو الخاتم في الحقيقة أو الكافر إلا أن الله سبحانه وتعالى لما كان هو الذي أقدره أو مكنه أسند الختم إليه كما يسند إلى السبب نحو- بنى الأمير المدينة، وناقة حلوب- وأنا أقول: إن ماهيات الممكنات معلومة له سبحانه أزلا فهي متميزة في أنفسها تميزا ذاتيا غير مجعول لتوقف العلم بها على ذلك التميز وإن لها استعدادات ذاتية غير مجعولة أيضا مختلفة الاقتضاءات والعلم الإلهي متعلق بها كاشف لها على ما هي عليه في أنفسها من اختلاف استعداداتها التي هي من مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا هو واختلاف مقتضيات تلك الاستعدادات فإذا تعلق العلم الإلهي بها على ما هي عليه مما يقتضيه استعدادها من اختيار أحد الطرفين الخير والشر تعلقت الإرادة الإلهية بهذا الذي اختاره العبد بمقتضى استعداده فيصير مراده بعد تعلق الإرادة الإلهية مرادا لله تعالى فاختياره الأزلي بمقتضى استعداده متبوع للعلم المتبوع للإرادة مراعاة للحكمة وأن اختياره فيما لا يزال تابع للإرادة الأزلية المتعلقة باختياره لما اختاره، فالعباد منساقون إلى أن يفعلوا ما يصدر عنهم باختيارهم لا بالإكراه والجبر وليسوا مجبورين في اختيارهم الأزلي لأنه سابق الرتبة على تعلق العلم السابق على تعلق الإرادة والجبر تابع للإرادة التابعة للعلم التابع للمعلوم الذي هو هنا اختيارهم الأزلي فيمتنع أن يكون تابعا لما هو متأخر عنه بمراتب فما من شيء يبرزه الله تعالى بمقتضى الحكمة ويفيضه على الممكنات إلا وهو مطلوبها بلسان استعدادها وما حرمها سبحانه شيئا من ذلك كما يشير إليه قوله تعالى: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ [طه: 50] أي الثابت له في الأزل مما يقتضيه استعداده الغير المجعول، وإن كانت الصور الوجودية الحادثة مجعولة. وقوله تعالى: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها [الشمس: 8] أي الثابتين لها في نفس الأمر والكل من حيث إنه خلقه حسن لكونه بارزا بمقتضى الحكمة من صانع مطلق لا حاكم عليه ولهذا قال عز شأنه أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة: 7] وما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ [الملك: 3] أي من حيث إنه مضاف إليه ومفاض منه وإن تفاوت من جهة أخرى وافترق عند إضافة بعضه إلى بعض، فعلى هذا يكون الختم منه سبحانه وتعالى دليلا على سواء استعدادهم الثابت في علمه الأزلي الغير المجعول بل هذا الختم الذي هو من مقتضيات الاستعداد لم يكن من الله تعالى إلا إيجاده وإظهار يقينه طبق ما علمه فيهم أزلا حيث لا جعل ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ [آل عمران: 117] تعالى في إظهاره إذ من صفته سبحانه إفاضة الوجود على القوابل بحسب القابليات على ما تقتضيه الحكمة وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [النحل: 33] حيث كانت مستعدة بذاتها لذلك فحينئذ يظهر أن إسناد الختم إليه تعالى باعتبار الإيجاد حقيقة ويحسن الذم لهم به من حيث دلالته على سوء الاستعداد وقبح ما انطوت عليه ذواتهم في ذلك الناد وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً [الأعراف: 58] وأما ما ذكره المفسرون من أن إسناد الختم إليه تعالى باعتبار الخلق فمسلم لا كلام لنا فيه، وأما أن   (1) وليس للإسناد إلى الخاتم والغشي في هاتين مدخل في هذا التمثيل كما لا مدخل له في قولك أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى، وهل هذا التمثيل يبقى في الفعل وحده أو في لفظ مركب ملحوظ بعضه ومنفك في الإرادة؟ ارتضى الشريف المرتضى الثاني وغيره الأول، وعليه إنما صرح بالختم والتغشية لأنهما الأصل والعمدة في تلك الحالة المركبة فيلاحظ باقي الأجزاء بألفاظ متخيلة إذ لا بد في التركيب من ملاحظات قصدية متعلقة بتلك الأجزاء ولا سبيل إلى ذلك إلا بتخيل ألفاظ بإزائها تدبر وافهم اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 الذم باعتبار كون ذلك مسببا عما كسبه الكفار إلخ فنقول فيه: إن أرادوا بالكسب ما شاع عند الأشاعرة من مقارنة الفعل لقدرة العبد من غير تأثير لها فيه أصلا وإنما المؤثر هو الله تعالى فهو مع مخالفته لمعنى الكسب وكونه كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً [النور: 39] لا يشفي عليلا ولا يروي غليلا إذ للخصم أن يقول أي معنى لذم العبد بشيء لا مدخل لقدرته فيه إلا كمدخل اليد الشلاء فيما فعلته الأيدي السليمة وحينئذ يتأتى ما قاله الصاحب ابن عباد في هذا الباب: كيف يأمر الله تعالى العبد بالإيمان وقد منعه منه وينهاه عن الكفر وقد حمله عليه، وكيف يصرفه عن الإيمان ثم يقول أَنَّى يُصْرَفُونَ [غافر: 69] ويخلق فيهم الإفك ثم يقول فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [الإنعام: 85، يونس: 34، فاطر: 3، غافر: 62] وأنشأ فيهم الكفر ثم يقول لِمَ تَكْفُرُونَ [آل عمران: 70، 98] وخلق فيهم لبس الحق بالباطل ثم يقول لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ [آل عمران: 71] وصدهم عن السبيل ثم يقول لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [آل عمران: 99] وحال بينهم وبين الإيمان ثم قال وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا [النساء: 39] وذهب بهم عن الرشد ثم قال فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ [التكوير: 26] وأضلهم عن الدين حتى أعرضوا ثم قال فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ [المدثر: 49] ؟!! فإن أجابوا بأن الله أن يفعل ما يشاء ولا يتعرض للاعتراض عليه المعترضون لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء: 23] قلنا لهم: هذه كلمة حق أريد بها باطل وروضة صدق ولكن ليس لكم منها حاصل لأن كونه تعالى لا يسأل عما يفعل ليس إلا لأنه حكيم لا يفعل ما عنه يسأل وإذا قلتم لا أثر للقدرة الحادثة في مقدورها كما لا أثر للعلم في معلومه فوجه مطالبة العبد بأفعاله كوجه مطالبته بأن يثبت في نفسه ألوانا وإدراكات وهذا خروج عن حد الاعتدال إلى التزام الباطل والمحال، وفيه إبطال الشرائع العظام ورد ما ورد عن النبيين عليهم الصلاة والسلام. وإن أرادوا بالكسب فعل العبد استقلالا ما يريده هو وإن لم يرده الله تعالى فهذا مذهب المعتزلة وفيه الخروج عما درج عليه سلف الأمة واقتحام ورطات الضلال وسلوك مهامه الوبال. مسا ولو قسمن على الغواني ... لما أمهرن إلا بالطلاق وإن أرادوا به تحصيل العبد بقدرته الحادثة حسب استعداده الأزلي المؤثرة لا مستقلا بل بإذن الله تعالى ما تعلقت به من الأفعال الاختيارية مشيئته التابعة لمشيئة الله تعالى على ما أشرنا إليه فنعمت الإرادة وحبذا السلوك في هذه الجادة، وسيأتي إن شاء الله تعالى بسطها وإقامة الأدلة على صحتها وإماطة الأذى عن طريقها إلا أن أشاعرتنا اليوم لا يشعرون وأنهم ليحسبون أنهم يحسنون صنعا ولبئس ما كانوا يصنعون. ما في الديار أخو وجد نطارحه ... حديث نجد ولا خل نجاريه وأما ما ذكره المعتزلة لا سيما علامتهم الزمخشري فليس أول عشواء خبطوها وفي مهواة من الأهواء أهبطوها ولكم نزلوا عن منصة الإيمان بالنص إلى حضيض تأويله ابتغاء الفتنة واستيفاء لما كتب عليهم من المحنة وطالما استوخموا من السنة المناهل العذاب ووردوا من حميم البدعة موارد العذاب، والشبهة التي تدندن هنا حول الحمى أن أفعال العباد لو كانت مخلوقة لله تعالى لما نعاها على عباده ولا عاقبهم بها ولا قامت حجة الله تعالى عليهم وهي أوهى من بيت العنكبوت وإنه لأوهن البيوت، وقد علمت جوابها مما قدمناه لك- وليكن على ذكر منك- على أنا نرجع فنقول إن أسندوا الملازمة- وكذلك يفعلون- إلى قاعدة التحسين والتقبيح، وقالوا: معاقبة الإنسان مثلا بفعل غيره قبيحة في الشاهد لا سيما إذا كانت من الفاعل فيلزم طرد ذلك غائبا، قيل: ويقبح في الشاهد أيضا أن يمكن الإنسان عبده من القبائح والفواحش بمرأى ومسمع ثم يعاقبه على ذلك مع القدرة على ردعه ورده من الأول عنها وأنتم تقولون: إن القدرة التي بها يخلق العبد الفواحش لنفسه مخلوقة لله تعالى على علم منه عز وجل أن العبد يخلق بها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 لنفسه ذلك فهو بمثابة إعطاء سيف باتر لفاجر يعلم أنه يقطع به السبيل ويسبي به الحريم وذلك في الشاهد قبيح جزما «فإن قالوا» ثم حكمة استأثر الله تعالى بعلمها فرقت بين الغائب والشاهد فحسن من الغائب ذلك التمكين ولم يحسن في الشاهد «قلنا على سبيل التنزل والموافقة لبعض الناس» ما المانع أن تكون تلك الأفعال مخلوقة لله تعالى ويعاقب العبد عليها لمصلحة وحكمة استأثر بها كما فرغتم منه الآن حذو القذة بالقذة؟! على أن في كون الخاتم في الحقيقة هو الشيطان مما لا يقدم عليه حتى الشيطان ألا تسمعه كيف قال فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 82] فلا حول ولا قوة إلا بالله وليكن هذا المقدار كافيا في هذا المقام ولشحرور القلم بعد إن شاء الله تعالى على كل بانة تغريد بأحسن مقام «والقلوب» - جمع قلب- وهو في الأصل مصدر سمي به الجسم الصنوبري المودع في التجويف الأيسر من الصدر وهو مشرق اللطيفة الإنسانية، ويطلق على نفس اللطيفة النورانية الربانية العالمة التي هي مهبط الأنوار الإلهية الصمدانية وبها يكون الإنسان إنسانا وبها يستعد لاكتساب الأوامر واجتناب الزواجر وهي خلاصة تولدت من الروح الروحاني ويعبر عنها الحكيم بالنفس الناطقة ولكونها هدف سهام القهر واللطف ومظهر الجمال والجلال ومنشأ البسط والقبض ومبدأ المحو والصحو ومنبع الأخلاق المرضية والأحوال الردية، وقلما تستقر على حال وتستمر على منوال- سميت قلبا- فهي متقلبة في أمره ومنقلبة بقضاء الله وقدره. وفي الحديث «إن القلب كريشة بأرض فلاة تقلبها الرياح» وقد قال الشاعر: قد سمي القلب قلبا (1) من تقلبه ... فاحذر على القلب من قلب وتحويل وتسمية الجسم المعروف قلبا إذا أمعنت النظر ليس إلا لتقلب هاتيك اللطيفة المشرقة عليه لأنه العضو الرئيس الذي هو منشأ الحرارة الغريزية الممدة للجسد كله ويكنى بصلاحه وفساده عن صلاح هاتيك اللطيفة وفسادها لما بينهما من التعلق الذي لا يعلم حقيقته إلا الله تعالى وكأنه لهذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» وكثير من الناس ذهب إلى أن تلك المضغة هي محل العلم، وقيل: إنه في الدماغ وقيل إنه مشترك بينهما وبني ذلك على إثبات الحواس الباطنة والكلام فيها مشهور. ومن راجع وجد أنه أدرك أن بين الدماغ والقلب رابطة معنوية ومراجعة سرية لا ينكرها من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. لكن معرفة حقيقة ذلك متعززة كما هي متعذرة والإشارة إلى كنه ما هنالك على أرباب الحقائق وأصحاب الدقائق متعسرة، ومن عرف نفسه فقد عرف ربه، والعجز عن درك الإدراك إدراك. والسمع مصدر- سمع سمعا وسماعا- ويطلق على قوة مودعة في العصب المفروش أو المبطل في الأذن تدرك بها الأصوات ويعبر به تارة عن نفس الأذن وأخرى عن الفعل نحو إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [الشعراء: 212] ، والأبصار- جمع بصر- وهو في الأصل بمعنى إدراك العين وإحساسها ثم تجوز به عن القوة المودعة في ملتقى العصبتين المجوفتين الواصلتين من الدماغ إلى الحدقتين التي من شأنها إدراك الألوان والأشكال بتفصيل معروف في محله وعن العين التي هي محله، وشاع هذا حتى صار حقيقة في العرف لتبادره وهو المناسب للغشاوة لتعلقها بالأعيان ويناسب الختم ما يناسب الغشاوة، وإنما قدم سبحانه الختم على القلوب هنا لأن الآية تقرير لعدم الإيمان فناسب تقديم القلوب لأنها محل الإيمان والسمع- والأبصار طرق وآلات له- وهذا بخلاف قوله تعالى: وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ [الجاثية: 23] فإنه مسوق لعدم المبالاة بالمواعظ ولذا جاءت الفاصلة أَفَلا تَذَكَّرُونَ [يونس: 3، هود: 24، 30، النحل: 87، المؤمنون:   (1) وقيل سمي قلبا لأنه لب كما سمي العقل لبا اهـ منه. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 85، الصافات: 155، الجاثية: 23] فكان المناسب هناك تقديم السمع، وأعاد جل شأنه الجار لتكون أدل على شدة الختم في الموضعين فإن ما يوضع في خزانة إذا ختمت خزانته وختمت داره كان أقوى في المنع عنه وأظهر في الاستقلال لأن إعادة الجار تقتضي ملاحظة معنى الفعل المعدى به حتى كأنه ذكر مرتين، ولذا قالوا في مررت بزيد وعمرو: مرور واحد، وفي مررت بزيد وبعمرو: مروران، والعطف وإن كان في قوة الإعادة لكنه ليس ظاهرا مثلها في الإفادة لما فيه من الاحتمال. ووحد السمع مع أنه متعدد في الواقع ومقتضى الانتظام بالسباق واللحاق أن يجري على نمطهما للاختصار والتفنن مع الإشارة إلى نكتة- هي أن مدركاته نوع واحد ومدركاتهما مختلفة- وكثيرا ما يعتبر البلغاء مثل ذلك، وقيل: إن وحدة اللفظ تدل على وحدة مسماه- وهو الحاسة- ووحدتها تدل على قلة مدركاتها في بادىء النظر فهناك دلالة التزام ويكفي مثل ما ذكر في اللزوم عرفا (1) ومنه يتنبه لوجه جمع القلوب كثرة والأبصار قلة وإن كان ذلك هو المعروف في استعمال الفقهاء في جميعها على أن الأسماع قلما قرع السمع- ومنه قراءة ابن أبي عبلة في الشواذ- وعلى أسماعهم، واستشهد له بقوله: قالت ولم تقصد لقيل الخنا ... مهلا لقد أبلغت أسماعي والقول بأنه وحدة للأمن عن اللبس كما في قوله: كلوا في بعض بطنكم تعفوا ... فإن زمانكم زمن خميص ولأنه في الأصل مصدر والمصادر لا تجمع فروعي ذلك- ليس بشيء- لأن ما ذكر مصحح لا مرجح وأدنى من هذا عندي تقدير مضاف مثل- وحواس سمعهم- وقد اتفق القراء على الوقف على سمعهم وظاهره دليل على أنه لا تعلق له بما بعده فهو معطوف على عَلى قُلُوبِهِمْ وهذا أولى من كونه هو وما عطف عليه خبرا مقدما لغشاوة أو عاملان فيه على التنازع وإن احتملته الآية لتعين نظيره في قوله تعالى: وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ [الجاثية: 23] والقرآن يفسر بعضه بعضا ولأن السمع كالقلب يدرك ما يدركه من جميع الجهات فناسب أن يقرن معه بالختم الذي يمنع من جميعها وإن اختص وقوعه بجانب إلا أنه لا يتعين، ولما كان إدراك البصر لا يكون عادة إلا بالمحاذاة والمقابلة جعل المانع ما يمنع منها وهو الغشاوة لأنها في الغالب كذلك كغاشية السرج، ومثل هذا يكفي في النكات ولا يضره ستره لجميع الجوانب كالإزار، وما في الكشف: من أن الوجه أن الغشاوة مشهورة في أمراض العين فهي أنسب بالبصر من غير حاجة لما تكلفوه، ويكشف عن حالة النظر في المعنى اللغوي ممن لا غشاوة على بصره. ولعل سبب تقديم السمع على البصر مشاركته للقلب في التصرف في الجهات الست مثله دون البصر. ومن هنا قيل: إنه أفضل منه، والحق أن كلّا من الحواس ضروري في موضعه، ومن فقد حسا فقد علما، وتفضيل البعض على البعض تطويل من غير طائل (2) وقد قرىء بإمالة: «أبصارهم» ووجه الإمالة- مع أن الصاد حرف مستعل وهو مناف لها لاقتضائها لتسفل الصوت- مناسبة الكسرة واعتبرت على الراء دون غيرها لمناسبة الإمالة الترقيق، والمشهور عند أهل العربية أن ذلك لقوة الراء لتكرره على اللسان في النطق به فإنه يرتعد ويظهر ذلك إذا شدد أو وقف عليه فكسرته بمنزلة   (1) وقيل في توجيه الافراد أن المراد سمع كل واحد وهذا وإن كان حقه الإفراد إلا أن حمل الجمع على كل فرد فرد جائز لا واجب كما قيل في قوله تعالى: نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا على وجه اهـ منه. (2) ويحكى عن أبي يوسف عليه الرحمة أنه سئل عن- اللوزينج والفيلوذج- أيهما أحسن؟ فقال: لا أحكم من دون حضور الخصمين فأتي بهما وأكل منهما ثم قال: كلما أردت أن أحكم لأحدهما على الآخر أتى الآخر بشاهدين عدلين فيمنعني من الحكم اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 كسرتين فقوي السبب حتى أزال المانع، ولعل مرادهم أنه متكرر طبعا كما يدركه الوجدان إلا أنه يجب المحافظة لئلا يقع التقرير فإنه مضر في الأداء حتى سمعت من بعض الشافعية: أن من كرر الراء في تكبيرة الإحرام لم تنعقد صلاته والعهدة على الراوي، والجمهور على أن عَلى أَبْصارِهِمْ خبر مقدم لغشاوة والتقديم مصحح لجواز الابتداء بالنكرة مع أن فيه مطابقة الجملة قبله لأنه تقدم الجزء المحكوم به فيها وهذا كذلك، ففي الآية جملتان خبريتان فعلية دالة على التجدد واسمية دالة على الثبوت حتى كأن الغشاوة جبلية فيهم وكون الجملتين دعائيتين ليس بشيء، وفي تقديم الفعلية إشارة إلى أن ذلك قد وقع وفرغ منه، ونصب المفضل وأبو حيوة وإسماعيل بن مسلم غِشاوَةٌ فقيل هو على تقدير جعل كما صرح به في قوله تعالى: وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً [الجاثية: 23] وقيل: إنه على حذف الجار، وقال أبو حيان: يحتمل أن يكون مصدرا من معنى ختم لأن معناه غشي وستر كأنه قيل تغشية على سبيل التأكيد فيكون حينئذ قلوبهم وسمعهم وأبصارهم مختوما عليها مغشاة، وقيل يحتمل أن يكون مفعول ختم والظروف أحوال أي ختم غشاوة كائنة على هذه الأمور لئلا يتصرف بها بالرفع والإزالة، وفي كل ما لا يخفى، فقراءة الرفع أولى، وقرىء أيضا بضم الغين ورفعه، وبفتح الغين ونصبه، وقرىء «غشوة» - بكسر المعجمة- مرفوعا وبفتحها مرفوعا ومنصوبا، و «غشية» بالفتح والرفع و «غشاوة» بفتح المهملة والرفع، وجوز فيه الكسر والنصب من الغشا بالفتح والقصر وهو الرؤية نهارا لا ليلا، والمعنى أنهم يبصرون إبصار غفلة لا إبصار عبرة أو أنهم لا يرون آيات الله تعالى في ظلمات كفرهم ولو زالت أبصروها، وقال الراغب: العشا ظلمة تعرض للعين، وعشي عن كذا عمي قال تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ [الزخرف: 36] فالمعنى حينئذ ظاهر والتنوين للإشارة إلى نوع من الأغطية غير ما يتعارفه الناس ويحتمل أن يكون للتعظيم أي غشاوة أي غشاوة، وصرح بعضهم بحمله على النوعية والتعظيم معا كما حمل على التكثير والتعظيم معا في قوله تعالى: فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ [فاطر: 4] واللام في لَهُمْ للاستحقاق كما في لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ [البقرة: 114، المائدة: 41] وفي المغني: لام الاستحقاق هي الواقعة بين معنى وذات وهنا كذلك إلا أنه قدم الخبر استحسانا لأن المبتدأ نكرة موصوفة ولو أخر جاز ك أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ [الإنعام: 2] ويجوز كما قيل أن يكون تقديمه للتخصيص- فلا يعذب عذابهم أحد ولا يوثق وثاقهم أحد- (1) وكون اللام للنفع واستعملت هنا للتهكم مما لا وجه له لأنها إنما تقع له في مقابلة عَلى في الدعاء وما يقاربه ولم يقل به أحد ممن يوثق به هنا ولا يقال عليهم العذاب، والظاهر أن الجملة مساقة لبيان إصرارهم أن مشاعرهم ختمت وأن الشقوة عليهم ختمت، وهي معطوفة على ما قبلها وليست استئنافا ولا حالا، وقال السالكوتي: عطف- على الذين كفروا- والجامع أن ما سبق بيان حالهم وهذا بيان ما يستحقون، أو على خبر إن والجامع الشركة في المسند إليه مع تناسب مفهوم السندين، وجعل ذلك لدفع ما يتوهم عدم استحقاقهم العذاب على كفرهم لأنه بختم الله تعالى وتغشيته ليس بوجيه كما لا يخفى. والعذاب في الأصل الاستمرار ثم اتسع فيه فسمي به كل استمرار ألم، واشتقوا منه فقالوا: عذبته أي داومت عليه الألم قاله أبو حيان، وعن الخليل- وإليه مال كثير- أن أصله المنع يقال عذب الفرس إذا امتنع عن العلف، ومنه العذب لمنعه من العطش ثم توسع فأطلق على كل مؤلم شاق مطلقا وإن لم يكن مانعا ورادعا ولهذا كان أعم من النكال لأنه ما كان رادعا كالعقاب، وقيل: العقاب ما يجازى به كما في الآخرة، وشمل البيان عذاب الأطفال والبهائم   (1) قاله بهاء الدين الغافقي اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وغيرهما، وخص السجاوندي العذاب بإيصال الألم إلى الحي مع الهوان فإيلام الأطفال والبهائم ليس بعذاب عنده، وقيل: إن العذاب مأخوذ في الأصل من التعذيب ثم استعمل في الإيلام مطلقا، وأصل التعذيب على ما قيل: إكثار الضرب بعذبة السوط، وقال الراغب أصله من العذب فعذبته أزلت عذب حياته على بناء مرضته وقذيته والتنكير فيه للنوعية أي لهم في الآخرة نوع من العذاب غير متعارف في عذاب الدنيا، وحمله على التعظيم يستدعي حمل ما يستفاد من الوصف على التأكيد ولا حاجة إليه، والعظيم الكبير، وقيل: فوق الكبير لأن الكبير يقابله الصغير والعظيم يقابله الحقير والحقير دون الصغير، فالصغير والحقير خسيسان والحقير أخسهما، والعظيم والكبير شريفان والعظيم أشرفهما. فتوصيف العذاب به أكثر في التهويل من توصيفه بالكبير كما ذكره الكثير ممن شاع فضله إذ العادة جارية بأن الأخس يقابل بالأشرف والخسيس بالشريف فما يتوهم من أن نقيض الأخص- أعم- مما لا يلتفت إليه هنا، نعم يشكل على دعوى أن العظيم فوق الكبير قوله عز شأنه في الحديث القدسي: «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري» حيث جعل سبحانه الكبرياء مقام الرداء والعظمة مقام الإزار، ومعلوم أن الرداء أرفع من الأزار فيجب أن يكون صفة الكبر أرفع من العظمة، ويقال: إن الكبير هو الكبير في ذاته سواء استكبره غيره أم لا، وأما العظمة فعبارة عن كونه بحيث يستعظمه غيره، فالصفة الأولى على هذا ذاتية وأشرف من الثانية ويمكن أن يجاب على بعد بأن ما ذكروه خاص بما إذا استعمل الكبير والعظيم في غيره تعالى أو فيما إذا خلا الكلام عن قرينة تقتضي العكس، أو يقال: إنه سبحانه جعل العظمة وهي أشرف من الكبرياء إزارا لقلة العارفين به جل شأنه بهذا العنوان بالنظر إلى العارفين بعنوان الكبرياء فلقلة أولئك كانت إزارا ولكثرة هؤلاء كانت رداءا وسبحان الكبير العظيم، وذكر الراغب: إن أصل عظم الرجل كبر عظمه ثم استعير لكل كبير وأجري مجراه محسوسا كان أو معقولا معنى كان أو عينا، والعظيم إذا استعمل في الأعيان فأصله أن يقال في الأجزاء المتصلة والكبير يقال في المنفصلة، وقد يقال فيها أيضا: عظيم وهو بمعنى كبير كجيش عظيم، وعظم العذاب بالنسبة إلى عذاب دونه يتخلله فتور وبهذا التخلل يصح أن يتفاضل العذابان كسوادين أحدهما أشبع من الآخر وقد تخلل الآخر ما ليس بسواد، وقد ذهب المسلمون إلى أنه يحسن من الله تعالى تعذيب الكفار، وهذه الآية وأمثالها شواهد صدق على ذلك. وقال بعضهم: لا يحسن وذكروا دلائل عقلية مبنية على الحسن والقبح العقليين فقالوا: التعذيب ضرر خال عن المنفعة لأنه سبحانه منزه عن أن ينتفع بشيء والعبد يتضرر به ولو سلم انتفاعه فالله تعالى قادر أن يوصل إليه النفع من غير عذاب، والضرر الخالي عن النفع قبيح بديهة، وأيضا أن الكافر لا يظهر منه إلا العصيان فتكليفه متى حصل ترتب عليه العذاب وما كان مستعقبا للضرر من غير نفع قبيح، فأما أن يقال لا تكليف أو تكليف ولا عذاب، وأيضا هو الخالق لداعية المعصية فيقبح أن يعاقب عليها، وقالوا أيضا: هب أنا سلمنا العقاب فمن أين القول بالدوام؟ وأقسى الناس قلبا إذا أخذ من بالغ في الإساءة إليه- وعذبه وبالغ فيه وواظب عليه- لامه كل أحد وقيل له: إما أن تقتله وتريحه وإما أن تعفو عنه فإذا قبح هذا من إنسان يلتذ بالانتقام، فالغني عن الكل كيف يليق به هذا الدوام؟! وأيضا من تاب من الكفر ولو بعد حين تاب الله تعالى عليه، افترى أن هذا الكرم العظيم يذهب في الآخرة أو تسلب عقول أولئك المعذبين فلا يتوبون أو يحسن أن يقول في الدنيا: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60] وفي الآخرة لا يجيب دعاءهم إلا ب اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: 108] . بقي التمسك بالدلائل اللفظية وهي لا تفيد اليقين فلا تعارض الأدلة العقلية المفيدة له على أنا ندعي أن أخبار الوعيد في الكفار مشروطة بعدم العفو وإن لم يكن هذا الشرط مذكورا صريحا كما قال ذلك فيها من جوز العفو عن الفساق، على أنه يحتمل أن تكون تلك الجمل دعائية أو أنها إخبارية لكن الأخبار عن استحقاق الوقوع لا عن الوقوع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 نفسه، وهذا خلاصة ما ذكر في هذا الباب، وبسط الإمام الرازي الكلام فيه ولم يتعقبه بما يشرح الفؤاد ويبرد الأكباد وتلك شنشنة أعرفها من أخزم، ولعمري أنها شبه تمكنت في قلوب كثير من الناس فكانت لهم الخناس الوسواس فخلعوا ربقة التكليف وانحرفوا عن الدين الحنيف وهي عند المؤمنين المتمكنين كصرير باب أو كطنين ذباب فأقول: وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود: 88] نفي العذاب مطلقا مما لم يقله أحد ممن يؤمن بالله تعالى واليوم الآخر حتى أن المجوس لا يقولونه مع أنهم الذين بلغوا من الهذيان أقصاه فإن عقلاءهم- والعقل بمراحل عنهم- زعموا أن إبليس عليه اللعنة لم يزل في الظلمة بمعزل عن سلطان الله تعالى ثم لم يزل يزحف حتى رأى النور فوثب فصار في سلطان الله تعالى وأدخل معه الآفات والشرور فخلق الله تعالى هذا العالم شبكة له فوقع فيها فصار لا يمكنه الرجوع إلى سلطانه فبقي محبوسا يرمي بالآفات فمن أحياه الله تعالى أماته ومن أصحه أسقمه ومن أسره أحزنه وكل يوم ينقص سلطانه فإذا قامت القيامة وزالت قوته طرحه الله تعالى في الجو وحاسب أهل الأديان وجازاهم على طاعتهم للشيطان وعصيانهم له، نعم المشهور عنهم أن الآلام الدنيوية قبيحة لذاتها ولا تحسن بوجه من الوجوه فهي صادرة عن الظلمة دون النور، وبطلان مذهب هؤلاء أظهر من نار على علم، ولئن سلمنا أن أحدا من الناس يقول ذلك فهو مردود، وغالب الأدلة التي تذكر في هذا الباب مبني على الحسن والقبح العقليين وقد نفاهما أهل السنة والجماعة وأقاموا الأدلة على بطلانهما وشيوع ذلك في كتب الكلام يجعل نقله هنا من لغو الكلام على أنا نقول أن لله تعالى صفتي لطف وقهر ومن الواجب في الحكمة أن يكون الملك- لا سيما ملك الملوك- كذلك إذ كل منهما من أوصاف الكمال ولا يقوم أحدهما مقام الآخر ومن منع ذلك فقد كابر، وقد مدح في الشاهد ذلك كما قيل: يداك يد خيرها يرتجى ... وأخرى لأعدائها غائظه فلما نظر الله سبحانه إلى ما علمه من الماهيات الأزلية والأعيان الثابتة ورأى فيها من استعد للخير وطلبه بلسان استعداده ومن استعد للشر وطلبه كذلك أفاض على كل بمقتضى حكمته ما استعد له وأعطاه ما طلبه منه ثم كلفه ورغبه ورهبه إتماما للنعمة وإظهارا للحجة إذ لو عذبه وأظهر فيه صفة قهره قبل أن ينذره لربما قال: لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى [طه: 134] فالتعذيب وإن لم يكن فيه نفع له سبحانه بالمعنى المألوف لكنه من آثار القهر ووقوع فريق في طريق القهر ضروري في حكمته تعالى وكل ما تقتضيه حكمته تعالى وكماله حسن، وإن شئت فقل: إن صفتي اللطف والقهر من مستتبعات ذاته التي هي في غاية الكمال ولهما متعلقات في نفس الأمر مستعدة لهما في الأزل استعدادا غير مجعول. وقد علم سبحانه في الأزل التعلقات والمتعلقات فظهرت طبق ما علم ولو لم تظهر كذلك لزم انقلاب الحقائق وهو محال. فالإيمان والكفر في الحقيقة ليسا سببا حقيقيا وعلة تامة للتنعيم والتعذيب وإنما هما علامتان لهما دعت إليهما الحكمة والرحمة. وهذا معنى ما ورد في الصحيح «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» أما من كان- أي في علم الله- من أهل السعادة المستعدة لها ذاته- فسييسر- بمقتضى الرحمة- لعمل أهل السعادة لأن شأنه تعالى الإفاضة على القوابل بحسب القابليات، وأما من كان في الأزل والعلم القديم من أهل الشقاوة التي ثبتت لماهيته الغير المجعولة أزلا- فسييسر بمقتضى القهر- لعمل أهل الشقاوة، وفي ذلك تظهر المنة وتتم الحجة ولا يرد قوله تعالى: فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ [النحل: 9] لأن نفي الهداية لنفي المشيئة ولا شك أن المشيئة تابعة للعلم والعلم تابع لثبوت المعلوم في نفس الأمر كما يشير إليه قوله تعالى في المستحيل الغير الثابت في نفسه: أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ [الرعد: 33] وحيث لا ثبوت للهداية في نفسها لا تعلق للعلم بها. وحيث لا تعلق لا مشيئة، فسبب نفي إيجاد الهداية نفي المشيئة وسبب نفي المشيئة تقرر عدم الهداية في نفسها فيوؤل الأمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 إلى أن سبب نفي إيجاد الهداية انتفاؤها في نفس الأمر وعدم تقررها في العلم الأزلي: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ [الأنفال: 23] فإذا انتقش هذا على صحيفة خاطرك، فنقول قولهم الضرر الخالي عن النفع قبيح بديهة ليس بشيء لأن ذلك الضرر من آثار القهر التابع للذات الأقدس ومتى خلا عن القهر- كان عز شأنه عما يقوله الظالمون- كالأقطع الذي ليس له إلا يد واحدة بل من أنصفه عقله يعلم أن الخلو عن صفة القهر يخل بالربوبية ويسلب إزار العظمة ويحط شأن الملكية إذ لا يرهب منه حينئذ فيختل النظام وينحل نبذ هذا الانتظام. على أن هذه الشبهة تستدعي عدم إيلام الحيوان في هذه النشأة لا سيما البهائم والأطفال الذين لا ينالهم من هذه الآلام نفع بالكلية لا عاجلا ولا آجلا مع أنا نشاهد وقوع ذلك أكثر من نجوم السماء فما هو جوابهم عن هذه الآلام منه سبحانه في هذه النشأة مع أنه لا نفع له منها بوجه فهو جوابنا عن التعذيب في تلك النشأة، وقولهم إن الكافر لا يظهر منه إلا العصيان فتكليفه متى حصل ترتب عليه العذاب إلخ: ففيه أن الكافر في علم الله تعالى حسب استعداده متعشق للنار تعشق الحديد للمغناطيس وإن نفر عنها نافر عن الجنة نفور الظلمة عن النور وإن تعشقها فهو إن كلف وإن لم يكلف لا بد وأن يعذب فيها، ولكن التكليف لاستخراج ما في استعداده من الإباء لإظهار الحجة والكفر مجرد علامة ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [النحل: 33] وقولهم هو سبحانه الخالق لداعية المعصية مسلم لكنه خلقها وأظهرها طبق ما دعا إليه الاستعداد الذاتي الذي لا دخل للقدرة إلا في إيجاده وأي قبح في إعطاء الشيء ما طلبه بلسان استعداده وإن أضر به ولا يلزم الله تعالى عقلا أن يترك مقتضى حكمته ويبطل شأن ربوبيته مع عدم تعلق علمه بخلاف ما اقتضاه ذلك الاستعداد، وقولهم هب أنا سلمنا العقاب فمن أين الدوام إلخ: قلنا الدوام من خبث الذات وقبح الصفات الثابتين فيما لم يزل الظاهرين فيما لا يزال بالإباء بعد التكليف مع مراعاة الحكمة، وهذا الخبث دائم فيهم ما دامت حكمة الله تعالى الذاتية وذواتهم- كما يرشدك إلى ذلك- قوله سبحانه: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الإنعام: 28] ويدوم المعلول ما دامت علته أو يقال العذاب وهو في الحقيقة البعد من الله لازم للكفر والملزوم لا ينفك من اللازم، وأيضا الكفر مع ظهور البرهان في الأنفس والآفاق بمن لا تتناهى كبرياؤه ولا تنحصر عظمته أمر لا يحيط نطاق الفكر بقبحه وإن لم يتضرر به سبحانه لكن الغيرة الإلهية لا ترتضيه وإن أفاضته القدرة الأزلية حسب الاستعداد بمقتضى الحكمة، ومثل ذلك يطلب عذابا أبديا وعقابا سرمديا وشبيه الشيء منجذب إليه، ولا يقاس هذا بما ضربه من المثال إذ أين ذلة التراب من عزة رب الأرباب، وليس مورد المسألتين منهلا واحدا، وقولهم من تاب من الكفر ولو بعد حين تاب الله تعالى عليه، أفترى أن هذا الكرم العظيم يذهب في الآخرة أو تسلب عقول أولئك المعذبين فلا يتوبون إلخ: ففيه أن من تاب من الكفر فقد أبدل القبيح بضده وأظهر سبحانه مقتضى ذاته وماهيته المعلومة له حسب علمه فهناك حينئذ كفر قبيح زائل وإيمان حسن ثابت، وقد انضم إلى هذا الإيمان ندم على ذلك الكفر في دار ينفع فيها تدارك ما فات والندم على الهفوات فيصير الكفر بهذا الإيمان كأن لم يكن شيئا مذكورا إذ يقابل القبيح بالحسن ويبقى الندم وهو ركن التوبة مكسبا على أن ظهور الإيمان بعد الكفر دليل على نجابة الذات في نفسها وطهارتها في معلوميتها والأعمال بالخواتيم فلا بدع في مغفرة الله تعالى له جودا وكرما ورحمة الله تعالى- وإن وسعت كل شيء ببعض اعتباراتها- إلا أنها خصت المتقين باعتبار آخر كما يشير إليه قوله تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأعراف: 156] فهي كمعيته سبحانه الغير المكيفة، ألا تسمع قوله تعالى مرة: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ [المجادلة: 7] ، وتارة إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل: 128] وكرة إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة: 40] وطورا إِنَّ مَعِي رَبِّي [الشعراء: 62] ولا ينافي كون الرحمة أوسع دائرة من الغضب كما يرمز إليه الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] أن الكفار المعذبين أكثر من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 المؤمنين المنعمين كما يقتضيه قوله تعالى: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ [هود: 17، الرعد: 1، غافر: 59] وكذا حديث البعث لأن هذه الكثرة بالنسبة إلى بني آدم وهم قليلون بالنسبة إلى الملائكة والحور والغلمان وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر: 31] وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ [النحل: 8] فيكون أهل الرحمة أكثر من أهل الغضب على أن أهل النار مرحومون في عذابهم وما عند الله تعالى من كل شيء لا يتناهى وبعض الشر أهون من بعض وهم مختلفون في العذاب، وبين عذاب كل طبقة وطبقة ما بين السماء والأرض وإن ظن كل من أهلها أنه أشد الناس عذابا لكن الكلام في الواقع بل منهم من هو ملتذ بعذابه من بعض الجهات. ومنهم غير ذلك، نعم فيهم من عذابه محض لا لذة لهم فيه ومع هذا يمقتون أنفسهم لعلمهم أنها هي التي استعدت لذلك ففاض عليها ما فاض من جانب المبدأ الفياض كما يشير إليه قوله تعالى: لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ [غافر: 10] ومن غفل منهم عن ذلك نبهه إبليس عليه اللعنة كما حكى الله عنه بقوله: فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [إبراهيم: 22] ولا تنفعهم التوبة هناك كما تنفعهم هنا إذ قد اختلفت الداران وامتاز الفريقان وانتهى الأمد المضروب لها بمقتضى الحكمة الإلهية. وقد رأينا في الشاهد أن لنفع الدواء وقتا مخصوصا إذا تعداه ربما يؤثر ضررا ومن الكفار من يعرف أنه قد مضى الوقت وانقضى ذلك الزمان وأن التوبة إنما كانت في الدار الدنيا ولهذا قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ [المؤمنون: 99] ولما كان هذا طلب عارف من وجه جاهل من وجه آخر قال الله تعالى في مقابلته كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [المؤمنون: 100] ولم يغلظ عليه كما أغلظ على من قال: رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ [المؤمنون: 107] حيث صدر عن جهل محض فأجابهم بقوله اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: 108] فلما اختلف الطلب اختلف الجواب وليس كل دعاء يستجاب كما لا يخفى على أولي الألباب، وقولهم بقي التمسك بالدلائل اللفظية وهي لا تفيد اليقين فلا تعارض الأدلة العقلية المفيدة له فيقال فيه إن أرادوا إن هذه الأدلة العقلية مفيدة لليقين: فقد علمت حالها وأنها كسراب بقيعة وليتها أفادت ظنا وإن أرادوا مطلق الأدلة العقلية فهذه ليست منها على أن كون الدلائل اللفظية لا تفيد اليقين إنما هو مذهب المعتزلة وجمهور الأشاعرة، والحق أنها قد تفيد اليقين بقرائن مشاهدة أو متواترة تدل على انتفاء الاحتمالات، ومن صدق القائل يعلم عدم المعارض العقلي فإنه إذا تعين المعنى وكان مرادا له فلو كان هناك معارض عقلي لزم كذبه، نعم في إفادتها اليقين في العقليات نظر لأن كونها مفيدة لليقين مبني على أنه هل يحصل بمجردها والنظر فيها- وكون قائلها صادقا- الجزم بعدم المعارض العقلي وأنه هل للقرينة التي تشاهد أو تنقل تواترا مدخل في ذلك الجزم وحصول ذلك الجزم بمجردها ومدخلية القرينة فيه- مما لا يمكن الجزم بأحذ طرفيه- الإثبات والنفي فلا جرم كانت إفادتها اليقين في العقليات محل نظر وتأمل «فإن قلت» إذا كان صدق القائل مجزوما به لزم منه الجزم بعدم المعارض في العقليات كما لزم منه في الشرعيات وإلا احتمل كلامه الكذب فيهما فلا فرق بينهما. «قلت» أجاب بعض المحققين بأن المراد بالشرعيات أمور يجزم العقل بإمكانها ثبوتا وانتفاء ولا طريق إليها، وبالعقليات ما ليس كذلك وحينئذ جاز أن يكون من الممتنعات فلأجل هذا الاحتمال ربما لم يحصل الجزم بعدم المعارض العقلي للدليل النقلي في العقليات وإن حصل الجزم به في الشرعيات وذلك بخلاف الأدلة العقلية في العقليات فإنها بمجردها تفيد الجزم بعدم المعارض لأنها مركبة من مقدمات علم بالبديهة صحتها أو علم بالبديهة لزومها مما علم صحته بالبديهة، وحينئذ يستحيل أن يوجد ما يعارضها لأن أحكام البديهة لا تتعارض بحسب نفس الأمر أصلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 هذا وقال الفاضل الرومي هاهنا بحث مشهور وهو أن المعنى بعدم المعارض العقلي في الشرعيات صدق القائل وهو قائم في العقليات أيضا وما لا يحكم العقل بإمكانه ثبوتا أو انتفاء لا يلزم أن يكون من الممتنعات لجواز إمكانه الخافي من العقل فينبغي أن يحمل كل ما علم أن الشرع نطق به على هذا القسم لئلا يلزم كذبه وإبطال قطع العقل بصدقه فالحق أن النقلي يفيد القطع في العقليات أيضا ولا مخلص إلا بأن يقال المراد أن النظر في الأدلة نفسها والقرائن في الشرعيات يفيد الجزم بعدم المعارض لأجل إفادة الإرادة من القائل الصادق جزما. وفي العقليات إفادته الجزم بعدمه محل نظر بناء على أن إفادته الإرادة محتملة انتهى. وقد ذهب الشيخ الأكبر قدس سره إلى تقديم الدليل النقلي على العقلي فقال في الباب الثاني والسبعين والأربعمائة من الفتوحات: على السمع عولنا فكنا أولي النهى ... ولا علم فيها لا يكون عن السمع وقال قدس سره في الباب الثامن والخمسين والثلاثمائة: كيف للعقل دليل والذي ... قد بناه العقل بالكشف انهدم فنجاة النفس في الشرع فلا ... تك إنسانا رأى ثم حرم واعتصم بالشرع في الكشف فقد ... فاز بالخير عبيد قد عصم أهمل الفكر فلا تحفل به ... واتركنه مثل لحم في وضم إن للفكر مقاما فاعتضد ... به فيه تك شخصا قد رحم كل علم يشهد الشرع له ... هو علم فبه فلتعتصم وإذا خالفه العقل فقل ... طورك الزم مالكم فيه قدم ويؤيد هذا ما روي عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن للعقل حدا ينتهي إليه كما أن للبصر حدا ينتهي إليه، وقال الإمام الغزالي: ولا تستبعد أيها المعتكف في عالم العقل أن يكون وراء العقل طور آخر يظهر فيه ما لا يظهر في العقل كما لا تستبعد أن يكون العقل طورا وراء التمييز والإحساس ينكشف فيه عوالم وعجائب يقصر عنها الإحساس والتمييز إلى آخر ما قال ففيما نحن فيه في القرآن والسنة المتواترة ما لا يحصى مما يدل على الخلود في النار، وفي العذاب دلالة واضحة لا خفاء فيها فتأويلها كلها بمجرد شبه أضعف من حبال القمر، والعدول عنها إلى القول بنفي العذاب أو الخلود فيه مما لا ينبغي لا سيما في مثل هذه الأوقات التي فيها الناس كما ترى، على أن هذه التأويلات في غاية السخافة إذ كيف يتصور حقيقة الدعاء من رب الأرض والسماء أم كيف يكون التعليق بعد النظر في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48، 116] أم كيف يقبل أن يكون الأخبار عن الاستحقاق دون الوقوع على ما فيه في مثل قوله تعالى: كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً [الإسراء: 97] كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها [النساء: 56] ؟! سبحانك هذا بهتان عظيم. وأما ما ينقل عن بعض السلف الصالح- وكذا عن حضرة مولانا الشيخ الأكبر ومن حذا حذوه من السادة الصوفية رضي الله تعالى عنهم- من القول بعدم الخلود فذلك مبني على مشرب آخر وتجل لم ينكشف لنا، والكثير منهم قد بنى كلامه على اصطلاحات ورموز وإشارات قد حال بيننا وبين فهمها العوائق الدنيوية والعلائق النفسانية، ولعل قول من قال بعدم الخلود ممن لم يسلك مسلك أهل السلوك مبني على عدم خلود طائفة من أهل النار وهم العصاة مما دون الكفر وإن وقع إطلاق الكفر عليهم حمل على معنى آخر كما حمل على رأي في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «من ترك الصلاة فقد كفر» ، على أن الشيخ قدس سره كم وكم صرح في كتبه بالخلود فقال في عقيدته الصغرى أول الفتوحات: والتأبيد لأهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 النار في النار حق، وفي الباب الرابع والستين في بحث ذبح الموت ونداء المنادي يا أهل النار خلود ولا خروج ما نصه: ويغتم أهل النار أشد الغم لذلك ثم تغلق أبواب النار غلقا لا فتح بعده وتنطبق النار على أهلها ويدخل بعضهم في بعض ليعظم انضغاطهم فيها ويرجع أعلاها أسفلها وأسفلها أعلاها ويرى الناس والجن فيها مثل قطع اللحم في القدر التي تحتها النار العظيمة تغلي كغلي الحميم فتدور في الخلق علوا وسفلا كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً. وذكر الشيخ عبد الكريم الجيلي في كتابه المسمى بالإنسان الكبير، وفي شرح لباب الأسرار من الفتوحات: أن مراد القوم بأن أهل النار يخرجون منها هم عصاة الموحدين لا الكفار، وقال: إياك أن تحمل كلام الشيخ محيي الدين أو غيره من الصوفية- في قولهم بانتهاء مدة أهل النار من العصاة- على الكفار فإن ذلك كذب وخطأ وإذا احتمل الكلام وجها صحيحا وجب المصير إليه انتهى، نعم قال قدس سره في تفسير الفاتحة من الفتوحات فإذا وقع الجدار وانهدم الصور وامتزجت الأنهار والتقى البحران وعدم البرزخ صار العذاب نعيما وجهنم جنة ولا عذاب ولا عقاب إلا نعيم وأمان بمشاهدة العيان إلخ، وهذا وأمثاله محمول على معنى صحيح يعرفه أهل الذوق لا ينافي ما وردت به القواطع، وقصارى ما يخطر لأمثالنا فيه أنه محمول على مسكن عصاة هذه الأمة من النار، وفيه يضع الجبار قدمه ويتجلى بصفة القهر على النار فتقول قط قط ولا تطيق تجليه فتخمد ولا بعد أن تلحق بعد بالجنة وإياك أن تقول بظاهره مع ما أنت عليه وكلما وجدت مثل هذا لأحد من أهل الله تعالى فسلمه لهم بالمعنى الذي أرادوه مما لا تعلمه أنت ولا أنا لا بالمعنى الذي ينقدح في عقلك المشوب بالأوهام فالأمر والله وراء ذلك والأخذ بظواهر هذه العبارات النافية للخلود في العذاب وتأويل النصوص الدالة على الخلود في النار بأن يقال الخلود فيها لا يستلزم الخلود في العذاب لجواز التنعم فيها وانقلاب العذاب عذوبة مما يجر إلى نفي الأحكام الشرعية وتعطيل النبوات وفتح باب لا يسد. وإن سولت نفسك لك ذلك قلبنا البحث معك ولنأتينك بجنود من الأدلة لا قبل لك بها وما النصر إلا من عند الله وكان حقا علينا نصر المؤمنين، ولا يوقعنك في الوهم أن الخلود مستلزم لتناهي التجليات فالله تعالى هو الله وكل يوم هو في شأن فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الأعراف: 144] ولا أظنك تجد هذا التحقيق من غيرنا والحمد لله رب العالمين وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ. هذه الآية وما بعدها إلى آخر القصة معطوفة على قصة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وكل من المتعاطفين مسوق لغرض إلا أن فيهما من النعي على أهل الضلال ما لا يخفى وقد سيقت هذه الآية إلى ثلاث عشرة آية لنعي المنافقين الذين ستروا الكفر وأظهروا الإسلام فهم بحسب الظاهر أعظم جرما من سائر الكفار كما يشير إليه قوله تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء: 145] والناس- أصله عند سيبويه، والجمهور- أناس وهو جمع أو اسم جمع لإنسان، وقد حذفت فاؤه تخفيفا فوزنه فعال، ويشهد لأصله إنسان وإنس وأناسي ونقصه وإتمامه جائزان إذا نكر فإذا عرف بأل فالأكثر نقصه ومن عرف خص بالبلاء ويجوز إتمامه على قلة كما في قوله: إن المنايا يطلع ... عن على الأناس الآمنينا وهو مأخوذ من الأنس ضد الوحشة لأنسه بجنسه لأنه مدني بالطبع ومن هنا قيل: وما سمي الإنسان إلا لأنسه ... ولا القلب إلا أنه يتقلب أو من آنس أي أبصر قال تعالى: آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً [القصص: 29] وجاء بمعنى سمع وعلم، وسمي به لأنه ظاهر محسوس، وذهب السكاكي إلى أنه اسم تام وعينه واو من نوس إذا تحرك بدليل تصغيره على نويس فوزنه فعل. وفي الكشاف أنه من المصغر الآتي على خلاف مكبره كأنيسيان ورويجل، وقيل: من نسي بالقلب لقوله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 في آدم عليه السلام: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: 115] وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فوزنه حينئذ «فلع» ولا يستعمل في الغالب إلا في بني آدم، وحكى ابن خالويه عن ناس من العرب: أناس الجن، قال أبو حيان: وهو مجاز وإذا أخذ من نوس يكون صدق المفهوم على الجن ظاهرا لا سيما إذا قلنا: إن النوس تذبذب الشيء في الهواء، وعن سلمة بن عاصم أنه جزم بأن كلا من ناس وأناس مادة مستقلة واللام فيه إما للجنس أو للعهد الخارجي فإن كان الأول فمن نكرة موصوفة وإن كان الثاني فهي موصولة مرادا بها عبد الله بن أبيّ وأشياعه، وجوز ابن هشام وجماعة أن تكون موصولة على تقدير الجنس وموصوفة على تقدير العهد لأن بعض الجنس قد يتعين بوجه ما وبعض المعينين قد يجهل باعتبار حال من أحواله كأهل محلة محصورين فيهم قاتل لم يعرف بعينه كونه قاتلا وإن عرف شخصه فلا وجه للتخصيص عند هؤلاء، وقيل: إن التخصيص هو الأنسب لأن المعرف بلام الجنس لعدم التوقيت فيه قريب من النكرة وبعض النكرة نكرة فناسب من الموصوفة للطباق والأمر بخلافه في العهد، وعلى هذا الأسلوب ورد قوله تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ [الأحزاب: 23] وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ [التوبة: 61] لأنه أريد في الأول الجنس، وفي مرجع الضمير في الثاني طائفة معينة من المنافقين، ولما كان في الآية تفصيل معنوي لأنه سبحانه ذكر المؤمنين ثم الكافرين ثم عقب بالمنافقين فصار نظيرا للتفصيل اللفظي، وفي قوة تفصيل الناس إلى مؤمن وكافر ومنافق- تضمن الإخبار عمن يقول بأنه من الناس- فائدة، ولك أن تحمله على معنى من يختفي من المنافقين معلوم لنا ولولا أن الستر من الكرم فضحته فيكون مفيدا أيضا وملوحا إلى تهديد ما، وقيل: المراد بكونهم من الناس أنهم لا صفة لهم تميزهم سوى الصورة الإنسانية، أو المراد التنبيه على أن الصفات المذكورة تنافي الإنسانية فيتعجب منها- أو مناط الفائدة- الوجود أي إنهم موجودون فيما بينهم أو إنهم من الناس لا من الجن إذ لا نفاق فيهم، أو المراد بالناس المسلمون والمعنى أنهم يعدون مسلمين أو يعاملون معاملتهم فيما لهم وعليهم، ولا يخفى ما في بعض هذه الوجوه من الكلف والتكلف ولكل ساقطة لاقطة، واختار أبو حيان هنا أن تكون مِنَ موصلة مدعيا أنها إنما تكون موصوفة إذا وقعت في مكان يختص بالنكرة في الأكثر، وفي غير ذلك قليل حتى أن السكاكي على علو كعبه أنكره ولا يخفى ما فيه، ولا يرد على إرادة العهد أنه كيف يدخل المنافقون مطلقا في الكفرة المصرين المحكوم عليهم بالختم وإن وَمِنَ النَّاسِ الآية وقع عديلا لأن الذين كفروا بيانا للقسم الثالث المذبذب فلا يدخل فيه لأن المراد بالمنافقين المصممون منهم المختوم عليهم بالكفر كما يدل عليه صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة: 18] لا مطلق المنافقين ولأن اختصاصهم بخلط الخداع والاستهزاء مع الكفر لا ينافي دخولهم تحت الكفرة المصرين، وبهذا الاعتبار صاروا قسما ثالثا فالقسمة ثنائية بحسب الحقيقة ثلاثية بالاعتبار، وفي قوله تعالى يقول وآمنا مراعاة للفظ مِنَ ومعناها ولو راعى الأول فقط لقال آمنت أو الثاني فقط لقال يقولون ولما روعيا جميعا حسن مراعاة اللفظ أولا إذ هو في الخارج قبل المعنى والواحد قبل الجمع ولو عكس جاز، وزعم ابن عطية أنه لا يجوز الرجوع من جمع إلى توحيد ويرده قول الشاعر: لست ممن يكع أو يستكينو ... ن إذا كافحته خيل الأعادي واقتصر من متعلق الإيمان على الله واليوم الآخر مع أنهم كانوا يؤمنون بأفواههم بجميع ما جاء به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لأنهما المقصود الأعظم من الإيمان إذ من آمن بالله تعالى- على ما يليق بجلال ذاته- آمن بكتبه ورسله وشرائعه، ومن علم أنه إليه المصير استعد لذلك بالأعمال الصالحة، وفي ذلك إشعار بدعوى حيازة الإيمان بطرفيه المبدأ والمعاد وما طريقه العقل والسمع ويتضمن ذلك الإيمان بالنبوة أو أن تخصيص ذلك بالذكر للإيذان بأنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 يبطنون الكفر فيما ليسوا فيه منافقين في الجملة لأن القوم في المشهور كانوا يهودا وهم مخلصون في أصل الإيمان بالله واليوم الآخر على ظنهم، ومع ذلك كانوا ينافقون في كيفية الإيمان بهما ويرون المؤمنين أن إيمانهم بهما مثل إيمانهم فكيف فيما يقصدون به النفاق المحض وليسوا مؤمنين به أصلا كنبوة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم والقرآن أو أنهم قصدوا بتخصيص الإيمان بهما التعرض بعدم الإيمان بخاتم الرسل صلى الله تعالى عليه وسلم وما بلغه ففي ذلك بيان لمزيد خبثهم، وهذا لو قصد حقيقته حينئذ لم يكن إيمانا لأنه لا بد من الإقرار بما جاء به صلى الله تعالى عليه وسلم فكيف وهو مخادعة وتلبيس؟! وقيل: إنه لما كان غرضهم المبالغة في خلوص إسلامهم بأنهم تركوا عقائدهم التي كانوا عليها في المبدأ والمعاد واعترفوا أنهم كانوا في ضلال خصوا إيمانهم بذلك لأنهم كانوا قائلين بسائر الأصول، وأما النبوة فليس في الإيمان بها اعتراف بذلك، وأيضا ترك الراسخ في القلب مما عليه الأباء بترك الإيمان به صلى الله تعالى عليه وسلم من المسلمات فكأنهم لم يتعرضوا له للإشارة إلى أنه مما لا شبهة في أنهم معتقدون له بعد اعتقادهم ما هو أشد منه عليهم- وحمل بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ على القسم منهم على الإيمان- سمج بالله. وأسمج منه بمراتب حمله على القسم منه تعالى على عدم إيمانهم بتقدير ما آمنوا وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ فيجب أن يكون الباء صلة الإيمان وكررت مبالغة في الخديعة والتلبيس بإظهار أن إيمانهم تفصيلي مؤكد قوي (1) . واليوم الآخر يحتمل أن يراد به الوقت الدائم من الحشر بحيث لا يتناهى أو ما عينه الله تعالى منه إلى استقرار كل من المؤمنين والكافرين فيما أعدله، وسمي آخرا لأنه آخر الأوقات المحدودة والأشبه هو الأول سواء كان حقيقة أو مجازا ولأن الإيمان به يتضمن الإيمان بالثاني لدخوله فيه من غير عكس، نعم المناسب للفظ اليوم- لغة- هو الثاني لمحدوديته وهو على كل تقدير مغاير لما عند الناس لأن اليوم- عرفا- من طلوع الشمس إلى غروبها وشرعا على الصحيح من طلوع الفجر الصادق إلى الغروب. واصطلاحا من نصف النهار إلى نصف النهار والأمر وراء ذلك، وسيأتي لذلك تتمة، وفي قوله سبحانه: وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ حيث قدم الفاعل وأولى حرف النفي رد لدعوى أولئك المنافقين على أبلغ وجه لأن انخراطهم في سلك المؤمنين من لوازم ثبوت الإيمان الحقيقي لهم وانتفاء اللازم أعدل شاهد على انتفاء الملزوم وقد بلغ في نفي اللازم بالدلالة على دوامة المستلزم لانتفاء حدوث الملزوم مطلقا، وأكد ذلك النفي بالباء (2) أيضا وهذا سبب العدول عن الرد بما آمنوا المطابق لصدر الكلام، وبعضهم يجري الكلام على التخصيص وأن الكفار لما رأوا أنفسهم أنهم مثل المؤمنين في الإيمان الحقيقي وادعوا موافقتهم قيل في جوابهم وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ على قصر الأفراد والذوق يبعده، وإطلاق الوصف للإشارة إلى العموم وأنهم ليسوا من الإيمان في شيء، وقد يقيد بما قيد به سابقه لأنه واقع في جوابه إلا أن نفي المطلق يستلزم نفي المقيد فهو أبلغ وأوكد. وفي هذه الآية دلالة على أن من لم يصدق بقلبه لا يكون مؤمنا، وأما على أن من أقر بلسانه وليس في قلبه ما يوافقه أو ينافيه ليس بمؤمن فلا لوجود المنافي في المنافق هنا لأنه من المختوم على قلبه أو لأن الله تعالى كذبه وليس إلا لعدم مطابقة التصديق القلبي للساني كذا قيل، ودقق بعضهم مدعيا أن من يجعل الإيمان الإقرار اللساني سواء يشترط الخلو عن الإنكار والتكذيب أم لا يشترط أن يكون الإقرار بالشهادتين ولا يكفي عنده نحو آمنت بالله وباليوم الآخر لأن المدار على النطق بهما كما ورد في الصحيح حتى اشترط بعضهم لفظ أشهد، والاسم الخاص به تعالى واسم   (1) لأن إعادة العامل تقتضي أن متعلقه كالمعاد كما قال (س) في مررت بزيد وبعمرو فيفيد ما ذكر وهو ظاهر اهـ منه. (2) فيه إشارة إلى أن النفي اعتبر أولا ثم أكد فالكلام من تأكيد النفي لا نفي التأكيد اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فليس في الآية حينئذ دليل على إبطال مذهب الكرامية بوجه فليتدبر. يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ أصل الخدع بفتح الخاء وكسرها الإخفاء والإيهام، وقيل: بالكسر اسم مصدر، ومنه المخدع (1) للخزانة والأخدعان لعرقين خفيين في موضع المحجمة وخدع الضب إذا توارى واختفى ويستعمل في إظهار ما يوهم السلامة وإبطال ما يقتضي الأضرار بالغير أو التخلص منه كما قاله الإمام، وقال السيد: هو أن يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه وتصيبه به، وفي الكشف التحقيق أن الخدع صفة فعلية قائمة بالنفس عقيب استحضار مقدمات في الذهن متوصل بها توصلا يستهجن شرعا أو عقلا أو عادة إلى استجرار منفعة من نيل معروف لنفسه أو إصابة مكروه لغيره مع خفائهما على الموجه نحوه القصد بحيث لا يتأتى ذلك النيل أو الإصابة بدونه أو لو تأتى لزم فوت غرض آخر حسب تصوره وعليه يكون: الحرب خدعة (2) مجازا ولا تخفى غرابته. والمخادعة مفاعلة، والمعروف فيها أن يفعل كل أحد بالآخر مثل ما يفعله به فيقتضي هنا أن يصدر من كل واحد من الله ومن المؤمنين ومن المنافقين فعل يتعلق بالآخر، وظاهر هذا مشكل لأن الله سبحانه لا يخدع ولا يخدع، أما على التحقيق فلأنه غني عن كل نيل وإصابة واستجرار منفعة لنفسه وهو أيضا متعال على التعمل واستحضار المقدمات ولأنه أجلّ عن أن يحوم حول سرادقات جلاله نقص الانفعال وخفاء معلوم ما عليه، وأما على ما ذكره السيد فلأنه جل شأنه أجلّ من أن تخفى عليه خافية أو يصيبه مكروه فكيف يمكن للمنافقين أن يخدعوه ويوقعوا في علمه خلاف ما يريدون من المكروه ويصيبونه به مع أنهم لكونهم من أهل الكتاب عالمون باستحالة ذلك، والعاقل لا يقصد ما تحقق لديه امتناعه، وأما أنه لا يخدع فلأنه وإن جاز عندنا أن يوقع سبحانه في أوهام المنافقين خلاف ما يريده من المكاره ليغتروا ثم يصيبهم به لكن يمتنع أن ينسب إليه لما يوهمه من أنه إنما يكون عن عجز عن المكافحة وإظهار المكتوم لأنه المعهود منه في الإطلاق- كما في الانتصاف- ولذا زيد في تفسيره مع استشعار خوف أو استحياء من المجاهرة، وأما المؤمنون وإن جاز أن يخدعوا إلا أنه يبعد أن يقصدوا خدع المنافقين لأنه غير مستحسن بل مذموم مستهجن وهي أشبه شيء بالنفاق وهم في غنى عنه على أن الانخداع المتمدح به هو التخادع بمعنى إظهار التأثر دونه كرما كما يشير إليه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «المؤمن غر كريم» لا الانخداع الدال على البله، ولذا قالت عائشة في عمر رضي الله تعالى عنهما: كان أعقل من أن يخدع وأفضل من أن يخدع، ويجاب عن ذلك بأن صورة صنيعهم مع الله تعالى حيث يتظاهرون بالإيمان وهم كافرون، وصورة صنيع الله تعالى معهم حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده أهل الدرك الأسفل، وصورة صنيع المؤمنين معهم حيث امتثلوا أمر الله تعالى فيهم فأجروا ذلك عليهم تشبه صورة المخادعة ففي الكلام إما استعارة تبعية في يُخادِعُونَ وحده أو تمثيلية في الجملة وحيث إن ابتداء الفعل في باب المفاعلة من جانب الفاعل صريحا وكون المفعول آتيا بمثل فعله مدلول عليه من عرض الكلام حسن إيراد ذلك في معرض الذم لما أسند إليه الفعل صريحا وكون مقتضى المقام إيراد حالهم خاصة- كما قاله مولانا مفتي الديار الرومية- مما لا يخدش هذا الوجه الحسن أو يجاب- كما قيل- بأن المراد مخادعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأوقع الفعل على غير ما   (1) المخدع مثلث، والخزانة لا تفتح اهـ منه. (2) يروى بفتح الخاء وضمها مع سكون الدال، وبضمها مع فتح الدال، فالأول معناه أن الحرب ينقضي أمرها بخدعة واحدة من الخداع أي أن المقاتل إذا خدع مرة واحدة لم يكن لها إقالة، وهو أفصح الروايات وأصحها، ومعنى الثاني هو الاسم من الخدع، ومعنى الثالث أن الحرب تخدع الرجال وتمنيهم ولا تفي لهم كما يقال رجل لعبة وضحكة للذي يكثر اللعب والضحك فليفهم وليحفظ اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 يوقع عليه للملابسة بينهما وهي الخلافة فهناك مجاز عقلي في النسبة الإيقاعية وهذا ظاهر على رأي من يكتفي بالملابسة بين ما هو له وغير ما هو له، وأما على رأي من يعتبر ملابسة الفعل بغير ما هو له بأن يكون من معمولاته فلا، على أنه يبقى من الإشكال أن لا خدع من الرسول والمؤمنين ولا مجال لأن يكون الخدع من أحد الجانبين حقيقة ومن الآخر مجازا لاتحاد اللفظ وكأن المجيب إما قائل بجواز الجمع بين الحقيقة والمجاز أو غير قائل بامتناع صدور الخدع من الرسول والمؤمنين حتى يتأتى لهم ما يريدون من إعلاء الدين ومصالح المسلمين. وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وأبو حيوة- يخدعون- والجواب عما يلزم هو الجواب فيما لزم، وقد تأتي فاعل بمعنى فعل كعافاني الله تعالى وعاقبت اللص فلا بعد في حمل قراءة الجمهور على ذلك ويكون إيثار صيغة المفاعلة لإفادة المبالغة في الكيفية فإن الفعل متى غولب فيه بولغ به أو في الكمية كما في الممارسة والمزاولة فإنهم كانوا مداومين على الخدع يُخادِعُونَ إما بيان ليقول لا على وجه العطف إذ لا يجري عطف البيان في الجمل عند النحاة وإن أوهمه كلام أهل المعاني وإما استئناف بياني كأنه قيل: لم يدعون الإيمان كاذبين وماذا نفعهم؟ فقيل يخادعون إلخ، وهذا في المآل كالأول ولعل الأول أولى. وجوز أبو حيان كون هذه الجملة بدلا من صلة من بدل اشتمال أو حالا من الضمير المستكن في يقول أي مخادعين، وأبو البقاء أن يكون حالا من الضمير المستتر في مؤمنين، ولعل النفي متوجه للمقارنة لا لنفس الحال- كما في ما جاءني زيد، وقد طلع الفجر- وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال: 33] على أنه قد تجعل الحال ونحوها في مثل ذلك قيدا للنفي لا للمنفي كما قرروه في- لم أبالغ- في اختصاره تقريبا. وجعل الجملة صفة للمؤمنين ممنوع لمكان النفي والقيد وليست حال الصفة كصفة الحال فلا عجب في تجويز إحداهما ومنع الأخرى كما توهمه أبو حيان في بحره، نعم التعجب من كون الجملة بيانا للتعجب من كونهم من الناس كما لا يخفى. ثم إن الغرض من مخادعة هؤلاء لمن خادعوه كالغرض من نفاقهم طبق النعل بالنعل فقد قصدوا تعظيمهم عند المؤمنين والتطلع على أسرارهم ليفشوها ورفع القتل عنهم أو ضرب الجزية عليهم والفوز بسهم من الغنائم ونحو ذلك وثمرة مخادعة من خادعوه إياهم إن كانت حكم إلهية ومصالح دينية ربما يؤدي تركها إلى مفاسد لا تحصى ومحاذير لا تستقصى، وقرأ الحرميان وأبو عمرو: وما يخادعون، وقرأ باقي السبعة: «وما يخدعون» وقرأ الجارود وأبو طالوت: «وما يخدعون» - بضم الياء- مبنيا للمفعول. وقرأ بعضهم: «وما يخادعون» - بفتح الدال مبنيا للمفعول أيضا- وقرأ قتادة والعجلي: «وما يخدعون» من خدع مضاعفا مبنيا للفاعل، وبعضهم- بفتح الياء والخاء وتشديد الدال المكسورة- وما عدا القراءتين الأوليين شاذة وعليهما نصب أنفسهم على المفعولية الصرفة أو مع الفاعلية معنى، وأما على قراءة بناء الفعل للمفعول فهو إما على إسقاط الجار أي في أنفسهم أو عن أنفسهم أو على التمييز على رأي الكوفيين أو التشبيه بالمفعول على زعم بعضهم أو على أنه مفعول بتضمين الفعل يتنقصون مثلا، ولا يشكل على قراءة يخادعون أنه كيف يصح حصر الخداع على أنفسهم، وذلك يقتضي نفيه عن الله تعالى والمؤمنين، وقد أثبت أولا، وإن المخادعة إنما تكون في الظاهر بين اثنين فكيف يخادع أحد نفسه لأنا نقول المراد أن دائرة الخداع راجعة إليهم وضررها عائد عليهم فالخداع هنا هو الخداع الأول والحصر باعتبار أن ضرره عائد إلى أنفسهم فتكون العبارة الدالة عليه مجازا أو كناية عن انحصار ضررها فيهم أو نجعل لفظ الخداع مجازا مرسلا عن ضرره في المرتبة الثانية، وكونه مجازا باعتبار الأول كما قاله السعد غير ظاهر. وقد يقال: إنهم خدعوا أنفسهم لما غروها بذلك وخدعتهم حيث حدثتهم بالأماني الخالية، فالمراد بالخداع غير الأول. والمخادع والمخادع متغايران بالاعتبار فالخداع على هذا مجاز عن إيهام الباطل وتصويره بصورة الحق، وحمله على حقيقته بعيد وكون ذلك من التجريد كقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 لا خيل عندك تهديها ولا مال ... فليسعد النطق إن لم يسعد الحال لا يرتضيه الذوق السليم كالقول بأن الكلام من باب المبالغة في امتناع خداعهم لله تعالى وللمؤمنين لأنه كما لا يخفى خداع المخادع لنفسه فيمتنع خداعه لها يمتنع خداع الله تعالى لعلمه والمؤمنون لاطلاعهم بإعلامه تعالى أو الكناية عن أن مخالفتهم ومعاداتهم لله تعالى وأحبابه معاملة مع أنفسهم لأن الله تعالى والمؤمنين ينفعونهم كأنفسهم، وبعضهم يجعل التعبير هنا بالمخادعة للمشاكلة مع كون كل من المشاكل والمشاكل مجازا وكل يعمل على شاكلته «والنفس» حقيقة الشيء وعينه ولا اختصاص لها بالأجسام لقوله تعالى: كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الإنعام: 12] وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران: 28، 30] وتطلق على الجوهر البخاري اللطيف الحامل لقوة الحياة والحس والحركة الإرادية وسماها الحكيم الروح الحيوانية وأول عضو تحله القلب إذ هو أول ما يخلق على المشهور، ومنه تفيض إلى الدماغ والكبد وسائر الأعضاء ولا يلزم من ذلك أن يكون منبت الأعصاب إذ من الجائز أن يكون العضو المستفيد منبتا لآلة الاستفادة، وقيل: الدماغ لأنه المنبت ولم تقم دلالة قطعية على ذلك كما في شرح القانون للإمام الرازي وكثيرا ما تطلق على الجوهر المجرد المتعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف وهي الروح الأمرية المرادة في - من عرف نفسه فقد عرف ربه- وتسمى النفس الناطقة وبتنوع صفاتها تختلف أسماؤها وأحظى الأعضاء بإشراق أنوارها المعنوية القلب أيضا ولذلك الشرف قد يسمى نفسا، وبعضهم يسمي الرأي بها، والظاهر في الآية على ما قيل: المعنى الأول إذ المقصود بيان أن ضرر مخادعتهم راجع إليهم ولا يتخطاهم إلى غيرهم وليس بالمتعيّن كما لا يخفى، وتطلق على معان أخر ستسمعها مع تحقيق هذا المبحث إن شاء الله تعالى. وجملة وَما يَشْعُرُونَ مستأنفة أو معطوفة على وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ومفعول يَشْعُرُونَ محذوف أي وَما يَشْعُرُونَ أنهم يخدعونها أو أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون أو إطلاع الله تعالى نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم على خداعهم وكذبهم- كما روي ذلك عن ابن عباس- أو هلاك أنفسهم وإيقاعها في الشقاء الأبدي بكفرهم ونفاقهم كما روي عن زيد، أو المراد لا يشعرون بشيء، ويحتمل- كما في البحر- أن يكون وَما يَشْعُرُونَ جملة حالية أي وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ غير شاعرين بذلك ولو شعروا لما خادعوا، والشعور الإدراك بالحواس الخمس الظاهرة ويكون بمعنى العلم، قال الراغب: شعرت كذا يستعمل بوجهين بأن يؤخذ من مس الشعر ويعبر به عن اللمس ومنه استعمل المشاعر للحواس، فإذا قيل: فلان لا يشعر فذلك أبلغ في الذم من أنه لا يسمع ولا يبصر لأن حس اللمس أعم من حس السمع والبصر، وتارة يقال: شعرت كذا أي أدركت شيئا دقيقا من قولهم شعرته أي أصبت شعره نحو- أذنته ورأسته- وكان ذلك إشارة إلى قولهم فلان يشق الشعر إذا دق النظر، ومنه أخذ الشاعر لإدراك دقائق المعاني انتهى. والآية تحتمل نفي الشعور بمعنى العلم فمعنى لا يَشْعُرُونَ لا يعلمون وكثيرا ما ورد بهذا المعنى، وفي اللحاق نوع إشارة إليه، ويحتمل نفيه بمعنى الإدراك بالحواس فيجعل متعلق الفعل كالمحسوس الذي لا يخفى إلا على فاقد الحواس، ونفي ذلك نهاية الذم لأن من لا يشعر بالبديهي المحسوس مرتبته أدنى من مرتبة البهائم فهم كالإنعام بل هم أضل، ولعل هذا أولى لما فيه من التهكم بهم مع الدلالة على نفي العلم بالطريق الأولى، وهو أيضا أنسب بقوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ كما لا يخفى. فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ المرض بفتح الراء كما قرأ الجمهور، وبسكونها كما قرأ الأصمعي عن أبي عمر- وعلى ما ذهب إليه أهل اللغة- حالة خارجة عن الطبع ضارة بالفعل، وعند الأطباء ما يقابل الصحة وهي الحالة التي تصدر عنها الأفعال سليمة، والمراد من الأفعال ما هو متعارف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وهي إما طبيعية كالنمو أو حيوانية كالنفس أو نفسانية كجودة الفكر، فالحول والحدب مثلا مرض عندهم دون أهل اللغة وقد يطلق المرض لغة على أثره وهو الألم كما قاله جمع ممن يوثق بهم، وعلى الظلمة كما في قوله: في ليلة مرضت من كل ناحية ... فما يحس بها نجم ولا قمر وعلى ضعف القلب وفتوره كما قاله غير واحد ويطلق مجازا على ما يعرض المرء مما يخل بكمال نفسه كالبغضاء والغفلة وسوء العقيدة والحسد وغير ذلك من موانع الكمالات المشابهة لاختلال البدن المانع عن الملاذ والمؤدية إلى الهلاك الروحاني الذي هو أعظم من الهلاك الجسماني، والمنقول عن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وقتادة وسائر السلف الصالح حمل المرض في الآية على المعنى المجازي. ولا شك أن قلوب المنافقين كانت ملأى من تلك الخبائث التي منعتهم مما منعتهم وأوصلتهم إلى الدرك الأسفل من النار. ولا مانع عند بعضهم أن يحمل المرض أيضا على حقيقته الذي هو الظلمة وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [النور: 40] وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ [البقرة: 257] وكذا على الألم فإن في قلوب أولئك ألما عظيما بواسطة شوكة الإسلام وانتظام أمورهم غاية الانتظام، فالآية على هذا محتملة للمعنيين ونصب القرينة المانعة في المجاز إنما يشترط في تعيينه دون احتماله فإذا تضمن نكتة ساوى الحقيقة فيمكن الحمل عليهما نظرا إلى الأصالة والنكتة إلا أنه يرد هنا أن الألم مطلقا ليس حقيقة المرض بل حقيقته الألم السوء المزاج وهو مفقود في المنافقين والقول بأن حالهم التي هم عليها تقضي إليه في غاية الركاكة على أن قلوب أولئك لو كانت مريضة لكانت أجسامهم كذلك أو لكان الحمام عاجلهم ويشهد لذلك الحديث النبوي والقانون الطبي، أما الأول فلقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن في الجسد مضغة» الحديث، وأما الثاني فلأن الحكماء بعد أن بينوا تشريح القلب قالوا إذا حصلت فيه مادة غليظة فإن تمكنت منه ومن غلافه أو من أحدهما عاجلت المنية صاحبه وإن لم تتمكن تأخرت الحياة مدة يسيرة ولا سبيل إلى بقائها مع مرض القلب، فالأولى دراية ورواية حمله على المعنى المجازي- ومنه الجبن والخور- وقد داخل ذلك قلوب المنافقين حين شاهدوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين ما شاهدوا. والتنوين للدلالة على أنه نوع غير ما يتعارفه الناس من الأمراض، ولم يجمع كما جمع القلوب لأن تعداد المحال يدل على تعداد الحال عقلا فاكتفى بجمعها عن جمعه. والجملة الأولى إما مستأنفة لبيان الموجب لخداعهم وما هم فيه من النفاق أو مقررة لما يفيده وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ من استمرار عدم إيمانهم أو تعليل له كأنه قيل: ما بالهم لا يؤمنون؟ فقال: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يمنعه أو مقررة لعدم الشعور وإن كان سبيل قوله: وَما يَشْعُرُونَ سبيل الاعتراض- على ما قيل- وجملة فزادهم الله مرضا إما دعائية معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه والمعترضة قد تقترن بالفاء كما في قوله: واعلم فعلم المرء ينفعه ... أن سوف يأتي كلّ ما قدرا كما صرح به في التلويح وغيره نقلا عن النحاة أو إخبارية معطوفة على الأولى وعطف الماضي على الاسمية لنكتة إن أريد في الأولى أن ذلك لم يزل غضا طريا إلى زمن الأخبار، وفي الثانية أن ذلك سبب لازدياد مرضهم المحقق إذ لولا تدنس فطرتهم لازدادوا بما منّ الله تعالى به على المؤمنين شفاء ولا يتكرر هذا مع قوله تعالى: يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ [البقرة: 15] للفرق بين زيادة المرض وزيادة الطغيان على أنه لا مانع من زيادة التوكيد مع بعد المسافة، وأيضا الدعاء إن لم يكن جاريا على لسان العباد أو مرادا به مجرد السب والتنقيص يكون إيجابا منه سبحانه فيؤول إلى ما آل إليه الأخبار وزيادة الله تعالى مرضهم إما بتضعيف حسدهم بزيادة نعم الله تعالى على رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين أو ظلمة قلوبهم بتجدد كفرهم بما ينزله سبحانه شيئا فشيئا من الآيات والذكر الحكيم فهم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 ظلمات بعضها فوق بعض أو بتكثير خوفهم ورعبهم المترتب عليه ترك مجاهرتهم بالكفر بسبب إمداد الله تعالى الإسلام ورفع أعلامه على أعلام الإعزاز والاحترام، أو بإعظام الألم بزيادة الغموم وإيقاد نيران الهموم. والغم يخترم النفوس نحافة ... ويشيب ناصية الصبي ويهرم ويكون ذلك بتكاليف الله تعالى لهم المتجددة وفعلهم لها مع كفرهم بها وبتكليف النبي صلّى الله عليه وسلّم لهم ببعض الأمور وتخلفهم عنه الجالب لما يكرهونه من لومهم وسوء الظن بهم فيغتمون إن فعلوا وإن تركوا ونسبة الزيادة إلى الله تعالى حقيقة ولو فسرت بالطبع فإنه سبحانه الفاعل الحقيقي بالأسباب وبغيرها ولا يقبح منه شيء، وبعضهم جعل الإسناد مجازا في بعض الوجوه ولعله نزغة اعتزالية، وأغرب بعضهم فقال. الإسناد مجازي كيفما كان المرض، وحمل على أن المراد أنه ليس هنا من يزيدهم مرضا حقيقة على رأي الشيخ عبد القاهر في أنه لا يلزم في الإسناد المجازي أن يكون للفعل فاعل يكون الإسناد إليه حقيقة مثل. يزيدك وجهه حسنا ... إذا ما زدته نظرا فتدبر، وإنما عدى سبحانه الزيادة إليهم لا إلى القلوب فلم يقل فزادها إما ارتكابا لحذف المضاف- أي فزاد الله قلوبهم مرضا- أو إشارة إلى أن مرض القلب مرض لسائر الجسد أو رمزا إلى أن القلب هو النفس الناطقة ولولاها ما كان الإنسان إنسانا وإعادة مرض منكرا لكونه مغايرا للأول ضرورة أن المزيد يغاير المزيد عليه، وتوهم من زعم أنه من وضع المظهر موضع المضمر، والتنكير للتفخيم، والأليم فعيل من الألم بمعنى مفعل كالسميع بمعنى مسمع، وعلى ما ذهب إليه الزمخشري من ألم الثلاثي كوجيع من وجع، وإسناده إلى العذاب مجاز على حد جد جده، ولم يثبت عنده فعيل بمعنى مفعل وجعل بديع السماوات من باب الصفة المشبهة أي بديعة سماواته، وسميع في قوله: أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرقني وأصحابي هجوع بمعنى سامع- أي أمن ريحانة داع من قلبي سامع لدعاء داعيها- بدليل ما بعده فإن أكثر القلق والأرق إنما يكون من دواعي النفس وأفكارها فعلى هذا يكون تفسيره بمؤلم اسم فاعل بيان لحاصل المعنى، وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كل شيء في القرآن أليم فهو موجع، وقد جمع للمنافقين نوعان من العذاب عظيم، وأليم، وذلك للتخصيص بالذكر هنا والاندراج مع الكفار هناك، قيل: وهذه الجملة معترضة لبيان وعيد النفاق والخداع والباء إما للسببية أو للبدلية وبِما إما مصدرية مؤولة بمصدر كان إن كان أو بمصدر متصيد من الخبر كالكذب وإما موصولة، واستظهره أبو البقاء بأن الضمير المقدر عائد على ما أورده في البحر بأنه لا يلزم أن يكون ثم مقدر بل من قرأ يكذبون بالتخفيف وهم الكوفيون فالفعل غير متعد ومن قرأ بالتشديد كنافع وابن كثير وأبي عمر فالمفعول محذوف لفهم المعنى والتقدير بكونهم يكذبون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيما جاء به، ويحتمل أن يكون المشدد في معنى المخفف للمبالغة في الكيف كما قالوا في- بان الشيء وبين، وصدق وصدق- وقد يكون التضعيف للزيادة في الكم- كموتت الإبل- ويحتمل أن يكون من كذب الوحش إذا جرى ووقف لينظر ما وراءه، وتلك حال المتحير وهي حال المنافق ففي الكلام حينئذ استعارة تبعية تمثيلية أو تبعية أو تمثيلية ويشهد لهذا المعنى قوله: صلّى الله عليه وسلّم «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة» والجار والمجرور صفة لعذاب لا لأليم كما قاله أبو البقاء لأن الأصل في الصفة أن لا توصف والكذب هو الأخبار عن الشيء النسبة أو الموضوع على خلاف ما هو عليه في نفس الأمر عندنا، وفي الاعتقاد عند النظام، وفيهما عند الجاحظ، وكل مقصود محمود يمكن التواصل إليه بالصدق والكذب جميعا فالكذب فيه حرام لعدم الحاجة إليه فإن لم يمكن إلا بالكذب فالكذب فيه مباح إن كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 تحصيل ذلك المقصود مباحا وواجب إن كان واجبا، وصرح في الحديث بجوازه في ثلاث مواطن في الحرب، وإصلاح ذات البين، وكذب الرجل لامرأته ليرضيها ولا حصر ولهذا جاز تلقين الذين أقروا بالحدود الرجوع عن الإقرار فينبغي أن يقابل بين مفسدة الكذب والمفسدة المترتبة على الصدق فإن كانت المفسدة في الصدق أشد ضررا فله الكذب وإن كان عكسه أو شك حرم عليه، فما قاله الإمام البيضاوي عفا الله تعالى عنه من أن الكذب حرام كله يوشك أن يكون مما سها فيه. وفي الآية تحريض للمؤمنين على ما هم عليه من الصدق والتصديق فإن المؤمن إذا سمع ترتب العذاب على الكذب دون النفاق الذي هو هو تخيل في نفسه تغليظ اسم الكذب وتصور سماجته فانزجر عنه أعظم انزجار، وهذا ظاهر على قراءة التخفيف ويمكن في غيرها أيضا لأن نسبة الصادق إلى الكذب كذب، وكذا كثرته وإن تكلف في المعنى الأخير، وقيل: إنه مأخوذ من كذب المتعدي كأنه يكذب رأيه فيقف لينظر لكن لما كثر استعماله في هذا المعنى وكانت حالة المنافق شبيهة بهذا جاز أن يستعار منه لها أمكن- على بعد بعيد- ذلك التحريض، ولا يرد على تحريم الكذب- في بعض وجوهه- ما روي في حديث الشفاعة عن إبراهيم عليه السلام أنه يقول: «لست لها إني كذبت ثلاث كذبات» - وعنى كما في رواية أحمد- إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات: 89] وبَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ [الأنبياء: 63] وقوله الملك في جواب سؤاله على امرأته سارة هي أختي حين أراد غضبها، وكان من طريق السياسة التعرض لذات الأزواج دون غيرهن بدون رضاهن فإنها إن كانت من الكذب المحرم فأين العصمة وهو أبو الأنبياء؟! وإن لم تكن كذلك فقد أخبر يوم القيامة بخلاف الواقع وحاشاه حيث إن المفهوم من ذلك الكلام أني أذنبت فأستحيي أن أشفع، وهي يستحي مما لا إثم فيه ولقوة هذه الشبهة قطع الرازي بكذب الرواية صيانة لساحة إبراهيم عليه السلام لأنا نقول إن ذلك من المعاريض، وفيها مندوحة عن الكذب، وقد صدرت من سيد أولى العصمة صلّى الله عليه وسلّم كقوله مما في حديث الهجرة، وتسميته كذبا على سبيل الاستعارة للاشتراك في الصورة فهي من المعاريض الصادقة كما ستراه بأحسن وجه إن شاء الله تعالى في موضعه لكنها لما كانت مبنية على لين العريكة مع الأعداء، ومثله ممن تكفل الله تعالى بحمايته يناسبه المبارزة- فلعدوله عن الأولى بمقامه- عد ذلك في ذلك المقام ذنبا وسماه كذبا لكونه على صور وما وقع لنبينا عليه الصلاة والسلام من ذلك لم يقع في مثل هذا المقام حتى يستحيي منه فلكل مقام مقال، على أنا نقول: إنها لو كانت كذبا حقيقة لا ضرر فيها ولا استحياء منها، كيف وقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «ما منها كذبة إلا جادل بها عن دين الله تعالى فهي من الكذب المباح» لكن لما كان مقام الشفاعة هو المقام المحمود المخبوء للحبيب لا الخليل أظهر الاستحياء للدفع عنه بما يظن أنه مما يوجب ذلك وهو لا يوجبه. وفي ذلك من التواضع وإظهار العجز والدفع بالتي هي أحسن مما لا يخفى فكأنه قال: أنا لا آمن من العتاب على كذب مباح فكيف لي بالشفاعة لكم في هذا المقام فليحفظ، ثم إن الإتيان بالأفعال المضارعة في أخبار الأفعال الماضية الناقصة أمر مستفيض- كأصبح يقول كذا، وكادت تزيغ قلوب فريق منهم- ومعناه أنه في الماضي كان مستمرا متجددا بتعاقب الأمثال والمضي والاستقبال بالنسبة لزمان الحكم، وقد عد الاستمرار من معاني «كان» فلا إشكال في بِما كانُوا يَكْذِبُونَ حيث دلت «كان» على انتساب الكذب إليهم في الماضي ويكذبون على انتسابه في الحال والاستقبال والزمان فيهما مختلف ودفعه بأن «كان» دالة على الاستمرار في جميع الأزمنة- ويكذبون- دل على الاستمرار التجددي الداخل في جميع الأزمنة على علاته يغني الله تعالى عنه. وأمال حمزة فزادهم في عشرة أفعال ووافقه ابن ذكوان في إمالة جاء وشاء وزاد هذه، وعنه خلاف في زاد غيرها، والإمالة لتميم والتفخيم للحجاز. وقد نظم أبو حيان تلك العشرة فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 وعشرة أفعال تمال لحمزة ... فجاء وشاء ضاق ران وكملا بزاد وخاب طاب خاف معا وحا ... ق زاغ سوى الأحزاب مع صادها فلا [البقرة: 11- 20] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ اختلف في هذه الجملة فقيل معطوفة على- يكذبون- لأنه أقرب وليفيد تسببه للعذاب أيضا وليؤذن أن صفة الفساد يحترز منها كما يحترز عن الكذب. ووجه إفادته لتسبب الفساد للعذاب أنه داخل في حيز صلة الموصول الواقع سببا إذ المعنى في قولهم: «إنما نحن مصلحون» إنكار لادعائهم أن ما نسب لهم منه صلاح وهو عناد وإصرار على الفساد والإصرار على ذلك فساد وإثم، وهذا الذي مال إليه الزمخشري- وهو مبني على عدم الاحتياج إلى ضمير في الجملة- يعود إلى «ما» فإنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع وإلا يكون التقدير- ولهم عذاب أليم- بالذي كانوا إذا قيل لهم إلخ وهو غير منتظم وكأن من يجعل «ما» مصدرية يجعل الوصل «بكان» حيث لم يعهد وصلها بالجملة الشرطية نعم يرد أن قوله تعالى: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ كذب فيؤول المعنى إلى استحقاق العذاب بالكذب وعطف التفسير مما يأباه الذوق والاستعمال (1) ومن هنا قيل: بأن هذا العطف وجيه على قراءة يكذبون بالتشديد على أحد احتمالاته ليكون سببا للجمع بين ذمهم بالكذب والتكذيب. وقول مولانا مفتي الديار الرومية في الاعتراض: أن هذا النحو من التعليل حقه أن يكون بأوصاف ظاهرة العلية مسلمة الثبوت للموصوف غنية عن البيان لشهرة الاتصاف بها عند السامع أو لسبق الذكر صريحا أو استلزاما، ولا ريب في أن هذه الشرطية غير معلومة الانتساب بوجه- حتى تستحق الانتظام في سلك التعليل- لا يخفى ما فيه على من أمعن النظر، وقيل: معطوفة على يقول لسلامته مما في ذلك العطف من الدغدغة ولتكون الآيات حينئذ على نمط تعديد قبائحهم وإفادتها اتصافهم بكل من تلك الأوصاف استقلالا وقصدا ودلالتها على لحوق   (1) فقد قالوا عطف التفسير بالواو في الجمل خلاف الظاهر اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 العذاب بسبب كذبهم الذي هو أدنى أحوالهم فما ظنك بسائرها؟ ولكون هذا الماضي لمكان إذا مستقبلا حسن العطف، وفيه أن مآل هذه الجملة الكذب كما أشير إليه فلا تغاير سابقها ولو سلم التغاير بالاعتبار وضم القيود فهي جزء الصلة أو الصفة وكلاهما يقتضي عدم الاستقلال، وأيضا كون ذلك الكذب أدنى أحوالهم لا يقبل عند من له أدنى عقل على أن تخلل البيان والاستئناف وإن لم يكن أجنبيا بين أجزاء الصلة أو الصفة لا يخلو عن استهجان فالذي أميل إليه وأعول دون هذين الأمرين عليه ما اختاره المدقق في الكشف، وقريب منه كلام أبي حيان في البحر أنها معطوفة على قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ لبيان حالهم في ادعاء الإيمان وكذبهم فيه أولا ثم بيان حالهم في انهماكهم في باطلهم ورؤية القبيح حسنا والفساد صلاحا ثانيا، ويجعل المعتمد بالعطف مجموع الأحوال وإن لزم فيه عطف الفعلية على الاسمية فهو أرجح بحسب السياق ونمط تعديد القبائح، وما قيل عليه إنه ليس مما يعتد به وإن توهم كونه أو في بتأدية هذه المعاني وذلك لعدم دلالته على اندراج هذه الصفة وما بعدها في قصة المنافقين وبيان أحوالهم إذ لا يحسن حينئذ عود الضمائر التي فيها إليهم- كما يشهد به سلامة الفطرة لمن له أدنى دربة بأساليب الكلام- كلام خارج عن دائرة الإنصاف كما يشهد به سلامة الفطرة من داء التعصب والاعتساف فإن عود الضمائر رابط للصفات بهم وسوق الكلام مناد عليه، وقد يأتي في القصة الواحدة جملة مستأنفة بغير عطف فإذا لم ينافه الاستئناف رأسا كيف ينافيه العطف على أوله المستأنف، والعطف إنما يقتضي مغايرة الأحوال لا مغايرة القصص وأصحابها وما أخرجه ابن جرير عن سلمان رضي الله تعالى عنه- من أن أهل هذه الآية لم يأتوا بعد- ليس المراد به أنها مخصوصة بقوم آخرين كما يشعر به الظاهر بل إنها لا تختص بمن كان من المنافقين وإن نزلت فيهم إذ خصوص السبب لا ينافي عموم النظم. ثم القائل للمنافقين في عصر النزول هذا القول إما النبي صلّى الله عليه وسلّم تبليغا عن الله سبحانه المخبر له بنفاقهم أو أنه عليه الصلاة والسلام بلغه عنهم ذلك ولم يقطع به فنصحهم فأجابوه بما أجابوه أو بعض المؤمنين الظانين بهم المتفرسين بنور الإيمان فيهم أو بعض من كانوا يلقون إليه الفساد فلا يقبله منهم لأمر ما فينقلب واعظا لهم قائلا لا تُفْسِدُوا، والفساد التغير عن حالة الاعتدال والاستقامة ونقيضه الصلاح، والمعنى لا تفعلوا ما يؤدي إلى الفساد- وهو هنا الكفر كما قاله ابن عباس- أو المعاصي- كما قاله أبو العالية- أو النفاق الذي صافوا به الكفار فأطلعوهم على أسرار المؤمنين فإن كل ذلك يؤدي- ولو بالوسائط- إلى خراب الأرض وقلة الخير ونزع البركة وتعطل المنافع، وإذا كان القائل بعض من كانوا يلقون إليه الفساد فلا يقبله ممن شاركهم في الكفر يحمل الفساد على هيج الحروب والفتن الموجب لانتفاء الاستقامة ومشغولية الناس بعضهم ببعض فيهلك الحرث والنسل. ولعل النهي عن ذلك لخور أو تأمل في العاقبة وإراحة النفس عما ضرره أكبر من نفعه مما تميل إليه الحذاق. على أن في أذهان كثير من الكفار إذ ذاك توقع ما يغني عن القتال من وقوع مكروه بالمؤمنين وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ [التوبة: 32] ، ولا يخفى ما في هذا الوجه من التكلف والمراد من- الأرض- جنسها أو المدينة المنورة، والحمل على جميع الأرض ليس بشيء إذ تعريف المفرد يفيد استيعاب الأفراد لا الأجزاء، اللهم إلا أن يعتبر كل بقعة أرضا، لكن يبقى أنه لا معنى للحمل على الاستغراق باعتبار تحقق الحكم في فرد واحد وليس ذكر الأرض لمجرد التأكيد بل في ذلك تنبيه على أن الفساد واقع في دار مملوكة لمنعم أسكنكم بها وخولكم بنعمها. وأقبح خلق الله من بات عاصيا ... لمن بات في نعمائه يتقلب وإنما للحصر كما جرى عليه بعض النحويين وأهل الأصول، واختار في البحر أن الحصر يفهم من السياق ولم تدل عليه وضعا، وجعل القول بكونها مركبة من «ما» النافية دخل عليها «أن» التي للإثبات فأفادت الحصر قولا ركيكا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 صادر عن غير عارف بالنحو. ومعنى إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ مقصورون على الإصلاح المحض الذي لم يشبه شيء من وجوه الفساد وقد بلغ في الوضوح بحيث لا ينبغي أن يرتاب فيه، والقصر إما قصر إفراد أو قلب وهذا إما ناشىء عن جهل مركب فاعتقدوا الفساد صلاحا فأصروا واستكبروا استكبارا. يقضى على المرء في أيام محنته ... حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن وإما جار على عادتهم في الكذب وقولهم بأفواههم ما ليس في قلوبهم، وقرأ هشام والكسائي «قيل» بإشمام الضم ليكون دالا على الواو المنقلبة، وقول: بإخلاص الضم وسكون الواو لغة لهذيل ولم يقرأ بها. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ رد لدعواهم المحكية على أبلغ وجه حيث سلك فيه مسلك الاستئناف المؤدي إلى زيادة تمكن الحكم في ذهن السامع مع تأكيد الحكم وتحقيقه «بأن، وألا» بناء على تركبها من همزة الاستفهام الإنكاري الذي هو نفي معنى «ولا» النافية فهو نفي نفي فيفيد الإثبات بطريق برهاني أبلغ من غيره- ولإفادتها التحقيق- كما قال ناصر الدين: لا يكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بما يتلقى به القسم «كان، واللام، وحرف النفي» والذي ارتضاه الكثير أنها بسيطة لا لأنها تدخل على أن المشددة ولا النافية لا تدخل عليها إذ قد يقال: انفسخ بعد التركيب حكمها الأصلي بل لأن الأصل البساطة، ودعوى لا يكاد إلخ لا تكاد تسلم كيف وقد دخلت على رب وحبذا ويا النداء في- ألا رب يوم صالح لك منهما- وألا حبذا هند وأرض بها هند- وألا يا قيس والضحاك سيرا- وضم إلى ذلك تعريف الخبر وتوسيط الفصل وأشار ب لا يَشْعُرُونَ على وجه إلى أن كونهم من المفسدين قد ظهر ظهور المحسوس بالمشاعر وإن لم يدركوه، وأتى سبحانه بالاستدراك هنا ولم يأت به بعد المخادعة لأن المخادعة هناك لم يتقدمها ما يتوهم منه الشعور توهما يقتضي تعقيبه بالرفع بخلاف ما هنا فإنهم لما نهوا عما تعاطوه من الفساد الذي لا يخفى على ذوي العقول فأجابوه بادعاء أنهم على خلافه، وأخبر سبحانه بفسادهم كانوا حقيقين بالعلم به مع أنهم ليسوا كذلك فكان محلا للاستدراك. وما يقال: من أنه لا ذمّ على من أفسد ولم يعلم وإنما الذم على من أفسد عن علم، يدفعه أن المقصر في العلم مع التمكن منه مذموم بلا ريب بل ربما يقال: إنه أسوأ حالا من غيره، وهذا كله على تقدير أن يكون مفعول لا يَشْعُرُونَ محذوفا مقدرا بأنهم مفسدون، ويحتمل أن يقدر أن وبال ذلك الفساد يرجع إليهم، أو أنا نعلم أنهم مفسدون ويكون أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ لإفادة لازم فائدة الخبر بناء على أنهم عالمون بالخبر جاحدون له كما هو عادتهم المستمرة، ويبعد هذا إذا كان المنافقون أهل كتاب، ويحتمل أن لا ينوي محذوف وهو أبلغ في الذم. وفيه مزيد تسلية له صلّى الله عليه وسلّم إذ من كان من أهل الجهل لا ينبغي للعالم أن يكترث بمخالفته، وفي التأويلات- لعلم الهدى- إن هذه الآية حجة على المعتزلة في أن التكليف لا يتوجه بدون العلم بالمكلف به وأن الحجة لا تلزم بدون المعرفة فإن الله تعالى أخبر أن ما صنعوا من النفاق إفساد منهم مع عدم العلم فلو كان حقيقة العلم شرطا للتكليف ولا علم لهم به لم يكن صنيعهم إفسادا لأن الإفساد ارتكاب المنهي عنه فإذا لم يكن النهي قائما عليهم عن النفاق لم يكن فعلهم إفسادا فحيث كان إفسادا دل على أن التكليف يعتمد قيام آلة العلم والتمكن من المعرفة لا حقيقة المعرفة فيكون حجة عليهم. وهذه المسألة متفرعة على مسألة مقارنة القدرة للفعل وعدمها، وأنت تعلم أنه مع قيام الاحتمال يقعد على العجز الاستدلال وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ إشارة إلى التحلية بالحاء المهملة- كما أن لا تفسدوا إشارة إلى التخلية بالخاء المعجمة- ولذا قدم، وليس هنا ما يدل على أن الأعمال داخلة في كمال الإيمان أو في حقيقته- كما قيل- لأن اعتبار ترك الفساد لدلالته على التكذيب المنافي للإيمان وحذف المؤمن به لظهوره أو أريد افعلوا الإيمان و «الكاف» في موضع نصب، وأكثر النحاة يجعلونها نعتا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 لمصدر محذوف- أي إيمانا كما آمن الناس- وسيبويه لا يجوّز حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه في هذا الموضع ويجعلها منصوبة على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل ولم تجعل متعلقة بآمنوا والظرف لغو بناء على أن الكاف لا تكون كذلك و «ما» إما مصدرية أو كافة ولم تجعل موصولة لما فيه من التكلف، والمعنى على المصدرية آمنوا إيمانا مشابها لإيمان الناس، وعلى الكف حققوا إيمانكم كما تحقق إيمان الناس وذلك بأن يكون مقرونا بالإخلاص خالصا عن شوائب النفاق، والمراد من الناس الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه من المؤمنين مطلقا- كما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- وهم نصب عين أولى الغين، وملتفت خواطرهم لتأملهم منهم، وقد مر ذكرهم أيضا لدخولهم دخولا أوليا في الذين آمنوا فالعهد خارجي، أو خارجي ذكرى، أو من آمن من أبناء جنسهم- كعبد الله بن سلام- كما قاله جماعة من وجوه الصحابة، أو المراد الكاملون في الإنسانية الذين يعد من عداهم في عداد البهائم في فقد التمييز بين الحق والباطل، فاللام إما للجنس أو للاستغراق. واستدل بالآية على أن الإقرار باللسان إيمان وإلا لم يفد التقييد، وكونه للترغيب يأباه إيرادهم التشبيه في الجواب، والجواب عنه بعد إمكان معارضته بقوله تعالى وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ أنه لا خلاف في جواز إطلاق الإيمان على التصديق اللساني لكن من حيث إنه ترجمة عما في القلب أقيم مقامه إنما النزاع في كونه مسمى الإيمان في نفسه ووضع الشارع إياه له مع قطع النظر عما في الضمير على ما بين لك في محله، ولما طلب من المنافق الإيمان دل ذلك على قبول توبة الزنديق. فإن لا يكنها أو تكنه فإنه ... أخوها غذته أمه بلبانها نعم إن كان معروفا بالزندقة داعيا إليها ولم يتب قبل الأخذ قتل كالساحر ولم تقبل توبته كما أفتى به جمع من المحققين. قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أرادوا لا يكون ذلك أصلا فالهمزة للإنكار الإبطالي- وعنوا بالسفهاء إما أولئك الناس المتقدمين أو الجنس (1) بأسره وأولئك الكرام والعقلاء الفخام داخلون فيه بزعمهم الفاسد دخولا أوليا وأبعد من ذهب إلى أن اللام للصفة الغالبة كما في العيوق لأنه لم يغلب هذا الوصف على أناس مخصوصين إلّا أن يدعي غلبته فيما بينهم قاتلهم الله أنى يؤفكون- والسفه- الخفة والتحرك والاضطراب، وشاع في نقصان العقل والرأي وإنما سفهوهم جهلا منهم حيث اشتغلوا بما لا يجدي في زعمهم ويحتمل أن يكون ذلك من باب التجلد حذرا من الشماتة إن فسر الناس بمن آمن منهم، واليهود قوم بهت، وقد استشكل هذه الآية كثير من العلماء بأنه إذا كان القائل المؤمنين- كما هو الظاهر- والمجيب المنافقين يلزم أن يكونوا مظهرين للكفر إذا لقوا المؤمنين فأين النفاق وهو المفهوم من السباق والسياق؟ وأجيب بأن هذا الجواب كان فيما بينهم وحكاه الله تعالى عنهم ورده عليهم، وليس الجواب ما يقال مواجهة فقط فقد استفاض من الخلف إطلاق لفظ الجواب على رد كلام السلف مع بعد العهد من غير نكير، وقيل: «إذا» هنا بمعنى لو تحقيقا لإبطانهم الكفر وأنهم على حال تقتضي أنهم لو قيل لهم كذا قالوا كذا- كما قيل مثله في قوله- وإذا ما لمته لمته وحدي، وقيل: إنه كان بحضرة المسلمين لكن مسارّة بينهم وأظهره عالم السر والنجوى، وقيل: كان عند من لم يفش سرهم من المؤمنين لقرابة أو لمصلحة ما، وذكر مولانا مفتي الديار الرومية أن الحق الذي لا محيد عنه أن قولهم هذا وإن صدر بمحضر من الناصحين لا يقتضي كونهم من المجاهرين   (1) أي جنس السفيه على ما يريد به بعض الأصوليين من بطلان الجمعية أو جنس السفهاء بوصف الجمعية على ما هو قانون العربية اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 فإنه ضرب من الكفر أنيق وفن في النفاق عريق لأنه كلام محتمل للشر- كما ذكره في تفسيره- وللخير بأن يحمل على ادعاء الإيمان كإيمان الناس وإنكار ما اتهموا به من النفاق على معنى- أنؤمن كما آمن السفهاء والمجانين الذين لا اعتداد بإيمانهم لو آمنوا- ولا نؤمن كإيمان الناس حتى تأمرونا بذلك، وقد خاطبوا به الناصحين استهزاء بهم مرائين لإرادة المعنى الأخير وهم معولون على الأول، والشرع ينظر للظاهر وعند الله تعالى علم السرائر، ولهذا سكت المؤمنون ورد الله سبحانه عليهم ما كانوا يسرون، فالكلام كناية عن كمال إيمانهم وليكن في قلب تلك الكناية نكاية فهو على مشاكلة قولهم اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ [النساء: 46] في احتمال الشر والخير ولذلك نهى عنه، وجعل رحمه الله تعالى قوله تعالى في الحكاية عنهم إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ من هذا القبيل أيضا، وإلى ذلك مال مولانا الشهاب الخفاجي وادعى أنه من بنات أفكاره، وعندي أنه ليس بشيء لأن أَنُؤْمِنُ لإنكار الفعل في الحال وقولهم كَما آمَنَ السُّفَهاءُ بصيغة الماضي صريح في نسبتهم السفاهة إلى المؤمنين لإيمانهم فلا تورية ولا نفاق، ولعله لما رأى صيغة الماضي زاد في بيان المعنى لو آمنوا، ولا أدري من أين أتى به. ولا يصلح العطّار ما أفسد الدهر. فالأهون بعض هاتيك الوجوه، وقوله: إن إبراز ما صدر عن أحد المتحاورين في الخلاء في معرض ما جرى بينهما في مقام المحاورة مما لا عهد به في الكلام- فضلا عما هو في منصب الإعجاز لا يخفى ما فيه- على من اطلع على محاورات الناس قديما وحديثا وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الأحزاب: 4] أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ رد وأشنع تجهيل حسبما أشير إليه فيما سلف، وإنما قال سبحانه هنا: لا يَعْلَمُونَ وهناك لا يَشْعُرُونَ لأن المثبت لهم هناك هو الإفساد وهو مما يدرك بأدنى تأمل ولا يحتاج إلى كثير فكر، فنفى عنهم ما يدرك بالمشاعر مبالغة في تجهيلهم، والمثبت هنا السفه والمصدر به الأمر بالإيمان وذلك مما يحتاج إلى نظر تام يفضي إلى الإيمان والتصديق ولم يقع منهم المأمور به فناسب ذلك نفي العلم عنهم، ولأن السفه خفة العقل والجهل بالأمور- على ما قيل- فيناسبه أتم مناسبة نفي العلم، وهذا مبني على ما هو الظاهر في المفعول وعلى غير الظاهر غير ظاهر فتدبر. ثم اعلم أنه إذا التقت الهمزتان والأولى مضمومة والثانية مفتوحة من كلمتين نحو السفهاء، ألا ففي ذلك أوجه، تحقيق الهمزتين وبذلك قرأ الكوفيون وابن عامر وتحقيق الأولى وتخفيف الثانية بإبدالها واوا وبذلك قرأ الحرميان وأبو عمرو، وتسهيل الأولى بجعلها بين الهمزة والواو. وتحقيق الثانية وتسهيل الأولى وإبدال الثانية واوا، وأجاز قوم جعل الهمزتين بين بين ومنعه آخرون. وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا بيان لدأب المنافقين وأنهم إذا استقبلوا المؤمنين دفعوهم عن أنفسهم بقولهم آمنا استهزاء فلا يتوهم أنه مكرر مع أول القصة لأنه إبداء لخبثهم ومكرهم وكشف عن إفراطهم في الدعارة وادعاء أنهم مثل المؤمنين في الإيمان الحقيقي وأنهم أحاطوه من جانبيه على أنه لو لم يكن هذا لا ينبغي أن يتوهم تكرار أيضا لأن المعنى- ومن الناس من يتفوه بالإيمان نفاقا للخداع- وذلك التفوّه عند لقاء المؤمنين وليس هذا من التكرار بشيء لما فيه من التقييد وزيادة البيان وأنهم ضموا إلى الخداع الاستهزاء، وأنهم لا يتفوهون بذلك إلا عند الحاجة، والقول بأن المراد ب آمَنَّا أولا الإخبار عن إحداث الإيمان وهنا عن إحداث إخلاص الإيمان مما ارتضاه الإمام- ولا أقتدي به- وتأييده له بأن الإقرار اللساني كان معلوما منهم غير محتاج للبيان وإنما المشكوك الإخلاص القلبي- فيجب إرادته- يدفعه النظر من ذي ذوق فيما حررناه، واللقاء استقبال الشخص قريبا منه وهو أحد أربعة عشر (1) مصدرا للقي، وقرأ أبو   (1) وهي لقيا ولقية ولقاء ولقاة ولقاء ولقي ولقي ولقيا ولقيا ولقيانا ولقيانة وتلقاء اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 حنيفة وابن السميقع لاقوا، وجعله في البحر بمعنى الفعل المجرد، وحذف المفعول في آمنا قيل اكتفاء بالتقييد قيل بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وقيل: المراد آمنا بما آمنتم به، وأبعد من قال أرادوا الإيمان بموسى عليه السلام دون غيره وحذفوا تورية منهم وإيهاما: هذا ولم يصح عندي في سبب نزول هذه الآية شيء، وأما ما ذكره الزمخشري والبيضاوي ومولانا مفتي الديار الرومية وغيرهم فهو من طريق السدي الصغير وهو كذاب، وتلك السلسلة سلسلة الكذب لا سلسلة الذهب، وآثار الوجه لائحة على ما ذكروه فلا يعول عليه ولا يلتفت بوجه إليه وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ من خلوت به، وإليه إذا انفردت معه أو من قولهم في المثل: اطلب الأمر وخلاك ذم- أي عداك- ومضى عنك ومنه قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [آل عمران: 137] وعلى الثاني المفعول الأول هاهنا محذوف لعدم تعلق الغرض به أي إذا خلوهم، وتعديته إلى المفعول الثاني إِلى لما في المضي عن الشيء معنى الوصول إلى الآخر واحتمال أن يكون من خلوت به أي سخرت منه، فمعنى الآية إذا أنهوا السخرية معهم وحدثوهم كما يقال أحمد إليك فلانا وأذمه إليك مما لا ينبغي أن يخرج عليه كلام رب العزة وإن ذكره الزمخشري والبيضاوي وغيرهما إذ لم يقع صريحا- خلا- بمعنى سخر في كلام من يوثق به، وقولهم: خلا فلان بعرض فلان يعبث به ليس بالصريح إذ يجوز أن يكون خلا على حقيقته أو بمعنى تمكن منه على ما قيل، والدال على السخرية يعبث به، وزعم النضر بن شميل أن إِلى هنا بمعنى مع ولا دليل عليه كالقول بأنها بمعنى الباء على أن سيبويه والخليل لا يقولان بنيابة الحرف عن الحرف، نعم إن الخلوة كما في التاج تستعمل ب «إلى، والباء، ومع» بمعنى واحد ويفهم من كلام الراغب أن أصل معنى الخلو فراغ المكان والحيز عن شاغل وكذا الزمان وليس بمعنى المضي، وإذا أريد به ذلك كان مجازا وظاهر كلام غيره أنه حقيقة. وضعيفان يغلبان قويا. والمراد ب شَياطِينِهِمْ من كانوا يأمرونهم بالتكذيب من اليهود- كما قاله ابن عباس- أو كهنتهم كما قاله الضحاك وجماعة- وسموا بذلك لتمردهم وتحسينهم القبيح وتقبيحهم الحسن أو لأن قرناءهم الشياطين إن فسروا بالكهنة- وكان على عهده صلى الله تعالى عليه وسلم كثير منهم- ككعب بن الأشرف من بني قريظة، وأبي بردة من بني أسلم، وعبد الدار في جهينة، وعوف بن عامر في بني أسد، وابن السوداء في الشام. وحمله على شياطين الجن- كما قاله الكلبي- مما لا يختلج بقلبي، والشياطين جمع تكسير وإجراؤه مجرى الصحيح- كما في بعض الشواذ- تنزلت به الشياطون لغة غريبة جدا والمفرد شيطان وهو فيعال عند البصريين فنونه أصلية من شطن أي بعد لبعده عن امتثال الأمر ويدل عليه تشيطن وإلا لسقطت، واحتمال أخذه من الشيطان لا من أصله على أن المعنى فعل فعله خلاف الظاهر، وعند الكوفيين وزنه فعلان فنونه زائدة من شاط يشيط إذا هلك أو بطل أو احترق غضبا والأنثى شيطانة وأنشد في البحر: هي البازل الكوماء لا شيء غيرها ... وشيطانة قد جن منها جنونها وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن الشيطان كل متمرد من الجن والإنس والدواب» . قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ أي معية معنوية وهي مساواتهم لهم في اعتقاد اليهودية وهو أم الخبائث، وأتى بالجملة الفعلية الدالة على الحدوث مع ترك التأكيد فيما ألقى على المؤمنين المنكرين لما هم عليه أو المتمردين، وبالجملة الثبوتية مع التأكيد فيما ألقى إلى شياطينهم الذين ليسوا كذلك لأنهم في الأول بصدد دعوى إحداث الإيمان ولم ينظروا هنا لإنكار أحد وتردده إيهاما منهم أنهم بمرتبة لا ينبغي أن يتردد في إيمانهم ليؤكدوا لعله أن يتم لهم مرامهم بذلك في زعمهم وفي الثاني بصدد إفادة الثبات دفعا لما يختلج بخواطر شياطينهم من مخالطة المؤمنين ومخاطبتهم بالإيمان، وقيل: إلى التأكيد كما يكون لإزالة الإنكار والشك يكون لصدق الرغبة وتركه كما يكون لعدم ذلك يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 لعدم اعتناء المتكلم فللرغبة أكدوا ولعدمها تركوا، أو لأنهم لو قالوا إنا مؤمنون كان ادعاء لكمال الإيمان وثباته، وهو لا يروج عند المؤمنين مع ما هم عليه من الرزانة وحدة الذكاء ولا كذلك شياطينهم، وعندي أن الوجه هو الأول إذ يرد على الأخيرين قوله تعالى فيما حكي عنهم: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون: 1] إلا أن يقال إنهم أظهروا الرغبة هناك وتبالهوا عن عدم الرواج لغرض ما من الأغراض والأحوال شتى، والعوارض كثيرة ولهذا قيل: إنهم للتقية والخداع، ودعوى أنهم مثل المؤمنين في الإيمان- ليجروا عليهم أحكامهم ويعفوهم عن المحاربة- أكدوا بالباء فيما تقدم حيث قالوا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ. والقول بأن الفرق بين آية الشهادة وآية الإيمان هنا ظاهر لأنهم لو قالوا إنا لمؤمنون لكانوا ملتزمين أمرين: رسالته صلى الله تعالى عليه وسلم، ووجوب إيمانهم به بخلاف آية الشهادة فإن فيها التزام الأول ولا يلزم من عدم الرغبة في أمرين عدمها في أحدهما ظاهر الركاكة للمنصفين كما لا يخفى، وقرأ الجمهور مَعَكُمْ بتحريك العين وقرىء شاذا بسكونها وهي لغة ربيعة وغنم إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ. الاستهزاء: الاستخفاف والسخرية، واستفعل بمعنى فعل تقول هزأت به واستهزأت بمعنى كاستعجب وعجب، وذكر حجة الإسلام الغزالي أن الاستهزاء الاستحقار والاستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول وبالإشارة والإيماء، وأرادوا مستخفون بالمؤمنين. وأصل هذه المادة الخفة يقال: ناقته تهزأ به أي تسرع وتخف- وقول الرازي إنه عبارة عن إظهار موافقة مع إبطال ما يجري مجرى السوء على طريق السخرية- غير موافق للغة والعرف. والجملة إما استئناف فكأن الشياطين قالوا لهم- لما قالوا إِنَّا مَعَكُمْ إن صح ذلك- فما بالكم توافقون المؤمنين- فأجابوا بذلك. أو بدل من إنا معكم، وهل هو بدل اشتمال، أو كل، أو بعض؟ خلاف، أما الأول فلأن هذه الجملة تفيد ما تفيده الأولى وهو الثبات على اليهودية لأن المستهزئ بالشيء مصر على خلافه وزيادة وهو تعظيم الكفر المفيد، لدفع شبهة المخالطة وتصلبهم في الكفر فيكون بدل اشتمال. «وأما الثاني» وبه قال السعد: فللتساوي من حيث الصدق ولا يقتضي التساوي من حيث المدلول، وأما الثالث فلأن كونهم معهم عام في المعية الشاملة للاستهزاء والسخرية وغير ذلك، أو تأكيد لما قبله بأن يقال: إن مدعاهم بأنا معكم الثبات على الكفر وإنما «نحن مستهزئون» لاستلزامه رد الإسلام ونفيه يكون مقررا للثبات عليه إذ رفع نقيض الشيء تأكيد لثباته لئلا يلزم ارتفاع النقيضين، أو يقال يلزم إِنَّا مَعَكُمْ إنا نوهم أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الإيمان فيكون الاستخفاف بهم وبدينهم تأكيدا باعتبار ذلك اللازم، وأولى الأوجه- عند المحققين- الاستئناف لولا ما ذكره الشيخ في دلائل الإعجاز من أن موضوع إِنَّما أن تجيء لخبر لا يجهله المخاطب ولا يدفع صحته فإنه يقتضي أن تقدير السؤال هنا أمر مرجوح ولعل الأمر فيه سهل، وقرىء مُسْتَهْزِؤُنَ بتخفيف الهمزة وبقلبها ياء مضمومة، ومنهم من يحذف الياء فتضم الزاي اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ حمل أهل الحديث وطائفة من أهل التأويل الاستهزاء منه تعالى على حقيقته وإن لم يكن المستهزئ من أسمائه سبحانه، وقالوا: إنه التحقير على وجه من شأنه أن من اطلع عليه يتعجب منه ويضحك ولا استحالة في وقوع ذلك منه عز شأنه ومنعه من قياس الغائب على الشاهد، وذهب أكثر الناس إلى أنه لا يوصف به- جل وعلا- حقيقة لما فيه من تقرير بالمستهزأ به على الجهل الذي فيه، ومقتضى الحكمة والرحمة أن يريه الصواب فإن كان عنده أنه ليس متصفا بالمستهزأ به فهو لعب لا يليق بكبريائه تعالى، فالآية على هذا مؤولة إما بأن يراد بالاستهزاء جزاؤه لما بين الفعل وجزائه من مشابهة في القدر وملابسة قوية ونوع سببية مع وجود المشاكلة المحسنة هاهنا، ففي الكلام استعارة تبعية أو مجاز مرسل، وإما بأن يراد به إنزال الحقارة، والهوان فهو مجاز عما هو بمنزلة الغاية له فيكون من إطلاق المسبب على السبب نظرا إلى التصور وبالعكس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 نظرا إلى الوجود، وإما بأن يجعل الله- تعالى وتقدس- كالمستهزىء بهم على سبيل الاستعارة المكنية وإثبات الاستهزاء له تخييلا، ورب شيء يصح تبعا ولا يصح قصدا وله سبحانه أن يطلق على ذاته المقدسة ما يشاء تفهيما للعباد. وقد يقال إن الآية جارية على سبيل التمثيل والمراد يعاملهم سبحانه معاملة المستهزئ: إما في الدنيا بإجراء أحكام الإسلام واستدراجهم من حيث لا يعلمون، وإما في الآخرة بأن يفتح لأحدهم باب إلى الجنة فيقال:- هلم هلم- فيجيء بكربه وغمه فإذا جاء أغلق دونه، ثم يفتح له باب آخر فيقال: هلم هلم- فيجيء بكربه وغمه فإذا أتاه أغلق دونه فما يزال كذلك حتى أن الرجل ليفتح له باب فيقال:- هلم هلم- فما يأتيه، وقد روي ذلك بسند مرسل جيد الإسناد في المستهزئين بالناس، وأسند سبحانه الاستهزاء إليه مصدرا الجملة بذكره للتنبيه على أن الاستهزاء بالمنافقين هو الاستهزاء الأبلغ الذي لا اعتداد معه باستهزائهم لصدوره عمن يضمحل علمهم وقدرتهم في جانب علمه وقدرته وأنه تعالى كفى عباده المؤمنين وانتقم لهم وما أحوجهم إلى معارضة المنافقين تعظيما لشأنهم لأنهم ما استهزىء بهم إلا فيه ولا أحد أغير من الله سبحانه، وترك العطف لأنه الأصل وليس في الجملة السابقة ما يصح عطف هذا القول عليه إلا بتكلف وبعد، وقيل: ليكون إيراد الكلام على وجه يكون جوابا عن السؤال عن معاملة الله تعالى معهم في مقابلة معاملتهم هذه مع المؤمنين، وقولهم إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ إشعار بأن ما حكي من الشناعة بحيث يقتضي ظهور غيرة الله تعالى ويسأل كل أحد عن كيفية انتقامه منهم ويشعر كلام بعض المحققين أنه لو ورد هذا القول بالعطف ولو على محذوف مناسب للمقام- كهم مستهزئون- بالمؤمنين لأفاد أن ذلك في مقابلة استهزائهم فلا يفيد أن الله تعالى أغنى المؤمنين عن معارضتهم مطلقا وأنه تولى مجازاتهم مطلقا بل يوهم تخصيص التولي بهذه المجازاة، وأيضا لكون استهزاء الله تعالى- بمكان بعيد من استهزائهم إلى حيث لا مناسبة بينهما- يكون العطف كعطف أمرين غير متناسبين، وبعضهم رتب الفائدتين اللتين ذكرناهما في الإسناد إليه تعالى على الاستئناف مدعيا أنه لو عطف- ولو بحسب التوهم- على مقدر بأن يقال المؤمنون مستهزؤون بهم والله يستهزىء بهم لفاتت الفائدتان هذا، ولعل ما ذكرناه أسلم من القيل والقال وأبعد عن مظان الاستشكال فتدبر، وعدل سبحانه عن- الله مستهزىء بهم المطابق لقولهم- إلى قوله اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ لإفادته التجدد الاستمراري وهو أبلغ مع الاستمرار الثبوتي الذي تفيده الاسمية لأن البلاء إذا استمر قد يهون وتألفه النفس كما قيل: (1) خلقت ألوفا لو رجعت إلى الصبا ... لفارقت شيبي موجع القلب باكيا وقد كانت نكايات الله تعالى فيهم ونزول الآيات في شأنهم أمرا متجددا مستمرا أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ [التوبة: 126] يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ [التوبة: 64] وهذا نوع من العذاب الأدنى «ولعذاب الآخرة أشد لو كانوا يعلمون» (2) وصرح بالمستهزأ به هنا ليكون الاستهزاء بهم نصا وإنما تركه المنافقون فيما حكي عنهم خوفا من وصوله للمؤمنين فأبقوا اللفظ محتملا ليكون لهم مجال في الذب إذا حوققوا فجعل الله تعالى- كلمة الذين كفروا السفلى وكلمته هي العليا- وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ. معطوف على قوله سبحانه وتعالى: يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ كالبيان له على رأي، والمدّ من مد الجيش وأمده بمعنى   (1) هو المتنبي. (2) نص الآية 127 من سورة طه: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى وفي الزمر والقلم: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 أي ألحق به ما يقويه ويكثره، وقيل: مد زاد من الجنس وأمد زاد من غير الجنس، وقيل: مد في الشراء وأمد في الخير عكس وعد وأوعد، وإذا استعمل أمد في الشر فلعله من باب فبشرهم بعذاب أليم، وقد ورد استعمال هذه المادة بمعنيين، أحدهما ما ذكرنا، وثانيهما الإمهال، ومنه مد العمر، والواقع هنا من الأول دون الثاني لوجهين، الأول أنه روي عن ابن كثير من غير السبعة يَمُدُّهُمْ بالضم من المزيد وهو لم يسمع في الثاني، والثاني أنه متعد بنفسه والآخر متعد باللام والحذف والإيصال خلاف الأصل فلا يرتكب بغير داع فمعنى يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يزيدهم ويقويهم فيه، وإلى ذلك ذهب البيضاوي وغيره، والحق أن الإمهال هنا محتمل وإليه ذهب الزجاج وابن كيسان والوجهان مخدوشان، فقد ورد- عند من يعول عليه من أهل اللغة- كل منهما ثلاثيا ومزيدا ومعدى بنفسه وباللام وكلاهما من أصل واحد ومعناهما يرجع إلى الزيادة كما أو كيفا، وفي الصحاح مد الله في عمره ومده في غيه أمهله وطول له، وروي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن مد الله تعالى في طغيانهم التمكين من العصيان. وعن ابن عباس الإملاء ونسبة المد إلى الله تعالى- بأي معنى كان عند أهل الحق- حقيقة إذ هو سبحانه وتعالى الموجد للأشياء المنفرد باختراعها على حسب ما اقتضته الحكمة ورفعت له أكفها الاستعدادات، ونسبته إلى غيره سبحانه وتعالى في قوله عز شأنه: وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ [الأعراف: 202] نسبة التوفي إلى الملك في قوله تعالى: يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السجدة: 11] مع قوله جل وعلا اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ [الزمر: 42] وذهبت المعتزلة أن الزيادة في الطغيان والتقوية فيه مما يستحيل نسبته إليه تعالى حقيقة وحملوا الآية على محامل أخر، وقد قدمنا ما يوهن مذهبهم- فلنطوه هنا على ما فيه «والطغيان» بضم الطاء على المشهور، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما بكسرها وهما لغتان فيه، وقد سمعا في مصدر اللقاء، وقد أماله الكسائي، وأصله تجاوز المكان الذي وقفت فيه ومن أخل بما عين من المواقف الشرعية والمعارف العقلية فلم يرعها فقد طغى، ومنه طغى الماء أي تجاوز الحد المعروف فيه، وإضافته إليهم لأنه فعلهم الصادر منهم بقدرهم المؤثرة بإذن الله تعالى فالاختصاص المشعرة به الإضافة إنما هو بهذا الاعتبار لا باعتبار المحلية والاتصاف فإنه معلوم لا حاجة فيه إلى الإضافة ولا باعتبار الإيجاد استقلالا من غير توقف على إذن الفعال لما يريد فإنه اعتبار عليه غبار بل غبار ليس له اعتبار فلا تهولنك جعجعة الزمخشري وقعقعته، ويحتمل أن يكون الاختصاص للإشارة إلى أن طغيان غيرهم في جنبهم كلا شيء لادعاء اختصاصهم به وليس بالمنحرف عن سنن البلاغة «والعمه» التردد والتحير، ويستعمل في الرأي خاصة- والعمى فيه وفيه البصر- فبينهما عموم وخصوص مطلق في الاستعمال وإن تغايرا في أصل الوضع، واختص العمى بالبصر على ما قيل، وأصله الأصيل عدم الإمارات في الطريق التي تنصب- لتدل من حجارة- وتراب ونحوهما وهي المنار ويقال عمه يعمه- كتعب يتعب- عمها وعمهانا فهو عمه وعامه وعمهاء (1) فمعنى يعمهون على هذا يترددون ويتحيرون، وإلى ذلك ذهب جمع من المفسرين، وقيل: العمه العمى عن الرشد، وقال ابن قتيبة: هو أن يكب رأسه فلا يبصر ما يأتي، فالمعنى يعمون عن رشدهم أو يكبون رؤوسهم فلا يبصرون وكأن هذا أقرب إلى الصواب لأن المنافقين لم يكونوا مترددين في الكفر بل كانوا مصرين عليه معتقدين أنه الحق وما سواه باطل إلا أن يقال التردد والتحير في أمر آخر لا في الكفر، وجملة يَعْمَهُونَ في موضع نصب على الحال إما من الضمير في- يمدهم- وإما من الضمير في- طغيانهم- لأنه مصدر مضاف إلى الفاعل، وفي- طغيانهم- يحتمل أن يكون متعلقا- بيمدهم- وأن يكون متعلقا- بيعمهون- وجاز على خلاف (2) كون في طُغْيانِهِمْ ويَعْمَهُونَ   (1) قوله وعمها. كذا بخط المؤلف اهـ. (2) المخالف أبو البقاء قال: العامل لا يعمل في حالين اهـ منه. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 حالين من الضمير في يمدهم أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى إشارة إلى المنافقين الذين تقدم ذكرهم الجامعين للأوصاف الذميمة من دعوى الصلاح وهم المفسدون، ونسبة السفه للمؤمنين- وهم السفهاء- والاستهزاء- وهم المستهزأ بهم- ولبعد منزلتهم في الشر وسوء الحال أشار إليهم بما يدل على البعد، والكلام هنا يمكن أن يكون واقعا موقع أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة: 5] فإن السامع بعد سماع ذكرهم وإجراء تلك الأوصاف عليهم كأنه يسأل من أين دخل على هؤلاء هذه الهيئات؟ فيجاب بأن أولئك المستبعدين إنما جسروا عليها لأنهم اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى حتى خسرت صفقتهم وفقدوا الاهتداء للطريق المستقيم ووقعوا في تيه الحيرة والضلال، وقيل: هو فذلكة وإجمال لجميع ما تقدم من حقيقة حالهم أو تعليل لاستحقاقهم الاستهزاء الأبلغ والمد في الطغيان أو مقرر لقوله تعالى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ وفيه حصر المسند على المسند إليه لكون تعريف الموصول للجنس بمنزلة تعريف اللام الجنسي وهو ادعائي باعتبار كمالهم في ذلك الاشتراء، وإن كان الكفار الآخرون مشاركين لهم في ذلك لجمعهم هاتيك المساوئ الشنيعة والخلال الفظيعة، فبذلك الاعتبار صح تخصيصهم بذلك، والضلالة الجور عن القصد، والهدى التوجه إليه، ويطلقان على العدول عن الصواب في الدين والاستقامة عليه، والاشتراء كالشراء استبدال السلعة بالثمن- أي أخذها به- وبعضهم يجعله من الأضداد لأن المتبايعين تبايعا الثمن والمثمن فكل من العوضين مشترى من جانب مبيع من جانب، ويطلق مجازا على أخذ شيء بإعطاء ما في يده عينا كان كل منهما أو معنى، وهذا يستدعي بظاهره أن يكون ما يجري مجرى الثمن- وهو الهدى- حاصلا لهؤلاء قبل، ولا ريب أنهم بمعزل عنه فإما أن يقال: إن الاشتراء مجاز عن الاختيار لأن المشتري للشيء مختار له فكأنه تعالى قال: اختاروا الضلالة على الهدى ولكون الاستبدال ملحوظا جيء بالباء على أنه قيل: إن التوافق معنى لا يقتضي التوافق متعلقا، ولا يرد على هذا الحمل كونه مخلا بالترشيح الآتي كما زعمه مولانا مفتي الديار الرومية لأن الترشيح المذكور يكفي له وجود لفظ الاشتراء وإن كان المعنى المقصود غير مرشح- كما هو العادة في أمثاله- أو يقال ليس المراد بما في حيز الثمن نفس الهدى بل هو التمكن التام منه بتعاضد الأسباب وبأخذ المقدمات المستتبعة له بطريق الاستعارة كأنه نفس الهدى بجامع المشاركة في استتباع الجدوى، ولا مرية في أن ذلك كان حاصلا لأولئك المنافقين بما شاهدوه من الآيات الباهرة والمعجزات القاهرة والإرشاد العظيم والنصح والتعليم لكنهم نبذوا ذلك فوقعوا في مهاوي المهالك، أو يقال: المراد بالهدى الهدى الجبلي وقد كان حاصلا لهم حقيقة- فإن كل مولود يولد على الفطرة- وقول مولانا مفتي الديار الرومية: إن حمل الهدى على الفطرة الأصلية الحاصلة لكل أحد يأباه أن إضاعتها غير مختصة بهؤلاء، ولئن حملت على الإضاعة التامة الواصلة إلى حد الختم المختصة بهم فليس في إضاعتها فقط من الشناعة ما في إضاعتها مع ما يؤيدها من المؤيدات النقلية والعقلية على أن ذلك يفضي إلى كون- ما فصل من أول السورة إلى هنا ضائعا- كلام ناشىء عن الغفلة عن معنى الإشارة فإنها تقتضي ملاحظتهم بجميع ما مر من الصفات، والمعنى أن الموصوفين بالنفاق المذكور، هم الذين ضيعوا الفطرة أشد تضييع بتهويد الآباء ثم بعد ما ظفروا بها أضاعوها بالنفاق مع تحريضهم على المحافظة والنصح شفاها ونحو ذلك مما لا يوجد في غيرهم كما يشير إليه التعريف، أو يقال: هذه ترجمة عن جناية أخرى من جناياتهم، والمراد بالهدى ما كانوا عليه من التصديق ببعثته صلى الله تعالى عليه وسلم وحقية دينه بما وجدوه عندهم في التوراة ولهذا كانوا يستفتحون به ويدعون بحرمته ويهددون الكفار بخروجه فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ [البقرة: 89] وأما حمل الهدى على ما كان عندهم ظاهرا من التلفظ بالشهادة وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والصوم والغزو فمما لا يرتضيه من هدى إلى سواء السبيل، وما ذكرناه من أن أُولئِكَ إشارة إلى المنافقين- هو الذي ذهب إليه أكثر المفسرين- والمروي عن مجاهد، وهو الذي يقتضيه النظم الكريم- وبه أقول- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 وروي عن قتادة أنهم أهل الكتاب مطلقا، وعن ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم أنهم الكفار مطلقا، والكل عندي بعيد، ولعل مراد من قال ذلك أن الآية بظاهر مفهومها تصدق على من أرادوا لا أن الآية نزلت فيهم، وقرأ يحيى ابن يعمر وابن إسحاق اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بالكسر لأنه الأصل في التقاء الساكنين، وأبو السماك اشْتَرَوُا بالفتح اتباعا لما قبل، وأمال حمزة والكسائي «الهدى» وهي لغة بني تميم وعدم الإمالة لغة قريش. فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ عطف على الصلة، وأتى بالفاء للإشارة إلى تعقب نفي الربح للشراء وأنه بنفس ما وقع الشراء تحقق عدم الربح، وزعم بعضهم أن الفاء دخلت لما في الكلام من معنى الجزاء لمكان الموصول- فهو على حد الذي يدخل الدار فله درهم- وليس بشيء لأن الموصول هنا ليس بمبتدأ كما في المثال بل هو خبر عن أُولئِكَ وما بعد الفاء ليس بخبر بل هو معطوف على الصلة فهو صلة ولا يجوز أن يكون أُولئِكَ مبتدأ والَّذِينَ مبتدأ وفَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ خبر عن الثاني وهو وخبره خبر عن الأول لعدم الرابط في الجملة الثانية ولتحقق معنى الصلة، وإذا كانت الصلة ماضية معنى لم تدخل الفاء في خبر موصولها ولا أن يكون أُولئِكَ مبتدأ والَّذِينَ بدلا منه والجملة خبرا لأن الفاء إنما تدخل الخبر لعموم الموصول والمبدل من المخصوص مخصوص فالحق ما ذكرناه، ومعنى الآية عليه ليس غير كما في البحر. والتِّجارَةِ التصرف في رأس المال طلبا للربح ولا يكاد يوجد- تاء- أصلية بعدها جيم إلا نتج وتجر ورتج وارتج، وأما تجاه ونحوه فأصلها الواو، و «الربح» تحصيل الزيادة على رأس المال، وشاع في الفضل عليه، و «المهتدي» اسم فاعل من اهتدى مطاوع هدى ولا يكون افتعل المطاوع إلا من المتعدي، وأما قوله: حتى إذا اشتال سهيل في السحر ... كشعلة القابس ترمي بالشرر فافتعل فيه بمعنى فعل تقول: شال يشول واشتال يشتال بمعنى، وفي الآية ترشيح لما سمعت من المجاز فيما قبلها، والمقصد الأصلي تصوير خسارهم بفوت الفوائد المترتبة على الهدى التي هي كالربح وإضاعة الهدى الذي هو- كرأس المال- بصورة خسارة التاجر الفائت للربح المضيع لرأس المال حتى كأنه هو على سبيل الاستعارة التمثيلية مبالغة في تخسيرهم ووقوعهم في أشنع الخسار الذي يتحاشى عنه أولو الأبصار، وإسناد الربح إلى التجارة- وهو لأربابها- مجاز للملابسة، وكني في مقام الذمّ بنفي الربح عن الخسران لأن فوت الربح يستلزمه في الجملة ولا أقل من قدر ما يصرف من القوة، وفائدة الكناية التصريح بانتفاء مقصد التجارة مع حصول ضده بخلاف ما لو قيل خسرت تجارتهم فلا يتوهم أن نفي أحد الضدين إنما يوجب إثبات الآخر إذا لم يكن بينهما واسطة وهي موجودة هنا فإن التاجر قد لا يربح ولا يخسر، وقيل: إن ذلك إنما يكون إذا كان المحل قابلا للكل كما في التجارة الحقيقية أما إذا كان لا يقبل إلا اثنين منها فنفي أحدهما يكون إثباتا للآخر، والربح والخسران في الدين لا واسطة بينهما على أنه قد قامت القرينة هنا على الخسران لقوله تعالى: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ وقد جعله غير واحد كناية عن إضاعة رأس المال فإن من لم يهتد بطرق التجارة تكثر الآفات على أمواله، واختير طريق الكناية نكاية لهم بتجهيلهم وتسفيههم، ويحتمل على بعد أن يكون النفي هنا من باب قوله: على لاحب لا يهتدى بمناره، أي لا منار فيهتدى به فكأنه قال لا تجارة ولا ربح. والظاهر أن وَما كانُوا مُهْتَدِينَ عطف على ما ربحت للقرب مع التناسب والتفرع باعتبار المعنى الكنائي، وبتقدير المتعلق لطرق الهداية يندفع توهم أن عدم الاهتداء قد فهم مما قبل فيكون تكرارا لما مضى وهو إما من باب التكميل والاحتراس كقوله: فسقى ديارك غير مفسدها ... صوب الغمام وديمة تهمي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 أو من باب التتميم كقوله: كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب وقال الشريف قدس سره: إن العطف على اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى أولى لأن عطفه على فَما رَبِحَتْ يوجب ترتبه على ما قبله بالفاء فيلزم تأخره عنه، والأمر بالعكس إلا أن يقال ترتيبه باعتبار الحكم والأخبار، وفيه أنه لو كان معطوفا على اشْتَرَوُا كان الظاهر تقديمه لما في التأخير من الإيهام، وحينئذ يكون الأحسن ترك العطف احتياطا كما ذكر في نحو قوله: وتظن سلمى أنني أبغي بها ... بدلا أراها في الضلال تهيم على أن بين معنى اشْتَرَوُا إلخ ومعنى وَما كانُوا إلخ تقاربا يمنع حسن العطف كما لا يخفى على من لم يضع فطرته السليمة، وجوّز أن تكون الجملة حالا، ولا يخفى سوء حاله على من حسن تمييزه. وقرأ ابن أبي عبلة- تجاراتهم- على الجمع ووجهه أن لكل واحد تجارة، ووجه الإفراد في قراءة الجمهور فهم المعنى مع الإشارة أن تجاراتهم وإن تعددت فهي من سوق واحدة وهم شركاء فيها مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً جملة مقررة لجملة قصة المنافقين المسرودة إلى هنا فلذا لم تعطف على ما قبلها، ولما كان ذلك جاريا على ما فيه من استعارات وتجوزات مجرى الصفات الكاشفة عن حقيقة المنافقين وبيان أحوالهم عقبه ببيان تصوير تلك الحقيقة وإبرازها في صورة المشاهد بضرب المثل تتميما للبيان، فلضرب المثل شأن لا يخفى ونور لا يطفى يرفع الأستار عن وجوه الحقائق ويميط اللثام عن محيا الدقائق ويبرز المتخيل في معرض اليقين ويجعل الغائب كأنه شاهد، وربما تكون المعاني التي يراد تفهيمها معقولة صرفة، فالوهم ينازع العقل في إدراكها حتى يحجبها عن اللحوق بما في العقل فبضرب الأمثال تبرز في معرض المحسوس فيساعد الوهم العقل في إدراكها، وهناك تنجلي غياهب الأوهام ويرتفع شغب الخصام وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر: 21] وقيل: الأشبه أن تجعل موضحة لقوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا إلخ ولا بعد فيه، والحمل على الاستئناف بعيد لا سيما والأمثال تضرب للكشف والبيان. والمثل- بفتحتين- كالمثل- بكسر فسكون- والمثيل في الأصل النظير والشبيه، والتفرقة لا أرتضيها، وكأنه مأخوذ من المثول- وهو الانتصاب- ومنه الحديث «من أحب أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده من النار» ثم أطلق على الكلام البليغ الشائع الحسن المشتمل إما على تشبيه بلا شبيه، أو استعارة رائقة تمثيلية وغيرها، أو حكمة وموعظة نافعة، أو كناية بديعة، أو نظم من جوامع الكلم الموجز، ولا يشترط فيه أن يكون استعارة مركبة خلافا لمن وهم، بل لا يشترط أن يكون مجازا، وهذه أمثال العرب أفردت بالتآليف وكثرت فيها التصانيف وفيها الكثير مستعملا في معناه الحقيقي ولكونه فريدا في بابه، وقد قصد حكايته لم يجوزوا تغييره لفوات المقصود وتفسيره بالقول السائر الممثل مضربه بمورده يرد عليه أمثال القرآن لأن الله تعالى ابتدأها وليس لها مورد من قبل، اللهم إلا أن يقال: إن هذا اصطلاح جديد أو أن الأغلب في المثل ذلك، ثم استعير لكل حال أو قصة أو صفة لها شأن وفيها غرابة. ومن ذلك وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى [النحل: 60] ومَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [الرعد: 35] وهو المراد هنا في المثل دون التمثيل المدلول عليه بالكاف. والمعنى حالهم العجيبة الشأن كحال من استوقد نارا إلخ فيما سيكشف عن وجهه إن شاء الله تعالى، فالكاف حرف تشبيه متعلقة بمحذوف خبر عن المبتدأ، وزعم ابن عطية أنها اسم مثلها في قول الأعشى: أينتهون ولن ينهى ذوي شطط ... كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل وهذا مذهب ابن الحسن، وليس بالحسن إلا في الضرورة والقول بالزيادة كما في قوله: فصيروا مثل كَعَصْفٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 مَأْكُولٍ [الفيل: 5] زيادة في الجهل، والذي وضع موضع- الذين- إن كان ضمير بِنُورِهِمْ راجعا إليه وإلا فهو باق على ظاهره إذ لا ضير في تشبيه حال الجماعة بحال الواحد وجاز هنا وضع المفرد موضع الجمع، وقد منعه الجمهور فلم يجوزوا إقامة القائم مقام القائمين لأن هذا مخالف لغيره لخصوصية اقتضته فإنه إنما وضع ليتوصل به إلى وصف المعارف بالجمل فلما لم يقصد لذاته توسعوا فيه، ولأنه مع صلته كشيء واحد، وعلامة الجمع لا تقع حشوا فلذا لم يلحقوها به ووضعوه لما يعم- كمن، وما، والذين- ليس جمعا له بل هو اسم وضع مزيدا فيه لزيادة المعنى، وقصد التصريح بها ولذا لم يعرف بالحروف كغيره على الأفصح، ولأن استطال بالصلة فاستحق التخفيف حتى بولغ فيه إلى أن اقتصر على اللام في نحو اسم الفاعل، قاله القاضي وغيره، ولا يخلو عن كدر لا سيما الوجه الأخير، وما روي عن بعض النحاة من جواز حذف نون- الذين- ليس بالمرضي عند المحققين، ولئن تنزل يلتزم عود ضمير الجمع إليه كما في قوله تعالى: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا [التوبة: 69] على وجه، وقول الشاعر: يا رب عيسى لا تبارك في أحد ... في قائم منهم ولا فيمن قعد إلا الذي قاموا بأطراف المسد وإفراد الضمير لم نسمعه ممن يوثق به ولعله لأن المحذوف كالملفوظ، فالوجه أن يقال إنه نظر إلى ما في- الذي- من معنى الجنسية العامة إذ لا شبهة في أنه لم يرد به- مستوقد- مخصوص ولا جميع أفراد المستوقدين والموصول كالمعرف باللام يجري فيه ما يجري فيه. واسم الجنس وإن كان لفظه مفردا قد يعامل معاملة الجمع ك: عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ [الإنسان: 21] وقولهم: الدينار الصفر، والدرهم البيض، أو يقال: إنه مقدر له موصوف مفرد اللفظ مجموع المعنى كالفوج والفريق فيحسن النظام، ويلاحظ في ضمير- استوقد- لفظ الموصوف، وفي ضمير بِنُورِهِمْ معناه، «واستوقدوا» بمعنى أوقدوا، فقد حكى أبو زيد أوقد واستوقد بمعنى- كأجاب واستجاب- وبه قال الأخفش- جعل الاستيقاد بمعنى طلب الوقود وهو سطوع النار كما فعل البيضاوي- محوج إلى حذف، والمعنى حينئذ طلبوا نارا واستدعوها فأوقدوها فَلَمَّا أَضاءَتْ لأن الإضاءة لا تتسبب عن الطلب وإنما تتسبب عن الإيقاد والنار جوهر لطيف مضيء محرق، واشتقاقها من نار ينور نورا إذا نفر لأن فيها- على ما تشاهد- حركة واضطرابا لطلب المركز، وكونه من غلط الحس كأنه من غلط الحس، نعم أورد على التعريف أن الإضاءة لا تعتبر في حقيقتها وليست شاملة- لما ثبت في الكتب الحكمية- أن النار الأصلية حيث الأثير شفافة لا لون لها وكذا يقال في الإحراق، والجواب أن تخصيص الأسماء لأعيان الأشياء حسبما تدرك أو للمعاني الذهنية المأخوذة منها، وأما اعتبار لوازمها وذاتياتها فوظيفة من أراد الوقوف على حقائقها وذلك خارج عن وسع أكثر الناس، والناس يدركون من النار التي عندهم الإضاءة والإحراق ويجعلونهما أخص أوصافها، والتعريف للمتعارف وعدم الإحراق لمانع لا يضر على أن كون النار التي تحت الفلك هادية غير محرقة وإن زعمه بعض الناس أبطله الشيخ، واحتراق الشهب شهاب على من ينكر الإحراق، وأغرب من هذا نفي النار التي عند الأثير وقريب منه القول بأنها ليست غير الهواء الحار جدا، وقرأ ابن السميقع- كمثل الذين- على الجمع وهي قراءة مشكلة جدا، وقصارى ما رأيناه في توجيهها أن إفراد الضمير على ما عهد في لسان العرب من التوهم كأنه نطق بمن- الذي- لها لفظا ومعنى كما جزم بالذي على توهم من الشرطية في قوله: كذاك الذي يبغي على الناس ظالما ... تصبه على رغم عواقب ما صنع أو أنه اكتفى بالإفراد عن الجمع كما يكتفي بالمفرد الظاهر عنه فهو كقوله: وبالبدو منا أسرة يحفظونها ... سراع إلى الداعي عظام كراكره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 أي كراكرهم، أو أن الفاعل في استوقد عائد على اسم الفاعل المفهوم من الفعل كما في قوله تعالى: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ [يوسف: 35] على وجه، والعائد حينئذ محذوف على خلاف القياس- أي لهم- أولا عائد في الجملة الأولى اكتفاء بالضمير من الثانية المعطوفة بالفاء، وفي القلب من كل شيء فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ «لما» حرف وجود لوجود، أو وجوب لوجوب كما نص عليه سيبويه، أو ظرف بمعنى حين. أو إذ، والإضاءة جعل الشيء مضيئا نيّرا، أو الإشراق وفرط الإنارة. وأضاء يكون متعديا ولازما، فعلى الأول ما موصولة أو موصوفة والظرف صلة أو صفة وهي المفعول والفاعل ضمير النار وعلى الثاني فما كذلك وهي الفاعل وأنث فعله لتأويله بمؤنث كالأمكنة والجهات أو الفاعل ضمير النار وما زائدة أو في محل نصب على الظرفية، ولا يجب التصريح بفي حينئذ كما توهم لأن الحق أن ما الموصولة أو الموصوفة إذا جعلت ظرفا فالمراد بها الأمكنة التي تحيط بالمستوقد- وهي الجهات الست- وهي مما ينصب على الظرفية قياسا مطردا فكذا ما عبر به عنها، وأولى الوجوه أن تكون أَضاءَتْ متعدية وما موصولة إذ لا حاجة حينئذ إلى الحمل على المعنى، ولا ارتكاب ما قل استعماله لا سيما زيادة ما هنا حتى ذكروا أنها لم تسمع هنا، ولم يحفظ من كلام العرب جلست- ما- مجلسا حسنا ولا قمت- ما- يوم الجمعة. ويا ليت شعري من أين أخذ ذلك الزمخشري وكيف تبعه البيضاوي؟! وإذا جعل الفاعل ضمير النار والفعل لازم يكون الإسناد إلى السبب لأن النار لم توجد حول المستوقد ووجد ضوءها فجعل إشراق ضوئها حوله بمنزلة إشراقها نفسها على ما قيل، وهو مبني على أن الظرف إذا تعلق بفعل قاصر له أثر متعد يشترط في تحقق النسبة الظرفية للأثر والمؤثر فلا بد في إشراق كذا في كذا من كون الإشراق والمشرق فيه، وهذا كما إذا تعلق الظرف بفعل قاصر- كقام زيد في الدار- فإن زيدا والقيام فيها ذاتا وتبعا- وإلى ذلك مال الزمخشري- ومن الناس من اكتفى بوجود الأثر فيه وإن لم يوجد المؤثر فيه بذاته كما في الأفعال المتعدية فأضاءت الشمس في الأرض حقيقة على هذا مجاز على الأول، وحول ظرف مكان ملازم للظرفية والإضافة- ويثنى ويجمع- فيقال حوليه وأحواله وحوال مثله فيثنى على حوالي، ولم نظفر بجمعه فيما حولنا من الكتب اللغوية ولا تقل حواليه- بكسر اللام- كما في الصحاح. ولعل التثنية والجمع- مع ما يفهم من بعض الكتب أن حول وكذا حوال بمعنى الجوانب وهي مستغرقة- ليسا حقيقين، وقيل: باعتبار تقسيم الدائرة كما أشار إليه المولى عاصم افندي في ترجمة القاموس بالرومية وفيه تأمل، وأصل هذا التركيب موضوع للطواف والإحاطة كالحول للسنة فإنه يدور من فصل أو يوم إلى مثله، ولما لزمه الانتقال والتغير استعمل فيه باعتباره كالاستحالة والحوالة وإن خفي في نحو- الحول- بمعنى القوة، وقيل: أصله تغير الشيء وانفصاله وذَهَبَ إلخ جواب فَلَمَّا والسببية ادعائية فإنه لما ترتب إذهاب النور على الإضاءة بلا مهلة جعل كأنه سبب له على أن يكفي في الشرط مجرد التوقف نحو- إن كان لي مال حججت- والإذهاب متوقف على الإضاءة، والضمير في بِنُورِهِمْ للذي أو لموصوفه وجمعه لما تقدم. واختار النور على النار لأنه أعظم منافعها والمناسب للمقام سباقا ولحاقا، وقيل الجملة مستأنفة جوابا عما حالهم شبهت حالهم بذلك، أو بدل من جملة التمثيل للبيان والضمير للمنافقين وجواب «لما» محذوف أي خمدت نارهم فبقوا متحيرين، ومثله فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ [يوسف: 15] وحذفه للإيجاز وأمن الإلباس ولا يخفى ما فيه على من له أدنى إنصاف وإن ارتضاه الجم الغفير، ويحل عن مثل هذا الألغاز كلام الله تعالى اللطيف الخبير. وإسناد الفعل إليه تعالى حقيقة فهو سبحانه الفعال المطلق الذي بيده التصرف في الأمور كلها بواسطة وبغير واسطة، ولا يعترض على الحكيم بشيء، وحمل النار على نار لا يرضي الله تعالى إيقادها إما مجازية كنار الفتنة والعداوة للإسلام أو حقيقية أوقدها الغواة للفساد أو الإفساد، فحينئذ يليق بالحكيم إطفاؤها وإلا يرتكب المجاز لم يدع إليه إلا اعتزال وإيقاد نار الغواية والإضلال، وعدي بالباء دون الهمزة لما في المثل السائر أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 ذهب بالشيء يفهم منه أنه استصحبه وأمسكه عن الرجوع إلى الحالة الأولى ولا كذلك أذهبه فالباء والهمزة وإن اشتركا في معنى التعدية فلا يبعد أن ينظر صاحب المعاني إلى معنى الهمزة والباء الأصليين، أعني الإزالة والمصاحبة والإلصاق. ففي الآية لطف لا ينكر كيف والفاعل هو الله تعالى القوي العزيز الذي لا رادّ لما أخذه ولا مرسل لما أمسكه، وذكر أبو العباس أن ذهبت بزيد يقتضي ذهاب المتكلم مع زيد دون أذهبته، ولعله يقول: إن ما في الآية مجاز عن شدة الأخذ بحيث لا يرد أو يجوز أن يكون الله تعالى وصف نفسه بالذهاب على معنى يليق به كما وصف نفسه سبحانه بالمجيء في ظاهر قوله تعالى: وَجاءَ رَبُّكَ [الفجر: 22] والذي ذهب إليه سيبويه إلى أن (1) الباء بمعنى الهمزة فكلاهما لمجرد التعدية عنده بلا فرق فلذا لا يجمع بينهما. والنور منشأ الضياء ومبدؤه كما يشير إليه استعمال العرب حيث أضافوا الضياء إليه كما قال ورقة بن نوفل: ويظهر في البلاد ضياء نور وقال العباس رضي الله تعالى عنه: وأنت لما ظهرت أشرقت الأر ... ض وضاءت بنورك الأفق ولهذا أطلق عليه سبحانه النور دون الضياء، وأشار سبحانه إلى نفي الضياء الذي هو مقتضى الظاهر بنفي النور وإذهابه لأنه أصله وبنفي الأصل ينتفي الفرع، وهذا الذي ذكرنا هو الذي ارتضاه المحققون من أهل اللغة، ومنه يعلم وجه وصف الشريعة المحمدية بالنور في قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ [المائدة: 15] والشريعة الموسوية بالضياء في قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ [الأنبياء: 48] وفي ذلك إشارة إلى مقام نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم الجامع الفارق ومزيته على أخيه موسى عليه السلام الذي لم يأت إلا بالفرق ولفرق ما بين الحبيب والكليم: وكل آي أتى الرسل الكرام بها ... فإنما اتصلت من نوره بهم وكذا وجه وصف الصلاة- الناهية عن الفحشاء والمنكر في حديث مسلم- بالنور والصبر بالضياء، ويعلم من هذا أنه أقوى من الضياء كذا قيل (2) واعترض بأنه قد جاء وصف ما أوتيه نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم بالضياء كما جاء وصف ما أوتيه موسى عليه السلام بالنور وإليه يشير كلام الشيخ الأكبر قدس سره في الفتوحات فتدبر، وذهب بعض الناس إلى أن الضياء أقوى من النور لقوله تعالى: جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً [يونس: 5] وعلى هذا يكون التعبير بيذهب الله بنورهم دون ذهب الله بضوئهم دفعا لاحتمال إذهاب ما في الضوء من الزيادة وبقاء ما يسمى نورا مع أن الغرض إزالة النور رأسا، وذكر بعضهم أن كلا من الضوء والنور يطلق على ما يطلق عليه الآخر فهما كالمترادفين والفرق إنما نشأ من الاستعمال أو الاصطلاح لا من أصل الوضع واللغة، ومن هنا قال الحكماء: إن الضوء ما يكون للشيء من ذاته، والنور ما يكون من غيره، واستعمل الضوء لما فيه حرارة حقيقة كالذي في الشمس، أو مجازا كالذي ذكر فيما أوتيه موسى عليه السلام مما فيه شدة ومزيد كلفة، ومنه «الصبر ضياء» ومعلوم أنه كاسمه: والنور لما ليس كذلك كالذي في القمر وفيما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم من الشريعة السهلة السمحة البيضاء، ومنه «الصلاة نور» ولا شك أنها قرة العين وراحة القلب وإلى ذلك يشير «وجعلت قرة عيني في الصلاة» «وأرحنا يا بلال» واستعمل النور لما يطرأ في الظلم كما ورد «كان الناس في ظلمة فرش الله تعالى عليهم من نوره» وقول الشاعر:   (1) قوله: إلى أن الباء هكذا بخط المؤلف اهـ مصححه. (2) قوله: كذا قيل إلى قوله: فتدبر هذا ليس موجودا في خط المؤلف بل في المبيضة فقط التي ليست بخطه اهـ مصححه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 بتنا وعمر الليل في غلوائه ... وله بنور البدر فرع أشمط والضوء ليس كذلك إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتتبع والذي يميل القلب إليه أن الضياء يطلق على النور القوي وعلى شعاع النور المنبسط فهو بالمعنى الأول أقوى وبالمعنى الثاني أدنى ولكل مقام مقال ولكل مرتبة عبارة ولا حجر على البليغ في اختيار أحد الأمرين في بعض المقامات لنكتة اعتبرها ومناسبة لاحظها، وآية الشمس لا تدل على أن الضياء أقوى من النور أينما وقع- فالله نور السماوات والأرض ولله المثل الأعلى- وشاع إطلاق النور على الذوات المجردة دون الضوء ولعل ذلك لأن انسياق العرضية منه إلى الذهن أسرع من انسياقها من النور إليه فقد انتشر أنه عرض وكيفية مغايرة للون، والقول بأنه عبارة عن ظهور اللون- أو أنه أجسام صغار تنفصل من المضيء فتتصل بالمستضيء- مما بين بطلانه في الكتب الحكمية وإن قال بكل بعض من الحكماء، ثم التعبير بالنور هنا دون الضوء يحتمل أن يكون لسر غير ما انقدح في أذهان الناس وهو كونه أنسب بحال المنافقين الذين حرموا الانتفاع والإضاءة بما جاء من عند الله مما سماه سبحانه نورا في قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ [المائدة: 15] فكأن الله عز شأنه أمسك عنهم النور وحرمهم الانتفاع به، ولم يسمه سبحانه ضوءا لتتأتى هذه الإشارة- لو قال هنا ذهب الله بضوئهم- بل كساه من حلل أسمائه وأفاض عليه من أنوار آلائه فهو المظهر الأتم والرداء المعلم. هذا وإضافة النور إليهم لأدنى ملابسة لأنه للنار في الحقيقة لكن لما كانوا ينتفعون به صح إضافته إليهم. وقرأ ابن السميفع وابن أبي عبلة- فلما ضاءت- ثلاثيا وتخريجها يعلم مما تقدم وقرأ اليماني- أذهب الله نورهم- وفيها تأييد لمذهب سيبويه. وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ عطف على قوله تعالى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وهو أوفى بتأدية المراد فيستفاد منه التقرير لانتفاء النور بالكلية تبعا لما فيه من ذكر الظلمة وجمعها وتنكيرها، وإيراد لا يُبْصِرُونَ وجعل الواو للحال بتقدير قد مع ما فيه يقتضي ثبوت الظلمة قبل ذهاب النور ومعه، وليس المعنى عليه- والترك- في المشهور طرح الشيء كترك العصا من يده أو تخليته محسوسا كان أو غيره وإن لم يكن في يده كترك وطنه ودينه، وقال الراغب: ترك الشيء رفضه قصدا واختيارا أو قهرا واضطرارا. ويفهم من المصباح أنه حقيقة في مفارقة المحسوسات ثم استعير في المعاني، وفي كون الفعل من النواسخ الناصبة للجزأين لتضمينه معنى صير أم لا خلاف- والكل هنا محتمل- فعلى الأولى «هم» مفعوله الأول، وفي ظلمات مفعوله الثاني، ولا يُبْصِرُونَ صفة لظلمات بتقدير فيها أو حال من الضمير المستتر، أو من «هم» ولا يجوز أن يكون في ظلمات حالا، ولا يُبْصِرُونَ مفعولا ثانيا لأن الأصل في الخبر أن لا يكون مؤكدا وإن جوزه بعضهم وعلى الثاني «هم» مفعوله، وفِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ حالان مترادفان من المفعول أو متداخلان، فالأول من المفعول. والثاني من الضمير فيه أو فِي ظُلُماتٍ متعلق ب تَرَكَهُمْ ولا يُبْصِرُونَ حال. والظلمة في المشهور عدم الضوء عما من شأنه أن يكون مستضيئا، فالتقابل بينها وبين الضوء تقابل العدم والملكة، واعترض بأن الظلمة كيفية محسوسة ولا شيء من العدم كذلك وبأنها مجعولة كما يقتضيه قوله تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الإنعام: 1] والمجعول لا يكون إلا موجودا، وأجيب عن الأول بمنع الصغرى فإنا إذا غمضنا العين لا نشاهد شيئا البتة كذلك إذا فتحنا العين في الظلمة، وعن الثاني بالمنع أيضا فإنّ الجاعل كما يجعل الموجود يجعل العدم الخاص كالعمى والمنافي للمجعولية هو العدم الصرف، وقيل: كيفية مانعة من الأبصار فالتقابل تقابل التضاد، واعترض بأنه لو كانت كيفية لما اختلف حال من في الغار المظلم ومن هو في الخارج في الرؤية وعدمها إلا أن يقال المراد أنها كيفية مانعة من إبصار ما فيها فيندفع الاعتراض عنه، وربما يرجح عليه بأنه قد يصدق على الظلمة الأصلية السابقة على وجود العالم دونه كما قيل، وقيل: التقابل بين النور والظلمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 تقابل الإيجاب والسلب وجمع الظلمات إما لتعددها في الواقع سواء رجع ضمير الجمع إلى المستوقدين أو المنافقين أو لأنها في الحقيقة، وإن كانت ظلمة واحدة لكنها لشدتها استعير لها صيغة الجمع مبالغة- كما قيل رب واحد يعدل ألفا- أو لأنه لما كان لكل واحد ظلمة تخصه جمعت بذلك الاعتبار كذا قالوا «ومن اللطائف» أن الظلمة حيثما وقعت في القرآن وقعت مجموعة والنور حيثما وقع وقع مفردا، ولعل السبب هو أن الظلمة وإن قلت تستكثر والنور وإن كثر يستقل ما لم يضر، وأيضا كثيرا ما يشار بهما إلى نحو الكفر والإيمان والقليل من الكفر كثير والكثير من الإيمان قليل فلا ينبغي الركون إلى قليل من ذاك ولا الاكتفاء بكثير من هذا، وأيضا معدن الظلمة بهذا المعنى قلوب الكفار تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر: 14] ومشرق النور بذلك المعنى قلوب المؤمنين. وهي كقلب رجل واحد، وأيضا النور المفاض هو الوجود المضاف وهو واحد لا تعدد فيه كما يرشدك إليه قوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النور: 35] وفي الظلمة لا يرى مثل هذا، وأيضا الظلمة يدور أصل معناها على المنع فلذا أخذت من قولهم- ما ظلمك أن تفعل كذا- أي ما منعك، وفي مثلثات ابن السيد- الظلم بفتح الظاء- شخص كل شيء يسد بصر الناظر يقال لقيته أول ذي ظلم- أي أول شخص يسد بصري- وزرته والليل ظلم- أي مانع من الزيارة- فكأنها سميت ظلمة لأنها تسد في المشهور وتمنع الرؤية، فباعتبار تعدد الموانع جمعت ولم يعتبر مثل هذا في أصل معنى النور فلم يجمع إلى غير ذلك وإنما نكرت ظلمات هنا ولم تضف إلى ضميرهم كما أضيف النور اختصارا للفظ واكتفاء بما دل عليه المعنى، والظرفية مجازية كيفما فسرت الظلمة على بعض الآراء، ولا يُبْصِرُونَ منزل منزلة اللازم- لطرح المفعول- نسيا منسيا، ولعدم القصد إلى مفعول دون مفعول فيفيد العموم، وقرأ الجمهور فِي ظُلُماتٍ بضم اللام، والحسن وأبو السماك بسكونها وقوم بفتحها، والكل جمع ظلمة. وزعم قوم أن ظُلُماتٍ بالفتح جمع ظلم- جمع ظلمة- فهي جمع الجمع، والعدول إلى الفتح تخفيفا مع سماعه في أمثاله أسهل من ادعاء جمع الجمع إذ ليس بقياسي ولا دليل قطعي عليه، وقرأ اليماني في ظلمة، وفي الآية إشارة إلى تشبيه إجراء كلمة الشهادة على ألسنة من ذكر- والتحلي بحلية المؤمنين ونحو ذلك- مما يمنع من قتلهم ويعود عليهم بالنفع الدنيوي من نحو الأمن والمغانم، وعدم إخلاصهم لما أظهروه بالنفاق الضار في الدين بإيقاد نار مضيئة للانتفاع بها أطفأها الله تعالى فهبت عليهم الرياح والأمطار وصيرت موقدها في ظلمة وحسرة، ويحتمل أنهم لما وصفوا بأنهم اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى عقب ذلك بهذا التمثيل لتشبيه هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد، والضلالة التي اشتروها وطبع الله تعالى بها على قلوبهم بذهاب الله تعالى بنورهم وتركه إياهم في الظلمات، والتفسير المأثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- كما أخرجه ابن جرير عنه- أن ذلك مثل للإيمان الذي أظهروه لاجتناء ثمراته بنار ساطعة الأنوار موقدة للانتفاع والاستبصار ولذهاب أثره وانطماس نوره باهلاكهم وإفشاء حالهم بإطفاء الله تعالى إياها وإذهاب نورها، ويشتمل التشبيه وجوها أخر «ومن البطون القرآنية التي ذكرها ساداتنا الصوفية نفعنا الله تعالى بهم» أن الآية مثل من دخل طريقة الأولياء بالتقليد لا بالتحقيق فعمل عمل الظاهر وما وجد حلاوة الباطن فترك الأعمال بعد فقدان الأحوال، أو مثل من استوقد نيران الدعوى وليس عنده حقيقة المعنى فأضاءت ظواهره بالصيت والقبول فأفشى الله تعالى نفاقه بين الخلق حتى نبذوه في الآخر ولا يجد مناصا من الفضيحة يوم تبلى السرائر، وقال أبو الحسن الوراق: هذا مثل ضربه الله تعالى لمن لم يصحح أحوال الإرادة فارتقى من تلك الأحوال بالدعاوى إلى أحوال الأكابر فكان يضيء عليه أحوال إرادته لو صححها بملازمة آدابها فلما مزجها بالدعاوى أذهب الله تعالى عنه تلك الأنوار وبقي في ظلمات دعاويه لا يبصر طريق الخروج منها، نسأل الله تعالى العفو والعافية ونعوذ به من الحور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 بعد الكور صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ الأوصاف جموع كثرة على وزن فعل وهو قياس في جمع فعلاء، وأفعل الوصفين سواء تقابلا- كأحمر وحمراء- أم انفردا لمانع في الخلقة- كغرل ورتق- فإن كان الوصف مشتركا ولكن لم يستعملا على نظام أحمر وحمراء- كرجل أليّ، وامرأة عجزاء- فالوزن فيه سماعي، والصمم داء في الأذن يمنع السمع، وقال الأطباء: هو أن يخلق الصماخ بدون تجويف يشتمل على الهواء الراكد الذي يسمع الصوت بتموجه فيه أو بتجويف لكن العصب لا يؤدي قوة الحس فإن أدى بكلفة سمي عندهم طرشا، وأصله من الصلابة أو السد، ومنه بقولهم قناة صماء وصممت القارورة والبكم الخرس وزنا ومعنى- وهو داء في اللسان يمنع من الكلام- وقيل: الأبكم هو الذي يولد أخرس، وقيل: الذي لا يفهم شيئا ولا يهتدي إلى الصواب فيكون إذ ذاك داء في الفؤاد لا في اللسان، والعمى عدم البصر عما من شأنه أن يكون بصيرا، وقيل: ظلمة في العين تمنع من إدراك المبصرات، ويطلق على عدم البصيرة مجازا عند بعض وحقيقة عند آخرين، وهي أخبار لمبتدأ محذوف هو ضمير المنافقين أو خبر واحد وتؤول إلى عدم قبولهم الحق وهم وإن كانوا سمعاء الآذان فصحاء الألسن بصراء الأعين إلا أنهم لما لم يصيخوا للحق- وأبت أن تنطق بسائره ألسنتهم ولم يتلمحوا أدلة الهدى المنصوبة في الآفاق والأنفس- وصفوا بما وصفوا به من الصمم والبكم والعمى على حد قوله: أعمى إذا ما جارتي برزت ... حتى يواري جارتي الخدر وأصمّ عما كان بينهما ... أذني وما في سمعها وقر وهذا من التشبيه البليغ عند المحققين لذكر الطرفين حكما، وذكرهما قصدا حكما أو حقيقة مانع عن الاستعارة عندهم، وذهب بعضهم إلى أنه استعارة، وآخرون إلى جواز الأمرين، وهذا أمر مفروغ عنه ليس لتقريره هنا كثير جدوى، غير أنهم ذكروا هنا بحثا وهو أنه لا نزاع أن التقدير هم صُمٌّ إلخ لكن ليس المستعار له حينئذ مذكورا لأنه لبيان أحوال مشاعر المنافقين لا ذواتهم، ففي هذه الصفات استعارة تبعية مصرحة إلا أن يقال تشبيه ذوات المنافقين بذوات الأشخاص الصم متفرع على تشبيه حالهم بالصمم، فالقصد إلى إثبات هذا الفرع أقوى وأبلغ، وكأن المشابهة بين الحالين تعدت إلى الذاتين فحملت الآية على هذا التشبيه برعاية المبالغة، أو يقال- ولعله أولى- إن- هم- المقدر راجع للمنافقين السابق حالهم وصفاتهم وتشهيرهم بها حتى صاروا مثلا فكأنه قيل هؤلاء المتصفون بما ترى صُمٌّ على أن المستعار له ما تضمنه الضمير الذي جعل عبارة عن المتصفين بما مر، والمستعار ما تضمن الصم وأخويه من قوله صُمٌّ إلخ فقد انكشف المغطى وليس هذا بالبعيد جدا، والآية فذلكة ما تقدم ونتيجة إذ قد علم من قوله سبحانه لا يَشْعُرُونَ ولا يُبْصِرُونَ أنهم صُمٌّ عُمْيٌ ومن كونهم يكذبون أنهم لا ينطقون بالحق فهم- كالبكم- ومن كونهم غير مهتدين أنهم لا يَرْجِعُونَ وقدم الصمم لأنه إذا كان خلقيا يستلزم البكم وأخر- العمى- لأنه كما قيل: شامل لعمى القلب الحاصل من طرق المبصرات والحواس الظاهرة، وهو بهذا المعنى متأخر لأنه معقول صرف ولو توسط- حل بين العصا ولحائها ولو قدم- ولأهم تعلقه ب لا يُبْصِرُونَ أو الترتيب على وفق حال الممثل له لأنه يسمع أولا دعوة الحق ثم يجيب ويعترف ثم يتأمل ويتبصر. ومثل هذه الجملة وردت تارة بالفاء كما في قوله تعالى: وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الأعراف: 142] وأخرى بدونها كما في قوله تعالى: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ [البقرة: 196] لأن استلزام ما قبلها وتضمنه لها بالقوة منزل منزلة المتحد معه فيترك العطف ومغايرتها له وترتبها عليه ترتب النتاج، والفرع على أصله يقتضي الاقتران بالفاء وهو الشائع المعروف، وبعض الناس يجعل الآية من تتمة التمثيل فلا يحتاج حينئذ إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 التجوز ويكفي فيه الفرض وإن امتنع عادة كما في قوله: أعلام ياقوت نشر ... ن على رماح من زبرجد فيفرض هنا حصول الصمم، والبكم، والعمى لمن وقع في هاتيك الظلمة الشديدة المطبقة، وقيل لا يبعد فقد الحواس ممن وقع في ظلمات مخوفة هائلة إذ ربما يؤدي ذلك إلى الموت فضلا عن ذلك، ويؤيد كونها تتمته قراءة ابن مسعود حفصة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنهم- «صما وبكما وعميا» - بالنصب فإن الأوصاف حينئذ تحتمل أن تكون مفعولا ثانيا لترك وفي ظلمات متعلقا به أو في موضع الحال، ولا يُبْصِرُونَ حالا أو منصوبة على الحال من مفعول تركهم متعديا لاثنين أو لواحد أو منصوبة بفعل محذوف أعني أعني، والقول بأنها منصوبة على الحال من ضمير لا يُبْصِرُونَ جهل بالحال، وقريب منه في الذم من نصب على الذم إذ ذاك إنما يحسن حيث يذكر الاسم السابق، وأما جعل هذه الجملة على القراءة المشهورة دعائية وفيها إشارة إلى ما يقع في الآخرة من قوله تعالى: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا [الإسراء: 97] فنسأل الله تعالى العفو والعافية من ارتكاب مثله ونعوذ به من عمى قائله وجهله، ومثله- بل أدهى وأمر- القول بأن جملة لا يَرْجِعُونَ كذلك ومتعلق- لا يرجعون- محذوف أي لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه أو عن الضلالة بعد أن اشتروها، وقد لا يقدر شيء ويترك على الإطلاق. والوجهان الأولان مبنيان على أن وجه التشبيه في التمثيل مستنبط من أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا إلخ والأخير على تقدير أن يكون من ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ إلخ بأن يراد به أنهم غب الإضاءة خبطوا في ظلمة وتورطوا في حيرة، فالمراد هنا أنهم بمنزلة المتحيرين الذين بقوا جامدين في مكاناتهم لا يبرحون ولا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون، وكيف يرجعون إلى حيث ابتدؤوا منه، والأعمى لا ينظر طريقا وأبكم لا يسأل عنها وأصم لا يسمع صوتا من صوب مرجعه فيهتدي به؟ والفاء للدلالة على أن اتصافهم بما تقدم سبب لتحيرهم واحتباسهم كيف ما كانوا. «ومن البطون» - صم «آذان أسماع أرواحهم عن أصوات الوصلة وحقائق إلهام القربة- بكم- عن تعريف علل بواطنهم عند أطباء القلوب عجبا- عمي- عن رؤية أنوار جمال الحق في سيماء أوليائه: وقال سيدي الجنيد قدس سره: صموا عن فهم ما سمعوا وأبكموا عن عبارة ما عرفوا وعموا عن البصيرة فيما إليه دعوا. أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ شروع في تمثيل لحالهم إثر تمثيل وبيان لكل دقيق منها وجليل فهم أئمة الكفر الذين تفننوا فيه وتفيؤوا ظلال الضلال بعد أن طاروا إليه بقدامى النفاق وخوافيه فحقيق أن تضرب في بيداء بيان أحوالهم الوخيمة خيمة الأمثال وتمد أطناب الاطناب في شرح أفعالهم ليكون أفعى لهم ونكالا بعد نكال وكل كلام له حظ من البلاغة وقسط من الجزالة والبراعة لا بد أن يوفى فيه حق كل من مقال الأطناب والإيجاز فماذا عسى أن يقال فيما بلغ الذروة العليا من البلاغة والبراعة والإعجاز. ولقد نعى سبحانه عليهم في هذا التمثيل تفاصيل جناياتهم العديمة المثيل وهو معطوف على الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً ويكون النظم كمثل ذوي صيب (1) فيظهر مرجع ضمير الجمع فيما بعد وتحصل الملاءمة للمعطوف عليه والمشبه. وأو عند ذوي التحقيق لأحد الأمرين ويتولد منه في الخبر الشك والإبهام   (1) ذكر مولانا الساليكوتي أن ذوي مقدر والكاف من كصيب زائدة لدخول مثل الأول عليها حكما ولا تقدير، ونقل عن الرضى أن من مواقع زيادة الكاف دخول لفظ مثل عليه وزيادة حرف أهون من تقدير اسم لا سيما إذا رجحه قرب المعطوف عليه فتأمل وتدبر اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 والتفصيل على حسب اعتبارات المتكلم، وفي الإنشاء الإباحة والتخيير كذلك، وحينئذ لا يلزم الاشتراك ولا الحقيقة والمجاز. وبعضهم يقول: إنها باعتبار الأصل موضوعة للتساوي في الشك وحمل على أنه فرد من أفراد المعنى الحقيقي ثم اتسع فيها فجاءت للتساوي من غير شك كما- فيما نحن فيه- على رأي إذا المعنى مثل بأي القصتين شئت فهما سواء في التمثيل ولا بأس لو مثلت بهما جميعا وإن كان التشبيه الثاني أبلغ لدلالته على فرط الحيرة وشدة الأمر وفظاعته ولذا أخر ليتدرج من الأهون إلى الأهول، وزعم بعضهم أن «أو» هنا بمعنى الواو وما في الآيتين تمثيل واحد، وقيل: بمعنى بل، وقيل: للإبهام، والكل ليس بشيء، نعم اختار أبو حيان أنها للتفصيل وكأن من نظر إلى حالهم منهم من يشبهه بحال المستوقد، ومنهم من يشبهه بحال ذوي صيب مدعيا أن الإباحة- وكذا التخيير- لا يكونان إلا في الأمر أو ما في معناه انتهى. ولا يخفى على من نظر في معناه وحقق ما معناه أن ما نحن فيه داخل في الشق الثاني على أن دعوى الاختصاص مما لم يجمع عليه الخواص، فقد ذكر ابن مالك أن أكثر ورود أو للإباحة في التشبيه نحو فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة: 74] والتقدير نحو فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى [النجم: 9]- والصيب- في المشهور المطر من صاب يصوب إذا نزل وهو المروي هنا عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وقتادة وعطاء وغيرهم رضي الله تعالى عنهم. ويطلق على السحاب أيضا كما في قوله: حتى عفاها صيب ودقه ... داني النواحي مسبل هاطل ووزنه فيعل- بكسر العين- عند البصريين وهو من الأوزان المختصة بالمعتل العين إلا ما شذ من صيقل- بكسر القاف- علم لامرأة، والبغداديون يفتحون العين، وهو قول تسد الأذن عنه، وقريب منه قول الكوفيين إن أصله فعيل كطويل فقلب، وهل اسم جنس أو صفة، بمعنى نازل أو منزل؟ قولان أشهرهما الأول، وأكثر نظائره في الوزن من الثاني، وقرىء- أو كصائب- وصيب أبلغ منه، والتنكير فيه للتنويع والتعظيم، والسماء كل ما علاك من سقف ونحوه والمعروفة عند خواص أهل الأرض والمرئية عند عوامهم، وأصلها الواو من السمو وهي مؤنثة (1) وقد تذكر كما في قوله: فلو رفع السماء إليه قوما ... لحقنا بالسماء مع السحاب وتلحقها هاء التأنيث فتصح الواو حينئذ كما قاله أبو حيان لأنها بنيت عليها الكلمة فيقال سماوة وتجمع على سماوات وأسمية وسمائي، والكل- كما في البحر- شاذ لأنها اسم جنس وقياسه أن لا يجمع، وجمعه بالألف والتاء خال عن شرط ما يجمع بهما قياسا، وجمعه على أفعلة ليس مما ينقاس في المؤنث، وعلى فعائل لا ينقاس في فعال. والمراد بالسماء هنا الأفق والتعريف للاستغراق لا للعهد الذهني كما ينساق لبعض الأذهان فيفيد أن الغمام آخذ بالآفاق كلها فيشعر بقوة المصيبة مع ما فيه من تمهيد الظلمة ولهذا القصد ذكرها، وعندي أن الذكر يحتمل أن يكون أيضا للتهويل والإشارة إلى أن ما يؤذيهم جاء من فوق رؤوسهم وذلك أبلغ في الإيذاء كما يشير إليه قوله تعالى: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ [الحج: 19] وكثيرا ما نجد أن المرء يعتني بحفظ رأسه أكثر مما يعتني بحفظ سائر أطرافه حتى أن المستطيع من الناس يتخذ طيلسانا لذلك والعيان والوجدان أقوى شاهد على ما قلنا. ومِنَ لابتداء الغاية، وقيل: يحتمل أن تكون للتبعيض على حذف مضاف أي من أمطار السماء وليس بشيء، وزعم بعضهم أن الآية تبطل ما قيل: إن المطر من أبخرة متصاعدة من السفل- وهو من أبخرة الجهل- إذ ليس في الآية سوى أن المطر من هذه   (1) والتأنيث لأهل الحجاز والتذكير للتميميين وأهل نجد، وكذا شأنهم في الجنس الذي ميز واحده بتاء تؤنثه اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 الجهة وهو غير مناف لما ذكر، كيف والمشاهدة تقضي به فقد حدثني من بلغ مبلغ التواتر أنهم شاهدوا- وهم فوق الجبال الشامخة- سحابا يمطر أسفلهم وشاهدوا تارات أبخرة تتصاعد من نحو الجبال فتنعقد سحابا فيمطر، فإياك أن تلتفت لبرق كلام خلب ولا تظن أن ذلك علم فالجهل منه أصوب، ثم حمل- الصيب- هنا على السحاب وإن كان محتملا غير أنه بعيد بعد الغمام وكذا حمل السماء عليه فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ أي معه ذلك كما في قوله تعالى: ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ [الأعراف: 38] وإذا حملت «في» على الظرفية- كما هو الشائع في كلام المفسرين- احتيج إلى حمل الملابسة التي تقتضيها الظرفية على مطلق الملابسة الشاملة للسببية والمجاورة وغيرهما ففيه بذلك المعنى ظلمات ثلاث. ظلمة تكاثفه بتتابعه. وظلمة غمامه مع ظلمة الليل التي يستشعرها الذوق من قوله تعالى: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وكذا فيه رعد وبرق لأنهما في منشئه ومحل ينصب منه، وقيل: فيه- وهو كما قال الشهاب- وهم نشأ من عدم التدبر، وإن كان المراد- بالصيب- السحاب فأمر الظرفية أظهر، والظلمات حينئذ ظلمة السحمة والتطبيق مع ظلمة الليل، وجمع الظلمات على التقديرين مضيء، ولم يجمع الرعد والبرق وإن كانا قد جمعا في لسان العرب، وبه تزداد المبالغة وتحصل المطابقة مع الظلمات والصواعق لأنهما مصدران في الأصل، وإن أريد بهما العينان هنا كما هو الظاهر، والأصل في المصدر أن لا يجمع على أنه لو جمعا لدل ظاهرا على تعدد الأنواع كما في المعطوف عليه، وكل من الرعد والبرق نوع واحد. وذكر الشهاب مدعيا أنه مما لمعت به بوارق الهداية في ظلمات الخواطر نكتة سرية في إفرادهما هنا وهي أن الرعد- كما ورد في الحديث وجرت به العادة- يسوق السحاب من مكان لآخر فلو تعدد لم يكن السحاب مطبقا فتزول شدة ظلمته وكذا البرق لو كثر لمعانه لم تطبق الظلمة كما يشير إليه قوله تعالى: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ فافرادهما متعين هنا. وعندي- وهو من أنوار العناية المشرقة على آفاق الأسرار- أن النور لما لم يجمع في آية من القرآن- لما تقدم- لم يجمع البرق إذ ليس هو بالبعيد عنه كما يرشدك إليه كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ والرعد مصاحب له فانعكست أشعته عليه. أوما ترى الجلد الحقير مقبلا ... بالثغر لما صار جار المصحف وارتفاع ظلمات إما على الفاعلية للظرف المعتمد على الموصوف أو على الابتدائية والظرف خبره- وجعل الظرف حالا من النكرة المخصصة وظلمات فاعله- لا يخلو عن ظلمة البعد كما لا يخفى. وللناس في الرعد والبرق أقوال: والذي عول عليه أن الأول صوت زجر الملك الموكل بالسحاب، والثاني لمعان مخاريقه التي هي من نار، والذي اشتهر عند الحكماء أن الشمس إذا أشرقت على الأرض اليابسة حللت منها أجزاء نارية يخالطها أجزاء أرضية فيركب منهما دخان ويختلط بالبخار وهو الحادث بسبب الحرارة السماوية إذا أثرت في البلة ويتصاعدان معا إلى الطبقة الباردة وينعقد ثمة سحاب ويحتقن الدخان فيه ويطلب الصعود إن بقي على طبعه الحار والنزول إن ثقل وبرد وكيف كان يمزق السحاب بعنفه فيحدث منه الرعد، وقد تشتعل منه- لشدة حركته ومحاكته- نار لامعة وهي البرق إن لطفت والصاعقة إن غلظت، وربما كان البرق سببا للرعد فإن الدخان المشتعل ينطفىء في السحاب فيسمع لانطفائه صوت كما إذا أطفأنا النار بين أيدينا، والرعد والبرق يكونان معا إلا أن البرق يرى في الحال لأن الإبصار لا يحتاج إلا إلى المحاذاة من غير حجاب، والرعد يسمع بعد لأن السماع إنما يحصل بوصول تموج الهواء إلى القوة السامعة وذلك يستدعي زمانا كذا قالوه، وربما يختلج في ذهنك قرب هذا ولا تدري ماذا تصنع بما ورد عن حضرة من أسرى به ليلا- بلا رعد ولا برق- على ظهر البراق وعرج إلى ذي المعارج حيث لا زمان ولا مكان فرجع وهو أعلم خلق الله على الإطلاق صلى الله تعالى عليه وسلم فأنا بحول من عز حوله وتوفيق من غمرني فضله أوفق لك بما يزيل الغين عن العين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 ويظهر سر جوامع الكلم التي أوتيها سيد الكونين صلى الله تعالى عليه وسلم. فأقول: قد صح عند أساطين الحكمة والنبوة- مما شاهدوه في أرصادهم الروحانية في خلواتهم ورياضتهم وكذا عند سائر المتألهين الربانيين من حكماء الإسلام والفرس وغيرهم- أن لكل نوع جسماني من الأفلاك والكواكب والبسائط العنصرية ومركباتها ربا هو نور مجرد عن المادة قائم بنفسه مدبر له حافظ إياه وهو المنمي والغاذي والمولد في النبات والحيوان والإنسان لامتناع صدور هذه الأفعال المختلفة في النبات والحيوان عن قوة بسيطة لا شعور لها وفينا عن أنفسنا وإلا لكان لنا شعور بها، فجميع هذه الأفعال من الأرباب إلى تلك الأرباب أشار صاحب الرسالة العظمى صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله: «وإن لكل شيء ملكا» حتى قال: «إن كل قطرة من القطرات ينزل معها ملك» وقال: «أتاني ملك الجبال وملك البحار» وحكى أفلاطون عن نفسه أنه خلع الظلمات النفسانية والتعلقات البدنية وشاهدها، وذكر مولانا الشيخ صدر الدين القونوي قدس سره في تفسيره الفاتحة أنه ما ثم صورة إلا ولها روح، وأطال أهل الله تعالى الكلام في ذلك، فإذا علمت هذا فلا بعد في أن يقال: أراد صلى الله تعالى عليه وسلم بالملك الموكل بالسحاب- في بيان الرعد- هو هذا الرب المدبر الحافظ وبزجره تدبيره له حسب استعداده وقابليته، وأراد بصوت ذلك الزجر ما يحدث عند الشق بالأبخرة الذي يقتضيه ذلك التدبير، وأراد بالمخاريق- في بيان البرق وهي جمع مخراق وهو في الأصل ثوب يلف وتضرب به الصبيان بعضهم بعضا- الآلة التي يحصل بواسطتها الشق، ولا شك أنها كما قررنا من نار أشعلتها شدة الحركة والمحاكّة فظهرت كما ترى، وحيث فتحنا لك هذا الباب قدرت على تأويل كثير ما ورد من هذا القبيل حتى قولهم: إن الرعد نطق الملك والبرق ضحكه، وإن كان بحسب الظاهر مما يضحك منه، ولم أر أحدا وفق فوفق وتحقق فحقق والله تعالى الموفق وهو حسبي ونعم الوكيل يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ الضمائر عائدة على المحذوف المعلوم فيما قبل وكثيرا ما يلتفت إليه كما في قوله تعالى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ [الأعراف: 4] . والجملة استئناف لا محل لها من الإعراب مبني على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل عند بيان أحوالهم الهائلة فماذا يصنعون في تضاعيف تلك الشدة فقال: يَجْعَلُونَ إلخ، وجوزوا وجوها أخر ككونها في محل جر صفة للمقدر وجوز فيها وفي يكاد كونها صفة صيب بتأويل نحو- لا يطيقونه- أو في محل نصب على الحال من ضمير فيه، والعائد محذوف أو اللام نائبة عنه أي صواعقه، والجعل في الأصل الوضع. والأصابع جمع إصبع وفيه تسع لغات حاصلة من ضرب أحوال الهمزة الثلاث في أحوال الباء كذلك، وحكوا عاشرة وهي أصبوع بضمها مع واو وهي مؤنثة وكذا سائر أسمائها إلا الإبهام فبعض بني أسد يذكّرها والتأنيث أجود، وفي الآية مبالغة في فرط دهشتهم وكمال حيرتهم كما في الفرائد من وجوه «أحدها» نسبة الجعل إلى كل الأصابع وهو منسوب إلى بعضها وهو الأنامل «وثانيها» من حيث الإبهام في الأصابع والمعهود إدخال السبابة فكأنهم من فرط دهشتهم يدخلون أي أصبع كانت ولا يسلكون المسلك المعهود «ثالثها» في ذكر الجعل موضع الإدخال فإن جعل شيء في شيء أدل على إحاطة الثاني بالأول من إدخاله فيه، وهل هذا من المجاز اللغوي لتسمية الكل باسم جزئه أو للتجوز في الجعل؟ أو هو من المجاز العقلي بأن ينسب الجعل للأصابع وهو للأنامل فيه خلاف والمشهور هو الأول وعليه الجمهور. وابن مالك وجماعة على الأخير ظنا منهم أن المبالغة في الاحتراز عن استماع الصاعقة إنما يكون عليه ولم يكتفوا فيها بتبادر الذهن إلى أن الكل أدخل في الأذن قبل النظر للقرينة، وقيل: لا مجاز هنا أصلا لأن نسبة بعض الأفعال إلى ذي أجزاء تنقسم يكفي فيه تلبسه ببعض أجزائه كما يقال: دخلت البلد وجئت ليلة الخميس ومسحت بالمنديل فإن ذلك حقيقة مع أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 الدخول والمجيء والمسح في بعض- البلد والليلة، والمنديل- ولا يخفى أن كون مثل ذلك حقيقة ليس على إطلاقه، والفرق بينه وبين ما نحن فيه ظاهر ومِنَ تعليلية تغني غناء اللام في المفعول له وتدخل على الباعث المتقدم والغرض المتأخر وهي متعلقة ب يَجْعَلُونَ وتعلقها بالموت بعيد- أي يجعلون- من أجل الصواعق وهي جمع صاعقة ولا شذوذ، والظاهر أنها في الأصل صفة من الصعق وهو الصراخ وتاؤها للتأنيث إن قدرت صفة لمؤنث أو للمبالغة إن لم تقدر- كراوية- أو للنقل من الوصفية إلى الاسمية- كحقيقة- وقيل: إنها مصدر كالعافية والعاقبة وهي اسم لكل هائل مسموع أو مشاهد، والمشهور أنها الرعد الشديد معه قطعة من نار لا تمر بشيء إلا أتت عليه، وقد يكون معه جرم حجري أو حديدي، وسد الآذان إنما ينفع على المعنى الأول، وقد يراد المعنى الثاني ويكون في الكلام إشارة إلى مبالغة أخرى في فرط دهشتهم حيث يظنون ما لا ينفع نافعا، وقرأ الحسن من الصواقع وهي لغة بني تميم كما في قوله: ألم تر أن المجرمين أصابهم ... صواقع لا بل هن فوق الصواقع وليس من باب القلب على الأصح إذ علامته كون أحد البناءين فائقا للآخر ببعض وجوه التصريف والبناءان هنا مستويان في التصرف. وحَذَرَ الْمَوْتِ نصب على العلة ل يَجْعَلُونَ وإن كان من الصواعق في المعنى مفعولا له كان هناك نوعان منصوب ومجرور، ولزوم العطف في مثله غير مسلم خلافا لمن زعمه ولا مانع من أن يكون علة له مع علته كما أن من الصواعق علة له نفسه، وورد مجيء المفعول له معرفة وإن كان قليلا كما في قوله: وأغفر عوراء الكريم ادخاره ... وأعرض عن شتم اللئيم تكرما وجعله مفعولا مطلقا لمحذوف أي يحذرون- حذر الموت- بعيد. وقرأ قتادة والضحاك وابن أبي ليلى- حذار- وهو كحذر شدة الخوف. والموت في المشهور زوال الحياة عما يتصف بها بالفعل وإطلاقه على العدم السابق في قوله سبحانه: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [البقرة: 28] مجاز ولا يرد قوله تعالى: خَلَقَ الْمَوْتَ [الملك: 2] إذ الخلق فيه بمعنى التقدير وتعيين المقدار بوجه ما وهو مما يوصف به الموجود والمعدوم لأن العدم كالوجود له مدة ومقدار معين عنده تعالى، وقيل: المراد بخلق الموت إحداث أسبابه، وقيل: إنه العدم مطلقا وإن لم يكن مخلوقا إلا أن إعدام الملكات مخلوقة لما فيها من شائبة التحقق بمعنى أن استعداد الموضوع معتبر في مفهومها وهو أمر وجودي فيجوز أن يعتبر تعلق الخلق والإيجاد باعتبار ذلك، وصحح محققو أهل السنة أن الموت صفة وجودية خلقت ضدا للحياة، ولهذا يظهر كما في الحديث «يوم تتجسد المعاني- كما قال أهل الله تعالى- بصورة كبش أملح» ويصير عدما محضا إذ يذبح بمدية الحياة التي لا ينتهي أمدها وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ أي لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط المحيط فإحاطته تعالى به مجاز تشبيها لحال قدرته الكاملة التي لا يفوتها المقدور أصلا بإحاطة المحيط بالمحاط بحيث لا يفوته فيكون في الإحاطة استعارة تبعية وإن شبه حاله تعالى- وله المثل الأعلى- معهم بحال المحيط مع المحاط بأن تشبه هيئة منتزعة من عدة أمور بمثلها كان هناك استعارة تمثيلية لا تصرف في مفرداتها إلا أنه صرح بالعمدة منها وقدر الباقي فافهم. وجوز أبو علي في مُحِيطٌ أن يكون بمعنى مهلك كما في قوله تعالى: وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ [البقرة: 81] أو عالم علم مجازاة كما في قوله تعالى: وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ [الجن: 28] وكل هذا من الظاهر، ولأهل الشهود كلام- من ورائه محيط- والواو اعتراضية لا عاطفة ولا حالية والجملة معترضة بين جملتين من قصة واحدة وفيها تتميم للمقصود من التمثيل بما تفيده من المبالغة لأن- الكافرين- وضع موضع الضمير وعبر به إشعارا باستحقاق ذوي الصيب ذلك العذاب لكفرهم فيكون الكلام على حد قوله تعالى: ثَلُ ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ [آل عمران: 117] فإن التشبيه بحرث قوم كذلك لا يخفى حسنه لأن الإهلاك عن سخط أشد وأبلغ وفيه تنبيه على أن ما صنعوه من سد الآذان بالأصابع لا يغني عنهم شيئا وقد أحاط بهم الهلاك ولا يدفع الحذر القدر. وماذا يصنع مع القضاء تدبير البشر. وجعل الاعتراض من جملة أحوال المشبه على أن المراد بِالْكافِرِينَ المنافقون ولا محيص لهم عن عذاب الدارين ووسط بين أحوال المشبه به لاظهار كمال العناية بشأن المشبه والتنبيه على شدة الاتصال مما يأباه الذوق السليم يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ استئناف آخر بياني كأنه قيل: فكيف حالهم مع ذلك البرق؟ فقال يَكادُ إلخ، وفي البحر يحتمل أن يكون في موضع جر لذوي المحذوفة فيما تقدم- ويكاد- مضارع كاد من أفعال المقاربة وتدل على قرب وقوع الخبر وأنه لم يقع والأول لوجود أسبابه والثاني لمانع أو فقد شرط على ما تقضي العادة به، والمشهور أنها إن نفيت أثبتت وإن أثبتت نفت وألغزوا بذلك، ولم يرتض هذا أبو حيان وصحح أنها كسائر الأفعال في أن نفيها نفي وإثباتها إثبات، واللام- في البرق للعهد إشارة إلى ما تقدم- نكرة، وقيل: إشارة إلى البرق الذي مع الصواعق أي برقها وهو كما ترى وإسناد الخطف وهو في الأصل الأخذ بسرعة أو الاستلاب إليه من باب إسناد الإحراق إلى النار وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه قريبا. والشائع في خبر- كاد- أن يكون فعلا مضارعا غير مقترن بأن المصدرية الاستقبالية أما المضارع فلدلالته على الحال المناسب للقرب حتى كأنه لشدة قربه وقع وأما أنه غير مقترن- بأن- فلمنا فاتها لما قصدوا ونحو- وأبت إلى فهم وما كدت آئبا. وكاد الفقر أن يكون كفرا، وقد كاد- من طول البلى أن يمحصا- قليل. وقرأ مجاهد وعلي بن الحسين ويحيى بن وثاب «يخطف» بكسر الطاء والفتح أفصح. وعن ابن مسعود «يختطف» - وعن الحسن «يخطف» - بضم الياء وفتح الخاء وأصله يختطف فأدغم التاء في الطاء. وعن عاصم وقتادة والحسن أيضا- «يخطّف» - بفتح الياء وكسر الخاء والطاء المشددة. وعن الحسن أيضا والأعمش- «يخطّف» - بكسر الثلاثة والتشديد وعن زيد- «يخطّف» - بضم الياء وفتح الخاء وكسر الطاء المشددة وهو تكثير مبالغة لا تعدية، وكسر الطاء في الماضي لغة قريش، وهي اللغة الجيدة. كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا استئناف ثالث كأنه لما قيل إنهم مبتلون باستمرار تجدد خطف الأبصار فهم منه أنهم مشغولون بفعل ما يحتاج إلى الأبصار ساعة فساعة وإلا لغطوها كما سدوا الآذان، فسئل وقيل: ما يفعلون في حالتي وميض البرق وعدمه؟ فأجيب بأنهم حراص على المشي- كما أضاء لهم- اغتنموه- ومشوا وإذا أظلم عليهم- توقفوا مترصدين. وكُلَّما في هذه الآية وأمثالها منصوبة على الظرفية وناصبها «ما» هو جواب معنى. و «ما» حرف مصدري أو اسم نكرة بمعنى وقت فالجملة بعدها صلة أو صفة وجعلت شرطا لما فيها من معناه وهي لتقدير ما بعدها بنكرة تفيد عموما بدليا ولهذا أفادت- كما- التكرار كما صرح به الأصوليون وذهب إليه بعض النحاة واللغويين واستفادة التكرار من إِذا وغيرها من أدوات الشرط من القرائن الخارجية على الصحيح، ومن ذلك قوله: إذا وجدت أوار الحب من كبدي ... أقبلت نحو سقاء القوم أبترد وزعم أبو حيان أن التكرار الذي ذكره الأصوليون وغيرهم في كُلَّما إنما جاء من عموم كل لا من وضعها وهو مخالف للمنقول والمعقول، وقد استعملت هنا في لازم معناها كناية أو مجازا وهو الحرص والمحبة لما دخلت عليه ولذا قال مع الإضاءة كُلَّما ومع الاظلام إِذا وقول أبي حيان: إن التكرار متى فهم من كُلَّما هنا لزم منه التكرار في «إذا» إذ الأمر دائر بين إضاءة البرق والإظلام ومتى وجد «ذا» فقد ذا فلزم من تكرار وجود «ذا» تكرار عدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 ذا غفلة عما أرادوه من هذا المعنى الكنائي والمجازي. وأضاء إما متعد كما في قوله: أعد نظرا يا عبد قيس لعلما ... أضاءت لك النار الحمار المقيدا والمفعول محذوف أي كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ ممشي مَشَوْا فِيهِ وسلكوه، وإما لازم ويقدر حينئذ مضافان- أي كلما لمع لهم- مشوا في مطرح ضوئه ولا بد من التقدير إذ ليس المشي في البرق بل في محله وموضع إشراق ضوئه وكون «في» للتعليل والمعنى مشوا الأجل الإضاءة فيه يتوقف فيه من له ذوق في العربية، ويؤيد اللزوم قراءة ابن أبي عبلة ضاء ثلاثيا، وفي مصحف ابن مسعود بدل- مشوا فيه- مضوا فيه، وللإشارة إلى ضعف قواهم لمزيد خوفهم ودهشتهم لم يأت سبحانه بما يدل على السرعة، ولما حذف مفعول أضاء وكانت النكرة أصلا أشار إلى أنهم لفرط الحيرة كانوا يخبطون خبط عشواء ويمشون كل ممشى، ومعنى أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ اختفى عنهم، والمشهور استعمال أظلم لازما، وذكر الأزهري- وناهيك به- في التهذيب أن كل واحد من أوصاف الظلم يكون لازما ومتعديا، وعلى احتمال التعدي هنا ويؤيده قراءة زيد بن قطيب والضحاك أَظْلَمَ بالبناء للمفعول مع اتفاق النحاة على أن المطرد بناء المجهول من المتعدي بنفسه يكون المفعول محذوفا أي- إذا أظلم- البرق بسبب خفائه معاينة الطريق قامُوا أي وقفوا عن المشي ويتجوز به عن الكساد ومنه قامت السوق، وفي ضده يقال: مشت الحال وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ عطف على مجموع الجمل الاستئنافية ولم يجعلوها معطوفة على الأقرب ومن تتمته لخروجها عن التمثيل وعدم صلاحيتها للجواب، وعطف ما ليس بجواب على الجواب ليس بصواب وجوزه بعض المحققين إذ لا بأس بأن يزاد في الجواب ما يناسبه وإن لم يكن له دخل فيه بل قد يستحسن ذلك إذا اقتضاه المقام كما في وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى [طه: 17] الآية وكونها اعتراضية أو حالية من ضمير قامُوا بتقدير المبتدأ أو معطوفة على الجملة الأولى مع تخلل الفواصل اللفظية، والمقدرة فضول عند ذوي الفضل، والقول بأنه أتى بها لتوبيخ المنافقين حيث لم ينتهوا لأن من قدر على إيجاد قصيف الرعد ووميضه وإعدامهما قادر على إذهاب سمعهم وأبصارهم أفلا يرجعون عن ضلالهم محل للتوبيخ إذ لا يصح عطف الممثل له على حال الممثل به، ومفعول شاء هنا محذوف وكثيرا ما يحذف (1) مفعولها إذا وقعت في حيز الشرط ولم يكن مستغربا، والمعنى ولو أراد الله إذهاب سمعهم بقصيف الرعد وأبصارهم بوميض البرق لذهب، ولتقدم ما يدل على التقييد من يَجْعَلُونَ ويَكادُ قوى دلالة السياق عليه وأخرجه من الغرابة، ولك أن لا تقيد ذلك المفعول وتقيد الجواب كما صنعه الزمخشري أو لا تقيد أصلا، ويكون المعنى لو أراد الله إذهاب هاتيك القوى أذهبها من غير سبب فلا يغنيهم ما صنعوه، والمشيئة عند المتكلمين كالإرادة سواء، وقيل: أصل المشيئة إيجاد الشيء وإصابته وإن استعمل عرفا في موضع الإرادة، وقرأ ابن أبي عبلة- لأذهب الله بأسماعهم- وهي محمولة على زيادة الباء لتأكيد التعدية أو على أن- أذهب- لازم بمعنى ذهب كما قيل بنحوه في تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المؤمنون: 20] وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ [البقرة: 195] إذ الجمع بين أداتي تعدية لا يجوز، وبعضهم يقدر له مفعولا- أي لأذهبهم- فيهون الأمر (2) وكلمة لَوْ لتعليق حصول أمر ماض هو الجزاء بحصول أمر مفروض هو الشرط لما بينهما من الدوران حقيقة أو ادعاء ومن قضية مفروضة الشرط دلالتها على انتفائه   (1) ومثل شاء أراد اهـ منه. (2) وقريب من هذا المعنى ما قيل في القراءة المشهور: إن معنى ذهب الله بسمعهم وأبصارهم- أهلكهم- لأن في إهلاكهم ذهاب ذلك وهو معنى قريب بعيد اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 قطعا والمنازع فيه مكابر، وأما دلالتها على انتفاء الجزاء فقد قيل وقيل: والحق أنه إن كان ما بينهما من الدوران قد بنى الحكم على اعتباره فهي دالة عليه بواسطة مدلولها ضرورة استلزام انتفاء العلة لانتفاء المعلول. أما في الدوران الكلي كالذي في قوله تعالى: شأنه وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ [النحل: 9] وقولك لو جئتني لأكرمتك فظاهر، ثم إنه قد يساق الكلام لتعليل انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط كما في المثالين، وهو الاستعمال الشائع في لَوْ ولذا قيل: إنها لامتناع الثاني لامتناع الأول وقد يساق للاستدلال بانتفاء الثاني لكونه ظاهرا أو مسلما على انتفاء الأول لكونه بعكسه كما في قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] ولَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ [الأحقاف: 11] واللزوم في الأول حقيقي وفي الثاني ادعائي، وكذا انتفاء الملزومين وليس هذا بطريق السببية الخارجية بل بطريق الدلالة العقلية الراجعة إلى سببية العلم بانتفاء الثاني للعلم بانتفاء الأول. ومن لم يتنبه زعم أنه لانتفاء الأول لانتفاء الثاني. وأما في مادة الدوران الجزئي كما في قولك: لو طلعت الشمس لوجد الضوء فلأن الجزاء المنوط بالشرط ليس وجود أي ضوء بل وجود الضوء الخاص الناشئ من الطلوع ولا ريب في انتفائه بانتفائه هذا إذا بني الحكم على اعتبار الدوران وإن بني على عدمه فأما أن يعتبر تحقق مدار آخر له أو لا، فإن اعتبر فالدلالة تابعة لحال ذلك المدار فإن كان بينه وبين الانتفاء الأول منافاة تعين الدلالة كما إذا قلت: لو لم تطلع الشمس لوجد الضوء فإن وجود الضوء معلق في الحقيقة بسبب آخر هو المدار ووضع عدم الطلوع موضعه لكونه كاشفا عنه فكأنه قيل: لو لم تطلع الشمس لوجد الضوء بالقمر مثلا. ولا ريب في أن هذا الجزاء منتف عند انتفاء الشرط لاستحالة الضوء القمري عند طلوع الشمس، وإن لم يكن بينهما منافاة تعين عدم الدلالة كحديث «لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها لابنة أخي (1) من الرضاعة» فإن المدار المعتبر في ضمن الشرط- أعني كونها ابنة الأخ- غير مناف لانتفائه الذي هو كونها ربيبته بل مجامع له، ومن ضرورته مجامعة أثريهما أعني الحرمة الناشئة من هذا، وهذا وإن لم يعتبر تحقق مدار آخر بل بني الحكم على اعتبار عدمه فلا دلالة لها على ذلك أصلا، ومساق الكلام حينئذ لبيان ثبوت الجزاء على كل حال بتعليقه بما ينافيه ليعلم ثبوته عند وقوع ما لا ينافيه بالأولى كما في قوله تعالى: (2) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ [الإسراء: 100] فإن الجزاء قد نيط بما ينافيه إيذانا بأنه في نفسه بحيث يجب ثبوته مع فرض انتفاء سببه أو تحقق سبب انتفائه فكيف إذا لم يكن كذلك على طريقة لَوْ الوصلية «ونعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه» إن حمل على تعليق عدم العصيان في ضمن عدم الخوف بمدار آخر كالحياء مما يجامع الخوف كان من قبيل حديث الربيبة، وإن حمل على بيان استحالة عصيانه مبالغة كان من هذا القبيل، والآية الكريمة واردة على الاستعمال الشائع مفيدة لفظاعة حالهم وهول ما دهمهم وأنه قد بلغ الأمر إلى حيث لو تعلقت مشيئة الله تعالى بإزالته قواهم لزالت لتحقق ما يقتضيه اقتضاء تاما. وقيل: كلمة لَوْ فيها- لربط جزائها بشرطها مجردة عن الدلالة على انتفاء أحدهما لانتفاء الآخر- بمنزلة أن، ذكر جميع ذلك مولانا مفتي الديار الرومية وأظنه قد أصاب الغرض إلا أن كلام مولانا الساليكوتي يشعر باختيار أن لَوْ موضوعة لمجرد تعليق حصول أمر في الماضي بحصول أمر آخر فيه من غير دلالة على انتفاء   (1) هي بنت أبي سلمة اهـ. (2) ومثله قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من فارس» ، وقول علي كرم الله تعالى وجهه: لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا أهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 الأول أو الثاني أو على استمرار الجزاء بل جميع هذه الأمور خارجة عن مفهومها مستفادة بمعونة القرائن كيلا يلزم القول بالاشتراك أو الحقيقة والمجاز من غير ضرورة، وبه قال بعضهم، وما ذهب إليه ابن الحاجب من أنها للدلالة على انتفاء الأول لانتفاء الثاني من لوازم هذا المفهوم وكونه لازما لا يستلزم الإرادة في جميع الموارد فإن الدلالة غير الإرادة. وذكر أن ما قالوه من أنها لتعليق حصول أمر في الماضي بحصول أمر آخر فرضا مع القطع بانتفائه فيلزم لأجل انتفائه انتفاء ما علق به فيفيد أن انتفاء الثاني في الخارج إنما هو بسبب انتفاء الأول فيه مع توقفه على كون انتفاء الأول مأخوذا في مدخولها، وقد عرفت أنه يستلزم خلاف الأصل يرد عليه أن المستفاد من التعلق على أمر مفروض الحصول إبداء المانع من حصول المعلق في الماضي وأنه لم يخرج من العدم الأصلي إلى حد الوجود وبقي على حاله لارتباط وجوده بأمر معدوم، وأما إن انتفاءه سبب لانتفائه في الخارج فكلا كيف والشرط النحوي قد يكون مسببا مضافا للجزاء؟ نعم إن هذا مقتضى الشرط الاصطلاحي، وما استدل به العلامة التفتازاني على إفادتها السببية الخارجية من قول الحماسي: ولو طار ذو حافر قبلها ... لطارت ولكنه لم يطر لأن استثناء المقدم لا ينتج، ففيه أن اللازم مما ذكر أن لا تكون مستعملة للاستدلال بانتفاء الأول على انتفاء الثاني ولا يلزم منه أن لا تكون مستعملة لمجرد التعليق لإفادة إبداء المانع مع قيام المقتضى كيف ولو كان معناها إفادة سببية الانتفاء للانتفاء كان الاستثناء تأكيدا وإعادة بخلاف ما إذا كان معناها مجرد التعليق فإنه يكون إفادة وتأسيسا، وهذا محصل ما قالوه ردا وقبولا. وزبدة ما ذكروه إجمالا وتفصيلا. ومعظم مفتي أهل العربية أفتوا بما قاله مفتي الديار الرومية، ولا أوجب عليك التقليد فالأقوال بين يديك فاختر منها ما تريد. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ كالتعليل للشرطية والتقرير لمضمونها الناطق بقدرته تعالى على إذهاب ما ذكر لأن القادر على الكل قادر على البعض. والشيء لغة ما يصح أن يعلم ويخبر عنه كما نص عليه سيبويه، وهو شامل للمعدوم والموجود الواجب والممكن وتختلف إطلاقاته، ويعلم المراد منه بالقرائن فيطلق تارة، ويراد به جميع أفراده كقوله تعالى: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة: 282، النساء: 176، النور: 18، 64، التغابن: 11] بقرينة إحاطة العلم الإلهي بالواجب والممكن المعدوم والموجود والمحال الملحوظ بعنوان ما، ويطلق ويراد به الممكن مطلقا كما في الآية الكريمة بقرينة القدرة التي لا تتعلق إلا بالممكن، وقد يطلق ويراد به الممكن الخارجي الموجود في الذهن كما في قوله تعالى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الكهف: 23، 24] بقرينة كونه متصورا مشيئا فعله غدا، وقد يطلق ويراد به الممكن المعدوم الثابت في نفس الأمر كما في قوله تعالى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: 40] بقرينة إرادة التكوين التي تختص بالمعدوم، وقد يطلق ويراد به الموجود الخارجي كما في قوله تعالى: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً [مريم: 9] أي موجودا خارجيا لامتناع أن يراد نفي كونه شيئا بالمعنى اللغوي الأعم الشامل للمعدوم الثابت في نفس الأمر لأن كل مخلوق فهو في الأزل شيء- أي معدوم- ثابت في نفس الأمر وإطلاق الشيء عليه قد قرر، والأصل في الإطلاق الحقيقة ولا يعدل عنه إلا لصارف ولا صارف. وشيوع استعماله في الموجود لا ينتهض صارفا إذ ذاك إنما هو لكون تعلق الغرض في المحاورات بأحوال الموجودات أكثر لا لاختصاصه به لغة، وما ذكره مولانا البيضاوي من اختصاصه بالموجود- لأنه في الأصل مصدر شاء- أطلق بمعنى شاء تارة وحينئذ يتناول الباري تعالى وبمعنى مشيء أخرى أي مشيء وجوده إلخ ففيه- مع ما فيه- أنه يلزمه في قوله تعالى: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ استعمال المشترك في معنييه لأنه إذا كان بمعنى الشائي لا يشمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 نحو الجمادات عنده، وإذا كان بمعنى المشيء وجوده لا يشمل الواجب تعالى شأنه، وفي استعمال المشترك في معنييه خلاف (1) ولا خلاف في الاستدلال بالآية على إحاطة علمه تعالى. وأما ما ذكر في شرحي المواقف والمقاصد فجعجعة ولا أرى طحنا، وقعقعة ولا أرى سلاحا تقنا. وقد كفانا مؤنة الإطالة في رده مولانا الكوراني قدس سره، والنزاع في هذا وإن كان لفظيا والبحث فيه من وظيفة أصحاب اللغة إلا أنه يبتني على النزاع في أن المعدوم الممكن ثابت أولا، وهذا بحث طالما تحيرت فيه أقوام وزلت فيه أقدام. والحق الذي عليه العارفون الأول لأن المعدوم الممكن- أي ما يصدق عليه هذا المفهوم- يتصور ويراد بعضه دون بعض، وكل ما هو كذلك فهو متميز في نفسه من غير فرض الذهن، وكل ما هو كذلك فهو ثابت ومتقرر في خارج أذهاننا منفكا عن الوجود الخارجي فما هو إلا في نفس الأمر. والمراد به علم الحق تعالى باعتبار عدم مغايرته للذات الأقدس فإن لعلم الحق تعالى اعتبارين «أحدهما» أنه ليس غيرا «والثاني» أنه ليس عينا، ولا يقال بالاعتبار الأول- العلم تابع للمعلوم- لأن التبعية نسبة تقتضي متمايزين ولو اعتبارا، ولا تمايز عند عدم المغايرة، ويقال ذلك بالاعتبار الثاني للتمايز النسبي المصحح للتبعية، والمعلوم الذي يتبعه العلم هو ذات الحق تعالى بجميع شؤونه ونسبه واعتباراته. ومن هنا قالوا: علمه تعالى بالأشياء أزلا عين علمه بنفسه لأن كل شيء من نسب علمه بالاعتبار الأول فإذا علم الذات لجميع نسبها فقد علم كل شيء من عين علمه بنفسه، وحيث لم يكن الشريك من نسب العلم بالاعتبار الأول إذ لا ثبوت له في نفسه من غير فرض إذ الثابت كذلك هو أنه تعالى لا شريك له فلا يتعلق به العلم بالاعتبار الثاني ابتداء، ومتى كان تعلق العلم بالأشياء أزليا لم تكن أعداما صرفة إذ لا يصح حينئذ أن تكون طرفا إذ لا تمايز، فإذا لها تحقق بوجه ما، فهي أزلية بأزلية العلم، فلذا لم تكن الماهيات بذواتها مجعولة لأن الجعل تابع للإرادة التابعة للعلم التابع للمعلوم الثابت، فالثبوت متقدم على الجعل بمراتب فلا تكون من حيث الثبوت أثرا للجعل وإلا لدار، وإنما هي مجعولة في وجودها، لأن العالم حادث وكل حادث مجعول وليس الوجود حالا حتى لا تتعلق به القدرة، ويلزم أن لا يكون الباري تعالى موجدا للممكنات ولا قادرا عليها لأنه قد حقق أن الوجود بمعنى ما- بانضمامه إلى الماهيات الممكنة- يترتب عليها آثارها المختصة بها موجود، أما أولا فلأن كل مفهوم مغاير للوجود فإنه إنما يكون موجودا بأمر ينضم إليه وهو الوجود، فهو موجود بنفسه لا بأمر زائد وإلا لتسلسل، وامتيازه عما عداه بأن وجوده ليس زائدا على ذاته، وأما ثانيا فلأنه لو لم يكن موجودا لم يوجد شيء أصلا لأن الماهية الممكنة قبل انضمام الوجود متصفة بالعدم الخارجي فلو كان الوجود معدوما كان مثلها محتاجا لما تحتاجه فلا يترتب على الماهية بضمه آثارها لأنه على تقدير كونه معدوما ليس فيه بعد العدم إلا افتقاره إلى الوجود وهذا بعينه متحقق في الماهية قبل الضم فلا يحدث لها بالضم وصف لم تكن عليه، فلو كان هذا الوجود المفتقر مفيدا- لترتب الآثار- لكانت الماهية مستغنية عن الوجود حال افتقارها إليه واللازم باطل لاستحالة اجتماع النقيضين فلا بد أن يكون الوجود موجودا بوجود هو نفسه وإلا لتسلسل أو انتهى إلى وجود موجود بنفسه. والأول باطل، والثاني قاض بالمطلوب. نعم الوجود بمعنى الموجودية حال لأنه صفة اعتبارية ليست بعرض ولا سلب، ومع هذا يتعلق به الجعل لكن لا ابتداء بل بضم حصة من الوجود الموجود إلى الماهية فيترتب على ذلك اتصاف الماهية بالموجودية وظاهر أنه لا يلزم من عدم تعلق القدرة بالوجود بمعنى الموجودية ابتداء أن لا تتعلق به بوجه آخر، وإذا تبين أن الماهيات مجعولة في وجودها فلا بد أن يكون وجود كل شيء عين حقيقته، بمعنى أن ما صدق عليه حقيقة الشيء من الأمور الخارجية   (1) والإمام الغزالي لا يقول باستعمال المشترك في معنييه واستدل في قواعد العقائد بالآية على عموم علمه تعالى اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 هو بعينه ما صدق عليه وجوده، وليس لهما هويتان متمايزتان في الخارج كالسواد والجسم إذ الوجود إن قام بالماهية معدومة لزم التناقض، وموجودة لزم وجودان مع الدور أو التسلسل، والقول بأن الوجود ينضم إلى الماهية من حيث هي لا تحقيق فيه، إذ تحقق في محله أن الماهية قبل عروض الوجود متصفة في نفس الأمر بالعدم قطعا لاستحالة خلوها عن النقيضين فيه، غاية الأمر أنا إذا لم نعتبر معها العدم لا يمكن أن نحكم عليها بأنها معدومة، وعدم اعتبارنا العدم معها حين عروض الوجود لا يجعلها منفكة عنه في نفس الأمر وإنما يجعلها منفكة عنه باعتبارنا وضم الوجود أمر يحصل لها باعتبار نفس الأمر لا من حيث اعتبارنا، فخلوها عن العدم باعتبارنا لا يصحح اتصافها بالوجود من حيث هي هي في نفس الأمر سالما عن المحذور فإذا ليس هناك هويتان تقوم إحداهما بالأخرى بل عين الشخص في الخارج عين تعين الماهية فيه وهو عين الماهية فيه أيضا إذ ليس التعين أمرا وجوديا مغايرا بالذات للشخص منضما للماهية في الخارج ممتازا عنهما فيه مركبا منها ومن الفرد بل لا وجود في الخارج إلا للأشخاص، وهي عين تعيينات الماهية وعين الماهية في الخارج لاتحادهما فيه، وعلى هذا فلا شك في مقدورية الممكن إذ جعله بجعل حصته من الوجود المطلق الموجود في الخارج مقترنة بأعراض وهيئات يقتضيها استعداد حصته من الماهية النوعية فيكون شخصا، وإيجاد الشخص من الماهية- على الوجه المذكور- عين إيجاد الماهية لأنهما متحدان في الخارج جعلا ووجودا متمايزان في الذهن فقط، وهذا تحقيق قولهم: المجعول هو الوجود الخاص، ولا يستعد معدوم لعروضه إلا إذا كان له ثبوت في نفس الأمر إذ ما لا ثبوت له- وهو المنفي- لا اقتضاء فيه لعروض الوجود بوجه، وإلا لكان المحال ممكنا واللازم باطل، فالثبوت الأزلي لماهية الممكن هو المصحح لعروض الإمكان المصحح للمقدورية لا أنه المانع كما توهموه، هذا والبحث طويل والمطلب جليل، وقد أشبعنا الكلام عليه- في الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية- على وجه رددنا فيه كلام المعترضين المخالفين لما تبعنا فيه ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم، وهذه نبذة يسيرة تنفعك في تفسير الآية الكريمة فاحفظها فلا أظنك تجدها في تفسير، وحيث كان الشيء عاما لغة واصطلاحا عند أهل الله تعالى، وإن ذهب إليه المعتزلة أيضا فلا بد في مثل ما نحن فيه من تخصيصه بدليل العقل بالممكن. والقدرة عند الأشاعرة صفة ذاتية ذات إضافة تقتضي التمكن من الإيجاد والإعدام والإبقاء لا نفس التمكن لأنه أمر اعتباري ولا نفي العجز عنه تعالى لأنه من الصفات السلبية، ولعل من اختار ذلك اختاره تقليلا للصفات الذاتية، أو نفيا لها «والقادر» هو الذي إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، ولكون المشيئة عندنا صفة مرجحة لأحد طرفي المقدور، وعند الحكماء- العناية الأزلية- ساغ لنا أن نعرفه بما ذكر دونهم خلافا لمن وهم فيه- والقدير- هو الفعال لما يشاء على قدر ما تقتضيه الحكمة، وقلما يوصف به غيره تعالى، والمقتدر إن استعمل فيه- تعالى- فمعناه «القدير» أو في البشر فمعناه المتكلف والمكتسب للقدرة، واشتقاق القدرة من القدر بمعنى التحديد والتعيين، وفي الآية دليل على أن الممكن الحادث حال بقائه مقدور لأنه شيء وكل شيء مقدور له تعالى، ومعنى كونه مقدورا أن الفاعل إن شاء أعدمه وإن شاء لم يعدمه واحتياج الممكن حال بقائه إلى المؤثر مما أجمع عليه من قال: إن علة الحاجة هي الإمكان ضرورة أن الإمكان لازم له حال البقاء وأما من قال: إن علة الحاجة الحدوث وحده أو مع الإمكان قال باستغنائه إذ لا حدوث حينئذ وتمسك في ذلك ببقاء البناء بعد فناء البناء، ولما رأى بعضهم شناعة ذلك قالوا: إن الجواهر لا تخلو عن الأعراض وهي لا تبقى زمانين فلا يتصور الاستغناء عن القادر سبحانه بحال، وهذا مما ذهب إليه الأشعري- ولما فيه من مكابرة الحس ظاهرا- أنكره أهل الظاهر، نعم يسلمه العارفون من أهل الشهود- وناهيك بهم- حتى إنهم زادوا على ذلك فقالوا: إن الجواهر لا تبقى زمانين أيضا والناس في لبس من خلق جديد، وأنا أسلم ما قالوا وأفوض أمري إلى الله الذي لا يتقيد بشأن وقد كان ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان، ثم المراد من هذا التمثيل تشبيه حال المنافقين في الشدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 ولباس إيمانهم المبطن بالكفر المطرز بالخداع حذر القتل بحال ذوي مطر شديد فيه ما فيه يرقعون خروق آذانهم بأصابعهم حذر الهلاك إلى آخر ما علم من أوصافهم، ووجه الشبه وجدان ما ينفع ظاهره وفي باطنه بلاء عظيم، وقيل: شبه سبحانه المنافقين بأصحاب الصيب، وإيمانهم المشوب بصيب فيه ما تلى من حيث إنه وإن كان نافعا في نفسه لكنه لما وجد كذا عاد نفعه ضرا، ونفاقهم حذرا عن النكاية يجعل الأصابع في الآذان مما دها حذر الموت من حيث إنه لا يرد من القدر شيئا وتحيرهم لشدة ما عني وجهلهم بما يأتون ويذرون بأنهم كلما صادفوا من البرق خفقة انتهزوها فرصة مع خوف أن يخطف أبصارهم فحطوا يسيرا ثم إذا خفي بقوا متقيدين لا حراك لهم، وقيل: جعل الإسلام- الذي هو سبب المنافع في الدارين- كالصيب الذي هو سبب المنفعة وما في الإسلام من الشدائد والحدود بمنزلة الظلمات والرعد وما فيه من الغنيمة والمنافع بمنزلة البرق فهم قد جعلوا أصابعهم في آذانهم من سماع شدائده وإذا لمع لهم برق غنيمة مشوا فيه وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ بالشدائد قامُوا متحيرين، وقيل: غير ذلك، وما تقتضيه جزالة التنزيل وتستدعيه فخامة شأنه الجليل غير خفي عليك إذا لمعت بوارق العناية لديك «ومن البطون» تشبيه من ذكر في التشبيه الأول بذوي صيب فيكون قوله تعالى: كُلَّما أَضاءَ إلخ إشارة إلى أنهم كلما وجدوا من طاعتهم حلاوة وعرضا عاجلا مَشَوْا فِيهِ وإذا حبس عليهم طريق الكرامات تركوا الطاعات، وقال الحسين: إذا أضاء له مرادهم من الدنيا في الدين أكثروا من تحصيله وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا متحيرين. يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ لما بين سبحانه فرق المكلفين وقسمهم إلى مؤمنين وكفار ومذبذبين، وقال في الطائفة الأولى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ وفي الثانية سَواءٌ عَلَيْهِمْ وفي الثالثة يُخادِعُونَ اللَّهَ وشرح ما ترجع إليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 أحوالهم دنيا وأخرى فقال سبحانه في الأولى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة: 7] وفي الثانية خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [البقرة: 10] وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [البقرة: 7] وفي الثالثة فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة: 10] وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة: 10] أقبل عز شأنه عليهم بالخطاب على نهج الالتفات هزا لهم إلى الإصغاء وتوجيها لقلوبهم نحو التلقي وجبرا لما في العبادة من الكلفة بلذيذ المخاطبة ويكفي للنكتة الوجود في البعض، و «يا» حرف لا اسم فعل على الصحيح وضع لنداء البعيد، وقيل: لمطلق النداء أو مشتركة بين أقسامه، وعلى الأول ينادي بها القريب لتنزيله منزلة غيره إما لعلو مرتبة المنادي أو المنادى، وقد ينزل غفلة السامع وسوء فهمه منزلة بعده، وقد يكون ذلك للاعتناء بأمر المدعو له والحث عليه لأن نداء البعيد وتكليفه الحضور لأمر يقتضي الاعتناء والحث، فاستعمل في لازم معناه على أنه مجاز مرسل أو استعارة تبعية في الحرف أو مكنية وتخييلية- وهو مع المنادى المنصوب لفظا أو تقديرا به لنيابته عن نحو ناديت الإنشائي أو بناديت اللازم الإضمار لظهور معناه مع قصد الإنشاء- كلام يحسن السكوت عليه كما يحسن في نحو «لا، ونعم» وأي- لها معان- شهيرة والواقعة في النداء نكرة موضوعة لبعض من كل، ثم تعرفت بالنداء وتوصل بها لنداء ما فيه- أل- لأن «يا» لا يدخل عليها في غير الله إلا شذوذا لتعذر الجمع بين حرفي التعريف فإنهما كمثلين وهما لا يجتمعان إلا فيما شذّ من نحو: فلا والله لا يلفى لما بي ... ولا للما بهم أبدا دواء وأعطيت حكم المنادى وجعل المقصود بالنداء وصفا لها والتزم فيه هذه الحركة الخاصة المسماة بالضمة خلافا للمازني فإنه أجاز نصبه وليس له في ذلك سلف ولا خلف لمخالفته للمسموع وإنما التزم ذلك إشعارا بأنه المقصود بالنداء ولا ينافي هذا كون الوصف تابعا غير مقصود بالنسبة لمتبوعه لأن ذلك بحسب الوضع الأصلي حيث لم يطرأ عليه ما يجعله مقصودا في حد ذاته ككونه مفسرا لمبهم ومن هنا لم يشترطوا في هذا الوصف الاشتقاق مع أن النحويين- إلا النذر- كابن الحاجب اشترطوا ذلك في النعوت على ما بين في محله، و «ها» التنبيهية زائدة لازمة للتأكيد والتعويض عما تستحق من المضاف إليه أو ما في حكمه من التنوين كما في أَيًّا ما تَدْعُوا [الإسراء: 110] وإن لم يستعمل هنا مضافا أصلا وكثر النداء في الكتاب المجيد على هذه الطريقة لما فيها من التأكيد الذي كثيرا ما يقتضيه المقام بتكرر الذكر والإيضاح بعد الإبهام والتأكيد بحرف التنبيه واجتماع التعريفين. هذا ما ذهب إليه الجمهور، وقطع الأخفش- لضعف نظره- بأن «أيا» الواقعة في النداء موصولة حذف صدر صلتها وجوبا لمناسبة التخفيف للمنادى- وأيد بكثرة وقوعها في كلامهم- موصولة، وندرة وقوعها موصوفة، واعتذر عن عدم نصبها حينئذ مع أنها مضارعة للمضاف بأنه إذا حذف صدر صلتها كان الأغلب فيها البناء على الضم، فحرف النداء على هذا يكون داخلا على مبني على الضم ولم يغيره، وإن كان مضارعا للمضاف، ويؤيد الأول عدم الاحتياج إلى الحذف وصدق تعريف النعت والموافقة مع هذا وأنها لو كانت موصولة لجاز أن توصل بجملة فعلية أو ظرفية إلى غير ذلك مما يقطع المنصف معه بأرجحية مذهب الجمهور، نعم أورد عليه إشكال استصعبه بعض من سلف من علماء العربية وقال: إنه لا جواب له- وهو أن ما ادعوا كونه تابعا- معرب بالرفع وكل حركة إعرابية إنما تحدث بعامل ولا عامل يقتضي الرفع هناك لأن متبوعه مبني لفظا ومنصوب محلا فلا وجه لرفعه، وأقول: إن هذا من الأبحاث الواقعة بين أبي نزار وابن الشجري، وذلك أنه وقع سؤال عن ضمة هذا التابع فكتب أبو نزار أنها ضمة بناء وليست ضمة إعراب لأن ضمة الإعراب لا بد لها من عامل يوجبها ولا عامل هنا يوجب هذه الضمة، وكتب الشيخ منصور موهوب بن أحمد أنها ضمة إعراب ولا يجوز أن تكون ضمة بناء، ومن قال ذلك فقد غفل عن الصواب، وذلك لأن الواقع عليه النداء أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 المبني على الضم لوقوعه موقع الحرف والاسم الواقع بعد وإن كان مقصودا بالنداء إلا أنه صفة أي فمحال أن يبنى أيضا لأنه مرفوع رفعا صحيحا، ولهذا أجاز فيه المازني النصب على الموضع كما يجوز في «يا» زيد الظريف. وعلة الرفع أنه لما استمر الضم في كل منادى معرفة أشبه ما أسند إليه الفعل فأجريت صفته على اللفظ فرفعت، وأجاب ابن الشجري بما أجاب به الشيخ وكتب أنها ضمة إعراب لأن ضمة المنادى المفرد لها- باطرادها- منزلة بين منزلتين فليست كضمة حيث لأنها غير مطردة لعدم اطراد العلة التي أوجبتها ولا كضمة زيد في نحو- خرج زيد- لأنها حدثت بعامل لفظي ولما اطردت الضمة في نحو- يا زيد يا عمرو- وكذلك اطردت في نحو- يا رجل يا غلام- إلى ما لا يحصى نزل الاطراد فيها منزلة العامل المعنوي الواقع للمبتدأ من حيث اطردت الرفعة في كل اسم ابتدئ به مجردا عن عامل لفظي وجيء له بخبر- كعمرو منطلق، وزيد ذاهب- إلى غير ذلك فلما استمرت ضمة المنادى في معظم الأسماء كما استمرت في الأسماء المعربة الضمة- الحادثة عن الابتداء- شبهتها العرب بضمة المبتدأ فأتبعها ضمة الإعراب في صفة المنادى في نحو «يا زيد الطويل» وجمع بينهما أيضا أن الاطراد معنى كما في الابتداء كذلك، ومن شأن العرب أن تحمل الشيء على الشيء مع حصول أدنى مناسبة بينهما حتى أنهم قد حملوا أشياء على نقائضها، ألا ترى أنهم أتبعوا حركة الإعراب حركة البناء في قراءة من قرأ الحمد لله- بضم اللام وكذلك أتبعوا حركة البناء حركة الإعراب في نحو- يا زيد بن عمرو- في قول من فتح الدال من زيد؟! انتهى ملخصا، وقد ذكر ذلك ابن الشجري في أماليه وأكثر في الحط على ابن نزار وبين ما وقع بينه وبينه مشافهة، ولو لا مزيد الإطالة لذكرته بعجره وبجره، وأنت تعلم ما في ذلك كله من الوهن، ولهذا قال بعض المحققين: إن الحق أنها حركة اتباع ومناسبة لضمة المنادى- ككسر الميم من غلامي- وحينئذ يندفع الإشكال كما لا يخفى على ذوي الكمال. بقي الكلام في اللام الداخلة على هذا النعت هل هي للتعريف أم لا؟ والذي عليه الجمهور- وهو المشهور- أنها للتعريف كما تقدمت الإشارة إليه، ولما سئل عن ذلك أبو نزار قال: إنها هناك ليست للتعريف لأن التعريف لا يكون إلا بين اثنين في ثالث واللام فيما نحن فيه داخلة في اسم المخاطب، ثم قال: والصحيح أنها دخلت بدلا من- يا، وأي- وإن كان منادي إلا أن نداءه لفظي، والمنادى على الحقيقة هو المقرون- بأل- ولما قصدوا تأكيد التنبيه- وقدروا تكرير حرف النداء- كرهوا التكرير فعوضوا عن حرف النداء ثانيا- ها- وثالثا- أل- وتعقبه ابن الشجري قائلا: إن هذا قول فاسد بل اللام هناك لتعريف الحضور كالتعريف في قولك جاء هذا الرجل مثلا ولكنها لما دخلت على اسم المخاطب صار الحكم للخطاب من حيث كان قولنا يا أيها الرجل معناه يا رجل، ولما كان الرجل هو المخاطب في المعنى غلب حكم الخطاب فاكتفى باثنين لأن أسماء الخطاب لا تفتقر في تعريفها إلى حضور ثالث، ألا ترى أن قولك خرجت يا هذا وانطلقت وأكرمتك لا حاجة به إلى ثالث؟ وليس كل وجوه التعريف يقتضي أن يكون بين إثنين في ثالث فإن ضمير المتكلم في- أنا خرجت- معرفة إجماعا ولا يتوقف تعريفه على حضور ثالث، وأيضا ما قص من حديث التعويض يستدعي بظاهره أن يكون أصل يا أيها الرجل مثلا «يا أي يا يا رجل» وأنهم عوضوا من- يا- الثانية- ها- ومن الثالثة الألف واللام، وأنت تعلم أن هذا مع مخالفته لقول الجماعة خلف من القول يمجه السمع وينكره الطبع فليفهم. والنَّاسُ اسم جمع على ما حققه جمع، والجموع وأسماؤها المحلاة- بال- للعموم حيث لا عهد خارجي كما يدل عليه وقوع الاستثناء والأصل فيه الاتصال وهو يقتضي الدخول يقينا ولا يتصور إلا بالعموم، ونحو- ضربت زيدا إلا رأسه وصمت رمضان إلا عشره الأخير- عام تأويلا، وكذا التأكيد بما يفيد العموم إذ لو لم يكن هناك عموم كان التأكيد تأسيسا والاتفاق على خلافه، وشيوع استدلال الصحابة رضي الله تعالى عنهم بالعموم كما في حديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 السقيفة وهم أئمة الهدى. ثم هذا الخطاب في نحو يا أَيُّهَا النَّاسُ يسمى بالخطاب الشفاهي عند الأصوليين قالوا: وليس عاما لمن بعد الموجودين في زمن الوحي أو لمن بعد الحاضرين مهابط الوحي، والأول هو الوجه وإنما يثبت حكمه لهم بدليل آخر من نص أو قياس أو إجماع، وأما بمجرد الصيغة فلا، وقالت الحنابلة: بل هو عام لمن بعدهم إلى يوم القيامة، واستدل الأولون بأنا نعلم أنه لا يقال للمعدومين نحو يا أَيُّهَا النَّاسُ قال العضد: وإنكاره مكابرة وبأنه امتنع خطاب الصبي والمجنون بنحوه وإذا لم نوجهه نحوهم مع وجودهم لقصورهم عن الخطاب فالمعدوم أجدر أن يمنع لأن تناوله أبعد، واستدل الآخرون بأنه لو لم يكن الرسول صلّى الله عليه وسلّم مخاطبا به لمن بعدهم لم يكن مرسلا إليهم واللازم منتف وبأنه لم يزل العلماء يحتجون على أهل الأعصار ممن بعد الصحابة بمثل ذلك، وهو إجماع على العموم لهم. وأجيب: أما عن الأول فبأن الرسالة إنما تستدعي التبليغ في الجملة وهو لا يتوقف على المشافهة بل يكفي فيه حصوله للبعض شفاها وللبعض بنصب الدلائل والأمارات على أن حكمهم حكم الذين شافههم، وأما عن الثاني فبأنه لا يتعين أن يكون ذلك لتناوله لهم بل قد يكون لأنهم علموا أن حكمه ثابت عليهم بدليل آخر قاله غير واحد. وفي شرح العلامة الثاني للشرح العضدي أن القول بعموم الشفاهي وإن نسب إلى الحنابلة ليس ببعيد. وقال بعض أجلّة المحققين: إنه المشهور حتى قالوا إن الحق أن العموم معلوم بالضرورة من الدين المحمدي وهو الأقرب، وقول العضد: إن إنكاره مكابرة حق لو كان الخطاب للمعدومين خاصة، أما إذا كان للموجودين والمعدومين على طريق التغليب فلا، ومثله فصيح شائع وكل ما استدل به على خلافه ضعيف انتهى. وإلى العموم ذهب كثير من الشافعية على أنه عندهم عام بحاق لفظه ومنطوقه من غير احتياج إلى دليل آخر، وقد قيل: إنه من قبيل الخطاب العام الذي أجري على غير ظاهره كما في قوله: إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا هذا وعلى كل حال ما روي عن ابن مسعود وعلقمة من أن كل شيء- نزل فيه «يا أيها الناس» مكي و «يا أيها الذين آمنوا» مدني إن صح ولم يؤول- لا يوجب تخصيص هذا العام بوجه بالكفار بل هم أيضا داخلون فيه ومأمورون بأداء العبادة كالاعتقاد، والأمر بالشيء أمر بما لا يتم إلا به وكون الإيمان أصل العبادات، ولو وجب بوجوبها انقلب الأصل تبعا مردود بأن الأصالة بحسب الصحة لا تنافي التبعية في الوجوب على أنه واجب استقلالا أيضا، والعجب كيف خفي على مشايخ سمرقند؟! وهذا ما ذهب إليه العراقيون والشافعية، ويؤيده ظواهر الآيات كقوله تعالى: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ [فصلت: 6] وقوله سبحانه: ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ [المدثر: 42، 44] وذهب البخاريون إلى أنهم مكلفون في حق الاعتقاد فقط، وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنه لم ينص ظاهرا على شيء في المسألة لكن في كلام صاحبه الثاني ما يدل عليها، ولعل ذلك من الإمام لأنه لا ثمرة للخلاف في الدنيا للاتفاق على أنهم ما داموا كفارا يمتنع منهم الإقدام عليها ولا يؤمرون بها وإذا أسلموا لم يجب قضاؤها عليهم، وإنما ثمرته في الآخرة وهو أنهم يعذبون على تركها كما يعذبون على ترك الإيمان عند من قال بوجوبها عليهم، وعلى ترك الإيمان فقط عند من لم يقل، وهذا في غير العقوبات والمعاملات، أما هي فمتفق على خطابهم بها، والأمر بالعبادة هنا للطوائف الثلاث باعتبار أن المراد بها الشامل لإيجاد أصلها والزيادة والثبات- فاعبدوا- يدل على طلب في الحال لعبادة مستقلة وهي من الكفار ابتداء عبادة ومن بعض المؤمنين زيادة ومن آخرين مواظبة، وليس الابتداء والزيادة والمواظبة داخلا في المفهوم وضعا فلا محذور في شيء أصلا خلافا لمن توهمه فتكلف في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 دفعه وذكر- سبحانه- الرب ليشير إلى أن الموجب القريب للعبادة هي نعمة التربية، وإن كانت عبادة الكاملين لذاته تعالى من غير واسطة أصلا سوى أنه هو هو فسبحانه من إله ما أعظمه ومن رب ما أكرمه الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ الموصول صفة مادحة للرب، وفيها أيضا تعليل العبادة أو الربوبية على ما قيل، فإن كان الخطاب في ربكم شاملا للفرق الثلاث فذاك وإن خص بالمشركين وأريد بالرب ما تعورف بينهم من إطلاقه على غيره تعالى احتمل أن تكون مقيدة إن حملت الإضافة على الجنس وموضحة إن حملت على العهد، ولا يبعد على هذا أن تكون مادحة لأن المطلق يتبادر منه رب الأرباب إلا أن جعلها للتقييد والتوضيح أظهر بناء على ما كانوا فيه وتعريضا بما كانوا عليه ولأنه الأصل فلا يترك إلا بدليل، والخلق الاختراع بلا مثال ويكون بمعنى التقدير وعلى الأول لا يتصف به سواه سبحانه، وعلى الثاني قد يتصف به غيره ومنه فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون: 14] وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ [المائدة: 110] وقول زهير: ولأنت تفري ما خلقت وبع ... ض القوم يخلق ثم لا يفري ومن العجب أن أبا عبد الله البصري- أستاذ القاضي عبد الجبار- قال: إطلاق الخالق عليه تعالى محال لأن التقدير يستدعي الفكر والحسبان وهي مسألة خلافية بينه وبين الله تعالى القائل: هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ [الحشر: 24] وبقول الله تعالى أقول، والموصول الثاني عطف على المنصوب في خَلَقَكُمْ وقبل- ظرف زمان بكثرة ومكان بقلة ويتجوز بها عن التقدم بالشرف والرتبة، والخطاب إن شمل المؤمنين وغيرهم فالمراد- بالذين قبلهم- من تقدمهم في الوجود ومن هو موجود وهو أعلى منزلة منهم وفي هذا تذكير لكمال جلال الله تعالى وربوبيته وفيه من تأكيد أمر العبادة ما لا يخفى، وقدم سبحانه التنبيه على- خلقهم- وإن كان متأخرا بالزمان لأن علم الإنسان بأحوال نفسه أظهر ولأنهم المواجهون بالأمر بالعبادة فتنبيههم أولا على أنفسهم آكد وأهم، وأتى- بالخلق- صلة والصلات لا بد من كونها معلومة الانتساب عند المخاطب، ولذا يعرف الموصول عنده بما فيها من العهد، واشترطت خبريتها إشارة إلى أنه ليس في المخاطبين من ينكر كون الخالق هو الله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ [الزخرف: 87] أو مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25، الزمر: 38] وانفهام ذلك من الوصف- بناء على ما قالوا- الأخبار بعد العلم بها أوصاف الأوصاف قبل العلم بها أخبار مما قاله بعض المحققين وإن كان هناك من لا يعلم أن الله تعالى خالقه وخالق من قبله احتيج إلى ادعاء التغليب أو تنزيل غير العالم منزلة العالم لوضوح البراهين فتخرج الجملة مخرج المعلوم على خلاف مقتضى الظاهر، وقرأ ابن السميقع- وخلق من قبلكم- وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما- والذين من قبلكم- بفتح الميم، واستشكل لتوالي موصولين والصلة واحدة وخرجت على جعل- من- تأكيدا للذين فلا يحتاج إلى صلة نحو قوله: من النفر اللائي الذين إذا هم ... تهاب اللئام حلقة الباب قعقعوا واعترض بأن الحرف لا يؤكد بدون إعادة ما اتصل به فالموصول أولى بذلك إذ يكاد أن يكون تأكيده كتأكيد بعض الاسم- فمن- حينئذ موصولة أو موصوفة وهي خبر مبتدأ مقدر وما بعدها صلة أو صفة وهي مع المقدر صلة الموصول الأول ويكون على أحد الاحتمالين نظير. فقلت وأنكرت الوجوه هم هم. وتخريج البيت على نحو هذا، وقيل: مِنْ زائدة، وقد أجاز بعض النحاة زيادة الأسماء، والكسائي زيادة مِنْ الموصولة، وجعل- من ذلك. وكفى بنا فضلا على من غيرنا ... حب النبي محمد إيانا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وبعضهم استشكل القراءة المشهورة أيضا بأن- الذين- أعيان ومِنْ قَبْلِكُمْ ناقص ليس في الأخبار به عنها فائدة، فكذلك الوصل به إلا على تأويل وتأويله أن ظرف الزمان إذا وصف لفظا أو تقديرا مع القرينة صح الإخبار والوصل به تقول نحن: في يوم طيب، وما- هنا في تقدير- والذين- كانوا من زمان قبل زمانكم، وقدر أبو البقاء- والذين خلقهم- من قبل خلقكم فحذف الفعل الذي هو صلة وأقيم متعلقه مقامه فتدبر لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ- لعل- في المشهورة موضوعة للترجي وهو الطمع في حصول أمر محبوب ممكن الوقوع والإشفاق وهو توقع مخوف ممكن، والظاهر التقابل فتكون مشتركة، وذكر الرضى أنها للترجي وهو ارتقاب شيء لا وثوق بحصوله فيدخل فيه الطمع والإشفاق، والذي يميل إليه القلب ما ذكره بعض المحققين إنها لانشاء توقع أمر متردد بين الوقوع وعدمه مع رجحان الأول، إما محبوب فيسمى رجاء أو مكروه فيسمى إشفاقا وذلك قد يعتبر تحققه بالفعل إما من جهة المتكلم- وهو الشائع- لأن معاني الإنشاءات قائمة به، وإما من جهة المخاطب تنزيلا له منزلة المتكلم في التلبس التام بالكلام الجاري بينهما. ومنه لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه: 44] وقد يعتبر تحققه بالقوة بضرب من التجوز إيذانا بأن ذلك الأمر في نفسه مئنة للتوقع متصف بحيثية مصححة له من غير أن يعتبر هناك توقع بالفعل من متوقع أصلا. ففي الآية الكريمة- إن جعلت الجملة حالا من مفعول خلقكم وما عطف عليه بطريق تغليب المخاطبين على الغائبين لأنهم المأمورون بالعبادة- امتنع حمل- لعل- على حقيقتها لا بالنظر إلى المتكلم لاستحالة الترجي على عالم الغيب والشهادة الفاعل لما يشاء، ولا بالنظر إلى المخاطبين لأنهم حين الخلق لم يكونوا عالمين فيكف يتصور الرجاء منهم؟! ولا يجوز جعلها حالا مقدرة لأن المقدر حال الخلق التقوى لا رجاؤها فلا بد أن يحمل على المعنى المجازي بأن يشبه طلب التقوى منهم بعد اجتماع أسبابه ودواعيه بالترجي في أن متعلق كل واحد منهما مخير بين أن يفعل وأن لا يفعل مع رجحان ما بجانب الفعل فيستعمل كلمة- لعل- الموضوع له فيه فيكون استعارة تبعية أو تشبه ضورة منتزعة من حال خالقهم بالقياس إليهم بعد أن مكنهم على التقوى وتركها مع رجحانها منهم بحال المرتجى بالقياس إلى المرتجى منه القادر على المرتجى، وتركه مع رجحان وجوده فيكون استعارة تمثيلية إلا أنه ذكر من المشبه به ما هو العمدة فيه أعني كلمة- لعل- أو تشبه ذواتهم بمن يرجى منه التقوى فيثبت له بعض لوازمه أعني الرجاء فيكون استعارة بالكناية، وجعل المشبه إرادته تعالى في الاستعارة والتمثيل نزغة اعتزالية مؤسسة على القاعدة القائلة بجواز تخلق المراد عن إرادته تعالى شأنه وبعضهم (1) قال بالترجي هنا إلا أنه ليس من المتكلم ولا من المخاطب بل من غيرهما كما في قوله تعالى: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ [هود: 12] لأنه لما ولد كل مولود على الفطرة كان بحيث إن تأمله متأمل توقع منه رجاء أن يكون متقيا وليس بالبعيد، وإن جعلت حالا من فاعل خَلَقَكُمْ امتنعت الحقيقة أيضا وتعينت بعض الوجوه، وإن جعلت حالا من ضمير اعْبُدُوا جاز إبقاء الترجي على حقيقته مصروفا إلى المخاطبين- أي راجين التقوى- والمراد بها حينئذ منتهى درجات السالكين وهو طرح الهوى ونبذ السوي والفوز بالمحبوب الأعلى وفي ذلك غاية المبتغي والعروج فوق سدرة المنتهى. وقد شاع ذلك عند الأقصى والأدنى وبذلك يصح الترغيب ويندفع ما قيل إن اللائق بالبلاغة القرآنية أن يعتبر من أول الأمر غاية عبادتهم وما هو لذة لهم- أعني الثواب- لا ما يشق عليهم وهو التقوى وإن كان مفضيا إليه ووجه الدفع ظاهر، وما قاله المولى التفتازاني- من أن تقييد العبادة بترجي التقوى ليس له كثير معنى إنما المناسب تقييدها بالتقوى أو اقترانها برجاء ثوابها- يدفعه أن في الترجي تنبيها على أن العابد ينبغي أن لا يفتر في   (1) أي ابن عطية اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 عبادته ويكون ذا خوف ورجاء، نعم قالوا: الحال قيد لعاملها وهو هنا الأمر، فإن قلنا: إنه أعم من الوجوب فلا إشكال، وإن قلنا: إنه حقيقة في الوجوب اقتضى وجوب الرجاء المقيد به العبادة المأمور بها ولعله ليس بواجب والقول بأنه يقتضي وجوب المقيد دون القيد فيه كلام في الأصول لا يخفى على ذويه. وما أورد من أنه يلزم على هذا الوجه التوسط بين العصا ولحائها، فإن الذي جعل لكم الأرض موصول بربكم صفة له- يجاب عنه بأن القطع يهون الفصل وإن كان هناك اتصال معنوي، وإن جعل الَّذِي جَعَلَ مبتدأ- خبره لا تجعلوا- كاد يزول الإشكال ويرتفع المقال، ومع هذا لا شك في مرجوحية هذا الوجه وإن أشعر كلام مولانا البيضاوي بأرجحيته، ثم لا يبعد أن يقال: إن المعنى في الآية على التعليل إما لأن- لعل- تجيء بمعنى كي كما ذهب إليه ابن الأنباري وغيره (2) واستشهدوا بقوله: فقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا ... نكف ووثقتم (3) لنا كل موثق أو لأنها تجيء للإطماع فيكنى به بقرينة المقام عن تحقق ما بعدها على عادة الكبراء، ثم يتجوز به عن كل متحقق كتحقق العلة سواء كان معه أطماع أم لا على ما قيل. ولا يرد أن تعليل الخلق وهو فعله تعالى مما لم يجوزه أكثر الأشاعرة حيث منعوا تعليل أفعاله سبحانه بالأغراض لئلا يلزم استكماله- عز شأنه- بالغير وهو محال لأنا نقول الحق الذي لا محيص عنه أن أفعاله تعالى معللة بمصالح العباد مع أنه سبحانه لا يجب عليه الأصلح، ومن أنكر تعليل بعض الأفعال- لا سيما الأحكام الشرعية كالحدود- فقد كاد أن ينكر النبوة كما قاله مولانا صدر الشريعة، والوقوف على ذلك في كل محل مما لا يلزم، على أن بعضهم يجعل الخلاف في المسألة لفظيا لأن العلة إن فسرت بما يتوقف عليه ويستكمل به الفاعل امتنع ذلك في حقه سبحانه، وإن فسرت بالحكمة المقتضية للفعل ظاهرا مع الغنى الذاتي فلا شبهة في وقوعها ولا ينكر ذلك إلا جهول أو معاند، وإنما لم يقل سبحانه في النظم تعبدون لأجل- اعبدوا- أو اتقوا لأجل تتقون ليتجاوب طرفاه مع اشتماله على صنعة بديعة من رد العجز على الصدر لأن التقوى قصارى أمر العابد فيكون الكلام أبعث على العبادة وأشد إلزاما كذا قيل، وفي القلب منه شيء، وسبب حذف مفعول تَتَّقُونَ مما لا يخفى، وابن عباس رضي الله تعالى عنه يقدره- الشرك- والضحاك- النار- وأظنك لا تقدر شيئا، ولما أمر سبحانه المكلفين بعبادة الرب الواجد لهم- ووصفه بما وصفه، ومعلوم أن الصفة آلة لتمييز الموصوف عما عداه وأن تعليق الحكم بالوصف مشعر بالعلية- أشعرت الآية أن طريق معرفته تعالى والعلم بوحدانيته واستحقاقه العبادة النظر في صنعه، ولما كان التربية والخلق اللذان نيط بهما العبادة سابقين على طلبها فهم أن العبد لا يستحق ثوابا حيث أنعم عليه قبل العبادة بما لا يحصى مما لا تفي الطاقة البشرية بشكره ولا تقاوم عبادته عشر عشره، واستدل بالآية من زعم أن التكليف بالمحال واقع حيث أمر سبحانه بعبادته من آمن به ومن كفر بعد إخباره عنهم أنهم لا يؤمنون وأنهم عن ضلالتهم لا يرجعون، وقد تقدم الكلام في ذلك فارجع إليه الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً الموصول إما منصوب على أنه نعت- ربكم- أو بدل منه أو مقطوع بتقدير أخص أو أمدح وكونه مفعول تتقون- كما قاله أبو البقاء- إعراب غث ينزه القرآن عنه، وكونه نعت الأول يرد عليه أن النعت لا ينعت عند الجمهور إلا في مثل يا أيها الفارس ذو الجمة، وفيه أيضا غير مجمع عليه، وإما مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره جملة فَلا تَجْعَلُوا والفاء قد تدخل في خبر الموصول بالماضي كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ [البروج: 10] إلى   (2) قطرب وابن كيسان اهـ منه. (3) فإن قوله: وثقتم إلخ يقتضي عدم التردد في الوقوع كما في الترجي وبهذا يتعين أنها بمعنى كي فليفهم اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 قوله تعالى: فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ [البروج: 10] والاسم الظاهر يقوم مقام الرابط عند الأخفش والإنشاء يقع خبرا بالتأويل المشهور، ومع هذا كله الأولى ترك ما أوجبه وأبرد من بخ قول من زعم أنه مبتدأ خبره رِزْقاً لَكُمْ بتقدير يرزق، وجَعَلَ بمعنى صير والمنصوبان بعده مفعولاه، وقيل: بمعنى أوجدوا انتصاب الثاني على الحالية أي أوجد الأرض حالة كونها مفترشة لكم فلا تحتاجون للسعي في جعلها كذلك، ومعنى تصييرها فِراشاً أي كالفراش في صحة القعود والنوم عليها أنه سبحانه جعل بعضها بارزا عن الماء مع أن مقتضى طبعها أن يكون الماء محيطا بأعلاها لثقلها وجعلها متوسطة بين الصلابة واللين ليتيسر التمكن عليها بلا مزيد كلفة، فالتصيير باعتبار أنه لما كانت قابلة لما عدا ذلك فكأنه نقلت منه وإن صح ما نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- أن الأرض خلقت قبل خلق السماء غير مدحوة فدحيت بعد خلقها ومدت- فأمر التصيير حينئذ ظاهر إلا أن كل الناس غير عالمين به، والصفة يجب أن تكون معلومة للمخاطب والذهاب إلى الطوفان، واعتبار التصيير بالقياس إليه من اضطراب أمواج الجهل ولا ينافي كرويتها كونها فِراشاً لأن الكرة إذا عظمت كان كل قطعة منها كالسطح في افتراشه كما لا يخفى. وعبر سبحانه هنا- يجعل- وفيما تقدم- بخلق- لاختلاف المقام أو تفننا في التعبير كما في قوله تعالى: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الإنعام: 1] وتقديم المفعول الغير الصريح لتعجيل المسرة ببيان كون ما يعقبه من منافع المخاطبين أو للتشويق إلى ما يأتي بعده لا سيما بعد الإشعار بمنفعته فيتمكن عند وروده فضل تمكن، أو لما في المؤخر وما عطف عليه من نوع طول فلو قدم لفات تجاوب الأطراف، واختار سبحانه لفظ- السماء- على السماوات موافقة للفظ- الأرض- وليس في التصريح بتعددها هنا كثير نفع، ومع هذا يحتمل أن يراد بها مجموع السماوات، وكل طبقة وجهة منها، والبناء في الأصل مصدر أطلق على المبنى بيتا كان (1) أو قبة أو خباء أو طرافا، ومنه بنى بأهله أو على أهله خلافا للحريري لأنهم كانوا إذا تزوّجوا ضربوا خباء جديدا ليدخلوا على العروس فيه، والمراد بكون السَّماءَ بِناءً أنها كالقبة المضروبة أو أنها كالسقف للأرض، ويقال لسقف البيت بناء، وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقدم سبحانه حال الأرض لما أن احتياجهم إليها وانتفاعهم بها أكثر وأظهر، أو لأنه تعالى لما ذكر خلقهم ناسب أن يعقبه بذكر أول ما يحتاجونه بعده وهو المستقر أو ليحصل العروج من الأدنى إلى الأعلى، أو لأن خلق الأرض متقدم على خلق السماء- كما يدل عليه ظواهر كثير من الآيات- أو لأن الأرض لكونها مسكن النبيين ومنها خلقوا أفضل من السماء، وفي ذلك خلاف مشهور، وقرأ يزيد الشامي: «بساطا» ، وطلحة «مهادا» وهي نظائر، وأدغم أبو عمرو لام- جعل- في لام- لكم- وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ عطف على- جعل- ومِنَ الأولى للابتداء متعلقة بأنزل أو بمحذوف وقع حالا من المفعول وقدم عليه للتشويق على الأول مع ما فيه من مزيد الانتظام مع ما بعد، أو لأن السماء أصله ومبدؤه ولتتأتى الحالية على الثاني إذ لو قدم المفعول- وهو نكرة- صار الظرف صفة، وذكر في البحر أن مِنَ على هذا للتبعيض أي من مياه السماء وهو كما ترى. والمراد من السماء جهة العلو أو السحاب وإرادة الفلك المخصوص بناء- على الظواهر- غير بعيدة نظرا إلى قدرة الملك القادر جل جلاله وسمت عن مدارك العقل أفعاله، إلا أن الشائع أن الشمس إذا سامتت بعض البحار والبراري أثارت من البحار بخارا رطبا ومن البراري يابسا، فإذا صعد البخار إلى طبقة الهواء الثالثة تكاثف فإن لم يكن البرد قويا اجتمع وتقاطر لثقله بالتكاثف، فالمجتمع سحاب والمتقاطر مطر، وإن كان قويا كان ثلجا وبردا، وقد لا ينعقد ويسمى ضبابا.   (1) في الكشف الأول من الشعر، والثاني من لبن والثالث من وبر أو صوف، والرابع من آدم، وفي الثاني نظر وإن ذكره ابن السكيت فليراجع اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد وعلى هذا يراد بالنزول من السماء نشوؤه من أسباب سماوية وتأثيرات أثيرية فهي مبدأ مجازي له، على أن من انجاب عن عين بصيرته سحاب الجهل رأى أن كل ما في هذا العالم السفلي نازل من عرش الإرادة وسماء القدرة حسبما تقتضيه الحكمة بواسطة أو بغير واسطة كما يشير إليه قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الحجر: 21] بل من علم أن الله سبحانه في السماء- على المعنى الذي أراده وبالوصف الذي يليق به مع التنزيه اللائق بجلال ذاته تعالى- صح له أن يقول: إن ما في العالمين من تلك السماء، ونسبة نزوله إلى غيرها أحيانا لاعتبارات ظاهرة وهي راجعة إليه في الآخرة- والماء- معروف، وعرفه بعضهم بأنه جوهر سيال به قوام الحيوان ووزنه فعل وألفه منقلبة عن واو وهمزته بدل من هاء كما يدل عليه مويه ومياه وأمواه وتنوينه للبعضية، وخصه سبحانه بالنزول من السماء في كثير من الآيات تنويها بشأنه لكثرة منفعته ومزيد بركته، ومِنَ الثانية إما للتبعيض إذ كم من ثمرة لم تخرج بعد- فرزقا- حينئذ بالمعنى المصدري مفعول له- لأخرج- ولَكُمُ ظرف لغو مفعول به لرزق أي أخرج شيئا مِنَ الثَّمَراتِ أي بعضها لأجل أنه رزقكم، وجوّز أن يكون بعض الثمرات مفعول أخرج، ورزقا بمعنى مرزوقا حالا من المفعول أو نصبا على المصدر لأخرج، وإما للتبيين- فرزق- بمعنى مرزوق مفعول لأخرج ولَكُمُ صفته، وقد كان مِنَ الثَّمَراتِ صفته أيضا إلا أنه لما قدم صار حالا على القاعدة في أمثاله، وفي تقديم البيان على المبين خلاف، فجوزه الزمخشري والكثيرون، ومنعه صاحب الدر المصون وغيره، واحتمال جعلها ابتدائية- بتقدير من ذكر الثمرات أو تفسير الثمرات بالبذر- تعسف لا ثمرة فيه، وأل في الثَّمَراتِ إما للجنس أو للاستغراق وجعلها له، ومِنَ زائدة ليس بشيء لأن زيادة مِنَ في الإيجاب- وقبل- معرفة مما لم يقل به إلا الأخفش، ويلزم من ذلك أيضا أن يكون جميع الثَّمَراتِ التي أخرجت رزقا لنا، وكم شجرة أثمرت ما لا يمكن أن يكون رزقا (1) وأتى بجمع القلة مع أن الموضع موضع الكثرة فكان المناسب لذلك من الثمار للإيماء إلى أن ما برز في رياض الوجود بفيض مياه الجود كالقليل بل أقل قليل بالنسبة لثمار الجنة، ولما ادخر في ممالك الغيب أو للإشارة إلى أن أجناسها من حيث إن بعضها يؤكل كله وبعضها ظاهره فقط وبعضها باطنة فقط، المشير ذلك إلى ما يشير قليلة لم تبلغ حد الكثرة، وما ذكر الإمام البيضاوي وغيره من أنه ساغ هذا الجمع هنا لأنه أراد بالثمرات جمع ثمرة أريد بها الكثرة كالثمار مثلها في قولك: أدركت ثمرة بستانك، وليست التاء للوحدة الحقيقية بل للوحدة الاعتبارية، ويؤيده قراءة ابن السميقع من الثمرة أو لأن الجموع يتعاور بعضها موقع بعض كقوله تعالى: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ [الدخان: 25] وثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: 228] أو لأنها لما كانت محلاة باللام خرجت عن حد القلة لا يخلو صفاؤه عن كدر كما يسفر عنه كلام الشهاب، وإذا قيل: بأن جمع السلامة المؤنث والمذكر موضوع للكثرة أو مشترك- والمقام يخصصه بها- اندفع السؤال وارتفع المقال إلا أن ذلك لم يذهب إليه من الناس إلا قليل، والباء من بِهِ للسببية، والمشهور عند الأشاعرة أنها سببية عادية في أمثال هذا الموضع فلا تأثير للماء عندهم أصلا في الإخراج بل ولا في غيره وإنما المؤثر هو الله تعالى عند الأسباب لأنها لحديث الاستكمال بالغير، قالوا: ومن اعتقد أن الله تعالى أودع قوة الري في الماء مثلا فهو   (1) وقد نص على إفادة الجمع السالم المذكر والمؤنث القلة بن الدباح فقال: بأفعل وبأفعال وأفعلة ... وفعلة يعرف الأدنى من العدد وسالم الجمع أيضا داخل معها ... وذلك الحكم فاحفظها ولا تزد اهـ منه. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 فاسق وفي كفره قولان، وجمع على كفره كمن قال: إنه مؤثر بنفسه فيجب عندهم أن يعتقد المكلف أن الري جاء من جانب المبدأ الفياض بلا واسطة وصادف مجيئه شرب الماء من غير أن يكون للماء دخل في ذلك بوجه من الوجوه سوى الموافقة الصورية، والفقير لا أقول بذلك ولكني أقول: إن الله سبحانه ربط الأسباب بمسبباتها شرعا وقدرا، وجعل الأسباب محل حكمته في أمره الديني الشرعي وأمره الكوني القدري ومحل ملكه وتصرفه، فإنكار الأسباب والقوى جحد للضروريات وقدح في العقول والفطر ومكابرة للحس وجحد للشرع والجزاء، فقد جعل الله- تعالى شأنه- مصالح العباد في معاشهم ومعادهم، والثواب والعقاب والحدود والكفارات والأوامر والنواهي والحل والحرمة كل ذلك مرتبطا بالأسباب قائما بها بل العبد نفسه وصفاته وأفعاله سبب لما يصدر عنه، والقرآن مملوء من إثبات الأسباب، ولو تتبعنا ما يفيد ذلك من القرآن والسنة لزاد على عشرة آلاف موضع حقيقة لا مبالغة، ويا لله تعالى العجب إذا كان الله خالق السبب والمسبب وهو الذي جعل هذا سببا لهذا، والأسباب والمسببات طوع مشيئته وقدرته منقادة، فأي قدح يوجب ذلك في التوحيد وأي شرك يترتب عليه؟! نستغفر الله تعالى مما يقولون: فالله عز وجل يفعل بالأسباب التي اقتضتها الحكمة مع غناه عنها كما صح أن يفعل عندها لا بها، وحديث الاستكمال يرده أن الاستكمال إنما يلزم لو توقف الفعل على ذلك السبب حقيقة واللازم باطل لقوله تعالى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] فالأسباب مؤثرة بقوى أودعها الله تعالى فيها ولكن بإذنه وإذا لم يأذن وحال بينها وبين التأثير لم تؤثر كما يرشدك إلى ذلك قوله تعالى: وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة: 102] ولو لم يكن في هذه الأسباب قوى أودعها العزيز الحكيم لما قال سبحانه: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ [الأنبياء: 69] إذ ما الفائدة في القول وهي ليس فيها قوة الإحراق وإنما الإحراق منه تعالى بلا واسطة ولو كان الأمر كما ذكروا لكان للنار أن تقول: إلهي ما أودعتني شيئا ولا منحتني قوة وما أنا إلا كيد شلّاء صحبتها يد صحيحة تعمل الأعمال وتصول وتجول في ميدان الأفعال أفيقال لليد الشلاء لا تفعلي وفي ذلك الميدان لا تنزلي ولا يقال ذلك لليد الفعالة وهي الحرية بتلك المقالة، ولا أظن الأشاعرة يستطيعون لذلك جوابا ولا أراهم يبدون فيه خطابا، وهذا الذي ذكرناه هو ما ذهب إليه السلف الصالح وتلقاه أهل الله تعالى بالقبول، ولا يوقعنك في شك منه نسبته للمعتزلة فإنهم يقولون أيضا لا إله إلا الله أفتشكّ فيها لأنهم قالوها معاذ الله تعالى من التعصب فالحكمة صالة المؤمن والحق أحق بالاتباع والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل. فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً نهي معطوف على- اعبدوا- مترتب عليه فكأنه قيل: إذا وجب عليكم عبادة ربكم فلا تجعلوا لله ندا وأفردوه بالعبادة إذ لا رب لكم سواه وإيقاع الاسم الجليل موقع الضمير لتعيين المعبود بالذات بعد تعيينه بالصفات وتعليل الحكم بوصف الألوهية التي عليها يدور أمر الوحدانية واستحالة الشركة والإيذان باستتباعها لسائر الصفات وقيل: لفظ الرب مستعمل في المفهوم الكلي. والله علم للجزئي الحقيقي الواجب الوجود تعالى شأنه فلا يكون من وضع المظهر موضع المضمر، وحينئذ يظهر الفرق بين هذه الآية الكريمة- حيث علق العبادة بصفة الربوبية فالمناسب الفاء- وبين قوله تعالى: اعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [النساء: 36] حيث علق العبادة وعدم الشرك بذاته تعالى فالمناسب الواو، فلا يرد أن المناسب على هذا الواو كما في الآية الثانية أو نفي منصوب بإضمار- أن- جواب للأمر كما قاله مولانا البيضاوي، واعترض بأنه يأباه إن ذلك فيما يكون الأول سببا للثاني، ولا ريب في أن العبادة لا تكون سببا للتوحيد الذي هو أصلها ومنشؤها، وأجيب بأن عبادته تعالى أساسها التوحيد وعدم الإشراك به، وأما عبادة الرب فليس أصلها عدم الإشراك بذاته تعالى بل من متفرعاته، والحق أن الآية تضمنت عبادة رب موصوف بما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 يجعله كالمشاهد من خلقه لهم ولأصولهم وإبداع الكائنات العظيمة والتفضل بإفاضة النعم الجسيمة فدلت عليه دلالة عرفتهم به، فمحصلها اعبدوا الله تعالى الذي عرفتموه معرفة لا مرية فيها، ولا شك في أن العبادة والمعرفة سبب لعدم الإشراك إذ من عرف الله تعالى لا يسوي به سواه فالذي سول للمعترض النظر للعبادة وقطع النظر عن المعرفة، ويحتمل أن يكون متعلقا بلعل فينصب الفعل نصب فَأَطَّلِعَ على قراءة جعفر من لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ [غافر: 36] إلخ على رأي (1) إلحاقا بالأشياء الستة لأنها غير موجبة لحصول ما يتضمنها فتكون كالشرط في عدم التحقق، والقول بالإلحاق لها بليت- تنزيلا للمرجو منزلة المتمنى في عدم الوقوع- يؤول إلى هذا إن أريد بعدم الوقوع عدمه في حال الحكم لا استحالته، والمعنى خلقكم لتتقوا وتخافوا عقابه فلا تشبهوه بخلقه فافهم، ويحتمل أن تكون الفاء زائدة مشعرة بالسببية وجملة النهي- بتأويل القول- خبر عن الذي على جعله مبتدأ، وقيل: الجملة متعلقة بالذي، والفاء جزاء شرط محذوف، والمعنى هو الذي جَعَلَ لَكُمُ ما ذكر من النعم المتكاثرة، وإذا كان كذلك فَلا تَجْعَلُوا إلخ، والجعل هنا بمعنى التصيير وهو كما يكون بالفعل نحو- صيرت الحديد سيفا، ومنه ما تقدم على وجه- يكون بالقول والعقد- والأنداد- جمع ند- كعدل وأعدال أو نديد- كيتيم وأيتام- والند مثل الشيء الذي يضاده ويخالفه في أموره وينافره ويتباعد عنه وليس من الأضداد على الأصح، وأصله من ند ندودا إذا نفر، وقيل: الند المشارك في الجوهرية فقط، والشكل المشارك في القدر والمساحة، والشبه المشارك في الكيفية فقط، والمساوي في الكمية فقط، والمثل عام في جميع ذلك، وفي تسمية ما يعبده المشركون من دون الله أَنْداداً والحال أنهم ما زعموا أنها تماثله في ذاته تعالى وصفاته ولا تخالفه في أفعاله. وإنما عبدوها- لتقربهم إليه سبحانه زلفى- إشارة إلى استعارة تهكمية حيث استعير النظير المصادر للمناسب المقرب كما استعير التبشير للإنذار والأسد للجبان، وإن أريد بالند النظير مطلقا لم يكن هناك تضاد وإنما هو من استعارة أحد المتشابهين للآخر، فإن المشركين جعلوا الأصنام- بحسب أفعالهم وأحوالهم- مماثلة له تعالى في العبادة، وهي خطة شنعاء وصفة حمقاء في ذكرها ما يستلزم تحميقهم والتهكم بهم، ولعل الأول أولى، وفي الإتيان بالجمع تشنيع عليهم حيث جعلوا أَنْداداً لمن يستحيل أن يكون له ند واحد، ولله در موحد الفترة زيد بن عمر بن نفيل رضي الله تعالى عنه حيث يقول في ذلك: أربّا واحدا أم ألف ربّ ... أدين إذا تقسمت الأمور تركت اللات والعزى جميعا ... كذلك يفعل الرجل البصير وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ حال من ضمير فَلا تَجْعَلُوا والمفعول مطروح- أي وحالكم أنكم من أهل العلم والمعرفة والنظر وإصابة الرأي- فإذا تأملتم أدنى تأمل علمتم وجود صانع يجب توحيده في ذاته وصفاته لا يليق أن يعبد سواه، أو مقدر حسبما يقتضيه المقام ويسد مسد مفعولي العلم، أي تَعْلَمُونَ أنه سبحانه لا يماثله شيء، أو أنها لا تماثله ولا تقدر على مثل ما يفعله، والحال على الوجه الأول للتوبيخ أو التقييد إذ العلم مناط التكليف ولا تكليف عند عدم الأهلية، وعلى الوجه الثاني للتوبيخ لا غير لأن قيد الحكم تعليق العلم بالمفعول، ومناط التكليف العلم فقط والتوبيخ- باعتبار بعض أفراد المخاطبين بإلهي بناء على عموم الخطاب حسبما مر في الأمر- فلا يستدعي تخصيص الخطاب بالكفرة على أنه لا بأس بالتخصيص بهم أمرا ونهيا بل قيل: إنه أولى للخلاص من التكلف وحسن الانتظام إذ لا   (1) فإنه قيل: يعطف أطلع على معنى (لعلى أبلغ) لأنه بمعنى أن أبلغ، ويحتمل أنه عطف على الأسباب على حد. ولبس عباءة وتقر. اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 محيص في ظاهر آية التحدي من تجريد الخطاب وتخصيصه بالكفرة مع ما فيه من رباء محل المؤمنين ورفع شأنهم عن حيز الانتظام في سلك الكفرة اللئام والإيذان بأنهم مستمرون على الطاعة والعبادة مستغنون في ذلك عن الأمر والنهي فتأمل. وقد تضمنت هذه الآيات من بدائع الصنعة ودقائق الحكمة وظهور البراهين ما اقتضى أنه تعالى المنفرد بالإيجاد المستحق للعبادة دون غيره من الأنداد التي لا تخلق ولا ترزق وليس لها نفع ولا ضر أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: 54] ومن باب الإشارة أنه تعالى مثل البدن بالأرض، والنفس بالسماء، والعقل بالماء، وما أفاض على القوابل من الفضائل العلمية والعملية المحصلة بواسطة استعمال العقل والحس، وازدواج القوى النفسانية والبدنية بالثمرات المتولدة من ازدواج القوى السماوية الفاعلة والأرضية المنفعلة بإذن الفاعل المختار، وقد يقال: إنه تعالى لما امتن عليهم بأنه سبحانه- خلقهم والذين من قبلهم- ذكر ما يرشدهم إلى معرفة كيفية خلقهم فجعل الأرض التي هي فراش مثل الأم التي يفترشها الرجل، وهي أيضا تسمى فراشا، وشبه السماء التي علت على الأرض بالأب الذي يعلو على الأم ويغشاها، وضرب الماء النازل من السماء مثلا للنطفة التي تنزل من صلب الأب وضرب ما يخرج من الأرض من الثمرات مثلا للولد الذي يخرج من الأم، كل ذلك ليؤنس عقولهم ويرشدها إلى معرفة كيفية التخليق ويعرفها أنه الخالق لهذا الولد والمخرج له من بطن أمه كما أنه الخالق للثمرات ومخرجها من بطون أشجارها ومخرج أشجارها من بطن الأرض، فإذا وضح ذلك لهم أفردوه بالألوهية وخصوه بالعبادة وحصلت لهم الهداية: تأمل في رياض الأرض وانظر ... إلى آثار ما صنع المليك عيون من لجين شاخصات ... على أهدابها ذهب سبيك على قضب الزبرجد شاهدات ... بأن الله ليس له شريك وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ لما قرر سبحانه أمر توحيده بأحسن أسلوب عقبه بما يدل على تصديق رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، والتوحيد والتصديق توأمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، فالآية وإن سيقت لبيان الإعجاز إلا أن الغرض منه إثبات النبوة، وفي التعقيب إشارة إلى الرد على التعليمية الذين جعلوا معرفة الله تعالى مستفادة من معرفة الرسول، والحشوية القائلين بعدم حصول معرفته سبحانه إلا من القرآن والأخبار، والعطف إما على قوله تعالى: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ أو على فَلا تَجْعَلُوا وتوجيه الربط بأنه لما أوجب سبحانه وتعالى العبادة ونفى الشرك- بإزاء تلك الآيات والانقياد لها لا يمكن بدون التصديق بأنها من عنده سبحانه- أرشدهم بما يوجب هذا العلم، ولذا لم يقل جل شأنه- وإن كنتم في ريب من رسالة عبدنا- غير وجيه إذ يصير عليه البرهان العقلي سميعا ولو أريد ذلك لكفى- اعبدوا، ولا تشركوا- من دون تفصيل الأدلة الأنفسية والآفاقية، والظاهر أن الخطاب هنا للكفار وهو المروي عن الحسن، وقيل لليهود: لما أن سبب النزول- كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- أنهم قالوا هذا الذي يأتينا به محمد صلى الله تعالى عليه وسلم لا يشبه الوحي وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ [هود: 110] وقيل: هو على نحو الخطاب في اعْبُدُوا وكلمة إِنْ إما للتوبيخ على الارتياب وتصوير أنه مما لا ينبغي أن يثبت إلا على سبيل الفرض لاشتمال المقام على ما يزيله، أو لتغليب- من لا- قطع بارتيابهم على من سواهم، أو لأن البعض لما كان مرتابا والبعض غير مرتاب جعل الجميع- كأنه لا قطع بارتيابهم ولا بعدمه- وجعلها بمعنى إذ كما ادعاه بعض المفسرين- خلاف مذهب المحققين- وإيراد كلمة- كان- لإبقاء معنى المضي فإنها لتمحضها للزمان لا تقلبها- إن- إلى معنى الاستقبال- كما ذهب إليه المبرد وموافقوه- والجمهور على أنها كسائر الأفعال الماضية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 وقدر بعضهم بينها وبين إن يكن، أو تبين مثلا ولا يميل إليه الفؤاد، وتنكير الريب للإشعار بأن حقه- إن كان- أن يكون ضعيفا قليلا لسطوع ما يدفعه وقوة ما يزيله، وجعله ظرفا- بتنزيل المعاني منزلة الأجرام واستقرارهم فيه وإحاطته بهم- لا ينافي اعتبار ضعفه وقلته لما أن ما يقتضيه ذلك هو دوام ملابستهم به لا قوته وكثرته، ومن ابتدائية صفة رَيْبٍ ولا يجوز أن تكون للتبعيض وحملها على السببية ربما يوهم كون المنزل محلا للريب وحاشاه، وما موصولة كانت أو موصوفة عبارة عن الكتاب، وقيل: عن القدر المشترك بينه وبين أبعاضه. ومعنى كونهم في- ريب منه- ارتيابهم في كونه وحيا من الله تعالى شأنه، والتضعيف في نَزَّلْنا للنقل وهو المرادف للهمزة، ويؤيد ذلك قراءة زيد بن قطيب- أنزلنا- وليس التضعيف هنا دالا على نزوله منجما ليكون إيثاره على الإنزال لتذكير منشأ ارتيابهم فقد قالوا: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الفرقان: 32] وبناء التحدي عليه إرخاء للعنان كما ذهب إليه الكثير (1) ممن يعقد عند ذكرهم الخناصر لأن ذلك قول بدلالة التضعيف على التكثير وهو إنما يكون غالبا (2) في الأفعال التي تكون قبل التضعيف متعدية نحو- فتحت وقطعت- ونزلنا- لم يكن معتديا قبل، وأيضا التضعيف الذي يراد به التكثير إنما يدل على كثرة وقوع الفعل وأما على أنه يجعل اللازم متعديا فلا، والفعل هنا كان لازما فكون التعدي مستفادا من التضعيف دليل على أنه للنقل لا للتكثير، وأيضا لو كان نزل مفيدا للتنجيم لاحتاج قوله تعالى: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً إلى تأويل لمنافاة العجز الصدر، وكذا مثل لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ [الأنعام: 37] ولَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا [الإسراء: 95] وقد قرىء بالوجهين في كثير مما لا يمكن فيه التنجيم والتكثير وجعل هذا غير التكثير المذكور في النحو وهو التدريج بمعنى الإتيان بالشيء قليلا قليلا كما ذكروه في تسللوا حيث فسروه بأنهم يتسللون قليلا قليلا قالوا: ونظيره تدرج وتدخل ونحوه- رتبه- أي أتى به رتبة رتبة ولم يوجد غير ذلك، فحينئذ تكون صيغة فعل بعد كونها للنقل دالة على هذا المعنى إما مجازا أو اشتراكا فلا يلزم اطراده بعيد لا سيما مع خفاء القرينة، وفي تعدي- نزل- بعلى إشارة إلى استعلاء المنزل على المنزل عليه وتمكنه منه وأنه صار كاللابس له بخلاف إلى إذ لا دلالة لها على أكثر من الانتهاء والوصول. وفي ذكره صلى الله تعالى عليه وسلم- بعنوان العبودية مع الإضافة إلى ضمير الجلالة- تنبيه على عظم قدره واختصاصه به وانقياده لأوامره، وفي ذلك غاية التشريف والتنويه بقدره صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تدعني إلا بيا عبدها ... فإنه أشرف أسمائي وقرىء- عبادنا- فيحتمل أنه أريد بذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأمته لأن جدوى المنزل والهداية الحاصلة به لا تختص بل يشترك فيها المتبوع والتابع فجعل كأنه نزل عليهم، ويحتمل أنه أريد به النبيون الذين أنزل عليهم الوحي والرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أول مقصود وأسبق داخل لأنه الذي طلب معاندوه بالتحدي في كتابه، وفيه إيذان بأن الارتياب فيه ارتياب فيما أنزل من قبله لكونه مصدقا له ومهيمنا عليه، وبعضهم (3) جعل الخطاب على هذا لمنكري النبوات الذين حكى الله تعالى عنهم بقوله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الإنعام: 91] وفي الآية التفات من الغائب إلى ضمير المتكلم وإلا لقال سبحانه- مما نزل على عبده لكنه عدل سبحانه إلى ذلك تفخيما للمنزل أو المنزل عليه لا سيما وقد أتى- بنا- المشعرة بالتعظيم التام وتفخيم   (1) الزمخشري، والبيضاوي، وأبو السعود، وغيرهم اهـ منه. (2) قلنا ذلك لورود موتت الإبل. (3) هو أبو حيان اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 الأمر رعاية لرفعة شأنه عليه الصلاة والسلام، والفاء من فَأْتُوا جوابية وأمر السببية ظاهر، والأمر من باب التعجيز وإلقام الحجر كما في قوله تعالى: فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ [البقرة: 258] وهو من الإتيان بمعنى المجيء بسهولة كيفما كان، ويقال في الخير والشر والأعيان والأعراض، ثم صار بمعنى الفعل والتعاطي ك لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى [التوبة: 54] وأصل فَأْتُوا فأتيوا فأعل الإعلال المشهور، وأتى شذوذا حذف الفاء فقيل «ت» و «توا» والتنوين في سورة للتنكير أي ائتوا بسورة ما وهي القطعة من القرآن التي أقلها ثلاث آيات، وفيه من التبكيت والتخجيل لهم في الارتياب ما لا يخفى. ومِنْ مِثْلِهِ إما أن يكون ظرفا مستقرا صفة لسورة والضمير راجع إما- لما- التي هي عبارة عن المنزل أو للعبد وعلى الأول يحتمل أن تكون من للتبعيض أو للتبيين، والأخفش يجوز زيادتها في مثله، والمعنى بسورة مماثلة للقرآن في البلاغة والأسلوب المعجز وهذا على الأخيرين ظاهر، وإما على التبعيض فلأنه لم يرد بالمثل مثل محقق معين للقرآن بل ما يماثله فرضا (1) كما قيل: في مثلك لا يجهل، ولا شك أن بعضيتها للمماثل الفرضي لازمة لمماثلتها للقرآن فذكر اللازم وأريد الملزوم سلوكا لطريق الكناية مع ما في لفظ مِنْ التبعيضية الدالة على القلة من المبالغة المناسبة لمقام التحدي، وبهذا رجح بعضهم التبعيض على التبيين مع ما في التبيين من التصريح بما علم ضمنا حيث إن المماثلة للقرآن تفهم من التعبير بالسورة إلا أنه مؤيد بما يأتي، وعلى الثاني يتعين أن تكون مِنْ للابتداء مثلها في إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ [النمل: 30] ويمتنع التبعيض والتبيين والزيادة امتناع الابتداء في الوجه الأول، وإما أن تكون صلة فَأْتُوا. والشائع أن يتعين حينئذ عود الضمير للعبد لأن مِنْ لا تكون بيانية إذ لا مبهم، ولكونه مستقرا أبدا لا تتعلق بالأمر لغوا ولا تبعيضية وإلا لكان الفعل واقعا عليه حقيقة كما في- أخذت من الدراهم- ولا معنى لاتيان البعض بل المقصد الإتيان بالبعض، ولا مجال لتقدير الباء مع وجود مِنْ ولأنه يلزم أن يكون بِسُورَةٍ ضائعا فتعين أن تكون ابتدائية، وحينئذ يجب كون الضمير للعبد لا للمنزل، وجعل المتكلم مبدأ عرفا- للإتيان بالكلام منه- معنى حسن مقبول بخلاف جعل الكل مبدأ للإتيان ببعض منه فإنه لا يرتضيه ذو فطرة سليمة، وأيضا المعتبر في مبدأ الفعل هو المبدأ الفاعلي، أو المادي، أو الغائي، أو جهة يتلبس بها وليس الكل بالنسبة إلى الجزء شيئا من ذلك، وعليه يكون اعتبار مماثلة المأتي به للقرآن في البلاغة مستفادا من لفظ السورة، ومساق الكلام بمعونة المقام. واعترض بأن معنى مِنْ لا ينحصر فيما ذكر فقد تجيء للبدل نحو أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ [التوبة: 38] لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً [الزخرف: 60] وللمجاوزة كعذت منه، فعلى هذا- لو علق مِنْ مِثْلِهِ ب فَأْتُوا وحمل مِنْ على البدل أو المجاوزة ومثل- على المقحم ورجع الضمير إلى مِمَّا نَزَّلْنا على معنى فَأْتُوا بدل ذلك الكتاب العظيم شأنه الواضح برهانه أو مجاوزين من هذا الكتاب مع فخامة أثره وجلالة قدره بسورة فذة- لكان أبلغ في التحدي وأظهر في الإعجاز، على أن عدم صحة شيء مما اعتبر في المبدأ ممنوع فإن الملابسة بين الكل والبعض أقوى منها بين المكان والمتمكن، فكما يجوز جعل المكان مبدأ الفعل المتمكن يجوز أن يجعل الكل مبدأ للإتيان بالبعض، ولعل من قال ذلك لم يطرق سمعه قول سيبويه: وبمنزلة المكان ما ليس بمكان ولا زمان نحو- قرأت من أول السورة إلى آخرها، وأعطيتك من درهم إلى دينار- وأيضا فالإتيان ببعض الشيء تفريقه منه، ولا   (1) وبعضهم يقول على التبعيض المراد ائتوا بمقدار بعض ما من القرآن مماثل له في البلاغة ولا إشكال فيه اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 يستراب أن الكل مبدأ تفريق البعض منه، ويمكن أن يقال- وهو الذي اختاره مولانا الشهاب- أن المراد من الآية التحدي وتعجيز بلغاء العرب المرتابين فيه عن الإتيان بما يضاهيه، فمقتضى المقام أن يقال لهم: معاشر الفصحاء المرتابين في أن القرآن من عند الله ائتوا بمقدار أقصر سورة من كلام البشر محلاة بطراز الإعجاز ونظمه، وما ذكر يدل على هذا إذا كان من مثله صفة سورة سواء كان الضمير- لما- أو- للعبد- لأن معناه ائتوا بمقدار سورة تماثله في البلاغة كائنة من كلام أحد، مثل هذا العبد في البشرية فهو معجز للبشر عن الإتيان بمثله أو ائتوا بمقدار سورة من كلام هو مثل هذا المنزل ومثل الشيء غيره فهو من كلام البشر أيضا، فإذا تعلق ورجع الضمير للعبد فمعناه أيضا- ائتوا من مثل هذا العبد في البشرية بمقدار سورة تماثله- فيفيد ما ذكرنا، ولو رجع على هذا لما كان معناه- ائتوا- من مثل هذا المنزل بسورة، ولا شك أن مِنْ ليست بيانية لأنها لا تكون لغوا ولا تبعيضية لأن المعنى ليس عليه فهي ابتدائية والمبدأ ليس فاعليا بل ماديا، فحينئذ المثل الذي السورة بعض منه لم يؤمر بالإتيان به، فلا يخلو من أن يدعي وجوده وهو خلاف الواقع وابتناؤه على الزعم أو الفرض تعسف بلا مقتض أولا ولا يليق بالتنزيل، وكيف يأتون ببعض من شيء لا وجود له؟! والحق عندي أن رجوع الضمير إلى كل من العبد، ومِمَّا على تقديري اللغو والاستقرار أمر ممكن، ودائرة التأويل واسعة والاستحسان مفوض إلى الذوق السليم، والذي يدركه ذوقي- ولا أزكّي نفسي- أنه على تقدير التعلق يكون رجوع الضمير إلى العبد أحلى، والبحث في هذه الآية مشهور، وقد جرى فيه بين العضد والجاربردي ما أدى إلى تأليف الرسائل في الانتصار لكل. وقد وفقت للوقوف على كثير منها والحمد لله، ونقلت نبذة منها في- الأجوبة العراقية- ثم أولي الوجوه هنا على الإطلاق جعل الظرف صفة للسورة والضمير للمنزل ومِنْ بيانية، أما أولا فلأنه الموافق لنظائره من آيات التحدي كقوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [يونس: 38] لأن المماثلة فيها صفة للمأتي به، وأما ثانيا فلأن الكلام في المنزل لا المنزل عليه وذكره إنما وقع تبعا ولو عاد الضمير إليه ترك التصريح بمماثلة السورة وهو عمدة التحدي وإن فهم، وأما ثالثا فلأن أمر الجم الغفير- لأن يأتوا من مثل ما أتى به واحد من جنسهم- أبلغ من أمرهم بأن يجدوا أحدا يأتي بمثل ما أتى به رجل آخر، وأما رابعا فلأنه لو رجع الضمير للعبد لأوهم أن إعجازه لكونه ممن لم يدرس ولم يكتب لا أنه في نفسه معجز مع أن الواقع هذا، وبعضهم رجح رد الضمير إلى العبد صلى الله تعالى عليه وسلم باشتماله على معنى مستبدع مستجد وبأن الكلام مسوق للمنزل عليه إذ التوحيد والتصديق بالنبوة توأمان، فالمقصود إثبات النبوة والحجة ذريعة فلا يلزم من الافتتاح بذكر- ما نزلنا- أن يكون الكلام مسوقا له وبأن التحدي على ذلك أبلغ، لأن المعنى اجتمعوا كلكم وانظروا هل يتيسر لكم الإتيان بسورة ممن لم يمارس الكتب ولم يدارس العلوم؟! وضم بنات أفكار بعضهم إلى بعض معارض بهذه الحجة بل هي أقوى في الإفحام إذ لا يبعد أن يعارضوه بما يصدر عن بعض علمائهم مما اشتمل على قصص الأمم الخالية المنقولة من الكتب الماضية وإن كان بينهما بون إذ الغريق يتشبث بالحشيش، وأما إذا تحدى بسورة من أمي كذا وكذا لم يبق للعوارض مجال، هذا ولا يخفى أنه صرح ممرد ونحاس مموه، وظاهر السباق يؤيد ما قلنا ويلائمه ظاهرا كما سنبينه بمنه تعالى، قوله تعالى: وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ الدعاء النداء والاستعانة، ولعل الثاني مجاز أو كناية مبنية على النداء لأن الشخص إنما ينادى ليستعان به، ومنه أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ [الإنعام: 40] والشهداء جمع شهيد أو شاهد، والشهيد كما قال الراغب: كل من يعتد بحضوره ممن له الحل والعقد، ولذا سموا غيره مخلفا وجاء بمعنى الحاضر، والقائم بالشهادة، والناصر، والإمام أيضا. ودُونِ ظرف مكان لا يتصرف ويستعمل- بمن- كثيرا- وبالياء- قليلا، وخصه في البحر بمن «دونها» ورفعه في قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 ألم تريا أني حميت حقيقتي ... وباشرت حد الموت والموت «دونها» نادر لا يقاس عليه ومعناها أقرب مكان من الشيء فهو- كعند- إلا أنها تنبىء عن دنو كثير وانحطاط يسير، ومنه دونك اسم فعل لا تدوين الكتب خلافا للبيضاوي- كما قيل- لأنه من الديوان الدفتر ومحله، وهي فارسي معرب من قول كسرى إذ رأى سرعة الكتاب في كتابتهم وحسابهم ديوانه. وقد يقال لا بعد فيما ذكره البيضاوي وديوان مما اشتركت فيه اللغتان، وقد استعمل في انحطاط محسوس لا في ظرف- كدون زيد في القامة- ثم استعير للتفاوت في المراتب المعنوية تشبيها بالمراتب الحسية- كدون عمرو شرفا- ولشيوع ذلك اتسع في هذا المستعار فاستعمل في كل تجاوز حد إلى حد ولو من دون تفاوت وانحطاط، وهو بهذا المعنى قريب غير فكأنه أداة استثناء، ومن الشائع دون بمعنى خسيس فيخرج عن الظرفية ويعرف بأل ويقطع عن الإضافة كما في قوله: إذا ما علا المرء رام العلا ... ويقنع «بالدون» من كان دونا وما في القاموس من أنه يقال رجل من دون، ولا يقال دون مخالف للدراية والرواية، وليس عندي وجه وجيه في توجيهه، والمشهور أنه ليس لهذا فعل، وقيل يقال: دان يدين منه واستعماله بمعنى فضلا وعليه حمل قول أبي تمام: الود للقربى ولكن عرفه ... للأبعد الأوطان «دون» الأقرب لم يسلمه أرباب التنقير نعم قالوا: يكون بمعنى وراء- كأمام- وبمعنى فوق ونقيضا له. ومِنْ لابتداء الغاية متعلقة بادعوا، ودون تستعمل بمعنى التجاوز في محل النصب على الحال، والمعنى ادعوا إلى المعارضة من يحضركم أو من ينصركم بزعمكم متجاوزين الله تعالى في الدعاء بأن لا تدعوه، والأمر للتعجيز والإرشاد أو ادعوا من دون الله من يقيم لكم الشهادة بأن ما أتيتم به مماثلة فإنهم لا يشهدون، ولا تدعوا الله تعالى للشهادة بأن تقولوا الله تعالى شاهد وعالم بأنه مثله فإن ذلك علامة العجز والانقطاع عن إقامة البينة والأمر حينئذ للتبكيت- والشهيد- على الأول بمعنى الحاضر، وعلى الثاني بمعنى الناصر، وعلى الثالث بمعنى القائم بالشهادة، قيل: ولا يجوز أن يكون بمعنى الإمام بأن يكون المراد بالشهداء الآلهة الباطلة لأن الأمر بدعاء الأصنام لا يكون إلا تهكما، ولو قيل: ادعوا الأصنام ولا تدعوا الله تعالى ولا تستظهروا به لانقلب الأمر من التهكم إلى الامتحان إذ لا دخل لإخراج الله تعالى عن الدعاء في التهكم، وفيه أن أي تهكم وتحميق أقوى من أن يقال لهم استعينوا بالجماد ولا تلتفتوا نحو رب العباد؟ ولا يجوز حينئذ أن تجعل دون بمعنى القدام إذ لا معنى لأن يقال ادعوها بين يدي الله تعالى أي في القيامة للاستظهار بها في المعارضة التي في الدنيا، وجوزوا أن تتعلق من ب «شهداءكم» وهي للابتداء أيضا، ودُونِ بمعنى التجاوز في محل النصب على الحال والعامل فيه معنى الفعل المستفاد من إضافة- الشهداء- أعني الاتخاذ، والمعنى ادعوا الذين اتخذتموهم أولياء مِنْ دُونِ اللَّهِ تعالى، وزعمتم أنها تشهد لكم يوم القيامة، ويحتمل أن يكون دُونِ بمعنى أمام حقيقة أو مستعارا من معناه الحقيقي الذي يناسبه أعني به أدنى مكان من الشيء وهو ظرف لغو معمول- لشهداء- ويكفيه رائحة الفعل فلا حاجة إلى الاعتماد ولا إلى تقدير ليشهدوا، ومِنْ للتبعيض كما قالوا في مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ [الرعد: 11، الجن: 27] لأن الفعل يقع في بعض الجهتين، وظاهر كلام الدماميني في شرح التسهيل. أنها زائدة، وهو مذهب ابن مالك، والجمهور على أنها ابتدائية، والمعنى ادعوا الذين يشهدون لكم بين يدي الله عز وجل على زعمكم، والأمر للتهكم، وفي التعبير عن الأصنام بالشهداء ترشيح له بتذكير ما اعتقدوه من أنها من الله تعالى بمكان، وأنها تنفعهم بشهادتهم كأنه قيل: هؤلاء عدتكم وملاذكم فادعوهم لهذه العظيمة النازلة بكم- فلا عطر بعد عروس، وما وراء عبادان قرية- ولم تجعل دُونِ بمعنى التجاوز لأنهم لا يزعمون شركته تعالى مع الأصنام في الشهادة فلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 وجه للإخراج، وقيل يجوز أن تكون مِنْ للابتداء والظرف حال ويحذف من الكلام مضاف، والمعنى- ادعوا شهداءكم- من فصحاء العرب وهم أولياء الأصنام متجاوزين في ذلك أولياء الله ليشهدوا لكم أنكم أتيتم بمثله، والمقصود بالأمر حينئذ إرخاء العنان والاستدراج إلى غاية التبكيت كأنه قيل: تركنا إلزامكم بشهداء الحق إلى شهدائكم المعروفين بالذنب عنكم فإنهم أيضا لا يشهدون لكم حذارا من اللائمة وأنفة من الشهادة البتة البطلان، كيف لا وأمر الإعجاز قد بلغ من الظهور إلى حيث لم يبق إلى إنكاره سبيل؟ وإخراج الله تعالى على بعض الوجوه لتأكيد تناول المستثنى منه بجميع ما عداه لا لبيان استبداده تعالى بالقدرة على ما كلفوه لإيهامه أنهم لو دعوه تعالى لأجابهم إليه وعلى بعض للتصريح من أول الأمر ببراءتهم منه تعالى وكونهم في عروة المحادة والمشاقة له قاصرين استظهارهم على ما سواه، والالتفات إما لإدخال الروع وتربية المهابة أو للإيذان بكمال سخافة عقولهم حيث آثروا على عبادة من له الألوهية الجامعة عبادة من لا أحقر منه- والصدق- مطابقة الواقع والمذاهب فيه مشهورة، والجواب إِنْ محذوف لدلالة الأول عليه وليس هو جوابا لهما، وكذا متعلق الصدق أي إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بزعمكم في أنه كلام البشر أو في أنكم تقدرون على معارضته- فأتوا، وادعوا- فقد بلغ السيل الزبى، وهذا كالتكرير للتحدي والتأكيد له، ولذا ترك العطف وجعل المتعلق الارتياب لتقدمه مما لا ارتياب في تأخره لأن الارتياب من قبيل التصور الذي لا يجري فيه صدق ولا كذب، والقول بأن المراد إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في احتمال أنه كذا مع ما فيه من التكلف لا يجدي نفعا لأن الاحتمال شك أيضا ، ومن التكلف بمكان قول الشهاب: إن المراد من النظم الكريم الترقي في إلزام الحجة، وتوضيح المحجة، فالمعنى إن ارتبتم فأتوا بنظيره ليزول ريبكم ويظهر أنكم أصبتم فيما خطر على بالكم وحينئذ فإن صدقت مقالتكم في أنه مفتري فأظهروها ولا تخافوا هذا، ووجه ملائمة الآية- لما قلناه في الآية السابقة- أنه سبحانه وتعالى أمرهم بالاستعانة إما حقيقة أو تهكما بكل ما يعينهم بالإمداد في الإتيان في- المثل- أو بالشهادة على أن المأتي به- مثل- ولا شك أن ذلك إنما يلائم إذا كانوا مأمورين بالإتيان بالمثل بخلاف ما إذا كان المأمور واحدا منهم فإنهم باعثون له على الإتيان فالملائم حينئذ نسبة الشهداء إليه لأنهم شهداء له، وإن صح نسبته إليهم- باعتبار مشاركتهم إياه في تلك الدعوى بالتحريك والحث والقول بأنهم مشاركون للمأتي منه في دعوى المماثلة- ليس بشيء لأنه شهادة على المماثلة ثم ترجيح رجوع الضمير للمنزل يقتضي ترجيح كون الظرف صفة للسورة أيضا، وقد أورد هاهنا أمور طويلة لا طائل تحتها. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ فذلكة لما تقدم فلذا أتى بالفاء أي إذا بذلتم في السعي غاية المجهود- وجاوزتم في الحد كل حد معهود متشبثين بالذيول راكبين متن كل صعب وذلول وعجزتم عن الإتيان بمثله وما يداينه في أسلوبه وفضله ظهر أنه معجز والتصديق به لازم- فآمنوا واتقوا النار، وأتى- بأن- والمقام- لإذا- لاستمرار العجز- وهو سبحانه وتعالى اللطيف الخبير- تهكما بهم كما يقول الواثق بالغلبة لخصمه إن غلبتك لم أبق عليك، وتحميقا لهم لشكهم في المتيقن الشديد الوضوح، ففي الآية استعارة تهكمية تبعية حرفية أو حقيقة وكناية كسائر ما جاء على خلاف مقتضى الظاهر، وقد يقال عبر بذلك نظرا لحال المخاطبين فإن العجز كان قبل التأمل كالمشكوك فيه لديهم لاتكالهم على فصاحتهم، وتَفْعَلُوا مجزوم بلم ولا تنازع بينها وبين إن، وإن تخيل، وقد صرح ابن هشام بأنه لا يكون بين الحروف لأنها لا دلالة لها على الحدث حتى تطلب المعمولات إلا أن ابن العلج أجازه استدلالا بهذه الآية، ورد بأن إن تطلب مثبتا، ولَمْ منفيا، وشرط التنازع الاتحاد في المعنى- فإن هنا داخلة على المجموع عاملة في محله كأنه قال: فإن تركتم الفعل، فيفيد الكلام استمرار عدم الإتيان المحقق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 في الماضي وبهذا ساغ اجتماعهما وإلا فبين مقتضاهما الاستقبال والمضي تناف، نعم قيل في ذلك إشكال لم يحرر دفعه بعد بما يشفي العليل: وهو أن المحل إن كان للفعل وحده لزم توارد عاملين في نحو- إن لم يقمن- وإن كان للجملة رد أنهم لم يعدوها مما لها محل أو للمحل مع الفعل فلا نظير له فلعلهم يتصيدون فعلا مما بعدها ويجزمونه بها وهو كما ترى، وعبر سبحانه عن الفعل الخاص حيث كان الظاهر- فإن لم تأتوا بسورة من مثله بالفعل المطلق العام- ظاهرا لإيجاز القصر، وفيه إيذان بأن المقصود بالتكليف إيقاع نفس الفعل المأمور به لإظهار عجزهم عنه لا تحصيل المفعول ضرورة استحالته، وإن مناط الجواب في الشرطية- أعني الأمر بالاتقاء- هو عجزهم عن إيقاعه لا فوت حصول المقصود، وقيل: أطلق الفعل وأريد به الإتيان مع ما يتعلق به على طريقة ذكر اللازم وإرادة الملزوم لما بينهما من التلازم المصحح للانتقال بمعونة قرائن الحال، أو على طريقة التعبير عن الأسماء الظاهرة بالضمائر الراجعة إليها حذرا من التكرير، والظاهر أن فيما عبر به إيجازا وكناية وإيهام نفي الإتيان بالمثل وما يدانيه بل وغيره، وإن لم يكن مرادا وَلَنْ كلا في نفي المستقبل وإن فارقتها بالاختصاص بالمضارع، وعمل النصب إلا فيما شذ من الجزم بها في قوله: «لن» يخب الآن من رجاك ومن ... حرك من دون بابك الحلقة و: لا تقتضي النفي على التأبيد وإن أفادت التأكيد والتشديد ولأطول مدة أو قلتها خلافا لبعضهم، وليس أصلها- لا أن- كما روي عن الخليل: فحذفت الهمزة لكثرتها وسقطت الألف للساكنين وتغير الحكم وصار «لن» تضرب كلاما تاما دون أن ومصحوبها، وقيل: به لقوله: يرجى المرء ما «لا أن» يلاقيه ... ويعرض دون أقربه الخطوب واحتمال زيادة أن يوهن الاحتجاج ولا- كما عند الفراء- فأبدلت ألفه نونا إذ لا داعي إلى ذلك وهو خلاف الأصل، والجملة اعتراض بين جزئي الشرطية ظاهرا مقرر لمضمون مقدمها ومؤكد لإيجاب العمل بتاليها، وهذه معجزة باهرة حيث أخبر بالغيب الخاص علمه به سبحانه وقد وقع الأمر كذلك، كيف لا ولو عارضوه بشيء يدانيه لتناقله الرواة لتوفر الدواعي؟ وما أتى به نحو مسيلمة الكذاب مما تضحك منه الثكلى لم يقصد به المعارضة وإنما ادعاه وحيا. وقوله سبحانه: فَاتَّقُوا جواب للشرط على أن اتقاء النار كناية عن ظهور إعجازه المقتضي للتصديق والإيمان به أو عن الإيمان نفسه وبهذا يندفع ما يتوهم من أن اتقاء النار لازم من غير توقف على هذا الشرط فما معنى التعليق، وأيضا الشرط سبب أو ملزوم للجزاء، وليس عدم الفعل سببا للاتقاء ولا ملزوما له فكيف وقع جزاء له، وبعضهم قدر لذلك جوابا، والتزمه جملة خبرية لأن الانشائية لا تقع جزاء كما لا تقع خبرا إلا بتأويل، والزمخشري لا يوجب ذلك فيها لعدم الحمل المقتضى له، والوقود- بالفتح كما قرأ به الجمهور ما يوقد به النار، وكذا كل ما كان على فعول اسم لما يفعل به في المشهور، وقد يكون مصدرا عند بعض، وحكوا ولوعا، وقبولا، ووضوءا، وطهورا، ووزوعا، ولغوبا. وقرأ عبيد بن عمير- وقيدها- وعيسى بن عمرو وغيره وَقُودُهَا بالضم، فإن كان اسما لما يوقد به كالمفتوح فذاك وإن كان مصدرا- كما قيل في سائر ما كان على فعول- فحمله على النار للمبالغة أو للتجوز فيه أو في التشبيه أو بتقدير مضاف أولا كذو وقودها أو ثانيا- كاحتراق- وهو نفسه خارجا غيره مفهوما وذاك مصداق الحمل، وحكي إن من العرب من يجعل المفتوح مصدرا والمضموم اسما فينعكس الحال فيما نحن فيه وَالْحِجارَةُ كحجار جمع كثرة لحجر، وجمع القلة أحجار وجمع فعل- بفتحتين- على فعال شاذ، وابن مالك في التسهيل يقول: إنه اسم جمع لغلبة وزنه في المفردات وهو الظاهر، والمراد بها على ما صح عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم، ولمثل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 ذلك حكم الرفع حجارة الكبريت، وفيها- من شدة الحر وكثرة الالتهاب وسرعة الإيقاد ومزيد الالتصاق بالأبدان، وإعداد أهل النار أن يكونوا حطبا مع نتن ريح وكثرة دخان ووفور كثافة (1) - ما نعوذ بالله منه، وفي ذلك تهويل لشأن النار وتنفير عما يجر إليها بما هو معلوم في الشاهد، وإن كان الأمر وراء ذلك فالعالم وراء هذا العالم وعيلم قدرة الجبار سبحانه وتعالى يضمحل فيه هذا العيلم، وقيل: المراد بها الأصنام التي ينحتونها وقرنها بهم في الآخرة وزيادة لتحسرهم حيث بدا لهم نقيض ما كانوا يتوقعون، وهناك يتم لهم نوعان من العذاب روحاني وجسماني، ويؤيد هذا قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98] وحملها على الذهب والفضة لأنهما يسميان حجرا- كما في القاموس- دون هذين القولين، الأصح أولهما عند المحدثين، وثانيهما عند الزمخشري ويشير إليه كلام الشيخ الأكبر قدس سره. وأل فيها- على كل- ليست للعموم، وذهب بعض أهل العلم إلى أنها له، ويكون المعنى أن النار التي وعدوا بها صالحة لأن تحرق ما ألقي فيها من هذين الجنسين فعبر عن صلاحيتها واستعدادها بالأمر المحقق، وذكر النَّاسُ وَالْحِجارَةُ تعظيما لشأن جهنم وتنبيها على شدة وقودها ليقع ذلك من النفوس أعظم موقع ويحصل به من التخويف ما لا يحصل بغيره وليس المراد الحقيقة وهو خلاف الظاهر والمتبادر من الآيات، ويوشك أن يكون سوء ظن بالقدرة ولا يتوهم من الاقتصار على هذين الجنسين أن لا يكون في النار غيرهما بدليل ما ذكر في غير موضع من كون الجن والشياطين فيها أيضا، نعم قال سيدي الشيخ الأكبر قدس سره: إنهم لهبها وأولئك جمرها، وبدأ سبحانه بالناس لأنهم الذين يدركون الآلام أو لكونهم أكثر إيقادا من الجماد لما فيهم من الجلود واللحوم والشحوم ولأن في ذلك مزيد التخويف، وإنما عرف النار وجعل الجملة- صلة وأنها يجب أن تكون قصة معلومة لأن المنكر في سورة التحريم نزل أولا فسمعوه بصفته فلما نزل هذا بعد جاء معهودا فعرف وجعلت صفته صلة وكون الصفة كذلك- الخطب فيه هين لما أن المخاطب هناك المؤمنون، وظاهر أنهم سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا أن في كون سورة التحريم نزلت أولا مقالا فتأمل أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ ابتداء كلام قطع عما قبله مع أن مقتضى الظاهر أن يعطف على الصلة السابقة اعتناء بشأنه بجعله مقصودا بالذات بالإفادة مبالغة في الوعيد، وجعله استئنافا بيانيا بأن يقدر لمن أعدت أو لم كان وقودها كذا وكذا، فمع عدم مساعدة عطف- بشر- الآتي على البناء للمفعول عليه لأنه لا يصلح للجواب إلا أن يقال المعطوف على الاستئناف لا يجب أن يكون استئنافا يأبى عنه الذوق، أما الأول فلأن السياق لا يقتضيه، وأما الثاني فلأن المقصد من الصلة التهويل، فالسؤال- بلم كان شأن النار كذا- مما لا معنى له، والجواب غير واف به وجعله حالا من النار- بإضمار قد والخبر من أجزاء الصلة لذي الحال لا من ضمير وَقُودُهَا للجمود أو لوقوع الفصل بالخبر الأجنبي حينئذ- ليس بشيء إذ لا يحسن التقييد بهذه الحال إلا أن يقال إنها لازمة بمنزلة الصفة فيفيد المعنى الذي تفيده الصلة، ولذا قيل: إنها صلة بعد صلة وتعدد الصلات كالصفات والأخبار كثير بعاطف وبدونه كما نص عليه الإمام المرزوقي وإن لم يظفر به السعد، أو معطوف بحذف الحرف كما صرح به ابن مالك وجعله صلة. ووَقُودُهَا النَّاسُ إما معترضة للتأكيد أو حال مما لا ينبغي أن يخرج عليه التنزيل، ومعنى أُعِدَّتْ هيئت، وقرأ عبد الله- اعتدت- من العتاد بمعنى العدة، وابن أبي عبلة- أعدها الله للكافرين- والمراد إما جنسهم والمخاطبون داخلون فيهم دخولا أوليا أو هم خاصة ووضع الظاهر موضع ضميرهم حينئذ لذمهم وتعليل الحكم بكفرهم وكون الإعداد للكافرين لا ينافي دخول غيرهم فيها على جهة التطفل فلا حاجة   (1) كما قال سبحانه: سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 إلى القول بأن نار العصاة غير نار الكفار، ثم ما يتبادر من الآية الكريمة أن النار مخلوقة الآن والله تعالى أعلم بمكانها في واسع ملكه، وجعل المستقبل لتحققه ماضيا- كنفخ في الصور- والإعداد مثله في أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً [الأحزاب: 35] كما يقول المعتزلة خلاف الظاهر، والذي ذهب أهل الكشف إليه أنها مخلوقة غير أنها لم تتم وهي الآن عندهم دار حرورها هواء محترق لا جمر لها البتة ومن فيها من الزبانية في رحمة منعمون يسبحون الله تعالى لا يفترون وتحدث فيها الآلام بحدوث أعمال الإنس والجن الذين يدخلونها، ولذا يختلف عذاب داخليها وحدها بعد الفراغ من الحساب ودخول أهل الجنة الجنة من مقعر فك الثوابت إلى أسفل السافلين، فهذا كله يزاد إلى ما هو الآن. ولذا كان يقول عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: إذا رأى البحر يا بحر متى تعود نارا، وكان يكره الوضوء بمائة ويقول: التيمم أحب إليّ منه وقال تعالى: وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ [التكوير: 6] أي أججت، وليس للكفار اليوم مكث فيها وإنما يعرضون عليها كما قال تعالى: غُدُوًّا وَعَشِيًّا [غافر: 46] وهي ناران حسية مسلطة على ظاهر الجسم، والإحساس والحيوانية، ومعنوية وهي الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ [الهمزة: 7] وبها يعذب الروح المدبر للهيكل الذي أمر فعصى، والمخالفة وهي عين الجهل بمن استكبر عليه أشد العذاب، وقد أطالوا الكلام في ذلك وأتوا بالعجب العجاب، وحقيقة الأمر عندي لا يعلمها إلا الله تعالى ولا شيء أحسن من التسليم لما جاء به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فكيفية ما في تلك النشأة الأخروية مما لا يمكن أن تعلم كما ينبغي لمن غرق في بحار العلائق الدنيوية- وماذا علي إذا آمنت بما جاء مما أخبر به الصادق من الأمور السمعية مما لا يستحيل على ما جاء وفوضت الأمر إلى خالق الأرض والسماء أسأل الله تعالى أن يثبت قلوبنا على دينه وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لما ذكر سبحانه وتعالى فيما تقدم الكفار- وما يؤول إليه حالهم في الآخرة وكان في ذلك أبلغ التخويف والانذار- عقب بالمؤمنين وما لهم جريا على السنة الإلهية من شفع الترغيب بالترهيب والوعد بالوعيد لأن من الناس من لا يجديه التخويف ولا يجديه وينفعه اللطف، ومنهم عكس ذلك فكأن هذا وما بعده معطوف على سابقه عطف القصة على القصة، والتناسب بينهما باعتبار أنه بيان لحال الفريقين المتباينين وكشف عن الوصفين المتقابلين، وهل هو معطوف على وَإِنْ كُنْتُمْ إلى أُعِدَّتْ أو على فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا الآية قولان؟ اختار السيد أولهما، وادعى بعضهم أنه أقضى لحق البلاغة، وأدعى لتلاؤم النظم لأن يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا خطاب عام يشمل الفريقين وَإِنْ كُنْتُمْ إلخ مختص بالمخالف ومضمونه الإنذار وَبَشِّرِ إلخ مختص بالموافق ومضمونه البشارة كأنه تعالى أوحى إلى نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم أن يدعو الناس إلى عبادته، ثم أمر أن ينذر من عاند ويبشر من صدق، والسعد اختار ثانيهما لأن السوق لبيان حال الكفار ووصف عقابهم وقيل عطف على فَاتَّقُوا وتغاير المخاطبين لا يضر ك يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي [يوسف: 29] وترتبه على الشرط بحكم العطف باعتبار أن- اتقوا- إنذار وتخويف للكفار وَبَشِّرِ تبشير للمؤمنين، وكل منهما مترتب على عدم المعارضة بعدم التحدي لأن عدم المعارضة يستلزم ظهور إعجازه وهو يستلزم- استيجاب منكره- العقاب، ومصدقه الثواب لأن الحجة تمت والدعوة كملت، واستيجابهما إياهما يقتضي الإنذار والتبشير، فترتب الجملة الثانية على الشرط ترتب الأولى عليه بلا فرق، وقد يقال إن الجزاء فآمنوا محذوفا والمذكور قائم مقامه فالمعنى إن لم تأتوا بكذا فآمنوا وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أي فليوجد إيمان منهم وبشارة منك ووضع الظاهر موضع الضمير، وفيه حث لهم على الإيمان، ولعله أقل مؤنة، واختار صاحب الإيضاح عطفه على- أنذر- مقدرا بعد جملة أُعِدَّتْ وقيل: عطف على- قل- قبل فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وتقديره قبل يا أَيُّهَا النَّاسُ يحوج إلى إجراء مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا على طريقة كلام العظماء، أو تقدير قال الله بعد قل، والبشارة- بالكسر والضم- اسم من بشر بشرا وبشورا- وتفتح الباء- فتكون بمعنى الجمال، وفي الفعل لغتان، التشديد وهي العليا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 والتخفيف وهي لغة أهل تهامة، وقرىء بهما في المضارع في مواضع والتكثير في المشدد بالنسبة إلى المفعول، فإن واحدا كان فعل فيه مغنيا عن فعل، وفسروها في المشهور، وصحح بالخبر السار الذي ليس عند المخبر علم به، واشترط بعضهم أن يكون صدقا، وعن سيبويه إنها خبر يؤثر في البشرة حزنا أو سرورا وكثر استعماله في الخير، وصححه في البحر فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: 21، التوبة: 34، الانشقاق: 24] ظاهر عليه، ومن باب التهكم على الأول والمأمور بالتبشير البشير النذير صلى الله تعالى عليه وسلم، وقيل: كل من يتأتى منه ذلك كما في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم «بشر المشائين إلى المساجد» الحديث ففيه رمز إلى أن الأمر لعظمته حقيق بأن يتولى التبشير به كل من يقدر عليه ويكون هناك مجاز إن كان الضمير موضوعا لجزئي بوضع كلي وإلا ففي الحقيقة والمجاز كلام في محله، ولم يخاطب المؤمنون كما خوطب الكفرة تفخيما لشأنهم وإيذانا تاما بأنهم أحقاء بأن يبشروا ويهنئوا بما أعد لهم، وقيل: تغيير للأسلوب لتخييل كمال التباين بين حال الفريقين، وعندي أنه سبحانه لما كسى رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم حلة عبوديته في قوله: مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا ناسب أن يطرزها بطراز التكليف بما يزيد حب أحبابه له فيزدادوا إيمانا إلى إيمانهم، وفي ذلك من اللطف به صلى الله تعالى عليه وسلم وبهم ما لا يخفى. وقرأ زيد بن علي وبشر مبنيا للمفعول وهو معطوف على أُعِدَّتْ كما اشتهر، وقيل: إنه خبر بمعنى الأمر فتوافق القراءتان معنى وعطفا، وتعليق التبشير بالموصول للإشعار بأنه معلل بما في حيز الصلة من الإيمان والعمل الصالح لكن لا لذاتهما بل بجعل الشارع ومقتضى وعده، وجعل صلته فعلا مفيدا للحدوث بعد إيراد الكفار بصيغة الفاعل لحث المخاطبين بالاتقاء على إحداث الإيمان وتحذيرهم من الاستمرار على الكفر، ثم لا يخفى أن كون مناط البشارة مجموع الأمرين لا يقتضي انتفاء البشارة عند انتفائه فلا يلزم من ذلك أن لا يدخل بالإيمان المجرد الجنة كما هو رأي المعتزلة على أن مفهوم المخالفة ظني لا يعارض النصوص الدالة على أن الجنة جزاء مجرد الإيمان، ومتعلق آمَنُوا مما لا يخفى، وقدره بعضهم هنا بأنه منزل من عند الله عز وجل، والصَّالِحاتِ جمع صالحة وهي في الأصل مؤنث الصالح اسم فاعل من صلح صلوحا وصلاحا خلاف فسدت، ثم غلبت على ما سوغه الشرع وحسنه، وأجريت مجرى الأسماء الجامدة في عدم جريها على الموصوف وغيره، وتأنيثها على تقدير الخلة وللغلبة ترك، ولم تجعل التاء للنقل لعدم صيرورتها اسما وأل- فيها للجنس لكن لا من حيث تحققه في الأفراد إذ ليس ذلك في وسع المكلف ولو أريد التوزيع يلزم كفاية عمل واحد بل في البعض الذي يبقى مع إرادته معناه الأصلي الجنسية مع الجمعية وهو الثلاثة أو الاثنان، والمخصص حال المؤمن فما يستطيع من الأعمال الصالحة بعد حصول شرائطه هو المراد، فالمؤمن الذي لم يعمل أصلا أو عمل عملا واحدا غير داخل في الآية، ومعرفة كونه مبشرا من مواقع أخر، وبعضهم جعل فيها شائبة التوزيع بأن يعمل كل ما يجب من الصالحات إن وجب قليلا كان أو كثيرا، وأدخل من أسلم ومات قبل أن يجب عليه شيء أو وجب شيء واحد، وليس هذا توزيعا في المشهور- كركب القوم دوابهم- إذ قد يطلق أيضا على مقابلة أشياء بأشياء أخذ كل منها ما يخصه سواء الواحد الواحد- كالمثال- أو الجمع الواحد- كدخل الرجال مساجد محلاتهم- أو العكس- كلبس القوم ثيابهم- ومنه فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ [المائدة: 6] والسيد يسمي هذا شائبة التوزيع أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أراد سبحانه ب أَنَّ لَهُمْ إلخ لتعدي البشارة بالباء فحذف لاطراد حذف الجار مع- أنّ، وأن- بغير عوض لطولهما بالصلة، ومع غيرهما فيه خلاف مشهور، وفي المحل بعد الحذف قولان، النصب بنزع الخافض كما هو المعروف في أمثاله، والجر لأن الجار بعد الحذف قد يبقى أثره ولام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 الجر للاستحقاق وكيفيته مستفادة من خارج ولا استحقاق بالذات فهو بمقتضى وعد الشارع الذي لا يخلفه فضلا وكرما لكن بشرط الموت على الإيمان، والجنة- في الأصل المرة من الجن- بالفتح- مصدر جنه إذا ستره، ومدار التركيب على الستر ثم سمي بها البستان الذي سترت أشجاره أرضه أو كل أرض فيها شجر ونخل فإن كرم ففردوس، وأطلقت على الأشجار نفسها ووردت في شعر الأعشى (1) بمعنى النخل خاصة ثم نقلت وصارت حقيقة شرعية في دار الثواب إذ فيها من النعيم «مالا، ولا» مما هو مغيب الآن عنا، وجمعت جمع قلة في المشهور لقلتها عددا كقلة أنواع العبادات ولكن في كل واحدة منها مراتب شتى ودرجات متفاوتة على حسب تفاوت الأعمال والعمال، وما نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها سبع لم يقف على ثبوته الحفّاظ، وتنوينها إما للتنويع أو للتعظيم، وتقديم الخبر لقرب مرجع الضمير وهو أسرّ للسامع، والشائع التقديم إذا كان الاسم نكرة ك إِنَّ لَنا لَأَجْراً [الأعراف: 113] وتحت- ظرف مكان لا يتصرف فيه بغير مِنْ كما نص عليه أبو الحسن، والضمير للجنات فإن أريد الأشجار فذاك مع ما فيه قريب في الجملة وإن أريد الأرض قيل- من تحت أشجارها- أو عاد عليها باعتبار الأشجار استخداما ونحوه، وقيل: إن «تحت» بمعنى جانب- كداري تحت دار فلان- وضعف كالقول- من تحت أوامر أهلها- وقيل: منازلها، وإن أريد مجموع الأرض والأشجار فاعتبار التحتية- كما قيل- بالنظر إلى الجزء الظاهر المصحح لاطلاق الجنة على الكل والوارد في الأثر الصحيح عن مسروق إن أنهار الجنة تجري في غير أخدود، وهذا في أرض حصباؤها الدر والياقوت أبلغ في النزهة وأحلى في المنظر وأبهج للنفس: وتحدث الماء الزلال مع الحصى ... فجرى النسيم عليه يسمع ما جرى والأنهار جمع نهر- بفتح الهاء وسكونها- والفتح أفصح، وأصله الشق، والتركيب للسعة ولو معنوية- كنهر السائل- بناء على أنه الزجر البليغ فأطلق على ما دون البحر وفوق الجدول، وهل هو نفس مجرى الماء أو الماء في المجرى المتسع؟ قولان: أشهرهما الأول، وعليه فالمراد مياهها أو ماؤها، وتأنيث تَجْرِي رعاية للمضاف إليه أو للفظ الجمع، وفي الكلام مجاز في النقص أو في الطرف «أولا، ولا» والإسناد مجازي، وأل- للعهد الذهني قيل: أو الخارجي لتقدم ذكر الأنهار في قوله تعالى: فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ [محمد: 15] الآية فإنها مكية على الأصح، وذي مدنية نزلت بعدها، واستبعده السيد والسعد، وقيل: عوض عن المضاف إليه- أي أنهارها- وهو مذهب كوفي، وحملها على الاستغراق على معنى يجري تحت الأشجار جميع أنهار الجنة فهو وصف لدار الثواب بأن أشجارها على شواطىء الأنهار وأنهارها تحت ظلال الأشجار أبرد من الثلج، ولا يخفى الكلام على جمع القلة. كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ صفة ثانية لجنات أخّرت عن الأولى لأن جريان الأنهار- من تحتها- وصف لها باعتبار ذاتها، وهذا باعتبار سكانها أو خبر مبتدأ محذوف- أي هم- والقرينة ذكره في السابقة واللاحقة، وكون الكلام مسوقا لبيان أحوال المؤمنين، وفائدة حذف هذا المبتدأ تحقق التناسب بين الجمل الثلاثة صورة لاسميتها، ومعنى لكونها جواب سؤال- كأنه قيل: ما حالهم في تلك الجنات؟ - فأجيب بأن لهم فيها ثمارا لذيذة عجيبة وأزواجا نظيفة وَهُمْ فِيها خالِدُونَ وتقدير المبتدأ هو أو هي- للشأن أو القصة- ليس بشيء بناء على أنه لا يجوز حذف هذا الضمير، وإذا لم تدخله النواسخ لا بد أن يكون مفسره جملة اسمية، نعم جاز تقدير هي للجنات والجملة خبر إلا أن التناسب أنسب أو جملة مستأنفة- كأنه لما وصف الجنات بما ذكر وقع في الذهن أن   (1) وهو قوله: كأن عيني في غربي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 ثمارها كثمار جنات الدنيا أولا فبين حالها وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ زيادة في الجواب ولو قدر السؤال نحو ألهم في الجنات لذات كما في هذه الدار أم أتم وأزيد؟ - كان أصح وأوضح، وأجاز أبو البقاء كونها حالا من الَّذِينَ أو من جَنَّاتٍ لوصفها وهي حينئذ حال مقدرة والأصل ... (1) الصاحبة، والقول: بأنها صفة مقطوعة دعوى موصولة بالجهل بشرط القطع وهو علم السامع باتصاف المنعوت بذلك النعت وإلا لاحتاج إليه ولا قطع مع الحاجة، وكُلَّما نصب على الظرفية ب قالُوا ورِزْقاً مفعول ثان- لرزقوا- كرزقه مالا أي أعطاه، وليس مفعولا مطلقا مؤكدا لعامله لأنه بمعنى المرزوق أعرف، والتأسيس خير من التأكيد مع اقتضاء ظاهر ما بعده له، وتنكيره للتنويع أو للتعظيم أي نوعا لذيذا غير ما تعرفونه، ومِنْ الأولى والثانية للابتداء قصد بهما مجرد كون المجرور بهما موضعا انفصل عنه الشيء، ولذا لا يحسن في مقابلتها نحو- إلى، وهما ظرفان مستقران واقعان حالا على التداخل، وصاحب الأولى رِزْقاً والثانية ضميره المستكن في الحال، والمعنى كل حين رزقوا- مرزوقا- مبتدأ من الجنات مبتدأ من ثمرة، والشائع كونهما لغوا، والرزق قد ابتدأ من الجنات، والرزق من الجنات قد ابتدأ من ثمرة وجعل بمنزلة أن تقول أعطاني فلان فيقال: من أين؟ فتقول: من بستانه، فيقول: من أي ثمرة؟ فتقول: من الرمان، وتحريره أن رُزِقُوا جعل مطلقا مبتدأ من الجنات ثم جعل مقيدا بالابتداء من ذلك مبتدأ من ثمرة، وعلى القولين لا يرد أنهم منعوا تعلق حرفي جر متحدي اللفظ والمعنى بعامل واحد والآية تخالفه، أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فلأن ذاك إذا تعلقا به من جهة واحدة ابتداء من غير تبعية. وما نحن فيه ليس كذلك للإطلاق والتقييد والمراد من الثمرة على هذا النوع- كالتفاح والرمان- لا الفرد لأن ابتداء الرزق من البستان من فرد يقتضي أن يكون المرزوق قطعة منه لا جميعه وهو ركيك جدا، ويحتمل أن تكون الثانية مبينة للمرزوق والظرف الأول لغو والثاني مستقر خلافا لمن وهم فيه وقع حالا من النكرة لتقدمه عليها ولتقدمها تقديرا جاز تقديم المبين على المبهم، والثمرة يجوز حملها على النوع وعلى الجنأة الواحدة ولم يلتفت المحققون إلى جعل الثانية تبعيضية في موقع المفعول، ورِزْقاً مصدر مؤكد أو في موقع الحال من رِزْقاً لبعده مع أن الأصل التبيين والابتداء فلا يعدل عنهما إلا لداع على أن مدلول التبعيضية أن يكون ما قبلها أو ما بعدها جزاء لمجرورها لا جزئيا فتأتي الركاكة هاهنا، وجمع سبحانه بين مِنْها ومِنْ ثَمَرَةٍ ولم يقل- من ثمرها- بدل ذلك لأن تعلق مِنْها يفيد أن سكانها لا تحتاج لغيرها لأن فيها كل ما تشتهي الأنفس، وتعلق مِنْ ثَمَرَةٍ يفيد أن المراد بيان المأكول على وجه يشمل جميع الثمرات دون بقية اللذات المعلومة من السابق واللاحق، وهذا إشارة إلى نوع ما رزقوا ويكفي إحساس أفراده وهذا كقولك مشيرا إلى نهر جاء هذا الماء لا ينقطع أو إلى شخصه، والإخبار عنه ب الَّذِي إلخ على جعله عينه مبالغة أو تقدير مثل الذي رزقناه من قبل أي في الدنيا، والحكمة في التشابه أن النفس تميل إلى ما يستطاب وتطلب زيادته: أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره ... هو المسك ما كررته يتضوع وهذا مختلف بحسب الأحوال والمقامات، أو لتبيين المزية وكنه النعمة فيما رزقوه هناك إذ لو كان جنسا لم يعهد ظن أنه لا يكون إلا كذلك أو في الجنة، والتشابه في الصورة إما مع الاختلاف في الطعم- كما روي عن الحسن «إن أحدهم يؤتى بالصحفة فيأكل منها ثم يؤتى بأخرى فيراها مثل الأولى فيقول ذلك؟ فيقول الملك: كل فاللون واحد والطعم مختلف» أو مع التشابه في الطعم أيضا كما يشير إليه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «والذي نفس   (1) بياض فبي الأصل قدر كلمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 محمد بيده إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي واصلة إلى فيه حتى يبدل الله تعالى مكانها مثلها» فلعلهم إذا رأوها على الهيئة الأولى قالوا ذلك، والداعي لهم لهذا القول فرط استغرابهم وتبجحهم بما وجدوا من التفاوت العظيم. والمشهور أن كون المراد بالقبلية في الدنيا أولى مما يقدم في الآخرة لأن كُلَّما تفيد العموم ولا يتصور قولهم ذلك في أول ما قدم إليهم، وقيل: كون المراد بها في الآخرة أولى لئلا يلزم انحصار ثمار الجنة في الأنواع الموجودة في الدنيا مع أن فيها ما علمت وما لم تعلم، على أن فيه توفية بمعنى حديث تشابه ثمار الجنة وموافقته- لمتشابها- بعد فإنه في رزق الجنة أظهر، وإعادة الضمير إلى المرزوق في الدارين تكلف وستسمعه بمنه تعالى، وفي الآية محمل آخر يميل إليه القلب بأن يكون ما رزقوه قبل هو الطاعات والمعارف التي يستلذها أصحاب الفطرة والعقول السليمة، وهذا جزاء مشابه لها فيما ذكر من اللذة كالجزاء الذي في ضده في قوله تعالى: ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [العنكبوت: 55] أي جزاءه- فالذي رزقناه- مجاز مرسل عن جزائه بإطلاق اسم المسبب على السبب ولا يضر في ذلك أن الجنة وما فيها من فنون الكرامات من الجزاء- كمالا في- أو هو استعارة بتشبيه الثمار والفواكه بالطاعات والمعارف فيما ذكر، وقيل: أرض الجنة قيعان يظهر فيها أعمال الدنيا كما يشير إليه بعض الآثار فثمرة النعيم ما غرسوه في الدنيا فتدبر وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً تذييل للكلام السابق- وتأكيد له بما يشتمل على معناه- لا محل له من الإعراب، ويحتمل الاستئناف والحالية بتقدير «قد» وهو شائع، وحذف الفاعل للعلم به وهو ظاهرا الخدم الولدان كما يشير إليه قراءة هارون والعتكي «وأتوا» على الفاعل وفيها إضمار لدلالة المعنى عليه، وقد أظهر ذلك في قوله تعالى: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إلى قوله سبحانه وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ والضمير المجرور إما على تقدير أن يراد- من قبل- في الدنيا فراجع إلى المفهوم الواحد الذي تضمنه اللفظان هذا- والَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وهو المرزوق في الدارين- أي أوتوا بمرزوق الدارين متشابها بعضه بالبعض- ويسمى هذا الطريق بالكناية الإيمائية ولو رجع الى الملفوظ لقيل بهما، وعبر عما بعضه ماض وبعضه مستقبل بالماضي لتحقق وقوعه، وفي الكشف أن المراد من المرزوق في الدنيا والآخرة الجنس الصالح التناول لكل منهما لا المقيد بهما، وإما على تقدير أن يراد في الجنة فراجع إلى الرزق أي أوتوا بالمرزوق في الجنة متشابه الأفراد. قال أبو حيان: والظاهر هذا لأن مرزوقهم في الآخرة هو المحدث عنه والمشبه- بالذي رزقوه من قبل- ولان هذه الجملة إنما جاءت محدثا بها عن الجنة وأحوالها وكونه يخبر عن المرزوق في الدنيا والآخرة- أنه متشابه ليس من حديث الجنة- إلا بتكلف، ولا يعكر- على دعوى متشابه ما في الدارين- ما أخرجه البيهقي وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: «ليس في الجنة من أطعمة الدنيا إلا الأسماء» لأنه لا يشترط فيه أن يكون من جميع الوجوه وهو حاصل في الصورة التي هي مناط الاسم وإن لم يكن في المقدار والطعم، وتحريره أن إطلاق الأسماء عليها لكونها على الاستعارة يقتضي الاشتراك فيما هو مناطها وهو الصورة، وبذلك يتحقق التشابه بينهما فالمستثنى في الأثر الأسماء وما هو مناطها بدلالة العقل وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ صفة ثالثة ورابعة للجنات وأوردت الأوليتان بالجملة الفعلية لإفادة التجدد، وهاتان بالاسمية لإفادة الدوام، وترك العاطف في البعض- مع إيراده في البعض- قيل: للتنبيه على جواز الأمرين في الصفات، واختص كل بما اختص به لمناسبة لا تخفى، وذهب أبو البقاء إلى أن هاتين الجملتين مستأنفتان، وجوز أن تكون الثانية حالا من ضمير الجمع في لَهُمْ والعامل فيها معنى الاستقرار- والأزواج- جمع قلة وجمع الكثرة زوجة- كعود وعودة- ولم يكثر استعماله في الكلام، وقيل: ولهذا استغني عنه بجمع القلة توسعا، وقد ورد في الآثار ما يدل على كثرة الأزواج في الجنة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 الحور وغيرهن، ويقال: الزوج للذكر والأنثى، ويكون لأحد المزدوجين ولهما معا، ويقال: للأنثى زوجة في لغة تميم، وكثير من قيس، والمراد هنا بالأزواج النساء اللاتي تختص بالرجل لا يشركه فيها غيره، وليس في المفهوم اعتبار التوالد الذي هو مدار بقاء النوع حتى لا يصح إطلاقه على أزواج الجنة لخلودهم فيها واستغنائهم عن الأولاد، على أن بعضهم صحح التوالد فيها وروى آثارا في ذلك لكن على وجه يليق بذلك المقام، وذكر بعضهم أن الأولاد روحانيون والله قادر على ما يشاء. ومعنى كونها مُطَهَّرَةٌ أن الله سبحانه نزههن عن كل ما يشينهن، فإن كن من الحور كما روي عن عبد الله- فمعنى التطهر خلقهن على الطهارة لم يعلق بهن دنس ذاتي ولا خارجي، وإن كن من بني آدم- كما روي عن الحسن- «من عجائزكم الرمص الغمص يصرن شواب» فالمراد إذهاب كل شين عنهن من العيوب الذاتية وغيرها. والتطهير- كما قال الراغب- يقال في الأجسام والأخلاق والأفعال جميعا، فيكون عاما هنا بقرينة مقام المدح لا مطلقا منصرفا إلى الكامل، وكمال التطهير إنما يحصل بالقسمين كما قيل: فإن المعهود من إرادة الكامل إرادة أعلى أفراده لا الجميع، وقرأ زيد بن علي- مطهرات- بناء على طهرن لا طهرت- كما في الأولى- ولعلها أولى استعمالا، وإن كان الكل فصيحا لأنهم قالوا: جمع ما لا يعقل إما أن يكون جمع قلة أو كثرة، فإن كان جمع كثرة فمجيء الضمير على حد ضمير الواحدة أولى من مجيئه على حد ضمير الغائبات، وإن كان جمع قلة فالعكس، وكذلك إذا كان ضميرا عائدا على جمع العاقلات الأولى فيه النون دون التاء ك فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ [البقرة: 234، الطلاق: 2] ويُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ [البقرة: 233] ولم يفرقوا في هذا بين جمع القلة والكثرة، ومجيء هذه الصفة مبينة للمفعول، ولم تأت طاهرة- وصف من طهر- بالفتح على الأفصح، أو طهر بالضم، وعلى الأول قياس، وعلى الثاني شاذ للتفخيم لأنه أفهم أن لها مطهرا وليس سوى الله تعالى، وكيف يصف الواصفون من طهره الرب سبحانه؟! وقرأ عبيد بن عمير «مطهرة» وأصله متطهرة فأدغم ولما ذكر سبحانه وتعالى مسكن المؤمنين ومطعمهم ومنكحهم وكانت هذه الملاذ لا تبلغ درجة الكمال مع خوف الزوال ولذلك قيل: أشد الغم عندي في سرور ... تيقن عنه صاحبه انتقالا أعقب ذلك بما يزيل ما ينغص إنعامه من ذكر الخلود في دار الكرامة، والخلود عند المعتزلة البقاء الدائم الذي لا ينقطع، وعندنا البقاء الطويل انقطع أو لم ينقطع، واستعماله في المكث الدائم من حيث إن مكث طويل لا من حيث خصوصه حقيقة وهو المراد هنا، وقد شهدت له الآيات والسنن، والجهمية يزعمون أن الجنة وأهلها يفنيان وكذا النار وأصحابها، والذي دعاهم إلى هذا أنه تعالى وصف نفسه بأنه الأول والآخر، والأولية تقدمه على جميع المخلوقات، والآخرية تأخره ولا يكون إلا بفناء السوي، ولو بقيت الجنة وأهلها كان فيه تشبيه لمن لا شبيه له سبحانه وهو محال، ولأنه إن لم يعلم أنفاس أهل الجنة كان جاهلا تعالى عن ذلك، وإن علم لزم الانتهاء وهو بعد الفناء، ولنا النصوص الدالة على التأييد والعقل معها لأنها دار سلام وقدس لا خوف ولا حزن. والمرء لا يهنأ بعيش يخاف زواله بل قيل: البؤس خير من نعيم زائل، والكفر جريمة خالصة فجزاؤها عقوبة خالصة لا يشوبها نقص، ومعنى «الأول والآخر» ليس كما في الشاهد بل بمعنى لا ابتداء ولا انتهاء له في ذاته من غير استناد لغيره فهو الواجب القدم المستحيل العدم، والخلق ليسوا كذلك، فأين الشبه والعلم لا يتناهى فيتعلق بما لا يتناهى، وما أنفاس أهل الجنة إلا كمراتب الأعداد؟! أفيقال: إن الله سبحانه لا يعلمها أو يقال إنها متناهية. تبا للجهمية ما أجهلهم، وأجهل منهم من قال: إن الأبدان مؤلفة من الأجزاء المتضادة في الكيفية معرضة للاستحالات المؤدية إلى الانحلال والانفكاك فكيف يمكن التأبيد، وذلك لأن مدار هذا على قياس هاتيك النشأة على هذه النشأة، وهيهات هيهات كيف يقاس ذلك العالم الكامل على عالم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 الكون والفساد؟! على أنه إذا ثبت كونه تعالى قادرا مختارا ولا فاعل في الوجود إلا هو فلم لا يجوز أن يعيد الأبدان بحيث لا تتحلل، أو إن تحللت فلم لا يجوز أن يخلق بدل ما تحلل دائما أبدا؟ وسبحان القادر الحكيم الذي لا يعجزه شيء إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره: نزلت في اليهود لما ضرب الله تعالى الأمثال في كتابه بالعنكبوت، والذباب وغير ذلك مما يستحقر قالوا: إن الله تعالى أعز وأعظم من أن يضرب الأمثال بمثل هذه المحقرات فرد الله تعالى عليهم بهذه الآية. ووجه ربطها بما تقدم على هذا- وكان المناسب عليه أن توضع في سورة العنكبوت مثلا- أنها جواب عن شبهة تورد على إقامة الحجة على حقية القرآن بأنه معجز فهي من الريب الذي هو في غاية الاضمحلال فكان ذكرها هنا أنسب، وقال مجاهد وغيره: نزلت في المنافقين، قالوا- لما ضرب الله سبحانه المثل بالمستوقد، والصيب- الله تعالى أعلى وأعظم من أن يضرب الأمثال بمثل هذه الأشياء التي لا بال لها فرد الله تعالى عليهم ووجه الربط عليه ظاهر فإنها للذب عن التمثيلات السابقة على أحسن وجه وأبلغه، وقيل: إنها متصلة بقوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً أي لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا لهذه الأنداد، وقيل: هذا مثل ضرب للدنيا وأهلها فإن البعوضة تحيا ما جاعت وإذا شبعت ماتت، كذلك أهل الدنيا إذا امتلؤوا منها هلكوا، أو مثل لأعمال العباد وأنه لا يمتنع أن يذكر منها ما قل أو كثر ليجازى عليه ثوابا وعقابا، وعلى هذين القولين لا ارتباط للآية بما قبلها بل هي ابتداء كلام، وهذا وإن جاز لا أقول به إذ المناسب بكل آية أن ترتبط بما قبلها وفي الآية إشارة إلى حسن التمثيل كيف والله سبحانه مع عظمته وبالغ حكمته لم يتركه ولم يستح منه. وما انفكت الأمثال في الناس سائرة. والحياء- كما قال الراغب- انقباض النفس عن القبائح، وهو مركب من جبن وعفة، وليس هو الخجل بل ذاك حيرة النفس لفرط الحياة فهما متغايران وإن تلازما، وقال بعضهم: الخجل لا يكون إلا بعد صدور أمر زائد لا يريده القائم به بخلاف الحياء فإنه قد يكون مما لم يقع فيترك لأجله، وما في القاموس خجل استحى تسامح، وهو مشتق من الحياة لأنه يؤثر في القوة المختصة بالحيوان وهي قوة الحس والحركة، والآية تشعر بصحة نسبة الحياء إليه تعالى لأنه في العرف لا يسلب الحياء إلا عمن هو شأنه، على أن النفي داخل على كلام فيه قيد فيرجع إلى القيد فيفيد ثبوت أصل الفعل أو إمكانه لا أقل، وأما في الأحاديث فقد صرح بالنسبة- وللناس في ذلك مذهبان- فبعض يقول بالتأويل إذ الانقباض النفساني مما لا يحوم حول حظائر قدسه سبحانه، فالمراد بالحياء عنده الترك اللازم للانقباض، وجوّز جعل ما هنا بخصوصه من باب المقابلة لما وقع في كلام الكفرة بناء على ما روي أنهم قالوا: ما يستحي رب محمد أن يضرب الأمثال بالذباب، والعنكبوت، وبعض- وأنا والحمد لله منهم لا يقول بالتأويل بل يمر هذا وأمثاله- مما جاء عنه سبحانه في الآيات والأحاديث- على ما جاءت ويكل علمها بعد التنزيه عما في الشاهد إلى عالم الغيب والشهادة، وقرأ الجمهور يستحيي بياءين والماضي استحيا، وجاء استفعل هنا للإغناء عن الثلاثي المجرد كاستأثر، وقرأ ابن كثير في رواية- وقليلون- بياء واحدة وهي لغة بني تميم، وهل المحذوف اللام فالوزن يستفع. أو العين فالوزن يستفل؟ قولان: أشهرهما الثاني، وهذا الفعل مما يكون متعديا بنفسه وبالحرف فيقال: استحييته واستحيت منه، والآية تحتملهما. والضرب إيقاع شيء على شيء، وضرب المثل من ضرب الدراهم وهو ذكر شيء يظهر أثره في غيره، فمعنى يضرب هنا يذكر، وقيل: يبين. وقيل: يضع من ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [آل عمران: 112] وما اسم بمعنى شيء يوصف به النكرة لمزيد الإبهام ويسد طرق التقييد، وقد يفيد التحقير أيضا- كاعطه شيئا ما- والتعظيم- كالأمر ما جدع قصير أنفه- والتنويع- كاضربه ضربا ما- وقد تجعل سيف خطيب، والقرآن أجل من أن يلغى فيه شيء، وبعوضة إما صفة- لما- أو بدل منها أو عطف بيان إن قيل بجوازه في النكرات أو بدل من مَثَلًا أو عطف بيان له إن قيل ما زائدة، أو مفعول ومَثَلًا حال وهي المقصودة، أو منصوب على نزع الخافض أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 ما من بعوضة فَما فَوْقَها كما نقل عن الفراء. والفاء بمعنى إلى، أو مفعول ثان أو أول بناء على تضمن الضرب معنى الجعل، ولا يرد على إرادة العموم أن مثال المعنى على المشهور أن الله لا يترك أي مثل كان فيقتضي أن جميع الأمثال مضروبة في كلامه فأين هي لأن المنفي ليس مطلق الترك بل الترك لأجل الاستحياء؟ فالمعنى لا يترك مَثَلًا ما استحياء وإن تركه لأمر آخر أراده، وقرأ ابن أبي عبلة، وجماعة: بعوضة بالرفع والشائع على أنه خبر، واختلفوا فيما يكون عنه خبرا فقيل مبتدأ محذوف- أي هي، أو هو- بعوضة، والجملة صلة ما على جعلها موصولة، وهو تخريج كوفي لحذف صدر الصلة من غير طول، وقيل: ما بناء على أنها استفهامية مبتدأ، واختار فى البحر أن تكون ما صلة أو صفة وهي بَعُوضَةً جملة كالتفسير لما انطوى عليه الكلام، وقيل: بَعُوضَةً مبتدأ، وما نافية والخبر محذوف- أي متروكة- لدلالة لا يَسْتَحْيِي عليه. «والبعوضة» واحد البعوض، وهو طائر معروف، وفيه من دقيق الصنع وعجيب الإبداع ما يعجز الإنسان أن يحيط بوصفه ولا ينكر ذلك إلا نمرود. وهو في الأصل صفة على فعول كالقطوع، ولذا سمي في لغة هذيل- خموش- فغلبت، واشتقاقه من البعض بمعنى القطع فَما فَوْقَها الفاء عاطفة ترتيبية، وما عطف على بَعُوضَةً أو «ما» إن جعل اسما والتفصيل وما فيه غير خفي. والمراد بالفوقية إما الزيادة في حجم الممثل به فهو ترقّ من الصغير للكبير، وبه قال ابن عباس، أو الزيادة في المعنى الذي وقع التمثيل فيه وهو الصغر والحقارة فهو تنزل من الحقير للأحقر، وهذان الوجهان على القراءة المشهورة وأما على قراءة الرفع فقد قالوا: إن جعلت «ما» موصولة ففيه الوجهان، وإن جعلت استفهامية تعين الأول لأن العظم مبتدأ من البعوضة إذ ذاك، وقيل: أراد- ما فوقها- وما دونها فاكتفى بأحد الشيئين عن الآخر على حد سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] فافهم. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ تفصيل لما أشار إليه قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي إلخ من أنه وقع فيه ارتياب بين التحقيق والارتياب، أو لما يترتب على ضرب المثل من الحكم إثر تحقيق حقية صدوره عنه سبحانه، والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما يشير إليه ما قبلها. وكأنه قيل كما قيل فيضربه فَأَمَّا الَّذِينَ إلخ، وتقديم بيان حال المؤمنين لشرفه، وأما على ما عليه المحققون حرف متضمنة لمعنى الشرط ولذا لزمتها الفاء غالبا، وتفيد مع هذا تأكيد ما دخلت عليه من الحكم وتكون لتفصيل مجمل تقدمها صريحا، أو دلالة، أو لم يتقدم لكنه حاضر في الذهن ولو تقديرا، ولما كان هذا خلاف الظاهر في كثير من موارد استعمالها جعله الرضى والمرتضى- من المحققين- أغلبيا، وفسر سيبويه- أما زيد فذاهب- بمهما يكن من شيء فزيد ذاهب وليس المراد به أنها مرادفة لذلك الاسم، والفعل إذ لا نظير له، بل المراد أنها لما أفادت التأكيد وتحتم الوقوع في المستقبل كان مآل المعنى ذلك. ولما أشعرت بالشرطية قدر شرط يدل على تحتم الوقوع وهو وجود شيء ما في الدنيا إذ لا تخلو عنه فما علق عليه محقق، وحيث كان المعنى ما ذكر سيبويه، ومهما مبتدأ والاسمية لازمة له، ويكن فعل شرط والفاء لازمة تليه غالبا، وقامت- أما ذلك المقام- لزمها الفاء ولصوق الاسم إقامة للازم مقام الملزوم، وإبقاء لأثره في الجملة وكان الأصل دخول الفاء على الجملة فيما ذكر لأنها الجزاء لكن كرهوا إيلاءها حرف الشرط فأدخلوا الخبر وعوضوا المبتدأ عن الشرط لفظا، وقد يقدم على الفاء- كما في الرضى- من أجزاء الجزاء المفعول به والظرف والحال إلى غير ذلك مما عدوه على ما فيه، وفي تصدير الجملتين بها من الإحماد والذم ما لا يخفى. والمراد بالموصول فريق المؤمنين المعهودين كما أن المراد بالموصول الآتي فريق الكفرة الطاغين لا من يؤمن بضرب المثل ومن يكفر به لاختلال المعنى، والضمير في أَنَّهُ للمثل، وهو أقرب، أو لضربه المفهوم من أن يضرب، وقيل: لترك الاستحياء المنقدح مما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 مر، وقيل: للقرآن والْحَقُّ خلاف الباطل، وهو في الأصل مصدر حق يحق من بابي ضرب وقتل إذا وجب أو ثبت، وقال الراغب: أصله المطابقة والموافقة، ويكون بمعنى الموجد بحسب الحكمة والموجد على وفقها والاعتقاد المطابق للواقع، وقيل: إنه الحكم المطابق، ويطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب باعتبار اشتماله على ذلك، ولم يفرق في المشهور بينه وبين الصدق إلا أنه شاع في العقد المطابق، والصدق في القول كذلك، وقد يفرق بينهما بأن المطابقة تعتبر في الحق من جانب الواقع وفي الصدق من جانب الحكم، وتعريفه هنا إما للقصر الادعائي كما يقال- هذا هو الحق- أو لدعوى الاتحاد ويكون المحكوم عليه مسلم الاتصاف، ومِنْ رَبِّهِمْ إما خبر بعد خبر أو حال من ضمير الحق، ومِنْ لابتداء الغاية المجازية، والتعرض لعنوان الربوبية للإشارة إلى أنهم يعترفون بحقية القرآن وبما أنعم الله تعالى به عليهم من النعم التي من أجلها نزول هذا الكتاب وهو المناسب لقوله سبحانه نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا وأما الكفرة المنكرون لجلاله المتخذون غيره من الأرباب فالله عز اسمه هو المناسب لحالهم وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران: 28، 30] وقيل: في ذلك- مع الإضافة إلى الضمير- تشريف وإيذان بأن ضرب المثل تربية لهم وإرشاد إلى ما يوصلهم إلى كمالهم اللائق بهم، والجملة سادة مسد مفعولي- يعلمون- عند الجمهور، ومسد الأول والثاني محذوف عند الأخفش أي فَيَعْلَمُونَ حقيته ثابتة. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا لم يقل سبحانه- وأما الذين كفروا فلا يعلمون- ليقابل سابقه لما في هذا من المبالغة في ذمهم والتنبيه بأحسن وجه على كمال جهلهم لأن الاستفهام إما لعدم العلم أو للإنكار وكل منهما يدل على الجهل دلالة واضحة: ومن قال للمسك أين الشذا ... يكذبه ريحه الطيب قيل: ولم يقل سبحانه هناك- وأما الذين آمنوا فيقولون- إلخ إشارة إلى أن المؤمنين اكتفوا بالخضوع والطاعة من غير حاجة إلى التكلم والكافرون لخبثهم وعنادهم لا يطيقون الأسرار لأنه كاخفاء الجمر في الحلفاء، وقيل: إن- يقولون- لا يدل صريحا على العلم وهو المقصود والكافرون منهم الجاهل والمعاند فَيَقُولُونَ إلخ أشمل وأجمع، وماذا لها ستة أوجه في استعمالهم. الأول أن تكون «ما» استفهامية في موضع رفع بالابتداء، وذا- بمعنى الذي خبره، وأخبر عن المعرفة بالنكرة هنا بناء على مذهب سيبويه في جوازه في أسماء الاستفهام. وغيره يجعل النكرة خبرا عن الموصول. الثاني أن تكون ماذا كلها استفهاما مفعولا- لأراد- وهذان الوجهان فصيحان اعتبرهما سائر المفسرين والمعربين في الآية، والاستفهام يحتمل الاستغراب والاستبعاد والاستهزاء ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ [النور: 40] ، الثالث أن يجعل- ما- استفهامية، وذا- صلة لا إشارة ولا موصولة، الرابع أن يجعلا معا موصولا كقوله. دعي ماذا علمت سأتقيه. الخامس أن يجعلا نكرة موصوفة وقد جوز في المثال، السادس أن تكون- ما- استفهامية، وذا- اسم إشارة خبر له. «والإرادة» كما قاله الراغب: منقولة من راد يرود إذا سعى في طلب شيء وهي في الأصل قوة مركبة من شهوة وخاطر وأمل، وجعل اسما لنزوغ النفس إلى الشيء مع الحكم فيه بأنه ينبغي أن يفعل أو لا يفعل، ثم يستعمل مرة في المبدأ وهو نزوغ النفس إلى الشيء وتارة في المنتهى وهو الحكم فيه بأنه ينبغي إلخ، وإرادة المعنى من اللفظ مجرد القصد وهو استعمال آخر ولسنا بصدده، وبين الإرادة والشهوة عموم من وجه لأنها قد تتعلق بنفسها بخلاف الشهوة فإنها إنما تتعلق باللذات، والإنسان قد يريد الدواء البشع ولا يشتهيه ويشتهي اللذيذ ولا يريده إذا علم فيه هلاكه وقد يشتهي ويريد. وللمتكلمين- أهل الحق وغيرهم- في تفسيرها مذاهب، فالكلبي والنجار وغيرهما على أن إرادته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 سبحانه لأفعاله أنه يفعلها عالما بها وبما فيها من المصلحة، ولأفعال غيره أنه أمر بها وطلبها، فالمعاصي إذا ليست بإرادته جل شأنه، ونحو ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وارد عليهم والجاحظ وبعض المعتزلة والحكماء على أن إرادته تعالى شأنه علمه بجميع الموجودات من الأزل إلى الأبد وبأنه كيف ينبغي أن يكون نظام الوجود حتى يكون على الوجه الأكمل، ويكفيه صدوره عنه حتى يكون الموجود على وفق المعلوم على أحسن النظام من غير قصد وطلب شوقي، ويسمون هذا العلم عناية وذهب الكرامية وأبو علي وأبو هاشم إلى أنها صفة زائدة على العلم إلا أنها حادثة قائمة بذاته عز شأنه عند الكرامية، وموجودة لا في محل عند الأبوين، والمذاهب الحق أنها ذاتية قديمة وجودية زائدة على العلم ومغايرة له وللقدرة، مخصصة لأحد طرفي المقدور بالوقوع، وكونها نفس الترجيح الذي هو من صفات الأفعال- كما قال البيضاوي عفا الله تعالى عنه- لم يذهب إليه أحد. وفي كلمة- هذا- استحقار للمشار إليه مثلها في أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [الفرقان: 41] وقد تكون للتعظيم بحسب اقتضاء المقام، ومَثَلًا نصب على التمييز عن نسبة الاستغراب ونحوه إلى المشار إليه. وقد ذكر الرضى- والعهدة عليه- أن الضمير واسم الإشارة إذا كانا مبهمين يجيء التمييز عنهما والعامل هما لتماميهما بنفسهما حيث يمتنع إضافتهما، وإذا كانا معلومين فالتمييز عن النسبة، ويحتمل أن يكون حالا من اسم الله تعالى أو من هذا أي ممثلا أو ممثلا به أو بضربه. يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً جملتان جاريتان مجرى البيان، والتفسير للجملتين المصدرتين- بأما- إذ يشتملان على أن كلا الفريقين موصوف بالكثرة وعلى أن العلم بكونه حقا من الهدى الذي يزداد به المؤمنون نورا إلى نورهم، والجهل بموقعه من الضلالة التي يزداد بها الجهال خبطا في ظلمتهم، وهاتان يزيدان ما تضمنتاه وضوحا أو أنهما جواب لدفع ما يزعمونه من عدم الفائدة في ضرب الأمثال بالمحقرات ببيان أنه مشتمل على حكمة جليلة وغاية جميلة هي كونه وسيلة إلى هداية المستعدين للهداية وإضلال المنهمكين في الغواية، وصرح بعضهم بأنهما جواب-لماذا- ووضع الفعلان موضع المصدر للإشعار بالاستمرار التجددي والمضارع يستعمل له كثيرا، ففي التعبير به هنا إشارة إلى أن الإضلال والهداية لا يزالان يتجددان ما تجدد الزمان، قيل: ووضعهما موضع الفعل الواقع في الاستفهام مبالغة في الدلالة على تحققهما فإن إرادتهما دون وقوعهما بالفعل وتجافيا عن نظم الإضلال مع الهداية في سلك الإرادة لإيهامه تساويهما في التعلق وليس كذلك، فإن المراد بالذات من ضرب المثل هو التذكير والاهتداء كما يشير إليه قوله تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر: 21] وأما الإضلال فعارض مترتب على سوء الاختيار، وقدم في النظم الإضلال على الهداية مع سبق الرحمة على الغضب، وتقدمها بالرتبة والشرف لأن قولهم ناشىء من الضلال مع أن كون ما في القرآن سببا له أحوج للبيان لأن سببيته للهدى في غاية الظهور، فالاهتمام ببيانه أولى، ووصف كل من القبيلتين بالكثرة بالنظر إلى أنفسهم وإلا فالمهتدون قليلون بالنسبة إلى أهل الضلال وبعيد حمل كثرة المهتدين على الكثرة المعنوية بجعل كثرة الخصائص اللطيفة بمنزلة كثرة الذوات الشريفة كما قيل: ولم أر أمثال الرجال تفاوتت ... لدى المجد حتى عد ألف بواحد لا سيما وقد ذكر معها الكثرة الحقيقية، هذا وجوّز بعضهم أن يكون قوله تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً إلخ في موضع الصفة- لمثل- فهو من كلام الكفار، ولعله من باب المماشاة مع المؤمنين إذ هم ليسوا بمعترفين بأن هذا المثل- يضل الله به كثيرا ويهدي به كثيرا- وأغرب من هذا تجويز ابن عطية أن يكون يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً من كلام الكفار وما بعده من كلام الله تعالى وهو إلباس في التركيب وعدول عن الظاهر من غير دليل، وإسناد الإضلال إليه تعالى حقيقي وقد تقدم وجهه فلا التفات إلى ما في الكشاف لأنه نزغة اعتزالية، والضمير في بِهِ للمثل أو لضربه في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 الموضعين، وقيل: في الأول للتكذيب، وفي الثاني للتصديق ودل على ذلك قوة الكلام، ولا يخفى ضعفه، وقرأ زيد بن علي يُضِلُّ هنا وفيما يأتي، ويَهْدِي بالبناء للمفعول وابن أبي عبلة في- الثلاثة- بالبناء للفاعل، ورفعا للفاسقين- خفضهم الله تعالى: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ تذييل أو اعتراض في آخر الكلام بناء على قول من جوزه، وقيل: حال، ومنع الساليكوتي عطفه على ما قبله قائلا لأنه لا يصح كونه جوابا وبيانا، وأجازه بعضهم تكملة للجواب وزيادة تعيين لمن أريد إضلالهم ببيان صفاتهم القبيحة المستتبعة له وإشارة إلى أن ذلك ليس إضلالا ابتدائيا بل هو تثبيت على ما كانوا عليه من فنون الضلال وزيادة فيه، والْفاسِقِينَ جمع فاسق من الفسق، وهو شرعا خروج العقلاء عن الطاعة فيشمل الكفر ودونه من الكبيرة والصغيرة. واختص في العرف والاستعمال بارتكاب الكبيرة فلا يطلق على ارتكاب الآخرين إلا نادرا بقرينة، وهو من قولهم: فسق الرطب إذا خرج من قشره، قال ابن الأعرابي: ولم يسمع الفسق وصفا للإنسان في كلام العرب، ولعله أراد في كلام الجاهلية كما صرح به ابن الأنباري، وإلا فقد قال رؤبة، وهو شاعر إسلامي يستدل بكلامه: يذهبن في نجد وغور أغائرا ... «فواسقا» عن قصدها جوائرا على أنه يمكن أن يقال: لم يخرج الفسق في البيت عن الوضع لأنه وضعا خروج الإجرام وبروز الأجسام من غير العقلاء، وما فيه خروج الإبل وهي لا تعقل. والمراد بالفاسقين هنا الخارجون عن حدود الإيمان وتخصيص الإضلال بهم مرتبا على صفة الفسق وما أجري عليهم من القبائح للإيذان بأن ذلك هو الذي أعدهم للإضلال وأدى بهم إلى الضلال فإن كفرهم وعدولهم عن الحق وإصرارهم على الباطل صرفت وجوه أنظارهم عن التدبر والتأمل حتى رسخت جهالتهم وازدادت ضلالتهم فأنكروا وقالوا ما قالوا، ونصب الْفاسِقِينَ على أنه مفعول يضل أو على الاستثناء والمفعول محذوف أي أحدا، ولا تفريغ كما في قوله: نجا سالم والنفس منه بشدة ... ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا ومنع ذلك أبو البقاء ولعله محجوج بالبيت الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ يحتمل النصب والرفع، والأول إما على الاتباع أو القطع- أي أذم- والثاني إما على الثاني من احتمالي الأول أو على الابتداء، والخبر جملة أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وعلى هذا تكون الجملة كأنها كلام مستأنف لا تعلق لها إلا على بعد والنقض- فسخ التركيب، وأصله يكون في الحبل ونقيضه الإبرام وفي الحائط ونحوه، ونقيضه البناء. وشاع استعمال النقض في إبطال العهد- كما قال الزمخشري- من حيث تسميتهم العهد بالحبل على سبيل الاستعارة لما فيه من ثبات الوصلة بين المتعاهدين، وهذا من أسرار البلاغة ولطائفها أن يسكتوا عن ذكر الشيء المستعار ثم يرمزوا بذكر شيء من روادفه فينبهوا بتلك الرمزة على مكانه نحو قولك: عالم يغترف منه الناس، وشجاع يفترس أقرانه. والحاصل أن في الآية استعارة بالكناية، والنقض استعارة تحقيقية تصريحية حيث شبه إبطال العهد بإبطال تأليف الجسم، وأطلق اسم المشبه به على المشبه لكنها إنما جازت وحسنت بعد اعتبار تشبيه العهد بالحبل، فبهذا الاعتبار صارت قرينة على استعارة الحبل للعهد، ومن هنا يظهر أن الاستعارة المكنية قد توجد بدون التخييلية وأن قرينتها قد تكون تحقيقية، وتحقيق البحث يطلب من محله، والعهد الموثق، وعهد إليه في كذا إذا أوصاه ووثقه عليه، واستعهد منه إذا اشترط عليه، واستوثق منه. والمراد بالعهد هاهنا إما العهد المأخوذ بالعقل وهو الحجة القائمة على عباده تعالى الدالة على وجوده ووحدته وصدق رسله صلى الله تعالى عليهم وسلم، وفي نقضها لهم ما لا يخفى من الذم لأنهم نقضوا ما أبرمه الله تعالى من الأدلة التي كررها عليهم في الأنفس والآفاق وبعث الأنبياء عليهم الصلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 والسلام وأنزل الكتب مؤكدا لها، والناقضون على هذا جميع الكفار. وأما المأخوذ من جهة الرسل على الأمم بأنهم إذا بعث إليهم رسول مصدق بالمعجزات صدقوه واتبعوه ولم يكتموا أمره. وذكره في الكتب المتقدمة ولم يخالفوا حكمه. والناقضون حينئذ أهل الكتاب والمنافقون منهم حيث نبذوا كل ذلك وراء ظهورهم وبدلوا تبديلا، والنقض على هذا عند بعضهم أشنع منه على الأول، وعكس بعض- ولكل وجهة- وقيل: الأمانة التي حملها الإنسان بعد إباء السماوات والأرض عن أن يحملنها، وقيل: هو ما أخذ على بني إسرائيل من أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، إلى غير ذلك من الأقوال وهي مبنية على الاختلاف في سبب النزول والظاهر العموم. ومِنْ للابتداء وكون المجرور بها موضعا انفصل عنه الشيء وخرج، وتدل على أن النقض حصل عقيب توثق العهد من غير فصل، وفيه إرشاد إلى عدم اكتراثهم بالعهد- فأثر ما استوثق الله تعالى منهم نقضوه- وقيل: صلة وهو بعيد، والميثاق مفعال وهو في الصفات كثير- كمنحار- ويكون مصدرا عند أبي البقاء والزمخشري- كميعاد- بمعنى الوعد، وأنكره جماعة وقالوا: هو اسم في موضع المصدر كما في قوله: أكفرا بعد رد الموت عني ... وبعد «عطائك» المائة الرتاعا ويكون اسم آلة- كمحراث- ولم يشع هذا وليس بالبعيد، والمراد به ما وثق الله تعالى به عهده من الآيات والكتب، أو ما وثقوه به من القبول والالتزام، والضمير للعهد لأنه المحدث عنه. ويجوز عوده إلى الله تعالى ولم يجوزه الساليكوتي لأن المعنى لا يتم بدون اعتبار العهد فهو أهم من ذكر الفاعل، ولأن الرجوع إلى المضاف خلاف الأصل، وأفهم كلام أبي البقاء أن الميثاق هنا مصدر بمعنى التوثقة، وفي الضمير الاحتمالان فإن عاد إلى اسم الله تعالى كان المصدر مضافا إلى الفاعل، وإن إلى العهد كان مضافا إلى المفعول، وحديث الرجوع إلى المضاف خصه بعض المحققين في غير الإضافة اللفظية، وأما فيها فمطرد كثير، وما نحن فيه كذلك لأنه مصدر أو مؤول بمشتق فيكون كقولك أعجبني ضرب زيد وهو قائم، والوجه أنها في نية الانفصال وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ما المقطوعة موصولة، أو نكرة موصوفة عند أبي البقاء، وفي المراد بها أقوال: «الأول» رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قطعوه بالتكذيب والعصيان- قاله الحسن- وفيه استعمال «ما» لمن يعقل بل سيد العقلاء بل العقل «الثاني» القول فإنه تعالى أمر- أن يوصل- بالعمل فلم يصلوه ولم يعملوا، وظاهر هذا أنها نزلت في المنافقين «الثالث» التصديق بالأنبياء أمروا بوصله فقطعوه بتكذيب بعض وتصديق بعض «الرابع» الرحم والقرابة قاله قتادة، وظاهره أنه أراد كفار قريش وأشباههم «الخامس» الأمر الشامل لما ذكر مما يوجب قطعه قطع الوصلة بين الله تعالى وبين العبد- المقصودة بالذات من كل وصل وفصل، ولعل هذا هو الأوجه لأن فيه حمل اللفظ على مدلوله من العموم ولا دليل واضح على الخصوص. ورجح بعضهم ما قبله بأن الظاهر- أن هذا توصيف للفاسقين بأنهم يضيعون حق الخلق بعد وصفهم بتضييع حق الحق سبحانه، وتضييع حقه بنقض عهده وحق خلقه بتقطيع أرحامهم- وليس بالقوي. والأمر القول الطالب للفعل مع علو عند المعتزلة أو استعلاء عند أبي الحسين، ويفسدهما ظاهر قوله تعالى حكاية عن فرعون: فَماذا تَأْمُرُونَ [الأعراف: 110، الشعراء: 35] ويطلق على التكلم بالصيغة وعلى نفسها، وفي موجبها خلاف، وهذا هو الأمر الطلبي. وقد نقل إلى الأمر الذي يصدر عن الشخص لأنه يصدر عن داعية تشبه الأمر فكأنه مأمور به أو لأنه من شأنه أن يؤمر به كما سمي الخطب والحال العظيمة شأنا. وهو مصدر في الأصل بمعنى القصد وسمي به ذلك لأن من شأنه أن يقصد. وذهب الفقهاء إلى أن الأمر مشترك بين القول والفعل لأنه يطلق عليه مثل وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [هود: 97] . وأَنْ يُوصَلَ يحتمل النصب والخفض على أنه بدل من ما أو من ضميره، والثاني أولى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 للقرب ولأن- قطع ما أمر الله تعالى بوصله- أبلغ من قطع وصل ما أمر الله تعالى به نفسه، واحتمال الرفع بتقدير هو- أو النصب بالبدلية من محل المجرور أو بنزع الخافض أو أنه مفعول لأجله- أي لأن- أو كراهية- أن ليس بشيء كما لا يخفى. وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ إفسادهم باستدعائهم إلى الكفر والترغيب فيه وحمل الناس عليه أو بإخافتهم السبل وقطعهم الطرق على من يريد الهجرة إلى الله تعالى ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم- أو بأنهم يرتكبون كل معصية يتعدى ضررها ويطير في الآفاق شررها- ولعل هذا أولى وذكر في الْأَرْضِ إشارة إلى أن المراد فساد يتعدى دون ما يقف عليهم. وأُولئِكَ إشارة إلى الْفاسِقِينَ باعتبار ما فصل من صفاتهم القبيحة، وفيه رمز إلى أنهم في المرتبة البعيدة من الذم وحصر- الخاسرين- عليهم باعتبار كما لهم في الخسران حيث أهملوا العقل عن النظر ولم يقتنصوا المعرفة المفيدة للحياة الأبدية والمسرة السرمدية، واشتروا النقض بالوفاء، والفساد بالصلاح، والقطعية بالصلة، والثواب بالعقاب فضاع منهم الطلبتان- رأس المال والربح- وحصل لهم الضرر الجسيم وهذا هو الخسران العظيم. وفي الآية ترشيح (1) للاستعارة المقدرة التي تتضمنها الآيات السابقة فافهم. كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ التفات إلى خطاب أولئك بعد أن عدد قبائحهم المستدعية لمزيد سخطه تعالى عليهم والإنكار إذا وجه إلى المخاطب كان أبلغ من توجيهه إلى الغائب وأردع له لجواز أن لا يصله. وكَيْفَ اسم ما ظرف- وعزي إلى سيبويه- فمحلها نصب دائما، أو غير ظرف- وعزي إلى الأخفش- فمحلها رفع مع المبتدأ ونصب مع غيره، وادعى ابن مالك أن أحدا لم يقل بظرفيتها إذ ليست زمانا ولا مكانا لكن لكونها تفسر بقولك على أي حال أطلق اسم الظرف عليها مجازا، واستحسنه ابن هشام ودخول الجر عليها شاذ. وأكثر ما تستعمل استفهاما والشرط بها قليل والجزم غير مسموع، وأجازه قياسا- الكوفيون وقطرب، والبدل منها أو الجواب إن كانت مع فعل مستغن منصوب ومع ما لا يستغنى مرفوع إن كان مبتدأ ومنصوب إن كان ناسخا. وزعم ابن موهب أنها تأتي عاطفة وليس بشيء، وهي هنا للاستخبار منضما إليه الإنكار والتعجيب لكفرهم بإنكار الحال الذي له مزيد اختصاص بها وهي العلم بالصانع والجهل به، ألا يرى أنه ينقسم باعتبارهما فيقال: كافر معاند وكافر جاهل؟ فالمعنى أفي حال العلم تكفرون أم في حال الجهل وأنتم عالمون بهذه القصة؟ وهو يستلزم العلم بصانع موصوف بصفات الكمال منزه عن النقصان، وهو صارف قوي عن الكفر، وصدور الفعل عن القادر مع الصارف القوي مظنة تعجيب وتوبيخ، وفيه إيذان بأن كفرهم عن عناد وهو أبلغ في الذم. وفيه من المبالغة أيضا ما ليس في «أتكفرون» لأن الإنكار الذي هو نفي قد توجه للحال التي لا تنفك. ويلزم من نفيها نفي صاحبها بطريق البرهان، وإن شئت عممت الحال. وإنكار أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها مع أن كل موجود يجب أن يكون وجوده على حال من الأحوال يستدعي إنكار وجود الكفر بذلك الطريق، ولا يرد أن الاستخبار محال على- اللطيف الخبير عز شأنه- لأنه إما أن يكون بمعنى طلب الخبر فلا نسلم المحالية إذ قد يكون لتنبيه المخاطب وتوبيخه ولا يقتضي جهل المستخبر ولا يلزم من ضم الإنكار والتعجيب إليه- وهما من المعاني المجازية للاستفهام- الجمع بين الحقيقة والمجاز إن كان الاستخبار حقيقة للصيغة، وبين معنيين مجازيين إن كان مجازا لأن الانفهام بطريق الاستتباع واللزوم لا من حلق الوسط، أو أنه تجوّز على تجوّز لشهرة الاستفهام في معنى الاستخبار حتى كأنه حقيقة فيه، وإما أن يكون بمعنى الاستفهام فنقول: لا قدح في صدوره ممن   (1) لأن الخسران من لوازم التجارة، والآيات تتضمن استبدال الأمور المذكورة بنقائضها المستعار له البيع والشراء اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 يعلم المستفهم عنه لأنه- كما في الإتقان- طلب الفهم. أما فهم المستفهم- وهو محال عليه تعالى- أو وقوع فهمه ممن لا يفهم كائنا من كان ولا استحالة فيه منه تعالى، وكذا لا استحالة في وقوع التعجيب منه تعالى بل قالوا: إذا ورد التعجب من الله جل وعلا لم يلزم محذور إذ يصرف إلى المخاطب أو يراد غايته أو يرجع إلى مذهب السلف، وأتى سبحانه- يتكفرون- ولم يأت بالماضي وإن كان الكفر قد وقع منهم- لأن الذي أنكر الدوام والمضارع هو المشعر به ولئلا يكون في الكلام توبيخ لمن وقع منه الكفر ممن آمن كأكثر الصحابة رضي الله تعالى عنهم. وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ما قبل ثُمَّ حال من ضمير تَكْفُرُونَ بتقدير قد لا محالة خلافا لمن وهم فيه. والمعنى كَيْفَ تَكْفُرُونَ وقد خلقكم، فعبر عن الخلق بذلك، ولما كان- مركوزا في الطباع ومخلوقا في العقول- أن لا خالق إلا الله كانت حالا تقتضي أن لا تجامع الكفر، والجمل بعد مستأنفة لا تعلق لها بالحال ولذا غايرت ما قبلها بالحرف والصيغة، ولك أن تجعل جميع الجمل مندرجة في الحال وهو في الحقيقة العلم بالقصة كأنه قيل: كَيْفَ تَكْفُرُونَ وأنتم عالمون بهذه القصة وبأولها وآخرها، فلا يضر اشتمالها على ماض ومستقبل، وكلاهما لا يصح أن يقع حالا، ورجح هذا جمع محققون، والحياة قوة تتبع الاعتدال النوعي ويفيض منها سائر القوى، وقيل: القوة الحساسة والعضو المفلوج حي وإلا لتسارع إليه الفساد، وعدم الاحساس بالفعل لا يدل على عدم القوة لجواز فقدان الأثر لمانع، وكأنهم أرادوا من ذلك قوة اللمس لأن مغايرة الحياة لما عداه من الحواس ظاهرة فإنها مختصة بعضو دون عضو، وأنها مفقودة في بعض أنواع الحيوانات، وأنه يلزم تعدد الحياة بالنوع في شخص واحد إن قيل بكون الحياة كل واحد منها. وتركبها في الخارج إن أريد مجموعها، وتطلق مجازا على القوة النامية لأنها من طلائعها ومقدماتها، وعلى ما يخص الإنسان من الفضائل كالعقل والعلم والإيمان من حيث إنها كمالها وغايتها، والموت- مقابل لها في كل مرتبة والكل (1) في كتاب الله تعالى وحياته سبحانه وتعالى صحة اتصافه جل شأنه بالعلم والقدرة أو معنى قائم بذاته تعالى يقتضي ذلك، وأين التراب من رب الأرباب. ثم إن للناس في المراد بما في الآية الكريمة أقوالا شتى، والمروي عن ابن عباس، وابن مسعود، ومجاهد رضي الله تعالى عنهم أن المراد بالموت الأول العدم السابق، والإحياء الأول الخلق والموت الثاني المعهود في الدار الدنيا، والحياة الثانية البعث للقيامة، واختاره بعض المحققين وادعى أن قوله تعالى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً وإسناده آخر الإماتة إليه تعالى مما يقويه، واختار آخرون أن كونهم أمواتا هو من وقت استقرارهم نطفا في الأرحام إلى تمام الأطوار بعدها، وأن الحياة (2) الأولى نفخ الروح بعد تلك الأطوار، والإماتة- هي المعهودة- والإحياء بعدها- هو البعث- يوم ينفخ في الصور ولعله أقرب من الأول، وإطلاق الأموات على تلك الأجسام مجاز إن فسر- الموت- بعدم الحياة عمن اتصف به، وحقيقة إن فسر بعدم الحياة عما من شأنه، قاله الساليكوتي، ويفهم كلام بعضهم: أنه على معنى كالأموات على التفسير الثاني وإن فسر بعدم الحياة مطلقا كان حقيقة وهو المشهور وأبعد الأقوال عندي حمل الموت الأول على المعهود بعد انقضاء الأجل، والإحياء الأول على ما يكون للمسألة في القبر فيكون قد وضع الماضي موضع المستقبل لتحقق الوقوع، ثم لا دليل في الآية على المختار لنفي عذاب القبر إذ نهاية ما فيها عدم ذكر الاحياء المصحح له، ونحن لا نستدل لها   (1) قال الشيخ: أول الحواس الذي يصير به الحيوان حيوانا هو اللمس فأنه كما أن للنبات قوة غاذية يجوز ان يفقد سائر القوى دونها. كذلك حال اللامسة للإنسان اهـ. (2) قال الله تعالى: قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ وقال سبحانه: أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وقال عز شأنه: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 بذلك الوجه عليه ولنا- والحمد لله تعالى- في ذلك المطلب أدلة شتى، وكذا لا دليل للمجسمة القائلين بأنه تعالى في مكان في ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ لأن المراد بالرجوع إليه الجمع في المحشر حيث لا يتولى الحكم سواه والأمر يومئذ لله، ووراء هذا من المقال ما لا يخفى على العارفين، وفي قوله تعالى: تُرْجَعُونَ على البناء للمفعول دون- يرجعكم- المناسب للسياق مراعاة لتناسب رؤوس الآي مع وجود التناسب المعنوي للسياق، ولهذا قيل: إن قراءة الجمهور أفصح من قراءة يعقوب ومجاهد، وجماعة «ترجعون» مبنيا للفاعل، ولا يرد أن الآية إذا كانت خطابا للكفار- ومعنى العلم ملاحظ فيها- امتنع خطابهم بما بعد- ثم وثم- من الفعلين لأنهم لا يعلمون ذلك لأن تمكنهم من العلم لوضوح الأدلة آفاقية وأنفسية- وسطوع أنوارها عقلية ونقلية- منزل منزل العلم في إزاحة العذر، وبهذا يندفع أيضا ما قيل: هم شاكون في نسبة ما تقدم إليه تعالى فكيف يتأتى ذلك الخطاب به، ويحتمل كما قيل: أن يكون الخطاب في الآية للمؤمن والكافر فإنه سبحانه لما بين دلائل التوحيد أيضا من قوله سبحانه: يا أَيُّهَا النَّاسُ إلى فَلا تَجْعَلُوا ودلائل النبوة من وَإِنْ كُنْتُمْ إلى إِنْ كُنْتُمْ وأوعد ب فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا الآية، ووعد ب وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا إلخ أكد ذلك بأن عدد عليهم النعم العامة من قوله وَكُنْتُمْ أَمْواتاً إلى هُمْ فِيها خالِدُونَ والخاصة من يا بَنِي إِسْرائِيلَ [البقرة: 40] إلى ما نَنْسَخْ [البقرة: 106] واستقبح صدور الكفر- مع تلك النعم منهم- توبيخا للكافر وتقريرا للمؤمن وعد الإماتة نعمة لأنها وصلة إلى الحياة الأبدية واجتماع المحب بالحبيب، وقد يقال: إن المعدود عليهم كذلك هو المعنى المنتزع من القصة بأسرها. «ومن الإشارة» قول ابن عطاء وَكُنْتُمْ أَمْواتاً بالظاهر فَأَحْياكُمْ بمكاشفة الأسرار ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عن أوصاف العبودية ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بأوصاف الربوبية، وقال فارس: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً بشواهدكم فَأَحْياكُمْ بشواهده ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عن شاهدكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بقيام الحق ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ عن جميع ما لكم فتكونون له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً معطوف على قوله تعالى: وَكُنْتُمْ وترك الحرف إما لكونه كالنتيجة له أو للتنبيه على الاستقلال في إفادة ما أفاده، وذكر أنه بيان نعمة أخرى مترتبة على الأولى، وأريد بترتبها أن الانتفاع بها يتوقف عليها فإن النعمة إنما تسمى نعمة من حيث الانتفاع بها، وهُوَ لغير المتكلم والمخاطب، وفيه لغات: تخفيف الواو مفتوحة، وحذفها في الشعر، وتشديدها لهمدان، وتسكينها لأسد وقيس، وهُوَ عند أهل الله تعالى اسم من أسمائه تعالى ينبىء عن كنه حقيقته المخصوصة المبرأة عن جميع جهات الكثرة، وهُوَ اسم مركب من حرفين الهاء والواو، والهاء- أصل، والواو- زائدة بدليل سقوطها في التثنية والجمع فليس في الحقيقة إلا حرف واحد دال على الواحد الفرد الذي لا موجود سواه وكل شيء هالك إلا وجهه، ولمزيد ما فيه من الأسرار اتخذه الأجلّة مدارا لذكرهم وسراجا لسرهم، وهو جار مع الأنفاس، ومسماه غائب عن الحدس والقياس، وفي «جعل» الضمير مبتدأ والموصول خبرا من الدلالة على الجلالة ما لا يخفى، وتقديم الظرف على المفعول الصريح لتعجيل المسرة واللام للتعليل والانتفاع- أي خلق لأجلكم جميع ما في الأرض- لتنتفعوا به في أمور دنياكم بالذات أو بالواسطة وفي أمور دينكم بالاستدلال والاعتبار، واستدل كثير من أهل السنة- الحنفية، والشافعية- بالآية على إباحة الأشياء النافعة قبل ورود الشرع، وعليه أكثر المعتزلة، واختاره الإمام في المحصول، والبيضاوي في المنهاج. واعترض بأن اللام تجيء لغير النفع ك إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الإسراء: 7] وأجيب بأنها مجاز لاتفاق أئمة اللغة على أنها للملك ومعناه الاختصاص النافع، وبأن المراد النفع بالاستدلال، وأجيب بأن التخصيص خلاف الظاهر مع أن ذلك حاصل لكل مكلف من نفسه فيحمل على غيره، وذهب قوم إلى أن الأصل في الأشياء قبل الحظر، وقال قوم بالوقف لتعارض الأدلة عندهم، واستدلت الإباحية بالآية على مدعاهم قائلين إنها تدل على أن ما في الأرض جميعا خلق للكل فلا يكون لأحد اختصاص بشيء أصلا، ويرده أنها تدل على أن الكل للكل، ولا ينافي اختصاص البعض بالبعض لموجب، فهناك شبه التوزيع، والتعيين يستفاد من دليل منفصل، ولا يلزم اختصاص كل شخص بشيء واحد كما ظنه الساليكوتي، وما تعم جميع ما في الأرض لأنفسها إذ لا يكون الشيء ظرفا لنفسه إلا أن يراد بها جهة السفل كما يراد بالسماء جهة العلو ويكفي في التحدر العرش المحيط، أو تجعل الجهة اعتبارية، نعم قيل: تعم كل جزء من أجزاء الأرض- فإنه من جملة ضروراتها- ما فيها ضرورة وجود الجزء في الكل والمغايرة اعتبارية والقول: بأن الكلام على تقدير معطوف أي خلق ما في الأرض والأرض- لا أرضى به، وبعضهم لم يتكلف شيئا من ذلك، واستغنى بتقدم الامتنان بالأرض في قوله تعالى: جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً [البقرة: 22] وجَمِيعاً حال مؤكدة من كلمة «ما» ولا دلالة لها كما ذكره البعض على الاجتماع الزماني وهذا بخلاف معا، وجعله حالا من ضمير لَكُمْ يضعفه السياق لأنه لتعداد النعم دون المنعم عليه مع أن مقام الامتنان يناسبه المبالغة في كثرة النعم، ولاعتبار المبالغة لم يجعلوه حالا من الأرض أيضا ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ أي علا إليها وارتفع من غير تكييف ولا تمثيل ولا تحديد- قاله الربيع- أو قصد إليها بإرادته قصدا سويا بلا صارف يلويه ولا عاطف يثنيه من قولهم: استوى إليه- كالسهم المرسل- إذا قصده قصدا مستويا من غير أن يلوي على شيء- قاله الفراء- وقيل: استولى وملك كما في قوله: فلما «علونا واستوينا عليهم» ... تركناهم صرعى لنسر وكاسر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وهو خلاف الظاهر لاقتضائه كون إِلَى بمعنى على، وأيضا الاستيلاء مؤخر عن وجود المستولى عليه فيحتاج إلى القول بأن المراد استولى على إيجاد السماء فلا يقتضي تقدم الوجود ولا يخفى ما فيه. والمراد بالسماء الأجرام العلوية أو جهة العلو. وثم قيل: للتراخي في الوقت، وقيل: لتفاوت ما بين الخلقين، وفضل خلق السماء على خلق الأرض، والناس مختلفون في خلق السماء وما فيها، والأرض وما فيها باعتبار التقدم والتأخر لتعارض الظواهر في ذلك، فذهب بعض إلى تقدم خلق السماوات لقوله تعالى: أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها وَالْجِبالَ أَرْساها [النازعات: 27- 32] وذهب آخرون إلى تقدم خلق الأرض لقوله تعالى: أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: 9] إلى قوله سبحانه: وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها [فصلت: 10- 12] وجمع بعضهم فقال: إن أَخْرَجَ مِنْها ماءَها بدل أو عطف بيان «لدحاها» أي بسطها مبين للمراد منه فيكون تأخرها ليس بمعنى تأخر ذاتها بل بمعنى تأخر- خلق ما فيها- وتكميله وترتيبه بل خلق التمتع والانتفاع به فإن البعدية كما تكون باعتبار نفس الشيء تكون باعتبار جزئه الأخير. وقيده المذكور كما لو قلت: بعثت إليك رسولا ثم كنت بعثت فلانا لينظر ما يبلغه فبعث الثاني، وإن تقدم لكن ما بعث لأجله متأخر فجعل نفسه متأخرا وما رواه الحاكم والبيهقي- بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في التوفيق بين الآيتين- يشير إلى هذا، ولا يعارضه ما رواه ابن جرير وغيره وصححوه عنه أيضا- «إن اليهود أتت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فسألته عن خلق السماوات والأرض فقال: خلق الله تعالى الأرض يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال وما فيهن من المنافع يوم الثلاثاء، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب، فهذه أربعة فقال تعالى: أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ إلى سَواءً لِلسَّائِلِينَ وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة» - لجواز أن يحمل على أنه خلق مادة ذلك وأصوله إذ لا يتصور المدائن والعمران والخراب قبل، فعطفه عليه قرينة لذلك، واستشكال الإمام الرازي تأخر التدحية عن خلق السماء بأن الأرض جسم عظيم فامتنع انفكاك خلقها عن التدحية فإذا كانت التدحية متأخرة كان خلقها أيضا متأخرا مبني كما قيل: على الغفلة لأن من يقول بتأخر دحوها عن خلقها لا يقول بعظمها ابتداء بل يقول. إنها في أول الخلق كانت كهيئة الفهر ثم دحيت، فيتحقق الانفكاك ويصح تأخر دحوها عن خلقها، وقوله قدس سره: إن خلق الأشياء في الأرض- لا يمكن إلا إذا كانت مدحوة- لا يخفى دفعه بناء على أن المراد بذلك خلق المواد والأصول لا خلق الأشياء فيها كما هو اليوم وقال بعض المحققين: اختلف المفسرون في أن خلق السماء مقدم على خلق الأرض أو مؤخر؟ نقل الإمام الواحدي عن مقاتل الأول- واختاره المحققون- ولم يختلفوا في أن جميع ما في الأرض مما ترى مؤخر عن خلق السماوات السبع بل اتفقوا عليه، فحينئذ يجعل- الخلق- في الآية الكريمة بمعنى التقدير لا الإيجاد أو بمعناه ويقدر الإرادة- ويكون المعنى أراد خلق ما في الأرض جميعا- لكم على حد إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة: 6] وفَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ [الإسراء: 45] ولا يخالفه وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها فإن المتقدم على خلق السماء إنما هو تقدير الأرض وجميع ما فيها، أو إرادة إيجادها والمتأخر عن خلق السماء إيجاد الأرض وجميع ما فيها فلا إشكال، وأما قوله سبحانه وتعالى: خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: 9] فعلى تقدير الإرادة، والمعنى أراد خلق الأرض، وكذا وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ [الرعد: 3، فصلت: 10] ينبغي أن يكون بمعنى أراد أن يجعل، ويؤيد ذلك قوله تعالى: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: 11] فإن الظاهر أن المراد ائتيا في الوجود، ولو كانت الأرض موجودة سابقة لما صح هذا فكأنه سبحانه قال: أئنكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 لتكفرون بالذي أراد إيجاد الأرض وما فيها من الرواسي والأقوات في أربعة أيام ثم قصد إلى السماء فتعلقت إرادته بإيجاد السماء والأرض فأطاعا بأمر التكوين فأوجد سبع سماوات في يومين وأوجد الأرض وما فيها في أربعة أيام. «بقي هاهنا» بيان النكتة في تغيير الأسلوب حيث قدم في الظاهر هاهنا وفي «حم» السجدة خلق الأرض وما فيها على خلق السماوات وعكس في- النازعات- ولعل ذلك لأن المقام في الأولين مقام الامتنان فمقتضاه تقديم ما هو نعمة نظرا إلى المخاطبين فكأنه قال سبحانه وتعالى: هو الذي دبر أمركم قبل خلق السماء ثم خلق السماء، والمقام في الثالثة مقام بيان كمال القدرة فمقتضاه تقديم ما هو أدل على كمالها، هذا والذي يفهم من بعض عبارات القوم قدس الله تعالى أسرارهم أن المحدد- ويقال له سماء أيضا- مخلوق قبل الأرض وما فيها، وأن الأرض نفسها خلقت بعد، ثم بعد خلقها خلقت السماوات السبع، ثم بعد السبع خلق ما في الأرض من معادن ونبات، ثم ظهر عالم الحيوان، ثم عالم الإنسان، فمعنى خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ حينئذ قدره أو أراد إيجاده أو أوجد مواده، ومعنى وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ إلخ في الآية الأخرى على نحو هذا، «وخلق الأرض فيها» على ظاهرة ولا يأباه قوله سبحانه: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا إلخ لجواز حمله على معنى ائتيا بما خلقت فيكما من التأثير والتأثر وإبراز ما أودعتكما من الأوضاع المختلفة والكائنات المتنوعة، أو إتيان السماء حدوثها وإتيان الأرض أن تصير مدحوة أو ليأت كل منكما الأخرى في حدوث ما أريد توليده منكما، وبعد هذا كله لا يخلو البحث من صعوبة، ولا زال الناس يستصعبونه من عهد الصحابة رضي الله تعالى عنهم إلى الآن، ولنا فيه إن شاء الله تعالى عودة بعد عودة، ونسأل الله تعالى التوفيق فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ الضمير للسماء إن فسرت بالأجرام، وجاز أن يرجع إليها بناء على أنها جمع أو مؤولة به، وإلا فمبهم يفسره ما بعده على حد- نعم رجلا- وفيه من التفخيم والتشويق والتمكين في النفس ما لا يخفى، وفي نصب سَبْعَ خمسة أوجه: البدل من المبهم، أو العائد إلى السماء، أو مفعول به أي سوى منهن، أو حال مقدرة، أو تمييز، أو مفعول ثان لسوى بناء على أنها بمعنى صير- ولم يثبت- والبدلية أرجح لعدم الاشتقاق وبعدها الحالية- كما في البحر- وأريد «بسواهن» أتمهن وقومهن وخلقهن ابتداء مصونات عن العوج والفطور لا أنه سبحانه وتعالى سواهن بعد أن لم يكن كذلك فهو على حد قولهم: ضيق فم البئر ووسع الدار، وفي مقارنة التسوية والاستواء حسن لا يخفى «لا يقال» إن أرباب الأرصاد أثبتوا تسعة أفلاك، وهل هي إلا سماوات؟ لأنا نقول هم شاكّون إلى الآن في النقصان والزيادة فإن ما وجدوه من الحركات يمكن ضبطها بثمانية وسبعة بل بواحد، وبعضهم أثبتوا بين فلك الثوابت والأطلس كرة لضبط الميل الكلي، وقال بعض محققيهم: لم يتبين لي إلى الآن أن كرة الثوابت كرة واحدة أو كرات منطوية بعضها على بعض، وأطال الإمام الرازي الكلام في ذلك وأجاد، على أنه إن صح ما شاع فليس في الآية ما يدل على نفي الزوائد بناء على ما اختاره الإمام من أن مفهوم العدد ليس بحجة، وكلام البيضاوي في تفسيره يشير إليه خلافا لما في منهاجه الموافق لما عليه الإمام الشافعي ونقله عنه الغزالي في المنخول، وذكر الساليكوتي أن الحق أن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد- والخلاف في ذلك مشهور- وإذا قلنا بكروية العرش والكرسي لم يبق كلام. وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تذييل مقرر لما قبله من خلق السماوات والأرض وما فيها على هذا النمط العجيب والأسلوب الغريب ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ [الملك: 3، 4] وفي عَلِيمٌ من المبالغة ما ليس في عالم وليس ذلك راجعا إلى نفس الصفة لأن علمه تعالى واحد لا تكثّر فيه لكن لما تعلق بالكلي والجزئي والموجود والمعدوم والمتناهي وغير المتناهي وصف نفسه سبحانه بما دل على المبالغة- والشيء- هنا عام باق على عمومه لا تخصيص فيه بوجه خلافا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 لمن ضل عن سواء السبيل، والجار والمجرور متعلق ب عَلِيمٌ وإنما تعدى بالباء مع أنه من علم وهو متعد بنفسه، والتقوية تكون باللام لأن أمثلة المبالغة كما قالوا: خالفت أفعالها لأنها أشبهت أفعل التفضيل لما فيها من الدلالة على الزيادة فأعطيت حكمه في التعدية وهو أنه إن كان فعله متعديا فإن أفهم علما أو جهلا تعدى بالباء- كأعلم به وأجهل به، وعليم به وجهول به- وأعلم من يضل على التأويل وإلا تعدى باللام- كالضرب لزيد فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ [هود: 107]- وإلا تعدى بما يتعدى به فعله- كما صبر على النار، وصبور على كذا- ولعل ذلك أغلبي إذ يقال رحيم به فافهم وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً لما امتنّ سبحانه على من تقدم بما تقدم أتبع ذلك بنعمة عامة وكرامة تامة والإحسان إلى الأصل إحسان إلى الفرع والولد سر أبيه وَإِذْ ظرف زمان للماضي مبني لشبهه بالحرف وضعا وافتقارا ويكون ما بعدها جملة فعلية أو اسمية، ويستفاد الزمان منها بأن يكون ثاني جزأيها فعلا أو يكون مضمونها مشهورا بالوقوع في الزمان المعين، وإذا دخلت على المضارع قلبته إلى الماضي، وهي ملازمة للظرفية إلا أن يضاف إليها زمان، وفي وقوعها مفعولا به أو حرف تعليل أو مفاجأة أو ظرف مكان أو زائدة خلاف، وفي البحر أنها لا تقع، وإذا استفيد شيء من ذلك فمن المقام، واختلف المعربون فيها هنا فقيل: زائدة وبمعنى قد، وفي موضع رفع أي ابتداء خلقكم إذ وفي موضع نصب بمقدر- أي ابتدأ خلقكم أو أحياكم إذ- ويعتبر وقتا ممتدا لا حين القول، ويقال: بعدها ومعمول- لخلقكم- المتقدم والواو زائدة والفصل بما يكاد أن يكون سورة، ومتعلق- باذكر- ويكفي في صحة الظرفية ظرفية المفعول- كرميت الصيد في الحرم- وهذه عدة أقوال بعضها غير صحيح والبعض فيه تكلف، فاللائق أن تجعل منصوبة- بقالوا- الآتي وبينهما تناسب ظاهر والجملة بما فيها عطف على ما قبلها عطف القصة على القصة كذا قيل، وأنت تعلم أن المشهور القول الأخير ولعله الأولى فتدبر، ولا يخفى لطف الرب هنا مضافا إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم بطريق الخطاب وكان في تنويعه والخروج من عامه إلى خاصه رمزا إلى أن المقبل عليه بالخطاب له الحظ الأعظم والقسم الأوفر من الجملة المخبر بها فهو صلى الله تعالى عليه وسلم على الحقيقة الخليفة الأعظم في الخليقة والإمام المقدم في الأرض والسماوات العلى، ولولاه ما خلق آدم بل «ولا، ولا» ولله تعالى در سيدي ابن الفارض حيث يقول عن لسان الحقيقة المحمدية: وإني وإن كنت ابن آدم صورة ... فلي فيه معنى شاهد بأبوتي واللام الجارة للتبليغ، و «الملائكة» جمع ملأك على وزن شمائل وشمأل وهو مقلوب مالك صفة مشبهة عند الكسائي، وهو مختار الجمهور من الألوكة وهي الرسالة، فهم رسل إلى الناس وكالرسل إليهم، وقيل: لا قلب فابن كيسان إلى أنه فعال من الملك بزيادة الهمزة لأنه مالك ما جعله الله تعالى إليه أو لقوته فإن «م ل ك» يدور مع القوة والشدة يقال: ملكت العجين شددت عجنه، وهو اشتقاق بعيد، وفعال قليل، وأبو عبيدة إلى أنه مفعل من لاك إذا أرسل مصدر ميمي بمعنى المفعول أو اسم مكان على المبالغة، وهو اشتقاق بعيد أيضا، ولم يشتهر لاك، وكثر في الاستعمال الكني إليه- أي كن لي رسولا- ولم يجىء سوى هذه الصيغة فاعتبره مهموز العين، وإن أصله ألا كنى، وبعض جعله أجوف من لاك يلوك، والتاء لتأنيث الجمع، وقيل: للمبالغة ولم يجعل لتأنيث اللفظ كالظلمة لاعتبارهم التأنيث المعنوي في كل جمع حيث قالوا: كل جمع مؤنث بتأويل الجماعة وقد ورد بغير تاء في قوله: أبا خالد صلت عليك الملائك واختلف الناس في حقيقتها بعد اتفاقهم على أنها موجودة سمعا أو عقلا، فذهب أكثر المسلمين إلى أنها أجسام نورانية، وقيل: هوائية قادرة على التشكل والظهور بأشكال مختلفة بإذن الله تعالى، وقالت النصارى: إنها الأنفس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 الناطقة المفارقة لأبدانها الصافية الخيرة، والخبيثة عندهم شياطين، وقال عبدة الأوثان: إنها هذه الكواكب السعد منها ملائكة الرحمة، والنحس ملائكة العذاب. والفلاسفة يقولون: إنها جواهر مجردة مخالفة للنفوس الناطقة في الحقيقة، وصرح بعضهم بأنها العقول العشرة والنفوس الفلكية التي تحرك الأفلاك، وهي عندنا منقسمة إلى قسمين. قسم شأنهم الاستغراق في معرفة الحق والتنزه عن الاشتغال بغيره يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وهم العليون والملائكة المقربون. وقسم يدبر الأمر من السماء إلى الأرض على ما سبق به القضاء وجرى به القلم لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6] وهم فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً [النازعات: 5] فمنهم سماوية ومنهم أرضية، ولا يعلم عددهم إلا الله. وفي الخبر «أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع» وهم مختلفون في الهيئات متفاوتون في العظم، لا يراهم على ما هم عليه إلا أرباب النفوس القدسية. وقد يظهرون بأبدان يشترك في رؤيتها الخاص والعام وهم على ما هم عليه، حتى قيل: إن جبريل عليه السلام في وقت ظهوره في صورة دحية الكلبي بين يدي المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم لم يفارق سدرة المنتهى، ومثله يقع للكمل من الأولياء، وهذا ما وراء طور العقل- وأنا به من المؤمنين- وقد ذكر أهل الله- قدس الله تعالى أسرارهم- أن أول مظهر للحق جل شأنه العما، ولما انصبغ بالنور فتح فيه صور الملائكة المهيمين الذين هم فوق عالم الأجساد الطبيعية ولا عرش ولا مخلوق تقدمهم. فلما أوجدهم تجلى لهم باسمه الجميل فهاموا في جلال جماله، فهم لا يفيقون، فلما شاء أن يخلق عالم التدوين والتسطير عين واحدا من هؤلاء- وهو أول ملك ظهر عن ملائكة ذلك النور- سماه العقل والقلم، وتجلى له في مجلى التعليم الوهبي بما يريد إيجاده من خلقه لا إلى غاية، فقبل بذاته علم ما يكون، وما للحق من الأسماء الإلهية الطالبة صدور هذا العالم الخلقي، فاشتق من هذا العقل ما سماه اللوح، وأمر القلم أن يتدلى إليه ويودع فيه ما يكون إلى يوم القيامة لا غير. فجعل لهذا العلم ثلاثمائة وستين سنا من كونه قلما، ومن كونه عقلا ثلاثمائة وستين تجليا أو رقيقة كل سن أو رقيقة تفترق من ثلاثمائة وستين صنفا من العلوم الإجمالية فيفصلها في اللوح، وأول علم حصل فيه علم الطبيعة فكانت دون النفس، وهذا كله في عالم النور الخالص، ثم أوجد سبحانه الظلمة المحضة التي هي في مقابلة هذا النور بمنزلة العدم المطلق المقابل للوجود المطلق فأفاض عليها النور إفاضة ذاتية بمساعدة الطبيعة، فلأم شعثها ذلك النور فظهر العرش، فاستوى عليه اسم الرحمن بالاسم الظاهر فهو أول ما ظهر من عالم الخلق، وخلق من ذلك النور فظهر العرش، فاستوى عليه اسم الرحمن بالاسم الظاهر فهو أول ما ظهر من عالم الخلق، وخلق من ذلك النور الممتزج الملائكة الحافين، وليس لهم شغل إلا كونهم- حافين من حول العرش يسبحون بحمده- ثم أوجد الكرسي في جوف هذا العرش، وجعل فيه ملائكة من جنس طبيعته، فكل فلك أصل لما خلق فيه من عماره، كالعناصر فيما خلق فيها من عمارها، وقسم في هذا الكرسي الكلمة إلى خبر وحكم، وهما القدمان اللتان تدلتا له من العرش كما ورد في الخبر. ثم خلق في جوف الكرسي الأفلاك، فلكا في جوف فلك، وخلق في كل فلك عالما منه يعمرونه، وزينها بالكواكب وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها [فصلت: 12] إلى أن خلق صور المولدات، وتجلى لكل صنف منها بحسب ما هي عليه، فتكون من ذلك أرواح الصور وأمرها بتدبيرها وجعلها غير منقسمة بل ذاتا واحدة، وميز بعضها عن بعض فتميزت وكان تمييزها بحسب قبول الصور من ذلك التجلي، وهذه الصور في الحقيقة كالمظاهر لتلك الأرواح، ثم أحدث سبحانه الصور الجسدية الخيالية بتجلّ آخر، وجعل لكل من الأرواح والصور غذاء يناسبه، ولا يزال الحق سبحانه يخلق من أنفاس العالم ملائكة ما داموا متنفسين، وسبحان من يقول للشيء كن فيكون. إذا علمت ذلك فاعلم أنهم اختلفوا في الملائكة المقول لهم، فقيل: كلهم لعموم اللفظ وعدم المخصص، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 فشمل المهيمين وغيرهم، وقيل: ملائكة الأرض بقرينة أن الكلام في خلافة الأرض، وقيل: إبليس ومن كان معه في محاربة الجن الذين أسكنوا الأرض دهرا طويلا ففسدوا فبعث الله تعالى عليهم جندا من الملائكة يقال لهم الجن أيضا وهم خزان الجنة- اشتق لهم اسم منها- فطردوهم إلى شعوب الجبال والجزائر. والذي عليه السادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم، أنهم ما عدا العالمين ممن كان مودعا شيئا من أسماء الله تعالى وصفاته، وأن العالمين غير داخلين في الخطاب ولا مأمورين بالسجود لاستغراقهم وعدم شعورهم بسوى الذات، وقوله تعالى: أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ [ص: 75] يشير إلى ذلك عندهم، وجعلوا من أولئك الملك المسمى بالروح وبالقلم الأعلى وبالعقل الأول وهو المرآة لذاته تعالى، فلا يظهر بذاته إلا في هذا الملك، وظهوره في جميع المخلوقات إنما هو بصفاته فهو قطب العالم الدنيوي والأخروي وقطب أهل الجنة والنار وأهل الكثيب والأعراف، وما من شيء إلا ولهذا الملك فيه وجه يدور ذلك المخلوق على وجهه فهو قطبه، وهو قد كان عالما بخلق آدم ورتبته، فإنه الذي سطر في اللوح ما كان وما يكون، واللوح قد علم علم ذوق ما خطه القلم فيه، وقد ظهر هذا الملك بكماله في الحقيقة المحمدية كما يشير إليه قوله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: 52] ولهذا كان صلى الله تعالى عليه وسلم أفضل خلق الله تعالى على الإطلاق، بل هو الخليفة على الحقيقة في السبع الطباق، وليس هذا بالبعيد فليفهم. وجاعِلٌ اسم فاعل من الجعل بمعنى التصيير فيتعدى لاثنين، والأول هنا خليفة، والثاني فِي الْأَرْضِ أو بمعنى الخلق فيتعدى لواحد، ف فِي الْأَرْضِ متعلق بخليفة، وقدم للتشويق وعمل الوصف لأنه بمعنى الاستقبال ومعتمد على مسند إليه، ورجح في البحر كونه بمعنى الخلق لما في المقابل، ويلزم- على كونه بمعنى التصيير- ذكر خليفة أو تقديره فيه. والمراد من الأرض إما كلها وهو الظاهر، وبه قال الجمهور، أو أرض مكة، وروي هذا مرفوعا والظاهر أنه لم يصح، وإلا لم يعدل عنه، وخص سبحانه الأرض لأنها من عالم التغيير والاستحالات، فيظهر بحكم الخلافة فيها حكم جميع الأسماء الإلهية التي طلب الحق ظهوره بها بخلاف العالم الأعلى والخليفة- من يخلف غيره وينوب عنه، والهاء للمبالغة، ولهذا يطلق على المذكر، والمشهور أن المراد به آدم عليه السلام وهو الموافق للرواية ولإفراد اللفظ ولما في السياق، ونسبة سفك الدم والفساد إليه حينئذ بطريق التسبب أو المراد- بمن يفسد- إلخ من فيه قوة ذلك، ومعنى كونه خَلِيفَةً أنه خليفة الله تعالى في أرضه، وكذا كل نبي استخلفهم في عمارة الأرض وسياسة الناس وتكميل نفوسهم وتنفيذ أمره فيهم لا لحاجة به تعالى، ولكن لقصور المستخلف عليه لما أنه في غاية الكدورة والظلمة الجسمانية، وذاته تعالى في غاية التقدس، والمناسبة شرط في قبول الفيض على ما جرت به العادة الإلهية فلا بد من متوسط ذي جهتي تجرد وتعلق ليستفيض من جهة ويفيض بأخرى، وقيل: هو وذريته عليه السلام، ويؤيده ظاهر قول الملائكة، فإلزامهم حينئذ بإظهار فضل آدم عليهم لكونه الأصل المستتبع من عداه، وهذا كما يستغني بذكر أبي القبيلة عنهم، إلا أن ذكر الأب بالعلم وما هنا بالوصف، ومعنى كونهم خلفاء أنهم يخلفون من قبلهم من الجن بني الجان أو من إبليس ومن معه من الملائكة المبعوثين لحرب أولئك على ما نطقت به الآثار، أو أنه يخلف بعضهم بعضا، وعند أهل الله تعالى المراد بالخليفة آدم وهو عليه السلام خليفة الله تعالى وأبو الخلفاء والمجلى له سبحانه وتعالى، والجامع لصفتي جماله وجلاله، ولهذا جمعت له اليدان وكلتاهما يمين، وليس في الموجودات من وسع الحق سواه، ومن هنا قال الخليفة الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن الله تعالى خلق آدم على صورته أو- على- صورة الرحمن» وبه جمعت الأضداد وكملت النشأة وظهر الحق، ولم تزل تلك الخلافة في الإنسان الكامل إلى قيام الساعة وساعة القيام، بل متى فارق هذا الإنسان العالم مات العالم لأنه الروح الذي به قوامه، فهو العماد المعنوي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 للسماء، والدار الدنيا جارحة من جوارح جسد العالم الذي الإنسان روحه. ولما كان هذا الاسم الجامع قابل الحضرتين بذاته صحت له الخلافة وتدبير العالم والله سبحانه الفعال لما يريد، ولا فاعل على الحقيقة سواه وفي المقام ضيق، والمنكرون كثيرون ولا مستعان إلا بالله عز وجل. وفائدة قوله تعالى هذا للملائكة تعليم المشاورة لأن هذه المعاملة تشبهها أو تعظيم شأن المجعول وإظهار فضله ويحتمل أنه سبحانه أراد بذلك تعريف آدم عليه السلام لهم ليعرفوا قدره لأنه باطن عن الصورة الكونية بما عنده من الصورة الإلهية وما يعرفه لبطونه من الملأ الأعلى إلا اللوح والقلم، وكان هذا القول على ما ذكره الشيخ الأكبر قدس سره في دولة السنبلة بعد مضي سبعة عشر ألف سنة من عمر الدنيا ومن عمر الآخرة التي (1) لا نهاية له في الدوام ثمانية آلاف سنة، ومن عمر العالم الطبيعي المفيد بالزمان المحصور بالمكان إحدى وسبعون ألف سنة من السنين المعروفة الحاصلة أيامها من دورة الفلك الأول وهو يوم وخمسا يوم من أيام ذي المعارج ولله تعالى الأمر من قبل ومن بعد، وقرأ زيد بن علي- خليقة- بالقاف والمعنى واضح قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ استكشاف عن الحكمة الخفية وعما يزيل الشبهة وليس استفهاما عن نفس الجعل والاستخلاف لأنهم قد علموه قبل، فالمسؤول عنه هو الجعل ولكن لا باعتبار ذاته بل باعتبار حكمته ومزيل شبهته، أو تعجب من أن يستخلف لعمارة الأرض وإصلاحها من يفسد فيها، أو يستخلف مكان أهل الفساد مثلهم أو مكان أهل الطاعة أهل المعصية، وقيل: استفهام محض حذف فيه المعادل- أي أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ أم تجعل من لا يفسد- وجعله بعضهم من الجملة الحالية- أي أَتَجْعَلُ فِيها- كذا- وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ أم نتغير- واختار ذلك شيخنا علاء الدين الموصلي روح الله تعالى روحه، والأدب يسكتني عنه، وعلى كل تقدير ليست الهمزة للإنكار كما زعمته الحشوية مستدلين بالآية على عدم عصمة الملائكة لاعتراضهم على الله تعالى وطعنهم في بني آدم، ومن العجيب أن مولانا الشعرائي- وهو من أكابر أهل السنة بل من مشايخ أهل الله تعالى- نقل عن شيخه الخواص أنه خص العصمة بملائكة السماء معللا له بأنهم عقول مجردة بلا منازع ولا شهوة، وقال: إن الملائكة الأرضية غير معصومين ولذلك وقع إبليس فيما وقع إذ كان من ملائكة الأرض الساكنين بجبل الياقوت بالمشرق عند خط الاستواء فعليه لا يبعد الاعتراض ممن كان في الأرض والعياذ بالله تعالى، ويستأنس له بما ورد في بعض الأخبار أن القائلين كانوا عشرة آلاف نزلت عليهم نار فأحرقتهم، وعندي أن ذلك غير صحيح، وقيل: إن القائل إبليس وقد كان إذ ذاك معدودا في عداد الملائكة ويكون نسبة القول إليهم على حد- بنو فلان قتلوا فلانا- والقاتل واحد منهم، والوجه ما قررنا وتكرار الظرف للدلالة على الإفراط في الفساد ولم يكرره بعد للاكتفاء مع ما في التكرار مما لا يخفى و «السفك» الصب والإراقة ولا يستعمل إلا في الدم أو فيه وفي الدمع والعطف من عطف الخاص على العام للإشارة إلى عظم هذه المعصية لأنه بها تتلاشى الهياكل الجسمانية، والدِّماءَ جمع دم لامه ياء أو واو وقصره وتضعيفه مسموعان، وأصله فعل أو فعل، والمراد بها المحرمة بقرينة المقام، وقيل: الاستغراق فيتضمن جميع أنواعها من المحظور وغيره والمقصود عدم تمييزه بينها، وقرأ ابن أبي عبلة «يسفك» - بضم الفاء، ويسفك من أسفك وبالتضعيف من سفك، وقرأ ابن هرمز بنصب الكاف وخرج على النصب في جواب الاستفهام، وقرىء على البناء للمجهول، والراجع إلى من حينئذ سواء جعل موصولا أو موصوفا محذوف- أي فيهم- وحكم الملائكة بالإفساد والسفك على الإنسان بناء على بعض هاتيك الوجوه ليس من ادعاء علم الغيب أو الحكم بالظن والتخمين ولكن   (1) قوله التي إلخ كذا بخط المؤلف اهـ مصححه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 بأخبار من الله تعالى ولم يقص علينا فيما حكي عنهم اكتفاء بدلالة الجواب عليه للإيجاز كما هو عادة القرآن، ويؤيد ذلك ما روي في بعض الآثار أنه لما قال الله تعالى ذلك قالوا: وما يكون من ذلك الخليفة؟ قال: تكون له ذرية يفسدون في الأرض ويقتل بعضهم بعضا فعند ذلك قالوا: ربنا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وقيل: عرفوا ذلك من اللوح ويبعده عدم علم الجواب، ويحتاج الجواب إلى تكلف، وقيل: عرفوه استنباطا عما ركز في عقولهم من عدم عصمة غيرهم المفضي إلى العلم بصدور المعصية عمن عداهم المفضي إلى التنازع والتشاجر إذ من لا يرحم نفسه لا يرحم غيره، وذلك يفضي إلى الفساد وسفك الدماء، وقيل: قياسا لأحد الثقلين على الآخر بجامع اشتراكهما في عدم العصمة ولا يخفى ما في القولين، ويحتمل أنه علموا ذلك من تسميته خليفة لأن الخلافة تقتضي الإصلاح وقهر المستخلف عليه وهو يستلزم أن يصدر منه فساد إما في ذاته بمقتضى الشهوة أو في غيره من السفك أو لأنها مجلى الجلال كما أنها مجلى الجمال، ولكل آثار، والإفساد والسفك- من آثار الجلال وسكتوا عن آثار الجمال إذ لا غرابة فيها وهم على كل تقدير ما قدروا الله تعالى حق قدره ولا يخل ذلك بهم ففوق كل ذي علم عليم وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ حال من ضمير الفاعل في أَتَجْعَلُ وفيها تقرير لجهة الإشكال، والمعنى تستخلف من ذكر ونحن المعصومون وليس المقصود إلا الاستفسار عن المرجح لا العجب والتفاخر حتى يضر بعصمتهم كما زعمت الحشوية، ولزوم الضمير، وترك الواو في الجملة الاسمية إذا وقعت حالا مؤكدة غير مسلم كما في شرح التسهيل وصيغة المضارع للاستمرار، وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي للاختصاص، ومن الغريب جعل الجملة استفهامية حذف منها الأداة، وكذا المعادل والتسبيح في الأصل مطلق التبعيد، والمراد به تبعيد الله تعالى عن السوء وهو متعد بنفسه ويعدى باللام إشعارا بأن إيقاع الفعل لأجل الله تعالى وخالصا لوجهه سبحانه فالمفعول المقدر هاهنا يمكن أن يكون باللام على وفق قرينه، وأن يكون بدونه كما هو أصله، و «بحمدك» في موضع الحال والباء لاستدامة الصحبة والمعية، وإضافة الحمد إما إلى الفاعل والمراد لازمه مجازا من التوفيق والهداية، أو إلى المفعول أي متلبسين بحمدنا لك على ما وفقتنا لتسبيحك، وفي ذلك نفي ما يوهمه الإسناد من العجب، وقيل: المراد به تسبيح خاص وهو- سبحان ذي الملك والملكوت سبحان ذي العظمة والجبروت سبحان الحي الذي لا يموت- ويعرف هذا بتسبيح الملائكة، أو- سبحان الله وبحمده- وفي حديث عن عبادة بن الصامت عن أبي ذر «أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سئل أي الكلام أفضل؟ قال ما اصطفى الله تعالى لملائكته أو لعباده سبحان الله وبحمده» أي وبحمده نسبح، والتقديس- في المشهور كالتسبيح معنى، واحتاجوا لدفع التكرار إلى أن أحدهما باعتبار الطاعات والآخر باعتبار الاعتقادات، وقيل: التسبيح تنزيهه تعالى عما لا يليق به، والتقديس تنزيهه في ذاته عما لا يراه لائقا بنفسه فهو أبلغ ويشهد له أنه حيث جمع بينهما أخر نحو- سبوح قدوس- ويحتمل أن يكون بمعنى التطهير، والمراد نسبحك ونطهر أنفسنا من الأدناس أو أفعالنا من المعاصي فلا نفعل فعلهم من الإفساد والسفك أو نطهر قلوبنا عن الالتفات إلى غيرك، ولام «لك» إما للعلة متعلق- بنقدس- والحمل على التنازع مما فيه تنازع أو معدية للفعل كما في- سجدت لله تعالى- أو للبيان كما في- سفها لك (1) - فمتعلقها حينئذ خبر مبتدأ محذوف أو زائدة والمفعول هو المجرور، ثم الظاهر أن قائل هذه الجملة هو قائل الجملة الأولى، وأغرب الشيخ صفي الدين الخزرجي في كتابه- فك الأزرار- فجعل القائل مختلفا، وبين ذلك بأن الملائكة كانوا حين ورود الخطاب عليهم مجملين وكان إبليس مندرجا في   (1) قوله سفها لك كذا بخطه اهـ مصححه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 جملتهم فورد الجواب منهم مجملا، فلما انفصل إبليس عن جملتهم بإبائه انفصل الجواب إلى نوعين، فنوع الاعتراض منه، ونوع التسبيح والتقديس ممن عداه، فانقسم الجواب إلى قسمين كانقسام الجنس إلى جنسين، وناسب كل جواب من ظهر عنه، فالكلام شبيه بقوله تعالى: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا [البقرة: 135] وهو تأويل لا تفسير قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ أي أعلم من الحكم في ذلك ما أنتم بمعزل عنه، وقيل: أراد بذلك علمه بمعصية إبليس وطاعة آدم، وقيل: بأنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء وصالحون، وقيل: الأحسن أن يفسر هذا المبهم بما أخبر به تعالى عنه بقوله سبحانه: إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ويفهم من كلام القوم قدس الله تعالى أسرارهم، أن المراد من الآية بيان الحكمة في الخلافة على أدق وجه وأكمله، فكأنه قال جل شأنه- أريد الظهور بأسمائي وصفاتي ولم يكمل ذلك بخلقكم- فإني أعلم ما لا تعلمونه لقصور استعدادكم ونقصان قابليتكم، فلا تصلحون لظهور جميع الأسماء والصفات فيكم، فلا تتم بكم معرفتي ولا يظهر عليكم كنزي، فلا بد من إظهار من تم استعداده، وكملت قابليته ليكون مجلى لي ومرآة لأسمائي وصفاتي ومظهرا للمتقابلات فيّ، ومظهرا لما خفي عندي، وبي يسمع وبي يبصر وبي وبي، وبعد ذاك يرق الزجاج والخمر، وإلى الله عز شأنه يرجع الأمر. وأَعْلَمُ فعل مضارع، واحتمال أنه أفعل تفضيل مما لا ينبغي أن يخرج عليه كتاب الله سبحانه كما لا يخفى وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها عطف على «قال» ، وفيه تحقيق لمضمون ما تقدم، وظاهر الابتداء بحكاية التعليم يدل على أن ما مر من المقاولة إنما جرت بعد خلقه عليه السلام بمحضر منه بأن قيل أثر نفخ الروح فيه: إني جاعل إياه خليفة، فقيل ما قيل، وقيل: إنه معطوف على محذوف، أي فخلق وعلم، أو فخلقه وسواه ونفخ فيه الروح وعلم، أو فجعل في الأرض خليفة وعلم، وإبراز اسمه عليه السلام للتنصيص عليه والتنويه بذكره. وآدَمَ صرح الجواليقي وكثيرون أنه عربي ووزنه أفعل من الأدمة- بضم فسكون- السمرة وياما أحيلاها في بعض، وفسرها أناس بالبياض أو الأدمة- بفتحتين- الأسوة والقدوة أو من أديم الأرض ما ظهر منها. وقد أخرج أحمد والترمذي وصححه غير واحد، أنه تعالى قبض قبضة من جميع الأرض سهلها وحزنها، فخلق منها آدم، فلذلك تأتي بنوه أخيافا (1) ، أو من الأدم أو الأدمة، الموافقة والألفه، وأصله أآدم- بهمزتين- فأبدلت الثانية ألفا لسكونها بعد فتحة، ومنع صرفه للعلمية ووزن الفعل، وقيل: أعجمي ووزنه فاعل- بفتح العين- ويكثر هذا في الأسماء- كشالخ وآزر- ويشهد له جمعه على أوادم- بالواو- لا- أآدم- بالهمزة، وكذا تصغيره على- أويدم- لا- أؤيدم- واعتذر عنه الجوهري بأنه ليس للهمزة أصل في البناء معروف، فجعل الغالب عليها- الواو- ولم يسلموه له، وحينئذ لا يجري الاشتقاق فيه لأنه من تلك اللغة لا نعلمه ومن غيرها لا يصح، والتوافق بين اللغات بعيد، وإن ذكر فيه فذاك للإشارة إلى أنه بعد التعريب ملحق بكلامهم، وهو اشتقاق تقديري اعتبروه لمعرفة الوزن والزائد فيه من غيره، ومن أجراه فيه حقيقة كمن جمع بين الضب والنون، ولعل هذا أقرب إلى الصواب. والْأَسْماءَ جمع اسم وهو باعتبار الاشتقاق ما يكون علامة للشيء ودليلا يرفعه إلى الذهن من الألفاظ الموضوعة بجميع اللغات والصفات والأفعال، واستعمل عرفا في الموضوع لمعنى مفردا كان أو مركبا مخبرا عنه أو خبرا أو رابطة بينهما، وكلا المعنيين محتمل. والعلم بالألفاظ المفردة والمركبة تركيبا خبريا أو إنشائيا يستلزم العلم بالمعاني التصورية والتصديقية. وإرادة المعنى المصطلح مما لا يصلح لحدوثه بعد القرآن. وقال الإمام: المراد بالأسماء صفات الأشياء ونعوتها وخواصها، لأنها علامات دالة على ماهياتها، فجاز أن يعبر عنها بالأسماء، وفيه كما قال الشهاب نظر إذ   (1) أي مختلفين اهـ منه. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 لم يعهد إطلاق الاسم على مثله حتى يفسر به النظم، وقيل: المراد بها أسماء ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، وعزي إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل: اللغات، وقيل: أسماء الملائكة، وقيل: أسماء النجوم، وقال الحكيم الترمذي: أسماؤه تعالى، وقيل وقيل وقيل. والحق عندي ما عليه أهل الله تعالى، وهو الذي يقتضيه منصب الخلافة الذي علمت، وهو أنها أسماء الأشياء علوية أو سفلية جوهرية أو عرضية، ويقال لها أسماء الله تعالى عندهم باعتبار دلالتها عليه، وظهوره فيها غير متقيد بها، ولهذا قالوا: إن أسماء الله تعالى غير متناهية، إذ ما من شيء يبرز للوجود من خبايا الجود، إلا وهو اسم من أسمائه تعالى وشأن من شؤونه عز شأنه، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن، ومن هنا قال قدس سره: إن الوجود وإن تعدد ظاهرا ... وحياتكم ما فيه إلا أنتم لكن للفرق مقام وللجمع مقام ولكل مقام مقال، ولولا المراتب لتعطلت الأسماء والصفات، وتعليمها له عليه السلام على هذا ظهور الحق جل وعلا فيه منزها عن الحلول والاتحاد والتشبيه بجميع أسمائه وصفاته المتقابلة حسب استعداده الجامع بحيث علم وجه الحق في تلك الأشياء، وعلم ما انطوت عليه وفهم ما أشارت إليه، فلم يخف عليه منها خافية ولم يبق من أسرارها باقية، فيا لله هذا الجرم الصغير كيف حوى هذا العلم الغزير. واختلف الرسميون بينهم في كيفية التعليم بعد أن فسر بأنه فعل يترتب عليه العلم غالبا، وبعد حصول ما يتوقف عليه من جهة المتعلم كاستعداده لقبول الفيض وتلقيه من جهة المعلم لا تخلف فقيل: بأن خلق فيه- عليه السلام- بموجب استعداده- علما ضروريا تفصيليا بتلك الأسماء وبمدلولاتها وبدلالتها ووجه دلالتها، وقيل: بأن خلقه من أجزاء مختلفة وقوى متباينة مستعدا لإدراك أنواع المدركات، وألهمه معرفة ذوات الأشياء وأسمائها وخواصها ومعارفها وأصول العلم وقوانين الصناعات وتفاصيل آلاتها وكيفيات استعمالاتها فيكون ما مر من المقاولة قبل خلقه عليه السلام والقول: بأن التعليم على ظاهره- وكان بواسطة ملك غير داخل في عموم الخطاب ب أَنْبِئُونِي- مما لا أرتضيه، اللهم إلا إن صح خبر في ذلك، ومع هذا أقول: للخبر محمل غير ما يتبادر مما لا يخفى على من له ذوق، وقيل: غير ذلك. ثم إن هذا التعليم لا يقتضي تقدم لغة اصطلاحية كما زعمه أبو هاشم واحتج عليه بوجوه ردت في التفسير الكبير، إذ لو افتقر لتسلسل الأمر أو دار، والإمام الأشعري يستدل بهذه الآية على أن الواضع للغات كلها هو الله تعالى ابتداء ويجوز حدوث بعض الأوضاع من البشر كما يضع الرجل علم ابنه. والمعتزلة يقولون: الواضع من البشر آدم أو غيره ويسمى مذهب الاصطلاح. وقيل: وضع الله تعالى بعضها ووضع الباقي البشر وهو مذهب التوزيع وبه قال الأستاذ، والمسألة مفصلة بأدلتها وما لها وما عليها في أصول الفقه. وقرأ اليماني «علّم» مبنيا للمفعول، وفي البحر أن التضعيف للتعدية وهي به سماعية، وقيل: قياسية، والحريري- في شرح لمحته- يزعم أن- علم- المتعدي لاثنين يتعدى به إلى ثلاثة، وقد وهم في ذلك ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ أي المسميات المفهومة من الكلام وتذكير الضمير على بعض الوجوه لتغليب ما اشتملت عليه من العقلاء، وللتعظيم بتنزيلها منزلتهم في رأي على البعض الآخر، وقيل: الضمير للأسماء باعتبار أنها المسميات مجازا على طريق الاستخدام. ومن قال: الاسم عين المسمى قال: الأسماء هي المسميات والضمير لها بلا تكلف- وإليه ذهب مكي والمهدوي- ويرد عليه أن أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ يدل على أن العرض للسؤال عن أسماء المعروضات- لا عن نفسها- وإلا لقيل: أنبئوني بهؤلاء، فلا بد أن يكون المعروض غير المسئول عنه فلا يكون نفس الأسماء، ومعنى عرض المسميات تصويرها لقلوب الملائكة، أو إظهارها لهم كالذر، أو إخبارهم بما سيوجده من العقلاء وغيرهم إجمالا، وسؤالهم عما لا بد لهم منه من العلوم والصنائع التي بها نظام معاشهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 ومعادهم إجمالا أيضا، وإلا فالتفصيل لا يمكن علمه لغير اللطيف الخبير، فكأنه سبحانه قال: سأوجد كذا وكذا فأخبروني بما لهم وما عليهم، وما أسماء تلك الأنواع من قولهم: عرضت أمري على فلان فقال لي كذا، فلا يرد أن المسميات عند بعض أعيان ومعان، وكيف تعرض المعاني كالسرور والحزن والجهل والعلم، وعندي أن عرض المسميات عليهم يحتمل أن يكون عبارة عن اطلاعهم على الصور العلمية والأعيان الثابتة التي قد يطلع عليها في هذه النشأة بعض عباد الله تعالى المجردين، أو إظهار ذلك لهم في عالم تتجسد فيه المعاني- وهذا غير ممتنع على الله تعالى- بل إن المعاني الآن متشكلة في عالم الملكوت بحيث يراها من يراها، ومن أحاط خبرا بعالم المثال لم يستبعد ذلك، وقيل: إنهم شهدوا تلك المسميات في آدم عليه السلام، وهو المراد بعرضها. وتزعم أنك جرم صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبر وقرأ أبيّ «ثم عرضها» وعبد الله «عرضهن» والمعنى عرض مسمياتها أو مسمياتهن، وقيل: لا تقدير. فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ تعجيز لهم، وليس من التكليف بما لا يطاق- على ما وهم- وفيه إشارة إلى أن أمر الخلافة والتصرف والتدبير وإقامة المعدلة بغير وقوف على مراتب الاستعدادات ومقادير الحقوق مما لا يكاد يمكن، فكيف يروم الخلافة من لا يعرف ذلك، أو من لا يعرف الألفاظ أنفسها؟! هيهات- ذلك أبعد من العيوق، وأعز من بيض الأنوق- وعندي أن المراد إظهار عجزهم وقصور استعدادهم عن رتبة الخلافة الجامعة للظاهر والباطن بأمرهم بالإنباء بتلك الأسماء على الوجه الذي أريد منها، والعاجز عن نفس الإنباء أعجز عن التحلي المطلوب في ذلك المنصب المحبوب. كيف الوصول إلى سعاد ودونها ... قلل الجبال ودونهن حتوف الرجل حافية ومالي مركب ... والكف صفر والطريق مخوف والإنباء- في الأصل مطلق الاخبار- وهو الظاهر هنا- ويطلق على الاخبار بما فيه فائدة عظيمة ويحصل به علم أو غلبة ظن، وقال بعضهم: إنه إخبار فيه إعلام، ولذلك يجري مجرى كل منهما، واختاره هنا- على ما قيل- للإيذان برفعة شأن الأسماء وعظم خطرها وهذا مبني على أن النبأ إنما يطلق على الخبر الخطير والأمر العظيم، وفي استعمال- ثم- فيما تقدم- والفاء- هنا ما لا يخفى من الاعتناء بشأن آدم عليه السلام وعدمه في شأنهم. وقرأ الأعمش «أنبوني» بغير همز إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي فيما اختلج في خواطركم من أني لا أخلق خلقا إلا أنتم أعلم منه وأفضل- وهذا هو التفسير المأثور- فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الملائكة قالوا: لن يخلق الله تعالى خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم، وفي الكلام دلالة عليه، فإن وَنَحْنُ نُسَبِّحُ إلخ يدل على أفضليتهم، وتنزيه الله تعالى وتقديسه- أو تقديسهم أنفسهم- يدل على كمال العلم أيضا. وقيل: إن المعنى إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في زعمكم أنكم أحق بالاستخلاف أو في أن استخلافهم لا يليق فأثبتوه ببيان ما فيكم من الشرائط السابقة- وليس هذا من المعصية في شيء- لأنه شبهة اختلجت، وسألوا عما يزيحها وليس باختياري، ولا يرد أن الصدق والكذب إنما يتعلق بالخبر- وهم استخبروا ولم يخبروا- لأنا نقول: هما يتطرقان إلى الإنشاءات بالقصد الثاني، ومن حيث ما يلزم مدلولها، وإن لم يتطرقا إليها بالقصد الأول ومن حيث منطوقها، وجواب إِنْ في مثل هذا الموضع محذوف عند سيبويه وجمهور البصريين يدل عليه السابق، وهو هنا أَنْبِئُونِي وعند الكوفيين وأبي زيد والمبرد أن الجواب هو المتقدم، وهذا هو النقل الصحيح عمن ذكر في المسألة، ووهم البعض فعكس الأمر، ومن زعم أن إِنْ هنا بمعنى إذا الظرفية- فلا تحتاج إلى جواب- فقد وهم، وكأنه لما رأى عصمة الملائكة وظن من الآية ما يخل بها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 ولم يجد لها محملا مع إبقاء إِنْ على ظاهرها افتقر إلى ذلك، والحمد لله تعالى على ما أغنانا من فضله ولم يحوجنا إلى هذا ولا إلى القول بأن الغرض من الشرطية التوكيد لما نبههم عليه من القصور والعجز، فحاصل المعنى حينئذ أخبروني ولا تقولوا إلا حقا- كما قال الإمام-. قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا استئناف واقع موقع الجواب كأنه قيل: فماذا؟ قالُوا إذ ذاك: هل خرجوا عن عهدة ما كلفوه أو لا؟ فقيل: قالُوا: إلخ. وذكر غير واحد أن الجمل المفتتحة بالقول- إذا كانت مرتبا بعضها على بعض في المعنى- فالأفصح أن لا يؤتى فيها بحرف اكتفاء بالترتيب المعنوي، وقد جاء في سورة الشعراء من ذلك كثير، بل القرآن مملوء منه، و «سبحان» قيل: إنه مصدر، وفعله- سبح- مخففا بمعنى نزه، ولا يكاد يستعمل إلا مضافا، إما للمفعول أو الفاعل منصوبا بإضمار فعل وجوبا، وقوله: سبحانه ثم سبحانا نعوذ به ... وقبلنا سبح الجوديّ والجمد شاذ كقوله: سبحانك اللهم ذا السبحان ومجيئه منادى مما زعمه الكسائي- ولا حجة له- وذهب جماعة إلى أنه علم للتسبيح- بمعنى التنزيه- لا مصدر سبح- بمعنى قال: سبحان الله- لئلا يلزم الدور (1) ولأن مدلول ذلك لفظ- ومدلول هذا معنى- واستدل على ذلك بقوله: قد قلت لما جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر إذ لولا أنه علم لوجب صرفه. لأن الألف والنون في غير الصفات إنما تمنع مع العلمية، وأجيب بأن- سبحان- فيه على حذف المضاف إليه أي- سبحان الله- وهو مراد للعلم به، وأبقى المضاف على حاله مراعاة لأغلب أحواله- وهو التجرد عن التنوين- وقيل: «من» زائدة والإضافة لما بعدها على التهكم والاستهزاء به، ومن الغريب قول بعض: إن معنى سُبْحانَكَ تنزيه لك بعد تنزيه، كما قالوا في- لبيك- إجابة بعد إجابة، ويلزم على هذا ظاهرا أن يكون مثنى ومفرده- سبحا- وأن لا يكون منصوبا- بل مرفوع- وأنه لم تسقط النون للإضافة وإنما التزم فتحها، ويا سبحان الله تعالى لمن يقول ذلك، والغرض من هذا الجواب الاعتراف بالعجز عن أمر الخلافة، والقصور عن معرفة الأسماء على أبلغ وجه كأنهم قالوا: لا علم لنا إلا ما علمتنا- ولم تعلمنا الأسماء- فكيف نعلمها؟ وفيه إشعار بأن سؤالهم لم يكن إلا استفسارا، إذ لا علم لهم إلا من طريق التعليم، ومن جملته علمهم بحكمة الاستخلاف مما تقدم- فهو بطريق التعليم أيضا- فالسؤال المترتب هو عليه سؤال مستفسر لا معترض وثناء عليه تعالى بما أفاض عليهم مع غاية التواضع ومراعاة الأدب وترك الدعوى، ولهذا كله لم يقولوا- لا علم لنا بالأسماء- مع أنه كان مقتضى الظاهر ذلك، ومن زعم عدم العصمة جعل هذا توبة، والإنصاف أنه يشبهها ولكن لا عن ذنب مخل بالعصمة بل عن ترك أولى بالنسبة إلى علو شأنهم ورفعة مقامهم إذ اللائق بحالهم على العلات أن يتركوا الاستفسار ويقفوا مترصدين لأن يظهر حقيقة الحال وما عند الجمهور موصولة حذف عائدها وهى إما في موضع رفع على البدل أو نصب على الاستثناء. وحكى ابن عطية عن الزهراوي أنها في موضع نصب ب عَلَّمْتَنا ويتكلف لتوجيهه بأن الاستثناء منقطع، ف إِلَّا بمعنى لكن وما شرطية والجواب محذوف كأنهم نفوا أولا سائر العلوم ثم استدركوا أنه في المستقبل أي شيء علمهم علموه ويكون ذلك أبلغ في ترك الدعوى كما لا يخفى إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ تذييل يؤكد مضمون الجملة السابقة، ولما نفوا العلم عن أنفسهم أثبتوه لله تعالى على أكمل أوصافه وأردفوه بالوصف بالحكمة لما تبين لهم ما تبين- وأصل   (1) لأن التسبيح بمعنى أن يقال: سبحان الله فرع على سبحان الله فيكون فرعا له- والعلم بعد الجنس- وهل هذا إلا دور؟ اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 الحكمة- المنع ومنه حكمة الدابة لأنها تمنعها عن الاعوجاج، وتقال للعلم لأنه يمنع عن ارتكاب الباطل، ولإتقان الفعل لمنعه عن طرق الفساد والاعتراض- وهو المراد هاهنا- لئلا يلزم التكرار، فمعنى الحكيم ذو الحكمة، وقيل: المحكم لمبدعاته، قال في البحر: وهو على الأول صفة ذات، وعلى الثاني صفة فعل، والمشهور أنه إن أريد به الْعَلِيمُ- كان من صفات الذات أو الفاعل لما- لا اعتراض عليه كان من صفات الفعل فافهم. وقدم سبحانه الوصف بالعلم على الوصف بالحكمة لمناسبة ما تقدم من أَنْبِئُونِي ولا عِلْمَ لَنا ولأن الحكمة لا تبعد عن العلم وليكون آخر مقالتهم مخالفا لما يتوهم من أولها، وأَنْتَ يحتمل أن يكون فصلا- لا محل له على المشهور- يفيد تأكيد الحكم، والقصر المستفاد من تعريف المسند، وقيل: هو تأكيد لتقرير المسند إليه، ويسوغ في التابع ما لا يسوغ في المتبوع. وقيل: مبتدأ خبره ما بعد، والْحَكِيمُ إما خبر بعد خبر أو نعت له وحذف متعلقهما لإفادة العموم، وقد خصهما بعض فقال: الْعَلِيمُ بما أمرت ونهيت الْحَكِيمُ فيما قضيت وقدرت والعموم أولى. قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ نادى سبحانه آدم باسمه العلم كما هو عادته جل شأنه مع أنبيائه ما عدا نبينا صلّى الله عليه وسلّم حيث ناداه ب يا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأنفال: 64، 65، 70 وغيرها] ويا أَيُّهَا الرَّسُولُ [المائدة: 41، 67] لعلو مقامه ورفعة شأنه إذ هو الخليفة الأعظم، والسر في إيجاد آدم. ولم يقل سبحانه أنبئني كما وقع في أمر الملائكة مع حصول المراد معه أيضا، وهو ظهور فضل آدم إبانة لما بين الرتبتين من التفاوت، وإنباء للملائكة بأن علمه عليه السلام واضح لا يحتاج إلى ما يجري مجرى الامتحان وأنه حقيق أن يعلم غيره أو لتكون له عليه السلام منة التعليم كاملة حيث أقيم مقام المفيد وأقيموا مقام المستفيدين منه، أو لئلا تستولي عليه الهيبة فإن إنباء العالم ليس كإنباء غيره. والمراد بالإنباء هنا الإعلام لا مجرد الاخبار كما تقدم. وفيه دليل لمن قال إن علوم الملائكة وكمالاتهم تقبل الزيادة، ومنع قوم ذلك في الطبقة العليا منهم، وحمل عليه وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات: 164] ، وأفهم كلام البعض منع حصول العلم المرقي لهم فلعل ما يحصل علم قال: لا حال والفرق ظاهر لمن له ذوق، وقرأ ابن عباس «أنبئهم» بالهمز وكسر الهاء- «وأنبيهم» - بقلب الهمزة ياء، وقرأ الحسن- «أنبهم» - كأعطهم، والمراد بالأسماء ما عجزوا عن علمها واعترفوا بالقصور عن بلوغ مرتبتها، والضمير عائد على المعروضين على ما تقدم فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ عطف على جملة محذوفة والتقدير- فانبأهم بها- فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ إلخ، وحذفت لفهم المعنى، وإظهار الأسماء في موقع الإضمار لإظهار كمال العناية بشأنها مع الإشارة إلى أنه عليه السلام- أنبأهم بها- على وجه التفصيل دون الإجمال. وعلمهم بصدقه من القرائن الموجبة له والأمر أظهر من أن يخفى، ولا يبعد أن عرفهم سبحانه الدليل على ذلك واحتمال أن يكون لكل صنف منهم لغة أو معرفة بشيء ثم حضر جميعهم فعرف كل صنف إصابته في تلك اللغة أو ذلك الشيء بعيد. قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ. جواب ل «ما» وتقرير لما مر من الجواب الإجمالي واستحضار له على وجه أبسط من ذلك وأشرح. ولا يخفى ما في الآية من الإيجاز، إذ كان الظاهر أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وشهادتهما وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ وما ستبدون وتكتمون، إلا أنه سبحانه اقتصر على غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لأنه يعلم منه شهادتهما بالأولى، واقتصر من الماضي على المكتوم لأنه يعلم منه البادي كذلك- وعلى المبدأ من المستقبل- لأنه قبل الوقوع خفي، فلا فرق بينه وبين غيره من خفياته- وتغيير الأسلوب حيث لم يقل: وتكتمون- لعله لإفادة استمرار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 الكتمان- فالمعنى- أعلم ما تبدون قبل أن تبدوه وأعلم ما تستمرون على كتمانه، وذكر الساليكوتي أن كلمة- كان- صلة غير مفيدة لشيء إلا محض التأكيد المناسب للكتمان، ثم الظاهر من الآية العموم ومع ذلك ما لا تَعْلَمُونَ أعم مفهوما لشموله- غيب الغيب- الشامل لذات الله تعالى وصفاته- وخصها قوم- فمن قائل: غَيْبَ السَّماواتِ أكل آدم وحواء من الشجرة، وغيب الْأَرْضِ قتل قابيل هابيل، ومن قائل: «الأول» ما قضاه من أمور خلقه «والثاني» ما فعلوه فيها بعد القضاء، ومن قائل: «الأول» ما غاب عن المقربين مما استأثر به تعالى من أسرار الملكوت الأعلى «والثاني» ما غاب عن أصفيائه من أسرار الملك الأدنى وأمور الآخرة، والأولى- وما أبدوه- قبل قولهم أَتَجْعَلُ فِيها وما كتموه، قولهم: لن يخلق الله تعالى أكرم عليه منا، وقيل: ما أظهروه بعد من الامتثال. وقيل: ما أسره إبليس من الكبر، وإسناد الكتم إلى الجميع حينئذ من باب- بنو فلان قتلوا فلانا والقاتل واحد منهم- ومعنى الكتم على كل حال عدم إظهار ما في النفس لأحد ممن كان في الجمع، وليس المراد أنهم كتموا الله تعالى شيئا بزعمهم- فإن ذلك لا يكون حتى من إبليس- وأبدى سبحانه العامل في ما تُبْدُونَ إلخ اهتماما بالإخبار بذلك المرهب لهم- والظاهر عطفه على الأول- فهو داخل معه تحت ذلك القول، ويحتمل أن يكون عطفا على جملة أَلَمْ أَقُلْ فلا يدخل حينئذ تحته. وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ الظرف متعلق بمقدر دل عليه الكلام- كانقادوا وأطاعوا- والعطف من عطف القصة على القصة وفي كل تعداد النعمة- مع أن الأول تحقيق للفضل وهذا اعتراف به- ولا يصح عطف الظرف على الظرف بناء على اللائق الذي قدمناه لاختلاف الوقتين، وجوز على أن نصب السابق بمقدر، والسجود في الأصل تذلل مع انخفاض بانحناء وغيره، وفي الشرع وضع الجبهة على قصد العبادة- وفي المعنى المأمور به هنا خلاف- فقيل: المعنى الشرعي، والمسجود له في الحقيقة هو الله تعالى- وآدم إما قبلة أو سبب- واعترض بأن لو كان كذلك ما امتنع إبليس، وبأنه لا يدل على تفضيله عليه السلام عليهم. وقوله تعالى: أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ [الإسراء: 62] يدل عليه- ألا ترى أن الكعبة ليست بأكرم ممن سجد إليها- وأجيب بالتباس الأمر على إبليس، وبأن التكريم يجعله جهة لهذه العبادة دونهم، ولا يخفى ما فيه من الدلالة على عظمة الشأن- كما في جعل الكعبة قبلة من بين سائر الأماكن- ومن الناس من جوّز كون المسجود له آدم عليه السلام حقيقة مدعيا أن السجود للمخلوق- إنما منع في شرعنا- وفيه أن السجود الشرعي عبادة، وعبادة غيره سبحانه شرك محرم في جميع الأديان والأزمان- ولا أراها حلت في عصر من الأعصار. وقيل: المعنى اللغوي- ولم يكن فيه وضع الجباه- بل كان مجرد تذلل وانقياد، فاللام إما باقية على ظاهرها، وإما بمعنى- إلى- مثلها في قول حسان رضي الله عنه: أليس أول من صلى «لقبلتكم» ... وأعرف الناس بالقرآن والسنن أو للسببية، مثلها في قوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء: 78] وحكمة الأمر بالسجود إظهار الاعتراف بفضله عليه السلام، والاعتذار عما قالوا فيه مع الإشارة إلى أن حق الأستاذ على من علمه حق عظيم، وغير سبحانه الأسلوب حيث قال أولا: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ وهنا وَإِذْ قُلْنا- بضمير العظمة- لأن في الأول خلق آدم واستخلافه. فناسب ذكر الربوبية مضافا إلى أحب خلفائه إليه- وهنا المقام مقام إيراد أمر يناسب العظمة- وأيضا في السجود تعظيم، فلما أمر بفعله لغيره أشار إلى كبريائه الغنية عن التعظيم. وقرأ أبو جعفر بضم تاء «الملائكة» اتباعا لضم الجيم، وهي لغة أزد شنوءة وهي لغة غريبة عربية- وليست بخطأ كما ظن الفارسي- فقد روي أن امرأة رأت بناتها مع رجل، فقالت- أفي السوأ نتنه- تريد أفي السوأة أنتنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ الفاء لإفادة مسارعتهم في الامتثال وعدم تثبطهم فيه، وإِبْلِيسَ اسم أعجمي ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، ووزنه- فعليل- قاله الزجاج. وقال أبو عبيدة وغيره: إنه عربي مشتق من الإبلاس وهو الإبعاد من الخير أو اليأس من رحمة الله تعالى، ووزنه على هذا مفعيل، ومنعه من الصرف حينئذ لكونه لا نظير له في الأسماء. واعترض بأن ذلك لم يعد من موانع الصرف مع أن له نظائر- كإحليل وإكليل- وفيه نظر، وقيل: لأنه شبيه بالأسماء الأعجمية إذ لم يسم به أحد من العرب، وليس بشيء، واختلف الناس فيه، هل هو من الملائكة أم من الجن؟ فذهب إلى الثاني جماعة مستدلين بقوله تعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ [الكهف: 5] وبأن الملائكة لا يستكبرون وهو قد استكبر، وبأن الملائكة- كما روى مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها- خلقوا من النور، وخلق الجن مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ [الرحمن: 15] وهو قد خلق مما خلق الجن كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عنه: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف: 12] وعد تركه السجود- إباء واستكبارا حينئذ- إما لأنه كان ناشئا بين الملائكة مغمورا بالألوف منهم فغلبوا عليه وتناوله الأمر ولم يمتثل، أو لأن الجن أيضا كانوا مأمورين مع الملائكة، لكنه استغنى بذكرهم لمزيد شرفهم عن ذكر الجن، أو لأنه- عليه اللعنة- كان مأمورا صريحا لا ضمنا كما يشير إليه ظاهر قوله تعالى: إِذْ أَمَرْتُكَ [الأعراف: 12] وضمير فَسَجَدُوا راجع للمأمورين بالسجود وذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين إلى الأول مستدلين بظاهر الاستثناء- وتصحيحه بما ذكر تكلف- لأنه وإن كان واحدا منهم لكن كان رئيسهم ورأسهم- كما نطقت به الآثار- فلم يكن مغمورا بينهم، ولأن صرف الضمير إلى مطلق المأمورين مع أنه في غاية البعد لم يثبت، إذ لم ينقل أن الجن سجدوا لآدم سوى إبليس، وكونه مأمورا صريحا الآية غير صريحة فيه- ودون إثباته خرط القتاد- واقتضاء ما ذكر من الآية كونه من جنس الجن ممنوع لجواز أن يراد كونه منهم فعلا، وقوله تعالى: فَفَسَقَ كالبيان له، ويجوز أيضا أن يكون كانَ بمعنى صار- كما روي أنه مسخ بسبب هذه المعصية- فصار جنيا- كما مسخ اليهود فصاروا قردة وخنازير- سلمنا، لكن لا منافاة بين كونه جنا وكونه ملكا، فإن الجن- كما يطلق على ما يقابل الملك- يقال على نوع منه على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- وكانوا خزنة الجنة أو صاغة حليهم. وقيل: صنف من الملائكة لا تراهم الملائكة مثلنا، أو أنه يقال للملائكة جن أيضا- كما قاله ابن إسحاق- لاجتنانهم واستتارهم عن أعين الناس، وبذلك فسر بعضهم قوله تعالى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [الصافات: 158] وورد مثله في كلام العرب، فقد قال الأعشى في سيدنا سليمان عليه السلام: وسخر من جن الملائك تسعة ... قياما لديه يعملون بلا أجر وكون الملائكة لا يستكبرون- وهو قد استكبر- لا يضر، إما لأن من الملائكة من ليس بمعصوم- وإن كان الغالب فيهم العصمة على العكس منا- وفي عقيدة أبي المعين النسفي ما يؤيد ذلك، وإما لأن إبليس سلبه الله تعالى الصفات الملكية وألبسه ثياب الصفات الشيطانية- فعصى عند ذلك- والملك ما دام ملكا لا يعصى. ومن ذا الذي يا ميّ لا يتغير وكونه مخلوقا من نار وهم مخلوقون من نور غير ضار أيضا- ولا قادح في ملكيته- لأن النار والنور متحدا المادة بالجنس واختلافهما بالعوارض، على أن ما في أثر عائشة رضي الله تعالى عنها من خلق الملائكة من النور جار مجرى الغالب- وإلا خالفه كثير من ظواهر الآثار- إذ فيها أن الله تعالى خلق ملائكة من نار وملائكة من ثلج وملائكة من هذا وهذه، وورد أن تحت العرش نهرا إذا غتسل فيه جبريل عليه السلام وانتفض يخلق من كل قطرة منه ملك، وأفهم كلام البعض أنه يحتمل أن ضربا من الملائكة لا يخالف الشياطين بالذات- وإنما يخالفهم بالعوارض والصفات- كالبررة والفسقة من الإنس- والجن يشملهما- وكان إبليس من هذا الصنف، فعده ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 شئت من- ملك، وجن، وشيطان- وبذلك يحصل الجمع بين الأقوال والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. ثم المشهور أن الاستثناء متصل إن كان من الملائكة، ومنقطع إن لم يكن منهم، وقد علمت تكلفهم لاتصاله مع قولهم بالثاني، وقد شاع عند النحاة والأصوليين أن المنقطع هو المستثنى من غير جنسه، والمتصل هو المستثنى من جنسه، قال القرافي في العقد المنظوم: وهو غلط فيهما، فإن قوله تعالى: لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً [النساء: 29] لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدخان: 56] وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً [النساء: 92] الاستثناء فيه منقطع مع أن المستثنى من جنس ما قبله فيبطل الحدان، والحق أن المتصل ما حكم فيه على جنس ما حكمت عليه أو لا بنقيض ما حكمت به- ولا بد من هذين القيدين- فمتى انخرم أحدهما فهو منقطع بأن كان غير الجنس- سواء حكم عليه بنقيضه أو لا- نحو رأيت القوم إلا فرسا، فالمنقطع نوعان، والمتصل نوع واحد، ويكون المنقطع كنقيض المتصل، فإن نقيض المركب بعدم اجزائه، فقوله تعالى: لا يَذُوقُونَ إلخ منقطع بسبب الحكم بغير النقيض، لأن نقيضه ذاقوه فيها- وليس كذلك- وكذلك إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً لأنها لا تؤكل بالباطل- بل بحق- وكذلك إِلَّا خَطَأً لأنه ليس له القتل مطلقا- وإلا لكان مباحا- فتنوع المنقطع حينئذ إلى ثلاثة، الحكم على الجنس بغير النقيض، والحكم على غيره به أو بغيره، والمتصل نوع واحد- فهذا هو الضابط- وقيل: العبرة بالاتصال والانفصال الدخول في الحكم وعدمه لا في حقيقة اللفظ وعدمه، فتأمل ترشد. وأفهم كلام القوم- نفعنا الله تعالى بهم- أن جميع المخلوقات علويها وسفليها سعيدها وشقيها مخلوق من الحقيقة المحمدية صلى الله تعالى عليه وسلم كما يشير إليه قول النابلسي قدس سره دافعا ما يرد على الظاهر: طه النبي تكونت من نوره ... كل الخليقة ثم لو ترك القطا وفي الآثار ما يؤيد ذلك، إلا أن الملائكة العلويين خلقوا منه عليه الصلاة والسلام من حيث الجمال، وإبليس من حيث الجلال، ويؤول هذا بالآخرة إلى أن إبليس مظهر جلال الله سبحانه وتعالى، ولهذا كان منه ما كان ولم يجزع ولم يندم ولم يطلب المغفرة لعلمه أن الله تعالى يفعل ما يريده وأن ما يريده سبحانه هو الذي تقتضيه الحقائق، فلا سبيل إلى تغييرها وتبديلها، واستشعر ذلك من ندائه بإبليس- ولم يكن اسمه من قبل- بل كان اسمه عزازيل، أو الحارث، وكنيته أبا مرة- ووراء ذلك ما لم يمكن كشفه- والله تعالى يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الأحزاب: 4] وفي قوله تعالى: أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ نوع إشارة إلى بعض ما ذكر، والجملة استئناف جواب لمن قال ما فعل، وقيل: إن الفعلين الأولين في موضع نصب على الحال أي آبيا مستكبرا وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ مستأنف أو في موضع الحال، وقيل: الجمل الثلاث تذييل بعد تذييل، والإباء الامتناع مع الأنفة والتمكن من الفعل، ولهذا كان قولك- أبى زيد الظلم أبلغ من لم يظلم- ولإفادة الفعل النفي صح بعده الاستثناء المفرغ ك يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ [التوبة: 32] وقوله: أبى الله إلا عدله ووفاءه ... فلا النكر معروف ولا العرف ضائع والفعل منه- أبى- بالفتح، وعليه لا يكون يأبى قياسيا. وقد سمع- أبي- كرضي فالمضارع حينئذ قياسي والمفعول هنا محذوف أي السجود، والاستكبار- التكبر وهو مما جاء فيه استفعل بمعنى تفعل، وقيل: التكبر أن يرى الشخص نفسه أكبر من غيره وهو مذموم وإن كان أكبر في الواقع، والاستكبار طلب ذلك بالتشبع، وقدم الإباء عليه وإن كان متأخرا عنه في الرتبة لأنه من الأحوال الظاهرة بخلاف الاستكبار فإنه نفساني أو لأن المقصود الإخبار عنه بأنه خالف حاله حال الملائكة فناسب أن يبدأ أولا بتأكيد ما حكم به عليه في الاستثناء أو بإنشاء الاخبار عنه بالمخالفة فبدأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 بذلك على أبلغ وجه- وكان على بابها- والمعنى كان في علم الله تعالى من الكافرين أو كان من القوم الكافرين الذين كانوا في الأرض قبل خلق آدم، وقيل: بمعنى صار وهو مما أثبته بعض النحاة قال ابن فورك: وترده الأصول ولأنه كان الظاهر حينئذ فكان بالفاء ثم إن كفره ليس لترك الواجب كما زعم الخوارج متمسكين بهذه الآية لأنه لا يوجب ذلك في ملتنا على ما دلت عليه القواطع، وإيجابه قبل ذلك غير مقطوع به بل باستقباحه أمر الله تعالى بالسجود لمن يعتقد أنه خير منه وأفضل- كما يدل عليه الإباء والاستكبار- وقال أبو العالية: معنى مِنَ الْكافِرِينَ من العاصين ثم الظاهر أن كفره كان عن جهل بأن استرد سبحانه منه ما أعاره من العلم الذي كان مرتديا به حين كان طاووس الملائكة- وأظافير القضاء إذا حكت أدمت، وقسى القدر إذا رمت أصمت. وكان سراج الوصل أزهر بيننا ... فهبت به ريح من البين فانطفى وقيل: عن عناد حمله عليه حب الرئاسة والإعجاب بما أوتي من النفاسة ولم يدر المسكين إنه لو امتثل ارتفع قدره وسما بين الملأ الأسمى فخره ولكن. إذا لم يكن عون من الله للفتى ... فأول ما يجني عليه اجتهاده وكم أرقت هذه القصة جفونا، وأراقت من العيون عيونا فإن إبليس كان مدة في دلال طاعته يختال في رداء مرافقته ثم صار إلى ما ترى وجرى ما به القلم جرى. وكنا وليلى في صعود من الهوى ... فلما توافينا ثبت وزلّت ومن هنا قال الشافعية والأشعرية- وبقولهم أقول- في هذه المسألة: إن العبرة بالإيمان الذي يوافي العبد عليه ويأتي متصفا به في آخر حياته وأول منازل آخرته، ولذا يصح أنا مؤمن إن شاء الله تعالى بالشك، ولكن ليس في الإيمان الناجز بل في الإيمان الحقيقي المعتبر عند الموت وختم الأعمال. وقد صح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه- كما أورده الزرقاني- إن من تمام إيمان العبد أن يستثني إذ عواقب المؤمنين مغيبة عندهم وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ [الإنعام: 18، 61] وفي الصحيح عن جابر «كان صلّى الله عليه وسلّم يكثر من قوله يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك» وخبر «من قال أنا مؤمن إن شاء الله تعالى فليس له من الإسلام نصيب» موضوع باتفاق المحدثين، وأنا مؤمن بغيره إن شاء الله تعالى، هذا واعلم أن الذي تقتضيه هذه الآية الكريمة، وكذا التي في الأعراف، وبني إسرائيل، والكهف، وطه أن سجود الملائكة ترتب على الأمر التنجيزي الوارد بعد خلقه، ونفخ الروح فيه، وهو الذي يشهد له النقل والعقل إلا أن ما في- الحجر- من قوله تعالى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [الحجر: 28، 30] وكذا ما في- ص- تستدعي ظاهرا ترتبه على ما فيها من الأمر التعليقي من غير أن يتوسط بينهما شيء غير الخلق وتوابعه، وبه قال بعضهم، وحمل ما في تلك الآيات من الأمر على حكاية الأمر التعليقي بعد تحقق المعلق به إجمالا فإنه حينئذ يكون في حكم التنجيز، و «ثم» في آية- الأعراف- للتراخي الرتبي، أو التراخي في الأخبار، أو يقال: إن الأمر التعليقي لما كان قبل تحقق المعلق به بمنزلة العدم في عدم إيجاب المأمور به جعل كأنه إنما حدث بعد تحققه، فحكي على صورة التنجيز، ولما رأى بعضهم أن هذا مؤد إلى أن ما جرى في شأن الخلافة- وما قالوا: وما سمعوا- إنما جرى بعد السجود المسبوق بمعرفة جلالة قدره عليه السلام، وخروج إبليس من البين باللعن، وبعد مشاهدتهم لكل ذلك وهو خرق لقضية النقل بل خرق في العقل اضطر إلى القول بأن السجود كان مرتين، وهيهات لا يصلح العطار ما أفسد الدهر، فالحق الحقيق ما دلت عليه هاتيك الآيات، وما استدل به المخالف لا ينتهض دليلا لأن الشرط إن كان قيدا للجزاء كان معناه على تقدير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 صدق- إذا سويته- أطلب بناء على أن الشرط قيد للطلب على ما صرح به العلامة التفتازاني من أن معنى قولنا: إن جاءك زيد فأكرمه، أي على تقدير صدق إن جاءك زيد أطلب منك إكرامه، وإن كان الحكم بين الشرط والجزاء فالجزاء الطلبي لا بد من تأويله بالخبر أي يستحق أن يقال في حقه أكرمه، وعلى التقديرين كان مدلول فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ [الحجر: 29] طلبا استقباليا لا حاليا فلا يلزم تحقق الأمر بالسجود قبل التسوية، نعم لو كان الشرط قيدا للمطلوب لا للطلب يكون المعنى الطلب في الحال للسجود وقت التسوية فيفيد تقدم الأمر على التسوية، وقول مولانا الرازي قدس سره: إن الآية كما تدل على تقدم الأمر بالسجود على التسوية تفيد أن التعليم والإنباء كان بعد السجود لأنها تدل على أن آدم عليه السلام كما صار حيا صار مسجودا للملائكة لأن الفاء في فَقَعُوا للتعقيب لا يخفى ما فيه لأن الفاء للسببية لا للعطف، وهو لا يقتضي التعقيب كما في قوله تعالى: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا [الجمعة: 9] ، وقوله سبحانه: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ، ومن الناس من حمل نفخ الروح في الآية على التعليم لما اشتهر أن العلم حياة والجهل موت، وأنت في غنى عنه، والله الموفق. وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ عطف على- إذ قلنا- بتقدير إذ أو بدونه أو على- قلنا- والزمان ممتد واسع للقولين، وتصدير الكلام بالنداء لتنبيه المأمور لما يلقى إليه من الأمر وتحريكه لما يخاطب به إذ هو من الأمور التي ينبغي أن يتوجه إليها، واسْكُنْ أمر من السكنى بمعنى اتخاذ المسكن لا من السكون ترك الحركة إذ ينافيه ظاهرا حَيْثُ شِئْتُما وذكر متعلقه بدون في وليس بمكان مبهم وأَنْتَ توكيد للمستكن في اسْكُنْ، والمقصد منه بالذات صحة العطف إذ لولاه لزم العطف على الضمير المتصل بلا فصل وهو ممتنع في الفصيح على الصحيح، وإفادة تقرير المتبوع مقصودة تبعا، وصح العطف مع أن المعطوف لا يباشره فعل الأمر لأنه وقع تابعا، ويغتفر فيه ما لا يغتفر في المتبوع، وقيل: هناك تغليبان تغليب المخاطب على الغائب والمذكر على المؤنث، ولكون التغليب مجازا ومعنى السكون والأمر موجودا فيهما حقيقة خفي الأمر، فإما أن يلتزم أن التغليب قد يكون مجازا غير لغوي بأن يكون التجوز في الإسناد، أو يقال: إنه لغوي لأن صيغة الأمر هنا للمخاطب وقد استعملت في الأعم، وللتخلص عن ذلك قيل: إنه معطوف بتقدير فليسكن، وفيه أنه حينئذ يكون من عطف الجملة على الجملة فلا وجه للتأكيد، والأمر يحتمل أن يكون للإباحة- كاصطادوا- وأن يكون للوجوب كما أن النهي فيما بعد للتحريم وإيثاره على- اسكنا- للتنبيه على أنه عليه السلام المقصد بالحكم في جميع الأوامر وهي تبع له كما أنها في الخلقة كذلك، ولهذا قال بعض المحققين: لا يصح إيراد- زوجك- بدون العطف بأن يكون منصوبا على أنه مفعول معه، والجنة- في المشهور دار الثواب للمؤمنين يوم القيامة لأنها المتبادرة عند الإطلاق ولسبق ذكرها في السورة وفي ظواهر الآثار ما يدل عليه، ومنها ما في الصحيح من محاجة آدم وموسى عليهما السلام فهي إذن في السماء حيث شاء الله تعالى منها، وذهب المعتزلة وأبو مسلم الأصفهاني وأناس إلى أنها جنة أخرى خلقها الله تعالى امتحانا لآدم عليه السلام وكانت بستانا في الأرض بين فارس وكرمان، وقيل: بأرض عدن، وقيل: بفلسطين كورة بالشام ولم تكن الجنة المعروفة، وحملوا الهبوط على الانتقال من بقعة إلى بقعة كما في اهْبِطُوا مِصْراً [البقرة: 61] أو على ظاهره، ويجوز أن تكون في مكان مرتفع قالوا: لأنه لا نزاع في أنه تعالى خلق آدم في الأرض ولم يذكر في القصة أنه نقله إلى السماء ولو كان نقله إليها لكان أولى بالذكر ولأنه سبحانه قال في شأن تلك الجنة وأهلها لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً [الواقعة: 25] ولا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ [الطور: 23] وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ [الحجر: 48] وقد لغا إبليس فيها وكذب وأخرج منها آدم وحواء مع إدخالهما فيها على وجه السكنى لا كإدخال النبي صلى الله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 عليه وسلم ليلة المعراج ولأن جنة الخلد دار للنعيم وراحة وليست بدار تكليف، وقد كلف آدم أن لا يأكل من الشجرة ولأن إبليس كان من الكافرين وقد دخلها للوسوسة ولو كانت دار الخلد ما دخلها ولا كاد لأن الأكابر صرحوا بأنه لو جيء بالكافر إلى باب الجنة لتمزق ولم يدخلها لأنه ظلمة وهي نور ودخوله مستترا- في الجنة على ما فيه- لا يفيد، ولأنها محل تطهير فكيف يحسن أن يقع فيها العصيان والمخالفة ويحل بها غير المطهرين ولأن أول حمل حواء كان في الجنة على ما في بعض الآثار ولم يرد أن ذلك الطعام اللطيف يتولد منه نطفة هذا الجسد الكثيف، والتزام الجواب عن ذلك كله لا يخلو عن تكلف، والتزام ما لا يلزم- وما في حيز المحاجة يمكن حمله على هذه الجنة وكون حملها على ما ذكر يجري مجرى الملاعبة بالدين والمراغمة لإجماع المسلمين- غير مسلم، وقيل: كانت في السماء وليست دار الثواب بل هي جنة الخلد، وقيل: كانت غيرهما ويرد ذلك أنه لم يصح أن في السماء بساتين غير بساتين الجنة المعروفة، واحتمال أنها خلقت إذ ذاك ثم اضمحلت مما لا يقدم عليه منصف، وقيل: الكل ممكن والله تعالى على ما يشاء قدير. والأدلة متعارضة، فالأحوط والأسلم هو الكف عن تعيينها والقطع به، وإليه مال صاحب التأويلات، والذي ذهب إليه بعض ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم أنها في الأرض عند جبل الياقوت تحت خط الاستواء- ويسمونها جنة البرزخ- وهي الآن موجودة وإن العارفين يدخلونها اليوم بأرواحهم لا بأجسامهم ولو قالوا: إنها جنة المأوى- ظهرت حيث شاء الله تعالى وكيف شاء كما ظهر لنبينا صلّى الله عليه وسلّم على ما ورد في الصحيح في عرض حائط المسجد- لم يبعد على مشربهم ولو أن قائلا قال بهذا لقلت به لكن للتفرد في مثل هذه المطالب آفات. وكما اختلف في هذه الجنة اختلف في وقت خلق زوجه عليه السلام، فذكر السدي عن ابن مسعود، وابن عباس وناس من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن الله تعالى لما أخرج إبليس من الجنة وأسكنها آدم بقي فيها وحده وما كان معه من يستأنس به فألقى الله تعالى عليه النوم ثم أخذ ضلعا من جانبه الأيسر ووضع مكانه لحما وخلق حواء منه فلما استيقظ وجدها عند رأسه قاعدة فسألها من أنت؟ قالت: امرأة قال ولم خلقت؟ قالت: لتسكن إليّ فقالت الملائكة تجربه لعلمه: من هذه؟ قال: امرأة قالوا: لم سميت امرأة؟ قال: لأنها خلقت من المراء فقالوا: ما اسمها؟ قال: حواء قالوا: لم سميت حواء؟ قال: لأنها خلقت من شيء حي. وقال كثيرون- ولعلي أقول بقولهم- إنها خلقت قبل الدخول ودخلا معا، وظاهر الآية الكريمة يشير إليه وإلا توجه الأمر إلى معدوم وإن كان في علمه تعالى موجودا، وأيضا في تقديم زَوْجُكَ على الْجَنَّةَ نوع إشارة إليه وفي المثل، الرفيق قبل الطريق. وأيضا هي مسكن القلب، والجنة مسكن البدن، ومن الحكمة تقديم الأول على الثاني، وأثر السدي- على ما فيه مما لا يخفى عليك- معارض بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: بعث الله جندا من الملائكة فحملوا آدم وحواء على سرير من ذهب كما تحمل الملوك ولباسهما النور حتى أدخلوهما الجنة فإنه كما ترى يدل على خلقها قبل دخول الجنة وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما الضمير المجرور للجنة على حذف مضاف أي من مطاعمها من ثمار وغيرها فلم يحظر عليهما شيئا إلا ما سيأتي، وأصل كُلا أأكلا بهمزتين الأولى للوصل، والثانية فاء الكلمة فحذفت الثانية لاجتماع المثلين حذف شذوذ وأتبعت بالأولى لفوات الغرض، وقيل: حذفا معا لكثرة الاستعمال- والرغد بفتح الغين- وقرأ النخعي- بسكونها- الهنيّ الذي لا عناء فيه أو الواسع، يقال: رغد عيش القوم، ورغد- بكسر الغين وضمها- كانوا في رزق واسع كثير، وأرغد القوم أخصبوا وصاروا في رغد من العيش، ونصبه على أنه نعت لمصدر محذوف، أي أكلا رغدا. وقال ابن كيسان: إنه حال بتأويل راغدين مرفهين، وحَيْثُ ظرف مكان مبهم لازم للظرفية، وإعرابها لغة بني فقعس ولا تكون ظرف زمان خلافا للأخفش، ولا يجزم بها دون «ما» خلافا للفراء، ولا تضاف للمفرد خلافا للكسائي ولا يقال: زيد حيث عمرو- خلافا للكوفيين- ويعتقب على آخرها الحركات الثلاث- مع الياء والواو والألف- ويقال: حايث على قلة- وهي هنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 متعلقة بكلا، والمراد بها العموم لقرينة المقام وعدم المرجح أي أي مكان من الجنة شِئْتُما وأباح لهما الأكل كذلك إزاحة للعذر في التناول مما حظر. ولم تجعل متعلقة ب اسْكُنْ، لأن عموم الأمكنة مستفاد من جعل- الجنة- مفعولا به له، مع أن التكريم في الأكل من كل ما يريد منها لا في عدم تعيين السكنى ولأن قوله تعالى في آية أخرى: فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما [الأعراف: 19] يستدعي ما ذكرنا، وكذا قوله سبحانه: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ ظاهر هذا النهي التحريم، والمنهي عنه الأكل من الشجرة، إلا أنه سبحانه نهى عن قربانها مبالغة، ولهذا جعل جل شأنه العصيان المرتب على الأكل مرتبا عليه، وعدل عن فتأثما إلى التعبير بالظلم الذي يطلق على الكبائر، ولم يكتف بأن يقول: ظالمين، بل قال: مِنَ الظَّالِمِينَ بناء على ما ذكروا أن قولك: زيد من العالمين، أبلغ من زيد عالم لجعله غريقا في العلم أبا عن جد، وإن قلنا بأن فَتَكُونا دالة على الدوام ازدادت المبالغة، ومن الناس من قال: لا تقرب- بفتح الراء- نهي عن التلبس بالشيء- وبضمها- بمعنى لا تدن منه، وقال الجوهري: قرب- بالضم- يقرب قربا دنا وقربته- بالكسر- قربانا دنوت منه. والتاء في الشَّجَرَةَ للوحدة الشخصية- وهو اللائق بمقام الإزاحة- وجاز أن يراد النوع، وعلى التقديرين- اللام- للجنس- كما في الكشف- ووقع خلاف في هذه الشجرة، فقيل: الحنطة، وقيل: النخلة، وقيل: شجرة الكافور- ونسب إلى علي كرم الله تعالى وجهه- وقيل: التين، وقيل: الحنظل، وقيل: شجرة المحبة، وقيل: شجرة الطبيعة والهوى «وقيل، وقيل ... » والأولى عدم القطع والتعيين- كما أن الله تعالى لم يعينها باسمها في الآية- ولا أرى ثمرة في تعيين هذه الشجرة- ويقال: فيها شجرة- بكسر الشين- وشيرة- بإبدال الجيم ياء مفتوحة مع فتح الشين وكسرها- وبكل قرأ بعض، وعن أبي عمرو أنه كره- شيرة- قائلا: إن برابر مكة وسودانها يقرؤون بها- ولا يخفى ما فيه، والشجر ما له ساق أو كل ما تفرع له أغصان وعيدان، أو أعم من ذلك لقوله تعالى: شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ [الصافات: 146] وقوله تعالى: فَتَكُونا إما مجزوم- بحذف النون- معطوفا على تَقْرَبا فيكون منهيا عنه وكان على أصل معناها، أو منصوب على أنه جواب للنهي كقوله سبحانه: وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ [طه: 81] والنصب بإضمار «أن» عند البصريين- وبالفاء نفسها- عند الجرمي، وبالخلاف عند الكوفيين- وكان- حينئذ بمعنى صار، وأيّا ما كان من تفهم سببية ما تقدم لكونها مِنَ الظَّالِمِينَ أي الذين ظلموا أنفسهم بارتكاب المعصية أو نقصوا حظوظهم بمباشرة ما يخل بالكرامة والنعيم أو تعدوا حدود الله تعالى، ولعل القربان المنهي عنه الذي يكون سببا للظلم المخل بالعصمة هو ما لا يكون مصحوبا بعذر- كالنسيان هنا مثلا- المشار إليه بقوله تعالى: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: 115] فلا يستدعي حمل النهي على التحريم، والظلم- المقول بالتشكيك على ارتكاب المعصية عدم عصمة آدم عليه السلام- بالأكل المقرون بالنسيان- وإن ترتب عليه ما ترتب- نظرا إلى أن حسنات الأبرار سيئات المقربين- وللسيد أن يخاطب عبده بما شاء، نعم لو كان ذلك غير مقرون بعذر كان ارتكابه حينئذ مخلا- ودون إثبات هذا خرط القتاد- فإذا لا دليل في هذه القصة على عدم العصمة، ولا حاجة إلى القول إن ما وقع كان قبل النبوة لا بعدها- كما يدعيه المعتزلة- القائلون بأن ظهوره مع علمه بالأسماء معجزة على نبوته إذ ذاك. وصدور الذنب قبلها جائز عند أكثر الأصحاب- وهو قول أبي هذيل وأبي علي من المعتزلة- ولا إلى حمل النهي على التنزيه والظلم على نقص الحظ مثلا- والتزمه غير واحد- وقرىء تَقْرَبا- بكسر التاء- وهي لغة الحجازيين، وقرأ ابن محيصن «هذي» بالياء فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها أي حملهما على الزلة بسببها، وتحقيقه أصدر زلتهما عنها وعن هذه مثلها في قوله تعالى: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ [التوبة: 114] والضمير على هذا للشجرة، وقيل: أزلهما أي أذهبهما، ويعضده قراءة حمزة فأزالهما وهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 متقاربان في المعنى غير أن أزلّ يقتضي عثرة مع الزوال- والضمير حينئذ للجنة وعوده إلى الشجرة بتجوز، أو تقدير مضاف- أي محلها- أو إلى الطاعة المفهومة من الكلام- بعيد، وإزلاله- عليه اللعنة- إياهما- عليهما السلام- كان بكذبه عليهما ومقاسمته على ما قص الله تعالى في كتابه، وفي كيفية توسله إلى ذلك أقوال، فقيل: دخل الجنة ابتلاء لآدم وحواء، وقيل: قام عند الباب فناداهما وأفسد حالهما، وقيل: تمثل بصورة دابة فدخل ولم يعرفه الخزنة، وقيل: أرسل بعض أتباعه إليهما. وقيل: بينما هما يتفرجان في الجنة إذ راعهما طاووس تجلى لهما على سور الجنة فدنت حواء منه، وتبعها آدم فوسوس لهما من وراء الجدار، وقيل: توسل بحية تسورت الجنة- ومشهور حكاية الحية- وهذان الأخيران يشير أولهما عند ساداتنا الصوفية إلى توسله من قبل الشهوة خارج الجنة، وثانيهما إلى توسله بالغضب، وتسور جدار الجنة عندهم إشارة إلى أن الغضب أقرب إلى الأفق الروحاني والحيز القلبي من الشهوة، وقيل: توسله إلى ما توسل إليه إذ ذاك مثل توسله اليوم إلى إذلال من شاء الله تعالى وإضلاله، ولا نعرف من ذلك إلا الهواجس والخواطر التي تفضي إلى ما تفضي، ولا جزم عند كثير في دخول الشيطان في القلب بل لا يعقلونه، ولهذا قالوا: خبر إن الشيطان- يجري من بني آدم مجرى الدم- محمول على الكناية عن مزيد سلطانه عليهم وانقيادهم له، وكأني بك تختار هذا القول، وقال أبو منصور: ليس لنا البحث عن كيفية ذلك، ولا نقطع القول بلا دليل، وهذا من الإنصاف بمكان، وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه «فوسوس لهما الشيطان عنها» (1) والضمير في هذه القراءة- للشجرة- لا غير، وعوده إلى- الجنة- بتضمين الإذهاب ونحوه بعيد فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ أي من النعيم والكرامة أو من الجنة. «الأول» جار على تقدير رجوع ضمير عَنْها إلى- الشجرة- أو- الجنة- «الثاني» مخصوص بالتقدير الأول- لئلا يسقط الكلام. وقيل: أخرجهما من لباسهما الذي كانا فِيهِ لأنهما لما أكلا تهافت عنهما، وفي الكلام من التفخيم ما لا يخفى وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ- الهبوط- النزول، وعين المضارع تكسر وتضم، وقال المفضل: هو الخروج من البلد، والدخول فيها من الأضداد- ويقال في انحطاط المنزلة- والبعض في الأصل مصدر بمعنى القطع ويطلق على الجزء، وهو ككل ملازم للإضافة- لفظا أو نية- ولا تدخل عليه اللام، ويعود عليه الضمير مفردا ومجموعا- إذا أريد به جمع- والعدو- من- العداوة- مجاوزة الحد أو التباعد أو الظلم، ويطلق على الواحد المذكر ومن عداه بلفظ واحد، وقد يقال:- أعداء وعدوة- والخطاب لآدم وحواء، لقوله تعالى: قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً [طه: 123] والقصة واحدة، وجمع الضمير لتنزيلهما منزلة البشر كلهم، ولما كان في الأمر بالهبوط انحطاط رتبة المأمور لم يفتتحه بالنداء- كما افتتح الأمر بالسكنى- واختار الفراء أن المخاطب- هما وذريتهما- وفيه خطاب المعدوم، والمأثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد وكثير من السلف- أنه هما وإبليس- واعترض بخروجه قبلهما. وأجيب بأن الاخبار عما قال لهم مفرقا- على أنه لا مانع من المعية- وقيل: هم والحية، واعترض بعدم تكليفها، وأجيب بأن الأمر تكويني، والجملة الاسمية منصوبة المحل على الحال المقدرة، والحكم باعتبار الذرية. وإذا دخل إبليس والحية- كان الأمر أظهر، ولا يرد أنه كيف يقيد الأمر بالتعادي- وهو منهي عنه- لأنا نقول بصرف توجه النظر عن القيد كون العداوة طبيعية- والأمور الطبيعية غير مكلف بها- وإن كلف فبالنظر إلى أسبابها، وإذا جعل الأمر تكوينيا زال الإشكال- إلا أن فيه بعدا- وبعضهم يجعل الجملة مستأنفة على تقدير السؤال فرارا عن هذا السؤال- مع ما في الاكتفاء بالضمير دون الواو في الجملة الاسمية الحالية من- المقال، حتى ذهب الفراء إلى   (1) سورة الأعراف الآية: 20 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 شذوذه، وإن كان التحقيق ما ذكره بعض المحققين أن الجملة الحالية لا تخلو من أن تكون من سبب ذي الحال أو أجنبية- فإن كانت من سببه لزمها العائد والواو- كجاء زيد، وأبوه منطلق- إلا ما شذ من نحو كلمته- فوه- إلى- في- وإن أجنبية لزمتها- الواو- نائبة عن العائد، وقد يجمع بينهما- كقدم بشر وعمرو قادم إليه- وقد جاءت- بلا ولا- كقوله: ثم انتصبنا جبال الصغد معرضة ... عن اليسار وعن أيماننا جدد وقد تكون صفة ذي الحال ك تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ [البقرة: 83] وهذه يجوز فيها الوجهان باطراد، وما نحن فيه من هذا القبيل فتدبر وإفراد العدو إما للنظر إلى لفظ البعض، وإما لأن وزانه وزان المصدر كالقبول، وبه تعلق ما قبله واللام- كما في البحر- مقوية، وقرأ أبو حيوة اهْبِطُوا- بضم الباء- وهو لغة فيه، وبهذا الأمر نسخ الأمر والنهي السابقان وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ أراد بالأرض محل الإهباط، وليس المراد شخصه الذي هو لآدم عليه السلام- موضع بجبل سرنديب- ولحواء موضع بجدة، ولإبليس موضع بالأبلة، ولصاحبته موضع بنصيبين أو أصبهان أو سجستان- والمستقر- اسم مكان أو مصدر ميمي، ويحتمل- على بعد- كونه اسم مفعول بمعنى ما استقر ملككم عليه وتصرفكم فيه- وأبعد منه- احتمال كونه اسم زمان وهو مبتدأ خبره لَكُمْ وفيه متعلق بما تعلق به- والمتاع- البلغة، مأخوذ من متع النهار- إذا ارتفع- ويطلق على الانتفاع الممتد وقته- ولا يختص بالحقير- والحين مقدار من الزمان- قصيرا أو طويلا- والمراد هنا إلى وقت الموت- وهو القيامة الصغرى- وقيل: إلى يوم القيامة الكبرى، وعليه تجعل السكنى في القبر تمتعا في الأرض، أو يجعل الخطاب شاملا لإبليس- ويراد الكل المجموعي- والجار متعلق بمتاع، قيل: أو به، وبمستقر على التنازع- أو بمقدار صفة لمتاع- وهذه الجملة كالتي قبلها استئنافا وحالية. فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ المراد- بتلقي- الكلمات استقبالها بالأخذ والقبول والعمل بها، فهو مستعار من استقبال الناس بعض الأحبة- إذا قدم بعد طول الغيبة- لأنهم لا يدعون شيئا من الإكرام إلا فعلوه، وإكرام الكلمات الواردة من الحضرة الأخذ والقبول والعمل بها، وفي التعبير- بالتلقي- إيماء إلى أن آدم عليه السلام كان في ذلك الوقت في مقام البعد ومِنْ رَبِّهِ حال من كَلِماتٍ مقدم عليها، وقيل: متعلق ب فَتَلَقَّى وهي من تلقاه منه بمعنى تلقنه، ولولا خلوّه عما في الأول من اللطافة لتلقيناه بالقبول، وقرأ ابن كثير بنصب آدَمُ ورفع كَلِماتٍ على معنى- استقبلته- فكأنها مكرمة له لكونها سبب العفو عنه، وقد يجعل الاستقبال مجازا عن البلوغ بعلاقة السببية، والمروي في المشهور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أن هذه الكلمات هي رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا [الأعراف: 23] الآية، وعن ابن مسعود أنها، سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، لا إله إلا أنت، ظلمت نفسي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. وقيل: رأى مكتوبا على ساق العرش، محمد رسول الله فتشفع به، وإذا أطلقت الكلمة على عيسى عليه السلام، فلتطلق الكلمات على الروح الأعظم، والحبيب الأكرم صلى الله تعالى عليه وسلم، فما عيسى، بل وما موسى، بل «وما، وما..» إلا بعض من ظهور أنواره، وزهرة من رياض أنواره، وروي غير ذلك فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ التوبة أصلها الرجوع وإذا أسندت إلى العبد كانت- كما في الاحياء- عبارة عن مجموع أمور ثلاثة- علم- وهو معرفة ضرر الذنب، وكونه حجابا عن كل محبوب، وحال يثمره ذلك العلم، وهو تألم القلب بسبب فوات المحبوب، ونسميه ندما، وعمل يثمره الحال- وهو الترك والتدارك- والعزم على عدم العود، وكثيرا ما تطلق على الندم وحده لكونه لازما للعلم مستلزما للعمل. وفي الحديث «الندم توبة» وطريق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 تحصيلها تكميل الإيمان بأحوال الآخرة وضرر المعاصي فيها، وإذا أسندت إليه سبحانه كانت عبارة عن قبول التوبة والعفو عن الذنب ونحوه، أو التوفيق لها والتيسير لأسبابها بما يظهر للتائبين من آياته، ويطلعهم عليه من تخويفاته، حتى يستشعروا الخوف فيرجعوا إليه، وترجع في الآخرة إلى معنى التفضل والعطف، ولهذا عديت- بعلى- وأتى سبحانه بالفاء لأن تلقي الكلمات عين التوبة، أو مستلزم لها، ولا شك أن القبول مترتب عليه، فهي إذا لمجرد السببية، وقد يقال: إن التوبة لما دام عليها صح التعقيب- باعتبار آخرها إذ لا فاصل حينئذ- وعلى كل تقدير لا ينافي هذا ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنهما بكيا مائتي سنة على ما فاتهما، ولم يقل جل شأنه- فتاب عليهما- لأن النساء تبع يغني عنهن ذكر المتبوع، ولذا طوى ذكرهن في كثير من الكتاب والسنة، وفي الجملة الاسمية ما يقوي رجاء المذنبين، ويجبر كسر قلوب الخاطئين حيث افتتحها ب «أن» وأتى بضمير الفصل وعرف المسند وأتى به من صيغ المبالغة إشارة إلى قبوله التوبة كلما تاب العبد، ويحتمل أن ذلك لكثرة من يتوب عليهم، وجمع بين وصفي كونه توابا وكونه رحيما إشارة إلى مزيد الفضل، وقدم التَّوَّابُ لظهور مناسبته لما قبله، وقيل في ذكر الرَّحِيمُ بعده. إشارة إلى أن قبول التوبة ليس على سبيل الوجوب- كما زعمت المعتزلة- بل على سبيل الترحم والتفضل، وأنه الذي سبقت رحمته غضبه، فيرحم عبده في عين غضبه- كما جعل هبوط آدم سبب ارتفاعه، وبعده سبب قربه- فسبحانه من تواب ما أكرمه، ومن رحيم ما أعظمه، وإذا فسر التواب بالرجاع إلى المغفرة- كان الكلام تذييلا- لقوله تعالى: فَتابَ عَلَيْهِ أو بالذي يكثر الإعانة على التوبة- كان تذييلا- لقوله تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ إلخ، وقرأ نوفل إِنَّهُ بفتح الهمزة على تقدير- لأنه- قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً كرر للتأكيد، فالفصل لكمال الاتصال- والفاء- في فَتَلَقَّى للاعتراض، إذ لا يجوز تقدم المعطوف على التأكيد، وفائدته الإشارة إلى مزيد الاهتمام بشأن التوبة وأنه يجب المبادرة إليها- ولا يمهل- فإنه ذنب آخر مع ما في ذلك من إظهار الرغبة بصلاح حاله عليه السلام وفراغ باله، وإزالة ما عسى يتشبث به الملائكة عليهم السلام، وقد فضل عليهم وأمروا بالسجود له، أو كرر ليتعلق عليه معنى آخر غير الأول، إذ ذكر إهباطهم «أولا» للتعادي وعدم الخلود، والأمر فيه تكويني «وثانيا» ليهتدي من يهتدي، ويضل من يضل، والأمر فيه تكليفي، ويسمى هذا الأسلوب في البديع- الترديد- فالفصل حينئذ للانقطاع لتباين الغرضين، وقيل: إن إنزال القصص للاعتبار بأحوال السابقين، ففي تكرير الأمر تنبيه على أن الخوف الحاصل من تصور إهباط آدم عليه السلام المقترن بأحد هذين الأمرين من التعادي والتكليف كاف لمن له حزم، وخلا عن عذر أن تعوقه عن مخالفة حكمه تعالى، فكيف المخالفة الحاصلة من تصور الإهباط المقترن بهما؟؟ فلو لم يعد الأمر لعطف فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ على «الأول» فلا يفهم إلا إهباط مترتب عليه جميع هذه الأمور، ويحتمل- على بعد- أن تكون فائدة التكرار التنبيه على أنه تعالى هو الذي أراد ذلك، ولولا إرادته لما كان ما كان ولذلك أسند الإهباط إلى نفسه مجردا عن التعليق بالسبب بعد إسناد إخراجهما إلى الشيطان، فهو قريب من قوله عز شأنه: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الأنفال: 17] وقال الجبائي: إن «الأول» من الجنة إلى السماء «والثاني» منها إلى الأرض، ويضعفه ذكر وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ عقيب الأول وجَمِيعاً حال من فاعل اهْبِطُوا أي مجتمعين، سواء كان في زمان واحد أو لا، وقد يفهم الاتحاد في الزمان من سياق الكلام، كما قيل به في فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [الحجر: 30] وأبعد ابن عطية فجعله تأكيدا لمصدر محذوف أي هبوطا جميعا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. لا يدخل في الخطاب غير المكلف، وأدرج الكثيرون إِبْلِيسَ لأنه مخاطب بالإيمان- والفاء- لترتيب ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 بعدها على الهبوط المفهوم من الأمر وإما مركبة من إن الشرطية و «ما» الزائدة للتأكيد، وكثر تأكيد الفعل بعدها بالنون، ولم يجب كما يدل عليه قول سيبويه: إن شئت لم تقحم النون، كما أنك إن شئت لم تجئ «بما» وقد ورد ذلك في قوله: يا صاح إما تجدني غير ذي جدة ... فما التخلي عن الخلان من شيمي وقوله: إما أقمت وإما كنت مرتحلا ... فالله يحفظ ما تبقي وما تذر وحمل ذلك من قال بالوجوب على الضرورة وهو مما لا ضرورة إليه، والقول بأنه يلزم حينئذ مزية التابع الذي هو حرف الشرط على المتبوع وهو الفعل- يدفعه أن التابع ومؤكده تابع فلا مزية، أو أن «ما» لتأكيد الفعل في أوله كما أن النون إذا كانت تأكيدا له في آخره وجيء بحرف الشك إذ لا قطع بالوقوع فإنّه تعالى لا يجب عليه شيء بل إن شاء هدى وإن شاء ترك، وقيل: بالقطع واستعمال «إن» في مقامه لا يخلو عن نكتة كتنزيل العالم منزلة غيره بعدم جريه على موجب العلم، ويحسنه سبق ما سيق وقوعه من آدم، وقيل: إن زيادة «ما» والتوكيد بالثقيلة لا يتقاعد في إفادة القطع عن إذا، نعم لا ينظر فيه إلى الزمان بل إلى أنه محقق الوقوع أبهم وقته، وأنت تعلم أن ما اخترناه أسلم وأبعد عن التكلف مما ذكر- وإن جل قائله فتدبر- و «مني» متعلق بما قبله، وفيه شبه الالتفات- كما في البحر- وأتى بالضمير الخاص هنا للرمز إلى أن اللائق- بمن- هدى التوحيد الصرف وعدم الالتفات إلى الكثرة، ونكر- الهدى- لأن المقصود هو المطلق ولم يسبق فيه عهد فيعرف، وفي المراد به هنا أقوال، فقيل الكتب المنزلة، وقيل: الرسل، وقيل: محمد صلى الله تعالى عليه وسلم. ولعل المراد هديه الذي جاء به نوابه عليهم الصلاة والسلام، والفاء في «فمن» للربط و «ما» بعد جملة شرطية وقعت جوابا للشرط الأول على حدّ- إن جئتني فإن قدرت أحسنت إليك- وقال السجاوندي: جوابه محذوف أي فاتبعوه، واختار أبو حيان كون «من» هذه موصولة لما في المقابل من الموصول، ودخلت الفاء في خبرها لتضمنها معنى الشرط، ووضع المظهر موضع المضمر في هداي إشارة للعلية لأن الهدى بالنظر إلى ذاته واجب الاتباع، وبالنظر إلى أنه أضيف إليه تعالى إضافة تشريف أحرى وأحق أن يتبع، وقيل: لم يأت به ضميرا لأنه أعم من الأول لشموله لما يحصل بالاستدلال والعقل، ولم يقل الهدى لئلا تتبادر العينية أيضا لأن النكرة في الغالب إذا أعيدت معرفة كانت عين الأول مع ما في الإضافة إلى نفسه تعالى من التعظيم ما لا يكون لو أتى به معرفا باللام، والخوف الفزع في المستقبل، والحزن ضد السرور مأخوذ من الحزن- وهو ما غلظ من الأرض- فكأنه ما غلظ من الهمّ، ولا يكون إلا في الأمر الماضي على المشهور، ويؤول حينئذ نحو إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ [يوسف: 13] بعلم ذلك الواقع، وقيل: إنه والخوف كلاهما في المستقبل لكن الخوف استشعارهم لفقد مطلوب، والحزن استشعار غم لفوت محبوب، وجعل هنا نفي الخوف كناية عن نفي العقاب، ونفي الحزن كناية عن نفي الثواب وهي أبلغ من الصريح وآكد لأنها كدعوى الشيء ببينة، والمعنى- لا خوف عليهم- فضلا عن أن يحل بهم مكروه، ولا هم يفوت عنهم محبوب فيحزنوا عليه، فالمنفي عن الأولياء خوف حلول المكروه والحزن في الآخرة، وفيه إشارة إلى أنه يدخلهم الجنة التي هي دار السرور والأمن لا خوف فيها ولا حزن، وحينئذ يظهر التقابل بين الصنفين في الآيتين، وقال بعض الكبراء: خوف المكروه منفي عنهم مطلقا. وأما خوف الجلال ففي غاية الكمال والمخلصون على خطر عظيم، وقيل: المعنى- لا خوف عليهم- من الضلالة في الدنيا، ولا حزن من الشقاوة في العقبى، وقدم انتفاء الخوف لأن انتفاء الخوف فيما هو آت أكثر من انتفاء الحزن على ما فات. ولهذا صدر بالنكرة التي هي أدخل في النفي، وقدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 الضمير إشارة إلى اختصاصهم بانتفاء الحزن وأن غيرهم يحزن. والمراد بيان دوام الانتفاء لا بيان انتفاء الدوام كما يتوهم من كون الخبر في الجملة الثانية مضارعا لما تقرر في محله أن النفي وإن دخل على نفس المضارع يفيد الدوام والاستمرار بحسب المقام، وذكر بعض الناس أن العدول عن لا خوف لهم أو عندهم إلى- لا خوف عليهم- للإشارة إلى أنهم قد بلغت حالهم إلى حيث لا ينبغي أن يخاف أحد عليهم. وفي البحر أنه سبحانه كني بعليهم عن الاستيلاء والإحاطة إشارة إلى أن الخوف لا ينتفي بالكلية ألا ترى انصراف النفي على كونية الخوف عليهم، ولا يلزم من نفي كونية استيلاء الخوف انتفاؤه في كل حال، فلا دليل في الآية على نفي أهوال القيامة وخوفها عن المطيعين، وأنت تعلم أن فيما أشرنا إليه كناية غنية عن مثله وكذا عما قيل إن نفي الاستيلاء للتعريض بالكفار، والإشارة إلى أن الخوف مستول عليهم. هذا وقرأ الأعرج «هداي» بسكون الياء، وفيه الجمع بين ساكنين وذلك من إجراء الوصل مجرى الوقف. وقرأ الجحدري وغيره «هدي» بقلب الألف ياء وإدغامها في الياء على لغة هذيل. وقرأ الزهري وغيره «فلا خوف» بالفتح، وابن محيصن باختلاف عنه بالرفع من غير تنوين، وكأنه حذف لنية الإضافة، أو لكثرة الاستعمال، أو لملاحظة اللام في الاسم- على ما في البحر- ليحصل التعادل في كون لا دخلت على المعرفة في كلا الجملتين وهو على قراءة الجمهور مبتدأ، وعَلَيْهِمْ خبره أو أن لا عاملة عمل ليس كما قال ابن عطية والأول أولى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ عطف على فَمَنْ تَبِعَ قسيم له كأنه قال: ومن لم يتبعه، وإنما أوثر عليه ما ذكر تعظيما لحال الضلالة وإظهارا لكمال قبحها أو لأن من لم يتبع شامل لمن لم تبلغه الدعوة ولم يكن من المكلفين فعدل عن ذلك لإخراجهم، ولأنه شامل للفاسق بناء على أن المراد بالمتابعة المتابعة الكاملة ليترتب عليه عدم الخوف والحزن فلو قال سبحانه ذلك لزم منه خلوده في النار ولما قال ما قال لم يلزم ذلك بل خرج الفاسق من الصنفين، ويعلم بالفحوى أن عليه خوفا وحزنا على قدر عدم المتابعة- ولو جعل قوله تعالى: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ حينئذ لنفي استمرار الخوف والحزن، وأريد بمتابعة الهدى الإيمان به تعالى- كان داخلا في فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ إلا أن أولياء كتاب الله تعالى لا يرضون ذلك ولا يقبلون- وأولئك لا خوف عليهم ولا هم يحزنون- وإيراد الموصول بصيغة الجمع للإشارة إلى كثرة الكفرة، والمتبادر من الكفر الكفر بالله تعالى، ويحتمل أن يكون كفروا وكذبوا متوجهين إلى الجار والمجرور فيراد بالكفر بالآيات إنكارها بالقلب، وبالتكذيب إنكارها باللسان. والآية في الأصل العلامة الظاهرة بالقياس إلى ذي العلامة، ومنه آية القرآن لأنها علامة لانقطاع الكلام الذي بعدها والذي قبلها، أو لأنها علامة على معناها وأحكامها، وقيل: سميت آية لأن الآية تطلق على الجماعة أيضا، كما قال أبو عمرو يقال: خرج القوم بآيتهم أي بجماعتهم، وهي جماعة من القرآن وطائفة من الحروف، وذكر بعضهم أنها سميت بذلك لأنها عجب يتعجب من إعجازه، كما يقال: فلان آية من الآيات، وفي أصلها ووزنها أقوال: فمذهب سيبويه والخليل أن أصلها أيية- بفتحات- قلبت الياء الأولى ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها على خلاف القياس- كغاية وراية- إذ المطرد عند اجتماع حرفي علة إعلال الآخر لأنه محل التغيير، ومذهب الكسائي أن أصلها آيية- كفاعلة- وكان القياس أن تدغم كدابة، إلا أنه ترك ذلك تخفيفا فحذفوا عينها، ومذهب الفراء أن وزنها فعلة- بسكون العين- من تأيّ القوم إذا اجتمعوا، وقالوا في الجمع: آياء كأفعال، فظهرت الياء، والهمزة الأخيرة بدل ياء والألف الثانية بدل من همزة هي فاء الكلمة، ولو كان عينها واوا لقالوا في الجمع: آواء، ثم إنهم قلبوا الياء الساكنة ألفا على غير القياس لعدم تحركها وانفتاح ما قبلها. ومذهب الكوفيين أن وزنها- أيية- كنبقة فأعلت وهو في الشذوذ كالأول، وقيل: وزنها فعلة بضم العين، وقيل: أصلها أياة فقدمت اللام وأخرت العين- وهو ضعيف- وكل الأقوال فيها لا تخلو عن شذوذ، ولا بدع فهي آية، والمراد بالآيات هنا الكتب المنزلة أو الأنبياء، أو القرآن، أو الدوال عليه سبحانه من كتبه ومصنوعاته، وينزل المعقول منزلة الملفوظ ليتأتى التكذيب، وأتى سبحانه بنون العظمة لتربية المهابة وإدخال الروعة، وأضاف تعالى الآيات إليها لإظهار كمال قبح التكذيب بها، وأشار ب أُولئِكَ إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة للإشعار بتميز أُولئِكَ بذلك الوصف تميزا مصححا للإشارة الحسية مع الإيذان ببعد منزلتهم فيه وهو مبتدأ خبره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 أصحاب وهو جمع صاحب، وجمع فاعل على أفعال شاذ (1) كما في البحر، ومعنى الصحبة الاقتران بالشيء، والغالب في العرف أن تطلق على الملازمة، وهذه الجملة خبر عن الذين، ويحتمل أن يكون اسم الإشارة بدلا منه أو عطف بيان، والأصحاب خبره، والجملة الاسمية بعد في حيز النصب على الحالية لورود التصريح في قوله تعالى: أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها [التغابن: 10] وجوّز كونها حالا من النار لاشتمالها على ضميرها، والعامل معنى الإضافة أو اللام المقدرة، أو في حيز الرفع على أنها خبر آخر- لأولئك- على رأي من يرى ذلك، قال أبو حيان: ويحتمل أن تكون مفسرة لما أبهم في أَصْحابُ النَّارِ مبينة أن هذه الصحبة لا يراد منها مطلق الاقتران بل الخلود، فلا يكون لها إذ ذاك محل من الإعراب، والخلود هنا الدوام على ما انعقد عليه الإجماع، ومن البديع ما ذكره بعضهم أن في الآيتين نوعا منه، يقال له الاحتباك، ويا حبذاه لولا الكناية المغنية عما هناك. يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ خطاب لطائفة خاصة من الكفرة المعاصرين للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعد الخطاب العام، وإقامة دلائل التوحيد والنبوة والمعاد والتذكير بصنوف الإنعام، وجعله سبحانه بعد قصة آدم، لأن هؤلاء بعد ما أوتوا من البيان الواضح والدليل اللائح، وأمروا ونهوا وحرضوا على اتباع- النبي الأميّ الذي يجدونه مكتوبا عندهم- ظهر منهم ضد ذلك، فخرجوا عن جنة الإيمان الرفيعة، وهبطوا إلى أرض الطبيعة، وتعرضت لهم الكلمات- إلا أنهم لم يتلقوها بالقبول- ففات منهم ما فات، وأقبل عليهم بالنداء ليحركهم لسماع ما يرد من الأوامر والنواهي. وبَنِي جمع ابن شبيه بجمع التكسير لتغير مفرده، ولذا ألحق في فعله تاء التأنيث- كقالت بنو عامر- وهو مختص بالأولاد الذكور، وإذا أضيف عم في العرف- الذكور والإناث- فيكون بمعنى الأولاد- وهو المراد هنا- وذكر الساليكوتي أنه حقيقة في الأبناء الصلبية- كما بين في الأصول- واستعماله في العام مجاز، وهو محذوف اللام، وفي كونها- ياء أو واوا- خلاف، فذهب إلى الأول ابن درستويه وجعله من البناء، لأن الابن فرع الأب ومبني عليه، ولهذا ينسب المصنوع إلى صانعه، فيقال للقصيدة مثلا: بنت الفكر، وقد أطلق في شريعة من قبلنا على بعض المخلوقين- أبناء الله تعالى- بهذا المعنى، لكن لما تصوّر من هذا الجهلة الأغبياء- معنى الولادة- حظر ذلك حتى صار التفوه به كفرا، وذهب إلى الثاني الأخفش، وأيده بأنهم قالوا: البنوّة، وبأن حذف- الواو- أكثر، وقد حذفت في- أب وأخ- وبه قال الجوهري: ولعل الأول أصح، ولا دلالة في البنوة. لأنهم قالوا أيضا: الفتوة، ولا خلاف في أنها من ذوات- الياء- وأمر الأكثرية سهل، وعلى التقديرين في وزن- ابن- هل هو فعل أو فعل؟ خلاف و «إسرائيل» اسم أعجمي، وقد ذكروا أنه مركب من- إيل- اسم من أسمائه تعالى، و «إسرا» وهو العبد، أو الصفوة أو الإنسان أو المهاجر- وهو لقب سيدنا يعقوب عليه السلام- وللعرب فيه تصرفات، فقد قالوا: إِسْرائِيلَ بهمزة بعد الألف وياء بعدها- وبه قرأ الجمهور- «وإسراييل» - بياءين بعد الألف- وبه قرأ أبو جعفر وغيره- «وإسرائيل» - بهمزة ولام، وهو مروي عن ورش- «وإسرأل» - بهمزة مفتوحة ومكسورة بعد الراء، ولام- «وإسرأل» - بألف ممالة- بعدها لام خفيفة- وبها ولا إمالة- وهي رواية عن نافع- وقراءة الحسن وغيره «وإسرائين» بنون بدل اللام، كما في قوله: (2)   (1) والصحبة والصحابة- أسماء جموع وكذا صحب على الأصح خلافا للأخفش اهـ منه. (2) كذا بخط المؤلف والمشهور. قالت وكنت رجلا فطينا ... هذا لعمر الله إسرائينا اهـ مصححه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 تقول أهل السوء لما جينا ... هذا ورب البيت «إسرائينا» وأضاف سبحانه هؤلاء المخاطبين إلى هذا اللقب- تأكيدا لتحريكهم إلى طاعته- فإن في إِسْرائِيلَ ما ليس في اسمه الكريم- يعقوب- وقولك: يا ابن الصالح أطع الله تعالى، أحث للمأمور من قولك: يا ابن زيد- مثلا- أطع، لأن الطبائع تميل إلى اقتفاء أثر الآباء- وإن لم يكن محمودا- فكيف إذا كان؟ ويستعمل مثل هذا في مقام الترغيب والترهيب- بناء على أن الحسنة في نفسها حسنة- وهي من بيت النبوّة أحسن- والسيئة في نفسها سيئة- وهي من بيت النبوّة أسوأ، واذْكُرُوا أمر من الذكر- بكسر الذال وضمها- بمعنى واحد، ويكونان باللسان والجنان، وقال الكسائي: هو بالكسر- للسان- وبالضم- للقلب- وضد الأول الصمت، وضد الثاني النسيان. «وعلى العموم» فإما أن يكون مشتركا بينهما، أو موضوعا لمعنى عام شامل لهما «والظاهر» هو الأول، والمقصود من الأمر بذلك- الشكر على النعمة والقيام بحقوقها- لا مجرد الاخطار بالجنان، أو التفوه باللسان، وإضافة النعمة إلى ضميره تعالى لتشريفها، وإيجاب تخصيص شكرها به سبحانه، وقد قال بعض المحققين: إنها تفيد الاستغراق- إذ لا عهد- ولمناسبته بمقام الدعوة إلى الإيمان، فهي شاملة للنعم العامة والخاصة بالمخاطبين، وفائدة التقييد بكونها عليهم أنها- من هذه الحيثية أدعى للشكر- فإن الإنسان حسود غيور، وقال قتادة: أريد بها ما أنعم به على آبائهم- مما قصه سبحانه في كتابه- وعليهم من فنون النعمة التي أجلها- إدراك زمن أشرف الأنبياء- وجعلهم من جملة أمة الدعوة له، ويحتاج تصحيح الخطاب حينئذ إلى اعتبار التغليب، أو جعل نعم الآباء نعمهم، فلا جمع بين الحقيقة والمجاز- كما وهم- ويجوز في الياء من نِعْمَتِيَ الإسكان والفتح، والقراء السبعة متفقون على الفتح، وأَنْعَمْتُ صلة الَّتِي والعائد محذوف، والتقدير- أنعمتها- وقرىء- اذكروا- بالدال المهملة المشددة على وزن افتعلوا وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ يقال: أوفى ووفى- مخففا ومشددا- بمعنى، وقال ابن قتيبة: يقال: أوفيت بالعهد ووفيت به، وأوفيت الكيل لا غير، وجاء- أوفى- بمعنى ارتفع كقوله: ربما «أوفيت» في علم ... ترفعن ثوبي شمالات «والعهد» يضاف إلى كل ممن يتولى أحد طرفيه، والظاهر هنا أن الأول مضاف إلى الفاعل، والثاني إلى المفعول، فإنه تعالى أمرهم بالإيمان والعمل وعهد إليهم بما نصب من الحجج العقلية والنقلية الآمرة بذلك، ووعدهم بحسن الثواب على حسناتهم والمعنى أَوْفُوا بِعَهْدِي بالإيمان والطاعة أُوفِ بِعَهْدِكُمْ بحسن الإثابة، ولتوسط الأمر صح طلب الوفاء منهم. واندفع ما قال العلامة التفتازاني على ما فيه أنه لا معنى لوفاء غير الفاعل بالعهد، وقيل:- وهو المفهوم من كلام قتادة ومجاهد- أن كليهما مضاف إلى المفعول والمعنى- أوفوا بما عاهدتموني من الإيمان (1) والتزام الطاعة أوف بما عاهدتكم من حسن الإثابة، وتفصيل العهدين قوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ إلى قوله سبحانه: وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ [المائدة: 12] إلخ، ويحوج هذا إلى اعتبار أن عهد الآباء عهد الأبناء لتناسبهم في الدين، وإلا فالمخاطبون ب أَوْفُوا ما عوهدوا بالعهد المذكور في الآية، وقيل: إن فسر- الإيفاء- بإتمام العهد تكون الإضافة إلى المفعول في الموضعين، وإن فسر بمراعاته تكون الإضافة الأولى للفاعل والثانية للمفعول وفيه تأمل، ولا يخفى أن للوفاء عرضا عريضا، فأول المراتب الظاهرة منا الإتيان بكلمتي الشهادة، ومنه تعالى حقن الدماء والمال وآخرها منا الفناء حتى عن الفناء، ومنه تعالى التحلية بأنوار الصفات والأسماء- فما روي من الآثار على اختلاف   (1) ذكر الالتزام لأنه قد يعوق عن الفعل عائق، ويعد وافيا اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 أسانيدها صحة وضعفا في بيان الوفاء بالعهدين، فبالنظر إلى المراتب المتوسطة، وهي لعمري كثيرة- ولك أن تقول: «أول» المراتب منا توحيد الأفعال، «وأوسطها» توحيد الصفات. «وآخرها» توحيد الذات، ومنه تعالى ما يفيضه على السالك في كل مرتبة مما تقتضيه تلك المرتبة من المعارف والأخلاق، وقرأ الزهري «أوّف» بالتشديد، فإن كان موافقا للمجرد فذاك وإن أريد به التكثير- والقلب إليه يميل- فهو إشارة إلى عظيم كرمه وإحسانه، ومزيد امتنانه، حيث أخبر وهو الصادق، أنه يعطي الكثير في مقابلة القليل، وهو صرح بذلك في قوله سبحانه: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الإنعام: 160] وانجزام الفعل لوقوعه في جواب الأمر، والجزم إما به نفسه أو بشرط مقدر وهو اختيار الفارسي ونص سيبويه. وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ الرهبة الخوف مطلقا، وقيل: مع تحرز، وبه فارق الاتقاء لأنه مع حزم ولهذا كان الأول للعامة، والثاني للأئمة، والأشبه بمواقع الاستعمال أن الاتقاء التحفظ عن المخوف، وأن يجعل نفسه في وقاية منه، والرهبة نفس الخوف، وفي الأمر بها وعيد بالغ، وليس ذلك للتهديد والتهويل كما في اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت: 40] كما وهم لأن هذا مطلوب وذاك غير مطلوب كما لا يخفى وَإِيَّايَ ضمير منفصل منصوب المحل بمحذوف يفسره المذكور، والفاء عند بعضهم جزائية زحلقت من الجزاء المحذوف إلى مفسره ليكون دليلا على تقدير الشرط، ويحتمل أن تكون مفسرة للفاء الجزائية المحذوفة مع الجزاء، ومن أطلق الجزائية عليها فقد توسع، ولا يجوز أن تكون عاطفة لئلا يجتمع عاطفان، واختار صاحب المفتاح أنها للعطف على الفعل المحذوف، فإن أريد التعقيب الزماني أفادت طلب استمرار الرهبة في جميع الأزمنة بلا تخلل فاصل وإن أريد الرتبي كان مفادها طلب الترقي من رهبة إلى رهبة أعلى ولا يقدح في ذلك اجتماعها مع واو العطف مثلا لأنها لعطف المحذوف على ما قبله وهذه الفاء لعطف المذكور على المحذوف وكون فارهبون مفسرا للمحذوف لا يقتضي اتحاده به من جميع الوجوه وأن لا يفيد معنى سوى التفسير حتى لا يصح جعلها عاطفة واستحسن هذا بعض المتأخرين لاشتماله على معنى بديع خلت عنه الجزائية، وقال بعضهم كالمتوسط في المسألة: إنها عاطفة بحسب الأصل، وبعد الحذف زحلقت وجعلت جزائية وعلى كل تقدير فالآية الكريمة آكد في إفادة التخصيص من إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة: 5] وعد من وجوه التأكيد تقديم الضمير المنفصل وتأخير المتصل والفاء الموجبة معطوفا عليه ومعطوفا أحدهما مظهر والآخر مضمر تقديره إياي ارهبوا فَارْهَبُونِ وما في ذلك من تكرير الرهبة وما فيه من معنى الشرط بدلالة الفاء والمعنى إن كنتم متصفين بالرهبة فخصوني بالرهبة، وحذف متعلق الرهبة للعموم أي ارهبوني في جميع ما تأتون وتذرون، وقيل: ارهبون في نقض العهد ولعل التخصيص به مستفاد من ذكر الأمر بالرهبة معه ثم الخوف خوفان، خوف العقاب وهو نصيب أهل الظاهر، وخوف إجلال وهو نصيب أهل القلوب. وما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- أن المعنى ارهبون أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره- ظاهر في قسم أهل الظاهر وهو المناسب بحال هؤلاء المخاطبين- الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون- وحذفت ياء الضمير من ارهبون لأنها فاصلة، وقرأ ابن أبي إسحاق بالياء على الأصل وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ عطف على ما قبله، وظاهره أنه أمر لبني إسرائيل، وقيل: نزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه علماء اليهود ورؤسائهم فهو أمر لهم، وأفرد سبحانه الإيمان بعد اندراجه في أَوْفُوا بِعَهْدِي بمجموع الأمر به والحث عليه المستفاد من قوله تعالى: مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ للإشارة إلى أنه المقصود، والعمدة للوفاء بالعهود، وبِما موصولة، وأَنْزَلْتُ صلته والعائد محذوف أي أنزلته ومصدقا حال إما من الموصول أو من ضميره المحذوف. واللام في لِما مقوية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 والمراد بما أنزلت القرآن، وفي التعبير عنه بذلك تعظيم لشأنه والمراد بما معكم التوراة والتعبير عنها بذلك للإيذان بعلمهم بتصديقه لها فإن المعية مئنة لتكرار المراجعة إليها والوقوف على تضاعيفها المؤدي إلى العلم بكونه مصدقا لها، ومعنى تصديقه لها أنه نازل حسبما نعت فيها، أو مطابق لها في أصل الدين والملة أو لما لم ينسخ كالقصص والمواعظ وبعض المحرمات- كالكذب، والزنا، والربا- أو لجميع ما فيها والمخالفة في بعض جزئيات الأحكام التي هي للأمراض القلبية كالأدوية الطبية للأمراض البدنية المختلفة بحسب الأزمان والأشخاص ليست بمخالفة في الحقيقة بل هي موافقة لها من حيث إن كلّا منها حق في عصره متضمن للحكمة التي يدور عليها فلك التشريع، وليس في التوراة ما يدل على أبدية أحكامها المنسوخة حتى يخالفها ما ينسخها بل إن نطقها بصحة القرآن الناسخ لها نطق بنسخها وانتهاء وقتها الذي شرعت للمصلحة فيه وليس هذا من البداء في شيء كما يتوهمون، فإذن المخالفة في تلك الأحكام المنسوخة إنما هو اختلاف العصر حتى لو تأخر نزول المتقدم لنزل على وفق المتقدم، ولو تقدم نزول المتأخر لوافق المتقدم، وإلى ذلك يشير ما أخرجه الإمام أحمد وغيره عن جابر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال حين قرأ بين يديه عمر رضي الله تعالى عنه شيئا من التوراة: «لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي» وفي رواية الدارمي «والذي نفس محمد بيده لو بدا لكم موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم عن سواء السبيل ولو كان حيا وأدرك نبوتي لاتبعني» وتقييد المنزل بكونه- مصدقا لما معهم- لتأكيد وجوب الامتثال فإن إيمانهم بما معهم يقتضي الإيمان بما يصدقه قطعا، ومن الناس من فسر المنزل بالكتاب- والرسول صلى الله تعالى عليه وسلم- وما معهم بالتوراة والإنجيل، وليس فيه كثير بعد إلا أن البعيد من وجه جعل- مصدقا- حالا من الضمير المرفوع والأبعد جعل ما مصدرية، ومصدقا حال من- ما- الثانية، وأبعد منه جعله حالا من المصدر المقدر. وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ أي لا تسارعوا إلى الكفر به فإن وظيفتكم أن تكونوا أول من آمن به لما أنكم تعرفون حقيقة الأمر وحقيته. وقد كنتم من قبل تقولون إنا نكون أول من يتبعه فلا تضعوا موضع ما يتوقع فيكم، ويجب منكم ما يبعد صدوره عنكم ويحرم عليكم من كونكم أول كافر به. وأَوَّلَ في المشهور أفعل لقولهم: هذا أول منك ولا فعل له لأن فاءه وعينه واو. وقد دل الاستقراء على انتفاء الفعل لما هو كذلك وإن وجد فنادر. وما في الشافية من أنه من وول بيان للفعل المقدر. وقيل: أصله- أو أل- من وأل وأولا إذا لجأ ثم خفف بإبدال الهمزة واوا ثم الإدغام وهو تخفيف غير قياسي، والمناسبة الاشتقاقية أن الأول الحقيقي- أعني ذاته تعالى- ملجأ للكل وإن قلنا وأل بمعنى تبادر فالمناسبة أن التبادر سبب الأولية، وقيل أوأل من آل بمعنى رجع، والمناسبة الاشتقاقية على قياس ما ذكر سابقا، وإنما لم يجمع على أو أول لاستثقالهم اجتماع الواوين بينهما ألف الجمع، وقال الدريدي: هو فوعل فقلبت الواو الأولى همزة، وأدغمت واو فوعل في عين الفعل، ويبطله ظاهرا منع الصرف وهو خبر عن ضمير الجمع، ولا بد هنا عند الجمهور من تأويل المفضل عليه بجعله مفردا للفظ جمع المعنى أي أَوَّلَ فريق مثلا أو تأويل المفضل أي لا يكن كل واحد منكم، والمراد عموم السلب كما في لا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ [القلم: 10] وبعض الناس- لا يوجب في مثل هذا- المطابقة بين النكرة التي أضيف إليها أفعل التفضيل وما جرى هو عليه بل يجوز الوجهان عنده كما في قوله: وإذا هم طعموا فألأم طاعم ... وإذا هم جاعوا فشر جياع ومن أوجب أول البيت كالآية ونهيهم عن التقدم في الكفر به مع أن مشركي العرب أقدم منهم لما أن المراد التعريض- فأول- الكافرين غيرهم أو وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ من أهل الكتاب والخطاب للموجودين في زمانه صلى الله تعالى عليه وسلم بل للعلماء منهم، وقد يقال الضمير راجع إلى ما معكم والمراد من- لا تكونوا أول كافر- بما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 معكم- لا تكونوا أول كافر- ممن كفر بما معه- ومشركو مكة- وإن سبقوهم في الكفر بما يصدق القرآن حيث سبقوا بالكفر به وهو مستلزم لذلك لكن ليسوا ممن كفر بما معه، والفرق بين لزوم الكفر والتزامه غير بين إلا أنه يخدش هذا الوجه، إن هذا واقع في مقابلة آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ فيقتضي اتحاد متعلق الكفر والإيمان، وقيل: يقدر في الكلام مثل، وقيل: يقدر- ولا تكونوا أول كافر- وآخره وقيل: أَوَّلَ زائدة، والكل بعيد، وبحمل التعريض على سبيل الكناية يظهر وجه التقييد بالأولية، وقيل: إنها مشاكلة لقولهم إنا نكون أول من يتبعه، وقد يقال: إنها بمعنى السبق، وعدم التخلف، فافهم وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا الاشتراء مجاز عن الاستبدال لاختصاصه بالأعيان إما باستعمال المقيد في المطلق- كالمرسن في الأنف- أو تشبيه الاستبدال المذكور في كونه مرغوبا فيه بالاشتراء الحقيقي، والكلام على الحذف- أي لا تستبدلوا بالإيمان بآياتي، والاتباع لها- حظوظ الدنيا الفانية القليلة المسترذلة بالنسبة إلى حظوظ الآخرة وما أعد الله تعالى للمؤمنين من النعيم العظيم الأبدي، والتعبير عن ذلك- بالثمن- مع كونه مشتري لا مشترى به للدلالة على كونه كالثمن في الاسترذال والامتهان، ففيه تقريع وتجهيل قوي حيث إنهم قلبوا القضية وجعلوا المقصود آلة والآلة مقصودة وإغراب لطيف حيث جعل المشتري ثمنا بإطلاق الثمن عليه، ثم جعل الثمن مشترى بإيقاعه بدلا لما جعله ثمنا بإدخال الباء عليه «فإن قيل» : الاشتراء بمعنى الاستبدال بالإيمان بالآيات إنما يصح إذا كانوا مؤمنين بها ثم تركوا ذلك للحظوظ الدنيوية وهم بمعزل عن الإيمان، أجيب بأن مبنى ذلك على أن الإيمان بالتوراة الذي يزعمونه إيمان بالآيات كما أن الكفر بالآيات كفر بالتوراة فيتحقق الاستبدال، ومن الناس من جعل الآيات كناية عن الأوامر والنواهي التي وقفوا عليها في أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم من التوراة والكتب الإلهية أو ما علموه من نعته الجليل وخلقه العظيم عليه الصلاة والسلام، وقد كانوا يأخذون كل عام شيئا معلوما من زروع أتباعهم وضروعهم ونقودهم فخافوا إن بينوا ذلك لهم وتابعوه صلّى الله عليه وسلّم أن يفوتهم ذلك فضلوا وأضلوا، وقيل: كان ملوكهم يدرّون عليهم الأموال ليكتموا ويحرفوا، وقيل: غير ذلك، وقد استدل بعض أهل العلم بالآية على منع جواز أخذ الأجرة على تعليم كتاب الله تعالى والعلم، وروي في ذلك أيضا أحاديث لا تصح. وقد صح أنهم قالوا: «يا رسول الله أنأخذ على التعليم أجرا؟ فقال: إن خير ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله تعالى» وقد تظافرت أقوال العلماء على جواز ذلك وإن نقل عن بعضهم الكراهة، ولا دليل في الآية على ما ادعاه هذا الذاهب كما لا يخفى والمسألة مبينة في الفروع. وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ بالإيمان واتباع الحق والإعراض عن الاشتراء بآيات الله تعالى الثمن القليل والعرض الزائل، وإنما ذكر في الآية الأولى فَارْهَبُونِ وهنا فَاتَّقُونِ لأن الرهبة دون التقوى فحيثما خاطب الكافة عالمهم ومقلدهم وحثهم على ذكر النعمة التي يشتركون فيها أمرهم بالرهبة التي تورث التقوى ويقع فيها الاشتراك ولذا قيل الخشية ملاك الأمر كله، وحيثما أراد بالخطاب فيما بعد- العلماء منهم، وحثهم على الإيمان ومراعاة الآيات- أمرهم بالتقوى التي أولها ترك المحظورات وآخرها التبري مما سوى غاية الغايات، وليس وراء عبادان قرية. وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ هذا النهي مع ما بعده معطوف على مجموع الآية التي قبله وهي قوله تعالى: وَآمِنُوا إلخ، وهذا كما قالوا في قوله تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ [الحديد: 3] إن مجموع الوصفين الأخيرين بعد اعتبار التعاطف معطوف على مجموع الأولين كذلك، ويجوز العطف على جملة واحدة من الجمل السابقة إلا أن المناسبة على الأول أشد والملاءمة أتم. واللبس (1) بفتح اللام الخلط، وفعله لبس من باب ضرب   (1) وأما- اللبس- بضم اللام وفعله من باب علم فمعناه پوشيدن جامه كما في التاج، ويفهم ذلك من الصحاح اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 ويكون بمعنى الاشتباه إما بالاشتراك أو الحقيقة والمجاز: والباء إما للتعدية أو للاستعانة واللام في- الحق والباطل- للعهد أي لا تخلطوا الحق المنزل في التوراة بالباطل الذي اخترعتموه وكتبتموه أو لا تجعلوا ذلك ملتبسا مشتبها غير واضح لا يدركه الناس بسبب الباطل وذكره، ولعل الأول أرجح لأنه أظهر وأكثر لا لأن جعل وجود الباطل سببا لالتباس الحق ليس أولى من العكس لما أنه لما كان المذموم هو التباس الحق بالباطل- وإن لزمه العكس وكان هذا طارئا على ذلك- استحق الأولوية التي نفيت وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ مجزوم بالعطف على تَلْبِسُوا فالنهي عن كل واحد من الفعلين، وجوزوا أن يكون منصوبا على إضمار- أن- وهو عند البصريين عطف على مصدر متوهم. وروى الجرمي إن النصب بنفس الواو- وهي عندهم بمعنى مع- وتسمى واو الجمع وواو الصرف لأنها مصروف بها الفعل عن العطف، والمراد لا يكن منكم لبس الحق على من سمعه وكتمان الحق وإخفاؤه عمن لم يسمعه، والقصد أن ينعى عليهم سوء فعلهم الذي هو الجمع بين أمرين كل منهما مستقل بالقبح، ووجوب الانتهاء وطريق واسع إلى الإضلال والإغواء، وحيث كان التلبيس بالنسبة إلى من سمع، والكتمان إلى من لم يسمع اندفع السؤال بأن النهي عن الجمع بين شيئين إنما يتحقق إذا أمكن افتراقهما في الجملة وليس- لبس الحق بالباطل مع كتمان الحق كذلك- ضرورة أن لبس الحق بالباطل كتمان له، وكرر الحق إما لأن المراد بالأخير ليس عين الأول بل هو نعت النبي صلّى الله عليه وسلّم خاصة وإما لزيادة تقبيح المنهي عنه إذ في التصريح باسم الحق ما ليس في ضميره، وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه- وتكتمون- وخرجت على أن الجملة في موضع الحال- أي وأنتم تكتمون أو كاتمين- وفي جواز اقتران الحال المصدرة بالمضارع بالواو قولان، وليس للمانع دليل يعتمد عليه، وهذه الحال عند بعض المحققين لازمة والتقييد لإفادة التعليل كما في- لا تضرب زيدا وهو أخوك- وعليه يكون المراد بكتمان الحق ما يلزم من لبس الحق بالباطل لا إخفائه عمن لا يسمع، وجوز أن تكون معطوفة على جملة النهي على مذهب من يرى جواز ذلك- وهو سيبويه وجماعة- ولا يشترط التناسب في عطف الجمل وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ جملة حالية ومفعول تَعْلَمُونَ محذوف اقتصارا- أي وأنتم من ذوي العلم- ولا يناسب من كان عالما أن يتصف بالحال الذي أنتم عليه، ولا يبعد أن يكون الحذف للاختصار- أي وأنتم تعلمون أنكم لابسون كاتمون- أو تعلمون صفته صلّى الله عليه وسلّم أو البعث والجزاء، والمقصود من تقييد النهي بالعلم زيادة تقبيح حالهم لأن الإقدام على هاتيك الأشياء القبيحة مع العلم بما ذكر أفحش من الإقدام عليها مع الجهل- وليس من يعلم كمن لا يعلم- وجوز ابن عطية أن تكون هذه الجملة معطوفة وإن كانت ثبوتية على ما قبلها من جملة النهي، وإن لم تكن مناسبة في الاخبار، وهي عنده شهادة عليهم بعلم حق مخصوص في أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وليست شاهدة بالعلم على الإطلاق إذ هم بمراحل عنه، واستدل بالآية على أن العالم بالحق يجب عليه إظهاره ويحرم عليه كتمانه بالشروط المعروفة لدى العلماء وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ المراد بهما- سواء كانت اللام للعهد أو للجنس- صلاة المسلمين وزكاتهم لأن غيرهما مما نسخه القرآن ملتحق بالعدم، والزكاة في الأصل النماء والطهارة، ونقلت شرعا لإخراج معروف فإن نقلت من الأول فلأنها تزيد بركة المال وتفيد النفس فضيلة الكرم، أو لأنها تكون في المال النامي وإن نقلت من الثاني فلأنها تطهر المال من الخبث والنفس من البخل. واستدل بالآية حيث كانت خطابا لليهود من قال: إن الكفار مخاطبون بالفروع واحتمال أن يكون الأمر فيها بقبول الصلاة المعروفة والزكاة والإيمان بهما، أو أن يكون أمرا للمسلمين- كما قاله الشيخ أبو منصور- خلاف الظاهر فلا ينافي الاستدلال بالظاهر، وقدم الأمر بالصلاة لشمول وجوبها ولما فيها من الإخلاص والتضرع للحضرة، وهي أفضل العبادات البدنية وقرنها بالزكاة لأنها أفضل العبادات المالية، ثم من قال: لا يجوز تأخير بيان المجمل عن وقت الخطاب قال إنما جاء هذا بعد أن بين صلّى الله عليه وسلّم أركان ذلك وشرائطه، ومن قال بجوازه قال بجواز أن يكون الأمر لقصد أن يوطن السامع نفسه- كما يقول السيد لعبده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 إني أريد أن آمرك بشيء فلا بد أن تفعله وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ أي صلوا مع المصلين وعبر بالركوع عن الصلاة احترازا عن صلاة اليهود فإنها لا ركوع فيها وإنما قيد ذلك بكونه مع الراكعين لأن اليهود كانوا يصلون وحدانا فأمروا بالصلاة جماعة لما فيها من الفوائد ما فيها، واستدل به بعضهم على وجوبها ومن لم يقل به حمل الأمر على الندب أو المعية على الموافقة وإن لم يكونوا معهم وقيل: الركوع- الخضوع والانقياد لما يلزمهم من الشرع قال الأضبط السعدي: لا تذل الفقير علّك أن ... «تركع» يوما والدهر قد رفعه ولعل الأمر به حينئذ بعد الأمر بالزكاة لما أنها مظنة ترفع فأمروا بالخضوع لينتهوا عن ذلك إلا أن الأصل في إطلاق الشرع المعاني الشرعية: وفي المراد بالراكعين قولان: فقيل، النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، وقيل: الجنس وهو الظاهر «ومن باب الإشارة» في قوله تعالى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ إلخ أي لا تقطعوا على أنفسكم طريق الوصول إلى الحق بالباطل الذي هو تعلق القلب بالسوي- فإن أصدق كلمة قالها شاعر- لكمة لبيد. ألا كل شيء ما خلا الله باطل ولا تَكْتُمُوا الْحَقَّ بالتفاتكم إلى غيره سبحانه وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنه ليس لغيره وجود حقيقي أو لا تخلطوا صفاته تعالى الثابتة الحقة بالباطل الذي هو صفات نفوسكم ولا تكتموها بحجاب صفات النفس وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ من علم توحيد الأفعال أن مصدر الفعل هو الصفة فكما لم تسندوا الفعل إلى غيره لا تثبتوا صفته لغيره وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ بمراقبة القلوب وَآتُوا الزَّكاةَ أي بالغوا في تزكية النفس عن الصفات الذميمة لتحصل لكم التحلية بعد التخلية. أو أدوا زكاة الهمم فإن لها زكاة كزكاة النعم بل إن لكل شيء زكاة كما قيل: كل شيء له «زكاة» تؤدى ... وزكاة- الجمال رحمة مثلي وَارْكَعُوا أي اخضعوا لما يفعل بكم المحبوب، فالخضوع علامة الرضا الذي هو ميراث تجلي الصفات العلى، وحاصله ارضوا بقضائي عند مطالعة صفاتي فإن لي أحبابا لسان حال كل منهم يقول: وتعذيبكم عذب لديّ وجوركم ... عليّ بما يقضي الهوى لكم عدل ثم إنه تعالى لما أمرهم بفعل الخير شكرا لما خصهم به من النعم حرضهم على ذلك من مأخذ آخر بقوله سبحانه: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ والهمزة فيه للتقرير مع توبيخ وتعجيب والبر- سعة المعروف والخير، ومنه البر، والبرية للسعة، ويتناول كل خير، والنسيان- كما في البحر- السهو الحادث بعد العلم. والمراد به هنا الترك لأن أحدا لا ينسى نفسه بل يحرمها ويتركها كما يترك الشيء المنسي مبالغة في عدم المبالاة والغفلة فيما ينبغي أن يفعله، وقد نزلت هذه الآية- على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- في أحبار المدينة كانوا يأمرون سرا من نصحوه باتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم ولا يتبعونه وقيل: إنهم كانوا يأمرون بالصدقة ولا يتصدقون فالمراد بالبر هنا إما الإيمان أو الإحسان، وتركه بعضهم على ظاهره متناولا كل خير على ما قال السدي: إنهم كانوا يأمرون الناس بطاعة الله تعالى وينهونهم عن معصيته وهم كانوا يتركون الطاعة ويقدمون على المعصية، والتوبيخ ليس على أمر الناس بِالْبِرِّ نفسه بل لمقارنته بالنسيان المذكور وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أي التوراة، والجملة حال من فاعل أَتَأْمُرُونَ، والمراد التبكيت وزيادة التقبيح أَفَلا تَعْقِلُونَ أصل هذا الكلام ونحوه عند الجمهور كان بتقديم حرف العطف على الهمزة لكن لما كان للهمزة صدر الكلام قدمت على حرف العطف، وبعضهم ذهب إلى أنه لا تقديم ولا تأخير ويقدر بين الهمزة وحرف العطف ما يصح العطف عليه، والعقل- في الأصل المنع والإمساك، ومنه- عقال البعير- سمي به النور الروحاني الذي به تدرك النفوس العلوم الضرورية والنظرية لأنه يحبس عن تعاطي ما يقبح ويعقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 على ما يحسن، والفعل يحتمل أن يكون مطلقا أجري مجرى اللازم، ويحتمل أن يكون متعديا مقدرا لمفعول، والمعنى- أفلا عقل لكم يمنعكم عما تعلمون سوء خاتمته ووخامة عاقبته- أو أَفَلا تَعْقِلُونَ قبح صنيعكم شرعا لمخالفة ما تتلونه في التوراة. وعقلا لكونه جمعا بين المتنافيين، فإن المقصود من الأمر بِالْبِرِّ الإحسان والامتثال، والزجر عن المعصية، ونسيانهم أنفسهم ينافي كل هذه الأغراض، ولا نزاع في كون قبح الجمع بين ذلك عقلا بمعنى كونه باطلا فعلى هذا لا حجة للمعتزلة في الآية على القبح العقلي الذي يزعمونه بل قد ادعى بعض المحققين أنها دليل على خلاف ما ذهبوا إليه لأنه سبحانه رتب التوبيخ على ما صدر منهم بعد تلاوة الكتاب وكذا لا حجة فيها لمن زعم أنه ليس للعاصي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لأن التوبيخ على جمع الأمرين بالنظر للثاني فقط لا منع الفاسق عن الوعظ فإن النهي عن المنكر لازم ولو لمرتكبه فإن ترك النهي ذنب وارتكابه ذنب آخر، وإخلاله بأحدهما لا يلزم منه الإخلال بالآخر، ثم إن هذا التوبيخ والتقريع- وإن كان خطابا لبني إسرائيل- إلا أنه عام- من حيث المعنى- لكل واعظ يأمر ولا يأتمر، ويزجر ولا ينزجر، ينادي الناس البدار البدار، ويرضى لنفسه التخلف والبوار، ويدعو الخلق إلى الحق، وينفر عنه، ويطالب العوام بالحقائق ولا يشم ريحها منه. وهذا هو الذي يبدأ بعذابه قبل عبدة الأوثان، ويعظم ما يلقى لوفور تقصيره يوم لا حاكم إلا الملك الديان. وعن محمد بن واسع قال: بلغني أن أناسا من أهل الجنة اطلعوا على ناس من أهل النار، فقالوا لهم: قد كنتم تأمروننا بأشياء عملناها فدخلنا الجنة، قالوا: كنا نأمركم بها، ونخالف إلى غيرها، هذا ومن الناس من جعل هذا الخطاب للمؤمنين، وحمل الكتاب على القرآن، فيكون ذلك من تلوين الخطاب- كما في- يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي [يوسف: 29] والظاهر يبعده وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ لما أمرهم سبحانه بترك الضلال والإضلال والتزام الشرائع، وكان ذلك شاقا عليهم- لما فيه من فوات محبوبهم وذهاب مطلوبهم- عالج مرضهم بهذا الخطاب، و «الصبر» حبس النفس على ما تكره، وقدمه على الصلاة- لأنها لا تكمل إلا به- أو لمناسبته لحال المخاطبين، أو لأن تأثيره- كما قيل- في إزالة ما لا ينبغي، وتأثير الصلاة في حصول ما ينبغي، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح- واللام- فيه للجنس، ويجوز أن يراد بالصبر نوع منه- وهو الصوم- بقرينة ذكره مع الصلاة- والاستعانة بالصبر- على المعنى الأول لما يلزمه من انتظار الفرج والنجح- توكلا على من لا يخيب المتوكلين عليه- ولذا قيل: الصبر مفتاح الفرج، وبه- على المعنى الثاني- لما فيه من كسر الشهوة وتصفية النفس الموجبين للانقطاع إلى الله تعالى- الموجب لإجابة الدعاء- وأما الاستعانة ب الصَّلاةِ فلما فيها من أنواع العبادة، مما يقرب إلى الله تعالى قربا يقتضي الفوز بالمطلوب والعروج إلى المحبوب، وناهيك من عبادة تكرر في اليوم والليلة خمس مرات يناجي فيها العبد علام الغيوب، ويغسل بها العاصي درن العيوب، وقد روى حذيفة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم إذا حزنه أمر صلى، وروى أحمد أنه إذا حزنه أمر فزع إلى الصلاة، وحمل الصلاة على الدعاء في الآية وكذا في الحديث لا يخلو عن بعد، وأبعد منه كون المراد بالصبر الصبر على الصلاة. وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ الضمير للصلاة- كما يقتضيه الظاهر، وتخصيصها- برد الضمير إليها- لعظم شأنها واستجماعها ضروبا من الصبر، ومعنى- كبرها- ثقلها وصعوبتها على من يفعلها، على حد قوله تعالى: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ [الشورى: 13] والاستثناء مفرغ أي لَكَبِيرَةٌ على كل أحد إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ وهم المتواضعون المستكينون، وأصل- الخشوع- الإخبات، ومنه الخشعة- بفتحات- الرمل المتطامن، وإنما لم تثقل عليهم، لأنهم عارفون بما يحصل لهم فيها متوقعون ما ادخر من ثوابها فتهون عليهم، ولذلك قيل: من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 عرف ما يطلب، هان عليه ما يبذل، ومن أيقن بالخلف، جاد بالعطية، وجوّز رجوع الضمير إلى- الاستعانة- على حد اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة: 8] ورجح بالشمول، وما يقال: إن الاستعانة ليست ب لَكَبِيرَةٌ لا طائل تحته، فإن الاستعانة ب الصَّلاةِ أخص من فعل الصلاة لأنها أداؤها- على وجه الاستعانة بها على الحوائج- أو على سائر الطاعات لاستجرارها ذلك، وقيل: يجوز أن يكون من أسلوب وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة: 8] وقوله: إن شرخ الشباب والشعر الأس ... ود ما لم يعاص كان جنونا والتأنيث مثله في قوله تعالى على رأي وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها [التوبة: 34] أو المراد كل خصلة منها، وقيل: الضمير راجع إلى المذكورات المأمور بها والمنهي عنها، ومشقتها عليهم ظاهرة، وهو أقرب مما قاله الأخفش من رجوعه إلى إجابة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، والبعيد بل الأبعد عوده إلى الكعبة المفهومة من ذكر الصلاة الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ الظن في الأصل الحسبان- واللقاء- وصول أحد الجسمين إلى الآخر بحيث يماسه، والمراد من ملاقاة الرب سبحانه، إما ملاقاة ثوابه أو الرؤية عند من يجوزها، وكل منهما مظنون متوقع لأنه وإن علم الخاشع أنه لا بد من ثواب للعمل الصالح، وتحقق أن المؤمن يرى ربه يوم المآب- لكن من أين يعلم ما يختم به عمله- ففي وصف أولئك بالظن إشارة إلى خوفهم، وعدم أمنهم مكر ربهم فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ [الأعراف: 99] . وفي تعقيب الخاشعين به حينئذ لطف لا يخفى، إلا أن عطف ... أَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ على ما قبله- يمنع حمل الظن على ما ذكر- لأن الرجوع إليه تعالى- المفسر بالنشور- أو المصير إلى الجزاء مطلقا، مما لا يكفي فيه الظن والتوقع- بل يجب القطع به- اللهم إلا أن يقدر له عامل- أي ويعلمون- أو يقال: إن الظن متعلق بالمجموع من حيث هو مجموع، وهو كذلك غير مقطوع به- وإن كان أحد جزئيه مقطوعا- أو يقال: إن الرجوع إلى الرب هنا المصير إلى جزائه الخاص، أعني الثواب بدار السلام، والحلول بجواره جل شأنه- والكل خلاف الظاهر- ولهذا اختير تفسير الظن باليقين مجازا، ومعنى التوقع والانتظار في ضمنه، ولقاء الله تعالى بمعنى الحشر إليه، والرجوع بمعنى المجازاة- ثوابا أو عقابا- فكأنه عز شأنه قال: يعلمون أنهم يحشرون إليه فيجازيهم متوقعين لذلك، وكأن النكتة في استعمال الظن المبالغة في إيهام أن من ظن ذلك لا يشق عليه ما تقدم- فكيف من تيقنه- والتعرض لعنوان الربوبية للإشعار بعلية الربوبية- والمالكية للحكم- وجعل خبر «أن» في الموضعين اسما للدلالة على تحقق اللقاء والرجوع وتقررهما عنده، وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه يعلمون وهي تؤيد هذا التفسير. «ومن باب الإشارة» أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ الذي هو الفعل الجميل الموجب لصفاء القلب وزكاء النفس ولا تفعلون ما ترتقون به من مقام تجلي الأفعال إلى تجلي الصفات وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ فطرتكم الذي يأمركم بالدين السالك بكم سبيل التوحيد أَفَلا تَعْقِلُونَ فتقيدون مطلقات صفاتكم الذميمة بعقال ما أفيض عليكم من الأنوار القديمة، واطلبوا المدد والعون ممن له القدرة الحقيقية بِالصَّبْرِ على ما يفعل بكم، لكي تصلوا إلى مقام الرضا وَالصَّلاةِ التي هي المراقبة وحضور القلب لتلقي تجليات الرب، وإن المراقبة لشاقة- إلا على- المنكسرة قلوبهم، اللينة أفئدتهم لقبول أنوار التجليات اللطيفة، واستيلاء سطواتها القهرية، فهم الذين يتيقنون أنهم بحضرة ربهم وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ بفناء صفاتهم ومحوها في صفاته فلا يجدون في الدار إلا شؤون الملك اللطيف القهار يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ كرر التذكير للتأكيد والإيذان بكمال غفلتهم عن القيام بحقوق النعمة، وليربط ما بعده من الوعد الشديد به لتتم الدعوة بالترغيب والترهيب، فكأنه قال سبحانه: إن لم تطيعوني لأجل سوابق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 نعمتي، فأطيعوني للخوف من لواحق عقابي، ولتذكير التفضيل الذي هو أجل النعم، فإنه لذلك يستحق أن يتعلق به التذكير بخصوصه مع التنبيه على أجليته بتكرير النعمة التي هو فرد من أفرادها وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ عطف على نعمتي من عطف الخاص على العام، وهو مما انفردت به- الواو- كما في البحر، ويسمى هذا النحو من العطف- بالتجريد- كأنه جرد المعطوف من الجملة، وأفرد بالذكر اعتناء به، والكلام على حذف مضاف، أي فضلت آباءكم- وهم الذين كانوا قبل التغيير، أو باعتبار أن نعمة الآباء نعمة عليهم، قال الزجاج: والدليل على ذلك قوله تعالى: وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ إلخ، والمخاطبون لم يروا فرعون ولا آله، ولكنه تعالى أذكرهم أنه لم يزل منعما عليهم، والمراد ب الْعالَمِينَ سائر الموجودين في وقت التفضيل، وتفضيلهم بما منحهم من النعم المشار إليها بقوله تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً [المائدة: 20] فلا يلزم من الآية تفضيلهم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا على أمته، الذين هم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110] وكذا لا يصح الاستدلال بها على أفضلية البشر على الملائكة من جميع الوجوه- ولو صح ذلك- يلزم تفضيل عوامهم على خواص الملائكة، ولا قائل به. «ومن اللطائف» أن الله سبحانه وتعالى أشهد بني إسرائيل فضل أنفسهم فقال: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ إلخ، وأشهد المسلمين فضل نفسه فقل: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس: 58] فشتان من مشهوده فضل ربه، ومن مشهوده فضل نفسه «فالأول» يقتضي الفناء «والثاني» يقتضي الإعجاب، والحمد لله الذي فضلنا على كثير ممن خلق تفضيلا وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً اليوم الوقت، وانتصابه إما على الظرف والمتقى محذوف- أي واتقوا العذاب يَوْماً- وإما مفعول به- واتقاؤه- بمعنى- اتقاء ما فيه- إما مجازا بجعل الظرف عبارة عن المظروف أو كناية عنه للزومه له، وإلا- فالاتقاء- من نفس- اليوم- مما لا يمكن، لأنه آت لا محالة، ولا بد أن يراه أهل الجنة والنار جميعا، والممكن المقدور- اتقاء- ما فيه بالعمل الصالح، وتَجْزِي من جزى بمعنى قضى، وهو متعد بنفسه لمفعوله الأول، وبعن للثاني- وقد ينزل منزلة اللازم للمبالغة- والمعنى لا تقضي يوم القيامة نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً مما وجب عليها، ولا تنوب عنها، ولا تحتمل مما أصابها، أو لا تقضي عنها شيئا من الجزاء، فنصب شَيْئاً إما على أنه- مفعول به- أو على أنه- مفعول مطلق- قائم مقام المصدر، أي جزاء ما. وقرأ أبو السماك «ولا تجزىء» من أجزأ عنه إذا أغنى، فهو لازم، وشَيْئاً مفعول مطلق لا غير، والمعنى لا تغني نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً من الإغناء- ولا تجديها نفعا- وتنكير الأسماء للتعميم في الشفيع والمشفوع، وما فيه الشفاعة، وفيه من التهويل والإيذان بانقطاع المطامع ما لا يخفى، كما يشير إليه قوله تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس: 34- 37] والجملة في المشهور صفة يوم والرابط محذوف، أي «لا تجزي فيه» ولم يجوز الكسائي حذف المجرور إذا لم يتعين، فلا تقول: رأيت رجلا أرغب، وأنت تريد أرغب فيه، ومذهبه في هذا التدريج، وهو أن يحذف حرف الجر أولا حتى يتصل الضمير بالفعل- فيصير منصوبا- فيصح حذفه كما في قوله: فما أدرى أغيّرهم تناء ... وطول العهد أو مال أصابوا يريد أصابوه، وقد يجوز- على رأي الكوفيين- أن لا تكون الجملة صفة، بل مضاف إليها «يوم» محذوف- لدلالة ما قبله عليه- فلا تحتاج إلى ضمير، ويكون ذلك المحذوف- بدلا من المذكور- ومن ذلك ما حكاه الكسائي- أطعمونا لحما سمينا، شاة ذبحوها- بجر شاة- على تقدير- لحم شاة- وحكى الفراء مثل ذلك، ومنه قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 رحم الله أعظما دفنوها ... بسجستان طلحة الطلحات في رواية من خفض طلحة، والبصريون لا يجوّزون حذف المضاف، وترك المضاف إليه على خفضه، ويقولون بشذوذ ما ورد من ذلك، وقرأ أبو سرار «لا تجزي نسمة عن نسمة» وهي بمعنى النفس. وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ الشفاعة- كما في البحر- ضم غيره إلى وسيلته- وهي من الشفع ضد الوتر- لأن الشفيع ينضم إلى الطالب في تحصيل ما يطلب- فيصير شفعا بعد أن كان فردا- و «العدل» الفدية، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وروي عنه أيضا- البدل- أي رجل مكان رجل، وأصل «العدل» - بفتح العين- ما يساوي الشيء- قيمة وقدرا- وإن لم يكن من جنسه- وبكسرها- المساوي في الجنس والجرم، ومن العرب من يكسر- العين- من معنى الفدية، وذكر الواحدي أن عَدْلٌ الشيء- بالفتح والكسر- مثله، وأنشد قول كعب بن مالك: صبرنا لا نرى لله «عدلا» ... على ما نابنا متوكلينا وقال ثعلب: العدل الكفيل والرشوة- ولم يؤثر في الآية- والضميران المجروران- بمن- إما راجعان إلى النفس الثانية لأنها أقرب مذكور ولموافقته لقوله تعالى: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ولأنه المتبادر من قوله: وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ ومعنى عدم قبول الشفاعة حينئذ أنها إن جاءت بشفاعة شفيع لم تقبل منها وإما إلى الأولى لأنها المحدث عنها، والثانية فضلة ولأن المتبادر من نفي قبول الشفاعة أنها لو شفعت لم تقبل شفاعتها، وحينئذ معنى عدم- أخذ العدل- من الأولى أنه لو أعطى عدلا من الثانية لم يؤخذ، وكأن في الآية على هذا نوعا من الترقي ارتكب هنا وإن لم يرتكب في مقام آخر كأنه قيل: إن النفس الأولى لا تقدر على استخلاص صاحبتها من قضاء الواجبات وتدارك التبعات لأنها مشغولة عنها بشأنها، ثم إن قدرت على نفي ما كان بشفاعة لا يقبل منها، وإن زادت عليه بأن ضمت الفداء فلا يؤخذ منها، وإن حاولت الخلاص بالقهر والغلبة- وأنى لها ذلك- فلا تتمكن منه، واختار الكواشي جعل الضمير الأول للنفس الأولى، والثاني للثانية على اللف والنشر لما فيه من إجراء الجملتين على المعنى الظاهر منهما، ويهوّن أمر التفكيك الاتضاح، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو- ولا تقبل- بالتاء، وسفيان يُقْبَلُ بفتح الياء، ونصب شَفاعَةٌ على البناء للفاعل، وفيه التفات من ضمير المتكلم في نِعْمَتِيَ إلخ إلى ضمير الغائب وبناؤه للمفعول أبلغ. وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ النصر في الأصل المعونة، ومنه أرض منصورة ممدودة بالمطر، والمراد به هنا ما يكون بدفع الضرر- أي ولا هم يمنعون من عذاب الله عز وجل- والضمير راجع إلى ما دلت عليه النفس الثانية المنكرة الواقعة في سياق النفي من النفوس الكثيرة فيكون من قبيل ما تقدم ذكره معنى بدلالة لفظ آخر، وإما إلى النفس المنكرة من حيث كونها لعمومها بالنفي في معنى الكثرة كما قيل في قوله تعالى: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الحاقة: 47] وأتى به مذكرا لتأويل النفوس بالعباد والأناسي، وفيه تنبيه على أن تلك النفوس عبيد مقهورون مذللون تحت سلطانه تعالى، وأنهم ناس كسائر الناس في هذا الأمر، وعوده إلى النفسين بناء على أن التثنية جمع ليس بشيء، وجعل النفي- منسحبا على جملة اسمية للتقوى، ورفع هُمْ على الابتداء والجملة بعده خبره، وجعله مفعولا لما لم يسم فاعله والفعل بعده مفسّر فتوافق الجمل- لا أوافق على اختياره- وإن ذهب إليه بعض الأجلة- وتمسك المعتزلة بعموم الآية، على نفي الشفاعة لأهل الكبائر- وكون الخطاب للكفار والآية نازلة فيهم- لا يدفع العموم المستفاد من اللفظ، وأجيب بالتخصيص من وجهين، الأول بحسب المكان والزمان فإن مواقف القيامة ومقدار زمانها فيها سعة وطول، ولعل هذه الحالة في ابتداء وقوعها وشدته ثم يأذن بالشفاعة، وقد قيل: مثل ذلك في الجمع بين قوله تعالى: فَلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ [المؤمنون: 101] وقوله تعالى: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصافات: 27] وكون مقام الوعيد يأبى عنه غير مسلم، والثاني بحسب الأشخاص إذ لا بد لهم من التخصيص في غير العصاة لمزيد الدرجات فليس العام باقيا على عمومه عندهم وإلا اقتضى نفي زيادة المنافع وهم لا يقولون به، ونحن نخصص في العصاة بالأحاديث الصحيحة البالغة حد التواتر، وحيث فتح باب التخصيص نقول أيضا ذلك النفي مخصص بما قبل الإذن، لقوله تعالى: لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ [سبأ: 23] وهو تخصيص له دليل، وتخصيصهم لا يظهر له دليل على أن الشفاعة بزيادة المنافع يكاد أن لا تكون شفاعة وإلا لكنا شفعاء الرسول صلّى الله عليه وسلم عند الصلاة عليه مع أن الإجماع وقع منا ومنهم على أنه هو الشفيع، وأيضا في قوله تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [محمد: 19] ما يشير إلى الشفاعة التي ندعيها- ويحث على التخصيص الذي نذهب إليه- رزقنا الله تعالى الشفاعة وحشرنا في زمرة أهل السنة والجماعة، ولما قدم سبحانه ذكر نعمه إجمالا أراد أن يفصل ليكون أبلغ في التذكير وأعظم في الحجة فقال: وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وهو على الشائع عطف على نِعْمَتِيَ بتقدير اذْكُرُوا كيلا يلزم الفصل بين المعطوفين بأجنبي وهو اتَّقُوا وقد تقدم قبل ما ينفعك هنا، وقرىء- أنجيناكم، وأنجيتكم- ونسبت الأولى للنخعي، والآل قيل: بمعنى الأهل وإن ألفه بدل عن هاء، وإن تصغيره أهيل، وبعضهم ذهب إلى أن ألفه بدل من همزة ساكنة وتلك الهمزة بدل من هاء، وقيل: ليس بمعنى الأهل لأن الأهل القرابة والآل من يؤول إليك في قرابة أو رأي أو مذهب، فألفه بدل من واو، ولذلك قال يونس في تصغيره: أويل، ونقله الكسائي نصا عن العرب، وروي عن أبي عمر- غلام ثعلب- أن الأهل القرابة كان لها تابع أو لا، والآل القرابة بتابعها فهو أخص من الأهل، وقد خصوه أيضا بالإضافة إلى أولي الخطر فلا يضاف إلى غير العقلاء ولا إلى من لا خطر له منهم، فلا يقال- آل الكوفة، ولا- آل الحجام- وزاد بعضهم اشتراط التذكير فلا يقال- آل فاطمة- ولعل كل ذلك أكثريّ وإلا فقد ورد على خلاف ذلك- كآل اعوج- اسم فرس وآل المدينة وآل نعم، وآل الصليب. وآلك- ويستعمل غير مضاف- كهم خير آل- ويجمع- كأهل- فيقال آلون: وفرعون لقب لمن ملك العمالقة- ككسرى لملك الفرس، وقيصر لملك الروم، وخاقان لملك الترك، وتبع لملك اليمن، والنجاشي لملك الحبشة- وقال السهيلي: هو اسم لكل من ملك القبط ومصر، وهو غير منصرف للعلمية والعجمة، وقد اشتق منه باعتبار ما يلزمه فقيل: تفر عن الرجل إذا تجبر وعتا. واسم فرعون هذا الوليد بن مصعب- قاله ابن إسحاق، وأكثر المفسرين- وقيل: أبوه مصعب بن ريان حكاه ابن جرير، وقيل: قنطوس حكاه مقاتل، وذكر وهب بن منبه أن أهل الكتابين قالوا: إن اسمه قابوس، وكنيته أبو مرة وكان من القبط، وقيل: من بني عمليق أو عملاق بن لاوز بن ارم بن سام بن نوح عليه السلام، وهم أمم تفرقوا في البلاد، وروي أنه من أهل إصطخر ورد إلى مصر فصار بها ملكا، وقيل: كان عطارا بأصفهان ركبته الديون فدخل مصر وآل أمره إلى ما آل- وحكاية البطيخ شهيرة- وقد نقلها مولانا مفتي الديار الرومية في تفسيره، والصحيح أنه غير فرعون يوسف عليه السلام، وكان اسمه- على المشهور- الريان بن الوليد، وقد آمن بيوسف ومات في حياته وهو من أجداد فرعون المذكور على قول، ويؤيد الغيرية أن بين دخول يوسف ودخول موسى عليهما السلام أكثر من أربعمائة سنة، والمراد ب آلِ فِرْعَوْنَ هنا أهل مصر أو أهل بيته خاصة أو أتباعه على دينه، وب نَجَّيْناكُمْ أنجينا آباءكم، وكذا نظائره فلا حجة فيها لتناسخي، وهذا في كلام العرب شائع كقول حسان: ونحن قتلناكم ببدر فأصبحت ... عساكركم في الهالكين «تجول» ويَسُومُونَكُمْ من السوم، وأصله الذهاب للطلب، ويستعمل للذهاب وحده تارة، ومنه السائمة، وللطلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 أخرى، ومنه السوم في البيع، ويقال: سامه كلفه العمل الشاق، والسوء- مصدر ساء يسوء، ويراد به السيئ، ويستعمل في كل ما يقبح- كأعوذ بالله تعالى من سوء الخلق وسُوءَ الْعَذابِ أفظعه وأشده بالنسبة إلى سائره، وهو منصوب على المفعولية ل يَسُومُونَكُمْ بإسقاط حرف الجر أو بدونه، والجملة يحتمل أن تكون مستأنفة، وهي حكاية حال ماضية، ويحتمل أن تكون في موضع الحال من ضمير نَجَّيْناكُمْ أو مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وهو الأقرب، والمعنى يولونكم أو يكلفونكم الأعمال الشاقة، والأمور الفظيعة أو يرسلونكم إليها ويصرفونكم فيها أو يبغونكم سوء العذاب المفسر بما بعده. وقد حكي أن فرعون جعل بني إسرائيل خدما وخولا، وصنفهم في الأعمال- فصنف يبنون، وصنف يحرثون، وصنف يخدمون- ومن لم يكن منهم في عمل وضع عليه الجزية يؤديها كل يوم، ومن غربت عليه الشمس قبل أن يؤديها غلت يده إلى عنقه شهرا، وجعل النساء يغزلن الكتان، وينسجن يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ جملة حالية أو استئنافية كأنه قيل: ما الذي ساموهم إياه، فقال: يُذَبِّحُونَ إلخ، ويجوز أن تخرج على إبدال الفعل من الفعل كما في قوله تعالى: يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ [الفرقان: 68، 69] ، وقيل: بالعطف وحذف حرفه لآية إبراهيم، والمحققون على الفرق، وحملوا سُوءَ الْعَذابِ فيها على التكاليف الشاقة غير الذبح، وعطف للتغاير، واعتبر هناك لا هنا على رأيهم لسبق وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ [إبراهيم: 5] ، وهو يقتضي التعداد، وليس هنا ما يقتضيه، والأبناء الأطفال الذكور، وقيل: إنهم الرجال هذا وسموا أبناء باعتبار ما كانوا قبل، وفي بعض الأخبار أنه قتل أربعين ألف صبي، وحكي أنه كان يقتل الرجال الذين يخاف منهم الخروج والتجمع لإفساد أمره، والمشهور حمل الأبناء على الأول، وهو المناسب المتبادر، وفي سبب ذلك أقوال وحكايات مختلفة ومعظمها يدل على أن فرعون خاف من ذهاب ملكه على يد مولود من بني إسرائيل ففعل ما فعل وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً [الأحزاب: 38] وقرأ الزهري وابن محيض «يذبحون» مخففا، وعبد الله «يقتّلون» مشددا وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ عطف على يُذَبِّحُونَ أي يستبقون بناتكم ويتركونهن حيات، وقيل: يفتشون في حيائهن ينظرون هل بهن حمل- والحياء الفرج- لأنه يستحى من كشفه، والنساء جمع المرأة، وفي البحر إنه تكسير لنسوة على وزن فعلة جمع قلة، وزعم ابن السراج أنه اسم جمع، وعلى القولين لم يلفظ له بواحد من لفظه، وهي في الأصل البالغات دون الصغائر، فهي على الوجه الأول مجاز باعتبار الأول للإشارة إلى أن استبقاءهم كان لأجل أن يصرن نساء لخدمتهم، وعلى الثاني في تغليب البالغات على الصغائر، وعلى الثالث حقيقة، وقدم الذبح لأنه أصعب الأمور وأشقها عند الناس وإن كان ذلك الاستحياء أعظم من القتل لدى الغيور. وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ إشارة إلى التذبيح والاستحياء أو إلى الإنجاء، وجمع الضمير للمخاطبين، ويجوز أن يشار ب ذلِكُمْ إلى الجملة وأصل البلاء الاختبار، وإذا نسب إليه تعالى يراد منه ما يجري مجراه مع العباد على المشهور، وهو تارة يكون بالمسار ليشكروا، وتارة بالمضار ليصبروا، وتارة بهما ليرغبوا ويرهبوا- فإن حملت الإشارة على المعنى الأول- فالمراد بالبلاء المحنة، وإن على الثاني فالمراد به النعمة، وإن على الثالث فالمراد به القدر المشترك كالامتحان الشائع بينهما، ويرجح الأول التبادر، والثاني أنه في معرض الامتنان، والثالث لطف جمع الترغيب والترهيب ومعنى مِنْ رَبِّكُمْ من جهته تعالى إما بتسليطهم عليكم أو ببعث موسى عليه السلام وتوفيقه لتخليصكم أو بهما جميعا، وعَظِيمٌ صفة بلاء وتنكيرهما للتفخيم، والعظم بالنسبة للمخاطب، والسامع لا بالنسبة إليه تعالى لأنه العظيم الذي لا يستعظم شيئا «ومن باب الإشارة» والتأويل وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ من قوى فرعون النفس الأمارة المحجوبة بأنانيتها. والنظر إلى نفسها المستعلية على إهلاك الوجود، ومصر مدينة البدن المستعبدة، وهي وقواها من الوهم، والخيال والغضب، والشهوة القوى الروحانية التي هي أبناء صفوة الله تعالى يعقوب الروح، والقوى الطبيعية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 البدنية من الحواس الظاهرة والقوى النباتية أولئك يكلفونكم المتاعب الصعبة، والأعمال الشاقة من جمع المال، والحرص وترتيب الأقوات والملابس وغير ذلك، ويستعبدونكم بالتفكر فيها والاهتمام بها لتحصل لكم لذة هي في الحقيقة عذاب وذلة لأنها تمنعكم عن مشاهدة الأنوار، والتمتع بدار القرار يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ التي هي القوى الروحانية من القوى النظرية التي هي العين اليمنى للقلب، والعملية التي هي العين اليسرى له، والفهم الذي هو سمعه، والسر الذي هو قلبه وَيَسْتَحْيُونَ قواكم الطبيعية ليستخدموها ويمنعوها عن أفعالها اللائقة بها، وفي ذلك- الإنجاء- نعمة عظيمة من ربكم المرقي لكم من مقام إلى مقام ومشهد إلى مشهد حتى تصلوا إليه وتحطوا رحالكم بين يديه، أو في مجموع ذلك امتحان لكم وظهور آثار الأسماء المختلفة عليكم فاشكروا واصبروا فالكل منه وكل ما فعل المحبوب محبوب. وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ عطف على ما قبل، والفرق- الفصل بين الشيئين، وتعديته إلى البحر بتضمين معنى الشق، أي فلقناه وفصلنا بين بعضه وبعض لأجلكم، وبسبب إنجائكم. والباء للسببية الباعثة بمنزلة اللام- إذا قلنا بتعليل أفعاله تعالى- وللسببية الشبيهة بها في الترتيب على الفعل، وكونه مقصودا منه- إن لم نقل به- وإنما قال سبحانه: بِكُمُ دون لكم، لأن العرب- على ما نقله الدامغاني- تقول: غضبت لزيد- إذا غضبت من أجله وهو حي- وغضبت بزيد- إذا غضبت من أجله وهو ميت- ففيه تلويح إلى أن الفرق كان من أجل أسلاف المخاطبين، ويحتمل أن تكون للاستعانة على معنى- بسلوككم- ويكون هناك استعارة تبعية بأن يشبه سلوكهم بالآلة في كونه واسطة في حصول الفرق من الله تعالى، ويستعمل الباء. وقول الإمام الرازي قدس سره:- إنهم كانوا يسلكون، ويتفرق الماء عند سلوكهم، فكأنه فرق بهم- يرد عليه أن تفرق الماء كان سابقا على سلوكهم على ما تدل عليه القصة، وقوله تعالى: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء: 63] وما قيل: إن الآلة هي العصا- كما تفهمه الآية- غير مسلم. والمفهوم كونها آلة الضرب- لا الفرق- ولو سلم يجوز كون المجموع آلة، على أن آلية السلوك على التجوز، وقد يقال: إن الباء للملابسة، والجار والمجرور ظرف مستقر واقع موقع الحال من الفاعل، وملابسته تعالى معهم حين الفرق ملابسة عقلية، وهو كونه ناصرا وحافظا لهم، وهي ما أشار إليه موسى عليه السلام بقوله تعالى: كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: 62] ومن الناس من جعله حالا من الْبَحْرَ مقدما- وليس بشيء- لأن الفرق مقدم على ملابستهم الْبَحْرَ اللهم إلا على التوسع، واختلفوا في هذا البحر، فقيل: القلزم- وكان بين طرفيه أربعة فراسخ- وقيل النيل، والعرب تسمي الماء الملح، والعذب بحرا- إذا كثر، ومنه مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ [الرحمن: 19] وأصله السعة، وقيل: الشق، ومن الأول البحرة البلدة، ومن الثاني البحيرة التي شقت أذنها، وفي كيفية الانفلاق قولان «فالمشهور» كونه خطيا، وفي بعض الآثار ما يقتضي كونه قوسيا، إذ فيه أن الخروج من الجانب الذي دخلوا منه، واحتمال الرجوع في طريق الدخول يكاد يكون باطلا لأن الأعداء في أثرهم، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ما يتعلق بهذا المبحث. فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ في الكلام حذف يدل عليه المعنى والتقدير وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ وتبعكم فرعون وجنوده في تقحمه فَأَنْجَيْناكُمْ أي من الغرق، أو من إدراك فرعون وآله لكم، أو مما تكرهون، وكنى سبحانه بآل فرعون عن فرعون وآله كما يقال: بني هاشم، وقوله تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ [الإسراء: 70] يعني هذا الجنس الشامل لآدم، أو اقتصر على ذكر الآل لأنهم إذا عذبوا بالإغراق كان مبدأ العناد ورأس الضلال أولى بذلك، وقد ذكر تعالى غرق فرعون في آيات أخر من كتابه كقوله سبحانه فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً [الإسراء: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 103] فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ [القصص: 40 والذاريات: 40] وحمل الآل- على الشخص حيث إنه ثبت لغة كما في الصحاح- ركيك غير مناسب للمقام، وإنما المناسب له التعميم، وناسب نجاتهم- بإلقائهم في البحر وخروجهم منه سالمين- نجاة نبيهم موسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام من الذبح بإلقائه وهو طفل في البحر وخروجه منه سالما، ولكل أمة نصيب من نبيها وناسب هلاك فرعون- وقومه بالغرق- هلاك بني إسرائيل على أيديهم بالذبح لأن الذبح فيه تعجيل الموت بأنهار الدم، والغرق فيه إبطاء الموت ولا دم خارج وكان ما به الحياة وهو الماء كما يشير إليه قوله تعالى: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء: 30] سببا لإعدامهم من الوجود، وفيه إشارة إلى تقنيطهم وانعكاس آمالهم كما قيل: إلى الماء يسعى من يغص بلقمة ... «إلى أين» يسعى من يغص بماء ولما كان الغرق من أعسر الموتات وأعظمها شدة- ولهذا كان الغريق المسلم شهيدا- جعله الله تعالى نكالا لمن ادعى الربوبية وقال أنا ربكم الأعلى وعلى قدر الذنب يكون العقاب. ويناسب دعوى الربوبية، والاعتلاء انحطاط المدعى وتغيبيه في قعر الماء، ولك أن تقول لما افتخر فرعون بالماء كما يشير إليه قوله تعالى حكاية عنه: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف: 51] جعل الله تعالى هلاكه بالماء وللتابع حظ وافر من المتبوع- وكان ذلك الغرق، والإنجاء، والإغراق يوم عاشوراء- والكلام فيه مشهور وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ جملة حالية وفيها تجوز أي وآباؤكم ينظرون، والمفعول محذوف أي جميع ما مر فإن أريد الاحكام فالنظر بمعنى العلم- وعليه ابن عباس رضي الله تعالى عنه- وإن نفس الأفعال من الغرق، والإنجاء، والإغراق فهو بمعنى المشاهدة- وعليه الجمهور- والحال على هذا من الفاعل وهو معمول بجميع الأفعال السابقة على التنازع، وفائدته تقرير النعمة عليهم وكأنه قيل: وأنتم لا تشكون فيها، وجوز أن يقدر المفعول خاصا أي غرقهم، وإطباق البحر عليهم فالحال متعلق بالقريب، وهو أَغْرَقْنا وفائدته تتميم النعمة فإن هلاك العدو نعمة ومشاهدتة نعمة، أخرى، وفي قصص الكسائي أن بني إسرائيل حين عبروا البحر وقفوا ينظرون إلى البحر وجنود فرعون، ويتأملون كيف يفعلون، أو انفلاق البحر فيكون الحال متعلقا بالأصل في الذكر، وهو فَرَقْنا وفائدته إحضار النعمة ليتعجبوا من عظم شأنها، ويتعرفوا إعجازها، وذلك الآل الغريق فالحال من مفعول أَغْرَقْنا متعلق به والفائدة تحقيق الإغراق وتثبيته، وقيل: المراد ينظر بعضكم بعضا وأنتم سائرون في البحر، وذلك أنه نقل أن بعض قوم موسى قالوا له: أين أصحابنا؟ فقال: سيروا فإنهم على طريق مثل طريقكم قالوا: لا نرضى حتى نراهم فأوحى الله تعالى أن قل بعصاك هكذا فقال بها على الحيطان فصار بها كوى فتراءوا وسمعوا كلام بعضهم بعضا فالحال متعلق ب فَرَقْنا وفائدته تتميم النعمة فإن كونهم مستأنسين يرى بعضهم- حال بعض آخر- نعمة أخرى، وبعض الناس يجعل الفعل على هذا الوجه منزلا منزلة اللازم وليس بالبعيد نعم البعيد جعل النظر هنا مجازا عن القرب أي وأنتم بالقرب منهم أي بحال لو نظرتم إليهم لرأيتموهم كقولهم- أنت مني بمرأى ومسمع- أي قريب مني بحيث أراك وأسمعك، وكذا جعله بمعنى الاعتبار أي وأنتم تعتبرون بمصرعهم وتتعظون بمواقع النقمة التي أرسلت عليهم هذا وقد حكوا في كيفية خروج بني إسرائيل وتعنتهم وهم في البحر، وفي كيفية خروج فرعون بجنوده، وفي مقدار الطائفتين حكايات مطولة جدا لم يدل القرآن ولا الحديث الصحيح عليها والله تعالى أعلم بشأنها «والإشارة» في الآية أن البحر هو الدنيا وماءه شهواتها ولذاتها، وموسى هو القلب، وقومه صفات القلب، وفرعون هو النفس الأمارة وقومه صفات النفس، وهم أعداء موسى وقومه يطلبونهم ليقتلوهم، وهم سائرون إلى الله تعالى، والعدو من خلفهم، وبحر الدنيا أمامهم ولا بد لهم في السير إلى الله تعالى من عبوره ولو يخوضونه بلا ضرب عصا لا إله إلا الله بيد موسى- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 القلب فإن له يدا بيضاء في هذا الشأن- لغرقوا كما غرق فرعون وقومه ولو كانت هذه العصا في يد فرعون النفس لم ينفلق فكما أن يد موسى القلب شرط في الانفلاق كذلك عصا الذكر شرط فيه، فإذا حصل الشرطان وضرب موسى بعصا الذكر مرة بعد أخرى ينفلق بإذن الله بحر الدنيا بالنفي وينشبك ماء الشهوات يمينا وشمالا، ويرسل الله تعالى ريح العناية، وشمس الهداية على قعر ذلك البحر فيصير يابسا من ماء الشهوات فيخرج موسى وقومه بعناية التوحيد إلى ساحل النجاة وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النجم: 42] ويقال لفرعون وقومه إذا غرقوا وأدخلوا نارا ألا: بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [هود: 44] . وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً لما جاوز بنو إسرائيل البحر سألوا موسى عليه السلام أن يأتيهم بكتاب من عند الله فوعده سبحانه أن يعطيه التوراة وقبل موسى ذلك، وضرب له ميقاتا ذا القعدة وعشر ذي الحجة أو ذا الحجة وعشر المحرم فالمفاعلة على بابها، وهي من طرف فعل، ومن آخر قبوله مثل- عالجت المريض- وإنكار جواز ذلك لا يسمع مع وروده في كلام العرب وتصريح الأئمة به وارتضائهم له، ويجوز أن يكون واعَدْنا من باب الموافاة وليس من الوعد في شيء وإنما هو من قولك موعدك يوم كذا وموضع كذا، ويحتمل أن يكون بمعنى وعدنا وبه قرأ أبو عمرو أو يقدر الملاقاة أو يقال بالتفكيك إلى فعلين فيقدر الوحي في أحدهما، والمجيء في الآخر ولا محذور في شيء كما حققه الدامغاني، وقول أبي عبيدة: المواعدة لا تكون إلا من البشر غير مسلم، وقول أبي حاتم: أكثر ما تكون من المخلوقين المتكافئين على تقدير تسليمه لا يضرنا، وأَرْبَعِينَ مفعول به بحذف المضاف بأدنى ملابسة أي إعطاء أربعين أي عند انقضائها، أو في العشر الأخير منها، أو في كلها أو في أولها على اختلاف الروايات، أو ظرف مستقر وقع صفة لمفعول محذوف- لواعدنا- أي واعدنا موسى أمرا كائنا في أربعين، وقيل: مفعول مطلق أي واعدنا موسى مواعدة أربعين ليلة. ومن الناس من ذهب إلى أن الأولى أن لا يقدر مفعول لأن المقصود بيان من وعد لا ما وعد- وينصب الأربعين على الإجراء مجرى المفعول به توسعا، وفيه مبالغة بجعل ميقات الوعد موعودا وجعل الأربعين ظرفا لواعدنا على حد جاء زيد يوم الخميس- ليس بشيء كما لا يخفى، ومُوسى اسم أعجمي لا ينصرف للعلمية والعجمة، ويقال: هو مركب من «مو» وهو الماء «وشي» وهو الشجر وغيّر إلى «سي» بالمهملة وكأن من سماه به أراد ماء البحر والتابوت الذي قذف فيه- وخاض بعضهم في وزنه- فعن سيبويه إن وزنه مفعل (1) وقيل: إنه فعلى وهو مشتق من ماس يميس فأبدلت الياء واوا لضم ما قبلها كما قالوا طوبي، وهي من ذوات الياء لأنها من طاب يطيب، ويبعده أن الإجماع على صرفه نكرة ولو كان فعلى لم ينصرف لأن ألف التأنيث وحدها تمنع الصرف في المعرفة والنكرة على أن زيادة الميم أولا أكثر من زيادة الألف آخرا، وعبر سبحانه وتعالى عن ذلك الوقت بالليالي دون الأيام لأن افتتاح الميقات كان من الليل، والليالي غرر شهور العرب لأنها وضعت على سير القمر، والهلال إنما يهل بالليل، أو لأن الظلمة أقدم من الضوء بدليل وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: 37] أو إشارة إلى مواصلة الصوم ليلا ونهارا ولو كان التفسير باليوم أمكن أن يعتقد أنه كان يفطر بالليل فلما نص على الليالي فهم من قوة الكلام أنه واصل أربعين ليلة بأيامها، والقول بأن ذكر الليلة- كان للإشعار بأن وعد موسى عليه السلام كان بقيام الليل- ليس بشيء لأن المروي أن المأمور به كان   (1) وموسى: الحديدة المعلومة مذكر لا غير عند الآمدي. وقال الفراء: هي فعلى ويؤنث، وفي البحر إنه مؤنث عربي مشتق من آسوت الشيء أصلحته ووزنه مفعل وأصله الهمز، وقيل: اشتقاقه من أوسيت حلقت ولا أصل للواو في الهمز اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 الصيام لا القيام، وقد يقال من طريق الإشارة: إن ذكر الليلة للرمز إلى أن هذه المواعدة كانت بعد تمام السير إلى الله تعالى ومجاوزة بحر العوائق والعلائق، وهناك يكون السير في الله تعالى الذي لا تدرك حقيقته، ولا تعلم هويته، ولا يرى في بيداء جبروته إلا الدهشة والحيرة، وهذا السير متفاوت باعتبار الأشخاص والأزمان ولي مع الله تعالى وقت يشير إلى ذلك ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ والاتخاذ يجيء بمعنى ابتداء صنعة فيتعدى لواحد نحو- اتخذت سيفا- أي صنعته. وبمعنى اتخاذ وصف فيجري مجرى الجعل ويتعدى لاثنين نحو- اتخذت زيدا صديقا- والأمران محتملان في الآية، والمفعول الثاني على الاحتمال الثاني محذوف لشناعته أي اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ الذي صنعه السامري إلها، والذم فيه ظاهر لأنهم كلهم عبدوه إلا هارون مع اثني عشر ألفا، أو إلا هارون والسبعين الذين كانوا مع موسى عليه السلام، وعلى الاحتمال الأول لا حاجة إلى المفعول الثاني ويؤيده عدم التصريح به في موضع من آيات هذه القصة، والذم حينئذ لما ترتب على الاتخاذ من العبادة أو على نفس الاتخاذ لذلك، والعرب تذم أو تمدح القبيلة بما صدر عن بعضها، والْعِجْلَ ولد البقرة الصغير وجعله الصوفية إشارة إلى عجل النفس الناقصة وشهواتها وكون ما اتخذوه عجلا ظاهر في أنه صار لحما ودما فيكون عجلا حقيقة ويكون نسبة الخوار إليه فيما يأتي حقيقة أيضا وهو الذي ذهب إليه الحسن، وقيل: أراد سبحانه بالعجل ما يشبهه في الصورة والشكل ونسبة الخوار إليه مجاز وهو الذي ذهب إليه الجمهور، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على ذلك. ومن الغريب أن هذا إنما سمي عجلا لأنهم عجلوا به قبل قدوم موسى فاتخذوه إلها، أو لقصر مدته حيث إن موسى عليه السلام بعد الرجوع من الميقات حرقه ونسفه في اليم نسفا، والضمير في بعده راجع إلى موسى، أي بَعْدِهِ ما رأيتم منه من التوحيد والتنزيه والحمل عليه والكف عما ينافيه، وذكر الظرف للإيذان بمزيد شناعة فعلهم، ولا يقتضي أن يكون مُوسى متخذا إلها- كما وهم- لأن مفهوم الكلام أن يكون الاتخاذ- بعد- موسى ومن أين يفهم اتخاذ موسى سيما في هذا المقام؟ ويجوز أن يكون في الكلام حذف، وأقرب ما يحذف مصدر يدل عليه واعَدْنا أي من بعد مواعدته، وقيل: المحذوف الذهاب المدلول عليه- بالمواعدة- لأنها تقتضيه. والجملة الاسمية في موضع الحال، ومتعلق الظلم الإشراك، ووضع العبادة في غير موضعها، وقيل: الكف عن الاعتراض على ما فعل السامري وعدم الإنكار عليه- وفائدة التقييد بالحال- الإشعار بكون الاتخاذ- ظلما- بزعمهم أيضا لو راجعوا عقولهم بأدنى تأمل، وقيل: الجملة غير حال بل مجرد إخبار أن سجيتهم الظلم وإنما راج فعل السامري عندهم لغاية حمقهم وتسلط الشيطان عليهم- كما يدل على ذلك سائر أفعالهم- واتخاذ السامري لهم الْعِجْلَ دون سائر الحيوانات، قيل: لأنهم مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم على صور البقر فقالوا اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف: 138] فهجس في نفس السامري أن فتنتهم من هذه الجهة، فاتخذ لهم ذلك، وقيل: إنه كان هو من قوم يعبدون البقر- وكان منافقا- فاتخذ عجلا من جنس ما يعبده. ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ثُمَّ لتفاوت ما بين فعلهم القبيح، ولطفه تعالى في شأنهم، فلا يكون مِنْ بَعْدِ ذلِكَ تكرارا. و «عفا» بمعنى درس يتعدى ولا يتعدى- كعفت الدار، وعفاها الريح- والمراد بالعفو هنا- محو الجريمة بالتوبة- وذلك موضوع موضع «ذلكم» والإشارة- للاتخاذ- كما هو الظاهر، وإثبارها لكمال العناية بتمييزه- كأنه يجعل ظلمهم مشاهدا لهم- وصيغة البعيد مع قربه لتعظيمه ليتوسل بذلك إلى جلالة قدر «العفو» والمراد بالترجي ما علمت، والمشهور هنا كونه مجازا عن طلب الشكر على «العفو» ومن قدر الإرادة من أهل السنة- أراد مطلق الطلب- وليس ذلك من الاعتزال، إذ لا نزاع في أن الله تعالى قد يطلب من العباد ما لا يقع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 «والشكر» عند الجنيد هو العجز عن الشكر، وعند الشبلي- التواضع تحت رؤية المنة- وقال ذو النون: «الشكر» لمن فوقك بالطاعة، ولنظيرك بالمكافأة، ولمن دونك بالإحسان. وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ الْكِتابَ التوراة- بإجماع المفسرين- وفي الفرقان أقوال «الأول» أنه هو التوراة أيضا، والعطف من قبيل عطف الصفات للإشارة إلى استقلال كل منها، فإن التوراة لها صفتان يقالان بالتشكيك، كونها كتابا جامعا لما لم يجمعه منزل سوى القرآن، وكونها فرقانا أي حجة تفرق بين الحق والباطل- قاله الزجاج- ويؤيد هذا قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً [الأنبياء: 48] «الثاني» أنه الشرع الفارق بين الحلال والحرام، فالعطف مثله في تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ [القدر: 4] قاله ابن بحر «الثالث» أنه المعجزات الفارقة بين الحق والباطل- من العصا واليد وغيرهما- قاله مجاهد. «الرابع» أنه النصر الذي فرق بين العدو والولي، وكان آية لموسى عليه السلام، ومنه قيل ليوم بدر: يوم الفرقان، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل: إنه القرآن، ومعنى إتيانه لموسى عليه السلام نزول ذكره له حتى آمن به، حكاه ابن الأنباري- وهو بعيد- وأبعد منه، ما حكي عن الفراء وقطرب- أنه القرآن- والكلام على حذف مفعول- أي ومحمدا الفرقان- وناسب ذكر الاهتداء إثر ذكر إتيان مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لأنهما يترتب عليهما ذلك لمن أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: 37] . وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ نعمة أخروية في حق المقتولين من بني إسرائيل حيث نالوا درجة الشهداء، كما أن العفو نعمة دنيوية في حق الباقين، وإنما فصل بينهما بقوله: وَإِذْ آتَيْنا إلخ، لأن المقصود تعداد النعم- فلو اتصلا لصارا نعمة واحدة- وقيل: هذه الآية وما بعدها منقطعة عما تقدم من التذكير بالنعم- وليس بشيء- واللام في لِقَوْمِهِ للتبليغ، وفائدة ذكره التنبيه على أن خطاب مُوسى لِقَوْمِهِ كان مشافهة لا بتوسط من يتلقى منه- كالخطابات المذكورة سابقا لبني إسرائيل- والقوم اسم جمع لا واحد له من لفظه، وإنما واحده امرئ- وقياسه أن لا يجمع- وشذ جمعه على- أقاويم- والمشهور اختصاصه بالرجال لقوله تعالى: لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ [الحجرات: 11] مع قوله: وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ [الحجرات: 11] وقال زهير: فما أدري وسوف إخال أدري ... أ «قوم» آل حصن أم «نساء» وقيل: لا اختصاص له بهم، بل يطلق على النساء أيضا لقوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [نوح: 1] والأول أصوب، واندراج النساء على سبيل الاستتباع، والتغليب والمجاز خير من الاشتراك، وسمي الرجال قوما لأنهم يقومون بما لا يقوم به النساء، وفي إقبال مُوسى عليهم بالنداء، ونداؤه لهم ب يا قَوْمِ إيذان بالتحنن عليهم وأنه منهم وهم منه، وهز لهم لقبولهم الأمر بالتوبة بعد تقريعهم بأنهم «ظلموا أنفسهم» والباء في بِاتِّخاذِكُمُ سببية وفي- الاتخاذ- هنا الاحتمالان السابقان هناك فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ الفاء للسببية- لأن الظلم سبب للتوبة- وقد عطفت ما بعدها على إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ والتوافق في الخبرية والإنشائية إنما يشترط في العطف- بالواو- وتشعر عبارات بعض الناس أنها للسببية دون العطف، والتحقيق أنها لهما معا، و «البارئ» هو الذي خلق الخلق بريا- من التفاوت- وعدم تناسب الأعضاء وتلاؤم الأجزاء بأن تكون إحدى اليدين في غاية الصغر والرقة، والأخرى بخلافه، ومتميزا بعضه عن بعض بالخواص والأشكال والحسن والقبح- فهو أخص من الخالق- وأصل التركيب لخلوص الشيء وانفصاله عن غيره إما على سبيل التفصي- كبرء المريض- أو الإنشاء- كبر الله تعالى آدم- أي خلقه ابتداء متميزا عن لوث الطين، وفي ذكره في هذا المقام تقريع بما كان منهم من ترك عبادة العالم الحكيم الذي برأهم بلطيف حكمته حتى عرضوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 أنفسهم لسخط الله تعالى ونزول أمره بأن يفك ما ركبه من خلقهم، وينثر ما نظم من صورهم وأشكالهم حين لم يشكروا النعمة في ذلك وغمطوها بعبادة من لا يقدر على شيء منها- وهو مثل في الغباوة والبلادة- وقرأ أبو عمرو بارِئِكُمْ بالاختلاس، وروي عنه- السكون- أيضا وهو من إجراء المتصل من كلمتين مجرى المنفصل من كلمة، وللناس في تخريجه وجوه لا تخلو عن شذوذ. فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ الفاء للتعقيب، والمتبادر من «القتل» القتل المعروف من إرهاق الروح- وعليه جمع من المفسرين- والفعل معطوف على سابقه، فإن كانت توبتهم هو «القتل» إما في حقهم خاصة، أو توبة المرتد مطلقا في شريعة موسى عليه السلام، فالمراد بقوله تعالى: فَتُوبُوا اعزموا على التوبة- ليصح العطف- وإن كانت هي الندم و «القتل» من متمماتها- كالخروج عن المظالم في شريعتنا- فهو على معناه ولا إشكال، وقد يقال: إن التوبة جعلت لهؤلاء عين «القتل» ولا حاجة إلى تأويل «توبوا» باعزموا، بل تجعل- الفاء- للتفسير- كما تجعل الواو له- وقد قيل به في قوله تعالى: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ [الأعراف: 36] وظاهر الأمر أنهم مأمورون بأن يباشر كل قتل نفسه، وفي بعض الآثار أنهم أمروا أن يقتل بعضهم بعضا، فمعنى «اقتلوا أنفسكم» حينئذ، ليقتل بعضكم بعضا، كما في قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: 29] وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات: 11] والمؤمنون كنفس واحدة، وروي أنه أمر من لم يعبد الْعِجْلَ أن يقتل من عبده، والمعنى عليه استسلموا أنفسكم للقتل، وسمي الاستسلام للقتل قتلا على سبيل المجاز، والقاتل إما غير معين، أو الذين اعتزلوا مع هارون عليه السلام، والذين كانوا مع موسى عليه السلام، وفي كيفية (القتل) أخبار لا نطيل بذكرها، وجملة القتلى سبعون ألفا، وبتمامها نزلت التوبة وسقطت الشفار من أيديهم، وأنكر القاضي عبد الجبار أن يكون الله تعالى أمر بني إسرائيل- بقتل أنفسهم- وقال: لا يجوز ذلك عقلا- إذ الأمر لمصلحة المكلف- وليس بعد القتل حال تكليف ليكون فيه مصلحة، ولم يدر هذا القاضي بأن لنفوسنا خالقا- بأمره نستبقيها، وبأمره نفنيها- وأن لها بعد هذه الحياة التي هي لعب ولهو، حياة سرمدية وبهجة أبدية. وإن الدار الآخرة لهي الحيوان، وأن قتلها بأمره يوصلها إلى حياة خير منها، ومن علم أن الإنسان في هذه الدنيا- كمجاهد أقيم في ثغر يحرسه، ووال في بلد يسوسه- وأنه مهما استرد فلا فرق بين أن يأمره الملك بخروجه بنفسه، أو يأمر غيره بإخراجه- وهذا واضح لمن تصور حالتي الدنيا والآخرة، وعرف قدر الحياتين والميتتين فيهما، ومن الناس من جوز ذلك- إلا أنه استبعد وقوعه- فقال: معنى «اقتلوا أنفسكم» ذللوا، ومن ذلك قوله: إن التي عاطيتني فرددتها ... «قتلت قتلت» فهاتها لم تقتل ولولا أن الروايات على خلاف ذلك لقلت به تفسيرا. ونقل عن قتادة أنه قرأ «فأقيلوا أنفسكم» والمعنى أن أَنْفُسَكُمْ قد تورطت في عذاب الله تعالى بهذا الفعل العظيم الذي تعاطيتموه، وقد هلكت- فأقيلوها- بالتوبة والتزام الطاعة، وأزيلوا آثار تلك المعاصي بإظهار الطاعات. ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ جملة معترضة للتحريض على التوبة أو معللة، والإشارة إلى المصدر المفهوم مما تقدم، وخَيْرٌ أفعل تفضيل حذفت همزته، ونطقوا بها في الشعر قال الراجز: بلال خير الناس وابن الأخير وقد تأتي- ولا تفضيل- والمعنى أن ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ من العصيان والإصرار على الذنب- أو خير من ثمرة العصيان، وهو الهلاك الدائم، والكلام- على حد العسل- أحلى من الخل أو خير من الخيور كائن لكم. والعندية هنا مجاز، وكرر البارئ بلفظ الظاهر اعتناء بالحث على التسليم له في كل حال، وتلقي ما يرد من قبله والقبول والامتثال فإنه كما رأى الإنشاء راجحا فأنشأ رأى الإعدام راجحا، فأمر به وهو العليم الحكيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 فَتابَ عَلَيْكُمْ جواب شرط محذوف بتقدير- قد- إن كان من كلام موسى عليه السلام لهم، تقديره إن فعلتم ما أمرتم به فقد «تاب عليكم» ومعطوف على محذوف- إن كان خطابا من الله تعالى لهم، كأنه قال: ففعلتم ما أمرتم فَتابَ عَلَيْكُمْ بارئكم وفيه التفات لتقدم التعبير عنهم في كلام موسى عليه السلام بلفظ القوم وهو من قبيل الغيبة، أو من التكلم إلى الغيبة في فَتابَ حيث لم يقل: فتبنا، ورجح العطف لسلامته من حذف الأداة والشرط وإبقاء الجواب، وفي ثبوت ذلك عن العرب مقال، وظاهر الآية كونها إخبارا عن المأمورين بالقتل الممثلين ذلك وقال ابن عطية: جعل الله تعالى- القتل- لمن- قتل- شهادة و «تاب» عن الباقين و «عفا» عنهم، فمعنى عَلَيْكُمْ عنده، على باقيكم إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ تذييل لقوله تعالى: فَتُوبُوا فإن التوبة بالقتل- لما كانت شاقة على النفس هونها سبحانه بأنه هو الذي يوفق إليها ويسهلها ويبالغ في الإنعام على من أتى بها، أو تذييل لقوله تعالى: فَتابَ عَلَيْكُمْ وتفسر «التوبة» منه تعالى حينئذ بالقبول لتوبة المذنبين- والتأكيد لسبق الملوح- أو للاعتناء بمضمون الجملة، والضمير المنصوب إن كان ضمير لشأن- فالضمير المرفوع مبتدأ- وهو الأنسب لدلالته على كمال الاعتناء بمضمون الجملة، وإن كان راجعا إلى البارئ سبحانه فالضمير المرفوع إما فصل أو مبتدأ، هذا وحظ العارف من هذه القصة أن يعرف أن هواه بمنزلة عجل بني إسرائيل- فلا يتخذه إلها- أفرأيت من اتخذ إلهه هواه، وأن الله سبحانه قد خلق نفسه في أصل لفطرة مستعدة لقبول فيض الله تعالى والدين القويم ومتهيئة لسلوك المنهج المستقيم، والترقي إلى جناب القدس وحضرة الأنس، وهذا هو الكتاب الذي أوتيه موسى القلب، والفرقان الذي يهتدي بنوره في ليالي السلوك إلى حضرة الرب، فمتى أخلدت النفس إلى الأرض واتبعت هواها، وآثرت شهواتها على مولاها، أمرت بقتلها بكسر شهواتها وقلع مشتهياتها ليصح لها البقاء بعد الفناء، والصحو بعد المحو، وليست التوبة الحقيقية سوى محو البشرية بإثبات الألوهية، وهذا هو الجهاد الأكبر والموت الأحمر. ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميت الأحياء وهذا صعب لا يتيسر إلا لخواص الحق، ورجال الصدق، وإليه الإشارة، ب (موتوا) قبل أن تموتوا. وقيل: أول قدم في العبودية إتلاف النفس وقتلها بترك الشهوات، وقطعها عن الملاذ، فكيف الوصول إلى شيء من منازل الصديقين ومعارج المقربين- هيهات هيهات- ذاك بمعزل عنا، ومناط الثريا منا تعالوا نقم مأتما للهموم ... فإن الحزين يواسي الحزينا وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ القائل هم السبعون الذين اختارهم موسى عليه السلام لميقات التوراة، قيل: قالوه بعد الرجوع، وقتل عبدة العجل، وتحريق عجلهم، ويفهم من بعض الآثار أن القائل أهل الميقات الثاني الذي ضربه الله تعالى للاعتذار عن عبدة العجل- وكانوا سبعين أيضا، وقيل: القائل عشرة آلاف من قومه، وقيل: الضمير لسائر بني إسرائيل- إلا من عصمه الله تعالى- وسيأتي إن شاء الله تعالى في الأعراف ما ينفعك هنا- واللام- من (لك) إما- لام الأجل- أو للتعدية بتضمين معنى الإقرار على أن مُوسى مقرّ له والمقر به محذوف، وهو أن الله تعالى أعطاه التوراة، أو أن الله تعالى كلمه فأمره ونهاه، وقد كان هؤلاء مؤمنين- من قبل- بموسى عليه السلام، إلا أنهم نفوا هذا الإيمان المعين والإقرار الخاص. وقيل: أرادوا نفي الكمال أي لا يكمل إيماننا لك، كما قيل في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه» والقول إنهم لم يكونوا مؤمنين أصلا لم نره لأحد من أئمة التفسير. حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً حَتَّى هنا حرف غاية، و (الجهرة) في الأصل مصدر جهرت بالقراءة- إذا رفعت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 صوتك بها- واستعيرت للمعاينة بجامع الظهور التام. وقال الراغب:- الجهر- يقال لظهور الشيء بإفراط حاسة البصر أو حاسة السمع «أما البصر» فنحو رأيته جهارا «وأما السمع» فنحو وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى [طه: 7] وانتصابها- على أنها مصدر- مؤكد مزيل لاحتمال أن تكون الرؤية مناما أو علما بالقلب، وقيل: على أنها حال على تقدير ذوي- جهرة- أو مجاهرين، فعلى الأول- الجهرة- من صفات الرؤية، وعلى الثاني من صفات الرائين، وثم قول ثالث، وهو أن تكون راجعة لمعنى القول أو القائلين- فيكون المعنى- (وإذ قلتم) كذا قولا جَهْرَةً أو جاهرين بذلك القول غير مكترثين ولا مبالين، وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأبي عبيدة، وقرأ سهل بن شعيب وغيره «جهرة» بفتح الهاء، وهي إما مصدر- كالغلبة- ومعناها معنى (المسكنة) وإعرابها إعرابها، أو جمع- جاهر- كفاسق وفسقة، وانتصابها على الحال. فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ أي استولت عليكم وأحاطت بكم، وأصل- الأخذ- القبض باليد، والصَّاعِقَةُ هنا نار من السماء أحرقتهم، أو جند سماوي سمعوا حسهم فماتوا، أو صيحة سماوية خروا لها صعقين ميتين يوما وليلة، واختلف في مُوسى هل أصابه ما أصابهم؟ والصحيح- لا- وأنه صعق ولم يمت لظاهر ثم أفاق في حقه، وثُمَّ بَعَثْناكُمْ إلخ في حقهم، وقرأ عمر وعلي رضي الله تعالى عنهما «الصعقة» وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ جملة حالية ومتعلق النظر ما حل بهم من الصاعقة أو أثرها الباقي في أجسامهم بعد البعث، أو إحياء كل منهم- كما وقع في قصة العزير، قالوا: أحيا عضوا بعد عضو: والمعنى وَأَنْتُمْ تعلمون أنها تأخذكم، أو وأَنْتُمْ يقابل بعضكم بعضا، قال في البحر: ولو ذهب ذاهب إلى أن المعنى وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ إجابة السؤال في حصول الرؤية لكم كان وجها من قولهم: نظرت الرجل- أي انتظرته- كما قال: فإنكما إن (تنظراني) ساعة ... من الدهر تنفعني لدى أم جندب لكن هذا الوجه غير منقول فلا أجسر على القول به، وإن كان اللفظ يحتمله ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ بسبب الصاعقة، وكان ذلك بدعاء موسى عليه السلام ومناشدته ربه بعد أن أفاق، ففي بعض الآثار أنهم لما ماتوا لم يزل موسى يناشد ربه في إحيائهم ويقول: يا رب إن بني إسرائيل يقولون قتلت خيارنا حتى أحياهم الله تعالى جميعا رجلا بعد رجل ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحييون، والموت هنا ظاهر في مفارقة الروح الجسد، وقيد البعث به لأنه قد يكون عن نوم كما هو في شأن أصحاب الكهف، وقد يكون بمعنى إرسال الشخص- وهو في القرآن كثير- ومن الناس من قال: كان هذا الموت غشيانا وهمودا لا موتا حقيقة كما في قوله تعالى: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ [إبراهيم: 17] ومنهم من حمل الموت على الجهل مجازا كما في قوله تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الأنعام: 122] . وقد شاع ذلك نثرا ونظما، ومنه قوله: أخو (العلم حي) خالد بعد موته ... وأوصاله تحت التراب رميم وذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى ... يظن من الأحياء وهو عديم ومعنى البعث على هذا التعليم أي ثم علمناكم بعد جهلكم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي نعمة الله تعالى عليكم بالإحياء بعد الموت أو نعمته سبحانه بعد ما كفرتموها إذ رأيتم بأس الله تعالى في رميكم بالصاعقة وإذاقتكم الموت وتكليف من أعيد بعد الموت مما ذهب إليه جماعة لئلا يخلو بالغ عاقل من تعبد في هذه الدار بعد بعثة المرسلين، ومن جعل البعث بعد الموت مجازا عن التعليم بعد الجهل جعل متعلق الشكر ذلك، وفي بعض الآثار أنه لما أحياهم الله تعالى سألوا أن يبعثهم أنبياء ففعل، فمتعلق الشكر حينئذ على ما قيل: هذا البعث وهو بعيد، وأبعد منه جعل متعلقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 إنزال التوراة التي فيها ذكر توبته عليهم وتفصيل شرائعهم بعد إن لم يكن لهم شرائع وقد استدل المعتزلة وطوائف من المبتدعة بهذه الآية على استحالة رؤية البارئ سبحانه وتعالى لأنها لو كانت ممكنة لما أخذتهم الصاعقة بطلبها، والجواب أن أخذ الصاعقة لهم ليس لمجرد الطلب ولكن لما انضم إليه من التعنت وفرط العناد كما يدل عليه مساق الكلام حيث علقوا الإيمان بها، ويجوز أيضا أن يكون ذلك الأخذ لكفرهم بإعطاء الله تعالى التوراة لموسى عليه السلام وكلامه إياه أو نبوته لا لطلبهم، وقد يقال: إنهم لما لم يكونوا متأهلين لرؤية الحق في هذه النشأة كان طلبهم لها ظلما فعوقبوا بما عوقبوا، وليس في ذلك دليل على امتناعها مطلقا في الدنيا والآخرة، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق هذه المسألة بوجه لا غبار عليه وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ عطف على بعثناكم، وقيل: على قلتم، والأول أظهر للقرب والاشتراك في المسند إليه مع التناسب في المسندين في كون كل منهما نعمة بخلاف قُلْتُمْ فإنه تمهيد لها، وإفادته تأخير التظليل والإنزال عن واقعة طلبهم الرؤية، وعلى التقديرين لا بد لترك كلمة إذ هاهنا من نكتة، ولعلها الاكتفاء بالدلالة العقلية على كون كل منهما نعمة مستقلة مع التحرز عن تكرارها في ظَلَّلْنا وأَنْزَلْنا والْغَمامَ اسم جنس كحمامة وحمام، وهو السحاب، وقيل: ما ابيض منه، وقال مجاهد: هو أبرد من السحاب وأرق، وسمي غماما لأنه يغم وجه السماء ويستره. ومنه الغم والغمم، وهل كان غماما حقيقة أو شيئا يشبه وسمي به؟ قولان، والمشهور الأول وهو مفعول ظَلَّلْنا على إسقاط حرف الجر كما تقول: ظللت على فلان بالرداء أو بلا إسقاط، والمعنى جعلنا الغمام عليكم ظلة، والظاهر أن الخطاب لجميعهم. فقد روي أنهم لما أمروا بقتال الجبارين وامتنعوا وقالوا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا [المائدة: 24] ابتلاهم الله تعالى بالتيه بين الشام ومصر أربعين سنة وشكوا حر الشمس فلطف الله تعالى بهم بإظلال الغمام- وإنزال المنّ والسلوى- وقيل: لما خرجوا من البحر وقعوا بأرض بيضاء عفراء ليس فيها ماء ولا ظل فشكوا الحر فوقوا به، وقيل: الذين ظللوا بالغمام بعض بني إسرائيل وكان الله تعالى قد أجرى العادة فيهم أن من عبد ثلاثين سنة لا يحدث فيها ذنبا أظلته الغمامة وكان فيهم جماعة يسمون أصحاب غمائم فامتن الله تعالى عليهم لكونهم فيهم من له هذه الكرامة الظاهرة والنعمة الباهرة وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى المنّ اسم جنس لا واحد له من لفظه والمشهور أنه الترنجبين وهو شيء يشبه الصمغ حلو مع شيء من الحموضة كان ينزل عليهم كالطل من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس في كل يوم إلا يوم السبت وكان كل شخص مأمورا بأن يأخذ قدر صاع كل يوم أو ما يكفيه يوما وليلة ولا يدخر إلا يوم الجمعة فإن ادخار حصة السبت كان مباحا فيه. وعن وهب أنه الخبز الرقاق، وقيل: المراد به جميع ما من الله تعالى به عليهم في التيه وجاءهم عفوا بلا تعب، وإليه ذهب الزجاج ويؤيده قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «الكمأة من المنّ الذي منّ الله تعالى به على بني إسرائيل» والسَّلْوى اسم جنس أيضا واحدها سلواة كما قاله الخليل وليست الألف فيها للتأنيث وإلا لما أنثت بالهاء في قوله. كما انتفض السلوات من بلل القطر وقال الكسائي: السَّلْوى واحدة وجمعها سلاوى، وعند الأخفش الجمع والواحد بلفظ واحد، وقيل: جمع لا واحد له من لفظه وهو طائر يشبه السماني أو هو السماني بعينها وكانت تأتيهم من جهة السماء بكرة وعشيا أو متى أحبوا فيختارون منها السمين ويتركون منها الهزيل، وقيل: إن ريح الجنوب تسوقها إليهم فيختارون منها حاجتهم ويذهب الباقي، وفي رواية كانت تنزل عليهم مطبوخة ومشوية- وسبحان من يقول للشيء كن فيكون- وذكر السدوسي أن السلوى هو العسل بلغة كنانة ويؤيده، قول الهذلي: وقاسمتها بالله جهرا لأنتم ... ألذ من (السلوى) إذا ما نشورها وقول ابن عطية- إنه غلط- غلط، واشتقاقها من السلوة لأنها لطيبها تسلي عن غيرها وعطفها على بعض وجوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 المنّ من عطف الخاص على العام اعتناء بشأنه كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ أمر (1) إباحة على إرادة القول أي وقلنا أو قائلين، والطيبات- المستلذات وذكرها للمنة عليهم أو الحلالات فهو للنهي عن الادخار، ومِنْ للتبعيض، وأبعد من جعلها للجنس أو للبدل، ومثله من زعم أن هذا على حذف مضاف أي من عوض طيبات قائلا: إن الله سبحانه عوضهم عن جميع مآكلهم المستلذة من قبل- بالمنّ والسلوى- فكانا بدلا من الطيبات، وما موصولة والعائد محذوف- أي رزقناكموه- أو مصدرية والمصدر بمعنى المفعول، واستنبط بعضهم من الآية أنه لا يكفي وضع المالك الطعام بين يدي الإنسان في إباحة الأكل بل لا يجوز التصرف فيه إلا بإذن المالك (2) وهو أحد أقوال في المسألة وَما ظَلَمُونا عطف على محذوف أي فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر أو فظلموا بأن كفروا هذه النعم وَما ظَلَمُونا بذلك، ويجوز- كما في البحر- أن لا يقدر محذوف لأنه قد صدر منهم ارتكاب قبائح من اتخاذ العجل إلها، وسؤال رؤيته تعالى ظلما وغير ذلك فجاء قوله تعالى: وَما ظَلَمُونا بجملة منفية تدل على أن ما وقع منهم من تلك القبائح لم يصل إلينا منها نقص ولا ضرر، وفي هذا دليل على أنه ليس من شرط نفي الشيء عن الشيء إمكان وقوعه لأن ظلم الإنسان لله تعالى لا يمكن وقوعه البتة وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالكفران أو بما فعلوا إذ لا يتخطاهم ضرره، وتقديم المفعول للدلالة على القصر الذي يقتضيه النفي السابق، وفيه ضرب تهكم بهم، والجمع بين صيغتي الماضي، والمستقبل للدلالة على تماديهم في الظلم واستمرارهم عليه، وفي ذكر أَنْفُسَهُمْ بجمع القلة تحقير لهم وتقليل، والنفس العاصية أقل من كل قليل وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ منصوبة على الظرفية عند سيبويه، والمفعولية عند الأخفش، والظاهر أن الأمر بالدخول على لسان موسى عليه السلام كالأوامر السابقة واللاحقة.- والقرية- بفتح القاف- والكسر لغة أهل اليمن- المدينة من قريت إذا جمعت سميت بذلك لأنها تجمع الناس على طريقة المساكنة، وقيل: إن قلوا قيل لها: قرية، وإن كثروا قيل لها مدينة، وأنهى بعضهم حدّ القلة إلى ثلاثة، والجمع القرى على غير قياس، وقياس أمثاله فعال كظبية وظباء وفي المراد بها هنا خلاف جمّ والمشهور عن ابن عباس وابن مسعود وقتادة والسدي والربيع وغيرهم- وإليه ذهب الجمهور- أنها بيت المقدس، وقد كان هذا الأمر بعد التيه والتحير وهو أمر إباحة يدل عليه عطف (فكلوا) إلخ وهو غير الأمر المذكور بقوله تعالى: يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ [المائدة: 21] لأنه كان قبل ذلك وهو أمر تكليف كما يدل عليه عطف النهي، ومنهم من زعم اتحادهما. وجعل هذا الأمر أيضا للتكليف وحمل تبديل الأمر على عدم امتثاله بناء على أنهم لم يدخلوا القدس في حياة موسى عليه السلام، ومنهم من ادّعى اختلافهما لكنه زعم أن ما هنا كان بعد التيه على لسان يوشع لا على لسان موسى عليهما السلام لأنه وأخاه هارون ماتا في التيه وفتح يوشع مع بني إسرائيل أرض الشام بعد موته عليه السلام بثلاثة أشهر ومنهم من قال الأمر في التيه بالدخول بعد الخروج عنه ولا يخفى ما في كل، فالأظهر ما ذكرنا وقد روي أن موسى عليه السلام سار بعد الخروج من التيه بمن بقي من بني إسرائيل إلى أريحا- وهي بأرض القدس- وكان يوشع بن نون على مقدمته ففتحها وأقام بها ما شاء الله تعالى ثم قبض وكأنهم أمروا بعد الفتح بالدخول على وجه الإقامة والسكنى كما يشير إليه قوله تعالى: (فكلوا) إلخ، وقوله تعالى في الأعراف: اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ [الأعراف: 161] ويؤيد كونه بعد الفتح الإشارة بلفظ القريب، والقول- بأنها نزلت منزلة القريب ترويجا للأمر- بعيد، ولا ينافي هذا ما مر من أنه مات في التيه لأن المراد به المفازة لا التيه مصدر تاه يتيه تيها بالكسر والفتح   (1) وفي البحر أن من ذهب إلى الأصل في الأشياء الإباحة قال: المراد داوموا وا فتدبر اهـ منه. (2) ثانيها أنه يملك بالوضع فقط وثالثها بالأخذ والتناول، رابعها لا يملك بحال بل ينتفع به وهو على ملك المالك اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 وتيهانا إذا ذهب متحيرا فليفهم فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً أي واسعا هنيئا ونصبه على المصدرية أو الحالية من ضمير المخاطبين، وفي الكلام إشارة إلى حلّ جميع مواضعها لهم، أو الإذن بنقل حاصلها إلى أي موضع شاؤوا مع دلالة رَغَداً على أنهم مرخصون بالأكل منها- واسعا- وليس عليهم القناعة لسد الجوعة، ويحتمل أن يكون وعدا لهم بكثرة المحصولات وعدم الغلاء، وأخر هذا المنصوب هنا مع تقديمه في آية آدم عليه السلام قبل لمناسبة الفاصلة في قوله تعالى: وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً والخلاف في نصب الْبابَ كالخلاف في نصب هذِهِ الْقَرْيَةَ والمراد بها على المشهور أحد أبواب بيت القدس، وتدعى الآن باب حطة قاله ابن عباس، وقيل: الباب الثامن من أبوابه، ويدعى الآن باب التوبة- وعليه مجاهد- وزعم بعضهم أنها باب القبة التي كانت لموسى وهارون عليهما السلام يتعبدان فيها، وجعلت قبلة لبني إسرائيل في التيه، وفي وصفها أمور غريبة في القصص لا يعلمها إلا الله تعالى وسُجَّداً حال من ضمير ادْخُلُوا والمراد خضعا متواضعين لأن اللائق بحال المذنب التائب والمطيع الموافق الخشوع والمسكنة، ويجوز حمل السجود على المعنى الشرعي، والحال مقارنة أو مقدرة، ويؤيد الثاني ما روي عن وهب في معنى الآية- إذا دخلتموه فاسجدوا شكرا لله أي على ما أنعم عليكم حيث أخرجكم من التيه ونصركم على من كنتم منه تخافون وأعادكم إلى ما تحبون- وقول الزمخشري- أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب شكرا لله تعالى وتواضعا- لم نقف على ما يدل عليه من كتاب وسنة، وفسر ابن عباس السجود هنا بالركوع، وبعضهم بالتطامن والانحناء قالوا: وأمروا بذلك لأن الباب كان صغيرا ضيقا يحتاج الداخل فيه إلى انحناء، وفي الصحيح عن أبي هريرة أنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قيل لبني إسرائيل: ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً فدخلوا يزحفون على أستاههم» وَقُولُوا حِطَّةٌ أي مسألتنا، أو شأنك يا ربنا أن تحط عنا ذنوبنا، وهي فعلة من- الحط- كالجلسة، وذكر أبان أنها بمعنى التوبة وأنشد: فاز (بالحطة) التي جعل الل ... هـ بها ذنب عبده مغفورا والحق أن تفسيرها بذلك تفسير باللازم، ومن البعيد قول أبي مسلم: إن المعنى أمرنا- حطة- أي أن نحط في هذه القرية ونقيم بها لعدم ظهور تعلق الغفران به وترتب التبديل عليه إلا أن يقال كانوا مأمورين بهذا القول عند الحط في القرية لمجرد التعبد، وحين لم يعرفوا وجه الحكمة بدلوه، وقرأ ابن أبي عبلة بالنصب بمعنى حط عنا ذنوبنا حِطَّةٌ أو نسألك ذلك، ويجوز أن يكون النصب على المفعولية- لقولوا- أي قولوا هذه الكلمة بعينها- وهو المروي عن ابن عباس- ومفعول القول عند أهل اللغة يكون مفردا إذا أريد به لفظه ولا عبرة بما في البحر من المنع إلا أنه يبعد هذا أن هذه اللفظة عربية وهم ما كانوا يتكلمون بها، ولأن الظاهر أنهم أمروا أن يقولوا قولا دالا على التوبة والندم حتى لو قالوا اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك لكان المقصود حاصلا ولا تتوقف التوبة على ذكر لفظة بعينها، ولهذا قيل: الأوجه في كونها مفعولا- لقولوا- أن يراد قولوا أمرا حاطا لذنوبكم من الاستغفار، وحينئذ يزول عن هذا الوجه الغبار، ثم هذه اللفظة على جميع التقادير عربية معلومة الاشتقاق، والمعنى وهو الظاهر المسموع، وقال الأصم: هي من ألفاظ أهل الكتاب لا نعرف معناها في العربية وذكر عكرمة أن معناها لا إله إلا الله وهو من الغرابة بمكان نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ بدخولكم الباب سجدا وقولكم حطة. والخطايا أصلها خطايىء بياء بعد ألف ثم همزة فأبدلت الياء- عند سيبويه- الزائدة همزة لوقوعها بعد الألف واجتمعت همزتان وأبدلت الثانية ياء ثم قلبت ألفا، وكانت الهمزة بين ألفين فأبدلت ياء، وعند الخليل قدمت الهمزة على الياء ثم فعل بها ما ذكر، وقرأ نافع «يغفر» - بالياء- وابن عامر- بالتاء- على البناء للمجهول، والباقون- بالنون- والبناء للمعلوم- وهو الجاري على نظام ما قبله وما بعده- ولم يقرأ أحد من السبعة إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 بلفظ خَطاياكُمْ وأمالها الكسائي، وقرأ الجحدري وقتادة «تغفر» بضم التاء، وأفرد- «الخطيئة» - وقرأ الجمهور بإظهار- الراء- من «يغفر» عند- اللام- وأدغمها قوم، قالوا: وهو ضعيف وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ معطوف على جملة قُولُوا حِطَّةٌ وذكر أنه عطف على الجواب، ولم ينجزم لأن- السين- تمنع الجزاء عن قبول الجزم، وفي إبرازه في تلك الصورة دون تردد دليل على أن المحسن يفعل ذلك البتة، وفي الكلام صفة الجمع مع التفريق، فإن قُولُوا حِطَّةٌ جمع، ونَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ تفريق، والمفعول محذوف، أي ثوابا فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ أي بدل الَّذِينَ ظَلَمُوا بالقول الَّذِي قِيلَ لَهُمْ قولا غيره فَبَدَّلَ يتعدى لمفعولين «أحدهما» بنفسه «والآخر» بالياء ويدخل على المتروك- فالذم متوجه- وجوزّ أبو البقاء أن يكون- بدل- محمولا على المعنى، أي فقال الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا إلخ، والقول بأن غَيْرَ منصوب بنزع الخافض، كأنه قيل: فغيروا قولا بغيره غير مرضي من القول، وصرح سبحانه- بالمغايرة- مع استحالة تحقق- التبديل- بدونها تحقيقا لمخالفتهم وتنصيصا على- المغايرة- من كل وجه، وظاهر الآية انقسام من هناك إلى- ظالمين- وغير ظالمين- وأن- الظالمين- هم- الذين بدلوا- وإن كان- المبدل- الكل كان وضع ذلك من وضع الظاهر موضع الضمير- للإشعار بالعلة- واختلف في- القول الذي بدلوه- ففي الصحيحين أنهم قالوا: حبة في شعيرة، وروى الحاكم «حنطة» بدل حِطَّةٌ وفي المعالم أنهم قالوا بلسانهم- حطا سمقاثا- أي حنطة حمراء، قالوا ذلك استهزاء منهم بما قيل لهم، والروايات في ذلك كثيرة، وإذا صحت يحمل اختلاف الألفاظ على اختلاف القائلين، والقول بأنه لم يكن منهم- تبديل- ومعنى- فبدلوا لم يفعلوا ما أمروا به، لا أنهم أتوا ببدل له- غير مسلم- وإن قاله أبو مسلم- وظاهر الآية، والأحاديث تكذبه فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ وضع المظهر موضع الضمير مبالغة في تقبيح أمرهم، وإشعارا بكون ظلمهم وإضرارهم أنفسهم بترك ما يوجب نجاتها، أو وضعهم غير المأمور به موضعه سببا لإنزال- الرجز- وهو العذاب- وتكسر راؤه وتضم- والضم لغة بني الصعدات- وبه قرأ ابن محيصن- والمراد به هنا- كما روي عن ابن عباس- ظلمة وموت، يروى أنه مات منهم في ساعة أربعة وعشرون ألفا، وقال وهب: طاعون غدوا به أربعين ليلة ثم ماتوا بعد ذلك، وقال ابن جبير: ثلج هلك به منهم سبعون ألفا- فإن فسر بالثلج- كان كونه مِنَ السَّماءِ ظاهرا- وإن بغيره- فهو إشارة إلى الجهة التي يكون منها القضاء أو مبالغة في علوه بالقهر والاستيلاء، وذكر بعض المحققين أن الجار والمجرور ظرف مستقر وقع صفة ل رِجْزاً وبِما كانُوا يَفْسُقُونَ متعلق به لنيابته عن العامل علة له، وكلمة (ما) مصدرية، والمعنى فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا لظلمهم عذابا مقدرا بسبب كونهم مستمرين على- الفسق- في الزمان الماضي، وهذا أولى من جعل الجار والمجرور ظرفا لغوا متعلقا ب فَأَنْزَلْنا لظهوره على سائر الأقوال، ولئلا يحتاج في تعليل- الإنزال بالفسق- بعد التعليل المستفاد من التعليق بالظلم إلى القول بأن الفسق- عين- الظلم- وكرر للتأكيد، أو أن- الظلم أعم- والفسق- لا بد أن يكون من الكبائر، فبعد وصفهم بالظلم- وصفوا- بالفسق- للإيذان بكونه من الكبائر، فإن «الأول» (1) بضاعة العاجز «والثاني» لا يدفع ركاكة التعليل، وما قيل: إنه تعليل- للظلم- فيكون إنزال العذاب مسببا عن- الظلم- المسبب عن- الفسق- ليس بشيء، إذ- ظلمهم- المذكور سابقا، الذي هو سبب الإنزال لا يحتاج إلى العلة، وقد احتج بعض الناس بقوله تعالى: فَبَدَّلَ إلخ، وترتب العذاب عن التبديل، على أن ما ورد به التوقيف من الأقوال لا يجوز تغييره ولا تبديله بلفظ آخر، وقال قوم: يجوز ذكر إذا كانت   (1) الأول لأبي مسلم، والثاني للرازي، والثالث للجيلي اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 الكلمة الثانية تسد الأولى (1) ، وعلى هذا جرى الخلاف- كما في البحر- في قراءة بالمعنى وروي الحديث به، وجرى في تكبيرة الإحرام، وفي تجويز النكاح بلفظ الهبة والبيع والتمليك، والبحث مفصل في محله هذا. وقد ذكر مولانا الإمام الرازي رحمه الله تعالى أن هذه الآية ذكرت في الأعراف مع مخالفة من وجوه لنكات. «الأول» قال هنا: (وإذ قلنا) لما قدم ذكر النعم، فلا بد من ذكر المنعم، وهناك (وإذا قيل) إذ لا إبهام بعد تقديم التصريح به. «الثاني» قال هنا: ادْخُلُوا وهناك اسْكُنُوا [الأعراف: 161] لأن الدخول مقدم، ولذا قدم وضعا المقدم طبعا. «الثالث» قال هنا: خَطاياكُمْ- بجمع الكثرة- لما أضاف ذلك القول إلى نفسه، واللائق بجوده غفران الذنوب الكثيرة، وهناك خَطِيئاتِكُمْ [الأعراف: 161]- بجمع القلة- إذ لم يصرح بالفاعل «الرابع» قال هنا: (رغدا) دون هناك لإسناد الفعل إلى نفسه هنا، فناسب ذكر الإنعام الأعظم وعدم الإسناد هناك. «الخامس» قال هنا: ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ وهناك بالعكس، لأن- الواو- لمطلق الجمع، وأيضا المخاطبون يحتمل أن يكون بعضهم مذنبين، والبعض الآخر ما كانوا كذلك، فالمذنب لا بد وأن يكون اشتغاله بحط الذنب مقدما على اشتغاله بالعبادة، فلا جرم كان تكليف هؤلاء أن يقولوا: حِطَّةٌ ثم- يدخلوا- وأما الذي لا يكون مذنبا، فالأولى به أن يشتغل «أولا» بالعبادة ثم يذكر التوبة «ثانيا» للهضم وإزالة العجب فهؤلاء يجب أن- يدخلوا ثم يقولوا- فلما احتمل كون أولئك المخاطبين منقسمين إلى ذين القسمين، لا جرم ذكر حكم كل واحد منهما في سورة أخرى «السادس» قال هنا: وَسَنَزِيدُ- بالواو- وهناك بدونه، إذ جعل هنا- المغفرة- مع الزيادة جزاء واحدا لمجموع الفعلين، وأما هناك فالمغفرة جزاء قول حِطَّةٌ والزيادة جزاء الدخول فترك- الواو- يفيد توزع كل من الجزاءين على كل من الشرطين «السابع» قال هناك: الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [الأعراف: 162] وهنا لم يذكر (منهم) لأن أول القصة هناك مبني على التخصيص ب (من) حيث قال: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ [الأعراف: 159] فخص في آخر الكلام ليطابق أوله، ولما لم يذكر في الآيات التي قبل فَبَدَّلَ هنا تمييزا وتخصيصا لم يذكر في آخر القصة ذلك. «الثامن» قال هنا: فَأَنْزَلْنا وهناك فَأَرْسَلْنا [الأعراف: 162] لأن الإنزال يفيد حدوثه في أول الأمر، والإرسال يفيد تسليطه عليهم واستئصاله لهم، وذلك يكون بالآخرة. «التاسع» قال هنا: فَكُلُوا- بالفاء- وهناك- بالواو- لما مر في وَكُلا مِنْها رَغَداً [البقرة: 35] وهو أن كل فعل عطف عليه شيء- وكان الفعل بمنزلة الشرط، وذلك الشيء بمنزلة الجزاء- عطف الثاني على الأول- بالفاء- دون- الواو- فلما تعلق الأكل بالدخول قيل في سورة البقرة فَكُلُوا ولما لم يتعلق- الأكل بالسكون- في الأعراف، قيل: وَكُلُوا [الأعراف: 31، 161] «العاشر» قال هنا: يَفْسُقُونَ وهناك يظلمون لأنه لما بين هنا كون الفسق ظلما اكتفى بلفظ- الظلم- هناك انتهى ولا يخفى ما في هذه الأجوبة من النظر، أما في الأول والثاني والثامن والعاشر فلأنها إنما تصح إذا كانت سورة البقرة متقدمة على سورة الأعراف نزولا- كما أنها متقدمة عليها ترتيبا- وليس كذلك، فإن سورة البقرة كلها مدنية، وسورة الأعراف كلها مكية إلا ثمان آيات من قوله تعالى (واسألهم عن القرية) إلى قوله تعالى: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ [الأعراف: 163- 171 ] وقوله تعالى: اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ [الأعراف: 161] داخل في الآيات المكية، فحينئذ لا تصح الأجوبة المذكورة. وأما ما ذكر في التاسع فيرد عليه منع عدم تعلق- الأكل بالسكون- لأنهم إذا سكنوا القرية، تتسبب سكناهم- للأكل- منها كما ذكر الزمخشري، فقد جمعوا في الوجود بين سكناها والأكل منها، فحينئذ لا فرق بين   (1) قوله: تسد الأولى كذا بخط مؤلفه، ولعل فيه سقطا من قلمه، والأصل تسد مسد الأولى اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 كُلُوا وفَكُلُوا فلا يتم الجواب وأما الثالث فلأنه تعالى- وإن قال في الأعراف: وَإِذْ قِيلَ- لكنه قال في السورتين: نَغْفِرْ لَكُمْ وأضاف- الغفران- إلى نفسه، فبحكم تلك اللياقة ينبغي أن يذكر في السورتين- جمع الكثرة- بل لا شك أن رعاية نَغْفِرْ لَكُمْ أولى من رعاية وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ لتعلق- الغفران بالخطايا- كما لا يخفى على العارف بالمزايا. وأما الرابع فلأنه تعالى- وإن لم يسند الفعل إلى نفسه تعالى- لكنه مسند إليه في نفس الأمر، فينبغي أن يذكر الإنعام الأعظم في السورتين. وأما الخامس فلأن القصة واحدة، وكون بعضهم مذنبين وبعضهم غير مذنبين محقق- فعلى مقتضى ما ذكر- ينبغي أن يذكر وَقُولُوا حِطَّةٌ مقدما في السورتين وأما السادس فلأن القصة واحدة، وأن- الواو- لمطلق الجمع، وقوله تعالى نَغْفِرْ في مقابلة قُولُوا سواء قدم أو أخر، وقوله تعالى: وَسَنَزِيدُ في مقابلة وَادْخُلُوا سواء ذكر- الواو- أو ترك، وأما السابع فلأنه تعالى قد ذكر هنا قبل فَبَدَّلَ ما يدل على التخصيص والتمييز، حيث قال سبحانه: وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ إلخ بكافات الخطاب وصيغته- فاللائق حينئذ- أن يذكر لفظ مِنْهُمْ أيضا، والجواب الصحيح عن جميع هذه السؤالات وما حاكاها- ما ذكره الزمخشري- من أنه لا بأس باختلاف العبارتين إذا لم يكن هناك تناقض، ولا تناقض بين قوله تعالى: اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وقوله: وَكُلُوا لأنهم إذا سكنوا القرية فتسبب سكناهم للأكل منها، فقد جمعوا في الوجود بين سكناها والأكل منها، وسواء قدموا «الحطة» على- دخول الباب- أو أخروها، فهم جامعون في الإيجاد بينهما، وترك ذكر- الرغد- لا يناقض إثباته، وقوله تعالى: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 161] موعد بشيئين- بالغفران والزيادة، وطرح- الواو- لا يخل لأنه استئناف مرتب على تقدير قول القائل: ماذا بعد الغفران؟ فقيل له سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ وكذلك زيادة (منهم) زيادة بيان وَأَرْسَلْنا وأَنْزَلْنا ويَظْلِمُونَ ويَفْسُقُونَ من دار واحد، انتهى. وبالجملة التفنن في التعبير لم يزل دأب البلغاء، وفيه من الدلالة على رفعة شأن المتكلم ما لا يخفى، والقرآن الكريم مملوء من ذلك، ومن رام بيان سر لكل ما وقع فيه منه فقد رام ما لا سبيل إليه إلا بالكشف الصحيح والعلم اللدني، والله يؤتي فضله من يشاء، وسبحان من لا يحيط بأسرار كتابه إلا هو. ومن باب الإشارة في الآيات وإذ قلتم لموسى- القلب لَنْ نُؤْمِنَ الإيمان الحقيقي حتى نصل إلى مقام المشاهدة والعيان- فأخذتكم صاعقة الموت- الذي هو الفناء في التجلي الذاتي- وأنتم تراقبون أو تشاهدون- ثم بعثناكم بالحياة الحقيقية والبقاء بعد الفناء لكي تشكروا نعمة التوحيد والوصول بالسلوك في الله عز وجل،- وظللنا عليكم غمام تجلي الصفات- لكونها حجب شمس الذات المحرقة سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره. وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ من الأحوال والمقامات الذوقية الجامعة بين الحلاوة وإذهاب رذائل أخلاق النفس، كالتوكل والرضا وسلوى الحكم والمعارف والعلوم الحقيقية التي يحشرها عليكم ريح الرحمة، والنفحات الإلهية في تيه الصفات عند سلوككم فيها، فتسلون بذلك السَّلْوى وتنسون من لذائذ الدنيا كل ما يشتهى كُلُوا أي تناولوا وتلقوا هذه الطيبات التي رزقتموها حسب استعدادكم، وأعطيتموها على ما وعد لكم وَما ظَلَمُونا أي ما نقصوا حقوقنا وصفاتنا باحتجابهم بصفات أنفسهم، ولكن كانوا ناقصين حقوق أنفسهم بحرمانها وخسرانها، وهذا هو الخسران المبين وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ أي المحل المقدس الذي هو مقام المشاهدة وَادْخُلُوا الْبابَ الذي هو الرضا بالقضاء، فهو باب الله تعالى الأعظم سُجَّداً منحنين خاضعين لما يرد عليكم من التجليات، واطلبوا أن يحط الله تعالى عنكم ذنوب صفاتكم وأخلاقكم وأفعالكم، فإن فعلتم ذلك نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ «فمن تقرب إليّ شبرا تقربت إليه ذراعا، ومن تقرب إليّ ذراعا، تقربت إليه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة» وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 المشاهدين «ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» وهل ذلك إلا الكشف التام عن الذات الأقدس. فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم وأضاعوها ووضعوها في غير موضعها اللائق بها قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ابتغاء للحظوظ الفانية والشهوات الدنية. فَأَنْزَلْنا على الظالمين خاصة، عذابا وظلمة وضيقا في سجن الطبيعة واسرا في وثاق التمني وقيد الهوى وحرمانا، وذلا بمحبة الماديات السفلية، والاعراض عن هاتيك التجليات العلية، وذلك من جهة قهر سماء الروح، ومنع اللطف والروح عنهم بسبب فسقهم وخروجهم عن طاعة القلب الذي لا يأمر إلا بالهدى كما ورد في الأثر استفت قلبك وإن أفتاك المفتون إلى طاعة النفس الأمارة بالسوء. وهذا هو البلاء العظيم، والخطب الجسيم. من كان يرغب في السلامة فليكن ... أبدا من الحدق المراض عياذه لا تخدعنك بالفتور فإنه ... نظر يضر بقلبك استلذاذه إياك من طمع المنى فعزيزه ... كذليله، وغنيه وشحاذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ تذكير لنعمة عظيمة كفروا بها- وكان ذلك في التيه لما عطشوا- ففي بعض الآثار أنهم قالوا فيه: من لنا بحر الشمس- فظلل عليهم الغمام- وقالوا: من لنا بالطعام- فأنزل الله تعالى عليهم المن والسلوى- وقالوا: من لنا بالماء- فأمر موسى بضرب الحجر- وتغيير الترتيب لقصد إبراز كل من الأمور المعدود في معرض أمر مستقل واجب التذكير والتذكر، ولو روعي الترتيب الوقوعي لفهم أن الكل أمر واحد- أمر بذكره- والاستسقاء- طلب- السقيا- عند عدم الماء أو قلته. قيل: ومفعول- استسقى- محذوف أي- ربه- أو- ماء- وقد تعدى هذا الفعل في الفصيح إلى- المستسقى منه تارة- وإلى- المستسقي أخرى- كما في قوله تعالى: إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ [الأعراف: 160] وقوله: وأبيض- يستسقى- الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل وتعديته إليهما مثل أن تقول:- استسقى زيد ربه الماء- لم نجدها في شيء من كلام العرب- واللام- متعلقة بالفعل، وهي سببية أي لأجل قومه فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ أي فأجبناه فَقُلْنَا إلخ- والعصا- مؤنث- والألف منقلبة عن- واو- بدليل عصوان وعصوته- أي ضربته بالعصا- ويجمع على أفعل شذوذا وعلى فعول قياسا، فيقال: أعص وعصي، وتتبع حركة- العين- حركة- الصاد- والْحَجَرَ هو هذا الجسم المعروف، وجمعه أحجار وحجار، وقالوا: حجارة، واشتقوا منه فقالوا: استحجر الطين، والاشتقاق من الأعيان قليل جدا. والمراد بهذه- العصا- المسئول عنها في قوله تعالى: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى [طه: 17] والمشهور أنها من آس الجنة- طولها عشرة أذرع طول موسى عليه السلام- لها شعبتان تتقدان في الظلمة، توارثها صاغر عن كابر حتى وصلت إلى شعيب ومنه إلى موسى عليهما السلام، وقيل: رفعها له ملك في طريق مدين، وفي المراد من الْحَجَرَ خلاف، فقال الحسن: لم يكن حجرا معينا، بل أي حجر ضربه انفجر منه الماء، وهذا أبلغ في الإعجاز وأبين في القدرة، وقال وهب: كان يقرع لهم أقرب حجر فتنفجر، وعلى هذا- اللام- فيه للجنس، وقيل: للعهد، وهو حجر معين حمله معه من الطور مكعب له أربعة أوجه ينبع من كل وجه ثلاثة أعين، لكل سبط عين تسيل في جدول إلى السبط الذي أمرت أن تسقيهم، وكانوا ستمائة ألف ما عدا دوابهم، وسعة المعسكر اثنا عشر ميلا، وقيل: حجر كان عند آدم وصل مع العصا إلى شعيب فدفع إلى موسى، وقيل: هو الحجر الذي فر بثوبه، والقصة معروفة. وقيل: حجر أخذ من قعر البحر خفيف يشبه رأس الآدمي كان يضعه في مخلاته، فإذا احتاج للماء ضربه. والروايات في ذلك كثيرة، وظاهر أكثرها التعارض، ولا ينبني على تعيين هذا الحجر أمر ديني، والأسلم تفويض علمه إلى الله تعالى. فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً عطف على مقدر، أي فضرب فانفلق، ويدل على هذا المحذوف وجود الانفجار، ولو كان ينفجر دون ضرب لما كان للأمر فائدة، وبعضهم يسمي هذه- الفاء- الفصيحة ويقدر شرطا أي فإن ضربت فقد «انفجرت» وفي المغني أن هذا التقدير يقتضي تقدم الانفجار على الضرب، إلا أن يقال: المراد فقد حكمنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 بترتب الانفجار على ضربك، وقال بعض المتأخرين (1) : لا حذف، بل- الفاء- للعطف وإن مقدرة بعد- الفاء- كما هو القياس، بعد الأمر عند قصد السببية، والتركيب من قبيل- زرني فأكرمك- أي اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فإن انفجرت فليكن منك الضرب فالانفجار- ولا يخفى ما في كل حتى قال مولانا مفتي الديار الرومية في الأول إنه غير لائق بجلالة شأن النظم الكريم- والثاني أدهى وأمرّ- والانفجار انصداع شيء من شيء، ومنه الفجر والفجور، وجاء هنا «انفجرت» وفي الأعراف [160] «انبجست» فقيل: هما سواء وقيل: بينهما فرق وهو أن الانبجاس أول خروج الماء، والانفجار اتساعه وكثرته، أو الانبجاس خروجه من الصلب، والآخر خروجه من اللين، والظاهر استعمالهما بمعنى واحد- وعلى فرض المغايرة- لا تعارض لاختلاف الأحوال، و (من) لابتداء الغاية، والضمير عائد على- الحجر المضروب- وعوده إلى الضرب، و (من) سببية مما لا ينبغي الإقدام عليه، والتاء في- اثنتا- للتأنيث، ويقال: ثنتا إلا أن التاء فيها على ما في البحر للإلحاق، وهذا نظير أنبت، ونبت ولامها محذوفة، وهي ياء لأنها من ثنيت، وقرأ مجاهد وجماعة- ورواه السعدي عن أبي عمرو- عشرة بكسر الشين وهي لغة بني تميم، وقرأ الفضل الأنصاري بفتحها قال ابن عطية: وهي لغة ضعيفة، ونص بعض النحاة على الشذوذ، ويفهم من بعض المتأخرين أن هذه اللغات في المركب لا في عشرة وحدها، وعبارات القوم لا تساعده، والعين- منبع الماء وجمع على أعين شذوذا وعيون قياسا، وقالوا في أشراف الناس: أعيان، وجاء ذلك في الباصرة قليلا كما في قوله أعيانا لها ومآقيا وهو منصوب على التمييز، وإفراده في مثل هذا الموضع لازم، وأجاز الفراء أن يكون جمعا، وكان هذا العدد دون غيره لكونهم كانوا اثني عشر سبطا وكان بينهم تضاغن وتنافس فأجرى الله تعالى لكل سبط عينا يردها لا يشركه فيها أحد من السبط الآخر دفعا لإثارة الشحناء، ويشير إلى حكمة الانقسام، قوله تعالى: قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وهي جملة مستأنفة مفهمة على أن كل سبط منهم قد صار له مشرب يعرفه فلا يتعدى لمشرب غيره، وأُناسٍ جمع لا واحد له من لفظه، وما ذكر من شذوذ إثبات همزته إنما هو مع الألف واللام، وأما بدونها فشائع صحيح، وعَلِمَ هنا متعدية لواحد أجريت مجرى عرف- ووجد ذلك بكثرة- والمشرب- إما اسم مكان أي محل الشرب، أو مصدر ميمي بمعنى الشرب، وحمله بعضهم على المشروب وهو الماء، وحمله على المكان أولى عند أبي حيان، وإضافة المشرب إليهم لأنه لما تخصص كل مشرب بمن تخصص به صار كأنه ملك لهم وأعاد الضمير في مشربهم على معنى كُلُّ ولا يجوز أن يعود على لفظها لأن- كلّا- متى أضيف إلى نكرة وجب مراعاة المعنى كما في قوله تعالى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ [الإسراء: 71] وقوله: وكل أناس سوف تدخل بينهم ... دويهية تصفرّ منها الأنامل ونص على المشرب تنبيها على المنفعة العظيمة التي هي سبب الحياة وإن كان سرد الكلام يقتضي- قد علم كل أناس عينهم- وفي الكلام حذف أي منها لأن قَدْ عَلِمَ صفة- لاثنتا عشرة عينا- فلا بد من رابط، وإنما وصفها به لأنه معجزة أخرى حيث يحدث مع حدوث الماء جداول يتميز بها مشرب كل من مشرب آخر، ويحتمل أن تكون الجملة حالية لا صفة لقوله تعالى: اثْنَتا عَشْرَةَ لئلا يحتاج إلى تقدير العائد وليفيد مقارنة العلم بالمشارب للانفجار، والمشرب حينئذ العين كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ على إرادة القول، وبدأ بالأكل لأن قوام الجسد به، والاحتياج إلى الشرب حاصل عنه، ومِنْ لابتداء الغاية، ويحتمل أن تكون للتبعيض، وفي ذكر الرزق مضافا تعظيم   (1) هو عصام الدين اهـ منه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 للمنة، وإشارة إلى حصول ذلك لهم من غير تعب ولا تكلف، وفي هذا التفات إذ تقدم فَقُلْنَا اضْرِبْ ولو جرى على نظم واحد لقال من رزقنا، ولو جعل الإضمار قبل كُلُوا مسندا إلى موسى- أي وقال موسى كلوا واشربوا- لا يكون فيه ذلك، والرزق- هنا بمعنى المرزوق وهو الطعام المتقدم من المنّ والسلوى، وبالمشروب من ماء العيون، وقيل: المراد به الماء وحده لأنه يشرب ويؤكل مما ينبت منه ويضعفه أنه لم يكن أكلهم في التيه من زروع ذلك الماء كما يشير إليه قوله تعالى: يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ ولَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ ويلزم عليه أيضا الجمع بين الحقيقة والمجاز إذ يؤول إلى- كلوا واشربوا- من الماء، ويكون نسبة الشرب إليه بإرادة ذاته، والأكل بإرادة ما هو سبب عنه، أو القول بحذف متعلق أحد الفعلين أي كلوا من رزق الله واشربوا من رزق الله، وقول بعض المتأخرين إن رزق الله- عبارة عن الماء، وفي الآية إشارة إلى إعجاز آخر وهو أن هذا الماء كما يروي العطشان يشبع الجوعان فهو طعام وشراب- بعيد غاية البعد، وأقرب منه أن لا يكون كُلُوا وَاشْرَبُوا بتقدير القول من تتمة ما يحكى عنهم بل يجعل أمرا مرتبا على ذكرهم ما وقع وقت الاستسقاء على وجه الشكر والتذكير بقدرة الله تعالى فهو أمر المخاطبين بهذه الحكاية بأكلهم وشربهم مما يرزقهم الله تعالى، وعدم الإفساد بإضلال الخلق، وجمع عرض الدنيا ويكون فضله عما سبق لأنه بيان للشكر المأمور أو نتيجة للمذكور «واحتجت المعتزلة» بهذه الآية على أن الرزق هو الحلال لأن أقل درجات هذا الأمر أن يكون للإباحة فاقتضى أن يكون الرزق مباحا فلو وجد رزق حرام لكان الرزق مباحا وحراما، وأنه غير جائز، والجواب أن الرزق هنا ليس بعام إذا أريد المنّ والسلوى والماء المنفجر من الحجر، ولا يلزم من حلية معين ما من أنواع الرزق حلية جميع الرزق وعلى تسليم العموم يلتزم التبعيض وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ لما أمروا بالأكل والشرب من رزق الله تعالى ولم يقيد ذلك عليهم بزمان ولا مكان ولا مقدار كان ذلك إنعاما وإحسانا جزيلا إليهم، واستدعى ذلك التبسط في المأكل والمشرب نهاهم عما يمكن أن ينشأ عن ذلك وهو الفساد حتى لا يقابلوا تلك النعم بالكفران، والعثى- عند بعض المحققين مجاوزة الحد مطلقا فسادا كان أو لا فهو كالاعتداء، ثم غلب في الفساد ومفسدين على هذا حال غير مؤكدة هو الأصل فيها كما يدل عليه تعريفها وذكر أبو البقاء أن العثي الفساد والحال مؤكدة، وفيه أن مجيء الحال المؤكدة بعد الفعلية خلاف مذهب الجمهور وذهب الزمخشري أن معناه أشد الفساد والمعنى لا تتمادوا في الفساد حال إفسادكم، والمقصد النهي عما كانوا عليه من التمادي في الفساد وهو من أسلوب لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً [آل عمران: 130] وإلا فالفساد أيضا منكر منهي عنه، وفيه أنه تكلف مستغنى عنه بما ذكرنا، والمراد من الْأَرْضِ عند الجمهور أرض التيه. ويجوز أن يريدها وغيرها مما قدروا أن يصلوا إليها فينالها فسادهم، وجوز أن يريد الأرضين كلها، و (أل) لاستغراق الجنس، ويكون فسادهم فيها من جهة أن كثرة العصيان والإصرار على المخالفات والبطر يؤذن بانقطاع الغيث وقحط البلاد ونزع البركات، وذلك انتقام يعم الأرضين، هذا ثم إن ظاهر القرآن لا يدل على تكرر هذا الاستسقاء ولا الضرب ولا الانفجار فيحتمل أن يكون ذلك متكررا، ويحتمل أن يكون ذلك مرة واحدة والواحدة هي المتحققة. والحكايات في هذا الأمر كثيرة وأكثرها لا صحة له، وقد أنكر بعض الطبيعيين هذه الواقعة. وقال كيف يعقل خروج الماء العظيم الكثير من الحجر الصغير، وهذا المنكر مع أنه لم يتصور قدرة الله تعالى في تغيير الطبائع والاستحالات فقد ترك النظر على طريقتهم إذ قد تقرر عندهم أن حجر المغناطيس يجذب الحديد والحجر الحلاق يحلق الشعر والحجر الباغض للخل ينفر منه، وذلك كله من أسرار الطبيعة وإذا لم يكن مثل ذلك منكرا عندهم فليس يمتنع أن يخلق في حجر آخر قوة جذب الماء من تحت الأرض، ويكون خلق تلك القوة عند ضرب العصا أو عند أمر موسى عليه السلام على ما ورد أنه كان بعد ذلك يأمره، فينفجر ولا ينافيه انفصاله عن الأرض كما وهم، ويحتمل أيضا أن يقلب الله تعالى- بواسطة قوة أودعها في الحجر- الهواء ماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 بإزالة اليبوسة عن أجزائه وخلق الرطوبة فيها. والله تعالى على كل شيء قدير، وحظ العارف من الآية أن يعرف الروح الإنسانية وصفاتها في عالم القلب بمثابة موسى وقومه وهو مستسق ربه لإروائها بماء الحكمة والمعرفة وهو مأمور بضرب عصا- لا إله إلا الله- ولها شعبتان من النفي والإثبات تتقدان نورا عند استيلاء ظلمات النفس، وقد حملت من حضرة العزة على حجر القلب الذي هو كالحجارة أو أشد قسوة فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً من مياه الحكمة لأن كلمة- لا إله إلا الله- اثنا عشرة حرفا فانفجر من كل حرف عين قد علم كل سبط من أسباط صفات الإنسان وهي اثنا عشر سبطا من الحواس (1) الظاهرة والباطنة، واثنان من القلب والنفس، ولكل واحد منهم مشرب من عين جرت من حرف من حروف الكلمة، وقَدْ عَلِمَ مشربه ومشرب كل واحد حيث ساقه رائده وقاده قائده فمن مشرب عذب فرات، ومشرب ملح أجاج، والنفوس ترد مناهل التقى والطاعات. والأرواح تشرب من زلال الكشوف والمشاهدات، والأسرار تروى من عيون الحقائق بكأس تجلي الصفات عن ساقي وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً [الإنسان: 21] للاضمحلال في حقيقة الذات كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ بأمره ورضاه وَلا تَعْثَوْا في هذا القالب مُفْسِدِينَ بترك الأمر واختيار الوزر وبيع الدين بالدنيا وإيثار الأولى على العقبى وتقديمهما على المولى وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ الظاهر أنه داخل في تعداد النعم وتفصيلها وهو إجابة سؤالهم بقوله تعالى: اهْبِطُوا إلخ مع استحقاقهم كمال السخط لأنهم كفروا نعمة إنزال الطعام اللذيذ عليهم وهم في التيه من غير كدّ وتعب حيث سألوا ب لَنْ نَصْبِرَ فإنه يدل على كراهيتهم إياه إذ الصبر حبس النفس في المضيق، ولذا أنكر عليه بقوله تعالى: أَتَسْتَبْدِلُونَ إلخ، فالآية في الأسلوب مثل قوله تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ إلخ، حيث عاندوا بعد سماع الكلام وأهلكوا، ثم أفاض عليهم نعمة الحياة، قال مولانا الساليكوتي- ومن هذا ظهر ضعف ما قال الإمام الرازي- لو كان سؤالهم معصية لما أجابهم، لأن الإجابة إلى المعصية معصية- وهي غير جائزة على الأنبياء- وإن قوله تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا أمر إباحة لا إيجاب، فلا يكون سؤالهم غير ذلك الطعام معصية، ووصف الطعام بواحد وإن كانا طعامين الْمَنَّ وَالسَّلْوى اللذين رزقوهما في التيه، إما باعتبار كونه على نهج واحد كما يقال: طعام مائدة الأمير واحد- ولو كان ألوانا شتى- بمعنى أنه لا يتبدل ولا يختلف بحسب الأوقات، أو باعتبار كونه ضربا واحدا لأن الْمَنَّ وَالسَّلْوى من طعام أهل التلذذ والسرف، وكأن القوم كانوا فلاحة فما أرادوا إلا ما ألفوه، وقيل: إنهم كانوا يطبخونهما معا فيصير طعاما واحدا، والقول بأن هذا القول كان قبل نزول السَّلْوى نازل من القول، وأهون منه القول بأنهم أرادوا بالطعام الواحد السَّلْوى لأن الْمَنَّ كان شرابا، أو شيئا يتحلون به، فلم يعدوه طعاما آخر، وإلا نزل القول بأنه عبر بالواحد عن الاثنين كما عبر بالاثنين عن الواحد في نحو يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرحمن: 22] وإنما يخرج من أحدهما- وهو الملح دون العذب- فَادْعُ لَنا رَبَّكَ أي سله لأجلنا- بدعائك إياه- بأن يخرج لنا كذا وكذا- والفاء- لسببية عدم الصبر للدعاء، ولغة بني عامر «فادع» - بكسر العين- جعلوا- دعا من ذوات الياء- كرمى، وإنما سألوا من موسى أن يدعو لهم، لأن دعاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أقرب للإجابة من دعاء غيرهم، على أن دعاء الغير للغير مطلقا أقرب إليها- فما ظنك بدعاء الأنبياء لأممهم؟ - ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم لعمر رضي الله تعالى عنه: «أشركنا في دعائك» وفي الأثر «ادعوني بألسنة لم تعصوني فيها» وحملت على ألسنة الغير، والتعرض لعنوان الربوبية لتمهيد مبادئ الإجابة، وقالوا: رَبَّكَ ولم يقولوا: ربنا، لأن في ذلك من الاختصاص به ما ليس فيهم   (1) قوله: من الحواس إلخ كذا بخط اهـ مصححه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 من مناجاته وتكليمه وإيتائه التوراة، فكأنهم قالوا: ادع لنا المحسن إليك بما لم يحسن به إلينا، فكما أحسن إليك من قبل نرجو أن يحسن إليك في إجابة دعائك. يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها المراد- بالإخراج- المعنى المجازي اللازم للمعنى الحقيقي، وهو الإظهار بطريق الإيجاد- لا بطريق إزالة الخفاء- والحمل على المعنى الحقيقي يقتضي مخرجا عنه، وما يصلح له هاهنا هو الْأَرْضُ وبتقديره يصير الكلام سخيفا، ويُخْرِجْ مجزوم لأنه جواب الأمر، وجزمه- بلام الطلب- محذوفة لا يجوز عند البصريين، ومِنْ الأولى تبعيضية أي مأكولا بعض ما تُنْبِتُ وادعى الأخفش زيادتها- وليس بشيء- وما موصولة والعائد محذوف، أي تنبته، وجعلها مصدرية لم يجوزه أبو البقاء- لأن المقدر جوهر- ونسبة- الإنبات- إلى الْأَرْضُ مجاز من باب النسبة إلى القابل. وقد أودع الله تعالى في الطبقة الطينية من الأرض- أو فيها- قوة قابلة لذلك، وكون القوة القابلة مودعة في الحب دون التراب ربما يفضي إلى القول بقدم الحب بالنوع، ومِنْ الثانية بيانية، فالظرف مستقر واقع موقع الحال، أي كائنا من بَقْلِها. وقال أبو حيان: تبعيضية واقعة موقع البدل من كلمة ما فالظرف لغو متعلق يُخْرِجْ وعلى التقديرين- كما قال الساليكوتي- يفيد أن المطلوب إخراج بعض هؤلاء، ولو جعل بيانا لما أفاده مِنْ التبعيضية- كما قاله المولى عصام الدين- لخلا الكلام عن الإفادة المذكورة، وأوهم أن المطلوب إخراج جميع هؤلاء لعدم العهد- والبقل- جنس يندرج فيه النبات الرطب مما يأكله الناس والإنعام، والمراد به هنا أطايب البقول التي يأكلها الناس- والقثاء- هو هذا المعروف، وقال الخليل: هو الخيار، وقرأ يحيى بن وثاب وغيره- بضم القاف- وهو لغة- والفوم- الحنطة- وعليه أكثر الناس- حتى قال الزجاج: لا خلاف عند أهل اللغة أن- الفوم- الحنطة، وسائر الحبوب التي تختبز يلحقها اسم- الفوم- وقال الكسائي وجماعة: هو الثوم، وقد أبدلت- ثاؤه فاء- كما في- جدث وجدف- وهو بالبصل والعدس أوفق- وبه قرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه- ونفس شيخنا- عليه الرحمة- إليه تميل، والقول بأنه الخبز يبعده الإنبات من الْأَرْضُ وذكره مع البقل وغيره وما في المعالم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن- الفوم- الخبز يمكن توجيهه بأن معناه أنه يقال عليه، ووجه ترتيب النظم أنه ذكر أولا ما هو جامع للحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة- وهو البقل- إذ منه ما هو بارد رطب- كالهندبا- ومنه ما هو حار يابس- كالكرفس والسذاب- ومنه ما هو حار وفيه رطوبة، كالنعناع «وثانيا» ما هو بارد رطب- وهو القثاء- «وثالثا» ما هو حار يابس- وهو الثوم- «ورابعا» ما هو بارد يابس- وهو العدس- «وخامسا» ما هو حار رطب- وهو البصل- وإذا طبخ صار باردا رطبا عند بعضهم، أو يقال: إنه ذكر أولا ما يؤكل من غير علاج نار، وذكر بعده ما يعالج به مع ما ينبغي فيه ذلك ويقبله. قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ استئناف وقع جوابا عن سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال لهم؟ فقيل قال: أَتَسْتَبْدِلُونَ إلخ، والقائل إما الله تعالى على لسان موسى عليه السلام، ويرجحه كون المقام مقام تعداد النعم، أو موسى نفسه- وهو الأنسب بسياق النظم- والاستفهام للإنكار، والاستبدال الاعتياض. «فإن قلت» كونهم لا يصبرون عَلى طَعامٍ واحِدٍ افهم طلب ضم ذلك إليه- لا استبداله به- أجيب بأن قولهم: لَنْ نَصْبِرَ يدل على كراهتهم ذلك الطعام، وعدم الشكر على النعمة دليل الزوال، فكأنهم طلبوا زوالها ومجيء غيرها، وقيل: إنهم طلبوا ذلك، وخطابهم بهذا إشارة إلى أنه تعالى إذا أعطاهم ما سألوا منع عنهم (المن والسلوى) فلا يجتمعان، وقيل: الاستبدال في المعدة- وهو كما ترى- وقرأ أبيّ- أتبدلون- وهو مجاز، لأن التبديل ليس لهم- إنما ذلك إلى الله تعالى- لكنهم لما كانوا يحصل التبديل بسؤالهم جعلوا مبدلين، وكان المعنى أتسألون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 تبديل الذي إلخ، والَّذِي مفعول تَسْتَبْدِلُونَ وهو الحاصل، والَّذِي دخلت عليه الباء هو الزائل، وهو أَدْنى صلة الَّذِي وهو هنا واجب الإثبات- عند البصريين- إذ لا طول، وأَدْنى إما من الدنو أو مقلوب من الدون، وهو على الثاني ظاهر، وعلى الأول مجاز استعير فيه الدنو بمعنى القرب المكاني للخسة كما استعير البعد للشرف، فقيل: بعيد المحل بعيد الهمة، ويحتمل أن يكون مهموزا من الدناءة، وأبدلت فيه- الهمزة ألفا- ويؤيده قراءة زهير والكسائي «أدنأ» بالهمزة، وأريد بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ الْمَنَّ وَالسَّلْوى ومعنى خيرية هذا المأكول بالنسبة إلى ذلك غلاء قيمته وطيب لذته، والنفع الجليل في تناوله، وعدم الكلفة في تحصيله، وخلوه عن الشبهة في حله اهْبِطُوا مِصْراً جملة محكية بالقول كالأولى، وإنما لم يعطف إحداهما على الأخرى في المحكي لأن الأولى خبر معنى، وهذه ليست كذلك، ولكونها كالمبينة لها فإن الإهباط طريق الاستبدال، هذا إذا جعل الجملتان من كلام الله تعالى أو كلام موسى، وإن جعل إحداهما من موسى والأخرى من الله تعالى، فوجه الفصل ظاهر، والوقف على خير كاف «على الأول» وتام «على الثاني» والهبوط يجوز أن يكون مكانيا بأن يكون التيه أرفع من المصر، وأن يكون رتبيا، وهو الأنسب بالمقام، وقرىء اهْبِطُوا بضم الهمزة والباء- والمصر- البلد العظيم وأصله الحد والحاجز بين الشيئين، قال: وجاعل الشمس (مصرا) لا خفاء به ... بين النهار وبين الليل قد فصلا وإطلاقه على البلد لأنه ممصور أي محدود، وأخذه من مصرت الشاة أمصرها- إذا حلبت كل شيء في ضرعها- بعيد، وحكي عن أشهب أنه قال: قال لي مالك: هي مصر قرتيك مسكن فرعون- فهو إذا علم- وأسماء المواضع قد تعتبر من حيث المكانية فتذكر، وقد تعتبر من حيث الأرضية فتؤنث، فهو- إن جعل علما- فإما باعتبار كونه بلدة، فالصرف مع العلمية، والتأنيث لسكون الوسط، وإما باعتبار كونه- بلدا- فالصرف على بابه، إذ الفرعية الواحدة لا تكفي في منعه، ويؤيد ما قاله الإمام مالك رضي الله تعالى عنه أنه في مصحف ابن مسعود «مصر» بلا- ألف بعد الراء- ويبعده أن الظاهر من التنوين التنكير، وأن قوله تعالى: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ [المائدة: 21] يعني الشام التي كتب الله تعالى لكم للوجوب- كما يدل عليه عطف النهي- وذلك يقتضي المنع من دخول أرض أخرى، وأن يكون الأمر بالهبوط مقصورا على بلاد التيه- وهو ما بين بيت المقدس إلى قنسرين- ومن الناس من جعل مصر معرب- مصرائيم- كاسرائيل اسم لأحد أولاد نوح عليه السلام- وهو أول من اختطها- فسميت باسمه، وإنما جاز الصرف حينئذ لعدم الاعتداد بالعجمة لوجود التعريب والتصرف فيه فافهم وتدبر فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ تعليل للأمر بالهبوط، وفي البحر أنها جواب للأمر- وكما يجاب بالفعل يجاب بالجملة- وفي ذلك محذوفان ما يربط الجملة بما قبلها، والضمير العائد على ما والتقدير، فإن لكم فيها ما سألتموه، والتعبير عن الأشياء المسئولة ب ما للاستهجان بذكرها، وقرأ النخعي ويحيى سَأَلْتُمْ بكسر السين. وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ أي جعل ذلك محيطا بهم إحاطة القبة بمن ضربت عليه، أو ألصق بهم من ضرب الطين على الحائط ففي الكلام استعارة بالكناية حيث شبه ذلك بالقبة أو بالطين، وضُرِبَتْ استعارة تبعية تحقيقية لمعنى الإحاطة والشمول أو اللزوم واللصوق بهم، وعلى الوجهين فالكلام كناية عن كونهم أذلاء متصاغرين، وذلك بما ضرب عليهم من الجزية التي يؤدونها عن يد وهم صاغرون، وبما ألزموه من إظهار الزي ليعلم أنهم يهود ولا يلتبسوا بالمسلمين وبما طبعوا عليه من فقر النفس وشحها فلا ترى ملة من الملل أحرص منهم، وبما تعودوا عليه من إظهار سوء الحال مخافة أن تضاعف عليهم الجزية إلى غير ذلك مما تراه في اليهود اليوم، وهذا الضرب مجازاة لهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 على كفران تلك النعمة، وبهذا ارتبطت الآية بما قبلها، وإنما أورد ضمير الغائب للإشارة إلى أن ذلك راجع إلى جميع اليهود، وشامل للمخاطبين، بقوله تعالى: فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ ولمن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة فليس من قبيل الالتفات على ما وهم وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ أي نزلوا وتمكنوا بما حل بهم من البلاء والنقم في الدنيا، أو بما تحقق لهم من العذاب في العقبى أو بما كتب عليهم من المكاره فيهما- أو رجعوا بغضب- أي صار عليهم، ولذا لم يحتج إلى اعتبار المرجوع إليه، أو صاروا أحقاء به، أو استحقوا العذاب بسببه- وهو بعيد- وأصل- البواء- بالفتح والضم مساواة الأجزاء ثم استعمل في كل مساواة فيقال: هو بواء فلان أي كفؤه، ومنه بؤ- لشسع نعل كليب- وحديث «فليتبوأ مقعده من النار» وفي وصف الغضب بكونه من الله تعالى تعظيم لشأنه بعد تعظيم وتفخيم بعد تفخيم ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ أشار بذلك إلى ما سبق من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب العظيم، وإنما بعّده لبعد بعضه حتى لو كان إشارة إلى البوء لم يكن على لفظ البعيد، أو للإشارة إلى أنهم أدركتهم هذه الأمور مع بعدهم عنها لكونهم أهل الكتاب. أو للإيماء إلى بعدها في الفظاعة، والباء للسببية وهي داخلة على المصدر المؤول ولم يعبر به، وعبر بما عبر تنبيها على تجدد الكفر والقتل منهم حينا بعد حين واستمرارهم عليهما فيما مضى، أو لاستحضار قبيح صنعهم و «الآيات» إما المعجزات مطلقا أو التسع التي أتى بها موسى عليه السلام أو ما جاء به من التسع وغيرها، أو آيات الكتب المتلوة مطلقا، أو التوراة أو آيات منها كالآيات التي فيها صفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. أو التي فيها الرجم أو القرآن، وفي إضافة الآيات إلى اسمه تعالى زيادة تشنيع عليهم، وبدأ سبحانه بكفرهم بآياته لأنه أعظم كل عظيم، وأردفه بقتلهم النبيين لأنه كالمنشأ له، وأتى بالنبيين الظاهر في القلة دون الأنبياء الظاهر في الكثرة إذ الفرق بين الجمعين إذا كانا نكرتين وأما إذا دخلت عليهما (أل) فيتساويان- كما في البحر- فلا يرد أنهم قتلوا ثلاثمائة نبي في أول النهار، وأقاموا سوقهم في آخره، وقيد القتل بغير الحق مع أن قتل الأنبياء لا يكون إلا كذلك للإيذان بأن ذلك بغير الحق عندهم إذ لم يكن أحد معتقدا حقية قتل أحد منهم عليهم السلام، وإنما حملهم عليه حب الدنيا، واتباع الهوى، والغلو في العصيان، والاعتداء فاللام في الحق على هذا للعهد، وقيل: الأظهر أنها للجنس، والمراد بغير حق أصلا إذ لام الجنس المبهم كالنكرة، ويؤيده ما في آل عمران [21] (بغير حق) فيفيد أنه لم يكن حقا باعتقادهم أيضا ويمكن أن يكون فائدة التقييد إظهار معايب صنيعهم فإنه قتل النبي ثم جماعة منهم ثم كونه بغير الحق، وهذا أوفق بما هو الظاهر من كون المنهي القتل بغير الحق في نفس الأمر سواء كان حقا عند القاتل أو لا إلا أن الاقتصار على القتل بغير الحق عندهم أنسب للتعريض بما هم فيه على ما قيل، والقول: بأنه يمكن أن يقال- لو لم يقيد بغير الحق لأفاد أن من خواص النبوة أنه لو قتل أحدا بغير حق لا يقتص، ففائدة التقييد أن يكون النظم مفيدا لما هو الحكم الشرعي- بعيد كما لا يخفى، قال بعض المتأخرين: هذا كله إذا كان الغير بمعنى النفي- أي بلا حق، أما إذا كان بمعناه- أي بسبب أمر مغاير للحق أي الباطل- فالتقييد مفيد لأن قتلهم النبيين بسبب الباطل وحمايته، وقريب من هذا ما قاله القفال: من أنهم كانوا يقولون: إنهم كاذبون وإن معجزاتهم تمويهات ويقتلونهم بهذا السبب وبأنهم يريدون إبطال ما هم عليه من الحق بزعمهم، ولعل ذلك غالب أحوالهم وإلا فشعياء، ويحيى، وزكريا عليهم السلام لم يقتلوا لذلك، وإنما قتل شعياء لأن ملكا من بني إسرائيل لما مات مرج أمر بني إسرائيل، وتنافسوا الملك، وقتل بعضهم بعضا فنهاهم عليه السلام فبغوا عليه وقتلوه، ويحيى عليه السلام إنما قتل لقصة تلك الامرأة لعنها الله تعالى، وكذلك زكريا لأنه لما قتل ابنه انطلق هاربا فأرسل الملك في طلبه غضبا لما حصل لامرأته من قتل ابنه فوجد في جوف شجرة ففلقوا الشجرة معه فلقتين طولا بمنشار، ثم الظاهر أن الجار والمجرور مما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 تنازع فيه الكفر، والقتل، وفي البحر أنه متعلق بما عنده، وزعم بعض الملحدين- أن بين هذه الآية- وما أشبهها، وقوله تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا [غافر: 51] تناقضا- وأجيب بأن المقتولين من الأنبياء والموعود بنصرهم الرسل ورد بأن قوله تعالى: أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ [البقرة: 87] إلى قوله سبحانه: فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ [البقرة: 87] يدل على أن المقتول رسل أيضا، وأجاب بعضهم بأن المراد النصرة بغلبة الحجة أو الأخذ بالثأر كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الله تعالى قدر أن يقتل بكل نبي سبعين ألفا، وبكل خليفة خمسا وثلاثين ألفا ولا يخفى ما فيه، فالأحسن أن المراد بالرسل المأمورون بالقتال- كما أجاب به المحققين- لأن أمرهم بالقتال وعدم عصمتهم لا يليق بحكمة العزيز الحكيم، وقرأ علي رضي الله تعالى عنه: يقتلون بالتشديد، والحسن في رواية عنه وتقتلون بالتاء فيكون ذلك من الالتفات، وقرأ نافع بهمز النبيين وكذا النبي، والنبوة، واستشكل بما روي أن رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم «يا نبيء الله بالهمز فقال لست بنبيء الله - يعني مهموزا- ولكن نبي الله» بغير همزة فأنكر عليه ذلك. ولهذا منع بعضهم من إطلاقه عليه عليه الصلاة والسلام على أنه استشكل أيضا جمع النبي على نبيين وهو فعيل بمعنى مفعول، وقد صرحوا بأنه لا يجمع جمع مذكر سالم. وأجيب عن الأول بأن أبا زيد حكى نبأت من الأرض إذا خرجت منها فمنع لوهم أن معناه يا طريد الله تعالى فنهاه عن ذلك لإيهامه، ولا يلزم من صحة استعمال الله تعالى له في حق نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم- الذي برأه من كل نقص- جوازه من البشر، وقيل إن النهي كان خاصا في صدر الإسلام حيث دسائس اليهود كانت فاشية وهذا كما نهى عن قول راعِنا إلى قول انْظُرْنا [البقرة: 104] وعن الثاني بأنه ليس بمتفق عليه إذ قيل: إنه بمعنى فاعل ولو سلم فقد خرج عن معناه الأصلي، ولم يلاحظ فيه هذا إذ يطلقه عليه من لا يعرف ذلك، فصح جمعه باعتبار المعنى الغالب عليه فتدبر. ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ إشارة إلى الكفر والقتل الواقعين سببا لما تقدم، وجازت الإشارة بالمفرد إلى متعدد للتأويل بالمذكور، ونحوه مما هو مفرد لفظا متعدد معنى، وقد يجري مثل ذلك في الضمير حملا عليه، والباء للسببية، وما بعدها سبب للسبب، والمعنى أن الذي حملهم على الكفر بآيات الله تعالى، وقتلهم الأنبياء إنما هو تقدم عصيانهم واعتدائهم ومجاوزتهم الحدود، والذنب يجر الذنب، وأكد الأول لأنه مظنة الاستبعاد بخلاف مطلق العصيان، وقيل: الباء بمعنى مع، وقيل: الإشارة بذلك إلى ما أشير إليه بالأول، وترك العاطف للدلالة على أن كل واحد منهما مستقل في استحقاق الضرب فكيف إذا اجتمعا وضعف هذا الوجه بأن التكرار خلاف الأصل مع فوات معنى لطيف حصل بالأول وسابقه بأنه لا يظهر حينئذ- لإيراد كلمة ذلك- فائدة إذ الظاهر بِما عَصَوْا إلخ ويفوت أيضا ما يفوت، وحظ العارف من هذه الآيات الاعتبار بحال هؤلاء الذين لم يرضوا بالقضاء ولم يشكروا على النعماء ولم يصبروا على البلواء كيف ضرب عليهم ذل الطغيان قبل وجود الأكوان، وقهرهم بلطمة المسكنة في بيداء الخذلان وألبس قلوبهم حب الدنيا وأهبطهم من الدرجة العليا. «ومن باب الإشارة» الطعام الواحد هو الغذاء الروحاني من الحكمة والمعرفة، وما تنبته الأرض هو الشهوات الخبيثة واللذات الخسيسة والتفكهات الباردة الناشئة من أرض النفوس المبتذلة في مصر البدن الموجبة للذلة لمن ذاقها والمسكنة لمن لاكها والهلاك لمن ابتلعها، وسبب طلب ذلك الاحتجاب عن آيات الله تعالى وتجلياته وتسويد القلوب بدرن الذنوب وقطع وريدها بقطع واردها، والذي يجر إلى هذا الغفلة عن المحبوب، والاعتياض بالاغيار عن ذلك المطلوب نسأل الله تعالى لنا ولكم العافية إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا لما انجر الكلام إلى ذكر وعيد أهل الكتاب قرن به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 ما يتضمن الوعد جريا على عادته سبحانه من ذكر الترغيب والترهيب وبهذا يتضح وجه توسيط هذه الآية وما قبلها بين تعداد النعم، وفي المراد ب الَّذِينَ آمَنُوا هنا أقوال، والمروي عن سفيان الثوري أنهم المؤمنون بألسنتهم، وهم المنافقون بدليل انتظامهم في سلك الكفرة والتعبير عنهم بذلك دون عنوان النفاق للتصريح بأن تلك المرتبة وإن عبر عنها بالإيمان لا تجديهم نفعا ولا تنقذهم من ورطة الكفر قطعا، وعن السدي أنهم الحنيفيون ممن لم يلحق الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم- كزيد بن عمرو بن نفيل وقس بن ساعدة وورقة بن نوفل- ومن لحقه- كأبي ذر وبحيرى- ووفد النجاشي الذين كانوا ينتظرون البعثة، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم المؤمنون بعيسى قبل أن يبعث الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وروى السدي عن أشياخه أنهم المؤمنون بموسى إلى أن جاء عيسى عليهما السلام فآمنوا به، وقيل: إنهم أصحاب سلمان الذين قصّ حديثهم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له: «هم في النار» فأظلمت الأرض عليه كما روى مجاهد عنه فنزلت عند ذلك الآية إلى يَحْزَنُونَ قال سلمان: فكأنما كشف عني جبل، وقيل: إنهم المتدينون بدين محمد صلى الله تعالى عليه وسلم مخلصين أو منافقين- واختاره القاضي- وكأن سبب الاختلاف قوله تعالى فيما بعد: مَنْ آمَنَ إلخ فإن ذلك يقتضي أن يكون المراد من أحدهما غير المراد من الآخر وأقل الأقوال مؤنة أولها وَالَّذِينَ هادُوا أي تهودوا يقال هاد وتهود إذا دخل في اليهودية، ويهود- إما عربي من هاد إذا تاب سموا بذلك لما تابوا من عبادة العجل، ووجه التخصيص كون توبتهم أشق الأعمال كما مر، وإما معرب يهوذا بذال معجمة وألف مقصورة كأنهم سموا بأكبر أولاد يعقوب عليه السلام، وقرىء هادُوا بفتح الدال أي مال بعضهم إلى بعض وَالنَّصارى جمع نصران بمعنى نصراني، وورد ذلك في كلام العرب وإن أنكره البعض كقوله: تراه إذا دار العشيّ محنفا ... ويضحى لديه وهو (نصران) شامس ويقال في المؤنث نصران كندمان وندمانة قاله سيبويه- وأنشد. كما سجدت نصرانة لم تحنف. والياء في نصراني عنده للمبالغة كما يقال للأحمر أحمري إشارة إلى أنه عريق في وصفه، وقيل: إنها للفرق بين الواحد والجمع كزنج وزنجي، وروم ورومي، وقيل: النصارى جمع نصري كمهري ومهارى حذفت إحدى ياءيه وقلبت الكسرة فتحة للتخفيف فقلبت الياء ألفا. وإلى ذلك ذهب الخليل، وهو اسم لاصحاب عيسى عليه السلام، وسموا بذلك لأنهم نصروه، أو لنصر بعضهم لبعض، وقيل: إن عيسى عليه السلام ولد في بيت لحم بالقدس ثم سارت به أمه إلى مصر ولما بلغ اثنتي عشرة سنة عادت به إلى الشام وأقامت بقرية ناصرة، وقيل: نصرايا، وقيل: نصري، وقيل: نصرانة، وقيل: نصران- وعليه الجوهري- فسمي من معه باسمها، أو أخذ لهم اسم منها وَالصَّابِئِينَ هم قوم مدار مذهبهم على التعصب للروحانيين واتخاذهم وسائط ولما لم يتيسر لهم التقرب إليها بأعيانها والتلقي منها بذواتها فرعت جماعة منهم إلى هياكلها، فصابئة الروم مفزعها السيارات، وصابئة الهند مفزعها الثوابت، وجماعة نزلوا عن الهياكل إلى الأشخاص التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عن أحد شيئا. فالفرقة الأولى هم عبدة الكواكب، والثانية هم عبدة الأصنام وكل من هاتين الفرقتين أصناف شتى مختلفون في الاعتقادات والتعبدات، والإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يقول: إنهم ليسوا بعبدة أوثان وإنما يعظمون النجوم كما تعظم الكعبة، وقيل: هم قوم موحدون يعتقدون تأثير النجوم ويقرون ببعض الأنبياء كيحيى عليه السلام، وقيل: إنهم يقرون بالله تعالى ويقرؤون الزبور ويعبدون الملائكة ويصلون إلى الكعبة، وقيل: إلى مهب الجنوب، وقد أخذوا من كل دين شيئا، وفي جواز مناكحتهم وأكل ذبائحهم كلام للفقهاء يطلب في محله، واختلف في اللفظ فقيل غير عربي، وقيل عربي من صبأ- بالهمز- إذا خرج أو من صبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 معتلا بمعنى مال لخروجهم عن الدين الحق وميلهم إلى الباطل، وقرأ نافع وحده بالياء وذلك إما على الأصل أو الإبدال للتخفيف. مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً أي أحدث من هذه الطوائف إيمانا بالله تعالى وصفاته وأفعاله والنبوات، وبالنشأة الثانية على الوجه اللائق، وأتى- بعمل صالح- حسبما يقتضيه الإيمان بما ذكر، وهذا مبني على أول الأقوال، والقائلون بآخرها منهم من فسر الآية بمن اتصف من أولئك بالإيمان الخالص بالمبدأ والمعاد على الإطلاق سواء كان ذلك بطريق الثبات، والدوام عليه كإيمان المخلصين، أو بطريق إحداثه، وإنشائه كإيمان من عداهم من المنافقين، وسائر الطوائف، وفائدة التعميم للمخلصين مزيد ترغيب الباقين في الإيمان ببيان أن تأخرهم في الاتصاف به غير مخل بكونهم أسوة لأولئك الأقدمين، ومنهم من فسرها بمن كان منهم في دينه قبل أن ينسخ مصدقا بقلبه بالمبدأ والمعاد عاملا بمقتضى شرعه، فيعم الحكم المخلصين من أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، والمنافقين الذين تابوا، واليهود والنصارى الذين ماتوا قبل التحريف والنسخ وَالصَّابِئِينَ الذين ماتوا زمن استقامة أمرهم إن قيل: إن لهم دينا، وكذا يعم اليهود والصائبين الذين آمنوا بعيسى عليه السلام وماتوا في زمنه، وكذا من آمن من هؤلاء الفرق بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم. وفائدة ذكر الَّذِينَ آمَنُوا على هذا مع أن الوعيد السابق كان في اليهود لتسكين حمية اليهود بتسوية المؤمنين بهم في أن كون كل في دينه «قبل النسخ» يوجب الأجر «وبعده» يوجب الحرمان، كما أن ذكر الصَّابِئِينَ للتنبيه على أنهم مع كونهم أبين المذكورين ضلالا يتاب عليهم إذا صح منهم الإيمان والعمل الصالح، فغيرهم بالطريق الأولى وانفهام قبل النسخ من وَعَمِلَ صالِحاً إذ لا صلاح في العمل بعده، وهذا هو الموافق لسبب النزول لا سيما على رواية أن سلمان رضي الله تعالى عنه ذكر للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم حسن حال الرهبان الذين صحبهم، فقال: «ماتوا وهم في النار» فأنزل الله تعالى هذه الآية، فقال عليه الصلاة والسلام: «من مات على دين عيسى عليه السلام قبل أن يسمع بي فهو على خير، ومن سمع ولم يؤمن بي فقد هلك» . والمناسب لعموم اللفظ وعدم صرفه إلى تخصيص الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى بالكفرة منهم وتخصيص مَنْ آمَنَ إلخ بالدخول في ملة الإسلام، إلا أنه يرد عليه أنه مستلزم أن يكون للصابئين دين، وقد ذكر غير واحد أنه ليس لهم دين تجوز رعايته في وقت من الأوقات «ففي الملل والنحل» أن الصورة في مقابلة الحنيفية، ولميل هؤلاء عن سنن الحق وزيغهم عن نهج الأنبياء قيل لهم: الصابئة، ولو سلم أنه كان لهم دين سماوي ثم خرجوا عنه، فمن مضى من أهل ذلك الدين قبل خروجهم منه ليسوا من الصَّابِئِينَ فكيف يمكن إرجاع الضمير الرابط بين اسم إِنَّ وخبرها إليهم- على القول المشهور- وارتكاب إرجاعه إلى المجموع من حيث هو مجموع قصدا إلى إدراج الفريق المذكور فيهم ضرورة أن من كان من أهل الكتاب عاملا بمقتضى شرعه قبل نسخه من مجموع أولئك الطوائف بحكم اشتماله على اليهود والنصارى وإن لم يكن من الصَّابِئِينَ مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عنه؟! على أن فيه بعد ما لا يخفى فتدبر. ومَنْ مبتدأ، وجوزوا فيها أن تكون موصولة والخبر جملة قوله تعالى: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ودخلت- الفاء- لتضمن المبتدأ معنى الشرط كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا [البروج: 10] الآية، وأن تكون شرطية- وفي خبرها خلاف- هل الشرط، أو الجزاء، أو هما؟ وجملة مَنْ آمَنَ إلخ خبر إِنَّ فإن كانت مَنْ موصولة- وهو الشائع هنا- احتيج إلى تقدير- منهم- عائدا، وإن كانت شرطية لم يحتج إلى تقديره- إذ العموم يغني عنه- كأنه قيل: هؤلاء وغيرهم إذا آمنوا فَلَهُمْ إلخ على ما قالوا في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف: 30] وجوز بعضهم أن تكون مَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 بدلا من اسم إِنَّ وخبرها فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ واختار أبو حيان أنها بدل من المعاطيف التي بعد اسم إِنَّ فيصح إذ ذاك المعنى، وكأنه قيل: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا من غير الأصناف الثلاثة، ومن آمن من الأصناف الثلاثة فَلَهُمْ إلخ. وقد حملت الضمائر الثلاثة باعتبار معنى الموصول، كما أن إفراد ما في الصلة باعتبار لفظه، وفي البحر إن هذين الحملين لا يتمان إلا بإعراب مَنْ مبتدأ، وأما على إعرابها بدلا فليس فيها إلا حمل على اللفظ فقط فافهم. ثم المراد من- الأجر- الثواب الذي وعدوه على الإيمان والعمل الصالح، فإضافته إليهم واختصاصه بهم بمجرد الوعد لا بالاستيجاب- كما زعمه الزمخشري رعاية للاعتزال- لكن تسميته- أجرا- لعدم التخلف، ويؤيد ذلك قوله تعالى: عِنْدَ رَبِّهِمْ المشير إلى أنه لا يضيع لأنه عند لطيف حفيظ، وهو متعلق بما تعلق به فَلَهُمْ، ويحتمل أن يكون حالا من أَجْرُهُمْ. وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ عطف على جملة فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ وقد تقدم الكلام على مثلها في آخر قصة آدم عليه السلام فأغنى عن الإعادة هنا وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ تذكير بنعمة أخرى، لأنه سبحانه إنما فعل ذلك لمصلحتهم، والظاهر من الميثاق هنا العهد، ولم يقل: مواثيقكم، لأن ما أخذ على كل واحد منهم أخذ على غيره- فكان ميثاقا واحدا- ولعله كان بالانقياد لموسى عليه السلام، واختلف في أنه متى كان؟ فقيل: قبل رفع الطور، ثم لما نقضوه رفع فوقهم لظاهر قوله تعالى: وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ [النساء: 154] إلخ، وقيل: كان معه وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ- الواو- للعطف، وقيل: للحال، والطُّورَ قيل: جبل من الجبال، وهو سرياني معرب، وقيل: الجبل المعين. وعن أبي حاتم عن ابن عباس أن موسى عليه السلام لما جاءهم بالتوراة وما فيها من التكاليف الشاقة كبرت عليهم وأبوا قبولها فأمر جبريل بقلع الطور فظلله فوقهم حتى قبلوا، وكان على قدر عسكرهم- فرسخا في فرسخ- ورفع فوقهم قدر قامة الرجل، واستشكل بأن هذا يجري مجرى الإلجاء إلى الإيمان فينافي التكليف، وأجاب الإمام بأنه لا إلجاء لأن الأكثر فيه خوف السقوط عليهم، فإذا استمر في مكانه مدة- وقد شاهدوا السماوات مرفوعة بلا عماد- جاز أن يزول عنهم الخوف فيزول الإلجاء ويبقى التكليف، وقال العلامة: كأنه حصل لهم بعد هذا الإلجاء قبول اختياري، أو كان يكفي في الأمم السالفة مثل هذا الإيمان- وفيه كما قال الساليكوتي- إن الكلام في أنه كيف يصح التكليف ب خُذُوا إلخ مع القسر، وقد تقرر أن مبناه على الاختيار- فالحق أنه إكراه- لأنه حمل الغير على أن يفعل ما لا يرضاه ولا يختاره- لو خلي ونفسه- فيكون معدما للرضا لا للاختيار إذ الفعل يصدر باختياره كما فصل في الأصول، وهذا كالمحاربة مع الكفار، وأما قوله: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [البقرة: 256] وقوله سبحانه: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس: 99] فقد كان قبل الأمر بالقتال ثم نسخ به خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ هو على إضمار القول أي قلنا أو قائلين خُذُوا وقال بعض الكوفيين. لا يحتاج إلى إضماره لأن أخذ الميثاق قول، والمعنى وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ بأن تأخذوا ما آتيناكم.- وليس بشيء- والمراد هنا- بالقوة- الجد والاجتهاد- كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ويؤول إلى عدم التكاسل والتغافل، فحينئذ لا تصلح الآية دليلا لمن ادعى أن الاستطاعة قبل الفعل إذ لا يقال: خذ هذا بقوة، إلا والقوة حاصلة فيه لأن القوة بهذا المعنى لا تنكر صحة تقدمها على الفعل وَاذْكُرُوا ما فِيهِ أي ادرسوه واحفظوه ولا تنسوه، أو تدبروا معناه، أو اعملوا بما فيه من الأحكام، فالذكر يحتمل أن يراد به الذكر اللساني والقلبي والأعم منهما وما يكون كاللازم لهما، والمقصود منهما أعني العمل لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ قد تقدم الكلام على الترجي في كلامه تعالى، وقد ذكر هاهنا أن كلمة- لعل- متعلقة- بخذوا، واذكروا- إما مجاز يؤول معناه بعد الاستعارة إلى تعليل ذي الغاية بغايته أو حقيقة لرجاء المخاطب، والمعنى خُذُوا واذكروا راجين أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 تكونوا متقين ويرجح المعنى المجازي أنه لا معنى لرجائهم فيما يشق عليهم أعني التقوى، اللهم إلا باعتبار تكلف أنهم سمعوا مناقب المتقين ودرجاتهم فلذا كانوا راجين للانخراط في سلكهم، وجوز المعتزلة كونها متعلقة- بقلنا- المقدر وأولوا الترجي بالإرادة أي (قلنا) واذكروا- إرادة أن تتقوا، وهو مبني على أصلهم الفاسد من أن إرادة الله تعالى لأفعال العباد غير موجبة للصدور لكونها عبارة عن العلم بالمصلحة، وجوز العلامة تعلقها إذا أول الترجي بالإرادة- بخذوا- أيضا على أن يكون قيدا للطلب لا للمطلوب، وجوز الشهاب أن يتعلق بالقول على تأويله بالطلب والتخلف فيه جائز، وفيه أن القول المذكور وهو خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بعينه طلب التقوى فلا يصح أن يقال- خذوا ما آتيناكم- طالبا منكم التقوى إلا بنوع تكلف فافهم ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي أعرضتم عن الوفاء بالميثاق بعد أخذه وخالفتم، وأصل التولي الإعراض المحسوس ثم استعمل في الإعراض المعنوي كعدم القبول، ويفهم من الآية أنهم امتثلوا الأمر ثم تركوه. فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ الفضل التوفيق للتوبة والرحمة قبولها، أو الفضل والرحمة بعثة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإدراكهم لمدته، فالخطاب على الأول جار على سنن الخطابات السابقة مجازا باعتبار الإسلاف وعلى الثاني جار على الحقيقة، والخسران ذهاب رأس المال أو نقصه، والمراد لكنتم مغبونين هالكين بالانهماك في المعاصي، أو بالخبط في مهاوي الضلال عند الفترة، وكلمة- لولا- إما بسيطة أو مركبة من لو الامتناعية وتقدم الكلام عليها، وحرف النفي- والاسم الواقع بعدها عند سيبويه- مبتدأ خبره محذوف وجوبا لدلالة الحال عليه وسد الجواب مسده، والتقدير- ولولا فضل الله ورحمته- حاصلان، ولا يجوز أن يكون الجواب خبرا لكونه في الأغلب خاليا عن العائد إلى المبتدأ، وعند الكوفيين فاعل فعل محذوف أي لولا ثبت فضل الله تعالى إلخ، ولَكُنْتُمْ جواب- لولا- ويكثر دخول اللام على الجواب إذا كان موجبا، وقيل: إنه لازم إلا في الضرورة كقوله: لولا الحياء ولولا الدين (عبتكما) ... ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري وجاء في كلامهم بعد اللام قد، كقوله: لولا الأمير ولولا خوف طاعته ... (لقد) شربت وما أحلى من العسل وقد جاء أيضا حذف اللام وإبقاء قد نحو- لولا زيد قد أكرمتك- ولم يجىء في القرآن مثبتا إلا باللام إلا فيما زعم بعضهم أن قوله تعالى: وَهَمَّ بِها [يوسف: 24] جواب لولا قدم عليها هذا (من باب الإشارة والتأويل في الآية) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ المأخوذ بدلائل العقل بتوحيد الأفعال- والصفات ورفعنا فوقكم طور- الدماغ للتمكن من فهم المعاني وقبولها، أو أشار سبحانه- بالطور- إلى موسى القلب، وبرفعه إلى علوه واستيلائه في جو الإرشاد وقلنا خُذُوا أي اقبلوا ما آتَيْناكُمْ من كتاب العقل الفرقاني بجد، وعوا ما فيه من الحكم والمعارف والعلوم والشرائع لكي تتقوا الشرك والجهل والفسق ثم أعرضتم بإقبالكم إلى الجهة السفلية بعد ذلك فلولا حكمة الله تعالى بإمهاله وحكمه بإفضاله لعاجلتكم العقوبة ولحل بكم عظيم المصيبة إلى الله يدعى بالبراهين من أبى ... فإن لم يجب بادته بيض الصوارم وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ اللام واقعة في جواب قسم مقدر، وعلم- هنا كعرف فلذلك تعدت إلى واحد، وظاهر هذا أنهم علموا أعيان المعتدين، وقدر بعضهم مضافا أي اعتداء الذين، وقيل: أحكامهم، ومِنْكُمْ في موضع الحال، والسَّبْتِ اسم لليوم المعروف وهو مأخوذ من السبت الذي هو القطع لأنه سبت فيه خلق كل شيء وعمله، وقيل: من السبوت وهو الراحة والدعة. والمراد به هنا اليوم، والكلام على حذف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 مضاف أي في حكم السبت لأن الاعتداء والتجاوز لم يقع في اليوم بل وقع في حكمه بناء على ما حكي أن موسى عليه السلام أراد أن يجعل يوما خالصا للطاعة وهو يوم الجمعة فخالفوه وقالوا: نجعله يوم السبت لأن الله تعالى لم يخلق فيه شيئا فأوحى الله تعالى إليه أن دعهم وما اختاروا ثم امتحنهم فيه فأمرهم بترك العمل وحرم عليهم فيه صيد الحيتان فلما كان زمن داود عليه السلام- اعتدوا- وذلك أنهم كانوا يسكنون قرية على الساحل يقال لها أيلة. وإذا كان يوم السبت لم يبق حوت في البحر إلا حظر هناك وأخرج خرطومه وإذا مضى تفرقت فحفروا حياضا وأشرعوا إليها الجداول وكانت الحيتان تدخلها يوم السبت بالموج فلا تقدر على الخروج لبعد العمق وقلة الماء فيصطادونها يوم الأحد، وروي أنهم فعلوا ذلك زمانا فلم ينزل عليهم عقوبة فاستبشروا وقالوا: قد أحل لنا العمل في السبت فاصطادوا فيه علانية وباعوا في الأسواق، وعلى هذا يصح جعل اليوم ظرفا للاعتداء، ولا يحتاج إلى تقدير مضاف، وقيل: المراد بالسبت هنا مصدر سبتت اليهود إذا عظمت يوم السبت وليس بمعنى اليوم فحينئذ لا حاجة إلى تقدير مضاف إذ يؤول المعنى إلى أنهم اعتدوا في التعظيم وهتكوا الحرمة الواجبة عليهم. وقد ذكر بعضهم أن تسمية العرب للأيام بهذه الأسماء المشهورة حدثت بعد عيسى عليه السلام وأن أسماءها قبل غير ذلك وهي التي في قوله: أؤمل أن أعيش وأن يومي ... بأول أو بأهون أو جبار أو التالي دبار فإن أفته ... فمونس أو عروبة أو شبار واستدل بهذه الآية على تحريم الحيل في الأمور التي لم تشرع كالربا- وإلى ذلك ذهب الإمام مالك- فلا تجوز عنده بحال قال الكواشي: وجوزها أكثرهم ما لم يكن فيها إبطال حق أو إحقاق باطل، وأجابوا عن التمسك بالآية فإنها ليست حيلة وإنما هي عين المنهي عنه لأنهم إنما نهوا عن أخذها ولا يخفى ما في هذا الجواب، وتحقيقه في كتب الفقه فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ القردة جمع قرد وهو معروف ويجمع فعل الاسم قياسا على فعول، وقليلا على فعلة، والخسو- الصغار والذلة ويكون متعديا ولازما. ومنه قولهم للكلب: اخسأ وقيل: الخسوء والخساء مصدر خسأ الكلب بعد، وبعضهم ذكر الطرد عند تفسير الخسوء كالإبعاد، فقيل: هو لاستيفاء معناه لا لبيان المراد، وإلا لكان الخاسئ بمعنى الطارد، والتحقيق أنه معتبر في المفهوم إلا أنه بالمعنى المبني للمفعول، وكذلك الإبعاد فالخاسئ الصاغر المبعد المطرود، وظاهر القرآن أنهم مسخوا قردة على الحقيقة، وعلى ذلك جمهور المفسرين- وهو الصحيح- وذكر غير واحد منهم أنهم بعد أن مسخوا لم يأكلوا ولم يشربوا ولم يتناسلوا ولم يعيشوا أكثر من ثلاثة أيام، وزعم مقاتل أنهم عاشوا سبعة أيام وماتوا في اليوم الثامن، واختار أبو بكر بن العربي أنهم عاشوا- وأن القردة الموجودين اليوم من نسلهم- ويرده ما رواه مسلم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال لمن سأله عن القردة والخنازير: أهي مما مسخ؟ «إن الله تعالى لم يهلك قوما أو يعذب قوما فيجعل لهم نسلا وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك» وروى ابن جرير عن مجاهد «أنه ما مسخت صورهم ولكن مسخت قلوبهم فلا تقبل وعظا ولا تعي زجرا» فيكون المقصود من الآية تشبيههم بالقردة كقوله: إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فكن (حجرا) من يابس الصخر جلمدا وكُونُوا «على الأول» ليس بأمر حقيقة، لأن صيرورتهم إلى ما ذكر ليس فيه تكسب لهم لأنهم ليسوا قادرين على قلب أعيانهم، بل المراد منه سرعة التكوين وأنهم صاروا كذلك كما أراد من غير امتناع ولا لبث. «وعلى الثاني» يكون الأمر مجازا عن التخلية والترك والخذلان- كما في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «اصنع ما شئت» وقد قرره العلامة في تفسير قوله تعالى: لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا [العنكبوت: 66] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 والمنصوبان خبران للفعل الناقص، ويجوز أن يكون خاسِئِينَ حالا من الاسم، ويجوز أن يكون صفة ل قِرَدَةً والمراد وصفهم بالصغار عند الله تعالى دفعا لتوهم أن يجعل مسخهم وتعجيل عذابهم في الدنيا لدفع ذنوبهم ورفع درجاتهم. واعترض أنه لو كان صفة لها لوجب أن يقول: خاسئة لامتناع الجمع- بالواو- والنون في غير ذوي العلم، وأجيب بأن ذلك على تشبيههم بالعقلاء كما في السَّاجِدِينَ أو باعتبار أنهم كانوا عقلاء، أو بأن المسخ إنما كان بتبدل الصورة فقط، وحقيقتهم سالمة على ما روي أن الواحد منهم كان يأتيه الشخص من أقاربه الذين نهوهم، فيقول له: ألم أنهك؟ فيقول: بلى ثم تسيل دموعه على خده- ولم يتعرض في الآية بمسخ شيء منهم خنازير- وروي عن قتادة أن الشباب صاروا قِرَدَةً والشيوخ صاروا- خنازير- وما نجا إلا الذين نهوا، وهلك سائرهم، وقرىء قِرَدَةً بفتح القاف وكسر الراء وخاسِئِينَ بغير همز فَجَعَلْناها نَكالًا أي كينونتهم وصيرورتهم قِرَدَةً أو المسخة، أو العقوبة، أو الآية المدلول عليها بقوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ وقيل: الضمير للقرية، وقيل: للحيتان- والنكال- واحد- الأنكال- وهي القيود- ونكل به- فعل به ما يعتبر به غيره، فيمتنع عن مثله لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها أي لمعاصريهم ومن خلفهم- وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وغيره- وروي عنه أيضا لِما بحضرتها من القرى- أي أهلها وما تباعد عنها- أو للآتين والماضين- وهو المختار عند جماعة- فكل من ظرفي المكان مستعار للزمان، و (ما) أقيمت مقام- من- إما تحقيرا لهم في مقام العظمة والكبرياء- أو لاعتبار الوصف- فإن ما يعبر بها عن العقلاء تعظيما- إذا أريد الوصف- كقوله: «سبحان ما سخر كن» وصحح كونها نَكالًا للماضين أنها ذكرت في زبر الأولين- فاعتبروا بها- وصحت- الفاء- لأن جعل ذلك نَكالًا للفريقين إنما يتحقق بعد القول والمسخ، أو لأن- الفاء- إنما تدل على ترتب جعل العقوبة نَكالًا على القول وتسببه عنه- سواء كان على نفسه أو على الإخبار به- فلا ينافي حصول الاعتبار قبل وقوع هذه الواقعة بسبب سماع هذه القصة، وقيل:- اللام- لام الأجل و (ما) على حقيقتها- والنكال- بمعنى العقوبة لا- العبرة- والمراد بما بَيْنَ يَدَيْها ما تقدم من سائر الذنوب قبل أخذ السمك، وب ما خَلْفَها ما بعدها، والقول بأن المراد جعلنا المسخ عقوبة لأجل ذنوبهم المتقدمة على المسخة والمتأخرة عنها يستدعي بقاءهم مكلفين بعد المسخ ولا يظهر ذلك إلا على قول مجاهد، وحمل الذنوب التي بعد المسخة- على السيئات الباقية آثارها- ليس بشيء كما لا يخفى، وقول أبي العالية- إن المراد ب لِما بَيْنَ يَدَيْها ما مضى من الذنوب، وب ما خَلْفَها من يأتي بعد، والمعنى فجعلناها عقوبة لما مضى من ذنوبهم، وعبرة لمن بعدهم- منحط من القول جدا لمزيد ما فيه من تفكيك النظم والتكلف وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ الموعظة ما يذكر مما يلين القلب- ثوابا كان أو عقابا- والمراد بالمتقين ما يعم كل متق من كل أمة- وإليه ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- وقيل: من أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وقيل: منهم، ويحتمل أنهم اتعظوا بذلك وخافوا عن ارتكاب خلاف ما أمروا به، ويحتمل أنهم وعظ بعضهم بعضا بهذه الواقعة، وحظ العارف من هذه القصة أن يعرف أن الله سبحانه وتعالى خلق الناس لعبادته وجعلهم بحيث لو أهملوا وتركوا وخلوا بينهم وبين طباعهم لتوغلوا وانهمكوا في اللذات الجسمانية والغواشي الظلمانية لضروراتهم لها واعتيادهم من الطفولية عليها والنفس كالطفل إن تهمله شب على ... حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم فوضع الله تعالى العبادات، وفرض عليهم تكرارها في الأوقات المعينة ليزول عنهم بها درن الطباع المتراكم في أوقات الغفلات وظلمة الشواغل العارضة في أزمنة ارتكاب الشهوات، وجعل يوما من أيام الأسبوع مخصوصا للاجتماع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 على العبادة وإزالة وحشة التفرقة ودفع ظلمة الاشتغال بالأمور الدنيوية، فوضع السَّبْتِ لليهود لأن عالم الحس الذي إليه دعوة اليهود هو آخر العوالم والسَّبْتِ آخر الأسبوع، والأحد للنصارى لأن عالم العقل الذي إليه دعوتهم أول العوالم، ويوم الأحد أول الأسبوع، والجمعة للمسلمين لأنه يوم الجمع،- والختم- فهو أوفق بهم وأليق بحالهم- فمن لم يراع هذه الأوضاع والمراقبات أصلا- زال نور استعداده، وطفىء مصباح فؤاده، ومسخ كما مسخ أصحاب السبت، ومن غلب عليه وصف من أوصاف الحيوانات ورسخ فيه بحيث أزال استعداده، وتمكن في طباعه، وصار صورة ذاتية له كالماء الذي منبعه معدن الكبريت مثلا أطلق عليه اسم ذلك الحيوان حتى كأن صار طباعه طباعه، ونفسه نفسه، فليجهد المرء على حفظ إنسانيته، وتدبير صحته بشراب الأدوية الشرعية والمعاجين الحكمية، وليحث نفسه بالمواعظ الوعدية والوعيدية هي النفس إن تهمل تلازم خساسة ... وإن تنبعث نحو الفضائل تلهج وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً بيان نوع من مساوئهم من غير تعديد النعم وصح العطف لأن ذكر النعم سابقا كان مشتملا على ذكر المساويء أيضا من المخالفة للأنبياء والتكذيب لهم وغير ذلك، وقد يقال: هو على نمط ما تقدم، لأن الذبح نعمة دنيوية لرفعة التشاجر بين الفريقين، وأخروية لكونه معجزة لموسى عليه السلام. وكأن مولانا الإمام الرازي خفي عليه ذلك فقال: إنه تعالى لما عدد وجوه إنعامه عليهم أولا ختم ذلك بشرح بعض ما وجه إليهم من التشديدات، وجعل النوع الثاني ما أشارت إليه هذه الآية- وليس بالبعيد. «وأول القصة» قوله تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها [البقرة: 72] إلخ، وكان الظاهر أن يقال- قال موسى إذ قتل قتيل تنوزع في قاتله- إن الله يأمر بذبح بقرة هي كذا وكذا، وأن يضرب ببعضها ذلك القتيل ويخبر بقاتله فيكون كيت وكيت إلا أنه فك بعضها وقدم لاستقلاله بنوع من مساوئهم التي قصد نعيها عليهم، وهو الاستهزاء بالأمر والاستقصاء في السؤال، وترك المصارعة إلى الامتثال، ولو أجرى على النظم لكانت قصة واحدة، ولذهبت تثنية التقريع، وقد وقع في النظم من فك التركيب والترتيب ما يضاهيه في بعض القصص، وهو من المقلوب المقبول لتضمنه نكتا وفوائد، وقيل: إنه يجوز أن يكون ترتيب نزولها على موسى عليه السلام على حسب تلاوتها بأن يأمرهم الله تعالى- بذبح البقرة- ثم يقع القتل فيؤمروا بضرب بعضها- لكن المشهور خلافه- والقصة أنه عمد اخوان من بني إسرائيل إلى ابن عم لهما- أخي أبيهما- فقتلاه ليرثا ماله وطرحاه على باب محلهم ثم جاءا يطلبان بدمه فأمر الله تعالى بذبح بقرة وضربه ببعضها ليحيا، ويخبر بقاتله، وقيل: كان القاتل أخا القتيل، وقيل: ابن أخيه ولا وارث له غيره فلما طال عليه عمره قتله ليرثه، وقيل: إنه كان- تحت رجل يقال له عاميل- بنت عم لا مثل لها في بني إسرائيل في الحسن والجمال فقتله ذو قرابة له لينكحها فكان ما كان، وقرأ الجمهور- يأمركم- بضم الراء، وعن أبي عمرو، السكون، والاختلاس- وإبدال الهمزة ألفا، و (أن) تذبحوا في موضع المفعول الثاني ليأمر، وهو على إسقاط حرف الجر- أي بأن تذبحوا قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً استئناف وقع جوابا عما ينساق إليه الكلام كأنه قيل: فماذا صنعوا هل سارعوا إلى الامتثال أم لا؟ فأجيب بذلك، والاتخاذ كالتصيير، والجعل يتعدى إلى مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر، وهُزُواً مفعوله الثاني ولكونه مصدرا لا يصلح أن يكون مفعولا ثانيا لأنه خبر المبتدأ في الحقيقة وهو اسم ذات هنا فيقدر مضاف- كمكان، أو أهل- أو يجعل بمعنى المهزوء به كقوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ [المائدة: 96] أي مصيده أو يجعل الذات نفس المعنى مبالغة كرجل عدل، وقد قالوا ذلك إما بعد أن أمرهم موسى عليه السلام بذبح بقرة دون ذكر الاحياء بضربها، وإما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 بعد أن أمرهم وذكر لهم استبعادا لما قاله واستخفافا به كما يدل عليه الاستفهام إذ المعنى أتسخر بنا فإن جوابك لا يطابق سؤالنا ولا يليق، وأين ما نحن فيه مما أنت آمر به، ولا يأبى ذلك انقيادهم له لأنه بعد العلم بأنه جد وعزيمة، ومن هنا قال بعضهم: إن إجابتهم نبيهم- حين أخبرهم عن أمر الله تعالى بأن يذبحوا بقرة بذلك دليل على سوء اعتقادهم بنبيهم وتكذيبهم له إذ لو علموا أن ذلك إخبار صحيح عن الله تعالى لما استفهموا هذا الاستفهام، ولا كانوا أجابوا هذا الجواب، فهم قد كفروا بموسى عليه السلام. ومن الناس من قال: كانوا مؤمنين مصدقين ولكن جرى هذا على نحو ما هم عليه من غلظ الطبع والجفاء والمعصية، والعذر لهم أنهم لما طلبوا من موسى عليه السلام تعيين القاتل فقال ما قال ورأوا ما بين السؤال والجواب توهموا أنه عليه السلام داعبهم، أو ظنوا أن ذلك يجري مجرى الاستهزاء، فأجابوا بما أجابوا، وقيل: استفهموا على سبيل الاسترشاد- لا على وجه الإنكار والعناد- وقرأ عاصم وابن محيصن «يتخذنا» - بالياء- على أن الضمير لله تعالى. وقرأ حمزة وإسماعيل عن نافع «هزأ» بالإسكان، وحفص عن عاصم- بالضم وقلب الهمزة واوا، والباقون- بالضم والهمزة- والكل لغات فيه. قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ أي من أن أعد في عدادهم، والجهل- كما قال الراغب- له معان، عدم العلم، واعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه، وفعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل- سواء اعتقد فيه اعتقادا صحيحا أو فاسدا- وهذا الأخير هو المراد هنا، وقد نفاه عليه السلام عن نفسه قصدا إلى نفي ملزومه الذي رمى به- وهو الاستهزاء على طريق الكناية- وأخرج ذلك في صورة الاستعارة استفظاعا له، إذ- الهزء- في مقام الإرشاد كاد يكون كفرا وما يجري مجراه، ووقوعه في مقام الاحتقار والتهكم مثل فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: 21- التوبة: 34- الانشقاق: 24] سائغ شائع- وفرق بين المقامين- وذكر بعضهم أن الاستعاذة بالله تعالى من ذلك من باب الأدب والتواضع معه سبحانه كما في قوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ [المؤمنون: 97] لأن الأنبياء معصومون عن مثل ذلك، والأول أولى- وهو المعروف من إيراد الاستعاذة في أثناء الكلام- والفرق بين- الهزء والمزح- ظاهر فلا ينافي وقوعه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أحيانا كما لا يخفى. قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ أي سل لأجلنا رَبُّكَ الذي عوّدك ما عوّدك- يظهر لَنا ما حالها وصفتها، فالسؤال في الحقيقة عن الصفة، لأن الماهية ومسمى الاسم معلومان- ولا ثالث لهما- لتستعمل ما فيه، أما إذا أريد بقرة معينة فظاهر لأنه استفسار لبيان المجمل- وإلا فلمكان التعجب- وتوهم أن مثل هذه البقرة لا تكون إلا معينة، والجواب «على الأول» بيان «وعلى الثاني» نسخ وتشديد، وهكذا الحال فيما سيأتي من السؤال والجواب. وكان مقتضى الظاهر «على الأول» أي لأنها للسؤال عن المميز وصفا كان أو ذاتيا. «وعلى الثاني» كيف؟ لأنها موضوعة للسؤال عن الحال، وما وإن سئل بها عن الوصف لكنه على سبيل الندور، وهو إما مجاز أو اشتراك- كما صرح به في المفتاح- والغالب السؤال بها عن الجنس، فإن أجريت هنا على الاستعمال الغالب نزل مجهول الصفة لكونه على صفة لم يوجد عليها جنسه- وهو إحياء الميت بضرب بعضه- منزلة مجهول الحقيقة فيكون سؤالا عن الجنس تنزيلا، وعن الصفة حقيقة. وإن أجريت على النادر لم يحتج إلى التنزيل المذكور، والقول إنه يمكن أن يجعل ما هِيَ على حذف مضاف- أي ما حالها؟ - فيكون سؤالا عن نوع حال تفرع عليه هذه الخاصية- على بعده- خال عن اللطافة اللائقة بشأن الكتاب العزيز. وما استفهامية خبر مقدم ل هِيَ والجملة في موضع نصب ب يُبَيِّنْ لأنه معلق عنها، وجاز فيه ذلك لشبهه بأفعال القلوب، والمعنى يُبَيِّنْ لَنا جواب هذا السؤال قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ الفارض اسم للمسنة التي انقطعت ولادتها من الكبر، والفعل- فرضت- بفتح الراء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 وضمها- ويقال لكل ما قدم وطال أمره فارِضٌ ومنه قوله: يا رب ذي ضغن على (فارض) ... له قروء كقروء الحائض وكأن المسنة سميت- فارضا- لأنها- فرضت- سنها أي قطعتها وبلغت آخرها، والبكر- اسم للصغيرة، وزاد بعضهم- التي لم تلد من الصغر- وقال ابن قتيبة: هي التي ولدت ولدا واحدا، والبكر من النساء التي لم يمسها الرجال، وقيل: (1) هي التي لم تحمل، والبكر من الأولاد الأول، ومن الحاجات الأولى- والبكر- بفتح الباء- الفتي من الإبل، والأنثى- بكرة- وأصله من التقدم في الزمان، ومنه- البكرة والباكورة- والاسمان صفة (بقرة) ولم يؤت- بالتاء- لأنهما اسمان لما ذكر، واعترضت لا بين الصفة والموصوف وكررت لوجوب تكريرها مع الخبر والنعت والحال إلا في الضرورة خلافا للمبرد وابن كيسان كقوله: قهرت العدا (لا مستعينا) بعصبة ... ولكن بأنواع الخدائع والمكر ومن جعل ذلك من الوصف بالجمل فقدر مبتدأ أي لا هي (فارض ولا بكر) فقد أبعد، إذ الأصل الوصف بالمفرد، والأصل أيضا أن لا حذف، وذكر يَقُولُ للإشارة إلى أنه من عند الله تعالى لا من عند نفسه. عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ أي متوسطة السن، وقيل: هي التي ولدت بطنا أو بطنين، وقيل: مرة بعد مرة ويجمع على فعل كقوله: طوال مثل أعناق الهوادي ... نواعم بين أبكار (وعون) ويجوز ضم عين الكلمة في الشعر، وفائدة هذا بعد لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ نفى أن تكون عجلا أو جنينا، وأراد من ذلك ما ذكر من الوصفين السابقين وبهذا صح الإفراد وإضافة بَيْنَ إليه فإنه لا يضاف إلا إلى متعدد وكون الكلام مما حذف منه المعطوف لدلالة المعنى عليه والتقدير عوان بين ذلك وهذا أي- الفارض والبكر- فيكون نظير قوله: فما كان بين الخير لو جاء سالما ... أبو حجر (إلا ليال) قلائل حيث أراد بين الخير وباعثه تكلف مستغنى عنه بما ذكر (2) . واختار السجاوندي أن المراد في وسط زمان الصلاح للعوان واعتداله تقول: سافرت إلى الروم وطفت بين ذلك، فالمشار إليه عوان وارتضاه بعض المحققين مدعيا أنه أولى لئلا يفوت معنى بين ذلك لأن أهل اللغة قالوا: بقرة عوان لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ وعلى الشائع ربما يحتاج الأمر إلى تجريدكما لا يخفى، ثم إن عود الضمائر المذكورة في السؤال والجواب وإجراء تلك الصفات على بقرة يدل على أن المراد بها معينة لأن الأول يدل على أن الكلام في البقرة المأمور بذبحها، والثاني يفيد أن المقصد تعيينها وإزالة إبهامها بتلك الصفات كما هو شأن الصفة لا أنها تكاليف متغايرة بخلاف ما إذا ذكر تلك الصفات بدون الإجراء، وقيل: إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ فإنه يحتمل أن يكون المقصود منه تبديل الحكم السابق، والقول:- بأنهم لما تعجبوا من بقرة ميتة يضرب ببعضها ميت فيحيا ظنوها معينة خارجة عما عليه الجنس فسألوا عن حالها وصفتها فوقعت الضمائر لمعينة باعتقادهم فعينت تشديدا عليهم وإن لم يكن المراد منها أول الأمر معينة- ليس بشيء لأنه حينئذ لم تكن الضمائر عائدة إلى ما أمروا بذبحها بل ما اعتقدوها، والظاهر خلافه واللازم على هذا تأخير البيان عن   (1) القائل ابن قتيبة اهـ منه. [ ..... ] (2) فيه لطاعة اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 وقت الخطاب وليس بممتنع والممتنع تأخيره عن وقت الحاجة إلا عند من (1) يجوز التكليف بالمحال وليس بلازم إذ لا دليل على أن الأمر هنا للفور حتى يتوهم ذلك ومن الناس من أنكروا ذلك وادعوا أن المراد بها بقرة من نوع البقر بلا تعيين وكان يحصل الامتثال لو ذبحوا أي بقرة كانت إلا أنها انقلبت مخصوصة بسؤالهم- وإليه ذهب جماعة من أهل التفسير- وتمسكوا بظاهر اللفظ فإنه مطلق فيترك على إطلاقه مع ما أخرجه ابن جرير بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما موقوفا لو ذبحوا أي بقرة أرادوا لأجزأتهم ولكن شددوا على أنفسهم فشدد الله تعالى عليهم، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه عن عكرمة مرفوعا مرسلا وبأنه لو كانت معينة لما عنفهم على التمادي وزجرهم عن المراجعة إلى السؤال، واللازم حينئذ النسخ قبل الفعل بناء على مذهب من يقول الزيادة على الكتاب نسخ كجماهير الحنفية القائلين بأن الأمر المطلق يتضمن التخيير وهو حكم شرعي والتقييد يرفعه وهو جائز بل واقع كما في حديث فرض الصلاة ليلة المعراج، والممتنع النسخ قبل التمكن من الاعتقاد بالاتفاق لأنه بداء وقبل التمكن من الفعل عند المعتزلة وليس بلازم- على ما قيل- على أنه قيل: يمكن أن يقال: ليس ذلك بنسخ لأن البقرة المطلقة متناولة للبقرة المخصوصة وذبح البقرة المخصوصة ذبح للبقرة مطلقا فهو امتثال للأمر الأولى فلا يكون نسخا واعترض على كون التخيير حكما شرعيا إلخ بالمنع مستندا بأن الأمر المطلق إنما يدل على إيجاب ماهية من حيث هي بلا شرط لكن لما لم تتحقق إلا في ضمن فرد معين جاء التخيير عقلا من غير دلالة النص عليه وإيجاب الشيء لا يقتضي إيجاب مقدمته العقلية إذ المراد بالوجوب الوجوب الشرعي، ومن الجائز أن يعاقب المكلف على ترك ما يشمله مقدمة عقلية ولا يعاقب على ترك المقدمة، ونسب هذا الاعتراض لمولانا القاضي في منهياته- وفيه تأمل- وذكر بعض المحققين أن تحقيق هذا المقام أنه إن كان المراد بالبقرة المأمور بذبحها مطلق البقرة أي بقرة كانت فالنسخ جائز لأن شرط النسخ التمكن من الاعتقاد وهو حاصل بلا ريب، وإن كان البقرة المعينة فلا يجوز النسخ لعدم التمكن من الاعتقاد حينئذ لأنه إنما حصل بعد الاستفسار فاختلاف العلماء في جواز النسخ وعدمه في هذا المقام من باب النزاع اللفظي فتدبر فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ أي من ذبح البقرة ولا تكرروا السؤال ولا تتعنتوا، وهذه الجملة يحتمل أن تكون من قول الله تعالى لهم، ويحتمل أن تكون من قول موسى عليه السلام حرضهم على امتثال ما أمروا به شفقة منه عليهم، و (ما) موصولة والعائد محذوف أي ما تؤمرونه بمعنى ما تؤمرون به، وقد شاع حذف الجار في هذا الفعل حتى لحق بالمتعدي إلى مفعولين فالمحذوف من أول الأمر هو المنصوب، وأجاز بعضهم أن تكون (ما) مصدرية أي- فافعلوا أمركم- ويكون المصدر بمعنى المفعول كما في قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ [الصافات: 96] على أحد الوجهين، وفيه بعد لأن ذلك في الحاصل بالسبك قليل وإنما كثر في صيغة المصدر. قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ إسناد البيان في كل مرة إلى الله عز وجل لإظهار كمال المساعدة في إجابة مسؤولهم وصيغة الاستقبال لاستحضار الصورة- والفقوع- أشد ما يكون من الصفرة وأبلغه والوصف به للتأكيد- كأمس الدابر- وكذا في قولهم أبيض ناصع، وأسود حالك، وأحمر قان، وأخضر ناضر، ولَوْنُها مرفوع ب فاقِعٌ ولم يكتف بقوله صفراء فاقعة لأنه أراد تأكيد نسبة الصفرة فحكم عليها أنها صفراء ثم حكم على اللون أنه شديد الصفرة فابتدأ أولا بوصف البقرة بالصفرة ثم أكد ذلك بوصف اللون بها فكأنه قال: هي صفراء ولونها شديد الصفرة، وعن الحسن سوداء شديدة السواد ولا يخفى أنه خلاف الظاهر   (1) وإليه ذهب أكثر الحنفية وبعض الشافعية اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 لأن الصفرة- وإن استعملها العرب بهذا المعنى- نادرا كما أطلقوا الأسود على الأخضر لكنه في الإبل خاصة على ما قيل في قوله تعالى: جِمالَتٌ صُفْرٌ [المرسلات: 33] لأن سواد الإبل تشوبه صفرة وتأكيده بالفقوع ينافيه لأنه من وصف الصفرة في المشهور، نعم ذكر في اللمع أنه يقال: أصفر فاقع، وأحمر فاقع، ويقال في الألوان: كلها فاقع وناصع إذا أخلصت فعليه لا يرد ما ذكر، ومن الناس من قال: إن الصفرة استعيرت هنا للسواد، وكذا فاقع لشديد السواد وهو ترشيح ويجعل سواده من جهة البريق واللمعان- وليس بشيء، وجوز بعضهم أن يكون لَوْنُها مبتدأ وخبره إما فاقِعٌ أو الجملة بعده، والتأنيث على أحد معنيين، أحدهما لكونه أضيف إلى مؤنث كما قالوا: ذهبت بعض أصابعه، والثاني أنه يراد به المؤنث إذ هو الصفرة فكأنه قال: صفرتها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ولا يخفى بعد ذلك. والسرور- أصله لذة في القلب عند حصول نفع أو توقعه أو رؤية أمر معجب رائق، وأما نفسه فانشراح مستبطن فيه- وبين السرور، والحبور، والفرح- تقارب لكن السرور هو الخالص المنكتم سمي بذلك اعتبارا بالإسرار، والحبور ما يرى حبره- أي أثره- في ظاهر البشرة وهما يستعملان في المحمود. وأما الفرح فما يحصل بطرا وأشرا ولذلك كثيرا ما يذم كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص: 76] والمراد به هنا عند بعض الإعجاب مجازا للزومه له غالبا، والجملة صفة البقرة أي تعجب الناظرين إليها. وجمهور المفسرين يشيرون إلى أن الصفرة من الألوان السارة ولهذا كان علي كرم الله تعالى وجهه يرغب في النعال الصفر ويقول من لبس نعلا أصفر قل همه، ونهى ابن الزبير ويحيى بن أبي كثير عن لباس النعال السود لأنها تغم، وقرىء- يسر- بالياء فيحتمل أن يكون لَوْنُها مبتدأ- ويسر- خبره ويكون فاقِعٌ صفة تابعة لصفراء على حد قوله: وإني لأسقي الشرب (صفراء فاقعا) ... كأن ذكي المسك فيها يفتق إلا أنه قليل حتى قيل: بابه الشعر، ويحتمل أن يكون لونها فاعلا ب فاقِعٌ ويسر- إخبار مستأنف. قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إعادة للسؤال عن الحال والصفة لا لرد الجواب الأول- بأنه غير مطابق وأن السؤال باق على حاله- بل لطلب الكشف الزائد على ما حصل وإظهار أنه لم يحصل البيان التام. إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا تعليل لقوله تعالى: ادْعُ كما في قوله تعالى: صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة: 103] وهو اعتذار لتكرير السؤال أي إن البقر الموصوف بما ذكر كثير فاشتبه علينا، والتشابه مشهور في البقر، وفي الحديث «فتن كوجوه البقر» أي يشبه بعضها بعضا وقرأ يحيى وعكرمة- والباقر ان الباقر- وهو اسم لجماعة البقر، والبقر اسم جنس جمعي يفرق بينه وبين واحده بالتاء ومثله يجوز تذكيره وتأنيثه،- كنخل منقعر، والنخل باسقات- وجمعه أباقر، ويقال فيه: بيقور وجمعه بواقر، وفي البحر إنما سمي هذا الحيوان بذلك لأنه يبقر الأرض أي يشقها للحرث، وقرأ الحسن «تشابه» بضم الهاء جعله مضارعا محذوف التاء وماضيه «تشابه» - وفيه ضمير يعود على البقر على أنه مؤنث، والأعرج كذلك إلا أنه شدد الشين، والأصل- تتشابه- فأدغم، وقرىء تشبه- بتشديد الشين- على صيغة المؤنث من المضارع المعلوم، «ويشبه» بالياء والتشديد على صيغة المضارع المعلوم أيضا، وابن مسعود- «يشّابه» - بالياء والتشديد جعله مضارعا من تفاعل لكنه أدغم التاء في الشين، وقرىء «مشتبه» ، و «متشبه» ، و «يتشابه» - والأعمش- «متشابه» و «متشابهة» - وقرىء- «تشابهت» - بالتخفيف، وفي مصحف أبيّ بالتشديد، واستشكل بأن التاء لا تدغم إلا في المضارع، وليس في زنة الأفعال فعل ماض على تفاعل بتشديد الفاء ووجه بأن أصله- إن البقرة تشابهت- فالتاء الأولى من البقرة، والثانية من الفعل فلما اجتمع مثلان أدغم نحو- الشجرة تمايلت- إلا أن جعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 التشابه في بقرة ركيك، والأهون القول بعدم ثبوت هذه القراءة فإن دون تصحيحها على وجه وجيه خرط القتاد، ويشكل أيضا- تشابه- من غير تأنيث لأنه كان يجب ثبوت علامته إلا أن يقال: إنه على حد قوله: ولا أرض أبقل إبقالها وابن كيسان يجوزه في السعة وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ أي إلى عين البقرة المأمور بذبحها، أو لما خفي من أمر القاتل، أو إلى الحكمة التي من أجلها أمرنا، وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس- مرفوعا معضلا- وسعيد عن عكرمة- مرفوعا مرسلا- وابن أبي حاتم عن أبي هريرة- مرفوعا موصولا- أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «لو لم يستثنوا لما تبينت لهم آخر الأبد» واحتج بالآية على أن الحوادث بإرادة الله حيث علق فيما حكاه وجود الاهتداء الذي هو من جملة الحوادث بتعلق المشيئة وهي نفس الإرادة وما قصه الله تعالى في كتابه من غير نكير فهو حجة على ما عرف في محله، وهذا مبني على القول بترادف المشيئة والإرادة، وفيه خلاف وأن كون ما ذكر بالإرادة مستلزم لكون جميع الحوادث بها- وفيه نظر- واحتج أيضا بها على أن الأمر قد ينفك عن الإرادة وليس هو الإرادة كما يقوله المعتزلة لأنه تعالى لما أمرهم بالذبح فقد أراد اهتداءهم في هذه الواقعة فلا يكون لقوله: إن شاء الله الدال على الشك وعدم تحقق الاهتداء فائدة بخلاف ما إذا قلنا: إنه تعالى قد يأمر بما لا يريد، والقول بأنه يجوز أن يكون أولئك معتقدين على خلاف الواقع للانفكاك، أو يكون مبنيا على ترددهم في كون الأمر منه تعالى يدفعه التقرير إلا أنه يرد أن الاحتجاج إنما يتم لو كان معنى لَمُهْتَدُونَ الاهتداء إلى المراد بالأمر أما لو كان المراد إن شاء الله اهتداءنا في أمر ما لكنا مهتدين فلا إلا أنه خلاف الظاهر كالقول بأن اللازم أن يكون المأمور به وهو الذبح مرادا ولا يلزمه الاهتداء إذ يجوز أن يكون لتلك الإرادة حكمة أخرى بل هذا أبعد بعيد، والمعتزلة والكرامية يحتجون بالآية على حدوث إرادته تعالى بناء على أنها والمشيئة سواء لأن كلمة إِنَّ دالة على حصول الشرط في الاستقبال وقد تعلق الاهتداء الحادث بها، ويجاب بأن التعليق باعتبار التعلق فاللازم حدوث التعلق ولا يلزمه حدوث نفس الصفة وتوسط الشرط بين اسم إِنَّ وخبرها لتتوافق رؤوس الآي، وجاء خبر إِنَّ اسما لأنه أدل على الثبوت وعلى أن الهداية حاصلة لهم وللاعتناء بذلك أكد الكلام. قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ صفة بَقَرَةٌ وهو من الوصف بالمفرد، ومن قال: هو من الوصف بالجملة، وان التقدير لا هي ذلول فقد أبعد عن الصواب، ولا بمعنى غير، وهو اسم على ما صرح به السخاوي وغيره لكن لكونها في صورة الحرف ظهر إعرابها فيما بعدها، ويحتمل أن تكون حرفا- كالا- التي بمعنى غير في مثل قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] والذلول- الريض الذي زالت صعوبته يقال دابة ذلول بينة الذل بالكسر، ورجل ذلول بين الذل بالضم تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ (لا) صلة لازمة لوجوب التكرار في هذه الصورة وهي مفيدة للتصريح بعموم النفي إذ بدونها يحتمل أن يكون لنفي الاجتماع، ولذا تسمى المذكرة والإثارة- قلب الأرض للزراعة من أثرته إذا هيجته، والْحَرْثَ الأرض المهيأة للزرع أو هو شق الأرض ليبذر فيها ويطلق على ما حرث وزرع، وعلى نفس الزرع أيضا، والفعلان صفتا ذَلُولٌ والصفة يجوز وصفها على ما ارتضاه بعض النحاة وصرح به السمين والفعل الأول داخل في حيز النفي والمقصود نفي إثارتها الأرض- أي لا تثير الأرض- فتذل فهو من باب على لا حب لا يهتدي بمناره ففيه نفي للأصل والفرع معا، وانتفاء الملزوم بانتفاء اللازم، قال الحسن: كانت هذه البقرة وحشية ولهذا وصفت بأنها لا تثير الأرض إلخ، وذهب قوم إلى أن تثير مثبت لفظا ومعنى، وأنه أثبت للبقرة أنها تثير الأرض وتحرثها ونفى عنها سقي الحرث، ورد بأن ما كان يحرث لا ينتفي عنه كونه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 ذلولا، وقال بعض: المراد أنها تثير الأرض بغير الحرث بطرا ومرحا، ومن عادة البقر إذا بطرت تضرب بقرونها وأظلافها فتثير تراب الأرض. فيكون هذا من تمام قوله لا ذَلُولٌ لأن وصفها بالمرح، والبطر دليل على ذلك- وليس عندي بالبعيد- وذهب بعضهم كما في الكواشي إلى أن جملة تُثِيرُ في محل نصب على الحال، قال ابن عطية: ولا يجوز ذلك لأنها من نكرة، واعترض بأنه إن أراد بالنكرة بقرة فقد وصفت، والحال من النكرة الموصوفة جائزة جوازا حسنا وإن أراد بها لا ذَلُولٌ فمذهب سيبويه جواز مجيء الحال من النكرة وإن لم توصف، وقد صرح بذلك في مواضع من كتابه اللهم إلا أن يقال: إنه تبع الجمهور في ذلك- وهم على المنع- وجعل الجملة حالا من الضمير المستكن في ذلول أي لا ذَلُولٌ في حال إثارتها ليس بشيء، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي: لا ذَلُولٌ بالفتح ف لا للتبرئة، والخبر محذوف أي هناك، والمراد مكان جدت هي فيه، والجملة صفة ذلول، وهو نفي لأن توصف بالذل، ويقال: هي ذلول بطريق الكناية لأنه لو كان في مكان البقرة لكانت موصوفة به ضرورة اقتضاء الصفة للموصوف، فلما لم يكن في مكانها لم تكن موصوفة به فهذا كقولهم محل- فلان- مظنة الجود والكرم، وهذا أولى مما قيل: إن تُثِيرُ خبر لا والجملة معترضة بين الصفة والموصوف لأنه أبلغ كما لا يخفى، وبعضهم خرج القراءة على البناء نظرا إلى صورة لا كما- في كنت بلا مال- بالفتح، وليس بشيء لأن ذلك مقصور على مورد السماع، وليس بقياسي على ما يشعر به كلام الرضي (1) وقرىء «تسقى» بضم حرف المضارعة من أسقى بمعنى سقى، وبعض فرق بينهما بأن سقى لنفسه، وأسقى لغيره كماشيته وأرضه. مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها أي سلمها الله تعالى من العيوب قاله ابن عباس، أو أعفاها أهلها من سائر أنواع الاستعمال قاله الحسن، أو مطهرة من الحرام لا غصب فيها ولا سرقة قاله عطاء، أو أخلص لونها من الشيات قاله مجاهد، والأولى ما ذهب إليه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لأن المطلق ينصرف إلى الكامل ولكونه تأسيسا، وعلى آخر الأقوال يكون لا شِيَةَ فِيها أي لا لون فيها يخالف لونها تأكيدا والتضعيف هنا للنقل والتعدية، ووهم غير واحد فزعم أنه للمبالغة، والشية- مصدر وشيت الثوب أشيه وشيا إذا زينته بخطوط مختلفة الألوان فحذف فاؤه- كعدة وزنة- ومنه الواشي للنمام، قيل: ولا يقال له: واش حتى يغير كلامه ويزينه، ويقال: ثور أشيه، وفرس أبلق، وكبش أخرج، وتيس أبرق، وغراب أبقع- كل ذلك بمعنى البلقة- وفي البحر ليس الأشيه في قولهم: ثور أشيه للذي فيه بلق مأخوذا من الشية لاختلاف المادتين، وشية- اسم لا وفِيها خبره. قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ أي أظهرت حقيقة ما أمرنا به فالحق هنا بمعنى الحقيقة، وقيل: بمعنى الأمر المقضي أو اللازم، وقيل: بمعنى القول المطابق للواقع ولم يريدوا أن ما سبق لم يكن حقا بل أرادوا أنه لم يظهر الحق به كمال الظهور فلم يجىء بالحق بل أومأ إليه فعلى هذه الأقوال لم يكفروا بهذا القول، وأجراه قتادة على ظاهرة وجعله- متضمنا أن ما جئت به من قبل- كان باطلا فقال: إنهم كفروا بهذا القول، والأولى عدم الإكفار، والْآنَ ظرف زمان لازم البناء على الفتح ولا يجوز تجريده من- أل- واستعماله على خلافه لحن، وهي تقتضي الحال وتخلص المضارع له غالبا، وقد جاءت حيث لا يمكن أن تكون له نحو فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ [البقرة: 187] إذ الأمر نص في الاستقبال وادعى بعضهم إعرابها لقوله كأنهما ملآن لم يتغيرا يريد من الآن فجره وهو يحتمل البناء على الكسر، و   (1) فإنه قال: ربما فتح نظرا إلى لفظة (لا) فقيل: كنت بلا مال اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 (أل) فيها للحضور عند بعض، وزائدة عند آخرين، وبنيت لتضمنها معنى الإشارة أو لتضمنها معنى- أل- التعريفية- كسحر- وقرىء لان بالمد على الاستفهام التقريري إشارة إلى استبطائه وانتظارهم له. وقرأ نافع بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وعنه روايتان حذف واو «قالوا» وإثباتها فَذَبَحُوها أي فطلبوا هذه البقرة الجامعة للأوصاف السابقة وحصلوها فَذَبَحُوها فالفاء فصيحة عاطفة على محذوف إذ لا يترتب الذبح على مجرد الأمر بالذبح، وبيان صفتها وحذف لدلالة الذبح عليه، وتحصيلها كان باشترائها من الشاب البار بأبويه كما تظافرت عليه أقوال أكثر المفسرين والقصة مشهورة، وقيل:- كانت وحشية فأخذوها، وقيل: لم تكن من بقر الدنيا بل أنزلها الله تعالى من السماء- وهو قول هابط إلى تخوم الأرض، قيل: ووجه الحكمة في جعل البقرة آلة دون غيرها من البهائم أنهم كانوا يعبدون البقر والعجاجيل وحبب ذلك في قلوبهم، لقوله تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [البقرة: 93] ثم بعد ما تابوا أراد الله تعالى أن يمتحنهم بذبح ما حبب إليهم ليكون حقيقة لتوبتهم، وقيل: ولعله ألطف وأولى إن الحكمة في هذا الأمر إظهار توبيخهم في عبادة العجل بأنكم كيف عبدتم ما هو في صورة البقرة مع أن الطبع لا يقبل أن يخلق الله تعالى فيه خاصية يحيا بها ميت بمعجزة نبي؟! وكيف قبلتم قول السامري إنه إلهكم وها أنتم لا تقبلون قول الله سبحانه: إنه يحيا بضرب لحمة منه الميت سبحان الله تعالى؟ هذا الخرق العظيم وَما كادُوا يَفْعَلُونَ كنى على الذبح بالفعل أي- وما كادوا يذبحون- واحتمال أن يكون المراد وَما كادُوا يَفْعَلُونَ ما أمروا به بعد الذبح من ضرب بعضها على الميت بعيد، وكاد- موضوعة لدنو الخبر حصولا ولا يكون خبرها في المشهور إلا مضارعا دالا على الحال لتأكيد القرب، واختلف فيها فقيل: هي في الإثبات نفي وفي النفي إثبات، فمعنى- كاد زيد يخرج- قارب ولم يخرج وهو فاسد لأن معناها مقاربة الخروج، وأما عدمه فأمر عقلي خارج عن المدلول ولو صح ما قاله لكان قارب ونحوه كذلك ولم يقل به أحد، وقيل: هي في الإثبات إثبات وفي النفي الماضي إثبات وفي المستقبل على قياس الأفعال. وتمسك القائل بهذه الآية لأنه لو كان معنى وَما كادُوا هنا نفيا للفعل عنهم لناقض قوله تعالى: فَذَبَحُوها حيث دل على ثبوت الفعل لهم والحق إنها في الإثبات والنفي كسائر الأفعال، فمثبتها لإثبات القرب، ومنفيها لنفيه، والنفي والإثبات في الآية محمولان على اختلاف الوقتين أو الاعتبارين فلا تناقض إذ من شرطه اتحاد الزمان والاعتبار، والمعنى أنهم ما قاربوا ذبحها حتى انقطعت تعللاتهم فذبحوا كالملجأ أو فذبحوها ائتمارا وَما كادُوا من الذبح خوفا من الفضيحة أو استثقالا لعلو ثمنها حيث روي أنهم اشتروها بملء جلدها ذهبا، وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير، واستشكل القول باختلاف الوقتين بأن الجملة حال من فاعل فَذَبَحُوها فيجب مقارنة مضمونها لمضمون العامل، والجواب بأنهم صرحوا بأنه قد يقيد بالماضي فإن كان مثبتا قرن- بقد- لتقربه من الحال وإن كان منفيا- كما هنا- لم يقرن بها لأن الأصل استمرار النفي فيفيد المقاربة لا يجدي نفعا لأن عدم مقاربة الفعل لا يتصور مقارنتها له، ولهذا عول بعض المتأخرين في الجواب على أن وَما كادُوا يَفْعَلُونَ كناية عن تعسر الفعل وثقله عليهم وهو مستمر باق، وقد صرح في شرح التسهيل أنه قد يقول القائل- لم يكد زيد يفعل- ومراده أنه فعل بعسر لا بسهولة وهو خلاف الظاهر الذي وضع له اللفظ فافهم وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً أي شخصا أو ذا نفس، ونسبة القتل إلى المخاطبين لوجوده فيهم على طريقة العرب في نسبة الأشياء إلى القبيلة إذا وجد من بعضها ما يذم به أو يمدح، وقول بعضهم:- إنه لا يحسن إسناد فعل أو قول صدر عن البعض إلى الكل إلا إذا صدر عنه بمظاهرتهم أو رضا منهم- غير مسلم، نعم لا بد لإسناده إلى الكل من نكتة ما، ولعلها هنا الإشارة إلى أن الكل بحيث لا يبعد صدور القتل منهم لمزيد حرصهم وكثرة طمعهم وعظم جرأتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 فهم كأصابع الكفين طبعا ... وكل منهم طمع جسور وقيل: إن القاتل جمع وهم ورثة المقتول، وقد روي أنهم اجتمعوا على قتله، ولهذا نسب القتل إلى الجمع فَادَّارَأْتُمْ فِيها أصله تدارأتم من الدرء وهو الدفع فاجتمعت التاء والدال مع تقارب مخرجيهما وأريد الإدغام فقلبت التاء دالا وسكنت للإدغام فاجتلبت همزة الوصل للتوصل إلى الابتداء بها، وهذا مطرد في كل فعل على تفاعل أو تفعل فاؤه- تاء أو طاء أو ظاء، أو صاد أو ضاد- والتدارؤ هنا إما مجاز عن الاختلاف والاختصام، أو كناية عنه إذ المتخاصمان يدفع كل منهما الآخر أو مستعمل في حقيقته أعني التدافع بأن طرح قتلها كل عن نفسه إلى صاحبه فكل منهما من حيث إنه مطروح عليه يدفع الآخر من حيث إنه طارح، وقيل: إن طرح القتل في نفسه نفس دفع الصاحب- وكل من الطارحين دافع فتطارحهما- تدافع، وقيل: إن كلّا منهما يدفع الآخر عن البراءة إلى التهمة فإذا قال أحدهما: أنا بريء وأنت متهم يقول الآخر: بل أنت المتهم وأنا البريء ولا يخفى أن ما ذكر على ما فيه بالمجاز أليق، ولهذا عد ذلك أبو حيان من المجاز، والضمير في فِيها عائد على النفس، وقيل: على القتلة المفهومة من الفعل، وقيل: على التهمة الدال عليها معنى الكلام، وقرأ أبو حيوة- «فتدارأتم» - على الأصل، وقيل: قرأ هو وأبو السوار- «فادرأتم» - بغير ألف قبل الراء، وإن طائفة أخرى قرؤوا- «فتدارأتم» - وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ أي مظهر لا محالة ما كنتم تكتمونه من أمر القتيل، والقاتل كما يشير إليه بناء الجملة الاسمية وبناء اسم الفاعل على المبتدأ المفيد لتأكيد الحكم وتقويه- وذلك بطريق التفضل عندنا- والوجوب عند المعتزلة وتقدير المتعلق خاصا هو ما عليه الجمهور، وقيل: يجوز أن يكون عاما في القتيل وغيره، ويكون القتيل من جملة أفراده، وفيه نظر إذ ليس كل ما كتموه عن الناس أظهره الله تعالى، وأعمل مُخْرِجٌ لأنه مستقبل بالنسبة للحكم الذي قبله، وهو التدارؤ ومضيه الآن لا يضر والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار. وفي البحر- إن كان- للدلالة على تقدم الكتمان. فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها عطف على قوله تعالى: فَادَّارَأْتُمْ وما بينهما اعتراض يفيد أن كتمان القاتل لا ينفعه، وقيل: حال أي والحال أنكم تعلمون ذلك، والهاء في اضْرِبُوهُ عائد على النفس بناء على تذكيرها إذ فيها التأنيث- وهو الأشهر- والتذكير، أو على تأويل الشخص أو القتيل، أو على أن الكلام على حذف مضاف أي ذا نفس، وبعد الحذف أقيم المضاف إليه مقامه، وقيل: الأظهر أن التذكير لتذكير المعنى، وإذا كان اللفظ مذكرا والمعنى مؤنثا أو بالعكس فوجهان، وذكر هذا الضمير- مع سبق التأنيث- تفننا أو تمييزا بين هذا الضمير والضمير الذي بعده توضيحا، والظاهر أن المراد بالبعض أي بعض كان إذ لا فائدة في تعينه- ولم يرد به نقل صحيح- واختلف بم ضربوه فقيل: بلسانها أو بأصغريها أو بفخذها اليمنى أو بذنبها أو بالغضروف (1) أو بالعظم الذي يلين أو بالبضعة التي بين الكتفين أو بالعجب أو بعظم من عظامها، ونقل أن الضرب كان على جيد القتيل، وذلك قبل دفنه، ومن قال: إنهم مكثوا في تطلبها أربعين سنة أو أنهم أمروا بطلبها ولم تكن في صلب ولا رحم قال: إن الضرب على القبر بعد الدفن، والأظهر أنه المباشر بالضرب لا القبر، وفي بعض الآثار أنه قام وأوداجه تشخب دما، فقال: قتلني ابن أخي، وفي رواية فلان وفلان لابني عمه ثم سقط ميتا فأخذا وقتلا وما ورث قاتل بعد ذلك، وفي بعض القصص أن القاتل حلف بالله تعالى ما قتلته فكذب بالحق بعد معاينته قال الماوردي: وإنما كان الضرب بميت لا حياة فيه لئلا يلتبس على ذي شبهة أن الحياة إنما انقلبت إليه مما ضرب به فلإزالة الشبهة وتأكد الحجة كان ذلك كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى جملة   (1) هو أصل الأذن اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 اعتراضية تفيد تحقق المشبه وتيقنه بتشبيه الموعود بالموجود، والمماثلة في مطلق الإحياء، وفي الكلام حذف دلت عليه الجملة أي فضربوه فحيي، والتكلم من الله تعالى مع من حضر وقت الحياة- والكاف- خطاب لكل من يصح أن يخاطب ويسمع هذا الكلام لأن أمر الإحياء عظيم يقتضي الاعتناء بشأنه أن يخاطب به كل من يصح منه الاستماع فيدخل فيه أولئك دخولا أوليا- ويدل على ذلك قوله تعالى: وَيُرِيكُمْ إلخ ولا بد على هذا من تقدير القول أي قلنا أو وقلنا لهم كذلك ليرتبط الكلام بما قبله، وقيل: حرف الخطاب مصروف إليهم، وكان الظاهر كذلكم على وفق ما بعده إلا أنه أفرده بإرادة كل واحد أو بتأويل فريق ونحوه قصدا للتخفيف، ويحتمل أن يكون التكلم مع من حضر نزول الآية، وعليه لا تقدير إذ ينتظم بدونه بل ربما يخرج معه من الانتظام، وأبعد الماوردي فجعله خطابا من موسى نفسه عليه السلام وَيُرِيكُمْ آياتِهِ مستأنف أو معطوف على ما قبله، والظاهر أن الآيات جمع في اللفظ والمعنى، والمراد بها الدلائل الدالة على أن الله تعالى على كل شيء قدير، ويجوز أن يراد بها هذا الإحياء، والتعبير عنه بالجمع لاشتماله على أمور بديعة من ترتب الحياة على الضرب بعضو ميت، وإخبار الميت بقاتله وما يلابسه من الأمور الخارقة للعادات، وفي المنتخب أن التعبير عن الآية الواحدة بالآيات لأنها تدل على وجود الصانع القادر على كل المقدورات العالم بكل المعلومات المختار في الإيجاد والإبداع، وعلى صدق موسى عليه السلام، وعلى براءة ساحة من لم يكن قاتلا، وعلى تعين تلك التهمة على من باشر القتل لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي لكي تعقلوا الحياة بعد الموت والبعث والحشر فإن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء الأنفس كلها لعدم الاختصاص ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان: 28] أو لكي يكمل عقلكم أو لعلكم تمتنعون من عصيانه وتعملون على قضية عقولكم، وقد ذكر المفسرون أحكاما فقهية انتزعوها واستدلوا عليها من قصة هذا القتيل ولا يظهر ذلك من الآية ولا أرى لذكر ذلك طائلا سوى الطول هذا. «ومن باب الإشارة» إن البقرة هي النفس الحيوانية حين زال عنها شره الصبا ولم يلحقها ضعف الكبر وكانت معجبة رائقة النظر لا تثير أرض الاستعداد بالأعمال الصالحة ولا تسقي حرث المعارف والحكم التي فيها بالقوة بمياه التوجه إلى حضرة القدس والسير إلى رياض الأنس، وقد سلمت لترعى أزهار الشهوات ولم تقيد بقيود الآداب والطاعات فلم يرسخ فيها مذهب واعتقاد، ولم يظهر عليها ما أودع فيها من أنوار الاستعداد، وذبحها قمع هواها ومنعها عن أفعالها الخاصة بها بشفرة سكين الرياضة فمن أراد أن يحيا قلبه حياة طيبة ويتحلى بالمعارف الإلهية والعلوم الحقيقية وينكشف له حال الملك والملكوت وتظهر له أسرار اللاهوت والجبروت ويرتفع ما بين عقله ووهمه من التدارؤ والنزاع الحاصل بسبب الإلف للمحسوسات فليذبحها وليوصل أثره إلى قلبه الميت فهناك يخرج المكتوم وتفيض بحار العلوم وهذا الذبح هو الجهاد الأكبر والموت الأحمر وعقباه الحياة الحقيقية والسعادة الأبدية ومن لم يمت في حبه لم يعش به ... ودون اجتناء النحل ما جنت النحل وقد أشير بالشيخ والعجوز والطفل والشاب المقتول على ما في بعض الآثار في هذه القصة إلى الروح والطبيعة الجسمانية والعقل والقلب وتطبيق سائر ما في القصة بعد هذا إليك هذا وسلام الله تعالى عليك. ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ القسوة في الأصل اليبس والصلابة وقد شبهت هنا حال قلوبهم وهي نبوها عن الاعتبار بحال قسوة الحجارة في أنها لا يجري فيها لطف العمل ففي قَسَتْ استعارة تبعية أو تمثيلية، وثُمَّ لاستبعاد القسوة بعد مشاهدة ما يزيلها، وقيل: إنها للتراخي في الزمان لأنهم قست قلوبهم بعد مدة حين قالوا: إن الميت كذب عليهم أو أنه عبارة عن قسوة عقبهم، والضمير في قُلُوبُكُمْ لورثة القتيل عند ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وعند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 أبي العالية وغيره لبني إسرائيل مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي إحياء القتيل، وقيل: كلامه، وقيل: ما سبق من الآيات التي علموها- كمسخهم قردة وخنازير، ورفع الجبل، وانبجاس الماء والإحياء- وإلى ذلك ذهب الزجاج، وعليه تكون ثُمَّ قَسَتْ إلخ عطفا على مضمون جميع القصص السابقة والآيات المذكورة، وعلى سابقه تكون عطفا على قصة وَإِذْ قَتَلْتُمْ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أي في القسوة وعدم التأثر والجمع لجمع القلوب وللإشارة إلى أنها متفاوتة في القسوة كما أن الحجارة متفاوتة في الصلابة- والكاف- للتشبيه وهي حرف عند سيبويه، وجمهور النحويين والأخفش يدعي اسميتها وهي متعلقة هنا بمحذوف أي كائنة كالحجارة خلافا لابن عصفور إذ زعم أن كاف التشبيه لا تتعلق بشيء أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً أي من الحجارة فهي كالحديد مثلا أو كشيء لا يتأثر أصلا ولو وهما، وأَوْ لتخيير المبالغ ويكون في التشبيه كما يكون بعد الأمر أو للتنويع أي بعض كَالْحِجارَةِ وبعض أَشَدُّ أو للترديد بمعنى تجويز الأمرين مع قطع النظر عن الغير على ما قيل، أو بمعنى بل ويحتاج إلى تقدير مبتدأ إذا قلنا باختصاص ذلك بالجمل، أو بمعنى الواو أو للشك وهو لاستحالته عليه تعالى يصرف إلى الغير والعلامة لا يرتضي ذلك لما أنه يؤدي إلى تجويز أن يكون معاني الحروف بالقياس إلى السامع، وفيه إخراج للألفاظ عن أوضاعها فإنها إنما وضعت ليعبر بها المتكلم عما في ضميره، والحق جواز اعتبار السامع في معاني الألفاظ عند امتناع جريها على الأصل بالنظر إلى المتكلم فلا بأس بأن يسلك ب أَوْ في الشك مسلك لعل في الترجي الواقع في كلامه تعالى فتلك جادة مسلوكة لأهل السنة وقد مرت الإشارة إلى ذلك فتذكر، وأَشَدُّ عطف على كَالْحِجارَةِ من قبيل عطف المفرد على المفرد كما تقول: زيد على سفر أو مقيم، وقدر بعضهم أو هي أَشَدُّ فيصير من عطف الجمل، ومن الناس من يقدر مضافا محذوفا أي مثل ما هو أشد، ويجعله معطوفا على الكاف إن كان اسما أو مجموع الجار والمجرور إذا كان حرفا، ثم لما حذف المضاف أقيم المضاف إليه مقامه فأعرب بإعرابه، ولا يخفى أن اعتبار التشبيه في جانب المعطوف بدون عطفه على المجرور بالكاف مستبعد جدا، وقرأ الأعمش أَوْ أَشَدُّ مجرورا بالفتحة لكونه غير منصرف للوصف ووزن الفعل وهو عطف على الحجارة واعتبار التشبيه حينئذ ظاهر وإنما لم يقل سبحانه وتعالى- أقسى- مع أن فعل القسوة مما يصاغ منه أفعل وهو أخصر ووارد في الفصيح كقوله: كل خمصانة أرق من الخم ... ر بقلب (أقسى) من الجلمود لما في أشد من المبالغة لأنه يدل على الزيادة بجوهره وهيئته بخلاف أقسى فإن دلالته بالهيئة فقط، وفيه دلالة على اشتداد القسوتين ولو كان أقسى لكان دالا على اشتراك القلوب والحجارة في القسوة، واشتمال القلوب على زيادة القسوة لا في شدة القسوة وليس هذا مثل قولك زيد أشد إكراما من عمرو حيث ذكروا أن ليس معناه إلا أنهما مشتركان في الإكرام وإكرام زيد زيد على إكرام عمرو لا أنهما مشتركان في شدة الإكرام، وشدة إكرام زيد زائدة على شدة إكرام عمرو للفرق بين ما بني للتوصل وما بني لغيره وما نحن فيه من الثاني وإن كان الأول أكثر. والاعتراض- بأن أشد محمول على القلوب دون القسوة- ليس بشيء لأنه محمول عليها بحسب المعنى لكونها تمييزا محولا عن الفاعل أو منقولا عن المبتدأ كما في البحر، ويمكن أن يقال: إن الله تعالى أبرز القساوة في معرض العيوب الظاهرة تنبيها على أنها من العيوب بل العيب كل العيب ما صد عن عالم الغيب فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46] . وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تذييل لبيان تفضيل قلوبهم على الحجارة أو اعتراض بين قوله تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ وبين الحال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 عنها وهو وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ لبيان سبب ذلك فإنه لغرابته يحتاج إلى بيان السبب كما في قوله: فلا هجرة يبدو وفي اليأس راحة ... ولا وصفه يصفو لنا (فنكارمه) وجعله جملة حالية مشعرة بالتعليل يأباه الذوق إذ لا معنى للتقييد، وكونه بيانا وتقريرا من جهة المعنى لما تقدم- مع كونه بحسب اللفظ معطوفا على جملة- هي كالحجارة أو أشد- كما قاله العلامة- مما لا يظهر وجهه لأنه إذا كان بيانا في المعنى كيف يصح عطفه ويترك جعله بيانا، والمعنى أن الحجارة تتأثر وتنفعل، وقلوب هؤلاء لا تتأثر ولا تنفعل عن أمر الله تعالى أصلا، وقد ترقى سبحانه في بيان التفضيل كأنه بين أو لا تفضيل قلوبهم في القساوة على الحجارة التي تتأثر تأثرا يترتب عليه منفعة عظيمة من تفجر الأنهار، ثم على الحجارة التي تتأثر تأثرا ضعيفا يترتب عليه منفعة قليلة من خروج الماء ثم على الحجارة التي تتأثر من غير منفعة فكأنه قال سبحانه: قلوب هؤلاء أشد قسوة من الحجارة لأنها لا تتأثر بحيث يترتب عليه المنفعة العظيمة بل الحقيرة بل لا تتأثر أصلا، وبما ذكر يظهر نكتة ذكر تفجر الأنهار وخروج الماء، وترك فائدة الهبوط، وذكر غير واحد أن الآية واردة على نهج التتميم دون الترقي- كالرحمن الرحيم- إذ لو أريد الترقي لقيل- وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يتفجر منه الأنهار- وفائدته استيعاب جميع الانفعالات التي على خلاف طبيعة هذا الجوهر، وهو أبلغ من الترقي، ويكون وَإِنَّ مِنْها الأخير تتميما للتتميم، ولا يخفى أنه يرد عليه منع إفادته لاستيعاب جميع الانفعالات وخلوه عن لطافة ما ذكرناه، والتفجر- التفتح بسعة وكثرة كما يدل عليه جوهر الكلمة وبناء التفعل، والمراد من الأنهار الماء الكثير الذي يجري في الأنهار، والكلام إما على حذف المضاف، أو ذكر المحل وإرادة الحال أو الإسناد مجازي، قال بعض المحققين: وحملها على المعنى الحقيقي وهم إذ التفتح لا يمكن إسناده إلى الأنهار اللهم إلا بتضمين معنى الحصول بأن يقال: يتفجر ويحصل منه الأنهار على أن تفجير الحجارة بحيث تصير نهرا غير معتاد فضلا عن كونها أنهارا، والتشقق التصدع بطول أو بعرض، والخشية الخوف، واختلف في المراد منها فذهب قوم- وهو المروي عن مجاهد وغيره- أنها هنا حقيقة، وهي مضافة إلى الاسم الكريم من إضافة المصدر إلى مفعوله- أي من خشية الحجارة الله- ويجوز أن يخلق الله تعالى العقل والحياة في الحجر، واعتدال المزاج والبنية ليسا شرطا في ذلك خلافا للمعتزلة، وظواهر الآيات ناطقة بذلك، وفي الصحيح «إني لأعرف حجرا كان يسلم علي قبل أن أبعث» وأنه صلى الله تعالى عليه وسلم بعد مبعثه ما مر بحجر ولا مدر إلا سلم عليه، وورد في- الحجر الأسود- أنه يشهد لمن استلمه، وحديث تسبيح الحصى بكفه الشريف صلّى الله عليه وسلّم مشهور، وقيل: هي حقيقة، والإضافة هي الإضافة إلا أن الفاعل محذوف هو العباد، والمعنى أن مِنَ الْحِجارَةِ ما ينزل بعضه عن بعض عند الزلزال من خشية عباد الله تعالى إياه، وتحقيقه أنه لما كان المقصود منها خشية الله تعالى صارت تلك الخشية كالعلة المؤثرة في ذلك الهبوط فيؤول المعنى أنه يهبط من أجل أن يحصل خشية العباد الله تعالى. وذهب أبو مسلم إلى أن الخشية حقيقة، وأن الضمير في مِنْها لَما يَهْبِطُ عائد على القلوب، والمعنى أن من القلوب قلوبا تطمئن وتسكن وترجع إلى الله تعالى، وهي قلوب المخلصين، فكني عن ذلك بالهبوط، وقيل: إنها حقيقة إلا أن إضافتها من إضافة المصدر إلى الفاعل، والمراد بالحجر البرد، وبخشيته تعالى إخافته عباده بإنزاله وهذا القول أبرد من الثلج وما قبله أكثف من الحجر وما قبلهما بين بين وقال قوم: إن الخشية مجاز عن الانقياد لأمر الله تعالى إطلاقا لاسم الملزوم على اللازم، ولا ينبغي أن تحمل على حقيقتها، أما على القول بأن اعتدال المزاج والبنية شرط وما ورد مما يقتضي خلافه محمول على أن الله تعالى قرن ملائكته بتلك الجمادات، ومنها هاتيك الأفعال ونحو «هذا جبل يحبنا ونحبه» على حذف مضاف أي يحبنا أهله ونحب أهله فظاهر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 وأما على القول بعدم الاشتراط فلأن الهبوط والخشية على تقدير خلق العقل والحياة لا يصح أن يكون بيانا لكون الحجارة في نفسها أقل قسوة- وهو المناسب للمقام- والاعتراض بأن قلوبهم إنما تمتنع عن الانقياد لأمر التكليف بطريق القصد والاختيار ولا تمتنع عما يراد بها على طريق القسر والإلجاء كما في الحجارة وعلى هذا لا يتم ما ذكر، فالأولى الحمل على الحقيقة أجيب عنه بأن المراد أن قلوبهم أقسى من الحجارة لقبولها التأثر الذي يليق بها وخلقت لأجله بخلاف قلوبهم فإنها تنبو عن التأثر الذي يليق بها وخلقت له، والجواب بأن ما رأوه من الآيات مما يقسر القلب ويلجئه فلما لم تتأثر قلوبهم عن القاسرات الكثيرة ويتأثر الحجر من قاسر واحد تكون قلوبهم أَشَدُّ قَسْوَةً لا يخلو عن نظر لأنه إن أريد بذلك المبالغة في الدلالة على الصدق فلا ينفع، وإن أريد به حقيقة الإلجاء فممنوع، وإلا لما تخلف عنها التأثر ولما استحق من آمن بعد رؤيتها الثواب لكونه إيمانا اضطراريا- ولم يقل به أحد- ثم الظاهر على هذا تعلق خشية الله بالأفعال الثلاثة السابقة وقرىء وَإِنَّ على أنها المخففة من الثقيلة ويلزمها- اللام- الفارقة بينها وبين النافية، والفراء يقول: أنها النافية- واللام- بمعنى إلا، وزعم الكسائي أن إِنَّ إن وليها اسم كانت المخففة، وإن فعل كانت النافية، وقطرب إنها إن وليها فعل كانت بمعنى- قد- وقرأ مالك بن دينار «ينفجر» مضارع انفجر والأعمش «يتشقق» و «يهبط» - بالضم.. وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وعيد على ما ذكر كأنه قيل: إن الله تعالى لبالمرصاد لهؤلاء القاسية قلوبهم حافظ لأعمالهم محص لها، فهو مجازيهم بها في الدنيا والآخرة، وقرأ ابن كثير «يعملون» - بالياء التحتانية- ضما إلى ما بعده من قوله سبحانه أَنْ يُؤْمِنُوا ويَسْمَعُونَ وفريق منهم، وقرأ الباقون- بالتاء الفوقانية- لمناسبة وَإِذْ قَتَلْتُمْ فَادَّارَأْتُمْ وتكتمون إلخ وقيل: ضما إلى قوله تعالى: أَفَتَطْمَعُونَ بأن يكون الخطاب فيه للمؤمنين وعدلهم، ويبعده أنه لا وجه لذكر وعد المؤمنين تذييلا لبيان قبائح اليهود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 أَفَتَطْمَعُونَ الاستفهام للاستبعاد أو للإنكار التوبيخي، والجملة قيل: معطوفة على قوله تعالى: ثُمَّ قَسَتْ أو على مقدر بين- الهمزة والفاء- عند غير سيبويه، أي تحسبون أن قلوبكم صالحة للإيمان فتطمعون- والطمع- تعلق النفس بإدراك مطلوب تعلقا قويا- وهو أشد من الرجاء لا يحدث إلا عن قوة رغبة وشدة إرادة- والخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: والمؤمنين- أو للمؤمنين- قاله أبو العالية وقتادة، أو للأنصار- قاله النقاش- والمروي عن ابن عباس ومقاتل أنه لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خاصة، والجمع للتعظيم أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ أي يصدقوا مستجيبين لكم، فالإيمان بالمعنى اللغوي والتعدية- باللام- للتضمين كما في قوله تعالى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت: 26] ويؤمنوا لأجل دعوتكم لهم فالفعل- منزل منزلة اللازم- والمراد بالإيمان المعنى الشرعي- واللام لام الأجل- وعلى التقديرين أَنْ يُؤْمِنُوا معمول لتطمعون على إسقاط حرف الجر وهو في موضع نصب عند سيبويه، وجر عند الخليل والكسائي، وضمير الغيبة لليهود المعاصرين له صلّى الله عليه وسلّم: لأنهم المطموع في إيمانهم، وقيل: المراد جنس اليهود ليصح جعل طائفة منهم مطموع الإيمان وطائفة محرفين وفيه ما لا يخفى. وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ أي طائفة من أسلافهم وهم الأحبار يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ أي يسمعون التوراة ويؤولونها تأويلا فاسدا حسب أغراضهم، وإلى ذلك ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والجمهور على أن تحريفها بتبديل كلام من تلقائهم- كما فعلوا ذلك في نعته صلى الله تعالى عليه وسلم- فإنه روي أن من صفاته فيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 أنه أبيض ربعة فغيروه بأسمر طويل وغيروا آية الرجم بالتسخيم وتسويد الوجه- كما في البخاري- وقيل: المراد بكلام الله تعالى ما سمعوه على الطور، فيكون المراد من الفريق طائفة من أولئك السبعين، وقد روى الكلبي أنهم سألوا موسى عليه السلام أن يسمعهم كلامه تعالى، فقال لهم: اغتسلوا والبسوا الثياب النظيفة ففعلوا فأسمعهم الله تعالى كلامه، ثم قالوا: سمعنا يقول في آخره: إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا، وإن شئتم فلا تفعلوا. والتحريف على هذا الزيادة. ثم لا يخفى أن فيما افتروا شاهدا على فساده حيث علقوا الأمر بالاستطاعة والنهي بالمشيئة- وهما لا يتقابلان- وكأنهم أرادوا بالأمر غير الموجب على معنى افعلوا إن شئتم وإن شئتم فلا تفعلوا كذا أفاده العلامة ومقصوده بيان منشأ تحريفهم الفاسد، فلا ينافي كون عدم التقابل شاهدا على فساده، ومقتضى هذه الرواية أن هؤلاء سمعوا كلامه تعالى بلا واسطة كما سمعه موسى عليه السلام، والمصحح أنهم لم يسمعوا بغير واسطة، وأن ذلك مخصوص به عليه السلام، وقيل: المراد به الوحي المنزل على نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم، كان جماعة من اليهود يسمعونه فيحرفونه قصدا أن يدخلوا في الدين ما ليس منه، ويحصل التضاد في أحكامه وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ [التوبة: 32] وقرأ الأعمش «كلم الله» . مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ أي ضبطوه وفهموه- ولم يشتبه عليهم صحته- وما مصدرية أي من بعد عقلهم إياه، والضمير في عَقَلُوهُ عائد على كلام الله، وقيل: ما موصولة والضمير عائد عليها، وهو بعيد. وَهُمْ يَعْلَمُونَ متعلق العلم محذوف، أي إنهم مبطلون كاذبون، أو ما في تحريفه من العقاب، وفي ذلك كمال مذمتهم، وبهذا التقرير يندفع توهم تكرار ما ذكر- بعد ما عقلوه- وحاصل الآية استبعاد الطمع في أن يقع من هؤلاء السفلة إيمان، وقد كان أحبارهم ومقدموهم على هذه الحالة الشنعاء، ولا شك أن هؤلاء أسوأ خلقا وأقل تمييزا من أسلافهم أو استبعادا لطمع في إيمان هؤلاء الكفرة المحرفين، وأسلافهم الذين كانوا زمن نبيهم فعلوا ذلك فلهم فيه سابقة وبهذا يندفع ما عسى أن يختلج في الصدر من أنه كيف يلزم من إقدام بعضهم على التحريف حصول اليأس من إيمان باقيهم وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا جملة مستأنفة إثر بيان ما صدر عن أسلافهم لبيان ما صدر عنهم بالذات من الشنائع المؤيسة عن إيمانهم من نفاق بعض وعتاب آخرين عليهم، ويحتمل أن تكون معطوفة على وقد كان فريق منهم إلخ، وقيل: معطوفة على يَسْمَعُونَ وقيل: على قوله تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً عطف القصة على القصة وضمير لَقُوا لليهود على طبق أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وضمير قالُوا للاقين لكن لا يتصدى الكل للقول حقيقة، بل بمباشرة منافقيهم وسكوت الباقين، فهو من إسناد ما للبعض للكل- ومثله أكثر من أن يحصى- وهذا أدخل، كما قال مولانا- مفتي الديار الرومية- في تقبيح حال الساكتين «أولا» العاتبين «ثانيا» لما فيه من الدلالة على نفاقهم واختلاف أحوالهم وتناقض آرائهم من إسناد القول إلى المباشرين خاصة بتقدير المضاف، أي قال منافقوهم- كما فعله البعض- وقيل: الضمير الأول لمنافقي اليهود كالثاني ليتحد فاعل الشرط والجزاء مراعاة لحق النظم ويؤيده ما روي عن ابن عباس والحسن وقتادة في تفسير وَإِذا لَقُوا يعني منافقي اليهود المؤمنين الخلّص قالوا: إلا أن السباق واللحاق- كما رأيت وسترى- يبعدان ذلك، وقرأ ابن السميفع «لاقوا» . وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ أي إذا انفرد بعض المذكورين- وهم الساكتون منهم- بعد فراغهم عن الاشتغال بالمؤمنين متوجهين منضمين إلى بعض آخر منهم وهم من نافق، وهذا كالنص على اشتراك الساكتين في لقاء المؤمنين، إذ- الخلو- إنما يكون بعد الاشتغال ولأن عتابهم معلق بمحض- الخلو ولولا إنهم حاضرون عند المقاولة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 لوجب أن يجعل سماعهم من تمام الشرط، ولأن فيه زيادة تشنيع لهم على ما أوتوا من السكوت ثم العتاب قالُوا أي أولئك البعض الخالي موبخين لمنافقيهم على ما صنعوا بحضرتهم. أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ أي تخبرون المؤمنين بما بينه الله تعالى لكم خاصة من نعت نبيه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أو من أخذ العهود على أنبيائكم بتصديقه صلى الله تعالى عليه وسلم ونصرته، والتعبير عنه- بالفتح- للإيذان بأنه سر مكتوم وباب مغلق، وفي الآية إشارة إلى أنهم لم يكتفوا بقولهم: آمَنَّا بل عللوه بما ذكر، وإنما لم يصرح به تعويلا على شهادة التوبيخ، ومن الناس من حوّز كون هذا التوبيخ من جهة المنافقين لأعقابهم وبقاياهم الذين لم ينافقوا، وحينئذ يكون البعض الذي هو فاعل خَلا عبارة عن المنافقين، وفيه وضع المظهر موضع المضمر تكثيرا للمعنى- والاستفهام إنكار- ونهى عن التحديث في الزمان المستقبل وليس بشيء- وإن جل قائله- اللهم إلا أن يكون فيه رواية صحيحة، ودون ذلك خرط القتاد. لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ متعلق بالتحديث دون الفتح خلافا لمن تكلف له، والمراد تأكيد النكير وتشديد التوبيخ، فإن التحديث- وإن كان منكرا في نفسه- لكنه لهذا الغرض مما لا يكاد يصدر عن العاقل، والمفاعلة هنا غير مرادة، والمراد ليحتجوا به عليكم، إلا أنه إنما أتى بها للمبالغة، وذكر ابن تمجيد أنه لو ذهب أحد إلى المشاركة بين المحتج والمحتج عليه بأن يكون من جانب احتجاج ومن جانب آخر سماع لكان له وجه- كما في بايعت زيدا- وقد تقدم ما ينفعك هنا فتذكر. واللام- هذه لام كي- والنصب بأن مضمرة بعدها أو بها، وهي مفيدة للتعليل- ولعله هنا مجاز- لأن المحدثين لم يحوموا حول ذلك الغرض، لكن فعلهم ذلك- لما كان مستتبعا له البتة- جعلوا كأنهم فاعلون له إظهارا لكمال سخافة عقولهم وركاكة آرائهم، وضمير بِهِ راجع إلى بِما فَتَحَ اللَّهُ على ما يقتضيه الظاهر عِنْدَ رَبِّكُمْ أي في كتابه وحكمه- وهو عند عصابة- بدل من بِهِ، ومعنى كونه بدلا منه أن عامله الذي هو نائب عنه بدل منه إما بدل الكل إن قدر صيغة اسم الفاعل أو بدل اشتمال إن قدر مصدرا، وفائدته بيان جهة الاحتجاج بما فتح الله تعالى، فإن الاحتجاج به يتصور على وجوه شتى، كأنه قيل: لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ بكونه في كتابه، أي يقولوا: إنه مذكور في كتابه الذي آمنتم به، وبما ذكر يظهر وجه الجمع بين قوله تعالى: بِهِ أي بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وقوله تعالى: عِنْدَ رَبِّكُمْ واندفع ما قيل لا يصح جعله بدلا لوجوب اتحاد البدل والمبدل منه في الإعراب، وهاهنا ليس كذلك لكون الثاني ظرفا والأول مفعولا به بالواسطة، وقيل: المعنى بما عند ربكم فيكون الظرف حالا من ضمير بِهِ وفائدته التصريح بكون الاحتجاج بأمر ثابت عنده تعالى وإن كان ذلك مستفادا من كونه بما فتح الله تعالى، وقيل: عند ذكر ربكم، فالكلام على حذف مضاف، والمراد من الذكر «الكتاب» وجعل المحاجة بما فتح الله تعالى باعتبار أنه في الكتاب محاجة عنده توسعا وهذه الأقوال مبنية على أن المراد بالمحاجة في الدنيا وهو ظاهر لأنها دار المحاجة والتأويل في قوله تعالى: عِنْدَ رَبِّكُمْ وقيل: عند ربكم على ظاهره- والمحاجة يوم القيامة- واعترض بأن الإخفاء لا يدفع هذه المحاجة لأنه إما لأجل أن لا يطلع المؤمنون على ما يحتجون به- وهو حاصل لهم بالوحي- أو ليكون للمحتج عليهم طريق إلى الإنكار، وذا لا يمكن عنده تعالى يوم القيامة ولا يظن بأهل الكتاب أنهم يعتقدون أن إخفاء ما في الكتاب في الدنيا يدفع المحاجة بكونه فيه في العقبى لأنه اعتقاد منهم بأنه تعالى لا يعلم ما أنزل في كتابه وهم برآء منه، والقول بأن المراد لِيُحَاجُّوكُمْ يوم القيامة وعند المسائل، فيكون زائدا في ظهور فضيحتكم وتوبيخكم على رؤوس الأشهاد في الموقف العظيم، فكان القوم يعتقدون أن ظهور ذلك في الدنيا يزيد ذلك في الآخرة للفرق بين من اعترف وكتم، وبين من ثبت على الإنكار، أو بأن المحاجة بأنكم بلغتم وخالفتم- تندفع بالإخفاء- يرد عليه أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 الإخفاء حينئذ إنما يدفع الاحتجاج بإقرارهم- لا بما فتح الله عليهم على أن المدفوع في الوجه الأول زيادة التوبيخ والفضيحة- لا المحاجة- وقيل: عِنْدَ رَبِّكُمْ بتقدير- من عند ربكم- وهو معمول لقوله تعالى: بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وهو مما لا ينبغي أن يرتكب في فصيح الكلام، وجوز الدامغاني أن يكون عِنْدَ للزلفى أي لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ متقربين إلى الله تعالى- وهو بعيد أيضا- كقول بعض المتأخرين: إنه يمكن أن تجعل المحاجة به عند الرب عبارة عن المباهلة في تحقق ما يحدثونه، وعليه تكون المحاجة على مقتضى المفاعلة- وعندي- أن رجوع ضمير بِهِ لما فتح الله من حيث إنه محدث بِهِ وجعل القيد هو المقصود، أو للتحديث المفهوم من أَتُحَدِّثُونَهُمْ وحمل عِنْدَ رَبِّكُمْ على يوم القيامة، والتزام أن الإخفاء يدفع هذا الاحتجاج ليس بالبعيد- إلا أن أحدا لم يصرح به- ولعله أولى من بعض الوجوه فتدبر أَفَلا تَعْقِلُونَ عطف إما على أَتُحَدِّثُونَهُمْ- والفاء- لإفادة ترتب عدم عقلهم على تحديثهم، وإما على مقدر أي ألا تتأملون فلا تعقلون، والجملة مؤكدة لإنكار التحديث، وهو من تمام كلام اللائمين، ومفعوله إما ما ذكر أولا، أولا مفعول له- وهو أبلغ- وقيل: هو خطاب من الله تعالى للمؤمنين متصل بقوله تعالى : أَفَتَطْمَعُونَ والمعنى أفلا تعقلون حال هؤلاء اليهود وأن لا مطمع في إيمانهم، وهم على هذه الصفات الذميمة والأخلاق القبيحة، ويبعده قوله تعالى: أَوَلا يَعْلَمُونَ فإنه تجهيل لهم منه تعالى فيما حكي عنهم فيكون توسيط خطاب المؤمنين في أثنائه من قبيل الفصل بين الشجرة ولحائها على أن في تخصيص الخطاب بالمؤمنين تعسفا ما، وفي تعميمه للنبي صلّى الله عليه وسلّم سوء أدب- كما لا يخفى- والاستفهام فيه للإنكار مع التقريع لأن أهل الكتاب كانوا عالمين بإحاطة علمه تعالى والمقصود بيان شناعة فعلهم بأنهم يفعلون ما ذكر مع علمهم. أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ وفيه إشارة إلى أن الآتي بالمعصية مع العلم بكونها معصية أعظم وزرا- والواو- للعطف على مقدر ينساق إليه الذهن- والضمير للموبخين- أي أيلومونهم على التحديث المذكور مخافة المحاجة ولا يعلمون ما ذكر، وقيل: الضمير للمنافقين فقط، أو لهم وللموبخين، أو لآبائهم المحرفين، والظاهر حمل ما في الموضعين على العموم ويدخل فيه الكفر الذي أسروه، والإيمان الذي أعلنوه، واقتصر بعض المفسرين عليهما، وقيل: العداوة والصداقة، وقيل: صفته صلى الله تعالى عليه وسلم التي في التوراة المنزلة والصفة التي أظهروها افتراء على الله تعالى، وقدم سبحانه الإسرار على الإعلان، إما لأن مرتبة السر متقدمة على مرتبة العلن إذ ما من شيء يعلن إلا وهو أو مباديه قبل ذلك مضمر في القلب يتعلق به الإسرار غالبا، فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية، وإما للإيذان بافتضاحهم ووقوع ما يحذرونه من أول الأمر، وإما للمبالغة في بيان شمول علمه المحيط بجميع الأشياء كان علمه بما يسرون أقدم منه بما يعلنونه مع كونهما- في الحقيقة- على السوية، فإن علمه تعالى ليس بطريق حصول الصورة، بل وجود كل شيء في نفسه علم بالنسبة إليه تعالى، وفي هذا المعنى لا يختلف الحال بين الأشياء البارزة ولا الكامنة، وعكس الأمر في قوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة: 284] لأن الأصل فيما تتعلق المحاسبة به هو الأمور البادية دون الخافية، وقرأ ابن محيصن «أو لا تعلمون» - بالتاء- فيحتمل أن يكون ذلك خطابا للمؤمنين أو خطابا لهم، ثم إنه تعالى أعرض عن خطابهم وأعاد الضمير إلى الغيبة إهمالا لهم، ويكون ذلك من باب الالتفات. وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ مستأنفة مسوقة لبيان قبائح جهلة اليهود أثر بيان شنائع الطوائف السالفة، وقيل: عطف على قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ وعليه الجمع، وقيل: على وَإِذا لَقُوا واختار بعض المتأخرين أنه وهذا الذي عطف عليه اعتراض وقع في البين لبيان أصناف اليهود استطرادا لأولئك المحرفين، و «الأميون» جمع- أمي- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 وهو- كما في المغرب- من لا يكتب ولا يقرأ منسوب إلى أمة العرب الذين كانوا لا يكتبون ولا يقرؤون، أو إلى الأم بمعنى أنه كما ولدته أمه، أو إلى أم القرى لأن أهلها لا يكتبون غالبا، والمراد أنهم جهلة، والْكِتابَ التوراة- كما يقتضيه سباق النظم وسياقه- فاللام- فيه إما للعهد أو أنه من الأعلام الغالبة، وجعله مصدر كتب كتابا- واللام- للجنس بعيد، وقرأ ابن أبي عبلة أُمِّيُّونَ بالتخفيف إِلَّا أَمانِيَّ جمع- أمنية- وأصلها- أمنونة أفعولة وهو في الأصل ما يقدره الإنسان في نفسه من- منى- إذا قدر، ولذلك تطلق على الكذب وعلى ما يتمنى وما يقرأ، والمروي عن ابن عباس ومجاهد رضي الله عنهم أن- الأماني- هنا- الأكاذيب- أي إلا أكاذيب أخذوها تقليدا من شياطينهم المحرفين، وقيل: إلا ما هم عليه من أمانيهم أن الله تعالى يعفو عنهم ويرحمهم، ولا يؤاخذهم بخطاياهم وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، وقيل إلا مواعيد مجردة سمعوها من أحبارهم من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا، وأن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة- واختاره أبو مسلم- والاستثناء على ذلك منقطع لأن ما هم عليه من الأباطيل، أو سمعوه من الأكاذيب ليس من الكتاب، وقيل: إلا ما يقرؤون قراءة عادية عن معرفة المعنى وتدبره، فالاستثناء حينئذ متصل بحسب الظاهر، وقيل: منقطع أيضا إذ ليس ما يتلى من جنس علم الكتاب، واعترض هذا الوجه بأنه لا يناسب تفسير الآتي بما في المغرب، وأجيب بأن معناه أنه لا يقرأ من الْكِتابَ ولا يعلم الخط، واما على سبيل الأخذ من الغير فكثيرا ما يقرؤون من غير علم بالمعاني، ولا بصور الحروف، وفيه تكلف إذ لا يقال للحافظ الأعمى: إنه أمي، نعم إذا فسر الأمي بمن لا يحسن الكتابة والقراءة على ما ذهب إليه جمع لا ينافي أن يكتب ويقرأ في الجملة واستدل على ذلك بما روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم صلح الحديبية أخذ الكتاب- وليس يحسن الكتب- فكتب «هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله» إلخ، ومن فسر الأمي بما تقدم أول الحديث بأن كتب فيه بمعنى أمر بالكتابة، وأطال بعض شراح الحديث الكلام في هذا المقام- وليس هذا محله. وقرأ أبو جعفر والأعرج وابن جماز عن نافع، وهارون عن أبي عمرو و «أماني» بالتخفيف وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ الاستثناء مفرغ والمستثنى محذوف أقيمت صفته مقامه، أي ما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظن من غير أن يصلوا إلى مرتبة العلم- فأنى يرجى منهم الإيمان المؤسس على قواعد اليقين- وقد يطلق الظن على ما يقابل العلم اليقيني عن دليل قاطع سواء قطع بغير دليل، أو بدليل غير صحيح أو لم يقطع، فلا ينافي نسبة الظن إليهم إن كانوا جازمين. فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ- الويل- مصدر لا فعل له من لفظه، وما ذكر من قولهم: وال مصنوع- كما في البحر- ومثله ويح وويب وويس وويه وعول، ولا يثنى ولا يجمع ويقال ويلة ويجمع على ويلات وإذا أضيف فالأحسن فيه النصب- ولا يجوز غيره عند بعض- وإذا أفردته اختير- الرفع- ومعناه الفضيحة والحسرة وقال الخليل: شدة الشر، وابن المفضل- الحزن- وغيرهما- الهلكة- وقال الأصمعي: هي كلمة تفجع وقد تكون ترحما ومنه- ويل أمه مسعر حرب- وورد من طرق صححها الحفاظ عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «الويل واد في جهنم يهوي به الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره» وفي بعض الروايات «إنه جبل فيها» وإطلاقه على ذلك إما حقيقة شرعية، وإما مجاز لغوي من إطلاق لفظ الحل على المحل ولا يمكن أن يكون حقيقة لغوية لأن العرب تكلمت به في نظمها ونثرها قبل أن يجيء القرآن ولم تطلقه على ذلك وعلى كل حال هو هنا مبتدأ خبره لِلَّذِينَ فإن كان علما لما في الخبر فظاهر، وإلا فالذي سوغ الابتداء به كونه دعاء، وقد حول عن المصدر المنصوب للدلالة على الدوام والثبات، ومثله يجوز فيه ذلك لأنه غير مخبر عنه، وقيل: لتخصص النكرة فيه بالداعي كما تخصص سلام في- سلام عليك- بالمسلم فإن المعنى سلامي عليك وكذلك المعنى هاهنا دعائي عليهم بالهلك ثابت لهم- والكتابة معروفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 وذكر الأيدي تأكيدا لدفع توهم المجاز، ويقال: أول من كتب بالقلم إدريس، وقيل: آدم عليهما السلام، والمراد ب الْكِتابَ المحرف، وقد روي أنهم كتبوا في التوراة ما يدل على خلاف صورة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وبثوها في سفهائهم وفي العرب وأخفوا تلك النسخ التي كانت عندهم بغير تبديل وصاروا إذا سئلوا عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقولون: ما هذا هو الموصوف عندنا في التوراة ويخرجون التوراة المبدلة ويقرؤونها ويقولون: هذه التوراة التي أنزلت من عند الله، ويحتمل أن يكون المراد به ما كتبوه من التأويلات الزائغة وروّجوه على العامة، وقد قال بعض العلماء: ما انفك كتاب منزل من السماء من تضمن ذكر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولكن بإشارة لا يعرفها إلا العالمون، ولو كان متجليا للعوام لما عوتب علماؤهم في كتمانه، ثم ازداد ذلك غموضا بنقله من لسان إلى لسان، وقد وجد في التوراة ألفاظ إذا اعتبرتها وجدتها دالة على صحة نبوته عليه الصلاة والسلام بتعريض هو عند الراسخين جلي، وعند العامة خفي، فعمد إلى ذلك أحبار من اليهود فأوّلوه، وكتبوا تأويلاتهم المحرفة بأيديهم ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إعظاما لشأنه وتمكينا له في قلوب أتباعهم الأميين، وثُمَّ للتراخي الرتبي، فإن نسبة المحرف والتأويل الزائغ إلى الله سبحانه صريحا أشد شناعة من نفس التحريف والتأويل، والإشارة إما إلى الجميع، أو إلى الخصوص. لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أي ليحصلوا- بما أشاروا إليه- غرضا من أغراض الدنيا الدنيئة، وهو- وإن جل- أقل قليل بالنسبة إلى ما استوجبوه من العذاب الدائم، وحرموه من الثواب المقيم، وهو علة للقول- كما في البحر- ولا أرى في الآية دليلا على المنع من أخذ الأجرة على كتابة المصاحف، ولا على كراهية بيعها، والأعمش تأول الآية واستدل بها على الكراهة- وطرف المنصف أعمى عن ذلك- نعم ذهب إلى الكراهة جمع «منهم» ابن عمر رضي الله تعالى عنهما- وبه قال بعض الأئمة- لكن لا أظنهم يستدلون بهذه الآية، وتمام البحث في محله. فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ- الفاء- لتفصيل ما أجمل في قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ إلخ، حيث يدل على ثبوت الويل للموصوفين بما ذكر لأجل اتصافهم به بناء على التعليق بالوصف من غير دلالة على أن ثبوته لأجل مجموع ما ذكر أولا- بل كل واحد- فبين ذلك بقوله: (ويل لهم) إلخ مع ما فيه من التنصيص بالعلة، ولا يخفى ما في هذا الإجمال والتفصيل من المبالغة في الوعيد الزجر والتهويل. و (من) تعليلية متعلقة ب وَيْلٌ أو بالاستقرار في الخبر، وما قيل: موصولة اسمية، والعائد محذوف، أي «كتبته» وقيل: مصدرية «والأول» أدخل في الزجر عن تعاطي المحرف «والثاني» في الزجر عن التحريف و (ما) الثانية مثلها، ورجح بعضهم المصدرية في الموضعين- لفظا ومعنى- لعدم تقدير العائد، ولأن مكسوب العبد حقيقة فعله الذي يعاقب عليه ويثاب، وذكر بعض المحققين أن التحقيق أن العبد كما يعاقب على نفس فعله، يعاقب على أثر فعله لإفضائه إلى حرام آخر- وهو هنا يفضي إلى إضلال الغير وأكل الحرام- وغاير بين الآيتين بأنه بين «في الأولى» استحقاقهم العقاب بنفس الفعل «وفي الثانية» استحقاقهم له بأثره، ولذا جاء- بالفاء- ولا يخفى أنه كلام خال عن التحقيق- كما لا يخفى على أرباب التدقيق- ومما ذكرنا ظهر فائدة ذكر- الويل- ثلاث مرات، وقيل: فائدته أن اليهود جنوا ثلاث جنايات. تغيير صفة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، والافتراء على الله تعالى، وأخذ الرشوة. فهددوا بكل جناية- بالويل- وكأنه جعل محط الفائدة في قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ إلى آخر المعطوف كما في خبر «لا يؤمّن الرجل قوما فيخص نفسه بالدعاء» وهو- على بعده- لا يظهر عليه وجه إيراد- الفاء- في الثاني، ثم الظاهر أن مفعول الكسب خاص- وهو ما دل عليه سياق الآية- وقيل: المراد ب مِمَّا يَكْسِبُونَ جميع الأعمال السيئة ليشمل القول- ولا يخفى بعده- وعدم التعرض للقول لما أنه من مبادئ ترويج مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ والآية نزلت في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 أحبار اليهود الذين خافوا أن تذهب رئاستهم بإبقاء صفة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على حالها فغيروها، وقيل: خاف ملوكهم على ملكهم- إذا آمن الناس- فرشوهم فحرفوا، والقول بأنها نزلت في الذين لم يؤمنوا بنبي ولم يتبعوا كتابا، بل كتبوا بأيديهم كتابا وحللوا فيه ما اختاروا، وحرّموا ما اختاروا، وقالوا: هذا من عند الله غير مرضي، كالقول بأنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح كاتب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يغير القرآن فارتد وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً جملة حالية معطوفة على قوله تعالى: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ عند فريق منهم، وعند آخرين على وَإِذْ قَتَلْتُمْ عطف قصة على قصة، واختار بعض المحققين أنها اعتراض لرد ما قالوا حين أوعدوا- على ما تقدم- بالويل- بل جميع الجمل عنده من قوله تعالى: أَفَتَطْمَعُونَ إلى قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ إلخ، ذكر استطرادا بين القصتين المعطوفتين، فالضمير في قالُوا عائد على لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ- والمس- اتصال أحد الشيئين بآخر- على وجه الإحساس والإصابة- وذكر الراغب أنه كاللمس، لكن اللمس قد يقال لطلب الشيء- وإن لم يوجد- كقوله: وألمسه فلا أجده والمراد من النَّارُ نار الآخرة، ومن «المعدودة» المحصورة القليلة، وكني- بالمعدودة- عن القليلة لما أن الأعراب لعدم علمهم بالحساب وقوانينه تصور القليل متيسر العدد والكثير متعسره، فقالوا: شيء معدود- أي قليل- وغير معدود- أي كثير- والقول بأن- القلة- تستفاد من أن الزمان- إذا كثر- لا يعد بالأيام، بل بالشهور والسنة والقرن يشكل بقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ إلى أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ [البقرة: 184] وبقوله سبحانه: واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [البقرة: 51] وروي عنهم أنهم يعذبون أربعين يوما عدد عبادتهم العجل، ثم ينادى أخرجوا كل مختون من بني إسرائيل، وفي رواية أنهم يعذبون سبعة أيام لكل ألف سنة من أيام الدنيا يوم، وهي سبعة آلاف سنة. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أنهم زعموا أنهم وجدوا مكتوبا في التوراة إن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم، وأنهم يقطعون في كل يوم مسيرة سنة فيكملونها، وقد قالوا ذلك حين دخل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة وسمعه المسلمون فنزلت هذه الآية. قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً تبكيت لهم وتوبيخ- والعهد- مجاز عن خبره تعالى، أو وعده بعدم مساس النار لهم سوى- الأيام المعدودة- وسمي ذلك عَهْداً لأنه أوكد من العهود المؤكدة بالقسم والنذر، وفسره قتادة هنا بالوعد مستشهدا بقوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ [التوبة: 75] إلى قوله سبحانه: بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ [التوبة: 77] . «واعترض» بأنه لا وجه للتخصيص، فإن لَنْ تَمَسَّنَا إلخ فرع الوعد والوعيد لأن مساس النار وعيد، وأجيب بأنه إنما لم يتعرض للوعيد، لأن المقصود بالاستفهام الوعد- لا الوعيد- فإنه ثابت في حقهم. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن معنى الآية هل قلتم لا إله إلا الله وآمنتم وأطعتم فتستدلون بذلك وتعلمون خروجكم من النار؟ ويؤول إلى هل أسلفتم عند الله أعمالا توجب ما تدعون؟ والمعنى الأول أظهر. وقرأ ابن كثير وحفص بإظهار- الذال- والباقون بإدغامه، وحذفت من اتخذ- همزة الوصل- لوقوعها في الدرج. فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ جواب شرط مقدر، أي إن اتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف وقدره العلامة إن كنتم اتخذتم- إذ ليس المعنى على الاستقبال- وهو مبني على أن حرف الشرط لا يغير معنى- كان- وفيه خلاف معروف «فإن قلت» لا يصح جعل فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ جزاء لامتناع السببية والترتب لكون «لن» لمحض الاستقبال «قلت» ذلك ليس بلازم في- الفاء الفصيحة- كقوله: قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ... ثم القفول فقد جئنا خراسانا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 - ولو سلم- فقد ترتب على اتخاذ العهد الحكم بأنه لا يخلف العهد فيما يستقبل من الزمان فقط، كما في قوله تعالى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل: 53] كذا أفاده العلامة، والجواب الأول مبني على أن- الفاء الفصيحة- لا تنافي تقدير الشرط، وأنها تفيد كون مدخولها سببا عن المحذوف سواء ترتب عليه أو تأخر لتوقفه على أمر آخر بدليل أن قوله: فقد جئنا خراسانا علم عندهم في- الفصيحة- مع كونه بتقدير الشرط وعدم الترتب- كما في شرح المفتاح الشريفي- ومبنى الثاني على أن المراد حكمهم لا حكمه تعالى حين النزول، ولخفاء ذلك قال المولى عصام:- الأظهر- أنه دليل الجزاء وضع موضعه، أي إن كنتم اتخذتم عند الله عهدا فقد نجوتم لأنه لن يخلف الله عهده فافهم. ومن الناس من لا يقدر محذوفا ويجعل- الفاء- سببية ليكون اتخاذ العهد مترتبا عليه عدم اخلاف الله تعالى عهده ويكون المنكر حينئذ المجموع فتفطن. وهذه الجملة- كما قال ابن عطية- اعتراضية بين أَتَّخَذْتُمْ والمعادل فلا موضع لها من الإعراب، وإظهار الاسم الجليل للإشعار بعلة الحكم فإن عدم الاختلاف من قضية الألوهية والعهد مضاف إلى ضميره تعالى لذلك أيضا، أو لأن المراد به جميع عهوده لعمومه بالإضافة، فيدخل العهد المعهود مع التجافي عن التصريح بتحقق مضمون كلامهم، وإن كان معلقا على الاتخاذ المعلق بحبال العدم واستدل بالآية من ذهب إلى نفي الخلف في الوعد والوعيد بحمل العهد على الخبر الشامل لهما، وادعى بعضهم أن العهد ظاهر في الوعد بل حقيقة عرفية فيه فلا دليل فيها على نفي الخلف في الوعيد. أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أَمْ يحتمل أن تكون متصلة للمعادلة بين شيئين بمعنى أي هذين واقع اتخاذكم العهد- أم قولكم على الله ما لا تعلمون- وخرج ذلك مخرج المتردد في تعيينه على سبيل التقرير لأولئك المخاطبين لعلم المستفهم- وهو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم- بوقوع أحدهما، وهو قولهم بما لا يعلمون على التعيين فلا يكون الاستفهام على حقيقته، ويعلم من هذا أن الواقع بعد أَمْ المتصلة قد يكون جملة لأن التسوية قد تكون بين الحكمين- وبهذا صرح ابن الحاجب في الإيضاح، ويحتمل أن تكون منقطعة بمعنى- بل- والتقدير بل أتقولون، ومعنى بل فيها الإضراب والانتقال من التوبيخ بالإنكار على الاتخاذ إلى ما تفيد همزتها من التوبيخ على القول، وظاهر كلام صاحب المفتاح تعين الانقطاع حيث جعل علامة المنقطعة كون ما بعدها جملة، وإنما علق التوبيخ بإسنادهم إليه سبحانه وتعالى ما لا يعلمون وقوعه مع أن ما أسندوه إليه تعالى من قبيل ما يعلمون عدم وقوعه المبالغة في التوبيخ فإن التوبيخ على الأدنى يستلزم التوبيخ على الأعلى بطريق الأولى، وقولهم المحكي- وإن لم يكن صريحا بالافتراء عليه جل شأنه- لكنه مستلزم له لأن ذلك الجزم لا يكون إلا بإسناد سببه إليه تعالى. بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ جواب عن قولهم المحكي وإبطال له على وجه أعم شامل لهم ولسائر الكفرة، كأنه قال: بل تمسكم وغيركم دهرا طويلا وزمانا مديدا- لا كما تزعمون- ويكون ثبوت الكلية كالبرهان على إبطال ذلك بجعله كبرى لصغرى سهلة الحصول فبلى داخلة على ما ذكر بعدها وإيجاز الاختصار أبلغ من إيجاز الحذف، وزعم بعضهم أنها داخلة على محذوف وأن المعنى على تمسكم أياما معدودة- وليس بشيء- وهي حرف جواب- كجير ونعم- إلا أنها لا تقع جوابا إلا لنفي متقدم سواء دخله استفهام أم لا، فتكون إيجابا له وهي بسيطة. وقيل: أصلها- بل- فزيدت عليها- الألف- والكسب جلب النفع- والسيئة- الفاحشة الموجبة للنار، قاله السدي، وعليه تفسير من فسرها بالكبيرة لأنها التي توجب النار- أي يستحق فاعلها النار إن لم يغفر له- وذهب كثير من السلف إلى أنها هنا- الكفر.. وتعليق- الكسب بالسيئة- على طريقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 التهكم، وقيل: إنهم بتحصيل السيئة استجلبوا نفعا قليلا فانيا، فبهذا الاعتبار أوقع عليه الكسب، والمراد- بالإحاطة- الاستيلاء والشمول وعموم الظاهر والباطن- والخطيئة- السيئة، وغلبت فيما يقصد بالعرض أي لا يكون مقصودا في نفسه بل يكون القصد إلى شيء آخر، لكن تولد منه ذلك الفعل كمن رمى صيدا فأصاب إنسانا، وشرب مسكرا فجنى جناية، قال بعض المحققين: ولذلك أضاف الإحاطة إليها إشارة إلى أن السيئات باعتبار وصف الإحاطة داخلة تحت القصد بالعرض لأنها بسبب نسيان التوبة، ولكونها راسخة فيه متمكنة حال الإحاطة أضافها إليه بخلاف حال الكسب فإنها متعلق القصد بالذات وغير حاصلة فيه فضلا عن الرسوخ، فلذا أضاف الكسب إلى سيئة ونكرها، وإضافة الأصحاب إلى النار على معنى الملازمة، لأن الصحبة وإن شملت القليل والكثير لكنها في العرف تخص بالكثرة والملازمة ولذا قالوا: لو حلف من لاقى زيدا أنه لم يصحبه لم يحنث، والمراد- بالخلود- الدوام، ولا حجة في الآية على خلود صاحب الكبيرة لأن الإحاطة إنما تصح في شأن الكافر لأن غيره إن لم يكن له سوى تصديق قلبه وإقرار لسانه فلم تحط خطيئته به لكون قلبه ولسانه منزها عن الخطيئة، وهذا لا يتوقف على كون التصديق والإقرار حسنتين، بل على أن لا يكونا سيئتين فلا يرد البحث بأن الخصم يجعل العمل شرطا لكونهما حسنتين كما يجعل الاعتقاد شرطا لكون الأعمال حسنات فلا يتم عنده أن الإحاطة إنما تصح في شأن الكافر، ولا يحتاج إلى الدفع بأن المقصود أنه لا حجة له في الآية، وهذا يتم بمجرد كون الإحاطة ممنوعة في غير الكافر، فلو ثبت أن العمل داخل في الإيمان صارت الآية حجة- ودون إثباته خرط القتاد- ثم إن نفي الحجية بحمل الإحاطة على ما ذكر إنما يحتاج إليه إذا كانت السيئة والخطيئة بمعنى واحد- وهو مطلق الفاحشة- أما إذا فسرت السيئة بالكفر أو- الخطيئة- به حسبما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأبي هريرة رضي الله تعالى عنه وابن جرير عن أبي وائل ومجاهد وقتادة وعطاء والربيع، فنفي الحجية أظهر من نار على علم. ومن الناس من نفاها بحمل- الخلود- على أصل الوضع وهو اللبث الطويل- ليس بشيء- لأن فيه تهوين الخطب في مقام التهويل مع عدم ملائمته حمل الخلود في الجنة على الدوام، وكذا لا حجة في قوله تعالى: وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلخ بناء على ما زعمه الجبائي حيث قال: دلت الآية على أنه تعالى ما وعد موسى ولا سائر الأنبياء بعده بإخراج أهل الكبائر والمعاصي من النار بعد التعذيب، وإلا لما أنكر على اليهود بقوله تعالى: قُلْ أَتَّخَذْتُمْ إلخ وقد ثبت أنه تعالى أوعد العصاة بالعذاب زجرا لهم عن المعاصي فقد ثبت أن يكون عذابهم دائما وإذا ثبت في سائر الأمم وجب ثبوته في هذه الأمة إذ الوعيد لا يجوز أن يختلف في الأمم إذا كان قدر المعصية واحدا لأن ما أنكر الله عليهم جزمهم بقلة العذاب لانقطاعه مطلقا- على أن ذلك في حق الكفار لا العصاة كما لا يخفى- ومَنْ تحتمل أن تكون شرطية، وتحتمل أن تكون موصولة، والمسوغات لجواز دخول- الفاء- في الخبر إذا كان المبتدأ موصولا موجودة، ويحسن الموصولية مجيء الموصول في قسيمه وإيراد اسم الإشارة المنبئ عن استحضار المشار إليه بما له من الأوصاف للإشعار بعليتها لصاحبية النار وما فيه من معنى البعد للتنبيه على بعد متزلتهم في الكفر والخطايا، وإنما أشير إليهم بعنوان الجمعية مراعاة الجانب المعنى في كلمة مَنْ بعد مراعاة جانب اللفظ في الضمائر الثلاثة لما أن ذلك هو المناسب لما أسند إليهم في تينك الحالتين، فإن كسب السيئة وإحاطة الخطيئة به في حالة الإفراد- وصاحبية النار في حالة الاجتماع- قاله بعض المحققين- ولا يخلو عن حسن- وقرأ نافع «خطيئاته» وبعض «خطياه» و «خطيته» و «خطياته» بالقلب والإدغام، واستحسنوا قراءة الجمع بأن الإحاطة لا تكون بشيء واحد، ووجهت قراءة الإفراد بأن- الخطيئة- وإن كانت مفردة لكنها لإضافتها متعددة، مع أن الشيء الواحد قد يحيط كالحلقة فلا تغفل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ لما ذكر سبحانه أهل النار وما أعد لهم من الهلاك أتبع ذلك بذكر أهل الإيمان وما أعد لهم من الخلود في الجنان، وقد جرت عادته جل شأنه على أن يشفع وعده بوعيده مراعاة لما تقتضيه الحكمة في إرشاد العباد من الترغيب تارة والترهيب أخرى، وقيل: إن في الجمع تربية الوعيد بذكر ما فات أهله من الثواب، وتربية الوعد بذكر ما نجا منه أهله من العقاب، وعطف العمل على الإيمان يدل على خروجه عن مسماه- إذ لا يعطف الجزء على الكل- ولا يدل على عدم اشتراطه به حتى يدل على أن صاحب الكبيرة غير خارج عن الإيمان، وتكون الآية حجة على الوعيدية- كما قاله المولى عصام- فإن قلت: للمخالف أن يقول: العطف للتشريف لكون العمل أشق وأحمز من التصديق وأفضل الأعمال أحمزها، أجيب بأن الإيمان أشرف من العمل لكونه أساس جميع الحسنات إذ الأعمال ساقطة عن درجة الاعتبار عند عدمه ويخطر في البال أنه يمكن أن يكون لذكر العمل الصالح هنا مع الإيمان نكتة، وهو أن يكون الإيمان في مقابلة السيئة المفسرة بالكفر- عند بعض- والعمل الصالح في مقابلة الخطيئة المفسرة بما عداه والمراد من الَّذِينَ آمَنُوا أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ومؤمنو الأمم قبلهم، قاله ابن عباس وغيره- وهو الظاهر- وقال ابن زيد: المراد بهم النبي صلّى الله عليه وسلّم وأمته خاصة وذكر- الفاء- فيما سبق وتركها هنا إما لأن الوعيد من الكريم مظنة الخلف دون الوعد فكان الأول حريا بالتأكيد دون الثاني، وإما للإشارة إلى سبق الرحمة فإن النحاة قالوا: من دخل داري فأكرمه- يقتضي إكرام كل داخل لكن على خطر أن لا يكرم- وبدون- الفاء- يقتضي إكرامه البتة، وإما للإشارة إلى أن خلودهم من النار بسبب أفعالهم السيئة وعصيانهم وخلودهم في الجنة بمحض لطفه تعالى وكرمه، وإلا فالإيمان والعمل الصالح لا يفي بشكر ما حصل للعبد من النعم العاجلة- وإلى كل ذهب بعض- والقول بأن ترك- الفاء- هنا لمزيد الرغبة في ذكر ما لهم ليس بشيء وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ شروع في تعداد بعض آخر من قبائح أسلاف اليهود مما ينادي باستبعاد إيمان أخلافهم، وقيل: إنه نوع آخر من النعم التي خصهم الله تعالى بها، وذلك لأن التكليف بهذه الأشياء موصل إلى أعظم النعم- وهو الجنة- والموصل إلى النعمة نعمة، وهذا- الميثاق- ما أخذ عليهم على لسان موسى وغيره من أنبيائهم عليهم السلام، أو ميثاق أخذ عليهم في التوراة، وقول مكي: إنه ميثاق أخذه الله تعالى عليهم وهم في أصلاب آبائهم كالذر لا يظهرهم وجهه هنا. لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ على إرادة القول أي قلنا أو قائلين ليرتبط بما قبله وهو إخبار في معنى النهي كقوله تعالى: لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ [البقرة: 282] وكما تقول: تذهب إلى فلان وتقول له كيت وكيت، وإلى ذلك ذهب الفراء، ويرجحه أنه أبلغ من صريح النهي لما فيه من إيهام أن المنهي كأنه سارع إلى ذلك فوقع منه حتى أخبر عنه بالحال أو الماضي أي ينبغي أن يكون كذلك فلا يرد أن حال المخبر عنه على خلافه وأنه قرأ ابن مسعود «لا تعبدوا» على النهي وأن قُولُوا عطف عليه فيحصل التناسب المعنوي بينهما في كونهما إنشاء، وإن كان يجوز عطف الإنشاء على الإخبار فيما له محل من الإعراب، وقيل: تقديره أن لا تعبدوا، فلما حذف الناصب ارتفع الفعل، ولا يجب الرفع بعد الحذف في مثل ذلك خلافا لبعضهم- وإلى هذا ذهب الأخفش- ونظيره من نثر العرب مره يحفرها ومن نظمها. ألا أيهذا الزاجري احضر الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي ويؤيد هذا قراءة «أن لا تعبدوا» ويضعفه أن أن لا تحذف قياسا في مواضع ليس هذا منها، فلا ينبغي تخريج الآية عليه، وعلى تخريجها عليه فهو مصدر مؤول بدل من الميثاق أو مفعول به بحذف حرف الجر أي بأن لا أو على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 أن لا، وقيل: إنه جواب قسم دل عليه الكلام، أي حلفناهم لا تعبدون، أو جواب الميثاق نفسه لأن له حكم القسم، وعليه يخلو الكلام عما مر في وجه رجحان الأول، وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو عمرو، وعاصم، ويعقوب- بالتاء- حكاية لما خوطبوا به والباقون- بالياء- لأنهم غيب، وفي الآية حينئذ التفاتان في- لفظ الجلالة- ويعبدون. وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً متعلق بمضمر تقديره وتحسنون، أو أحسنوا، والجملة معطوفة على تعبدون وجوّز تعلقه ب إِحْساناً وهو يتعدى بالباء، وإلى أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ [يوسف: 100] وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص: 77] ومنع تقدم معمول المصدر عليه مطلقا ممنوع، ومن المعربين من قدر استوصوا ف «بالوالدين» متعلق به و «إحسانا» مفعوله، ومنهم من قدر ووصيناهم فإحسانا مفعول لأجله، والوالدان تثنية والد لأنه يطلق على الأب والأم أو تغليب بناء على أنه لا يقال إلا للأب كما ذهب إليه الحلبي، وقد دلت الآية على الحث ببر الوالدين وإكرامهما، والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة، وناهيك احتفالا بهما أن الله عز اسمه قرن ذلك بعبادته. وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ عطف على «الوالدين» والْقُرْبى مصدر كالرجعى- والألف- فيه للتأنيث وهي قرابة الرحم والصلب. وَالْيَتامى وزنه فعالى- وألفه- للتأنيث، وهو جمع يتيم كنديم وندامى، ولا ينقاس، ويجمع على أيتام. واليتم أصل معناه الانفراد، ومنه الدرة اليتيمة، وقال ثعلب: الغفلة، وسمي اليتيم يتيما لأنه يتغافل عن بره، وقال أبو عمرو: الإبطاء لإبطاء البر عنه، وهو في الآدميين من قبل الآباء- ولا يتم بعد بلوغ- وفي البهائم من قبل الأمهات، وفي الطيور من جهتهما. وحكى الماوردي أنه يقال في الآدميين لمن فقدت أمه أيضا- والأول هو المعروف وَالْمَساكِينِ جمع مسكين على وزن مفعيل مشتق من السكون، كأن الحاجة أسكنته- فالميم- زائدة كمحضر من الحضور، وروي تمسكن فلان- والأصح تسكن أي صار مسكينا- والفرق بينه وبين الفقير معروف- وسيأتي إن شاء الله تعالى- وقد جاء هذا الترتيب اعتناء بالأوكد فالأوكد، فبدأ ب بِالْوالِدَيْنِ إذ لا يخفى تقدمهما على كل أحد في الإحسان إليهما، ثم ب ذِي الْقُرْبى لأن صلة الأرحام مؤكدة، ولمشاركة بِالْوالِدَيْنِ في القرابة وكونهما منشأ لها وقد ورد في الأثر أن الله تعالى خاطب الرحم فقال: أنت الرحم وأنا الرحمن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ثم باليتامى لأنهم لا قدرة لهم تامة على الاكتساب، وقد جاء «أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين» وأشار صلّى الله عليه وسلّم إلى السبابة والوسطى وتأخرت درجة الْمَساكِينِ لأن المسكين يمكنه أن يتعهد نفسه بالاستخدام ويصلح معيشته مهما أمكن بخلاف اليتيم- فإنه لصغره لا ينتفع به- ويحتاج إلى من ينفعه، وأفرد ذِي الْقُرْبى - كما في البحر- لأنه أريد به الجنس، ولأن إضافته إلى المصدر يندرج فيه كل ذي قرابة، وكأن فيه إشارة إلى أن ذوي القربى- وإن كثروا- كشيء واحد لا ينبغي أن يضجر من الإحسان إليهم وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً أي قولا حسنا- سماه به للمبالغة- وقيل: هو لغة في الحسن كالبخل والبخل والرشد والرشد، والعرب والعرب، والمراد قولوا لهم القول الطيب وجاوبوهم بأحسن ما يحبون- قاله أبو العالية- وقال سفيان الثوري: مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: قولوا لهم لا إله إلا الله مروهم بها، وقال ابن جريج: أعلموهم بما في كتابكم من صفة رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم- وقول أبي العالية في المرتبة العالية- والظاهر أن هذا الأمر من جملة الميثاق المأخوذ على بني إسرائيل: ومن قال: إن المخاطب به الأمة وهو محكم أو منسوخ بآية السيف أو إن لناس مخصوص بصالحي المؤمنين إذ لا يكون القول الحسن مع الكفار والفساق لأنا أمرنا بلعنهم وذمهم ومحاربتهم فقد أبعد- وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب «حسنا» - بفتحتين- وعطاء وعيسى- بضمتين- وهي لغة الحجاز وأبو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 طلحة بن مصرف «حسنى» على وزن فعلى، واختلف في وجهه فقيل: هو مصدر كرجعى، واعترضه أبو حيان بأنه غير مقيس لم يسمع فيه، وقيل: هو صفة كحبلى أي مقالة أو كلمة «حسنى» وفي الوصف بها وجهان «أحدهما» أن تكون باقية على أنها للتفضيل واستعمالها بغير الألف واللام والإضافة للمعرفة نادر وقد جاء ذلك في الشعر كقوله: وإن دعوت إلى جلى ومكرمة ... يوما كرام سراة الناس فادعينا «وثانيهما» أن تجرد عن التفضيل فتكون بمعنى- حسنة- كما قالوا ذلك في «يوسف أحسن إخوته» وقرأ الجحدري «إحسانا» على أنه مصدر أحسن الذي همزته للصيرورة كما تقول: أعشبت الأرض إعشابا أي صارت ذا عشب وحينئذ نعت لمصدر محذوف أي قولا ذا حسن وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ أراد سبحانه بهما افرض عليهم في ملتهم لأنه حكاية لما وقع في زمان موسى عليه السلام وكانت زكاة أموالهم- كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قربانا تهبط إليها نار فتحملها- وكان ذلك علامة القبول- وما لا تفعل النار به كذلك كان غير متقبل، والقول بأن المراد بهما هذه الصلاة وهذه الزكاة المفروضتان علينا، والخطاب لمن بحضرة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من أبناء اليهود لا غير، والأمر بهما كناية عن الأمر بالإسلام، أو للإيذان بأن الكفار مخاطبون بالفروع أيضا ليس بشيء كما لا يخفى ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ أي أعرضتم عن الميثاق ورفضتموه. وثُمَّ للاستبعاد أو لحقيقة التراخي فيكون توبيخا لهم بالارتداد بعد الانقياد مدة مديدة وهو أشنع من العصيان من الأول، وقد ذكر بعض المحققين أنه إذا جعل ناصب الظرف خطابا له صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين فهذا التفات إلى خطاب بني إسرائيل جميعا بتغليب أخلافهم على أسلافهم لجريان ذكرهم كلهم حينئذ على نهج الغيبة، فإن الخطابات السابقة للأسلاف محكية بالقول المقدر قبل لا تعبدون كأنهم استحضروا عند ذكر جناياتهم فنعيت عليهم- وإن جعل خطابا لليهود المعاصرين- فهذا تعميم للخطاب بتنزيل الأسلاف منزلة الأخلاف كما أنه تعميم للتولي بتنزيل الأخلاف منزلة الأسلاف للتشديد في التوبيخ، وقيل: الالتفات إنما يجيء على قراءة لا يعبدون بالغيبة، وأما على قراءة الخطاب- فلا التفات- ومن الناس من جعل هذا الخطاب خاصا بالحاضرين في زمنه عليه الصلاة والسلام وما تقدم خاصا بمن تقدم، وجعل الالتفات على القراءتين لكنه بالمعنى الغير المصطلح عليه أن (1) كون الالتفات بين خطابين لاختلافهما لم يقل به أهل المعاني- لكنه وقع مثله في كلام بعض الأدباء- وما ذكرناه من التغليب أولى وأحرى خلافا لمن التفت عنه. إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وهم من الأسلاف من أقام اليهودية على وجهها قبل النسخ، ومن الأخلاف من أسلم كعبد الله بن سلام وأضرابه فالقلة في عدد الأشخاص، وقول ابن عطية: إنه يحتمل أن تكون في الإيمان أي لم يبق حين عصوا وكفر آخرهم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم إلا إيمان قليل إذ لا ينفعهم لا يقدم عليهم إلا القليل ممن لم يعط فهما في الألفاظ العربية، وروي عن أبي عمرو وغيره رفع قليل والكثير المشهور في أمثال ذلك النصب لأن ما قبله موجب، واختلفوا في تخريج الرفع فقيل: إن المرفوع تأكيد للضمير أو بدل منه، وجاز لأن تَوَلَّيْتُمْ في معنى النفي أي لم يفوا، وقد خرج غير واحد قوله: صلّى الله عليه وسلّم فيما صح على الصحيح: «العالمون هلكى إلا العالمون، والعالمون هلكى إلا العاملون، والعاملون هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر» وقول الشاعر: وبالصريمة منهم منزل خلق ... عاف تغير إلا النوء والوتد   (1) والظاهر أنه تعليل لغير المصطلح عليه، وعليه المناسب الإتيان باللام أي لأن، ادارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 على ذلك، وقول أبي حيان إنه ليس بشيء إذ ما من إثبات إلا ويمكن تأويله بنفي فيلزم جواز قام القوم إلا زيد بالرفع على التأويل والإبدال- ولم يجوزه النحويون- ليس بشيء كما لا يخفى، وقيل: إن إِلَّا صفة بمعنى غير ظهر إعرابها فيما بعدها، وقد عقد سيبويه لذلك بابا في كتابه فقال: هذا باب ما يكون فيه إلا وما بعدها وصفا بمنزلة غير ومثل، وذكر من أمثلة هذا الباب لو كان معنا رجل إلا زيد لغلبنا لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] وقوله: أينخت فألقت بلدة فوق بلدة ... قليل بها الأصوات إلا بغامها وخرج جمع جميع ما سلف على هذا، وفيه أن ذلك فيما نحن فيه لا يستقيم إلا على مذهب ابن عصفور حيث ذهب إلى أن الوصف ب إِلَّا يخالف الوصف بغيرها من حيث إنه يوصف بها النكرة والمعرفة، والظاهر والمضمر وأما على مذهب غيره- وهو ابن شاهين- بالنسبة إليه من أنه لا يوصف بها إلا إذا كان الموصوف نكرة أو معرفة- بلام الجنس- فلا، والمبرد يشترط في الوصف بها صلاحية البدل في موضعه وقيل: إنه مبتدأ خبره محذوف أي لم يقولوا- ولا يرد عليه شيء مما تقدم- إلا أن فيه كلاما سنذكره إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [الأعراف: 11] وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ جملة معترضة أي وأنتم قوم عادتكم الإعراض والتولي عن المواثيق، ويؤخذ كونه عادتهم من الاسمية الدالة على الثبوت، وقيل: حال مؤكدة- والتولي والإعراض شيء واحد- ويجوز فصل الحال المؤكدة- بالواو- عند المحققين وفرق بعضهم بين التولي والإعراض بأن الأول قد يكون لحاجة تدعو إلى الانصراف مع ثبوت العقد والإعراض هو الانصراف عن الشيء بالقلب، وقيل: إن التولي أن يرجع عوده إلى بدئه، والإعراض أن يترك المنهج ويأخذ في عرض الطريق والمتولي أقرب أمرا من المعرض لأنه متى عزم سهل عليه العود إلى سلوك المنهج والمعرض حيث ترك المنهج واحد في عرض الطريق يحتاج إلى طلب منهجه فيعسر عليه العود إليه. ومن الناس من جوز أن يكون معرضون على ظاهره، والجملة حال مقيدة أي لم يتول القليل وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ عنهم ساخطون لهم فيكون وفي ذلك مزيد توبيخ لهم ومدحا للقليل- فهو بعيد- كالقول بأنها مقيدة ومتعلق التولي والإعراض مختلف أي توليتم على المضي في الميثاق وأعرضتم عن اتباع هذا النبي صلّى الله عليه وسلّم. وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ على نحو ما سبق في لا تَعْبُدُونَ والمراد أن لا يتعرض بعضكم بعضا بالقتل والإجلاء وجعل قتل الرجل غيره قتل نفسه لاتصاله نسبا أو دينا، أو لأنه يوجبه قصاصا، ففي الآية مجاز، إما في ضمير- كم- حيث عبر به عمن يتصل به أو في تَسْفِكُونَ حيث أريد به ما هو سبب السفك. وقيل: معناه لا ترتكبوا ما يبيح سفك دمائكم وإخراجكم من دياركم، أو لا تفعلون ما يرديكم ويصرفكم عن لذات الحياة الأبدية فإنه القتل في الحقيقة ولا تقترفوا ما تمنعون به عن الجنة التي هي داركم، وليس النفي في الحقيقة جلاء الأوطان بل البعد من رياض الجنان ولعل ما يساعده سياق النظم الكريم هو الأول. و «الدماء» جمع دم معروف وهو محذوف- اللام- وهي- ياء- عند بعض لقوله: جرى الدميان بالخبر اليقين وواو- عند آخرين لقولهم دموان ووزنه فعل أو فعل، وقد سمع مقصورا وكذا مشددا، وقرأ طلحة وشعيب «تسفكون» - بضم الفاء- وأبو نهيك- بضم التاء وفتح السين وكسر الفاء مشددة- وابن أبي إسحاق كذلك إلا أنه سكن السين وخفف الفاء ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ أي بالميثاق واعترفتم بلزومه خلفا بعد سلف فالإقرار ضد الجحد ويتعدى- بالباء- قيل ويحتمل أنه بمعنى إبقاء الشيء على حاله من غير اعتراف به- وليس بشيء- إذ لا يلائمه حينئذ وَأَنْتُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 تَشْهَدُونَ حال مؤكدة رافعة احتمال أن يكون الإقرار ذكر أمر آخر لكنه يقتضيه، ولا يجوز العطف لكمال الاتصال ولا الاعتراض إذ ليس المعنى وأنتم عادتكم الشهادة بل المعنى على التقييد (1) وقيل: وأنتم أيها الموجودون تشهدون على إقرار أسلافكم فيكون إسناد الإقرار إليهم مجازا، وضعف بأن يكون حينئذ استبعاد القتل والإجلاء منهم مع أن أخذ الميثاق والإقرار كان من أسلافهم لاتصالهم بهم نسبا ودينا بخلاف ما إذا اعتبر نسبة الإقرار إليهم على الحقيقة فإنه يكون بسبب إقرارهم وشهادتهم- وهو أبلغ في بيان قبيح صنيعهم- وادعى بعضهم أن «الأظهر» أن المراد أقررتم حال كونكم شاهدين على إقراركم بأن شهد كل أحد على إقرار غيره كما هو طريق الشهادة ولا يخفى انحطاط المبالغة حينئذ. ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ نزلت- كما في البحر- في بني قينقاع وبني قريظة وبني النضير من اليهود، كان بنو قينقاع أعداء بني قريظة، وكانت الأوس حلفاء بني قينقاع، والخزرج حلفاء بني قريظة، والنضير والأوس والخزرج إخوان، وبنو قريظة والنضير إخوان- ثم افترقوا- فصارت بنو النضير حلفاء الخزرج، وبنو قريظة حلفاء الأوس، فكانوا يقتتلون ويقع منهم ما قص الله تعالى، فعيرهم الله تعالى بذلك. وثُمَّ للاستبعاد في الوقوع- لا للتراخي في الزمان- لأنه الواقع في نفس الأمر- كما قيل به- وأَنْتُمْ مبتدأ، وهؤُلاءِ خبره على معنى أَنْتُمْ بعد ذلك المذكور من الميثاق والإقرار والشهادة هؤُلاءِ الناقضون، كقولك: أنت ذلك الرجل الذي فعل كذا، وكان مقتضى الظاهر، ثُمَّ أَنْتُمْ بعد ذلك التوكيد في الميثاق نقضتم العهد ف تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ إلخ أي صفتكم الآن غير الصفة التي كنتم عليها، لكن أدخل هؤُلاءِ وأوقع خبرا ليفيد أن الذي تغير هو الذات نفسها نعيا عليهم لشدة (2) وكادت الميثاق ثم تساهلهم فيه وتغيير الذات فهم من وضع اسم الإشارة الموضوع للذات موضع الصفة لا من جعل ذات واحد في خطاب واحد مخاطبا وغائبا، وإلا لفهم ذلك من نحو بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [النمل: 55] أيضا. وصح الحمل مع اعتبار التغير لأنه ادعائي- وفي الحقيقة واحد- وعدوا حضورا مشاهدين باعتبار تعلق العلم بما أسند إليهم من الأفعال المذكورة سابقا وغيبا باعتبار عدم تعلق العلم بهم لما سيحكى عنهم من الأفعال بعد، لا لأن المعاصي توجب الغيبة عن غير الحضور إذ المناسب حينئذ الغيبة في تَقْتُلُونَ وَتُخْرِجُونَ قاله الساليكوتي، وتَقْتُلُونَ إما حال والعامل فيه معنى الإشارة أو بيان كأنه لما قيل ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ قالوا كيف نحن فجيء ب تَقْتُلُونَ تفسيرا له، ويحتمل أن تجعل مفسرة لها من غير تقدير سؤال، وذهب ابن كيسان وغيره إلى أن أَنْتُمْ مبتدأ وتَقْتُلُونَ الخبر وهؤُلاءِ تخصيص للمخاطبين لما نبهوا على الحال التي هم عليها مقيمون فيكون إذ ذاك منصوبا بأعني وفيه أن النحاة نصوا على أن التخصيص لا يكون بأسماء الإشارة ولا بالنكرة والمستقر من لسان العرب أنه يكون بأيتها كاللهم اغفر لنا أيتها العصابة وبالمعرف- باللام- كنحن العرب أقرى الناس للضيف- أو الإضافة كنحن معاشر الأنبياء لا نورث- وقد يكون بالعلم- كبنا تميما نكشف الضبابا. وأكثر ما يأتي بعد ضمير متكلم- وقد يجيء بعد ضمير المخاطب- كبك الله نرجو الفضل، وقيل: هؤُلاءِ تأكيد لغوي «لأنتم» فهو إما بدل منه أو عطف بيان عليه وجعله من التأكيد اللفظي بالمرادف توهم، والكلام على هذا خال عن تلك النكتة، وقيل: هؤلاء بمعنى الذين والجملة صلته   (1) والفرق بين الوجهين أن صرف الخطاب من المجاز إلى الحقيقة مبتدأ من قوله ثم أقررتم على الأول ومن ثم أنتم تشهدون على الثاني فافهم اهـ منه. (2) هكذا الأصل، وعبارة الشهاب هكذا ليفيد أن الذي تغير هو الذات بعينها نعيا عليهم بشدة وكأنه أخذ الميثاق ثم تساهلهم فيه اهـ ولعل في النسخة تحريفا، إدارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 والمجموع هو الخبر، وهذا مبني على مذهب الكوفيين حيث جوزوا كون جميع أسماء الإشارة موصولة سواء كانت بعد «ما» أو لا والبصريون يخصونه إذا وقعت بعد «ما» الاستفهامية- وهو المصحح- على أن الكلام يصير حينئذ من قبيل: أنا الذي سمتني أمي حيدرة وهو ضعيف- كما قاله الشهاب- وقرأ الحسن «تقتّلون» على التكثير وفي تفسير المهدوي أنها قراءة أبي نهيك وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ عطف على ما قبله وضمير ديارهم للفريق وإيثار الغيبة مع جواز دياركم كما في الأول للاحتراز عن توهم كون المراد إخراجهم من ديار المخاطبين من حيث ديارهم لا ديار المخرجين تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ حال من فاعل تُخْرِجُونَ أو من مفعوله قيل: أو من كليهما لأنه لاشتماله على ضميرهما يبين هيئتهما، والمعنى على الأول تخرجون متظاهرين عليهم وعلى الثاني تخرجون فريقا متظاهرا عليهم، وعلى الثالث تخرجون واقعا التظاهر منهم عليهم والتظاهر- التعاون وأصله من- الظهر- كأن المتعاونين يسند كل واحد منهما ظهره إلى صاحبه «والإثم» الفعل الذي يستحق عليه صاحبه الذم واللوم، وقيل: ما تنفر منه النفس ولا يطمئن إليه القلب، وفي الحديث «الإثم ما حاك في صدرك» وهو متعلق بتظاهرون حال من فاعله أي متلبسين بالإثم، وكونه هنا مجازا عما يوجبه من إطلاق المسبب على سببه كما سميت الخمر إثما في قوله: شربت «الإثم» حتى ضل عقلي ... كذاك «الإثم» تذهب بالعقول مما لا يدعو إليه داع، والعدوان تجاوز الحد في الظلم، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «تظاهرون» بتخفيف الظاء وأصله- بتاءين- حذفت ثانيتهما عند أبي حيان وأولاهما عند هاشم وقرأ باقي السبعة بالتشديد على ادغام- التاء في الظاء- وأبو حيوة «تظاهرون» - بضم التاء وكسر الهاء- ومجاهد وقتادة باختلاف عنهما «تظهّرون» - بفتح التاء والظاء والهاء مشددتين دون ألف- ورويت عن أبي عمرو أيضا وبعضهم «تتظاهرون» على الأصل. وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ أي تخرجوهم من الأسر بإعطاء الفداء، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وابن عامر تفدوهم وعليه بعض قراءة الباقين إذ لا مفاعلة، وفرق جمع بين فادى وفدى بأن معنى الأول بادل أسيرا بأسير والثاني جمع الفداء ويعكر عليه قول العباس رضي الله تعالى عنه فاديت نفسي وفاديت عقيلا إذ من المعلوم أنه ما بادل أسيرا بأسير، وقيل: تُفادُوهُمْ بالعنف و «تفدوهم» بالصلح وقيل: تُفادُوهُمْ تطلبوا الفدية من الأسير الذي في أيديكم من أعدائكم ومنه قوله: قفي فادي أسيرك إن قومي ... وقومك لا أرى لهم احتفالا وقال أبو علي: معناه لغة تطلقونهم بعد أن تأخذوا منهم شيئا، وأراه هنا كسابقة في غاية البعد، والقول بأن- معنى الآية وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى في أيدي الشياطين تتصدون لإنقاذهم بالإرشاد والوعظ مع تضييعكم أنفسكم إلى البطون- أقرب كما لا يخفى، والأسارى- قيل: جمع أسير بمعنى مأسور وكأنهم حملوا أسيرا على كسلان فجمعوه جمعه كما حملوا كسلان عليه فقالوا كسلى كذا قال سيبويه، ووجه الشبه أن الأسير محبوس عن كثير من تصرفه للأسر والكسلان محبوس عن ذلك لعادته، وقيل: إنه مجموع كذا ابتداء من غير حمل كما قالوا في قديم قدامى، وسمع بفتح الهمزة وليست بالعالية خلافا لبعضهم حيث زعم أن الفتح هو الأصل والضم ليزداد قوة، وقيل: جمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 أسرى- وبه قرأ حمزة. وهو جمع أسير كجريح وجرحى فيكون أسارى جمع الجمع قاله المفضل، وقال أبو عمرو: الأسرى من في اليد، والأسارى من في الوثاق- ولا أرى فرقا- بل المأخوذون على سبيل القهر والغلبة مطلقا أسرى وأسارى. وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ حال من فاعل تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ أو مفعوله بعد اعتبار التقييد بالحال السابقة، وقوله تعالى: وَإِنْ يَأْتُوكُمْ اعتراض بينهما لا معطوف على تَظاهَرُونَ لأن الإتيان لم يكن مقارنا للإخراج وقيد الإخراج بهذه الحال لإفادة أنه لم يكن عن استحقاق ومعصية موجبة له، وتخصيصه بالتقييد دون القتل للاهتمام بشأنه لكونه أشد منه وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة: 191] وقيل: لا بل لكونه أقل خطرا بالنسبة إلى القتل فكان مظنة التساهل، ولأن مساق الكلام لذمهم وتوبيخهم على جناياتهم وتناقض أفعالهم وذلك مختص بصورة الإخراج إذ لم ينقل عنهم تدارك القتلى بشيء من دية أو قصاص وهو السر في تخصيص التظاهر فيما سبق، وقيل: النكتة في إعادة تحريم الإخراج وقد أفاده- لا تخرجون أنفسكم- بأبلغ وجه، وفي تخصيص تحريم الإخراج بالإعادة دون القتل أنهم امتثلوا حكما في باب المخرج وهو الفداء وخالفوا حكما وهو الإخراج فجمع مع الفداء حرمة الإخراج ليتصل به «أفتؤمنون» إلخ أشد اتصال ويتضح كفرهم بالبعض وإيمانهم بالبعض كمال اتضاح حيث وقع في حق شخص واحد، والضمير للشأن والجملة بعده خبره وقيل: خبره مُحَرَّمٌ وإِخْراجُهُمْ نائب فاعل وهو مذهب الكوفيين وتبعهم المهدوي، وإنما ارتكبوه لأن الخبر المتحمل ضميرا مرفوعا لا يجوز تقديمه على المبتدأ فلا يجيزون قائم زيد على أن يكون قائم خبرا مقدما، والبصريون يجوزون ذلك ولا يجيزون هذا الوجه لأن ضمير الشأن لا يخبر عنه عندهم إلا بجملة مصرح بجزأيها، وقيل: إنه ضمير مبهم مبتدأ أيضا ومُحَرَّمٌ خبره وإِخْراجُهُمْ بدل منه مفسر له، وهذا بناء على جواز إبدال الظاهر من الضمير الذي لم يسبق ما يعود إليه، ومنهم من منعه وأجازه الكسائي، وقيل: راجع إلى الإخراج المفهوم من تُخْرِجُونَ وإِخْراجُهُمْ عطف بيان له أو بدل منه أو من ضمير محرم، وضعف بأنه بعد عوده إلى الإخراج لا وجه لإبداله منه. ومن الغريب ما نقل عن الكوفيين أنه يحتمل أن يكون هو ضمير فصل، وقد تقدم مع الخبر والتقدير- وإخراجهم هو محرم عليكم- فلما قدم خبر المبتدأ عليه قدم هو معه ولا يجوزه البصريون- لأن وقوع الفصل بين معرفة ونكرة لا تقارب المعرفة- لا يجوز عندهم وتوسطه بين المبتدأ والخبر أو بين ما هما أصله شرط عندهم أيضا ولابن عطية في هذا الضمير كلام يجب إضماره أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ عطف على تَقْتُلُونَ أو على محذوف أي أتفعلون ما ذكر فَتُؤْمِنُونَ إلخ والاستفهام للتهديد والتوبيخ على التفريق بين أحكام الله تعالى إذ العهد كان بثلاثة أشياء ترك القتل وترك الإخراج ومفاداة الأسارى فقتلوا وأخرجوا على خلاف العهد وفدوا بمقتضاه، وقيل: المواثيق أربعة فزيد ترك المظاهرة، وقد أخرج ابن جرير عن أبي العالية أن عبد الله بن سلام مر على رأس الجالوت بالكوفة وهو يفادي من النساء ما لم يقع عليه العرب ولا يفادي من وقع عليه العرب فقال له عبد الله بن سلام: أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن فادوهن كلهن، وروى محيي السنة عن السدي أن الله تعالى أخذ على بني إسرائيل في التوراة أن لا يقتل بعضهم بعضا ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم وأيما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه بما قام من ثمنه فأعتقوه، ولعل كفرهم بما ارتكبوا لاعتقادهم عدم الحرمة مع دلالة صريح التوراة عليها لكن ما في الكشاف من أنه قيل لهم: كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم؟! فقالوا: أمرنا بالفداء وحرم علينا القتال لكنا نستحي من حلفائنا يدل على أنهم لا ينكرون حرمة القتال فإطلاق الكفر حينئذ على فعل ما حرم إما لأنه كان في شرعهم كفرا أو أنه للتغليظ كما أطلق على ترك الصلاة ونحوه ذلك في شرعنا، والقول بأن المعنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 أتستعملون البعض وتتركون البعض فالكلام محمول على المجاز بهذا الاعتبار لا اعتبار به كالقول بأن المراد بالبعض المؤمن به نبوة موسى عليه السلام، والبعض الآخر نبوة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم. فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا الإشارة إلى الكفر ببعض الكتاب والإيمان ببعض، أو إلى ما فعلوه من القتل والاجلاء مع مفاداة- الأسارى- والجزاء المقابلة ويطلق في الخير والشر- والخزي- الهوان، والماضي- خزي- بالكسر، وقال ابن السكيت: معنى- خزي- وقع في بلية- وخزي- الرجل- خزاية- إذا استحى وهو- خزيان- وقوم- خزايا- وامرأة- خزيا- والمراد به هنا الفضيحة والعقوبة أو ضرب الجزية غابر الدهر أو غلبة العدو أو قتل قريظة وإجلاء النضير من منازلهم إلى أريحا وأذرعات. وقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: كان عادت بني قريظة القتل وعادة بني النضير الإخراج فلما غلب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أجلى بني النضير وقتل رجال قريظة وأسر نساءهم وأطفالهم وتنكير- الخزي- للإيذان بفظاعة شأنه وأنه بلغ مبلغا لا يكنه كنهه، ومن هنا لم يخصه بعضهم ببعض الوجوه، وادعى أن الأظهر ذلك وجعل الإشارة إلى الكفر ببعض الكتاب والإيمان ببعض أي بعض كان ولذلك أفردها، وحينئذ يتناول الكفرة بنبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ونظيره من يفعل جميع ذلك، والدُّنْيا مأخوذة من دنا يدنو وياؤها منقلبة عن- واو- ولا يحذف منها- الألف واللام- إلا قليلا، وخصه أبو حيان في الشعر، وما نافية ومِنْ إن جعلت موصولة فلا محل ليفعل من الإعراب، وإن جعلت موصوفة فمحله الجر على أنه صفتها، ومِنْكُمْ حال من فاعل- يفعل- وإِلَّا خِزْيٌ استثناء مفرغ وقع خبرا للمبتدأ ولا يجوز النصب في مثل ذلك على المشهور. ونقل عن يونس إجازته في الخبر بعد إِلَّا كائنا ما كان، وقال بعضهم: إن كان مَا بعد إلا هو الأول في المعنى أو منزل منزلته لم يجز فيه إلا الرفع عند الجمهور، وأجاز الكوفيون النصب فيما كان الثاني فيه منزلا منزلة الأول، وإن كان وصفا أجاز فيه الفراء النصب- ومنعه البصريون- وحكي عنهم أنهم لا يجوزون النصب في غير المصادر إلا أن يعرف المعنى فيضمر ناصب حينئذ وتحقيقه في محله. وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ أي يصيرون إليه فلا يلزم كينونتهم قبل ذلك في أشد العذاب، وقد يراد بالرد الرجوع إلى ما كانوا فيه كما في قوله تعالى: فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ [القصص: 13] وكأنهم كانوا في الدنيا، أو في القبور في أشد العذاب أيضا فردوا إليه، والمراد به الخلود في النار وأشديته من حيث إنه لا انقضاء له، أو المراد أشد جميع أنواع العذاب ولكن بالنسبة إلى عذاب من لم يفعل هذا العصيان لأن عصيانهم أشد من عصيان هؤلاء وجزاء سيئة سيئة مثلها ويدل على ما قررناه قوله تعالى: مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ فلا يرد ما أورده الإمام الرازي أنه كيف يكون عذاب اليهود أشد من الدهرية المنكرين للصانع ولا يفيد ما قيل لأنهم كفروا بعد معرفتهم أنه كتاب الله تعالى وإقرارهم وشهادتهم إذ الكافر الموحد كيف يقال إنه أشد عذابا من المشرك؟! أو النافي للصانع وإن كان كفره عن علم ومعرفة. وضمير يُرَدُّونَ راجع إلى مِنْ وأوثر صيغة الجمع نظرا إلى معناها بعد ما أوثر الإفراد نظرا إلى لفظها لما أن الرد إنما يكون بالاجتماع وغير السبك حيث لم يقل مثلا- وأشد العذاب يوم القيامة- للإيذان بكمال التنافي بين جزاءي النشأتين، وتقديم- اليوم- على ذكر ما يقع فيه لتهويل الخطب وتفظيع الحال من أول الأمر، وقرأ الحسن وابن هرمز باختلاف عنهما، وعاصم في رواية المفضل- تردون- على الخطاب، والجمهور على الغيبة، ووجه ذلك أن يُرَدُّونَ راجع إلى من يفعل فمن قرأ بصيغة الغيبة نظر إلى صيغة مِنْ ومن قرأ بصيغة الخطاب نظر إلى دخوله في مِنْكُمْ لا أن الضمير حينئذ راجع إلى «كم» كما وهم وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ اعتراض وتذييل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 لتأكيد الوعيد المستفاد مما قبله أي- إنه بالمرصاد لا يغفل عما تعملون من القبائح- التي من جملتها هذا المنكر والمخاطب به من كان مخاطبا بالآية قبل، وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن بني إسرائيل قد مضوا وأنتم تعنون بهذا يا أمة محمد وبما يجري مجراه، وقرأ نافع وابن كثير وأبو بكر- «يعملون» - بالياء على أن الضمير لمن والباقون بالتاء من فوق أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ أي آثروا الحياة الدنيا واستبدلوها بالآخرة وأعرضوا عنها مع تمكنهم من تحصيلها فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ الموعودون (1) به يوم القيامة أو مطلق الْعَذابُ دنيويا كان أو أخرويا. وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ بدفع الخزي إلى آخر الدنيا أو بدفع الجزية في الدنيا، والتعذيب في العقبى، وعلى الاحتمال الأول في الأمرين يستفاد نفي دفع العذاب من نفي تخفيفه بأبلغ وجه وآكده، ورجحه بعضهم بأن المقام على الثاني يستدعي تقديم نفي الدفع على نفي التخفيف، وتقديم المسند إليه لرعاية الفاصلة والتقوى لا للحصر إذ ليس المقام مقامه، ولذا لم يقل فلا عنهم يخفف العذاب، والجملة معطوفة على الصلة. ويجوز أن يوصل الموصول بصلتين مختلفتين زمانا، وجوز أن يكون أُولئِكَ مبتدأ والَّذِينَ خبره، وهذه الجملة خبر بعد خبر، والفاء لما أن الموصول إذا كانت صلته فعلا كان فيها معنى الشرط، وفيه أن معنى الشرطية لا يسري إلى المبتدأ الواقعة خبرا عنه، وجوز أيضا أن يكون أُولئِكَ مبتدأ والَّذِينَ مبتدأ ثان، وهذه الجملة خبر الثاني، والمجموع خبر الأول، ولا يحتاج إلى رابط لأن الذين هم أولئك، ولا يخفى ما فيه هذا «ومن باب الإشارة» في هذه الآيات وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ بميلكم إلى هوى النفس وطباعها ومتاركتكم حياتكم الحقيقية لأجل تحصيل لذاتكم الدنية ومآربكم الدنيوية وَلا تُخْرِجُونَ ذواتكم من مقارّكم الروحانية، ورياضتكم القدسية ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ بقبولكم لذلك وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ عليه باستعداداتكم الأولية وعقولكم الفطرية ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ الساقطون عن الفطرة المحتجبون عن نور الاستعداد تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وتهلكونها بغوايتكم ومتابعتكم الهوى وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ من أوطانهم القديمة بإغوائهم وإضلالهم وتحريضهم في ارتكاب المعاصي تتعاونون عليهم بارتكاب الفواحش ليروكم فيتبعوكم فيها وبإلزامكم إياهم رذائل القوتين البهيمية والسبعية وتحريضكم لهم عليها وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى في قيد ما ارتكبوه ووثاق شين ما فعلوه قد أخذتهم الندامة وعيرتهم عقولهم وعقول أبناء جنسهم بما لحقهم من العار والشنار تفادوهم بكلمات الحكمة والموعظة الدالة على أن اللذات المستعلية هي العقلية والروحية وأن اتباع النفس مذموم رديء فيتعظوا بذلك ويتخلصوا من هاتيك القيود سويعة أَفَتُؤْمِنُونَ ببعض كتاب العقل والشرع قولا وإقرارا وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فعلا وعملا فلا تنتهون عما نهاكم عنه فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا ذلة وافتضاح في الحياة الدنيا ويوم مفارقة الروح البدن يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وهو تعذيبهم بالهيئات المظلمة الراسخة في نفوسهم واحترافهم بنيرانها وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عن أفعالكم أحصاها وضبطها في أنفسكم وكتبها عليكم. وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ شروع في بيان بعض آخر من جناياتهم، وتصديره بالجملة القسمية لإظهار كمال الاعتناء به، والإيتاء- الإعطاء، والْكِتابَ التوراة في قول الجمهور وهو مفعول ثان- لآتينا- وعند السهيلي مفعول أول، والمراد بإتيانها له إنزالها عليه. وقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن التوراة نزلت جملة واحدة فأمر الله تعالى موسى عليه السلام بحملها فلم يطق فبعث بكل حرف منها ملكا فلم يطيقوا حملها فخففها الله   (1) قوله: الموعودون به كذا بخط مؤلفه وتأمل اهـ مصححه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 تعالى لموسى عليه السلام فحملها، وقيل، يحتمل أن يكون- آتينا- إلخ أفهمناه ما انطوى عليه من الحدود والأحكام والأنباء والقصص وغير ذلك مما فيه، والكلام على حذف مضاف أي علم- الكتاب- أو فهمه وليس بالظاهر وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ يقال- قفاه- إذا اتبعه- وقفاه- به إذا أتبعه إياه من- القفا- وأصل هذه الياء واو لأنها متى وقعت رابعة أبدلت كما تقول عريت من العرو أي أرسلناهم على أثره كقوله تعالى: ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا [المؤمنون: 44] وكانوا إلى زمن عيسى عليه السلام أربعة آلاف، وقيل: سبعين ألفا وكلهم على شريعته عليه السلام منهم يوشع. وشمويل وشمعون وداود وسليمان وشعياء وأرمياء وعزير وخزقيل وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم عليهم الصلاة والسلام وقرأ الحسن. ويحيى بن يعمر- بالرسل- بتسكين السين، وهو لغة أهل الحجاز والتحريك لغة تميم وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ أي الحجج الواضحة الدالة على نبوته فتشمل كل معجزة- أوتيها- عليه السلام وهو الظاهر، وقيل: الإنجيل، وعيسى أصله بالعبرانية أيشوع بهمزة ممالة بين بين، أو مكسورة- ومعناه السيد- وقيل: المبارك فعرب، والنسبة إليه عيسى وعيسوي وجمعه عيسون بفتح السين- وقد تضم- وأفرده عن الرسل عليه السلام لتميزه عنهم لكونه من أولي العزم وصاحب كتاب، وقيل: لأنه ليس متبعا لشريعة موسى عليه السلام حيث نسخ كثيرا من شريعته. وأضافه إلى أمه ردا على اليهود إذ زعموا أن له أبا، ومريم بالعبرية الخادم وسميت أم عيسى به لأن أمها نذرتها لخدمة بيت المقدس، وقيل: العابدة، وبالعربية من النساء من تحب محادثة الرجال فهي كالزير من الرجال، وهو الذي يحب محادثة النساء، قيل: ولا يناسب مريم أن يكون عربيا لأنها كانت برية عن محبة محادثة الرجال اللهم إلا أن يقال سميت بذلك تمليحا كما يسمى الأسود كافورا، وقال بعض المحققين: لا مانع من تسميتها بذلك بناء على أن شأن من تخدم من النساء ذلك، وفي القاموس هي التي تحب محادثة الرجال ولا تفجر- وعليه لا بأس بالتسمية كما ذكره المولى عصام- والأولى عندي أن التسمية وقعت بالعبري لا بالعربي بل يكاد يتعين ذلك كما لا يخفى على المنصف وعن الأزهري المريم المرأة التي لا تحب مجالسة الرجال وكأنه قيل لها ذلك تشبيها لها بمريم البتول ووزنه عربيا مفعل لا فعيلا (1) لأنه لم يثبت في الأبنية على المشهور، وأثبته الصاغاني في الذيل، وقال: إنه مما فات سيبويه، ومنه عثير للغبار، وضهيد- بالمهملة والمعجمة- للصلب واسم موضع، ومدين على القول بأصالة ميمه، وضهيا بالقصر وهي المرأة التي لا تحيض أو لا ثدي لها من المضاهاة كأنها أطلق عليها ذلك لمشابهتها الرجل وابن جني يقول: إن ضهيد وعثير مصنوعان فلا دلالة فيهما على إثبات فعيل، وذكر الساليكوتي أن عثير بمعنى الغبار- بكسر العين- وإذا كان مفعلا فهو أيضا على خلاف القياس إذ القياس إعلاله بنقل حركة الياء إلى الراء وقلبها ألفا نحو مباع لكنه شذ كما شذ مدين، ومزيد، وإذا كان من رام يريم إذا فارق وبرح فالقياس كسر يائه أيضا وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أي قويناه بجبريل عليه السلام وإطلاق بِرُوحِ الْقُدُسِ عليه شائع فقد قال سبحانه: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ [النحل: 102] وقال صلّى الله عليه وسلّم لحسان رضي الله تعالى عنه «اهجهم وروح القدس معك» ومرة قال له: «وجبريل معك» وقال حسان: وجبريل وروح القدس فينا «وروح القدس» ليس له كفاء والْقُدُسِ الطهارة والبركة، أو- التقديس- ومعناه التطهير. والإضافة من إضافة الموصوف إلى الصفة للمبالغة في الاختصاص. وهي معنوية بمعنى- اللام- فإذا أضيف العلم كذلك يكون مؤولا بواحد من المسمين به.   (1) قوله: لا فعيلا كذا بخطه اهـ مصححه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 وقال مجاهد والربيع: الْقُدُسِ من أسماء الله تعالى- كالقدوس- وزعم بعضهم أن إطلاق الروح على جبريل مجاز لأنه الريح المتردد في مخارق الإنسان- ومعلوم أن جبريل ليس كذلك- لكنه أطلق عليه على سبيل التشبيه من حيث إن- الروح- سبب الحياة الجسمانية، وجبريل سبب الحياة المعنوية بالعلوم، وكأن هذا الزعم نشأ من كثافة روح الزاعم وعدم تغذيها بشيء من العلوم، وخص عيسى عليه السلام بذكر التأييد بِرُوحِ الْقُدُسِ لأنه تعالى خصه به من وقت صباه إلى حال كبره، كما قال تعالى: إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا [المائدة: 110] ولأنه حفظه حتى لم يدن منه الشيطان، ولأنه بالغ اثنا عشر ألف يهودي لقتله، فدخل عيسى بيتا فرفعه عليه السلام مكانا عليا. وقيل:- الروح- هنا اسم الله تعالى الأعظم الذي كان يحيي به الموتى- وروي ذلك كالأول عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- وقال ابن زيد: الإنجيل- كما جاء في شأن القرآن- قوله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: 52] وذلك لأنه سبب للحياة الأبدية والتحلي بالعلوم والمعارف التي هي حياة القلوب وانتظام المعاش الذي هو سبب الحياة الدنيوية، وقيل: روح عيسى عليه السلام نفسه، ووصفها به لطهارته عن مس الشيطان، أو لكرامته عليه تعالى- ولذلك أضافها إلى نفسه- أو لأنه لم يضمه الأصلاب ولا أرحام الطوامث، بل حصل من نفخ جبريل عليه السلام في درع أمه فدخلت النفخة في جوفها، وقرأ ابن كثير «القدس» - بسكون الدال- حيث وقع، وأبو حيوة «القدوس» بواو. أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ مسبب عن قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا بحيث لا يتم الكلام السابق بدونه كالشرط بدون الجزاء، وقد أدخلت- الهمزة- بين السبب والمسبب للتوبيخ على تعقيبهم ذلك بهذا، والتعجيب من شأنهم على معنى وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وأنعمنا عليكم بكذا وكذا لتشكروا بالتلقي بالقبول- فعكستم بأن كذبتم- ويحتمل أن يكون ابتداء كلام- والفاء- للعطف على مقدر كأنه قيل: أفعلتم ما فعلتم- فكلما جاءكم- ثم المقدر يجوز أن يكون عبارة عما وقع بعد- الفاء- فيكون العطف للتفسير، وأن يكون غيره مثل «أكفرتم النعمة واتبعتم الهوى» فيكون لحقيقة التعقيب، وضعف هذا الاحتمال بما ذكره الرضي أنه لو كان كذلك لجاز وقوع- الهمزة- في الكلام قبل أن يتقدمه ما كان معطوفا عليه- ولم تجئ إلا مبنية على كلام متقدم، وفي كون الهمزة الداخلة على جملة معطوفة- بالواو أو الفاء، أو ثم- في محلها الأصلي، أو مقدمة من تأخير حيث إن محلها بعد العاطف خلاف مشهور بين أهل العربية، وبعض المحققين يحملها في بعض المواضع- على هذا- وفي البعض- على ذلك- بحسب مقتضى المقام ومساق الكلام- والقلب يميل إليه- قيل: ولا يلزم بطلان صدارة- الهمزة- إذ لم يتقدمها شيء من الكلام الذي دخلت هي عليه، وتعلق معناها بمضمونه غاية الأمر أنها توسطت بين كلامين لإفادة إنكار جمع الثاني مع الأول، أو لوقوعه بعده متراخيا أو غير متراخ، وهذا مراد من قال: إنها مقحمة مزيدة لتقرير معنى الإنكار أو التقرير، أي مقحمة على المعطوف مزيدة بعد اعتبار عطفه، ولم يرد أنها صلة وتَهْوى من- هوي- بالكسر إذا أحب، ومصدره- هوى- بالقصر، وأما- هوى- بالفتح فبمعنى سقط، ومصدره- هوي- بالضم وأصله فعول فأعل وقال المرزوقي: هوى- انقض انقضاض النجم والطائر، والأصمعي يقول: هوت العقاب إذا انقضت لغير الصيد. وأهوت إذا انقضت للصيد، وحكى بعضهم أنه يقال: هوى يهوي هويا- بفتح الهاء- إذا كان القصد من أعلى إلى أسفل، وهوى يهوي هويا بالضم إذا كان من أسفل إلى أعلى- وما ذكرناه أولا هو المشهور- والهوي- يكون في الحق وغيره، وإذا أضيف إلى النفس فالمراد به الثاني في الأكثر، ومنه هذه الآية. وعبر عن المحبة بذلك للإيذان بأن مدار الرد والقبول عندهم هو المخالفة لأهواء أنفسهم والموافقة لها لا شيء آخر، ومتعلق اسْتَكْبَرْتُمْ محذوف أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 عن الإيمان بما جاء به مثلا، واستفعل هنا بمعنى تفعل. فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ الظاهر أنه عطف على اسْتَكْبَرْتُمْ والفاء للسببية إن كان التكذيب والقتل مرتبين على الاستكبار، وللتفصيل إن كانا نوعين منه، وجوز الراغب أن يكون عطفا على وَأَيَّدْناهُ ويكون أَفَكُلَّما مع ما بعده فصلا بينهما على سبيل الإنكار، وقدم فَرِيقاً في الموضعين للاهتمام وتشويق السامع إلى ما فعلوا بهم لا للقصر، وثم محذوف أي فَرِيقاً منهم، وبدأ بالتكذيب لأنه أول ما يفعلونه من الشر ولأنه المشترك بين المكذب والمقتول، ونسب القتل إليهم مع أن القاتل آباؤهم لرضاهم به ولحوق مذمته بهم، وعبر بالمضارع حكاية للحال الماضية واستحضارا لصورتها لفظاعتها واستعظامها، أو مشاكلة للأفعال المضارعة الواقعة في الفواصل فيما قبل، أو للدلالة على أنكم الآن فيه فإنكم حول قتل محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ولولا أني أعصمه لقتلتموه ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة، فالمضارع للحال ولا ينافيه قتل البعض. والمراد من القتل مباشرة الأسباب الموجبة لزوال الحياة سواء ترتب عليه أولا، وقيل: لا حاجة إلى التعميم لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم قتل حقيقة بالسم الذي ناولوه على ما وقع في الصحيح بلفظ «وهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم» وفيه أنه لم يتحقق منهم القتل زمان نزول الآية بل مباشرة الأسباب فلا بد من التعميم. وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ عطف على اسْتَكْبَرْتُمْ أو على كَذَّبْتُمْ فتكون تفسيرا للاستكبار، وعلى التقديرين فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة إعراضا عن مخاطبتهم وإبعادا لهم عن عز الحضور، والقائلون هم الموجودون في عصر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، والغلف- جمع أغلف كأحمر وحمر وهو الذي لا يفقه، قيل وأصله ذو الغلفة الذي لم يختن، أو جمع غلاف ويجمع على غلف بضمتين أيضا. وبه قرأ ابن عباس وغيره، وأرادوا على الأول قلوبنا مغشاة بأغشية خلقية مانعة عن نفوذ ما جئت به فيها، وهذا كقولهم: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ [فصلت: 5] قصدوا به إقناط النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن الإجابة وقطع طمعه عنهم بالكلية، وقيل: مغشاة بعلوم من التوراة نحفظها أن يصل إليها ما تأتي به، أو بسلامة من الفطرة كذلك، وعلى الثاني أنها أوعية العلم فلو كان ما تقوله حقا وصدقا لوعته- قاله ابن عباس. وقتادة والسدي- أو مملوءة علما فلا تسع بعد شيئا فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره، روي ذلك عن ابن عباس أيضا، وقيل: أرادوا أنها أوعية العلم فكيف يحل لنا اتباع الأمي ولا يخفى بعده. بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ رد لما قالوه، وتكذيب لهم فيما زعموه، والمعنى أنها خلقت على فطرة التمكن من النظر الصحيح الموصل إلى الحق لكن الله تعالى أبعدهم، وأبطل استعدادهم الخلقي للنظر الصحيح بسبب اعتقاداتهم الفاسدة وجهالاتهم الباطلة الراسخة في قلوبهم، أو أنها لم تأب قبول ما تقوله لعدم كونه حقا وصدقا بل لأنه سبحانه طردهم وخذلهم بكفرهم فأصمهم وأعمى أبصارهم. أو أن الله تعالى أقصاهم عن رحمته فأنى لهم ادعاء العلم الذي هو أجل آثارها، ويعلم من هذه الوجوه كيفية الرد على ما قيل قبل من الوجوه فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ الفاء لسببية اللعن لعدم الايمان، وقليلا- نصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي إيمانا قليلا، وهو إيمانهم ببعض الكتاب «ما» مزيدة لتأكيد معنى القلة لا نافية لأن ما في حيزها لا يتقدمها ولأنه وإن كان بمعنى- لا يؤمنون قليلا فضلا عن الكثير- لكن ربما يتوهم لا سيما مع التقديم أنهم لا يؤمنون قليلا بل كثيرا، ولا مصدرية لاقتضائها رفع القليل بأن يكون خبرا، والمصدر المعرف بالإضافة مبتدأ، والتقدير فإيمانهم قليل، وجوز بعضهم- كونها نافية بناء على مذهب الكوفيين من جواز تقدم ما في حيزها عليها ولم يبال بالتوهم وآخرون كونها مصدرية، والمصدر فاعل «قليلا» وكانوا مقدرة في نظم الكلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 فتكون على طرز كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ [الذاريات: 17] ، ولا يخفى ما فيه من التكلف، وجوز أيضا انتصاب قليلا على الحال إما من ضمير الإيمان أو من فاعل يُؤْمِنُونَ والتقدير فيؤمنونه أي الإيمان في حال قلته، وهو المروي عن سيبويه أو «فيؤمنون» حال كونهم جمعا قليلا أي المؤمن منهم قليل، وهو المروي عن ابن عباس وطلحة وقتادة، ولذا جوز كونه نعتا للزمان أي زمانا قليلا وهو زمان الاستفتاح أو بلوغ الروح التراقي، أو ما قالوا آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ [آل عمران: 72] وأولى الوجوه أولها، والظاهر أن المراد بالإيمان المعنى اللغوي، والقلة مقابل الكثرة، وقال الزمخشري: يجوز أن تكون بمعنى العدم، وكأنه أخذه من كلام الواقدي لا قليلا ولا كثيرا واعترضه في البحر بأن القلة بمعنى النفي، وإن صحت لكن في غير هذا التركيب لأن قليلا انتصب بالفعل المثبت، فصار نظير قمت قليلا أي قياما قليلا، ولا يذهب ذاهب إلى أنك إذا أتيت بفعل مثبت، وجعلت قليلا صفة لمصدره يكون المعنى في المثبت الواقع على صفة أو هيئة انتفاء ذلك المثبت رأسا، وعدم وقوعه بالكلية، وإنما الذي نقل النحويون أنه قد يراد بالقلة النفي المحض في قولهم- أقل رجل يقول ذلك، وقلما يقوم زيد- فحملها هنا على ذلك ليس بصحيح، وليت شعري أي معنى لقولنا يُؤْمِنُونَ إيمانا معدوما، وما نقل الكسائي عن العرب أنهم يقولون: مررنا بأرض قليلا ما تنبت ويريدون لا تنبت شيئا فإنما ذلك لأن قليلا حال من الأرض، وإن كان نكرة، وما مصدرية والتقدير قليلا إنباتها فلا مانع فيه من حمل القلة على العدم- وأين ما نحن فيه- من ذاك اللهم إلا على بعض الوجوه المرجوحة لكن الزمخشري غير قائل به، ويمكن أن يقال: إن ذلك على طريق الكناية فإن قلة الشيء تستتبع عدمه في أكثر الأوقات لا على أن لفظ القلة مستعمل بمعنى العدم فإنه هنا قول بارد جدا ولو أوقد عليه الواقدي ألف سنة. وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وهو القرآن وتنكيره للتعظيم ووصفه بما عنده للتشريف والإيذان بأنه جدير بأن يقبل ما فيه ويتبع لأنه من خالقهم وإلههم الناظر في مصالحهم، والجملة عطف على قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ أي وكذبوا لما جاءهم إلخ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ من كتابهم أي نازل حسبما نعت أو مطابق له، ومُصَدِّقٌ صفة ثانية لكتاب وقدمت الأولى عليها لأن الوصف بكينونته من عنده تعالى آكد ووصفه بالتصديق ناشىء عنها وجعله مصدقا ل «كتابهم» لا مصدقا به إشارة إلى أنه بمنزلة الواقع ونفس الأمر لكتابهم لكونه مشتملا على الإخبار عنه محتاجا في صدقه إليه وإلى أنه بإعجازه مستغن عن تصديق الغير، وفي مصحف أبيّ «مصدقا» بالنصب، وبه قرأ ابن أبي عبلة، وهو حينئذ حال من الضمير المستقر في الظرف، أو من كتاب لتخصيصه بالوصف المقرب له من المعرفة، واحتمال أن الظرف لغو متعلق ب جاءَهُمْ بعيد- فلا يضر- على أن سيبويه جوّز مجيء الحال من النكرة بلا شرط وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا نزلت في بني قريظة والنضير كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبل مبعثه- قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة- والمعنى يطلبون من الله تعالى أن ينصرهم به على المشركين، كما روى السدي أنهم كانوا إذا اشتد الحرب بينهم وبين المشركين أخرجوا التوراة ووضعوا أيديهم على موضع ذكر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقالوا: اللهم إنا نسألك بحق نبيك الذي وعدتنا أن تبعثه في آخر الزمان أن تنصرنا اليوم على عدونا فينصرون- فالسين- للطلب- والفتح- متضمن معنى النصر بواسطة عَلَى أو يفتحون عليهم من قولهم: فتح عليه إذا علمه ووقفه كما في قوله تعالى: أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [البقرة: 76] أي يعرفون المشركين أن نبيا يبعث منهم وقد قرب زمانه- فالسين- زائدة للمبالغة، كأنهم فتحوا بعد طلبه من أنفسهم- والشيء بعد الطلب أبلغ- وهو من باب التجريد، جرّدوا من أنفسهم أشخاصا وسألوهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 الفتح كقولهم: استعجل كأنه طلب العجلة من نفسه، ويؤول المعنى إلى يا نفس عرّفي المشركين أن نبيا يبعث منهم، وقيل: يَسْتَفْتِحُونَ بمعنى يستخبرون عنه صلى الله تعالى عليه وسلم، هل ولد مولود صفته كذا وكذا؟ نقله الراغب وغيره، وما قيل: إنه لا يتعدى ب عَلَى لا يسمع بمجرد التشهي. فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ كنى عن الكتاب المتقدم ب ما عَرَفُوا لأن معرفة من أنزل عليه معرفة له، والاستفتاح به استفتاح به، وإيراد الموصول دون الاكتفاء بالإضمار لبيان كمال مكابرتهم، ويحتمل أن يراد به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وما قد يعبر بها عن صفات من يعقل، وبعضهم فسره بالحق إشارة إلى وجه التعبير عنه عليه الصلاة والسلام ب ما وهو أن المراد به الحق- لا خصوصية ذاته المطهرة- وعرفانهم ذلك حصل بدلالة المعجزات والموافقة لما نعت في كتابهم- فإنه كالصريح عند الراسخين- فلا يرد أن نعت الرسول في التوراة إن كان مذكورا على التعيين فكيف ينكرونه فإنه مذكور بالتواتر- وإلا فلا عرفان للاشتباه- على أن الإيراد في غاية السقوط، لأن الآية مساقة على حد قوله تعالى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [النمل: 14] أي جحدوه مع علمهم به- وهذا أبلغ في ذمهم- وكَفَرُوا جواب ل «ما» الأولى ول «ما» الثانية تكرير لها لطول العهد كما في قوله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ [آل عمران: 188] وإلى ذلك ذهب المبرد، وقال الفراء: ل «ما» الثانية مع جوابها جواب الأولى كقوله تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ [البقرة: 38] إلخ، وعلى الوجهين يكون قوله سبحانه: وَكانُوا مِنْ قَبْلُ جملة حالية بتقدير- قد- مقررة، واختار الزجاج والأخفش أن جواب الأولى محذوف- أي كذبوا به مثلا- وعليه يكون وَكانُوا مِنْ قَبْلُ إلخ مع ما عطف عليه من قوله تعالى: فَلَمَّا جاءَهُمْ من الشرط، والجزاء جملة معطوفة على «لما جاءهم» بعد تمامها، تدل الأولى على معاملتهم مع الكتاب المصدق، والثانية مع الرسول المستفتح به، وارتضاه بعض المحققين- لما- في الأول من لزوم التأكيد- والتأسيس أولى منه- واستعمال الفاء للتراخي الرتبي فإن مرتبة المؤكد بعد مرتبة المؤكد، ولما- في الثاني من دخول الفاء في جواب «لما» مع أنه ماض وهو قليل جدا حتى لم يجوزه البصريون ولو جوز وقوعها زائدة فَلَمَّا لا تجاب بمثلها لا يقال- لما جاء زيد، لما قعد عمرو أكرمتك- بل هو كما ترى تركيب معقود في لسانهم مع خلو الوجهين عن فائدة عظيمة وهو بيان سوء معاملتهم مع الرسول واستلزامهما جعل وَكانُوا حالا، واختار أبو البقاء أن كَفَرُوا جواب- لما- الأولى، والثانية ولا حذف لأن مقتضاهما واحد وليس بشيء كجعل فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ جوابا للأولى وما بينهما اعتراض واللام في الكافرين للعهد أي عليهم ووضع المظهر موضع المضمر للإشعار بأن حلول اللعنة عليهم بسبب كفرهم كما أن الفاء للإيذان بترتبها عليه، وجوز كونها للجنس ويدخلون فيه دخولا أوليا، واعترض بأن دلالة العام متساوية فليس فيها شيء أول ولا أسبق من شيء، والجواب أن المراد دخولا قصديا لأن الكلام سيق بالأصالة فيهم ويكون ذلك من الكناية الإيمائية ويصار إليها إذا كان الموصوف مبالغا في ذلك الوصف ومنهمكا فيه حتى إذا ذكر خطر ذلك الوصف بالبال كقولهم لمن يقتني رذيلة ويصر عليها- أنا إذا نظرتك خطر ببالي سبابك وسباب كل من هو من أبناء جنسك- فاليهود لما بالغوا في الكفر والعناد وكتمان أمر الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ونعى الله تعالى عليهم ذلك صار الكفر كأنه صفة غير مفارقة لذكرهم وكان هذا الكلام لازما لذكرهم ورديفه وأنهم أولى الناس دخولا فيه لكونهم تسببوا استجلاب هذا القول في غيرهم وجعل السكاكي من هذا القبيل قوله: إذا الله لم يسق إلا الكراما ... فيسقي وجوه بني حنبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 فإنه في إفادة كرم بني حنبل كما ترى لا خفاء فيه بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ أي باعوا، فالأنفس بمنزلة المثمن، والكفر بمنزلة الثمن لأن أنفسهم الخبيثة لا تشترى بل تباع وهو على الاستعارة أي إنهم اختاروا الكفر على الإيمان وبذلوا أنفسهم فيه، وقيل: هو بمعناه المشهور لأن المكلف إذا خاف على نفسه من العقاب أتى بأعمال يظن أنها تخلصه فكأنه اشترى نفسه بها فهؤلاء اليهود لما اعتقدوا فيما أتوا به أنه يخلصهم من العقاب ظنوا أنهم اشتروا أنفسهم وخلصوها فذمهم الله تعالى عليه، واعترض بأنه كيف يدعي أنهم ظنوا ذلك مع قوله تعالى: فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فإذا علموا مخالفة الحق كيف يظنون نجاتهم بما فعلوا وإرادة العقاب الدنيوي كترك الرياسة غير صحيح لأن لا يشترى به الأنفس؟ ويمكن الجواب بأن المراد أنهم ظنوا على ما هو ظاهر حالهم من التصلب في اليهودية والخوف فيما يأتون ويذرون وادعاء الحقية فيه فلا ينافي عدم ظنهم في الواقع على ما تدل عليه الآية، والمراد بما أنزل الله الكتاب المصدق، وفي تبديل المجيء بالإنزال المشعر بأنه من العالم العلوي مع الإسناد إليه تعالى إيذان بعلو شأنه وعظمه الموجب للإيمان به، وقيل: يحتمل أن يراد به التوراة والإنجيل وأن يراد الجميع، والكفر ببعضها كفر بكلها، واختلف في ما الواقعة بعد بئس ألها محل من الإعراب أم لا فذهب الفراء إلى أنها لا محل لها وأنها مع بئس شيء واحد كحبذا، وذهب الجمهور إلى أن لها محلا، واختلف أهو نصب أم رفع؟ فذهب الأخفش إلى الأول على أنها تمييز، والجملة بعدها في موضع نصب على الصفة، وفاعل بئس مضمر مفسر بها، والتقدير بئس هو شيئا اشتروا به، وأَنْ يَكْفُرُوا هو المخصوص بالذمّ والتعبير بصيغة المضارع لإفادة الاستمرار على الكفر فإنه الموجب للعذاب المهين، ويحتمل على هذا الوجه أن يكون المخصوص محذوفا، واشْتَرَوْا صفة له، والتقدير بئس شيء اشتروا به، وأَنْ يَكْفُرُوا بدل من المحذوف أو خبر مبتدأ محذوف، وذهب الكسائي إلى النصب على التمييز أيضا إلا أنه قدر بعدها ما أخرى موصولة هي المخصوص بالذم، واشْتَرَوْا صلتها، والتقدير بئس شيئا الذي اشتروا، وذهب سيبويه إلى الثاني على أنها فاعل بئس وهي معرفة تامة، والمخصوص محذوف أي شيء اشْتَرَوْا، وعزى هذا إلى الكسائي أيضا، وقيل: موصولة وهو أحد قولي الفارسي وعزاه ابن عطية إلى سيبويه وهو وهم، ونقل المهدوي عن الكسائي أن ما مصدرية والمتحصل فاعل بئس واعترض بأن بئس لا تدخل على اسم معين يتعرف بالإضافة إلى الضمير، ولك على هذا التقدير أن لا تجعل ذلك فاعلا بل تجعله المخصوص والفاعل مضمر والتمييز محذوف لفهم المعنى، والتقدير- بئس اشتراء اشتراؤهم- فلا يلزم الاعتراض، نعم يرد عود ضمير به على ما والمصدرية لا يعود عليها الضمير لأنها حرف عند غير الأخفش فافهم بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ- البغي- في الأصل الظلم والفساد من قولهم- بغى- الجرح فسد قاله الأصمعي، وقيل أصله الطلب، وتختلف أنواعه ففي طلب زوال النعمة حسد، والتجاوز على الغير ظلم، والزنا فجور، والمراد به هنا بمعونة المقام طلب ما ليس لهم فيؤول إلى الحسد، وإلى ذلك ذهب قتادة وأبو العالية والسدي، وقيل: الظلم وانتصابه على أنه مفعول له ليكفرون فيفيد أن كفرهم كان لمجرد العناد الذي هو نتيجة الحسد لا للجهل وهو أبلغ في الذم لأن الجاهل قد يعذر، وذهب الزمخشري إلى أنه علة اشْتَرَوْا ورد بأنه يستلزم الفصل بالأجنبي وهو المخصوص بالذم وهو وإن لم يكن أجنبيا بالنسبة إلى فعل الذم وفاعله لكن لا خفاء في أنه أجنبي بالنسبة إلى الفعل الذي وصف به تمييز الفاعل، والقول بأن المعنى- على ذم ما باعوا به أنفسهم حسدا وهو الكفر لا على ذم ما باعوا به أنفسهم وهو الكفر حسدا- تحكم، نعم قد يقال: إنما يلزم الفصل بأجنبي إذا كان المخصوص مبتدأ خبره بئسما أما لو كان خبر مبتدأ محذوف- وهو المختار- فلا لأن الجملة حينئذ جواب للسؤال عن فاعل «بئس» فيكون الفصل بين المعلول وعلته بما هو بيان للمعلول ولا امتناع فيه، وجعله بعضهم علة ل اشْتَرَوْا محذوفا فرارا من الفصل، ومنهم من أعربه حالا ومفعولا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 مطلقا لمقدر أي بغوا بغيا، وأَنْ يُنَزِّلَ إما مفعول من أجله للبغي أي حسدا لأجل تنزيل الله، وإما على إسقاط الخافض المتعلق بالبغي أي حسدا على أَنْ يُنَزِّلَ والقول بأنه في موضع خفض على أنه بدل اشتمال من ما في قوله: بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بعيدا جدا، وربما يقرب منه ما قيل: إنه في موضع المفعول الثاني، والبغي بمعنى طلب الشخص ما ليس له يتعدى إليه بنفسه تارة، وباللام أخرى، والمفعول الأول هاهنا أعني محمدا عليه الصلاة والسلام محذوف لتعينه وللدلالة على أن الحسد مذموم في نفسه كائنا ما كان المحسود- كما لا يخفى- وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب «ينزل» بالتخفيف مِنْ فَضْلِهِ أراد به الوحي، ومِنْ لابتداء الغاية صفة لموصوف محذوف أي شيئا كائنا مِنْ فَضْلِهِ وجوّز أبو البقاء أن تكون زائدة على مذهب الأخفش عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أي على من يختاره للرسالة، وفي البحر أن المراد به محمد صلى الله تعالى عليه وسلم لأنهم حسدوه لما لم يكن منهم، وكان من العرب ومن ولد إسماعيل- ولم يكن من ولده نبي سواه عليه الصلاة والسلام وإضافة- العباد- إلى ضميره تعالى للتشريف، ومِنْ إما موصولة أو موصوفة. فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ تفريع على ما تقدم، أي فرجعوا متلبسين بِغَضَبٍ كائن عَلى غَضَبٍ مستحقين له حسبما اقترفوا من الكفر والحسد. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الغضب «الأول» لعبادة العجل «والثاني» لكفرهم به صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال قتادة: «الأول» كفرهم بالإنجيل «والثاني» كفرهم بالقرآن، وقيل: هما الكفر بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، أو قولهم: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: 30] ويَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة: 64] وغير ذلك من أنواع كفرهم، وكفرهم الأخير بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا يخفى أن- فاء العطف- يقتضي صيرورتهم أحقاء بترادف الغضب لأجل ما تقدم، وقولهم: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ مثلا غير مذكور فيما سبق، ويحتمل أن يراد بقوله سبحانه: بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ الترادف والتكاثر لا غضبان فقط، وفيه إيذان بتشديد الحال عليهم جدا كما في قوله: ولو كان رمحا واحدا لاتقيته ... ولكنه رمح «وثان وثالث» ومن الناس من زعم أن- الفاء فصيحة- والمعنى فإذا كفروا وحسدوا على ما ذكر فَباؤُ إلخ، وليس بشيء. وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ- اللام- في «الكافرين» للعهد، والإظهار في موضع الإضمار للإيذان بعلية كفرهم لما حاق بهم ويحتمل أن تكون للعموم فيدخل المعهودون فيه على طرز ما مر. والمهين- المذل، وأصله مهون فأعل، وإسناده إلى العذاب مجاز من الإسناد إلى السبب- والوصف به للتقييد- والاختصاص الذي يفهمه تقديم الخبر بالنسبة إليه، فغير الكافرين إذا عذب فإنما يعذب للتطهير- لا للإهانة والإذلال- ولذا لم يوصف عذاب غيرهم به في القرآن فلا تمسك للخوارج بأنه خص العذاب ب «الكافرين» فيكون الفاسق كافرا لأنه معذب ولا للمرجئة أيضا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ظرف ل قالُوا والجملة عطف على قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ ولا غرض يتعلق بالقائل، فلذا بني الفعل لما لم يسم فاعله، والظاهر أنه من جانب المؤمنين. آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ الجمهور على أنه القرآن، وقيل: سائر ما أنزل من الكتب الإلهية إجراء لما على العموم «ومع هذا» جلّ الغرض الأمر بالإيمان بالقرآن لكن سلك مسلك التعميم منه إشعارا بتحتم الامتثال من حيث مشاركته لما آمنوا به فيما في حيز الصلة وموافقته له في المضمون، وتنبيها على أن الإيمان بما عداه من غير إيمان به ليس إيمانا بما أنزل الله قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا أي نستمر على الإيمان بالتوراة وما في حكمها مما أنزل لتقرير حكمها، وحذف الفاعل للعلم به إذ من المعلوم أنه لا ينزل الكتب إلا هو سبحانه، ولجريان ذكره في الخطاب ومرادهم بضمير المتكلم إما أنبياء بني إسرائيل- وهو الظاهر- وفيه إيماء إلى أن عدم إيمانهم بالقرآن كان بغيا وحسدا على نزوله على من ليس منهم- وإما أنفسهم- ومعنى الإنزال عليهم تكليفهم بما في المنزل من الأحكام، وذموا على هذه المقالة لما فيها من التعريض بشأن القرآن- ودسائس اليهود مشهورة- أو لأنهم تأولوا الأمر المطلق العام ونزلوه على خاص هو الإيمان بما أنزل عليهم كما هو ديدنهم في تأويل الكتاب بغير المراد منه وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ عطف على قالوا: والتعبير بالمضارع لحكاية الحال استغرابا للكفر بالشيء بعد العلم بحقيته أو للتنبيه على أن كفرهم مستمر إلى زمن الإخبار، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 وقيل: استئناف- وعليه ابن الأنباري- ويجوز أن يكون حالا إما على مذهب من يجوز وقوع المضارع المثبت حالا مع الواو، وإما على تقدير مبتدأ أي وهم يكفرون، والتقييد بالحال حينئذ لإفادة بيان شناعة حالهم بأنهم متناقضون في إيمانهم لأن كفرهم بما وراءه حال الإيمان بالتوراة يستلزم عدم الإيمان به- وهذا أدخل في رد مقالتهم- ولهذا اختار هذا الوجه بعض الوجوه- ووراء- في الأصل مصدر لاشتقاق المواراة والتواري منه، والمزيد فرع المجرد إلا أنه لم يستعمل فعله المجرد أصلا ثم جعل ظرف مكان ويضاف إلى الفاعل فيراد به المفعول وإلى المفعول فيراد به الفاعل أعني الساتر، ولصدقه على الضدين- الخلف، والأمام- عد من الأضداد وليس موضوعا لهما، وفي الموازنة للأموي تصريح بأنه ليس منها وإنما هو من المواراة والاستتار فما استتر عنك فهو وراء- خلفا كان أو قداما- إذا لم تره فأما إذا رأيته فلا يكون وراءك. والمراد هنا بما بعده قاله قتادة- أو بما سواه- وبه فسر وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء: 24] وأريد به القرآن كما عليه الجمهور. وقال الواحدي هو والإنجيل، واحتمال أن يراد بما وراءه باطن معاني ما أنزل عليهم التي هي وراء ألفاظها، وفيه إشعار بأن إيمانهم بظاهر اللفظ ليس بشيء إلا أن يراد بذلك الباطن القرآن ولا يخفى بعده. وَهُوَ الْحَقُّ الضمير عائد لما وراءه حال منه، وقيل: من فاعل يكفرون والجملة الحالية المقترنة بالواو لا يلزم أن يعود منها ضمير إلى ذي الحال- كجاء زيد والشمس طالعة- وعلى فرض اللزوم ينزل وجود الضمير فيما هو من تتمتها منزلة وجوده فيها، والمعنى وهم مقارنون لحقيته أي عالمون بها وهو أبلغ في الذم من كفرهم بما هو حق في نفسه، والأول أولى لظهوره ولا تفوت تلك الأبلغية عليه أيضا إذ تعريف الحق للإشارة إلى أن المحكوم عليه مسلم الاتصاف به معروفة من قبيل- والدك العبد- فيفيد أن كفرهم به كان لمجرد العناد، وقيل: التعريف لزيادة التوبيخ والتجهيل بمعنى أنه خاصة الحق الذي يقارن تصديق كتابهم ولولا الحال أعني مُصَدِّقاً لم يستقم الحصر لأنه في مقابلة كتابهم وهو حق أيضا، وفيه أنه لا يستقيم ولو لوحظ الحال بناء على تخصيص ذي الضمير بالقرآن لأن الإنجيل حق مصدق للتوراة أيضا، نعم لو أريد بالحق الثابت المقابل للمنسوخ لاستقام الحصر مطلقا إلا أنه بعيد مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ حال مؤكدة لأن كتب الله تعالى يصدق بعضها بعضا، فالتصديق لازم لا ينتقل، وقد قررت مضمون الخبر لأنها كالاستدلال عليه، ولهذا تضمنت رد قولهم نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا حيث إن من لم يصدق بما وافق التوراة لم يصدق بها، واحتمال أن يراد مما معهم التوراة والإنجيل كما في البحر لأنهما أنزلا على بني إسرائيل وكلاهما غير مخالف للقرآن مخالف لما يقتضيه الذوق سباقا وسياقا. قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ؟ أمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقول ذلك تبكيتا لهم حيث قتلوا الأنبياء مع ادعاء الإيمان بالتوراة وهي لا تسوّغه، ويحتمل أن يكون أمرا لمن يريد جدالهم كائنا من كان والفاء جواب شرط مقدر أي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «فلم» إلخ، و «ما» استفهامية حذفت ألفها لأجل- لام- الجر ويقف البزي في مثل ذلك بالهاء وغيره بغيرها، وإيراد صيغة المضارع مع الظرف الدال على المضي للدلالة على استمرارهم على القتل في الأزمنة الماضية، وقيل: لحكاية تلك الحال، والمراد بالقتل معناه الحقيقي وإسناده إلى الأخلاف المعاصرين له صلى الله تعالى عليه وسلم مع أن صدوره من الأسلاف مجاز للملابسة بين الفاعل الحقيقي وما أسند إليه، وهذا كما يقال لأهل قبيلة- أنتم قتلتم زيدا- إذا كان القاتل آباءهم، وقيل: القتل مجاز عن الرضا أو العزم عليه، ولا يخفى أن الاعتراض على الوجه الأول أقوى تبكيتا منه على الآخرين فتدبر، وفي إضافة أَنْبِياءَ إلى الاسم الكريم تشريف عظيم وإيذان بأنه كان ينبغي لمن جاء من عند الله تعالى أن يعظم وينصر لا أن يقتل إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ تكرير للاعتراض لتأكيد الإلزام وتشديد التهويل أي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فلم تقتلونهم وقد حذف من كل واحدة من الشرطيتين ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 حذف ثقة بما أثبت في الأخرى على طريق الاحتباك، وقيل: إن المذكور قبل جواب لهذا الشرط بناء على جواز تقديمه وهو رأي الكوفيين وأبى زيد، واختاره في البحر، وقال الزجاج: إِنْ هنا نافية ولا يخفى بعده. وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ داخل تحت الأمر فهو من تمام التبكيت والتوبيخ وكذا ما يأتي بعد لا تكرير لما قص من قبل، والمراد بِالْبَيِّناتِ الدلائل الدالة على صدقه عليه السلام في دعوته والمعجزات المؤيدة لنبوته كالعصا، واليد، وانفلاق البحر مثلا، وقيل: الأظهر أن يراد بها الدلائل الدالة على الوحدانية فإنه أدخل في التقريع بما بعد، وعندي الحمل على العموم بحيث يشمل ذلك أيضا أولى وأظهر ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ أي الذي صنعه لكم السامري من حليكم إلها مِنْ بَعْدِهِ أي بعد مجيء موسى عليه السلام بها ومن عد التوراة وانفجار الماء منها لم يرد الجميع بل الجنس لأن ذلك كان بعد قصة العجل وكلمة ثُمَّ على هذا للاستبعاد لئلا يلغو القيد. وقد يقال: الضمير لمتقدم معنى وهو الذهاب إلى الطور فكلمة ثُمَّ على حقيقتها، وعد ما ذكرنا من البينات حينئذ ظاهر، ويشير هذا العطف على (1) أنهم فعلوا ذلك بعد مهلة من النظر في الآيات وذلك أعظم ذنبا وأكثر شناعة لحالهم، والتزم بعضهم- رجوع الضمير إلى البينات بحذف المضاف أي من بعد تدبر الآيات ليظهر ذلك، وعود الضمير إلى العجل، والمراد بعد وجوده أي عبدتم الحادث الذي حدث بمحضركم ليكون فيه التوبيخ العظيم- لا يخفى ما فيه من البعد العظيم المستغنى عنه بما أشرنا إليه وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ أي واضعون الشيء في غير محله اللائق به أو مخلون بآيات الله تعالى، والجملة حال مؤكدة للتوبيخ والتهديد وهي جارية مجرى القرينة على إرادة العبادة من الاتخاذ، وفيها تعريض بأنهم صرفوا العبادة عن موضعها الأصلي إلى غير موضعها وإيهام المبالغة من حيث إن إطلاق الظلم يشعر بأن عبادة العجل كل الظلم وأن من ارتكبها لم يترك شيئا من الظلم واختار بعضهم كونها اعتراضا لتأكيد الجملة بتمامها دون تعرض لبيان الهيئة الذي تقتضيه الحالية أي وأنتم قوم عادتكم الظلم واستمر منكم، ومنه عبادة العجل، والذي دعاه إلى ذلك زعم أنه يلزم على الحالية أن يكون تكرارا محضا فإن عبادة العجل لا تكون إلا ظلما بخلافه على هذا فإنه يكون بيانا لرذيلة لهم تقتضي ذلك، وفيه غفلة عما ذكرنا، وإذا حمل الاتخاذ على الحقيقة نحو- اتخذت خاتما- تكون الحالية أولى بلا شبهة لأن الاتخاذ لا يتعين كونه ظلما إلا إذا قيد بعبادته كما لا يخفى وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ أي قلنا لهم خذوا ما أمرتكم به في التوراة بجد وعدم فتور وَاسْمَعُوا- أي سماع تقبل وطاعة إذ لا فائدة في الأمر بالمطلق بعد الأمر بالأخذ بقوة بخلافه على تقدير التقييد فإنه يؤكده ويقرره لاقتضائه كمال إبائهم عن قبول ما آتاهم إياه ولذا رفع الجبل عليهم وكثيرا ما يراد من السماع القبول ومن ذلك سمع الله لمن حمده وقوله: دعوت الله حتى خفت أن لا ... يكون الله «يسمع» ما أقول قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا أي سمعنا قولك خُذُوا وَاسْمَعُوا وعصينا أمرك فلا نأخذ ولا نسمع سماع الطاعة، وليس هذا جوابا ل اسْمَعُوا باعتبار تضمنه أمرين لأنه يبقى خذوا بلا جواب، وذهب الجم إلى ذلك وأوردوا هنا سؤالا وجوابا، حاصل الأول أن السماع في الأمر إن كان على ظاهره فقولهم سمعنا طاعة وعصينا مناقض وإن كان القبول فإن كان في الجواب كذلك كذب وتناقض وإلا لم يكن له تعلق بالسؤال، وزبدة الجواب أن السماع هناك مقيد والأمر مشتمل على أمرين سماع قوله وقبوله بالعمل فقالوا نمتثل أحدهما دون الآخر، ومرجعه إلى القول   (1) كذا في الأصل ولعلها إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 بالموجب، ونظيره يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ [التوبة: 61] وقيل: المعنى قالوا بلسان القال سمعنا وبلسان الحال عصينا، أو سمعنا أحكاما قبل وعصينا فنخاف أن نعصي بعد سماع قولك هذا، وقيل: سَمِعْنا جواب اسْمَعُوا وَعَصَيْنا جواب خُذُوا وقال أبو منصور: إن قولهم عصينا ليس على أثر قولهم سَمِعْنا بل بعد زمان كما في قوله تعالى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ فلا حاجة إلى الدفع بما ذكر، وأنت تعلم أنه لا حاجة إلى جميع ذلك بعد ما سمعت كما لا يخفى. وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ عطف على قالُوا أو مستأنف أو حال بتقدير قد أو بدونه. والعامل قالُوا والإشراب- مخالطة المائع الجامد، وتوسع فيه حتى صار في اللونين، ومنه بياض مشرب بحمرة، والكلام على حذف مضاف أي حب العجل، وجوز أن يكون العجل مجازا عن صورته فلا يحتاج إلى الحذف، وذكر- القلوب- لبيان مكان الإشراب، وذكر المحل المتعين يفيد مبالغة في الإثبات والمعنى داخلهم حب العجل ورسخ في قلوبهم صورته لفرط شغفهم به كما داخل الصبغ الثوب وأنشدوا: إذا ما القلب «أشرب» حب شيء ... فلا تأمل له عنه انصرافا وقيل:- أشربوا- من أشربت البعير إذا شددت في عنقه حبلا كأن العجل شد في قلوبهم لشغفهم به وقيل: من الشراب ومن عادتهم أنهم إذا عبروا عن مخامرة حب أو بغض استعاروا له اسم الشراب إذ هو أبلغ منساغ في البدن، ولذا قال الأطباء: الماء مطية الأغذية والأدوية ومركبها الذي تسافر به إلى أقطار البدن، وقال الشاعر: تغلغل حيث لم يبلغ «شراب» ... ولا حزن ولم يبلغ سرور وقيل: من الشرب حقيقة، وذلك أن السدي نقل أن موسى عليه السلام برد العجل بالمبرد ورماه في الماء وقال لهم اشربوا فشربوا جميعهم فمن كان يحب العجل خرجت برادته على شفتيه، ولا يخفى أن قوله تعالى: فِي قُلُوبِهِمُ يبعد هذا القول جدا على أن ما قص الله تعالى لنا في كتابه عما فعل موسى عليه السلام بالعجل يبعد ظاهر هذه الرواية أيضا، وبناء- أشربوا- للمفعول يدل على أن ذلك فعل بهم ولا فاعل سواه تعالى. وقالت المعتزلة: هو على حد قول القائل- أنسيت كذا- ولم يرد أن غيره فعل ذلك به وإنما المراد نسيت وأن الفاعل من زين ذلك عندهم ودعاهم إليه كالسامري بِكُفْرِهِمْ أي بسبب كفرهم لأنهم كانوا مجسمة يجوزون أن يكون جسم من الأجسام إلها أو حلولية يجوزون حلوله فيه تعالى عن ذلك علوا كبيرا، ولم يروا جسما أعجب منه فتمكن في قلوبهم ما سول لهم، وثعبان العصا كان لا يبقى زمانا ممتدا ولا يبعد من أولئك أن يعتقدوا عجلا صنعوه على هيئة البهائم إلها وإن شاهدوا ما شاهدوا من موسى عليه السلام لما ترى من عبدة الأصنام الذين كان أكثرهم أعقل من كثير من بني إسرائيل، وقيل: الباء بمعنى مع أي مصحوبا بكفرهم فيكون ذلك كفرا على كفر. قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ أي بما أنزل عليكم من التوراة حسبما تدعون، وإسناد الأمر إلى الإيمان وإضافته إلى ضميرهم للتهكم كما في قوله تعالى: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ [هود: 87] والمخصوص بالذم محذوف- أي قتل الأنبياء- وكذا وكذا، وجوّز أن يكون المخصوص مخصوصا بقولهم: عصينا أمرك، وأراه على القرب بعيدا. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قدح في دعواهم الإيمان بالتوراة وإبطال لها، وجواب الشرط ما فهم من قوله تعالى: فَلِمَ تَقْتُلُونَ إلى آخر الآيات المذكورة في رد دعواهم الإيمان، أو الجملة الانشائية السابقة- إما بتأويل أو بلا تأويل- وتقرير ذلك إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ما رخص لكم إيمانكم بالقبائح التي فعلكم، بل منع عنها فتناقضتم في دعواكم له فتكون باطلا، أو إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بها ف بِئْسَما أمركم به إِيمانُكُمْ بها أو فقد أمركم إيمانكم بالباطل، لكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 الإيمان بها لا يأمر به فإذن لستم بمؤمنين، والملازمة بين الشرط والجزاء «على الأول» بالنظر إلى نفس الأمر، وإبطال الدعوى بلزوم التناقض «وعلى الثاني» تكون الملازمة بالنظر إلى حالهم من تعاطي القبائح مع ادعائهم الإيمان، والمؤمن من شأنه أن لا يتعاطى إلا ما يرخصه إيمانه، وإبطال التالي بالنظر إلى نفس الأمر- واستظهر بعضهم في هذا- ونظائره كون الجزاء معرفة السابق أي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ تعرفون أنه بئس المأمور به، وقيل: إِنْ نافية، وقيل: للتشكيك- وإليه يشير كلام الكشاف- وفيه أن المقصد إبطال دعوتهم بإبراز إيمانهم القطعي العدم منزلة ما لا قطع بعدمه للتبكيت والإلزام- لا للتشكيك- على أنه لم يعهد استعمال إِنْ لتشكيك السامع- كما نص عليه بعض المحققين- وقرأ الحسن ومسلم بن جندب- بهو إيمانكم- بضم الهاء ووصلها بواو قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ رد لدعوى أخرى لهم بعد رد دعوى- الإيمان بما أنزل عليهم- ولاختلاف الغرض لم يعطف أحدهما على الآخر مع ظهور المناسبة المصححة للذكر، والآية نزلت- فيما حكاه ابن الجوزي- عند ما قالت اليهود: إن الله تعالى لم يخلق الجنة إلا لإسرائيل وبنيه. وقال أبو العالية والربيع: سبب نزولها قولهم: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ [البقرة: 111] إلخ ونَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ [المائدة: 18] إلخ ولَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ [البقرة: 80، آل عمران: 24] إلخ، وروي مثله عن قتادة. والضمير في قُلْ إما للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو لمن يبغي إقامة الحجة عليهم، والمراد من الدَّارُ الْآخِرَةُ الجنة- وهو الشائع- واستحسن في البحر تقدير مضاف أي نعيم الدَّارُ الْآخِرَةُ. عِنْدَ اللَّهِ أي في حكمه، وقيل: المراد- بالعندية- المكانة والمرتبة والشرف، وحملها- على عندية المكان- كما قيل به- احتمالا- بعيد خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ أي مخصوصة بكم كما تزعمون- والخالص- الذي لا يشوبه شيء، أو ما زال عنه شوبه، ونصب خالِصَةً على الحال من الدَّارُ الذي هو اسم كان ولَكُمُ خبرها قدم للاهتمام- أو لإفادة الحصر- وما بعده للتأكيد، هذا إن جوّز مجيء الحال من اسم كان وهو الأصح، ومن لم يجوّز بناء على أنه ليس بفاعل جعلها حالا من الضمير المستكن في الخبر، وقيل: خالِصَةً هو الخبر ولَكُمُ ظرف لغو لكان أو ل خالِصَةً ولا يخفى بعده- فإنه تقييد للحكم قبل مجيئه- ولا وجه لتقديم متعلق الخبر على الاسم مع لزوم توسط الظرف بين الاسم والخبر، وأبعد المهدوي، وابن عطية أيضا فجعلا خالِصَةً حالا وعِنْدَ اللَّهِ هو الخبر، مع أن الكلام لا يستقل به وحده. ودُونِ هنا للاختصاص وقطع الشركة، يقال: هذا لي دونك، وأنت تريد لا حق لك فيه معي ولا نصيب، وهو متعلق ب خالِصَةً والمراد ب النَّاسِ الجنس وهو الظاهر، وقيل: المراد بهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمسلمون، وقيل: النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وحده- قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- قالوا: ويطلق النَّاسِ ويراد به الرجل الواحد، ولعله لا يكون إلا مجازا بتنزيل الواحد منزلة الجماعة فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أن الجنة خالِصَةً لكم، فإن من أيقن أنه من أهل الجنة اختار أن ينتقل إلى دار القرار، وأحب أن يخلص من المقام في دار الأكدار، كما روي عن عليّ كرم الله تعالى وجهه أنه كان يطوف بين الصفين في غلالة، فقال له الحسن: ما هذا بزي المحاربين، فقال: يا بني- لا يبالي أبوك سقط على الموت، أم سقط عليه الموت- وكان عبد الله بن رواحة ينشد وهو يقاتل الروم: يا حبذا الجنة واقترابها ... طيبة وبارد شرابها والروم روم قد دنا عذابها وقال عمار بصفين: غدا نلقى الأحبة، محمدا وصحبه. وروي عن حذيفة أنه كان يتمنى الموت، فلما احتضر قال: حبيب جاء على فاقة. وعنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه لما بلغه قتل من قتل ببئر معونة قال: «يا ليتني غودرت معهم في لحف الجبل» ويعلم من ذلك أن تمني الموت لأجل الاشتياق إلى دار النعيم ولقاء الكريم غير منهي عنه، إنما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 المنهي عنه تمنيه لأجل ضر أصابه- فإنه آثر الجزع وعدم الرضا بالقضاء- وفي الخبر «لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، وإن كان ولا بد فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وأمتني ما كانت الوفاة خيرا لي» والمراد- بالتمني- قول الشخص: ليت كذا، وليت من أعمال القلب أو الاشتهاء بالقلب ومحبة الحصول مع القول، فمعنى الآية سلوا الموت باللسان- قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو اشتهوه بقلوبكم وسلوه بألسنتكم- قاله قوم- وعلى التقديرين- الأمر بالتمني حقيقة، واحتمال أن يكون المراد- تعرضوا للموت ولا تحترزوا عنه كالمتمني فحاربوا من يخالفكم ولا تكونوا من أهل الجزية والصغار، أو كونوا على وجه يكون المتمنون للموت المشتهون للجنة عليه من العمل الصالح- مما لا تساعده الآثار، فقد أخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما موقوفا «لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه» وأخرج البيهقي عنه مرفوعا «لا يقولها رجل منهم إلا غص بريقه» والبخاري مرفوعا عنه أيضا «لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا» وقرأ ابن أبي إسحاق فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ- بكسر الواو- وحكى الحسن بن إبراهيم عن أبي عمرو- فتحها- وروي عنه أيضا اختلاس ضمتها وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً الظاهر أنه جملة مستأنفة معترضة غير داخلة تحت الأمر سيقت من جهته تعالى لبيان ما يكون منهم من الإحجام الدال على كذبهم في دعواهم، والمراد لن يتمنوه ما عاشوا، وهذا خاص بالمعاصرين له صلى الله تعالى عليه وسلم على ما روي عن نافع رضي الله تعالى عنه قال: خاصمنا يهودي وقال: إن في كتابكم فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إلخ، فأنا أتمنى الموت، فما لي لا أموت، فسمع ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فغضب، فدخل بيته وسل سيفه وخرج، فلما رآه اليهودي فرّ منه، وقال ابن عمر: أما والله لو أدركته لضربت عنقه، توهم هذا الكلب اللعين الجاهل أن هذا لكل يهودي أو لليهود في كل وقت لا إنما هو لأولئك الذين كانوا يعاندون ويجحدون نبوة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن عرفوا، وكانت المحاجة معهم باللسان دون السيف. ويؤيد هذا ما أخرج ابن جرير عن ابن عباس موقوفا «لو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على وجه الأرض يهودي إلا مات» وهذه الجملة إخبار بالغيب ومعجزة له صلى الله تعالى عليه وسلم، وفيها دليل على اعترافهم بنبوّته صلى الله تعالى عليه وسلم لأنهم لو لم يتيقنوا ذلك ما امتنعوا من التمني، وقيل: لا دليل، بل الامتناع كان بصرف الصرفة كما قيل في عدم معارضة القرآن، والقول بأنه كيف يكون ذلك معجزة مع أنه لا يمكن أن يعلم أنه لم يتمن أحد، والتمني أمر قلبي لا يطلع عليه، مجاب عنه بأنا لا نسلم أن المراد بالتمني هنا الأمر القلبي، بل هو أن يقول: ليت كذا ونحوه كما مر آنفا، ولو سلم أنه أمر قلبي فهذا مذكور على طريق المحاجة وإظهار المعجزة فلا يدفع إلا بالإظهار والتلفظ كما إذا قال رجل لامرأته: أنت طالق إن شئت أو أحببت، فإنه يعلق بالإخبار لا بالإضمار، فحيث ثبت عدم تلفظهم بالإخبار، وبأنه لو وقع لنقل واشتهر لتوفر الدواعي إلى نقله لأنه أمر عظيم يدور عليه أمر عظيم يدور عليه أمر النبوّة، فإنه بتقدير عدمه يظهر صدقه، وبتقدير حصوله يبطل القول بنبوته ثبت كونه معجزة أيده بها ربه، ومن حمل التمني على المجاز لا يرد عنده هذا السؤال، ولا يحتاج إلى هذا الجواب، وقد علمت ما فيه. وذهب جمهور المفسرين إلى عموم حكم الآية لجميع اليهود في جميع الأعصار، ولست ممن يقول بذلك وإن ارتضاه الجم الغفير، وقالوا: إنه المشهور الموافق لظاهر النظم الكريم، اللهم إلا أن يكون ذلك بالنسبة إلى جميع اليهود المعتقدين نبوّته صلى الله تعالى عليه وسلم الجاحدين لها في جميع الأعصار- لا بالنسبة إلى اليهود مطلقا في جميعها- ومع هذا لي فيه نظر بعد بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي بسبب ما عملوا من المعاصي الموجبة للنار كالكفر بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم، والقرآن، وقتل الأنبياء، و «ما» موصولة، والعائد محذوف أو مصدرية ولا حذف، واليد كناية عن نفس الشخص، ويكنى بها عن القدرة أيضا لما أنها من بين جوارح الإنسان مناط عامة صنائعه، ومدار أكثر منافعه، ولا يجعل الإسناد مجازيا واليد على حقيقتها فيكون المعنى بما قدموا بأيديهم كتحريف التوراة ليشمل ما قدموا بسائر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 الأعضاء، وهو أبلغ في الذم وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ تذييل للتهديد والتنبيه على أنهم ظالمون في ادعاء ما ليس لهم ونفيه عن غيرهم، والمراد- بالعلم- إما ظاهر معناه، أو أنه كني به عن المجازاة- وأل- إما للعهد وإيثار الإظهار على الإضمار للذم، وإما للجنس فيدخل المعهودون فيه على طرز ما تقدم. وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ الخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وتجد- من وجد بعقله بمعنى علم المتعدية إلى مفعولين، والضمير مفعول أول، وأَحْرَصَ مفعول ثان، واحتمال أنها من وجد بمعنى لقي وأصاب فتتعدى إلى واحد، وأَحْرَصَ حال لا يتأتى على مذهب من يقول إن إضافة أفعل محضة كما سيأتي، والضمير عائد على اليهود الذين أخبر عنهم بأنهم لا يتمنون الموت، وقيل: على جميعهم، وقيل: على علماء بني إسرائيل وأل- في الناس للجنس، وهو الظاهر، وقيل: للعهد، والمراد جماعة عرفوا بغلبة الحرص عليهم، وتنكير حَياةٍ لأنه أريد بها فرد نوعي، وهي الحياة المتطاولة، فالتنوين للتعظيم، ويجوز أن يكون للتحقير، فإن الحياة الحقيقية هي الأخروية وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ [العنكبوت: 64] ويجوز أن يكون التنكير للإبهام، بل قيل: إنه الأوجه أي على حياة مبهمة غير معلومة المقدار، ومنه يعلم حرصهم على الحياة المتطاولة من باب الأولى وجوز أبو حيان أن يكون الكلام على حذف مضاف أو صفة أي طول حياة أو حياة طويلة، وأنت تعلم أنه لا يحتاج إلى ذلك، والجملة إما حال من فاعل «قل» - وعليه الزجاج- وإما معترضة لتأكيد عدم تمنيهم الموت، وقرأ أبيّ- على الحياة- بالألف واللام وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا هم المجوس ووصفوا بالإشراك لأنهم يقولون بالنور والظلمة وكانت تحيتهم إذا عطس العاطس عش ألف سنة، وقيل: مشركو العرب الذين عبدوا الأصنام وهذا من الحمل على المعنى كأنه قال: أحرص من الناس ومن الذين إلخ. بناء على ما ذهب إليه ابن السراج، وعبد القاهر والجزولي وأبو علي من أن إضافة أفعل المضاف إذا أريد الزيادة على ما أضيف إليه لفظية لأن المعنى على إثبات مِنَ الابتدائية، والجار والمجرور في محل نصب مفعولة، وسيبويه يجعلها معنوية بتقدير اللام، والمرد بالناس على هذا التقدير ما عدا اليهود لما تقرر أن المجرور- بمن- مفضول عليه بجميع أجزائه أو الأعم ولا يلزم تفضيل الشيء على نفسه لأن أفعل ذو جهتين ثبوت أصل المعنى والزيادة فكونه من جملتهم بالجهة الأولى دون الثانية وجيء- بمن- في الثانية لأن من شرط أفعل المراد به الزيادة على المضافة إليه أن يضاف إلى ما هو بعضه لأنه موضوع لأن يكون جزءا من جملة معينة بعده مجتمعة منه ومن أمثاله، ولا شك أن اليهود غير داخلين في الذين أشركوا فإن الشائع في القرآن ذكرهما متقابلين، ويجوز أن يكون ذلك من باب الحذف أي- وأحرص من الذين- وهو قول مقاتل ووجه الآية على مذهب سيبويه، وعلى التقديرين ذكر- المشركين- تخصيص بعد التعميم على الوجه الظاهر في- اللام- لإفادة المبالغة في حرصهم والزيادة في توبيخهم وتقريعهم حيث كانوا مع كونهم أهل كتاب يرجون ثوابا ويخافون عقابا، أحرص ممن لا يرجو ذلك، ولا يؤمن ببعث، ولا يعرف إلا الحياة العاجلة، وإنما كان حرصهم أبلغ لعلمهم بأنهم صائرون إلى العذاب، ومن توقع شرا كان أنفر الناس عنه، وأحرصهم على أسباب التباعد منه. ومن الناس من جوز كون مِنَ الَّذِينَ صفة لمحذوف معطوف على الضمير المنصوب في لَتَجِدَنَّهُمْ والكلام على التقديم والتأخير، أي لَتَجِدَنَّهُمْ وطائفة من- الذين أشركوا أحرص الناس- ولا أظن يقدم على مثل ذلك في كتاب الله تعالى من له أدنى ذوق، لأنه- وإن كان معنى صحيحا في نفسه- إلا أن التركيب ينبو عنه، والفصاحة تأباه، ولا ضرورة تدعو إليه لا سيما على قول من يخص التقديم والتأخير بالضرورة، نعم يحتمل أن يكون هناك محذوف- هو مبتدأ- والمذكور صفته، أو المذكور خبر مبتدأ محذوف صفته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 يَوَدُّ أَحَدُهُمْ وحذف موصوف الجملة فيما إذا كان بعضا من سابقه المجرور ب مِنَ أو- في- جائز في السعة، وفي غيره مختص بالضرورة نحو أنا ابن نجلا وطلاع الثنايا. وحينئذ يراد ب الَّذِينَ أَشْرَكُوا اليهود لأنهم قالوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: 30] ووضع المظهر موضع المضمر نعيا عليهم بالشرك، وجوّز بعضهم أن يراد بذلك الجنس، ويراد بمن يَوَدُّ أَحَدُهُمْ اليهود، والمراد كل واحد منهم- وهو بعيد- وجملة يَوَدُّ إلخ، على الوجهين الأولين مستأنفة، كأنه قيل: ما شدة حرصهم، وقيل: حال من الَّذِينَ أو من ضمير أَشْرَكُوا أو من الضمير المنصوب في لَتَجِدَنَّهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ جواب لَوْ محذوف- أي لسر بذلك- وكذا مفعول يَوَدُّ أي طول الحياة، وحذف لدلالة لَوْ يُعَمَّرُ عليه كما حذف الجواب لدلالة يَوَدُّ عليه، وهذا هو الجاري على قواعد البصريين في مثل هذا المكان، وذهب بعض الكوفيين- في مثل ذلك- إلى أن لَوْ مصدرية بمعنى- أن- فلا يكون لها جواب، وينسبك منها مصدر هو مفعول يَوَدُّ كأنه قال: «يود أحدهم» تعمير ألف سنة، وقيل: لَوْ بمعنى ليت ولا يحتاج إلى جواب والجملة محكية ب يَوَدُّ في موضع المفعول، وهو- وإن لم يكن قولا ولا في معناه- لكنه فعل قلبي يصدر عنه الأقوال فعومل معاملتها، وكان أصله- لو أعمر- إلا أنه أورد بلفظ الغيبة لأجل مناسبة يَوَدُّ فإنه غائب، كما يقال: حلف ليفعلن- مقام لأفعلن- وهذا بخلاف ما لو أتى بصريح القول، فإنه لا يجوز قال: ليفعلن، وإذا قلنا: إن لَوْ التي للتمني مصدرية لا يحتاج إلى اعتبار الحكاية، وابن مالك رضي الله تعالى عنه موضوعا له- كليت- ونحو لو تأتيني فتحدثني- بالنصب- أصله وددت لو تأتيني إلخ، فحذف فعل التمني لدلالة لَوْ عليه، وقيل: هي لَوْ الشرطية أشربت معنى التمني، ومعنى أَلْفَ سَنَةٍ الكثرة ليشمل من يَوَدُّ أن لا يموت أبدا، ويحتمل أن يراد أَلْفَ سَنَةٍ حقيقة- والألف- العدد المعلوم من الألفة، إذ هو مؤلف من أنواع الأعداد بناء على متعارف الناس، وإن كان الصحيح أن العدد مركب من الوحدات التي تحته- لا الإعداد- وأصل سَنَةٍ سنوة، لقولهم: سنوات، وقيل: سنهة- كجبهة- لقولهم: سانهته، وتسنهت النخلة إذا أتت عليها السنون، وسمع أيضا في الجمع سنهات وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ ما حجازية أو تميمية، وهو ضمير عائد إلى أَحَدُهُمْ اسمها- أو مبتدأ- وبِمُزَحْزِحِهِ خبرها أو خبره- والباء- زائدة، وأَنْ يُعَمَّرَ فاعل «مزحزحه» والمعنى- ما أحدهم يزحزحه من العذاب تعميره- وفيه إشارة إلى ثبوت من- يزحزحه التعمير- وهو مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً [الكهف: 88، سبأ: 37] ولا يجوز عند المحققين أن يكون الضمير المرفوع للشأن لأن مفسره جملة، ولا تدخل- الباء- في خبر ما وليس إلا إذا كان مفردا عند غير الفراء، وأجاز ذلك أبو علي، وهو ميل منه إلى مذهب الكوفيين من أن مفسر ضمير الشأن يجوز أن يكون غير جملة إذا انتظم إسنادا معنويا نحو ما هو بقائم زيد نعم جوّزوا أن يكون لما دل عليه يُعَمَّرُ وأَنْ يُعَمَّرَ بدل منه، أي ما تعميره بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ اعترض بأن فيه ضعفا للفصل بين البدل والمبدل منه، وللإبدال من غير حاجة إليه، وأجاب بعض المحققين أنه لما كان لفظ- التعمير- غير مذكور، بل ضميره حسن الإبدال ولو كان التعمير مذكورا بلفظه لكان الثاني تأكيدا- لا بدلا- ولكونه في الحقيقة تكريرا يفيد فائدته من تقرير المحكوم عليه اعتناء بشأن الحكم بناء على شدة حرصه على التعمير- ووداده إياه- جاز الفصل بينه وبين المبدل منه بالخبر، كما في التأكيد في قوله تعالى: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ [هود: 19، يوسف: 37، فصلت: 7] وقيل: هو ضمير مبهم يفسره البدل فهو راجع إليه لا إلى شيء متقدم مفهوم من الفعل، والتفسير بعد الإبهام ليكون أوقع في نفس السامع، ويستقر في ذهنه كونه محكوما عليه بذلك الحكم والفصل بالظرف بينه وبين مفسره جائز- كما يفهمه كلام الرضيّ في بحث أفعال المدح والذم- واحتمال أن يكون هُوَ ضمير فصل قدم مع الخبر بعيد- والزحزحة- التبعيد، وهو مضاعف من زح يزح زحا، ككبكب من كب- وفيه مبالغة- لكنها متوجهة إلى النفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 على حد ما قيل: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] فيؤول- إلى أنه لا يؤثر في إزالة العذاب أقل تأثير- التعمير، وصح ذلك مع أن التعمير يفيد رفع العذاب مدة البقاء، لأن الإمهال بحسب الزمان وإن حصل، لكنهم لاقترافهم المعاصي بالتعمير زاد عليهم من حيث الشدة فلم يؤثر في إزالته أدنى تأثير بل زاد فيه حيث استوجبوا بمقابلة أَيَّاماً مَعْدُودَةً [البقرة: 80] عذاب الأبد وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ أي عالم بخفيات أعمالهم- فهو مجازيهم لا محالة- وحمل- البصر- على- العلم- هنا وإن كان بمعنى الرؤية صفة لله تعالى أيضا لأن بعض الأعمال لا يصح أن يرى- على ما ذهب إليه بعض المحققين- وفي هذه الجملة من التهديد والوعيد ما هو ظاهر، و «ما» إما موصولة أو مصدرية، وأتى بصيغة المضارع لتواخي الفواصل، وقرأ الحسن وقتادة والأعرج ويعقوب «تعلمون» - بالتاء- على سبيل الالتفات قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ أخرج ابن أبي شيبة في مسنده، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن الشعبي، أنه دخل عمر رضي الله تعالى عنه مدراس اليهود يوما فسألهم عن جبريل، فقالوا: ذاك عدونا، يطلع محمدا على أسرارنا، وأنه صاحب كل خسف وعذاب، وميكائيل صاحب الخصب والسلام. فقال: ما منزلتهما من الله تعالى؟ قالوا: جبريل عن يمينه، وميكائيل عن يساره- وبينهما عداوة- فقال: لئن كانا كما تقولون فليسا بعدوين، ولأنتم أكفر من الحمير، ومن كان عدوا لأحدهما فهو عدو لله. ثم رجع عمر فوجد جبريل قد سبقه بالوحي، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: «لقد وافقك ربك يا عمر» قال عمر: لقد رأيتني بعد ذلك أصلب من الحجر، وقيل: نزلت في عبد الله بن صوريا- كان يهوديا من أحبار فدك- سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمن ينزل عليه فقال: «جبريل» فقال: ذاك عدونا عادانا مرارا، وأشدها أنه أنزل على نبينا أن بيت المقدس سيخربه بخت نصر، فبعثنا من يقتله فرآه ببابل، فدفع عنه جبريل وقال: إن كان ربكم أمره بهلاككم فلا يسلطكم عليه، وإلا فبم تقتلونه؟ وصدقه الرجل المبعوث ورجع إلينا، وكبر بختنصر وقوي وغزانا، وخرّب بيت المقدس، روى ذلك بعض الحفاظ، وقال العراقي: لم أقف له على سند، فلعل الأول أقوى منه- وإن أوهم صنيع بعضهم العكس- ولِجِبْرِيلَ علم ملك كان ينزل على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالقرآن، وهو اسم أعجمي ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، وأبعد من ذهب إلى أنه مشتق من جبروت الله وجعله مركبا تركيب مزج من مضاف ومضاف إليه، فمنعه من الصرف للعلمية، والتركيب ليس بشيء لأن ما يركب هذا التركيب يجوز فيه البناء والإضافة ومنع الصرف. فكونه لم يسمع فيه الإضافة أو البناء دليل على أنه ليس من تركيب المزج، وقد تصرفت فيه العرب على عادتها في تغيير الأسماء الأعجمية حتى بلغت فيه إلى ثلاث عشرة لغة، أفصحها وأشهرها لِجِبْرِيلَ كقنديل، وهي قراءة أبي عمرو. ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم. وهي لغة الحجاز، قال ورقة بن نوفل: «وجبريل» يأتيه وميكال معهما ... من الله وحي يشرح الصدر منزل الثانية كذلك إلا أنها- بفتح الجيم- وهي قراءة ابن كثير والحسن وابن محيصن. قال الفراء: لا أحبها لأنه ليس في الكلام فعليل- وليس بشيء- لأن الأعجمي إذا عربوه قد يلحقونه بأوزانهم- كلجام- وقد لا يلحقونه كإبريسم- وجبريل من هذا القبيل، مع أنه سمع- سموأل- لطائر، الثالث «جبرئيل» كسلسبيل، وبها قرأ حمزة والكسائي وحماد عن أبي بكر عن عاصم، وهي لغة قيس وتميم وكثير من أهل نجد، وحكاها الفراء واختارها الزجاج، وقال: هي أجود اللغات، وقال حسان: شهدنا فما يلقى لنا من كتيبة ... مدى الدهر إلا «جبرئيل» أمامها «الرابعة» كذلك إلا أنها بدون- ياء بعد الهمزة- وهي رواية يحيى بن آدم، عن أبي بكر، عن عاصم، وتروى عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 يحيى بن يعمر «الخامسة» كذلك إلا أن- اللام مشددة- وهي قراءة أبان عن عاصم، ويحيى بن يعمر أيضا «السادسة» «جبرائل» - بألف وهمزة بعدها مكسورة بدون ياء- وبها قرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعكرمة «السابعة» مثلها مع زيادة- ياء بعد الهمزة- «الثامنة» «جبراييل» بياءين بعد الألف، وبها قرأ الأعمش وابن يعمر، ورواها الكسائي عن عاصم «التاسعة» «جبرال» «العاشرة» «جبريل» - بالياء والقصر- وهي قراءة طلحة بن مصرف «الحادية عشرة» «جبرين» - بفتح الجيم والنون- «الثانية عشرة» كذلك إلا أنها- بكسر الجيم- وهي لغة أسد «الثالثة عشرة» «جبراين» قال أبو جعفر النحاس: جمع لِجِبْرِيلَ جمع تكسير على- جبارين- على اللغة العالية، واشتهر أن معناه عبد الله، على أن- جبر- هو الله تعالى- وإيل- هو العبد، قيل: عكسه، ورده بعضهم بأن المعهود في الكلام العجمي تقديم المضاف إليه على المضاف، وفيه تأمل. فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ جواب الشرط إما نيابة أو حقيقة والمعنى من عاداه منهم فقد خلع ربقة الإنصاف أو كفر بما معه من الكتاب بمعاداته إياه لنزوله عليك بالوحي لأنه نزل كتابا مصدقا للكتب المتقدمة، أو فالسبب في عداوته أنه نزل عليك، وليس المبتدأ على هذا الأخير محذوفا، وأنه- نزله- خبره حتى يرد أن الموضع للمفتوحة بل أن- الفاء- داخلة على السبب، ووقع جزاء باعتبار الإعلام والاخبار بسببيته لما قبله فيؤول المعنى إلى من عاداه فأعلمكم بأن سبب عداوته كذا فهو كقولك: إن عاداك فلان فقد آذيته أي فأخبرك بأن سبب عداوتك أنك آذيته، وقيل: الجزاء محذوف بحيث لا يكون المذكور نائبا وعنه يقدر مؤخرا عنه ويكون هو تعليلا وبيانا لسبب العداوة والمعنى من عاداه- لأنه نزله على قلبك- فليمت غيظا، أو فهو عدوّ لي وأنا عدوه والقرينة على حذف الثاني الجملة المعترضة المذكورة بعده في وعيدهم، واحتمال أن يكون مَنْ كانَ عَدُوًّا إلخ استفهاما للاستبعاد، أو التهديد ويكون فإنه تعليل العداوة وتقييدا لها أو تعليل الأمر بالقول مما لا ينبغي أن يرتكب في القرآن العظيم، والضمير الأول البارز لجبريل، والثاني للقرآن كما يشير إليه الأحوال لأنها كلها من صفات القرآن ظاهرا، وقيل: الأول لله تعالى والثاني لجبريل أي- فإن الله نزل جبريل بالقرآن على قلبك- وفي كل من الوجهين إضمار يعود على ما يدل عليه السياق، وفي ذلك من فخامة الشأن ما لا يخفى، ولم يقل سبحانه عليك كما في قوله تعالى: ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى [طه: 2] بل قال: عَلى قَلْبِكَ لأنه القابل الأول للوحي إن أريد به الروح، ومحل الفهم والحفظ إن أريد به العضو بناء على نفي الحواس الباطنة، وقيل: كني بالقلب عن الجملة الإنسانية كما يكنى ببعض الشيء عن كله، وقيل: معنى نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ جعل قَلْبِكَ متصفا بأخلاق القرآن ومتأدبا بآدابه كما في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها «كان خلقه القرآن يرضى لرضاه ويغضب لغضبه» وكان الظاهر أن يقول على قلبي لأن القائل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لكنه حكى ما قال الله تعالى له وجعل القائل كأنه الله تعالى لأنه سفير محض بِإِذْنِ اللَّهِ أي بأمره أو بعلمه وتمكينه إياه من هذه المنزلة أو باختياره، أو بتيسيره وتسهيله، وأصل معنى- الاذن- في الشيء الاعلام بإجازته والرخصة فيه فالمعاني المذكورة كلها مجازية، والعلاقة ظاهرة، والمنتخب- كما في المنتخب- المعنى الأول والمعتزلة- لما لم يقولوا بالكلام النفسي وإسناد الاذن إليه تعالى باعتبار الكلام اللفظي يحتاج إلى تكلف- اقتصر الزمخشري على الوجه الأخير، والقول: إن الاذن بمعنى الأمر إن أريد بالتنزيل معناه الظاهر، وبمعنى التيسير إن أريد به التحفيظ والتفهيم مما لا وجه له. مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب الإلهية التي معظمها التوراة وانتصاب مُصَدِّقاً على الحال من الضمير المنصوب في نَزَّلَهُ إن كان عائدا للقرآن وإن كان لجبريل فيحتمل وجهين، أحدهما أن يكون حالا من المحذوف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 لفهم المعنى كما أشرنا إليه، والثاني أن يكون حالا من جبريل، والهاء إما للقرآن أو لجبريل فإنه مصدق أيضا لما بين يديه من الرسل والكتب وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ معطوفان على مُصَدِّقاً فهما حالان مثله، والتأويل غير خفي، وخص المؤمنين- بالذكر لأنه على غيرهم عمى، وقد دلت الآية على تعظيم جبريل والتنويه بقدره حيث جعله الواسطة بينه تعالى وبين أشرف خلقه، والمنزل بالكتاب الجامع للأوصاف المذكورة، ودلت على ذم اليهود حيث أبغضوا من كان بهذه المنزلة العظيمة الرفيعة عند الله تعالى، قيل: وتعلقت الباطنية بهذه الآية وقالوا: إن القرآن إلهام والحروف عبارة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ورد عليهم بأنه معجزة ظاهرة وباطنة وإن الله تعالى سماه قرآنا وكتابا وعربيا، وإن جبريل نزل به والملهم لا يحتاج إليه. مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ- العدو- للشخص ضد الصديق يستوي فيه المذكر والمؤنث والتثنية والجمع، وقد يؤنث ويثنى ويجمع، وهو الذي يريد إنزال المضار به، وهذا المعنى لا يصح إلا فينا دونه تعالى فعداوة الله هنا مجاز إما عن مخالفته تعالى وعدم القيام بطاعته لما أن ذلك لازم للعداوة، وإما عن عداوة أوليائه، وأما عداوتهم لجبريل والرسل عليهم السلام فصحيحة لأن الإضرار جار عليهم غاية ما في الباب أن عداوتهم لا تؤثر لعجزهم عن الأمور المؤثرة فيهم، وصدر الكلام على الاحتمال الأخير بذكره لتفخيم شأن أولئك الأولياء حيث جعل عداوتهم عداوته تعالى، وأفرد الملكان بالذكر تشريفا لهما وتفضيلا كأنهما من جنس آخر تنزيلا للتغاير في الوصف منزلة التغاير في الذات كقوله: فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فان «المسك» بعض دم الغزال وقيل: لأن اليهود ذكروهما ونزلت الآية بسببهما، وقيل: للتنبيه على أن معاداة الواحد والكل سواء في الكفر واستجلاب العداوة من الله تعالى، وإن من عادى أحدهم فكأنما عادى الجميع لأن الموجب لمحبتهم وعداوتهم على الحقيقة واحد وإن اختلف بحسب التوهم والاعتقاد، ولهذا أحب اليهود ميكائيل وأبغضوا جبريل، واستدل بعضهم بتقديم جبريل على ميكائيل على أنه أفضل منه وهو المشهور، واستدلوا عليه أيضا بأنه ينزل بالوحي والعلم وهو مادة الأرواح، وميكائيل بالخصب والأمطار وهي مادة الأبدان، وغذاء الأرواح أفضل من غذاء الأشباح، واعترض بأن التقديم في الذكر لا يدل على التفضيل إذ يحتمل أن يكون ذلك للترقي أو لنكتة أخرى كما قدمت الملائكة على الرسل وليسوا أفضل منهم عندنا، وكذا نزوله بالوحي ليس قطعيا بالأفضلية إذ قد يوجد في المفضول ما ليس في الفاضل فلا بد في التفضيل من نص جلي واضح، وأنا أقول بالأفضلية وليس عندي أقوى دليلا من مزيد صحبته لحبيب الحق بالاتفاق وسيد الخلق على الإطلاق صلّى الله عليه وسلّم وكثرة نصرته وحبه له ولأمته، ولا أرى شيئا يقابل ذلك وقد أثنى الله تعالى عليه عليه السلام بما لم يثن به على ميكائيل بل ولا على إسرافيل وعزرائيل وسائر الملائكة أجمعين، وأخرج الطبراني- لكن بسند ضعيف- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ألا أخبركم بأفضل الملائكة؟ جبرائيل» وأخرج أبو الشيخ عن موسى بن عائشة قال: «بلغني أن جبريل إمام أهل السماء» ومن شرطية والجواب، قيل: محذوف وتقديره فهو كافر مجزي بأشد العذاب، وقيل: فإن الله إلخ على نمط ما علمت، وأتى باسم الله ظاهرا ولم يقل فانه عدو دفعا لانفهام غير المقصود أو التعظيم والتفخيم، والعرب إذا فخمت شيئا كررته بالاسم الذي تقدم له، ومنه لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ [الحج: 60] . وقوله: لا أرى الموت يسبق الموت شيء وأل في الكافرين للعهد وإيثار الاسمية للدلالة على التحقيق والثبات، ووضع المظهر موضع المضمر للايذان بأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 عداوة المذكورين كفر وأن ذلك بين لا يحتاج إلى الاخبار به وأن مدار عداوته تعالى لهم وسخطه المستوجب لأشد العقوبة والعذاب هو كفرهم المذكور، وقيل: يحتمل أنه تعالى عدل عن الضمير لعلمه أن بعضهم يؤمن فلا ينبغي أن يطلق عليه عداوة الله تعالى للمآل- وهو احتمال أبعد من العيوق- ويحتمل أن تكون- أل للجنس كما تقدم، ومن الناس من روى أن عمر رضي الله تعالى عنه نطق بهذه الآية مجاوبا لبعض اليهود في قوله ذاك عدونا يعني جبريل فنزلت على لسان عمر وهو خبر ضعيف كما نص عليه ابن عطية، والكلام في منع صرف ميكائيل كالكلام في جبريل، واشتهر أن معناه عبيد الله وقيل: عبد الله وفيه لغات، الأولى «ميكال» كمفعال، وبها قرأ أبو عمرو وحفص وهي لغة الحجاز، الثانية كذلك إلا أن بعد الألف همزة، وقرأ بها نافع. وابن شنبوذ لقنبل، الثالثة كذلك إلا أنه بياء بعد الهمزة، وبها قرأ حمزة والكسائي وابن عامر وأبو بكر. وغير ابن شنبوذ لقنبل والبزي، الرابعة «ميكئيل» كميكفيل، وبها قرأ ابن محيصن. الخامسة كذلك إلا أنه لا ياء بعد الهمزة وقرىء بها، السادسة «ميكاييل» بياءين بعد الألف أولهما مكسورة، وبها قرأ الأعمش. ولساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم في هذين الملكين- بل وفي أخويهما إسرافيل وعزرائيل عليهما السلام أيضا- كلام مبسوط، والمشهور أن جبرائيل هو العقل الفعال، وميكائيل هو روح الفلك السادس وعقله المفيض للنفس النباتية الكلية الموكلة بأرزاق الخلائق، وإسرافيل هو روح الفلك الرابع وعقله المفيض للنفس الحيوانية الكلية الموكلة بالحيوانات، وعزرائيل هو روح الفلك السابع الموكل بالأرواح الإنسانية كلها بعضها بالوسائط التي هي أعوانه وبعضها بنفسه والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ نزلت بسبب ابن صوريا كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حين قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل عليك من آيات فنتبعك، وجعلت عطفا على قوله تعالى: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا إلخ عطف القصة على القصة وَما يَكْفُرُ عطف على جواب القسم فإنه كما يصدر باللام يصدر بحرف النفي، و «الآيات» القرآن والمعجزات والاخبار عما خفي وأخفي في الكتب السابقة أو الشرائع والفرائض، أو مجموع ما تقدم كله والظاهر الإطلاق، والْفاسِقُونَ المتمردون في الكفر الخارجون عن الحدود فإن من ليس على تلك الصفات من الكفرة لا يجترىء على الكفر بمثل هاتيك البينات، قال الحسن إذا استعمل الفسق في نوع من المعاصي وقع على أعظم أفراد ذلك النوع من كفر أو غيره فإذا قيل: هو فاسق في الشرب فمعناه هو أكثر ارتكابا له وإذا قيل: هو فاسق في الزنا يكون معناه هو أشد ارتكابا له، وأصله من فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، واللام إما للعهد لأن سياق الآيات يدل على أن ذلك لليهود، وإما للجنس وهم داخلون كما مر غير مرة أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نزلت في مالك بن الصيف قال: والله ما أخذ علينا عهد في كتابنا أن نؤمن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم ولا ميثاق، وقيل: في اليهود عاهدوا إن خرج لنؤمنن به ولنكونن معه على مشركي العرب فلما بعث كفروا به، وقال عطاء: في اليهود عاهدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعهود فنقضوها كفعل قريظة والنضير، والهمزة للإنكار بمعنى ما كان ينبغي، وفيه إعظام ما يقدمون عليه من تكرر عهودهم ونقضها حتى صار سجية لهم وعادة، وفي ذلك تسلية له صلّى الله عليه وسلّم وإشارة إلى أنه ينبغي أن لا يكترث بأمرهم وأن لا يصعب عليه مخالفتهم، والواو للعطف على محذوف أي كفروا بالآيات وكلما عاهدوا، وهو من عطف الفعلية على الفعلية لأن كُلَّما ظرف نَبَذَهُ والقرينة على ذلك المحذوف قوله تعالى: وَما يَكْفُرُ بِها إلخ، وبعضهم يقدر المعطوف مأخوذا من الكلام السابق ويقول بتوسط الهمزة بين المعطوف والمعطوف عليه لغرض يتعلق بالمعطوف خاصة، والتقدير عنده نقضوا هذا العهد وذلك العهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 أَوَكُلَّما عاهَدُوا وفيه مع ارتكاب ما لا ضرورة تدعو إليه أن الجمل المذكورة بقربه ليس فيها ذكر نقض العهد، وقال الأخفش: هي زائدة، والكسائي هي- أو- الساكنة حركت واوها بالفتح وهي بمعنى بل ولا يخفى ضعف القولين، نعم قرأ ابن السماك العدوي وغيره أَوَبالإسكان وحينئذ لا بأس بأن يقال: إنها إضرابية بناء على رأي الكوفيين وأنشدوا: بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى ... وصورتها «أو» أنت في العين أملح والعطف- على هذا- على صلة الموصول الذي هو- اللام- في الْفاسِقُونَ ميلا إلى جانب المعنى وإن كان فيه مسخ- اللام- الموصولة، كأنه قيل: إلا الذين فسقوا بل كُلَّما عاهَدُوا والقرينة على ذلك بَلْ أَكْثَرُهُمْ إلخ، وفيه ترق إلى الأغلظ فالأغلظ، ولك أن لا تميل مع المعنى بل تعطف على الصلة- وأل- تدخل على الفعل بالتبعية في السعة كثيرا كقوله تعالى: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا [الحديد: 18] لاغتفارهم في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل. ومن الناس من جوّز هذا العطف باحتماليه على القراءة الأولى أيضا- ولم يحتج إلى ذلك المحذوف- وقرأ الحسن وأبو رجاء «عوهدوا» وانتصاب عَهْداً على أنه مصدر على غير الصدر أي- معاهدة- ويؤيده أنه قرىء «عهدوا» أو على أنه مفعول به بتضمين عاهَدُوا معنى أعطوا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ أي نقضه وترك العمل به، وأصل- النبذ- طرح ما لا يعتد به- كالنعل البالية- لكنه غلب فيما من شأنه أن ينسى لعدم الاعتداد به، ونسبة- النبذ- إلى- العهد- مجاز- والنبذ- حقيقة إنما هو في المتجسدات نحو فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ [القصص: 40، الذاريات: 40]- والفريق- اسم جنس لا واحد له يقع على القليل والكثير، وإنما قال: فَرِيقٌ لأن منهم من لم ينبذه. وقرأ عبد الله «نقضه» قال في البحر: وهي قراءة تخالف سواد المصحف- فالأولى حملها على التفسير- وليس بالقوى إذ لا يظهر للتفسير دون ذكر المفسر خلال القراءة وجه بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ يحتمل أن يراد- بالأكثر النباذون- وأن يراد من عداهم «فعلى الأول» يكون ذلك ردا لما يتوهم أن- الفريق- هم الأقلون بناء على أن المتبادر منه القليل «وعلى الثاني» رد لما يتوهم أن من لم ينبذ جهارا يؤمنون به سرا، والعطف على التقديرين من عطف الجمل، ويحتمل أن يكون من عطف المفردات بأن يكون أكثرهم معطوفا على فَرِيقٌ وجملة لا يُؤْمِنُونَ حال من أَكْثَرُهُمْ والعامل فيها نَبَذَهُ وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ ظرف ل «نبذ» والجملة عطف على سابقتها داخلة تحت الإنكار، والضمير لبني إسرائيل لا لعلمائهم فقط، والرسول محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، والتكثير للتفخيم، وقيل: عيسى عليه السلام، وجعله مصدرا بمعنى الرسالة كما في قوله: لقد كذب الواشون ما بحت عندهم ... بليلى ولا أرسلتهم برسول خلاف الظاهر مِنْ عِنْدِ اللَّهِ متعلق بجاء أو بمحذوف وقع صفة للرسول لإفادة مزيد تعظيمه إذ قدر الرسول على قدر المرسل مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ أي من التوراة من حيث إنه صلى الله تعالى عليه وسلم جاء على الوصف الذي ذكر فيها، أو أخبر بأنها كلام الله تعالى المنزل على نبيه موسى عليه السلام، أو صدق ما فيها من قواعد التوحيد وأصول الدين، وأخبار الأمم والمواعظ والحكم، أو أظهر ما سألوه عنه من غوامضها، وحمل بعضهم «ما» على العموم لتشمل جميع الكتب الإلهية التي نزلت قبل، وقرأ ابن أبي عبلة «مصدقا» بالنصب على الحال من النكرة الموصوفة نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي التوراة وهم اليهود الذين كانوا في عهده صلى الله تعالى عليه وسلم لا الذين كانوا في عهد سليمان عليه السلام- كما توهمه بعضهم من اللحاق- لأن- النبذ- عند مجيء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا يتصور منهم، وإفراد هذا- النبذ- بالذكر مع اندراجه في قوله تعالى: أَوَكُلَّما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 عاهَدُوا إلخ، لأنه معظم جناياتهم، ولأنه تمهيد لما يأتي بعد. والمراد- بالإيتاء- إما إيتاء علمها فالموصول عبارة عن علمائهم، وإما مجرد إنزالها عليهم فهو عبارة عن الكل، ولم يقل: فريق منهم إيذانا بكمال التنافي بين ما ثبت لهم في حيز الصلة وبين ما صدر عنهم من النبذ كِتابَ اللَّهِ مفعول نَبَذَ والمراد به التوراة لما روي عن السدي أنه قال: لما جاءهم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم عارضوه بالتوراة فاتفقت التوراة والفرقان فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت فلم توافق القرآن، فهذا قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ إلخ، ويؤيده أن النبذ يقتضي سابقة الأخذ في الجملة- وهو متحقق بالنسبة إليها- وأن المعرفة إذا أعيدت معرفة كان الثاني عين الأول، وأن مذمتهم في أنهم نبذوا الكتاب الذي أوتوه واعترفوا بحقيته أشد فإنه يفيد أنه كان مجرد مكابرة وعناد، ومعنى نبذهم لها اطراح أحكامها، أو ما فيها من صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: القرآن، وأيده أبو حيان بأن الكلام مع الرسول فيصير المعنى أنه يصدق ما بأيديهم من التوراة، وهم بالعكس يكذبون ما جاء به من القرآن ويتركونه ولا يؤمنون به بعد ما لزمهم تلقيه بالقبول، وقيل: الإنجيل- وليس بشيء- وأضاف الكتاب إلى الاسم الكريم تعظيما له وتهويلا لما اجترءوا عليه من الكفر به. وَراءَ ظُهُورِهِمْ جمع- ظهر- وهو معروف، ويجمع أيضا على- ظهران- وقد شبه تركهم كتاب الله تعالى وإعراضهم عنه بحالة شيء يرمى به وراء الظهر، والجامع عدم الالتفات وقلة المبالاة، ثم استعمل هاهنا ما كان مستعملا هناك- وهو النبذ وراء الظهر- والعرب كثيرا ما تستعمل ذلك في هذا المعنى، ومنه قوله: تميم بن مر لا تكونن حاجتي ... بظهر- ولا يعيى عليك جوابها ويقولون أيضا: جعل هذا الأمر دبر أذنه ويريدون ما تقدم كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ جملة حالية، أي نبذوه مشبهين بمن لا يعلم أنه كتاب الله تعالى أو لا يعلمه أصلا أو لا يعلمونه على وجه الإتقان، ولا يعرفون ما فيه من دلائل نبوته صلى الله تعالى عليه وسلم، وهذا على تقدير أن يراد الأحبار، وفيه إيذان بأن علمهم به رصين لكنهم يتجاهلون وفي الوجهين الأولين زيادة مبالغة في إعراضهم عما في التوراة من دلائل النبوة، ومن فسر كتاب الله تعالى بالقرآن جعل متعلق العلم أنه كتاب الله أي كأنهم لا يعلمون أن القرآن كتاب الله تعالى مع ثبوت ذلك عندهم وتحققه لديهم، وفيه إشارة إلى أنهم نبذوه لا عن شبهة ولكن بغيا وحسدا، وجعل المتعلق- أنه نبي صادق- بعيد، وقد دل الآيتان قوله تعالى: أَوَكُلَّما عاهَدُوا إلخ، وقوله تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمْ إلخ بناء على احتمال أن يكون الأكثر غير النابذين، على أن جلّ اليهود أربع فرق، ففرقة آمنوا بالتوراة وقاموا بحقوقها كمؤمني أهل الكتاب، وهم الأقلون المشار إليهم ب بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وفرقة جاهروا بنبذ العهود وتعدي الحدود، وهم المعنيون بقوله تعالى: نَبَذَ فَرِيقٌ منهم وفرقة لم يجاهروا، ولكن نبذوا لجهلهم- وهم الأكثرون- وفرقة تمسكوا بها ظاهرا ونبذوها سرا، وهم المتجاهلون وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عطف على «نبذ» والضمير لفريق من الذين أوتوا الكتاب- على ما تقدم عن السدي، وقيل: عطف على مجموع ما قبله عطف القصة على- القصة، والضمير للذين تقدموا من اليهود، أو الذين كانوا في زمن سليمان عليه السلام، أو الذين كانوا في زمن نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم، أو ما يتناول الكل لأن ذاك غير ظاهر إذ يقتضي الدخول في حيز ل ما واتباعهم هذا ليس مترتبا على مجيء الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وفيه أن ما علمت من قول السدي يفتح باب الظهور، اللهم إلا أن يكون المبني غيره، وقيل: عطف على اشربوا وهو في غاية البعد، بل لا يقدم عليه من جرع جرعة من الإنصاف، والمراد- بالاتباع- التوغل والإقبال على الشيء بالكلية، وقيل: الاقتداء، وما موصولة وتَتْلُوا صلتها، ومعناه تتبع أو تقرأ- وهو حكاية حال ماضية، والأصل- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 تلت- وقول الكوفيين إن المعنى ما كانت تَتْلُوا محمول على ذلك- لا أن كان هناك مقدرة- والمتبادر من الشياطين مردة الجن وهو قول الأكثرين، وقيل: المراد بهم شياطين الإنس، وهو قول المتكلمين من المعتزلة وقرأ الحسن والضحاك- الشياطون- على حد ما رواه الأصمعي عن العرب- بستان فلان حوله بساتون- وهو من الشذوذ بمكان حتى قيل: إنه لحن عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ متعلق ب تَتْلُوا وفي الكلام مضاف محذوف أي عهد ملكه وزمانه، أو الملك مجاز عن العهد، وعلى التقديرين عَلى بمعنى- في- كما أن- في- بمعنى على في قوله تعالى: لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه: 71] وقد صرح في التسهيل بمجيئها للظرفية ومثل له بهذه الآية لأن الملك وكذا العهد لا يصلح كونه مقروءا عليه، ومن الأصحاب من أنكر مجيء- على- بمعنى- في- وجعل هذا من تضمين تتلو معنى تتقول، أو الملك عبارة عن الكرسي لأنه كان من آلات ملكه، فالكلام على حد قرأت على المنبر، والمراد بما يتلونه السحر، فقد أخرج سفيان بن عيينة وابن جرير والحاكم، وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «إن الشياطين كانوا يسترقون السمع من السماء، فإذا سمع أحدهم بكلمة كذب عليها ألف كذبة، فأشربتها قلوب الناس واتخذوها دواوين فأطلع الله تعالى على ذلك سليمان بن داود فأخذها وقذفها تحت الكرسي فلما مات سليمان قام شيطان بالطريق فقال: ألا أدلكم على كنز سليمان الذي لا كنز لأحد مثل كنزه الممنع؟ قالوا نعم فأخرجوه فإذا هو سحر فتناسختها الأمم فأنزل الله تعالى عذر سليمان فيما قالوا من السحر» وقيل: روي أن سليمان كان قد دفن كثيرا من العلوم التي خصه الله تعالى بها تحت سرير ملكه خوفا على أنه إذا هلك الظاهر منها يبقى ذلك المدفون فلما مضت مدة على ذلك توصل قوم من المنافقين إلى أن كتبوا في خلال ذلك أشياء من السحر تناسب تلك الأشياء من بعض الوجوه ثم بعد موته واطلاع الناس على تلك الكتب أو هموهم أنها من علم سليمان، ولا يخفى ضعف هذه الرواية، وسليمان- كما في البحر- اسم أعجمي، وامتنع من الصرف للعلمية والعجمة، ونظيره من الأعجمية في أن آخره ألف ونون- هامان، وماهان. وشامان- وليس امتناعه من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون كعثمان لأن زيادتهما موقوفة على الاشتقاق والتصريف، وهما لا يدخلان الأسماء الأعجمية وكثير من الناس اليوم على خلافه وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ اعتراض لتبرئة سليمان عليه السلام عما نسبوه إليه، فقد أخرج ابن جرير عن شهر بن حوشب قال: قال اليهود: انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل يذكر سليمان مع الأنبياء، وإنما كان ساحرا يركب الريح، وعبر سبحانه عن السحر بالكفر بطريق الكناية رعاية لمناسبة لكِنَّ الاستدراكية في قوله تعالى: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ فإن كَفَرُوا معها مستعمل في معناه الحقيقي وجملة يعلمون حال من الضمير، وقيل: من الشياطين، ورد بأن لكن لا تعمل في الحال، وأجيب بأن فيها رائحة الفعل وقيل بدل من كفروا، وقيل استئناف والضمير- للشياطين- أو- للذين اتبعوا- والسِّحْرَ في الأصل مصدر سحر يسحر بفتح العين فيهما إذا أبدى ما يدق ويخفى وهو من المصادر الشاذة، ويستعمل بما لطف وخفي سببه، والمراد به أمر غريب يشبه الخارق- وليس به- إذ يجري فيه التعلم ويستعان في تحصيله بالتقرب إلى الشيطان بارتكاب القبائح، قولا كالرقى التي فيها ألفاظ الشرك ومدح الشيطان وتسخيره، وعملا كعبادة الكواكب، والتزام الجناية وسائر الفسوق، واعتقادا كاستحسان ما يوجب التقرب إليه ومحبته إياه وذلك لا يستتب إلا بمن يناسبه في الشرارة وخبث النفس فإن التناسب شرط التضام والتعاون فكما أن الملائكة لا تعاون إلا أخيار الناس المشبهين بهم في المواظبة على العبادة والتقرب إلى الله تعالى بالقول والفعل كذلك الشياطين لا تعاون إلا الأشرار المشبهين بهم في الخباثة والنجاسة قولا وفعلا واعتقادا، وبهذا يتميز الساحر عن النبي والولي، فلا يرد ما قال المعتزلة: من أنه لو أمكن للإنسان من جهة الشيطان ظهور الخوارق والإخبار عن المغيبات لاشتبه طريق النبوة بطريق السحر، وأما ما يتعجب منه- كما يفعله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 أصحاب الحيل بمعونة الآلات المركبة على النسبة الهندسية تارة، وعلى صيرورة الخلاء ملاء أخرى، وبمعونة الأدوية كالنارنجيات أو يريه صاحب خفة اليد- فتسميته سحرا على التجوز وهو مذموم أيضا عند البعض، وصرح النووي في الروضة بحرمته، وفسره الجمهور بأنه خارق للعادة يظهر من نفس شريرة بمباشرة أعمال مخصوصة والجمهور على أن له حقيقة وأنه قد يبلغ الساحر إلى حيث يطير في الهواء ويمشي على الماء ويقتل النفس ويقلب الإنسان حمارا، والفاعل الحقيقي في كل ذلك هو الله تعالى ولم تجر سنته بتمكين الساحر من فلق البحر وإحياء الموتى وإنطاق العجماء، وغير ذلك من آيات الرسل عليهم السلام، والمعتزلة، وأبو جعفر الأستراباذي من أصحابنا على أنه لا حقيقة له، وإنما هو تخييل، وأكفر المعتزلة من قال ببلوغ الساحر إلى حيث ما ذكرنا زعما منهم أن بذلك انسداد طريق النبوة وليس كما زعموا على ما لا يخفى، ومن المحققين من فرق بين السحر والمعجزة باقتران المعجزة بالتحدي بخلافه فإنه لا يمكن ظهوره على يد مدعي نبوة كاذبا كما جرت به عادة الله تعالى المستمرة صونا لهذا المنصب الجليل عن أن يتسور حماه الكذابون وقد شاع أن العمل به كفر حتى قال العلامة التفتازاني: لا يروى خلاف في ذلك، وعده نوعا من الكبائر مغاير الإشراك لا ينافي ذلك لأن الكفر أعم والإشراك نوع منه، وفيه بحث: أما أولا فلأن الشيخ أبا منصور ذهب إلى أن القول بأن السحر كفر على الإطلاق خطأ بل يجب البحث عن حقيقته فإن كان في ذلك رد ما لزم من شرط الإيمان فهو كفر وإلا فلا، ولعل ما ذهب إليه العلامة مبني على التفسير أولا فإنه عليه مما لا يمترى في كفر فاعله، وأما ثانيا فلأن المراد من الإشراك فيما عدا الكبائر مطلق الكفر وإلا تخرج أنواع الكفر منها، ثم السحر الذي هو كفر يقتل عليه الذكور لا الإناث وما ليس بكفر، وفيه إهلاك النفس ففيه حكم قطع الطريق ويستوي فيه الذكور والإناث وتقبل توبته إذا تاب، ومن قال لا تقبل فقد غلط فإن سحرة موسى قبلت توبتهم كذا في المدارك، ولعله إلى الأصول أقرب، والمشهور عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أن الساحر يقتل مطلقا إذا علم أنه ساحر ولا يقبل قوله أترك السحر وأتوب عنه فإن أقرّ بأني كنت أسحر مدة وقد تركت منذ زمان قبل منه ولم يقتل، واحتج بما روي أن جارية لحفصة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها سحرتها فأخذوها فاعترفت بذلك فأمرت عبد الرحمن بن زيد فقتلها، وإنكار عثمان رضي الله تعالى عنه إنما كان لقتلها بغير إذنه. وبما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: اقتلوا كل ساحر وساحرة فقتلوا ثلاث سواحر، والشافعية نظروا في هذا الاحتجاج واعترضوا على القول بالقتل مطلقا بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يقتل اليهودي الذي سحره، فالمؤمن مثله لقوله عليه السلام: «لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين» وتحقيقه في الفروع، واختلف في تعليمه وتعلمه فقيل: كفر لهذه الآية إذ فيها ترتيب الحكم على الوصف المناسب وهو مشعر بالعلية، وأجيب بأنا لا نسلم أن فيها ذلك لأن المعنى أنهم كفروا وهم مع ذلك يعلمون السحر، وقيل: إنهما حرامان- وبه قطع الجمهور- وقيل: مكروهان- وإليه ذهب البعض- وقيل: مباحان، والتعليم المساق للذم هنا محمول على التعليم للإغواء والإضلال، وإليه مال الإمام الرازي قائلا: اتفق المحققون على أن العلم بالسحر ليس بقبيح ولا محظور لأن العلم لذاته شريف لعموم قوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9] ولو لم يعلم السحر لما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة والعلم بكون المعجز معجزا واجب وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجبا وما يكون واجبا كيف يكون حراما وقبيحا ونقل بعضهم وجوب تعلمه على المفتي حتى يعلم ما يقتل به وما لا يقتل به، فيفتي به في وجوب القصاص انتهى. والحق عندي الحرمة تبعا للجمهور إلا لداع شرعي، وفيما قاله رحمه الله تعالى نظر «أما أولا» فلأنا لا ندعي أنه قبيح لذاته، وإنما قبحه باعتبار ما يترتب عليه، فتحريمه من باب سد الذرائع- وكم من أمر حرم لذلك- وفي الحديث «من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 «وأما ثانيا» فلأن توقف الفرق بينه وبين المعجزة على العلم به ممنوع، ألا ترى أن أكثر العلماء أو كلهم- إلا النادر- عرفوا الفرق بينهما ولم يعرفوا علم السحر- وكفى فارقا بينهما ما تقدم، ولو كان تعلمه واجبا لذلك لرأيت أعلم الناس به الصدر الأول مع أنهم لم ينقل عنهم شيء من ذلك، أفتراهم أخلوا بهذا الواجب وأتى به هذا القائل، أو أنه أخل به كما أخلوا «وأما ثالثا» فلأن ما نقل عن بعضهم غير صحيح، لأن إفتاء المفتي بوجوب القود أو عدمه لا يستلزم معرفته علم السحر لأن صورة إفتائه- على ما ذكره العلامة ابن حجر- إن شهد عدلان عرفا السحر وتابا منه أنه يقتل غالبا قتل الساحر. وإلا فلا- هذا وقد أطلق بعض العلماء السِّحْرَ على المشي بين الناس بالنميمة لأن فيها قلب الصديق عدوا والعدو صديقا، كما أطلق على حسن التوسل باللفظ الرائق العذاب لما فيه من الاستمالة، ويسمى سحرا حلالا، ومنه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن من البيان لسحرا» والقول بأنه مخرج مخرج الذم للفصاحة والبلاغة بعيد- وإن ذهب إليه عامر الشعبي راوي الحديث- وظاهر قوله تعالى: يُعَلِّمُونَ إلخ أنهم يفهمونهم إياه بالإقراء والتعليم، وقيل: يدلونهم على تلك الكتب، فأطلق على تلك الدلالة تعليما إطلاقا للسبب على المسبب، وقيل: المعنى يوقرون في قلوبهم أنها حق تضر وتنفع، وأن سليمان عليه السلام إنما تم له ما تم بذلك- والإطلاق عليه هو الإطلاق- وقيل: يُعَلِّمُونَ بمعنى يُعَلِّمُونَ من الإعلام وهو الإخبار، أي يخبرونهم بما أو بمن يتعلمون به أو منه السِّحْرَ وقرأ نافع وعاصم وابن كثير وأبو عمرو «لكنّ» بالتشديد. وابن عامر وحمزة والكسائي- بالتخفيف وارتفاع ما بعدها بالابتداء والخبر- وهل يجوز إعمالها إذا خففت؟ فيه خلاف، والجمع على المنع- وهو الصحيح- وعن يونس والأخفش الجواز، والصحيح أنها بسيطة «ومنهم» من زعم أنها مركبة من «لا» النافية- وكاف الخطاب- «وأن» المؤكدة المحذوفة الهمزة للاستثقال، وهو إلى الفساد أقرب وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ المراد الجنس، وهو عطف على السِّحْرَ وهما واحد إلا أنه نزل تغاير المفهوم منزلة تغاير الذات كما في قوله: إلى الملك القرم وابن الهمام البيت، وفائدة العطف التنصيص بأنهم- يعلمون- ما هو جامع بين كونه سحرا وبين كونه منزلا عَلَى الْمَلَكَيْنِ للابتلاء، فيفيد ذمهم بارتكابهم النهي بوجهين، وقد يراد بالموصول المعهود- وهو نوع آخر أقوى- فيكون من عطف الخاص على العام إشارة إلى كماله، وقال مجاهد: هو دون السِّحْرَ وهو- ما يفرّق به بين المرء وزوجه- لا غير والمشهور الأول، وجوز العطف على ما تَتْلُوا فكأنه قيل: اتبعوا السحر المدوّن في الكتب وغيره، وهذان الملكان أنزلا لتعليم السِّحْرَ ابتلاء من الله تعالى للناس، فمن تعلم وعمل به كفر، ومن تعلم وتوقى عمله ثبت على الإيمان، ولله تعالى أن يمتحن عباده بما شاء كما امتحن قوم طالوت بالنهر، وتمييزا بينه وبين المعجزة حيث إنه كثر في ذلك الزمان، وأظهر السحرة أمورا غريبة وقع الشك بها في النبوة، فبعث الله تعالى الملكين لتعليم أبواب السحر حتى يزيلا الشبه ويميطا الأذى عن الطريق، قيل: كان ذلك في زمن إدريس عليه السلام، وأما ما روي أن الملائكة تعجبت من بني آدم في مخالفتهم ما أمر الله تعالى به، وقالوا له تعالى: لو كنا مكانهم ما عصيناك، فقال: اختاروا ملكين منكم، فاختاروهما، فهبطا إلى الأرض ومثلا بشرين، وألقى الله تعالى عليهما الشبق، وحكما بين الناس، فافتتنا بامرأة يقال لها زهرة، فطلباها وامتنعت إلا أن يعبدا صنما، أو يشربا خمرا، أو يقتلا نفسا ففعلا، ثم تعلمت منهما ما صعدت به إلى السماء، فصعدت ومسخت هذا- النجم- وأرادا العروج فلم يمكنهما فخيرا بين عذاب الدنيا والآخرة- فاختارا عذاب الدنيا- فهما الآن يعذبان فيها، إلى غير ذلك من الآثار التي بلغت طرقها نيفا وعشرين، فقد أنكره جماعة منهم القاضي عياض، وذكر أن ما ذكره أهل الأخبار ونقله المفسرون في قصة هاروت وماروت لم يرد منه شيء- لا سقيم ولا صحيح- عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم- وليس هو شيئا يؤخذ بالقياس- وذكر في البحر أن جميع ذلك لا يصح منه شيء، ولم يصح أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يلعن الزهرة، ولا ابن عمر رضي الله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 عنهما خلافا لمن رواه، وقال الإمام الرازي بعد أن ذكر الرواية في ذلك: إن هذه الرواية فاسدة مردودة غير مقبولة، ونص الشهاب العراقي، على أن من اعتقد في هاروت وماروت أنهما ملكان يعذبان على خطيئتهما مع الزهرة فهو كافر بالله تعالى العظيم، فإن الملائكة معصومون لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6] لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ. يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء: 19، 20] والزهرة كانت يوم خلق الله تعالى السماوات والأرض، والقول بأنها تمثلت لهما فكان ما كان وردت إلى مكانها غير معقول ولا مقبول. واعترض الإمام السيوطي على من أنكر القصة بأن الإمام أحمد. وابن حبان. والبيهقي، وغيرهم رووها مرفوعة وموقوفة على عليّ. وابن عباس. وابن عمر. وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم بأسانيد عديدة صحيحة يكاد الواقف عليها يقطع بصحتها لكثرتها وقوة مخرجيها، وذهب بعض المحققين أن ما روي مروي حكاية لما قاله اليهود- وهو باطل في نفسه- وبطلانه في نفسه لا ينافي صحة الرواية، ولا يردّ ما قاله الإمام السيوطي عليه، إنما يردّ على المنكرين بالكلية، ولعل ذلك من باب الرموز والإشارات فيراد من الملكين العقل النظري والعقل العملي اللذان هما من عالم القدس، ومن المرأة المسماة بالزهرة- النفس الناطقة- ومن تعرضهما لها تعليمهما لها ما يسعدها، ومن حملها إياهما على المعاصي تحريضها إياهما بحكم الطبيعة المزاجية إلى الميل إلى السفليات المدنسة لجوهريهما، ومن صعودها إلى السماء بما تعلمت منهما عروجها إلى الملأ الأعلى ومخالطتها مع القدسيين بسبب انتصاحها لنصحهما، ومن بقائهما معذبين بقاؤهما مشغولين بتدبير الجسد وحرمانهما عن العروج إلى سماء الحضرة، لأن طائر العقل لا يحوم حول حماها، ومن الأكابر من قال في حل هذا الرمز: إن الروح والعقل اللذين هما من عالم المجردات قد نزلا من سماء التجرد إلى أرض التعلق، فعشقا البدن الذي هو كالزهرة في غاية الحسن والجمال لتوقف كمالهما عليه، فاكتسبا بتوسطه المعاصي والشرك وتحصيل اللذات الحسية الدنية، ثم صعد إلى السماء بأن وصل بحسن تدبيرهما إلى الكمال اللائق به، ثم مسخ بأن انقطع التعلق وتفرقت العناصر، وهما بقيا معذبين بعذاب الحرمان عن الاتصال بعالم القدس متألمين بالآلام الروحانية منكوسي الحال حيث غلب التعلق على التجرد وانعكس القرب بالبعد، وقيل: المقصود من ذلك الإشارة إلى أن من كان ملكا إن اتبع الشهوة هبط عن درجة الملائكة إلى درجة البهيمة، ومن كان امرأة ذات شهوة إذا كسرت شهوتها، وغلبت عليها صعدت إلى درج الملك واتصلت إلى سماء المنازل والمراتب، وكتب بعضهم لحله. مل وأيم الله نفسي نفسي ... وطال في مكث حياتي حبسي أصبح في مضاجعي وأمسي ... أمسي كيومي وكيومي أمسي يا حبذا يوم نزولي رمسي ... مبدأ سعدي وانتهاء نحسي وكل جنس لا حق بالجنس ... من جوهر يرقى بدار الأنس وعرض يبقى بدار الحس هذا ومن قال بصحة هذه القصة في نفس الأمر وحملها على ظاهرها فقد ركب شططا وقال غلطا، وفتح بابا من السحر يضحك الموتى، ويبكي الأحياء، وينكس راية الإسلام، ويرفع رؤوس الكفرة الطغام كما لا يخفى ذلك على المنصفين من العلماء المحققين، وقرأ ابن عباس والحسن وأبو الأسود والضحاك- «الملكين» - بكسر اللام، حمل بعضهم قراءة الفتح على ذلك فقال هما رجلان إلا أنهما سميا ملكين باعتبار صلاحهما، ويؤيده ما قيل: إنهما داود وسليمان، ويرده قول الحسن إنهما علجان كانا ببابل العراق، وبعضهم يقول: إنهما من الملائكة ظهرا في صورة الملوك- وفيه حمل الكسر على الفتح على عكس ما تقدم والإنزال- إما على ظاهره أو بمعنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 القذف في قلوبهما «ببابل» الباء بمعنى في وهي متعلقة- بأنزل- أو بمحذوف وقع حالا من الْمَلَكَيْنِ أو من الضمير في أُنْزِلَ وهي كما قال ابن عباس. وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما: بلد في سواد الكوفة، وقيل: بابل العراق، وقال قتادة: هي من نصيبين إلى رأس العين، وقيل: جبل دماوند، وقيل: بلد بالمغرب- والمشهور اليوم الثاني- وعند البعض هو الأول، قيل وسميت بابل لتبلبل الألسنة فيها عند سقوط صرح نمرود، وأخرج الدينوري في المجالسة وابن عساكر من طريق نعيم ابن سالم- وهو متهم- عن أنس بن مالك قال: لما حشر الله تعالى الخلائق إلى بابل بعث إليهم ريحا شرقية وغربية وقبلية وبحرية فجمعتهم إلى بابل فاجتمعوا يومئذ ينظرون لما حشروا له إذ نادى مناد من جعل المغرب عن يمينه والمشرق عن يساره واقتصد إلى البيت الحرام بوجهه فله كلام أهل السماء فقام يعرب بن قحطان فقيل له: يا يعرب بن قحطان بن هود أنت هو فكان أول من تكلم بالعربية فلم يزل المنادي ينادي من فعل كذا وكذا فله كذا وكذا حتى افترقوا على اثنين وسبعين لسانا وانقطع الصوت وتبلبلت الألسن فسميت بابل وكان اللسان يومئذ بابليا، وعندي في القولين تردد يلف عدم قبول، والذي أميل إليه أن بابل اسم أعجمي كما نص عليه أبو حيان لا عربي كما يشير إليه كلام الأخفش، وأنه في الأصل اسم للنهر الكبير في بعض اللغات الأعجمية القديمة وقد أطلق على تلك الأرض لقرب الفرات منها، ولعل ذلك من قبيل تسمية بغداد دار السلام بناء على أن السلام اسم لدجلة، وقد رأيت لذلك تفصيلا لا أدريه اليوم في أي كتاب. وأظنه قريبا مما ذكرته فليحفظ، ومنع بعضهم الصلاة بأرض بابل احتجاجا بما أخرج أبو داود وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن علي كرم الله تعالى وجهه أن حبيبي صلّى الله عليه وسلّم نهاني أن أصلي بأرض بابل فإنها ملعونة، وقال الخطابي: في إسناد هذا الحديث مقال، ولا أعلم أحدا من العلماء حرم الصلاة بها، ويشبه إن ثبت الحديث أن يكون نهاه عن أن يتخذها وطنا ومقاما فإذا أقام بها كانت صلاته فيها وهذا من باب التعليق في علم البيان، أو لعل النهي له خاصة ألا ترى قال: نهاني، ومثله حديث آخر نهاني أقرأ ساجدا أو راكعا ولا أقول نهاكم، وكان ذلك إنذارا منه بما لقي من المحنة في تلك الناحية هارُوتَ وَمارُوتَ عطف بيان- للملكين- وهما اسمان أعجميان لهما منعا من الصرف للعلمية والعجمة وقيل: عربيان من الهرت والمرت بمعنى الكسر وكان اسمهما قبل عزا وعزايا فلما قارفا الذنب سميا بذلك، ويشكل عليه منعهما من الصرف، وليس إلا العلمية، وتكلف له بعضهم بأنه يحتمل أن يقال: إنهما معدولان من الهارت والمارت، وانحصار العدل في الأوزان المحفوظة غير مسلم، وهو كما ترى، وقرأ الحسن والزهري برفعهما على أن التقدير هما هاروت وماروت، ومما يقضي منه العجب ما قاله الإمام القرطبي: إن هاروت وماروت بدل من الشياطين على قراءة التشديد، وما في وَما أُنْزِلَ نافية، والمراد من الملكين جبرائيل وميكائيل لأن اليهود زعموا أن الله تعالى أنزلهما بالسحر، وفي الكلام تقديم وتأخير، والتقدير وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ هارُوتَ وَمارُوتَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ بِبابِلَ وعليه فالبدل إما بدل بعض من كل، ونص عليهما بالذكر لتمردهما، ولكونهما رأسا في التعليم، أو بدل كل من كل إما بناء على أن الجمع يطلق على الاثنين أو على أنهما عبارتان عن قبيلتين من الشياطين لم يكن غيرهما بهذه الصفة، وأعجب من قوله هذا قوله: وهذا أولى ما حملت عليه الآية من التأويل وأصح ما قيل فيها، ولا تلتفت إلى ما سواه، ولا يخفى لدى كل منصف أنه لا ينبغي لمؤمن حمل كلام الله تعالى- وهو في أعلى مراتب البلاغة والفصاحة- على ما هو أدنى من ذلك وما هو إلا مسخ لكتاب الله تعالى عز شأنه وإهباط له عن شأوه ومفاسد قلة البضاعة لا تحصى، وقيل إنهما بدل من الناس أي يُعَلِّمُونَ النَّاسَ خصوصا هارُوتَ وَمارُوتَ والنفي هو النفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ أي ما يعلم الملكان أحدا حتى ينصحاه ويقولا له: إنما نحن ابتلاء من الله عز وجل فمن تعلم منا وعمل به كفر ومن تعلم وتوقى ثبت على الإيمان فَلا تَكْفُرْ باعتقاده وجواز العمل به، وقيل: فلا تتعلم معتقدا أنه حق حتى تكفر، وهو مبني- على رأي الاعتزال- من أن السحر تمويه وتخييل ومن اعتقد حقيته يكفر، ومِنْ مزيدة في المفعول به لإفادة تأكيد الاستغراق، وإفراد- الفتنة- مع تعدد المخبر عنه لكونها مصدرا، والحمل مواطأة للمبالغة، والقصر لبيان أنه ليس لهما فيما يتعاطيانه شأن سواها لينصرف الناس عن تعلمه، وحَتَّى للغاية، وقيل بمعنى إلا، والجملة في محل النصب على الحالية من ضمير يُعَلِّمُونَ والظاهر أن القول مرة واحدة والقول: بأنه ثلاث أو سبع أو تسع لا ثبت له، واختلف في كيفية تلقي ذلك العلم منهما فقال مجاهد: إنهما لا يصل إليهما أحد من الناس وإنما يختلف إليهما شيطانان في كل سنة اختلافة واحدة فيتعلمان منهما، وقيل وهو الظاهر: إنهما كان يباشران التعليم بأنفسهما في وقت من الأوقات، والأقرب أنهما ليسا إذ ذاك على الصورة الملكية، وأما ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: قدمت عليّ امرأة من أهل دومة الجندل تبتغي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد موته تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به قالت: كان لي زوج غاب عني فدخلت على عجوز فشكوت إليها فقالت: إن فعلت ما آمرك أجعله يأتيك فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين فركبت أحدهما وركبت الآخر فلم يكن كشيء حتى وقفنا ببابل، فإذا أنا برجلين معلقين بأرجلهما، فقالا: ما جاء بك؟ فقلت: أتعلم السحر، فقالا: إنما نحن فتنة فلا تكفري وارجعي، فأبيت وقلت: لا، قالا: فاذهبي إلى ذلك التنور فبولي به، إلى أن قالت: فذهبت فبلت فيه، فرأيت فارسا مقنعا بحديد خرج مني حتى ذهب إلى السماء وغاب عني حتى ما أراه، فجئتهما وذكرت لهما، فقالا: صدقت، ذلك إيمانك خرج منك، اذهبي فلن تريدي شيئا إلا كان- الخبر بطوله- فهو ونظائره- مما ذكره المفسرون من القصص في هذا الباب- مما لا يعول عليه ذوو الألباب، والإقدام على تكذيب مثل هذه الامرأة الدوجندية أولى من اتهام العقل في قبول هذه الحكاية التي لم يصح فيها شيء عن رسول رب البرية صلى الله تعالى عليه وسلم، ويا ليت كتب الإسلام لم تشتمل على هذه الخرافات التي لا يصدقها العاقل ولو كانت أضغاث أحلام، واستدل بالآية من جوّز تعلم السحر، ووجهه أن فيها دلالة على وقوع التعليم من الملائكة مع عصمتهم، والتعلم مطاوع له، بل هما متحدان بالذات مختلفان بالاعتبار كالايجاب والوجوب، ولا يخفى أنه لا دليل فيها على الجواز مطلقا لأن ذلك التعليم كان للابتلاء والتمييز كما قدمنا، وقد ذكر القائلون بالتحريم: أن تعلم السحر إذا فرض فشوّه في صقع، وأريد تبيين فساده لهم ليرجعوا إلى الحق غير حرام كما لا يحرم تعلم الفلسفة للمنصوب للذب عن الدين برد الشبه- وإن كان أغلب أحواله التحريم- وهذا لا ينافي إطلاق القول به، ومن قال: إن هاروت وماروت من الشياطين قال: إن معنى الآية ما يعلمان السحر أحدا حتى ينصحاه ويقولا: إنا مفتونان باعتقاد جوازه والعمل به فلا تكن مثلنا في ذلك فتكفر، وحينئذ لا استدلال أصلا، وما ذكرنا أن القول على سبيل النصح في هذا الوجه هو الظاهر، وحكى المهدوي أنه على سبيل الاستهزاء لا النصيحة وهو الأنسب بحال الشياطين، وقرأ طلحة بن مصرف- يعلمان- بالتخفيف من الإعلام وعليها حمل بعضهم قراءة التشديد، وقرأ أبيّ بإظهار الفاعل فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما عطف على الجملة المنفية لأنها في قوة المثبتة كأنه قال: يعلمانهم بعد ذلك القول فيتعلمون، وليس عطفا على المنفي بدون هذا الاعتبار كما توهمه أبو علي من كلام الزجاج، وعطفه بعضهم على يُعَلِّمانِ محذوفا، وبعضهم على يَأْتُونَ كذلك، والضمير المرفوع لما دل عليه أَحَدٍ وهو الناس أو- لأحد- حملا له على المعنى كما في قوله تعالى فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الحاقة: 47] وحكى المهدوي جواز العطف على يُعَلِّمُونَ النَّاسَ فمرجع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 الضمير حينئذ ظاهر، وقيل: في الكلام مبتدأ محذوف أي فهم يتعلمون فتكون جملة ابتدائية معطوفة على ما قبلها من عطف الاسمية على الفعلية- ونسب ذلك إلى سيبويه- وليس بالجيد، وضمير مِنْهُما عائد على الملكين، ومن النَّاسَ من جعله عائدا إلى السحر والكفر أو الفتنة والسحر، وعطف يَتَعَلَّمُونَ على يُعَلِّمُونَ وحمل ما يعلمان على النفي، وحَتَّى يَقُولا على التأكيد له أي لا يعلمان السحر لأحد بل ينهيانه حَتَّى يَقُولا إلخ فهو كقولك: ما أمرته بكذا حتى قلت له إن فعلت نالك كذا وكذا، وجعل- ما أنزل- أيضا نفيا معطوفا على- ما كفر- وهو كما ترى ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ أي الذي أو شيئا يفرقون به وهو السحر المزيل بطريق السببية الألفة والمحبة بين الزوجين الموقع للبغضاء والشحناء الموجبتين للتفريق بينهما وقيل: المراد ما يفرق لكونه كفرا لأنه إذا تعلم كفر فبانت زوجته أو إذا تعلم عمل فتراه الناس فيعتقدون أنه حق فيكفرون فتبين أزواجهم، والمرء- الرجل، والأفصح فتح الميم مطلقا، وحكي الضم مطلقا، وحكي الإتباع لحركة الاعراب، ومؤنثه المرأة، وقد جاء جمعه بالواو والنون فقالوا: المرءون، والزوج امرأة الرجل، وقيل: المراد به هنا القريب والأخ الملائم، ومنه مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج: 5، ق: 7] واحْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصافات: 22] وقرأ الحسن والزهري وقتادة «المر» بغير همز مخففا، وابن أبي إسحاق- «المرء» - بضم الميم مع الهمز، والأشهب بالكسر والهمز، ورويت عن الحسن، وقرأ الزهري أيضا- «المر» - بالفتح وإسقاط الهمزة وتشديد الراء وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ الضمير للسحرة الذين عاد إليهم ضمير فَيَتَعَلَّمُونَ وقيل: لليهود الذين عاد إليهم ضمير وَاتَّبَعُوا وقيل- للشياطين- وضمير به عائد لما، ومِنْ زائدة لاستغراق النفي كأنه قيل: وما يضرون به أحدا، وقرأ الأعمش- بضاري- محذوف النون، وخرج على أنها حذفت تخفيفا وإن كان اسم الفاعل ليس صلة- لأل- فقد نص ابن مالك على عدم الاشتراط لقوله: ولسنا إذا تأتون سلمى بمدعي ... لكم غير أنا إن نسالم نسالم وقولهم: قطا قطا بيضك ثنتا وبيضي مائتا، وقيل: إنها حذفت للإضافة إلى محذوف مقدر لفظا على حد قوله: يا تيم تيم عدي في أحد الوجوه، وقيل: للاضافة إلى أَحَدٍ على جعل الجار جزءا منه والفصل بالظرف مسموع كما في قوله: هما أخوا في الحرب من لا أخا له ... وإن خاف يوما كبوة فدعاهما واختار ذلك الزمخشري، وفيه أن جعل الجار جزء من المجرور ليس بشيء لأنه مؤثر فيه، وجزء الشيء لا يؤثر فيه، وأيضا الفصل بين المتضايفين بالظرف وإن سمع من ضرائر الشعر كما صرح به أبو حيان ولظن تعين هذا مخرجا قال ابن جني: إن هذه القراءة أبعد الشواذ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ استثناء مفرغ من الأحوال والباء متعلقة بمحذوف وقع حالا من ضمير- ضارين- أو من مفعوله المعتمد على النفي أو الضمير المجرور في بِهِ أو المصدر المفهوم من الوصف، والمراد من الإذن هنا التخلية بين المسحور وضرر السحر- قاله الحسن- وفيه دليل على أن فيه ضررا مودعا إذا شاء الله تعالى حال بينه وبينه، وإذا شاء خلاه وما أودعه فيه، وهذا مذهب السلف في سائر الأسباب والمسببات، وقيل: الإذن بمعنى الأمر ويتجوز به عن التكوين بعلاقة ترتب الوجود على كل منهما في الجملة، والقرينة عدم كون القبائح مأمورا بها ففيه نفي كون الأسباب مؤثرة بنفسها بل بجعله إياها أسبابا إما عادية أو حقيقية، وقيل: إنه هنا بمعنى العلم، وليس فيه إشارة إلى نفي التأثير بالذات كالوجهين الأولين. وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ لأنهم يقصدون به العمل قصدا جازما وقصد المعصية كذلك معصية أو لأن العلم يدعو إلى العمل ويجر إليه لا سيما عمل الشر الذي هو هوى النفس، فصيغة المضارع للحال على الأول وللاستقبال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 على الثاني وَلا يَنْفَعُهُمْ عطف على ما قبله للإيذان بأنه شر بحت وضرر محض لا كبعض المضار المشوبة بنفع وضرر لأنهم لا يقصدون به التخلص عن الاغترار بأكاذيب السحرة ولا إماطة الأذى عن الطريق حتى يكون فيه نفع في الجملة، وفي الإتيان ب لا إشارة إلى أنه غير نافع في الدارين لأنه لا تعلق به بانتظام المعاش ولا المعاد وفي الحكم بأنه ضار غير نافع تحذير بليغ- لمن ألقى السمع وهو شهيد- عن تعاطيه وتحريض على التحرز عنه، وجوز بعضهم أن يكون لا يَنْفَعُهُمْ على إضمار هو فيكون في موضع رفع وتكون الواو للحال ولا يخفى ضعفه وَلَقَدْ عَلِمُوا متعلق بقوله تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمْ إلخ، وقصة السحر مستطردة في البين فالضمير لأولئك اليهود، وقيل: الضمير لليهود الذين كانوا على عهد سليمان عليه السلام، وقيل: للملكين لأنهما كانا يقولان فَلا تَكْفُرْ وأتى بضمير الجمع على قول من يرى ذلك لَمَنِ اشْتَراهُ أي استبدل ما تتلو الشياطين بكتاب الله، واللام للابتداء وتدخل على المبتدأ، وعلى المضارع ودخولها على الماضي مع قد كثير وبدونه ممتنع، وعلى خبر المبتدأ إذا تقدم عليه، وعلى معمول الخبر إذا وقع موقع المبتدأ والكوفيون يجعلونها في الجميع جواب القسم المقدر وليس في الوجود عندهم لام ابتداء كما يشير إليه كلام الرضيّ، وقد علقت هنا- علم- عن العمل سواء كانت متعدية لمفعول أو مفعولين- فمن- موصولة مبتدأ واشْتَراهُ صلتها وقوله تعالى: ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ جملة ابتدائية خبرها، ومن- مزيدة في المبتدأ، وفِي الْآخِرَةِ متعلق بما تعلق به الخبر أو حال من الضمير فيه أو من مرجعه، والخلاق- النصيب- قاله مجاهد- أو القوام- قاله ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما، أو القدر- قاله قتادة- ومنه قوله: فما لك بيت لدى الشامخات ... وما لك في غالب من «خلاق» قال الزجاج: وأكثر ما يستعمل في الخير، ويكون للشر على قلة، وذهب أبو البقاء تبعا للفراء إلى أن اللام موطئة للقسم، ومِنْ شرطية مبتدأ واشْتَراهُ خبرها وما لَهُ إلخ جواب القسم، وجواب الشرط محذوف دل هو عليه لأنه إذا اجتمع قسم وشرط يجاب سابقهما غالبا، وفيه ما فيه لأنه نقل عن الزجاج ردّ من قال بشرطية مِنْ هنا بأنه ليس موضع شرط، ووجهه أبو حيان بأن الفعل ماض لفظا ومعنى لأن الاشتراء قد وقع فجعله شرطا لا يصح لأن فعل الشرط إذا كان ماضيا لفظا فلا بد أن يكون مستقبلا معنى، وقد ذكر الرضيّ في- لزيد قائم- أن الأولى كون اللام فيه لام الابتداء مفيدة للتأكيد ولا يقدر القسم كما فعله الكوفية لأن الأصل عدم التقدير، والتأكيد المطلوب من القسم حاصل من اللام، والقول بأن اللام تأكيد للأولى أو زائدة مما لا يكاد يصح، أما الأول فلأن بناء الكلمة إذا كان على حرف واحد لا يكرر وحده بل مع عماده إلا في ضرورة الشعر على ما ارتضاه الرضيّ، وأما الثاني فلأن المعهود زيادة اللام الجارة وهي مكسورة في الاسم الظاهر. وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ اللام فيه لام ابتداء أيضا، والمشهور أنها جواب القسم، والجملة معطوفة على القسمية الأولى، وما نكرة مميزة للضمير المبهم في- بئس- والمخصوص بالذم محذوف، و «شروا» يحتمل المعنيين والظاهر هو الظاهر- أي والله لبئس شيئا شروا به حظوظ أنفسهم- أي باعوها أو شروها في زعمهم ذلك الشراء، وفي البحر بئسما باعوا أنفسهم السحر أو الكفر لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي مذمومية الشراء المذكور لامتنعوا عنه، ولا تنافي بين إثبات العلم لهم أولا ونفيه عنهم ثانيا إما لأن المثبت لهم هو العقل الغريزي والمنفي عنهم هو الكسب الذي هو من جملة التكليف، أو لأن الأول هو العلم بالجملة والثاني هو العلم بالتفصيل، فقد يعلم الإنسان مثلا قبح الشيء ثم لا يعلم أن فعله قبيح فكأنهم علموا أن شراء النفس بالسحر مذموم لكن لم يتفكروا في أن ما يفعلونه هو من جملة ذلك القبيح أو لأنهم علموا العقاب ولم يعلموا حقيقته وشدته، وإما لأن الكلام مخرج على تنزيل العالم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 بالشيء منزلة الجاهل ووجود الشيء منزلة عدمه لعدم ثمرته حيث إنهم لم يعملوا بعلمهم، أو على تنزيل العالم بفائدة الخبر ولازمها منزلة الجاهل بناء على أن قوله تعالى لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ معناه لو كان لهم علم بذلك الشراء لامتنعوا منه أي ليس لهم علم فلا يمتنعون، وهذا هو الخبر الملقى إليهم، واعتراض العلامة بأن هذا الخبر لو فرض كونه ملقى إليهم فلا معنى لكونهم عالمين بمضمونه كيف وقد تحقق في وَلَقَدْ عَلِمُوا نقيضه وهو أن لهم علما به وبعد اللتيا والتي لا معنى لتنزيلهم منزلة الجاهل بأن ليس لهم علم بأن من اشتراه- ما له في الآخرة من خلاق- بل إن كان فلا بد أن ينزلوا منزلة الجاهل بأن لهم علما بذلك يجاب عنه: أما أولا فبأن الخطاب صريحا للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وتعريضا لهم ولذا أكد، وأما ثانيا فبأن المستفاد من وَلَقَدْ عَلِمُوا ثبوت العلم لهم حقيقة والمستفاد من الخبر الملقى لهم نفي العلم عنهم تنزيلا ولا منافاة بينهما، وأما ثالثا فبأن العالم إذا عمل بخلاف علمه كان عالما بأنه بمنزلة الجاهل في عدم ترتب ثمرة علمه، ومقتضى هذا العلم أن يمتنع عن ذلك العمل ففيما نحن فيه كانوا عالمين فيه بأن ليس لهم علم وأنهم بمنزلة الجاهل في ذلك الشراء، ومقتضى هذا العلم أن يمتنعوا عنه وإذا لم يمتنعوا كانوا بمنزلة الجاهل في عدم جريهم على مقتضى هذا العلم فألقى الخبر إليهم بأن ليس لهم علم مع علمهم به كذا قيل، ولا يخفى ما فيه من شدة التكلف، وأجاب بعضهم عما يتراءى من التنافي بأن مفعول يُعَلِّمُونَ ما دل عليه ل لَبِئْسَ ما شَرَوْا إلخ أعني مذمومية الشراء، ومفعول عَلِمُوا أنه لا نصيب لهم في الآخرة، والعلم بأنه لا نصيب لهم في الآخرة لا ينافي نفي العلم بمذمومية الشراء بأن يعتقدوا إباحته- فلا حاجة حينئذ إلى جميع ما سبق- وفيه أن العلم بكون الشراء المذكور موجبا للحرمان في الآخرة بدون العلم بكونه مذموما غاية المذمومية- مما لا يكاد يعقل عند أرباب العقول- والقول بأن مفعول عَلِمُوا محذوف، أي لقد علموا أنه يضرهم ولا ينفعهم، ولَمَنِ اشْتَراهُ مرتبط بأول القصة، وضمير لَبِئْسَ ما شَرَوْا لَمَنِ اشْتَراهُ ركيك جدا، وبئسما يشتري، ودفع التنافي بأنه أثبت «أولا» العلم بسوء ما شروه بالكتاب بحسب الآخرة، ثم ذم بالسوء مطلقا في الدين والدنيا، لأن «بئس» للذم العام، فالمنفي- العلم بالسوء المطلق- يعني لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ضرره في الدين والدنيا لامتنعوا، إنما غرهم توهم النفع العاجل، أو بأن المثبت أولا العلم بأن «ما شروه» ما لهم في الآخرة نصيب منه، لا أنهم شَرَوْا أنفسهم به وأخرجوها من أيديهم بالكلية، بل كانوا يظنون أن آباءهم الأنبياء يشفعونهم في الآخرة والعلم المنفي هو هذا العلم لا يخفى ما فيه «أما أولا» فلأن عموم الذم في «بئس» وإن قيل به لكنه بالنسبة إلى إفراد الفاعل في نفسها من دون تعرض للأزمنة والأمكنة- والتزام ذلك لا يخلو عن كدر- «وأما ثانيا» فلأن تخصيص النصيب- بمنه- مع كونه نكرة مقرونة ب مِنْ في سياق النفي المساق للتهويل مما لا يدعو إليه إلا ضيق العطن، والجواب- بإرجاع ضمير عَلِمُوا لِلنَّاسِ أو الشَّياطِينُ واشْتَرَوْا لليهود- ارتكاب للتفكيك من غير ضرورة تدعو إليه، ولا قرينة واضحة تدل عليه، وبعد كل حساب- الأولى عندي في الجواب- كون الكلام مخرجا على التنزيل، ولا ريب في كثرة وجود ذلك في الكتاب الجليل، والأجوبة التي ذكرت من قبل- مع جريان الكلام فيها على مقتضى الظاهر- لا تخلو في الباطن عن شيء فتدبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا أي بالرسول، أو بما أنزل إليه من الآيات، أو بالتوراة وَاتَّقَوْا أي المعاصي التي حكيت عنهم لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ جواب لَوْ الشرطية، وأصله- لأثيبوا مثوبة من عند الله خيرا مما شروا به أنفسهم- فحذف الفعل، وغير السبك إلى ما ترى ليتوسل بذلك مع معونة المقام إلى الإشارة إلى ثبات المثوبة، وثبات نسبة الخيرية إليها مع الجزم بخيريتها لأن الجملة إذا أفادت ثبات المثوبة كان الحكم بمنزلة التعليق بالمشتق، كأنه قيل: لَمَثُوبَةٌ دائمة خَيْرٌ لدوامها وثباتها، وحذف المفضل عليه إجلالا للمفضل من أن ينسب إليه، ولم يقل: لمثوبة الله، مع أنه أخصر ليشعر التنكير بالتقليل، فيفيد أن شيئا قليلا من ثواب الله تعالى في الآخرة الدائمة خير من ثواب كثير في الدنيا الفانية، فكيف وثواب الله تعالى كثير دائم، وفيه من الترغيب والترهيب المناسبين للمقام ما لا يخفى، وببيان الأصل انحل إشكالان «لفظي» وهو أن جواب «لو» إنما يكون فعلية ماضوية «ومعنوي» وهو أن خيرية- المثوبة: ثابتة لا تعلق لها بإيمانهم وعدمه، ولهذين الإشكالين قال الأخفش واختاره جمع: لسلامته من وقوع الجملة الابتدائية في الظاهر جوابا ل لَوْ ولم يعهد ذلك في لسان العرب- كما في البحر- أن- اللام- جواب قسم محذوف والتقدير- ولو أنهم آمنوا واتقوا لكان خيرا لهم ولمثوبة عند الله خير- وبعضهم التزم التمني- ولكن من جهة العباد لا من جهته تعالى- خلافا لمن اعتزل دفعا لهما إذ لا جواب لها حينئذ، ويكون الكلام مستأنفا، كأنه لما تمنى لهم ذلك قيل: ما هذا التحسر والتمني؟ فأجيب بأن هؤلاء المبتذلين حرموا ما شيء قليل منه خير من الدنيا وما فيها، وفي ذلك تحريض وحث على الإيمان، وذهب أبو حيان إلى أن خَيْرٌ هنا للتفضيل لا للأفضلية على حد: فخير كما لشركما فداء والمثوبة مفعلة- بضم العين- من الثواب، فنقلت- الضمة- إلى ما قبلها، فهو مصدر ميمي، وقيل: مفعولة وأصلها «مثووبة» فنقلت- ضمة الواو- إلى ما قبلها، وحذفت لالتقاء الساكنين، فهي من المصادر التي جاءت على مفعولة كمصدوقة- كما نقله الواحدي- ويقال: «مثوبة» - بسكون الثاء وفتح الواو- وكان من حقها أن تعلّ، فيقال: «مثابة» - كمقامة- إلا أنهم صححوها كما صححوا في الأعلام مكوزة وبها قرأ قتادة وأبو السماك والمراد بها الجزاء والأجر، وسمي بذلك لأن المحسن يثوب إليه، والقول بأن المراد بها الرجعة إليه تعالى بعيد لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ المفعول محذوف بقرينة السابق، أي إن ثواب الله تعالى خَيْرٌ وكلمة لَوْ إما للشرط، والجزاء محذوف أي آمَنُوا وإما للتمني ولا حذف، ونفي العلم على التقديرين بنفي ثمرته الذي هو العمل، أو لترك التدبر، هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» وَاتَّبَعُوا أي اليهود وهي القوى الروحانية ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ وهم من الانس المتمردون الأشرار، ومن الجن الأوهام والتخيلات المحجوبة عن نور الروح المتمردة عن طاعة القلب العاصية لأمر العقل والشرع، والنفوس الأرضية المظلمة القوية على عهد مُلْكِ سُلَيْمانَ الروح الذي هو خليفة الله تعالى في أرضه وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ بملاحظة السوي واتباع الهوى، وإسناد التأثير إلى الأغيار وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا وستروا مؤثرية الله تعالى وظهوره الذي محا ظلمة العدم. يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ والشبه الصادة عن السير والسلوك إلى ملك الملوك وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ وهما العقل النظري والعقل العملي النازلان من سماء القدس إلى أرض الطبيعة المنكوسان في بئرها لتوجههما إليها باستجذاب النفس إياهما بِبابِلَ الصدر المعذبان بضيق المكان بين أبخرة حب الجاه، ومواد الغضب وأدخنة نيران الشهوات المبتليان بأنواع المتخيلات، والموهومات الباطلة من الحيل والشعوذة والطلسمات والنيرنجات وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا له إِنَّما نَحْنُ امتحان وابتلاء من الله تعالى فَلا تَكْفُرْ وذلك لقوة النورية وبقية الملكوتية فيهما، فإن العقل دائما ينبه صاحبه- إذا صحا عن سكرته وهب من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 نومته- عن الكفر والاحتجاب فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ القلب والنفس، أو بين الروح والنفس بتكدير القلب وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ بزيادة الاحتجاب وغلبة هوى النفس وَلا يَنْفَعُهُمْ كسائر العلوم في رفع الحجاب وتخلية النفس وتزكيتها وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ في مقام الفناء والرجوع إلى الحق سبحانه من نصيب لإقباله على العالم السفلي وبعده عن العالم العلوي بتكدر جوهر قلبه، وانهماكه برؤية الأغيار وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا برؤية الأفعال من الله تعالى واتقوا الشرك بإثبات ما سواه لأثيبوا بمثوبة مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تعالى دائمة، ولرجعوا إليه، وذلك خَيْرٌ لهم لَوْ كانُوا من ذوي العلم والعرفان والبصيرة والإيقان. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا الرعي حفظ الغير لمصلحته سواء كان الغير عاقلا أو لا، وسبب نزول الآية- كما أخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه- أن اليهود كانوا يقولون ذلك سرا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو سب قبيح بلسانهم، فلما سمعوا أصحابه عليه الصلاة والسلام يقولون: أعلنوا بها، فكانوا يقولون ذلك ويضحكون فيما بينهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وروي أن سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه سمعها منهم، فقال: يا أعداء الله عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لأضربن عنقه، قالوا: أولستم تقولونها؟ فنزلت الآية ونهي المؤمنون سدا للباب، وقطعا للألسنة وإبعادا عن المشابهة. وأخرج عبيد وابن جرير والنحاس عن عطاء قال: كانت راعِنا لغة الأنصار في الجاهلية فنهاهم الله تعالى عنها في الإسلام، ولعل المراد أنهم يكثرونها في كلامهم واستعملها اليهود سبا فنهوا عنها. وأما دعوى أنها لغة مختصة بهم فغير ظاهر لأنها محفوظة في لغة جميع العرب منذ كانوا، وقيل: ومعنى هذه الكلمة عند اليهود لعنهم الله تعالى اسمع- لا سمعت- وقيل: أرادوا نسبته صلى الله تعالى عليه وسلم وحاشاه إلى الرعن، فجعلوه مشتقا من الرعونة وهي الجهل والحمق، وكانوا إذا أرادوا أن يحمقوا إنسانا قالوا: راعنا، أي يا أحمق- فالألف حينئذ لمد الصوت- وحرف النداء محذوف- وقد ذكر الفراء أن أصل يا زيد يا زيدا- بالألف- ليكون المنادى بين صوتين، ثم اكتفي بيا ونوي الألف، ويحتمل أنهم أرادوا به المصدر، أي- رعنت رعونة- أو أرادوا صرت راعنا وإسقاط- التنوين- على اعتبار الوقف، وقد قرأ الحسن وابن أبي ليلى، وأبو حيوة وابن محيصن- بالتنوين- وجعله الكثير صفة لمصدر محذوف، أي قولا: راعِنا وصيغة فاعل حينئذ للنسبة- كلابن وتامر- ووصف القول به للمبالغة كما يقال: كلمة حمقاء، وقرأ عبد الله وأبيّ «راعونا» على إسناد الفعل لضمير الجمع للتوقير- كما أثبته الفارسي- وذكر أن في مصحف عبد الله «ارعونا» وذهب بعض العلماء أن سبب النهي أن لفظ المفاعلة يقتضي الاشتراك في الغالب- فيكون المعنى عليه- ليقع منك رعي لنا، ومنا رعي لك، وهو مخل بتعظيمه صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا يخفى بعده عن سبب النزول بمراحل وَقُولُوا انْظُرْنا أي انتظرنا وتأن علينا، أو انظر إلينا، ليكون ذلك أقوى في الإفهام والتعريف، وكان الأصل أن يتعدى الفعل بإلى، لكنه توسع فيه فتعدى بنفسه على حد قوله: ظاهرات الجمال والحسن ينظر ... ن كما ينظر «الأراك.. الظباء» وقيل: هو من نظر البصيرة، والمراد به التفكر والتدبر فيما يصلح حال المنظور في أمره والمعنى تفكر في أمرنا وخير الأمور عندي أوسطها إلا أنه ينبغي أن يقيد نظر العين بالمقترن بتدبير الحال لتقوم هذه الكلمة مقام الأولى خالية من التدليس، وبدأ بالنهي لأنه من باب التروك فهو أسهل ثم أتى بالأمر بعده الذي هو أشق لحصول الاستئناس قبل بالنهي، وقرأ أبيّ والأعمش- أنظرنا- بقطع الهمزة وكسر الظاء من الإنظار ومعناه أمهلنا حتى نتلقى عنك ونحفظ ما نسمعه منك، وهذه القراءة تشهد للمعنى الأول على قراءة الجمهور إلا أنها على شذوذها لا تأبى ما اخترناه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 وَاسْمَعُوا أي ما أمرتكم به ونهيتكم عنه بجد حتى لا تعودوا إلى ما نهيتكم عنه ولا تتركوا ما أمرتكم به أو هو أمر بحسن الاستماع بأن يكون بإحضار القلب وتفريغه عن الشواغل حتى لا يحتاج إلى طلب صريح المراعاة ففيه تنبيه على التقصير في السماع حتى ارتكبوا ما تسبب للمحذور، والمراد سماع القبول والطاعة فيكون تعريضا لليهود حيث قالوا: سَمِعْنا وَعَصَيْنا [البقرة: 93] وإذا كان المراد سماع هذا الأمر والنهي يكون تأكيدا لما تقدم. وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ اللام للعهد فالمراد بالكافرين اليهود الذين قالوا ما قالوا تهاونا بالرسول صلّى الله عليه وسلّم المعلوم مما سبق بقرينة السياق ووضع المظهر موضع المضمر إيذانا بأن التهاون برسول الله صلّى الله عليه وسلّم كفر يوجب أليم العذاب، وفيه من تأكيد النهي ما فيه، وجعلها للجنس- فيدخل اليهود كما اختاره أبو حيان- ليس بظاهر على ما قيل: لأن الكلام مع المؤمنين فلا يصلح هذا أن يكون تذييلا. ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ الودّ محبة الشيء وتمني كونه، ويذكر ويراد كل واحد منهما قصدا والآخر تبعا، والفارق كون مفعوله جملة إذا استعمل في التمني ومفردا إذا استعمل في المحبة فتقول على الأول: وددت لو تفعل كذا، وعلى الثاني وددت الرجل، ونفيه كناية عن الكراهة وأتى ب ما للإشارة إلى أن أولئك متلبسون بها ومِنْ للتبيين، وقيل: للتبعيض وفي إيقاع الكفر صلة للموصول وبيانه بما بين وإقامة المظهر موضع المضمر إشعار بأن كتابهم يدعوهم إلى متابعة الحق إلا أن كفرهم يمنعهم وإن الكفر شر كله لأنه الذي يورث الحسد ويحمل صاحبه على أن يبغض الخير ولا يحبه كما أن الإيمان خير كله لأنه يحمل صاحبه على تفويض الأمور كلها إلى الله تعالى، ولَا صلة لتأكيد النفي وزيدت له هنا دون قوله: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ [البينة: 1] لما أن مبنى النفي الحسد، واليهود بهذا الداء أشهر لا سيما وقد تقدم ما يفيد ابتلاءهم به فلم يلزم من نفي ودادتهم هذه نفي ودادة المشركين لها ولم يكن ذلك في لَمْ يَكُنِ وسبب نزول الآية أن المسلمين قالوا لحلفائهم من اليهود: آمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: وددنا لو كان خيرا مما نحن عليه فنتبعه فأكذبهم الله تعالى بذلك، وقيل: نزلت تكذيبا لجمع من اليهود يظهرون مودة المؤمنين ويزعمون أنهم يودون لهم الخير وفصلت عما قبل، وإن اشتركا في بيان قبائح اليهود مع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين لاختلاف الغرضين فإن الأول لتأديب المؤمنين وهذا لتكذيب أولئك الكافرين، ولأجل هذا الاختلاف فصل السابق عن سابقه، ومما ذكرنا يعلم وجه تعلق الآية بما قبلها، والقول: بأن ذلك من حيث إن القول المنهي عنه كثيرا ما كان يقع عند تنزيل الوحي المعبر عنه بالخير فيها فكأنه أشير إلى أن سبب تحريفهم له- إلى ما حكي عنهم لوقوعه في أثناء حصول ما يكرهونه من تنزيل الخير- مساق على سبيل الترجي وأظنه إلى التمني أقرب، وقرىء «ولا المشركون» بالرفع عطفا على الذين كفروا أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ في موضع النصب على أنه مفعول يَوَدُّ وبناء الفعل للمفعول للثقة بتعيين الفاعل وللتصريح به فيما بعد، وذكر التنزيل دون الإنزال رعاية للمناسبة بما هو الواقع من تنزيل الخيرات على التعاقب وتجددها لا سيما إذا أريد مِنْ خَيْرٍ في قوله تعالى: مِنْ خَيْرٍ الوحي وهو قائم مقام الفاعل، ومِنْ صلة وزيادة خير، والنفي الأول منسحب عليها. ولذا ساغت زيادتها عند الجمهور ولا حاجة إلى ما قيل: إن التقدير يود أن لا ينزل خير، وذهب قوم إلى أنها للتبعيض وعليه يكون عليكم قائما ذلك المقام، والمراد من الخير إما الوحي أو القرآن أو النصرة أو ما اختص به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المزايا أو عام في أنواع الخير كلها لأن المذكورين لا يودون تنزيل جميع ذلك على المؤمنين عداوة وحسدا وخوفا من فوات الدراسة وزوال الرياسة، وأظهر الأقوال كما في البحر الأخير ولا يأباه ما سيأتي لما سيأتي. مِنْ رَبِّكُمْ في موضع الصفة للخير، ومِنْ ابتدائية والتعرض لعنوان الربوبية للإشعار بعلية التنزيل والإضافة إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 ضمير المخاطبين لتشريفهم وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ جملة ابتدائية سيقت لتقرير ما سبق من تنزيل الخير والتنبيه على حكمته وإرغام الكارهين له، والمراد من الرحمة ذلك الخير إلا أنه عبر عنه بها اعتناء به وتعظيما لشأنه ومعنى اختصاص ذلك على القول الأول ظاهر ولذا اختاره من اختاره، وعلى الأخير انفراد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين بمجموعه وعدم شركة أولئك الكارهين فيه وعروّهم عن ترتب آثاره، وقيل: المراد من الآية دفع الاعتراض الذي يشير إليه الحسد بأن من له أن يخص لا يعترض عليه إذا عم، وفي إقامة لفظ- الله- مقام ضمير ربكم تنبيه على أن تخصيص بعض الناس بالخير دون بعض يلائم الألوهية كما أن إنزال الخير على العموم يناسب الربوبية، والباء داخلة على المقصور أي يؤتي رحمته، ومِنْ مفعول، وقيل: الفعل لازم، ومِنْ فاعل وعلى التقديرين العائد محذوف وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ تذييل لما سبق وفيه تذكير للكارهين الحاسدين بما ينبغي أن يكون مانعا لهم لأن المعنى على أنه سبحانه المتفضل بأنواع التفضلات على سائر عباده فلا ينبغي لأحد أن يحسد أحدا، ويود عدم إصابة خير له، والكل غريق في بحار فضله الواسع الغزير كذا قيل: وإذا جعل الفضل عاما وقيل: بإدخال النبوة فيه دخولا أوليا لأن الكلام فيها على أحد الأقوال. كان هناك إشعار بأن النبوة من الفضل لا كما يقوله الحكماء من أنها بتصفية الباطن، وأن حرمان بعض عباده ليس لضيق فضله بل لمشيئته وما عرف فيه من حكمته، وتصدير هذه الجملة بالاسم الكريم لمناسبة العظيم. ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نزلت لما قال المشركون، أو اليهود: ألا ترون إلى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا، ما هذا القرآن إلا كلام محمد عليه الصلاة والسلام يقوله من تلقاء نفسه، وهو كلام يناقض بعضه بعضا- والنسخ- في اللغة إزالة الصورة- أو ما في حكمها- عن الشيء، وإثبات مثل ذلك في غيره سواء كان في الإعراض أو في الأعيان- ومن استعماله في المجموع التناسخ- وقد استعمل لكل واحد منهما مجازا- وهو أولى من الاشتراك- ولذا رغب فيه الراغب، فمن الأول نسخت الريح الأثر أي أزالته، ومن الثاني نسخت الكتاب إذا أثبت ما فيه في موضع آخر، ونسخ الآية- على ما ارتضاه بعض الأصوليين- بيان انتهاء التعبد بقراءتها كآية «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما نكالا من الله والله عزيز حكيم» أو الحكم المستفاد منها كآية وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ [البقرة: 240] أو بهما جميعا كآية «عشر رضعات معلومات يحرمن» وفيه رفع التأبيد المستفاد من إطلاقها، ولذا عرفه بعضهم برفع الحكم الشرعي، فهو بيان بالنسبة إلى الشارع، ورفع بالنسبة إلينا، وخرج بقيد التعبد الغاية، فإنها بيان لانتهاء مدة نفس الحكم- لا للتعبد به- واختص التعريف بالأحكام إذ لا تعبد في الأخبار أنفسها، وإنساؤها إذهابها عن القلوب بأن لا تبقى في الحفظ- وقد وقع هذا- فإن بعض الصحابة أراد قراءة بعض ما حفظه فلم يجده في صدره، فسأل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: «نسخ البارحة من الصدور» وروى مسلم عن أبي موسى: إنا كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول والشدة ببراءة، فأنسيتها غير أني حفظت منها «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا وما يملأ جوف ابن آدم إلا التراب» وكنا نقرأ بسورة نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها، غير أني حفظت منها «يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة» وهل يكون ذلك لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كما كان لغيره أو لا؟ فيه خلاف، والذاهبون إلى الأول استدلوا بقوله تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ [الأعلى: 6] وهو مذهب الحسن، واستدل الذاهبون إلى الثاني بقوله تعالى: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [الإسراء: 86] فإنه يدل على أنه لا يشاء أن يذهب بما أوحى إليه صلى الله تعالى عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 وسلم- وهذا قول الزجاج- وليس بالقوي لجواز حمل الذي على ما لا يجوز عليه ذلك من أنواع الوحي، وقال أبو علي: المراد لم نذهب بالجميع، وعلى التقديرين لا ينافي الاستثناء، وسبحان من لا ينسى، وفسر بعضهم- النسخ- بإزالة الحكم سواء ثبت اللفظ أو لا- والإنساء- بإزالة اللفظ ثبت حكمه أو لا، وفسر بعض آخر «الأول» بالإذهاب إلى بدل للحكم السابق «والثاني» بالإذهاب لا إلى بدل، وأورد على كلا الوجهين أن تخصيص- النسخ- بهذا المعنى مخالف للغة والاصطلاح، وأن- الإنساء حقيقة في الإذهاب عن القلوب، والحمل على المجاز- بدون تعذر الحقيقة- تعسف، ولعل ما يتمسك به لصحة هذين التفسيرين من الرواية عن بعض الأكابر لم يثبت، وما شرطية جازمة ل نَنْسَخْ منتصبة به على المفعولية، ولا تنافي بين كونها عاملة ومعمولة لاختلاف الجهة، فبتضمنها الشرط عاملة، وبكونها اسما معمولة- ويقدر لنفسها جازم- وإلا لزم توارد العاملين على معمول واحد، وتدل على جواز وقوع ما بعدها، إذ الأصل فيها أن تدخل على الأمور المحتملة، واتفقت أهل الشرائع على جواز النسخ ووقوعه وخالفت اليهود غير العيسوية في جوازه وقالوا: يمتنع عقلا، وأبو مسلم الأصفهاني في وقوعه فقال: إنه وإن جاز عقلا لكنه لم يقع- وتحقيق ذلك في الأصول، ومِنْ آيَةٍ في موضع النصب على التمييز والمميز ما أي أي شيء نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ واحتمال زيادة مِنْ وجعل آيَةٍ حالا- ليس بشيء- كاحتمال كون ما مصدرية شرطية وآيَةٍ مفعولا به أي أي نسخ «ننسخ آية» بل هذا الاحتمال أدهى وأمر- كما لا يخفى- والضمير المنصوب عائد إلى آيَةٍ على حد: عندي درهم ونصفه، لأن المنسوخ غير المنسي، وتخصيص- الآية- بالذكر باعتبار الغالب، وإلا فالحكم غير مختص بها، بل جار فيما دونها أيضا على ما قيل. وقرأ طائفة وابن عامر من السبعة «ننسخ» من باب الإفعال- والهمزة- كما قال أبو علي: للوجدان على صفة نحو أحمدته- أي وجدته محمودا- فالمعنى ما نجده منسوخا وليس نجده كذلك إلا بأن ننسخه، فتتفق القراءتان في المعنى- وإن اختلفا في اللفظ- وجوّز ابن عطية كون- الهمزة- للتعدية، فالفعل حينئذ متعد إلى مفعولين، والتقدير ما ننسخك مِنْ آيَةٍ أي ما نبيح لك نسخه، كأنه لما نسخها الله تعالى أباح لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم تركها بذلك النسخ فسمى تلك الإباحة إنساخا، وجعل بعضهم- الإنساخ- عبارة عن الأمر بالنسخ والمأمور هو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، أو جبرائيل عليه السلام، واحتمال أن يكون من نسخ الكتاب، أي ما نكتب وننزل من اللوح المحفوظ، أو ما نؤخر فيه ونترك فلا ننزله، والضميران الآتيان بعد عائدان على ما عاد إليه ضمير نُنْسِها ناشىء عن الذهول عن قاعدة أن اسم الشرط لا بد في جوابه من عائد عليه. وقرأ عمر وابن عباس والنخعي وأبو عمرو وابن كثير وكثير «ننسأها» - بفتح نون المضارعة والسين وسكون الهمزة- وطائفة كذلك إلا أنه- بالألف من غير همز- ولم يحذفها للجازم لأن أصلها- الهمزة- من- نسأ- بمعنى أخر، والمعنى في المشهور نؤخرها في اللوح المحفوظ فلا ننزلها أو نبعدها عن الذهن بحيث لا يتذكر معناها ولا لفظها، وهو معنى نُنْسِها فتتحد القراءتان، وقيل: ولعله ألطف: إن المعنى نؤخر إنزالها، وهو في شأن الناسخة حيث أخر ذلك مدة بقاء المنسوخة فالمأتية حينئذ عبارة عن المنسوخة كما أنه حين النسخ عبارة عن الناسخة فمعنى الآية عليه أن رفع المنسوخة بإنزال الناسخة وتأخير الناسخة بإنزال المنسوخة كل منهما يتضمن المصلحة في وقته، وقرأ الضحاك وأبو الرجاء «ننسها» على صيغة المعلوم للمتكلم مع الغير من التنسية، والمفعول الأول محذوف يقال : أنسانيه الله تعالى ونسانيه تنسية بمعنى أي ننس أحدا إياها، وقرأ الحسن وابن يعمر- «تنسها» - بفتح التاء من النسيان «ونسيت» إلى سعد بن أبي وقاص، وفرقة كذلك إلا أنهم همزوا، وأبو حيوة كذلك إلا أنه ضم التاء على أنه من الإنساء، وقرأ معبد مثله، ولم يهمز، وقرأ أبيّ- «ننسك» - بضم النون الأولى وكسر السين من غير همز وبكاف الخطاب. وفي مصحف سالم مولى أبي حذيفة- «ننسكها» - بإظهار المفعولين، وقرأ الأعمش- «ما ننسك من آية أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 ننسخها نجىء بمثلها» - ومناسبة الآية لما قبلها أن فيه ما هو من قبيل النسخ حيث أقر الصحابة رضي الله تعالى عنهم مدة على قول راعِنا وإقراره صلى الله تعالى عليه وسلم على الشيء منزل منزلة الأمر به والاذن فيه، ثم إنهم نهوا عن ذلك فكان مظنة لما يحاكى ما حكى في سبب النزول، أو لأنه تعالى لما ذكر أنه ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ كاد ترفع الطغام رؤوسها وتقول: إن من الفضل عدم النسخ لأن النفوس إذا داومت على شيء سهل عليها فأتى سبحانه بما ينكس رؤوسهم ويكسر ناموسهم ويشير إلى أن النسخ من جملة فضله العظيم وجوده العميم، أو لأنه تعالى لما أشار إلى حقية الوحي ورد كلام الكارهين له رأسا عقبه بما يبين سر النسخ الذي هو فرد من أفراد تنزيل الوحي وإبطال مقالة الطاعنين فيه فليتدبر. نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أي بشيء هو خير للعباد منها أَوْ مِثْلِها حكما كان ذلك أو عدمه وحيا متلوا أو غيره، والخيرية أعم من أن تكون في النفع فقط أو في الثواب فقط أو في كليهما، والمثلية خاصة بالثواب على ما أشار إليه بعض المحققين، وفصله بأن الناسخ إذا كان ناسخا للحكم سواء كان ناسخا للتلاوة أو لا لا بد أن يكون مشتملا على مصلحة خلا عنها الحكم السابق لما أن الأحكام إنما تنوعت للمصالح، وتبدلها منوط بتبدلها بحسب الأوقات فيكون الناسخ خيرا منه في النفع سواء كان خيرا منه في الثواب أو مثلا له أو لا ثواب فيه أصلا كما إذا كان الناسخ مشتملا على الإباحة أو عدم الحكم وإذا كان ناسخا للتلاوة فقط لا يتصور الخيرية في النفع لعدم تبدل الحكم السابق والمصلحة فهو إما خير منه في الثواب أو مثل له، وكذا الحال في الإنساء فإن المنسي إذا كان مشتملا على حكم يكون المأتي به خيرا في النفع سواء كان النفع لخلوه عن الحكم مطلقا أو لخلوه عن ذلك الحكم واشتماله على حكم يتضمن مصلحة خلا عنها الحكم المنسي مع جواز خيريته في الثواب ومماثلته أيام خلوه عنه، وإذا لم يكن مشتملا على حكم فالمأتيّ به بعده إما خير في الثواب أو مثل له، والحاصل أن المماثلة في النفع لا تتصور لأنه على تقدير تبدل الحكم تتبدل المصلحة فيكون خيرا منه، وعلى تقدير عدم تبدله المصلحة الأولى باقية على حالها انتهى، ثم لا يخفى أن ما تقدم من التعميم مبني على جواز النسخ بلا بدل وجواز نسخ الكتاب بالسنة- وهو المذهب المنصور- ومن الناس من منع ذلك ومنع النسخ ببدل أثقل أيضا، واحتج بظاهر الآية، أما على الأول فلأنه لا يتصور كون المأتيّ به خيرا أو مثلا إلا في بدل، وأما على الثاني فلأن الناسخ هو المأتيّ به بدلا وهو خير أو مثل، ويكون الآتي به هو الله تعالى، والسنة ليست خيرا ولا مثل القرآن ولا مما أتى به سبحانه وتعالى، وأما على الثالث فلأن الأثقل ليس بخير من الأخف ولا مثلا له، ورد ذلك- أما الأول، والثالث- فلأنا لا نسلم أن كون المأتيّ به خيرا أو مثلا لا يتصور إلا في بدل وأن الأثقل لا يكون خيرا من الأخف إذ الأحكام إنما شرعت والآيات إنما نزلت لمصالح العباد وتكميل نفوسهم فضلا منه تعالى ورحمة وذلك يختلف باختلاف الأعصار والأشخاص كالدواء الذي تعالج به الأدواء فإن النافع في عصر قد يضر في غيره والمزيل علة شخص قد يزيل علة سواه فإذن قد يكون عدم الحكم أو الأثقل أصلح في انتظام المعاش وأنظم في إصلاح المعاد والله تعالى لطيف حكيم، ولا يرد أن المتبادر من نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها بآية خير منها وأن عدم الحكم ليس بمأتيّ به لما أن الخلاف في جواز النسخ بلا بدل ليس في إتيان اللفظ بدل الآية الأولى بل في الحكم كما لا يخفى على من راجع الأصول- وأما الثاني- فلأنا لا نسلم حصر الناسخ بما ذكر إذ يجوز أن يعرف النسخ بغير المأتيّ به فإن مضمون الآية ليس إلا أن نسخ الآية يستلزم الإتيان بما هو خير منها أو مثل لها، ولا يلزم منه أن يكون ذلك هو الناسخ فيجوز أن يكون أمرا مغايرا يحصل بعد حصول النسخ وإذا جاز ذلك فيجوز أن يكون الناسخ سنة والمأتيّ به الذي هو خير أو مثل آية أخرى، وأيضا السنة مما أتى به الله سبحانه لقوله تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم: 3، 4] وليس المراد بالخيرية والمماثلة في اللفظ حتى لا تكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 السنة كذلك بل في النفع والثواب فيجوز أن يكون ما اشتملت عليه السنة خيرا في ذلك، واحتجت المعتزلة بالآية على حدوث القرآن فإن التغير المستفاد من النسخ، والتفاوت المستفاد من الخيرية في وقت دون آخر من روادف الحدث وتوابعه فلا يتحقق بدونه، وأجيب بأن التغير والتفاوت من عوارض ما يتعلق به الكلام النفسي القديم وهي الأفعال في الأمر والنهي والنسب الخبرية في الخبر وذلك يستدعيهما في تعلقاته دون ذاته، وأجاب الإمام الرازي بأن الموصوف بهما الكلام اللفظي، والقديم عندنا الكلام النفسي، واعترض بأنه مخالف لما اتفقت عليه آراء الأشاعرة من أن الحكم قديم والنسخ لا يجري إلا في الأحكام، وقرأ أبو عمرو- نات- بقلب الهمزة ألفا. أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الاستفهام قيل: للتقرير، وقيل: للإنكار، والخطاب للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وأريد بطريق الكناية هو وأمته المسلمون وإنما أفرده لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم أعلمهم، ومبدأ علمهم، ولإفادة المبالغة مع الاختصار، وقيل: لكل واقف عليه على حد «بشر المشائين» وقيل لمنكري النسخ، والمراد الاستشهاد بعلم المخاطب بما ذكر على قدرته تعالى على النسخ وعلى الإتيان بما هو خير أو مماثل لأن ذلك من جملة الأشياء المقهورة تحت قدرته سبحانه فمن علم شمول قدرته عز وجل على جميع الأشياء علم قدرته على ذلك قطعا، والالتفات بوضع الاسم الجليل موضع الضمير لتربية المهابة، ولأنه الاسم العلم الجامع لسائر الصفات، ففي ضمنه صفة القدرة فهو أبلغ في نسبة القدرة إليه من ضمير المتكلم المعظم، وكذا الحال في قوله عز شأنه: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي قد علمت أيها المخاطب أن الله تعالى له السلطان القاهر، والاستيلاء الباهر، المستلزمان للقدرة التامة على التصرف الكلي- إيجادا وإعداما، وأمرا ونهيا- حسبما تقتضيه مشيئته، لا معارض لأمره، ولا معقب لحكمه، فمن هذا شأنه كيف يخرج عن قدرته شيء من الأشياء؟ فيكون الكلام على هذا كالدليل لما قبله في إفادة البيان، فيكون منزلا منزلة عطف البيان من متبوعه في إفادة الإيضاح، فلذا ترك العطف وجوّز أن يكون تكريرا للأول وإعادة للاستشهاد على ما ذكر، وإنما لم تعطف أَنَّ مع ما في حيزها على ما سبق من مثلها روما لزيادة التأكيد وإشعارا باستقلال العلم بكل منهما وكفاية في الوقوف على ما هو المقصود، وخص السَّماواتِ وَالْأَرْضِ- بالملك- لأنهما من أعظم المخلوقات الظاهرة، ولأن كل مخلوق لا يخلو عن أن يكون في إحدى هاتين الجهتين فكان في الاستيلاء عليهما إشارة إلى الاستيلاء على ما اشتملا عليه، وبدأ سبحانه بالتقرير على وصف القدرة لأنه منشئا لوصف الاستيلاء والسلطان، ولم يقل جل شأنه: إن الله ملك إلخ قصدا إلى تقوي الحكم بتكرير الإسناد وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ عطف على الجملة الواقعة خبرا ل أَنَّ داخل معها حيث دخلت، وفيه إشارة إلى تناول الخطاب فيما قبل للأمة أيضا، ومِنْ الثانية صلة فلا تتعلق بشيء، و «من» الأولى لابتداء الغاية وهي متعلقة بمحذوف وقع حالا من مدخول مِنْ الثانية- وهو في الأصل صفة له- فلما قدم انتصب على الحالية «وفي البحر» انها متعلقة بما تعلق به لَكُمْ وهو في موضع الخبر ويجوز في ما أن تكون تميمية وأن تكون حجازية على رأي من يجيز تقدم خبرها إذا كان ظرفا أو مجرورا- والولي- المالك، والنصير- المعين، والفرق بينهما أن المالك قد لا يقدر على النصرة أو قد يقدر ولا يفعل، والمعين قد يكون مالكا وقد لا يكون- بل يكون أجنبيا- والمراد من الآية الاستشهاد على تعلق إرادته تعالى بما ذكر من الإتيان بما هو خير من المنسوخ أو بمثله، فإن مجرد قدرته تعالى على ذلك لا يستدعي حصوله البتة، وإنما الذي يستدعيه كونه تعالى مع ذلك وليا نصيرا لهم، فمن علم أنه تعالى وليه ونصيره لا ولي ولا نصير له سواه يعلم قطعا أنه لا يفعل به إلا ما هو خير له فيفوض أمره إليه تعالى، ولا يخطر بباله ريبة في أمر النسخ وغيره أصلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ جوّز في أَمْ هذه أن تكون متصلة، وأن تكون منقطعة، فإن قدر «تعلمون» قبل تُرِيدُونَ بناء على دلالة السياق وهو أَلَمْ تَعْلَمْ والسياق هو الاقتراح فإنه لا يكون إلا عند التعنت- والعلم- بخلافه كانت متصلة، كأنه قيل: أي الأمرين من عدم العلم بما تقدم، أو العلم مع الاقتراح واقع، والاستفهام حينئذ للإنكار بمعنى لا ينبغي أن يكون شيء منهما، وإن لم يقدر كانت منقطعة للاضراب عن عدم علمهم بالسابق إلى الاستفهام عن اقتراحهم كاقتراح اليهود إنكارا عليهم بأنه لا ينبغي أن يقع أيضا، وقطع بعضهم بالقطع بناء على دخول الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في الخطاب أو لا، وعدم دخوله فيه هنا لأنه مقترح عليه لا مقترح- وذلك مخل بالاتصال- وأجيب بأنه غير مخل به لحصوله بالنسبة إلى المقصد، وإرادة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في الأول كانت لمجرد التصوير والانتقال لما قدمنا أنهم بطريق الكناية، والمراد- على التقديرين- توصيته المسلمين بالثقة برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وترك الاقتراح بعد رد طعن المشركين أو اليهود في- النسخ- فكأنه قيل: لا تكونوا فيما أنزل إليكم من القرآن مثل اليهود في ترك الثقة بالآيات البينة واقتراح غيرها فتضلوا وتكفروا بعد الإيمان، وفي هذه التوصية كمال المبالغة والبلاغة حتى كأنهم بصدد الإرادة فنهوا عنها- فضلا عن السؤال- يعني من شأن العاقل أن لا يتصدى لإرادة ذلك، ولم يقل سبحانه: كما سأل أمة موسى عليه السلام أو اليهود للإشارة إلى أن من سأل ذلك يستحق أن يصان اللسان عن ذكره- ولا يقتضي سابقية وقوع الاقتراح منهم- ولا يتوقف مضمون الآية عليه إذ التوصية لا تقتضي سابقية الوقوع، كيف وهو كفر- كما يدل عليه ما بعد- ولا يكاد يقع من المؤمن، ومما ذكرنا يظهر وجه ذكر هذه الآية بعد قوله تعالى: ما نَنْسَخْ فإن المقصد من كل منهما تثبيتهم على الآيات وتوصيتهم بالثقة بها، وأما بيانه بأنه لعلهم كانوا يطلبون منه عليه الصلاة والسلام بيان تفاصيل الحكم الداعية إلى النسخ فلذا أردفت آية النسخ بذلك فأراه إلى التمني أقرب، وقد ذكر بعض المفسرين أنهم اقترحوا على الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في غزوة خيبر أن يجعل لهم ذات أنواط كما كان للمشركين، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «سبحان الله! هذا كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة. والذي نفسي بيده لتركبن سنن من قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة إن كان فيهم من أتى أمه يكون فيكم. فلا أدري أتعبدون العجل أم لا؟» وهو مع الحاجة إليه يستدعي أن المخاطب في الآيات هم المؤمنون، والسباق والسياق والتذييل تشهد له، وعليه يترجح الاتصال- لما نقل عن الرضيّ- أن الفعليتين إذا اشتركتا في الفاعل نحو أقمت أم قعدت؟ - فأم- متصلة، وزعم قوم أن المخاطب بها اليهود، وأن الآية نزلت فيهم حين سألوا أن ينزل عليهم كتاب من السماء جملة- كما نزلت التوراة على موسى عليه السلام- وخاطبهم بذلك بعد رد طعنهم تهديدا لهم، وحينئذ يكون المضارع الآتي بمعنى الماضي، إلا أنه عبر به عنه إحضارا للصورة الشنيعة، واختار هذا الإمام الرازي وقال: إنه الأصح، لأن هذه سورة من أول قوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ [البقرة: 40] حكاية عن اليهود ومحاجة معهم، ولأنه جرى ذكرهم وما جرى ذكر غيرهم، ولأن المؤمن بالرسول لا يكاد يسأل ما يكون متبدلا به الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ ولا يخفى ما فيه، وكأنه رحمه الله تعالى نسي قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وقيل: إن المخاطب أهل مكة، وهو قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقد روي عنه أن الآية نزلت في عبد الله بن أمية ورهط من قريش قالوا: يا محمد، اجعل لنا الصفا ذهبا ووسع لنا أرض مكة، وفجر لنا الأنهار خلالها تفجيرا ونؤمن لك، وحكي في سبب النزول غير ذلك، ولا مانع- كما في البحر- من جعل الكل أسبابا، وعلى الخلاف في المخاطبين يجيء الكلام في رَسُولَكُمْ فإن كانوا المؤمنين فالإضافة على ما في نفس الأمر وما أقروا به من رسالته صلى الله تعالى عليه وسلم، وإن كانوا غيرهم فهي على ما في نفس الأمر دون الإقرار، وما مصدرية، والمشهور أن المجرور نعت لمصدر محذوف- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 أي سؤالا كما- ورأى سيبويه أنه في موضع نصب على الحال، والتقدير عنده أن تسألوه أي السؤال كَما وأجاز الحوفي أن تكون ما موصولة في موضع المفعول به ل تَسْئَلُوا أي كالأشياء التي سئلها مُوسى عليه السلام قَبْلُ وهو الأنسب لأن الإنكار عليهم إنما هو لفساد المقترحات، وكونها في العاقبة وبالا عليهم- وفيه نظر- لأن المشبه أَنْ تَسْئَلُوا وهو مصدر، فالظاهر أن المشبه به كذلك، وقبح السؤال إنما هو لقبح المسئول عنه، بل قد يكون السؤال نفسه قبيحا في بعض الحالات مع أن المصدرية لا تحتاج إلى تقدير رابط- فهو أولى- ومِنْ قَبْلُ متعلق ب سُئِلَ وجيء به للتأكيد. وقرأ الحسن. وأبو السمال «سيل» - بسين مكسورة وياء- وأبو جعفر والزهري- بإشمام السين الضم وياء- وبعضهم بتسهيل- الهمزة- بين بين- وضم السين. وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ جملة مستقلة مشتملة على حكم كلي أخرجت مخرج المثل جيء بها لتأكيد النهي عن الاقتراح المفهوم من قوله: أَمْ تُرِيدُونَ إلخ معطوفة عليه، فهي تذييل له باعتبار أن المقترحين الشاكين من جملة- الضالين الطريق المستقيم المتبدلين- وسَواءَ بمعنى وسط أو مستوي، والإضافة من باب إضافة الوصف إلى الموصوف لقصد المبالغة في بيان قوة الاتصاف كأنه نفس- السواء- على منهاج حصول الصورة في الصورة الحاصلة- والفاء- رابطة وما بعدها لا يصح أن يكون جزاء الشرط لأن ضلال الطريق المستقيم متقدم على- الاستبدال- والارتداد لا يترتب عليه، ولأن الجزاء إذا كان ماضيا مع قد كان باقيا على مضيه لأن قد للتحقيق، وما تأكد ورسخ لا ينقلب، ولا يترتب الماضي على المستقبل، ولأن كون الشرط مضارعا والجزاء ماضيا صورة ضعيف لم يأت في الكتاب العزيز- على ما صرح به الرضيّ وغيره- فلا بد من التقدير بأن يقال: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فالسبب فيه أنه تركه، ويؤول المعنى إلى أن ضلال الطريق المستقيم- وهو الكفر الصريح في الآيات- سبب للتبديل والارتداد، وفسر بعضهم- التبدل- المذكور بترك الثقة بالآيات باعتبار كونه لازما له فيكون كناية عنه، وحاصل الآية حينئذ ومن يترك الثقة بالآيات البينة المنزلة بحسب المصالح التي من جملتها الآيات الناسخة التي هي خير محض، وحق بحت واقترح غيرها فقد عدل وجار من حيث لا يدري عن الطريق المستقيم الموصل إلى معالم الحق والهدى، وتاه في تيه الهوى، وتردى في مهاوي الردى، واختار ما في النظم الكريم إيذانا من أول الأمر على أبلغ وجه بأن ذلك كفر وارتداد، ولعل ما أشرنا إليه أولى كما لا يخفى على المتدبر، وقرىء وَمَنْ يُبَدِّلْ من- أبدل- وإدغام- الدال في الضاد- والإظهار قراءتان مشهورتان. وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وهم طائفة من أحبار اليهود قالوا للمسلمين بعد وقعة أحد: ألم تروا إلى ما أصابكم، ولو كنتم على الحق لما هزمتم، فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم، رواه الواحدي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه. وروي أن فنحاص بن عازوراء وزيد بن قيس ونفرا من اليهود قالوا ذلك لحذيفة رضي الله تعالى عنه من حديث طويل، وذكر الحافظ ابن حجر أنه لم يوجد في شيء من كتب الحديث لَوْ يَرُدُّونَكُمْ حكاية لودادتهم، وقد تقدم الكلام على لَوْ هذه فأغنى عن الإعادة مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً أي مرتدين، وهو حال من ضمير المخاطبين يفيد مقارنة الكفر بالرد فيؤذن بأن الكفر يحصل بمجرد الارتداد مع قطع النظر إلى ما يرد إليه، ولذا لم يقل- لو يردونكم- إلى الكفر، وجوز أن يكون حالا من فاعل وَدَّ واختار بعضهم أنه مفعول ثان- ليردونكم- على تضمين الرد معنى التصيير إذ منهم من لم يكفر حتى يرد إليه فيحتاج إلى التغليب كما في لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا [الأعراف: 88، ابراهيم: 13] على أن في ذلك يكون الكفر المفروض بطريق القسر وهو أدخل في الشناعة، وفي قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ مع أن الظاهر- عن- لأن الرد يستعمل بها تنصيص بحصول الإيمان لهم، وقيل: أورد متوسطا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 لإظهار كمال فظاعة ما أرادوه وغاية بعده عن الوقوع إما لزيادة قبحه الصاد للعاقل عن مباشرته، وإما لممانعة الإيمان له كأنه قيل: من بعد إيمانكم الراسخ، وفيه من تثبيت المؤمنين ما لا يخفى حَسَداً علة- لودّ- لا- ليردونكم- لأنهم يودون ارتدادهم مطلقا لا ارتدادهم المعلل بالحسد، وجوزوا أن يكون مصدرا منصوبا على الحال أي حاسدين ولم يجمع لأنه مصدر، وفيه ضعف لأن جعل المصدر حالا- كما قال أبو حيان- لا ينقاس. وقيل: يجوز أن يكون منصوبا على المصدر والعامل فيه محذوف يدل عليه المعنى أي حسدوكم حسدا وهو كما ترى مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ متعلق بمحذوف وقع صفة إما للحسد أي حسدا كائنا من أصل نفوسهم فكأنه ذاتي لها، وفيه إشارة إلى أنه بلغ مبلغا متناهيا، وهذا يؤكد أمر التنوين إذا جعل للتكثير أو التعظيم، وإما للوداد المفهوم من وَدَّ أي ودادا كائنا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ وتشهيهم لا من قبل التدبر والميل إلى الحق، وجعله ظرفا لغوا معمولا- لود- أو حَسَداً كما نقل عن مكي يبعده أنهما لا يستعملان بكلمة مِنْ كما قاله ابن الشجري مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ بالنعوت المذكورة في التوراة والمعجزات وهذا كالدليل على تخصيص الكثير بالأحبار لأن التبين بذلك إنما كان لهم لا للجهال، ولعل من قال: إن الودادة من عوامهم أيضا لئلا يبطل دينهم الذي ورثوه وتبطل رياسة أحبارهم الذين اعتقدوهم واتخذوهم رؤساء، فالمراد من الكثير جميعهم من كفارهم ومنافقيهم ويكون ذكره لإخراج من آمن منهم سرا وعلانية يدعي أن التبين حصل للجميع أيضا إلا أن أسبابه مختلفة متفاوتة وهذا هو الذي يغلب على الظن فإن من شاهد هاتيك المعجزات الباهرة والآيات الزاهرة يبعد منه كيفما كان عدم تبين الحق ومعرفة مطالع الصدق إلا أن الحظوظ النفسانية والشهوات الدنية والتسويلات الشيطانية حجبت من حجبت عن الإيمان وقيدت من قيدت في قيد الخذلان فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا العفو ترك عقوبة المذنب، والصفح ترك التثريب والتأنيث وهو أبلغ من العفو إذ قد يعفو الإنسان ولا يصفح، ولعله مأخوذ من تولية صفحة الوجه إعراضا أو من تصفحت الورقة إذا تجاوزت عما فيها. وآثر العفو على الصبر على اذاهم إيذانا بتمكين المؤمنين ترهيبا للكافرين. حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ هو واحد الأوامر والمراد به الأمر بالقتال بقوله سبحانه قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ إلى وَهُمْ صاغِرُونَ [التوبة: 29] أو الأمر بقتل قريظة وإجلاء بني النضير، وقيل: واحد الأمور، والمراد به القيامة. أو المجازاة يومها أو قوة الرسالة وكثرة الأمة، ومن الناس من فسر الصفح بالإعراض عنهم وترك مخالطتهم وجعل غاية العفو إتيان آية القتال وغاية الإعراض إتيان الله تعالى أمره، وفسره بإسلام من أسلم منهم- كما قاله الكلبي- وليس بشيء لأنه يستلزم أن يحمل الأمر على واحد الأوامر وواحد الأمور، وهو عند المحققين واقع بين الحقيقة والمجاز، وعن قتادة والسدي وابن عباس رضي الله تعالى عنهم إن الآية منسوخة بآية السيف واستشكل ذلك بأن النسخ لكونه بيانا لمدة الانتهاء بالنسبة إلى الشارع ودفعا للتأييد الظاهري من الإطلاق بالنسبة إلينا يقتضي أن يكون الحكم المنسوخ خاليا عن التوقيت والتأبيد فإنه لو كان مؤقتا كان الناسخ بيانا له بالنسبة إلينا أيضا ولو كان مؤبدا كان بدءا لا بيانا بالنسبة إلى الشارع، والأمر هاهنا مؤقت بالغاية وكونها غير معلومة يقتضي أن تكون آية القتال بيانا لإجماله وبذلك تبين ضعف ما أجاب به الإمام الرازي وتبعه فيه كثيرون من أن الغاية التي يتعلق بها الأمر إذا كانت لا تعلم إلا شرعا لم يخرج الوارد من أن يكون ناسخا ويحل محل فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا إلى أن أنسخه لكم فليس هذا مثل قوله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة: 187] وأما تأييد الطيبي له بحكم التوراة والإنجيل لأنه ذكر فيهما انتهاء مدة الحكم بهما بإرسال النبي الأمي بنحو قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ [الأعراف: 157] وكان ظهوره صلى الله تعالى عليه وسلم نسخا فيرد عليه ما في التلويح من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 أن الواقع فيهما البشارة بشرع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وإيجاب الرجوع إليه، وذلك لا يقتضي توقيت الأحكام لاحتمال أن يكون الرجوع إليه باعتبار كونه مفسرا أو مقررا أو مبدلا للبعض دون البعض فمن أين يلزم التوقيت بل هي مطلقة يفهم منها التأبيد فتبديلها يكون نسخا وأجيب عن الاستشكال بأنه لا يبعد أن يقال: إن القائلين بالنسخ أرادوا به البيان مجازا أو يقال: لعلهم فسروا الغاية بإماتتهم أو بقيام الساعة، والتأبيد إنما ينافي إطلاق الحكم إذا كان غاية للوجوب، وأما إذا كان غاية للواجب فلا، ويجري فيه النسخ عند الجمهور قاله مولانا الساليكوتي: إلا أن الظاهر لا يساعده فتدبر. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تذييل مؤكد لما فهم من سابقه، وفيه إشعار بالانتقام من الكفار ووعد للمؤمنين بالنصرة والتمكين، ويحتمل على بعد أن يكون ذكرا لموجب قبول أمره بالعفو والصفح وتهديدا لمن يخالف أمره وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ عطف على فاعفوا كأنه سبحانه أمرهم بالمخالقة (1) والالتجاء إليه تعالى بالعبادة البدنية والمالية لأنها تدفع عنهم ما يكرهون. وقول الطبري: إنهم أمروا هنا بالصلاة والزكاة ليحبط ما تقدم من ميلهم إلى قول اليهود راعِنا منحط عن درجة الاعتبار. وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ أي أي خير كان، وفي ذلك توكيد للأمر بالعفو والصفح، والصلاة والزكاة، وترغيب إليه، واللام نفعية، وتخصيص الخير بالصلاة، والصدقة خلاف الظاهر، وقرىء تقدموا من قدم من السفر، وأقدمه غيره جعله قادما، وهي قريب من الأولى لا من الاقدام ضد الاحجام. تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ أي تجدوا ثوابه لديه سبحانه فالكلام على حذف مضاف، وقيل: الظاهر أن المراد تجدوه في علم الله تعالى، والله تعالى عالم به إلا أنه بالغ في كمال علمه فجعل ثبوته في علمه بمنزلة ثبوت نفسه عنده وقد أكد تلك المبالغة بقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ حيث جعل جميع ما يعملون مبصرا له تعالى فعبر عن علمه تعالى بالبصر مع أن قليلا مما يعملون من المبصرات، وكأنه لهذا فسر الزمخشري البصير بالعالم، وأما قول العلامة إنه إشارة إلى نفي الصفات، وأنه ليس معنى السمع والبصر في حقه تعالى إلا تعلق ذاته بالمعلومات ففيه أن التفسير لا يفيد إلا أن المراد من البصير هاهنا العالم ولا دلالة على كونه نفس الذات أو زائدا عليه ولا على أن ليس معنى السمع والبصر في حقه تعالى سوى التعلق المذكور، وقرئ- «يعلمون» - بالياء والضمير حينئذ كناية عن كثير، أو عن أهل الكتاب فيكون تذييلا لقوله تعالى فَاعْفُوا إلخ مؤكدا لمضمون الغاية، والمناسب أن يكون وعيدا لأولئك ليكون تسلية، وتوطينا للمؤمنين بالعفو والصفح، وإزالة لاستبطاء إتيان الأمر، وجوز أن يكون كناية عن المؤمنين المخاطبين بالخطابات المتقدمة، والكلام وعيد للمؤمنين، ويستفاد من الالتفات الواقع من صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة، وهو النكتة الخاصة بهذا الالتفات ولا يخفى أنه كلام لا ينبغي أن يلتفت إليه وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى عطف على وَدَّ وما بينهما أعني فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا إما اعتراض بالفاء أو عطف على وَدَّ أيضا، وعطف الإنشاء على الاخبار فيما لا محل له من الإعراب بما سوى الواو جائز، والضمير- لأهل الكتاب- لا- لكثير منهم- كما يتبادر من العطف، والمراد بهم اليهود والنصارى جميعا، وكأن أصل الكلام- قالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هودا وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى- فلف بين هذين المقولين، وجعلا مقولا واحدا اختصارا وثقة بفهم السامع أن ليس المقصد أن كل واحد من الفريقين يقول هذا القول المردد، وللعلم   (1) المخالقة بالخاء المعجمة والقاف مفاعلة من الخلق الحسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 بتضليل كل واحد منهما صاحبه بل المقصد تقسيم القول المذكور بالنسبة إليهم فكلمة أَوْ كما في مغني اللبيب للتفصيل والتقسيم لا للترديد فلا غبار- وهود- جمع هائد كعوذ (1) جمع عائذ، وقيل: مصدر يستوي فيه الواحد وغيره، وقيل: إنه مخفف يهود بحذف الياء وهو ضعيف، وعلى القول بالجمعية يكون اسم كانَ مفردا عائدا علي مَنْ باعتبار لفظها، وجمع الخبر باعتبار معناها، وهو كثير في الكلام خلافا لمن منعه، ومنه قوله: وأيقظ من كان منكم نياما وقرأ أبيّ- يهوديا، أو نصرانيا- فحمل الخبر والاسم معا على اللفظ. تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ الأماني جمع أمنية وهي ما يتمنى- كالأضحوكة والأعجوبة- والجملة معترضة بين قولهم ذلك وطلب الدليل على صحة دعواهم، وتِلْكَ إشارة إلى لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إلخ وجمع الخبر مع أن ما أشير إليه أمنية واحدة ليدل على تردد الأمنية في نفوسهم وتكررها فيها، وقيل: إشعارا بأنها بلغت كل مبلغ لأن الجمع يفيد زيادة الآحاد فيستعمل لمطلق الزيادة وهذا من بديع المجاز ونفائس البيان وقيل: لا حاجة إلى هذا كله بل الجمع لأن تِلْكَ محتوية على أمان- أن لا يدخل الجنة إلا اليهود، وأن لا يدخل الجنة إلا النصارى- وحرمان المسلمين منها، وأيضا فقائله متعدد وهو باعتبار كل قائل أمنية وباعتبار الجميع أمان كثيرة، ومن الناس من جعلها إشارة إلى أن- لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم، وأن يردوهم كفارا، وأن لا يدخل الجنة غيرهم- وعليه يكون أمانيهم تغليبا لأن الأولين من قبيل المتمنيات حقيقة والثالث دعوى باطلة، وجوز أيضا أن تكون إشارة إلى ما في الآية على حذف المضاف أي أمثال تلك الأمنية أمانيهم فإن جعل الأماني بمعنى الأكاذيب، فإطلاق الأمنية على دعواهم على سبيل الحقيقة، وإن جعل بمعنى المتمنيات فعلى الاستعارة تشبيها بالمتمنى في الاستحالة، ولا يخفى ما في الوجهين من البعد لا سيما أولهما لأن كل جملة ذكر فيها- ودّهم- لشيء قد انفصلت وكملت واستقلت في النزول فيبعد جدا أن يشار إليها. قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ أي على ما ادعيتموه من اختصاصكم بدخول الجنة فهو متصل معنى بقوله تعالى: قالُوا لَنْ يَدْخُلَ إلخ على أنه جواب له لا غير، وهاتُوا بمعنى أحضروا والهاء أصلية لا بدل من همزة- آتوا- ولا للتنبيه وهي فعل أمر خلافا لمن زعم أنها اسم فعل أو صوت بمنزلة- ها- وفي مجيء الماضي والمضارع والمصدر من هذه المادة خلاف وأثبت أبو حيان- هاتى يهاتي مهاتاة- والبرهان الدليل على صحة الدعوى، قيل: هو مأخوذ من البرة وهو القطع فتكون النون زائدة، وقيل: من البرهنة وهو البيان فتكون النون أصلية لفقدان فعلن ووجود فعلل ويبنى على هذا الاشتقاق الخلاف في- برهان- إذا سمي به هل ينصرف أو لا؟ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ جواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله ومتعلق الصدق دعواهم السابقة لا- الإيمان- ولا- الأماني- كما قيل، وأفهم التعليق أنه لا بد من البرهان للصادق ليثبت دعواه، وعلل بأن كل قول لا دليل عليه غير ثابت عند الخصم فلا يعتد به، ولذا قيل: من ادعى شيئا بلا شاهد لا بد أن تبطل دعواه، وليس في الآية دليل على منع التقليد فإن دليل المقلد دليله كما لا يخفى، وتفسير الصدق هنا بالصلاح مما لا يدعو إليه سوى فساد الذهن بَلى رد لقولهم الذي زعموه وإثبات لما تضمنه من نفي دخول غيرهم الجنة. والقول بأنه رد لما أشار إليه قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ من نفي أن يكون لهم برهان مما لا وجه له ولا برهان عليه مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ أي انقاد لما قضى الله تعالى وقدر، أو أخلص له نفسه أو قصده فلم يشرك به تعالى غيره، أو لم يقصد سواه فالوجه إما مستعار للذات وتخصيصه بالذكر لأنه أشرف الأعضاء ومعدن   (1) قوله: عوذ هي حديثات النتاج من الظباء والإبل والخيل اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 الحواس. وإما مجاز عن القصد لأن القاصد للشيء مواجه له وَهُوَ مُحْسِنٌ حال من ضمير أَسْلَمَ أي والحال انه محسن في جميع أعماله، وإذا أريد بما تقدم الشرك يؤول المعنى إلى «آمن وعمل الصالحات» وقد فسر النبي صلّى الله عليه وسلّم الإحسان بقوله: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» فَلَهُ أَجْرُهُ أي الذي وعد له على ذلك لا الذي يستوجبه كما قاله الزمخشري رعاية لمذهب الاعتزال، والتعبير عما وعد بالأجر إيذانا بقوة ارتباطه بالعمل عِنْدَ رَبِّهِ حال من أجره والعامل فيه معنى الاستقرار، والعندية للتشريف، والمراد عدم الضياع والنقصان، وأتى- بالرب- مضافا إلى ضمير مَنْ أَسْلَمَ إظهارا لمزيد اللطف به وتقريرا لمضمون الجملة، والجملة جواب مَنْ إن كانت شرطية وخبرها إن كانت موصولة والفاء فيها لتضمنها معنى الشرط، وعلى التقديرين يكون الرد بَلى وحده وما بعده كلام مستأنف كأنه قيل إذا بطل ما زعموه فما الحق في ذلك، وجوز أن تكون مَنْ موصولة فاعل ليدخلها محذوفا، وبَلى مع ما بعدها رد لقولهم، ويكون فَلَهُ أَجْرُهُ معطوفا على ذلك المحذوف عطف الاسمية على الفعلية لأن المراد بالأولى التجدد، وبالثانية الثبوت، وقد نص السكاكي بأن الجملتين إذا اختلفتا تجددا وثبوتا يراعى جانب المعنى فيتعاطفان وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ تقدم مثله والجمع في الضمائر الثلاثة باعتبار معنى مَنْ كما أن الإفراد في الضمائر الأول باعتبار اللفظ، ويجوز في مثل هذا العكس إلا أن الأفصح أن يبدأ بالحمل على اللفظ ثم بالحمل على المعنى لتقدم اللفظ عليه في الإفهام. وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ المراد يهود المدينة ووفد نصارى نجران تماروا عند رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم وتسابوا وأنكرت اليهود الإنجيل ونبوة عيسى عليه السلام وأنكر النصارى التوراة ونبوة موسى عليه السلام. فأل في الموضعين للعهد. وقيل: المراد عامة اليهود وعامة النصارى وهو من الإخبار عن الأمم السالفة، وفيه تقريع لمن بحضرته صلى الله تعالى عليه وسلم وتسلية له عليه الصلاة والسلام إذ كذبوا بالرسل والكتب قبله فأل في الموضعين للجنس، والأول هو المروي في أسباب النزول، وعليه يحتمل أن يكون القائل كل واحد من آحاد الطائفتين وهو الظاهر، ويحتمل أن يكون المراد بذلك رجلين رجل من اليهود يقال له نافع بن حرملة ورجل من نصارى نجران ونسبة ذلك للجميع حيث وقع من بعضهم وهي طريقة معروفة عند العرب في نظمها ونثرها. وهذا بيان لتضليل كل فريق صاحبه بخصوصه إثر بيان تضليله كل من عداه على وجه العموم، وعَلى شَيْءٍ خبر ليس، وهو عند بعض من باب حذف الصفة أي شيء يعتد به في الدين لأنه من المعلوم أن كلّا منهما على شيء، والأولى عدم اعتبار الحذف، وفي ذلك مبالغة عظيمة لأن الشيء- كما يشير إليه كلام سيبويه- ما يصح أن يعلم ويخبر عنه فإذا نفي مطلقا كان ذلك مبالغة في عدم الاعتداد بما هم عليه وصار كقولهم- أقل من لا شيء- وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ حال من الفريقين بجعلهما فاعل فعل واحد لئلا يلزم إعمال عاملين في معمول واحد أي قالوا ذلك وهم عالمون بما في كتبهم الناطقة بخلاف ما يقولون، وفي ذلك توبيخ لهم وإرشاد للمؤمنين إلى أن من كان عالما بالقرآن لا ينبغي أن يقول خلاف ما تضمنه، والمراد من الْكِتابَ الجنس فيصدق على التوراة والإنجيل، وقيل: المراد به التوراة لأن النصارى تمتثلها أيضا. كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ وهم مشركو العرب في قول الجمهور، وقيل: مشركو قريش، وقيل: هم أمم كانوا قبل اليهود والنصارى، وأما القول بأنهم اليهود وأعيد قولهم مثل قول النصارى ونفي عنهم العلم حيث لم ينتفعوا به فالظاهر أنه قول الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ والكاف من كَذلِكَ في موضع نصب على أنه نعت لمصدر محذوف منصوب ب قالَ مقدم عليه أي قولا مثل قول اليهود والنصارى قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ويكون مِثْلَ قَوْلِهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 على هذا منصوبا ب يَعْلَمُونَ والقول بمعنى الاعتقاد، أو يقال على أنه مفعول به أو بدل من محل الكاف، وقيل: كَذلِكَ مفعول به ومِثْلَ مفعول مطلق، والمقصود تشبيه المقول بالمقول في المؤدي والمحصول، وتشبيه القول بالقول في الصدور عن مجرد التشهي والهوى والعصبية، وجوزوا أن تكون الكاف في موضع رفع بالابتداء والجملة بعده خبر والعائد محذوف أي قاله، ومِثْلَ صفة مصدر محذوف، أو مفعول يَعْلَمُونَ ولا يجوز أن يكون مفعول قالَ لأنه قد استوفى مفعوله، واعترض هذا بأن حذف العائد- على المبتدأ الذي لو قدر خلو الفعل عن الضمير لنصبه- مما خصه الكثير بالضرورة ومثلوا له بقوله: وخالد يحمد ساداتنا ... بالحق «لا تحمد» بالباطل وقيل: عليه وعلى ما قبله أن استعمال الكاف اسما وإن جوزه الأخفش إلا أن جماعة خصوه بضرورة الشعر مع أنه قد يؤول ما ورد منه فيه على أنه لا يخفى ما في توجيه التشبيهين دفعا لتوهم اللغوية من التكلف والخروج عن الظاهر، ولعل الأولى أن يجعل مِثْلَ قَوْلِهِمْ إعادة لقوله تعالى: كَذلِكَ للتأكيد والتقرير كما في قوله تعالى: جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ [يوسف: 75] وبه قال بعض المحققين، وقد يقال: إن كذلك ليست للتشبيه هنا بل لإفادة أن هذا الأمر عظيم مقرر، وقد نقل الوزير عاصم بن أيوب في شرح قول زهير: «كذلك» خيمهم ولكل قوم ... إذا مستهم الضراء خيم عن الإمام الجرجاني ان كَذلِكَ تأتي للتثبيت إما لخبر مقدم وإما لخبر متأخر وهي نقيض كلا لأن كلا تنفي، وكذلك تثبت ومثله كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ [الحجر: 12] وفي شرح المفتاح الشريفي انه ليس المقصود من التشبيهات هي المعاني الوضعية فقط إذ تشبيهات البلغاء قلما تخلو من مجازات وكنايات فنقول: إنا رأيناهم يستعملون كذا وكذا للاستمرار تارة نحو عدل زيد في قضية فلان كذا وهكذا أي عدل مستمر، وقال الحماسي: «هكذا» يذهب الزمان ويفنى ال ... علم فيه ويدرس الأثر نص عليه التبريزي في شرح الحماسة وله شواهد كثيرة، وقال في شرح قول أبي تمام: كذا فليجلّ الخطب وليفدح الأمر إنه للتهويل والتعظيم وهو في صدر القصيدة لم يسبق ما يشبه به، وسيأتي لذلك تتمة إن شاء الله تعالى، وإنما جعل قول أولئك مشبها به لأنه أقبح إذ الباطل من العالم أقبح منه من الجاهل، وبعضهم يجعل التشبيه على حد إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا [البقرة: 275] وفيه من المبالغة والتوبيخ على التشبه بالجهال ما لا يخفى وإنما وبخوا، وقد صدقوا إذ كلا الدينين بعد النسخ ليس بشيء لأنهم لم يقصدوا ذلك وإنما قصد كل فريق إبطال دين الآخر من أصله والكفر بنبيه وكتابه على أنه لا يصح الحكم بأن كلا الدينين بعد النسخ ليس بشيء يعتد به لأن المتبادر منه أن لا يكون كذلك في حد ذاته وما لا ينسخ منهما حق واجب القبول والعمل فيكون شيئا معتدا به في حد ذاته وإن يكن شيئا بالنسبة إليهم لأنه لا انتفاع بما لم ينسخ مع الكفر بالناسخ. فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي بين اليهود والنصارى لا بين الطوائف الثلاثة لأن مساق النظم لبيان حال تينك الطائفتين والتعرض لمقالة غيرهم لإظهار كمال بطلان مقالهم والحكم الفصل والقضاء وهو يستدعي جارين فيقال: حكم القاضي في هذه الحادثة بكذا، وقد حذف هنا أحدهما اختصارا وتفخيما لشأنه أي بما يقسم لكل فريق ما يليق به من العذاب، والمتبادر من الحكم بين فريقين أن يحكم لأحدهما بحق دون الآخر فكأن استعماله بما ذكر مجاز، وقال الحسن: المراد بالحكم بين هذين الفريقين تكذيبهم وإدخالهم النار وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 ذلك تشريك في حكم واحد وهو بعيد عن حقيقة الحكم، ويَوْمَ متعلق ب يَحْكُمُ وكذا ما بعده ولا ضير لاختلاف المعنى، وفيه متعلق ب يَخْتَلِفُونَ لا ب كانُوا وقدم عليه للمحافظة على رؤوس الآي. «ومن باب الإشارة في الآيات» ما ننسخ من آية أي ما نزيل من صفاتك شيئا عن ديوان قلبك أو نخفيه بإشراق أنوارنا عليه إلا ونرغم فيه من صفاتنا التي لا تظن قابليتك لما يشاركها في الاسم والتي تظن وجود ما لا يشاركها فيك أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ عالم الأرواح وأرض الأجساد وهو المتصرف فيهما بيد قدرته بل العوالم على اختلافها ظاهر شؤون ذاته ومظهر أسمائه وصفاته فلم يبق شيء غيره ينصركم ويليكم أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رسول العقل من اللذات الدنية والشهوات الدنيوية كَما سُئِلَ مُوسى القلب مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الظلمة بالنور فقد ضل الطريق المستقيم وقالت اليهود لن يدخل الجنة المعهودة عندهم وهي جنة الظاهر وعالم الملك التي هي جنة الأفعال وجنة النفس إلا من كان هودا وقالت النصارى لن يدخل الجنة المعهودة عندهم وهي جنة الباطن وعالم الملكوت التي هي جنة الصفات وجنة القلب إلا من كان نصرانيا، ولهذا قال عيسى عليه السلام: لن يلج ملكوت السماوات من لم يولد مرتين تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ أي غاية مطالبهم التي وقفوا على حدها واحتجبوا بها عما فوقها قُلْ هاتُوا دليلكم الدال على نفي دخول غيركم إِنْ كُنْتُمْ صادقين في دعواكم بل الدليل دل على نقيض مدعاكم فإن مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ وخلص ذاته من جميع لوازمها وعوارضها لله تعالى بالتوحيد الذاتي عند المحو الكلي وهو مستقيم في أحواله بالبقاء بعد الفناء مشاهد ربه في أعماله راجع من الشهود الذاتي إلى مقام الإحسان الصفاتي الذي هو المشاهدة للوجود الحقاني فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ أي ما ذكرتم من الجنة وأصفى لاختصاصه بمقام العندية التي حجبتم عنها ولهم زيادة على ذلك هي عدم خوفهم من احتجاب الذات وعدم حزنهم على ما فاتهم من جنة الأفعال والصفات التي حجبتم بالوقوف عندها وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ لاحتجابهم بالباطن عن الظاهر وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ لاحتجابهم عن الباطن بالظاهر وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ وفيه ما يرشدهم إلى رفع الحجاب ورؤية حقية كل مذهب في مرتبته كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ المراتب مِثْلَ قَوْلِهِمْ فخطأ كل فرقة منهم الفرقة الأخرى ولم يميزوا بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية ولم يعرفوا وجه الحق في كل مرتبة من مراتب الوجود فالله تعالى الجامع لجميع الصفات على اختلاف مراتبها وتفاوت درجاتها يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ بالحق في اختلافاتهم يوم قيام القيامة الكبرى وظهور الوحدة الذاتية وتجلي الرب بصور المعتقدات حتى ينكرونه فلا يسجد له إلا من لم يقيده سبحانه حتى بقيد الإطلاق وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ نزلت في طيطوس بن إسيانوس الرومي وأصحابه وذلك أنهم غزوا بني إسرائيل فقتلوا مقاتليهم وسبوا ذراريهم وحرقوا التوراة وخربوا بيت المقدس وقذفوا فيه الجيف وذبحوا فيه الخنازير وبقي خرابا إلى أن بناه المسلمون في أيام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وروى عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في مشركي العرب منعوا المسلمين من ذكر الله تعالى في المسجد الحرام، وعلى الأول تكون الآية معطوفة على قوله تعالى: وَقالَتِ النَّصارى عطف قصة على قصة تقريرا لقبائحهم، وعلى الثاني تكون اعتراضا بأكثر من جملة بين المعطوف أعني قالوا اتخذوا المعطوف عليه أعني قالت اليهود لبيان حال المشركين الذين جرى ذكرهم بيانا لكمال شناعة أهل الكتاب فإن المشركين الذين يضاهونهم إذا كانوا أظلم الكفرة، وظاهر الآية العموم في كل مانع وفي كل مسجد وخصوص السبب لا يمنعه، و «أظلم» أفعل تفضيل خبر عن- من- ولا يراد بالاستفهام حقيقته وإنما هو بمعنى النفي فيؤول إلى الخبر أي لا أحد أظلم من ذلك واستشكل بأن هذا التركيب قد تقرر في القرآن وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 [الكهف: 57] فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الإنعام: 21، 93، 144، الأعراف: 37، يونس: 17] فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ [الإنعام: 157، الزمر: 32] إلى غير ذلك فإذا كان المعنى على هذا لزم التناقض وأجيب بالتخصيص إما بما يفهم من نفس الصلات أو بالنسبة إلى من جاء بعد من ذلك النوع ويؤول معناه إلى السبق في المانعية أو الافترائية مثلا، واعترض بأن ذلك بعد عن مدلول الكلام ووضعه العربي وعجمة في اللسان يتبعها استعجام المعنى، فالأولى أن يجاب بأن ذلك لا يدل على نفي التسوية في الأظلمية وقصارى ما يفهم من الآيات أظلمية أولئك المذكورين فيها ممن عداهم كما أنك إذا قلت لا أحد أفقه من زيد وعمرو وخالد لا يدل على أكثر من نفي أن يكون أحد أفقه منهم وأما أنه يدل على أن أحدهم أفقه من الآخر فلا، ولا يرد أن من منع مساجد الله مثلا ولم يفتر على الله كذبا أقل ظلما ممن جمع بينهما فلا يكون مساويا في الأظلمية لأن هذه الآيات إنما هي في الكفار وهم متساوون فيها إذ الكفر شيء واحد لا يمكن فيه الزيادة بالنسبة لأفراد من اتصف به وإنما تمكن بالنسبة لهم ولعصاة المؤمنين بجامع ما اشتركوا فيه من المخالفة قاله أبو حيان، ولا يخفى ما فيه. وقد قال غير واحد إن قولك: من أظلم ممن فعل كذا إنكار لأن يكون أحد أظلم منه أو مساويا له وإن لم يكن سبك التركيب متعرضا لإنكار المساواة ونفيها إلا أن العرف الفاشي والاستعمال المطرد يشهد له فإنه إذا قيل من أكرم من فلان أو لا أفضل من فلان فالمراد به حتما أنه أكرم من كل كريم وأفضل من كل فاضل فلعل الأولى الرجوع إلى أحد الجوابين مع ملاحظة الحيثية وإن جعلت ذلك الكلام مخرجا مخرج المبالغة في التهديد والزجر مع قطع النظر عن نفي المساواة أو الزيادة في نفس الأمر كما قيل به محكما العرف أيضا زال الاشكال وارتفع القيل والقال فتدبر أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ مفعول ثان لمنع أو مفعول من أجله بمعنى منعها كراهية أَنْ يُذْكَرَ أو بدل اشتمال من مساجد والمفعول الثاني إذن مقدر أي عمارتها أو العبادة فيها أو نحوه أو الناس مساجد الله تعالى أو لا تقدير والفعل متعد لواحد وكني بذكر اسم الله تعالى عما يوقع في المساجد من الصلوات والتقربات إلى الله تعالى بالأفعال القلبية والقالبية المأذون بفعلها فيها. وَسَعى فِي خَرابِها أي هدمها وتعطيلها، وقال الواحدي: إنه عطف تفسير لأن عمارتها بالعبادة فيها أُولئِكَ الظالمون المانعون الساعون في خرابها. ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ- اللام- في لَهُمْ إما للاختصاص- على وجه اللياقة- كما في الجل للفرس، والمراد من- الخوف- الخوف من الله تعالى، وإما للاستحقاق كما في- الجنة للمؤمن- والمراد من- الخوف- الخوف من المؤمنين، وإما لمجرد الارتباط بالحصول، أي ما كانَ لَهُمْ في علم الله تعالى وقضائه أَنْ يَدْخُلُوها فيما سيجيء إِلَّا خائِفِينَ والجملة «على الأول» مستأنفة جواب لسؤال نشأ من قوله تعالى: وَسَعى فِي خَرابِها كأنه قيل: فما اللائق بهم؟ والمراد من- الظلم- حينئذ وضع الشيء في غير موضعه. «وعلى الثاني» جواب سؤال ناشىء من قوله سبحانه: مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ كأنه قيل: فما كان حقهم؟ والمراد من- الظلم- التصرف في حق الغير «وعلى الثالث» اعتراض بين كلامين متصلين معنى، وفيه وعد المؤمنين بالنصرة وتخليص- المساجد- عن الكفار- وللاهتمام بذلك وسطه- وقد أنجز الله تعالى وعده والحمد لله فقد روي أنه لا يدخل بيت المقدس أحد من النصارى إلا متنكرا مسارقة، وقال قتادة: لا يوجد نصراني في بيت المقدس إلا انتهك ضربا، وأبلغ إليه في العقوبة ولا نقض باستيلاء الأقرع، وبقاء بيت المقدس في أيدي النصارى أكثر من مائة سنة إلى أن استخلصه الملك صلاح الدين لأن الإنجاز يستدعي تحقيقه في وقت ما، ولا دلالة فيه على التكرار، وقيل: النفي بمعنى النهي- ومعناه على طريق الكناية- النهي عن التخلية والتمكين من دخولهم المساجد، وذلك يستلزم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 - أن لا يدخلوها إلا خائفين- من المؤمنين، فذكر اللازم وأريد الملزوم، ولا يخفى أن النهي عن التخلية والتمكين المذكور في وقت قوة الكفار ومنعهم المساجد لا فائدة فيه سوى الاشعار بوعد المؤمنين بالنصرة والاستخلاص منهم، فالحمل عليه من أول الأمر أولى، واختلف الأئمة في دخول الكفار المسجد، فجوّزه الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه مطلقا للآية- فإنها تفيد دخولهم بخشية وخشوع- ولأن وفد ثقيف قدموا عليه عليه الصلاة والسلام فأنزلهم المسجد، ولقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل الكعبة فهو آمن» والنهي محمول على التنزيه أو الدخول للحرم بقصد الحج، ومنعه مالك رضي الله تعالى عنه مطلقا لقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة: 28] والمساجد يجب تطهيرها عن النجاسات، ولذا يمنع الجنب عن الدخول- وجوّزه لحاجة- وفرق الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه بين المسجد الحرام وغيره وقال: الحديث منسوخ بالآية، وقرأ عبد الله «إلا خيفا» وهو مثل لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ أي عظيم بقتل أبطالهم وأقيالهم، وكسر أصنامهم، وتسفيه أحلامهم، وإخراجهم من جزيرة العرب التي هي دار قرارهم، ومسقط رؤوسهم، أو بضرب الجزية على أهل الذمة منهم وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ وهو عذاب النار لما أن سببه أيضا، وهو ما حكي من ظلمهم- كذلك في العظم- وتقديم الظرف في الموضعين للتشويق لما يذكر بعده. «ومن باب الإشارة في الآية» ومن أبخس حظا وأنقص حقا «ممن منع» مواضع السجود لله تعالى وهي القلوب التي يعرف فيها فيسجد له بالفناء الذاتي أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ الخاص الذي هو الاسم الأعظم، إذ لا يتجلى بهذا الاسم إلا في القلب- وهو التجلي بالذات مع جميع الصفات- أو اسمه المخصوص بكل واحد منها، أي الكمال اللائق باستعداده المقتضي له وَسَعى فِي خَرابِها بتكديرها بالتعصبات وغلبة الهوى، ومنع أهلها بتهييج الفتن اللازمة لتجاذب قوى النفس، ودواعي الشيطان والوهم أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها ويصلوا إليها إِلَّا خائِفِينَ منكسرين لظهور تجلي الحق فيها لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وافتضاح وذلة بظهور بطلان ما هم عليه وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ وهو احتجابهم عن الحق سبحانه وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ أي الناحيتان المعلومتان المجاورتان لنقطة تطلع منها الشمس وتغرب، وكنى بمالكيتهما عن مالكية كل الأرض، وقال بعضهم: إذا كانت الأرض كروية يكون كل مشرق بالنسبة مغربا بالنسبة- والأرض كلها كذلك- فلا حاجة إلى التزام الكناية، وفيه بعد فَأَيْنَما تُوَلُّوا أي ففي أي مكان فعلتم التولية شطر القبلة، وقرأ الحسن تُوَلُّوا على الغيبة فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أي فهناك جهته سبحانه التي أمرتم بها، فإذا مكان- التولية- لا يختص بمسجد دون مسجد ولا مكان دون آخر فَأَيْنَما ظرف لازم الظرفية متضمن لمعنى الشرط وليس مفعولا ل تُوَلُّوا- والتولية- بمعنى الصرف منزل منزلة اللازم، وثم اسم إشارة للمكان البعيد خاصة- مبني على الفتح- ولا يتصرف فيه يغير- من- وقد وهم من أعربه مفعولا به في قوله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً [الإنسان: 20] وهو خبر مقدم، وما بعده مبتدأ مؤخر، والجملة جواب الشرط- والوجه- الجهة- كالوزن والزنة- واختصاص الإضافة باعتبار كونها مأمورا بها، وفيها رضاه سبحانه، وإلى هذا ذهب الحسن ومقاتل ومجاهد وقتادة، وقيل: الوجه بمعنى الذات مثله في قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] إلا أنه جعل هنا كناية عن عمله واطلاعه مما يفعل هناك، وقال أبو منصور: بمعنى الجاه، ويؤول إلى الجلال والعظمة، والجملة- على هذا- اعتراض لتسلية قلوب المؤمنين بحل الذكر والصلاة في جميع الأرض- لا في المساجد خاصة- وفي الحديث الصحيح «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» ولعل غيره عليه الصلاة والسلام لم تبح له الصلاة في غير البيع والكنائس، وصلاة عيسى عليه السلام- في أسفاره- في غيرها كانت عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 ضرورة- فلا حاجة إلى القول باختصاص المجموع- وجوّز أن تكون «أينما» مفعول تُوَلُّوا بمعنى الجهة، فقد شاع في الاستعمال «أينما» توجهوا، بمعنى أي جهة توجهوا- بناء على ما روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما- أن الآية نزلت في صلاة المسافر (1) والتطوع على الراحلة، وعلى ما روي عن جابر أنها نزلت في قوم عميت عليهم- القبلة- في غزوة كانت فيها معهم، فصلوا إلى الجنوب والشمال، فلما أصبحوا تبين خطؤهم، ويحتمل- على هاتين الروايتين- أن تكون «أينما» كما في الوجه الأول أيضا، ويكون المعنى في أي مكان فعلتم أي- تولية- لأن حذف المفعول به يفيد العموم، واقتصر عليه بعضهم مدعيا أن ما تقدم لم يقل به أحد من أهل العربية، ومن الناس من قال: الآية توطئة لنسخ القبلة، وتنزيه للمعبود أن يكون في حين وجهة، وإلا لكانت أحق بالاستقبال، وهي محمولة على العموم غير مختصة بحال السفر أو حال التحري، والمراد ب «أينما» أي جهة، وبالوجه الذات. ووجه الارتباط حينئذ أنه لما جرى ذكر- المساجد- سابقا أورد بعدها تقريبا حكم- القبلة- على سبيل الاعتراض، وادعى بعضهم أن هذا أصح الأقوال، وفيه تأمل إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ أي محيط بالأشياء ملكا أو رحمة، فلهذا- وسع- عليكم- القبلة- ولم يضيق عليكم عَلِيمٌ بمصالح العباد وأعمالهم في الأماكن، والجملة على الأول تذييل لمجموع وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ إلخ وعلى الثاني تذييل لقوله سبحانه فَأَيْنَما تُوَلُّوا إلخ، ومن الغريب جعل ذلك تهديدا.. لمن منع مساجد الله- وجعل الخطاب المتقدم لهم أيضا، فيؤول المعنى إلى أنه لا مهرب من الله تعالى لمن طغى، ولا مفر لمن بغى، لأن فلك سلطانه حدد الجهات، وسلطان علمه أحاط بالأفلاك الدائرات. أين المفر ولا مفر لهارب ... وله البسيطان الثرى والماء ومن باب الإشارة أن المشرق عبارة عن عالم النور والظهور وهو جنة النصارى وقبلتهم بالحقيقة باطنه، والمغرب عالم الأسرار والخفاء وهو جنة اليهود وقبلتهم بالحقيقة باطنه، أو المشرق عبارة عن إشراقه سبحانه على القلوب بظهور أنواره فيها والتجلي لها بصفة جماله حالة الشهود، والمغرب عبارة عن الغروب بتستره واحتجابه واختفائه بصفة جلاله حالة البقاء بعد الفناء ولله تعالى كل ذلك فأي جهة يتوجه المرء من الظاهر والباطن فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ المتحلي بجميع الصفات المتجلي بما شاء منزها عن الجهات وقد قال قائل القوم: وما الوجه إلا واحد غير أنه ... إذا أنت عددت المرايا تعددا إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ لا يخرج شيء عن إحاطته عَلِيمٌ فلا يخفى عليه شيء من أحوال خليقته ومظاهر صفته. وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً نزلت في اليهود حيث- قالوا عزيز ابن الله- وفي نصارى نجران حين قالوا الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وفي مشركي العرب حيث قالوا- الملائكة بنات الله- فالضمير لما سبق ذكره من النصارى واليهود والمشركين الذين لا يعلمون، وعطفه على قالَتِ الْيَهُودُ وقال أبو البقاء على وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وجوز أن يكون عطفا على منع أو على مفهوم- من أظلم- دون لفظه للاختلاف إنشائية وخبرية. والتقدير ظلموا ظلما شديدا بالمنع، وقالوا: وإن جعل من عطف القصة على القصة لم يحتج إلى تأويل، والاستئناف حينئذ بياني كأنه قيل بعد ما عدد من قبائحهم هل انقطع خيط إسهابهم في الافتراء على الله تعالى أم امتد؟ فقيل: بل امتد فإنهم قالوا ما هو أشنع وأفظع، والاتخاذ- إما بمعنى الصنع والعمل فلا يتعدى إلا إلى واحد. وإما بمعنى التصيير، والمفعول الأول محذوف أي صير بعض مخلوقاته ولدا، وقرأ ابن عباس، وابن عامر. وغيرهما- قالوا- بغير واو على الاستئناف أو   (1) بالمعنى اللغوي أي الخارج عن العمران اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 ملحوظا فيه معنى العطف، واكتفى بالضمير، والربط به عن الواو كما في البحر سُبْحانَهُ تنزيه وتبرئة له تعالى عما قالوا: بأبلغ صيغة ومتعلق- سبحان- محذوف كما ترى لدلالة الكلام عليه. بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إبطال لما زعموه وإضراب عما تقتضيه مقالتهم الباطلة من التشبيه بالمحدثات في التناسل والتوالد، والحاجة إلى الولد في القيام بما يحتاج الوالد إليه، وسرعة الفناء لأنه لازم للتركيب اللازم للحاجة، وكل محقق قريب سريع، ولأن الحكمة في التوالد هو أن يبقى النوع محفوظا بتوارد الأمثال فيما لا سبيل إلى بقاء الشخص بعينه مدة بقاء الدهر. وكل ذلك يمتنع على الله تعالى فإنه الأبدي الدائم والغني المطلق المنزه عن مشابهة المخلوقات. واللام في لَهُ قيل للملك، وقيل: إنها كالتي في قولك لزيد- ضرب- تفيد نسبة الأثر إلى المؤثر، وقيل: للاختصاص بأي وجه كان، وهو الأظهر، والمعنى ليس الأمر كما افتروا بل هو خالق جميع الموجودات التي من جملتها ما زعموه ولدا، والخالق لكل موجود لا حاجة له إلى الولد إذ هو يوجد ما يشاء منزها عن الاحتياج إلى التوالد كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ أي كل ما فيهما كائنا ما كان جميعا منقادون له لا يستعصي شيء منهم على مشيئته وتكوينه إيجادا وإعداما وتغيرا من حال إلى حال، وهذا يستلزم الحدوث والإمكان المنافي للوجوب الذاتي فكل من كان متصفا بهذه الصفة لا يكون والدا لأن من حق الولد أن يشارك والده في الجنس لكونه بعضا منه، وإن لم يماثله، وكان الظاهر كلمة من مع قانِتُونَ كيلا يلزم اعتبار التغليب فيه، ويكون موافقا لسوق الكلام فإن الكلام في العزير والمسيح والملائكة وهم عقلاء إلا أنه جاء بكلمة ما المختصة بغير أولي العلم كما قاله بعضهم: محتجا بقصة الزبعرى مخالفا لما عليه الرضيّ من أنها في الغالب لما يعلم، ولما عليه الأكثرون من عمومها كما في التلويح، واعتبر التغليب في قانِتُونَ إشارة إلى أن هؤلاء الذين جعلوهم ولد الله تعالى سبحانه وتعالى في جنب عظمته جمادات مستوية الأقدام معها في عدم الصلاحية لاتخاذ الولد، وقيل: أتى بما في الأول لأنه إشارة إلى مقام الألوهية، والعقلاء فيه بمنزلة الجمادات، وبجمع العقلاء في الثاني لأنه إشارة إلى مقام العبودية، والجمادات فيه بمنزلة العقلاء. ويحتمل أن يقدر المضاف إليه كل ما جعلوه ولدا لدلالة المقول لا عاما لدلالة مبطلة، ويراد بالقنوت الانقياد لأمر التكليف كما أنه على العموم الانقياد لأمر التكوين، وحينئذ لا تغليب في قانِتُونَ وتكون الجملة إلزاما بأن ما زعموه ولدا مطيع لله تعالى مقر بعبوديته بعد إقامة الحجة عليهم بما سبق، وترك العطف للتنبيه على استقلال كل منهما في الدلالة على الفساد واختلافهما في كون أحدهما حجة والآخر إلزاما، وعلى الأول يكون الأخير مقررا لما قبله، وذكر الجصاص أن في هذه الآية دلالة على أن ملك الإنسان لا يبقى على ولده لأنه نفي الولد بإثبات الملك باعتبار أن اللام له فمتى ملك ولده عتق عليه، وقد حكم صلى الله تعالى عليه وسلم بمثل ذلك في الوالد إذا ملكه ولده ولا يخفى أن هذا بعيد عما قصد بالآية لا سيما إذا كان الأظهر الاختصاص كما علمت بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي مبدعهما فهو فعيل من أفعل وكان الأصمعي ينكر فعيلا بمعنى مفعل، وقال ابن بري: قد جاء كثيرا نحو مسخن وسخين. ومقعد وقعيد. وموصى ووصي. ومحكم وحكيم. ومبرم وبريم. ومونق وأنيق في أخوات له، ومن ذلك السميع في بيت عمرو بن معديكرب السابق. والاستشهاد بناء على الظاهر المتبادر على ما هو الأليق بمباحث العربية فلا يرد ما قيل في البيت لأنه على خلافه كما لا يخفى على المنصف، وقيل: هو من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها للتخفيف أي بديع سماواته. وأنت تعلم أنه قد تقرر أن الصفة إذا أضيفت إلى الفاعل يكون فيها ضمير يعود إلى الموصوف فلا تصح الإضافة إلا إذا صح اتصاف الموصوف بها نحو- حسن الوجه- حيث يصح اتصاف الرجل بالحسن لحسن وجهه بخلاف حسن الجارية وإنما صح زيد كثير الإخوان لاتصافه بأنه متقوّ بهم. وفيما نحن فيه- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 وإن امتنع اتصافه بالصفة المذكورة- لكن يصح اتصافه بما دلت عليه وهو كونه مبدعا لهما. وهذا يقتضي أن يكون الأولى بقاء المبدع على ظاهره وهو الذي عليه أساطين أهل اللغة، والإبداع اختراع الشيء لا عن مادة ولا في زمان، ويستعمل ذلك في إيجاده تعالى للمبادىء- كما قاله الراغب وهو غير الصنع إذ هو تركيب الصورة بالعنصر ويستعمل في إيجاد الأجسام وغير التكوين فإنه ما يكون بتغير وفي زمان غالبا وإذا أريد من السماوات والأرض جميع ما سواه تعالى من المبدعات والمصنوعات والمكونات لاحتوائها على عالم الملك والملكوت فبعد اعتبار التغليب يصح إطلاق كل من الثلاثة إلا أن لفظ الإبداع أليق لأنه يدل على كمال قدرته تعالى، والقول بتعين حمل الإبداع على التكوين من مادة أو أجزاء لأن إيجاد السماوات من شيء كما يشير إليه قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ [فصلت: 11] ناشىء من الغفلة عما ذكرنا، والآية حجة أخرى لإبطال تلك المقالة الشنعاء، وتقريرها أنه تعالى مبدع لكل ما سواه فاعل على الإطلاق، ولا شيء من الوالد كذلك ضرورة انفعاله بانفصال مادة الولد عنه فالله تعالى ليس بوالد، وقرأ المنصور بَدِيعُ بالنصب على المدح، وقرىء بالجر على أنه بدل من الضمير في لَهُ على رأي من يجوز ذلك وَإِذا قَضى أَمْراً أي أراد شيئا بقرينة قوله تعالى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً [يس: 83] وجاء القضاء على وجوه ترجع كلها إلى إتمام الشيء قولا أو فعلا وإطلاقه على الإرادة مجاز من استعمال اللفظ المسبب في السبب فإن الإيجاد الذي هو إتمام الشيء مسبب عن تعلق الإرادة لأنه يوجبه، وساوى ابن السيد بينه وبين القدر، والمشهور التفرقة بينهما بجعل القدر تقديرا لأمور قبل أن تقع، والقضاء إنفاذ ذلك القدر وخروجه من العدم إلى حد الفعل، وصحح ذلك الجمهور لأنه قد جاء في الحديث «أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مر بكهف مائل للسقوط فأسرع المشي حتى جاوزه فقيل: له أتفر من قضاء الله تعالى؟ فقال: أفر من قضائه تعالى إلى قدره» ففرق صلى الله تعالى عليه وسلم بين القضاء والقدر. فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الظاهر أن الفعلين من- كان- التامة لعدم ذكر الخبر مع أنها الأصل أي أحدث فيحدث، وهي تدل على معنى الناقصة لأن الوجود المطلق أعم من وجوده في نفسه أو في غيره والأمر محمول (1) على حقيقته كما ذهب إليه محققو ساداتنا الحنفية والله تعالى قد أجرى سنته في تكوين الأشياء أن يكونها بهذه الكلمة وإن لم يمتنع تكوينها بغيرها، والمراد الكلام الأزلي لأنه يستحيل قيام اللفظ المرتب بذاته تعالى ولأنه حادث فيحتاج إلى خطاب آخر فيتسلسل وتأخره عن الإرادة وتقدمه على وجود الكون باعتبار التعلق، ولما لم يشتمل خطاب التكوين على الفهم واشتمل على أعظم الفوائد جاز تعلقه بالمعدوم، وذهب المعتزلة وكثير من أهل السنة إلى أنه ليس المراد به حقيقة الأمر والامتثال، وإنما هو تمثيل لحصول ما تعلق به الإرادة بلا مهلة بطاعة المأمور المطيع بلا توقف فهناك استعارة تمثيلية حيث شبهت هيئة حصول المراد بعد تعلق الإرادة بلا مهلة، وامتناع بطاعة المأمور المطيع عقيب أمر المطاع بلا توقف وإباء تصويرا لحال الغائب بصورة الشاهد ثم استعمل الكلام الموضوع للمشبه في المشبه به من غير اعتبار استعارة في مفرداته وكان أصل الكلام إذا قضى أمرا فيحصل عقيبه دفعة فكأنما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ثم حذف المشبه، واستعمل المشبه به مقامه، وبعضهم يجعل في الكلام استعارة تحقيقية تصريحية مبنية على تشبيه حال يقال، ولعل الذي دعا هؤلاء إلى العدول عن الظاهر زعم امتناعه لوجوه ذكرها بعض أئمتهم «الأول» أن قوله تعالى: كُنْ إما أن يكون قديما أو محدثا لا جائز أن يكون قديما لتأخر النون ولتقدم الكاف، والمسبوق محدث لا محالة،   (1) كأن مرادهم أن مدلول اللفظ موجود حقيقة، وإلا فهذا الأمر تنجيزي وهو مجاز أيضا فافهم اهـ منه. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 وكذا المتقدم عليه بزمان مقدر أيضا، ولأن إِذا للاستقبال فالقضاء محدث وكُنْ مرتب عليه بفاء التعقيب، والمتأخر عن المحدث محدث، ولا جائز أن يكون محدثا وإلا لدار أو تسلسل، «الثاني» إما أن يخاطب المخلوق يكن قبل دخوله في الوجود، وخطاب المعدوم سفه، وإما بعد دخوله ولا فائدة فيه. «الثالث» المخلوق قد يكون جمادا وتكليفه لا يليق بالحكمة «الرابع» إذا فرضنا القادر المريد منفكا عن قوله كُنْ فإن تمكن من الإيجاد فلا حاجة إليها وإن لم يتمكن فلا يكون القادر قادرا على الفعل إلا عند تكلمه ب كُنْ فيلزم عجزه بالنظر إلى ذاته «الخامس» أنا نعلم بالضرورة أنه لا تأثير لهذه الكلمة إذا تكلمنا بها فكذا إذا تكلم بها غيرنا. «السادس» المؤثر إما مجموع الكاف والنون ولا وجود لهما مجموعين أو أحدهما وهو خلاف المفروض انتهى. وأنت إذا تأملت ما ذكرنا ظهر لك اندفاع جميع هذه الوجوه، ويا عجبا لمن يقول بالكلام النفسي ويجعل هذا دالا عليه كيف تروعه هذه القعاقع أم كيف تغره هذه الفقاقع؟! نعم لو ذهب ذاهب إلى هذا القول لما فيه من مزيد إثبات العظمة لله تعالى ما ليس في الأول لا لأن الأول باطل في نفسه كان حريا بالقبول- ولعلي أقول به- والآية مسوقة لبيان كيفية الإبداع ومعطوفة على قوله تعالى: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مشتملة على تقرير معنى الإبداع وفيها تلويح بحجة أخرى لإبطال ذلك الهذيان بأن اتخاذ الولد من الوالد إنما يكون بعد قصده بأطوار ومهلة لما أن ذلك لا يمكن إلا بعد انفصال مادته عنه وصيرورته حيوانا، وفعله تعالى بعد إرادته أو تعلق قوله مستغن عن المهلة فلا يكون اتخاذ الولد فعله تعالى، وكأن السبب في هذه الضلالة أنه ورد إطلاق الأب على الله تعالى في الشرائع المتقدمة باعتبار أنه السبب الأول وكثر هذا الإطلاق في إنجيل يوحنا ثم ظنت الجهلة أن المراد به معنى الولادة فاعتقدوا ذلك تقليدا وكفروا، ولم يجوز العلماء اليوم إطلاق ذلك عليه تعالى مجازا قطعا لمادة الفساد، وقرأ ابن عامر فَيَكُونُ بالنصب، وقد أشكلت على النحاة حتى تجرأ أحمد بن موسى فحكم بخطئها وهو سوء أدب بل من أقبح الخطأ ووجهها أن تكون حينئذ جواب الأمر حملا على صورة اللفظ وإن كان معناه الخبر إذ ليس معناه تعليق مدلول مدخول الفاء بمدلول صيغة الأمر الذي يقتضيه سببية ما قبل الفاء لما بعدها اللازمة لجواب الأمر بالفاء إذ لا معنى لقولنا ليكن منك كون فكون، وقيل: الداعي إلى الحمل على اللفظ أن الأمر ليس حقيقيا فلا ينصب جوابه وإن من شرط ذلك أن ينعقد منهما شرط وجزاء نحو- ائتني فأكرمك- إذ تقديره إن تأتني أكرمك وهنا لا يصح- إن يكن يكن- وإلا لزم كون الشيء سببا لنفسه، وأجيب بأن المراد إن يكن في علم الله تعالى وإرادته يكن في الخارج فهو على حد «من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله» وبأن كون الأمر غير الحقيقي لا ينصب في جوابه ممنوع فإن كان بلفظ فظاهر ولكنه مجاز عن سرعة التكوين وإن لم يعتبر فهو مجاز عن إرادة سرعته فيؤول إلى أن يراد سرعة وجود شيء يوجد في الحال فلا محذور للتغاير الظاهر ولا يخفى ما فيه، ووجه الرفع الاستئناف أي فهو يكون وهو مذهب سيبويه، وذهب الزجاج إلى عطفه على يَقُولُ وعلى التقديرين لا يكون فَيَكُونُ داخلا في المقول ومن تتمته ليوجه العدول عن الخطاب بأنه من باب الالتفات تحقيرا لشأن الأمر في سهولة تكونه ووجهه به غير واحد على تقدير الدخول. وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ عطف على قوله تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ ووجه الارتباط أن «الأول» كان قدحا في التوحيد وهذا قدح في النبوة، والمراد من الموصول جهلة المشركين، وقد روي ذلك عن قتادة والسدي والحسن وجماعة، وعليه أكثر المفسرين ويدل عليه قوله تعالى: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء: 90] وقالوا: فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الأنبياء: 5] وقالوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا [الفرقان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 21] وقيل: المراد به اليهود الذي كانوا على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بدليل ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رافع بن خزيمة من اليهود قال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن كنت رسولا من عند الله تعالى فقل لله يكلمنا حتى نسمع كلامه فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقوله تعالى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ [النساء: 153] وقال مجاهد: المراد به النصارى ورجحه الطبري بأنهم المذكورون في الآية، وهو كما ترى، ونفي العلم على الأول عنهم على حقيقته لأنهم لم يكن لهم كتاب ولا هم أتباع نبوة، وعلى الأخيرين لتجاهلهم أو لعدم علمهم بمقتضاه لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أي هلا يكلمنا بأنك رسوله إما بالذات كما يكلم الملائكة أو بإنزال الوحي إلينا، وهو استكبار منهم بعد أنفسهم الخبيثة كالملائكة والأنبياء المقدسين عليهم الصلاة والسلام أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ أي حجة على صدقك وهو جحود منهم قاتلهم الله تعالى لما آتاهم من الآيات البينات، والحجج الباهرات التي تخر لها صم الجبال، وقيل: المراد إتيان آية مقترحة، وفيه أن تخصيص النكرة خلاف الظاهر كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جواب لشبهتهم يعني أنهم يسألون عن تعنت واستكبار مثل الأمم السابقة والسائل المتعنت لا يستحق إجابة مسألته مِثْلَ قَوْلِهِمْ هذا الباطل الشنيع فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء: 153] هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً [المائدة: 112] اجْعَلْ لَنا إِلهاً [الأعراف: 138] وقد تقدم الكلام على هذين التشبيهين، ولبعضهم هنا زيادة على ما مر احتمال تعلق كَذلِكَ ب تَأْتِينا وحينئذ يكون الوقف عليه لا على آيَةٌ أو جعل مِثْلَ قَوْلِهِمْ متعلقا ب تَشابَهَتْ وحينئذ يكون الوقف على مِنْ قَبْلِهِمْ وأنت تعلم أنه لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى الكريم على مثل هذه الاحتمالات الباردة تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ أي قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى والعناد، وقيل: في التعنت والاقتراح، والجملة مقررة لما قبلها، وقرأ أبو حيوة وابن أبي إسحاق بتشديد الشين قال أبو عمرو الداني: وذلك غير جائز لأنه فعل ماض والتاءان المزيدتان إنما يجيئان في المضارع فيدغم أما الماضي فلا، وفي غرائب التفسير أنهم أجمعوا على خطئه، ووجه ذلك الراغب بأنه حمل الماضي على المضارع فزيد فيه ما يزاد فيه ولا يخفى أنه بهذا القدر لا يندفع الاشكال، وقال ابن سهمي في الشواذ: إن العرب قد تزيد على أول تفعل في الماضي تاء فتقول تتفعل وأنشد تتقطعت بي دونك الأسباب وهو قول غير مرضي ولا مقبول فالصواب عدم صحة نسبة هذه القراءة إلى هذين الإمامين وقد أشرنا إلى نحو ذلك فيما تقدم قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ أي نزلناها بينة بأن جعلناها كذلك في أنفسها فهو على حد سبحان من صغر البعوض وكبر الفيل لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أي يعلمون الحقائق علما ذا وثاقة لا يعتريهم شبهة ولا عناد وهؤلاء ليسوا كذلك فلهذا تعنتوا واستكبروا وقالوا ما قالوا، والجملة على هذا معللة لقوله تعالى: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كما صرح به بعض المحققين، ويحتمل أن يراد من الإتيان طلب الحق واليقين والآية- رد لطلبهم الآية وفي تعريف الآيات وجمعها وإيراد التبيين مكان الإتيان الذي طلبوه ما لا يخفى من الجزالة، والمعنى أنهم اقترحوا آيَةٌ فذة ونحن قد بينا الآيات العظام لقوم يطلبون الحق واليقين وإنما لم يتعرض سبحانه لرد قولهم لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ إيذانا بأنه منهم أشبه شيء بكلام الأحمق وجواب الأحمق السكوت إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ أي متلبسا مؤيدا به فالظرف مستقر، وقيل: لغو متعلق بأرسلنا أو بما بعده، وفسر الحق بالقرآن أو بالإسلام وبقاؤه على عمومه أولى بَشِيراً وَنَذِيراً حالان من الكاف، وقيل: من الحق والآية اعتراض لتسلية الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم لأنه كان يهتم ويضيق صدره لإصرارهم على الكفر والمراد إِنَّا أَرْسَلْناكَ لأن تبشر من أطاع وتنذر من عصى لا لتجبر على الإيمان فما عليك إن أصروا أو كابروا؟ والتأكيد لإقامة غير المنكر مقام المنكر بما لاح عليه من أمارة الإنكار والقصر إفرادي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ تذييل معطوف على ما قبله، أو اعتراض أو حال أي أرسلناك غير- مسؤول عن أصحاب الجحيم- مات لهم لم يؤمنوا بعد أن بلغت ما أرسلت به وألزمت الحجة عليهم؟! وقرأ أبيّ وما بدل ولا وابن مسعود «ولن» بدل «ذلك» وقرأ نافع ويعقوب لا تسأل- على صيغة النهي إيذانا بكمال شدة عقوبة الكفار وتهويلا لها كما تقول كيف حال فلان وقد وقع في مكروه فيقال لك لا تسأل عنه أي إنه لغاية فظاعة ما حل به لا يقدر المخبر على إجرائه على لسانه أو لا يستطيع السامع أن يسمعه، والجملة على هذا اعتراض أو عطف على مقدر أي فبلغ، والنهي مجازي، ومن الناس من جعله حقيقة، والمقصود منه بالذات نهيه صلّى الله عليه وسلّم عن السؤال عن حال أبويه على ما روي- أنه عليه الصلاة والسلام سأل جبريل عن قبريهما فدله عليهما فذهب فدعا لهما وتمنى أن يعرف حالهما في الآخرة وقال: ليت شعري ما فعل أبواي؟ فنزلت- ولا يخفى بعد هذه الرواية لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم- كما في المنتخب- عالم بما آل إليه أمرهما، وذكر الشيخ ولي الدين العراقي أنه لم يقف عليها، وقال الإمام السيوطي: لم يرد في هذا إلا أثر معضل ضعيف الإسناد فلا يعول عليه، والذي يقطع به أن الآية في كفار أهل الكتاب كالآيات السابقة عليها والتالية لها لا في أبويه صلى الله تعالى عليه وسلم، ولتعارض الأحاديث في هذا الباب وضعفها قال السخاوي: الذي ندين الله تعالى به الكف عنهما وعن الخوض في أحوالهما والذي أدين الله تعالى به أنا أنهما ماتا موحدين في زمن الكفر، وعليه يحمل كلام الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه إن صح بل أكاد أقول: إنهما أفضل من عليّ القارئ وأضرابه. والجحيم- النار بعينها إذا شب وقودها. ويقال: جحمت النار تجحم جحما إذا اضطربت. وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ بيان لكمال شدة شكيمتي هاتين الطائفتين إثر بيان ما يعمهما، والمشركين مما تقدم ولا بين المعطوفين لتأكيد النفي وللاشعار بأن رضا كل منهما مباين لرضا الأخرى، والخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وفيه من المبالغة في إقناطه صلى الله تعالى عليه وسلم من إسلامهم ما لا غاية وراءه فإنهم حيث لم يرضوا عنه عليه الصلاة والسلام، ولو خلاهم يفعلون ما يفعلون بل أملوا ما لا يكاد يدخل دائرة الإمكان، وهو الاتباع لملتهم التي جاء بنسخها فكيف يتصور اتباعهم لملته صلى الله تعالى عليه وسلم، واحتيج لهذه المبالغة لمزيد حرصه صلى الله تعالى عليه وسلم على إيمانهم على ما روي أنه كان يلاطف كل فريق رجاء أن يسلموا فنزلت، والملة في الأصل اسم من أمللت الكتاب بمعنى أمليته كما قال الراغب، ومنه طريق ملول- أي مسلوك معلوم- كما نقله الأزهري ثم نقلت إلى أصول الشرائع باعتبار أنها يمليها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا يختلف الأنبياء عليهم السلام فيها، وقد تطلق على الباطل كالكفر ملة واحدة، ولا تضاف إليه سبحانه فلا يقال ملة الله، ولا إلى آحاد الأمة، والدين يرادفها صدقا لكنه باعتبار قبول المأمورين لأنه في الأصل الطاعة والانقياد ولاتحاد ما صدقهما قال تعالى: دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ [الإنعام: 161] وقد يطلق الدين على الفروع تجوزا، ويضاف إلى الله تعالى وإلى الآحاد وإلى طوائف مخصوصة نظرا إلى الأصل على أن تغاير الاعتبار كاف في صحة الإضافة، ويقع على الباطل أيضا، وأما الشريعة فهي المورد في الأصل، وجعلت اسما للأحكام الجزئية المتعلقة بالمعاش والمعاد سواء كانت منصوصة من الشارع أو لا لكنها راجعة إليه. والنسخ والتبديل يقع فيها، وتطلق على الأصول الكلية تجوزا قاله بعض المحققين: ووحدت الملة، وإن كان لهم ملتان للإيجاز أو لأنهما يجمعهما الكفر، وهو ملة واحدة، ثم إن هذا ليس ابتداء كلام منه تعالى بعدم رضاهم بل هو حكاية لمعنى كلام قالوه بطريق التكلم ليطابقه قوله سبحانه. قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى فإنه على طريقة الجواب لمقالتهم ولعلهم ما قالوا ذلك إلا لزعمهم أن دينهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 حق وغيره باطل فأجيبوا بالقصر القلبي- أي دين الله تعالى هو الحق ودينكم هو الباطل، وهُدَى اللَّهِ تعالى الذي هو الإسلام هو الهدى وما يدعون إليه ليس بهدى بل هوى- على أبلغ وجه لإضافة الهدى إليه تعالى وتأكيده إِنَّ وإعادة الهدى في الخبر على حد شعري شعري، وجعله نفس الْهُدى المصدري وتوسيط ضمير الفصل وتعريف الخبر، ويحتمل أنهم قالوا ذلك فيما بينهم، والأمر بهذا القول لهم لا يجب أن يكون جوابا لعين تلك العبارة بل جواب ورد لما يستلزم مضمونها أو يلزمه من الدعوة إلى اليهودية أو النصرانية وأن الاهتداء فيهما وقيل: يصح أن يكون لإقناطهم عما يتمنونه ويطمعونه وليس بجواب وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ أي آراءهم الزائغة المنحرفة عن الحق الصادرة عنهم بتبعية شهوات أنفسهم وهي التي عبر عنها فيما قبل- بالملة- وكان الظاهر- ولئن اتبعتها- إلا أنه غير النظم ووضع الظاهر موضع المضمر من غير لفظه إيذانا بأنهم غيروا ما شرعه الله سبحانه تغييرا أخرجوه به عن موضوعه، وفي صيغة الجمع إشارة إلى كثرة الاختلاف بينهم وأن بعضهم يكفر بعضا. بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أي المعلوم وهو الوحي أو الدين لأنه الذي يتصف بالمجيء دون العلم نفسه ولك أن تفسر المجيء بالحصول فيجري العلم على ظاهره ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ جواب للقسم الدال عليه اللام الموطئة ولو أجيب به الشرط هنا لوجبت الفاء، وقيل: إنه جواب له ويحتاج إلى تقدير القسم مؤخرا عن الشرط وتأويل الجملة الاسمية بالفعلية الاستقبالية أي ما يكون لك وهو تعسف إذ لم يقل أحد من النحاة بتقدير القسم مؤخرا مع اللام الموطئة، وتأويل الاسمية بالفعلية لا دليل عليه، وقيل: إنه جواب لكلا الأمرين القسم الدال عليه اللام، وإن الشرطية لأحدهما لفظا وللآخر معنى وهو كما ترى، والخطاب أيضا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتقييد الشرط بما قيد للدلالة على أن متابعة أهوائهم محال لأنه خلاف ما علم صحته فلو فرض وقوعه كما يفرض المحال لم يكن له ولي ولا نصير يدفع عنه العذاب، وفيه أيضا من المبالغة في الاقناط ما لا يخفى، وقيل: الخطاب هناك وهنا وإن كان ظاهرا للنبي صلّى الله عليه وسلّم إلا أن المقصود منه أمته، وأنت تعلم مما ذكرنا أنه لا يحتاج إلى التزام ذلك الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ اعتراض لبيان حال مؤمني أهل الكتاب بعد ذكر أحوال كفرتهم ولم يعطف تنبيها على كمال التباين بين الفريقين والآية نازلة فيهم وهم المقصودون منها سواء أريد بالموصول الجنس أو العهد على ما قيل: إنهم الأربعون الذين قدموا من الحبشة مع جعفر بن أبي طالب اثنان وثلاثون منهم من اليمن وثمانية من علماء الشام يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أي يقرؤونه حق قراءته وهي قراءة تأخذ بمجامع القلب فيراعى فيها ضبط اللفظ والتأمل في المعنى وحق الأمر والنهي، والجملة حال مقدرة أي آتيناهم الكتاب مقدرا تلاوتهم لأنهم لم يكونوا تالين وقت الإيتاء وهذه الحال مخصصة لأنه ليس كل من أوتيه يتلوه، وحَقَّ منصوب على المصدرية لإضافته إلى المصدر، وجوز أن يكون وصفا لمصدر محذوف وأن يكون حالا أي محقين والخبر قوله تعالى: أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ويحتمل أن يكون يَتْلُونَهُ خبرا لا حالا، أُولئِكَ إلخ خبرا بعد خبر أو جملة مستأنفة، وعلى أول الاحتمالين يكون الموصول للجنس، وعلى ثانيهما يكون للعهد أي مؤمنو أهل الكتاب، وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي للحصر والتعريض، والضمير للكتاب أي- أولئك يؤمنون بكتابهم- دون المحرفين فإنهم غير مؤمنين به، ومن هنا يظهر فائدة الاخبار على الوجه الأخير، ولك أن تقول محط الفائدة ما يلزم الإيمان به من الربح بقرينة ما يأتي، ومن الناس من حمل الموصول على أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وإليه ذهب عكرمة وقتادة، فالمراد من الْكِتابَ حينئذ القرآن، ومنهم من حمله على الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، وإليه ذهب ابن كيسان، فالمراد من الْكِتابَ حينئذ الجنس ليشمل الكتب المتفرقة، ومنهم من قال بما قلنا إلا أنه جوز عود ضمير بِهِ إلى الْهُدى أو إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو إلى الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 تعالى، وعلى التقديرين يكون في الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة أو من التكلم إليها. ولا يخفى ما في بعض هذه الوجوه من البعد البعيد. وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ أي الكتاب بسبب التحريف والكفر بما يصدقه، واحتمالات نظير هذا الضمير مقولة فيه أيضا فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ من جهة أنهم اشتروا الكفر بالإيمان، وقيل: بتجارتهم التي كانوا يعملونها بأخذ الرشا على التحريف. يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ. وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ. تكرير لتذكير بني إسرائيل وإعادة لتحذيرهم للمبالغة في النصح، وللإيذان بأن ذلك فذلكة القصة والمقصود منها- وقد تفنن في التعبير فجاءت الشفاعة «أولا» بلفظ القبول متقدمة على- العدل- «وهنا» بلفظ- النفع- متأخرة عنه، ولعله- كما قيل- إشارة إلى انتفاء أصل الشيء وانتفاء ما يترتب عليه، وأعطى المقدم وجودا تقدمه ذكرا، والمتأخر وجودا تأخره ذكرا، وقيل: إن ما سبق كان للأمر بالقيام بحقوق النعم السابقة، وما هنا لتذكير- نعمة بها فضلهم على العالمين- وهي نعمة الإيمان بنبي زمانهم، وانقيادهم لأحكامه ليغتنموها ويؤمنوا ويكونوا من الفاضلين- لا المفضولين- وليتقوا بمتابعته عن أهوال القيامة وخوفها- كما اتقوا بمتابعة موسى عليه السلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ في متعلق إِذِ احتمالات تقدمت الإشارة إليها في نظير الآية، واختار أبو حيان تعلقها ب قالَ الآتي، وبعضهم بمضمر مؤخر، أي كان كيت وكيت «والمشهور» تعلقها بمضمر مقدم تقديره- اذكر- أو- اذكروا- وقت كذا، والجملة حينئذ معطوفة على ما قبلها عطف القصة على القصة، والجامع الاتحاد في المقصد فإن المقصد من- تذكيرهم وتخويفهم- تحريضهم على قبول دينه صلّى الله عليه وسلّم، واتباع الحق، وترك التعصب، وحب الرياسة، كذلك المقصد من قصة إِبْراهِيمَ عليه السلام وشرح أحواله، الدعوة إلى ملة الإسلام وترك التعصب في الدين، وذلك لأنه إذا علم أنه نال- الإمامة- بالانقياد لحكمه تعالى وأنه لم يستجب دعاءه في الظَّالِمِينَ وأن الكعبة كانت مطافا ومعبدا في وقته مأمورا هو بتطهيره، وأنه كان يحج البيت داعيا مبتهلا- كما هو دين النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم- وأن نبينا عليه الصلاة والسلام من دعوته، وأنه دعا في حق نفسه وذريته بملة الإسلام، كان الواجب على من يعترف بفضله وأنه من أولاده، ويزعم اتباع ملته، ويباهي بأنه من ساكن حرمه وحامي بيته، أن يكون حاله مثل ذلك، وذهب عصام الملة والدين إلى جواز العطف على نِعْمَتِيَ أي اذْكُرُوا وقت- ابتلاء إبراهيم- فإن فيه ما ينفعكم ويرد اعتقادكم الفاسد أن آباءكم شفعاؤكم يوم القيامة، لأنه لم يقبل دعاء إبراهيم في- الظلمة- ويدفع عنكم حب الرياسة المانع عن متابعة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، فإنه يعلم منه أنه لا ينال الرياسة الظَّالِمِينَ واعترض بأنه خروج عن طريق البلاغة مع لزوم تخصيص الخطاب بأهل الكتاب وتخلل اتَّقُوا بين المعطوفين- والابتلاء- في الأصل الاختبار- كما قدمنا- والمراد به هنا التكليف. أو المعاملة معاملة الاختبار مجازا، إذ حقيقة الاختبار محالة عليه تعالى- لكونه عالم السر والخفيات- وإِبْراهِيمَ علم أعجمي، قيل: معناه قبل النقل- أب رحيم- وهو مفعول مقدم لإضافة فاعله إلى ضميره، والتعرض لعنوان الربوبية تشريف له عليه السلام، وإيذان بأن ذلك- الابتلاء- تربية له وترشيح لأمر خطير، والكلمات- جمع- كلمة- وأصل معناها- اللفظ المفرد- وتستعمل في الجمل المفيدة، وتطلق على معاني ذلك- لما بين اللفظ والمعنى من شدة الاتصال- واختلف فيها. فقال طاوس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إنها العشرة التي من الفطرة، المضمضة والاستنشاق وقص الشارب وإعفاء اللحية والفرق ونتف الإبط وتقليم الأظفار وحلق العانة والاستطابة والختان، وقال عكرمة رواية عنه أيضا: لم يبتل أحد بهذا الدين فأقامه كله إلا إبراهيم، ابتلاه الله تعالى بثلاثين خصلة من خصال الإسلام، عشر منها في سورة براءة، التَّائِبُونَ [التوبة: 112] إلخ، وعشر في الأحزاب [25] إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ إلخ، وعشر في المؤمنين وسَأَلَ سائِلٌ إلى وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ [المعارج: 1- 24] وفي رواية الحاكم في مستدركه أنها ثلاثون، وعد السور الثلاثة الأول ولم يعد السورة الأخيرة، فالذي في براءة، التوبة والعبادة والحمد والسياحة والركوع، والسجود. والأمر بالمعروف. والنهي عن المنكر. والحفظ لحدود الله تعالى. والإيمان المستفاد من وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ أو من إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة: 111] في الأحزاب، الإسلام. والإيمان. والقنوت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 والصدق. والصبر. والخشوع. والتصدق. والصيام. والحفظ للفروج والذكر، والذي في المؤمنين الإيمان والخشوع والاعراض عن اللغو والزكاة والحفظ للفروج- إلا على الأزواج أو الإماء ثلاثة- والرعاية للعهد. والأمانة اثنين والمحافظة على الصلاة، وهذا مبني على أن لزوم التكرار في بعض الخصال بعد جمع العشرات المذكورة. كالإيمان. والحفظ للفروج لا ينافي كونها ثلاثين تعدادا- إنما ينافي تغايرها ذاتا- ومن هنا عدت التسمية مائة وثلاث عشرة آية عند الشافعية باعتبار تكررها في كل سورة، وما في رواية عكرمة مبني على اعتبار التغاير بالذات وإسقاط المكررات، وعده العاشرة البشارة للمؤمنين في براءة، وجعل الدوام على الصلاة والمحافظة عليها واحدا وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج: 24] غير- الفاعلين للزكاة- لشموله صدقة التطوع وصلة الأقارب، وما روي أنها أربعون وبينت بما في السور الأربع مبني على الاعتبار الأول أيضا- فلا إشكال- وقيل: ابتلاه الله تعالى بعدة أشياء بالكوكب والقمرين والختان على الكبر والنار وذبح الولد والهجرة من كوثى إلى الشام. وروي ذلك عن الحسن، وقيل: هي ما تضمنته الآيات بعد من الإمامة، وتطهير البيت، ورفع قواعده، والإسلام. «وقيل، وقيل..» إلى ثلاثة عشر قولا، وقرأ ابن عامر وابن الزبير وغيرهما «إبراهام» وأبو بكرة «إبراهم» - بكسر الهاء وحذف الياء- وقرأ ابن عباس. وأبو الشعثاء وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنهم برفع إِبْراهِيمَ ونصب رَبُّهُ- فالابتلاء- بمعنى الاختبار حقيقة لصحته من العبد. والمراد دعا رَبُّهُ بِكَلِماتٍ مثل رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [الأعراف: 143] واجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً [إبراهيم: 35] ليرى هل يجيبه؟ ولا حاجة إلى الحمل على المجاز. وأما ما قيل: إنه- وإن صح من العبد- لا يصح- أو لا يحسن تعليقه بالرب- فوجهه غير ظاهر سوى ذكر لفظ- الابتلاء- ويجوز أن يكون ذلك في مقام الأنس، ومقام الخلة غير خفي فَأَتَمَّهُنَّ الضمير المنصوب- للكلمات- لا غير. والمرفوع المستكن يحتمل أن يعود- لإبراهيم- وأن يعود- لربه- على كل من قراءتي- الرفع والنصب- فهناك أربعة احتمالات «الأول» عوده على إِبْراهِيمَ منصوبا، ومعنى فَأَتَمَّهُنَّ حينئذ أتى بهن على الوجه الأتم وأداهن كما يليق «الثاني» عوده على رَبُّهُ مرفوعا، والمعنى حينئذ يسر له العمل بهن وقواه على- إتمامهن- أو أتم له أجورهن، أو أدامهن سنّة فيه وفي عقبه إلى يوم الدين «والثالث» عوده على إِبْراهِيمَ مرفوعا- والمعنى عليه- أتم إبراهيم الكلمات المدعو بها بأن راعى شروط الإجابة فيها، ولم يأت بعدها بما يضيعها «الرابع» عوده إلى رَبُّهُ منصوبا- والمعنى عليه- فأعطى سبحانه إِبْراهِيمَ جميع ما دعاه. وأظهر الاحتمالات الأول والرابع، إِذِ التمدح غير ظاهر في الثاني- مع ما فيه من حذف المضاف على أحد محتملاته- والاستعمال المألوف غير متبع في الثالث، لأن الفعل الواقع في مقابلة الاختبار يجب أن يكون فعل المختبر اسم مفعول. قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً استئناف بياني إن أضمر ناصب إِذِ كأنه قيل: فماذا كان بعد؟ فأجيب بذلك، أو بيان- لابتلى- بناء على رأي من جعل- الكلمات- عبارة عما ذكر أثره- وبعضهم يجعل ذلك من بيان الكلي بجزئي من جزئياته وإذا نصبت إِذِ بيقال كما ذهب إليه أبو حيان يكون المجموع جملة معطوفة على ما قبلها على الوجه الذي مرّ تفصيله، وقيل: مستطردة أو معترضة، ليقع قوله تعالى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ [الإنعام: 144] إن جعل خطابا لليهود موقعه، ويلائم قوله سبحانه: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة: 135] و «جاعل» من- جعل- بمعنى صير المتعدي إلى مفعولين، ولِلنَّاسِ إما متعلق بجاعل أي لأجلهم، وإما في موضع الحال لأنه نعت نكرة تقدمت أي إماما كائنا لهم- والإمام- اسم للقدوة الذي يؤتم به. «ومنه» قيل لخيط البناء: إمام، وهو مفرد على فعال، وجعله بعضهم اسم آلة لأن فعالا من صيغها- كالإزار- واعترض بأن- الإمام- ما يؤتم به، والإزار ما يؤتزر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 به- فهما مفعولان- ومفعول الفعل ليس بآلة لأنها الواسطة بين الفاعل والمفعول في وصول أثره إليه، ولو كان المفعول آلة لكان الفاعل كذلك- وليس فليس- ويكون جمع- آم- اسم فاعل من- أم يؤم- كجائع وجياع، وقائم وقيام، وهو بحسب المفهوم وإن كان شاملا للنبي والخليفة وإمام الصلاة، بل كل من يقتدى به في شيء ولو باطلا كما يشير إليه قوله تعالى: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ [القصص: 41] إلا أن المراد به هاهنا النبي المقتدى به، فإن من عداه لكونه مأموم النبي ليست إمامته كإمامته، وهذه الإمامة إما مؤبدة- كما هو مقتضى تعريف الناس- وصيغة اسم الفاعل الدال على الاستمرار ولا يضر مجيء الأنبياء بعده لأنه لم يبعث نبي إلا وكان من ذريته ومأمورا باتباعه في الجملة لا في جميع الأحكام لعدم اتفاق الشرائع التي بعده في الكل، فتكون إمامته باقية بإمامة أولاده التي هي أبعاضه على التناوب، وإما مؤقتة بناء على أن ما نسخ- ولو بعضه- لا يقال له مؤبد وإلا لكانت إمامة كل نبي مؤبدة ولم يشع ذلك فالمراد من «الناس» حينئذ أمته الذين اتبعوه، ولك أن تلتزم القول بتأبيد إمامة كل نبي- ولكن في عقائد التوحيد- وهي لم تنسخ بل لا تنسخ أصلا كما يشير إليه قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الإنعام: 90] وعدم الشيوع غير مسلم، ولئن سلم لا يضر، والامتنان على إبراهيم عليه السلام بذلك دون غيره لخصوصية اقتضت ذلك لا تكاد تخفى فتدبر. ثم لا يخفى أن ظاهر الآية يشير إلى أن الابتلاء كان قبل النبوة لأنه تعالى جعل القيام بتلك الكلمات سببا لجعله إماما، وقيل: إنه كان بعدها لأنه يقتضي سابقة الوحي، وأجيب بأن مطلق الوحي لا يستلزم البعثة إلى الخلق وأنت تعلم أن ذبح الولد والهجرة والنار إن كانت من- الكلمات- يشكل الأمر لأن هذه كانت بعد النبوة بلا شبهة، وكذا الختان أيضا بناء على ما روي أنه عليه الصلاة والسلام حين ختن نفسه كان عمره مائة وعشرين فحينئذ يحتاج إلى أن يكون- إتمام الكلمات- سبب الإمامة باعتبار عمومها للناس واستجابة دعائه في حق بعض ذريته، ونقل الرازي عن القاضي أنه على هذا يكون المراد من قوله تعالى: فَأَتَمَّهُنَّ أنه سبحانه وتعالى علم من حاله أنه يتمهن ويقوم بهن بعد النبوة فلا جرم أعطاه خلعة الإمامة والنبوة ولا يخفى أن الفاء يأبى عن الحمل على هذا المعنى. قالَ استئناف بياني والضمير لإبراهيم عليه السلام وَمِنْ ذُرِّيَّتِي عطف على الكاف يقال سأكرمك فتقول وزيدا وجعله على معنى ماذا يكون مِنْ ذُرِّيَّتِي بعيد. وذهب أبو حيان إلى أنه متعلق بمحذوف أي- اجعل من ذريتي- إماما لأنه عليه السلام فهم من إِنِّي جاعِلُكَ الاختصاص به، واختاره بعضهم واعترضوا على ما تقدم بأن الجار والمجرور لا يصلح مضافا إليه فكيف يعطف عليه وبأن العطف على الضمير كيف يصح بدون إعادة الجار وبأنه كيف يكون المعطوف مقول قائل آخر، ودفع الأولان بأن الإضافة اللفظية في تقدير الانفصال وَمِنْ ذُرِّيَّتِي في معنى بعض ذُرِّيَّتِي فكأنه قال: وجاعل بعض ذُرِّيَّتِي وهو صحيح على أن العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار وإن أباه أكثر النحاة إلا أن المحققين من علماء العربية وأئمة الدين على جوازه حتى قال صاحب العباب: إنه وارد في القراءات السبع المتواترة فمن رد ذلك فقد رد على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ودفع «الثالث» بأنه من قبيل عطف التلقين فهو خبر في معنى الطلب وكأن أصله واجعل بعض ذُرِّيَّتِي كما قدره المعترض لكنه عدل عنه إلى المنزل لما فيه من البلاغة من حيث جعله من تتمة كلام المتكلم كأنه مستحق مثل المعطوف عليه وجعل نفسه كالنائب عن المتكلم والعدول من صيغة الأمر للمبالغة في الثبوت ومراعاة الأدب في التفادي عن صورة الأمر وفيه من الاختصار الواقع موقعه ما يروق كل ناظر ونظير هذا العطف ما روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «اللهم ارحم المحلقين قالوا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 والمقصرين يا رسول الله؟ قال: اللهم ارحم المحلقين قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: والمقصرين» . وقد ذكر الأصوليون أن التلقين ورد بالواو وغيرها من الحروف وأنه وقع في الاستثناء كما في الحديث «إن الله تعالى حرم شجر الحرم قالوا إلا الإذخر يا رسول الله» واعترض أيضا بأن العطف المذكور يستدعي أن تكون إمامة- ذريته- عامة لجميع الناس عموم إمامته عليه السلام على ما قيل. وليس كذلك وأجيب بأنه يكفي في العطف الاشتراك في أصل المعنى، وقيل: يكفي قبولها في حق نبينا عليه الصلاة والسلام- والذرية- نسل الرجل وأصلها الأولاد الصغار ثم عمت الكبار والصغار الواحد وغيره، وقيل: إنها تشمل الآباء لقوله تعالى: أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [يس: 41] يعني نوحا وأبناءه والصحيح خلافه، وفيها ثلاث لغات- ضم الذال وفتحها وكسرها- وبها قرىء وهي إما فعولة من ذروت أو ذريت والأصل ذرووة أو ذروية فاجتمع في الأول واوان زائدة وأصلية فقلبت الأصلية ياء فصارت كالثانية فاجتمعت ياء وواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء فصارت ذرية أو فعلية منهما والأصل في الأولى- ذريوية- فقلبت الواو ياء لما سبق فصارت- ذريية- كالثانية فأدغمت الياء في مثلها فصارت ذرية، أو فعلية من الذرء بمعنى الخلق والأصل ذرئية فقلبت الهمزة ياء وأدغمت، أو فعلية من الذر بمعنى التفريق والأصل ذريرة قلبت الراء الأخيرة ياء هربا من ثقل التكرير كما قالوا في تظننت تظنيت، وفي تقضضت تقضيت، أو فعولة منه والأصل ذرورة فقلبت الراء الأخيرة ياء فجاء الإدغام، أو فعلية منه على صيغة النسبة قالوا: وهو الأظهر لكثرة مجيئها كحرية ودرية، وعدم احتياجها إلى الاعلال وإنما ضمت ذاله لأن الابنية قد تغير في النسبة خاصة كما قالوا في النسبة إلى الدهر: دهري. قالَ استئناف بياني أيضا، والضمير لله عز اسمه لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ إجابة لما راعى الأدب في طلبه من جعل بعض ذريته نبيا كما جعل مع تعيين جنس البعض الذي أبهم في دعائه عليه السلام بأبلغ وجه وآكده حيث نفى الحكم عن أحد الضدين مع الاشعار إلى دليل نفيه عنه ليكون دليلا على الثبوت للآخر فالمتبادر من العهد الإمامة، وليست هي هنا إلا النبوة. وعبر عنها «به» للإشارة إلى أنها أمانة الله تعالى وعهده الذي لا يقوم به إلا من شاء الله تعالى من عباده، وآثر النيل على الجعل إيماء إلى أن إمامة الأنبياء من ذريته عليهم السلام ليست بجعل مستقل بل هي حاصلة في ضمن إمامته تنال كلّا منهم في وقته المقدر له، ولا يعود من ذلك نقص في رتبة نبوة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم لأنه جار مجرى التغليب على أن مثل ذلك لو كان يحط من قدرها لما خوطب صلى الله تعالى عليه وسلم بقوله تعالى: أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ [النحل: 123] والمتبادر من- الظلم- الكفر لأنه الفرد الكامل من أفراده، ويؤيده قوله تعالى: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة: 254] فليس في الآية دلالة على عصمة الأنبياء عليهم السلام من الكبائر قبل البعثة ولا على أن الفاسق لا يصلح للخلافة، نعم فيها قطع أطماع الكفرة الذين كانوا يتمنون النبوة، وسد أبواب آمالهم الفارغة عن نيلها، واستدل بها بعض الشيعة على نفي إمامة الصديق وصاحبيه رضي الله تعالى عنهم حيث أنهم عاشوا مدة مديدة على الشرك وإِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] والظالم بنص الآية لا تناله الإمامة، وأجيب بأن غاية ما يلزم أن الظالم في حال الظلم لا تناله، والإمامة إنما نالتهم رضي الله تعالى عنهم في وقت كمال إيمانهم وغاية عدالتهم، واعترض بأن مِنْ تبعيضية فسؤال إبراهيم عليه السلام الإمامة إما للبعض العادل من ذريته مدة عمره أو الظالم حال الامامة سواء كان عادلا في باقي العمر أم لا، أو العادل في البعض الظالم في البعض الآخر أو الأعم، فعلى الأول يلزم عدم مطابقة الجواب، وعلى الثاني جهل الخليل، وحاشاه وعلى الثالث المطلوب وحياه، وعلى الرابع إما المطلوب أو الفساد وأنت خبير بأن مبنى الاستدلال حمل العهد على الأعم من النبوة والإمامة التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 يدعونها- ودون إثباته خرط القتاد- وتصريح البعض كالجصاص لا يبنى عليه إلزام الكل، وعلى تقدير التنزل يجاب بأنا نختار أن سؤال الإمامة بالمعنى الأعم للبعض المبهم من غير إحضار الاتصاف بالعدالة والظلم حال السؤال، والآية إجابة لدعائه مع زيادة على ما أشرنا إليه، وكذا إذا اختير الشق الأول بل الزيادة عليه زيادة، ويمكن الجواب باختيار الشق الثالث أيضا بأن نقول: هو على قسمين، أحدهما من يكون ظالما قبل الإمامة ومتصفا بالعدالة وقتها اتصافا مطلقا بأن صار تائبا من المظالم السابقة فيكون حال الإمامة متصفا بالعدالة المطلقة، والثاني من يكون ظالما قبل الإمامة ومحترزا عن الظلم حالها لكن غير متصف بالعدالة المطلقة لعدم التوبة، ويجوز أن يكون السؤال شاملا لهذا القسم ولا بأس به إذ أمن الرعية من الفساد الذي هو المطلوب يحصل به فالجواب بنفي حصول الإمامة لهذا القسم والشيخان وعثمان رضي الله تعالى عنهم ليسوا منه بل هم في أعلى مراتب القسم الأول متصفون بالتوبة الصادقة، والعدالة المطلقة، والإيمان الراسخ، والإمام لا بد أن يكون وقت الإمامة كذلك، ومن كفر أو ظلم ثم تاب وأصلح لا يصح أن يطلق عليه أنه كافر أو ظالم في لغة وعرف وشرع إذ قد تقرر في الأصول أن المشتق فيما قام به المبدأ في الحال حقيقة، وفي غيره مجاز، ولا يكون المجاز أيضا مطردا بل حيث يكون متعارفا وإلا لجاز صبي لشيخ ونائم لمستيقظ وغني لفقير. وجائع لشبعان وحي لميت وبالعكس، وأيضا لو اطرد ذلك يلزم من حلف لا يسلم على كافر فسلم على إنسان مؤمن في الحال إلا أنه كان كافرا قبل بسنين متطاولة أن يحنث ولا قائل به، هذا ومن أصحابنا من جعل الآية دليلا على عصمة الأنبياء عن الكبائر قبل البعثة وأن الفاسق لا يصح للخلافة، ومبنى ذلك حمل العهد على الإمامة وجعلها شاملة للنبوة والخلافة، وحمل الظالم على من ارتكب معصية مسقطة للعدالة بناء على أن الظلم خلاف العدل، ووجه الاستدلال حينئذ أن الآية دلت على أن نيل الامامة لا يجامع الظلم السابق فإذا تحقق النيل كما في الأنبياء علم عدم اتصافهم حال النيل بالظلم السابق وذلك إما بأن لا يصدر منهم ما يوجب ذلك أو بزواله بعد حصوله بالتوبة ولا قائل بالثاني إذ الخلاف إنما هو في أن صدور الكبيرة هل يجوز قبل البعثة أم لا؟ فيتعين الثاني وهو العصمة، أو المراد بها هاهنا عدم صدور الذنب لا الملكة وكذا إذا تحقق الاتصاف بالظلم كما في الفاسق علم عدم حصول الإمامة بعد ما دام اتصافه بذلك واستفادة عدم صلاحية الفاسق للإمامة على ما قررنا من منطوق الآية وجعلها من دلالة النص أو القياس المحوج إلى القول بالمساواة ولا أقل، أو التزام جامع، وهما مناط العيوق وإنما يدعو اليه حمل الإمامة على النبوة، وقد علمت أن المبني الحمل على الأعم وكان الظاهر أن الظلم الطارئ والفسق العارض يمنع عن الإمامة بقاء كما منع عنها ابتداء لأن المنافاة بين الوصفين متحققة في كل آن- وبه قال بعض السلف- إلا أن الجمهور على خلافه مدعين أن المنافاة في الابتداء لا تقتضي المنافاة في البقاء لأن الدفع أسهل من الرفع، واستشهدوا له بأنه لو قال لامرأة مجهولة النسب يولد مثلها لمثله: هذه بنتي لم يجز له نكاحها ولو قال لزوجته الموصوفة بذلك لم يرتفع النكاح لكن إن أصر عليه يفرق القاضي بينهما وهذا الذي قالوه إنما يسلم فيما إذا لم يصل الظلم إلى حد الكفر أما إذا وصل إليه فإنه ينافي الإمامة بقاء أيضا بلا ريب وينعزل به الخليفة قطعا، ومن الناس من استدل بالآية على أن الظالم إذا عوهد لم يلزم الوفاء بعهده وأيد ذلك بما روي عن الحسن أنه قال: إن الله تعالى لم يجعل للظالم عهدا وهو كما ترى، وقرأ أبو الرجاء وقتادة والأعمش- الظالمون- بالرفع على أن عَهْدِي مفعول مقدم على الفاعل اهتماما ورعاية للفواصل وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ عطف على وَإِذِ ابْتَلى وَالْبَيْتِ من الأعلام الغالبة للكعبة كالنجم للثريا مَثابَةً لِلنَّاسِ أي مجمعا لهم قاله الخليل. وقتادة- أو معاذا وملجأ- قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو مرجعا يثوب إليه أعيان الزوار أو أمثالهم- قاله مجاهد. وجبير- أو مرجعا يحق أن يرجع ويلجأ إليه- قاله بعض المحققين- أو موضع ثواب يثابون بحجه واعتماره- قاله عطاء- وحكاه الماوردي عن بعض أهل اللغة والتاء فيه وتركه لغتان كما في مقام ومقامة وهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 لتأنيث البقعة- وهو قول الفراء. والزجاج- وقال الأخفش: إن- التاء فيه للمبالغة كما في نسابة وعلامة، وأصله مثوبة على وزن مفعلة مصدر ميمي، أو ظرف مكان، واللام في الناس للجنس وهو الظاهر وجوز حمله على العهد أو الاستغراق العرفي، وقرأ الأعمش، وطلحة مثابات على الجمع لأنه مثابة كل واحد من الناس لا يختص به أحد منهم سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ [الحج: 25] فهو وإن كان واحدا بالذات إلا أنه متعدد باعتبار الإضافات، وقيل: إن الجمع بتنزيل تعدد الرجوع منزلة تعدد المحل أو باعتبار أن كل جزء منه مثابة، واختار بعضهم ذلك زعما منه أن الأول يقتضي أن يصح التعبير عن غلام جماعة بالمملوكين ولم يعرف، وفيه أنه قياس مع الفارق إذ له إضافة المملوكية إلى كلهم لا إلى كل واحد منهم وَأَمْناً عطف على مَثابَةً وهو مصدر وصف به للمبالغة، والمراد موضع أمن إما لسكانه من الخطف أو لحجاجه من العذاب حيث إن الحج يزيل ويمحو ما قبله غير حقوق العباد والحقوق المالية كالكفارة على الصحيح، أو للجاني الملتجئ إليه من القتل- وهو مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه- إذ عنده لا يستوفى قصاص النفس في الحرم لكن يضيق على الجاني ولا يكلم ولا يطعم ولا يعامل حتى يخرج فيقتل، وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه من وجب عليه الحد والتجأ إليه يأمر الإمام بالتضييق عليه بما يؤدي إلى خروجه فإذا خرج أقيم عليه الحد في الحل فإن لم يخرج جاز قتله فيه، وعند الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه لا يستوفى من المتلجئ قصاص مطلقا ولو قصاص الأطراف حتى يخرج ومن الناس من جعل- أمنا- مفعولا ثانيا لمحذوف على معنى الأمر أي- واجعلوه أمنا- كما جعلناه مثابة وهو بعيد عن الظاهر النظم، ولم يذكر للناس هنا كما ذكر من قبل اكتفاء به أو إشارة إلى العموم أي أنه أمن لكل شيء كائنا ما كان حتى الطير والوحش إلا الخمس الفواسق فإنها خصت من ذلك على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويدخل فيه أمن الناس دخولا أوليا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى عطف على جعلنا أو حال من فاعله على إرادة القول أي وقلنا أو قائلين لهم اتخذوا والمأمور به الناس كما هو الظاهر أو إبراهيم عليه السلام وأولاده كما قيل، أو عطف على اذكر المقدر عاملا ل إِذْ، أو معطوف على مضمر تقديره ثوبوا إليه وَاتَّخِذُوا وهو معترض باعتبار نيابته عن ذلك بين جعلنا وعهدنا ولم يعتبر الاعتراض من دون عطف مع أنه لا يحتاج إليه ليكون الارتباط مع الجملة السابقة أظهر، والخطاب على هذين الوجهين لأمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وهو صلى الله تعالى عليه وسلم رأس المخاطبين. ومِنْ إما للتبعيض أو بمعنى- في- أو زائدة- على مذهب الأخفش- والأظهر الأول، وقال القفال: هي مثل اتخذت من فلان صديقا وأعطاني الله تعالى من فلان أخا صالحا، دخلت لبيان المتخذ الموهوب وتمييزه، والمقام- مفعل من القيام يراد به المكان أي مكان قيامه وهو الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم عليه السلام حين ضعف من رفع الحجارة التي كان ولده إسماعيل يناوله إياها في بناء البيت، وفيه أثر قدميه قاله ابن عباس وجابر وقتادة وغيرهم، وأخرجه البخاري- وهو قول جمهور المفسرين- وروي عن الحسن أنه الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل عليه السلام تحت إحدى رجليه وهو راكب فغسلت أحد شقي رأسه ثم رفعته من تحتها وقد غاصت فيه ووضعته تحت رجله الأخرى فغسلت شقه الآخر وغاصت رجله الأخرى فيه أيضا، أو الموضع الذي كان فيه الحجر حين قام عليه ودعا الناس إلى الحج ورفع بناء البيت، وهو موضعه اليوم- فالمقام- في أحد المعنيين حقيقة لغوية وفي الآخر مجاز متعارف ويجوز حمل اللفظ على كل منهما- كذا قالوا- إلا أنه استشكل تعيين الموضع بما هو الموضع اليوم لما في فتح الباري من أنه كان المقام أي الحجر من عهد إبراهيم عليه السلام لزيق البيت إلى أن أخره عمر رضي الله تعالى عنه إلى المكان الذي هو فيه الآن أخرجه عبد الرزاق بسند قوي، وأخرج ابن مردويه بسند ضعيف عن مجاهد أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هو الذي حوله فإن هذا يدل على تغاير الموضعين سواء كان المحول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. أو عمر رضي الله تعالى عنه، وأيضا كيف يمكن رفع البناء حين القيام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 عليه حال كونه في موضعه اليوم؟! وهو بعيد من الحجر الأسود بسبعة وعشرين ذراعا، وأيضا المشهور أن دعوة الناس إلى الحج كانت فوق أبي قبيس فإنه صعده بعد الفراغ من عمارة البيت ونادى أيها الناس حجوا بيت ربكم فإن لم يكن الحجر معه حينئذ أشكل القول بأنه قام عليه ودعا وإن كان معه وكان الوقوف عليه فوق الجبل- كما يشير إليه كلام روضة الأحباب، وبه يحصل الجمع- أشكل التعيين بما هو اليوم وغاية التوجيه أن يقال لا شك أنه عليه السلام كان يحول الحجر حين البناء من موضع إلى موضع ويقوم عليه فلم يكن له موضع معين، وكذا حين الدعوة لم يكن عند البيت بل فوق أبي قبيس فلا بد من صرف عباراتهم عن ظاهرها بأن يقال الموضع الذي كان ذلك الحجر في أثناء زمان قيامه عليه واشتغاله بالدعوة، أو رفع البناء لا حالة القيام عليه، ووقع في بعض الكتب أن هذا المقام الذي فيه الحجر الآن كان بيت إبراهيم عليه السلام، وكان ينقل هذا الحجر بعد الفراغ من العمل إليه، وأن الحجر بعد إبراهيم كان موضوعا في جوف الكعبة، ولعل هذا هو الوجه في تخصيص هذا الموضع بالتحويل، وما وقع في الفتح من أنه كان المقام من عهد إبراهيم لزيق البيت معناه بعد إتمام العمارة فلا ينافي أن يكون في أثنائها في الموضع الذي فيه اليوم- كذا ذكره بعض المحققين فليفهم- وسبب النزول ما أخرجه أبو نعيم من حديث ابن عمر «أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أخذ بيد عمر رضي الله تعالى عنه فقال: يا عمر هذا مقام إبراهيم فقال عمر: أفلا نتخذه مصلى فقال: لم أومر بذلك فلم تغب الشمس حتى نزلت هذه الآية» والأمر فيها للاستحباب إذ المتبادر- من- المصلى- موضع الصلاة مطلقا، وقيل: المراد به الأمر بركعتي الطواف لما أخرجه مسلم عن جابر «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما فرغ من طوافه عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين، وقرأ الآية» فالأمر للوجوب على بعض الأقوال، ولا يخفى ضعفه لأن فيه التقييد بصلاة مخصوصة من غير دليل، وقراءته عليه الصلاة والسلام الآية حين أداء الركعتين لا يقتضي تخصيصه بهما، وذهب النخعي ومجاهد إلى أن المراد من مقام إبراهيم الحرم كله، وابن عباس وعطاء إلى أنه مواقف الحج كلها، والشعبي إلى أنه عرفة ومزدلفة والجمار، ومعنى- اتخاذها مصلى- أن يدعى فيها ويتقرب إلى الله تعالى عندها، والذي عليه الجمهور، هو ما قدمناه أولا، وهو الموافق لظاهر اللفظ ولعرف الناس اليوم وظواهر الأخبار تؤيده، وقرأ نافع وابن عامر «واتخذوا» بفتح الخاء على أنه فعل ماض، وهو حينئذ معطوف على جَعَلْنَا أي- واتخذ الناس- من مكان إبراهيم الذي عرف به وأسكن ذريته عنده- وهو الكعبة قبلة يصلون إليها. فالمقام مجاز عن ذلك المحل وكذا- المصلى- بمعنى القبلة مجاز عن المحل الذي يتوجه إليه في الصلاة بعلاقة القرب والمجاورة وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أي وصينا أو أمرنا أو أوحينا أو قلنا، والذي عليه المحققون أن العهد إذا تعدى ب إِلى يكون بمعنى التوصية، ويتجوز به عن الأمر، وإسماعيل علم أعجمي قيل: معناه بالعربية مطيع الله، وحكي أن إبراهيم عليه السلام كان يدعو أن يرزقه الله تعالى ولدا، ويقول:- اسمع إيل- أي استجب دعائي يا الله فلما رزقه الله تعالى ذلك سماه بتلك الجملة، وأراه في غاية البعد وللعرب فيه لغتان اللام والنون أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ أي بأن طَهِّرا على أن أَنْ مصدرية وصلت بفعل الأمر بيانا للموصى المأمور به، وسيبويه. وأبو علي جوزا كون صلة الحروف المصدرية أمرا أو نهيا والجمهور منعوا ذلك مستدلين بأنه إذا سبك منه مصدر فات معنى الأمر، وبأنه يجب في الموصول الاسمي كون صلته خبرية. والموصول الحرفي مثله، قدروا هنا- قلنا- ليكون مدخول الحرف المصدري خبرا، ويردّ عليهم أولا أن كونه مع الفعل بتأويل المصدر لا يستدعي اتحاد معناهما ضرورة عدم دلالة المصدر على الزمان مع دلالة الفعل عليه، وثانيا أن وجوب كون الصلة خبرية في الموصول الاسمى إنما هو للتوصل إلى وصف المعارف بالجمل وهي لا توصف بها إلا إذا كانت خبرية، وأما الموصول الحرفي فليس كذلك، وثالثا أن تقدير- قلنا- يفضي إلى أن يكون المأمور به القول، وليس كذلك، وجوز أن تكون أَنْ هذه مفسرة لتقدم ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 يتضمن معنى القول دون حروفه، وهو العهد، ويحتاج حينئذ إلى تقدير المفعول إذ يشترط مع تقدم ما ذكر كون مدخولها مفسرا لمفعول مقدر أو ملفوظ أي قلنا لهما شيئا هو أَنْ طَهِّرا والمراد من التطهير التنظيف من كل ما لا يليق فيدخل فيه الأوثان والأنجاس وجميع الخبائث وما يمنع منه شرعا كالحائض وخص مجاهد وابن عطاء ومقاتل وابن جبير التطهير بإزالة الأوثان، وذكروا أن البيت كان عامرا على عهد نوح عليه السلام وأنه كان فيه أصنام على أشكال صالحيهم، وأنه طال العهد فعبدت من دون الله تعالى فأمر الله تعالى بتطهيره منها، وقيل: المراد بخّراه ونظفاه وخلقاه وارفعا عنه الفرث والدم الذي كان يطرح فيه، وقيل: أخلصاه لمن ذكر بحيث لا يغشاه غيرهم فالتطهير عبارة عن لازمه، ونقل عن السدي أن المراد به البناء والتأسيس على الطهارة والتوحيد وهو بعيد، وتوجيه الأمر هنا إلى إبراهيم وإسماعيل لا ينافي ما في سورة الحج من تخصيصه بإبراهيم عليه السلام فإن ذلك واقع قبل بناء البيت كما يفصح عنه قوله تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ [الحج: 26] وكان إسماعيل حينئذ بمعزل من مثابة الخطاب، وظاهر أن هذا بعد بلوغه مبلغ الأمر والنهي، وتمام البناء بمباشرته كما ينبىء عنه إيراده إثر حكاية جعله مَثابَةً وإضافة البيت إلى ضمير الجلالة للتشريف ك ناقَةُ اللَّهِ [الأعراف: 73، هود: 64، الشمس: 13] لا أنه مكان له تعالى عن ذلك علوا كبيرا لِلطَّائِفِينَ أي لأجلهم فاللام تعليلية وإن فسر التطهير بلازمه كانت صلة له، والطائف- اسم فاعل من طاف به إذا دار حوله، والظاهر أن المراد كل من يطوف من حاضر أو باد- وإليه ذهب عطاء وغيره- وقال ابن جبير: والمراد الغرباء الوافدون مكة حجاجا وزوارا. وَالْعاكِفِينَ وهم أهل البلد الحرام المقيمون عند ابن جبير، وقال عطاء: هم الجالسون من غير طواف من بلدي وغريب، وقال مجاهد: المجاورون له من الغرباء، وقيل: هم المعتكفون فيه وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وهم المصلون جمع راكع وساجد، وخص الركوع والسجود بالذكر من جميع أحوال المصلي لأنهما أقرب أحواله إليه تعالى وهما الركنان الأعظمان وكثيرا ما يكنى عن الصلاة بهما ولذا ترك العطف بينهما ولم يعبر بالمصلين مع اختصاره إيذانا بأن المعتبر صلاة ذات ركوع وسجود لا صلاة اليهود. وقدم الركوع لتقدمه في الزمان وجمعا جمع تكسير لتغير هيئة المفرد مع مقابلتهما ما قبلهما من جمعي السلامة وفي ذلك تنويع في الفصاحة، وخالف بين وزني تكسيرهما للتنويع مع المخالفة في الهيئات وكان آخرهما على فعول لأجل كونه فاصلة والفواصل قبل وبعد آخرها حرف قبله حرف مدّ ولين وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً الإشارة إلى الوادي المذكور بقوله تعالى: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ [إبراهيم: 37] أي اجعل هذا المكان القفر بلدا إلخ فالمدعو به البلدية مع الأمن، وهذا بخلاف ما في سورة إبراهيم [35] رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ولعل السؤال متكرر، وما في تلك السورة كان بعد، والأمن المسئول فيها إما هو الأول وأعاد سؤاله دون البلدية رغبة في استمراره لأنه المقصد الأصلي، أو لأن المعتاد في البلدية الاستمرار بعد التحقق بخلافه. وإما غيره بأن يكون المسئول أولا مجرد الأمن المصحح للسكنى، وثانيا الأمن المعهود، ولك أن تجعل هَذَا الْبَلَدَ في تلك السورة إشارة إلى أمر مقدر في الذهن كما يدل عليه رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ إلخ فتطابق الدعوتان حينئذ وإن جعلت الإشارة هنا إلى البلد تكون الدعوة بعد صيرورته بلدا والمطلوب كونه آمنا على طبق ما في السورة من غير تكلف إلا أنه يفيد المبالغة أي بلدا كاملا في الأمن كأنه قيل اجعله بلدا معلوم الاتصاف بالأمن مشهورا به كقولك كان هذا اليوم يوما حارا، والوصف بآمن إما على معنى النسب أي ذا أمن على حد ما قيل: فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة: 21، القارعة: 7] وإما على الاتساع والإسناد المجازي، والأصل آمنا أهله فأسند ما للحال للمحل لأن الأمن والخوف من صفات ذوي الإدراك، وهل الدعاء بأن يجعله آمنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 من الجبابرة والمتغلبين، أو من أن يعود حرمه حلالا، أو من أن يخلو من أهله. أو من الخسف والقذف، أو من القحط والجدب، أو من دخول الدجال، أو من دخول أصحاب الفيل؟؟ أقوال، والواقع يرد بعضها فإن الجبابرة دخلته وقتلوا فيه- كعمرو بن لحي الجرهمي، والحجاج الثقفي، والقرامطة وغيرهم- وكون البعض لم يدخله للتخريب بل كان غرضه شيئا آخر لا يجدي نفعا كالقول بأنه ما آذى أهله جبار إلا قصمه الله تعالى ففي المثل: إذا مت عطشانا فلا نزل القطر وكان النداء بلفظ الرب مضافا لما في ذلك من التلطف بالسؤال والنداء بالوصف الدال على قبول السائل، وإجابة ضراعته، وقد أشرنا من قبل إلى ما ينفعك هنا فتذكر. وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ أي من أنواعها بأن تجعل قريبا منه قرى يحصل فيها ذلك أو تجيء إليه من الأقطار الشاسعة- وقد حصل كلاهما- حتى أنه يجتمع فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد روي أن الله سبحانه لما دعا إبراهيم أمر جبريل فاقتلع بقعة من فلسطين، وقيل: من الأردن وطاف بها حول البيت سبعا فوضعها حيث وضعها رزقا للحرم وهي الأرض المعروفة اليوم بالطائف وسميت به لذلك الطواف، وهذا على تقدير صحته غير بعيد عن قدرة الملك القادر جل جلاله، وإن أبيت إبقاءه على ظاهره فباب التأويل واسع، وجمع القلة إظهارا للقناعة، وقد أشرنا إلى أنه كثيرا ما يقوم مقام جمع الكثرة، ومِنَ للتبعيض، وقيل: لبيان الجنس. مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ بدل من أَهْلَهُ بدل البعض وهو مخصص لما دل عليه المبدل منه واقتصر في متعلق الإيمان بذكر المبدأ والمعاد لتضمن الإيمان بهما الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به قالَ أي الله تعالى. وَمَنْ كَفَرَ عطف على مَنْ آمَنَ أي- وارزق من كفر أيضا- فالطلب بمعنى الخبر على عكس ومِنْ ذُرِّيَّتِي وفائدة العدول تعليم تعميم دعاء الرزق وأن لا يحجر في طلب اللطف وكأن إبراهيم عليه السلام قاس الرزق على الإمامة فنبهه سبحانه على أن الرزق رحمة دنيوية لا تخص المؤمن بخلاف الإمامة أو أنه عليه السلام لما سمع لا يَنالُ إلخ احترز من الدعاء لمن ليس مرضيا عنده تعالى فأرشده إلى كرمه الشامل، وبما ذكرنا اندفع ما في البحر من أن هذا العطف لا يصح لأنه يقتضي التشريك في العامل فيصير قال إبراهيم: وَارْزُقْ فينافيه ما بعد، ولك أن تجعل العطف على محذوف أي- ارزق من آمن ومن كفر- بلفظ الخبر ومن لا يقول بالعطف التلقيني يوجب ذلك ويجوز أن تكون مِنَ مبتدأ شرطية أو موصولة وقوله تعالى: فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا على الأول معطوف على كَفَرَ وعلى «الثاني» خبر للمبتدأ- والفاء- لتضمن المبتدأ معنى الشرط ولا حاجة إلى تقدير- أنا- لأن ابن الحاجب نص على أن المضارع في الجزاء يصح اقترانه بالفاء إلا أن يكون استحسانا، وإلى عدم التقدير ذهب المبرد، ومذهب سيبويه وجوب التقدير وأيد بأن المضارع صالح للجزاء بنفسه فلولا أنه خبر مبتدأ لم يدخل عليه الفاء، ثم الكفر وإن لم يكن سببا للتمتع المطلق لكنه يصلح سببا لتقليله وكونه موصولا بعذاب النار- وقليلا- صفة لمحذوف أي متاعا أو زمانا قَلِيلًا وقرأ ابن عامر فَأُمَتِّعُهُ مخففا على الخبر، وكذا قرأ يحيى بن وثاب إلا أنه كسر الهمزة، وقرأ أبيّ- فنمتعه- بالنون، وابن عباس ومجاهد فَأُمَتِّعُهُ على صيغة الأمر، وعلى هذه القراءة يتعين أن يكون الضمير في قالَ عائدا إلى إبراهيم، وحسن إعادة قالَ طول الكلام وأنه انتقل من الدعاء لقوم إلى الدعاء على آخرين فكأنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 أخذ في كلام آخر وكونه عائدا إليه تعالى- أي قال الله: فَأُمَتِّعُهُ يا قادر يا رازق خطابا لنفسه على طريق التجريد- بعيد جدا لا ينبغي أن يلتفت إليه. ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ الاضطرار ضد الاختيار وهو حقيقة في كون الفعل صادرا من الشخص من غير تعلق إرادته به كمن ألقى من السطح مثلا مجاز في كون الفعل باختياره لكن بحيث لا يملك الامتناع عنه بأن عرض له عارض يقسره على اختياره كمن أكل الميتة حال المخمصة وبكلا المعنيين قال بعض، ويؤيد الأول قوله تعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [الطور: 13] ويُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ [القمر: 48] وفَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ [الرحمن: 41] ويؤيد الثاني قوله تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: 71] وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم: 71] الآية وإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ [الأنبياء: 98] والتحقيق أن أحوال الكفار يوم القيامة عند إدخالهم النار شتى وبذلك يحصل الجمع بين الآيات وإن الاضطرار مجاز عن كون العذاب واقعا به وقوعا محققا حتى كأنه مربوط به، قيل: إن هذا الاضطرار في الدنيا وهو مجاز أيضا كأنه شبه حال الكافر الذي أدرّ الله تعالى عليه النعمة التي استدناه بها قليلا إلى ما يهلكه بحال من لا يملك الامتناع مما اضطر إليه فاستعمل في المشبه ما استعمل في المشبه به وهو كلام حسن لولا أنه يستدعي ظاهرا حمل ثُمَّ على التراخي الرتبي وهو خلاف الظاهر، وقرأ ابن عامر- اضطره- بكسر الهمزة، ويزيد بن أبي حبيب- اضطره- بضم الطاء وأبيّ- نضطره- بالنون، وابن عباس. ومجاهد على صيغة الأمر، وابن محيصن- أطره- بإدغام الضاد في الطاء خبرا- قال الزمخشري- وهي لغة مرذولة لأن حروف ضم شفر يدغم فيها ما يجاورها دون العكس، وفيه أن هذه الحروف أدغمت في غيرها فأدغم أبو عمرو الراء في اللام في نَغْفِرْ لَكُمْ [البقرة: 284، الأعراف: 161] والضاد في الشين في- لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ- والشين في السين في الْعَرْشِ سَبِيلًا [الإسراء: 42] والكسائي الفاء في الباء في نَخْسِفْ بِهِمُ [سبأ: 9] ونقل سيبويه عن العرب أنهم قالوا- مضطجع ومطجع- إلا أن عدم الإدغام أكثر، وأصل اضطر على هذا على ما قيل: اضتر فأبدلت التاء طاء، ثم وقع الإدغام وَبِئْسَ الْمَصِيرُ المخصوص بالذم محذوف لفهم المعنى أي- وبئس المصير النار- إن كان المصير اسم مكان وإن كان مصدرا على من أجاز ذلك فالتقدير وبئست الصيرورة صيرورته إلى العذاب وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ عطف على وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ وإذ للمضي وآثر صيغة المضارع مع أن القصة ماضية استحضارا لهذا الأمر ليقتدي الناس به في إتيان الطاعات الشاقة مع الابتهال في قبولها وليعلموا عظمة البيت المبني فيعظموه الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ القواعد جمع قاعدة وهي الأساس كما قاله أبو عبيدة صفة صارت بالغلبة من قبيل الأسماء الجامدة بحيث لا يذكر لها موصوف ولا يقدر من القعود بمعنى الثبات، ولعله مجاز من المقابل للقيام، ومنه قعدك الله تعالى في الدعاء بمعنى أدامك الله تعالى وثبتك، ورفع القواعد على هذا المعنى مجاز عن البناء عليها إذ الظاهر من رفع الشيء جعله عاليا مرتفعا، والأساس لا يرتفع بل يبقى بحاله لكن لما كانت هيئته قبل البناء عليه الانخفاض ولما بني عليه انتقل إلى هيئة الارتفاع بمعنى أنه حصل له مع ما بني عليه تلك الهيئة صار البناء عليه سببا للحصول كالرفع فاستعمل الرفع في البناء عليه واشتق من ذلك يَرْفَعُ بمعنى يبنى عليها، وقيل: الْقَواعِدَ ساقات البناء وكل ساق قاعدة لما فوقه، فالمراد برفعها على هذا بناؤها نفسها، ووجه الجمع عليه ظاهر وعلى الأول لأنها مربعة ولكل حائط أساس، وضعف هذا القول بأن فيه صرف لفظ الْقَواعِدَ عن معناه المتبادر وليس هو كصرف الرفع في الأول، وقيل: الرفع بمعنى الرفعة والشرف، والْقَواعِدَ بمعناه الحقيقي السابق فهو استعارة تمثيلية- وفيه بعد- إذ لا يظهر حينئذ فائدة لذكر الْقَواعِدَ. ومِنَ ابتدائية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 متعلقة ب يَرْفَعُ أو حال من الْقَواعِدَ ولم يقل قواعد البيت لما في الإبهام والتبيين من الاعتناء الدال على التفخيم ما لا يخفى. وَإِسْماعِيلُ عطف على إِبْراهِيمُ، وفي تأخيره عن المفعول المتأخر عنه رتبة إشارة إلى أن مدخليته في رفع البناء، والعمل دون مدخلية إبراهيم عليه السلام، وقد ورد أنه كان يناوله الحجارة، وقيل: كانا يبنيان في طرفين أو على التناوب، وأبعد بعضهم فزعم أن إِسْماعِيلُ مبتدأ وخبره محذوف أي يقول: ربنا، وهذا ميل إلى القول بأن إبراهيم عليه السلام هو المتفرد بالبناء ولا مدخلية لإسماعيل فيه أصلا بناء على ما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان إذ ذاك طفلا صغيرا، والصحيح أن الأثر غير صحيح، هذا وقد ذكر أهل الأخبار في ماهية هذا البيت وقدمه وحدوثه، ومن أي شيء كان باباه، وكم مرة حجه آدم، ومن أي شيء بناه إبراهيم، ومن ساعده على بنائه، ومن أين أتي بالحجر الأسود؟؟؟ أشياء لم يتضمنها القرآن العظيم، ولا الحديث الصحيح، وبعضها يناقض بعضا، وذلك على عادتهم في نقل ما دب ودرج، ومن مشهور ذلك أن الكعبة أنزلت من السماء في زمان آدم، ولها بابان إلى المشرق والمغرب فحج آدم من أرض الهند واستقبلته الملائكة أربعين فرسخا فطاف بالبيت ودخله ثم رفعت في زمن طوفان نوح عليه السلام إلى السماء ثم أنزلت مرة أخرى في زمن إبراهيم فزارها. ورفع قواعدها وجعل بأبيها بابا واحدا ثم تمخض أبو قبيس فانشق عن الحجر الأسود، وكان ياقوتة بيضاء من يواقيت الجنة نزل بها جبريل فخبئت في زمان الطوفان إلى زمن إبراهيم فوضعه إبراهيم مكانه ثم اسود بملامسة النساء الحيض، وهذا الخبر وأمثاله إن صح- عند أهل الله تعالى- إشارات ورموز لمن أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: 37] فنزولها في زمن آدم عليه السلام إشارة إلى ظهور عالم المبدأ والمعاد ومعرفة عالم النور وعالم الظلمة في زمانه دون عالم التوحيد، وقصده زيارتها من أرض الهند إشارة إلى توجهه بالتكوين، والاعتدال من عالم الطبيعة الجسمانية المظلمة إلى مقام القلب، واستقبال الملائكة إشارة إلى تعلق القوى النباتية والحيوانية بالبدن وظهور آثارها فيه قبل آثار القلب في الأربعين التي تكونت فيها بنيته وتخمرت طينته أو توجهه بالسير والسلوك من عالم النفس الظلماني إلى مقام القلب، واستقبال الملائكة تلقي القوى النفسانية والبدنية إياه بقبول الآداب والأخلاق الجميلة، والملكات الفاضلة، والتمرن والتنقل في المقامات قبل وصوله إلى مقام القلب، وطوافه بالبيت إشارة إلى وصوله إلى مقام القلب وسلوكه فيه مع التلوين، ودخوله إشارة إلى تمكينه واستقامته فيه، ورفعه في زمن الطوفان إلى السماء إشارة إلى احتجاب الناس بغلبة الهوى وطوفان الجهل في زمن نوح عن مقام القلب، وبقاؤه في السماء إشارة إلى البيت المعمور الذي هو قلب العالم ونزوله مرة أخرى في زمان إبراهيم إشارة إلى اهتداء الناس في زمانه إلى مقام القلب بهدايته، ورفع إبراهيم قواعده وجعله ذا باب واحد إشارة إلى ترقي القلب إلى مقام التوحيد إذ هو أول من أظهر التوحيد الذاتي المشار إليه بقوله تعالى حكاية عنه: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الإنعام: 79] والحجر الأسود إشارة إلى الروح التي هي أمر الله عز شأنه ويمينه، وموضع سره، وتمخض أبي قبيس وانشقاقه عنه إشارة إلى ظهوره بالرياضة وتحرك آلات البدن باستعمالها في التفكر والتعبد في طلب ظهوره، ولهذا قيل: خبئت أي احتجبت بالبدن، واسوداده بملامسة الحيض إشارة إلى تكدره بغلبة القوى النفسانية على القلب، واستيلائها عليه، وتسويدها الوجه النوراني الذي يلي الروح منه. ولو ترك القطا ليلا لناما رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا أي يقولان رَبَّنا وبه قرأ أبيّ والجملة حال من فاعل يَرْفَعُ وقيل: معطوفة على ما قبله بجعل القول متعلقا ل إِذْ والتقبل مجاز عن الإثابة والرضا لأن كل عمل يقبله الله تعالى فهو يثيب صاحبه ويرضاه منه، وفي سؤال الثواب على العمل دليل على أن ترتبه عليه ليس واجبا، وإلا لم يطلب، وفي اختيار صيغة التفعل اعتراف بالقصور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 لما فيه من الإشعار بالتكلف في القبول، وإن كان التقبل والقبول بالنسبة إليه تعالى على السواء إذ لا يمكن تعقل التكلف في شأنه عز شأنه، ويمكن أن يكون المراد من التقبل الرضا فقط دون الإثابة لأن غاية ما يقصده المخلصون من الخدم لوقوع أفعالهم موضع القبول والرضا عند المخدوم، وليس الثواب مما يخطر لهم ببال، ولعل هذا هو الأنسب بحال الخليل وابنه إسماعيل عليهما السلام إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ تعليل لاستدعاء التقبل، والمراد السميع لدعائنا، والعليم بنياتنا، وبذلك يصح الحصر المستفاد من تعريف المسندين ويفيد نفي السمعة والرياء في الدعاء والعمل الذي هو شرط القبول، وتأكيد الجملة لاظهار كمال قوة يقينهما بمضمونها وتقديم صفة السمع، وإن كان سؤال التقبل متأخرا عن العمل للمجاورة ولأنها ليست مثل العلم شمولا. رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ أي منقادين قائمين بشرائع الإسلام أو مخلصين موحدين لك- فمسلمين- إما من استسلم إذا انقاد أو من أسلم وجهه إذا أخلص نفسه أو قصده ولكل من المعنيين عرض عريض، فالمراد طلب الزيادة فيهما أو الثبات عليهما، والأول أولى نظرا إلى منصبهما وإن كان الثاني أولى بالنظر إلى أنه أتم في إظهار الانقطاع إليه جل جلاله. وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنه «مسلمين» بصيغة الجمع على أن المراد أنفسهما والموجود من أهلهما كهاجر (1) وهذا أولى من جعل لفظ الجمع مرادا به التثنية، وقد قيل به هنا، وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا عطف على الضمير المنصوب في اجْعَلْنا وهو في محل المفعول الأول وأُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ في موضع المفعول الثاني معطوف على مُسْلِمَيْنِ لَكَ ولو اعتبر حذف الجعل فلا بد أن يحمل على معنى التصيير لا الإيجاد لأنه وإن صح من جهة المعنى إلا أن الأول لا يدل عليه وإنما خصا- الذرية- بالدعاء لأنهم أحق بالشفقة كما قال الله تعالى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً [التحريم: 6] ولأنهم أولاد الأنبياء وبصلاحهم صلاح كل الناس فكان الاهتمام بصلاحهم أكثر، وخصا البعض لما علما من قوله سبحانه: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ [الصافات: 113] أو من قوله عز شأنه: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ باعتبار السياق ان في- ذريتهما- ظلمة وأن الحكمة الإلهية تستدعي الانقسام إذ لولاه ما دارت أفلاك الأسماء ولا كان ما كان من أملاك السماء، والمراد من الأمة الجماعة أو الجيل، وخصها بعضهم بأمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وحمل التنكير على التنويع، واستدل على ذلك بقوله تعالى: وَابْعَثْ إلخ، ولا يخفى أنه صرف للفظ عن ظاهره واستدلال بما لا يدل، وجوز أبو البقاء أن يكون أُمَّةً المفعول الأول وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا حال لأنه نعت نكرة تقدم عليها- ومسلمة- المفعول الثاني وكان الأصل- واجعل أمة من ذريتنا مسلمة لك- فالواو داخلة في الأصل على أُمَّةً وقد فصل بينهما بالجار والمجرور، ومِنْ عند بعضهم على هذا بيانية على حد وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ [النور: 55] ونظر فيه أبو حيان بأن أبا علي وغيره منعوا أن يفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف والفصل بالحال أبعد من الفصل بالظرف، وجعلوا ما ورد من ذلك ضرورة وبأن كون مِنْ للتبيين مما يأباه الأصحاب ويتأولون ما فهم ذلك من ظاهره، ولا يخفى أن المسألة خلافية وما ذكره مذهب البعض وهو لا يقوم حجة على البعض الآخر وَأَرِنا مَناسِكَنا قال قتادة: معالم الحج، وقال عطاء. وابن جريج: مواضع الذبح، وقيل: أعمالنا التي نعملها إذا حججنا فالمنسك بفتح السين والكسر شاذ إما مصدر أو مكان وأصل النسك بضمتين غاية العبادة وشاع في الحج لما فيه من الكلفة غالبا والبعد عن العادة، وأَرِنا من رأى البصرية ولهمزة الافعال تعدت إلى مفعولين أو من رأى القلبية بمعنى عرف لا علم، وإلا لتعدت إلى ثلاثة، وأنكر ابن الحاجب وتبعه أبو حيان   (1) بفتح الجيم اسم أم إسماعيل اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 ثبوت رأى بمعنى عرف، وذكره الزمخشري في المفصل، والراغب في مفرداته وهما من الثقات فلا عبرة بإنكارهما، وقرأ ابن مسعود- وأرهم مناسكهم- باعادة الضمير إلى الذرية، وقرأ ابن كثير ويعقوب- وأرنا- بسكون الراء وقد شبه فيه المنفصل بالمتصل فعومل معاملة فَخُذْ [البقرة: 260، الأعراف: 144، يوسف: 78] في إسكانه للتخفيف، وقد استعملته العرب كذلك ومنه قوله: أرنا إداوة عبد الله نملؤها ... من ماء زمزم إن القوم قد ظمئوا وقول الزمخشري: إن هذه القراءة قد استرذلت لأن الكسرة منقولة من الهمزة الساقطة دليل عليها فإسقاطها إجحاف مما لا ينبغي لأن القراءة من المتواترات ومثلها أيضا موجود في كلام العرب العرباء وَتُبْ عَلَيْنا أي وفقنا للتوبة أو اقبلها منا والتوبة تختلف باختلاف التائبين فتوبة سائر المسلمين الندم والعزم على عدم العود ورد المظالم إذا أمكن، ونية الرد إذا لم يمكن، وتوبة الخواص الرجوع عن المكروهات من خواطر السوء، والفتور في الأعمال، والإتيان بالعبادة على غير وجه الكمال، وتوبة خواص الخواص لرفع الدرجات، والترقي في المقامات، فإن كان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام طلبا التوبة لأنفسهما خاصة، فالمراد بها ما هو من توبة القسم الأخير، وإن كان الضمير شاملا لهما وللذرية كان الدعاء بها منصرفا لمن هو من أهلها ممن يصح صدور الذنب المخل بمرتبة النبوة منه، وإن قيل: إن الطلب للذرية فقط وارتكب التجوز في النسبة إجراء للولد مجرى النفس بعلاقة البعضية ليكون أقرب إلى الإباحة، أو في الطرف حيث عبر عن الفرع باسم الأصل، أو قيل: بحذف المضاف- أي على عصاتنا- زال الاشكال كما إذا قلنا: إن ذلك عما فرط منهما من الصغائر سهوا، والقول بأنهما لم يقصدا الطلب حقيقة، وإنما ذكرا ذلك للتشريع وتعليم الناس ان تلك المواضع مواضع التنصل، وطلب التوبة من الذنوب بعيد جدا، وجعل الطلب للتثبيت لا أراه هنا يجدي نفعا- كما لا يخفى- وقرأ عبد الله «وتب عليهم» بضمير جمع الغيبة أيضا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ تعليل للدعاء ومزيد استدعاء للإجابة، وتقديم التوبة للمجاورة، وتأخير الرحمة لعمومها ولكونها أنسب بالفواصل. رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ أي أرسل في- الأمة المسلمة- وقيل: في- الذرية- وعود الضمير إلى أهل مكة بعيد رَسُولًا مِنْهُمْ أي من أنفسهم، ووصفه بذلك ليكون أشفق عليهم، ويكونوا أعز به وأشرف، وأقرب للإجابة، لأنهم يعرفون منشأه وصدقه وأمانته، ولم يبعث من ذرية كليهما سوى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وجميع أنبياء بني إسرائيل من ذرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام- لا من ذريتهما- فهو المجاب به دعوتهما، كما روى الإمام أحمد وشارح السنة عن العرباض عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «سأخبركم بأول أمري، أنا دعوة إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني» وأراد صلى الله تعالى عليه وسلم إثر دعوته، أو مدعوه، أو عين دعوته- على المبالغة- ولما كان إسماعيل عليه السلام شريكا في الدعوة كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم دعوة إسماعيل أيضا إلا أنه خص إبراهيم لشرافته، وكونه أصلا في الدعاء، ووهم من قال: إن الاقتصار في الحديث على إبراهيم يدل على أن المجاب من الدعوتين كان دعوة إبراهيم دون إسماعيل عليهما الصلاة والسلام. وقرأ أبيّ «وابعث فيهم في آخرهم رسولا» وهذا يؤيد أن المراد به نبينا صلّى الله عليه وسلّم، «وفي الأثر» أنه لما دعي إبراهيم قيل له: قد استجيب لك، وهو يكون في آخر الزمان. يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ أي يقرأ عليهم ما توحي إليه من العلامات الدالة على التوحيد والنبوة وغيرهما، وقيل: خبر من مضى ومن يأتي إلى يوم القيامة، والجملة صفة رَسُولًا وقيل: في موضع الحال منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ بأن يفهمهم ألفاظه ويبين لهم كيفية أدائه، ويوقفهم على حقائقه وأسراره. «والظاهر» أن مقصودهما من هذه الدعوة أن يكون- الرسول- صاحب كتاب يخرجهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، وقد أجاب سبحانه هذه الدعوة بالقرآن، وكونه بخصوصه كان مدعوا به غير بين ولا مبين. وَالْحِكْمَةَ أي وضع الأشياء مواضعها، أو ما يزيل من القلوب وهج حب الدنيا، أو الفقه في الدين، أو السنة المبينة- للكتاب- أو- الكتاب- نفسه، وكرر للتأكيد اعتناء بشأنه، وقد يقال: المراد بها حقائق الكتاب ودقائقه وسائر ما أودع فيه، ويكون- تعليم الكتاب- عبارة عن تفهيم ألفاظه، وبيان كيفية أدائه، وتعليم الْحِكْمَةَ الإيقاف على ما أودع فيه، وفسرها بعضهم بما تكمل به النفوس من المعارف والأحكام فتشمل الْحِكْمَةَ النظرية والعملية، قالوا: وبينها وبين ما في الْكِتابَ عموم من وجه لاشتمال القرآن على القصص والمواعيد، وكون بعض الأمور الذي يفيد كمال النفس- علما وعملا- غير مذكور في الْكِتابَ وأنت تعلم أنت هذا القول بعد سماع قوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الإنعام: 38] وقوله تعالى سبحانه: تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89] مما لا ينبغي الاقدام عليه، اللهم إلا أن تكون هذه النسبة بين ما في الْكِتابَ الذي في الدعوة مع قطع النظر عما أجيبت به وبين الحكمة فتدبر وَيُزَكِّيهِمْ أي يطهرهم من أرجاس الشرك وأنجاس الشك وقاذورات المعاصي. وهو إشارة إلى التخلية كما أن التعليم إشارة إلى التحلية- ولعل تقديم الثاني على الأول لشرافته- والقول بأن المراد يأخذ منهم الزكاة التي هي سبب لطهارتهم أو يشهد لهم- بالتزكية والعدالة- بعيد إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي الغالب المحكم لما يريد، فلك أن تخصص واحدا منهم بالرسالة الجامعة لهذه الصفات بإرادته من غير مخصص، وحمل الْعَزِيزُ هنا على من لا مثل له- كما قاله ابن عباس- أو المنتقم- كما قاله الكلبي- والْحَكِيمُ على العالم- كما قيل- لا يخلو عن بعد. وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إنكار واستبعاد لأن يكون في العقلاء- من يرغب عن ملته- وهي الحق الواضح غاية الوضوح، أي لا يرغب عن ذلك أحد إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ أي جعلها مهانة ذليلة. وأصل- السفه- الخفة، ومنه زمام سفيه- أي خفيف- وسفه- بالكسر- كما قال المبرد. وثعلب: متعد بنفسه، ونَفْسَهُ مفعول به، وأما سَفِهَ بالضم فلازم، ويشهد له ما جاء في الحديث «الكبر أن تسفه الحق وتغمط الناس» وقيل: إنه لازم أيضا، وتعدى إلى المفعول لتضمنه معنى ما يتعدى إليه، أي جهل نفسه لخفة عقله وعدم تفكره، وهو قول الزجاج، أو أهلكها، وهو قول أبي عبيدة وقيل: إن النصب بنزع الخافض- أي في نفسه- فلا ينافي اللزوم- وهو قول لبعض البصريين- وقيل: على التمييز كما في قول النابغة الذبياني: ونأخذ بعده بذناب عيش ... أجبّ الظهر ليس له سنام وقيل: على التشبيه بالمفعول به، واعترض الجميع أبو حيان قائلا: إن التضمين والنصب بنزع الخافض لا ينقاسان. وإن التشبيه بالمفعول به مخصوص عند الجمهور بالصفة- كما قيل به في البيت- وإن البصريين منعوا مجيء التمييز معرفة، فالحق الذي لا ينبغي أن يتعدى القول بالتعدي. ومَنْ إما موصولة أو موصوفة في محل الرفع على المختار بدلا من الضمير في يَرْغَبُ لأنه استثناء من غير موجب، وسبب نزول الآية ما روي أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرا إلى الإسلام فقال لهما: قد علمتما أن الله تعالى قال في التوراة: إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد، فمن آمن به فقد اهتدى ورشد، ومن لم يؤمن به فهو ملعون، فأسلم سلمة وأبى مهاجر، فنزلت وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا أي اخترناه بالرسالة بتلك الملة، واجتبيناه من بين سائر الخلق، وأصله اتخاذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 صفوة الشيء أي خالصه وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ أي المشهود لهم بالثبات على الاستقامة والخير والصلاح، والجملة معطوفة على ما قبلها، وذلك من حيث المعنى دليل مبين لكون- الراغب عن ملة إبراهيم سفيها- إذ الاصطفاء والعز في الدنيا غاية المطالب الدنيوية- والصلاح- جامع للكمالات الأخروية ولا مقصد للإنسان الغير- السفيه- سوى خير الدارين، وأما من حيث اللفظ فيحتمل أن يكون حالا مقررة لجهة الإنكار- واللام لام الابتداء- أي أيرغب عن ملته ومعه ما يوجب عكس ذلك، وهو الظاهر لفظا لعدم الاحتياج إلى تقدير القسم- وارتضاه الرضيّ- ويحتمل أن يكون عطفا على ما قبله، أو اعتراضا بين المعطوفين- واللام- جواب القسم المقدر وهو الظاهر معنى لأن الأصل في الجمل الاستقلال ولإفادة زيادة التأكيد المطلوب في المقام والاشعار بأن المدعى لا يحتاج إلى البيان، والمقصود مدحه عليه السلام وإيراد الجملة الأولى ماضوية لمضيها من وقت الاخبار، والثانية اسمية لعدم تقييدها بالزمان لأن انتظامه في زمرة صالحي أهل الآخرة أمر مستمر في الدارين لا أنه يحدث في الآخرة، والتأكيد «بأن، واللام» لما أن الأمور الأخروية خفية عند المخاطبين فحاجتها إلى التأكيد أشد من الأمور التي تشاهد آثارها، وكلمة فِي متعلقة ب الصَّالِحِينَ على أن- أل- فيه للتعريف لا موصولة ليلزم تقديم ب اصْطَفَيْناهُ وفي الآية تقديم وتأخير، أو بمحذوف حالا من المستكن في الوصف بعيد. إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ ظرف- لاصطفيناه- والمتوسط المعطوف ليس بأجنبي لأنه لتقدير المتعلق المعطوف تأكيده لأن اصطفاءه في الدنيا إنما هو للرسالة وما يتعلق بصلاح الآخرة فلا حاجة إلى أن يجعل اعتراضا أو حالا مقدرة كما قيل به، أو تعليل له، أو منصوب ب «اذكر» كأنه قيل: اذكر ذلك الوقت لتقف على أنه المصطفى الصالح وأنه ما نال ما نال إلا بالمبادرة والانقياد إلى ما أمر به وإخلاص سره حين دعاه ربه، وجوز جعله ظرفا ل قالَ وليس الأمر وما في جوابه على حقيقتهما بل هو تمثيل والمعنى أخطر بباله الدلائل المؤيدة إلى المعرفة، واستدل بها وأذعن بمدلولاتها إلا أنه سبحانه وتعالى عبر عن ذلك بالقولين تصويرا لسرعة الانتقال بسرعة الإجابة فهو إشارة إلى استدلاله عليه السلام بالكوكب والشمس والقمر واطلاعه على أمارات الحدوث على ما يشير إليه كلام الحسن وابن عباس من أن ذلك قبل النبوة وقبل البلوغ، ومن ذهب إلى أنه بعد النبوة قال: المراد الأمر بالطاعة والإذعان لجزئيات الأحكام والاستقامة والثبات على التوحيد على حد فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد: 19] ولا يمكن الحمل على الحقيقة أعني إحداث الإسلام والإيمان لأن الأنبياء معصومون عن الكفر قبل النبوة وبعدها ولأنه لا يتصور الوحي والاستنباء قبل الإسلام نعم إذا حمل الإسلام على العمل بالجوارح لا على معنى الإيمان أمكن الحمل على الحقيقة- كما قيل به- وفي الالتفات مع التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إليه عليه السلام إظهار لمزيد اللطف به والاعتناء بتربيته، وإضافة الرب في الجواب إلى الْعالَمِينَ للإيذان بكمال قوة إسلامه حيث أتقن حين النظر شمول ربوبيته تعالى للعالمين قاطبة لا لنفسه فقط كما هو المأمور به ظاهرا. وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ مدح له عليه السلام بتكميله غيره إثر مدحه بكماله في نفسه، وفيه توكيد لوجود الرغبة في ملته، والتوصية التقدم إلى الغير بفعل فيه صلاح وقربة سواء كان حالة الاحتضار أو لا وسواء كان ذلك التقدم بالقول أو الدلالة وإن كان الشائع في العرف استعمالها في القول المخصوص حالة الاحتضار وأصلها الوصل من قولهم أرض واصية أي متصلة النبات، ويقال: وصاه إذا وصله، وفصاه إذا فصله كأن الموصي يصل فعله بفعل الوصي، والضمير في بِها إما للملة أو لقوله أَسْلَمْتُ على تأويل الكلمة أو الجملة، ويرجح الأول كون المرجح مذكورا صريحا وكذا ترك المضمر إلى المظهر، وعطف يَعْقُوبُ عليه فإن ذلك يدل على أنه شروع في كلام آخر لبيان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 تواصي الأنبياء باستمساك الدين الحق الجامع لجميع أحكام الأصول والفروع ليتوارثوا الملة القويمة والشرع المستقيم نسلا بعد نسل، وذكر يعقوب الدين في توصيته لبنيه- وهو والملة- أخوان ولو كان الضمير للثاني لكان الإسلام بدله، ويؤيد الثاني كون الموصى به مطابقا في اللفظ ل أَسْلَمْتُ وقرب المعطوف عليه لأنه حينئذ يكون معطوفا على قالَ أَسْلَمْتُ أي ما اكتفى بالامتثال بل ضم توصية بنيه بالإسلام بخلاف التقدير الأول فإنه معطوف على- من يرغب- لأنه كما أشرنا إليه في معنى النفي، وخص البنين لأنه عليهم أشفق وهم بقبول وصيته أجدر ولأن النفع بهم أكثر، وقرأ نافع وابن عامر- أوصى- ولا دلالة فيها على التكثير كالأولى الدالة عليه لصيغة التفعيل. وَيَعْقُوبُ عطف على إبراهيم، ورفعه على الابتداء وحذف الخبر أي- يعقوب- كذلك، والجملة معطوفة على الجملة الفعلية، وجعله فاعلا- لوصى- مضمرا بعيد، وقرىء بالنصب فيكون عطفا على بَنِيهِ والمراد بهم أبناء الصلب وهو عليه الصلاة والسلام كان نافلة، وإنما سمي يعقوب لأنه وعيصا- كانا توأمين- فتقدم عيص، وخرج يعقوب على أثره آخذا بعقبه كذا روي عن ابن عباس ولا أظن صحته يا بَنِيَّ على إضمار القول عند البصريين، ويقدر بصيغة الإفراد على تقدير نصب يعقوب أي قال، أو قائلا وبصيغة التثنية على تقدير الرفع ووقوع الجملة بعد القول مشروط بأن يكون المقصود مجرد الحكاية، والكلام المحكي مشترك بين إبراهيم ويعقوب، وإن كان المخاطبون في الحالين متغايرين، وذهب الكوفيون إلى عدم الإضمار لأن التوصية لاشتمالها على معنى القول بل هي القول المخصوص كان حكمها حكمه فيجوز وقوع الجملة في حيز مفعولها، وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أن يا بني ولا حاجة حينئذ إلى تقدير القول عند البصريين بل لا يجوز ذلك عندهم على ما يشير إليه كلام بعض المحققين، وبنو إبراهيم على ما في الإتقان اثنا عشر، وهم إسماعيل وإسحاق ومدين وزمزان وسرح. ونقش. ونقشان. وأميم. وكيسان. وسورج. ولوطان، نافس. وبنو يعقوب أيضا كذلك وهم. يوسف. وروبيل. وشمعون. ولاوي. ويهوذا. وداني. ونفتالي. وكاد. واسبر. وإيساجر. ورايكون وبنيامين إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ أي جعل لكم الدين الذي هو صفوة الأديان بأن شرعه لكم ووفقكم للأخذ به، والمراد به دين الإسلام الذي به الإخلاص لله تعالى، والانقياد له، وليس المراد ما يتراءى من أن الله تعالى جعله صفوة الأديان لكم لأن هذا الدين صفوة في نفسه لا اختصاص له بأحد، وليس عند الله تعالى غيره، ومن هنا يعلم أن الإسلام يطلق على غير ديننا لكن العرف خصصه به، وزعم بعضهم عدم الإطلاق وألف في ذلك رسالة تكلف بها غاية التكلف. فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ نهي عن الاتصاف بخلاف حال الإسلام وقت الموت، والمفهوم من الآية ظاهرا النهي عن الموت على خلاف تلك الحال، وليس بمقصود لأنه غير مقدور وإنما المقدور قيده فيعود النهي إليه كما جمعت لما أن الامتناع عن الاتصاف بتلك الحال يستتبع الامتناع عن الموت في تلك الحال فأما أن يقال استعمل اللفظ الموضوع للأول في الثاني فيكون مجازا، أو يقال استعمل اللفظ في معناه لينتقل منه إلى ملزومه فيكون كناية، وقال الفاضل اليمني: إن هذا كناية بنفي الذات عن نفي الحال على عكس ما قيل في قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ [البقرة: 28] من أنه كناية بنفي الحال عن نفي الذات، وفيه أن نفي الذات إنما يصير كناية عن نفي جميع الصفات لا عن صفة معينة فافهم، والمراد من الأمر الذي يشير إليه ذلك النهي الثبات على الإسلام لأنه اللازم له، والمقصود من التوصية، ولأن أصل الإسلام كان حاصلا لهم، وإنما أدخل حرف النفي على الفعل مع أنه ليس منهيا عنه للدلالة على أن موتهم لا على الإسلام موت لا خير فيه، وأن حقه أن لا يحل بهم وأنه يجب أن يحذروه غاية الحذر، وذكر بعضهم أن الإسلام المأمور به هنا ما يكون بالقلب دون العمل بالجوارح لأن ذلك مما لا يكاد يمكن عند الموت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 ولهذا ورد في الحديث «اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان» ولا يخفى ما فيه أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ الخطاب لجنس اليهود أو الموجودين في زمانه صلى الله تعالى عليه وسلم على ما يشير إليه سبب النزول فقد ذكر الواحدي أن الآية نزلت في اليهود حين قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ألست تعلم أن يعقوب لما مات أوصى بنيه باليهودية؟ وأَمْ إما منقطعة بمعنى بل، وهمزة الإنكار، ومعنى بل الإضراب عن الكلام الأول وهو بيان التوصية إلى توبيخ اليهود على ادعائهم اليهودية على يعقوب وأبنائه، وفائدته الانتقال من جملة إلى أخرى أهم منها أي ما كنتم حاضرين حين احتضاره عليه الصلاة والسلام وسؤاله بنيه عن الدين فلم تدعون ما تدعون؟ ولك أن تجعل الاستفهام للتقرير أي كانت أوائلكم حاضرين حين وصى بنيه عليه الصلاة والسلام بالإسلام والتوحيد وأنتم عالمون بذلك فما لكم تدعون عليه خلاف ما تعلمون؟! فيكون قد نزل عليهم بشهادة أوائلهم منزلة الشهادة فخوطبوا بما خوطبوا، وإما متصلة وفي الكلام حذف- والتقدير أكنتم غائبين أم كنتم شاهدين- وليس الاستفهام على هذا على حقيقته للعلم بتحقق الأول وانتفاء الثاني بل هو للإلزام والتبكيت أي أي الأمرين كان فمدعاكم باطل، أما على الأول فلأنه رجم بالغيب، وأما على الثاني فلأنه خلاف المشهور، واعترض أبو حيان على هذا الوجه بأنا لا نعلم أحدا أجاز حذف الجملة المعطوف عليها في أَمْ المتصلة وإنما سمع حذف أَمْ مع المعطوف لأن الثواني تحتمل ما لا تحتمل الأوائل، وقيل: الخطاب للمؤمنين ومعنى بل الإضراب عن الكلام الأول والأخذ فيما هو الأهم وهو التحريض على اتباعه صلّى الله عليه وسلّم بإثبات بعض معجزاته وهو الإخبار عن أحوال الأنبياء السابقين من غير سماع من أحد ولا قراءة من كتاب كأنه تعالى بعد ذكر ما تقدم التفت إلى مؤمني الأمة أما شهدتم ما جرى وأ ما علمتم ذلك بالوحي وإخبار الرسول صلّى الله عليه وسلّم فعليكم باتباعه إلا أنه اكتفى بذكر مقاولة يعقوب وبنيه ليعلم عدم حضورهم حين توصية إبراهيم عليه الصلاة والسلام بطريق الأولى، ولا يخفى أن هذا القائل لم يعتبر سبب النزول ولعله لما فيه من الضعف حتى قال الإمام السيوطي: لم أقف عليه، والشهداء- جمع شهيد أو شاهد بمعنى حاضر، وحضر من باب قعد، وقرىء حَضَرَ بالكسر ومضارعه أيضا- يحضر- بالضم وهي لغة شاذة، وقيل: إنها على التداخل إِذْ قالَ لِبَنِيهِ بدل من إِذْ حَضَرَ بدل اشتمال وكلاهما مقصودان كما هو المقرر في إبدال الجمل إلا أن في البدل زيادة بيان ليست في المبدل منه ولو تعلقت إِذْ هنا ب قالُوا لم ينتظم الكلام. ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي أي أي شيء تعبدونه بعد موتي ف ما في محل رفع والعائد محذوف، وكونه في محل نصب على المفعولية مفوت للتقوى المناسب للمقام ويسأل بها عن كل شيء فإذا عرف خص العقلاء ب مِنْ إذا سئل عن تعينه فيجاب بما يفيده، وإذا سأل عن وصفه قيل ما زيد أكاتب أم شاعر، وفي السؤال عن حالهم بعد موته دليل على أن الغرض حثهم على ما كانوا عليه حال حياته من التوحيد والإسلام، وأخذ الميثاق منهم عليه فليس الاستفهام حقيقيا وكان هذا بعد أن دخل عليه السلام مصر ورأى فيها من يعبد النار فخاف على ولده فحثهم على ما حثهم قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ استئناف وقع جوابا لسؤال نشأ عن حكاية السؤال وفي إضافة الإله إلى المتعدد إشارة إلى الاتفاق على وجوده وألوهيته وقدم إِسْماعِيلَ في الذكر على إِسْحاقَ لكونه أسنّ منه وعده من آباء يعقوب مع أنه عمه تغليبا للأكثر على الأقل أو لأنه شبه العم بالأب لانخراطهما في سلك واحد وهو الأخوة فأطلق عليه لفظه، ويؤيده ما أخرجه الشيخان «عم الرجل صنو أبيه» وحينئذ يكون المراد- بآبائك- ما يطلق عليه اللفظ كيلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، والآية على حد ما أخرجه ابن أبي شيبة وغيره من قوله عليه الصلاة والسلام «احفظوني في العباس فإنه بقية آبائي» وقرأ الحسن- أبيك- وهو إما مفرد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ عطف نسق عليه وإِبْراهِيمَ وحده عطف بيان، أو جمع وسقطت نونه للاضافة كما في قوله: فلما «تبينّ» أصواتنا ... بكين وفديننا بالأبينا إِلهاً واحِداً بدل من إِلهَ آبائِكَ والنكرة تبدل من المعرفة بشرط أن توصف كما في قوله تعالى: بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ [العلق: 16] والبصريون لا يشترطون فيها ذلك، وفائدة الإبدال دفع توهم التعدد الناشئ من ذكر الإله مرتين، أو نصب على المدح أو الحال الموطئة كما في البحر وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي مذعنون مقرون بالعبودية، وقيل: خاضعون منقادون مستسلمون لنهيه وأمره قولا وعقدا، وقيل: داخلون في الإسلام ثابتون عليه، والجملة حال من الفاعل، أو المفعول، أو منهما لوجود ضميريهما، أو اعتراضية محققة لمضمون ما سبق في آخر الكلام- بلا كلام- وقال أبو حيان: الأبلغ أن تكون معطوفة على نَعْبُدُ فيكونوا قد أجابوا بشيئين وهو من باب الجواب المربي عن السؤال تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ الإشارة إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأولاده والأمة- أتت بمعان، والمراد بها هنا الجماعة من أمّ بمعنى قصد، وسميت كل جماعة يجمعهم أمر ما إما دين واحد، أو زمان واحد، أو مكان بذلك لأنهم يؤم بعضهم بعضا ويقصده، والخلو- المضي وأصله الانفراد. لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ استئناف، أو بدل من قوله تعالى: خَلَتْ لأنها بمعنى لا تشاركونهم وهي كغير الوافية وهذه وافية بتمام المراد، أو الأولى صفة أخرى- لأمة- أو حال من ضمير خَلَتْ والثانية جملة مبتدأة، إذ لا رابط فيها ولا مقارنة في الزمان، وفي الكلام مضاف محذوف بقرينة المقام، أي لكل أجر عمله، وتقديم المسند لقصر المسند إليه على المسند، والمعنى أن انتسابكم إليهم لا يوجب انتفاعكم بأعمالهم، وإنما تنتفعون بموافقتهم واتباعهم، كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «يا معشر قريش، إن أولى الناس بالنبي المتقون، فكونوا بسبيل من ذلك، فانظروا أن لا يلقاني الناس يحملون الأعمال وتلقوني بالدنيا فأصد عنكم بوجهي» ولك أن تحمل الجملة الأولى على معنى- لها ما كسبته- لا يتخطاها إلى غيرها، والثانية على معنى ولكم ما كسبتموه- لا ما كسبه غيرهم- فيختلف القصران لاقتضاء المقام ذلك. وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ إن أجري- السؤال- على ظاهره فالجملة مقررة لمضمون ما قبلها وإن أريد به مسببه- أعني الجزاء- فهو تذييل لتتميم ما قبله، والجملة مستأنفة أو معترضة، والمراد تخييب المخاطبين وقطع أطماعهم من الانتفاع بحسنات من مضى منهم، وإنما أطلق- العمل- لإثبات الحكم بالطريق البرهاني في ضمن قضية كلية، وحمل الزمخشري الآية على معنى- لا تؤاخذون بسيئاتهم كما لا تثابون بحسناتهم- واعترض بأنه مما لا يليق بشأن التنزيل، كيف لا وهم منزهون عن كسب السيئات، فمن أين يتصور تحميلها على غيرهم حتى يتصدى لبيان انتفائه، وأنت تعلم أنه إذا كان المقصود سوق ذلك بطريق كلي برهاني لا يتوهم ما ذكر. هذا ومن الغريب حمل الإشارة على كل من إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وأن المعنى كل واحد منهم أُمَّةٌ أي بمنزلتها في الشرف والبهاء قَدْ خَلَتْ أي مضت، ولستم مأمورين بمتابعتهم لَها ما كَسَبَتْ وهو ما أمرها الله تعالى به وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ مما يأمركم به سبحانه وتعالى، ولا ينفعكم مكتسبهم لأنه ليس مقبولا منكم لأنه ليس في حقكم، إنما ينفعكم ما يجب عليكم كسبه وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ هل عملتم به؟ وإنما تسألون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 عما كان يعمل نبيكم الذي أمرتم بمتابعته، فإن أعماله ما هو كسبكم المسئول عنه، فدعوا (1) أن هذا ما أمر به إبراهيم أو غيره، وتمسكوا بما أمر به نبيكم، واعتبروا إضافة العمل إليه دونهم، ولا يخفى أنه لو كانت هذه الآيات كلام هذا المفسر لأمكن حملها على هذا التفسير الذي لا فرع ولا أصل له، لكنها كلام رب العالمين الذي يجل عن الحمل على مثل ذلك. «ومن باب الإشارة والتأويل في الآيات السابقة إلى هنا» وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ أي بمراتب الروحانيات كالقلب والسر والروح والخفاء والوحدة والأحوال والمقامات التي يعبر بها على تلك المراتب. كالتسليم والتوكل والرضا وعلومها فَأَتَمَّهُنَّ بالسلوك إلى الله تعالى وفي الله تعالى حتى الفناء فيه قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً بالبقاء بعد الفناء، والرجوع إلى الخلق من الحق، تؤمهم وتهديهم سلوك سبيلي، ويقتدون بك فيهتدون قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ فلا يكونون خلفائي مع ظلمهم وظلمتهم برؤية الأغيار ومجاوزة الحدود وَإِذْ جَعَلْنَا بيت القلب مرجعا للناس، ومحل أمن وسلامة لهم إذا وصلوا إليه وسكنوا فيه من شر غوائل صفات النفس، وفتك قتال القوى الطبيعية وإفسادها، وتخييل شياطين الوهم والخيال وإغوائهم. وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ الذي هو مقام الروح والخلة موطنا للصلاة الحقيقية التي هي المشاهدة والخلة الذوقية وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أمرناهما بتطهير بيت القلب من قاذورات أحاديث النفس، ونجاسات وساوس الشيطان، وأرجاس دواعي الهوى، وأدناس صفات القوى للسالكين المشتاقين الذين يدورون حول القلب في سيرهم، والواصلين إلى مقامه بالتوكل الذي هو توحيد الأفعال، والخاضعين الذين بلغوا إلى مقام تجلي الصفات وكمال مرتبة الرضا، الغائبين في الوحدة، الفانين فيها وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا الصدر الذي هو حريم القلب بلدا آمِناً من استيلاء صفات النفس، واغتيال العدو اللعين، وتخطف جن القوى البدنية وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ثمرات معارف الروح من وحد الله تعالى منهم وعلم المعاد إليه، قال: ومن احتجب أيضا من الذين يسكنون الصدر ولا يجاوزون حده بالترقي إلى مقام العين لاحتجابهم بالعلم الذي وعاؤه الصدر فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا من المعاني العقلية والمعلومات الكلية النازلة إليهم من عالم الروح على حسب استعدادهم ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ نار الحرمان والحجاب وَبِئْسَ الْمَصِيرُ مصيرهم لتعذيبهم بنقصانهم وعدم تكميل نشأتهم وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ على الكيفية التي ذكرناها قبل وَإِسْماعِيلُ كذلك قائلين رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا مجاهداتنا ومساعينا في السلوك إليك بامداد التوفيق إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ لهواجس خواطرنا فيك الْعَلِيمُ بنياتنا وأسرارنا رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ لا تكلنا إلى أنفسنا وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا المنتمين إلينا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا طرق الوصول إلى نفي ما سواك وَتُبْ عَلَيْنا لنفنى فيك عن أنفسنا وفنائنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الموفق للرجوع إليك الرَّحِيمُ بمن عول دون السوي عليك رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ وهو الحقيقة المحمدية يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ الدالة عليك وَيُعَلِّمُهُمُ كتاب العقل الجامع لصفاتك وَالْحِكْمَةَ الدالة على نفي غيرك وَيُزَكِّيهِمْ ويطهرهم عن دنس الشرك إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الغالب، فأنى يظهر سواك المحكم لما ظهرت فيه فلا يرى إلا إياك وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ وهي التوحيد الصرف، إلا من احتجب عن نور العقل بالكلية، وبقي في ظلمة نفسه وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فكان من المحبوبين المرادين بالسابقة الأزلية في عالم الملك، وأنه في عالم الملكوت من أهل الاستقامة، الصالح لتدبير النظام وتكميل النوع   (1) هكذا ولعل كلمة أن هذا زائدة: تنبيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ أي وحّد وأسلم لله تعالى ذاتك قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وفنيت فيه وَوَصَّى بكلمة التوحيد إِبْراهِيمُ بَنِيهِ السالكين على يده وكذلك يعقوب يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ دينه الذي لا دين غيره عنده فَلا تَمُوتُنَّ بالموت الطبيعي وموت الجهل، بل كونوا ميتين بأنفسكم، أحياء بالله أبدا، فيدرككم موت البدن على هذه الحالة تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ فلا تكونوا مقيدين بالتقليد البحت لهم، فليس لأحد إلا ما كسب من العلم والعمل والاعتقاد والسيرة، فكونوا على بصيرة في أمركم، واطلبوا ما طلبوا لتنالوا ما نالوا وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ومن دق باب الكريم ولجّ ولج. وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا الضمير الغائب لأهل الكتاب، والجملة عطف على ما قبلها عطف القصة على القصة، والمراد منها رد دعوتهم إلى دينهم الباطل إثر رد ادعائهم اليهودية على يعقوب عليه السلام، وأَوْ لتنويع المقال- لا للتخيير- بدليل أن كل واحد من الفريقين يكفر الآخر، أي قال اليهود للمؤمنين كُونُوا هُوداً وقالت النصارى لهم كونوا نَصارى وتَهْتَدُوا جواب الأمر، أي إن كنتم كذلك تَهْتَدُوا. روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في رؤوس يهود المدينة، كعب بن الأشرف. ومالك بن الصيف. ووهب بن يهوذا. وأبي ياسر بن أخطب. وفي نصارى أهل نجران، وذلك أنهم خاصموا المسلمين في الدين، كل فرقة تزعم أنها أحق بدين الله من غيرها، فقالت اليهود: نبينا موسى أفضل الأنبياء، وكتابنا التوراة أفضل الكتب، وديننا أفضل الأديان، وكفرت بعيسى والإنجيل ومحمد والقرآن، وقالت النصارى: نبينا عيسى أفضل الأنبياء، وكتابنا الإنجيل أفضل الكتب، وديننا أفضل الأديان، وكفرت بمحمد والقرآن، وقال كل واحد من الفريقين للمؤمنين: كُونُوا على ديننا، فلا دين إلا ذلك، في رواية ابن إسحاق وابن جرير وغيرهما عنه أن عبد الله بن صوريا الأعور قال للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم: ما الهدى إلا ما نحن عليه، فاتبعنا يا محمد تهتد، وقالت النصارى مثل ذلك فأنزل الله تعالى فيهم الآية قُلْ خطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، أي قل لأولئك القائلين على سبيل الرد عليهم، وتبيين ما هو الحق لديهم وإرشادهم إليه بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أي لا نكون كما تقولون، بل نكون مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أي أهل- ملته- أو بل نتبع مِلَّةَ إِبْراهِيمَ «والأول» يقتضيه رعاية جانب لفظ ما تقدم- وإن احتاج إلى حذف المضاف «والثاني» يقتضيه الميل إلى جانب المعنى إذ يؤول الأول إلى اتبعوا ملة اليهود أو النصارى مع عدم الاحتياج إلى التقدير، وجوّز أن يكون المعنى بل اتبعوا أنتم ملته، أو كونوا أهل ملته، وقيل: الأظهر بل نؤتى ملة إبراهيم- ولم يظهر لي وجهه- وقرىء بَلْ مِلَّةَ بالرفع، أي بل ملتنا أو أمرنا ملته أو نحن ملته أي أهلها، وقيل: بل الهداية أو تهدى ملة إبراهيم وهو كما ترى حَنِيفاً أي مستقيما أو مائلا عن الباطل إلى الحق ويوصف به المتدين والدين، وهو حال إما من المضاف بتأويل الدين أو تشبيها له بفعيل بمعنى مفعول كما في قوله تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56] وهذا على قراءة النصب وتقدير «نتبع» ظاهر، وأما على تقدير تكون عليها فلأن ملة فاعل الفعل المستفاد من الإضافة أي تكون ملة ثبتت لإبراهيم، وعلى قراءة الرفع تكون الحال مؤكدة لوقوعها بعد جملة اسمية جزآها جامدان معرفتان مقررة لمضمونها لاشتهار ملته عليه الصلاة والسلام بذلك فالنظم على حد- أنا حاتم جوادا- أو من المضاف إليه بناء على ما ارتضوه من أنه يجوز مجيء الحال منه في ثلاث صور: إذا كان المضاف مشتقا عاملا، أو جزءا، أو بمنزلة الجزء في صحة حذفه كما هنا فإنه يصح- اتبعوا إبراهيم- بمعنى اتبعوا ملته، وقيل: إن الذي سوغ وقوع الحال من المضاف إليه كونه مفعولا لمعنى الفعل المستفاد من الإضافة أو اللام- وإليه يشير كلام أبي البقاء- ولعله أولى لاطراده في التقدير الأول، وقيل: هو منصوب بتقدير أعني وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عطف على حنيفا على طبق حُنَفاءَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ [الحج: 31] فهو حال من المضاف إليه لا من المضاف إلا أن يقدر- وما كان دين المشركين- وهو تكلف، والمقصود التعريض بأهل الكتاب والعرب الذين يدعون اتباعه ويدينون بشرائع مخصوصة به من حج البيت والختان وغيرهما فإن في كل طائفة منهم شركاء فاليهود قالوا- عزير ابن الله- والنصارى- المسيح ابن الله- والعرب عبدوا الأصنام وقالوا الملائكة بنات الله قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ خطاب للمؤمنين لا للكافرين- كما قيل- لما فيه من الكلف والتكلف وبيان للاتباع المأمور به فهو بمنزلة بدل البعض من قوله سبحانه: بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ لأن الاتباع يشمل الاعتقاد والعمل وهذا بيان الاعتقاد أو بدل الاشتمال لما فيه من التفصيل الذي ليس في الأول، وقيل: استئناف كأنهم سألوا كيف الاتباع؟ فأجيبوا، بذلك وأمر أولا بصيغة الإفراد، وثانيا بصيغة الجمع إشارة إلى أنه يكفي في الجواب قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم من جانب كل المؤمنين بخلاف الاتباع فإنه لا بد فيه من قول كل واحد لأنه شرط الإيمان أو شطره قاله بعض المحققين، والقول بأنه بمنزلة البيان والتأكيد للقول الأول- ولذا ترك العطف- لا يخلو عن شيء وقدم الإيمان بالله سبحانه لأنه أول الواجبات ولأنه بتقدم معرفته تصح معرفة النبوات والشرعيات. وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا أي القرآن وهو وإن كان في الترتيب النزولي مؤخرا عن غيره لكنه في الترتيب الإيماني مقدم عليه لأنه سبب الإيمان بغيره لكونه مصدقا له ولذا قدمه. وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ يعني الصحف وهي وإن نزلت على إبراهيم عليه الصلاة والسلام لكن لما كان ما عطف عليه متعبدين بتفاصيلها داخلين تحت أحكامها صح نسبة نزولها إليهم أيضا كما صحح تعبدنا بتفاصيل القرآن ودخولنا تحت أحكامه نسبة نزوله إلينا، والْأَسْباطِ جمع سبط كأحمال وحمل وهم أولاد إسرائيل، وقيل: هم أولاد إسحاق كالقبائل في أولاد إسماعيل مأخوذ من السبط وهو شجرة كثيرة الأغصان فكأنهم سموا بذلك لكثرتهم، وقيل: من السبوطة وهي الاسترسال، وقيل: إنه مقلوب البسط، وقيل: للحسنين سبطا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لانتشار ذريتهم ثم قيل لكل ابن بنت: سبط، وكذا قيل له: حفيد أيضا، واختلف الناس في الأسباط أولاد يعقوب هل كانوا كلهم أنبياء أم لا؟ والذي صح عندي الثاني وهو المروي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه- وإليه ذهب الإمام السيوطي- وألف فيه لأن ما وقع منهم مع يوسف عليه الصلاة والسلام ينافي النبوة قطعا وكونه قبل البلوغ غير مسلم لأن فيه أفعالا لا يقدر عليها إلا البالغون، وعلى تقدير التسليم لا يجدي نفعا على ما هو القول الصحيح في شأن الأنبياء وكم كبيرة تضمن ذلك الفعل وليس في القرآن ما يدل على نبوتهم، والآية قد علمت ما ذكرنا فيها فاحفظ ذلك هديت. وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى أي التوراة والإنجيل، ولكون أهل الكتاب زادوا ونقصوا وحرفوا فيهما وادعوا أنهما أنزلا كذلك، والمؤمنون ينكرونه اهتم بشأنهما فأفردهما بالذكر وبين طريق الإيمان بهما ولم يدرجهما في الموصول السابق، ولأن أمرهما أيضا بالنسبة إلى مُوسى وَعِيسى أنهما منزلان عليهما حقيقة، لا باعتبار التعبد فقط كما في المنزل على إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ ولم يعد الموصول لذلك في عِيسى لعدم مخالفة شريعته لشريعة مُوسى إلا في النزر، ولذلك الاهتمام عبر- بالإيتاء- دون- الإنزال- لأنه أبلغ لكونه المقصود منه، ولما فيه من الدلالة على الإعطاء الذي فيه شبه التمليك والتفويض، ولهذا يقال: أنزلت الدلو في البئر، ولا تقول: آتيتها إياها. ولك أن تقول: المراد بالموصول هنا ما هو أعم من التوراة والإنجيل وسائر المعجزات الظاهرة بأيدي هذين النبيين الجليلين حسبما فصل في التنزيل الجليل، وإيثار- الإيتاء- لهذا التعميم، وتخصيص النبيين بالذكر لما أن الكلام مع- اليهود والنصارى.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ وهي الكتب التي خصت من خصته منهم، أو ما يشمل ذلك والمعجزات، وهو تعميم بعد التخصيص كيلا يخرج من الإيمان أحد من الأنبياء مِنْ رَبِّهِمْ متعلق ب أُوتِيَ قبله، والضمير- للنبيين- خاصة، وقيل: ل مُوسى وَعِيسى أيضا، ويكون ما أُوتِيَ تكريرا للأولى، والجار متعلقا بها، وهو- على التقديرين- ظرف لغو، وجوّز أن يكون في موضع الحال من العائد المحذوف، واحتمال أن يكون ما مبتدأ والجار خبره بعيد لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أي كما فرق أهل الكتاب، فآمنوا ببعض وكفروا ببعض- بل نؤمن بهم جميعا- وإنما اعتبر عدم التفريق بينهم، مع أن الكلام فيما أوتوه لاستلزام ذلك- عدم التفريق- فيه بين- ما أوتوه- وأَحَدٍ أصله- وحد- بمعنى- واحد- وحيث وقع في سياق النفي عم واستوى فيه- الواحد والكثير- وصح إرادة كل منهما- وقد أريد به هنا الجماعة- ولهذا ساغ أن يضاف إليه بَيْنَ ويفيد عموم الجماعات- كذا قاله بعض المحققين- وهو مخالف لما هو المشهور عند أرباب العربية من أن الموضوع في النفي العام أو المستعمل مع كل في الإثبات- همزته- أصلية بخلاف ما استعمل في الإثبات بدون كل فإن- همزته- منقلبة عن- واو- ومن هنا قال العلامة التفتازاني: إن أَحَدٍ في معنى الجماعة بحسب الوضع لأنه اسم لمن يصلح أن يخاطب يستوي فيه المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والمجموع، ويشترط أن يكون استعماله مع كلمة- كل- أو مع النفي، نص على ذلك أبو عليّ وغيره من أئمة العربية، وهذا غير- الأحد- الذي هو أول العدد في قوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1] وليس كونه في معنى الجماعة من جهة كونه نكرة في سياق النفي- على ما سبق- إلى كثير من الأوهام، ألا ترى أنه لا يستقيم لا نُفَرِّقُ بين رسول من الرسل إلا بتقدير عطف أي رسول ورسول، ولَسْتُنَّ- كَأَحَدٍ- مِنَ النِّساءِ [الأحزاب: 32] ليس في معنى- كامرأة منهن- انتهى. وأنت- بعد التأمل- تعلم أن ما ذكره العلامة لا يرد على ذلك البعض، وإنما ترد عليه المخالفة في الأصالة وعدمها فقط- ولعل الأمر فيها سهل- على أن دعوى عدم تلك الاستقامة إلا بذلك التقدير غير مجمع عليه، فقد ذكر في الانتصاف أن النكرة الواقعة في سياق النفي تفيد العموم لفظا عموما شموليا حتى ينزل المفرد فيها منزلة الجمع في تناوله- الآحاد- مطابقة، لا كما ظنه بعض الأصوليين من أن مدلولها بطريق المطابقة في النفي كمدلولها في الإثبات، وجعل هذا التعدد والعموم وضعا هو المسوّغ لدخول بَيْنَ عليها هنا، ومن الناس من جوّز كون أَحَدٍ في الآية بمعنى واحد، وعمومه بدلي، وصحة دخول بَيْنَ عليه باعتبار معطوف قد حذف لظهوره بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وغيره، وفيه من الدلالة على تحقق التفريق بين كل فرد فرد منهم، وبين من عداه كائنا من كان ما ليس في أن يقال: لا نُفَرِّقُ بينهم- ولا يخفى ما فيه- والجملة حال من الضمير في آمَنَّا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي خاضعون لله تعالى بالطاعة، مذعنون بالعبودية، وقيل: منقادون لأمره ونهيه، ومن جعل الضمير المجرور لما تقدم ذكره من الأنبياء فقد أبعد، والجملة حال أخرى، أو عطف على آمَنَّا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا متعلق بقوله سبحانه: قُولُوا آمَنَّا إلخ، أو بقوله عز شأنه: بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ إلخ، وإن- لمجرد الفرض والكلام من باب الاستدراج، وإرخاء العنان مع الخصم حيث يراد تبكيته، وهو مما تتراكض فيه خيول المناظرين- فلا بأس بحمل كلام الله تعالى عليه- يعني نحن لا نقول: إننا على الحق وأنتم على الباطل، ولكن إن حصلتم شيئا مساويا لما نحن عليه مما يجب الإيمان أو التدين به فقد اهتديتم ومقصودنا هدايتكم كيفما كانت، والخصم إذا نظر بعين الإنصاف في هذا الكلام وتفكر فيه علم أن الحق ما عليه المسلمون لا غير، إذ لا مثل لما آمنوا به، وهو ذاته تعالى وكتبه المنزلة على أنبيائه- ولا دين كدينهم- ف آمَنُوا متعدية- بالباء- ومثل- على ظاهرها، وقيل: آمَنُوا جار مجرى اللازم- والباء- إما للاستعانة والآلة والمعنى إن دخلوا في الإيمان بواسطة شهادة مثل شهادتكم قولا واعتقادا فَقَدِ اهْتَدَوْا أو فإن تحروا- الإيمان- بطريق يهدي إلى الحق مثل طريقكم، فإن وحدة المقصد لا تأبى تعدد الطرق، كما قيل: الطرق إلى الله تعالى بعدد أنفاس الخلائق، والمقام مقام تعيين الدين الحق لا مقام تعيين شخص الطريق الموصل إليه ليأتي هذا التوجيه، وإما زائدة للتأكيد وما مصدرية وضمير بِهِ لله، أو لقوله سبحانه: آمَنَّا بِاللَّهِ إلخ بتأويل المذكور، أو للقرآن، أو لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم، والمعنى فَإِنْ آمَنُوا بما ذكر مثل إيمانكم به، وإما للملابسة، أي فآمنوا متلبسين بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ متلبسين به، أو فإن آمنوا إيمانا متلبسا بمثل ما آمنتم إيمانا متلبسا به من الإذعان والإخلاص وعدم التفريق بين الأنبياء عليهم السلام، وقيل: المثل مقحم كما في قوله تعالى: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ [الأحقاف: 10] أي عليه، ويشهد له قراءة أبي «بالذي آمنتم به» وقراءة ابن عباس «بما آمنتم به» وكان رضي الله تعالى عنه يقول: اقرؤوا ذلك فليس لله تعالى مثل، ولعل ذلك محمول على التفسير لا على أنه أنكر القراءة المتواترة- وخفي عليه معناها- ومن الناس من قال: يمكن الاستغناء عن جميع ذلك بأن يقال: فإن آمن اليهود بمثل ما آمنتم كمؤمنيهم قبل التحريف، فإنهم آمنوا بمثل ما آمن المؤمنون. فإن فيما أوتي به النبيون في زمن محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ما أنزل إليه- ولم يكن ذلك قبله- إلا أن هذا التوجيه يقتضي إبقاء صيغة الماضي على معناها كما في قولهم: إن أكرمتني فقد أكرمتك، فتأمل انتهى. وأنت تعلم أن المؤمن به لا يتصور فيه التعدد وإبقاء الكلام على ظاهره، والاستغناء عن جميع ما ذكر يستدعي وجود ذلك التعدد المحال، فماذا عسى ينفع هذا سوى تكثير القيل والقال، وتوسيع دائرة النزاع والجدال، فتدبر. وَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن الإيمان المأمور به، أو عن قولكم في جواب قولهم. فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ أي مخالفة لله تعالى- قاله ابن عباس- أو منازعة ومحاربة- قاله ابن زيد- أو عداوة- قاله الحسن- واختلف في اشتقاق- الشقاق- فقيل: من الشق أي الجانب، وقيل: من المشقة، وقيل: مأخوذ من قولهم: شق العصا إذا أظهر العداوة- والتنوين للتفخيم- والجملة جواب الشرط إما على أن المراد مشاقتهم الحادثة بعد توليهم عن الإيمان، وأوثرت الاسمية للدلالة على ثباتهم واستقرارهم على ذلك، وإما بتأويل فاعلموا. فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ تسلية له صلى الله تعالى عليه وسلم وتفريح للمؤمنين بوعد النصر والغلبة وضمان التأييد والإعزاز على أبلغ وجه للسين الدالة على تحقق الوقوع البتة، أو للتذييل الآتي حيث إن السين في المشهور لا تدل على أكثر من التنفيس عقب ذكر ما يؤدي إلى الجدال والقتال، والمراد سيكفيك كيدهم وشقاقهم لأن الكفاية لا تتعلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 بالأعيان بل بالأفعال، وتلوين الخطاب بتجريده للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم مع أنه سبحانه أنجز وعده الكريم بما هو كفاية للكل من قتل بني قريظة وسبيهم وإجلاء بني النضير لما أنه صلى الله تعالى عليه وسلم مع الأصل والعمدة في ذلك وهو سلك حبات أفئدة المؤمنين ومطمح نظر كيد الكافرين، وللإيذان بأن القيام بأمور الحروب وتحمل المشاق ومقاساة الشدائد في مناهضة الأعداء من وظائف الرؤساء فنعمته تعالى في الكفاية والنصرة في حقه أتم وأكمل وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ تذييل لما سبق من الوعد وتأكيد له أي هُوَ السَّمِيعُ لما تدعو به الْعَلِيمُ بما في نيتك من إظهار دينه فيستجيب لك ويوصلك إلى مرادك أو وعيد للكفرة بمعنى- يسمع- ما يبدون- ويعلم- ما يخفون مما لا خير فيه وهو معاقبهم عليه، وفيه أيضا تأكيد الوعد السابق فإن وعيد الكفرة وعد للمؤمنين صِبْغَةَ اللَّهِ الصبغة بالكسر فعلة من- صبغ- كالجلسة من جلس وهي الحالة التي يقع عليها- الصبغ- عبر بها عن التطهير بالإيمان بما ذكر على الوجه الذي فصل لأنه ظهر أثره عليهم ظهور- الصبغ- على- المصبوغ- وتداخل في قلوبهم تداخله فيه وصار حلية لهم فهناك استعارة تحقيقية تصريحية والقرينة الإضافة والجامع ما ذكر، وقيل: للمشاكلة التقديرية فإن النصارى كانوا- يصبغون- أولادهم بماء أصفر يسمونه المعمودية يزعمون أنه الماء الذي ولد فيه عيسى عليه الصلاة والسلام ويعتقدون أنه تطهير للمولود كالختان لغيرهم، وقيل: هو ماء يقدس بما يتلى من الإنجيل ثم تغسل به الحاملات، ويرد على هذا الوجه أن الكلام عام لليهود غير مختص بالنصارى اللهم إلا أن يعتبر أن ذلك الفعل كائن فيما بينهم في الجملة ونصبها على أنها مصدر مؤكد لقوله تعالى: آمَنَّا وهي من المصادر المؤكدة لأنفسها فلا ينافي كونها للنوع والعامل فيها- صبغنا- كأنه قيل- صبغنا الله صبغته- وقدر المصدر مضافا إلى الفاعل لتحقق شرط وجوب حذف عامله من كونه مؤكدا لمضمون الجملة إذ لو قدر منكرا لكان مؤكدا لمضمون أحد جزئيه أعني الفعل فقط نحو ضربت ضربا، وقيل: إنها منصوبة بفعل الإغراء أي الزموا- صبغة الله- لا عليكم وإلا لوجب ذكره- كما قيل- وإليه ذهب الواحدي، ولا يجب حينئذ إضمار العامل لأنه مختص في الإغراء بصورتي التكرار أو العطف كالعهد العهد وكالأهل والولد وذهب الأخفش والزجاج والكسائي. وغيرهم إلى أنها بدل من ملة إبراهيم وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً مبتدأ وخبر، والاستفهام للإنكار، وقوله تعالى: صِبْغَةَ تمييز منقول من المبتدأ نحو زيد أحسن من عمرو وجها- والتقدير- ومن صبغته أحسن من صبغة الله تعالى- كما يقدر وجه زيد أحسن من وجه عمرو، والتفضيل جار بين الصبغتين لا بين فاعليهما أي لا صبغة أَحْسَنُ من صبغته تعالى على معنى أنه أَحْسَنُ مِنَ كل صِبْغَةَ وحيث كان مدار التفضيل على تعميم- الحسن- للحقيقي والفرضي المبني على زعم الكفرة لم يلزم أن يكون في صِبْغَةَ غيره تعالى حسن في الجملة، والجملة معترضة مقررة لما في صبغة الله تعالى من التبجح والابتهاج أو جارية مجرى التعليل للإغراء وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ أي موحدون أو مطيعون متبعون ملة إبراهيم أو خاضعون مستكنون في اتباع تلك الملة، وتقديم الجار لإفادة اختصاص العبادة له تعالى، وتقديم المسند إليه لإفادة قصر ذلك الاختصاص عليهم، وعدم تجاوزه إلى أهل الكتاب فيكون تعريضا لهم بالشرك أو عدم الانقياد له تعالى باتباع ملة إبراهيم، والجملة عطف على آمَنَّا وذلك يقتضي دخول صبغة الله في مفعول قُولُوا لئلا يلزم الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالأجنبي، وإيثار الجملة الاسمية للإشعار بالدوام، ولمن نصب صِبْغَةَ على الإغراء أو البدل أن يضمر قُولُوا قبل هذه الجملة معطوفا على الزموا على تقدير الإغراء، وإضمار القول سائغ شائع، والقرينة- السياق- لأن ما قبله مقول المؤمنين وأن يضمر اتبعوا في بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ لا نتبع ويكون قُولُوا آمَنَّا بدلا من اتبعوا بدل البعض لأن الإيمان داخل في اتباع ملة إبراهيم فلا يلزم الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، ولا بين البدل والمبدل منه بالأجنبي وما قيل: إنه يلزم الفصل ببدل الفعل بين المفعول، والمبدل منه ففيه أن قُولُوا ليس بدلا من الفعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 فقط بل الجملة بدل من الجملة فلا محذور، وأما القول- بأنه يمكن أن تجعل هذه الجملة حالا من لفظة الله في قوله سبحانه: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً أي صبغته بتطهير القلب أو الإرشاد أو حفظ الفطرة أحسن الإصباغ حال إخلاص العبادة له- فليس بشيء كما لا يخفى قُلْ أَتُحَاجُّونَنا تجريد الخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم لما أن المأمور به من الوظائف الخاصة به عليه الصلاة والسلام، والهمزة للإنكار، وقرأ زيد، الحسن، وغيرهما بإدغام النون أي تجادلونا. فِي اللَّهِ أي في دينه وتدعون أن دينه الحق اليهودية والنصرانية وتبنون دخول الجنة والاهتداء عليهما، وقيل: المراد في شأن الله تعالى واصطفائه نبيا من العرب دونكم بناء على أن الخطاب لأهل الكتاب وسوق النظم يقتضي أن تفسر المحاجة بما يختص بهم، والمحاجة في الدين ليست كذلك والقرينة على التقييد قوله سبحانه قيل: وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وبعد وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً حيث إنه تعريض بكتمان أهل الكتاب شهادة الله سبحانه بنبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وما روي في سبب النزول أن أهل الكتاب قالوا الأنبياء كلهم منا فلو كنت نبيا لكنت منا فنزلت، ولا يخفى عليك أن المحاجة في الدين على ما ذكرنا مختصة بهم على أن ظاهر السوق يقتضي ذمهم بما صار ديدنا لهم وشنشنة فيهم حتى عرفوا فيه، ومشركو العرب وإن حاجوا في الدين أيضا لكنهم لم يصلوا فيه إلى رتبة أهل الكتاب لما أنهم أميون عارون عن سائر العلوم جاهلون بوظائف البحث بالكلية نظرا إلى أولئك القائمين على ساق الجدال وإن القرينتين السابقة واللاحقة على التقييد في غاية الخفاء وأن ما روي في سبب النزول ليس مذكورا في شيء من كتب الحديث ولا التفاسير المعتبرة كما نص على ذلك الإمام السيوطي وكفى به حجة في هذا الشأن. وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ جملة حالية أي أتجادلوننا والحال أنه لا وجه للمجادلة أصلا لأنه تعالى مالك أمرنا وأمركم وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ عطف على ما قبله أي لنا جزاء أعمالنا الحسنة الموافقة لأمره ولكم جزاء أعمالكم السيئة المخالفة لحكمه وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ في تلك الأعمال لا نبتغي بها إلا وجهه فأنى لكم المحاجة ودعوى حقية ما أنتم عليه والقطع بدخول الجنة بسببه ودعوة الناس إليه. والجملة حالية كالتي قبلها، وذهب بعض المحققين أن هذه الجملة كجملتي وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ اعتراض وتذييل للكلام الذي عقب به مقول على ألسنة العباد بتعليم الله تعالى لا عطف، وتحريره أن وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ مناسب- لآمنا- أي نؤمن بالله وبما أنزل على الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم ونستسلم له وننقاد لأوامره ونواهيه وقوله تعالى: وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ ملائم لقوله تعالى: صِبْغَةَ اللَّهِ لأنها بمعنى دين الله فالمصدر كالفذلكة لما سبق، وهذه الآية موافقة لما قبلها، ولعل الذوق السليم لا يأباه، وأما القول بأن معنى وَهُوَ رَبُّنا إلخ أنه لا اختصاص له تعالى بقوم دون قوم فيصيب برحمته من يشاء فلا يبعد أن يكرمنا بأعمالنا كما أكرمكم بأعمالكم كأنه ألزمهم على كل مذهب يفتحونه إفحاما وتبكيتا فإن كرامة النبوة إما تفضل من الله تعالى فالكل فيه سواء، وإما إفاضة حق على المستحقين لها بالمواظبة على الطاعة والتحلي بالإخلاص فكما أن لكم أعمالا ربما يعتبرها الله تعالى في إعطائها فلنا أيضا أعمال ونحن له مخلصون بها لا أنتم، فمع بنائه على ما علمت ركاكته غير ملائم لسباق النظم الكريم وسياقه بل غير صحيح في نفسه كما أفتى به مولانا مفتي الديار الرومية لما أن المراد بالأعمال من الطرفين ما أشير إليه من الأعمال الصالحة والسيئة ولا ريب أن أمر الصلاح والسوء يدور على موافقة الدين المبني على البعثة ومخالفته فكيف يتصور اعتبار تلك الأعمال في استحقاق النبوة واستعدادها المتقدم على البعثة بمراتب هذا؟! وقد اختلف الناس في الإخلاص، فروي عن النبي صلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «سألت جبريل عن الإخلاص ما هو؟ فقال: سألت رب العزة عنه فقال: سرّ من أسراري استودعته قلب من أحببته من عبادي» وقال سعيد بن جبير: الإخلاص أن لا تشرك في دينه ولا تراء أحدا في عمله، وقال الفضيل: ترك العمل من أجل الناس رياء والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله تعالى منهما، وقال حذيفة المرعشي: أن تستوي أفعال العبد في الباطن والظاهر، وقال أبو يعقوب: المكفوف أن يكتم العبد حسناته كما يكتم سيئاته، وقال سهل: هو الإفلاس، ومعناه احتقار العمل وهو معنى قول رويم- ارتفاع عملك عن الرؤية- قيل: ومقابل الإخلاص الرياء، وذكر سليمان الداراني ثلاث علامات له. الكسل عند العبادة في الوحدة، والنشاط في الكثرة، وحب الثناء على العمل. أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى أَمْ إما متصلة معادلة للهمزة في أَتُحَاجُّونَنا داخلة في حيز الأمر والمراد بالاستفهام إنكارهما معا بمعنى كل من الأمرين منكر ينبغي أن لا يكون إقامة الحجة وتنوير البرهان على حقية ما أنتم عليه، والحال ما ذكر والتشبث بذيل التقليد والافتراء على الأنبياء عليهم السلام، وفائدة هذا الأسلوب مع أن العلم حاصل بثبوت الأمرين الإشارة إلى أن أحدهما كاف في الذم فكيف إذا اجتمعا كما تقول لمن أخطأ تدبيرا ومقالا: أتدبيرك أم تقريرك، وبهذا يندفع ما قاله أبو حيان من أن الاتصال يستدعي وقوع إحدى الجملتين والسؤال عن تعيين إحداهما وليس الأمر كذلك إذ وقعتا معا، وإما منقطعة مقدرة ببل والهمزة دالة على الإضراب والانتقال من التوبيخ على المحاجة إلى التوبيخ على الافتراء على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقرأ غير ابن عامر، وحمزة والكسائي وحفص «أم يقولون» - بالياء- ويتعين كون أَمْ حينئذ منقطعة لما فيها من الإضراب من الخطاب إلى الغيبة ولا يحسن في المتصلة أن يختلف الخطاب من مخاطب إلى غيره كما يحسن في المنقطعة ويكون الكلام استئنافا غير داخل تحت الأمر بل وارد منه تعالى توبيخا لهم. وإنكارا عليهم، وحكى أبو جعفر الطبري عن بعض النحاة جواز الاتصال لأنك إذا قلت- أتقوم يا زيد أم يقوم عمرو- صح الاتصال، واعترض عليه ابن عطية بأن المثال غير جيد لأن القائل فيه واحد والمخاطب واحد والقول في الآية من اثنين والمخاطب اثنان غير أن يتجه معادلة أَمْ للهمزة على الحكم المعنوي كان معنى قُلْ أَتُحَاجُّونَنا أي يحاجون يا محمد أم يقولون، ولا يخفى أن القول بالانقطاع إن لم يكن متعينا فلا أقل من أنه أولى. قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ أي لستم أعلم بحال إبراهيم عليه السلام في باب الدين بل الله تعالى أعلم بذلك وقد أخبر سبحانه بنفي اليهودية والنصرانية عنه، واحتج على انتفائهما عنه بقوله: وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران: 65] وهؤلاء المعطوفون عليه أتباعه في الدين وفاقا فحالهم حاله فلم تدعون له ولهم ما نفى الله تعالى؟ فما ذلك إلا جهل غال ولجاج محض وَمَنْ أَظْلَمُ إنكار لأن يكون أحد أظلم مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً ثابتة. عِنْدَهُ واصلة مِنَ اللَّهِ إليه وهي شهادته تعالى لإبراهيم عليه السلام بالحنيفية والبراءة عن اليهودية والنصرانية حسبما تلي آنفا، وجيء بالوصفين لتعليل الإنكار وتأكيده فإن ثبوت- الشهادة عنده- وكونها من جانب جناب العلي الأعلى عز شأنه من أقوى الدواعي إلى إقامتها وأشد الزواجر عن كتمانها، وتقديم الأول مع أنه متأخر في الوجود لمراعاة طريق الترقي والمعنى لا أحد أظلم من أهل الكتاب- حيث كتموا هذه الشهادة وأثبتوا نقيضها بما ذكر من الافتراء- والجملة تذييل يقرر ما أنكر عليهم من ادعاء اليهودية والنصرانية وتعليق الأظلمية بمطلق الكتمان للإيماء إلى أن مرتبة من يردها ويشهد بخلافها في الظلم خارجة عن دائرة البيان، أو لا أحد- أظلم منا لو كتمنا هذه- الشهادة- ولم نقمها في مقام المحاجة، والجملة حينئذ تذييل مقرر ما أوقع في قوله تعالى: أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ من أنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 شاهدون بما شهد الله تعالى به مصدقونه بما أعلمهم، وجعلها على هذا من تتمة قُولُوا آمَنَّا لأنه في معنى إظهار الشهادة. وعلى الأول من تتمة قُلْ أَتُحَاجُّونَنا لأنه في معنى كتمانها ظاهر التعسف، ولا يخفى أن في الآية تعريضا بغاية أظلمية أهل الكتاب على نحو ما أشير إليه، وفي إطلاق الشهادة- مع أن المراد بها ما تقدم من الشهادة المعينة- تعريض بكتمانهم شهادة الله تعالى لنبيه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم في التوراة والإنجيل، وفي ري الظمآن أن- من- صلة أَظْلَمُ والكلام على التقديم والتأخير كأنه قيل: ومن أظلم من الله ممن كتم شهادة حصلت عنده كقولك ومن أظلم من زيد من جملة الكاتمين للشهادة، والمعنى لو كان إبراهيم وبنوه يهودا أو نصارى ثم إن الله تعالى كتم هذه الشهادة لم يكن أحد ممن يكتم الشهادة أظلم منه لكن لما استحال ذلك مع عدله وتنزيهه عما لا يليق علمنا أن الأمر ليس كذلك، وقيل: إن مِمَّنْ صلة كَتَمَ والكلام على حذف مضاف- أي كتم من عباد الله شهادة عنده- ومعناه أنه تعالى ذمهم على منع أن يوصلوا إلى عباد الله تعالى، ويؤدوا إليهم شهادة الحق، ولا يخفى ما في هذين الوجهين من التكلف والتعسف وانحطاط المعنى فلينزه كتاب الله تعالى العظيم عنه، على أنك لو نظرت بعين الإنصاف رأيت الوجه الثاني من الأولين لا يخلو عن بعد لأن الآية إنما تقدمها الإنكار لما نسب إلى إبراهيم عليه السلام، ومن ذكر معه فالذي يليق أن يكون الكلام مع أهل الكتاب لا مع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وأتباعه لأنهم مقرون بما أخبر الله تعالى به وعالمون بذلك فلا يفرض في حقهم كتمانه والتذييل الذي ادعي فيه خلاف الظاهر أيضا. وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وعيد وتهديد لأهل الكتاب أي إن الله تعالى لا يترك أمركم سدى بل هو محصل لأعمالكم محيط بجميع ما تأتون وتذرون فيعاقبكم بذلك أشد عقاب، ويدخل في ذلك كتمانهم لشهادته تعالى وافتراؤهم على أنبيائه عليهم السلام، وقرىء- عما يعملون- بصيغة الغيبة فالضمير إما لمن كتم باعتبار المعنى أو لأهل الكتاب. تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ تكرير لما تقدم للمبالغة في التحذير عما استحكم في الطباع من الافتخار بالآباء والاتكال عليهم كما يقال: اتق الله اتق الله، أو تأكيد وتقرير للوعيد يعني أن الله تعالى يجازيكم على أعمالكم ولا تنفعكم آباؤكم ولا تسألون يوم القيامة عن أعمالهم بل عن أعمال أنفسكم، وقيل: الخطاب فيما سبق لأهل الكتاب، وفي هذه الآية لنا تحذيرا عن الاقتداء بهم، وقيل: المراد بالأمة في الأول الأنبياء وفي الثاني أسلاف اليهود لأن القوم لما قالوا في إبراهيم وبنيه: إنهم كانوا ما كانوا- فكأنهم قالوا- إنهم على مثل طريقة أسلافنا فصار سلفهم في حكم المذكورين فجاز أن يعنوا بالآية، ولا يخفى ما في ذلك من التعسف الظاهر. تم طبع الجزء الأول، ويتلوه إن شاء الله تعالى الجزء الثاني وأوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 الجزء الثاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 بسم الله الرحمن الرحيم سَيَقُولُ السُّفَهاءُ أي الخفاف الأحلام أو المستمهنوها بالتقليد المحض، والاعراض عن التدبر، والمتبادر منهم ما يشمل سائر المنكرين لتغيير القبلة من المنافقين، واليهود، والمشركين، وروي عن السدي الاقتصار على الأول، وعن ابن عباس الاقتصار على الثاني، وعن الحسن الاقتصار على الثالث، ولعل المراد بيان طائفة نزلت هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 الآية في حقهم لا حمل الآية عليها لأن الجمع فيها محلى باللام، وهو يفيد العموم فيدخل فيه الكل، والتخصيص بالبعض لا يدعو إليه داع، وتقديم الأخبار بالقول على الوقوع لتوطين النفس به فإن مفاجأة المكروه أشد إيلاما، والعلم به قبل الوقوع أبعد من الاضطراب، ولما أن فيها إعداد الجواب والجواب المعد قبل الحاجة إليه أقطع للخصم وفي المثل- قبل الرمي يراش السهم- وليكون الوقوع بعد الأخبار معجزة له صلى الله تعالى عليه وسلم، وقيل: إن الوجه في التقديم هو التعليم والتنبيه على أن هذا القول أثر السفاهة فلا يبالي به ولا يتألم منه ويرد عليه- أن التعليم- والتنبيه المذكورين يحصلان بمجرد ذكر هذا السؤال، والجواب ولو بعد الوقوع، وقال القفال: إن الآية نزلت بعد تحويل القبلة، وإن لفظ سَيَقُولُ مراد منه الماضي، وهذا كما يقول الرجل إذا عمل عملا فطعن فيه بعض أعدائه: أنا أعلم أنهم سيطعنون في- كأنه يريد أنه إذا ذكر مرة فيذكرونه مرات أخرى- ويؤيد ذلك ما رواه البخاري عن البراء رضي الله تعالى عنه قال: لما قدم رسول صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يحب أن يتوجه نحو الكعبة فأنزل الله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ إلى آخر الآية فقال: السُّفَهاءُ وهم اليهود ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ إلى آخر الآية وفي رواية أبي إسحاق وعبيد بن حميد، وأبي حاتم عنه زيادة فأنزل الله تعالى سَيَقُولُ السُّفَهاءُ إلخ، ومناسبة الآية لما قبلها أن الأولى قدح في الأصول، وهذا في أمر متعلق بالفروع، وإنما لم يعطف تنبيها على استقلال كل منهما في الشناعة. مِنَ النَّاسِ في موضع نصب على الحال، والمراد منهم الجنس، وفائدة ذكره التنبيه على كمال سفاهتهم بالقياس إلى الجنس، وقيل: الكفرة، وفائدته بيان أن ذلك القول المحكي لم يصدر عن كل فرد فرد من تلك الطوائف بل عن أشقيائهم المعتادين للخوض في آسن الفساد، والأول أولى كما لا يخفى ما وَلَّاهُمْ أي أي شيء صرفهم، وأصله من الولي، وهو حصول الثاني بعد الأول من غير فصل والاستفهام للإنكار عَنْ قِبْلَتِهِمُ يعني بيت المقدس وهي فعلة من المقابلة كالوجهة من المواجهة، وأصلها الحالة التي كان عليها المقابل إلا أنها في العرف العام اسم للمكان المقابل المتوجه إليه للصلاة الَّتِي كانُوا عَلَيْها أي على استقبالها، والموصول صفة القبلة، وفي وصفها بذلك بعد إضافتها إلى ضمير المسلمين تأكيد للإنكار ومدار هذا الإنكار بالنسبة إلى اليهود زعمهم استحالة النسخ وكراهتهم مخالفته صلى الله تعالى عليه وسلم لهم في القبلة حتى أنهم قالوا له: ارجع إلى قبلتنا نتبعك ونؤمن بك، ولعلهم ما أرادوا بذلك إلا فتنته عليه الصلاة والسلام، وبالنسبة إلى مشركي العرب القصد إلى الطعن في الدين وإظهار أن كلا التوجه إليها، والانصراف عنها بغير داع إليه حتى أنهم كانوا يقولون: إنه رغب عن قبلة آبائه ثم رجع إليها وليرجعن إلى دينهم أيضا وبالنسبة إلى المنافقين مختلف باختلاف أصولهم فإن فيهم اليهود وغيرهم، واختلف الناس في مدة بقائه صلّى الله عليه وسلّم مستقبلا بيت المقدس، ففي رواية البخاري ما علمت، وفي رواية مالك بن أنس تسعة أشهر أو عشرة أشهر، وعن معاذ ثلاثة عشر شهرا، وعن الصادق سبعة أشهر، وهل استقبل غيره قبل بمكة أم لا؟ قولان أشهرهما الثاني وهو المروي أيضا عن الصادق رضي الله تعالى عنه. قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ أي جميع الأمكنة والجهات مملوكة له تعالى مستوية بالنسبة إليه عز شأنه لا اختصاص لشيء منها به جل وعلا إنما العبرة لامتثال أمره فله أن يكلف عباده باستقبال أي مكان وأي جهة شاء يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي طريق مستو وهو ما تقتضيه الحكمة من التوجه إلى بيت المقدس تارة وإلى الكعبة أخرى، والجملة بدل اشتمال مما تقدم وهو إشارة إلى مصحح التولية وهذا إلى مرجحها كأنه قيل: إن التولية المذكورة هداية يخص الله تعالى بها من يشاء ويختار من عباده وقد خصنا بها فله الحمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً اعتراض بين كلامين متصلين وقعا خطابا له صلى الله تعالى عليه وسلم استطرادا لمدح المؤمنين بوجه آخر أو تأكيدا لرد الإنكار بأن هذه الأمة وأهل هذه الملة شهداء عليكم يوم الجزاء وشهاداتهم مقبولة عندكم فأنتم إذا أحق باتباعهم والاقتداء بهم فلا وجه لإنكاركم عليهم، وذلك إشارة إلى الجعل المدلول عليه- بجعلناكم- وجيء بما يدل على البعد تفخيما. والكاف مقحم للمبالغة وهو إقحام مطرد ومحلها في الأصل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف، وأصل التقدير- جعلناكم أمة وسطا- جعلا كائنا مثل ذلك الجعل فقدم على الفعل لإفادة القصر، وأقحمت الكاف فصار نفس المصدر المؤكد لا نعتا له أي ذلك الجعل البديع جعلناكم لا جعلا آخر أدنى منه كذا قالوا، وقد ذكرنا قبل أن كَذلِكَ كثيرا ما يقصد بها تثبيت ما بعدها وذلك لأن وجه الشبه يكون كثيرا في النوعية والجنسية كقولك- هذا الثوب كهذا الثوب- في كونه خزا أو بزا، وهذا التشبيه يستلزم وجود مثله وثبوته في ضمن النوع فأريد به على طريق الكناية مجرد الثبوت لما بعده، ولما كانت الجملة تدل على الثبوت كان معناها موجودا بدونها وهي مؤكدة له فكانت كالكلمة الزائدة، وهذا معنى قولهم: إن الكاف مقحمة لا أنها زائدة كما يوهمه كلامهم، وأما استفادة كون ما بعدها عجيبا فليس إلا لأن ما ليس كذلك لا يحتاج لبيان فلما اهتم بإثباته في الكلام البليغ علم أنه أمر غريب، أو لحمل البعد المفهوم من ذلك على البعد الرتبي، ومن الناس من جعل كَذلِكَ للتشبيه- بجعل- مفهوم من الكلام السابق أي مثل ما جعلناكم مهديين، أو جعلنا قبلتكم أفضل القبل- جعلناكم أمة وسطا- ويرد على ذلك أن المحل المشبه به غير مختص بهذه الأمة لأن مؤمني الأمم السابقة كانوا أيضا مهتدين إلى صراط مستقيم، وكانت قبلة بعضهم أفضل القبل أيضا، والجعل المشبه مختص بهم فلا يحسن التشبيه على أنه لا يفهم من السابق سوى أن التوجه إلى كل واحد القبلتين في وقته- صراط مستقيم والأمر به في ذلك الوقت هداية ولا يفهم منه أن قبلتهم أفضل القبل، والناسخ لا يلزم أن يكون خيرا من المنسوخ اللهم إلا أن يكون مراد القائل- كما جعلنا قبلتكم الكعبة التي هي أفضل القبل في الواقع جعلنا- إلا أنه على ما فيه لا يحسم الإيراد كما لا يخفى. ومعنى وَسَطاً خيارا أو عدولا وهو في الأصل اسم لما يستوي نسبة الجوانب إليه- كالمركز- ثم استعير للخصال المحمودة البشرية لكونها أوساطا للخصال الذميمة المكتنفة بها من طرفي الإفراط والتفريط كالجود بين الإسراف، والبخل والشجاعة بين الجبن والتهور، والحكمة بين الجربزة والبلادة، ثم أطلق على المتصف بها إطلاق الحال على المحل واستوى فيه الواحد وغيره لأنه بحسب الأصل جامد لا تعتبر مطابقته، وقد يراعى فيه ذلك وليس هذا الإطلاق مطردا كما يظن من قولهم: خير الأمور الوسط إذ يعارضه قولهم- على الذم أثقل من مغن وسط- لأنه كما قال الجاحظ يختم على القلب ويأخذ بالأنفاس وليس بجيد فيطرب ولا برديء فيضحك، وقولهم: أخو الدون الوسط بل هو وصف مدح في مقامين في النسب لأن أوسط القبيلة أعرقها وصميمها، وفي الشهادة كما هنا لأنه العدالة التي هي كمال القوة العقلية والشهوية والغضبية أعني استعمالها فيما ينبغي على ما ينبغي، ولما كان علم العباد لم يحط إلا بالظاهر أقام الفقهاء الاجتناب عن الكبائر وعدم الإصرار على الصغائر مقام ذلك- وسموه عدالة- في إحياء الحقوق فليحفظ، وشاع عن أبي منصور الاستدلال بالآية- على أن الإجماع حجة إذ لو كان ما اتفقت عليه الأمة باطلا لا نثلمت به عدالتهم وهو مع بنائه على تفسير الوسط بالعدول وللخصم أن يفسره بالخيار فلا يتم إذ كونهم خيارا لا يقتضي خيريتهم في جميع الأمور فلا ينافي اتفاقهم على الخطأ- لا يخلو عن شيء، أما أولا فلأن العدالة لا تنافي الخطأ في الاجتهاد إذ لا فسق فيه كيف والمجتهد المخطئ مأجور، وأما ثانيا فلأن المراد كونهم وَسَطاً بالنسبة إلى سائر الأمم، وأما ثالثا فلأنه لا معنى لعدالة المجموع بعد القطع بعدم عدالة كل واحد، وأما رابعا فلأنه لا يلزم أن يكونوا عدولا في جميع الأوقات بل وقت أداء الشهادة وهو يوم القيامة، وأما خامسا فلأن قصارى ما تدل عليه بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 اللتيا والتي حجية إجماع كل الأمة أو كل أهل الحل والعقد منهم وذا متعذر، ولا تدل على حجية إجماع مجتهدي كل عصر والمستدل بصدد ذلك، وأجيب عن الأول، والثاني بأن العدالة بالمعنى المراد تقتضي العصمة في الاعتقاد والقول والفعل وإلا لما حصل التوسط بين الإفراط والتفريط وبأنه عبارة عن حالة متشابهة حاصلة عن امتزاج الأوساط من القوى التي ذكرناها فلا يكون أمرا نسبيا، وعن الثالث بأن المراد أن فيهم من يوجد على هذه الصفة، فإذا كنا لا نعرفهم بأعيانهم افتقرنا إلى اجتماعهم كيلا يخرج من يوجد على هذه الصفة- لكن يدخل المعتبرون في اجتماعهم- ومتى دخلوا وحصل الخطأ انثلمت عدالة المجموع. وعن الرابع بأن جَعَلْناكُمْ يقتضي تحقق العدالة بالفعل، واستعمال الماضي بمعنى المضارع خلاف الظاهر. وعن الخامس بأن الخطاب للحاضرين- أعني الصحابة كما هو أصله- فيدل على حجية الإجماع في الجملة، وأنت تعلم أن هذا الجواب الأخير لا يشفي عليلا، ولا يروي غليلا، لأنه بعيد بمراحل عن مقصود المستدل، على أن من نظر بعين الإنصاف لم ير في الآية أكثر من دلالتها على أفضلية هذه الأمة على سائر الأمم، وذلك لا يدل على حجية إجماع ولا عدمها، نعم ذهب بعض الشيعة إلى أن الآية خاصة بالأئمة الاثني عشر، ورووا عن الباقر أنه قال: نحن الأمة الوسط، ونحن شهداء الله على خلقه، وحجته في أرضه، وعن علي كرم الله تعالى وجهه: نحن الذين قال الله تعالى فيهم: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً وقالوا: قول كل واحد من أولئك حجة فضلا عن إجماعهم، وأن الأرض لا تخلو عن واحد منهم حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، ولا يخفى أن دون إثبات ما قالوه خرط القتاد لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ أي سائر الأمم يوم القيامة بأن الله تعالى قد أوضح السبل وأرسل الرسل فبلغوا ونصحوا وهو غاية- للجعل- المذكور مترتبة عليه. أخرج الإمام أحمد وغيره عن أبي سعيد قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل والنبي ومعه الرجلان وأكثر من ذلك فيدعى قومه فيقال لهم هل بلغكم هذا؟ فيقولون: لا، فيقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم، فيقال له: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيدعى محمد وأمته فيقال لهم: هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون: نعم. فيقال: وما علمكم؟ فيقولون: جاءنا نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا فذلك قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً وفي رواية «فيؤتى بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم» وذلك قوله عز وجل: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وكلمة الاستعلاء لما في- الشهيد- من معنى الرقيب، أو لمشاكلة ما قبله، وأخرت صلة الشهادة أولا وقدمت آخرا لأن المراد في الأول إثبات شهادتهم على الأمم، وفي الثاني اختصاصهم- بكون الرسول شهيدا عليهم- وقيل: لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا فيما لا يصلح إلا بشهادة العدول الأخيار وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ويزكيكم ويعلم بعدالتكم، والآثار لا تساعد ذلك على ما فيه وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها وهي صخرة بيت المقدس، بناء على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن قبلته صلى الله تعالى عليه وسلم بمكة كانت بيت المقدس لكنه لا يستدبر الكعبة- بل يجعلها بينه وبينه- والَّتِي مفعول ثان- لجعل- لا صفة الْقِبْلَةَ والمفعول الثاني محذوف أي الْقِبْلَةَ كما قيل. وقال أبو حيان: إن- الجعل- تحويل الشيء من حالة إلى أخرى، فالمتلبس بالحالة الثانية هو المفعول الثاني، كما في- جعلت الطين خزفا- فينبغي أن يكون المفعول الأول هو الموصول، والثاني هو الْقِبْلَةَ وهو المنساق إلى الذهن بالنظر الجليل، ولكن التأمل الدقيق يهدي إلى ما ذكرنا لأن الْقِبْلَةَ عبارة عن الجهة التي تستقبل للصلاة- وهو كلي- والجهة التي كنت عليها جزئي من جزئياتها،- فالجعل- المذكور من باب تصيير الكلي جزئيا، ولا شك أن الكلي يصير جزئيا- كالحيوان يصير إنسانا- دون العكس، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 والمعنى أن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة- كما هو الآن- وَما جَعَلْنَا قبلتك بيت المقدس لشيء من الأشياء إِلَّا لِنَعْلَمَ أي في ذلك الزمان مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ أي يتبعك في الصلاة إليها، والالتفات إلى الغيبة مع إيراده صلى الله تعالى عليه وسلم بعنوان الرسالة للإشارة إلى علة الاتباع. مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ أي يرتد عن دين الإسلام فلا يتبعك فيها ألفا لقبلة آبائه، ومَنْ هذه للفصل كالتي في قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة: 220] والكلام من باب الاستعارة التمثيلية بجامع أن المنقلب يترك ما في يديه ويدبر عنه على أسوأ أحوال الرجوع، وكذلك المرتد يرجع عن الإسلام ويترك ما في يديه من الدلائل على أسوأ حال. و «نعلم» حكاية حال ماضية، ويَتَّبِعُ ويَنْقَلِبُ بمعنى الحدوث- والجعل- مجاز باعتبار أنه كان الأصل استقبال الكعبة أو المعنى (ما جعلنا) قبلتك بيت المقدس إِلَّا لِنَعْلَمَ الآن بعد التحويل إلى الكعبة من يتبعك حينئذ مِمَّنْ لا يتبعك كبعض أهل الكتاب ارتدوا لما تحولت الْقِبْلَةَ فنعلم على حقيقة الحال. والحاصل أن ما فعلناه كان لأمر عارض- وهو امتحان الناس- إما في وقت- الجعل- أو في وقت التحويل، وما كان لعارض يزول بزواله، وقيل: المراد ب الْقِبْلَةَ الكعبة بناء على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يصلي إليها بمكة، والمعنى ما رددناك إِلَّا لِنَعْلَمَ الثابت الذي لا يزيغه شبهة ولا يعتريه اضطراب ممن يرتد بقلقلة واضطراب بسبب التحويل بأنه إن كان الأول حقا فلا وجه للتحويل عنه، وإن كان الثاني فلا معنى للأمر بالأول- والجعل- على هذا حقيقة، ويَتَّبِعُ للاستمرار بقرينة مقابله، ويضعف هذا القول أنه يستلزم دعوى نسخ الْقِبْلَةَ مرتين، واستشكلت الآية بأنها تشعر بحدوث- العلم- في المستقبل- وهو تعالى لم يزل عالما- وأجيب بوجوه «الأول» أن ذلك على سبيل التمثيل، أي فعلنا ذلك فعل من يريد أن يعلم «الثاني» أن المراد- العلم- الحالي الذي يدور عليه- فلك الجزاء- أي ليتعلق علمنا به موجودا بالفعل، فالعلم مقيد بالحادث، والحدوث راجع إلى القيد «الثالث» أن المراد ليعلم الرسول والمؤمنون، وتجوز في إسناد فعل بعض خواص الملك إليه تنبيها على كرامة القرب والاختصاص فهو كقول الملك: فتحنا البلد، وإنما فتحها جنده «الرابع» أنه ضمن العلم معنى التمييز أو أريد به التمييز في الخارج، وتجوز بإطلاق اسم السبب على المسبب، ويؤيده تعديه ب مَنْ كالتمييز- وبه فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- ويشهد له قراءة «ليعلم» على البناء للمفعول حيث إن المراد ليعلم كل من يأتي منه- العلم- وظاهر أنه فرع تمييز الله وتفريقه بينهما في الخارج بحيث لا يخفى على أحد «الخامس» أن المراد به الجزاء، أي لنجازي الطائع والعاصي، وكثيرا ما يقع التهديد في القرآن بالعلم «السادس» أن «نعلم» للمتكلم مع الغير، فالمراد ليشترك- العلم- بيني وبين الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين، ويرد على هذا أن مخالفته مع جعلنا آب عنه، مع أن تشريك الله تعالى مع غيره في ضمير واحد غير مناسب، ثم العلم إن كان مجازا عن التمييز- فمن، وممن- مفعولاه بواسطة وبلا واسطة، وإن كان حقيقة فإمّا أن يكون من الإدراك المعدى إلى مفعول واحد- فمن- موصولة في موضع نصب به، ومِمَّنْ حال أي متميزا مِمَّنْ أو من- العلم- المعدى إلى مفعولين ف مَنْ استفهامية في موضع المبتدأ، ويَتَّبِعُ في موضع الخبر، والجملة في موضع المفعولين مِمَّنْ يَنْقَلِبُ حال من فاعل يَتَّبِعُ وبهذا يندفع قول أبي البقاء: إنه لا يجوز أن تكون مَنْ استفهامية لأنه لا يبقى لقوله تعالى: مِمَّنْ يَنْقَلِبُ متعلق لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل فيما بعده، ولا معنى لتعلقه ب يَتَّبِعُ والكلام دال على هذا التقدير- فلا يرد أنه لا قرينة عليه- ثم إن جملة وَما جَعَلْنَا إلخ، معطوفة كالجملتين التاليتين لها على مجموع السؤال والجواب بيان لحكمة التحويل، وقيل: معطوفة على لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ويحتاج إلى أن يقال حينئذ: إنه صلّى الله عليه وسلّم مأمور بأداء مضمون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 هذا الكلام بألفاظه إذ لا يصح ضمير المتكلم في كلامه عليه الصلاة والسلام، وفيه بعد ما كما لا يخفى وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً أي شاقة ثقيلة، والضمير لما دل عليه قوله تعالى: وَما جَعَلْنَا إلخ من الجعلة، أو التولية، أو الردة، أو التحويلة، أو الصيرورة، أو المتابعة، أو القبلة، وفائدة اعتبار التأنيث- على بعض الوجوه- الدلالة على أن هذا الرد والتحويل بوقوعه مرة واحدة، واختصاصه بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم كانت ثقيلة عليهم حيث لم يعهدوه سابقا، والقول بأن تأنيث «كبيرة» يجعله صفة حادثة، وتأنيث الضمير لتأنيث الخبر فيرجع إلى- الجعل- أو الرد أو التحويل بدون تكلف تكلف عريّ عن الفائدة وَإِنْ هي المخففة من الثقيلة المفيدة لتأكيد الحكم ألغيت عن العمل فيما بعدها بتوسط «كان» - واللام- هي الفاصلة بين المخففة والنافية وزعم الكوفيون أن إِنْ هي النافية- واللام- بمعنى إلا، وقال البصريون: لو كان كذلك لجاز أن يقال: جاء القوم لزيدا على معنى إلا زيدا- وليس فليس- وقرىء لَكَبِيرَةً بالرفع ففي «كان» ضمير القصة، و «كبيرة» خبر مبتدأ محذوف، أي لهي «كبيرة» والجملة خبر «كان» وقيل: إن كانت زائدة كما في قوله: وإخوان لنا كانوا كرام واعترض بأنه إن أريد أن «كان» مع اسمها زائدة كانت «كبيرة» بلا مبتدأ وَإِنْ المخففة بلا جملة، ومثله خارج عن القياس، وإن أريد أن «كان» وحدها كذلك والضمير باق على الرفع بالابتداء- فلا وجه لاتصاله واستتاره- وأجيب بأنه لما وقع بعد «كان» وكان من جهة المعنى في موقع اسم «كان» جعل مستترا تشبيها بالاسم، وإن كان مبتدأ تحقيقا، ولا يخفى أنه من التكلف غايته، ومن التعسف نهايته إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ أي إلى سر الأحكام الشرعية المبنية على الحكم والمصالح إجمالا أو تفصيلا، والمراد بهم مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ من الثابتين على الإيمان الغير المتزلزلين المنقلبين على أعقابهم. وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أي صلاتكم إلى القبلة المنسوخة، ففي الصحيح أنه لما وجه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى القبلة قالوا: يا رسول الله، فكيف بالذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس، فنزلت، فالإيمان مجاز من إطلاق اللازم على ملزومه، والمقام قرينة وهو التفسير المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره من أئمة الدين- فلا معنى لتضعيفه كما يحكيه صنيع بعضهم- وقيل: المراد ثباتكم على الإيمان أو إيمانكم بالقبلة المنسوخة- واللام- في لِيُضِيعَ متعلقة بخبر كانَ المحذوف- كما هو رأي البصريين- وانتصاب الفعل بعدها بأن مضمرة أي ما كان مريدا- لأن يضيع- وفي توجيه النفي إلى إرادة الفعل مبالغة ليست في توجيهه إليه نفسه، وقال الكوفيون: اللام زائدة وهي الناصبة للفعل، ولِيُضِيعَ هو الخبر، ولا يقدح في عملها زيادتها كما لا تقدح زيادة حروف الجر في العمل، وبهذا يندفع استبعاد أبي البقاء خبرية لِيُضِيعَ بأن- اللام لام الجر- وَإِنْ بعدها مرادة فيصير التقدير ما كان الله إضاعة إيمانكم- فيحوج للتأويل- لكن أنت تعلم أن هذا الذي ذهب إليه الكوفيون بعيد من جهة أخرى لا تخفى. إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ تذييل لجميع ما تقدم، فإن اتصافه تعالى بهذين الوصفين يقتضي لا محالة أن الله لا يضيع أجورهم ولا يدع ما فيه صلاحهم- والباء- متعلقة ب لَرَؤُفٌ وقدم على رَحِيمٌ لأن الرأفة مبالغة في رحمة خاصة، وهي رفع المكروه وإزالة الضرر كما يشير إليه قوله تعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور: 2] أي لا ترأفوا بهما فترفعوا الجلد عنهما- والرحمة- أعم منه، ومن الإفضال ودفع الضرر أهم من جلب النفع، وقول القاضي بيض الله تعالى غرة أحواله: لعل تقديم- الرؤوف- مع أنه أبلغ- محافظة على الفواصل- ليس بشيء لأن فواصل القرآن لا يلاحظ فيها الحرف الأخير كالسجع- فالمراعاة حاصلة على كل حال- ولأن الرحمة حيث وردت في القرآن قدمت ولو في غير الفواصل كما في قوله تعالى: رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها [الحديد: 27] في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 وسط الآية، وكلام الجوهري في هذا الموضع خزف لا يعول عليه، وقول عصام:- إنه لا يبعد أن يقال:- الرؤوف- إشارة إلى المبالغة في رحمته لخواص عباده- والرحيم- إشارة إلى الرحمة لمن دونهم فرتبا على حسب ترتيبهم، فقدم- الرؤوف- لتقدم متعلقه شرفا وقدرا- لا شرف ولا قدر، بل ولا عصام له لأنه تخصيص لا يدل عليه كتاب ولا سنة ولا استعمال وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص «لرؤوف» بالمد، والباقون بغير مدكندس. قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ أي كثيرا ما نرى تردد وجهك وتصرف نظرك في جهة السماء متشوفا للوحي، وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقع في قلبه، ويتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة لما أن اليهود كانوا يقولون: يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا، ولما أنها قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام، وأقدم القبلتين وأدعى للعرب إلى الإيمان، والظاهر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يسأل ذلك من ربه بل كان ينتظر فقط إذ لو وقع السؤال لكان الظاهر ذكره، ففي ذلك دلالة على كمال أدبه صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال قتادة والسدي وغيرهما: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقلب وجهه في الدعاء إلى الله تعالى أن يحوله إلى الكعبة، فعلى هذا يكون السؤال واقعا منه عليه الصلاة والسلام، ولم يذكر لأن تَقَلُّبَ الوجه نحو السماء التي هي قبلة الدعاء يشير إليه في الجملة، ولعل ذلك بعد حصول الإذن له بالدعاء لما أن الأنبياء لا يسألون الله تعالى شيئا من غير أن يؤذن لهم فيه لأنه يجوز أن لا يكون فيه مصلحة فلا يجابون إليه فيكون فتنة لقومهم، ويؤيد ذلك ما في بعض الآثار أنه صلى الله تعالى عليه وسلم استأذن جبريل أن يدعو الله تعالى فأخبره بأن الله تعالى قد أذن له بالدعاء كذا يفهم من كلامهم، والذي أراه أنه لا مانع من دعائه صلى الله تعالى عليه وسلم وسؤاله التحويل لمصلحة ألهمها ومنفعة دينية فهمها، ولا يتوقف ذلك على الاستئذان، ولا الإذن الصريحين لأن من نال قرب النوافل مستغن عن ذلك فكيف من حصل له مقام قرب الفرائض حتى غدا سيد أهله، ومن علم مرتبة الحبيب عد جميع ما يصدر منه في غاية الكمال مع مراعاة نهاية الأدب، وأما معاتبته صلى الله تعالى عليه وسلم في بعض ما صدر فليس لنقص فيه ولا لإخلال بالأدب عند فعله حاشاه ثم حاشاه، ولكن الأسرار خفية، وحكم ربانية علمها من علمها وجهلها من جهلها، بقي هل دعا صلى الله تعالى عليه وسلم في هذه الحادثة صريحا أم لا؟ الظاهر الثاني بناء على ما صح عندنا من ظواهر الأخبار حيث لم يكن فيها سوى حب التحويل، فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن البراء قال: صلينا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا نحو بيت المقدس، ثم علم الله تعالى هوى نبيه عليه الصلاة والسلام فنزلت قَدْ نَرى الآية، وليس في الآية ما يدل صريحا على أحد الأمرين، وأما الإشارة فقد تصلح لهذا وهذا كما لا يخفى، وهذا ومن الناس من جعل قَدْ هنا للتقليل زعما منه أن وقوع التقلب قليلا أدل على كمال أدبه صلى الله تعالى عليه وسلم، واعترض بأن من رفع بصره إلى السماء مرة واحدة لا يقال له: قلب بصره إلى السماء، وإنما يقال: قلب إذا داوم فالكثرة تفهم من الآية لا محالة- لأن التقلب- الذي هو مطاوع التقليب يدل عليها، وهل التكثير معنى مجازي- لقد- أو حقيقي؟ قولان نسب ثانيهما إلى سيبويه، وهذه الكثرة أو القلة هنا منصرفة إلى التقلب، وذكر بعض النحاة أن «قد» تقلب المضارع ماضيا، ومنه ما هنا، وقوله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ [النور: 64] وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ [الحجر: 97] إلى غير ذلك فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً أي لنمكننك من استقبالها من قولك: وليته كذا إذا جعلته واليا له أو فلنجعلنك تلي جهتها دون جهة بيت المقدس من وليه دنا منه ووليته إياه أدنيته منه، والفاء لسببية ما قبلها لما بعدها، وهي في الحقيقة داخلة على قسم محذوف تدل عليه اللام، وجاء هذا الوعد على إضمار القسم مبالغة في وقوعه لأنه يؤكد مضمون الجملة المقسم عليها، وجاء قبل الأمر لفرح النفس بالإجابة ثم بإنجاز الوعد فيتوالى السرور مرتين،- ونولي- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 يتعدى لاثنين الكاف الأول وقبلة الثاني، وقوله تعالى: تَرْضاها أي تحبها وتميل إليها للأغراض الصحيحة التي أضمرتها ووافقت مشيئة الله تعالى وحكمته في موضع نصب صفة- لقبلة.، ونكرها لأنه لم يجر قبلها ما يقتضي أن تكون معهودة فتعرف باللام، وليس في اللفظ ما يدل على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يطلب قبلة معينة فَوَلِّ وَجْهَكَ الفاء لتفريع الأمر على الوعد وتخصيص التولية بالوجه لما أنه مدار التوجه ومعياره، وقيل: المراد به جميع البدن وكني بذلك عنه لأنه أشرف الأعضاء وبه يتميز بعض الناس عن بعض، أو مراعاة لما قبل والتولية إذا كانت متعدية بنفسها إلى تمام المفعولين كانت مستعملة بأحد المعنيين المتقدمين، وإذا كانت متعدية إلى واحد فمعناها الصرف إما عن الشيء أو إلى الشيء على اختلاف صلتها الداخلة على المفعول الثاني، وهي هنا بهذا المعنى- فوجهك- مفعول أول وقوله تعالى: شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي نحوه كما روي عن ابن عباس، أو قبله كما روي عن علي كرم الله وجهه، أو تلقاءه كما روي عن قتادة ظرف مكان مبهم كمفسره منصوب على الظرفية أغنى غناء إلى فإن مؤدى- ولّ وجهك- نحو أو قبل أو تلقاء المسجد- وولّ وجهك إلى المسجد- واحد وإنما لم يجعل الأمر من المتعدية إلى مفعولين بأن يكون شَطْرَ مفعوله الثاني- كما قيل به- لأن ترتبه بالفاء وكونه إيجازا للوعد بأن الله تعالى يجعل مستقبل القبلة أو قريبا من جهتها بأن يؤمر بالصلاة إليها يناسبه أن يكون مأمورا بصرف الوجه إليها لا بأن يجعل نفسه مستقبلا لها أو قريبا من جهتها فإن المناسب لهذا فلنأمرنك بأن تولي ولأنه يلزم حينئذ أن يكون الواجب رعاية سمت الجهة لأن المسجد الحرام جهة القبلة فإذا كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مأمورا بجعل نفسه مستقبل جهة المسجد أو قريبا منها كان مأمورا باستقبال جهة الجهة أو بقرب جهة الجهة بخلاف ما إذا جعل من التولية بمعنى الصرف، وشطر- ظرفا فإنه يصير المعنى اصرف وجهك نحو المسجد الحرام وتلقاءه الذي هو جهة القبلة فيكون مأمورا بمسامتة الجهة وإصابته- قاله بعض المحققين- وقيل: الشطر في الأصل لما انفصل عن الشيء ثم استعمل لجانبه وإن لم ينفصل فيكون بمعنى بعض الشيء ويتعين حينئذ جعله مفعولا ثانيا- وفيه أنه- وإن لم يلزم حينئذ وجوب رعاية جهة الجهة لكن عدم مناسبته بإنجاز الوعد باق، والقول- بأن الشطر هنا بمعنى النصف- مما لا يكاد يصح، والحرام- المحرم أي محرم فيه القتال، أو ممنوع من الظلمة أن يتعرضوا، وفي ذكر المسجد الحرام الذي هو محيط بالكعبة دون الكعبة مع أنها القبلة التي دلت عليها الأحاديث الصحاح إشارة إلى أنه يكفي للبعيد محاذاة جهة القبلة وإن لم يصب عينها وهذه الفائدة لا تحصل من لفظ الشطر- كما قاله جمع- لأنه لو قيل: فولّ وجهك شطر الكعبة لكان المعنى اجعل صرف الوجه في مكان يكون مسامتا ومحاذيا للكعبة- وهذا هو مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه. وأحمد وقول أكثر الخراسانيين من الشافعية- ورجحه حجة الإسلام في الاحياء إلا أنهم قالوا: يجب أن يكون قصد المتوجه إلى الجهة العين التي في تلك الجهة لتكون القبلة عين الكعبة، وقال العراقيون والقفال منهم: يجب إصابة العين، وقال الإمام مالك: إن الكعبة قبلة أهل المسجد، والمسجد قبلة مكة، وهي قبلة الحرم، وهو قبلة الدنيا، وفي حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعا ما يدل عليه، وهذا الخلاف في غير من يكون شاهدا أما هو فيجب عليه إصابة العين بالإجماع، ولم يقيد سبحانه وتعالى التولية في الصلاة لأن المطلوب لم يكن سوى ذلك فأغنى عن الذكر، وقيل: لأن الآية نزلت، وهو صلى الله تعالى عليه وسلم في الصلاة فأغنى التلبس بها عن ذكرها، واستدل هذا القائل بما ذكره القاضي تبعا لغيره أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قدم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا ثم وجه إلى الكعبة في رجب بعد الزوال قبل قتال بدر بشهرين، وقد صلى بأصحابه في مسجد بني سلمة ركعتين من الظهر فتحول في الصلاة واستقبل الميزاب، وتبادل الرجال والنساء صفوفهم - فسمي المسجد مسجد القبلتين- وهذا- كما قال الإمام السيوطي- تحريف للحديث، فإن قصة بني سلمة لم يكن فيها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 إماما ولا هو الذي تحول في الصلاة، فقد أخرج النسائي عن أبي سعيد بن المعلى قال: كنا نغدو إلى المسجد فمررنا يوما ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قاعد على المنبر فقلت: حدث أمر، فجلست فقرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ الآية، فقلت لصاحبي: تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فنكون أول من صلى، فصليناهما، ثم نزل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فصلى للناس الظهر يومئذ. وروى أبو داود عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه كانوا يصلون نحو بيت المقدس، فلما نزلت هذه الآية مرّ رجل ببني سلمة فناداهم وهم ركوع في صلاة الفجر نحو بيت المقدس، ألا إن القبلة قد حولت إلى الكعبة فمالوا كما هم ركوعا إلى الكعبة، فما ذكر مخالف للروايات الصحيحة الثابتة عند أهل هذا الشأن فلا يعول عليه. وقرأ أبي «تلقاء المسجد الحرام» وهي تؤيد القول الأول في شَطْرَ كما لا يخفى وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ عطف على فَوَلِّ وَجْهَكَ ومن تتمة إنجاز الوعد- والفاء- جواب الشرط لأن حَيْثُ إذا لحقه ما الكافة عن الإضافة يكون من كلم المجازاة، والفراء لا يشترط ذلك فيها، و (كان) تامة- أي في أي موضع وجدتم- وأصل ولوا وليوا فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت فالتقى ساكنان فحذف أولهما وضم ما قبل الياء للمناسبة- فوزنه فعوا- وهذا تصريح بعموم الحكم المستفاد من السابق اعتناء به إذ الخطاب الوارد في شأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عام حكمه ما لم يظهر اختصاصه به عليه الصلاة والسلام، وفائدة تعميم الأمكنة- على ما ذهب إليه البعض- دفع توهم أن هذه القبلة مختصة بأهل المدينة، وقيل: لما كان الصرف عن الكعبة لاستجلاب قلوب اليهود وكان مظنة أن لا يتوجه إليها في حضورهم أشار إلى تعميم التولية جميع الأمكنة أو يقال: صرح بأن التولية جهة الكعبة فرض مع حضور بيت المقدس، ولأهله أيضا لئلا يظن أن حضور بيت المقدس يمنع التوجه إلى جهة الكعبة مع غيبتها فليفهم. وقرأ عبد الله «فولوا وجوهكم قبله» . وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي من اليهود لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ أي التحويل أو التوجه المفهوم من التولية الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ لا غيره لعلمهم بأن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم لا يأمر بالباطل إذ هو النبي المبشر به في كتبهم وتحققهم أنه لا يتجاوز كل شريعة عن قبلتها إلى قبلة شريعة أخرى، وأما اشتراك النبي صلّى الله عليه وسلّم وإبراهيم عليه السلام في هذه القبلة فلاشتراكهما في الشريعة على ما ينبىء عنه قوله تعالى: بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [البقرة: 135] ، ووقوفهم على ما تضمنته كتبهم من أنه صلّى الله عليه وسلّم يصلي إلى القبلتين، والجملة عطف على قَدْ نَرى بجامع أن السابقة مسوقة لبيان أصل التحويل وهذه لبيان حقيته قيل: أو اعتراضية لتأكيد أمر القبلة وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ اعتراض بين الكلامين جيء به للوعد والوعيد للفريقين من أهل الكتاب الداخلين تحت العموم السابق المشار إليهما فيما سيجيء قريبا إن شاء الله تعالى وهما من كتم ومن لم يكتم، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي تعملون بالتاء فهو وعد للمؤمنين، وقيل: على قراءة الخطاب وعدلهم، وقراءة الغيبة وعيد لأهل الكتاب مطلقا وقيل: الضمير على القراءتين لجميع الناس فيكون وعدا ووعيدا لفريقين من المؤمنين والكافرين. وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ عطف على وَإِنَّ الَّذِينَ بجامع أن كلا منهما مؤكد لأمر القبلة ومبين لحقيته والمراد من الموصول الكفار من أولئك بدليل الجواب ولذا وضع المظهر موضع المضمر ومن خص ما تقدم بالكفار جعل هذا الوضع للإيذان بكمال سوء حالهم من العناد مع تحقق ما ينافيه من الكتاب الصادح بحقية ما كابروا في قبوله بِكُلِّ آيَةٍ وحجة قطعية دالة على أن توجهك إلى الكعبة هو الحق واللام موطئة لقسم محذوف ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ جواب القسم ساد مسد جواب الشرط لا جواب الشرط، لما تقرر أن الجواب إذا كان القسم مقدما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 للقسم لا للشرط إن لم يكن مانع فكيف إذا كان كترك الفاء هاهنا فإنها لازمة في الماضي المنفي إذا وقع جزاء وهذا تسلية للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن قبولهم الحق، والمعنى أنهم ما تركوا قِبْلَتَكَ لشبهة تدفعها بحجة وإنما خالفوك لمحض العناد وبحت المكابرة، وليس المراد من التعليق بالشرط الإخبار عن عدم متابعتهم على أبلغ وجه وآكده بأن يكون المعنى أنهم لا يتبعونك أصلا- وإن أتيت بكل- حجة فاندفع ما قيل: كيف حكم بأنهم لا يتبعون وقد آمن منهم فريق واستغنى عن القول بأن ذلك في قوم مخصوصين أو حكم على الكل دون الأبعاض فإنه تكلف مستغنى عنه وإضافة القبلة إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم لأن الله تعالى تعبده باستقبالها وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ أي لا يكون ذلك منك ومحال أن يكون فالجملة خبرية لفظا ومعنى سيقت لتأكيد حقية أمر القبلة كل التأكيد وقطع تمني أهل الكتاب فإنهم قالوا: يا محمد عد إلى قبلتنا ونؤمن بك ونتبعك مخادعة منهم لعنهم الله تعالى، وفيها إشارة إلى أن هذه القبلة لا تصير منسوخة أبدا، وقيل: إنها خبرية لفظا إنشائية معنى ومعناها النهي أي لا تتبع قبلتهم أي داوم على عدم اتباعها، وأفرد القبلة وإن كانت مثناة إذ لليهود قبلة وللنصارى قبلة لأنهما اشتركتا في كونهما باطلتين فصار الاثنان واحدا من حيث البطلان، وحسن ذلك المقابلة لأن قبلة ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وقد يقال: إن الإفراد بناء على أن قبلة الطائفتين الحقة في الأصل بيت المقدس وعيسى عليه السلام لم يصل جهة الشرق حتى رفع وإنما كانت قبلته قبلة بني إسرائيل اليوم ثم بعد رفعه شرع أشياخ النصارى لهم الاستقبال إلى الشرق واعتذروا بأن المسيح عليه السلام فوض إليهم التحليل والتحريم وشرع الأحكام وأن ما حللوه وحرموه فقد حلله هو وحرمه في السماء وذكروا لهم أن في الشرق أسرارا ليست في غيره ولهذا كان مولد المسيح شرقا كما يشير إليه قوله تعالى: إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا [مريم: 16] واستقبل المسيح حين صلب بزعمهم الشرق، وقيل: إن بعض رهبانهم قال لهم: إني لقيت عيسى عليه الصلاة والسلام فقال لي: إن الشمس كوكب أحبه يبلغ سلامي في كل يوم فمر قومي ليتوجهوا إليها في صلاتهم فصدقوا وفعلوا، ويؤيد ذلك أنه ليس في الإنجيل استقبال الشرق، وذهب ابن القيم إلى أن قبلة الطائفتين الآن لم تكن قبلة بوحي وتوقيف من الله تعالى بل بمشورة واجتهاد منهم، أما النصارى فاجتهدوا وجعلوا الشرق قبلة وكان عيسى قبل الرفع يصلي إلى الصخرة، وأما اليهود فكانوا يصلون إلى التابوت الذي معهم إذا خرجوا وإذا قدموا بيت المقدس نصبوه إلى الصخرة وصلوا إليه فلما رفع اجتهدوا فأدى اجتهادهم إلى الصلاة إلى موضعه وهو الصخرة وليس في التوراة الأمر بذلك، والسامرة منهم يصلون إلى طورهم بالشام قرب بلدة نابلس، وهذان القولان إن صحا يشكل عليهما القول بأن عادته تعالى تخصيص كل شريعة بقبلة فتدبر. ثم إن هذه الجملة أبلغ في النفي من الجملة الأولى من وجوه: كونها اسمية وتكرر فيها الاسم مرتين وتأكد نفيها بالباء وفعل ذلك اعتناء بما تقدم وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ أي أن اليهود لا تتبع قبلة النصارى ولا النصارى تتبع قبلة اليهود ما داموا باقين على اليهودية والنصرانية وفي ذلك بيان لتصابهم في الهوى وعنادهم بأن هذه المخالفة والعناد لا يختص بك بل حالهم فيما بينهم أيضا كذلك، والجملة عطف على ما تقدم مؤكدة لأمر القبلة ببيان أن إنكارهم ذلك ناشىء عن فرط العناد وتسلية للرسول صلّى الله عليه وسلّم وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ أي على سبيل الفرض وإلا فلا معنى لاستعمال أن الموضوعة للمعاني المحتملة بعد تحقق الانتفاء فيما سبق، والمقصود بهذا الفرض ذكر مثال لاتباع الهوى وذكر قبحه من غير نظر إلى خصوصية المتبع والمتبع. مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أي المعلوم الذي أوحي إليك بقرينة إسناد المجيء إليه، والمراد بعد ما بان لك الحق إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ أي المرتكبين الظلم الفاحش، وهذه الجملة أيضا تقرير لأمر «القبلة» وفيها وجوه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 التأكيد والمبالغة، وهي القسم، واللام الموطئة له، وإن الفرضية، وأن التحقيقية، واللام في حيزها، وتعريف الظالمين، والجملة الاسمية، وإذا الجزائية، وإيثار «من الظالمين» على- ظالم أو الظالم- لإفادته أنه مقرر محقق وأنه معدود في زمرتهم عريق فيهم. وإيقاع- الاتباع- على ما سماه- هوى- أي لا يعضده برهان، ولا نزل في شأنه بيان، والإجمال والتفصيل وجعل الجائي نفس الْعِلْمِ وعد أيضا من ذلك عده واحدا «من الظالمين» مغمورا فيهم غير متعين كتعينهم فيما بين المسلمين، فإن فيه مبالغة عظيمة للإشعار بالانتقال من مرتبة العدل إلى الظلم، ومن مرتبة التعين والسيادة المطلقة إلى السفالة والمجهولية، ولو جعل كُنْتَ في كُنْتَ عَلَيْها بمعنى صرت لكان أعلى كعبا في الإفادة. وأنت تعلم أن التركيب يقتضي المبالغة في الاستعمال لا المجهولية، ولو اقتضاها فيه لكان العد معدودا في عداد المقبول، وفي هذه المبالغات تعظيم لأمر الحق وتحريض على اقتفائه وتحذير عن متابعة الهوى، واستعظام لصدور الذنب عن الأنبياء وذو المرتبة الرفيعة إلى تجديد الانذار عليه أحوج حفظا لمرتبته، وصيانة لمكانته، فلا حاجة إلى القول بأن الخطاب للنبي والمعني به غيره. الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ مبتدأ وخبر، والمراد بهم العلماء لأن- العرفان- لهم حقيقة، ولذا وضع المظهر موضع المضمر، ولأن- أوتوا- يستعمل فيمن لم يكن له قبول، وآتينا أكثر ما جاء فيمن له ذلك، وجوز أن يكون الموصول بدلا من الموصول الأول، أو لَمِنَ الظَّالِمِينَ فتكون الجملة حالا من الْكِتابَ أو من الموصول، ويجوز أن يكون نصبا بأعني، أو رفعا على تقديرهم، وضمير يَعْرِفُونَهُ لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم- وإن لم يسبق ذكره- لدلالة قوله تعالى: كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ عليه، فإن تشبيه معرفته بمعرفة- الأبناء- دليل على أنه المراد، وقيل: المرجع مذكور فيما سبق صريحا بطريق الخطاب، فلا حاجة إلى اعتبار التقديم المعنوي «غاية الأمر» أن يكون هاهنا التفات إلى الغيبة للإيذان بأن المراد ليس معرفتهم له عليه الصلاة والسلام من حيث ذاته ونسبه الزاهر، بل من حيث كونه مسطورا في الكتاب منعوتا فيه بالنعوت التي تستلزم إفحامهم، ومن جملتها أنه يصلي إلى القبلتين، كأنه قال: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكتاب يعرفون من وصفناه فيه، وأجيب بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم وإن خوطب في الكلام الذي في شأن «القبلة» مرارا لكنه لا يحسن إرجاع الضمير إليه لأن هذه الجملة اعتراضية مستطردة بعد ذكر أمر «القبلة» وظهورها عند أهل الكتاب بجامع المعرفة الجلية مع الطعن- ولذا لم تعطف- فلو رجع الضمير إلى المذكور لأوهم نوع اتصال- ولم يحسن ذلك الحسن- ودليل الاستطراد (ولكل وجهة) نعم إن قيل: بمجرد الجواز فلا بأس به إذ هو محتمل، ولعله الظاهر بالنظر الجليل، وقيل: الضمير- للعلم- المذكور بقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أو القرآن بادعاء حضوره في الأذهان، أو للتحويل لدلالة مضمون الكلام السابق عليه، وفيه أن التشبيه يأبى ذلك لأن المناسب تشبيه الشيء بما هو من جنسه، فكان الواجب في نظر البلاغة حينئذ كما يعرفون التوراة أو الصخرة، وأن التخصيص بأهل الكتاب يقتضي أن تكون هذه المعرفة مستفادة من الْكِتابَ وقد أخبر سبحانه عن ذكر نعته صلى الله تعالى عليه وسلم في التوراة والإنجيل بخلاف المذكورات فإنها غير مذكور فيه ذكرها فيهما- والكاف- في محل نصب على أنها صفة لمصدر محذوف أي يَعْرِفُونَهُ بالأوصاف المذكورة في الْكِتابَ بأنه النبي الموعود بحيث لا يلتبس عليهم عرفانا مثل- عرفانهم أبناءهم- بحيث لا تلتبس عليهم أشخاصهم بغيرهم، وهو تشبيه للمعرفة العقلية الحاصلة من مطالعة الكتب السماوية بالمعرفة الحسية في أن كلّا منهما يتعذر الاشتباه فيه، والمراد- بالأبناء- الذكور لأنهم أكثر مباشرة ومعاشرة للآباء، وألصق وأعلق بقلوبهم من البنات، فكان ظن اشتباه أشخاصهم أبعد، وكان التشبيه بمعرفة الأبناء آكد من التشبيه بالأنفس لأن الإنسان قد يمر عليه قطعة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 الزمان لا يعرف فيها نفسه كزمن الطفولية- بخلاف الأبناء- فإنه لا يمر عليه زمان إلا وهو يعرف ابنه. وما حكي عن عبد الله بن سلام أنه قال في شأنه صلى الله تعالى عليه وسلم: أنا أعلم به مني بابني، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: لم؟ قال: لأني لست أشك بمحمد أنه نبي، فأما ولدي فلعل والدته خانت، فقبل عمر رضي الله تعالى عنه رأسه، فمعناه أني لست أشك في نبوته عليه الصلاة والسلام بوجه، وأما ولدي فأشك في بنوته وإن لم أشك بشخصه، وهو المشبه به في الآية فلا يتوهم منه أن- معرفة الأبناء- لا تستحق أن يشبه بها لأنها دون المشبه للاحتمال، ولا يحتاج إلى القول بأنه يكفي في وجه الشبه كونه أشهر في المشبه به- وإن لم يكن أقوى- ومعرفة الأبناء- أشهر من غيرها، ولا إلى تكلف أن المشبه به في الآية إضافة- الأبناء- إليهم مطلقا سواء كانت حقة أو لا. وما ذكره ابن سلام كونه ابنا له في الواقع وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ وهم الذين لم يسلموا. لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ الذي يعرفونه وَهُمْ يَعْلَمُونَ جملة حالية، ويَعْلَمُونَ إما منزلة منزلة اللازم ففيه تنبيه على كمال شناعة كتمان الحق وأنه لا يليق بأهل العلم، أو المفعول محذوف أي «يعلمونه» فيكون حالا مؤكدة لأن لفظ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ يدل على علمه إذ- الكتم- إخفاء ما يعلم، أو يعلمون عقاب الكتمان، أو أنهم لَيَكْتُمُونَ فتكون مبينة، وهذه الجملة عطف على ما تقدم من عطف الخاص على العام، وفائدته تخصيص من عاند وكتم بالذم، واستثناء من آمن وأظهر علمه عن حكم الكتمان الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ استئناف كلام قصد به رد الكاتمين، وتحقيق أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولذا فصل، والْحَقُّ إما مبتدأ خبره الجار- واللام- إما للعهد إشارة إلى ما جاء به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ولذا ذكر بلفظ المظهر أو الحق الذي كتمه هؤلاء ووضع فيه المظهر موضع المضمر تقريرا لحقيته وتثبيتا لها، أو للجنس وهو يفيد قصر جنس الْحَقُّ على ما ثبت من الله أي أن الْحَقُّ ذلك كالذي أنت عليه لا غيره كالذي عليه أهل الكتاب، وإما خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق، أو هذا الحق، ومِنْ رَبِّكَ خبر بعد خبر أو حال مؤكدة- واللام- حينئذ للجنس كما في ذلِكَ الْكِتابُ [البقرة: 2] ومعناه أن ما يكتمونه هو الحق- لا ما يدعونه ويزعمونه- ولا معنى حينئذ للعهد لأدائه إلى التكرار فيحتاج إلى تكلف. وقرأ الإمام علي كرم الله تعالى وجهه «الحق» بالنصب على أنه مفعول يَعْلَمُونَ أو بدل، ومِنْ رَبِّكَ حال منه، وبه يحصل مغايرته للأول وإن اتحد لفظهما، وجوز النصب بفعل مقدر- كالزم- وفي التعرض لوصف الربوبية مع الإضافة من إظهار اللطف به صلى الله تعالى عليه وسلم ما لا يخفى. فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ أي الشاكين أو المترددين في كتمانهم الحق عالمين به، أو في أنه مِنْ رَبِّكَ وليس المراد نهي الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك لأن النهي عن شيء يقتضي وقوعه أو ترقبه من المنهي عنه وذلك غير متوقع من ساحة حضرة الرسالة صلى الله تعالى عليه وسلم فلا فائدة في نهيه، ولأن المكلف به يجب أن يكون اختياريا، وليس الشك والتردد مما يحصل بقصد واختيار بل المراد إما تحقيق الأمر وأنه بحيث لا يشك فيه أحد كائنا من كان، أو الأمر للأمة بتحصيل المعارف المزيلة لما نهى عنه فيجعل النهي مجازا عن ذلك الأمر وفي جعل امتراء الأمة امتراءه صلّى الله عليه وسلّم مبالغة لا تخفى، ولك أن تقول: إن الشك ونحوه وإن لم يكن مقدور التحصيل لكنه مقدور لإزالة البقاء، ولعل النهي عنه بهذا الاعتبار ولهذا قال الله تعالى: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ دون فلا تمتر، ومن ظن أن منشأ الاشكال إفخام الكون لأنه هو الذي ليس مقدورا فلا ينهى عنه دون الشك والتردد لم يأت بشيء لِكُلٍّ وِجْهَةٌ أي لكل أهل ملة أو جماعة من المسلمين واليهود والنصارى أو لكل قوم من المسلمين جهة وجانب من الكعبة يصلي إليها جنوبية أو شمالية أو شرقية أو غربية، وتنوين- كل- عوض عن المضاف إليه ووجهة- جاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 على الأصل والقياس جهة مثل عدة وزنة وهي مصدر بمعنى المتوجه إليه كالخلق بمعنى المخلوق وهو محذوف الزوائد لأن الفعل توجه أو اتجه، والمصدر التوجه أو الاتجاه، ولم يستعمل منه وجه كوعد، وقيل: إنها اسم للمكان المتوجه إليه فثبوت الواو ليس بشاذ وقرأ أبيّ- ولكل قبلة-وَمُوَلِّيها الضمير المرفوع عائد إلى- كل باعتبار لفظه، والمفعول الثاني للوصف محذوف أي وجهه أو نفسه أي مستقبلها، ويحتمل أن يكون الضمير لله تعالى أي- الله موليها- إياه، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قرأ «ولكل وجهة» بالإضافة، وقد صعب تخريجها حتى تجرأ بعضهم على ردها وهو خطأ عظيم، وخرجها البعض أن- كل- كان في الأصل منصوبا على أنه مفعول به لعامل محذوف يفسره وَلِّيها وضميروَ عائد إلى الله تعالى قطعا ثم زيدت اللام في المفعول به صريحا لضعف العامل المقدر من جهتين، كونه اسم فاعل وتقديم المعمول عليه والمفعول الآخر محذوف- أي لكل وجهة الله مولى موليها- ورد بأن لام التقوية لا تزاد في أحد مفعولي المتعدي لاثنين، لأنه إما أن تزاد في الآخر ولا نظير له، أو لا فيلزم الترجيح بلا مرجح، وإن أجيب بإطلاق النحاة يقتضي جوازه، والترجيح بلا مرجح مدفوع هنا بأنه ترجح بتقديمه وقيل: إن المجرور معمول للوصف المذكور على أنه مفعول به له واللام مزيدة، أو أن الكلام من باب الاشتغال بالضمير، ولا يخفى أن هذين التخريجين يحوج أولهما إلى إرجاع الضمير المجرور بالوصف إلى التولية، وجعله مفعولا مطلقا كقوله: هذا سراقة للقرآن يدرسه لئلا يقال: كيف يعمل الوصف مع اشتغاله بالضمير، وثانيهما إلى القول: بأنه قد يجيء المجرور من باب الاشتغال على قراءة من قرأ «والظالمين أعدلهم» والقول: بأن اللام أصلية، والجار متعلق- بصلوا- محذوفا أو باستبقوا والفاء زائدة بعيد بل لا أكاد أجيزه، وقرأ ابن عامر، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- مولاها- على صيغة اسم المفعول- أي هو قد ولي تلك الجهة- فالضمير المرفوع حينئذ عائد إلى كل البتة، ولا يجوز رجوعه إلى الله تعالى لفساد المعنى، وأخرج ابن جرير وابن أبي داود في المصاحف عن منصور قال: نحن نقرأ- ولكل جعلنا قبلة يرضونها-اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ جمع خيرة بالتخفيف وهي الفاضلة من كل شيء، والتأنيث باعتبار الخصلة، «واللام» للاستغراق فيعم المحلى أمر القبلة وغيره، والخطاب للمؤمنين، والاستباق متعد كما في التاج، وقيل: لازم، و «إلى» بعده مقدرة أي إذا كان كذلك فبادروا أيها المؤمنون ما به يحصل السعادة في الدارين من استقبال القبلة وغيره ولا تنازعوا من خالفكم إذ لا سبيل إلى الاجتماع على قبلة واحدة لجري العادة على تولية كل قوم قبلة يستقبلها، وفي أمر المؤمنين بطلب التسابق فيما بينهم كما قال السعد: دلالة على طلب سبق غيرهم بطريق الأولى، وقيل: الاقتصار على سبق بعضهم إشارة إلى أن غيرهم ليس في طريق الخير حتى يتصور أمر أحد بالسبق إلى الخير عليه، ويجوز أن تكون «اللام» للعهد فالمراد بالخيرات الفاضلات من الجهات التي تسامت الكعبة، وفيه إشارة إلى أن الصلاة إلى عين الكعبة أكثر ثوابا من الصلاة التي جهتها، وقيل: يحتمل أن يراد بها الصلوات الفاضلات، والمراد- بالاستباق- السرعة فيها والقيام بها في أول أوقاتها، وفيه بعد، وأبعد منه ما قيل: إن المعنى- فاستبقوا قبلتكم- وعبر عنها بالخيرات إشارة إلى اشتمالها على كل خير. واستدل الشافعية بالآية على أن الصلاة في أول الوقت بعد تحققه أفضل وهي مسألة فرغ منها في الفروع، ولبعض العارفين في الآية وجه آخر وهو أنه تعالى جعل الناس في أمور دنياهم وأخراهم على أحوال متفاوتة، فجعل بعضهم أعوان بعض فواحد يزرع وآخر يطحن وآخر يخبز، وكذلك في أمر الدين، واحد يجمع الحديث. وآخر يحصل الفقه وآخر يطلب الأصول، وهم في الظاهر مختارون، وفي الباطن مسخرون، وإليه الإشارة بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «كل ميسر لما خلق له» ولهذا قال بعض الصالحين لما سئل عن تفاوت الناس في أفعالهم: كل ذلك طرق إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 الله تعالى أراد أن يعمرها بعباده ومن تحرى وجه الله تعالى في كل طريق يسلكه وصل إليه لكن ينبغي تحري الأحسن من تلك الطرق إذ المراتب متفاوتة والشؤون مختلفة ومظاهر الأسماء شتى، وقيل: المراد بها أن لكل أحد قبلة فقبلة المقربين العرش والروحانيين الكرسي والكروبيين البيت المعمور والأنبياء قبلك بيت المقدس وقبلتك الكعبة، وهي قبلة جسدك، وأما قبلة روحك فأنا، وقبلتي أنت كما يشير إليه «أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي» ْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً أين ظرف مكان تضمن معنى الشرط، وا مزيدة وأْتِ جوابها والمعنى في أي موضع تكونوا من المواضع الموافقة لطبعكم كالأرض أو المخالفة كالسماء أو المجتمعة الأجزاء كالصخرة أو المتفرقة التي يختلط بها ما فيها كالرمل يحشركم الله تعالى إليه لجزاء أعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر، والجملة معللة لما قبلها، وفيها حث على الاستباق بالترغيب والترهيب وهي على حد قوله تعالى: يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ [لقمان: 16] أو في أي موضع تكونوا من أعماق الأرض وقلل الجبال يقبض الله تعالى أرواحكم إليه فهي على حد قوله تعالى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء: 78] ففيها حث على الاستباق باغتنام الفرصة فإن الموت لا يختص بمكان دون مكان، أو أَيْنَما تَكُونُوا من الجهات المتقابلات يمنة ويسرة وشرقا وغربا يجعل الله تعالى صلاتكم مع اختلاف جهاتها في حكم صلاة متحدة الجهة كأنها إلى عين الكعبة أو في المسجد الحرام- فيأت بكم- مجاز عن جعل الصلاة متحدة الجهة وفائدة الجملة المعللة حينئذ بيان حكم الأمر بالاستباق، ومنهم من قال: الخطاب في استبقوا إما عام للمؤمنين والكافرين، وإما خاص بالمؤمنين فعلى الأول يراد هنا العموم أي في أي موضع تكونوا من المواضع الموافقة للحق أو المخالفة له، وعلى الثاني الخصوص- أي أينما تكونوا في الصلاة أيها المؤمنون من الجهات المتقابلة شمالا وجنوبا وشرقا وغربا بعد أن تولوا جهة الكعبة يجعل الله تعالى صلاتكم كأنها إلى جهة واحدة لاتحادكم في الجهة التي أمرتم بالاتجاه إليها- وليس بشيء كما لا يخفى نَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ومن ذلك إماتتكم وإحياؤكم، وجمعكم والجملة وتأكيد لما تقدم. وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ عطف على اسْتَبِقُوا وحَيْثُ ظرف لازم الإضافة إلى الجمل غالبا، والعامل فيها ما هو في محل الجزاء لا الشرط فهي هنا متعلقة- بولّ- والفاء صلة للتنبيه على أن ما بعدها لازم لما قبلها لزوم الجزاء للشرط لأن- حيث- وإن لم تكن شرطية لكنها لدلالتها على العموم أشبهت كلمات الشرط ففيها رائحة الشرط، ولا يجوز تعلقها- بخرجت- لفظا وإن كانت ظرفا له معنى لئلا يلزم عدم الإضافة والمعنى من أي موضع خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ من ذلك الموضع شَطْرَ إلخ وَمِنْ ابتدائية لأن الخروج أصل لفعل ممتد وهو المشي وكذا التولية أصل للاستقبال وقت الصلاة الذي هو ممتد، وقيل: إن- حيث- متعلقة- بولّ- والفاء ليست زائدة، وما بعدها يعمل فيما قبلها كما بين في محله إلا أنه لا وجه لاجتماع الفاء والواو فالوجه أن يكون التقدير افعل ما أمرت به من حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ فيكون فَوَلِّ عطفا على المقدر، ويجوز أن يجعل- من حيث خرجت- بمعنى أينما كنت وتوجهت فيكون- فول- جزاء له على أنها شرطية العامل فيها الشرط- ولا يخفى ما فيه من التكلف- والتخريج على قول ضعيف لم يذهب إليه إلا الفراء وهو شرطية- حيث- بدون- ما- حتى قالوا: إنه لم يسمع في كلام العرب، ثم الأمر بالتولية مقيد بالقيام إلى الصلاة للإجماع على عدم وجوب استقبال القبلة في غير ذلك. وَإِنَّهُ أي الاستقبال أو الصرف أو التولية والتذكير باعتبار أنها أمر من الأمور أو لتذكير الخبر أو لعدم الاعتداد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 بتأنيث المصدر أو بذي التاء الذي لا معنى للمجرد عنه سواء كان مصدرا أو غيره، وإرجاع الضمير للأمر السابق واحد الأوامر على قربه بعيد لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أي الثابت الموافق للحكمة. وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فيجازيكم بذلك أحسن الجزاء فهو وعيد للمؤمنين، وقرىء- يعملون- على صيغة الغيبة فهو وعيد للكافرين، والجملة عطف على ما قبلها وهما اعتراض للتأكيد. وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ معطوف على مجموع قوله تعالى: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ إلخ أو على قوله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ إلخ عطف القصة على القصة وليس معطوفا على قوله تعالى: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ الداخل تحت فاء السببية الدالة على ترتبه على قوله تعالى: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ لأنه معلل بقوله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ وهو وإن كان علة- لولوا- لا لمحذوف- أي عرفناكم وجه الصواب في قبلتكم- والحجة في ذلك كما قيل به: إلا أنه يفهم منه كونه علة- لول- لأن انقطاع الحجة بالتولية إذا حصل للأمة كان حصوله بها للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بطريق الأولى، ولو جعل الخطاب عاما للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والأمة ولم يلتزم تخصيصه بالأمة على حد خطابات الآية كان علة لهما وإنما كرر هذا الحكم لتعدد علله، والحصر المستفاد من «إلا لنعلم» إلخ إضافي أو ادعائي فإنه تعالى ذكر للتحويل ثلاث علل، تعظيم الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بابتغاء مرضاته أولا، وجري العادة الإلهية على أن يؤتى كل أهل ملة وجهة «ثانيا» ودفع حجج المخالفين «ثالثا» فإن التولية إلى الكعبة تدفع احتجاج اليهود بأن المنعوت في التوراة قبلته الكعبة لا الصخرة وهذا النبي يصلي إلى الصخرة فلا يكون النبي الموعود، وبأنه صلى الله تعالى عليه وسلم يدعي أنه صاحب شريعة ويتبع قبلتنا وبينهما تدافع لأن عادته سبحانه وتعالى جارية بتخصيص كل صاحب شريعة بقبلة، وتدفع احتجاج المشركين بأنه عليه الصلاة والسلام يدعي ملة إبراهيم ويخالف قبلته وترك سبحانه التعميم بعد التخصيص في المرتبة الثالثة اكتفاء بالعموم المستفاد من العلة، وزاد مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ دفعا لتوهم مخالفة حال السفر لحال الحضر بأن يكون حال السفر باقيا على ما كان كما في الصلاة حيث زيد في الحضر ركعتان أو يكون مخيرا بين التوجهين كما في الصوم. وقد يقال فائدة هذا التكرار الاعتناء بشأن الحكم لأنه من مظان الطعن وكثرة المخالفين فيه لعدم الفرق بين النسخ والبداء، وقيل: لا تكرار فإن الأحوال ثلاثة، كونه في المسجد، وكونه في البلد خارج المسجد، وكونه خارج البلد، فالأول محمول على الأول، والثاني على الثاني، والثالث على الثالث، ولا يخفى أنه مجرد تشبيه لا يقوم عليه دليل. إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ إخراج من الناس، وهو بدل على المختار، والمعنى عند القائلين: بأن الاستثناء من النفي إثبات لئلا يكون لأحد من الناس عليكم حجة إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا بالعناد فإن لهم عليكم حجة فإن اليهود منهم يقولون ما تحول إلى الكعبة إلا ميلا لدين قومه وحبا لبلده، والمشركين منهم يقولون بدا له فرجع إلى قبلة آبائه، ويوشك أن يرجع إلى دينهم، وتسمية هذه الشبهة الباطلة حجة مع أنها عبارة عن البرهان المثبت للمقصود لكونها شبيهة بها باعتبار أنهم يسوقونها مساقها، واعترض بأن صدر الكلام لو تناول هذا لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز وإلا لم يصح الاستثناء لأن الحجة مختصة بالحقيقة، ولا محيص سوى أن يراد بالحجة المتمسك حقا كان أو باطلا، وأجيب بأنه لم يستثن شبهتهم عن الحجة بل ذواتهم عن الناس إلا أنه لزم تسمية شبهتهم حجة باعتبار مفهوم المخالفة فلا حاجة إلى تناول الصدر إياها، وأنت تعلم أن مراد المعترض إن الاستثناء وإن كان من الناس إلا أنه يثبت به ما نفي عن المستثني منه للمستثني بناء على أن الاستثناء من النفي إثبات فإن كان الصدر مشتملا على ما أثبت للمستثني لزم الجمع وإلا لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 يتحقق الاستثناء بمقتضاه إذ الثابت للمستثنى منه شيء وللمستثني شيء آخر، ولا محيص للتفصي عن ذلك إلا أن يراد بالحجة المتمسك أو ما يطلق عليه الحجة في الجملة فيتحقق حينئذ الاستثناء بمقتضاه لأن الشبهة حجة بهذا المعنى كالبرهان، ولا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، ولك أن تحمل الحجة على الاحتجاج والمنازعة كما في قوله تعالى: لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ [الشورى: 15] فأمر الاستثناء حينئذ واضح إلا أن صوغ الكلام بعيد عن الاستعمال عند إرادة هذا المعنى، وقيل: الاستثناء منقطع، وهو من تأكيد الشيء بضده وإثباته بنفيه، والمعنى إن يكن لهم حجة فهي الظلم والظلم لا يمكن أن يكون حجة فحجتهم غير ممكنة أصلا فهو إثبات بطريق البرهان على حد قوله: ولا عيب فيهم غير أن نزيلهم ... «يلام» بنسيان الأحبة والوطن وقرأ زيد بن عليّ رضي الله تعالى عنهما «ألا» بالفتح والتخفيف وهي حرف يستفتح به الكلام لينبه السامع إلى الإصغاء، والَّذِينَ مبتدأ خبره قوله تعالى: فَلا تَخْشَوْهُمْ والفاء زائدة فيه للتأكيد، وقيل: لتضمن المبتدأ معنى الشرط، وجوز أن يكون الموصول نصبا على شريطة التفسير، والمشهور أن- الخشية- مرادفة للخوف أي فلا تخافوا الظالمين لأنهم لا يقدرون على نفع ولا ضر، وجوز عود الضمير إلى الناس وفيه بعد. وَاخْشَوْنِي أي وخافوني فلا تخالفوا أمري فإني القادر على كل شيء، واستدل بعض أهل السنة بالآية على حرمة التقية التي يقول بها الإمامية، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك في محله. وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ الظاهر من حيث اللفظ أنه عطف على قوله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ كأنه قيل: فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة ولأتم- إلخ فهو علة لمذكور أي أمرتكم بذلك لأجمع لكم خير الدارين، أما دنيا فلظهور سلطانكم على المخالفين، وأما عقبى فلإثابتكم الثواب الأوفى ولا يرد الفصل بالاستثناء وما بعده لأنه- كلا فصل- إذ هو من متعلق العلة الأولى، نعم اعترض ببعد المناسبة وبأن إرادة الاهتداء المشعر بها الترجي إنما تصلح علة للأمر بالتولية لا لفعل المأمور به كما هو الظاهر في المعطوف عليه فالظاهر معنى جعله علة لمحذوف أي وأمرتكم بالتولية- والخشية- لإتمام نعمتي عليكم وإرادتي اهتداءكم- والجملة المعللة معطوفة على الجملة المعللة السابقة، أو عطف على علة مقدرة مثل وَاخْشَوْنِي لأحفظكم ولأتم إلخ. ورجح بعضهم هذا الوجه بما أخرجه البخاري في الأدب المفرد. والترمذي من حديث معاذ بن جبل «تمام النعمة دخول الجنة» ولا يخفى أنه على الوجه الأول قد يؤول الكلام إلى معنى- فاعبدوا، وصلوا متجهين شطر المسجد الحرام لأدخلكم الجنة- والحديث لا يأبى هذا بل يطابقه حذو القذة بالقذة فكونه مرجحا لذلك بمعزل عن التحقيق «فإن قيل» إنه تعالى أنزل عند قرب وفاته صلى الله تعالى عليه وسلم الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة: 3] فبين أن تمام النعمة إنما حصل ذلك اليوم فكيف قال قبل ذلك بسنين في هذه الآية: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ؟ أجيب بأن تمام النعمة في كل وقت بما يليق به فتدبر. كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ متصل بما قبله، فالكاف للتشبيه وهي في موضع نصب على أنه نعت لمصدر محذوف، والتقدير- لأتم نعمتي عليكم- في أمر القبلة أو في الآخرة إتماما مثل إتمام إرسال الرسول، وذكر الإرسال وإرادة الإتمام من إقامة السبب مقام المسبب، وفِيكُمْ متعلق- بأرسلنا- وقدم على المفعول الصريح تعجيلا بإدخال السرور ولما في صفاته من الطول، وقيل: متصل بما بعده أي اذكروني ذكرا مثل ذكري لكم بالإرسال، أو اذكروني بدل إرسالنا فيكم رسولا فالكاف للمقابلة متعلق باذكروني، ومنها يستفاد التشبيه لأن المتقابلين متشابهان ومتبادلان، وإيثار صيغة المتكلم مع الغير بعد التوحيد افتنان وجريان على سنن الكبرياء وإشارة إلى عظمة نعمة هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 الإرسال، وهذا الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا صفة رسولا، وفيه إشارة إلى طريق إثبات نبوته عليه الصلاة والسلام لأن تلاوة الأمي الآيات الخارجة عن طوق البشر باعتبار بلاغتها واشتمالها على الأخبار بالمغيبات والمصالح التي ينتظم بها أمر المعاد والمعاش أقوى دليل على نبوته وَيُزَكِّيكُمْ أي يطهركم من الشرك وهي صفة أخرى للرسول وأتى بها عقب التلاوة لأن التطهير عن ذلك ناشىء عن إظهار المعجزة لمن أراد الله تعالى توفيقه وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ صفة إثر صفة وأخرت لأن تعليم الْكِتابَ وتفهيم ما انطوى عليه من الحكمة الإلهية والأسرار الربانية إنما يكون بعد التخلي عن دنس الشرك ونجس الشك بالاتباع، وأما قبل ذلك فالكفر حجاب، وقدم التزكية على التعليم في هذه الآية وأخرها عنه في دعوة إبراهيم لاختلاف المراد بها في الموضعين، ولكل مقام مقال، وقيل: التزكية عبارة عن تكميل النفس بحسب القوة العملية وتهذيبها المتفرع على تكميلها بحسب القوة النظرية الحاصل بالتعليم المترتب على التلاوة إلا أنها وسطت بين التلاوة والتعليم المترتب عليها للإيذان بأن كلّا من الأمور المترتبة نعمة جليلة على حيالها مستوجبة للشكر ولو روعي ترتيب الوجود كما في دعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام لتبادر إلى الفهم كون الكل نعمة واحدة، وقيل: قدمت التزكية تارة وأخرت أخرى لأنها علة غائية لتعليم الْكِتابَ والحكمة، وهي مقدمة في القصد والتصور مؤخرة في الوجود والعمل فقدمت وأخرت رعاية لكل منهما، واعترض بأن غاية التعليم صيرورتهم أزكياء عن الجهل لا تزكية الرسول عليه الصلاة والسلام إياها المفسرة بالحمل على ما يصيرون به أزكياء لأن ذلك إما بتعليمه إياهم أو بأمرهم بالعمل به فهي إما نفس التعليم أو أمر لا تعلق له به (1) ، وغاية ما يمكن أن يقال: إن التعليم باعتبار أنه يترتب عليه زوال الشك وسائر الرذائل تزكيته إياهم فهو باعتبار غاية وباعتبار مغيا- كالرمي. والقتل- في قولهم: رماه فقتله فافهم وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ مما لا طريق إلى معرفته سوى الوحي وكان الظاهر وما لَمْ تَكُونُوا ليكون من عطف المفرد على المفرد إلا أنه تعالى كرر الفعل للدلالة على أنه جنس آخر غير مشارك لما قبله أصلا فهو تخصيص بعد التعميم مبين لكون إرساله صلى الله تعالى عليه وسلم نعمة عظيمة ولولاه لكان الخلق متحيرين في أمر دينهم لا يدرون ماذا يصنعون فَاذْكُرُونِي بالطاعة قلبا وقالبا فيعم الذكر باللسان والقلب والجوارح، فالأول- كما في المنتخب- الحمد والتسبيح والتحميد وقراءة كتاب الله تعالى «والثاني» الفكر في الدلائل الدالة على التكاليف والوعد والوعيد وفي الصفات الإلهية والأسرار الربانية. «والثالث» استغراق الجوارح في الأعمال المأمور بها خالية عن الأعمال المنهي عنها ولكون الصلاة مشتملة على هذه الثلاثة سماها الله تعالى ذكرا في قوله: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة: 9] وقال أهل الحقيقة: حقيقة ذكر الله تعالى أن ينسى كل شيء سواه أَذْكُرْكُمْ أي أجازكم بالثواب، وعبر عن ذلك بالذكر للمشاكلة ولأنه نتيجته ومنشؤه، وفي الصحيحين «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه» وَاشْكُرُوا لِي ما أنعمت به عليكم وهو- واشكروني- بمعنى ولي أفصح مع الشكر وإنما قدم الذكر على الشكر لأن في الذكر اشتغالا بذاته تعالى وفي الشكر اشتغالا بنعمته والاشتغال بذاته تعالى أولى من الاشتغال بنعمته. وَلا تَكْفُرُونِ بجحد نعمتي وعصيان أمري وأردف الأمر بهذا النهي ليفيد عموم الأزمان وحذف ياء المتكلم تخفيفا لتناسب الفواصل وحذفت نون الرفع للجازم. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ على الذكر والشكر وسائر الطاعات من الصوم والجهاد وترك المبالاة   (1) قوله: «أو أمر لا تعلق له به» كذا بخطه ولعل حق العبارة له تعلق به تأمل اهـ مصححه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 بطعن المعاندين في أمر القبلة وَالصَّلاةِ التي هي الأصل والموجب لكمال التقرب إليه تعالى. إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ معية خاصة بالعون والنصر ولم يقل مع المصلين لأنه إذا كان مع الصابرين كان مع المصلين من باب أولى لاشتمال الصلاة على الصبر وَلا تَقُولُوا عطف على اسْتَعِينُوا إلخ مسوق لبيان أنه لا غائلة للمأمور به وأن الشهادة التي ربما يؤدي إليها الصبر حياة أبدية لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في طاعته وإعلاء كلمته وهم الشهداء واللام للتعليل لا للتبليغ لأنهم لم يبلغوا الشهداء قولهم: أَمْواتٌ أي هم أموات. بَلْ أَحْياءٌ. أي بل هم أحياء، والجملة معطوفة على لا تَقُولُوا إضراب عنه، وليس من عطف المفرد على المفرد ليكون في حيز القول ويصير المعنى بل- قولوا أحياء- لأن المقصود إثبات الحياة لهم لا أمرهم بأن يقولوا في شأنهم إنهم أحياء وإن كان ذلك أيضا صحيحا وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ. أي لا تحسون ولا تدركون ما حالهم بالمشاعر لأنها من أحوال البرزخ التي لا يطلع عليها ولا طريق للعلم بها إلا بالوحي- واختلف في هذه الحياة- فذهب كثير من السلف إلى أنها حقيقية بالروح والجسد ولكنا لا ندركها في هذه النشأة، واستدلوا بسياق قوله تعالى: عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران: 169] وبأن الحياة الروحانية التي ليست بالجسد ليست من خواصهم فلا يكون لهم امتياز بذلك على من عداهم، وذهب البعض إلى أنها روحانية وكونهم يرزقون لا ينافي ذلك- فقد روي عن الحسن- أن الشهداء أحياء عند الله تعالى تعرض أرزاقهم على أرواحهم فيصل إليهم الرّوح (1) والفرح كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوا وعشيا فيصل إليهم الوجع، فوصول هذا الروح إلى الروح هو الرزق والامتياز ليس بمجرد الحياة بل مع ما ينضم إليها من اختصاصهم بمزيد القرب من الله عز شأنه ومزيد البهجة والكرامة، وذهب البلخي إلى نفي الحياة بالفعل عنهم مطلقا- وأخرج الجملة الاسمية الدالة على الاستمرار المستوعب للأزمنة من وقت القتل إلى ما لا آخر له عن ظاهرها- وقال: معنى بَلْ أَحْياءٌ إنهم يحيون يوم القيامة فيجزون أحسن الجزاء، فالآية على حد إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار: 13، 14] وفائدة الأخبار بذلك الرد على المشركين حيث قالوا: إن أصحاب محمد يقتلون أنفسهم ويخرجون من الدنيا بلا فائدة ويضيعون أعمارهم فكأنه قيل: ليس الأمر كما زعمتم بل يحيون ويخرجون، وذهب بعضهم إلى إثبات الحياة الحكمية لهم بما نالوا من الذكر الجميل والثناء الجليل كما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه هلك خزان الأموال والعلماء باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة وآثارهم في القلوب موجودة، وحكي عن الأصم أن المراد بالموت والحياة الضلال والهدى أي لا تقولوا هم أموات في الدين ضالون عن الصراط المستقيم بل هم أحياء بالطاعة قائمون بأعبائها، ولا يخفى أن هذه الأقوال- ما عدا الأولين- في غاية الضعف بل نهاية البطلان، والمشهور ترجيح القول الأول، ونسب إلى ابن عباس، وقتادة، ومجاهد والحسن وعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء والجبائي والرماني وجماعة من المفسرين لكنهم اختلفوا في المراد بالجسد، فقيل: هو هذا الجسد الذي هدمت بنيته بالقتل ولا يعجز الله تعالى أن يحل به حياة تكون سبب الحس والإدراك وإن كنا نراه رمة مطروحة على الأرض لا يتصرف ولا يرى فيه شيء من علامات الإحياء، فقد جاء في الحديث «إن المؤمن يفسح له مد بصره، ويقال له نم نومة العروس» مع أنا لا نشاهد ذلك إذ البرزخ برزخ آخر بمعزل عن أذهاننا وإدراك قوانا. وقيل: جسد آخر على صورة الطير تتعلق الروح فيه، واستدل بما أخرجه عبد الرزاق عن عبد الله بن كعب بن مالك قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أرواح الشهداء في صور طير خضر معلقة في قناديل الجنة حتى يرجعها الله تعالى يوم القيامة» ولا يعارض هذا ما أخرجه   (1) - الروح- بفتح الراء الراحة والسرور اهـ- ادارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 مالك وأحمد والترمذي وصححه والنسائي، وابن ماجة عن كعب بن مالك: «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: إن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تعلق من ثمر الجنة- أو- شجر الجنة» ولا ما أخرجه مسلم في صحيحه عن ابن مسعود مرفوعا «إن أرواح الشهداء عند الله في حواصل طيور خضر تسرح في أنهار الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل تحت العرش» لأن كونها في الأجواف أو في الحواصل يجامع كونها في تلك الصور إذ الرائي لا يرى سواها، وقيل: جسد آخر على صور أبدانهم في الدنيا بحيث لو رأى الرائي أحدهم لقال: رأيت فلانا- وإلى ذلك ذهب بعض الإمامية- واستدلوا بما أخرجه أبو جعفر مسندا إلى يونس بن ظبيان قال: كنت عند أبي عبد الله جالسا فقال: ما تقول الناس في أرواح المؤمنين؟ قلت: يقولون: في حواصل طير خضر في قناديل تحت العرش، فقال أبو عبد الله: سبحان الله! المؤمن أكرم على الله تعالى من أن يجعل روحه في حوصلة طائر أخضر يؤنس المؤمن إذا قبضه الله تعالى صير روحه في قالب كقالبه في الدنيا فيأكلون ويشربون، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا. ووجه الاستدلال إذا كان المراد- بالمؤمنين- الشهداء ظاهر، وأما إذا كان المراد بهم سائر من آمن فيعلم منه حال الشهداء وأن أرواحهم ليست في الحواصل بطريق الأولى، وعندي أن الحياة في البرزخ ثابتة لكل من يموت من شهيد وغيره، وأن الأرواح- وإن كانت جواهر قائمة بأنفسها- مغايرة لما يحس به من البدن لكن لا مانع من تعلقها ببدن برزخي مغاير لهذا البدن الكثيف، وليس ذلك من التناسخ الذي ذهب إليه أهل الضلال، وإنما يكون منه لو لم تعد إلى جسم نفسها الذي كانت فيه- والعود حاصل في النشأة الجنانية- بل لو قلنا بعدم عودها إليه والتزمنا العود إلى جسم مشابه لما كان في الدنيا مشتمل على الأجزاء النطقية الأصلية أو غير مشتمل لا يلزم ذلك التناسخ أيضا لأنهم قالوه على وجه نفوا به الحشر والمعاد، وأثبتوا فيه سرمدية عالم الكون والفساد، وأن أرواح الشهداء يثبت لها هذا التعلق على وجه يمتازون به عمن عداهم إما في أصل التعلق أو في نفس الحياة بناء على أنها من المشكك لا المتواطئ، أو في نفس المتعلق به مع ما ينضم إلى ذلك من البهجة والسرور والنعيم اللائق بهم، والذي يميل القلب إليه أن لهاتيك الأبدان شبها تاما صوريا بهذه الأبدان، وأن المواد مختلفة والأجزاء متفاوتة- إذ فرق بين العالمين، وشتان ما بين البرزخين- ويمكن حمل أحاديث الطير على تشبيه هذه الأبدان الغضة الطرية بسرعة حركتها وذهابها حيث شاءت بالطير الخضر، وتحمل الصورة على الصفة كما حملت على ذلك في حديث «خلق آدم على صورة الرحمن» واستبعاد أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه ما تقدم محمول على ما يفهمه العامة من ظاهر اللفظ، ولمزيد الإيضاح اللائق بعوام وقته عدل عنه إلى عبارة لا يتراءى منها شائبة استبعاد كما يتراءى من ظاهر الحديث حتى أن بعض العلماء لذلك حملوا «في» فيه على- على- وهو إما تجاهل أو جهل بأن صغر المتعلق أو ضيقه لو كان موجودا فيما نحن فيه لا يضر الروح شيئا ولا ينافي نعيمها، أو ظن بأن لتلك الصورة روحا غير روح- الشهيد- فلا يمكن أن تتعلق بها روحان، والأمر على خلاف ما يظنون، وإن شئت قلت بتمثل الروح نفسها صورة لأن الأرواح في غاية اللطافة وفيها قوة التجسد كما يشعر به ظهور الروح الأمين عليه السلام بصورة دحية الكلبي رضي الله تعالى عنه. وأما القول بحياة هذا الجسد الرميم مع هدم بنيته وتفرق أجزائه وذهاب هيئته- وإن لم يكن ذلك بعيدا عن قدرة من يبدأ الخلق ثم يعيده- لكن ليس إليه كثير حاجة، ولا فيه مزيد فضل، ولا عظيم منة، بل ليس فيه سوى إيقاع ضعفة المؤمنين بالشكوك والأوهام وتكليفهم من غير حاجة بالإيمان بما يعدون قائله من سفهة الأحلام، وما يحكى من مشاهدة بعض الشهداء الذين قتلوا منذ مائة سنين، وأنهم إلى اليوم تشخب جروحهم دما إذا رفعت العصابة عنها فذلك مما رواه- هيان بن بيان- وما هو إلا حديث خرافة وكلام يشهد على مصدقيه تقديم السخافة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 هذا ثم إن نهي المؤمنين عن أن يقولوا في شأن الشهداء أموات، إما أن يكون دفعا لإيهام مساواتهم لغيرهم في ذلك البرزخ- وتلك خصوصية لهم وإن شاركهم في النعيم- بل وزاد عليهم بعض عباد الله تعالى المقربين ممن يقال في حقهم ذلك، وإما أن يكون صيانة لهم عن النطق بكلمة قالها أعداء الدين والمنافقون في شأن أولئك الكرام قاصدين بها أنهم حرموا من النعيم ولم يروه أبدا، وليس في الآية نهي عن نسبة الموت إليهم بالكلية بحيث إنهم ما ذاقوه أصلا ولا طرفة عين، وإلا لقال تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ماتوا، فحيث عدل عنه إلى ما ترى علم أنهم امتازوا بعد أن قتلوا بحياة لائقة بهم مانعة عن أن يقال في شأنهم: أَمْواتٌ وعدل سبحانه عن- قتلوا- المعبر عنه في آل عمران إلى يُقْتَلُ روما للمبالغة في النهي، وتأكيد الفعل في تلك السورة يقوم مقام هذا العدول هنا كما قرره بعض أحبابنا من الفضلاء المعاصرين، والآية نزلت- كما أخرجه ابن منده عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه- في شهداء بدر وكانوا عدة لياليه ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين رضي الله تعالى عنهم أجمعين وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ عطف على قوله تعالى: وَاسْتَعِينُوا إلخ عطف المضمون على المضمون، والجامع أن مضمون الأولى طلب الصبر، ومضمون الثانية بيان مواطنه، والمراد لنعاملنكم معاملة المبتلى والمختبر، ففي الكلام استعارة تمثيلية لأن الابتلاء حقيقة لتحصيل العلم، وهو محال من اللطيف الخبير- والخطاب عام لسائر المؤمنين- وقيل: للصحابة فقط، وقيل: لأهل مكة فقط. بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ أي بقليل من ذلك، والقلة بالنسبة لما حفظهم عنه مما لم يقع بهم وأخبرهم سبحانه به قبل وقوعه ليوطنوا عليه نفوسهم فإن مفاجأة المكروه أشد، ويزداد يقينهم عند مشاهدتهم له حسبما أخبر به، وليعلموا أنه شيء يسير له عاقبة محمودة. وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ عطف إما على شيء ويؤيده التوافق في التنكير ومجيء البيان بعد كل وإما على الْخَوْفِ ويؤيده قرب المعطوف عليه ودخوله تحت بِشَيْءٍ والمراد من الْخَوْفِ خوف العدو، ومن الْجُوعِ القحط إقامة للمسبب مقام السبب- قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ومن نقص الْأَمْوالِ هلاك المواشي، ومن نقص الْأَنْفُسِ ذهاب الأحبة بالقتل والموت، ومن نقص الثَّمَراتِ تلفها بالجوائح، ونص عليها مع أنها من الْأَمْوالِ لأنها قد لا تكون مملوكة، وقال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه: الْخَوْفِ خوف الله تعالى وَالْجُوعِ صوم رمضان، والنقص من الْأَمْوالِ الزكوات والصدقات، ومن الْأَنْفُسِ الأمراض، ومن الثَّمَراتِ موت الأولاد، وإطلاق الثمرة على الولد مجاز مشهور لأن الثمرة كل ما يستفاد ويحصل، كما يقال: ثمرة العلم العمل. وأخرج الترمذي من حديث أبي موسى وحسنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم «إذا مات ولد العبد قال الله تعالى للملائكة: أقبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: أقبضتم ثمرة قلبه؟ فيقولون: نعم، فيقول الله تعالى: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد» واعترض ما قاله الإمام بعد تسلم أن الآية نزلت قبل فرضية الصوم والزكاة بأن خوف الله تعالى لم تزل قلوب المؤمنين مشحونة به قبل نزول الآية، وكذا الأمراض وموت الأولاد موجودان قبل، فلا معنى للوعد بالابتلاء بذلك، وكذا لا معنى للتعبير عن الزكاة- وهي النمو والزيادة- بالنقص، «وأجيب بأن كون قلوب المؤمنين مشحونة بالخوف قبل لا ينافي ابتلاءهم في الاستقبال بخوف آخر، فإن الخوف يتضاعف بنزول الآيات، وكذا الأمراض، وموت الأولاد أمور متجددة يصح الابتلاء بها في الآتي من الأزمان، والتعبير عن الزكاة- بالنقص- لكونها نقصا صورة- وإن كانت زيادة معنى- فعند الابتلاء سماها نقصا، وعند الأمر بالأداء سماها زكاة يسهل أداؤها وَبَشِّرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 الصَّابِرِينَ خطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو لكل من تتأتى منه البشارة، والجملة عطف على ما قبلها عطف المضمون على المضمون من غير نظر إلى الخبرية والإنشائية- والجامع ظاهر- كأنه قيل: الابتلاء حاصل لكم- وكذا البشارة- ولكن لمن صبر منكم. وقيل: على محذوف أي أنذر الجازعين وبشر، وفي توصيف الصابرين بقوله تعالى: الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ إشارة إلى أن الأجر لمن صبر وقت إصابتها، كما في الخبر «إنما الصبر عند أول صدمة» والمصيبة تعم ما يصيب الإنسان من مكروه في نفس أو مال أو أهل- قليلا كان المكروه أو كثيرا- حتى لدغ الشوكة، ولسع البعوضة، وانقطاع الشسع، وانطفاء المصباح، وقد استرجع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من ذلك وقال: «كل ما يؤذي المؤمن فهو مصيبة له وأجر» وليس الصبر بالاسترجاع باللسان، بل الصبر باللسان وبالقلب بأن يخطر بباله ما خلق لأجله من معرفة الله تعالى وتكميل نفسه، وأنه راجع إلى ربه وعائد إليه بالبقاء السرمدي، ومرتحل عن هذه الدنيا الفانية وتارك لها على علاتها، ويتذكر نعم الله تعالى عليه ليرى ما أعطاه أضعاف ما أخذ منه فيهون على نفسه ويستسلم له، والصبر من خواص الإنسان لأنه يتعارض فيه العقل والشهوة، والاسترجاع من خواص هذه الأمة، فقد أخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: «أعطيت أمتي شيئا لم يعطه أحد من الأمم، أن تقول عند المصيبة إنا لله وإنا إليه راجعون» وفي رواية «أعطيت هذه الأمة عند المصيبة شيئا لم تعطه الأنبياء قبلهم، إنا لله وإنا إليه راجعون ولو أعطيها الأنبياء قبلهم لأعطيها يعقوب إذ يقول: يا أسفا على يوسف» ويسن أن يقول بعد الاسترجاع: اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها، فقد أخرج مسلم عن أم سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: «ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرني إلخ، إلا آجره الله تعالى في مصيبته وأخلف له خيرا منها» قالت فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأخلف الله تعالى لي خيرا منه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومفعول بَشِّرِ محذوف أي برحمة عظيمة وإحسان جزيل- بدليل قوله تعالى: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ الصلاة في الأصل على ما عليه أكثر أهل اللغة الدعاء ومن الله تعالى الرحمة، وقيل: الثناء، وقيل: التعظيم، وقيل: المغفرة، وقال الإمام الغزالي: الاعتناء بالشأن، ومعناها الذي يناسب أن يراد هنا سواء كان حقيقيا أو مجازيا الثناء والمغفرة لأن إرادة الرحمة يستلزم التكرار، ويخالف ما روي «نعم العدلان للصابرين الصلاة والرحمة» وحملها على التعظيم والاعتناء بالشأن يأباهما صيغة الجمع ثم إن جوزنا إرادة المعنيين بتجويز عموم المشترك أو الجمع بين الحقيقة والمجاز أو بين المعنيين المجازيين يمكن إرادة المعنيين المذكورين كليهما وإلا فالمراد أحدهما والرحمة تقدم معناها، وأتي بعلى إشارة إلى أنهم منغمسون في ذلك وقد غشيهم وتجللهم فهو أبلغ من اللام، وجمع صَلَواتٌ للإشارة إلى أنها مشتملة على أنواع كثيرة على حسب اختلاف الصفات التي بها الثناء والمعاصي التي تتعلق بها المغفرة، وقيل: للإيذان بأن المراد صلاة بعد صلاة على حد التثنية في «لبيك وسعديك» وفيه أن مجيء الجمع لمجرد التكرار لم يوجد له نظير، والتنوين فيها وكذا فيما عطف عليها للتفخيم والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم لإظهار مزيد العناية بهم- ومن- ابتدائية، وقيل تبعيضية، وثم مضاف محذوف أي من صَلَواتٌ ربهم، وأتي بالجملة اسمية للإشارة إلى أن نزول ذلك عليهم في الدنيا والآخرة. فقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني، والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه مرفوعا «من استرجع عند المصيبة جبر الله تعالى مصيبته، وأحسن عقباه، وجعل له خلفا صالحا يرضاه» وأُولئِكَ إشارة كسابقه إلى الصابرين المنعوتين بما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 ذكر من النعوت، والتكرير لإظهار كمال العناية بهم، ويجوز أن يكون إشارة إليهم باعتبار حيازتهم ما ذكر من- الصلوات والرحمة- المترتبة على ما تقدم، فعلى الأول المراد بالاهتداء في قوله عز شأنه هُمُ الْمُهْتَدُونَ. هو الاهتداء للحق والصواب مطلقا والجملة مقررة لما قبل كأنه قيل: وأولئك هم المختصون بالاهتداء لكل حق وصواب، ولذلك استرجعوا واستسلموا لقضاء الله تعالى، وعلى الثاني هو «الاهتداء» والفوز بالمطالب، والمعنى أُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ [التوبة: 20] بمطالبهم الدينية والدنيوية فإن من نال تزكية الله تعالى ورحمته لم يفته مطلب. «ومن باب الإشارة والتأويل» يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الإيمان العياني اسْتَعِينُوا بالصبر معي عند سطوات تجليات عظمتي وكبريائي، والصلاة أي الشهود الحقيقي إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ المطيقين لتجليات أنواري وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يجعل فانيا مقتولا في سلوك سبيل التوحيد أَمْواتٌ أي عجزة مساكين بَلْ هم أَحْياءٌ عند ربهم بالحياة الحقيقية الدائمة السرمدية شهداء لله تعالى قادرون به وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ لعمى بصيرتكم وحرمانكم من النور الذي تبصر به القلوب أعيان عالم القدس وحقائق الأرواح وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ أي خوفي الموجب لانكسار النفس وانهزامها وَالْجُوعِ الموجب لهتك البدن وضعف القوى ورفع حجاب الهوى وتضييق مجاري الشيطان إلى القلب وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ التي هي مواد الشهوات المقوية للنفس الزائدة في طغيانها وَالْأَنْفُسِ المستولية على القلب بصفاتها أو أنفس الأحباب الذين تأوون إليهم لتنقطعوا إلي وَالثَّمَراتِ أي الملاذ النفسانية لتلتذوا بالمكاشفات والمعارف القلبية والمشاهدات الروحية عند صفاء بواطنكم وخلوص نضار قلوبكم بنار الرياضة وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ معي بي أو عن مألوفاتهم بلذة محبتي الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ من تصرفاتي فيهم شاهدوا آثار قدرتي بل أنوار تجليات صفتي واستسلموا وأيقنوا أنهم ملكي أتصرف فيه بتجلياتي وتفانوا فيّ وشاهدوا هلكهم بي- فقالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم- بالوجود الموهوب لهم بعد الفناء المنهلة عليه صفاتي الساطعة عليه أنواري وَرَحْمَةٌ أي هداية يهدون بها خلقي، ومن أراد التوجه نحوي وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ بي الواصلون إلي بعد تخلصهم من وجودهم الذي هو الذنب الأعظم عندي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لما أشار سبحانه فيما تقدم إلى الجهاد عقب ذلك ببيان معالم الحج فكأنه جمع بين الحج والغزو، وفيهما شق الأنفس وتلف الأموال، وقيل: لما ذكر الصبر عقبه ببحث الحج لما فيه من الأمور المحتاجة إليه، والصَّفا في الأصل الحجر الأملس مأخوذ من صفا يصفو إذا خلص، واحده صفاة- كحصى وحصاة، ونوى ونواة- وقيل: إِنَّ الصَّفا واحد قال المبرد وهو كل حجر لا يخالطه غيره من طين أو تراب، وأصله من الواو لأنك تقول في تثنيته صفوان ولا يجوز إمالته، وَالْمَرْوَةَ في الأصل الحجر الأبيض اللين- والمرو- لغة فيه، وقيل: هو جمع مثل تمرة وتمر، وثم صارا في العرق علمين لموضعين معروفين بمكة للغلبة، واللام لازمة فيهما، وقيل: سمي الصَّفا لأنه جلس عليه آدم صفي الله تعالى، وسمي- المروة- لأنه جلست عليه امرأته حواء، والشعائر- جمع شعيرة، أو شعارة- وهي العلامة- والمراد بهما أعلام المتعبدات أو العبادات الحجية، وقيل: المعنى إن الطواف بين هذين الجبلين من علامات دين الله تعالى، أو أنهما من المواضع التي يقام فيها دينه، أو من علاماته التي تعبد بالسعي بينهما لا من علامات الجاهلية فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ الحج لغة القصد مطلقا أو إلى معظم، وقيده بعضهم بكونه على وجه التكرار، والعمرة- الزيارة أخذا من العمارة كأن الزائر يعمر المكان بزيارته فغلبا شرعا على المقصد المتعلق بالبيت وزيارته على الوجهين المخصوصين، والْبَيْتَ خارج من المفهوم، والنسبة مأخوذة فيه فلا بد من ذكره فلا يرد أن البيت مأخوذ في مفهومهما فيكفي من حج أو اعتمر ولا حاجة إلى أن يتكلف بأنه مأخوذ في مفهوم الاسمين خارج عن مفهوم الفعلين، وعلى تقدير أخذه في مفهومهما يعتبر التجريد ليظهر شرف البيت فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما أي لا إثم عليه في أن يطوف. وأصل الجناح الميل، ومنه وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ [الأنفال: 61] وسمي الإثم به لأنه ميل من الحق إلى الباطل، وأصل يطوف يتطوف فأدغمت التاء في الطاء، وسبب النزول ما صح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه كان على الصفا صنم على صورة رجل يقال له أساف، وعلى المروة صنم على صورة امرأة تدعى نائلة زعم أهل الكتاب أنهما زنيا في الكعبة فمسخهما الله تعالى حجرين فوضعا على الصفا والمروة ليعتبر بهما فلما طالت المدة عبدا من دون الله تعالى فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بينهما مسحوا الوثنين فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام كره المسلمون الطواف بينهما لأجل الصنمين فأنزل الله تعالى هذه الآية، ومن يعلم دفع ما يتراءى انه لا يتصور فائدة في نفي الجناح بعد إثبات أنهما من الشعائر بل ربما لا يتلازمان إذ أدنى مراتب الأول الندب وغاية الثاني الإباحة، وقد وقع الإجماع على مشروعية الطواف بينهما في الحج والعمرة لدلالة نفي الجناح عليه قطعا لكنهم اختلفوا في الوجوب، فروي عن أحمد أنه سنة- وبه قال أنس وابن عباس وابن الزبير- لأن نفي الجناح يدل على الجواز، والمتبادر منه عدم اللزوم كما في قوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا [البقرة: 230] وليس مباحا بالاتفاق ولقوله تعالى: مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فيكون مندوبا، وضعف بأن نفي الجناح. وإن دل على الجواز المتبادر منه- عدم اللزوم إلا أنه يجامع الوجوب فلا يدفعه ولا ينفيه- والمقصود ذلك- فلعل هاهنا دليلا يدل على الوجوب كما في قوله تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ [النساء: 101] ولعل هذا كقولك لمن عليه صلاة الظهر مثلا وظن أنه لا يجوز فعلها عند الغروب فسأل عن ذلك: لا جناح عليك إن صليتها في هذا الوقت فإنه جواب صحيح لا يقتضي نفي وجوب صلاة الظهر، وعن الشافعي ومالك إنه ركن- وهو رواية عن الإمام أحمد- واحتجوا بما أخرج الطبراني عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «إن الله تعالى كتب عليكم السعي فاسعوا» ومذهب إمامنا أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه واجب يجبر بالدم لأن الآية لا تدل إلا على نفي الإثم المستلزم للجواز، والركنية لا تثبت إلا بدليل مقطوع به ولم يوجد، والحديث إنما يفيد حصول الحكم معللا ومقررا في الذهن، ولا يدل على بلوغه غاية الوجوب بحيث يفوت الجواز بفوته لتتحقق الركنية وهو ظني السند وإن فرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 قطعي الدلالة فلا يدل على الفرضية، وما روى مسلم عن عائشة أنها قالت- لعمري ما أتم الله تعالى حج من لم يسع بين الصفا والمروة ولا عمرته- ليس فيه دليل على الفرضية أيضا سلمنا لكنه مذهب لها، والمسألة اجتهادية فلا تلزم به على أنه معارض بما أخرجه الشعبي عن عروة بن مضرس الطائي أنه قال: أتيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بالمزدلفة فقلت: «يا رسول الله جئت من جبل طي ما تركت جبلا إلا وقفت عليه فهل لي من حج؟ فقال: من صلي معنا هذه الصلاة ووقف معنا هذا الموقف، وقد أدرك عرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه، وقضى تفثه» فأخبر صلى الله تعالى عليه وسلم بتمام حجه، وليس في السعي بينهما، ولو كان من فروضه لبينه للسائل لعلمه بجهله، وقرأ ابن مسعود وأبيّ- أن لا يطوف- ولا تصلح أن تكون ناصرة للقول الأول لأنها شاذة لا عمل بها مع ما يعارضها ولاحتمال أن «لا» زائدة كما يقتضيه السياق. وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً أي من انقاد انقيادا- خيرا أو بخير، أو آتيا بخير- فرضا كان أو نفلا، وهو عطف على فَمَنْ حَجَّ إلخ مؤكد أمر الحج والعمرة والطواف تأكيد الحكم الكلي للجزئي، أو من تبرع تبرعا- خيرا- أو بخير أو آتيا بخير من حج أو عمرة أو طواف لقرينة المساق، وعليه تكون الجملة مسوقة لإفادة شرعية التنفل بالأمور الثلاثة، وفائدة خَيْراً على الوجهين مع أن التطوع لا يكون إلا كذلك التنصيص بعموم الحكم بأن من فعل خيرا أي خير كان يثاب عليه، أو من تبرع تبرعا خيرا أو بخير أو آتيا بخير من السعي فقط بناء على أنه سنة، والجملة حينئذ تكميل لدفع ما يتوهم من نفي الجناح من الإباحة، وفائدة القيد التنصيص بخيرية الطواف دفعا لحرج المسلمين. وقرأ ابن مسعود- ومن تطوع بخير- وحمزة والكسائي ويعقوب- يطوع- على صيغة المضارع المجزوم لتضمن مِنْ معنى الشرط وأصله- يتطوع- فأدغم فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ أي مجاز على الطاعة بالثواب وفي التعبير به مبالغة في الإحسان إلى العباد. عَلِيمٌ. مبالغ في العلم بالأشياء فيعلم مقادير أعمالهم وكيفياتها فلا ينقص من أجورهم شيئا، وبهذا ظهر وجه تأخير هذه الصفة عما قبلها، ومن قال: أتى بالصفتين هاهنا- لأن التطوع بالخير يتضمن الفعل والقصد فناسب ذكر الشكر باعتبار الفعل وذكر العلم باعتبار القصد وأخر صفة العلم وإن كانت متقدمة على الشكر كما أن النية متقدمة على الفعل لتواخي رؤوس الآي- لم يأت بشيء. وهذه الجملة علة لجواب الشرط المحذوف قائم مقامه كأنه قيل: ومن تطوع خيرا جازاه الله تعالى أو أثابه فإن الله شاكر عليم- إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ اخرج جماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: سأل معاذ بن جبل وسعد بن معاذ. وخارجة بن زيد نفرا من أحبار يهود عن بعض ما في التوراة فكتموهم إياه وأبوا أن يخبروهم فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية، وعن قتادة أنها نزلت في الكاتمين من اليهود والنصارى، وقيل: نزلت في كل من كتم شيئا من أحكام الدين لعموم الحكم للكل فقد روى البخاري وابن ماجة وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: لولا آية في كتاب الله تعالى ما حدثت أحدا بشيء أبدا ثم تلا هذه الآية، وأخرج أبو يعلى والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من سئل عن علم فكتمه جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار» والأقرب أنها نزلت في اليهود والحكم عام كما تدل عليه الأخبار وكونها نزلت في اليهود لا يقتضي الخصوص فإن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، فالموصول للاستغراق ويدخل فيه من ذكر دخولا أوليا، والكتم والكتمان ترك إظهار الشيء قصدا مع مساس الحاجة إليه وتحقق الداعي إلى إظهاره وذلك قد يكون بمجرد ستره وإخفائه وقد يكون بإزالته ووضع شيء آخر موضعه واليهود قاتلهم الله تعالى ارتكبوا كلا الأمرين ما أَنْزَلْنا على الأنبياء مِنَ الْبَيِّناتِ أي الآيات الواضحة الدالة على الحق ومن ذلك ما أنزلناه على موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام في أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 وَالْهُدى عطف على الْبَيِّناتِ والمراد به- ما يهدي- إلى الرشد مطلقا ومنه- ما يهدي- إلى وجوب اتباعه صلى الله تعالى عليه وسلم والإيمان به وهي الآيات الشاهدة على صدقه عليه الصلاة والسلام، والعطف باعتبار التغاير في المفهوم كجاءني الآكل فالشارب، وقيل: إنه عطف على ما أَنْزَلْنا إلخ، والمراد بالأول الأدلة النقلية، وبالثاني ما يدخل فيه الأدلة العقلية، أو المراد بالأول التنزيل، وبالثاني ما يقتضيه من الفوائد، ولا يخفى أنه تكلف يأبى عنه قرب المعطوف عليه والتبيين الدال على كمال الوضوح في قوله سبحانه: مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ أي شرحناه وأظهرناه لهم والظرف متعلق- بيكتمون- واللام في- الناس- صلة- بينا- أو لام الأجل، والمراد بهم الجنس أو الاستغراق، وفي تقييد الكتمان بالظرف إشارة إلى شناعة حالهم بأنهم يكتمون ما وضح- للناس- وإلى عظم الإثم بأنهم يكتمون ما فيه النفع العام فِي الْكِتابِ متعلق- ببيناه- وتعلق جارين بفعل واحد عند اختلاف المعنى مما لا ريب في جوازه، أو متعلق بمحذوف وقع حالا من مفعوله، والمراد به الجنس، وقيل: التوراة، وقيل: هي والإنجيل، وقيل: القرآن، والمراد من الناس أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ومن الناس من حمل- البينات- على ما في القرآن وعلق مِنْ بَعْدِ ب أَنْزَلْنا، وفسر الْكِتابِ بالتوراة- والكتمان- بعدم الاعتراف بالحقية، ولعل ما ذهبنا إليه أولى من جميع ذلك أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ أي يبعدهم عن رحمته ويذيقهم أليم نقمته والالتفات إلى الغيبة بإظهار اسم الذات لتربية المهابة والإشعار بأن مبدأ صدور اللعن صفة الجلال المغايرة لما هو مبدأ الإنزال والتبيين من صفة الجمال، ولم يؤت بالفاء في هذه الجملة التي هي خبر الموصول كما أتي به فيما بعد من قوله سبحانه: فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ مع أن الموصول متضمن لمعنى الشرط وقصد السببية في الموضعين ولذا أورد اسم الإشارة الذي تعليق الحكم به كتعليقه بالمشتق، قيل: لئلا يتوهم أن- لعنهم- إنما هو بهذا السبب بناء على أن- فاء- السببية في الأصل لكونه- فاء- التعقيب يفيد أن حصول المسبب بعد السبب بلا تراخ، وقد يقصد منه ذلك بمعونة المقام كما في الآية بعد، وليس كذلك بل له أسباب جمة وبهذا علم أن اسم الإشارة لا يغني عن الفاء لأنه يشعر بالسببية ولا يشعر بالتعقيب الموهم للانحصار بناء على امتناع التوارد. وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ أي من يتأتى منه اللعن عليهم من الملائكة والثقلين، فالمراد- باللاعنون- معناه الحقيقي وليس على حد من- قتل قتيلا- في المشهور والاستغراق عرفي أي كل فرد مما يتناوله اللفظ بحسب متفاهم العرف، وليس بحقيقي حتى يرد أنه لا يلعنهم كل لاعن في الدنيا، ويحتاج إلى التخصيص وإنما أعاد الفعل لأن لعنة اللاعنين بمعنى الدعاء عليهم بالإبعاد عن رحمة الله تعالى، وروى البيهقي في شعب الإيمان عن مجاهد تفسير اللاعنين بدواب الأرض حتى العقارب والخنافس، ولعل الجمع حينئذ على حد قوله تعالى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يوسف: 4] واستدل بهذه الآية على وجوب إظهار علم الشريعة وحرمة كتمانه لكن اشترطوا لذلك أن لا يخشى العالم على نفسه وأن يكون متعينا وإلا لم يحرم عليه الكتم إلا إن سئل فيتعين عليه الجواب ما لم يكن إثمه أكبر من نفعه قالوا: وفيها دليل أيضا على وجوب قبول خبر الواحد لأنه لا يجب عليه البيان إلا وقد وجب قبول قوله، وقد يستدل بها على عدم وجوب ذلك على النساء بناء على أنهن لا يدخلن في خطاب الرجال. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا أي رجعوا عن الكتمان أو عنه وعن سائر ما يجب أن يتاب عنه بناء على أن حذف المعمول يفيد العموم، وفيه إشارة إلى أن التوبة عن الكتمان فقط لا يوجب صرف اللعن عنهم ما لم يتوبوا عن الجميع فإن للعنهم أسبابا جمة وَأَصْلَحُوا ما أفسدوا بالتدارك فيما يتعلق بحقوق الحق والخلق ومن ذلك أن يصلحوا قومهم بالإرشاد إلى الإسلام بعد الإضلال وأن يزيلوا الكلام المحرف ويكتبوا مكانه ما كانوا أزالوه عند التحريف وَبَيَّنُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 أي أظهروا ما بينه الله تعالى للناس معاينة وبهذين الأمرين تتم التوبة، وقيل: أظهروا ما أحدثوه من التوبة ليمحوا سمة الكفر عن أنفسهم ويقتدي بهم أضرابهم فإن إظهار التوبة ممن يقتدي به شرط فيها على ما يشير إليه بعض الآثار، وفيه إن الصحيح أن إظهار التوبة إنما هو لدفع معصية المتابعة وليس شرطا في التوبة عن أصل المعصية فهو داخل في قوله تعالى: وَأَصْلَحُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ بالقبول وإفاضة المغفرة والرحمة وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ عطف على ما قبله تذييل له والالتفات إلى التكلم للإفتنان مع ما فيه من الرمز إلى اختلاف مبدأ فعليه السابق واللاحق إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ الموصول للعهد كما هو الأصل، والمراد به الذين كتموا وعبر عن الكتمان بالكفر نعيا عليهم به، والجملة عديلة لما فيها إِلَّا ولم تعطف عليها إشارة إلى كمال التباين بين الفريقين، والآية مشتملة على الجمع والتفريق جمع الكاتمين في حكم واحد وهو أنهم ملعونون ثم فرق فقال: أما الذين تابوا فقد تاب الله تعالى عليهم وأزال عنهم عقوبة اللعنة، وأما الذين ماتوا على الكتمان ولم يتوبوا عنه فقد استقرت عليهم اللعنة ولم تزل عنهم. وأورد كلمة الاستثناء في الجملة الأولى مع أنه ليس للإخراج عن الحكم السابق بل هو بمعنى لكن للدلالة على أن التوبة صارت مكفرة للعن عنهم فكأنهم لم يباشروا ولم يدخلوا تحته- قاله بعض المحققين- وفيه ارتكاب خلاف الظاهر في الاستثناء ولهذا قال البعض إن المراد بالجملة المستثنى منها بيان دوام اللعن واستمراره وعليه يدور الاستثناء المتصل، وجملة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إلخ مستأنفة سيقت لتحقيق بقاء اللعن فيما وراء الاستثناء وتأكيد دوامه واستمراره على غير التائبين والاقتصار على ذكر الكفر في الصلة من غير تعرض لعدم التوبة والإصلاح والتبيين مبني على أن وجود الكفر مستلزم لعدمها جميعها كما أن وجودها مستلزم للإيمان الموجب لعدم الكفر، ولذا لم يصرح بالإيمان في صفات التائبين، والفرق بين الدوامين أن الأول تجددي، والثاني ثبوتي- ولا يخفى أن هذا أوفق بظاهر اللفظ- وما ذكره بعض المحققين أجزل معنى وأعلى كعبا وأدق نظرا، وقيل: الموصول عام للذين كتموا وغيرهم كما يقتضيه ظاهر الصلة، والآية من باب التذييل فيدخل الكاتمون الذين ماتوا على الكتمان دخولا أوليا، واعترض بأن تقييد الوعيد بعدم التخفيف أعدل شاهد على أن الآية في شأن الكاتمين الذين ماتوا على ذلك لأنهم أشد الكفرة وأخبثهم فإن الوعيد في حق الكفرة مطلق الخلود في النار، وأنت تعلم أن هذا في حيز المنع بل ما من كافر جهنمي إلا وحاله يوم القيامة طبق ما ذكر في الآية ولا أظنك في مرية من ذلك بعد سماع قوله تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [الزخرف: 75] فلا يبعد القول بحسن هذا القيل- وإليه ذهب الإمام- وكلام الطيبي يشير إلى حسنه وطيبه فتدبر. أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ المراد استمرار ذلك ودوامه فهذا الحكم غير ما سبق إذ المراد منه حدوث اللعنة ووقوعها عليهم وليس المقصود من ذكر- الملائكة والناس- التخصيص لينافي العموم السابق ولا العموم ليرد خروج المهيمين الذين لا شعور لهم بذواتهم وكثير من الأتقياء الذين لا يلعنون أحدا بل المقصود أنه يلعنهم هؤلاء المتعدون من خلقه وأَجْمَعِينَ تأكيد بالنسبة إلى الكل لا للناس فقط، والمراد بهم المؤمنون لأنهم المعتدّون منهم، والكفار كالإنعام لأنه لا يحسم مادة الإشكال، وقيل: إنه باق على عمومه والكفار يلعن بعضهم بعضا يوم القيامة، أو الجملة مساقة للإخبار باستحقاق أولئك اللعن من العموم لا بوقوعه بالفعل ولم يكرر اللعنة هنا كما كرر الفعل قبل اكتفاء به وافتنانا في النظم الكريم ومناسبة لما يشعر به التأكيد. وقرأ الحسن- والملائكة والناس أجمعون- بالرفع، وخرج على وجوه، فقيل: عطف على لَعْنَةُ بتقدير لعنة الله ولعنة الملائكة فحذف المضاف من الثاني وأقيم المضاف إليه مقامه، وقيل: مبتدأ محذوف الخبر أي- والملائكة، والناس يلعنونهم- أو فاعل لفعل محذوف أي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 يلعنهم، وقيل إن لَعْنَةُ مصدر مضاف إلى فاعله والمرفوع معطوف على محله، وقد أتبعت العرب فاعل المصدر على محله رفعا كقوله: مشى الهلوك عليها الخيعل «الفضل» برفع الفضل وهو صفة للهلوك على الموضع، وإذا ثبت في النعت جاز في العطف إذ لا فارق بينهما، وادعى أبو حيان عدم الجواز لأن شرط العطف على الموضع أن يكون ثمت طالب ومحرز للموضع لا يتغير، وأيضا لَعْنَةُ وإن سلم مصدريته فهو إنما يعمل إذا انحل- لأن، والفعل- وهنا المقصود الثبوت فلا يصح انحلاله لهما وسلمه له غيره، وقالوا: إنه مذهب سيبويه خالِدِينَ فِيها أي في اللعنة، وهو يؤكد ما تفيده اسمية الجملة من الثبات، وجوز رجوع الضمير إلى النار والإضمار قبل الذكر يدل على حضورها في الذهن المشعر بالاعتناء المفضي إلى التفخيم والتهويل، وقيل: إن اللعن يدل عليها إذ استقرار الطرد عن الرحمة يستلزم الخلود في النار خارجا وذهنا، والموت على الكفر وإن استلزم ذلك خارجا لكنه لا يستلزمه ذهنا فلا يدل عليه، وخالِدِينَ على كلا التقديرين في المرجع حال مقارن لاستقرار اللعنة لا كما قيل: إنه على الثاني حال مقدرة لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ إما مستأنف لبيان كثرة عذابهم من حيث الكيف إثر بيانه كثرته من حيث الكم، وإما حال من ضمير عليهم أيضا أو من ضمير خالِدِينَ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ عطف على ما قبله جار فيه ما جرى فيه، وإيثار الجملة الاسمية لإفادة دوام النفي واستمراره، والفعل إما من الإنظار بمعنى التأخير- أي لا يمهلون- عن العذاب ولا يؤخرون عنه ساعة. وإما من النظر بمعنى الانتظار أي- لا ينتظرون- ليعتذروا، وإما من النظر بمعنى الرؤية أي- لا ينظر الله تعالى إليهم نظر رحمة- والنظر بهذا المعنى يتعدى بنفسه أيضا كما في الأساس فيصاغ منه المجهول. وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ نزلت كما روي عن ابن عباس لما قال كفار قريش للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم: صف لنا ربك، والخطاب عام لكل من يصح أن يخاطب كما هو الظاهر غير مختص بشأن النزول، والجملة معطوفة على إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ عطف القصة على القصة، والجامع أن الأولى مسوقة لإثبات نبوته صلى الله تعالى عليه وسلم، وهذه لإثبات وحدانيته تعالى، وقيل: الخطاب للكاتمين، وفيه انتقال عن زجرهم عما يعاملون رسولهم إلى زجرهم عن معاملتهم ربهم حيث يكتمون وحدانيته، ويقولون: عزير، وعيسى- ابنان لله عز وجل، وفيه أنه وإن حسن الانتظام إلا أنه فيه خروج شأن النزول عن الآية- وهو باطل- وإضافة- إله- إلى ضمير المخاطبين باعتبار الاستحقاق لا باعتبار الوقوع فإن الآلهة الغير المستحقة كثيرة، وإعادة لفظ- إله- وتوصيفه بالوحدة لإفادة أن المعتبر الوحدة في الألوهية، واستحقاق العبادة، ولولا ذلك لكفي- وإلهكم واحد- فهو بمنزلة وصفهم الرجل- بأنه سيد واحد، وعالم واحد- وقال أبو البقاء: إله- خبر المبتدأ، وواحِدٌ صفة له، والغرض هنا هو الصفة إذ لو قال:- وإلهكم واحد- لكان هو المقصود إلا أن في ذكره زيادة تأكيد، وهذا يشبه الحال الموطئة كقولك: مررت بزيد رجلا صالحا، وكقولك في الخبر: زيد شخص صالح، ولعل الأول ألطف، وأكثر الناس على أن الواحد هنا بمعنى لا نظير له ولا شبيه في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، وقيل: إن المراد به ما ليس بذي أبعاض ولا يجوز عليه الانقسام ولا يحتمل التجزئة أصلا، وليس المعنى به هنا مبدأ العدد، وأصح الأقوال عند ذوي العقول السليمة أنه الذي لا نظير له ولا شبيه له في استحقاق العبادة، وهو مستلزم لكل كمال آب عما فيه أدنى وصمة وإخلال لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خبر ثان للمبتدأ أو صفة أخرى للخبر أو جملة معترضة لا محل لها من الإعراب، وعلى أي تقدير هو مقرر للوحدانية، ومزيح- على ما قيل- لما عسى أن يتوهم أن في الوجود إلها لكن لا يستحق العبادة، والضمير المرفوع على الصحيح بدل من الضمير المستكن في الخبر المحذوف فهو بدل مرفوع من ضمير مرفوع، وقد اختلف في المنفي هل المعبود بحق أو المبعود بباطل، فقال محمد الشيشيني: النفي إنما تسلط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 على الآلهة المعبودة بباطل تنزيلا لها منزلة العدم، وقال عبد الله الهبطي: إنما تسلط على الآلهة المعبودة بحق ولك انتصر بعض، وذكر الملوي أن الحق مع الثاني لأن المعبود بباطل له وجود في الخارج، ووجود في ذهن المؤمن بوصف كونه باطلا، ووجود في ذهن الكافر بوصف كونه حقا فهو من حيث وجوده في الخارج في نفسه لا تنفى لأن الذات لا تنفى، وكذا من حيث كونه معبودا بباطل لا ينفى أيضا إذ كونه معبودا بباطل أمر حق لا يصح نفيه وإلا كان كذبا، وإنما ينفى من حيث وجوده في ذهن الكافر من حيث وجوده في ذهنه بوصف كونه معبودا بحق، فالمعبودات الباطلة لم تنف إلا من حيث كونها معبودة بحق لم ينف في هذه الكلمة إلا المعبود بحق غيره تعالى فافهم، وسيأتي تحقيق ما في هذه الكلمة الطيبة في محله إن شاء الله تعالى: الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ. خبران آخران بعد خبر أو خبرين لقوله تعالى إِلهُكُمْ أو لمبتدأ محذوف والجملة معترضة، أو بدلان على رأي وجيء بهما لتمييز الذات الموصوفة بالوحدة عما سواه وليكون الجواب، موافقا لما سألوه وفي ذلك إشارة إلى حجة الوحدانية لأنه لما كان مولى النعم كلها أصولا وفروعا دنيا وأخرى، وما سواه إما خير محض أو خير غالب، وهو إما نعمة أو منعم عليه لم يستحق العبادة أحد غيره لاستواء الكل في الاحتياج إليه تعالى في الوجود وما يتبعه من الكمالات. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أخرج البيهقي عن أبي الضحى- معضلا- أنه كان للمشركين حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، فلما سمعوا هذه الآية تعجبوا وقالوا: إن كنت صادقا فأت بآية نعرف بها صدقك، فنزلت. ولفرط جهلهم لم يكفهم الحجة الإجمالية المشير إليها الوصفان، وإنما جمع السَّماواتِ وأفرد الْأَرْضِ للانتفاع بجميع أجزاء الأولى باعتبار ما فيها من نور كواكبها وغيره دون الثانية فإنه إنما ينتفع بواحدة من آحادها- وهي ما نشاهده منها- وقال أبو حيان: لم تجمع الْأَرْضِ لأن جمعها ثقيل وهو مخالف للقياس، ورب مفرد لم يقع في القرآن جمعه لثقله وخفة المفرد، وجمع لم يقع مفرده- كالألباب- وفي المثل السائر نحوه، وقال بعض المحققين: جمع السَّماواتِ لأنها طبقات ممتازة كل واحدة من الأخرى بذاتها الشخصية كما يدل عليه قوله تعالى: فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [البقرة: 29] سواء كانت متماسة- كما هو رأي الحكيم- أو لا، كما جاء في الآثار- أن بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام- مختلفة الحقيقة لما أن الاختلاف في الآثار المشار إليه بقوله تعالى: وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها [فصلت: 12] يدل عليه، ولم يجمع الْأَرْضِ لأن طبقاتها ليست متصفة بجميع ذلك فإنها سواء كانت متفاصلة بذواتها، كما ورد في الأحاديث- من أن بين كل أرضين كما بين كل سماءين- أو لا تكون متفاصلة- كما هو رأي الحكيم- غير مختلفة في الحقيقة اتفاقا. وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي تعاقبهما وكون كل منهما خلفا للآخر، أو اخْتِلافِ كل منهما في أنفسهما إزديادا وانتقاصا، أو ظلمة ونورا، وقدم اللَّيْلِ لسبقه في الخلق أو لشرفه. وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ عطف على خَلْقِ السَّماواتِ لا على السَّماواتِ أو عطف على اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ من الألفاظ التي استعملت مفردا وجمعا، وقدر بينهما تغاير اعتباري، فإن اعتبر أن ضمته أصلية كضمة- قفل- فمفرد، وإن اعتبر أنها عارضة كضمة- أسد- فجمع، ومن الأول قوله تعالى: فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [الشعراء: 119] ومن الثاني قوله تعالى: إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [يونس: 22] وقيل: إنه جمع فلك- بفتح الفاء وسكون اللام- وقيل: إنه اسم جمع، وزعم بعضهم أنه قرىء «فلك» بضمتين وهو عند بعض مفرد لا غير وقال الكواشي: الفلك، والفلك- بضمتين- لغتان الواحد والجمع سواء في اللفظ، ويعرف ذلك بجمع ضمير فعلهما وإفراده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 بِما يَنْفَعُ النَّاسَ «ما» إما مصدرية أي- بنفعهم- أو موصولة أي- بالذي ينفعهم- وعلى الأول ضمير الفاعل إما- للفلك- لأنه مذكر اللفظ مؤنث المعنى- كما قيل- أو- للجري- أو- للبحر- واحتمال كونها موصوفة لا يلائمه مقام الاستدلال وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ عطف على الْفُلْكِ قيل: وتأخيره عن ذكرها مع كونه أعم منها نفعا لما فيه من مزيد تفضيل، وقيل: المقصود من الأول الاستدلال ب الْبَحْرِ وأحواله لا ب الْفُلْكِ الجاري فيه لأن الاستدلال بذلك إما بصنعته على وجه يجري في الماء، أو العلم بكيفية اجرائه، أو- بتسخير الريح والبحر- لذلك، أو توسله إلى بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وشيء منها ليس من حاله في نفس، ولأن الاستدلال- بالفلك الجاري في البحر- استدلال بحال من أحوال الْبَحْرِ بخلاف ما لو استدل ب الْبَحْرِ وجميع أحواله فإنه أعم وأليق بالمقام، إلا أنه خص الْفُلْكِ بالذكر مع أن مقتضى المقام حينئذ أن يقال: والعجائب التي في البحر- لأنه سبب الإطلاع على أحواله وعجائبه- فكان ذكره ذكرا لجميع أحواله، وطريقا إلى العلم بوجوه دلالته، ولذلك قدم على ذكر- المطر والسحاب- لأن منشأهما البحر في غالب الأمر، وإلا فالمناسب بعد ذكر اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ الذي هو من الآيات العلوية ذكر- المطر والسحاب- اللذين هما من كائنات الجو وعدم نظم الْفُلْكِ في البين لكونها من الآيات السفلية. وعندي أن هذا خلاف الظاهر جدا- وإن جل قائله- إذ يؤول المعنى إلى- والبحر الذي تجري فيه الفلك بما ينفع الناس- وهو قلب للنظم الكريم بغير داع إليه ولا دليل يعول عليه، وأي مانع من كون الاستدلال باختلاف الفلك وذهابها مرة كذا ومرة كذا على حسب ما تحركها المقادير الإلهية، أو بالفلك الجارية في البحر من حيث إنها جارية فيه موقرة مقبلة ومدبرة، متعلقة بحبال الهواء على لطفه، وكثافتها لا ترسب إلى قاع البحر مع تلاطم أمواجه واضطراب لججه، وكون شيء من ذلك ليس حالا لها في نفسها غير مسلم، ووجه الترتيب- على ما أرى- أنه سبحانه ذكر أولا خلق أمرين علوي وسفلي، واختلاف شيئين بمدخلية أمرين سماوي وأرضي «ثانيا» إذ تعاقب الليل والنهار أو اختلافهما ازديادا وانتقاصا أو ظلمة ونورا إنما هو بمدخلية سير الفلك وحيلولة جرم الأرض على كيفيتين مخصوصتين، ثم عقب ذلك بما يشبه آيتي الليل والنهار السابح كل منهما في لجة بحر فلكه الدوار المسخر بالجريان فيه ذهابا وإيابا بِما يَنْفَعُ النَّاسَ في أمر معاشهم وانتظام أحوالهم، وهو الْفُلْكِ التي تجري على كبد الْبَحْرِ بذلك، ويختلف جريانها شرقا وغربا على حسب تسليك المقادير الإلهية لها في هاتيك المسالك، فالآية حينئذ على حد قوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ. وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ. لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ. وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [يس: 37- 41] إلا أن الفرق بين الآيتين أن الآيتين في الثانية ذكرتا متوسطتين صريحا بين حديث الفلك وشأن الليل والنهار، وفي الأولى تقدم ما يشعر بهما ويشير إليهما، ثم عقب ذلك بما يشترك فيه العالم العلوي والعالم السفلي، وله مناسبة لذكر الْبَحْرِ بل ولذكر الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فيه بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وهو إنزال الماء من السماء ونشر ما كان دفينا في الأرض بالإحياء، وفي ذلك النفع التام والفضل العام. ومِنَ الأولى ابتدائية والثانية بيانية، وجوّز أن تكون تبعيضية وأن تكون بدلا من الأولى، والمراد من السَّماءِ جهة العلو، وقد تقدم تحقيق ذلك فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بتهييج قواها النامية، وإظهار ما أودع فيها من أنواع النبات والأزهار والأشجار بَعْدَ مَوْتِها وعدم ظهور ذلك فيها لاستيلاء اليبوسة عليها حسبما تقتضيه طبيعتها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ عطف إما على أَنْزَلَ والجامع كون كل منهما آية مستقلة لوحدانيته تعالى وهو الغرض المسوق له الكلام مع الاشتراك في الفاعل، وفَأَحْيا من تتمة الأول كان الاستدلال بالإنزال المسبب عنه الإحياء فلا يكون الفصل به مانعا للعطف، إما على «أحيا» فيدخل تحت فاء السببية، وسببية إنزال «الماء» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 للبث باعتبار أن الماء سبب حياة المواشي والدواب- والبث- فرع الحياة، ولا يحتاج إلى تقدير الضمير للربط لا غناء فاء السببية عنه في المشهور، وقيل: يحتاج إلى تقدير به- أي بالماء- ليشعر بارتباطه ب أَنْزَلَ استقلالا كأحيا وفاء السببية لا تكفي في ذلك إذ يجوز أن يكون السبب مجموعهما، وحديث أن المجرور إنما يحذف إن جر الموصول بمثله أكثري لا كلي، و «من» بيانية على التقدير الأول على الصحيح، والمراد مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ كل نوع من الدواب، ومعنى- بثها- تكثيرها بالتوالد والتولد، فالاستدلال بتكثير كل نوع مما يدب على الأرض وعدم انحصاره في البعض، وقيل: تبعيضية لأن الله تعالى لم يبث إلا بعض الأفراد بالنسبة إلى ما في قدرته، على أنه أثبت الزمخشري دواب في السماء أيضا في سورة «حمعسق» ، وفيه أن بث كل نوع مما يدب على الأرض لا ينافي كون بعض أفراده مقدرا ولا وجوده في السماء، على أن مدلول التبعيضية كون شيء جزءا من مدخولها لا فردا منه، وزائدة على التقدير الثاني لعدم تقدم المبين، وعدم صحة التبعيض، وهي زيادة في الإثبات لم يجوزها سوى الأخفش وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ أي تقليب الله تعالى لها جنوبا وشمالا وقبولا ودبورا، حارة. وباردة. وعاصفة. ولينة. وعقيما. ولواقح، وتارة بالرحمة ومرة بالعذاب، وقرأ حمزة والكسائي الريح على الإفراد وأريد به الجنس، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- الرياح- للرحمة والريح للعذاب، وروي أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا هبت ريح «قال: اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا» ولعله قصد بالأول، والثاني قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ [الروم: 46] وقوله تعالى: وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ [الذاريات: 41] وعقب إحياء الأرض بالمطر، وبث كل دابة فيها بتصريف الرياح لأن في ذلك تربية النبات وبقاء حياة الحيوانات التي تدب على وجه الأرض ولو أمسك الله تعالى الريح ساعة لأنتن ما بين السماء والأرض كما نطق به بعض الآثار وَالسَّحابِ عطف على ما قبله، وهو اسم جنس واحده سحابة سمي بذلك لانسحابه في الجو أو لجر الرياح له الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ صفة- للسحاب- باعتبار لفظه، وقد يعتبر معناه فيوصف بالجمع ك سَحاباً ثِقالًا [الأعراف: 57] و «بين» ظرف لغو متعلق بالمسخر ومعنى تسخيره أنه لا ينزل ولا يزول مع أن الطبع يقتضي صعوده إن كان لطيفا وهبوطه إن كان كثيفا، وقيل: الظرف مستقر وقع حالا من ضمير المسخر ومتعلقه محذوف أي المسخر للرياح حيث تقلبه في الجو بمشيئة الله تعالى، وتوقيت تصريف الرياح بالسحاب لأنه كالمعلول للرياح كما يشير إليه قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً [الروم: 48، فاطر: 9] ولأن في جعله ختم المتعاطفات مراعاة في الجملة لما بدىء به منها لأنه أرضي سماوي فينتظم بدء الكلام وختمه، وبما ذكرنا علم وجه الترتيب في الآية، وقال بعض الفضلاء: لعل تأخير تصريف الرياح وتسخير السحاب في الذكر عن جريان الفلك وإنزال الماء مع انعكاس الترتيب الخارجي للإشعار باستقلال كل من الأمور المعدودة في كونها آية ولو روعي الترتيب الخارجي لربما توهم كون المجموع المرتب بعضه على بعض آية واحدة، ولا يخفى أنه يبعد هذا التوهم ظاهر قوله تعالى: لَآياتٍ اسم «إن» دخلته- اللام- لتأخره عن خبرها والتنكير للتفخيم كما وكيفا أي آيات عظيمة كثيرة دالة على القدرة القاهرة والحكمة الباهرة والرحمة الواسعة المقتضية لاختصاص الإلهية به سبحانه لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي يتفكرون، فالعقل مجاز عن التفكر الذي هو ثمرته، أخرج ابن أبي الدنيا وابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لما قرأ هذه الآية قال: «ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها» وفيها تعريض بجعل المشركين الذين اقترحوا على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم آية تصدقه وتسجيل عليهم بسخافة العقول، وإلا فمن تأمل في تلك الآيات وجد كلا منها مشتملا على وجوه كثيرة من الدلالة على وجوده تعالى ووحدانيته وسائر صفاته الكمالية الموجبة لتخصيص العبادة به تعالى واستغنى عن سائرها، ومجمل القول في ذلك أن كل واحد من هذه الأمور المعدودة قد وجد على وجه خاص من الوجوه الممكنة دون ما عداه مستتبعا لآثار معينة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 وأحكام مخصوصة من غير أن تقتضي ذاته وجوده فضلا عن وجوده على النمط الكذائي فإذا لا بد له من موجد لامتناع وجود الممكن بلا موجد، قادر إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، حكيم عالم بحقائق الأشياء وما فيها من المفاسد والمصالح يوجده حسبما يستدعيه علمه بما فيه من المصلحة وتقتضيه مشيئته، متعال عن مقابلة غيره إذ لو كان معه واجب يقدر على ما يقدر الحق تعالى عليه فإن وافقت إرادة كل منهما إيجاده على وجه مخصوص أراده الآخر فالتأثير إن كان لكل منهما لزم اجتماع فاعلين على أثر واحد وهو يستلزم اجتماع العلتين التامتين، وإن كان الفعل لأحدهما لزم ترجيح الفاعل من غير مرجح لاستوائهما في إرادة إيجاده على الاستقلال، وعجز الآخر لما أن الفاعل سد عليه إيقاع ما أراده، وإن اختلفت الإرادتان بأن أراد أحدهما وجوده على نحو، وأراد الآخر وجوده على نحو آخر لزم التمانع والتطارد لعدم المرجح فيلزم عجزهما والعجز مناف للألوهية بديهة، وفي الآية إثبات الاستدلال بالحجج العقلية وتنبيه على شرف علم الكلام وفضل أهله وربما أشارت إلى شرف علم الهيئة. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً بيان لحال المشركين بعد بيان الدلائل الدالة على توحيده تعالى، و «من» دون الله حال من ضمير «يتخذ» والأنداد- الأمثال والمراد بها الأصنام كما هو الشائع في القرآن، والمروي عن قتادة ومجاهد وأكثر المفسرين، وقيل: الرؤساء الذين يطيعونهم طاعة الأرباب من الرجال، وروي عن السدي- ونسب إلى الصادق رضي الله تعالى عنه- وقيل: المراد أعم منهما وهو ما يشغل عن الله تعالى والمعنى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ متجاوزين الإله الواحد الذي ذكرت شؤونه الجليلة أمثالا فلا يقصرون الطاعة عليه سبحانه بل يشاركونهم إياه، وإيثار الاسم الجليل لتعيينه تعالى بالذات غبّ تعيينه بالصفات يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ إما جملة مستأنفة أو صفة الأنداد، أو صفة- لمن- إذا جعلتها نكرة موصوفة مسوقة لبيان وجه الاتخاذ، والمحبة- ميل القلب من الحب واحد الحبوب استعير لحبة القلب وسويدائه ثم اشتق منه الحب لأنه يؤثر في صميم القلب ويرسخ فيه، ومحبة العباد لله تعالى عند جمهور المتكلمين نوع من الإرادة سواء قلنا إنها نفس الميل التابع لاعتقاد النفع كما هو رأي المعتزلة، أو صفة مرجحة مغايرة له كما هو مذهب أهل السنة فلا تتعلق إلا بالجائزات ولا يمكن تعلقها بذاته تعالى فمحبة العبد له سبحانه إرادة طاعته وتحصيل مراضيه وهذا مبني على انحصار المطلوب بالذات في اللذة ورفع الألم، والعارفون بالله سبحانه قالوا: إن الكمال أيضا محبوب لذاته فالعبد يحب الله تعالى لذاته لأنه الكامل المطلق الذي لا يداني كماله كمال، وأما محبة خدمته وثوابه فمرتبة نازلة، ومحبة الله تعالى للعباد صفة له عز شأنه لا تتكيف ولا يحوم طائر الفكر حول حماها، وقيل: إرادة إكرامه واستعماله في الطاعة وصونه عن المعاصي، والمراد بالمحبة هنا التعظيم والطاعة أي أنهم يسوون بين الله تعالى وبين الأنداد المتخذة فيعظمونهم ويطيعونهم كما يعظمون الله تعالى ويميلون إلى طاعته، وضمير الجمع المنصوب راجع إلى الأنداد فإن أريد بها الرؤساء فواضح وإلا فالتعبير عنها بضمير العقلاء باعتبار ذلك الزعم الباطل أنهم أنداد الله تعالى والمصدر المضاف من المبني للفاعل وفاعله ضميرهم بقرينة سبق الذكر وإن المشركين يعترفون به تعالى ويلجأون إليه في الشدائد وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25، الزمر: 38] فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت: 65] ، وقيل وهو الخلاف الظاهر وعدول عما يقتضيه كون جملة- يحبونهم بيانا لوجه الاتخاذ إنه مصدر المبني للمفعول واستغني عن ذكر من يحب لأنه غير ملبس، والمعنى على تشبيه محبوبية الأنداد من جهة المشركين بمحبوبيته تعالى من جهة المؤمنين، ولا ينافي ذلك قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ لأن التشبيه إنما وقع بين المحبوبيتين وذلك يقتضي أن يكون محبوبية الأصنام مماثلا لمحبوبيته تعالى، والترجيح بين المحبتين لكن باعتبار رسوخ إحداهما دون الأخرى فإن المراد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 بشدة محبة المؤمنين شدتها في المحل وهو رسوخها فيهم وعدم زوالها عنهم بحال لا كمحبة المشركين لآلهتهم حيث يعدلون عنها إلى الله تعالى عند الشدائد ويتبرؤون منها عند معاينة الأهوال ويعبدون الصنم زمانا ثم يرفضونه إلى غيره وربما أكلوه- كما يحكى: أن باهلة كانت لهم أصنام من حيس فجاعوا في قحط أصابهم فأكلوها- ولله أبوهم فإنه لم ينتفع مشرك بآلهته كانتفاع هؤلاء بها فإنهم ذاقوا حلاوة الكفر، وليس المراد من شدة المحبة شدتها. وقوتها في نفسها ليرد أنا نرى الكفار يأتون بطاعات شاقة لا يأتي بشيء منها أكثر المؤمنين فكيف يقال: إن محبتهم أشد من محبتهم ومن هذا ظهر وجه اختيار- أشد حبا- على أحب إذ ليس المراد الزيادة في أصل الفعل بل الرسوخ والثبات وهو ملاك الأمر ولهذا نزل فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود: 112] وكان أحب الأعمال إليه صلى الله تعالى عليه وسلم أدومها، وقال العلامة: عدل عن أحب إلى أشد- لأنه شاع في الأشد محبوبية- فعدل عنه احترازا عن اللبس، وقيل: إن أحب أكثر من حب، فلو صيغ منه أفعل لتوهم أنه من المزيد. وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أي لو يعلم هؤلاء الَّذِينَ ظَلَمُوا بالاتخاذ المذكور، ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أن ذلك- الاتخاذ- ظلم عظيم، وأن اتصاف المتخذين به أمر معلوم مشهور حيث عبر عنه بمطلق الظلم، والموصول والصلة للاشعار بسبب- رؤيتهم العذاب- المفهومة من قوله سبحانه: إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أي عاينوا الْعَذابَ المعد لهم وأبصروه يوم القيامة، وأورد صيغة المستقبل بعد لَوْ وإِذْ المختصين بالماضي لتحقق مدلوله فيكون ماضيا تأويلا مستقبلا تحقيقا فروعي الجهتان. أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ساد مسد مفعولي يرى، وجواب لَوْ محذوف للإيذان بخروجه عن دائرة البيان، أي لوقعوا من الحسرة والندامة فيما لا يكاد يوصف، وقيل: هو متعلق الجواب- والمفعولان محذوفان- والتقدير وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أندادهم لا تنفع لعلموا أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً لا ينفع ولا يضر غيره. وقرأ ابن عامر ونافع ويعقوب «ترى» على أن الخطاب له صلى الله تعالى عليه وسلم، أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب، فالجواب حينئذ- لرأيت أمرا لا يوصف من الهول والفظاعة- وابن عامر «إذ يرون» بالبناء للمفعول، ويعقوب «إن» بالكسر، وكذا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ على الاستئناف أو إضمار القول- أي قائلين ذلك- وفائدة هذه الجملة المبالغة في تهويل الخطب وتفظيع الأمر، فإن اختصاص الْقُوَّةَ به تعالى لا يوجب شدة «العذاب» لجواز تركه عفوا مع القدرة عليه إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا بدل من إِذْ يَرَوْنَ مطلقا وجاز الفصل بين البدل والمبدل منه بالجواب ومتعلقة لطول البدل، وجوّز أن يكون ظرفا ل شَدِيدُ الْعَذابِ أو مفعولا- لاذكروا- وزعم بعضهم أنه بدل من مفعول «ترى» على قراءة الخطاب، كما أن إِذْ يَرَوْنَ بدل منه أيضا أَنَّ الْقُوَّةَ في موضع بدل الاشتمال من الْعَذابَ ولا يخفى أن هذا يقتضي جواز تعدد البدل ولم يعثر عليه في شيء من كتب النحو، وأيضا يرد عليه أن المبدل منه في بدل الاشتمال يجب أن يكون متقاضيا للبدل دالا عليه إجمالا، وأن يكون البدل مشتملا على ضمير المبدل منه- وكلاهما مفقودان- والمعنى «إذ تبرأ» الرؤساء المتبعون مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا أي المرءوسين بقولهم: تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ [القصص: 63] وقرأ مجاهد «الأول» على البناء للفاعل «والثاني» على البناء للمفعول، أي تبرأ الأتباع وانفصلوا عن متبوعيهم، وندموا على عبادتهم وَرَأَوُا الْعَذابَ حال من- الأتباع والمتبوعين- كما في لقيته راكبين- أي رائين له- فالواو- للحال، وقد مضمرة، وقيل: عطف على تَبَرَّأَ وفيه أنه يؤدي إلى إبدال وَرَأَوُا الْعَذابَ من إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ وليس فيه كثير فائدة لأن فاعل الفعلين- وإن كانا متغايرين- إلا أن تهويل الوقت باعتبار ما وقع فيه- وهو رؤية العذاب- ولأن الحقيق بالاستفظاع- هو تبرؤهم حال رؤية العذاب- لا هو نفسه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 وأجيب أن البدل الوقت المضاف إلى الأمرين، والمبدل منه الوقت المضاف إلى واحد- وهو الرؤية فقط- وفيه أن هذا أيضا لا يخرج ذلك عن الركاكة إِذْ بعد تهويل الوقت بإضافته إلى- رؤية العذاب- لا حاجة إلى جمعها مع التبري بخلاف ما إذا جعل حالا، فإن البدل هو التبرؤ الواقع في حال رؤية العذاب. وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ إما عطف على تَبَرَّأَ أو رَأَوُا أو حال، ورجح الأول لأن الأصل في- الواو- العطف، وفي الجملة الاستقلال ولإفادته تكثير أسباب التهويل والاستفظاع مع عدم الاحتياج إلى تقدير قد والباء من بِهِمُ للسببية، أي تَقَطَّعَتْ بسبب كفرهم الْأَسْبابُ التي كانوا يرجون منها النجاة، وقيل: للملابسة أي- تقطعت الأسباب- موصولة بِهِمُ كقولك: خرج زيد بثيابه، وقيل: بمعنى عن، وقيل: للتعدية، أي- قطعتهم الأسباب- كما تقول: تفرقت بهم الطريق، ومنه قوله تعالى: فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الإنعام: 153] وأصل- السبب- الحبل مطلقا، أو الحبل الذي يتوصل به إلى الماء، أو الحبل الذي أحد طرفيه متعلق بالسقف، أو الحبل الذي يرتقي به النخل. والمراد ب الْأَسْبابُ هنا الوصل التي كانت بين- الأتباع والمتبوعين- في الدنيا من الأنساب والمحاب، والاتفاق على الدين، والاتباع والاستتباع، وقرىء تَقَطَّعَتْ بالبناء للمفعول- وتقطع- جاء لازما ومتعديا وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً أي لو ثبت لنا عودة ورجوع إلى الدنيا. فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ أي من المتبوعين كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا تمنوا الرجوع إلى الدنيا حتى يطيعوا الله تعالى فيتبرؤوا من متبوعيهم في الآخرة إذا حشروا جميعا مثل تبري المتبوعين منهم مجازاة لهم بمثل صنيعهم، أي كما جعلوا بالتبري غائظين متحيرين على متابعتهم نجعلهم أيضا بالتبري غائظين متحيرين على ما حصل لنا بترك متابعتهم، ولذا لم يتبرؤوا منهم قبل تمني الرجوع لأنه لا يغيظ المتبوعين حيث تبرؤوا من الأتباع أو لا، ومن هنا يظهر وجه القراءة على البناء للفاعل لأن تبرؤ الأتباع من المتبوعين بالآخرة بالانفصال عنهم بعد ما تبين لهم عدم نفعهم، وذلك لا يغيظ المتبوعين لاشتغال كل منهم بما يقاسيه، فلذا تمنوا الرجوع إلى الدنيا ليتبرؤوا منهم تبرؤا يغيظهم. وأما قوله سبحانه: كَما تَبَرَّؤُا فلا يقتضي إلا وقوع التبرؤ من المتبوعين- وهو منصوص في آية أخرى- ولا يقتضي أن يكون مذكورا فيما سبق، وقيل: إن الأتباع بعد أن- تبرؤوا- من المتبوعين يوم القيامة تمنوا الكرة إلى الدنيا مع متبوعيهم ليتبرؤوا منهم فيها ويخذلوهم- فيجتمع لهم ذل الدنيا والآخرة- ويحتاج هذا التوجيه إلى اعتبار التغليب في لَنا أي لنا ولهم، إذ التبرؤ في الدنيا إنما يتصور إذا رجع كلتا الطائفتين. كَذلِكَ في موضع المفعول المطلق لما بعده، والمشار إليه الإراء المفهوم من إِذْ يَرَوْنَ أي كإراء العذاب المتلبس بظهور أن الْقُوَّةَ لِلَّهِ والتبري، وتقطع الأسباب، وتمني الرجعة. يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وجوّز أن يكون المشار إليه المصدر المفهوم مما بعد- والكاف- مقحمة لتأكيد ما أفاده اسم الإشارة من الفخامة ومحله النصب على المصدرية أيضا، أي ذلك الإراء الفظيع يريهم على حد ما قيل في قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143] والجملة تذييل لتأكيد الوعيد، وبيان حال المشركين في الآخرة وخلود عذابهم، ويجوز أن تكون استئنافا كأنه لما بولغ في وعيدهم وتفظيع عذابهم كان محل أن يتردد السامع ويسأل هل لهم سوى ذلك من العذاب أم تم؟ فأجيب بما ترى، وحَسَراتٍ أي ندمات وهو مفعول ثالث ليرى إن كانت الرؤية قلبية، وحال من أَعْمالَهُمْ إن كانت بصرية، ومعنى رؤية هؤلاء المشركين أَعْمالَهُمْ السيئة يوم القيامة حَسَراتٍ رؤيتها مسطورة في كتاب لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الكهف: 49] وتيقن الجزاء عليها، فعند ذلك يندمون على ما فرطوا في جنب الله تعالى، وعَلَيْهِمْ صفة حَسَراتٍ وجوّز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 تعلقه بها على حذف المضاف أي تفريطهم لأن- حسر- يتعدى- بعلى- واستدل بالآية من ذهب إلى أن الكفار مخاطبون بالفروع وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ المتبادر في أمثاله حصر النفي في المسند إليه نحو وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا [هود: 29] وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ [هود: 91] ففيه إشارة إلى عدم خلود عصاة المؤمنين الداخلين في قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ في النار، وإذا أريد من الَّذِينَ ظَلَمُوا الكفار مطلقا دون المشركين فقط كان الحصر حقيقيا، ويكون المقصود منه المبالغة في الوعيد بأنه لا يشاركهم في الخلود غيرهم، فإن الشركة تهوّن العقوبات، وقيل: إن المقصود نفي أصل الفعل لأنه اللائق بمقام الوعيد- لا حصر النفي- إذ ليس المقام مقام تردد ونزاع في أن الخارج هم أو غيرهم على الشركة أو الانفراد وإن كان صحيحا بالنظر إلى العصاة إلا أنه غير إلى ما ترى إفادة للمبالغة في الخلود، والإقناط عن الخلاص، والرجوع إلى الدنيا، وزيادة- الباء- وإخراج ذواتهم من عداد الخارجين لتأكيد النفي، وأنت تعلم أنه إذا لم يعتبر في الحصر حال المخاطب لم يبق فيه ما يقال سوى أن ظواهر بعض الآيات تقتضي عدم إرادة الحصر، ومن ذلك قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها [المائدة: 37] فليس القول بعدم الحصر نصا في الاعتزال كما وهم. «ومن باب الإشارة في الآيات» إِنَّ الصَّفا أي الروح الصافية عن دون المخالفات وَالْمَرْوَةَ أي النفس القائمة بخدمة مولاها من إعلام دين الله ومناسكه القلبية والقالبية، فمن بلغ مقام الوحدة الذاتية، ودخل بيت الحضرة الإلهية بالفناء عن السوي أوزار الحضرة بتوحيد الصفات واتزر بأنوار الجلال والجمال فلا حرج عليه حينئذ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ويرجع إلى مقامهما بالوجود الموهوب بعد التمكين المطلوب وَمَنْ تبرع خَيْراً بالتعليم والنصيحة وإرشاد المسترشدين فإن الله يشكر عمله ويعلم جزاءه إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أفضنا عليهم من أنوار المعارف وهدى الأحوال مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي كتاب عقولهم المنورة بنور المتابعة أُولئِكَ يبعدهم الله تعالى ويحجبهم عنه وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ من الملأ الأعلى فلا يمدونهم، ومن المستعدين فلا يصحبونهم إِلَّا الَّذِينَ رجعوا إلى الله تعالى وعلموا أن ما هم فيه ابتلاء منه عز وجل، وأصلحوا أحوالهم بالرياضة، وأظهروا ما احتجب عنهم بصدق المعاملة فَأُولئِكَ أقبل توبتهم وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا واحتجبوا عن الحق، وبقوا على احتجابهم حتى زال استعدادهم وانطفأ نور فطرتهم أُولئِكَ استحقوا الطرد والبعد عن الحق وعالم الملكوت، خالِدِينَ في ذلك لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ لرسوخ الأمور الموجبة له فيهم وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ للزوم تلك الهيئات المظلمة إياهم وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ بالذات لا شيء في الوجود غيره فأنى يعبد سواه، وهو العدم البحت إن في إيجاد سماوات الأرواح وأرض النفوس، واختلاف النور والظلمة بينهما، وفلك البدن التي تجري في بحر الاستعداد بما ينفع الناس في كسب كمالاتهم، وتكميل نشأتهم، وما أنزل الله من سماء الأرواح من ماء العلم فأحيا به أرض النفوس بعد موتها بالجهل وبث فيها القوى الحيوانية، وفرق في أفلاكها سيارات عالم الملكوت، وتصريف رياح النفحات المحركة لأغصان أشجار الشوق في رياض القلوب وسحاب التجليات المسخر بين سماء الروح وأرض النفس ليمطر قطرات الخطاب على نيران الألباب لتسكن ساعة من الاحتراق بالتهاب نار الوجد لآيات ودلائل لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ بالعقل المنور بالأنوار القدسية المجرد عن شوائب الوهم، ومن الناس من يعبد من دون الله أشياء منعته عن خدمة سيده، والتوجه إليه يحبونهم ويميلون إليهم كحبهم لله ويسوون بينهم وبينه سبحانه لأنهم لم يذوقوا لذة محبته ولم يروا نور مشاهدته وحقائق وصله وقربه وَالَّذِينَ آمَنُوا الإيمان الكامل أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ لأنهم مستغرقون بمشاهدته هائمون بلذيذ خطابه من عهد أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ لا يلتفتون إلى سواه طرفة عين فهيهات أن يزول حبهم أو يميل إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 الأغيار لبهم وهم أحبوه بحبه وصارت قلوبهم عرش تجلياته وقربه وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا وأشركوا من هو في الحقيقة لا شيء ولا حي ولا لي في وقت رؤيتهم عذاب الاحتجاب عن رب الأرباب، وإن القدرة لله جميعا، وليس لآلهتهم التي ألهتهم عنه منها شيء لندموا وتحسروا حيث لم يقصدوا وجه الله تعالى ولم يطلبوه، وعند ذلك يتبرأ الأتباع من المتبوعين وقد رَأَوُا عذاب الحرمان وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الوصل التي كانت بينهم في الدنيا وتمنوا ما لا يمكن بحال وبقوا بحسرة وعذاب. وكذا يكون حال القوى الروحانية الصافية للقوى النفسانية التابعة لها في تحصيل لذاتها، وطوبى للمتحابين في الله تعالى عز شأنه. يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا نزلت في المشركين الذين حرموا على أنفسهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام- كما ذكره ابن جرير وابن عباس رضي الله تعالى عنهما- وقيل: في عبد الله بن سلام وأضرابه حيث حرموا على أنفسهم لحم الإبل لما كان حراما في دين اليهود، وقيل: في قوم من ثقيف وبني عامر بن صعصعة وخزاعة وبني مدلج حيث حرموا التمر والأقط على أنفسهم، وحَلالًا إما مفعول كُلُوا أو حال من الموصول- أي كلوه حال كونه حلالا- أو صفة لمصدر مؤكد أي أكلا حلالا، ومن على التقديرين الأخيرين للتبعيض ليكون مفعولا به- لكلوا- وعلى التقدير الأول يجوز أن تكون ابتدائية متعلقة- بكلوا- أو حالا من حَلالًا وقدم عليه لتنكيره، وأن تكون ابتدائية بل هي متعينة كما في الكشف على مذهب من جعل الأصل في الأشياء الإباحة، وأن تكون تبعيضية بناء على ما ارتضاه الرضي من أن التبعيضية في الأصل ابتدائية إلا أنه يكون هناك شيء ظاهر أو مقدر هو بعض المجرور- بمن- ولا يلزم صحة إقامة لفظ البعض مقامها، والعلامة التفتازاني منع كونها تبعيضية على هذا التقدير لأنها في موضع المفعول به حينئذ، والفعل لا ينصب مفعولين وهو مبني- على ما في التسهيل وغيره- أن التبعيض معنى حقيقي- لمن- وعلامته صحة إقامة لفظ البعض مقامها، والأمر للوجوب فيما إذا كان الأكل لقوام البنية وللندب كما إذا كان لمؤانسة الضيف وللإباحة فيما عدا ذلك «ومناسبة الآية لما قبلها» أنه سبحانه لما بين التوحيد ودلائله وما للتائبين والعاصين أتبع ذلك بذكر إنعامه وشمول رحمته ليدل على أن الكفر لا يؤثر في قطع الانعام وقوله تعالى طَيِّباً صفة حَلالًا ومعناه كما قال الإمام مالك ما يجده فم الشرع لذيذا لا يعافه ولا يكرهه، أو تراه عينه طاهرا عن دنس الشبهة، وفائدة وصف الحلال به تعميم الحكم كما في قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ [الإنعام: 38، هود: 6] ليحصل الرد على من حرم بعض الحلالات، فإن النكرة الموصوفة بصفة عامة تعم بخلاف غير الموصوفة، وقال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه: المراد به ما تستطيبه الشهوة المستقيمة الناشئة من المزاج الصحيح، ورد بأن ما لا تستطيبه إما حلال لا شبهة فيه فلا منع وإلا خرج بقيد الحلال، وأجيب بأن المراد بالحلال ما نص الشارع على حله- وبهذا ما لم يرد فيه نص- ولكنه مما يستلذ ويشتهيه الطبع المستقيم، ولم يكن في الشرع ما يدل على حرمته كإسكار وضرر، والأولى نظرا للمقام أن يقال: إن التقييد ليس للاحتراز عما تستطيبه الشهوة الفاسدة بل لكونه معتبرا في مفهومه إذ لا يقال الطيب واللذيذ إلا على ما تستلذه الشهوة المستقيمة وتكون فائدة التوصيف حينئذ التنصيص على إباحة ما حرموه، والقول بأن في الآية على هذا التفسير إشارة إلى النهي عن الأكل على امتلاء المعدة والشهوة الكاذبة لأن ذلك لا يستطاب لأن الطعام اللذيذ المأكول كذلك مما تستطيبه الشهوة إلا أنه ليس مأكولا بالشهوة المستقيمة، وبين المعنيين بعد بعيد كما قاله بعض المحققين- واستدل بعضهم بالآية على أن من حرم طعاما مثلا فهو لاغ ولا يحرم عليه، وفيه خفاء لا يخفى وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي آثاره- كما حكي عن الخليل- أو أعماله- كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه- أو خطاياه- كما نقل عن مجاهد- وحاصل المعنى لا تعتقدوا به وتستنوا بسنته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 فتحرموا الحلال وتحللوا الحرام، وعن الصادق من خطوات الشيطان الحلف بالطلاق والنذور في المعاصي وكل يمين بغير الله تعالى، وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة بتسكين الطاء وهما لغتان في جمع خطوة وهي ما بين قدمي الماشي، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه بضمتين وهمزة، وفي توجيهها وجهان، الأول ما قيل: إن الهمزة أصلية من الخطأ بمعنى الخطيئة، والثاني إن الواو قلبت همزة لأن الواو المضمومة تقلب لها نحو- أجوه- وهذه لما جاورت الضمة جعلت كأنها عليها قال الزجاج: وهذا جائز في العربية، وعن أبي السمال أنه قرأ بفتحتين على أنه جمع خطوة وهي المرة من الخطو. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ تعليل للنهي، ومُبِينٌ من أبان بمعنى بان وظهر أي ظاهر- العداوة- عند ذوي البصيرة وإن كان يظهر الولاية لمن يغويه ولذلك سمي وليا في قوله تعالى: أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ [البقرة: 257] ويحتمل أن يكون ذلك من باب تحيتهم السيف، وقيل:- أبان- بمعنى أظهر أي مظهر- العداوة- والأول أليق بمقام التعليل إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ استئناف لبيان كيفية عداوته وتفصيل لفنون شره وإفساده وانحصار معاملته معهم في ذلك، أو علة للعلة بضم، وكل من هذا شأنه فهو- عدو مبين- أو علة للأصل بضم، وكل من هذا شأنه لا يتبع فيكون الحكم معللا بعلتين- العداوة- والأمر بما ذكر وليس الأمر على حقيقته لا لأن قوله تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الحجر: 42، الإسراء: 65] ينافي ذلك لكونه مبينا على أن المعتبر في الأمر العلو- كما هو مذهب المعتزلة- وإلا فمجرد الاستعلاء لا ينافي أن يكون له سلطان، وعلى أن يكون- عبادي- لعموم الكل بدليل الاستثناء، وعلى أن الخطاب في يَأْمُرُكُمْ لجميع الناس لا للمتبعين فقط، ولا منافاة أيضا بل لأنا نجد من أنفسنا أنه لا طلب منه للفعل منا وليس إلا التزيين والبعث فهو استعارة تبعية لذلك ويتبعها الرمز إلى أن المخاطبين بمنزلة المأمورين المنقادين له، وفيه تسفيه رأيهم وتحقير شأنهم، ولا يرد أنه إذا كان الأمر بمعنى التزيين فلا بد أن يقال: يأمر لكم، وإن كان بمعنى البعث فلا بد أن يقال: يأمركم على السوء أو للسوء إذ المذكور لفظ الأمر فلا بد من رعاية طريق استعماله- والسوء- في الأصل مصدر ساءه يسوءه سوءا أو مساءة إذا أحزنه، ثم أطلق على جميع المعاصي سواء كانت قولا أو فعلا أو عقدا لاشتراك كلها في أنها تسوء صاحبها، والْفَحْشاءِ أقبح أنواعها وأعظمها مساءة، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن السوء ما لا حد فيه، والْفَحْشاءِ ما فيه حد، وقيل: هما بمعنى وهو ما أنكره العقل وحكم بأنه ليس فيه مصلحة وعاقبة حميدة واستقبحه الشرع، والعطف حينئذ لتنزيل تغاير الوصفين منزلة تغاير الحقيقتين فإن ذلك سوء لاغتمام العاقل، وفحشاء باستقباحه إياه، ولعل الداعي إلى هذا القول أنه سبحانه سمى جميع المعاصي والفواحش سيئة في قوله جل شأنه: مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً [البقرة: 81] وإِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود: 114] وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: 40] وسمى جميع المعاصي بالفواحش فقال تعالى: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ [الأعراف: 33] ويمكن أن يقال: سلمنا ولكن السيئة والفاحشة إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا فلا يتم الاستدلال وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ عطف على سابقه أي- ويأمركم الشيطان بأن تفتروا على الله الكذب بأنه حرم هذا- وأحل هذا أو بذلك وبأنه أمر باتخاذ الأنداد ورضي بما أنتم عليه من الإفساد، والتنصيص على الأمر بالتقول مع دخوله فيما سبق للاهتمام بشأنه، ومفعول العلم محذوف أي- ما لا تعلمون- الإذن فيه منه تعالى، والتحذير عن ذلك مستلزم للتحذير عن التقول عليه سبحانه بما يعلمون عدم الإذن فيه كما هو حال كثير من المشركين استلزاما ظاهرا، وظاهر الآية المنع من اتباع الظن رأسا لأن الظن مقابل للعلم لغة وعرفا، ويشكل عليه أن المجتهد يعمل بمقتضى ظنه الحاصل عنده من النصوص فكيف يسوغ اتباعه للمقلد؟! وأجيب بأن الحكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 المظنون للمجتهد يجب العمل به للدليل القاطع وهو الإجماع، وكل حكم يجب العمل به قطعا علم قطعا بأنه حكم الله تعالى: وإلا لم يجب العمل به قطعا، وكل ما علم قطعا أنه حكم الله تعالى فهو معلوم قطعا، فالحكم المظنون للمجتهد معلوم قطعا وخلاصته أن الظن كاف في طريق تحصيله ثم بواسطة الإجماع على وجوب العمل صار المظنون معلوما وانقلب الظن علما، فتقليد المجتهد ليس من اتباع الظن في شيء، وزعم ذلك من اتباع الظن وتحقيقه في الأصول وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ الضمير للناس والعدول عن الخطاب إلى الغيبة للتنبيه على أنهم لفرط جهلهم وحمقهم ليسوا أهلا للخطاب بل ينبغي أن يصرف عنهم إلى من يعقله، وفيه من النداء لكل أحد من العقلاء على ضلالتهم ما ليس إذا خوطبوا بذلك، وقيل: الضمير لليهود وإن لم يذكروا بناء على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن الآية نزلت فيهم لما دعاهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الإسلام، وقيل: إنه راجع إلى من يتخذ أو إلى المفهوم من أن الذين يكتمون، والجملة مستأنفة بناء على ما روي أنها نزلت في المشركين، وأنت تعلم أن النزول في حق اليهود أو المشركين لا يقتضي تخصيص الضمير بهم، وقد شاع أن عموم المرجع لا يقتضي عموم الضمير كما في قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ [البقرة: 228] وقوله تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ [البقرة: 228] على أن نظم القرآن الكريم يأبى هذا القيل، والموصول إما عام لسائر الأحكام الحقة المنزلة من الله تعالى، وإما خاص بما يقتضيه المقام قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أي وجدناهم عليه، والظرف إما حال من- آبائنا، وألفينا- متعد إلى واحد، وإما مفعول ثان له مقدم على الأول. أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ جواب الشرط محذوف أي- لو كان آباؤهم جهلة لا يتفكرون في أمر الدين ولا يهتدون إلى الحق لاتبعوهم- والواو للحال أو للعطف، والجملة الشرطية إما حال عن ضمير قالُوا أو معطوفة عليه، والهمزة لإنكار مضمون تلك الجملة وهو التزامهم الاتباع على تقدير ينافيه وهو كونهم غير عاقلين ولا مهتدين المستلزم لالتزامهم الاتباع على أي حال كانوا من غير تمييز، وعلم بكونهم محقين أو مبطلين وهو التقليد المذموم- ويتولد من ذلك الإنكار التعجيب- وجوز أن تكون الجملة حالا عن ضمير جملة محذوفة أي أيتبعونهم في حال فرضهم غير عاقلين ولا مهتدين- وأن تكون معطوفة على شرط مقدر أي- يتبعونهم لو لم يكونوا غير عاقلين، ولو كانوا غير عاقلين، وإلى الأول ذهب الزمخشري، وإلى الثاني الجرمي، ولا يخفى أنه على تقدير حذف الجملة المتقدمة لا يحتاج إلى القول بحذف الجزاء، ولعل ما ذكر أولا أولى لما فيه من التحرز عن كثرة الحذف وإبقاء لَوْ على معناها المشهور، والهمزة الاستفهامية على أصلها- وهو إيلاء المسئول عنه- وكون المعنى يدور على العطف على المحذوف في أمثال ذلك في سائر اللغات غير مسلم، واختار الرضي أن- الواو- الداخلة على كلمة الشرط في مثل هذا اعتراضية، وعنى بالجملة الاعتراضية ما يتوسط بين أجزاء الكلام، أو يجيء آخره متعلقا به معنى مستأنفا لفظا، قيل: وفي الآية دليل على المنع من التقليد لمن قدر على النظر، وأما اتباع الغير في الدين بعد العلم بدليل ما أنه محق فاتباع في الحقيقة لما أنزل الله تعالى- وليس من التقليد المذموم في شيء- وقد قال سبحانه: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل: 43] . وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً جملة ابتدائية واردة لتقرير ما قبلها أو معطوفة عليه، والجامع أن الأولى لبيان حال الكفار وهذه تمثيل لها وفيها مضاف محذوف إما من جانب المشبه أو المشبه به- أي مثل داعي الذين كفروا كمثل الذي ينعق- أو مثل الذين كفروا- كمثل بهائم الذي ينعق- ووضع المظهر- وهو الموصول- موضع المضمر- وهو البهائم- ليتمكن من إجراء الصفة التي هي وجه الشبه عليه، وحاصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 المعنى على التقديرين أن الكفرة لانهماكهم في التقليد وإخلادهم إلى ما هم عليه من الضلالة لا يلقون أذهانهم إلى ما يتلى عليهم ولا يتأملون فيما يقرر معهم فهم في ذلك كالبهائم التي ينعق عليها وهي لا تسمع إلا جرس النغمة ودويّ الصوت، وقيل: المراد تمثيلهم في اتباع آبائهم على ظاهر حالهم جاهلين بحقيقتها بالبهائم التي تسمع الصوت ولا تفهم ما تحته، أو تمثيلهم في دعائهم الأصنام بالناعق في نعقه وهذا يغني عن الإضمار لكن لا يساعده قوله تعالى: إِلَّا دُعاءً وَنِداءً لأن الأصنام بمعزل عن ذلك فلا دخل للاستثناء في التشبيه إلا أن يجعل من التشبيه المركب ويلتزم كون مجموع لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً كناية عن عدم الفهم والاستجابة، والنعيق التتابع في التصويت على البهائم للزجر، ويقال: نعق الغراب نعاقا ونعيقا إذا صوت من غير أن يمد عنقه ويحركها، ونغق بالغين بمعناه فإذا مد عنقه وحركها ثم صاح قيل: نعب بالباء، والدعاء والنداء بمعنى، وقيل: إن الدعاء ما يسمع، والنداء قد يسمع وقد لا يسمع، وقيل: إن الدعاء للقريب والنداء للبعيد صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ رفع على الذم إذ فيه معنى الوصف مع مانع لفظي من الوصف به فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ أي لا يدركون شيئا لفقدان الحواس الثلاثة وقد قيل: من فقد حسا فقد فقد علما، وليس المراد نفي العقل الغريزي باعتبار انتفاء ثمرته- كما قيل به- لعدم صحة ترتبه بالفاء على ما قبله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ أي مستلذاته أو من حلاله، والآية إما أمر للمؤمنين بما يليق بشأنهم من طلب الطيبات وعدم التوسع في تناول ما رزقوا من الحلال وذا لم يستفد من الأمر السابق، وإما أمر لهم على طبق ما تقدم إلا أن فائدة تخصيصهم بعد التعميم تشريفهم بالخطاب وتمهيد لطلب الشكر، وكُلُوا لعموم جميع وجوه الانتفاع دلالة وعبارة وَاشْكُرُوا لِلَّهِ على ما أنعم به عليكم والالتفات لتربية المهابة إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ بمنزلة التعليل لطلب الشكر كأنه قيل: واشكروا له لأنكم تخصونه بالعبادة وتخصيصكم إياه بالعبادة يدل على أنكم تريدون عبادة كاملة تليق بكبريائه وهي لا تتم إلا بالشكر لأنه من أجل العبادات- ولذا جعل نصف الإيمان- وورد من حديث أبي الدرداء مرفوعا يقول الله تعالى «إني والإنس والجن في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري وأرزق ويشكر غيري» والقول بأن المراد إن كنتم تعرفونه أو إن أردتم عبادته منحط من القول إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ أي أكلها والانتفاع بها وأضاف الحرمة إلى العين- مع أن الحرمة من الأحكام الشرعية التي هي من صفات فعل المكلف، وليست مما تتعلق بالأعيان- إشارة إلى حرمة التصرف في الميتة، وهي التي ماتت من غير ذكاة شرعية من جميع الوجوه بأخصر طريق وأوكده حيث جعل العين غير قابلة لتعلق فعل المكلف بها إلا ما خصه الدليل كالتصرف بالمدبوغ وألحق ب الْمَيْتَةَ ما أبين من حي للحديث الذي أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه عن أبي واقد الليثي قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما قطع من البهيمة، وهي حية فهي ميتة» وخرج عنها السمك والجراد للحديث الذي أخرجه ابن ماجة والحاكم من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعا «أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد والطحال» وللعرف أيضا فإنه إذا قال القائل: أكل فلان الميتة لم يسبق الوهم إليهما، نعم حرم بعضهم ميتة السمك الطافي وما مات من الجراد بغير سبب، وعليه أكثر المالكية، واستدل بعموم الآية على تحريم الأجنة، وتحريم ما لا نفس له سائلة خلافا لمن أباحه من المالكية، وقرأ أبو جعفر: الميتة مشددة وَالدَّمَ قيد في سورة الإنعام بالمسفوح وسيأتي، واستدل بعمومه على تحريم نجاسة دم الحوت، وما لا نفس له تسيل وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ خص اللحم بالذكر مع أن بقية أجزائه أيضا حرام خلافا للظاهرية لأنه معظم ما يؤكل من الحيوان وسائر أجزائه كالتابع له، وقيل: خص اللحم ليدل على تحريم عينه ذكي أو لم يذك، وفيه ما لا يخفى، ولعل السر في إقحام لفظ اللحم هنا إظهار حرمة ما استطيبوه وفضلوه على سائر اللحوم واستعظموا وقوع تحريمه، واستدل أصحابنا بعموم الخنزير على حرمة خنزير البخر، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه: لا بأس به، وروي عن الإمام مالك أنه قال له شخص: ما تقول في خنزير البحر؟ فقال: حرام ثم جاء آخر فقال له: ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 تقول في حيوان في البحر على صورة الخنزير؟ فقال حلال- فقيل له- في ذلك فقال: إن الله تعالى حرم الخنزير ولم يحرم ما هو على صورته، والسؤال مختلف في الصورتين. وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ أي ما وقع متلبسا به أي بذبحه الصوت لغير الله تعالى، وأصل الإهلال عند كثير من أهل اللغة رؤية الهلال لكن لما جرت العادة أن يرفع الصوت بالتكبير إذا رئي سمي بذلك إهلالا، ثم قيل لرفع الصوت وإن كان بغيره، والمراد- بغير الله- تعالى الصنم وغيره كما هو الظاهر، وذهب عطاء ومكحول والشعبي والحسن وسعيد بن المسيب إلى تخصيص الغير بالأول وأباحوا ذبيحة النصراني إذا سمى عليها باسم المسيح، وهذا خلاف ما اتفق عليه الأئمة من التحريم وإنما قدم به هنا لأنه أمس بالفعل وأخر في مواضع أخر نظرا للمقصود فيها من ذكر المستنكر وهو الذبح لغير الله عز شأنه فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ بالاستتار على مضطر آخر بأن ينفرد بتناوله فيهلك الآخر وَلا عادٍ أي متجاوز ما يسد الرمق والجوع وهو ظاهر في تحريم الشبع وهو مذهب الأكثرين فعن الإمام أبي حنيفة والشافعي رضي الله تعالى عنهما لا يأكل المضطر من الميتة إلا قدر ما يمسك رمقه لأن الإباحة للاضطرار، وقد اندفع به، وقال عبد الله بن الحسن العبري: يأكل منها قدر ما يسد جوعته، وخالف في ذلك الإمام مالك فقال: يأكل منها حتى يشبع ويتزود فإن وجد غني عنها طرحها، ونقل عن الشافعي أن المراد غَيْرَ باغٍ على الوالي وَلا عادٍ بقطع الطريق وجعل من ذلك السفر في معصية فالعاصي في سفره لا يباح له الأكل من هذه المحرمات- وهو المروي عن الإمام أحمد أيضا- وهو خلاف مذهبنا، ويحتاج حكم الرخصة على هذا إلى التقييد بأن لا يكون زائدا على قدر الضرورة من خارج، واستدل بعموم الآية على جواز أكل المضطر ميتة الخنزير والآدمي خلافا لمن منع ذلك، وقرأ أهل الحجاز والشام والكسائي فَمَنِ اضْطُرَّ بضم النون وأبو جعفر منهم بكسر الطاء من اضطر فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ أي في تناوله بل ربما يأثم بترك التناول إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فلذا أسقط الحرمة في تناوله ورخص، وقيل: الحرمة باقية إلا أنه سقط الإثم عن المضطر وغفر له لاضطراره كما هو من تقييد الإثم بعليه، واستدل للأول بقوله تعالى: إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الإنعام: 119] حيث استثني من الحرمة، ثم أعلم أنه ليس المراد من الآية قصر الحرمة على ما ذكر مطلقا كما هو الظاهر حتى يرد منع الحصر بحرمة أشياء لم تذكر بل مقيد بما اعتقدوه حلالا بقرينة أنهم كانوا يستحلون ما ذكر فكأنه قيل: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ ما ذكر من جهة ما استحللتموه لأشياء أخر، والمقصود من قصر الحرمة على ما ذكر رد اعتقادهم حليته بأبلغ وجه وآكده فيكون قصر قلب إلا أن الجزء الثاني ليس لرد اعتقاد الحرمة إذ لم يعتقدوا حرمة شيء مما استحلوه بل تأكيد الجزء الأول، والخطاب للناس باعتبار دخول المشركين فيهم فيكون مفاد الآية الزجر عن تحليل المحرمات كما أن يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا زجر عن تحريم الحلالات أو المراد قصر حرمة ما ذكر على حال الاختيار، كأنه قيل: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ هذه الأشياء ما لم تضطروا إليها، والأنسب حينئذ أن يكون الخطاب للمؤمنين ليكون محط الفائدة هو القيد حيث كانوا معتقدين لحرمة هذه الأمور، وفائدة الحكم الترخيص بعد التضييق عليهم بطلب الحلال الطيب، أو تشريفهم بالامتنان بهذا الترخيص بعد الامتنان عليهم بإباحة المستلذات، واختار بعضهم أن المراد من الحصر رد المشركين في تحريمهم ما أحله الله تعالى- من البحيرة والوصيلة والحام- وأمثالها لأكلهم من هذه المحرمات المذكورة في الآية، فكأنهم قالوا: تلك حرمت علينا ولكن هذه أحلت لنا، فقيل: ما حرمت إلا هذه- فهو إذا إضافي- وذهب آخرون إلى أنه قصر إفراد بالنسبة إلى ما حرمه المؤمنون مع المذكورات من المستلذات، وفيه أن المؤمنين لم يعتقدوا حرمة المستلذات بل حرموها على أنفسهم لما سمعوا من شدائد المحاسبة والسؤال عن النعم، قاله بعض المحققين فليتدبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ المشتمل على فنون الأحكام التي من جملتها أحكام المحللات والمحرمات، والآية نزلت- كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه- في علماء اليهود كانوا يصيبون من سفلتهم هدايا، وكانوا يرجون أن يكون النبي المبعوث منهم، فلما بعث من غيرهم كتموا وغيروا صفته صلى الله تعالى عليه وسلم حتى لا يتبع فتزول رئاستهم وتنقطع هداياهم وَيَشْتَرُونَ بِهِ أي يأخذون بدله في نفس الأمر، والضمير- للكتاب - أو لما أنزل أو للكتمان ثَمَناً قَلِيلًا أي عوضا حقيرا. أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ إما في الحال- كما هو أصل المضارع- لأنهم أكلوا ما يتلبس ب النَّارَ وهو- الرشا- لكونها عقوبة لها فيكون في الآية استعارة تمثيلية بأن شبه الهيئة الحاصلة من أكلهم ما يتلبس بالنار بالهيئة المنتزعة من- أكلهم النار- من حيث إنه يترتب على- أكل- كل منهما من تقطع الأمعاء والألم ما يترتب على الآخر، فاستعمل لفظ المشبه به في المشبه، وإما في المآل، أي لا يأكلون يوم القيامة إِلَّا النَّارَ فالنار في الاحتمالين مستعمل في معناه الحقيقي، وقيل: إنها مجاز عن- الرشا- إذا أريد الحال، والعلاقة السببية والمسببية وحقيقة إذا أريد المآل، ولا يخفى أن الأول هو الأليق بمقام الوعيد، والجار والمجرور حال مقدرة، أي ما يَأْكُلُونَ شيئا حاصلا فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ إذ الحصول في- البطن- ليس مقارنا للأكل، وبهذا التقدير يندفع ضعف تقديم الحال على الاستثناء، ولا يحتاج إلى القول بأنه متعلق ب يَأْكُلُونَ والمراد في طريق بُطُونِهِمْ كما اختاره أبو البقاء، والتقييد- بالبطون- لإفادة- الملء- لا للتأكيد- كما قيل به- والظرفية بلفظة فِي وإن لم تقتض استيعاب المظروف الظرف، لكنه شاع استعمال ظرفية- البطن- في الاستيعاب كما شاع ظرفية بعضه في عدمه كقوله: كلوا- في بعض- بطنكم- تعفوا ... فإن زمانكم زمن خميص وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي كلام رحمة- كما قال الحسن- فلا ينافي سؤاله سبحانه إياهم، وقيل: «لا يكلمهم» أصلا لمزيد غضبه جل جلاله عليهم، والسؤال بواسطة الملائكة. وَلا يُزَكِّيهِمْ أي لا يطهرهم من دنس الذنوب، أو لا يثني عليهم. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي مؤلم، وقد جاءت هذه الأخبار مرتبة بحسب المعنى، لأنه لما ذكر سبحانه اشتراءهم بذلك- الثمن القليل- وكان كناية عن مطاعمهم الخبيثة الفانية بدأ أولا في الخبر بقوله تعالى: ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ ثم قابل- كتمانهم الحق- وعدم التكلم به بقوله تعالى: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ تعالى، وابتنى على- كتمانهم واشترائهم بما أنزل الله تعالى ثمنا قليلا- أنهم شهود زور وأحبار سوء آذوا بهذه الشهادة الباطلة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وآلموه فقوبلوا بقوله سبحانه: وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وبدأ أولا بما يقابل فردا فردا، وثانيا بما يقابل المجموع أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا بسبب كتمانهم الحق للمطامع الدنية، والأغراض الدنيوية الضَّلالَةَ بِالْهُدى في الدنيا وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ في الآخرة، والجملة إما مستأنفة فإنه لما عظم وعيد الكاتمين كان مظنة أن يسأل عن سبب عظم وعيدهم، فقيل: إنهم بسبب الكتمان خسروا الدنيا والآخرة، وإما خبر بعد خبر لأن، والجملة الأولى لبيان شدة وعيدهم، وهذه لبيان شناعة كتمانهم. فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ أي ما أشد صبرهم، وهو تعجيب للمؤمنين من ارتكابهم موجباتها من غير مبالاة وإلا فأي صبر لهم، وما في مثل هذا التركيب قيل: نكرة تامة- وعليه الجمهور- وقيل: استفهامية ضمنت معنى التعجب- وإليه ذهب الفراء- وقيل: موصولة- وإليه ذهب الأخفش- وحكي عنه أيضا أنها نكرة موصوفة- وهي على هذه الأقوال- في محل رفع على الابتداء، والجملة خبرها، أو خبرها محذوف إن كانت صفة أو صلة، وتمام الكلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 في كتب النحو. ذلِكَ أي مجموع ما ذكر من أكل النار، وعدم التكليم، والتزكية والعذاب المرتب على الكتمان بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أي بسبب أن الله تعالى نَزَّلَ القرآن، أو التوراة متلبسا بالحق ليس فيه شائبة البطلان أصلا فرفضوه- بالتكذيب أو الكتمان. وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ أي في جنسه- بأن آمنوا ببعض كتب الله تعالى وكفروا ببعض- أو في التوراة، ومعنى اخْتَلَفُوا تخلفوا عن سلوك طريق الحق فيها، أو جعلوا ما بدلوه خلفا عما فيها- أو في القرآن- واختلافهم فيه قول بعضهم: إنه سحر، وبعضهم إنه شعر، وبعضهم إنه أساطير الأولين. لَفِي شِقاقٍ أي خلاف بَعِيدٍ عن الحق موجب لأشد العذاب، وهذه الجملة تذييل لما تقدم معطوفة عليه. ومن الناس من جعل- الواو- للحال والسببية المتقدمة راجعة إليها والتذييل أدخل في الذم كما لا يخفى لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ الْبِرَّ اسم جامع لأنواع الخير والطاعات المقربة إلى الله تعالى- والخطاب لأهل الكتابين- والمراد من قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ السمتان المعينان، فإن اليهود تصلي- قبل المغرب- إلى بيت المقدس من أفق مكة، والنصارى- قبل المشرق- والآية نزلت ردا عليهم حيث أكثروا الخوض في أمر القبلة وادعى كل طائفة حصر- البر- على قبلته ردا على الآخر فرد الله تعالى عليهم جميعا بنفي جنس الْبِرَّ عن قبلتهم لأنها منسوخة، فتعريفه للجنس لإفادة عموم النفي- لا للقصر- إذ ليس المقصود نفي القصر أو قصر النفي. ويحتمل أن يكون الخطاب عاما لهم وللمسلمين- فيكون عودا على بدء- فإن الكلام في أمر القبلة وطعنهم في النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك كان أساس الكلام إلى هذا القطع، فجعل خاتمة كلية أجمل فيها ما فصل. والمراد من ذكر الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ التعميم- لا تعيين السمتين- وتعريف الْبِرَّ حينئذ إما للجنس فيفيد القصر، والمقصود نفي اختصاص الْبِرَّ بشأن القبلة مطلقا على ما يقتضيه الحال من كثرة الاشتغال والاهتمام بذلك والذهول عما سواه، وإما للعهد أي ليس الْبِرَّ العظيم الذي أكثرتم الخوض فيه وذهلتم عما سواه ذلك، وقدم المشرق على المغرب مع تأخر زمان الملة النصرانية رعاية لما بينهما من الترتيب المتفرع على ترتيب الشروق والغروب، وقرأ حمزة وحفص- البر- بالنصب والباقون بالرفع. ووجه الأولى أن يكون خبرا مقدما كما في قوله: سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم ... فليس «سواء» عالم وجهول وحسن ذلك أن المصدر المؤول أعرف من المحلى باللام لأنه يشبه الضمير من حيث إنه لا يوصف ولا يوصف به والأعرف أحق بالاسمية ولأن في الاسم طولا فلو روعي الترتيب المعهود لفات تجاوب أطراف النظم الكريم، ووجه الثانية أن كل فريق يدعي أن البر هذا فيجب أن يكون الرد موافقا لدعواهم وما ذلك إلا بكون البر اسما كما يفصح عنه جعله مخبرا عنه في الاستدراك، وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه لَيْسَ الْبِرَّ بالنصب بأن تولوا- بالباء- وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ تحقيق للحق بعد بيان بطلان الباطل، وأل- في الْبِرَّ إما للجنس فيكون القصر ادعائيا لكمال ذلك الجنس في هذا الفرد، وإما للعهد أي ما ينبغي أن يهتم به ويعتني بشأنه ويجد في تحصيله، والكلام على حذف مضاف أي- برّ من آمن- إذ لا يخبر بالجثة عن المعنى ويجوز أن لا يرتكب الحذف ويجعل المصدر بمعنى اسم الفاعل أو يقال بإطلاق الْبِرَّ على البار مبالغة، والأول أوفق لقوله: لَيْسَ الْبِرَّ وأحسن في نفسه لأنه كنزع الخف عند الوصول إلى الماء ولأن المقصود من كون ذي البر من آمن إفادة أن البر إيمانه فيؤول إلى الأول، والمراد بهذا الإيمان إيمان خال عن شائبة الإشراك لا كإيمان اليهود والنصارى القائلين- عزير ابن الله والمسيح ابن الله- وقرأ نافع وابن عامر- «ولكن» - بالتخفيف، وقرأ بعضهم «البار» بصيغة اسم الفاعل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أي المعاد الذي يقول به المسلمون وما يتبعه عندهم وَالْمَلائِكَةِ أي وآمن بهم وصدق بأنهم عباد مكرمون لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة ومنهم المتوسطون بينه تعالى وبين أنبيائه عليهم الصلاة والسلام بإلقاء الوحي وإنزال الكتب وَالْكِتابِ أي جنسه فيشمل جميع- الكتب- الإلهية لأن البر الإيمان بجميعها وهو الظاهر الموافق لقرينه، ولما ورد في الحديث «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله» أو القرآن لأنه المقصود بالدعوة والكامل الذي يستأهل أن يسمى كتابا والإيمان به الإيمان بجميع الكتب لكونه مصدقا لما بين يديه، وقيل: التوراة ويبعده عدم ظهور القرينة المخصصة لها وأن الإيمان بها لا يستلزم الإيمان بالجميع إلا باعتبار استلزامه الإيمان بالقرآن، والإيمان بالكتب أن يؤمن بأنها كلام الرب جل شأنه منزهة عن الحدوث منزلة على ذويها ظاهرة لديهم حسبما اقتضته الحكمة من اللغات وَالنَّبِيِّينَ أي جميعهم من غير تفرقة بين أحد منهم كما فعل أهل الكتابين والإيمان بهم أن يصدق بأنهم معصومون مطهرون وأنهم أشرف الناس حسبا ونسبا وأن ليس فيهم وصمة ولا عيب منفر ويعتقد أن سيدهم وخاتمهم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وأن شريعته ناسخة لجميع الشرائع والتمسك بها لازم لجميع المكلفين إلى يوم القيامة. وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ حال من ضمير آتى، والضمير المجرور للمال- أي أعطى المال كائنا على حب المال- والتقييد لبيان أفضل أنواع الصدقة فقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح تأمل البقاء وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم [الواقعة: 83] قلت لفلان كذا لفلان كذا إلا وقد كان لفلان» وفي هذا إيذان بأن درجات الثواب تتفاوت حسب تفاوت المراتب في الحب حتى أن صدقة الفقير والبخيل أفضل من صدقة الغني والكريم إلا أن يكونا أحب للمال منهما، ويؤيد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «أفضل الأعمال أحمزها» وجوز رجوع الضمير لله تعالى أو للمصدر المفهوم من الفعل والتقييد حينئذ للتكميل، وبيان اعتبار الإخلاص أو طيب النفس في الصدقة ودفع كون إيتاء المال مطلقا برا، والأول هو المأثور عن السلف الصالح، ولعله المروي عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذَوِي الْقُرْبى مفعول أول ل آتَى قدم عليه مفعوله «الثاني» للاهتمام أو لأن فيه مع «ما» عطف عليه طولا لو روعي الترتيب لفات تجاوب الأطراف، وهو الذي اقتضى تقديم الحال أيضا، وقيل: هو المفعول الثاني، والمراد ب ذَوِي الْقُرْبى - ذوو قرابة- المعطي لكن المحاويج منهم لا مطلقا لدلالة سوق الكلام، وعد مصارف الزكاة على أن المراد الخير والصدقة- وإيتاء- الأغنياء هبة لا صدقة، وقدم هذا الصنف لأن- إيتاءهم- أهم فقد صح عن أم كلثوم بنت عقبة قالت: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: «أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح» وأخرج أحمد والترمذي وغيرهما عن سلمان بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم اثنتان صدقة وصلة» . وَالْيَتامى عطف على ذَوِي الْقُرْبى وقيل على الْقُرْبى إذ لا يصح إيصال المال إلى من لا يعقل فالمعطي حينئذ كافلهم لأجلهم، فيه ما لا يخفى وَالْمَساكِينَ جمع- مسكين- وهو الدائم السكون لما أن الحاجة أسكنته بحيث لا حراك به أو دائم السكون، والالتجاء إلى الناس، وتخصيصه بمن لا شيء له أو بمن لا يملك ما يقع موقعا من حاجته خارج عن مفهومه وَابْنَ السَّبِيلِ أي المسافر- كما قاله مجاهد- وسمي بذلك لملازمته الطريق في السفر أو لأن الطريق تبرزه فكأنها ولدته وكأن إفراده لانفراده عن أحبابه ووطنه وأصحابه فهو أبدا يتوق إلى الجمع، ويشتاق إلى الربع، والكريم يحن إلى وطنه حنين الشارف إلى عطنه، أو لأنه لما لم يكن بين أبناء السبيل، والمعطي تعارف غالبا يهون أمر الإعطاء ويرغب فيه أفردهم ليهون أمر إعطائهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 وليشير إلى أنهم وإن كانوا جمعا ينبغي أن يعتبروا كنفس واحدة فلا يضجر من إعطائهم لعدم معرفتهم وبعد منفعتهم فليفهم، وروي عن ابن عباس وقتادة وابن جبير أنه الضيف الذي ينزل بالمسلمين وَالسَّائِلِينَ أي الطالبين للطعام سواء كانوا أغنياء إلا أن ما عندهم لا يكفي لحاجتهم أو فقراء كما يدل عليه ظاهر ما أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن أبي حاتم عن الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «للسائل حق وإن جاء على فرس» فإن الجائي على فرس يكون في الغالب غنيا، وقيل: أراد الْمَساكِينَ الذين يسألون فتعرف حالهم بسؤالهم، وَالْمَساكِينَ السابق ذكرهم الذين لا يسألون وتعرف حاجتهم بحالهم وإن كان ظاهرهم الغنى وعليه يكون التقييد في الحديث لتأكيد رعاية حق السائل وتحقيق أن السؤال سبب للاستحقاق، وإن فرض وجوده من الغنى كالقرابة واليتم. وَفِي الرِّقابِ متعلق ب آتَى أي آتى المال في تخليص الرقاب وفكاكها بمعاونة المكاتبين، أو فك الأسارى، أو ابتياع الرقاب لعتقها، والرقبة- مجاز عن الشخص وإيراد كلمة- في للإيذان بأن ما يعطى لهؤلاء مصروف في تخليصهم لا يملكونه كما في المصارف الأخر وَأَقامَ الصَّلاةَ عطف على صلة مَنْ والمراد بالصلاة المفروضة كالزكاة في وَآتَى الزَّكاةَ بناء على أن المراد بما مر من إيتاء المال نوافل الصدقات وقدمت على الفريضة مبالغة في الحث عليها، أو حقوق كانت في المال غير مقدرة سوى الزكاة، أخرج الترمذي والدارقطني وجماعة عن فاطمة بنت قيس قالت: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: في المال حق سوى الزكاة ثم قرأ الآية» وأخرج البخاري في تاريخه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه نحو ذلك، واختلف هل بقي هذا الحق أم لا؟ فذهب قوم إلى الثاني واستدلوا بما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعا- نسخ الأضحى كل ذبح، ورمضان كل صوم وغسل الجنابة كل غسل، والزكاة كل صدقة- وقال جماعة بالأول لقوله تعالى: وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات: 19] ولقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يؤمن بالله واليوم الآخر من بات شبعا وجاره طاو إلى جنبه» وللإجماع على أنه إذا انتهت الحاجة إلى الضرورة وجب على الناس أن يعطوا مقدار دفع الضرورة وإن لم تكن الزكاة واجبة عليهم ولو امتنعوا عن الأداء جاز الأخذ منهم وأجابوا عن الحديث بأنه غريب معارض، وفي إسناده المسيب بن شريك- وهو ليس بالقوي عندهم- وبأن المراد أن الزكاة نسخت كل صدقة مقدرة، وجوز أن يكون المراد بما مر الزكاة المفروضة أيضا ولا تكرار لأن الغرض مما تقدم بيان مصارفها، ومن هذا بيان أدائها والحث عليها وترك ذكر بعض المصارف لأن المقصود هاهنا بيان أبواب الخير دون الحصر، وقدم بيان المصرف اهتماما بشأنه فإن الصدقة إنما تعتبر إذا كانت في مصرفها ومحلها كما يدل عليه قوله تعالى: قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [البقرة: 215] وعلى هذا يتعين أن يراد بالسائلين الفقراء وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا عطف على مَنْ آمَنَ ولم يقل وأوفى كما قبله إشارة إلى وجوب استقرار الوفاء، وقيل: رمزا إلى أنه أمر مقصود بالذات، وقيل: إيذانا بمغايرته لما سبق فإنه من حقوق الله تعالى والسابق من حقوق الناس، وعلى هذا فالمراد بالعهد ما لا يحلل حراما ولا يحرم حلالا من العهود الجارية فيما بين الناس، والظاهر حمل العهد على ما يشمل حقوق الحق وحقوق الخلق، وحذف المعمول يؤذن بذلك، والتقييد بالظرف للإشارة إلى أنه لا يتأخر إيفاؤهم بالعهد عن وقت المعاهدة، وقيل: للإشارة إلى عدم كون العهد من ضروريات الدين وليس للتأكيد كما قيل: به وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ نصب على المدح بتقدير- أخص أو أمدح- وغير سبكه عما قبله تنبيها على فضيلة الصبر ومزيته على سائر الأعمال حتى كأنه ليس من جنس الأول، ومجيء القطع في العطف مما أثبته الأئمة الأعلام ووقع في الكتاب أيضا واستحسنه الأجلة وجعلوه أبلغ من الاتباع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 وقد جاء في النكرة أيضا كقول الهذلي: ويأوي إلى نسوة عطل ... وشعثا مراضيع مثل السعالى والبأساء- البؤس والفقر، والضراء- السقم والوجع وهما مصدران بنيا على فعلاء وليس لهما أفعل لأن أفعل وفعلاء في الصفات والنعوت ولم يأتيا في الأسماء التي ليست بنعوت وقرىء والصابرون كما قرىء والموفين. وَحِينَ الْبَأْسِ أي وقت القتال وجهاد العدو وهذا من باب الترقي في الصبر من الشديد إلى الأشد لأن الصبر على المرض فوق الصبر على الفقر والصبر على القتال فوق الصبر على المرض، وعدي الصبر على الأولين بفي لأنه لا يعد الإنسان من الممدوحين إذا صبر على شيء من ذلك إلا إذا صار الفقر والمرض كالظرف له وأما إذا أصاباه وقتا ما وصبر فليس فيه مدح كثير إذ أكثر الناس كذلك وأتى- بحين- في الأخير لأن القتال حالة لا تكاد تدوم في أغلب الأوقات أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا في إيمانهم أو طلب البر. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ عذاب الله تعالى بتجنب معاصيه وامتثال أوامره، وأتى بخبر- أولئك- الأولى موصولا بفعل ماض إيذانا بتحقق اتصافهم به وإن ذلك قد وقع منهم واستقر، وغاير في خبر الثانية ليدل على أن ذلك ليس بمتجدد بل صار كالسجية لهم، وأيضا لو أتى به على طبق سابقه لما حسن وقوعه فاصلة، هذا والآية كما ترى مشتملة على خمس عشرة خصلة وترجع إلى ثلاثة أقسام، فالخمسة الأولى منها تتعلق بالكمالات الإنسانية التي هي من قبيل صحة الاعتقاد، وآخرها قوله: وَالنَّبِيِّينَ وافتتحها بالإيمان بالله واليوم الآخر لأنهما إشارة إلى المبدأ والمعاد اللذين هما المشرق والمغرب في الحقيقة فيلتئم مع ما نفاه أو لا غاية الالتئام، والستة التي بعدها تتعلق بالكمالات النفسية التي هي من قبيل حسن معاشرة العباد وأولها وَآتَى الْمالَ وآخرها وَفِي الرِّقابِ والأربعة الأخيرة تتعلق بالكمالات الإنسانية التي هي من قبيل تهذيب النفس وأولها وَأَقامَ الصلاة وآخرها وَحِينَ الْبَأْسِ ولعمري من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان ونال أقصى مراتب الإيقان «ومن باب التأويل» لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ مشرق عالم الأرواح ومغرب عالم الأجساد فإن ذلك تقيد واحتجاب وَلكِنَّ الْبِرَّ بر الموحد الذي آمن بالله والمعاد في مقام الجمع وشاهد الجمع في تفاصيل الكثرة ولم يحتجب بالجمع عن التفصيل الذي هو باطن عالم الملائكة وظاهر عالم النبيين والكتاب الجامع بين الظاهر والباطن وَآتَى العلم الذي هو مال القلب مع كونه محبوبا ذوي قربى القوى الروحانية القريبة منه، ويتامى القوى النفسانية المنقطعة عن الأب الحقيقي وهو نور الروح، ومساكين القوى الطبيعية التي لم تزل دائمة السكون إلى تراب البدن، وأبناء السبيل السالكين إلى منازل الحق، والسائلين الطالبين بلسان استعدادهم ما يكون غذاء لأرواحهم، وفي فك رقاب عبدة الدنيا وأسراء الشهوات بالوعظ والإرشاد، وأقام صلاة الحضور، وآتى ما يزكي نفسه بنفي الخواطر ومحو الصفات، والموفون بعهد الأزل بترك المعارضة في العبودية والإعراض عما سوى الحق في مقام المعرفة، والصابرين في بأساء الافتقار إلى الله تعالى دائما، وضراء كسر النفس، وحين بأس محاربة العدو الأعظم أولئك الذين صدقوا الله تعالى في السير إليه وبذل الوجود وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ عن الشرك المنزهون عن سائر الرذائل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شروع في بيان بعض الأحكام الشرعية على وجه التلافي لما فرط من المخلين بما تقدم من قواعد الدين التي يبنى عليها أمر المعاش والمعاد كُتِبَ عَلَيْكُمُ أي فرض وألزم عند مطالبة صاحب الحق فلا يضر فيه قدرة الولي على العفو فإن الوجوب إنما اعتبر بالنسبة إلى الحكام أو القاتلين، وأصل الكتابة الخط ثم كني به عن الإلزام، وكلمة- على- صريحة في ذلك الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى أي بسببهم على حد «إن امرأة دخلت النار في هرة ربطتها» وقيل: عدي القصاص بفي لتضمنه معنى المساواة إذ معناه أن يفعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 بالإنسان مثل ما فعل، ومنه سمي المقص مقصا لتعادل جانبيه، والقصة قصة لأن الحكاية تساوي المحكي، والقصاص قصاصا لأنه يذكر مثل أخبار الناس، والْقَتْلى جمع قتيل كجريح وجرحى، وقرىء- كتب- على البناء للفاعل، والْقِصاصُ بالنصب وليس في إضمار المتعين المتقرر قبل ذكره إضمار قبل الذكر الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى جملة مبينة لما قبلها أي الحر يقتص بالحر، وقيل: مأخوذ به روي أنه كان في الجاهلية بين حيين من أحياء العرب دماء وكان لأحدهما طول على الآخر فأقسموا لنقتلن الحر منهم بالعبد والذكر بالأنثى فلما جاء الإسلام تحاكموا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فنزلت فأمرهم (1) أن يتباؤوا، فالآية كما تدل على أن لا يقتل العبد بالحر والأنثى بالذكر لأن مفهوم المخالفة إنما يعتبر إذا لم يعلم نفيه بمفهوم الموافقة وقد علم من قتل العبد بالعبد وقتل الأنثى بالأنثى أنه يقتل العبد بالحر والأنثى بالذكر بطريق الأولى كذلك لا تدل على أن لا يقتل الحر بالعبد والذكر بالأنثى لأن مفهوم المخالفة كما هو مشروط بذلك الشرط مشروط بأن لا يكون للتخصيص فائدة أخرى، والحديث بين الفائدة وهو المنع من التعدي وإثبات المساواة بين حر وحر وعبد وعبد فمنع الشافعي ومالك قتل الحر بالعبد سواء كان عبده أو عبد غيره ليس للآية بل للسنة والإجماع والقياس، أما الأول فقد أخرج ابن أبي شيبة عن علي رضي الله تعالى عنه «أن رجلا قتل عبده فجلده الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ونفاه سنة ولم يقده به» وأخرج أيضا أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال «من السنة أن لا يقتل مسلم بذي عهد ولا حر بعبد» وأما الثاني فقد روي أن أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما كانا لا يقتلان الحر بالعبد بين أظهر الصحابة ولم ينكر عليهما أحد منهم وهم الذين لم تأخذهم في الله تعالى لومة لائم. وأما الثالث فلأنه لا قصاص في الأطراف بين الحر والعبد بالاتفاق فيقاس القتل عليه، وعند إمامنا الأعظم رضي الله تعالى عنه يقتل الحر بالعبد لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «المسلمون تتكافأ دماؤهم» ولأن القصاص يعتمد المساواة في العصمة وهي بالدين أو بالدار وهما سيان فيهما، والتفاضل في الأنفس غير معتبر بدليل أن الجماعة لو قتلوا واحدا قتلوا به ولقوله تعالى: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة: 45] وشريعة من قبلنا إذا قصت علينا من غير دلالة على نسخها فالعمل بها واجب على أنها شريعة لنا، ومن الناس من قال: إن الآية دالة على ما ذهب إليه المخالف لأن الْحُرُّ بِالْحُرِّ بيان وتفسير لقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى فدل على أن رعاية التسوية في- الحرية والعبدية- معتبرة، وإيجاب الْقِصاصُ على- الحر- بقتل الْعَبْدُ إهمال لرعاية التسوية في ذلك المعنى، ومقتضى هذا أن لا يقتل الْعَبْدُ إلا بِالْعَبْدِ ولا تقتل الْأُنْثى إلا بِالْأُنْثى إلا أن المخالف لم يذهب إليه، وخالف الظاهر للقياس والإجماع، ومن سلم هذا منا ادعى نسخ الآية بقوله تعالى: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ لأنه لعمومه نسخ اشتراط المساواة في الحرية والذكورة المستفادة منها، وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وسعيد بن المسيب والشعبي والنخعي والثوري وأورد عليه أن الآية حكاية ما في التوراة وحجية حكاية شرع من قبلنا مشروطة بأن لا يظهر ناسخه كما صرحوا به، وهو يتوقف على أن لا يوجد في القرآن ما يخالف المحكي إذ لو وجد ذلك كان ناسخا له لتأخره عنه فتكون الحكاية حكاية المنسوخ، ولا تكون حجة فضلا عن أن تكون ناسخا، وبعد تسليم الدلالة يوجد الناسخ كما لا يخفى هذا، وذهب ساداتنا الحنفية والمالكية وجماعة إلى أنه ليس للولي إلا   (1) إن كان الحيان كفارا كما يشعر به لفظ التحاكم. ويدل عليه ما في المغني أنهم قريظة، والنضير فالأمر بالتساوي ظاهر، وإن كانوا مسلمين كما يدل عليه ما في الدر المنظوم- فمعنى الأمر به أن ما مضى سواء بسواء، وأن ما أقسموا عليه يجب أن ينتهوا عنه فلا يرد أن الإسلام يجب ما قبله اهـ منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 القصاص ولا يأخذ الدية إلا برضا القاتل لأن الله تعالى ذكر في الخطأ الدية فتعين أن يكون القصاص فيما هو ضد الخطأ وهو العمد ولما تعين بالعمد لا يعدل عنه لئلا يلزم الزيادة على النص بالرأي، واعترض بأن منطوق النص وجوب رعاية المساواة في القود وهو لا يقتضي وجوب أصل القود، وأجيب بأن القصاص وهو القود بطريق المساواة يقتضي وجوبهما فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ أي ما يسمى شيئا من العفو والتجاوز ولو أقل قليل فالمصدر المبهم في حكم الموصوف فيجوز نيابته عن الفاعل وله مفعول به، ومِنْ أَخِيهِ يجوز أن يتعلق بالفعل ويجوز أن يكون حالا من شيء، وفي إقامة شيء مقام الفاعل على إشعار بأن بعض العفو كأن يعفى عن بعض الدم أو يعفو عنه بعض الورثة كالعفو التام في إسقاط القصاص لأنه لا يتجزأ، والمراد بالأخ وليّ الدم سماه أخا استعطافا بتذكير إخوة البشرية والدين، وقيل: المراد به المقتول، والكلام على حذف مضاف أي من دم أخيه، وسماه أخا القاتل للإشارة إلى أن أخوة الإسلام بينهما لا تنقطع بالقتل، وعُفِيَ تعدى إلى الجاني وإلى الجناية بعن يقال: عفوت عن زيد وعن ذنبه- وإذا عديت إلى الذنب مرادا سواء كان مذكورا أولا كما في الآية عدي إلى الجاني «باللام» لأن التجاوز عن الأول والنفع للثاني فالقصد هنا إلى التجاوز عن الجناية إلا أنه ترك ذكرها لأن الاهتمام بشأن الجاني، وقدر بعضهم- عن- هذه داخلة على شيء لكن لما حذفت ارتفع لوقوعه موقع الفاعل، وهو من باب الحذف والإيصال المقصور على السماع، ومن الناس من فسر عُفِيَ بترك فهو حينئذ متعد أقيم مفعوله مقام فاعله، واعترض بأنه لم يثبت- عفا- الشيء بمعنى تركه، وإنما الثابت أعفاه، ورد بأنه ورد، ونقله أئمة اللغة المعول عليهم في هذا الشأن وهو وإن لم يشتهر إلا أن إسناد المبني للمجهول إلى المفعول الذي هو الأصل يرجح اعتباره ويجعله أولى من المشهور لما أن فيه إسناد المجهول للمصدر وهو خلاف الأصل، والقول بأن شَيْءٌ مرفوع- بترك- محذوفا يدل عليه عُفِيَ ليس بشيء لأنه بعد اعتبار معنى العفو لا حاجة إلى معنى الترك بل هو ركيك كما لا يخفى فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ أي فليكن- اتباع- أو فالأمر- اتباع- والمراد وصية العافي بأن لا يشدد في طلب الدية على المعفو له وينظره إن كان معسرا ولا يطالبه بالزيادة عليها والمعفو بأن لا يمطل العافي فيها ولا يبخس منها ويدفعها عند الإمكان، وإلى هذا ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنه والحسن وقتادة ومجاهد، وقيل: المراد فعلى المعفو له الاتباع والأداء، والجملة خبر مِنْ على تقدير موصوليتها، وجواب الشرط على تقدير شرطيتها، وربما يستدل بالآية على أن مقتضى العمد القصاص وحده حيث رتب الأمر بأداء الدية على العفو المرتب على وجوب القصاص، واستدل بها بعضهم على أن الدية أحد مقتضى العمد وإلا لما رتب الأمر بأداء الدية على مطلق العفو الشامل للعفو عن كل الدم وبعضه بل يشترط رضا القاتل وتقييده بالبعض، واعترض بأنه إنما يتم لو كان التنوين في شيء للإبهام أي شيء من العفو أي شيء كان ككله أو بعضه أما لو كان للتقليل فلا إذ يكون الأمر بالأداء مرتبا على بعض العفو ولا شك أنه إذا تحقق عن الدم يصير الباقي مالا وإن لم يرض القاتل، وأيضا الآية نزلت في الصلح وهو الموافق للأم فإن عفا إذا استعملت بها كان معناها البدل أي فمن أعطى له من جهة أخيه المقتول شيء من المال بطريق الصلح فلمن أعطى وهو الولي مطالبة البدل عن مجاملة وحسن معاملة إلا أن يقال: إنها نزلت في- العفو- كما هو ظاهر اللفظ، وبه قال أكثر المفسرين. ذلِكَ أي الحكم المذكور في ضمن بيان العفو والدية تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ لما في شرعية العفو تسهيل على القاتل، وفي شرعية- الدية- نفع لأولياء المقتول، وعن مقاتل أنه كُتِبَ على اليهود الْقِصاصُ وحده، وعلى النصارى- العفو- مطلقا وخير هذه الأمة بين الثلاث تيسيرا عليهم وتنزيلا للحكم على حسب المنازل وعلى هذا يكون فَمَنْ تَصَدَّقَ بيانا لحكم هذه الشريعة بعد حكاية حكم كان في التوراة، وليس داخلا تحت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 الحكاية فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ أي تجاوز ما شرع بأن قتل غير القاتل بعد ورود هذا الحكم، أو قتل القاتل بعد- العفو- وأخذ الدية فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ أي نوع من العذاب مؤلم، والمتبادر أنه في الآخرة، والمروي عن الحسن وابن جبير أنه في الدنيا بأن يقتل لا محالة ولا يقبل منه دية لما أخرجه أبو داود من حديث سمرة مرفوعا «لا أعافي أحدا قتل بعد أخذ الدية» . وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ عطف على قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ والمقصود منه توطين النفس على الانقياد لحكم الْقِصاصِ لكونه شاقا للنفس- وهو كلام في غاية البلاغة- وكان أوجز كلام عندهم في هذا المعنى- القتل أنفى للقتل- وفضل هذا الكلام عليه من وجوه «الأول» قلة الحروف، فإن الملفوظ هنا عشرة أحرف- إذا لم يعتبر التنوين حرفا على حدة- وهناك أربعة عشر حرفا «الثاني» الإطراد، إذ في كل- قصاص حياة- وليس كل قتل أنفى للقتل- فإن للقتل ظلما أدعى للقتل «الثالث» ما في تنوين حَياةٌ من النوعية أو التعظيم. «الرابع» صنعة الطباق بين- القصاص والحياة- فإن الْقِصاصِ تفويت- الحياة- فهو مقابلها. «الخامس» النص على ما هو المطلوب بالذات- أعني الحياة- فإن نفي- القتل- إنما يطلب لها لا لذاته. «السادس» الغرابة من حيث جعل الشيء فيه حاصلا في ضده، ومن جهة أن المظروف إذا حواه الظرف صانه عن التفرق، فكان الْقِصاصِ فيما نحن فيه يحمي الحياة من الآفات «السابع» الخلو عن التكرار مع التقارب، فإنه لا يخلو عن استبشاع، ولا يعد رد العجز على الصدر حتى يكون محسنا «الثامن» عذوبة اللفظ وسلاسته حيث لم يكن فيه ما في قولهم من توالي الأسباب الخفيفة إذ ليس في قولهم: حرفان متحركان على التوالي إلا في موضع واحد، ولا شك أنه ينقص من سلاسة اللفظ وجريانه على اللسان، وأيضا الخروج من- الفاء إلى اللام- أعدل من الخروج من- اللام إلى الهمزة لبعد الهمزة من اللام- وكذلك الخروج من- الصاد إلى الحاء- أعدل من الخروج من- الألف إلى اللام- «التاسع» عدم الاحتياج إلى الحيثية، وقولهم: يحتاج إليها. «العاشر» تعريف الْقِصاصِ بلام الجنس الدالة على حقيقة هذا الحكم المشتملة على- الضرب والجرح والقتل- وغير ذلك، وقولهم: لا يشمله «الحادي عشر» خلوه من أفعل الموهم أن في الترك نفيا للقتل أيضا. «الثاني عشر» اشتماله على ما يصلح للقتال وهو- الحياة- بخلاف قولهم، فإنه يشتمل على نفي اكتنفه قتلان، وإنه لمما يليق بهم «الثالث عشر» خلوه عما يوهمه ظاهر قولهم من كون الشيء سببا لانتفاء نفسه- وهو محال إلى غير ذلك- فسبحان من علت كلمته، وبهرت آيته، ثم المراد ب حَياةٌ اما الدنيوية- وهو الظاهر- لأن في شرع الْقِصاصِ والعلم به يروع القاتل عن القتل، فيكون سبب حَياةٌ نفسين في هذه النشأة، ولأنهم كانوا يقتلون غير القاتل، والجماعة بالواحد، فتثور الفتنة بينهم، وتقوم حرب البسوس على ساق، فإذا اقتص من القاتل سلم الباقون- ويصير ذلك سببا لحياتهم- ويلزم على الأول الإضمار، وعلى الثاني التخصيص، وأما الحياة الأخروية بناء على أن القاتل إذا اقتص منه في الدنيا لم يؤاخذ بحق المقتول في الآخرة، وعلى هذا يكون الخطاب خاصا بالقاتلين، والظاهر أنه عام والظرفان إما خبران ل حَياةٌ أو أحدهما خبر والآخر صلة له، أو حال من المستكن فيه. وقرأ أبو الجوزاء «في القصص» وهو مصدر بمعنى المفعول، والمراد من المقصوص هذا الحكم بخصوصه- أو القرآن مطلقا- وحينئذ يراد- بالحياة- حياة القلوب لا حياة الأجساد، وجوز كون «القصص» مصدرا بمعنى الْقِصاصِ فتبقى- الحياة- على حالها يا أُولِي الْأَلْبابِ يا ذوي العقول الخالصة عن شوب الهوى، وإنما خصهم بالنداء مع أن الخطاب السابق عام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 لأنهم أهل التأمل في حكمة الْقِصاصِ من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس، وقيل: للإشارة إلى أن الحكم مخصوص بالبالغين دون الصبيان لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ربكم باجتناب معاصيه المفضية إلى العذاب أو القتل بالخوف من الْقِصاصِ وهو المروي عن ابن عباس والحسن وزيد رضي الله تعالى عنهم، والجملة متعلقة بأول الكلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ بيان حكم آخر من الأحكام المذكورة، وفصله عما سبق للدلالة على كونه حكما مستقلا- كما فصل اللاحق لذلك- ولم يصدره بيا أيها الذين آمنوا لقرب العهد بالتنبيه مع ملابسته بالسابق في كون كل منهما متعلقا بالأموات، أو لأنه لما لم يكن شاقا لم يصدره كما صدر الشاق تنشيطا لفعله، والمراد من- حضور الموت- حضور أسبابه، وظهور أماراته من العلل والأمراض المخوفة أو حضوره نفسه ودنوه، وتقديم المفعول لإفادة كمال تمكن الفاعل عند النفس وقت وروده عليها. إِنْ تَرَكَ خَيْراً أي مالا- كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه ومجاهد- وقيده بعضهم بكونه كثيرا إذ لا يقال في العرف للمال: خَيْراً إلا إذا كان كثيرا، كما لا يقال: فلان ذو مال إلا إذا كان له مال كثير، ويؤيده ما أخرجه البيهقي وجماعة- عن عروة- أن عليا كرم الله تعالى وجهه دخل على مولى له في الموت وله سبعمائة درهم أو ستمائة درهم، فقال: ألا أوصي؟ قال لا إنما قال الله تعالى: إِنْ تَرَكَ خَيْراً وليس لك كثير مال، فدع مالك لورثتك. وما أخرجه ابن أبي شيبة عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رجلا قال لها: أريد أن أوصي قالت: كم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف، قالت: كم عيالك؟ قال: أربعة، قالت: قال الله تعالى: إِنْ تَرَكَ خَيْراً وهذا شيء يسير فاتركه لعيالك فهو أفضل، والظاهر من هذا أن الكثرة غير مقدرة بمقدار، بل تختلف باختلاف حال الرجل فإنه بمقدار من المال يوصف رجل بالغني ولا يوصف به غيره لكثرة العيال. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تقديرها، فقد أخرج عبد بن حميد عنه «من لم يترك ستين دينارا لم يترك خيرا» ومذهب الزهري أن الْوَصِيَّةُ مشروعة مما قل أو كثر،- فالخير- عنده المال مطلقا- وهو أحد إطلاقاته- ولعل اختياره إيذانا بأنه ينبغي أن يكون الموصى به حلالا طيبا لا خبيثا لأن الخبيث يجب رده إلى أربابه ويأثم ب الْوَصِيَّةُ فيه. الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ مرفوع ب كُتِبَ وفي الرضيّ إذا كان الظاهر غير حقيقي التأنيث منفصلا فترك العلامة أحسن إظهار الفضل الحقيقي على غيره- ولهذا اختير هنا تذكير الفعل- والْوَصِيَّةُ اسم من أوصى يوصي، وفي القاموس أوصاه ووصاه توصية- عهد إليه- والاسم الوصاية والْوَصِيَّةُ وهي الموصى به أيضا والجار متعلق بها فلا بد من تأويلها بأن مع الفعل عند الجمهور، أو بالمصدر بناء على تحقيق الرضى من أن عمل المصدر لا يتوقف على تأويله، وهو الراجح ولذلك ذكر الراجع في بدله، وجوز أن يكون النائب عَلَيْكُمْ والْوَصِيَّةُ خبر مبتدأ كأنه قيل: ما المكتوب؟ فقيل هو الوصية، وجواب الشرط محذوف دل عليه كُتِبَ عَلَيْكُمْ، وقيل: مبتدأ خبره لِلْوالِدَيْنِ والجملة جواب الشرط بإضمار الفاء لأن الاسمية إذا كانت جزاء لا بد فيها منها، والجملة الشرطية مرفوعة ب كُتِبَ أو عَلَيْكُمْ وحده، والجملة استئنافية ورد بأن إضمار الفاء غير صحيح لا يجترى عليه إلا في ضرورة الشعر كما قال الخليل، والعامل في إِذا معنى كُتِبَ والظرف قيد للإيجاب من حيث الحدوث والوقوع، والمعنى توجه خطاب الله تعالى عَلَيْكُمْ ومقتضى كتابته إِذا حَضَرَ وغير إلى ما ترى لينظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في الأزل، وجوز أن يكون العامل الوصية، وهي وإن كانت اسما إلا أنها مؤولة بالمصدر أو بأن والفعل، والظرف مما يكفيه رائحة الفعل لأن له شأنا ليس لغيره لتنزيله من الشيء منزلة نفسه لوقوعه فيه، وعدم انفكاكه عنه، ولهذا توسع في الظروف ما لم يتوسع في غيرها، وليس كل مؤول بشيء حكمه حكم ما أوّل به، وقد كثر تقديم معمول المصدر عليه في الكلام، والتقدير تكلف، ولا يرد على التقديرين أن الوصية واجبة على- من حضره الموت- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 لا على جميع المؤمنين عند حضور أحدهم الموت لأن «أحدكم» يفيد العموم على سبيل البدل فمعنى إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ إذا حضر واحدا بعد واحد، وإنما زيد لفظ- أحد- للتنصيص على كونها فرض عين لا كفاية كما في كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى والقول بأن الوصية لم تفرض على من- حضره الموت- فقط بل عليه بأن يوصي، وعلى الغير بأن يحفظ ولا يبدل، ولهذا قال: عَلَيْكُمْ وقال أَحَدَكُمُ لأن الموت يحضر أحد المخاطبين بالافتراض عليهم ليس بشيء لأن حفظ الوصية إنما يفرض على البعض بعد الوصية لا وقت الاحتضار فكيف يصح أن يقال فرض عليكم حفظ الوصية إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ولأن إرادة الإيصاء، وحفظه من الوصية تعسف لا يخفى، واختار بعض المحققين أن إِذا شرطية وجواب الشرط كل من الشرطين محذوف، والتقدير إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ- فليوص إن ترك خيرا- فليوص فحذف جواب الشرط الأول لدلالة السياق عليه، وحذف جواب الشرط الثاني لدلالة الشرط الأول وجوابه عليه، والشرط الثاني عند صاحب التسهيل مقيد للأول كأنه قيل: إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تاركا للخير فليوص، ومجموع الشرطين معترض بين كُتِبَ وفاعله لبيان كيفية الإيصاء قبل، ولا يخفى أن هذا الوجه مع غنائه عن تكلف تصحيح الظرفية وزيادة لفظ- أحد- أنسب بالبلاغة القرآنية حيث ورد الحكم أولا مجملا ثم مفصلا ووقع الاعتراض بين الفعل وفاعله للاهتمام ببيان كيفية الوصية الواجبة انتهى. وأنت تعلم ما في ذلك من كثرة الحذف المهونة لما تقدم، ثم إن هذا الحكم كان في بدء الإسلام ثم نسخ بآية المواريث كما قاله ابن عباس وابن عمر وقتادة وشريح ومجاهد وغيرهم، وقد أخرج أحمد وعبد بن حميد، والترمذي، وصححه والنسائي، وابن ماجة عن عمرو بن خارجة رضي الله تعالى عنهم أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم خطبهم على راحلته فقال: «إن الله قد قسم لكل إنسان نصيبه من الميراث فلا تجوز لوارث وصية» وأخرج أحمد والبيهقي في سننه عن أبي أمامة الباهلي سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في حجة الوداع في خطبته يقول: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث» وأخرج عبد بن حميد عن الحسن نحو ذلك، وهذه الأحاديث لتلقي الأمة لها بالقبول انتظمت في سلك المتواتر في صحة النسخ بها عند أئمتنا قدس الله أسرارهم بل قال البعض: إنها من المتواتر وإن التواتر قد يكون بنقل من لا يتصور تواطؤهم على الكذب وقد يكون بفعلهم بأن يكونوا عملوا به من غير نكير منهم على أن النسخ في الحقيقة بآية المواريث والأحاديث مبينة لجهة نسخها، وبين فخر الإسلام ذلك بوجهين «الأول» أنها نزلت بعد آية الوصية بالاتفاق وقد قال تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ [النساء: 11] فرتب الميراث على- وصية- منكرة- والوصية- الأولى كانت معهودة فلو كانت تلك- الوصية- باقية لوجب ترتيبه على المعهود فلما لم يترتب عليه ورتب على المطلق دل على نسخ الوصية المقيدة لأن الإطلاق بعد التقييد نسخ كما أن التقييد بعد الإطلاق كذلك لتغاير المعنيين «والثاني» أن النسخ نوعان: أحدهما ابتداء بعد انتهاء محض، والثاني بطريق الحوالة من محل إلى آخر كما في نسخ القبلة، وهذا من قبيل الثاني لأن الله تعالى فرض الإيصاء في الأقربين إلى العباد بشرط أن يراعوا الحدود، ويبينوا حق كل قريب بحسب قرابته، وإليه الإشارة بقوله تعالى: بِالْمَعْرُوفِ أي بالعدل، ثم لما كان الموصي قد لا يحسن التدبير في مقدار ما يوصي لكل واحد منهم وربما كان يقصد المضارة تولى بنفسه بيان ذلك الحق على وجه تيقن به أنه الصواب وأن فيه الحكمة البالغة، وقصره على حدود لازمة من السدس والثلث والنصف والثمن لا يمكن تغيرها فتحول من جهة الإيصاء إلى الميراث فقال: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء: 11] أي الذي فوض إليكم تولي شأنه بنفسه إذ عجزتم عن مقاديره لجهلكم، ولما بين بنفسه ذلك الحق بعينه انتهى حكم تلك الوصية لحصول المقصود بأقوى الطرق كمن أمره غيره بإعتاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 عبده ثم أعتقه بنفسه فإنه بذلك انتهى حكم الوكالة، وإلى ذلك تشير الأحاديث لما أن- الفاء- تدل على سببية ما قبلها لما بعدها فما قيل: إن من أن آية المواريث لا تعارض هذا الحكم بل تحققه من حيث تدل على تقديم الوصية مطلقا، والأحاديث من الآحاد وتلقي الأمة لها بالقبول لا تلحقها بالمتواتر، ولعله احترز عن النسخ من فسر الوصية بما أوصى به الله عز وجل من توريث الوالدين والأقربين بقوله سبحانه يُوصِيكُمُ اللَّهُ أو بإيصاء المحتضر لهم بتوفير ما أوصى به الله تعالى عليهم على ما فيه بمعزل عن التحقيق وكذا ما قيل: من أن الوصية للوارث كانت واجبة بهذه الآية من غير تعيين لأنصبائهم فلما نزلت آية المواريث بيانا للأنصباء بلفظ الإيصاء فهم منها بتنبيه النبي صلّى الله عليه وسلّم أن المراد منه هذه الوصية التي كانت واجبة كأنه قيل: إن الله تعالى أوصى بنفسه تلك الوصية ولم يفوضها إليكم فقام الميراث مقام الوصية فكان هذا معنى النسخ لا أن فيها دلالة على رفع ذلك الحكم لأن كون آية المواريث رافعة لذلك الحكم مبينة لانتهائه مما لا ينبغي أن يشتبه على أحد، ثم إن القائلين بالنسخ اختلفوا، فمنهم من قال: إن وجوبها صار منسوخا في حق الأقارب الذين يرثون وبقي في حق الذين لا يرثون من الوالدين والأقربين كأن يكونوا كافرين، وإليه ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممن لا يرث فقد ختم عمله بمعصية، ومنهم من قال: إن الوجوب صار منسوخا في حق الكافة، وهي مستحبة في حق الذين لا يرثون وإليه ذهب الأكثرون، واستدل محمد بن الحسن بالآية على أن مطلق الأقربين لا يتناول الوالدين لعطفه عليه حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ مصدر مؤكد للحدث الذي دل عليه كُتِبَ وعامله إما كُتِبَ أو حق محذوفا أي حق ذلك حقا فهو على طرز قعدت جلوسا، ويحتمل أن يكون مؤكدا لمضمون جملة كُتِبَ عَلَيْكُمْ وإن اعتبر إنشاء فيكون على طرز- له عليّ ألف- عرفا، وجعله صفة لمصدر محذوف أي إيصاء حقا ليس بشيء وعلى التقديرين عَلَى الْمُتَّقِينَ صفة له أو متعلق بالفعل المحذوف على المختار، ويجوز أن يتعلق بالمصدر لأن المفعول المطلق يعمل نيابة عن الفعل، والمراد- بالمتقين- المؤمنون ووضع المظهر موضع المضمر للدلالة على أن المحافظة على الوصية والقيام بها من شعائر المتقين الخائفين من الله تعالى. فَمَنْ بَدَّلَهُ أي غير الإيصاء من شاهد ووصي، وتغيير كل منهما إما بإنكار الوصية من أصلها أو بالنقص فيها أو بتبديل صفتها أو غير ذلك، وجعل الشافعية من التبديل عموم وصيته من أوصى إليه بشيء خاص، فالموصي بشيء خاص لا يكون وصيا في غيره عندهم ويكون عندنا وليس ذلك من التبديل في شيء بَعْدَ ما سَمِعَهُ أي علمه وتحقق لديه، وكني بالسماع عن العلم لأنه طريق حصوله فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ أي فما إثم الإيصاء المبدل أو التبديل، والأول رعاية لجانب اللفظ، والثاني رعاية لجانب المعنى إلا على مبدليه لا على الموصي لأنهم الذين خالفوا الشرع وخانوا، ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على علية التبديل للإثم، وإيثار صيغة الجمع مراعاة لمعنى من، وفيه إشعار بشمول الإثم لجميع الافراد إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فيسمع أقوال المبدلين والموصين ويعلم بنياتهم فيجازيهم على وفقها، وفي هذا وعيد للمبدلين ووعد للموصين، واستدل بالآية على أن الفرض يسقط عن الموصي بنفس الوصية ولا يلحقه ضرر إن لم يعمل بها، وعلى أن من كان عليه دين فأوصى بقضائه يسلم من تبعته في الآخرة وإن ترك الوصي والوارث قضاءه- وإلى ذلك ذهب الكيا- والذي يميل القلب إليه أن المديون لا تبعة عليه بعد الموت مطلقا ولا يحبس في قبره- كما يقوله الناس- أما إذا لم يترك شيئا ومات معسرا فظاهر لأنه لو بقي حيا لا شيء عليه بعد تحقق إعساره سوى نظرة إلى ميسرة، فمؤاخذته وحبسه في قبره بعد ذهابه إلى اللطيف الخبير مما لا يكاد يعقل، وأما إذا ترك شيئا وعلم الوارث بالدين أو برهن عليه به كان هو المطالب بأدائه والملزم بوفاته فإذا لم يؤد ولم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 يف أوخذ هو لا من مات وترك ما يوفى منه دينه كلا أو بعضا فإن مؤاخذة من يقول يا رب تركت ما يفي ولم يف عني من أوجبت عليه الوفاء بعدي ولو أمهلتني لوفيت مما ينافي الحكمة ولا تقتضيه الرحمة، نعم المؤاخذة معقولة فيمن استدان لحرام وصرف المال في غير رضا الملك العلام، وما ورد في الأحاديث محمول على هذا أو نحوه وأخذ ذلك مطلقا مما لا يقبله العقل السليم والذهن المستقيم. فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً الجنف مصدر جنف كفرح مطلق الميل والجور، والمراد به الميل في الوصية من غير قصد بقرينة مقابلته بالإثم فإنه إنما يكون بالقصد، ومعنى خاف توقع وعلم، ومنه قوله: إذا مت فادفني إلى جنب كرمة ... تروي عظامي بعد موتي عروقها ولا تدفنني بالفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها وتحقيق ذلك أن الخوف حالة تعتري عند انقباض من شر متوقع فلتلك الملابسة استعمل في التوقع وهو قد يكون مظنون الوقوع وقد يكون معلومه فاستعمل فيهما بمرتبة ثانية ولأن الأول أكثر كان استعماله فيه أظهر، ثم أصله أن يستعمل في الظن والعلم بالمحذور، وقد يتسع في إطلاقه على المطلق وإنما حمل على المجاز هنا لأنه لا معنى للخوف من الميل والإثم بعد وقوع الإيصاء وقرأ أهل الكوفة غير حفص ويعقوب- من موص- بالتشديد والباقون بالتخفيف فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ أي بين الموصى لهم من الوالدين والأقربين بإجرائهم على نهج الشرع، وقيل المراد فعل ما فيه الصلاح بين الموصي والموصى له بأن يأمر بالعدل والرجوع عن الزيادة وكونها للأغنياء وعليه لا يراد الصلح المرتب على الشقاق فإن الموصي والموصى له لم يقع بينهما شقاق فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ في ذلك التبديل لأنه تبديل باطل إلى حق بخلاف السابق، واستدل بالآية على أنه إذا أوصى بأكثر من الثلث لا تبطل الوصية كلها خلافا لزاعمه. وإنما يبطل منها ما زاد عليه لأن الله تعالى لم يبطل الوصية جملة بالجور فيها بل جعل فيها الوجه الأصلح إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ تذييل أتى به للوعد بالثواب للمصلح على إصلاحه وذكر المغفرة مع أن الإصلاح من الطاعات وهي إنما تليق من فعل ما لا يجوز لتقدم ذكر الإثم الذي تتعلق به المغفرة ولذلك حسن ذكرها وفائدتها التنبيه على الأعلى بما دونه يعني أنه تعالى غفور للآثام فلأن يكون رحيما من أطاعه من باب الأولى، ويحتمل أن يكون ذكرها وعدا للمصلح بمغفرة ما يفرط منه في الإصلاح إذ ربما يحتاج فيه إلى أقوال كاذبة وأفعال تركها أولى، وقيل: المراد غفور للجنف والإثم الذي وقع من الموصي بواسطة إصلاح الوصي وصيته، أو غفور للموصي بما حدث به نفسه من الخطأ والعمل إذ رجع إلى الحق، أو غفور للمصلح بواسطة إصلاحه بأن يكون الإصلاح مكفرا لسيئاته والكل بعيد يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ بيان لحكم آخر من الأحكام الشرعية وتكرير النداء لإظهار الاعتناء مع بعد العهد، والصِّيامُ كالصوم مصدر صام وهو لغة الإمساك، ومنه يقال للصمت صوم لأنه إمساك عن الكلام، قال ابن دريد: كل شيء تمكث حركته فقد صام، ومنه قول النابغة: خيل «صيام» وخيل غير- صائمة ... تحت العجاج- وأخرى تعلك اللجما فصامت الريح ركدت، وصامت الشمس إذا استوت في منتصف النهار، وشرعا إمساك عن أشياء مخصوصة على وجه مخصوص في زمان مخصوص ممن هو على صفات مخصوصة كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي الأنبياء والأمم من لدن آدم عليه الصلاة والسلام إلى يومنا كما هو ظاهر عموم الموصول، وعن ابن عباس ومجاهد رضي الله تعالى عنهما اتهم أهل الكتاب، وعن الحسن والسدي والشعبي أنهم النصارى، وفيه تأكيد للحكم وترغيب فيه وتطييب لأنفس المخاطبين فيه، فإن الأمور الشاقة إذا عمت طابت، والمراد بالمماثلة إما المماثلة في أصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 الوجوب- وعليه أبو مسلم والجبائي- وإما في الوقت والمقدار بناء على أن أهل الكتاب فرض عليهم صوم رمضان فتركه اليهود إلى صوم يوم من السنة زعموا أنه اليوم الذي أغرق فيه فرعون، وزاد فيه النصارى يوما قبل ويوما بعد احتياطا حتى بلغوا فيه خمسين يوما فصعب عليهم في الحر فنقلوه إلى زمن نزول الشمس برج الحمل، وأخرج ابن حنظلة والنحاس والطبراني عن مغفل بن حنظلة مرفوعا كان على النصارى صوم شهر رمضان فمرض ملكهم فقالوا: لئن شفاه الله تعالى لنزيدن عشرا، ثم كان آخر فأكل لحما فأوجع فوه فقالوا: لئن شفاه الله لنزيدن سبعة، ثم كان عليهم ملك آخر فقال: ما ندع من هذه الثلاثة أيام شيئا أن نتمها ونجعل صومنا في الربيع ففعل فصارت خمسين يوما، وفي كَما خمسة أوجه. أحدها أن محله النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي- كتب كتبا- مثل ما كتب. الثاني أنه في محل نصب حال من المصدر المعرفة أي- كتب عليكم الصيام الكتب- مشبها بما كتب، و «ما» على الوجهين مصدرية. الثالث أن يكون نعتا لمصدر من لفظ الصيام أي صوما مماثلا للصوم المكتوب على من قبلكم. الرابع أن يكون حالا من الصيام أي حال كونه مماثلا لما كتب، و «ما» على الوجهين موصولة. الخامس أن يكون في محل رفع على أنه صفة للصيام بناء على أن المعرف- بأل- الجنسية قريب من النكرة لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أي كي تحذروا المعاصي فإن الصوم يعقم الشهوة التي هي أمها أو يكسرها. فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: «قال لنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» ويحتمل أن يقدر المفعول الإخلال بأدائه، وعلى الأول يكون الكلام متعلقا بقوله كُتِبَ من غير نظر إلى التشبيه، وعلى الثاني بالنظر إليه أي كتب عليكم مثل ما كتب على الأولين لكي- تتقوا- الإخلال بأدائه بعد العلم بأصالته وقدمه ولا حاجة إلى تقدير محذوف أي أعلمتكم الحكم المذكور لذلك- كما قيل به- وجوز أن يكون الفعل منزلا منزلة اللازم أي لكي تصلوا بذلك إلى رتبة التقوى. أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ أي معينات بالعد أو قليلات لأن القليل يسهل عده فيعد والكثير يؤخذ جزافا قال مقاتل: كل مَعْدُوداتٍ في القرآن أو- معدودة- دون الأربعين ولا يقال ذلك لما زاد، والمراد بهذه الأيام إما رمضان واختار ذلك ابن عباس والحسن وأبو مسلم رضي الله تعالى عنه وأكثر المحققين- وهو أحد قولي الشافعي- فيكون الله سبحانه وتعالى قد أخبر أولا أنه كتب علينا الصيام ثم بينه بقوله عز وجل: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فزال بعض الإبهام ثم بينه بقوله عز من قائل: شَهْرُ رَمَضانَ توطينا للنفس عليه، واعترض بأنه لو كان المراد ذلك لكان ذكر المريض والمسافر تكرارا، وأجيب بأنه كان في الابتداء صوم رمضان واجبا على التخيير بينه وبين الفدية فحين نسخ التخيير وصار واجبا على التعيين كان مظنة أن يتوهم أن هذا الحكم يعم الكل حتى يكون المريض والمسافر فيه كالمقيم والصحيح فأعيد حكمهما تنبيها على أن رخصتهما باقية بحالها لم تتغير كما تغير حكم المقيم والصحيح وأما ما وجب صومه قبل وجوبه وهو ثلاثة أيام من كل شهر- وهي أيام البيض- على ما روي عن عطاء ونسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنه، أو ثلاثة من كل شهر ويوم عاشوراء على ما روي عن قتادة، واتفق أهل هذا القول على أن هذا الواجب قد نسخ بصوم رمضان، واستشكل بأن فرضيته إنما ثبتت بما في هذه الآية فإن كان قد عمل بذلك الحكم مدة مديدة- كما قيل به- فكيف يكون الناسخ متصلا وإن لم يكن عمل به لا يصح النسخ إذ لا نسخ قبل العمل، وأجيب أما على اختيار الأول فبأن الاتصال في التلاوة لا يدل على الاتصال في النزول، وأما على اختيار الثاني فبأن الأصح جواز النسخ قبل العمل فتدبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 وانتصاب أَيَّاماً ليس بالصيام كما قيل لوقوع الفصل بينهما بأجنبي بل بمضمر دل هو عليه أعني صوموا إما على الظرفية أو المفعولية اتساعا، وقيل: منصوب بفعل يستفاد من كاف التشبيه، وفيه بيان لوجه المماثلة كأنه قيل: كتب عليكم الصيام مماثلا لصيام الذين من قبلكم في كونه أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ أي المماثلة واقعة بين الصيامين من هذا الوجه وهو تعلق كل منهما بمدة غير متطاولة، فالكلام من قبيل زيد كعمرو فقها، وقيل: نصب على أنه مفعول ثان- لكتب- على الاتساع ورده في البحر بأن الاتساع مبني على جواز وقوعه ظرفا- لكتب- وذا لا يصح لأن الظرف محل الفعل، والكتابة ليست واقعة في الأيام وإنما الواقع فيها متعلقها وهو الصيام، وأجيب بأنه يكفي للظرفية ظرفية المتعلق كما في يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الحج: 70، العنكبوت: 52، التغابن: 4] وبأن معنى كُتِبَ فرض، وفرضية الصيام، واقعة في الأيام وَمَنْ كانَ مَرِيضاً مرضا يعسر عليه الصوم معه كما يؤذن به قوله تعالى فيما بعد: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وعليه أكثر الفقهاء، وذهب ابن سيرين، وعطاء، والبخاري إلى أن المرخص مطلق المرض عملا بإطلاق اللفظ، وحكي أنهم دخلوا على ابن سيرين في رمضان وهو يأكل فاعتل بوجع إصبعه وهو قول للشافعية أَوْ عَلى سَفَرٍ أو راكب سفر مستعل عليه متمكن منه بأن اشتغل به قبل الفجر ففيه إيماء إلى أن من سافر في أثناء اليوم لم يفطر ولهذا المعنى أوثر على مسافرا، واستدل بإطلاق السفر على أن القصير وسفر المعصية مرخص للإفطار، وأكثر العلماء على تقييده بالمباح وما يلزمه العسر غالبا وهو السفر إلى المسافة المقدرة في الشرع فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ أي فعليه صوم عدة أيام المرض والسفر من أيام أخر إن أفطر وحذف الشرط والمضافان للعلم بهما، أما الشرط فلأن المريض والمسافر داخلان في الخطاب العام فدل على وجوب الصوم عليهما فلو لم يتقيد الحكم هنا به لزم أن يصير المرض والسفر اللذان هما من موجبات اليسر شرعا وعقلا موجبين للعسر، وأما المضاف الأول فلأن الكلام في الصوم ووجوبه، وأما الثاني فلأنه لما قيل- من كان مريضا أو مسافرا فعليه عدة- أي أيام معدودة موصوفة بأنها من أيام أخر علم أن المراد معدودة بعدد أيام المرض والسفر واستغنى عن الإضافة وهذا الإفطار مشروع على سبيل الرخصة فالمريض والمسافر إن شاءا صاما وإن شاءا أفطرا كما عليه أكثر الفقهاء إلا أن الإمام أبا حنيفة ومالكا قالا: الصوم أحب. والشافعي وأحمد والأوزاعي قالوا: الفطر أحب، ومذهب الظاهرية وجوب الإفطار وأنهما إذا صاما لا يصح صومهما لأنه قبل الوقت الذي يقتضيه ظاهر الآية، ونسب ذلك إلى ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة وجماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم- وبه قال الإمامية- وأطالوا بالاستدلال على ذلك بما رووه عن أهل البيت، واستدل بالآية على جواز القضاء متتابعا ومتفرقا وأنه ليس على الفور خلافا لداود. وعلى أن من أفطر رمضان كله قضى- أياما معدودة- فلو كان تاما لم يجزه شهر ناقص أو ناقصا لم يلزمه شهر كامل خلافا لمن خالف في الصورتين، واحتج بها أيضا من قال: لا فدية مع القضاء وكذا من قال: إن المسافر إذا أقام والمريض إذا شفي أثناء النهار لم يلزمهما الإمساك بقيته لأن الله تعالى إنما أوجب عدة من أيام أخر وهما قد أفطرا فحكم الإفطار باق لهما ومن حكمه أن لا يجب أكثر من يوم ولو أمرناه بالإمساك ثم القضاء لأوجبنا بدل اليوم أكثر منه، ولا يخفى ما فيه، وقرىء- فعدة- بالنصب على أنه مفعول لمحذوف أي فليصم عدة ومن قدر الشرط هناك قدره هنا وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ أي وعلى المطيقين للصيام إن أفطروا. فِدْيَةٌ أي إعطاؤها طَعامُ مِسْكِينٍ وهي قدر ما يأكله كل يوم وهي نصف صاع من بر أو صاع من غيره عند أهل العراق ومد عند أهل الحجاز لكل يوم وكان ذلك في بدء الإسلام لما أنه قد فرض عليهم الصوم وما كانوا متعودين له فاشتد عليهم فرخص لهم في الإفطار والفدية. وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 والطبراني وآخرون عن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه قال: لما نزلت هذه الآية وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ كان من شاء منا صام ومن شاء أفطر ويفتدي فعل ذلك حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، وقرأ سعيد بن المسيب: «يطيقونه» بضم الياء الأولى وتشديد الياء الثانية. ومجاهد وعكرمة «يطّيقونه» بتشديد الطاء والياء الثانية وكلتا القراءتين على صيغة المبني للفاعل على أن أصلهما يطيوقونه ويتطيوقونه من فيعل وتفيعل لا من فعل وتفعل وإلا لكان بالواو دون الياء لأنه من طوق وهو واوي، وقد جعلت الواو ياء فيهما ثم أدغمت الياء في الياء ومعناهما يتكلفونه، وعائشة رضي الله تعالى عنها «يطوقونه» بصيغة المبني للمفعول من التفعيل أي يكلفونه أو يقلدونه من الطوق بمعنى الطاقة أو القلادة، ورويت الثلاث عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أيضا، وعنه «يتطوقونه» بمعنى يتكلفونه أو يتقلدونه ويطوقونه- بإدغام التاء في الطاء- وذهب إلى عدم النسخ- كما رواه البخاري وأبو داود وغيرهما- وقال: إن الآية نزلت في الشيخ الكبير الهرم، والعجوز الكبيرة الهرمة. ومن الناس من لم يقل بالنسخ أيضا على القراءة المتواترة وفسرها بيصومونه جهدهم وطاقتهم، وهو مبني على أن- الوسع- اسم للقدرة على الشيء على وجه السهولة- والطاقة- اسم للقدرة مع الشدة والمشقة، فيصير المعنى وَعَلَى الَّذِينَ يصومونه مع الشدة والمشقة فيشمل نحو الحبلى والمرضع أيضا، وعلى أنه من أطاق الفعل بلغ غاية طوقه أو فرغ طوقه فيه، وجاز أن تكون- الهمزة- للسلب كأنه سلب طاقته بأن كلف نفسه المجهود فسلب طاقته عند تمامه، ويكون مبالغة في بذل المجهود لأنه مشارف لزوال ذلك- كما في الكشف- والحق أن كلّا من القراءات يمكن حملها على ما يحتمل النسخ، وعلى ما لا يحتمله- ولكل ذهب بعض- وروي عن حفصة أنها قرأت وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ وقرأ نافع وابن عامر بإضافة فِدْيَةٌ إلى- الطعام وجمع المسكين- والإضافة حينئذ من إضافة الشيء إلى جنسه- كخاتم فضة- لأن طعام المسكين يكون فدية وغيرها، وجمع المسكين لأنه جمع في وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فقابل الجمع بالجمع، ولم يجمع فِدْيَةٌ لأنها مصدر- والتاء فيها للتأنيث لا للمرة- ولأنه لما أضافها إلى مضاف إلى الجمع فهم منها الجمع. فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً بأن زاد على القدر المذكور في- الفدية- قال مجاهد: أو زاد على عدد من يلزمه إطعامه فيطعم مسكينين فصاعدا- قاله ابن عباس- أو جمع بين الإطعام والصوم- قاله ابن شهاب. فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ أي التطوع أو الخير الذي تطوعه، وجعل بعضهم الخير الأول مصدر- خرت يا رجل وأنت خائر- أي حسن، والخير الثاني اسم تفضيل- فيفيد الحمل أيضا بلا مرية- وإرجاع الضمير إلى مِنْ أي فالمتطوع خير من غيره لأجل التطوع لا يخفى بعده وَأَنْ تَصُومُوا أي أيها المطيقون المقيمون الأصحاء، أو المطوقون من الشيوخ والعجائز، أو المرخصون في الإفطار من الطائفتين، والمرضى والمسافرين، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب جبرا لكلفة الصوم بلذة المخاطبة، وقرأ أبيّ والصيام خَيْرٌ لَكُمْ من الفدية أو تطوع الخير على الأولين، أو منهما ومن التأخير للقضاء على الأخير إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما في الصوم من الفضيلة، وجواب أَنْ محذوف ثقة بظهوره- أي اخترتموه- وقيل: معناه إن كنتم من أهل العلم علمتم أن الصوم خَيْرٌ لَكُمْ من ذلك، وعليه تكون الجملة تأكيدا لخيرية الصوم، وعلى الأول تأسيسا. شَهْرُ رَمَضانَ مبتدأ خبره الموصول بعده، ويكون ذكر الجملة مقدمة لفرضية صومه بذكر فضله، أو فَمَنْ شَهِدَ والفاء لتضمنه معنى الشرط لكونه موصوفا بالموصول، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره ذلكم الوقت الذي كتب عليكم الصيام فيه، أو المكتوب شهر رمضان، أو بدل من الصيام بدل كل بتقدير مضاف، أي كتب عليكم الصيام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 صيام شهر رمضان، وما تخلل بينهما من الفصل متعلق ب كُتِبَ لفظا أو معنى فليس بأجنبي مطلقا، وإن اعتبرته بدل اشتمال استغنيت عن التقدير، إلا أن كون الحكم السابق- وهو فرضية الصوم- مقصودا بالذات، وعدم كون ذكر المبدل منه مشوقا إلى ذكر البدل يبعد ذلك، وقرىء شهر بالنصب على أنه مفعول ل «صوموا» محذوفا وقيل إنه مفعول وَأَنْ تَصُومُوا وفيه لزوم الفصل بين أجزاء المصدرية بالخبر، وجوز أن يكون مفعول تَعْلَمُونَ بتقدير مضاف- أي شرف شهر رمضان ونحوه- وقيل: لا حاجة إلى التقدير. والمراد إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ نفس الشهر ولا تشكون فيه، وفيه إيذان بأن الصوم لا ينبغي مع الشك- وليس بشيء كما لا يخفى- والشهر المدة المعينة التي ابتداؤها رؤية الهلال، ويجمع في القلة على أشهر، وفي الكثرة على شهور، وأصله من شهر الشيء أظهره، وهو- لكونه ميقاتا للعبادات والمعاملات- صار مشهورا بين الناس، و «رمضان» مصدر رمض- بكسر العين- إذا احترق، وفي شمس العلوم من المصادر التي يشترك فيها الأفعال فعلان- بفتح الفاء والعين- وأكثر ما يجيء بمعنى المجيء والذهاب والاضطراب- كالخفقان والعسلان واللمعان- وقد جاء لغير المجيء والذهاب كما في- شنأته شنآنا إذا بغضته- فما في البحر من أن كونه مصدرا يحتاج إلى نقل- فإن فعلانا ليس مصدر فعل اللازم- فإن جاء شيء منه كان شاذا، فالأولى أن يكون مرتجلا لا منقولا ناشىء عن قلة الاطلاع، والخليل يقول: إنه من الرمض- مسكن الميم- وهو مطر يأتي قبل الخريف يطهر وجه الأرض عن الغبار، وقد جعل مجموع المضاف والمضاف إليه علما للشهر المعلوم، ولولا ذلك لم يحسن إضافة شَهْرُ إليه كما لا يحسن- إنسان زيد- وإنما تصح إضافة العام إلى الخاص إذا اشتهر كون الخاص من أفراده، ولهذا لم يسمع شهر رجب وشهر شعبان، وبالجملة فقد أطبقوا على أن العلم في ثلاثة أشهر مجموع المضاف والمضاف إليه شهر رمضان، وشهر ربيع الأول وشهر ربيع الثاني، وفي البواقي لا يضاف شهر إليه، وقد نظم ذلك بعضهم فقال: ولا تضف شهرا إلى اسم شهر ... إلا لما أوله- الرا- فادر واستثن منها رجبا فيمتنع ... لأنه فيما رووه ما سمع ثم في الإضافة يعتبر في أسباب منع الصرف وامتناع- اللام- ووجوبها حال المضاف إليه فيمتنع في مثل شَهْرُ رَمَضانَ وابن داية من الصرف ودخول- اللام- وينصرف في مثل شهر ربيع الأول- وابن عباس- ويجب- اللام- في مثل- امرئ القيس- لأنه وقع جزءا حال تحليته باللام، ويجوز في مثل- ابن عباس- أما دخوله فللمح الأصل، وأما عدمه فلتجرده في الأصل، وعلى هذا فنحو من صام رمضان من حذف جزء العلم لعدم الإلباس- كذا قيل- وفيه بحث- أما أولا فلأن إضافة العام إلى الخاص مرجعها إلى الذوق، ولهذا تحسن تارة كشجر الأراك، وتقبح أخرى- كإنسان زيد- وقبحها في شَهْرُ رَمَضانَ لا يعرفه إلا من تغير ذوقه من أثر الصوم، وأما ثانيا فإن قولهم: لم يسمع شهر رجب إلخ مما سمع بين المتأخرين- ولا أصل له- ففي شرح التسهيل جواز إضافة شَهْرُ إلى جميع أسماء الشهور وهو قول أكثر النحويين- فادعاء الاطباق غير مطبق عليه، ومنشأ غلط المتأخرين ما في- أدب الكاتب- من أنه اصطلاح الكتاب، قال: لأنهم لما وضعوا التاريخ في زمن عمر رضي الله تعالى عنه وجعلوا أول السنة المحرم، فكانوا لا يكتبون في تواريخهم شهرا إلا مع رمضان والربيعين، فهو أمر اصطلاحي- لا وضعي لغوي- ووجهه في رَمَضانَ موافقة القرآن وفي ربيع الفصل عن الفصل، ولذا صحح سيبويه جواز إضافة الشهر إلى جميع أسماء الشهور، وفرق بين ذكره وعدمه بأنه حيث ذكر لم يفد العموم- وحيث حذف أفاده- وعليه يظهر الفرق بين- إنسان زيد- وشَهْرُ رَمَضانَ ولا يغم هلال ذلك. وأما ثالثا فلأن قوله: ثم في الإضافة إلخ، مما صرح النحاة بخلافه، فإن- ابن داية- سمع منه وصرفه كقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 ولما رأيت النسر عز- ابن داية ... وعشش في وكريه جاش له صدري قالوا: ولكل وجه أما عدم الصرف فلصيرورة الكلمتين بالتركيب كلمة بالتسمية فكان- كطلحة- مفردا وهو غير منصرف، وأما الصرف فلأن المضاف إليه في أصله اسم جنس- والمضاف كذلك- وكل منهما بانفراده ليس بعلم، وإنما العلم مجموعهما فلا يؤثر التعريف فيه ولا يكون لمنع الصرف مدخل فليحفظ، وبالجملة المعول عليه أن رَمَضانَ وحده علم وهو علم جنس لما علمت، ومنع بعضهم أن يقال: رَمَضانَ بدون شَهْرُ لما أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن عدي والبيهقي والديلمي عن أبي هريرة مرفوعا وموقوفا «لا تقولوا: رمضان، فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى، ولكن قولوا: شهر رمضان» وإلى ذلك ذهب مجاهد- والصحيح الجواز- فقد روي ذلك في الصحيح- والاحتياط لا يخفى- وإنما سمي الشهر به لأن الذنوب ترمض فيه- قاله ابن عمر- وروى ذلك أنس. وعائشة مرفوعا إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وقيل: لوقوعه أيام رمض الحر حيث نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة، وكان اسمه قبل ناتقا، ولعل ما روي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم مبين لما ينبغي أن يكون وجه التسمية عند المسلمين، وإلا فهذا الاسم قبل فرضية الصيام بكثير على ما هو الظاهر الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أي ابتدئ فيه إنزاله- وكان ذلك ليلة القدر- قاله ابن إسحاق، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وابن جبير والحسن أنه نزل فيه جملة إلى السماء الدنيا ثم نزل منجما إلى الأرض في ثلاث وعشرين سنة، وقيل: أنزل في شأنه القرآن، وهو قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ وأخرج الإمام أحمد والطبراني من حديث واثلة بن الأسقع. عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «نزلت صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين، والإنجيل لثلاث عشرة، والقرآن لأربع وعشرين» ولما كان بين الصوم ونزول الكتب الإلهية مناسبة عظيمة كان هذا الشهر المختص بنزولها مختصا بالصوم الذي هو نوع عظيم من آيات العبودية، وسبب قوي في إزالة العلائق البشرية المانعة عن إشراق الأنوار الصمدية. هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ حالان لازمان من القرآن والعامل فيهما أنزل أي أنزل وهو هداية للناس بإعجازه المختص به كما يشعر بذلك التنكير، وآيات واضحات من جملة الكتب الإلهية الهادية إلى الحق، والفارقة بين الحق والباطل باشتمالها على المعارف الإلهية والأحكام العملية كما يشعر بذلك جعله بينات منها فهو هاد بواسطة أمرين مختص وغير مختص فالهدى ليس مكررا، وقيل: مكرر تنويها وتعظيما لأمره وتأكيدا لمعنى الهداية فيه كما تقول عالم نحرير فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ من شرطية أو موصولة- والفاء- إما جواب الشرط، أو زائدة في الخبر، ومِنْكُمُ في محل نصب على الحال من المستكن في شَهِدَ والتقييد به لإخراج الصبي والمجنون، وشَهِدَ من الشهود والتركيب يدل على الحضور إما ذاتا أو علما، وقد قيل: بكل منهما هنا، والشَّهْرَ على الأول مفعول فيه والمفعول به متروك لعدم تعلق الغرض به فتقدير البلد أو المصر ليس بشيء، وعلى الثاني مفعول به بحذف المضاف أي هلال الشهر- وأل- فيه على التقديرين للعهد ووضع المظهر موضع المضمر للتعظيم ونصب الضمير المتصل في- يصمه- على الاتساع لأن صام لازم والمعنى فمن حضر في الشهر ولم يكن مسافرا فليصم فيه أو من علم هلال الشهر وتيقن به فليصم، ومفاد الآية على هذا عدم وجوب الصوم على من شك في الهلال وإنما قدر المضاف لأن شهود الشهر بتمامه إنما يكون بعد انقضائه ولا معنى لترتب وجوب الصوم فيه بعد انقضائه وعليه يكون قوله تعالى: وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ مخصصا بالنظر إلى المريض والمسافر كليهما، وعلى الأول مخصص بالنظر إلى الأول دون الثاني وتكريره حينئذ لذلك التخصيص أو لئلا يتوهم نسخه كما نسخ قرينه والأول كما قيل على رأي من شرط في المخصص أن يكون متراخيا موصولا، والثاني على رأي من جوز كونه متقدما وهذا بجعل المخصص هو الآية السابقة، و «ما» هنا لمجرد دفع التوهم ورجح المعنى الأول من المعنيين بعدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 الاحتياج إلى التقدير وبأن الفاء في «فمن شهد» عليه وقعت في مخرها مفصلة لما أجمل في قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ من وجوب التعظيم المستفاد مما في أثره على كل من أدركه ومدركه إما حاضر أو مسافر فمن كان حاضرا فحكمه كذا إلخ ولا يحسن أن يقال من علم الهلال فليصم وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فليقض لدخول القسم الثاني في الأول والعاطف التفصيلي يقتضي المغايرة بينهما كذا قيل، لكن ذكر المريض يقوي كونه مخصصا لدخوله فيمن شهد على الوجهين، ولذا ذهب أكثر النحويين إلى أن الشهر مفعول به- فالفاء- للسببية أو للتعقيب لا للتفصيل. يُرِيدُ اللَّهُ بهذا الترخيص بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ لغاية رأفته وسعة رحمته، واستدل المعتزلة بالآية على أنه قد يقع من العبد ما لا يريده الله تعالى وذلك لأن المريض والمسافر إذا صاما حتى أجهدهما الصوم فقد فعلا خلاف ما أراد الله تعالى لأنه أراد التيسير ولم يقع مراده، ورد بأن الله تعالى أراد التيسير وعدم التعسير في حقهما بإباحة الفطر، وقد حصل بمجرد الأمر بقوله عز شأنه: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ من غير تخلف، وفي البحر تفسير الإرادة هنا بالطلب، وفيه أنه التزام لمذهب الاعتزال من أن إرادته تعالى لأفعال العباد عبارة عن الأمر وأنه تعالى ما طلب منا اليسر بل شرعه لنا، وتفسير اليسر بما يسر بعيد، وقرأ أبو جعفر اليسر والعسر بضمتين. وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ علل لفعل محذوف دل عليه فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ إلخ أي وشرع لكم جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر المستفاد من قوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وأمر المرخص له بالقضاء كيفما كان متواترا أو متفرقا وبمراعاة عدة ما أفطره من غير نقصان فيه المستفادين من قوله سبحانه وتعالى: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ومن الترخيص المستفاد من قوله عز وجل: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ أو من قوله تعالى: فَعِدَّةٌ إلخ- لتكملوا- إلخ والأول علة الأمر بمراعاة عدة الشهر بالأداء في حال شهود الشهر، وبالقضاء في حال الإفطار بالعذر فيكون علة لمعللين أي أمرناكم بهذين الأمرين لتكملوا عدة الشهر بالأداء والقضاء فتحصلوا خيراته ولا يفوتكم شيء من بركاته نقصت أيامه أو كملت وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ علة الأمر بالقضاء وبيان كيفيته وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ علة الترخيص والتيسير، وتغيير الأسلوب للإشارة إلى أن هذا المطلوب بمنزلة المرجو لقوة الأسباب المتآخذة في حصوله وهو ظهور كون الترخيص نعمة، والمخاطب موقن بكمال رأفته وكرمه مع عدم فوات بركات الشهر، وهذا نوع من اللف لطيف المسلك قلما يهتدى اليه لأن مقتضى الظاهر ترك الواو لكونها عللا لما سبق ولذا قال من لم يبلغ درجة الكمال: إنها زائدة أو عاطفة على علة مقدرة ووجه اختياره أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فلما فيه من مزيد الاعتناء بالأحكام السابقة مع عدم التكلف لأن الفعل المقدر لكونه مشتملا على ما سبق إجمالا يكون ما سبق قرينة عليه مع بقاء التعليل بحاله ولكونه مغايرا له بالإجمال، والتفصيل يصح عطفه عليه، وفي ذكر الأحكام تفصيلا أولا، وإجمالا ثانيا وتعليلها من غير تعيين ثقة على فهم السامع بأن يلاحظها مرة بعد أخرى ويرد كل علة إلى ما يليق به ما لا يخفى من الاعتناء، وجوز أن تكون عللا لأفعال مقدرة كل فعل مع علة والتقدير- ولتكملوا العدة- أوجب عليكم عدة أيام أخر وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ علمكم كيفية القضاء وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ رخصكم في الإفطار وإن شئت جعلتها معطوفة على علة مقدرة أي ليسهل عليكم أو لتعلموا ما تعملون وَلِتُكْمِلُوا إلخ وجعلت المجموع علة للأحكام السابقة إما باعتبار أنفسها أو باعتبار الإعلام بها فقوله: ليسهل أو لتعلموا علة لما سبق باعتبار الإعلام وما بعده علة للأحكام المذكورة كما مر، ولك أن لا تقدر شيئا أصلا وتجعل العطف على اليسر أي- ويريد بكم لتكملوا- إلخ واللام زائدة مقدرة بعدها أن وزيدت كما قيل: بعد فعل الإرادة تأكيدا له لما فيها من معنى الإرادة في قولك جئتك لإكرامك، وقيل: إنها بمعنى أن كما في الرضيّ إلا أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 يلزم على هذا الوجه أن يكون وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ عطفا على يُرِيدُ إذ لا معنى لقولنا يريد لعلكم تشكرون، وحينئذ يحصل التفكيك بين المتعاطفات وهو بعيد، ولاستلزام هذا الوجه ذلك وكثرة الحذف في بعض الوجوه السابقة وخفاء بعضها عدل بعضهم عن الجميع، وجعل الكلام من الميل مع المعنى لأن ما قبله علة للترخيص فكأنه قيل: رخص لكم في ذلك لإرادته بكم اليسر دون ولتكملوا إلخ، ولا يخفى عليك ما هو الأليق بشأن الكتاب العظيم، والمراد من التكبير الحمد والثناء مجازا لكونه فردا منه ولذلك عدي بعلى، واعتبار التضمين أي لتكبروا حامدين ليس بمعتبر لأن الحمد نفس التكبير ولكونه على هذا عبادة قولية ناسب أن يعلل به الأمر بالقضاء الذي هو نعمة قولية أيضا، وأخرج ابن المنذر وغيره عن زيد بن أسلم أن المراد به التكبير يوم العيد، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه التكبير عند الإهلال، وأخرج ابن جرير عنه أنه قال: حق على المسلمين إذا نظروا إلى هلال شوال أن يكبروا الله تعالى حتى يفرغوا من عيدهم لأن الله تعالى يقول: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ وعلى هذين القولين لا يلائم تعليل الأحكام السابقة، وما يحتمل أن تكون مصدرية وأن تكون موصولة أي الذي هداكموه أو هداكم إليه، والمراد من الشكر ما هو أعم من الثناء ولذا ناسب أن يجعل طلبه تعليلا للترخيص الذي هو نعمة فعلية. وقرأ أبو بكر عن عاصم وَلِتُكْمِلُوا بالتشديد وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي في تلوين الخطاب مع توجيهه لسيد ذوي الألباب عليه الصلاة والسلام، ما لا يخفى من التشريف ورفع المحل عَنِّي أي عن قربي وبعدي إذ ليس السؤال عن ذاته تعالى فَإِنِّي قَرِيبٌ أي فقل لهم ذلك بأن تخبر عن القرب بأي طريق كان، ولا بد من التقدير إذ بدونه لا يترتب على الشرط، ولم يصرح بالمقدر كما في أمثاله للإشارة إلى أنه تعالى تكفل جوابهم ولم يكلهم إلى رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم تنبيها على كمال لطفه، والقرب حقيقة في القرب المكاني المنزه عنه تعالى فهو استعارة لعلمه تعالى بأفعال العباد وأقوالهم واطلاعه على سائر أحوالهم، وأخرج سفيان بن عيينة، وعبد الله بن أحمد عن أبي قال: قال المسلمون يا رسول الله أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله الآية أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ دليل للقرب وتقرير له فالقطع لكمال الاتصال، وفيه وعد الداعي بالإجابة في الجملة على ما تشير إليه كلمة إِذا لا كليا فلا حاجة إلى التقييد بالمشيئة المؤذن به قوله تعالى في آية أخرى: فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ [الإنعام: 41] لا إلى أن القول بأن إجابة الدعوة غير قضاء الحاجة لأنها قوله سبحانه وتعالى لبيك يا عبدي وهو موعود موجود لكل مؤمن يدعو ولا إلى تخصيص الدعوة بما ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، أو الداعي بالمطيع المخبت. نعم كونه كذلك أزجي للإجابة لا سيما في الأزمنة المخصوصة والأمكنة المعلومة، والكيفية المشهورة، ومع هذا قد تتخلف الإجابة مطلقا وقد تتخلف إلى بدل، ففي الصحيح عن أبي سعيد قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله تبارك وتعالى إحدى ثلاث إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدخر له وإما أن يكف عنه من السوء مثلها» وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي أي فليطلبوا إجابتي لهم إذا دعوني أو فليجيبوا لي إذا دعوتهم للإيمان والطاعة كما أني أجيبهم إذا دعوني لحوائجهم، واستجاب وأجاب واحد ومعناه قطع مسألته بتبليغه مراده من الجواب بمعنى القطع، وهذا ما عليه أكثر المفسرين ولا يغني عنه وَلْيُؤْمِنُوا بِي لأنه أمر بالثبات والمداومة على الإيمان لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ أي يهتدون لمصالح دينهم ودنياهم، وأصل الباب إصابة الخير، وقرىء بفتح الشين وكسرها، ولما أمرهم سبحانه وتعالى بصوم الشهر ومراعاة العدة وحثهم على القيام بوظائف التكبير والشكر عقبه بهذه الآية الدالة على أنه تعالى خبير بأفعالهم سميع لأقوالهم مجازيهم على أعمالهم تأكيدا له وحثا عليه، أو أنه لما نسخ الأحكام في الصوم ذكر هذه الآية الدالة على كمال علمه بحال العباد وكمال قدرته عليهم ونهاية لطفه بهم في أثناء نسخ الأحكام تمكينا لهم في الإيمان، وتقريرا لهم على الاستجابة لأن مقام النسخ من مظان الوسوسة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 والتزلزل، فالجملة على التقديرين اعتراضية بين كلامين متصلين معنى، أحدهما ما تقدم، والثاني قوله سبحانه وتعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ أخرج أحمد وجماعة عن كعب بن مالك قال: كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فنام حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد فرجع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه من عند النبي صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة وقد سمر عنده، فوجد امرأته قد نامت فأيقظها وأرادها فقالت: إني قد نمت فقال: ما نمت، ثم وقع بها، وصنع كعب بن مالك مثل ذلك فغدا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره فنزلت. وفي رواية ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بينما هو نائم إذ سولت له نفسه فأتى أهله ثم أتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال يا رسول الله إني أعتذر إلى الله تعالى وإليك من نفسي هذه الخاطئة فإنها زينت لي فواقعت أهلي هل تجد لي من رخصة؟ قال: لم تكن حقيقا بذلك يا عمر فلما بلغ بيته أرسل إليه فأنبأه بعذره في آية من القرآن وأمر الله تعالى رسوله أن يضعها في المائة الوسطى من سورة البقرة فقال: أُحِلَّ لَكُمْ إلخ - وليلة الصيام- الليلة التي يصبح منها صائما فالإضافة لأدنى ملابسة، والمراد بها الجنس وناصبها- الرفث- المذكور أو المحذوف الدال هو عليه بناء على أن المصدر لا يعمل متقدما، وجوز أن يكون ظرفا- لأحل- لأن إحلال الرفث في ليلة الصيام وإحلال الرفث الذي فيها متلازمان، والرَّفَثُ من رفث في كلامه وأرفث وترفث أفحش وأفصح بما يكنى عنه، والمراد به هنا الجماع لأنه لا يكاد يخلو من الإفصاح، وما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه أنشد وهو محرم: وهن يمشين بنا هميسا ... إن صدق الطير ننك لميسا فقيل له: أرفثت؟ فقال: إنما الرفث ما كان عند النساء، فالرفث فيه يحتمل أن يكون قولا وأن يكون فعلا، والأصل فيه أن يتعدى- بالباء- وعدي بإلى لتضمنه معنى الإفضاء ولم يجعل من أول الأمر كناية عنه لأن المقصود هو الجماع فقصرت المسافة، وإيثاره هاهنا على ما كني به عنه في جميع القرآن من التغشية والمباشرة واللمس والدخول ونحوها استقباحا لما وجد منهم قبل الإباحة، ولذا سماه اختيانا فيما بعد، والنساء جمع نسوة فهو جمع الجمع أو جمع امرأة على غير اللفظ وإضافتها إلى ضمير المخاطبين للاختصاص إذ لا يحل الإفضاء إلا لمن اختص بالمفضي إما بتزويج أو ملك، وقرأ عبد الله- الرفوث- هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ أي هن سكن لكم وأنتم سكن لهن قاله ابن عباس حين سأله نافع بن الأزرق وأنشد رضي الله تعالى عنهما لما قال له هل تعرف العرب ذلك؟ قول الذبياني: إذا ما الضجيع ثنى عطفه ... تثنت عليه فكانت «لباسا» ولما كان الرجل والمرأة يتعانقان ويشتمل كل منهما على صاحبه شبه كل واحد بالنظر إلى صاحبه باللباس أو لأن كل واحد منهما يستر صاحبه ويمنعه عن الفجور، وقد جاء في الخبر «من تزوج فقد أحرز ثلثي دينه» والجملتان مستأنفتان استئنافا نحويا والبياني يأباه الذوق، ومضمونهما بيان لسبب الحكم السابق وهو قلة الصبر عنهن كما يستفاد من الأولى، وصعوبة اجتنابهن كما تفيده الثانية- ولظهور احتياج الرجل إليهن وقلة صبره- قدم الأولى، وفي الخبر «لا خير في النساء ولا صبر عنهن يغلبن كريما ويغلبهن لئيم وأحب أن أكون كريما مغلوبا ولا أحب أن أكون لئيما غالبا» عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ جملة معترضة بين قوله تعالى: أُحِلَّ إلخ وبين ما يتعلق به أعني فَالْآنَ إلخ لبيان حالهم بالنسبة إلى ما فرط منهم قبل الإحلال، ومعنى عَلِمَ تعلق علمه، والاختيان- تحرك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 شهوة الإنسان لتحري الخيانة أو الخيانة البليغة فيكون المعنى تنقصون أنفسكم تنقيصا تاما بتعريضها للعقاب وتنقيص حظها من الثواب، ويؤول إلى معنى تظلمونها بذلك، والمراد الاستمرار عليه فيما مضى قبل إخبارهم بالحال كما ينبىء عنه صيغتا الماضي والمضارع وهو متعلق العلم، وما تفهمه الصيغة الأولى من تقدم كونهم على الخيانة على العلم يأبى حمله على الأزلي الذاهب إليه البعض فَتابَ عَلَيْكُمْ عطف على عَلِمَ والفاء لمجرد التعقيب، والمراد قبل توبتكم حين تبتم عن المحظور الذي ارتكبتموه وَعَفا عَنْكُمْ أي محا أثره عنكم وأزال تحريمه، وقيل: الأول لإزالة التحريم وهذا لغفران الخطيئة فَالْآنَ مرتب على قوله سبحانه وتعالى أُحِلَّ لَكُمْ نظرا إلى ما هو المقصود من الإحلال وهو إزالة التحريم أي حين نسخ عنكم تحريم القربان وهو ليلة الصيام كما يدل عليه الغاية الآتية فإنها غاية للأوامر الأربعة التي هذا ظرفها، والحضور المفهوم منه بالنظر إلى فعل نسخ التحريم وليس حاضرا بالنظر إلى الخطاب بقوله تعالى: بَاشِرُوهُنَّ، وقيل: إنه وإن كان حقيقة في الوقت الحاضر إلا أنه قد يطلق على المستقبل القريب تنزيلا له منزلة الحاضر وهو المراد هنا أو أنه مستعمل في حقيقته والتقدير قد أبحنا لكم مباشرتهن، وأصل المباشرة إلزاق البشرة بالبشرة وأطلقت على الجماع للزومها لها. وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أي اطلبوا ما قدره اللَّهُ تعالى لَكُمْ في اللوح من الولد، وهو المروي عن ابن عباس والضحاك ومجاهد رضي الله تعالى عنهم وغيرهم. والمراد الدعاء بطلب ذلك بأن يقولوا: اللهم ارزقنا ما كتبت لنا، وهذا لا يتوقف على أن يعلم كل واحد أنه قدر له ولد، وقيل: المراد ما قدره لجنسكم والتعبير ب ما نظرا إلى الوصف كما في قوله تعالى: وَالسَّماءِ وَما بَناها [الشمس: 5] وفي الآية دلالة على أن المباشر ينبغي أن يتحرى بالنكاح حفظ النسل- لا قضاء الشهوة فقط- لأنه سبحانه وتعالى جعل لنا شهوة الجماع لبقاء نوعنا إلى غاية كما جعل لنا شهوة الطعام لبقاء أشخاصنا إلى غاية، ومجرد قضاء الشهوة لا ينبغي أن يكون إلا للبهائم، وجعل بعضهم هذا الطلب كناية عن النهي عن العزل، أو عن إتيان المحاش، وبعض فسر من أول مرة ما كتب بما سن وشرع من صب الماء في محله، أي اطلبوا ذلك دون العزل والإتيان المذكورين- والمشهور حرمتهما- أما الأول فالمذكور في الكتب فيه أنه لا يعزل الرجل عن الحرة بغير رضاها، وعن الأمة المنكوحة بغير رضاها أو رضا سيدها على الاختلاف بين الإمام وصاحبيه، ولا بأس بالعزل عن أمته بغير رضاها إذ لا حق لها. وأما الثاني فسيأتي بسط الكلام فيه على أتم وجه إن شاء الله تعالى. وروي عن أنس رضي الله تعالى عنه تفسير ذلك بليلة القدر. وحكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أيضا وعن قتادة أن المراد ابْتَغُوا الرخصة الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ تعالى لَكُمْ فإن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، وعليه تكون الجملة كالتأكيد لما قبلها، وعن عطاء أنه سأل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كيف تقرأ هذه الآية ابْتَغُوا أو «اتبعوا» ؟ فقال: أيهما شئت، وعليك بالقراءة الأولى وَكُلُوا وَاشْرَبُوا الليل كله حَتَّى يَتَبَيَّنَ أي يظهر لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ وهو أول ما يبدو من الفجر الصادق المعترض في الأفق قبل انتشاره، وحمله على الفجر الكاذب المستطيل الممتد كذنب السرحان وهم مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ وهو ما يمتد مع بياض الفجر من ظلمة آخر الليل مِنَ الْفَجْرِ بيان لأول الخيطين- ومنه يتبين الثاني- وخصه بالبيان لأنه المقصود وقيل: بيان لهما بناء على أن الْفَجْرِ عبارة عن مجموعهما لقول الطائي: وأزرق الفجر يبدو قبل أبيضه فهو على وزان قولك: حتى يتبين العالم من الجاهل من القوم، وبهذا البيان خرج الخيطان عن الاستعارة إلى التشبيه لأن شرطها عندهم تناسيه بالكلية، وادعاء أن المشبه هو المشبه به لولا القرينة والبيان ينادي على أن المراد- مثل هذا الخيط وهذا الخيط- إذ هما لا يحتاجان إليه، وجوّز أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 تكون مِنَ تبعيضية لأن ما يبدو جزء من «الفجر» كما أنه فجر بناء على أنه اسم للقدر المشترك بين الكل والجزء، ومِنَ الأولى قيل: لابتداء للغاية، وفيه أن الفعل المتعدي بها يكون ممتدا أو أصلا للشيء الممتد، وعلامتها أن يحسن في مقابلتها إِلى أو ما يفيد مفادها- وما هنا ليس كذلك- فالظاهر أنها متعلقة ب يَتَبَيَّنَ بتضمين معنى التميز، والمعنى حتى يتضح «لكم الفجر» متميزا عن غبش الليل، فالغاية إباحة ما تقدم حَتَّى يَتَبَيَّنَ أحدهما من الآخر ويميز بينهما، ومن هذا وجه عدم الاكتفاء ب حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الفجر، أو «يتبين لكم الخيط الأبيض من الفجر» لأن تبين الفجر له مراتب كثيرة، فيصير الحكم مجملا محتاجا إلى البيان، وما أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنهما قال: أنزلت وَكُلُوا وَاشْرَبُوا إلخ ولم ينزل مِنَ الْفَجْرِ فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل الله تعالى بعد «من الفجر» فعلموا إنما يعني الليل والنهار، فليس فيه نص على أن الآية قبل محتاجة إلى البيان بحيث لا يفهم منها المقصود إلا به وأن تأخير البيان عن وقت الحاجة جائز لجواز أن يكون الخيطان مشتهرين في المراد منهما، إلا أنه صرح بالبيان لما التبس على بعضهم، ويؤيد ذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم وصف من لم يفهم المقصود من الآية قبل التصريح- بالبلادة- ولو كان الأمر موقوفا على البيان لاستوى فيه الذكي والبليد، فقد أخرج سفيان بن عيينة وأحمد والبخاري. ومسلم وأبو داود والترمذي وجماعة عن عدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه قال: لما أنزلت هذه الآية وَكُلُوا وَاشْرَبُوا إلخ عمدت إلى عقالين أحدهما أسود والآخر أبيض فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت أنظر إليهما فلا يتبين لي الأبيض من الأسود فلما أصبحت غدوت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته بالذي صنعت فقال: «إن وسادك إذا لعريض إنما ذاك بياض النهار من سواد الليل» وفي رواية «إنك لعريض القفا» وقيل: إن نزول الآية كان قبل دخول رمضان- وهي مبهمة- والبيان ضروري إلا أنه تأخر عن وقت الخطاب لا عن وقت الحاجة وهو لا يضر- ولا يخفى ما فيه- وقال أبو حيان: إن هذا من باب النسخ، ألا ترى أن الصحابة عملوا بظاهر ما دل عليه اللفظ ثم صار مجازا بالبيان ويرده على ما فيه أن النسخ يكون بكلام مستقل ولم يعهد نسخ هكذا وفي هذه الأوامر دليل على جواز نسخ السنة بالكتاب بل على وقوعه بناء على القول بأن الحكم المنسوخ من حرمة الوقاع والأكل والشرب كانت ثابتة بالسنة، وليس في القرآن ما يدل عليها، وأُحِلَّ أيضا يدل على ذلك إلا أنه نسخ بلا بدل وهو مختلف فيه، واستدل بالآية على صحة صوم الجنب لأنه يلزم من إباحة المباشرة إلى تبين الفجر إباحتها في آخر جزء من أجزاء الليل متصل بالصبح فإذا وقعت كذلك أصبح الشخص جنبا فإن لم يصح صومه لما جازت المباشرة لأن الجنابة لازمة لها ومنافي اللازم مناف للملزوم، ولا يرد خروج المني بعد الصبح بالجماع الحاصل قبله لأنه إنما يفسد الصوم لكونه مكمل الجماع فهو جماع واقع في الصبح، وليس بلازم للجماع كالجنابة، وخالف في ذلك بعضهم ومنع الصحة زاعما أن الغاية متعلقة بما عندها، واحتج بآثار صح لدى المحدثين خلافها. واستدل بها أيضا على جواز الأكل مثلا لمن شك في طلوع الفجر لأنه تعالى أباح ما أباح مغيّى بتبينه ولا تبين مع الشك خلافا لمالك. ومجاهد بها على عدم القضاء والحال هذه إذا بان أنه أكل بعد الفجر لأنه أكل في وقت اذن له فيه، وعن سعيد بن منصور مثله- وليس بالمنصور- والأئمة الأربعة رضي الله تعالى عنهم على أن أول النهار الشرعي طلوع الفجر فلا يجوز فعل شيء من المحظورات بعده وخالف في ذلك الأعمش ولا يتبعه إلا الأعمى، فزعم أن أوله طلوع الشمس كالنهار العرفي وجوز فعل المحظورات بعد طلوع الفجر، وكذا الإمامية وحمل مِنَ الْفَجْرِ على التبعيض وإرادة الجزء الأخير منه والذي دعاه لذلك خبر صلاة النهار عجماء وصلاة الفجر ليست بها فهي في الليل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 وأيده بعضهم بأن شوب الظلمة بالضياء كما أنه لم يمنع من الليلية بعد غروب الشمس ينبغي أن لا يمنع منها قبل طلوعها وتساوي طرفي الشيء مما يستحسن في الحكمة وإلى البدء يكون العود، وفيه أن النهار في الخبر بعد تسليم صحته يحتمل أن يكون بالمعنى العرفي ولو أراده سبحانه وتعالى في هذا الحكم لقال: وكلوا واشربوا إلى النهار ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ مع أنه أخصر وأوفق مما عدل إليه فحيث لم يفعل فهم أن الأمر مربوط بالفجر لا بطلوع الشمس سواء عد ذلك نهارا أم لا، وما ذكر من استحسان تساوي طرفي الشيء مع كونه- مما لا يسمن ولا يغني من جوع- في هذا الباب يمكن معارضته بأن جعل أول النهار كأول الليل وهما متقابلان مما يدل على عظم قدرة الصانع الحكيم وإلى الانتهاء غاية الإتمام، ويجوز أن يكون حالا من الصيام فيتعلق بمحذوف ولا يجوز جعله غاية للإيجاب لعدم امتداده، وعلى التقديرين تدل الآية على نفي كون الليل محل الصوم وأن يكون صوم اليومين صومة واحدة، وقد استنبط النبي صلى الله تعالى عليه وسلم منها حرمة الوصال كما قيل، فقد روى أحمد من طريق ليلى امرأة بشير بن الخصاصية قالت: أردت أن أصوم يومين مواصلة فمنعني بشير وقال: إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عنه، وقال: يفعل ذلك النصارى ولكن صوموا كما أمركم الله تعالى، وأَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ فإذا كان الليل فافطروا، ولا تدل الآية على أنه لا يجوز الصوم حتى يتخلل الإفطار خلافا لزاعمه، نعم استدل بها على صحة نية رمضان في النهار، وتقرير ذلك أن قوله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا إلخ معطوف على قوله: بَاشِرُوهُنَّ إلى قوله سبحانه: حَتَّى يَتَبَيَّنَ وكلمة ثُمَّ للتراخي والتعقيب بمهلة- واللام- في الصِّيامِ للعهد على ما هو الأصل، فيكون مفاد ثُمَّ أَتِمُّوا إلخ الأمر- بإتمام الصيام- المعهود أي الإمساك المدلول عليه بالغاية سواء فسر بإتيانه تاما، أو بتصييره كذلك متراخيا عن الأمور المذكورة المنقضية بطلوع الفجر تحقيقا لمعنى ثُمَّ فصارت نية الصوم بعد مضي جزء من الفجر لأن قصد الفعل إنما يلزمنا حين توجه الخطاب، وتوجهه- بالإتمام- بعد الفجر لأنه بعد الجزء الذي هو غاية لإنقضاء الليل تحقيقا لمعنى التراخي، والليل لا ينقضي إلا متصلا بجزء من الفجر، فتكون النية بعد مضي جزء الفجر الذي به انقطع الليل، وحصل فيه الإمساك المدلول عليه بالغاية، فإن قيل: لو كان كذلك وجب وجوب النية بعد المضي، أجيب بأن ترك ذلك بالإجماع، وبأن إعمال الدليلين- ولو بوجه- أولى من إهمال أحدهما، فلو قلنا بوجوب النية كذلك عملا بالآية بطل العمل بخبر «لا صيام لمن لم ينو الصيام من الليل» ولو قلنا باشتراط النية قبله عملا بالخبر بطل العمل بالآية، فقلنا بالجواز عملا بهما، فإن قيل: مقتضى الآية- على ما ذكر- الوجوب وخبر الواحد لا يعارضها، أجيب بأنها متروكة الظاهر بالإجماع فلم تبق قاطعة- فيجوز أن يكون الخبر بيانا لها- ولبعض الأصحاب تقرير الاستدلال بوجه آخر، ولعل ما ذكرناه أقل مؤنة فتدبر. وزعم بعض الشافعية أن الآية تدل على وجوب التبييت، لأن معنى «ثم أتموا» صيروه تاما بعد الانفجار، وهو يقتضي الشروع فيه قبله- وما ذاك إلا بالنية- إذ لا وجوب للإمساك قبل، ولا يخفي ما فيه وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ أي معتكفون فيها- والاعتكاف- في اللغة الاحتباس واللزوم مطلقا، ومنه قوله: فباتت بنات الليل حولي- عكفا ... عكوف- بواك حولهن صريع وفي الشرع لبث مخصوص، والنهي عطف على أول الأوامر- والمباشرة فيه كالمباشرة فيه- وقد تقدم أن المراد بها الجماع، إلا أنه لزم من إباحة الجماع إباحة اللمس والقبلة وغيرهما بخلاف النهي فإنه- لا يستلزم النهي عن الجماع- النهي عنهما، فهما إما مباحان اتفاقا بأن يكونا بغير شهوة، وإما حرامان بأن يكونا بها «يبطل الاعتكاف ما لم ينزل» وصحح معظم أصحاب الشافعي البطلان- وقيل: المراد من- المباشرة- ملاقاة البشرتين ففي الآية منع عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 مطلق المباشرة- وليس بشيء- فقد كانت عائشة رضي الله تعالى عنها ترجل رأس النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو معتكف، وفي تقييد- الاعتكاف بالمساجد- دليل على أنه لا يصح إلا في المسجد إذ لو جاز شرعا في غيره لجاز في البيت- وهو باطل بالإجماع- ويختص بالمسجد الجامع عند الزهري، وروي عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه مختص بمسجد له إمام ومؤذن راتب، وقال حذيفة رضي الله تعالى عنه: يختص بالمساجد الثلاثة، وعن علي كرم الله تعالى وجهه لا يجوز إلا في المسجد الحرام، وعن ابن المسيب لا يجوز إلا فيه أو في المسجد النبوي، ومذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه يصح في جميع المساجد مطلقا بناء على عموم اللفظ وعدم اعتبار أن المطلق ينصرف إلى الكامل، واستدل بالآية على صحة اعتكاف المرأة في غير المسجد بناء على أنها لا تدخل في خطاب الرجال، وعلى اشتراط الصوم في الاعتكاف لأنه قصر الخطاب على الصائمين، فلو لم يكن الصوم من شرطه لم يكن لذلك معنى، وهو المروي عن نافع مولى ابن عمر، وعائشة رضي الله تعالى عنهم، وعلى أنه لا يكفي فيه أقل من يوم- كما أن الصوم لا يكون كذلك- والشافعي رضي الله تعالى عنه لا يشترط يوما ولا صوما، لما أخرج الدارقطني والحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه» ومثله عن ابن مسعود، وعن علي كرم الله تعالى وجهه روايتان أخرجهما ابن أبي شيبة من طريقين إحداهما الاشتراط، وثانيتهما عدمه، وعلى أن المعتكف إذا خرج من المسجد فباشر خارجا جاز لأنه حصر المنع من المباشرة حال كونه فيه، وأجيب بأن المعنى لا تُبَاشِرُوهُنَّ حال ما يقال لكم: إنكم عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ ومن خرج من المسجد لقضاء الحاجة فاعتكافه باق، ويؤيده ما روي عن قتادة كان الرجل يعتكف فيخرج إلى امرأته فيباشرها ثم يرجع- فنهوا عن ذلك- واستدل بها أيضا على أن الوطء يفسد الاعتكاف لأن النهي للتحريم، وهو في العبادات يوجب الفساد، وفيه أن المنهي عنه هنا- المباشرة حال الاعتكاف- وهو ليس من العبادات لا يقال: إذا وقع أمر منهي عنه في العبادة- كالجماع في الاعتكاف- كانت تلك العبادة منهية باعتبار اشتمالها على المنهي ومقارنتها إياه إذ يقال: فرق بين كون الشيء منهيا عنه باعتباره ما يقارنه، وبين كون المقارن منهيا في ذلك الشيء والكلام في الأول، وما نحن فيه من قبيل الثاني تِلْكَ أي الأحكام الستة المذكورة المشتملة على إيجاب وتحريم وإباحة حُدُودُ اللَّهِ أي حاجزة بين الحق والباطل فَلا تَقْرَبُوها كيلا يداني الباطل والنهي عن القرب من- تلك الحدود- التي هي الأحكام كناية عن النهي عن قرب الباطل لكون الأول لازما للثاني وهو أبلغ من فَلا تَعْتَدُوها [البقرة: 229] لأنه نهي عن قرب الباطل بطريق الكناية التي هي أبلغ من الصريح، وذلك نهي عن الوقوع في الباطل بطريق الصريح، وعلى هذا لا يشكل «لا تقربوها» في تلك الأحكام مع اشتمالها على ما سمعت، ولا وقوع «فلا تعتدوها» وفي آية أخرى إذ قد حصل الجمع وصح «لا تقربوها» في الكل، وقيل: يجوز أن يراد ب حُدُودُ اللَّهِ تعالى محارمه ومناهيه إما لأن الأوامر السابقة تستلزم النواهي لكونها مغياة بالغاية، وإما لأن المشار إليه قوله سبحانه: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وأمثاله، وقال أبو مسلم: معنى «لا تقربوها» لا تتعرضوا لها بالتغيير كقوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ [الإنعام: 152، الإسراء: 34] فيشمل جميع الأحكام- ولا يخفى ما في الوجهين من التكليف- والقول- بأن تلك إشارة إلى الأحكام- والحد- إما بمعنى المنع أو بمعنى الحاجز بين الشيئين، فعلى الأول يكون المعنى تلك الأحكام ممنوعات الله تعالى عن الغير ليس لغيره أن يحكم بشيء فَلا تَقْرَبُوها أي لا تحكموا على أنفسكم أو على عباده من عند أنفسكم بشيء- فإن الحكم لله تعالى عز شأنه- وعلى الثاني يريد أن تلك الأحكام حدود حاجزة بين الألوهية والعبودية، فالإله يحكم والعباد تنقاد، فلا تقربوا الأحكام لئلا تكونوا مشركين بالله تعالى- لا يكاد يعرض على ذي لب فيرتضيه، وهو بعيد بمراحل عن المقصود كما لا يخفى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 كَذلِكَ أي مثل ذلك التبيين الواقع في أحكام الصوم يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ إما مطلقا أو الآيات الدالة على سائر الأحكام التي شرعها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ مخالفة أوامره ونواهيه، والجملة اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه لتقرير الأحكام السابقة والترغيب إلى امتثالها بأنها شرعت لأجل تقواكم، ولما ذكر سبحانه الصيام وما فيه عقبه بالنهي عن الأكل الحرام المفضي إلى عدم قبول عبادته من صيامه واعتكافه فقال: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ والمراد من- الأكل- ما يعم الأخذ والاستيلاء، وعبر به لأنه أهم الحوائج- وبه يحصل إتلاف المال غالبا- والمعنى لا يأكل بعضكم مال بعض، فهو على حد وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات: 11] وليس من تقسيم الجمع على الجمع، كما في- ركبوا دوابهم- حتى يكون معناه لا يأكل كل واحد منكم مال نفسه، بدليل قوله سبحانه: بَيْنَكُمْ فإنه- بمعنى الواسطة- يقتضي أن يكون ما يضاف إليه منقسما إلى طرفين بكون الأكل والمال حال الأكل متوسطا بينهما- وذلك ظاهر على المعنى المذكور- والظرف متعلق ب تَأْكُلُوا كالجار والمجرور بعده، أو بمحذوف حال من «الأموال» - والباء- للسببية والمراد من بِالْباطِلِ الحرام، كالسرقة، والغصب، وكل ما لم يأذن بأخذه الشرع. وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ عطف على تأكلوا فهو منهي عنه مثله مجزوم بما جزم به وجوز نصبه بأن مضمرة ومثل هذا التركيب وإن كان للنهي عن الجمع إلا أنه لا ينافي أن يكون كل من الأمرين منهيا عنه والإدلاء في الأصل إرسال الحبل في البئر ثم استعير للتوصل إلى الشيء أو الإلقاء- والباء- صلة الإدلاء وجوز أن تكون سببية والضمير المجرور «للأموال» أي لا تتوصلوا، أو لا تلقوا بحكومتها والخصومة فيها إلى- الحكام- وقيل: لا تلقوا بعضها إلى حكام السوء على وجه الرشوة، وقرأ أبيّ «ولا تدلوا» لِتَأْكُلُوا بالتحاكم والرفع إليهم. فَرِيقاً قطعة وجملة مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ أي بسبب ما يوجب إثما كشهادة الزور واليمين الفاجرة، ويحتمل أن تكون- الباء- للمصاحبة أي متلبسين- بالإثم. والجار والمجرور على الأول متعلق «بتأكلوا» وعلى الثاني حال من فاعله وكذلك وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ومفعول العلم محذوف أي- تعلمون- أنكم مبطلون، وفيه دلالة على أن من لا يعلم أنه مبطل، وحكم له الحاكم بأخذ مال فإنه يجوز له أخذه، أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير مرسلا أن عبدان بن أشوع الحضرمي، وامرؤ القيس بن عابس اختصما في أرض ولم تكن بينة فحكم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يحلف امرؤ القيس فهم به فقرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا [آل عمران: 77] فارتدع عن اليمين وسلم الأرض فنزلت. واستدل بها على أن حكم القاضي لا ينفذ باطنا فلا يحل به الأخذ في الواقع، وإلى ذلك ذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه وأبو يوسف ومحمد ويؤيده ما أخرجه البخاري ومسلم عن أم سلمة زوج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنه فإنما أقطع له قطعة من النار» . وذهب الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه إلى أن الحاكم إذا حكم ببينة بعقد أو فسخ عقد مما يصح أن يبتدأ فهو نافذ ظاهرا وباطنا ويكون كعقد عقداه بينهما، وإن كان الشهود زورا كما روي أن رجلا خطب امرأة هو دونها فأبت فادعى عند علي كرم الله تعالى وجهه أنه تزوجها وأقام شاهدين فقالت المرأة: لم أتزوجه وطلبت عقد النكاح فقال علي كرم الله تعالى وجهه: قد زوجك الشاهدان، وذهب فيمن ادعى حقا في يدي رجل وأقام بينة تقتضي أنه له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 وحكم بذلك الحاكم أنه لا يباح له أخذه وأن حكم الحاكم لا يبيح له ما كان قبل محظورا عليه وحمل الحديث على ذلك، والآية ليست نصا في مدعى مخالفيه لأنهم إن أرادوا أنها دليل على عدم النفوذ مطلقا فممنوع وإن أرادوا أنها دليل على عدم النفوذ في الجملة فمسلم ولا نزاع فيه لأن الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه يقول بذلك، ولكن فيما سمعت والمسألة معروفة في الفروع والأصول، ولها تفصيل في أدب القاضي فارجع إليه. يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ أخرج ابن عساكر بسند ضعيف- أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم، قالا: يا رسول الله ما بال الهلال يبدو ويطلع دقيقا مثل الخيط ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان لا يكون على حال واحد؟ فنزلت، وفي رواية أن معاذا قال: يا رسول الله إن اليهود يكثرون مسألتنا عن الأهلة فأنزل الله تعالى هذه الآية، فيراد بالجمع على الرواية الأولى ما فوق الواحد أو ينزل الحاضرون المترقبون للجواب منزلة السائل وظاهره المتبادر على الرواية الثانية بناء على أن سؤال اليهود من بعض أصحابه بمنزلة السؤال منه صلّى الله عليه وسلّم إذ هو طريق علمهم ومستمد فيضهم، والْأَهِلَّةِ جمع هلال واشتقاقه من استهل الصبي إذا بكى وصاح حين يولد ومنه أهل القوم بالحج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية، وسمي به القمر في ليلتين من أول الشهر أو في ثلاث أو حتى يحجر وتحجيره أن يستدير بخط دقيق- وإليه ذهب الأصمعي- أو حتى يبهر ضوءه سواد الليل، وغيا ذلك بعضهم بسبع ليال- وسمي بذلك لأنه حين يرى يهل الناس بذكره- أو بالتكبير ولهذا يقال أهلّ الهلال واستهل ولا يقال هلّ، والسؤال يحتمل أن يكون عن الغاية والحكمة وأن يكون عن السبب والعلة، ولا نص في الآية والخبر على أحدهما أما الملفوظ من الآية فظاهر، وأما المحذوف فيحتمل أن يقدر ما سبب اختلافها وأن يقدر ما حكمته، وهي وإن كانت في الظاهر سؤالا عن التعدد إلا أنها في الحقيقة متضمنة للسؤال عن اختلاف التشكلات النورية لأن التعدد يتبع اختلافها إذ لو كان الهلال على شكل واحد لا يحصل التعدد كما لا يخفى، وأما الخبر فلأن ما فيه يسأل بها عن الجنس وحقيقته فالمسؤول حينئذ حقيقة أمر الهلال وشأنه حال اختلاف تشكلاته النورية، ثم عوده إلى ما كان عليه وذلك الأمر المسئول عن حقيقته يحتمل ذينك الأمرين بلا ريب فعلى الأول يكون الجواب بقوله تعالى: قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ مطابقا مبينا للحكمة الظاهرة اللائقة بشأن التبليغ العام المذكرة لنعمة الله تعالى ومزيد رأفته سبحانه وهي أن يكون معالم للناس يوقتون بها أمورهم الدنيوية ويعلمون أوقات زروعهم ومتاجرهم ومعالم للعبادات الموقتة يعرف بها أوقاتها كالصيام والإفطار وخصوصا الحج، فإن الوقت مراعى فيه أداء وقضاء ولو كان الهلال مدورا كالشمس أو ملازما حالة واحدة لم يكد يتيسر التوقيت به، ولم يذكر صلى الله تعالى عليه وسلم الحكمة الباطنة لذلك مثل كون اختلاف تشكلاته سببا عاديا أو جعليا لاختلاف أحوال المواليد العنصرية كما بين في محله لأنه مما لم يطلع عليه كل أحد، وعلى الثاني يكون من الأسلوب الحكيم، ويسمى القول بالموجب وهو تلقي السائل بغير ما يتطلب بتنزيل سؤاله منزلة غيره تنبيها على أنه الأولى بحاله- واختاره السكاكي. وجماعة- فيكون في هذا الجواب إشارة إلى أن الأولى على تقدير وقوع السؤال أن يسألوا عن الحكمة لا عن السبب لأنه لا يتعلق به صلاح معاشهم ومعادهم، والنبي إنما بعث لبيان ذلك لا لأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم ليسوا ممن يطلع على دقائق علم الهيئة الموقوفة على الإرصاد والأدلة الفلسفية كما وهم لأن ذلك على فرض تسليمه في حق أولئك المشائين في ركاب النبوة، والمرتاضين في رواق الفتوة، والفائزين بإشراق الأنوار، والمطلعين بأرصاد قلوبهم على دقائق الأسرار، وإن لم يكن نقصا من قدرهم إلا أنه يدل على أن سبب الاختلاف ما بين في علم الهيئة من بعد القمر عن الشمس وقربه إليها وهو باطل عند أهل الشريعة فإنه مبني على أمور لم يثبت جزما شيء منها غاية الأمر أن الفلاسفة الأول تخيلوها موافقة لما أبدعه الحكيم المطلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 كما يشير إليه كلام مولانا الشيخ الأكبر قدس سره في فتوحاته، ومما ينادى على أن ما ذهبوا إليه مجرد تخيل لا تأباه الحكمة وليس مطابقا لما في نفس الأمران المتأخرين مما انتظم في سلك الفلاسفة كهرشل الحكيم وأتباعه أصحاب الرصد والزيج الجديد تخيلوا خلاف ما ذهب إليه الأولون في أمر الهيئة، وقالوا: بأن الشمس مركز والأرض وكذا النجوم دائرة حولها وبنوا حكم الكسوف والخسوف ونحوه على ذلك وبرهنوا عليه وردوا مخالفيه ولم يتخلف شيء من أحكامهم في هذا الباب بل يقع حسبما يقع ما يقوله الأولون مبنيا على زعمهم فحيث اتفقت الأحكام مع اختلاف المبنيين وتضاد المشائين، ورد أحد الزعمين بالآخر ارتفع الوثوق بكلا المذهبين ووجب الرجوع إلى العلم المقتبس من مشكاة الرسالة والمنقدح من أنوار شمس السيادة والبسالة، والاعتماد على ما قاله الشارع الأعظم صلّى الله عليه وسلّم بعد إمعان النظر فيه وحمله على أحسن معانيه وإذا أمكن الجمع بين ما يقوله الفلاسفة كيف كانوا مما يقبله العقل وبين ما يقوله سيد الحكماء ونور أهل الأرض والسماء فلا بأس به بل هو الأليق الأحرى في دفع الشكوك التي كثيرا ما تعرض لضعفاء المؤمنين وإذا لم يمكن ذلك فعليك بما دارت عليه أفلاك الشرع وتنزلت به أملاك الحق. إذا قالت حذام فصدقوها ... فإن القول ما قالت حذام وسيأتي تتمة لهذا المبحث إن شاء الله تعالى، و «المواقيت» جمع ميقات صيغة آلة أي ما يعرف به الوقت، والفرق بينه وبين المدة والزمان- على ما يفهم من كلام الراغب- أن المدة المطلقة امتداد حركة الفلك في الظاهر من مبدئها إلى منتهاها، والزمان مدة مقسومة إلى السنين والشهور والأيام والساعات، والوقت الزمان المقدر والمعين، وقرىء بإدغام نون عَنِ في الْأَهِلَّةِ بعد النقل والحذف، واستدل بالآية على جواز الإحرام بالحج في كل السنة، وفيه بعد بل ربما يستدل بها على خلاف ذلك لأنه لو صح لم يحتج إلى الهلال في الحج، وإنما احتيج إليه لكونه خاصا بأشهر معلومة محتاجة في تمييزها عن غيرها إليه، وإلى هذا ذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه، ومناسبة الآية لما قبلها ظاهرة لأنه في بيان حكم الصيام، وذكر شهر رمضان وبحث الْأَهِلَّةِ يلائم ذلك لأن الصوم مقرون برؤية الهلال وكذا الإفطار، ولهذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» أنه سبحانه ذكر قوانين جليلة من قوانين العدالة، فمنها القصاص الذي فرض لإزالة عدوان القوة السبعية، وهو ظل من ظلال عدله فإذا تصرف في عبده بإفنائه وقتله بسيف حبه عوضه عن حر روحه روحا، وعن عبد قلبه قلبا، وعن أنثى نفسه نفسا فإنّه كما كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ في قتلاكم- كتب على نفسه الرحمة في قتلاه- ففي بعض الآثار من طرق القوم أنه سبحانه يقول: من أحبني قتلته ومن قتلته فأنا ديته ولكم في مقاصة الله تعالى إياكم بما ذكر حياة عظيمة لا موت بعدها يا أولي العقول الخالصة عن قشر الأوهام وغواشي التعينات والإجرام لكي تتقوا تركه أو شرك وجودكم، ومنها الوصية التي هي قانون آخر فرض لإزالة نقصان القوة الملكية وقصورها عما تقتضي الحكمة من التصرفات ووصية أهل الله تعالى قدس الله تعالى أسرارهم المحافظة على عهد الأزل بترك ما سوى الحق، ومنها الصيام، وهو قانون فرض لإزالة تسلط القوى البهيمية، وهو عند أهل الحقيقة الإمساك عن كل قول وفعل وحركة ليس بالحق للحق والأيام المعدودة هي أيام الدنيا التي ستنقرض عن قريب فاجعلها كلها أيام صومك واجعل فطرك في عيد لقاء الله تعالى، وشهر رمضان هو وقت احتراق النفس واضمحلالها بأنوار تجليات القرب الذي أنزل فيه القرآن، وهو العلم الإجمالي الجامع هداية للناس إلى الوحدة باعتبار الجمع، ودلائل مفصلة من الجمع، والفرق- فمن حضر منكم ذلك الوقت وبلغ مقام الشهود فليمسك عن كل شيء إلا له، وبه، وفيه، ومنه، وإليه، ومن كان مبتلى بأمراض القلب والحجب النفسانية المانعة عن الشهود أو على سفر وتوجه إلى ذلك المقام فعليه مراتب أخر يقطعها حتى يصل إليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ والوصول إلى مقام التوحيد، والاقتدار بقدرته وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وتكلف الأفعال بالنفس الضعيفة وَلِتُكْمِلُوا عدة المراتب ولتعظموا الله تعالى على هدايته لكم إلى مقام الجمع وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ بالاستقامة وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي المختصون بي المنقطعون إلى عن معرفتي فَإِنِّي قَرِيبٌ منهم بلا أين ولا بين ولا إجماع ولا افتراق أُجِيبُ من يدعوني بلسان الحال، والاستعداد بإعطائه ما اقتضى حاله، واستعداده فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي بتصفية استعدادهم وليشاهدوني عند التصفية حين أتجلى في مرايا قلوبهم لكي يستقيموا في مقام الطمأنينة وحقائق التمكين. ولما كان للإنسان تلونات بحسب اختلاف الأسماء فتارة يكون بحكم غلبات الصفات الروحانية في نهار الواردات الربانية وحينئذ يصوم عن الحظوظ الإنسانية، وتارة يكون بحكم الدواعي والحاجات البشرية مردودا بمقتضى الحكمة إلى ظلمات الصفات الحيوانية وهذا وقت الغفلة الذي يتخلل ذلك الإمساك أباح له التنزل بعض الأحايين إلى مقارنة النفوس وهو الرفث إلى النساء وعلله بقوله سبحانه: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ أي لا صبر لكم عنها بمقتضى الطبيعة لكونها تلابسكم وكونكم تلابسونهن بالتعلق الضروري عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ وتنقصونها حظوظها الباقية باستراق تلك الحظوظ الفانية في أزمنة السلوك والرياضة فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ أي وقت الاستقامة والتمكين حال البقاء بعد الفناء بَاشِرُوهُنَّ بقدر الحاجة الضرورية وَابْتَغُوا بقوة هذه المباشرة ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ من التقوى والتمكن على توفير حقوق الاستقامة والوصول إلى المقامات العقلية وَكُلُوا وَاشْرَبُوا في ليالي الصحو حتى يظهر لكم بوادر الحضور ولوامعه وتغلب آثاره وأنواره على سواد الغفلة وظلمتها ثم كونوا على الإمساك الحقيقي بالحضور مع الحق حتى يأتي زمان الغفلة الأخرى فإن لكل حاضر سهما منها ولولا ذلك لتعطلت مصالح المعاش، وإليه الإشارة بخبر «لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل، ولي وقت مع حفصة وزينب» ، ولا تقاربوهن حال اعتكافكم وحضوركم في مقامات القربة والأنس ومساجد القلوب وَلا تَأْكُلُوا أموال معارفكم بَيْنَكُمْ بباطل شهوات النفس، وترسلوا بها إلى حكام النفوس الأمارة بالسوء لِتَأْكُلُوا الطائفة مِنْ أَمْوالِ القوى الروحانية بالظلم لصرفكم إياها في ملاذ القوى النفسانية وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أن ذلك إثم ووضع للشيء في غير موضعه يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ وهي الطوالع القلبية عند إشراق نور الروح عليها قُلْ هِيَ مَواقِيتُ للسالكين يعرف بها أوقات وجوب المعاملة في سبيل الله وعزيمة السلوك وطواف بيت القلب، والوقوف في عرفة العرفان، والسعي من صفوة الصفا ومروة المروة، وقيل: الْأَهِلَّةِ للزاهدين مواقيت أورادهم. وللصديقين مواقيت مراقباتهم، والغالب على الأولين القيام بظواهر الشريعة، وعلى الآخرين القيام بأحكام الحقيقة، فإن تجلى عليهم بوصف الجلال طاشوا، وإن تجلى عليهم بوصف الجمال عاشوا، فهم بين جلال وجمال وخضوع ودلال نفعنا الله تعالى بهم، وأفاض علينا من بركاتهم وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها أخرج ابن جرير والبخاري. عن البراء قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره فأنزل الله وَلَيْسَ الْبِرُّ الآية، وكأنهم كانوا يتحرجون من الدخول من الباب من أجل سقف الباب أن يحول بينهم وبين السماء كما صرح به الزهري في رواية ابن جرير عنه- ويعدون فعلهم ذلك برا- فبين لهم أنه ليس ببر وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى أي- بر من اتقى- المحارم والشهوات، أو لكن ذا الْبِرُّ أو البار مَنِ اتَّقى والظاهر أن جملة النفي معطوفة على مقول- قل- فلا بد من الجامع بينهما فإما أن يقال: إنهم سألوا عن الأمرين كيف ما اتفق، فجمع بينهما في الجواب بناء على الاجتماع الاتفاقي في السؤال، والأمر الثاني مقدر إلا أنه ترك ذكره إيجازا واكتفاء بدلالة الجواب عليه، وإيذانا بأن هذا الأمر مما لا ينبغي أن يقع فيحتاج إلى السؤال عنه، أو يقال: إن السؤال واقع عَنِ الْأَهِلَّةِ فقط وهذا مستعمل إما على الحقيقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 مذكور للاستطراد حيث ذكر- مواقيت الحج- والمذكور أيضا من أفعالهم فيه إلا الخمس، أو للتنبيه على أن اللائق بحالهم أن يسألوا عن أمثال هذا الأمر، ولا يتعرضوا بما لا يهمهم عن أمر الْأَهِلَّةِ وإما على سبيل الاستعارة التمثيلية بأن يكون قد شبه حالهم في سؤالهم عما لا يهم، وترك المهم بحال من ترك الباب وأتى من غير الطريق للتنبيه على تعكيسهم الأمر في هذا السؤال، فالمعنى وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تعكسوا مسائلكم وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى ذلك ولم يجبر على مثله، وجوز أن يكون العطف على قوله سبحانه: يَسْئَلُونَكَ والجامع بينهما أن الأول قول لا ينبغي، والثاني فعل لا ينبغي وقعا من الأنصار على ما تحكيه بعض الروايات. وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها إذ ليس في العدول برا وباشروا الأمور عن وجوهها، والجملة عطف على وَلَيْسَ الْبِرُّ إما لأنه في تأويل- ولا تأتوا البيوت من ظهورها- أو لكونه مقول القول، وعطف الإنشاء على الإخبار جائز فيما له محل من الإعراب سيما بعد القول، وقرأ ابن كثير وكثير بكسر باء الْبُيُوتَ حيثما وقع وَاتَّقُوا اللَّهَ في تغيير أحكامه- كإتيان البيوت من أبوابها- والسؤال عما لا يعني، ومن الحكم والمصالح المودعة في مصنوعاته تعالى بعد العلم بأنه أتقن كل شيء، أو في جميع أموركم. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لكي تفوزوا بالمطلوب من الهدى والبر، فإن مَنِ اتَّقى الله تعالى تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه وانكشفت له دقائق الأسرار حسب تقواه وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي جاهدوا لإعزاز دين الله تعالى وإعلاء كلمته- فالسبيل- بمعنى الطريق مستعار لدين الله تعالى وكلمته لأنه يتوصل المؤمن به إلى مرضاته تعالى، والظرفية التي هي مدلولة في ترشيح للاستعارة الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ أي يناجزونكم القتال من الكفار، وكان هذا- على ما روي عن أبي العالية- قبل أن أمروا بقتال المشركين كافة- المناجزين والمحاجزين- فيكون ذلك حينئذ تعميما بعد التخصيص المستفاد من هذا الأمر مقررا لمنطوقه ناسخا لمفهومه- أي لا تقاتلوا المحاجزين- وكذا المنطوق في النهي الآتي فإنّه على هذا الوجه مشتمل على النهي عن قتالهم أيضا، وقيل: معناه الذين يناصبونكم القتال، ويتوقع منهم ذلك دون غيرهم من المشايخ، والصبيان والنساء والرهبان فتكون الآية مخصصة لعموم ذلك الأمر مخرجة لمن لم يتوقع منهم وقيل: المراد ما يعم سائر الكفار فإنهم بصدد قتال المسلمين وقصده فهم في حكم المقاتلة قاتلوا أو لم يقاتلوا، ويؤيد الأول ما أخرجه أبو صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المشركين صدوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن البيت عام الحديبية وصالحوه على أن يرجع عامه القابل ويخلوا له مكة ثلاثة أيام فيطوف بالبيت ويفعل ما شاء فلما كان العام المقبل تجهز رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا أن لا تفي لهم قريش بذلك وأن يصدوهم عن المسجد الحرام ويقاتلوهم وكره أصحابه قتالهم في الشهر الحرام في الحرم فأنزل الله تعالى الآية، وجعل ما يفهم من الأثر- وجها رابعا في المراد بالموصول بأن يقال المراد به من يتصدى من المشركين للقتال في الحرم وفي الشهر الحرام كما فعل البعض- بعيد لأنه تخصيص من غير دليل وخصوص السبب لا يقتضي خصوص الحكم وَلا تَعْتَدُوا أي لا تقتلوا النساء والصبيان والشيخ الكبير ولا من ألقى إليكم السلم وكف يده فإن فعلتم فقد اعتديتم رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس- أو لا تعتدوا- بوجه من الوجوه كابتداء القتال أو قتال المعاهد أو المفاجأة به من غير دعوة أو قتل من نهيتم عن قتله قاله بعضهم، وأيد بأن الفعل المنفي يفيد العموم إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ أي المتجاوزين ما حد لهم وهو كالتعليل لما قبله ومحبته تعالى لعباده في المشهور عبارة عن إرادة الخير والثواب لهم ولا واسطة بين المحبة والبغض بالنسبة إليه عز شأنه وذلك بخلاف محبة الإنسان وبغضه فإن بينهما واسطة وهي عدمهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أي وجدتموهم كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حين سأله نافع بن الأزرق، وأنشد عليه قول حسان رضي الله تعالى عنه: فإمّا «يثقفن» بني لويّ ... جذيمة إن قتلهم دواء وأصل الثقف الحذق في إدراك الشيء عملا كان أو علما ويستعمل كثيرا في مطلق الإدراك، والفعل منه ثقف ككرم وفرح وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ أي مكة وقد فعل بهم ذلك عام الفتح وهذا الأمر معطوف على سابقه، والمراد افعلوا كل ما يتيسر لكم من هذين الأمرين في حق المشركين فاندفع ما قيل: إن الأمر بالإخراج لا يجامع الأمر بالقتل فإن القتل والإخراج لا يجتمعان، ولا حاجة إلى ما تكلف من أن المراد إخراج من دخل في الأمان أو وجدوه بالأمان كما لا يخفى وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ أي شركهم في الحرم أشد قبحا فلا تبالوا بقتالهم فيه لأنه ارتكاب القبيح لدفع الأقبح فهو مرخص لكم ويكفر عنكم، أو المحنة التي يفتتن بها الإنسان كالإخراج من الوطن المحبب للطباع السليمة أصعب من القتل لدوام تعبها وتألم النفس بها، ومن هنا قيل: لقتل بحد سيف أهون موقعا ... على النفس من قتل «بحد فراق» والجملة على الأول من باب التكمل والاحتراس لقوله تعالى: وَاقْتُلُوهُمْ إلخ عن توهم أن القتال في الحرم قبيح فكيف يؤمر به، وعلى الثاني تذييل لقوله سبحانه: وَأَخْرِجُوهُمْ إلخ لبيان حال الإخراج والترغيب فيه، وأصل- الفتنة- عرض الذهب على النار لاستخلاصه من الغش ثم استعمل في الابتلاء والعذاب والصد عن دين الله والشرك به، وبالأخير فسرها أبو العالية في الآية وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ نهي للمؤمنين أن يبدؤوا القتال في ذلك الموطن الشريف حتى يكون هم الذين يبدؤون، فالنهي عن المقاتلة التي هي فعل اثنين باعتبار نهيهم عن الابتداء بها الذي يكون سببا لحصولها، وكذا كونها غاية باعتبار المفاتحة لئلا يلزم كون الشيء غاية لنفسه. فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ نفي للحرج عن القتال في الحرم الذي خاف منه المسلمون وكرهوه أي إن قاتلوكم هناك فلا تبالوا بقتالهم لأنهم الذين هتكوا الحرمة وأنتم في قتالهم دافعون القتل عن أنفسكم وكان الظاهر الإتيان بأمر المفاعلة إلا أنه عدل عنه إلى أمر فعل بشارة للمؤمنين بالغلبة عليهم أي هم من الخذلان وعدم النصر بحيث أمرتم بقتلهم، وقرأ حمزة والكسائي- ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فإن قتلوكم فاقتلوهم- واعترض الأعمش على حمزة في هذه القراءة فقال له: أرأيت قراءتك إذا صار الرجل مقتولا فبعد ذلك كيف يصير قاتلا لغيره؟ فقال حمزة: إن العرب إذا قتل منهم رجل قالوا: قتلنا، وإذا ضرب منهم الرجل قالوا: ضربنا، وحاصله أن الكلام على حذف المضاف إلى المفعول وهو لفظ بعض فلا يلزم كون المقتول قاتلا، وأما إسناد الفعل إلى الضمير فمبني على أن الفعل الواقع من البعض برضا البعض الآخر يسند إلى الكل على التجوز في الإسناد فلا حاجة فيه إلى التقدير، ولذا اكتفى الأعمش في السؤال بجانب المفعول، وكذا قوله سبحانه: وَلا تُقاتِلُوهُمْ جاز على حقيقة من غير تأويل لأن المعنى على السلب الكلي أي لا يقتل واحد منكم واحدا منهم حتى يقع منهم قتل بعضهم. ثم إن هذا التأويل مختص بهذه القراءة ولا حاجة إليه في- لا تقاتلوهم- لأن المعنى لا تفاتحوهم والمفاتحة لا تكون إلا بشروع البعض بقتال البعض قاله بعض المحققين، وقد خفي على بعض الناظرين فتدبر كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ تذييل لما قبله أي يفعل بهم مثل ما فعلوا، والْكافِرِينَ إما من وضع المظهر موضع المضمر نعيا عليهم بالكفر أو المراد منه الجنس ويدخل المذكورون فيه دخولا أوليا. والجار في المشهور خبر مقدم وما بعده مبتدأ مؤخر، واختار أبو البقاء أن الكاف بمعنى مثل مبتدأ وجزاء خبره إذ لا وجه للتقديم فَإِنِ انْتَهَوْا عن الكفر بالتوبة منه كما روي عن مجاهد وغيره، أو عنه وعن القتال كما قيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 لقرينة ذكر الأمرين فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فيغفر لهم ما قد سلف، واستدل به في البحر على قبول توبة قاتل العمد إذ كان الكفر أعظم مأثما من القتل، وقد أخبر سبحانه أنه يقبل التوبة منه وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ عطف على قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ والأول مسوق لوجوب أصل القتال، وهذا لبيان غايته، والمراد من «الفتنة» الشرك على ما هو المأثور عن قتادة والسدي وغيرهما، ويؤيده أن مشركي العرب ليس في حقهم إلا الإسلام أو السيف لقوله سبحانه تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [الفتح: 16] وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ أي خالصا له كما يشعر به اللام، ولم يجىء هنا كلمة- كله- كما في آية الأنفال لأن ما هنا في مشركي العرب، وما هناك في الكفار عموما فناسب العموم هناك وتركه هنا فَإِنِ انْتَهَوْا تصريح بمفهوم الغاية فالمتعلق الشرك- والفاء- للتعقيب فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ علة للجزاء المحذوف أقيمت مقامه، والتقدير فَإِنِ انْتَهَوْا وأسلموا- فلا تعتدوا- عليهم لأن «العدوان على الظالمين» والمنتهون ليسوا بظالمين، والمراد نفي الحسن والجواز لا نفي الوقوع لأن «العدوان» واقع على غير الظالمين، والمراد من «العدوان» العقوبة بالقتل، وسمي القتل عدوانا من حيث كان عقوبة- للعدوان- وهو الظلم كما في قوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: 40] وحسن ذلك لازدواج الكلام والمزاوجة هنا معنوية ويمكن أن يقال سمي جزاء الظلم ظلما لأنه وإن كان عدلا من المجازي لكنه ظلم في حق الظالم من عند نفسه لأنه ظلم بالسبب لإلحاق هذا الجزاء به وقيل: لا حذف والمذكور هو الجزاء على معنى فلا تعتدوا على المنتهين إما بجعل فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ بمعنى- فلا عدوان على غير الظالمين- المكنى به عن المنتهين، أو جعل اختصاص العدوان بالظالمين كناية عن عدم جواز العدوان على غيرهم وهم المنتهون، واعترض بأنه على التقدير الأول يصير الحكم الثبوتي المستفاد من القصر زائدا، وعلى التقدير الثاني يصير المكنى عنه من المكنى به، وجوز أن يكون المذكور هو الجزاء ومعنى الظَّالِمِينَ المتجاوزين عن حد حكم القتال، كأنه قيل: فَإِنِ انْتَهَوْا عن الشرك فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى المتجاوزين عما حده الله تعالى للقتال وهم المتعرضون للمنتهين، ويؤول المعنى إلى أنكم إن تعرضتم للمتقين صرتم ظالمين وتنعكس الحال عليكم- وفيه من المبالغة في النهي عن قتال المنتهين ما لا يخفى- وذهب بعضهم إلى أن هذا المعنى يستدعي حذف الجزاء، وجعل المذكور علة له على معنى فَإِنِ انْتَهَوْا فلا تتعرضوهم لئلا تكونوا ظالمين فيسلط الله عليكم من يعدو عليكم لأن- العدوان- لا يكون إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ أو فَإِنِ انْتَهَوْا يسلط عليكم من يعدو عليكم على تقدير تعرضكم لهم لصيرورتكم ظالمين بذلك، وفيه من البعد ما لا يخفى فتدبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ قاتلهم المشركون عام الحديبية في ذي القعدة قتالا خفيفا بالرمي بالسهام والحجارة، فاتفق خروجهم لعمرة القضاء فيه فكرهوا أن يقاتلوهم لحرمته. فقيل: هذا الشَّهْرُ الْحَرامُ بذلك، وهتكه بهتكه فلا تبالوا به وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ أي الأمور التي يجب أن يحافظ عليها ذوات قِصاصٌ أو مقاصة، وهو متضمن لإقامة الحجة على الحكم السابق، كأنه قيل: لا تبالوا بدخولكم عليه عنوة، وهتك حرمة هذا الشهر ابتداء بالغلبة، فإن الْحُرُماتُ يجري فيها- القصاص- فالصد قصاصه العنوة فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ فذلكة لما تقدمه، وهو أخص مفادا منه لأن الأول يشمل ما إذا هتك حرمة الإحرام والصيد والحشيش مثلا بخلاف هذا، وفيه تأكيد لقوله تعالى: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ ولا ينافي ذلك فذلكيته معطوفا- بالفاء- والأمر للإباحة- إذ العفو جائز- و «من» تحتمل الشرطية والموصولية، وعلى الثاني تكون- الفاء- صلة في الخبر- والباء- تحتمل الزيادة وعدمها، واستدل الشافعي بالآية على أن القاتل يقتل بمثل ما قتل به من محدد أو خنق أو حرق أو تجويع أو تغريق حتى لو ألقاه في ماء عذب لم يلق في ماء ملح واستدل بها أيضا على أن من غصب شيئا وأتلفه يلزمه رد مثله، ثم إن المثل قد يكون من طريق الصورة- كما في ذوات الأمثال- وقد يكون من طريق المعنى كالقيم فيما لا مثل له وَاتَّقُوا اللَّهَ في الانتصار لأنفسكم وترك الاعتداء بما لم يرخص لكم فيه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ بالنصر والعون وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عطف على قاتلوا أي وليكن منكم إنفاق ما في سبيله وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ بترك الغزو والإنفاق فيه، فهو متعلق بمجموع المعطوف والمعطوف عليه نهيا عن ضدهما تأكيدا لهما، ويؤيد ذلك ما أخرجه غير واحد- عن أبي عمران- قال: كنا بالقسطنطينية فخرج صف عظيم من الروم فحمل رجل من المسلمين حتى دخل فيهم، فقال الناس: ألقى بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري فقال: أيها الناس، إنكم تؤولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما نزلت فينا معاشر الأنصار، إنا لما أعز الله تعالى دينه وكثر ناصروه قال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله تعالى قد أعز الإسلام، وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم ما يرد علينا ما قلنا وَأَنْفِقُوا إلخ، فكانت التَّهْلُكَةِ الإقامة في الأموال وإصلاحها، وترك الغزو. وقال الجبائي: التَّهْلُكَةِ الإسراف في الإنفاق، فالمراد بالآية النهي عنه بعد الأمر بالإنفاق تحريا للطريق الوسط بين الإفراط والتفريط فيه، وروى البيهقي في الشعب- عن الحسن- أنها البخل لأنه يؤدي إلى الهلاك المؤبد فيكون النهي مؤكدا للأمر السابق، واختار البلخي أنها اقتحام الحرب من غير مبالاة، وإيقاع النفس في الخطر والهلاك، فيكون الكلام متعلقا ب قاتِلُوا نهيا عن الإفراط والتفريط في الشجاعة، وأخرج سفيان بن عيينة. وجماعة عن البراء بن عازب أنه قيل له: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ هو الرجل يلقى العدو فيقاتل حتى يقتل، قال: لا، ولكن هو الرجل يذنب الذنب فيلقي بيديه فيقول: لا يغفر الله تعالى لي أبدا- وروي مثله عن عبيدة السلماني- وعليه يكون متعلقا بقوله سبحانه: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وهو في غاية البعد، ولم أر من صحح الخبر عن البراء رضي الله تعالى عنه سوى الحاكم- وتصحيحه لا يوثق به- وظاهر اللفظ العموم- والإلقاء- تصيير الشيء إلى جهة السفل وألقى عليه مسألة مجاز، ويقال لكل من أخذ في عمل ألقى يديه إليه وفيه، ومنه قول لبيد في الشمس: حتى إذا «ألقت» يدا في كافر ... وأجن عورات الثغور ظلامها وعدي- بإلى- لتضمنه معنى الإفضاء أو الإنهاء- والباء- مزيدة في المفعول لتأكيد معنى النهي، لأن- ألقى- يتعدى بنفسه كما في فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ [الشعراء: 45] وزيادتها في المفعول لا تنقاس، والمراد- بالأيدي- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 الأنفس مجازا، وعبر بها عنها لأن أكثر ظهور أفعالها بها، وقيل: يحتمل أن تكون زائدة- والأيدي- بمعناها، والمعنى لا تجعلوا التَّهْلُكَةِ آخذة بأيديكم قابضة إياها، وأن تكون غير مزيدة- والأيدي- أيضا على حقيقتها ويكون المفعول محذوفا أي لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ أنفسكم إِلَى التَّهْلُكَةِ وفائدة ذكر- الأيدي- حينئذ التصريح بالنهي عن الإلقاء إليها بالقصد والاختيار، والتَّهْلُكَةِ مصدر كالهلك والهلاك، وليس في كلام العرب مصدر على تفعلة- بضم العين- إلا هذا في المشهور، وحكى سيبويه عن العرب- تضره وتسره- أيضا بمعنى الضرر والسرور، وجوز أن يكون أصلها- تهلكة بكسر اللام- مصدر هلك مشددا كالتجربة والتبصرة فأبدلت- الكسرة ضمة- وفيه أن مجيء تفعلة- بالكسر- من فعل المشدد الصحيح الغير المهموز شاذ، والقياس تفعيل وإبدال- الكسرة بالضم من غير علة- في غاية الشذوذ، وتمثيله بالجوار- مضموم الجيم- في جوار مكسورها- ليس بشيء- إذ ليس ذلك نصا في الابدال لجواز أن يكون بناء المصدر فيه على فعال- مضموم الفاء شذوذا- يؤيده ما في الصحاح جاورته مجاورة وجوارا وجوارا- والكسر أفصح، وفرق بعضهم بين التَّهْلُكَةِ والهلاك بأن الأول ما يمكن التحرز عنه، والثاني ما لا يمكن، وقيل: الهلاك مصدر والتَّهْلُكَةِ نفس الشيء المهلك، وكلا القولين خلاف المشهور، واستدل بالآية على تحريم الإقدام على ما يخاف منه تلف النفس، وجواز الصلح مع الكفار والبغاة إذا خاف الإمام على نفسه أو على المسلمين وَأَحْسِنُوا أي بالعود على المحتاج- قاله عكرمة- وقيل: أحسنوا الظن بالله تعالى وَأَحْسِنُوا في أعمالكم بامتثال الطاعات ولعله أولى. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ويثيبهم وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ أي اجعلوهما تامين إذا تصديتم لأدائهما لوجه الله تعالى فلا دلالة في الآية على أكثر من وجوب الإتمام بعد الشروع فيهما وهو متفق عليه بين الحنفية والشافعية رضي الله تعالى عنهم، فإن إفساد الحج والعمرة مطلقا يوجب المضي في بقية الأفعال والقضاء، ولا تدل على وجوب الأصل، والقول بالدلالة بناء على أن الأمر- بالإتمام- مطلقا يستلزم الأمر بالأداء لما تقرر من أن ما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب- ليس بشيء- لأن الأمر بالإتمام يقتضي سابقية الشروع فيكون الأمر بالإتمام مقيدا بالشروع وادعاء أن المعنى ائتوا بهما حال كونهما تامين مستجمعي الشرائط والأركان، وهذا يدل على وجوبهما لأن الأمر ظاهر فيه، ويؤيده قراءة «وأقيموا الحج والعمرة» ليس بسديد. «أما أولا» فلأنه خلاف الظاهر وبتقدير قبوله في مقام الاستدلال يمكن أن يجعل الوجوب المستفاد من الأمر فيه متوجها إلى القيد- أعني تامين- لا إلى أصل الإتيان كما في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «بيعوا سواء بسواء» «وأما ثانيا» فلأن الأمر في القراءة محمول على المعنى المجازي المشترك بين الواجب والمندوب- أعني طلب الفعل- والقرينة على ذلك الأحاديث الدالة على استحباب العمرة، فقد أخرج الشافعي في الأم وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن ماجة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «الحج جهاد والعمرة تطوع» وأخرج الترمذي وصححه- عن جابر- أن رجلا سأل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن العمرة، أواجبة هي؟ قال: «لا، وأن تعتمروا خير لكم» ويؤيد ذلك أن ابن مسعود صاحب هذه القراءة قال فيما أخرجه عنه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد: «الحج فريضة والعمرة تطوع» وأخرج ابن أبي داود في المصاحف- عنه أيضا- أنه كان يقرأ ذلك ثم يقول: والله لولا التحرج أني لم أسمع فيها من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شيئا لقلت: إن العمرة واجبة مثل الحج، وهذا يدل على أنه رضي الله تعالى عنه لم يجعل الأمر بالنسبة إليها للوجوب لأنه لم يسمع شيئا فيه- ولعله سمع ما يخالفه- ولهذا جزم في الرواية الأولى عنه بفرضية الحج واستحباب العمرة، وكأنه لذلك حمل الأمر في قراءته على القدر المشترك الذي قلناه لا غير بناء على امتناع استعمال المشترك في معنييه وعدم جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز والميل إلى عدم تقدير فعل موافق للمذكور يراد به الندب، نعم لا يعد ما ذكر صارفا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 إلا إذا ثبت كونه قبل الآية، أما إذا ثبت كونه بعدها فلا لأنه يلزم نسخ الكتاب بخبر الواحد لما أن الأمر ظاهر في الوجوب، وليس مجملا في معانيه على الصحيح حتى يحمل الخبر على تأخير البيان- على ما وهم- والقول- بأن أحاديث الندب سابقة ولا تصرف الأمر عن ظاهره بل يكون ذلك ناسخا لها- سهو ظاهر لأن الأحاديث نص في الاستحباب، والقرآن ظاهر في الوجوب فكيف يكون الظاهر ناسخا للنص، والحال أن النص مقدم على الظاهر عند التعارض. ثم إن هذا الذي ذكرناه- وإن لم يكن مبطلا لأصل التأييد إلا أنه يضعفه جدا، وادعى بعضهم أن الأحاديث الدالة على استحباب العمرة معارضة بما يدل على وجوبها منها، فقد أخرج الحاكم عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت» وأخرج أبو داود والنسائي أن رجلا قال لعمر: إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين عليّ أهللت بهما جميعا فقال: هديت لسنة نبيك، فإن هذا يدل على أن الإهلال بهما طريقة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لأن الاستدلال بما حكاه الصحابي من سنته عليه الصلاة والسلام يكون استدلالا بالحديث الفعلي الذي رواه الصحابي، والقول بأن- أهللت بهما- جملة مفسرة لقوله وجدت فيجوز أن يكون الوجوب بسبب الإهلال بهما فلا يدل الحديث على الوجوب ابتداء ليس بشيء لأن الجملة مستأنفة كأنه قيل: فما فعلت؟ فقال: أهللت فيدل على أن الوجدان سبب الإهلال دون العكس لأن مقصود السائل السؤال عن صحة إهلاله بهما فكيف يقول وجدتهما مكتوبين لأني أهللت بهما فإنه إنما يصح على تقدير علمه بصحة إهلاله بهما، وجواب عمر رضي الله تعالى عنه بمعزل عن وجوب الإتمام لأن كون الشروع في الشيء موجبا لإتمامه، لا يقال فيه إنه طريقة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بل يقال في أداء المناسك والعبادات، ويؤيد ذلك ما وقع في بعض الروايات- فأهللت- بالفاء الدالة على الترتب، وما ذكر عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه معارض بما روي عنه من القول بالوجوب وبذلك قال علي كرم الله تعالى وجهه وكان يقرأ: وأقيموا أيضا كما رواه عنه ابن جرير وغيره، وكذا ابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم انتهى. والإنصاف تسليم تعارض الأخبار، وقد أخذ كل من الأئمة بما صح عنده والمسألة من الفروع، والاختلاف في أمثالها رحمة وإن الحق أن الآية لا تصلح دليلا للشافعية ومن وافقهم كالإمامية علينا، وليس فيها عند التحقيق أكثر من بيان وجوب إتمام أفعالهما عند التصدي لأدائهما وإرشاد الناس إلى تدارك ما عسى يعتريهم من العوارض المخلة بذلك من الإحصار ونحوه من غير تعرض لحالهما من الوجوب وعدمه، ووجوب الحج مستفاد من قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران: 97] ومن ادعى من المخالفين أنها دليل له فقد ركب شططا وقال غلطا كما لا يخفى على من ألقى السمع وهو شهيد، وأخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه إتمام الحج والعمرة لله أن تحرم بهما من دويرة أهلك، ومثله عن أبي هريرة مرفوعا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما من إتمامهما أن يفرد كل واحد منهما عن الآخر وأن يعتمر في غير أشهر الحج وقيل: إتمامهما أن تكون النفقة حلالا، وقيل: أن تحدث لكل منهما سفرا، وقيل: أن تخرج قاصدا لهما لا لتجارة ونحوها، وقرىء «إلى البيت، وللبيت» والأول مروي عن ابن مسعود، والثاني عن عليّ كرم الله تعالى وجهه فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ مقابل لمحذوف أي هذا إن قدرتم على إتمامهما والإحصار والحصر كلاهما في أصل اللغة بمعنى المنع مطلقا، وليس الحصر مختصا بما يكون من العدو، والإحصار بما يكون من المرض، والخوف- كما توهم الزجاج- من كثرة استعمالهما كذلك فإنه قد يشيع استعمال اللفظ الموضوع للمعنى العام في بعض أفراده، والدليل على ذلك أنه يقال: حصره العدو وأحصره كصده وأصده فلو كانت النسبة إلى العدو معتبرة في مفهوم الحصر لكان التصريح بالإسناد إليه تكرارا ولو كانت النسبة إلى المرض ونحوه معتبرة في مفهوم الإحصار لكان إسناده إلى العدو مجازا وكلاهما خلاف الأصل، والمراد من الإحصار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 هنا حصر العدو عند مالك والشافعي رحمهما الله تعالى لقوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ فإن الأمن لغة في مقابلة الخوف ولنزوله عام الحديبية ولقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا حصر إلا حصر العدو فقيد إطلاق الآية وهو أعلم بمواقع التنزيل. وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن المراد به ما يعم كل منع من عدو ومرض وغيرهما، فقد أخرج أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجة والحاكم من حديث الحجاج بن عمرو «من كسر أو عرج فعليه الحج من قابل» وروى الطحاوي من حديث عبد الرحمن بن زيد قال: «أهل رجل بعمرة يقال له عمر بن سعيد فلسع فبينا هو صريع في الطريق إذ طلع عليه ركب فيهم ابن مسعود فسألوه فقال: ابعثوا بالهدي واجعلوا بينكم وبينه يوم أمارة فإذا كان ذلك فليحل» وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء لا إحصار إلا من مرض أو عدو أو أمر حابس، وروى البخاري مثله عنه، وقال عروة: كل شيء حبس المحرم فهو إحصار، وما استدل به الخصم مجاب عنه، أما الأول فستعلم ما فيه، وأما الثاني فإنه لا عبرة بخصوص السبب، والحمل على أنه للتأييد يأبى عنه ذكره باللام استقلالا، والقول بأن- أحصرتم- ليس عاما إذ الفعل المثبت لا عموم له فلا يراد إلا ما ورد فيه وهو حبس العدو بالاتفاق ليس بشيء لأنه وإن لم يكن عاما لكنه مطلق فيجري على إطلاقه، وأما الثالث فلأنه بعد تسليم حجية قول ابن عباس رضي الله تعالى عنه في أمثال ذلك معارض بما أخرجه ابن جرير وابن المنذر عنه في تفسير الآية أنه كان يقول: «من أحرم بحج أو عمرة ثم حبس عن البيت بمرض يجهده أو عدو يحبسه فعليه ذبح ما استيسر من الهدي» فكما خصص في الرواية الأولى عمم في هذه وهو أعلم بمواقع التنزيل والقول- بأن حديث الحجاج ضعيف- ضعيف إذ له طرق مختلفة في السنن وقد روى أبو داود أن عكرمة سأل العباس وأبا هريرة رضي الله تعالى عنهما عن ذلك فقالا: صدق، وحمله على ما إذا اشترط المحرم الإحلال عند عروض المانع من المرض له وقت النية لقوله صلّى الله عليه وسلّم لضباعة: «حجي واشترطي وقولي اللهم محلي حيث حبستني» لا يتمشى على ما تقرر في أصول الحنفية من أن المطلق يجري على إطلاقه إلا إذا اتحد الحادثة والحكم وكان الإطلاق والتقييد في الحكم إذ ما نحن فيه ليس كذلك كما لا يخفى. فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ أي فعليكم أو فالواجب أو فاهدوا ما استيسر أي تيسر فهو كصعب واستصعب، وليست السين للطلب، والْهَدْيِ مصدر بمعنى المفعول أي المهدي ولذلك يطلق على المفرد والجمع أو جمع هدية- كجدي وجدية- وقرىء هدي بالتشديد جمع هدية- كمطي ومطية- وهي في موضع الحال من الضمير المستكن، والمعنى أن المحرم إذا أحصر وأراد أن يتحلل تحلل بذبح هدي تيسر عليه من بدنة أو بقرة أو شاة، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه: وما عظم فهو أفضل، وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه خص الهدي ببقرة أو جزور فقيل له: أو ما يكفيه شاة؟ فقال: لا ويذبحه حيث أحصر عند الأكثر لأنه صلّى الله عليه وسلّم ذبح عام الحديبية بها وهي من الحل، وعندنا يبعث من أحصر به ويجعل للمبعوث بيده يوم أمارة فإذا جاء اليوم وغلب على ظنه أنه ذبح تحلل لقوله تعالى: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فإن حلق الرأس كناية عن الحل الذي يحصل بالتقصير بالنسبة للنساء، والخطاب للمحصرين لأنه أقرب مذكور، والهدي الثاني عين الأول كما هو الظاهر أي لا تحلوا حتى تعلموا أن الهدي المبعوث إلى الحرم بلغ مكانه الذي يجب أن ينحر فيه وهو الحرم لقوله تعالى: ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج: 33] هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة: 95] وما روي من ذبحه صلى الله تعالى عليه وسلم في الحديبية مسلم لكن كونه ذبح في الحل غير مسلم، والحنفية يقولون: إن محصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان في طريق الحديبية أسفل مكة، والحديبية متصلة بالحرم، والذبح وقع في الطرف المتصل الذي نزله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وبه يجمع بين ما قاله مالك وبين ما روى الزهري أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نحر في الحرم وكون الرواية عنه ليس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 بثبت في حيز المنع، وحمل الأولون بلوغ الهدي محله على ذبحه حيث يحل ذبحه فيه حلا كان أو حرما وهو خلاف الظاهر إلا أنه لا يحتاج إلى تقدير العلم كما في السابق، واستدل باقتصاره على الهدي في مقام البيان على عدم وجوب القضاء، وعندنا يجب القضاء لقضاء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه عمرة الحديبية التي أحصروا فيها وكانت تسمى عمرة القضاء، والمقام مقام بيان طريق خروج المحصر عن الإحرام لا مقام بيان كل ما يجب عليه ولم يعلم من الآية حكم غير المحصر عبارة كما علم حكم المحصر من عدم جواز الحل له قبل بلوغ الهدي، ويستفاد ذلك بدلالة النص وجعل الخطاب عاما للمحصر وغيره بناء على عطف وَلا تَحْلِقُوا على قوله سبحانه: وَأَتِمُّوا لا على فَمَا اسْتَيْسَرَ يقتضي بتر النظم لأن فَإِذا أَمِنْتُمْ عطف على فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ كما لا يخفى. والمحل- بالكسر من حد ضرب يطلق للمكان كما هو الظاهر في الآية، وللزمان- كما يقال- محل الدين لوقت حلوله وانقضاء أجله. فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً يحتاج للحلق وهو مخصص لقوله سبحانه وَلا تَحْلِقُوا متفرع عليه. أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ من جراحة وقمل وصداع. فَفِدْيَةٌ أي فعليه فدية إن حاق. مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ بيان لجنس الفدية. وأما قدرها فقد أخرج في المصابيح عن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم «مر به وهو بالحديبية قبل أن يدخل مكة وهو محرم وهو يوقد تحت قدر والقمل يتهافت على وجهه فقال: أيؤذيك هوامك؟ قال: نعم: قال: فاحلق رأسك وأطعم فرقا بين ستة مساكين- والفرق ثلاثة آصع- أو صم ثلاثة أيام أو انسك نسيكة» وفي رواية البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة والترمذي «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال له: ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا أما تجد شاة؟ فقال: لا قال: صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك» وقد بين في هذه الرواية ما يطعم لكل مسكين ولم يبين محل الفدية، والظاهر العموم في المواضع كلها كما قاله ابن الفرس، وهو مذهب الإمام مالك فَإِذا أَمِنْتُمْ من الأمن ضد الخوف، أو الأمنة زواله فعلى الأول معناه فإذا كنتم في أمن وسعة ولم تكونوا خائفين، وعلى الثاني فإذا زال عنكم خوف الإحصار، ويفهم منه حكم من كان آمنا ابتداء بطريق الدلالة- والفاء- للعطف على أُحْصِرْتُمْ مفيدة للتعقيب سواء أريد حصر العدو أو كل منع في الوجود، ويقال للمريض إذا زال مرضه وبرئ: آمن كما روي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله تعالى عنهم من طريق إبراهيم فيضعف استدلال الشافعي ومالك بالآية على ما ذهبا إليه. فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ الفاء واقعة في جواب- إذا والباء وإلى- صلة التمتع، والمعنى فمن استمتع وانتفع بالتقرب إلى الله تعالى بالعمرة إلى وقت الحج أي قبل الانتفاع بالحج في أشهره، وقيل: الباء سببية ومتعلق التمتع محذوف أي بشيء من محظورات الإحرام ولم يعينه لعدم تعلق الغرض بتعيينه، والمعنى ومن استمتع بسبب أوان العمرة والتحلل منها باستباحة محظورات الإحرام إلى أن يحرم بالحج، وفيه صرف التمتع عن المعنى الشرعي إلى المعنى اللغوي، والثاني هو الانتفاع مطلقا، والأول هو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويأتي بمناسكها ثم يحرم بالحج من جوف مكة ويأتي بأعماله ويقابله القرآن وهو أن يحرم بهما معا ويأتي بمناسك الحج فيدخل فيها مناسك العمرة، والإفراد وهو أن يحرم بالحج وبعد الفراغ منه بالعمرة فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ الفاء واقعة في جواب مِنَ أي فعليه دم استيسر عليه بسبب التمتع فهو دم جبران لأن الواجب عليه أن يحرم للحج من الميقات فلما أحرم لا من الميقات أورث ذلك خللا فيه فجبر بهذا الدم، ومن ثم لا يجب على المكي ومن في حكمه، ويذبحه إذا أحرم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 بالحج، ولا يجوز قبل الإحرام ولا يتعين له يوم النحر بل يستحب ولا يأكل منه، وهذا مذهب الشافعي وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنه دم نسك كدم القارن لأنه وجب عليه شكرا للجمع بين النسكين فهو كالأضحية ويذبح يوم النحر فَمَنْ لَمْ يَجِدْ أي الهدي وهو عطف على فَإِذا أَمِنْتُمْ. فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ أي فعليه صيام وقرىء فصيام بالنصب أي فليصم، وظرف الصوم محذوف إذ يمتنع أن يكون شيء من أعمال الحج ظرفا له، فقال أبو حنيفة: المراد في وقت الحج مطلقا لكن بين الإحرامين إحرام الحج وإحرام العمرة وهو كناية عن عدم التحلل عنهما فيشمل ما إذا وقع قبل إحرام الحج سواء تحلل من العمرة أولا، وما وقع بعده بدليل أنه إذا قدر على الهدي بعد صوم الثلاثة قبل التحلل وجب عليه الذبح ولو قدر عليه بعد التحلل لا يجب عليه لحصول المقصد بالصوم وهو التحلل، وقال الشافعي: المراد وقت أداء الحج وهو أيام الاشتغال به بعد الإحرام وقبل التحلل، ولا يجوز الصوم عنده قبل إحرام الحج، والأحب أن يصوم سابع ذي الحجة وثامنه وتاسعه لأنه غاية ما يمكن في التأخير لاحتمال القدرة على الأصل وهو الهدي، ولا يجوز يوم النحر وأيام التشريق لكون الصوم منهيا فيها، وجوز بعضهم صوم الثلاثة الأخيرة احتجاجا بما أخرجه ابن جرير والدارقطني والبيهقي عن ابن عمر قال: رخص النبي صلى الله تعالى عليه وسلم للمتمتع إذا لم يجد الهدي ولم يصم حتى فاته أيام العشر أن يصوم أيام التشريق مكانها، وأخرج مالك عن الزهري قال: «بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الله بن حذافة فنادى في أيام التشريق فقال: إن هذه أيام أكل وشرب وذكر الله تعالى إلا من كان عليه صوم من هدي» وأخرج الدارقطني مثله من طريق سعيد بن المسيب، وأخرج البخاري وجماعة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لم يرخص صلى الله تعالى عليه وسلم في أيام التشريق أن يصمن إلا لمتمتع لم يجد هديا، وبذلك أخذ الإمام مالك ولعل ساداتنا الحنفية عولوا على أحاديث النهي وقالوا: إذا فاته الصوم حتى أتى يوم النحر لم يجزه إلا الدم ولا يقضيه بعد أيام التشريق كما ذهب إليه الشافعية لأنه بدل والأبدال لا تنصب إلا شرعا والنص خصه بوقت الحج وجواز الدم على الأصل وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه أمر في مثله بذبح الشاة.. وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ أي فرغتم ونفرتم من أعماله، فذكر الرجوع وأريد سببه، أو المعنى إذا رجعتم من مني، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه- على ما هو الأصح عند معظم أصحابه: إذا رجعتم إلى أهليكم، ويؤيده ما أخرجه البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه «إذا رجعتم إلى أمصاركم» وأن لفظ الرجوع أظهر في هذا المعنى، وحكم ناوي الإقامة بمكة توطنا حكم الراجع إلى وطنه لأن الشرع أقام موضع الإقامة مقام الوطن، وفي البحر المراد بالرجوع إلى الأهل الشروع فيه- عند بعض- والفراغ بالوصول إليهم- عند آخرين- وفي الكلام التفات، وحمل على معنى بعد الحمل (1) على لفظه في إفراده وغيبته وقرىء «سبعة» بالنصب عطفا على محل ثَلاثَةِ أَيَّامٍ لأنه مفعول اتساعا، ومن لم يجوزه قدر- وصوموا- وعليه أبو حيان. تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ الإشارة إلى- الثلاثة، والسبعة- ومميز العدد محذوف أي «أيام» وإثبات- التاء- في العدد مع حذف المميز أحسن الاستعمالين، وفائدة الفذلكة أن لا يتوهم أن- الواو- بمعنى أو التخييرية، وقد نص السيرافي في شرح الكتاب على مجيئها لذلك، وليس تقدم الأمر الصريح شرطا فيه بل الخبر الذي هو بمعنى الأمر   (1) قوله: (وحمل على معنى بعد الحمل) كذا بخط المؤلف ولعله سقط (من) قلمه لفظ من سهوا أي وحمل على معنى من بعد الحمل إلخ اهـ مصححه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 كذلك، وأن يندفع التوهم البعيد الذي أشرنا إليه في مقدمة إعجاز القرآن، وأن يعلم العدد جملة- كما علم تفصيلا- فيحاط به من وجهين فيتأكد العلم، ومن أمثالهم- علمان خير من علم- لا سيما وأكثر العرب لا يحسن الحساب، فاللائق بالخطاب العامي الذي يفهم به الخاص والعام الذين هم من أهل الطبع، لا أهل الارتياض بالعلم أن يكون بتكرار الكلام وزيادة الافهام والإيذان بأن المراد- بالسبعة- العدد دون الكثرة فإنها تستعمل بهذين المعنيين، فإن قلت: ما الحكمة في كونها كذلك حتى يحتاج إلى تفريقها المستدعي لما ذكر؟ أجيب بأنها لما كانت بدلا عن الْهَدْيِ والبدل يكون في محل المبدل منه غالبا جعل الثلاثة بدلا عنه في زمن الحج وزيد عليها السبعة علاوة لتعادله من غير نقص في الثواب لأن الفدية مبنية على التيسير، ولم يجعل- السبعة- فيه لمشقة الصوم في الحج، وللإشارة إلى هذا التعادل وصفت- العشرة- بأنها كامِلَةٌ فكأنه قيل: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ في وقوعها بدلا من الْهَدْيِ وقيل: إنها صفة مؤكدة تفيد زيادة التوصية بصيامها وأن لا يتهاون بها ولا ينقص من عددها كأنه قيل تلك عشرة كاملة فراعوا كمالها ولا تنقصوها، وقيل: إنها صفة مبينة كمال العشرة فإنها عدد كمل فيه خواص الأعداد، فإن الواحدة مبتدأ العدد، والاثنين أول العدد، والثلاثة أول عدد فرد، والأربعة أول عدد مجذور، والخمسة أول عدد دائر، والستة أول عدد تام، والسبعة عدد أول، والثمانية أول عدد زوج الزوج، والتسعة أول عدد مثلث، والعشرة نفسها ينتهي إليها العدد فإن كل عدد بعدها مركب منها ومما قبلها قاله بعض المحققين. وذكر الإمام لهذه الفذلكة مع الوصف عشرة أوجه- لكنها عشرة غير كاملة- ولولا مزيد التطويل لذكرتها بما لها وعليها ذلِكَ إشارة إلى التمتع المفهوم من قوله سبحانه: فَمَنْ تَمَتَّعَ عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه إذ لا متعة ولا قران لحاضري المسجد لأن شرعهما للترفه بإسقاط أحد السفرتين وهذا في حق الآفاقي لا في حق أهل مكة ومن في حكمهم، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه: إنها إشارة إلى الأقرب وهو الحكم المذكور أعني لزوم الهدي أو بدله على المتمتع وإنما يلزم ذلك إذا كان المتمتع آفاقيا لأن الواجب أن يحرم عن الحج من الميقات فلما أحرم من الميقات عن العمرة ثم أحرم عن الحج لا من الميقات فقد حصل هناك الخلل فجعل مجبورا بالدم، والمكي لا يجب إحرامه من الميقات فإقدامه على التمتع لا يوقع خللا في حجه فلا يجب عليه الهدي ولا بدله، ويرده أنه لو كانت الإشارة للهدي والصوم لأتى- بعلى- دون اللام في قوله سبحانه: لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ لأن الهدي وبدله واجب على المتمتع والواجب يستعمل بعلى- لا باللام، وكون اللام واقعة موقع على كما قيل به في «اشترطي لهم الولاء» خلاف الظاهر، والمراد بالموصول من كان من الحرم على مسافة القصر عند الشافعي رضي الله تعالى عنه، ومن كان مسكنه وراء الميقات عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، وأهل الحل عند طاوس، وغير أهل مكة عند مالك رضي الله تعالى عنه، والحاضر على الوجه الأول ضد المسافر، وعلى الوجوه الأخر بمعنى الشاهد الغير الغائب، والمراد من حضور الأهل حضور المحرم، وعبر به لأن الغالب على الرجل كما قيل: أن يسكن حيث أهله ساكنون، وللمسجد الحرام إطلاقان، أحدهما نفس المسجد، والثاني الحرم كله، ومنه قوله سبحانه: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الإسراء: 1] بناء على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم إنما أسري به من الحرم لا من المسجد، وعلى إرادة المعنى الأخير في الآية هنا أكثر أئمة الدين وَاتَّقُوا اللَّهَ في كل ما يأمركم به وينهاكم عنه كما يستفاد من ترك المفعول ويدخل فيه الحج دخولا أوليا وبه يتم الانتظام وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن لم يتقه أي استحضروا ذلك لتمتنعوا عن العصيان، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتربية المهابة وإدخال الروعة وإضافة شديد من إضافة الصفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 المشبهة إلى مرفوعها الْحَجُّ أَشْهُرٌ أي وقته ذلك وبه يصح الحمل، وقيل: ذو أشهر أو حج أشهر، وقيل: لا تقدير، ويجعل الحج الذي هو فعل من الأفعال عين الزمان مبالغة، ولا يخفى أن المقصد بيان وقت الحج كما يدل عليه ما بعد فالتنصيص عليه أولى، ومعنى قوله سبحانه وتعالى: مَعْلُوماتٌ معروفات عند الناس وهي شوال وذو القعدة. وعشر من ذي الحجة عندنا، وهو المروي عن ابن عباس وابن مسعود وابن الزبير وابن عمر والحسن رضي الله تعالى عنهم، وأيد بأن يوم النحر وقت لركن من أركان الحج- وهو طواف الزيارة- وبأنه فسر يوم الحج الأكبر بيوم النحر، وعند مالك الشهران الأولان وذو الحجة كله عملا بظاهر لفظ الأشهر، ولأنّ أيام النحر يفعل فيها بعض أعمال الحج من طواف الزيارة، والحلق، ورمي الجمار، والمرأة إذا حاضت تؤخر الطواف الذي لا بد منه إلى انقضاء أيامه بعد العشرة، ولأنه يجوز- كما قيل- تأخير طواف الزيارة إلى آخر الشهر، على ما روي عن عروة بن الزبير- ولأن ظواهر الأخبار ناطقة بذلك، فقد أخرج الطبراني والخطيب وغيرهما بطرق مختلفة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عد «الثلاثة أشهر الحج» وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن عمر رضي الله تعالى عنه مثل ذلك. وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه الشهران الأولان وتسع ذي الحجة بليلة النحر لأن الحج يفوت بطلوع الفجر من يوم النحر، والعبادة لا تكون فائتة مع بقاء وقتها، قاله الرازي، وفيه أن فوته بفوت ركنه الأعظم- وهو الوقوف- لا بفوت وقته مطلقا، ومدار الخلاف أنّ المراد بوقته وقت مناسكه وأعماله من غير كراهة وما لا يحسن فيه غيره من المناسك مطلقا- أو وقت إحرامه- والشافعي رضي الله تعالى عنه- على الأخير- والإحرام لا يصح بعد طلوع فجر يوم النحر لعدم إمكان الأداء، وإن جاز أداء بعض أعمال الحج في أيام النحر، ومالك على الثاني فإنه- على ما قيل- كره الاعتمار في بقية ذي الحجة، لما روي أنّ عمر رضي الله تعالى عنه كان يخوّف الناس بالدرّة وينهاهم عن ذلك فيهن، وإنّ ابنه رضي الله تعالى عنه قال لرجل: إن أطعتني انتظرت حتى إذا هلّ المحرم خرجت إلى ذات عرق فأهللت منها بعمرة. والإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه على الأول لكون العاشر وقتا لأداء الرمي، والحلق وغيرهما، وغيرها من بقية أيام النحر- وإن كان وقتا لذلك أيضا- إلا أنه خصص بالعشر اقتضاء لما روي في الآثار من ذكر العشر، ولعل وجهه أنّ المراد الوقت الذي يتمكن فيه المكلف من الفراغ عن مناسكه بحيث يحل له كل شيء وهو اليوم العاشر وما سواه من بقية أيام النحر، فللتيسير في أداء الطواف، ولتكميل الرمي، و «الأشهر» مستعمل في حقيقته إلا أنه تجوز في بعض أفراده، فإن أقل الجمع ثلاثة أفراد عند الجمهور فجعل بعض من فرد فردا ثم جمع، وقيل: إنه مجاز فيما فوق الواحد بعلاقة الاجتماع، وليس من الجمع حقيقة بناء على المذهب المرجوح فيه لأنه إنما يصح إطلاقه على اثنين فقط، أو ثلاثة- لا على اثنين- وبعض ثالث، والقول- بأن المراد به اثنان والثالث في حكم العدم- وقيل: المراد ثلاثة، ولا تجوز في بعض الأفراد لأن أسماء الظروف تطلق على بعضها حقيقة لأنها على معنى- في- فيقال: رأيته في سنة كذا. أو شهر كذا أو يوم كذا. وأنت قد رأيته في ساعة من ذلك- ولعله قريب إلى الحق- وصيغة جمع المذكر في غير العقلاء تجيء- بالألف والتاء فَمَنْ فَرَضَ أي ألزم نفسه فِيهِنَّ الْحَجَّ بالإحرام، ويصير محرما- بمجرد النية- عند الشافعي لكون الإحرام التزام الكف عن المحظورات فيصير شارعا فيه بمجردها كالصوم، وعندنا- لا- بل لا بد من مقارنة التلبية لأنه عقد على الأداء فلا بد من ذكر كما في تحريمه الصلاة، ولما كان باب الحج أوسع من باب الصلاة كفى ذكر يقصد به التعظيم سوى التلبية- فارسيا كان أو عربيا- وفعل كذلك من سوق الْهَدْيِ أو تقليده، واستدل بالآية على أنه لا يجوز الإحرام بالحج إلا في تلك الأشهر، كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه وعطاء وغيرهما. إذ لو جاز في غيرها- كما ذهب إليه الحنفية- لما كان لقوله سبحانه: فِيهِنَّ فائدة، وأجيب بأن فائدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 ذكر فِيهِنَّ كونها وقتا لأعماله من غير كراهية فلا يستفاد منه عدم جواز الإحرام قبله، فلو قدّم الإحرام انعقد حجا مع الكراهة، وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه يصير محرما بالعمرة، ومدار الخلاف أنه ركن عنده- وشرط عندنا- فأشبه الطهارة في جواز التقديم على الوقت، والكراهة جاءت للشبهة، فعن جابر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم «لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج» فَلا رَفَثَ أي لا جماع، أو لا فحش من الكلام وَلا فُسُوقَ ولا خروج عن حدود الشرع بارتكاب المحظورات، وقيل: بالسباب والتنابز بالألقاب وَلا جِدالَ ولا خصام مع الخدم والرفقة. فِي الْحَجِّ أي في أيامه، والإظهار في مقام الإضمار لإظهار كمال الاعتناء بشأنه والإشعار بعلة الحكم فإن زيارة البيت المعظم والتقرّب بها إلى الله تعالى من موجبات ترك الأمور المذكورة المدنسة لمن قصد السير والسلوك إلى ملك الملوك، وإيثار النفي للمبالغة في النهي والدلالة على أنها حقيقة بأن لا تكون، فإن ما كان منكرا مستقبحا في نفسه منهيا عنه مطلقا فهو للمحرم بأشرف العبادات وأشقها أنكر وأقبح كلبس الحرير في الصلاة وتحسين الصوت بحيث تخرج الحروف عن هيئاتها في القرآن، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو الأولين بالرفع حملا لهما على معنى النهي أي لا يكونن رَفَثَ وَلا فُسُوقَ والثالث- بالفتح- على معنى الإخبار بانتفاء الخلاف في الحج، وذلك أن قريشا كانت تقف بالمشعر الحرام وسائر العرب يقفون بعرفة، وبعد ما أمر الكل بالوقوف في عرفة ارتفع الخلاف فأخبر به، وقرىء بالرفع فِيهِنَّ ووجهه لا يخفى. وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ بتأويل الأمر معطوف على فَلا رَفَثَ أي لا ترفثوا وافعلوا الخيرات- وفيه التفات- وحث على- الخير- عقيب النهي عن الشر ليستبدل به، ولهذا خص متعلق العلم مع أنه تعالى عالم بجميع ما يفعلونه من خير أو شر، والمراد من- العلم- إما ظاهره فيقدر بعد الفعل فيثيب عليه، وإما المجازاة مجازا وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى أخرج البخاري وأبو داود والنسائي وابن المنذر وابن حبان والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزوّدون ويقولون: نحن متوكلون، وثم يقدمون فيسألون الناس فنزلت- فالتزوّد- بمعناه الحقيقي- وهو اتخاذ الطعام للسفر- والتَّقْوى بالمعنى اللغوي- وهو الاتقاء من السؤال- وقيل: معنى الآية اتخذوا التَّقْوى زادكم لمعادكم فإنها خير زاد، فمفعول تَزَوَّدُوا محذوف بقرينة خبر إن- وهو التقوى بالمعنى الشرعي- وكان مقتضى الظاهر أن يحمل خَيْرَ الزَّادِ على التَّقْوى فإن المسند إليه والمسند إذا كانا معرفتين يجعل ما هو مطلوب الإثبات مسندا، والمطلوب هنا إثبات خَيْرَ الزَّادِ للتقوى لكونه دليلا على تزوّدها إلا أنه أخرج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر للمبالغة لأنه حينئذ يكون المعنى إن الشيء الذي بلغكم أنه خَيْرَ الزَّادِ وأنتم تطلبون نعته هو التَّقْوى فيفيد اتحاد خَيْرَ الزَّادِ بها وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ أي أخلصوا لي التقوى فإن مقتضى العقل الخالص عن الشوائب ذلك وليس فيه- على هذا- شائبة تكرار مع سابقه لأنه حث على الإخلاص بعد الحث على التقوى. لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي حرج في أَنْ تَبْتَغُوا أي تطلبوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ أي رزقا منه تعالى بالربح بالتجارة في مواسم الحج، أخرج البخاري وغيره- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه- قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية فتأثموا أن يتجروا في الموسم فسألوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك فنزلت، واستدل بها على إباحة التجارة والإجارة وسائر أنواع المكاسب في الحج وإن ذلك لا يحبط أجرا ولا ينقص ثوابا، ووجه الارتباط أنه تعالى لما نهى عن الجدال في الحج كان مظنة للنهي عن التجارة فيه أيضا لكونها مفضية في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 الأغلب إلى النزاع في قلة القيمة وكثرتها فعقب ذلك بذكر حكمها، وذهب أبو مسلم إلى المنع عنها في الحج، وحمل الآية على ما بعد الحج، وقال: المراد واتقون في كل أفعال الحج ثم بعد ذلك ليس عليكم جناح إلخ كقوله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة: 10] وزيف بأن حمل الآية على محل الشبهة أولى من حملها على ما لا شبهة فيه ومحل الاشتباه هو التجارة زمان الحج. وأما بعد الفراغ فنفي الجناح معلوم وقياس الحج على الصلاة فاسد فإن الصلاة أعمالها متصلة فلا يحل في أثنائها التشاغل بغيرها، وأعمال الحج متفرقة تحتمل التجارة في أثنائها، وأيضا الآثار لا تساعد ما قاله فقد سمعت ما أخرجه البخاري، وقد أخرج أحمد وغيره عن أبي أمامة التيمي قال سألت ابن عمر فقلت: إنا قوم نكري في هذا الوجه وإن قوما يزعمون أنه لا حج لنا قال: ألستم تلبون ألستم تطوفون بين الصفا والمروة ألستم ألستم؟؟ قلت: بلى قال: إن رجلا سأل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عما سألت عنه فلم يدر ما يرد عليه حتى نزلت لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ الآية فدعاه فتلا عليه حين نزلت وقال: «أنتم الحجاج» وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقرأ فيما أخرجه البخاري وعبد بن حميد وابن جرير وغيرهم عنه لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ في مواسم الحج، وكذلك روي عن ابن مسعود، وأيضا- الفاء- في قوله تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ ظاهرة في أن هذه الإفاضة حصلت عقيب ابتغاء الفضل وذلك مؤذن بأن المراد وقوع التجارة في زمان الحج، نعم قال بعضهم: إذا كان الداعي للخروج إلى الحج هو التجارة أو كانت جزء العلة أضر ذلك بالحج لأنه ينافي الإخلاص لله تعالى به- وليس بالبعيد- وأَفَضْتُمْ من الإفاضة من فاض الماء إذا سال منصبا، وأفضته أسلته والهمزة فيه للتعدية، ومفعوله مما التزم حذفه للعلم به، وأصله أفيضتم فنقلت حركة- الياء- إلى- الفاء- قبلها فتحركت- الياء- في الأصل وانفتح ما قبلها الآن فقلبت الفا ثم حذفت، والمعنى هنا فإذا دفعتم أنفسكم بكثرة من عرفات ومِنْ لابتداء الغاية وعَرَفاتٍ موضع بمنى وهي اسم في لفظ الجمع فلا تجمع قال الفراء: ولا واحد له بصحة، وقول الناس: نزلنا عرفة شبيه بمولد- وليس بعربي محض- واعترض عليه بخبر «الحج عرفة» وأجيب بأن عرفة فيه اسم لليوم التاسع من ذي الحجة كما صرح به الراغب والبغوي والكرماني، والذي أنكره استعماله في المكان، فالاعتراض ناشىء من عدم فهم المراد ومن هنا قيل: إنه جمع عرفة وعليه صاحب شمس العلوم، والتعدد حينئذ باعتبار تسمية كل جزء من ذلك المكان عرفة كقولهم: جب مذاكيره فلا يرد ما قاله العلامة: من أنه لو سلم كون عرفة عربيا محصنا فعرفة وعرفات مدلولهما واحد، وليس ثمة أماكن متعددة كل منها عرفة لتجمع على عرفات، وإنما نون وكسر مع أن فيه العلمية والتأنيث لأن تنوين جمع المؤنث في مقابلة نون جمع المذكر فإن النون في جمع المذكر قائم مقام التنوين الذي في الواحد في المعنى الجامع لأقسام التنوين وهو كونه علامة تمام الاسم فقط، وليس في النون شيء من معاني الأقسام للتنوين فكذا التنوين في جمع المؤنث علامة لتمام الاسم فقط، وليس فيها أيضا شيء من تلك المعاني سوى المقابلة وليس الممنوع من غير المنصرف هذا التنوين بل تنوين التمكين لأنه الدال على عدم مشابهة الاسم بالفعل وأن ذهاب الكسرة على المذهب المرضي تبع لذهاب التنوين من غير عوض لعدم الصرف، وهنا ليس كذلك- قاله الجمهور- وقال الزمخشري: إنما نون وكسر لأنه منصرف لعدم الفرعيتين المعتبرتين إذ التأنيث المعتبر مع العلمية في منع الصرف إما أن يكون بالتاء المذكورة وهي ليست تاء تأنيث بل علامة الجمع، وإما أن يكون بتاء مقدرة كما في زينب، واختصاص هذه التاء بجمع المؤنث يأبى تقدير تاء لكونه بمنزلة الجمع بين علامتي تأنيث فهذه التاء كتاء بنت ليست للتأنيث بل عوض عن الواو المحذوفة، واختصت بالمؤنث فمنعت تقدير التاء فعلى هذا لو سمي بمسلمات، وبنت مؤنث كان منصرفا، وقول ابن الحاجب: إن هذا يقتضي أنه إذا سمي بذلك منع صرفه ليس بشيء إذ الاقتضاء غير مسلم، وكذا ما قاله عصام الدين من أن التأنيث لمنع الصرف لا يستدعي قوة ألا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 يرى أن طلحة يعتبر تأنيثه لمنع الصرف ولا يعتبر لتأنيث ضمير يرجع إليه لأن بناء الاستدلال ليس على اعتبار القوة والضعف بل على عدم تحقق التأنيث، نعم يرد ما أورده الرضي من أنه لو لم يكن فيه تأنيث لما التزم تأنيث الضمير الراجع إليه، ويجاب بأن اختصاص هذا الوزن بالمؤنث يكفي لإرجاع الضمير ولا يلزم فيه وجود التاء لفظا أو تقديرا وإنما سمي هذا المكان المخصوص بلفظ ينبىء عن المعرفة لأنه نعت لإبراهيم عليه الصلاة والسلام فعرفه، وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو لأن جبريل كان يدور به في المشاعر فلما رآه قال: قد عرفت، وروي عن عطاء أو لأن آدم وحواء اجتمعا فيه فتعارفا، وروي عن الضحاك والسدي أو لأن جبريل عليه السلام قال لآدم فيه: اعترف بذنبك واعرف مناسكك قاله بعضهم، وقيل: سمي بذلك لعلوه وارتفاعه، ومنه عرف الديك، واختير الجمع للتسمية مبالغة فيما ذكر من وجوهها كأنه عرفات متعددة وهي من الأسماء المرتجلة قطعا عند المحققين، وعرفة يحتمل أن تكون منها وأن تكون منقولة من جمع عارف ولا جزم بالنقل إذ لا دليل على جعلها جمع عارف والأصل عدم النقل فَاذْكُرُوا اللَّهَ بالتلبية والتهليل والدعاء، وقيل: بصلاة العشاءين لأن ظاهر الأمر للوجوب ولا ذكر واجب عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ إلا الصلاة، والمشهور أن المشعر مزدلفة كلها، فقد أخرج وكيع وسفيان وابن جرير والبيهقي وجماعة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سئل عن المشعر الحرام فسكت حتى إذا هبطت أيدي الرواحل بالمزدلفة قال: هذا الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وأيد بأن الفاء تدل على أن الذكر عِنْدَ الْمَشْعَرِ يحصل عقيب الإفاضة من عرفات وما ذاك إلا بالبيتوتة بالمزدلفة، وذهب كثير إلى أنه جبل يقف عليه الإمام في المزدلفة ويسمى قزح. وخص الله تعالى الذكر عنده مع أنه مأمور به في جميع «المزدلفة» لأنها كلها موقف إلا وادي محسر كما دلت عليه الآثار الصحيحة لمزيد فضله وشرفه وعن سعيد بن جبير- ما بين جبلي مزدلفة فهو الْمَشْعَرِ الْحَرامِ ومثله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وإنما سمي- مشعرا- لأنه معلم العبادة، ووصف- بالحرام- لحرمته، والظرف متعلق باذكروا أو بمحذوف حال من فاعله وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ أي كما علمكم المناسك والتشبيه لبيان الحال وإفادة التقييد أي اذكروه على ذلك النحو ولا تعدلوا عنه، ويحتمل أن يراد مطلق الهداية ومفاد التشبيه التسوية في الحسن والكمال أي اذْكُرُوهُ ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة إلى المناسك وغيرها. وما- على المعنيين تحتمل أن تكون مصدرية فمحل كَما هَداكُمْ النصب على المصدرية بحذف الموصوف أي ذكرا مماثلا لهدايتكم، وتحتمل أن تكون كافة فلا محل لها من الإعراب، والمقصود من الكاف مجرد تشبيه مضمون الجملة بالجملة، ولذا لا تطلب عاملا تفضي بمعناه إلى مدخولها. وذهب بعضهم إلى أن- الكاف- للتعليل. وأنها متعلقة بما عندها وما- مصدرية لا غير أي اذْكُرُوهُ وعظموه لأجل هدايته السابقة منه تعالى لكم وَإِنْ كُنْتُمْ أي وإنكم كُنْتُمْ فخففت أَنْ وحذف الاسم وأهملت عن العمل ولزم اللام فيما بعدها، وقيل: إن أَنْ نافية، واللام بمعنى إلا مِنْ قَبْلِهِ أي- الهدي- والجار متعلق بمحذوف يدل عليه لَمِنَ الضَّالِّينَ ولم يعلقوه به لأن ما بعد- ال- الموصولة لا يعمل فيما قبلها وفيه تأمل، والمراد من الضلال الجهل بالإيمان ومراسم الطاعات، والجملة تذييل لما قبلها كأنه قيل: اذْكُرُوهُ الآن إذ لا يعتبر ذكركم السابق المخالف لما هَداكُمْ لأنه من الضلالة، وحمله على الحال توهم بعيد عن المرام ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ أي من عرفة لا من- المزدلفة- والخطاب عام، والمقصود إبطال ما كان عليه الحمس من الوقوف بجمع، فقد أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة وكانوا يسمون الحمس وكانت سائر العرب يقفون بعرفات فلما جاء الإسلام أمر الله تعالى نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 يفيض منها فذلك قوله سبحانه: ثُمَّ أَفِيضُوا الآية ومعناها ثُمَّ أَفِيضُوا أيها الحجاج من مكان أفاض جنس الناس منه قديما وحديثا، وهو عرفة لا من مزدلفة، وجعل الضمير عبارة عن الحمس يلزم منه بتر النظم إذ الضمائر السابقة واللاحقة كلها عامة والجملة معطوفة على قوله تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ ولما كان المقصود من هذه التعريض كانت في قوة ثم لا تفيضوا من المزدلفة وأتى- بثم- إيذانا بالتفاوت بين الإفاضتين في الرتبة بأن إحداهما صواب، والأخرى خطأ، ولا يقدح في ذلك أن التفاوت إنما يعتبر بين المتعاطفين لا بين المعطوف عليه وما دخله حرف النفي من المعطوف لأن الحصر ممنوع، وكذا لا يضر انفهام التفاوت من كون أحدهما مأمورا به، والآخر منهيا عنه كيفما كان العطف لأن المراد أن كلمة ثُمَّ تؤذن بذلك مع قطع النظر عن تعلق الأمر والنهي، وجوز أن يكون العطف على- فاذكروا- ويعتبر التفاوت بين الإفاضتين أيضا كما في السابق بلا تفاوت، وبعضهم جعله معطوفا على محذوف أي أفيضوا إلى منى ثُمَّ أَفِيضُوا إلخ وليس بشيء كالقول بأن في الآية تقديما وتأخيرا، والتقدير «ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم- ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واستغفروا» وإذا أريد بالمفاض منه المزدلفة وبالمفاض إليه منى- كما قال الجبائي- بقيت كلمة ثُمَّ على ظاهرها لأن الإفاضة إلى منى بعيدة عن الإفاضة من- عرفات- لأن الحاج إذا أفاضوا منها عند غروب الشمس يوم عرفة يجيئون إلى المزدلفة ليلة النحر ويبيتون بها فإذا طلع الفجر وصلوا بغلس ذهبوا إلى قزح فيرقون فوقه أو يقفون بالقرب منه ثم يذهبون إلى وادي محسر ثم منه إلى منى، والخطاب على هذا عام بلا شبهة، والمراد من الناس الجنس كما هو الظاهر- أي من حيث أفاض الناس كلهم قديما وحديثا، وقيل: المراد بهم إبراهيم عليه السلام وسمي ناسا لأنه كان إماما للناس، وقيل: المراد هو وبنوه، وقرىء- «الناس» - بالكسر أي الناسي والمراد به آدم عليه السلام لقوله تعالى في حقه: فَنَسِيَ [طه: 115] وكلمة- ثم- على هذه القراءة للإشارة إلى بعد ما بين الإفاضة من عرفات والمخالفة عنها بناء على أن معنى ثم أفيضوا عليها ثم لا تخالفوا عنها لكونها شرعا قديما كذا قيل فليتدبر وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ من جاهليتكم في تغيير المناسك ونحوه إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ للمستغفرين رَحِيمٌ بهم منعم عليهم فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ أي أديتم عباداتكم الحجية وفرغتم منها فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أي كما كنتم تذكرونهم عند فراغ حجكم بالمفاخر، روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان أهل الجاهلية يجلسون بعد الحج فيذكرون أيام آبائهم وما يعدون من أنسابهم يومهم أجمع فأنزل الله تعالى ذلك أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً إما مجرور معطوف على الذكر بجعل الذكر ذاكرا على المجاز والمعنى- واذكروا الله ذكرا كذكركم آباءكم أو كذكر أشد منه وأبلغ- أو على ما أضيف إليه بناء على مذهب الكوفيين المجوزين للعطف على الضمير المجرور بدون إعادة الخافض في السعة بمعنى- أو كذكر قوم أشد منكم ذكرا- وإما منصوب بالعطف على آباءَكُمْ وذِكْراً من فعل المبني للمفعول بمعنى أو كذكركم أشد مذكورية من آبائكم، أو بمضمر دل عليه المعنى أي ليكن ذكركم الله تعالى أشد من ذكركم آباءكم أو كونوا أشد ذكرا لله تعالى منكم لآبائكم كذا قيل، واختار في البحر أن يكون أَشَدَّ نصب على الحال من ذكرا المنصوب- باذكروا- إذ لو تأخر عنه لكان صفة لو وحسن تأخر ذِكْراً لأنه كالفاصلة ولزوال قلق التكرار إذ لو قدم لكان التركيب فاذكروا الله كذكركم آباءكم، أو اذكروا ذكرا أشد، وفيه أن الظاهر على هذا الوجه أن يقال أو أشد بدون ذِكْراً بأن يكون معطوفا على كذكركم صفة للذكر المقدر وأن المطلوب الذكر الموصوف بالأشدية لا طلبه حال الأشدية فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ جملة معترضة بين الأمرين المتعاطفين للحث والإكثار من ذكر الله تعالى وطلب ما عنده، وفيها تفصيل للذاكرين مطلقا حجاجا أو غيرهم كما هو الظاهر إلى مقل لا يطلب بذكر الله تعالى إلا الدنيا ومكثر يطلب خير الدارين، وما نقل عن بعض المتصوفة من قولهم إن عبادتنا لذاته تعالى فارغة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 الأغراض والاعراض جهل عظيم ربما يجر إلى الكفر كما قاله حجة الإسلام قدس سره لأن عدم التعليل في الأفعال مختص بذاته تعالى على أن البعض قائل بأن أفعاله سبحانه أيضا معللة بما تقتضيه الحكمة، نعم إن عبادته تعالى قد تكون لطلب الرضا لا لخوف مكروه أو لنيل محبوب لكن ذا من أجل حسنات الأخرى يطلبه خلص عباده قال تعالى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة: 72] وقرن سبحانه الذكر بالدعاء للإشارة إلى أن المعتبر من الذكر ما يكون عن قلب حاضر وتوجه باطن كما هو حال الداعي حين طلب حاجة لا مجرد التفوه والنطق به، وذهب الإمام وأبو حيان إلى أن التفصيل للداعين المأمورين بالذكر بعد الفراغ من المناسك، وبدأ سبحانه وتعالى بالذكر لكونه مفتاحا للإجابة ثم بين جل شأنه أنهم ينقسمون في سؤال الله تعالى إلى من يغلب عليه حب الدنيا فلا يدعو إلا بها ومن يدعو بصلاح حاله في الدنيا والآخرة، وفي الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة حطا لطالب الدنيا عن ساحة عن الحضور، ولا يخفى أن الأول هو المناسب لإبقاء الناس على عمومه والمطابق لما سيأتي من قوله سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ إلخ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نعم سبب النزول- كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- طائفة من الأعراب يجيئون إلى الموقف فيطلبون الدنيا، وطائفة من المؤمنين يجيئونه فيطلبون الدنيا والآخرة وهذا لا يقتضي التخصيص رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا أي اجعل كل إيتائنا ومنحتنا فيها فالمفعول الثاني متروك ونزل الفعل بالقياس منزلة اللازم ذهابا إلى عموم الفعل للإشارة إلى أن همته مقصورة على مطالب الدنيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ إخبار منه تعالى ببيان حال هذا النصف في الآخرة يعني أنه لا نصيب له فيها ولا حظ، والخلاق- من خلق به إذا لاق، أو من الخلق كأنه الأمر الذي خلق له وقدر، وقيل: الجملة بيان لحال ذلك في الدنيا فهي تصريح بما علم ضمنا من سابقه تقريرا له وتأكيدا أي ليس له في الدنيا طلب خلاق في الآخرة، وليس المراد أنه ليس له طلب في الآخرة للخلاق ليقال: إن هذا حكم كل أحد إذ لا طلب في الآخرة وإنما فيها الحظ والحرمان، ويجاب بمنع عدم الطلب إذ المؤمنون يطلبون زيادة الدرجات والكافرون الخلاص من شدة العذاب، ومَنْ صلة، وله- خبر مقدم والجار والمجرور بعده متعلق بما تعلق به أو حال مما بعده وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً يعني العافية والكفاف قاله قتادة، أو المرأة الصالحة قاله علي كرم الله تعالى وجهه، أو العلم والعبادة قاله الحسن، أو المال الصالح قاله السدي، أو الأولاد الأبرار، أو ثناء الخلق قاله ابن عمر، أو الصحة والكفاية والنصرة على الأعداء والفهم في كتاب الله تعالى، أو صحبة الصالحين قاله جعفر، والظاهر أن الحسنة وإن كانت نكرة في الإثبات وهي لا تعم إلا أنها مطلقة فتنصرف إلى الكامل والحسنة الكاملة في الدنيا ما يشمل جميع حسناتها وهو توفيق الخير وبيانها بشيء مخصوص ليس من باب تعيين المراد إذ لا دلالة للمطلق على المقيد أصلا وإنما هو من باب التمثيل وكذا الكلام في قوله تعالى: وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً فقد قيل هي الجنة، وقيل: السلامة من هول الموقف وسوء الحساب، وقيل: الحور العين وهو مروي عن علي كرم الله تعالى وجهه، وقيل: لذة الرؤية (وقيل، وقيل..) والظاهر الإطلاق وإرادة الكامل وهو الرحمة والإحسان وَقِنا عَذابَ النَّارِ أي احفظنا منه بالعفو والمغفرة واجعلنا ممن يدخل الجنة من غير عذاب، وقال الحسن: احفظنا من الشهوات والذنوب المؤدية إلى عذاب النار، وقال علي كرم الله تعالى وجهه: عذاب النار الامرأة السوء أعاذنا الله تعالى منها وهو على نحو ما تقدم وقد كان صلّى الله عليه وسلّم أكثر دعوة يدعو بها هذه الدعوة كما رواه البخاري ومسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه وأخرجا عنه أيضا أنه قال: «إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم دعا رجلا من المسلمين قد صار مثل الفرخ المنتوف فقال له صلّى الله عليه وسلّم: هل كنت تدعو الله تعالى بشيء؟ قال: نعم كنت أقول اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: سبحان الله إذا لا تطيق ذلك ولا تستطيعه فهلا قلت ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ودعا له فشفاه» الله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 أُولئِكَ إشارة إلى الفريق الثاني والجملة في مقابلة وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ والتعبير باسم الإشارة للدلالة على أن اتصافهم بما سبق علة للحكم المذكور ولذا ترك العطف هاهنا لكونه كالنتيجة لما قبله، قيل: وما فيه من معنى البعد للإشارة إلى علو درجتهم وبعد منزلتهم في الفضل، وجوز أن تكون الإشارة إلى كلا الفريقين المتقدمين فالتنوين في قوله تعالى: لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا على الأول للتفخيم وعلى الثاني للتنويع أي لكل منهم نصيب من جنس ما كسبوا، أو من أجله، أو مما دعوا به نعطيهم منه ما قدرناه، ومن- إما للتبعيض أو للابتداء، والمبدئية على تقدير الأجلية على وجه التعليل، وفي الآية على الاحتمال الثالث وضع الظاهر موضع المضمر بغير لفظ السابق لأن المفهوم من رَبَّنا آتِنا الدعاء لا الكسب إلا أنه يسمى كسبا لأنه من الأعمال وقرىء- مما اكتسبوا- وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ يحاسب العباد على كثرتهم في قدر نصف نهار من أيام الدنيا، وروي بمقدار فواق ناقة، وروي بمقدار لمحة البصر أو يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب الناس فبادروا إلى الطاعات واكتساب الحسنات، والجملة تذييل لقوله تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ إلخ والمحاسبة إما على حقيقتها كما هو قول أهل الحق من أن النصوص على ظاهرها ما لم يصرف عنها صارف أو مجاز عن خلق علم ضروري فيهم بأعمالهم وجزائها كما وكيفا، أو مجازاتهم عليها هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» ولَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا بيوت قلوبكم من طرف حواسكم ولو ماتكم البدنية المأخوذة من المشاعر فإنها ظهور القلوب التي تلي البدن وَلكِنَّ البر من اتقى شواغل الحواس وهواجس الخيال ووساوس النفس الأمارة وأتوا هاتيك البيوت مِنْ أَبْوابِها التي تلي الروح، ويدخل منها الحق واتقوا الله عن رؤية تقواكم لعلكم تفوزون به وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ من قوى نفوسكم ودواعي بشريتكم فإن ذلك هو الجهاد الأكبر وَلا تَعْتَدُوا بإهمالها والوقوف مع حظوظها أو لا تتجاوزوا في القتال إلى أن تضعفوا البدن عن القيام بمراسم الطاعة ووظائف العبودية فرب مخمصة شر من التخم. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ الواقفين مع نفوسهم أو المتجاوزين ظل الوحدة وهو العدالة وَاقْتُلُوهُمْ حيث وجدتموهم أي امنعوا هاتيك القوى عن شم لذائذ الشهوات والهوى حيث كانوا وَأَخْرِجُوهُمْ عن مكة الصدر كما أخرجوكم عنها واستنزلوكم إلى بقعة النفس وحالوا بينكم وبين مقر القلب وفتنتهم التي هي عبادة الهوى والسجود لأصنام اللذات أشد من الإماتة بالكلية أو بلاؤكم عند استيلاء النفس أشد عليكم من القتل الذي هو محو الاستعداد وطمس الغرائز لما يترتب على ذلك من ألم الفراق عن حضرة القدس الذي لا يتناهى وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وهو مقام القلب إذا وافقوكم في توجهكم حتى ينازعوكم في مطالبكم ويجروكم عن دين الحق ويدعوكم إلى عبادة عجل النظر إلى الأغيار فإن نازعوكم فَاقْتُلُوهُمْ بسيف الصدق واقطعوا مادة تلك الدواعي كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ الساترين للحق فَإِنِ انْتَهَوْا عن نزاعهم فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَقاتِلُوهُمْ على دوام الرعاية وصدق العبودية حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ولا يحصل التفات إلى السوي وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ بتوجه الجمع إلى الجناب الأقدس والذات المقدس فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إلا على المجاوزين للحدود الشَّهْرُ الْحَرامُ الذي قامت به النفس لحقوقها بِالشَّهْرِ الْحَرامِ الذي هو وقت حضوركم ومراقبتكم وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فلا تبالوا بهتك حرمتها وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ما معكم من العلوم بالعمل به والإرشاد- ولا تلقوا بأيديكم إلى تهلكة التفريط وأحسنوا- بأن تكونوا مشاهدين ربكم في سائر أعمالكم إن الله يحب المشاهدين له،- وأتموا حج- توحيد الذات وعمرة توحيد الصفات لله بإتمام جميع المقامات والأحوال فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ بمنع أعداء النفوس أو مرض الفتور فجاهدوا في الله بسوق هدي النفس وذبحها بفناء كعبة القلب، ولاختلاف النفوس في الاستعداد قال: ما استيسر ولا تحلقوا رؤوسكم ولا تزيلوا آثار الطبيعة وتختاروا فراغ الخاطر حتى يبلغ هدي النفس محله فحينئذ تأمنون من التشويش وتكدر الصفاء فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً ضعيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 الاستعداد أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ أي مبتلى بالتعلقات ولم يتيسر له السلوك على ما ينبغي فعليه فدية من إمساك عن بعض لذاته وشواغله أو فعل بر أو رياضة تقمع بعض القوى فَإِذا أَمِنْتُمْ من المانع المحصر فمن تمتع بذوق تجلي الصفات متوسلا به إلى حج تجلي الذات فيجب عليه ما أمكن من الهدي بحسب حاله فَمَنْ لَمْ يَجِدْ لضعف نفسه وانقهارها فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ أي فعليه الإمساك عن أفعال القوى التي هي الأصول القوية في وقت التجلي والاستغراق في الجمع والفناء، وهي العقل والوهم والمتخيلة وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ إلى مقام التفصيل والكثرة، وهي الحواس الخمسة الظاهرة والغضب والشهوة لتكون عند الاستقامة في الأشياء بالله عز وجل تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ موجبة لأفاعيل عجيبة مشتملة على أسرار غريبة ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ من الكاملين الحاضرين مقام الوحدة لأن أولئك لا يخاطبون ولا يعاتبون ومن وصل فقد استراح الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ وهي مدة الحياة الفانية أو من وقت بلوغ الحلم إلى الأربعين كما قال في البقرة لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ [البقرة: 68] . ومن هنا قيل: الصوفي بعد الأربعين بارد نعم العمش خير من العمى والقليل خير من الحرمان فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ على نفسه بالعزيمة فَلا رَفَثَ أي فلا يمل إلى الدنيا وزينتها وَلا فُسُوقَ ولا يخرج القوة الغضبية عن طاعة القلب بل لا يخرج عن الوقت ولا يدخل فيما يورث المقت وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ أي ولا ينازع أحدا في مقام التوجه إليه تعالى إذ الكل منه وإليه ومن نازعه في شيء ينبغي أن يسلمه إليه ويسلم عليه وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان: 63] وما تفعلوا من فضيلة في ترك شيء من هذه الأمور يعلمه الله ويثيبكم عليه، وتزودوا من الفضائل التي يلزمها الاجتناب عن الرذائل فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وتمامها بنفي السوي وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ فإن قضية العقل الخالص عن شوب الوهم وقشر المادة اتقاء الله تعالى ليس عليكم حرج عند الرجوع إلى الكثرة أن تطلبوا رفقا لأنفسكم على مقتضى ما حده المظهر الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم فإذا دفعتم أنفسكم من عرفات المعرفة فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ أي شاهدوا جماله سبحانه عند السر الروحي المسمى بالخفي وسمي مشعرا لأنه محل الشعور بالجمال، ووصف بالحرام لأنه محرم أن يصل إليه الغير وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ إلى ذكره في المراتب وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ الوصول إلى عرفات المعرفة والوقوف بها لَمِنَ الضَّالِّينَ عن هذه الأذكار في طلب الدنيا ثُمَّ أَفِيضُوا إلى ظواهر العبادات مِنْ حَيْثُ أَفاضَ سائر الناس إليها وكونوا كأحدهم فإن النهاية الرجوع إلى البداية. أو أفيضوا من حيث أفاض الأنبياء عليهم السلام لأجل أداء الحقوق والشفقة على عباد الله تعالى بالإرشاد والتعليم وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ فقد كان الشارع الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم يغان على قلبه ويستغفر الله تعالى في اليوم سبعين مرة، ومن أنت يا مسكين بعده إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ وفرغتم من الحج فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ قبل السلوك أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً لأنه المبدأ الحقيقي فكونوا مشغولين به حسبما تقتضيه ذاته سبحانه فمن الناس من لا يطلب إلا الدنيا ولا يعبد إلا لأجلها وما له في مقام الفناء من نصيب لقصور همته واكتسابه الظلمة المنافية للنور ومنهم من يطلب خير الدارين ويحترز عن الاحتجاب بالظلمة والتعذيب بنيران الطبيعة أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا من حظوظ الآخرة والأنوار الباهرة واللذات الباقية والمراتب العالية والله سريع الحساب وَاذْكُرُوا اللَّهَ أي كبروه إدبار الصلوات وعند ذبح القرابين، ورمي الجمار وغيرها. فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ وهي ثلاثة أيام التشريق وهو المروي في المشهور عن عمر وعلي وابن عباس رضي الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 تعالى عنهم، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها أربعة أيام بضم يوم النحر إليها، واستدل بعضهم للتخصيص بأن هذه الجملة معطوفة على قوله سبحانه فَاذْكُرُوا اللَّهَ إلخ فكأنه قيل فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله في أيام معدودات، والفاء للتعقيب فاقتضى ذلك إخراج يوم النحر من الأيام، ومن اعتبر العطف والتعقيب وجعل بعض يوم يوما استدل بالآية على ابتداء التكبير خلف الصلاة من ظهر يوم النحر، واستدل بعمومها من قال: يكبر خلف النوافل واستشكل وصف أيام بمعدودات لأن أياما جمع يوم وهو مذكر، ومَعْدُوداتٍ واحدها معدودة وهو مؤنث فكيف تقع صفة له فالظاهر معدودة ووصف جمع ما لا يعقل بالمفرد المؤنث جائز، وأجيب بأن معدودات جمع معدود لا معدودة، وكثيرا ما يجمع المذكر جمع المؤنث كحمامات وسجلات، وقيل: إنه قدر اليوم مؤنثا باعتبار ساعاته، وقيل: إن المعنى أنها في كل سنة معدودة، وفي السنين معدودات فهي جمع معدودة حقيقة ولا يخفى ما فيه فَمَنْ تَعَجَّلَ أي عجل في النفر أو استعجل النفر من منى، وقد ذكر غير واحد أن عجل واستعجل يجيئان مطلوعين بمعنى عجل يقال: تعجل في الأمر واستعجل، ومتعديين يقال: تعجل الذهاب، والمطاوعة عند الزمخشري أوفق لقوله تعالى: وَمَنْ تَأَخَّرَ كما هي كذلك في قوله: قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون من «المستعجل» الزلل لأجل المتأني، وذهب بعض أرباب التحقيق إلى ترجيح التعدي لأن المراد بيان أمور- العجل- لا التعجل مطلقا، وقيل: لأن اللازم يستدعي تقدير فِي فيلزم تعلق حرفي جر أحدهما المقدر والثاني فِي يَوْمَيْنِ بالفعل وذا لا يجوز- واليومان- يوم القر. ويوم الرؤوس. واليوم الذي بعده. والمراد فمن نفر في ثاني أيام التشريق قبل الغروب- وبعد رمي الجمار عند الشافعية- وقبل طلوع الفجر من اليوم الثالث إذا فرغ من رمي الجمار عندنا- والنفر في أول يوم منها لا يجوز- فظرفية «اليومين» له على التوسع باعتبار أن الاستعداد له في اليوم الأول، والقول بأن التقدير في أحد يَوْمَيْنِ إلا أنه مجمل فسر باليوم الثاني، أو في آخر يَوْمَيْنِ خروج عن مذاق النظر فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ باستعجاله وَمَنْ تَأَخَّرَ في النفر حتى رمى في اليوم الثالث قبل الزوال أو بعده عندنا، وعند الشافعي بعده فقط فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ بما صنع من التأخر، والمراد التخيير بين- التعجل والتأخر- ولا يقدح فيه أفضلية الثاني خلافا لصاحب- الإنصاف- وإنما ورد- بنفي الإثم- تصريحا بالرد على أهل الجاهلية حيث كانوا مختلفين فيه، فمن مؤثم للمعجل، ومؤثم للمتأخر لِمَنِ اتَّقى خبر لمحذوف- واللام- إما للتعليل أو للاختصاص، أي ذلك التخيير المذكور بقرينة القرب لأجل- المتقي- لئلا يتضرر بترك ما يقصده من- التعجيل والتأخر- لأنه حذر متحرز عما يريبه، أو ذلك المذكور من أحكام الحج مطلقا نظرا إلى عدم المخصص القطعي، وإن كانت عامة لجميع المؤمنين مختصة- بالمتقي- لأنه الحاج على الحقيقة، والمنتفع بها، والمراد من- التقوى- على التقديرين التجنب عما يؤثم من- فعل أو ترك- ولا يجوز حملها على التجنب عن الشرك لأن الخطاب في جميع ما سبق للمؤمنين، واستدل بعضهم بالآية على أن الحاج إذا اتقى في أداء حدود الحج وفرائضه غفرت له ذنوبه كلها، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخرج ابن جرير عنه أنه فسر الآية بذلك ثم قال: إن الناس يتأولونها على غير تأويلها، وهو من الغرابة بمكان. وَاتَّقُوا اللَّهَ في جميع أموركم التي يتعلق بها العزم لتنتظموا في سلك المغتنمين بالأحكام المذكورة، أو احذروا الإخلال بما ذكر من أمور الحج وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ للجزاء على أعمالكم بعد الإحياء والبعث، وأصل- الحشر- الجمع وضم المفرق وهو تأكيد للأمر بالتقوى وموجب للامتثال به، فإن من علم بالحشر والمحاسبة والجزاء كان ذلك من أقوى الدواعي له إلى ملازمة التقوى، وقدم إليه للاعتناء بمن يكون الحشر إليه ولتواخي الفواصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ عطف على قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ والجامع أنه سبحانه لما ساق بيان أحكام الحج إلى بيان انقسام الناس في الذكر والدعاء في تلك المناسك إلى الكافر، والمؤمن تممه سبحانه ببيان قسمين آخرين- المنافق والمخلص- وأصل- التعجب- حيرة تعرض للإنسان لجهله بسبب المتعجب منه، وهو هنا مجاز عما يلزمه من الروق والعظمة فإن الأمر الغريب المجهول يستطيبه الطبع ويعظم وقعه في القلوب، وليس على حقيقته لعدم الجهل بالسبب أعني الفصاحة والحلاوة، فالمعنى ومنهم من يروقك ويعظم في نفسك ما يقوله: فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي في أمور الدنيا وأسباب المعاش- سواء كانت عائدة إليه أم لا- فالمراد من الْحَياةِ ما به الحياة والتعيش، أو في معنى الدُّنْيا فإنها مرادة من ادعاء المحبة وإظهار الإيمان- فالحياة الدنيا- على معناها، وجعله ظرفا للقول من قبيل قولهم في عنوان المباحث الفصل الأول في كذا والكلام في كذا أي المقصود منه ذلك ولا حذف في شيء من التقديرين على ما وهم وتكون الظرفية حينئذ تقديرية كما في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «في النفس المؤمنة مائة من الإبل» أي في قتلها فالسبب الذي هو القتل متضمن للدية تضمن الظرف للمظروف وهذه هي التي يقال لها إنها سببية كذا في الرضي قاله بعض المحققين، وجوز تعلق المجرور بالفعل قبله أي يعجبك في الدنيا قوله لفصاحته وطراوة ألفاظه ولا يعجبك في الآخرة لما يعتريه من الدهشة واللكنة أو لأنه لا يؤذن له في الكلام فلا يتكلم حتى يعجبك، والآية كما قال السدي: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة «أقبل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم في المدينة فأظهر له الإسلام وأعجب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك منه وقال: إنما جئت أريد الإسلام والله تعالى يعلم إني لصادق ثم خرج من عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فمر بزرع من المسلمين (1) وحمر فأحرق الزرع وعقر الحمر» وقيل: في المنافقين كافة وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ أي بحسب ادعائه حيث يقول الله يعلم أن ما في قلبي موافق لما في لساني وهو معطوف على يُعْجِبُكَ وفي مصحف أبيّ ويستشهد الله، وقرىء ويشهد الله بالرفع، فالمراد بما في قلبه ما فيه حقيقة، ويؤيده قراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والله يشهد على ما في قلبه على أن كلمة على لكون المشهود به مضرا له، والجملة حينئذ اعتراضية. وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ أي شديد المخاصمة في الباطل كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما واستشهد عليه بقول مهلهل. إن تحت الحجار حزما وجورا ... وخصيما ألد ذا مقلاق فألد صفة كأحمر بدليل جمعه على لد ومجيء مؤنثه لداء لا أفعل تفضيل والإضافة من إضافة الصفة إلى فاعلها كحسن الوجه على الإسناد المجازي وجعلها بعضهم بمعنى في على الظرفية التقديرية أي شديد في المخاصمة ونقل أبو حيان عن الخليل أن ألد أفعل تفضيل فلا بد من تقدير، وخصامه ألد الخصام أو ألد ذوي الخصام، أو يجعل وهو راجع إلى الخصام المفهوم من الكلام على بعد، أو يقال الخصام جمع خصم كبحر وبحار وصعب وصعاب، فالمعنى أشد الخصوم خصومة، والإضافة فيه للاختصاص كما في أحسن الناس وجها، وفي الآية إشارة إلى أن شدة المخاصمة مذمومة، وقد أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم «أبغض الرجال إلى الله تعالى الألد الخصم» وأخرج أحمد عن أبي الدرداء «كفى بك إثما أن لا تزال مماريا وكفى بك ظالما أن لا تزال مخاصما وكفى بك كاذبا أن لا تزال محدثا إلا حديث في ذات الله عز وجل» وشدة الخصومة من صفات   (1) قوله: (بزرع من المسلمين) كذا بخطه اهـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 المنافقين لأنهم يحبون الدنيا فيكثرون الخصام عليها وَإِذا تَوَلَّى أي أدبر وأعرض قاله الحسن، أو إذا غلب وصار واليا- قاله الضحاك- سَعى أي أسرع في المشي أو عمل فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها ما أمكنه وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ كما فعله الأخنس، أو كما يفعله ولاة السوء بالقتل والإتلاف، أو بالظلم الذي يمنع الله تعالى بشؤمه القطر، والْحَرْثَ الزرع وَالنَّسْلَ كل ذات روح يقال نسل ينسل نسولا إذا خرج فسقط، ومنه نسل وبر البعير أو ريش الطائر، وسمي العقب من الولد نسلا لخروجه من ظهر أبيه وبطن أمه، وذكر الأزهري أن الْحَرْثَ هنا النساء وَالنَّسْلَ الأولاد، وعن الصادق أن الحرث في هذا الموضع الدين والنسل الناس، وقرىء ويهلك الحرث، والنسل على أن الفعل للحرث والنسل، والرفع للعطف على سَعى وقرأ الحسن بفتح اللام وهي لغة- أبى يأبى- وروي عنه ويهلك على البناء للمفعول وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ لا يرضى به فاحذروا غضبه عليه، والجملة اعتراض للوعيد واكتفى فيها على الفساد لانطوائه على الثاني لكونه من عطف العام على الخاص، ولا يرد أن الله تعالى مفسد للأشياء قبل الإفساد، فكيف حكم سبحانه بأنه لا يحب الفساد، لأنه يقال: الإفساد- كما قيل في الحقيقة- إخراج الشيء عن حالة محمودة- لا لغرض صحيح- وذلك غير موجود في فعله تعالى ولا هو آمر به، وما نراه من فعله جل وعلا إفسادا فهو بالإضافة إلينا، وأما بالنظر إليه تعالى فكله صلاح، وأما أمره بإهلاك الحيوان مثلا لأكله فلإصلاح الإنسان الذي هو زبدة هذا العالم، وأما إماتته فأحد أسباب حياته الأبدية ورجوعه إلى وطنه الأصلي، وقد تقدم ما عسى أن تحتاجه هنا. وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ في فعلك أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ أي احتوت عليه وأحاطت به، وصار كالمأخوذ بها، والْعِزَّةُ في الأصل خلاف الذل وأريد بها الأنفة والحمية مجازا. بِالْإِثْمِ أي مصحوبا أو مصحوبة به أو بسبب إثمه السابق، ويجوز أن يكون- أخذ- من الأخذ بمعنى الأسر، ومنه الأخيذ للأسير، أي جعلته الْعِزَّةُ وحمية الجاهلية أسيرا بقيد الإثم لا يتخلص منه فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ مبتدأ وخبر أي كافيه جَهَنَّمُ وقيل: جَهَنَّمُ فاعل لحسبه ساد مسد خبره، وهو مصدر بمعنى الفاعل وقوي لاعتماده على- الفاء- الرابطة للجملة بما قبلها، وقيل: «حسب» اسم فعل ماض بمعنى كفى- وفيه نظر- وجَهَنَّمُ علم لدار العقاب أو لطبقة من طبقاتها ممنوعة من الصرف للعلمية والتأنيث، وهي من الملحق بالخماسي بزيادة الحرف الثالث ووزن فعنلل، وفي البحر إنها مشتقة من قولها: ركية جهنام- إذا كانت بعيدة القعر- وكلاهما من الجهم، وهي الكراهية، والغلظ، ووزنها فعنل. ولا يلتفت لمن قال: وزنها فنعلل كعرندس، وأن فعنلا مفقود لوجود فعنل نحو دونك وخفنك وغيرهما، وقيل: إنها فارسي وأصلها كهنام فعربت- بإبدال الكاف جيما وإسقاط الألف- والمنع من الصرف حينئذ للعلمية والعجمة وَلَبِئْسَ الْمِهادُ جواب قسم مقدر والمخصوص بالذم محذوف لظهوره وتعينه، والْمِهادُ الفراش، وقيل: ما يوطىء للجنب- والتعبير به للتهكم- وفي الآية ذم لمن يغضب إذا قيل له: اتَّقِ اللَّهَ ولهذا قال العلماء: إذا قال الخصم للقاضي: اعدل ونحوه له أن يعزره، وإذا قال له: اتَّقِ اللَّهَ لا يعزره. وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه «إنّ من أكبر الذنب أن يقول الرجل لأخيه: اتق الله تعالى فيقول: عليك بنفسك عليك بنفسك» وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ أي يبيعها ببذلها في الجهاد على ما روي عن ابن عباس والضحاك رضي الله تعالى عنهما أن الآية نزلت في سرية الرجيع، أو في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر على ما أخرج ابن جرير عن أبي الخليل قال: سمع عمر رضي الله تعالى عنه إنسانا يقرأ هذه الآية فاسترجع وقال: قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ أي طلبا لرضاه، ف ابْتِغاءَ مفعول له، ومَرْضاتِ مصدر بني- كما في البحر- على التاء كمدعاة، والقياس تجريده منها، وكتب في المصحف- بالتاء- ووقف عليه- بالتاء والهاء- وأكثر الروايات أن الآية نزلت في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 صهيب الرومي رضي الله تعالى عنه، فقد أخرج جماعة أنّ صهيبا أقبل مهاجرا نحو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فاتبعه نفر من المشركين فنزل عن راحلته ونثر ما في كنانته وأخذ قوسه ثم قال: يا معشر قريش، لقد علمتم أني من أرماكم رجلا وايم الله لا تصلون إليّ حتى أرمي بما في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، ثم افعلوا ما شئتم. فقالوا: دلنا على بيتك ومالك بمكة ونخلي عنك، وعاهدوه إن دلهم أن يدعوه ففعل، فلما قدم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «أبا يحيى ربح البيع ربح البيع» وتلا له الآية. وعلى هذا يكون الشراء على ظاهره بمعنى الاشتراء. وفي الكواشي أنها نزلت في الزبير بن العوام وصاحبه المقداد بن الأسود لما قال عليه الصلاة والسلام: «من ينزل خبيبا عن خشبته فله الجنة» فقال: أنا وصاحبي المقداد- وكان خبيب قد صلبه أهل مكة- وقال الإمامية وبعض منا: إنها نزلت في على كرم الله تعالى وجهه حين استخلفه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على فراشه بمكة لما خرج إلى الغار، وعلى هذا يرتكب في السراء مثل ما ارتكب أولا وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ أي المؤمنين حيث أرشدهم لما فيه رضاه، وجعل النعيم الدائم جزاء العمل المنقطع وأثاب على شراء ملكه بملكه. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً أخرج غير واحد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه، وذلك أنهم حين آمنوا بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وآمنوا بشرائعه وشرائع موسى عليه السلام فعظموا السبت وكرهوا لحمان الإبل وألبانها بعد ما أسلموا، فأنكر ذلك عليهم المسلمون، فقالوا: إنا نقوى على هذا وهذا، وقالوا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم: إن التوراة كتاب الله تعالى فدعنا فلنعمل بها، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فالخطاب لمؤمني أهل الكتاب، والسِّلْمِ بمعنى الإسلام، وكَافَّةً في الأصل صفة من كف بمعنى منع، استعمل بمعنى الجملة بعلاقة أنها مانعة للأجزاء عن التفرق- والتاء- فيه للتأنيث أو للنقل من الوصفية إلى الاسمية كعامة وخاصة وقاطبة أو للمبالغة. واختار الطيبي الأول مدعيا أن القول بالأخيرين خروج عن الأصل من غير ضرورة، والشمول المستفاد منه شمول الكل للأجزاء لا الكلي لجزئياته ولا الأعم منهما، ولا يختص بمن يعقل، ولا بكونه حالا ولا نكرة خلافا لابن هشام- وليس له في ذلك ثبت- وهو هنا حال من الضمير في ادْخُلُوا والمعنى ادخلوا في الإسلام بكليتكم ولا تدعوا شيئا من ظاهركم وباطنكم إلا والإسلام يستوعبه بحيث لا يبقى مكان لغيره من شريعة موسى عليه السلام، وقيل: الخطاب للمنافقين، والسِّلْمِ بمعنى الاستسلام والطاعة على ما هو الأصل فيه، وكَافَّةً حال من الضمير أيضا، أي استسلموا لله تعالى وأطيعوه جملة واتركوا النفاق وآمنوا ظاهرا وباطنا، وقيل: الخطاب لكفار أهل الكتاب الذين زعموا الإيمان بشريعتهم، والمراد من السِّلْمِ جميع الشرائع بذكر الخاص وإرادة العام بناء على القول بأن الإسلام شريعة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم، وحمل- اللام- على الاستغراق، وكَافَّةً حال من السِّلْمِ والمعنى ادخلوا أيها المؤمنون بشريعة واحدة في الشرائع كلها ولا تفرقوا بينها، وقيل: الخطاب للمسلمين الخلص، والمراد من السِّلْمِ شعب الإسلام، وكَافَّةً حال منه، والمعنى ادْخُلُوا أيها المسلمون المؤمنون بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم فِي شعب الإيمان كلها ولا تخلوا بشيء من أحكامه، وقال الزجاج في هذا الوجه: المراد من السِّلْمِ الإسلام، والمقصود أمر المؤمنين بالثبات عليه، وفيه أن التعبير عن الثبات على الإسلام بالدخول فيه بعيد غاية البعد، وهذا ما اختاره بعض المحققين من ستة عشر احتمالا في الآية حاصلة من ضرب احتمالي السِّلْمِ في احتمالي كَافَّةً وضرب المجموع في احتمالات الخطاب، ومبنى ذلك على أمرين، أحدهما أن كَافَّةً لإحاطة الأجزاء، والثاني أن محط الفائدة في الكلام القيد كما هو المقرر عند البلغاء، ونص عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 الشيخ في دلائل الإعجاز، وإذا اعتبرت احتمال الحالية من الضمير والظاهر معا كما في قوله: خرجت بها نمشي تجر وراءنا ... على أثرينا ذيل مرط مرحل بلغت الاحتمالات أربعة وعشرين، ولا يخفى ما هو الأوفق منها بسبب النزول. وقرأ ابن كثير ونافع والكسائي «السلم» بفتح السين والباقون- بكسرها- وهما لغتان مشهورتان فيه، وقرأ الأعمش بفتح السين واللام وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ بمخالفة ما أمرتم به، أو بالتفرق في جملتكم، أو بالتفريق بالشرائع أو الشعب إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة أو مظهر لها، وهو تعليل للنهي والانتهاء. فَإِنْ زَلَلْتُمْ أي ملتم عن الدخول فِي السِّلْمِ وتنحيتم، وأصله السقوط وأريد به ما ذكر مجازا. مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ أي الحجج الظاهرة الدالة على أنه الحق، أو آيات الكتاب الناطقة بذلك الموجبة للدخول فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب على أمره لا يعجزه شيء من الانتقام منكم حَكِيمٌ لا يترك ما تقتضيه الحكمة من مؤاخذة المجرمين هَلْ يَنْظُرُونَ استفهام في معنى النفي، والضمير للموصول السابق إن أريد به المنافقون أو أهل الكتاب، أو إلى مَنْ يُعْجِبُكَ إن أريد به مؤمنو أهل الكتاب أو المسلمون. إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ بالمعنى اللائق به جل شؤونه منزها عن مشابهة المحدثات والتقيد بصفات الممكنات. فِي ظُلَلٍ جمع ظلة كقلة وكقلل وهي ما أظلك، وقرىء ظلال كقلال مِنَ الْغَمامِ أي السحاب أو الأبيض منه وَالْمَلائِكَةُ يأتون، وقرىء «والملائكة» بالجر عطف على ظلل أو الغمام والمراد مع الْمَلائِكَةُ أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «يجمع الله تعالى الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم قياما شاخصة أبصارهم إلى السماء ينظرون فصل القضاء وينزل الله تعالى في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي، وأخرج ابن جرير وغيره عن عبد الله بن عمر في هذه الآية قال: يهبط حين يهبط وبينه وبين خاتمه سبعون ألف حجاب منها النور والظلمة والماء فيصوت الماء في تلك العظمة صوتا تنخلع له القلوب، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن من الغمام ظللا يأتي الله تعالى فيها محفوفات بالملائكة، وقرأ أبيّ «إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل» ومن الناس من قدر في أمثال هذه المتشابهات محذوفا فقال: في الآية الإسناد مجازي، والمراد يأتيهم أمر الله تعالى وبأسه أو حقيقي، والمفعول محذوف أي يأتيهم الله تعالى ببأسه، وحذف المأتي به للدلالة عليه بقوله سبحانه: أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فإن العزة. والحكمة تدل على الانتقام بحق، وهو البأس والعذاب، وذكر الملائكة لأنهم الواسطة في إتيان أمره أو الآتون على الحقيقة، ويكون ذكر الله تعالى حينئذ تمهيدا لذكرهم كما في قوله سبحانه: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا [البقرة: 9] على وجه وخص الغمام بمحلية العذاب لأنه مظنة الرحمة فإذا جاء منه العذاب كان أفظع لأن الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أصعب فكيف إذا جاء من حيث يحتسب الخير، ولا يخفى أن من علم أن الله تعالى أن يظهر بما شاء وكيف شاء ومتى شاء وأنه في حال ظهوره باق على إطلاقه حتى عن قيد الإطلاق منزه عن التقيد مبرأ عن التعدد كما ذهب إليه سلف الأمة وأرباب القلوب من ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم لم يحتج إلى هذه الكلفات، ولم يحم حول هذه التأويلات وَقُضِيَ الْأَمْرُ أي أتم أمر العباد وحسابهم فأثيب الطائع وعوقب العاصي وأتم أمر إهلاكهم وفرغ منه وهو عطف على هَلْ يَنْظُرُونَ لأنه خبر معنى ووضع الماضي موضع المستقبل لدنو وتيقن وقوعه. وقرأ معاذ بن جبل وقضاء الأمر عطفا على الملائكة وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ تذييل للتأكيد كأنه قيل: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ التي من جملتها الحساب أو الإهلاك، وعلى قراءة معاذ عطف على هَلْ يَنْظُرُونَ أي لا ينظرون إلا الإتيان وأمر ذلك إلى الله تعالى، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم- ترجع- على البناء للمفعول على أنه من الرجع، وقرأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 الباقون على البناء للفاعل بالتأنيث غير يعقوب على أنه من الرجوع، وقرىء أيضا بالتذكير وبناء المفعول سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ أمر للرسول صلّى الله عليه وسلّم كما هو الأصل في الخطاب أو لكل واحد ممن يصح منه السؤال، والمراد بهذا السؤال تقريعهم وتوبيخهم على طغيانهم وجحودهم الحق بعد وضوح الآيات لا أن يجيبوا فيعلم من جوابهم كما إذا أراد واحد منا توبيخ أحد يقول لمن حضر سله كم أنعمت عليه، وربط الآية بما قبلها على ما قيل: إن الضمير في هَلْ يَنْظُرُونَ إن كان لأهل الكتاب فهي كالدليل عليه وإن كان لمن يُعْجِبُكَ فهي بيان لحال المعاندين من أهل الكتاب بعد بيان حال المنافقين من أهل الشرك كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ أي علامة ظاهرة وهي المعجزات الدالة على صدق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كما قال الحسن، ومجاهد، وتخصيص إيتاء المعجزات بأهل الكتاب مع عمومه للكل لأنهم أعلم من غيرهم بالمعجزات وكيفية دلالتها على الصدق لعلمهم بمعجزات الأنبياء السابقة وقد يراد بالآية معناها المتعارف وهو طائفة من القرآن وغيره، وبينة من بان المتعدي، فالسؤال على إيتاء الآيات المتضمنة لنعت الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وتحقيق نبوته والتصديق بما جاء به. وكَمْ إما خبرية والمسئول عنه محذوف، والجملة ابتدائية لا محل لها من الإعراب مبينة لاستحقاقهم التقريع كأنه قيل: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ عن طغيانهم وجحودهم للحق بعد وضوحه فقد- آتيناهم آيات كثيرة بينة- وزعم لزوم انقطاع الجملة على هذا التقدير- وهم كما ترى، وإما استفهامية والجملة في موضع المفعول الثاني ل سَلْ وقيل: في موضع المصدر أي سلهم هذا السؤال، وقيل: في موضع الحال أي سلهم قائلا- كم آتيناهم- والاستفهام للتقرير بمعنى حمل المخاطب على الإقرار، وقيل: بمعنى التحقيق والتثبيت، واعترض بأن معنى التقريع الاستنكار والاستبعاد وهو لا يجامع التحقيق، وأجيب بأن التقريع إنما هو على جحودهم الحق وإنكاره المجامع لإيتاء الآيات لا على الإيتاء حتى يفارقه، ومحلها النصب على أنها مفعول ثان- لآتينا- وليس من الاشتغال كما وهم أو الرفع بالابتداء على حذف العائد، والتقدير- آتيناهموها- أو آتيناهم إياها، وهو ضعيف عند سيبويه، وآيَةٍ تمييز، ومِنْ صلة أتي بها للفصل بين كون آيَةٍ مفعولا- لآتينا- وكونها مميزة ل كَمْ ويجب الإتيان بها في مثل هذا الموضع فقد قال الرضي: وإذا كان الفصل بين- كم- الخبرية ومميزها بفعل متعد وجب الإتيان بمن لئلا يلتبس المميز بمفعول ذلك المتعدي نحو كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ [الدخان: 25] وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ [الحجر: 4] وحال- كم- الاستفهامية المجرور مميزها مع الفصل كحال- كم الخبرية في جميع ما ذكرنا انتهى. وحكي عنه أنه أنكر زيادة من في مميز الاستفهامية وهو محمول على الزيادة بلا فصل لا مطلقا فلا تنافي بين كلاميه وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ أي آياته فإنها سبب الهدي الذي هو أجل النعم، وفيه وضع المظهر موضع المضمر بغير لفظه السابق لتعظيم الآيات، وتبديلها تحريفها وتأويلها الزائغ، أو جعلها سببا للضلالة وازدياد الرجس، وعلى التقديرين لا حذف في الآية، وقال أبو حيان حذف حرف الجر من نِعْمَةَ والمفعول الثاني ل يُبَدِّلْ والتقدير ومن يبدل بنعمة الله كفرا، ودل على ذلك ترتيب جواب الشرط عليه وفيه ما لا يخفى، وقرىء- ومن يبدل- بالتخفيف مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ أي وصلته وتمكن من معرفتها، وفائدة هذه الزيادة- وإن كان تبديل الآيات مطلقا مذموما- التعريض بأنهم بدلوها بعد ما عقلوها، وفيه تقبيح عظيم لهم ونعي على شناعة حالهم واستدلال على استحقاقهم العذاب الشديد حيث بدلوا بعد المعرفة وبهذا يندفع ما يتراءى من أن التبديل لا يكون إلا بعد المجيء فما الفائدة في ذكره فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ تعليل للجواب أقيم مقامه والتقدير ومن يبدل نعمة الله عاقبه أشد عقوبة لأنه شديد العقاب، ويحتمل أن يكون هو الجواب بتقدير الضمير أي شديد العقاب له وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا أي أوجدت حسنة وجعلت محبوبة في قلوبهم فتهافتوا عليها تهافت الفراش على النار وأعرضوا عما سواها ولذا أعرض أهل الكتاب عن الآيات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 وبدلوها، وفاعل التزيين بهذا المعنى حقيقة هو الله تعالى وإن فسر بالتحسين بالقول ونحوه من الوسوسة كما في قوله تعالى: لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ [الحجر: 39] كان فاعل ذلك هو الشيطان والآية محتملة لمعنيين، والتزيين حقيقة فيهما على ما يقتضيه ظاهر كلام الراغب وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا الموصول للعهد، والمراد به فقراء المؤمنين كصهيب وبلال وعمار أي يستهزئون بهم على رفضهم الدنيا. وإقبالهم على العقبى، ومِنَ للتعدية وتفيد معنى الابتداء كأنهم جعلوا لفقرهم ورثاثة حالهم منشأ للسخرية وقد يعدى السخر بالباء إلا أنه لغة رديئة، والعطف على زين وإيثار صيغة الاستقبال للدلالة على الاستمرار، وجوز أن تكون الواو للحال ويسخرون خبر لمحذوف أي وهم يسخرون، والآية نزلت في أبي جهل وأضرابه من رؤساء قريش بسطت لهم الدنيا وكانوا يسخرون من فقراء المؤمنين ويقولون لو كان محمد صلى الله تعالى عليه وسلم نبيا لاتبعه أشرافنا، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وقيل: نزلت في ابن سلول، وقيل: في رؤساء اليهود، ومن بني قريظة، والنضير وقينقاع سخروا من فقراء المهاجرين وعن عطاء لا مانع من نزولها في جميعهم وَالَّذِينَ اتَّقَوْا هم الذين آمنوا بعينهم وآثر التعبير به مدحا لهم بالتقوى وإشعارا بعلة الحكم، ويجوز أن يراد العموم ويدخل هؤلاء فيهم دخولا أوليا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ مكانا لأنهم في عليين وأولئك في أسفل السافلين، أو مكانة لأنهم في أوج الكرامة وهم في حضيض الذل والمهانة، أو لأنهم يتطاولون عليهم في الآخرة فيسخرون منهم كما سخروا منهم في الدنيا، والجملة معطوفة على ما قبلها، وإيثار الاسمية للدلالة على دوام مضمونها، وفي ذلك من تسلية المؤمنين ما لا يخفى وَاللَّهُ يَرْزُقُ في الآخرة مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ أي بلا نهاية لما يعطيه، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنه: هذا الرزق في الدنيا، وفيه إشارة إلى تملك المؤمنين المستهزأ بهم أموال بني قريظة والنضير، ويجوز أن يراد في الدارين فيكون تذييلا لكلا الحكمين كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً متفقين على التوحيد مقرين بالعبودية حين أخذ الله تعالى عليهم العهد، وهو المروي عن أبيّ بن كعب، أو بين آدم وإدريس عليهما السلام بناء على ما في روضة الأحباب أن الناس في زمان آدم كانوا موحدين متمسكين بدينه بحيث يصافحون الملائكة إلا قليل من قابيل ومتابعيه إلى زمن رفع إدريس، أو بين آدم ونوح عليهما السلام على ما روى البزار وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان بينهما عشرة قرون على شريعة من الحق، أو بعد الطوفان إذ لم يبق بعده سوى ثمانين رجلا وامرأة ثم ماتوا إلا نوحا وبنيه حام وسام ويافث وأزواجهم وكانوا كلهم على دين نوح عليه الصلاة والسلام فالاستغراق على الأول والأخير حقيقي، وعلى الثاني والثالث ادعائي بجعل القليل في حكم العدم، وقيل: متفقين على الجهالة والكفر بناء على ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا كفارا وذلك بعد رفع إدريس عليه الصلاة والسلام إلى أن بعث نوح أو بعد موت نوح عليه الصلاة والسلام إلى أن بعث هود عليه الصلاة والسلام فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ أي فاختلفوا فبعث إلخ وهي قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، وإنما حذف تعويلا على ما يذكر عقبه مُبَشِّرِينَ من آمن بالثواب وَمُنْذِرِينَ من كفر بالعذاب وهم كثيرون، فقد أخرج أحمد وابن حبان عن أبي ذر أنه سئل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كم الأنبياء؟ قال: «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا قلت: يا رسول الله كم الرسل؟ قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر جم غفير» ولا يعارض هذا قوله تعالى: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ [النساء: 164] الآية لما سيأتي إن شاء الله تعالى، والجمعان منصوبان على الحال من النبيين، والظاهر أنها حال مقدرة، والقول بأنها حال مقارنة خلاف الظاهر. وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ اللام للجنس ومعهم حال مقدرة من الكتاب فيتعلق بمحذوف، وليس منصوبا بأنزل والمعنى أنزل جنس الكتاب مقدرا مقارنته ومصاحبته للنبيين حيث كان كل واحد منهم يأخذ الأحكام إما من كتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 يخصه أو من كتاب من قبله، والكتب المنزلة مائة وأربعة في المشهور وأنزل على آدم عشر صحائف وعلى شيث ثلاثون وعلى إدريس خمسون وعلى موسى قبل التوراة عشرة والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان وجوز كون اللام للعهد وضمير معهم للنبيين باعتبار البعض أي أنزل مع كل واحد من بعض النبيين كتابه ولا يخفى ما فيه من الركة بِالْحَقِّ متعلق ب أَنْزَلَ أو حال من الْكِتابَ أي متلبسا شاهدا به لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ علة للإنزال المذكور أوله وللبعث، وهذا البعث المعلل هو المتأخر عن الاختلاف فلا يضر تقدم بعثة آدم وشيث وإدريس عليهم الصلاة والسلام بناء على بعض الوجوه السابقة والحكم بمعنى الفصل بقرينة تعلق بين به ولو كان بمعنى القضاء لتعدى بعلى والضمير المستتر راجع إلى الله سبحانه ويؤيده قراءة الجحدري فيما رواه عنه مكي لنحكم بنون العظمة أو إلى النبي وأفرد الفعل لأن الحاكم كل واحد من النبيين، وجوز رجوعه إلى الكتاب والإسناد حينئذ مجازي باعتبار تضمنه ما به الفصل، وزعم بعضهم أنه الأظهر إذ لا بد في عوده إلى الله تعالى من تكلف في المعنى أي يظهر حكمه وإلى النبي من تكلف في اللفظ حيث لم يقل ليحكموا، ومما ذكرنا يعلم ما فيه من الضعف، والمراد من الناس المذكورون والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التعيين. فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ أي في الحق الذي اختلفوا فيه بناء على أن وحدة الأمة بالاتفاق على الحق وإذا فسرت الوحدة بالاتفاق على الجهالة والكفر يكون الاختلاف مجازا عن الالتباس والاشتباه اللازم له والمعنى فيما التبس عليهم وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ أي في الحق بأن أنكروه وعاندوه أو في الكتاب المنزل متلبسا به بأن حرفوه وأولوه بتأويلات زائغة والواو حالية إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ أي الكتاب المنزل لإزالة الاختلاف وإزاحة الشقاق أي عكسوا الأمر حيث جعلوا ما أنزل مزيحا للاختلاف سببا لرسوخه واستحكامه، وبهذا يندفع السؤال بأنه لما لم يكن الاختلاف إلا من الذين أوتوه- فالاختلاف لا يكون سابقا على البعثة- وحاصله أن المراد هاهنا استحكام الاختلاف واشتداده، وعبر عن- الإنزال بالإيتاء- للتنبيه من أول الأمر على كمال تمكنهم من الوقوف على ما فيه من الحق فإن- الإنزال- لا يفيد ذلك، وقيل: عبر به ليختص الموصول بأرباب العلم والدراسة من أولئك المختلفين، وخصهم بالذكر لمزيد شناعة فعلهم ولأن غيرهم تبع لهم مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ أي رسخت في عقولهم الحجج الظاهرة الدالة على الحق، ومِنْ متعلقة ب اخْتَلَفُوا محذوفا، والحصر على تسليم أن يكون مقصودا مستفاد من المقام أو من حذف الفعل، ووقوع الظرف بعد حرف الاستثناء لفظا، أو من تقدير المحذوف مؤخرا- وفي الدر المصون تجويز تعلقه بما اختلف قبله- ولا يمنع منه إلا كما قاله أبو البقاء، وللنحاة في هذا المقام كلام محصله أنّ استثناء شيئين بأداة واحدة بلا عطف غير جائز مطلقا عند الأكثرين، لا على وجه البدل ولا غيره- ويجوز عند جماعة مطلقا- وفصل بعضهم إن كان المستثنى منه مذكورا مع كل من المستثنيين وهما بدلان جاز- وإلا فلا- واستدل من أجاز مطلقا بقوله تعالى: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وأجاب من لم يجوّز بأن النصب بفعل مقدر أي «اتبعوا» وبأن الظرف يكفيه رائحة الفعل فيجوز فيه ما لا يجوز في غيره- قاله الرضيّ- وهو مبنى الاختلاف في الآية، وقوله تعالى: بَغْياً بَيْنَهُمْ متعلق بما تعلق به مِنْ والبغي- الظلم أو الحسد، وبَيْنَهُمْ متعلق بمحذوف صفة بَغْياً وفيه إشارة- على ما أرى- إلى أن هذا- البغي- قد باض وفرخ عندهم، فهو يحوم عليهم ويدور بينهم لا طمع له في غيرهم، ولا ملجأ له سواهم، وفيه إيذان بتمكنهم في ذلك وبلوغهم الغاية القصوى فيه- وهو فائدة التوصيف بالظرف- وقيل: أشار بذلك إلى أن البغي أمر مشترك بينهم وأنّ كلهم سفل، ومنشأ ذلك مزيد حرصهم في الدنيا وتكالبهم عليها فَهَدَى اللَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ أي بأمره أو بتوفيقه وتيسيره، ومِنْ بيان لِمَا والمراد للحق الذي اختلف الناس فيه- فالضمير عام شامل للمختلفين السابقين واللاحقين- وليس راجعا إلى الذين أوتوه كالضمائر السابقة، والقرينة على ذلك عموم الهداية للمؤمنين السابقين على اختلاف أهل الكتاب واللاحقين بعد اختلافهم، وقيل: المراد من الَّذِينَ آمَنُوا أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، والضمير في اخْتَلَفُوا للذين أوتوه أي الكتاب، ويؤيده ما أخرجه ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال: اخْتَلَفُوا في يوم الجمعة، فأخذ اليهود يوم السبت والنصارى يوم الأحد فَهَدَى اللَّهُ تعالى أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ليوم الجمعة، واخْتَلَفُوا في القبلة، فاستقبلت النصارى المشرق، واليهود بيت المقدس وهدي الله تعالى أمّة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم للقبلة. واخْتَلَفُوا في الصلاة فمنهم من يركع ولا يسجد، ومنهم من يسجد ولا يركع، ومنهم من يصلي وهو يتكلم، ومنهم من يصلي وهو يمشي، فهدي الله تعالى أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم للحق من ذلك واخْتَلَفُوا في الصيام، فمنهم من يصوم النهار والليل، ومنهم من يصوم عن بعض الطعام، فهدي الله أمّة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم للحق من ذلك. واخْتَلَفُوا في إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فقالت اليهود: كان يهوديا، وقالت النصارى: كان نصرانيا، وجعله الله تعالى: حَنِيفاً مُسْلِماً [آل عمران: 67] فهدي الله تعالى أمّة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم للحق من ذلك. وَاخْتَلَفُوا في عيسى عليه الصلاة والسلام، فكذبت به اليهود وقالوا لأمّه بهتانا عظيما، وجعلته النصارى إلها وولدا، وجعله الله تعالى روحه وكلمته، فهدي الله تعالى أمّة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم للحق من ذلك وقراءة أبيّ بن كعب «فهدي الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ليكونوا شهداء على الناس» . وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو طريق الحق الذي لا يضل سالكه، والجملة مقررّة لمضمون ما قبلها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والشدة والخوف والبرد وسوء العيش وأنواع الأذى. حتى بلغت القلوب الحناجر، وقيل: في غزوة أحد، وقال عطاء: لما دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه المدينة اشتد الضر عليهم، لأنهم خرجوا بغير مال وتركوا ديارهم وأموالهم بيد المشركين، وآثروا رضا الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأسر قوم من الأغنياء النفاق فأنزل الله تطييبا لقلوبهم هذه الآية، والخطاب إما للمؤمنين خاصة، أو للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولهم، ونسبة- الحسبان- إليه عليه الصلاة والسلام إما لأنه لما كان يضيق صدره الشريف من شدائد المشركين نزل منزلة من يحسب أن يدخل الجنة بدون تحمل المكاره، وإما على سبيل التغليب كما في قوله سبحانه: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا [الأعراف: 88] وأَمْ منقطعة- والهمزة المقدّرة- لإنكار ذلك الحسبان وأنه لا ينبغي أن يكون، وقيل: متصلة بتقدير معادل، وقيل: منقطعة بدون تقدير، وفي الكلام التفات إلا أنه غير صريح من الغيبة إلى الخطاب لأن قوله سبحانه: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً كلام مشتمل على ذكر الأمم السابقة والقرون الخالية، وعلى ذكر من بعث إليهم من الأنبياء وما لقوا منهم من الشدائد، وإظهار المعجزات تشجيعا للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين على الثبات والصبر على أذى المشركين، أو للمؤمنين خاصة- فكانوا من هذا الوجه مرادين غائبين- ويؤيده فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا إلخ فإذا قيل: بعد أَمْ حَسِبْتُمْ كان نقلا من الغيبة إلى الخطاب، أو لأنّ الكلام الأول تعريض للمؤمنين بعدم التثبت والصبر على أذى المشركين، فكأنه وضع موضع كان من حق المؤمنين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 التشجيع والصبر تأسيا بمن قبلهم، كما يدل عليه ما أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي والإمام أحمد عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما لقينا من المشركين فقلنا: ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله تعالى لنا/ فقال: «إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فتخلص إلى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه» ثم قال: «والله ليتمنّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله تعالى، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون» وهذا هو المضرب عنه- ببل- التي تضمنتها أَمْ أي دع ذلك- أحسبوا أن يدخلوا الجنة- فترك هذا إلى الخطاب وحصل الالتفات معنى، ومما ذكر يعلم وجه ربط الآية بما قبلها، وقيل: وجه ذلك أنه سبحانه لما قال: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وكان المراد بالصراط الحق الذي يفضي اتباعه إلى دخول الجنة بين أن ذلك لا يتم إلا باحتمال الشدائد والتكليف وَلَمَّا يَأْتِكُمْ الواو للحال، والجملة بعدها نصب على الحال أي غير آتيكم وَلَمَّا جازمة- كلم- وفرق بينهما في كتب النحو، والمشهور أنها بسيطة، وقيل: مركبة من- لم وما النافية- وهي نظيرة قد في أنّ الفعل المذكور بعدها منتظر الوقوع. مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ أي مثل مثلهم وحالهم العجيبة، فالكلام على حذف مضاف، والَّذِينَ صفة لمحذوف أي المؤمنين، ومِنْ قَبْلِكُمْ متعلق ب خَلَوْا وهو كالتأكيد لما يفهم منه. مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ بيان- للمثل- على الاستئناف سواء قدّر كيف ذلك المثل أو لا، وجوّز أبو البقاء كونها حالية بتقدير قد وَزُلْزِلُوا أي أزعجوا إزعاجا شديدا بأنواع البلاء. حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ أي انتهى أمرهم من البلاء إلى حيث اضطروا إلى أن يَقُولَ الرَّسُولُ وهو أعلم الناس بما يليق به تعالى، وما تقتضيه حكمته، والمؤمنون المقتدون بآثاره، المهتدون بأنواره مَتى يأتي نَصْرُ اللَّهِ طلبا وتمنيا له، واستطالة لمدة الشدة- لا شكا وارتيابا- والمراد من الرَّسُولُ الجنس لا واحد بعينه، وقيل: وهو اليسع، وقيل: شعياء، وقيل: أشعياء، وعلى التعيين يكون المراد من الَّذِينَ خَلَوْا قوما بأعيانهم- وهم أتباع هؤلاء الرسل- وقرأ نافع يَقُولَ بالرفع على أنها حكاية حال ماضية ومَعَهُ يجوز أن يكون منصوبا ب يَقُولَ أي إنهم صاحبوه في هذا القول وأن يكون منصوبا ب آمَنُوا أي وافقوه في الإيمان أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ استئناف نحوي على تقدير القول أي فقيل لهم حينئذ ذلك تطييبا لأنفسهم بإسعافهم بمرامهم وإيثار الجملة الاسمية على الفعلية المناسبة لما قبلها وتصديرها بحرف التنبيه والتأكيد من الدلالة على تحقق مضمونها وتقريره ما لا يخفى، واختيار حكاية الوعد بالنصر لما أنها في حكم إنشاء الوعد للرسول والاقتصار على حكايتها دون حكاية النصر مع تحققه للإيذان بعدم الحاجة إلى ذلك لاستحالة الخلف، وقيل: لما كان السؤال- بمتى- يشير إلى استعلام القرب تضمن الجواب القرب واكتفى به ليكون الجواب طبق السؤال، وجوز أن يكون هذا واردا من جهته تعالى عند الحكاية على نهج الاعتراض لا واردا عند وقوع المحكي، والقول بأن هذه الجملة: مقول الرسول ومَتى نَصْرُ اللَّهِ تعالى مقول من معه على طريق اللف والنشر الغير المرتب ليس بشيء، إما لفظا فلأنه لا يحسن تعاطف القائلين دون المقولين، وإما معنى فلأنه لا يحسن ذكر قول الرسول أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ في الغاية التي قصد بها بيان تناهي الأمر في الشدة، والقول- بأن ترك العطف للتنبيه على أن كلّا مقول لواحد منهما، واحتراز عن توهم كون المجموع مقول واحد وتنبيه على أن الرسول قال لهم في جوابهم وبأن منصب الرسالة يستدعي تنزيه الرسول عن التزلزل- لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 ينبغي أن يلتفت إليه لأنه إذا ترك العطف لا يكون معطوفا على القول الأول فكيف التنبيه على كون كل مقولا لواحد منهما، ولا نأمن وراء منع كون منصب الرسالة يستدعي ذلك التنزيه وليس التزلزل والانزعاج أعظم من الخوف، وقد عرى الرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم كما يصرح به كثير من الآيات، وفي الآية رمز إلى أن الوصول إلى الجناب الأقدس لا يتيسر إلا برفض اللذات ومكابدة المشاق كما ينبىء عنه خبر «حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات» وأخرج الحاكم وصححه عن أبي مالك قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إن الله تعالى ليجرب أحدكم بالبلاء وهو أعلم به كما يجرب أحدكم ذهبه بالنار فمنهم من يخرج كالذهب الإبريز فذلك الذي نجاه الله تعالى من السيئات ومنهم من يخرج كالذهب الأسود فذلك الذي قد افتتن» «ومن باب الإشارة في الآيات» وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا يدعي المحبة ويتكلم في دقائق الأسرار ويظهر خصائص الأحوال وهو في مقام النفس الأمارة وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ من المعارف والإخلاص بزعمه وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ شديد الخصومة لأهل الله تعالى في نفس الأمر وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها بإلقاء الشبه على ضعفاء المريدين وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ ويحصد بمنجل تمويهاته زرع الإيمان النابت في رياض قلوب السالكين ويقطع نسل المرشدين وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ فكيف يدعي هذا الكاذب محبة الله تعالى ويرتكب ما لا يحبه وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ حملته الحمية النفسانية حمية الجاهلية على الإثم لجاجا وحبا لظهور نفسه وزعما منه أنه أعلم بالله سبحانه من ناصحه فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ أي يكفيه حبسه في سجين الطبيعة وظلماتها، وهذه صفة أكثر أرباب الرسوم الذين حجبوا عن إدراك الحقائق بما معهم من العلوم وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يبذل نفسه في سلوك سبيل الله طلبا لرضاه ولا يلتفت إلى القال والقيل ولا يغلو لديه في طلب مولاه جليل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ وتسليم الوجود لله تعالى والخمود تحت مجاري القدرة لكم وعليكم كافة فإن زللتم عن مقام التسليم والرضا بالقضاء من بعد ما جاءتكم دلائل تجليات الأفعال والصفات، فاعلموا أن الله تعالى عزيز غالب يقهركم، حكيم لا قهر إلا على مقتضى الحكمة، هل ينظرون إلا أن يتجلى الله سبحانه في ظلل صفات قهرية من جملة تجليات الصفات وصور ملائكة القوى السماوية، وقضي الأمر بوصول كل إلى ما سبق له في الأزل وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ بالفناء كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً على الفطرة ودين الحق في عالم الإجمال ثم اختلفوا في النشأة بحسب اختلاف طبائعهم وغلبة صفات نفوسهم واحتجاب كل بمادة بدنه فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ ليدعوهم من الخلاف إلى الوفاق ومن الكثرة إلى الوحدة ومن العداوة إلى المحبة فتفرقوا وتحزبوا عليهم وتميزوا، فالسفليون ازدادوا خلافا وعنادا والعلويون هداهم الله تعالى إلى الحق وسلكوا الصراط المستقيم أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا جنة المشاهدة ومجالس الأنس بنور المكاشفة وَلَمَّا يَأْتِكُمْ حال السالكين قبلكم مستهم بأساء الفقراء وضراء المجاهدة وكسر النفس بالعبادة حتى تضجروا من طول مدة الحجاب وعيل صبرهم عن مشاهدة الجمال وطلبوا نصر الله تعالى بالتجلي، فأجيبوا: إذا بلغ السيل الزبى، وقيل: لهم أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ برفع الحجاب وظهور آثار الجمال قَرِيبٌ ممن بذل نفسه وصرف عن غير مولاه حسنه وتحمل المشاق وذبح الشهوات بسيف الأشواق: ومن لم يمت في حبه لم يعش به ... ودون اجتناء النحل ما جنت النحل يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في رواية أبي صالح: «كان عمرو بن الجموح شيخا كبيرا ذا مال كثير فقال: يا رسول الله بماذا نتصدق وعلى من ننفق؟ فنزلت» وفي رواية عطاء عنه لا إنها نزلت في رجل أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: إن لي دينارا فقال: أنفقه على نفسك فقال: إن لي دينارين فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 أنفقهما على أهلك فقال: إن لي ثلاثة فقال: أنفقها على خادمك فقال: إن لي أربعة فقال: أنفقها على والديك فقال: إن لي خمسة فقال: أنفقها على قرابتك فقال: إن لي ستة فقال: أنفقها في سبيل الله تعالى» وعن ابن جريج قال: «سأل المؤمنون رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أين يضعون أموالهم؟» فنزلت. قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ظاهر الآية أنه سئل عن المنفق فأجاب ببيان المصرف صريحا لأنه أهم فإن اعتداد النفقة باعتباره، وأشار إجمالا إلى بيان المنفق فإن: مِنْ خَيْرٍ يتضمن كونه حلالا إذ لا يسمى ما عداه خيرا وإنما تعرض لذلك وليس في السؤال ما يقتضيه لأن السؤال للتعلم لا للجدل، وحق المعلم فيه أن يكون كطبيب رفيق يتحرى ما فيه الشفاء طلبه المريض أم لم يطلبه، ولما كانت حاجتهم إلى من ينفق عليه كحاجتهم إلى ما ينفق بين الأمرين وهذا كمن به صفراء فاستأذن طبيبا في أكل العسل فقال: كله مع الخل، فالكلام إذا من أسلوب الحكيم، ويحتمل أن يكون في الكلام ذكر المصرف أيضا كما تدل عليه الرواية الأولى في سبب النزول إلا أنه لم يذكره في الآية للإيجاز في النظم تعويلا على الجواب فتكون الآية جوابا لأمرين مسؤول عنهما، والاقتصار في بيان المنفق على الإجمال من غير تعرض للتفصيل كما في بيان المصرف للإشارة إلى كون الثاني أهم، وهل تخرج الآية بذلك عن كونها من أسلوب الحكيم أم لا؟ قولان أشهرهما الثاني حيث أجيب عن المتروك صريحا وعن المذكور تبعا، والأكثرون على أن الآية في التطوع، وقيل: في الزكاة، واستدل بها من أباح صرفها للوالدين، وفيه أن عموم خَيْرٍ مما ينافي كونها في الزكاة لأن الفرض فيها قدر معين بالإجماع ولم يتعرض سبحانه للسائلين، والرِّقابِ إما اكتفاء بما ذكر في المواضع الأخر، وإما بناء على دخولهم تحت عموم قوله تعالى: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فإنه شامل لكل خَيْرٍ واقع في أي مصرف كان وَما شرطية مفعول به- لتفعلوا- والفعل أعم من الإنفاق وأتى بما يعم تأكيدا للخاص الواقع في الجواب. فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ يعلم كنهه كما يشير به صيغة فعيل مع الجملة الاسمية المؤكدة، والجملة جواب الشرط باعتبار معناها الكنائي إذ المراد منها توفية الثواب، وقيل: إنها دليل الجواب، وليست به، ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أن الصبر على النفقة وبذل المال من أعظم ما تحلى به المؤمن وهو من أقوى الأسباب الموصلة إلى الجنة حتى ورد «الصدقة تطفئ غضب الرب» كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أي قتال الكفار وهو فرض عين إن دخلوا بلادنا، وفرض كفاية إن كانوا ببلادهم وقرىء بالبناء للفاعل وهو الله عز وجل ونصب القتال، وقرىء أيضا كتب عليكم القتل أي قتل الكفرة وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ عطف على كتب وعطف الاسمية على الفعلية جائز كما نص عليه، وقيل: الواو للحال، والجملة حال ورد بأن الحال المؤكدة لا تجيء- بالواو- والمنتقلة لا فائدة فيها «والكره» بالضم- كالكره بالفتح- وبهما قرىء «الكراهة» وقيل: المفتوح المشقة التي تنال الإنسان من خارج والمضموم ما يناله من ذاته، وقيل: المفتوح اسم بمعنى الإكراه، والمضموم بمعنى «الكراهة» وعلى كل حال فإن كان مصدرا فمؤول أو محمول على المبالغة أو هو صفة كخبز بمعنى مخبوز، وإن كان بمعنى الإكراه وحمل على الكره عليه فهو على التشبيه البليغ كأنهم أكرهوا عليه لشدته وعظم مشقته ثم كون القتل مكروها لا ينافي الإيمان لأن تلك الكراهية طبيعية لما فيه من القتل والأسر وإفناء البدن وتلف المال وهي لا تنافي الرضا بما كلف به كالمريض الشارب للدواء البشع يكرهه لما فيه من البشاعة ويرضى به من جهة أخرى. وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وهو جميع ما كلفوا به فإن الطبع يكرهه وهو مناط صلاحهم ومنه القتال فإن فيه الظفر والغنيمة والشهادة التي هي السبب الأعظم للفوز بغاية الكرامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وهو جميع ما نهوا عنه فإن النفس تحبه وتهواه وهو يفضي بها إلى الردى، ومن ذلك ترك قتال الأعداء فإن فيه الذل وضعف الأمر وسبي الذراري ونهب الأموال وملك البلاد وحرمان الحظ الأوفر من النعيم الدائم، والجملتان الاسميتان حالان من النكرة وهو قليل، ونص سيبويه على جوازه كما في البحر، وجوز أبو البقاء أن يكونا صفة لها وساغ دخول الواو لما أن صورة الجملة هنا كصورتها إذا كانت حالا وَعَسى الأولى للاشفاق والثانية للترجي على ما ذهب إليه البعض، وإنما ذكر عسى الدالة على عدم القطع لأن النفس إذا ارتاضت وصفت انعكس عليها الأمر الحاصل لها قبل ذلك فيكون محبوبها مكروها ومكروهها محبوبا فلما كانت قابلة بالارتياض لمثل هذا الانعكاس لم يقطع بأنها تكره ما هو خير لها وتحب ما هو شر لها فلا حاجة إلى أن يقال: إنها هنا مستعملة في التحقيق كما في سائر القرآن ما عدا قوله تعالى: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ [التحريم: 5] وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما هو خير لكم وما هو شر لكم وحذف المفعول للإيجاز وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذلك فبادروا إلى ما يأمركم به لأنه لا يأمركم إلا بما علم فيه خيرا لكم وانتهوا عما نهاكم عنه لأنه لا ينهاكم إلا عما هو شر لكم، ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة لأن فيها الجهاد وهو بذل النفس الذي هو فوق بذل المال. يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي من طريق زيد بن رومان عن عروة قال: بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عبد الله بن جحش، وهو ابن عمة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى نخلة فقال: كن بها حتى تأتينا بخبر من أخبار قريش ولم يأمره بقتال، وذلك في الشهر الحرام وكتب له كتابا قبل أن يعلمه أين يسير فقال: اخرج أنت وأصحابك حتى إذا سرت يومين فافتح كتابك، وانظر فيه فما أمرتك به فامض له ولا تستكره أحدا من أصحابك على الذهاب معك. فلما سار يومين فتح الكتاب فإذا فيه «أن امض حتى تنزل نخلة فأتنا من أخبار قريش، بما اتصل إليك منهم» فقال لأصحابه: وكانوا ثمانية حين قرأ الكتاب سمعا وطاعة من كان منكم له رغبة في الشهادة فلينطلق معي فإني ماض لأمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومن كره ذلك منكم فليرجع فإن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد نهاني أن أستكره منكم أحدا فمضى معه القوم حتى إذا كانوا بنجران أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يعتقبانه فتخلفا عليه يطلبانه ومضى القوم حتى نزلوا نخلة فمر بهم عمرو بن الحضرمي، والحكم بن كيسان، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ونوفل بن عبد الله معهم تجارة قد مروا بها من الطائف أدم وزبيب فلما رآهم القوم أشرف لهم واقد بن عبد الله، وكان قد حلق رأسه فلما رأوه حليقا قالوا: عمار ليس عليكم منهم بأس وأتمر القوم بهم أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكان آخر يوم من جمادى فقالوا: لئن قتلتموهم إنكم لتقتلونهم في الشَّهْرِ الْحَرامِ ولئن تركتموهم ليدخلن في هذه الليلة- مكة الحرام- فليتمنعن منكم فأجمع القوم على قتلهم فرمى واقد بن عبد الله السهمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، وأفلت نوفل وأعجزهم واستاقوا العير فقدموا بها على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال لهم والله ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام فأوقف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الأسيرين والعير فلم يأخذ منها شيئا فلما قال لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما قال: سقط في أيديهم، وظنوا أن قد هلكوا وعنفهم إخوانهم من المسلمين، وقالت قريش: حين بلغهم أمر هؤلاء قد سفك محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الدم الحرام وأخذ المال وأسر الرجال، واستحل الحرام فنزلت فأخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم العير وفدى الأسيرين، وفي سيرة ابن سيد الناس أن ذلك في رجب وأنهم لقوا أولئك في آخر يوم منه، وفي رواية الزهري عن عروة أنه لما بلغ كفار قريش تلك الفعلة ركب وفد منهم حتى قدموا على النبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا: أيحل القتال في الشهر الحرام؟ فأنزل الله تعالى الآية، ومن هنا قيل: السائلون هم المشركون، وأيد بأن ما سيأتي من ذكر الصد والكفر والإخراج أكبر شاهد صدق على ذلك ليكون تعريضا بهم موافقا لتعريضهم بالمؤمنين. واختار أكثر المفسرين أن السائلين هم المسلمون قالوا: وأكثروا الروايات تقتضيه، وليس الشاهد مفصحا بالمقصود والمراد من الشَّهْرِ الْحَرامِ رجب أو جمادى فأل فيه للعهد، والكثير والأظهر أنها للجنس فيراد به الأشهر الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ورجب، وسميت حرما لتحريم القتال فيها والمعنى يَسْئَلُونَكَ أي المسلمون أو الكفار عن القتال في الشهر الحرام على أن قِتالٍ فِيهِ بدل اشتمال من الشهر لما أن الأول غير واف بالمقصود مشوق إلى الثاني ملابس له بغير الكلية والجزئية، ولما كان النكرة موصوفة أو عاملة صح إبدالها من المعرفة على أن وجوب التوصيف إنما هو في بدل الكل كما نص عليه الرضي، وقرأ عبد الله عن قتال وهو أيضا بدل اشتمال إلا أنه بتكرير العامل، وقرأ عكرمة قتل فيه وكذا في قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ أي عظيم وزرا، وفيه تقرير لحرمة القتال في الشهر الحرام، وأن ما اعتقد من استحلاله صلّى الله عليه وسلّم القتال فيه باطل، وما وقع من أصحابه عليه الصلاة والسلام كان من باب الخطأ في الاجتهاد وهو معفو عنه- بل من اجتهد وأخطأ فله أجر واحد- كما في الحديث، والأكثرون على أن هذا الحكم منسوخ بقوله سبحانه: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] فإن المراد بالأشهر الحرم أشهر معينة أبيح للمشركين السياحة فيها بقوله تعالى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التوبة: 2] وليس المراد بها الأشهر الحرم من كل سنة فالتقييد بها يفيد أن قتلهم بعد انسلاخها مأمور به في جميع الأمكنة والأزمنة وهو نسخ الخاص بالعام، وساداتنا الحنفية يقولون به، وأما الشافعية فيقولون: إن الخاص سواء كان متقدما على العام أو متأخرا عنه مخصص له لكون العام عندهم ظنيا والظني لا يعارض القطعي، وقال الإمام: الذي عندي أن الآية لا تدل على حرمة القتال مطلقا في الشهر الحرام لأن القتال فيها نكرة في حيز مثبت فلا تعم فلا حاجة حينئذ إلى القول بالنسخ، واعترض بأنها عامة لكونها موصوفة بوصف عام أو بقرينة المقام ولو سلم فقتال المشركين مراد قطعا لأن قتال المسلمين حرام مطلقا من غير تقييد بالأشهر الحرم، وفيه أنا لا نسلم أنها موصوفة لجواز أن يكون الجار ظرفا لغوا ولو سلم فلا نسلم عموم الوصف بل هو مخصص لها بالقتال الواقع في الشهر الحرام المعين، والوصف المفيد للعموم هو الوصف المساوي عمومه عموم الجنس كما في قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الإنعام: 38] وقول الشاعر: ولا ترى الضب بها ينجحر. وكون الأصل مطابقة الجواب للسؤال قرينة على الخصوص وكون المراد قتال المشركين على عمومه غير مسلم لأن الكلام في القتال المخصوص ولو سلم عمومها في السؤال فلا نسلم عمومها في الجواب بناء على ما ذكره الراغب أن النكرة المذكورة إذا أعيد ذكرها يعاد معرفا نحو سألتني عن رجل والرجل كذا وكذا ففي تنكيرها هنا تنبيه على أن ليس المراد كل قتال حكمه هذا فإن قتال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لأهل مكة لم يكن هذا حكمه فقد قال عليه الصلاة والسلام: «أحلت لي ساعة من نهار» وحرمة قتال المسلمين مطلقا لا يخفى ما فيه لأن قتال أهل البغي يحل وهم مسلمون فالإنصاف أن القول بالنسخ ليس بضروري، نعم هو ممكن وبه قال ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما رواه عنه الضحاك، وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان الثوري أنه سئل عن هذه الآية فقال: هذا شيء منسوخ ولا بأس بالقتال في الشهر الحرام، وخالف عطاء في ذلك فقد روي عنه أنه سئل عن القتال في الشهر الحرام فحلف بالله تعالى ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الشهر الحرام إلا أن يقاتلوا فيه وجعل ذلك حكما مستمرا إلى يوم القيامة والأمة اليوم على خلافه في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 سائر الأمصار وَصَدٌّ أي منع وصرف عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وهو الإسلام قاله مقاتل، أو الحج قاله ابن عباس والسدي، أو الهجرة كما قيل، أو سائر ما يوصل العبد إلى الله تعالى من الطاعات، فالإضافة إما للعهد أو للجنس وَكُفْرٌ بِهِ أي بالله أو بسبيله وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ اختار أبو حيان عطفه على الضمير المجرور وإن لم يعد الجار، وأجاز ذلك الكوفيون ويونس والأخفش وأبو علي وهو شائع في لسان العرب نظما ونثرا، واعترض بأنه لا معنى للكفر بالمسجد الحرام وهو لازم من العطف، وفيه بحث إذ الكفر قد ينسب إلى الأعيان باعتبار الحكم المتعلق بها كقوله تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ [البقرة: 256] واختار القاضي تقدير مضاف معطوف على صَدٌّ أي وصد المسجد الحرام عن الطائفين والعاكفين والركع السجود، واعترض بأن حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه بحاله مقصور على السماع ورد بمنع الإطلاق ففي التسهيل إذا كان المضاف إليه إثر عاطف متصل به أو مفصول بلا مسبوق بمضاف مثل المحذوف لفظا ومعنى جاز حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه على انجراره قياسا نحو ما مثل زيد وأبيه يقولان ذلك- أي مثل أبيه- ونحو ما كل سوداء تمرة ولا بيضاء شحمة، وإذا انتفى واحد من الشروط كان مقصورا على السماع، وفيما نحن فيه سبق إضافة مثل ما حذف منه، واختار الزمخشري عطفه على سبيل الله تعالى، واعترض بأن عطف وَكُفْرٌ بِهِ على وَصَدٌّ مانع من ذلك إذ لا يقدم العطف على الموصول على العطف على الصلة، وذكر لصحة ذلك وجهان، أحدهما أن وَكُفْرٌ بِهِ في معنى الصد عن سبيل الله فالعطف على سبيل التفسير كأنه قيل- وصد عن سبيل الله أعني كفرا به والمسجد الحرام- والفاصل ليس بأجنبي، ثانيهما أن موضع وَكُفْرٌ بِهِ عقيب وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ إلا أنه قدم لفرط العناية كما في قوله تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص: 4] حيث كان من حق الكلام ولم يكن أحد كفوا له، ولا يخفى أن الوجه الأول أولى لأن التقديم لا يزيل محذورا الفصل ويزيد محذورا آخر، واختار السجاوندي العطف على- الشهر الحرام- وضعف بأن القوم لم يسألوا عن المسجد الحرام واختار أبو البقاء كونه متعلقا بفعل محذوف دل عليه الصد- أي ويصدون عن المسجد الحرام- كما قال سبحانه: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الفتح: 25] وضعف بأن حذف حرف الجر وبقاء عمله مما لا يكاد يوجد إلا في الشعر، وقيل: إن الواو للقسم وقعت في أثناء الكلام وهو كما ترى وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ وهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنون وإنما كانوا أهله لأنهم القائمون بحقوقه، وقيل: إن ذلك باعتبار أنهم يصيرون أهله في المستقبل بعد فتح مكة أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ خبر للأشياء المعدودة من كبائر قريش، وأفعل من يستوي فيه الواحد والجمع المذكور والمؤنث. والمفضل عليه محذوف أي مما فعلته السرية خطأ في الاجتهاد، ووجود أصل الفعل في ذلك الفعل مبني على الزعم وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ تذييل لما تقدم للتأكيد عطف عليه عطف الحكم الكلي على الجزئي أي ما يفتن به المسلمون ويعذبون به ليكفروا أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ من القتل وما ذكر سابقا داخل فيه دخولا أوليا، وقيل: المراد بالفتنة الكفر، والكلام كبرى لصغرى محذوفة، وقد سيق تعليلا للحكم السابق وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ عطف على يَسْئَلُونَكَ بجامع الاتحاد في المسند إليه إن كان السائلون هم المشركون، أو معترضة إن كان السائلون غيرهم والمقصود الاخبار بدوام عداوة الكفار بطريق الكناية تحذيرا للمؤمنين عنهم وإيقاظا لهم إلى عدم المبالاة بموافقتهم في بعض الأمور، وحَتَّى للتعليل، والمعنى لا يزالون يعاودونكم لكي يردوكم عن دينكم، وقوله تعالى: إِنِ اسْتَطاعُوا متعلق بما عنده، والتعبير بإن لاستبعاد استطاعتهم وأنها لا تجوز إلا على سبيل الفرض كما يفرض المحال وفائدة التقييد بالشرط التنبيه على سخافة عقولهم وكون دوام عداوتهم فعلا عبثا لا يترتب عليه الغرض وليس متعلقا- بلا يزالون يقاتلونكم- إذ لا معنى لدوامهم على العداوة إن استطاعوها لكنها مستبعدة. وذهب ابن عطية إلى أن حَتَّى للغاية والتقييد بالشرط حينئذ لإفادة أن الغاية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 مستبعدة الوقوع والتقييد بالغاية الممتنع وقوعها شائع كما في قوله تعالى: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الأعراف: 40] وفيه أن استبعاد وقوع الغاية مما يترتب عليه عدم انقطاع العداوة وقد أفاده صدر الكلام، والقول بالتأكيد غير أكيد، نعم يمكن الحمل على الغاية لو أريد من المقاتلة معناها الحقيقي ويكون الشرط متعلقا- بلا يزالون- فيفيد التقييد أن تركهم المقاتلة في بعض الأوقات لعدم استطاعتهم إلا أن المعنى حينئذ يكون مبتذلا كما لا يخفى وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ الحق بإضلالهم وإغواهم، أو الخوف من عداوتهم فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ بأن لم يرجع إلى الإسلام فَأُولئِكَ إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة من الارتداد والموت على الكفر وما فيه من البعد للإشعار ببعد منزلة من يفعل ذلك في الشر والفساد والجمع والإفراد نظرا للفظ والمعنى حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أي صارت أعمالهم الحسنة التي عملوها في حالة الإسلام فاسدة بمنزلة ما لم تكن، قيل وأصل الحبط فساد يلحق الماشية لأكل الحباط وهو ضرب من الكلأ مضر، وفي النهاية أحبط الله تعالى عمله أبطله يقال: حبط عمله وأحبط وأحبطه غيره، وهو من قولهم: حبطت الدابة حبطا بالتحريك إذا أصابت مرعى طيبا فأفرطت في الأكل حتى تنتفخ فتموت، وقرىء- حبطت- بالفتح وهو لغة فيه، فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لبطلان ما تخيلوه وفوات ما للإسلام من الفوائد في الأولى وسقوط الثواب في الأخرى وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ كسائر الكفرة ولا يغني عنهم إيمانهم السابق على الردة شيئا، واستدل الشافعي بالآية على أن الردة لا تحبط الأعمال حتى يموت عليها وذلك بناء على أنها «لو أحبطت» مطلقا لما كان للتقييد بقوله سبحانه: فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فائدة والقول بأن فائدته أن «إحباط» جميع الأعمال حتى لا يكون له عمل أصلا موقوف على الموت على الكفر حتى لو مات مؤمنا «لا يحبط» إيمانه ولا عمل يقارنه وذلك لا ينافي إحباط الأعمال السابقة على الارتداد بمجرد الارتداد مما لا معنى له لأن المراد من الأعمال في الآية الأعمال السابقة على الارتداد إذ لا معنى لحبوط ما لم يفعل فحينئذ لا يتأتى هذا القول كما لا يخفى، وقيل: بناء على أنه جعل الموت عليها شرطا في الإحباط وعند انتفاء الشرط ينتفي المشروط، واعترض بأن الشرط النحوي والتعليقي ليس بهذا المعنى بل غايته السببية والملزومية وانتفاء السبب أو الملزوم لا يوجب انتفاء المسبب أو اللازم لجواز تعدد الأسباب ولو كان شرطا بهذا المعنى لم يتصور اختلاف القول بمفهوم الشرط، وذهب إمامنا أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه إلى أن مجرد الارتداد يوجب الإحباط لقوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ [المائدة: 5] وما استدل به الشافعي ليس صريحا في المقصود لأنه إنما يتم إذا كانت جملة، وَأُولئِكَ إلخ تذييلا معطوفة على الجملة الشرطية، وأما لو كانت معطوفة على الجزاء وكان مجموع الإحباط والخلود في النار مرتبا على الموت على الردة فلا نسلم تماميته، ومن زعم ذلك اعترض على الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه بأن اللازم عليه حمل المطلق على المقيد عملا بالدليلين، وأجيب بأن حمل المطلق على المقيد مشروط عنده يكون الإطلاق والتقييد في الحكم واتحاد الحادثة وما هنا في السبب فلا يجوز الحمل لجواز أن يكون المطلق سببا كالمقيد، وثمرة الخلاف على ما قيل: تظهر فيمن صلى ثم ارتد ثم أسلم والوقت باق فإنه يلزمه عند الإمام قضاء الصلاة خلافا للشافعي وكذا الحج واختلف الشافعيون فيمن رجع إلى الإسلام بعد الردة هل يرجع له عمله بثوابه أم لا؟ فذهب بعض إلى الأول فيما عدا الصحبة فإنها ترجع مجردة عن الثواب، وذهب الجل إلى الثاني وأن أعماله تعود بلا ثواب ولا فرق بين الصحبة وغيرها، ولعل ذلك هو المعتمد في المذهب فافهم. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا أخرج ابن أبي حاتم والطبراني في الكبير من حديث جندب بن عبد الله أنها نزلت في السرية لما ظن بهم أنهم إن سلموا من الإثم فليس لهم أجر وَالَّذِينَ هاجَرُوا أي فارقوا أوطانهم، وأصله من الهجر ضد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 الوصل وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء دينه وإنما كرر الموصول مع أن المراد بهما واحد لتفخيم شأن الهجرة والجهاد فكأنهما وإن كانا مشروطين بالإيمان في الواقع مستقلان في تحقق الرجاء، وقدم الهجرة على الجهاد لتقدمها عليه في الوقوع تقدم الإيمان عليهما أُولئِكَ المنعوتون بالنعوت الجليلة يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ أي يؤملون تعلق رحمته سبحانه بهم أو ثوابه على أعمالهم، ومنها تلك الغزاة في الشهر الحرام، واقتصر البعض عليها بناء على ما رواه الزهري أنه لما فرج الله تعالى عن أهل تلك السرية ما كانوا فيه من غم طمعوا فيما عند الله تعالى من ثوابه فقالوا: يا نبي الله أنطمع أن تكون غزوة نعطى فيها أجر المهاجرين في سبيل الله تعالى فأنزل الله تعالى هذه الآية، ولا يخفى أن العموم أعم نفعا وأثبت لهم الرجاء دون الفوز بالمرجو للإشارة إلى أن العمل غير موجب إذ لا استحقاق به ولا يدل دلالة قطعية على تحقق الثواب إذ لا علاقة عقلية بينهما وإنما هو تفضل منه تعالى سيما والعبرة بالخواتيم فلعله يحدث بعد ذلك ما يوجب الحبوط ولقد وقع ذلك والعياذ بالله تعالى كثيرا فلا ينبغي الاتكال على العمل وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ تذييل لما تقدم وتأكيد له ولم يذكر المغفرة فيما تقدم لأن رجاء الرحمة يدل عليها وقدم وصف المغفرة لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قال الواحدي: نزلت في عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل ونفر من الأنصار أتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا: أفتنا في الخمر والميسر فإنهما مذهبة للعقل ومسلبة للمال فأنزل الله تعالى هذه الآية وفي بعض الروايات «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قدم المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر فسألوه عن ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية فقال قوم: ما حرما علينا فكانوا يشربون الخمر إلى أن صنع عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعا أناسا من الصحابة وأتاهم بخمر فشربوا وسكروا وحضرت صلاة المغرب فقدموا عليا كرم الله تعالى وجهه فقرأ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [الكافرون: 1] إلخ بحذف لا فأنزل الله تعالى: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النساء: 43] فقلّ من يشربها ثم اتخذ عتبان بن مالك صنيعا ودعا رجالا من المسلمين فيهم سعد بن أبي وقاص وكان قد شوى لهم رأس بعير فأكلوا منه وشربوا الخمر حتى أخذت منهم ثم إنهم افتخروا عند ذلك وتناشدوا الأشعار فأنشد سعد ما فيه هجاء الأنصار وفخر لقومه فأخذ رجل من الأنصار لحي البعير فضرب به رأس سعد فشجه موضحة فانطلق سعد إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وشكا إليه الأنصار فقال: اللهم بين لنا رأيك في الخمر بيانا شافيا فأنزل الله تعالى إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ وذلك بعد غزوة الأحزاب بأيام فقال عمر رضي الله تعالى عنه: انتهينا يا رب. وعن علي كرم الله تعالى وجهه لو وقعت قطرة منها في بئر فبنيت في مكانها منارة لم أؤذن عليها ولو وقعت في بحر ثم جف فنبت فيه الكلأ لم أرعه دابتي. وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لو أدخلت أصبعي فيها لم تتبعني- وهذا هو الإيمان والتقى حقا. والخمر عند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه التي من ماء العنب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد وسميت بذلك لأنها تخمر العقل أي تستره ومنه خمار المرأة لستره وجهها، والخامر وهو من يكتم الشهادة، وقيل: لأنها تغطى حتى تشتد، ومنه «خمروا آنيتكم» أي غطوها، وقيل: لأنها تخالط العقل وخامره داء خالطه، وقيل: لأنها تترك حتى تدرك، ومنه اختمر العجين أي بلغ إدراكه وهي أقوال متقاربة، وعليها فالخمر مصدر يراد به اسم الفاعل أو المفعول ويجوز أن يبقى على مصدريته للمبالغة. وذهب الإمامان إلى عدم اشتراط القذف ويكفي الاشتداد لأن المعنى المحرم يحصل به، وللإمام أن الغليان بداية الشدة وكمالها بقذف الزبد وسكونه إذ به يتميز الصافي من الكدر وأحكام الشرع قطعية فتناط بالنهاية كالحد وإكفار المستحل وحرمة البيع، وأخذ بعضهم بقولهما في حرمة الشرب احتياطا، ثم إطلاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 الخمر على غير ما ذكر مجاز عندنا وهو المعروف عند أهل اللغة، ومن الناس من قال هو حقيقة في كل مسكر لما أخرج الشيخان، وأبو داود والترمذي والنسائي «كل مسكر خمر» . وأخرج أبو داود نزل تحريم الخمر يوم نزل وهو من خمسة من العنب والتمر والحنطة والشعير والذرة، والْخَمْرِ ما خامر العقل، وأخرج مسلم عن أبي هريرة الْخَمْرِ من هاتين الشجرتين،- وأشار إلى الكرم والنخلة- وأخرج البخاري عن أنس «حرّمت الخمر حين حرمت» وما يتخذ من خمر الأعناب إلا قليل، وعامة خمرنا البسر والتمر، ويمكن أن يجاب أن المقصود من ذلك كله بيان الحكم، وتعليم أن ما أسكر حرام- كالخمر- وهو الذي يقتضيه منصب الإرشاد- لا تعليم اللغات العربية- سيما والمخاطبون في الغاية القصوى من معرفتها، وما يقال: إنه مشتق من مخامرة العقل، وهي موجودة في كل مسكر لا يقتضي العموم، ولا ينافي كون الاسم خاصا فيما تقدم فإن النجم مشتق من الظهور، ثم هو اسم خاص للنجم المعروف- لا لكل ما ظهر- وهذا كثير النظير، وتوسط بعضهم فقال: إن الْخَمْرِ حقيقة في لغة العرب في التي من ماء العنب إذا صار مسكرا، وإذا استعمل في غيره كان مجازا إلا أن الشارع جعله حقيقة في كل مسكر شابه موضوعه اللغوي، فهو في ذلك حقيقة شرعية كالصلاة، والصوم. والزكاة في معانيها المعروفة شرعا، والخلاف قوي ولقوّته ووقوع الإجماع على تسمية المتخذ من العنب خمرا دون المسكر من غيره، أكفروا مستحل الأول، ولم يكفروا مستحل الثاني بل قالوا: إن عين الأوّل حرام غير معلول بالسكر ولا موقوف عليه، ومن أنكر حرمة العين وقال: إن السكر منه حرام لأنه به يحصل الفساد فقد كفر لجحوده الكتاب إذ سماه رجسا فيه والرجس محرّم العين فيحرم كثيره وإن لم يسكر- وكذا قليله ولو قطرة- ويحد شاربه مطلقا، وفي الخبر «حرّمت الخمر لعينها» وفي رواية «بعينها قليلها وكثيرها سواء» والسكر من كل شراب، وقالوا: إن الطبخ لا يؤثر لأنه للمنع من ثبوت الحرمة- لا لرفعها بعد ثبوتها- إلا أنه لا يحد فيه ما لم يسكر منه بناء على أن الحد بالقليل النيء خاصة- وهذا قد طبخ- وأما غير ذلك فالعصير إذا طبخ حتى يذهب أقل من ثلثيه وهو المطبوخ أدنى طبخة- ويسمى الباذق- والمنصف وهو ما ذهب نصفه بالطبخ فحرام عندنا إذا غلى واشتدّ وقذف بالزبد أو إذا اشتد على الاختلاف، وقال الأوزاعي وأكثر المعتزلة: إنه مباح لأنه مشروب طيب- وليس بخمر- ولنا أنه رقيق ملد مطرب، ولذا يجتمع عليه الفساق فيحرم شربه رفعا للفساد المتعلق به، وأما نقيع التمر وهو السكر- وهو النيء من ماء التمر- فحرام مكروه، وقال شريك: إنه مباح للامتنان ولا يكون بالمحرم، ويرده إجماع الصحابة، والآية محمولة على الابتداء كما أجمع عليه المفسرون، وقيل: أراد بها التوبيخ أي «أتتخذون منه سكرا، وتدعون رزقا حسنا» وأمّا نقيع الزبيب- وهو النيء من ماء الزبيب- فحرام إذا اشتدّ وغلى، وفيه خلاف الأوزاعي، ونبيذ الزبيب والتمر إذا طبخ كل واحد منهما أدنى طبخة حلال، وإن اشتدّ إذا شرب منه ما يغلب على ظنه أنه لا يسكر من غير لهو ولا طرب عند أبي حنيفة وأبي يوسف وعند محمد والشافعي حرام ونبيذ العسل والتين والحنطة والذرة والشعير وعصير العنب إذا طبخ وذهب ثلثاه حلال عند الإمام الأوّل، والثاني، وعند محمد والشافعي حرام أيضا، وأفتى المتأخرون بقول محمد في سائر الأشربة، وذكر ابن وهبان أنه مروي عن الكل ونظم ذلك فقال: وفي عصرنا فاختير حد وأوقعوا ... طلاقا لمن من مسكر الحب يسكر وعن كلهم يروى، وأفتى محمد ... بتحريم ما قد- قلّ- وهو المحرر وعندي أنّ الحق الذي لا ينبغي العدول عنه أن الشراب المتخذ مما عدا العنب كيف كان وبأي اسم سمي متى كان بحيث يسكر من لم يتعوّده حرام- وقليله ككثيره- ويحدّ شاربه ويقع طلاقه ونجاسته غليظة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 وفي الصحيحين أنه صلى الله تعالى عليه وسلم سئل عن النقيع- وهو نبيذ العسل- فقال: «كل شراب أسكر فهو حرام» وروى أبو داود «نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر» وصح «ما أسكر كثيره فقليله حرام» وفي حديث آخر «ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام» والأحاديث متظافرة على ذلك، ولعمري إنّ اجتماع الفساق في زماننا على شرب المسكرات مما عدا الْخَمْرِ ورغبتهم فيها فوق اجتماعهم عى شرب الْخَمْرِ ورغبتهم فيه بكثير، وقد وضعوا لها أسماء- كالعنبرية والإكسير- ونحوهما ظنا منهم أنّ هذه الأسماء تخرجها من الحرمة وتبيح شربها للأمة- وهيهات هيهات- الأمر وراء ما يظنون، فإنا لله وإنا إليه راجعون، نعم حرمة هذه الأشربة دون حرمة الخمر حتى لا يكفر مستحلها كما قدّمنا لأنها اجتهادية، ولو ذهب ذاهب إلى القول بالتكفير لم يبق في يده من الناس اليوم إلا قليل وَالْمَيْسِرِ مصدر ميمي من- يسر- كالموعد والمرجع يقال: يسرته إذا قمرته واشتقاقه إما من- اليسر- لأنه أخذ المال بيسر وسهولة، أو من- اليسار- لأنه سلب له، وقيل: من يسروا الشيء إذا اقتسموه، وسمي المقامر- ياسرا- لأنه بسبب ذلك الفعل يجزىء لحم الجزور، وقال الواحدي: من يسر الشيء إذا وجب، والياسر الواجب بسبب القدح، وصفته أنه كانت لهم عشرة أقداح هي الأزلام والأقلام الفذ والتوأم والرقيب والحلس والنافس والمسبل والمعلى والمنيح والسفيح والوغد لكل واحد منها نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزئونها ثمانية وعشرين إلا الثلاثة: وهو المنيح والسفيح والوغد، للفذ سهم، وللتوأم سهمان، وللرقيب ثلاثة، وللحلس أربعة، وللنافس خمسة، وللمسبل ستة، وللمعلى سبعة يجعلونها في الربابة- وهي خريطة- ويضعونها على يدي عدل ثم يجلجلها ويدخل يده فيخرج باسم رجل رجل قدحا منها، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح، ومن خرج له قدح مما لا نصيب له لم يأخذ شيئا وغرم ثمن الجزور كله مع حرمانه، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها، ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه ويسمونه البرم، ونقل الأزهري كيفية أخرى لذلك ولم يذكر- الوغد- في الأسماء بل ذكر غيره، والذي اعتمده الزمخشري وكثيرون ما ذكرناه، وقد نظم بعضهم هذه الأسماء فقال: كل سهام الياسرين عشره ... فأودعوها صحفا منشره لها فروض ولها نصيب ... الفذ والتوأم والرقيب والحلس يتلوهن ثم النافس ... وبعده مسبلهن السادس ثم المعلى كاسمه المعلى ... صاحبه في الياسرين الأعلى والوغد والسفيح والمنيح ... غفل فما فيما يرى ربيح وفي حكم ذلك جميع أنواع القمار من النرد والشطرنج، وغيرهما حتى أدخلوا فيه لعب الصبيان بالجوز والكعاب والقرعة في غير القسمة وجميع أنواع المخاطرة والرهان، وعن ابن سيرين- كل شيء فيه خطر فهو من الميسر- ومعنى الآية يَسْئَلُونَكَ عما في تعاطي هذين الأمرين، ودل على التقدير بقوله تعالى: قُلْ فِيهِما إذ المراد في تعاطيهما بلا ريب إِثْمٌ كَبِيرٌ من حيث إن تناولهما مؤدّ إلى ما يوجب- الإثم- وهو ترك المأمور، وفعل المحظور وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ من اللذة والفرح وهضم الطعام وتصفية اللون وتقوية الباه وتشجيع الجبان وتسخية البخيل وإعانة الضعيف. وهي باقية قبل التحريم وبعده، وسلبها بعد التحريم مما لا يعقل ولا يدل عليه دليل، وخبر «ما جعل الله تعالى شفاء أمتي فيما حرّم عليها» لا دليل فيه عند التحقيق كما لا يخفى وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما أي المفاسد التي تنشأ منها أعظم من المنافع المتوقعة فيهما. فمن مفاسد الخمر إزالة العقل الذي هو أشرف صفات الإنسان، وإذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 كانت عدوة للأشرف لزم أن تكون أخس الأمور لأن العقل إنما سمي عقلا لأنه يعقل- أي يمنع صاحبه عن القبائح التي يميل إليها بطبعه- فإذا شرب زال ذلك العقل المانع عن القبائح وتمكن إلفها- وهو الطبع- فارتكبها وأكثر منها، وربما كان ضحكة للصبيان حتى يرتد إليه عقله. ذكر ابن أبي الدنيا أنه مرّ بسكران وهو يبول بيده ويغسل به وجهه كهيئة المتوضئ ويقول: الحمد لله الذي جعل الإسلام نورا والماء طهورا. وعن العباس بن مرداس أنه قيل له في الجاهلية: ألا تشرب الخمر فإنها تزيد في حرارتك؟ فقال: ما أنا بآخذ جهلي بيدي فأدخله جوفي، ولا أرضي أن أصبح سيد قوم وأمسي سفيههم، ومنها صدّها عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة وإيقاعها العداوة والبغضاء غالبا. وربما يقع القتل بين الشاربين في مجلس الشرب، ومنها أن الإنسان إذا ألفها اشتد ميله إليها وكاد يستحيل مفارقته لها وتركه إياها، وربما أورثت فيه أمراضا كانت سببا لهلاكه. وقد ذكر الأطباء لها مضار بدنية كثيرة كما لا يخفى على من راجع كتب الطب، وبالجملة لو لم يكن فيها سوى إزالة العقل والخروج عن حد الاستقامة لكفى فإنه إذا اختل العقل حصلت الخبائث بأسرها، ولذلك قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث» ولم يثبت أن الأنبياء عليهم السلام شربوها في وقت أصلا، ومن مفاسد الْمَيْسِرِ أن فيه أكل الأموال بالباطل وأنه يدعو كثيرا من المقامرين إلى السرقة وتلف النفس وإضاعة العيال وارتكاب الأمور القبيحة والرذائل الشنيعة والعداوة الكامنة والظاهرة، وهذا أمر مشاهد لا ينكره إلا من أعماه الله تعالى وأصمه، ولدلالة الآية على أعظمية المفاسد ذهب بعض العلماء إلى أنها هي المحرمة للخمر فإن المفسدة إذا ترجحت على المصلحة اقتضت تحريم الفعل وزاد بعضهم على ذلك بأن فيها الإخبار بأن فيها الإثم الكبير، والإثم إما العقاب أو سببه، وكل منهما لا يوصف به إلا المحرم، والحق أن الآية ليست نصا في التحريم كما قال قتادة: إذ للقائل أن يقول: الإثم بمعنى المفسدة، وليس رجحان المفسدة مقتضيا لتحريم الفعل بل لرجحانه، ومن هنا شربها كبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم بعد نزولها، وقالوا: إنما نشرب ما ينفعنا، ولم يمتنعوا حتى نزلت آية المائدة فهي المحرمة من وجوه كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وقرىء إثم كثير بالمثلثة، وفي تقدم الإثم ووصفه بالكبر أو الكثرة وتأخير ذكر المنافع مع تخصيصها بالناس من الدلالة على غلبة الأول ما لا يخفى، وقرأ أبيّ- وإثمهما أقرب من نفعهما- وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ أخرج ابن إسحاق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن نفرا من الصحابة أمروا بالنفقة في سبيل الله تعالى أتوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا: إنا لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا بها في أموالنا فما ننفق منها فنزلت، وكان قبل ذلك ينفق الرجل ماله حتى ما يجد ما يتصدق، ولا ما يأكل حتى يتصدق عليه، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق أبان عن يحيى أنه بلغه أن معاذ بن جبل وثعلبة أتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالا: يا رسول الله إن لنا أرقاء وأهلين فما ننفق من أموالنا فأنزل الله تعالى هذه الآية، وهي معطوفة على يَسْئَلُونَكَ قبلها عطف القصة على القصة، وقيل: نزلت في عمرو بن الجموح كنظيرتها، وكأنه سئل أولا عن المنفق والمصرف ثم سئل عن كيفية الإنفاق بقرينة الجواب فالمعنى يسألونك عن صفة ما ينفقونه قُلِ الْعَفْوَ أي صفته أن يكون عفوا فكلمة «ما» للسؤال عن الوصف كما يقال ما زيد؟ فيقال كريم إلا أنه قليل في الاستعمال وأصل العفو نقيض الجهد، ولذا يقال- للأرض الممهدة السهلة الوطء- عفو، والمراد به ما لا يتبين في الأموال، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الفضل من العيال، وعن الحسن ما لا يجهد، أخرج الشيخان وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول وأخرج ابن خزيمة عنه أيضا أنه قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: خير الصدقة ما أبقت غني واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول تقول المرأة أنفق عليّ أو طلقني، ويقول مملوكك أنفق علي أو بعني، ويقول ولدك إلى من تكلني» وأخرج ابن سعد عن جابر قال: قدم أبو حصين السلمي بمثل بيضة الحمامة من ذهب فقال: «يا رسول الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها فأعرض عنه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن فقال له مثل ذلك فأعرض عنه ثم أتاه من ركنه الأيسر فأعرض عنه ثم أتاه من خلفه فأخذها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحذفه بها فلو أصابته لأوجعته أو لعقرته فقال: يأتي أحدكم بما يملك فيقول: هذه صدقة ثم يقعد يتكفف الناس خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول» . وقرأ أبو عمرو بالرفع بتقدير المبتدأ على أن ماذا يُنْفِقُونَ مبتدأ وخبر، والباقون بالنصب بتقدير الفعل، وماذا مفعول يُنْفِقُونَ ليطابق الجواب السؤال كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي مثل ما بين أن العفو أصلح من الجهد لأنه أبقى للمال وأكثر نفعا في الآخرة فالمشار إليه ما يفهم من قوله سبحانه: قُلِ الْعَفْوَ وإيراد صيغة البعيد مع قربه لكونه معنى متقدم الذكر، ويجوز أن يكون المشار إليه جميع ما ذكر من قوله سبحانه: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ إذ لا مخصص مع كون التعميم أفيد والقرب إنما يرجح القريب على ما سواه فقط وجعل المشار إليه قوله عز شأنه: وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما على ما فيه لا يخفى بعده، والكاف في موضع النصب صفة لمحذوف، واللام في الْآياتِ للجنس أي يبين لكم الآيات المشتملة على الأحكام تبيينا مثل هذا التبيين إما بإنزالها واضحة الدلالة، أو بإزالة إجمالها بآية أخرى أو ببيان من قبل الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وكان مقتضى الظاهر أن يقال- كذلكم- على طبق لَكُمُ لكنه وحد بتأويل نحو القبيلة، أو الجمع ما هو مفرد اللفظ جمع المعنى روما للتخفيف لكثرة لحوق علامة الخطاب باسم الإشارة، وقيل: إن الإفراد للإيذان بأن المراد به كل من يتلقى الكلام كما في قوله تعالى: ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ [البقرة: 52] وفيه أنه يلزم تعدد الخطاب في كلام واحد من غير عطف وذا لا يجوز كما نص عليه الرضي لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ أي في الآيات فتستنبطوا الأحكام منها وتفهموا المصالح والمنافع المنوطة بها وبهذا التقدير حسن كون ترجي التفكر غاية لتبيين الآيات فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أي في أمورهما فتأخذون بالأصلح منهما وتجتنبون عما يضركم ولا ينفعكم أو يضركم أكثر مما ينفعكم، والجار بعد تقدير المضاف متعلق ب تَتَفَكَّرُونَ بعد تقييده بالأول، وقيل: يجوز أن يتعلق ب يُبَيِّنُ أي يبين لكم الآيات فيما يتعلق بأمور الدنيا والآخرة لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ وقدم التفكر للاهتمام، وفيه أنه خلاف ظاهر النظم مع أن ترجي أصل التفكر ليس غاية لعموم التبيين فلا بد من عموم التفكر فيكون المراد- لعلكم تتفكرون في أمور الدنيا والآخرة- وفي التكرار ركاكة، وقيل: متعلق بمحذوف وقع حالا من الآيات أي يبينها لكم كائنة فيهما أي مبينة لأحوالكم المتعلقة بهما ولا يخفى ما فيه، ومن الناس من لم يقدر- ليتفكرون- متعلقا وجعل المذكور متعلقا بها أي بين الله لكم الآيات لتتفكروا في الدنيا وزوالها والآخرة وبقائها فتعلموا فضل الآخرة على الدنيا وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وقتادة والحسن. وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى عطف على ما قبله من نظيره، أخرج أبو داود والنسائي وابن جرير وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال لما أنزل الله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الإنعام: 152، الإسراء: 34] إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى [النساء: 10] الآية انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فيرمى به فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت، والمعنى- يسألونك عن القيام بأمر اليتامى، أو التصرف في أموالهم، أو عن أمرهم وكيف يكونون معهم- قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ أي مداخلتهم مداخلة يترتب عليها إصلاحهم أو إصلاح أموالهم بالتنمية والحفظ خير من مجانبتهم، وفي الاحتمال الأول إقامة غاية الشيء مقامه وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ عطف على سابقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 والمقصود الحث على المخالطة المشروعة بالإصلاح مطلقا أي إن تخالطوهم في الطعام والشراب والمسكن والمصاهرة تؤدوا اللائق بكم لأنهم إخوانكم أي في الدين وبذلك قرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وأخرج عبد بن حميد عن المخالطة أن يشرب من لبنك وتشرب من لبنه ويأكل في قصعتك وتأكل في قصعته ويأكل من تمرتك وتأكل من تمرته، واختار أبو مسلم الأصفهاني أن المراد بالمخالطة المصاهرة، وأيد بما نقله الزجاج كانوا يظلمون اليتامى فيتزوجون منهم العشرة ويأكلون أموالهم فشدد عليهم في أمر اليتامى تشديدا خافوا معه التزوج بهم فنزلت هذه الآية فأعلمهم سبحانه أن الإصلاح لهم خير الأشياء وأن مخالطتهم في التزويج مع تحري الإصلاح جائزة وبأن فيه على هذا الوجه تأسيسا إذ المخالطة بالشركة فهمت مما قبل وبأن المصاهرة مخالطة مع اليتيم نفسه بخلاف ما عداها وبأن المناسبة حينئذ لقوله تعالى: فَإِخْوانُكُمْ ظاهرة لأنها المشروطة بالإسلام فإن اليتيم إذا كان مشركا يجب تحري الإصلاح في مخالطته فيما عدا المصاهرة وبأنه ينتظم على ذلك النهي الآتي بما قبله كأنه قيل: المخالطة المندوبة إنما هي في اليتامى الذين هم إخوانكم فإن كان اليتيم من المشركات فلا تفعلوا ذلك، ولا يخفى أن ما نقله الزجاج أضعف من الزجاج إذ لم يثبت ذلك في أسباب النزول في كتاب يعول عليه، والزجاج وأمثاله ليسوا من فرسان هذا الشأن وبأن التأسيس لا ينافي الحث على المخالطة لما أن القوم تجنبوا عنها كل التجنب وأن إطلاق المخالطة أظهر من تخصيصها بخلط نفسه وأن المناسبة والانتظام حاصلان بدخول المصاهرة في مطلق المخالطة وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ في أمورهم بالمخالطة مِنَ الْمُصْلِحِ لها بها فيجازي كلّا حسب فعله أو نيته ففي الآية وعيد ووعدهم، وقدم المفسد اهتماما بإدخال الروع عليه وأل في الموضعين للعهد، وقيل: للاستغراق ويدخل المعهود دخولا أوليا، وكلمة مِنَ للفضل وضمن يعلم معنى يميز فلذا عداه بها وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ أي لضيق عليكم ولم يجوز لكم مخالطتهم، أو لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقا- قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه- وأصل الإعنات الحمل على مشقة لا تطاق ثقلا، ويقال: عنت العظم عنتا إذا أصابه وهن أو كسر بعد جبر، وحذف مفعول المشيئة لدلالة الجواب عليه، وفي ذلك إشعار بكمال لطفه سبحانه ورحمته حيث لم يعلق مشيئته بما يشق علينا في اللفظ أيضا، وفي الجملة تذكير بإحسانه تعالى على أوصياء اليتامى إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب على أمره لا يعجزه أمر من الأمور التي من جملتها إعناتكم حَكِيمٌ فاعل لأفعاله حسبما تقتضيه الحكمة وتتسع له الطاقة التي هي أساس التكليف، وهذه الجملة تذييل وتأكيد لما تقدم من حكم النفي والإثبات- أي ولو شاء لأعنتكم لكونه غالبا- لكنه لم يشأ لكونه حكيما. وفي الآية- كما قال الكيا- دليل لمن جوز خلط مال الولي بمال اليتيم والتصرف فيه بالبيع والشراء ودفعه مضاربة إذا وافق الإصلاح، وفيها دلالة على جواز الاجتهاد في أحكام الحوادث لأن الإصلاح الذي تضمنته الآية إنما يعلم من الاجتهاد وغلبة الظن وفيها دلالة على أنه لا بأس بتأديب اليتيم وضربه بالرفق لإصلاحه ووجه مناسبتها لما قبلها أنه سبحانه لما ذكر السؤال عن الخمر والميسر وكان في تركها مراعاة لتنمية المال ناسب ذلك النظر في حال اليتيم فالجامع بين الآيتين أن في ترك الخمر والميسر إصلاح أحوالهم أنفسهم. وفي النظر في أحوال اليتامى إصلاحا لغيرهم ممن هو عاجز أن يصلح نفسه فمن ترك ذلك وفعل هذا فقد جمع بين النفع لنفسه ولغيره وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ روى الواحدي وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعث رجلا من غني يقال له مرثد بن أبي مرثد حليفا لبني هاشم إلى مكة ليخرج أناسا من المسلمين بها أسرى فلما قدمها سمعت به امرأة يقال لها عناق وكانت خليلة له في الجاهلية فلما أسلم أعرض عنها فأتته فقالت: ويحك يا مرثد ألا تخلو فقال لها: إن الإسلام قد حال بيني وبينك وحرمه علينا ولكن إن شئت تزوجتك فقالت: نعم فقال إذا رجعت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استأذنته في ذلك ثم تزوجتك فقالت له: أبي تتبرم؟ ثم استعانت عليه فضربوه ضربا وجيعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 ثم خلوا سبيله فلما قضى حاجته بمكة انصرف إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم راجعا وأعلمه الذي كان من أمره وأمر عناق وما لقي بسببها فقال: يا رسول الله أيحل أن أتزوجها- وفي رواية- إنها تعجبني فنزلت» وتعقب ذلك السيوطي بأن هذا ليس سببا لنزول هذه الآية وإنما هو سبب في نزول آية النور [3] الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وروى السدي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هذه نزلت في عبد الله بن رواحة وكانت له أمة سوداء وأنه غضب عليها فلطمها ثم إنه فزع فأتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره خبرها فقال له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: «ما هي يا عبد الله؟ فقال: هي يا رسول الله تصوم وتصلي وتحسن الوضوء وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسوله فقال يا عبد الله هي مؤمنة قال عبد الله: فوالذي بعثك بالحق نبيا لأعتقنها ولأتزوجنها ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين فقالوا: أنكح أمة وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين وينحكوهم رغبة في أنسابهم فأنزل الله تعالى وَلا تَنْكِحُوا الآية» وقرىء بفتح- التاء- وبضمها وهو المروي عن الأعمش أي لا تتزوجوهن أو لا تزوجوهن من المسلمين وحمل كثير من أهل العلم المشركات على ما عدا الكتابيات فيجوز نكاح الكتابيات عنده لقوله تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ [البينة: 1] وما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ [البقرة: 105] والعطف يقتضي المغايرة وأخرج ابن حميد عن قتادة المراد بالمشركات مشركات العرب التي ليس لهن كتاب، وعن حماد قال: سألت إبراهيم عن تزويج اليهودية والنصرانية فقال: لا بأس به فقلت: أليس الله تعالى يقول: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ؟ فقال: إنما ذلك المجوسيات وأهل الأوثان، وذهب البعض إلى أنها تعم الكتابيات قيل: لأن من جحد نبوة نبينا عليه الصلاة والسلام فقد أنكر معجزته وأضافها إلى غيره تعالى وهذا هو الشرك بعينه ولأن الشرك وقع في مقابلة الإيمان فيما بعد ولأنه تعالى أطلق الشرك على أهل الكتاب لقوله: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: 30] إلى قوله سبحانه: عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة: 30] وأخرج البخاري والنحاس في ناسخه عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان إذا سئل عن نكاح الرجل النصرانية أو اليهودية قال حرم الله تعالى المشركات على المسلمين ولا أعرف شيئا من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى أو عبد من عباد الله تعالى، وإلى هذا ذهب الإمامية وبعض الزيدية، وجعلوا آية [المائدة: 5] وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ منسوخة بهذه الآية نسخ الخاص بالعام وتلك وإن تأخرت تلاوة مقدمة نزولا والإطباق على أن سورة المائدة لم ينسخ منها شيء ممنوع ففي الإتقان ومن [المائدة: 2، 97] قوله تعالى: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ منسوخ بإباحة القتال فيه وقوله تعالى: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [المائدة: 42] منسوخ بقوله سبحانه: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة: 49] وقوله تعالى: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ [المائدة: 106] منسوخ بقوله عز شأنه: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق: 2] والمشهور الذي عليه العمل أن هذه الآية قد نسخت بما في المائدة على ما يقتضيه الظاهر، فقد أخرج أبو داود في ناسخه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ نسخ من ذلك نكاح نساء أهل الكتاب أحلهم للمسلمين وحرم المسلمات على رجالهم، وعن الحسن ومجاهد مثل ذلك وهو الذي ذهب إليه الحنفية والشافعية يقولون بالتخصيص دون النسخ، ومبنى الخلاف أن قصر العام بكلام مستقل تخصيص عند الشافعي رضي الله تعالى عنه ونسخ عندنا وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ تعليل للنهي وترغيب في مواصلة المؤمنات صدر بلام الابتداء الشبيهة بلام القسم في إفادة التأكيد مبالغة في الحمل على الانزجار، وأصل أمة أمو حذفت لامها على غير قياس وعوض عنها هاء التأنيث ويدل على أن لامها واو رجوعها في الجمع كقوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 أما الإماء فلا يدعونني ولدا ... إذا تداعى بنو الأموان بالعار وظهورها في المصدر يقال: هي أمة بينة الأموة وأقرت له بالأموّة، وهل وزنها فعلة- بسكون العين أو فعلة- بفتحها.؟ قولان اختار الأكثرون ثانيهما، وتجمع على آم وهو في الاستعمال دون إماء وأصله أأمو- بهمزتين- الأولى مفتوحة زائدة، والثانية ساكنة هي فاء الكلمة، فوقعت- الواو- طرفا مضموما ما قبلها في اسم معرب ولا نظير له فقلبت- ياء والضمة قبلها كسرة لتصح الياء- فصار الاسم من قبيل- غاز وقاض- ثم قلبت- الهمزة الثانية ألفا لسكونها بعد همزة أخرى مفتوحة- فصارا آم وإعرابه كقاض، والظاهر أن المراد- بالأمة- ما تقابل الثانية الحرة، وسبب النزول يؤيد ذلك لأنه العيب على من تزوج الأمة والترغيب في نكاح حرّة مشركة، ففي الآية تفضيل الأمة المؤمنة على المشركة مطلقا- ولو حرّة- ويعلم منه تفضيل الحرّة عليها بالطريق الأولى، ثم إنّ التفضيل يقتضي أنّ في الشركة خيرا، فإما أن يراد بالخير الانتفاع الدنيوي وهو مشترك بينهما، أو يكون على حد أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا [الفرقان: 24] وقيل: المراد- بالأمة- المرأة حرّة كانت أو مملوكة فإن الناس كلهم عبيد الله تعالى وإماؤه، ولا تحمل على الرقيقة لأنه لا بدّ من تقدير الموصوف في مُشْرِكَةٍ فإن قدر «أمة» بقرينة السياق لم يفد خيرية الأمة المؤمنة على الحرة المشركة، وإن قدر حرّة أو امرأة كان خلاف الظاهر، والمذكور في سبب النزول التزوج- بالأمة- بعد عتقها. و «الأمة» بعد العتق حرة ولا يطلق عليها «أمة» إلا باعتبار مجاز الكون والحق أن «الأمة» بمعنى- الرقيقة- كما هو المتبادر، وأن الموصوف المقدر ل مُشْرِكَةٍ عام- وكونه خلاف الظاهر- خلاف الظاهر. وعلى تقدير التسليم هو مشترك الإلزام، ولعل ارتكاب ذلك آخرا أهون من ارتكابه أول وهلة إذ هو من قبيل نزع الخف قبل الوصول إلى الماء- وما في سبب النزول مؤيد لا دليل عليه- وقد قيل فيه: إنّ عبد الله نكح أمة- إن حقا وإن كذبا- فالمعنى وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ مع ما فيها من خساسة الرق وقلة الخطر خَيْرٌ مما اتصفت بالشرك مع ما لها من شرف الحرّية ورفعة الشأن وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ لجمالها ومالها وسائر ما يوجب الرغبة فيها، أخرج سعيد بن منصور وابن ماجة، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «لا تنكحوا النساء لحسنهن، فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تنكحوهن على أموالهن فعسى أموالهنّ أن تطغيهن، وانكحوهن على الدين فلأمة سوداء خرماء ذات دين أفضل» وأخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك» والواو للحال- ولو لمجرّد الفرض- مجرّدة عن معنى الشرط ولذا لا تحتاج إلى الجزاء والتقدير مفروضا إعجابها لكن بالحسن ونحوه، وقال الجرمي: الواو للعطف على مقدّر أي لم تعجبكم وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وجواب الشرط محذوف دل عليه الجملة السابقة، وقال الرضي: إنها اعتراضية تقع في وسط الكلام وآخره، وعلى التقادير إثبات الحكم في نقيض الشرط بطريق الأولى ليثبت في جميع التقادير، واستدل بعضهم بالآية على جواز نكاح «الأمة المؤمنة» مع وجود طول الحرّة، واعترضه الكيا بأنه ليس في الآية نكاح الإماء وإنما ذلك للتنفير عن نكاح الحرّة المشركة لأنّ العرب كانوا بطباعهم نافرين عن نكاح «الأمة» فقيل لهم: إذا نفرتم عن الأمة فالمشركة أولى- وفيه تأمّل- وفي البحر أن مفهوم الصفة يقتضي أن لا يجوز نكاح «الأمة» الكافرة كتابية أو غيرها وأمّا وطؤها بملك اليمين فيجوز مطلقا وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا أي لا تزوجوا الكفار من المؤمنات سواء كان الكافر كتابيا أو غيره وسواء كانت- المؤمنة أمة- أو حرة، ف تَنْكِحُوا بضم التاء لا غير، ولا يمكن الفتح- وإلا لوجب- ولا ينكحن المشركين، واستدل بها على اعتبار الولي في النكاح مطلقا وهو خلاف مذهبنا، وفي دلالة الآية على ذلك خفاء لأن المراد النهي عن إيقاع هذا الفعل والتمكين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 منه، وكل المسلمين أولياء في ذلك وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ مع ما فيه من ذل المملوكية. خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ مع ما ينسب إليه من عز المالكية وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ بما فيه من دواعي الرغبة أُولئِكَ أي المذكورون من المشركين والمشركات يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ أي الكفر المؤدي إليها إما بالقول أو بالمحبة والمخالطة فلا تليق مناكحتهم، فإن قيل: كما أن الكفار يدعون المؤمنين إلى النار كذلك المؤمنون يدعونهم إلى الجنة بأحد الأمرين، أجيب بأن المقصود من الآية أن المؤمن يجب أن يكون حذرا عما يضره في الآخرة وأن لا يحوم حول حمى ذلك ويجتنب عما فيه الاحتمال مع أن النفس والشيطان يعاونان على ما يؤدّي إلى النار، وقد ألفت الطباع في الجاهلية ذلك- قاله بعض المحققين- والجملة إلخ معللة لخيرية المؤمنين والمؤمنات من المشركين والمشركات وَاللَّهُ يَدْعُوا بواسطة المؤمنين من يقاربهم إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ أي إلى الاعتقاد الحق والعمل الصالح الموصلين إليهما وتقديم الْجَنَّةِ على الْمَغْفِرَةِ مع قولهم: التخلية أولى بالتقديم على التحلية لرعاية مقابلة النار ابتداء بِإِذْنِهِ متعلق ب يَدْعُوا أي يَدْعُوا إلى ذلك متلبسا بتوفيقه الذي من جملته إرشاد المؤمنين لمقاربيهم إلى الخير أحقاء بالمواصلة وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ لكي يتعظوا أو يستحضروا معلوماتهم بناء على أنّ معرفة الله تعالى مركوزة في العقول، والجملة تذييل للنصح والإرشاد، والواو اعتراضية أو عاطفة، وفصلت الآية السابقة ب تَتَفَكَّرُونَ لأنها كانت لبيان الأحكام والمصالح والمنافع والرغبة فيها التي هي محل تصرف العقل والتبيين للمؤمنين فناسب التفكر، وهذه الآية ب يَتَذَكَّرُونَ لأنها تذييل للإخبار بالدعوة إلى الْجَنَّةِ والنَّارِ التي لا سبيل إلى معرفتها إلا النقل والتبيين لجميع الناس فناسب التذكر. ومن الناس من قدّر في الآية مضافا أي فريق الله أو أولياؤه وهم المؤمنون فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه تشريفا لهم، واعترض بأن الضمير في المعطوف على الخبر لله تعالى فيلزم التفكيك مع عدم الداعي لذلك، وأجيب بأن الداعي كون هذه الجملة معللة للخيرية السابقة ولا يظهر التعليل بدون التقدير، وكذا لا تظهر الملاءمة لقوله سبحانه: بِإِذْنِهِ بدون ذلك فإن تقييد دعوته تعالى بِإِذْنِهِ ليس فيه حينئذ كثير فائدة بأي تفسير فسر- الإذن- وأمر التفكيك سهل لأنه بعد إقامة المضاف إليه مقام المضاف للتشريف بجعل فعل الأول فعلا للثاني صورة فتتناسب الضمائر- كما في الكشف ولا يخفى ما فيه- وعلى العلات هو أولى مما قيل: إن المراد وَاللَّهُ يَدْعُوا على لسان رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى ذلك فتجب إجابته بتزويج أوليائه لأنه وإن كان مستدعيا لاتحاد المرجع في الجملتين المتعاطفتين الواقعتين خبرا، لكن يفوت التعليل وحسن المقابلة بينه وبين أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وكذا لطافة التقييد كما لا يخفى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ أخرج الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن أنس رضي الله تعالى عنهم «أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت ولم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها في البيوت، فسئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك؟ فأنزل الله هذه الآية فقال صلّى الله عليه وسلّم: «جامعوهنّ في البيوت واصنعوا كل شيء إلا النكاح» وعن السدي- إن الذي سأل عن ذلك ثابت بن الدحداح رضي الله تعالى عنه- والجملة معطوفة على ما تقدم من مثلها، ووجه مناسبتها له أنه لما نهى عن مناكحة الكفار ورغب في مناكحة أهل الإيمان بين حكما عظيما من أحكام النكاح، وهو حكم النكاح في الحيض، ولعل حكاية هذه الأسئلة الثلاثة بالعطف لوقوع الكل في وقت واحد عرفي، وهو وقت السؤال عن الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ فكأنه قيل: يجمعون لك بين السؤال عنهما والسؤال عن كذا وكذا وحكاية ما عداها بغير عطف لكونها كانت في أوقات متفرقة فكان كل واحد سؤالا مبتدأ ولم يقصد الجمع بينهما بل الإخبار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 عن كل واحد على حدة، فلهذا لم يورد الواو بينها، وقال صاحب الانتصاف في بيان العطف والترك: إن أول المعطوفات عين الأول من المجردة، ولكن وقع جوابه أولا بالمصرف لأنه الأهم، وأن كان المسئول عنه إنما هو المنفق لا جهة مصرفه ثم لما لم يكن في الجواب الأول تصريح بالمسئول عنه أعيد السؤال ليجابوا عن المسئول عنه صريحا، وهو العفو الفاضل فتعين إذا عطفه ليرتبط بالأول، وأما السؤال الثاني من المقرونة فقد وقع عن أحوال اليتامى، وهل يجوز مخالطتهم في النفقة والسكنى فكان له مناسبة مع النفقة باعتبار أنهم إذا خالطوهم أنفقوا عليهم فلذا عطف على سؤال الإنفاق، وأما السؤال الثالث فلما كان مشتملا على اعتزال الحيض ناسب عطفه على ما قبله لما فيه من بيان ما كانوا يفعلونه من اعتزال اليتامى، وإذا اعتبرت الأسئلة المجردة من الواو لم تجد بينها مداناة ولا مناسبة البتة إذ الأول منها عن النفقة والثاني عن القتال في الشَّهْرِ الْحَرامِ، والثالث عن الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وبينها من التباين، والتقاطع ما لا يخفى فذكرت كذلك مرسلة متقاطعة غير مربوطة بعضها ببعض، وهذا من بدائع البيان الذي لا تجده إلا في الكتاب العزيز اهـ. ولا أرى القلب يطمئن به كما لا يخفى على من أحاط خبرا بما ذكرناه فتدبر، والمحيض كما قال الزجاج: وعليه الكثير مصدر حاضت المرأة تحيض حيضا ومحاضا فهو كالمجيء والمبيت وأصله السيلان يقال: حاض السيل وفاض قال الأزهري: ومنه قيل: للحوض حوض لأن الماء يحيض إليه أي يسيل، والعرب تدخل الواو على الياء لأنهما من جنس واحد، وقيل: إنه هنا اسم مكان، ونسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وحكى الواحدي عن ابن السكيت أنه إذا كان الفعل من ذوات الثلاثة نحو كال يكيل، وحاض يحيض فاسم المكان منه مكسور، والمصدر منه مفتوح، وحكى غيره عن غيره التخيير في مثله بل قيل: إن الكسر والفتح جائزان في اسم الزمان والمكان والمصدر وعلى ما نسب للترجمان، واختاره الإمام يحتاج إلى الحذف في قوله تعالى: قُلْ هُوَ أَذىً أي موضع أذى وكذا يحتاج إلى اعتبار الزمان في قوله سبحانه: فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ لركاكة قولنا فَاعْتَزِلُوا في موضع الحيض، وإن اختاره الإمام وقال: إن المعنى- اعتزلوا مواضع الحيض، والأذى- مصدر من- أذا يؤذيه أذا وإذاء، ولا يقال في المشهور إيذاء وحمله على المحيض للمبالغة، والمعنى المقصود منه المستقذر وبه فسره قتادة، واستعمل فيه بطريق الكناية، والمراد من اعتزال النساء اجتناب مجامعتهن كما يفهمه آخر الآية، وإنما أسند الفعل إلى الذات للمبالغة كما في قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النساء: 23] ووضع الظاهر موضع المضمر لكمال العناية بشأنه بحيث لا يتوهم غيره أصلا، وقد يقال لا وضع، وحديث الإعادة أغلبي بل يعتبر ما أشرنا إلى اعتباره فيما أشرنا إلى عدم اعتباره لضعف النسبة، وقوة الداعي إلى التقدير وعدمه أولى، وإنما وصف بأنه أذى ورتب الحكم عليه بالفاء ولم يكتف في الجواب بالأمر للإشعار بأنه العلة والحكم المعلل أوقع في النفس. وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ تقرير للحكم السابق لأن الأمر بالاعتزال يلزمه النهي عن القربان وبالعكس فيكون كل منهما مقررا وإن تغايرا بالمفهوم فلذا عطف أحدهما على الآخر وفيه بيان لغايته فإن تقييد الاعتزال بقوله سبحانه وتعالى: فِي الْمَحِيضِ وترتبه على كونه أذى يفيد تخصيص الحرمة بذلك الوقت، ويفهم منه عقلا انقطاعها بعده، ولا يدل عليه اللفظ صريحا بخلاف حَتَّى يَطْهُرْنَ والغاية انقطاع الدم عند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه فإن كان الانقطاع لأكثر مدة الحيض حل القربان بمجرد الانقطاع، وإن كان لأقل منها لم يحل إلا باغتسال أو ما هو في حكمه من مضي وقت صلاة، وعند الشافعية هي الاغتسال بعد الانقطاع قالوا: ويدل عليه صريحا قراءة حمزة والكسائي وعاصم في رواية ابن عياش «يطهرن» بالتشديد أي «يتطهرن» والمراد به يغتسلن لا لأن الاغتسال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 معنى حقيقي للتطهير كما يوهمه بعض عباراتهم- لأن استعماله فيما عدا الاغتسال شائع في الكلام المجيد والأحاديث على ما لا يخفى على المتتبع- بل لأن صيغة المبالغة يستفاد منها الطهارة الكاملة، والطهارة الكاملة للنساء عن المحيض هو الاغتسال فلما دلت قراءة التشديد على أن غاية حرمة القربان هو الاغتسال والأصل في القراءات التوافق حملت قراءة التخفيف عليها بل قد يدعى أن الطهر يدل على الاغتسال أيضا بحسب اللغة ففي القاموس طهرت المرأة انقطع دمها واغتسلت من الحيض كتطهرت، وأيضا قوله تعالى: فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ يدل التزاما على أن الغاية هي الاغتسال لأنه يقتضي تأخر جواز الإتيان عن الغسل فهو يقوي كون المراد بقراءة التخفيف الغسل لا الانقطاع وربما يكون قرينة على التجوز في الطهر بحمله على الاغتسال إن لم يسلم ما تقدم وعلى فرض عدم تسليم هذا وذاك والرجوع إلى القول بأن قراءة التخفيف من الطهر وهو حقيقة في انقطاع الدم لا غير ولا تجوز ولا قرينة، وقراءة التشديد من التطهر، ويستفاد منه الاغتسال يقال أيضا في وجه الجمع كما في الكشف: إن القراءة بالتشديد لبيان الغاية الكاملة وبالتخفيف لبيان الناقصة، وحتى في الأفعال نظير إلى في أنه لا يقتضي دخول ما بعدها فتكون الكاملة البتة، وبيانه أن الغاية الكاملة ما يكون غاية بجميع أجزائه وهي الخارجة عن المغيا، والناقصة ما تكون غاية باعتبار آخرها وحتى الداخلة على الأسماء تقتضي دخول ما بعدها لولا الغاية والداخلة على الأفعال مثل إلى لا تقتضي كون ما بعدها جزءا لما قبلها فانقطاع الدم غاية للحرمة باعتبار آخره فيكون وقت الانقطاع داخلا فيها والاغتسال غاية لها باعتبار أوله فلا تعارض بين القراءتين، ولعل فائدة بيان الغايتين بيان مراتب حرمة القربان فإنها أشد قبل الانقطاع مما بعده، ولما رأى ساداتنا الحنفية أن هاهنا قراءتين التخفيف والتشديد وأن مؤدى الأولى انتهاء الحرمة العارضة على الحل بانقطاع الدم مطلقا فإذا انتهت الحرمة العارضة حلت بالضرورة وأن مؤدى الثانية عدم انتهائها عنده بل بعد الاغتسال، ورأوا أن الطهر إذا نسب إلى المرأة لا يدل على الاغتسال لغة بل معناه فيها انقطاع الدم وهو المروي عن ابن عباس ومجاهد، وفي تاج البيهقي طهرت خلاف طمثت، وفي شمس العلوم امرأة طاهر بغير- هاء- انقطع دمها وفي الأساس امرأة طاهر ونساء طواهر طهرن من الحيض، ولا يعارض ذلك ما في القاموس لجواز أن يكون بيانا للاستعمال ولو مجازا على ما هو طريقته في كثير من الألفاظ وأن الحمل على الاغتسال مجازا من غير قرينة معينة له مما لا يصح واعتبار فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ قرينة بناء على ما ذكروا ليس بشيء وما ذكروه في وجه الدلالة من الاقتضاء فيه بحث لأن- الفاء- الداخلة على الجملة التي لا تصلح أن تكون شرطا كالجملة الإنشائية لمجرد الربط كما نص عليه ابن هشام في المغني ومثل له بقوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي [آل عمران: 31] ولو سلم فاللازم تأخر جواز الإتيان عن الغسل في الجملة لا مطلقا حتى يكون قرينة على أن المراد بقراءة التخفيف أيضا الغسل وأن القول بأن إحدى الغايتين داخلة في الحكم والأخرى خارجة خلاف المتبادر احتاجوا للجمع بجعل كل منهما آية مستقلة فحملوا الأولى على الانقطاع بأكثر المدة، والثانية لتمام العادة التي ليست أكثر مدة الحيض كما حمل إبراهيم النخعي قراءة النصب والجرّ في أرجلكم على حالة التخفيف وعدمه وهو المناسب لأن في توقف قربانها في الانقطاع للأكثر على الغسل إنزالها حائضا حكما وهو مناف لحكم الشرع لوجوب الصلاة عليها المستلزم لإنزاله إياها ظاهرا حكما بخلاف تمام العدة فإن الشرع لم يقطع عليها بالطهر بل يجوز الحيض بعده، ولذا لو زادت ولم يجاوز العشرة كان الكل حيضا بالاتفاق بقي أن مقتضى الثانية ثبوت الحرمة قبل الغسل فرفع الحرمة قبله بمضي أول وقت الصلاة أعني أدناه الواقع آخرا، واعتبار الغسل حكما على ما قالوا معارضة النص بالمعنى، والجواب أن القراءة الثانية خص منها صورة الانقطاع للعشرة بقراءة التخفيف فجاز أن يخص ثانيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 بالمعنى كما قاله بعض المحققين ولا يخفى ما في مذهب الإمام من التيسير والاحتياط لا يخفى، وحكي عن الأوزاعي أن حل الإتيان موقوف على التطهر وفسره بغسل موضع الحيض وقد يقال لتنقية المحل تطهير، فقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي عن عائشة رضي الله تعالى عنها «أن امرأة سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن غسلها من المحيض فأمرها قبل أن تغتسل قال: خذي فرصة من مسك فتطهري بها قالت: كيف أتطهر بها؟ قال: تطهري بها قالت: كيف؟ قال: سبحان الله تطهري بها فاجتذبتها فقلت: تتبعي بها أثر الدم» وذهب طاوس ومجاهد في رواية عنه أن غسل الموضع مع الوضوء كاف في حل الإتيان- وإليه ذهب الإمامية- ولا يخفى أنه ليس شيء من ذلك طهارة كاملة للنساء وإنما هي طهارة كاملة لأعضائهن وهو خلاف المتبادر في الآية وإنما المتبادر هو الأول وما في الحديث وإن كان أمرا بالتطهر لتلك المرأة لكن المراد بذلك المبالغة في تطهير الموضع إلا أنه لأمر ما لم يصرح به صلى الله تعالى عليه وسلم وإطلاق التطهير على تنقية المحل مما لا ننكره وإنما ننكر إطلاق يطهرن على من طهرن مواضع حيضهن ودون إثباته حيض الرجال. واستدل بالآية على أنه لا يحرم الاستمتاع بالحائض بما بين السرة والركبة وإنما يحرم الوطء، وسئلت عائشة رضي الله تعالى عنها فيما أخرجه ابن جرير ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضا؟ قالت: كل شيء إلا الجماع وذهب جماعة إلى حرمة الاستمتاع بما بين السرة والركبة استدلالا بما أخرجه مالك عن زيد بن أسلم «أن رجلا سأل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: ماذا يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ فقال له صلى الله تعالى عليه وسلم: لتشد عليها إزارها ثم شأنك بأعلاها» وكأنه من باب سد الذرائع في الجملة، ولهذا ورد فيما أخرجه الإمام أحمد والتعفف عن ذلك أفضل والأمر في الآية للإباحة على حد إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا [المائدة: 2] ففيها إباحة الإتيان لكنه مقيد بقوله سبحانه: مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ أي من المكان الذي أمركم الله تعالى بتجنبه لعارض الأذى وهو الفرج ولا تعدوا غيره قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع، وقال الزجاج: معناه من الجهات التي يحل فيها أن تقرب المرأة ولا تقربوهن من حيث لا يحل كما إذا كن صائمات أو محرمات أو معتكفات وأيد بأنه لو أراد الفرج لكانت- في- أظهر فيه من- من- لأن الإتيان بمعنى الجماع يتعدى بها غالبا لا بمن، ولعله في حيز المنع عند أهل القول الأول إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ مما عسى يندر منهم من ارتكاب بعض الذنوب كالإتيان في الحيض المورث للجذام في الولد كما ورد في الخبر، والمستدعي عقاب الله تعالى فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي، والنسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أتى حائضا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو جار مجرى الترهيب فلا يعارض ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: يا رسول الله أصبت امرأتي وهي حائض فأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يعتق نسمة» وقيمة النسمة حينئذ دينار، وهذا إذا كان الإتيان في أول الحيض والدم أحمر أما إذا كان في آخره والدم أصفر فينبغي أن يتصدق بنصف دينار كما دلت عليه الآثار وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ أي المتنزهين عن الفواحش والأقذار كمجامعة الحائض والإتيان لا من حيث أمر الله تعالى وحمل التطهر على التنزه هو الذي تقتضيه البلاغة وهو مجاز على ما في الأساس وشمس العلوم، وعن عطاء حمله على التطهر بالماء والجملتان تذييل مستقل لما تقدم نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ أخرج البخاري وجماعة عن جابر قال: «كانت اليهود تقول إذا أتى الرجل امرأته من خلفها في قبلها ثم حملت جاء الولد أحول فنزلت» والحرث إلقاء البذر في الأرض وهو غير الزرع لأنه إنباته يرشدك إلى ذلك قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الواقعة: 63، 64] وقال الجوهري: الحرث الزرع والحارث الزارع وعلى كل تقدير هو خبر عما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 قبله إما بحذف المضاف أي مواضع حرث، أو التجوز والتشبيه البليغ أي كمواضع ذلك وتشبيههن بتلك المواضع متفرع على تشبيه النطف بالبذور من حيث إن كلّا منهما مادة لما يحصل منه ولا يحسن بدونه فهو تشبيه يكنى به عن تشبيه آخر فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أي ما هو كالحرث ففيه استعارة تصريحية ويحتمل أن يبقى الحرث على حقيقته والكلام تمثيل شبه حال إتيانهم النساء في المأتي بحال إتيانهم المحارث في عدم الاختصاص بجهة دون جهة ثم أطلق لفظ المشبه به على المشبه، والأول أظهر وأوفق لتفريع حكم الإتيان على تشبيههن بالحرث تشبيها بليغا، وهذه الجملة مبينة لقوله تعالى: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ لما فيه من الإجمال من حيث المتعلق، والفاء جزائية وما قبلها علة لما بعدها، وقدم عليه اهتماما بشأن العلة وليحصل الحكم معللا فيكون أوقع، ويحتمل أن يكون المجموع كالبيان لما تقدم، والفاء للعطف وعطف الإنشاء على الأخبار جائز بعاطف سوى الواو أَنَّى شِئْتُمْ قال قتادة والربيع من أين شِئْتُمْ وقال مجاهد: كيف شئتم، وقال الضحاك: متى شئتم، ومجيء أَنَّى بمعنى- أين- وكيف ومتى مما أثبته الجم الغفير، وتلزمها على الأول- من- ظاهرة أو مقدرة، وهي شرطية حذف جوابها لدلالة الجملة السابقة عليه. واختار بعض المحققين كونها هنا بمعنى من أين أي من أي جهة ليدخل فيه بيان النزول، والقول بأن الآية حينئذ تكون دليلا على جواز الإتيان من الإدبار ناشىء من عدم التدبر في أن- من- لازمة إذ ذاك فيصير المعنى من أي مكان لا في أي مكان فيجوز أن يكون المستفاد حينئذ تعميم الجهات من القدام والخلف والفوق والتحت واليمين والشمال لا تعميم مواضع الإتيان فلا دليل في الآية لمن جوز إتيان المرأة في دبرها كابن عمر، والأخبار عنه في ذلك صحيحة مشهورة، والروايات عنه بخلافها على خلافها، وكابن أبي مليكة وعبد الله بن القاسم حتى قال فيما أخرجه الطحاوي عنه: ما أدركت أحدا أقتدي به في ديني يشك في أنه حلال، وكمالك بن أنس حتى أخرج الخطيب عن أبي سليمان الجوزجاني أنه سأله عن ذلك فقال له: الساعة غسلت رأس ذكري منه، وكبعض الإمامية لا كلهم كما يظنه بعض الناس ممن لا خبرة له بمذهبهم، وكسحنون من المالكية، والباقي من أصحاب مالك ينكرون رواية الحل عنه ولا يقولون به، ويا ليت شعري كيف يستدل بالآية على الجواز مع ما ذكرناه فيها ومع قيام الاحتمال كيف ينتهض الاستدلال لا سيما وقد تقدم قبل وجوب الاعتزال في المحيض وعلل بأنه أذى مستقذر تنفر الطباع السليمة عنه، وهو يقتضي وجوب الاعتزال عن الإتيان في الأدبار لاشتراك العلة ولا يقاس ما في المحاش من الفضلة بدم الاستحاضة ومن قاس فقد أخطأت استه الحفرة لظهور الاستقذار. والنفرة مما في المحاش دون دم الاستحاضة، وهو دم انفجار العرق كدم الجرح وعلى فرض تسليم أن أَنَّى تدل على تعميم مواضع الإتيان كما هو الشائع يجاب بأن التقييد بمواضع الحرث يدفع ذلك فقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: بينا أنا ومجاهد جالسان عند ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إذ أتاه رجل فقال: ألا تشفيني من آية المحيض قال: بلى فقرأ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ إلى فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ فقال ابن عباس: من حيث جاء الدم من ثم أمرت أن تأتي فقال: كيف بالآية نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ؟ فقال: ويحك، وفي الدبر من حرث لو كان ما تقول حقا لكان المحيض منسوخا إذا شغل من هاهنا جئت من هاهنا ولكن أنى شئتم من الليل والنهار، وما قيل من أنه لو كان في الآية تعين الفرج لكونه موضع الحرث للزم تحريم الوطء بين الساقين وفي الاعكان لأنها ليست موضع حرث كالمحاش مدفوع بأن الإمناء فيما عدا الضمامين لا يعد في العرف جماعا ووطئا والله تعالى قد حرم الوطء والجماع في غير موضع الحرث لا الاستمناء فحرمة الاستمناء بين الساقين وفي الاعكان لم تعلم من الآية إلا أن يعد ذلك إيتاء وجماعا وأنى به، ولا أظنك في مرية من هذا وبه يعلم ما في مناظرة الإمام الشافعي، والإمام محمد بن الحسن، فقد أخرج الحاكم عن عبد الحكم أن الشافعي ناظر محمدا في هذه المسألة فاحتج عليه ابن الحسن بأن الحرث إنما يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 في الفرج فقال له أفيكون ما سوى الفرج محرما فألتزمه؟ فقال: أرأيت لو وطئها بين ساقيها أو في أعكانها أو في ذلك حرث؟ قال: لا قال: أفيحرم؟ قال: لا قال: فكيف تحتج بما لا تقول به، وكأنه من هنا قال الشافعي فيما حكاه عنه الطحاوي والحاكم والخطيب لما سئل عن ذلك: ما صح عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في تحليله ولا تحريمه شيء والقياس أنه حلال وهذا خلاف ما نعرف من مذهب الشافعي فإن رواية التحريم عنه مشهورة فلعله كان يقول ذلك في القديم ورجع عنه في الجديد لما صح عنده من الأخبار أو ظهر له من الآية وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ ما يصلح للتقديم من العمل الصالح ومنه التسمية عند الجماع وطلب الولد المؤمن، فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فقضى بينهما ولد لم يضره الشيطان أبدا» وصح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية وعلم ينتفع به وولد صالح يدعو له» وعن عطاء تخصيص المفعول بالتسمية. وعن مجاهد بالدعاء عند الجماع، وعن بعضهم بطلب الولد وعن آخرين بتزوج العفائف والتعميم أولى وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما أمركم به ونهاكم عنه. وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ بالبعث فيجازيكم بأعمالكم فتزودوا ما ينفعكم والضمير المجرور راجع إلى الله تعالى بحذف مضاف أو بدونه ورجوعه إلى ما قدمتم أو إلى الجزاء المفهوم منه بعيد والأوامر معطوفة على قوله تعالى: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ وفائدتها الإرشاد العام بعد الإرشاد الخاص وكون الجملة السابقة مبينة لا يقتضي أن يكون المعطوف عليها كذلك وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ الذين تلقوا ما خوطبوا به بالقبول والامتثال بما لا تحبط به عبارة من الكرامة والنعيم، وحمل بعضهم المؤمنين على الكاملين في الإيمان بناء على أن الخطابات السابقة كانت للمؤمنين مطلقا فلو كانت هذه البشارة لهم كان مقتضى الظاهر وبشرهم فلما وضع المظهر موضع المضمر علم أن المراد غير السابقين وهم المؤمنون الكاملون ولا يخفى أنه يجوز أن يكون العدول إلى الظاهر للدلالة على العلية ولكونه فاصلة فلا يتم ما ذكره والواو للعطف، وَبَشِّرِ عطف على قُلْ المذكور سابقا أو على «قل» مقدرة قبل قدموا وهي معطوفة على المذكورة «ومن باب الإشارة» يسألونك عن خمر الهوى وحب الدنيا وميسر احتيال النفس بواسطة قداحها التي هي حواسها العشرة المودعة في ربابة البدن لنيل شيء من جزور اللذات والشهوات قل فيهما إثم الحجاب والبعد عن الحضرة ومنافع للناس في باب المعاش وتحصيل اللذة النفسانية والفرح بالذهول عن المعايب والخطرات المشوشة والهموم المكدرة وإثمهما أكبر من نفعهما لأن فوات الوصال في حظائر الجمال لا يقابله شيء، ولا يقوم مقامه- وصال سعدى ولامى- ولفرق عند الأبرار بين السكر من المدير والسكر من المدار: وأسكر القوم ورود كأس ... وكان سكرى من المدير وهذا هو السكر الحلال لكنه فوق عالم التكليف ووراء هذا العالم الكثيف وهو سكر أرواح لا أشباح وسكر رضوان لا حميا دنان: وما مل ساقيها ولا مل شارب ... عقار لحاظ كأسها يسكر اللبا وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ وهو ما سوى الحق من الكونين كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ المنزلة من سماء الأرواح لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ في الدنيا والآخرة وتقطعون بواديهما بأجنحة السير والسلوك إلى ملك الملوك وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ وهو غلبة دواعي الصفات البشرية والحاجات الإنسانية «قل هو أذى» تنفر القلوب الصافية عنه فاعتزلوا بقلوبكم نساء النفوس في محيض غلبات الهوى حتى يطهرن ويفرغن من قضاء الحوائج الضرورية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 فإذا تطهرن بماء الإنابة ورجعن إلى الحضرة في طلب القربة فأتوهن من حيث أمركم الله أي عند ظهور شواهد الحق لزهوق باطل النفس واضمحلال هواها إن الله يحب التوابين عن أوصاف الوجود ويحب المتطهرين بنور المعرفة عن غبار الكائنات، أو يحب التوابين من سؤالاتهم ويحب المتطهرين من إراداتهم نساؤكم وهي النفوس التي غدت لباسا لكم وغدوتم لباسا لهن موضع حرثكم للآخرة فأتوا حرثكم متى شئتم الحراثة لمعادكم وقدموا لأنفسكم ما ينفعها ويكمل نشأتها واتقوا الله من النظر إلى ما سواه واعلموا أنكم ملاقوه بالفناء فيه إذا اتقيتم وبشر المؤمنين بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أخرج ابن جرير عن ابن جريج أنها نزلت في الصديق رضي الله تعالى عنه لما حلف أن لا ينفق على مسطح ابن خالته وكان من الفقراء المهاجرين لما وقع في إفك عائشة رضي الله تعالى عنها، وقال الكلبي: نزلت في عبد الله بن رواحة حين حلف على ختنه بشير بن النعمان أن لا يدخل عليه أبدا ولا يكلمه ولا يصلح بينه وبين امرأته بعد أن كان قد طلقها وأراد الرجوع إليها والصلح معها، والعرضة فعلة بمعنى المفعول كالقبضة والغرفة وهي هنا من عرض الشيء من باب نصر أو ضرب جعله معترضا أو من عرضه للبيع عرضا من باب ضرب إذا قدمه لذلك، ونصبه له والمعنى على الأول لا تجعلوا الله حاجزا لما حلفتم عليه وتركتموه من أنواع الخير فيكون المراد بالأيمان الأمور المحلوف عليها وعبر عنها بالأيمان لتعلقها بها أو لأن اليمين بمعنى الحلف تقول حلفت يمينا كما تقول حلفت حلفا فسمي المفعول بالمصدر كما في قوله صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه مسلم وغيره: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير» ، وقيل: على في الحديث زائدة لتضمن معنى الاستعلاء وقوله تعالى أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ عطف بيان لأيمانكم وهو في غير الأعلام كثير وفيها أكثر، وقيل: بدل وضعف بأن المبدل منه لا يكون مقصودا بالنسبة بل تمهيد وتوطئة للبدل وهاهنا ليس كذلك واللام صلة عرضة، وفيها معنى الاعتراض أو بتجعلوا والأول أولى وإن كان المال واحدا، وجوز أن تكون الأيمان على حقيقتها واللام للتعليل وأن تبروا في تقدير لأن ويكون صلة للفعل أو لعرضة، والمعنى لا تجعلوا الله تعالى: حاجزا لأجل حلفكم به عن البر والتقوى والإصلاح، وعلى الثاني ولا تجعلوا الله نصبا لأيمانكم فتبتذلوه بكثرة الحلف به في كل حق وباطل لأن في ذلك نوع جرأة على الله تعالى وهو التفسير المأثور عن عائشة رضي الله تعالى عنها، وبه قال الجبائي وأبو مسلم وروته الإمامية عن الأئمة الطاهرين، ويكون أن تبروا علة للنهي على معنى أنهيكم عنه طلب بركم وتقواكم وإصلاحكم إذ الحلاف مجترئ على الله تعالى والمجترئ عليه بمعزل عن الاتصاف بتلك الصفات ويؤول إلى لا تكثروا الحلف بالله تعالى لتكونوا بارين متقين ويعتمد عليكم الناس فتصلحوا بينهم، وتقدير الطلب ونحوه لازم إن كان أَنْ تَبَرُّوا في موضع النصب ليتحقق شرط حذف اللام وهو المقارنة لأن المقارنة للنهي ليس هو البر والتقوى والإصلاح بل طلبها وإن كان في موضع الجر بناء على أن حذف حرف الجر من أن وإن قياسي فليس بلازم وإنما قدروه لتوضيح المعنى والمراد به طلب الله تعالى لا طلب العبد، وإن أريد ذلك كان علة للكف المستفاد من النهي كأنه قيل: كفوا أنفسكم من جعله سبحانه عرضة وطلب العبد صالح للكف وَاللَّهُ سَمِيعٌ لأقوالكم وأيمانكم عَلِيمٌ بأحوالكم ونياتكم فحافظوا على ما كلفتموه، ومناسبة الآية لما قبلها أنه تعالى لما أمرهم بالتقوى نهاهم عن ابتذال اسمه المنافي لها أو نهاهم عن أن يكون اسمه العظيم حاجزا لها ومانعا منها لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ اللغو الساقط الذي لا يعتد به من كلام وغيره ولغو اليمين عند الشافعي رضي الله تعالى عنه ما سبق له اللسان، وما في حكمه مما لم يقصد منه اليمين كقول العرب لا والله لا بالله لمجرد التأكيد، وهو المروي عن عائشة وابن عمر وغيرهما في أكثر الروايات، والمعنى لا يؤاخذكم أصلا بما لا قصد لكم فيه من الأيمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ أي بما قصدتم من الأيمان وواطأت فيها قلوبكم ألسنتكم، ولا يعارض هذه الآية ما في المائدة [89] من قوله تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ إلخ بناء على أن مقتضى هذه المؤاخذة بالغموس لأنها من كسب القلب وتلك تقتضي عدمها لأن اللغو فيها خلاف المعقودة، وهي ما يحلف فيها على أمر في المستقبل أن يفعل ولا يفعل لوقوعه في مقابلة قوله سبحانه: بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فيتناول الغموس وهو الحلف على أمر ماض متعمد الكذب فيه ولغويته لعدم تحقق البر فيه الذي هو فائدة اليمين الشرعية لأن الشافعي حمل بما عقدتم على كسب القلب من عقدت على كذا عزمت عليه، ولم يعكس لأن العقد مجمل يحتمل عقد القلب، ويحتمل ربط الشيء بالشيء، والكسب مفسر، ومن القواعد حمل المجمل على المفسر، وإذا حمل عليه شمل الغموس، وكان اللغو ما لا قصد فيه لا خلاف المعقودة إذ لا معقودة فتتحد الآيتان في المؤاخذة على الغموس وعدم المؤاخذة على اللغو إلا أنه إن كان للفعل المنفي عموم كان في الآيتين نفي المؤاخذة فيما لا قصد فيه بالعقوبة، والكفارة وإثبات المؤاخذة في الجملة بهما أو بأحداهما فيما فيه قصد، وإن لم يكن له عموم حمل المؤاخذة المطلقة في هذه الآية على المؤاخذة المقيدة بالكفار في آية المائدة بناء على اتحاد الحادثة والحكم وسوق الآية لبيان الكفارة فلا تكرار، وأيد العموم بما أخرجه ابن جرير عن الحسن أنه صلى الله تعالى عليه وسلم «مر بقوم ينتصلون ومعه بعض أصحابه فرمى رجل من القوم فقال: أصبت والله أخطأت والله، فقال الذي معه: حنث الرجل يا رسول الله فقال كلا أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة» وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن اللغو هنا ما لا قصد فيه إلى الكذب بأن لا يكون فيه قصد أو يكون بظن الصدق، وحمل المؤاخذة على الأخروية بناء على أن دار المؤاخذة هي الآخرة وأن المطلق ينصرف إلى الكامل وقرنت هذه المؤاخذة بالكسب إذ لا عبرة للقصد وعدمه في وجوب الكفارات التي هي مؤاخذات دنيوية، لا شك أنه بمجرد اليمين بدون الحنث لا تتحقق المؤاخذة الأخروية في المعقودة فلا يمكن إجراء ما كسبت على عمومه فلا بد من تخصيصه بالغموس فيتحصل من هذه الآية المؤاخذة الأخروية في الغموس دون الدنيوية التي هي الكفارة، وفيه خلاف الشافعي وعدم المؤاخذة الأخروية فيما عداها مما فيه قصد بظن الصدق، ومما لا قصد فيه أصلا- وفيه وفاق الشافعي- وحمل المؤاخذة في آية المائدة على الدنيوية بقرينة قوله سبحانه فيها: فَكَفَّارَتُهُ إلخ، وقوله تعالى: بِما عَقَّدْتُمُ على المعقودة لأن المتبادر من- العقد- ربط الشيء بالشيء وهو ظاهر في «المعقودة» فالمراد بِاللَّغْوِ وفي تلك الآية ما عداها من الغموس وغيره فيتحصل منها عدم المؤاخذة الدنيوية- بالكفارة- على غير المعقودة، وهي الغموس والمؤاخذة عليه في الآخرة- كما علم من آية البقرة- والحلف بلا قصد أو به مع ظن الصدق لغير المؤاخذة عليهما في الآخرة كما علم منها أيضا، والمؤاخذة الدنيوية على المعقودة التي لم يعلم حكمها في الآخرة من الآيتين لظهوره من ترتب المؤاخذة الدنيوية عليه- فلا تدافع بين الآيتين عنده أيضا- لأن مقتضى الأولى تحقق المؤاخذة الأخروية في الغموس، ومقتضى الثانية عدم المؤاخذة الدنيوية فيه، ومن هذا يعلم أن ما في- الهداية- وشاع في كتب الأصحاب عن الإمام حيث قال: إن الأيمان على ثلاثة أضرب: يمين الغموس ويمين منعقدة ويمين لغو وبين حكم كل وفسر الأخير بأن يحلف على ماض وهو يظن- كما قال- والأمر بخلافه، وثبت في بعض الروايات عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وغيره- ليس بشيء- لو كان المقصود بما في التفسير «الحصر» لا التمثيل للغو لأن اللائق بالنظم أن يكون بِما كَسَبَتْ مقابلا للغو من غير واسطة بينهما، وبقصد «الحصر» يبقى اليمين الذي لا قصد معه واسطة بينهما غير معلوم الاسم ولا الرسم، وهو مما لا يكاد يكون كما لا يخفى على المنصف فليتدبر فإنه مما فات كثيرا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 الناس. وذهب مسروق إلى أن «اللغو» هو الحلف على المعاصي وبره ترك ذلك الفعل ولا كفارة وروي عن ابن عباس وطاوس أنه اليمين في حال الغضب فلا كفارة فيها. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لغو اليمين أن تحرم ما أحل الله تعالى عليك بأن تقول: مالي علي حرام إن فعلت كذا مثلا- وبهذا أخذ مالك إلا في الزوجة- وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم قال: هو كقول الرجل: أعمى الله بصري إن لم أفعل كذا، وكقوله: هو مشرك، هو كافر إن لم يفعل كذا، فلا يؤاخذ به حتى يكون من قلبه، وقيل: لغو اليمين يمين المكره- حكاه ابن الفرس ولم ير مسندا- هذا ولم يعطف قوله تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ الآية على ما قبله لاختلافها خبرا وإنشاء، وإن كانا متشاركين في كون كل منهما بيانا لحكم الأيمان وَاللَّهُ غَفُورٌ حيث لم يؤاخذكم باللغو حَلِيمٌ حيث لم يعجل بالمؤاخذة على يمين الجد والجملة تذييل للجملتين السابقتين، وفائدته الامتنان على المؤمنين وشمول الإحسان لهم و «الحليم» من حلم بالضم يحلم إذا أمهل بتأخير العقاب، وأصل «الحلم» لأناة، وأما حلم الأديم- فبالكسر يحلم بالفتح- إذا فسد، وأما حلم أي رأى في نومه- فبالفتح- ومصدر الأول- الحلم- بالكسر ومصدر الثاني- الحلم- بفتح اللام ومصدر الثالث- الحلم- بضم الحاء مع ضم اللام وسكونها لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ الإيلاء- كما قال الراغب- الحلف الذي يقتضي النقيصة في الأمر الذي يحلف فيه من قوله تعالى: لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا [آل عمران: 118] أي باطلا وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ [النور: 22] وصار في الشرع عبارة عن الحلف المانع عن جماع المرأة، ف يُؤْلُونَ أي يحلفون، ومِنْ نِسائِهِمْ على حذف المضاف، أو من إقامة العين مقام الفعل المقصود منه للمبالغة، وعدي القسم على المجامعة ب مِنْ لتضمنه معنى البعد، فكأنه قيل: يبعدون مِنْ نِسائِهِمْ مولين، وقيل: إن هذا الفعل يتعدى ب «من» وعلى، ونقل أبو البقاء عن بعضهم من أهل اللغة تعديته ب مِنْ وقيل: بها بمعنى على، وقيل: بمعنى في، وقيل: زائدة، وجوّز جعل الجار ظرفا مستقرا، أي استقرّ لهم مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وقرأ «ألوا من نسائهم» وفي مصحف أبيّ «للذين يقسمون» وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- والتربص- الانتظار والتوقف وأضيف إلى الظرف على الاتساع- وإجراء المفعول فيه مجرى المفعول به، والمعنى على الظرفية وهو مبتدأ ما قبله خبره أو فاعل للظرف- على ما ذهب إليه الأخفش من جواز عمله وإن لم يعتمد- والجملة- على التقديرين- بمنزلة الاستثناء من قوله سبحانه وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ فإن- الإيلاء- لكون أحد الأمرين لازما له الكفارة على تقدير الحنث من غير إثم، والطلاق على تقدير البر مخالف لسائر الأيمان المكتوبة حيث يتعين فيها- المؤاخذة- بهما أو بأحدهما عند الشافعي- والمؤاخذة- الأخروية عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، فكأنه قيل: إلا الإيلاء فإنّ حكمه غير ما ذكر، ولذلك لم تعطف هذه الجملة على ما قبلها، وبعد أن ذكر سبحانه وتعالى- أنّ للمولين من نسائهم تربص أربعة أشهر- بين حكمه بقوله تعالى جل شأنه: فَإِنْ فاؤُ أي رجعوا في المدّة فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لما حدث منهم من اليمين على الظالم وعقد القلب على ذلك الحنث، أو بسبب الفيئة والكفارة، ويؤيده قراءة ابن مسعود فَإِنْ فاؤُ فيهن وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ أي صمموا قصده بأن لم يفيئوا واستمرّوا على الإيلاء فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لإيلائهم الذي صار منهم طلاقا بائنا بمضي العدة عَلِيمٌ بغرضهم من هذا الإيلاء فيجازيهم على وفق نياتهم، وهذا ما حمل عليه الحنفية هذه الآية فإنهم قالوا: الإيلاء من المرأة أن يقول: والله لا أقربك أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فصاعدا على التقييد بالأشهر، أو لا أقربك على الإطلاق، ولا يكون فيما دون ذلك عند الأئمة الأربعة، وأكثر العلماء خلافا للظاهرية والنخعية وقتادة وحماد وابن أبي حماد وإسحاق حيث يصير عندهم موليا في قليل المدة وكثيرها، وحكمه إن فاء إليها في المدّة بالوطء إن أمكن، أو بالقول إن عجز عنه صح الفيء وحنث القادر ولزمته كفارة اليمين ولا كفارة على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 العاجز، وإن مضت الأربعة بانت بتطليقة من غير مطالبة المرأة إيقاع الزوج أو الحكم، وقالت الشافعية: لا إيلاء إلا فى أكثر من «الأربعة أشهر» فلو قال: والله لا أقربك «الأربعة أشهر» لا يكون إيلاء شرعا عندهم ولا يترتب حكمه عليه بل هو يمين كسائر الأيمان، إن حنث كفر، وإن برّ فلا شيء عليه، وللمولي التلبث في هذه المدّة فلا يطالب بفيء ولا طلاق، فإن فاء في اليمين بالحنث فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ للمولي إثم حنثه إذا كفر كما في الجديد، أو ما توخى بالإيلاء من ضرار المرأة ونحوه بالفيئة التي هي كالتوبة وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لطلاقه عَلِيمٌ بنيته، وإذا مضت المدّة ولم يفئ ولم يطلق طولب بأحد الأمرين، فإن أبى عنهما طلق عليه الحاكم وأريد كون مدته أكثر من أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ بأن- الفاء- في الآية للتعقيب فتدل على أن حكم الإيلاء من الفيئة والطلاق يترتب عليه بعد مضي أربعة أشهر، فلا يكون الإيلاء في هذه المدة إيلاء شرعا لانتفاء حكمه- وبذلك اعترضوا على الحنفية- واعترضوا عليهم أيضا بأنه لو لم يحتج إلى الطلاق بعد مضي المدّة لزم وقوع الطلاق من غير موقع، وإن النص يشير إلى أنه مسموع، فلو بانت من غير طلاق لا يكون هاهنا شيء مسموع، وأجيب عن الأول بأن- الفاء- للتعقيب في الذكر، وعن الثاني بأن المسموع ما يقارن ذلك الترك من المقاولة والمجادلة وحديث النفس به كما يسمع وسوسة الشيطان عليهم بما استمرّوا عليه من الظلم أو الإيلاء الذي صار طلاقا بائنا بالمضي، وهذا أنسب بقوله سبحانه وتعالى: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ حيث اكتفى بمجرّد العزم بخلاف ما قالته الشافعية من أنه يحتاج إلى الطلاق بعد مضي المدة فإنه يحتاج إلى التقدير، وبعده لا يحتاج إلى عَزَمُوا أو يحتاج إلى جعل «عزم الطلاق» كناية عنه، فما قيل: من أن الآية بصريحها مع الشافعي ليس في محله، وقد ذهب إلى ما ذهب إليه أبو حنيفة وكثير من الإمامية، وأخرج عبد بن حميد عن علي كرّم الله تعالى وجهه قال: الإيلاء إيلاءان إيلاء في الغضب، وإيلاء في الرضا، فأمّا الإيلاء في الغضب فإذا مضت أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فقد بانت منه، وأمّا ما كان في الرضا فلا يؤاخذ به. وأخرج عبد الرزاق عن سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنهما قال: أتى رجل عليا كرم الله تعالى وجهه فقال: إني حلفت أن لا آتي امرأتي سنتين فقال: ما أراك إلا قد آليت، قال إنما حلفت من أجل أنها ترضع ولدي، قال فلا إذا. وروي عن إبراهيم «ما أعلم الإيلاء إلا في الغضب لقوله سبحانه وتعالى فَإِنْ فاؤُ وإنما الفيء من الغضب» وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، واستدل بعموم الآية على صحة الإيلاء من الكافر، وبأي يمين كان، ومن غير المدخول بها والصغيرة والخصي. وأن العبد تضرب له «الأربعة أشهر» كالحر، واستدل بتخصيص هذا الحكم بالمولي على أنّ من ترك الوطء «ضرارا» بلا يمين لا يلزمه شيء، وما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت وهي تعظ خالد بن سعيد المخزومي وقد بلغها أنه هجر امرأته: إياك يا خالد وطول الهجر، فإنك قد سمعت ما جعل الله تعالى للمولي من الأجل محمول على إرادة العطف والتحذير من التشبه بالإيلاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 وَالْمُطَلَّقاتُ أي ذوات الأقراء من الحرائر المدخول بهنّ لما قد بين في الآيات والأخبار أن لا عدّة على غير المدخول بها وأن عدّة من لا تحيض لصغر أو كبر أو حمل بالأشهر ووضع الحمل، وأن عدة الأمة قرءان أو شهران- فأل- ليست للاستغراق لأنه هاهنا متعذر لما بين، فتحمل على الجنس كما في- لا أتزوج النساء- ويراد منه ما ذكر بقرينة الحكم، وهذا مذهب ساداتنا الحنفية لأن الكلام المستقل الغير الموصول عندهم ناسخ للعام، والنسخ إنما يصح إذا ثبت عموم الحكم السابق- ولا عموم هاهنا- وقال الشافعية: إن الْمُطَلَّقاتُ عام وقد خص البعض بكلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 مستقل غير موصول، واعترضه الإمام بأنّ التخصيص إنما يحسن إذا كان الباقي تحت العام أكثر، وهاهنا ليس كذلك وليس بشيء لأنه مما لا شاهد له فإنّ المذكور في كتب الأصول أن العام يجوز تخصيصه إلى أن يبقى تحته ما يستحق به معنى الجمع لئلا يلزم إبطال الصيغة فليفهم. يَتَرَبَّصْنَ أي ينتظرن، وهو خبر قصد منه الأمر على سبيل الكناية فلا يحتاج في وقوعه خبرا لمبتدأ إلى التأويل على رأي من لم يجوّز وقوع الإنشاء خبرا من غير تأويل، وقيل: إنّ الجملة الاسمية خبرية بمعنى الأمر، أي ليتربصن الْمُطَلَّقاتُ ولا يخفى أنه لا يحتاج إليه، وتغيير العبارة للتأكيد بدلالته على التحقيق لأن الأصل في الخبر الصدق والكذب احتمال عقلي، والإشعار بأنه مما يجب أن يسارع إلى امتثاله حيث أقيم اللفظ الدال على الوقوع مقام الدال على الطلب، وفي ذكره متأخرا عن المبتدأ فضل تأكيد لما فيه من إفادة التقوى على أحد الطريقين المنقولين عن الشيخ عبد القاهر والسكاكي وقيد- التربص- هنا بقوله سبحانه وتعالى: بِأَنْفُسِهِنَّ وتركه في قوله تعالى: تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لتحريض النساء على- التربص- لأن- الباء- للتعدية فيكون المأمور به أن يقمعن أنفسهن ويحملنها على الانتظار، وفيه إشعار بكونهنّ مائلات إلى الرجال وذلك مما يستنكفن منه، فإذا سمعن هذا تربصن وهذا بخلاف الآية السابقة فإن المأمور فيها- بالتربص- الأزواج وهم وإن كانوا طامحين إلى النساء لكن ليس لهم استنكاف منه، فذكر- الأنفس- فيها لا يفيد تحريضهم على التربص ثَلاثَةَ قُرُوءٍ نصب على الظرف لكونه عبارة عن المدّة، والمفعول به محذوف لأن- التربص- متعدّ قال تعالى: وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ [التوبة: 52] أي يتربصن التزوج، وفي حذفه إشعار بأنهنّ يتركن التزوّج في هذه المدّة بحيث لا يتلفظن به، وجوّز أن يكون على المفعولية بتقدير مضاف أي يَتَرَبَّصْنَ مضيها- والقروء- جمع قرء- بالفتح والضم- والأول أفصح وهو يطلق للحيض، لما أخرج النسائي وأبو داود والدارقطني «أن فاطمة ابنة أبي حبيش قالت: يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: «لا، دعي الصلاة أيام أقرائك» ويطلق للطهر الفاصل بين الحيضتين كما في ظاهر قول الأعشى: أفي كل عام أنت جاشم غزوة ... تشدّ لأقصاها عزيم عزائكا مورثة مالا وفي الحي رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا أي أطهارهن لأنها وقت الاستمتاع ولا جماع في الحيض في الجاهلية أيضا وأصله الانتقال من الطهر إلى الحيض لاستلزامه كل واحد منهما، والدليل على ذلك كما قال الراغب: إن الطاهر التي لم تر الدم لا يقال لها ذات قرء والحائض التي استمر لها الدم لا يقال لها ذلك أيضا، والمراد بالقرء في الآية عند الشافعي الانتقال من الطهر إلى الحيض في قول قوي له، أو الطهر المنتقل منه كما في المشهور وهو المروي عن عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت وخلق كثير لا الحيض، واستدلوا على ذلك بمعقول ومنقول أما الأول فهو أن المقصود من العدة براءة الرحم من ماء الزوج السابق والمعرف لبراءة الرحم هو الانتقال إلى الحيض لأنه يدل على انفتاح فم الرحم فلا يكون فيه العلوق لأنه يوجب انسداد فم الرحم عادة دون الحيض فإن الانتقال من الحيض إلى الطهر يدل على انسداد فم الرحم وهو مظنة العلوق فإذا جاء بعده الحيض علم عدم انسداده. «وأما الثاني» فقوله تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق: 1] واللام للتأقيت والتخصيص بالوقت فيفيد أن مدخوله وقت لما قبله كما في قوله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ [الأنبياء: 47] أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء: 78] فيفيد أن العدة وقت الطلاق والطلاق في الحيض غير مشروع لما أخرج الشيخان أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما طلق زوجته وهي حائض فذكر عمر لرسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 الله صلى الله تعالى عليه وسلم فتغيظ ثم قال: «مرة فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء» وهو أحد الأدلة أيضا على أن العدة بالاطهار، وذهب ساداتنا الحنفية إلى أن المراد بالقرء الحيض وهو المروي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والحسن وعكرمة وعمرو بن دينار وجم غفير وكون الانتقال من الطهر إلى الحيض هو المعرف للبراءة إذا سلم معارض بأن سيلان الدم هو السبب للبراءة المقصودة ولا نسلم أن اعتبار المعرف أولى من اعتبار السبب وليس هذا من المكابرة في شيء على أن المهم في مثل هذه المباحث الأدلة النقلية، وفيما ذكروه منها بحث لأن لام التوقيت لا تقتضي أن يكون مدخولها ظرفا لما قبلها ففي الرضي أن اللام في نحو جئتك لغرة كذا هي المفيدة للاختصاص الذي هو أصلها، والاختصاص هاهنا على ثلاثة أضرب: أما أن يختص الفعل بالزمان بوقوعه فيه نحو كتبته لغرة كذا. أو يختص به لوقوعه بعده نحو لليلة خلت أو اختص به لوقوعه قبله نحو لليلة بقيت، فمع الإطلاق يكون الاختصاص لوقوعه فيه ومع قرينة نحو خلت يكون لوقوعه بعده ومع قرينة نحو بقيت لوقوعه قبله انتهى. وفيما نحن فيه قرينة تدل على كونه قبله لأن التطليق يكون قبل العدة لا مقارنا لها، ويؤيده قراءة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في قبل عدتهن ففي الصحاح القبل والقبل نقيض الدبر والدبر، ووقع السهم بقبل الهدف وبدبره- وقدّ قميصه من قبل ودبر- أي من مقدمه ومؤخره، ويقال: أنزل بقبل هذا الجبل- أي بسفحه- فمعنى في قبل عدتهنّ في مقدم عدتهنّ وأمامها- كما يقتضيه ظاهر الأمثلة- وما ذكره من أن قبل الشيء أوله يرجع إلى هذا أيضا، على تسليم عدم الرجوع يرجع المقدّم الأول بالتبادر وكثرة الاستعمال والتأييد يحصل بذلك المقدار، والحديث الذي أخرجه الشيخان مسلم لكن جعله دليلا على أن- العدّة- هي الأطهار غير مسلم لأنه موقوف على جعل الإشارة للحالة التي هي الطهر، ولا يقوم عليه دليل فإن- اللام- في «يطلق لها النساء» كاللام في لِعِدَّتِهِنَّ يجوز أن تكون بمعنى- في- وأن تكون بمعنى- قبل- فيجوز أن يكون المشار إليه الحيض، وأنث اسم الإشارة مراعاة للخبر كالضمير إذا وقع بين مرجع مذكر وخبر مؤنث فإنّ الأولى على ما عليه الأكثر مراعاة الخبر إذ ما مضى فات، والمعنى فتلك الحيض العدّة التي أمر الله تعالى أن يطلق قبلها النساء- لا أن يطلق فيها النساء- كما فهمه ابن عمر وأوقع الطلاق فيه، وقول الخطابي: الأقراء التي تعتدّ بها المطلقة الاطهار لأنه ذكر فتلك العدّة بعد الطهر مجاب عنه بأن ذكره بعد الطهر لا يقتضي أن يكون مشارا إليه لجواز أن يكون ذكر الطهر للإشارة إلى أنّ الحيض المحفوف بالطهر يكون عدة، وحينئذ لا يحتاج ذكر الطهر الثاني إلى نكتة وهي أنه إذا راجعها في الطهر الأوّل بالجماع لم يكن طلاقها فيه للسنة فيحتاج للطهر الثاني ليصح فيه إيقاع الطلاق السني، وأن لا تكون الرجعة لغرض الطلاق فقط، وأن يكون كالتوبة عن المعصية باستبدال حاله، وأن يطول مقامه معها فلعله يجامعها فيذهب ما في نفسها من سبب الطلاق فيمسكها هذا ما يرجع إلى الدفع، وأما الاستدلال على أن «القرء» الحيض فهو ما أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة والدارقطني عن عائشة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «طلاق الأمة تطليقتان، وعدّتها حيضتان» فصرح بأن عدة الأمة حيضتان، ومعلوم أن الفرق بين الحرّة والأمة باعتبار مقدار العدّة لا في جنسها فيلتحق قوله تعالى: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ للإجمال الكائن بالاشتراك بيانا به وكونه لا يقاوم ما أخرجه الشيخان في قصة ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لضعفه لأن فيه مظاهرا ولم يعرف له سواه لا يخلو عن بحث، أما أولا فلما علمت أن ذلك الحديث ليس بنص في المدعى، وأما ثانيا فلأن تعليل تضعيف مظاهر غير ظاهر، فإن ابن عدي أخرج له حديثا آخر ووثقه ابن حبان، وقال الحاكم: ومظاهر شيخ من أهل البصرة ولم يذكره أحد من متقدمي مشايخنا بجرح فإذا إن لم يكن الحديث صحيحا كان حسنا، ومما يصحح الحديث عمل العلماء على وفقه قال الترمذي عقيب روايته: حديث غريب والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 وغيرهم، وفي الدارقطني قال القاسم وسالم: وعمل به المسلمون، وقال مالك: شهرة الحديث تغني عن سنده كذا في الفتح، ومن أصحابنا من استدل بأنه لو كان المراد من القرء الطهر لزم إبطال موجب الخاص أعني لفظ ثلاثة فإنه حينئذ تكون العدة طهرين، وبعض الثالث في الطلاق المشهور ولا يخفى أنه كأمثاله في هذا المقام ناشىء من قلة التدبر فيما قاله الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه فلهذا اعترضوا به عليه لأنه إنما جعل القرء الانتقال من الطهر إلى الحيض، أو الطهر المنتقل منه لا الطهر الفاصل بين الدمين، والانتقال المذكور، أو الطهر المنتقل منه تام على أن كون الثلاثة اسما لعدد كامل غير مسلم، والتحقيق فيه أنه إذا شرع في الثالث ساغ الإطلاق ألا تراهم يقولون هو ابن ثلاث سنين وإن لم تكمل الثالثة، وذلك لأن الزائد جعل فردا مجازا ثم أطلق على المجموع اسم العدد الكامل، ومن الشافعية من جعل القرء اسما للحيض الذي يحتوشه دمان وجعل إطلاقه على بعض الطهر وكله كإطلاق الماء والعسل، قالوا والاشتقاق مرشد إلى معنى الضم والاجتماع، وهذا الطهر يحصل فيه اجتماع الدم في الرحم وبعضه وكله في الدلالة على ذلك على السواء- وأطالوا الكلام في ذلك- والإمامية وافقوهم فيه واستدلوا عليه برواياتهم عن الأئمة والرواية عن علي كرم الله تعالى وجهه في هذا الباب مختلفة، وبالجملة كلام الشافعية في هذا المقام قوي كما لا يخفى على من أحاط بأطراف كلامهم واستقرأ ما قالوه وتأمل ما دفعوا به أدلة مخالفيهم وفي الكشف بعض الكشف وما في الكشاف غير شاف لبغيتنا وهذا المقدار يكفي أنموذجا. هذا وكان القياس ذكر القرء بصيغة القلة التي هي الإقراء ولكنهم يتوسعون في ذلك فيستعملون كل واحد من البناءين مكان الآخر ولعل النكتة المرجحة لاختياره هاهنا أن المراد بالمطلقات هاهنا جميع المطلقات ذوات الأقراء الحرائر وجميعها متجاوز فوق العشرة فهي مستعملة مقام جمع الكثرة ولكل واحدة منها ثلاثة أقراء فيحصل في الأقراء الكثرة فحسن أن يستعمل جمع الكثرة في تمييز الثلاثة تنبيها على ذلك وهذا كما استعمل أنفسهن مكان نفوسهن للإشارة إلى أن الطلاق ينبغي أن يقع على القلة وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ قال ابن عمر: الحمل والحيض أي لا يحل لها إن كانت حاملا أن تكتم حملها ولا إن كانت حائضا أن تكتم حيضها فتقول وهي حائض: قد طهرت وكن يفعلن الأول لئلا ينتظر لأجل طلاقها أن تضع ولئلا يشفق الرجل على الولد فيترك تسريحها والثاني استعجالا لمضي العدة وإبطالا لحق الرجعة وهذا القول هو المروي عن الصادق والحسن ومجاهد وغيرهم والقول- بأن الحيض غير مخلوق في الرحم بل هو خارج عنه- فلا يصح حمل ما على عمومها بل يتعين حملها على الولد وهو المروي عن ابن عباس وقتادة مدفوع بأن ذات الدم وإن كان غير مخلوق في الرحم لكن الاتصاف بكونه حيضا إنما يحصل له فيه وما قيل: إن الكلام في المطلقات ذوات الأقراء فلا يحتمل خلق الولد في أرحامهن فيجب حمل ما على الحيض كما حكي عن عكرمة فمدفوع أيضا بأن تخصيص العام وتقييده بدليل خارجي لا يقتضي اعتبار ذلك التخصيص أو التقييد في الراجع، واستدل بالآية على أنّ قولهما يقبل فيما خلق الله تعالى في أرحامهن إذ لولا قبول ذلك لما كان فائدة في تحريم كتمانهن، قال ابن الفرس: وعندي أن الآية عامة في جميع ما يتعلق بالفرج من بكارة وثيوبة وعيب. لأنّ كل ذلك مما خلق الله تعالى في أرحامهن فيجب أن يصدقن فيه، وفيه تأمل إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ شرط لقوله تعالى: لا يَحِلُّ لكن ليس الغرض منه التقييد حتى لو لم يؤمن كالكتابيات- حل لهنّ الكتمان- بل بيان منافاة الكتمان للإيمان وتهويل شأنه في قلوبهنّ، وهذه طريقة متعارفة يقال: إن كنت مؤمنا فلا تؤذ أباك، وقيل: إنه شرط جزاؤه محذوف- أي فلا يكتمن- وقوله سبحانه: لا يَحِلُّ علة له أقيم مقامه، وتقدير الكلام «إن كنّ يؤمنّ بالله واليوم الآخر لا يكتمن ما خلق الله في أرحامهن لأنه لا يحل لهن» وفيه «أن لا يكتمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 المقدّر» إن كان نهيا يلزم تعليل الشيء بنفسه، وإن كان نفيا يكون مفاد الكلام تعليق عدم وقوع الكتمان في المستقبل بأيمانهم في الزمان الماضي وهو كما ترى وَبُعُولَتُهُنَّ أي أزواج المطلقات جمع- بعل- كعم وعمومة، وفحل وفحولة- والهاء- زائدة مؤكدة لتأنيث الجماعة، والأمثلة سماعية لا قياسية، لا يقال: كعب وكعوبة، قاله الزجاج «وفي القاموس» - البعل- الزوج، والأنثى- بعل وبعلة- والرب والسيد والمالك والنخلة التي لا تسقى أو تسقى بماء المطر «وقال الراغب» - البعل- النخل الشارب بعروقه، عبر به عن الزوج لإقامته على الزوجة للمعنى المخصوص، وقيل: باعلها جامعها، وبعل الرجل إذا دهش فأقام كأنه النخل الذي لا يبرح، ففي اختيار لفظ- البعولة- إشارة إلى أنّ أصل الرجعة بالمجامعة، وجوّز أن يكون- البعولة- مصدرا نعت به من قولك: بعل حسن البعولة- أي العشرة مع الزوجة- أو أقيم مقام المضاف المحذوف، أي وأهل بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ إلى النكاح والرجعة إليهن، وهذا إذا كان الطلاق رجعيا للآية بعدها، فالضمير- بعد اعتبار القيد- أخص من المرجوع إليه، ولا امتناع فيه كما إذا كرّر الظاهر، وقيل: بعولة المطلقات أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ وخصص بالرجعي، وأَحَقُّ هاهنا بمعنى- حقيق- عبر عنه بصيغة التفضيل للمبالغة، كأنه قيل: للبعولة حق الرجعة، أي حق محبوب عند الله تعالى بخلاف الطلاق فإنه مبغوض، ولذا ورد للتنفير عنه «أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق» وإنما لم يبق على معناه من المشاركة والزيادة إذ لا حق للزوجة في الرجعة كما لا يخفى. وقرأ أبيّ «بردّتهن» فِي ذلِكَ أي زمان- التربص- وهو متعلق ب أَحَقُّ أو بِرَدِّهِنَّ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً أي إن أراد البعولة بالرجعة إِصْلاحاً لما بينهم وبينهن، ولم يريدوا الإضرار بتطويل العدّة عليهنّ مثلا، وليس المراد من التعليق اشتراط جواز الرجعة بإرادة الإصلاح حتى لو لم يكن قصده ذلك لا تجوز للإجماع على جوازها مطلقا، بل المراد تحريضهم على قصد الإصلاح حيث جعل كأنه منوط به ينتفي بانتفائه وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ فيه صنعة الاحتباك، ولا يخفى لطفه فيما بين الزوج والزوجة حيث حذف في الأول بقرينة الثاني، وفي الثاني بقرينة الأول، كأنه قيل: ولهنّ عليهم مثل الذي لهم عليهنّ، والمراد- بالمماثلة- المماثلة في الوجوب- لا في جنس الفعل- فلا يجب عليه إذا غسلت ثيابه أو خبزت له أن يفعل لها مثل ذلك، ولكن يقابله بما يليق بالرجال، أخرج الترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة عن عمرو بن الأحوص أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «ألا إنّ لكم على نسائكم حقا، ولنسائكم عليكم حقا، فأمّا حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم من تكرهون، ألا وحقهنّ عليكم أن تحسنوا إليهنّ في كسوتهنّ وطعامهن» وأخرج وكيع وجماعة عن أنس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «إني لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين المرأة لي، لأن الله تعالى يقول: وَلَهُنَّ» الآية، وجعلوا مما يجب لهنّ عدم العجلة إذا جامع حتى تقضي حاجتها. والمجرور الأخير متعلق بما تعلق به الخبر، وقيل: صفة ل مِثْلُ وهي لا تتعرف بالإضافة وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ زيادة في الحق لأنّ حقوقهم في أنفسهن، فقد ورد أنّ النكاح كالرق أو شرف فضيلة لأنهم قوام عليهن وحرّاس لهن، يشاركوهنّ في غرض الزواج من التلذذ وانتظام مصالح المعاش، ويخصون بشرف يحصل لهم لأجل الرعاية والإنفاق عليهن- والدرجة- في الأصل- المرقاة- ويقال فيها: دَرَجَةٌ كهمزة «قال الراغب» الدرجة- نحو المنزلة لكن تقال إذا اعتبرت بالصعود دون الامتداد على البسيط- كدرجة السطح والسلم- ويعبر بها عن المنزلة الرفيعة، ومنه الآية فهي على التوجيهين مجاز «وفي الكشف» أن أصل التركيب لمعنى الأناة والتقارب على مهل من- درج الصبي إذا حبا- وكذلك الشيخ والمفيد لتقارب خطوهما- والدرجة- التي يرتقي عليها لأن الصعود ليس في السهولة كالانحدار والمشي على مستو، فلا بدّ من تدرّج- والدرج- المواضع التي يمر عليها السيل شيئا فشيئا، ومنه التدرّج في الأمور، والاستدراج من الله، والدركة هي الدرجة بعينها لكن في الانحدار- والرجال- جمع رجل، وأصل الباب القوّة والغلبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 وأتى بالمظهر بدل المضمر للتنويه بذكر- الرجولية- التي بها ظهرت المزية لِلرِّجالِ على النساء وَاللَّهُ عَزِيزٌ غالب لا يعجزه الانتقام ممن خالف الأحكام حَكِيمٌ عالم بعواقب الأمور والمصالح التي شرع ما شرع لها، والجملة تذييل للترهيب والترغيب. الطَّلاقُ مَرَّتانِ إشارة إلى الطلاق المفهوم من قوله تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ وهو الرجعي وهو بمعنى التطليق الذي هو فعل الرجل- كالسلام بمعنى التسليم- لأنه الموصوف بالوحدة والتعدّد دون ما هو وصف المرأة، ويؤيد ذلك ذكر ما هو من فعل الرجل أيضا بقوله تعالى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أي بالرجعة وحسن المعاشرة أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ أي إطلاق مصاحب له من جبر الخاطر وأداء الحقوق، وذلك إما بأن لا يراجعها حتى تبين، أو يطلقها الثالثة- وهو المأثور- فقد أخرج أبو داود وجماعة عن أبي رزين الأسدي أنّ رجلا قال: يا رسول الله- صلى الله تعالى عليه وسلم- إني أسمع الله تعالى يقول الطَّلاقُ مَرَّتانِ فأين الثالثة؟ فقال: «التسريح بإحسان هو الثالثة» وهذا يدل على أن معنى مَرَّتانِ اثنتان، ويؤيد العهد- كالفاء- في الشق الأوّل فإنّ ظاهرها التعقيب بلا مهلة، وحكم الشيء يعقبه بلا فصل، وهذا هو الذي حمل عليه الشافعية الآية، ولعله أليق بالنظم حيث قد انجرّ ذكر اليمين إلى ذكر الإيلاء الذي هو طلاق، ثم انجرّ ذلك إلى ذكر حكم الْمُطَلَّقاتُ من العدة والرجعة، ثم انجر ذلك إلى ذكر أحكام الطلاق المعقب للرجعة، ثم انجرّ ذلك إلى بيان الخلع والطلاق الثلاثة- وأوفق بسبب النزول- فقد أخرج مالك والشافعي والترمذي رضي الله تعالى عنهما وغيرهم. عن عروة قال: كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدّتها كان ذلك له وإن طلقها ألف مرة، فعمد رجل إلى امرأته فطلقها حتى إذا ما شارفت انقضاء عدّتها ارتجعها ثم طلقها ثم قال: والله لا آويك إليّ ولا تخلين أبدا، فأنزل الله تعالى الآية، والذي دعاهم إلى ذلك قولهم إن جمع الطلقات الثلاث غير محرّم وأنه لا سنة في التفريق كما في تحفتهم، واستدلوا عليه بأن- عويمرا العجلاني- لما لاعن امرأته طلقها ثلاثا قبل أن يخبره صلى الله تعالى عليه وسلم بحرمتها عليه- رواه الشيخان- فلو حرم لنهاه عنه لأنه أوقعه معتقدا بقاء الزوجية، ومع اعتقادها يحرم الجمع عند المخالف، ومع الحرمة يجب الإنكار على العالم وتعليم الجاهل، ولم يوجدا فدل على أنه لا حرمة وبأنه قد فعله جمع من الصحابة وأفتى به آخرون، وقال ساداتنا الحنفية: إن الجمع بين التطليقتين والثلاث بدعة، وإنما السنة التفريق لما روي في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال له: «إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالا فتطلقها لكل قرء تطليقة» فإنه لم يرد صلى الله تعالى عليه وسلم من السنة أنه يستعقب الثواب لكونه أمرا مباحا في نفسه لا مندوبا بل كونه من الطريقة المسلوكة في الدين- أعني ما لا يستوجب عقابا- وقد حصره عليه الصلاة والسلام على التفريق فعلم أن ما عداه من الجمع، والطلاق في الحيض بدعة- أي موجب لاستحقاق العقاب- وبهذا يندفع ما قيل: إن الحديث إنما يدل على أن جمع الطلقتين أو الطلقات في طهر واحد ليس سنة، وأمّا أنه بدعة فلا لثبوت الواسطة عند المخالف، ووجه الدفع ظاهر كما لا يخفى «وفي الهداية» وقال الشافعي، كل الطلاق مباح لأنه تصرف مشروع- حتى يستفاد به الحكم- المشروعية لا تجامع الحظر بخلاف الطلاق في الحيض لأن المحرّم تطويل العدّة عليها- لا الطلاق- ولنا أن الأصل في الطلاق هو الحظر لما فيه من قطع النكاح الذي تعلقت به المصالح الدينية والدنيوية والإباحة للحاجة إلى الخلاص، ولا حاجة إلى الجمع بين الثلاث، وهي في المفرق على- الاطهار- ثابتة نظرا إلى دليلها، والحاجة في نفسها باقية فأمكن تصوير الدليل عليها، والمشروعية في ذاته من حيث إنه إزالة الرق لا ينافي الحظر لمعنى في غيره- وهو ما ذكرناه- انتهى. ومنه يعلم أن المخالف معمم- لا مقسم- وإذا قلنا إنه مقسم بناء على ما في كتب بعض مذهبه فغاية ما أثبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 أن الجمع خلاف الأولى من التفريق على الأقراء أو الأشهر، وقد علمت أن تقسيم أبي القاسم صلى الله تعالى عليه وسلم غير تقسيمه، وأجيب عما في خبر عويمر بأنها وقاعة حال- فلعلها من المستثنيات- لما أن مقام اللعان ضيق فيغتفر فيه مثل ذلك ويعذر فيه الغيور وأعمال الدليلين أولى من إهمال أحدهما وحملوا الآية على أن المراد التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق لما أن وظيفة الشارع بيان الأمور الشرعية واللام ليست نصا في العهد بل الظاهر منها الجنس وأيضا تقييد الطلاق بالرجعي يدع ذكر الرجعة بقوله سبحانه: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ تكرارا إلا أن يقال المطلوب هاهنا الحكم المردد بين الإمساك والتسريح، وأيضا لا يعلم على ذلك الوجه حكم الطلاق الواحد إلا بدلالة النص، وهذا الوجه مع كونه أبعد عن توهم التكرار ودلالته على حكم الطلاق الواحد بالعبارة يفيد حكما زائدا وهو التفريق، ودلالة الآية حينئذ على ما ذهبوا إليه ظاهرة إذا كان معنى مرتين مجرد التنكير يردون التثنية على حد ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الملك: 4] أي كرة بعد كرة لا كرتين ثنتين إلا أنه يلزم عليه إخراج التثنية عن معناها الظاهر، وكذا إخراج- الفاء- أيضا وجعل ما بعدها حكما مبتدأ وتخييرا مطلقا عقيب تعليمهم كيفية التطليق وليس مرتبا على الأول ضرورة أن التفريق المطلق لا يترتب عليه أحد الأمرين لأنه إذا كان بالثلاث لا يجوز بعده الإمساك ولا التسريح وتحمل- الفاء- حينئذ على الترتيب الذكري- أي إذا علمتم كيفية الطلاق فاعلموا أن حكمه الإمساك أو التسريح- فالامساك في الرجعي والتسريح في غيره، وإذا كان معنى- مرتين- التفريق مع التثنية كما قال به المحققون- بناء على أنه حقيقة في الثاني ظاهر في الأول إذ لا يقال لمن دفع إلى آخر درهمين مرة واحدة أنه أعطاه مرتين حتى يفرق بينهما وكذا لمن طلق زوجته ثنتين دفعة أنه طلق مرتين- اندفع حديث ارتكاب خلاف الظاهر في التثنية كما هو ظاهر، وفيما بعدها أيضا لصحة الترتب ويكون عدم جواز الجمع بين التطليقتين مستفادا من مَرَّتانِ الدالة على التفريق والتثنية، وعدم الجمع بين الثالثة مستفادا من قوله سبحانه: أَوْ تَسْرِيحٌ حيث رتب على ما قبله بالفاء قيل: إنه مستفاد من دلالة النص هذا ثم من أوجب التفريق ذهب إلى أنه لو طلق غير مفرق وقع طلاقه وكان عاصيا وخالف في ذلك الإمامية وبعض من أهل السنة- كالشيخ أحمد بن تيمية ومن اتبعه- قالوا: لو طلق ثلاثا بلفظ واحد لا تعد له أربعا بالإجماع وكذا لو رمى بسبع حصيات دفعة واحدة لم يجزه إجماعا، ومثل ذلك ما لو حلف ليصلين على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ألف مرة فقال صلى الله تعالى عليه وسلم على النبي صلّى الله عليه وسلّم ألف مرة فإنه لا يكون بارا ما لم يأت بآحاد الألف، وتمسكا بما أخرجه مسلم. وأبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر واحدة فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه. وذهب بعضهم إلى أن مثل ذلك ما لو طلق في مجلس واحد ثلاث مرات فإنه لا يقع إلا واحدة أيضا لما أخرج البيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «طلق ركانة امرأته ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا فسأله رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كيف طلقتها؟ قال: طلقتها ثلاثا قال: في مجلس واحد؟ قال: نعم قال: فإنما تلك واحدة فأرجعها إن شئت فراجعها» والذي عليه أهل الحق اليوم خلاف ذلك كله. والجواب عن الاحتجاج بالآية أنها كما علمت ليست نصا في المقصود، وأما الحديث فقد أجاب عنه جماعة قال السبكي: وأحسن الأجوبة أنه فيمن يعرف اللفظ فكانوا أولا يصدقون في إرادة التأكيد لديانتهم فلما كثرت الأخلاط فيهم اقتضت المصلحة عدم تصديقهم وإيقاع الثلاث، واعترضه العلامة ابن حجر قائلا: إنه عجيب فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 صريح مذهبنا تصديق مريد التأكيد بشرطه وإن بلغ في الفسق ما بلغ، ثم نقل عن بعض المحققين أن أحسنها أنهم كانوا يعتادونه طلقة ثم في زمن عمر رضي الله تعالى عنه استعجلوا وصاروا يوقعونه ثلاثا فعاملهم بقضيته وأوقع الثلاث عليهم، فهو إخبار عن اختلاف عادة الناس لا عن تغيير حكم في مسألة، واعترض عليه بعدم مطابقته للظاهر المتبادر من كلام عمر لا سيما مع قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الثلاث إلخ، فهو تأويل بعيد لا جواب حسن فضلا عن كونه أحسن، ثم قال: والأحسن عندي أن يجاب بأن عمر رضي الله تعالى عنه لما استشار الناس علم فيه ناسخا لما وقع قبل فعمل بقضيته وذلك الناسخ إما خبر بلغه أو إجماع وهو لا يكون إلا عن نص، ومن ثمّ أطبق علماء الأمة عليه، وأخبار ابن عباس لبيان أن الناسخ إنما عرف بعد مضي مدة من وفاته صلّى الله عليه وسلّم انتهى، وأنا أقول الطلاق الثلاث في كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يحتمل أن يكون بلفظ واحد، وحينئذ يكون الاستدلال به على المدعى ظاهرا، ويؤيد هذا الاحتمال ظاهرا ما أخرجه أبو داود عنه إذا قال الرجل لامرأته أنت طالق ثلاثا بفم واحدة فهي واحدة وحينئذ يجاب بالنسخ، ويحتمل أن يكون بألفاظ ثلاثة في مجلس واحد مثل أنت طالق أنت طالق أنت طالق، ويحمل ما أخرجه أبو داود على هذا بأن يكون ثلاثا متعلقا- يقال- لا صفة لمصدر محذوف أي طلاقا ثلاثا ولا تمييز للابهام الذي في الجملة قبله، وبفم واحدة معناه متتابعا وحينئذ يوافق الخبر بظاهره أهل القول الأخير، ويجاب عنه بأن هذا في الطلاق قبل الدخول فإنه كذلك لا يقع إلا واحدة كما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه لأن البينونة وقعت بالتطليقة الأولى فصادفتها الثانية وهي مبانة، ويدل على ذلك ما أخرجه أبو داود والبيهقي عن طاوس أن رجلا يقال له أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس قال: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر؟ قال ابن عباس: بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر فلما رأى الناس قد تتايعوا (1) فيها قال: أجيزوهن عليهم، وهذه مسألة اجتهادية كانت على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يرو في الصحيح أنها رفعت إليه فقال فيها شيئا، ولعلها كانت تقع في المواضع النائية في آخر أمره صلّى الله عليه وسلّم فيجتهد فيها من أوتي علما فيجعلها واحدة، وليس في كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تصريح بأن الجاعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بل في قوله جعلوها واحدة إشارة إلى ما قلنا، وعمر رضي الله تعالى عنه بعد مضي أيام من خلافته ظهر له بالاجتهاد أن الأولى القول بوقوع الثلاث لكنه خلاف مذهبنا، وهو مذهب كثير من الصحابة حتى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقد أخرج مالك والشافعي وأبو داود والبيهقي عن معاوية بن أبي عياش أنه كان جالسا مع عبد الله بن الزبير وعاصم بن عمر فجاءهما محمد بن أبي إياس ابن البكير فقال إن رجلا من أهل البادية طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها فماذا تريان؟ فقال ابن الزبير: إن هذا الأمر ما لنا فيه قول اذهب إلى ابن عباس وأبي هريرة فإني تركتهما عند عائشة فاسألهما فذهب فسألهما فقال ابن عباس لأبي هريرة: أفته يا أبا هريرة فقد جاءتك معضلة فقال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: الواحدة تبينها والثلاثة تحرمها حتى تنكح زوجا غيره، وقال ابن عباس مثل ذلك، وإن حملت الثلاث في هذا الخبر على ما كان بلفظ واحد لئلا يخالف مذهب الإمام فإن عنده إذا طلق الرجل امرأته الغير المدخول بها ثلاثا بلفظ واحد وقعن عليها لأن الواقع مصدر محذوف لأن معناه طلاقا بائنا فلم   (1) قوله: تتايع الناس هو بتاءين فوقيتين بعدهما ألف ومثناة تحتية بعدها عين مهملة وهو الوقوع في الشر من غير تماسك ولا توقف. وفي أصل المؤلف بتاء بعدها باء وهو تصحيف تدبر اهـ إدارة الطباعة المنيرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 يكن أنت طالق إيقاعا على حدة فيقعن جملة كان هذا الخبر معارضا لما رواه مسلم مؤيدا للنسخ كالخبر الذي أخرجه الطبراني والبيهقي عن سويد بن غفلة قال: كانت عائشة الخثعمية عند الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما فقال لها: قتل علي كرم الله وجهه قالت: لتهنك الخلافة قال: يقتل عليّ وتظهرين الشماتة اذهبي فأنت طالق ثلاثا قال: فتلفعت بثيابها وقعدت حتى قضت عدتها فبعث إليها ببقية بقيت لها من صداقها وعشرة آلاف صدقة فلما جاءها الرسول قالت: متاع قليل من حبيب مفارق فلما بلغه قولها بكى ثم قال: لولا أني سمعت جدي- أو حدثني- أبي أنه سمع جدي يقول أيما رجل طلق امرأته ثلاثا عند الأقراء أو ثلاثا مبهمة لم تحل به حتى تنكح زوجا غيره لراجعتها، وما أخرجه ابن ماجة عن الشعبي قال: قلت لفاطمة بنت قيس حدثيني عن طلاقك قالت: طلقني زوجي ثلاثا وهو خارج إلى اليمن فأجاز ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأما حديث ركانة فقد روي على أنحاء، والذي صح ما أخرجه الشافعي وأبو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم والبيهقي «أن ركانة طلق امرأته البتة فأخبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك وقال: والله ما أردت إلا واحدة فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: والله ما أردت إلّا واحدة؟ فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة قال: هو ما أردت فردها عليه» وهذا لا يصلح دليلا لتلك الدعوى لأن الطلاق فيه كناية ونية العدد فيها معتبرة، وقد يستدل به على صحة وقوع الثلاث بلفظ واحد لأنه دل على أنه لو أراد ما زاد على الواحدة وقع وإلا لم يكن للاستخلاف فائدة والقياس على شهادات اللعان. ورمي الجمرات قياس في غير محله، ألا ترى أنه لا يمكن الاكتفاء ببعض ذلك بوجه ويمكن الاكتفاء ببعض وحدات الثلاث في الطلاق وتحصل به البينونة بانقضاء العدة ويتم الغرض إجماعا، ولعظم أمر اللعان لم يكتف فيه إلا بالإتيان بالشهادات واحدة واحدة مؤكدات بالأيمان مقرونة، خامستها باللعن في جانب الرجل لو كان كاذبا وفي جانبها بالغضب لو كان صادقا فلعل الرجوع أو الإقرار يقع في البين فيحصل الستر أو يقام الحد ويكفر الذنب، وأيضا الشهادات الأربع من الرجل منزلة منزلة الشهود الأربعة المطلوبة في رمي المحصنات مع زيادة كما يشير إليه قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ [النور: 4] مع قوله سبحانه بعده: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ [النور: 6] إلخ فكما أن- شهادة الشهود- متعددة لا يكفي فيها اللفظ الواحد كذلك المنزل منزلتها، ورمي الجمرات وتسبيعها أمر تعبدي وسره خفي فيحتاط له ويتبع المأثور فيه حذو القذة بالقذة، وباب الطلاق ليس كهذين البابين على أن من الاحتياط فيه أن نوقعه ثلاثا بلفظ واحد، ومجلس واحد، ولا نلغي فيه لفظ الثلاث التي لم يقصد بها إلا إيقاعه على أتم وجه وأكمله، وما ذكر في مسألة الحلف على أن لا يصلين ألف مرة من أنه لا يبر ما لم يأت بآحاد الألف فأمر اقتضاه القصد والعرف، وذلك وراء ما نحن فيه كما لا يخفى، ولهذا ورد عن أهل البيت ما يؤيد مذهب أهل السنة فقد أخرج البيهقي عن بسام الصيرفي قال: سمعت جعفر بن محمد يقول من طلق امرأته ثلاثا بجهالة أو علم فقد برئت، وعن مسلمة بن جعفر الأحمس، قال: قلت لجعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما يزعمون أن من طلق ثلاثا بجهالة رد إلى السنة يجعلونه واحدة يروونها عنكم؟ قال: معاذ الله ما هذا من قولنا من طلق ثلاثا فهو كما قال، وقد سمعت ما رويناه عن الحسن: وما أخذ به الإمامية يروونه عن علي كرم الله تعالى وجهه مما لا ثبت له والأمر على خلافه، وقد افتراه على علي كرم الله تعالى وجهه شيخ بالكوفة وقد أقر بالافتراء لدى الأعمش رحمه الله تعالى فليحفظ ما تلوناه فإني لا أظنك تجده مسطورا في كتاب. وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا في مقابلة الطلاق مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ أي من الصدقات فإن ذلك مناف للإحسان ومثلها في الحكم سائر أموالهن إلا أن التخصيص إما لرعاية العادة أو للتنبيه على أن عدم حل الأخذ مما عدا ذلك من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 باب الأولى، والجار والمجرور يحتمل أن يكون متعلقا بما عنده أو حالا من شَيْئاً لأنه لو أخر عنه كان صفة له، والتنوين للتحقير، والخطاب مع الحكام، وإسناد الأخذ والإيتاء إليهم لأنهم الآمرون بهما عند الترافع، وقيل: إنه خطاب للأزواج، ويرد عليه أن فيه تشويشا للنظم الكريم لأن قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَخافا أي الزوجان كلاهما أو أحدهما أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ بترك إقامة مواجب الزوجية غير منتظم معه لأن المعبر عنه في الخطاب الأزواج فقط، وفي الغيبة الأزواج والزوجات ولا يمكن حمله على الالتفات إذ من شرطه أن يكون المعبر عنه في الطريقين واحدا، وأين هذا الشرط نعم لهذا القيل وجه صحة لكنها لا تسمن ولا تغني، وهو أن الاستثناء لما كان بعد مضي جملة الخطاب من أعم الأحوال أو الأوقات أو المفعول له على أن يكون المعنى بسبب من الأسباب إلا بسبب الخوف جاز تغيير الكلام من الخطاب إلى الغيبة لنكتة وهي أن لا يخاطب مؤمن بالخوف من عدم إقامة حدود الله، وقرىء «تخافا» و «تقيما» بتاء الخطاب وعليها يهون الأمر فإن في ذلك حينئذ تغليب المخاطبين على الزوجات الغائبات، والتعبير بالتثنية باعتبار الفريقين، وقرأ حمزة ويعقوب «يخافا» على البناء للمفعول وإبدال أَنْ بصلته من- ألف الضمير- بدل اشتمال كقولك: خيف زيد تركه حُدُودَ اللَّهِ ويعضده قراءة عبد الله إلا أن تخافوا وقال ابن عطية: عدي «خاف» إلى مفعولين «أحدهما» أسند إليه الفعل «والآخر» بتقدير حرف جر محذوف فموضع أَنْ جرّ بالجار المقدر، أو نصب على اختلاف الرأيين وردّه في البحر بأنه لم يذكره النحويون حين عدوا ما يتعدى إلى اثنين، وأصل «أحدهما» بحرف الجرّ، وفي قراءة أبيّ «إلا أن يظنا» وهو يؤيد تفسير- الظن بالخوف- فَإِنْ خِفْتُمْ خطاب للحكام لا غير لئلا يلزم تغيير الأسلوب قبل مضي الجملة أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ التي حدّها لهم. فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أي الزوجين، وهذا قائم مقام الجواب أي فمروهما فإنه لا جناح فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ نفسها واختلعت لا على الزوج في أخذه ولا عليها في إعطائه إياه، أخرج ابن جرير عن عكرمة أنه سئل هل كان للخلع أصل؟ قال: كان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول: إن أوّل خلع كان في الإسلام في أخت عبد الله بن أبي امرأة ثابت بن قيس «أنها أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبدا إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدة فإذا هو أشدهم سوادا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجها قال زوجها: يا رسول الله إني أعطيتها أفضل مالي حديقة لي فإن ردت عليّ حديقتي قال: ما تقولين؟ قالت: نعم وإن شاء زدته قال: ففرق بينهما» وفي رواية البخاري- أن المرأة اسمها جميلة وأنها بنت عبد الله المنافق- وهو الذي رجحه الحفاظ وكون اسمها زينب جاء من طريق الدارقطني قال الحافظ ابن حجر: فلعل لها اسمين أو أحدهما لقب وإلا فجميلة أصح، وقد وقع في حديث آخر أخرجه مالك والشافعي وأبو داود أن اسم امرأة ثابت حبيبة بنت سهل، قال الحافظ: والذي يظهر أنهما قضيتان وقعتا له في امرأتين لشهرة الحديثين وصحة الطريقين واختلاف السياقين تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ إشارة إلى ما حد من الأحكام من قوله سبحانه: الطَّلاقُ مَرَّتانِ إلى هنا فالجملة فذلكة لذلك أوردت لترتيب النهي عليها فَلا تَعْتَدُوها بالمخالفة والرفض وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ تذييل للمبالغة في التهديد والواو للاعتراض وفي إيقاع الظاهر موقع المضمر ما لا يخفى من إدخال الروعة وتربية المهابة، وظاهر الآية يدل على أن الخلع لا يجوز من غير كراهة وشقاق لأن نفي الحل الذي هو حكم العقد في جميع الأحوال إلا حال الشقاق يدل على فساد العقد وعدم جوازه ظاهرا إلا أن يدل الدليل على خلاف الظاهر، وعلى أنه لا يجوز أن يكون بجميع ما ساق الزوج إليها فضلا عن الزائد لأن- في مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ تبعيضية فيكون مفاد الاستثناء حل أخذ شيء مما آتيتموهن حين الخوف، وأما كلمة ما في قوله سبحانه: فِيمَا افْتَدَتْ فليست ظاهرة في العموم حتى ينافي ظهور الآية في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 الحكم المذكور بل فاء التفسير في فَإِنْ خِفْتُمْ يدل ظاهرا على أنه بيان للحكم المفهوم بطريق المخالفة عن الاستثناء، وفائدته التنصيص على الحكم ونفي الجناح في هذا العقد فإن ثبوت الحل المستفاد من الاستثناء قد يجامع الجناح بأن يكون مع الكراهة، نعم تحتمل العموم فلا تكون نصا في عدم جواز الخلع بجميع ما يساق، ولهذا قال عمر رضي الله تعالى عنه: اخلعها ولو بقرطها، ويؤيد الأول ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن ثوبان قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة» وقال: «المختلعات هن المنافقات» ويؤيد الثاني ما روي من بعض الطرق أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال لجميلة «أتردّين عليه حديقته؟ فقالت: أردها وأزيد عليها فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: أما الزائد فلا» وهذا وإن دل على نفي الزيادة دون جميع المهر إلا أنه يستفاد منه أن فيما افتدت به ليس على عمومه فيكون المراد به ما يستفاد من الاستثناء وهو البعض، وأكثر الفقهاء على أن الخلع بلا شقاق وبجميع ما ساق مكروه لكنه نافذ لأن أركان العقد من الإيجاب والقبول وأهلية العاقدين مع التراضي متحقق والنهي لأمر مقارن كالبيع وقت النداء وهو لا ينافي الجواز، وعلى أنه يصح بلفظ المفادات لأنه تعالى سمي الاختلاع افتداء، واختلف في أنه إذا جرى بغير لفظ الطلاق فسخ أو طلاق، ومن جعله فسخا احتج بقوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فإن تعقيبه للخلع بعد ذكر الطلقتين يقتضي أن يكون طلقة رابعة لو كان الخلع طلاقا، والأظهر أنه طلاق وإليه ذهب أصحابنا وهو قول للشافعية لأنه فرقة باختيار الزوج فهو كالطلاق بالعوض فحينئذ يكون فَإِنْ طَلَّقَها متعلقا بقوله سبحانه الطَّلاقُ مَرَّتانِ تفسيرا لقوله تعالى: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ لا متعلقا بآية الخلع ليلزم المحذور، ويكون ذكر الخلع اعتراضا لبيان أن الطلاق يقع مجانا تارة وبعوض أخرى، والمعنى فإن طلقها بعد الثنتين أو بعد الطلاق الموصوف بما تقدم. فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ أي من بعد ذلك التطليق حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ أي تتزوّج زوجا غيره، ويجامعها فلا يكفي مجرد العقد كما ذهب إليه ابن المسيب وخطؤه لأن العقد فهم من زوجا، والجماع من تنكح، وبتقدير عدم الفهم، وحمل النكاح على العقد تكون الآية مطلقة إلا أن السنة قيدتها فقد أخرج الشافعي وأحمد والبخاري ومسلم وجماعة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: إني كنت عند رفاعة فطلقني فبت طلاقي فتزوجني عبد الرحمن بن الزبير وما معه إلّا مثل هدبة الثوب فتبسم النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» وعن عكرمة أن هذه الآية نزلت في هذه المرأة واسمها عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك وكان نزل فيها فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فيجامعها فإن طلقها بعد ما جامعها فلا جناح عليهما أن يتراجعا، وفي ذلك دلالة على أن الناكح الثاني لا بد أن يكون زوجا فلو كانت أمة وطلقت البتة ثم وطئها سيدها لا تحل للأول. وعلى أنه لو اشتراها الزوج من سيدها أو وهبها سيدها له بعد أن بت طلاقها لم يحل له وطؤها في الصورتين بملك اليمين حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ وعلى أنّ الولي ليس شرطا في النكاح لأنه أضاف العقد إليها، والحكمة في هذا الحكم ردع الزوج عن التسرع إلى الطلاق لأنه إذا علم أنه إذا بت الطلاق لا تحل له حتى يجامعها رجل آخر. ولعله عدوه ارتدع عن أن يطلقها البتة لأنه وإن كان جائزا شرعا لكن تنفر عنه الطباع وتأباه غيرة الرجال، والنكاح بشرط التحليل فاسد عند مالك وأحمد والثوري والظاهرية وكثيرين، واستدلوا على ذلك بما أخرجه ابن ماجة والحاكم وصححه والبيهقي عن عقبة بن عامر قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ألا أخبركم بالتيس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 المستعار؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: هو المحلل لعن الله المحلل والمحلل له» وأخرج عبد الرزاق عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رحمتهما، والبيهقي عن سليمان بن يسار أن عثمان رضي الله تعالى عنه رفع إليه رجل تزوج امرأة ليحللها لزوجها ففرق بينهما، وقال: لا ترجع إليه إلا بنكاح رغبة غير دلسة، وعندنا هو مكروه. والحديث لا يدل على عدم صحة النكاح لما أن المنع عن العقد لا يدل على فساده، وفي تسمية ذلك محللا ما يقتضي الصحة لأنها سبب الحل، وحمل بعضهم الحديث على من اتخذه تكسبا أو على ما إذا شرط التحليل في صلب العقد لا على من أضمر ذلك في نفسه فإنه ليس بتلك المرتبة بل قيل: إن فاعل ذلك مأجور فَإِنْ طَلَّقَها الزوج الثاني فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أي على الزوج الأول والمرأة أَنْ يَتَراجَعا أن يرجع كل منهما إلى صاحبه بالزواج بعد مضي العدة إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ إن كان في ظنهما أنهما يقيمان حقوق الزوجية التي حدها الله تعالى وشرعها وتفسير الظن بالعلم هاهنا قيل: غير صحيح لفظا ومعنى، أما معنى فلأنه لا يعلم ما في المستقبل يقينا في الأكثر، وأما لفظا فلأن أن المصدرية للتوقع وهو ينافي العلم، ورد بأن المستقبل قد يعلم ويتيقين في بعض الأمور وهو يكفي للصحة، وبأن سيبويه أجاز- وهو شيخ العربية- ما علمت إلا أن يقوم زيد والمخالف له فيه أبو علي الفارسي، ولا يخفى أن الاعتراض الأول فيما نحن فيه مما لا يجدي نفعا لأن المستقبل وإن كان قد يعلم في بعض الأمور إلا أن ما هنا ليس كذلك وليس المراجعة مربوطة بالعلم بل الظن يكفي فيها وَتِلْكَ إشارة إلى الأحكام المذكورة إلى هنا حُدُودَ اللَّهِ أي أحكامه المعينة المحمية من التعرض لها بالتغيير والمخالفة يُبَيِّنُها بهذا البيان اللائق، أو سيُبَيِّنُها بناء على أن بعضها يلحقه زيادة كشف في الكتاب والسنة، والجملة خبر على رأي من يجوّزه في مثل ذلك، أو حال من حُدُودَ اللَّهِ والعامل معنى الإشارة، وقرىء «نبينها» بالنون على الالتفات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي يفهمون ويعملون بمقتضى العلم فهو للتحريض على العمل- كما قيل- أو لأنهم المنتفعون بالبيان، أو لأن ما سيلحق بعض الحدود منه لا يعقله إلا الراسخون، أو ليخرج غير المكلفين وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي آخر عدتهم فهو مجاز من قبيل استعمال الكل في الجزء إن قلنا: إن الأجل حقيقة في جميع المدة- كما يفهمه كلام الصحاح- وهو الدائر في كلام الفقهاء، ونقل الأزهري عن الليث يدل على أنه حقيقة في الجزء الأخير، وكلا الاستعمالين ثابت في الكتاب الكريم، فإن كان من باب الاشتراك فذاك وإلا فالتجوّز من الكل إلى الجزء الأخير أقوى من العكس- والبلوغ- في الأصل الوصول وقد يقال لدنو منه- وهو المراد في الآية- وهو إمّا من مجاز المشارفة أو الاستعارة تشبيها للمتقارب الوقوع بالواقع ليصح أن يرتب عليه. فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ إذ لا إمساك بعد انقضاء الأجل لأنها حينئذ غير زوجة له ولا في عدّته فلا سبيل له عليها- والإمساك- مجاز عن المراجعة لأنها سببه- والتسريح- بمعنى الإطلاق وهو مجاز عن الترك، والمعنى فراجعوهن من غير «ضرار» أو خلوهن حتى تنقضي عدّتهن من غير تطويل، وهذا إعادة للحكم في صورة بلوغهنّ أجلهنّ اعتناء لشأنه ومبالغة في إيحاب المحافظة عليه، ومن الناس من حمل- الإمساك بالمعروف- على عقد النكاح وتجديده مع حسن المعاشرة- والتسريح بالمعروف- على ترك العضل عن التزوّج بآخر، وحينئذ لا حاجة إلى القول بالمجاز في «بلغن» ولا يخفى بعده عن سبب النزول، فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن السدي أنّ رجلا من الأنصار يدعى ثابت بن يسار طلق زوجته حتى إذا انقضت عدّتها إلا يومين أو ثلاثة راجعها ثم طلقها ففعل ذلك بها حتى مضت لها تسعة أشهر يضارها فأنزل الله تعالى هذه الآية وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً تأكيد للأمر- بالإمساك بالمعروف- وتوضيح لمعناه وهو أدل منه على الدوام والثبات وأصرح في الزجر عما كانوا يتعاطونه، وضِراراً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 نصب على العلية أو الحالية أي لا ترجعوهن للمضارة أو مضارين، ومتعلق النهي القيد- واللام- في قوله تعالى: لِتَعْتَدُوا متعلق ب ضِراراً أي لتظلموهن بالإلجاء إلى الافتداء، واعترض بأن- الضرار- ظلم- والاعتداء- مثله فيؤول إلى وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ظلما لتظلموا وهو كما ترى، وأجيب بأنّ المراد- بالضرار- تطويل المدة- وباعتداء- الإلجاء، فكأنه قيل: لا تمسكوهنّ بالتطويل لتلجئوهنّ إلى الاختلاع والظلم قد يقصد ليؤدّي إلى ظلم آخر، والمشهور أن هذا الوجه متعين على الوجه الأول في ضِراراً ولا يجوز عليه أن يكون هذا علة لما كان هو له إذ المفعول له لا يتعدّد إلا بالعطف، أو على البدل- وهو غير ممكن لاختلاف الإعراب- ويجوز أن يكون كذلك على الوجه الثاني، وجوّز تعلقه بالفعل مطلقا إذا جعلت- اللام- للعاقبة، ولا ضرر في تعدّي الفعل إلى علة وعاقبة لاختلافهما وإن كانت- اللام- حقيقة فيهما على رأي- وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ المذكور وما فيه من البعد للإيذان ببعد منزلته في الشر والفساد فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بتعريضها للعذاب، أو بأن فوت على نفسه منافع الدين من الثواب الحاصل على حسن المعاشرة، ومنافع الدنيا من عدم رغبة النساء به بعد لاشتهاره بهذا الفعل القبيح وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ المنطوية على الأحكام المذكورة في أمر النساء أو جميع آياته وهذه داخلة فيها هُزُواً مهزوءا بها بأن تعرضوا عنها، وتتهاونوا في المحافظة عليها لقلة اكتراثكم بالنساء وعدم مبالاتكم بهن، وهذا نهي أريد به الأمر بضده، أي جدّوا في الأخذ بها والعمل بما فيها وارعوها حق رعايتها. وأخرج ابن أبي عمرة وابن مردويه عن أبي الدرداء قال: كان الرجل يطلق ثم يقول: لعبت ويعتق، ثم يقول: لعبت، فنزلت، وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه والحاكم وصححه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «ثلاث هزلهنّ جد: النكاح والطلاق والرجعة» وعن أبي الدرداء «ثلاث اللاعب فيها كالجاد، النكاح، والطلاق والعتاق» وعن عمر رضي الله تعالى عنه «أربع مقفلات. النذر والطلاق والعتق والنكاح» وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي قابلوها بالشكر والقيام بحقوقها- والنعمة- إما عامة فعطف. وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ عليها من عطف الخاص على العام، وإمّا أن تخص بالإسلام ونبوّة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وخصا بالذكر ليناسب ما سبقه، وليدل على أن ما كانوا عليه من الإمساك إضرارا من سنن الجاهلية المخالفة، كأنه لما قيل: جدّوا في العمل بالآيات على طريق الكناية أكد ذلك بأنه شكر النعمة فقوموا بحقه، ويكون العطف تأكيدا على تأكيد لأن الإسلام ونبوّة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم يشملان إنزال الكتاب والسنة- وهو قريب من عطف التفسير- ولا بأس أن يسمى عطف التقرير، قيل: ولو عمم النعمة لم يحسن موقعه هذا الحسن، ولا يخفى أنه في حيز المنع، والظرف الأوّل متعلق بمحذوف وقع حالا من نعمة أو صفة لها على رأي من يجوّز حذف الموصول مع بعض الصلة، ويجوز أن يتعلق بنفسها إن أريد بها الإنعام لأنها اسم مصدر كنبات من أنبت ولا يقدح في عمله- تاء التأنيث- لأنه مبني عليها كما في قوله: فلولا رجاء النصر منك وهيبة ... عقابك قد كانوا لنا كالموارد والظرف الثاني متعلق بما عنده وأتى به تنبيها للمأمورين وتشريفا لهم، وما موصولة حذف عائدها من الصلة، ومَنْ في قوله تعالى: مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ بيانية، والمراد بهما القرآن الجامع للعنوانين، أو القرآن والسنة، والإفراد بالذكر بعد الاندراج في المذكور إظهارا للفضل وإيماء إلى أن الشرف وصل إلى غاية لا يمكن معها الاندراج، وذاك من قبيل: فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال يَعِظُكُمْ بِهِ أي بما أنزل حال من فاعل أَنْزَلَ أو من مفعوله، أو منهما معا، وجوّز أن يكون ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 مبتدأ وهذه الجملة خبره ومِنَ الْكِتابِ حال من العائد المحذوف، وقيل: الجملة معترضة للترغيب والتعليل. وَاتَّقُوا اللَّهَ في أوامره والقيام بحقوقه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فلا يخفى عليه شيء مما تأتون وما تذرون فليحذر من جزائه وعقابه، أو أن عَلِيمٌ بكل شيء فلا يأمر إلا بما فيه الحكمة والمصلحة فلا تخالفوه، وفي هذا العطف ما يؤكد الأوامر والأحكام السابقة، وليس هذا من التأكيد المقتضي للفصل، لأنه ليس إعادة لمفهوم المؤكد ولا متحدا معه. وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي انقضت عدتهن كما يدل عليه السياق. فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ أي لا تمنعوهن ذلك، وأصل العضل الحبس والتضييق، ومنه عضلت الدجاجة بالتشديد إذا نشبت بيضتها ولم تخرج، والفعل مثلث العين، واختلف في الخطاب فقيل- واختاره الإمام- إنه للأزواج المطلقين حيث كانوا يعضلون مطلقاتهم بعد مضي العدة ولا يدعونهن يتزوجن ظلما وقسرا لحمية الجاهلية، وقد يكون ذلك بأن يدس إلى من يخبطهن ما يخيفه أو ينسب إليهن ما ينفر الرجل من الرغبة فيهن، وعليه يحمل الأزواج على من يردن أن يتزوجنه، والعرب كثيرا ما تسمي الشيء باسم ما يؤول إليه، وقيل- واختاره القاضي- إنه للأولياء، فقد أخرج البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه وأبو داود وخلق كثير من طرق شتى عن معقل بن يسار قال: كانت لي أخت فأتاني ابن عم لي فأنكحتها إياه فكانت عنده ما كانت ثم طلقها تطليقة، ولم يراجعها حتى انقضت العدة فهويها وهوته ثم خطبها مع الخطاب فقلت له: يا لكع أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها ثم جئت تخطبها، والله لا ترجع إليك أبدا وكان رجلا لا بأس به وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه فعلم الله تعالى حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل الله تعالى هذه الآية، قال: ففي نزلت فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه، وفي لفظ فلما سمعها معقل قال: سمعا لربي وطاعة ثم دعاه فقال: أزوجك وأكرمك، وعليه يحمل الأزواج على الذين كانوا أزواجا وخطاب التطليق حينئذ إما أن يتوجه لما توجه له هذا الخطاب ويكون نسبة التطليق للأولياء باعتبار التسبب كما ينبئ عنه التصدي للعضل، وإما أن يبقى على ظاهره للأزواج المطلقين ويتحمل تشتيت الضمائر اتكالا على ظهور المعنى، وقيل- واختاره الزمخشري- إنه لجميع الناس فيتناول عضل الأزواج والأولياء جميعا، ويسلم من انتشار ضميري الخطاب والتفريق بين الاسنادين مع المطابقة لسبب النزول، وفيه تهويل أمر العضل بأن من حق الأولياء أن لا يحوموا حوله وحق الناس كافة أن ينصروا المظلوم، وجعل بعضهم الخطابات السابقة كذلك، وذكر أن المباشرة لتوقفها على الشروط العقلية والشرعية توزعت بحسبها كما إذا قيل لجماعة معدودة أو غير محصورة. أدوا الزكاة وزوجوا الأكفاء وامنعوا الظلمة كان الكل مخاطبين والتوزع على ما مر، هذا وليس في الآية على أي وجه حملت دليل على أنه ليس للمرأة أن تزوج نفسها كما وهم ونهي الأولياء عن العضل ليس لتوقف صحة النكاح على رضاهم بل لدفع الضرر عنهن لأنهن وإن قدرن على تزويج أنفسهن شرعا لكنهن يحترزن عن ذلك مخافة اللوم والقطيعة أو مخافة البطش بهن، وفي إسناد النكاح إليهن إيماء إلى عدم التوقف وإلا لزم المجاز وهو خلاف الظاهر، وجوز في أن ينكحن وجهان: الأول أنه بدل اشتمال من الضمير المنصوب قبله. والثاني أن يكون على إسقاط الخافض والمحل إما نصب أو جر على اختلاف الرأيين إِذا تَراضَوْا ظرف- لا تعضلوا- والتذكير باعتبار التغليب والتقييد به لأن المعتاد لا لتجويز المنع قبل تمام التراضي، وقيل ظرف لأن ينكحن. وقوله تعالى: بَيْنَهُمْ ظرف للتراضي مفيد لرسوخه واستحكامه بِالْمَعْرُوفِ أي بما لا يكون مستنكرا شرعا ومروءة، والباء إما متعلقة بمحذوف وقع حالا من فاعل تَراضَوْا أو نعتا لمصدر محذوف أي تراضيا كائنا بِالْمَعْرُوفِ وإما بتراضوا أو بينكحن، وفي التقييد بذلك إشعار بأن المنع من التزوج بغير كفء أو بما دون مهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 المثل ليس من باب العضل ذلِكَ إشارة إلى ما فصل والخطاب للجمع على تأويل القبيل أو لكل واحد واحد أو أن الكاف تدل على خطاب قطع فيه النظر عن المخاطب وحدة وتذكيرا وغيرهما. والمقصود الدلالة على حضور المشار إليه عند من خوطب للفرق بين الحاضر والمنقضي الغائب أو للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ليطابق ما في سورة الطلاق، وفيه إيذان بأن المشار إليه أمر لا يكاد يتصوره كل أحد بل لا بد لتصور ذلك من مؤيد من عند الله تعالى: يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ خصه بالذكر لأنه المسارع إلى الامتثال إجلالا لله تعالى وخوفا من عقابه، ومِنْكُمْ إما متعلق- بكان- على رأي من يرى ذلك وإما بمحذوف وقع حالا من فاعل يُؤْمِنُ ذلِكُمْ أي الاتعاظ به والعمل بمقتضاه أَزْكى لَكُمْ أي أعظم بركة ونفعا وَأَطْهَرُ أي أكثر تطهيرا من دنس الآثام، وحذف لكم اكتفاء بما في سابقه، وقيل: إن المراد أطهر لكم ولهم لما يخشى على الزوجين من الريبة بسبب العلاقة بينهما وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فيه من المصلحة وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذلك فلا رأي إلا الاتباع، ويحتمل تعميم المفعول في الموضعين، ويدخل فيه المذكور دخولا أوليا وفائدة الجملة الحث على الامتثال. وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ أمر أخرج مخرج الخبر مبالغة ومعناه الندب أو الوجوب إن خص بما إذا لم يرتضع الصبي إلا من أمه أو لم يوجد له ظئر أو عجز الوالد عن الاستئجار والتعبير عنهن بالعنوان المذكور لاستعطافهن نحو أولادهن والحكم عام للمطلقات وغيرهن كما يقتضيه الظاهر، وخصه بعضهم بالوالدات المطلقات وهو المروي عن مجاهد وابن جبير وزيد بن أسلم، واحتج عليه بأمرين: الأول أن الله تعالى ذكر هذه الآية عقيب آيات الطلاق فكانت من تتمتها وإنما أتمها بذلك لأنه إذا حصلت الفرقة ربما يحصل التعادي والتباغض وهو يحمل المرأة غالبا على إيذاء الولد نكاية بالمطلق وإيذاء له وربما رغبت في التزوج بآخر وهو كثيرا ما يستدعي إهمال أمر الطفل وعدم مراعاته فلا جرم أمرهن على أبلغ وجه برعاية جانبه والاهتمام بشأنه، والثاني أن إيجاب الرزق والكسوة فيما بعد للمرضعات يقتضي التخصيص إذ لو كانت الزوجية باقية لوجب على الزوج ذلك بسبب الزوجية لا الرضاع، وقال الواحدي: الأولى أن يخص بالوالدات حال بقاء النكاح لأن المطلقة لا تستحق الكسوة وإنما تستحق الأجرة ولا يخفى أن الحمل على العموم أولى ولا يفوت الغرض من التعقيب وإيجاب الرزق والكسوة للمرضعات لا يقتضي التخصيص لأنه باعتبار البعض على أن على ما قيل: ليس في الآية ما يدل على أنه للرضاع ومن قال: إنه له جعل ذلك أجرة لهن إلا أنه لم يعبر بها وعبر بمصرفها الغالب حثا على إعطائها نفسها لذلك أو إعطاء ما تصرف لأجله فتدبر حَوْلَيْنِ أي عامين والتركيب يدور على الانقلاب وهو منصوب على الظرفية وكامِلَيْنِ صفته، ووصف بذلك تأكيدا لبيان أن التقدير تحقيقي لا تقريبي مبني على المسامحة المعتادة لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ بيان للمتوجه عليه الحكم، والجار في مثله خبر لمحذوف أي ذلك لمن أراد إتمام الرضاعة وجوز أن يكون متعلقا- بيرضعن- فإن الأب يجب عليه الإرضاع كالنفقة للأم والأم ترضع له وكون الرضاع واجبا على الأب لا ينافي أمرهن لأنه للندب أو لأنه يجب عليهن أيضا في الصور السابقة. واستدل بالآية على أن أقصى مدة الإرضاع حولان ولا يعتد به بعدهما فلا يعطى حكمه وأنه يجوز أن ينقص عنهما، وقرىء «أن يتم» بالرفع واختلف في توجيهه فقيل: حملت أن المصدرية على ما أختها في الإهمال كما حملت أختها عليها في الإعمال في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «كما تكونوا يولى عليكم» على رأي، وقيل: ان يتموا بضمير الجمع باعتبار معنى من وسقطت الواو في اللفظ لالتقاء الساكنين فتبعها الرسم وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ أي الوالد فإن الولد يولد له وينسب إليه ولم يعبر به مع أنه أخصر وأظهر للدلالة على علة الوجوب بما فيه من معنى الانتساب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 المشيرة إليه اللام وتسمى هذه الإشارة إدماجا عند أهل البديع وإشارة النص عندنا، وقيل: عبر بذلك لأن الوالد قد لا تلزمه النفقة وإنما تلزم المولود له كما إذا كانت تحته أمة فأتت بولد فإن نفقته على مالك الأم لأنه المولود له دون الوالد، وفيه بعد لأن المولود له لا يتناول الوالد والسيد تناولا واحدا وحكم العبيد دخيل في البين رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ أي إيصال ذلك إليهن أي الوالدات أجرة لهن، واستئجار الأم جائز عند الشافعي وعندنا لا يجوز ما دامت في النكاح أو العدة بِالْمَعْرُوفِ أي بلا إسراف ولا تقتير أو حسب ما يراه الحاكم ويفي به وسعه. لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها تعليل لإيجاب المؤن بالمعروف أو تفسير للمعروف ولهذا فصل وهو نص على أنه تعالى لا يكلف العبد بما لا يطيقه ولا ينفي الجواز والإمكان الذاتي فلا ينتهض حجة للمعتزلة، ونصب وُسْعَها على أنه مفعول ثان- لتكلف- وقرىء ولا تكلف بفتح- التاء- ولا نكلف- بالنون. لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ تفصيل لما يفهم من سابقه وتقريب له إلى الفهم وهو الداعي للفصل، والمضارة مفاعلة من الضرر، والمفاعلة إما مقصودة والمفعول محذوف أي تضار والدة زوجها بسبب ولدها وهو أن تعنف به وتطلب ما ليس بعدل من الرزق والكسوة وأن تشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد وأن تقول بعد أن ألفها الصبي أطلب له ظئرا مثلا ولا يضار مولود له امرأته بسبب ولده بأن يمنعها شيئا مما وجب عليه من رزقها وكسوتها، أو يأخذ الصبي منها وهي تريد إرضاعه أو يكرهها على الإرضاع وإما غير مقصودة والمعنى لا يضر واحد منهما الآخر بسبب الولد، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب لا تضار بالرفع فتكون الجملة بمنزلة بدل الاشتمال مما قبلها، وقرأ الحسن تضار بالكسر وأصله تضارر مكسور الراء مبنيا للفاعل وجوز فتحها مبنيا للمفعول، ويبين ذلك أنه قرىء- ولا تضارر، ولا تضارر- بالجزم وفتح الراء الأولى وكسرها، وعلى تقدير البناء للمفعول يكون المراد لا نهي عن أن يلحق بها الضرار من قبل الزوج وأن يلحق الضرار بالزوج من قبلها بسبب الولد، والباء على كل تقدير سببية ولك أن تجعل فاعل بمعنى فعل والباء سيف خطيب، ويكون المعنى لا تضر والدة ولدها بأن تسيء غذاءه وتعهده وتفرط فيما ينبغي له وتدفعه إلى الأب بعد ما ألفها ولا يضر الوالد ولده بأن ينزعه من يدها أو يقصر في حقها فتقصر هي في حقه، وقرأ أبو جعفر- لا تضار- بالسكون مع التشديد على نية الوقف، وعن الأعرج- لا تضار- بالسكون والتخفيف، وهو من ضار يضير ونوى الوقف كما نواه الأول، وإلا لكان القياس حذف الألف، وعن كاتب عمر رضي الله تعالى عنه- لا تضرر- والتعبير بالولد في الموضعين، وإضافته إليها تارة وإليه أخرى للاستعطاف، والإشارة إلى ما هو كالعلة في النهي ولذا أقام المظهر مقام المضمر، ومن غريب التفسير ما رواه الإمامية عن السيدين الصادق والباقر رضي الله تعالى عنهما أن المعنى- لا تضار- والدة بترك جماعها خوف الحمل لأجل ولدها الرضيع- ولا يضار- مولود له بمنعه عن الجماع كذلك لأجل ولده، وحينئذ تتعين الباء للسببية، ويجب أن يكون الفعلان مبنيين للمفعول ولا يظهر وجه لطيف للتعبير بالولد في الموضعين، وتخرج الآية عما يقتضيه السياق، وبعيد عن الباقر، والصادق الإقدام على ما زعمه هذا الراوي الكاذب وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ عطف على قوله تعالى: «وعلى المولود له» إلخ وما بينهما تعليل أو تفسير معترض والمراد بالوارث وارث الولد فإنه يجب عليه مثل ما وجب على الأب من الرزق والكسوة بالمعروف إن لم يكن للولد مال وهو التفسير المأثور عن عمر وابن عباس وقتادة ومجاهد وعطاء وإبراهيم والشعبي وعبد الله بن عتبة وخلق كثير، ويؤيده أن أل كالعوض من المضاف إليه الضمير ورجوع الضمير لأقرب مذكور وهو الأكثر في الاستعمال، وخص الإمام أبو حنيفة هذا الوارث بمن كان ذا رحم محرم من الصبي، وبه قال حماد ويؤيده قراءة ابن مسعود، وعلى الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك، وقيل: عصباته وبه قال أبو زيد، ويروى عن عمر رضي الله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 عنه ما يؤيده، وقال الشافعي: المراد وارث الأب وهو الصبي أي مؤن الصبي من ماله إذا مات الأب، واعترض أن هذا الحمل يأباه أن لا يخص كون المئونة في ماله إذا مات الأب بل إذا كان له مال لم يجب على الأب أجرة الإرضاع بل يجب عليه النفقة على الصبي وأجرة الإرضاع من مال الصبي بحكم الولاية وفيه نظر، وقيل: المراد الباقي من الأبوين، وقد جاء الوارث بمعنى الباقي كما في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «اللهم متعني بسمعي وبصري واجعلهما الوارث مني» قيل: وهذا يوافق مذهب الشافعي إذ لا نفقة عنده فيما عدا الولاد ولا يخفى ما في ذلك من البحث لأن- من- إن كانت للبيان لزم التكرار أو الركاكة أو ارتكاب خلاف الظاهر، وإن كانت للابتداء كان المعنى الباقي غير الأبوين وهو يجوز أن يكون من العصبات أو ذوي الأرحام الذين ليست قرابتهم قرابة الولاد وكون ذلك موافقا لمذهب الشافعي إنما يتأتى إذا تعين كون الباقي ذوي قرابة الولاد وليس في اللفظ ما يفيده كما لا يخفى فَإِنْ أَرادا أي الوالدان فِصالًا أي فطاما للولد قبل الحولين وهو المروي عن مجاهد وقتادة وأهل البيت، وقيل: قبلهما أو بعدهما وهو مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعلى الأول يكون هذا تفصيلا لفائدة لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ وبيانا لحكم إرادة عدم الإتمام، والتنكير للإيذان بأنه- فصال- غير معتاد، وعلى الثاني توسعة في الزيادة والتقليل في مدة الرضاعة بعد التحديد والتنكير للتعميم، ويجوز على القولين أن يكون للإشارة إلى عظمه نظرا للصبي لما فيه من مفارقة المألوف عَنْ تَراضٍ متعلق بمحذوف ينساق إليه الذهن وإن كان كونا خاصا أي صادرا عَنْ تَراضٍ وجوز أن يتعلق بأراد مِنْهُما أي الوالدين لا من أحدهما فقط لاحتمال إقدامه على ما يضر الولد بأن تمل الأم أو يبخل الأب وَتَشاوُرٍ في شأن الولد وتفحص أحواله وهو مأخوذ من الشور وهو اجتناء العسل وكذا- المشاورة والمشورة والمشورة- والمراد من ذلك استخراج الرأي وتنكيره للتفخيم. فَلا جُناحَ عَلَيْهِما في ذلك وإنما اعتبر رضا المرأة مع أن ولي الولد هو الأب وصلاحه منوط بنظره مراعاة لصلاح الطفل لأن الوالدة لكمال شفقتها على الصبي ربما ترى ما فيه المصلحة له وَإِنْ أَرَدْتُمْ خطاب للآباء هزا لهم للامتثال على تقدير عدم الاتفاق على عدم الفطام أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ بحذف المفعول الأول استغناء عنه أي- تسترضعوا المراضع أولادكم- من أرضعت المرأة طفلا واسترضعتها إياه كقولك أنجح الله تعالى حاجتي واستنجحتها إياه، وقد صرح الإمام الكرماني بأن الاستفعال قد جاء لطلب المزيد كالاستنجاء لطلب الانجاء والاستعتاب لطلب الاعتاب وصرح به غيره أيضا فلا حاجة إلى القول بأنه من رضع بمعنى أرضع ولم يجعل من الأول أول الأمر لعدم وجوده في كلامهم فإنه بمعزل عن التحقيق، وقيل: إن استرضع إنما يتعدى إلى الثاني بحرف الجر يقال استرضعت المرأة للصبي والمراد أن تَسْتَرْضِعُوا المراضع «لأولادكم» فحذف الجار كما في قوله تعالى: وَإِذا كالُوهُمْ [المطففين: 3] أي كالوا لهم فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أي في ذلك، واستدل بالإطلاق على أن للزوج أن- يسترضع للولد ويمنع الزوجة من الإرضاع- وهو مذهب الشافعية، وعندنا أن الام أحق برضاع ولدها وأنه ليس للأب أن يسترضع غيرها إذا رضيت أن ترضعه لقوله تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ وبه يخصص هذا الإطلاق وإلى ذلك يشير كلام ابن شهاب إِذا سَلَّمْتُمْ إلى المراضع ما آتَيْتُمْ أي ضمنتم والتزمتم أو أردتم إتيانه لئلا يلزم تحصيل الحاصل، وقرأ ابن كثير أتيتم من أتى إليه إحسانا إذا فعله، وشيبان عن عاصم «أوتيتم» أي ما آتاكم الله تعالى وأقدركم عليه من الأجرة بِالْمَعْرُوفِ متعلق بسلمتم أي بالوجه المتعارف المستحسن شرعا وجوز أن يتعلق بآتيتم وأن يكون حالا من فاعله أو فاعل الفعل الذي قبله، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله وليس التسليم شرطا لرفع الإثم بل هو الأولى والأصلح للطفل فشبه ما هو من شرائط الأولية بما هو من شرائط الصحة للاعتناء به فاستعير له عبارته، وقيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 لا حاجة إلى هذا لأن نفي الإثم بتسليم الأجرة مطلقا غير مقيد بتقديمها عليه يعني لا جناح عليكم في الاسترضاع لو لم تأثموا بالتعدي في الأجرة وتظلموا الأجير، وفيه تأمل لأن الإثم إذا لم يسلم بعد إنما هو بالتعدي، والاسترضاع كان قبل خاليا عما يوجب الإثم وَاتَّقُوا اللَّهَ في شأن مراعاة الأحكام وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لا تخفى عليه أعمالكم فيجازيكم عليها، وفي إظهار الاسم الجليل تربية للمهابة، وفي الآية من التهديد ما لا يخفى وَالَّذِينَ مبتدأ. يُتَوَفَّوْنَ أي تقبض أرواحهم فإن التوفي هو القبض يقال: توفيت مالي من فلان واستوفيته منه أي قبضته وأخذته. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه فيما رواه أبو عبد الرحمن السلمي عنه والمفضل عن عاصم يُتَوَفَّوْنَ بفتح- الياء- أي يستوفون آجالهم فعلى هذا يقال للميت متوفى بمعنى مستوف لحياته، واستشكل بما حكي أن أبا الأسود كان خلف جنازة فقال له رجل من المتوفي؟ بكسر الفاء فقال: الله تعالى وكأن هذا أحد الأسباب لعلي كرم الله تعالى وجهه على أن أمره بوضع كتاب النحو، وأجاب السكاكي بأن سبب التخطئة أن السائل كان ممن لم يعرف وجه صحته فلم يصلح للخطاب به مِنْكُمْ في محل نصب على الحال من مرفوع يُتَوَفَّوْنَ ومن- تحتمل التبعيض وبيان الجنس والخطاب لكافة الناس بتلوين الخطاب وَيَذَرُونَ أي يتركون ويستعمل منه الأمر ولا يستعمل اسم الفاعل ولا اسم المفعول وجاء الماضي على شذوذ أَزْواجاً أي نساء لهم. يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ خبر عن الذين والرابط محذوف أي لهم أو بعدهم، ورجح الأول بقلة الإضمار وبما في اللام من الإيماء إلى أن العدة حق المتوفى، وقيل: خبر لمحذوف أي أزواجهم يتربصن، والجملة خبر الذين وبعض البصريين قدر مضافا في صدر الكلام أي أزواج الذين وهن نساؤهم، وفيه أنه لا يبقى- ليذرون أزواجا- فائدة جديدة يعتد بها، ويروى عن سيبويه- إن الذين- مبتدأ والخبر محذوف أي فيما يتلى عليكم حكم الذين إلخ، وحينئذ يكون جملة- يتربصن- بيانا لذلك الحكم وفيه كثرة الحذف، وذهب بعض المحققين إلى أن الَّذِينَ مبتدأ ويَتَرَبَّصْنَ خبره والرابط حاصل بمجرد عود الضمير إلى الأزواج لأن المعنى يتربص الأزواج اللاتي تركوهن، وقد أجاز الأخفش والكسائي مثل ذلك ولولا أن الجمهور على منعه لكان من الحسن بمكان أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً لعل ذلك العدد لسر تفرد الله تعالى بعلمه أو علمه من شاء من عباده، والقول- بأنه لعل المقتضي لذلك أن الجنين في غالب الأمر يتحرك لثلاثة أشهر إن كان ذكرا ولأربعة إن كان أنثى فاعتبر أقصى الأجلين وزيد عليه العشرة استظهارا إذ ربما تضعف حركته في المبادي فلا يحس بها مع ما فيه من المنافاة للحديث الصحيح «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله تعالى ملكا بأربع كلمات فيكتب عمله وأجله ورزقه وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح» لأن ظاهره أن نفخ الروح بعد هذه المدة مطلقا- لا يروي الغليل ولا يشفي العليل، وتأنيث العشر قيل: لأن التمييز المحذوف هو الليالي وإلى ذلك ذهب ربيعة ويحيى ابن سعيد، وقيل: بل هو باعتبار الليالي لأنها غرر الشهور ولذلك لا يستعملون التذكير في مثله ذهابا إلى الأيام حتى أنهم يقولون- كما حكى الفراء- صمنا عشرا من شهر رمضان مع أن الصوم إنما يكون في الأيام ويشهد له قوله تعالى: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً [ط: 103] ثم إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً [طه: 104] وذكر أبو حيان أن قاعدة تذكير العدد وتأنيثه إنما هي إذا ذكر المعدود، وأما عند حذفه فيجوز لأمران مطلقا ولعله أولى مما قيل، واستدل بالآية على وجوب العدة على المتوفى عنها سواء كان مدخولا بها أو لا، وذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إلى أنه لا عدة للثانية وهو محجوج بعموم اللفظ كما ترى، وشملت الآية المسلمة والكتابية وذات الأقراء والمستحاضة والآيسة والصغيرة والحرة والأمة- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 كما قاله الأصم- والحامل وغيرها لكن القياس اقتضى تنصيف المدة للأمة والإجماع خص الحامل عنه لقوله تعالى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق: 4] وعن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس أنها تعتد بأقصى الأجلين احتياطا وهو لا ينافي الإجماع بل فيه عمل بمقتضى الآيتين، واستدل بعضهم بها على أن العدة من الموت حيث علقت عليه فلو لم يبلغها موت الزوج إلا بعد مضي العدة حكم بانقضائها وهو الذي ذهب إليه الأكثرون والشافعي في أحد قوليه، ويؤيده أنّ الصغيرة التي لا علم لها يكفي في انقضاء عدّتها هذه المدّة، وقيل: إنها ما لم تعلم بوفاة زوجها لا تنقضي عدّتها بهذه الأيام لما روي «امرأته المفقود امرأته حتى يأتيها تبين موته أو طلاقه» فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي انقضت عدتهن فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيها القادرون عليهن، وقيل: الخطاب للأولياء، وقيل: لجميع المسلمين فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مما حرم عليهنّ في العدّة، وفي التقييد إشارة إلى علة النهي بِالْمَعْرُوفِ أي بالوجه الذي يعرفه الشرع ولا ينكره، وقيد به للإيذان بأنه لو فعلن خلاف ذلك فعليهم أن يكفوهنّ، فإن قصروا أثموا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فلا تعملوا خلاف ما أمرتم به «والظاهر» أنّ المخاطب في سابقه. وجوّز أن يكون خطابا للقادرين من الأولياء والأزواج فيكون فيه تغليبان- الخطاب على الغيبة- والذكور على الإناث- وفيه تهديد للطائفتين، ويحتمل أن يكون وعدا ووعيدا لهما وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيها الرجال المبتغون للزواج. فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ بأن يقول أحدكم- كما روى البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- إني أريد التزوج، وإني لأحب امرأة من أمرها وأمرها، وإن من شأني النساء، ولوددت أن الله تعالى كتب لي امرأة صالحة، أو يذكر للمرأة فضله وشرفه، فقد روي «أنّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم دخل على أم سلمة وقد كانت عند ابن عمها أبي سلمة فتوفي عنها فلم يزل يذكر لها منزلته من الله تعالى وهو متحامل على يده حتى أثر الحصير في يده من شدّة تحامله عليها وكان ذلك تعريضا لها» والتعريض في الأصل إمالة الكلام عن نهجه إلى عرض منه وجانب، واستعمل في أن تذكر شيئا مقصودا في الجملة بلفظه الحقيقي أو المجازي أو الكنائي ليدل بذلك الشيء على شيء آخر لم يذكر في الكلام مثل أن تذكر المجيء للتسليم بلفظه ليدل على التقاضي وطلب العطاء، وهو غير الكناية لأنها أن تذكر معنى مقصودا بلفظ آخر يوضع له لكن استعمل في الموضوع- لا على وجه القصد- بل لينتقل منه إلى الشيء المقصود، فطويل النجاد مستعمل في معناه لكن لا يكون المقصود بالإثبات بل لينتقل منه إلى طول القامة، وقرّر بعض المحققين أن بينهما عموما من وجه، فمثل قول المحتاج: جئتك لأسلم عليك كناية وتعريض، ومثل- زيد طول النجاد- كناية لا تعريض، ومثل قولك: في عرض من يؤذيك وليس المخاطب- آذيتني فستعرف- تعريض بتهديد المؤذي لا كناية «والمشهور» تسمية التعريض تلويحا لأنه يلوح منه ما تريده، وعدوا جعل السكاكي له اسما للكناية البعيدة لكثرة الوسائط مثل- كثير الرماد- للمضياف اصطلاحا جديدا «وفي الكشف» وقد يتفق عارض يجعل الكناية في حكم المصرح به كما في الاستواء على العرش وبسط اليد، ويجعل الالتفات في التعريض نحو المعرض به كما في قوله تعالى: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ [البقرة: 41] فلا ينتهض نقضا على الأصل «والخطبة» - بكسر الخاء- قيل: الذكر الذي يستدعى به إلى عقد النكاح أخذا من الخطاب، وهو توجيه الكلام للإفهام- وبضمها- الوعظ المتسق على ضرب من التأليف، وقيل: إنهما اسم الحالة غير أنّ- المضمومة- خصت بالموعظة- والمكسورة- بطلب المرأة والتماس نكاحها- وأل- في النِّساءِ للعهد، والمعهودات هي الأزواج المذكورة في قوله تعالى: وَيَذَرُونَ أَزْواجاً ولا يمكن حملها على الاستغراق لأنّ من النساء من يحرم التعريض بخطبتهن في العدّة- كالرجعيات والبائنات- في قول، والأظهر عند الشافعي رضي الله تعالى عنه جوازه في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 لِعِدَّتِهِنَّ قياسا على معتدات الوفاة لا يقال: كان ينبغي أن تقدم هذه الآية على قوله تعالى: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ لأنّ ما فيها من أحكام النساء قبل البلوغ إلى الأجل لأنا نقول: لا نسلم ذلك، بل هي من أحكام الرجال بالنسبة إليهن، فكان المناسب أن يذكر بعد الفراغ من أحكامهنّ قبل البلوغ من الأجل وبعده، واستدل الكيا بالآية على نفي الحدّ بالتعريض في القذف لأنه تعالى جعل حكمه مخالفا لحكم التصريح، وأيد بما روي «من عرض عرضنا، ومن مشي على الكلا ألقيناه في النهر» واستدل بها على جواز نكاح الحامل من الزنا إذ لا عدة لها، ولا يخفى ما فيه أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ أي أسررتم في قلوبكم من نكاحهنّ بعد مضي عدتهنّ ولم تصرحوا بذلك لهنّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ ولا تصبرون على السكوت عنهن وعن إظهار الرغبة فيهنّ، فلهذا رخص لكم ما رخص، وفيه نوع ما من التوبيخ. وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا استدراك عن محذوف دل عليه سَتَذْكُرُونَهُنَّ أي فاذكروهن وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ نكاحا بل اكتفوا بما رخص لكم، وجواز أن يكون استدراكا عن لا جُناحَ فإنه في معنى- عرّضوا بخطبتهنّ- أو أكنوا في أنفسكم وَلكِنْ إلخ، وحمله على الاستدراك على ما عنده- ليس بشيء- وإرادة النكاح من- السر- بواسطة إرادة الوطء منه إذ قد تعارف إطلاقه عليه لأنه يسر، ومنه قول امرئ القيس: ألا زعمت بسباسة اليوم أنني ... كبرت وأن لا يحسن- السر- أمثالي وإرادة العقد من ذلك لما بينهما من السببية والمسببية، ولم يجعل من أول الأمر عبارة عن العقد لأنه لا مناسبة بينهما في الظاهر، والمروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن- السر. هنا الجماع، وتوهم الرخصة حينئذ في المحظور الذي هو التصريح- بالنكاح- مما لا يكاد يخطر ببال، وعن سعيد بن جبير ومجاهد وروي عن الحبر أيضا أنه العهد على الامتناع عن التزوج بالغير- وهو على هذه الأوجه نصب على المفعولية- وجوّز انتصابه على الظرفية، أي لا تُواعِدُوهُنَّ في السر، على أن المراد بذلك المواعدة بما يستهجن. إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً وهو التعريض الذي عرف تجويزه، والمستثنى منه ما يدل عليه النهي أي لا تُواعِدُوهُنَّ نكاحا مواعدة ما إِلَّا مواعدة معروفة أو إِلَّا مواعدة بقول معروف، أو لا تقولوا في وعد الجماع أو طلب الامتناع عن الغير إِلَّا قولكم قَوْلًا مَعْرُوفاً والاستثناء في جميع ذلك متصل، وفي الكلام على الوجه الأوّل تصريح بما فهم من وَلا جُناحَ على وجه يؤكد ذلك الرفع وهو نوع من الطرد- والعكس حسن- وعلى الأخيرين تأسيس لمعنى ربما يعلم بطريق المقايسة إذ حملوا التعريض- فيهما على- التعريض- بالوعد لها أو الطلب منها، وهو غير- التعريض- السابق لأنه بنفس «الخطبة» وإذا أريد الوجه الرابع وهو الأخير من الأوجه السابقة احتمل الاستثناء الاتصال والانقطاع، والانقطاع في المعنى أظهر على معنى لا تُواعِدُوهُنَّ بالمستهجن وَلكِنْ واعدوهن بقول معروف لا يستحيا منه في المجاهرة من حسن المعاشرة والثبات إن وقع النكاح، وبعض قال بذلك إلا أنه جعل الاستثناء من سِرًّا وضعف بأنه يؤدّي إلى كون التعريض موعودا، وجعله من قبيل «إلا من ظلم» يأبى أن يكون استثناء منه بل من أصل الحكم. وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ أي لا تقصدوا قصدا جازما عقد عُقْدَةَ النِّكاحِ وفي النهي عن مقدمة الشيء نهي عن الشيء على وجه أبلغ، وصح تعلق النهي به لأنه من الأفعال الباطنة الداخلة تحت الاختيار ولذا يثاب على النية، والمراد به العزم المقارن لأن من قال: لا تعزم على السفر في صفر مثلا لم يفهم منه النهي عن عزم فيه متأخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 الفعل إلى ربيع، وذلك لأن القصد الجازم حقه المقارنة وتقدير المضاف لصحة التعلق لأنه لا يكون إلا على الفعل، والعقدة- ليست به لأنها موضع العقد وهو ما يعقد عليه ولم يقدره بعضهم، وجعل الإضافة بيانية فالعقدة حينئذ نفس النكاح وهو فعل، ويحتمل أن يكون الكلام من باب حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النساء: 23] وعلى كل تقدير هي مفعول به، وجوز أن تكون مفعولا مطلقا على أن معنى- لا تعزموا- لا تعقدوا فهو على حد- قعدت جلوسا- وأن الإضافة من إضافة المصدر إلى مفعوله، وقيل: المعنى لا تقطعوا ولا تبرموا عقدة النكاح فيكون النهي عن نفس الفعل لا عن قصده كما في الأول، وبهذا ينحط عنه، ومن الناس من حمل العزم على القطع ضد الوصل وجعل المعنى لا تقطعوا عقدة نكاح الزوج المتوفى بعقد نكاح آخر ولا حاجة حينئذ إلى تقدير مضاف أصلا، وفيه بحث أما أولا فلأن مجيء العزم بمعنى القطع ضد الوصل في اللغة محل تردد، وقول الزمخشري: حقيقة العزم القطع بدليل قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل» وروي «لم يبيت» ليس بنص في ذلك بل لا يكاد يصح حمله إذ الدليل لا يساعده إذ لا خفاء في أن المراد بعزم الصوم ليس قطعه بمعنى الفك بل الجزم وقطع التردد، وأما ثانيا فلأنه لا معنى للنهي عن قطع عقدة نكاح الزوج الأول حتى ينهى عنه إذ لا تنقطع عقدة نكاح المتوفى بعقد نكاح آخر لأن الثاني لغو، ومن هنا قيل: إن المراد لا تفكوا عقدة نكاحكم ولا تقطعوها، ونفي القطع عبارة عن نفي التحصيل فإن تحصيل الثمرة من الشجرة بالقطع، وهذا كما ترى مما لا ينبغي أن يحمل عليه كلام الله تعالى العزيز حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ أي ينتهي ما كتب وفرض من العدة وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ من العزم على ما لا يجوز أو من ذوات الصدور التي من جملتها ذلك فَاحْذَرُوهُ ولا تعزموا عليه أو- احذروه- بالإجتناب عن العزم ابتداء أو إقلاعا عنه بعد تحققه وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يغفر لمن يقلع عن عزمه أو ذنبه خشية منه حَلِيمٌ لا يعاجل بالعقوبة فلا يتوهم من تأخيرها أن ما نهي عنه لا يستتبع المؤاخذة وإعادة العامل اعتناء بشأن الحكم، ولا يخفى ما في الجملة مما يدل على سعة رحمته تبارك اسمه لا جُناحَ عَلَيْكُمْ لا تبعة من مهر وهو الظاهر، وقيل: من وزر لأنه لا بدعة في الطلاق قبل المسيس ولو كان في الحيض، وقيل: كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كثيرا ما ينهي عن الطلاق فظن أن فيه جناحا فنفى ذلك إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أي غير ماسين لهن أو مدة عدم المس وهو كناية عن الجماع، وقرأ حمزة والكسائي- «تماسوهن» - والأعمش من- «قبل أن تمسوهن» - وعبد الله من قبل- «أن تجامعوهن» - أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً أي حتى تَفْرِضُوا أو إلا أن تَفْرِضُوا على ما في شروح الكتاب، وفَرِيضَةً فعيلة بمعنى مفعول نصب على المفعول به، والتاء لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية فصار بمعنى المهر فلا تجوز، وجوز أن يكون نصبا على المصدرية، وليس بالجيد والمعنى أنه لا تبعة على المطلق بمطالبة المهر أصلا إذا كان الطلاق قبل المسيس على كل حال إلا في حال الفرض فإن عليه حينئذ نصف المسمى كما سيصرح به، وفي حال عدم تسميته عليه المتعة لا نصف مهر المثل، وأما إذا كان بعد المساس فعليه في صورة التسمية تمام المسمى، وفي صورة عدمها تمام مهر المثل، هذه أربع صور للمطلقة نفت الآية بمنطوقها الوجوب في بعضها، واقتضى مفهومها الوجوب في الجملة في البعض الآخر، قيل: وهاهنا إشكال قوي، وهو أن ما بعد أو التي بمعنى حتى التي بمعنى إلى نهاية للمعطوف عليه فقولك لألزمنك أن تقضيني حقي معناه أن اللزوم ينتهي إلى الإعطاء فعلى قياسه يكون فرض الفريضة نهاية عدم المساس لا عدم الجناح، وليس المعنى عليه، وأجيب بأن ما بعدها عطف على الفعل وهو مرتبط بما قبله فهو معنى مقيد به فكأنه قيل: أنتم ما لم تمسوهن بغير جناح وتبعة إلا إذا- فرضت الفريضة- فيكون الجناح لأن المقيد في المعنى ينتهي برفع قيده فتأمل، ومن الناس من جعل كلمة- أو- عاطفة لمدخولها على ما قبلها من الفعل المجزوم، ولم حينئذ لنفي أحد الأمرين لا بعينه، وهو نكرة في سياق النفي فيفيد العموم أي ما لم يكن منكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 مسيس، ولا فرض على حد وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الإنسان: 24] واعترضه القطب بأنه يوهم تقدير حرف النفي فيصير ما لم تمسوهن وما لم تفرضوا فيكون الشرط حينئذ أحد النفيين لا نفي أحد الأمرين فيلزم أن لا يجب المهر إذا عدم المسيس ووجد الفرض أو عدم الفرض ووجد المسيس، ولا يخفى أنه غير وارد، ولا حاجة إلى القول بأن أو بمعنى الواو كما في قوله تعالى: أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات: 147] على رأي وَمَتِّعُوهُنَّ أي ملكوهن ما يتمتعن به وذلك الشيء يسمى متعة وهو عطف على ما هو جزاء في المعنى كأنه قيل: إن طلقتم النساء فلا جناح ومتعوهن، وعطف الطلبي على الخبري على ما في الكشف لأن الجزاء جامع جعلهما كالمفردين أي الحكم هذا وذاك، أو لأن المعنى فلا جناح وواجب هذا، أو فلا تعزموا ذلك ومتعوهن، وجوز أن يكون عطفا على الجملة الخبرية عطف القصة على القصة وأن يكون اعتراضا بالواو واردا لبيان ما يجب للمطلقات المذكورات على أزواجهن بعد التطليق، والعطف على محذوف ينسحب عليه الكلام أي فطلقوهن ومتعوهن يأباه الذوق السليم إذ لا معنى لقولنا إذا طلقتم النساء فطلقوهن إلا أن يكون المقصود المعطوف، والحكمة في إعطاء المتعة جبر إيحاش الطلاق، والظاهر فيها عدم التقدير لقوله تعالى: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ أي على كل منهما مقدار ما يطيقه ويليق به كائنا ما كان، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما متعة الطلاق أعلاها الخادم ودون ذلك الورق ودون ذلك الكسوة، وعن ابن عمر أدنى ما يكون من المتعة ثلاثون درهما، وقال الإمام أبو حنيفة: هي درع وخمار وملحفة على حسب الحال إلا أن يقل مهر مثلها من ذلك فلها الأقل من نصف مهر المثل، ومن المتعة ولا ينتقص من خمسة دراهم، والموسع من يكون ذا سعة وغنى من أوسع الرجل إذا كثر ماله واتسعت حاله، وَعَلَى الْمُقْتِرِ من يكون ضيق الحال من- أقتر- إذا افتقر وقلّ ما في يده وأصل الباب الإقلال، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب مبينة لمقدار حال المتعة بالنظر إلى حال المطلق- إيسارا وإقتارا- والجمهور على أنها في موضع الحال من فاعل مَتِّعُوهُنَّ، والرابط محذوف أي منكم، ومن جعل الألف واللام عوضا عن المضاف إليه أي على موسعكم إلخ استغنى عن القول بالحذف. وقرأ أبو جعفر وأهل الكوفة إلا أبا بكر وابن ذكوان قَدَرُهُ بفتح الدال، والباقون بإسكانها وهما لغتان فيه، وقيل:- القدر- بالتسكين الطاقة وبالتحريك المقدار، وقرئ قَدَرُهُ بالنصب ووجه بأنه مفعول على المعنى لأن معنى مَتِّعُوهُنَّ إلخ ليؤد كل منكم- قدر- وسعه قال أبو البقاء: وأجود من هذا أن يكون التقدير فأوجبوا على الموسع قَدَرُهُ مَتاعاً اسم مصدر أجري مجراه أي تمتيعا بِالْمَعْرُوفِ أي متلبسا بالوجه الذي يستحسن وهو في محل الصفة- لمتاعا- وحَقًّا أي ثابتا صفة ثانية له يجوز أن يكون مصدرا مؤكدا أي حق ذلك حقا عَلَى الْمُحْسِنِينَ متعلق بالناصب للمصدر أو به أو بمحذوف وقع صفة، والمراد بالمحسنين من شأنهم الإحسان أو الذين يحسنون إلى أنفسهم بالمسارعة إلى الامتثال أو إلى المطلقات بالتمتيع وإنما سموا بذلك اعتبارا للمشارفة ترغيبا وتحريضا. وقال الإمام مالك: المحسنون المتطوعون وبذلك استدل على استحباب المتعة وجعله قرينة صارفة للأمر إلى الندب وعندنا هي واجبة للمطلقات في الآية مستحبة لسائر المطلقات، وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه في أحد قوليه هي واجبة لكل زوجة مطلقة إذا كان الفراق من قبل الزوج إلا التي سمى لها وطلقت قبل الدخول، ولما لم يساعده مفهوم الآية ولم يعتبر العموم في قوله تعالى: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ لأنه يحمل المطلق على المقيد قال بالقياس، وجعله مقدما على المفهوم لأنه من الحجج القطعية دونه، وأجيب عما قاله مالك بمنع قصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 المحسن على المتطوع بل هو أعم ومنه ومن القائم بالواجبات فلا ينافي الوجوب فلا يكون صارفا للأمر عنه مع ما انضم إليه من لفظ حقا وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً بيان لحكم التي سمي لها مهر وطلقت قبل المسيس، وجملة وَقَدْ إلخ إما حال من فاعل طَلَّقْتُمُوهُنَّ أو من مفعوله ونفس الفرض من المبني للفاعل أو للمفعول وإن لم يقارن حالة التطليق لكن اتصاف المطلق بالفارضية فيما سبق مما لا ريب في مقارنته لها، وكذا الحال في اتصاف المطلقة بكونها مفروضا فيما سبق فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ أي فلهن نصف ما قدرتم وسميتم لهن من المهر، أو فالواجب عليكم ذلك وهذا صريح في أن المنفي في الصورة السابقة إنما هو تبعة المهر، وقرىء- فنصف- بالنصب على معنى فأدّوا نصف ولعل تأخير حكم التسمية مع أنها الأصل في العقد والأكثر في الوقوع من باب التدرج في الأحكام، وذكر الأشق فالأشق، والقول بأن ذلك لما أن الآية الكريمة نزلت في أنصاري تزوج امرأة من بني حنيفة وكانت مفوضة فطلقها قبل الدخول بها فتخاصما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال له عليه الصلاة والسلام: «أمتعتها؟ قال: لم يكن عندي شيء قال: متعها بقلنسوتك» مما لا أراه شيئا على أن في هذا الخبر مقالا حتى قال الحافظ ولي الدين العراقي: لم أقف عليه إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي فلهن نصف المفروض معينا في كل حال إلا حال عفوهن أي المطلقات المذكورات فإنه يسقط ذلك حينئذ بعد وجوبه والصيغة في حذ ذاتها تحتمل التذكير والتأنيث، والفرق بالاعتبار فإن الواو في الأولى ضمير والنون علامة الرفع وفي الثانية لام الفعل والنون ضمير والفعل مبني ولذلك لم تؤثر فيه إِنْ هنا مع أنها ناصبة لا مخففة بدليل عطف المنصوب عليه من قوله تعالى: «أو يعفو» وقرأ الحسن بسكون الواو فهو على حد. أبى الله أن أسمو بأم ولا أب الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وهو الزوج المالك لعقد النكاح وحله وهو التفسير المأثور عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والبيهقي بسند حسن عن ابن عمر مرفوعا- وبه قال جمع من الصحابة رضي الله تعالى عنهم- ومعنى عفوه تركه تكرما ما يعود إليه من نصف المهر الذي ساقه كملا على ما هو المعتاد أو إعطاؤه تمام المهر المفروض قبل بعد الطلاق كما فسره بذلك ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وتسمية ذلك عفوا من باب المشاكلة وقد يفسر بالزيادة والفضل كما في قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة: 219] وقول زهير: حزما وبرا للإله وشيمة ... تعفو على خلق المسيء المفسد فمرجع الاستثناء حينئذ إلى منع الزيادة في المستثنى منه كما أنه في الصورة الأولى إلى منع النقصان فيه أي فلهن هذا المقدار بلا زيادة ولا نقصان في جميع الأحوال إلا في حال عفوهن فإنه لا يكون إذ ذاك لهن القدر المذكور بل ينتفي أو ينحط، أو في حال عفو الزوج فإنه وقتئذ تكون لهن الزيادة هذا على تقدير الأول في فَنِصْفُ غير ملاحظ فيه الوجوب، وأما على التقدير الثاني فلا بد من القطع بكون الاستثناء منقطعا لأن في صورة عفو الزوج لا يتصور الوجوب عليه كذا قيل فليتدبر، وذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في إحدى الروايات عنه وعائشة وطاوس ومجاهد وعطاء والحسن وعلقمة والزهري والشافعي رضي الله تعالى عنه في قوله القديم إلى- أن الذي بيده عقدة النكاح- هو الولي الذي لا تنكح المرأة إلا بإذنه فإن له العفو عن المهر إذا كانت المنكوحة صغيرة في رأي البعض ومطلقا في رأي الآخرين وإن أبت، والمعول عليه هو المأثور وهو الأنسب بقوله تعالى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى فإن إسقاط حق الغير ليس في شيء من التقوى وهذا خطاب للرجال والنساء جميعا، وغلب المذكر لشرفه وكذا فيما بعد- واللام- للتعدية، ومن قواعدهم التي قلّ من يضبطها أن أفعل التفضيل وكذا فعل التعجب يتعدى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 بالحرف الذي يتعدى به فعله كأزهد فيه من كذا وإن كان من متعد في الأصل فإن كان الفعل يفهم علما أو جهلا تعدى- بالباء- كأعلم بالفقه وأجهل بالنحو، وإن كان لا يفهم ذلك تعدى باللام كأنت أضرب لعمرو إلا في باب الحب والبغض فإنه يتعدى إلى المفعول- بفي- كهو أحب في بكر وأبغض في عمرو وإلى الفاعل المعنوي بإلى زيد أحب إلى خالد من بشر أو أبغض إليه منه، وقرىء وأن يعفو- بالياء- وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ عطف على الجملة الاسمية المقصود منها الأمر على أبلغ وجه أي لا تتركوا أن يتفضل بعضكم على بعض كالشيء المنسي، والظرف إما متعلق بتنسوا أو بمحذوف وقع حالا من الفضل وحمل الفضل على الزيادة إشارة إلى ما سبق من قوله تعالى: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة: 228] في الدرك الأسفل من الضعف، وقيل: إن الظرف متعلق بمحذوف وقع صفة للفضل على رأي من يرى حذف الموصول مع بعض صلته والفضل بمعنى الإحسان أي- لا تنسوا الإحسان- الكائن بينكم من قبل وليكن منكم على ذكر حتى يرغب كل في العفو مقابلة لإحسان صاحبه عليه، وليس بشيء لأنه على ما فيه يرد عليه أن لا إحسان في الغالب بين المرأة وزوجها قبل الدخول، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه- ولا تناسوا - وبعضهم- ولا تنسوا- بسكون الواو. إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فلا يكاد يضيع ما عملتم حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ أي داوموا على أدائها لأوقاتها من غير إخلال كما ينبىء عنه صيغة المفاعلة المفيدة للمبالغة ولعل الأمر بها عقيب الحض على العفو، والنهي عن ترك الفضل لأنها تهيئ النفس لفواضل الملكات لكونها الناهية عن الفحشاء والمنكر، أو ليجمع بين التعظيم لأمر الله تعالى على خلقه، وقيل: أمر بها في خلال بيان ما تعلق بالأزواج والأولاد من الأحكام الشرعية المتشابكة إيذانا بأنها حقيقة بكمال الاعتناء بشأنها والمثابرة عليها من غير اشتغال عنها بشأن أولئك فكأنه قيل: لا يشغلنكم التعلق بالنساء وأحوالهن وتوجهوا إلى مولاكم بالمحافظة على ما هو عماد الدين ومعراج المؤمنين وَالصَّلاةِ الْوُسْطى أي المتوسطة بينها أو الفضلى منها، وعلى الأول استدل بالآية على أن الصلوات خمس بلا زيادة دون الثاني، وفي تعيينها أقوال «أحدها» أنها الظهر لأنها تفعل في وسط النهار، «الثاني» أنها العصر لأنها بين صلاتي النهار وصلاتي الليل وهو المروي عن علي والحسن وابن عباس وابن مسعود وخلق كثير وعليه الشافعية «والثالث» أنها المغرب، وعليه قبيصة بن ذؤيب لأنها وسط في الطول والقصر «والرابع» أنها صلاة العشاء لأنها بين صلاتين لا يقصران «والخامس» أنها الفجر لأنها بين صلاتي الليل والنهار ولأنها صلاة لا تجمع مع غيرها فهي منفردة بين مجتمعين وهو المروي عن معاذ وجابر وعطاء وعكرمة ومجاهد واختاره الشافعي رضي الله تعالى عنه نفسه، وقيل: المراد بها صلاة الوتر، وقيل: الضحى، وقيل: عيد الفطر، وقيل: عيد الأضحى، وقيل: صلاة الليل، وقيل: صلاة الجمعة، وقيل: الجماعة، وقيل: صلاة الخوف «وقيل، وقيل..» . والأكثرون صححوا أنها صلاة العصر لما أخرج مسلم من حديث عليّ كرم الله تعالى وجهه «أنه صلّى الله عليه وسلّم قال يوم الأحزاب شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله تعالى بيوتهم نارا» وخصت بالذكر لأنها تقع في وقت اشتغال الناس لا سيما العرب، قال بعض المحققين: والذي يقتضيه الدليل من بين هذه الأقوال أنها الظهر ونسب ذلك إلى الامام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، وبيان ذلك أن سائر الأقوال ليس لها مستند يقف له العجلان سوى القول بأنها صلاة العصر، والأحاديث الواردة بأنها هي قسمان: مرفوعة وموقوفة، والموقوفة لا يحتج بها لأنها أقوال صحابة عارضها أقوال صحابة آخرين أنها غيرها، وقول الصحابي لا يحتج به إذا عارضه قول صحابي آخر قطعا وإنما جرى الخلاف في الاحتجاج به عند عدم المعارضة، وأما المرفوعة فغالبها لا يخلو إسناده عن مقال والسالم من المقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 قسمان: مختصر بلفظ الصلاة الوسطى صلاة العصر، ومطول فيه قصة وقع في ضمنها هذه الجملة، والمختصر مأخوذ من المطول اختصره بعض الرواة فوهم في اختصاره على ما ستسمع، والأحاديث المطولة كلها لا تخلو من احتمال فلا يصح الاستدلال بها فقوله من حديث مسلم «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر» فيه احتمالان، أحدهما أن يكون لفظ صلاة العصر ليس مرفوعا بل مدرج في الحديث أدرجه بعض الرواة تفسيرا منه كما وقع ذلك كثيرا في أحاديث، ويؤيده ما أخرجه مسلم من وجه آخر عن علي كرم الله تعالى وجهه بلفظ «حبسونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس» يعني العصر، الثاني على تقدير أنه ليس بمدرج يحتمل أن يكون عطف نسق على حذف العاطف لا بيانا ولا بدلا والتقدير شغلونا عن الصلاة الوسطى وصلاة العصر، ويؤيد ذلك أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يشغل يوم الأحزاب عن صلاة العصر فقط بل شغل عن الظهر والعصر معا كما ورد من طريق أخرى فكأنه أراد بالصلاة الوسطى الظهر وعطف عليها العصر، ومع هذين الاحتمالين لا يتأتى الاستدلال بالحديث والاحتمال الأول أقوى للرواية المشار إليها، ويؤيده من خارج أنه لو ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم تفسير أنها العصر لوقف الصحابة عنده ولم يختلفوا، وقد أخرج ابن جرير عن سعيد بن المسيب قال: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مختلفين في الصلاة الوسطى هكذا وشبك بين أصابعه، ثم على تقدير عدم الاحتمالين فالحديث معارض بالحديث المرفوع أنها الظهر، وإذا تعارض الحديثان، ولم يمكن الجمع طلب الترجيح، وقد ذكر الأصوليون أن من المرجحات أن يذكر السبب، والحديث الوارد في أنها الظهر مبين فيه سبب النزول ومساق لذكرها بطريق القصد بخلاف حديث «شغلونا» إلخ فوجب الرجوع إليه، وهو ما أخرجه أحمد وأبو داود بسند جيد عن زيد بن ثابت قال: «كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة، ولم تكن صلاة أشد على الصحابة منها فنزلت حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى » وأخرج أحمد من وجه آخر عن زيد أيضا «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يصلي الظهر بالهجير فلا يكون وراءه إلا الصف والصفان، والناس في قائلتهم وتجارتهم فأنزل الله تعالى حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ إلخ فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «لينتهين رجال أو لأحرقن بيوتهم» ويؤكد كونها غير العصر ما أخرجه مسلم وغيره من طرق عن أبي يونس مولى عائشة قال: «أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا فأملت عليّ- حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر- وقالت: سمعتها من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم» والعطف يقتضي المغايرة، وأخرج مالك وغيره من طرق أيضا عن عمرو بن رافع قال: «كنت أكتب مصحفا لحفصة زوج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأملت عليّ- حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر- وأخرج ابن أبي داود في المصاحف عن عبد الله بن رافع أنه كتب لأم سلمة مصحفا فأملت عليه مثل ما أملت عائشة وحفصة» وأخرج ابن أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ كذلك، وأخرج أيضا عن أبي رافع مولى حفصة قال: «كتبت مصحفا لحفصة فقالت اكتب- حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر- فلقيت أبيّ بن كعب فقال: هو كما قالت أو ليس أشغل ما نكون عند صلاة الظهر في عملنا ونواضحنا» وهذا يدل على أن الصحابة فهموا من هذه القراءة أنها الظهر هذا، وعن الربيع بن خيثم وأبي بكر الوراق أنها إحدى الصلوات الخمس ولم يعينها الله تعالى وأخفاها في جملة «الصلوات» المكتوبة ليحافظوا على جميعها كما أخفى ليلة القدر في ليالي شهر رمضان. واسمه الأعظم في جميع الأسماء وساعة الإجابة في ساعات الجمعة وقرأ عبد الله وعلي الصَّلاةِ الْوُسْطى وروي عن عائشة وَالصَّلاةِ بالنصب على المدح والاختصاص، وقرأ نافع- الوصطى- بالصاد وَقُومُوا لِلَّهِ أي في الصلاة قانِتِينَ أي مطيعين كما هو أصل معنى القنوت عند بعض وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو ذاكرين له تعالى في القيام بناء على أن القنوت هو الذكر فيه، وقيل: خاشعين، وقيل: مكملين الطاعة ومتميها على أحسن وجه من غير إخلال بشيء مما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 ينبغي فيها، ويؤيده ما أخرجه ابن جرير عن مجاهد قال: من القنوت طول الركوع وغض البصر والخشوع وأن لا يلتفت وأن لا يقلب الحصى ولا يعبث بشيء ولا يحدث نفسه بأمر من أمور الدنيا، وفسره البخاري في صحيحه بساكتين لما أخرج هو ومسلم وأبو داود وجماعة عن زيد بن أرقم قال «كنا نتكلم على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الصلاة يكلم الرجل منا صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام، ولا يخفى أنه ليس بنص في المقصود، ولعل الأوضح منه ما أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنهما قال: أتيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو يصلي فسلمت عليه فلم يرد عليّ فلما قضى الصلاة قال: «إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أنا أمرنا أن نقوم قانِتِينَ لا نتكلم في الصلاة» وقال ابن المسيب: المراد به القنوت في الصبح وهو رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والجار والمجرور متعلق بما قبله أو بما بعده فَإِنْ خِفْتُمْ من عدو أو غيره فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً حالان من الضمير في جواب الشرط أي فصلوا راجلين أو راكبين، والأول جمع راجل، وهو الماشي على رجليه- ورجل- بفتح فضم أو بفتح فكسر بمعناه، وقيل: الراجل الكائن على رجليه واقفا أو ماشيا، واستدل الشافعي رضي الله تعالى عنه بظاهر الآية على وجوب الصلاة حال المسايفة وإن لم يمكن الوقوف، وذهب إمامنا إلى أن المشي، وكذا القتال يبطلها، وإذا أدى الأمر إلى ذلك أخرها ثم صلاها آمنا، فقد أخرج الشافعي بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: حبسنا يوم الخندق حتى ذهب هوي من الليل حتى كفينا القتال، وذلك قوله تعالى: وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ [الأحزاب: 25] فدعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بلالا فأمر فأقام الظهر فصلاها كما كان يصلي، ثم أقام العصر فصلاها كذلك، ثم أقام المغرب فصلاها كذلك، ثم أقام العشاء فصلاها كذلك، وفي لفظ «فصلى كل صلاة ما كان يصليها في وقتها» وقد كانت صلاة الخوف مشروعة قبل ذلك لأنها نزلت في ذات الرقاع- وهي قبل الخندق- كما قاله ابن إسحاق وغيره من أهل السير، وأجيب بمنع أن صلاة الخوف مطلقا ولو شديدا شرعت قبل الخندق ليستدل بما وقع فيه من التأخير، ويجعل ناسخا لما في الآية- كما قيل- والمشروع في ذات الرقاع قبل صلاة الخوف الغير الشديد وهي التي نزلت فيها وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ [النساء: 102] لا صلاة شدّة الخوف الغير الشديد وهي التي نزلت فيها- وهي لم تشرع قبل الخندق بل بعده- وفيه كان الخوف شديدا فلا يضر التأخير، وقد أجاب بعض الحنفية بأنا سلمنا جميع ذلك إلا أن هذه الآية ليست نصا في جواز الصلاة مع المشي أو المسايفة إذ يحتمل أن يكون الراحل فيها بمعنى الواقف على رجليه لا سيما وقد قوبل بالراكب وقد علم من خارج وجوب عدم الإخلال في الصلاة، وهذا إخلال كلي لا يحتمل فيها لإخراجه لها عن ماهيتها بالكلية، وأنت تعلم- إذا أنصفت- أن ظاهر الآية صريحة مع الشافعية لسبق «وقوموا والدين يسر لا عسر» والمقامات مختلفة، والميسور لا يسقط بالمعسور، وما لا يدرك لا يترك فليفهم. وقرىء «رجالا» - بضم الراء مع التخفيف، وبضمها مع التشديد- وقرىء «فرجلا» أيضا فَإِذا أَمِنْتُمْ وزال خوفكم. وعن مجاهد- إذا خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة- ولعله على سبيل التمثيل فَاذْكُرُوا اللَّهَ أي فصلوا صلاة الأمن- كما قال ابن زيد- وعبر عنها بالذكر لأنه معظم أركانها، وقيل: المراد- اشكروه على الأمن- وبعضهم أوجب الإعادة، وفسر هذا- بأعيدوا الصلاة- وهو من البعد بمكان كَما عَلَّمَكُمْ أي ذكرا مثل ما عَلَّمَكُمْ من الشرائع وكيفية الصلاة حالتي- الأمن والخوف- أو شكرا يوازي ذلك، و «ما» مصدرية وجوّز أن تكون موصولة- وفيه بعد. ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ مفعول علمكم وزاد تَكُونُوا ليفيد النظم، ووقع في موضع آخر بدونها كقوله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 تعالى: عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 5] فقيل: الفائدة في ذكر المفعول فيه وإن كان الإنسان لا يعلم إلا ما لم يعلم التصريح بذكر حالة الجهل التي انتقل عنها فإنه أوضح في الامتنان، وفي إيراد الشرطية الأولى بأن المفيد لمشكوكية وقوع الخوف وندرته، وتصدير الثانية ب «إذا» المنبئة عن تحقق وقوع الأمن وكثرته مع الإيجاز في جواب الأولى، والإطناب في جواب الثانية المبنيين على تنزيل مقام وقوع المأمور به فيهما منزلة مقام وقوع الأمر تنزيلا مستدعيا لإجراء مقتضى المقام الأوّل في كل منهما مجرى مقتضى المقام الثاني من الجزالة والاعتبار كما قيل- ما فيه عبرة لذوي الأبصار وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً عود إلى بيان بقية الأحكام المفصلة فيما سبق، وفي يُتَوَفَّوْنَ مجاز المشارفة وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ قرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة عن عاصم بنصب وَصِيَّةً على المصدرية، أو على أنها مفعول به، والتقدير ليوصوا أو يوصون وَصِيَّةً أو كتب الله تعالى عليهم، أو ألزموا وَصِيَّةً ويؤيد ذلك قراءة عبد الله «كتب عليكم الوصية لأزواجكم متاعا إلى الحول» مكان وَالَّذِينَ إلخ، وقرأ الباقون- بالرفع- على أنه خبر بتقدير ليصح الحمل أي ووصية الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ أو حكمهم وصية أو وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ أهل وصية، وجوّز أن يكون نائب فاعل فعل محذوف، أو مبتدأ لخبر محذوف مقدّم عليه أي كُتِبَ عَلَيْهِمُ أو عليهم وَصِيَّةً وقرأ أبيّ متاع لأزواجهم، وروي عنه فَمَتاعُ بالفاء. مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ نصب بيوصون إن أضمرته ويكون من باب الحذف والإيصال، وإلا ف «بالوصية» لأنها بمعنى التوصية، وبمتاع على قراءة أبيّ لأنه بمعنى التمتع غَيْرَ إِخْراجٍ بدل منه بدل اشتمال إن اعتبر اللزوم بين التمتع إِلَى الْحَوْلِ وبين- غير الإخراج- وبدل الكل بحسب الذات فإنهما متحدان بالذات، ومتغايران بالوصف، وذكر بعضهم أنه على تقدير البدل لا بد من تقدير مضاف إلى غير تقديره مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ متاع غَيْرَ إِخْراجٍ وإلا لم يصح لأن مَتاعاً مفسر بالإنفاق، وغَيْرَ إِخْراجٍ عبارة عن الإسكان وليس مدلوله مدول الأول، ولا جزأه، ولا ملابسا له، فيكون بدل غلط- وهو لا يصح في الكلام المجيد- فيتعين التقدير، وحينئذ يكون إبدال الخاص من العام وهو من قبيل إبدال الكل من الجزء نحو- رأيت القمر فلكه- وهو بدل الاشتمال- كما صرح به صاحب المفتاح- وأجيب بأنا لا نسلم أن مَتاعاً مفسر بالإنفاق فقط بل- المتاع- عام شامل للإنفاق والإسكان جميعا، فيكون غَيْرَ إِخْراجٍ عبارة عن الإسكان الذي هو بعض من مَتاعاً فيكون بدل البعض من الكل، وجوّز أن يكون مصدرا مؤكدا لأن- الوصية بأن يمتعن حولا- يدل على أنهن لا يخرجن، فكأنه قيل: لا يخرجن غَيْرَ إِخْراجٍ ويكون تأكيدا لنفي- الإخراج- الدال عليه لا يَخْرُجْنَ فيؤول إلى قولك: لا يخرجن لا يخرجن، وأن يكون حالا من أزواجهم والأكثرون على أنها حال مؤكدة إذ لا معنى لتقييد- الإيصاء- بمفهوم هذه الحالة وأنها مقدّرة لأن معنى نفى- الإخراج إلى الحول- ليس مقارنا- للإيصاء- وفيه تأمل، وأن يكون صفة متاع أو منصوبا بنزع الخافض، والمعنى يجب على الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ أن يوصوا قبل أن يحتضروا لِأَزْواجِهِمْ لأن يمتعن بعدهم- حولا- بالنفقة والسكنى، وكان ذلك على الصحيح في أول الإسلام ثم نسخت المدة بقوله تعالى: أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً وهو وإن كان متقدما في التلاوة فهو متأخر في النزول، وكذا النفقة بتوريثهن الربع أو الثمن، واختلف في سقوط السكنى وعدمه، والذي عليه ساداتنا الحنفية الأول، وحجتهم أن مال الزوج صار ميراثا للوارث، وانقطع ملكه بالموت، وذهب الشافعية إلى الثاني لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله» واعترض بأنه ليس فيه دلالة على أن لها السكنى في مال الزوج، والكلام فيه فَإِنْ خَرَجْنَ بعد الحول، ومضيّ العدة، وقيل: في الأثناء باختيارهن فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ يا أولياء الميت، أو أيها الأئمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ لا ينكره الشرع كالتطيب والتزين وترك الحداد والتعرض للخطاب أو في ترك منعهنّ من الخروج، أو قطع النفقة عنهنّ، فلا نص في الآية على أنه لم يكن يجب عليهنّ ملازمة مسكن الزوج والحداد عليه، وإنما كنّ مخيرات بين الملازمة وأخذ النفقة، وبين الخروج وتركها وَاللَّهُ عَزِيزٌ غالب على أمره ينتقم ممن خالف أمره في- الإيصاء- وإنفاذ «الوصية» وغير ذلك حَكِيمٌ يراعي في أحكامه مصالح عباده فينبغي أن يمتثل أمره ونهيه. وَلِلْمُطَلَّقاتِ سواء كن مدخولا بهن أو لا مَتاعٌ أي مطلق المتعة الشاملة للواجبة والمستحبة وأوجبها سعيد بن جبير وأبو العالية والزهري للكل، وقيل: المراد بالمتاع نفقة العدة، ويجوز أن يكون اللام للعهد أي المطلقات المذكورات في الآية السابقة وهن غير الممسوسات وغير المفروض لهن، والتكرير للتأكيد والتصريح بما هو أظهر في الوجوب وهذا هو الأوفق بمذهبنا، ويؤيده ما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد قال: لما نزل قوله تعالى: مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ [البقرة: 236] قال رجل: إن أحسنت فعلت وإن لم أرد ذلك لم أفعل فأنزل الله تعالى هذه الآية فلا حاجة حينئذ إلى القول بأن تلك الآية مخصصة بمفهومها منطوق هذه الآية المعممة على مذهب من يرى ذلك ولا إلى القول بنسخ هذه كما ذهب إليه ابن المسيب وهو أحد قولي الإمامية بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ أي من الكفر والمعاصي كَذلِكَ أي مثل ذلك البيان الواضح للأحكام السابقة يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ الدالة على ما تحتاجون إليه معاشا ومعادا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي لكي تكمل عقولكم أو لكي تصرفوا عقولكم إليها أو لكي تفهموا ما أريد منها أَلَمْ تَرَ هذه الكلمة قد تذكر لمن تقدم علمه فتكون للتعجب والتقرير والتذكير لمن علم بما يأتي كالأخبار وأهل التواريخ، وقد تذكر لمن لا يكون كذلك فتكون لتعريفه وتعجيبه، وقد اشتهرت في ذلك حتى أجريت مجرى المثل في هذا الباب بأن شبه حال من «لم ير» الشيء بحال من رآه في أنه لا ينبغي أن يخفى عليه وأنه ينبغي أن يتعجب منه ثم أجري الكلام معه كما يجري مع من رأى قصدا إلى المبالغة في شهرته وعراقته في التعجب، والرؤية إما بمعنى الابصار مجازا عن النظر، وفائدة التجوز الحث على الاعتبار لأن النظر اختياري دون الإدراك الذي بعده وإما بمعنى الإدراك القلبي متضمنا معنى الوصول والانتهاء ولهذا تعدت بإلى في قوله تعالى: إِلَى الَّذِينَ كما قاله غير واحد، وقال الراغب: إن الفعل مما يتعدى بنفسه لكن لما استعير لمعنى- ألم تنظر- عدي تعديته بإلى وفائدة استفادته أن النظر قد يتعدى عن الرؤية فإذا أريد الحث على نظر ناتج لا محالة لها استعيرت له وقلما استعمل ذلك في غير التقرير فلا يقال رأيت إلى كذا انتهى. وقد يتعدى اللفظ على هذا المعنى بنفسه وقل من نبه عليه كقول امرئ القيس: ألم ترياني كلما جئت طارقا ... وجدت بها طيبا ولم تتطيب والمراد بالموصول أهل قرية يقال لها داوردان قرب واسط خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ فارين من الطاعون أو من الجهاد حيث دعوا إليه وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ وكانوا فوق عشرة آلاف على ما استظهره الأكثر بناء على أنه لا يقال- عشرة ألوف لا تسعة ألوف- وهكذا وإنما يقال آلاف، فقول عطاء الخراساني: إنهم كانوا ثلاثة آلاف، وابن عباس في إحدى الروايات عنه أنهم أربعة آلاف، ومقاتل والكلبي أنهم ثمانية آلاف، وأبي صالح أنهم تسعة آلاف، وأبي رؤوف أنهم عشرة آلاف لا يساعده هذا الاستعمال، والقائلون بالفوقية اختلفوا فقيل: كانوا بضعة وثلاثين ألفا، وحكي ذلك عن السدي وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم أربعون ألفا، وقال عطاء بن أبي رباح إنهم سبعون ألفا ولا أرى لهذا الخلاف ثمرة بعد القول بالكثرة وإلى ذلك يميل كلام الضحاك، وحكي عن ابن زيد أن المراد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 خَرَجُوا مؤتلفي القلوب ولم يخرجوا عن تباغض فجعله جمع آلف مثل قاعد وقعود وشاهد وشهود وهو خلاف الظاهر، وليس فيه كثير اعتبار إذ ورود الموت دفعة كما ينبىء عنه قوله تعالى: فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا على جمع عظيم أبلغ في الاعتبار، وأما وقوعه على قوم بينهم ألفة فهو كوقوعه على غيرهم، ومثل هذا القول بأن المراد ألفهم وحبهم لديارهم أو لحياتهم الدنيا، والمراد بقوله تعالى إما ظاهره وإما مجاز عن تعلق إرادته تعالى بموتهم دفعة، وقيل: هو تمثيل لإماتته تعالى إياهم ميتة نفس واحدة في أقرب وقت وأدناه وأسرع زمان وأوحاه بأمر مطاع لمأمور مطيع، وقيل: ناداهم ملك بذلك، وعن السدي أن المنادي ملكان وإنما أسند إليه تعالى تخويفا وتهويلا ثُمَّ أَحْياهُمْ عطف على مقدر يستدعيه المقام أي فماتوا ثُمَّ أَحْياهُمْ قيل: وإنما حذف للدلالة على الاستغناء عن ذكره لاستحالة تخلف مراده تعالى عن إرادته الكونية، وجوز أن يكون عطفا على- قال- لما أنه عبارة عن الإماتة والمشهور أنهم بقوا موتى مدة حتى تفرقت عظامهم فمر بهم حزقيل الشهير بابن العجوز خليفة كالب بن يوفنا خليفة يوشع بن نون، وقيل شمعون، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقال وهب: إنه شمويل وهو ذو الكفل، وقيل: يوشع نفسه فوقف متعجبا لكثرة ما يرى منهم «فأوحى الله تعالى إليه أن ناد أيتها العظام إن الله تعالى يأمرك أن تجتمعي فاجتمعت حتى التزق بعضها ببعض فصارت أجسادا من عظام لا لحم ولا دم ثم أوحى الله تعالى إليه أن ناد أيتها الأجسام إن الله تعالى يأمرك أن تكتسي لحما فاكتست لحما ثم أوحى الله تعالى إليه أن ناد إنّ الله تعالى يأمرك تقومي فبعثوا أحياء يقولون سبحانك اللهم ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت» والروايات في هذا الباب كثيرة. والظاهر أنهم لم يروا في هذا الموت من الأهوال والأحوال ما يصير بها معارفهم ضرورية، ويمنع من صحة التكليف بعد الإحياء كما في الآخرة، ويمكن أن يقال إنهم رأوا ما يراه الموتى إلا أنهم أنسوه بعد العودة، والقادر على الإماتة والإحياء قادر على الإنساء وسبحان من لا يعجزه شيء، وعلى كلا التقديرين لا يشكل موت هؤلاء في الدنيا مرتين مع قوله تعالى: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ [الدخان: 56] الآية لأن ذلك لم يكن عن استيفاء آجال- كما قال مجاهد- وإنما هو موت عقوبة فكأنه ليس بموت، وأيضا هو من خوارق العادات فلا يرد نقضا، ومن الناس من قال: إن هذا لم يكن موتا كالموت الذي يكون وراءه الحياة للنشور، وإنما هو نوع انقطاع تعلق الرّوح عن الجسد بحيث يلحقه التغير والفساد وهو فوق داء السكتة والإغماء الشديد حتى لا يشك الرائي الحاذق لو رآه بانقطاع التعلق أصلا ولم يعلم أنه قد بقي تعلق ما لكن لم يصل إلى حد الحياة المعلومة لدينا، ولعل هذا القول يعود بالآخرة إلى انقسام الموت أو إلى أن إطلاق الموت على ما ذكر مجاز، وكلا الأمرين في القلب منهما شيء بل أشياء. وقد ذهب إلى مثله ابن الراوندي في جميع الأموات فقال: إن الأرواح لا تفارق الأبدان أصلا وإنما يحدث في الأبدان عوارض وعلل يحدث تفرق الأجزاء منها كما يحدث للمجذومين، والروح كامنة في الأجزاء المتفرقة أينما كانت لكونها عرية عن الاحساس والإدراك وهو مذهب تحكم الضرورة برده عافانا الله تعالى والمسلمين عن اعتقاد مثله إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ جميعا، أمّا أولئك فقد أحياهم ليعتبروا فيفوزوا بالسعادة وأما الذين سمعوا فقد هداهم إلى الاعتبار، وهذا كالتعليل لما تقدم وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ استدراك مما تضمنه ما قبله والتقدير فيجب عليهم أن يشكروا فضله وَلكِنَّ إلخ، وجوز أن يراد بالشكر الاستبصار والاعتبار، ولا يخفى بعده، والإظهار في مقام الإضمار لمزيد التشنيع ومناسبة هذه لما قبلها أنه سبحانه لما ذكر جملا من الأحكام التكليفية مشتملة على ذكر شيء من أحكام الموتى عقب ذلك بهذه القصة العجيبة تنبيها على عظيم قدرته وأنه القادر على الإحياء والبعث للمجازاة واستنهاضا للعزائم على العمل للمعاد والوفاء بالحقوق والصبر على المشاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 وقيل: وجه المناسبة أنه لما ذكر سبحانه كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ذكر هذه القصة لأنها من عظيم آياته وبدائع قدرته، وقيل: جعل الله تعالى هذه القصة لما فيها من تشجيع المسلمين على الجهاد والتعرض للشهادة، والحث على التوكل والاستسلام للقضاء تمهيدا لقوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وهو عطف في المعنى على أَلَمْ تَرَ لأنه بمعنى انظروا وتفكروا، والسورة الكريمة لكونها سنام القرآن ذكر فيها كليات الأحكام الدينية من الصيام والحج والصلاة والجهاد على نمط عجيب مستطردا تارة للاهتمام بشأنها يكر عليها كلما وجد مجال، ومقصودا أخرى دلالة على أن المؤمن المخلص لا ينبغي أن يشغله حال عن حال. وإن المصالح الدنيوية ذرائع إلى الفراغة للمشاغل الأخروية، والجهاد لما كان ذروة سنام الدين، وكان من أشق التكاليف حرضهم عليه من طرق شتى مبتدئا من قوله سبحانه: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة: 154] منتهيا إلى هذا المقال الكريم مختتما بذكر الانفاق في سبيله للتتميم- قاله في الكشف- وجوز في العطف وجوه أخر، الأول أنه عطف على مقدر يعينه ما قبله كأنه قيل فاشكروا فضله بالاعتبار بما قص عليكم- وقاتلوا في سبيله- لما علمتم أن الفرار لا ينجي من الحمام وأن المقدر لا يمحى فإن كان قد حان الأجل فموت في سبيل الله تعالى خير سبيل وإلا فنصر وثواب، الثاني أنه عطف على ما يفهم من القصة أي اثبتوا ولا تهربوا كما هرب هؤلاء وقاتلوا، الثالث أنه عطف على حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ إلى فَإِنْ خِفْتُمْ الآية لأن فيه إشعارا بلقاء العدوّ وما جاء جاء كالاعتراض، الرابع أنه عطف على فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ والخطاب لمن أحياهم الله تعالى وهو كما ترى وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لما يقوله المتخلف عن الجهاد من تنفير الغير عنه وما يقوله السابق إليه من ترغيب فيه عَلِيمٌ بما يضمره هذا وذلك من الأغراض والبواعث فيجازي كلّا حسب عمله ونيته مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ مَنْ استفهامية مرفوعة المحل بالابتداء، وذَا خبره والَّذِي صفة له أو بدل منه، ولا يجوز أن يكون مَنْ ذَا بمنزلة اسم واحد مثل ما تكون ماذا كذلك كما نص عليه أبو البقاء لأن ما أشد إبهاما من- من- وإقراض الله تعالى مثل لتقديم العمل العاجل طائل للثواب الآجل، والمراد هاهنا إمّا الجهاد المشتمل على بذل النفس والمال، وإما مطلق العمل الصالح ويدخل فيه ذلك دخولا أوليا، وعلى كلا التقديرين لا يخفى انتظام الجملة بما قبلها قَرْضاً إمّا مصدر بمعنى- إقراضا- فيكون نصبا على المصدرية، وإما بمعنى المفعول فيكون نصبا على المفعولية، وقوله سبحانه: حَسَناً صفة له على الوجهين وجهة الحسن على الأوّل الخلوص مثلا وعلى الثاني الحل والطيب، وأخرج ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه- القرض الحسن- المجاهدة والإنفاق في سبيل الله تعالى، وعليه يلتئم النظم أتم التئام فَيُضاعِفَهُ أي- القرض- لَهُ وجعله- مضاعفا- مجاز لأنه سبب- المضاعفة- وجوز تقدير مضاف أي- فيضاعف- جزاءه، وصيغة المفاعلة ليست على بابها إذ لا مشاركة وإنما اختيرت للمبالغة المشيرة إليها المغالبة. وقرأ عاصم بالنصب، وفيه وجهان: أحدهما أن يكون- معطوفا- على مصدر- يقرض- في المعنى أي- من ذا الذي- يكون منه قرض فمضاعفة من الله تعالى، وثانيهما أن يكون جوابا لاستفهام معنى أيضا لأن المستفهم عنه وإن كان المقرض في اللفظ إلا أنه في المعنى الإقراض فكأنه قيل: أيقرض الله تعالى أحد فَيُضاعِفَهُ وهذا ما اختاره أبو البقاء ولم يجوز أن يكون جواب الاستفهام في اللفظ لأن المستفهم عنه فيه المقرض لا القرض ولا عطفه على المصدر الذي هو قرضا كما يعطف الفعل على المصدر بإضمار إن لأمرين- على ما قيل- الأوّل أن قرضا هنا مصدر مؤكد وهو لا يقدر بأن والفعل، والثاني أن عطفه عليه يوجب أن يكون معمولا ليقرض، ولا يصح هذا لأن المضاعفة ليست مقروضة، وإنما هي فعل من الله تعالى وفيه تأمل، وقرأ ابن كثير: يضعفه بالرفع والتشديد، ويعقوب وابن عامر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 يضعفه بالنصب أَضْعافاً جمع ضعف وهو مثل الشيء في المقدار إذا زيد عليه فليس بمصدر والمصدر الإضعاف أو المضاعفة فعلى هذا يجوز أن يكون حالا من الهاء في فَيُضاعِفَهُ وأن يكون مفعولا ثانيا على المعنى بأن تضمن المضاعفة معنى التصيير، وجوّز أن يعتبر واقعا موقع المصدر فينتصب على المصدرية حينئذ، وإنما جمع والمصادر لا تثنى ولا تجمع لأنها موضوعة للحقيقة من حيث هي لقصد الأنواع المختلفة، والمراد به أيضا إذا ذاك الحقيقة لكنها تقصد من حيث وجودها في ضمن أنواعها الداخلة تحتها كَثِيرَةً لا يعلم قدرها إلا الله تعالى، وأخرج الإمام أحمد، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عثمان النهدي قال: بلغني عن أبي هريرة أنه قال: إن الله تعالى ليكتب لعبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة فحججت ذلك العام ولم أكن أريد أن أحج إلا للقائه في هذا الحديث فلقيت أبا هريرة فقلت له: فقال: ليس هذا قلت ولم يحفظ الذي حدثك إنما قلت إن الله تعالى ليعطي العبد المؤمن بالحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة ثم قال أبو هريرة أو ليس تجدون هذا في كتاب الله تعالى مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً فالكثير عنده تعالى أكثر من ألفي ألف وألفي ألف والذي نفسي بيده لقد سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: «إن الله تعالى يضاعف الحسنة ألفي ألفي حسنة» وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ أي يقتر على بعض ويوسع على بعض أو يقتر تارة ويوسع أخرى حسبما تقتضيه الحكمة التي قد دق سرها وجل قدرها وإذا علمتم أنه هو القابض والباسط وأن ما عندكم إنما هو من بسطه وعطائه فلا تبخلوا عليه فأقرضوه وأنفقوا مما وسع عليكم بدل توسعته وإعطائه ولا تعكسوا بأن تبخلوا بدل ذلك فيعاملكم مثل معاملتكم في التعكيس بأن يقبض ويقتر عليكم من بعد ما وسع عليكم وأقدركم على الانفاق، وعن قتادة والأصم والزجاج أن المعنى يقبض الصدقات، ويبسط الجزاء عليها فالكلام كالتأكيد والتقرير لما قبله ووجه تأخير البسط عليه ظاهر، ووجه تأخيره على الأوّل الإيماء إلى أنه يعقب القبض في الوجود تسلية للفقراء، وقرىء «يبصط» . وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيجازيكم على حسب ما قدمتم «ومن باب الإشارة» إن الصلوات خمس صلاة السر بشهوده مقام الغيب، وصلاة النفس بخمودها عن دواعي الريب، وصلاة القلب بمراقبته أنوار الكشف، وصلاة الروح بمشاهدة الوصل، وصلاة البدن بحفظ الحواس وإقامة الحدود، فالمعنى حافظوا على هذه الصلوات الخمس، والصلاة الوسطى التي هي صلاة القلب التي شرطها الطهارة عن الميل إلى السوي وحقيقتها التوجه إلى المولى ولهذا تبطل بالخطرات والانحراف عن كعبة الذات وَقُومُوا لِلَّهِ بالتوجه إليه قانِتِينَ أي مطيعين له ظاهرا وباطنا بدفع الخواطر فَإِنْ خِفْتُمْ صدمات الجلال حال سفركم إلى الله تعالى فصلوا راجلين في بيداء المسير سائرين على أقدام الصدق أو راكبين على مطايا العزم ولا يصدنكم الخوف عن ذلك فَإِذا أَمِنْتُمْ بعد الرجوع عن ذلك السفر إلى الوطن الأصلي بكشف الحجاب فَاذْكُرُوا اللَّهَ أي فصلوا له بكليتكم حتى تفنوا فيه أو فإذا أمنتم بالرجوع إلى البقاء بعد الفناء فاذكروا الله تعالى لحصول الفرق بعد الجمع حينئذ، وأما قبل ذلك فلا ذكر إذ لا امتياز ولا تفضيل وقد، قيل: للمجنون أتحب ليلى؟ فقال: ومن ليلى؟! أنا ليلى، وقال بعضهم: أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن روحان حللنا بدنا فإذا أبصرتني أبصرته ... وإذا أبصرته أبصرتنا أَلَمْ تَرَ إلى الذين خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ أي أوطانهم المألوفة ومقار نفوسهم المعهودة ومقاماتهم ومراتبهم من الدنيا وما ركنوا إليها بدواعي الهوى وهم قوم ألوف كثيرة أو متحابون متألفون في الله تعالى حذر موت الجهل والانقطاع عن الحياة الحقيقية والوقوع في المهاوي الطبيعية فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا أي أمرهم بالموت الاختياري أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 أماتهم عن ذواتهم بالتجلي الذاتي حتى فنوا فيه ثم أحياهم بالحياة الحقيقية العلمية أو به بالوجود الحقاني- والبقاء بعد الفناء- إن الله لذو فضل على سائر الناس بتهيئة أسباب إرشادهم وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ لمزيد غفلتهم عما يراد بهم وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ النفس والشيطان وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ هواجس نفوس المقاتلين في سبيله عَلِيمٌ بما في قلوبهم مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ ويبذل نفسه له بذلا خالصا عن الشركة فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً بظهور نعوت جماله وجلاله فيه- والله يقبض أرواح الموحدين- بقبضته الجبروتية في نور الأزلية، ويبسط أسرار العارفين من قبضة الكبرياء وينشرها في مشاهدة ثناء الأبدية، ويقال: القبض سره والبسط كشفه، وقيل: القبض للمريدين والبسط للمرادين أو الأول للمشتاقين والثاني للعارفين، والمشهور أن القبض والبسط حالتان بعد ترقي العبد عن حالة الخوف الرجاء فالقبض للعارف كالخوف للمستأمن، والفرق بينهما أن الخوف والرجاء يتعلقان بأمر مستقبل مكروه أو محبوب، والقبض والبسط بأمر حاضر في الوقت يغلب على قلب العارف من وارد غيبي وكان الأول من آثار الجلال والثاني من آثار الجمال. أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ الملأ من القوم وجوههم وأشرافهم وهو اسم للجماعة لا واحد من لفظه، وأصل الباب الاجتماع فيما لا يحتمل المزيد وإنما سمي الأشراف بذلك لأن هيبتهم تملأ الصدور أو لأنهم يتمالؤون أي يتعاونون بما لا مزيد عليه، ومن للتبعيض والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من الملأ مِنْ بَعْدِ مُوسى أي من بعد وفاته عليه السلام، ومن للابتداء وهي متعلقة بما تعلق به ما قبله ولا يضر اتحاد الحرفين لفظا لاختلافهما معنى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ قال أبو عبيدة: هو أشمويل بن حنة بن العاقر- وعليه الأكثر. وعن السدي أنه شمعون وقال قتادة: هو يوشع بن نون لمكان من بعد من قبل وهي ظاهرة في الاتصال، ورد بأن يوشع هذا فتى موسى عليهما السلام وكان بينه وبين داود قرون كثيرة والاتصال غير لازم، وإِذْ متعلقة بمضمر يستدعيه المقام أي أَلَمْ تَرَ قصة الملأ أو حديثهم حين قالوا: ابْعَثْ لَنا مَلِكاً أي أقم لنا أميرا، وأصل البعث إرسال المبعوث من المكان الذي هو فيه لكن يختلف باختلاف متعلقه يقال: بعث البعير من مبركه إذا أثاره وبعثته في السير إذا هيجته، وبعث الله تعالى الميت إذا أحياه، وضرب البعث على الجند إذا أمروا بالارتحال. نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مجزوم بالأمر، وقرىء بالرفع على أنه حال مقدرة أي ابعثه لنا مقدرين القتال أو مستأنف استئنافا بيانيا كأنه قيل: فماذا تفعلون مع الملك؟ فأجيب نقاتل، وقرىء يقاتل- بالياء- مجزوما ومرفوعا على الجواب للأمر. والوصف- لملكا- وسبب طلبهم ذلك على ما في بعض الآثار أنه لما مات موسى خلفه يوشع ليقيم فيهم أمر الله تعالى ويحكم بالتوراة ثم خلفه كالب كذلك ثم حزقيل كذلك ثم إلياس كذلك ثم اليسع كذلك، ثم ظهر لهم عدو وهم العمالقة قوم جالوت- وكانوا سكان بحر الروم- بين مصر وفلسطين وظهروا عليهم، وغلبوا على كثير من بلادهم وأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين، وضربوا عليهم الجزية وأخذوا توراتهم ولم يكن لهم نبي إذ ذاك يدبر أمرهم وكان سبط النبوة قد هلكوا إلا امرأة حبلى فولدت غلاما فسمته أشمويل ومعناه إسماعيل، وقيل: شمعون فلما كبر سلمته التوراة وتعلمها في بيت المقدس وكفله شيخ من علمائهم فلما كبر نبأه الله تعالى وأرسله إليهم فقالوا: إن كنت صادقا- فابعث لنا ملكا- الآية، وكان قوام أمر بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك وطاعة أنبيائهم وكان الملك هو الذي يسير بالجموع والنبي هو الذي يقيم أمره ويرشده ويشير عليه قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا عسى من النواسخ وخبرها أن لا تقاتلوا وفصل بالشرط اعتناء به، والمعنى هل قاربتم أن لا تقاتلوا كما أتوقعه منكم، والمراد تقرير أن المتوقع كائن وتثبيته على ما قيل، واعترض بأن عسيتم أن لا تقاتلوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 معناه توقع عدم القتال. وهل لا يستفهم بها إلا عما دخلته فيكون الاستفهام عن التوقع لا المتوقع ولا يلزم من تقرير الاستفهام أن المتوقع ثابت بل إن التوقع كائن وأين هذا من ذاك؟! وأجيب بأن الاستفهام دخل على جملة مشتملة على توقع متوقع ولا سبيل إلى الأول لأن الرجل لا يستفهم عن توقعه فتعين أن يكون عن المتوقع، ولما كان الاستفهام على سبيل التقرير كان المراد أن المتوقع كائن، وقيل: لما كانت عسى لإنشاء التوقع ولا تخرج عنه جعل الاستفهام التقريري متوجها إلى المتوقع وهو الخبر الذي هو محل الفائدة فقرره وثبته وكون المستفهم عنه يلي الهمزة ليس أمرا كليا، وقيل: إن عسى ليست من النواسخ وقد تضمنت معنى قارب وأن وما بعدها مفعول لها وهذا معنى قول بعضهم: إنها خبر لا إنشاء، واستدل على ذلك بدخول الاستفهام عليها ووقوعها خبرا في قوله لا تكسرن إني عسيت صائما ولا يخفى ما فيه، وإنما ذكر في معرض الشرط كتابة القتال دون ما التمسوه مع أنه أظهر تعلقا بكلامهم مبالغة في بيان تخلفهم عنه فإنهم إذا لم يقاتلوا عند فرضية القتال عليهم بإيجاب الله تعالى فلأن لا يقاتلوا عند عدم فرضيته أولى ولأن ما ذكروه ربما يوهم أن سبب تخلفهم هو المبعوث لا نفس القتال، ويحتمل أنه أقام هذا مقام ذلك إيماء إلى أن ذلك البعث المترتب عليه القتال إذا وقع فإنما يقع على وجه يترتب عليه الفرضية، وقرىء- عسيتم- بكسر السين وهي لغة قليلة قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي ما الداعي لنا إلى أن لا نقاتل أي إلى ترك القتال. والجار والمجرور متعلق بما تعلق به لنا أو به نفسه وهو خبر عن «ما» ودخلت الواو لتدل على ربط هذا الكلام بما قبله ولو حذفت لجاز أن يكون منقطعا عنه- قاله أبو البقاء- وجوز أن تكون عاطفة على محذوف كأنهم قالوا عدم القتال غير متوقع منا- وما لنا أن لا نقاتل- وإنما لم يصرحوا به تحاشيا عن مشافهة نبيهم بما هو ظاهر في رد كلامه، والشائع في مثل هذا التركيب ما لنا نفعل أو لا نفعل على أن الجملة حال، ولما منع من ذلك هنا أن المصدرية إذ لا توافقه التزم فيه ما التزم، والأخفش ادعى زيادة ان وأن العمل لا ينافيها، والجملة نصب على الحال كما في الشائع، وقيل: إنه على حذف الواو ويؤول إلى ما لنا ولأن لا نقاتل كقولك: إياك وأن تتكلم وقد يقال: إياك أن تتكلم والمعنى على- الواو- وقيل: إن ما هنا نافية أي ليس لنا ترك القتال وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا في موضع الحال والعامل نقاتل والغرض الإخبار بأنهم يقاتلون لا محالة إذ قد عرض لهم ما يوجب المقاتلة إيجابا قويا وهو الإخراج عن الأوطان والاغتراب من الأهل والأولاد، وإفراد الأبناء بالذكر لمزيد تقوية أسباب القتال وهو معطوف على الديار وفيه حذف مضاف عند أبي البقاء أي ومن بين أبنائنا، وقيل: لا حذف والعطف على حد علفتها تبنا وماء باردا وفي الكلام إسناد ما للبعض للكل إذ المخرج بعضهم لا كلهم. فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ بعد سؤال النبي وبعث الملك تَوَلَّوْا أعرضوا وضيعوا أمر الله تعالى ولكن لا في ابتداء الأمر بل بعد مشاهدة كثرة العدو وشوكته كما سيجيء وإنما ذكر هاهنا مآل أمرهم إجمالا إظهار لما بين قولهم وفعلهم من التنافي والتباين إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وهم الذين جاوزوا النهر وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشرة عدة أهل بدر على ما أخرجه البخاري عن البراء رضي الله تعالى عنه، والقلة إضافية فلا يرد وصف هذا العدد أحيانا بأنه جم غفير وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ومنهم الذين ظلموا بالتولي عن القتال وترك الجهاد وتنافت أقوالهم وأفعالهم، والجملة تذييل أريد منها الوعيد على ذلك وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ شروع في التفصيل بعد الإجمال أي قال بعد أن أوحى لهم ما أوحى إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً يدير أمركم وتصدرون عن رأيه في القتال. وطالُوتَ فيه قولان أظهرهما أنه علم أعجمي عبري- كداود- ولذلك لم ينصرف، وقيل: إنه عربي من الطول وأصله طولوت- كرهبوت ورحموت- فقلبت- الواو ألفا- لتحركها وانفتاح ما قبلها ومنع صرفه حينئذ للعلمية وشبه العجمة لكونه ليس من أبنية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 العرب، وأما ادعاء العدل عن طويل، والقول بأنه عبراني وافق العربي فتكلف، ومَلِكاً حال من طالُوتَ أخرج ابن أبي حاتم عن السدي أن- نبيهم- لما دعا ربه أن يملكهم أتى بعصا يقاس بها من يملك عليهم فلم يساوها إلا طالوت. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن وهب بن منبه أنه لما دعا الله تعالى قال له: انظر القرن الذي فيه الدهن في بيتك فإذا دخل عليك رجل فنش الدهن الذي فيه فهو ملك بني إسرائيل فادهن رأسه منه وملكه عليهم فأقام ينتظر متى يدخل ذلك الرجل عليه وكان طالوت رجلا دباغا يعمل الأدم، وقيل: كان سقاء وكان من سبط بنيامين بن يعقوب عليه السلام ولم يكن فيهم نبوة ولا ملك فخرج طالوت في ابتغاء دابة له ضلت ومعه غلام فمرا ببيت النبي فقال غلام طالوت له: لو دخلت بنا على هذا النبي فسألناه عن أمر دابتنا فيرشدنا ويدعو لنا فيها بخير فقال طالوت: ما بما قلت من بأس فدخلا عليه فبينما هو عنده يذكر له شأن دابته ويسأله أن يدعو له إذ نش الدهن الذي في القرن فقام إليه النبي فأخذه ثم قال لطالوت: قرب رأسك فقربه فدهنه منه ثم قال: أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني الله تعالى أن أملكك عليهم فجلس عنده وقال الناس: ملك طالوت فأتت عظماء بني إسرائيل نبيهم مستغربين ذلك حيث لم يكن من بيت النبوة ولا الملك. قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا أي من أين يكون أو كيف يكون له ذلك؟ والاستفهام حقيقي أو للتعجب لا لتكذيب نبيهم والإنكار عليه في رأي، وموضعه نصب على الحال من الملك، ويكون- يجوز أن تكون الناقصة فيكون الخبر له،- وعلينا- حال من الملك أو الخبر علينا وله حال، ويجوز أن تكون التامة فيكون له متعلقا بها. وعَلَيْنا حال وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ الواو الأولى حالية، والثانية عاطفة جامعة للجملتين أي كيف يتملك علينا والحال أنه لا يستحق التملك لوجود من هم أحق منه ولعدم ما يتوقف عليه الملك من المال، أو لعدم ما يجبر نقصه لو كان ويلحقه بالأشراف عرفا من ذلك، وأصل- سعة- وسعة بالواو وحذفت لحذفها من يسع وكان حق الفعل كسر السين فيه ليتأتى الحذف كما في- يعد- وإنما ارتكب الفتح لحرف الحلق فهو عارض، ولذا أجري عليه حكم الكسرة ولذلك الفتح فتحت السين في المصدر ولم تكسر كما كسرت عين عدة. قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ رد عليهم بأبلغ وجه وأكمله كأنه قيل: لا تستبعدوا تملكه عليكم لفقره وانحطاط نسبه عنكم، أما أولا فلأن ملاك الأمر هو اصطفاء الله تعالى وقد اصطفاه واختاره وهو سبحانه أعلم بالمصالح لكم، وأما ثانيا فلأن العمدة وفور العلم ليتمكن به من معرفة الأمور السياسية، وجسامة البدن ليكون أعظم خطرا في القلوب وأقوى على كفاح الأعداء ومكابدة الحروب لا ما ذكرتم وقد خصه الله تعالى بحظ وافر منهم، وأما ثالثا فلأنه تعالى مالك الملك على الإطلاق وللمالك أن يمكن من شاء من التصرف في ملكه بإذنه، وأما رابعا فلأنه سبحانه واسع الفضل يوسع على الفقير فيغنيه عَلِيمٌ بما يليق بالملك من النسيب وغيره، وفي تقديم البسطة في العلم على البسطة في الجسم إيماء إلى أن الفضائل النفسانية أعلى وأشرف من الفضائل الجسمانية بل يكاد لا يكون بينهما نسبة لا سيما ضخامة الجسم ولهذا حمل بعضهم البسطة فيه هنا على الجمال أو القوة لا على المقدار كطول القامة كما قيل: إن الرجل القائم كان يمد يده حتى ينال رأسه فإن ذلك لو كان كمالا لكان أحق الخلق به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع أنه عليه الصلاة والسلام كان ربعة من الرجال، ولعل ذكر ذلك التقدير لأنه صفة تزيد الملك المطلوب لقتال العمالقة حسنا لأنهم كانوا ضخاما ذوي بسطة في الأجسام وكان ظل ملكهم جالوت ميلا على ما في بعض الأخبار لا أنها من الأمور التي هي عمدة في الملوك من حيث هم كما لا يخفى على من تحقق- أن المرء بأصغريه لا بكبر جسمه وطول برديه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 وفي اختيار واسِعٌ وعَلِيمٌ في الإخبار عنه تعالى هنا من حسن المناسبة لبسطة الجسم وكثرة العلم ما تهتش له الخواطر لا سيما على ما يتبادر من بسطة الجسم، وقدم الوصف الأول مع أن ما يناسبه ظاهرا مؤخر لأن له مناسبة معنى لأول الإخبار إذ الاصطفاء من سعة الفضل أيضا، ولأن عليم أوفق بالفواصل وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة. وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ عطف على مثله مما تقدم وكان توسيط ما تقدم بينهما للإشعار بعدم اتصال أحدهما بالآخر وتخلل كلام من جهة المخاطبين متفرع على السابق مستتبع للأحق، وروايات القصاص متظافرة على أنهم قالوا لنبيهم، ما آية ملكه واصطفائه علينا؟ فقال: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ ولما لم يكن قولهم ذلك مذكورا ليقع هذا جوابا له صراحة أعاد الفاعل ليغاير ما علم صراحة كونه جوابا، وإنما لم يجر ذلك المجرى بأن يذكر مقولهم ويكون هذا جوابا له، ويكتفي بالإضمار كما اكتفى به أولا للإيماء إلى أن ذلك السؤال للنبي بعد تصديقهم له وبيانه لهم ما استفهموا عنه مما لا ينبغي أن يكون حتى يجاب لأن له شبها تاما بالتعنت حينئذ وإن عد من باب السؤال لتقوية العلم، وهذا بناء على أن القوم كانوا مؤمنين، وفي بعض الروايات ما يقتضي أنهم لم يكونوا آمنوا به حينئذ فعن السدي أن هذا النبي كان قد كفله شيخ من علماء بني إسرائيل فلما أراد الله تعالى أن يبعثه نبيا أتاه جبريل وهو غلام نائم إلى جنب الشيخ، وكان لا يأمن عليه غيره فدعاه بلحن الشيخ فقام فزعا إلى الشيخ فقال: يا أبتاه دعوتني؟ فكره الشيخ أن يقول لا فيفزع فقال يا بني ارجع فنم فرجع فنام فدعاه الثانية فأتاه الغلام أيضا فقال: دعوتني؟ فقال: ارجع فنم فإن دعوتك الثالثة فلا تجبني، فلما كانت الثالثة ظهر له جبريل فقال له: اذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك فإن الله تعالى قد بعثك فيهم نبيا فلما أتاهم كذبوه، وقالوا: استعجلت بالنبوة ولم يأن لك وقالوا: إن كنت صادقا فابعث لنا ملكا ثم جرى ما جرى فقال: إن الله قد بعث لكم طالُوتَ مَلِكاً فقالوا: ما كنت قط أكذب منك الساعة واعترضوا وأجيبوا ثم- قالوا إن كنت صادقا فأتنا بآية- إن هذا ملك فقال: ما قص الله تعالى، وحينئذ لا يبعد أن يكون الاستفهام المصرح به في الآية وكذا الطلب المرموز إليه فيها صادرا عن إنكار وعدم إيقان، ووجه ترك ذكر سؤالهم حينئذ إن كان الإشارة إلى أن من شأن الأنبياء الإتيان بالآيات وإن لم تطلب منهم جلبا للشارد وتقيدا للوارد «وليزداد الذين آمنوا هدي» والتابوت الصندوق وهو فعلوت من التوب وهو الرجوع لما أنه لا يزال يرجع إليه ما يخرج منه وصاحبه يرجع إليه فيما يحتاجه من مودعاته فتاؤه مزيدة كتاء ملكوت، وأصله توبوت فقلبت الواو ألفا وليس بفاعول من التبت لقلة ما كان فاؤه ولامه من جنس واحد كسلس وقلق، وقرىء تابوه بالهاء، وهي لغة الأنصار والأولى لغة قريش، وهي التي أمر عثمان رضي الله تعالى عنه بكتابتها في الإمام حين ترافع لديه في ذلك زيد وأبان رضي الله تعالى عنهما ووزنه حينئذ- على ما اختاره الزمخشري- فاعول لأن شبهة الاشتقاق لا تعارض زيادة الهاء وعدم النظير، وأما جعل الهاء بدلا من التاء لاجتماعهما في الهمس- وأنهما من حروف الزيادة- ضعيف لأن الإبدال في غير تاء التأنيث ليس بثبت، وذهب الجوهري إلى أن التاء فيه للتأنيث وأصله عنده تابوة مثل ترقوة فلما سكنت الواو انقلبت هاء التأنيث تاء، والمراد به صندوق كان يتبرك به بنو إسرائيل فذهب منهم، واختلف في تحقيق ذلك فقال: أرباب الأخبار: هو صندوق أنزله الله تعالى على آدم عليه السلام فيه تماثيل الأنبياء جميعهم. وكان من عود الشمشاذ نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين، ولم يزل ينتقل من كريم إلى كريم حتى وصل إلى يعقوب ثم إلى بنيه- ثم، وثم- إلى أن فسد بنو إسرائيل وعصوا بعد موسى عليه السلام فسلط الله تعالى عليهم العمالقة فأخذوه منهم فجعلوه في موضع البول والغائط فلما أراد الله تعالى أن يملك طالوت سلط عليهم البلاء حتى أن كل من أحدث عنده ابتلي بالبواسير وهلكت من بلادهم خمس مدائن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 فعلموا أن ذلك بسبب استهانتهم به فأخرجوه وجعلوه على ثورين فأقبلا يسيران وقد وكل الله تعالى بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما حتى أتوا منزل طالوت. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه صندوق التوراة وكان قد رفعه الله تعالى إلى السماء سخطا على بني إسرائيل لما عصوا بعد وفاة موسى عليه السلام فلما طلبت الآية أتى من السماء والملائكة يحفظونه وبنو إسرائيل يشاهدون ذلك حتى أنزلوه في بيت طالوت. وعن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أنه التابوت الذي أنزل على أم موسى فوضعته فيه وألقته في البحر وكان عند بني إسرائيل يتبركون به إلى أن فسدوا فجعلوا يستخفون به فرفعه الله تعالى إلى أن كان ما كان، وروي غير ذلك مما يطول، وأقرب الأقوال التي رأيتها أنه صندوق التوراة تغلبت عليه العمالقة حتى رده الله تعالى، وأبعدها أنه صندوق نزل من السماء على آدم عليه السلام وكان يتحاكم الناس إليه بعد موسى عليه السلام إذا اختلفوا فيحكم بينهم ويتكلم معهم إلى أن فسدوا فأخذه العمالقة، ولم أر حديثا صحيحا مرفوعا يعول عليه يفتح قفل هذا الصندوق ولا فكرا كذلك فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي في إتيانه سكون لكم وطمأنينة، فالسكينة مصدر حينئذ أو فيه نفسه ما تسكنون إليه وهو التوراة، وقيل: وليس بالصحيح- كما قاله الراغب- صورة كانت فيه من زبرجد أو ياقوت لها رأس وذنب كرأس الهرة وذنبها وجناحان فتئن فيزف التابوت نحو العدو وهم يمضون معه فإذا استقر ثبتوا وسكنوا ونزل النصر. والجملة في موضع الحال. ومِنْ لابتداء الغاية أو للتبعيض أي من سكينات ربكم. وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ هي رضاض الألواح وثياب موسى وعمامة هارون وطست من ذهب كانت تغسل به قلوب الأنبياء. وكلمة الفرج لا إله إلا الله الحليم الكريم وسبحان الله رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين، وآلهما أتباعهما أو أنفسهما، أو أنبياء بني إسرائيل، لأنهم أبناء عمهما تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ حال من التابوت، والحمل إما حقيقة أو مجاز على حد. حمل زيد متاعي إلى مكة. إِنَّ فِي ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من إتيان التابوت فهو من كلام النبي لقومه أو إلى نقل القصة وحكايتها فهو ابتداء خطاب منه تعالى للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه من المؤمنين جيء به قبل تمام القصة إظهارا لكمال العناية، وإفراد حرف الخطاب مع تعدد المخاطبين على التقديرين بتأويل الفريق ونحوه لَآيَةً عظيمة كائنة لَكُمْ دالة على جعل طالوت ملكا عليكم أو على نبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم حيث أخبر بما أخبر من غير سماع من البشر ولا أخذ من كتاب إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي مصدقين بتمليكه عليكم أو بشيء من الآيات، وإِنَّ شرطية والجواب محذوف اعتمادا على ما قبله وليس المقصود حقيقة الشرطية إذا كان المخاطب من تحقق إيمانه، وقيل: هي بمعنى إذ فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ أي انفصل عن بيت المقدس مصاحبا لهم لقتال العمالقة، وأصله فصل نفسه عنه، ولما اتحد فاعله ومفعوله شاع استعماله محذوف المفعول حتى نزل منزلة القاصر- كانفصل- وقيل: فصل فصولا وجوز كونه أصلا برأسه ممتازا من المتعدي بمصدره كوقف وقوفا ووقفه وقفا وصد عنه صدودا وصده صدا وهو باب مشهور، والجنود الأعوان والأنصار جمع جند، وفيه معنى الجمع، وروي أنه قال لقومه: لا يخرج معي رجل بنى بناء لم يفرغ منه ولا تاجر مشتغل بالتجارة، ولا متزوج بامرأة لم يبن عليها ولا أبتغي إلا الشاب النشيط الفارغ فاجتمع إليه ممن اختاره ثمانون ألفا، وقيل: سبعون ألفا، وكان الوقت قيظا فسلكوا مفازة فسألوا نهرا قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ أي معاملكم معاملة من يريد أن يختبركم ليظهر للعيان الصادق منكم والكاذب بِنَهَرٍ بفتح الهاء، وقرىء بسكونها، وهي لغة فيه وكان ذلك «نهر» فلسطين كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وعن قتادة والربيع أنه «نهر» بين فلسطين والأردن فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ أي ابتدأ شربه لمزيد عطشه من نفس النهر بأن كرع لأنه الشرب منه حقيقة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 وهذا كثيرا ما يفعله العطشان المشرف على الهلاك، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي فَمَنْ شَرِبَ من مائة مطلقا فَلَيْسَ مِنِّي أي من أشياعي، أو ليس بمتصل بي ومتحد معي فَمَنْ اتصالية وهي غير التبعيضية عند بعض وكأنها بيانية عنده وعينها عند آخرين. وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي أي من لم يذقه من طعم الشيء إذا ذاقه مأكولا كان أو مشروبا حكاه الأزهري عن الليث، وذكره الجوهري أن الطعم ما يؤديه الذوق وليس هو نفس الذوق فمن فسره به على هذا فقد توسع وعلى التقديرين استعمال طعم الماء بمعنى ذاق طعمه مستفيض لا يعاب استعماله لدى العرب العرباء ويشهد له قوله: وإن شئت حرمت النساء سواكم ... وإن شئت لم- أطعم- نقاخا ولا بردا وأما استعماله بمعنى شربه واتخذه طعاما فقبيح إلا أن يقتضيه المقام كما في حديث زمزم «طعام طعم وشفاء سقم» فإنه تنبيه على أنها تغذي بخلاف سائر المياه، ولا يخدش هذا ما حكي أن خالد بن عبد الله القسري قال على منبر الكوفة وقد خرج عليه المغيرة بن سعيد: أطعموني ماء فعابت عليه العرب ذلك وهجوه به وحملوه على شدة جزعه، وقيل فيه: بل المنابر من خوف ومن وهل ... واستطعم- الماء- لما جد في الهرب وألحن الناس كل الناس قاطبة ... وكان يولع بالتشديق بالخطب لأن ذلك إنما عيب عليه لأنه صدر عن جزع فكان مظنة الوهم وعدم قصد المعنى الصحيح، وإلا فوقوع مثله في كلامهم مما لا ينبغي أن يشك فيه، وإنما علم طالوت أن من شرب عصاه ومن لم يطعم أطاعه بواسطة الوحي إلى نبي بني إسرائيل وإنما لم يخبرهم النبي نفسه بذلك ألقاه إلى طالوت فأخبر به كأنه من تلقاء نفسه ليكون له وقع في قلوبهم، وجوز أن يكون ذلك بواسطة وحي إليه بناء على أنه نبىء بعد أن ملك وهو قول لا ثبت له، والقول بأنه يحتمل أن يكون بالفراسة والإلهام بعيد إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ استثناء من الموصول الأول أو ضميره في الخبر فإن فسر الشرب بالكروع كان الاستثناء منقطعا وإلا كان متصلا، وفائدة تقديم الجملة الثانية الإيذان بأنها من تتمة الأولى وأن الغرض منها تأكيدها وتتميمها نهيا عن الكروع من كل وجه، وإفادة أن المعترف ليس بذائق حكما فيؤكد ترخيص الاغتراف ولو أخرت لم تفد هذه الفوائد ولا ختل النظم لدلالة الاستثناء إذ ذاك على أن المغترف متحد معه، ودلالة الجملة الثانية بمفهومها على أنه غير متحد معه ولا يصح في الاستثناء أن يكون من أحد الضميرين الراجعين إلى الموصولين في الصلة للفصل بين أجزاء الصلة حينئذ بالخبر وأداء المعنى في الأول إلى أن المجتزئ في الشرب بغرفة واحدة ليس متصلا به متحدا معه لأن التقدير- والذين شربوا كلهم إلا المغترف ليس مني- ولا يصح أيضا أن يكون من الموصول الثاني أو الضمير الراجع إليه في الخبر خلافا للبعض إذ لا فرق لأدائه إلى أن المجتزئ المذكور مخرج من حكم الاتحاد معه لأن التقدير- والذين لم يذوقوه فإنّهم كلهم إلا المغترف منهم متصلون بي متحدون معي- وليس بالمراد أصلا، والغرفة ما يغرف، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأهل المدينة- غرفة- بفتح الغين على أنها مصدر، وقيل: الغرفة والغرفة مصدران والضم والفتح لغتان، والباء متعلقة باغترف أو بغرفة في قول، أو بمحذوف وقع صفة لها فَشَرِبُوا مِنْهُ عطف على مقدر يقتضيه المقام أي فابتلوا به فشربوا، والمراد إما كرعوا- وهو المتبادر- وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو أفرطوا في الشرب إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ لم يكرعوا أو لم يفرطوا في الشرب بل اقتصروا على الغرفة باليد وكانت تكفيهم لشربهم وإداوتهم كما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرج عنه أيضا أن من شرب لم يزدد إلا عطشا، وفي رواية إن الذين شربوا اسودت شفاههم وغلبهم العطش وكان ذلك من قبيل المعجزة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 لذلك النبي، وقرأ أبي، والأعمش- إلا قليل- بالرفع وجعلوه من الميل إلى جانب المعنى فإن قوله تعالى: فَشَرِبُوا مِنْهُ في قوة أن يقال: فلم يطيعوه فحق أن يرد المستثنى مرفوعا كما في قول الفرزدق: وعض زمان يا ابن مروان- لم يدع- ... من المال إلا مسحت أو مجلف فإن قوله: لم يدع في حكم لم يبق. وذهب أبو حيان إلى أنه لا حاجة إلى التأويل، وجوز في الموجب وجهين النصب وهو الأفصح والإتباع لما قبله على أنه نعت أو عطف بيان وأورد له قوله: وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان ولا يخفى ما فيه فَلَمَّا جاوَزَهُ أي النهر وتخطاه هُوَ أي طالوت وَالَّذِينَ آمَنُوا عطف على الضمير المتصل المؤكد بالمنفصل، والمراد بهم القليلون والتعبير عنهم بذلك تنويها بشأنهم وإيماء إلى أن من عداهم بمعزل عن الإيمان مَعَهُ متعلق- يجاوز- لا- بآمنوا- وجوز أن يكون خبرا عن الَّذِينَ بناء على أن الواو للحال كأنه قيل: فَلَمَّا جاوَزَهُ والحال إن الذين آمنوا كائنون مَعَهُ. قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ أي لا قدرة لنا بمحاربتهم ومقاومتهم فضلا عن الغلبة عليهم، وجالوت كطالوت، والقائل بعض المؤمنين لبعض وهو إظهار ضعف لا نكوص لما شاهدوا من الأعداء ما شاهدوا من الكثرة والشدة، قيل: كانوا مائة ألف مقاتل شاكي السلاح، وقيل: ثلاثمائة ألف قالَ على سبيل التشجيع لذلك البعض وهو استئناف بياني الَّذِينَ يَظُنُّونَ أي يتيقنون أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ بالبعث والرجوع إلى ما عنده وهم الخلص من أولئك والأعلون إيمانا فلا ينافي وصفهم بذلك إيمان الباقين فإن درجات المؤمنين في ذلك متفاوتة ويحتمل إبقاء الظن على معناه، والمراد يظنون أنهم يستشهدون عما قريب ويلقون الله تعالى، وقيل: الموصول عبارة عن المؤمنين كافة، وضمير قالُوا للمنخزلين عنهم كأنهم قالوا ذلك اعتذارا عن التخلف والنهر بينهما ولا يخفى بعده لأن الظاهر أنهم قالوا هذه المقالة عند لقاء العدو ولم يكن المنخزلون إذ ذاك معهم، وأيضا أي حاجة إلى إبداء العذر عن التخلف مع ما سبق من طالوت أن الكارعين ليسوا منه في شيء فلو لم ينخزلوا لمنعوا من الذهاب مَعَهُ كَمْ مِنْ فِئَةٍ أي قطعة من الناس وجماعة- من فأوت رأسه- إذا شققته أو من فاء إليه إذا رجع وأصلها على الأول فيوة فحذفت لامها فوزنها فعة، وأصلها على الثاني فيئة فحذفت عينها فوزنها فله. وكَمْ هنا خبرية ومعناها كثير، ومَنْ زائدة، وفِئَةٍ تمييز، وجوز أبو البقاء أن يكون مِنْ فِئَةٍ في موضع رفع صفة ل- كم- كما تقول عندي مائة من درهم ودينار، وجوز بعضهم أن تكون كَمْ استفهامية ولعله ليس على حقيقته، ونقل عن الرضي أن مَنْ لا تدخل بعد كَمْ الاستفهامية، فالقول بالخبرية أولى قَلِيلَةٍ نعت- لفئة- على لفظها غَلَبَتْ أي قهرت عند المحاربة فِئَةً كَثِيرَةً بالنسبة إليها. بِإِذْنِ اللَّهِ أي بحكمه وتيسيره ولم يقولوا أطاقت حسبما وقع في كلام أصحابهم مبالغة في تشجيعهم وتسكين قلوبهم، وإذا حمل التنوين في فِئَةٍ الأولى للتحقير، وفي- فئة- الثانية للتعظيم كان أبلغ في التشجيع وأكمل في التسكين وقد ورد مثل ذلك في قوله: له حاجب عن كل أمر يشينه ... وليس له عن طالب العرف حاجب وهذا كما ترى ناشىء من كمال- إيمانهم بالله واليوم الآخر- وتصديقهم بأنه سبحانه لا يعجزه إحياء الموتى كما لا يعجزه إماتة الاحياء فضلا عن نصرة الضعفاء فلا ريب في أن ما في حيز الصلة مما له كمال ملاءمة للحكم الوارد على الموصول لا سيما وقد أخذ فيه إذن الله تعالى وحكمه، ومن لا يؤمن بلقاء الله تعالى لا يكاد يقرب من هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 القيد قيد شبر فاندفع بهذا ما قاله- مولانا مفتي الديار الرومية- من أن هذا الجواب كما ترى ناشىء من كمال ثقتهم بنصر الله تعالى وتوفيقه ولا دخل في ذلك لظن لقاء الله تعالى بالبعث ولا لتوقع ثوابه عز شأنه، ولا ريب في أن ما ذكر في حيز الصلة ينبغي أن يكون مدارا للحكم الوارد على الموصول ولا أقل من أن يكون وصفا ملائما له فإن الملاءمة على ما جاد به هذا الذهن الكليل حصلت على أتم وجه وأكمله فلا حاجة في تحصيلها إلى ما ذكره رحمه الله تعالى بعد من إخراج اللفظ عن ظاهره الشائع استعماله فيه إلى يوم ملاقاته تعالى وحمل ملاقاته سبحانه على ملاقاة نصره تعالى وتأييده وجعل التعبير بذلك عنه مبالغة فإنه بمعزل عن استعمال ذلك في جميع الكتاب المجيد وليس هو من قبيل قوله تعالى: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ المراد منه المعية بالنصر والإحسان لأنه في سائر القرآن مألوف استعماله في مثل ذلك كما لا يخفى، وهو يحتمل أن يكون من كلام الأعلين أتى به تكميلا للتشجيع وترغيبا بالصبر بالإشارة إلى ما فيه، ويحتمل أن يكون ابتداء كلام من جهته تعالى جيء به تقريرا لكلامهم ودعاء للسامعين إلى مثل حال هؤلاء المشير إليها مقالهم وَلَمَّا بَرَزُوا أي ظهر طالوت ومن معه وصاروا في براز من الأرض وهو ما انكشف منها واستوى لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ أي لمحاربتهم وقتالهم قالُوا جميعا بعد أن قويت قلوب الضعفاء متضرعين إلى الله تعالى متبرئين من الحول والقوة. رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أي صب ذلك علينا ووفقنا له، والمراد به حبس النفس للقتال وَثَبِّتْ أَقْدامَنا أي هب لنا كمال القوة والرسوخ عند المقارعة بحيث لا تتزلزل، وليس المراد بتثبيت الاقدام مجرد تقررها في حين واحد إذ ليس في ذلك كثير جدوى وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أي أعنّا عليهم بقهرهم وهزمهم، ووضع الْكافِرِينَ موضع الضمير العائد إلى- جالوت وجنوده- للإشعار بعلة النصر عليهم، وفي هذا الدعاء من اللطافة وحسن الأسلوب والنكات ما لا يخفى، أما أولا فلأن فيه التوسل بوصف الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى الكمال، وأما ثانيا فلأن فيه الإفراغ، وهو يؤذن بالكثرة، وفيه جعل الصبر بمنزلة الماء المنصب عليهم لثلج صدورهم وإغنائهم عن الماء الذي منعوا عنه، وأما ثالثا فلأن فيه التعبير- بعلى- المشعر بجعل ذلك كالظرف وجعلهم كالمظروفين، وأما رابعا فلأن فيه تنكير صبرا المفصح عن التفخيم، وأما خامسا فلأن في الطلب الثاني وهو تثبيت الأقدام ما يرشح جعل الصبر بمنزلة الماء في الطلب الأول إذ مصاب الماء مزالق فيحتاج فيها إلى التثبيت وأما سادسا فلأن فيه حسن الترتيب حيث طلبوا أولا إفراغ الصبر على قلوبهم عند اللقاء وثانيا ثبات القدم والقوة على مقاومة العدوّ حيث إن الصبر قد يحصل لمن لا مقاومة له، وثالثا العمدة والمقصود من المحاربة وهو النصرة على الخصم حيث إن الشجاعة بدون النصرة طريق عتبته عن النفع خارجة، وقيل: إنما طلبوا أولا إفراغ الصبر لأنه ملاك الأمر، وثانيا التثبيت لأنه متفرع عليه، وثالثا النظر لأنه الغاية القصوى، واعترض هذا بأنه يقتضي حينئذ التعبير بالفاء لأنها التي تفيد الترتيب، وأجيب بأن الواو أبلغ لأنه عول في الترتيب على الذهن الذي هو أعدل شاهد كما ذكر السكاكي فَهَزَمُوهُمْ أي كسروهم وغلبوهم، والفاء فيه فصيحة أي استجاب الله تعالى دعاءهم فصبروا وثبتوا ونصروا فهزموهم بِإِذْنِ اللَّهِ أي بإرادته انهزامهم ويؤول إلى نصره وتأييده، والباء إما للاستعانة والسببية وإما للمصاحبة وَقَتَلَ داوُدُ هو ابن إيشا جالُوتَ أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن وهب بن منبه قال: لما برز طالوت لجالوت قال جالوت: أبرزوا إليّ من يقاتلني فإن قتلني فلكم ملكي وإن قتلته فلي ملككم فأتي بداود إلى طالوت فقاضاه إن قتله أن ينكحه ابنته وأن يحكمه في ماله فألبسه طالوت سلاحا فكره داود أن يقاتله بسلاح وقال: إن الله تعالى إن لم ينصرني عليه لم يغن السلاح شيئا فخرج إليه بالمقلاع ومخلاة فيها أحجار ثم برز له فقال له جالوت: أنت تقاتلني؟ قال داود: نعم قال: ويلك ما خرجت إلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 كما تخرج إلى الكلب بالمقلاع والحجارة لأبددن لحمك ولأطعمنه اليوم للطير والسباع فقال له داود: بل أنت عدوّ الله تعالى شر من الكلب فأخذ داود حجرا فرماه بالمقلاع فأصابت بين عينيه حتى قعدت في دماغه فصرخ جالوت وانهزم من معه واحتز رأسه وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ في بني إسرائيل بعد ما قتل جالوت وهلك طالوت، وذلك أن طالوت- كما روي في بعض الأخبار- لما رجع وفى بالشرط فأنكح داود ابنته وأجرى خاتمه في ملكه فمال الناس إلى داود وأحبوه فلما رأى ذلك طالوت وجد في نفسه وحسده فأراد قتله فعلم به داود فسجى له زق خمر في مضجعه فدخل طالوت إلى منام داود وقد هرب داود فضرب الزق ضربة فخرقه فسال الخمر منه فقال: يرحم الله تعالى داود ما كان أكثر شربه للخمر ثم إن داود أتاه من القابلة في بيته وهو نائم فوضع سهمين عند رأسه وعند رجليه وعن يمينه وعن شماله سهمين فلما استيقظ طالوت بصر بالسهام فعرفها فقال: يرحم الله تعالى داود هو خير مني ظفرت به فقتلته وظفر بي فكف عني ثم إنه ركب يوما فوجده يمشي في البرية وطالوت على فرس فقال: اليوم أقتل داود وكان داود إذا فزع لا يدرك فركض على أثره طالوت ففزع داود فاشتد فدخل غارا وأوحى الله تعالى إلى العنكبوت فضربت عليه بيتا فلما انتهى طالوت إلى الغار ونظر إلى بناء العنكبوت قال: لو كان دخل هاهنا لخرق بيت العنكبوت فرجع، وجعل العلماء والعباد يطعنون عليه بما فعل مع داود وجعل هو يقتل العلماء وسائر من ينهاه عن قتل داود حتى قتل كثيرا من الناس ثم إنه ندم بعد ذلك وخلى الملك وكان له عشرة بنين فأخذهم وخرج يقاتل في سبيل الله تعالى كفارة لما فعل حتى قتل هو وبنوه في سبيل الله تعالى فاجتمعت بنو إسرائيل على داود وملكوه أمرهم فهذا إيتاء الملك وَالْحِكْمَةَ المراد بها النبوة ولم يجتمع الملك والنبوة لأحد قبله بل كانت النبوة في سبط، والملك في سبط، وهذا بعد موت ذلك النبي وكان موته قبل طالوت، وذكر الحكمة بعد الملك لأنها كانت بعده وقوعا أو للترقي من ذكر الأدنى إلى ذكر الأعلى وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ كصنعة اللبوس ومنطق الطير وكلام الدواب، والضمير المستتر راجع إلى الله تعالى، وعوده إلى داود كما قال- السمين ضعيف- لأن معظم ما علمه تعالى له مما لا يكاد يخطر ببال، ولا يقع في أمنية بشر ليتمكن من طلبه ومشيئته وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ وهم أهل الشرور في الدنيا أو في الدين أو في مجموعهما بِبَعْضٍ آخر منهم يردهم عما هم عليه بما قدره الله تعالى من القتل كما في القصة المحكية أو غيره، وقرأ نافع هنا وفي الحج- دفاع- على أن صيغة المغالبة للمبالغة لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وبطلت منافعها وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل وسائر ما يصلح الأرض ويعمرها، وقيل: هو كناية عن فساد أهلها وعموم الشر فيهم، وفي هذا تنبيه على فضيلة الملك وأنه لولاه ما استتب أمر العالم، ولهذا قيل: الدين والملك توأمان ففي ارتفاع أحدهما ارتفاع الآخر لأن الدين أس والملك حارس وما لا أس له فمهدوم وما لا حارس له فضائع. وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ لا يقدر قدره عَلَى الْعالَمِينَ كافة وهذا إشارة إلى قياس استثنائي مؤلف من وضع «نقيض» المقدم منتج- لنقيض- التالي خلا أنه قد وضع موضعه ما يستتبعه ويستوجبه أعني كونه تعالى ذا فضل على العالمين إيذانا بأنه تعالى يتفضل في ذلك الدفع من غير أن يجب عليه ذلك وأن فضله تعالى غير منحصر فيه بل هو فرد من أفراد فضله العظيم كأنه قيل: ولكنه تعالى يدفع فساد بعضهم ببعض فلا تفسد الأرض وينتظم به مصالح العالم وينصلح أحوال الأمم، قاله مولانا مفتي الديار الرومية قدس سره. واعترض بأنه مخالف لقول المنطقيين إن المتصلة ينتج استثناء عين مقدمها عين تاليها لاستلزام وجود الملزوم وجود اللازم واستثناء نقيض تاليها نقيض المقدم لاستلزام عدم اللازم عدم الملزوم ولا ينعكس فلا ينتج استثناء عين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 التالي عين المقدم ولا نقيض المقدم نقيض التالي لجواز أن يكون التالي أعم من المقدم فلا يلزم من وجود اللازم وجود الملزوم ولا من عدم الملزوم عدم اللازم، وأجيب بأن ذلك إنما هو باعتبار الهيئة. وقد يستلزمه بواسطة خصوصية مادة المساواة، وقد صرح ابن سينا في الفصول بأن الملازمة إذا كانت من الطرفين كما بين العلة والمعول ينتج استثناء كل من المقدم والتالي عين الآخر ونقيضه نقيض الآخر، وفي تعليل القوم أيضا إشارة إليه حيث قالوا: لجواز أن يكون اللازم أعم وكأن في عبارة المولى إشارة إلى أن الملازمة في الشرطية من الطرفين حيث قال: منتج ولم يقل ينتج اهـ. وأجاب بعضهم بأن قولهم ذلك ليس على سبيل الاطراد بل إذا كان نقيض المقدم أعم من نقيض التالي، وأما إذا كان نقيضه بعكس هذا كما في هذه الآية الكريمة وأمثالها فإنه ينتج التالي، وذلك أن الدفع المذكور لما كان ملزوما لعدم فساد الأرض كانت الملازمة ثابتة بينهما لأن وجود الملزوم يستلزم وجود اللازم كما بين في موضعه وادعاء أن الملازمة من الطرفين هنا كما زعمه المجيب الأول ليس بشيء بل اللازم هاهنا أعم من الملزوم كما لا يخفى على ذي روية، وكون عبارة المولى مشيرة إلى أن الملازمة من الطرفين في حيز المنع وما ذكره لا يدل عليه كما لا يخفى فافهم وتدبر فإن نظر المولى دقيق تِلْكَ آياتُ اللَّهِ إشارة إلى ما سلف من حديث الألوف وموتهم وإحيائهم وتمليك طالوت وإظهاره بالآية وإهلاك الجبابرة على يد صبي وما فيه البعد للإيذان بعلو شأن المشار إليه، وقيل: إشارة إلى ما مر من أول السورة إلى هنا وفيه بعد، والجملة على التقديرين مستأنفة، وقوله تعالى: نَتْلُوها عَلَيْكَ أي بواسطة جبريل عليه السلام إما حال من الآيات والعامل معنى الإشارة، وإما جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب بِالْحَقِّ في موضع النصب على أنه حال من مفعول نتلوها أي متلبسة باليقين الذي لا يرتاب فيه أحد من أهل الكتاب وأرباب التواريخ لما يجدونها موافقة لما عندهم أو لا ينبغي أن يرتاب فيه أو من فاعله أي نتلوها عليك متلبسين بالحق والصواب وهو معنا أو من الضمير المجرور أي متلبسا بالحق وهو معك. وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ حيث تخبر بتلك الآيات وقصص القرون الماضية وأخبارها على ما هي عليه من غير مطالعة كتاب ولا اجتماع بأحد يخبر بذلك. ووجه مناسبة هذه القصة لما قبلها ظاهرة وذلك لأنّه تعالى لما أمر المؤمنين بالقتال في سبيله وكان قد قدم قبل ذلك قصة الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت إما بالطاعون أو القتال على سبيل التشجيع والتثبيت للمؤمنين والاعلام أنه لا ينجي حذر من قدر. أردف ذلك بأن القتال كان مطلوبا مشروعا في الأمم السابقة فليس من الأحكام التي خصصتم بها لأن ما وقع فيه الاشتراك كانت النفس أميل لقبوله من التكليف الذي يقع به الانفراد هذا «ومن باب الاشارة» في هذه الآيات أَلَمْ تَرَ إِلَى ملأ القوى مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ البدن مِنْ بَعْدِ مُوسى القلب إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ عقولهم ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وطريق الوصول إليه بواسطة أمره وإرشاده قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا أي إني أتوقع منكم عدم المقاتلة لانغماسكم في أوحال الطبيعة قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ في طريق السير إلى الله تعالى، وقد أخرجنا من ديار استعداداتنا الأصلية التي لم نزل بالحنين إليها واغتربنا عن أبناء كمالاتنا اللاتي لم نبرح عن مزيد البكاء عليها فلما كتب عليهم القتال لعدوهم الذي تسبب لهم الاغتراب، وأحل بهم العجب العجاب تولوا وأعرضوا عن مقاتلته وانتظموا في سلك شيعته إلا قليلا منهم وهم القوى المستعدة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ الذين نقصوا حظوظهم وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ الروح الإنساني ملكا متوجا بتاج الأنوار الإلهية جالسا على كسرى التدبيرات الصمدانية قالوا لاحتجابهم بحجاب الانانية وغفلتهم عن العلوم الحقانية كيف يكون له الملك علينا مع انحطاط مرتبته بتنزله إلى عالم الكثافة من عالمه الأصلي وليس فيه مشابهة لنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ لاشتراكنا في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 عالمنا ومشابهة بعضنا بعضا وشبيه الشيء ميال إليه قريب اتباعه له ولكل شيء آفة من جنسه وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً من مال التصرف إذ لا يتصرف إلا بالواسطة قال: إن الله تعالى اختاره عليكم لبساطته وتركبكم وزاده سعة في العلم الإلهي وقوة في الذات النوراني، والله يؤتي ملكه من يشاء فيدبره بإذنه، والله واسع لسعة الإطلاق، عليم بالحكم التي تقتضي الظهور والتجلي بمظاهر الأسماء، وقال لهم نبيهم إن آية ملكه عليكم وخلافته من قبل الرب فيكم أن يأتيكم تابوت الصدر فيه سكينة أي طمأنينة من ربكم وهي الطمأنينة بالإيمان والأنس بالله تعالى، وبقية مما ترك آل موسى القلب وآل هارون السر، وهي من التوحيد وعصا لا إله إلا الله التي تلقف عظيم سحر صفات النفس وطست تجلي الأنوار الذي يغسل به قلوب الأنبياء وشيء من توراة الإلهامات تحمله ملائكة الاستعدادات لدى طالوت الروح فعند ذلك تسلم له الخلافة وينقاد له جميع أسباط صفات الإنسان، فلما فصل طالوت وجنوده من وزير العقل ومشير القلب ومدبر الافهام ونظام الحواس قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ الطبيعة الجسمانية المترع بمياه الشهوات فمن شرب منه وكرع مفرطا في الري فليس من أشياعي الذين هم من عالم الروحانيات وأهل مكاشفات الصفات ومن لم يطعمه ويذقه فإنه من سكان حظائر القدس وحضار جلوة عرائس منصة الأنس إلا من اغترف غرفة بيده وقنع من ذلك بقدر الضرورة ولاحتياج من غير حرض وانهماك فشربوا منه وكرعوا وانهمكوا فيه إلا قليلا منهم وهم المتنزهون عن الأقذار الطبيعية المتقدسون عن ملابسها المتجردون عن غواشيها وقليل ما هم فلما جاوز طالوت الروح نهر الطبيعة وعبره هو والذين آمنوا من القلب والعقل والملك وغيرهم من أتباع الروح معه، قال بعضهم وهم الضعفاء الذين لم يصلوا إلى مقام التمكين لا طاقة لنا اليوم بمحاربة جالوت النفس وأعوانه لعراقتهم بالخدع والدسائس قال الذين يتيقنون أنهم ملاقو الله بالرجوع إليه: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة وقهرتها حتى أذهبت كثرتها بإذن الله وتيسيره، والله مع الصابرين بالتجلي الخاص لهم، فلما برزوا لحرب جالوت وجنوده تبرؤوا من الحول والقوة وقالوا: ربنا أفرغ علينا صبرا واستقامة، وثبت أقدامنا في ميادين الجهاد حتى لا نرجع القهقرى من بعد وانصرنا على أعدائنا الذين ستروا الحق، وهم النفس الأمارة وصفاتها فهزموهم وكسروهم بإذن الله وقتل داود القلب جالوت النفس، ووصلوا كلهم إلى مقام التمكين فلا يخشون الرجعة والردة، وكان قد رماه بحجر التسليم في مقلاع الرضا بيد ترك الالتفات إلى السوي فأصاب ذلك دماغ هواه فخر صريعا فآتى الله تعالى داود ملك الخلافة وحكمة الإلهامات وعلمه مما يشاء من صنعة لبوس الحروب ومنطق طيور الواردات وتسبيح جبال الأبدان، ولولا دفع الله الناس بعضهم كأرباب الطلب ببعض كالمشايخ الواصلين لفسدت أرض استعداداتهم المخلوقة في أحسن تقويم عند استيلاء جالوت النفس، ولكن الله ذو فضل على العالمين، ومن فضله تحريك سلسلة طلب الطالبين وإلهام أسرارهم إرادة المشايخ الكاملين وتوفيقهم للتمسك بذيل تربيتهم والتشبث بأهداب سيرتهم فسبحانه من جواد لا يبخل ومتفضل على من سأل ومن لم يسأل. تم طبع الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث أوله تِلْكَ الرُّسُلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 بسم الله الرحمن الرحيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 تِلْكَ الرُّسُلُ استئناف مشعر بالترقي كأنه قيل: إنك لمن المرسلين وأفضلهم فضلا، والإشارة لجماعة الرسل الذين منهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وما فيه من معنى البعد- كما قيل- للإيذان بعلو طبقتهم وبعد منزلتهم، واللام للاستغراق، ويجوز أن تكون للجماعة المعلومة له صلّى الله عليه وسلم أو المذكورة قصصها في السورة، واللام للعهد، واختيار جمع التكسير لقرب جمع التصحيح فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ بأن خصصنا بعضهم بمنقبة ليست تلك المنقبة للبعض الآخر، وقيل: المراد التفضيل بالشرائع فمنهم من شرع، ومنهم من لم يشرع، وقيل: هو تفضيل بالدرجات الأخروية ولا يخفى ما في كل، ويؤيد الأول قوله تعالى: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ فإنه تفصيل للتفضيل المذكور إجمالا، والجملة لا محل لها من الإعراب، وقيل: بل من فَضَّلْنا والمراد بالموصول إما موسى عليه السلام فالتعريف عهدي، أو كل من كلمه الله تعالى عن رضا بلا واسطة، وهم آدم- كما ثبت في الأحاديث الصحيحة- وموسى وهو الشهير بذلك، ونبينا صلّى الله عليه وسلم وهو المخصوص بمقام قاب والفائز بعرائس خطاب ما تعرض بالتعريض لها الخطاب، وقرىء كَلَّمَ اللَّهُ بالنصب وقرأ اليماني- كالم الله- من المكالمة قيل: وفي إيراد الاسم الجليل بطريق الالتفات تربية للمهابة ورمز إلى ما بين التكلم والرفع وبين ما سبق من مطلق التفضيل وما لحق من إيتاء البينات والتأييد بروح القدس من التفاوت وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ أي ومنهم من رفعه الله تعالى على غيره من الرسل بمراتب متباعدة ومن وجوه متعددة، وتغيير الأسلوب لتربية ما بينهم من اختلاف الحال في درجات الشرف، والمراد ببعضهم هنا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما ينبئ عنه الأخبار بكونه صلّى الله عليه وسلم منهم فإنه قد خص بمزايا تقف دونها الأماني حسرى. وامتاز بخواص علمية وعملية لا يستطيع لسان الدهر لها حصرا. ورقي أعلام فضل رفعت له على كواهله الأعلام. وطأطأت له رؤوس شرفات الشرف فقبلت منه الأقدام فهو المبعوث رحمة للعالمين. والمنعوت بالخلق العظيم بين المرسلين، والمنزل عليه قرآن مجيد لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 42] والمؤيد دينه المؤيد بالمعجزات المستمرة الباهرة. والفائز بالمقام المحمود والشفاعة العظمى في الآخرة، والإبهام لتفخيم شأنه وللإشعار بأنه العلم الفرد الغني عن التعيين، وقيل: المراد به إبراهيم حيث خصه الله تعالى بمقام الخلة التي هي أعلى المراتب ولا يخفى ما فيه، وقيل: إدريس لقوله تعالى: وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا [مريم: 57] ، وقيل: أولو العزم من الرسل، وفيه- كما في الكشف- أنه لا يلائم ذوق المقام الذي فيه الكلام البتة، وكذا الكلام عندي في سابقه إذ الرفعة عليه حقيقة والمقام يقتضي المجاز كما لا يخفى، ودرجات- قيل: حال من بعضهم على معنى ذا درجات، وقيل: انتصابه على المصدر لأن الدرجة بمعنى الرفعة فكأنه قيل: ورفعنا بعضهم رفعات، وقيل: التقدير- على- أو- إلى- أو- في- درجات فلما حذف حرف الجر وصل الفعل بنفسه، وقيل: إنه مفعول ثان لرفع على أنه ضمن معنى بلغ، وقيل: إنه بدل اشتمال وليس بشيء وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ أي الآيات الباهرات والمعجزات الواضحات كإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى. والاخبار بما يأكلون ويدخرون، أو الإنجيل، أو كلما يدل على نبوته، وفي ذكر ذلك في مقام التفضيل إشارة إلى أنه السبب فيه، وهذا يقتضي أفضلية نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم على سائر الأنبياء إذ له من قداح ذلك المعلى والرقيب. وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ قد تقدم تفسيره، وإفراده عليه السلام بما ذكر لرد ما بين أهل الكتابين في شأنه من التفريط والإفراط، والآية ناطقة بأن الأنبياء عليهم السلام متفاوتة الأقدار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 فيجوز تفضيل بعضهم على بعض ولكن بقاطع لأن الظن في الاعتقاديات لا يغني من الحق شيئا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي جاؤوا من بعد كل رسول كما يقتضيه المعنى لا جميع الرسل كما هو ظاهر اللفظ من الأمم المختلفة أي لو شاء الله تعالى عدم اقتتالهم ما اقتتلوا بأن جعلهم متفقين على الحق وإتباع الرسل الذين جاؤوا به فمفعول المشيئة محذوف لكونه مضمون الجزاء على القاعدة المعروفة، ومن قدر- ولو شاء الله هدى الناس جميعا ما اقتتل- إلخ وعدل عما تقتضيه القاعدة ظنا بأن هذا العدم لا يحتاج إلى مشيئة وإرادة بل يكفي فيه عدم تعلق الإرادة بالوجود لم يأت شيء مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ من جهة أولئك الرسل، وقيل: الضمير عائد إلى الذين من قبلهم وهم الرسل، المجرور متعلق- باقتتل- وقيل: بدل من نظيره مما قبله الْبَيِّناتِ أي المعجزات الباهرة والآيات الظاهرة الدالة على حقية الحق الموجبة للاتباع الزاجرة عن الاعراض المؤدي إلى الاقتال وَلكِنِ اخْتَلَفُوا استدراك إن الشرطية أشير به إلى قياس استثنائي مؤلف من وضع نقيض مقدمها منتج لنقيض تاليها إلا أنه قد وضع فيه الاختلاف موضع نقيض المقدم المترتب عليه للإيذان بأن الاقتتال ناشىء من قبلهم وسوء اختيارهم لا من جهته تعالى ابتداء كأنه قيل: ولكن لم يشأ عدم اقتتالهم لأنهم اختلفوا اختلافا فاحشا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ أي بما جاءت به أولئك الرسل وثبت على إيمانه وعمل بموجبه، وهذا بيان للاختلاف فلا محل للجملة من الإعراب وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ بذلك كفرا لا ارعواء له عنه فاقتضت الحكمة عدم مشيئته لعدم اقتتالهم فاقتتلوا بموجب ما اقتضته أحوالهم وَلَوْ شاءَ اللَّهُ عدم اقتتالهم بعد هذه المرتبة أيضا من الاختلاف المستتبع للقتال عادة مَا اقْتَتَلُوا وما رفعوا رأس التطاول والتعادي لما أن الكل بيد قهره فالتكرير ليس للتأكيد كما ظن بل للتنبيه على أن اختلافهم ذلك ليس موجبا لعدم مشيئته تعالى لعدم اقتتالهم كما يفهم ذلك من وضعه في الاستدراك بقوله عز وجل: وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ حسبما يريد من غير أن يوجبه عليه موجب أو يمنعه عنه مانع كذا قرره المولى أبو السعود قدس سره وهو من الحسن بمكان إلا أنه قد اعترضه العلامة عبد الباقي البغدادي في تفسيره بنحو ما تقدم آنفا في نظير هذا القياس، وذكر أنه خلاف استعمال لَوْ عند أرباب العربية وأرباب الاستدلال ولعل الجواب عن هذا هو الجواب عن ذلك مع أدنى تغيير فلا تغفل، وما ذكره من توجيه التكرير مما تفرد به فما أعلم، والأكثرون على أنه للتأكيد إلا أن وراءه سرا خص منه- كما ذكره صاحب الانتصاف- وهو أن العرب متى بنت أول كلامها على مقصد ثم اعترضها مقصد آخر وأرادت الرجوع إلى الأول طرت ذكره إما بتلك العبارة أو بقريب منها، وذلك عندهم مهيع من الفصاحة مسلوك وطريق معبد، وفي كتاب الله تعالى مواضع من ذلك منها قوله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً [النحل: 106] وهذه الآية من هذا النمط فإنه لما صدر الكلام بأن اقتتالهم كان على وفق المشيئة ثم لما طال الكلام وأريد بيان أن مشيئة الله تعالى كما نفذت في هذا الأمر الخاص وهو اقتتال هؤلاء فهي نافذة في كل فعل واقع وهو المعبر عنه في قوله تعالى: وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ طرأ ذكر تعلق المشيئة بالاقتتال ليتلوه عموم تعلق المشيئة ليتناسب الكلام ويقرن كل بشكله وهذا سر ينشرح لبيانه الصدر ويرتاح له السر ولعله أحسن من القول بأن الأول بلا واسطة والثاني بواسطة المؤمنين أو بالعكس، هذا وفي الآية دليل على أن الحوادث تابعة لمشيئة الله تعالى خيرا كانت أو شرا إيمانا أو كفرا. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ قيل: أراد به الفرض كالزكاة دون النفل لأن الأمر حقيقة في الوجوب ولاقتران الوعيد به وهو المروي عن الحسن، وقيل: يدخل فيه الفرض والنفل وهو المروي عن ابن جريج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 واختاره البلخي، وجعل الأمر لمطلق الطلب وليس فيما بعد سوى الأخبار بأهوال يوم القيامة وشدائدها ترغيبا في الإنفاق وليس فيه وعيد على تركه ليتعين الوجوب، وقال الأصم: المراد به الإنفاق في الجهاد، والدليل عليه أنه مذكور بعد الأمر بالجهاد معنى، وبذلك ترتبط الآية بما قبلها ولا يخفى أن هذا الدليل مما لا ينبغي أن يسمع لأن الارتباط على تقدير العموم حاصل أيضا بدخول الإنفاق المذكور فيه دخولا أوليا، وكذا على تقدير إرادة الفرض لأن الإنفاق في الجهاد قد يكون فرضا إذا توقف الفرض عليه، ومَا موصولة حذف عائدها والتعرض لوصوله منه تعالى للحث على الإنفاق والترغيب فيه. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ أي لا مودة ولا صداقة وَلا شَفاعَةٌ أي لأحد إلا من بعد أن يأذن الرحمن لمن يشاء ويرضى وأراد بذلك يوم القيامة، والمراد- من وصفه بما ذكر- الإشارة إلى أنه لا قدرة لأحد فيه على تحصيل ما ينتفع به بوجه من الوجوه لأن من في ذمته حق مثلا إما أن يأخذ بالبيع ما يؤديه به. وإما أن يعينه أصدقاؤه. وإما أن يلتجئ إلى من يشفع له في حطه والكل منتف ولا مستعان إلا بالله عز وجل ومِنْ متعلقة بما تعلقت به أختها ولا ضير لاختلاف معنييهما إذ الأولى تبعيضية وهذه لابتداء الغاية وإنما رفعت هذه المنفيات الثلاثة مع أن المقام يقتضي التعميم والمناسب له الفتح لأن الكلام على تقدير- هل بيع فيه أو خلة أو شفاعة- والبيع وأخواه فيه مرفوعة فناسب رفعها في الجواب مع حصول العموم في الجملة وإن لم يكن بمثابة العموم الحاصل على تقدير الفتح، وقد فتحها ابن كثير. وأبو عمرو. ويعقوب على الأصل في ذكر ما هو نص في العموم كذا قالوا، ولعل الأوجه القول بأن الرفع لضعف العموم في غالبها وهو الخلة والشفاعة للاستثناء الواقع في بعض الآيات، والمغلوب منقاد لحكم الغالب، وأما ما قالوه فيرد عليه أن ما بعد يَوْمٌ جملة وقعت بعد نكرة فهي صفة غير مقطوعة، ولا يقدر بين الصفة والموصوف إذا لم يكن قطع سؤال قطعا، واعتبار كون النكرة موصوفة بما يفهمه التنوين من التعظيم فتقدر الجملة صفة مقطوعة تحقيقا لذلك وتقريرا له فيصح تقدير السؤال حينئذ مما لا يكاد يقبله الذهن السليم وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي المستحقون لإطلاق هذا الوصف عليهم لتناهي ظلمهم، والجملة معطوفة على محذوف- أي فالمؤمنون المتقون موفون والكافرون- إلخ والمراد بهم تاركو الإنفاق رأسا، وعبر عن التارك بالكافر تغليظا حيث شبه فعله وهو ترك الإنفاق بالكفر، أو جعل مشارفة عليه، أو عبر بالملزوم عن اللازم فهو إما استعارة تبعية أو مجاز مشارفة أو مجاز مرسل أو كناية ومثل ذلك وضع من كفر موضع من لم يحج آخر آية الحج، وبعضهم لم يتجوز بالكفر وقال: أن عبارة عن الكفر بالله تعالى حقيقة، وفائدة الإخبار حينئذ الإشارة إلى أن نفى تلك الأشياء بالنسبة إليهم وأن ذلك لا يعد منا ظلما لهم لأنهم هم الظالمون لأنفسهم المتسببون لذلك. اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ مبتدأ وخبر، والمراد هو المستحق للعبودية لا غير، قيل: وللناس- في رفع الضمير المنفصل وكذا في الاسم الكريم إذا حل محله- أقوال خمسة: قولان معتبران، وثلاثة لا معول عليها، فالقولان المعتبران: أحدهما أن يكون رفعه على البدلية، وثانيهما أن يكون على الخبرية- والأول هو الجاري على ألسنة المعربين- وهو رأي ابن مالك، وعليه إما أن يقدر للأخير أولا، والقائلون بالتقدير اختلفوا فمن مقدر أمرا عاما كالوجود والإمكان ومن مقدر أمرا خاصا كلنا وللخلق، واعترض تقدير العام بأنه يلزم منه أحد المحذورين إما عدم إثبات الوجود بالفعل لله تعالى شأنه وإما عدم تنزهه سبحانه عن إمكان الشركة، وكذا تقدير الخاص يرد عليه أنه لا دليل عليه أو فيه خفاء، ويمكن الجواب باختيار تقديره عاما، ولا محذور أما على تقدير الوجود فلأن نفي الوجود يستلزم نفي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 الإمكان إذ لو اتصف فرد آخر بوجوب الوجود لوجد ضرورة فحيث لم يوجد علم عدم اتصافه به وما لم يتصف بوجوب الوجود لم يمكن أن يتصف به لاستحالة الانقلاب، وأما على تقدير الإمكان فلأنّا نقول قد ظهر أن إمكان اتصاف شيء بوجوب الوجود يستلزم اتصافه بالفعل بالضرورة فإذا استفيد إمكانه يستفاد وجوده أيضا إذ كل ما لم يوجد يستحيل أن يكون واجب الوجود على أنه قد ذكر غير واحد أن نفي وجود إله غيره تعالى يجوز أن يكون مرتبة من التوحيد يناط بها الإسلام ويكتفى بها من أكثر العوام، وإن لم يعلموا نفي إمكانه سيما مع الغفلة وعدم الشعور به فلا يضر عدم دلالة الكلمة عليه بل قال بعضهم: إن إيجاب النفي جاء والآلهة غير الله تعالى موجودة، وقد قامت عبادتها على ساق، وعكف عليها المشركون في سائر الآفاق، فأمر الناس بنفي وجودها من حيث إنها آلهة حقة ولو كان إذ ذاك قوم يقولون بإمكان وجود إله حق غيره تعالى لكنه غير موجود أصلا لأمروا بنفي ذلك الإمكان ولا يخفى أن هذا ليس من المتانة بمكان، ويمكن الجواب باختيار تقديره خاصا بأن يكون ذلك الخاص مستحقا للعبادة والمقام قرينة واضحة عليه، واعترض بأنه لا يدل على نفي التعدد لا بالإمكان ولا بالفعل لجواز وجود إله غيره سبحانه لا يستحق العبادة وبأنه يمكن أن يقال: إن المراد إما نفي المستحق غيره تعالى بالفعل أو الإمكان، والأول لا ينفي الإمكان، والثاني لا يدل على استحقاقه تعالى بالفعل، وأجيب بأن من المعلوم بأن وجوب الوجود مبدأ جميع الكمالات فلا ريب أنه يوجب استحقاق التعظيم والتبجيل ولا معنى لاستحقاق العبادة سواه فإذا لم يستحق غيره تعالى للعبادة لم يوجد غيره تعالى وإلا لاستحق العبادة قطعا وإذا لم يوجد لم يكن ممكنا أيضا على ما أشير إليه فثبت أن نفي الاستحقاق يستلزم نفي التعدد مطلقا، والقائلون بعدم تقدير الخبر ذهب الأكثر منهم إلى أن لا هذه لا خبر لها، واعترض بأنه يلزم حينئذ انتفاء الحكم والعقد وهو باطل قطعا ضرورة اقتضاء التوحيد ذلك، وأجيب بأن القول بعدم الاحتياج لا يخرج المركب من لا واسمها عن العقد لأن معناه انتفى هذا الجنس من غير هذا الفرد وإلا عند هؤلاء بمعنى غير تابعة لمحل اسم لا وظهر إعرابها فيما بعدها ولا مجال لجعلها للاستثناء إذ لو كانت له لما أفاد الكلام التوحيد لأن حاصله حينئذ أن هذا الجنس على تقدير عدم دخول هذا الفرد فيه منتف فيفهم منه عدم انتفاء أفراد غير خارج عنها ذلك وهو بمعزل عن التوحيد كما لا يخفى، واستشكل الإبدال من جهتين، الأول أنه بدل بعض ولا ضمير للمبدل منه وهو شرط فيه، الثاني أن بينهما مخالفة فإن البدل موجب والمبدل منه منفي، وأجيب عن الأول بأن إِلَّا تغني عن الضمير لإفهامها البعضية، وعن الثاني بأنه بدل عن الأول في عمل العامل، وتخالفهما في الإيجاب والنفي لا يمنع البدلية على أنه لو قيل إن البدل في الاستثناء على حدة لم يبعد. والثاني من القولين الأولين وهو القول بخبرية ما بعد إِلَّا ذهب إليه جماعة وضعف بأنه يلزم عمل لا في المعارف وهي لا تعمل فيها وبأن اسمها عام وما بعد إلا خاص فكيف يكون خبرا، وقد قالوا: بامتناع الحيوان إنسان، وأجيب عن الأول بأن لا لا عمل لها في الخبر على رأي سيبويه وأنه حين دخولها مرفوع بما كان مرفوعا به قبل فلم يلزم عملها في المعرفة وهو كما ترى، وعن الثاني بأنا لا نسلم أن في التركيب قد أخبر بالخاص عن العام إذ العموم منفي والكلام مسوق العموم، والتخصيص بواحد من أفراد ما دل عليه العام وفيه ما فيه. وأما الأقوال الثلاثة التي لا يعول عليها فأولها أن إلا ليست أداة استثناء وإنما هي بمعنى غير وهي مع اسمه تعالى شأنه صفة لا اسم لا باعتبار المحل، والتقدير لا إله غير الله تعالى في الوجود، وثانيها- وقد نسب للزمخشري- أن لا إله في موضع الخبر، وإِلَّا وما بعدها في موضع المبتدأ، والأصل هو، أو الله إله فلما أريد قصر الصفة على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 الموصوف قدم الخبر وقرن المبدأ- بإلا- وجب تقديم الخبر عليه كما قرر في موضعه، وثالثها أن ما بعد إِلَّا والمقصور هو الواقع في سياق النفي، والمبتدأ إذا اقترن- بإلا- وجب تقديم الخبر عليه كما قرر في موضعه، وثالثها أن ما بعد إِلَّا مرفوع- بإله- كما هو حال المبتدأ إذا كان وصفا لأن إلها بمعنى مألوه فيكون قائما مقام الفاعل وسادّا مسد الخبر كما في ما مضروب العمران، ويرد على الأول أن فيه خللا من جهة المعنى لأن المقصود من الكلمة أمران نفي الإلهية عن غيره تعالى وإثباتها له سبحانه وهذا إنما يتم إذا كان إِلَّا فيها للاستثناء إذ يستفاد النفي والإثبات حينئذ بالمنطوق، وأما إذا كانت بمعنى غير فلا يفيد الكلام بمنطوقه إلا نفي الإلهية عن غيره تعالى، وأما إثباتها له عز اسمه فلا يستفاد من التركيب واستفادته من المفهوم لا تكاد تقبل لأنه إن كان مفهوم لقب فلا عبرة به ولو عند القائلين بالمفهوم إذ لم يقل به إلا الدقاق وبعض الحنابلة، وإن كان مفهوم صفة فمن البين أنه غير مجمع عليه، ويرد على الثاني أنه مع ما فيه من التمحل يلزم منه أن يكون الخبر مبنيا مع لا وهي لا يبنى معها إلا المبتدأ، وأيضا لو كان الأمر كما ذكر لم يكن لنصب الاسم الواقع بعد إِلَّا في مثل هذا التركيب وجه، وقد جوزه فيه جماعة، وعلى الثالث أنا لا نسلم أن إلها وصف وإلا لوجب إعرابه وتنوينه ولا قائل به. هذا ولي إن شاء الله تعالى عودة بعد عودة إلى ما في هذه الكلمة الطيبة من الكلام، وفي قوله تعالى: الْحَيُّ سبعة أوجه من وجوه الإعراب: الأول أن يكون خبرا ثانيا للفظ الجلالة، الثاني أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف أي هو الحي، الثالث أن يكون بدلا من قوله سبحانه: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، الرابع أن يكون بدلا من هُوَ وحده، الخامس أن يكون مبتدأ خبره لا تَأْخُذُهُ، السادس أنه بدل من الله، السابع أنه صفة له ويعضده القراءة بالنصب على المدح لاختصاصه بالنعت، وفي أصله قولان: الأول أن أصله- حيي- بياءين من حيي يحيي، والثاني أنه حيو فقلبت الواو المتطرفة المنكسر ما قبلها ياء، ولذلك كتبوا الحياة بواو في رسم المصحف تنبيها على هذا الأصل، ويؤيده الحيوان لظهور هذا الأصل فيه، ووزنه قيل: فعل، وقيل: فيعل فخفف كميت في ميت، والحياة عند الطبيعي القوة التابعة للاعتدال النوعي التي تفيض عنها سائر القوى الحيوانية. أو قوة التغذية، أو قوة الحس، أو قوة تقتضي الحس والحركة. والكل مما يمتنع اتصاف الله تعالى به لأنه من صفات الجسمانيات فهي فيه سبحانه صفة موجودة حقيقية قائمة بذاته لا يكتنه كنهيها ولا تعلم حقيقتها كسائر صفاته جل شأنه زائدة على مجموع العلم والقدرة وليست نفس الذات حقيقة ولا ثابتة لا موجودة ولا معدومة- كما قيل بكل- فالحي ذات قامت به تلك الصفة، وفسره بعض المتكلمين بأنه الذي يصح أن يعلم ويقدر، واعترضه الإمام بأن هذا القدر حاصل لجميع الحيوانات فكيف يحسن أن يمدح الله تعالى نفسه بصفة يشاركه بها أخس الحيوانات. ثم قال والذي عندي في هذا الباب أن الحي في أصل اللغة ليس عبارة عن نفس هذه الصحة بل كل شيء كان كاملا في جنسه يسمى حيا ألا يرى أن عمارة الأرض الخربة تسمى إحياء الموات، والصفة المسماة في عرف المتكلمين حياة إنما سميت بها لأنها كمال الجسم أن يكون موصوفا بتلك الصفة فلا جرم سميت تلك الصفة حياة، وكمال حال الأشجار أن تكون مورقة خضرة فلا جرم سميت هذه الحال حياة فالمفهوم الأصلي من الحي كونه واقعا على أكمل أحواله وصفاته وإذا كان كذلك زال الإشكال لأن المفهوم من الحي هو الكامل ولما لم يكن ذلك مقيدا دل على أنه كامل على الإطلاق والكامل كذلك من لا يكون قابلا للعدم لا في ذاته ولا في صفاته الحقيقية ولا في صفاته السلبية والإضافية انتهى، ولا يخفى أنه صرح ممرد من قوارير أما أولا فلأن قوله: إن الحي- بمعنى الذي يصح أن يعلم ويقدر مما يشترك به سائر الحيوانات فلا يحسن أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 يمدح الله تعالى به نفسه- في غاية السقوط لأنه إن أراد الاشتراك في إطلاق اللفظ فليس الحي وحده كذلك بل السميع، والبصير أيضا مثله في الإطلاق على أخس الحيوانات، وقد مدح الله تعالى بهما نفسه ولم يستشكل ذلك أهل السنة، وإن أراد الاشتراك في الحقيقة فمعاذ الله تعالى من ذلك إذ الاشتراك فيها مستحيل بين التراب ورب الأرباب، وبين الأزلي والزائل، ومتى قلت إن الاشتراك في إطلاق اللفظ يوجب ذلك الاشتراك حقيقة ولا مناص عنه إلا بالحمل على المجاز لزمك مثل ذلك في سائر الصفات ولا قائل به من أهل السنة، وأما ثانيا فلأن كون الحياة في اللغة بمعنى الكمال مما لم يثبت في شيء من كتب اللغة أصلا وإنما الثابت فيها غير ذلك ووصف الجمادات بها إنما هو على سبيل المجاز دون الحقيقة كما وهم فإن قال: إنها مجاز في الله تعالى أيضا بذلك المعنى عاد الأشكال بحصول الاشتراك في الكمال مع الجمادات فضلا عن الحيوان، فإن قال: كمال كل شيء بالنسبة إلى ما يليق به قلنا: فحياة كل حي حقيقة بالنسبة إلى ما يليق به، وليس كمثل الله تعالى شيء، وكأني بك تفهم من كلامي الميل إلى مذهب السلف في مثل هذه المواطن فليكن ذلك فهم القوم كل القوم ويا حبذا هند وأرض بها هند والزمخشري فسر الحي بالباقي الذي لا سبيل عليه للموت والفناء وجعلوا ذلك منه تفسيرا بما هو المتعارف من كلام العرب وأرى أن في القلب منه شيء، ولعلي من وراء المنع لذلك، نعم روي عن قتادة أنه الذي لا يموت وهو ليس بنص في المدعى الْقَيُّومُ صيغة مبالغة للقيام وأصله قيووم على فيعول فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت ولا يجوز أن يكون فعولا وإلا لكان قووما لأنه واوي، ويجوز فيه قيام وقيم وبهما قرىء، وروى أولهما عن عمر رضي الله تعالى عنه، وقرىء القائم والقيوم بالنصب ومعناه كما قال الضحاك. وابن جبير: الدائم الوجود، وقيل: القائم بذاته، وقيل: القائم بتدبير خلقه من إنشائهم ابتداء، وإيصال أرزاقهم إليهم- وهو المروي عن قتادة- وقيل: هو العالم بالأمور من قولهم فلان يقوم بالكتاب أي يعلم ما فيه، وقال بعضهم: هو الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه، وذكر الراغب أنه يقال: قام كذا أي دام وقام بكذا أي حفظه، والقيوم القائم الحافظ لكل شيء والمعطى له ما به قوامه، والظاهر منه أن القيام بمعنى الدوام ثم يصير بالتعدية بمعنى الادامة وهو الحفظ فأورد عليه أن المبالغة ليست من أسباب التعدية فإذا عرى القيوم عن أداتها بمعنى اللازم فلا يصح تفسيره بالحافظ ثم إن المبالغة في الحفظ كيف تفيد إعطاء ما به القوام، ولعله من حيث إن الاستقلال بالحفظ إنما يتحقق بذلك كما لا يخفى، وأورد على تفسيره بنحو القائم بذاته أن يكون معنى قيوم السموات والأرض الوارد في الأدعية المأثورة واجب السموات والأرض وهو كما ترى، فالظاهر أنه فيه بمعنى آخر مما يليق إذ لا يصح ذلك إلا بنوع تمحل، وذهب جمع إلى أن القيوم هو اسم الله تعالى الأعظم، وفسره هؤلاء بأنه القائم بذاته والمقوم لغيره، وفسروا القيام بالذات بوجوب الوجود المستلزم لجميع الكمالات والتنزه عن سائر وجوه النقص وجعلوا التقويم للغير متضمنا جميع الصفات الفعلية فصح لهم القول بذلك، وأغرب الأقوال أنه لفظ سرياني ومعناه بالسريانية الذي لا ينام، ولا يخفى بعده لأنه يتكرر حينئذ في قوله تعالى: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ السنة- بكسر أوله- فتور يتقدم النوم وليس بنوم لقول عدي بن الرقاع: وسنان أقصده النعاس فرنقت ... في عينه (سنة) وليس بنائم والنوم بديهي التصور يعرض للحيوان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة بحيث تقف الحواس الظاهرة عن الإحساس رأسا، وزعم السيوطي في بعض رسائله أن سببه شم هواء يهب من تحت العرش، ولعله أراد تصاعد الأبخرة من المعدة تحت القلب الذي هو عرش الروح وإلا فلا أعقله، وتقديم- السنة- عليه وقياس المبالغة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 يقتضي التأخير مراعاة للترتيب الوجودي فلتقدمها على النوم في الخارج قدمت عليه في اللفظ، وقيل: إنه على طريق التتميم وهو أبلغ لما فيه من التأكيد إذ نفي- السنة- يقتضي نفي النوم ضمنا فإذا نفى ثانيا كان أبلغ، ورد بأنه إنما هو على أسلوب الإحاطة والإحصاء وهو متعين فيه مراعاة الترتيب الوجودي والابتداء من الأخف فالأخف كما في قوله تعالى: لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً [الكهف: 49] ولهذا توسطت كلمة لا تنصيصا على الإحاطة وشمول النفي لكل منهما، وقيل: إن تأخير النوم رعاية للفواصل ولا يخفى أنه من ضيق العطن، وقال بعض المحققين: هذا كله إنما يحتاج إليه إذا أخذ الأخذ بمعنى العروض والاعتراء، وأما لو أخذ بمعنى القهر والغلبة- كما ذكره الراغب، وغيره من أئمة اللغة- ومنه قوله تعالى: أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ [القمر: 42] فالترتيب على مقتضى الظاهر إذ يكون المعنى لا تغلبه- السنة، ولا النوم- الذي هو أكثر غلبة منها، والجملة نفي للتشبيه وتنزيه له تعالى أن يكون له مثل من الأحياء لأنها لا تخلو من ذلك فكيف تشابهه، وفيها تأكيد لكونه تعالى حيا قيوما لأن النوم آفة تنافي دوام الحياة وبقاءها وصفاته تعالى قديمة لا زوال لها ولأن من يعتريه النوم والغلبة لا يكون واجب الوجود دائمه ولا عالما مستمر العلم ولا حافظا قوي الحفظ، وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن بني إسرائيل قالوا: يا موسى هل ينام ربك؟ قال: اتقوا الله تعالى فناداه ربه يا موسى سألوك هل ينام ربك فخذ زجاجتين في يديك فقم الليل ففعل موسى فلما ذهب من الليل ثلث نعس فوقع لركبتيه ثم انتعش فضبطهما حتى إذا كان آخر الليل نعس فسقطت الزجاجتان فانكسرتا فقال: يا موسى لو كنت أنام لسقطت السموات والأرض فهلكن كما هلكت الزجاجتان في يديك» ولما فيها من التأكيد كالذي بعدها ترك العاطف فيها وهي إما استئنافية لا محل لها من الإعراب وإما حال مؤكدة من الضمير المستكن في القيوم، وجوز أن تكون خبرا عن الحي أو عن الاسم الجليل لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ- تقريرا- لقيوميته تعالى- واحتجاج على تفرده في الإلهية، والمراد بما فيهما ما هو أعم من أجزائهما الداخلة فيهما ومن الأمور الخارجة عنهما المتمكنة فيهما من العقلاء وغيرهم فيعلم من الآية نفي كون الشمس والقمر. وسائر النجوم. والملائكة. والأصنام. والطواغيت آلهة مستحقة للعبادة مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ استفهام إنكاري ولذا دخلت إِلَّا والمقصود منه بيان كبرياء شأنه تعالى وأنه لا أحد يساويه أو يدانيه بحيث يستقل أن يدفع ما يريده دفعا على وجه الشفاعة والاستكانة والخضوع فضلا عن أن يستقل بدفعه عنادا أو مناصبة وعداوة وفي ذلك تأييس للكافر حيث زعموا أن آلهتهم شفعاء لهم عند الله تعالى يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ أي أمر الدنيا وَما خَلْفَهُمْ أي أمر الآخرة قاله مجاهد، وابن جريج، وغيرهما، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة، عكس ذلك، وقيل: يعلم ما كان قبلهم وما كان بعدهم، وقيل: ما بين أيديهم من خير أو شر وما خلفهم مما فعلوه كذلك، وقيل: ما يدركونه وما لا يدركونه أو ما يحسونه ويعقلونه والكل محتمل، ووجه الإطلاق فيه ظاهر، وضمير الجمع يعود على ما في ما فِي السَّماواتِ إلخ إلا أنه غلب من يعقل على غيره، وقيل: للعقلاء في ضمنه فلا تغليب، وجوز أن يعود على ما دل عليه مَنْ ذَا من الملائكة والأنبياء، وقيل: الأنبياء خاصة، والعلم- بما بين أيديهم وما خلفهم- كناية عن إحاطة علمه سبحانه، والجملة إما استئناف أو خبر عما قبل أو حال من ضمير يشفع أو من المجرور في- بإذنه- وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ أي معلومه كقولهم: اللهم اغفر لنا علمك فينا، والإحاطة بالشيء علما علمه كما هو على الحقيقة، والمعنى لا يعلم أحد من هؤلاء كنه شيء ما من معلوماته تعالى: إِلَّا بِما شاءَ أن يعلم، وجوز أن يراد من علمه معلومه الخاص وهو كل ما في الغيب فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الجن: 26، 27] وعطفت هذه الجملة على ما قبلها لمغايرتها له لأن ذلك يشعر بأنه سبحانه يعلم كل شيء وهذه تفيد أنه لا يعلمه غيره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 ومجموعهما دال على تفرده تعالى بالعلم الذاتي الذي هو من أصول صفات الكمال التي يجب أن يتصف الإله تعالى شأنه بها بالفعل وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ الكرسي جسم بين يدي العرش محيط السماوات السبع، وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لو أن السماوات السبع والأرضين السبع بسطن ثم وصلن بعضهن إلى بعض ما كن في سعته- أي الكرسي- إلا بمنزلة الحلقة في المفازة وهو غير العرش كما يدل عليه ما أخرجه ابن جرير. وأبو الشيخ. وابن مردويه عن أبي ذر أنه سأل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن الكرسي فقال: «يا أبا ذر ما السماوات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة وأن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة» وفي رواية الدارقطني. والخطيب عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: سئل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن قوله تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ إلخ «قال: كرسيه موضع قدميه والعرش لا يقدر قدره» وقيل: هو العرش نفسه، ونسب ذلك إلى الحسن، وقيل: قدرة الله تعالى، وقيل: تدبيره، وقيل: ملك من ملائكته، وقيل: مجاز عن العلم من تسمية الشيء بمكانه لأن الكرسي مكان العالم الذي فيه العلم فيكون مكانا للعلم بتبعيته لأن العرض يتبع المحل في التحيز حتى ذهبوا إلى أنه معنى قيام العرض بالمحل، وحكى ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل: عن الملك أخذا من كرسي الملك، وقيل: أصل الكرسي ما يجلس عليه ولا يفضل عن مقعد القاعد والكلام مساق على سبيل التمثيل لعظمته تعالى شأنه وسعة سلطانه وإحاطة علمه بالأشياء قاطبة، ففي الكلام استعارة تمثيلية وليس ثمة كرسي ولا قاعد ولا قعود وهذا الذي اختاره الجم الغفير من الخلف- فرارا من توهم التجسيم، وحملوا الأحاديث التي ظاهرها حمل الكرسي على الجسم المحيط على مثل ذلك لا سيما الأحاديث التي فيها ذكر القدم كما قدمنا، وكالحديث الذي أخرجه البيهقي وغيره عن أبي موسى الأشعري- الكرسي- موضع القدمين وله أطيط كأطيط الرحل وفي رواية عن عمر مرفوعا «له أطيط كأطيط الرحل الجديد إذا ركب عليه من يثقله ما يفضل منه أربع أصابع» وأنت تعلم أن ذلك وأمثاله ليس بالداعي القوي لنفي الكرسي بالكلية فالحق أنه ثابت كما نطقت به الأخبار الصحيحة وتوهم التجسيم لا يعبأ به وإلا للزم نفي الكثير من الصفات وهو بمعزل عن اتباع الشارع والتسليم له. وأكثر السلف الصالح جعلوا ذلك من المتشابه الذي لا يحيطون به علما وفوضوا علمه إلى الله تعالى مع القول بغاية التنزيه والتقديس له تعالى شأنه والقائلون بالمظاهر من ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم لم يشكل عليهم شيء من أمثال ذلك، وقد ذكر بعض العارفين منهم أن الكرسي عبارة عن تجلي جملة الصفات الفعلية فهو مظهر إلهي ومحل نفوذ الأمر والنهي والإيجاد والإعدام المعبر عنهما بالقدمين، وقد وسع السماوات والأرض وسع وجود عيني ووسع حكمي لأن وجودهما المقيد من آثار الصفات الفعلية التي هو مظهر لها وليست القدمان في الأحاديث عبارة عن قدمي الرجلين ومحل النعلين تعالى الله سبحانه عن ذلك علوا كبيرا، ولا «الأطيط» عبارة عما تسمعه وتفهمه في الشاهد بل هو إن لم تفوض علمه إلى العليم الخبير إشارة إلى بروز الأشياء المتضادة أو اجتماعها في ذلك المظهر الذي هو منشأ التفصيل والإبهام ومحل الإيجاد والإعدام ومركز الضر والنفع والتفريق والجمع، ومعنى ما يفضل منه إلا أربع أصابع إن كان الضمير راجعا إلى الرحل ظاهر وإن كان راجعا إلى الكرسي فهو إشارة إلى وجود حضرات هي مظاهر لبعض الأسماء لم تبرز إلى عالم الحس ولا يمكن أن يراها إلا من ولد مرتين، وليس المراد من الأصابع الأربع ما تعرفه من نفسك، وللعارفين في هذا المقام كلام غير هذا، ولعلنا نشير إلى بعض منه إن شاء الله تعالى، ثم المشهور أن الياء في الكرسي لغير النسب، واشتقاقه من الكرس- وهو الجمع- ومنه الكراسة للصحائف الجامعة للعلم، وقيل: كأنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 منسوب إلى- الكرس- بالكسر وهو الملبد وجمعه كراسي- كبختي وبخاتي- وفيه لغتان ضم كافة- وهي المشهورة- وكسرها للاتباع والجمهور على فتح الواو والعين، وكسر السين في وَسِعَ على أنه فعل والكرسي فاعله، وقرىء بسكون السين مع كسر الواو- كعلم- في علم، ويفتح الواو وسكون السين ورفع العين مع جر- كرسيه- ورفع السماوات فهو حينئذ مبتدأ مضاف إلى ما بعده والسَّماواتِ وَالْأَرْضَ خبره وَلا يَؤُدُهُ- أي لا يثقله- كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- وهو مأخوذ من الأود بمعنى الاعوجاج لأن الثقيل يميل له ما تحته، وماضيه آد، والضمير لله تعالى وقيل: الكرسي حِفْظُهُما أي السماوات والأرض وإنما لم يتعرض لذكر ما فيهما لما أن حفظهما مستتبع لحفظه، وخصهما بالذكر دون الكرسي لأن حفظهما هو المشاهد المحسوس، والقول بالاستخدام ليدخل هو والعرش وغيرها مما لا يعلمه إلا الله تعالى بعيد وَهُوَ الْعَلِيُّ أي المتعالي عن الأشباه، والأنداد، والأمثال، والأضداد، وعن امارات النقص، ودلالات الحدوث، وقيل: هو من العلو الذي هو بمعنى القدرة والسلطان والملك وعلو الشأن والقهر والاعتلاء والجلال والكبرياء الْعَظِيمُ ذو العظمة وكل شيء بالإضافة إليه حقير ولما جليت على منصة هذه الآية الكريمة عرائس المسائل الإلهية وأشرقت على صفحاتها أنوار الصفات العلية حيث جمعت أصول الصفات من الألوهية، والوحدانية، والحياة، والعلم، والملك، والقدرة، والإرادة، واشتملت على سبعة عشر موضعا فيها اسم الله تعالى ظاهرا في بعضها ومستترا في البعض ونطقت بأنه سبحانه موجود منفرد في ألوهيته حي واجب الوجود لذاته موجد لغيره منزه عن التحيز والحلول مبرأ عن التغير والفتور لا مناسبة بينه وبين الأشباح ولا يحل بساحة جلاله ما يعرض النفوس والأرواح مالك الملك والملكوت ومبدع الأصول والفروع ذو البطش الشديد العالم وحده يجلي الأشياء وخفيها وكليها وجزئيها واسع الملك والقدرة لكل ما من شأنه أن يملك ويقدر عليه لا يشق عليه شاق ولا يثقل شيء لديه متعال عن كل ما لا يليق بجنابه عظيم لا يستطيع طير الفكر أن يحوم في بيداء صفات قامت به تفردت بقلائد فضل خلت عنها أجياد أخواتها الجياد وجواهر خواص تتهادى بها بين أترابها ولا كما تتهادى لبنى وسعاد. أخرج مسلم، وأحمد، وغيرهما عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أعظم آية في القرآن آية الكرسي» وأخرج البيهقي من حديث أنس مرفوعا «من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة حفظ إلى الصلاة لأخرى ولا يحافظ عليها إلا نبي أو صديق أو شهيد» وأخرج الديلمي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: «لو تعلمون ما فيها لما تركتموها على حال أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: أعطيت آية الكرسي من كنز تحت العرش لم يؤتها نبي قبلي» والأخبار في فضلها كثيرة شهيرة إلا أن بعضها مما لا أصل له كخبر من قرأها بعث لله تعالى ملكا يكتب من حسناته ويمحو من سيئاته إلى الغد من تلك الساعة، وبعضها منكر جدا كخبر «إن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام أن اقرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة فإنه من يقرؤها في دبر كل صلاة مكتوبة أجعل له قلب الشاكرين ولسان الذاكرين وثواب المنيبين وأعمال الصديقين» . ولا يخفى أن أكثر الأحاديث في هذا الباب حجة لمن قال: إن بعض القرآن قد يفضل على غيره وفيه خلاف فمنعه بعضهم كالأشعري. والباقلاني وغيرهما لاقتضائه نقص المفضول وكلام الله تعالى لا نقص فيه، وأوّلوا أعظم بعظيم وأفضل بفاضل، وأجازه إسحق بن راهويه، وكثير من العلماء، والمتكلمين- وهو المختار- ويرجع إلى عظم أجر قارئه ولله تعالى إن يخص ما شاء بما شاء لما شاء، ومناسبة هذه الآية الكريمة لما قبلها أنه سبحانه لما ذكر أن الكافرين هم الظالمون ناسب ن ينبههم جل شأنه على العقيدة الصحيحة التي هي محض التوحيد الذي درج عليه المرسلون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 على اختلاف درجاتهم وتفاوت مراتبهم بما أينعت من ذلك رياضه وتدفقت حياضه وصدح عندليبه وصدع على منابر البيان خطيبه فلله الحمد على ما أوضح الحجة وأزال الغبار عن وجه المحجة. هذا ومن باب الإشارة في الآيات تلك آيات الله أي أسراره وأنواره ورموزه وإشاراته نتلوها بلسان الوحي عليك ملابسة للحق الثابت الذي لا يعتريه تغيير وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [يس: 3] الذين عبروا هذه المقامات وصح لهم صفاء الأوقات تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ بمقتضى استعلاء أنوار استعداداتهم مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ عند تجليه على طور قلبه وفي وادي سره وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ بفنائه عن ظلمة الوجود بالكلية وبقائه في حضرة الأنوار الإلهية وبلوغه مقام قاب قوسين وظفره بكنز فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى [النجم: 10] من أسرارهم النشأتين حتى عاد وهو نور الأنوار والمظهر الأعظم عند ذوي الأبصار وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ والآيات الباهرات من إحياء أموات القلوب والأخبار عما يدخر في خزائن الأسرار من الغيوب وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ الذي هو روح الأرواح المنزه عن النقائص الكونية والمقدس عن الصفات الطبيعية وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ (1) بسيوف الهوى ونبال الضلال مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ من أنوار الفطرة وإرشاد الرسل الآيات الواضحات وَلكِنِ اخْتَلَفُوا حسبما اقتضاه استعدادهم الأزلي فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بما جاء به الوحي وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا عن اختلاف بأن يتحد استعدادهم وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ ولا يريد إلا ما في العلم وما كان فيه سوى هذا الإختلاف يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ ببذل الأرواح وإرشاد العباد من قبل أن يأتي يوم القيامة الكبرى لا بيع فيه ولا تبدل صفة بصفة فلا يحصل تكميل النشأة ولا خلة لظهور الحقائق ولا شفاعة للتجلي الجلالي، والكافرون هم الذين ظلموا أنفسهم بنقص حظوظها وَما ظَلَمْناهُمْ [هود: 101، النحل: 118، الزخرف: 43] إذ لم نقض عليهم سوى ما اقتضاه استعدادهم الغير المجعول اللَّهُ لا إِلهَ في الوجود العلمي إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الذي حياته عين ذاته وكل ما هو حي لم يحي إلا بحياته الْقَيُّومُ الذي يقوم بنفسه ويقوم كل ما يقوم به، وقيل: الحي الذي ألبس حياته أسرار الموحدين فوحدوا به، والقيوم الذي ربي يتجلى الصفات وكشف الذات أرواح العارفين ففنوا في ذاته واحترقوا بنور كبريائه. ولا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ بيان لقيوميته وإشارة إلى أن حياته عين ذاته له ما في سماوات الأرواح وأرض الأشباح فلا يتحرك متحرك ولا يسكن ساكن ولا يخطر خاطر في بر أو بحر وسر أو جهر إلا بقدرته وإرادته وعلمه ومشيئته مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ إذ كلهم له ومنه وإليه وبه يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من الخطرات وَما خَلْفَهُمْ من العثرات، أو ما بين أيديهم من المقامات. وما خلفهم من الحالات، أو يعلم منهم ما قبل إيجادهم من كمية استعدادهم وما بعد إنشائهم من العمل بمقتضى ذلك وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ معلوماته التي هي مظاهر أسمائه إِلَّا بِما شاءَ كما يحصل لأهل القلوب من معاينات أسرار الغيوب وإذا تقاصرت الفهوم عن الإحاطة بشيء من معلوماته فأي طمع لها في الإحاطة بذاته هيهات هيهات أنى لخفاش الفهم أن يفتح عينه في شمس هاتيك الذات؟ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ الذي هي قلب العارف السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لأنه معدن العلوم الإلهية والعلم اللدني الذي لا نهاية له ولا حد، ومن هنا قال أبو يزيد البسطامي: لو وقع العالم ومقدار ما فيه ألف ألف مرة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس به، وقيل: كرسيه عالم الملكوت وهو مطاف أرواح العارفين لجلال الجبروت وَلا يَؤُدُهُ ولا يثقله   (1) كذا في الأصل، ولفظة «جاؤوا» ليست من ضمن الآية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 حِفْظُهُما في ذلك الكرسي لأنهما غير موجودين بدونه وَهُوَ الْعَلِيُّ الشأن الذي لا تقيده الأكوان الْعَظِيمُ الذي لا منتهى لعظمته ولا يتصور كنه ذاته لاطلاقه حتى عن قيد الإطلاق. لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قيل: إن هذه إلى قوله سبحانه: خالِدُونَ من بقية آية الكرسي، والحق أنها ليست منها بل هي جملة مستأنفة جيء بها إثر بيان دلائل التوحيد للإيذان بأنه لا يتصور الإكراه في الدين لأنه في الحقيقة إلزام الغير فعلا لا يرى فيه خيرا يحمله عليه والدين خير كله، والجملة على هذا خبر باعتبار الحقيقة ونفس الأمر وأما ما يظهر بخلافه فليس إكراها حقيقيا، وجوز أن تكون إخبارا في معنى النهي أي لا تكرهوا في الدين وتجبروا عليه وهو حينئذ إما عام منسوخ بقوله تعالى: جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ [التوبة: 73، التحريم: 9] وهو المحكي عن ابن مسعود. وابن زيد. وسليمان بن موسى، أو مخصوص بأهل الكتاب الذين قبلوا الجزية- وهو المحكي عن الحسن، وقتادة. والضحاك- وفي سبب النزول ما يؤيده فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن رجلا من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصين كان له ابنان نصرانيان وكان هو رجلا مسلما فقال للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم: ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله تعالى فيه ذلك» . وأل في الدِّينِ للعهد، وقيل: بدل من الإضافة أي دين الله وهو ملة الإسلام، وفاعل الإكراه على كل تقدير غيره تعالى، من الناس من قال: إن المراد ليس في الدين إكراه من الله تعالى وقسر بل مبني الأمر على التمكين والاختيار ولولا ذلك لما حصل الابتلاء ولبطل الامتحان فالآية نظير قوله تعالى: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف: 29] وإلى ذلك ذهب القفال قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ تعليل صدر بكلمة التحقيق لزيادة تقرير مضمونه أي قد تميز بما ذكر من نعوته تعالى التي يمتنع توهم اشتراك الغير في شيء منها الإيمان من الكفر والصواب من الخطأ والرشد- بضم الراء وسكون الشين على المشهور مصدر- رشد- بفتح الشين يرشد بضمها: ويقرأ بفتح الراء والشين، وفعله رشد يرشد مثل علم يعلم وهو نقيض- الغي- وأصله سلوك طريق الهلاك، وقال الراغب، هو كالجهل إلا أن الجهل يقال اعتبارا بالاعتقاد، والغيّ اعتبارا بالأفعال، ولهذا قيل: زوال الجهل بالعلم، وزوال الغيّ بالرشد، ويقال لمن أصاب: رشد، ولمن أخطأ غوى، ويقال لمن خاب: غوى أيضا، ومنه قوله: ومن يلق خيرا يحمد الناس أمره ... ومن يغو لم يعدم على الغي (لائما) فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ أي الشيطان وهو المروي عن عمر بن الخطاب، والحسين بن علي رضي الله تعالى عنهم - وبه قال مجاهد، وقتادة- وعن سيعد بن جبير، وعكرمة أنه الكاهن، وعن أبي العالية أنه الساحر، وعن مالك بن أنس كل ما عبد من دون الله تعالى، وعن بعضهم الأصنام، والأولى أن يقال بعمومه سائر ما يطغى، ويجعل الاقتصار على بعض في تلك الأقوال من باب التمثيل وهو بناء مبالغة كالجبروت والملكوت، واختلف فيه فقيل: هو مصدر في الأصل ولذلك يوحد ويذكر كسائر المصادر الواقعة على الأعيان- وإلى ذلك ذهب الفارسي- وقيل: هو اسم جنس مفرد فلذلك لزم الإفراد والتذكير- وإليه ذهب سيبويه- وقيل: هو جمع- وهو مذهب المبرد. وقد يؤنث ضميره كما في قوله تعالى: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها [الزمر: 17] وهو تأنيث اعتباري واشتقاقه من طغى يطغى أو طغى يطغو ومصدر الأول الطغيان. والثاني الطغوان، وأصله على الأول طغيوت، وعلى الثاني طغووت فقدمت اللام وأخرت العين فتحرك حرف العلة وانفتح ما قبله فقلب ألفا فوزنه من قبل فعلوت والآن فلعوت، وقدم ذكر الكفر بالطاغوت على ذكر الإيمان بالله تعالى اهتماما بوجوب التخلية أو مراعاة للترتيب الواقعي أو للاتصال بلفظ الغي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ أي يصدق به طبق ما جاءت به رسله عليهم الصلاة والسلام فَقَدِ اسْتَمْسَكَ أي بالغ في التمسك حتى كأنه وهو متلبس به يطلب من نفسه الزيادة فيه والثبات عليه بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وهي الإيمان- قاله مجاهد- أو القرآن- قاله أنس بن مالك- أو كلمة الإخلاص- قاله ابن عباس- أو الاعتقاد الحق أو السبب الموصل إلى رضا الله تعالى أو العهد، وعلى كل تقدير يجوز أن يكون في العروة استعارة تصريحية واستمسك ترشيح لها أو استعارة أخرى تبعية، ويجوز أن يجعل الكلام تمثيلا مبنيا على تشبيه الهيئة العقلية المنتزعة من ملازمة الحق الذي لا يحتمل النقيض بوجه أصلا لثبوته بالبراهين النيرة القطعية بالهيئة الحسية المنتزعة من التمسك بالحبل المحكم المأمون انقطاعه من غير تعرض للمفردات، واختار ذلك بعض المحققين ولا يخلو عن حسن، وجعل العروة مستعارة للنظر الصحيح المؤدي للاعتقاد الحق- كما قيل- ليس بالحسن لأن ذلك غير مذكور في حيز الشرط أصلا لَا انْفِصامَ لَها أي لا انقطاع لها والانفصام والانقصام لغتان وبالفاء أفصح- كما قال الفراء- وفرق بعضهم بينهما بأن الأول انكسار بغير بينونة، والثاني انكسار بها وحينئذ يكون انتفاء الثاني معلوما من نفي الأول بالأولوية، والجملة إما مستأنفة لتقرير ما قبلها من وثاقة العروة وإما حال من العروة، والعامل اسْتَمْسَكَ أو من الضمير المستكن في الْوُثْقى لأنها للتفضيل تأنيث الأوثق، ولَها في موضع الخبر وَاللَّهُ سَمِيعٌ بالأقوال عَلِيمٌ بالعزائم والعقائد، والجملة تذييل حامل على الإيمان رادع عن الكفر والنفاق لما فيها من الوعد والوعيد، قيل: وفيها أيضا إشارة إلى أنه لا بد من الإيمان من الاعتقاد والإقرار. اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا أي معينهم أو محبهم أو متولي أمورهم والمراد بهم من أراد الإيمان أو ثبت في علمه تعالى إيمانه أو آمن بالفعل يُخْرِجُهُمْ بهدايته وتوفيقه وهو تفسير للولاية أو خبر ثان عند من يجوز كونه جملة أو حال من الضمير في وَلِيُّ مِنَ الظُّلُماتِ التابعة للكفر أو ظلمات المعاصي أو الشبه كيف كانت. إِلَى النُّورِ أي نور الإيمان أو نور الطاعات أو نور الإيقان بمراتبه، وعن الحسن أنه فسر الإخراج هنا بالمنع فالمعنى يمنعهم عن أن يدخلوا في شيء من الظلمات، واقتصر الواقدي في تفسير الظلمات، والنور- على ذكر الكفر والإيمان وحمل كل ما في القرآن على ذلك سوى ما في الأنعام من قوله تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام: 1] فإن المراد بهما هناك الليل والنهار، والأولى أن يحمل الظلمات على المعنى الذي يعم سائر أنواعها ويحمل النور أيضا على ما يعم سائر أنواعه، ويجعل في مقابلة كل ظلمة مخرج منها نور مخرج إليه حتى إنه سبحانه ليخرج من شاء من ظلمة الدليل إلى نور العيان، ومن ظلمة الوحشة إلى نور الوصلة، ومن ظلمة عالم الأشباح إلى نور عالم الأرواح إلى غير ذلك «مما لا، ولا» وأفرد النور لوحدة الحق كما أن جمع الظلمات لتعدد فنون الضلال، أو أن الأول إيماء إلى القلة والثاني إلى الكثرة وَالَّذِينَ كَفَرُوا أي أرادوا الكفر أو ثبت كفرهم في علمه سبحانه أو كفروا بالفعل أَوْلِياؤُهُمُ حقيقة أو فيما عندهم الطَّاغُوتُ أي الشياطين أو الأصنام أو سائر المضلين عن طرق الحق، والموصول مبتدأ أول، وأَوْلِياؤُهُمُ مبتدأ ثان، والطَّاغُوتُ خبره، والجملة خبر الأول والجملة الحاصلة معطوفة على ما قبلها، قيل: ولعل تغيير السبك للاحتراز عن وضع الطَّاغُوتُ في مقابلة الاسم الجليل ولقصد المبالغة بتكرير الاسناد مع الإيماء إلى التباين بين الفريقين من كل وجه حتى من جهة التعبير أيضا، وقرء «الطواغيت» على الجمع وصح جمعه على القول بأنه مصدر لأنه صار اسما لما يعبد من دون الله تعالى يُخْرِجُونَهُمْ بالوساوس وإلقاء الشبه أو بكونهم بحالة بحالة جرت اعتقادهم فيهم النفع والضر وأنهم يقربونهم إلى الله تعالى زلفى، والتعبير عنهم بضمير العقلاء إما لأنهم منهم حقيقة أو ادعاء ونسبة الإخراج إليهم مجاز من باب النسبة إلى السبب فلا يأبى تعلق قدرته وإرادته تعالى بذلك مِنَ النُّورِ أي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 الفطري الذي جبل عليه الناس كافة، أو نور البينات المتتابعة التي يشاهدونها بتنزيل تمكنهم من الاستضاءة بها منزلة نفسها فلا يرد أنهم متى كانوا في نور ليخرجوا منه، وقيل: التعبير بذلك للمقابلة، وقيل: إن الإخراج قد يكون بمعنى المنع وهو لا يقتضي سابقية الدخول، وعن مجاهد إن الآية نزلت في قوم ارتدوا فلا شك في أنهم حينئذ أخرجوا من النور الذي كانوا فيه وهو نور الإيمان إِلَى الظُّلُماتِ وهي ظلمات الكفر والانهماك في الغي وعدم الارعواء والاهتداء بما يترى من الآيات ويتلى، والجملة تفسير لولاية الطاغوت فالانفصال لكمال الاتصال، ويجوز أن تكون خبرا ثانيا كما مر أُولئِكَ إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة وما يتبع ذلك من القبائح، وجوز أن تكون إشارة إلى الكفار وأوليائهم، وفيه بعد أَصْحابُ النَّارِ أي ملابسوها وملازموها لعظم ما هم عليه هُمْ فِيها خالِدُونَ ماكثون أبدا، وفي هذا وعد وتحذير للكافرين، ولعل عدم مقابلته بوعد المؤمنين كما قيل: للإشعار بتعظيمهم وأن أمرهم غير محتاج إلى البيان وأن شأنهم أعلى من مقابلة هؤلاء، أو أن ما أعد لهم لا تفي ببيانه العبارة، وقيل: إن قوله سبحانه وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران: 68] دل على الوعد وكفى به. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ بيان لتسديد المؤمنين إذ كان وليهم وخذلان غيرهم ولذا لم يعطف، واهتم ببيانه لأن منكري ولايته تعالى للمؤمنين كثيرون، وقيل: استشهاد على ما ذكر من أن الكفرة أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ وتقرير لهم كما أن ما بعده استشهاد على ولايته تعالى للمؤمنين وتقرير لها، وبدأ به لرعاية الاقتران بينه وبين مدلوله ولاستقلاله بأمر عجيب حقيق بأن يصدر به المقال وهو اجتراؤه على المحاجة في الله عز وجل، وما أتى به في أثنائها من العظمة المنادية بكمال حماقته، ولأن فيما بعده تعدادا وتفصيلا يورث تقديمه انتشار النظم على أنه قد أشير في تضاعيفه إلى هدايته تعالى أيضا بواسطة إبراهيم عليه الصلاة والسلام فإن ما يحكى عنه من الدعوة إلى الحق وادحاض حجة الكافرين من آثار ولايته تعالى ولا يخفى ما فيه. وهمزة الاستفهام لإنكار النفي وتقرير المنفي، والجمهور على أن في الكلام معنى التعجيب أي- ألم تنظر، أو ألم ينته علمك- إلى قصة هذا الكافر الذي لست بوليّ له كيف تصدى لمحاجة من تكفلت بنصرته وأخبرت بأني ولي له ولمن كان من شيعته أي قد تحققت رؤية هذه القصة العجيبة وتقررت بناء على أن الأمر من الظهور بحيث لا يكاد يخفي على أحد ممن له حظ من الخطاب فلتكن في الغاية القصوى من تحقق ما ذكرته لك من ولايتي للمؤمنين وعدمها للكافرين ولتطب نفسك أيها الحبيب وأبشر بالنصر فقد نصرت الخليل، وأين مقام الخليل من الحبيب، وخذلت رأس الطاغين فكيف بالأذناب الأرذلين، والمراد بالموصول نمروذ بن كنعان بن سنجاريب- وهو أول من تجبر وادعى الربوبية، كما قاله مجاهد وغيره- وإنما أطلق على ما وقع لفظ المحاجة وإن كانت مجادلة بالباطل لإيرادها موردها، واختلف في وقتها فقيل: عند كسر الأصنام وقيل إلقائه في النار- وهو المروي عن مقاتل- وقيل: بعد إلقائه في النار وجعلها عليه بردا وسلاما- وهو المروي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه- وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام تشريف له وإيذان من أول الأمر بتأييد وليه له في المحاجة فإن التربية نوع من الولاية أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ أي لئن آتاه الله تعالى ذلك فالكلام على حذف اللام وهو مطرد في- أن، وإن- وليس هناك مفعولا لأجله منصوب لعدم اتحاد الفاعل، والتعليل فيه على وجهين: إما أن إيتاء الملك حمله على ذلك لأنه أورثه الكبر والبطر فنشأت المحاجة عنهما، وإما أنه من باب العكس في الكلام بمعنى أنه وضع المحاجة وضع الشكر إذ كان من حقه أن يشكر على ذلك فعلى الأول العلة تحقيقية، وعلى الثاني تهكمية- كما تقول عاداني فلان لأني أحسنت إليه- وجوز أن يكون آتاهُ إلخ واقعا موقع الظرف بدون تقدير أو بتقدير مضاف أي حاج وقت أن آتاه الله وأورد عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 أن المحاجة لم تقع وقت إيتاء الملك بل الإيتاء سابق عليها، وبأن النحاة نصوا على أنه لا يقوم مقام الظرف الزماني إلا المصدر الصريح بلفظه- كجئت خفوق النجم، وصياح الديك- ولا يجوز إن خفق وإن صاح. وأجيب باعتبار الوقت ممتدا، وبأن النص معارض بأنهم نصوا على أن «ما» المصدرية تنوب عن الزمان وليست بمصدر صريح، والذي جوز ذلك ابن جني والصفار في شرح الكتاب، والحق أن التعليل لما أمكن- وهو متفق عليه- خال عما يقال لا ينبغي أن يعدل عنه لا سيما وتقدير المضاف مع القول بالامتداد والتزام- قول ابن جني والصفار مع مخالفته لكلام الجمهور- في غاية من التعسف، والآية حجة على من منع إيتاء الله الملك لكافر وحملها على إيتاء الله تعالى ما غلب به وتسلط من المال والخدام والأتباع، أو على أن الله تعالى ملكه امتحانا لعباده كما فعل المانع القائل بوجوب رعاية الأصلح- ليس بشيء إذ من له مسكة من الإنصاف يعلم أنه لا معنى لإيتاء الملك والتسليط إلا إيتاء الأسباب ولو سلم ففي إيتاء الأسباب يتوجه السؤال ولو سلم فما من قبيح إلا ويمكن أن يعتبر فيه غرض صحيح كالامتحان، ولقوة هذا الاعتراض التزم بعضهم جعل ضمير آتاهُ لإبراهيم عليه السلام لأنه تعالى قال: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: 124] وقال سبحانه: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً [النساء: 54] وهو المحكي عن أبي قاسم البلخي- ولا يخفى أنه خلاف المنساق إلى الذهن وخلاف التفسير المأثور عن السلف الصالح، والواقع مع هذا يكذبه إذ ليس لإبراهيم عليه السلام إذ ذاك ملك ولا تصرف ولا نفوذ أمر. وذهب بعض الإمامية إلى أن الملك الذي لا يؤتيه الله للكافر هو ما كان بتمليك الأمر والنهي، وإيجاب الطاعة على الخلق، وأما ما كان بالغلبة وسعة المال ونفوذ الكلمة قهرا كملك نمروذ فهو مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان أو تكون فيه كلمتان، والقول: بأن هذا المارد أعطى الملك بالاعتبار الأول خارج عن الإنصاف بل الذي أوتي ذلك في الحقيقة إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلا أنه قد عورض في ملكه وغولب على ما منّ الله تعالى به عليه إلى أن قضى الله تعالى ما قضى ومضى من مضى وللباطل جولة ثم يزول، وهو كلام أقرب ما يكون إلى الصواب لكني أشم منه ريح الضلال، ويلوح لي أنه تعريض بالأصحاب- والله تعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور- وفي العدول عن الإضمار إلى الإظهار في هذا المقام ما لا يخفى إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ ظرف لحاج، وجوّز أن يكون بدلا من آتاه بناء على القول الذي علمت، واعترضه أبو حيان بأن الظرفين مختلفان إذ وقت إيتائه الملك ليس وقت إبراهيم عليه السلام رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فإنه على ما روي قاله بعد أن سجن لكسره الأصنام وإثر قول نمروذ له- وقد كان أوتي قبل الملك من ربك الذي تدعو إليه؟ وأجاب السفاقسي بالتجوز في آتاهُ وعدم إرادة ابتداء الإتيان منه بل زمان الملك وهو ممتد يسع قولين بل أقوالا، واعترض أبو البقاء أيضا بأن المصدر غير الظرف فلو كان بدلا لكان غلطا إلا أن يجعل إذ بمعنى أن المصدرية، وقد جاء ذلك، وقال الحلبي:- وهذا بناء- منه على أن إنّ مفعول من أجله وليست واقعة موقع الظرف أما إذا كانت واقعة موقعه فلا يكون بدل- غلط بل بدل كل من كل، وفيه ما تقدم من الكلام، وقيل: يجوز أن يكون بدلا من آتاهُ بدل اشتمال، واستشكل بعضهم على جميع ذلك موقع قوله تعالى: قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ إلا أن يجعل استئنافا جواب سؤال، وجعله بمنزلة المرئي يأبى ذلك، ومن هنا قيل: إن الظرف متعلق بقوله سبحانه: قالَ أَنَا إلخ، ويقدر السؤال قبل إذ قال كأنه قيل: كيف حاج إبراهيم؟ فأجيب بما أجيب، ولا يخفى أن الإباء هو الإباء، فالأولى القول من أول الأمر بأن هذا القول بيان لقوله سبحانه: حَاجَّ، ورَبِّيَ بفتح الياء، وقرىء بحذفها، وأراد عليه السلام- بيحيي ويميت- يخلق الحياة والموت في الأجساد، وأراد اللعين غير ذلك فقد روي عنه أنه أتى برجلين فقتل أحدهما وترك الآخر وقال ما قال: ولما كان هذا بمعزل عن المقصود وكان بطلانه من الجلاء والظهور بحيث لا م 2- روح المعاني مجلد 2 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 يخفى على أحد والتعرض لإبطال مثل ذلك من قبيل السعي في تحصيل الحاصل أعرض الخليل عليه الصلاة والسلام عن إبطاله وأتى بدليل آخر أظهر من الشمس. قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ وفيه دليل على جواز انتقال المجادل من حجة إلى أخرى أوضح منها، وهي مسألة متنازع فيها، وحمل ذلك على هذا أحد طريقين مشهورين في الآية، وثانيهما أن الانتقال إنما في هو المثال كأنه قال: ربي الذي يوجد الممكنات ويعدمها وأتى بالإحياء والإماتة مثالا فلما اعترض جاء بمثال أجلى دفعا للمشاغبة، قال الإمام: والإشكال عليهما من وجوه. الأول أن صاحب الشبهة إذا ذكر الشبهة ووقعت تلك الشبهة في الأسماع وجب على المحق القادر على ذكر الجواب، وذكر الجواب في الحال إزالة للتلبيس والجهل عن العقول، فلما طعن المارد في الدليل أو في المثال الأول بتلك الشبهة كان الاشتغال بإزالتها واجبا مضيقا فكيف يليق بالمعصوم تركه والانتقال إلى شيء آخر، والثاني أنه لما أورد المبطل ذلك السؤال كان ترك المحق الكلام عليه والتنبيه على ضعفه مما يوجب سقوط وقع الرسول وحقارة شأنه وأنه غير جائز، والثالث أنه وإن كان الانتقال من دليل إلى آخر أو من مثال إلى غيره لكنه يجب أن يكون المنتقل إليه أوضح، وأقرب وهاهنا ليس كذلك لأن جنس الحياة لا قدرة للخلق عليه، وأما جنس تحريك الأجسام فللخلق قدرة عليه فلا يبعد وجود ملك عظيم الجثة يكون محركا للسماوات فعلى هذا الاستدلال بالإماتة والإحياء أظهر وأقوى من الاستدلال بطلوع الشمس فكيف يليق بالنبي المعصوم أن ينتقل من الدليل الأوضح إلى الدليل الخفي، والرابع أن المارد لما لم يستح من معارضة الاحياء والاماتة الصادرين من الله تعالى بالقتل والتخلية فكيف يؤمن منه عند الانتقال إلى طلوع الشمس أن يقول بل طلوع الشمس من المشرق مني فإن كان لك إله فقل له حتى يطلعها من المغرب وعند ذلك التزم المحققون أنه لو أورد هذا السؤال لكان الواجب أن يطلعها من المغرب، ومن المعلوم طلوع الشمس من المغرب يكون الدليل على وجود الصانع هو هذا الطلوع لا الطلوع الأول، وحينئذ يصير ذلك ضائعا كما صار الأول كذلك، وأيضا فما الذي حمل الخليل عليه السلام على ترك الجواب عن ذلك السؤال الركيك وتمسك بدليل لا يمكن تمشيته إلا بالتزام اطلاع الشمس من المغرب وبتقدير ذلك يضيع الدليل الثاني كما ضاع الأوّل، ومن المعلوم أن التزام هذه المحذورات لا تليق بأقل الناس علما فضلا عن أفضل العلماء وأعلم الفضلاء. فالحق أن هذا ليس دليلا آخر ولا مثالا بل هو من تتمة الدليل الأول، وذلك أنه لما احتج إبراهيم عليه السلام بالإماتة والإحياء أورد الخصم عليه سؤالا وهو أنك إن ادعيت الاحياء والإماتة بلا واسطة فذلك لا تجد إلى إثباته سبيلا وإن ادعيت حصولهما بواسطة حركات الأفلاك فنظيره أو ما يقرب منه حاصل للبشر فأجاب الخليل عليه السلام بأن الإحياء والإماتة وإن حصلا بواسطة حركات الافلاك لكن تلك الحركات حصلت من الله تعالى وذلك لا يقدح في كون الاحياء والاماتة منه بخلاف الخلق فإنهم لا قدرة لهم على تحريك الافلاك فلا جرم لا يكون الاحياء والإماتة صادرين منهم، ومتى حملت الآية على هذا الوجه لم يلزم شيء من المحذورات عليه انتهى. ولا يخفى ما فيه، أما أولا فلأن الشبهة إذا كانت في غاية السقوط ونهاية البطلان بحيث لا يكاد يخفى حالها ولا يغر أحدا من الناس أنها لم يمتنع الاعراض عنها إلى ما هو بعيد عن التمويه دفعا للشغب وتحصيلا لما هو المقصود من غير كثير تعب، ولا يوجب ذلك سقوط وقع ولا حقارة شأن وأي تلبيس يحصل من هذه الشبهة للعقول حتى يكون الاشتغال بإزالتها واجبا مضيقا فيخل تركه بالمعصوم على أنه روي أنه ما انتقل حتى بين للمارد فساد قوله حيث قال له: إنك أحييت الحي ولم تحي الميت، وعن الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قال له: أحي من قتلته إن كنت صادقا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 لكن لم يقص الله تعالى ذلك الإلزام علينا في الكتاب اكتفاء بظهور الفساد جدا، وأما ثانيا فلأنه من الواضح أن المنتقل إليه أوضح في المقصود من المنتقل عنه ويكاد القول بعكسه يكون مكابرة، وما ذكره في معرض الاستدلال لا يخفى ما فيه، وأما ثالثا فلأن ما ذكره رابعا يرد أيضا على الوجه الذي اختاره إذ لا يؤمن المارد من أن يقول لو كانت حركات الأفلاك من ربك فقل له حتى يطلعها من المغرب- فما هو الجواب هنا هو الجواب- وقد أجابوا عن عدم قول اللعين ذلك بأن المحاجة كانت بعد خلاصه من النار فعلم أن من قدر على ذلك قدر على الإتيان بالشمس من مغربها فسكت، أو بأن الله تعالى أنساه ذلك نصرة لنبيه عليه السلام- وهو ضعيف- بل الجواب أنه عليه السلام استدل بأنه لا بد للحركة المخصوصة والمتحرك بها من محرك لأن حاجة المتحرك في الحركة إلى المحرك بديهية، وبديهي أنه ليس بنمروذ فقال: هو ذا ربي فإن ادعيت أنك الذي تفعل فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ وهذا لا يتوجه عليه السؤال بوجه إذ لو ادعى أن الحركة بنفسها- مع أنها مسبوقة بالغير ولو بآحاد الحركات- كان منع البديهي ولو ادعى أنه الفاعل مع ظهور استحالته ألزم بالتغيير عن تلك الحالة فلا بد من الاعتراف بفاعل يأتي بها من المشرق، والمدعى أن ذلك الفاعل هو الرب، وأما رابعا فلأن ما اختاره لا تدل عليه الآية الكريمة بوجه، وليس في كلام الكافر سوى دعواه الإحياء والإماتة ولم يستشعر منها بحث توسط حركات الأفلاك ولم يوقف له على أثر ليجاب بأن تلك الحركات أيضا من الله تعالى فلا يقدح توسطها في كون الإحياء والإماتة منه تعالى شأنه- ولا أظنك في مرية من هذا- ولعل الأظهر مما ذهب إليه الإمام ما ذكره بعض المحققين من أن المارد لما كان مجوزا لتعدد الآلهة لم يكن مدعيا أنه إله العالم ولو ادعاه لجنن على نحو من مذهب الصابئة أن الله تعالى فوض إلى الكواكب التدبير والأفعال من الإيجاد وغيره منسوبة إليهن، فجوز أن يكون في الأرض أيضا من يفوض إليه إما قولا بالحلول أو لاكتساء خواص فلكية أو غير ذلك أراد إبراهيم عليه السلام أن ينبه على قصوره عن هذه الرتبة وفساد رأيه من جهة علمه الضروري بأنه مولودا حدث بعد أن لم يكن وأن من لا وجود له في نفسه لا يمكنه الإيجاد الذي هو إفاضة الوجود البتة ضرورة احتياجه إلى الموجد ابتداء ودواما وهذا كاف في إبطال دعوى اللعين فلم يعمم الدعوى في تفرده تعالى بالإلهية على إنه لوح إليه من حيث إنه لا فرق بين الإيجاد والإعدام نوعين هما الاحياء والاماتة والقادر على إيجاد كل ممكن وإعدامه يلزمه أن يكون خارجا عن الممكنات واحدا من كل الوجوه لأن التعدد يوجب الإمكان والافتقار كما برهن عليه في محله، فعارضه اللعين بما أوهم أنه يجوز أن يكون الممكن لاستغنائه عن الفاعل في البقاء- كما عند بعض القاصرين من المتكلمين- مفوضا إليه بعد إيجاده ما يستقل بإيجاد الغير وتدبير الغير، وهذا قد خفي على الأذكياء فضلا عن الأغبياء، وقال:- أنا أحيي وأميت وأبدي- فعليه مشيرا إلى أن للدوام حكم الابتداء في طرف الاحياء وهو في ذلك مناقض نفسه من حيث لا يشعر إذ لو كان كذلك لم يكن التدبير مفوضا إلى غير الباري ولم يكن مستغنيا عن الموجد طرفة عين وإلا فليس العفو إحياء إن سلم أن القتل إماتة فألزمه الخليل عليه السلام بأن القادر لا يفترق بالنسبة إليه الدوام والابتداء- فإن الله تعالى يأتي بالشمس من المشرق فأت بها أنت من المغرب- منبها على المناقضة المذكورة مصرحا بأنه غالط في إسناد الفعل دواما إلى غير ما أسند إله ابتداء مظهرا لدى السامعين ما كان عسى أن يغبي على البعض فهذا كلام وارد على الخطابة، والبرهان يتلقاه المواجه به طوعا أو كرها بالإذعان ليس فيه مجال للاعتراض سليم عن العراض، وعليه يكون المجموع دليلا واحدا وليس من الانتقال إلى دليل آخر لما فيه من القيل والقال، ولا من العدول إلى مثال أوضح حتى يقال كأنه قيل: ربي الذي يوجد الممكنات وأتي بالإحياء والإماتة مثالا، فلما اعترض جاء بآخر أجلي دفعا للمشاغة لأنه مع أن فيه ما في الأول يرد عليه أن الكلام لم يسق هذا المساق- كما لا يخفى- هذا والله تعالى أعلم بحقائق كتابه المجيد فتدبر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 وإنما أتي في الجملة الثانية بالاسم الكريم ولم يؤت بعنوان الربوبية كما أتي بها في الجملة الأولى بأن يقال: إن ربي ليكون في مقابلة أنا في ذلك القول مع ما فيه من الدلالة على ربوبيته تعالى له عليه السلام ولذلك المارد عليه اللعنة ففيه ترق عما في تلك الجملة كالترقي من الأرض إلى السماء وهو في هذا المقام حسن حسن التأكيد بأن والأمر للتعجيز والفاء الأولى للايذان بتعلق ما بعدها بما قبلها، والمعنى إذا ادعيت الإحياء والإماتة لله تعالى وأخطأت أنت في الفهم أو غالطت فمريح البال ومزيح الالتباس والاشكال فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ إلخ. والباء للتعدية، ومِنَ في الموضعين لابتداء الغاية متعلقة بما تقدمها من الفعل، وقيل: متعلقة بمحذوف وقع حالا أي مسخّرة أو منقادة فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ أي غلب وصار مبهوتا منقطعا عن الكلام متحيرا لاستيلاء الحجة عليه، وقرئ- بهت- بفتح الباء وضم الهاء- وبهت- بفتح الأولى وكسر الثانية وهما لغتان والفعل فيهما لازم- وبهت- بفتحهما فيجوز أن يكون لازما أيضا، والَّذِي فاعله وأن يكون متعديا وفاعله ضمير إبراهيم، والَّذِي مفعوله- أي فغلب إبراهيم عليه السلام الكافر وأسكته- وإيراد الكفر في حيز الصلة للإشعار بعلة الحكم، قال الكيا: وفي الآية دليل على جواز المحاجة في الدين وإن كانت محاجة هذا الكافر كفرا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي إلى مناهج الحق كما هدى أولياءه، وقيل: لا يهديهم إلى طريق الجنة يوم القيامة أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ عطف على سابقه والكاف إما اسمية بمعنى مثل معمولة- لأرأيت- محذوفا أي- أو أرأيت. مثل الذي مر وإلى ذلك ذهب الكسائي والفراء وأبو علي وأكثر النحويين وحذف لدلالة- ألم تر- عليه على أنه قد قيل: إن مثال هذا النظم كثيرا ما يحذف منه فعل الرؤية كقوله: قال لها كلابها أسرعي ... كاليوم (مطلوبا، ولا طالبا) وجيء بهذه الكاف للتنبيه على تعدد الشواهد وعدم انحصارها فيما ذكر كما في قولك- الفعل الماضي- مثل: نصر، وتخصيص هذا بذلك على ما قيل: لأن منكر الأحياء كثير، والجاهل بكيفيته أكثر من أن يحصى بخلاف مدعي الربوبية، وقيل: إنها زائدة- وإلى ذلك ذهب الأخفش- أي أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ أو كَالَّذِي مَرَّ إلخ، وقيل. إنه عطف محمول على المعنى كأنه قيل: أَلَمْ تَرَ كالذي حاج، أو كَالَّذِي مَرَّ وقيل: إنه من كلام إبراهيم عليه السلام ذكره جوابا لمعارضة ذلك الكافر، وتقديره وإن كنت تحيي فأحي كإحياء الذي مرّ، ولا يخفى ضعفه للفصل وكثرة التقدير، وإنما لم تجعل الكاف أصلية والعطف على الَّذِي نفسه في الآية السابقة لاستلزامه دخول إلى على الكاف، وفيه إشكال لأنها إلى كانت حرفية فظاهر وإن كانت اسمية فلأنها مشبهة بالحرف في عدم التصرف لا يدخل عليها من الحروف إلا ما ثبت في كلامهم، وهو عن- وذلك على قلة أيضا، وقال بعضهم: إن كلا من لفظ أَلَمْ تَرَ وأَ رَأَيْتَ [الكهف: 63، الفرقان: 43، العلق: 9 و 11 و 13، الماعون: 1] مستعمل لقصد التعجب إلا أن الأول تعلق بالمتعجب منه فيقال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي صنع كذا بمعنى انظر إليه فتعجب من حاله، والثاني بمثل المتعجب منه فيقال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي صنع كذا بمعنى انظر إليه فتعجب من حاله، والثاني بمثل المتعجب منه فيقال- أرأيت مثل الذي صنع كذا بمعنى إنه من الغرابة بحيث لا يرى له مثل ولا يصح أَلَمْ تَرَ إِلَى مثله إذ يكون المعنى أنظر إلى المثل وتعجب من الذي صنع، ولذا لم يستقم عطفك كَالَّذِي مَرَّ على الَّذِي حَاجَّ ويحتاج إلى التأويل في المعطوف بجعله متعلقا بمحذوف- أي أرأيت كالذي مر- فيكون من عطف الجملة أو في المعطوف عليه نظرا إلى أنه في معنى- أرأيت كالذي حاج- فيصح العطف عليه ومن هذا يعلم أن عدم الاستقامة ليس لمجرد امتناع دخول إلى على الكاف بل لو قلت أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ أو مثل كَالَّذِي مَرَّ فعدم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 الاستقامة بحاله عند من له معرفة بأساليب الكلام، وإن هذا ليس من زيادة الكاف في شيء بل لا بد في التعجب بكلمة أَرَأَيْتَ من إثبات كاف، أو ما في معناه- ولا يخفى أن هذا من الغرابة بمكان- فإن أَلَمْ تَرَ يستعمل للتعجب مع التشبيه في كلام العرب كما يشير إليه كلام سيبويه، أَرَأَيْتَ كثيرا ما يستعمل بدون الكاف أو ما في معناه، وهو في القرآن كثير وكيف يفرق بينهما بأن الأول تعلق بالمتعجب منه، وفي الثاني بمثله، والمثلية إنما جاءت من ذكر الكاف ولو ذكرت في الأول لكان مثله بلا فرق فهذا مصادرة على المطلوب فليس إلا ما ذكر أولا سوى أن تقدير أَرَأَيْتَ مع الكاف أولى لأن استعماله معها أكثر فتدبر. وأَوْ للتخيير أو للتفصيل- والمار- هو عزيز بن شرخيا- كما أخرجه الحاكم عن علي كرم الله تعالى وجهه. وإسحق بن بشر عن ابن عباس، وعبد الله بن سلام، واليه ذهب قتادة، وعكرمة، والربيع، والضحاك، والسدي، وخلق كثير- وقيل: هو أرميا بن خلقيا من سبط هرون عليه السلام- وهو المروي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه- وإليه ذهب وهب، وقيل: هو الخضر عليه السلام- وحكي ذلك عن ابن إسحق- وزعم بعضهم أن هذين القولين واحد، وأن أرميا هو الخضر بعينه، وقيل: شعيا، وقيل: غلام لوط عليه السلام، وقال مجاهد: كان المار رجلا كافرا بالبعث وأيد بنظمه مع نمروذ في سلك واحد حيث سيق الكلام للتعجيب من حالهما، وبأن كلمة الاستبعاد في هذا المقام تشعر بالإنكار ظاهرا وليست هي فيه مثلها في أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ [آل عمران: 40، مريم: 8 و 20] وأَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ [آل عمران: 47] وعورض بما بين قصته وقصة إبراهيم الآتية بعد من التناسب المعنوي فإن كليهما طلبا معاينة الإحياء مع أن ما جرى له في القصة مما يبعد أن يجري مع كافر- وإذا انضم إلى ذلك تحريه الظاهر في الاحتراز عن الكذب في القول الصادر قبل التبيين الموجب لإيمانه على زعم من يدعي كفره- قوى المعارض جدا، وإن قلنا: بأن دلالة الانتظام في سلك نمروذ على الإيمان أحق لينطبق على التفصيل المقدم في اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا إلخ حسب ما أشرنا إليه في القيل قبل لم يكد يتوهم القول بالكفر كما لا يخفى،- والقرية- قال ابن زيد: هي التي خرج منها الألوف، وقال الكلبي: دير سابراباد، وقال السدي: دير سلماباذ، وقيل: دير هرقل، وقيل: المؤتفكة، وقيل: قرية العنب على فرسخين من بيت المقدس، وقال عكرمة، والربيع، ووهب: هي بيت المقدس وكان قد خربها بختنصر وهذا هو الأشهر، واشتقاقها من القرى وهو الجمع وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها أي ساقطة على سقوفها بأن سقط السقف أولا ثم تهدمت الجدران عليه، وقيل: المعنى خالية عن أهلها ثابتة على عروشها أي إن بيوتها قائمة والجار والمجرور على الأول متعلق- بخاوية- وعلى الثاني بمحذوف وقع خبرا بعد خبر- لهي- والجملة قيل: في موضع الحال من الضمير المستتر في مَرَّ وقيل: من قَرْيَةٍ ويجيء الحال من النكرة على القلة، وقيل: في موضع الصفة لها ويبعده توسط الواو، ومن الناس من جوز كون عَلى عُرُوشِها بدلا من قَرْيَةٍ بإعادة الجار وكونه صفة لها، وجملة وَهِيَ خاوِيَةٌ إما حال من- العروش- أو من- القرية- أو من- ها- والعامل معنى الاضافة والكل مما لا ينبغي حمل التنزيل عليه قالَ في نفسه أو بلسانه أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها المشار إليه إما نفس القرية بدون تقدير كما هو الظاهر، فالاحياء والاماتة مجازان عن العمارة والخراب، أو بتقدير مضاف- أي أصحاب هذه القرية- فالإحياء والإماتة على حقيقتها، وإما عظام القرية البالية وجثثهم المتفرقة، والسياق دال على ذلك، والاحياء والاماتة على حالهما أيضا، فعلى القول بالمجاز يكون هذا القول على سبيل التلهف والتشوق إلى عمارة تلك القرية لكن مع استشعار اليأس عنها على أبلغ وجه وأوكده ولذا أراه الله تعالى أبعد الأمرين في نفسه، ثم في غيره، ثم أراه ما استبعده صريحا مبالغة في إزاحة ما عسى يختلج في خلده، وعلى القول الثاني يكون اعترافا بالعجز عن معرفة طريق الاحياء واستعظاما لقدرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 المحيي إذا قلنا: إن القائل كان مؤمنا وإنكارا للقدرة على ذلك إن كان كافرا، ورجح أول الاحتمالات الثلاثة في المشار إليه بأن إرادة إحياء- لأهل، أو عظامهم- يأباه التعرض لحال القرية دون حال من ذكر، والاقتصار على ذكر موتهم دون كونهم ترابا أو عظاما نخرة مع كونه أدخل في الاستبعاد لشدة مباينته للحياة وغاية بعده عن قبولها على أنه لم تتعلق إرادته تعالى بإحيائهم كما تعلقت إرادته تعالى بعمارتها ومعاينة المار لها كما ستسمعه، وتقديم المفعول على الفاعل للاعتناء به من حيث إن الاستبعاد ناشئ من جهته لا من جهة الفاعل، وأَنَّى نصب على الظرفية إن كانت بمعنى متى، وعلى الحالية من هذه إن كانت بمعنى كيف، والعامل فيه على أي حال يُحْيِي. فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ أي فألبثه ميتا مائة عام ولا بد من اعتبار هذا التضمين لأن الإماتة بمعنى إخراج الروح وسلب الحياة مما لا تمتد- والعام- السنة من العوم وهو السباحة، وسميت بذلك لأن الشمس تعوم في جميع بروجها ثُمَّ بَعَثَهُ أي أحياه من بعثت الناقة إذا أقمتها من مكانها، ولعل إيثاره على أحياه للدلالة على سرعته وسهولة تأتيه على الباري عز اسمه، وللإيذان بأنه قام كهيئته يوم مات عاقلا فاهما مستعدا للنظر والاستدلال وكان ذلك بعد عمارة القرية، ففي البحر أنه لما مر له سبعون سنة من موته وقد منعه الله تعالى من السباع والطير ومنع العيون أن تراه أرسل ملكا إلى ملك عظيم من ملوك فارس يقال له: كوسك فقال: إن الله تعالى يأمرك أن تنفر بقومك فتعمر بيت المقدس وإيليا وأرضها حتى تعود أحسن مما كانت فانتدب الملك في ثلاثة آلاف قهرمان مع كل قهرمان ألف عامل وجعلوا يعمرونها وأهلك الله تعالى بختنصر ببعوضة دخلت دماغه ونجى الله تعالى من بقي من بني إسرائيل وردهم إلى بيت المقدس فعمروها ثلاثين سنة وكثروا حتى كانوا كأحسن ما كانوا عليه فعند ذلك أحياه الله تعالى قالَ استئناف مبني على السؤال كأنه قيل: فماذا قال له؟ فقيل قال: كَمْ لَبِثْتَ ليظهر له العجز عن الإحاطة بشؤون الله تعالى على أتم وجه وتنحسم مادة استبعاده بالمرة و «كم» نصب على الظرفية ومميزها محذوف تقديره كَمْ وقتا والناصب له لَبِثْتَ والظاهر أن القائل هو الله تعالى، وقيل: هاتف من السماء، وقيل: جبريل، وقيل: نبي، وقيل: رجل مؤمن شاهده يوم مات وعمر إلى حين إحيائه فيكون الإسناد إليه تعالى مجازا قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قاله بناء على التقريب والتخمين أو استقصارا لمدة لبثه، وقيل: إنه مات ضحى وبعث بعد المائة قبل الغروب فقال قبل النظر إلى الشمس: يَوْماً ثم التفت فرأى بقية منها فقال: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ على الإضراب، واعترض بأنه لا وجه للجزم بتمام اليوم ولو بناء على حسبان الغروب لتحقق النقصان من أوله قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ عطف على مقدر أي ما لبثت ذلك القدر بل هذا المقدار فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ قيل: كان طعامه عنبا أو تينا وشرابه عصيرا أو لبنا لَمْ يَتَسَنَّهْ أي لم يتغير في هذه المدة المتطاولة، واشتقاقه من- السنة- وفي لامها اختلاف فقيل: هاء بدليل سانهت فلانا فهو مجزوم بسكون الهاء، وقيل: واو بدليل الجمع على سنوات فهو مجزوم بحذف الآخر والهاء هاء سكت ثبتت في الوقف وفي الوصل لإجرائه مجراه، ويجوز أن يكون التسنه عبارة عن مضي السنين كما هو الأصل ويكون عدم التسنه كناية عن بقائه على حاله غضا طريا غير متكرج، وقيل: أصله لم يتسنن. ومنه- الحمأ المسنون- أي الطين المتغير ومتى اجتمع ثلاث حروف متجانسة يقلب أحدها حرف علة كما قالوا في تظننت: تظنيت، وفي تقضضت: تقضيت، وقد أبدلت هنا النون الأخيرة في رأي ياء، ثم أبدلت الياء ألفا، ثم حذفت للجازم والجملة المنفية حال، وقد جاء مثلها بغير واو خلافا لمن تردد فيه كقوله تعالى: لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ [الأنعام: 19، 93] وأُوحِيَ إِلَيَّ [هود: 36] وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ [الأنعام: 93] وصاحبها إما الطعام والشراب، وإفراد الضمير لاجرائهما مجرى الواحد كالغذاء وإما الأخير واكتفى بدلالة حاله على حال الأول ويؤيده قراءة عبد الله، وهذا شريك- لم يتسنه- وقرأ أبي- لم يسنه- بإدغام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 التاء في السين واستشكل تفرع فَانْظُرْ على- لبث المائة- بالفاء وهو يقتضي التغير، وأجيب بأن المفرع عليه ليس- البث الماء بل لبث المائة من غير تغير في جسمه حتى ظنه زمانا قليلا ففرع عليه ما هو أظهر منه وهو عدم تغير الطعام والشراب وبقاء الحيوان حيا من غير غذاء، وقيل: إن التقدير- إن حصل لك عدم طمأنينة في أمر البعث- فانظر إلى طعامك وشرابك السريع التغير حتى تعرف أن من لم يغيره يقدر على البعث. وفيه نظر لأنه مع كونه خلاف الظاهر يعكر عليه قوله تعالى: وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ كيف نخرت عظامه وتفرقت أوصاله وهذا هو الظاهر لأنه أدل على الحال وأوفق بما بعده، وكون المراد- انظر إليه سالما في مكانه كما ربطته حفظناه بلا ماء وعلف كما حفظنا الطعام والشراب- ليس بشيء ولا يساعده المأثور وَلِنَجْعَلَكَ متعلق بمقدر أي وفعلنا ذلك لنجعلك، ومنهم من قدره متأخرا، وقيل: إنه متعلق بما قبله والواو زائدة وعلى تقديره فهو معطوف على لَبِثْتَ أو على مقدر بطريق الاستئناف أي فعلنا ذلك لتعاين ما استبعدت أو لتهدى ولنجعلك، وقيل: إنه عطف على قالَ ففيه التفات آيَةً أي عبرة أو مرشدا لِلنَّاسِ أي جنسهم أو من بقي من قومه أو للموجودين في هذا القرن بأن يشاهدوك وأنت من أهل القرون الخالية ويأخذوا عنك ما انطوى عنهم منذ أحقاب من علم التوراة، وفيه دليل على ما ذكر من اللبث المديد ولذلك قرن بينه وبين الأمر بالنظر إلى حماره وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ أي عظام الحمار- كما قاله السدي- وكرر الأمر لما أن المأمور به أولا هو النظر إليها من حيث الدلالة على المكث المديد، وثانيا هو النظر إليها من حيث تعتريها الحياة ومباديها، وقيل: عظام أموات أهل القرية، وعن قتادة، والضحاك، والربيع عظام نفسه قالوا: أول ما أحيا الله تعالى منه عيناه وسائر جسده ميت وعظامه نخرة فأمر بالنظر إليها، وقيل: عظامه وعظام حماره والكل لا يعول عليه. كَيْفَ نُنْشِزُها بالزاي المعجمة من الإنشاز وهو الرفع أي كيف نرفعها من الأرض فنردها إلى أماكنها من الجسد، وقال الكسائي: نلينها ونعظمها، وقرأ أبي ننشيها، وابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، ويعقوب- ننشرها- من أنشر الله تعالى الموتى أحياها ولعل المراد بالاحياء ما تقدم لا معناه الحقيقي لقوله تعالى: ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً أي نسترها به كما نستر الجسد باللباس، وقرأ أبان عن عاصم- ننشرها- بفتح النون وضم الشين والراء وهو حينئذ من النشر ضد الطي- كما قال الفراء- فالمعنى كيف نبسطها، والجملة قيل: إما حال من العظام أي وانظر إليها مركبة مكسوة لحما أو بدل اشتمال أي وانظر إلى العظام كيفية انشازها وبسط اللحم عليها، واعترضت الحالية بأن الجملة استفهامية وهي لا تقع حالا، وأجيب بأن الاستفهام ليس على حقيقته فما المانع من الحالية، ولعل عدم التعرض لكيفية نفخ الروح- كما قيل- لما أنها مما لا تقتضي الحكمة بيانها، وفي بعض الآثار إن ملكا نادى العظام فأجابت وأقبلت من كل ناحية ثم ألبسها العروق والعصب ثم كساها اللحم ثم أنبت عليها الجلد والشعر ثم نفخ فيه الروح فقام الحمار رافعا رأسه وأذنيه إلى السماء ناهقا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أي اتضح اتضاحا تاما له ما دل عليه الأمر من كيفية الإحياء بمباديه، والفاء للعطف على مقدر يستدعيه الأمر المذكور وإنما حذف للإيذان بظهور تحققه واستغنائه عن الذكر وللإشعار بسرعة وقوعه كأنه قيل: فأنشرها الله تعالى وكساها لحما فنظر إليها فتبين له كيفيته فلما تبين ذلك قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ ومن جملته ما شوهد قَدِيرٌ. وقيل: فاعل تبين مضمر يفسره مفعول أعلم فالكلام من باب التنازع على مذهب البصريين، وأورد عليه أن شرط التنازع كما نص عليه النحاة اشتراك العاملين بعطف ونحوه بحيث يرتبطان فلا يجوز ضربني أهنت زيدا قيل: وليس بشيء لأنه لم يشترطه إلا ابن عصفور، وقد صرح بازات الفن بخلافه- كأبي علي وغيره- مع أنه لم يخص بالعطف إذ هو جار في قوله تعالى: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ [الحاقة: 19] ولما- رابطة للجملتين فيكفي مثله في الربط وإن لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 يصرحوا به، ومن الناس من استحسن أن يجعل من باب ما يكون المراد بالفعل نفس وقوعه لا التلبس بالفاعل فكان معناه فلما حصل له التبين قالَ أَعْلَمُ إلخ، ويساعده قراءة ابن عباس رضي الله عنهما فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ على البناء للمفعول، وإيثار صيغة المضارع للدلالة على أن علمه بذلك مستمر نظرا إلى أن أصله لم يتغير بل إنما تبدل بالعيان وصفه، وفيه إشعار بأنه إنما قال ما قال بناء على الاستبعاد العادي واستعظاما للأمر، وقرأ ابن مسعود- قيل أعلم- على وجه الأمر، وأخرج سعيد بن منصور. وابن المنذر عن ابن عباس أنه كان يقرأ قالَ أَعْلَمُ ويقول: لم يكن بأفضل من إبراهيم عليه السلام قال الله تعالى له: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ [البقرة: 26] وبذلك قرأ حمزة، والكسائي، والآمر هو الله تعالى، أو النبي، أو الملك، ويحتمل أن يكون المخاطب هو نفسه على سبيل التجريد مبكتا لها موبخا على ما اعتراها من ذلك الاستبعاد، يروى أنه بعد هذا القول قام فركب حماره حتى أتى محلته فأنكره الناس وأنكرهم وأنكر منازلهم فانطلق على وهم منهم حتى أتى فإذا هو بعجوز عمياء مقعدة قد أتى عليها مائة وعشرون سنة كانت أمة له وكان قد خرج عزير وهي بنت عشرين سنة فقال لها: يا هذه أهذا منزل عزيز؟ قالت: نعم وبكت وقالت: ما رأيت أحدا منذ كذا وكذا سنة يذكر عزيزا وقد نسيه الناس قال: فإني أنا عزيز قالت: سبحان الله فإن عزيز قد فقدناه منذ مائة سنة فلم يسمع له بذكر قال: فإني عزيز كان الله تعالى أماتني مائة سنة ثم بعثني قالت: فإن عزيزا كان رجلا مستجاب الدعوة يدعو للمريض ولصاحب البلاء بالعافية والشفاء فادع الله تعالى أن يرد علي بصري حتى أراك فإن كنت عزيرا عرفتك فدعا ربه ومسح يده على عينيها فصّحتا وأخذ بيدها فقال: قومي بإذن الله تعالى فأطلق الله تعالى رجليها فقامت صحيحة كأنما نشطت من عقال فنظرت فقالت: أشهد أنك عزير فانطلقت إلى محلة بني إسرائيل وأنديتهم ومجالسهم، وابن العزير شيخ ابن مائة سنة وثمان عشرة سنة وبنو بنيه شيوخ في المجلس فنادتهم فقالت: هذا عزير قد جاءكم فكذبوها فقالت: أنا فلانة مولاتكم دعا إلى ربه فرد عليّ بصري وأطلق رجلي، وزعم أن الله تعالى كان أماته مائة سنة ثم بعثه فنهض الناس فأقبلوا عليه فنظروا إليه فقال ابنه: كانت لأبي شامة سوداء بين كتفيه فكشف عن كتفيه فإذا هو عزيز فقالت بنو إسرائيل: فإنه لم يكن فينا أحد حفظ التوراة فيما حدثنا غير عزير وقد حرق بختنصر التوراة ولم يبق منها شيء إلا ما حفظت الرجال فاكتبها لنا وكان أبوه قد دفن التوراة أيام بختنصر في موضع لم يعرفه غير عزير فانطلق بهم إلى ذلك الموضع فحفره فاستخرج التوراة وكان قد عفن الورق ودرس الكتاب فجلس في ظل شجرة وبنو إسرائيل حوله فنزل من السماء شهابان حتى دخلا جوفه فتذكر التوراة فجددها لبني إسرائيل، وفي رواية أنه قرأها عليهم حين طلبوا منه ذلك عن ظهر قلب من غير أن يخرم منها حرفا فقال رجل من أولاد المسبيين مما ورد بيت المقدس بعد مهلك بختنصر: حدثني أبي عن جدي أنه دفن التوراة يوم سبينا في خابية في كرم فإن أريتموني كرم جدي أخرجتها لكم فذهبوا إلى كرم جده ففتشوها فوجدوها فعارضوها بما أملى عليهم عزيز عن ظهر قلب فما اختلفا في حرف واحد- فعند ذلك قالوا: عزيز ابن الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا. ومن باب الإشارة والتأويل في الآيات لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ لأنه في الحقيقة هو الهدى المستفاد من النور القلبي اللازم للفطرة وهو لا مدخل للإكراه فيه قَدْ تَبَيَّنَ ووضح الرُّشْدُ الذي هو طريق الوحدة وتميز مِنَ الْغَيِّ الذي هو النظر إلى الأغيار فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وهو ما سوى الله تعالى وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ إيمانا حقيقيا شهوديا فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى التي هي الوحدة الذاتية لَا انْفِصامَ لَها في نفسها لأنها الموافقة لما في نفس الأمر والممكنات والشؤون داخلة في دائرتها غير منقطعة عنها وَاللَّهُ سَمِيعٌ يسمع قول كل ذي دين عَلِيمٌ بنيته اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا وليس وليّ سواه ولا ناصر ولا معين لهم غيره يُخْرِجُهُمْ مِنَ ظلمات- النفس وشبه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 الخيال والوهم إلى نور اليقين والهداية وفضاء عالم الأرواح وَالَّذِينَ كَفَرُوا بالميل إلى الأغيار أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ الذي حال بينهم وبين الله تعالى فلم يلتفتوا إليه يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ نور الاستعداد والهداية الفطرية إلى ظلمات صفات النفس والشكوك والشبهات أُولئِكَ المبعدون عن الحضرة أَصْحابُ النَّارِ الطبيعية هُمْ فِيها خالِدُونَ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ وهو نمروذ النفس الأمارة المجادلة لإبراهيم الروح القدسية التي ألقيت في نار الطبيعة فعادت عليها بردا وسلاما، أو نمروذ الجبار وإبراهيم الخليل عليه السلام أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ الذي هو عالم القوى البدنية وملك هذه الدنيا الدنية إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ الروح أو إبراهيم الخليل رَبِّيَ أني من غذيت ببيان أنواره أو إيجاده وهدايته الَّذِي يُحْيِي من توجه إليه وَيُمِيتُ من أعرض عنه، أو يحيي ويميت الإحياء والإماتة المعهودتين قالَ نمروذ النفس الأمارة، أو الجبار أَنَا أُحْيِي بعض القوى بصرفها في ميادين اللذات واستنشاق ريح الشهوات وَأُمِيتُ بعضها بتعطيله عن ذلك برهة، أو أحي بالعفو وأميت بالقتل قالَ إِبْراهِيمُ الروح، أو الخليل فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بشمس العرفان من مشرقها وهو جانب المبدأ الفياض فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ أي أظهرها عد غروبها وحيلولة أرض الوجود بينك وبينها، أو أن الله- يأتي بشمس الروح من مشرقها- وهو مبدأها الأصلي فتشرق أنوارها على صفحات البدن- فأت بها بعد ما غربت- أي فأرجعها إلى من قتله وأمته، وعلى هذا يكون من تتمة الأول فَبُهِتَ وغلب الَّذِي كَفَرَ وهو النفس الأمارة المدعية للربوبية على عرش البدن أو نمروذ اللعين أَوْ كَالَّذِي مَرَّ وهو العقل الإنساني عَلى قَرْيَةٍ القلب الذي هو البيت المقدس، أو هو عزيز النبي وكان قدم على بيت المقدس قبل التجلي باسمه تعالى المحيي وَهِيَ خاوِيَةٌ خالية من التجليات النافعة ثابتة عَلى عُرُوشِها صورها أو ساقطة منهدمة لضعف أس الاستعداد على عروش العزائم قالَ لذهوله عن النظر إلى الحقائق أَنَّى متى، أو كيف يُحْيِي هذِهِ القرية الله الجامع لصفات الجمال والجلال بَعْدَ مَوْتِها بداء الجهل والالتفات إلى السوي فَأَماتَهُ اللَّهُ أبقاه جاهلا مائة عام أي مدة طويلة، وقيل: هي عبارة في الأصل عن ثمانية أعوام وأربعة أشهر أو خمسة وعشرين سنة ثم بعثه بالحياة الحقيقية وطلب منه الوقوف على مدة اللبث فما ظنها- إلا يوما أو بعض يوم- استصغارا لمدة اللبث في موت الجهل المنقضية بالنسبة إلى الحياة الأبدية، أو أماته بالموت الإرادي في إحدى المدد المذكورة فتكون المدة زمان رياضته وسلوكه ومجاهدته في سبيل الله تعالى، أو أماته حتنف أنفه بالموت الطبيعي ثم بعثه بالإحياء قال: بل لبثت في الحقيقة مائة عام فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وكان التين أو العنب، والأول إشارة إلى المدركات الكلية لكونه لبا كله وكون الجزئيات فيه بالقوة كالحبات التي في التين، والثاني إشارة إلى الجزئيات لبقاء اللواحق المادية معها في الإدراك كالقشر والعجم وَشَرابِكَ وكان عصير العنب واللبن، والأوّل إشارة إلى العشق والإرادة وعلوم المعارف والحقائق، والثاني إشارة إلى العلم النافع كالشرائع لَمْ يَتَسَنَّهْ أي لم يتغير عما كان في الأول بحسب الفطر مودعا فيك فإن العلوم مخزونة في كل نفس بحسب استعداده الناس معادن كمعادن الذهب والفضة وإن حجبت بالمواد وخفيت مدة بالتقلب في البرازخ وظلماتها لم تبطل لم تتغير عن حالها حتى إذا رفع الحجاب ظهرت كما كانت وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وهو القالب الحامل للقلب أو المعنى الظاهر وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً أي دليلا للناس بعثناك وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ من القوى كَيْفَ نُنْشِزُها ونرفعها عن أرض الطبيعة ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً وهو العرفان الذي يكون لباسا لها، وعبر عنه باللحم لنموه وريادته كلما تغذت الروح بأطعمة الشهود وأشربة الوصال، والمعنى الظاهر ظاهر فلما تبين ووضح له ذلك قالَ أَعْلَمُ علما مستمرا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ ومن جملته ما كان قَدِيرٌ لا يستعصى عليه ولا يعجزه وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ بيان لتسديد المؤمنين إثر بيان ولمغايرته لما تقدم كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى غير الأسلوب والظرف منتصب إما بمضمر صرح بمثله في قوله تعالى: وَاذْكُرُوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ [الأعراف: 69، 74] وإيجاب ذكر الوقت إيجاب لذكر ما فيه بطريق برهاني وإما- يقال- الآتي وقد تقدم تحقيق ذلك رَبِّ كلمة استعطاف شرع ذكرها قبل الدعاء مبالغة في استعداد الإجابة أَرِنِي من الرؤية البصرية المتعدية بهمزة النقل إلى مفعولين فالباء مفعوله الأوّل وقوله تعالى: كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى في محل مفعوله الثاني المعلق عنه، وإلى ذلك ذهب أكثر المعربين، واعترض بأن البصرية لا تعلق، وأجيب بأن ذلك إنما ذكره بعض النحاة، ورده ابن هشام بأنه سمع تعليقها، وفي شرح التوضيح يجوز كونها علمية، ومن الناس من لم يجعل «ما» هنا من التعليق في شيء وجعل كلمة كَيْفَ إلخ في تأويل مصدر هو المفعول كما قاله ابن مالك في قوله تعالى: وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ [إبراهيم: 45] ثم الاستفهام- بكيف- إنما هو سؤال عن شيء متقرر الوجود عند السائل والمسئول، فالاستفهام هنا عن هيئة الإحياء المتقرر عند السائل أي- بصرني كيفية إحيائك للموتى- وإنما سأله عليه السلام لينتقل من مرتبة علم اليقين إلى عين اليقين، وفي الخبر «ليس الخبر كالمعاينة» وكان ذلك حين رأى جيفة تمزقها سباع البر والبحر والهواء قاله الحسن، والضحاك، وقتادة، وهو المروي عن أهل البيت، وروى عن ابن عباس، والسدي، وسعيد بن جبير أن الملك بشره عليه السلام بأن الله تعالى قد اتخذه خليلا وأنه يجيب دعوته ويحيي الموتى بدعائه فسأل لذلك، وروى عن محمد بن إسحق بن يسار أن سبب السؤال منازعة النمروذ إياه في الأحياء حيث رد عليه لما زعم أن العفو إحياء وتوعده بالقتل إن لم يحي الله تعالى الميت بحيث يشاهده فدعا حينئذ قالَ استئناف مبني على السؤال والضمير للرب أَوَلَمْ تُؤْمِنْ عطف على مقدر- أي ألم تعلم ولم تؤمن بأني قادر على الإحياء كيف أشاء حتى تسألني عنه- أو بأني قد اتخذتك خليلا، أو بأن الجبار لا يقتلك قالَ أي إبراهيم بَلى آمنت بذلك وَلكِنْ سألت لِيَطْمَئِنَّ أي يسكن قَلْبِي بمضامة الأعيان إلى الإيمان والإيقان بأنك قادر على ذلك، أو لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بالخلة أو بأن الجبار لا يقتلني، وعلى كل تقدير لا يعود نقص على إبراهيم من هذا السؤال ولا ينافي منصب النبوة أصلا، وللناس ولوع بالسؤال عن هذه الآية- وما ذكر هو المشهور فيها- ويعجبني ما حرره بعض المحققين في هذا المقام وبسطه في الذب عن الخليل عليه السلام من الكلام، وهو أن السؤال لم يكن عن شك في أمر دينيّ والعياذ بالله ولكنه سؤال عن كيفية الإحياء ليحيط علما بها وكيفية الإحياء لا يشترط في الإيمان الإحاطة بصورتها، فالخليل عليه السلام طلب علم ما لا يتوقف الإيمان على علمه، ويدل على ذلك ورود السؤال بصيغة كَيْفَ وموضوعها السؤال عن الحال، ونظير هذا أن يقول القائل: كيف يحكم زيد في الناس فهو لا يشك أنه يحكم فيهم ولكنه سأل عن كيفية حكمه المعلوم ثبوته ولو كان سائلا عن ثبوت ذلك لقال- أيحكم زيد في الناس- ولما كان الوهم قد يتلاعب ببعض الخواطر فتنسب إلى إبراهيم وحاشاه شكا من هذه الآية قطع النبي صلى الله عليه وسلم دابر هذا الوهم بقوله على سبيل التواضع: «نحن أحق بالشك من إبراهيم» أي ونحن لم نشك فلأن لا يشك إبراهيم أحرى، وقيل: إن الكلام مع أفعل جاء هنا لنفي المعنى عن الحبيب والخليل عليهما الصلاة والسلام أي لا شك عندنا جميعا، ومن هذا الباب أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ [الدخان: 37] أي لا خير في الفريقين، وإنما جاء التقرير بعد لأن تلك الصيغة وإن كانت تستعمل ظاهرا في السؤال عن الكيفية كما علمت إلا أنها قد تستعمل أيضا في الاستعجاز كما إذا ادعى مدع أنه يحمل ثقلا من الأثقال وأنت جازم بعجزه عن حمله فتقول له: أرني كيف تحمل هذا وتريد أنك عاجز عن حمله فأراد سبحانه لما علم براءة الخليل عن الحوم حول حمى هذا المعنى أن ينطقه في الجواب بما يدفع عنه ذلك الاحتمال اللفظي في العبارة الأولى ليكون إيمانه مخلصا بعبارة تنص عليه يفهمها كل من يسمعها فهما لا يتخالجه فيه شك، ومعنى الطمأنينة حينئذ سكون القلب عن الجولان في كيفيات الإحياء المحتملة بظهور التصوير المشاهد، وعدم حصول هذه الطمأنينة قبل لا ينافي حصول الإيمان بالقدرة على الإحياء على أكمل الوجوه، ولا أرى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 رؤية الكيفية زادت في إيمانه المطلوب منه عليه السلام شيئا وإنما أفادت أمرا لا يجب الإيمان به، ومن هنا تعلم أن عليا كرم الله تعالى وجهه لم يثبت لنفسه مرتبة في الإيمان أعلى من مرتبة الخليل فيه بقوله: لو كشفت لي الغطاء ما ازددت يقينا كما ظنه جهلة الشيعة وكثير من أصحابنا لما لم يقف على ما حررنا تجشم لدفع ما عسى أن يتوهم من كلامي الخليل والأمير من أفضلية الثاني على الأول فبعض دفعه بأن اليقين يتصور أن يطرأ عليه الجحود لقوله تعالى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [النمل: 14] والطمأنينة لا يتصور طروّ ذلك عليها- ونسب هذا لحجة الإسلام الغزالي- وفي القلب منه شيء، وبعض قرر في دفعه أن مقام النبوة مغاير لمقام الصديقية، فلمقام النبوة طمأنينة وعدم طمأنينته بحسبه، ولمقام الصديقية طمأنينة وعدم طمأنينته بحسبه أيضا، وطمأنينة مقام النبوة كانت لخاتم النبيين صلى الله تعالى عليه وسلم كما كشف عنها بقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ [الفرقان: 45] على ما يعرفه أهل الذوق من الآية وكان الاستعداد من إبراهيم وكذا من موسى عليهما السلام متوجها إلى ابتغاء تلك الطمأنية كما أبانا عن أنفسهما- برب أرني كيف تحيي الموتى، ورب أرني أنظر إليك- وطمأنينة مقام الصديقية كانت للصديقين من أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم كما أبدى عن نفسه إمام الصديقين كرم الله تعالى وجهه بقوله: «لو كشف» إلخ، وكان الاستعداد في صديقي سائر الأنبياء متوجها إلى ابتغاء تلك الطمأنينة فثبتت الفضيلة لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم على سائر إخوانه من الأنبياء والصديقية على سائر الصديقين من أممهم ولم يثبت لصديقيه لوجدانهم طمأنينتهم الفضيلة على الأنبياء عند فقدانهم طمأنينتهم لأن ما فقدوه من الطمأنينة غير ما وجده الصديقون منها لأنهم إنما يفقدون الطمأنينة اللائقة بمقام النبوة والصديقون لم يجدوا مثل تلك الطمأنينة وإنما وجدوا طمأنينة لائقة بمقام الصديقين ولو رضي النبيون بمثله لكان حاصلا لهم، وأجل من ذلك بعدة مراتب ولقد اعترف الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه بهذا التخلف حين بلغه عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: إني لأسهو فقال: يا ليتني كنت سهو محمد صلى الله تعالى عليه وسلم إذ علم أن ما يعده رسول الله صلّى الله عليه وسلم من نفسه الكريمة سهوا فوق أعلى يقظان الصديق إذ حسنات الأبرار سيئات المقربين وحسنات المقربين سيئات النبيين، وهذا أولى مما سبق، وبعض من المتصوفة كجهلة الشيعة التزموا ظاهر كل من الكلامين وزعموا أن أولياء هذه الأمة وصديقيهم أعلى كعبا من الأنبياء ولو نالوا مقام الصديقية محتجبين بما روى عن الإمام الرباني سيدي وسندي عبد القادر الكيلاني قدس سره أنه قال: يا معاشر الأنبياء الفرق بيننا وبينكم بالألقاب وأوتينا ما لم تؤتوه، وببعض عبارات للشيخ الأكبر قدس سره ينطق بذلك، وأنت تعلم أن التزام ذلك والقول به خرق لإجماع المسلمين ومصادم للأدلة القطعية على أفضلية الأنبياء على سائر الخلق أجمعين، ويوشك أن يكون القول به كفرا بل قد قيل به، وما روي عن الشيخ عبد القادر قدس سره فمما لم يثبت نقله عنه في كتاب يعول عليه، وما يعزى إلى الشيخ الأكبر قدس سره فتعارضه عبارات له أخر مثل قوله قدس سره- وهو الذي تعلم ترجمته لنفسه وعده إياها من أكبر الصديقين بل خاتم الولاية الخاصة- والمقام المحمدي فتح لي قدر خرم إبرة من مقام النبوة تجليا لا دخولا فكدت أحترق، وبتقدير تسليم ما نقل عمن نقل والقول بعدم قوة المعارض لنا أن نقول: إن ذلك القول صدر عن القائل عند فنائه في الحقيقة المحمدية والذات الأحمدية فاللسان حينئذ لسانها والقول قولها ولم يصدر ذلك منه حين رؤية نفسه، والوقوف عند رتبته- وهذا غير ما ذهب إليه الشيعة- وبعيد عنه بمراحل، ولعل النوبة تفضي إلى تحقيقه بأتم من هذا إن شاء الله تعالى، فخزائن الفكر ولله الحمد مملوءة، ولكل مقام مقال، هذا وذكر الزمخشري أن المراد بالطمأنينة هنا العلم الذي لا مجال للتشكيك فيه وهو علم الضرورة المخالف لعلم الاستدلال حيث يجوز معنى ذلك، واعترض بأن العلم الموقوف على سبب لا يتصور فيه تشكيك ما دام سببه مذكورا في نفس العالم وإنما الذي قبل التشكيك قبولا مطلقا هو الاعتقاد وإن كان صحيحا وسببه باق في الذكر وبهذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 ينحط الاعتقاد الصحيح عن العلم، وأجيب بأن هذا مبني على تفسير العلم بأنه صفة توجب تمييزا لا يحتمل النقيض بوجه- على ما ذكره ابن الحاجب في مختصره- وقد قيل عليه ما قيل فتدبر، واللام في لِيَطْمَئِنَّ لام كي والفعل منصوب بعدها بإضمار أن، وليس بمبني كما- زلق السمين- ومتعلق اللام محذوف كما أشرنا حذف- ما- منه الاستدراك وقيل المتعلق أَرِنِي ولا أراه شيئا، والماضي للفعل- اطمأن على وزن اقشعر، واختلف هل هو مقلوب أم لا؟ فمذهب سيبويه أنه مقلوب من- اطأمن- فالطاء فاء الكلمة. والهمزة عينها. والميم لامها فقدمت اللام التي هي الميم على العين وهي الهمزة فوزنه افلعل، ومذهب الجرمي أنه غير مقلوب وكأنه يقول- اطأمن واطمأن- مادتان مستقلتان ومصدره الطمأنينة بسكون الميم وفتح الهمزة، وقيل: طمأنينة بتخفيف الهمزة وهو قياس مطرف عند الكوفيين وهو على غير قياس المصادر عند الجميع إذ قياس اطمأن أن يكون مصدره على الاطمئنان، وقرئ- أرني- بسكون الراء قالَ أي الرب فَخُذْ الفاء لجواب شرط محذوف أي إن أردت ذلك فخذ. أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ المشهور أنه اسم جمع كركب وسفر، وقيل: بل هو جمع طائر كتاجر وتجر- وإليه ذهب أبو الحسن- وقيل: بل هو مخفف من طير بالتشديد، وقال أبو البقاء: هو في الأصل مصدر طار يطير ثم سمي به هذا الجنس وألحقت التاء في عدده لاعتباره مذكرا واسم الجنس لما لا يعقل يذكر ويؤنث والجار متعلق بمحذوف وقع صفة لما قبله أو متعلق- بخذ- والمروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها الغرنوق، والطاوس، والديك، والحمامة، وعن مجاهد بدل الغرنوق الغراب، وفي رواية بدل الحمامة بطة، وفي رواية نسر، وتخصيص الطير بذلك لأنه أقرب إلى الإنسان باعتبار طلبه المعاش والمسكن ولذلك وقع في الحديث «لو توكلتم على الله تعالى حق توكله لرزقكم كما ترزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا» ولأنه أجمع لخواص الحيوان ولسهولة تأتي ما يفعل به من التجزئة والتفرقة ولما فيه من مزيد أجزاء من الريش ففي إحيائها من يد ظهور القدرة ولأن من صفته الطيران في السماء وكان من همة إبراهيم عليه الصلاة والسلام الميل إلى جهة العلو والوصول إلى الملكوت فكانت معجزته مشاكلة لهمته فَصُرْهُنَّ قرأ حمزة ويعقوب بكسر الصاد، والباقون بضمها مع التخفيف من- صاره يصوره ويصيره- لغتان بمعنى قطعه أو أماله لأنه مشترك بينهما كما ذكره أبو علي، وقال الفراء: الضم مشترك بين المعنيين، والكسر بمعنى القطع فقط، وقيل: الكسر بمعنى القطع، والضم بمعنى الإمالة، وعن الفراء إن صاره مقلوب صراه عن كذا قطعة، والصحيح أنه عربي، وعن عكرمة أن نبطي، وعن قتادة أنه حبشي، وعن وهب أنه رومي، فإن كان المراد- أملهن- فقوله تعالى: إِلَيْكَ متعلق به وإن كان المراد- فقطعهن- فهو متعلق- بخذ- باعتبار تضمينه معنى الضم، واختار أبو البقاء أن يكون حالا من المفعول المضمر أي- فقطعهن مقربة ممالة- إليك- وزعم ابن هشام- تبعا لغيره- أنه لا يصح تعليق الجار- بصرهن- مطلقا إن لم يقدر مضاف أي إلى نفسك محتجا بأنه لا يتعدى فعل غير علمي عامل في ضمير متصل إلى المنفصل، ورد بأنه إنما يمنع إذا كان متعديا بنفسه أما المتعدي بحرف فهو جائز كما صرح به علماء العربية، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما:- «فصرّهن» - بتشديد الراء مع ضم الصاد وكسرها من صره إذا جمعه، والراء إما مضمومة للاتباع أو مفتوحة للتخفيف، أو مكسورة لالتقاء الساكنين، وعنه أيضا- «فصرّهن» - من التصرية بفتح الصاد وكسر الراء المشددة وأصلها تصررة فأبدل أحد أحرف التضعيف ياء وهي في الأصل من صريت الشاة إذا لم تحلبها أياما حتى يجتمع اللب ژن في ضرعها ثم استعمل في مجرد معنى الجمع- أي اجمعهن وضمهن إليك لتتأملها وتعرف شأنها مفصلة حتى تعلم بعد الإحياء أن جزءا من أجزائها لم ينتقل من موضعه الأول أصلا. ثُمَّ اجْعَلْ أي ألق، أو صير بعد ذبحهن وخلط لحومهن وريشهن ودمائهن كما قاله قتادة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 عَلى كُلِّ جَبَلٍ يمكنك الوضع عليه ولم يعين له ذلك- كما روي عن مجاهد. والضحاك- وروي عن ابن عباس والحسن، وقتادة أن الجبال كانت أربعة، وعن ابن جريج. والسدي أنها كانت سبعة، وعن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أنها كانت عشرة مِنْهُنَّ أي من تلك الطير جُزْءاً أي قطعة، وبعضا ربعا، أو سبعا، أو عشرا، أو غير ذلك، وقرئ «جزوءا» بضمتين «وجزا» بطرح همزته تخفيفا ثم تشديده عند الوقف ثم إجراء الوصل مجرى الوقف وهو مفعول- لا جعل- والجاران قبله متعلقان بالفعل، ويجوز أن يكون على كل مفعولا ثانيا له إن كان بمعنى صير، ومِنْهُنَّ حال من جُزْءاً لأنه في الأصل صفة للنكرة قدمت عليها ثُمَّ ادْعُهُنَّ أي نادهنّ، أخرج ابن المنذر عن الحسن قال: إنه عليه الصلاة والسلام نادى أيتها العظام المتمزقة واللحوم المتفرقة والعروق المتقطعة اجتمعي يرد الله تعالى فيكن أرواحكن فوثب العظم إلى العظم وطارت الريشة إلى الريشة وجرى الدم إلى الدم حتى رجع إلى كل طائر دمه ولحمه وريشه ثم أوحى الله تعالى إلى إبراهيم إنك سألتني كيف أحيي الموتى وأني خلقت الأرض وجعلت فيها أربعة أرواح الشمال. والصبا. والجنوب. والدبور حتى إذا كان يوم القيامة نفخ نافخ في الصور فيجتمع من في الأرض من القتلى والموتى كما اجتمعت أربعة أطيار من أربعة جبال ثم قرأ ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان: 28] وعن مجاهد أنه دعاهن باسم إله إبراهيم تعالين، واستشكل بأن دعاء الجماد غير معقول، وأجيب بأنه من قبيل دعاء التكوين، وقيل: في الآية حذف كأنه قيل: فقطعهن ثم اجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزءا فإن الله تعالى يحييهن فإذا أحياهن فادعهن. يَأْتِينَكَ سَعْياً فالدعاء إنما وقع بعد الإحياء. ولا يخفى أن الآثار مع ما فيه من التكلف لا تساعده، وأعظم منه فسادا ما قيل: إنه عليه الصلاة والسلام جعل على كل جبل منهن طيرا حيا ثم دعاها فجاءت فإن ذلك مما يبطل فائدة الطلب ويعارض الأخبار الصحيحة فإن أكثرها ناطق بأنه دعاها ميتة متفرقة الأجزاء، وفي بعضها أن رؤوسهن كانت بيده فلما دعاهن جعل كل جزء منهن يأتي إلى صاحبه حتى صارت جثثا ثم أقبلن إلى رؤوسهن فانضمت كل جثة إلى رأسها فعادت كل واحدة منهن إلى ما كانت عليه من الهيئة، وسعيا حال من فاعل- يأتينك- أي ساعيات مسرعات، أو ذوات سعي طيرانا أو مشيا، وقيل: إطلاق السعي على الطيران مجاز، وجوز أن يكون منصوبا على المصدرية كقعدت جلوسا، ومن الغريب ما نقل عن النضر بن شميل. قال: سألت الخليل بن أحمد عن قوله تعالى: يَأْتِينَكَ سَعْياً هل يقال الطائر إذا طار سعى؟ فقال: لا قلت: فما معناه؟ قال: معناه يَأْتِينَكَ وأنت تسعى سعيا- وهو من التكلف الغير المحتاج إليه بمكان- وإنما اقتصر سبحانه على حكاية أوامره جل شأنه من غير تعرض لامتثال خليله عليه الصلاة والسلام، ولا لما ترتب عليه من آثار قدرته التي علمت النزر منها للايذان بأن ترتب تلك الأمور على الأوامر الجليلة واستحالة تخلفها عنها من الجلاء والظهور بحيث لا حاجة له إلى الذكر أصلا، وزعم بعضهم أن الخليل عليه الصلاة والسلام لم يفعل شيئا مما اقتضاه ظاهر الكلام وأن الأوامر فيه مثلها في قولك لمن لا يعرف تركيب الحبر مثلا: خذ كذا وكذا وأمكنهما سحقا وألق عليهما كذا وكذا وضع ذلك في الشمس مدة أيام ثم استعمله تجده حبرا جيدا فأنا لا يقتضي الامتثال إذا كان الغرض مجرد تعليم، والرؤية- هنا علمية كما نقل عن شرح التوضيح، وإبراهيم حصل له العلم التام بمجرد وصف الكيفية واطمأن قلبه وسكن لبه، ولهذا لم يذكر الله تعالى ما ترتب على هذه الأوامر من هاتيك الأمور ولم يتعرض للامتثال ولم يعبأ بالإيماء إليه- بقال- أو حال- ومال إلى هذا القول أبو مسلم فأنكر القصة أيضا، وقال: إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما طلب إحياء الموتى من ربه سبحانه وأراه مثالا محسوسا قرب الأمر عليه، والمراد- بصرهن- أملهن ومرنهنّ على الإجابة- أي عود الطيور الأربعة بحيث إذا دعوتها أجابتك حال الحياة- الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 والغرض منه ذكر مثال محسوس لعود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة ولا يخفى أن هذا خلاف إجماع المسلمين، وضرب من الهذيان لا يركن إليه أرباب الدين وعدول عما يقتضيه ظاهر الآية المؤيد بالأخبار الصحيحة والآثار الرجيحة إلى ما تمجه الاسماع ولا يدعو إليه داع فالحق اتباع الجماعة ويد الله تعالى معهم، وفي الآية دليل لمن ذهب إلى أن إحياء الموتى يوم القيامة يجمع الأجزاء المتفرقة وإرسال الروح إليها بعد تركيبها وليس هو من باب إعادة المعدوم الصرف لأنه سبحانه بين الكيفية بالتفريق ثم الجمع وإعادة الروح ولم يعدم هناك سوى الجزء الصوري والهيئة التركيبية دون الأجزاء المادية، واحتج بها بعضهم أيضا على أن البنية ليست شرطا في الحياة لأنه تعالى جعل كل واحد من تلك الأجزاء والأبعاض حيا قادرا على السعي والعدو، وقال القاضي: دلت الآية على أنه لا بد من البنية حيث أوجب التقطيع بطلان الحياة، وأجيب بأن حصول المقارنة لا يدل على وجوب المقارنة، والانفكاك في بعض الأحوال يدل على أن المقارنة حيث حصلت ما كانت واجبة ولما دلت الآية على حصول فهم النداء لتلك الأجزاء كانت دليلا قاطعا على أن البنية ليست شرطا للحياة- وفيه تأمل- والمشهور أنها حجة على من ذهب إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص وهي ظاهرة في أنه يزيد في الكيف وإن كان لا يزيد في الكم لكن المكلف به هو الجزم الحاصل بالنظر والاستدلال، ويسميه البعض علم اليقين لا الجزم الكائن بالمشاهدة المسمى بعين اليقين فإن في التكليف به حرجا في الدين، وأنت تعلم أن في دلالة الآية على زيادة الايمان ونقصه بناء على الوجه الذي أشرنا إلى اختياره ترددا كما لا يخفى وفيها أيضا دليل على فضل الخليل عليه الصلاة والسلام ويمن الضراعة في الدعاء وحسن الأدب في السؤال حيث أراه سبحانه ما سأله في الحال على أيسر ما يكون من الوجوه، وأرى عزيزا عليه السلام ما أراه بعد ما أماته مائة عام. وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب على أمره حَكِيمٌ ذو حكمة بالغة في أفعاله فليس بناء أفعاله على الأسباب العادية لعجزه عن خرق العادات بل لكونه متضمنا للحكم والمصالح، حكى أن الله سبحانه لما وفى لابراهيم عليه الصلاة والسلام بما سأل قال له: يا إبراهيم نحن أريناك كيف نحيي الموتى فأرنا أنت كيف تميت الأحياء مشيرا إلى ما سيأمره به من ذبح ولده عليه الصلاة والسلام وهو من باب الانبساط مع الخليل ودائرة الخلة واسعة إلا أن حفاظ المحدثين لم يذكروا هذا الخبر وليس له رواية في كتب الأحاديث أصلا. (ومن باب الاشارة في هذه القصة) البقرة 261- 672 وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى أي موتى القلوب بداء الجهل قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ أي ألم تعلم ذلك علما يقينا قالَ بَلى أعلم ذلك: ولكن للعيان لطيف معنى ... له سأل المشاهدة الخليل وهو المشار إليه بقوله سبحانه: لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي الذي هو عرشك قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ إشارة إلى طيور الباطن التي في قفص الجسم، وهي أربعة من أطيار الغيب: العقل، والقلب، والنفس، والروح فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ أي ضمهن واذبحهن، فاذبح طير العقل بسكين المحبة على باب الملكوت، واذبح طير القلب بسكين الشوق على باب الجبروت، واذبح طير النفس بسكين العشق في ميادين الفردانية، واذبح طير الروح بسكين العجز في تيه عزة أسرار الربانية ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً فاجعل العقل على جبل العظمة حتى يتراكم عليه أنوار سلطنة الربوبية فيصير موصوفا بها ليدركني بي بعد فنائه في، واجعل القلب على جبل الكبرياء حتى ألبسه سناء قدسي فيتيه في بيداء التفكير منعوتا بصرف نور المحبة، واجعل النفس على جبل العزة حتى ألبسها نور العظمة لتصير مطمئنة عند جريان ربوبيتي عليها فلا تنازعني في العبودية ولا تطلب أوصاف الربوبية، واجعل الروح على جبل جمال الأزل حتى ألبسها نور النور وعز العز وقدس القدس لتكون منبسطة في السكر مطمئنة في الصحو عاشقة في الانبساط راسخة في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 التجليات ثُمَّ ادْعُهُنَّ ونادهنّ بصوت سر العشق يَأْتِينَكَ سَعْياً إلى محض العبودية بجمال الأحدية وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ يعزك بعرفانك هذه المعاني واطلاعك على صفاته القديمة حَكِيمٌ في ظهوره بغرائب التجلي لأسرار باطنك، وقد يقال: أشار سبحانه بالأربعة من الطير إلى القوى الأربعة التي تمنع العبد عن مقام العيان وشهود الحياة الحقيقية، ووقع في أثر أنها كانت طاوسا، وديكا، وغرابا، وحمامة، ولعل الطاوس إشارة إلى العجب، والديك إلى الشهوة، والغراب إلى الحرص، والحمامة إلى حب الدنيا لإلفها الوكر والبرج، وفي أثر بدل الحمامة بطة، وفي آخر نسر، وكأن الأوّل إشارة إلى الشره الغالب، والثاني إلى طول الأمل، ومعنى فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ حينئذ ضمهنّ وأملهنّ إليك بضبطها ومنعها عن الخروج إلى طلب لذاتها والنزوع إلى مألوفاتها، وفي الأثر أنه عليه الصلاة والسلام أمر بأن يذبحها وينتف ريشها ويخلط لحومها ودماءها بالدق ويحفظ رؤوسها عنده- أي يمنعها عن أفعالها ويزيل هيئاتها عن النفس ويقمع دواعيها وطبائعها وعاداتها بالرياضة ويبقي أصولها فيه- ثم أمر أن يجعل على كل من الجبال التي بحضرته وهي العناصر الأربعة التي هي أركان بدنه جزءا منهنّ وكأنه عليه الصلاة والسلام أمر بقمعها وإماتتها حتى لا يبقى إلا أصولها المركوزة في الوجود والمواد المعدة في طبائع العناصر التي هي فيه، وفي رواية أن الجبال كانت سبعة فعلى هذا يشير بها إلى الأعضاء السبعة التي هي أجزاء البدن، وفي أخرى أنها كانت عشرة وعليها ربما تكون إشارة إلى الحواس الظاهرة والباطنة، وأشار سبحانه بالأمر بالدعاء إلى أنه إذا كانت هاتيك الصفات حية بحياتها كانت غير منقادة وحشية ممتنعة عن قبول الأمر فإذا قتلت كانت حية بالحياة الحقيقية الموهومة بعد الفناء والمحو وهي حياة العبد وعند ذلك تكون مطيعة منقادة متى دعيت أتت سعيا وامتثلت طوعا وذلك هو الفوز العظيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في وجوه الخيرات الشاملة للجهاد وغيره، وقيل: المراد الإنفاق في الجهاد لأنه الذي يضاعف هذه الأضعاف، وأما الإنفاق في غيره فلا يضاعف كذلك وإنما تجزى الحسنة بعشر أمثالها كَمَثَلِ حَبَّةٍ خبر عن المبتدأ قبله ولا بد من تقدير مضاف في أحد الطرفين أي مثل نفقة الذين كَمَثَلِ حَبَّةٍ أو مثلهم كمثل باذر حبة ولولا ذلك لم يصح التمثيل، والحبة واحدة الحب وهو ما يزرع للاقتيات وأكثر إطلاقه على البر وبذر ما لا يقتات به من البقل حبة بالكسر أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ أي أخرجت تلك الحبة ساقا تشعب منه سبع شعب لكل واحد منها سنبلة. فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ كما نرى ذلك في كثير من الحب في الأراضي المغلة بل أكثر من ذلك، والسنبلة على وزن فنعلة فالنون زائدة لقولهم أسبل الزرع بمعنى سنبل إذا صار فيه السنبل، وقيل: وزنه فعلله فالنون أصلية والأول هو المشهور وإسناد الإنبات إلى الحبة مجاز لأنها سبب للإنبات- والمنبت في الحقيقة هو الله تعالى- وهذا التمثيل تصوير للإضعاف كأنها حاضرة بين يدي الناظر فهو من تشبيه المعقول بالمحسوس. وَاللَّهُ يُضاعِفُ هذه المضاعفة أو فوقها إلى ما شاء الله تعالى، واقتصر بعض على الأول، وبعض على الثاني، والتعميم أتم نفعا لِمَنْ يَشاءُ من عبادة المنفقين على حسب حالهم من الإخلاص والتعب وإيقاع الإنفاق في أحسن مواقعه، أخرج ابن ماجه، وابن أبي حاتم عن علي كرم الله تعالى وجهه، وأبي الدرداء، وأبي هريرة، وعمران بن حصين، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 وأبي أمامة، وعبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم كلهم يحدث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من أرسل بنفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم ومن غزا بنفسه في سبيل الله تعالى وأنفق في وجهه ذلك فله بكل درهم يوم القيامة سبعمائة ألف درهم» ثم تلا هذه الآية وعن معاذ بن جبل «إن غزاة المنفقين قد خبأ الله تعالى لهم من خزائن رحمته ما ينقطع عنه علم العباد» وَاللَّهُ واسِعٌ لا يضيق عليه ما يتفضل به من الزيادة عَلِيمٌ بنية المنفق وسائر أحواله، ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر قصة المار على القرية، وقصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام- وكانا من أدل دليل على البعث- ذكر ما ينتفع به يوم البعث وما يجد جزاءه هناك وهو الإنفاق في سبيل الله تعالى كما أعقب قصة الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ [البقرة: 243] بقوله تعالى عز شأنه: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [البقرة: 245، الحديد: 11] وكما عقب قتل داود جالوت وقوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا [البقرة: 253] بقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ [البقرة: 254] إلخ. وفي ذكره الحبة في التمثيل هنا إشارة أيضا إلى البعث وعظيم القدرة إذ من كان قادرا على أن يخرج من حبة واحدة في الأرض سبعمائة حبة فهو قادر على أن يخرج الموتى من قبورهم بجامع اشتركا فيه من التغذية والنمو الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ استئناف جيء به لبيان كيفية الانفاق الذي بين فضله. ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا أي انفاقهم أو ما أنفقوه مَنًّا على المنفق عليه وَلا أَذىً أي له- والمنّ- عبد الإحسان وهو في الأصل القطع، ومنه قوله: حبل منين- أي ضعيف- وقد يطلق على النعمة لأن المنعم يقطع من ماله قطعة للمنعم عليه، والأذى- التطاول والتفاخر على المنفق عليه بسبب إنفاقه، وإنما قدم المنّ لكثرة وقوعه وتوسيط كلمة لا لشمول النفي لاتباع كل واحدة منهما، وثُمَّ للتفاوت بين الإنفاق وترك المنّ والأذى في الرتبة والبعد بينهما في الدرجة، وقد استعيرت من معناها الأصلي وهو تباعد الأزمنة لذلك- وهذا هو المشهور في أمثال هذه المقامات- وذكر في الانتصاف وجها آخر في ذلك وهو الدلالة على دوام الفعل المعطوف بها وإرخاء الطول في استصحابه وعلى هذا لا تخرج عن الأشعار ببعد الزمن ولكن معناها الأصلي تراخي زمن وقوع الفعل وحدوثه ومعناها المستعارة له دوام وجود الفعل وتراخي زمن بقائه وعليه يحمل قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَقامُوا [فصلت: 30، الأحقاف: 13] أي داوموا على الاستقامة دواما متراخيا ممتد الأمد وتلك الاستقامة هي المعتبرة لا ما هو منقطع إلى ضده من الحيد إلى الهوى والشهوات، وكذلك ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ إلخ أي يدومون على تناسي الإحسان وعلى ترك الاعتداد به والامتنان ليسوا بتاركيه في أزمنة ثم يثوبون إلى الإيذاء وتقليد المنّ، وبسببه مثله يقع في السين نحو إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات: 99] إذ ليس لتأخر الهداية معنى فيحمل على دوان الهداية الحاصلة له وتراخي بقائها وتمادي أمدها- وهو كلام حسن- ولعله أولى مما ذكروه لأنه أبقى للحقيقة وأقرب للوضع على أحسن طريقة. والآية كما أخرج الواحدي عن الكلبي- والعهدة عليه- نزلت في عثمان بن عفان. وعبد الرحمن بن عوف أما عبد الرحمن فإنه جاء إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بأربعة آلاف درهم صدقة فقال: كان عندي ثمانية آلاف درهم فأمسكت منها لنفسي وعيالي أربعة آلاف درهم وأربعة آلاف أقرضها ربي فقال له رسول الله صلى الله تعالى وسلم: «بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت» وأما عثمان رضي الله تعالى عنه فقال: عليّ جهاز له في غزوة تبوك فجهز المسلمين بألف بعير بأقتابها وأحلاسها وتصدق برومة ركية كانت له على المسلمين، وقال أبو سعيد الخدري: رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم رافعا يديه يدعو لعثمان ويقول: «يا رب عثمان بن عفان رضيت عنه فارض عنه فما زال رافعا يديه حتى طلع الفجر» فأنزل الله تعالى فيه الَّذِينَ يُنْفِقُونَ إلخ لَهُمْ أَجْرُهُمْ حسبما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 وعدهم في ضمير التمثيل وهو جملة من مبتدأ وخبر وقعت خبرا عن الموصول، وفي تكرير الإسناد وتقييد الأجر بقوله تعالى لَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ من التأكيد والتشريف ما لا يخفى وكان مقتضى الظاهر أن يدخل الفاء في حيز الموصول لتضمنه معنى الشرط كما في قولك: الذي يأتيني فله درهم لكنه عدل عن ذلك إيهاما بأن هؤلاء المنفقين مستحقون للأجر لذواتهم وما ركز في نفوسهم من نية الخير لا لوصف الإنفاق فإن الاستحقاق به استحقاق وصفي، وفيه ترغيب دقيق لا يهتدى إليه إلا بتوفيق، وجوز أن يكون تخلية الخبر عن الفاء المفيدة لسببية ما قبلها لما بعدها للايذان بأن ترتيب الأجر على ما ذكر من الإنفاق وترك اتباع المنّ والأذى أمر بين لا يحتاج إلى التصريح بالسببية وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ المراد بيان دوام انتفائهما لا بيان انتفاء دوامهما وقد تقدم الكلام على نظيرها قَوْلٌ مَعْرُوفٌ أي كلام جميل يرد به السائل مثل يرحمك الله يرزقك الله إن شاء الله تعالى أعطيك بعد هذا وَمَغْفِرَةٌ أي ستر لما وقع من السائل من الالحاف في المسألة وغيره مما يثقل على المسئول وصفح عنه خَيْرٌ للسائل مِنْ صَدَقَةٍ عليه يَتْبَعُها من المتصدق أَذىً له لكونها مشوبة بضرر ما يتبعها وخلوص الأوليين من الضرر، وقيل: يحتمل أن يراد بالمغفرة مغفرة الله تعالى للمسؤول بسبب تحمله ما يكره من السائل أو مغفرة السائل ما يشق عليه من رد المسئول خَيْرٌ للمسؤول من تلك الصدقة، وفيه أن الأنسب أن يكون المفضل والمفضل عليه في هذا المقام كلاهما صفتي شخص واحد- وعلى هذين الوجهين- ليس كذلك على أن اعتبار الخيرية فيهما يؤدي إلى أن يكون في القصة الموصوفة بالنسبة إليه خَيْرٌ في الجملة مع بطلانها بالمرة، وجعل الكلام من باب هو خير من لا شيء ليس بشيء، والجملة مستأنفة مقررة لاعتبار ترك اتباع المنّ والأذى، وإنما لم يذكر المنّ لأن الأذى يشمله وغيره، وذكره فيما تقدم اهتماما به لكثرة وقوعه من المتصدقين وعسر تحفظهم عنه، وصح الابتداء بالنكرة في الأول لاختصاصها بالوصف وفي الثاني بالعطف أو بالصفة المقدرة، وقد يقال: إن المعطوف تابع لا يفتقر إلى مسوغ. وَاللَّهُ غَنِيٌّ عن صدقات العباد وإنما أمرهم بها بمصلحة تعود إليهم أو عن الصدقة بالمنّ والأذى فلا يقبلها، أو غني لا يحوج الفقراء إلى تحمل مؤونة المنّ والأذى ويرزقهم من جهة أخرى حَلِيمٌ فلا يعجل بالعقوبة على المنّ والإيذاء لا أنهم لا يستحقونها بسببهما، والجملة تذييل لما قبلها مشتملة على الوعد والوعيد مقررة لاعتبار الخيرية بالنسبة إلى السائل قطعا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أقبل عليهم بالخطاب إثر بيان ما بين بطريق الغيبة البالغة في إيجاب العمل بموجب النهي ولذلك ناداهم بوصف الإيمان لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى أي بكل واحد منهما لأن النفي أحق بالعموم وأدل عليه، والمراد بالمنّ المنّ على الفقير كما تقدم وهو المشهور، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المراد به المنّ على الله تعالى، وبالأذى الأذى للفقير، واستشكل ابن عطية هذه الآية بأن ظاهرها يستدعى أن أجر الصدقة يبطل بأحد هذين الأمرين ولا يمكن توجه الابطال بذلك إلى نفس الصدقة لأنها قد ثبتت في الواقع فلا يعقل إبطالها ومن العقيدة أن السيئات لا تبطل الحسنات خلافا للمعتزلة، والآية أحد متمسكاتهم، وأجيب بأن الصدقة التي يعلم الله تعالى من صاحبها أنه يمنّ ويؤذي لا تقبل حتى قيل: إنه سبحانه يجعل للملك علامة فلا يكتبها، والإبطال المتنازع فيه إنما هو في عمل صحيح وقع عند الله تعالى في حيز القبول وما هنا ليس كذلك، فمعنى لا تُبْطِلُوا حينئذ لا تأتوا بهذا العمل باطلا كذا قالوا، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر إلا أن قوله تعالى: كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ فيه نوع تأييد له بناء على أن كَالَّذِي في محل نصب إما على أنه نعت لمصدر محذوف أي لا تبطلوها إبطالا كإبطال الذي إلخ وإما على أنه حال من فاعل لا تُبْطِلُوا أي لا تبطلوها مشابهين الذي ينفق أي الذي يبطل إنفاقه بالرياء، ووجه التأييد أن المرائي بالإجماع لم يأت بالعمل مقبولا صحيحا، وإنما أتي به باطلا مردودا، وقد وقع التشبيه في البين فتدبر، وانتصاب رِئاءَ إما على أنه علة لينفق أي لأجل ريائهم أو على أنه حال من فاعله أي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 ينفق ماله مرائيا، وجعله نعتا لمصدر محذوف أي إنفاقا رياء الناس ليس بشيء، وقريب منه جعل الجار حالا من ضمير المصدر المقدر لأنه لا يتمشى إلا على رأي سيبويه، وأصل رياء رِئاءَ فالهمزة الأولى عين الكلمة والثانية بدل من ياء هي لام لأنها وقعت طرفا بعد ألف زائدة، ويجوز تخفيف الهمزة الأولى بأن تقلب ياء فرارا من ثقل الهمزة بعد الكسرة، وقد قرأ به الخزاعي، والشموني، وغيرهما، والمفاعلة في فعله عند السمين على بابها لأن المرائي يري الناس أعماله والناس يرونه الثناء عليه والتعظيم له والمراد من الموصول ما يشمل المؤمن والكافر- كما قيل- وغالب المفسرين على أن المراد به المنافق لقوله تعالى: وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ حتى يرجو ثوابا أو يخشى عقابا فَمَثَلُهُ أي المرائي في الإنفاق، والفاء لربط ما بعدها بما قبلها كَمَثَلِ صَفْوانٍ أي حجر كبير أملس وهو جمع صفوانة (1) أو صفاء، أو اسم جنس. ورجح بعود الضمير إليه مفردا في قوله تعالى: عَلَيْهِ تُرابٌ أي شيء يسير منه فَأَصابَهُ وابِلٌ أي مطر شديد الوقع. والضمير للصفوان، وقيل: للتراب. فَتَرَكَهُ صَلْداً أي أملس ليس عليه شيء من الغبار أصلا، وهذا التشبيه يجوز أن يكون مفرقا فالنافق المنافق كالحجر في عدم الانتفاع ونفقته كالتراب لرجاء النفع منهما بالأجر والإنبات، ورياؤه كالوابل المذهب له سريعا الضار من حيث يظن النفع ولو جعل مركبا لصح، وقيل: إنه هو الوجه والأول ليس بشيء. لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا أي لا يجدون ثواب شيء مما أنفقوا رياء ولا ينتفعون به قطعا، والجملة مبينة لوجه الشبه أو استئناف مبني على السؤال كأنه قيل: فماذا يكون حالهم حينئذ فقيل: لا يقدرون، وجعلها حالا من الذي كما قال: السمين مهزول من القول كما لا يخفى، والضمير راجع إلى الموصول باعتبار المعنى ما بعد روعي لفظه إذ هو صفة لمفرد لفظا مجموع معنى كالجمع والتفريق، أو هو مستعمل للجمع كما في قوله تعالى: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا [التوبة: 69] على رأي، وقوله: إن الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أم خالد (2) وقيل: إن من والذي يتعاقبان فعومل هنا معاملته، ولا يخفى بعده، ورجوع الضمير إلى الَّذِينَ آمَنُوا من قبل بالالتفات مما لا يلتفت إليه. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ إلى ما ينفعهم، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله، وفيه تعريض بأن كلّا من الرياء والمنّ والأذى على الإنفاق من صفات الكفار ولا بد للمؤمنين أن يجتنبوها. وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ أي لطلب رضاه أو طالبين له. وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي ولتثبيت أو مثبتين بعض أنفسهم على الإيمان- فمن تبعيضية- كما في قولهم هزّ من عطفيه وحرك من نشاطه فإن للنفس قوى بعضها مبدأ بذل المال، وبعضها مبدأ بذل الروح فمن سخر قوة بذل المال لوجه الله تعالى فقد ثبت بعض نفسه، ومن سخر قوة بذل المال وقوة بذل الروح فقد ثبت كل نفس، وقد يجعل مفعول تثبيتا محذوفا أي تثبيتا للإسلام وتحقيقا للجزاء من أصل أنفسهم وقلوبهم. فمن ابتدائية كما في قوله تعالى: حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [البقرة: 109] ويحتمل أن يكون المعنى وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ عند المؤمنين أنها صادقة الإيمان مخلصة فيه، ويعضده قراءة مجاهد: «وتبيينا من أنفسهم» وجوز أن تكون مِنْ بمعنى اللام والمعنى توطينا لأنفسهم على طاعة الله تعالى. وإلى ذلك ذهب أبو علي   (1) قوله: وهو جمع إلخ كذا بخطه رحمه الله. (2) هو من شعر للأشهب النهشلي وهو شاعر إسلامي من طبقة الفرزدق، وقيل: للحارث بن مخفض، و «حانت» بمعنى هلكت وذهبت، و «فلج» بالسكون موضع بقرب البصرة، والمراد بدمائهم نفوسهم اهـ إدارة الطباعة المنيرية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 الجبائي- وليس بالبعيد- وفيه تنبيه على أن حكمة الإنفاق للمنفق تزكية النفس عن البخل وحب المال الذي هو الداء العضال والرأس لكل خطيئة. كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أي بستان بنشز من الأرض، والمراد تشبيه نفقة هؤلاء في الزكاء بهذه الجنة، واعتبر كونها في ربوة لأن أشجار الربى تكون أحسن منظرا وأزكى ثمرا للطافة هوائها وعدم كثافته بركوده. وقرأ ابن عامر وعاصم بربوة بالفتح، والباقون بالضم، وابن عباس بالكسر، وقرىء «رباوة» وكلها لغات وقرئ: «كمثل حبة» بالحاء والباء. أَصابَها وابِلٌ مطر شديد فَآتَتْ أي أعطت صاحبها أو الناس ونسبة الإيتاء إليها مجاز. أُكُلَها بالضم الشيء المأكول والمراد ثمرها وأضيف إليها لأنها محله أو سببه، وقرأ أبو عمرو وابن كثير. ونافع بسكون الكاف تخفيفا. ضِعْفَيْنِ أي ضعفا بعد ضعف فالتثنية للتكثير، أو مثلي ما كانت تثمر في سائر الأوقات بسبب ما أصابها من الوابل، أو أربعة أمثاله بناء على الخلاف في أن الضعف هل هو المثل أو المثلان، وقيل: المراد تأتي أكلها مرتين في سنة واحدة كما قيل في قوله تعالى: تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ [إبراهيم: 25] ونصبه على الحال من أكلها أي مضاعفا فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ أي فيصيبها، أو فالذي يصيبها طل أو فطل يكفيها، والمراد أن خيرها لا يخلف على كل حال لجودتها وكرم منبتها ولطافة هوائها والطل- الرذاذ من المطر وهو اللين منه. وحاصل هذا التشبيه أن نفقات هؤلاء زاكية عند الله تعالى لا تضيع بحال وإن كانت تتفاوت بحسب تفاوت ما يقارنها من الإخلاص والتعب وحب المال والإيصال إلى الأحوج التقي وغير ذلك، فهناك تشبيه حال النفقة النامية لابتغاء مرضاة الله تعالى الزاكية عن الأدناس لأنها للتثبيت الناشئ عن ينبوع الصدق والإخلاص بحال جنة نامية زاكية بسبب الربوة وأحد الأمرين الوابل، والطل، والجامع النمو المقرون بالزكاء على الوجه الأتم، وهذا من التشبيه المركب العقلي ولك أن تعتبر تشبيه حال أولئك عند الله تعالى بالجنة على الربوة ونفقتهم القليلة والكثيرة بالوابل والطل، فكما أن كل واحد من المطرين يضعف أكل تلك الجنة فكذلك نفقتهم جلت أو قلت بعد أن يطلب بها وجه الله تعالى زاكية زائدة في زلفاهم وحسن حالهم عند ربهم جل شأنه كذا قيل:- وهو محتمل- لأن يكون التشبيه حينئذ من المفرق- ويحتمل أن يكون من المركب- والكلام مساق للإرشاد إلى انتزاع وجه الشبه وطريق التركيب، والفرق إذ ذاك بأن الحال للنفقة في الأول وللمنفق في الثاني. والحاصل أن حالهم في إنتاج القل والكثر منهم الأضعاف لاجورهم كحال الجنة في إنتاج الوابل والطل الواصلين إليها الإضعاف لأثمارها، واختار بعضهم الأول، وأبى آخرون الثاني فافهم وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازي كلّا من المخلص والمرائي بما هو أعلم به، ففي الجملة ترغيب للأوّل، وترهيب للثاني مع ما فيها من الإشارة إلى الحط على الأخير حيث قصد بعمله رؤية من لا تغنى رؤيته من لا تغنى رؤيته شيئا وترك وجه البصير الحقيقي الذي تغني وتفقر رؤيته عز شأنه. أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أي أيحب أحدكم، وكذلك قرأ عمر رضي الله عنه في رواية عنه والهمزة فيه للانكار أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ وقرئ جنات مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ أي كائنة من هذين الجنسين النفيسين على معنى أنهما الركن والأصل فيها لا على أن لا يكون فيها غيرهما، والنخيل- قيل: اسم جمع، وقيل: جمع نخل وهو اسم جنس جمعي، وأَعْنابٍ جمع عنبة ويقال عنباء فلا ينصرف لألف التأنيث الممدودة وحيث جاء في القرآن ذكر هذين الأمرين فإنما ينص على النخل دون ثمرتها وعلى ثمرة الكرم دون شجرتها ولعل ذلك- لأن النخلة كلها منافع- ونعمت العمات: هي أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وأعظم منافع الكرم ثمرته دون سائره، وفي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 بعض الآثار- ولم أجده في كتاب يعول عليه- إن الله تعالى يقول: أتكفرون بي وأنا خالق العنب، والجنة- تطلق على الأشجار الملتفة المتكاثفة، وعلى الأرض المشتملة عليها، والأول أنسب بقوله تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إذ على الثاني يحتاج إلى تقدير مضاف أي من تحت أشجارها وكذا يحتاج إلى جعل إسناد الاحتراق إليها فيما سيأتي مجازيا والجملة في موضع رفع صفة جَنَّةٌ أو في موضع نصب حال منها لوصفها بالجار والمجرور قبل لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ الظرف الأول في محل رفع خبر مقدم، والثاني حال من الضمير المستتر في الخبر، والثالث نعت لمبتدأ محذوف أي رزق، أو ثمر كائن من كل الثمرات، وجوز زيادة مِنْ على مذهب الأخفش، وحينئذ لا يحتاج إلى القول بحذف المبتدأ، وعلى التقديرين ليس المراد بالثمرات العموم بل إنما هو الكثير، ومن الناس من جوز كون المراد من الثمرات المنافع، وهذا يجعل ذكر ذينك الجنسين لعدم احتواء الجنة على ما سواهما، ومنهم من قال: إن هذا من ذكر العام بعد الخاص للتتميم وليس بشيء وَأَصابَهُ الْكِبَرُ أي أثر فيه علو السن والشيخوخة وهو أبلغ من كبر، والواو للحال، والجملة بتقدير قد في موضع نصب على الحال من فاعل- يود- أي أيود أحدكم ذلك في هذه الحال التي هي مظنة شدة الحاجة إلى منافع تلك الجنة ومئنة العجز عن تدارك أسباب المعاش، وقيل: الواو للعطف ووضع الماضي موضع المضارع كما قاله الفراء، أو أول المضارع بالماضي أي لو كانت له جنة وأصابه الكبر، واعترضه أبو حيان بأن ذلك يقتضي دخول الإصابة في حيز التمني وَأَصابَهُ الْكِبَرُ لا يتمناها أحد، والجواب بأن ذلك غير وارد لما أن الاستفهام للانكار فهو ينكر الجمع بينهما لا يخفى ما فيه وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ في موضع الحال من الضمير في- أصابه أي أصابه الكبر، والحال أن له صبية ضعفاء لا يقدرون على الكسب وترتيب معاشه ومعاشهم، والضعفاء- جميع ضعيف كشركاء جمع شريك، وترك التعبير بصغار مع مقابلة الكبر لأنه أنسب كما لا يخفى، وقرئ- ضعاف- فَأَصابَها إِعْصارٌ أي ريح تستدير على نفسها وتكون مثل المنارة وتسمى الزوبعة وهي قد تكون هابطة، وقد تكون صاعدة خلافا لما يفهمه ظاهر كلام البعض من تخصيصها بالثانية، وسبب الأولى أنه إذا انفصل ريح من سحابة وقصدت النزول فعارضها في طريق نزولها قطعة من السحاب وصدمتها من تحتها ودفعها من فوقها سائر الرياح بقيت ما بين دافعين دافع من العلو ودافع من السفل فيعرض من الدفعين المتمانعين أن تستدير وربما زادها تعوج المنافذ تلويا كما يعرض للشعر أن لا يتجعد بسبب التواء مسامه، وسبب الثانية أن المادة الريحية إذا وصلت إلى الأرض وقرعتها قرعا عنيفا ثم أثبتت فقلبتها ريح أخرى من جهتها التوت واستدارت وقد تحدث أيضا من تلاقي ريحين شديدتين، وربما بلغت قوتها إلى حيث تقلع الأشجار وتخطف المراكب من البحر، وعلامة النازلة أن تكون لفائفا تصعد وتنزل معا كالراقص، وعلامة الصاعدة أن لا يرى للفائفها إلا الصعود وقد يكون كل منهما بمحض قدرة الله تعالى من غير توسط سبب ظاهر وربما اشتمل دور الزوبعة على بخار مشتعل قوي فيكون نار تدور أيضا، ولتعيين هذا النوع وصف الإعصار بقوله سبحانه: فِيهِ نارٌ وتذكير الضمير لاعتبار التذكير فيه وإنما سمي ذلك الهواء إعصارا لأنه يلتف كما يلتف الثوب المعصور وقيل: لأنه يعصر السحاب أو يعصر الأجسام المار بها والتنوين في النار للتعظيم وروى عن ابن عباس أن الإعصار الريح الشديدة مطلقا وأن المراد من النار السموم وذكر سبحانه الإعصار ووصفه بما ذكر، ولم يقتصر على ذكر النار كأن يقال- فأصابها نار فَاحْتَرَقَتْ لما في تلك الجملة من البلاغة ما فيها لمن دقق النظر، والفعل المقرون بالفاء عطف على أَصابَها وقيل: على محذوف معطوف عليه أي فأحرقها- فاحترقت- وهذا كما روى عن السدي تمثيل حال من ينفق ويضم إلى إنفاقه ما يحبطه في الحسرة والأسف إذا كان يوم القيامة واشتدت حاجته إلى ذلك ووجده هباء منثورا بحال من هذا شأنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 وأخرج عبد بن حميد عن عطاء أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: آية من كتاب الله تعالى ما وجدت أحدا يشفيني عنها قوله تعالى: أيحب أحدكم أن تكون له (1) إلخ فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين إني أجد في نفسي منها فقال له عمر: فلم تحقر نفسك؟ فقال: يا أمير المؤمنين هذا مثل ضربه الله تعالى فقال. أيحب أحدكم أن يكون عمره يعمل بعمل أهل الخير وأهل السعادة حتى إذا كبر سنه وقرب أجله ورقّ عظمه وكان أحوج ما يكون إلى أن يختم عمله بخير عمل يعمل أهل الشقاء فأفسد عمله فأحرقه قال: فوقعت على قلب عمر وأعجبته. وفي رواية البخاري، والحاكم، وابن جرير، وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال عمر يوما لأصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: فيم ترون هذه الآية نزلت أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ إلخ؟ قالوا: الله تعالى أعلم فغضب عمر فقال: قولوا نعلم أو لا نعلم فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين فقال عمر: يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ضربت لرجل غني عمل بطاعة الله تعالى ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق أعماله، قيل: وهذا أحسن من أن يكون تمثيلا لمن يبطل صدقته بالمنّ والأذى والرياء، وفصل عنه لاتصاله بمنا ذكر بعده أيضا لأن ذلك لا عمل له، وأجيب بأن له عملا يجازى عليه بحسب ظاهر حاله وظنه وهو يكفي للتمثيل المذكور، وأنت تعلم أن هذا لا يدفع أحسنية ذلك لا سيما وقد قاله ترجمان القرآن وارتضاه الأمير المحدث رضي الله تعالى عنه كَذلِكَ أي مثل ذلك البيان الواضح الجاري في الظهور مجرى الأمور المحسوسة يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ أي كي تتفكروا فيها وتعتبروا بما تضمنته من العبر وتعلموا بموجبها، أو لعلكم تعلمون أفكاركم فيما يفنى ويضمحل من الدنيا وفيما هو باق لكم في الأخرى فتزهدون في الدنيا وتنفقون مما أتاكم الله تعالى منها وترغبون في الآخرة ولا تفعلون ما يحزنكم فيها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ أي جياد أو حلال ما كَسَبْتُمْ أي الذي كسبتموه أو كسبكم أي مكسوبكم من النقد وعروض التجارة والمواشي. وأخرج ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ: من الذهب والفضة وفي قوله تعالى: وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ يعني من الحب والتمر وكل شيء عليه زكاة، والجملة لبيان حال ما ينفق منه إثر بيان أصل الإنفاق وكيفيته وأعاد مِنْ في المعطوف لأن كلا من المتعاطفين نوع مستقل، أو للتأكيد- ولعله أولى- وترك ذكر- الطيبات- لعلمه مما قبله، وقيل: لعلمه مما بعد، وبعض جعل ما عبارة عن ذلك وَلا تَيَمَّمُوا أي تقصدوا وأصله تتيمموا بتاءين فحذفت إحداهما تخفيفا إما الأولى وإما الثانية على الخلاف، وقرأ عبد الله ولا تأمموا، وابن عباس تيمموا بضم التاء والكل بمعنى الْخَبِيثَ أي الرديء وهو كالطيب من الصفات الغالبة التي لا تذكر موصوفاتها مِنْهُ تُنْفِقُونَ الضمير المجرور للخبيث وهو متعلق- بتنفقون- والتقديم للتخصيص، والجملة حال مقدرة من فاعل تَيَمَّمُوا أي لا تقصدوا الخبيث قاصرين الإنفاق عليه، أو من الخبيث أي مختصا به الإنفاق، وأيا ما كان لا يرد أنه يقتضي أن يكون النهي عن الخبيث الصرف فقط مع أن المخلوط أيضا كذلك لأن التخصيص لتوبيخهم بما كانوا يتعاطون من إنفاق الخبيث خاصة. فعن عبيدة السلماني قال: سألت عليا كرم الله تعالى وجهه عن هذه الآية فقال: نزلت في الزكاة المفروضة كان الرجل يعمد إلى التمر فيصرمه فيعزل الجيد ناحية فإذا جاء صاحب الصدقة إعطاء من الرديء فقال الله تعالى: وَلا   (1) كذا في الأصل، والقراءة في مصاحفنا أَيَوَدُّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وقيل: متعلق بمحذوف وقع حالا من الخبيث، والضمير راجع إلى المال الذي في ضمن القسمين، أو لما أخرجنا وتخصيصه بذلك لأن الرداءة فيه أكثروا كذا الحرمة لتفاوت أصنافه ومجالبه، وتُنْفِقُونَ حال من الفاعل المذكور- أي ولا تقصدوا الخبيث كائنا من المال- أو مما أخرجنا لكم منفقين إياه وقوله تعالى: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ حال على كل حال من ضمير تُنْفِقُونَ أي- والحال أنكم لستم بآخذيه في وقت من الأوقات- أو بوجه من الوجوه إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ إلا وقت إغماضكم أو إلا بإغماضكم فيه والإغماض كالغمض إطباق الجفن لما يعرض من النوم، وقد استعير هنا- كما قال الراغب- للتغافل والتساهل، وقيل: إنه كناية عن ذلك ولا يخلو عن تساهل وتغافل، وذكر أبو البقاء أنه يستعمل متعديا- وهو الأكثر- ولازما مثل أغضى عن كذا، والآية محتملة للأمرين، وعلى الأول يكون المفعول محذوفا أي أبصاركم، والجمهور على ضم التاء وإسكان العين وكسر الميم، فقرأ الزهري- تغمضوا- بتشديد الميم وعنه أيضا- تغمضوا- بضم الميم وكسرها مع فتح التاء، وقرأ قتادة- تغمضوا- على البناء للمفعول أي تحملوا على الإغماض أي توجدوا مغمضين وكلا المعنيين مما أثبته الحفاظ ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، والمنسبك من أَنْ والفعل على كل تقدير في موضع الجر كما أشرنا إليه، وجوز أبو البقاء أن يكون في موضع النصب على الحالية، وسيبويه لا يجوز أن تقع أَنْ وما في حيزها حالا، وزعم الفراء أَنْ هنا شرطية لأن معناه إن أغمضتم أخذتم، وينبغي أن يغمض طرف القبول عنه، ومن البعيد في الآية ما قيل: إن الكلام تم عند قوله تعالى: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ ثم استؤنف فقيل على طريقة التوبيخ والتقريع: مِنْهُ تُنْفِقُونَ والحال- أنكم لا تأخذونه إلا إن أغمضتم- فيه ومآله الاستفهام الإنكاري فكأنه قيل: أمنه تنفقون إلخ، وهو على بعده خلاف التفاسير المأثورة عن السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عن نفقاتكم وإنما أمركم بها لانتفاعكم، وفي الأمر بأن يعلموا ذلك مع ظهور علمهم به توبيخ لهم على ما يصنعون من إعطاء الخبيث وإيذان بأن ذلك من آثار الجهل بشأنه عن شأنه حَمِيدٌ أي مستحق للحمد على نعمه، ومن جملة الحمد اللائق بجلاله تحري إنفاق الطيب مما أنعم به، وقيل: حامد بقبول الجيد والإثابة عليه، واحتج بالآية على وجوب زكاة قليل ما تخرجه الأرض وكثيرة حتى البقل، واستدل بها على أن من زرع في أرض اكتراها فالزكاة عليه لا على رب الأرض لأن أخرجنا لكم يقتضي كونه على الزارع وعلى أن صاحب الحق لا يجبر على أخذ المعيب بل له الرد وأخذ سليم بدله الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ استئناف لبيان سبب تيمم الخبيث في الإنفاق وتوهين شأنه والوعد في أصل وضعه لغة شائع في الخير والشر، وأما في الاستعمال الشائع فالوعد في الخير والإيعاد في الشر حتى يحملوا خلافه على المجاز والتهكم، وقد استعمل هنا في الشر نظرا إلى أصل الوضع لأن الفقر مما يراه الإنسان شرا، ولهذا يخوف الشيطان به المتصدقين فيقول لهم: لا تنفقوا الجيد من أموالكم وأن عاقبة إنفاقكم أن تفتقروا، وتسمية ذلك وعدا مع أنه اعتبر فيه الأخبار بما سيكون من جهة المخبر والشيطان لم يضف مجىء الفقر إلى جهته للإيذان بمبالغة اللعين في الأخبار بتحقق مجيئه كأنه نزله في تقرر الوقوع منزلة أفعاله الواقعة حسب إرادته، ولوقوعه في مقابلة وعده تعالى على طريق المشاكلة، ومن الناس من زعم أن استعمال الوعد هنا في الخير حسب الاستعمال الشائع، والمراد أن ما يخوفكم به هو وعد الخبر لأن الفقر للإنفاق أجل خير، ولا يخفى أنه بمراحل عن مذاق التنزيل، وقرئ- الفقر- بالضم والسكون وبفتحتين وضمتين وكلها لغات في الفقر وأصله كسر فقار الظهر وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ أي الخصلة الفحشاء وهي البخل وترك الصدقات والعرب تسمي البخيل فاحشا قال كعب: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 أخي يا أخي «لا فاحشا» عند بيته ... ولا برم عند اللقاء هيوب والمراد بالأمر بذلك الإغراء والحث عليه ففي الكلام استعارة مصرحة تبعية، وقيل: المراد بالفحشاء سائر المعاصي وحملها على الزنا نعوذ بالله منه وجوز أن تكون بمعنى الكلمة السيئة فتكون هذه الجملة كالتأكيد للأولى وقدم وعد الشيطان على أمره لأنه بالوعد يحصل الاطمئنان إليه فإذا اطمأن إليه وخاف الفقر تسلط عليه بالأمر إذ فيه استعلاء على المأمور وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ في الإنفاق على لسان نبيكم صلى الله تعالى عليه وسلم مَغْفِرَةً لذنوبكم، وعن قتادة لفحشائكم، والتنوين فيها للتفخيم وكذا وصفها بقوله تعالى: مِنْهُ فهو مؤكد لفخامتها، وفيه تصريح بما علم ضمنا من الوعد كما علمت مبالغة في توهين أمر الشيطان وَفَضْلًا أي رزقا وخلفا- وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- فتكون المغفرة إشارة إلى منافع الآخرة، وهذا إشارة إلى منافع الدنيا. وفي الحديث «ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان يقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا» وقدم منافع الآخرة لأنها أهم عند المصدق بها، وقيل: المغفرة والفضل كلاهما في الآخرة وتقديم الأول حينئذ لتقدم التخلية على التحلية ولكون رفع المفاسد أولى من جلب المصالح. وفي الآية فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ [آل عمران: 185] وحذف صفة الثاني لدلالة المذكور عليها وَاللَّهُ واسِعٌ بالرحمة والفضل عَلِيمٌ بما تنفقونه فيجازيكم عليه، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله ومثلها في قوله تعالى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ أخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أنها المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ومتشابهه ومحكمه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله، وفي رواية عنه الفقه في القرآن، ومثله عن قتادة، والضحاك، وخلق كثير، وما روى ابن المنذر عن ابن عباس أنها النبوة يمكن أن يحمل على هذا لما أخرج البيهقي عن أبي أمامة قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من قرأ ثلث القرآن أعطي ثلث النبوة ومن قرأ نصف القرآن أعطي نصف النبوة ومن قرأ ثلثيه أعطي ثلثي النبوة ومن قرأ القرآن كله أعطي كل النبوة ويقال له يوم القيامة اقرأ وارق بكل آية درجة حتى ينجز ما معه من القرآن فيقال له اقبض فيقبض فيقال له هل تدري ما في يديك؟ فإذا في يده اليمنى الخلد وفي الأخرى النعيم» وليس المراد من القراءة في هذا الخبر مجردها إذ ذلك مما يشترك فيه البر والفاجر ولكن المراد قراءة بفقه ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي الدرداء- الحكمة قراءة القرآن والفكرة فيه- وعن مجاهد أنها الإصابة في القول والعمل، وفي رواية عنه أنها القرآن والعلم والفقه، وفي أخرى العلم الذي تعظم منفعته وتجل فائدته، وعن عطاء أنها المعرفة بالله تعالى، وقال أبو عثمان: هي نور يفرق به بين الوسواس والإلهام، وقيل: غير ذلك، وفي البحر أن فيها تسعة وعشرين قولا لأهل العلم قريب بعضها من بعض، وعد بعضهم الأكثر منها اصطلاحا واقتصارا على ما رآه القائل فردا مهما من الحكمة وإلا فهي في الأصل مصدر من الأحكام وهو الإتقان في علم أو عمل أو قول أو فيها كلها، وعن مقاتل أنها فسرت في القرآن بأربعة أوجه فتارة بمواعظ القرآن وأخرى بما فيه من عجائب الأسرار ومرة بالعلم والفهم وأخرى بالنبوة. قيل: ولعل الأنسب بالمقام ما ينتظم الأحكام المبينة في تضاعيف الآية الكريمة من أحد الوجهين الأولين ومعنى إيتائها تبيينها والتوفيق للعمل بها أي تبيينها ويوفق للعلم والعمل بها مَنْ يَشاءُ من عباده أن يؤتيها إياه بموجب سعة فضله وإحاطة علمه كما آتاكم ما بينه في ضمن الآي من الحكم البالغة التي يدور عليها فلك منافعكم فاغتنموها وسارعوا إلى العمل بها وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ بناه للمفعول إما لأن المقصود بيان فضيلة من نال الحكمة بقطع النظر عن الفاعل وإما لتعين الفاعل والإظهار في مقام الإضمار للاعتناء بشأن هذا المظهر ولهذا قدم من قبل على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 المفعول الأول وللإشعار بعلة الحكم، وقرأ يعقوب- يؤتى- على البناء للفاعل وجعل مَنْ الشرطية مفعولا مقدما أو مبتدأ والعائد محذوف، ويؤيد الثاني قراءة الأعمش ومن- يؤته الحكمة- فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً عظيما كَثِيراً إذ قد جمع له خير الدارين. أخرج الطبراني عن أبي أمامة قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن لقمان قال لابنه: يا بني عليك بمجالسة العلماء واسمع كلام الحكماء فإن الله تعالى يحيي القلب الميت بنور الحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر» وأخرج البخاري، ومسلم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله تعالى مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله تعالى الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها» وأخرج الطبراني عن أبي موسى قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: يبعث الله تعالى العباد يوم القيامة ثم يميز العلماء فيقول: يا معشر العلماء إني لم أضع فيكم علمي لأعذبكم اذهبوا فقد غفرت لكم» وفي رواية عن ثعلبة بن الحكم أنه سبحانه يقول: «إني لم أجعل علمي وحكمي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي» وهذا بالنسبة إلى حملة العلم الشرعي الذي جاء به حكيم الأنبياء ونبي الحكماء حضرة خاتم الرسالة ومحدد جهات العدالة والبسالة صلى الله تعالى عليه وسلم لا ما ذهب إليه جالينوس، وديمقراطيس، وأفلاطون، وأرسطاليس ومن مشى على آثارهم واعتكف في رواق أفكارهم فإن الجهل أولى بكثير مما ذهبوا إليه وأسلم بمراتب مما عولوا عليه حتى إن كثيرا من العلماء نهوا عن النظر في كتبهم واستدلوا على ذلك بما أخرجه الإمام أحمد. وأبو يعلى من حديث جابر «أن عمر رضي الله تعالى عنه استأذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في جوامع كتبها من التوراة ليقرأها ويزداد بها علما إلى علمه فغضب ولم يأذن له وقال: لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي» وفي رواية «يكفيكم كتاب الله تعالى» ووجه الاستدلال أنه صلّى الله عليه وسلم لم يبح استعمال الكتاب الذي جاء به موسى هدى ونورا في وقت كانت فيه أنوار النبوة ساطعة وسحائب الشبه والشكوك بالرجوع إليه منقشعة فكيف يباح الاشتغال بما وضعه المتخبطون من فلاسفة اليونان إفكا وزورا في وقت كثرت فيه الظنون وعظمت فيه الأوهام وعاد الإسلام فيه غريبا، وفي كتاب الله تعالى غنى عما سواه كما لا يخفى على من ميز القشر من اللباب والخطأ من الصواب وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ أي ما يتعظ أو ما يتفكر في الآيات إلا ذوو العقول الخالصة عن شوائب الوهم وظلم اتباع الهوى وهؤلاء هم الذين أوتوا الحكمة ولإظهار الاعتناء بمدحهم بهذه الصفة أقيم الظاهر مقام المضمر، والجملة إما حال أو اعتراض تذييلي. ومن باب الإشارة في الآيات أنها اشتملت على ثلاثة إنفاقات متفاضلة، الأول الانفاق في سبيل الله تعالى وهو إنفاق في عالم الملك عن مقام تجلي الأفعال، وإلى هذا أشار بقوله سبحانه: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ [البقرة: 261] إلخ، والثاني الإنفاق عن مقام مشاهدة الصفات وهو الانفاق لطلب رضا الله تعالى، وإليه أشار بقوله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ ومن تمثيله بجنة يعلم مقدار فضله على الأول الممثل بحبة، ولعل فضل أحدهما على الآخر كفضل الجنة على الحبة، ومما يزيد في الفرق أن الجنة مع إيتاء أكلها تبقى بحالها بخلاف الحبة، ولتأكيد الإشارة إلى ارتفاع رتبة هذا الإنفاق على الأول أتى بالربوة وهي المرتفع من الأرض، والثالث الانفاق بالله تعالى وهو عن مقام شهود الذات وهو إنفاق النفس بعد تزكيها وإليه الإشارة بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ والنفس مكتسبة بهذا الاعتبار وجزاء الانفاق الأول الأضعاف إلى سبعمائة وتزيد لأن يد الطول طويلة، وجزاء الثاني الجنة الصفاتية المثمرة للإضعاف وجزاء الثالث الحكمة اللازمة للوجود الموهوب بعد البذل وهي الخير العظيم الكثير لأنها أخص صفاته تعالى، وصاحب هذا الإنفاق لا يزال ينفق من الحكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 الإلهية والعلوم اللدنية لارتفاع البين وشهود العين وقد نبه سبحانه في أثناء ذلك على أن الإنفاق يبطله المنّ والأذى لأنه إنما يكون محمودا لثلاثة أوجه كونه موافقا للأمر- وهو حال له بالنسبة إليه تعالى- وكونه مزيلا لرذائل البخل- وهو حال له بالنسبة إلى المنفق نفسه- وكونه نافعا مريحا- وهو حال له بالنسبة إلى المستحق- فإذا منّ صاحبه وآذى فقد خالف أمر الله تعالى وأتى بما ينافي راحة المستحق ونفعه وظهرت نفسه بالاستطالة والاعتداد والعجب والاحتجاب بفعلها ورؤية النعمة منها لا من الله تعالى وكلها رذائل أردأ من البخل ولهذا كان القول الجميل خيرا من الصدقة المتبوعة بالأذى بل لا نسبة وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ قليلة أو كثيرة سرا أو علانية في حق أو باطل، فالآية بيان لحكم كلي شامل لجميع أفراد النفقات أو ما في حكمها إثر بيان حكم ما كان منها في سبيل الله تعالى أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ متعلق بالمال أو بالأفعال بشرط أو بغير شرط في طاعة أو معصية، والنذر عقد القلب على شيء والتزامه على وجه مخصوص قيل: وأصله الخوف لأن الشخص يعقد ذلك على نفسه خوف التقصير أو خوف وقوع أمر خطير ومنه نذر الدم وهو العقد على سفكه للخوف من مضرة صاحبه قال عمرو بن معدي كرب: هم (ينذرون دمي) وأن ... ذر إن لقيت بأن أشدا وفعله كضرب ونصر، وعن يونس فيما حكاه الأخفش تقول العرب: نذر على نفسه نذرا ونذرت مالي فأنا أنذره نذرا فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ كناية عن مجازاته سبحانه عليه وإلا فهو معلوم، والفاء داخلة في الجواب إن كانت ما شرطية وصلة في الخبر إن كانت موصولة وتوحيد الضمير مع أن متعلق العلم متعدد لاتحاد المرجع بناء على كون العطف بكلمة أو وهي لأحد الشيئين، وقال ابن عطية: إن التوحيد باعتبار المذكور وكأنه لم يعتبر المذكور لاعتبار المرجع النفقة والنذر المذكورين دون المصدرين المفهومين من فعليهما وهما المتعاطفان- بأو دونهما، وعلى تسليم أن عطف الفعلين مستلزم لعطفهما لا ينبغي اعتبارهما أيضا لأن الضمير مذكر قطعا وهما مذكر ومؤنث، واعتبار أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح ولا يخفى ما فيه فإن مثل هذا الضمير قد يعتبر فيه حال المقدم مراعاة للأولية كما في قوله تعالى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الجمعة: 11] وقد يعتبر فيه حال المؤخر مراعاة للقرب كما في قوله تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً [النساء: 112] وكل منهما سائغ شائع في الفصيح وما نحن فيه من الثاني إن اعتبر المذكور صريحا والتزام التأويل في جميع ما ورد تعسف مستغنى عنه كما لا يخفى، نعم جوز إرجاع الضمير إلى ما لكن على تقدير كونها موصولة كما قاله غير واحد. وَما لِلظَّالِمِينَ أي الواضعين للأشياء في غير مواضعها التي يحق أن توضع فيها فيشمل المنفقين بالرياء والمنّ والأذى، والمتحرين للخبيث في الإنفاق، والمنفقين في باطل والناذرين في معصية والممتنعين عن أداء ما نذروا في حق، والباخلين بالصدقة مما آتاهم الله تعالى من فضله، وخصهم أبو سليمان الدمشقي بالمنفقين بالمنّ والأذى والرياء والمبذرين في المعصية ومقاتل بالمشركين ولعل التعميم أولى مِنْ أَنْصارٍ أي أعوان ينصرونه من بأس الله تعالى لا شفاعة ولا مدافعة وهو جمع نصير- كحبيب، وأحباب- أو ناصر- كشاهد وأشهاد- والإتيان به جمعا على طريق المقابلة فلا يرد أن نفي الأنصار لا يفيد نفي الناصر وهو المراد. والقول- بأن هذا إنما يحتاج إليه إذا جعلت مِنْ زائدة ولك أن تجعلها تبعيضية أي شيء من الأنصار ليس بشيء كما يخفى والجملة استئناف مقرر للوعيد المشتمل عليه مضمون ما قبله، ونفي أن يكون للظالم على رأي مقاتل ناصر مطلقا ظاهر، وأما على تقدير أخذ المظالم عاما أو خاصا بما قاله أبو سليمان فيحتاج إلى القول بأن الآية خارجة مخرج الترهيب لما أن العاصي غير المشرك كيف ما كانت معصيته يجوز أن يكون له ناصر يشفع له عند ربه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 واستدل بالآية على مشروعية النذر والوفاء به ما لم يكن معصية وإلا فلا وفاء، فقد أخرج النسائي عن عمران بن الحصين قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: النذر نذران فما كان من نذر في طاعة الله تعالى فذلك لله تعالى وفيه الوفاء وما كان من نذر في معصية الله تعالى فذلك للشيطان ولا وفاء فيه، ويكره ما يكفر اليمين» وتفصيل الكلام في النذر يأتي بعد إن شاء الله تعالى. إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ أي تظهروا إعطاءها، قال الكلبي: لما نزلت وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ الآية قالوا: يا رسول الله أصدقة السر أفضل أم صدقة العلانية؟ فنزلت، فالجملة نوع تفصيل لبعض ما أجمل في الشرطية وبيان له ولذلك ترك العطف بينهما، والمراد من الصدقات على ما ذهب إليه جمهور المفسرين صدقات التطوع، وقيل: الصدقات المفروضة، وقيل: العموم فَنِعِمَّا هِيَ- الفاء- جواب للشرط،- ونعم- فعل ماض، وما كما قال ابن جني: نكرة تامة منصوبة على أنها تمييز وهي مبتدأ عائد للصدقات على حذف مضاف أي إبداؤها أو لا حذف، والجملة خبر عن هي، والرابط العموم، وقرأ ابن كثير، وورش، وحفص بكسر النون والعين للاتباع وهي لغة هذيل قيل: ويحتمل أنه سكن ثم كسر لالتقاء الساكنين، وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي بفتح النون وكسر العين على الأصل كعلم، وقرأ أبو عمرو، وقالون: وأبو بكر بكسر النون وإخفاء حركة العين، وروي عنهم الإسكان أيضا- واختاره أبو عبيدة- وحكاه لغة، والجمهور على اختيار الاختلاس على الإسكان حتى جعله بعضهم من وهم الرواة، وممن أنكره المبرد، والزجاج، والفارسي لأن فيه جمعا بين ساكنين على غير حدة وَإِنْ تُخْفُوها أي تسروها والضمير المنصوب إما للصدقات مطلقا وإما إليها لفظا لا معنى بناء على أن المراد بالصدقات المبدأة المفروضة وبالمخفاة المتطوع بها فيكون من باب- عندي درهم ونصفه- أي نصف درهم آخر، وفي جمع الإبداء والإخفاء من أنواع البديع الطباق اللفظي كما أن في قوله تعالى: وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ الطباق المعنوي لأنه لا يؤتي الصدقات إلا الأغنياء قيل: ولعل التصريح بإيتائها الفقراء مع أنه لا بد منه في الإبداء أيضا لما أن الإخفاء مظنة الالتباس والاشتباه فإن الغني ربما يدّعي الفقر ويقدم على قبول الصدقة سرا ولا يفعل ذلك عند الناس، وتخصيص الفقراء بالذكر اهتماما بشأنهم، وقيل: إن المبداة لما كانت الزكاة لم يذكر فيها الفقراء لأن مصرفها غير مخصوص بهم، والمخفاة لما كانت التطوع بين أن مصارفها الفقراء فقط وليس بشيء لأنه بعد تسليم أن المبداة زكاة والمخفاة تطوع لا نسلم أن مصارف الثانية الفقراء فقط- ودون إثبات ذلك الموت الأحمر- وكأنه لهذا فسر بعضهم الفقراء بالمصارف فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أي فالإخفاء خَيْرٌ لَكُمْ من الإبداء، وخَيْرٌ لَكُمْ من جملة الخيور، والأول هو الذي دلت عليه الآثار والأحاديث في أفضلية الإخفاء أكثر من أن تحصى. أخرج الإمام أحمد عن أبي أمامة أن أبا ذر قال: يا رسول الله أيّ الصدقة أفضل؟ قال: «صدقة سر إلى فقير أو جهد من مقل ثم قرأ الآية» ، وأخرج الطبراني مرفوعا «إن صدقة السر تطفئ غضب الرب» . وأخرج البخاري «سبعة يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله- إلى أن قال- ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» والأكثرون على أن هذه الأفضلية فيما إذا كان كل من صدقتي السر والعلانية تطوعا ممن لم يعرف بمال وإلا فإبداء الفرض لغيره أفضل لنفي التهمة وكذا الإظهار أفضل لمن يقتدي به وأمن نفسه، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «صدقة السر في التطوع تفضل على علانيتها سبعين ضعفا وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمس وعشرين ضعفا» وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ أي والله يكفر أو الإخفاء، والإسناد مجازي، ومِنْ تبعيضية لأن الصدقات لا يكفر بها جميع السيئات، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 وقيل: مزيدة على رأي الأخفش، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم في رواية ابن عياش، ويعقوب- «نكفّر» - بالنون مرفوعا على أنه جملة مبتدأة أو اسمية معطوفة على ما بعد الفاء أي ونحن نكفر، وقيل: لا حاجة إلى تقدير المبتدأ، والفعل نفسه معطوف على محل ما بعد الفاء لأنه وحده مرفوع لأن الفاء الرابطة مانعة من جزمه لئلا يتعدد الرابط، وقرأ حمزة. والكسائي- نكفر- بالنون مجزوما بالعطف على محل الفاء مع ما بعدها لأنه جواب الشرط قاله غير واحد، واستشكله البدر الدماميني بأنه صريح في أن الفاء، وما دخلت عليه في محل جزم، وقد تقرر أن الجملة لا تكون ذات محل من الإعراب إلا إذا كانت واقعة موقع المفرد وليس هذا من محال المفرد حتى تكون الجملة واقعة موقع ذات محل من الإعراب وذلك لأن جواب الشرط إنما يكون جملة ولا يصح أن يكون مفردا فالموضع للجملة بالأصالة وادعى أن جزم الفعل ليس بالعطف على محل الجملة وإنما هو لكونه مضارعا وقع صدر جملة معطوفة على جملة جواب الشرط الجازم وهي لو صدرت بمضارع كان مجزوما فأعطيت الجملة المعطوفة حكم الجملة المعطوف عليها وهو جزم صدرها إذا كان فعلا مضارعا ويمكن دفعه بالعناية فتدبر، وقرئ- وتكفر- بالتاء مرفوعا ومجزوما على حسب ما علمت والفعل للصدقات وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ في صدقاتكم من الإبداء والإخفاء خَبِيرٌ عالم لا يخفى عليه شيء فيجازيكم على ذلك كله، ففي الجملة ترغيب في الإعلان والإسرار وإن اختلفا في الأفضلية، ويجوز أن يكون الكلام مساقا للترغيب في الثاني لقربه ولكون الخبرة بالإبداء ليس فيها كثير مدح. لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ أي لا يجب عليك أيها الرسول أن تجعل هؤلاء المأمورين بتلك المحاسن المنهيين عن هاتيك الرذائل مهديين إلى الائتمار والانتهاء- إن أنت إلا بشير ونذير، وما عليه إلا البلاغ المبين- وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي بهدايته الخاصة الموصلة إلى المطلوب قطعا مَنْ يَشاءُ هدايته منهم، والجملة معترضة جيء بها على طريق تلوين الخطاب وتوجيهه إلى سيد المخاطبين صلى الله تعالى عليه وسلم مع الالتفات إلى الغيبة فيما بين الخطابات المتعلقة بأولئك المكلفين مبالغة في حملهم على الامتثال، وإلى هذا المعنى ذهب الحسن. وأبو علي الجبائي، وهو مبني على رجوع ضمير هُداهُمْ إلى المخاطبين في تلك الآيات السابقة، والذي يستدعيه سبب النزول رجوعه إلى الكفار، فقد أخرج ابن أبي حاتم وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يأمرنا أن لا نتصدق إلا على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية» وأخرج ابن جرير عنه قال: كان أناس من الأنصار لهم أنسباء وقرابة وكانوا يتقون أن يتصدقوا عليهم ويريدونهم أن يسلموا فنزلت. وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تصدقوا إلا على أهل دينكم» فأنزل الله تعالى لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ أي ليس عليك هدى من خالفك حتى تمنعهم الصدقة لأجل دخولهم في الإسلام وحينئذ لا التفات، وإنما هناك تلوين الخطاب فقط، والآية حث على الصدقة أيضا ولكن بوجه آخر والارتباط على التقديرين ظاهر، وجعلها مرتبطة- بقوله سبحانه: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ [البقرة: 269] إشارة إلى قسم آخر من الناس لم يؤتها- ليس بشيء وَما تُنْفِقُوا في وجوه البر مِنْ خَيْرٍ أي مال فَلِأَنْفُسِكُمْ أي فهو لأنفسكم لا ينتفع به في الآخرة غيركم «فلا تيمموا الخبيث» ولا تبطلوه بالمنّ والأذى ورئاء الناس، أو فلا تمنعوه عن الفقراء كيف كانوا فإن نفعكم به دينيّ ونفع الكافر منهم دنيوي، وما شرطية جازمة لتنفقوا منتصبة به على المفعولية، مَنْ تبعيضية متعلقة بمحذوف وقع صفة لاسم الشرط مبينة ومخصصة له وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ استثناء من أعم العلل وأعم الأحوال أي ما تنفقون بسبب من الأسباب إلا لهذا السبب، أو في حال من الأحوال إلا في هذه الحال، والجملة إما حال أو معطوفة على ما قبلها على معنى وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فإنما يكون لكم لا عليكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 إذا كان حالكم أن لا تنفقوا إلا لأجل طلب وجه الله تعالى، أو الا طالبين وجهه سبحانه لا مؤذين ولا مانين ولا مرائين ولا متيممين الخبيث، أو على معنى ليست نفقتكم إلا لكذا أو حال كذا فما بالكم تمنون بها وتنفقون الخبيث أو تمنعونها فقراء المشركين من أهل الكتاب وغيرهم، وقيل: إنه نفي بمعنى النهي أي لا تنفقوا إلا كذا وإقحام الوجه للتعظيم ودفع الشركة لأنك إذا قلت فعلته لوجه زيد كان أجلّ من قولك: فعلته له لأن وجه الشيء أشرف ما فيه ثم كثر حتى عبر به عن الشرف مطلقا، وأيضا قول القائل: فعلت هذا الفعل لفلان يحتمل الشركة وأنه قد فعله له ولغيره ومتى قال: فعلته لوجهه انقطع عرق الشركة عرفا، وجعله كثير من الخلق بمعنى الذات وبعضهم حمله هنا على الرضا وجعل الآية على حد إلا ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [البقرة: 207، 265، النساء: 114] تعالى والسلف بعد أن نزهوا فوضوا كعادتهم في المتشابه وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أي تعطون جزاءه وافرا وافيا كما تشعر به صيغة التفعيل في الآخرة حسبما تضمنته الآيات من قبل- وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- والمراد نفي أن يكون لهم عذر في مخالفة الأمر المشار إليه في الإنفاق، فالجملة تأكيد للشرطية السابقة وليس بتأكيد صرف وإلا لفصلت ولكنها تضمنت ذلك من كون سياقها للاستدلال على قبح ترك ذلك الأمر فكأنه قيل: كيف يمنّ أو يقصر فيما يرجع إليه نفعه أو كيف يفعل ذلك فيما لو عوض وزيادة، وهي بهذا الاعتبار أمر مستقل، وقيل: إن المعنى يوفر عليكم خلفه في الدنيا ولا ينقص به من مالكم شيء استجابة لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «اللهم اجعل لمنفق خلفا ولممسك تلفا» والتوفية إكمال الشيء وإنما حسن معها إليكم لتضمنها معنى التأدية وإسنادها إلى ما مجازي وحقيقته ما سمعت، والآية بناء على سبب النزول دليل على جواز دفع الصدقة للكافر وهو في غير الواجبة أمر مقرر، وأما الواجبة التي للإمام أخذها كالزكاة فلا يجوز، وأما غيرها كصدقة الفطر والنذر والكفارة ففيه اختلاف، والإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يجوزه، وظاهر قوله تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً [الإنسان: 8] يؤيده إذ الأسير في دار الإسلام لا يكون إلا مشركا. وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ أي لا تنقصون شيئا مما وعدتم، والجملة حال من ضمير إِلَيْكُمْ والعامل يوف لِلْفُقَراءِ متعلق بمحذوف ينساق إليه الكلام ولهذا حذف أي اعمدوا للفقراء أو اجعلوا ما تنفقونه للفقراء أو صدقاتكم للفقراء، والجملة استئناف مبني على السؤال، وجوز أن يكون الجار متعلقا بقوله تعالى: وَما تُنْفِقُوا، وقوله سبحانه: وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ اعتراض أي وما ننفقوا للفقراء الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي حبسهم الجهاد أو العمل في مرضاة الله تعالى يوف إليكم ولا يخفى بعده لا يَسْتَطِيعُونَ لاشتغالهم بذلك ضَرْباً فِي الْأَرْضِ أي مشيا فيها وذهابا للتكسب والتجارة وهم أهل الصفة رضي الله تعالى عنهم، قاله ابن عباس. ومحمد بن كعب القرظي- وكانوا نحوا من ثلاثمائة ويزيدون وينقصون من فقراء المهاجرين يسكنون سقيفة المسجد يستغرقون أوقاتهم بالتعلم والجهاد وكانوا يخرجون في كل سرية يبعثها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وعن سعيد بن جبير هم قوم أصابتهم الجراحات في سبيل الله تعالى فصاروا زمنى فجعل لهم في أموال المسلمين حقا ولعل المقصود في الروايتين بيان بعض أفراد هذا المفهوم ودخوله فيه إذ ذاك دخولا أوليا لا الحصر إذ هذا الحكم باق إلى يوم الدين يَحْسَبُهُمُ أي يظنهم الْجاهِلُ الذي لا خبرة له بحالهم. أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ أي من أجل تعففهم على المسألة- فمن- للتعليل وأتى بها لفقد شرط من شروط النصب وهو اتحاد الفاعل، وقيل: لابتداء الغاية والمعنى إن حسبان الجاهل غناهم نشأ من تعففهم، والتعفف ترك الشيء وهو اتحاد الفاعل، وقيل: لابتداء الغاية والمعنى إن حسبان الجاهل غناهم نشأ من تعففهم، والتعفف ترك الشيء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 والإعراض عنه مع القدرة على تعاطيه، ومفعوله محذوف اختصارا كما أشرنا إليه، وحال هذه الجملة كحال سابقتها تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ أي تعرف فقرهم واضطرارهم بالعلامة الظاهرة عليهم كالتخشع والجهد ورثاثة الحال. أخرج أبو نعيم عن فضالة بن عبيد قال: «كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا صلى بالناس تخر رجال من قيامهم في صلاتهم لما بهم من الخصاصة وهم أهل الصفة حتى يقول الأعراب إن هؤلاء مجانين» . وأخرج هو أيضا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «كان من أهل الصفة سبعون رجلا ليس لواحد منهم رداء» والخطاب للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أو لكل من له حظ من الخطاب مبالغة في بيان وضوح فقرهم، ووزن- سيما- عفلا لأنها من الوسم بمعنى السمة نقلت الفاء إلى موضع العين وقلبت ياء لوقوعها بعد كسرة لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً أي إلحاحا وهو أن يلازم المسئول حتى يعطيه من قولهم لحفني من فضل لحافه أي أعطاني من فضل ما عنده، وقيل: سمي الإلحاح بذلك لأنه يغطي القلب كما يغطي اللحاف من تحته. ونصبه على المصدر فإنه كنوع من السؤال أو على الحال أي ملحفين، والمعنى أنهم لا يسألون أصلا- وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وإليه ذهب الفراء، والزجاج، وأكثر أرباب المعاني- وعليه يكون النفي متوجها لأمرين على حد قول الأعشى: لا يغمز الساق من- أين ومن وصب- ... ولا يغص على- شرسوفه الصغر واعترض بأن هذا إنما يحسن إذا كان القيد لازما للمقيد أو كاللازم حتى يلزم من نفيه نفيه بطريق برهاني وما هنا ليس كذلك إذ الإلحاف ليس لازما للسؤال ولا كلازمه، وأجيب بأن هذا مسلم إن لم يكن في الكلام ما يقتضيه وهو كذلك هنا لأن التعفف حتى يظنوا أغنياء يقتضي عدم السؤال رأسا، وأيضا تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ مؤيد لذلك إذ لو سألوا لعرفوا بالسؤال واستغنى عن العرفان- بالسيما- وقيل: المراد إنهم لا يسألون وإن سألوا عن ضرورة لم يلحوا، ومن الناس من جعل المنصوب مفعولا مطلقا للنفي أي يتركون السؤال إلحاحا أي ملحين في الترك وهو كما ترى وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ فيجازيكم به وهو ترغيب في الإنفاق لا سيما على هؤلاء، أخرج البخاري، ومسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان إنما المسكين الذي يتعفف، واقرؤوا إن شئتم لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً، وتقديم الظرف مراعاة للفواصل أو إيماء للمبالغة. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً أي يعممون الأوقات والأحوال بالخير والصدقة، فالمراد بالليل والنهار جميع الأوقات كما أن المراد بما بعده جميع الأحوال، وقدم الليل على النهار والسر على العلانية للإيذان بمزية الإخفاء على الإظهار، وانتصاب سِرًّا وَعَلانِيَةً على أنهما مصدران في موضع الحال أي مسرّين ومعلنين، أو على أنهما حالان من ضمير الإنفاق على مذهب سيبويه، أو نعتان لمصدر محذوف أي إنفاقا سرا، والباء بمعنى في، واختلف فيمن نزلت، فأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في عليّ كرم الله تعالى وجهه كانت له أربعة دراهم فأنفق بالليل درهما وبالنهار درهما، وسرا درهما وعلانية درهما، وفي رواية الكلبي، فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «ما حملك على هذا؟ قال: حملني أن استوجب على الله تعالى الذي وعدني فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «ألا إن ذلك لك» . وأخرج ابن المنذر عن ابن المسيب أن الآية كلها في عثمان بن عفان. وعبد الرحمن بن عوف في نفقتهم في جيش العسرة، وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والواحدي من طريق حسن بن عبد الله الصنعاني أنه سمع ابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 عباس رضي الله تعالى عنهما يقول في هذه الآية: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ إلخ هم الذين يعلفون الخيل في سبيل الله تعالى- وهو قول أبي أمامة، وأبي الدرداء، ومكحول، والأوزاعي، ورباح بن يزيد- ولا يأبى ذلك ذكر السر والعلانية كما لا يخفى، وقال بعضهم: إنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه تصدق بأربعين ألف دينار عشرة بالليل وعشرة بالنهار وعشرة بالسر وعشرة بالعلانية، وتعقبه الإمام السيوطي- بأن حديث تصدقه بأربعين ألف دينار رواه ابن عساكر في تاريخه عن عائشة رضي الله تعالى عنها، وخبر أنّ الآية نزلت فيه- لم أقف عليه وكان من ادعى ذلك فهمه مما أخرجه ابن المنذر عن ابن إسحق قال: لما قبض أبو بكر رضي الله تعالى عنه واستخلف عمر خطب الناس فحمد الله تعالى وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أيها الناس إن بعض الطمع فقر وإن بعض اليأس غنى وإنكم تجمعون مالا تأكلون وتؤملون ما لا تدركون واعلموا أن بعضا من الشح شعبة من النفاق فأنفقوا خيرا لأنفسكم فأين أصحاب هذه الآية وقرأ الآية الكريمة، وأنت تعلم أنها لا دلالة فيها على المدعى فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ المخبوء لهم في خزائن الفضل عِنْدَ رَبِّهِمْ والفاء داخلة في حيز الموصول للدلالة على سببية ما قبلها، وقيل: للعطف والخبر محذوف أي- ومنهم الذين- إلخ، ولذلك جوز الوقف على علانية وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ تقدم تفسيره والإشارة في الآيات ظاهرة. الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا أي يأخذونه فيعم سائر أنواع الانتفاع والتعبير عنه بالأكل لأنه معظم ما قصد به، والربا في الأصل الزيادة من قولهم: ربا الشيء يربو إذا زاد، وفي الشرع عبارة عن فضل مال لا يقابله عوض في معاوضة مال بمال وإنما يكتب بالواو كالصلاة للتفخيم على لغة من يفخم وزيدت الألف بعدها تشبيها بواو الجمع فصار اللفظ به على طبق المعنى في كون كل منهما مشتملا على زيادة غير مستحقة فأخذ لفظ الربا الحرف الزائد وهو الألف بسبب اللفظ الذي يشابهه وهو واو الجمع حيث زيدت فيه الألف كما يأخذ معنى لفظ الربا بمشابهته معنى لفظ البيع لاشتمال المعنيين على معاوضة المال بالمال بالرضا- وإن كان أحد العوضين أزيد- وقيل: الكتابة بالواو والألف لأن للفظ نصيبا منهما، وإنما لم تكتب الصلاة والزكاة بهما لئلا يكون في مظنة الالتباس بالجمع، وقال الفراء: إنهم تعلموا الخط من أهل الحيرة وهم نبط لغتهم- ربوا- بواو ساكنة فكتب كذلك وهذا مذهب البصريين، وأجاز الكوفيون كتابته وكذا تثنيته بالياء لأجل الكسرة التي في أوله، قال أبو البقاء: وهو خطأ عندنا لا يَقُومُونَ أي يوم القيامة- وبه قرئ كما في الدر المنثور. إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ أي إلا قياما كقيام المتخبط المصروع في الدنيا- والتخبط- تفعل بمعنى فعل وأصله ضرب متوال على أنحاء مختلفة، ثم تجوز به عن كل ضرب غير محمود، وقيام المرابي يوم القيامة كذلك مما نطقت به الآثار، فقد أخرج الطبراني عن عوف بن مالك قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إياك الذنوب التي لا تغفر: الغلول فمن غل شيئا أتي به يوم القيامة. وأكل الربا فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنونا يتخبط» ثم قرأ الآية، وهو مما لا يحيله العقل ولا يمنعه، ولعل الله تعالى جعل ذلك علامة له يعرف بها يوم الجمع الأعظم عقوبة له كما جعل لبعض المطيعين أمارة تليق به يعرف بها كرامة له، ويشهد لذلك- أن هذه الأمة- يبعثون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء- وإلى هذا ذهب ابن عباس، وابن مسعود، وقتادة- واختاره الزجاج- وقال ابن عطية: المراد تشبيه المرابي في حرصه وتحركه في اكتسابه في الدنيا بالمتخبط المصروع كما يقال لمن يسرع بحركات مختلفة: قد جن، ولا يخفى أنه مصادمة لما عليه سلف الأمة، وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم من غير داع سوى الاستبعاد الذي لا يعتبر في مثل هذه المقامات مِنَ الْمَسِّ أي الجنون يقال: مس الرجل فهو ممسوس إذا جن وأصله اللمس باليد وسمي به لأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 الشيطان قد يمس الرجل وأخلاطه مستعدة للفساد فتفسد ويحدث الجنون، وهذا لا ينافي ما ذكره الأطباء من أن ذلك من غلبة مرة السوداء وما ذكروه سبب قريب- وما تشير إليه الآية سبب بعيد- وليس بمطرد أيضا بل ولا منعكس فقد يحصل مس ولا يحصل جنون كما إذا كان المزاج قويا وقد يحصل جنون ولم يحصل مس كما إذا فسد المزاج من دون عروض أجنبي، والجنون الحاصل بالمس قد يقع أحيانا، وله عند أهله الحاذقين أمارات يعرفونه بها، وقد يدخل في بعض الأجساد على بعض الكيفيات ريح متعفن تعلقت به روح خبيثة تناسبه فيحدث الجنون أيضا على أتم وجه وربما استولى ذلك البخار على الحواس وعطلها، واستقلت تلك الروح الخبيثة بالتصرف فتتكلم وتبطش وتسعى بآلات ذلك الشخص الذي قامت به من غير شعور للشخص بشيء من ذلك أصلا، وهذا كالمشاهد المحسوس الذي يكاد يعد منكره مكابرا منكرا للمشاهدات. وقال المعتزلة. والقفال من الشافعية: إن كون الصرع والجنون من الشيطان- باطل لأنه لا يقدر على ذلك كما قال تعالى حكاية عنه: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ [إبراهيم: 22] الآية وما هنا وارد على ما يزعمه العرب ويعتقدونه من أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع وأن الجني يمسه فيختلط عقله وليس لذلك حقيقة- وليس بشيء بل هو من تخبط الشيطان بقائله ومن زعماته المردودة بقواطع الشرع فقد ورد «ما من مولود يولد إلا يمسه الشيطان فيستهل صارخا» وفي بعض الطرق «إلا طعن الشيطان في خاصرته» ومن ذلك يستهل صارخا إلا مريم وابنها لقول أمها وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [آل عمران: 36] وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «كفوا صبيانكم أول العشاء فإنه وقت انتشار الشياطين» وقد ورد في حديث المفقود الذي اختطفته الشياطين وردته في زمنه عليه الصلاة والسلام أنه حدث من شأنه معهم قال: «فجاءني طائر كأنه جمل قبعثري فاحتملني على خافية من خوافيه» إلى غير ذلك من الآثار، وفي لقط المرجان في أحكام الجان كثير منها، واعتقاد السلف وأهل السنة أن ما دلت عليه أمور حقيقية واقعة كما أخبر الشرع عنها والتزام تأويلها كلها يستلزم خبطا طويلا لا يميل إليه إلا المعتزلة ومن حذا حذوهم وبذلك ونحوه خرجوا عن قواعد الشرع القويم فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون، والآية التي ذكروها في معرض الاستدلال على مدعاهم لا تدل عليه إذ السلطان المنفي فيها إنما هو القهر والإلجاء إلى متابعته لا التعرض للإيذاء والتصدي لما يحصل بسببه الهلاك، ومن تتبع الأخبار النبوية وجد الكثير منها قاطعا بجواز وقوع ذلك من الشيطان بل وقوعه بالفعل، وخبر «الطاعون من وخز أعدائكم الجن» صريح في ذلك، وقد حمله بعض مشايخنا المتأخرين على نحو ما حملنا عليه مسألة التخبط والمس حيث قال: إن الهواء إذا تعفن تعفنا مخصوصا مستعدا للخلط والتكوين تنفرز منه وتنحاز أجزاء سمية باقية على هوائيتها أو منقلبة بأجزاء نارية محرقة فيتعلق بها روح خبيثة تناسبها في الشرارة وذلك نوع من الجن فإنها على ما عرف في الكلام أجسام حية لا ترى اما الغالب عليها الهوائية أو النارية ولها أنواع عقلاء وغير عقلاء تتوالد وتتكون فإذا نزل واحد منها طبعا، أو إرادة على شخص أو نفذ في منافذه، أو ضرب وطعن نفسه به يحصل فيه بحسب ما في ذلك الشر من القوة السمية وما في الشخص من الاستعداد للتأثر منه كما هو مقتضى الأسباب العادية في المسببات- ألم شديد مهلك غالبا مظهر للدماميل والبثرات في الأكثر بسبب إفساده للمزاج المستعد، وبهذا يحصل الجمع بين الأقوال في هذا الباب- وهو تحقيق حسن لم نجده لغيره كما لم نجد ما حققناه في شأن المس- لأحد سوانا فليحفظ. والجار والمجرور متعلق بما قبله من الفعل المنفي بناء- على أن ما قبل إِلَّا يعمل فيما بعدها إذا كان ظرفا كما في الدر المصون أي لا يقومون من جهة المس الذي بهم بسبب- أكلهم الربا- أو- بيقوم- أو- يتخبطه- الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 ذلِكَ إشارة إلى الأكل أو إلى ما نزل بهم من العذاب بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا أرادوا نظمهما في سلك واحد لإفضائهما إلى الربح فحيث حل بيع ما قيمته درهم بدرهمين حل بيع درهم بدرهمين إلا أنهم جعلوا الربا أصلا في الحل وشبهوا البيع به روما للمبالغة كما في قوله: ومهمه مغبرة أرجاؤه ... كأن (لون أرضه سماؤه) وقيل: يجوز أن يكون التشبيه غير مقلوب بناء على ما فهموه أن البيع إنما حل لأجل الكسب والفائدة وذلك في الربا متحقق وفي غيره موهوم وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا جملة مستأنفة من الله تعالى ردا عليهم وإنكارا لتسويتهم، وحاصله أن ما ذكرتم قياس فاسد الوضع لأنه معارض للنص فهو من عمل الشيطان على أن بين البابين فرقا، وهو أن من باع ثوبا يساوي درهما بدرهمين فقد جعل الثوب مقابلا لدرهمين فلا شيء منهما إلا وهو في مقابله شيء من الثوب، وأما إذا باع درهما بدرهمين فقد أخذ الدرهم الزائد بغير عوض ولا يمكن جعل الإمهال عوضا إذ الإمهال ليس بمال حتى يكون في مقابله المال، وقيل: الفرق بينهما أن أحد الدرهمين في الثاني ضائع حتما وفي الأول منجبر بمساس الحاجة إلى السلعة أو بتوقع رواجها، وجوز أن تكون الجملة من تتمة كلام الكفار إنكارا للشريعة وردا لها أي مثل هذا من الفرق بين المتماثلات لا يكون عند الله تعالى فهي حينئذ حالية، وفيها- قد- مقدرة ولا يخفى أنه من البعد بمكان، والظاهر عموم البيع والربا في كل بيع وفي كل ربا إلا ما خصه الدليل من تحريم بعض البيوع وإحلال بعض الربا، وقيل: هما مجملان فلا يقدم على تحليل بيع ولا تحريم ربا إلا ببيان، ويؤيده ما أخرجه الإمام أحمد، وابن ماجه، وابن جرير عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال: من آخر ما أنزل آية الربا وأن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبض قبل أن يفسرها لنا فدعوا الربا والريبة فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ أي فمن بلغه وعظ وزجر كالنهي عن الربا واستحلاله، و «من» شرطية أو موصولة، مَوْعِظَةٌ فاعل جاء وسقطت التاء للفصل وكون التأنيث مجازيا مع ما في الموعظة معنى من التذكير، وقرأ أبيّ، والحسن: جاءته بإلحاق التاء مِنْ رَبِّهِ متعلق بجاءه أو بمحذوف وقع صفة لموعظة وعلى التقديرين فيه تعظيم لشأنها وفي ذكر الرب تأنيس لقبول الموعظة إذ فيه إشعار بإصلاح عبده ومِنَ لابتداء الغاية أو للتبعيض وحذف المضاف فَانْتَهى عطف على جاءه أي فاتعظ بلا تراخ وتبع النهي فَلَهُ ما سَلَفَ أي ما تقدم أخذه قبل التحريم لا يسترد منه، وهذا هو المروي عن الباقر، وسعيد بن جبير، وقيل: المراد لا مؤاخذة عليه في الدنيا ولا في الآخرة فيما تقدم له أخذه من الربا قبل، والفاء إما للجواب أو صلة في الخبر، وما في موضع الرفع بالظرف إن جعلت مِنَ موصولة، وبالابتداء إن جعلت شرطية على رأي من يشترط الاعتماد، وكون المرفوع اسم حدث، ومن لا يشترطهما يجوز كونه فاعل الظرف وَأَمْرُهُ أي المنتهى بعد التحريم إِلَى اللَّهِ إن شاء عصمه من الربا فلم يفعل وإن شاء لم يفعل، وقيل: المراد أنه يجازيه على انتهائه إن كان عن قبول الموعظة وصدق النية أو يحكم في شأنه يوم القيامة بما شاء لا اعتراض لكم عليه. ومن الناس من جعل الضمير المجرور لما سَلَفَ أو للربا وكلاهما خلاف الظاهر وَمَنْ عادَ أي رجع إلى ما سلف ذكره من فعل الربا واعتقاد جوازه والاحتجاج عليه بقياسه على البيع فَأُولئِكَ إشارة إلى- من عاد- والجمع باعتبار المعنى أَصْحابُ النَّارِ أي ملازموها هُمْ فِيها خالِدُونَ أي ماكثون أبدا لكفرهم، والجملة مقررة لما قبلها وجعل الزمخشري متعلق- عاد- الربا فاستدل بالآية على تخليد مرتكب الكبيرة وعلى ما ذكرنا- وهو التفسير المأثور- لا يبقى للاستدلال بها مساغ، واعترض بأن الخلود لو جعل جزاء للاستحلال بقي جزاء مرتكب الفعل من غير استحلال غير مذكور في الكلام أصلا لا عبارة ولا إشارة مع أنه المقصود الأهم بخلاف ما لو جعل ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 جزاء الفعل فإن المقصود يكون مذكورا صريحا مع إفادته جزاء الاستحلال وأنه أمر فوق الخلود، وأجيب بأن ما يكفر مستحلّه لا يكون إلا من كبائر المحرمات وجزاؤها معلوم ولذا لم ينبه عليه لظهوره، وقال بعض المحققين في الجواب: إن جعل ذلك إشارة إلى الأكل كان الجزاء القيام المذكور من القبور إلى الموقف وكفى به نكالا، ثم أخبر أن حاملهم على الأكل كان هذا القول فأشعر الوصف أولا أن الوعيد به ثم ذكر موجب اجترائهم فدل على أنه وعيد كل آكل سواء كان حامله عليه ذلك القول أو لا. وأما قوله سبحانه: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى وقوله تعالى: وَمَنْ عادَ فهو في القائل المعتقد وإن جعل إشارة إلى القيام المذكور فالجزاء ما يفهم من ضم الفعل إلى القول فإنه لو لم يكن له مدخل في التعذيب لم يحسن في معرض الوعيد، والقول بأن المتعلق الربا والآية محمولة على التغليظ خلاف الظاهر فتدبر. يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا أي يذهب بركته ويهلك المال الذي يدخل فيه، أخرج أحمد، وابن ماجه، وابن جريج، والحاكم وصححه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «إن الربا وإن كثر فعاقبته تصير إلى قلّ» . وأخرج عبد الرزاق عن معمر قال: سمعنا أنه لا يأتي على صاحب الربا أربعون سنة حتى يمحق، ولعل هذا مخرج الغالب، وعن الضحاك أن هذا المحق في الآخرة بأن يبطل ما يكون منه مما يتوقع نفعه فلا يبقى لأهله منه شيء وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ يزيدها ويضاعف ثوابها ويكثر المال الذي أخرجت منه الصدقة. أخرج البخاري. ومسلم عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب- ولا يقبل الله تعالى إلا طيبا- فإن الله تعالى يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل» وأخرج الشافعي، وأحمد مثل ذلك. والنكتة في الآية أن المربي إنما يطلب في الربا زيادة في المال ومانع الصدقة إنما يمنعها لطلب زيادة المال، فبين سبحانه أن الربا سبب النقصان دون النماء وأن الصدقة سبب النماء دون النقصان- كذا قيل- وجعلوه وجها لتعقيب آيات الإنفاق بآية الربا. وَاللَّهُ لا يُحِبُّ لا يرتضي كُلَّ كَفَّارٍ متمسك بالكفر مقيم عليه معتاد له أَثِيمٍ منهمك في ارتكابه والآية لعموم السلب لا لسلب العموم إذ لا فرق بين واحد وواحد، واختيار صيغة المبالغة للتنبيه على فظاعة آكل الربا ومستحله، وقد ورد في شأن الربا وحده ما ورد فكيف حاله مع الاستحلال؟ أعاذنا الله تعالى من ذلك. فقد أخرج الطبراني، والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: «درهم ربا أشد على الله تعالى من ست وثلاثين زنية» وقال: «من نبت لحمه من سحت فالنار أولى به» وأخرج ابن ماجه وغيره عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن الربا سبعون بابا أدناها مثل أن يقع الرجل على أمه وإنّ أربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه» . وأخرج جميل بن دراج عن الإمامية عن أبي عبد الله الحسين رضي الله تعالى عنه قال: «درهم ربا أعظم عند الله تعالى من سبعين زنية كلها بذات محرم في بيت الله الحرام» . وأخرج عبد الرزاق. وغيره عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: «لعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الربا خمسة آكله وموكله وشاهديه وكاتبه» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بما وجب الإيمان به وَعَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ على الوجه الذي أمروا به وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ تخصيصهما بالذكر مع اندارجهما في الأعمال للتنبيه على عظم فضلهما، فإن الأولى أعظم الأعمال البدنية. والثانية أفضل الأعمال المالية لَهُمْ أَجْرُهُمْ الموعود لهم حال كونه عِنْدَ رَبِّهِمْ وفي التعبير بذلك مزيد لطف وتشريف وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لوفور حظهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا في الظاهر اتَّقُوا اللَّهَ أي قوا أنفسكم عقابه وَذَرُوا أي اتركوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا لكم عند الناس إِنْ كُنْتُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 مُؤْمِنِينَ عن صميم القلب فإن دليله امتثال ما أمرتم به وهو شرط حذف جوابه ثقة بما قبله، ومِنَ تبعيضية متعلقة بمحذوف وقع حالا من فاعل بقي، وقيل: متعلقة- يبقي وقرأ الحسن بقي بقلب الياء ألفا على لغة طيء، والآية كما قال السدي: نزلت في العباس رضي الله تعالى عنه ابن عبد المطلب، ورجل من بني المغيرة كانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا إلى ناس من ثقيف من بني عمرة وهم بنو عمرو بن عمير فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة من الربا فتركوها حين نزلت. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال: نزلت هذه الآية في بني عمرو بن عمير بن عوف الثقفي، ومسعود بن عمرو بن عبد ياليل بن عمرو، وربيعة بن عمرو، وحبيب بن عمير وكلهم إخوة وهم الطالبون، والمطلوبون بنو المغيرة من بني مخزوم وكانوا يداينون بني المغيرة في الجاهلية بالربا وكان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم صالح ثقيفا فطلبوا رباهم إلى بني المغيرة وكان مالا عظيما فقال بنو المغيرة: والله لا نعطي الربا في الإسلام وقد وضعه الله تعالى ورسوله عن المسلمين فعرفوا شأنهم معاذ بن جبل- ويقال- عتاب بن أسيد فكتب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن بني عمرو بن عمير يطلبون رباهم عند بني المغيرة فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ، فكتب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى معاذ بن جبل أن أعرض عليهم هذه الآية فإن فعلوا فلهم رؤوس أموالهم وإن أبوا فآذنهم بحرب من الله تعالى ورسوله وذلك قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا أي ما أمرتم به من الاتقاء وترك البقايا إما مع إنكار حرمته وإما مع الاعتراف فَأْذَنُوا أي فأيقنوا- وبذلك قرأ الحسن- وهو التفسير المأثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وهو كحرب المرتدين على الأول وكحرب البغاة على الثاني، وقيل: لا حرب حقيقة وإنما هو تهديد وتخويف- وجمهور المفسرين على الأول- وقرأ حمزة. وعاصم في رواية ابن عياش فآذنوا بالمد أي فأعلموا بها أنفسكم أو بعضكم بعضا أو غيركم، وهذا مستلزم لعلمهم بالحرب على أتم وجه وتنكير- حرب- للتعظيم، ولذا لم يقل بحرب الله تعالى بالإضافة، أخرج أبو يعلى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها لما نزلت قالت ثقيف: لا يدي لنا بحرب الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم. وَإِنْ تُبْتُمْ عما يوجب الحرب فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ تأخذونها لا غير لا تَظْلِمُونَ غرماءكم بأخذ الزيادة وَلا تُظْلَمُونَ أنتم من قبلهم بالنقص من رأس المال أو به وبنحو المطل، وقرأ المفضل عن عاصم- لا تظلمون- الأول بالبناء للمفعول والثاني بالبناء للفاعل على عكس القراءة الأولى، والجملة إما مستأنفة- وهو الظاهر- وإما في محل نصب على الحال من الضمير في لكم والعامل ما تضمنه الجار من الاستقرار لوقوعه خبرا- وهو رأي الأخفش- ومن ضرورة تعليق هذا الحكم بتوبتهم عدم ثبوته عند عدمها لأن عدمها إن كان مع إنكار الحرمة فهم المرتدون ومالهم المكسوب في حال الردة فيء للمسلمين عند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، وكذا سائر أموالهم عند الشافعي رضي الله تعالى عنه، وعندنا هو لورثتهم ولا شيء لهم على كل حال وإن كان مع الاعتراف فإن كان لهم شوكة فهم على شرف القتل لم يكد تسلم لهم رؤوسهم فكيف برؤوس أموالهم وإلا فكذلك عند ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقد أخرج ابن جرير عنه أنه قال: من كان مقيما على الربا لا ينزع عنه فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه فإن نزع وإلا ضرب عنقه، ومثله عن الصادق رضي الله تعالى عنه، وأما عند غيرهما فهم محبوسون إلى أن تظهر توبتهم ولا يمكنون من التصرفات رأسا فما لم يتوبوا لم يسلم لهم شيء من أموالهم بل إنما يسلم بموتهم لورثتهم، قال المولى أبو السعود. وغيره: واستدل بالآية على أن الممتنع عن أداء الدين مع القدرة ظالم يعاقب بالحبس وغيره وقد فصل ذلك الفقهاء أتم تفصيل وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ أي إن وقع المطلوب- ذا إعسار لضيق حال من جهة عدم المال على- إن- كان تامة، وجوز بعض الكوفيين- إن- تكون ناقصة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 وذُو اسمها والخبر محذوف أي- وإن كان ذو عسرة لكم عليه حق أو غريما أو من غرمائكم. وقرأ عثمان رضي الله تعالى عنه ذا عسرة. وقرئ- ومن كان ذا عسرة- وعلى القراءتين كانَ ناقصة واسمها ضمير مستكن فيها يعود للغريم، وإن لم يذكر، والآية نزلت- كما قال الكلبي: حين قالت بنو المغيرة لبني عمرو بن عمير: نحن اليوم أهل عسرة فأخّرونا إلى أن تدرك الثمرة فأبوا أن يؤخروهم فَنَظِرَةٌ الفاء جواب الشرط- ونظرة- مبتدأ خبره محذوف أي فعليكم نظرة أو فاعل بفعل مضمر أي فتجب نظرة، وقيل: خبر مبتدأ محذوف أي- فالأمر، أو فالواجب نظرة، والنظرة كالنظرة- بسكون الظاء الانتظار، والمراد به الإمهال والتأخير، وقرأ عطاء فناظره بإضافة ناظر إلى ضمير ذُو عُسْرَةٍ أي فالمستحق ناظره أي منتظره وممهله وصاحب نظرته على طريق- لابن، وتامر- وعنه أيضا- فناظره- أمر من المفاعلة أي فسامحه بالنظرة إِلى مَيْسَرَةٍ أي إلى وقت أو وجود يسار، وقرأ حمزة، ونافع- ميسرة- بضم السين وهما لغتان كمشرقة ومشرقة، وقرئ بهما مضافين بحذف التاء وإقامة الإضافة مقامها فاندفع ما أورد على هذه القراءة بأن مفعلا بالضم معدوم أو شاذ وحاصله أنها مفعلة لا مفعل، وأجيب أيضا بأنه معدوم في الآحاد وهذا جمع ميسرة- كما قيل في مكرم- جمع مكرمة، وقيل: أصله ميسورة فخففت بحذف الواو بدلالة الضمة عليها وَأَنْ تَصَدَّقُوا بحذف إحدى التاءين، وقرئ بتشديد الصاد على أن أصله تتصدقوا فقلبت التاء الثانية صادا وأدغمت أي وتصدقكم على معسري غرمائكم برؤوس أموالكم كلا أو بعضا خَيْرٌ لَكُمْ أي أكثر ثوابا من الإنظار، أو خير مما تأخذونه لنفاد ذلك وبقاء هذا. أخرج ابن المنذر عن الضحاك قال: النظرة واجبة وخير الله تعالى الصدقة على النظرة، وقيل: المراد بالتصدق الإنظار لما أخرج أحمد عن عمران بن الحصين قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: من كان له على رجل حق فأخره كان له بكل يوم صدقة» وضعفه الإمام مع مخالفته للمأثور بأن وجوب الإنظار ثبت بالآية الأولى فلا بد من حمل هذه الآية على فائدة زائدة وبأن قوله سبحانه: خَيْرٌ لَكُمْ لا يليق بالواجب بل بالمندوب، واستدل بإطلاق الآية من قال بوجوب إنظار المعسر مطلقا سواء كان الدين دين ربا أم لا. وهو الذي ذهب إليه ابن عباس رضي الله تعالى عنه، والحسن، والضحاك، وأئمة أهل البيت، وذهب شريح، وإبراهيم النخعي، وابن عباس رضي الله تعالى عنهما في رواية عنه إلى أنه لا يجب إلا في دين الربا خاصة وتأولوا الآية على ذلك. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ جواب «إن» محذوف- أي إن كنتم تعلمون أنه خير لكم عملتموه- وفيه تحريض على الفعل وَاتَّقُوا يَوْماً. وهو يوم القيامة أو يوم الموت وتنكيره للتفخيم كما أن تعليق الاتقاء به للمبالغة في التحذير عما فيه من الشدائد التي تجعل الولدان شيبا تُرْجَعُونَ فِيهِ على البناء للمفعول من الرجع، وقرئ على البناء للفاعل من الرجوع والأول أدخل كما قيل: في التهويل، وقرئ- يرجعون- على طريق الالتفات، وقرأ أبيّ- تصيرون- وعبد الله- تردون. إِلَى اللَّهِ أي حكمه وفصله ثُمَّ تُوَفَّى أي تعطى كملا كُلُّ نَفْسٍ كسبت خيرا أو شرا ما كَسَبَتْ أي جزاء ذلك إن خيرا فخير وإن شرا فشر، والكسب العمل كيف كان كما نطقت به اللغة ودلت عليه الآثار، وكسب الأشعري لا يشعر به سوى الأشاعرة وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ جملة حالية من كل نفس وجمع باعتبار المعنى، وأعاد الضمير أولا مفردا اعتبارا باللفظ، وقدم اعتبار اللفظ لأنه الأصل ولأن اعتبار المعنى وقع رأس فاصلة فكان تأخيره أحسن، ولك أن تقول: إن الجمع أنسب بما يكون في يومه كما أن الإفراد أولى فيما إذا كان قبله. أخرج غير واحد من غير طريق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن آية وَاتَّقُوا يَوْماً إلخ آخر ما نزل من القرآن، واختلف في مدة بقائه بعدها عليه الصلاة والسلام فقيل: تسع ليال، وقيل: سبعة أيام، وقيل: ثلاث ساعات، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 وقيل: أحدا وعشرين يوما، وقيل: أحدا وثمانين يوما ثم مات- بنفسي هو- حيا وميتا صلّى الله عليه وسلم. روي أنه قال: اجعلوها بين آية الربا وآية الدين، وفي رواية أخرى أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «جاءني جبرائيل فقال: اجعلوها على رأس مائتين وثمانين آية من البقرة» ولا يعارض الرواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه في أن هذه آخر آية نزلت ما أخرجه البخاري. وأبو عبيد. وابن جرير. والبيهقي من طريق الشعبي عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: آخر آية أنزلها الله تعالى على رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم آية الربا، ومثله ما أخرجه البيهقي من طريق ابن المسيب عن عمر بن الخطاب- كما قاله محمد بن سلمة فيما نقله عنه علي بن أحمد الكرباسي- أن المراد من هذا أن آخر ما نزل من الآيات في البيوع آية الربا، أو أن المراد إن ذلك من آخر ما نزل كما يصرح به ما أخرجه الإمام أحمد، ولما أمر سبحانه بإنظار المعسر وتأجيله عقبه ببيان أحكام الحقوق المؤاجلة وعقود المداينة فقال عز من قائل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله تعالى وبما جاء منه إِذا تَدايَنْتُمْ أي تعاملتم وداين بعضكم بعضا بِدَيْنٍ فائدة ذكره تخليص المشترك ودفع الإيهام نصا لأن تَدايَنْتُمْ يجيء بمعنى تعاملتم بدين، وبمعنى تجازيتم، ولا يرد عليه أن السياق يرفعه لأن الكلام في النصوصية على أن السياق قد لا يتنبه له إلا الفطن، وقيل: ذكر ليرجع إليه الضمير إذ لولاه لقيل: فاكتبوا الدين فلم يكن النظم بذلك الحسن عند ذي الذوق العارف بأساليب الكلام، واعترض بأن التداين يدل عليه فيكون من باب اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ [المائدة: 8] وأجيب بأن الدين لا يراد به المصدر بل هو أحد العوضين ولا دلالة للتداين عليه إلا من حيث السياق ولا يكتفى به في معرض البيان لا سيما وهو ملبس، وقيل: ذكر لأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل، وحال لما في التنكير من الشيوع والتبعيض لما خص بالغاية ولو لم يذكر لاحتمل أن الدين لا يكون إلا كذلك إِلى أَجَلٍ أي وقت وهو متعلق بتداينتم، ويجوز أن يكون صفة للدين أي مؤخر أو مؤجل إلى أجل مُسَمًّى بالأيام أو الأشهر، أو نظائرهما مما يفيد العلم ويرفع الجهالة لا بنحو الحصاد لئلا يعود على موضوعه بالنقض فَاكْتُبُوهُ أي الدين بأجله لأنه أرفق وأوثق والجمهور على استحبابه لقوله سبحانه: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [البقرة: 283] والآية عند بعض ظاهرة في أن كل دين حكمه ذلك، وابن عباس يخص الدين بالسلم فقد أخرج البخاري عنه أنه قال: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله تعالى أجله وأذن فيه- ثم قرأ الآية- واستدل الإمام مالك بها على جواز تأجيل القرض وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ بيان لكيفية الكتابة المأمور بها وتعيين من يتولاها إثر الأمر بها إجمالا، ومفعول- يكتب- محذوف ثقة بانفهامه أو للقصد إلى إيقاع نفس الفعل والتقييد بالظرف للايذان بأنه ينبغي للكاتب أن لا ينفرد به أحد المتعاملين دفعا للتهمة، والجار متعلق بمحذوف وقع صفة للكاتب- أي ليكن الكاتب من شأنه التسوية وعدم الميل إلى أحد الجانبين بزيادة أو نقص- ويجوز أن يكون ظرفا لغوا متعلقا- بكاتب- أو بفعله، والمراد أمر المتداينين على طريق الكناية بكتابة عدل فقيه دين حتى يكون ما يكتبه موثوقا به متفقا عليه بين أهل العلم، فالكلام- كما قال الطيبي- مسوق لمعنى، ومدمج فيه آخر بإشارة النص- وهو اشتراط الفقاهة في الكاتب لأنه لا يقدر على التسوية في الأمور الخطرة إلا من كان فقيها- ولهذا استدل بعضهم بالآية على أنه لا يكتب الوثائق إلا عارف بها عدل مأمون، ومن لم يكن كذلك يجب على الإمام أو نائبه منعه لئلا يقع الفساد ويكثر النزاع والله لا يحب المفسدين. وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أي لا يمتنع أحد من الكتاب الموصوفين بما ذكر أَنْ يَكْتُبَ بين المتداينين كتاب الدين كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ أي لأجل ما علمه الله تعالى من كتابة الوثائق وتفضل به عليه وهو متعلق- بيكتب- والكلام على حد- وأحسن كما أحسن الله تعالى إليك- أي- لا يأب أن يتفضل على الناس بكتابته لأجل أن الله تعالى تفضل عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 وميزه- ويجوز أن يتعلق الكاف- بأن يكتب- على أنه نعت لمصدر محذوف أو حال من ضمير المصدر على رأي سيبويه، والتقدير أن يكتب كتابة مثل ما علمه الله تعالى أو أن يكتبه أي الكتب مثل ما علمه الله تعالى وبينه له بقوله سبحانه: بِالْعَدْلِ وجوز أن يتعلق بقوله تعالى: فَلْيَكْتُبْ والفاء غير مانعة كما في وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر: 3] لأنها صلة في المعنى، والأمر بالكتابة بعد النهي عن الأداء منها على الأول للتأكيد، واحتيج إليه لأن النهي عن الشيء ليس أمرا بضده صريحا على الأصح فأكده بذكره صريحا اعتناء بشأن الكتابة، ومن هذا ذهب بعضهم إلى أن الأمر للوجوب ومن فروض الكفاية ولكن الأمر لما كان لنا لا علينا صرف عن ذلك لئلا يعود ما تقدم في مسألة جهالة الأجل، وأما على الوجه الثاني فلا تأكيد وإنما هو أمر بالكتابة المقيدة بعد النهي عن الامتناع من المطلقة وهذا لا يفيد التأكيد لأن النهي عن الامتناع عن المطلق لا يدل على الأمر بالمقيد ليكون ذكره بعده تأكيدا، وادعاه بعضهم لأنه إذا كان الامتناع عن مطلق الكتابة منهيا فلأن يكون الامتناع عن الكتابة الشرعية منهيا بطريق الأولى، والنهي عن الامتناع عن الكتابة الشرعية أمر بها فيكون الأمر بالكتابة الشرعية صريحا للتوكيد، وأيضا إذا ورد مطلق ومقيد الحادثة واحدة يحمل المطلق على المقيد سواء تقدم المطلق أو تأخر فكما حمل الأمر بمطلق الكتابة في الوجه الأول على الكتابة المقيدة ليفيد التأكيد فلم لم يحمل النهي عن الامتناع عن مطلق الكتابة على الكتابة المقيدة للتأكيد، وهل التفرقة بين الأمرين إلا تحكم بحت كما لا يخفى؟! و «ما» قيل: إما مصدرية أو كافة- وجوز أن تكون موصولة أو موصوفة- وعليهما فالضمير لها، وعلى الأولين للكاتب، وقدر بعضهم على كل تقدير المفعول الثاني لعلم كتابة الوثائق فافهم وَلْيُمْلِلِ من الإملال بمعنى الإلقاء على الكاتب ما يكتبه وفعله أمللت، وقد يبدل أحد المضاعفين ياء ويتبعه المصدر فيه وتبدل همزة لتطرفها بعد ألف زائدة فيقال: إملاء فهو والإملال بمعنى أي، وليكن الملقى على الكاتب ما يكتبه من الدين الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وهو المطلوب لأنه المشهود عليه فلا بد أن يكون هو المقر لا غيره وانفهام الحصر من تعليق الحكم بالوصف فإن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية والأصل عدم علة أخرى وَلْيَتَّقِ أي الذي عليه الحق اللَّهَ رَبَّهُ جمع بين الاسم الجليل والوصف الجميل مبالغة في الحث على التقوى بذكر ما يشعر بالجلال والجمال وَلا يَبْخَسْ أي لا ينقص مِنْهُ أي من الحق الذي يمليه على الكاتب شَيْئاً وإن كان حقيرا، وقرئ «شيا» بطرح الهمزة و «شيّا» بالتشديد. وهذا هو التفسير المأثور عن سعيد بن جبير، وقيل: يجوز أن يرجع ضمير- يتق- للكاتب وليس بشيء لأن ضمير يبخس لمن عليه الحق إذ هو الذي يتوقع منه البخس خاصة، وأما الكاتب فيتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه النقص فلو أريد نهيه لنهي عن كليهما، وقد فعل ذلك حيث أمر بالعدل، وإرجاع كل منهما تفكيك لا يدل عليه دليل، وإنما شدد في تكليف المملي حيث جمع فيه بين الأمر بالاتقاء والنهي عن البخس لما فيه من الدواعي إلى المنهي عنه فإن الإنسان مجبول على دفع الضرر عنه ما أمكن، وفي مِنْهُ وجهان: أحدهما أن يكون متعلقا ببخس ومن- لابتداء الغاية، وثانيهما أن يكون متعلقا بمحذوف لأنه في الأصل صفة للنكرة فلما قدمت عليه نصب حالا. وشَيْئاً إما مفعول به وإما مصدر فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ صرح بذلك في موضع الإضمار لزيادة الكشف لا لأن الأمر والنهي لغيره، وعليه متعلق بمحذوف أي وجب والحق فاعل، وجوز أن يكون عَلَيْهِ خبرا مقدما، الْحَقُّ مبتدأ مؤخرا فتكون الجملة اسمية، وعلى التقديرين لا محل لها من الإعراب لأنها صلة الموصول سَفِيهاً أي عاجزا أحمق قاله ابن زيد، أو جاهلا بالإملال قاله مجاهد، أو مبذرا لماله ومفسدا لدينه قاله الشافعي أَوْ ضَعِيفاً أي صبيا، أو شيخا خرفا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ جملة معطوفة على مفرد هو خبر كان لتأويلها بالمفرد أي- أو غير مستطيع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 للاملاء بنفسه لخرس- كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو لما هو أعم منه ومن الجهل باللغة وسائر العوارض المانعة، والضمير البارز توكيد للضمير المستتر في- أن يمل- وفائدة التوكيد به رفع المجاز الذي كان يحتمله إسناد الفعل إلى الضمير والتنصيص على أنه غير مستطيع بنفسه، وقيل: إن الضمير فاعل- ليمل- وتغيير الأسلوب اعتناء بشأن النفي، ولا يخفى حسن الإدغام هنا والفك فيما تقدم، ومثله الفك في قوله تعالى: فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ أي متولي أمره وإن لم يكن خصوص الولي الشرعي فيشمل القيّم والوكيل والمترجم، والإقرار عن الغير في مثل هذه الصورة مقبول وفرق بينه وبين الإقرار على الغير فاعرفه بِالْعَدْلِ بين صاحب الحق والمولى عليه فلا يزيد ولا ينقص ولم يكلف بعين ما كلف به من غير الحق لأنه يتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه البخس، واستدل بعضهم- بالآية على أنه لا يجوز أن يكون الوصي ذميا ولا فاسقا وأنه يجوز أن يكون عبدا أو امرأة لأنه لم يشترط في الأولياء إلا العدالة ذكره ابن الفرس- وليس بشيء كما لا يخفى. ومن الناس من استدل بقوله سبحانه: فَلْيَكْتُبْ وَلا يَأْبَ على وجوب الكتابة وإلى ذلك ذهب الشعبي، والجبائي، والرماني إلا أنهم قالوا: إنها واجبة على الكفاية- وإليه يميل كلام الحسن- وقال مجاهد، والضحاك: واجب عليه أن يكتب إذا أمر، وقيل: هي مندوبة، وروي عن الضحاك أنها كانت واجبة ثم نسخ ذلك. وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ أي اطلبوهما ليتحملا الشهادة على ما جرى بينكما، وجوز أن تكون السين والتاء زائدتين أي اشهدوا، وفي اختيار صيغة المبالغة إيماء إلى طلب من تكررت منه الشهادة فهو عالم بموقعها مقتدر على أدائها وكأن فيه رمزا إلى العدالة لأنه لا يتكرر ذلك من الشخص عند الحكام إلا وهو مقبول عندهم ولعله لم يقل رجلين لذلك، والأمر للندب أو للوجوب على الخلاف في ذلك مِنْ رِجالِكُمْ متعلق باستشهدوا- ومِنْ لابتداء الغاية أو بمحذوف على أنه صفة لشهيدين، ومِنْ تبعيضية والخطاب للمؤمنين المصدر بهم الآية، وفي ذكر الرجال مضافا إلى ضمير المخاطبين دلالة على اشتراط الإسلام والبلوغ والذكورة في الشاهدين، والحرية لأن المتبادر من الرجال الكاملون والأرقاء بمنزلة البهائم، وأيضا خطابات الشرع لا تنتظم العبيد بطريق العبارة كما بين في محله، وذهب الإمامية إلى عدم اشتراط الحرية في قبول الشهادة وإنما الشرط فيه عندهم الإسلام والعدالة، وإلى ذلك ذهب شريح، وابن سيرين، وأبو ثور، وعثمان البتي وهو خلاف المروي عن علي كرم الله تعالى وجهه- فإنه لم يجوز شهادة العبد في شيء ولم تتعرض الآية لشهادة الكفار بعضهم على بعض، وأجاز ذلك قياسا الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وإن اختلفت مللهم. فَإِنْ لَمْ يَكُونا أي الشهيدان رَجُلَيْنِ أي لم يقصد إشهادهما ولو كانا موجودين والحكم من قبيل نفي العموم لا عموم النفي وإلا لم يصح قوله تعالى: فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ أي فان لم يكونا رجلين مجتمعين فليشهد رجل وامرأتان، أو فرجل وامرأتان يشهدون. أو يكفون، أو فالشاهد رجل وامرأتان أو فليستشهد رجل وامرأتان، أو فليكن رجل وامرأتان شهودا، وإن جعلت- يكن- تامة استغنى عن تقدير شهود، وكفاية الرجل والمرأتين في الشهادة فيما عدا الحدود والقصاص عندنا، وعند الشافعي في الأموال خاصة لا في غيرها كعقد النكاح، وقال مالك: لا تجوز شهادة أولئك في الحدود ولا القصاص، ولا الولاء ولا الإحصان، وتجوز في الوكالة والوصية إذا لم يكن فيها عتق، وأما قبول شهادة النساء مفردات فقد قالوا به في الولادة والبكارة والاستهلال وما يجري مجرى ذلك ما بين في الكتب الفقهية، وقرئ- «وامرأتان» - بهمزة ساكنة، ولعل ذلك لاجتماع المتحركات مِمَّنْ تَرْضَوْنَ متعلق بمحذوف وقع صفة لرجل وامرأتان أي كائنون ممن ترضونهم والتصريح بذلك هنا مع تحقق اعتباره في كل شهيد لقلة اتصاف النساء به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 فلا يرد ما في البحر من أن جعله صفة للمذكور يشعر بانتفاء هذا الوصف عن شهيدين، وقيل: هو صفة لشهيدين- وضعف بالفصل الواقع بينهما، وقيل: بدل من- رجالكم- بتكرير العامل وضعف بالفصل أيضا، واختار أبو حيان تعلقه- باستشهدوا- ليكون قيدا في الجميع ويلزمه الفصل بين اشتراط المرأتين وتعليله- وهو كما ترى- والخطاب للمؤمنين وقيل: للحكام ولم يقل من المرضيين لافهامه اشتراط كونهم كذلك في نفس الأمر ولا طريق لنا إلى معرفته فإن لنا الظاهر والله تعالى يتولى السرائر مِنَ الشُّهَداءِ متعلق بمحذوف على أنه حال من العائد المحذوف أي ممن ترضونهم حال كونهم كائنين بعض الشهداء لعلمكم بعدالتهم وإدراج النساء في الجمع بطريق التغليب. أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى بيان لحكمة مشروعية الحكم واشتراط العدد في النساء أي شرع ذلك إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت إحداهما لما أن النسيان غالب على طبع النساء لكثرة الرطوبة في أمزجتهن، وقدرت الإرادة لما أن قيد الطلب يجب أن يكون فعلا للآمر وباعثا عليه وليس هو هنا إلا إرادة الله تعالى للقطع بأن الضلال والتذكير بعده ليس هو الباعث على الأمر بل إرادة ذلك، واعترض بأن النسيان وعدم الاهتداء للشهادة لا ينبغي أن يكون مراد الله تعالى بالإرادة الشرعية سيما وقد أمر بالاستشهاد، وأجيب بأن الإرادة لم تتعلق بالضلال نفسه أعني عدم الاهتداء للشهادة بل بالضلال المرتب عليه الإذكار، ومن قواعدهم أن القيد هو مصب الغرض فصار كأنه علق الإرادة بالإذكار المسبب عن الضلال والمرتب عليه فيؤول التعليل إلى ما ذكرنا، وهذا أولى مما ذهب إليه البعض في الجواب من أن المراد من الضلال الإذكار لأن الضلال سبب للإذكار فأطلق السبب وأريد المسبب لظهور أنه لا يبقى على ظاهره معنى لقوله تعالى: فَتُذَكِّرَ قيل: والنكتة في إيثار أَنْ تَضِلَّ إلخ على- أن تذكر إن ضلت- الإيماء إلى شدة الاهتمام بشأن الإذكار بحيث صار ما هو مكروه كأنه مطلوب لأجله من حيث كونه مفضيا إليه، وإِحْداهُما الثانية يجوز أن تكون فاعل- تذكر- وليس من وضع المظهر موضع المضمر إذ ليست المذكرة هي الناسية، ويجوز أن تكون مفعولا لتذكر- والأخرى- فاعل وليس من قبيل ضرب موسى عيسى- كما وهم- حتى يتعين الأول بل من قبيل- أرضعت الصغرى الكبرى- لأن سبق إحداهما بعنوان نسبة الضلال رافع للضلال والسبب في تقديم المفعول على الفاعل التنبيه على الاهتمام بتذكير الضال ولهذا- كما قيل- عدل عن الضمير إلى الظاهر لأن التقديم حينئذ لا ينبه على الاهتمام كما ينبه عليه تقديم المفعول الظاهر الذي لو أخر لم يلزم شيء سوى وضعه موضعه الأصلي، وذكر غير واحد أن العدول عن- فتذكرها- الأخرى- وهي قراءة ابن مسعود كما رواه الأعمش- إلى ما في النظم الكريم لتأكيد الإبهام والمبالغة في الاحتراز عن توهم اختصاص الضلال- بإحداهما- بعينها والتذكير بالأخرى، وأبعد الحسين بن علي المغربي في هذا المقام فجعل ضمير إِحْداهُما الأولى راجعا إلى الشهادتين، وضمير إِحْداهُما الأخرى إلى المرأتين فالمعنى- أن تضل إحدى الشهادتين أي تضيع بالنسيان فتذكر إحدى المرأتين الأخرى منهما- وأيده الطبرسي بأنه لا يسمى ناسي الشهادة ضالا وإنما يقال: ضلت الشهادة إذا ضاعت كما قال سبحانه: ضَلُّوا عَنَّا [الأعراف: 37] أي ضاعوا منا، وعليه يكون الكلام عاريا عن شائبة توهم الإضمار في مقام الإظهار رأسا وليس بشيء إذ لا يكون لاحداهما أخرى في الكلام مع حصول التفكيك وعدم الانتظام، وما ذكر في التأييد ينبىء عن قلة الاطلاع على اللغة. ففي نهاية ابن الأثير وغيرها إطلاق الضال على الناسي، وقد روي ذلك في الآية عن سعيد بن جبير، والضحاك، والربيع، والسدي، وغيرهم، ويقرب هذا في الغرابة مما قيل: إنه من بدع التفسير وهو ما حكي عن ابن عيينة أن معنى فَتُذَكِّرَ إلخ فتجعل إحداهما اخرى ذكرا يعني أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلة الذكر فإن فيه قصورا من جهة المعنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 واللفظ لأن التذكير في مقابلة النسيان معنى مكشوف وغرض بيّن، ورعاية العدد لأن النسوة محل النسيان كذلك ولأن جعلها ذكرا مجاز عن إقامتها مقام الذكر ثم تجوز ثانيا لأنهما القائمتان مقامه فلم تجعل إحداهما الأخرى قائمة مقامه- وبعد التجوز ليس على ظاهره- لأن الاحتياج إلى اقتران ذكر البتة معهما، وقوله سبحانه: فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ ينبئان عن قصورهما عن ذلك أيضا- والتزام توجيه مثل ذلك، وعرضه في سوق القبول- لا يعد فضلا بل هو عند أرباب الذوق عين الفضول، ولقد رأيت في طراز المجالس أن الخفاجي سأل قاضي القضاة شهاب الدين الغزنوي عن سر تكرار- إحدى- معرضا بما ذكره المغربي فقال: يا رأس أهل العلوم السادة البرره ... ومن نداه على كل الورى نشره ما سر تكرار- إحدى- دون تذكرها ... في آية لذوي الاشهاد في البقرة وظاهر الحال إيجاز الضمير على ... تكرار إِحْداهُما لو أنه ذكره وحمل الاحدى على نفس الشهادة في ... أولاهما ليس مرضيا لدى المهرة فغص بفكرك لاستخراج جوهره ... من بحر علمك ثم ابعث لنا درره «فأجاب القاضي» : يا من فوائده بالعلم منتشره ... ومن فضائله في الكون مشتهره يا من تفرد في كشف العلوم لقد ... وافى سؤالك والأسرار مستتره (تضل إحداهما) فالقول محتمل ... كليهما فهي للاظهار مفتقره ولو أتى بضمير كان مقتضيا ... تعيين واحدة للحكم معتبره ومن رددتم عليه الحل فهو كما ... أشرتم ليس مرضيا لمن سبره هذا الذي سمح الذهن الكليل به ... والله أعلم في الفحوى بما ذكره وقرئ «أن تضّل» بالبناء للمفعول والتأنيث، وقرئ- «فتذاكر» - وقرأ ابن كثير، ويعقوب، وأبو عمرو، والحسن- «فتذكر» - بسكون الذال وكسر الكاف، وحمزة أَنْ تَضِلَّ على الشرط فتذكر بالرفع وعلى ذلك فالفعل مجزوم والفتح لالتقاء الساكنين، والفاء في الجزاء قيل: لتقدير المبتدأ وهو ضمير القصة أو الشهادة، وقيل: لا تقدير لأن الجزاء إذا كان مضارعا مثبتا يجوز فيه الفاء وتركه، وقيل: الأوجه أن يقدر المبتدأ ضمير- الذاكرة- وإِحْداهُما بدل عنه أو عن الضمير في فَتُذَكِّرَ وقال بعض المحققين: الأوجه من هذا كله تقدير ضمير التثنية أي فهما- تذكر إحداهما الأخرى- وعليه كلام كثير من المعربين، والقائلون عن ذلك تفرقوا أيدي سبأ لما رأوا تنظير الزمخشري قراءة الرفع بقوله تعالى: وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ [المائدة: 95] ولم يتفطنوا بأن ذلك إنما هو من جهة تقدير ضمير بعد الفاء بحسب ما يقتضيه المقام لا من جهة خصوص الضمير إفرادا وتثنية والله تعالى الملهم للرشاد فتدبر وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا لأداء الشهادة أو لتحملها- وهو المروي عن ابن عباس، والحسن رضي الله تعالى عنهم- وخص ذلك مجاهد. وابن جبير بالأول وهو الظاهر لعدم احتياجه إلى ارتكاب المجاز إلا أن المروي عن الربيع أن الآية نزلت حين كان الرجل يطوف في القوم الكثير فيدعوهم إلى الشهادة فلا يتبعه أحد منهم فإن ظاهره يستدعي القول بمجاز المشارفة، وما صلة وهي قاعدة مطردة بعد إِذا وَلا تَسْئَمُوا أي تملوا أو تضجروا، ومنه قول زهير: سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولا لا أبا لك يسأم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 أَنْ تَكْتُبُوهُ أي الدين، أو الحق- أو الكتاب المشعر به الفعل والمنسبك مفعول به- لتسأموا- ويتعدى بنفسه، وقيل: يتعدى بحرف الجر وحذف للعلم به، وقيل: المراد من- السأم- الكسل إلا أنه كني به عنه لأنه وقع في القرآن صفة للمنافقين كقوله تعالى: وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى [النساء: 142] ولذا وقع في الحديث «لا يقول المؤمن كسلت وإنما يقول ثقلت» وقرئ- و «لا يسأموا» - «أن يكتبوه» بالياء فيهما صَغِيراً أَوْ كَبِيراً حالان من الضمير أي على كل حال قليلا أو كثيرا مجملا أو مفصلا، وقيل: منصوبان على أنهما خبرا كان المضمرة وقدم الصغير على الكبير اهتماما به وانتقالا من الأدنى إلى الأعلى إِلى أَجَلِهِ حال من الهاء في- تكتبوه- أي مستقرا في ذمة المدين إلى وقت حلوله الذي أقر به وليس متعلقا بتكتبوه لعدم استمرار الكتابة إلى الأجل إذ هي مما ينقضي في زمن يسير ذلِكُمْ أي الكتب- وهو الأقرب- أو الإشهاد- وهو الأبعد- أو جميع ما ذكر- وهو الأحسن- والخطاب للمؤمنين أَقْسَطُ أي أعدل عِنْدَ اللَّهِ أي في حكمه سبحانه. وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ أثبت لها وأعون على إقامتها وأدائها وهما مبنيان من أقسط وأقام على رأي سيبويه فإنه يجيز بناء أفعل من الأفعال من غير شذوذ، وقيل: من قاسط بمعنى ذي قسط وقويم، وقال أبو حيان: قسط يكون بمعنى جار وعدل، وأقسط بمعنى عدل لا غير حكاه ابن القطاع- وعليه لا حاجة إلى رأي سيبويه في أقسط- وقيل: هو من قسط بوزن كرم بمعنى صار ذا قسط أي عدل، وإنما صحت الواو في أقوم ولم يقل أقام لأنها لم تقلب في فعل التعجب نحو ما أقومه لجموده إذ هو لا يتصرف وأفعل التفضيل يناسبه معنى فحمل عليه وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا أي أقرب إلى انتفاء ريبكم وشككم في جنس الدين وقدره وأجله ونحو ذلك، قيل: وهذا حكمة خلق اللوح المحفوظ، والكرام الكاتبين مع أنه الغني الكامل عن كل شيء تعليما للعباد وإرشادا للحكام، وحرف الجر مقدر هنا- وهو إلى كما سمعت- وقيل: مع أنه الغني الكامل عن كل شيء تعليما للعباد وإرشادا للحكام، وحرف الجر مقدر هنا- وهو إلى كما سمعت- وقيل: اللام، وقيل: من، وقيل في، ولكل وجهة إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ استثناء منقطع من الأمر بالكتابة فقوله تعالى: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ إلى هنا جملة معترضة بين المستثنى والمستثنى منه أي لكن وقت كون تداينكم أو تجارتكم تجارة حاضرة بحضور البدلين تديرونها بينكم بتعاطيها يدا بيد- كذا قيل. وفي الدر المصون يجوز أن يكون استثناء متصلا من الاستشهاد فيكون قد أمر بالاستشهاد في كل حال إلا في حال حضور التجارة، وقيل: إنه استثناء من هذا وذاك وهو منقطع أيضا أي لكن التجارة الحاضرة يجوز فيها عدم الاستشهاد والكتابة وقيل: غير ذلك- ولعل الأول أولى- ونصب عاصم تجارة على أنها خبر تكون واسمها مستتر فيها يعود إلى التجارة- كما قال الفراء- وعود الضمير في مثل ذلك على متأخر لفظا ورتبة جار في فصيح الكلام، وقال بعضهم: يعود إلى المداينة والمعاملة المفهومة من الكلام، وعليه فالتجارة مصدر لئلا يلزم الأخبار عن المعنى بالعين، ورفعها الباقون على أنها اسم تَكُونَ والخبر جملة تُدِيرُونَها ويجوز أن تكون تَكُونَ تامة فجملة تُدِيرُونَها صفة فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها أي فلا مضرة عليكم أو لا إثم في عدم كتابتكم لها لبعد ذلك عن التنازع والنسيان، أو لأن في تكليفكم الكتابة حينئذ مشقة جدا وإدخال الفاء للإيذان بتعلق ما بعدها بما قبلها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ أي هذا التبايع المذكور أو مطلقا وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ نهي عن المضارة- والفعل يحتمل البناء للفاعل والبناء للمفعول- والدليل عليه قراءة عمر رضي الله تعالى عنه- ولا يضار- بالفك والكسر، وقراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالفك والفتح- والمعنى على الأول- نهي الكاتب والشاهد عن ترك الإجابة إلى ما يطلب منهما وعن التحريف والزيادة والنقصان، وعلى الثاني النهي عن الضرار بهما بأن يعجلا عن مهم أولا يعطى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 الكاتب حقه من الجعل أو يحمل الشاهد مؤونة المجيء من بلد، ويؤيد هذا المعنى ما أخرجه ابن جرير عن الربيع قال: لما نزلت هذه الآية وَلا يَأْبَ كاتِبٌ إلخ كان أحدهم يجيء إلى الكاتب فيقول: اكتب لي فيقول: إني مشغول أو لي حاجة فانطلق إلى غيري فيلزمه ويقول: إنك قد أمرت أن تكتب لي فلا يدعه ويضاره بذلك، وهو يجد غيره فأنزل الله تعالى وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وحمل بعضهم الصيغة على المعنيين وليس بشيء كما لا يخفى، وقرأ الحسن- ولا يضار- بالكسر وقرئ بالرفع على أنه نفي بمعنى النهي وَإِنْ تَفْعَلُوا ما نهيتم عنه من الضرار أو منه ومن غيره وبعيد وقوعه منكم فَإِنَّهُ أي ذلك الفعل فُسُوقٌ بِكُمْ أي خروج عن طاعة متلبس بكم، وجوز كون الباء للظرفية، قيل: وهو أبلغ إذ جعلوا محلا للفسق وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما أمركم به ونهاكم عنه وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ أحكامه المتضمنة لمصالحكم وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فلا يخفى عليه حالكم وهو مجازيكم بذلك «فان قيل» كيف كرر سبحانه الاسم الجليل في الجمل الثلاث وقد استكرهوا مثل قوله: فما للنوى جذ النوى قطع النوى حتى قيل: سلط الله تعالى عليه شاة تأكل نواه؟ أجيب بأن التكرير منه المستحسن ومنه المستقبح، فالمستحسن كل تكرير يقع على طريق التعظيم أو التحقير في جمل متواليات كل جملة منها مستقلة بنفسها، والمستقبح هو أن يكون التكرير في جملة واحدة أو في جمل بمعنى ولم يكن فيه التعظيم والتحقير، وما في البيت من القسم الثاني لأن- جذ النوى قطع النوى- فيه بمعنى واحد وما في الآية درة تاج القسم الأول لأن اتَّقُوا اللَّهَ حث على تقوى الله تعالى وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وعد بإنعامه سبحانه وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تعظيم لشأنه عز شأنه، ومن هنا علمت وجه العطف فيها من اختلافها في الظاهر خبرا وإنشاء، ومن الناس من جوز كون الجملة الوسطى حالا من فاعل اتَّقُوا أي اتقوا الله مضمونا لكم التعليم، ويجوز أن تكون حالا مقدرة، والأولى ما قدمنا لقلة اقتران الفعل المضارع المثبت الواقع حالا بالواو. وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ أي مسافرين ففيه استعارة تبعية حيث شبه تمكنهم في السفر بتمكن الراكب من مركوبه وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً يكتب لكم حسبما بين قبل، والجملة عطف على فعل الشرط أو حال. وقرأ أبو العالية كتبا، والحسن، وابن عباس- كتابا جمع كاتب فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ أي فالذي يستوثق به. أو فعليكم، أو فليؤخذ، أو فالمشروع رهان. وهو جمع رهن وهو في الأصل مصدر ثم أطلق على المرهون من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول- وليس هذا التعليق لاشتراط السفر وعدم الكاتب في شرعية الارتهان لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رهن درعه في المدينة من يهودي على ثلاثين صاعا من شعير كما في البخاري - بل لإقامة التوثق بالارتهان مقام التوثق بالكتبة في السفر الذي هو مظنة إعوازها، وأخذ مجاهد بظاهر الآية فذهب إلى أن الرهن لا يجوز إلا في السفر. وكذا الضحاك فذهب إلى أنه لا يجوز في السفر إلا عند فقد الكاتب، وإنما لم يتعرض لحال الشاهد لما أنه في حكم الكاتب توثقا وإعوازا، والجمهور على وجوب القبض في تمام الرهن، وذهب مالك إلى أنه يتم بالإيجاب والقبول ويلزم الراهن بالعقد تسليمه ويشترط عنده بقاؤه في يد المرتهن حتى لو عاد إلى يد الراهن بأن أودعه المرتهن إياه أو أعاده له إعادة مطلقة فقد خرج من الرهن فلو قام الغرماء وهو بيد الراهن على أحد هذين الوجهين مثلا كان أسوة للغرماء فيه وكأنه إنما ذهب إلى ذلك لما في الرهن من اقتضاء الدوام أنشد أبو علي: فالخبز واللحم لهن راهن ... وقهوة راووقها ساكب وفي التعبير- بمقبوضة- دون تقبضونها إيماء إلى الاكتفاء بقبض الوكيل ولا يتوقف على قبض المرتهن نفسه وقرئ- فرهن- كسقف وهو جمع رهن أيضا، وقرئ بسكون الهاء تخفيفا فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي بعض الدائنين بعض المديونين بحسن ظنه سفرا أو حضرا فلم يتوثق بالكتابة والشهود والرهن، وقرأ أبي- فإن أو من- أي أمنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 الناس ووصفوا المديون بالأمانة والوفاء والاستغناء عن التوثق من مثله، وبَعْضاً على هذا منصوب بنزع الخافض- كما قيل- فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ وهو المديون وعبر عنه بذلك العنوان لتعينه طريقا للاعلام ولحمله على الأداء أَمانَتَهُ أي دينه، والضمير لرب الدين أو للمديون باعتبار أنه عليه، والأمانة مصدر أطلق على الدين الذي في الذمة وإنما سمي أمانة وهو مضمون لائتمانه عليه بترك الارتهان به. وقرئ- «الذيتمن» - بقلب الهمزة ياء، وعن عاصم أنه قرأ- «الذتمن» - بإدغام الياء في الستار، وقيل هو خطأ لأن المنقلبة عن الهمزة في حكمها فلا يدغم، ورد بأنه مسموع في كلام العرب، وقد نقل ابن مالك جوازه لأنه قال: إنه مقصور على السماع، ومنه قراءة ابن محيصن- «اتمن» - ونقل الصاغاني أن القول بجوازه مذهب الكوفيين، وورد مثله في كلام أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وهي من الفصحاء المشهود لهم، ففي البخاري عنها كان صلى الله تعالى عليه وسلم يأمرني فأتزر فالمخطئ مخطئ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ في الخيانة وإنكار الحق، وفي الجمع بين عنوان الألوهية وصفة الربوبية من التأكيد والتحذير ما لا يخفى، وقد أمر سبحانه- بالتقوى- عند الوفاء حسبما أمر بها عند الإقرار تعظيما لحقوق العباد وتحذيرا عما يوجب وقوع الفساد. وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ أي لا تخفوها بالامتناع عن أدائها إذا دعيتم إليها وهو خطاب للشهود المؤمنين كما روي عن سعيد بن جبير وغيره وجعله خطابا للمديونين على معنى لا تكتموا شهادتكم على أنفسكم بأن تقروا بالحق عند المعاملة، أو لا تحتالوا بإبطال شهادة الشهود عليكم بالجرح ونحوه عند المرافعة خلاف الظاهر المأثور عن السلف الصالح، وقرئ يكتموا على الغيبة وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ الضمير في أنه راجع إلى مَنْ وهو الظاهر، وقيل: إنه ضمير الشأن والجملة بعده مفسرة له، وآثِمٌ خبر إن وقلبه فاعل له لاعتماده ولا يجيء هذا على القول بإن الضمير للشأن لأنه لا يفسر إلا بالجملة والوصف مع مرفوعه ليس بجملة عند البصري. والكوفي يجيز ذلك، وقيل: إنه خبر مقدم وقلبه مبتدأ مؤخر، والجملة خبر إن وعليه يجوز أن يكون الضمير للشأن وأن يكون- لمن- وقيل: آثِمٌ خبر إن وفيه ضمير عائد إلى ما عاد إليه ضمير- إنه- وقلبه بدل من ذلك الضمير بدل بعض من كل، وقيل: آثِمٌ مبتدأ وقلبه فاعل سد مسد الخبر، والجملة خبر إن، وهذا جائز عند الفراء من الكوفيين، والأخفش من البصريين وجمهور النحاة لا يجوّزونه وأضاف الآثم إلى القلب مع أنه لو قيل: فَإِنَّهُ آثِمٌ لتم المعنى مع الاختصار، لأن الآثم بالكتمان وهو مما يقع بالقلب وإسناد الفعل بالجارحة التي يعمل بها أبلغ، ألا تراك تقول إذا أردت التوكيد هذا مما أبصرته عيني ومما سمعته أذني ومما عرفه قلبي؟ ولأن الإثم وإن كان منسوبا إلى جملة الشخص لكنه اعتبر الإسناد إلى هذا الجزء المخصوص متجوزا به عن الكل لأنه أشرف الأجزاء ورئيسها، وفعله أعظم من أفعال سائر الجوارح، فيكون في الكلام تنبيه على أن الكتمان من أعظم الذنوب، وقيل: أسند الإثم إلى القلب لئلا يظن أن كتمان الشهادة من الآثام المتعلقة باللسان فقط وليعلم أن القلب أصل متعلقة ومعدن اقترافه، وقيل: للإشارة إلى أن أثر الكتمان يظهر في قلبه كما جاء في الخبر «إذا أذنب العبد يحدث في قلبه نكتة سوداء وكلما أذنب زاد ذلك حتى يسود ذلك بتمامه» ، أو للإشارة إلى أنه يفسد قلبه فيفسد بدنه كله، فقد ورد «إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» والكل ليس بشيء كما لا يخفى، وقرئ قلبه بالنصب على التشبيه بالمفعول به. وآثِمٌ صفة مشبهة، وجوز أبو حيان كونه بدلا من اسم إن بدل بعض من كل، وبعضهم كونه تمييزا واستبعده أبو البقاء، وقرأ ابن أبي عبلة آثِمٌ قَلْبُهُ أي جعله آثما وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من كتمان الشهادة وأدائها على وجهها وغير ذلك عَلِيمٌ فيجازيكم بذلك إن خيرا فخير وإن شرا فشر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ من الأمور الداخلة في حقيقتهما والخارجة عنهما كيف كانت أي كلها ملك له تعالى ومختصة به فله أن يلزم من شاء من مملوكاته بما شاء من تكليفاته وليس لأحد أن يقول المال مالي أتصرف به كيف شئت، ومن الناس من جعل هذه الجملة كالدليل لما قبلها وَإِنْ تُبْدُوا أي تظهروا للناس ما فِي أَنْفُسِكُمْ أي ما حصل فيها حصولا أصليا بحيث يوجب اتصافها به كالملكات الرديئة والأخلاق الذميمة كالحسد والكبر والعجب والكفران وكتمان الشهادة أَوْ تُخْفُوهُ بأن لا تظهروه. يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ أي يجازيكم به يوم القيامة، وأما تصور المعاصي والأخلاق الذميمة فهو لعدم إيجابه اتصاف النفس به لا يعاقب عليه ما لم يوجد في الأعيان، وإلى هذا الإشارة بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم» أي إن الله تعالى لا يعاقب أمتي على تصور المعصية وإنما يعاقب على عملها، فلا منافاة بين الحديث والآية خلافا لمن توهم ذلك ووقع في حيص بيص لدفعه. ولا يشكل على هذا أنهم قالوا: إذا وصل التصور إلى حد التصميم والعزم يؤاخذ به لقوله تعالى: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة: 225] لأنا نقول: المؤاخذة بالحقيقة على تصميم العزم على إيقاع المعصية في الأعيان وهو أيضا من الكيفيات النفسانية التي تلحق بالملكات ولا كذلك سائر ما يحدث في النفس ونظمه بعضهم بقوله: مراتب القصد خمس هاجس ذكروا ... فخاطر فحديث النفس فاستمعا يليه هم فعزم كلها رفعت ... سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا فالآية على ما قررنا محكمة، وادعى بعضهم أنها منسوخة محتجا بما أخرجه أحمد، ومسلم عن أبي هريرة قال: «لما نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ الآية اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم جثوا على الركب فقالوا: يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصوم والجهاد والصدقة وقد أنزل الله تعالى عليك هذه الآية ولا نطيقها فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير» فلما اقترأها القوم وزلت بها ألسنتهم أنزل الله تعالى في إثرها آمَنَ الرَّسُولُ [البقرة: 285] الآية فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل سبحانه لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: 286] إلخ، وصح مثل ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه، وابن عباس، وابن مسعود، وعائشة رضي الله تعالى عنهم، وأخرج البخاري عن مروان الأصغر عن رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم- أحسبه ابن عمر إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ قال: نسختها الآية التي بعدها، وعلى هذا لا يحتاج إلى التوفيق بين الآية وذلك الحديث الصحيح بوجه، ويكون الحديث إخبارا عما كان بعد النسخ، واستشكل ذلك بأن النسخ مختص بالإنشاء ولا يجري في الخبر والآية الكريمة من القسم الثاني. ومن هنا قال الطبرسي: وأخطأ أن الروايات في النسخ كلها ضعيفة، وأجيب بأن النسخ لم يتوجه إلى مدلول الخبر نفسه سواء قلنا إنه مما يتغير كإيمان زيد، وكفر عمرو أم لا كوجود الصانع وحدوث العالم بل إن النهي المفهوم منه كما يدل عليه قول الصحابة لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «كلفنا من الأعمال ما نطيق وقد أنزل الله تعالى عليك هذه الآية ولا نطيقها» فإن ذلك صريح في أنهم فهموا من الآية تكليفا، والحكم الشرعي المفهوم من الخبر يجوز نسخه بالاتفاق كما يدل عليه كلام العضد وغيره وبعض من ادعى أن الآية محكمة وتوقف في قبول هذا الجواب ذهب إلى أن المراد من النسخ البيان وإيضاح المراد مجازا كما مرت الإشارة إليه عند قوله تعالى: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا [البقرة: 109] كأنه قيل: كيف يحمل ما في أنفسكم على ما يعم الوساوس الضرورية وهو يستلزم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 التكليف بما ليس في الوسع والله لا يكلف نفسا إلا وسعها، واعترض هذا بأنه على بعده يستلزم أنه صلى الله تعالى عليه وسلم أقر الصحابة على ما فهموه وهو بمعزل عن مراد الله تعالى ولم يبينه لهم مع ما هم فيه من الاضطراب والوجل الذي جثوا بسببه على الركب حتى نزلت الآية الأخرى، ويمكن أن يجاب على بعد بأنه لا محذور في هذا اللازم ويلتزم بأنه من قبيل إقراره صلى الله تعالى عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه حين فسر الرؤيا بين يديه عليه الصلاة والسلام وقال: «أخطأت أم أصبت يا رسول الله؟ فقال له صلّى الله عليه وسلم: أصبت بعضها وأخطأت بعضها» ولم يبين له فيما أصاب وفيما أخطأ لأمر ما، ولعله هنا ابتلاؤهم وأن يمحص ما في صدورهم وهذا على العلات أولى من حمل النسخ على التخصيص لاستلزامه مع ما فيه وقوع التكليف بما لا يطاق كما لا يخفى، وقيل: معنى الآية إن تعلنوا ما في أنفسكم من السوء، أو لم تعلنوه بأن تأتوا به خفية يعاقبكم الله تعالى عليه، ويؤول إلى قولنا إن تدخلوا الأعمال السيئة في الوجود ظاهرا أو خفية يحاسبكم بها الله تعالى أو إن تظهروا ما في أنفسكم من كتمان الشهادة بأن تقولوا لرب الشهادة عندنا شهادة ولكن نكتمها ولا نؤديها لك عند الحكام، أو تخفوه بأن تقولوا له ليس في علمنا خبر ما تريد أن نشهد به وأنتم كاذبون في ذلك- يحاسبكم به الله- وأيد هذا بما أخرجه سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق مجاهد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه في الآية الكريمة قال: نزلت في الشهادة، وقيل: الآية على ظاهرها، و «ما في أنفسكم» على عمومه الشامل لجميع الخواطر إلا أن معنى «يحاسبكم» يخبركم به الله تعالى يوم القيامة، وقد عدوا من جملة معنى الحسيب العليم، وجميع هذه الأقوال لا تخلو عن نظر فتدبر، وارجع إلى ذهنك فلا إخالك تجد فوق ما ذكرناه أو مثله في كتاب. وتقديم الجار والمجرور على الفاعل للاعتناء به، وأما تقديم الإبداء على الإخفاء على عكس ما في قوله تعالى: قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [آل عمران: 29] فلما قيل: إن المعلق- بما في أنفسهم- هنا المحاسبة والأصل فيها الأعمال البادية، وأما العلم فتعلقه بها كتعلقه بالأعمال الخافية ولا يختلف الحال عليه تعالى بين الأشياء البارزة والكامنة بل لا كامن بالنسبة إليه سبحانه خلا أن مرتبة الإخفاء متقدمة على مرتبة الإبداء ما من شيء يبدو إلا وهو أو مباديه قبل ذلك مضمر في النفس فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلق علمه بحالته الثانية فَيَغْفِرُ بالرفع على الاستئناف أي فهو يغفر بفضله لِمَنْ يَشاءُ أن يغفر له من عباده وَيُعَذِّبُ بعدله. مَنْ يَشاءُ أن يعذبه من عباده، وتقديم المغفرة على التعذيب لتقدم رحمته على غضبه، وقرأ غير ابن عامر، وعاصم، ويعقوب بجزم الفعلين عطفا على جواب الشرط، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بنصبهما بإضمار- أن- وتكون هي وما في حيزها بتأويل مصدر معطوف على المصدر المتوهم من الفعل السابق، والتقدير تكن محاسبة فغفران وعذاب، ومن القواعد المطردة أنه إذا وقع بعد جزاء الشرط فعل بعد واو أو فاء جاء فيه الأوجه الثلاثة وقد أشار لها ابن مالك: والفعل من بعد الجزا إن يقترن ... بالفاء أو الواو بتثليث قمن وقرأ ابن مسعود- «يغفر» ، و «يعذب» - بالجزم بغير فاء- ووجهه عند القائل بجواز تعدد الجزاء كالخبر ظاهر- وأما عند غيره فالجزم على أنهما بدل من يُحاسِبْكُمْ بدل البعض من الكل أو الاشتمال، فإن كلا من المغفرة والتعذيب بعض من الحساب المدلول عليه- بيحاسبكم- ومطلق الحساب جامع لهما فان اعتبر جمعه لهما على طريق اشتمال الكل على الأجزاء يكون بدل البعض من الكل وإن اعتبر على طريق الشمول كشمول الكلي لأفراده يكون بدل اشتمال كذا قيل، وقيل: إن أريد بيحاسبكم معناه الحقيقي فالبدل بدل اشتمال- كأحب زيدا علمه- وإن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 أريد به المجازاة فالبدل بدل بعض- كضربت زيدا رأسه- وقيل: غير ذلك، وذهب أبو حيان إلى تعين الاشتمال قال: ووقوعه في الأفعال صحيح لأن الفعل يدل على جنس تحته أنواع يشتمل عليها ولذلك إذا وقع عليه النفي انتفت جميع أنواع ذلك الجنس، وأما بدل البعض من الكل فلا يمكن في الفعل إذ الفعل لا يقبل التجزي فلا يقال فيه له كل وبعض إلا بمجاز بعيد، واعترضه الحلبي بأنه ليس بظاهر لأن الكلية والبعضية صادقتان على الجنس ونوعه فإن الجنس كل والنوع بعض فالصحيح وقوع النوعين في الفعل وقد قيل بهما في قوله: متى تأتنا- تلمم- بنا في ديارنا ... تجد خير نار عندها خير موقد فإنهم جعلوا الإلمام بدلا من الإتيان إما بدل بعض لأنه إتيان لا توقف فيه فهو بعضه أو اشتمال لأنه نزول خفيف، وروي عن أبي عمرو إدغام الراء في اللام، وطعن الزمخشري- على عادته في الطعن- في القراءات السبع إذا لم تكن على قواعد العربية ومن قواعدهم أن الراء لا تدغم إلا في الراء لما فيها من التكرار الفائت بالإدغام في اللام وقد يجاب بأن القراءات السبع متواترة والنقل بالمتواتر إثبات علمي، وقول النحاة نفي ظني ولو سلم عدم التواتر فأقل الأمر أن تثبت لغة بنقل العدول وترجع بكونه إثباتا ونقل إدغام الراء في اللام عن أبي عمرو من الشهرة والوضوح بحيث لا مدفع له- وممن روي ذلك عنه- أبو محمد اليزيدي وهو إمام في النحو إمام في القراءات إمام في اللغات، ووجهه من حيث التعليل ما بينهما من شدة التقارب حتى كأنهما مثلان بدليل لزوم إدغام اللام في الراء في اللغة الفصيحة إلا أنه لمح تكرار الراء فلم يجعل إدغامه في اللام لازما على أن منع إدغام الراء في اللام مذهب البصريين، وقد أجازه الكوفيون وحكوه سماعا، منهم الكسائي، والفراء، وأبو جعفر الرواسي، ولسان العرب ليس محصورا فيما نقله البصريون فقط، والقراء من الكوفيين ليسوا بمنحطين عن قراء البصرة وقد أجازوه عن العرب فوجب قبوله والرجوع فيه إلى علمهم ونقلهم إذ من علم حجة على من لم يعلم. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تذييل مقرر لمضمون ما قبله فإن كمال قدرته تعالى على جميع الأشياء موجب لقدرته على ما ذكر من المحاسبة وما فرع عليه من المغفرة والتعذيب، وفي الآية دليل لأهل السنة في نفي وجوب التعذيب حيث علق بالمشيئة واحتمال أن تلك المشيئة واجبة كمن يشاء صلاة الفرض فإنه لا يقتضي عدم الوجوب خلاف الظاهر آمَنَ الرَّسُولُ قال الزجاج: لما ذكر الله تعالى عز وجل في هذه السورة الجليلة الشأن الواضحة البرهان فرض الصلاة، الزكاة، والطلاق، والحيض والإيلاء، والجهاد، وقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والدين، والربا، ختمها بهذا تعظيما لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم وأتباعه، وتأكيدا وفذلكة لجميع ذلك المذكور من قبل، وقد شهد سبحانه وتعالى هنا لمن تقدم في صدر السورة بكمال الإيمان وحسن الطاعة واتصافهم بالفعل وذكره صلى الله تعالى عليه وسلم بطريق الغيبة مع ذكره هناك بطريق الخطاب لما أن حق الشهادة الباقية على مر الدهور أن لا يخاطب بها المشهود له ولم يتعرض سبحانه هاهنا لبيان فوزهم بمطالبهم التي من جملتها ما حكي عنهم من الدعوات الآتية إيذانا بأنه أمر محقق غني عن التصريح لا سيما بعد ما نص عليه فيما سلف وإيراده صلى الله تعالى عليه وسلم بعنوان الرسالة دون تعرض لاسمه الشريف تعظيم له وتمهيد لما يذكر بعده. أخرج الحاكم. والبيهقي عن أنس قال: «لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم آمَنَ الرَّسُولُ قال عليه الصلاة والسلام: وحق له أن يؤمن» وفي رواية عبد بن حميد عن قتادة- وهي شاهد لحديث أنس- «فينجبر انقطاعه ويحق له أن يؤمن» بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ من الأحكام المذكورة في هذه السورة وغيرها والمراد إيمانه بذلك إيمانا تفصيليا، وأجمله إجلالا لمحله صلى الله تعالى عليه وسلم وإشعارا بأن تعلق إيمانه عليه الصلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 والسلام بتفاصيل ما أنزل إليه وإحاطته بجميع ما انطوى عليه مما لا يكتنه كنهه ولا تصل الأفكار وإن حلقت إليه قد بلغ من الظهور إلى حيث استغنى عن ذكره واكتفى عن بيانه، وفي تقديم الانتهاء على الابتداء مع التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إلى ضميره صلّى الله عليه وسلم ما لا يخفى من التعظيم لقدره الشريف والتنويه برفعة محله المنيف وَالْمُؤْمِنُونَ يجوز أن يكون معطوفا على الرسول مرفوعا بالفاعلية فيوقف عليه، ويدل عليه ما أخرجه أبو داود في المصاحف عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قرأ- وآمن المؤمنون- وعليه يكون قوله تعالى: كُلٌّ آمَنَ جملة مستأنفة من مبتدأ وخبر، وسوغ الابتداء بالنكرة كونها في تقدير الإضافة ويجوز أن يكون مبتدأ، وكُلٌّ مبتدأ ثان، وآمَنَ خبره، والجملة خبر الأول والرابط مقدر ولا يجوز كون كُلٌّ تأكيدا لأنهم صرحوا بأنه لا يكون تأكيدا للمعرفة إلا إذا أضيف لفظا إلى ضميرها- ورجح الوجه الأول- بأنه أقضى لحق البلاغة وأولى في التلقي بالقبول لأن الرسول صلّى الله عليه وسلم حينئذ يكون أصلا في حكم الإيمان بما أنزل الله والمؤمنون تابعون له ويا فخرهم بذلك، ويلزم على الوجه في الثاني أن حكم المؤمنين أقوى من حكم الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم لكون جملتهم اسمية ومؤكدة، وعورض بأن في الثاني إيذانا بتعظيم الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وتأكيدا للإشعار بما بين إيمانه صلى الله تعالى عليه وسلم المبني على المشاهدة والعيان وبين إيمان سائر المؤمنين الناشئ عن الحجة والبرهان من التفاوت البين والفرق الواضح كأنهما مختلفان من كل وجه حتى في هيئة التركيب ويلزم على الأول أنه إن حمل كل من الإيمانين على ما يليق بشأنه صلّى الله عليه وسلم من حيث الذات ومن حيث التعلق استحال إسنادهما إلى غيره عليه الصلاة والسلام وضاع التكرير، وإن حمل على ما يليق بشأن آحاد الأمة كان ذلك حطا لرتبته العلية وإذا حملا على ما يليق بكل واحد مما نسبا إليه ذاتا وتعلقا بأن يحملا بالنسبة إليه صلى الله تعالى عليه وسلم على الإيمان العياني المتعلق بجميع التفاصيل وبالنسبة إلى آحاد الأمة على الإيمان المكتسب من مشكاته صلى الله تعالى عليه وسلم اللائق بحالهم من الإجمال والتفصيل كان اعتسافا بينا ينزه عنه التنزيل والشبهة التي ظنت معارضة مدفوعة بأن الإتيان بالجملة الاسمية مع تكرار الاسناد المقوي للحكم لما في الحكم بإيمان كل واحد منهم على الوجه الآتي من نوع خفاء محوج لذلك، وتوحيد الضمير في آمَنَ مع رجوعه إلى كل المؤمنين لما أن المراد بيان إيمان كل فرد فرد منهم من غير اعتبار الاجتماع كما اعتبر في قوله تعالى: وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ [النمل: 87] وهو أبعد عن التقليد الذي هو إن لم يجرح خدش أي كل واحد منهم على حياله- آمن- بِاللَّهِ أي صدق به وبصفاته ونفي التشبيه عنه وتنزيهه عما لا يليق بكبريائه من نحو الشريك في الألوهية والربوبية وغير ذلك وَمَلائِكَتِهِ من حيث إنهم معصومون مطهرون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون من شأنهم التوسط بينه تعالى وبين الرسل بإنزال الكتب وإلقاء الوحي ولهذا ذكروا في النظم قبل قوله تعالى: وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ أي من حيث مجيئهما منه تعالى على وجه يليق بشأن كل منهما ويلزم الإيمان التفصيلي فيما علم تفصيلا من كل من ذلك والإجمالي فيما علم إجمالا وإنما لم يذكر هاهنا الإيمان باليوم الآخر كما ذكر في قوله تعالى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ [البقرة: 177] إلخ لاندراجه في الإيمان بكتبه والثواني كثيرا ما يختصر فيها، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- وكتابه- بالإفراد فيحتمل أن يراد به القرآن بحمل الإضافة على العهد أو يراد الجنس فلا يختص به والفرق بينه وبين الجمع- على ما ذهب إليه إمام الحرمين والزمخشري- وروي عن الإمام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- أن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع لأن المفرد يتناول جميع الآحاد ابتداء فلا يخرج عنه شيء منه قليلا أو كثيرا بخلاف الجمع فإنه يستغرق الجموع أولا وبالذات ثم يسري إلى الآحاد- وهذا المبحث من معضلات علم المعاني- وقد فرغ من تحقيقه هناك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ في حيز النصب بقول مقدر مسند إلى ضمير كُلٌّ مراعى فيه اللفظ فيفرد أو المعنى فيجمع- ولعله أولى- والجملة منصوبة المحل على أنها حال من ضمير آمَنَ أو مرفوعة على أنها خبر آخر- لكل- أي يقولون، أو يقول: لا نفرق بين رسل الله تعالى بأن نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعل أهل الكتابين بل نؤمن بهم جميعا ونصدق بصحة رسالة كل واحد منهم وقيدوا إيمانهم بذلك تحقيقا للحق وتنصيصا على مخالفة أولئك المفرقين من الفريقين بإظهار الإيمان بما كفروا به فلعنة الله على الكافرين. ومن هنا يعلم أن القائلين هم آحاد المؤمنين خاصة إذ يبعد أن يسند إليه صلى الله تعالى عليه وسلم أن يقول لا أفرق بين أحد من رسله وهو يريد إظهار إيمانه برسالة نفسه وتصديقه في دعواها، ومن اعتبر إدراج الرسول في كُلٌّ واستبعد هذا قال: بالتغليب هاهنا، ومن لم يستعبد إذ كان صلى الله تعالى عليه وسلم يأتي بكلمة الشهادة كما يأتي بها سائر الناس أو يبدل العلم فيها بضمير المتكلم لم يحتج إلى القول بالتغليب، وعدم التعرض لنفي التفريق بين الكتب لاستلزام المذكور إياه وإنما لم يعكس مع تحقق التلازم لما أن الأصل في تفريق المفرقين هو الرسل وكفرهم بالكتب متفرع على كفرهم بهم وإيثار إظهار الرسل على الإضمار الواقع مثله في قوله تعالى: وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ [البقرة: 136] إما للاحتراز عن توهم اندراج الملائكة ولو على بعد في الحكم وهو وإن لم يكن فيه بأس إلا أنه ليس في التعرض له كثير جدوى إذ لا مزاحم في الظاهر، وإن كان فقليل أو للإشعار بعلة عدم التفريق أو للإيماء إلى عنوانه لأن المعتبر عدم التفريق من حيث الرسالة دون سائر الحيثيات، وقرأ يعقوب. وأبو عمرو في رواية عنه- لا يفرق- بالياء على لفظ كُلٌّ وقرئ لا يفرقون حملا على معناه، والجملة نفسها حينئذ حال أو خبر على نحو ما تقدم في القول المقدر ولا حاجة إليه هنا، والكلام على أَحَدٍ وإدخال بَيْنَ عليه قد سبق في تفسير قوله تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَقالُوا عطف على آمَنَ والجمع باعتبار المعنى وهو حكاية لامتثالهم الأوامر والنواهي إثر حكاية إيمانهم سَمِعْنا أي أجبنا وهو المعنى العرفي للسمع وَأَطَعْنا وقبلنا عن طوع ما دعوتنا إليه في الأمر والنواهي، وقيل: سَمِعْنا ما جاءنا من الحق وتيقّنا بصحته، وأَطَعْنا ما فيه من الأمر والنهي غُفْرانَكَ رَبَّنا أي اغفر غفرانك ما ينقص حظوظنا لديك، أو نسألك غفرانك ذلك، فغفران مصدر إما مفعول مطلق أو مفعول به- ولعل الأول أولى- لما في الثاني من تقدير الفعل الخاص المحوج إلى اعتبار القرينة وتقديم ذكر السمع على الطاعة لتقدم العام على الخاص، أو لأن التكليف طريقه السمع والطاعة بعده وتقديم ذكرهما على طلب الغفران لما أن تقدم الوسيلة على المسئول أقرب إلى الإجابة والقبول، والتعرض لعنوان الربوبية قد تقدم سره غير مرة وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ أي الرجوع بالموت والبعث وهو مصدر ميمي، والجملة قيل: معطوفة على مقدر أي فمنك المبتدأ وإليك المصير وهي تذييل لما قبله مقرر للحاجة إلى المغفرة وفيها إقرار بالمعاد الذي لم يصرح به قبل. لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها جملة مستأنفة سيقت إخبارا منه تعالى بعد تلقيهم لتكاليفه سبحانه بالطاعة والقبول بماله عليهم في ضمن التكليف من محاسن آثار الفضل والرحمة ابتداء لا بعد السؤال كما سيجيء- والتكليف- إلزام ما فيه كلفة ومشقة، والوسع- ما تسعه قدرة الإنسان أو ما يسهل عليه من المقدور وهو ما دون مدى طاقته أي سنته تعالى أنه- لا يكلف نفسا- من النفوس إلا ما تطيق وإلا ما هو دون ذلك كما في سائر ما كلفنا به من الصلاة والصيام مثلا فإنه كلفنا خمس صلوات والطاقة تسع ستا وزيادة. وكلفنا صوم رمضان والطاقة تسع شعبان معه وفعل ذلك فضلا منه ورحمة بالعباد أو كرامة ومنّة على هذه الأمة خاصة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 وقرأ ابن أبي عبلة «وسعها» - بفتح السين (1) والآية على التفسيرين تدل على عدم وقوع التكليف بالمحال لا على امتناعه، أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فبطريق الأولى، وقيل: إنها على التفسير الثاني لا تدل على ذلك لأن الخطاب حينئذ مخصوص بهذه الأمة وعلى كل تقدير لا دليل فيها على امتناع التكليف بالمحال كما وهم وقد تقدم لك بعض ما يتعلق بهذا المبحث وربما يأتيك ما ينفعك فيه إن شاء الله تعالى. لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ جملة أخرى مستأنفة سيقت للترغيب والمحافظة على مواجب التكليف والتحذير عن الإخلال بها ببيان أن تكليف كل نفس مع مقارنته لنعمة التخفيف والتيسير يتضمن مراعاته منفعة زائدة وأنها تعود إليها لا إلى غيرها ويستتبع الإخلال بها مضرة تحيق بها لا بغيرها فإن اختصاص منفعة الفعل بفاعله من أقوى الدواعي إلى تحصيله واقتصار مضرته عليه من أشد الزواجر عن مباشرته- قاله المولى مفتي الديار الرومية قدس سره- وهو الذي ذهب إليه الكثير، وقيل: يجوز أن تجعل الجملتان في حيز القول ويكون ذلك حكاية للأقوال المتفرقة الغير المعطوفة بعضها على بعض للمؤمنين ويكون مدحا لهم بأنهم شكروا الله تعالى في تكليفه حيث يرونه بأنه لم يخرج عن وسعهم وبأنهم يرون أن الله تعالى لا ينتفع بعملهم الخير بل هو لهم ولا يتضرر بعملهم الشر بل هو عليهم- ولا يخفى أنه بعيد- من جهة- قريب من أخرى- والضمير في لَها للنفس العامة والكلام على حذف مضاف هو ثواب في الأول وعقاب في الآخر، ومبين ما الأولى الخير لدلالة اللام الدالة على النفع عليه، ومبين ما الثانية الشر لدلالة- على- الدالة على الضر عليه: وإيراد الاكتساب في جانب الأخير لما فيه من زيادة المعنى وهو الاعتمال، والشر تشتهيه النفس وتنجذب إليه فكانت أجد في تحصيله ففيه إشارة إلى ما جبلت عليه النفوس ولما لم يكن مثل ذلك في الخير استعمل الصيغة المجردة عن الاعتمال. رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا شروع في حكاية بقية دعواتهم إثر بيان سر التكليف، وقيل: استيفاء لحكاية الأقوال، وفي البحر- وهو المروي عن الحسن- أن ذلك على تقدير الأمر أي قولوا في دعائكم ذلك فهو تعليم منه تعالى لعباده كيفية الدعاء والطلب منه وهذا من غاية الكرم ونهاية الإحسان يعلمهم الطلب ليعطيهم ويرشدهم للسؤال ليثيبهم، ولذلك قيل وقد تقدم: لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه ... من فيض جودك ما علمتني الطلبا والمؤاخذة: المعاقبة، وفاعل هنا بمعنى فعل، وقيل: المفاعلة على بابها لأن الله تعالى يؤاخذ المذنب بالعقوبة والمذنب كأنه يؤاخذ ربه بالمطالبة بالعفو إذ لا يجد من يخلصه من عذابه سواه فلذلك يتمسك العبد عند الخوف منه به فعبر عن كل واحد بلفظ المؤاخذة ولا يخفى فساد هذا إلا بتكلف، واختلفوا في المراد من النسيان والخطأ على وجوه، الأول أن المراد من الأول الترك ومنه قوله: ولم أك عند الجود للجود قاليا ... ولا كنت يوم الروع للطعن ناسيا والمراد من الثاني العصيان لأن المعاصي توصف بالخطأ الذي هو ضد الصواب وإن كان فاعلها متعمدا كأنه قيل: ربنا لا تعاقبنا على ترك الواجبات وفعل المنهيات، الثاني أن المراد منهما ما هما مسببان عنه من التفريط والإغفال   (1) قوله: بفتح السين كذا بالأصل ولعله محرف عن فتح الواو لأن الواو مثلث كما في القاموس اهـ مصححه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 إذ قلما يتفقان إلا عن تقصير سابق فالمعنى لا تؤاخذنا بذلك التقصير، الثالث أن المراد بهما أنفسهما من حيث ترتبهما على ما ذكر، أو مطلقا إذ لا امتناع في المؤاخذة بهما عقلا فإن المعاصي كالسموم فكما أن تناولها ولو سهوا أو خطأ مؤد إلى الهلاك فتعاطي المعاصي أيضا لا يبعد أن يفضي إلى العقاب وإن لم يكن عن عزيمة ولكنه تعالى وعد التجاوز عنه رحمة منه وفضلا فيجوز أن يدعو الإنسان به استدامة واعتدادا بالنعمة فيه. ويؤيد ذلك مفهوم قوله صلى الله تعالى عليه وسلم فيما أخرجه الطبراني، وقال النووي حديث حسن: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما أكرهوا عليه» وأورد على هذا بأنه لا يتم على مذهب المحققين من أهل السنة والمعتزلة من أن التكليف بغير المقدور غير جائز عقلا منه تعالى إذ لا يكون ترك المؤاخذة على الخطأ والنسيان حينئذ فضلا يستدام ونعمة يعتد بها رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً أي عبثا ثقيلا يأسر صاحبه أي يحبسه مكانه. والمراد به التكاليف الشاقة، وقيل: الإصر الذنب الذي لا توبة له فالمعنى اعصمنا من اقترافه، وقرئ آصارا على الجمع، وقرأ أبيّ- ولا تحمّل- بالتشديد للمبالغة كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا في حيز النصب على أنه صفة لمصدر محذوف أي حملا مثل حملك إياه على من قبلنا، أو على أنه صفة لإصرا أي إصرا مثل الإصر الذي حملته على من قبلنا- وهو ما كلفه بنو إسرائيل- من قتل النفس في التوبة أو في القصاص لأنه كان لا يجوز غيره في شريعتهم. وقطع موضع النجاسة من الثياب ونحوها، وقيل: من البدن وصرف ربع المال في الزكاة. رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ استعفاء عن العقوبات التي لا تطاق بعد الاستعفاء عما يؤدي إليها والتعبير عن إنزال ذلك بالتحميل مجاز باعتبار ما يؤدي إليه، وجوز أن يكون طلبا لما هو أعم من الأول لتخصيصه بالتشبيه إلا أنه صور فيه الإصر بصورة ما لا يستطاع مبالغة، وقيل: هو استعفاء عن التكليف بما لا تفي به القدر البشرية حقيقة فتكون الآية دليلا على جواز التكليف بما لا يطاق وإلا لما سئل التخلص عنه وليس بالقوي، والتشديد هاهنا لمجرد تعدية الفعل لمفعول ثان دون التكثير وَاعْفُ عَنَّا أي امح آثار دنوبنا بترك العقوبة. وَاغْفِرْ لَنا بستر القبيح وإظهار الجميل وَارْحَمْنا وتعطف علينا بما يوجب المزيد، وقيل: اعْفُ عَنَّا من الأفعال وَاغْفِرْ لَنا من الأقوال وَارْحَمْنا بثقل الميزان، وقيل: وَاعْفُ عَنَّا في سكرات الموت وَاغْفِرْ لَنا في ظلمة القبور وَارْحَمْنا في أهوال يوم النشور، قال أبو حيان: ولم يأت في هذه الجمل الثلاث بلفظ رَبَّنا لأنها نتائج ما تقدم من الجمل التي افتتحت بذلك فجاء- فاعف عنا- مقابلا لقوله تعالى: لا تُؤاخِذْنا وَاغْفِرْ لَنا لقوله سبحانه: وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً وَارْحَمْنا لقوله عز شأنه: وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ لأن من آثار عدم المؤاخذة بالنسيان والخطأ والعفو، ومن آثار عدم حمل الإصر عليهم المغفرة ومن آثار عدم تحميل ما لا يطاق الرحمة ولا يخفى حسن الترتيب أَنْتَ مَوْلانا أي مالكنا وسيدنا، وجوز أن يكون بمعنى متولي الأمر وأصله مصدر أريد به الفاعل وإذا ذكر المولى والسيد وجب في الاستعمال تقديم المولى فيقال: مولانا وسيدنا كما في قول الخنساء: وإن صخرا- لمولانا وسيدنا- ... وإن صخرا إذا اشتوا لمنحار وخطؤوا من قال: سيدنا ومولانا بتقديم السيد على المولى- كما قاله ابن أبيك- ولي فيه تردد قيل: والجملة على معنى القول أي قولوا أنت مولانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أي الأعداء في الدين المحاربين لنا أو مطلق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 الكفرة وأتى بالفاء إيذانا بالسببية لأن الله تعالى لما كان مولاهم ومالكهم ومدبر أمورهم تسبب عنه أن دعوه بأن ينصرهم على أعدائهم فهو كقولك أنت الجواد فتكرم علي وأنت البطل فاحم الجار. (ومن باب الاشارة في هذه الآيات) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ أي العوالم الروحانية كلها وما استتر في أستار غيوبه وخزائن علمه وَما فِي الْأَرْضِ أي العالم الجسماني والظواهر المشاهدة التي هي مظاهر الأسماء والأفعال وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ يشهده بأسمائه وظواهره يُحاسِبْكُمْ بِهِ وإن تخفوه يشهده بصفاته وبواطنه ويحاسبكم به فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ لتوحيده وقوة يقينه وعروض سيئاته وعدم رسوخها في ذاته وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ لفساد اعتقاده ووجود شكه، أو رسوخ سيئاته في نفسه وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لأن به ظهور كل ظاهر وبطون كل باطن فيقدر على المغفرة والتعذيب آمَنَ الرَّسُولُ الكامل الأكمل بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ أي صدقه بقبوله والتخلق به فقد كان خلقه صلى الله تعالى عليه وسلم القرآن والترقي بمعانيه والتحقق به وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وحده مشاهدة حين لم يروا في الوجود سواه وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ حين رجوعهم إلى مشاهدتهم تلك الكثرة مظاهر للوحدة يقولون لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ يرد بعض وقبول بعض لمشاهدة الحق فيهم بالحق وَقالُوا سَمِعْنا أجبنا ربنا في كتبه ورسله ونزول ملائكته واستقمنا في سيرنا غُفْرانَكَ رَبَّنا أي اغفر وجوداتنا وصفاتنا واستر ذلك بوجودك وصفاتك فمنك المبدأ وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ بالفناء فيك لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها إلا ما يسعها ولا يضيق به طوقها واستعدادها من التجليات لَها ما كَسَبَتْ من الخير والكمالات والكشوف سواء كان ذلك باعتمال أو بغير اعتمال وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ وتوجهت إليه بالقصد من السوء رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا عهدك بميلنا إلى ظلمة الطبيعة أَوْ أَخْطَأْنا بالعمل على غير الوجه اللائق لحضرتك رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً وهو عبء الصفات والأفعال الحابسة للقلوب من معاينة الغيوب كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا من المحتجبين بظواهر الأفعال أو بواطن الصفات رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ من ثقل الهجران والحرمان عن وصالك ومشاهدة جمالك بحجب جلالك وَاعْفُ عَنَّا سيئات أفعالنا وصفاتنا فإنها سيئات حجبتنا عنك وحرمتنا برد وصالك ولذة رضوانك وَاغْفِرْ لَنا ذنوب وجودنا فإنه أكبر الكبائر وَارْحَمْنا بالوجود الموهوب بعد الفناء أَنْتَ مَوْلانا أي سيدنا ومتولي أمورنا لأنا مظاهرك وآثار قدرتك فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ من قوى نفوسنا الأمارة وصفاتها وجنود شياطين أوهامنا المحجوبين عنك الحاجبين إيانا لكفرهم وظلمتهم، هذا وقد أخرج مسلم، والترمذي من حديث ابن عباس لما نزلت هذه الآية فقرأها صلى الله تعالى عليه وسلم قيل له عقيب كل كلمة قد فعلت، واخرج أبو سعيد، والبيهقي عن الضحاك أن جبريل لما جاء بهذه الآية ومعه ما شاء الله تعالى من الملائكة وقرأها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال له بعد كل كلمة لك ذلك حتى فرغ منها، وأخرج أبو عبيد عن أبي ميسرة أن جبريل لقن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عند خاتمة البقرة آمين، وأخرج الأئمة الستة في كتبهم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» وأخرج الطبراني بسند جيد عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن الله تعالى كتب كتابا قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام فأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة ولا يقرءان في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان» وأخرج ابن عدي عن ابن مسعود الأنصاري أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «أنزل الله تعالى آيتين من كنوز الجنة كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي عام من قرأهما بعد العشاء الآخرة اجزأتاه عن قيام الليل» وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «إن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 الله ختم سورة البقرة بآيتين أعطانيهما من كنزه الذي تحت العرش فتعلموهما وعلموهما نساءكم وأبناءكم فإنهما صلاة وقرآن ودعاء» وفي رواية أبي عبيد عن محمد بن المنكدر أنهن قرآن وأنهن دعاء وأنهن يدخلن الجنة وأنهن يرضين الرحمن، وأخرج مسدد عن عمر رضي الله تعالى عنه، والدارمي عن علي كرم الله تعالى وجهه كلاهما قال: ما كنت أرى أحدا يعقل ينام حتى يقرأ هؤلاء الآيات من سورة البقرة. والآثار في فضلها كثيرة وفيما ذكرنا كفاية لمن وفقه الله تعالى. اللهم اجعل لنا من إجابة هذه الدعوات أوفر نصيب، ووفقنا للعمل الصالح والقول المصيب، واجعل القرآن ربيع قلوبنا وجلاء أسماعنا ونزهة أرواحنا ويسر لنا إتمام ما قصدناه ولا تجعل لنا مانعا عما بتوفيقك أردناه، وصلّ وسلم على خليفتك الأعظم، وكنزك المطلسم، وعلى آله الواقفين على أسرار كتابك، وأصحابه الفائزين بحكم خطابك ما ارتاحت روح وحصل لقارع باب جودك فتوح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 سورة آل عمران «وهي مائتا آية» أخرج ابن الضريس، والنحاس، والبيهقي من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت بالمدينة، واسمها في التوراة- كما روى سعيد بن منصور- طيبة، وفي صحيح مسلم تسميتها والبقرة الزهراوين- وتسمى الأمان، والكنز، والمعنية، والمجادلة، وسورة الاستغفار، ووجه مناسبتها لتلك السورة أن كثيرا من مجملاتها تشرح بما في هذه السورة وأن سورة البقرة بمنزلة إقامة الحجة وهذه بمنزلة إزالة الشبهة ولهذا تكرر فيها ما يتعلق بالمقصود الذي هو بيان حقيقة الكتاب من إنزال الكتاب وتصديقه للكتب قبله والهدى إلى الصراط المستقيم، وتكررت آية قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ [البقرة: 136] بكمالها ولذلك ذكر في هذه ما هو تال لما ذكر في تلك أو لازم له، فذكر هناك خلق الناس، وذكر هنا تصويرهم في الأرحام، وذكر هناك مبدأ خلق آدم، وذكر هنا مبدأ خلق أولاده وألطف من ذلك أنه افتتح البقرة بقصة آدم وخلقه من تراب ولا أم، وذكر في هذه نظيره في الخلق من غير أب وهو عيسى، ولذلك ضرب له المثل بآدم، واختصت البقرة بآدم لأنها أول السور وهو أول في الوجود وسابق، ولأنها الأصل وهذه كالفرع والتتمة لها فاختصت بالأغرب، ولأنها خطاب لليهود الذين قالوا في مريم ما قالوا وأنكروا وجود ولد بلا أب ففوتحوا بقصة آدم لتثبت في أذهانهم فلا تأتي قصة عيسى إلا وقد ذكر عندهم ما يشهد لها من جنسها، ولأن قصة عيسى قيست على قصة آدم والمقيس عليه لا بد وأن يكون معلوما لتتم الحجة بالقياس فكانت قصة آدم- والسورة التي هي فيها- جديرة بالتقديم. وقد ذكر بعض المحققين من وجوه التلازم بين الصورتين أنه قال في البقرة في صفة النار: أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [البقرة: 24] مع افتتاحها بذكر المتقين والكافرين معا، وقال في آخر هذه: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133] فكأن السورتين بمنزلة سورة واحدة، مما يقوي المناسبة والتلازم بينهما أن خاتمة هذه مناسبة لفاتحة تلك لأن الأولى افتتحت بذكر المتقين وأنهم المفلحون وختمت هذه بقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران: 130، 220] وافتتحت الأولى بقوله سبحانه: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ [البقرة: 4] وختمت آل عمران بقوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ [آل عمران: 199] وقد ورد أن اليهود قالوا لما نزل مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ [البقرة: 245، الحديد: 11] الآية: يا محمد افتقر ربك يسأل عباده القرض فنزل لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [آل عمران: 181] وهذا مما يقوي التلازم أيضا، ومثله أنه وقع في البقرة حكاية قول إبراهيم: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة: 129] الآية وهنا لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمران: 164] الآية إلى غير ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ قرأ أبو جعفر، والأعشى والبرجمي عن أبي بكر عن عاصم بسكون الميم وقطع الهمزة ولا إشكال فيها لأن طريق التلفظ فيما لا تكون من هذه الفواتح مفردة- كص- ولا موازنة المفرد- كحم- حسبما ذكر في الكتاب الحكاية فقط ساكنة الاعجاز على الوقف سواء جعلت أسماء، أو مسرودة على نمط التعديد وإن لزمها التقاء الساكنين لما أنه مغتفر في باب الوقف قطعا، ولذا ضعفت قراءة عمرو بن عبيد بكسر الميم، والجمهور يفتحون الميم ويطرحون الهمزة من الاسم الكريم قيل: وإنما فتحت لإلقاء حركة الهمزة عليها ليدل على أنها في حكم الثابت لأنها أسقطت للتخفيف لا للدرج فإن الميم في حكم الوقف كقوله: واحد، اثنان لا لالتقاء الساكنين- كما قال سيبويه- فإنه غير محذور في باب الوقف ولذلك لم تحرك في لام- وإلى ذلك ذهب الفراء- وفي البحر إنه ضعيف لإجماعهم على أن الألف الموصولة في التعريف تسقط في الوصل وما يسقط لا تلقى حركته- كما قاله أبو علي وقولهم: إن الميم في حكم الوقف وحركتها حركة الإلقاء مخالف لإجماع العرب، والنحاة أنه لا يوقف على متحرك البتة سواء في ذلك حركة الإعراب والبناء والنقل والتقاء الساكنين والحكاية والاتباع فلا يجوز في قَدْ أَفْلَحَ [المؤمنون: 1، الأعلى: 14، الشمس: 9] إذا حذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى الدال أن تقف على دال «قد» بالفتحة بل تسكنها قولا واحدا، وأما تنظيرهم بواحد اثنان بإلقاء حركة الهمزة على الدال فإن سيبويه ذكر أنهم يشمون آخر واحد لتمكنه- ولم يحك الكسر- لغة فإن صح الكسر فليس واحد موقوفا عليه كما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 زعموا، ولا حركته حركة نقل من همزة الوصل ولكنه موصول بقولهم: اثنان فالتقى ساكنان دال واحد، وثاء اثنين فكسرت الدال لالتقائهما وحذفت الهمزة لأنها لا تثبت في الوصل، وأما قولهم: إنه غير محذور في باب الوقف ولذلك لم يحرك في لام، فجوابه إن الذي قال: إن الحركة لالتقاء الساكنين لم يرد بهما التقاء الياء والميم من- ألم- في الوقف بل أراد الميم الأخير من- ألم- ولام التعريف فهو كالتقاء نون من، ولام الرجل- إذا قلت من الرجل؟ على أن في قولهم تدافعا فإن سكون آخر الميم إنما هو على نية الوقف عليها وإلقاء حركة الهمزة عليها إنما هو على نية الوصل، ونية الوصل توجب حذف الهمزة، ونية الوقف على ما قبلها توجب ثباتها وقطعها، وهذا متناقض، ولذا قال الجاربردي: الوجه ما قاله سيبويه، والكثير من النحاة أن تحريك الميم لالتقاء الساكنين واختيار الفتح لخفته وللمحافظة على تفخيم الاسم الجليل، واختار ذلك ابن الحاجب- وادعى أن في مذهب الفراء حملا على الضعيف لأن إجراء الوصل مجرى الوقف ليس بقوي في اللغة. وقال غير واحد: لا بد من القول بإجراء الوصل مجرى الوقف، والقول: بأنه ضعيف غير مسلم ولئن سلم فغير ناهض لأنه قوي فيما المطلوب منه الخفة- كثلاثة أربعة- وهاهنا الاحتياج إلى التخفيف أمس ولهذا جعلوه من موجبات الفتح، وإنما قيل ذلك لأن هذه الأسماء من قبيل المعربات وسكونها سكون وقف لا بناء وحقها أن يوقف عليها، والم رأس آية ثم إن جعلت اسم السورة فالوقف عليها لأنها كلام تام وإن جعلت على نمط التعديد لأسماء الحروف إما قرعا للعصا أو مقدمة لدلائل الإعجاز فالواجب أيضا القطع والابتداء بما بعدها تفرقة بينها وبين الكلام المستقل المفيد بنفسه فإذن القول بنقل الحركة هو المقبول لأن فيه إشعارا بإبقاء أثر الهمزة المحذوفة للتخفيف المؤذن بالابتداء والوقف ولا كذلك القول بأن الحركة لالتقاء الساكنين وحيث كانت حركة الميم لغيرها كانت في حكم الوقف على السكون دون الحركة كما توهم لئلا يلزم المحذر- وكلام الزمخشري في هذا المقام مضطرب ففي الكشاف اختار مذهب الفراء، وفي المفصل اختار مذهب سيبويه، ولعل الأول مبني على الاجتهاد، والثاني على التقليد والنقل لما في الكتاب- لأن المفصل مختصره فتدبر. وقد تقدم الكلام على ما يتعلق بالفواتح من حيث الإعراب وغيره، وفيه كفاية لمن أخذت العناية بيده، والاسم الجليل مبتدأ وما بعده خبره، والجملة مستأنفة أي هو المستحق للعبودية لا غير، والْحَيُّ الْقَيُّومُ خبر بعد خبر له أو خبر لمبتدأ محذوف أي هو الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا غير، وقيل: هو صفة للمبتدأ أو بدل منه أو من الخبر الأول أو هو الخبر وما قبله اعتراض بين المبتدأ والخبر مقرر لما يفيده الاسم الكريم، أو حال منه على رأي من يرى صحة ذلك وأيّا ما كان فهو كالدليل على اختصاص استحقاق المعبودية به سبحانه، وقد أخرج الطبراني، وابن مردويه من حديث أبي أمامة مرفوعا أن اسم الله الأعظم في ثلاث سور: سورة البقرة، وآل عمران، وطه. وقال أبو أمامة: فالتمستها فوجدت في البقرة اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة: 255] وفي آل عمران اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وفي طه وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ [طه: 111] . وقرأ عمر، وابن مسعود، وأبيّ، وعلقمة- «الحي القيام» وهذا رد على النصارى الزاعمين أن عيسى عليه السلام كان ربا، فقد أخرج ابن إسحق، وابن جرير، وابن المنذر عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: «قدم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفد نجران وكانوا ستين راكبا فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم فكلم رسول لله صلى الله تعالى عليه وسلم منهم أبو حارثة بن علقمة، والعاقب، وعبد المسيح، والأيهم السيد وهو من النصرانية على دين الملك مع اختلاف أمرهم يقولون: هو الله تعالى، ويقولون: هو ولد الله تعالى، ويقولون: هو ثالث ثلاثة كذلك قول النصرانية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 وهم يحتجون لقولهم يقولون: هو الله تعالى فإنه كان يحيي الموتى ويبرئ الأسقام ويخبر بالغيوب ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا، ويحتجون في قولهم إنه ولد الله تعالى: بأنه لم يكن له أب يعلم وقد تكلم في المهد وصنع ما لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله، ويحتجون في قولهم إنه ثالث ثلاثة: إن الله تعالى يقول فعلنا وأمرنا وخلقنا وقضينا فلو كان واحدا ما قال إلا فعلت وأمرت وخلقت وقضيت ولكنه هو وعيسى ومريم، ففي كل ذلك من قولهم نزل القرآن وذكر الله تعالى لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم فيه قولهم فلما كلمه الحبران وهما- العاقب، والسيد- كما في رواية الكلبي، والربيع عن أنس قال لهما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أسلما قالا: قد أسلمنا قبلك قال: كذبتما منكما من الإسلام دعاؤكما لله تعالى ولدا وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير؟ قالا: فمن أبوه يا محمد؟ وصمت فلم يجب شيئا فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم، واختلاف أمرهم كله صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها فافتتح السورة بتنزيه نفسه مما قالوا وتوحيده إياها بالخلق والأمر لا شريك له فيه، ورد عليهم ما ابتدعوا من الكفر وجعلوا معه من الأنداد، واحتج عليهم بقولهم في صاحبهم ليعرفهم بذلك ضلالتهم فقال: الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ أي ليس معك غيره شريك في أمره الحي الذي لا يموت وقد مات عيسى عليه السلام في قولهم: الْقَيُّومُ القائم على سلطانه لا يزول وقد زال عيسى، وفي رواية ابن جرير عن الربيع قال: «إن النصارى أتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فخاصموه في عيسى ابن مريم وقالوا له: من أبوه؟ وقالوا على الله تعالى الكذب والبهتان فقال لهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه؟ قالوا بلى قال: ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا: بلى قال: ألستم تعلمون أن ربنا قيّم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه؟ قالوا: بلى قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟ قالوا: لا قال: ألستم تعلمون أن الله تعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟ قالوا: بلى. قال: فهل يعلم عيسى من ذلك شيئا إلا ما علم؟ قالوا: لا قال: ألستم تعلمون أن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء وأن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث؟ قالوا: بلى قال ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ثم غذي كما يغذي الصبي ثم كان يأكل الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث؟ قالوا: بلى قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ فعرفوا ثم أبوا إلا جحودا فأنزل الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ أي القرآن الجامع للأصول والفروع ولما كان وما يكون إلى يوم القيامة، وفي التعبير عنه باسم الجنس إيذان بتفوقه على بقية الأفراد في الانطواء على كمالات الجنس كأنه هو الحقيق بأن يطلق عليه اسم الكتاب دون ما عداه كما يلوح إليه التصريح باسم التوراة والإنجيل، وفي الإتيان بالظرف وتقديمه على المفعول الصريح واختيار ضمير الخطاب، وإيثار- على- على إلى ما لا يخفى من تعظيمه صلى الله تعالى عليه وسلم والتنويه برفعة شأنه عليه الصلاة والسلام والجملة إما مستأنفة أو خبر آخر للاسم الجليل أو هي الخبر، وما قبل كله اعتراض أو حال، الْحَيُّ الْقَيُّومُ صفة أو بدل، وقرأ الأعمش نَزَّلَ بالتخفيف، ورفع الكتاب والجملة حينئذ منقطعة عما قبلها، وقيل: متعلقة به بتقدير من عنده بِالْحَقِّ أي بالصدق في أخباره أو بالعدل- كما نص عليه الراغب- أو بما يحقق أنه من عند الله تعالى من الحجج القطعية وهو في موضع الحال أي متلبسا بالحق أو محقا، وفي البحر يحتمل أن يكون الباء للسببية أي بسبب إثبات الحق مُصَدِّقاً حال من الكتاب إثر حال أو بدل من موضع الحال الأول أو حال من الضمير في المجرور وعلى كل حال فهي حال مؤكدة لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أي الكتب السالفة والظرف مفعول مصدقا واللام لتقوية العمل وكيفية تصديقه لما تقدم تقدمت وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ ذكرهما تعيينا لما بين يديه وتبيينا لرفعة محله بذلك تأكيد لما قبل وتمهيد لما بعد ولم يذكر المنزل عليه فيهما لأن الكلام في الكتابين لا فيمن نزلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 عليه والتعبير- بأنزل- فيهما للإشارة إلى أنه لم يكن لهما إلا نزول واحد وهذا بخلاف القرآن فإن له نزولين، نزول من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من سماء الدنيا جملة واحدة، ونزول من ذلك إليه صلى الله تعالى عليه وسلم منجما في ثلاث وعشرين سنة على المشهور، ولهذا يقال فيه: نزل وأنزل وهذا أولى مما قيل: إن- نزل- يقتضي التدريج وأنزل يقتضي الإنزال الدفعي إذ يشكل عليه لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الفرقان: 32] حيث قرن- نزل- بكونه جملة، وقوله تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ [النساء: 140] وذكر بعض المحققين لهذا المقام أن التدريج ليس هو التكثير بل الفعل شيئا فشيئا كما في تسلسل، والألفاظ لا بد فيها من ذلك فصيغة- نزل- تدل عليه، والإنزال مطلق لكنه إذا قامت القرينة يراد بالتدريج التنجيم، وبالإنزال الذي قد قوبل به خلافه، أو المطلق بحسب ما يقتضيه المقام. واختلف في اشتقاق التوراة والإنجيل فقيل: اشتقاق الأول من ورى الزناد إذ قدح فظهر منه النار لأنها ضياء ونور بالنسبة لما عدا القرآن تجلو ظلمة الضلال وقيل: من ورى في كلام إذا عرض لأن فيها رموزا كثيرة وتلويحات جليلة، ووزنها عند الخليل. وسيبويه فوعلة كصومعة، وأصله وورية بواوين فأبدلت الأولى تاء وتحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا فصارت- توراة- وكتبت بالياء تنبيها على الأصل ولذلك أميلت، وقال الفراء: وزنها تفعلة بكسر العين فأبدلت الكسرة فتحة وقلبت الياء ألفا وفعل ذلك تخفيفا كما قالوا في توصية توصاة، واعترضه البصريون بأن هذا البناء قليل وبأنه يلزم منه زيادة التاء أولا وهي لا تزاد كذلك إلا في مواضع ليس هذا منها، وذهب بعض الكوفيين إلى أن وزنها تفعلة بفتح العين فقلبت الياء ألفا، وقيل: اشتقاق الثاني من- النجل- بفتح فسكون وهو الماء الذي ينز من الأرض، ومنه النجيل لما ينبت فيه ويطلق على الوالد والولد وهو أعرف فهو ضد- كما قاله الزجاج- وهو من نجل بمعنى ظهر سمي به لأنه مستخرج من اللوح المحفوظ وظاهر منه أو من التوراة، وقيل: من النجل وهو التوسعة، ومنه عين نجلاء لسعتها لأن فيه توسعة ما لم تكن في التوراة إذ حلل فيه بعض ما حرم فيها، وقيل: مشتق من التناجل وهو التنازع يقال تناجل الناس إذا تنازعوا وسمي به لكثرة التنازع فيه- كذا قيل- ولا يخفى أن أمر الاشتقاق والوزن على تقدير عربية اللفظين ظاهر، وأما على تقدير- أنهما أعجميان أولهما عبراني والآخر سرياني وهو الظاهر- فلا معنى له على الحقيقة لأن الاشتقاق من ألفاظ أخر أعجمية مما لا مجال لإثباته، ومن ألفاظ عربية كما سمعت استنتاج للضب من الحوت فلم يبق إلا أنه بعد التعريب أجروه مجرى أبنيتهم في الزيادة والأصالة وفرضوا له أصلا ليتعرف ذلك كما أشرنا إليه فيما قبل. والاستدلال- على عربيتهما بدخول اللام لأن دخولها في الإعلام العجمية محل نظر- محل نظر لأنهم ألزموا بعض الأعلام الأعجمية الألف واللام علامة للتعريف- كما في الإسكندرية- فإن أبا زكريا التبريزي قال: إنه لا يستعمل بدونها مع الاتفاق على أعجميته. ومما يؤيد أعجمية الإنجيل ما روي عن الحسن أنه قرأه بفتح الهمزة، وأفعيل ليس من أبنية العرب مِنْ قَبْلُ متعلق- بأنزل- أي أنزلهما من قبل تنزيل الكتاب، وقيل: من قبلك والتصريح به مع ظهور الأمر للمبالغة في البيان كذا قالوا برمتهم، وأنا أقول التصريح به للرمز إلى أن إنزالهما متضمن للإرهاص لبعثته صلّى الله عليه وسلم: حيث قيد الإنزال المقيد بمن قبل بقوله سبحانه: هُدىً لِلنَّاسِ أي أنزلهما كذلك لأجل هداية الناس الذين أنزلا عليهم إلى الحق الذي من جملته الإيمان به صلّى الله عليه وسلم واتباعه حين يبعث لما اشتملتا عليه من البشارة به والحث على طاعته عليه الصلاة والسلام والهداية بهما بعد نسخ أحكامهما بالقرآن إنما هي من هذا الوجه لا غير، والقول بأنه يهتدي بهما أيضا فيما عدا الشرائع المنسوخة من الأمور التي يصدقها القرآن- ليس بشيء لأن الهداية إذ ذاك بالقرآن المصدق لا بهما كما لا يخفى على المنصف، ويجوز أن ينتصب هدى على أنه حال منهما والإفراد لما أنه مصدر جعلا نفس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 الهدى مبالغة أو حذف منه المضاف أي ذوي هدى، وجعله حالا من الكتاب مما لا ينبغي أن يرتكب فيه وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ أخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه القرآن فرق به بين الحق والباطل فأحل فيه حلاله وحرم حرامه وشرع شرائعه وحد حدوده وفرائضه وبين بيانه وأمر بطاعته ونهى عن معصيته، وذكر بهذا العنوان بعد ذكره باسم الجنس تعظيما لشأنه ورفعا لمكانه، وأخرج ابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير أنه الفاصل بين الحق والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب من أمر عيسى عليه السلام وغيره، وأيد هذا بأن صدر السورة كما قدمنا نزلت في محاجة النصارى للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم في أمر أخيه عيسى عليه السلام وعليه يكون المراد- بالفرقان- بعض القرآن ولم يكتف باندراجه في ضمن الكل اعتناء به، ومثل هذا القول ما روي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أن المراد به كل آية محكمة، وقيل: المراد به جنس الكتب الإلهية عبر عنها بوصف شامل لما ذكر منها وما لم يذكر على طريق التتميم بالتعميم إثر تخصيص بعض مشاهيرها بالذكر، وقيل: نفس الكتب المذكورة أعيد ذكرها بوصف خاص لم يذكر فيما سبق على طريق العطف بتكرير لفظ الإنزال تنزيلا للتغاير الوصفي منزلة التغاير الذاتي، وقيل: المراد به الزبور وتقديم الإنجيل عليه مع تأخره عنه نزولا لقوة مناسبته للتوراة في الاشتمال على الأحكام وشيوع اقترانهما في الذكر، واعترض بأن الزبور مواعظ فليس فيه ما يفرق بين الحق والباطل من الأحكام، وأجيب بأن المواعظ لما فيها من الزجر والترغيب فارقة أيضا ولخفاء الفرق فيها خصت بالتوصيف به، وأورد عليه بأن ذكر الوصف دون الموصوف يقتضي شهرته به حتى يغني عن ذكر موصوفه والخفاء إنما يقتضي إثبات الوصف دون التعبير به، وقيل: المراد به المعجزات المقرونة بإنزال الكتب المذكورة الفارقة بين المحق والمبطل، وعلى أي تقدير كان فهو مصدر في الأصل كالغفران أن أطلق الفاعل مبالغة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ يحتمل أن تكون الإضافة للعهد إشارة إلى ما تقدم من آيات الكتب المنزلة، ويحتمل أن تكون للجنس فتصدق الآيات على ما يتحقق في ضمن ما تقدم وعلى غيره كالمعجزات وأضافها إلى الاسم الجليل تعيينا لحيثية كفرهم وتهويلا لأمرهم وتأكيدا لاستحقاقهم العذاب، والمراد بالموصول إما من تقدم في سبب النزول أو أهل الكتابين أو جنس الكفرة وعلى التقديرين يدخل أولئك فيه دخولا أوليا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ ابتداء وخبر في موضع خبر إن ويجوز أن يرتفع العذاب بالظرف والتنكير للتفخيم ففيه إشارة إلى أنه لا يقدر قدره وهو مناط الحصر المستفاد من تقديم الظرف والتعليق بالموصول الذي هو في حكم المشتق يشعر بالعلية وهو معنى تضمنه الشرط وترك فيه الفاء لظهوره فهو أبلغ إذا اقتضاه المقام وَاللَّهُ عَزِيزٌ أي غالب على أمره يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ذُو انْتِقامٍ افتعال من النقمة وهي السطوة والتسلط يقال: انتقم منه إذا عاقبه بجنايته، ومجرده- نقم- بالفتح والكسر وجعله بعضهم بمعنى كره لا غير والتنوين للتفخيم، واختار هذا التركيب على منتقم مع اختصاره لأنه أبلغ منه إذ لا يقال صاحب سيف إلا لمن يكثر القتل لا لمن معه السيف مطلقا، والجملة اعتراض تذييلي مقرر للوعيد مؤكد له. إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ استئناف لبيان سعة علمه سبحانه وإحاطته بجميع ما في العالم الذي من جملته إيمان من آمن وكفر من كفر إثر بيان كمال قدرته وعظيم عزته وفي بيان ذلك تربية للوعيد وإشارة إلى دليل كونه حيا وتنبيه على أن الوقوف على بعض المغيبات كما وقع لعيسى عليه السلام بمعزل من بلوغ رتبة الصفات الإلهية، والمراد من الأرض والسماء العالم بأسره، وجعله الكثير مجاز من إطلاق الجزء وإرادة الكل، ومن قال: إنه لا يصح في «كل» كل وجزء بناء على اشتراط التركيب الحقيقي وزوال ذلك الكل بزوال ذلك الجزء جعل المذكور كناية لا مجازا، وتقديم الأرض على السماء إظهارا للاعتناء بشأن أحوال أهلها واهتماما بما يشير إلى وعيد ذوي الضلالة منهم وليكون ذكر السماء بعد من باب العروج قيل: ولذا وسط حرف النفي بينهما، والجملة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 المنفية خبر لأن، وتكرير الإسناد لتقوية الحكم وكلمة- في- متعلقة بمحذوف وقع صفة لشيء مؤكدة لعمومه المستفاد من وقوعه في سياق النفي أي لا يخفى عليه شيء ما كائن في العالم بأسره كيفما كانت الظرفية، والتعبير بعدم الخفاء أبلغ من التعبير بالعلم، وجوز أبو البقاء تعلق الظرف- بيخفى.. وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ جملة مستأنفة على الصحيح ناطقة ببعض أحكام قيوميته تعالى مشيرة إلى تقرير علمه مع زيادة بيان لتعلقه بالأشياء قبل وجودها، والتصوير- جعل الشيء على صورة لم يكن عليها، والصورة هيئة يكون عليها الشيء بالتأليف، والْأَرْحامِ جمع رحم وهي معلومة وكأنها أخذت من الرحمة لأنها مما يتراحم بها ويتعاطف، وكلمة فِي متعلقة- بيصور- وجوز أن يكون حالا من المفعول أي يصوركم وأنتم في الأرحام مضغ، وكَيْفَ في موضع نصب- بيشاء- وهو حال، والمفعول محذوف تقديره يشاء تصويركم، وقيل: كَيْفَ ظرف- ليشاء- والجملة في موضع الحال أي يُصَوِّرُكُمْ على مشيئته أي مريدا إن كان الحال من الفاعل أو يصوركم متقلبين على مشيئته تابعين لها في قبول الأحوال المتغايرة من كونكم نطفا ثم علقا ثم مضغا- ثم، وثم- وفي الاتصاف بالصفات المختلفة من الذكورة والأنوثة والحسن والقبح وغير ذلك، وفيه من الدلالة على بطلان زعم من زعم ربوبية عيسى عليه السلام مع تقلبه في الأطوار ودوره في فلك هذه الأدوار حسبما شاءه الملك القهار وركاكة عقولهم ما لا يخفى، وقرأ طاوس- تصوركم- على صيغة الماضي من التفعل أي اتخذ صوركم لنفسه وعبادته فهو من باب توسد التراب أي اتخذه وسادة فما قيل: كانه من تصورت الشيء بمعنى توهمت صورته فالتصديق أنه توهم محض لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ كرر الجملة الدالة على نفي الإلهية عن غيره تعالى وانحصارها فيه توكيدا لما قبلها ومبالغة في الرد على من ادعى إلهية عيسى عليه السلام وناسب مجيئها بعد الوصفين السابقين من العلم والقدرة إذ من هذان الوصفان له هو المتصف بالألوهية لا غيره ثم أتى بوصف العزة الدالة على عدم النظير أو التناهي في القدرة والحكمة لأن خلقهم على ما ذكر من النمط البديع أثر من آثار ذلك هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ استئناف لإبطال شبه الوفد وإخوانهم الناشئة عما نطق به القرآن في نعت المسيح عليه السلام إثر بيان اختصاص الربوبية ومناطها به سبحانه. قيل: إن الوفد قالوا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ألست تزعم أن عيسى كلمة الله تعالى وروح منه؟ قال: بلى قالوا: فحسبنا ذلك فنفى سبحانه عليهم زيفهم وفتنتهم وبين أن الكتاب مؤسس على أصول رصينة وفروع مبنية عليها ناطقة بالحق قاضية ببطلان ما هم عليه- كذا قيل- ومنه يعلم وجه مناسبة الآية لما قبلها، واعترض بأن هذا الأثر لم يوجد له أثر في الصحاح ولا سند يعول عليه في غيرها، وقصارى ما وجد عن الربيع أن المراد بالموصول الآتي الوفد، وفيه أن الأثر بعينه أخرجه في الدر المنثور عن أبي حاتم، وابن جرير عن الربيع، وعن بعضهم أن الآية نزلت في اليهود، وذلك حين «مر أبو ياسر بن أخطب في رجال من يهود برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة الم ذلِكَ الْكِتابُ [البقرة: 1، 2] فأتى أخاه حي بن أخطب في رجال من يهود فقال: أتعلمون والله لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل عليه الم ذلِكَ الْكِتابُ فقال: أنت سمعته؟ قال: نعم فمشى حي في أولئك النفر إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: ألم يذكر أنك تتلو فيما أنزل عليك الم ذلِكَ الْكِتابُ؟ فقال: بلى فقال: لقد بعث الله تعالى قبلك أنبياء ما نعلمه بين لنبي منهم ما مدة ملكه وما أجل أمته غيرك: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون فهذه إحدى وسبعون سنة هل مع هذا غيره؟ قال: نعم المص [الأعراف: 1] قال: هذه أثقل وأطول: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون والصاد تسعون فهذه مائة وإحدى وستون سنة هل مع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 هذا غيره؟ قال: نعم الر [يونس: 1] قال: هذه أثقل وأطول هل مع هذا غيره؟ قال: بلى المر [الرعد: 1] قال: هذه أثقل وأطول ثم قال: لقد لبس علينا أمرك حتى ما ندري أقليلا أعطيت أم كثيرا ثم قال: قوموا ثم قال أبو ياسر لأخيه ومن معه: وما يدريكم لعله لقد جمع هذا كله لمحمد؟ فقالوا: لقد تشابه علينا أمره» . وقد أخرج ذلك البخاري في التاريخ، وابن جرير، وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إلا أن فيه فيزعمون أن هذه الآيات نزلت فيهم وهو مؤذن بعدم الجزم بذلك ومع هذا يبعده ما تقدم من رواية «إن الله تعالى أنزل في شأن أولئك الوفد من مصدر آل عمران إلى بضع وثمانين آية» وعلى تقدير الإغماض عن هذا يحتمل أن يكون وجه اتصال الآية بما قبلها أن في المتشابه خفاء كما أن تصوير ما في الأرحام كذلك أو أن في هذه تصوير الروح بالعلم وتكميله به وفيما قبلها تصوير الجسد وتسويته فلما أن في كل منهما تصويرا وتكميلا في الجملة ناسب ذكره معه ولما أن بين التصوير الحقيقي الجسماني والذي ليس هو كذلك من الروحاني من التفاوت والتباين ترك العطف، وقوله سبحانه: مِنْهُ آياتٌ الظرف فيه خبر مقدم، وآياتٌ مبتدأ مؤخر أو بالعكس، ورجح الأول بأنه الأوفق بقواعد الصناعة، والثاني بأنه أدخل في جزالة المعنى إذ المقصود الأصلي انقسام الكتاب إلى القسمين المعهودين لا كونهما من الكتاب، والجملة إما مستأنفة أو في حيز النصب على الحالية من الكتاب أي هو الذي أنزل عليك الكتاب كائنا على هذه الحالة أي منقسما إلى محكم وغيره أو الظرف وحده حال آياتٌ مرتفع به على الفاعلية مُحْكَماتٌ صفة آيات أي واضحة المعنى ظاهرة الدلالة محكمة العبارة محفوظة من الاحتمال والاشتباه هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ أي أصله والعمدة فيه يرد إليها غيرها والعرب تسمي كل جامع يكون مرجعا- أمّا- والجملة إما صفة لما قبلها أو مستأنفة وإنما أفرد- الأم- مع أن الآيات متعددة لما أن المراد بيان أصلية كل واحدة منها أو بيان أن الكل بمنزلة آية واحدة وَأُخَرُ نعت لمحذوف معطوف على آياتٌ أي- وآيات أخر- وهي كما قال الرضى جمع أخرى التي هي مؤنث آخر ومعناه في الأصل أشد تأخرا فمعنى- جاءني زيد، ورجل آخر- جاءني زيد، ورجل أشد تأخرا منه في معنى من المعاني، ثم نقل إلى معنى غيره فمعنى رجل آخر رجل غير زيد ولا يستعمل إلا فيما هو من جنس المذكور أو لا فلا يقال جاءني زيد وحمار آخر ولا امرأة أخرى، ولما خرج عن معنى التفضيل استعمل من دون لوازم أفعل التفضيل أعني- من- والإضافة واللام وطوبق بالمجرد عن اللام والإضافة ما هو له نحو رجلان آخران، ورجال آخرون، وامرأة أخرى، وامرأتان أخريان، ونسوة أخر، وذهب أكثر النحويين إلى أنه غير منصرف لأنه وصف معدول عن الآخر قالوا: لأن الأصل في أفعل التفضيل أن لا يجمع إلا مقرونا بالألف واللام- كالكبر والصغر- فعدل عن أصله وأعطى من الجمعية مجردا ما لا يعطي غيره إلا مقرونا، وقيل: الدليل على عدل أُخَرُ أنه لو كان مع من المقدرة كما في- الله أكبر- للزم أن يقال بنسوة أخر على وزن أفعل لأن أفعل التفضيل ما دام بمن ظاهرة أو مقدرة لا يجوز مطابقته لمن هو له بل يجب إفراده، ولا يجوز أن يكون بتقدير الإضافة لأن المضاف إليه لا يحذف إلا مع بناء المضاف، أو مع سادّ مسد المضاف إليه، أو مع دلالة ما أضيف اليه تابع المضاف أخذا من استقراء كلامهم فلم يبق إلا أن يكون أصله اللام، واعترض عليه أبو علي بأنه لو كان كذلك وجب أن يكون معرفة كسحر وأجيب بأنه لا يلزم في المعدول عن شيء أن يكون بمعناه من كل وجه وإنما يلزم أن يكون قد أخرج عما يستحقه وما هو القياس فيه إلى صيغة أخرى، نعم قد تقصد إرادة تعريفه بعد النقل إما بألف ولام يضمن معناها فيبني، أو إما بعلمية كما في سحر فيمنع من الصرف، ولما لم يقصد في أُخَرُ إرادة الألف واللام أعرب، ولا يصح إرادة العلمية لأنها تضاد الوصفية المقصودة منه. وقال ابن جني: إنه معدول عن آخر من، وزعم ابن مالك أنه التحقيق وظاهر كلام أبي حيان اختياره- واستدلوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 عليه بما لا يخلو عن نظر- ووصف آخر بقوله سبحانه مُتَشابِهاتٌ وهي في الحقيقة صفة لمحذوف أي محتملات لمعان متشابهات لا يمتاز بعضها عن بعض في استحقاق الإرادة ولا يتضح الأمر إلا بالنظر الدقيق، وعدم الاتضاح قد يكون للاشتراك أو للإجمال، أو لأن ظاهره التشبيه فالمتشابه في الحقيقة وصف لتلك المعاني وصف به الآيات على طريقة وصف الدال بما هو وصف للمدلول فسقط ما قيل: إن واحد مُتَشابِهاتٌ متشابهة، وواحد أُخَرُ أخرى، والواحد هنا لا يصح أن يوصف بهذا الواحد فلا يقال: أخرى متشابهة إلا أن يكون بعض الواحدة يشبه بعضا- وليس المعنى على ذلك- وإنما المعنى أن كل آية تشبه آية أخرى فكيف صح وصف الجمع بهذا الجمع ولم يصح وصف مفرده بمفرده؟! ولا حاجة إلى ما تكلف في الجواب عنه بأنه ليس من شرط صحة وصف المثنى والمجموع صحة بسط مفردات الأوصاف على أفراد الموصوفات كما أنه لا يلزم من الإسناد إليهما صحة إسناده إلى كل واحد كما في فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ [القصص: 15] إذ الرجل لا يقتتل، وقيل: إنه لما كان من شأن الأمور المتشابهة أن يعجز العقل عن التمييز بها سمي كل ما لا يهتدي العقل إليه متشابها وإن لم يكن ذلك بسبب التشابه كما أن المشكل في الأصل ما دخل في إشكاله وأمثاله ولم يعلم بعينه ثم أطلق على كل غامض وإن لم يكن غموضه من تلك الجهة عليه يكون المتشابه مجازا أو كناية عما لا يتضح معناه مثلا فيكون السؤال مغالطة غير واردة رأسا وهذا الذي ذكره في تفسير المحكم والمتشابه هو مذهب كثير من الناس- وعليه الشافعية.. وتقسيم الكتاب إليهما من تقسيم الكل إلى أجزائه بناء على أن المراد من الكتاب ما بين الدفتين ولامه لتعريف العهد، وحينئذ إما أن يراد بالكتاب الثاني المضاف إليه أم الأول الواقع مقسما كما يشعر به حديث إعادة الشيء معرفة ويكون وضع المظهر موضع المضمر اعتناء بشأن المظهر وتفخيما له والإضافة على معنى في- كما في واحد العشرة- فلا يلزم كون الشيء أصلا لنفسه لأن المعنى على أن الآيات المحكمات التي هي جزء مما بين الدفتين أصل فيما بين الدفتين يرجع إليه المتشابه منه، واعتبار ظرفية الكل للجزء يدفع توهم لزوم ظرفية الشيء لنفسه- وهذا أولى من القول بتقدير مضاف بين المتضايفين- بأن يقال التقدير أم بعض الكتاب فإنه وإن بقي فيه الكتاب على حاله إلا أنه لا يخلو عن تكلف، وإما أن يراد به الجنس فإنه كالقرآن يطلق على القدر المشترك بين المجموع وبين كل بعض منه له به نوع اختصاص كما بين في الأصول، ويراد من هذا الجنس ما هو في ضمن الآيات المتشابهات فاللام حينئذ للجنس والإضافة على معنى اللام ولا يعارضه حديث الإعادة إذ هو أصل كثيرا ما يعدل عنه ولا يتوهم منه كون الشيء- أما- لنفسه أصلا ولا أن المقام مقام الإضمار ليحتاج إلى الجواب عن ذلك، وبعض فضلاء العصر- المعاصرين حميا العلم من كرم أذهانهم الكريمة أحسن عصر- جوز كون الإضافية- لامية- والْكِتابَ المضاف إليه هو الكتاب الأول بعينه وليس في الكلام مضاف محذوف وما يلزم على ذلك من كون الشيء- أما- لنفسه وأصلا لها لا يضر لاختلاف الاعتبار فإن- أمومته- لغيره من المتشابه باعتبار رده إليه وإرجاعه له- وأمومته- لنفسه باعتبار عدم احتياجه لظهور معناه إلى شيء سوى نفسه، ولا يخفى عليك أن- الأم- إن كانت في كلا الاعتبارين حقيقة لزم استعمال المشترك في معنييه وإن كانت في كليهما مجازا لزم الجمع بين معنيين مجازيين، وإن كانت حقيقة في الأصل باعتبار ما يرجع إليه غيره كما يفهم من بعض عباراتهم مجازا في الأصل بمعنى المستغني عن غيره لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز ولا مخلص عن ذلك إلا بارتكاب عموم المجاز، هذا وجوز أن يكون التقسيم إلى القسمين المحكم والمتشابه من تقسيم الكلي إلى جزئياته فأل في- الكتاب- للجنس أولا وآخرا إلا أن المراد من الكتاب في الأول الماهية من حيث هي كما هو الأمر المعروف في مثل هذا التقسيم، وفي الثاني الماهية باعتبار تحققها في ضمن بعض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 الأفراد وهو المتشابه، ويجوز أن يراد من الثاني أيضا مجموع ما بين الدفتين والكلام فيه حينئذ على نحو ما سبق، قيل: وقصارى ما يلزم من هذا التقسيم بعد تحمل القول بأنه خلاف الظاهر صدق الكتاب على الأبعاض وهو مما لا يتحاشى منه بل هو غرض من فسر الكتاب بالقدر المشترك، وأنت تعلم أن فيه غير ذلك إلا أنه يمكن دفعه بالعناية فتدبر. وذهب ساداتنا الحنفية إلى أن المحكم الواضح الدلالة الظاهر الذي لا يحتمل النسخ، والمتشابه الخفي الذي لا يدرك معناه عقلا ولا نقلا وهو ما استأثر الله تعالى بعلمه كقيام الساعة والحروف المقطعة في أوائل السور وقيل: المحكم الفرائض والوعد والوعيد، والمتشابه القصص والأمثال، أخرج ابن أبي حاتم من طريق علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال- المحكمات- ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه، والمتشابهات- ما يؤمن به ولا يعمل به، وأخرج الفريابي عن مجاهد قال- المحكمات- ما فيه الحلال والحرام وما سوى ذلك متشابه، وأخرج عبيد بن عمير عن الضحاك قال- المحكمات- ما لم ينسخ- والمتشابهات- ما قد نسخ، وقال الماوردي: المحكم ما كان معقول المعنى، والمتشابه بخلافه كأعداد الصلوات، واختصاص الصيام برمضان دون شعبان، وقيل: المحكم ما لم يتكرر ألفاظه، المتشابه ما يقابله، وقيل: غير ذلك، وهذا الخلاف في- المحكم، والمتشابه- هنا وإلا فقد يطلق المحكم بمعنى المتقن النظم، والمتشابه على ما يشبه بعضه بعضا في البلاغة، وهما بهذا المعنى يطلقان على جميع القرآن وعلى ذلك خرج قوله تعالى: الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ [هود: 1] وقوله سبحانه: كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ [الزمر: 23] فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ أي عدول عن الحق وميل عنه إلى الأهواء. وقال الراغب: الزيغ الميل عن الاستقامة إلى أحد الجانبين- وزاغ. وزال. ومال- متقاربة لكن زاغ لا يقال: إلا فيما كان عن حق إلى باطل ومصدره زيغا وزيغوغة وزيغانا وزيوغا، والمراد بالموصول نصارى نجران أو اليهود- وإليه ذهب ابن عباس- وقيل: منكر والبعث، وقيل: المنافقون، وأخرج الإمام أحمد. وغيره عن أبي أمامة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنهم الخوارج وظاهر اللفظ العموم لسائر من زاغ عن الحق فليحمل ما ذكر على بيان بعض ما صدق عليه العام دون التخصيص، وفي جعل قلوبهم مقرا للزيغ مبالغة في عدولهم عن سنن الرشاد وإصرارهم على الشر والفساد. وزيغ مبتدأ أو فاعل فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ أي يتعلقون بذلك وحده بأن لا ينظروا إلى ما يطابقه من المحكم ويردوه إليه وهو إما بأخذ ظاهره الغير المراد له تعالى أو أخذ أحد بطونه الباطلة وحينئذ يضربون القرآن بعضه ببعض ويظهرون التناقض بين معانيه إلحادا منهم وكفرا ويحملون لفظه على أحد محتملاته التي توافق أغراضهم الفاسدة في ذلك وهذا هو المراد بقوله سبحانه: ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ أي طلب أن يفتنوا المؤمنين والمؤمنات عن دينهم بالتشكيك والتلبيس ومناقضة المحكم بالمتشابه- كما نقل عن الواقدي- وطلب أن يؤولوه حسبما يشتهونه، فالإضافة في تَأْوِيلِهِ للعهد أي بتأويل مخصوص وهو ما لم يوافق المحكم بل ما كان موافقا للتشهي، والتأويل التفسير- كما قاله غير واحد- وقال الراغب: إنه من الأول وهو الرجوع إلى الأصل- ومنه الموئل- للموضع الذي يرجع إليه وذلك هو رد الشيء إلى الغاية المرادة منه علما كان أو فعلا، ومن الأول ما ذكر هنا، ومن الثاني قوله: وللنوى قبل يوم البين تأويل وقوله تعالى: يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ [الأعراف: 53] أي بيانه الذي هو غايته المقصودة منه وقوله سبحانه: ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: 59] قيل: أحسن ترجمة ومعنى، وقيل: أحسن ثوابا في الآخرة انتهى. وجوز في هاتين الطلبتين أن تكونا على سبيل التوزيع بأن يكون ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ طلبة بعض وابتغاء التأويل حسب التشهي طلبة آخرين، ويجوز أن يكون الاتباع لمجموع الطلبتين وهو الخليق بالمعاند لأنه لقوة عناده ومزيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 فساده يتشبث بهما معا وأن يكون ذلك لكل واحدة منهما على التعاقب وهو المناسب بحال الجاهل لأنه متحير تارة يتبع ظاهره وتارة يؤوله بما يشتهيه لكونه في قبضة هواه يتبعه كلما ادعاه، ومن الناس من حمل الفتنة على المال فإن الله سبحانه قد سماه فتنة في مواضع من كلامه ولا يخفى أنه ليس بشيء مدعى- ودليلا، وفي تعليل الاتباع- بابتغاء تأويله- دون نفس تَأْوِيلِهِ وتجريد- التأويل- عن الوصف بالصحة والحقية إيذان بأنهم ليسوا من التأويل- في عير ولا نفير، ولا قبيل ولا دبير- وأن ما يتبعونه ليس بتأويل أصلا لا أنه تأويل غير صحيح قد يعذر صاحبه وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ في موضع الحال من ضمير- يتبعون- باعتبار العلة الأخيرة أي يتبعون المتشابه لابتغاء تأويله، والحال أن التأويل المطابق للواقع كما يشعر به التعبير بالعلم والإضافة إلى الله تعالى مخصوص به سبحانه وبمن وفقه عز شأنه من عباده الراسخين في العلم أي الذين ثبتوا وتمكنوا فيه ولم يتزلزلوا في مزال الأقدام ومداحض الإفهام دونهم حيث إنهم بمعزل عن تلك الرتبة هذا ما يقتضيه الظاهر في تفسير الراسخين، وأخرج ابن عساكر من طريق عبد الله بن يزيد الأزدي قال: «سمعت أنس بن مالك يقول: سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن الراسخين في العلم فقال: من صدق حديثه وبر في يمينه وعف بطنه وفرجه فذلك الراسخون في العلم ولعل ذلك بيان علامتهم وما ينبغي أن يكونوا عليه، والمراد بالعلم العلم الشرعي المتقبس من مشكاة النبوة فإن أهله هم الممدوحون.» يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ استئناف موضح لحال الراسخين ولهذا فصل، والنحاة يقدرون له مبتدأ دائما- أي هم يقولون- وقد قيل: إنه لا حاجة إليه ولم يعرف وجه التزامهم لذلك فلينظر، وجوز أن يكون حالا من الراسخين- والضمير المجرور راجع إلى المتشابه وعدم التعرض لإيمانهم بالمحكم لظهوره وإن رجع إلى الكتاب فله وجه أيضا لأن ماله كل من أجزاء الكتاب أو جزئياته وذلك لا يخلو عن الأمرين، ثم هذا القول وإن لم يخص- الراسخين- لكن فيه تعريض بأن مقتضى الإيمان به أن لا يسلك فيه طريق لا يليق من تأويله على ما مر فكأن غيرهم ليس بمؤمن كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا من تمام مقولهم مؤكد لما قبله ومقرر له أي كل واحد منه ومن المحكم- أو كل واحد من متشابهه ومحكمه منزل من عنده تعالى لا مخالفة بينهما، وفي التعبير بالرب إشارة إلى سر إنزال المتشابه، والحكمة فيه لما أنه متضمن معنى التربية والنظر في المصلحة والإيصال إلى معارج الكمال أولا فأولا، وقد قالوا: إنما أنزل المتشابه لذلك ليظهر فضل العلماء ويزداد حرصهم على الاجتهاد في تدبره وتحصيل العلوم التي نيط بها استنباط ما أريد به من الأحكام الحقيقية فينالوا بذلك وبإتعاب القرائح واستخراج المقاصد الرائقة والمعاني اللائقة المدارج العالية ويعرجوا بالتوفيق بينه وبين المحكم إلى رفرف الإيقان وعرش الاطمئنان ويفوزوا بالمشاهد السامية وحينئذ ينكشف لهم الحجاب ويطيب لهم المقام في رياض الصواب، وذلك من التربية والإرشاد أقصى غاية ونهاية في رعاية المصلحة ليس وراءها نهاية. وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ عطف على جملة يَقُولُونَ سيق من جهته تعالى مدحا للراسخين بجودة الذهن وحسن النظر ما أنهم قد تجردت عقولهم عما يغشاها من الركون إلى الأهواء الزائغة المكدرة لها واستعدوا إلى الاهتداء إلى معالم الحق والعروج إلى معارج الصدق، وللإشارة إلى ذلك وضع الظاهر موضع الضمير هذا على تقدير أن يكون الوقف على الرَّاسِخُونَ وهو الذي ذهب إليه الشافعية، وسائر من فسر المتشابه بما لم يتضح معناه، وأما على تقدير أن يكون الوقف على إِلَّا اللَّهُ وهو الذي ذهب إليه الحنفية القائلون بأن المتشابه ما استأثر الله تعالى بعلمه فالراسخون مبتدأ وجملة يَقُولُونَ خبر عنه، ورجح الأول بوجوه: أما أولا فلأنه لو أريد بيان حظ الراسخين مقابلا لبيان حظ الزائغين لكان المناسب أن يقال وأما الراسخون فيقولون، وأما ثانيا فلأنه لا فائدة حينئذ في قيد الرسوخ بل هذا حكم العالمين كلهم، وأما ثالثا فلأنه لا ينحصر حينئذ الكتاب في المحكم والمتشابه على ما هو مقتضى ظاهر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 العبارة حيث لم يقل- ومنه متشابهات- لأن ما لا يكون متضح المعنى ويهتدي العلماء إلى تأويله ورده إلى المحكم لا يكون محكما ولا متشهابا بالمعنى المذكور وهو كثير جدا، وأما رابعا فلأن المحكم حينئذ لا يكون- أم الكتاب- بمعنى رجوع المتشابه إليه إذ لا رجوع إليه فيما استأثر الله تعالى بعلمه كعدد الزبانية مثلا، وأما خامسا فلأنه قد ثبت في الصحيح أنه صلى الله تعالى عليه وسلم دعا لابن عباس فقال: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» ولو كان التأويل مما لا يعلمه إلا الله تعالى لما كان للدعاء معنى، وأما سادسا فلأن ابن عباس رضي الله تعالى عنه كان يقول: أنا ممن يعلم تأويله، وأما سابعا فلأنه سبحانه وتعالى مدح الراسخين بالتذكر في هذا المقام وهو يشعر بأن لهم الحظ الأوفر من معرفة ذلك، وأما ثامنا فلأنه يبعد أن يخاطب الله تعالى عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته، والقول: بأن- أما- للتفصيل فلا بد في مقابلة الحكم على الزائغين من حكم على الراسخين ليتحقق التفصيل. غاية الأمر أنه حذفت- أما- والفاء، وبأن الآية من قبيل الجمع والتقسيم والتفريق فالجمع في قوله سبحانه: أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ والتقسيم في قوله تعالى: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ والتفريق في قوله عز شأنه: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ إلخ فلا بد في مقابلة ذلك من حكم يتعلق بالمحكم وهو أن الراسخين يتبعونه ويرجعون المتشابه إليه على ما هو مضمون قوله سبحانه: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ إلخ مجاب عنه بأن كون- أما- للتفصيل أكثري لا كلي ولو سلم فليس ذكر المقابل في اللفظ بلازم. ثم لو سلم بأن الآية من قبيل الجمع والتقسيم والتفريق فذكر المقابل على سبيل الاستئناف أو الحال أعني يَقُولُونَ إلخ كاف في ذلك، ورجح الثاني بأنه مذهب الأكثرين من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، والتابعين وأتباعهم خصوصا أهل السنة، وهو أصح الروايات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، ولم يذهب إلى القول الأول إلا شرذمة قليلة بالنسبة إلى الأكثرين كما نص عليه ابن السمعاني وغيره- ويد الله تعالى مع الجماعة- ويدل على صحة مذهبهم أخبار كثيرة، الأول ما أخرجه عبد الرزاق في تفسيره، والحاكم في مستدركه عن ابن عباس أنه كان يقرأ- وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون في العلم آمنا به- فهذا يدل على أن الواو للاستئناف لأن هذه الرواية وإن لم تثبت بها القراءة فأقل درجاتها أن تكون خبرا بإسناد صحيح إلى ترجمان القرآن فيقدم كلامه على من دونه، وحكى الفراء أن في قراءة أبيّ بن كعب أيضا- ويقول الراسخون في العلم. وأخرج ابن أبي داود في المصاحف من طريق الأعمش قال في قراءة ابن مسعود- وإن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به- الثاني ما أخرج الطبراني في الكبير عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: «لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خلال: أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله وما يبتغي تأويله إلا الله تعالى» . «الحديث الثالث» ما أخرج ابن مردويه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه فآمنوا به» . الرابع ما أخرج الحاكم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة: زاجر، وآمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال فأحلوا حلاله وحرموا حرامه وافعلوا ما أمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه واعتبروا بأمثاله واعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه وقولوا: آمنا به كل من عند ربنا» . وأخرج البيهقي في الشعب نحوه عن أبي هريرة، الخامس ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس مرفوعا «أنزل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 القرآن على أربعة أحرف حلال وحرام لا يعذر أحد بجهالته وتفسير تفسره العلماء ومتشابه لا يعلمه إلا الله تعالى ومن ادعى علمه سوى الله تعالى فهو كاذب» إلى غير ذلك من الأخبار الدالة على أن المتشابه مما لا يعلم تأويله إلا الله تعالى، وذهب بعض المحققين إلى أن كلا من الوقف والوصل جائز- ولكل منهما وجه وجيه- وبين ذلك الراغب بأن القرآن عند اعتبار بعضه ببعض ثلاثة أضرب محكم على الإطلاق، ومتشابه على الإطلاق ومحكم من وجه متشابه من وجه، فالمتشابه في الجملة ثلاثة أضرب: متشابه من جهة اللفظ فقط، ومن جهة المعنى، ومن جهتهما معا. فالأول ضربان: أحدهما يرجع إلى الألفاظ المفردة أما من جهة الغرابة نحو الأب ويزفون، أو الاشتراك كاليد والعين. وثانيهما يرجع إلى جملة الكلام المركب وذلك ثلاثة أضرب: ضرب لاختصار الكلام نحو وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ [النساء: 3] وضرب لبسطه نحو لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] لأنه لو قيل: ليس مثله شيء كان أظهر للسامع. وضرب لنظم الكلام نحو أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً [الكهف: 1] إذ تقديره- أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا- والمتشابه من جهة المعنى أوصاف الله تعالى وأوصاف يوم القيامة فإن تلك الصفات لا تتصور لنا إذ لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه أو ليس من جنسه، والمتشابه من جهتهما خمسة أضرب. الأول من جهة الكمية كالعموم والخصوص نحو فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: 5] والثاني من جهة الكيفية كالوجوب والندب في نحو فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ. والثالث من جهة الزمان كالناسخ والمنسوخ نحو اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: 102] . والرابع من جهة المكان والأمور التي نزلت فيها الآية نحو وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها [البقرة: 189] إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة: 37] فإن من لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذر عليه تفسير هذه، والخامس من جهة الشروط التي يصح بها الفعل ويفسد كشرط الصلاة والنكاح، ثم قال: وهذه الجملة إذا تصورت علم أن كل ما ذكره المفسرون في تفسير المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم ثم جميع المتشابه على ثلاثة أضرب: ضرب لا سبيل للوقوف عليه كوقت الساعة وخروج الدابة وغير ذلك، وقسم للانسان سبيل إلى معرفته كالألفاظ الغريبة والأحكام الغلقة، وضرب متردد بين الأمرين يختص بمعرفته بعض الراسخين في العلم ويخفى على من دونهم. وهو المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله تعالى عنه: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» . وإذا عرفت هذا ظهر جواز الأمرين الوقف على إِلَّا اللَّهُ والوقف على الرَّاسِخُونَ وقال بعض أئمة التحقيق: الحق أنه إن أريد بالمتشابه ما لا سبيل إليه للمخلوق فالحق الوقف على إِلَّا اللَّهُ وإن أريد ما لا يتضح بحيث يتناول المجمل ونحوه فالحق العطف، ويجوز الوقف أيضا لأنه لا يعلم جميعه أو لا يعلمه بالكنه إلا الله تعالى، وأما إذا فسر بما دل القاطع أي النص النقلي أو الدليل الجازم العقلي على أن ظاهره غير مراد ولم يقم دليل على ما هو المراد ففيه مذهبان: فمنهم من يجوز الخوض فيه وتأويله بما يرجع إلى الجادة في مثله فيجوز عنده الوقف وعدمه، ومنهم من يمنع الخوض فيه فيمتنع تأويله ويجب الوقف عنده. والذاهبون إلى الوقف من السادة الحنفية أجابوا عما ذكره غيرهم في ترجيح ما ذهبوا إليه من الوجوه، فعن الأول بأنه أريد ببيان حظ الراسخين مقابلا لبيان حظ الزائغين إلا أنه لم يقل- وأما الراسخون- مبالغة في الاعتناء بشأن الراسخين حيث لم يسلك بهم سبيل المعادلة اللفظية لهؤلاء الزائغين وصينوا عن أن يذكروا معهم كما يذكر المتقابلان في الأغلب في مثل هذه المقامات وقريب من هذا قوله تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ [البقرة: 257] حيث لم يقل- والطاغوت أولياء الذين كفروا، ولا الذين آمنوا وليهم الله- تعظيما لشأنه تعالى ورعاية للاعتناء بشأن المؤمنين، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 وعن الثاني بأن فائدة قيد الرسوخ المبالغة في قصر علم تأويل المتشابه عليه تعالى لأنه إذا لم يعلموه هم كما يشعر به الحكم عليهم بأنهم يقولون آمنا به فغيرهم أولى بعدم العلم فلم يبق عالم به إلا الله تعالى. وعن الثالث بأنه يلتزم القول بعدم الحصر، وفي الإتقان أن بعضا قال: إن الآية لا تدل على الحصر في الشيئين إذ ليس فيها شيء من طرقه ولولا ذلك لأشكل قوله تعالى: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44] لأن المحكم لا تتوقف معرفته على البيان والمتشابه لا يرجى بيانه فما هذا الذي يبينه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم؟ وعن الرابع بالتزام أن إضافة- أم- إلى الْكِتابَ على معنى في، والمحكم- أم- في الْكِتابَ ولكن لا للمتشابه الذي استأثر الله تعالى بعلمه بل هو- أم- وأصل في فهم العبادات الشرعية كوجوب معرفته وتصديق رسله وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وعلى تقدير القول بأن الإضافة لامية يلتزم الأمومة للكتاب باعتبار بعضه وهو الواسطة بين القسمين لأن متضح الدلالة كثيرا ما يرجع إليه في خفيها مما لم يصل إلى حد الاستئثار، وعن الخامس بأن التأويل الذي دعا به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لابن عباس لا يتعين حمله على تأويل ما اختص علمه به تعالى بل يجوز حمله على تفسير ما يخفى تفسيره من القسم المتردد بين الأمرين اللذين ذكرهما الراغب كما ذكره. وعن السادس بأن الرواية عن ابن عباس أنه قال: أنا ممن يعلم تأويله معارضة بما هو أصح منها بدرجات فتسقط عن درجة الاعتبار، وعلى تقدير تسليم اعتبارها يمكن أن يقال: مراده رضي الله تعالى عنه- أنا ممن يعلم تأويله- أي المتشابه في الجملة حسبما دعا لي به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهذا وإن قيل: إنه متشابه لكنه في الحقيقة واسطة بين المحكم والمتشابه بالمعنى المراد، وعن السابع بأن مدح الراسخين بالتذكر ليس لأن لهم حظا في معرفته بل لأنهم اتعظوا فخالفوا هواهم ووقفوا عند ما حدّ لهم مولاهم ولم يسلكوا مسلك الزائغين ولم يخوضوا مع الخائضين ويمكن على بعد أن يراد بالتذكر الانتفاع مجازا أي إن الراسخين هم الذين ينتفعون به حيث يؤمنون به لخلوص عقولهم عن غشاوة الهوى كما أنهم آمنوا بالغيب وهذا بخلاف الزائغين حيث صار المتشابه ضررا عليهم ووبالا لهم إذ ضلوا فيه كثيرا وأضلوا عن سواء السبيل، وقد قال سبحانه من قبل فيما ضربه من المثل: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ [البقرة: 26] وعن الثامن بأنه لا بعد في أن يخاطب الله تعالى عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته ويكون ذلك من باب الابتلاء كما ابتلى سبحانه عباده بتكاليف كثيرة وعبادات وفيرة لم يعرف أحد حقيقة السر فيها، والسر في هذا الابتلاء قص جناح العقل، وكسر سورة الفكر، وإذهاب عجب طاوس النفس ليتوجه القلب بشراشره تجاه كعبة العبودية ويخضع تحت سرادقات الربوبية ويعترف بالقصور ويقر بالعجز عن الوصول إلى ما في هاتيك القصور وفي ذلك غاية التربية ونهاية المصلحة هذا إذا أريد بما لا سبيل لأحد من الخلق إلى معرفته ما لا سبيل لأحد منهم إلى معرفته من طريق الفكر، وأما إذا أريد ما لا سبيل إلى معرفته مطلقا سواء كانت على الإجمال أو التفصيل بالوحي أو بالإلهام لنبي أو لوليّ فوجود مثل هذا المخاطب به في القرآن في حيز المنع، ولعل القائل يكون المتشابه مما استأثر الله تعالى بعلمه لا يمنع تعليمه للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم بواسطة الوحي مثلا ولا إلقاءه في روع الوليّ الكامل مفصلا لكن لا يصل إلى درجة الإحاطة- كعلم الله تعالى- وإن لم يكن مفصلا فلا أقل من أن يكون مجملا ومنع هذا وذاك مما لا يكاد يقول به من يعرف رتبة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ورتبة أولياء أمته الكاملين وإنما المنع من الإحاطة ومن معرفته على سبيل النظر والفكر وهو الطريق المعتاد والسبيل المسلوك في معرفة المشكلات واستحصال النظريات ولتبادر هذا المعنى من يعلم إذا أسند إلى الراسخين منع إسناده إليهم ومتى أريد منه العلم لا من طريق الفكر صح الإسناد وجاز العطف ولكن دون توهم هذه الإرادة من ظاهر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 الكلام خرط القتاد، فلهذا شاع القول بعدم العطف وكان القول به أسلم. ويؤيد ما قلنا ما ذكره الإمام الشعراني قال: أخبرني شيخنا علي الخواص قدس سره إن الله تعالى أطلعه على معاني سورة الفاتحة فخرج منها مائتي ألف علم وأربعين ألف علم وتسعمائة وتسعين علما وكان يقول: لا يسمى عالما أي عند أهل الله تعالى إلا من عرف كل لفظ جاءت به الشريعة، وقال في الكشف في نحو ق [ق: 1] ، ص [ص: 1] حم [غافر: 1، فصلت: 1، الشورى: 1، الزخرف: 1، الدخان: 1، الجاثية: 1، الأحقاف: 1] طس [النمل: 1] : لعل إدراك ما تحته عند أهله كإدراكنا للأوليات ولا يستبعد، ففيض الباري عم نواله غير محصور، واستعداد الإنسان الكامل عن القبول غير محسور، ومن لم يصدق إجمالا- بأن وراء مدركات الفكرة ومباديها طورا أو أطوارا حظ العقل منها حظ الحسّ من المعقولات- فهو غير متخلص عن مضيق التعطيل أو التشبيه وإن لم يتدارك حاله بقي بعد كشف الغطا في هذا التيه، ولتتحقق من هذا أن المراتب مختلفة وأن الإحاطة على الحقائق الإلهية كما هي مستحيلة إلا للباري جل ذكره وأنه لا بد للعارف وإن وصل إلى أعلى المراتب أن يبقى له ما يجب الإيمان به غيبا وهو من المتشابه الذي يقول الراسخون فيه: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا فهذا ما يجب أن يعتقد كي لا يلحد. ثم اعلم أن كثيرا من الناس جعل الصفات النقلية من الاستواء واليد والقدم والنزول إلى السماء الدنيا والضحك والتعجب وأمثالها من المتشابه، ومذهب السلف والأشعري رحمه الله تعالى من أعيانهم- كما أبانت عن حاله الإبانة (1) - أنها صفات ثابتة وراء العقل ما كلفنا إلا اعتقاد ثبوتها مع اعتقاد عدم التجسيم والتشبيه لئلا يضاد النقل العقل، وذهب الخلف إلى تأويلها وتعيين مراد الله تعالى منها فيقولون: الاستواء مثلا بمعنى الاستيلاء والغلبة، وذلك أثر من آثار بعض الصفات الثمانية التي ليس لله تعالى عندهم وراءها صفة حتى ادعى السكوتي- وليته سكت- أن ما وراء ذلك ممتنع إذ لا يلزم من نفيه محال وكل ما لا يلزم من نفيه محال لا يكون واجبا، والله تعالى لا يتصف إلا بواجب، وذكر الشعراني في الدرر المنثورة أن مذهب السلف أسلم وأحكم إذ المؤول انتقل عن شرح الاستواء الجسماني على العرش المكاني بالتنزيه عنه إلى التشبيه السلطاني الحادث وهو الاستيلاء على المكان فهو انتقال عن التشبيه بمحدث ما إلى التشبيه بمحدث آخر فما بلغ عقله في التنزيه مبلغ الشرع فيه في قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] ألا ترى أنه استشهد في التنزيه العقلي في الاستواء بقول شاعر: قد- استوى- بشر على العراق ... من غير حرب ودم مهراق وأين استواء- بشر على العراق- من استواء الرحمن على العرش، ونهاية الأمر يحتاج إلى القول بأن المراد استيلاء يليق بشأن الرحمن جل شأنه فليقل من أول الأمر قبل تحمل مؤنة هذا التأويل استواء يليق بشأن من عز شأنه وتعالى عن إدراك العقول سلطانه، وهذا أليق بالأدب وأوفق بكمال العبودية وعليه درج صدر الأمة وساداتها- وإياها اختار أئمة الفقهاء وقاداتها- وإليها دعا أئمة الحديث في القديم والحديث حتى قال محمد بن الحسن كما أخرجه عنه اللالكائي: اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالصفات من غير تفسير ولا تشبيه، وورد عن سليمان بن يسار أن رجلا يقال له ضبيع: قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن فأرسل إليه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وقد أعد له عراجين النخل فقال: من أنت؟ فقال: أنا عبد الله ضبيع فأخذ عمر عرجونا من تلك   (1) الإبانة اسم كتاب للإمام الأشعري ألفه في آخر عمره فجنح فيه لمذهب السلف ومذهب السلف هو الأعلم والأسلم فعليك به اهـ إدارة. [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 العراجين فضربه حتى أدمى رأسه- وفي رواية- فضربه بالجريد حتى ترك ظهره دبرة ثم تركه حتى برئ فدعا به ليعود فقال: إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلا جميلا فأذن له إلى أرضه وكتب إلى أبي موسى الأشعري أن لا يجالسه أحد من المسلمين «لا يقال» إن تركت أمثال هذه المتشابهات على ظواهرها دلت على التجسيم وإن لم ترد ظواهرها فقد أولت لأن التأويل على ما قالوا: إخراج الكلام عن ظاهره لأنا نقول: نختار الشق الثاني ولا نسلم أن التأويل إخراج الكلام عن ظاهره مطلقا بل إخراجه إلى معنى معين معلوم كما يقال الاستواء مثلا بمعنى الاستيلاء على أن للتأويل معنيين مشهورين لا يصدق شيء منهما على نفس الظاهر من غير تعيين للمراد، أحدهما ترجمة الشيء وتفسيره الموضح له، وثانيهما بيان حقيقته وإبرازها إما بالعلم أو بالعقل فإن من قال: بعد التنزيه لا أدري من هذه المتشابهات سوى أن الله تعالى وصف بها نفسه وأراد منها معنى لائقا بجلاله جل جلاله، ولا أعرف ذلك المعنى لم يقل في حقه أنه ترجم وأوضح ولا بيّن الحقيقة وأبرز المراد حتى يقال إنه أول، ومن أمعن النظر في مأخذ التأويل لم يشك في صحة ما قلنا. نعم ذهبت شرذمة قليلة من السلف إلى إبقاء نحو المذكورات على ظواهرها إلا أنهم ينفون لوازمها المنقدحة للذهن الموجبة لنسبة النقص إليه عز شأنه ويقولون: إنما هي لوازم لا يصح انفكاكها عن ملزوماتها في صفاتنا الحادثة، وأما في صفات من ليس كمثله شيء فليست بلوازم في الحقيقة ليكون القول بانفكاكها سفسطة- وأين التراب من رب الأرباب- وكأنهم إنما قالوا ذلك ظنا منهم أن قول الآخرين من السلف تأويل، والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ لا يذهبون إليه أو أنهم وجدوا بعض الآثار يشعر بذلك مثل ما حكى مقاتل. والكلبي عن ابن عباس في «استوى» أنه بمعنى استقر، وما أخرجه أبو القاسم من طريق قرة بن خالد عن الحسن عن أمه عن أم سلمة في قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] إنها قالت: الكيف غير معقول والاستواء غير مجهول والإقرار به من الإيمان والجحود به كفر. وقريب من هذا القول ما يصرح به كلام كثير من ساداتنا الصوفية فإنهم قالوا: إن هذه المتشابهات تجري على ظواهرها مع القول بالتنزيه الدال عليه قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] حيث إن وجود الحق تعالى شأنه لا تقيده الأكوان وإن تجلى فيما شاء منها إذ له كمال الإطلاق حتى عن قيد الإطلاق، ولا يخفى أن إجراء المتشابهات على ظاهرها مع التنزيه اللائق بجلال ذاته سبحانه طور ما وراء طور العقل وبحر لا يسبح فيه إلا من فاز بقرب النوافل. وذكر بعض أئمة التدقيق أن العقل سبيله في العلم بالصفات الثمانية المشهورة كعلمه بتلك الصفات التي يدعي الخلف رجوعها إليها إذا أحد النظر، فقد قام البرهان وشاهد العيان على عدم المماثلة ذاتا وصفات أيضا لكن صفاته المتعالية وأسماؤه الحسنى قسمان: قسم يناسب ما عندنا من الصفات نوع مناسبة وإن كانت بعيدة، ولا يقال: فلا بد فيه في أفهامنا معاشر الناقصين من أن يسمى بتلك الأسماء المشتهرة عندنا فيسمى علما مثلا- لا دواة ولا قلما- وقسم ليس كذلك وهو المشار إليه بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم، أو استأثرت به في علم الغيب عندك فقد يذكر له أسماء مشوقة لأن منه ما للانسان الكامل منه نصيب بطريق التخلق والتحقق فيذكر تارة اليد والنزول والقدم ونحو ذلك من المخيلات مع العلم البرهاني والشهود الوجداني بتنزهه تعالى عن كل كمال يتصوره الإنسان ويحيط به فضلا عن النقصان، فيعلم أنه أشار إلى ذلك القسم الذي علم بالإجمال ويتوجه إذ ذاك بكليته شطر كعبة الجلال والجمال فيفاض عليه من ينبوع الكمال ما يستأنس عنده وينكشف له جليلة الحال، وإذ ليس له مناسبة بما عندنا لا توجد عبارة يترجم عنها إلا على سبيل الخيال، وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام: «من عرف الله تعالى كل لسانه» وأخرى بين مقصد الكل ومن أحبه سبحانه ما يصان عن تهمة إدراك الأغيار من نحو تلك الفواتح، ولعل إدراكها عند أهلها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 كإدراك الأوليات إلا أنه لا إحاطة بل لا بد من بقاء شيء كما أشير إليه، وعلى هذا أيضا الأليق أن يوقف لأنه شعار من لنا فيهم الأسوة الحسنة مع ظهور وجهه لكن لا تجعل الآية حجة على من تأول نحو وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الزمر: 67] مثلا إذ لا يسلم أنه داخل في ذلك المتشابه والحمل على المجاز الشائع في كلام العرب والكناية البالغة في الشهرة مبلغ الحقيقة أظهر من الحمل على معنى مجهول. نعم لو قيل: إن تصوير العظمة على هذا الوجه دال على أن العقل غير مستقل بإدراكها وأنها أجل من أن تحيط بها العقول فالكنه من المتشابه الذي دلت الآية عليه ويجب الإيمان به كان حسنا، وجمعا بين ما عليه السلف ومشى عليه الخلف وهو الذي يجب أن يعتقد كيلا يلزم ازدراء بأحد الفريقين كما فعل ابن القيم حتى قال: لام الأشعرية كنون اليهودية أعاذنا الله تعالى من ذلك، وعلى هذا يجب أن يفسر المتشابه في الآية بما يعم القسمين، والمحكم أُمُّ يرجع إليه في تمييز القسمين أحدهما فرعه الإيماني. والثاني فرعه الإيقاني، وابن دقيق العيد توسط في مسألة التأويل، ويحتمل أنه لم يخرج ما قاله هذا المدقق أخيرا من المتشابه فقال: إذا كان التأويل قريبا من لسان العرب لم ينكر أو بعيدا توقفنا عنه وآمنا بمعناه على الوجه الذي أريد به مع التنزيه وما كان معناه من هذه الألفاظ ظاهرا معهودا من تخاطب العرب قلنا به من غير توقف كما في قوله تعالى: يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر: 56] فنحمله على حق الله تعالى وما يجب له فليفهم هذا المقام فكم زلت فيه أقوام بعد أقوام رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا يحتمل أن يكون من تمام مقالة الراسخين، ويحتمل أن يكون على معنى التعليم- أي قولوا رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا عن نهج الحق إلى اتباع المتشابه بتأويل لا ترتضيه بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا إلى معالم الحق من التفويض في المتشابه أو الإيمان بالقسمين، أو التأويل الصحيح، ويؤول المعنى إلى لا تضلنا بعد الهداية لأن زيغ القلوب في مقابلة الهداية ومقابلة الهداية الإضلال، وصحة نسبة ذلك إلى الله تعالى- على مذهب أهل السنة في أفعال العباد- ظاهرة، والمعتزلة يؤولون ذلك بنحو لا تبلنا ببلايا تزيغ بسببها قلوبنا ولا تمنعنا ألطافك بعد أن لطفت بنا، وإنما دعوا بذلك أو أمروا بالدعاء به لأن القلوب لا تتقلب، ففي الصحيح عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كثيرا ما يدعو «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك قلت: يا رسول الله ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء؟ فقال: ليس من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه» . وأخرج الحكيم الترمذي من طريق عتبة بن عبد الله بن خالد بن معدان عن أبيه عن جده قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إنما الإيمان بمنزلة القميص مرة تقمصه ومرة تنزعه» والروايات بمعنى ذلك كثيرة وهي تدل على جواز عروض الكفر بعد الإيمان بطرو الشك مثلا والعياذ بالله تعالى، وفي كلام الصحابة رضي الله تعالى عنهم أيضا ما يدل على ذلك فقد أخرج ابن سعد عن أبي عطاف أن أبا هريرة كان يقول: أي رب لا أزنين أي رب لا أسرقن أي رب لا أكفرن قيل له: أو تخاف؟ قال: آمنت بمحرف القلوب ثلاثا، وأخرج الحكيم الترمذي عن أبي الدرداء قال: كان عبد الله بن رواحة إذا لقيني قال: اجلس يا عويمر فلنؤمن ساعة فنجلس فنذكر الله تعالى على ما يشاء ثم قال: يا عويمر هذه مجالس الإيمان إن مثل الإيمان ومثلك كمثل قميصك بينا أنت قد نزعته إذ لبسته وبينا أنت قد لبسته إذ نزعته يا عويمر للقلب أسرع تقلبا من القدر إذا استجمعت غليانا. وعن أبي أيوب الأنصاري: ليأتين على الرجل أحايين وما في جلده موضع إبرة من النفاق وليأتين عليه أحايين وما في جلده موضع إبرة من إيمان. وادعى بعضهم أن هذا بالنسبة إلى الإيمان الغير الكامل وما رجع من رجع إلا من الطريق، وأما بعد حصول الإيمان الكامل والتصديق الجازم والعلم الثابت المطابق فلا يتصور رجعة وكفر أصلا لئلا يلزم انقلاب العلم جهلا وهو محال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 والتزم تأويل جميع ما يدل على ذلك، ولا يخفى أن هذا القول مما يكاد يجر إلى الأمن من مكر الله تعالى والتزام تأويل النصوص لشبهة اختلجت في الصدر هي أوهن من بيت العنكبوت في التحقيق مما لا يقدم عليه من له أدنى مسكة كما لا يخفى فتدبر، وبَعْدَ منصوب على الظرفية والعامل فيه تُزِغْ، وإِذْ مضاف إليه وهي متصرفة كما ذكره أجلة النحويين، وأما القول بأنها بمعنى أن المصدرية المفتوحة الهمزة، والمعنى- بعد هدايتنا فمما ذكره الحوفي في إعراب القرآن ولم ير لغيره، والمذكور في النحو أنها تكون حرف تعليل فتؤول مع ما بعدها بالمصدر نحو وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ [الزخرف: 39] أي لظلمكم فإن كان أخذ من هذا فهو كما ترى، وقرئ- «لا تزغ» - بالياء والتاء ورفع القلوب وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ كلا الجارين متعلق- بهب- وتقديم الأول اعتناء به وتشويقا إلى الثاني، ويجوز تعلق الثاني بمحذوف هو حال من المفعول أي كائنة من لدنك، ومِنْ لابتداء الغاية المجازية، ولدن- ظرف، وهي لأول غاية زمان، أو مكان، أو غيرهما من الذوات نحو- من لدن زيد- وليست مرادفة لعند بل قد تكون بمعناها، وبعضهم يقيدها بظرف المكان وهي ملازمة للإضافة فلا تنفك عنها بحال، فتارة تضاف إلى المفرد، وتارة إلى الجملة الاسمية أو الفعلية وقلما تخلو عن مِنْ، وفيها لغتان، الإعراب- وهي لغة قيس- والبناء وهي اللغة المشهورة- وسببه شبهها بالحرف في لزوم استعمال واحد وامتناع الإخبار بها بخلاف- عند، ولديّ- فانهما لا يلزمان استعمالا واحدا إذ يكونان فضلة، وعمدة، وغاية، وغير غاية، قيل: ولقوة هذا الشبه لا تعرب إذا أضيفت في المشهور واللغتان المذكورتان من الإعراب والبناء مختصان- بلدن- المفتوحة اللام المضمومة الدال الواقع آخرها نون، وأما بقية لغاتها فإنها فيها مبنية عند جميع العرب وفيها لغات المشهورة منها ما تقدم- ولدن ولدن- بفتح الدال وكسرها- ولدن، ولدن- بفتح اللام وضمها مع سكون الدال- ولدن- بفتح اللام وضم الدال وبإبدال الدال تاء ساكنة ومتى أضيفت المحذوفة النون إلى ضمير وجب رد النون رَحْمَةً مفعول- لهب- وتنوينه للتفخيم، والمراد بالرحمة الإحسان والإنعام مطلقا، وقيل: الإنعام المخصوص وهو التوفيق للثبات على الحق، وفي سؤال ذلك بلفظ لأنه إشارة إلى أن ذلك منه تعالى تفضل محض من غير شائبة وجوب عليه عز شأنه وتأخير المفعول الصريح للتشويق إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ تعليل للسؤال أو لاعطاء المسئول، وأَنْتَ إما مبتدأ أو فصل أو تأكيد لاسم- إن- وحذف المعمول لإفادة العموم كما في قولهم: فلان يعطي واختيار صيغة المبالغة على فعال قيل: لمناسبة رؤوس الآي رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ المكلفين وغيرهم لِيَوْمٍ أي لحساب يوم، أو لجزاء يوم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه تهويلا لما يقع فيه، وقيل: اللام بمعنى إلى أي جامعهم في القبور إلى يوم لا رَيْبَ فِيهِ أي لا ينبغي أن يرتاب في وقوعه ووقوع ما فيه من الحشر والحساب والجزاء. وقيل: الضمير المجرور للحكم أي لا ريب في هذا الحكم، فالجملة على الأول صفة ليوم، وعلى الثاني لتأكيد الحكم ومقصودهم من هذا- كما قال غير واحد- عرض كمال افتقارهم إلى الرحمة وأنها المقصد الأسنى عندهم، والتأكيد لإظهار ما هم عليه من كمال الطمأنينة وقوة اليقين بأحوال الآخرة لمزيد الرغبة في استنزال طائر الإجابة. وقرئ جامِعُ النَّاسِ بالتنوين إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ تعليل لمضمون الجملة المؤكدة أو لانتفاء الريب، وقيل: تأكيد بعد تأكيد للحكم السابق وإظهار الاسم الجليل مع الالتفات للاشارة إلى تعظيم الموعود والإجلال الناشئ من ذكر اليوم المهيب الهائل، وللإشعار بعلة الحكم فإن الألوهية منافية للإخلاف وهذا بخلاف ما في آخر السورة حيث أتى بلفظ الخطاب فيه لما أن مقامه مقام طلب الانعام، وقال الكرخي: الفرق بينهما أن ما هنا متصل بما قبله اتصالا لفظيا فقط وما في الآخر متصل اتصالا معنويا ولفظيا لتقدم لفظ الوعد، وجوز أن تكون هذه الجملة من كلامه تعالى لتقرير قول الراسخين لا من كلام الراسخين فلا التفات حينئذ، قال السفاقسي: وهو الظاهر، والْمِيعادَ مصدر ميمي بمعنى الحدث لا بمعنى الزمان والمكان وهو اللائق بمفعولية- الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 يخلف- وياؤه منقلبة عن واو لانكسار ما قبلها، واستدل بها الوعيدية على وجوب العقاب للعاصي عليه تعالى وإلا يلزم الخلف، وأجيب عنه بأن وعيد الفساق مشروط بعدم العفو بدلائل منفصلة كما هو مشروط بعدم التوبة وفاقا، وقيل: هو إنشاء فلا يلزم محذور في تخلفه، وقيل: ما في الآية ليس محلا للنزاع لأن الميعاد فيه مصدر بمعنى الوعد ولا يلزم من عدم خلف الوعد عدم خلف الوعيد لأن الأول مقتضى الكرم كما قال: وإني إذا أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي واعترض بأن الوعيد الذي هو محل النزاع داخل تحت الوعد بدليل قوله تعالى: قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا [الأعراف: 44] وأجيب بأنا لا نسلم الدخول والآية من باب التهكم فهي على حد فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: 21] واعترض أيضا بأن كون- الخلف في الإيعاد- مقتضى الكرم لا يجوز الخلف على الله تعالى لأنه يلزم حينئذ صحة أن يسمى الله تعالى مكذب نفسه وهو مما لا يقدم عليه أحد من المسلمين، وأجيب عنه بما تركه أصوب من ذكره فالحق الرجوع إلى الجواب الأول. هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» الم تقدم الكلام عليه، وذكر بعض ساداتنا فيه أنه أشير به إلى كل الوجود من حيث هو كل لأن أإشارة إلى الذات الذي هو أول الوجود وهو مرتبة الإطلاق، ول إلى العقل المسمى بجبريل الذي هو وسط الوجود الذي يستفيض من المبدأ ويفيض إلى المنتهى، وم إلى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الذي هو آخر الوجود، وبه تتم دائرته ولهذا كان الختم. وقال بعضهم: إن ل ركبت من ألفين أي وضعت بإزاء الذات مع صفة العلم اللذين هما عالمان من العوالم الثلاثة الإلهية التي أشرنا إليها فهو اسم من أسمائه تعالى، وأما م فهي إشارة إلى الذات مع جميع الصفات والأفعال التي احتجبت بها في الصورة المحمدية التي هي اسم الله تعالى الأعظم بحيث لا يعرفها إلا من يعرفها ألا ترى أن أالتي هي لصورة الذات كيف احتجبت فيها فإن الميم فيها الياء وفي الياء ألف ولتضمن الم الإشارة إلى مراتب الوجود والحقيقة المحمدية ناسب أن تفتتح بها هذه الآيات المتضمنة للرد على النصارى الذين أخطؤوا في التوحيد ولم يعرفوه على وجهه، ولهذا أردفه سبحانه بقوله: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إذ لا موجود في سائر العوالم حقيقة إلا هو إذ لا أحد أغير من الله تعالى جل جلاله الْحَيُّ أي المتصف بالحياة الكاملة على وجه يليق بذاته الْقَيُّومُ القائم بتدبير الأعيان الثابتة بظهوره فيها حسب استعدادها الأزلي الغير المجعول نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ وهو العلم المفيد لمقام الجمع وهو التوحيد الذي تفنى فيه الكثرة ولا يشاهد فيه التعدد متلبسا بالحق وهو الثابت الذي لا يعتريه تغير في ذاته مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ من التوحيد الأول الأزلي السابق المعلوم في العهد الأول المخزون في غيب الاستعداد وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ إلى معالم التوحيد وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ وهو التوحيد التفصيلي الذي هو الحق باعتبار الفرق وهو منشأ الاستقامة ومبدأ الدعوة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي احتجبوا عن هذين التوحيدين بالمظاهر والأكوان ورؤية الأغيار ولم يؤمنوا بآيات الله تعالى الدالة على أن له سبحانه رتبة الإطلاق وله الظهور والتجلي بما شاء لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ في البعد والحرمان عن حظائر العرفان وَاللَّهُ عَزِيزٌ قاهر ذُو انْتِقامٍ شديد بمقتضى صفاته الجلالية هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ في أرحام الوجود كَيْفَ يَشاءُ لأنكم المظاهر لأسمائه والمجلى لذاته لا إِلهَ في الوجود إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ القاهر للأعيان الثابتة فلا تشم رائحة الوجود بنفسها أبدا الْحَكِيمُ الذي يظهرها بوجوده الحق ويتجلى بها حسبما تقتضيه الحكمة هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ متنوعا في الظهور مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ أحكمت من أن يتطرق إليها الاحتمال والاشتباه فلا تحتمل إلا معنى واحدا هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ والأصل وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ تحتمل معنيين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 فأكثر ويقع فيها الاشتباه وذلك أن الحق تعالى له وجه واحد وهو المطلق الباقي بعد فناء خلقه لا يحتمل التكثر من ذلك الوجه وله وجوه متكثرة بحسب المرايا والمظاهر بها يقع الاشتباه فورد التنزيل كذلك فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ أي ميل عن الحق فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ لاحتجابهم بالكثرة عن الوحدة وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ الذي يرجع إليه إلا الله ويعلمه الراسخون في العلم- الذين لم يحتجبوا بأحد الأمرين عن الآخر بعلمه الذي منحوه بواسطة قرب النوافل لا بالعلم الفكري الحاصل بواسطة الأقيسة المنطقية، وبهذا يحصل الجمع بين الوقف على إِلَّا اللَّهُ والوقف على الرَّاسِخُونَ وَما يَذَّكَّرُ بذلك العلم الواحد المفصل في التفاصيل المتشابهة المتكثرة إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ الذين صفت عقولهم بنور الهداية وتجردت عن قشر الهوى والعادة رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بالنظر إلى الأكوان والاحتجاب بها عن مكونها بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا بنورك إلى صراطك المستقيم ومشاهدتك في مراتب الوجود والمرايا المتعددة وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً خاصة تمحو صفاتنا بصفاتك وظلماتنا بأنوارك إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ المعطي للقوابل حسب القابليات رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ على اختلاف مراتبهم لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وهو يوم الجمع الذي هو الوصول إلى مقام الوحدة عند كشف الغطا وطلوع شمس العيان إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ لتظهر صفاته الجمالية والجلالية ولذلك خلق الخلق وتجلى للأعيان فأظهرها كيف شاء، هذا ثم لما بين سبحانه الدين الحق والتوحيد وذكر أحوال الكتب الناطقة به وشرح حال القرآن العظيم وكيفية إيمان الراسخين به أردف ذلك ببيان حال من كفر به بقوله جل شأنه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا الظاهر أن المراد بهم جنس الكفرة الشامل لجميع الأصناف، وقيل: وفد نجران، أو اليهود من قريظة والنضير، وحكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أو مشركو العرب لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أي لن تنفعهم، وقرئ بالتذكير وسكون الياء وهو من الجد في استثقال الحركة على حروف اللين أَمْوالُهُمْ التي أعدوها لدفع المضار وجلب المصالح وَلا أَوْلادُهُمْ الذين يتناصرون بهم في الأمور المهمة ويعولون عليهم في الملمات المدلهمة وتأخيرهم عن الأموال مع توسيط حرف النفي- كما قال الشيخ الإسلام إما لعراقتهم في كشف الكروب أو لأن الأموال أول عدة يفزع إليها عند نزول الخطوب مِنَ اللَّهِ أي من عذابه تعالى- فمن- لابتداء الغاية كما قال المبرد، وقوله تعالى: شَيْئاً نصب على المصدرية أي شيئا من الإغناء، وجوز أن يكون مفعولا به لما في «أغنى» من معنى الدفع ومِنَ للتبعيض وهي متعلقة بمحذوف وقع صفة له إلا أنها قدمت عليه فصارت حالا، وأن يكون مفعولا ثانيا بناء على أن معنى أغنى عنه كفاه ولا يخفى ما فيه، وقال أبو عبيدة: مِنَ هنا بمعنى عند وهو ضعيف، وقال غير واحد: هي بدلية مثلها في قوله: فليت لنا «من» ماء زمزم شربة ... مبردة باتت على طهيان ومن ذلك قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «ولا ينفع ذا الجد منك الجد» وقوله تعالى: وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ [الزخرف: 60] والمعنى لن تغني عنهم بدل رحمة الله تعالى، أو بدل طاعته سبحانه أموالهم ولا أولادهم ونفى ذلك سبحانه مع أن احتمال سد أموالهم وأولادهم مسد رحمة الله تعالى وطاعته عز شأنه مما يبعد بل لا يكاد يخطر ببال حتى يتصدى لنفيه إشارة إلى أن هؤلاء الكفار قد ألهتهم أموالهم وأولادهم عن الله تعالى والنظر فيما ينبغي له إلى حيث يخيل للرائي أنهم ممن يعتقد أنها تسد مسد رحمة الله تعالى وطاعته. وقريب من ذلك قوله تعالى: وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى [سبأ: 37] واعترض بأن أكثر النحاة- كما في البحر- ينكرون إثبات البدلية- لمن- مع أن الأول هو الأليق في الظاهر بتهويل أمر الكفرة والأنسب بقوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ وكذا بما بعد، والوقود- بفتح الواو- وهي قراءة الجمهور- الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 الحطب- أي أولئك المتصفون بالكفر المبعدون عن عز الحضور- حطب النار التي تسعر به لكفرهم، وقيل: الوقود بالفتح لغة في الوقود بالضم- وبه قرأ الحسن- مصدر بمعنى الإيقاد فيقدر حينئذ مضاف أي أهل وقودها- والأول هو الصحيح- وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على تحقق الأمر وتقرره، أو للإيذان بأن حقيقة حالهم ذلك وأنهم في حال كونهم في الدنيا وقود النار بأعيانهم، وهي إما مستأنفة مقررة لعدم الإغناء أو معطوفة على الجملة الأولى الواقعة خبرا لأن، وهُمْ يحتمل أن يكون مبتدأ ويحتمل أن يكون فصلا. كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ الدأب العادة والشأن، وأصله من دأب في الشيء دأبا ودؤوبا إذا اجتهد فيه وبالغ- أي حال هؤلاء في الكفر واستحقاق العذاب كحال آل فرعون فالجار والمجرور خبر لمبتدأ محذوف والجملة منفصلة عما قبلها مستأنفة استئنافا بيانيا بتقدير- ما سبب هذا- على ما قاله بعض المحققين. ومن الناس من جوز أن يكون الجار متعلقا بمحذوف وقع صفة لمصدر- تغنى- أي إغناء كائنا كعدم إغناء أو بوقود أي توقد بهم كما توقد بأولئك- ولا يخفى ما في الوجهين- أما الأول فقد قال فيه أبو حيان: إنه ضعيف للفصل بين العامل والمعمول بالجملة التي هي، وأُولئِكَ إلخ إذا قدرت معطوفة فإن قدرت استئنافية وهو بعيد جاز. وأما الثاني فقد اعترضه الحلبي بأن الوقود على المشهور الأظهر فيه اسم لما يوقد به وإذا كان اسما فلا عمل له «فإن قيل» إنه مصدر كما في قراءة الحسن صح لكنه لم يصح وأورد عليهما معا أنهما خلاف الظاهر لأن المذكور في تفسير الدأب إنما هو التكذيب والأخذ من غير تعرض لعدم الإغناء لا سيما على تقدير كون مِنْ بدلية- ولا- لإيقاد النار (1) فليفهم وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وهم كفار الأمم الماضية فالضمير لآل فرعون، وقيل: للذين كفروا، والمراد بالموصول معاصر ورسول الله صلّى الله عليه وسلم كَذَّبُوا بِآياتِنا تفسير لدأبهم الذي فعلوا على سبيل الاستئناف البياني، والمراد «بالآيات» إما المتلوة في كتب الله تعالى أو العلامات الدالة على توحيد الله تعالى وصدق أنبيائه عليهم الصلاة والسلام فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ تفسير- لدأبهم- الذي فعل بهم أي فعاقبهم الله تعالى ولم يجدوا من بأس الله تعالى محيصا، وقيل: إن جملة كَذَّبُوا إلخ في حيز النصب على الحال من آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بإضمار قد، ويجوز على بعد أن تكون في حيز الرفع على أنها خبر عن الذين والالتفات للتكلم أولا في آياتنا للجري على سنن الكبرياء، وإلى الغيبة ثانيا بإظهار الجلالة لتربية المهابة وإدخال الروعة. بِذُنُوبِهِمْ أي بسببها أو متلبسين بها غير تائبين، والمراد من الذنوب- على الأول- التكذيب بالآيات المتعددة، وجيء بالسببية تأكيدا لما تفيده الفاء، وعلى الثاني سائر الذنوب، وفي ذلك إشارة إلى أن لهم ذنوبا أخر، وأصل الذنب التلو والتابع، ثم أطلق على الجريمة لأنها يتلو- أي يتبع- عقابها فاعلها وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن كفر بآياته، والجملة تذييل مقررة لمضمون ما قبلها من الأخذ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ روى أبو صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن يهود أهل المدينة قالوا لما هزم الله تعالى المشركين يوم بدر: هذا والله النبي الأمي الذي بشرنا به موسى عليه الصلاة والسلام ونجده في كتابنا بنعته وصفته وأنه لا يرد له راية وأرادوا تصديقه واتباعه ثم قال بعضهم لبعض: لا تعجلوا حتى تنظروا إلى وقعة له أخرى فلما كان يوم أحد ونكب أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم شكوا وقالوا: لا والله ما هو به وغلب عليهم الشقاء فلم يسلموا وكان بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم عهد إلى مدة فنقضوا ذلك العهد وانطلق كعب بن الأشرف إلى ستين راكبا إلى أهل مكة أبي سفيان وأصحابه فوافقوهم وأجمعوا أمرهم وقالوا:   (1) هكذا الأصل تدبر اهـ ادارة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 لتكونن كلمتنا واحدة ثم رجعوا إلى المدينة فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية. وأخرج ابن جرير، وابن إسحاق، والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما أصاب ما أصاب من بدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال: يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله تعالى بما أصاب قريشا فقالوا: يا محمد لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس وأنك لم تكن مثلنا» فأنزل الله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إلى قوله سبحانه: لِأُولِي الْأَبْصارِ [آل عمران: 13] فالمراد من الموصول اليهود، والسين لقرب الوقوع أي تغلبون عن قريب وأريد منه في الدنيا، وقد صدق الله تعالى وعده رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فقتل- كما قيل- من بني قريظة في يوم واحد ستمائة جمعهم في سوق بني قينقاع وأمر السياف بضرب أعناقهم وأمر بحفر حفيرة ورميهم فيها وأجلى بني النضير وفتح خيبر وضرب الجزية عليهم- وهذا من أوضح شواهد النبوة- وَتُحْشَرُونَ عطف على سَتُغْلَبُونَ والمراد في الآخرة إِلى جَهَنَّمَ وهي غاية حشرهم ومنتهاه- فإلى- على معناها المتبادر، وقيل: بمعنى- في- والمعنى أنهم يجمعون فيها، والآية كالتوكيد لما قبلها فإن الغلبة تحصل بعدم الانتفاع بالأموال والأولاد، والحشر إلى جهنم مبدأ كونهم وقودا لها، وقرأ أهل الكوفة غير عاصم- سيغلبون ويحشرون- بالياء، والباقون بالتاء، وفرق بين القراءتين بأن المعنى على تقدير تاء الخطاب أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يخبرهم من عند نفسه بمضمون الكلام حتى لو كذبوا كان التكذيب راجعا إليه، وعلى تقدير ياء الغيبة أمره بأن يؤدي ما أخبر الله تعالى به من الحكم بأنهم- سيغلبون- بحيث لو كذبوا كان التكذيب راجعا إلى الله تعالى، وقوله سبحانه: وَبِئْسَ الْمِهادُ إما من تمام ما يقال لهم أو استئناف لتهويل جهنم وتفظيع حال أهلها، ومهاد- كفراش لفظا ومعنى، والمخصوص بالذام مقدر وهو جهنم، أو ما مهدوه لأنفسهم. قَدْ كانَ لَكُمْ من تتمة القول المأمور به جيء به لتقرير مضمون ما قبله وتحقيقه والخطاب لليهود أيضا- واختاره شيخ الإسلام- وذهب إليه البلخي أي قد كان لكم أيها اليهود المغترون بعددهم وعددهم آيَةٌ أي علامة عظيمة دالة على صدق ما أقول لكم إنكم- ستغلبون- فِي فِئَتَيْنِ أي فرقتين أو جماعتين من الناس كانت المغلوبة منهما مدلة بكثرتها معجبة بعزتها فأصابها ما أصابها الْتَقَتا يوم بدر فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فهي في أعلى درجات الإيمان ولم يقل مؤمنة مدحا لهم بما يليق بالمقام ورمزا إلى الاعتداد بقتالهم، وقرئ- يقاتل- على تأويل الفئة بالقوم أو الفريق وَأُخْرى كافِرَةٌ بالله تعالى فهي أبعد من أن تقاتل في سبيله وإنما لم توصف بما يقابل صفة الفئة الأولى إسقاطا لقتالهم عن درجة الاعتبار وإيذانا بأنه لم يتصدوا له لما عراهم من الهيبة والوجل، وكانَ ناقصة- وعليه جمهور المعربين وآيَةٌ اسمها وترك التأنيث في الفعل لأن المرفوع غير حقيقي التأنيث ولأنه مفصول ولأن الآية والدليل بمعنى، وفي الخبر وجهان: أحدهما لَكُمْ وفِي فِئَتَيْنِ نعت- لآية- والثاني أن الخبر هو هذا النعت ولَكُمْ متعلق ب كانَ على رأي من يرى ذلك، وجوز أن يكون لَكُمْ في موضع نصب على الحال- وقد تقدم مرارا أن وصف النكرة إذا قدم عليها كان حالا والْتَقَتا في حيز الجر نعت- لفئتين- وفئة خبر لمحذوف أي إحداهما فئة وأخرى نعت لمقدر أي- وفئة أخرى- والجملة مستأنفة لتقرير ما في الفئتين من الآية، وقيل: فئة وما عطف عليها بدل من الضمير في الْتَقَتا وما بعدهما صفة فلا بد من ضمير محذوف عائد إلى المبدل منه مسوغ لوصف البدل بالجملة العارية عن ضمير أي فئة منهما تقاتل إلخ، وجوز أن يكون كل من المتعاطفين مبتدأ وما بعدهما خبر أي فئة منهما تقاتل إلخ، وفئة أخرى كافرة، وقيل: كل منهما مبتدأ محذوف الخبر أي منهما فئة إلخ، وقرئ- فئة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 وأخرى كافرة- بالنصب فيهما وهو على المدح في الأولى والذم في الثانية، وقيل: على الاختصاص، واعترضه أبو حيان بأن المنصوب عليه لا يكون نكرة، وأجيب بأن القائل لم يعن الاختصاص المبوب له في النحو كما في «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» وإنما عنى النصب بإضمار فعل لائق وأهل البيان يسمون هذا النحو اختصاصا- كما قاله الحلبي- وجوز أن يكونا حالين كأنه قيل: الْتَقَتا مؤمنة وكافرة، وفئة وأخرى على هذا توطئة للحال، وقرئ بالجر فيهما على البدلية من فِئَتَيْنِ بدل بعض من كل والضمير العائد إلى المبدل منه مقدر على نحو ما مر ويسمى بدلا تفصيليا كما في قوله: وكنت كذي رجلين- رجل صحيحة ... ورجل رماها صائب الحدثان وقوله سبحانه: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ في حيز الرفع صفة للفئة الأخيرة أو مستأنفة مبينة لكيفية الآية. والمراد كما قال السدي: ترى الفئة الأخيرة الكافرة الفئة الأولى المؤمنة مثلي عدد الرائين وقد كانوا تسعمائة وخمسين مقاتلا كلهم شاكو السلاح، وعن علي كرم الله تعالى وجهه، وابن مسعود كانوا ألفا وسقف بيت حلهم وربطهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وفيهم من صناديد قريش ورؤساء الضلال أبو جهل، وأبو سفيان، وغيرهما، ومن الإبل والخيل سبعمائة بعير ومائة فرس، روى محمد بن الفرات عن سعيد بن أوس أنه قال: أسر المشركون رجلا من المسلمين فسألوه كم كنتم؟ قال: ثلاثمائة وبضعة عشر قالوا: ما كنا نراكم إلا تضعفون علينا وأرادوا ألفا وتسعمائة- وهو المراد من يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ وزعم الفراء أنه يحتمل إرادة ثلاثة أمثالهم لأنك إذا قلت: عندي ألف وأحتاج إلى مثليها فإنما تريد إلى ألفين مضافين إليها لا بدلا منها فهم كانوا يرونهم ثلاثة أمثالهم، وأنكر هذا الوجه الزجاج لمخالفته لظاهر الكلام، أو مثلي عدد المرئيين أي ستمائة ونيفا وعشرين حيث كانوا عدة المرسلين سبعة وسبعون رجلا من المهاجرين ومائتان وستة وثلاثون من الأنصار وكان صاحب لواء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والمهاجرين علي الكرار كرم الله تعالى وجهه، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة وكان معهم من الإبل سبعون بعيرا، ومن الخيل فرسان فرس للمقداد بن عمرو، وفرس لمرثد بن أبي مرثد، ومن السلاح ست أدرع وثمانية سيوف وكان أكثرهم رجالة، واستشهد منهم يومئذ أربعة عشر رجلا ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار- وقد مرت إليه الإشارة- وإنما أراهم الله تعالى كذلك مع أنهم ليسوا كذلك ليهابوهم ويجبنوا عن قتالهم وهو نوع من التأييد والمدد المعنوي وكان ذلك عند تداني الفئتين بعد أن قللهم الله تعالى في أعينهم عند الترائي ليجترئوا عليهم ولا يرهبوا فيهربوا حيث ينفع الهرب، وذهب جماعة من العلماء إلى أن المراد ترى الفئة المؤمنة الفئة الكافرة مثلي أنفسهم مع كونهم ثلاثة أمثالهم ليثبتوا ويطمئنوا بالنصر الموعود في قوله تعالى: فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال: 66] قال شيخ الإسلام مولانا مفتي الديار الرومية: والأول هو أولى لأن رؤية المثلين غير معينة من جانب المؤمنين بل وقد وقعت رؤية المثل بل أقل منه أيضا فإنه روي أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدا ثم قللهم الله تعالى أيضا في أعينهم حتى رأوهم عددا يسيرا أقل من أنفسهم قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي تراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة فأسرنا منهم رجلا فقلنا كم كنتم؟ قال: ألفا فلو أريد رؤية المؤمنين المشركين أقل من عددهم في نفس الأمر- كما في الأنفال- لكانت رؤيتهم إياهم أقل من أنفسهم أحق بالذكر في كونها آية من رؤيتهم مثليهم على أن إبانة آثار قدرة الله تعالى وحكمته للكفرة بإراءتهم القليل كثيرا والضعيف قويا وإلقاء الرعب في قلوبهم بسبب ذلك أدخل في كونها آية لهم وحجة عليهم وأقرب إلى اعتراف المخاطبين بذلك لكثرة مخالطتهم للكفرة المشاهدين للحال وكذا تعلق الفعل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 بالفاعل أشد من تعلقه بالمفعول فجعل أقرب المذكورين السابقين فاعلا وأبعدهما مفعولا سواء جعل الجملة صفة أو مستأنفة أولى من العكس انتهى. ويمكن أن يقال من طرف الجمهور الذاهبين إلى أن المراد رؤية المؤمنين المشركين مثلي أنفسهم بأنه التفسير المأثور عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، ولا نسلم أن رؤيتهم إياهم أقل من أنفسهم أحق بالذكر في كونها آية من رؤيتهم مثليهم لجواز أن تكون الآية والعلامة لليهود على أنهم سيغلبون قتال المؤمنين لهؤلاء المشركين وغلبتهم عليهم مع وجود السبب العادي للجبن وهو رؤية المؤمنين إياهم أكثر من أنفسهم وأوفر من عددهم فكأنه قيل: يا معشر اليهود تحققوا قتال المسلمين لكم وغلبتهم عليكم ولا تغتروا بعلمهم بقلتهم وكثرتكم فإنهم يقدمون على قتال من يرونه أكثر منهم عددا ولا يجبنون ولا يهابون وينتصرون فما ذاك إلا لأن الله تعالى قد ملأ قلوبهم إيمانا وشدة على من خالفهم وأحاطهم بتأييده ونصره ووعدهم الوعد الجميل. «لا يقال» : إن الأوفق لهذا الغرض أن يرى المؤمنون المشركين على ما هم عليه من كون المشركين ثلاثة أمثالهم أو يرونهم أكثر من ذلك لأن إقدامهم حينئذ على قتالهم أدل على سبب الغلبة على اليهود لأنا نقول: نعم الأمر كما ذكر إلا أن هذه الرؤية لوفائها بالمقصود مع تضمنها مدح المؤمنين بالثبات الناشئ من قوة الإيمان بالنصر الموعود آخرا بقوله تعالى: فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [الأنفال: 66] اختيرت على ما ليس فيها إلا أمر واحد غير متضمن لذلك المدح المخصوص وعلى هذا لا يحتاج إلى التزام كون التثنية مجازا عن التكثير كما في قوله تعالى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الملك: 4] ولا إلى القول بأن ضمير مِثْلَيْهِمْ راجع إلى- الفئة- الأخيرة أي ترى الفئة المؤمنة الفئة الكافرة مثلي عدد الفئة الكافرة أعني قريبا من ألفين- وإن ذهب إلى ذلك البعض- ويرد أيضا على قوله: على أن إبانة إلخ بعد تسليم أن الإراءة نفسها كانت هي الآية أن إراءة القليل كثيرا لم تقع لليهود المخاطبين بصدر الآية لتكون إبانة آثار قدرته تعالى بذلك أدخل في كونها آية لهم وحجة عليهم وكون ذلك أقرب لاعترافهم لكثرة مخالطتهم الكفرة الرائين يتوقف على أن الرائين قد أخبروهم بذلك وأنهم صدقوا به ولم يحملوه على أنه خيل لهم لخوفهم بسبب عدم علمهم بالحرب والخائف- يخيل إليه أن أشجار البيداء شجعان شاكية، وأسد ضارية- وإثبات كل من هذه الأمور صعب على أن فيما روى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- من أن اليهود قالوا له صلى الله تعالى عليه وسلم بعد تلك الواقعة: لا يغرنك أنك لقيت قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة ولئن قاتلتنا لعلمت أنا نحن الناس- ما يشعر في الجملة بأنهم لو أخبروهم بذلك وصدّقوا لحملوه على نحو ما ذكرنا، وما ذكر من أن تعلق الفعل بالفاعل أشد إلخ، فمسلم إلا أنا لا نسلم أنه يستدعي أولوية جعل أول المذكورين السابقين فعلا وأبعدهما مفعولا من العكس مطلقا بل ذلك إذا لم يكن في العكس معنى لطيف تحسن مراعاته نظرا للمقام- وهنا قد كان ذلك- لا سيما وقد سبق مدح الفئة الأولى بالمقاتلة في سبيل الله تعالى وعدل عن مدحهم بالإيمان الذي هو الأساس إليه ولا شك أن مقاتلتهم للمشركين مع رؤيتهم إياهم أكثر من أنفسهم ومثليهم أمدح وأمدح كما لا يخفى، وقرأ نافع، ويعقوب ترونهم بالتاء- واستشكلت- على تقدير كون الخطاب لليهود بأنهم لم يروا المؤمنين مثلي أنفسهم ولا مثلي الكافرين ولم يروا الكافرين أيضا مثلي أنفسهم ولا مثلي المؤمنين، وأجيب بأنه يصح أن يقال: إنهم رأوا المؤمنين مثلي أنفسهم أو مثلي الكافرين على سبيل المجاز حيث نزلت رؤية المشركين منزلة رؤيتهم لما بينهم من الاتحاد في الكفر والاتفاق في الكلمة لا سيما بعد ما وقع بينهم بواسطة كعب بن الأشرف من العهد والميثاق فأسندت الرؤية إليهم مبالغة في البيان وتحقيقا لعروض مثل تلك الحالة لهم، وكذا يصح أن يقال: إنهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 رأوا حقيقة الكافرين مثلي المؤمنين، وتحمل الرؤية على العلم والاعتقاد الناشئ عن الشهرة والتواتر ويلتزم كون الآية لهم قتال المؤمنين الكافرين وغلبة الأولين الآخرين مع كونهم أكثر منهم إلا أنه اقتصر على أقل اللازم ويعلم منه كون قتال المؤمنين وغلبتهم على الفئة الكافرة مع كونها ثلاثة أمثالهم في نفس الأمر المعلوم لهم أيضا آية من باب أولى. ولما في هذين الجوابين- كيفما كان- التزم بعضهم كون الخطاب من أول الأمر للمشركين ليتضح أمر هذه القراءة وأوجب عليه أن يكون قوله سبحانه: قَدْ كانَ لَكُمْ خطابا لهم بعد ذلك ولا يكون داخلا تحت الأمر بناء على أن الوعيد كان بوقعة بدر ولا معنى للاستدلال بها قبل وقوعها، وجعل ذلك داخلا في مفعول الأمر إلا أنه عبر عن المستقبل بلفظ الماضي لتحقق وقوعه لا يخلو عن شيء، وجعل بعضهم الخطاب في قراءة نافع للمؤمنين والتزم كون الخطاب السابق لهم أيضا على أنه ابتداء خطاب في معرض الامتنان عليهم بما سبق الوعد به، وقيل: إنه لجميع الكفرة، وقال بعض أئمة التحقيق: القول بأن الخطاب عام للمؤمنين واليهود ومشركي مكة هو الذي يقتضيه المقام لئلا يقتطع الكلام ويقع التذييل بقوله سبحانه: وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ إلخ موقع المسك في الختام، ثم إن من عد التعبير عن جماعة بطريق من الطرق الثلاثة مع التعبير بعد عن البعض بطريق آخر يخالفه منها من الالتفات قال بوجوده في الآية على بعض احتمالاتها، ومن لم يعد ذلك منه كما هو الظاهر أنكر الالتفات فيها وبهذا يجمع بين أقوال الناظرين في الآية من هذه الحيثية واختلافهم في وجود الالتفات وعدمه فيها فأمعن النظر فإنه لمثل هذا المبحث كله يدخر. وقرأ ابن مصرف- يرونهم- على البناء للمفعول بالياء والتاء أي يريهم الله تعالى ذلك بقدرته رَأْيَ الْعَيْنِ مصدر مؤكد- ليرونهم- على تقدير جعلها بصرية- فمثليهم- حينئذ حال، ويجوز أن يكون مصدرا تشبيهيا على تقدير جعلها علمية اعتقادية- أي رأيا مثل رأي العين- فمثليهم حينئذ مفعول ثان، وقيل: إن- رأى- منصوب على الظرفية أي في رأي العين وَاللَّهُ المتصف بصفات الجمال والجلال يُؤَيِّدُ أي يقوي بِنَصْرِهِ أي بعونه، وقيل: بحجته وليس بالقوى مَنْ يَشاءُ أن يؤيده من غير توسط الأسباب المعتادة كما أيد الفئة المقاتلة في سبيله وهو من تمام القول المأمور به إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من النصر، وقيل: من تلك الرؤية لَعِبْرَةً أي اتعاظا ودلالة، وهي فعلة من العبور كالركبة والجلسة وهو التجاوز، ومنه عبرت النهر وسمي الاتعاظ عبرة لأن المتعظ يعبر من الجهل إلى العلم ومن الهلاك إلى النجاة، والتنوين للتعظيم أي عبرة عظيمة كائنة لِأُولِي الْأَبْصارِ جمع بصر بمعنى بصيرة مجازا أو بمعناه المعروف أي لذوي العقول والبصائر أو لمن أبصرهم ورآهم بعيني رأسه، وهذه الجملة إما من تمام الكلام الداخل تحت القول مقررة لما قبلها بطريق التذييل وإما واردة من جهته تعالى تصديقا لمقالة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 زُيِّنَ لِلنَّاسِ كلام مستأنف سيق للتنفير عن الحظوظ النفسانية التي كثيرا ما يقع القتال بسببها إثر بيان حال الكفرة والتنصيص على عدم نفع أموالهم وأولادهم لهم وقد كانوا يتعززون بذلك، والمراد من الناس الجنس حُبُّ الشَّهَواتِ أي المشهيات وجعلها نفس الشهوات إشارة إلى ما ركز في الطباع من محبتها والحرص عليها حتى كأنهم يشتهون اشتهاءها كما قيل لمريض: ما تشتهي؟ فقال: أشتهي أن أشتهي، أو تنبيها على خستها لأن الشهوات خسيسة عند الحكماء والعقلاء ففي ذلك تنفير عنها وترغيب فيما عند الله تعالى، والمزين هو الله تعالى كما أخرجه ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وروي عن الحسن- الشيطان- والله زينها لهم لأنا لا نعلم أحدا أذم لها من خالقها. وفي الانتصاف التزيين للشهوات يطلق ويراد به خلق حبها في القلوب وهو بهذا المعنى مضاف إليه تعالى حقيقة لأنه لا خالق إلا هو، ويطلق ويراد به الحض على تعاطي الشهوات المحظورة فتزيينها بالمعنى الثاني مضاف إلى الشيطان تنزيلا لوسوسته وتحسينه منزلة الأمر بها والحض على تعاطيها، وكلام الحسن رحمه الله تعالى محمول على التزين بالمعنى الثاني لا بالمعنى الأول فإنه يتحاشى أن ينسب خلق الله تعالى إلى غيره والاسناد في كل حقيقة كما أشرنا إليه فيما تقدم، ومن قال: الظاهر أنه من قبيل- أقدمني بلدك حق لي عليك- إذ لا إقدام هنا بل قدوم محض أثبت له مقدم للمبالغة، والمراد أن الشهوات زينت في أعينهم لنقصانهم ولا زينة لها في الحقيقة من غير أن يكون هناك مزين إلا أنه أثبت مزين مبالغة في الزينة وتنزيلا لسبب الزينة منزلة الفاعل فقد تعسف وتصلف، ومن قال: المزين في الحقيقة هو الشيطان لأن التزيين صفة تقوم به. والقائل: بأنه هو الله تعالى لأنه الخالق للأفعال والدواعي مخطئ في الدعوى وغير مصيب في الدليل فالمخطئ ابن أخت خالته، وقرأ مجاهد- زين- بالبناء للفاعل ونصب حُبُّ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ في محل النصب على الحال من الشهوات وهي مفسرة لها في المعنى، وقيل: مِنَ لبيان الجنس وقدم النساء لعراقتهن في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 معنى الشهوة وهن حبائل الشيطان، وقد روي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء» ويقال: فيهن، فتنتان قطع الرحم وجمع المال من الحلال والحرام، وثنى بالبنين لأنهم من ثمرات النساء في الفتن، وقد روي عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «الولد مبخلة مجبنة» ويقال فيهم فتنة واحدة وهي جمع المال، ولم يتعرض لذكر البنات لعدم الاطراد في حبهن، وقيل: إن البنين تشملهن على سبيل التغليب وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ جمع قنطار وهو المال الكثير كما أخرجه ابن جرير عن الضحاك. وأخرج أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «القنطار إثنا عشر ألف أوقية» وأخرج الحاكم عن أنس قال: سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك فقال: «القنطار ألف أوقية» . وفي رواية ابن أبي حاتم عنه القنطار ألف دينار، وأخرج ابن جرير عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «القنطار ألف أوقية ومائتا دينار» وعن معاذ ألف ومائتا أوقية، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما اثنا عشر ألف درهم وألف دينار، وفي رواية أخرى عنه ألف ومائتا دينار، ومن الفضة ألف ومائتا مثقال. وعن أبي سعيد الخدري ملء جلد الثور ذهبا، وعن مجاهد سبعون ألف دينار، وعن ابن المسيب ثمانون ألفا، وعن أبي صالح مائة رطل، وعن قتادة قال: كنا نحدث أن القنطار مائة رطل من الذهب أو ثمانون ألفا من الورق، وعن أبي جعفر خمسة عشر ألف مثقال والمثقال أربعة وعشرون قيراطا، وقيل: القنطار عند العرب وزن لا يحد، وقيل: ما بين السماء والأرض من مال وغير ذلك، ولعل الأولى كما قيل: ما روي عن الضحاك ويحمل التنصيص على المقدار المعين في هذه الأقوال على التمثيل لا التخصيص، والكثرة تختلف بحسب الاعتبارات والإضافات، واختلف في وزنه فقيل: فعلال، وقيل: فعنلان فالنون على الأول أصلية وعلى الثاني زائدة، ولفظ الْمُقَنْطَرَةِ مأخوذ منه، ومن عادة العرب أن يصفوا الشيء بما يشتق منه للمبالغة- كظل ظليل- وهو كثير في وزن فاعل ويرد في المفعول ك حِجْراً مَحْجُوراً [الفرقان: 22 و 53] ونَسْياً مَنْسِيًّا [مريم: 23] وقيل: المقنطرة المضعفة، وخصها بعضهم بتسعة قناطير، وقيل: المقنطرة المحكمة المحصنة من قنطرت الشيء إذا عقدته وأحكمته، وقيل: المضروبة دنانير أو دراهم، وقيل: المنضدة التي بعضها فوق بعض، وقيل: المدفونة المكنوزة مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بيان للقناطير وهو في موضع الحال منها، والذهب مؤنث يقال: هي الذهب الحمراء ولذلك يصغر على ذهيبة، وقال الفراء: وربما ذكر، ويقال في جمعه: أذهاب وذهوب وذهبان، وقيل: إنه جمع في المعنى لذهبة واشتقاقه من الذهاب، والفضة تجمع على فضض واشتقاقه من انفض الشيء إذا تفرق وَالْخَيْلِ عطف على النِّساءِ أو الْقَناطِيرِ لا على الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لأنها لا تسمى قنطارا وواحدة خائل وهو مشتق من الخيلاء مثل طائر وطير، وقال قوم: لا واحد له من لفظه بل هو اسم جمع واحده فرس ولفظه لفظ المصدر وجوز أن يكون مخففا من خيل الْمُسَوَّمَةِ أي الراعية قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في إحدى الروايات عنه فهي من سوم ماشيته إذا أرسلها في المرعى، أو المطهمة الحسان- قاله مجاهد- فهي من السما بمعنى الحسن أو المعلمة ذات الغرة والتحجيل- قاله عكرمة- فهي من السمة أو السومة بمعنى العلامة وَالْأَنْعامِ أي الإبل والبقر والغنم وسميت بذلك لنعومة مشيها ولينه، والنعم مختصة بالإبل وَالْحَرْثِ مصدر بمعنى المفعول أي المزروع سواء كان حبوبا أم بقلا أم ثمرا ذلِكَ أي ما زين لهم من المذكور- ولهذا ذكر- وأفرد اسم الاشارة ويصح أن يكون ذلك لتذكير الخبر وإفراده وهو مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي ما يتمتع به أياما قلائل ثم يزول عن صاحبه وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ أي المرجع الحسن فالمآب مفعل من آب يؤوب أي رجع وأصله مأوب فنقلت حركة الواو إلى الهمزة الساكنة قبلها ثم قلبت ألفا وهو اسم مصدر ويقع اسم مكان وزمان والمصدر أوب وإياب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 أخرج ابن جرير عن السدي أنه قال: حُسْنُ الْمَآبِ حسن المنقلب وهي الجنة، وفي تكرير الإسناد إلى الاسم الجليل زيادة تأكيد وتفخيم ومزيد اعتناء بالترغيب فيما عند الله تعالى من النعيم المقيم والتزهيد في ملاذّ الدنيا السريعة الزوال، ومن غريب ما استنبط من الآية- كما قال أبو حيان- وجوب الزكاة في الخيل السائمة لذكرها مع ما تجب فيه الصدقة أو النفقة، والثاني النساء والبنون ولا يخفى ما فيه. قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ تقرير وتثبيت لما فهم مما قبل من أن ثواب الله تعالى خير من مستلذات الدنيا، والمراد من الإنباء الإخبار ذلِكُمْ إشارة إلى المذكور من النساء وما معه، والقراء فيما إذا اجتمع همزتان أولاهما مفتوحة والثاني مضمومة كما هنا وكما في سورة ص أَأُنْزِلَ [ص: 8] وسورة القمر أَأُلْقِيَ [القمر: 25] على خمس مراتب: إحداها مرتبة قالون وهي تسهيل الثانية بين بين وإدخال ألف بين الهمزتين. الثانية مرتبة ورش، وابن كثير وهي تسهيل الثانية أيضا بين بين من غير إدخال ألف بينهما. الثالثة مرتبة الكوفيين. وابن ذكوان عن ابن عامر وهي تحقيق الثانية من غير إدخال ألف. الرابعة مرتبة هشام وهي أنه روي عنه ثلاثة أوجه: الأول التحقيق وعدم إدخال ألف بين الهمزتين. الوجه الثاني التحقيق وإدخال ألف بينهما في السور الثلاث. الوجه الثالث التفرقة بين السور فيحقق ويقصر هنا ويمد في الأخيرتين. الخامسة مرتبة أبي عمرو وهي تسهيل الثانية مع إدخال الألف وعدمه والظرف الأول متعلق بالفعل قبله. والثاني متعلق بأفعل التفضيل ولا يجوز أن يكون صفة- كما قال أبو البقاء- لأنه يوجب أن تكون الجنة وما فيها مما رغبوا فيه بعضا لما زهدوا عنه من الأموال ونحوها، وقوله تعالى: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ استئناف مبين لذلك الخير المبهم على أن الذين خبر مقدم، وجَنَّاتٌ مبتدأ مؤخر، وعِنْدَ رَبِّهِمْ يحتمل وجهين كونه ظرفا للاستقرار وكونه صفة للجنات في الأصل قدم فانتصب حالا منها، وفي ذكر ذلك إشارة إلى علو رتبة الجنات ورفعة شأنها، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المتقين إيذان بمزيد اللطف بهم، والمراد منهم المتبتلون إليه تعالى المعرضون عمن سواه- كما ينبئ عن ذلك الأوصاف الآتية- وتعليق حصول الجنات وما يأتي بعد بهذا العنوان للترغيب في تحصيله والثبات عليه. وجوز أن تكون اللام متعلقة- بخبر- أيضا أو بمحذوف صفة له، وجنات- حينئذ خبر لمحذوف- أي- هي جنات- والجملة مبينة- لخير- وعند ربهم- حينئذ إما أن يتعلق بالفعل على معنى ثبت تقواهم عنده شهادة لهم بالإخلاص، وجاز أن يجعل خبرا مقدما فلا يحتاج إلى حذف المبتدأ، واعترض بأنه يقال: عند الله تعالى الثواب ولا يقال عند الله تعالى الجنة، وبذلك يصرح كلام السعد وغيره- وفي النفس منه شيء- وقرئ- جنات- بكسر التاء وفيه وجهان: أحدهما أنه مجرور على البدلية من لفظ- خير- وثانيهما أنه منصوب على إضمار أعني مثلا أو البدلية من محل- بخير- تَجْرِي في محل الرفع أو النصب أو الجر صفة- لجنات- على القراءتين مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ تقدم ما فيه خالِدِينَ فِيها حال مقدرة من المستكن في- للذين- والعامل ما فيه من معنى الاستقرار، وجوز أبو البقاء كونه حالا من الهاء في- تحتها- أو من الضمير في- اتقوا- ولا يخفى ما فيه وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ أي منزهة مما يستقذر من النساء خلقا وخلقا، والعطف على- جنات- على قراءة الرفع وأما على قراءة النصب فلا بدّ من تقدير- لهم- في الكلام وَرِضْوانٌ أي رضا عظيم على ما يشعر به التنوين، وقرأه عاصم- بضم الراء- وهما لغتان وقراءتان سبعيتان في جميع القرآن إلا في قوله تعالى: مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ [المائدة: 16] فإنه بالكسر بالاتفاق، وقيل: المكسور اسم والمضموم مصدر وهو قول لا ثبت له مِنَ اللَّهِ صفة لرضوان مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ أي خبير بهم وبأحوالهم وأفعالهم فيثيب المحسن فضلا ويعاقب المسيء عدلا، أو خبير بأحوال الذين اتقوا فلذلك أعدّ لهم ما أعدّ، فالعباد على الأول عام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 وعلى الثاني خاص، وقد بدأ سبحانه في هذه الآية أولا بذكر- المقرّ- وهو الجنات، ثمّ ثنّى بذكر ما يحصل به الأنس التام وهو الأزواج المطهرة، ثم ثلث بذكر ما هو الإكسير الأعظم والروح لفؤاد الواله المغرم وهو رضا الله عز وجل. «و في الحديث» أنه سبحانه «يسأل أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون ما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول جل شأنه ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون يا رب وأي شيء أفضل من ذلك قال: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا» . الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا يجوز أن يكون في محل الرفع على أنه خبر لمحذوف كأنه قيل: من أولئك المتقون؟ فقيل: هم الذين إلخ، وأن يكون في موضع نصب على المدح، وأن يكون في حيز الجر على أنه تابع- للذين اتقوا- نعتا أو بدلا، أو العباد كذلك، واعترض كونه نعتا للعباد بأن فيه تخصيص الإبصار ببعض العباد، وفيه أن ذلك التخصيص لا يوهم الاختصاص لظهور الأمر بل يفيد الاهتمام بشأنهم ورفعة مكانهم، واعترض أيضا كونه تابعا للمتقين بأنه بعيد جدا لا سيما إذا جعل اللام متعلقا- بخير- لكثرة الفواصل بين التابع والمتبوع، وأجيب بأنه لا بأس بهذا الفصل كما لا بأس بالفصل بين الممدوح والمدح إذ الصفة المادحة المقطوعة تابعة في المعنى ولهذا يلزم حذف الناصب أو المبتدأ لئلا يخرج الكلام عن صورة التبعية فالفرق بين هذه وسائر التوابع في قبح الفصل وعدمه خفي لا بد له من دليل نبيل، وفيه أن قياس التبعية لفظا ومعنى على التبعية معنى فقط مما لا ينبغي من جاهل فضلا عن عالم فاضل، والتزام حذف الناصب أو المبتدأ في صورة القطع للمدح أو للذم قد يقال: إنه لدفع توهم الأخبار، والمقصود الإنشاء لا لئلا يخرج الكلام عن صورة التبعية، وتأكيد الجملة لإظهار أن إيمانهم ناشئ من وفور الرغبة وكمال النشاط، وفي ترتيب طلب المغفرة في قوله تعالى: فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ على مجرد الإيمان دليل على كفايته في استحقاق المغفرة والوقاية من النار من غير توقف على الطاعات، والمراد من الذنوب الكبائر والصغائر الصَّابِرِينَ يجوز أن يكون مجرورا وأن يكون منصوبا صفة- للذين- إن جعلته في موضع جر أو نصب وإذا جعلته في محل رفع كان هذا منصوبا على المدح. والمراد بالصبر- الصبر على طاعة الله تعالى، والصبر عن محارمه- قاله قتادة، وحذف المتعلق يشعر بالعموم فيشمل الصبر على البأساء والضراء وحين البأس وَالصَّادِقِينَ في نياتهم وأقوالهم سرا- وعلانية وهو المروي عن قتادة أيضا وَالْقانِتِينَ أي المطيعين- قاله ابن جبير- أو المداومين على الطاعة والعبادة- قاله الزجاج- أو القائمين بالواجبات- قاله القاضي- وَالْمُنْفِقِينَ من أموالهم في حق الله تعالى- قاله ابن جبير- أيضا وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ قال مجاهد والكلبي. وغيرهما: أي المصلين بالإسحار. وأخرج ابن أبي شيبة عن زيد بن أسلم قال: هم الذين يشهدون صلاة الصبح، وأخرج ابن جرير عن ابن عمر أنه كان يحيي الليل صلاة ثم يقول: يا نافع أسحرنا؟ فيقول: لا فيعاود الصلاة فإذا قال: نعم قد يستغفر الله تعالى ويدعو حتى يصبح، وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: «أمرنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن نستغفر بالأسحار سبعين استغفارة» وروى الرضا عن أبيه عن أبي عبد الله «أن من استغفر الله تعالى في وقت السحر سبعين مرة فهو من أهل هذه الآية» والباء في- بالأسحار- بمعنى في، وهي جمع- سحر- بفتح الحاء المهملة وسكونها سميت أواخر الليالي بذلك لما فيها من الخفاء- كالسحر- للشيء الخفي. وقال بعضهم: السحر من ثلث الليل الأخير إلى طلوع الفجر. وتخصيص الأسحار بالاستغفار لأن الدعاء فيها أقرب إلى الإجابة إذا العبادة حينئذ أشق والنفس أصفى والروع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 أجمع، وفي الصحيح «أنه تعالى وتنزه عن سمات الحدوث ينزل إلى سماء الدنيا في ثلث الليل الأخير فيقول: من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر» . وأخرج ابن جرير. وأحمد عن سعيد الجريري قال: «بلغنا أن داود عليه الصلاة والسلام سأل جبريل عليه السلام فقال: يا جبريل أيّ الليل أفضل قال: يا داود ما أدري سوى أن العرش يهتز في السحر» وتوسيط الواو بين هذه الصفات المذكورة إما لأن الموصوف بها متعدد وإما للدلالة على استقلال كل منها وكمالهم فيها، وقول أبي حيان: لا نعلم أن العطف في الصفة بالواو يدل على الكمال رده الحلبي بأن علماء البيان علموه وهم هم. هذا «ومن باب الاشارة في الآيات» قَدْ كانَ لَكُمْ يا معشر السالكين إلى مقصد الكل آيَةٌ دالة على كمالكم وبلوغكم إلى ذروة التوحيد فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا للحرب فِئَةٌ منهما وهي فئة القوى الروحانية التي هي جند الله تعالى تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وطريق الوصول إليه وَأُخْرى منهما وهي جنود النفس وأعوان الشيطان كافِرَةٌ ساترة للحق محجوبة عن حظائر الصدق ترى الفئة الأخيرة الفئة الأولى لحول عين بصيرتها مِثْلَيْهِمْ عند الالتقاء في معركة البدن رؤية مكشوفة ظاهرة لا خفاء فيها مثل رؤية العين، وذلك لتأييد الفئة المؤمنة بالأنوار الإلهية والإشراقات الجبروتية، وخذلان الفئة الكافرة بما استولى عليها من تراكم ظلمات الطبيعة وذل البعد عن الحضرة وَاللَّهُ تعالى يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ تأييده لقبول استعداده لذلك إِنَّ فِي ذلِكَ التأييد لعبرة أي اعتبارا أو أمرا يعتبر به في الوصول إلى حيث المأمول للمستبصرين الفاتحين أعين بصائرهم لمشاهدة الأنوار الأزلية في آفاق المظاهر الإلهية زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ بسبب ما فيهم من العالم السفلي والغشاوة الطبيعية والغواشي البدنية مِنَ النِّساءِ وهي النفوس وَالْبَنِينَ وهي الخيالات المتولدة منها الناشئة عنها وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وهي العلوم المتداولة وغير المتداولة، أو الأصول والفروع وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وهي مراكب الهوى وأفراس اللهو وَالْأَنْعامِ وهي رواحل جمع الحطام وأسباب جلب المنافع الدنيوية وَالْحَرْثِ وهو زرع الحرص وطول الأمل ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا الزائل عما قليل بالرجوع إلى المبدأ الأصلي والموطن القديم. ولك أن تبقي هذه المذكورات على ظواهرها فإن النفوس المنغمسة في أوحال الطبيعة لها ميل كلي إلى ذلك أيضا قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ المذكور للذين اتقوا النظر إلى الأغيار جَنَّاتٌ جنة يقين. وجنة مكاشفة. وجنة مشاهدة. وجنة رضا. وجنة لا أقولها- وهي التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر- وليس في تلك الجنة عند العارفين إلا الله عز وجل تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أنهار التجليات المترعة بماء الغيوب خالِدِينَ فِيها ببقائهم بعد فنائهم وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وهي الأرواح المقدسة عن أدناس الطبيعة المقصورة في خيام الصفات الإلهية وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ لا يقدر قدره وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ في تقلب أرواحهم في عالم الملكوت محترقات من سطوات أنوار الجبروت حبا لجواره وشوقا إلى لقائه يجازيها بقدر همومها في طلب وجهه الأزلي وجماله الأبدي الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا بأنوار أفعالك وصفاتك فَاغْفِرْ لَنا ذنوب وجوداتنا بذاتك وَقِنا عَذابَ نار الحرمان ووجود البقية الصَّابِرِينَ على مضض المجاهدة والرياضة وَالصَّادِقِينَ في المحبة والإرادة وَالْقانِتِينَ في السلوك إليه وَالْمُنْفِقِينَ ما عداه فيه وَالْمُسْتَغْفِرِينَ من ذنوب تلوناتهم وتعيناتهم في أسحار التجليات، ويقال: الصَّابِرِينَ الذين صبروا على الطلب ولم يحتشموا من التعب وهجروا كل راحة وطرب فصبروا على البلوى ورفضوا الشكوى حتى وصلوا إلى المولى ولم يقطعهم شيء من الدنيا والعقبى وَالصَّادِقِينَ الذين صدقوا في الطلب فوردوا، ثم صدقوا فشهدوا، ثم صدقوا فوجدوا، ثم صدقوا ففقدوا فحالهم قصد. ثم ورود. ثم شهود. ثم وجود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 ثم خمود وَالْقانِتِينَ الذين لازموا الباب وداوموا على تجرع الاكتئاب وترك المحاب إلى أن تحققوا بالاقتراب وَالْمُنْفِقِينَ الذين جادوا بنفوسهم من حيث الأعمال، ثم جادوا بميسورهم من الأموال، ثم جادوا بقلوبهم لصدق الأحوال، ثم جادوا بكل حظ لهم في العاجل والآجل استهلاكا في أنوار الوصال وَالْمُسْتَغْفِرِينَ هم الذين يستغفرون عن جميع ذلك إذا رجعوا إلى الصحو وقت نزول الرب إلى السماء الدنيا وإشراق أنوار جماله على آفاق النفس وندائه «هل من سائل. هل من مستغفر. هل من كذا. هل من كذا» ثم لما مدح سبحانه أحبابه أرباب الدين وذم أعداءه الكافرين عقب ذلك ببيان الدين الحق والعروة الوثقى على أتم وجه وآكده فقال سبحانه: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ قال الكلبي: لما «ظهر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالمدينة قدم عليه حبران من أحبار أهل الشام فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الذي يخرج في آخر الزمان فلما دخلا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عرفاه بالصفة والنعت فقالا له: أنت محمد؟ قال: نعم قالا: أنت أحمد؟ قال: نعم قالا: إنا نسألك عن شهادة فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك وصدقناك فقال لهما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: سلاني فقالا له: أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله تعالى؟ فأنزل الله تعالى الآية وأسلما. وقيل: نزلت في نصارى نجران لما حاجّوا في أمر عيسى عليه السلام وهو الذي يشعر به ما أشرنا إليه قبل من الآثار- ويميل إليه كلام محمد ابن جعفر بن الزبير- وقيل: نزلت في اليهود والنصارى لما تركوا اسم الإسلام وتسموا باليهودية والنصرانية، وقيل: إنهم قالوا ديننا أفضل من دينك فنزلت. والجمهور على قراءة شَهِدَ بلفظ الماضي وفتح همزة أَنَّهُ على معنى بأنه أو على أنه، وقرئ «إنه» بكسر الهمزة إما بإجزاء شَهِدَ مجرى قال، وإما يجعل الجملة اعتراضا وإيقاع الفعل على إِنَّ الدِّينَ إلخ على قراءة من يفتح الهمزة كما ستراه والضمير راجع اليه تعالى، ويحتمل أن يكون ضمير الشأن وقرئ- شهداء لله- بالنصب والرفع على أنه جمع شهيد- كظرفاء- في جمع ظريف، أو جمع شاهد- كشعراء- في جمع شاعر، والنصب إما على الحالية من المذكورين، وإما على المدح، والرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف ومآله المدح أي هم شهداء، والاسم الجليل في الوجهين مجرور باللام متعلق بما عنده، وقرئ- شهداء الله- بالرفع والإضافة. وفي شَهِدَ مسندا إلى الله تعالى استعارة تصريحية تبعية لأن المراد أنه سبحانه دل على وحدانيته بل وسائر كمالاته بأفعاله الخاصة التي لا يقدر عليها غيره وما نصبه من الدلائل التكوينية في الآفاق والأنفس وبما أوحى من آياته الناطقة بذلك- كسورة الإخلاص، وآية الكرسي- وغيرهما فشبه سبحانه تلك الدلالة الواضحة بشهادة الشاهد في البيان والكشف ثم استعير لفظ المشبه به للمشبه ثم سرت الاستعارة من المصدر إلى الفعل، وجوز أن يكون هناك مجاز مرسل تبعي لما أن البيان لازم للشهادة، وقد ذكر اللفظ الدال عن الملزوم وأريد به اللازم، وهذا الحمل ضروري على قراءة الجمهور دون القراءة الشاذة وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ عطف على الاسم الجليل ولا بد حينئذ من حمل الشهادة على معنى مجازي شامل لما يسند إلى هذين الجمعين بطريق عموم المجاز أي أقر الملائكة بذلك وآمن العلماء به واحتجوا عليه، وبعضهم قدر في كل من المعطوفين لفظ شَهِدَ مرادا منه ما يصح نسبته إلى ما أسند إليه، ولعل القول بعموم المجاز أولى منه، وقيل: والمراد- بأولو العلم- الأنبياء عليهم السلام، وقيل: المهاجرون والأنصار، وقيل: علماء مؤمني الكتاب، وقيل: جميع علماء المؤمنين الذين عرفوا وحدانيته تعالى بالدلائل القاطعة والحجج الباهرة، وقدم- الملائكة- لأن فيهم من هو واسطة لإفادة العلم لذويه، وقيل: لأن علمهم كله ضروري بخلاف البشر فإن علمهم ضروري واكتسابي، ثم إن ارتفاع هذين المرفوعين على ما شذ من القراءة على الابتدائية والخبر محذوف لدلالة الكلام عليه أي وَالْمَلائِكَةُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 وَأُولُوا الْعِلْمِ شهداء بذلك، وقيل: بالعطف على الضمير في شهداء وصح ذلك للفصل، واعترض بأن ذلك على قراءة النصب على الحالية يؤدي إلى تقييد حال المذكورين بشهادة الملائكة وأولو العلم- وليس فيه كثير فائدة كما لا يخفى. وقوله تعالى: قائِماً بِالْقِسْطِ بيان لكماله تعالى في أفعاله إثر بيان كماله في ذاته، والقسط- العدل، والباء للتعدية أي مقيما بالعدل، وفي انتصاب قائِماً وجوه: الأول أن يكون حالا لازمة من فاعل شَهِدَ ويجوز إفراد المعطوف عليه بالحال دون المعطوف إذ قامت قرينة تعينه معنوية أو لفظية، ومنه وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً [الأنبياء: 72] وأخرت الحال عن المعطوفين للدلالة على علو مرتبتهما وقرب منزلتهما، والمسارعة إلى إقامة شهود التوحيد اعتناء بشأنه ولعله السر في تقديمه على المعطوفين مع الإيذان بأصالته تعالى في الشهادة به، والثاني أن يكون منصوبا على المدح وهو وإن كان معروفا في المعرفة لكنه ثابت في غيرها أيضا، والثالث أن يكون وصفا لاسم- لا- المبني، واستبعد بأنهم إنما يتسعون بالفصل بين الموصوف والصفة بفاصل ليس أجنبيا من كل وجه، والمعطوف على فاعل شَهِدَ أجنبي مما هو في صلة- أن- لفظا ومعنى، وبأنه متلبس بالحال فينبغي على هذا أن يرفع حملا على محل اسم- لا- رفعا للالتباس. والرابع أن يكون مفعول العلم أي وَأُولُوا المعرفة قائِماً بِالْقِسْطِ ولا يخفى بعده، الخامس- ولعله الأوجه- أن يكون حالا من الضمير والعامل فيها معنى الجملة أي تفرد أو أحقه لأنها حال مؤكدة ولا يضر تخلل المعطوفين هنا بخلافه في الصفة لأن الحال المؤكدة في هذا القسم جارية مجرى جملة مفسرة نوع تفسير فناسب أن يقدم المعطوفان لأن المشهود به واحد فهو نوع من تأكيده تمم بالحال المفسرة وعلى تقدير الحالية من الفاعل والمفعولية للعلم لا يندرج في المشهود به وعلى تقدير النصب على المدح يحتمل الاندراج وعدمه، وعلى التقديرين الأخيرين يندرج لا محالة. وقرأ عبد الله- القائم بالقسط- على أنه خبر لمبتدأ محذوف وكونه بدلا من هُوَ لا يخلو عن شيء، وقرأ أبو حنيفة: «قيما بالقسط» لا إِلهَ إِلَّا هُوَ تكرير للمشهود به للتأكيد، وفيه إشارة إلى مزيد الاعتناء بمعرفة أدلته لأن تثبيت المدعى إنما يكون بالدليل، والاعتناء به يقتضي الاعتناء بأدلته ولينبني عليه قوله تعالى: الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فيعلم أنه المنعوت بهما، وقيل: لا تكرار لأن الأول شهادة الله تعالى وحده، والثاني شهادة الملائكة، وأولي العلم، وهو ظاهر عند من يرفع- الملائكة- بفعل مضمر، ووجه الترتيب تقدم العلم بقدرته التي يفهمها الْعَزِيزُ على العلم بحكمته تعالى التي يؤذن بها الْحَكِيمُ، وجعل بعضهم الْعَزِيزُ ناظرا إلى قوله سبحانه: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ والْحَكِيمُ ناظرا إلى قوله تعالى: قائِماً بِالْقِسْطِ ورفعهما على الخبرية لمبتدأ محذوف أو البدلية من هُوَ أو الوصفية له بناء على ما ذهب إليه السكاكي من جواز وصف ضمير الغائب، وجعلهما نعتا لفاعل شَهِدَ بعيد، وقد روى في فضل الآية أخبار. أخرج الديلمي عن أبي أيوب الأنصاري مرفوعا «لما نزلت الحمد لله رب العالمين. وآية الكرسي. وشهد الله وقل اللهم مالك الملك- إلى بغير حساب- تعلقن بالعرش وقلن: أتنزلنا على قوم يعملون بمعاصيك؟ فقال: وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لا يتلوكن عبد عند دبر كل صلاة مكتوبة إلا غفرت له ما كان فيه وأسكنته جنة الفردوس ونظرت له كل يوم سبعين مرة وقضيت له سبعين حاجة أدناها المغفرة» . وأخرج ابن عدي، والطبراني، والبيهقي- وضعفه- والخطيب، وابن النجار عن غالب القطان قال «أتيت الكوفة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 فنزلت قريبا من الأعمس فلما كان ليلة أردت أن أنحدر قام بتهجد من الليل فمر بهذه الآية شَهِدَ اللَّهُ إلخ فقال: وأنا أشهد بما شهد الله تعالى به واستودع الله تعالى هذه الشهادة وهي لي وديعة عند الله تعالى قالها مرارا فقلت: لقد سمع فيها شيئا فسألته فقال: حدثني أبو وائل بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله تعالى: عبدي عهد إلي عهدا وأنا أحق من وفى بالعهد أدخلوا عبدي الجنة» وروي عن سعيد بن جبير «أنه كان حول المدينة ثلاثمائة وستون صنما فلما نزلت هذه الآية الكريمة خررن سجدا للكعبة» . إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ جملة مبتدأة وقعت تأكيدا للأولى، وتعريف الجزئين للحصر- أي لا دين مرضي عند الله تعالى سوى الإسلام- وهو على ما أخرج ابن جرير عن قتادة «شهادة أن لا إله إلا الله تعالى والإقرار بما جاء من عند الله تعالى وهو دين الله تعالى الذي شرع لنفسه وبعث به رسله ودل عليه أولياءه لا يقبل غيره ولا يجزى إلا به» . وروى علي بن إبراهيم عن أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه أنه قال في خطبة له: لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي، الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو الأداء، والأداء هو العمل ثم قال: إن المؤمن أخذ دينه عن ربه ولم يأخذه عن رأيه إن المؤمن من يعرف إيمانه في عمله وإن الكافر يعرف كفره بإنكاره أيها الناس دينكم دينكم فإن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره إن السيئة فيه تغفر وإن الحسنة في غيره لا تقبل، وقرأ أبيّ- إن الدين عند الله للإسلام- والكسائي- أن الدين- بفتح الهمزة على أنه بدل الشيء من الشيء إن فسر الإسلام بالإيمان وأريد به الإقرار بوحدانية الله تعالى والتصديق بها الذي هو الجزء الأعظم وكذا إن فسر بالتصديق بما جاء به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مما علم من الدين بالضرورة لأن ذلك عين الشهادة بما ذكر باعتبار ما يلزمها فهي عينه مآلا، وأما إذا فسر بالشريعة فالبدل بدل اشتمال لأن الشريعة شاملة للايمان والإقرار بالوحدانية، وفسرها بعضهم بعلم الأحكام وادعى أولوية هذا الشق نظرا لسياق الكلام مستدلا بأنه لم يقيد علم الأصول بالعندية لأنها أمور بحسب نفس الأمر لا تدور على الاعتبار ولهذا تتحد فيها الأديان الحقة كلها، وقيد كون الدين الإسلام بالعندية لأن الشرائع دائرة على اعتبار الشارع ولهذا تغير وتبدل بحسب المصالح والأوقات، ولا يخفى ما فيه، أو على أن شَهِدَ واقع عليه على تقدير قراءة- إنه- بالكسر كما أشير إليه، وعِنْدَ على كل تقدير ظرف العامل فيه الثبوت الذي يشير إليه الجملة، وقيل: متعلق بكون خاص ينساق إليه الذهن يقدر معرفة وقع صفة للدين أي- إن الدين المرضي عند الله الإسلام- وقيل: متعلق بمحذوف وقع حالا من الدين، وقيل: متعلق به، وقيل: متعلق بمحذوف وقع خبرا عن مبتدأ محذوف، والجملة معترضة أي هذا الحكم ثابت عند الله، وأرى الكل ليس بشيء «أما الأول» فلأنه خلاف القاعدة المعروفة في الظروف إذا وقعت بعد النكرات، وأما الثاني فلأن المشهور أن إِنَّ لا تعمل في الحال، وأما الثالث فلأنه لا وجه للتعلق بلفظ الدِّينَ إلا أن يكتفى بأنه في الأضل بمعنى الجزاء، وأما الرابع فلأن التكلف فيه المستغني عنه أظهر من أن يخفى، هذا وقد اختلف في إطلاق الإسلام على غير ما جاء به نبينا صلّى الله عليه وسلم، والأكثرون على الإطلاق وأظن أنه بعد تحرير النزاع لا ينبغي أن يقع اختلاف وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قيل: المراد بهم اليهود واختلفوا فيما عهد إليهم موسى عليه الصلاة والسلام، أخرج ابن جرير عن الربيع قال: «إن موسى عليه الصلاة والسلام لما حضره الموت دعا سبعين حبرا من أحبار بني إسرائيل فاستودعهم التوراة وجعلهم أمناء عليها واستخلف يوشع بن نون فلما مضى القرن الأول والثاني والثالث وقعت الفرقة بينهم وهم الذين أوتوا العلم من أبناء السبعين حتى أهراقوا بينهم الدماء ووقع الشر طلبا لسلطان الدنيا وملكها وخزائنها وزخرفها فسلط الله تعالى عليهم جبابرتهم» ، وقيل: النصارى، واختلفوا في التوحيد. وقيل: المراد بالموصول اليهود والنصارى، وبالكتاب- الجنس، واختلفوا في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 التوحيد، وقيل: في نبوته صلّى الله عليه وسلم، وقيل: في الإيمان بالأنبياء، والظاهر أن المراد من الموصول ما يعم الفريقين، والذي اختلفوا فيه الإسلام كما يشعر به السياق والتعبير عنهم بهذا العنوان زيادة تقبيح لهم فإن الاختلاف بعد إتيان الكتاب أقبح، وقوله تعالى: إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ زيادة أخرى فإن الاختلاف بعد مجيء العلم أزيد في القباحة والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أو أعم الأوقات، والمراد من مجيء العلم التمكن منه لسطوع براهينه، أو المراد منه حصول العلم بحقيقة الأمر لهم بالفعل ولم يقل علموا مع أنه أخصر إشارة إلى أنه علم بسبب الوحي، وقوله سبحانه: بَغْياً بَيْنَهُمْ زيادة تشنيع، والاسم المنصوب مفعول له لما دل عليه مَا وإِلَّا من ثبوت الاختلاف بعد مجيء العلم كما تقول ما ضربت إلا ابني تأديبا، فلا دلالة للكلام على حصر الباعث، وادعاه بعضهم أي إن الباعث لهم على الاختلاف هو البغي والحسد لا الشبهة وخفاء الأمر، ولعل انفهام ذلك من المقام أو من الكلام بناء على جواز تعدد الاستثناء المفرغ أي ما اختلفوا في وقت لغرض إلا بعد العلم لغرض البغي كما تقول: ما ضرب إلا زيد عمرا- أي ما ضرب أحد أحدا إلا زيد عمرا وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ قيل: المراد بها حججه، وقيل: التوراة، وقيل: هي والإنجيل، وقيل: القرآن، وقيل: آياته الناطقة بأن الدين عند الله الإسلام، والظاهر العموم أي أية آية كانت، والمراد- بمن- أيضا أعم من المختلفين المذكورين وغيرهم ولك أن تخصه بهم فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ قائم مقام جواب الشرط علة له- أي ومن يكفر يعاقبه الله تعالى ويجازه عن قريب- فإنه سريع الحساب- أي يأتي حسابه عن قريب. أو يتم ذلك بسرعة، وقيل: إن سرعة الحساب تقتضي إحاطة العلم والقدرة فتفيد الجملة الوعيد، وباعتباره ينتظم الشرط والجزاء من غير حاجة إلى تقدير، ولعله أولى وأدق نظرا. وفي إظهار الاسم الجليل تربية للمهابة وإدخال الروعة، وفي ترتيب العقاب على مطلق الكفر إثر بيان حال أولئك المذكورين إيذان بشدّة عقابهم فَإِنْ حَاجُّوكَ أي جادلوك في الدين بعد أن أقمت الحجج، والضمير- للذين أوتوا الكتاب- من اليهود والنصارى- قاله الحسن- وقال أبو مسلم: لجميع الناس، وقيل: وفد نصارى نجران وإلى هذا يشير كلام محمد بن جعفر بن الزبير فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ أي أخلصت وخضعت بقلبي وقالبي لِلَّهِ لا أشرك به غيره، وفيه إشارة إلى أن الجدال معهم ليس في موقعه لأنه إنما يكون في أمر خفي والذي خالدوا به أمر مكشوف، وحكم حاله معروف وهو الدين القويم فلا تكون المحاجة والمجادلة إلا مكابرة، وحينئذ يكون هذا القول إعراضا عن مجادلتهم، وقيل: إنه محاجة وبيانه أن القوم كانوا مقرين بوجود الصانع وكونه مستحقا للعبادة فكأنه قال: هذا القول متفق عليه بين الكل فأنا مستمسك بهذا القدر المتفق عليه، وداعي الخلق إليه، وإنما الخلاف في أمور وراء ذلك فاليهود يدعون التشبيه والجسمية. والنصارى يدعون إلهية عيسى عليه السلام، والمشركون يدعون وجوب عبادة الأوثان فهؤلاء هم المدعون فعليهم الإثبات، ونظير ذلك قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً [آل عمران: 64] وعن أبي مسلم أن الآية في هذا الموضع كقول إبراهيم عليه السلام: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الأنعام: 79] فكأنه قيل: فإن نازعوك يا محمد في هذه التفاصيل فقل: أنا متمسك بطريق إبراهيم عليه السلام وأنتم معترفون بأنه كان محقا في قوله صادقا في دينه فيكون من باب التمسك بالإلزامات وداخلا تحت قوله تعالى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125] ولعل القول بالإعراض أولى لما فيه من الإشارة إلى سوء حالهم وحظ مقدارهم، وعبر عن الجملة- بالوجه- لأنه أشرف الأعضاء الظاهرة ومظهر القوى والمشاعر ومجمع معظم ما يقع به العبادة وبه يحصل التوجه إلى كل شيء، وفتح الياء نافع. وابن عامر، وحفص، وسكنها الباقون وَمَنِ اتَّبَعَنِ عطف على الضمير المتصل في أَسْلَمْتُ وحسن للفصل. أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 مفعول معه وأورد عليهما أنهما يقتضيان اشتراكهم معه صلى الله تعالى عليه وسلم في إسلام وجهه وليس المعنى أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ وهم أسلموا وجوههم إذ لا يصح- أكلت رغيفا وزيدا وو زيدا، وقد أكل كل منهما رغيفا، فالواجب أن يكون- من- متبدأ والخبر محذوف أي وَمَنِ اتَّبَعَنِ كذلك، أو يكون معطوفا على الجلالة وإسلامه صلّى الله عليه وسلم لمن اتبعه بالحفظ والنصيحة، وأجيب بأن فهم المعنى وعدم الإلباس يسوغ كلا الأمرين ويستغني بذلك عن مؤونة الحذف وتكلف خلاف الظاهر جدا، وأثبت الياء في- اتبعني- على الأصل أبو عمرو، ونافع، وحذفها الباقون- وحذفها أحسن- لموافقة خط المصحف، وقد جاء الحذف في مثل ذلك كثيرا كقول الأعشى: فهل يمنعني ارتيادي البلا ... د من حذر الموت أن (يأتين) وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ عطف على الجملة الشرطية، والمعنى فإن حاجّك أهل الكتاب فقابلهم بذلك فإن أجدى فعمم الدعوة وقل للأسود والأحمر أَسْلَمْتُمْ متبعين لي كما فعل المؤمنون فإنه قد جاءكم من الآيات ما يوجبه ويقتضيه أم أنتم على كفركم بآيات الله تعالى وإصراركم على العناد- وهذا كما تقول إذا لخصت لسائل مسألة ولم تدع من طرق البيان مسلكا إلا سلكته- فهل فهمتها على طرز فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة: 91] إثر تفصيل الصوارف عن تعاطي ما حرم تعاطيه، وفي ذلك تعيير لهم بالمعاندة وقلة الانصاف وتوبيخ بالبلادة وجمود القريحة، والكثيرون على أن الاستفهام للتقرير وفي ضمنه الأمر ووضع الموصول موضع الضمير لرعاية التقابل بين المتعاطفين، والمراد من الأميين الذين لا يكتبون من مشركي العرب قاله ابن عباس وغيره. فَإِنْ أَسْلَمُوا أي اتصفوا بالإسلام والدين الحق فَقَدِ اهْتَدَوْا على تضمين معنى الخروج أي اهتدوا خارجين من الضلال كذا قيل، وبعض يفسر الاهتداء باللازم وهو النفع أي فقد نفعوا أنفسهم قالوا: وسبب إخراجه عن ظاهره أن الإسلام عين الاهتداء فإن فسر على الأصل اتحد الشرط والجزاء، وفيه منع ظاهر. وَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن الإسلام ولم يقبلوا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ قائم مقام الجواب أي لا يضرك شيئا إذ ما عليك إلا البلاغ وقد أديته على أكمل وجه وأبلغه، وهذا قبل الأمر بالقتال فهو منسوخ بآية السيف وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ تذييل فيه وعد على الإسلام ووعيد على التولي عنه. إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ أية آية كانت، ويدخل فيهم الكافرون بالآيات الناطقة بحقيقة الإسلام دخولا أوليا وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ هم أهل الكتاب الذين كانوا في عصره صلى الله تعالى عليه وسلم إذ لا معنى لإنذار الماضين قال القطب: وإسناد القتل إليهم ولم يصدر منهم قتل لوجهين: أحدهما أن هذه الطريقة لما كانت طريقة أسلافهم صحت إضافتها إليهم إذ صنع الأب قد يضاف إلى الابن لا سيما إذا كان راضيا به، الثاني أن المراد من شأنهم القتل إن لم يوجد مانع، والتقييد بغير حق لما تقدم وتركت- أل- هنا دون ما سبق لتفاوت مخرج الجملتين وقد مر ما ينفعك في هذه الآية فتذكر. وقرأ الحسن «يقتلون النبيين» وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ أي بالعدل، ولعل تكرير الفعل للاشعار بما بين القتلين من التفاوت أو باختلافهما في الوقت، أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن أبي عبيدة بن الجراح «قال: قلت: يا رسول الله: أي الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ قال: رجل قتل نبيا أو رجلا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر- ثم قرأ الآية- ثم قال صلّى الله عليه وسلم: يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة رجل وسبعون رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 ذلك اليوم فهم الذين ذكر الله تعالى» وقرأ حمزة- «ويقاتلون الذين» - وقرأ عبد الله- «وقاتلوا» - وقرأ أبيّ- «ويقتلون النبيين» و «الذين يأمرون» - فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ خبر إِنَّ ودخلت الفاء فيه لتضمن الاسم معنى الشرط ولا يمنع الناسخ الذي لم يغير معنى الابتداء من الدخول ومتى غير- كليت، ولعل- امتنع ذلك إجماعا- وسيبويه، والأخفش يمنعانه عند النسخ مطلقا فالخبر عندهما قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وجملة فبشرهم معترضة بالفاء كما في قولك زيد- فافهم- رجل صالح، وقد صرح به النحاة في قوله: فاعلم- فعلم المرء ينفعه ... أن سوف يأتي كل ما قدرا ومن لم يفهم هذا قال: إن الفاء جزائية وجوابها مقدم من تأخير والتقدير زيد رجل صالح وإذا قلنا لك ذلك- فافهم- وعلى الأول هو استئناف، وأُولئِكَ مبتدأ، وما فيه من البعد على المشهور للايذان ببعد منزلتهم في فظاعة الحال، والموصول خبره- أي أولئك المتصفون بتلك الصفات الشنيعة الذين بطلت أعمالهم وسقطت عن حيز الاعتبار وخلت عن الثمرة في الدنيا حيث لم تحقن دماؤهم وأموالهم ولم يستحقوا بها مدحا وثناء وفي الآخرة حيث لم تدفع عنهم العذاب ولم ينالوا بسببها الثواب- وهذا شامل للأعمال المتوقفة على النية ولغيرها. ومن الناس من ذهب إلى أن العمل الغير المتوقف على النية كالصدقة وصلة الرحم ينتفع به الكافر في الآخرة ولا يحبط بالكفر، فالمراد بالأعمال هنا ما كان من القسم الأول، وإن أريد ما يشمل القسمين التزم كون هذا الحكم مخصوصا بطائفة من الكفار وهم الموصوفون بما تقدم من الصفات وفيه تأمل وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ينصرونهم من بأس الله تعالى وعذابه في أحد الدارين، وجمع- الناصر- لرعاية ما وقع في مقابلته لا لنفي تعدد الأنصار لكل واحد منهم وقد يدعي أن مجيء الجمع هنا أحسن من مجيء المفرد لأنه رأس آية، والمراد من انتفاء- الناصرين- انتفاء ما يترتب على النصر من المنافع والفوائد وإذا انتفت من جمع فانتفاؤها من واحد أولى، ثم إن هذا الحكم وإن كان عاما لسائر الكفار كما يؤذن به قوله تعالى: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ [البقرة: 270، آل عمران: 192، المائدة: 72] إلا أن له هنا موقعا حيث إن هؤلاء الكفرة وصفوا بأنهم يقتلون الذين يأمرون بالقسط وهم ناصرو الحق- على ما أشار إليه الحديث- ولا يوجد فيهم ناصر يحول بينهم وبين قتل أولئك الكرام فقوبلوا لذلك بعذاب لا ناصر لهم منه ولا معين لهم فيه. ومن الناس من زعم أن في الآية مقابلة ثلاثة أشياء بثلاثة أشياء الكفر بالعذاب، وقتل الأنبياء بحبط الأعمال. وقتل الآمرين بانتفاء الناصر وهو كما ترى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ تعجب للنبي صلّى الله عليه وسلم ولكل من يتأتى منه الرؤية من حال أهل الكتاب وأنهم إذا عضتهم الحجة فروا إلى الضجة وأعرضوا عن المحجة، وفيه تقرير لما سبق من أن الاختلاف إنما كان بعد مجيء العلم. وقيل: إنه تنوير لنفي الناصر لهم حيث يصيرون مغلوبين عند تحكيم كتابهم، والمراد بالموصول اليهود- وبالنصيب- الحظ، ومِنَ إما للتبعيض وإما للبيان على معنى نَصِيباً هو الكتاب، أو نصيب منه لأن الوصول إلى كنه كلامه تعالى متعذر فإن جعل بيانا كان المراد إنزال الكتاب عليهم وإن جعل تبعيضا كان المراد هدايتهم إلى فهم ما فيه، وعلى التقديرين اللام في الْكِتابِ للعهد، والمراد به التوراة- وهو المروي عن كثير من السلف- والتنوين للتكثير، وجوز أن يكون اللام في الْكِتابِ للعهد والمراد به اللوح، وأن يكون للجنس وعليه- النصيب- التوراة، ومِنَ للابتداء في الأول ويحتملها، والتبعيض في الثاني والتنوين للتعظيم، ولك أن تجعله على الوجه السابق أيضا كذلك، وجوز على تقدير أن يراد- بالنصيب- ما حصل لهم من العلم أن يكون المقصود تعييرهم بتمردهم واستكبارهم بالنصيب الحقير عن متابعة من له علم لا يوازنه علوم المرسلين كلهم، والتعبير عما أوتوه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 بالنصيب للاشعار بكمال اختصاصه بهم وكونه حق من حقوقهم التي يجب مراعاتها والعمل بموجبها، وقوله تعالى: يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ إما جملة مستأنفة مبينة لمحل التعجب، وإما حال من الموصول. والمراد بكتاب الله التوراة والإظهار في مقام الإضمار لإيجاب الإجابة، والإضافة للتشريف وتأكيد وجوب المراجعة، وإلى ذلك ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنه وغيره. وقد أخرج ابن إسحق وجماعة عنه قال: «دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بيت المدراس على جماعة من يهود فدعاهم إلى الله تعالى فقال النعمان بن عمرو، الحرث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد؟ قال: على ملة إبراهيم ودينه قالا: فإن إبراهيم كان يهوديا فقال لهما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: فهلما إلى التوراة فهي بيننا وبينكم فأبيا عليه فأنزل الله تعالى الآية» وفي البحر «زنى رجل من اليهود بامرأة ولم يكن بعد في ديننا الرجم فتحاكموا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تخفيفا على الزانيين لشرفهما فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إنما أحكم بكتابكم فأنكروا الرجم فجيء بالتوراة فوضع حبرهم ابن صوريا يده على آية الرجم فقال عبد الله بن سلام: جاوزها يا رسول الله فأظهرها فرجما فغضبت اليهود فنزلت» وهو المروي عن ابن جريج- وحكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أيضا - وذهب الحسن. وقتادة إلى أن المراد بكتاب الله تعالى القرآن دعوا إليه لأن ما فيه موافق لما في التوراة من أصول الديانة وأركان الشريعة والصفة التي تقدمت البشارة بها أو لأنهم لا يشكون في أنه كتاب الله تعالى المنزل على خاتم رسله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ قيل: أي ليفصل الحق من الباطل بين الذين أوتوا- وهم اليهود- وبين الداعي لهم- وهو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في أمر إبراهيم عليه السلام. أو في حكم الرجم. أو في شأن الإسلام. أو بين من أسلم منهم ومن لم يسلم حيث وقع بينهم اختلاف في الدين الحق، وعلى هذا- وهو المرضي عند البعض وإن لم يوافق سبب النزول- وربما أحوج إلى ارتكاب مجاز في مرجع الضمير لا يتعين أن يكون الداعي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقرئ «ليحكم» على البناء للمفعول ونسب ذلك إلى أبي حنيفة ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ عطف على يدعون، وثُمَّ للتراخي الرتبي، وفيه استبعاد توليهم بعد علمهم بوجوب الرجوع إليه، ومِنْهُمْ صفة لفريق، ولعل المراد بهذا الفريق أكثرهم علما ليعلم تولي سائرهم من باب الأولى قيل: وهذا سبب العدول عن- ثم يتولون- وقيل: الذين لم يسلموا، ووجه العدول عليه ظاهر فتدبر وَهُمْ مُعْرِضُونَ جوز أن يكون صفة معطوفة على الصفة قبلها فالواو للعطف، وأن تكون في محل نصب على الحال من الضمير المستكن في مِنْهُمْ أو من فَرِيقٌ لتخصيصه بالصفة فالواو حينئذ للحال وهي إما مؤكدة لأن التولي والاعراض بمعنى، وإما مبينة لاختلاف متعلقيهما بناء على ما قيل: إن التولي عن الداعي والاعراض عن المدعو إليه أو التولي بالبدن والأعراض بالقلب. أو الأول كان من العلماء. والثاني من أتباعهم، وجوز أن لا يكون لها محل من الإعراب بأن تكون تذييلا أو معترضة، والمراد وهم قوم ديدنهم الاعراض، وبعضهم فسر الجملة بهذا مع اعتبار الحالية ولعله رأى أنه لا يمنع عنها ذلِكَ أي المذكور من التولي والإعراض وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ أي حاصل لهم بسبب هذا القول الذي رسخ اعتقادهم له وهونوا به الخطوب ولم يبالوا معه بارتكاب المعاصي والذنوب، والمراد- بالأيام المعدودات- أيام عبادتهم العجل، وجاء هنا مَعْدُوداتٍ بصيغة الجمع دون ما في البقرة فإنه مَعْدُودَةً [البقرة: 80] بصيغة المفرد تفننا في التعبير، وذلك لأن جمع التكسير لغير العاقل يجوز أن يعامل معاملة الواحدة المؤنثة تارة ومعاملة جمع الإناث أخرى فيقال: هذه جبال راسية، وإن شئت قلت راسيات، وجمال ماشية وإن شئت ماشيات، وخص الجمع هنا لما فيه من الدلالة على القلة كموصوفة وذلك أليق بمقام التعجيب والتشنيع وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 أي أطمعهم في غير مطمع وخدعهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي افتراؤهم وكذبهم أو الذي كانوا يفترونه من قولهم: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلخ- قاله مجاهد- أو من قولهم: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 18]- قاله قتادة- أو مما يشمل ذلك ونحوه من قولهم: «إن آباءنا الأنبياء يشفعون لنا وإن الله تعالى وعد يعقوب أن لا يعذب أبناءه إلا تحلة القسم» والظرف متعلق- بما عنده- أو- بيفترون- واعترضه الخطيب بأن ما بعد الموصول لا يعمل فيما قبله وأجيب بالتوسع فَكَيْفَ استعظام وتهويل وهدم لما استندوا إليه، وكلمة الاستفهام في موضع نصب على الحال والعامل فيه محذوف- أي كيف تكون حالهم- أو كيف يصنعون أو كيف يكونون، وجوز أن تكون خبرا لمبتدأ محذوف أي كيف حالهم، وقوله تعالى: إِذا جَمَعْناهُمْ ظرف محض من غير تضمين شرط والعامل فيه العامل في كيف إن قدر أنها منصوبة بفعل مقدر، وإن قلنا: إنها خبر لمبتدأ مضمر كان العامل في إِذا ذلك المقدر أي كيف حالهم في وقت جمعهم لِيَوْمٍ أي في يوم أو لجزاء يوم. لا رَيْبَ فِيهِ أي في وقوعه ووقوع ما فيه، روي أنه أول راية ترفع لأهل الموقف من رايات الكفار راية اليهود فيفضحهم الله تعالى على رؤوس الأشهاد ثم يأمر بهم إلى النار وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ أي ما عملت من خير أو شر، والمراد جزاء ذلك إلا أنه أقيم المكسوب مقام جزائه إيذانا بكمال الاتصال والتلازم بينهما حتى كأنهما شيء واحد وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ شيئا فلا ينقصون من ثوابهم ولا يزادون في عذابهم بل يعطى كل منهم مقدار ما كسبه، والضمير راجع إلى كل إنسان المشعر به كل نفس، وكل يجوز مراعاة معناه فيجمع ضميره ووجه التذكير ظاهر قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تأكيد لما تشعر به الآية السابقة من مزيد عظمته تعالى وعظيم قدرته، وفيه أيضا إفحام لمن كذب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ورد عليه لا سيما المنافقين الذين هم أسوأ حالا من اليهود والنصارى، وبشارة له صلى الله تعالى عليه وسلم بالغلبة الحسية على من خالفه كغلبته بالحجة على من جادله، وبهذا تنظيم هذه الآية الكريمة بما قبلها. روى الواحدي عن ابن عباس، وأنس بن مالك أنه لما افتتح رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مكة وعد أمته ملك فارس والروم قالت المنافقون واليهود: هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم هم أعز وأمنع من ذلك ألم يكف محمدا مكة والمدينة حتى يطمع في ملك فارس والروم؟!! فأنزل الله تعالى هذه الآية. وروى أبو الحسن الثعالبي عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف قال: حدثني أبي عن أبيه قال: خط رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الخندق عام الأحزاب ثم قطع لكل عشرة أربعين ذراعا قال عمرو بن عوف: كنت أنا وسلمان الفارسي، وحذيفة، والنعمان بن مقرن المزني، وستة من الأنصار في أربعين ذراعا فحفرنا فأخرج الله تعالى من بطن الخندق صخرة مدورة كسرت حديدنا وشقت علينا فقلنا: يا سليمان إرق إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأخبره خبر هذه الصخرة فإما أن تعدل عنها أو يأمرنا فيها بأمره فإنا لا نحب أن نجاوز خطه قال: فرقي سلمان إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو ضارب عليه قبة تركية فقال: يا رسول الله خرجت صخرة بيضاء مدورة من بطن الخندق وكسرت حديدنا وشقت علينا حتى ما يحتك فيها قليل ولا كثير فمرنا فيها بأمر فإنا لا نحب أن نجاوز خطك فهبط رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم مع سلمان الخندق والتسعة على شفير الخندق فأخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المعول من سلمان فضربها ضربة صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم وكبر رسول الله صلّى الله عليه وسلم تكبير فتح فكبر المسلمون ثم ضربها صلّى الله عليه وسلم الثانية فبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم وكبر صلّى الله عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون ثم ضربها عليه الصلاة والسلام الثالثة فكسرها وبرق منها برق كذلك فكبر صلّى الله عليه وسلم تكبير فتح وكبر المسلمون وأخذ بيد سلمان ورقي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 فقال سلمان: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد رأيت شيئا ما رأيت مثله قط فالتفت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى القوم فقال: رأيتم ما يقول سلمان؟ قالوا: نعم يا رسول الله قال: ضربت ضربتي الأولى فبرق لي الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب فأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ثم ضربت الثانية فبرق لي الذي رأيتم أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها ثم ضربت ضربتي الثالثة فبرق لي الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها فأبشروا فاستبشر المسلمون وقالوا: الحمد لله موعد صدق وعدنا النصر بعد الحفر فقال المنافقون: ألا تعجبون ويعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا للقتال فأنزل الله تعالى القرآن وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً [الأحزاب: 12] وأنزل هذه الآية قُلِ اللَّهُمَّ إلخ، وأصل اللَّهُمَّ- يا الله- فحذفت «يا» وعوض عنها- الميم- وأوثرت لقربها من الواو التي هي حرف علة، وشددت لكونها عوضا عن حرفين وجمعها مع- يا- كما في قوله: إني إذا ما حدث ألمّا ... أقول- (يا اللهم) - يا اللهما شاذ، وهذا من خصائص الاسم الجليل كعدم حذف حرف النداء منه من غير ميم ودخوله عليه مع حرف التعريف وقطع همزته ودخول تاء القسم عليه واللام في القسم التعجبي نحو- لله لا يؤخر الأجل- ودخول أيمن ويمين عليه في القسم أيضا، وميم في- م الله- ووقوع همزة الاستفهام خلفا عن حرف القسم نحو الله وحرف التنبيه في نحو- لاها الله ذا- وغير ذلك فسبحانه من إله كل شأنه غريب، وزعم الكوفيون أن أصله- يا الله آمنا بخير- أي اقصدنا به فخفف بحذف حرف النداء ومتعلقات الفعل وهمزته، ويجوز الجمع عندهم بين يا- والميم بلا بأس- ولا يخفى ما فيه- ويقتضي أن لا يلي هذه الكلمة أمر دعائي آخر إلا بتكلف الإبدال من ذلك الفعل أو العطف عليه بإسقاط حرف العطف- وأل- في الملك للجنس أو الاستغراق، والْمُلْكِ بالضم على ما ذكره بعض أئمة التحقيق- نسبة بين من قام به ومن تعلق، وإن شئت قلت: صفة قائمة بذاته متعلقة بالغير تعلق التصرف التام المقتضي استغناء المتصرف وافتقار المتصرف فيه ولهذا لم يصح على الإطلاق إلا لله تعالى جده وهو أخص من الملك بالكسر لأنه تعلق باستيلاء مع ضبط وتمكن من التصرف في الموضوع اللغوي وبزيادة كونه حقا في الشرع من غير نظر إلى استغناء وافتقار- فمالك الملك- هو الملك الحقيقي المتصرف بما شاء كيف شاء إيجادا وإعداما وإحياء وإماتة وتعذيبا وإثابة من غير مشارك ولا مانع، ولهذا لا يقال «ملك الملك» إلا على ضرب من التجوز، وحمل الْمُلْكِ على هذا المعنى أوفق بمقام المدح، وقيل: المراد منه النبوة وإليه ذهب مجاهد- وقيل: المال والعبيد، وقيل: الدنيا والآخرة، وانتصاب مالِكَ على الوصفية عند المبرد. والزجاج، وسيبويه يوجب كونه نداء ثانيا، ولا يجوز أن يكون صفة- لأللهم- لأنه لاتصال الميم به أشبه أسماء الأصوات وهي لا توصف، ونقض دليل سيبويه بسيبويه فإنه مع كونه فيه اسم صوت يوصف، وأجيب بأن اسم الصوت تركب معه وصار كبعض حروف الكلمة بخلاف ما نحن فيه، ومن هنا قال أبو علي: قول سيبويه عندي أصح لأنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء على حد- اللهم- ولذلك خالف سائر الأسماء ودخل في حيز ما لا يوصف نحو حيهل فإنهما صارا بمنزلة صوت مضموم إلى اسم فلم يوصف- والعلامة التفتازاني على هذا- وأيد أيضا بأن وقوع خلف حرف النداء بين الموصوف والصفة كوقوع حرف النداء بينهما فلو جاز الوصف لكان مكان الخلف بعده تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ جملة مستأنفة مبينة لبعض وجوه التصرف الذي يستدعيه مالكية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 الْمُلْكِ وجوز جعلها حالا من المنادى وفي انتصاب الحال عنه خلاف، وصحح الجواز لأنه مفعول به، والحال تأتي منه كما تأتي من الفاعل، وجعل الجملة خبرا لمبتدأ محذوف أي أنت تؤتي- وإن اختاره أبو البقاء- ليس فيه كثير نفع وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ عطف على تُؤْتِي وحكمة حكمه، ومفعول تَشاءُ في الموضعين محذوف أي من تشاء إيتاءه إياه ممن تشاء نزعه منه، والْمُلْكِ الثالث هو الثاني واللام فيهما للجنس. أو العهد وليسا هما عين الأول لأن الأول عند المحققين حقيقي عام ومملوكيته حقيقية والآخران مجازيان خاصان ونسبتهما إلى صاحبهما مجازية، واعتبر بعضهم في التفرقة كون المراد من الأول الجميع ومن الآخرين البعض ضرورة أن المؤتي لا يمكن أن يكون الجميع والمنزع هو ذاك لأنه معرفة معادة، ويراد بها إن لم يمنع مانع عن الأول ولأنه إذا لم يمكن إيتاء الكل لم يمكن نزع الكل لأن الثاني مسبوق بالأول. ومن الناس من حمل الْمُلْكِ هنا على النبوة ومعنى نزعها هنا نقلها من قوم إلى قوم أي تؤتي النبوة بني إسرائيل وتنقلها منهم إلى العرب، وقيل: المعنى تعطي أسباب الدنيا محمدا صلّى الله عليه وسلم وأمته وتسلبها من الروم وفارس فلا تقوم الساعة حتى تفتح بلادهم ويملك ما في أيديهم المسلمون، وروي ذلك عن الكبي، وقيل: تنزعه من صناديد قريش وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ أن تعزه في الدنيا والآخرة. أو فيهما بالنصر والتوفيق وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ أن تذله في إحداهما أو فيهما من غير ممانعة الغير، وقيل: المراد تعز محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه بأن تدخلهم مكة ظاهرين وَتُذِلُّ أبا جهل وأضغاث الشرك بالقتل والإلقاء في القليب، وقال عطاء: تُعِزُّ المهاجرين والأنصار وَتُذِلُّ فارس والروم، وقيل: تُعِزُّ المؤمنين بالظفر والغنيمة وَتُذِلُّ اليهود بالقتل والجزية، وقيل: تُعِزُّ بالإخلاص وَتُذِلُّ بالرياء، وقيل: تُعِزُّ الأحباب بالجنة والرؤية وَتُذِلُّ الأعداء بالنار والحجاب وقيل: تُعِزُّ بالقناعة والرضا وَتُذِلُّ بالحرص والطمع «وقيل: وقيل:» وينبغي حمل سائر الأقوال على التمثيل لأنه لا مخصص في الآية، وتُعِزُّ مضارع أعز ضد أذل، والمجرد من الهمزة منه- عز- ومضارعه يعز بكسر العين، ومنه ما في دعاء قنوت الشافعية، وله استعمالان آخران الضم والفتح، وقد نظم ذلك الإمام السيوطي بقوله: يا قارئا كتب الآداب كن يقظا ... وحرر الفرق في الأفعال نحريرا «عز» المضاعف يأتي في مضارعه ... تثليث عين بفرق جاء مشهورا فما كقل وضد «الذل» مع عظم ... كذا كرمت علينا جاء مكسورا وما- كعز- علينا الحال أي صعبت ... فافتح مضارعه إن كنت نحريرا وهذه الخمسة الأفعال لازمة ... واضمم مضارع فعل ليس مقصورا «عززت» زيدا بمعنى قد غلبت كذا ... أعنته فكلا ذا جاء مأثورا وقيل: إذا كنت في ذكر القنوت ولا ... «يعز» يا رب من عاديت مكسورا واشكر لأهل علوم الشرع إذ شرحوا ... لك الصواب وأبدوا فيه تذكيرا بِيَدِكَ الْخَيْرُ جملة مستأنفة، وأجراها بعضهم على طرز ما قبلها، وتعريف الخير للتعميم وتقديم الخبر للتخصيص أي بِيَدِكَ التي لا يكتنه كنهها، وبقدرتك التي لا يقدر قدرها الخير كله تتصرف به أنت وحدك حسب مشيئتك لا يتصرف به أحد غيرك ولا يملكه أحد سواك، وإنما خص الخير بالذكر تعليما لمراعاة الأدب وإلا فذكر الإعزاز والإذلال يدل على أن الخير والشر كلاهما بيده سبحانه، وكذا قوله تعالى المسوق لتعليل ما سبق، وتحقيقه إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فلا يبعد أن تكون الآية من باب الاكتفاء، وقيل: إنما اقتصر عليه لما أن سبب نزول الآية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 ما آتى الله تعالى نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم من البشارة بالفتوح وترادف الخيرات، وقيل: لما أن الأشياء باعتبار الشر وعدمه تنقسم إلى خمسة أقسام: الأول ما لا شر فيه أصلا، والثاني ما يغلب خيره على شره، والثالث ما يكون شرا محضا، والرابع ما يكون شره غالب على خيره، والخامس ما يتساوى الخير والشر فيه. والموجود من هذه الأقسام في العالم- القسم الأول، والثاني- والشر الذي فيه غير مقصود بالذات بل إنما قضاه الله تعالى لحكمة بالغة وهو وسيلة إلى خير أعظم وأعم نفعا والشر اليسير متى كان وسيلة إلى الخير الكثير كان ارتكابه مصلحة تقتضيها الحكمة ولا يأباها الكرم المطلق، ألا ترى أن الفصد والحجامة وشرب الدواء الكريه وقطع السلعة ونحوها من الأمور المؤلمة لكونه وسيلة إلى حصول الصحة يحسن ارتكابه في مقتضى الحكمة ويعد خيرا لا شرا وصحة لا مرضا وكل قضاء الله تعالى بما نراه شرا من هذا القبيل، ولهذا ورد في الحديث «لا تتهم الله تعالى على نفسك» وورد «ولا تكرهوا الفتن فإن فيها حصاد المنافقين» . وجاء «لو لم تذنبوا لخفت عليكم ما هو أكبر من ذلك العجب العجب» ومن هنا قيل: يا من إفساده صلاح فما قدر من المفاسد لتضمنه المصالح العظيمة اغتفر ذلك القدر اليسير في جنبها لكونه وسيلة إليها وما أدى إلى الخير فهو خير فكل شر قدره الله تعالى لكونه لم يقصد بالذات لأن أحكام القضاء والقدر كما قالوا: جارية على سنن ما اتفقت عليه الشرائع كلها من النظر إلى جلب المصالح ودبّ المفاسد بل بالعرض لما يستلزمه من الخير الأعظم والنفع الأتم يصدق عليه بهذا الاعتبار أنه خير فدخل في قوله سبحانه: بِيَدِكَ الْخَيْرُ فلذا اقتصر على الخير على وجه أنه شامل لما قصد أصلا ولما وقع استلزاما، وهذا من باب- ليس في الإمكان أبدع مما كان- وقد درج حكماء الإسلام عليه ولا يعبأ بمن وجه سهام الطعن إليه، وفي شرح الهياكل أن الشر مقضي بالعرض وصادر بالتبع لما أن بعض ما يتضمن الخيرات الكثيرة قد يستلزم الشر القليل فكان ترك الخيرات الكثيرة لأجل ذلك الشر القليل شرا كثيرا فصدر عنك ذلك الخير فلزمه حصول ذلك الشر وهو من حيث صدوره عنك خير إذ عدم صدوره شر لتضمنه فوات ذلك الخير فأنت المنزه عن الفحشاء مع أنه لا يجري في ملكك إلا ما تشاء وليس هذا من القول بوجوب الأصلح، ولا ينافيه لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الأنبياء: 23] إذ لا يفعل ما يسأل عنه كرما وحكمة وجودا ومنة «ولو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ الولوج في الأصل الدخول والإيلاج الإدخال واستعير لزيادة زمان النهار في الليل وعكسه بحسب المطالع والمغارب في أكثر البلدان- وروي ذلك عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد- ولا يضر تساوي الليل والنهار دائما عند خط الاستواء لأنه يكفي الزيادة والنقصان فيهما في الأغلب، وقال الجبائي: المراد بإيلاج أحدهما في الآخر إيجاد كل واحد منهما عقيب الآخر والأول أقرب إلى اللفظ، وعلى التقديرين الظاهر من الليل والنهار ليل التكوير ونهاره وهما المشهوران عند العامة الذين يفهمون ظاهر القول: ووراء ذلك أيام السلخ التي يعرفها العارفون وأيام الإيلاج الشانية التي يعقلها العلماء الحكماء. وبيان ذلك على وجه الاختصار أن اليوم على ما ذكره القوم الإلهيون عبارة عن دورة واحدة من دورات فلك الكواكب وهو من النطح إلى النطح ومن الشرطين إلى الشرطين ومن البطين إلى البطين وهكذا إلى آخر المنازل، ومن درجة المنزلة ودقيقتها إلى درجة المنزلة ودقيقتها، وأخفى من ذلك إلى أقصى ما يمكن الوقوف عنده وما من يوم من الأيام المعروفة عند العامة وهي من طلوع الشمس إلى طلوع الشمس أو من غروبها إلى غروبها أو من استوائها إلى استوائها أو ما بين ذلك إلى ما بين ذلك إلا وفيه نهاية ثلاثمائة وستين يوما فاليوم طوله ثلاثمائة وستون درجة لأنه يظهر فيه الفلك كله وتعمه الحركة وهذا هو اليوم الجسماني، وفيه اليوم الروحاني فيه تأخذ العقول معارفها والبصائر مشاهدها والأرواح أسرارها كما تأخذ الأجسام في هذا اليوم الجسماني أغذيتها، وزيادتها، ونموها، وصحتها، وسقمها، وحياتها، وموتها، فالأيام من جهة أحكامها الظاهرة في العالم المنبعثة من القوة الفعالة للنفس الكلية سبعة من يوم الأحد إلى آخره ولهذه الأيام أيام روحانية لها أحكام في الأرواح والعقول تنبعث من القوة العلامة للحق الذي قامت به السموات والأرض وهو الكلمة الإلهية، وعلى هذه السبعة الدوارة يدور فلك البحث فنقول قال الله تعالى في المشهود من الأيام المحسوسة: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ [الزمر: 5] وأبان عن حقيقتين من طريق الحكم بعد هذا فقال في آية: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: 37] فهذه أنبأت أن الليل أصل والنهار كان غيبا فيه ثم سلخ، وليس معنى السلخ معنى التكوير فلا بد أن يعرف ليل كل نهار من غيره حتى ينسب كل ثوب إلى لابسه، ويرد كل فرع إلى أصله، ويلحق كل ابن بأبيه، وقال في الآية الكريمة كاشفا عن حقيقة أخرى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ [الحج: 61، لقمان: 29، فاطر: 13، الحديد: 6] فجعل بين الليل والنهار نكاحا معنويا لما كانت الأشياء تتولد منهما معا وأكد هذا المعنى بقوله عز قائلا: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ [الأعراف: 54، الرعد: 3] ولهذا كان كل منهما مولجا ومولجا فيه فكل واحد منهما لصاحبه أصل وبعل فكلما تولد في النهار فأمه النهار وأبوه الليل وكلما تولد في الليل فأمه الليل وأبوه النهار فليس إذا حكم الإيلاج حكم السلخ فإن السلخ إنما هو في وقت أن يرجع النهار من كونه مولجا ومولجا فيه والليل كذلك إلا أنه ذكر السلخ الواحد ولم يذكر السلخ الآخر من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 أجل الظاهر، والباطن، والغيب، والشهادة، والروح والجسم، والحرف، والمعنى- وشبه ذلك- فالإيلاج روح كله والتكوير جسم هذا الروح الإيلاجي ولهذا كرر الليل والنهار في الإيلاج كما كررهما في التكوير هذا في عالم الجسم وهذا في عالم الروح، فتكوير النهار لإيلاج الليل وتكوير الليل لإيلاج النهار، وجاء السلخ واحدا للظاهر لأربابه، وقد اختلف العجم والعرب في أصالة أي المكورين على الآخر، فالعجم يقدمون النهار على الليل وزمانهم شمسي فليلة السبت عندهم مثلا الليلة التي تكون صبيحتها يوم الأحد وهكذا، والعرب يقدمون الليل على النهار وزمانهم قمري أولئك كتب في قلوبهم الإيمان فليلة الجمعة عندهم مثلا هي الليلة التي يكون صبيحتها يوم الجمعة وهم أقرب من العجم إلى العلم فإنه يعضدهم السلخ في هذا النظر غير أنهم لم يعرفوا الحكم فنسبوا الليلة إلى غير يومها كما فعل أصحاب الشمس وذلك لأن عوامّهم لا يعرفون إلا أيام التكوير والعارفون من أهل هذه الدولة، وورثة الأنبياء يعلمون ما وراء ذلك من أيام السلخ وأيام الإيلاج الشاني، ولما كانت الأيام شيئا وكل شيء عندهم ظاهر، وباطن، وغيب، وشهادة، وروح، وجسم، وملك، وملكوت، ولطيف، وكثيف قالوا: إن اليوم نهار وليل في مقابلة باطن وظاهر، والأيام سبعة ولكل يوم نهار وليل من جنسه، والنهار ظل ذلك الليل وعلى صورته لأنه أصله المدرج هو فيه المنسلخ هو منه بالنفخة الإلهية، وقد أطلق سبحانه في آية السلخ ولم يبين أي نهار سلخ من أية ليلة ولم يقل ليلة كذا سلخ منها نهار كذا ليعقلها من ألهمه الله تعالى رشده فينال فصل الخطاب، فعلى المفهوم من اللسان العربي بالحساب القمري أن ليلة الأحد سلخ الله تعالى منها نهار الأربعاء وسلخ من ليلة الاثنين نهار الخميس، ومن ليلة الثلاثاء نهار الجمعة، ومن ليلة الأربعاء نهار السبت، ومن ليلة الخميس نهار الأحد، ومن ليلة الجمعة نهار الاثنين ومن ليلة السبت نهار الثلاثاء فجعل سبحانه بين كل ليلة ونهارها المسلوخ منها ثلاث ليال وثلاثة نهارات فكانت ستة وهي نشأتك ذات الجهات، فالليالي منها للتحت والشمال والخلف، والنهارات منها للفوق واليمين والأمام فلا يكون الإنسان نهارا ونورا تشرق شمسه وتشرق به أرضه حتى ينسلخ من ليل شهوته ولا يقبل على من لا يقبل الجهات حتى يبعد عن جهات هيكله، وإنما نسبوا هذه النسبة من جهة الاشتراك في الشأن الظاهر لستر الحكمة الإلهية على يد الموكلين بالساعات، وفي اليوم الإيلاجي الشاني يعتبرون ليلا ونهارا أيضا وهو عندهم أربع وعشرون ساعة قد اتحد فيها الشأن فلم ينبعث فيها إلا معنى واحد ويتنوع في الموجودات بحسب استعدادتها ولهذا قال سبحانه: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن: 29] ولم يقل- في شؤون- وتنوينه للتعظيم الظاهر باختلاف القوابل وتكثر الأشخاص فإذا ساعات ذلك اليوم تحت حكم واحد ونظر وال واحد قد ولاه من لا يكون في ملكه إلا ما يشاء وتولاه وخصه بتلك الحركة وجعله أميرا في ذلك، والمتصرف الحقيقي هو الله تعالى لا هو من حيث هو، فاليوم الشاني ما كانت ساعاته كلها سواء ومتى اختلفت فليس بيوم واحد ولا يوجد هذا في أيام التكوير وكذا في أيام السلخ إلا قليلا فطلبنا ذلك في الأيام الإيلاجية فوجدناه مستوفى فيه، وقد أرسل سبحانه آية الإيلاج ولم يقل: يُولِجُ اللَّيْلَ [الحج: 61، لقمان: 29، فاطر: 13، الحديد: 6] الذي صبيحته الأحد في الأحد ولا النهار الذي مساؤه ليلة الاثنين في الاثنين فإذا لا يلتزم أن ليلة الأحد هي ليلة الكور ولا ليلة السلخ وإنما يطلب وحدانية اليوم من أجل أحدية الشأن فلا ينظر إلا إلى اتحاد الساعات، والحاكم المولى من قبل المولى فليلة الأحد الإيلاجي مركبة من الساعة الأولى من ليلة الخميس، والثانية منها، والثالثة من يوم الخميس، والعاشرة منها، والخامسة من ليلة الجمعة، والثانية عشرة منها، والسابعة من يوم الجمعة، والثامنة من ليلة السبت، والتاسعة منها، والرابعة من يوم السبت، والحادية عشرة منه، والسادسة من ليلة الأحد فهذه ساعات ليله. وأما ساعات نهاره من أيام التكوير فالأولى من يوم الأحد. والثامنة. والثالثة من يوم الاثنين. والعاشرة منه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 والخامسة من يوم الاثنين. والثانية عشرة منه. والسابعة من ليلة الثلاثاء. والثانية من يوم الثلاثاء. والتاسعة منه، والرابعة من ليلة الأربعاء. والحادية عشرة منها. والسادسة من يوم الأربعاء فهذه أربعة وعشرون ساعة ظاهرة كالشمس ليوم الأحد الإيلاجي الشاني كلها كنفس واحدة لأنها من معدن واحد، وهكذا تقول في سائر الأيام حتى تكمل سبعة أيام متميزة بعضها من بعض مولجة بعضها في بعض نهارها في ليلها وليلها في نهارها لحكمة التوالد والتناسل وذلك كسريان الحكم الواحد في الأيام، ويظهر ذلك من أيام التكوير. وقد ذكر مولانا الشيخ الأكبر قدس سره الشأن في كل يوم في رسالته المسماة بالشأن الإلهي، ولعلي إن شاء الله تعالى أذكر ذلك عند قوله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن: 29] وهذه الأيام أيضا غير يوم المثل وهو عمر الدنيا، ويوم الرب، ويوم المعارج، ويوم القمر، ويوم الشمس، ويوم زحل، ويوم الحمل. ولكل كوكب من السيارات والبروج يوم- وقد ذكر كل ذلك في الفتوحات- وإنما تعرضنا لهذا المقدار وإن كان الاستقصاء في بيان مشرب القوم ليس بدعا في هذا الكتاب تعليما لبعض طلبة العلم ما الليل والنهار إذ قد ظنوا لجهلهم بسبب بحث جرى بنا الظنون، وفي هذا كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد فحمدا لك اللهم على ما علمت ولك الشكر على ما أنعمت وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ أي تكون الحيوانات من موادها أو من النطفة، وعليه ابن عباس، وابن مسعود، وقتادة ومجاهد، والسدي، وخلق كثير وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ أي النطفة من الحيوانات كما قال عامة السلف. وأخرج ابن مردويه من طريق أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لما خلق الله تعالى آدم عليه السلام أخرج ذريته فقبض قبضة بيمينه فقال: هؤلاء أهل الجنة ولا أبالي وقبض بالأخرى قبضة فجاء فيها كل رديء فقال هؤلاء أهل النار ولا أبالي فخلط بعضهم ببعض فيخرج الكافر من المؤمن والمؤمن من الكافر» فذلك قوله تعالى: وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ الآية- وإلى هذا ذهب الحسن- وروي عن أئمة أهل البيت، فالحي والميت مجازيان، ولطف هذه الجملة بعد الأولى لا يخفى والقائلون بعموم المجاز قالوا: المراد تخرج الحيوانات من النطف والنطف من الحيوانات، والنخلة من النواة والنواة من النخلة، والطيب من الخبيث والخبيث من الطيب، والعالم من الجاهل والجاهل من العالم، والذكي من البليد والبليد من الذكي إلى غير ذلك. ولا يلزم من الآية أن يكون إخراج كل حي من ميت وكل ميت من حي ليلزم التسلسل في جانب المبدئ إذ غاية ما تفهمه الآية أن الله تعالى هذه الصفة وأما أنه لا يخلق شيئا إلا من شيء فلا كما لا يخفى، وقرأ الْمَيِّتِ بالتخفيف في الموضعين وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ الظرف في محل الحال من المفعول أي ترزق من تشاء غير محاسب له، أو من الفاعل أي ترزقه غير محاسب له، أو غير مضيق عليه، وجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف، أو مفعول محذوف أي رزقا غير قليل، وفي ذكر هذه الأفعال العظيمة التي تحير العقول ونسبتها إليه تعالى دلالة على أن من يقدر على ذلك لا يعجزه أن ينزع الملك من العجم ويذلهم ويؤتيه العرب ويعزهم بل هو أهون عليه من كل هين. هذا وقد تقدم ما يشير إلى فضل هذه الآية، وقد أخرج ابن أبي الدنيا عن معاذ بن جبل قال: شكوت إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم دينا كان عليّ فقال: «يا معاذ أتحب أن يقضى دينك؟ قلت: نعم قال: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما تعطي منهما من تشاء وتمنع منهما من تشاء اقض عن ديني فلو كان عليك ملء الأرض ذهبا أدي عنك» وفي رواية للطبراني الآية بتمامها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 «ومن باب الاشارة في الآيات» شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي أبان بدلائل الآفاق والأنفس أنه لا إله في الوجود سواه، أو شهد بذاته في مقام الجمع على وحدانيته حيث لا شاهد ولا مشهود غيره، وشهد- الملائكة وأولو العلم- بذلك وهي شهادة مظاهره سبحانه في مقام التفصيل، ومن القوم من فرق بين الشهادتين بأن شهادة الملائكة من حيث اليقين وشهادة أولي العلم من حيث المشاهدة، وأيضا قالوا: شهادة الملائكة من رؤية الأفعال وشهادة أولي العلم من رؤية الصفات، وقيل: شهادة الملائكة من رؤية العظمة ولذا يغلب عليهم الخوف، وشهادة العلماء من رؤية الجمال ولذا يغلب عليهم الرجاء. وشهادة العلماء متفاوتة فشهادة بعض من الحالات، وشهادة آخرين من المقامات، وشهادة طائفة من المكاشفات، وشهادة فرقة من المشاهدات وخواص أهل العلم يشهدون به له بنعت إدراك القدم وبروز نور التوحيد من جمال الوحدانية، فشهادتهم مستغرقة في شهادة الحق لأنهم في محل المحو قائِماً بِالْقِسْطِ أي مقيما للعدل بإعطاء كل من الظهور ما هو له بحسب الاستعداد فيتجلى عليه على قدر دعائه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ فلا يصل أحد إلى معرفة كنهه وكنه معرفته الْحَكِيمُ الذي يدبر كل شيء فيعطيه من مراتب التوحيد ما يطيق إِنَّ الدِّينَ المرضي عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وهو المقام الإبراهيمي المشار إليه بقوله: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ أي نفسي وجملتي وانخلعت عن آنيتي لله تعالى ففنيت فيه إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وهم المحجوبون عن الدين والساترون للحق بالميل مع الشهوات وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ الداعين إلى التوحيد وهم العباد الواصلون الكاملون وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ وهو نفي الأغيار وقصر الوجود الحق على الله تعالى من الناس، ويحتمل أن يشار- بالذين كفروا- إلى قوى النفس الأمارة- وبالنبيين- إلى أنبياء القلوب المشرفة بوحي إلهام الغيوب، وبالآمرين بالقسط القوى الروحانية التي هي من جنود أولئك الأنبياء وأتباعهم، فبشر أولئك الكافرين بعذاب أليم وهو عذاب الحجاب والبعد عن حضرة رب الأرباب أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أي بطلت وانحطت عن حيز الاعتبار أَعْمالُهُمْ لعدم شرطها وهو التوحيد في الدنيا وهي عالم الشهادة والآخرة وهي عالم الغيب وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ لسوء حظهم وقلة استعدادهم أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ كعلماء السوء وأحبار الضلال يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ الناطق بمقام الجمع والفرق لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ وبين الموحدين ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ عن قبول الحق لفرط حجابهم واغترارهم بما أوتوا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ نار البعد إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ أي قليلة يسيرة وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ الذي هم عليه ما كانُوا يَفْتَرُونَ من القضايا والأقيسة التي جاءت بها عقولهم المشوبة بظلمات الوهم والخيال فَكَيْفَ يكون حالهم إِذا جَمَعْناهُمْ بعد تفرقهم في صحراء الشكوك وتمزيق سباع الأوهام لهم لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وهو يوم القيامة الكبرى الذي يظهر فيه الحق لمنكره، ووفيت كل نفس صالحة طالحة ما كسبت بواسطة استعدادها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ جزاء ذلك قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ أي الملك المتصرف في مظاهرك من غير معارض ولا مدافع حسبما تقتضيه الحكمة تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وهو من اخترته للرياسة الباطنة وجعلته متصرفا بإرادتك وقدرتك وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ بأن تنقله إلى غيره باستيفاء مدة إقامته في عالم الأجسام وتكميل النشأة، أو تحرم من تشاء عن إيتاء ذلك الملك لظلمه المانع له من أن ينال عهدك أو يمنح رفدك وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ بإلقاء نور من أنوار عزتك عليه فإن العزة لله جميعا وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بسلب لباس عزتك عنه فيبقى ذليلا بِيَدِكَ الْخَيْرُ كله «وأنت» القادر مطلقا تعطي على حسب مشيئتك وتتجلى طبق إرادتك وتمنح بقدر قابلية مظاهرك تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ تدخل ظلمة النفس فتستنير وتخلطهما معا مع بعد المناسبة بينهما وتخرج حي القلب من ميت النفس وميت النفس من حي القلب، أو تخرج حي العلم من ميت الجهل وميت الجهل من حي العلم وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ من النعم الظاهرة والباطنة، أو من إحداهما فقط بِغَيْرِ حِسابٍ إذ لا حجر عليك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 هذا ولما بين سبحانه أن إعطاء الملك والإعزاز من الله تعالى وأنه عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ نبه المؤمنين على أنه لا ينبغي أن يوالوا أعداء الله تعالى لقرابة أو صداقة جاهلية أو نحوهما أو أن لا يستظهروا بهم لأنه تعالى هو المعز والقادر المطلق بقوله عز قائلا: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ قال ابن عباس: كان الحجاج بن عمرو، وكهمس بن أبي الحقيق، وقيس بن زيد- والكل من اليهود- يباطنون نفرا من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم فقال رفاعة ابن المنذر، وعبد الله بن جبير، وسعيد بن خيثمة لأولئك النفر: اجتنبوا هؤلاء اليهود واحذروا لزومهم ومباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم وملازمتهم فأنزل الله هذه الآية، وقال الكلبي: نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه كانوا يتولون اليهود والمشركين ويأتونهم بالأخبار ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأنزل الله تعالى الآية ونهى المؤمنين عن فعلهم. وروى الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في عبادة بن الصامت الأنصاري وكان بدريا نقيبا وكان له حلفاء من اليهود فلما خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم الأحزاب قال عبادة: يا نبي الله إن معي خمسمائة من اليهود وقد رأيت أن يخرجوا معي فاستظهر بهم على العدو فأنزل الله تعالى لا يَتَّخِذِ إلخ، والفعل مجزوم بلا الناهية، وأجاز الكسائي فيه الرفع على الخبر والمعنى على النهي أيضا وهو متعد لمفعولين، وجوز أن يكون متعديا لواحد- فأولياء- مفعول ثان، أو حال وهو جمع ولي بمعنى الموالي من الولي وهو القرب، والمراد لا يراعوا أمورا كانت بينهم في الجاهلية بل ينبغي أن يراعوا ما هم عليه الآن مما يقتضيه الإسلام من بغض وحب شرعيين يصح التكليف بهما وإنما قيدنا بذلك لما قالوا: إن المحبة لقرابة أو صداقة قديمة أو جديدة خارجة عن الاختيار معفوة ساقطة عن درجة الاعتبار، وحمل الموالاة على ما يعم الاستعانة بهم في الغزو مما ذهب إليه البعض ومذهبنا- وعليه الجمهور- أنه يجوز ويرضخ لهم لكن إنما يستعان بهم على قتال المشركين لا البغاة على ما صرحوا به، وما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لبدر فتبعه رجل مشرك كان ذا جراءة ونجدة ففرح أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حين رأوه فقال له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: «ارجع فلن أستعين بمشرك» فمنسوخ بأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم استعان بيهود بني قينقاع ورضخ لهم واستعان بصفوان بن أمية في هوازن، وذكر بعضهم جواز الاستعانة بشرط الحاجة والوثوق أما بدونهما فلا تجوز وعلى ذلك يحمل خبر عائشة، وكذا ما رواه الضحاك عن ابن عباس في سبب النزول- وبه يحصل الجمع بين أدلة المنع وأدلة الجواز- على أن بعض المحققين ذكر أن الاستعانة المنهي عنها إنما هي استعانة الذليل بالعزيز وأما إذا كانت من باب استعانة العزيز بالذليل فقد أذن لنا بها، ومن ذلك اتخاذ الكفار عبيدا وخدما ونكاح الكتابيات منهم وهو كلام حسن كما لا يخفى. ومن الناس من استدل بالآية على أنه لا يجوز جعلهم عمالا ولا استخدامهم في أمور الديوان وغيره وكذا أدخلوا في الموالاة المنهي عنها السلام والتعظيم والدعاء بالكنية والتوقير بالمجالس، وفي فتاوى العلامة ابن حجر جواز القيام في المجلس لأهل الذمة وعد ذلك من باب البر والإحسان المأذون به في قوله تعالى: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة: 8] ولعل الصحيح أن كل ما عده العرف تعظيما وحسبه المسلمون موالاة فهو منهي عنه ولو مع أهل الذمة لا سيما إذا أوقع شيئا في قلوب ضعفاء المؤمنين ولا أرى القيام لأهل الذمة في المجلس إلا من الأمور المحظورة لأن دلالته على التعظيم قوية وجعله من الإحسان لا أراه من الإحسان كما لا يخفى مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ حال من الفاعل أي متجاوزين المؤمنين إلى الكافرين استقلالا أو اشتراكا ولا مفهوم لهذا الظرف إما لأنه ورد في قوم بأعيانهم والوا الكفار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 دون المؤمنين فهو لبيان الواقع أو لأن ذكره للاشارة إلى أن الحقيق بالموالاة هم المؤمنون وفي موالاتهم مندوحة عن موالاة الكفار وكون هذه النكتة تقتضي أن يقال مع وجود المؤمنين دون من دون المؤمنين في حيز المنع، وكونه إشارة إلى أن ولايتهم لا تجامع ولاية المؤمنين في غاية الخفاء. وقيل: الظرف في حيز الصفة لأولياء، وقيل: متعلق بفعل الاتخاذ، ومِنْ لابتداء الغاية أي لا تجعلوا ابتداء الولاية من مكان دون مكان المؤمنين وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي الاتخاذ، والتعبير عنه بالفعل- كما قال شيخ الإسلام- للاختصار أو لإيهام الاستهجان بذكره ومِنْ شرطية، ويَفْعَلْ فعل الشرط، وجوابه. فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ والكلام على حذف مضاف أي من ولايته، أو من دينه، والظرف الأول حال من شَيْءٍ والثاني خبر- ليس- وتنوين شَيْءٍ للتحقير أي ليس في شيء يصح أن يطلق عليه اسم الولاية أو الدين لأن موالاة المتضادين مما لا تكاد تدخل خيمة الوقوع ولهذا قيل: تودّ عدوي ثم تزعم أنني ... صديقك ليس النوك عنك بعازب وقيل أيضا: إذا والى صديقك من تعادي ... فقد عاداك وانقطع الكلام والجملة معترضة، وقوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا على صيغة الخطاب بطريق الغيبة استثناء مفرغ من أعم الأحوال والعامل فيه فعل النهي معتبرا فيه الخطاب أي لا تتخذوهم أولياء في حال من الأحوال إلا حال اتقائكم، وقيل: استثناء مفرغ من المفعول لأجله أي لا يتخذ المؤمن الكافر وليا لشيء من الأشياء إلا للتقية مِنْهُمْ أي من جهتهم ومن- للابتداء متعلق بمحذوف وقع حالا من قوله تعالى: تُقاةً لأنه نعت النكرة وقد تقدم عليها، والمراد- بالتقاة- ما يتقى منه وتكون بمعنى اتقاء وهو الشائع فعلى الأول يكون مفعولا به لتتقوا، وعلى الثاني مفعولا مطلقا له، ومِنْهُمْ متعلق به، وتعدى- بمن- لأنه بمعنى خاف، وخاف يتعدى بها نحو وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً [النساء: 128] فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً [البقرة: 182] والمجرور في موضع أحد المفعولين وترك المفعول الآخر للعم به أي ضررا ونحوه، وأصل تقاة وقية بواو مضمومة وياء متحركة بعد القاف المفتوحة فأبدلت الواو المضمومة تاء كتجاه وأبدلت الياء المتحركة ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ووزنه فعلة- كتخمة، وتؤدة- وهو في المصادر غير مقيس وإنما المقيس اتقاء- كاقتداء- وقرأ أبو الرجاء، وقتادة «تقيّة» - بالياء المشددة ووزنها فعلية والتاء بدل من الواو أيضا «وفي الآية دليل» على مشروعية التقية وعرفوها بمحافظة النفس، أو العرض، أو المال من شر الأعداء، والعدو قسمان: الأول من كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين كالكافر والمسلم، والثاني من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية كالمال والمتاع والملك والإمارة، ومن هنا صارت التقية قسمين: أما القسم الأول فالحكم الشرعي فيه أن كل مؤمن وقع في محل لا يمكن له أن يظهر دينه لتعرض المخالفين وجب عليه الهجرة إلى محل يقدر فيه على إظهار دينه ولا يجوز له أصلا أن يبقى هناك ويخفي دينه ويتشبث بعذر الاستضعاف فإن أرض الله تعالى واسعة نعم إن كان ممن لهم عذر شرعي في ترك الهجرة كالصبيان والنساء والعميان والمحبوسين والذين يخوفهم المخالفون بالقتل، أو قتل الأولاد، أو الآباء، أو الأمهات تخويفا يظن معه إيقاع ما خوفوا به غالبا سواء كان هذا القتل بضرب العنق، أو بحبس القوت، أو بنحو ذلك فإنه يجوز له المكث مع المخالف والموافقة بقدر الضرورة ويجب عليه أن يسعى في الحيلة للخروج والفرار بدينه ولو كان التخويف بفوات المنفعة أو بلحوق المشقة التي يمكنه تحملها كالحبس مع القوت والضرب القليل الغير المهلك لا يجوز له موافقتهم، وفي صورة الجواز أيضا موافقتهم رخصة وإظهار مذهبه عزيمة فلو تلفت نفسه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 لذلك فإنه شهيد قطعا، ومما يدل على أنها رخصة- ما روي عن الحسن- أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال لأحدهما: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم فقال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم ثم دعا بالآخر فقال له: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم فقال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: إني أصم قالها ثلاثا، وفي كل يجيبه بأني أصم فضرب عنقه فبلغ ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: أما هذا المقتول فقد مضى على صدقه ويقينه وأخذ بفضله فهنيئا له. وأما الآخر فقد رخصه الله تعالى فلا تبعة عليه «وأما القسم الثاني» فقد اختلف العلماء في وجوب الهجرة وعدمه فيه فقال بعضهم: تجب لقوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195] وبدليل النهي عن إضاعة المال، وقال قوم: لا تجب إذ الهجرة عن ذلك المقام مصلحة من المصالح الدنيوية ولا يعود من تركها نقصان في الدين لاتحاد الملة وعدوه القوي المؤمن لا يتعرض له بالسوء من حيث هو مؤمن، وقال بعضهم: الحق أن الهجرة هنا قد تجب أيضا إذا خاف هلاك نفسه أو أقاربه أو هتك حرمته بالإفراط ولكن ليست عبادة وقربة حتى يترتب عليها الثواب فإن وجوبها لمحض مصلحة دنيوية لذلك المهاجر لا لاصلاح الدين ليترتب عليها الثواب وليس كل واجب يثاب عليه لأن التحقيق أن كل واجب لا يكون عبادة بل كثير من الواجبات ما لا يترتب عليه ثواب كالأكل عند شدة المجاعة، والاحتراز عن المضرات المعلومة أو المظنونة في المرض، وعن تناول السموم في حال الصحة وغير ذلك، وهذه الهجرة أيضا من هذا القبيل وليست هي كالهجرة إلى الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم لتكون مستوجبة بفضل الله تعالى لثواب الآخرة، وعد قوم من باب التقية مداراة الكفار والفسقة والظلمة وإلانة الكلام لهم التبسم في وجوههم والانبساط معهم وإعطائهم لكف أذاهم وقطع لسانهم وصيانة العرض منهم ولا يعد ذلك من باب الموالاة المنهي عنها بل هي سنة وأمر مشروع. فقد روى الديلمي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «إن الله تعالى أمرني بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض» وفي رواية «بعثت بالمداراة» وفي الجامع «سيأتيكم ركب مبغضون فإذا جاؤوكم فرحبوا بهم» وروى ابن أبي الدنيا «رأس العقل بعد الإيمان بالله تعالى مداراة الناس» وفي رواية البيهقي «رأس العقل المداراة» وأخرج الطبراني «مداراة الناس صدقة» وفي رواية له «ما وقى به المؤمن عرضه فهو صدقة» . وأخرج ابن عدي، وابن عساكر «من عاش مداريا مات شهيدا قوا بأموالكم أعراضكم وليصانع أحدكم بلسانه عن دينه» وعن بردة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «استأذن رجل على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأنا عنده فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «بئس ابن الشعيرة- أو أخو العشيرة- ثم أذن له فألان له القول فلما خرج قلت: يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت له القول؟ فقال: يا عائشة إن من أشر الناس من يتركه الناس أو يدعه الناس اتقاء فحشه» وفي البخاري عن أبي الدرداء «إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم» وفي رواية الكشميهني «وإن قلوبنا لتقليهم» وفي رواية ابن أبي الدنيا، وإبراهيم الحرمي بزيادة، «ونضحك إليهم» إلى غير ذلك من الأحاديث لكن لا تنبغي المداراة إلى حيث يخدش الدين ويرتكب المنكر وتسيء الظنون. ووراء هذا التحقيق قولان لفئتين متباينتين من الناس، وهم الخوارج، والشيعة: أما الخوارج فذهبوا إلى أنه لا تجوز التقية بحال ولا يراعى المال وحفظ النفس والعرض في مقابلة الدين أصلا ولهم تشديدات في هذا الباب عجيبة، منها أن أحدا لو كان يصلي وجاء سارق أو غاصب ليسرق أو يغصب ماله الخطير لا يقطع الصلاة بل يحرم عليه قطعها وطعنوا على بريدة الأسلمي صحابي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بسبب أنه كان يحافظ فرسه في صلاته كي لا يهرب، ولا يخفى أن هذا المذهب من التفريط بمكان، وأما الشيعة فكلامهم مضطرب في هذا المقام فقال بعضهم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 إنها جائزة في الأقوال كلها عند الضرورة وربما وجبت فيها الضرب من اللطف والاستصلاح ولا تجوز في الأفعال كقتل المؤمن ولا فيما يعلم أو يغلب على الظن أنه إفساد في الدين وقال المفيد: إنها قد تجب أحيانا وقد يكون فعلها في وقت أفضل من تركها وقد يكون تركها أفضل من فعلها، وقال أبو جعفر الطوسي: إن ظاهر الروايات يدل على أنها واجبة عند الخوف على النفس، وقال غيره: إنها واجبة عند الخوف على المال أيضا ومستحبة لصيانة العرض حتى يسن لمن اجتمع مع أهل السنة أن يوافقهم في صلاتهم وصيامهم وسائر ما يدينون به، ورووا عن بعض أئمة أهل البيت من صلى وراء سني تقية فكأنما صلى وراء نبي، وفي وجوب قضاء تلك الصلاة عندهم خلاف، وكذا في وجوب قضاء الصوم على من أفطر تقية حيث لا يحل الإفطار قولان أيضا، وفي أفضلية التقية من سني واحد- صيانة لمذهب الشيعة عن الطعن- خلاف أيضا، وأفتى كثير منهم بالأفضلية. ومنهم من ذهب إلى جواز- بل وجوب- إظهار الكفر لأدنى مخافة أو طمع، وأفتى كثير منهم بالأفضلية. ومنهم من ذهب إلى جواز- بل وجوب- إظهار الكفر لأدنى مخافة أو طمع، ولا يخفى أنه من الإفراط بمكان، وحملوا أكثر أفعال الأئمة مما يوافق مذهب أهل السنة ويقوم به الدليل على رد مذهب الشيعة على التقية وجعلوا هذا أصلا أصيلا عندهم وأسسوا عليه دينهم- وهو الشائع الآن فيما بينهم- حتى نسبوا ذلك للأنبياء عليهم السلام وجل غرضهم من ذلك إبطال خلافة الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم ويأبى الله تعالى ذلك. ففي كتبهم ما يبطل كون أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه وبنيه رضي الله تعالى عنهم ذوي تقية بل ويبطل أيضا فضلها الذي زعموه ففي كتاب نهج البلاغة الذي هو أصح الكتب- بعد كتاب الله تعالى- في زعمهم أن الأمير كرم الله تعالى وجهه قال: علامة الإيمان إيثارك الصدق حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك، وأين هذا من تفسيرهم قوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: 13] بأكثركم تقية؟ وفيه أيضا أنه كرم الله تعالى وجهه قال: إني والله لو لقيتهم واحدا وهم طلاع الأرض كلها ما باليت ولا استوحشت وإني من ضلالتهم التي هم فيها والهدى الذي أنا عليه لعلى بصيرة من نفسي ويقين من ربي وإلى لقاء الله تعالى وحسن ثوابه لمنتظر راج. وفي هذا دلالة على أن الأمير لم يخف وهو منفرد من حرب الأعداء وهم جموع، ومثله لا يتصور أن يتأتى فيما فيه هدم الدين، وروى العياشي عن زرارة بن أعين عن أبي بكر بن حزم أنه قال: توضأ رجل ومسح على خفيه فدخل المسجد فجاء علي كرم الله تعالى وجهه فوجأ على رقبته فقال: ويلك تصلي وأنت على غير وضوء فقال: أمرني عمر فأخذ بيده فانتهى إليه ثم قال: انظر ما يقول هذا عنك ورفع صوته على عمر رضي الله تعالى عنه فقال عمر: أنا أمرته بذلك فانظر كيف رفع الصوت وأنكر ولم يتأق. وروى الراوندي شارح نهج البلاغة ومعتقد الشيعة عن سلمان الفارسي أن عليا بلغه عن عمر أنه ذكر شيعته فاستقبله في بعض طرقات بساتين المدينة وفي يد عليّ قوس فقال: يا عمر بلغني عنك ذكرك لشيعتي فقال: أربع على صلعتك فقال عليّ: إنك هاهنا ثم رمى بالقوس على الأرض فإذا هي ثعبان كالبعير فاغرا فاه وقد أقبل نحو عمر ليبتلعه فقال عمر: الله الله تعالى يا أبا الحسن لا عدت بعدها في شيء فجعل يتضرع فضرب بيده على الثعبان فعادت القوس كما كانت فمضى عمر إلى بيته قال سلمان: فلما كان الليل دعاني عليّ فقال: سر إلى عمر فإنه حمل إليه مال من ناحية المشرق وقد عزم أن يخبئه فقل له يقول لك علي: أخرج ما حمل إليك من المشرق ففرقه على من هو لهم ولا تخبه فأفضحك. قال سلمان: فمضيت إليه وأديت الرسالة فقال: أخبرني عن أمر صاحبك من أين علم به؟ فقلت وهل يخفى عليه مثل هذا؟ فقال: يا سلمان أقبل عني ما أقول لك ما عليّ إلا ساحر وإني لمستقين بك والصواب أن تفارقه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 وتصير من جملتنا قلت: ليس كما قلت لكنه ورث من أسرار النبوة ما قد رأيت منه وعنده أكثر من هذا، قال: ارجع إليه فقل: السمع والطاعة لأمرك فرجعت إلى عليّ فقال: أحدثك عما جرى بينكما فقلت: أنت أعلم مني فتكلم بما جرى بيننا ثم قال: إن رعب الثعبان في قلبه إلى أن يموت، وفي هذه الرواية ضرب عنق التقية أيضا إذ صاحب هذه القوس تغنيه قوسه عنها ولا تحوجه أن يزوج ابنته أم كلثوم من عمر خوفا منه وتقية. وروى الكليني عن معاذ بن كثير عن أبي عبد الله أنه قال: إن الله عز وجل أنزل على نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم كتابا فقال جبريل: يا محمد هذه وصيتك إلى النجباء فقال: ومن النجباء يا جبريل؟ فقال: عليّ بن أبي طالب وولده وكان على الكتاب خواتم من ذهب فدفعه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى علي وأمره أن يفك خاتما منه فيعمل بما فيه، ثم دفعه إلى الحسن ففك منه خاتما فعمل بما فيه ثم دفعه إلى الحسين ففك خاتما فوجد فيه أن اخرج بقومك إلى الشهادة فلا شهادة لهم إلا معك واشتر نفسك لله تعالى ففعل، ثم دفعه إلى على بن الحسين ففك خاتما فوجد فيه أن اطرق واصمت والزم منزلك واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ففعل، ثم دفعه إلى ابنه محمد بن علي ففك خاتما فوجد فيه حدث الناس وأفتهم وانشر علوم أهل بيتك وصدق آباءك الصالحين ولا تخافن أحدا إلا الله تعالى فإنه لا سبيل لأحد عليك، ثم دفعه إلى جعفر الصادق ففك خاتما فوجد فيه حدث الناس وأفتهم ولا تخافن إلا الله تعالى وانشر علوم أهل بيتك وصدق آباءك الصالحين فإنك في حرز وأمان ففعل، ثم دفعه إلى موسى- وهكذا إلى المهدي ... ورواه من طريق آخر عن معاذ أيضا عن أبي عبد الله، وفي الخاتم الخامس- وقل الحق في الأمن والخوف ولا تخش إلا الله تعالى وهذه الرواية أيضا صريحة بأن أولئك الكرام ليس دينهم التقية كما تزعمه الشيعة، وروى سليم بن قيس الهلالي الشيعي من خبر طويل أن أمير المؤمنين قال: لما قبض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومال الناس إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه فبايعوه حملت فاطمة وأخذت بيد الحسن والحسين ولم تدع أحدا من أهل بدر وأهل السابقة من المهاجرين والأنصار إلا ناشدتهم الله تعالى حقي ودعوتهم إلى نصرتي فلم يستجب لي من جميع الناس إلى أربعة: الزبير، وسلمان، وأبو ذر، والمقداد. وهذه تدل على أن التقية لم تكن واجبة على الإمام لأن هذا الفعل عند من بايع أبا بكر رضي الله تعالى عنه فيه ما فيه. وفي كتاب أبان بن عياش أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه بعث إلى علي قنفذا حين بايعه الناس ولم يبايعه علي وقال: انطلق إلى علي وقل له أجب خليفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فانطلق فبلغه فقال له: ما أسرع ما كذبتم على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وارتددتم والله ما استخلف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم غيري، وفيه أيضا أنه لما يجب على غضب عمر وأضرم النار بباب علي وأحرقه ودخل فاستقبلته فاطمة وصاحت يا أبتاه ويا رسول الله فرفع عمر السيف وهو في غمده فوجأ به جنبها المبارك ورفع السوط فضرب به ضرعها فاصحت يا أبتاه فأخذ علي بتلابيب عمر وهزه ووجأ أنفه ورقبته، وفيه أيضا أن عمر قال لعلي: بايع أبا بكر رضي الله تعالى عنه قال: إن لم أفعل ذلك؟ قال: إذا والله تعالى لأضربن عنقك قال: كذبت والله يا ابن صهاك لا تقدر على ذلك أنت ألام وأضعف من ذلك. فهذه الروايات تدل صريحا أن التقية بمراحل عن ذلك الإمام إذ لا معنى لهذه المناقشة والمسابة مع وجوب التقية، وروى محمد بن سنان أن أمير المؤمنين قال لعمر: يا مغرور إني أراك في الدنيا قتيلا بجراحة من عند أم معمر تحكم عليه جورا فيقتلك ويدخل بذلك الجنان على رغم منك. وروي أيضا أنه قال لعمر مرة إن لك ولصاحبك الذي قمت مقامه هتكا وصلبا تخرجان من جوار رسول الله صلّى الله عليه وسلم فتصلبان على شجرة يابسة فتورق فيفتتن بذلك من والاكما ثم يؤتى بالنار التي أضرمت لإبراهيم ويأتي جرجيس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 ودانيال وكل نبي وصديق فتصلبان فيها فتحرقان وتصيران رمادا ثم تأتي ريح فتنسفكما في اليمّ نسفا فانظر بالله تعالى عليك من يروي هذه الأكاذيب عن الإمام كرم الله تعالى وجهه هل ينبغي له أن يقول بنسبة التقية إليه سبحان الله تعالى هذا العجب العجاب والداء العضال، ومما يرد قولهم أيضا: إن التقية لا تكون إلا لخوف، والخوف قسمان: الأول الخوف على النفس وهو منتف في حق حضرات الأئمة بوجهين: أحدهما أن موتهم الطبيعي باختيارهم كما أثبت هذه المسألة الكليني في الكافي، وعقد لها بابا وأجمع عليها سائر الإمامية، وثانيهما أن الأئمة يكون لهم علم بما كان وما يكون فهم يعلمون آجالهم وكيفيات موتهم وأوقاته بالتفصيل والتخصيص فقبل وقته لا يخافون على أنفسهم ويتأقون في دينهم ويغرون عوام المؤمنين، القسم الثاني خوف المشقة والإيذاء البدني والسب والشتم وهتك الحرمة ولا شك أن تحمل هذه الأمور والصبر عليها وظيفة الصلحاء فقد كانوا يتحملون البلاء دائما في امتثال أوامر الله تعالى وربما قابلوا السلاطين الجبابرة وأهل البيت النبوي أولى بتحمل الشدائد في نصرة دين جدهم صلى الله تعالى عليه وسلم. وأيضا لو كانت التقية واجبة لم يتوقف إمام الأئمة عن بيعة خليفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ستة أشهر وماذا منعه من أداء الواجب أول وهلة، ومما يرد قولهم في نسبة التقية إلى الأنبياء عليهم السلام بالمعنى الذي أراده قوله تعالى في حقهم: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً [الأحزاب: 39] وقوله سبحانه لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] إلى غير ذلك من الآيات، نعم لو أرادوا بالتقية المداراة التي أشرنا إليها لكان لنسبتها إلى الأنبياء والأئمة وجه، وهذا أحد محملين لما أخرجه عبد بن حميد عن الحسن أنه قال: التقية جائزة إلى يوم القيامة، والثاني حمل التقية على ظاهرها وكونها جائزة إنما هو التفصيل الذي ذكرناه. ومن الناس من أوجب نوعا من التقية خاصا بخواص المؤمنين وهو حفظ الأسرار الإلهية عن الإفشاء للأغيار الموجب لمفاسد كلية فتراهم متى سئلوا عن سر أبهموه وتكلموا بكلام لو عرض على العامة بل وعلى علمائهم ما فهموه، وأفرغوه بقوالب لا يفهم المراد منها إلا من حسى من كأسهم أو تعطرت أرجاء فؤاده من عبير عنبر أنفاسهم، وهذا وإن ترتب عليه ضلال كثير من الناس وانجر إلى الطعن بأولئك السادة الأكياس حتى رمي الكثير منهم بالزندقة وأفتى بقتلهم من سمع كلامهم وما حققه إلا أنهم رأوا هذا دون ما يترتب على الإفشاء من المفاسد التي تعم الأرض. وحنانيك بعض الشر أهون من بعض. وكتم الأسرار عن أهلها فيه فوات خير عظيم وموجب لعذاب أليم «وقد يقال» ليس هذا من باب التقية في شيء إلا أن القوم تكلموا بما طفح على ألسنتهم وظهر على علانيتهم وكانت المعاني المرادة لهم بحيث تضيق عنها العبارة ولا يحوم حول حماها سوى الإشارة، ومن حذا حذوهم واقتفى في التجرد إثرهم فهم ما قالوا وتحقق ما إليه مالوا، ويؤيد هذا ما ذكره الشعراني قدس سره في الدرر المنثورة في بيان زبدة العلوم المشهورة مما نصه: وأما زبدة علم التصوف الذي وضع القوم فيه رسائلهم فهو نتيجة العمل بالكتاب والسنة فمن عمل بما علم تكلم كما تكلموا وصار جميع ما قالوه بعض ما عنده لأنه كلما ترقى العبد في باب الأدب مع الله تعالى دق كلامه على الإفهام حتى قال بعضهم لشيخه: إن كلام أخي فلان يدق علي فهمه فقال: لأن لك قميصين وله قميص واحد فهو أعلى مرتبة منك- وهذا هو الذي دعا الفقهاء ونحوهم من أهل الحجاب إلى تسمية علم الصوفية بعلم الباطن، وليس ذلك بباطن إذ الباطن إنما هو علم الله تعالى وأما جميع ما علمه الخلق على اختلاف طبقاتهم فهو من علم الظاهر لأنه ظهر للخلق فاعلم ذلك انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 فعلى هذا الإنكار على القوم ليس في محله وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أي عقاب نفسه- قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه- وفيه تهديد عظيم مشعر بتناهي المنهي عنه في القبح حيث علق التحذير بنفسه، وإطلاق النفس عليه تعالى بالمعنى الذي أراده جائز من غير مشاكلة على الصحيح، وقيل: النفس بمعنى الذات وجواز إطلاقه حينئذ بلا مشاكلة مما لا كلام فيه عند المتقدمين، وقد صرح بعض المتأخرين بعدم الجواز وإن أريد به الذات إلا مشاكلة وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ أي المرجع، والإظهار في مقام الإضمار لتربية المهابة وإدخال الروعة قيل: والكلام على حذف مضاف أي إلى حكمه أو جزائه وليس باللازم، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله ومحقق لوقوعه حتما قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أي تسروا ما في قلوبكم من الضمائر التي من جملتها ولاية الكفار، وإنما ذكر الصدر لأنه محل القلب أَوْ تُبْدُوهُ أي تظهروه فيما بينكم. يَعْلَمْهُ اللَّهُ فيؤاخذكم به عند مصيركم إليه ولا ينفعكم إخفاؤه، وتقديم الإخفاء على الإبداء قد مرت الإشارة إلى سره وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ من إيراد العام بعد الخاص تأكيدا له وتقريرا، والجملة مستأنفة غير معطوفة على جواب الشرط. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إثبات لصفة القدرة بعد إثبات صفة العلم وبذلك يكمل وجه التحذير، فكأنه سبحانه قال:- ويحذركم الله نفسه لأنه متصف بعلم ذاتي محيط بالمعلومات كلها وقدرة ذاتية شاملة للمقدورات بأسرها فلا تجسروا على عصيانه وموالاة أعدائه إذ ما من معصية خفية كانت أو ظاهرة إلا وهو مطلع عليها وقادر على العقاب بها- والإظهار في مقام الإضمار لما علمت يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ من النفوس المكلفة. ما عَمِلَتْ في الدنيا مِنْ خَيْرٍ وإن كان مثقال ذرة مُحْضَراً لديها مشاهدا في الصحف، وقيل: ظاهرا في صور، وقيل: تجد جزاء أعمالها محضرا بأمر الله تعالى، وفيه من التهويل ما ليس في- حاضرا- وهو مفعول ثان لتجد وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ عطف على ما عَمِلَتْ ومُحْضَراً محضر فيه معنى إلا أنه خص بالذكر في- الخير- للإشعار بكون الخير مرادا بالذات وكون إحضار الشر من مقتضيات الحكمة التشريعية- كما قال شيخ الإسلام- وتقدير مُحْضَراً في النظم وحذفه للاقتصار بقرينة ذكره في الأول مما قاله الأكثرون ويكون من العطف على المفعولين وهو جائز- كما في الدر المصون- ولم يجعلوه من قبيل- علمت زيدا فاضلا وعمرا- وهو ليس من باب الاقتصار على المفعول الأول من قبيل- زيد قائم. وعمرو- وهو مما حذف فيه الخبر كما صرحوا به فيلزم الاقتصار ضرورة، والفرق بين المبتدأ والمفعول في هذا الباب وهم، ولك أن تجعل تَجِدُ بمعنى تصيب فيتعدى لواحد، ومُحْضَراً حال تَوَدُّ أي تتمنى وهو عامل في الظرف أي تتمنى يوم ذلك. لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أي بين ذلك اليوم أَمَداً بَعِيداً وقيل: الضمير- لما عملت- لقربه ولأن اليوم أحضر فيه الخير والشر والمتمني بعد الشر لا ما فيه مطلقا فلا يحسن إرجاع الضمير- اليوم- وإلى ذلك ذهب في البحر، ورد بأنه أبلغ لأنه يودّ البعد بينه وبين اليوم مع ما فيه من الخير لئلا يرى ما فيه من السوء، والأمد- غاية الشيء ومنتهاه، والفرق بينه وبين الأبد أن الأبد مدة من الزمان غير محدودة، والأمد مدة لها حد مجهول والمراد هنا الغاية الطويلة، وقيل: مقدار العمر، وقيل: قدر ما يذهب به من المشرق إلى المغرب، وذهب بعضهم إلى أن المراد بالأمد البعيد المسافة البعيدة- ولعله الأظهر- فالتمني هنا من قبيل التمني في قوله تعالى: يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ [الزخرف: 38] وهذا الذي ذكر في نظم الآية هو ما ذهب إليه كثير من أئمة التفسير، وقال أبو حيان: إن الظاهر في بادئ الرأي مبني على أمر اختلف النحاة في جوازه وهو كون الفاعل ضميرا عائدا على ما اتصل به معمول الفعل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 المتقدم نحو غلام هند ضربت هي، والآية من هذا القبيل على ذلك التخريج لأن الفاعل بيودّ عائد على شيء اتصل بمعمول- يودّ- وهو يوم لأنه مضاف إلى تجد كل نفس، والتقدير تودّ كل نفس يوم وجدانها ما عملت من خير وشر مُحْضَراً لو أن بينها إلخ، وجمهور البصريين على جواز ذلك وهو الصحيح، ومنه قوله: أجل المرء يستحث- ولا يد ... ري- إذا يبتغي حصول الأماني أي المرء في وقت ابتغائه حصول الأماني يستحث أجله ولا يدري، والفراء. والأخفش. وغيره من البصريين على عدم الجواز لأن هذا المعمول فضلة فيجوز الاستغناء عنه، وعود الضمير على ما اتصل به يخرجه عن ذلك لأنه يلزم ذكر المعمول ليعود الضمير الفاعل على ما اتصل به ولا يخفى وهنه «وفي الآية أوجه أخر» منها أن ناصب الظرف قدير، ولا يرد عليه تقييد قدرته سبحانه بذلك اليوم لأنه إذ قدر في مثله علم قدرته في غيره بالطريق الأولى، ومنها أنه منصوب بالمصير. أو بالذكر. أو بيحذركم مقدرا فيكون مفعولا به. أو بالعقاب المضاف الذي أشعر به كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وصرحوا بأنه على تقدير تعلقه بنحو- اذكروا- يجوز في ما عَمِلَتْ أن يكون مبتدأ خبره حملة تَوَدُّ وأن يكون معطوفا على ما الأولى، وجملة تَوَدُّ إما مستأنفة جوابا لسؤال مقدر كأن سائلا قال حين أمروا بذكر ذلك اليوم. فماذا يكون إذ ذاك؟ فقيل: تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها إلخ، أو حال من فاعل تَجِدُ أي- اذكروا يوم تجد كل نفس ما عملت من خير وشر محضرا وادّت تباعد ما بينها وبينه- وجوز أن يكون حالا من ضمير عَمِلَتْ لقربه، واعترض بأن- الوداد- إنما هو وقت وجدان العمل حاضرا في الآخرة لا وقت العمل في الدنيا، والحالية من ضمير عَمِلَتْ تقتضيه فلا وجه لها، وأجيب بأنها حال مقدرة على معنى يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ كذا مقدرا وداده- أي حال كونه ثابتا في قدرنا وداده- فالوداد وإن لم يكن مقارنا للعمل إلا أن كون الوداد ثابتا في قدر الله تعالى وقضائه مقارن له، وهذا مثل ما قيل في قوله تعالى وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: 112] ، واعترض أيضا بأنه على تقدير الحالية من ضمير عَمِلَتْ يلزم تخصيص العمل والمقام لا يناسب، وأجيب بأنه ليس القصد التخصيص بل بيان سوء حالهم وحسرتهم ولا بأس به، وجوز أيضا أبو البقاء أن تكون ما في ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ شرطية- وإلى ذلك مال السفاقسي- ورفع تَوَدُّ ليس بمانع لأنه إذا كان الشرط ماضيا والجزاء مضارعا جاز في الجزاء الرفع والجزم من غير تفرقة بين إن الشرطية وأسماء الشرط، واعترض بأن رفع المضارع في الجزاء شاد كرفعه في الشرط كما نص عليه المبرد وشهد به الاستعمال حيث لم يوجد إلا في قول زهير: «وإن» أتاه خليل يوم مسغبة ... يقول لا غائب مالي ولا حرم فلا يستسهل تخريج القراءة المتفق عليها عليه، نعم لا بأس بتخريج الشواذ كقراءة أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ [النساء: 78] يرفع يدرك عليه، وأجيب بأنا لا نسلم الشذوذ، وقد ذكر أبو حيان أن الرفع مسموع كثيرا في لسان العرب حتى ادعى بعض المغاربة أنه أحسن من الجزم. وبيت زهير مثله قول أبي صخر: ولا بالذي إن بان منه حبيبه ... يقول ويخفي الصبر إني لجازع وقول الآخر: إن يسألوا الخير يعطوه وإن خبروا ... في الجهد أدرك منهم طيب إخبار برفع أدرك وهو مضارع وقع جواب الشرط، وقوله: وإن بعدوا لا يأمنون اقترابه ... تشوف أهل الغائب المنتظر إلى غير ذلك، وفي البحر: إن ضعف تخريج الرفع على ذلك ليس بذلك لما علمت ولكن يمتنع أن يكون ما في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 الآية جزاء لما ذكر سيبويه أن النية في المرفوع التقديم ويكون إذ ذاك دليلا على الجواب لا نفس الجواب وحينئذ يؤدي إلى تقديم المضمر على ظاهره في غير الأبواب المستثناة لأن ضمير- وبينه- عائد على اسم الشرط وهو ما فيصير التقدير- تودّ كل نفس لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ما عملت من سوء- وذلك لا يجوز، ورده السفاقسي بأنا لو تنزلنا على مذهب سيبويه لا يلزم محذور أيضا لأن الجملة لاشتمالها على ضمير الشرط يلزم تأخيرها وإن كانت متقدمة في النية ألا ترى أن الفاعل إذا اشتمل على ضمير يعود على المفعول يمتنع تقديمه عليه عند الأكثر، وإن كان متقدما عليه في النية، وقرأ عبد الله- ودّت- وعليها يرتفع مانع الارتفاع بالإجماع وتصح الشرطية إلا أن العلامة الثاني قال: إن في الصحة كلاما لأن الجملة على تقدير الموصولية حال أو عطف على تَجِدُ والشرطية لا تقع حالا ولا مضافا إليها الظرف فلم يبق إلا عطفها على اذكر- وهو بتقدير صحته يخل بالمعنى- وهو كون هذه الحالة والودادة في ذلك اليوم ولا محيص سوى جعلها حالا بتقدير مبتدأ أي- وهي ما عملت من سوء ودّت- ولا يخفى ما فيه فإنهم أعربوا أن الوصلية مع جملتها على الحالية ولم ينص النحاة على منع الإضافة إليها، وقال غير واحد من الأئمة: إن الموصولية أوفق بقراءة العامة وأجرى على سنن الاستقامة لأنه كلام- كحكاية الحال الكائنة في ذلك اليوم- فيجب أن يحمل على ما يفيد الوقوع ولا كذلك الشرطية على أنها تفيد الاستقبال ولا عمل سوء في استقبال ذلك اليوم وهذا لا ينفي الصحة لأنها وإن لم تدل على الوقوع لا تنافيه، وحديث الاستقبال يدفعه تقدير- وما كان عملت كما في نظائر له، فتدبر وافهم فعلك لا يقطعك عن اختيار الموصولية شيء وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ قيل: ذكره أولا للمنع عن موالاة الكفار وهنا حثا على عمل الخير والمنع من عمل السوء مطلقا. وجوز أن يكون معطوفا على تَوَدُّ أي تهاب من ذلك اليوم ومن العمل السيء وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ بإظهار قهاريته وهو مما لا يكاد ينبغي أن يخرج الكتاب العزيز عليه، وأهون منه عطفه على تَجِدُ والظرف معمول- لا ذكروا- أي اذكروا ذلك اليوم واذكروا يوم يحذركم الله نفسه بإظهار كبريائه وقهاريته. وقد يقال: إنه تكرار لما سبق وإعادة له لكن لا للتأكيد فقط بل لإفادة ما يفيده، وقوله تعالى: وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ من أن تحذيره تعالى نفسه من رحمته الواسعة للعباد لأنهم إذا عرفوه وحذروه جرهم ذلك إلى طلب رضاه واجتناب سخطه وذلك هو الفوز العظيم، أو من أن تحذيره سبحانه ليس مبنيا على تناسي صفة الرحمة بل هو متحقق مع تحققها أيضا. فالجملة على الأول تذييل، وعلى الثاني حال، وإلى الأول يشير كلام الحسن رضي الله تعالى عنه، وأل- في العباد للاستغراق وتكرير الاسم الجليل لتربية المهابة وإذهاب الغفلة بتوجه الذهن إلى هذا الحكم أتم توجه. قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي ذهب عامة المتكلمين إلى أن المحبة نوع من الإرادة وهي لا تتعلق حقيقة إلا بالمعاني والمنافع فيستحيل تعلقها بذاته تعالى وصفاته فهي هنا بمعنى إرادة العبد اختصاصه تعالى بالعبادة وذلك إما من باب إطلاق الملزوم وإرادة اللازم أو من باب الاستعارة التبعية بأن شبه إرادة العبد ذلك ورغبته فيه بميل قلب المحب إلى المحبوب ميلا لا يلتفت معه إلا إليه أو من باب مجاز النقص أي- إن كنتم تحبون طاعة الله تعالى أو ثوابه فاتبعوني فيما آمركم به وأنهاكم عنه- كذا قيل، وهو خلاف مذهب العارفين من أهل السنة والجماعة فإنهم قالوا المحبة تتعلق حقيقة بذات الله تعالى وينبغي للكامل أن يحب الله سبحانه لذاته وأما محبة ثوابه فدرجة نازلة، قال الغزالي عليه الرحمة في الاحياء: الحب عبارة عن ميل الطبع إلى الشيء الملذ فإن تأكد ذلك الميل وقوي يسمى عشقا، والبغض عبارة عن نفرة الطبع عن المؤلم المتعب فإذا قوي سمي مقتا، ولا يظن أن الحب مقصور على مدركات الحواس الخمس حتى يقال: إنه سبحانه لا يدرك بالحواس ولا يتمثل بالخيال فلا يحب لأنه صلى الله تعالى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 عليه وسلم سمى الصلاة- قرة عين- وجعلها أبلغ المحبوبات، ومعلوم أنه ليس للحواس الخمس فيها حظ بل حس سادس مظنته القلب والبصيرة الباطنة أقوى من البصر الظاهر والقلب أشد إدراكا من العين وجمال المعاني المدركة بالعقل أعظم من جمال الصور الظاهرة للأبصار فتكون لا محالة لذة القلوب بما تدركه من الأمور الشريفة الإلهية التي تجل أن تدركها الحواس أتم وأبلغ فيكون ميل الطبع السليم والعقل الصحيح إليه أقوى، ولا معنى للحب إلا الميل إلى ما في إدراكه لذة فلا ينكر إذا حب الله تعالى إلا من قعد به القصور في درجة البهائم فلم يجز إدراكه الحواس أصلا، نعم هذا الحب يستلزم الطاعة كما قال الوراق: تعصي الإله وأنت تظهر حبه ... هذا لعمري في القياس بديع لو كان حبك صادقا لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع والقول: بأن المحبة تقتضي الجنسية بين المحب والمحبوب- فلا يمكن أن تتعلق بالله تعالى- ساقط من القول لأنها قد تتعلق بالأعراض بلا شبهة ولا جنسية بين العرض والجوهر يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ جواب الأمر وهو رأي الخليل. وأكثر المتأخرين على أن مثل ذلك جواب شرط مقدر أي إن تتبعوني يحببكم أي يقربكم- رواه ابن أبي حاتم عن سفيان بن عيينة، وقيل: يرض عنكم وعبر عن ذلك بالمحبة على طريق المجاز المرسل أو الاستعارة أو المشاكلة، وجعل بعضهم نسبة المحبة لله تعالى من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله تعالى. وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ أي يتجاوز لكم عنها وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي لمن تحبب اليه بطاعته وتقرب اليه باتباع نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم، والجملة تذييل مقرر لما سبق مع زيادة وعد الرحمة، ووضع الاسم الجليل مع الإضمار لما مر للاشعار باستتباع وصف الألوهية للمغفرة والرحمة، وقرئ- تحبوني. ويحبكم. ويحببكم- من حبه يحبه، ومنه قوله: أحب- أبا ثروان من- حب- تمره ... وأعلم أن الرفق بالجار أرفق وو الله لولا تمره- ما حببته ... ولا كان أدنى من عبيد ومشرق ومناسبة الآية لما قبلها كما قال الطيبي: أنه سبحانه لما عظم ذاته وبين جلالة سلطانه بقوله جل وعلا: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ إلخ تعلق قلب العبد المؤمن بمولى عظيم الشأن ذي الملك والملكوت والجلال والجبروت، ثم لما ثنى بنهي المؤمنين عن موالاة أعدائه وحذر عن ذلك غاية التحذير بقوله عز قائلا: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ إلخ ونبه على استئصال تلك الموالاة بقوله عز شأنه: إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ الآية وأكد ذلك بالوعيد الشديد زاد ذلك التعلق أقصى غايته فاستأنف قوله جل جلاله: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ ليشير إلى طريق الوصول إلى هذا المولى جل وعلا فكأن قائلا يقول: بأي شيء ينال كمال المحبة وموالاة الرب؟ فقيل: بعد قطع موالاة أعدائنا تنال تلك الدرجة بالتوجه إلى متابعة حبيبنا إذ كل طريق سوى طريقه مسدود وكل عمل سوى ما أذن به مردود «واختلف في سبب نزولها» فقال الحسن، وابن جريج: زعم أقوام على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنهم يحبون الله تعالى فقالوا يا محمد: إنا نحب ربنا فأنزل الله تعالى هذه الآية، وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: «وقف النبي صلّى الله عليه وسلم على قريش في المسجد الحرام وقد نصبوا أصنامهم علقوا عليها بيض النعام وجعلوا في آذانها الشنوف وهم يسجدون لها فقال: يا معشر قريش لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم وإسماعيل ولقد كانا على الإسلام فقالت قريش: يا محمد إنما نعبد هذه حبا لله تعالى لتقربنا إلى الله سبحانه زلفى فأنزل الله تعالى قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ إلخ، وفي رواية أبي صالح «إن اليهود لما قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه أنزل هذه الآية فلما نزلت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 عرضها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على اليهود فأبوا أن يقبلوها» وروى محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: «نزلت في نصارى نجران وذلك أنهم قالوا: إنما نعظم المسيح ونعبده حبا لله تعالى وتعظيما له فأنزل الله هذه الآية ردا عليهم» يروى أنها لما نزلت قال عبد الله بن أبيّ: إن محمدا يجعل طاعته كطاعة الله تعالى ويأمرنا أن نحبه كما أحب النصارى عيسى فنزل قوله تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ أي في جميع الأوامر والنواهي ويدخل في ذلك الأمر السابق دخولا أوليا، وإيثار الإظهار على الإضمار بطريق الالتفات لتعيين حيثية الإطاعة والإشعار بعلتها، وفيه إشارة إلى رد شبهة المنافق كأنه يقول: إنما أوجب الله تعالى عليكم متابعتي لا لما يقول النصارى في عيسى بل لكوني رسول الله فَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا أو تعرضوا على أن تكون إحدى التاءين محذوفة فيكون حينئذ داخلا في حيز المقول، وفي ترك ذكر احتمال الإطاعة تلويح إلى أنها غير محتملة منهم فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ أي لا يقربهم أو لا يرضى عنهم بل يبعدهم عن جوار قدسه وحظائر عزه ويسخط عليها يوم رضاه عن المؤمنين. والمراد من الكافرين من تولى ولم يعبر بضميرهم للإيذان بأن التولي عن الطاعة كفر وبأن محبته عز وجل مخصوصة بالمؤمنين لأن نفيها- عن هؤلاء الكفار المستلزم لنفيها عن سائرهم لاشتراك العلة- يقتضي الحصر في ضدهم. إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن اليهود قالوا: نحن أبناء إبراهيم. وإسحق. ويعقوب عليهم الصلاة والسلام ونحن على دينهم فنزلت: وقيل: إن نصارى نجران لما غلوا في عيسى عليه الصلاة والسلام وجعلوه ابن الله سبحانه واتخذوه إلها نزلت ردا عليهم وإعلاما لهم بأنه من ذرية البشر المنتقلين في الأطوار المستحيلة على الإله وهذا وجه مناسبة الآية لما قبلها. وقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في وجه المناسبة: إنه سبحانه لما بين إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران: 19] وإن اختلاف أهل الكتابين فيه إنما هو للبغي والحسد وأن الفوز برضوانه ومغفرته ورحمته منوط باتباع الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم شرع في تحقيق رسالته وأنه من أهل بيت النبوة القديمة فبدأ ببيان جلالة أقدار الرسل عليهم الصلاة والسلام وأتبعه ذكر مبدأ عيسى وأمه وكيفية دعوته الناس إلى الإيمان تحقيقا للحق وإبطالا لما عليه أهل الكتابين من الإفراط والتفريط في شأنهما ثم بين محاجتهم في إبراهيم وادعائهم الانتماء إلى ملته ونزه ساحته العلية عما هم عليه من اليهودية والنصرانية ثم نص على أن جميع الرسل دعاة إلى عبادة الله تعالى وتوحيده وأن أممهم قاطبة مأمورون بالإيمان بمن جاءهم من رسول مصدق لما معهم تحقيقا لوجوب الايمان بالرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وتحتم الطاعة له حسبما يأتي تفصيله انتهى- وهو وجه وجيه-. وبدأ بآدم عليه الصلاة والسلام لأنه أول النوع وثنى بنوح عليه الصلاة والسلام لأنه آدم الأصغر والأب الثاني وليس أحد على وجه البسيطة إلا من نسله لقوله سبحانه: وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ [الصافات: 77] وذكر آل إبراهيم لترغيب المعترفين باصطفائهم في الإيمان بنبوة واسطة قلادتهم واستمالتهم نحو الاعتراف باصطفائه بواسطة كونه من زمرتهم وذكر آل عمران مع اندراجهم في الآله الأول لإظهار مزيد الاعتناء بأمر عيسى عليه الصلاة والسلام لكمال رسوخ الاختلاف في شأنه وهذا هو الداعي إلى إضافة الآل في الأخيرين دون الأولين. وقيل: المراد بالآل في الموضعين بمعنى النفس أي- اصطفى آدم، ونوحا، وإبراهيم، وعمران. وذكر الآل فيهما اعتناء بشأنهما وليس بشيء. والمراد بآل إبراهيم كما قال مقاتل: إسماعيل، وإسحق، ويعقوب، والأسباط. وروي عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 ابن عباس. والحسن رضي الله تعالى عنهم أنهم من كان على دينه كآل محمد صلّى الله عليه وسلم في أحد الإطلاقات، والمراد بآل عمران عيسى عليه الصلاة والسلام وأمه مريم بنت عمران بن ماثان من ولد سليمان بن داود عليهما السلام قاله الحسن ووهب، وقيل: المراد بهم موسى وهارون عليهما السلام، فعمران حينئذ هو عمران بن يصهر أبو موسى- قاله مقاتل- وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة. والظاهر هو القول الأول- لأن السورة تسمى آل عمران ولم تشرح قصة عيسى ومريم في سورة أبسط من شرحها في هذه السورة، وأما موسى، وهارون فلم يذكر من قصتهما فيها طرف فدل ذلك على أن عمران المذكور هو أبو مريم، وأيضا يرجح كون المراد به أبا مريم أن الله تعالى ذكر اصطفاءها بعد ونص عليه وأنه قال سبحانه: إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ [آل عمران: 35] إلخ، والظاهر أنه شرح لكيفية الاصطفاء المشار إليه بقوله تعالى: وَآلَ عِمْرانَ فيكون من قبيل تكرار الاسم في جملتين فيسبق الذهن إلى أن الثاني هو الأول نحو أكرم زيدا إن زيدا رجل فاضل، وإذا كان المراد بالثاني غير الأول كان في ذلك إلباس على السامع، وترجيح القول الأخير بأن موسى يقرن بإبراهيم في الذكر ليس في القوة- كمرجح الأول كما لا يخفى، والاصطفاء الاختيار، وأصله أخذ صفوة الشيء كالاستصفاء، ولتضمينه معنى التفضيل عدي بعلى، والمراد- بالعالمين- أهل زمان كل واحد منهم أي اصطفى كل واحد منهم على عالمي زمانه، ويدخل الملك في ذلك، والتأويل خلاف الأصل. ومن هنا استدل بعضهم بالآية على أفضلية الأنبياء على الملائكة، ووجه الاصطفاء في جميع الرسل أنه سبحانه خصهم بالنفوس القدسية وما يليق بها من الملكات الروحانية والكمالات الجسمانية حتى إنهم امتازوا كما قيل: على سائر الخلق خلقا وخلقا وجعلوا خزائن أسرار الله تعالى ومظهر أسمائه وصفاته ومحل تجليه الخاص من عباده ومهبط وحيه ومبلغ أمره ونهيه، وهذا ظاهر في المصطفين المذكورين في الآية من الرسل، وأما مريم فلها الحظ الأوفر من بعض ذلك، وقيل: اصطفى آدم بأن خلقه بيديه وعلمه الأسماء وأسجد له الملائكة وأسكنه جواره، واصطفى نوحا بأنه أول رسول بعث بتحريم البنات، والأخوات، والعمات، والخالات، وسائر ذوي المحارم وأنه أب الناس بعد آدم وباستجابة دعوته في حق الكفرة والمؤمنين، واصطفى آل إبراهيم بأن جعل فيهم النبوة والكتاب، ويكفيهم فخرا أن سيد الأصفياء منهم، واصطفى عيسى وأمه بأن جعلهما آية للعالمين. وإن أريد بآل عمران موسى وهارون فوجه اصطفاء موسى عليه الصلاة والسلام تكليم الله تعالى إياه وكتابة التوراة له بيده، ووجه اصطفاء هارون جعله وزيرا لأخيه، وأما اصطفاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام فمفهوم بطريق الأولى وعدم التصريح به للايذان بالغنى عنه لكمال شهرة أمره بالخلة، وكونه شيخ الأنبياء وقدوة المرسلين، وأما اصطفاء نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم فيفهم من دخوله في آل إبراهيم كما أشرنا إليه وينضم إليه أن سياق هذا المبحث لأجله كما يدل عليه بيان وجه المناسبة في كلام شيخ الإسلام، وروي عن أئمة أهل البيت أنهم يقرؤون- وآل محمد على العالمين- وعلى ذلك لا سؤال، ومن الناس من قال: المراد بآل إبراهيم محمد صلى الله تعالى عليه وسلم جعل كأنه كل الآل مبالغة في مدحه، وفيه أن نبينا وإن كان في نفس الأمر بمنزلة الأنبياء كلهم فضلا عن آل إبراهيم فقط إلا أن هذه الإرادة هنا بعيدة، ويشبه ذلك في البعد بل يزيد عليه ما ذكره بعضهم في الآية أنه لما أمرهم بمتابعته صلى الله تعالى عليه وسلم وإطاعته، وجعل إطاعته ومتابعته سببا لمحبة الله تعالى إياهم وعدم إطاعته سببا لسخط الله تعالى عليهم وسلب محبته عنهم أكد ذلك بتعقيبه بما هو عادة الله تعالى من اصطفاء أنبيائه على مخالفيهم وقمعهم وتذليلهم وإعدامهم لهم تخويفا لهؤلاء المتمردين عن متابعته صلى الله تعالى عليه وسلم فذكر اصطفاء آل إبراهيم على العالم مع أن العالم كانوا كافرين فجعل دينهم شائعا وذلل مخالفيهم، واصطفاء موسى وهارون على العالم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 فجعل السحرة مع كثرتهم مغلوبين لهما وفرعون مع عظمته وغلبة جنوده مغلوبا وأهلكهم، ولذا خص آدم بالذكر ونوحا والآلين، ولم يذكر إبراهيم ونبينا صلى الله تعالى عليهما وسلم إذ إبراهيم لم يغلب، وهذا الكلام لبيان أن نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم سيغلب- وليس المراد الاصطفاء بالنبوة حتى يخفي وجه التخصيص- وبهذا ظهر ضعف الاستدلال به على فضلهم على الملائكة انتهى. وفيه أن المتبادر من الاصطفاء الاجتباء والاختيار لا النصر على الأعداء على أن المقام بمراحل عن هذا الحمل، وقد أخرج ابن عساكر وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه فسر الاصطفاء هنا بالاختيار للرسالة- ومثله فيما أخرجه ابن جرير عن الحسن- وأيضا حمل آل عمران على موسى. وهارون مما لا ينساق إليه الذهن كما علمت، وكأن القائل لما لم يتيسير له إجراء الاصطفاء بالمعنى الذي أراده في عيسى عليه الصلاة والسلام وأمه اضطر إلى الحمل على خلاف الظاهر، وأنت تعلم أن الآية غنية عن الولوج في مثل هذه المضايق. ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ نصب على البدلية من الآلين أو الحالية منهما، وقيل: بدل من «نوح» وما بعده، وجوز أن يكون بدلا من آدَمَ وما عطف عليه، ورده أبو البقاء بأن آدم ليس بذرية، وأجيب بأنه مبني على ما صرح به الراغب وغيره من أن الذرية تطلق على الآباء والأبناء لأنه من الذرء بمعنى الخلق، والأب ذرئ منه الولد، والولد ذرئ من الأب إلا أن المتبادر من الذرية النسل- وقد تقدم الكلام عليه. والمعنى أنهم ذرية واحدة متشعبة البعض من البعض في النسب كما ينبئ عنه التعرض لكونهم ذرية، وروي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه- واختاره الجبائي- وأخرج عبد بن حميد عن قتادة قال: بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ في النية والعمل والإخلاص والتوحيد، ومِنْ على الأول ابتدائية والاستمالة تقريبية وعلى الثاني اتصالية والاستمالة برهانية، وقيل: هي اتصالية فيهما وَاللَّهُ سَمِيعٌ لأقوال العباد عَلِيمٌ بأفعالهم وما تكنه صدورهم فيصطفي من يشاء منهم، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ تقرير للاصطفاء وبيان لكيفيته، والظرف في حيز النصب على المفعولية بفعل محذوف أي اذكر لهم وقت قولها، وقيل: هو منصوب على الظرفية لما قبله، وهو سَمِيعٌ عَلِيمٌ على سبيل التنازع أو- السميع- ولا يضر الفصل بينهما بالأجنبي لتوسعهم في الظروف، وقيل: هو ظرف لمعنى الاصطفاء المدلول عليه- باصطفى- المذكور كأنه قيل: واصطفى آل عمران إِذْ قالَتِ إلخ فكان من عطف الجمل على الجمل لا المفردات على المفردات ليلزم كون اصطفاء الكل في ذلك الوقت، وامْرَأَتُ عِمْرانَ هي حنة بنت فاقوذا- كما رواه إسحق بن بشر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه والحاكم عن أبي هريرة- وهي جدة عيسى عليه الصلاة والسلام وكان لها أخت اسمها إيشاع تزوجها زكريا عليه الصلاة والسلام- هي أم يحيى- فعيسى ابن بنت خالة يحيى- كما ذكر ذلك غير واحد من الأخباريين- ويشكل عليه ما أخرجه الشيخان في حديث المعراج من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «فإذا أنا بابني الخالة عيسى ابن مريم، ويحي بن زكريا» وأجاب صاحب التقريب بأن الحديث مخرج على المجاز فإنه كثيرا ما يطلق الرجل اسم الخالة على بنت خالته لكرامتها عليه، والغرض أن بينهما عليهم الصلاة والسلام هذه الجهة من القرابة وهي جهة الخئولة، وقيل: كانت إيشاع أخت حنة من الأم وأخت مريم من الأب على أن عمران نكح أولا أم حنة فولدت له إيشاع ثم نكح حنة بناء على حل نكاح الربائب في شريعتهم فولدت مريم فكانت إيشاع أخت مريم من الأب وخالتها من الأم لأنها أخت حنة من الأم، وفيه أنه مخالف لما ذكره محيي السنة من أن إيشاع وحنة بنتا فاقوذا على أنه بعيد لعدم الرواية في الأمرين. أخرج ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن حنة امرأة عمران كانت حبست عن الولد والمحيض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 فبينا هي ذات يوم في ظل شجرة إذ نظرت إلى طير يزق فرخا له فتحركت نفسها للولد فدعت الله تعالى أن يهب لها ذكرا فحاضت من ساعتها فلما ظهرت أتاها زوجها فلما أيقنت بالولد قالت: لئن نجاني الله تعالى ووضعت ما في بطني لأجعلنه محررا ولم يكن يحرر في ذلك الزمان إلا الغلمان فقال لها زوجها: أرأيت إن كان ما في بطنك أنثى- والأنثى عورة- فكيف تصنعين؟ فاغتمت لذلك فقالت عند ذلك: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي وهذا في الحقيقة استدعاء للولد الذكر لعدم قبول الأنثى فيكون المعنى- رب إني نذرت لك ما في بطني فاجعله ذكرا على حد أعتق عبدك عني- وجعله بعض الأئمة تأكيدا لنذرها إخراجا عن صورة التعليق إلى هيئة التنجيز واللام من لَكَ للتعليل، والمراد لخدمة بيتك- والمحرر من لا يعمل للدنيا ولا يتزوج، ويتفرغ لعمل الآخرة ويعبد الله تعالى ويكون في خدمة الكنيسة- قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- وقال مجاهد: المحرر الخادم للبيعة، وفي رواية عنه الخالص الذي لا يخالطه شيء من أمر الدنيا، وقال محمد بن جعفر بن الزبير: أرادت عتيقا خالصا لطاعتك لا أصرفه في حوائجي، وعلى كل هو من الحرية- وهي ضربان- أن لا يجري عليه حكم السبي وأن لا تتملكه الأخلاق الرديئة والرذائل الدنيوية. وانتصابه على الحالية من ما والعامل فيه نَذَرْتُ وقيل: من الضمير الذي في الجار والمجرور والعامل فيه حينئذ الاستقرار- ولا يخفى رجحان الوجه الأول- والحال إما مقدرة أو مصاحبة، وجوز أبو حيان أن ينصب على المصدر أي- تحريرا- لأنه بمعنى النذر، وتأكيد الجملة للإيذان بوفور الرغبة في مضمونها وتقديم الجار والمجرور لكمال الاعتناء به والتعبير عن الولد بما لإبهام أمره وقصوره عن درجة العقلاء، والتقبل- أخذ الشيء على وجه الرضا وأصله المقابلة بالجزاء- وتقبل- هنا بمعنى اقبل إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ لسائر المسموعات فتسمع دعائي الْعَلِيمُ بما كان ويكون فتعلم نيتي وهو تعليل لاستدعاء القبول من حيث إن علمه تعالى بصحة نيتها وإخلاصها مستدع لذلك تفضلا وإحسانا، وتأكيد الجملة لغرض قوة يقينها بمضمونها وقصر صفتي السمع والعلم عليه تعالى لغرض اختصاص دعائها وانقطاع حبل رجائها عما عداه سبحانه بالكلية مبالغة في الضراعة والابتهال- قاله شيخ الإسلام- وتقديم صفة السمع لأن متعلقاتها وإن كانت غير متناهية إلا أنها ليست كتعلقات صفة العلم في الكثرة فَلَمَّا وَضَعَتْها الضمير- لما- ولما علم المتكلم أن مدلولها مؤنث جاز له تأنيث الضمير العائد إليه وإن كان اللفظ مذكرا، وأما التأنيث في قوله تعالى: قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى فليس باعتبار العلم بل باعتبار أن كل ضمير وقع بين مذكر ومؤنث هما عبارتان عن مدلول واحد جاز فيه التذكير والتأنيث نحو الكلام يسمى جملة، وأُنْثى حال بمنزلة الخبر فأنث العائد إلى «ما» نظرا إلى الحال من غير أن يعتبر فيه معنى الأنوثة ليلزم اللغو أو باعتبار التأويل بمؤنث لفظي يصلح للمذكر والمؤنث- كالنفس، والحبلة، والنسمة- فلا يشكل التأنيث ولا يلغو أُنْثى حال مبينة- كذا قيل- ولا يخلو عن نظر، فالحق أن الضمير لما- في بطني- والتأنيث في الأول لما أن المقام يستدعي ظهور أنوثته واعتباره في حيز الشرط إذ عليه بترتب جواب (لما) لا على وضع ولد ما، والتأنيث في الثاني للمسارعة إلى عرض ما دهمها من خيبة الرجاء وانقطاع حبل الأمل، وأُنْثى حال مؤكدة من الضمير أو بدل منه، وليس الغرض من هذا الكلام الإخبار لأنه إما للفائدة أو للازمها، وعلم الله تعالى محيط بهما بل لمجرد التجسر والتحزن، وقد قال الإمام المرزوقي: إنه قد يرد الخبر صورة لأغراض سوى الاخبار كما في قوله: قومي هم قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت «يصيبني سهمي» فإن هذا الكلام تحزن وتفجع وليس بإخبار، وحاصل المعنى هنا على ما قرر- فلما وضعت بنتا تحسرت إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 مولاها وتفجعت إذ خاب منها رجاها- وعلى هذا لا إشكال أصلا في التأنيث. ولا في الجزاء نفسه. ولا في ترتبه على الشرط، وما قيل: إنه يحتمل أن يكون فائدة هذا الكلام- التحقير للمحرر استجلابا للقبول لأنه من تواضع لله تعالى رفعه الله سبحانه- فمستحقر من القول بالنسبة إلى ما ذكرنا والتأكيد هنا قيل: للرد على اعتقادها الباطل وربما أنه يعود إلى الاعتناء والمبالغة في التحسر الذي قصدته والرمز إلى أنه صادر عن قلب كسير وفؤاد بقيود الحرمان أسير وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ ليس المراد الرد عليها في إخبارها بما هو سبحانه أعلم به كما يتراءى من السياق بل الجملة اعتراضية سيقت لتعظيم المولود الذي وضعته وتفخيم شأنه والتجهيل لها بقدره- أي والله أعلم بالشيء الذي وضعته وما علق به من عظائم الأمور ودقائق الأسرار وواضح الآيات، وهي غافلة عن ذلك كله، و «ما» على هذا عبارة عن الموضوعة، قيل: والإتيان بها دون- من- يلائم التجهيل فإنها كثيرا ما يؤتى بها لما يجهل به وجعلها عبارة عن الواضعة- أي والله تعالى أعلم بشأن أم مريم حين تحسرها وتحزنها من توهم خيبة رجاها وأنها ليست من الولي إلى الله تعالى في شيء إذ لها مرتبة عظمى وتحريرها تحرير لا يوجد منه- مما لا وجه له وجزالة النظم تأباه، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بِما وَضَعَتْ على خطاب الله تعالى لها، والمراد به تعظيم شأن الموضوع أيضا أي إنك لا تعلمين قدر ما وضعته وما أودع الله تعالى فيه. وقرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، ويعقوب «بما وضعت» على أنه من كلامها قالته اعتذارا إلى الله تعالى حيث وضعت مولودا لا يصلح للغرض، أو تسلية لنفسها أي ولعل لله تعالى في ذلك سرا وحكمة- ولعلى هذه الأنثى خير من الذكر فالجملة حينئذ لنفي العلم لا للتجهيل لأن العبد ينظر إلى ظاهر الحال ولا يقف على ما في خلاله من الأسرار، وحمل قراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما على هذا المعنى بجعل الخطاب منها لنفسها في غاية البعد، ووضع الظاهر موضع ضمير المخاطب إظهارا لغاية الإجلال وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى اعتراض آخر مبين لما اشتمل عليه الأول من التعظيم وليس بيانا لمنطوقه حتى يلحق بعطف البيان الممتنع فيه العطف. واللام في الذكر والأنثى للعهد، أما التي في الأنثى فليسبق ذكرها صريحا في قوله سبحانه حكاية: إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وأما التي في الذكر فلقولها: إِنِّي نَذَرْتُ إلخ إذ هو الذي طلبته والتحرير لا يكون إلا للذكر وسمي هذا العهد التقديري- وهو غير الذهني لأن قولها: ما فِي بَطْنِي صالح للصنفين، وقولها: مُحَرَّراً تمن لأن يكون ذكرا فأشير إلى ما في البطن حسب رجائها، وجوز أن تكون الجملة من قولها فيكون مرادها نفي مماثلة الذكر للأنثى، فاللام للجنس- كما هو الظاهر- لأنه لم يقصد خصوص ذكر وأنثى بل إن المراد أن هذا الجنس ليس كهذا الجنس، وأورد عليه أن قياس كون ذلك من قولها أن يكون وليست الأنثى كالذكر فإن مقصودها تنقيص الأنثى بالنسبة إلى الذكر والعادة في مثله أن ينفي عن الناقص شبهه بالكامل لا العكس، وأجيب بأنه جار على ما هو العادة في مثله أيضا لأن مراد أم مريم ليس تفضيل الذكر على الأنثى بل العكس تعظيما لعطية الله تعالى على مطلوبها أي وليس الذكر الذي هو مطلوبي كالأنثى على هذا يكون للعهد وهو خلاف الظاهر الذي ذهب إليه أكثر المفسرين، وأما ثانيا فلأنه ينافي التحسر والتحزن المستفاد من قولها: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى فإن تحزنها ذلك إنما هو لترجيحها الذكر على الأنثى، والمفهوم من هذا الجواب ترجيحها الأنثى على الذكر اللهم إلا أن يحمل قولها ذلك على تسلية نفسها بعد ما تحزنت على هبة الأنثى بدل الذكر الذي كانت طلبته إلا أنه تبقى مخالفة الظاهر على ما هي، فالأولى في الجواب عدم الخروج عما هو الظاهر والبحث فيما اقتضته العادة فقد قال في الانتصاف بعد نقل الإيراد وذكر القاعدة: وقد وجدت الأمر في ذلك مختلفا فلم يثبت لي تعين ما قالوه ألا ترى إلى قوله تعالى: لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 [الأحزاب: 32] فنفي عن الكامل شبه الناقص لأن الكمال لأزواج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ثابت بالنسبة إلى عموم النساء- وعلى ذلك جاءت عبارة امرأة عمران- ومنه أيضا أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ [النحل: 17] انتهى. وتمام الكلام في هذا المقام ما ذكره بعض المحققين أنه إذا دخل نفي بلا. أو غيرها. أو ما في معناه على تشبيه مصرح بأركانه، أو ببعضها احتمل معنيين تفضيل لمشبه بأن يكون المعنى أنه لا يشبه بكذا لأن وجه الشبه فيه أولى وأقوى- كقولك ليس زيد كحاتم في الجود- ويحتمل عكسه بأن يكون المعنى أنه لا يشبه به لبعد المسافة بينهما كقول العرب- ماء ولا كصداء ومرعى ولا كالسعدان وفتى ولا كمالك- وقوله: طرف الخيال ولا كليلة مدلج ووقع في شروح المقامات وغيرها أن العرب لم تستعمل النفي بلا على هذا الوجه إلا للمعنى الثاني وأن استعماله لتفضيل المشبه من كلام المولدين حتى اعترضوا على قول الحريري في قوله: غدوت ولا اغتداء الغراب وعيب قول صاحب التلويح في خطبته: نال حظا من الاشتهار ولا اشتهار الشمس نصف النهار، ومبنى الاعتراض على هذا، ولعله ليس بلازم كما أشار إليه صاحب الانتصاف، بما أورد من الآيات، ومما أورده الثعالبي من خلافه أيضا في كتابه المنتخب- فلان حسن ولا القمر. وجواد ولا المطر- على أنه لو سلم ما ذكروه فالمعاني لا حجر فيها على أن ما ورد في النفي بلا المعترضة بين الطرفين لا في كل نفي انتهى. وهو كما قال: من نفائس المعاني التي ينبغي حفظها- وقوله تعالى: وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ عطف على إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى المنصوبة المحل على المفعولية للقول- وما بينهما كما علمت اعتراض بجملتين غير محكيتين الثانية من تتمة الأولى معنى على ما بين- ولهذا أجراه البعض مجرى الاعتراض في الاعتراض فجعله نظير قوله تعالى: إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ [الواقعة: 76] . واعترض بأنه كيف يجوز الاعتراض بين كلامي أم مريم وكلام متكلم لا يجوز أن يكون معترضا بين كلامي متكلم آخر، وأجيب بأن كلام أم مريم من كلام الله تعالى نقلا عن أم مريم ولا بعد في أن يكون كلامه تعالى اعتراضا بين كلاميها اللذين هما من كلام الله تعالى نقلا عنها، هذا على تقدير أن لا تكون تانك الجملتان من كلام أم مريم أما إذا كانتا من كلامها بناء على ما سبق من القراءة والاحتمال فلا اعتراض. قيل: والغرض من عرض التسمية على عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة: 109، 116، التوبة: 78، سبأ: 48] التقرب إليه تعالى واستدعاء العصمة لها فإن مَرْيَمَ في لغتهم بمعنى العابدة- ولا يخفى بعده- إذ مجرد ذكر تسميتها بنتها مريم لا يكاد يكون مقربا لها إليه تعالى لأن التقرب إليه تعالى إنما يكون بسبب العبادة- ومجرد عرض التسمية ليس بعبادة، فكيف يكون مقربا إليهم إلا أن يقال: إن التقرب إلى الله تعالى بحبها للعبادة الذي أشعر به تسميتها بنتها عابدة، أو اعتقاد أن الله تعالى مستعاذ يجير من يستعيذ به عما يخافه. واعترض بأن هذا لا يدفع الشبهة بل هي باقية أيضا لأن المقرب حينئذ ما في القلب من الحب والاعتقاد لا عرض ذلك على من لا تخفى عليه خافية، والأولى أن يقال: إن الغرض من ذلك إظهار أنها غير راجعة عن نيتها وإن كان ما وضعته أنثى وأنها وإن لم تكن خليقة بسدانة بيت المقدس فلتكن من العابدات فيه واستقلالها بالتسمية لكون أبيها قد مات وأمها حامل بها فتقديم المسند إليه للتخصيص يعني التسمية مني لا يشاركني فيها أبوها، قيل: وفي ذلك تعريض بيتمها استعطافا له تعالى وجعلا ليتمها شفيعا لها، والقول: بأن فائدة عرض تسميتها التحسر والتحزن أيضا أي إني سميتها لا أبوها لعدم احتفاله بها والتفاته إليها لكراهة الرجال في الغالب البنات فمع أنه خلاف ما دل عليه أكثر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 الآثار ونطق به غالب الأخبار من موت أبيها وهي حمل يجر إلى ما ينبغي أن تنزه عنه ساحة الرجل الصالح عمران كما لا يخفى، وقد تقدم الكلام في مَرْيَمَ وزنا ومعنى، وقد اختار بعض المتأخرين أنها معربة مارية بمعنى- جارية- ويقرب أن يكون القول المعول عليه، واستدل بالآية على جواز تسمية الأطفال يوم الولادة لا يوم السابع لأن الظاهر أنها إنما قالت ذلك بإثر الوضع، واستدل بتغاير المفعولين على تغاير الاسم والمسمى، وقد تقدم البحث فيه وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ عطف على إِنِّي سَمَّيْتُها وأتى هنا بخير إن فعلا مضارعا دلالة على طلبها استمرار الاستعاذة دون انقطاعها وهذا بخلاف وَضَعَتْها وسَمَّيْتُها حيث أتى بالخبرين ماضيين لانقطاعهما وقدم المعاذ به على المعطوف الآتي اهتماما به، ومعنى أُعِيذُها بِكَ أمنعها وأجيرها بحفظك، وأصل العوذ كما قال الراغب: الالتجاء إلى الالتجاء إلى الغير والتعلق به يقال: عاذ فلان بفلان إذا استجار به، ومنه أخذت العوذة وهي التميمة والرقية وقرأ أبو جعفر، ونافع- «إنّي» - بفتح ياء المتكلم وكذا في سائر المواضع التي بعد الياء ألف مضمومة إلا في موضعين بِعَهْدِي أُوفِ [البقرة: 40] وآتُونِي أُفْرِغْ [الكهف: 96] وَذُرِّيَّتَها عطف على الضمير المنصوب، وفي النصيص على إعاذتها وإعاذة ذريتها رمز إلى طلب بقائها حية حتى تكبر، وطلب للتناسل منها هذا إذا أريد بالإعاذة مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ أي المطرود، وأصل الرجم: الرمي بالحجارة الحفظ من إغوائه الموقع في الخطايا لأنه إنما يكون بعد البلوغ إذ لا تكليف قبله، وأما إذا أريد منها الحفظ منه مطلقا فيفهم طلب الأمرين من الأمر الأخير، ويؤيد هذا ما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل من مسّه صارخا إلا مريم وابنها» وفي بعض طرقه أنه ضرب بينه وبينها حجاب وأن الشيطان أراد أن يطعن بإصبعه فوقعت الطعنة في الحجاب، وفي رواية إسحاق بن بشر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: كل ولد آدم ينال منه الشيطان يطعنه حين يقع بالأرض بإصبعه ولهذا يستهل إلا ما كان من مريم وابنها فإنه لم يصل إبليس إليهما» وطعن القاضي عبد الجبار بإصبع فكره في هذه الأخبار بأژنها خبر واحد على خلاف الدليل، وذلك أن الشيطان إنما يدعو إلى الشر من له تمييز ولأنه لو تمكن من هذا الفعل لجاز أن يهلك الصالحين، وأيضا لم خص عيسى وأمه دون سائر الأنبياء، وأنه لو وجد المس أو النخس لدام أثره وليس فليس، والزمخشري زعم أن المعنى على تقدير الصحة أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها فإنهما كانا معصومين، وكذلك كل من كان في صفتهما كقوله تعالى: لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر: 39، 40، ص: 82، 83] واستهلاله صارخا من مسه تخييل وتصوير لطمعه فيه كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ونحوه من التخييل قول ابن الرومي: لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... - يكون بكاء الطفل ساعة يولد- وأما حقيقة النخس والمس كما يتوهم أهل الحشو فكلا ولو سلط إبليس على الناس ينخسهم لامتلأت الدنيا صراخا وعياطا مما يبلون به من نخسه انتهى. ولا يخفى أن الأخبار في هذا الباب كثيرة وأكثرها مدون في الصحاح والأمر لا امتناع فيه، وقد أخبر به الصادق عليه الصلاة والسلام فليتق بالقبول، والتخييل الذي ركن إليه الزمخشري ليس بشيء لأن المس باليد ربما يصلح لذلك أما الاستهلال صارخا فلا على أن أكثر الروايات لا يجري فيها مثل ذلك، وقوله: لامتلأت الدنيا عياطا قلنا: هي مليئة فما من مولود إلا يصرخ، ولا يلزم من تمكنه من تلك النخسة تمكنه منها في جميع الأوقات كيف وفي الصحيح «لولا أن الملائكة يحفظونكم لاحتوشتكم الشياطين كما يحتوش الذباب العسل» ؟ وفي رواية «لاختطفتكم الجن» وفسر قوله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 تعالى: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ [الرعد: 11] في أحد الوجوه به، وبهذا يندفع أيضا قول القاضي: من أنه لو تمكن من هذا الفعل لجاز أن يهلك الصالحين وبقاء الأثر بل وحصوله أيضا ليس أمرا ضروريا للمس ولا للنخس والحصر باعتبار الأغلب والاقتصار على عيسى عليه السلام وأمه إيذانا باستجابة دعاء امرأة عمران على أتم وجه ليتوجه أرباب الحاج إلى الله تعالى بشراشرهم، أو يقدر له ما يخصصه، وعلى التقديرين يخرج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من العموم فلا يلزم تفضيل عيسى عليه الصلاة والسلام في هذا المعنى، ويؤيده خروج المتكلم من عموم كلامه، وقد قال به جمع ويشهد له ما روى الجلال في البهجة السنية عن عكرمة قال: لما ولد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أشرقت الأرض نورا فقال إبليس: لقد ولد الليلة ولد يفسد علينا أمرنا فقالت له جنوده: لو ذهبت إليه فجاءه فركضه جبريل عليه السلام فوقع بعدن، وهذا أولى من إبقاء العام على عمومه، والقول بأنه لا يبعد اختصاص عيسى وأمه بهذه الفضيلة دون الأنبياء عليهم السلام ولا يلزم منه تفضيله عليهم السلام إذ قد يوجد في الفاضل ما لا يوجد في الأفضل، وعلى كلا الأمرين الفاضل والمفضول لا إشكال في الأخبار من تلك الحيثية، نعم قد يشكل على ظاهرها أن إعاذة أم مريم كانت بعد الوضع فلا يصح حملها على الإعاذة من المس الذي يكون حين الولادة، وأجيب بأن المس ليس إلا بالانفصال وهو الوضع ومعه الإعاذة. غايته أنه عبر عنه بالمضارع كما أشرنا إليه لقصد الاستمرار فليتأمل، والعجب من بعض أهل السنة كيف يتبع المعتزلة في تأويل مثل هذه الأحاديث الصحيحة لمجرد الميل إلى ترهات الفلاسفة مع أن إبقاءها على ظاهرها مما لا يرنق لهم شربا ولا يضيق عليهم سربا، نسأل الله تعالى أن يوفقنا لمراضيه ويجعل مستقبل حالنا خيرا من ماضيه فَتَقَبَّلَها أي رضي بمريم في النذر مكان الذكر ففيه تشبيه النذر بالهدية ورضوان الله تعالى بالقبول رَبُّها أي رب مريم المبلغ لها إلى كمالها اللائق بها، وقيل: الضمير لامرأة عمران بدليل أنها التي خاطبت ونادت بقولها رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها إلخ، والأول أولى بِقَبُولٍ حَسَنٍ الباء مثلها في- كتبت بالقلم- وما يقبل به الشيء- كالسعوط واللدود- ما يسعط به ويلد أي تقبلها بوجه حسن تقبل به النذائر وهو اختصاصه سبحانه إياها بإقامتها مقام الذكر في النذر ولم يقبل قبلها أنثى، أو تسلمها من أمها عقب الولادة قبل أن تنشأ وتصلح للسدانة والخدمة. فقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: لما وضعتها خشيت حنة أن لا تقبل الأنثى محررة فلفتها في الخرقة ووضعتها في بيت المقدس عند القراء فتساهم القراء عليها- لأنها كانت بنت إمامهم- أيهم يأخذها فقال زكريا وهو رأس الأحبار: أنا آخذها وأنا أحقهم بها لأن خالتها عندي، فقالت القراء: ولكنا نتساهم عليها فمن خرج سهمه فهو أحق بها فدعوا بأقلامهم التي يكتبون بها الوحي وجمعوها في موضع ثم غطوها، وقال زكريا لبعض من الغلمان الذين لم يبلغوا الحلم ممن في بيت المقدس: أدخل يدك فأخرج فأدخل يده فأخرج قلم زكريا فقالوا: لا نرضى ولكن نلقي الأقلام في الماء فمن خرج قلمه في جرية الماء ثم ارتفع فهو يكفلها فألقوا أقلامهم في نهر الأردن فارتفع قلم زكريا في جري الماء فقالوا: نقترع الثالثة فمن جرى قلمه مع الماء فهو يكفلها فألقوا أقلامهم فجرى قلم زكريا مع الماء وارتفعت أقلامهم في جرية الماء وقبضها عند ذلك زكريا. ويجوز أن تكون الباء للملابسة، والقبول- مصدر وهو من المصادر الشاذة وهناك مضاف محذوف، والمعنى رضي بها متلبسة بأمر ذي قبول، ووجه ذي رضا وهو ما يقيمها مقام الذكور لما اختصت به من الإكرام، ويجوز أن يكون تفعل بمعنى استفعل- كتعجل بمعنى استعجل- والمعنى فاستقبلها ربها وتلقاها من أول وهلة من ولادتها بقبول أحسن وأظهر الكرامة فيها حينئذ- وفي المثل خذ الأمر بقوابله- وجوز أن تكون الباء زائدة، والقبول- مصدر مؤكد للفعل السابق بحذف الزوائد أي قبلها قبولا حسنا، وعدل عن الظاهر للإيذان بمقارنة التقبل لكمال الرضا وموافقته للعناية الذاتية فان صيغة التفعل مشعرة بحسب أصل الوضع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 بالتكلف وكون الفعل على خلاف طبع الفاعل وإن كان المراد بها في حقه تعالى ما يترتب عليه من كمال قوة الفعل وكثرته، ويحتمل على بعد بعيد أن تكون الباء للمصاحبة بمعنى مع- أي تقبل نذرها- مع قبول حسن لدعاء أمها في حقها وحق ذريتها حيث أعاذهما من الشيطان الرجيم من أول الولادة إلى خاتمة الحياة وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً أي رباها الرب تربية حسنة في عبادة وطاعة لربها قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وفي رواية عنه أنه سوّى خلقها فكانت تشب في يوم ما يشب غيرها في عام، وقيل: تعهدها بما يصلحها في سائر أحوالها، ففي الكلام استعارة تمثيلية أو مجاز مرسل بعلاقة اللزوم فإن الزارع يتعهد زرعه بسقيه عند الاحتياج وحمايته عن الآفات وقلع ما يخنقه من النبات. ونَباتاً هنا مصدر على غير لفظ الفعل المذكور وهو نائب عن إنبات، وقيل: التقدير فنبتت نباتا، والنبات والنبت بمعنى. وقد يعبر بهما عن النابت وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا وهو من ولد سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام- أي ضمها الله تعالى إليه وجعله كافلا لها وضامنا لمصالحها- على ما ذكر في حديث ابن عباس، وكل ذلك من آثار قدرته تعالى، ولم يكن هناك وحي إليه بذلك، وقرأ بتشديد الفاء حمزة، والكسائي، وعاصم وقصروا زَكَرِيَّا غير عاصم في رواية ابن عياش- وهو مفعول به لكفلها- وقرأ الباقون بتخفيف الفاء ومدوا زَكَرِيَّا ورفعوه على الفاعلية- وفيه لغتان أخريان- إحداهما «زكريّ» - بياء مشددة من غير ألف، وثانيتهما «زكر» بغير ياء ومنعه من الصرف للعلمية والعجمة، وقيل: لألف التأنيث، وقرأ أبي «وأكفلها» ، وقرأ مجاهد- «فتقبّلها ربّها» و «أنبتها» و «كفلها» على صيغة الدعاء في الأفعال الثلاثة ونصب «ربها» على النداء أي فاقبلها يا ربها وربها، واجعل زكريا كافلا لها، وقد استجاب الله تعالى دعائها في جميع ذلك، والذي عليه الأكثرون وشهدت له الأخبار أن كفالة زكريا كانت من أول أمرها، وزعم بعضهم أنه كفلها بعد أن فطمت ونبتت النبات الحسن وليس بالقوي كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ بيان لقبولها ولهذا لم يعطف، والمحراب على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما غرفة بنيت لها في بيت المقدس وجعل بابها في وسط الحائط وكانت لا يصعد عليها إلا بسلم مثل باب الكعبة، وقيل: المراد به المسجد إذ قد كانت مساجدهم تسمى المحاريب وقيل: أشرف مواضعه ومقدمها وهو مقام الإمام من المسجد في رأي، وأصله مفعال صيغة مبالغة- كمطعان- فسمي به المكان لأن المحاربين نفوسهم كثيرون فيه، وقيل: إنه يكون اسم مكان وسمي به لأن محل محاربة الشيطان فيه أو لتنافس الناس عليه ولبعض المغاربة في المدح: جمع الشجاعة والخشوع لربه ... ما أحسن المحراب في المحراب وتقديم الظرف على الفاعل لإظهار كمال العناية بأمرها، ونصب الْمِحْرابَ على التوسع إذ حق الفعل أن يتعدى بفي أو بإلى وإظهار الفاعل قيل: لفصل الجملة، وكُلَّما ظرف على أن «ما» مصدرية، والزمان محذوف أو نكرة موصوفة معناها الوقت، والعائد محذوف والعامل فيها جوابها بالاتفاق لأن ما في حيز المضاف إليه لا يعمل في المضاف ولا يجري فيها الخلاف المذكور في أسماء الشرط، ومن الناس من وهم فقال: إن ناصبه فعل الشرط، وادعى أنه الأنسب معنى فزاد في الشطرنج جملا والمعنى كل زمان دخل عليها أو كل وقت دخل عليها فيه وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً أي أصاب ولقي بحضرتها ذلك أو ذلك كائنا بحضرتها، أخرج ابن جرير عن الربيع قال: إنه كان لا يدخل عليها غيره وإذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب فكان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف، والتنوين للتعظيم فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن ذلك من ثمار الجنة والذي عليه الجل أن ذلك عوض لها عن الرضاعة، فقد روي أنها لم ترضع ثديا قط، وقيل: إن هذا كان بعد أن ترعرعت، ففي رواية ابن بشر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن زكريا عليه الصلاة والسلام استأجر لها ظئرا فلما تم لها حولان فطمت وتركت في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 المحراب وحدها وأغلقت عليها الباب ولم يتعهد أمرها سواه» قالَ يا مَرْيَمُ استئناف بياني أَنَّى لَكِ هذا أي من أين لك هذا الرزق لا يشبه أرزاق الدنيا والأبواب مغلقة دونك، ومجيء أَنَّى بمعنى من أين، أو كيف تقدم الكلام عليه، واستشهد للأول بقوله: تمنى بوادي الرمث زينب ضلة ... فكيف ومن «أنّى» بذي الرمث تطرق وللثاني بقوله: أنى ومن أين- أبك الطرب ... من حيث لا صبوة ولا ريب وحذف حرف الجر من أَنَّى نحو حذف- في- من الظروف اللازمة للظرفية من نحو- مع، وسحر- لأن الشيء إذا علم في موضع جاز حذفه، والتحقيق أن الظروف محل التوسع لكثرة استعمالهم إياها وكل ظرف يستعمل مع حرف صلته التي يكثر معها استعمالها- لأن اتصالها بمظروفها بتلك الحروف- فجاز حذفها كما جاز حذف- في- إلا أنها لما كانت الأصل لوضعها للظرفية اطرد حذفها من المتصرفة وغير المتصرفة، وغيرها من صلات الظروف لا يحذف إلا مع ما يكثر من غير المتصرفة حطا لرتبتها عن رتبة- في- كما في الكشف، واستدل بالآية على جواز الكرامة للأولياء لأن مريم لا نبوة لها على المشهور، وهذا هو الذي ذهب إليه أهل السنة والشيعة وخالف في ذلك المعتزلة، وأجاب البلخي منهم عن الآية بأن ذلك كان إرهاصا وتأسيسا لنبوة عيسى عليه الصلاة والسلام، وأجاب الجبائي بأنه كان معجزة لزكريا عليه الصلاة والسلام، ورد الأخير بأن اشتباه الأمر عليه يأبى ذلك، ولعله مبني على الظاهر، وإلا ففي اقتضاء هذه العبارة في نفس الأمر الاشتباه نظر لأنه يجوز أن يكون لاظهار ما فيها من العجب بتكلمها ونحوه، والقول- بأن اشتباه زكريا في أنها معجزة لا ينافي كونها معجزة لاشتباه أنه من الجنة أو من بساتين الدنيا ليس بشيء كما لا يخفى قالَتْ استئناف كالذي قبله هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ قيل: أرادت من الجنة، وقيل: مما رزقنيه هو لا بواسطة البشر فلا تعجب ولا تستبعد، وقيل: تكلمت بذلك صغيرة كعيسى عليه الصلاة والسلام وقد جمع من تكلم كذلك فبلغوا أحد عشر نفسا، وقد نظمهم الجلال السيوطي فقال: تكلم في المهد النبي «محمد» ... «ويحيى، وعيسى، والخليل، ومريم» ومبري «جريج» ثم «شاهد يوسف» ... «وطفل لذي الأخدود» يرويه مسلم «وطفل» عليه مر بالأمة التي ... يقال لها تزني ولا تتكلم وما شطة في عهد فرعون «طفلها» ... وفي زمن الهادي «المبارك» يختم أو بمن اتصف بمقام العبودية وانقطع إليه بالكلية قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي لأني سيد المحبين يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وحقيقة المحبة عند العارفين احتراق القلب بنيران الشوق، وروح الروح بلذة العشق، واستغراق الحواس في بحر الأنس، وظهارة النفس بمياه القدس، ورؤية الحبيب بعين الكل، وغمض عين الكل عن الكونين، وطيران السر في غيب الغيب، وتخلق المحب بخلق المحبوب- وهذا أصل المحبة- وأما فرعها فهو موافقة المحبوب في جميع ما يرضاه وتقبل بلائه بنعت الرضا والتسليم في قضائه وقدره بشرط الوفا، ومتابعة سنة المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم، وأما آدابها فالانقطاع عن الشهوات واللذات المباحة والسكون في الخلوات، والمراقبات، واستنشاق نفحات الصفات، والتواضع والذل في الحركات والسكنات: مساكين أهل العشق حتى قبورهم ... عليها تراب الذل بين المقابر وهذا لا يكون إلا بعد أن ترى الروح بعين السر مشاهدة الحق بنعت الجمال وحسن القدم لا بنعت الآلاء والنعم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 لأن المحبة متى كانت من تولد رؤية النعماء كانت معلولة وحقيقة المحبة ما لا علة فيها بين المحب والحبيب سوى ذات الحبيب، ولذا قالوا: لا تصح المحبة ممن يميز بين النار والجنة وبين السرور والمحنة وبين الفرض والسنة وبين الاعتواض والاعتراض ولا تصح إلا ممن نسي الكل واستغرق في مشاهدة المحبوب وفني فيه: خليلي لو أحببتما لعلمتما ... محل الهوى من مغرم القلب صبه تذكر والذكرى تشوق وذو الهوى ... يتوق ومن يعلق به الحب يصبه غرام على يأس الهوى ورجائه ... وشوق على بعد المراد وقربه وقد يقال: المحبة ثلاثة أقسام، القسم الأول محبة العوام وهي مطالعة المنة من رؤية إحسان المحسن جبلت القلوب على محبة من أحسن إليها وهو حب يتغير وهو لمتابعي الأعمال الذين يطلبون أجرا على ما يعملون، وفيه يقول أبو الطيب: وما أنا بالباغي على الحب رشوة ... ضعيف هوى يرجى عليه ثواب (القسم الثاني) محبة الخواص المتبعين للأخلاق الذين يحبونه إجلالا وإعظاما ولأنه أهل لذلك، وإلى هذا القسم أشار صلّى الله عليه وسلم بقوله: «نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه» ، وقالت رابعة رحمها الله تعالى: أحبك حبين حب الهوى ... وحب لأنك أهل لذاكا وهذا الحب لا يتغير إلى الأبد لبقاء الجمال والجلال إلى السرمد (والقسم الثالث) محبة خواص المتبعين للأحوال وهي الناشئة من الجذبة الإلهية في مكامن «كنت كنزا مخفيا» وأهل هذه المحبة هم المستعدون لكمال المعرفة، وحقيقتها أن يفنى المحب بسطوتها فيبقى بلا هو وربما بقي صاحبها حيران سكران لا هو حي فيرجى ولا ميت فيبكى، وفي مثل ذلك قيل: يقولون إن الحب كالنار في الحشا ... ألا كذبوا فالنار تذكو وتخمد وما هو إلا جذوة مس عودها ... ندى فهي لا تذكو ولا تتوقد يكفي في شرح الحب لفظه فإنه- حاء، وباء- والحاء من حروف الحلق، والباء شفوية، ففيه إشارة إلى أن الهوى ما لم يستول على قلبه ولسانه وباطنه وظاهره وسره وعلنه لا يقال له: حب، وشرح ذاك يطول، وهذه محبة العبد لربه، وأما محبة ربه سبحانه له فمختلفة أيضا، وإن صدرت من محل واحد فتعلقت بالعوام من حيث إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ من عباده أن يرزقه بِغَيْرِ حِسابٍ تقدم معناه، والجملة تعليل لكونه من عند الله، والظاهر أنها من كلام مريم فحينئذ تكون في محل النصب داخلة تحت القول، وقال الطبري: إنها ليست من كلامها بل هي مستأنفة من كلامه تعالى إخبارا لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم، والأول أولى، وقد أخرج أبو يعلى عن جابر «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أقام أياما لم يطعم طعاما حتى شق ذلك عليه فطاف في منازل أزواجه فلم يجد عند واحدة منهن شيئا فأتى فاطمة فقال: يا بنية هل عندك شيء أكله فإني جائع؟ فقالت: لا والله فلما خرج من عندها بعثت إليها جارة لها برغيفين وقطعة لحم فأخذته منها فوضعته في جفنة لها وقالت: لأوثرن بهذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على نفسي ومن عندي وكانوا جميعا محتاجين إلى شبعة طعام فبعثت حسنا أو حسينا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فرجع إليها فقالت له: بأبي أنت وأمي قد أتى الله تعالى بشيء قد خبأته لك قال: هلمي يا بنية بالجفنة فكشفت عن الجفنة فإذا هي مملوءة خبزا ولحما فلما نظرت إليها بهتت وعرفت أنها بركة من الله تعالى فحمدت الله تعالى وقدمته إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فلما رآه حمد الله تعالى، وقال: من أين لك هذا يا بنية؟ قالت: يا أبتي هو من عند الله إن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 الله يرزق من يشاء بغير حساب فحمد الله سبحانه ثم قال: الحمد لله الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بني إسرائيل فإنها كانت إذا رزقها الله تعالى رزقا فسئلت عنه قالت: هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ثم جمع عليا والحسن والحسين وجمع أهل بيته حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو فأوسعت فاطمة رضي الله تعالى عنها على جيرانها» . هذا (ومن باب الاشارة في الآيات) لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ نهي عن موالاة المؤمنين الكافرين لعدم المناسبة بينهم في الحقيقة ولفرق بين الظلمة والنور والظل والحرور، والولاية تقتضي المناسبة ومتى لم تحصل كانت الولاية عن محض رياء أو نفاق والله تعالى لا يجب المرائين ولا المنافقين، ومن هنا نهى أهل الله تعالى المريدين عن موالاة المنكرين لأن ظلمة الإنكار- والعياذ بالله تعالى- تحاكي ظلمة الكفر وربما تراكمت فسدت طريق الإيمان، ومن يفعل ذلك فليس من ولاية الله تعالى في شيء معتد به إذ ليس فيه نورية صافية يناسب بها الحضرة الإلهية إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً فحينئذ تجوز الموالاة ظاهرا، وهذا بالنسبة للضعفاء وأما من قوي يقينه فلا يخشى إلا الله تعالى وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ أي يدعوكم إلى التوحيد العياني لئلا يكون خوفكم من غيره وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ فلا تحذروا إلا إياه، والأكثرون على أن هذا خطاب للخواص العارفين إذ لا يحذر نفسه من لا يعرفه وقد حذر من دونهم بقوله سبحانه: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ قال إبراهيم الخواص: وعلامة الخوف في القلب دوام المراقبة وعلامة المراقبة التفقد للأحوال النازلة قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ من الموالاة أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ لأنه مع كل نفس وخطرة وَيَعْلَمُ ما فِي سموات الأرواح وأرض الأجسام وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فلا يشغله شأن عن شأن ولا يقيده مظهر عن مظهر يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ لأن كل ما يعمله الإنسان أو يقوله ينتقش منه أثر في نفسه ويسطر في صحائف النفوس السماوية إلا أنه لاشتغاله بالشواغل الحسية والإدراكات الوهمية والخيالية لا يرى تلك النفوس ولا يبصر هاتيك السطور فإذا تجرد عن عالم الكثافة بصر ورأى وشاهد ما به قلم الاستعداد جرى فإذا وجد سوءا تود نفسه وتتمنى لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً لتعذبها به وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ كرره تأكيدا لئلا يعملوا ما يستحقون به عقابه وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ أي بسائرهم فلهذا حذرهم، الرحمة فكأنه قيل لهم: اتبعوني بالأعمال الصالحة يخصكم الله تعالى برحمته، وتعلقت بالخواص من حيث الفضل فكأنه قيل لهم: اتبعوني بمكارم الأخلاق يخصكم بتجلي صفات الجمال، وتعلقت بخواص الخواص من حيث الجذبة فكأنه قيل لهم: اتبعوني ببذل الوجود يخصكم بجذبه لكم إلى نفسه، وهناك يرتفع البون من البين، ويظهر الصبح لذي عينين والقطرة من هذه المحبة تغني عن الغدير: وفي سكرة منها ولو عمر ساعة ... ترى الدهر عبدا طائعا وله الحكم وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ أي معاصيكم التي سلفت منكم على خلاف المتابعة ولا يعاقبكم عليها أو يغفر لكم ذنوبكم بستر ظلمة صفاتكم بأنوار صفاته أو يغفر لكم ذنوب وجودكم ويثيبكم مكانه وجودا لا يفنى كما قال: «فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به» الحديث وَاللَّهُ غَفُورٌ يكفر خطاياكم ويمحو ذنوب صفاتكم ووجودكم رَحِيمٌ يهب لكم عوض ذاك حسنات وصفات ووجودا حقانية خيرا من ذلك قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فإن المريد يلزمه متابعة المراد فَإِنْ تَوَلَّوْا أي فإن أعرضوا فهم كفار منكرون محجوبون واللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ لقصور استعدادهم عن ظهور جماله فيهم إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ الاصطفاء أعم من المحبة والخلة فيشمل الأنبياء كلهم وتتفاضل فيه مراتبهم كما يشير إليه قوله تعالى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ فأخص المراتب هو المحبة، وإليه يشير قوله تعالى: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ ثم الخلة، وفي لفظها إشارة إلى ذلك من طريق مخارج الحروف وأعمها الاصطفاء فاصطفى آدم بتعليم الصفات وجمع اليدين وإسجاد الأكوان له، ونوحا الذي هو الأب الثاني بتلك الأبوة وبما كان له مع قومه، واصطفى آل إبراهيم وهم الأنبياء من ذريته بظهور أنوار تجليه الخاص على آفاق وجودهم، وآل عمران بجعلهم آية للعالمين ذرية بعضها من بعض في الدين والحقيقة إذ الولادة قسمان: صورية ومعنوية، وكل نبي تبع نبيا في التوحيد والمعرفة وما يتعلق بالباطن من أصول الدين فهو ولده كأولاد المشايخ والولد سر أبيه، ويمكن أن يقال: آدم هو الروح في أول مقامات ظهورها، ونوح هو هي في مقامها الثاني من مقامات التنزل وإبراهيم هو القلب الذي ألقاه نمرود النفس في نيران الفتن ورماه فيها بمنجنيق الشهوات، وآله القوى الروحانية، وعمران هو العقل الإمام في بيت مقدس البدن، وآله التابعون له في ذلك البيت المقتدون به، وكل ذلك ذرية بعضها من بعض لوحدة المورد واتفاق المشرب إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً عن رق النفس مخلصا في عبادتك عن الميل إلى السوي فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ قال الواسطي: محفوظ عن إدراك الخلق وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً حيث سقاها من مياه القدرة وأثمرها شجرة النبوة وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا لطهارة سره، وشبيه الشيء منجذب إليه كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً هو ما علمت، ويجوز أن يراد الرزق الروحاني من المعارف والحقائق والعلوم والحكم الفائضة عليها من عند الله تعالى إذ الاختصاص بالعندية يدل على كونه أشرف من الأرزاق البدنية. وأخرج ابن أبي حاتم من بعض الطرق عن مجاهد أنه قال رزقا أي علما، وقد يقال على نحو الأول ليتم تطبيق ما في الآفاق على ما في الأنفس إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ وهي النفس في أول مراتب طاعتها لعمران العقل إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي وهو غلام القلب مُحَرَّراً ليس في رق شيء من المخلوقات فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وهي نفس أيضا إلا أنها أكمل منها في المرتبة، والجنس يلد الجنس وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ لعلمه أنه سيظهر من هذه الأنثى العجب العجاب، وغيره سبحانه تخفى عليه الأسرار وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وهي العابدة وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ وهو الشهوات النفسانية الحاجبة للنفس القدسية عن رياض الملكوت فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وهو اختصاصه إياها بإفاضة أنواره عليها وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً ورقاها فيما تكمل به نشأتها ترقيا حسنا غير مشوب بالعوائق والعلائق وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا الاستعداد كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا وتوجه نحوها في محراب تعبدها المبني لها في بيت مقدس القلب وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً تتغذى به الأرواح في عالم الملكوت قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا الرزق العظيم قالت: هو مفاض من عند الله منزه عن الحمل بيد الافكار إِنَّ اللَّهَ الجامع لصفات الجمال والجلال يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ ويفيض عليهم من علمه حسب قابليتهم بِغَيْرِ حِسابٍ فسبحانه من إله جواد كريم وهاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قصة مستقلة سيقت في أثناء قصة مريم لكمال الارتباط مع ما في إيرادها من تقرير ما سيقت له، و (هنا) ظرف مكان، واللام- للبعد، والكاف- للخطاب أي في ذلك المكان حيث هو قاعد عند مريم في المحراب، وهي ظرف ملازم للظرفية وقد تجر بمن وإلى وجوز أن يراد بها الزمان مجازا فإن (هنا) و (ثم) و (حيث) كثيرا ما تستعار له وهي متعلقة- بدعا- وتقديم الظرف للإيذان بأنه أقبل على الدعاء من غير تأخير، وقال الزجاج: إن (هنا) هنا مستعارة للجهة والحال- أي من تلك الحال دعا زكريا- كما تقول: من هاهنا قلت كذا، ومن هنالك قلت كذا- أي من ذلك الوجه وتلك الجهة. أخرج ابن بشر، وابن عساكر عن الحسن قال: لما وجد زكريا عند مريم ثمر الشتاء في الصيف وثمر الصيف في الشتاء يأتيها به جبريل قال لها: أنى لك هذا في غير حينه؟ قالت: هو رزق من عند الله يأتيني به الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب فطمع زكريا في الولد فقال: إن الذي أتى مريم بهذه الفاكهة في غير حينها لقادر على أن يصلح لي زوجتي ويهب لي منها ولدا فعند ذلك دعا ربه وذلك لثلاث ليال بقين من المحرم قام زكريا فاغتسل ثم ابتهل في الدعاء إلى الله تعالى، وقيل: أطمعه في الولد فدعا مع أنه كان شيخا فانيا وكانت امرأته عاقرا لما أن الحال نبهته على جواز ولادة العاقر من الشيخ من وجوه: الأول ما أشار إليه الأثر من حيث إن الولد بمنزلة الثمر والعقر بمنزلة غير أوانه، والثاني أنه لما رأى تقبل أنثى مكان الذكر تنبه لأنه يجوز أن يقوم الشيخ مقام الشاب والعاقر مقام الناتج، والثالث أنه لما رأى تقبل الطفل مقام الكبير للتحرير تنبه لذلك. والرابع أنه لما رأى تكلم مريم في غير أوانه تنبه لجواز أن تلد امرأته في غير أوانه، والخامس أنه لما سمع من مريم اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ تنبه لجواز أن تلد من غير استعداد ولا يخفى ما في بعض هذه الوجوه من الخدش، وعلى العلات ليس ما رأى فقط علة موجبة للإقبال على الدعاء بل كان جزءا من العلة التامة التي من جملتها كبر سنه عليه السلام وضعف قواه وخوف مواليه حسبما فصل في سورة مريم قالَ شرح للدعاء وبيان لكيفيته رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ الجاران متعلقان بما قبلهما وجاز لاختلاف المعنى، ومِنْ لابتداء الغاية مجازا أي أعطني من عندك ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً أي مباركة كما قال السدي، وقيل: صالحة تقية نقية العمل، ويجوز أن يتعلق الجار الأخير بمحذوف وقع حالا من ذرية، وجاء الطلب بلفظ الهبة لأن الهبة إحسان محض ليس في مقابله شيء وهو يناسب ما لا دخل فيه للوالد لكبر سنه ولا للوالدة لكونها عاقرة لا تلد فكأنه قال: أعطني ذرية من غير وسط معتاد، والذرية في المشهور النسل تقع على الواحد والجمع والذكر والأنثى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 والمراد هاهنا ولد واحد قال الفراء: وأنث- الطيبة- لتأنيث لفظ الذرية والتأنيث والتذكير تارة يجيئان على اللفظ وأخرى على المعنى وهذا في أسماء الأجناس كما في قوله: أبوك خليفة ولدته أخرى ... وأنت خليفة ذاك الكمال بخلاف الأعلام فإنه لا يجوز أن يقال: جاءت طلحة لأن اسم العلم لا يفيد إلا ذلك الشخص فإذا كان مذكرا لم يجز فيه إلا التذكير إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ أراد كثير الإجابة لمن يدعوك من خلقك وهو تعليل لما قبله وتحريك لسلسلة الاجابة، وفي ذلك اقتداء بجده الأعلى إبراهيم عليه السلام إذ قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ [إبراهيم: 39] قيل: قد ذكر الله تعالى في كيفية دعائه ثلاث صيغ، إحداها هذه، والثانية إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [مريم: 4] إلخ، والثالثة رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً [الأنبياء: 89] إلخ، فدل على أن الدعاء تكرر منه ثلاث مرات كل مرة بصيغة، ويدل على أن بين الدعاء والإجابة زمانا، ويصرح به ما نقل في بعض الآثار أن بينهما أربعين سنة، وفيه منع ظاهر لجواز أن تكون الصيغ الثلاث حكاية لدعاء واحد مرة على سبيل الإيجاز، وتارة على سبيل الإسهاب، وأخرى على سبيل التوسط، وهذه الحكاية في هذه الصيغ إنما هي بالمعنى إذ لم يكن لسانهم عربيا ولهذا ورد عن الحسن أنه عليه السلام حين دعا قال: يا رازق مريم ثمار الصيف في الشتاء وثمار الشتاء في الصيف هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً ولم يذكر في الدعاء- يا رب- قيل: ويدل على أنه دعاء واحد متعقب بالتبشير العطف بالفاء في قوله تعالى: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وفي قوله سبحانه: فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى [الأنبياء: 90] وظاهر قوله جل شأنه في مريم: إِنَّا نُبَشِّرُكَ [الحجر: 53، مريم: 7] اعتقاب التبشير الدعاء لا تأخره عنه، وأثر- إن بين الدعاء والإجابة أربعين سنة- لم نجد له أثرا في الصحاح، نعم ربما يشعر بعض الأخبار الموقوفة أن بين الولادة والتبشير مدة كما سنشير إلى ذلك قريبا إن شاء الله تعالى، والمراد من الملائكة جبريل عليه السلام فإنه المنادى وحده- كما أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود- وذكر عبد الرحمن بن أبي حماد أنه كان يقرأ فتناداه جبريل، فالجمع هنا مجاز عن الواحد للتعظيم، أو يكون هذا من إسناد فعل البعض للكل، وقيل: الجمع فيه مثله في قولك: فلان يركب الخيل ويلبس الديباج، واعترض بأن هذا إنما يصح إذا أريد واحد لا بعينه وهاهنا أريد المعين فلعل ما تقدم أولى بالإرادة، وقيل: الجمع على حاله والمنادى كان جملة من الملائكة، وقرأ حمزة. والكسائي فناديه بالإمالة والتذكير. وأخرج ابن المنذر. وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قال: ذكروا الملائكة ثم تلا إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى [النجم: 27] وكان يقرأها- فناداه الملائكة- ويذكر في جميع القرآن، وأخرج الخطيب عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ كذلك وَهُوَ قائِمٌ جملة حالية من مفعول النداء مقررة لما أشارت إليه الفاء على ما أشرنا إليه، وقوله تعالى: يُصَلِّي حال من المستكن في قائِمٌ أو حال أخرى من المفعول على القول بجواز تعددها من غير عطف ولا بدلية، أو خبر ثان للمبتدأ على رأي من يرى مثل ذلك، وقيل: الجملة صفة- لقائم- والمراد بالصلاة ذات الأقوال والأفعال كما هو الظاهر- وعليه أكثر المفسرين. وأخرج ابن المنذر عن ثابت قال: الصلاة خدمة الله تعالى في الأرض ولو علم الله تعالى شيئا أفضل من الصلاة ما قال: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي، وقيل: المراد بها الدعاء والأول يدل على مشروعية الصلاة في شريعتهم فِي الْمِحْرابِ أي في المسجد، أو في موقف الإمام منه، أو في غرفة مريم، والظرف متعلق- بيصلي- أو- قائم- على تقدير كون يُصَلِّي حالا من ضمير قائِمٌ لأن العامل فيه وفي الحال شيء واحد فلا يلزم الفصل بالأجنبي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 كما يلزم على التقادير الباقية كذا قالوا، والذي يظهر أن المسألة من باب التنازع فإن كلا من قائِمٌ ويُصَلِّي يصح أن يتسلط على فِي الْمِحْرابِ على أي وجه تقدم من وجوه الاعراب. ثم اعلم أن الصلاة في المحاريب المشهورة الموجودة الآن في مساجد المسلمين قد كرهها جماعة من الأئمة- وإلى ذلك ذهب علي كرم الله وجهه، وإبراهيم رحمه الله فيما أخرجه عنهما ابن أبي شيبة- وهي من البدع التي لم تكن في العصر الأول، فعن أبي موسى الجهني قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا يزال أمتي بخير ما لم يتخذوا في مساجدهم مذابح كمذابح النصارى» وعن عبد الله بن أبي الجعد قال: «كان أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم يقولون: «إن من أشراط الساعة أن تتخذ المذابح في المساجد» وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «اتقوا هذه المذابح» يعني المحاريب، والروايات في ذلك كثيرة، وللإمام السيوطي رسالة مستقلة فيها أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى أي بأن الله، وبعد إسقاط حرف الجر المطرد في- أن وإن- يجوز في المنسبك اعتبار النصب واعتبار الجر، والأول مذهب سيبويه، والثاني مذهب الخليل، وقرأ نافع وابن عامر بكسر همزة إن وخرج على إضمار القول، وهو مذهب البصريين، أو على إجراء النداء مجرى القول لأنه نوع منه- وهو مذهب الكوفيين- وقرأ حمزة، والكسائي «يبشرك» من الإبشار، وقرأ «يبشرك» من الثلاثي. أخرج ابن جرير عن معاذ الكوفي قال: من قرأ يبشر مثقلة فإنه من البشارة، ومن قرأ يبشر مخففة بنصب الياء فإنه من السرور- ويحيى- اسم أعجمي على الصحيح، وقيل: عربي منقول من الفعل والمانع له من الصرف على الأول العلمية والعجمة، وعلى الثاني العلمية ووزن الفعل، والقول- بأنه لا قاطع لمنع صرفه لاحتمال أن يكون مبنيا يجعل العلم جملة بأن يكون فيه ضمير كما في قوله: نبئت أخوالي بني يزيد- ليس بشيء لما في ذلك الاحتمال من التكلف المستغنى عنه ما يكاد يكون دليلا قطعيا للقطع، والقائلون بعربيته منهم من وجه تسميته بذلك بأن الله تعالى أحيا به عقر أمه، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ومنهم من وجه ذلك بأن الله تعالى أحيا قلبه بالإيمان، وروي عن قتادة، وقيل: سمي بِيَحْيى لأنه علم الله سبحانه أن يستشهد والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وقيل: لأنه يحيا بالعلم والحكمة اللتين يؤتاهما، وقيل: لأنه الله يحيي به الناس بالهدى، قال القرطبي: كان اسمه في الكتاب الأول حيا، ورأيت في إنجيل متى أنه عليه السلام كان يدعى يوحنا المعمداني لما أنه كان يعمد الناس في زمانه على ما يحكيه كتب النصارى، وجمع- يحيى- يحيون رفعا، ويحيين جرا ونصبا، وتثنيته كذلك يحييان ويحيين، ويقال في النسب إليه: يحي بحذف الألف، ويحيوي- بقلبها واوا- ويحياوي بزيادة ألف قبل الواو المنقلبة عن الألف الأصلية، وفي تصغيره- يحي- بوزن فعيعل قال مولانا شيخ الإسلام: وينبغي أن يكون هذا الكلام إلى آخره محكيا بعبارة من الله عز وجل على منهاج قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر: 53] الآية كما يلوح به مراجعته عليه السلام في الجواب إليه تعالى بالذات لا بواسطة الملك، والعدول عن إسناد التبشير بنون العظمة حسبما وقع في- سورة مريم- للجري على سنن الكبرياء- كما في قول الخلفاء: أمير المؤمنين يرسم لك كذا- وللإيذان بأن ما حكي هناك من النداء والتبشير وما يترتب عليه من المحاورة كان كل ذلك بواسطة الملك بطريق الحكاية منه سبحانه لا بالذات- كما هو المتبادر- وبهذا يتضح اتحاد المعنى في السورتين الكريمتين فتأمل انتهى، وكان الداعي إلى اعتبار ما هنا محكيا بعبارة من الله تعالى ظهور عدم صحة كون ما في سورة مريم من عبارة الملك غير محكي من الله تعالى، وأن الظاهر اتحاد الدعاءين وإلا فما هنا مما لا يجب حمله على ما ذكر لولا ذلك، والملوح غير موجب كما لا يخفى- ولا بد في الموضعين من تقدير مضاف كالولادة إذا التبشير لا يتعلق بالأعيان، ويؤول في المعنى إلى ما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 هناك أي- إن الله يبشرك بولادة علام اسمه يحيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ نصب على الحال المقدرة من يحيى: والمراد بالكلمة عيسى عليه السلام- وهو المروي عن ابن عباس، ومجاهد، وقتادة- وعليه أجلة المفسرين وإنما سمي عيسى عليه السلام بذلك لأنه وجد بكلمة- كن- من دون توسط سبب عادي فشابه البديعيات التي هي عالم الأمر، ومِنَ لابتداء الغاية مجازا متعلقة بمحذوف وقع صفة لكلمة- أي بكلمة كائنة منه تعالى وأريد بهذا التصديق الإيمان وهو أول من آمن بعيسى عليه السلام وصدق أنه كلمة الله تعالى وروح منه في المشهور. أخرج أحمد عن مجاهد قال: «قالت امرأة زكريا لمريم: إني أجد الذي في بطني يتحرك للذي في بطنك» . وأخرج ابن جرير من طريق ابن جريج عن ابن عباس قال: «كان يحيى وعيسى ابني خالة وكانت أم يحيى تقول لمريم إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك» فلذلك تصديقه له وكان أكبر من عيسى بستة أشهر كما قال الضحاك وغيره، وقيل: بثلاث سنين، قيل: وعلى كل تقدير يكون بين ولادة يحيى وبين البشارة بها زمان مديد لأن مريم ولدت وهي بنت ثلاث عشرة سنة أو بنت عشر سنين، واعترض بأن هذا إنما يتم لو كان دعاء زكريا عليه السلام زمن طفولية مريم قبل العشر أو الثلاثة عشرة، وليس في الآية سوى ما يشعر بأن زكريا عليه السلام لما تكرر منه الدخول على مريم ومشاهدته الرزق لديها وسؤاله لها وسماعه منها ذلك الجواب اشتاق إلى الولد فدعا بما دعا، وهذا الدعاء كما يمكن أن يكون في مبادى الأمر يمكن أن يكون في أواخره قبيل حمل مريم وكونه وفي الأواخر غير بعيد لما أن الرغبة حينئذ أوفر حيث شاهد عليه السلام دوام الأمر وثباته زمن الطفولية وبعدها، وهذا قلما يوجد في الأطفال إذ الكثير منهم قد يلقي الله تعالى على لسانه في صغره ما قد يكون عنه بمراحل في كبره فليس عندنا ما يدل صريحا على أن بين الولادة والتبشير مدة مديدة ولا بين الدعاء والتبشير أيضا، نعم عندنا ما يدل على أن يحيى أكبر من عيسى عليهما السلام وهو مما اتفق عليه المسلمون وغيرهم، ففي إنجيل متى ما يصرح بأنه ولد قبله وقتله هيردوس قبل رفعه وأنه عمّد المسيح والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. وحكي عن أبي عبيدة أن معنى بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ بكتاب منه، والمراد به الإنجيل وإطلاق الكلمة عليه كإطلاقها على القصيدة في قولهم- كلمة الحويدرة- للعينية المعروفة بالبلاغة وَسَيِّداً عطف على مصدقا، وفسره ابن عباس بالكريم، وقتادة بالحليم، والضحاك بالحسن الخلق، وسالم بالتقى، وابن زيد بالشريف، وابن المسيب بالفقيه العالم، وأحمد بن عاصم بالراضي بقضاء الله تعالى، والخليل بالمطاع الفائق أقرانه، وأبو بكر الوراق بالمتوكل، والترمذي بالعظيم الهمة، والثوري بمن لا يحسد، وأبو إسحق بمن يفوق بالخير قومه، وبعض أهل اللغة بالمالك الذي تجب طاعته، إلى غير ذلك من الأقوال وكل ما فيها من الأوصاف مما يصلح ليحيى عليه السلام لأنها صفات كمال، وأحق الناس بصفات الكمال النبيون إلا أن التحقيق أن أصل معنى السيد من يسود قومه ويكون له أتباع ثم أطلق على كل فائق في دين أو دنيا، ويجوز أن يراد به هنا الفائق في الدين حيث إنه عليه السلام لم يهم بمعصية أصلا كما ورد ذلك من طرق عديدة. وأخرج ابن أبي حاتم، وابن عساكر عن أبي هريرة «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل ابن آدم يلقى الله بذنب قد أذنبه يعذبه عليه إن شاء أو يرحمه إلا يحيى بن زكريا» وجوز أن يراد ما هو أصل معناه فإنه عليه السلام كان سيد قومه وله أتباع منهم. غاية الأمر أن تلك رياسة شرعية والإتيان به إثر قوله تعالى: مُصَدِّقاً للإشارة إلى أنه نبي- كعيسى عليه السلام- وليس من أمته كما يفهمه ظاهرا قوله سبحانه: مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ منه. وَحَصُوراً عطف على ما قبله ومعناه الذي لا يأتي النساء مع القدرة على ذلك- قاله ابن عباس في إحدى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 الروايات عنه- وفي بعضها إنه العنين الذي لا ذكر له يتأتى به النكاح ولا ينزل، وروى الحفاظ عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن ما معه عليه السلام كان كالأنملة، وفي بعض الروايات كالقذاة، وفي أخرى كالنواة. وفي بعض كهدبة الثوب، قيل: والأصح الأول إذ العنة عيب لا يجوز على الأنبياء، وبتسليم أنها ليست بعيب فلا أقل أنها ليست بصفة مدح، والكلام مخرج مخرج المدح، وما أخرجه الحفاظ على تقدير صحته يمكن أن يقال: إنه من باب التمثيل والإشارة إلى عدم انتفاعه عليه السلام بما عنده لعدم ميله للنكاح لما أنه في شغل شاغل عن ذلك. ومن هنا قيل: إن التبتل لنوافل العبادات أفضل من الاشتغال بالنكاح استدلالا بحال يحيى عليه السلام ومن ذهب إلى خلافه احتج بما أخرجه الطبراني عن أبي أمامة قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أربعة لعنوا في الدنيا والآخرة وأمنت الملائكة، رجل جعله الله تعالى ذكرا فأنث نفسه وتشبه بالنساء، وامرأة جعلها الله تعالى أنثى فتذكرت وتشبهت بالرجال، والذي يضل الأعمى، ورجل حصور ولم يجعل الله تعالى حصورا إلا يحيى بن زكريا» وفي رواية «لعن الله تعالى والملائكة رجلا تحصر بعد يحيى بن زكريا» ويجوز أن يراد بالحصور المبالغ في حصر النفس وحبسها عن الشهوات مع القدرة وقد كان حاله عليه السلام أيضا كذلك. أخرج عبد الرزاق عن قتادة موقوفا. وابن عساكر عن معاذ بن جبل مرفوعا أنه عليه السلام مرّ في صباه بصبيان يلعبون فدعوه إلى اللعب فقال: ما للعب خلقت وَنَبِيًّا عطف على ما قبله مترتب على ما عدد من الخصال الحميدة مِنَ الصَّالِحِينَ أي ناشئا منهم أو معدودا في عدادهم- فمن- على الأول للابتداء، وعلى الثاني للتبعيض قيل: ومعناه على الأول ذو نسب، وعلى الثاني معصوم، وعلى التقديرين لا يلغو ذكره بعد- نبيا- وقد يقال: المراد من الصلاح ما فوق الصلاح الذي لا بد منه في منصب النبوة البتة من أقاصي مراتبه وعليه مبنى دعاء سليمان عليه السلام (وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين) ولعله أولى مما قبل. قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ استئناف مبني على السؤال كأنه قيل: فماذا قال زكريا عليه السلام حينئذ؟ فقيل: قالَ رَبِّ إلخ، وخاطب عليه السلام ربه سبحانه ولم يخاطب الملك المنادى طرحا للوسائط مبالغة في التضرع وجدا في التبتل، وأَنَّى بمعنى كيف، أو من أين، وكان يجوز أن تكون تامة وفاعلها غُلامٌ وأَنَّى واللام تعلقان بها، ويجوز أن تكون ناقصة، ولِي متعلق بمحذوف وقع حالا لأنه لو تأخر لكان صفة، وفي الخبر حينئذ وجهان: أحدهما أَنَّى لأنها بمعنى كيف، أو من أين، والثاني أن الخبر الجار، وأَنَّى منصوب على الظرفية، وفي التنصيص على ذكر الغلام دلالة على أنه قد أخبر به عند التبشير كما في قوله تعالى: إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى [مريم: 7] وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ حال من ياء المتكلم أي أدركني الكبر وأثر فيّ، وأسند البلوغ إلى الكبر توسعا في الكلام كأن الكبر طالب له وهو المطلوب. روي عن ابن عباس أنه كان له عليه السلام- حين بشر بالولد- مائة وعشرون سنة وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة، وقيل: كان له من العمر تسع وتسعون سنة، وقيل: اثنتان وتسعون، وقيل خمس وثمانون، وقيل: خمس وسبعون، وقيل سبعون، وقيل: ستون وَامْرَأَتِي عاقِرٌ جملة حالية أيضا إما من ياء لِي أو ياء بَلَغَنِيَ والعاقر- العقيم التي لا تلد من العقر- وهو القطع لأنها ذات عقر من الأولاد، وصيغة فاعل فيه للنسب وهو في المعنى مفعول أي معقورة، ولذلك لم تلحق تاء التأنيث- قاله أبو البقاء- وكانت الجملة الأولى فعلية لأن الكبر يتجدد شيئا فشيئا ولم يكن وصفا لازما (وكانت) الثانية اسمية لأن كونها عاقرا وصف لازم لها وليس أمرا طارئا عليها، وإنما قال ذلك عليه السلام مع سبق دعائه بذلك وقوة يقينه بقدرة الله تعالى عليه لا سيما بعد مشاهدته عليه السلام الشواهد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 السالفة استفسارا عن كيفية حصول الولد أيعطاه على ما هو عليه من الشيب ونكاح امرأة عاقر أم يتغير الحال- قاله الحسن- وقيل: اشتبه عليه الأمر أيعطى الولد من امرأته العجوز أم من امرأة أخرى شابة فقال ما قال، وقيل: قال ذلك على سبيل الاستعظام لقدرة الله تعالى والتعجب الذي يحصل للانسان عند ظهور آية عظيمة كمن يقول لغيره: كيف سمحت نفسك بإخراج ذلك الملك النفيس من يدك؟! تعجب من جوده، وقيل: إن الملائكة لما بشرته بِيَحْيى لم يعلم أنه يرزق الولد من جهة التبني أو من صلبه فذكر ذلك الكلام ليزول هذا الاحتمال، وقيل: إن العبد إذا كان في غاية الاشتياق إلى شيء وطلبه من السيد ووعده السيد بإعطائه ربما تكلم بما يستدعي إعادة الجواب ليلتذ بالإعادة وتسكن نفسه بسماع تلك الإجابة مرة أخرى فيحتمل أن يكون كلام زكريا عليه السلام هذا من هذا الباب، وقيل: قال ذلك استبعادا من حيث العادة لأنه لما دعا كان شابا ولما أجيب كان شيخا بناء على ما قيل: إن بين الدعاء والإجابة أربعين سنة أو ستين سنة- كما حكي عن سفيان بن عيينة- وكان قد نسي دعاءه ولا يخفى ما في أكثر هذه الأقوال من البعد، وأبعد منها ما نقل عن السدي- أن زكريا عليه السلام جاءه الشيطان عند سماع البشارة فقال: إن هذا الصوت من الشيطان وقد سخر منك فاشتبه الأمر عليه فقال: رب أنى يكون لي ولد - وكان مقصوده من ذلك أن يريه الله تعالى آية تدل على أن ذلك الكلام من الوحي لا من الشيطان، ومثله ما روى ابن جرير عن عكرمة أنه قال: «أتاه الشيطان فأراد أن يكدر عليه نعمة ربه فقال: هل تدري من ناداك؟ قال: نعم ناداني ملائكة ربي قال: بل ذلك الشيطان ولو كان هذا من ربك لأخفاه إليك كما أخفيت نداءك قال: رب أنى يكون لي- إلخ، واعترضه القاضي وغيره بأنه لا يجوز أن يشتبه كلام الملائكة بكلام الشيطان عند الوحي على الأنبياء عليهم السلام إذ لو جوزنا ذلك لارتفع الوثوق عن كل الشرائع، وأجيب بأنه يمكن أن يقال: إنه لما قامت المعجزات على صدق الوحي في كل ما يتعلق بالدين فلا جرم يحصل الوثوق هناك بأن الوحي من الله تعالى بواسطة الملك ولا يدخل الشيطان فيه، وأما فيما يتعلق بمصالح الدنيا- والولد أشبه شيء بها- فربما لم يتأكد ذلك بالمعجز، فلا جرم بقي احتمال كون ذلك الكلام من الشيطان ولهذا رجع إلى الله تعالى في أن يزيل عن خاطره ذلك الاحتمال، وأنت تعلم أن الاعتراض- ذكر- والجواب- أنثى- ولعل هذا المبحث يأتيك إن شاء الله تعالى مستوفى عند تفسير قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج: 52] الآية. وبالجملة القول باشتباه الأمر على زكريا عليه السلام في غاية البعد لا سيما وقد أخرج ابن جرير. وابن المنذر عن قتادة أنه قال: إن الملائكة شافهته عليه السلام بذلك مشافهة فبشرته بيحيى قالَ أي الرب، والجملة استئناف على طرز ما مر كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ أي يفعل الله ما يشاء أن يفعله من الأفعال العجيبة الخارقة للعادة فعلا مثل ذلك الفعل العجيب والصنع البديع الذي هم خلق الولد مع الحالة التي يستبعد معها الخلق بحسب العادة، فالكاف في محل نصب على أنها صفة لمصدر محذوف، والإشارة لذلك المصدر، وقدم الجار لإفادة القصر بالنسبة إلى ما هو أدنى من المشار إليه واعتبرت الكاف مقحمة لتأكيد الفخامة المشعر بها اسم الإشارة على ما أشير إليه من قبل في نظيره، ويحتمل الكلام أوجها أخر: الأول أن يكون الكاف في موضع الحال من ضمير المصدر المقدر معرفة أي يفعل الفعل كائنا مثل ذلك، الثاني أن يكون في موضع الرفع على أنه خبر مقدم، واللَّهُ مبتدأ مؤخر أي كهذا الشأن العجيب شأن الله تعالى، وتكون جملة يَفْعَلُ ما يَشاءُ بيانا لذلك الشأن المبهم، الثالث أن يكون كَذلِكَ في موضع الخبر لمبتدأ محذوف أي الأمر كَذلِكَ وتكون جملة اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ بيانا أيضا، الرابع أن يكون ذلك إشارة إلى المذكور من حال زكريا عليه السلام كأنه قال: رب على أي حال يكون لي الغلام؟ فقيل له: كما أنت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 يكون الغلام لك، وتكون الجملة حينئذ تعليلا لما قبلها كذا قالوا، ولا يخفى ما في بعض الأوجه من البعد، وعلى كل تقدير التعبير بالاسم الجليل روما للتعظيم. قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أي علامة تدلني على العلوق، وإنما سألها استعجالا للسرور قاله الحسن، وقيل: ليتلقى تلك النعمة بالشكر حين حصولها ولا يؤخر حتى تظهر ظهورا معتادا، ولعل هذا هو الأنسب بحال أمثاله عليه السلام، وقول السدي: إنه سأل الآية- ليتحقق أن تلك البشارة منه تعالى لا من الشيطان- ليس بشيء كما أشرنا إليه آنفا، والجعل إما بمعنى التصيير فيتعدى إلى مفعولين أولهما آيَةً، وثانيهما لِي والتقديم لأنه المسوغ لكون آيَةً مبتدأ عند الانحلال، وإما بمعنى الخلق والإيجاد فيتعدى إلى مفعول واحد وهو آيَةً ولِي حينئذ في محل نصب على الحال من آيَةً لأنه لو تأخر عنها كان صفة لها، وصفة النكرة إذا تقدمت عليها أعربت حالا منها- كما تقدمت الإشارة إليه غير مرة- ويجوز أن يكون متعلقا بما عنده وتقديمه للاعتناء به والتشويق لما بعده قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ أي أن لا تقدر على تكليمهم من غير آفة وهو الأنسب بكونه آية والأوفق لما في سورة مريم، وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن جبير بن معتمر قال: ربا لسانه في فيه حتى ملأه فمنعه الكلام، والآية فيه عدم منعه من الذكر والتسبيح، وعلى كلا التقديرين عدم التكليم اضطراري، وقال أبو مسلم بأنه اختياري، والمعنى- آيتك أن تصير مأمورا بعدم التكلم إلا بالذكر والتسبيح- ولا يخفى بعده هنا، وعليه وعلى القولين قبله يحتمل أن يراد من عدم التكليم ظاهره فقط وهو الظاهر، ويحتمل أن يكون كناية عن الصيام لأنهم كانوا إذ ذاك إذا صاموا لم يكلموا أحدا- وإلى ذلك ذهب عطاء- وهو خلاف الظاهر، ومع هذا يتوقف قبوله على توقيف، وإنما خص تكليم الناس للإشارة إلى أنه غير ممنوع من التكلم بذكر الله تعالى ثَلاثَةَ أَيَّامٍ أي متوالية، وقال بعضهم والمراد ثلاثة أيام ولياليها، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي ليالي ثلاثة أيام لقوله سبحانه في سورة مريم: ثَلاثَ لَيالٍ [مريم: 10] والحق أن الآية كانت عدم التكليم ستة أفراد إلا أنه اقتصر تارة على ذكر ثَلاثَةَ أَيَّامٍ منها وأخرى على (ثلاث ليال) وجعل ما لم يذكر في كل تبعا لما ذكر، قيل: وإنما قدم التعبير بالأيام لأن يوم كل ليلة قبلها في حساب الناس يومئذ، وكونه بعدها إنما هو عند العرب خاصة كما تقدمت الإشارة إليه، واعترض بأن- آية الليالي- متقدمة نزولا لأن السورة التي هي فيها مكية والسورة التي فيها- آية الأيام- مدنية، وعليه يكون أول ظهور هذه الآية ليلا ويكون اليوم تبعا لليلة التي قبلها على ما يقتضيه حساب العرب فتدبر. فالبحث محتاج إلى تحرير بعد، وإنما جعل عقل اللسان آية العلوق لتخلص المدة لذكر الله تعالى وشكره قضاء حق النعمة كأنه قيل له: آية حصول النعمة أن تمنع عن الكلام إلا بشكرها، وأحسن الجواب على ما قيل ما أخذ من السؤال كما قيل لأبي تمام: لم تقول ما لا نفهم؟ فقال: لم لا تفهم ما يقال؟ وهذا مبني على أن سؤال الآية منه عليه السلام إنما كان لتلقي النعمة بالشكر، ولعل دلالة كلامه على ذلك بواسطة المقام وإلا ففي ذلك خفاء كما لا يخفى. وأخرج عبد الرزاق وغيره عن قتادة أن حبس لسانه عليه السلام كان من باب العقوبة حيث طلب الآية بعد مشافهة الملائكة له بالبشارة ولعل الجناية حينئذ من باب- حسنات الأبرار سيئات المقربين- ومع هذا حسن الظن يميل إلى الأول، ومذهب قتادة- لا آمن على الأقدام الضعيفة- قتادة إِلَّا رَمْزاً أي إيماء وأصله التحرك يقال: ارتمز أي تحرك، ومنه قيل للبحر: الراموز، وأخرج الطيبي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن الرمز فقال: الإشارة باليد والوحي بالرأس فقال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم أما سمعت قول الشاعر: ما في السماء من الرحمن «مرتمز» ... إلا إليه وما في الأرض من وزر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 وعن مجاهد أن الرمز هنا كان تحريك الشفتين، وقيل: الكتابة على الأرض، وقيل: الإشارة بالمسبحة، وقيل: الصوت الخفي، وقيل: كل ما أوجب اضطرابا في الفهم كان رمزا وهو استثناء منقطع بناء على أن الرمز الإشارة والإفهام من دون كلام- وهو حينئذ ليس من قبيل المستثنى منه- وجوز أن يكون متصلا بناء على أن المراد بالكلام ما فهم منه المرام ولا ريب في كون الرمز من ذاك القبيل، ولا يخفى أن هذا التأويل خلاف الظاهر ويلزم منه أن لا يكون استثناء منقطع في الدنيا أصلا إذ ما من استثناء إلا ويمكن تأويله بمثل ذلك مما يجعله متصلا ولا قائل به، وتعقب ابن الشجري النصب على الاستثناء هنا مطلقا وادعى أن رَمْزاً مفعول به منتصب بتقدير حذف الخافض، والأصل أن لا تكلم الناس إلا برمز، فالعامل الذي قبل أَلَّا مفرغ في هذا النحو للعمل فيما بعدها بدليل أنك لو حذفت أَلَّا وحرف النفي استقام الكلام تقول في نحو- ما لقيت إلا زيدا- لقيت زيدا، وفي- ما خرج إلا زيد- خرج زيد، وكذا لو قلت- آيتك أن تكلم الناس رمزا- استقام. وليس كذلك الاستثناء، فلو قلت: ليس القوم في الدار إلا زيدا أو إلا زيد- ثم حذفت النفي وإلا- فقلت: القوم في الدار زيدا، أو زيد لم يستقم، فكذا المنقطع نحو- ما خرج القوم إلا حمارا- لو قلت: خرج القوم حمارا لم يستقم قاله السفاقسي، وقرأ يحيى بن وثاب «إلا رمزا» بضمتين جمع رموز كرسول ورسل. وقرئ «ورمزا» بفتحتين جمع رامز- كخادم وخدم- وهو من نادر الجمع وعلى القراءتين يكون حالا من الفاعل والمفعول معا أي مترامزين. ومثله قول عنترة: متى ما تلقني «فردين» ترجف ... روانف إليتيك وتستطارا وجوز أبو البقاء أن يكون رَمْزاً على قراءة الضم مصدرا، وجعله مسكن الميم في الأصل والضم عارض للاتباع كاليسر واليسر، وعليه لا يختلف إعرابه فافهم وَاذْكُرْ رَبَّكَ أي في أيام الحبسة شكرا لتلك النعمة كما يسشعر به التعرض لعنوان الربوبية، وقيل: يحتمل أن يكون الأمر بالذكر شكرا للنعمة مطلقا لا في خصوص تلك الأيام، وأن يكون في جميع أيام الحمل لتعود بركاته إليه، والمنساق إلى الذهن هو الأول، والجملة مؤكدة لما قبلها مبينة للغرض منها، واستشكل العطف من وجهين: الأول عطف الإنشاء على الإخبار، والثاني عطف المؤكد على المؤكد، وأجيب بأنه معطوف على محذوف أي اشكر واذكر، وقيل: لا يبعد أن يجعل الأمر بمعنى الخبر عطفا على لا تكلم فيكون في تقدير أَلَّا تُكَلِّمَ وتذكر ربك، ولا يخفى ما فيه كَثِيراً صفة لمصدر محذوف أو زمان كذلك أي ذكرا كثيرا وزمانا كثيرا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وهو من الزوال إلى الغروب- قاله مجاهد- وقيل: من العصر إلى ذهاب صدر الليل وَالْإِبْكارِ أي وقته وهو من الفجر إلى الضحى، وإنما قدر المضاف لأن الإبكار بكسر الهمزة مصدر لا وقت فلا تحسن المقابلة كذا قيل: وهو مبني على أن بِالْعَشِيِّ- جمع عشية- الوقت المخصوص، وإليه ذهب أبو البقاء، والذي ذهب إليه المعظم أنه مصدر أيضا على فعيل لا جمع. وإليه يشير كلام الجوهري فافهم وقرئ وَالْإِبْكارِ بفتح الهمزة فهو حينئذ جمع بكر كسحر لفظا ومعنى- وهو نادر الاستعمال- قيل: والمراد بالتسبيح الصلاة بدليل تقييده بالوقت كما في قوله تعالى: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [الروم: 17] وقبل: الذكر اللساني كما أن المراد بالذكر الذكر القلبي، وعلى كلا التقديرين لا تكرار في ذكر التسبيح مع الذكر، وأل- في الوقتين للعموم. وأبعد من جعلها للعهد أي عشي تلك الأيام الثلاثة وأبكارها، والجار والمجرور متعلق بما عنده، وليس من باب التنازع في المشهور، وجوزه بعضهم فيكون الأمر بالذكر مقيدا بهذين الوقتين أيضا، وزعم بعضهم أن تقييده بالكثرة يدل على أنه لا يفيد التكرار، وفيه بعد تسليم أنه مقيد به فقط أن الكثرة أخص من التكرار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 وهذا «ومن باب البطون» في الآيات أن زكريا عليه السلام كان شيخا هما وكان مرشدا للناس فلما رأى ما رأى تحركت غيرة النبوة فطلب من ربه ولدا حقيقيا يقوم مقامه في تربية الناس وهدايتهم فقال: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً أي مطهرة من لوث الاشتغال بالسوى منفردة عن إراداتها مقدسة من شهواتها فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ على ساق الخدمة يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ وهو محل المراقبة ومحاربة النفس أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى وسمي به لأن من شاهد الحق في جمال نبوته يحيا قلبه من موت الفترة، أو لأنه هو يحيا بالنبوة والشهادة مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وهو ما ينزل به الملك على القلوب المقدسة وَسَيِّداً وهو الذي غلب عليه نور هيبة عزة الحق، وقال الصادق: هو المباين للخلق وصفا وحالا وخلقا وقال الجنيد: هو الذي جاد بالكونين طلبا لربه، وقال ابن عطاء: هو المتحقق بحقيقة الحق، وقال ابن منصور: هو من خلا عن أوصاف البشرية وحلي بنعوت الربوبية، وقال محمد بن علي: هو من استوت أحواله عند المنع والإعطاء والرد والقبول وَحَصُوراً وهو الذي حصر ومنع عن جميع الشهوات وعصم بالعصمة الأزلية، وقال الاسكندراني: هو المنزه عن الأكوان وما فيها وَنَبِيًّا أي مرتفع القدر بهبوط الوحي عليه ومعدودا مِنَ الصَّالِحِينَ وهم أهل الصف الأول من صفوف الأرواح المجندة المشاهدة للحق في مرايا الخلق قال استعظاما للنعمة: أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ والحال قَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وهو أحد الموانع العادية وَامْرَأَتِي عاقِرٌ وهو مانع آخر قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ حسبما تقتضيه الحكمة قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً على العلوق لأشكرك على هذه النعمة إذ شكر المنعم واجب وبه تدوم المواهب الإلهية قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ بأن يحصر لسانك عن محادثتهم ليتجرد سرك لربك ويكون ظاهرك وباطنك مشغولا به إِلَّا رَمْزاً تدفع به ضيق القلب عند الحاجة، وحقيقة الرمز عند العارفين تعريض السر إلى السر وإعلام الخاطر للخاطر بنعت تحريك سلسلة المواصلة بين المخاطب والمخاطب وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً بتخليص النية عن الخطرات وجمع الهموم بنعت تصفية السر في المناجاة وتحير الروح في المشاهدات وَسَبِّحْ أي نزه ربك عن الشركة في الوجود بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ بالفناء والبقاء. وإن أردت تطبيق ما في الآفاق على ما في الأنفس فتقول هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا الاستعداد رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً وهي النفس الطاهرة المقدسة عن النقائص إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ ممن صدق في الطلب فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ القوى الروحانية وَهُوَ قائِمٌ منتهض لتكميل النشأة يُصَلِّي ويدعو في محراب التضرع إلى الله تعالى المفيض على القوابل بحسب القابليات أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى وهو الروح الحي بروح الحق والصفات الإلهية مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وهي ما تلقيها ملائكة الإلهام من قبل الفياض المطلق وَسَيِّداً لم تملكه الشهوات النفسانية وَحَصُوراً أي مبالغا في الامتناع عن اللذائذ الدنيوية وَنَبِيًّا بما يتلقاه من عالم الملكوت ومعدودا مِنَ الصَّالِحِينَ لهاتيك الحضرة القائمين بحقوق الحق والخلق لاتصافه بالبقاء بعد الفناء قالَ رب أَنَّى أي كيف يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وضعف القوى الطبيعية وَامْرَأَتِي وهي النفس الحيوانية عاقِرٌ عقيم عن ولادة مثل هذا الغلام إذ لا تلد الحية إلا حيية قالَ كَذلِكَ اللَّهُ في غرابة الشأن يَفْعَلُ ما يَشاءُ من العجائب التي يستبعدها من قيده النظر إلى المألوفات، وبقي أسيرا في سجن العادات قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً على ذلك لأشكرك مستمطرا زيادة نعمك التي لا منتهى لها قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ وهم ما يأنس به من اللذائذ المباحة ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وهي يوم الفناء بالأفعال ويوم الفناء بالصفات ويوم الفناء بالذات إِلَّا رَمْزاً أي قدرا يسيرا تدعو الضرورة إليه وَاذْكُرْ رَبَّكَ الذي رباك حتى أوصلك إلى هذه الغاية كَثِيراً حيث منّ عليك بخير كثير وَسَبِّحْ أي نزه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 ربك عن نقائص التقيد بالمظاهر بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ أي وقتي الصحو والمحو. وبعض الملتزمين لذكر البطون ذكر في تطبيق ما في الآفاق على ما في الأنفس أن القوى البدنية امرأة عمران الروح نذرت ما في قوتها من النفس المطمئنة فوضعت أنثى النفس فكفلها زكريا الفكر فدخل عليها زكريا محراب الدماغ فوجد عندها رزقا من المعاني الحدسية التي انكشفت لها بصفائها فهنالك دعا زكريا الفكر بتركيب تلك المعاني واستوهب ولدا مقدسا من لوث الطبيعة فسمع الله تعالى دعاءه فنادته ملائكة القوى الروحانية وهو قائم في أمره بتركيب المعلومات يناجي ربه باستنزال الأنوار في محراب الدماغ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى العقل مصدقا بعيسى القلب الذي هو كلمة من الله لتقدسه عن عالم الإجرام وَسَيِّداً لجميع أصناف القوى وَحَصُوراً عن مباشرة الطبيعة وَنَبِيًّا بالإخبار عن المعارف والحقائق وتعليم الأخلاق ومنتظما في سلك الصالحين وهم المجردات ومقربو الحضرة قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ ذلك وَقَدْ بَلَغَنِيَ كبر منتهى الطور وَامْرَأَتِي وهي طبيعة الروح النفسانية عاقِرٌ بالنور المجرد فطلب لذلك علامة فقيل له: علامة ذلك الإمساك عن مكالمة القوى البدنية في تحصيل مآربهم من اللذائذ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ كل يوم عقد تام من أطوار العمر وهو عشر سنين أَلَّا بالإشارة الخفية، وأمر بالذكر في هذه الأيام التي هي مع العشر الأول التي هي سنن التمييز أربعون سنة انتهى- وهو قريب مما ذكرته- ولعل ما ذكرته على ضعفي أولى منه، وباب التأويل واسع وبطون كلام الله تعالى لا تحصى وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ تتمة لشرح أحكام اصطفاء آل عمران، ووقعت قصة زكريا. ويحيى عليهما السلام في البين لما فيها مما يؤكد ذلك الاصطفاء، وَإِذْ في المشهور منصوب بذكر، والجملة معطوفة على الجملة السابقة عطف القصة على القصة وبينهما كمال المناسبة لأن تلك مسوقة أولا وبالذات لشرح حال الأم وهذه لشرح حال البنت، والمراد من الملائكة رئيسهم جبريل عليه السلام والكلام هنا كالكلام فيما تقدم، وجوز أبو البقاء كون الظرف معطوفا على الظرف السابق وناصبه ناصبه والأول أولى، والمراد اذكر أيضا من شواهد اصطفاء أولئك الكرام وقت قول الملائكة عليهم السلام يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ أي اختارك من أول الأمر ولطف بك وميزك على كل محرر وخصك بالكرامات السنية، والتأكيد اعتناء بشأن الخبر وقول الملائكة لها ذلك كان شفاها على ما دلت عليه الأخبار ونطقت به الظواهر، وفي بعض الآثار ما يقتضي تكرر هذا القول من الملائكة لها، فقد أخرج ابن جرير عن ابن إسحق أنه قال: كانت مريم حبيسا في الكنيسة ومعها فيها غلام اسمه يوسف وقد كان أمه وأبوه جعلاه نذيرا حبيسا فكانا في الكنيسة جميعا وكانت مريم إذا نفذ ماؤها وماء يوسف أخذا قلتيهما فانطلقا إلى المغارة التي فيها الماء فيملآن ثم يرجعان والملائكة في ذلك مقبلة على مريم بالبشارة يا مريم إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ الآية فإذا سمع ذلك زكريا عليه السلام قال: إن لابنة عمران لشأنا. وقيل: إن الملائكة عليهم السلام ألهموها ذلك، ولا يخفى أن تفسير القول بالإلهام وإسناده للملائكة خلاف الظاهر وإن كان لا منع من أن يكون بواسطتهم أيضا على أنه قول لا يعضده خبر أصلا، وعلى القول الأول يكون التكليم من باب الكرامة التي يمنّ بها الله سبحانه على خواص عباده، ومن أنكرها زعم أن ذلك إرهاص وتأسيس لنبوة عيسى عليه السلام أو معجزة لزكريا عليه السلام، وأورد على الأول أن الإرهاص في المشهور أن يتقدم على دعوى النبوة ما يشبه المعجزة كاظلال الغمام لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وتكلم الحجر معه، وهذا بظاهره يقتضي وقوع الخارق على يد النبي لكن قبل أن ينبأ لا على يد غيره كما فيما نحن فيه، ويمكن أن يدفع بالعناية وأورد على الثاني بأنه بعيد جدا إذ لم يقع الكلام مع زكريا عليه السلام ولم يقترن ذلك بالتحدي أيضا فكيف يكون معجزة له، واستدل بهذه الآية من ذهب إلى نبوة مريم لأن تكليم الملائكة يقتضيها، ومنعه اللقاني بأن الملائكة قد كلموا من ليس بنبي إجماعا فقد روي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 أنهم كلموا رجلا خرج لزيارة أخ له في الله تعالى وأخبروه أن الله سبحانه يحبه كحبه لأخيه فيه ولم يقل أحد بنبوته، وادعى أن من توهم أن النبوة مجرد الوحي ومكالمة الملك فقد حاد عن الصواب. ومن الناس من استدل على عدم استنباء النساء بالإجماع وبقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا [الأنبياء: 7] ولا يخفى ما فيه، أما أولا فلأن حكاية الإجماع في غاية الغرابة فإن الخلاف في نبوة نسوة- كحواء، وآسية، وأم موسى، وسارة، وهاجر، ومريم- موجود خصوصا مريم فإن القول بنبوتها شهير، بل مال الشيخ تقي الدين السبكي في الحلبيات، وابن السيد إلى ترجيحه، وذكر أن ذكرها مع الأنبياء في سورتهم قرينة قوية لذلك. وأما ثانيا فلأن الاستدلال بالآية لا يصح لأن المذكور فيها الإرسال وهو أخص من الاستنباء على الصحيح المشهور، ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم فافهم وَطَهَّرَكِ أي من الأدناس والأقذار التي تعرض للنساء مثل الحيض والنفاس حتى صرت صالحة لخدمة المسجد- قاله الزجاج- وروي عن الحسن، وابن جبير أن المراد طهرك بالإيمان عن الكفر وبالطاعة عن المعصية، وقيل: نزهك عن الأخلاق الذميمة والطباع الرديئة، والأولى الحمل على العموم أي طهرك من الأقذار الحسية والمعنوية والقلبية والقالبية. وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ يحتمل أن يراد بهذا الاصطفاء غير الاصطفاء الأول وهو ما كان آخرا من هبة عيسى عليه السلام لها من غير أب ولم يكن ذلك لأحد من النساء، وجعلها وإياه آية للعالمين، ويحتمل أن يراد به الأول وكرر للتأكيد وتبيين من اصطفاها عليهن، وعلى الأول يكون تقديم حكاية هذه المقاولة على حكاية بشارتها بعيسى عليه السلام للتنبيه على أن كلا منهما مستحق للاستقلال بالتذكير وله نظائر قد مر بعضها، وعلى الثاني لإشكال في الترتيب، وتكون حكمة تعقدم هذه المقاولة- على البشارة- الإشارة إلى كونها عليها السلام قبل ذلك مستعدة لفيضان الروح عليها بما هي عليه من التبتل والانقياد حسب الأمر، ولعل الأول أولى- كما قال الإمام- لما أن التأسيس خير من التأكيد «والمراد من نساء العالمين» قيل: جميع النساء في سائر الأعصار، واستدل به على أفضليتها على فاطمة، وخديجة، وعائشة رضي الله تعالى عنهن، وأيد ذلك بما أخرجه ابن عساكر في أحد الطرق عن ابن عباس أنه قال: «قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم: سيدة نساء أهل الجنة مريم بنت عمران، ثم فاطمة، ثم خديجة، ثم آسية امرأة فرعون» وبما أخرجه ابن أبي شيبة عن مكحول، وقريب منه ما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: خير نساء ركبن الإبل نساء قريش أحناه على ولد في صغره وأرعاه على بعل في ذات يده ولو علمت أن مريم ابنة عمران ركبت بعيرا ما فضلت عليها أحدا» وبما أخرجه ابن جرير عن فاطمة صلى الله تعالى على أبيها وعليها وسلم أنها قالت: «قال لي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أنت سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم البتول» . وقيل: المراد نساء عالمها فلا يلزم منه أفضليتها على فاطمة رضي الله تعالى عنها، ويؤيده ما أخرجه ابن عساكر من طريق مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «أربع نسوة سادات عالمهن: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد صلّى الله عليه وسلم وأفضلهن عالما فاطمة» وما رواه الحرث بن أسامة في مسنده بسند صحيح لكنه مرسل «مريم خير نساء عالمها» وإلى هذا ذهب أبو جعفر رضي الله تعالى عنه وهو المشهور عن أئمة أهل البيت- والذي أميل إليه- أن فاطمة البتول أفضل النساء المتقدمات والمتأخرات من حيث إنها بضعة رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم بل ومن حيثيات أخر أيضا، ولا يعكر على ذلك الأخبار السابقة لجواز أن يراد بها أفضلية غيرها غليها من بعض الجهات وبحيثية من الحيثيات- وبه يجمع بين الآثار- وهذا سائغ على القول بنبوة مريم أيضا إذ البضعية من روح الوجود وسيد كل موجود لا أراها تقابل بشيء وأين الثريا يد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 المتناول ومن هنا يعلم أفضليتها على عائشة رضي الله تعالى عنها الذاهب إلى خلافها الكثير محتجين بقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «خذوا ثلثي دينكم عن الحميراء» وقوله عليه الصلاة والسلام: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام» وبأن عائشة يوم القيامة في الجنة مع زوجها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وفاطمة يومئذ فيها مع زوجها علي كرم الله تعالى وجهه، وفرق عظيم بين مقام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومقام علي كرم الله تعالى وجهه. وأنت تعلم ما في هذا الاستدلال وأنه ليس بنص على أفضلية الحميراء على الزهراء، وأما أولا فلأن قصارى ما في الحديث الأول على تقدير ثبوته إثبات أنها عالمة إلى حيث يؤخذ منها ثلثا الدين، وهذا لا يدل على نفي العلم المماثل لعلمها عن بضعته عليه الصلاة والسلام، ولعلمه صلى الله تعالى عليه وسلم أنها لا تبقى بعده زمنا معتدا به يمكن أخذ الدين منها فيه لم يقل فيها ذلك، ولو علم لربما قال: خذوا كل دينكم عن الزهراء، وعدم هذا القول في حق من دل العقل والنقل على علمه لا يدل على مفضوليته وإلا لكانت عائشة أفضل من أبيها رضي الله تعالى عنه لأنه لم يرو عنه في الدين إلا قليل لقلة لبثه وكثرة غائلته بعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أن قوله عليه الصلاة والسلام: «إني تركت فيكم الثقلين كتاب الله تعالى وعترتي لا يفترقان حتى يردا على الحوض» يقوم مقام ذلك الخبر وزيادة- كما لا يخفى- كيف لا وفاطمة رضي الله تعالى عنها سيدة تلك العترة؟! وأما ثانيا فلأن الحديث الثاني معارض بما يدل على أفضلية غيرها رضي الله تعالى عنها عليها، فقد أخرج ابن جرير عن عمار بن سعد أنه قال: «قال لي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: فضلت خديجة على نساء أمتي كما فضلت مريم على نساء العالمين» بل هذا الحديث أظهر في الأفضلية وأكمل في المدح عند من انجاب عن عين بصيرته عين التعصب والتعسف لأن ذلك الخبر وإن كان ظاهرا في الأفضلية لكنه قيل ولو على بعد: إن- أل- في النساء فيه للعهد والمراد بها الأزواج الطاهرات الموجودات حين الاخبار ولم يقل مثل ذلك في هذا الحديث. وأما ثالثا فلأن الدليل الثالث يستدعي أن يكون سائر زوجات النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أفضل من سائر الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام لأن مقامهم بلا ريب ليس كمقام صاحب المقام المحمود صلى الله تعالى عليه وسلم فلو كانت الشركة في المنزل مستدعية للأفضلية لزم ذلك قطعا ولا قائل به. وبعد هذا كله الذي يدور في خلدي أن أفضل النساء فاطمة. ثم أمها، ثم عائشة. بل لو قال قائل إن سائر بنات النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أفضل من عائشة لا أرى عليه بأسا، وعندي بين مريم. وفاطمة توقف نظرا للأفضلية المطلقة، وأما بالنظر إلى الحيثية فقد علمت ما أميل إليه، وقد سئل الإمام السبكي عن هذه المسألة فقال: الذي نختاره وندين الله تعالى به أن فاطمة بنت محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أفضل. ثم أمها. ثم عائشة- ووافقه في ذلك البلقيني- وقد صحح ابن العماد أن خديجة أيضا أفضل من عائشة لما ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قال لعائشة حين قالت: قد رزقك الله تعالى خيرا منها، فقال لها: لا والله ما رزقني الله تعالى خيرا منها آمنت بي حين كذبني الناس وأعطتني مالها حين حرمني الناس. وأيد هذا بأن عائشة أقرأها السلام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من جبريل، وخديجة أقرأها السلام جبريل من ربها، وبعضهم لما رأى تعارض الأدلة في هذه المسألة توقف فيها- وإلى التوقف مال القاضي أبو جعفر الستروشني منا- وذهب ابن جماعة إلى أنه المذهب الأسلم. وأشكل ما في هذا الباب حديث الثريد ولعل كثرة الأخبار الناطقة بخلافه تهون تأويل واحد لكثير أهون من تأويل كثير لواحد، والله تعالى هو الهادي إلى سواء السبيل يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ الظاهر أنه من مقول الملائكة أيضا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 وصوها بالمحافظة على الصلاة بعد أن أخبروها بعلو درجتها وكمال قربها إلى الله تعالى لئلا تفتر ولا تغفل عن العبادة، وتكرير النداء للإشارة إلى الاعتناء بما يرد بعد كأنه هو المقصود بالذات وما قبله تمهيد له. والقنوت إطالة القيام في الصلاة- قاله مجاهد- أو إدامة الطاعة- قاله قتادة- وإليه ذهب الراغب، أو الإخلاص في العبادة- قاله سعيد بن جبير- أو أصل القيام في الصلاة- قاله بعضهم- والتعرض لعنوان الربوبية للإشعار بعلة وجوب امتثال الأوامر وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ يحتمل أن يكون المراد من ذلك كله الأمر بالصلاة إلا أنه أمر سبحانه بها بذكر أركانها مبالغة في إيجاب المحافظة عليها لما أن في ذكر الشيء تفصيلا تقريرا ليس في الإجمال، ولعل تقديم السجود على الركوع لأنه كذلك في صلاتهم، وقيل: لأنه أفضل أركان الصلاة وأقصى مراتب الخضوع، وفي الخبر «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» أو للتنبيه على أن الواو لا توجب الترتيب أو ليقترن ارْكَعِي- بالراكعين- للإيذان بأنّ من ليس في صلاتهم ركوع ليسوا مصلين، وكل من هذه الأوجه لا يخلو عن دغدغة، أما أولا فلأنه إنما يتم على القول بأن القيام ليس أفضل من السجود كما نقل عن الإمام الشافعي، وأما الثاني فلأن خطاب القرآن مع من يعلم لغة العرب لا مع من يتعلم منه اللغة، وأما الثالث فلأن تماميته تتوقف على بيان وجه أنه لم يعبر بالساجدين تنبيها على أن من لا سجدة في صلاته ليس من المصلين؟ وكأن وجه ذلك ما يستفاد من كلام الزمخشري حيث قال: ويحتمل أن يكون في زمانها من كان يقوم ويسجد في صلاته ولا يركع، وفيه من يركع فأمرت بأن تركع مع الراكعين ولا تكون مع من لا يركع، فالنكتة في التعبير ما جعلت نكتة في ذكر وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ واعترضه أيضا بعضهم بأنه إذا قدم الركوع، وقيل: وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ وَاسْجُدِي يحصل ذلك المقصود، ولا مدخل للتقديم والتأخير في إفادة ذلك، وقيل: المراد بالسجود وحده الصلاة كما في قوله تعالى: وَأَدْبارَ السُّجُودِ [ق: 40] والتعبير عن الصلاة بذلك من التعبير بالجزء عن الكل ويراد بالركوع الخشوع والتواضع وكأن أمرها بذلك حفظا لها من الوقوع في مهاوي التكبر والاستعلاء بما لها من علو الدرجة، والاحتمال الأول هو الظاهر، ويؤيده ما أخرجه ابن جرير عن الأوزاعي قال: «كانت تقوم حتى يسيل القيح من قدميها» وما أخرجه ابن عساكر في الآية عن أبي سعيد قال: «كانت مريم تصلي حتى تورم قدماها» والأكثرون على أن فائدة قوله سبحانه: مَعَ الرَّاكِعِينَ الإرشاد إلى صلاة الجماعة، وإليه ذهب الجبائي، وذكر بعض المحققين أن نكتة التعبير بذلك في هذا المقام دون- واسجدي مع الساجدين- الإشارة إلى أن من أدرك الركوع مع الإمام فقد أدرك ركعة من الصلاة، وعورض بأنه لو قيل:- واسجدي مع الساجدين- لربما كان فيه إشارة إلى أن من أدرك السجود مع الإمام فقد أدرك الجماعة، ولعل هذه الإشارة أولى من الأولى في هذا المقام، واستلزام ذلك أن من أدرك ما بعد السجود معه لا يدرك الجماعة في حيز المنع، ولا يخفى أن المعارض والمعارض ليسا بشيء عند المنصفين، وأحسن منهما ما أشار إليه صاحب الكشاف، وزعم بعضهم أن مَعَ مجاز عن الموافقة في الفعل فقط دون اجتماع- أي افعلي كفعل الرَّاكِعِينَ وإن لم توقعي الصلاة معهم- قال: لأنها كانت تصلي في محرابها، وأيضا إنها كانت شابة وصلاة الشواب في الجماعة مكروهة، واعترض بأنه ارتكاب للتجوز الذي هو خلاف الأصل من غير داع، وكونها كانت تصلي في محرابها أحيانا مسلم لكن لا يدل على المدعى، ودائما مما لا دليل عليه وبفرضه لا يدل على المدعى أيضا لجواز اقتدائها وهي في المحراب، وكراهة صلاة الشابة في الجماعة لم يتحقق عندنا ثبوتها في شرع من قبلنا، على أن الماتريدي نفى كراهة صلاة مريم في الجماعة وإن كانت شابة، وقلنا: بكراهة صلاة الشواب في شرعهم أيضا، وعلله بكون القوم الذين كانت تصلي معهم كانوا ذوي قرابة منها ورحم، ولذلك اختصموا في ضمها وإمساكها، وربما يعلل بعدم خشية الفتنة وإن كانوا أجانب، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 ويستأنس لهذا بذهابها مع يوسف لملء القلة في المغارة، ولعل أولئك الذين تركع معهم من هذا القبيل وإن قلنا: إنها تقتدي وهي في محرابها إما وحدها أو مع نسوة زال الإشكال، وجاء مَعَ الرَّاكِعِينَ دون الراكعات لأن هذا الجمع أعم إذ يشمل الرجال والنساء على سبيل التغليب، ولمناسبة رؤوس الآي، ولأن الاقتداء بالرجال أفضل إن قلنا: إنها مأمورة بصلاة الجماعة. وادعى بعضهم أن في التعبير بذلك مدحا ضمنيا لمريم عليها السلام ولم يقيد الأمرين الأخيرين بما قيد به الأمر الأول اكتفاء بالتقييد من أول وهلة، وقال شيخ الإسلام: إن تجريد الأمر بالركنين الأخيرين عما قيد به الأول لما أن المراد تقييد الأمر بالصلاة بذلك، وقد فعل حيث قيد به الركن الأول منها، ولعل ما ذكرناه أولى لأنه مطرد على سائر الأقوال في القنوت، وأخرج ابن أبي داود في المصاحف عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه كان يقرأ واركعي واسجدي في الساجدين ذلِكَ إشارة إلى ما تقدم ذكره من تلك الأخبار البديعة الشأن المرتقية من الغرابة إلى أعلى مكان، وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ أي من أخبار ما غاب عنك وعن قومك مما لا يعرف إلا بالوحي على ما يشير إليه المقام، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب، وقوله تعالى: نُوحِيهِ إِلَيْكَ جملة مستقلة مبينة للأولى، والإيحاء- إلقاء المعنى إلى الغير على وجه خفي، ويكون بمعنى إرسال الملك إلى الأنبياء، وبمعنى الإلهام، والضمير في نُوحِيهِ عائد إلى ذلك في المشهور، واستحسن عوده إلى الغيب لأنه حينئذ يوهم الاختصاص بما مضى، وجوز أن تكون هذه الجملة خبرا عن المبتدأ قبلها، مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ إما متعلق- بنوحيه- أو حال من مفعوله أي نُوحِيهِ حال كونه بعض أَنْباءِ الْغَيْبِ وجعله حالا من المبتدأ رأى البعض، وجوز أبو البقاء أن يكون التقدير الأمر ذلِكَ فيكون ذلِكَ خبرا لمبتدأ محذوف والجار والمجرور حال منه، وهو وجه مرذول لا ينبغي أن يخرج عليه كلام الملك الجليل. وصيغة الاستقبال عند قوم للايذان بأن الوحي لم ينقطع بعد وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ أي عند المتنازعين فالضمير عائد إلى غير مذكور دل عليه المعنى، والمقصود من هذه الجملة تحقيق كون الإخبار بما ذكر عن وحي على سبيل التهكم بمنكريه كأنه قيل: إن رسولنا أخبركم بما لا سبيل إلى معرفته بالعقل مع اعترافكم بأنه لم يسمعه ولم يقرأه في كتاب، وتنكرون أنه وحي فلم يبق مع هذا ما يحتاج إلى النفي سوى المشاهدة التي هي أظهر الأمور انتفاء لاستحالتها المعلومة عند جميع العقلاء، ونبه على ثبوت قصة مريم مع أن ما علم بالوحي قصة زكريا عليه السلام أيضا لما أن «تلك» هي المقصودة بالأخبار أولا، وإنما جاءت القصة الأخرى على سبيل الاستطراد ولاندراج بعض قصة زكريا في ذكر من تكفل فما خلت الجملة عن تنبيه على قصته في الجملة، وروي عن قتادة أن المقصود من هذه الجملة تعجيب الله سبحانه نبيه عليه الصلاة والسلام من شدة حرص القوم على كفالة مريم والقيام بأمرها، وسيق ذلك تأكيدا لاصطفائها عليها السلام ويبعد هذا الفصل بين المؤكد والمؤكد، ومع هذا هو أولى مما قيل: إن المقصود منها التعجيب من تدافعهم لكفالتها لشدة الحال ومزيد الحاجة التي لحقتهم حتى وفق لها خير الكفلاء زكريا عليه السلام، بل يكاد يكون هذا غير صحيح دراية ورواية، وعلى كل تقدير لا يشكل نفي المشاهدة مع ظهور انتفائها عند كل أحد إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أي يرمونها ويطرحونها للاقتراع، والأقلام- جمع قلم وهي التي كانوا يكتبون بها التوراة واختاروها تبركا بها، وقيل: هي السهام من النشاب وهي القداح، وحكى الكازروني أنها كانت من نحاس وهي مأخوذة من القلم بمعنى القطع، ومنه قلامة الظفر وقد تقدم بيان كيفية الرمي- وفي عدة الأقلام خلاف- وعن الباقر أنها كانت ستة، والظرف معمول للاستقرار العامل في لَدَيْهِمْ وجعله ظرفا لكان- كما قال أبو البقاء- ليس بشيء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ من تتمة الكلام الأول، وجعله ابتداء استفهام مفسد للمعنى، ولما لم يصلح يُلْقُونَ للتعلق بالاستفهام لزم أن يقدر ما يرتبط به النظام فذكر الجلّ له ثلاثة أوجه: «أحدها» أن يقدر ينظرون أَيُّهُمْ يَكْفُلُ وحيث كان النظر مما يؤدي إلى الإدراك جاز أن يتعلق باسم الاستفهام كالأفعال القلبية- كما صرح به ابن الحاجب. وابن مالك في التسهيل- وثانيها أن يقدر ليعلموا أَيُّهُمْ يَكْفُلُ وعلى الأول الجملة حال مما قبلها وعلى الثاني في موضع المفعول له، ولا يخفى أن الإلقاء سبب لنفس العلم لكنه سبب بعيد، والقريب هو النظر إلى ما ارتفع من الأقلام، وثالثها أن يقدر يقولون، أو ليقولوا أَيُّهُمْ واعترض بأنه لا فائدة يعتد بها في تقدير يقولون ولا ينساق المعنى إليه بل هو مجرد إصلاح لفظي لموقع أَيُّهُمْ وأجيب بأنه مفيد، وينساق المعنى إليه بناء على أن المراد بالقول القول للبيان والتعيين، واعترض أيضا تقدير القول مقرونا بلام التعليل بأن هذا التعليل هنا مما لا معنى له، وأجيب بتأويله كما أول في سابقة، وقيل: يؤول بالحكم أي ليقولوا وليحكموا أَيُّهُمْ إلخ، والسكاكي يقدر هاهنا ينظرون لعلموا، ولعل ذلك لمراعاة المعنى واللفظ وإلا فتقدير النظر، أو العلم يغني عن الآخر، وبعض المحققين لم يقدر شيئا أصلا وجعل أَيُّهُمْ بدلا عن ضمير الجمع- أي يلقى كل من يقصد الكفالة- وتتأتى منه، ولا يخفى أنه من التكلف بمكان وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ في شأنها تنافسا على كفالتها وكان هذا الاختصام بعد الاقتراع في رأي، وقبله في آخر، وتكرير ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ مع تحقق المقصود بعطف إِذْ يَخْتَصِمُونَ على إِذْ يُلْقُونَ للإيذان بأن كل واحد من عدم الحضور عند الإلقاء، وعدم الحضور عند الاختصام مستقل بالشهادة على نبوته صلّى الله عليه وسلم لا سيما على الرأي الثاني في وقت الاختصام لأن تغيير الترتيب في الذكر مؤكد لذلك- قاله شيخ الإسلام. واختلف في وقت هذا الاقتراع والتشاحّ على قولين: أحدهما وهو المشهور المعول عليه أنه كان حين ولادتها وحمل أمها لها إلى الكنيسة على ما أشرنا إليه من قبل، وثانيهما أنه كان وقت كبرها وعجز زكريا عليه السلام عن تربيتها، وهو قول مرجوح، وأوهن منه قول من زعم أن الاقتراع وقع مرتين مرة في الصغر وأخرى في الكبر، وفي هذه الآية دلالة على أن القرعة لها دخل في تمييز الحقوق، وروي عن الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قال: ما تقارع قوم ففوضوا أمرهم إلى الله عز وجل إلا خرج سهم المحق، وقال أي قضية أعدل من القضية إذا فوض الأمر إلى الله سبحانه، أليس الله تعالى يقول: فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ [الصافات: 141] وقال الباقر رضي الله تعالى عنه: أول من سوهم عليه مريم بنت عمران ثم تلا وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ شروع في قصة عيسى عليه السلام، والمراد بالملائكة جبريل عليه السلام على المشهور، والقول شفاهي كما رواه ابن أبي حاتم عن قتادة، وإِذْ المضافة إلى ما بعدها بدل من نظيرتها السابقة بدل كل من كل، وقيل: بدل اشتمال ولا يضر الفصل إذ الجملة الفاصلة بين البدل والمبدل منه اعتراض جيء به تقريرا لما سبق وتنبيها على استقلاله وكونه حقيقيا بأن يعد على حياله من شواهد النبوة قالوا: وترك العطف بناء على اتحاد المخاطب والمخاطب وإيذانا بتقارن الخطابين أو تقاربهما في الزمان، وجوز أبو البقاء كون الظرف منصوبا باذكر مقدرا، وأن يكون ظرفا- ليختصمون- وقيل: إنه بدل من إِذْ المضافة إليه، واعترض بأن زمن الاختصام قبل زمن البشارة بمدة- فلا تصح هذه البدلية والتزام أنه بدل غلط- غلط إذ لا يقع في فصيح الكلام، وأجيب بأنه يعتبر زمان ممتد يقع الاختصام في بعضه والبشارة في بعض آخر وبهذا الاعتبار يصح أن يقال: إنهما في زمان واحد كما يقال وقع القتال والصلح في سنة واحدة مع أن القتال واقع في أولها مثلا والصلح في آخرها، قيل: ولا يحتاج إلى هذا على الاحتمال الثاني مما ذكره أبو البقاء بناء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 على ما روي عن الحسن أنها عليها السلام كانت عاقلة في حال الصغر فيحتمل أنها وردت عليها البشرى إذ ذاك، وفيه بعد بل الآثار ناطقة بخلافه. يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ كلمة- من- لابتداء الغاية مجازا وهي متعلقة بمحذوف وقع صفة- لكلمة- وإطلاق الكلمة على من أطلقت عليه باعتبار أنه خلق من غير واسطة أب بل بواسطة كن فقط على خلاف أفراد بني آدم فكان تأثير الكلمة في حقه أظهروا وأكمل فهو كقولك لمن غلب عليه الجود مثلا: محض الجود- وعلى ذلك أكثر المفسرين- وأيدوا ذلك بقوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 59] ، وقيل: أطلق عليه ذلك لأن الله تعالى بشر به في الكتب السالفة، ففي التوراة- في الفصل العشرين من السفر الخامس- أقبل الله تعالى من سينا وتجلى من ساعير وظهر من جبال فاران- وسينا- جبل التجلي لموسى- وساعير- جبل بيت المقدس وكان عيسى يتعبد فيه- وفاران- جبل مكة، وكان متحنث سيد المرسلين صلى الله تعالى عليه وسلم، وهذا كقول من يخبر بالأمر إذا خرج موافقا لما أخبر به: قد جاء كلامي، وقيل: لأن الله تعالى يهدي به كما يهدي بكلمته. ومن الناس من زعم أن- الكلمة- بمعنى البشارة كأنه قيل ببشارة منه ويبعده ظاهر قوله تعالى: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ [النساء: 171] ولعله يرجح أول الأقوال كما يرجحه عدم اطراد الأقوال الأخر وإن لم يكن لازما في مثل ذلك، وفي يُبَشِّرُكِ هنا من القراءات مثل ما فيها فيما تقدم اسْمُهُ الضمير راجع إلى- الكلمة- وذكره رعاية للمعنى لكونها عبارة عن مذكر واسم مبتدأ خبره الْمَسِيحُ وقوله تعالى: عِيسَى يحتمل أن يكون بدلا، أو عطف بيان، أو توكيدا بالمرادف كما أشار إليه الدنوشري، أو خبرا آخر، أو خبر مبتدأ محذوف، أو منصوبا بإضمار أعني مدحا، وحذف المبتدأ والفعل قيل: على سبيل الجواز ومقتضى ما ذكروه في النعت المقطوع أن يكون على سبيل الوجوب، وقوله تعالى: ابْنُ مَرْيَمَ صفة لعيسى وعلى تقدير كونه منصوبا يلتزم القول بالقطع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، ومن جعل هذه الثلاثة أخبارا عن المبتدأ أورد عليه بأن الاسم في الحقيقة عِيسَى والْمَسِيحُ لقب وابْنُ صفة فكيف جعلت الثلاثة خبرا عنه؟! وأجيب بأن المراد بالاسم معناه المصطلح وهو العلم مطلقا وليس هو بمعنى مقابل اللقب بل ما يعمه وغيره وأن إضافته تفيد العموم لأن إضافة اسم الجنس قد يقصد بها الاستغراق، وإن إطلاقه على ابن مريم على طريق التغليب، وقيل: المراد بالاسم معناه اللغوي- وهو السمة والعلامة المميزة- لا العلم. ولا مانع حينئذ من جعل مجموع الثلاثة خبرا إذ التمييز بذلك أشد من التمييز بكل واحد فيؤول المعنى إلى قولك الذي يعرف به ويميز به عما سواه مجموع الثلاثة وبهذا- كما في الانتصاف- خلاص من إشكال يوردونه فيقولون: الْمَسِيحُ في الآية إن أريد به التسمية- وهو الظاهر- فما موقع عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ والتسمية لا توصف بالنبوة؟! وإن أريد به المسمى بهذه التسمية لم يلتئم مع قوله سبحانه: اسْمُهُ ووجه الخلاص ظاهر، ولعدم ظهور هذا التوجيه لبعضهم التزم الخلاص من ذلك بأن المسيح خبر عن قوله تعالى: اسْمُهُ والمراد التسمية، وأما عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فخبر مبتدأ محذوف تقديره هو، ويكون الضمير عائدا إلى المسمى بالتسمية المذكورة منقطعا عن الْمَسِيحُ والمشهور أن الْمَسِيحُ لقبه عليه السلام وهو له من الألقاب المشرفة كالفاروق، وأصله بالعبرية مشيحا ومعناه المبارك، وعن إبراهيم النخعي الصديق، وعن ابن عمرو بن العلاء الملك، وعِيسَى معرب أيشوع، ومعناه السيد، وعن كثير من السلف أن الْمَسِيحُ مشتق من المسح، واختلفوا في وجه إطلاقه على عيسى عليه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 السلام فقيل: لأنه مسح بالبركة واليمن، وروي ذلك عن الحسن، وابن جبير، وقيل: لأنه كان يمسح عين الأكمه فيبصر، وروي ذلك عن الكلبي، وقيل: لأنه كان لا يمسح ذا عاهة بيده إلا برىء، ورواه عطاء. والضحاك عن ابن عباس، وقال الجبائي: لأنه كان يمسح بدهن زيت بورك فيه وكانت الأنبياء تتمسح به، وقيل: لأن جبريل مسحه بجناحيه وقت الولادة ليكون عوذة من الشيطان الرجيم، وقيل: لأنه حين مسح الله تعالى ظهر آدم عليه السلام فاستخرج من ذرات ذريته لم يرده إلى مقامه كما فعل بباقي الذرات بل حفظه عنده حتى ألقاه إلى مريم فكان قد بقي عليه اسم المسيح أي الممسوح «وقيل: وقيل:» وهذه الأقوال تشعر بأن اللفظ عربي لا عبري، وكثير من المحققين على الثاني، واختاره أبو عبيدة، وعليه لا اشتقاق لأنه لا يجري على الحقيقة في الأسماء الأعجمية، وفي الكشف أن الظاهر فيه الاشتقاق لأنه عربي دخل عليه خواص كلامهم جعل لقب تشريف له عليه السلام- كالخليل- لإبراهيم، وجعله معربا ثم إجراؤه مجرى الصفات في إدخال اللام لأنه في كلامهم بمعنى الوصف خلاف الظاهر. ومن الناس من ادعى أن دخول اللام لا ينافي العجمة فإن- التوراة، والإنجيل، والإسكندر- لم تسمع إلا مقرونة بها مع أنها أعجمية، ولعل ذلك لا ينافي أظهرية كون محل النزاع عربيا، نعم قيل في عيسى: إنه مشتق من العيس وأنه إنما سمي به عليه السلام لأنه كان في لونه عيسى أي بياض تعلوه حمرة كما يشير إليه خبر «كأنما خرج من ديماس» إلا أن المعول عليه فيه أنه لا اشتقاق له، وأن القائل به كالراقم على الماء. وهذا الخلاف إنما هو في هذا المسيح وأما المسيح الدجال فعربي إجماعا وسمي به لأنه مسحت إحدى عينيه، أو لأنه يمسح الأرض أي يقطعها في المدة القليلة وفرق النخعي بين لقب روح الله. وعدوه بأن الأول يفتح الميم والتخفيف. والثاني بكسر الميم وتشديد السين- كشرير- وأنكره غيره- وهو المعروف- ثم القائلون باللقبية في الآية وكون عيسى بدلا مثلا خص الكثير منهم منع تقديم اللقب على الاسم بما إذا لم يكن أشهر منه حقيقة أو ادعاء أما إذا كان أشهر كما هنا فإنه يجوز التقديم كما نص عليه ابن الأنباري ولا يختص بغير الفصيح كما فيما إذا لم يكن كذلك. والمشهور فيما إذا كان الاسم واللقب مفردين إضافة الأول للثاني، وفي المفصل تعينها، وصنيع سيبويه يشير إلى ذلك، ومن جوز التبعية استدل بقولهم: هذا يحيى- عينان- إذ لو أضيف لقيل عينين، وحمله على لغة من يلزم المثنى الألف يرده أن الرواية بضم النون ولو كانت الرواية بالكسر لأمكن ذلك الحمل فلا يتم الاستدلال، وكذا لو كانت بالفتح لأنه يمكن حينئذ أن يكون اللقب مجرورا بالإضافة إلا أن الفتحة فيه نائبة عن الكسرة بناء على القول بأن المسمى به يجوز أن يعرب كما لا ينصرف لكن أنت تعلم أن قصارى ما يثبته هذا الاستدلال الورود في هذا الجزئي. وأما أنه يثبت الاطراد فلا، ولعل المانع إنما يمنع ذلك، ويدعي أن المطرد هو الإضافة لكن بشرط أن لا يمنع منها مانع فلا تجوز فيما إذا قارنت- أل- الوضع لمنعها عن ذلك فلا يقال: الحرث- كرز- بالإضافة، وكذا إذ كان اللقب وصفافي الأصل نحو إبراهيم الخليل- على ما نص عليه ابن الحاجب في شرح المفصل- لأن الموصوف لا يضاف إلى صفته في المشهور. ومن الناس من جعل ما نحن فيه من هذا القبيل، وهو مبني على مذهب من يقول: إن المسيح صفة في العربية ومع هذا في المسألة خلاف ابن هشام فإنه يجوز الإضافة في هذا القسم أيضا وتمام البحث في كتبنا النحوية فليفهم، وإنما قيل: ابْنُ مَرْيَمَ مع كون الخطاب لها تنبيها على أنه يولد من غير أب ولو كان له أب لنسب إليه، وفي ذلك رمز إلى تفضيل الأم أيضا، وقيل: إن في ذلك ردا للنصارى، وأبعد من ادعى أن هذه الإضافة لمدح عيسى عليه السلام لأن الكلام حينئذ في قوة ابن عبادة، هذا واعلم أن لفظ ابْنُ في الآية يكتب بغير همزة بناء على وقوعه صفة بين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 علمين إذ القاعدة أنه متى وقع كذلك لم تكتب همزته بل تحذف في الخط تبعا لحذفها في اللفظ لكثرة استعماله كذلك ومتى تقدمه علم لكن أضيف إلى غير علم- كزيد ابن السلطان- أو تقدمه غير علم، وأضيف إلى علم- كالسلطان ابن زيد- أو وقع بين ما ليسا علمين- كزيد العاقل ابن الأمير عمرو- كتبت الألف ولم تحذف في الخط في جميع تلك الصور، والكتاب كثيرا ما يخطئون في ذلك فيحذفون الهمزة منه في الكتابة أينما وقع، وقد نص على خطئهم في ذلك ابن قتيبة. وغيره. ومن هنا قيل: إن الرسم يرجح التبعية، نعم في كون ذلك مطردا فيما إذا كان المضاف إليه علم الأم خلاف، والذي أختاره الحذف أيضا إذا كان ذلك مشهورا وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ الوجيه ذو الجاه. والشرف. والقدر. وقيل: الكريم على من يسأله فلا يرد لكرم وجهه عنده خلاف من يبذل وجهه للمسألة فيرد، ووجاهته في الدنيا بالنبوة والتقدم على الناس، وفي الآخرة بقبول شفاعته وعلو درجته، وقيل: وجاهته في الدنيا بقبول دعائه بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وقيل: بسبب أنه كان مبرءا من العيوب التي افتراها اليهود عليه، وفي الآخرة ما تقدم وليست الوجاهة بمعنى الهيئة والبزة ليقال: كيف كان- وجيها- في الدنيا مع أن اليهود قاتلهم الله عاملوه بما عاملوه على أنه لو كان المعنى على ذلك لا تقدح تلك المعاملة فيه كما لا تقدح على التقادير الأول كما لا يخفى على المتأمل، ونصب وَجِيهاً على أنه حال مقدرة من كلمة وسوغ مجيء الحال منها مع أنها نكرة وصفها بما بعدها والتذكير باعتبار المعنى- كما أشير إليه- وجعلت الحال مقدرة لأن الوجاهة كانت بعد البشارة. ومن الناس من جعل الحال من عِيسَى وقال أبو البقاء: لا يجوز ذلك وكذا لا يجوز جعله حالا من الْمَسِيحُ أو من ابْنُ مَرْيَمَ لأنها أخبار، والعامل فيها الابتداء، أو المبتدأ أو هما وليس شيء من ذلك يعمل في الحال، وكذا لا يجوز أيضا أن يكون حالا من الهاء في اسمه للفصل الواقع بينهما ولعدم العامل في الحال، والظرف متعلق بما عنده لما فيه من معنى الفعل وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ أي عند الله يوم القيامة قاله قتادة، وقيل: هو إشارة إلى رفعه إلى السماء وصحبته الملائكة، وقيل: من المقربين من الناس بالقبول، والإجابة وهو معطوف على وَجِيهاً أي ومقربا من جملة المقربين وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا عطف على الحال الأولى أيضا وعطف الفعل على الاسم لتأويله به سائغ شائع- وهو في القرآن كثير- والظرف حال من الضمير المستكن في الفعل ولم يجعل ظرفا لغوا متعلقا به مع صحته لعطف وَكَهْلًا عليه، والمراد يكلمهم حال كونه طفلا وكهلا، والمقصود التسوية بين الكلام في حال الطفولية وحال الكهولة، وإلا فالكلام في الثاني ليس مما يختص به عليه السلام وليس فيه غرابة، وعلى هذا فالمجموع حال لا كل على الاستقلال، وقيل: إن كلا منهما حال، والثاني تبشير ببلوغ سن الكهولة وتحديد لعمره، والْمَهْدِ مقر الصبي في رضاعه وأصله مصدر سمي به وكان كلامه فِي الْمَهْدِ ساعة واحدة بما قص الله تعالى لنا، ثم لم يتكلم حتى بلغ أو إن الكلام قاله ابن عباس، وقيل: كان يتكلم دائما وكان كلامه فيه تأسيسا لنبوته وإرهاصا لها على ما ذهب إليه ابن الأخشيد وعليه يكون قوله: وَجَعَلَنِي نَبِيًّا [مريم: 30] إخبارا عما يؤول إليه، وقال الجبائي: إنه سبحانه أكمل عقله عليه السلام إذ ذاك وأوحى إليه بما تكلم به مقرونا بالنبوة، وجوز أيضا أن يكون ذلك كرامة لمريم دالة على طهارتها وبراءة ساحتها مما نسبه أهل الإفك إليها، والقول: بأنه معجزة لها بعيد- وإن قلنا بنبوتها- وزعمت النصارى أنه عليه السلام لم يتكلم فِي الْمَهْدِ ولم ينطق ببراءة أمه صغيرا بل أقام ثلاثين سنة واليهود تقذف أمه بيوسف النجار- وهذا من أكبر فضائحهم الصادحة برد ما هم عليه من دعوى الألوهية له عليه السلام- وكذا تنقله في الأطوار المختلفة المتنافية لأن من هذا شأنه بمعزل عن الألوهية، واعترضوا بأن كلامه في المهد من أعجب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 الأمور فلو كان لنقل ولو نقل لكان النصارى أولى الناس بمعرفته، وأجيب بأن الحاضرين إذ ذاك لم يبلغوا مبلغ التواتر، ولما نقلوا كذبوا فسكتوا، وبقي الأمر مكتوما إلى أن نطق القرآن به، وهذا قريب على قول ابن عباس: إنه لم يتكلم إلا ساعة من نهار- وعلى القول الآخر- وهو أنه بقي يتكلم يقال: إن الناس اشتغلوا بعد بنقل ما هو أعجب من ذلك من أحواله كإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، والإخبار عن الغيوب، والخلق من الطين كهيئة الطير حتى لم يذكر التكلم منهم إلا النزر ولا زال الأمر بقلة حتى لم يبق مخبر عن ذلك وبقي مكتوما إلى أن أظهره القرآن. وبعد هذا كله لك أن تقول لا نسلم إجماع النصارى على عدم تكلمه في المهد، وظاهر الأخبار، وقد تقدم بعضها يشير إلى أن بعضهم قائل بذلك، وبفرض إجماعهم نهاية ما يلزم الاستبعاد وهو بعد إخبار الصادق لا يسمن ولا يغني من جوع عند من رسخ إيمانه. وقوى إيقانه، وكم أجمع أهل الكتابين على أشياء نطق القرآن الحق بخلافها والحق أحق بالاتباع، ولعل مرامهم من ذلك أن يطفئوا نور الله بأفواههم وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ [التوبة: 32] والكهل ما بين الشاب والشيخ، ومنه اكتهل النبت إذا طال وقوى، وقد ذكر غير واحد أن ابن آدم ما دام في الرحم فهو جنين، فإذا ولد فهو وليد ثم ما دام يرضع فهو رضيع، ثم إذا قطع اللبن فهو فطيم، ثم إذا دب ونما فهو دارج، فإذا بلغ خمسة أشبار فهو خماسي فإذا سقطت رواضعه فهو مثغور، فإذا نبتت أسنانه فهو- مثغر بالتاء والثاء- كما قال أبو عمرو- فإذا قارب عشر سنين أو جاوزها فهو مترعرع وناشئ، فإذا كان يبلغ الحلم أو بلغه فهو يافع ومراهق، فإذا احتلم واجتمعت قوته فهو حزور، واسمه في جميع هذه الأحوال غلام فإذا اخضرّ شاربه وأخذ عذاره يسيل قيل: قد بقل وجهه، فإذا صار ذا فتاء فهو فتى وشارخ. فإذا اجتمعت لحيته وبلغ غاية شبابه فهو مجتمع، ثم ما دام بين الثلاثين والأربعين فهو شاب، ثم كهل إلى أن يستوفي الستين. ويقال لمن لاحت فيه أمارات الكبر وخطه الشيب، ثم يقال شاب، ثم شمط، ثم شاخ، ثم كبر، ثم هرم، ثم دلف، ثم خرف، ثم اهتر، ومحاظله- إذا مات- وهذا الترتيب إنما هو في الذكور- وأما في الإناث فيقال للأنثى ما دامت صغيرة: طفلة، ثم وليدة إذا تحركت، ثم كاعب إذا كعب ثديها ثم ناهد، ثم معصر إذا أدركت، ثم عانس إذا ارتفعت عن حد الاعصار، ثم خود إذا توسطت الشباب، ثم مسلف إذا جاوزت الأربعين، ثم نصف إذا كانت بين الشباب والتعجيز، ثم شهلة كهلة إذا وجدت من الكبر- وفيها بقية وجلد- ثم شهربة إذا عجزت- وفيها تماسك- ثم حيزبون إذا صارت عالية السن ناقصة العقل، ثم قلعم ولطلط إذا انحنى قدّها وسقطت أسنانها. وعلى ما ذكر في سن الكهولة يراد بتكليمه عليه السلام كهلا تكليمه لهم كذلك بعد نزوله من السماء وبلوغه ذلك السن بناء على ما ذهب إليه سعيد بن المسيب، وزيد بن أسلم، وغيرهما «أنه عليه السلام رفع إلى السماء وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وأنه سينزل إلى الأرض ويبقى حيا فيها أربعا وعشرين سنة» كما رواه ابن جرير بسند صحيح عن كعب الأحبار، ويؤيد هذا ما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال: قد كلمهم عيسى في المهد وسيكلمهم إذا قتل الدجال وهو يومئذ كهل وَمِنَ الصَّالِحِينَ أي ومعدودا في عدادهم وهو معطوف على الأحوال السابقة قالَتْ استئناف مبني على السؤال كأنه قيل: فماذا كان منها حين قالت لها الملائكة ذلك؟ فقيل: قالت رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ يحتمل أن يكون الاستفهام مجازيا والمراد التعجب من ذلك والاستبعاد العادي، ويحتمل أن يكون حقيقيا على معنى أنه يكون بتزوج أو غيره، وقيل: يحتمل أن يكون استفهاما عن أنه من أي شخص يكون، وإعراب هذه الجملة على نحو إعراب الجملة السابقة في قصة زكريا عليه السلام وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ جملة حالية محققة لما مر ومقوية له، والمسيس هنا كناية عن الوطء وهذا نفي عام للتزوج وغيره، والبشر يطلق على الواحد والجمع، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 والتنكير للعموم، والمراد عموم النفي لا نفي العموم، وسمي بشرا لظهور بشرته أو لأن الله تعالى باشر أباه وخلقه بيديه قالَ استئناف كسابقه، والفاعل ضمير الرب، والملك حكى لها المقول وهو قوله سبحانه: كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ. إما بلا تغيير فيكون فيه التفات، وإما بتغيير، وقيل: إن الله تعالى قال لها ذلك بلا واسطة ملك، والأول مبني على أنه تعالى لم يكلم غير الأنبياء بل غير خاصتهم عليهم الصلاة والسلام، وقيل: القائل جبريل عليه السلام وليس على سبيل الحكاية والقرينة عليه ذكر الملائكة عليهم السلام قبله، وحمل رَبِّ فيما تقدم على ذلك أبعد بعيد، وقد مر عليك الكلام في مثل هذه الجملة خلا أن التعبير هنا- بيخلق- وهناك- بيفعل- لاختلاف القصتين في الغرابة فإن الثانية أغرب فالخلق المنبئ عن الاختراع أنسب بها ولهذا عقبه ببيان كيفيته فقال سبحانه: إِذا قَضى أَمْراً أي أراد شيئا- فالأمر- واحد الأمور، والقضاء في الأصل الأحكام، وأطلق على الإرادة الإلهية القطعية المتعلقة بإيجاد المعدوم وإعدام الموجود وسميت بذلك لا يجابها ما تعقلت به البتة ويطلق على الأمر، ومنه وَقَضى رَبُّكَ [الإسراء: 23] فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أي فهو- يكون: أي يحدث وهذا عند الأكثرين تمثيل لتأثير قدرته في مراده بأمر المطاع للمطيع في حصول المأمور من غير امتناع وتوقف وافتقار إلى مزاولة عمل واستعمال آلة، فالممثل الشيء المكون بسرعة من غير عمل وآلة، والممثل به أمر الآمر المطاع لمأمور به مطيع على الفور، وهذا اللفظ مستعار لذلك منه. وأنت تعلم أنه يجوز فيه أن يكون حقيقة بأن يراد تعلق الكلام النفسي بالشيء الحادث على أن كيفية الخلق على هذا الوجه، وعلى كلا التقديرين المراد من هذا الجواب بيان أن الله تعالى لا يعجزه أن يخلق ولدا بلا أب لأنه أمر ممكن في نفسه فيصح أن يكون متعلق الإرادة والقدرة كيف لا وكثيرا ما نشاهد حدوث كثير من الحيوانات على سبيل التولد كحدوث الفأر عن المدر. والحيات عن الشعر المتعفن. والعقارب عن البادورج. والذباب عن الباقلاء إلى غير ذلك غايته الاستبعاد. وهو لا يوجب ظنا فضلا عن علم، وبعد إخبار الصادق عن وجود ذلك الممكن يجب القطع بصحته، والقول: بأن المادة فيما عد ونحوه موجودة وبعد وجودها لا ريب في الإمكان دون ما نحن فيه لأن مادة الآدمي منيان وليس هناك إلا مني واحد أو لا مني أصلا فكيف يمكن الخلق- ليس بشيء أما على مذهبنا فلان الإيجاد لا يتوقف على سبق المادة وإلا لتسلسل الأمر، وأما على مذهب المنكرين فيجوز أن يكون مني الأنثى بنفسه أو بما ينضم إليه مما لا يعلمه إلا الله تعالى بحالة يصلح أن يكون مادة، وقصارى ما يلزم من ذلك الاستبعاد وهو لا يجدي نفعا في أمثال هذه المقامات، ويجوز أيضا أن يقيم الله تعالى غير المني مقام المني، وأي محال يلزم من ذلك ألا ترى كيف أقيم التراب مقام المني في أصل النوع ودعوى أن الإقامة مشروطة يكون ذلك الغير خارج الرحم، وأما الإقامة في الرحم فمما لا إمكان لها غير بينة ولا مبينة بل العقل لا يفرق بين الأمرين في الإمكان وإنما يفرق بينهما في موافقة العادة وعدمها وهو أمر وراء ما نحن فيه. ومن الناس من بين هذا المطلب بأن التخيلات الذهنية كثيرا ما تكون أسبابا لحدوث الحوادث كتصور حضور المنافي للغضب وكتصور السقوط بحصول السقوط للماشي على جذع ممدود فوق فضاء بخلافه لو كان على قرار من الأرض وقد جعلت الفلاسفة هذا كالأصل في بيان جواز المعجزات والكرامات- فما المانع أن يقال: إنها لما تخيلت صورة جبريل كفى ذلك في علوق الولد في رحمها لأن مني الرجل ليس إلا لأجل العقد فإذا حصل الانعقاد لمني المرأة بوجه آخر أمكن علوق الولد انتهى- وليس بشيء لأنه يعود بالنقص لحضرة البتول. وإنها لتنزه ساحتها عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 مثل هذا التخيل كما لا يخفى، وفي جواب هذه الظاهرة ليوسف النجار ما يؤيد ما قلناه، فقد أخرج إسحق بن بشر. وابن عساكر عن وهب أنه قال: لما استقر حمل مريم وبشرها جبريل وثقت بكرامة الله تعالى واطمأنت وطابت نفسا، وأول من اطلع على حملها ابن خال لها يقال له يوسف، واهتم لذلك وأحزنه وخشي البلية منه لأنه كان يخدمها فلما رأى تغير لونها وكبر بطنها عظم عليه ذلك فقال معرضا لها: هل يكون زرع من غير بذر؟! قالت: نعم قال: وكيف يكون ذلك قال: إن الله تعالى خلق البذر أول من غير نبات وأنبت الزرع الأول من غير بذر، ولعلك تقول: لم يقدر أن يخلق الزرع الأول إلا بالبذر؟ ولعلك تقول: لولا أن استعان الله تعالى عليه بالبذر لغلبه حتى لا يقدر على أن يخلقه ولا ينبته؟ قال يوسف أعوذ بالله أن أقول ذلك قد صدقت وقلت بالنور والحكم، وكما قدر أن يخلق الزرع الأول وينبته من غير بذر يقدر أن يجعل زرعا من غير بذر فأخبريني هل ينبت الشجر من غير ماء ولا مطر؟ قالت: ألم تعلم أن للبذر. والماء. والمطر. والشجر خالقا واحدا فلعلك تقول لولا الماء والمطر لم يقدر على أن ينبت الشجر؟ قال أعوذ بالله تعالى أن أقول ذلك قد صدقت فأخبريني خبرك قالت: بشرني الله تعالى بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ إلى قوله تعالى: وَمِنَ الصَّالِحِينَ فعلم يوسف أن ذلك أمر من الله تعالى لسبب خير أراده بمريم فسكت عنها فلم تزل على ذلك حتى ضربها الطلق فنوديت أن اخرجي من المحراب فخرجت. وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ عطف على يُبَشِّرُكِ أي إن الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ ويعلم ذلك المولود المعبر عنه بالكلمة الْكِتابَ ولا يرد عليه طول الفصل لأنه اعتراض لا يضر مثله، أو على- يخلق- أي كذلك الله يخلق ما يشاء وَيُعَلِّمُهُ أو على- يكلم فتكون في محل نصب على الحال والتقدير- يبشرك بكلمة مكلما الناس ومعلما الكتاب- أو على وَجِيهاً وجوز أن تكون جملة مستأنفة ليست داخلة في حيز قول الملائكة عليهم السلام، والواو- تكون للاستئناف وتقع في ابتداء الكلام كما صرح به النحاة فلا حاجة- كما قال الشهاب- إلى التأويل بأنها معطوفة على جملة مستأنفة سابقة وهي وَإِذْ قالَتِ إلخ ولا إلى مقدرة، ولا إشكال في العطف كما قال النحرير، وكذا لا يدعي أن الواو زائدة كما قال أبو حيان، فهذه أوجه من الإعراب مختلفة بالأولوية، وأغرب ما رأيته ما نقله الطبرسي عن بعضهم أن العطف على جملة نُوحِيهِ إِلَيْكَ بل لا يكاد يستطيبه من سلم له ذوقه، والْكِتابَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 مصدر بمعنى الكتابة أي يعلمه الخط باليد- قاله ابن عباس وإليه ذهب ابن جريج، وروي عنه أنه قال: أعطى الله تعالى عيسى عليه السلام تسعة أجزاء من الخط وأعطى سائر الناس جزءا واحدا، وذهب أبو علي الجبائي إلى أن المراد بعض الكتب التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه عليهم السلام سوى التوراة والإنجيل مثل الزبور وغيره، وذهب كثيرون إلى أن- أل- فيه للجنس والمراد جنس الكتب الإلهية إلا أن المأثور هو الأول، والقول- بأن المراد بالكتاب الجنس لكن في ضمن فردين هما التوراة والإنجيل، وتجعل الواو فيما بعد زائدة مقحمة وما بعدها بدلا أو عطف بيان- من الهذيان بمكان. وقرأ أهل المدينة، وعاصم، ويعقوب، وسهل- ويعلمه- بالياء، والباقون بالنون قيل: وعلى ذلك لا يحسن بعض تلك الوجوه إلا بتقدير القول أي إن الله- يبشرك بعيسى- ويقول: يُعَلِّمُهُ أو وجيها ومقولا فيه نعلمه الكتاب وَالْحِكْمَةَ أي الفقه وعلم الحلال والحرام- قال ابن عباس- وقيل: جميع ما علمه من أمور الدين، وقيل: سنن الأنبياء عليهم السلام، وقيل: الصواب في القول والعمل، وقيل: إتقان العلوم العقلية، وقد تقدم الكلام على ذلك وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ أفردا بالذكر على تقدير أن يراد بالكتاب ما يشملهما لوفور فضلهما وسمو شأوهما على غيرهما، وتعليمه ذلك قيل: بالإلهام، وقيل: بالوحي، وقيل: بالتوفيق والهداية للتعلم، وقد صح أنه عليه السلام لما رعرع- وفي رواية الضحاك عن ابن عباس- لما بلغ سبع سنين أسلمته أمه إلى المعلم لكن الروايات متضافرة أنه جعل يسأل المعلم كلما ذكر له شيئا عما هو بمعزل عن أن ينبض فيه ببنت شفة، وذلك يؤيد أن علمه محض موهبة إلهية وعطية ربانية، وذكر- الإنجيل- لكونه كان معلوما عند الأنبياء والعلماء متحققا لديهم أنه سينزل وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ منصوب بمضمر يجر إليه المعنى معطوفا على نعلمه أي ونجعله رسولا- وهو الذي اختاره أبو حيان- وقيل: إنه منصوب بمضمر معمول لقول مضمر معطوف على- يعلمه- أي ويقول عيسى أرسلت رسولا، ولا يخفى أن عطف هذا القول على يُعَلِّمُهُ إذا كان مستأنفا مما ليس فيه كثير بأس، وأما على تقدير عطفه على يُبَشِّرُكِ أو يَخْلُقُ فقد طعن فيه العلامة التفتازاني بأنه يكون التقدير- إن الله يبشرك- أو إن الله يخلق ما يشاء- ويقول عيسى كذا، وفيه العطف على الخبر ولا رابط بينهما إلا بتكلف عظيم، وفي البحر: إن هذا الوجه مطلقا ضعيف إذ فيه إضمار شيئين القول ومعموله، والاستغناء عنهما باسم منصوب على الحال المؤكدة، واختار بعضهم عطفه على الأحوال المتقدمة مضمنا معنى النطق فلا يضر كونها في حكم الغيبة مع كون هذا في حكم التكلم إذ يكون المعنى حال كونه- وجيها- وَرَسُولًا ناطقا بكذا، والرسول على سائر التقادير صفة كشكور وصبور، وفعول هنا بمعنى مفعل، واحتمال- أن يكون مصدرا كما قال أبو البقاء مثله في قول الشاعر: أبلغ أبا سلمى رَسُولًا تروعه ويجعل معطوفا فاعلي الْكِتابَ أي ويعلمه رسالة- بعيد لفظا ومعنى، أما الأول فلأن المتبادر الوصفية لا المصدرية، وأما ثانيا فلأن تعليم الرسالة مما لا يكاد يوجد في كلامهم، والظرف إما متعلق- برسولا- أو بمحذوف وقع صفة له أي- رسولا كائنا إلى بني إسرائيل أي كلهم، قيل: وتخصيصهم بالذكر للإيذان بخصوص بعثته، أو للرد على من زعم من اليهود أنه مبعوث إلى غيرهم. ولي في نسبة هذا الزعم لبعض اليهود تردد- وليس ذلك في الكتب المشهورة- والذي رأيناه فيها أنهم في عيسى الذي قص الله تعالى علينا من أمره ما قص فرقتان: فرقة ترميه- وحاشاه بأفظع ما رمت به أمة نبيها- وهم أكثر اليهود، وفرقة يقال لهم العنانية أصحاب عنان بن داود رأس الجالوت يصدقونه في مواعظه وإشاراته ويقولون: إنه لم يخالف التوراة البتة بل قررها ودعا الناس إليها، وإنه من المستجيبين لموسى عليه السلام، ومن بني إسرائيل المتعبدين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 وليس برسول ولا نبي، ويقولون: إن سائر اليهود ظلموه حيث كذبوه أولا ولم يعرفوا مدعاه وقتلوه آخرا ولم يعرفوا مرامه ومغزاه، نعم من اليهود فرقة يقال لهم العيسوية- أصحاب أبي عيسى إسحق بن يعقوب الأصفهاني الذي يسميه بعضهم بعرقيد الوهيم- يزعمون: إن لله تعالى رسولا بعد موسى عليه السلام يسمى المسيح إلا أنه لم يأت بعد ويدعون أن له خمسة من الرسل يأتون قبله واحدا بعد واحد وأن صاحبهم هذا أحد رسله- وكل من هذه الأقوال بعيد- عما ادعاه صاحب القيل بمراحل- ولعله وجد ما يوافق دعواه، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ. هذا واختلف في زمن رسالته عليه السلام فقيل: في الصبا وهو ابن ثلاث سنين. وفي البحر: أن الوحي أتاه بعد البلوغ وهو ابن ثلاثين سنة فكانت نبوته ثلاث سنين قيل: وثلاثة أشهر وثلاثة أيام. ثم رفع إلى السماء وهو القول المشهور، وفيه أن أول أنبياء بني إسرائيل يوسف. وقيل: موسى وآخرهم عيسى- على سائرهم أفضل الصلاة وأكمل السلام- وقرأ اليزيدي- ورسول- بالجر على أنه معطوف على كلمة- أي يبشرك بكلمة وبرسول- أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ معمول- لرسولا- لما فيه من معنى النطق. وجوز أبو البقاء كونه معمولا لمحذوف وقع صفة- لرسولا- أي رسولا ناطقا. أو مخبرا بأني. وكونه بدلا من رَسُولًا إذا جعلته مصدرا أي ونعلمه أنى قد جئتكم، أو خبرا لمبتدأ محذوف على تقدير المصدرية أيضا أي هو أني، فالمنسبك إما في محل جر. أو نصب. أو رفع، وقوله تعالى: بِآيَةٍ في موضع الحال أي محتجا أو متلبسا بآية أو متعلق- بجئتكم- والباء للملابسة أو للتعدية، والتنوين للتفخيم دون الوحدة لظهور ما ينافيها، وقرئ بآيات مِنْ رَبِّكُمْ متعلق بمحذوف وقع صفة- لآية- وجوز تعلقه بجئت، ومِنْ في التقديرين لابتداء الغاية مجازا، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لتأكيد إيجاب الامتثال لما سيأتي من الأوامر، أو لأن وصف الربوبية يناسب حال الإرسال إليهم، وقوله تعالى: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بدل من قوله سبحانه: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ أو من آية أو منصوب على المفعولية لمحذوف أي أعني، أو مرفوع على أنه خبر لمقدر أي هي أَنِّي إلخ وقرأ نافع «إني» بكسر الهمزة على الاستئناف، والمراد بالخلق التصوير والإبراز على مقدار معين لا الإيجاد من العدم كما يشير إليه ذكر المادة، والهيئة مصدر بمعنى المهيأ كالخلق بمعنى المخلوق، وقيل: إنها اسم لحال الشيء وليست مصدرا وإنما المصدر الهيء والتهيؤ فهي على الأول جوهر وعلى الثاني عرض، وفسروها بالكيفية الحاصلة- من إحاطة الحد الواحد أو الحدود- بالجسم، والمعنى أنى أقدر- لأجل تحصيل إيمانكم ودفع تكذيبكم إياي- من الطين شيئا مثل الطير المهيأ أو هيئة كائنة كهيئته. والكاف إما اسم- كما ذهب إليه أبو الحسن- في موضع نصب على المفعولية- لأخلق- أو نعت لمفعول محذوف له، وإما حرف- كما ذهب إليه الجمهور- فتتعلق بمحذوف وقع نعتا أيضا لما وقع هو نعتا له على تقدير الاسمية. وقرأ يزيد وحمزة- كهية- بتشديد الياء. وكان ابن المقسم يقول: بلغني أن خلفا يقول: إن حمزة يترك الهمزة ويحرك الياء بحركتها. وقرأ أهل المدينة ويعقوب- الطائر- ومثله في المائدة فَأَنْفُخُ فِيهِ الضمير للهيئة المقدرة في نظم الكلام لكن بمعنى الشيء المهيأ لا بمعنى العرض القائم به إذ لا يصح أن يكون ذلك محلا للنفخ. وذكر الضمير هنا مراعاة للمعنى كما أنث في المائدة مراعاة للفظ قيل: وصح هذا لعدم الإلباس، ووقع في كلام غير واحد كون الضمير للكاف بناء على أنها اسم. ويعود ذلك في الحقيقة إلى عود الضمير إلى الموصوف بها. واعترضه ابن هشام بأنه لو كان كما زعموا لسمع في الكلام مررت- بكالأسد- وبعضهم بأن عود الضمير إليها غير معهود. وقرئ- فيها- فَيَكُونُ طَيْراً حيا طيارا كسائر الطيور. وقرأ المفضل- فتكون- بتاء التأنيث، ويعقوب، وأبو جعفر، ونافع- طائرا- بِإِذْنِ اللَّهِ متعلق- بيكون- أو- الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 بطيرا- والمراد بأمر الله، وأشار بذلك إلى أن إحياءه من الله تعالى ولكن بسبب النفخ، وليس ذلك لخصوصية في عيسى عليه السلام وهي تكونه من نفخ جبريل عليه السلام وهو روح محض- كما قيل- بل لو شاء الله تعالى الإحياء بنفخ أي شخص كان لكان من غير تخلف ولا استعصاء، قيل: وفي هذه المعجزة مناسبة لخلقه من غير أب، واختلف هل كان ذلك بطلب واقتراح أم لا؟ فذهب المعظم إلى الأول قالوا: إن بني إسرائيل طلبوا منه على سبيل التعنت جريا على عادتهم مع أنبيائهم أن يخلق لهم خفاشا فلما فعل قالوا: ساحر وإنما طلبوا هذا النوع دون غيره لأنه أكمل الطير خلقا وأبلغ دلالة على القدرة لأن له نابا وأسنانا، ويحيض، ويلد، ويطير بغير ريش، وله آذان، وثدي، وضرع، ويخرج منه اللبن، ويرى ضاحكا كما يضحك الإنسان، ولا يبصر في ضور النهار، ولا في ظلمة الليل، وإنما يرى في ساعتين بعد غروب الشمس ساعة وبعد طلوع الفجر ساعة قبل أن يسفر جدا، والمشهور أنه لم يخلق غير الخفاش، وأخرجه أبو الشيخ عن ابن عباس، قال وهب: كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميز عن خلق الله تعالى بلا واسطة، وقيل: خلق أنواعا من الطير. وذهب بعضهم إلى الثاني فقد أخرج ابن جرير عن ابن إسحق أن عيسى عليه السلام جلس يوما مع غلمان من الكتاب فأخذ طينا، ثم قال: أجعل لكم من هذا الطين طائرا؟ قالوا: أو تستطيع ذلك؟ قال: نعم بإذن ربي، ثم هيأه حتى إذا جعله في هيئة الطائر نفخ فيه، ثم قال: كن طائرا بإذن الله تعالى فخرج يطير من بين كفيه، وخرج الغلمان بذلك من أمره فذكروه لمعلمهم وأفشوه في الناس وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ عطف على أَخْلُقُ فهو داخل في حيز أَنِّي والْأَكْمَهَ هو الذي ولد أعمى أخرجه ابن جرير من طريق الضحاك عن ابن عباس. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عطاء عنه أنه الممسوح العين الذي لم يشق بصره ولم يخلق له حدقة، قيل: ولم يكن في صدر هذه الأمة أكمه بهذا المعنى غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب التفسير، وعن مجاهد أنه الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل، وعن عكرمة أنه الأعمش أي أخلص الْأَكْمَهَ من الكمه وَالْأَبْرَصَ وهو الذي به الوضح المعروف وتخصيص هذين الأمرين لأنهما أمران معضلان أعجزا الأطباء وكانوا في غاية الحذاقة مع كثرتهم في زمنه، ولهذا أراهم الله تعالى المعجزة من جنس الطب كما أرى قوم موسى عليه السلام المعجزة بالعصا واليد البيضاء حيث كان الغالب عليهم السحر، والعرب المعجزة بالقرآن حيث كان الغالب عليهم عصر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم البلاغة، والاقتصار على هذين الأمرين لا يدل على نفي ما عداهما لقد روى أنه عليه السلام أبرأ أيضا غيرهما، وروى عن وهب أنه ربما اجتمع على عيسى عليه السلام من المرضى خمسون ألفا من أطاق منهم أن يبلغه بلغه، ومن لم يطق ذلك منهم أتاه عيسى عليه السلام فمشى إليه، وكان يداويهم بالدعاء إلى الله تعالى بشرط الإيمان وكان دعاؤه الذي يدعو به للمرضى والزمنى والعميان والمجانين وغيرهم «اللهم أنت إله من في السماء وإله من في الأرض لا إله فيهما غيرك وأنت جبار من في السماء وجبار من في الأرض لا جبار فيهما غيرك وأنت ملك من في السماء وملك من في الأرض لا ملك فيهما غيرك قدرتك في الأرض كقدرتك في السماء وسلطانك في الأرض كسلطانك في السماء أسألك باسمك الكريم ووجهك المنير وملكك القديم إنك على كل شيء قدير» ومن خواص هذا الدعاء- كما قال وهب- أنه إذا قرئ على الفزع والمجنون وكتب له وسقى منه نفع إن شاء الله تعالى- وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ عطف على خبر أَنِّي وقيد الأحياء بالاذن كما فعل في الأول لأنه خارق عظيم يكاد يتوهم منه ألوهية فاعله لأنه ليس من جنس أفعال البشر وكان إحياؤه بالدعاء وكان دعاؤه- يا حي يا قيوم- وخبر «إنه كان إذا أراد أن يحيي الموتى صلى ركعتين يقرأ في الأولى تبارك الذي بيده الملك، وفي الثانية تنزيل السجدة فإذا فرغ مدح الله تعالى وأثنى عليه ثم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 دعا بسبعة أسماء: يا قديم، يا خفي، يا دائم، يا فرد، يا وتر، يا أحد، يا صمد» قال البيهقي: ليس بالقوي، وقيل: إنه كان إذا أراد أن يحيي ميتا ضرب بعصاه الميت، أو القبر، أو الجمجمة فيحيا بإذن الله تعالى ويكلمه ويموت سريعا. وأخرج محيي السنة عن ابن عباس أنه قال: قد أحيا عليه السلام أربعة أنفس: عازر، وابن العجوز، وابنة العاشر، وسام بن نوح. فأما عازر فكان صديقا له فأرسلت أخته إلى عيسى أن أخاك عازر مات وكان بينه وبين عازر مسيرة ثلاثة أيام فأتاه هو وأصحابه فوجدوه قد مات منذ ثلاثة أيام فقال لاخته: انطلقي بنا إلى قبره فانطلقت معهم إلى قبره فدعا الله تعالى عيسى فقام عازر وودكه يقطر فخرج من قبره وبقي زمانا وولد له. وأما ابن العجوز فمر به ميتا على عيسى عليه السلام على سرير يحمل فدعا الله تعالى عيسى فجلس على سريره ونزل عن أعناق الرجال ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه ورجع إلى أهله فبقي زمانا وولد له، وأما ابنة العاشر فكان أبوها رجلا يأخذ العشور ماتت له بنت بالأمس فدعا الله تعالى وأحياها وبقيت زمانا وولد لها. وأما سام بن نوح فإن عيسى عليه السلام جاء إلى قبره فدعى باسم الله تعالى الأعظم فخرج من قبره وقد شاب نصف رأسه خوفا من قيام الساعة ولم يكونوا يشيبون في ذلك الزمان فقال: أقد قامت الساعة؟ قال: لا ولكن دعوتك باسم الله تعالى الأعظم ثم قال له: مت قال: بشرط أن يعيذني الله تعالى من سكرات الموت فدعا الله تعالى له ففعل، وفي بعض الآثار أن إحياءه ساما كان بعد قولهم له عليه السلام إنك تحيي من كان قريب العهد من الموت ولعلهم لم يموتوا بل أصابتهم سكتة فأحي لنا سام بن نوح فأحياه وكان بينه وبين موته أكثر من أربعة آلاف سنة فقال للقوم: صدقوه فإنه نبي فآمن به بعضهم وكذبه آخرون فقالوا: هذا سحر فأرنا آية فنبأهم بما يأكلون وما يدخرون، وقد ورد أيضا أنه عليه السلام أحيا ابن ملك ليستخلفه في قصة طويلة، وأحيا خشفا وشاة وبقرة ولفظ الْمَوْتى يعم كل ذلك. وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ «ما» في الموضعين موصولة، أو نكرة موصوفة والعائد محذوف- أي تأكلونه وتدخرونه- والظرف متعلق بما عنده وليس من باب التنازع والادخار- الخبء- وأصل تَدَّخِرُونَ تذتخرون بذال معجمة فتاء فأبدلت التاء ذالا ثم أبدلت الذال دالا وأدغمت، ومن العرب من يقلب التاء دالا ويدغم، وقد كان هذا الإخبار بعد النبوة وإحيائه الموتى عليه السلام على ما في بعض الأخبار، وقيل: قبل، فقد أخرج ابن عساكر عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: كان عيسى عليه السلام وهو غلام يلعب مع الصبيان يقول لأحدهم: تريد أن أخبرك ما خبأت لك أمك؟ فيقول: نعم فيقول: خبأت لك كذا وكذا فيذهب الغلام منهم إلى أمه فيقول لها: أطعميني ما خبأت لي فتقول: وأي شيء خبأت لك؟ فيقول: كذا وكذا فتقول: من أخبرك؟! فيقول: عيسى ابن مريم فقالوا: والله لأن تركتم هؤلاء الصبيان مع عيسى ليفسدنهم فجمعوهم في بيت وأغلقوه عليهم فخرج عيسى يلتمسهم فلم يجدهم حتى سمع ضوضاهم في بيت فسأل عنهم فقال: ما هؤلاء أكان هؤلاء الصبيان؟ قالوا: لا إنما هي قردة وخنازير قال: اللهم اجعلهم قردة وخنازير فكانوا كذلك، وذهب بعضهم أن ذلك كان بعد نزول المائدة وأيد بما أخرجه عبد الرزاق وغيره عن عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه في الآية أنه قال: وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ من المائدة وَما تَدَّخِرُونَ منها، وكان أخذ عليهم في المائدة حين نزلت أن يأكلوا ولا يدخروا فادخروا وخانوا فجعلوا قردة وخنازير، ويمكن أن يقال: إن كل ذلك قد وقع- وعلى سائر التقادير- فالمراد الأخبار بخصوصية هذين الأمرين كما يشعر به الظاهر، وقيل: المراد الأخبار بالمغيبات إلا أنه قد اقتصر على ذكر أمرين منها ولعل وجه تخصيص الإخبار بأحوالهم لتيقنهم بها فلا يبقى لهم شبهة، والسر في ذكر هذين الأمرين بخصوصهما أن غالب سعي الإنسان وصرف ذهنه لتحصيل الأكل الذي به قوامه والادخار الذي يطمئن به أكثر القلوب ويسكن منه غالب النفوس فليفهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 وقرئ- «تذخرون» - بالذال المعجمة والتخفيف إِنَّ فِي ذلِكَ أي المذكور من الخوارق الأربعة العظيمة، وهذا من كلام عيسى عليه السلام حكاه الله تعالى عنه، وقيل: هو من كلام الله تعالى سيق للتوبيخ لَآيَةً أي جنسها، وقرئ لآيات لَكُمْ دالة على صحة الرسالة دلالة واضحة حيث لم يكن ذلك بتخلل آلات وتوسط أسباب عادية كما يفعله الأطباء والمنجمون. ومن هنا يعلم أن علم الجفر، وعلم الفلك، ونحوهما لما كانت مقرونة بأصول وضوابط لا يقال عنها: إنها علم غيب أبدا إذ علم الغيب شرطه أن يكون مجردا عن المواد والوسائط الكونية وهذه العلوم ليست كذلك لأنها مرتبة على قواعد معلومة عند أهلها لولاها ما علمت تلك العلوم، وليس ذلك كالعلم بالوحي لأنه غير مكتسب بل الله تعالى يختص به من يشاء وكذا العلم بالإلهام فإنه لا مادة له إلا الموهبة الالهية والمنحة الأزلية على أن بعضهم ذهب إلى أن تلك العلوم لا يحصل بها العلم المقابل للظن بل نهاية ما يحصل الظن الغالب وبينه وبين علم الغيب بون بعيد. وسيأتي لهذا تتمة إن شاء الله تعالى إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فيه مجاز المشارفة أي إن كنتم موفقين للإيمان. ويحتمل أن يكون المعنى إن كنتم مصدقين. وجواب الشرط على التقديرين محذوف أي انتفعتم بذلك وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ عطف إما على المضمر الذي تعلق به قوله تعالى: بِآيَةٍ أي قد جئتكم محتجا، أو متلبسا بِآيَةٍ إلخ وَمُصَدِّقاً لِما إلخ، وإما على رَسُولًا وفيه معنى النطق مثله، وجوز أن يكون منصوبا بفعل دل عليه قَدْ جِئْتُكُمْ أي وجئتكم مصدقا إلخ. وقوله سبحانه: مِنَ التَّوْراةِ في موضع نصب على الحال من الضمير المستتر في الظرف والعامل فيه الاستقرار، أو الظرف نفسه لقيامه مقام الفعل، ويجوز أن يكون حالا من «ما» فيكون العامل فيه مُصَدِّقاً ومعنى تصديقه عليه السلام للتوراة الإيمان بأن جميع ما فيها حكمة وصواب. وقيل: إن تصديقه لها مجيئه رَسُولًا طبق ما بشرت به وَلِأُحِلَّ لَكُمْ معمول لمقدر بعد الواو أي- وجئتكم لأحل- فهو من عطف الجملة على الجملة، أو معطوف على بِآيَةٍ من قوله سبحانه: جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ لأنه في معنى- لأظهر لكم آية ولأحل- فلا يرد أنه لا يصح عطف المفعول له على المفعول به، أو معطوف على مُصَدِّقاً ويلتزم التأويل بما يجعلهما من باب واحد، وإن كان الأول حالا، والثاني مفعولا له فكأنه قيل: جئتكم لأصدق ولأحل، وقيل: لا بد من تقدير- جئتكم- فيها كلها إذ لا يعطف نوع من المعمولات على نوع آخر. بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ أي في شريعة موسى عليه السلام. أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن الربيع أنه قال: كان الذي جاء به عيسى ألين مما جاء به موسى عليهما السلام وكان قد حرم عليهم فيما جاء به موسى عليه السلام لحوم الإبل والثروب فأحلها لهم على لسان عيسى وحرمت عليهم شحوم الإبل فأحلت لهم فيما جاء به عيسى، وفي أشياء من السمك، وفي أشياء من الطير ما لا صيصية له، وفي أشياء أخر حرمها عليهم وشدد عليهم فيها فجاء عيسى بالتخفيف منه في الإنجيل. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة مثله، وهذا يدل على أن الإنجيل مشتمل على أحكام تغاير ما في التوراة وأن شريعة عيسى نسخت بعض شريعة موسى، ولا يخل ذلك بكونه مصدقا للتوراة فإن النسخ بيان لانتهاء زمان الحكم الأول لا رفع وإبطال كما تقرر، وهذا مثل نسخ القرآن بعضه ببعض، وذهب بعضهم إلى أن الإنجيل لم يخص أحكاما ولا حوى حلالا وحراما ولكنه رموز، وأمثال، ومواعظ، وزواجر، وما سوى ذلك من الشرائع والأحكام فمحالة على التوراة، وإلى أن عيسى عليه السلام لم ينسخ شيئا مما في التوراة، وكان يسبت ويصلي نحو البيت المقدس، ويحرم لحم الخنزير، ويقول بالختان إلا أن النصارى غيروا ذلك بعد رفعه فاتخذوا يوم الأحد بدل يوم السبت لما أنه أول يوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 الأسبوع، ومبدأ الفيض، وصلوا نحو المشرق لما تقدم، وحملوا الختان على ختان القلب وقطعه عن العلائق الدنيوية والعوائق عن الحضرة الالهية وأحلوا لحم الخنزير مع أن مرقس حكى في إنجيله أن المسيح أتلف الخنزير وغرق منه في البحر قطيعا كبيرا وقال لتلامذته: لا تعطوا القدس الكلاب ولا تلقوا جواهركم قدام الخنازير فقرنها بالكلاب، وسبب ذلك زعمهم أن بطرس رأى في النوم صحيفة نزلت من السماء، وفيها صور الحيوانات، وصورة الخنزير، وقيل له: يا بطرس كل منها ما أحببت ونسب هذا القول إلى وهب بن منبه، والذاهبون إليه أولوا الآية بأن المراد ما حرمه علماؤهم تشهيا أو خطأ في الاجتهاد، واستدلوا على ذلك بأن المسيح عليه السلام قال في الإنجيل: ما جئت لأبطل التوراة بل جئت لأكملها، ولا يخفى أن تأويل الآية بما أولوه به بعيد في نفسه، ويزيده بعدا أنه قرئ- «حرّم» - بالبناء للفاعل وهو ضمير ما بَيْنَ يَدَيَّ أو الله تعالى، وقرئ أيضا- «حرم» - بوزن كرم، وأن ما ذكروه من كلام المسيح عليه السلام لا ينافي النسخ لما علمت أنه ليس بإبطال وإنما هو بيان لانتهاء الحكم الأول، ومعنى التكميل ضم السياسة الباطنة التي جاء بها إلى السياسة الظاهرة التي جاء بها موسى عليه السلام- على ما قيل- أو نسخ بعض أحكام التوراة بأحكام هي أوفق بالحكمة وأولى بالمصلحة وأنسب بالزمان، وعلى هذا يكون قول المسيح حجة للأولين لا عليهم، ولعل ما ذهبوا إليه هو المعول عليه كما لا يخفى على ذوي العرفان وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ الكلام فيه كالكلام في نظيره، وقرئ- بآيات- فَاتَّقُوا اللَّهَ في عدم قبول ما جئتكم به وَأَطِيعُونِ فيما آمركم به وأنهاكم بأمر الله تعالى إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ بيان للآية المأتي بها على معنى هي قولي: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ. ولما كان هذا القول مما أجمع الرسل على حقيته ودعوا الناس اليه كان آية دالة على رسالته، وليس المراد بالآية على هذا المعجزة ليرد أن مثل هذا القول قد يصدر عن بعض العوام بل المراد أنه بعد ثبوت النبوة بالمعجزة كان هذا القول لكونه طريقة الأنبياء عليهم السلام علامة لنبوته تطمئن به النفوس، وجوز أن يراد من الآية المعجزة على طرز ما مر، ويقال: إن حصول المعرفة والتوحيد والاهتداء للطريق المستقيم في الاعتقادات والعبادات عمن نشأ بين قوم غيروا دينهم وحرفوا كتب الله تعالى المنزلة وقتلوا أنبياءهم ولم يكن ممن تعلم من بقايا أخبارهم من أعظم المعجزات وخوارق العادات. أو يقال من الجائز أن يكون قد ذكر الله تعالى في التوراة إذا جاءكم شخص من نعته كذا وكذا يدعوكم إلى كيت وكيت فاتبعوه فإنه نبي مبعوث إليكم فإذا قال: أنا الذي ذكرت بكذا وكذا من النعوت كان من أعظم الخوارق، وقرئ- «أن الله» - بفتح همزة- أن- على أن المنسبك بدل من آية أو أن المعنى جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ دالة على أن الله إلخ، ومثل هذا محتمل على قراءة الكسر أيضا لكن بتقدير القول، وعلى كلا التقديرين يكون قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ اعتراضا، وقد ذكر غير واحد أن الظاهر أن هذه الجملة معطوفة على جملة جِئْتُكُمْ الأولى وكررت ليتعلق بها معنى زائد وهو قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي أو للاستيعاب كقوله تعالى: «فارجع البصر كرتين» (1) أي جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ بعد أخرى مما ذكرت لكم من خلق الطير، وإبراء الأكمه، والأبرص، والأحياء، والإنباء بالمخفيات، ومن ولادتي بغير أب. ومن كلامي في المهد ونحو ذلك، والكلام الأول لتمهيد الحجة عليهم، والثاني لتقريبها إلى الحكم وهو إيجاب حكم تقوى الله تعالى وطاعته ولذلك جيء بالفاء في فَاتَّقُوا اللَّهَ كأنه قيل: لما جئتكم بالمعجزات الباهرات والآيات الظاهرات فَاتَّقُوا اللَّهَ إلخ، وعلى هذا يكون قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ إلخ ابتداء كلام   (1) كذا في المصدر، والقراءة في مصاحفنا ثُمَّ ارْجِعِ ... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 وشروعا في الدعوة المشار إليها بقول مجمل، فإن الجملة الاسمية المؤكدة بأن للإشارة إلى استكمال القوة النظرية بالاعتقاد الحق الذي غايته التوحيد، وقوله تعالى: فَاعْبُدُوهُ إشارة إلى استكمال القوة العملية فإنه ملازمة الطاعة التي هي الإتيان بالأوامر والانتهاء عن المناهي، وتعقيب هذين الأمرين بقوله سبحانه: هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ تقرير لما سبق ببيان أن الجمع بين الأمرين الاعتقاد الحق، والعمل الصالح هو الطريق المشهود له بالاستقامة، ومعنى قراءة الفتح على ما ذكر- لأن الله- ربي وربكم فاعبدوه- فهو كقوله تعالى: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ [قريش: 1] إلخ، والإشارة إما إلى مجموع الأمرين، أو إلى الأمر الثاني المعلول للأمر الأول، والتنوين إما للتعظيم أو للتبعيض، وجملة هذا إلخ على ما قيل: استئناف لبيان المقتضى للدعوة. هذا «والإشارة في هذه الآيات ظاهرة كالعبارة» سوى أن تطبيق ما في الآفاق على ما في الأنفس يحتاج إلى بيان فنقول: قال الله سبحانه: وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ أي ملائكة القوى الروحانية لمريم النفس الطاهرة الزكية إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ لكمال استعدادك ووفور قابليتك وَطَهَّرَكِ عن الرذائل والأخلاق الردية وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ النفوس الشهوانية المتدرعة بجلباب الأفعال الذميمة يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ أي دوامي على الطاعة له بالائتمار بما أمر والانزجار عما نهى وَاسْجُدِي في مساجد الذل وَارْكَعِي في محاريب الخضوع مع الخاضعين فإن في ذلك إقامة مراسم العبودية وأداء حقوق الربوبية، ولله تعالى در من قال: ويحسن إظهار التجلد للعدا ... ويقبح إلا العجز عند الحبائب ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ أي من أخبار غيب وجودك نُوحِيهِ إِلَيْكَ يا نبي الروح وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ أي لدى القوى الروحانية والنفسانية، والمراد ما كنت ملتفتا إليهم بل كنت في شغل شاغل عنهم إِذْ يُلْقُونَ أقلام استعداداتهم التي يكتبون بها صحف أحوالهم وتوراة أطوارهم ويطرحونها في بحر التدبير أَيُّهُمْ يَكْفُلُ ويدبر مَرْيَمَ النفس بحسب رأيه ومقتضى طبعه وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ في مقام الصدر الذي هو محل اختصام القوى في طلب الرياسة قبل الرياضة وفي حالها إِذْ قالَتِ ملائكة القوى الروحانية حين غلبت يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بمقتضى التوجه إليه بِكَلِمَةٍ مِنْهُ جامعة لحروف الأكوان وهو القلب المحيط بالعوالم اسْمُهُ الْمَسِيحُ لأنه يمسحك بالنور، أو لأنه مسح به وَجِيهاً فِي الدُّنْيا لتدبيره أمر المعاش فيطيعه أنس القوى الظاهرة وجن القوى الباطنة، ووجيها في الآخرة لقيامه بتدبير المعاد فيطيعه ملكوت سماء الأرواح، أو شريفا مرفوعا في الدنيا وهي عبارة عن تجلي الأفعال، وفي الآخرة وهي عبارة عن تجلي الأسماء وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ أي المعدودين من جملة مقربي الحضرة القابلين لتجلي الذات، وفي الخبر «ما وسعتني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن» وَيُكَلِّمُ النَّاسَ بما يرشدهم في مهد البدن وقت تغذيه بلبان السلوك إلى ملك الملوك وَكَهْلًا بالغا طور شيخ الروح وواصلا وسط الطريق قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ مثل هذا وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وهو تعجب من ولادتها ذلك من غير تربية معلم بشري لما أن العادة جرت بأن الوصول إلى المقامات العلية إنما هو بواسطة شيخ مرشد يعرف الطريق ويدفع الآفات، وقد شاع أن الإنسان متى سلك بنفسه ضل أو لم يفز بكثير، ومن كلامهم الشجرة التي تنبت بنفسها لا تثمر قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ فله أن يصطفي من شاء من غير تربية مرب ولا إرشاد مرشد بل بمجرد الجذبة الالهية، وهذا شأن المرادين وبعض المريدين: رب شخص تقوده الأقدار ... للمعالي وما لذاك اختيار غافل والسعادة احتضنته ... وهو عنها مستوحش نفار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 وَيُعَلِّمُهُ بالتعليم الإلهي الغني عما يعهد من الوسائط كتاب العلوم المعقولة وحكم الشرائع ومعارف الكتب الالهية من توراة الظاهر وإنجيل الباطن ويجعله رسولا إلى الروحانيين من بني إسرائيل الروح قائلا: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ من عالم الغيب بآية عظيمة وهي أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ بالتربية من طين النفوس البشرية كَهَيْئَةِ الطائر إلى جناب القدس بجناحي الرجاء والخوف فَأَنْفُخُ فِيهِ بنفث العلم الإلهي ونفس الحياة الحقيقة فَيَكُونُ طَيْراً أي نفسا حية طائرة في فضاء الجمال والجلال إلى رياض جناب الحق سبحانه بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ أي الأعمى المحجوب برؤية الأغيار عن رؤية نور الأنوار وَالْأَبْرَصَ المبتلى بأمراض الرذائل والعقائد الفاسدة التي أوجبت مخالفة لون بشرته الفطرية وَأُحْيِ موتى الجهل بحياة العلم الحقيقية بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ أي تتناولون من الشهوات واللذات وَما تَدَّخِرُونَ في بيوت نياتكم من الآمال التي هي كسراب بقيعة إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور لَآيَةً لَكُمْ نافعة إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ توراة الظاهر فإنه أحد المظاهر وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ بسبب عنادكم وقصركم الحق على بعض مظاهره، وأشير بذلك إلى علم الباطن، والمراد من البعض إما الكل على حد ما قيل في قوله تعالى: يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ [غافر: 28] وإما ظاهر معناه فيكون إشارة إلى أن من الباطن ما يحرم كشفه، فقد قال مولانا زين العابدين: ورب جوهر علم لو أبوح به ... لقيل لي: أنت ممن يعبد الوثنا ولا استحل أناس مسلمون دمي ... يرون أقبح ما يأتونه حسنا وقد تقدم في هذا أبو حسن ... إلى الحسين وأوصى قبله الحسنا وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ بعد أخرى مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ في مخالفتي وَأَطِيعُونِ فيما فيه كمال نشأتكم إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فهو الذي يوصلكم إلى ما فيه كمالكم فَاعْبُدُوهُ بالذل والانكسار والوقوف على بابه بالعجز والافتقار وامتثلوا أمره ونهيه هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ يوصلكم إليه ويفد بكم عليه فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ شروع في بيان مآل أحواله عليه السلام، وقيل: يحتمل أن يكون كله من قبل الملائكة شرحا لطرف منها داخلا تحت القول، ويحتمل أن يكون الكلام قد تم عند قوله تعالى: وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ ولا يكون أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ إلخ متعلقا بما قبله، ولا يكون داخلا تحت القول ويكون المحذوف هناك فجاء عيسى كما بشر الله تعالى رسولا إلى بني إسرائيل- بأني قد جئتكم بآية من ربكم- الآية، والفاء هنا مفصحة بمثل المقدر هناك على التقدير الثاني، وأصل الاحساس الإدراك بإحدى الحواس الخمس الظاهرة وقد استعير هنا استعارة تبعية للعلم بلا شبهة، وقيل: إنه مجاز مرسل عن ذلك من باب ذكر الملزوم وإرادة اللازم والداعي لذلك أن الكفر مما لا يحس، والقول- بأن المراد إحساس آثار الكفر- ليس بشيء، والمراد من الكفر إصرارهم عليه وعتوهم فيه من العزيمة على إيقاع مكروه به عليه السلام، وقد صح أنه عليه السلام لقي من اليهود قاتلهم الله تعالى شدائد كثيرة. أخرج إسحق بن بشر، وابن عساكر من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «كان اليهود يجتمعون على عيسى عليه السلام ويستهزئون به ويقولون له: يا عيسى ما أكل فلان البارحة وما ادخر في بيته لغد؟! فيخبرهم ويسخرون منه حتى طال ذلك به وبهم وكان عيسى عليه السلام ليس له قرار ولا موضع يعرف إنما هو سائح في الأرض فمر ذات يوم بامرأة قاعدة عند قبر وهي تبكي فسألها فقالت: ماتت ابنة لي لم يكن لي ولد غيرها فصلى عيسى ركعتين ثم نادى يا فلانة قومي بإذن الرحمن فاخرجي فتحرك القبر. ثم نادى الثانية فانصدع القبر. ثم نادى الثالثة فخرجت وهي تنقض رأسها من التراب فقالت: يا أماه ما حملك على أن أذوق كرب الموت مرتين؟ يا أماه اصبري واحتسبي فلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 حاجة لي في الدنيا يا روح الله سل ربي أن يردني إلى الآخرة وأن يهون علي كرب الموت فدعا ربه فقبضها إليه فاستوت عليها الأرض فبلغ ذلك اليهود فازدادوا عليه غضبا» وروي عن مجاهد أنهم أرادوا قتله ولذلك استنصر قومه، ومن- لابتداء الغاية متعلق- بأحس- أي ابتدأ الاحساس من جهتهم وجوز أبو البقاء أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الكفر أي لما أحس الكفر حال كونه صادرا منهم. قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ المقول لهم الحواريون كما يشير إليه آية- الصف- كما قال عيسى ابن مريم للحواريين الآية. وكونه- جميع بني إسرائيل لقوله تعالى: فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ [الصف: 14] ليس بشيء إذ الآية ليست بنص في المدعى إذ يكفي في تحقق الانقسام بلوغ الدعوة إلى الجميع، والأنصار- جمع نصير كالأشراف جمع شريف، وقال قوم: هو جمع نصر، وضعفه أبو البقاء إلا أن يقدر فيه مضاف أي من صاحب نصرى، أو تجعله مصدرا وصف به، والجار والمجرور إما أن يتعلق بمحذوف وقع حالا من الياء وهي مفعول به معنى، والمعنى من ينصرني حال كوني ملتجئا إلى الله تعالى أو ذاهبا إلى الله، إما أن يتعلق- بأنصاري- مضمنا معنى الإضافة أي من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله في نصري، وفي الكشاف في تفسير سورة الصف ما حاصله مما يخالف ما ذكره هنا أن إضافة أنصار- للياء إضافة ملابسة أي من حزبي ومشاركي في توجهي لنصرة الله تعالى ليطابق جوابهم الآتي ولا يصح أن يكون معناه من ينصرني مع الله لعدم المطابقة، وفيه أن عدم المطابقة غير مسلم إذ نصرة الله تعالى في الجواب ليست على ظاهرها بل لا بد من تجوز، أو إضمار في نصرهم لله تعالى ويضمر ما تحصل به المطابقة، نعم كون إِلَى بمعنى- مع- لا يخلو عن شيء فقد ذكر الفراء أنها إنما تكون كذلك إذا ضم شيء آخر نحو الذود إلى الذود إبل أي إذا ضممته إليه صار إبلا، ألا تراك تقول قدم زيد ومعه مال، ولا تقول: وإليه مال- وكذا نظائره- فالسالم عن هذا الحمل من التفاسير مع اشتماله على قلة الإضمار أولى، ومَنْ هنا اختار بعضهم كون إلى بمعنى اللام، وآخرون كونها بمعنى- في.. وقال في الكشف لعل الأشبه في معنى الآية- والله تعالى أعلم- أن يحمل على معنى- من ينصرني منهيا نصره إلى الله تعالى- كما يقتضيه حرف الانتهاء دون تضمين كأنه عليه السلام طلب منهم أن ينصروه لله تعالى لا لغرض آخر مدمجا أن نصرة الله تعالى في نصرة رسوله، وجوابهم المحكي عنهم بقوله سبحانه: قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ شديد الطباق له كأنهم قالوا: نحن ناصروك لأنه نصر الله تعالى للغرض الذي رمز إليه، ولو قالوا مكانه: نحن أنصارك لما وقع هذا الموقع انتهى. وأنت تعلم أن جعل إِلَى بمعنى اللام، أو في التعليليتين يحصل طلبة المسيح التي أشير إليها على وجه لعله أقل تكلفا مما ذكر، وكأن اختيار ذلك لما قاله الزجاج: من أنه لا يجوز أن يقال: إن بعض الحروف من حروف المعاني بمعنى الآخر لكن الحرفين قد يتقاربان في الفائدة فيظن الضعيف العلم باللغة أن معناهما واحد وليس بذلك فليفهم، والحواريون- جمع حواري يقال: فلان حواري فلان أي خاصته من أصحابه وناصره، وليس الحواري جمعا ككراسي على ما وهم بل هو مفرد منصرف كما صرح به المحققون، وذكر العلام التفتازاني أنه مفرد وألفه من تغييرات النسب وفيه أن الألف إذا زيدت في النسبة وغيرت بها تخفف الياء في الأفصح في أمثاله، والحواري بخلافه لأن تخفيف يائه شاذ كما صرحوا به، وبه قرئ في الآية، وأصله من التحوير أي التبييض، ومنه الخبز الحواري الذي نخل مرة بعد أخرى والحواريات للحضريات نساء المدن والقرى لما أنه يغلب فيهن البياض لعدم البروز للشمس، ويطلق الحواري على- القصار- أيضا لأنه يبيض الثياب وهو بلغة النبط، هواري بضم الهاء وتشديد الواو وفتح الراء قاله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 الضحاك «واختلف» في سبب تسمية أولئك القوم بذلك فقيل: سموا بذلك لبياض ثيابهم- وهو المروي عن سعيد بن جبير- وقيل: لأنهم كانوا قصارين يبيضون الثياب للناس- وهو المروي عن مقاتل وجماعة- وقيل: لنقاء قلوبهم وطهارة أخلاقهم- وإليه يشير كلام قتادة- وفي تعيين أنهم من أي الطوائف من الناس خلاف أيضا فقيل: قوم كانوا يصطادون السمك فيهم يعقوب، وشمعون، ويوحنا فمر بهم عيسى عليه السلام فقال لهم: أنتم تصيدون السمك فإن اتبعتموني صرتم بحيث تصيدون الناس بالحياة الأبدية؟ فقالوا له: من أنت؟ قال: عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله فطلبوا منه المعجزة، وكان شمعون قد رمى شبكته تلك الليلة فما اصطاد شيئا فأمر عيسى عليه السلام بإلقائها في الماء مرة أخرى ففعل فاصطاد ما ملأ سفينتين فعند ذلك آمنوا به عليه السلام، وقيل: هم اثنا عشر رجلا، أو تسعة وعشرون من سائر الناس اتبعوا عيسى عليه السلام وكانوا إذا جاعوا قالوا: يا روح الله جعنا فيضرب بيده على الأرض فيخرج لكل واحد رغيفان، وإذا عطشوا قالوا: عطشنا فيضرب بيده على الأرض فيخرج الماء فيشربون فقالوا: من أفضل منا إذا شئنا أطعمتنا وإذا شئنا أسقيتنا وقد آمنا بك؟ فقال: أفضل منكم من يعمل بيده ويأكل من كسبه فصاروا يغسلون الثياب بالكراء ويأكلون، وقيل: إن واحدا من الملوك صنع طعاما وجمع الناس عليه وكان عيسى عليه السلام على قصعة فكانت القصعة لا تنقص فذكر ذلك للملك فذهب إليه الملك مع أقاربه فقالوا له: من أنت؟ قال: عيسى ابن مريم فقال الملك: إني تارك ملكي ومتبعك فتبعه مع أقاربه فأولئك هم الحواريون، وقيل: إنه أمه دفعته إلى صباغ فكان إذا أراد أن يعلمه شيئا وجده أعلم به منه فغاب الصباغ يوما لمهم وقال له: هاهنا ثياب مختلفة وقد جعلت على كل منها علامة فاصبغها بتلك الألوان فطبخ عيسى عليه السلام حبا واحدا وجعل الجميع فيه، وقال: كوني بإذن الله كما أريد فرجع الصباغ فأخبره بما فعل فقال: أفسدت علي الثياب قال: قم فانظر فكان يخرج ثوبا أحمر، وثوبا أخضر، وثوبا أصفر كما كان يريد فتعجب الحاضرون منه وآمنوا به وكانوا الحواريين، ونقل جمع عن القفال أنه يجوز أن يكون بعضهم من الملوك. وبعضهم من الصيادين. وبعضهم من القصارين. وبعضهم من الصباغين. وبعضهم من سائر الناس وسموا جميعا بالحواريين لأنهم كانوا أنصار عيسى عليه السلام والمخلصين في محبته وطاعته. والاشتقاق كيف كانوا هو الاشتقاق ومأخذه إما أن يؤخذ حقيقيا وإما أن يؤخذ مجازيا وهو الأوفق بشأن أولئك الأنصار، وقيل: إنه مأخوذ من حار بمعنى رجع. ومنه قوله تعالى: إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ [الانشقاق: 14] وكأنهم سموا بذلك لرجوعهم إلى الله تعالى. ومن الناس من فسر الحواري بالمجاهد فإن أريد بالجهاد ما هو المتبادر منه أشكل ذلك حيث إنه لم يصح أن عيسى عليه السلام أمر به وادعاه بعضهم مستدلا بقوله تعالى: فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ [الصف: 14] ولا يخفى أن الآية ليست نصا في المقصود لجواز أن يراد بالتأييد التأييد بالحجة وإعلاء الكلمة، وإن أريد بالجهاد جهاد النفس بتجريعها مرائر التكاليف لم يشكل ذلك. نعم استشكل أن عيسى عليه السلام إذا لم يكن مأمورا بالقتال فما معنى طلبه الأنصار؟ وأجيب بأنه عليه السلام لما علم أن اليهود يريدون قتله استنصر للحماية منهم- كما قاله الحسن- ومجاهد- ولم يستنصر للقتال معهم على الايمان بما جاء به، وهذا هو الذي لم يؤمر به لا ذلك بل ربما يدعي أن ذلك مأمور به لوجوب المحافظة على حفظ النفس، وقد روي أن اليهود لما طلبوه ليقتلوه قال للحواريين: أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة على أن يلقي فيه شبهي فيقتل مكاني؟ فأجابه إلى ذلك بعضهم، وفي بعض الأناجيل أن اليهود لما أخذوا عيسى عليه السلام سل شمعون سيفه فضرب به عبدا كان فيهم لرجل من الأحبار عظيم فرمى بإذنه فقال له عيسى عليه السلام: حسبك ثم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 أدنى أذن العبد فردها إلى موضعها فصارت كما كانت، وقيل: يجوز أن يكون طلب النصرة للتمكين من إقامة الحجة ولتمييز الموافق من المخالف وذلك لا يستدعي الأمر بالجهاد كما أمر نبينا روح جسد الوجود صلى الله تعالى عليه وسلم وهو الظاهر لمن أنصف، والمراد من أنصار الله أنصار دينه ورسوله وأعوانهما على ما هو المشهور آمَنَّا بِاللَّهِ مستند لتلك الدعوى جارية مجرى العلة لها وَاشْهَدْ عطف على آمَنَّا ولا يضر اختلافهما إنشائية وإخبارية لما تحقق في محله، وقيل إن آمَنَّا لإنشاء الإيمان أيضا فلا اختلاف بأنّا مسلمون أي منقادون لما تريده منا ويدخل فيه دخولا أوليا نصرتهم له، أو بأن ديننا الإسلام الذي هو دين الأنبياء من قبلك فهو إقرار معنى بنبوة من قبله عليه السلام وهذا طلب منهم شهادته عليه السلام لهم يوم القيامة حين تشهد الرسل لقومهم وعليهم إيذانا- كما قال الكرخي- بأن مرمى غرضهم السعادة الأخروية وجاء فيه المائدة «بأننا» لأن ما فيها- كما قيل- أول كلام الحواريين فجاء على الأصل، وما هنا تكرار له بالمعنى فناسب فيه التخفيف لأن كلا من التخفيف والتكرار فرع، والفرع بالفرع أولى رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ عرض لحالهم عليه تعالى بعد عرضها على رسوله استمطارا لسحائب إجابة دعائهم الآتي، وقيل: مبالغة في إظهار أمرهم وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ أي امتثلنا ما أتى به منك إلينا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ أي محمد صلّى الله عليه وسلم وأمته لأنهم يشهدون للرسل بالتبليغ ومحمد صلى الله تعالى عليه وسلم يشهد لهم بالصدق- رواه عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- وروى أبو صالح عنه أنهم من آمن من الأمم قبلهم، وقيل: المراد من الشَّاهِدِينَ الأنبياء لأن كل نبي شاهد لأمته وعليها، وقال مقاتل: هم الصادقون، وقال الزجاج: هم الشاهدون للأنبياء بالتصديق، وقيل: أرادوا مع المستغرقين في شهود جلالك بحيث لا نبالي بما يصل إلينا من المشاق والآلام فيسهل علينا الوفاء بما التزمنا من نصرة رسولك، وقيل: أرادوا اكتب ذكرنا في زمرة من شهد حضرتك من الملائكة المقربين كقوله تعالى: إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين: 18] ولا يخفي ما في هذا الأخير من التكلف والمعنى على ما عداه أدخلنا في عداد أولئك، أو في عداد أتباعهم، وقيل: وعبروا عن فعل الله تعالى ذلك بهم بلفظ فَاكْتُبْنا إذ كانت الكتابة تقيد وتضبط ما يحتاج إلى تحقيقه وعلمه في ثاني حال، وقيل: المراد اجعل ذلك وقدره في صحائف الأزل. ومن الناس من جعل الكتابة كناية عن تثبيتهم على الإيمان في الخاتمة، والظرف متعلق بمحذوف وقع حالا من مفعول- اكتبنا- وَمَكَرُوا أي الذين أحس منهم الكفر إذ وكلوا به من يقتله غيلة وَمَكَرَ اللَّهُ بأن ألقى شبهة عليه السلام على غيره فصلب ورفعه إليه، قال ابن عباس: لما أراد ملك بني إسرائيل قتل عيسى عليه السلام دخل خوخة وفيها كوة فرفعه جبريل عليه السلام من الكوة إلى السماء فقال الملك لرجل منهم خبيث: ادخل عليه فاقتله فدخل الخوخة فألقى الله تعالى عليه شبه عيسى عليه السلام فخرج إلى أصحابه يخبرهم أنه ليس في البيت فقتلوه وصلبوه وظنوا أنه عيسى وقال وهب: أسروه ونصبوا خشبة ليصلبوه فأظلمت الأرض فأرسل الله الملائكة فحالوا بينه وبينهم فأخذوا رجلا يقال له يهودا- وهو الذي دلهم على عيسى- وذلك أن عيسى جمع الحواريين تلك الليلة وأوصاهم ثم قال ليكفرنّ بي أحدكم قبل أن يصيح الديك فيبيعني بدراهم يسيرة فخرجوا وتفرقوا وكانت اليهود تطلبه فأتى أحد الحواريين إليهم وقال: ما تجعلون لي إن دللتكم عليه؟ فجعلوا له ثلاثين درهما فأخذها ودلهم عليه فألقى الله تعالى عليه شبه عيسى عليه السلام فأدخل البيت ورفع وقال: أنا الذي دللتكم عليه فلم يلتفتوا إلى قوله وصلبوه- وهم يظنون أنه عيسى- فلما صلب شبه عيسى وأتى على ذلك سبعة أيام قال الله تعالى لعيسى: اهبط على مريم ثم لتجمع لك الحواريين وبثهم في الأرض دعاة فهبط عليها واشتعل الجبل نورا فجمعت له الحواريين فبثهم في الأرض دعاة ثم رفعه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 الله سبحانه، وتلك الليلة هي الليلة التي تدخن فيها النصارى فلما أصبح الحواريون قصد كل منهم بلدة من أرسله عيسى إليهم. وروي عن غير واحد أن اليهود لما عزموا على قتله عليه السلام اجتمع الحواريون في غرفة فدخل عليهم المسيح من مشكاة الغرفة فأخبر بهم إبليس جمع اليهود فركب منهم أربعة آلاف رجل فأخذوا باب الغرفة فقال المسيح للحواريين أيكم يخرج ويقتل ويكون معي في الجنة؟ فقال واحد منهم: أنا يا نبي الله فألقى عليه مدرعة من صوف وعمامة من صوف وناوله عكازه وألقى عليه شبه عيسى عليه السلام فخرج على اليهود فقتلوه وصلبوه وأما عيسى عليه السلام فكساه الله النور وقطع عنه شهوة المطعم والمشرب ورفعه إليه، ثم إن أصحابه لما رأوا ذلك تفرقوا ثلاث فرق فقالت فرقة: كان الله تعالى فينا فصعد إلى السماء، وقالت فرقة أخرى: كان فينا ابن الله عز وجل ثم رفعه الله سبحانه إليه، وقالت فرقة أخرى منهم: كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه إليه وهؤلاء هم المسلمون، فتظاهرت عليهم الفرقتان الكافرتان فقتلوهم فلم يزل الإسلام مندرس الآثار إلى أن بعث الله تعالى محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم، وروي عن ابن إسحق أن اليهود عذبوا الحواريين بعد رفع عيسى عليه السلام ولقوا منهم الجهد فبلغ ذلك ملك الروم وكان ملك اليهود من رعيته واسمه داود بن نوذا فقيل له: إن رجلا من بني إسرائيل ممن تحت أمرك كان يخبرهم أنه رسول الله تعالى وأراهم إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص- فعل وفعل- فقال: لو علمت ذلك ما خليت بينهم وبينه ثم بعث إلى الحواريين فانتزعهم من أيديهم وسألهم عن عيسى عليه السلام فأخبروه فبايعهم على دينهم وأنزل المصلوب فغيبه وأخذ الخشبة فأكرمها ثم غزا بني إسرائيل فقتل منهم خلقا عظيما، ومنه ظهر أصل النصرانية في الروم ثم جاء بعده ملك آخر يقال له طيطوس وغزا بيت المقدس بعد رفع عيسى عليه السلام بنحو من أربعين سنة فقتل وسبى ولم يترك في بيت المقدس حجرا على حجر فخرج عند ذلك قريظة، والنضير إلى الحجاز. هذا وأصل المكر قيل: الشر، ومنه «مكر الليل» إذا أظلم، وقيل: الالتفات ومنه- المكوّر- لضرب من الشجر ذي التفاف، واحده مكر، والممكورة من النساء للملتفة الخلق مطويته وفسره البعض بصرف الغير عما يقصده بحيلة، وآخرون باختداع الشخص لإيقاعه في الضرر، وفرقوا بينه وبين الحيلة بأنها قد تكون لإظهار ما يسر من الفعل من غير قصد إلى الإضرار، والمكر حيلة على الشخص توقعه في مثل الوهق، وقالوا: لا يطلق على الله تعالى إلا بطريق المشاكلة لأنه منزه عن معناه وغير محتاج إلى حيلة فلا يقال ابتداء مكر الله سبحانه- وإلى ذلك ذهب العضد وجماعة- وخالفهم الأبهري. وغيره فجوزوا الإطلاق بلا مشاكلة مستدلين بقوله تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ [الأعراف: 99] فإنه نسب إليه سبحانه ابتداء. ونقل عن الإمام أن المكر إيصال المكروه إلى الغير على وجه يخفي فيه، وأنه يجوز صدوره عنه تعالى حقيقة، وقال غير واحد: إنه عبارة عن التدبير المحكم وهو ليس بممتنع عليه تعالى، وفي الحديث «اللهم امكر لي ولا تمكر بي» ومن ذهب إلى عدم الإطلاق- إلا بطريق المشاكلة- أجاب عن الاستدلال بالآية ونحوها بأن ذلك من المشاكلة التقديرية كما في قوله تعالى: صِبْغَةَ اللَّهِ [البقرة: 138] ولا يخفى ما فيه، فالأولى القول بصحة الإطلاق عليه سبحانه ابتداء بالمعنى اللائق بجلاله جل جلاله، ومما يؤيد ذلك قوله سبحانه: وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أي أقواهم مكرا وأشدهم، أو أن مكره أحسن وأوقع في محله لبعده عن الظلم فإنه يبعد المشاكلة إِذْ قالَ اللَّهُ ظرف- لمكر- أو بمحذوف نحو وقع ذلك ولو قدر اذكر- كما في أمثاله- لم يبعد وتعلقه بالماكرين بعيد إذ لا يظهر وجه حسن لتقييد قوة مكره تعالى بهذا الوقت يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال: هذا من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 المقدم والمؤخر أي رافعك إلي ومتوفيك، وهذا أحد تأويلات اقتضاها مخالفة ظاهر الآية للمشهور المصرح به في الآية الأخرى، وفي قوله صلّى الله عليه وسلم: «إن عيسى لم يمت وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة» . وثانيها أن المراد إني مستوف أجلك ومميتك حتف أنفك لا أسلط عليك من يقتلك فالكلام كناية عن عصمته من الأعداء وما هم بصدده من الفتك به عليه السلام لأنه يلزم من استيفاء الله تعالى أجله وموته حتف أنفه ذلك. وثالثها أن المراد قابضك ومستوفي شخصك من الأرض- من توفى المال- بمعنى استوفاه وقبضه. ورابعها أن المراد بالوفاة هنا النوم لأنهما أخوان ويطلق كل منهما على الآخر، وقد روي عن الربيع أن الله تعالى رفع عيسى عليه السلام إلى السماء وهو نائم رفقا به، وحكي هذا القول والذي قبله أيضا عن الحسن. وخامسها أن المراد أجعلك كالمتوفى لأنه بالرفع يشبهه، وسادسها أن المراد آخذك وافيا بروحك وبدنك فيكون وَرافِعُكَ إِلَيَّ كالمفسر لما قبله، وسابعها أن المراد بالوفاة موت القوى الشهوانية العائقة عن إيصاله بالملكوت، وثامنها أن المراد مستقبل عملك، ولا يخلو أكثر هذه الأوجه عز بعد لا سيما الأخير، وقيل: الآية محمولة على ظاهرها، فقد أخرج ابن جرير عن وهب أنه قال: توفى الله تعالى عيسى ابن مريم ثلاث ساعات من النهار حتى رفعه إليه. وأخرج الحاكم عنه أن الله تعالى توفى عيسى سبع ساعات ثم أحياه، وأن مريم حملت به ولها ثلاث عشرة سنة وأنه رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين، وأن أمه بقيت بعد رفعه ست سنين، وورد ذلك في رواية ضعيفة عن ابن عباس- والصحيح كما قاله القرطبي- أن الله تعالى رفعه من غير وفاة ولا نوم- وهو اختيار الطبري- والرواية الصحيحة عن ابن عباس، وحكاية أن الله تعالى توفاه سبع ساعات ذكر ابن إسحق أنها من زعم النصارى. ولهم في هذا المقام كلام تقشعر منه الجلود، ويزعمون أنه في الإنجيل وحاشا الله ما هو إلا افتراء وبهتان عظيم، ولا بأس بنقله ورده فإن في ذلك ردّ عواهم فيه عليه السلام الربوبية على أتم وجه، فنقول: قالوا: بينما المسيح مع تلاميذه جالس ليلة الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر نيسان إذ جاء يهودا الأسخريوطي أحد الاثني عشر ومعه جماعة معهم السيوف والعصي من عند رؤساء الكهنة ومشايخ الشعب وقد قال لهم يهودا: الرجل الذي أقبل هو هو فأمسكوه فلما رأى يهودا المسيح قال: السلام عليك يا معلم ثم أمسكوه فقال يسوع: مثل ما يفعل باللصوص خرجتم لي بالسيوف والعصي وأنا عندكم في الهيكل كل يوم أعلم فلم تتعرضوا لي لكن هذه ساعة سلطان الظلمة فذهبوا به إلى رئيس الكهنة حيث تجتمع الشيوخ وتبعه بطرس من بعيد ودخل معه الدار ليلا وجلس ناحية منها متنكرا ليرى ما يؤول أمره إليه فالتمس المشايخ على يسوع شهادة يقتلونه بها فجاء جماعة من شهود الزور فشهد منهم اثنان أن يسوع قال: أنا أقدر أن أنقض هيكل الله تعالى وأبنيه في ثلاثة أيام فقال له الرئيس: ما تجيب عن نفسك بشيء؟ فسكت يسوع فأقسم عليه رئيس الكهنة بالله الحي أنت المسيح؟ فقال أنت قلت ذاك وأنا أقول لكم من الآن لا ترون ابن الإنسان حتى تروه جالسا عن يمين القوة وآتيا في سحاب السماء وأن ناسا من القيام هاهنا لا يذوقون الموت حتى يرون ابن الإنسان آتيا في ملكوته فلما سمع رئيس الكهنة ذلك شق ثيابه وقال: ما حاجتنا إلى شهادة يهودا قد سمعتم ماذا ترون في أمره؟ فقالوا: هذا مستوجب الموت فحينئذ بصقوا في وجه البعيد ولطموه وضربوه وهزئوا به وجعلوا يلطمون ويقولون: بين لنا من لطمك ولما كان من الغد أسلموه لفيلاطس القائد فتصايح الشعب بأسره- يصلب يصلب- فتحرج فيلاطس من قتله، وقال: أي شر فعل هذا فقال الشيوخ: دمه عليهم وعلى أولادهم فحينئذ ساقه جند القائد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 إلى الابروطوريون فاجتمع عليه الشعب ونزعوه ثيابه وألبسوه لباسا أحمر وضفروا إكليلا من الشوك وتركوه على رأسه وجعلوا في يده قصبة ثم جثوا على ركبهم يهزئون به ويقولون: السلام عليك يا ملك اليهود وشرعوا يبصقون عليه ويضربونه في رأسه ثم ذهبوا به وهو يحمل صليبه إلى موضع يعرف بالجمجمة فصلبوه وسمروا يديه على الخشبة فسألهم شربة ماء فأعطوه خلا مدافا بمرّ فذاقه ولم يسغه وجلس الشرط فاقتسموا ثيابه بينهم بالقرعة وجعلوا عند رأسه لوحا مكتوبا هذا يسوع ملك اليهود استهزاء به، ثم جاؤوا بلصين فجعلوهما عن يمينه وشماله تحقيرا له وكان اليهود يقولون له: يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام خلص نفسك وإن كنت ابن الله كما تقول انزل عن الصليب، وقال اليهود: هذا يزعم أنه خلص غيره فكيف لم يقدر على خلاص نفسه إن كان متوكلا على الله تعالى فهو ينجيه مما هو فيه؟ ولما كان ست ساعات من يوم الجمعة صرخ يسوع وهو على الصليب بصوت عظيم- آلوى آلوى أيما صاصا- أي إلهي إلهي لم تركتني وخذلتني وأخذ اليهود سفنجة فيها خل ورفعها أحدهم على قصبة وسقاه، وقال آخر: دعوه حتى نرى من يخلصه فصرخ يسوع وأمال رأسه وأسلم الروح وانشق حجاب الهيكل وانشقت الصخور وتفتحت القبور وقام كثير من القديسين من قبورهم ودخلوا المدينة المقدسة وظهروا للناس ولما كان المساء جاء رجل من ألزامه يسمى يوسف بلفائف نقية وتركه في قبر كان قد نحته في صخرة ثم جعل على باب القبر حجرا عظيما وجاء مشايخ اليهود من الغد الذي بعد الجمعة إلى فيلاطس القائد فقالوا: يا سيدي ذكرنا أن ذاك الضال كان قد ذكر لتلاميذه أنا أقوم بعد ثلاثة أيام فلو أمرت من يحرس القبر حتى تمضي المدة كي لا يأتي تلاميذه ويسرقوه ثم يشيعون في الشعب أنه قام فتكون الضلالة الثانية شرا من الأولى فقال لهم القائد: اذهبوا وسدوا عليه واحرسوه كما تريدون فمضوا وفعلوا ما أرادوا، وفي عشية يوم السبت جاءت مريم المجدلانية ومريم رفيقتها لينظرن إلى القبر. وفي إنجيل مرقص إنما جاءت مريم يوم الأحد بغلس وإذا ملك قد نزل من السماء برجة عظيمة فألقى الحجر عن القبر وجلس عنده وعليه ثياب بيض كالبرق فكاد الحرس أن يموتوا من هيبته ثم قال للنسوة: لا تخافا قد علمت أنكما جئتما تطلبان يسوع المصلوب ليس هو هاهنا إنه قد قام تعالين انظرن إلى المكان الذي كان فيه الرب واذهبا وقولا لتلاميذه إنه سبقكم إلى الخليل فمضتا وأخبرتا التلاميذ ودخل الحراس وأخبروا رؤساء الكهنة الخبر فقالوا: لا تنطقوا بهذا ورشوهم بفضة على كتمان القضية فقبلوا ذلك منهم وأشاعوا أن التلاميذ جاؤوا وسرقوه ومهدت المشايخ عذرهم عند القائد ومضت الأحد عشر تلميذا إلى الخليل وقد شك بعضهم، وجاء لهم يسوع وكلمهم وقال لهم: اذهبوا فعمدوا كل الأمم وعلموهم ما أوصيكم به، وهو ذا أنا معكم إلى انقضاء الدهر انتهى. «وهاهنا أمور» الأول أنه يقال للنصارى: ما ادعيتموه من قتل المسيح وصلبه أتنقلونه تواترا أو آحادا فإن زعموا أنه آحاد لم تتم بذلك حجة ولم يثبت العلم إذ الآحاد لم يؤمن عليهم السهو والغفلة والتواطؤ على الكذب، وإذا كان الآحاد يعرض لهم ذلك فيكف يحتج بقولهم في القطعيات؟ وإن عزوا ذلك إلى التواتر قلنا لهم: أحد شروط التواتر استواء الطرفين فيه والواسطة بأن يكون الإخبار في كل طبقة ممن لا يمكن مواطأته على الكذب فإن زعمتم أن خبر قتل المسيح كذلك أكذبتم نصوص الإنجيل الذي بأيديكم إذ قال نقلته الذين دونوه لكم- وعليه معولكم: إن المأخوذ للقتل كان في شرذمة قليلة من تلامذته فلما قبض عليه هربوا بأسرهم ولم يتبعه سوى بطرس من بعيد فلما دخل الدار حيث اجتمعوا نظرت جارية منهم إليه فعرفته فقالت: هذا كان مع يسوع فحلف أنه لا يعرف يسوع ولا يقول بقوله وخادعهم حتى تركوه وذهب. ولم يكد يذهب وأن شابا آخر تبعه وعليه إزار فتعلقوا به فترك إزاره بأيديهم وذهب عريانا فهؤلاء أصحابه وأتباعه لم يحضر أحد منهم بشهادة الإنجيل، وأما أعداؤه اليهود الذين تزعمون أنهم حضروا الأمر فلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 نسلم أنهم بلغوا عدد التواتر بل كانوا آحادا وهو أعداء يمكن تواطؤهم على الكذب على عدوهم إيهاما منهم أنهم ظفروا به وبلغوا منه أمانيهم فانخرم شرط التواتر. ويؤيد هذا أن رؤساء الكهنة فيما زعمتم رشوا الحراس فلا يبعد أن تكون هذه العصابة من اليهود صلبوا شخصا من أصحاب يسوع وأوهموا الناس أنه المسيح لتتم لهم أغراضهم على أن الأخباريين ذكروا أن بختنصر قتل علماء اليهود في مشارق الأرض ومغاربها لأنهم حرفوا التوراة وزادوا فيها ونقصوا حتى لم يبق منهم إلا شرذمة، فالمخبرون لم يبلغوا حد التواتر في الطبقة الوسطى أيضا. الثاني أن في هذا الفصل ما تحكم البداهة بكذبه، وما تضحك الثكلى منه، وما يبعده العقل مثل قوله للكهنة: إنكم من الآن ما ترون ابن الإنسان- يريدون بالإنسان الرب سبحانه- فإنه لم يرد إطلاق ذلك عليه جل شأنه في كتاب، وقوله: إن ناسا من القيام هاهنا إلخ فانه لم ير أحد من القيام هناك قبل موتة عيسى عليه السلام آتيا في ملكوته، وقول الملك للنسوة: تعالين فانظرن إلى الموضع الذي كان فيه الرب فإنه يقال فيه: أرب يقبر وإله يلحد، أف لتراب يغشى وجه هذا الإله، وتبا لكفن ستر محاسنه، وعجبا للسماء كيف لم تبد- وهو سامكها- وللأرض لم تمد- وهو ماسكها- وللبحار كيف لم تغض- وهو مجريها- وللجبال كيف لم تسر- وهو مرسيها- وللحيوان كيف لم يصعق- وهو مشبعه- وللكون كيف لم يمحق- وهو مبدعه- سبحان الله كيف استقام الوجود والرب في اللحود، وكيف ثبت العالم على نظام والإله في الرغام إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [البقرة: 156] على المصيبة بهذا الرب والرزية بهذا الإله لقد ثكلته أمه، وعدمه لا أبا لك قومه؟! وقوله: إلهي إلهي لم خذلتني فإنه ينافي الرضا بمرّ- القضاء، ويناقض التسليم لأحكام الحكيم، وذلك لا يليق بالصالحين فضلا عن المرسلين على أنه يبطل دعوى الربوبية التي تزعمونها والألوهية التي تعتقدونها، وقولهم: إنه قام كثير من القديسين من قبورهم إلخ فإنه كذب صريح لأنه لو كان صحيحا لأطبق الناس على نقله ولزال الشك عن تلك الجموع في أمر يسوع، وقولهم: مضت الأحد عشر تلميذا إلى الخليل إلخ فإنه قد انطفأ فيه سراج التلميذ الثاني عشر على ما يقتضيه قول المسيح: ويل لمن يسلم ابن الإنسان مع أن يسوع يزعمكم قال لتلاميذه الإثني عشر وفيهم يهودا الاسخريوطي الذي أسلمه للقتل إنكم ستجلسون يوم القيامة على اثنى عشر كرسيا تدينون اثني عشر سبط بني إسرائيل، وقولهم: إنهم سألهم شربة ماء فإنه في غاية البعد لأن الإنجيل مصرح بأن المسيح كان يطوي أربعين يوما وأربعين ليلة ومثله لا يجزع من فراق الماء ساعة لا سيما وقد كان يقول لتلاميذه: إن لي طعاما لا تعرفونه إلى غير ذلك. «الثالث» إن ما ذكروا من قيام المسيح من قبره ليلة السبت مع صلبه يوم الجمعة مخالف لما رواه متى في إنجيله فإنه قال فيه: سأل اليهود المسيح أن يريهم آية فقال: الجيل الشرير الفاسق يطلب آية فلا يعطى إلا آية يونيان النبي- يعني يونس عليه السلام- لأنه أقام في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال وكذلك ابن الإنسان يقيم في بطن الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال. «والرابع» أن في هذه القصة ما يدل دلالة واضحة على أن المصلوب هو الشبه وأن الله تعالى حمى المسيح عليه السلام عن الصلب كما سيتضح لك مع زيادة تحقيق عند قوله تعالى: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء: 157] هذا وإنما أكد الحكم السابق اعتناء به أو لأن تسلط الكفار عليه جعل المقام مقام اعتقاد أنهم يقتلونه، وأراد سبحانه بقوله: وَرافِعُكَ إِلَيَّ رافعك إلى سمائي، وقيل: إلى كرامتي، وعلى كل فالكلام على حذف مضاف إذ من المعلوم أن البارئ سبحانه ليس بمتحيز في جهة، وفي رفعه إلى أي سماء خلاف والذي اختاره الكثير من العارفين أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 رفع إلى السماء الرابعة، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه رفعه إلى السماء الدنيا فهو فيها يسبح مع الملائكة ثم يهبطه الله تعالى عند ظهور الدجال على صخرة بيت المقدس. وفي الخازن أن سبحانه لما رفعه عليه السلام إليه كساه الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب فطار مع الملائكة فهو معهم حول العرش وصار إنسيا ملكيا أرضيا سماويا، وأورد بعض الناس هاهنا إشكالات وهي أن الله تعالى كان قد أيده بجبريل عليه السلام كما قال سبحانه: وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [البقرة: 87، 253] ثم إن طرف جناح من أجنحة جبريل كان يكفي للعالم فكيف لم يكف في منع أولئك اليهود عنه؟! وأيضا أنه عليه السلام لما كان قادرا على إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص فكيف لم يقدر على إماتتهم ودفع شوكتهم. أو على إسقامهم وإلقاء الزمانة والفلج عليهم حتى يصيروا عاجزين من التعرض له؟ وأيضا لما خلصه من الأعداء بأن رفعه إلى السماء فما الفائدة في إلقاء شبهه على الغير؟ وأجيب عن الكل بأن بناء التكليف على الاختيار، ولو أقدر الله تعالى جبريل، أو عيسى عليهما السلام على دفع الأعداء، أو رفعه من غير إلقاء شبهه إلى السماء لبلغت معجزته إلى حد الإلجاء، والقول- بأن فتح باب إلقاء الشبه يوجب ارتفاع الأمان عن المحسوسات وأنه يفضي إلى سقوط الشرائع وإبطال التواتر، وأيضا إن في ذلك الإلقاء تمويها وتخليطا وذلك لا يليق بحكمة الله تعالى- ليس بشيء، أما أولا فلأن إلقاء شبه شخص على آخر وإن كان ممكنا في نفسه إلا أن الأصل عدم الإلقاء واستقلال كل من الحيوان بصورته التي هي له، نعم لو أخبر الصادق بإلقاء صورة شخص على آخر قلنا به واعتقدناه فحينئذ لا يرتفع الأمان عن المحسوسات بل هي باقية على الأصل فيها فيما لم يخبر الصادق بخلافه على أن إبطال التواتر بفتح هذا الباب ممنوع لأنه لم يشترط في الخبر أن يكون عن أمر ثابت في نفس الأمر بل يكفي فيه كونه عن أمر محسوس على ما قاله بعض المحققين، وأما ثانيا فلأن التمويه والتلبيس إن كان على الأعداء فلا نسلم أنه مما لا يليق بالحكمة وإن كانت النجاة مما تمكن بدون الإلقاء وإن كان ذلك على أوليائه فلا نسلم أن في الإلقاء تمويها لأنهم كانوا عارفين يقينا إن المطلوب الشبه لا عيسى عليه السلام كما ستعرفه إن شاء الله تعالى، والقول- بأن المطلوب قد ثبت بالتواتر أنه بقي حيا زمانا طويلا فلولا أنه كان عيسى لأظهر الجزع وعرف نفسه ولو فعل ذلك لاشتهر وتواتر- ليس بشيء أيضا، أما أولا فلأن دعوى تواتر بقاء المصلوب حيا زمانا طويلا مما لم يثبتها برهان. والثابت أن المصلوب إنما صلب في الساعة الثانية من يوم الجمعة ومات في الساعة السادسة من ذلك اليوم وأنزل ودفن، ومقدار أربع ساعات لا يعد زمانا طويلا كما لا يخفى، وأما ثانيا فلأن عدم تعريف المصلوب نفسه إما لأنه أدركته دهشة منعته من البيان والإيضاح، أو لأن الله تعالى أخذ على لسانه فلم يستطع أن يخبر عن نفسه صونا لنبيه عليه السلام أن يفصح الرجل عن أمره، أو لأنه لصديقيته آثر المسيح بنفسه وفعل ذلك بعهد عهده إليه رغبة في الشهادة، ولهذا ورى في الجواب الذي نقلته النصارى في القصة وقد وعد المسيح عليه السلام التلاميذ- على ما نقلوا قبل- بقولهم لو دفعنا إلى الموت معك لمتنا والشبه من جملتهم فوفى بما وعد من نفسه على عادة الصديقين من أصحاب الأنبياء عليهم السلام فهو من رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب: 23] ، ومن ذهب إلى أن الشبه كان من الأعداء لا من الأولياء روي أنه جعل يقول لليهود عند الصلب: لست المسيح وإنما أنا صاحبكم لكنه لم يسمع ولم يلتفت إلى قوله وصلبوه، والقول- بأنه لو كان ذلك لتواتر- لا يخفى ما فيه لمن أحاط بما ذكرناه خبرا فتأمل وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا يحتمل أن يكون تطهيره عليه السلام بتبعيده منهم بالرفع، ويحتمل أن يكون بنجاته مما قصدوا فعله به من القتل، وفي الأول جعلهم كأنهم نجاسة، وفي الثاني جعل فعلهم كذلك والأول هو الظاهر- وإلى الثاني ذهب الجبائي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 والمراد من الموصول اليهود، وأتى بالظاهر- على ما قيل- دون الضمير: إشارة إلى علة النجاسة وهي الكفر. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن الحسن أن المراد من الموصول: اليهود، والنصارى، والمجوس، وكفار قومه وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ قال قتادة. والحسن، وابن جريج. وخلق كثير: هم أهل الإسلام اتبعوه على ملته وفطرته من أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا وهم اليهود وسائر من شمله هذا المفهوم فإن المؤمنين يعلونهم بالحجة، أو السيف في غالب الأمر. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد أن المراد من الموصول الأول النصارى، ومن الثاني اليهود وقد جعل سبحانه النصارى فوق اليهود فليس بلد فيه أحد من النصارى إلا وهم فوق اليهود في شرق الدنيا وغربها، وعلى هذا يكون المراد من الأتباع مجرد الادعاء والمحبة ولا يضر في غلبتهم على اليهود غلبة المسلمين عليهم، وإذا أريد بالأتباع ما يشمل أتباع المسلمين، وهذا الأتباع يصح أن يراد بالمتبعين ما يشمل المسلمين والنصارى مطلقا من آمن به قبل مجيء نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم ونسخ شريعته، ومن آمن بزعمه بعد ذلك- وقد يراد من الأتباع- الأتباع بالمعنى الأول فيجوز أن يراد من المبتعين المسلمون، والقسم الأول من النصارى، وتخصيص المتبعين بهذه الأمة- وحمل الأتباع على المجيء بعد- مما لا ينبغي أن يخرج عليه الكتاب الكريم كجعل الخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأن الوقف على الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ متعلق بالجعل أو بالاستقرار المقدر في الظرف، وليس المراد إن ذلك ينتهي حينئذ ويتخلص الَّذِينَ كَفَرُوا من الذلة بل المراد أن المتبعين يعلونهم إلى تلك الغاية فأما بعدها فيفعل الله تعالى ما يريد. ومن الناس من حمل الفوقية- على العلو الرتبي والفوقية بحسب الشرف وجعل التقييد بيوم القيامة للتأبيد كما في قولهم ما دامت السماء، وما دار الفلك بناء على ظن أن عدم انتهاء علو المؤمنين وذلة الكافرين إلى ذلك اليوم موجب لهذا الجعل- وليس بذلك ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ أي مصيركم بعد يوم القيامة ورجوعكم، والضمير لعيسى عليه السلام والطائفتين، وفيه تغليب على الأظهر، وثُمَّ للتراخي وتقديم الظرف للقصر المفيد لتأكيد الوعد والوعيد، ويحتمل أن يكون الضمير لمن اتبع وكفر فقط، وفيه التفات للدلالة على شدة إرادة إيصال الثواب والعقاب لدلالة الخطاب على الاعتناء. فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ أي فأقضي بينكم إثر رجوعكم إليّ ومصيركم بين يدي فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من أمور الدين، أو من أمر عيسى عليه السلام، والظرف متعلق بما بعده وقدم رعاية للفواصل. فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً تفسير للحكم المدلول عليه بقوله سبحانه: فَأَحْكُمُ وتفصيل له على سبيل التقسيم بعد الجمع، وإلى ذلك ذهب كثير من المحققين، واعترض بأن الحكم مرتب على الرجوع إلى الله تعالى وذلك في القيامة لا محالة، فكيف يصح تفسيره بالعذاب المقيد بقوله تعالى: فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ؟ وأجيب بوجوه، الأول أن المقصود التأبيد وعدم الانقطاع من غير نظر إلى الدنيا والآخرة، الثاني أن المراد بالدنيا والآخرة مفهومهما اللغوي أي الأول والآخر، ويكون ذلك عبارة عن الدوام وهذا أبعد من الأول جدا. الثالث ما ذكر صاحب الكشف من أن المرجع أعم من الدنيوي والأخروي، وقوله سبحانه: إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ غاية الفوقية لا غاية الجعل، والرجوع متراخ عن الجعل وهو غير محدود على وزان قولك: سأعيرك سكنى هذا البيت إلى شهر ثم أخلع عليك بثوب من شأنه كذا وكذا فإنه يلزم تأخر الخلع عن الإعارة لا الخلع، وعلى هذا توفية الأجر لغنم الدارين، ولا يخفى أن في لفظ كُنْتُمْ في قوله جل وعلا: فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ بعض نبوة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 عن هذا المعنى، وأن المعنى- أحكم بينكم في الآخرة فيما كنتم فيه تختلفون في الدنيا. الرابع أن العذاب في الدنيا هو الفوقية عليهم، والمعنى أضم إلى عذاب الفوقية السابقة عذاب الآخرة قال في الكشف: وفيه تقابل حسن وإن هذه الفوقية مقدمة عذاب الآخرة ومؤكدته، وإدماج أنها فوقية عدل لا تسلط وجود، ولا يخفى أنه بعيد من اللفظ جدا إذ معنى أعذبه في الدنيا والآخرة ليس إلا أني أفعل عذاب الدارين إلا أن يقال: إن اتخاذ الكل لا يلزم أن يكون باتخاذ كل جزء فيجوز أن يفعل في الآخرة تعذيب الدارين بأن يفعل به عذاب الآخرة وقد فعل في الدنيا عذاب الدنيا فيكون تمام العذابين في الآخرة. الخامس أن في الدنيا والآخرة متعلق- بشديد- تشديدا لأمر الشدة وليس بشيء كما لا يخفى، والأولى من هذا كله ما ذكره بعض المحققين أن يحمل معنى ثُمَّ على التراخي والرتبي والترقي من كلام إلى آخر لا على التراخي في الزمان فحينئذ لا يلزم أن يكون رجوعهم إلى الله تعالى متأخرا عن الجعل في الزمان سواء كان قوله جل شأنه: إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ غاية للجعل أو الفوقية فلا محذور، ثم إن المراد بالعذاب في الدنيا إذ لا هم بالقتل والأسر والسبي وأخذ الجزية ونحو ذلك، ومن لم يفعل معه شيء من وجوه الإذلال فهو على وجل إذ يعلم أن الإسلام يطلبه وكفى بذلك عذابا، وبالعذاب في الآخرة عقاب الأبد في النار وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ أي أعوان يدفعون عنهم عذاب الله، وصيغة الجمع- كما قال مولانا مفتي الروم- لمقابلة ضمير الجمع أي ليس لكل واحد منهم ناصر واحد. وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بيان الحال القسم الثاني، وبدأ بقسم الَّذِينَ كَفَرُوا لأن ذكر ما قبله من حكم الله تعالى بينهم أول ما يتبادر منه في بادئ النظر التهديد فناسب البداءة بهم ولأنه أقرب في الذكر لقوله تعالى: فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا ولكون الكلام مع اليهود الذين كفروا بعيسى عليه السلام وهموا بقتله فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ أي فيوفر عليهم ويتمم جزاء أعمالهم القلبية والقالبية ويعطيهم ثواب ذلك وافيا من غير نقص. وزعم بعضهم أن توفية الأجور هي قسم المنازل في الجنة- والظاهر أنها أعم من ذلك- وعلق التوفية على الإيمان والعمل الصالح ولم يعلق العذاب بسوى الكفر تنبيها على درجة الكمال في الإيمان ودعاء إليها وإيذانا بعظم قبح الكر، وقرأ حفص، ورويس عن يعقوب- فيوفيهم- بياء الغيبة، وزاد رويس ضم الهاء، وقرأ الباقون بالنون جريا على سنن العظمة والكبرياء، ولعل وجه الالتفات إلى الغيبة على القراءة الأولى الإيذان بأن توفية الاجر مما لا يقتضي لها نصب نفس لأنها من آثار الرحمة الواسعة ولا كذلك العذاب، والموصول في الآيتين مبتدأ خبره ما بعد الفاء، وجوز أن يكون منصوبا بفعل محذوف يفسره ما ذكر، وموضع المحذوف بعد الصلة- كما قال أبو البقاء- ولا يجوز أن يقدر قبل الموصول لأن- أما- لا يليها الفعل. وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ أي لا يريد تعظيمهم ولا يرحمهم ولا يثني عليهم، أو المراد يبغضهم على ما هو الشائع في مثل هذه العبارة، والجملة تذييل لما قبل مقرر لمضمونه ذلِكَ أي المذكور من أمر عيسى عليه السلام والإتيان بما يدل على البعد للإشارة إلى عظم شأن المشار إليه وبعد منزلته في الشرف. نَتْلُوهُ عَلَيْكَ أي نسرده ونذكره شيئا بعد شيء، والمراد تلوناه إلا أنه عبر بالمضارع استحضارا للصورة الحاصلة اعتناء بها، وقيل: يمكن الحمل على الظاهر لأن قصة عيسى عليه السلام لم يفرغ منها بعد مِنَ الْآياتِ أي الحجج الدالة على صدق نبوتك إذ أعلمتهم بما لا يعلمه إلا قارئ كتاب، أو معلم، ولست بواحد منهما فلم يبق إلا أنك قد عرفته من طريق الوحي وَالذِّكْرِ أي القرآن، وقيل: اللوح المحفوظ وتفسيره به لاشتماله عليه، ومِنَ تبعيضية على الأول، وابتدائية على الثاني وحملها على البيان وإرادة بعض مخصوص من القرآن بعيد الْحَكِيمِ أي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 المحكم المتقن نظمه، أو الممنوع من الباطل، أو صاحب الحكمة، وحينئذ يكون استعماله لما صدر عنه مما اشتمل على حكمته إما على وجه الاستعارة التبعية في لفظ حكيم، أو الإسناد المجازي بأن أسند للذكر ما هو لسببه وصاحبه، وجعله من باب الاستعارة المكنية التخييلية بأن شبه القرآن بناطق بالحكمة وأثبت له الوصف- بحكيم- تخييلا محوج إلى تكلف مشهور في دفع شبهة ذكر الطرفين حينئذ فتأمل، وجوز في الآية أوجه من الإعراب، الأول أن ذلك مبتدأ، ونَتْلُوهُ خبره، وعَلَيْكَ متعلق بالخبر، ومِنَ الْآياتِ حال من الضمير المنصوب، أو خبر بعد خبر، أو هو الخبر وما بينهما حال من اسم الإشارة على أن العامل فيه معنى الإشارة لا الجار والمجرور قيل: لأن الحال لا يتقدم العامل المعنوي، الثاني أن يكون ذلك خبرا لمحذوف أي الأمر ذلِكَ، ونَتْلُوهُ في موضع الحال من ذلِكَ ومِنَ الْآياتِ حال من الهاء، الثالث أن يكون ذلك في موضع نصب فعل دل عليه- نتلو- فيكون مِنَ الْآياتِ حالا من الهاء أيضا إِنَّ مَثَلَ عِيسى ذكر غير واحد أن وفد نجران قالوا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مالك تشتم صاحبنا؟ قال: ما أقول؟ قالوا: تقول: إنه عبد الله قال: أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول فغضبوا، وقالوا: هل رأيت إنسانا قط من غير أب فإن كنت صادقا فأرنا مثله فأنزل الله تعالى هذه الآية. وأخرج البيهقي في الدلائل من طريق سلمة بن عبد يسوع عن أبيه عن جده «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس [النمل: 1] «سليمان» بسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب من محمد رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران إن أسلمتم فإني أحمد الله إليكم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد فإن أبيتم فالجزية فإن أبيتم فقد أذنتم بحرب والسلام، فلما قرأ الأسقف الكتاب فظع به وذعر ذعرا شديدا فبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له شرحبيل ابن وداعة فدفع إليه كتاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقرأه فقال له الأسقف: ما رأيك؟ فقال شرحبيل: قد علمت ما وعد الله تعالى إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة فما يؤمن أن يكون هذا الرجل نبيا وليس لي في النبوة رأي لو كان أمر من أمر الدنيا أشرت عليك فيه وجهدت فبعث الأسقف إلى واحد بعد واحد من أهل نجران فكلهم قال مثل قول شرحبيل فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا شرحبيل وعبد الله بن شرحبيل. وحيار بن قنص فيأتونهم بخبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فانطلق الوفد حتى أتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فسألهم وسألوه فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا: ما تقول في عيسى ابن مريم؟ فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما عندي فيه شيء يومي هذا فأقيموا حتى أخبركم بما يقال لي في عيسى صبح الغداة فأنزل الله هذه الآية إِنَّ مَثَلَ عِيسى إلى قوله سبحانه: فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ فأبوا أن يقروا بذلك فلما أصبح رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الغد بعد ما أخبرهم الخبر أقبل مشتملا على الحسن والحسين في خميلة له وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة وله يومئذ عدة نسوة فقال شرحبيل لصاحبيه: إني أرى أمرا ثقيلا إن كان هذا الرجل نبيا مرسلا فتلاعناه لا يبقى على ظهر الأرض منا شعر ولا ظفر إلا هلك فقالا له: ما رأيك؟ فقال: رأيي أن أحكمه فإني أرى رجلا لا يحكم شططا أبدا فقالا له: أنت وذاك فتلقى شرحبيل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: إني رأيت خيرا من ملاعنتك قال: وما هو؟ قال: حكمك اليوم إلى الليل وليلك إلى الصباح فما حكمت فينا فهو جائز فرجع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يلاعنهم وصالحهم على الجزية، وروي غير ذلك كما سيأتي قريبا، والمثل- هنا ليس هو المثل المستعمل في التشبيه والكاف زائدة- كما قيل به- بل بمعنى الحال والصفة العجيبة أي إن صفة عيسى عِنْدَ اللَّهِ أي في تقديره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 وحكمه، أو فيما غاب عنكم ولم تطلعوا على كنهه، والظرف متعلق فيما تعلق به الجار في قوله سبحانه: كَمَثَلِ آدَمَ أي كصفته وحاله العجيبة التي لا يرتاب فيها مرتاب خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ جملة ابتدائية لا محل لها من الإعراب مبينة لوجه الشبه باعتبار أن في كل الخروج عن العادة وعدم استكمال الطرفين، ويحتمل أنه جيء بها لبيان أن المشبه به أغرب وأخرق للعادة فيكون ذلك أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته، ومِنْ لابتداء الغاية متعلقة بما عندها، والضمير المنصوب- لآدم- والمعنى ابتدأ خلق قالبه من هذا الجنس ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أي صر بشرا فصار، فالتراخي على هذا زماني إذ بين إنشائه، مما ذكر وإيجاد الروح فيه وتصييره لحما ودما زمان طويل، فقد روي أنه بعد أن خلق قالبه بقي ملقى على باب الجنة أربعين سنة لم تنفخ فيه الروح والتعبير بالمضارع مع أن المقام مقام المضي لتصوير ذلك الأمر الكامل بصورة المشاهد الذي يقع الآن إيذانا بأنه من الأمور المستغربة العجيبة الشأن، وجوز أن يكون التعبير بذلك لما أن الكون مستقبل بالنظر إلى ما قبله، وذهب كثير من المحققين إلى أن ثُمَّ للتراخي في الأخبار لا في المخبر به، وحملوا الكلام على ظاهره، ولا يضر تقدم القول على الخلق في هذا الترتيب والتراخي- كما لا يخفى، والضمير المجرور عائد على ما عاد عليه الضمير المنصوب، والقول- بأنه عائد على عيسى- ليس بشيء لما فيه من التفكيك الذي لا داعي إليه ولا قرينة تدل عليه، قيل: وفي الآية دلالة على صحة النظر والاستدلال لأنه سبحانه احتج على النصارى وأثبت جواز خلق عيسى عليه السلام من غير أب يخلق آدم عليه السلام من غير أب ولا أم، ثم إن الظاهر أن عيسى عليه السلام خلقه الله سبحانه من نطفة مريم عليها السلام بجعلها قابلة لذلك ومستعدة له كما أشرنا إليه فيما تقدم. والقول- بأنه خلق من الهواء كما خلق آدم من التراب- مما لا مستند له من عقل ولا نقل «ونفخنا فيه من روحنا» (1) لا يدل عليه بوجه أصلا الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ خبر لمحذوف أي هو الحق، وهو راجع إلى البيان، والقصص المذكور سابقا، والجار والمجرور حال من الضمير في الخبر، وجوز أن يكون الْحَقُّ مبتدأ، ومِنْ رَبِّكَ خبره، ورجح الأول بأن المقصود الدلالة على كون عيسى مخلوقا كآدم عليهما السلام هو الْحَقُّ لا ما يزعمه النصارى، وتطبيق كونهما مبتدأ وخبرا على هذا المعنى لا يتأتى إلا بتكلف إرادة أن كل حق، أو جنسه من الله تعالى، ومن جملته هذا الشان، أو حمل اللام على العهد بإرادة الْحَقُّ المذكور، ولا يخفى ما في التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله تعالى عليه وسلم من اللطافة الظاهرة فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ خطاب له صلى الله تعالى عليه وسلم، ولا يضر فيه استحالة وقوع الامتراء منه عليه الصلاة والسلام كما في قوله تعالى: «فلا تكونن من المشركين» (2) بل قد ذكروا في هذا الأسلوب فائدتين: «إحداهما» أنه صلى الله تعالى عليه وسلم إذا سمع مثل هذا الخطاب تحركت منه الأريحية فيزداد في الثبات على اليقين نورا على نور «وثانيتهما» أن السامع يتنبه بهذا الخطاب على أمر عظيم فينزع وينزجر عما يورث الامتراء لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم مع جلالته التي لا تصل إليها الأماني إذا خوطب بمثله فما يظن بغيره ففي ذلك زيادة ثبات له صلوات الله تعالى وسلامه عليه ولطف بغيره، وجوز أن يكون خطابا لكل من يقف عليه ويصلح للخطاب فَمَنْ حَاجَّكَ أي جادلك وخاصمك من وفد نصارى نجران إذ هم المتصدون لذلك فِيهِ أي في شأن عيسى   (1) كذا في الأصل، والقراءة في مصاحفنا فَنَفَخْنا ... (2) كذا في الأصل، والقراءة في مصاحفنا وَلا تَكُونَنَّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 عليه السلام لأنه المحدث عنه وصاحب القصة، وقيل: الضمير للحق المتقدم لقربه وعدم بعد المعنى مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أي الآيات الموجبة للعلم، وإطلاق العلم عليها إما حقيقية لأنها كما قيل: نوع منه، وإما مجاز مرسل، والقرينة عليه ذكر المحاجة المقتضية للأدلة، والجار والمجرور الأخير حال من فاعل جاءَكَ الراجع إلى ما الموصولة، ومِنْ من ذلك تبعيضية، وقيل: لبيان الجنس فَقُلْ أي لمن حاجّك- تَعالَوْا أي أقبلوا بالرأي والعزيمة، وأصله طلب الإقبال إلى مكان مرتفع، ثم توسع فيه فاستعمل في مجرد طلب المجيء نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ أي يدع كل منا ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه للمباهلة، وفي تقديم من قدم على النفس في المباهلة مع أنها من مظان التلف والرجل يخاطر لهم بنفسه إيذانا بكمال أمنه صلى الله تعالى عليه وسلم وكمال يقينه في إحاطة حفظ الله تعالى بهم، ولذلك- مع رعاية الأصل في الصيغة فإن غير المتكلم تبع له في الاسناد- قدم صلى الله تعالى عليه وسلم جانبه على جانب المخاطبين ثُمَّ نَبْتَهِلْ أي نتباهل، فالافتعال هنا بمعنى المفاعلة، وافتعل وتفاعل أخوان في كثير من المواضع- كاشتور وتشاور، واجتور وتجاور. والأصل في البهلة- بالضم، والفتح فيه- كما قيل- اللعنة، والدعاء بها، ثم شاعت في مطلق الدعاء كما يقال: فلان يبتهل إلى الله تعالى في حاجته، وقال الراغب: بهل الشيء والبعير إهماله وتخليته ثم استعمل في الاسترسال في الدعاء سواء كان لعنا أو لا إلا أنه هنا يفسر باللعن لأنه المراد الواقع كما يشير إليه قوله تعالى: فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ أي في أمر عيسى عليه السلام فإنه معطوف على نبتهل مفسر للمراد منه أي نقول لعنة الله على الكاذبين، أو اللهم العن الكاذبين. أخرج البخاري، ومسلم «أن العاقب والسيد أتيا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأراد أن يلاعنهما فقال أحدهما لصاحبه: لا تلاعنه فو الله لئن كان نبيا فلاعننا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا فقالوا له: نعطيك ما سألت فابعث معنا رجلا أمينا فقال: قم يا أبا عبيدة فلما قام قال هذا أمين هذه الأمة، وأخرج أبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء، والضحاك عن ابن عباس «أن ثمانية من أساقفة أهل نجران قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم منهم العاقب، والسيد فأنزل الله تعالى فَقُلْ تَعالَوْا الآية فقالوا: أخرنا ثلاثة أيام فذهبوا إلى بني قريظة، والنضير، وبني قينقاع فاستشاروهم فأشاروا عليهم أن يصالحوه ولا يلاعنوه، وقالوا: هو النبي الذي نجده في التوراة فصالحوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على ألف حلة في صفر وألف في رجب ودراهم» وروي أنهم صالحوه على أن يعطوه في كل عام ألفي حلة وثلاثا وثلاثين درعا وثلاثة وثلاثين بعيرا وأربعا وثلاثين فرسا. وأخرج في الدلائل أيضا من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس «أن وفد نجران من النصارى قدموا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم منهم السيد- وهو الكبير- والعاقب- وهو الذي يكون بعده وصاحب رأيهم- فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أسلما قالا: أسلمنا قال: ما أسلمتما قالا: بلى قد أسلمنا قبلك قال: كذبتما يمنعكما من الإسلام ثلاث فيكما، عبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير، وزعمكما أن لله ولدا، ونزل إِنَّ مَثَلَ عِيسى الآية فلما قرأها عليهم قالوا: ما نعرف ما تقول، ونزل فَمَنْ حَاجَّكَ الآية فقال لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن الله تعالى قد أمرني إن لم تقبلوا هذا أن أباهلكم فقالوا: يا أبا القاسم بل نرجع فننظر في أمرنا ثم نأتيك فخلا بعضهم ببعض وتصادقوا فيما بينهم قال السيد للعاقب: قد والله علمتم أن الرجل نبي مرسل ولئن لاعنتموه أنه لاستئصالكم وما لاعن قوم نبيا قط فبقي كبيرهم ولا نبث صغيرهم فإن أنتم لن تتبعوه وأبيتم إلا إلف دينكم فوادعوه وارجعوا إلى بلادكم وقد كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خرج ومعه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 علي، والحسن، والحسين، وفاطمة فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن أنا دعوت فآمنوا أنتم فأبوا أن يلاعنوه وصالحوه على الجزية» . وعن الشعبي فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه: «لقد أتاني البشير بهلكة أهل نجران حتى الطير على الشجر لو تموا على الملاعنة» وعن جابر «والذي بعثني بالحق لو فعلا لأمطر الوادي عليهما نارا» . وروي أن أسقف نجران «لما رأى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مقبلا ومعه علي، وفاطمة، والحسنان رضي الله عنهم قال: يا معشر النصارى: إني لأرى وجوها لو سألوا الله تعالى أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله فلا تباهلوا وتهلكوا» . هذا وإنما ضم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى النفس الأبناء والنساء مع أن القصد من المباهلة تبين الصادق من الكاذب وهو يختص به وبمن يباهله لأن ذلك أتم في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه، وأكمل نكاية بالعدو وأوفر إضرارا به لو تمت المباهلة، وفي هذه القصة أوضح دليل على نبوته صلى الله تعالى عليه وسلم وإلا لما امتنعوا عن مباهلته، ودلالتها على فضل آل الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم مما لا يمتري فيها مؤمن، والنصب جازم الإيمان، واستدل بها الشيعة على أولوية علي كرم الله تعالى وجهه بالخلافة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم بنار على رواية مجيء علي كرم الله تعالى وجهه مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ووجه أن المراد حينئذ بأبنائنا الحسن. والحسين، وبنسائنا فاطمة، وبأنفسنا الأمير، وإذا صار نفس الرسول- وظاهر أن المعنى الحقيقي مستحيل- تعين أن يكون المراد المساواة، ومن كان مساويا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم؟! فهو أفضل وأولى بالتصرف من غيره، ولا معنى للخليفة إلا ذلك، وأجيب عن ذلك أما أولا فبأنا لا نسلم أن المراد بأنفسنا الأمير بل المراد نفسه الشريفة صلى الله تعالى عليه وسلم، ويجعل الأمير داخلا في الأبناء، وفي العرف يعد الختن ابنا من غير ريبة، ويلتزم عموم المجاز إن قلنا: إن إطلاق الابن على ابن البنت حقيقة، وإن قلنا: إنه مجاز لم يحتج إلى القول بعمومه وكان إطلاقه على الأمير وابنيه رضي الله تعالى عنهم على حد سواء في المجازية. وقول الطبرسي، وغيره من علمائهم- إن إرادة نفسه الشريفة صلى الله تعالى عليه وسلم من أنفسنا لا تجوز لوجود نَدْعُ والشخص لا يدعو نفسه- هذيان من القول، إذ قد شاع وذاع في القديم والحديث- دعته- نفسه إلى كذا، ودعوت نفسي إلى كذا، وطوعت له نفسه، وآمرت نفسي، وشاورتها إلى غير ذلك من الاستعمالات الصحيحة الواقعة في كلام البلغاء فيكون حاصل نَدْعُ أَنْفُسَنا نحضر أنفسنا وأي محذور في ذلك على أنا لو قررنا الأمير من قبل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إياهم وأبناءهم ونساءهم بعد قوله: تَعالَوْا كما لا يخفى. وأما ثانيا فبأنّا لو سلمنا أن المراد بأنفسنا الأمير لكن لا نسلم أن المراد من النفس ذات الشخص إذ قد جاء لفظ النفس بمعنى القريب والشريك في الدين والملة. ومن ذلك قوله تعالى «يخرجون أنفسهم من ديارهم» (1) وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات: 11] لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً [النور: 12] فلعله لما كان للأمير اتصال بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم في النسب والمصاهرة واتحاد في الدين عبر عنه بالنفس، وحينئذ لا تلزم المساواة التي هي عماد استدلالهم على أنه لو كان المراد مساواته في جميع الصفات يلزم الاشتراك في النبوة والخاتمية والبعثة إلى كافة الخلق ونحو ذلك- وهو باطل بالإجماع- لأن التابع دون المتبوع ولو كان المراد المساواة في البعض لم يحصل الغرض لأن المساواة في بعض صفات الأفضل والأولى بالتصرف لا تجعل من هي له أفضل   (1) لا يوجد آية بهذا النص، والذي في الآية 85 من سورة البقرة: وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 وأولى بالتصرف بالضرورة، وأما ثالثا فبأن ذلك لو دل على خلافة الأمير كما زعموا لزم كون الأمير إماما في زمنه صلى الله تعالى عليه وسلم- وهو باطل بالاتفاق- وإن قيد بوقت دون وقت فمع أن التقييد مما لا دليل عليه في اللفظ لا يكون مفيدا للمدعي إذ هو غير متنازع فيه لأن أهل السنة يثبتون إمامته في وقت دون وقت فلم يكن هذا الدليل قائما في محل النزاع، ولضعف الاستدلال به في هذا المطلب بل عدم صحته كالاستدلال به على أفضلية الأمير علي كرم الله تعالى وجهه على الأنبياء والمرسلين عليهم السلام لزعم ثبوت مساواته للأفضل منهم فيه لم يقمه محققو الشيعة على أكثر من دعوى كون الأمير، والبتول، والحسين أعزة على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كما صنع عبد الله المشهدي في كتابه- إظهار الحق. وقد أخرج مسلم، والترمذي، وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص قال: «لما نزلت هذه الآية فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ إلخ دعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عليا، وفاطمة، وحسنا، وحسينا فقال: اللهم هؤلاء أهلي» وهذا الذي ذكرناه من دعائه صلى الله تعالى عليه وسلم هؤلاء الأربعة المتناسبة رضي الله تعالى عنهم هو المشهور المعول عليه لدى المحدثين. وأخرج ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه رضي الله تعالى عنهم «أنه لما نزلت هذه الآية جاء بأبي بكر، وولده، وبعمر، وولده، وبعثمان، وولده، وبعلي، وولده» وهذا خلاف ما رواه الجمهور. واستدل ابن أبي علان من المعتزلة بهذه القصة أيضا على أن الحسنين كانا مكلفين في تلك الحال لأن المباهلة لا تجوز إلا مع البالغين، وذهب الإمامية إلى أنها يشترط فيها كمال العقل والتمييز، وحصول ذلك لا يتوقف على البلوغ فقد يحصل كمال قبله ربما يزيد على كمال البالغين فلا يمتنع أن يكون الحسنان إذ ذاك غير بالغين إلا أنهما في سن لا يمتنع معها أن يكونا كاملي العقل على أنه يجوز أن يخرق الله تعالى العادات لأولئك السادات ويخصهم بما لا يشاركهم فيه غيرهم، فلو صح أن كمال العقل غير معتاد في تلك السن لجاز ذلك فيهم إبانة لهم عمن سواهم ودلالة على مكانهم من الله تعالى واختصاصهم به- وهم القوم الذين لا تحصى خصائصهم. وذهب النواصب إلى أن المباهلة جائزة لإظهار الحق إلى اليوم إلا أنه يمنع فيها أن يحضر الأولاد والنساء، وزعموا رفعهم الله تعالى لا قدرا، وحطهم ولا حط عنهم وزرا أن ما وقع منه صلى الله تعالى عليه وسلم كان لمجرد إلزام الخصم وتبكيته وأنه لا يدل على فضل أولئك الكرام على نبينا وعليهم أفضل الصلاة وأكمل السلام، وأنت تعلم أن هذا الزعم ضرب من الهذيان، وأثر من مس الشيطان: وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل ومن ذهب إلى جواز المباهلة اليوم على طرز ما صنع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم استدل بما أخرجه عبد بن حميد عن قيس بن سعد أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان بينه وبين آخر شيء فدعاه إلى المباهلة، وقرأ الآية ورفع يديه فاستقبل الركن وكأنه يشير بذلك رضي الله تعالى عنه إلى كيفية الابتهال وأن الأيدي ترفع فيه، وفيما أخرجه الحاكم تصريح بذلك وأنها ترفع حذو المناكب إِنَّ هذا أي المذكور في شأن عيسى عليه السلام قاله ابن عباس لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ جملة اسمية خبر إِنَّ ويجوز أن يكون- هو ضمير فصل لا محل له من الإعراب، والْقَصَصُ هو الخبر، وضمير الفصل يفيد القصر الإضافي كما يفيده تعريف الطرفين والْحَقُّ صفة القصص وهو المقصود بالإفادة أي- إن هذا هو الحق- لا ما يدعيه النصارى من كون المسيح عليه السلام إلها. وابن الله سبحانه وتعالى عما يقوله الظالمون علوا كبيرا، وقيل: إن الضمير للقصر والتأكيد لو لم يكن في الكلام ما يفيد ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 وإن كان كما هنا فهو لمجرد التأكيد، والأول هو المشهور- وعليه الجمهور ولعله الأوجه، واللام لام الابتداء والأصل فيها أن تدخل على المبتدأ إلا أنهم يزحلقونها إلى الخبر لئلا يتوالى حرفا تأكيد وإذا جاز دخولها على الخبر كان دخولها على الفصل أجوز لأنه أقرب إلى المبتدأ فافهم. الْقَصَصُ على ما في البحر مصدر قولهم: قص فلان الحديث يقصه قصا وقصصا، وأصله تتبع الأثر يقال: خرج فلان يقص أثر فلان أي يتتبعه ليعرف أين ذهب، ومنه قوله تعالى: وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ [القصص: 11] أي تتبعي أثره، وكذلك القاص في الكلام لأنه يتتبع خبرا بعد خبر، أو يتتبع المعاني ليوردها، وهو هنا فعل بمعنى مفعول أي المقصوص الحق، وقرئ «لهو» بسكون الواو وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ رد النصارى في تثليثهم، وكذا فيه رد على سائر الثنوية ومِنْ زائدة للتأكيد كما هو شأن الصلات، وقد فهم أهل اللسان- كما قال الشهاب- أنها لتأكيد الاستغراق المفهوم من النكرة المنفية لاختصاصها بذلك في الأكثر، وقد توقف محب الدين في وجه إفادة الكلمات المزيدة للتأكيد بأي طريق هي فإنها ليست وضعية، وأجاب بأنها ذوقية يعرفها أهل اللسان، واعترض بأن هذا حوالة على مجهول فلا تفيد فالأولى أن يقال: إنها وضعية لكنه من باب الوضع النوعي فتدبر وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ أي الغالب غلبة تامة، أو القادر قدرة كذلك، أو الذي لا نظير له الْحَكِيمُ أي المتقن فيما صنع، أو المحيط بالمعلومات، والجملة تذييل لما قبلها، والمقصود منها أيضا قصر الإلهية عليه تعالى ردا على النصارى أي قصر إفراد فالفصل والتعريف هنا كالفصل والتعريف هناك فما قيل: إنهما ليسا للحصر إذ الغالب على الأغيار لا يكون إلا واحدا فيلغو القصر فيه إلا أن يجعل قصر قلب والمقام لا يلائمه مما لا عصام له كما لا يخفى فَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن اتباعك وتصديقك بعد هذه الآيات البينات، وهذا على تقدير أن يكون الفعل ماضيا، ويحتمل أن يكون مضارعا وحذفت منه إحدى التاءين تخفيفا، وأصله تتولوا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ أي بهم، أو بكم، والجملة جواب الشرط في الظاهر لكن المعنى على ما يترتب على علمه بِالْمُفْسِدِينَ من معاقبته لهم، فالكلام للوعيد ووضع الظاهر موضع الضمير تنبيها على العلة المقضية للجزاء والعقاب وهي الإفساد، وقيل: المعنى على أن اللَّهَ عَلِيمٌ بهؤلاء المجادلين بغير حق وبأنهم لا يقدمون على مباهتلك لمعرفتهم نبوتك وثبوت رسالتك، والجملة على هذا أيضا عند التحقيق قائمة مقام الجواب إلا أنه ليس الجزاء والعقاب، والكلام منساق لتسليته صلى الله تعالى عليه وسلم ولا يخفى ما فيه. «ومن باب الإشارة في الآيات» فَلَمَّا أَحَسَّ أي شاهد عيسى بواسطة النور الإلهي المشرق عليه مِنْهُمُ الْكُفْرَ أي ظلمته، أو نفسه فإن المعاني تظهر للكمل على صور مختلفة باختلافها فيرونها. وحكي عن الباز قدس سره أنه قال: إن الليل والنهار يأتياني فيخبراني بما يحدث فيهما، وعن بعض العارفين أنه يشاهد أعمال العباد كيف تصعد إلى السماء ويرى البلاء النازل منها قالَ مَنْ أَنْصارِي في حال دعوتي إلى الله سبحانه بأن يلتفت إلى الاشتغال بتكميل نفسه وتهذيب أخلاقها حتى يصلح لتربية الناقصين فينصرني ويعينني في تكميل الناقص وإرشاد الضال قالَ الْحَوارِيُّونَ المبيضون ثياب وجودهم بمياه العبادة ومطرقة المجاهدة وشمس المراقبة نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ أي أعوان الفانين فيه الباقين به ومنهم عيسى عليه السلام آمَنَّا بِاللَّهِ الإيمان الكامل وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ أي مقادون لأمرك حيث إنه أمر الله سبحانه رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وهو ما نورت به قلوب أصفيائك من علوم غيبك وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فيما أظهر من أوامرك ونواهيك رجاء أن يوصلنا ذلك إلى محبتك فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ أي مع من يشهدك ولا يشهد معك سواك، أو الحاضرين لك المراقبين لأمرك وَمَكَرُوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 أي الذين أحس منهم الكفر واحتالوا مع أهل الله بتدبير النفس فكان مكرهم مكر الحق عليهم لأنه المزين ذلك لهم كما قال سبحانه: كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [الأنعام: 108] فهو الماكر في الحقيقة وهذا معنى وَمَكَرَ اللَّهُ عند بعض، والأولى القول باختلاف المكرين على ما يقتضيه مقام الفرق، وقد سئل بعضهم كيف يمكر الله؟ فصاح وقال: لا علة لصنعه وأنشأ يقول: فديتك قد جبلت على هواكا ... ونفسي لا تنازعني سواكا أحبك لا ببعضي بل بكلي ... وإن لم يبق حبك لي حراكا ويقبح من- سواك الفعل- عندي ... وتفعله فيحسن منك ذاكا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ عن رسم الحدوثية وَرافِعُكَ إِلَيَّ بنعت الربوبية وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بشغل سرك عن مطالعة الأغيار، أو متوفيك عنك، وقابضك منك، ورافعك عن نعوت البشرية ومطهرك من إرادتك بالكلية، وقيل: إن عيسى عليه الصلاة والسلام لما أحس منهم الكفر وعلم أنهم بعثوا من يقتله قال للحواريين: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم السماوي أي متصل بروح القدس ومتطهر من علاقة عالم الرجس فأمدكم بالفيض كي تستجاب دعوتكم الخلق بعدي، فشبه للقوم صورة جسدانية هي مظهر عيسى روح الله تعالى بصورة حقيقة عيسى فظنوها هو فصلبوها ولم يعلموا أن الله تعالى رفعه إلى السماء الرابعة التي هي فلك الشمس، وحكمة رفعه إلى ذلك أن روحانيته عبارة عن إسرافيل عليه الصلاة والسلام ويشاركه المسيح في سر النفخ. ومن قال: إنه رفع إلى السماء الدنيا بين الحكمة بأن إفاضة روحه كانت بواسطة جبريل عليه السلام وهو عبارة عن روحانية فلك القمر، وبأن القمر في السماء الدنيا وهو آية ليلية تناسب علم الباطن الذي أوتيه المسيح عليه السلام، ولم يعتبر الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم القول: بأنه يدور حول العرش لأن ذلك مقام النهاية في الكمال، ولهذا لم يعرج إليه سوى صاحب المقام المحمود صلى الله تعالى عليه وسلم الجامع بين الظاهر والباطن إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ في أن كلا منهما خارق للعادة خارج عن دائرتها وإن افترقا في أن عيسى عليه الصلاة والسلام بلا ذكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 بل من نطفة أنثى فقط كان في بعضها قوة العقد وفي البعض الآخرة قوة الانعقاد كسائر النطف المركبة من منيين في أحدهما القوة العاقدة وفي الأخرى المنعقدة، وأن آدم عليه الصلاة والسلام بلا ذكر ولا أنثى خلقه من تراب أي صور قالبه من ذلك ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ إشارة إلى نفخ الروح فيه وكونه من عالم الأمر نظرا إلى روحه المقدسة التي لم ترتكض في رحم فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ أي الحق، أو في عيسى عليه السلام بالحجج الباطلة فَقُلْ تَعالَوْا إلخ أي فادعه إلى المباهلة بالهيئة المذكورة. قال بعض العارفين: اعلم أن لمباهلة الأنبياء عليهم السلام تأثيرا عظيما سببه اتصال نفوسهم بروح القدس وتأييد الله تعالى إياهم به وهو المؤثر بإذن الله تعالى في العالم العنصري فيكون انفعال العالم العنصري منه كانفعال أبداننا من روحنا بالعوارض الواردة عليه، كالغضب، والخوف، والفكر في أحوال المعشوق، وغير ذلك. وانفعال النفوس البشرية منه كانفعال حواسنا وسائر قوانا من عوارض أرواحنا فإذا اتصل نفس قدسي به، أو ببعض أرواح الأجرام السماوية والنفوس الملكوتية كان تأثيرها في العالم عند التوجه الاتصالي تأثير ما يتصل به فينفعل أجرام العناصر والنفوس الناقصة الانسانية منه بما أراد حسب ذلك الاتصال ولذا انفعلت نفوس النصارى من نفسه عليه الصلاة والسلام بالخوف وأحجمت عن المباهلة وطلبت الموادعة بقبول الجزية انتهى. وادعى بعضهم أن لكل نفس تأثيرا لكنه يختلف حسب اختلاف مراتب النفوس وتفاوت مراتب التوجهات إلى عام التجرد- وفيه كلام طويل- ولعل النوبة تفضي إلى تحقيقه، هذا وتطبيق ما في الآفاق على ما في الأنفس ظاهر لمن أحاط خبرا بما قدمناه في الآيات الأول، والله تعالى الموفق. قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ نزلت في وفد نصارى نجران- قاله السدي، والحسن، وابن زيد، ومحمد بن جعفر بن الزبير- وروي عن قتادة، والربيع، وابن جريج أنها نزلت في يهود المدينة. وذهب أبو علي الجبائي أنها نزلت في الفريقين من أهل الكتاب، واستظهره بعض المحققين لعمومه تَعالَوْا أي هلموا إِلى كَلِمَةٍ أي كلام- كما قال الزجاج- وإطلاقها على ذلك في كلامهم من باب المجاز المرسل وعلاقته تجوز إطلاقها على المركب الناقص إلا أنه لم يوجد بالاستقراء، وقيل: إنه من باب الاستعارة وليس بالبعيد- وقرىء كَلِمَةٍ بكسر الكاف وإسكان اللام على التخفيف والنقل سَواءٍ أي عدل- قاله ابن عباس، والربيع، وقتادة- وقيل: إن سَواءٍ مصدر بمعنى مستوية أي لا يختلف فيها التوراة والإنجيل والقرآن، أو لا اختلاف فيها بكل الشرائع، وهو في قراءة الجمهور مجرور على أنه نعت- لكلمة- وقرئ بنصبه على المصدر. بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ متعلق بسواء أَلَّا نَعْبُدَ أي نحن وأنتم إِلَّا اللَّهَ بأن نوحده بالعبادة ونخلص فيها، وفي موضع أن وما بعدها وجهان- كما قال أبو البقاء- الأول الجر على البدلية من كَلِمَةٍ، والثاني الرفع على الخبرية لمحذوف أي هي أن لا نعبد إلا الله، ولولا عمل أن لجاز أن تكون تفسيرية، وقيل: إن الكلام تم على سَواءٍ ثم استؤنف فقيل: بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أن لا نعبد، فالظرف خبر مقدم، وأن وما بعدها مبتدأ مؤخر وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً من الأشياء على معنى لا نجعل غيره شريكا له في استحقاق العبادة ولا نراه أهلا لأن يعبد، وبهذا المعنى يكون الكلام تأسيسا والظاهر أنه تأكيد لما قبله إلا أن التأسيس أكثر فائدة، وقيل: المراد لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً من الشرك وهو بعيد جدا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ أي لا يطيع بعضنا بعضا في معصية الله تعالى- قاله ابن جريج- ويؤيده ما أخرجه الترمذي وحسنه من حديث عدي بن حاتم «أنه لما نزلت هذه الآية قال: ما كنا نعبدهم يا رسول الله فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: أما كانوا يحللون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم؟ قال: نعم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 فقال عليه الصلاة والسلام هو ذاك» قيل: وإلى هذا أشار سبحانه بقوله عز من قائل: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة: 31] وعن عكرمة أن هذا الاتخاذ هو سجود بعضهم لبعض، وقيل: هو مثل اعتقاد اليهود في عزيز أنه ابن الله، واعتقاد النصارى في المسيح نحو ذلك، وضمير- نا- على كل تقدير للناس لا للممكن- وإن أمكن- حتى يشمل الأصنام لأن أهل الكتاب لم يعبدوها. وفي التعبير- بالبعض- نكتة وهي الإشارة إلى أنهم بعض من جنسنا فكيف يكونون أربابا؟ «فإن قلت» إن المخاطبين لم يتخذوا البعض أربابا من دون الله بل اتخذوهم آلهة معه سبحانه «أجيب» بأنه أريد من دون الله وحده، أو يقال: بأنه أتى بذلك للتنبيه على أن الشرك لا يجامع الاعتراف بربوبيته تعالى عقلا- قاله بعضهم- وللنصارى- سود الله تعالى حظهم- الحظ الأوفر من هذه المنهيات، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان فرقهم وتفصيل كفرهم على أتم وجه فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ المراد فان تولوا عن موافقتكم فيما ذكر مما اتفق عليه الكتب والرسل بعد عرضه عليهم فاعلموا أنهم لزمتهم الحجة وإنما أبوا عنادا فقولوا لهم: أنصفوا واعترفوا بأنا على الدين الحق وهو تعجيز لهم أو هو تعريض بهم لأنهم إذا شهدوا بالإسلام لهم فكأنهم قالوا: إنا لسنا كذلك، وإلى هذا ذهب بعض المحققين، وقيل: المراد فإن تولوا فقولوا: إنا لا نتحاشى عن الإسلام ولا نبالي بأحد في هذا الأمر- فاشهدوا بأنا مسلمون- فإنا لا نخفي إسلامنا كما أنكم تخافون وتخفون كفركم ولا تعرفون به لعدم وثوقكم بنصر الله تعالى، ولا يخفى أن هذا على ما فيه إنما يحسن لو كان الكلام في منافقي أهل الكتاب لأن المنافقين هم الذين يخافون فيخفون، وأما هؤلاء فهم معترفون بما هم عليه كيف كان فلا يحسن هذا الكلام فيهم، تَوَلَّوْا هنا ماض ولا يجوز أن يكون التقدير تتولوا لفساد المعنى لأن فَقُولُوا خطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين، وتتولوا خطاب للمشركين، وعند ذلك لا يبقى في الكلام جواب يا أَهْلَ الْكِتابِ خطاب لليهود والنصارى لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ أي تنازعون وتجادلون فيه ويدعي كل منكم أنه عليه السلام كان على دينه، أخرج ابن إسحق. وابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «اجتمعت نصارى نجران. وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فتنازعوا عنده فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديا، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيا فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية» والظرف الأول متعلق بما بعده وكذا الثاني، وما- استفهامية، والغرض الإنكار والتعجب- عند السمين- وحذفت ألفها لما دخل الجار للفرق بينها وبين الموصولة، والكلام على حذف مضاف أي دين إبراهيم أو شريعته لأن الذوات لا مجادلة فيها وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ على موسى عليه السلام وَالْإِنْجِيلُ على عيسى عليه السلام إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ حيث كان بينه وبين موسى عليهما السلام خمسمائة وخمس وستون سنة، وقيل: سبعمائة، وقيل: ألف سنة وبين موسى، وعيسى عليهما السلام ألف وتسعمائة وخمس وعشرون سنة، وقيل ألفا سنة، وهناك أقوال أخر أَفَلا تَعْقِلُونَ الهمزة داخلة على مقدر هو المعطوف عليه بالعاطف المذكور على رأي- أي ألا تتفكرون فلا تعقلون بطلان قولكم- أو أتقولون ذلك فلا تعقلون بطلانه، وهذا تجهيل لهم في تلك الدعوى وتحميق، وهو ظاهر إن كانوا قد ادعوا- كما قال الشهاب- إنه عليه السلام منهم حقيقة، وإن كان مدعاهم أن دين إبراهيم يوافق دين موسى، أو دين عيسى فهو يهودي، أو نصراني بهذا المعنى فتجهيلهم، ونفي العقل عنهم بنزول التوراة الإنجيل بعده- مشكل إلا أن يدعي بأن المراد أنه لو كان الأمر كذلك لما أوتي موسى عليه السلام التوراة، ولا عيسى عليه السلام الإنجيل بل كانا يؤمران بتبليغ صحف إبراهيم- كذا قيل- وأنت تعلم أن هذا لا يشفي الغليل إذ لقائل أن يقول: أي مانع من اتحاد الشريعة مع إنزال هذين الكتابين لغرض آخر غير بيان شريعة جديدة على أن الصحف لم تكن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 مشتملة على الأحكام بل كانت أمثالا ومواعظ كما جاء في الحديث، ثم ما قاله الشهاب- إن كان وجه التجهيل عليه ظاهرا، إلا أن صدور تلك الدعوى من أهل الكتاب في غاية البعد لأن القوم لم يكونوا بهذه المثابة من الجهالة، وفيهم أحبار اليهود، ووفد نجران، وقد ذكر أن الأخيرين كانت لهم شدة في البحث، فقد أخرج ابن جرير عن عبد الله بن الحرث الزبيدي أنه قال: «سمعت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: ليت بيني وبين أهل نجران حجابا فلا أراهم ولا يروني» من شدة ما كانوا يمارون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم اللهم إلا أن يقال: إن الله تعالى أعمى بصائرهم في هذه الدعوى ليكونوا ضحكة لأطفال المؤمنين، أو أنهم قالوا ذلك على سبيل التعنت والعناد ليغيظ كل منهم صاحبه، أو ليوهموا بعض المؤمنين ظنا منهم أنهم لكونهم أميين غير مطلعين على تواريخ الأنبياء السالفين يزلزلهم مثل ذلك ففضحهم الله تعالى، أو أن القوم في حدّ ذاتهم جهلة لا يعلمون وإن كانوا أهل كتاب- وما ذكره ابن الحرث- لا يدل على علمهم كما لا يخفى، وقيل: إن مراد اليهود بقولهم: إن إبراهيم عليه السلام كان يهوديا أنه كان مؤمنا بموسى عليه السلام قبل بعثته على حدّ ما يقوله المسلمون في سائر المرسلين عليهم الصلاة والسلام من أنهم كانوا مؤمنين بنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم قبل بعثته كما يدل عليه تبشيرهم به، وأن مراد النصارى بقولهم: إن إبراهيم كان نصرانيا نحو ذلك فرد الله تعالى عليهم بقوله سبحانه: وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أي ومن شأن المتأخر أن يشتمل على أخبار المتقدم لا سيما مثل هذا الأمر المهم، والمفخر العظيم، والمنة الكبرى أَفَلا تَعْقِلُونَ ما فيهما لتعلموا خلوهما عن الأخبار بيهوديته ونصرانيته اللتين زعمتموهما، ثم نبه سبحانه على حماقتهم بقوله جل وعلا: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ أي أنتم هؤُلاءِ الحمقى حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ كأمر موسى، وعيسى عليهما السلام فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وهو أمر إبراهيم عليه السلام حيث لا ذكر لدينه في كتابكم، أو لا تعرض لكونه آمن بموسى. وعيسى قبل بعثتيهما أصلا، وليس المراد وصفهم بالعلم حقيقة وإنما المراد هب أنكم تحاجون فيما تدعون علمه على ما يلوح لكم من خلال عبارات كتابكم وإشاراته في زعمكم فكيف تحاجون فيما لا علم لكم به ولا ذكر، ولا رمز له في كتابكم البتة؟! وها حرف تنبيه، واطرد دخولها على المبتدأ إذا كان خبره اسم إشارة نحو- ها أنا ذا- وكررت هنا للتأكيد، وذهب الأخفش أن الأصل أأنتم على الاستفهام فقلبت الهمزة هاء، ومعنى الاستفهام عنده التعجب من جهالتهم، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يحسن ذلك لأنه لم يسمع إبدال همزة الاستفهام هاء في كلامهم إلا في بيت نادر، ثم الفصل بين الهاء المبدلة. وهمزة أَنْتُمْ لا يناسب لأنه إنما يفصل لاستثقال اجتماع الهمزتين، وهنا قد زال الاستثقال بإبدال الأولى هاء، والإشارة للتحقير والتنقيص، ومنها فهم الوصف الذي يظهر به فائدة الحمل، وجملة حاجَجْتُمْ مستأنفة مبينة للأولى، وقيل: إنها حالية بدليل أنه يقع الحال موقعها كثيرا نحو- ها أنا ذا قائما- وهذه الحال لازمة وقيل: إن الجملة غبر عن أَنْتُمْ وهؤُلاءِ منادى حذف منه حرف النداء، وقيل: هؤُلاءِ بمعنى الذين خبر المبتدأ، وجملة حاجَجْتُمْ صلة وإليه ذهب الكوفيون، وقراؤهم يقرؤون ها أَنْتُمْ بالمد والهمز، وقرأ أهل المدينة، وأبو عمرو بغير همز ولا مد إلا بقدر خروج الألف الساكن، وقرأ ابن كثير. ويعقوب بالهمز والقصر بغير مد، وقرأ ابن عامر بالمد دون الهمز وَاللَّهُ يَعْلَمُ حال إبراهيم وما كان عليه. وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذلك، ولك أن تعتبر المفعول عاما ويدخل المذكور فيه دخولا أوليا، والجملة تأكيد لنفي العلم عنهم في شأن إبراهيم عليه السلام ثم صرح بما نطق به البرهان المقرر فقال سبحانه: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا كما قالت اليهود وَلا نَصْرانِيًّا كما قالت النصارى وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً أي مائلا عن العقائد الزائغة مُسْلِماً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 أي منقادا لطاعة الحق، أو موحدا لأن الإسلام يرد بمعنى التوحيد أيضا قيل: وينصره قوله تعالى: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي عبدة الأصنام كالعرب الذين كانوا يدعون أنهم على دينه، أو سائر المشركين ليعم أيضا عبدة النار كالمجوس، وعبدة الكواكب كالصابئة، وقيل: أراد بهم اليهود والنصارى لقول اليهود: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: 30] وقول النصارى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: 30] تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وأصل الكلام وما كان منكم إلا أنه وضع المظهر موضع المضمر للتعريض بأنهم مشركون، والجملة حينئذ تأكيد لما قبلها، وتفسير الإسلام بما ذكر- هو ما اختاره جمع المحققين وادعوا أنه لا يصح تفسيره هنا بالدين المحمدي لأنه يرد عليه أنه كان بعده بكثير فكيف يكون مسلما؟ فيكون كادعائهم تهوده وتنصره المردود بقوله سبحانه: وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ فيرد عليه ما ورد عليهم، ويشترك الإلزام بينهما، وفسره بعضهم بذلك، وأجاب عن اشتراك الإلزام بأن القرآن أخبر بأن إبراهيم كان مُسْلِماً وليس في التوراة والإنجيل أنه عليه الصلاة والسلام كان يهوديا أو نصرانيا فظهر الفرق، قال العلامة النيسابوري: فإن قيل: قولكم: إن إبراهيم عليه السلام على دين الإسلام إن أردتم به الموافقة في الأصول فليس هذا مختصا بدين الإسلام، وإن أردتم في الفروع لزم أن لا يكون نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم صاحب شريعة بل مقرر لشرع من قبله. قيل: يختار الأول، والاختصاص ثابت لأن اليهود والنصارى مخالفون للأصول في زماننا لقولهم بالتثليث وإشراك عزيز عليه السلام إلى غير ذلك، أو الثاني ولا يلزم ما ذكر لجواز أنه تعالى نسخ تلك الفروع بشرع موسى عليه السلام ثم نسخ نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم صاحب شريعة مع موافقة شرعه شرع إبراهيم في معظم الفروع انتهى، ولا يخفى ما في الجواب على الاختيار الثاني من مزيد البعد، بل عدم الصحة لأن نسخ شريعة إبراهيم بشريعة موسى، ثم نسخ شريعة موسى بشريعة نبينا عليهم الصلاة والسلام الموافقة لشريعة إبراهيم لا يجعل نبينا صاحب شريعة جديدة بل يقال له أيضا: إنه مقرر لشرع من قبله وهو إبراهيم عليه السلام، وأيضا موافقة جميع فروع شريعتنا لجميع فروع شريعة إبراهيم مما لا يمكن بوجه أصلا إذ من جملة فروع شريعتنا فرضية قراءة القرآن في الصلاة ولم ينزل على غير نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم بالبديهة، ونحو ذلك كثير. وموافقة المعظم في حيز المنع ودون إثباتها الشم الراسيات، وقوله تعالى: أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ [النحل: 123] ليس بالدليل على الموافقة في الفروع إذ الملمة فيه عبارة عن التوحيد أو عنه وعن الأخلاق كالهدى في قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] واعترض الشهاب على الجواب- على الاختيار الأول- بالبعد كاعتراضه على الجواب على الاختيار الثاني بمجرده أيضا، وذكر أن ذلك سبب عدول بعض المحققين عما يقتضيه كلام هذا العلامة من أن المراد يكون إبراهيم مُسْلِماً أنه على ملة الإسلام إلى أن المراد بذلك أنه منقاد بحمل الإسلام على المعنى اللغوي، وادعى أنه سالم من القدح، ونظر فيه- بأن أخذ الإسلام لغويا لا يناسب بحث الأديان، والكلام فيه- فلا يخلو هذا الوجه عن بعد، ولعله لا يقصر عما ادعاه من بعد الجواب الأول كما لا يخفى على صاحب الذوق السليم. هذا وفي الآية وجه آخر- ولعله يخرج من بين فرث ودم- وهو أن أهل الكتاب لما تنازعوا فقالت اليهود: إبراهيم منا، وقالت النصارى: إنه منا أرادت كل طائفة أنه عليه السلام كان إذ ذاك على ما هو عليه الآن من الحال وهو حال مخالف لما عليه نبيهم في نفس الأمر موافق له زعما على معنى موافقة الأصول للأصول، أو الموافقة فيما يعد في العرف موافقة ولو لم تكن في المعظم وليست هذه الدعوى من البطلان بحيث لا تخفى على أحد فرد الله تعالى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 عليهم بقوله سبحانه: وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أي وليسا مشتملين على ذلك وهو من الحري بالذكر لو كان، ثم أشار سبحانه إلى ما هم عليه من الحماقة على وجه أتم، ثم صرح سبحانه بما أشار أولا فقال: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا أي من الطائفة اليهودية المخالفة لما جاء به موسى عليه السلام في نفس الأمر وَلا نَصْرانِيًّا أي من الطائفة النصرانية المخالفة لما جاء به عيسى عليه السلام كذلك وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً أي على دين الإسلام الذي ليس عند الله دين مرضي سواه وهو دين جميع الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم، وفي ذلك إشارة إلى أن أولئك اليهود والنصارى ليسوا من الدين في شيء لمخالفتهم في نفس الأمر لما عليه النبيان بل الأنبياء، ثم أشار إلى سبب ذلك بما عرض به من قوله سبحانه: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فعلى هذا يكون المسلم- كما قال الجصاص، وأشرنا إليه فيما مرّ مرارا- المؤمن ولو من غير هذه الأمة خلافا للسيوطي في زعمه أن الإسلام مخصوص بهذه الأمة- هذا ما عندي في هذا المقام- فتدبر فلمسلك الذهن اتساع. إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ أَوْلَى أفعل تفضيل من وليه يليه وليا وألفه منقلبة عن ياء لأن فاءه واوا فلا تكون لامه واوا إذا ليس في الكلام ما فاؤه ولامه واوان إلا واو، وأصل معناه أقرب، ومنه ما في الحديث «لأولى رجل ذكر» ويكون بمعنى أحق كما تقول: العالم أولى بالتقديم، وهو المراد هنا- أي أقرب الناس وأخصهم بإبراهيم لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ أي كانوا على شريعته في زمانه، أو اتبعوه مطلقا فالعطف في قوله سبحانه: وَهذَا النَّبِيُّ من عطف الخاص على العام وهو معطوف على الموصول قبله الذي هو خبر إِنَّ وقرئ بالنصب عطفا على الضمير المفعول، والتقدير- للذين اتبعوا إبراهيم واتبعوا هذا النبي- وقرئ بالجر عطفا على إبراهيم أي- إن أولى الناس بإبراهيم، وهذا النبي للذين اتبعوه- واعترض بأنه كان ينبغي أن يثنى ضمير اتَّبَعُوهُ ويقال اتبعوهما، وأجيب بأنه من باب وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة: 62] إلا أن فيه على ما قيل الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي، وقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا إن كان عطفا على- الذين اتبعوه- يكون فيه ذلك أيضا، وإن كان عطفا على هذا النبي- فلا فائدة فيه إلا أن يدعي أنها للتنويه بذكرهم، وأما التزام أنه من عطف الصفات بعضها على بعض حينئذ فهو كما ترى، ثم إن كون المتبعين لابراهيم عليه السلام في زمانه أولى الناس به ظاهر، وكون نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم أولاهم به لموافقة شريعته للشريعة الابراهيمية أكثر من موافقة شرائع سائر المرسلين لها، وكون المؤمنين من هذه الأمة كذلك لتبعيتهم نبيهم فيما جاء به ومنه الموافق وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ينصرهم ويجازيهم بالحسنى كما هو شأن الولي، ولم يقل- وليهم- تنبيها على الوصف الذي يكون الله تعالى به وليا لعباده- وهو الإيمان- بناء على أن التعليق بالمشتق يقتضي عليه مبدأ الاشتقاق ومن ذلك يعلم ثبوت الحكم للنبي بدلالة النص، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال رؤساء اليهود: الله يا محمد لقد علمت أنا أولى بدين إبراهيم منك ومن غيرك وأنه كان يهوديا وما بك إلا الحسد فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأخرج عيد بن حميد من طريق شهر بن حوشب قال: حدثني ابن غنم أنه لما خرج أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى النجاشي أدركهم عمرو بن العاص، وعمارة بن أبي معيط فأرادوا عنتهم والبغي عليهم فقدموا على النجاشي وأخبروه أن هؤلاء الرهط الذين قدموا عليك من أهل مكة يريدون أن يحيلوا عليك ملكك ويفسدوا عليك أرضك ويشتموا ربك فأرسل إليهم النجاشي فلما أن أتوه قال: ألا تسمعون ما يقول صاحباكم هذان- لعمرو بن العاص، وعمارة بن أبي معيط- يزعمان إنما جئتم لتحيلوا عليّ ملكي وتفسدوا عليّ أرضي فقال عثمان بن مظعون، وحمزة: إن شئتم خلوا بين أحدنا وبين النجاشي فليكلمه أينا أحدثكم سنا فإن كان صوابا فالله يأتي به، وإن كان أمرا غير ذلك قلتم رجل شاب لكم في ذلك عذر، فجمع النجاشي قسيسيه ورهبانيته وترجمته ثم سألهم أرأيتكم صاحبكم هذا الذي من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 عنده جئتم ما يقول لكم وما يأمركم به وما ينهاكم عنه هل له كتاب يقرؤه؟ قالوا: نعم هذا الرجل يقرأ ما أنزل الله تعالى عليه وما قد سمع منه ويأمر بالمعروف، ويأمر بحسن المجاورة، ويأمر باليتيم، ويأمر بأن يعبد الله تعالى وحده ولا يعبد معه إلها آخر فقرأ عليه- سورة الروم. والعنكبوت. وأصحاب الكهف. ومريم فلما أن ذكر عيسى في القرآن أراد عمرو أن يغضبه عليهم قال: والله إنهم يشتمون عيسى ويسبونه قال النجاشي: ما يقول صاحبكم في عيسى: قال يقول: إن عيسى عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم، فأخذ النجاشي نفثة من سواكه قدر ما يقذي العين فخلف ما زاد المسيح على ما يقول صاحبكم بما يزن ذلك القذى في يده من نفثة سواكه فأبشروا ولا تخافوا فلا دهونة- يعني بلسان الحبشة- اللوم على حزب إبراهيم قال عمرو بن العاص: ما حزب إبراهيم؟ قال: هؤلاء الرهط وصاحبهم الذي جاؤوا من عنده ومن اتبعهم فأنزلت ذلك اليوم في خصومتهم على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو المدينة إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ الآية وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ المشهور أنها نزلت حين دعا اليهود حذيفة، وعمارا، ومعاذا إلى اليهودية، فالمراد بأهل الكتاب اليهود، وقيل: المراد بهم ما يشمل الفريقين، والآية بيان لكونهم دعاة إلى الضلالة إثر بيان أنهم ضالون، وأخرج ابن المنذر عن سفيان أنه قال: كل شيء في آل عمران من ذكر أهل الكتاب فهو في النصارى. ولعله جار مجرى الغالب، ومِنْ للتبعيض، والطائفة رؤساؤهم وأحبارهم، وقيل: لبيان الجنس- والطائفة- جميع أهل الكتاب وفيه بعد، ولَوْ بمعنى أن المصدرية، والمنسبك مفعول- ودّ- وجوز إقرارها على وضعها، ومفعول ودّ محذوف، وكذا جواب لَوْ والتقدير وَدَّتْ إضلالكم لَوْ يُضِلُّونَكُمْ لسروا بذلك، ومعنى يُضِلُّونَكُمْ يردونكم إلى كفركم- قاله ابن عباس- أو يهلكونكم- قاله ابن جرير الطبري- أو يوقعونكم في الضلال ويلقون إليكم ما يشككونكم به في دينكم- قاله أبو علي- وهو قريب من الأول وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ الواو للحال، والمعنى على تقدير إرادة الإهلاك من الإضلال أنهم ما يهلكون إلا أنفسهم لاستحقاقهم بإيثارهم إهلاك المؤمنين سخط الله تعالى وغضبه، وإن كان المراد من الإهلاك الإيقاع في الضلال فيحتاج إلى تأويل لأن القوم ضالون فيؤدي إلى جعل الضال ضالا فيقال: إن المراد من الإضلال ما يعود من وباله إما على سبيل المجاز المرسل، أو الاستعارة أي ما يتخطاهم الإضلال ولا يعود وباله إلا إليهم لما أنهم يضاعف به عذابهم، أو المراد بأنفسهم أمثالهم المجانسون لهم، وفيه على ما قيل: الإخبار بالغيب فهو استعارة أو تشبيه بتقدير أمثال أنفسهم إذ لم يتهود مسلم- ولله تعالى الحمد- وقيل: إن معنى إضلالهم أنفسهم إصرارهم على الضلال بما سولت لهم أنفسهم مع تمكنهم من اتباع الهدى بإيضاح الحجج، ولا يخلو عن شيء وَما يَشْعُرُونَ أي وما يفطنون بكون الإضلال مختصا بهم لما اعترى قلوبهم من الغشاوة- قاله أبو علي- وقيل: وَما يَشْعُرُونَ بأن الله تعالى يعلم المؤمنين بضلالهم وإضلالهم، وفي نفي الشعور عنهم مبالغة في ذمهم يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ أي لم تكفرون بما يتلى عليكم من آيات القرآن وأنتم تعلمون ما يدل على صحتها ووجوب الإقرار بها من التوراة والإنجيل، وقيل: المراد لِمَ تَكْفُرُونَ بما في كتبكم من الآيات الدالة على نبوته صلى الله تعالى عليه وسلم وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ الحجج الدالة على ذلك، أو لِمَ تَكْفُرُونَ بما في كتبكم من إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وأنتم تشاهدون ذلك، أو لِمَ تَكْفُرُونَ بالحجج الدالة على نبوته صلى الله تعالى عليه وسلم وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ أن ظهور المعجزة يدل على صدق مدعي الرسالة أو- أنتم تشدون- إذ خلوتم بصحة دين الإسلام، أو لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ جميعا وأنتم تعلمون حقيتها بلا شبهة بمنزلة علم المشاهدة. يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ أي تسترونه به، أو تخلطونه به، والباء صلة، وفي المراد أقوال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 أحدها أن المراد تحريفهم التوراة والإنجيل- قاله الحسن. وابن زيد- وثانيها أن المراد إظهارهم الإسلام وإبطانهم النفاق- قاله ابن عباس. وقتادة- وثالثها أن المراد الإيمان بموسى، وعيسى، والكفر بمحمد عليهم الصلاة والسلام، ورابعها أن المراد ما يعلمونه في قلوبهم من حقية رسالته صلى الله تعالى عليه وسلم وما يظهرونه من تكذيبه، عن أبي علي، وأبي مسلم، وقرئ تَلْبِسُونَ بالتشديد وهو بمعنى المخفف، وقرأ يحيى بن وثاب تَلْبِسُونَ وهو من لبست الثوب، والباء بمعنى مع، والمراد من اللبس الاتصاف بالشيء، والتلبس به وقد جاء ذلك فيما رواه البخاري في الصحيح عن عائشة «أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور» وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ أي نبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وما وجدتموه في كتبكم من نعته والبشارة به وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنه حق، وقيل: تعلمون الأمور التي يصح بها التكليف وليس بشيء. وَقالَتْ طائِفَةٌ أي جماعة وسميت بها لأنه يسوى بها حلقة يطاف حولها مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أي اليهود لبعضهم آمِنُوا أي أظهروا الإيمان بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وهم أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وقيل: النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه وَجْهَ النَّهارِ أي أوله كما في قول الربيع بن زياد: من كان مسرورا بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا «بوجه نهار» وسمي وجها لأنه أول ما يواجهك منه، وقيل: لأنه كالوجه في أنه أعلاه وأشرف ما فيه وذكر الثعالبي أنه في ذلك استعارة معروفة وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ بسبب هذا الفعل عن اعتقادهم حقية ما أنزل عليهم- قال الحسن، والسدي- تواطأ اثنا عشر رجلا من أحبار يهود خيبر، وقرى عرينة، وقال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد- أول النهار- باللسان دون الاعتقاد- واكتفروا آخر النهار- وقولوا إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمدا ليس بذاك وظهر لنا كذبه وبطلان دينه فإذا فعلتم ذلك شك أصحابه في دينهم فقالوا: إنهم أهل الكتاب وهم أعلم به فيرجعون عن دينهم إلى دينكم، وقال مجاهد، ومقاتل، والكلبي: كان هذا في شأن القبلة لما حولت إلى الكعبة شق ذلك على اليهود فقال كعب بن الأشرف لأصحابه آمنوا بالذي أنزل على محمد من أمر الكعبة وصلوا إليها أول النهار وارجعوا إلى قبلتكم آخره لعلهم يشكون، والتعبير بما أنزل بناء على ما يقوله المؤمنون وإلا فهم يكذبون ولا يصدقون أن الله تعالى أنزل شيئا على المؤمنين، وظاهر الآية، يدل على وقوع أمر بعضهم لبعض أن يقولوا ذلك. وأما امتثال الأمر من المأمور فمسكوت عن بيان وقوعه وعدمه، وعن بعضهم أن في الأخبار ما يدل على وقوعه. وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ في نظم الآية ومعناها أوجه لخصها الشهاب من كلام بعض المحققين، أحدها أن التقدير وَلا تُؤْمِنُوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم وهم المسلمون أوتوا كتابا سماويا كالتوراة ونبيا مرسلا كموسى- وبأن يحاجوكم- ويغلبوكم بالحجة يوم القيامة إلا لاتباعكم، وحاصله أنهم نهوهم عن إظهار هذين الأمرين المسلمين لئلا يزدادوا تصلبا ولمشركي العرب لئلا يبعثهم على الإسلام وأتى- بأو- على وزان وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الإنسان: 24] وهو أبلغ. والحمل على معنى حتى صحيح مرجوح، وأتى بقوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ معترضا بين الفعل ومتعلقه، وفائدة الاعتراض الإشارة إلى أن كيدهم غير ضار لمن لطف الله تعالى به بالدخول في الإسلام أو زيادة التصلب فيه. ويفيد أيضا أن الهدى هداه فهو الذي يتولى ظهوره يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ [الصف: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 8] فالمراد بالإيمان إظهاره كما ذكره الزمخشري، أو الإقرار اللساني كما ذكره الواحدي، والمراد من التابعين المتصلب منهم، وإلا وقع ما فروا منه، وثانيها أن المراد وَلا تُؤْمِنُوا هذا الإيمان الظاهر الذي أتيتم به وجه النهار إلا لمن كان تابعا لدينكم أولا وهم الذين أسلموا منهم أي لأجل رجوعهم لأنه كان عندهم أهم وأوقع، وهم فيه أرغب وأطمع، وعند هذا تم الكلام، ثم قيل: إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أي فمن يهدي الله فلا مضل له ويكون قوله تعالى: أَنْ يُؤْتى إلخ على هذا معللا لمحذوف أي- لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم- ولما يتصل به من الغلبة بالحجة يوم القيامة دبرتم ما دبرتم. وحاصله أن داعيكم إليه ليس إلا الحسد، وإنما أتى- بأو- تنبيها على استقلال كل من الأمرين في غيظهم وحملهم على الحسد حتى دبروا ما دبروا ولو أتى بالواو لم تقع هذا الموقع للعلم بلزوم الثاني للأول لأنه إذا كان ما أوتوا حقا غلبوا يوم القيامة مخالفهم لا محالة فلم يكن فيه فائدة زائدة، وأما- أو- فتشعر بأن كلا مستقل في الباعثية على الحسد والاحتشاد في التدبير، والحمل على معنى حتى ليس له موقع يروع السامع وإن كان وجها ظاهرا. ويؤيد هذا الوجه قراءة ابن كثير- أن يؤتى- بزيادة همزة الاستفهام للدلالة على انقطاعه عن الفعل واستقلاله بالإنكار، وفيه تقييد الإيمان بالصادر أول النهار بقرينة إن الكلام فيه وتخصيص من تبع بمسلميهم بقرينة المضي فإن غيرهم متبع دينهم الآن أيضا، وعن الزمخشري أن أَنْ يُؤْتى إلخ من جملة المقول كأنه قيل: قل لهم هذين القولين ومعناه أكد عليهم أن الهدى ما فعل الله تعالى من إيتاء الكتاب غيركم، وأنكر عليهم أن يمتعضوا من أن يؤتى أحد مثله- كأنه قيل- قل: إن الهدى هدى الله، وقل- لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم- قلتم ما قلتم وكدتم ما كدتم، وثالثها أن يقرر ولا تؤمنوا على ما قرر عليه الثاني، ويجعل أن يؤتى خبر إِنَّ وهُدَى اللَّهِ بدل من اسمها- وأو- بمعنى حتى على أنها غاية سببية، وحينئذ لا ينبغي أن يخص عند ربكم بيوم القيامة بل بالمحاجة الحقة كما أشير إليه في البقرة، ولو حملت على العطف لم يلتئم الكلام، ورابعها أن يكون وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ إلخ باقيا على إطلاقه أي واكفروا آخره واستمروا على ما كنتم فيه من اليهودية ولا تقروا لأحد إلا لمن هو على دينكم وهو من جملة مقول الطائفة ويكون قُلْ إِنَّ الْهُدى إلخ أمرا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يقول ذلك في جوابهم على معنى قل: إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ فلا تنكروا أن يؤتى حتى تحاجوا وقرينة الإضمار أن وَلا تُؤْمِنُوا إلخ تقرير على اليهودية وأنه لا دين يساويها فإذا أمر صلى الله تعالى عليه وسلم أن يجيبهم علم أن ما أنكروه غير منكر وأنه كائن، وحمل- أو- على معناها الأصلي حينئذ أيضا حسن لأنه تأييد للإيتاء وتعريض بأن من أوتي مثل ما أوتوا هم الغالبون، وقرئ- أن يؤتى- بكسر همزة إن على أنها نافية- أي قولوا لهم ما يؤتى- وهو خطاب لمن أسلم منهم رجاء العود، والمعنى لا إيتاء ولا محاجة- فأو- بمعنى حتى، وقدر قولوا توضيحا وبيانا لأنه ليس استئنافا تعليلا، وقوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْهُدى إلخ اعتراض ذكر قبل أن يتم كلامهم للاهتمام ببيان فساد ما ذهبوا إليه وأرجح الأوجه الثاني لتأيده بقراءة ابن كثير وأنه أفيد من الأول وأقل تكلفا من باقي الأوجه، وأقرب إلى المساق انتهى. «وأقول» ما ذكره في الوجه الرابع من تقرير فلا تنكروا أَنْ يُؤْتى إلخ هو قول قتادة، والربيع، والجبائي لكنهم لم يجعلوا- أو- بمعنى حتى وهو أحد الاحتمالين اللذين ذكرهما وكذا القول بإبدال أن يؤتى من الهدى قول السدي. وابن جريج إلا أنهم قدروا- لا- بين أن ويؤتى، واعترض عليهما أبو العباس المبرد بأن- لا- ليست مما تحذف هاهنا، والتزم تقدير مضاف شاع تقديره في أمثال ذلك وهو كراهة، والمعنى إن الهدى كراهة- أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم- أي ممن خالف دين الإسلام لأن الله لا يهدي من هو كاذب كفار فهدى الله تعالى بعيد من غير المؤمنين، ولا يخفى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 أنه معنى متوعر، وليس بشيء، ومثله ما قاله قوم من أن أَنْ يُؤْتى إلخ تفسير للهدى، وأن المؤتى هو الشرع وأن أَوْ يُحاجُّوكُمْ عطف على أوتيتم، وأن ما يحاج به العقل وأن تقدير الكلام أن هدى الله تعالى ما شرع أو ما عهد به في العقل، ومن الناس من جعل الكلام من أول الآية إلى آخرها من الله تعالى خطابا للمؤمنين قال: والتقدير ولا تؤمنوا أيها المؤمنون إلا لمن تبع دينكم وهو دين الإسلام ولا تصدقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الدين فلا نبي بعد نبيكم عليه الصلاة والسلام ولا شريعة بعد شريعتكم إلى يوم القيامة ولا تصدقوا بأن يكون لأحد حجة عليكم عند ربكم لأن دينكم خير الأديان، وجعل قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ اعتراضا للتأكيد وتعجيل المسرة- ولا يخفى ما فيه- واختيار البعض له والاستدلال عليه بما قاله الضحاك- إن اليهود قالوا: إنا نحج عند ربنا من خالفنا في ديننا فبين الله تعالى لهم أنهم هم المدحضون المغلوبون وأن المؤمنين هم الغالبون- ليس بشيء لأن هذا البيان لا يتعين فيه هذا الجمل كما لا يخفى على ذي قلب سليم، والضمير المرفوع من يحاجوكم على كل تقدير عائد إلى أحد لأنه في معنى الجمع إذا المراد به غير أتباعهم. واستشكل ابن المنير قطع أَنْ يُؤْتى عن لا تُؤْمِنُوا على ما في بعض الأوجه السابقة بأنه يلزم وقوع أحد في الواجب لأن الاستفهام هنا إنكار، واستفهام الإنكار في مثله إثبات إذ حاصله أنه أنكر عليهم ووبخهم على ما وقع منهم وهو إخفاء الإيمان بأن النبوة لا تخص بني إسرائيل لأجل العلتين المذكورتين فهو إثبات محقق، ثم قال: ويمكن أن يقال: روعيت صيغة الاستفهام وإن لم يكن المراد حقيقته فحسن دخول أحد في سياقه لذلك- وفيه تأمل- فتأمل وتدبر، فقد قال الواحدي: إن هذه الآية من مشكلات القرآن وأصعبه تفسيرا قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ رد وإبطال لما زعموه بأوضح حجة، والمراد من الفضل الإسلام- قاله ابن جريج- وقال غيره: النبوة وقيل: الحجج التي أوتيها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنون، وقيل: نعم الدين والدنيا ويدخل فيه ما يناسب المقام دخولا أوليا يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ أي من عباده وَاللَّهُ واسِعٌ رحمة، وقيل: واسع القدرة يفعل ما يشاء عَلِيمٌ بمصالح العبادة، وقيل: يعلم حيث يجعل رسالته يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ قال الحسن: هي النبوة، وقال ابن جريج: الإسلام والقرآن، وقال ابن عباس هو وكثرة الذكر لله تعالى، والباء داخلة على المقصور وتدخل على المقصور عليه وقد نظم ذلك بعضهم فقال: والباء بعد الاختصاص يكثر ... دخولها على الذي قد قصروا وعكسه مستعمل وجيد ... ذكره الحبر الإمام السيد وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ قال ابن جبير: يعني الوافر. وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ شروع في بيان نوع آخر من معايبهم، وتَأْمَنْهُ من أمنته بمعنى ائتمنته والباء، قيل: بمعنى على، وقيل: بمعنى في أي في حفظ قنطار والقنطار تقدم- قنطار من الكلام فيه- يروى أن عبد الله بن سلام استودعه قرشي ألفا ومائتي أوقية ذهبا فأداه إليه. وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ كفنحاص بن عازوراء فإنه يروى أنه استودعه قرشي آخر دينارا فجحده، وقيل: المأمون على الكثير النصارى إذ الغالب فيهم الأمانة، والخائنون في القليل اليهود إذ الغالب عليهم الخيانة. وروي هذا عن عكرمة، والدينار- لفظ أعجمي وياؤه بدل عن نون وأصله دنار فأبدل أول المثلين ياء لوقوعه بعد كسرة، ويدل على الأصل جمعه على دنانير فإن الجمع يردّ الشيء إلى أصله، وهو في المشهور أربعة وعشرون قيراطا والقيراط ثلاث حبات من وسط الشعير فمجموعه اثنتان وسبعون حبة قالوا: ولم يختلف جاهلية ولا إسلاما، ومن الغريب ما أخرجه ابن أبي حاتم عن مالك بن دينار أنه قال: إنما سمي الدينار دينارا لأنه- دين ونار- ومعناه أن من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 أخذه بحقه فهو دينه، ومن أخذه بغير حقه فله النار، ولعله إبداء إشارة من هذا اللفظ لا أنه في نفس الأمر كذلك كما لا يخفى على- مالك درهم من عقل فضلا عن مالك دينار- وقرئ يُؤَدِّهِ بكسر الهاء مع وصلها بياء في اللفظ بالكسر من غير ياء، وبالإسكان إجراء للوصل مجرى الوقف وبضم الهاء ووصلها بواو في اللفظ وبضمها من غير واو إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً استثناء من أعم الأحوال، أو الأوقات أي لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ في حال من الأحوال، أو في وقت من الأوقات إلا في حال دوام قيامك، أو في وقت دوام قيامك، والقيام مجاز عن المبالغة في المطالبة، وفسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالالحاح، والسدي بالملازمة والاجتماع معه، والحسن بالملازمة والتقاضي، والجمهور على ضم دال- دمت- فهو عندهم كقلت، وقرئ بكسر الدال فهو حينئذ على وزان خفت وهو لغة، والمضارع على اللغة الأولى يدوم كيقوم، وعلى الثانية يدام كيخاف ذلِكَ أي ترك الأداء المدلول عليه بقوله سبحانه وتعالى: لا يُؤَدِّهِ. بِأَنَّهُمْ قالُوا ضمير الجمع عائد على مِنْ في مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ وجمع حملا على المعنى والباء للسببية أي بسبب قولهم لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ أي ليس علينا فيما أصبناه من أموال العرب عتاب وذم. أخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: بايع اليهود رجال من المسلمين في الجاهلية فلما أسلموا تقاضوهم عن بيوعهم فقالوا: ليس علينا أمانة ولا قضاء لكم عندنا لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم فقال الله تعالى: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أي إنهم كاذبون، وقال الكلبي: قالت اليهود: الأموال كلها كانت لنا فما في أيدي العرب منها فهو لنا وأنهم ظلمونا وغصبونا فلا إثم علينا في أخذ أموالنا منهم، وأخرج ابن المنذر، وغيره عن سعيد بن جبير قال: «لما نزلت «ومن أهل الكتاب» إلى قوله سبحانه: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي هاتين إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر» والجار والمجرور متعلق بيقولون، والمراد يفترون، ويجوز أن يكون حالا من الكذب مقدما عليه، ولم يجوز أبو البقاء تعلقه به لأن الصلة لا تتقدم على الموصول، وأجازه غيره لأنه كالظرف يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره بَلى جواب لقولهم ليس علينا في الأميين سبيل، وإيجاب لما نفوه، والمعنى بَلى عليهم في الأميين سبيل. مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ استئناف مقرر للجملة التي دلت عليها بَلى حيث أفادت بمفهومها المخالف ذم من لم يف بالحقوق مطلقا فيدخلون فيه دخولا أوليا، ومَنْ إما موصولة أو شرطية، وأَوْفى فيه ثلاث لغات: إثبات الهمزة وحذفها مع تخفيف الفاء وتشديدها، والضمير في- عهده- عائد على مَنْ وقيل: يعود على اللَّهِ فهو على الأول مصدر مضاف لفاعله، وعلى الثاني مصدر مضاف لمفعوله، أو لفاعله ولا بد من ضمير يعود على مَنْ من الجملة الثانية، فإما أن يقام الظاهر مقام المضمر في الربط إن كان الْمُتَّقِينَ من أَوْفى وإما أن يجعل عمومه وشموله رابطا إن كان المتقين عاما وإنما وضع الظاهر موضع الضمير على الأول تسجيلا على الموفين بالعهد بالتقوى وإشارة إلى علة الحكم ومراعاة لرؤوس الآي، ورجح الأول بقوة الربط فيه، وقال ابن هشام: الظاهر أنه لا عموم وأن الْمُتَّقِينَ مساو لمن تقدم ذكره والجواب لفظا، أو معنى محذوف تقديره يحبه الله، ويدل عليه فَإِنَّ اللَّهَ إلخ، واعترضه الحلبي بأنه تكلف لا حاجة إليه، وقوله: الظاهر إنه لا عموم في حيز المنع فإن ضمير بِعَهْدِهِ إذا كان لله فالالتفات عن الضمير إلى الظاهر لإفادة العموم كما هو المعهود في أمثاله قاله بعض المحققين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أخرج الستة، وغيرهم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان فقال الأشعث بن قيس: في والله كان ذلك كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فقدمته إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: ألك بينة؟ قلت: لا فقال لليهودي: احلف. فقلت: يا رسول الله، إذا يحلف فيذهب مالي فأنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ» إلخ. وأخرج البخاري، وغيره عن عبد الله بن أبي أوفى أن رجلا أقام سلعة له في السوق فحلف بالله لقد أعطى بها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلا من المسلمين فنزلت هذه الآية. وأخرج أحمد، وابن جرير- واللفظ له- عن عدي بن عميرة قال: كان بين امرئ القيس ورجل من حضر موت خصومة فارتفعا إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم «فقال للحضرمي: بينتك وإلا فيمينه قال: يا رسول الله إن حلف ذهب بأرضي فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها حق أخيه لقي الله تعالى وهو عليه غضبان فقال امرؤ القيس: يا رسول الله فما لمن تركها وهو يعلم أنها حق؟ قال: الجنة قال: فإني أشهدك إني قد تركتها» فنزلت، وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال: نزلت هذه الآية في أبي رافع. ولبابة بن أبي الحقيق، وكعب بن الأشرف. وحيي بن أخطب حرفوا التوراة وبدلوا نعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وحكم الأمانات وغيرهما وأخذوا على ذلك رشوة، وروي غير ذلك ولا مانع من تعدد سبب النزول كما حققوه. والمراد- يشترون- يستبدلون، وبالعهد أمر الله تعالى، وما يلزم الوفاء به، وقيل: ما عهده إلى اليهود في التوراة من أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وقيل: ما في عقل الإنسان من الزجر عن الباطل والانقياد إلى الحق، والأيمان- الأيمان الكاذبة، وبالثمن القليل- الأعواض النزرة، أو الرشا، ووصف ذلك بالقلة لقلته في جنب ما يفوتهم من الثواب ويحصل لهم من العقاب أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ أي لا نصيب لهم من نعيمها بسبب ذلك الاستبدال وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ أي بما يسرهم بل بما يسوؤهم وقت الحساب لهم- قاله الجبائي- أو لا يكلمهم بشيء أصلا وتكون المحاسبة بكلام الملائكة لهم بأمر الله تعالى إياهم استهانة بهم، وقيل: المراد إنهم لا ينتفعون بكلمات الله تعالى وآياته ولا يخفى بعده، واستظهر أن يكون ذا كناية عن غضبه سبحانه عليهم. وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي لا يعطف عليهم ولا يرحمهم كما يقول القائل- انظر إليّ- يريد ارحمني، وجعله الزمخشري مجازا عن الاستهانة بهم والسخط عليهم، وفرق بين استعماله فيمن يجوز عليه النظر المفسر بتقليب الحدقة وفيمن لا يجوز عليه ذلك بأن أصله فيمن يجوز عليه الكناية لأن من اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاره نظر عينيه، ثم كثر حتى صار عبارة عن الاعتداد والإحسان وإن لم يكن ثم نظر، ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجردا لمعنى الإحسان مجازا عما وقع كناية عنه فيمن يجوز عليه النظر، وفي الكشف إن في هذا تصريحا بأن الكناية يعتبر فيها صلوح إرادة الحقيقة وإن لم ترد وأن الكنايات قد تشتهر حتى لا تبقى تلك الجهة ملحوظة وحينئذ تلحق بالمجاز ولا تجعل مجازا إلا بعد الشهرة لأن جهة الانتقال إلى المعنى المجازي أو لا غير واضحة بخلاف لمعنى المكنى عنه، وبهذا يندفع ما ذكره غير واحد من المخالفة بين قولي الزمخشري في جعل بسط اليد في قوله تعالى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ [المائدة: 64] مجازا عن الجود تارة وكناية أخرى إذ حاصله أنه إن قطع النظر عن المانع الخارجي كان كناية ثم ألحق بالمجاز فيطلق عليه أنه كناية باعتبار أصله قبل الإلحاق ومجاز بعده فلا تناقض بينهم كما توهموه فتدبر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 والظرف متعلق بالفعلين وفيه تهويل للوعيد وَلا يُزَكِّيهِمْ أي ولا يحكم عليهم بأنهم أزكياء ولا يسميهم بذلك بل يحكم بأنهم كفرة فجرة- قاله القاضي- وقال الجبائي: لا ينزلهم منزلة الأزكياء، وقيل: لا يطهرهم عن دنس الذنوب والأوزار بالمغفرة وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي مؤلم موجع، والظاهر أن ذلك في القيامة إلا أنه لم يقيد به اكتفاء بالأول، وقيل: إنه في الدنيا بالإهانة وضرب الجزية بناء على أن الآية في اليهود. وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً أي إن من أهل الكتاب الخائنين لجماعة يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ أي يحرفونه- قاله مجاهد- وقيل: أصل- اللّي- الفتل من قولك: لويت يده إذا فتلتها، ومنه لويت الغريم إذا مطلته حقه قال الشاعر: تطيلين لياني وأنت «ملية» ... وأحسن يا ذات الوشاح التقاضيا وفي الخبر «ليّ الواجد ظلم» فالمعنى يفتلون ألسنتهم في القراءة بالتحريف في الحركات ونحوها تغييرا يتغير به المعنى ويرجع هذا في الآخرة إلى ما قاله مجاهد، وقريب منه ما قيل: إن المراد يميلون الألسنة بمشابه الكتاب، والألسنة- جمع لسان. وذكر ابن الشحنة أنه يذكر ويؤنث، ونقل عن أبي عمرو بن العلاء أن من أنثه جمعه على ألسن، ومن ذكره جمعه على ألسنة، وعن الفراء أنه قال: اللسان بعينه لم أسمعه من العرب إلا مذكرا ولا يخفى أن المثبت مقدم على النافي والباء صلة، أو للآلة، أو للظرفية، أو للملابسة، والجار والمجرور حال من الألسنة أي ملتبسة بالكتاب، وقرأ أهل المدينة- يلوون- بالتشديد فهو على حد لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ [المنافقون: 5] وعن مجاهد وابن كثير- يلون- على قلب الواو المضمومة همزة ثم تخفيفها بحذفها وإلقاء حركتها على الساكن قبلها كذا قيل، واعترض عليه بأنه لو نقلت ضمة الواو لما قبلها فحذفت لالتقاء الساكنين كفى في التوجيه فأي حاجة إلى قلب الواو همزة، ورد بأنه فعل ذلك ليكون على القاعدة التصريفية بخلاف نقل حركة الواو ثم حركة الواو ثم حذفها على ما عرف في التصريف، ونظر فيه بعض المحققين بأن الواو المضمومة إنما تبدل همزة إذا كانت ضمتها أصلية فهو مخالف للقياس أيضا. نعم قرئ- يلؤون- بالهمز في الشواذ وهو يؤيده، وعلى كل ففيه اجتماع إعلالين ومثله كثير، وأما جعله من- الولي- بمعنى القرب أي يقربون ألسنتهم بميلها إلى المحرف فبعيد من الصحيح قريب إلى المحرف. لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ أي لتظنوا أيها المسلمون أن المحرف المدلول عليه- باللي- أو المشابه من كتاب الله تعالى المنزل على بعض أنبيائه عليهم الصلاة والسلام، وقرئ ليحسبوه بالياء والضمير أيضا للمسلمين. وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ ولكنه من قبل أنفسهم وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي ويزعمون صريحا غير مكتفين بالتورية والتعريض أن المحرف، أو المشابه نازل من عند الله وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي وليس هو نازلا من عند الله تعالى، والواو- للحال والجملة حال من ضمير المبتدأ في الخبر، وفي جملة وَيَقُولُونَ إلخ تأكيد للنفي الذي قبلها وليس الغرض التأكيد فقط وإلا لما توجه العطف بل التشنيع أيضا بأنهم لم يكتفوا بذلك التعريض حتى ارتكبوا هذا التصريح وبهذا حصلت المغايرة المقتضية للعطف، والإظهار في موضع الإضمار لتهويل ما قدموا عليه، واستدل الجبائي والكعبي بالآية على أن فعل العبد ليس بخلق الله تعالى وإلا صدق أولئك المحرفون بقولهم هو من عند الله تعالى لكن الله ردّ بأن القوم ما ادعوا أن التحريف منه عند الله وبخلقه وإنما ادعوا أن المحرف منزل من عند الله، أو حكم من أحكامه فتوجه تكذيب الله تعالى إياهم إلى هذا الذي زعموا. والحاصل أن المقصود بالنفي كما أشرنا إلى نزوله من عنده سبحانه وهو أخص من كونه من فعله وخلقه، ونفي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 الخاص لا يستلزم نفي العام فلا يدل على مذهب المعتزلة القائلين بأن أفعال العبادة مخلوقة لهم لا لله تعالى: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أي في نسبتهم ذلك إلى الله تعالى تعريضا وتصريحا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنهم كاذبون عليه سبحانه وهو تسجيل عليهم بأن ما افتروه عن عمد لا خطأ، وقيل: يَعْلَمُونَ ما عليهم في ذلك من العقاب، روى الضحاك عن ابن عباس أن الآية نزلت في اليهود والنصارى جميعا وذلك أنهم حرفوا التوراة والإنجيل وألحقوا بكتاب الله تعالى ما ليس منه، وروى غير واحد أنها في طائفة من اليهود، وهم كعب بن الأشرف، ومالك، وحيي بن أخطب، وأبو ياسر، وشعبة بن عمرو الشاعر غيروا ما هو حجة عليهم من التوراة. واختلف الناس في أن المحرف هل كان يكتب في التوراة أم لا؟ فذهب جمع إلى أنه ليس في التوراة سوى كلام الله تعالى وأن تحريف اليهود لم يكن إلا تغييرا وقت القراءة أو تأويلا باطلا للنصوص، وأما أنهم يكتبون ما يرومون في التوراة على تعدد نسخها فلا، واحتجوا لذلك بما أخرجه ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن وهب بن منبه أنه قال: إن التوراة والإنجيل كما أنزلهما الله تعالى لم يغير منهما حرف ولكنهم يضلون بالتحريف والتأويل وكتب كانوا يكتبونها من عند أنفسهم ويقولون: إن ذلك من عند الله وما هو من عند الله فأما كتب الله تعالى فإنها محفوظة لا تحول وبأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقول لليهود إلزاما لهم: «ائتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين» وهم يمتنعون عن ذلك فلو كانت مغيرة إلى ما يوافق مرامهم ما امتنعوا بل وما كان يقول لهم ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لأنه يعود على مطلبه الشريف بالإبطال. وذهب آخرون إلى أنهم بدلوا وكتبوا ذلك في نفس كتابهم واحتجوا على ذلك بكثير من الظواهر ولا يمنع من ذلك تعدد النسخ إما لاحتمال التواطؤ أو فعل ذلك في البعض دون البعض وكذا لا يمنع منه قول الرسول لهم ذلك لاحتمال علمه صلى الله تعالى عليه وسلم ببقاء بعض ما يفي بغرضه سالما عن التغيير إما لجهلهم بوجه دلالته، أو لصرف الله تعالى إياهم عن تغييره، وأما ما روي عن وهب فهو على تقدير ثبوته عنه يحتمل إن يكون قولا عن اجتهاد، أو ناشئا عن عدم استقراء تام، ومما يؤيد وقوع التغيير في كتب الله تعالى وأنها لم تبق كيوم نزلت وقوع التناقض في الأناجيل وتعارضها وتكاذبها وتهافتها ومصادمتها بعضها ببعض، فإنها أربعة أناجيل: الأول إنجيل متى وهو من الاثني عشر الحواريين- وإنجيله باللغة السريانية- كتبه بأرض فلسطين بعد رفع المسيح إلى السماء بثماني سنين وعدد إصحاحاته ثمانية وستون إصحاحا، والثاني إنجيل مرقس وهو من السبعين- وكتب إنجيله باللغة الفرنجية بمدينة رومية بعد رفع المسيح باثنتي عشرة سنة- وعدد إصحاحاته ثمانية وأربعون إصحاحا، والثالث إنجيل لوقا وهو من السبعين أيضا- كتب إنجيله باللغة اليونانية بمدينة الاسكندرية بعد ذلك- وعدد إصحاحاته ثلاثة وثمانون إصحاحا، والرابع إنجيل يوحنا وهو حبيب المسيح- كتب إنجيله بمدينة إفسس من بلاد رومية بعد رفع المسيح بثلاثين سنة- وعدد إصحاحاته في النسخ القبطية ثلاثة وثلاثون إصحاحا. وقد تضمن كل إنجيل من الحكايات والقصص ما أغفله الآخر، واشتمل على أمور وأشياء قد اشتمل الآخر على نقيضها أو ما يخالفها، وفيها ما تحكم الضرورة بأنه ليس من كلام الله تعالى أصلا، فمن ذلك أن متى ذكر أن المسيح صلب وصلب معه لصان أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله وأنهما جميعا كانا يهزءان بالمسيح مع اليهود ويعيرانه، وذكر لوقا خلاف ذلك فقال: إن أحدهما كان يهزأ به والآخر يقول له: أما تتقي الله تعالى أما نحن فقد جوزينا وأما هذا فلم يعمل قبيحا ثم قال للمسيح: يا سيدي اذكرني في ملكوتك فقال: حقا إنك تكون معي اليوم في الفردوس. ولا يخفى أن هذا يؤول إلى التناقض فإن اللصين عند متى كافران وعند لوقا أحدهما مؤمن والآخر كافر، وأغفل هذه القصة مرقس، ويوحنا، ومنه أن لوقا ذكر أنه قال يسوع: إن ابن الإنسان لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 يأت ليهلك نفوس الناس ولكن ليحيي وخالفه أصحابه، وقالوا بل قال: إن ابن الإنسان لم يأت ليلقي على الأرض سلامة لكن سيفا ويضرم فيها نارا، ولا شك أن هذا تناقض، أحدهما يقول جاء رحمة للعالمين، والآخر يقول: جاء نقمة على الخلائق أجمعين، ومن ذلك أن متى قال: قال يسوع للتلاميذ الإثني عشر: أنتم الذين تكونون في الزمن الآتي جلوسا على اثني عشر كرسيا تدينون اثني عشر سبطا إسرائيل فشهد للكل بالفوز والبر عامة في القيامة ثم نقض ذلك متى وغيره وقال: مضى واحد من التلاميذ الاثني عشر وهو يهوذا صاحب صندوق الصدقة فارتشى على يسوع بثلاثين درهما وجاء بالشرطي فسلم إليهم يسوع فقال يسوع: الويل له خير له أن لا يولد، ومنه أن متى أيضا ذكر أنه لما حمل يسوع إلى فيلاطس القائد قال: أي شر فعل هذا فصرخ اليهود وقالوا: يصلب يصلب فلما رأى عزمهم وأنه لا ينفع فيهم أخذ ماء وغسل يديه وقال: أنا بريء من دم هذا الصديق وأنتم أبصر، وأكذب يوحنا ذلك فقال: لما حمل يسوع إليه قال لليهود: ما تريدون؟ قالوا: يصلب فضرب يسوع ثم سلمه إليهم إلى غير ذلك مما يطول، فإذا وقع هذا التغيير والتحريف في أصول القوم ومتقدميهم فما ظنك في فروعهم ومتأخيرهم: وإذا كان في الأنابيب حيف ... وقع الطيش في صدور الصعاد ويا ليت شعري هل تنبه ابن منبه لهذا أم لم يتنبه فقال: إن التوراة والإنجيل كما أنزلهما الله تعالى سبحان الله هذا من العجب العجاب؟! ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ تنزيه لأنبياء الله تعالى عليهم الصلاة والسلام إثر تنزيه الله تعالى عن نسبة ما افتراه أهل الكتاب إليه، وقيل: تكذيب وردّ على عبدة عيسى عليه السلام. وأخرج ابن إسحق وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال «قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام: أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرئيس: أو ذاك تريد منا يا محمد؟ فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: معاذ الله أن نعبد غير الله أو نأمر بعبادة غيره ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني» فأنزل الله تعالى الآية. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال: بلغني أن رجلا قال: «يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك؟ قال: لا ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله فإنه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله تعالى» فنزلت، وأخرج ابن أبي حاتم قال: «كان ناس من يهود يتعبدون الناس من دون ربهم بتحريفهم كتاب الله تعالى عن موضعه فقال: ما كان لبشر» إلخ، والمعنى ما يصح، وقيل: ما ينبغي، وقيل لا يجوز لأحد، وعبر بالبشر إيذانا بعلة الحكم فإن البشرية منافية للأمر الذي أسنده الكفرة إلى أولئك الكرام عليهم الصلاة والسلام. والجار خبر مقدم- لكان- والمنسبك من أَنْ والفعل بعد اسمها ولا بد لاستقامة المعنى من ملاحظة العطف إذ لو سكت عنه لم يصح لأن الله تعالى قد آتى كثيرا من البشر الكتاب وأخويه، وعطف الفعل على منصوب أن- بثم- تعظيما لهذا القول فإنه إذا انتفى بعد مهلة كان انتفاؤه بدونها أولى وأحرى فكأنه قيل: إن هذا الإيتاء العظيم لا يجامع هذا القول أصلا وإن كان بعد مهلة من هذا الإنعام والحكم بمعنى الحكمة، وقد تقدم معناها، والعباد- جمع عبد قال القاضي: وهو هنا من العبادة ولم يقل عبيدا لأنه من العبودية وهي لا تمتنع أن تكون لغير الله تعالى، ولهذا يقال: هؤلاء عبيد زيد ولا يقال: عباده، والظرف الذي بعده متعلق بمحذوف وقع صفة له أي عبادا كائنين لِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 ومِنْ دُونِ اللَّهِ متعلق بلفظ عِباداً لما فيه من معنى الفعل، ويجوز أن يكون صفة ثانية وأن يكون حالا لتخصيص النكرة بالوصف أي متجاوزين الله تعالى إشراكا وإفرادا- كما قال الجبائي- فإن التجاوز متحقق فيهما حتما، ثم إن هذا الإيتاء في الآية حقيقة على الروايتين الأوليين مجاز على الرواية الأخيرة كما لا يخفى. وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ إثبات لما نفي سابقا، وهو القول المنصوب بأن كأنه قيل: ما كان لذلك البشر أن يقول ذلك لكن يقول كونوا ربانيين، فالفعل هنا منصوب أيضا عطفا عليه، وجوز رفعه على المعنى لأنه في معنى لا يقول، وقيل: يصح عدم تقدير القول على معنى لا تكونوا قائلين لذلك وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ وفسر علي كرم الله تعالى وجهه. وابن عباس الرباني بالفقيه العالم، وقتادة. والسدي بالعالم الحكيم، وابن جبير بالحكيم التقي، وابن زيد بالمدبر أمر الناس- وهي أقوال متقاربة، وهو لفظ عربي لا سرياني على الصحيح. وزعم أبو عبيدة أن العرب لا تعرفه وهو منسوب إلى الرب كإلهي، والألف والنون يزادان في النسب للمبالغة كثيرا- كلحياني- لعظيم اللحية، والجماني لوافر الجمة، ورقباني بمعنى غليظ الرقبة، وقيل: إنه منسوب إلى ربان صفة كعطشان بمعنى مربى بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ الباء السببية متعلقة- بكونوا- أي كونوا كذلك بسبب مثابرتكم على تعليمكم الكتاب ودراستكم له، والمطلوب أن لا ينفك العلم عن العمل إذ لا يعتد بأحدهما بدون الآخر، وقيل: متعلقة- بربانيين- لأن فيه معنى الفعل، وقيل بمحذوف وقع صفة له- والدراسة- التكرار يقال: درس الكتاب أي كرره، وتطلق على القراءة، وتكرير بِما كُنْتُمْ للإشعار باستقلال كل من استمرار التعليم، واستمرار القراءة المشعر به جعل خبر «كان» مضارعا بالفضل، وتحصيل الربانية، وقدم تعليم الكتاب على دراسته لوفور شرفه عليها، أو لأن الخطاب الأول لرؤسائهم، والثاني لمن دونهم، وقيل: لأن متعلق التعليم الكتاب بمعنى القرآن، ومتعلق الدراسة الفقه- وفيه بعد بعيد- وإن أشعر به كلام بعض السلف. وقرأ نافع، وابن كثير، ويعقوب، وأبو عمرو، ومجاهد «تعلمون» بمعنى عالمين، وقرئ «تدرّسون» بالتشديد من التدريس، وتدرسون من الإدراس بمعناه، ومجيء أفعل بمعنى فعل كثير، وجوز كون القراءة المشهورة أيضا بهذا المعنى على أن يكون المراد تدرسونه للناس. وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً قرأ ابن عامر، وحمزة، وعاصم، ويعقوب «ولا يأمركم» بالنصب عطفا على يقول، وَلا أما مزيدة لتأكيد معنى النفي الشائع في الاستعمال سيما عند طول العهد وتخلل الفصل، والمعنى ما كان لبشر أن يؤتيه الله تعالى ذلك ويرسله للدعوة إلى اختصاصه بالعبادة وترك الأنداد، ثم يأمر الناس بأن يكونوا عبادا له، ويأمركم أن تتخذوا الملائكة وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً فهو كقولك: ما كان لزيد أن أكرمه ثم يهينني ولا يستخف بي، وإما غير زائدة بناء على أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان ينهى عن عبادة الملائكة، والمسيح، وعزير عليهم السلام فلما قيل له: أنتخذك ربا؟ قيل لهم: «ما كان لبشر أن يتخذه الله تعالى نبيا ثم يأمر الناس بعبادته وينهاهم عن عبادة الملائكة والأنبياء مع أن من يريد أن يستعبد شخصا يقول له: ينبغي أن تعبد أمثالي وأكفائي» وعلى هذا يكون المقصود- من عدم الأمر- النهي وإن كان أعم منه لكونه أمسّ، بالمقصود وأوفق للواقع، وقرأ باقي السبعة وَلا يَأْمُرَكُمْ بالرفع على الاستئناف، ويحتمل الحالية، وقيل: والرفع على الاستئناف أظهر، وينصره قراءة «ولن يأمركم» ووجهت الأظهرية بالخلو عن تكلف جعل عدم الأمر بمعنى النهي، وبأن العطف يستدعي تقديمه على لكِنْ وكذا الحالية أيضا. وقرئ بإسكان الراء فرارا من توالي الحركات وعلى سائر القراءات ضمير الفاعل عائد على- بشر- وجوز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 عوده في بعضها على الله تعالى، وجوز الأمران أيضا في قوله تعالى: أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ والاستفهام فيه للإنكار وكون مرجع الضمير في أحد الاحتمالين نكرة يجعله عاما بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ استدل به الخطيب على أن الآية نزلت في المسلمين القائلين «أفلا نسجد لك؟» بناء على الظاهر، ووجه كون الخطاب للكفار وأن الآية نزلت فيهم بأنه يجوز أن يقال لأهل الكتاب: أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي منقادون مستعدون للدين الحق إرخاء للعنان واستدراجا، والقول- بأن كل مصدق بنبيه مسلم ودعواه أنه أمره نبيه بما يوجب كفره دعوى أنه أمره بالكفر بعد إسلامه فدلالة هذا على أن الخطاب للمسلمين ضعيفة- في غاية السقوط كما لا يخفى. وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ الظرف منصوب بفعل مقدر مخاطب به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم- أي اذكر وقت ذلك- واختار السمين كونه معمولا «لأقررتم» الآتي، وضعفه عبد الباقي بأن خطاب أَأَقْرَرْتُمْ بعد تحقق أخذ الميثاق، وفيه تردد، وعطفه على ما تقدم من قوله تعالى: وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ كما نقله الطبرسي بعيد. واختلف في المراد من الآية فقيل: إنها على ظاهرها ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: لم يبعث الله تعالى نبيا آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد صلى الله تعالى عليه وسلم لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ويأمره فيأخذ العهد على قومه ثم تلا الآية وعدم ذكر الأمم فيها حينئذ إما لأنهم معلومون بالطريق الأولى أو لأنه استغنى بذكر النبيين عن ذكرهم، ففي الآية اكتفاء وليس فيها الجمع بين المتنافيين، وقيل: إن إضافة الميثاق إلى النبيين إضافة إلى الفاعل، والمعنى وإذ أخذ الله الميثاق الذي وثقه النبيون على أممهم- وإلى هذا ذهب ابن عباس- فقد أخرج ابن المنذر. وغيره عن سعيد بن جبير أنه قال: قلت لابن عباس: إن أصحاب عبد الله يقرؤون «وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لما آتيتكم» إلخ ونحن نقرأ ميثاق النبيين فقال ابن عباس: إنما أخذ الله تعالى ميثاق النبيين على قومهم، وأشار بذلك رضي الله تعالى عنه إلى أنه لا تناقض بين القراءتين كما توهم حتى ظن أن ذلك منشأ قول مجاهد فيما رواه عنه ابن المنذر، وغيره أن وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ خطأ من الكتاب- وأن الآية كما قرأ عبد الله- وليس كذلك إذ لا يصلح ذلك وحده منشأ وإلا لزم الترجيح بلا مرجح بل المنشأ لذلك إن صح، ولا أظن ما يعلم بعد التأمل فيما أسلفناه في المقدمات وبسطنا الكلام عليه- في الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية- وقيل: المراد أمم النبيين على حذف المضاف، وإليه ذهب الصادق رضي الله تعالى عنه وقيل: المضاف المحذوف أولاد، والمراد بهم على الصحيح بنو إسرائيل لكثرة أولاد الأنبياء فيهم وأن السياق في شأنهم، وأيد بقراءة عبد الله المشار إليها- وهي قراءة أبي بن كعب- أيضا، وقيل: المراد- وإذ أخذ الله ميثاقا مثل ميثاق النبيين- أي ميثاقا غليظا على الأمم، ثم جعل ميثاقهم نفس ميثاقهم بحذف أداه التشبيه مبالغة، وقيل: المراد من النبيين بنو إسرائيل وسماهم بذلك تهكما لأنهم كانوا يقولون: نحن أولى بالنبوة من محمد لأنا أهل الكتاب والنبيون وكانوا منا، وهذا كما تقول لمن ائتمنته على شيء فخان فيه ثم زعم الأمانة: يا أمين ماذا صنعت بأمانتي؟؟ وتعقبه الحلبي بأنه بعيد جدا إذ لا قرينة تبين ذلك، وأجيب بأن القائل به لعله اتخذ مقالهم المذكور قرينة حالية، وقيل: إن الإضافة للتعليل لأدنى ملابسة كأنه قيل: وإذ أخذ الله الميثاق على الناس لأجل النبيين، ثم بينه بقوله سبحانه: لَما آتَيْتُكُمْ إلخ ولا يخفى أن هذا أيضا من البعد بمكان، وقال الشهاب: لم نر من ذكر أن الإضافة تفيد التعليل في غير كلام هذا القائل، واختار كثير من العلماء القول الأول، وأخذ الميثاق من النبيين له صلى الله تعالى عليه وسلم- على ما دل عليه كلام الأمير كرم الله تعالى وجهه مع علمه سبحانه أنهم لا يدركون وقته- لا يمنع من ذلك لما فيه مع ما علمه الله تعالى من التعظيم له الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 صلى الله تعالى عليه وسلم والتفخيم ورفعة الشأن والتنويه بالذكر ما لا ينبغي إلا لذلك الجناب، وتعظيم الفائدة إذا كان ذلك الأخذ عليهم في كتبهم لا في عالم الذر فإنه بعيد كبعد ذلك الزمان- كما عليه البعض- ويؤيد القول- بأخذ الميثاق من الأنبياء الموجب لإيمان من أدركه عليه الصلاة والسلام منهم به- ما أخرجه أبو يعلى عن جابر قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا فإما أن تصدقوا بباطل، وإما أن تكذبوا بحق وأنه والله لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني» وفي معناه أخبار كثيرة وهي تؤيد بظاهرها ما قلنا، ومن هنا ذهب العارفون إلى أنه صلى الله تعالى عليه وسلم هو النبي المطلق والرسول الحقيقي والمشرع الاستقلالي، وأن من سواه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في حكم التبعية له صلّى الله عليه وسلم. هذا وقد عدوا هذه الآية من مشكلات القرآن إعرابا وقد غاص النحويون في تحقيق ذلك وشقوا الشعر فيه. ولنذكر بعض الكلام في ذلك فنقول: قال غير واحد: اللام في لَما آتَيْتُكُمْ على قراءة الفتح والتخفيف- وهي قراءة الجمهور- موطئة للقسم المدلول عليه بأخذ الميثاق لأنه بمعنى الاستحلاف وسميت بذلك لأنها تسهل تفهم الجواب على السامع، وعرفها النحاة كما قال الشهاب: بأنها اللام التي تدخل على الشرط سواء- إن- وغيرها لكنها غلبت في- إن- بعد تقدم القسم لفظا أو تقديرا لتؤذن أن الجواب له لا للشرط- كقولك: لئن أكرمتني لأكرمنك- ولو قلت أكرمك، أو فإني أكرمك، أو ما أشبهه مما يجاب به الشرط لم يجز على ما صرح به ابن الحاجب- وخالفه الفراء فيه- فجوز أن يجاب الشرط مع تقدم القسم عليه لكن الأول هو المصحح وكونها يجب دخولها على الشرط هو المشهور- وخالف فيه بعض النحاة، قال: يجوز دخولها على غير الشرط إما مطلقا أو بشرط مشابهته للشرط كما الموصولة دون الزائدة وقال الزمخشري في سورة هود: إنه لا يجب دخولها على كلم المجازاة، ونقله الأزهري عن الأخفش، وذكر أن ثعلبا غلطه فيه فالمسألة خلافية، وما- شرطية في موضع نصب- بآتيت- والمفعول الثاني ضمير المخاطب، ومِنْ بيان- لما- واعترض بأن حمل مِنْ على البيان شائع بعد الموصولة، وأما بعد الشرطية محتاج لما ذكر، وأجيب بأن السمين نقل ما يدل على الوقوع عند الأئمة، وفي جنى الداني. ومن الناس من قال: إن مِنْ تزاد بالشروط في غير باب التمييز، وأما فيه فتزاد وإن لم تستوف الشروط نحو لله درّك من رجل، ومن هنا قال مولانا عبد الباقي: يجوز ان تكون مِنْ تبعيضية ذكرت لبيان ما الشرطية، أو زائدة داخلة على التمييز، ولَتُؤْمِنُنَّ جواب القسم وحده على الصحيح، ولدلالته على جواب الشرط واتحاد معناهما تسامح بعضهم فجعله سادّا مسد الجوابين، ولم يرد أنه جواب القسم وجواب الشرط لتنافيهما من حيث إن الأول لا محل له، والثاني له محل، والقول: بأن الجملة الواحدة قد يحكم عليها بالأمرين باعتبارين التزام لما لا يلزم، وجوزوا كون ما موصولة واللام الداخلة عليها حينئذ لام الابتداء، ويشعر كلام البعض أن اللام بعد موطئة وكأنه مبني على مذهب من جوز دخول الموطئة على غير الشرط من النحاة- كما مر- وهي على هذا التقدير مبتدأ، والخبر إما مقدر أو جملة لَتُؤْمِنُنَّ مع القسم المقدر، والكلام في مثله شهير، وأورد عليه أن الضمير في بِهِ إن عاد على المبتدأ على ما هو الظاهر كان الميثاق هو إيمانهم بما آتاهم، والمقصود من الآية أخذ الميثاق بالإيمان بالرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ونصرته، وإن عاد على الرسول كالضمير الثاني المنصوب العائد عليه مطلقا دفعا للزوم التفكيك خلت الجملة التي هي خبر عن العائد، وأجيب بأن الجملة المعطوفة لما كانت مشتملة على ما هو بمعنى المبتدأ الموصول، ولذلك استغنى عن ضميره فيها مع لزومه في الصلتين المتعاطفتين في المشهور وكان ضمير بِهِ راجعا للرسول مع ملاحظة مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ القائم مقام الضمير العائد على ما اكتفى بمجرد ذلك عن ضمير في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 خبرها لارتباط الكلام بعضه ببعض، وإلى ذلك يشير كلام الإمام السهيلي في الروض الانف، ولا يخفى أنه مع ما فيه من التكلف مبني على اتحاد ما أوتوه، وما هو معهم، وفي ذلك إشكال- لأن آتيناكم، وجاءكم- إن كان كلاهما مستقبلين فالظاهر أن المراد- بما آتيناكم- القرآن لأنه الذي يؤتوه في المستقبل باعتبار إيتائه للرسول الذي كلفوا باتباعه وبما معهم الكتب التي أوتوها، وحمله على القرآن يأباه الذوق لأنه مع كونه ليس معهم بحسب الظاهر لا يظهر حسن لكون القرآن مصدقا للقرآن وهو لازم عى ذلك التقدير. وإن كانا ماضيين ظهر الفساد من جهة أن هذا الرسول الذي أوجب الله تعالى عليهم الإيمان به ونصرته لم يجئ إذ ذاك، وإن كان الفعل الأول ماضيا. والثاني مستقبلا جاء عدم التناسب بين المعطوفين وهما ماضيان لفظا، وفيه نوع بعد، ولعل المجيب يختار هذا الشق ويتحمل هذا البعد لما أن ثم مع كونه لا يعبأ بمثله لضعفه تهون أمره، وجوز أبو البقاء على ذلك التقدير كون الخبر من كتاب أي الذي آتيتكموه من الكتاب، وجعل النكرة هنا كالمعرفة وسوغ كون العائد على الموصول من المعطوف محذوفا- أي جاءكم به- مع عدم تحقق شروط حذف مثل هذا الضمير عند الجمهور بل مع خلل في المعنى لأن المؤتى كتاب كل نبي في زمان بعثته وشريعته والجائي به الرسول هو القرآن بحسب الظاهر لا كتاب كل نبي، وعود الضمير المقدر يستدعي ذلك، وعلى تقدير التزام كون المؤتى القرآن أيضا كما يقتضيه حمل الفعلين على الاستقبال يرد أنه لا معنى لمجيء الرسول إليهم بالقرآن بعد إيتائهم القرآن بمهلة، والعطف بثم كالنص بهذا المعنى، وعلى تقدير التزام كون الجائي به الرسول هو كتاب كل نبي بنوع من التكلف يكون وصف الرسول بكونه مصدقا لما معكم كالمستغني عنه فتدبر. وقرأ حمزة- لما آتيتكم- بكسر اللام على أن ما مصدرية- واللام- جارّة أجلية متعلقة- بلتؤمنن- أي لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب ثم مجيء رسول مصدق له أخذ الله الميثاق لتؤمنن به ولتنصرنه، واعترض بأن فيه إعمال ما بعد لام القسم فيما قبلها وهو لا يجوز، وأجيب بأنه غير مجمع عليه فإن ظاهر كلام الزمخشري يشعر بجوازه، ولعل من يمنعه يخصه بما إذا لم يكن المعمول المتقدم ظرفا لأن ذاك يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره، نعم الأولى حسبما للنزاع تعلقه بأقسم المحذوف. وجوز أن تكون ما في هذه القراءة موصولة أيضا. والجار متعلق- بأخذ- وروي عبد بن حميد عن سعيد بن جبير أنه قرأ- لما آتيتكم- بالتشديد. وفيها احتمالان: الأول أن تكون ظرفية بمعنى حين- كما قاله الجمهور- خلافا لسيبويه، وجوابها مقدر من جنس جواب القسم- كما ذهب إليه الزمخشري- أي- لما آتيتكم بعض الكتاب والحكمة ثم جاءكم رسول مصدق وجب عليكم الإيمان به ونصرته- وقدره ابن عطية من جنس ما قبلها- أي لما كنتم بهذه الحال رؤساء الناس وأماثلهم أخذ عليكم الميثاق- وكذا وقع في تفسير الزجاج، و «مآل» معناها التعليل، الثاني أن أصلها من «ما» فأبدلت النون ميما لمشابهتها إياها فتوالت ثلاث ميمات فحذفت الثانية لضعفها بكونها بدلا وحصول التكرير بها، ورجحه أبو حيان في البحر. وزعم ابن جني أنها الأولى، ونظر فيه الحلبي، ومِنْ إما مزيدة في الإيجاب على رأي الأخفش، وإما تعليلية على ما اختاره ابن جني قيل: وهو الأصح- لا تضاح المعنى عليه وموافقته لقراءة التخفيف- واللام إما زائدة، أو موطئة بناء على عدم اشتراط دخولها على أداة الشرط، وقرأ نافع- آتيناكم- على لفظ الجمع للتعظيم، والباقون- آتيتكم- على التوحيد، ولكل من القراءتين حسن من جهة- فافهم ذاك- فبعيد أن تظفر بمثله يداك قالَ أي الله تعالى للنبيين وهو بيان لأخذ الميثاق، أو مقول بعده للتأكيد أَأَقْرَرْتُمْ بذلك المذكور وَأَخَذْتُمْ أي قبلتم على حدّ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ [المائدة: 41] . وقيل: معناه هل أخذتم عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي على الأمم- والإصر- بكسر الهمزة العهد كما قال ابن عباس، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 وأصله من- الإصار- وهو ما يعقد به ويشد. وكأنه إنما سمي العهد بذلك لأنه يشد به. وقرئ بالضم. وهو إما لغة فيه- كعبر وعبر- في قولهم ناقة عبر أسفار. أو هو بالضم جمع- إصار- استعير للعهد. وجمع إما لتعدد المعاهدين وهو الظاهر، أو للمبالغة قالُوا استئناف مبني على السؤال كأنه قيل: فماذا قالوا: عند ذلك؟ فقيل: قالوا: أَقْرَرْنا، وكان الظاهر في الجواب أقررنا على ذلك إصرك لكنه لم يذكر الثاني اكتفاء بالأول قالَ أي الله تعالى لهم فَاشْهَدُوا أي فليشهد بعضكم على بعض بذلك الإقرار، فاعتبر المقر بعضا، والشاهد بعضا آخر لئلا يتحد المشهود عليه والشاهد، وقيل: الخطاب فيه للأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقط أمروا بالشهادة على أممهم. ونسب ذلك إلى عليّ كرم الله تعالى وجهه، وقيل: للملائكة فيكون ذلك كناية عن غير مذكور. ونسب إلى سعيد بن المسيب وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ أي على إقراركم وتشاهدكم- على ما يقتضيه المعنى- لأنه لا بد في الشهادة من مشهود عليه. وهنا ما ذكرناه (1) للمقام. وعن ابن عباس إن المراد اعلموا وأنا معكم أعلم. وعلى كل تقدير فيه توكيد وتحذير عظيم، والجار والمجرور خبر- أنا- ومَعَكُمْ حال، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب. وجوز أن تكون في محل نصب على الحال من ضمير فَاشْهَدُوا فَمَنْ تَوَلَّى أي أعرض عن الإيمان بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم ونصرته- قاله علي كرم الله وجهه- بَعْدَ ذلِكَ أي الميثاق والإقرار والتوكيد بالشهادة فَأُولئِكَ إشارة إلى من مراعى معناه كما روعي من قبل لفظها هُمُ الْفاسِقُونَ أي الخارجون في الكفر إلى أفحش مراتبه، والمشهور عدم دخول الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في حكم هذه الشرطية، أو ما هي في حكمها لأنهم أجلّ قدرا من أن يتصور في حقهم ثبوت المقدم ليتصفوا، وحاشاهم بما تضمنه التالي بل هذا الحكم بالنسبة إلى أتباعهم. وجوز أن يراد العموم. والآية من قبيل لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] .   (1) كذا بخطه رحمه الله، ولعله- وهو ما ذكرناه- كما يستفاد من عبارة الشهاب كتبه مصححه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ ذكر الواحدي عن ابن عباس أنه قال: «اختصم أهل الكتابين إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيما اختلفوا بينهم من دين إبراهيم عليه السلام كل فرقة زعمت أنها أولى بدينه فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم فغضبوا وقالوا: والله ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك فأنزل الله تعالى هذه الآية، والجملة في النظم معطوفة على مجموع الشرط والجزاء، وقيل: على الجزاء فقط، وعطف الإنشاء على الإخبار مغتفر هنا عند المانعين، والهمزة على التقديرين متوسطة بين المعطوف والمعطوف عليه للإنكار، وقيل: إنها معطوفة على محذوف تقديره- أيتولون فغير دين الله يبغون- قال ابن هشام: والأول مذهب سيبويه، والجمهور، وجزم به الزمخشري في مواضع، وجوز الثاني في بعض- ويضعفه ما فيه من التكلف- وأنه غير مطرد، أما الأول فلدعوى حذف الجملة فإن قوبل بتقديم بعض المعطوف فقد يقال إنه أسهل منه لأن المتجوز فيه على قولهم: أقل لفظا مع أن في هذا التجوز تنبيها على أصالة شيء في شيء أي أصالة الهمزة في التصدر، وأما الثاني فلأنه غير ممكن في نحو أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [الرعد: 33] انتهى. وتعقبه الشمس ابن الصائغ بأنه أي مانع من تقدير ألا مدبر للموجودات- فمن هو قائم على كل نفس- على الاستفهام التقريري المقصود به تقرير ثبوت الصانع، والمعنى- أينتفي المدبر فلا أحد قائم على كل نفس- ولا يمكن ذلك بل المدبر موجود فالقائم على كل نفس هو- وهو أولى من تقدير البدر ابن الدماميني- أهم ضالون فمن هو قائم على كل نفس بما كسبت لم يوحدوه، وجعله الهمزة للإنكار التوبيخي، وعلى العلات يوشك أن يكون التفصيل في هذه المسألة أولى بأن يقال: إن انساق ذلك المقدر للذهن قيل) بالتقدير، وإلا قيل بما قاله الجماعة، وتقديم المفعول لأنه المقصود بالإنكار لا للحصر كما توهم لأن المنكر اتخاذ غير الله ربا ولو معه، ودعوى أنه إشارة إلى أن دين غير الله لا يجامع دينه في الطلب، فالتقديم للتخصيص، والإنكار متوجه إليه أي أيخصون غير دين الله بالطلب- تكلف، وقول أبي حيان: إن تعليل التقديم بما تقدم لا تحقيق فيه لأن الإنكار الذي هو معنى الهمزة لا يتوجه إلى الذوات، وإنما يتوجه إلى الأفعال التي تتعلق بالذوات، فالذي أنكر إنما هو الابتغاء الذي متعلقه غير دين الله، وإنما جاء تقديم المفعول من باب الاتساع، ولشبه يبغون بالفاصلة لا تحقيق فيه عند ذوي التحقيق لأنا لم ندع توجه الإنكار إلى الذوات كما لا يخفى، وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية الحفص، ويعقوب- يبغون- بالياء التحتية، وقرأ الباقون بالتاء الفوقانية على معنى- أتتولون- أو- أتفسقون، وتكفرون فغير دين الله تبغون- وذهب بعضهم إلى أنه التفات فعنده لا تقدير، وعلى تقدير التقدير يجيء قصد الإنكار فيما أشير إليه ولا ينافيه لأنه منسحب عليه وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جملة حالية مؤكدة للإنكار- أي كيف يبغون ويطلبون غير دينه، والحالة هذه طَوْعاً وَكَرْهاً مصدران في موضع الحال أي طائعين وكارهين، وجوز أبو البقاء أن يكونا مصدرين على غير المصدر لأن أسلم بمعنى انقاد وأطاع قيل: وفيه نظر لأنه ظاهر في طَوْعاً لموافقة معناه ما قبله لا في كَرْهاً والقول: بأنه يغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل غير نافع، وقد يدفع بأن الكره فيه انقياد أيضا، والطوع مصدر طاع يطوع، كالإطاعة مصدر أطاع يطيع ولم يفرقوا بينهما، وقيل: طاعه يطوعه انقاد له، وأطاعه يطيعه بمعنى مضى لأمره، وطاوعه بمعنى وافقه، وفي معنى الآية أقوال: الأول أن المراد من الإسلام بالطوع الإسلام الناشئ عن العلم مطلقا سواء كان حاصلا للاستدلال كما في الكثير منا، أو بدون استدلال وإعمال فكر- كما في الملائكة- ومن الإسلام بالكره ما كان حاصلا بالسيف ومعاينة ما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 يلجئ إلى الإسلام، الثاني أن المراد انقادوا له تعالى مختارين لأمره- كالملائكة، والمؤمنين- ومسخرين لإرادته كالكفرة- فإنهم مسخرون لإرادة كفرهم إذ لا يقع ما لا يريده تعالى، وهذا لا ينافي على ما قيل: الجزء الاختياري حتى لا يكون لهم اختيار في الجملة فيكون قولا بمذهب الجبرية، ولا يستدعي عدم توجه تعذيبهم على الكفر ولا عدم الفرق بين المؤمن والكافر بناء على أن الجميع لا يفعلون إلا ما أراده الله تعالى بهم كما وهم، الثالث ما أشار إليه بعض ساداتنا الصوفية نفعنا الله تعالى بهم أن الإسلام طوعا هو الانقياد والامتثال لما أمر الله تعالى من غير معارضة ظلمة نفسانية وحيلولة حجب الأنانية، والإسلام كرها هو الانقياد مع توسط المعارضات والوساوس وحيلولة الحجب والتعلق بالوسائط، والأول مثل إسلام الملائكة وبعض من في الأرض من المصطفين الأخيار، والثاني مثل إسلام الكثير ممن تقلبه الشكوك جنبا إلى جنب حتى غدا يقول: لقد طفت في تلك المعاهد كلها ... وسرحت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعا كف حائر ... على ذقن أو قارعا سن نادم والكفار من القسم الثاني عند أهل الله تعالى لأنهم أثبتوا صانعا أيضا إلا أن ظلمة أنفسهم حالت بينهم وبين الوقوف على الحق وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف: 106] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [العنكبوت: 29] وإلى هذا يشير كلام مجاهد، وأخرج ابن جرير، وغيره عن أبي العالية أنه قال: كل آدمي أقر على نفسه بأن الله تعالى ربي وأنا عبده فمن أشرك في عبادته فهذا الذي أسلم كرها، ومن أخلص لله تعالى العبودية فهو الذي أسلم طوعا، وقرأ الأعمش- «كرها» - بالضم وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ أي إلى جزائه تصيرون على المشهور فبادروا إلى دينه، ولا تخالفوا الإسلام، وجوزوا في الجملة أن تكون مستأنفة للأخبار بما تضمنته من التهديد، وأن تكون معطوفة على وَلَهُ أَسْلَمَ فهي حالية أيضا، وقرأ عاصم بياء الغيبة، والضمير- لمن- أو لمن عاد إليه ضمير يَبْغُونَ فإن قرئ بالخطاب فهو التفات، وقرأ الباقون بالخطاب، والضمير عائد لمن عاد إليه ضمير يَبْغُونَ فعلى الغيبة فيه التفات أيضا قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ أمر للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أن يخبر عن نفسه والمؤمنين بالإيمان بما ذكر، فضمير آمنا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم والأمة، وقال المولى عبد الباقي: لما أخذ الله تعالى الميثاق من النبيين أنفسهم أن يؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام وينصروه أمر محمدا أيضا صلى الله تعالى عليه وسلم أن يؤمن بالأنبياء المؤمنين به وبكتبهم فيكون آمَنَّا في موضع آمنت لتعظيم نبينا عليه أفضل الصلاة وأكمل السلام، أو لما عهد مع النبيين وأممهم أن يؤمنوا أمر محمدا عليه الصلاة والسلام وأمته أن يؤمنوا بهم وبكتبهم. والحاصل أخذ الميثاق من الجانبين على الإيمان على طريقة واحدة ولم يتعرض هنا لحكمة الأنبياء السالفين إما لأن الإيمان بالكتاب المنزل إيمان بما فيه من الحكمة، أو للإشارة إلى أن شريعتهم منسوخة في زمن هذا النبي صلّى الله عليه وسلم وكلاهما على تقدير كون الحكمة بمعنى الشريعة ولم يتعرض لنصرته عليه الصلاة والسلام لهم إذ لا مجال بوجه لنصرة السلف، ويؤيد دعوى أخذ الميثاق من الجانبين ما أخرجه عبد الرزاق وغيره عن طاوس أنه قال: أخذ الله تعالى ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضا وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وهو القرآن المنزل عليه صلى الله تعالى عليه وسلم أولا وعليهم بواسطة تبليغه إليهم، ومن هنا أتى بضمير الجمع، وقد يعتبر الإنزال عليه الصلاة والسلام وحده، ولكن نسب إلى الجمع ما هو منسوب لواحد منه مجازا على ما قيل، ويحتمل أن تكون النون نون العظمة لا ضمير الجماعة، وعدي الإنزال هنا- بعلى- وفي البقرة- بإلى- لأنه له جهة علو باعتبار ابتدائه، وانتهاء باعتبار آخره، وقد جعل الخطاب هنا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فناسبه الاستعلاء وهناك للعموم فناسب الانتهاء كذا قيل، ويرد عليه قوله تعالى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران: 72] والتحقيق أنه لا فرق بين المعدى- بإلى- والمعدى- بعلى- إلا بالاعتبار، فإن اعتبرت مبدأه عديته- بعلى- لأنه فوقاني وإن اعتبرت انتهاء إلى من هو له عديته- بإلى- ويلاحظ أحد الاعتبارين تارة والآخر أخرى تفننا بالعبارة، وفرق الراغب بأن ما كان واصلا من الملأ الأعلى بلا واسطة كان لفظ- على- المختص بالعلو أولى به، وما لم يكن كذلك كان لفظ- إلى- المختص بالإيصال أولى به وقيل: أنزل عليه يحمل على أمر المنزل عليه أن يبلغه غيره، وأنزل اليه يحمل على ما خص به نفسه لأن إليه انتهاء الإنزال- وكلا القولين- لا يخلو عن نظر وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ قيل: خص هؤلاء الكرام بالذكر لأن أهل الكتاب يعترفون بنبوتهم وكتبهم، والمراد بالموصول الصحف- كما هو الظاهر- وقدم المنزل عليه عليه الصلاة والسلام على المنزل عليهم إما لتعظيمه والاعتناء به، أو لأنه المعرف له ومعرفة المعرف تتقدم على معرفة المعرف، والأسباط الأحفاد لا أولاد البنات، والمراد بهم على رأي أبناء يعقوب الاثنا عشر وذراريهم، وليس كلهم أبناء خلافا لزاعمه وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى من التوراة، والإنجيل، وسائر المعجزات- كما يشعر به إيثار الإيتاء على الإنزال الخاص بالكتاب- وقيل: هو خاص بالكتابين، وتغيير الأسلوب للاعتناء بشأن الكتابين، وتخصيص هذين النبيين بالذكر لما أن الكلام مع اليهود والنصارى وَالنَّبِيُّونَ عطف على موسى، وعيسى أي- وبما أوتي النبيون- على تعدد أفرادهم واختلاف أسمائهم مِنْ رَبِّهِمْ متعلق بأوتي، وفي التعبير بالرب مضافا إلى ضميرهم ما لا يخفى من اللطف. لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أي بالتصديق والتكذيب- كما فعل اليهود والنصارى- والتفريق بغير ذلك كالتفضيل جائز وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي مستسلمون بالطاعة والانقياد في جميع ما أمر به ونهى عنه، أو مخلصون له في العبادة، وعلى التقديرين لا تكون هذه الجملة مستدركة بعد جملة الإيمان كما هو ظاهر، وقيل: إن أهل الملل المخالفة للإسلام كانوا كلهم يقرون بالإيمان ولم يكونوا يقرون بلفظة الإسلام فلهذا أردف تلك الجملة بهذه. وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ نزلت في جماعة ارتدوا كانوا اثني عشر رجلا وخرجوا من المدينة وأتوا مكة كفارا، منهم الحرث بن سويد الأنصاري، والإسلام قيل: التوحيد والانقياد، وقيل: شريعة نبينا عليه الصلاة والسلام بين تعالى أن من تحرى بعد مبعثه صلى الله تعالى عليه وسلم غير شريعته فهو غير مقبول منه، وقبول الشيء هو الرضا به وإثابة فاعله عليه، وانتصاب دِيناً على التمييز من غَيْرَ وهي مفعول يَبْتَغِ وجوز أن يكون دِيناً مفعول يَبْتَغِ وغَيْرَ صفة قدمت فصارت حالا، وقيل: هو بدل من غَيْرَ الْإِسْلامِ والجمهور على إظهار الغينين، وروي عن أبي عمرو الإدغام، وضعفه أبو البقاء بأن كسرة الغين الأولى تدل على الياء المحذوفة وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ إما معطوفة على جواب الشرط فتكون في محل جزم، وإما في محل الحال من الضمير المجرور فتكون في محل نصب، وإما مستأنفة فلا محل لها من الإعراب، وفِي الْآخِرَةِ متعلق بمحذوف يدل عليه ما بعده- أي وهو خاسر في الآخرة- أو متعلق- بالخاسرين- على أن الألف واللام ليست موصولة بل هي حرف تعريف، والخسران في الآخرة هو حرمان الثواب وحصول العقاب، وقيل: أصل الخسران ذهاب رأس المال، والمراد به هنا تشييع ما جبل عليه من الفطرة السليمة المشار إليها في حديث «كل مولود يولد على الفطرة» وعدم الانتفاع بذلك وظهوره بتحقق ضده يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 88] والتعبير- بالخاسرين- أبلغ من التعبير بخاسر كما أشرنا إليه فيما قبل وهو منزل منزلة اللازم ولذا ترك مفعوله، والمعنى- وهو من جملة الواقعين في الخسران- واستدل بالآية على أن الإيمان هو الإسلام إذ لو كان غيره لم يقبل، واللازم باطل بالضرورة فالملزوم مثله، وأجيب بأن فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ينفي قبول كل دين يباين دين الإسلام والإيمان، وإن كان غَيْرَ الْإِسْلامِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 لكنه لا يغاير دين الإسلام بل هو هو بحسب الذات. وإن كان غيره بحسب المفهوم، وذكر الإمام أن ظاهر هذه الآية يدل على عدم المغايرة وقوله تعالى: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا [الحجرات: 14] يدل على المغايرة، ووجه التوفيق بينهما أن تحمل الآية الأولى على العرف الشرعي، والثانية على الوضع اللغوي كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ إلى الدين الحق قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ أخرج عبد بن حميد، وغيره عن الحسن أنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى رأوا نعت محمد صلى الله تعالى عليه وسلم في كتابهم وأقروا وشهدوا أنه حق فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب على ذلك فأنكروه وكفروا بعد إقرارهم حسدا للعرب حين بعث من غيرهم. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس مثله، وقال عكرمة: هم أبو عامر الراهب، والحارث بن سويد في اثني عشر رجلا رجعوا عن الإسلام ولحقوا بقريش ثم كتبوا إلى أهلهم هل لنا من توبة؟ فنزلت الآية فيهم وأكثر الروايات على هذا، والمراد من الآية استبعاد أن يهديهم- أي يدلهم دلالة موصلة- لا مطلق الدلالة قاله بعضهم، وقيل: إن المعنى كيف يسلك بهم سبيل المهديين بالإثابة لهم والثناء عليهم وقد فعلوا ما فعلوا، وقيل: إن الآية على طريق التبعيد كما يقال: كيف أهديك إلى الطريق وقد تركته أي لا طريق يهديهم به إلى الإيمان إلا من الوجه الذي هداهم به وقد تركوه ولا طريق غيره، وقيل: إن المراد كيف يهديهم إلى الجنة ويثيبهم والحال ما ترى؟! وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ وهو محمد صلى الله تعالى عليه وسلم حَقٌّ لا شك في رسالته وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ أي البراهين والحجج الناطقة بحقية ما يدعيه، وقيل: القرآن، وقيل: ما في كتبهم من البشارة به عليه الصلاة والسلام، وَشَهِدُوا عطف على ما في إيمانهم من معنى الفعل لأنه بمعنى آمنوا، والظاهر أنه عطف على المعنى كما في قوله تعالى: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ [الحديد: 18] لا على التوهم كما نوهم واختار بعضهم تأويل المعطوف ليصح عطفه على الاسم الصريح قبله بأن يقدر معه أن المصدرية أي «إن شهدوا» أي وشهادتهم على حد قوله: ولبس عباءة وتقرّ عيني ... أحب إلي من لبس الشفوف وإلى هذا ذهب الراغب، وأبو البقاء، وجوز عطفه على كَفَرُوا وفساد المعنى يدفعه أن العطف لا يقتضي الترتيب فليكن المنكر الشهادة المقارنة بالكفر أو المتقدمة عليه، واعترض بأن الظاهر تقييد المعطوف بما قيد به المعطوف عليه وشهادتهم هذه لم تكن بعد إيمانهم بل معه، أو قبله وأجيب بالمنع لأنه لا يلزم تقييد المعطوف بما قيد به المعطوف عليه ولو قصد ذلك لأخر، وقيل: يمنع من ذلك العطف أنهم ليسوا جامعين بين الشهادة والكفر، وأجيب بالمنع بل هم جامعون وإن لم يكن ذلك معا، ومن الناس من جعله معطوفا على كَفَرُوا ولم يتكلف شيئا مما ذكر، وزعم أن ذلك في المنافقين وهو خلاف المنقول والمعقول، والأكثرون من المحققين على اختيار الحالية من الضمير في كَفَرُوا وقد معه مقدرة، ولا يجوز أن يكون العامل- يهدي- لأنه يهدي من شهد أن الرسول حق وعليه، وعلى تقدير العطف على الإيمان استدل على أن الإقرار باللسان خارج عن حقيقة الإيمان، ووجه ذلك أن العطف يقتضي بظاهره المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه وأن الحالية تقتضي التقييد ولو كان الإقرار داخلا في حقيقة الإيمان خلا ذكره عن الفائدة، ولو كان عينه يلزم تقييد الشيء بنفسه ولا يخفى ما فيه، وادعى بعضهم أن المراد من الإيمان الإيمان بالله، ومن الشهادة المذكورة الإيمان برسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، والأمر حينئذ واضح فتدبر وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بالإخلال بالنظر، ووضع الكفر موضع الإيمان فكيف من جاءه الحق، وعرفه ثم أعرض عنه ويجوز حمل الظلم على مطلقه فيدخل فيه الكفر دخولا أوليا، والجملة اعتراضية أو حالية أُولئِكَ أي المذكورون المتصفون بأشنع الصفات وهو مبتدأ، وقوله سبحانه: جَزاؤُهُمْ أي جزاء فعلهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 مبتدأ ثان، وقوله عز شأنه: أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خبر المبتدأ الثاني، وهو وخبره خبر المبتدأ الأول قيل: وهذا يدل بمنطوقه على جواز لعنهم، ومفهومه ينفي جواز لعن غيرهم، ولعل الفرق بينهم وبين غيرهم حتى خص اللعن بهم أنهم مطبوع على قلوبهم ممنوعون بسبب خباثة ذواتهم وقبح استعدادهم من الهدى آيسون من رحمة الله تعالى بخلاف غيرهم، والخلاف في لعن أقوام بأعيانهم ممن ورد لعن أنواعهم- كشارب خمر معين مثلا مشهور- والنووي على جوازه استدلالا بما ورد أنه صلى الله تعالى عليه وسلم مر بحمار وسم في وجهه فقال: لعن الله تعالى من فعل هذا وبما صح أن الملائكة تلعن من خرجت من بيتها بغير إذن زوجها، وأجيب بأن اللعن هناك للجنس الداخل فيه الشخص أيضا، واعترض بأنه خلاف الظاهر كتأويل إن وراكبها بذلك- والاحتياط لا يخفى- والمراد من- الناس- إما المؤمنون لأنهم هم الذين يلعنون الكفرة، أو المطلق لأن كل واحد يلعن من لم يتبع الحق، وإن لم يكن غير متبع بناء على زعمه خالِدِينَ فِيها حال من الضمير في عَلَيْهِمْ والعامل فيه الاستقرار، والضمير المجرور- للعنة- أو للعقوبة، أو للنار، وإن لم يجر لها ذكر اكتفاء بدلالة اللعنة عليها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أي لا يمهلون ولا يؤخر عنهم العذاب من وقت إلى وقت آخر، أو لا ينظر إليهم ولا يعتد بهم، والجملة إما مستأنفة، أو في محل نصب على الحال. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي الكفر الذي ارتكبوه بعد الإيمان وَأَصْلَحُوا أي دخلوا في الصلاح بناء على أن الفعل لازم من قبيل- أصبحوا- أي دخلوا في الصباح، ويجوز أن يكون متعديا والمفعول محذوف- أي أصلحوا ما أفسدوا- ففيه إشارة كما قيل: إلى أن مجرد الندم على ما مضى من الارتداد، والعزم على تركه في الاستقبال غير كاف لما أخلوا به من الحقوق، واعترض بأن مجرد التوبة يوجب تخفيف العذاب ونظر الحق إليهم، فالظاهر أنه ليس تقييدا بل بيان لأن يصلح ما فسد. وأجيب بأنه ليس بوارد لأن مجرد الندم والعزم على ترك الكفر في المستقبل لا يخرجه منه فهو بيان للتوبة المعتد بها، فالمآل واحد عند التحقيق. فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي فيغفر كفرهم ويثيبهم، وقيل: غَفُورٌ لهم في الدنيا بالستر على قبائحهم «رحيم» بهم في الآخرة بالعفو عنهم- ولا يخفى بعده- والجملة تعليل لما دل عليه الاستثناء. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً قال عطاء وقتادة: نزلت في اليهود كفروا بعيسى عليه السلام، والإنجيل بعد إيمانهم بأنبيائهم وكتبهم، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم والقرآن، وقيل: في أهل الكتاب آمنوا برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبل مبعثه، ثم كفروا به بعد مبعثه، ثم ازدادوا كفرا بالإصرار والعناد والصد عن السبيل، ونسب ذلك إلى الحسن، وقيل: في أصحاب الحارث بن سويد فإنه لما رجع قالوا: نقيم بمكة على الكفر ما بدا لنا فمتى أردنا الرجعة رجعنا فينزل فينا ما نزل في الحارث، وقيل: في قوم من أصحابه ممن كان يكفر ثم يراجع الإسلام، وروي ذلك عن أبي صالح مولى أم هانئ. وكُفْراً تمييز محول عن فاعل، والدال الأولى في ازْدادُوا بدل من تاء الافتعال لوقوعها بعد الزاي لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ قال الحسن، وقتادة، والجبائي: لأنهم لا يتوبون إلا عند حضور الموت والمعاينة وعند ذلك لا تقبل توبة الكافر، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لأنها لم تكن عن قلب، وإنما كانت نفاقا، وقيل: إن هذا من قبيل ولا ترى الضب بها ينجحر أي لا توبة لهم حتى تقبل لأنهم لم يوفقوا لها فهو من قبيل الكناية- كما قال العلامة- دون المجاز حيث أريد بالكلام معناه لينتقل منه إلى الملزوم، وعلى كل تقدير لا ينافي هذا ما دل عليه الاستثناء وتقرر في الشرع كما لا يخفى، وقيل: إن هذه التوبة لم تكن عن الكفر وإنما هي عن ذنوب كانوا يفعلونها معه فتابوا عنها مع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 إصرارهم على الكفر فردت عليهم لذلك، ويؤيده ما أخرجه ابن جرير عن أبي العالية قال: هؤلاء اليهود. والنصارى كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا بذنوب أذنبوها ثم ذهبوا يتوبون من تلك الذنوب في كفرهم فلم تقبل توبتهم ولو كانوا على الهدى قبلت ولكنهم على ضلالة، وتجيء على هذا مسألة تكليف الكافر بالفروع وقد بسط الكلام عليها في الأصول. وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ عطف إما على خبر إِنَّ فمحلها الرفع، وإما على إِنَّ مع اسمها فلا محل لها، والضَّالُّونَ المخطئون طريق الحق والنجاة، وقيل: الهالكون المعذبون والحصر باعتبار أنهم كاملون في الضلال فلا ينافي وجود الضلال في غيرهم أيضا إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أي على كفرهم. فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ من مشرقها إلى مغربها ذَهَباً نصب على التمييز، وقرأ الأعمش- ذهب- بالرفع، وخرج على البدلية من مِلْءُ أو عطف البيان، أو الخبر لمحذوف، وقيل: عليه إنه لا بد من تقدير وصف ليحسن البدل ولا دلالة عليه ولم يعهد بيان المعرفة بالنكرة، وجعله خبرا إنما يحسن إذا جعلت الجملة صفة، أو حالا ولا يخلو عن ضعف، ومِلْءُ الشيء بالكسر مقدار ما يملؤه، وأما مِلْءُ بالفتح فهو مصدر ملأه ملأ، وأما الملاءة بالضم والمد فهي الملحفة وهنا سؤال مشهور وهو أنه لم دخلت الفاء في خبر إِنَّ هنا ولم تدخل في الآية السابقة مع أن الآيتين سواء في صحة إدخال الفاء لتصور السببية ظاهرا؟ وأجاب غير واحد بأن الصلة في الآية الأولى الكفر، وازدياده وذلك لا يترتب عليه عدم قبول التوبة بل إنما يترتب على الموت عليه إذ لو وقعت على ما ينبغي لقبلت بخلاف الموت على الكفرة في هذه الآية فإنه يترتب عليه ذلك ولذلك لو قال: من جاءني له درهم كان إقرارا بخلاف ما لو قرنه بالفاء- كما هو معروف بين الفقهاء- ولا يرد أن ترتب الحكم على الوصف دليل على السببية لأنا لا نسلم لزومه لأن التعبير بالموصول قد يكون لأغراض كالإيماء إلى تحقق الخبر كقوله: إن التي ضربت بيتا مهاجرة ... بكوفة الجند غالت دونها غول وقد فصل ذلك في المعاني وقرئ- «فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض» - على البناء للفاعل وهو الله تعالى ونصب- ملء ومل الأرض- بتخفيف الهمزتين وَلَوِ افْتَدى بِهِ قال ابن المنير في الانتصاف: إن هذه الواو المصاحبة للشرط تستدعي شرطا آخر تعطف عليه الشرط المقترنة به ضرورة والعادة في مثل ذلك أن يكون المنطوق به منبها على المسكوت عنه بطريق الأولى مثاله قولك: أكرم زيدا ولو أساء فهذه الواو عطفت المذكور على محذوف تقديره- أكرم زيدا لو أحسن ولو أساء- إلا أنك نبهت بإيجاب إكرامه وإن أساء على أن إكرامه إن أحسن بطريق الأولى ومنه كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ [النساء: 135] فإن معناه- والله تعالى أعلم- لو كان الحق على غيركم ولو كان عليكم ولكنه ذكر ما هو أعسر عليهم فأوجبه تنبيها على أن ما كان أسهل أولى بالوجوب، ولما كانت هذه الآية مخالفة لهذا النمط من الاستعمال لأن قوله سبحانه: وَلَوِ افْتَدى بِهِ يقتضي شرطا آخر محذوفا يكون هذا المذكور منبها عليه بطريق الأولى، والحالة المذكورة أعني حالة افتدائهم- بملء الأرض ذهبا- هي أجدر الحالات بقبول الفدية، وليس وراءها حالة أخرى تكون أولى بالقبول منها- خاض المفسرون بتأويلها- فذكر الزمخشري ثلاثة أوجه حاصل الأول: أن عدم قبول- ملء الأرض- كناية عن عدم قبول فدية ما لدلالة السياق على أن القبول يراد للخلاص وإنما عدل تصويرا للتكثير لأنه الغاية التي لا مطمح وراءها في العرف، وفي الضمير يراد مِلْءُ الْأَرْضِ على الحقيقة فيصير المعنى لا تقبل منه فدية ولو افتدى- بملء الأرض ذهبا- ففي الأول نظر إلى العموم وسده مسد فدية ما، وفي الثاني إلى الحقيقة أو لكثرة المبالغة من غير نظر إلى القيام مقامها، وحاصل الثاني: إن المراد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 ولو افتدى بمثله معه كما صرع به في آية أخرى ولأنه علم أن الأول فدية أيضا كأنه قيل: لا يقبل ملء الأرض فدية ولو ضوعف، ويرجع هذا إلى جعل الباء بمعنى مع، وتقدير مثل بعده أي مع مثله، وحاصل الثالث: إنه يقدر وصف يعينه المساق من نحو كان متصدقا به، وحينئذ لا يكون الشرط المذكور من قبيل ما يقصد به تأكيد الحكم السابق بل يكون شرطا محذوف الجواب ويكون المعنى لا يقبل منه- ملء الأرض ذهبا لو تصدق ولو افتدى به أيضا لم يقبل منه- وضمير بِهِ للمال من غير اعتبار وصف التصدق فالكلام من قبيل وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ [فاطر: 11] ، وعندي درهم ونصفه انتهى، ولا يخفى ما في ذلك من الخفاء والتكلف، وقريب من ذلك ما قيل: إن الواو زائدة، ويؤيد ذلك أنه قرئ في الشواذ بدونها وكذا القول: بأن لَوِ ليست وصلية بل شرطية، والجواب ما بعد أو هو ساد مسده، وذكر ابن المنير في الجواب مدعيا أن تطبيق الآية عليه أسهل وأقرب بل ادعى أنه من السهل الممتنع أن قبول الفدية التي هي مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً تكون على أحوال تارة تؤخذ قهرا كأخذ الدية، وكرة يقول المفتدي: أنا أفدي نفسي بكذا ولا يفعل، وأخرى يقول ذلك والفدية عتيدة ويسلمها لمن يؤمل قبولها منه فالمذكور في الآية أبلغ الأحوال وأجدرها بالقبول، وهي أن يفتدي بملء الأرض ذهبا افتداء محققا بأن يقدر على هذا الأمر العظيم ويسلمه اختيارا، ومع ذلك لا يقبل منه فلأن لا يقبل منه مجرد قوله: أبذل المال وأقدره عليه، أو ما يجري هذا المجرى بطريق الأولى فتكون الواو والحالة هذه على بابها تنبيها على أن ثم أحوالا أخر لا يقع فيها القبول بطريق الأولى بالنسبة إلى الحالة المذكورة، وقوله تعالى: لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ [المائدة: 36] مصرح بذلك، والمراد به أنه لا خلاص لهم من الوعيد وإلا فقد علم أنهم في ذلك اليوم أفلس من ابن المذلق لا يقدرون على شيء، ونظير هذا قولك: لا أبيعك هذا الثوب بألف دينار ولو سلمتها إليّ في يدي انتهى. وقريب منه ما ذكره أبو حيان قائلا: إن الذي يقتضيه هذا التركيب وينبغي أن يحمل عليه أن الله تعالى أخبر أن من مات كافرا لا يقبل منه ما يملأ الأرض من ذهب على كل حال يقصدها ولو في حال افتدائه من العذاب لأن حالة الافتداء لا يمتن فيها المفتدي على المفتدى منه إذ هي حالة قهر من المفتدى منه، وقد قررنا في نحو هذا التركيب أن لَوِ تأتي منبهة على أن ما قبلها جاء على سبيل الاستقصار وما بعدها جاء تنصيصا على الحالة التي يظن أنا لا تندرج فيما قبلها كقوله عليه الصلاة والسلام: «أعطوا السائل ولو جاء على فرس» «وردوا السائل ولو بظلف محرق» كأن هذه الأشياء مما لا ينبغي أن يؤتي بها لأن كون السائل على فرس يشعر بغناه فلا يناسب أن يعطى، وكذلك الظلف المحرق لا غناء فيه فكان يناسب أن لا يرد السائل به. وكذلك حالة الافتداء يناسب أن يقبل منه مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً لكنه لا يقبل، ونظيره وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ [يوسف: 17] لأنهم نفوا أن يصدقهم على كل حال حتى في حالة صدقهم وهي الحالة التي ينبغي أن يصدقوا فيها ولو لتعميم النفي والتأكيد له. هذا وقد أخرج الشيخان. وابن جرير- واللفظ له- عن أنس عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت مفتديا به؟ فيقول: نعم فيقال: لقد سئلت ما هو أيسر من ذلك فلم تفعل فذلك قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ اسم الإشارة مبتدأ والظرف خبر ولاعتماده على المبتدأ رفع الفاعل، ويجوز أن يكون لَهُمْ خبرا مقدما، وعَذابٌ مبتدأ مؤخرا، والجملة خبر عن اسم الإشارة والأول أحسن، وفي تعقيب ما ذكر بهذه الجملة مبالغة في التحذير والإقناط لأن من لا يقبل منه الفداء ربما يعفى عنه تكرما وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ في رفع العذاب أو تخفيفه، ومِنْ مزيدة بعد النفي للاستغراق وتزاد بعده سواء دخلت على مفرد أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 جمع خلافا لمن زعم أن ذلك مخصوص بالمفرد، وصيغة الجمع لمراعاة الضمير، وفيها توافق الفواصل، والمراد ليس لواحد منهم ناصر واحد. «ومن باب الإشارة» قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ وهي كلمة التوحيد وترك اتباع الهوى والميل إلى السوي فإن ذلك لم يختلف فيه نبي ولا كتاب قط ما كانَ إِبْراهِيمُ الخليل يهوديا متعلقا بالتشبيه وَلا نَصْرانِيًّا قائلا بالتثليث وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مائلا عن الكون برؤية المكون مُسْلِماً منقادا عند جريان قضائه وقدره، أو ذاهبا إلى ما ذهب إليه المسلمون المصطفون القائلون لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ بشرط التجرد عن الكونين ومنع النفوس عن الالتفات إلى العالمين فإن الخليل لما بلغ حضره القدس زاغ بصره عن عرائس الملك والملكوت قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَهذَا النَّبِيُّ العظيم يعني محمدا عليه من الله تعالى أفضل الصلاة وأكمل التسليم أَوْلَى أيضا بمتابعة أبيه الخليل وسلوك منهجه الجليل لأنه زبدة مخيض محبته وخلاصة حقيقة فطرته وَالَّذِينَ آمَنُوا به صلى الله تعالى عليه وسلم وأشرقت عليهم أنواره وأينعت في رياض قلوبهم أسراره وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ كافة يحفظهم عن آفات القهر ويدخلهم في قباب العصمة ويبيح لهم ديار الكرامة وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ جعله أهل الله سبحانه خطابا للمؤمنين كما قال بذلك بعض أهل الظاهر أي لا تفشوا أسرار الحق إلا إلى أهله ولا تقروا بمعاني الحقيقة للمحجوبين من الناس فيقعون فيكم ويقصدون سفك دمائكم قُلْ إِنَّ الْهُدى أعني هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ من علم الباطن، أو مثل ما يحاجوكم به في زعمهم عند ربكم وهو علم الظاهر. وحاصل المعنى إِنَّ الْهُدى الجمع بين الظاهر، والباطن. وأما الاقتصار على علم الظاهر وإنكار الباطن فليس بهدى قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ فيتصرف به حسب مشيئته التابعة لعلم التابع للمعلوم في أزل الآزال وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ فكيف يتقيد بالقيود بل يتجلى حسبما تقتضيه الحكمة في المظاهر لأهل الشهود يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ الخاصة مَنْ يَشاءُ من عباده وهي المعرفة به وهي فوق مكاشفة غيب الملكوت ومشاهدة سر الجبروت، وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ الذي لا يكتنه بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وهو عهد الروح بنعت الكشف وعهد القلب بتلقي الخطاب، وعهد العقل بامتثال الأوامر والنواهي وَاتَّقى من خطرات النفوس وطوارق الشهوات فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ أي فهو بالغ مقام حقيقة المحبة إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا الآية إشارة إلى من مال إلى حضرة الدنيا وآثرها على مشاهدة حضرة المولى وزين ظاهره بعبادة المقربين ومزجها بحب الرياسة فذلك الذي سقط عن رؤية اللقاء ومخاطبة الحق في الدنيا والآخرة ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ لأن الاستنباء لا يكون إلا بعد الفناء في التوحيد فمن محا الله تعالى بشريته بإفنائه عن نفسه وأثابه وجودا نورانيا حقيقا قابلا للكتاب والحكمة العقلية لا يمكن أن يدعو إلى نفسه إذ الداعي إليها لا يكون إلا محجوبا بها، وبين الأمرين تناقض ولكن يقول كُونُوا رَبَّانِيِّينَ أي منسوبين إلى الرب، والمراد عابدين مرتاضين بالعلم والعمل والمواظبة على الطاعات لتغلب على أسراركم أنوار الرب، ولهم في الرباني عبارات كثيرة، فقال الشبلي: الرباني الذي لا يأخذ العلوم إلا من الرب ولا يرجع في شيء إلا إليه، وقال سهل: الرباني الذي لا يختار على ربه حالا، وقال القاسم: هو المتخلق بأخلاق الرب علما وحكما، وقيل: هو الذي محق في وجوده ومحق عن شهوده. وقيل: هو الذي لا تؤثر فيه تصاريف الأقدار على اختلافها «وقيل: وقيل:» وكل الأقوال ترد من منهل واحد، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً فإنها بعض مظاهره وهو سبحانه المطلق حتى عن قيد الإطلاق أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي أيأمركم بالاحتجاب برؤية الأشكال والنظر إلى الأمثال بعد أن لاح في أسراركم أنوار التوحيد وطلعت في قلوبكم شموس التفريد وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ الآية فيه إشارة إلى أنه سبحانه أخذ العهد من نواب الحقيقة المحمدية في الأزل بالانقياد والطاعة والإيمان بها، وخصهم بالذكر لكونهم أهل الصف الأول ورجال الحضرة، وقيل: إن الله تعالى أخذ عليهم ميثاق التعارف بينهم وإقامة الدين وعدم التفرق وتصديق بعضهم بعضا ودعوة الخلق إلى التوحيد وتخصيص العبادة بالله تعالى وطاعة النبي وتعريف بعضهم بعضا لأممهم، وهذا غير الميثاق العام المشار إليه بقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ إلخ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ أي بعد ما علم عهد الله تعالى مع النبيين وتبليغ الأنبياء إليه ما عهد إليهم فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أي الخارجون عن دين الله تعالى ولا دين غيره معتدا به في الحقيقة إلا توهما أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي من في عالم الأرواح وعالم النفوس، أو من في عالم الملكوت وعالم الملك طَوْعاً باختياره وشعوره وَكَرْهاً من حيث لا يدري ولا يدري أنه لا يدري بسبب احتجابه برؤية الأغيار، ولهذا سقط عن درجة القبول وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ في العاقبة حين يكشف عن ساق وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ وهو التوحيد دِيناً له فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ لعدم وصوله إلى الحق لمكان الحجاب وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ ويوم القيامة الكبرى مِنَ الْخاسِرِينَ الذين خسروا أنفسهم كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً الآية استبعاد لهداية من فطره الله على غير استعداد المعرفة، وحكم عليه بالكفر في سابق الأزل فإن من لم يكن له استعداد لم يقع في أنوار التجلي، ومن خاض في بحر القهر ولزم قعر بعد البعد لم يكن له سبيل إلى ساحل قرب القرب وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ ولله در من قال: إذا المرء لم يخلق سعيدا تحيرت ... ظنون مربيه وخاب المؤمل فموسى الذي رباه جبريل كافر ... وموسى الذي رباه فرعون مرسل هذا والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ كلام مستأنف لبيان ما ينفع المؤمنين ويقبل منهم- إثر بيان ما لا ينفع الكفار ولا يقبل منهم، وتنال- من تنال نيلا إذا أصاب ووجد، ويقال: نال العلم إذا وصل إليه واتصف به، الْبِرَّ الإحسان وكمال الخير، وبعضهم يفرق بينه وبين الخير بأن البر هو النفع الواصل إلى الغير مع القصد إلى ذلك، والخير هو النفع مطلقا وإن وقع سهوا، وضد الْبِرَّ العقوق، وضد الخير الشر، وأل- فيه إما للجنس والحقيقة، والمراد لن تكونوا أبرارا حتى تُنْفِقُوا وهو المروي عن الحسن، وإما لتعريف العهد، والمراد لن تصيبوا بر الله تعالى يا أهل طاعته حتى تنفقوا، وإلى ذلك ذهب مقاتل وعطاء. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه تفسير الْبِرَّ بالجنة، وروي مثله عن مسروق، والسدي، وعمرو بن ميمون، وذهب بعضهم إلى أن الكلام على حذف مضاف أي- لن تنالوا ثواب البر، وحَتَّى بمعنى إلى، ومن- تبعيضية، ويؤيده قراءة عبد الله بعض ما تحبون، وقيل: بيانية، وعليه أيضا لا تخالف بين القراءتين معنى، و «ما» موصولة، أو موصوفة، وجعلها مصدرية والمصدر بمعنى المفعول جائز على رأي أبي علي. وفي المراد من قوله سبحانه: مِمَّا تُحِبُّونَ أقوال، فقيل المال وكني بذلك عنه لأن جميع الناس يحبون، وقيل: نفائس الأموال وكرائمها، وقيل: ما يعم ذلك وغيره من سائر الأشياء التي يحبها الإنسان ويهواها، والإنفاق على هذا مجاز، وعلى الألين حقيقة وكان السلف رضي الله تعالى عنهم إذا أحبوا شيئا جعلوه لله تعالى، فقد أخرج الشيخان، والترمذي، والنسائي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار نخلا بالمدينة وكان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 أحب أمواله إليه بيرحاء وكانت مستقبلة المسجد وكان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب فلما نزلت لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ قال أبو طلحة: يا رسول الله إن الله تعالى يقول: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وإن أحب أموالي إلى بيرحاء وإنها صدقة لله تعالى أرجو برها وذخرها عند الله تعالى فضعها يا رسول الله حيث أراك الله تعالى فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: بخ بخ ذلك مال رابح وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه» وفي رواية لمسلم. وأبي داود «فجعلها بين حسان بن ثابت، وأبي بن كعب» . وأخرج ابن أبي حاتم، وغيره عن محمد بن المنكدر قال: «لما نزلت هذه الآية جاء زيد بن حارثة بفرس يقال لها سبل لم يكن له مال أحب إليه منها فقال: هي صدقة فقبلها رسول الله صلّى الله عليه وسلم وحمل عليها ابنه أسامة فرأى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك في وجه زيد فقال: إن الله تعالى قد قبلها منك» . وأخرج عبد بن حميد عن ابن عمر قال: «حضرتني هذه الآية لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ إلخ فذكرت ما أعطاني الله تعالى فلم أجد أحب إلي من مرجانة جارية لي رومية فقلت هي حرة لوجه الله تعالى فلو أني أعوذ في شيء جعلته لله تعالى نكحتها فأنكحتها نافعا، وأخرج ابن المنذر عن نافع قال: كان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يشتري السكر يتصدق به فنقول له: لو اشتريت لهم بثمنه طعاما كان أنفع لهم من هذا فيقول: أنا أعرف الذي تقولون ولكن سمعت الله تعالى يقول: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وأن ابن عمر يحب السكر. وظاهر هذه الأخبار يدل على أن الإنفاق في الآية يعم المستحب، وروي عن ابن عباس أن المراد به إخراج الزكاة الواجبة وما فرضه الله تعالى في الأموال فكأنه قيل: لن تنالوا البر حتى تخرجوا زكاة أموالكم- وهو مبني على أن المراد من ما تحبون المال لا كرائمه، فقول النيسابوري: إنه يرد عليه أنه لا يجب على المزكي أن يخرج أشرف أمواله وأكرمها ناشئ من قلة التأمل، ولو تأمل ما اعترض على ترجمان القرآن، وحبر الأمة، ونقل الواحدي عن مجاهد. والكلبي أن الآية منسوخة بآية الزكاة، وضعف بأن إيجاب الزكاة لا ينافي الترغيب في بذل المحبوب في سبيل الله تعالى، واستشكلت هذه الآية بأن ظاهرها يستدعي أن الفقير الذي لم ينفق طول عمره مما يحبه لعدم إمكانه لا يكون بارا أو لا يناله برّ الله تعالى بأهل طاعته مع أنه ليس كذلك، وأجيب بأن الكلام خارج مخرج الحث على الإنفاق وهو مقيد بالإمكان وإنما أطلق على سبيل المبالغة في الترغيب، وقيل: الأولى أن يكون المراد لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ الكامل الواقع على أشرف الوجوه حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ والفقير الذي لم ينفق طول عمره لا يبعد القول بأنه لا يكون بارا كاملا ولا يناله برّ الله تعالى الكامل بأهل طاعته، وقيل: الأولى من هذا الأولى أن يقال: إن المراد لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ على الإنفاق حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وحاصله أن الإنفاق من المحبوب يترتب عليه نيل البر وأن الإنفاق مما عداه لا يترتب عليه نيل البر، وليس في الآية ما يدل على حصر ترتب البر على الإنفاق من المحبوب، ونفي ترتب البر على فعل آخر من الأفعال المأمور بها، وحينئذ لا يبعد أن يكون الفقير الغير المنفق بارا أو نائلا برّ الله تعالى بأهل طاعته من جهة أخرى، وربما تستدعي أفعاله الخالية عن إنفاق المال من البرّ ما هو أكمل وأوفر مما يستدعيه الإنفاق المجرد منه وينجر الكلام إلى مسألة تفضيل الفقير الصابر على الغني الشاكر، وهي مسألة طويلة الذيل قد ألفت فيها الرسائل وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ أي أي شيء تنفقونه من الأشياء، أو أي شيء تنفقوا طيب تحبونه، أو خبيث تكرهونه- فمن- على الأول متعلقة بمحذوف وقع صفة لاسم الشرط، وعلى الثاني في محل نصب على التمييز فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ تعليل لجواب الشرط واقع موقعه- أي فيجازيكم بحسبه- فإنه تعالى عَلِيمٌ بكل ما تنفقونه، وقيل: إنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 جواب الشرط، والمراد أن الله تعالى يعلمه موجود على الحدّ الذي تفعلونه من حسن النية وقبحها، وتقديم الظرف لرعاية الفواصل، وفي الآية ترغيب وترهيب قيل: وفيها إشارة إلى الحث على إخفاء الصدقة (1) .   (1) تم بحمده تعالى وحسن معونته طبع الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع أوله «كل الطعام» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 روح المعاني الجزء الرابع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 بسم الله الرحمن الرحيم كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ روى الواحدي عن الكلبي أنه حين «قال النبي صلّى الله عليه وسلم: أنا على ملة إبراهيم قالت اليهود: كيف وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها؟ فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: كان ذلك حلالا لإبراهيم عليه السلام فنحن نحله فقالت اليهود: كل شيء أصبحنا اليوم نحرمه فإنه كان محرما على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا فأنزل الله تعالى هذه الآية تكذيبا لهم» والطعام بمعنى المطعوم، ويراد به هنا المطعومات مطلقا أو المأكولات وهو لكونه مصدرا منعوتا به معنى يستوي فيه الواحد المذكر وغيره وهو الأصل المطرد فلا ينافيه قول الرضي: إنه يقال: رجل عدل ورجلان عدلان لأنه رعاية لجانب المعنى، وذكر بعضهم أن هذا التأويل يجعل كلا للتأكيد لأن الاستغراق شأن الجمع المعرف باللام، والحل مصدر أيضا أريد منه حلالا، والمراد الاخبار عن أكل الطعام بكونه حلالا لا نفس الطعام لأن الحل كالحرمة مما لا يتعلق بالذوات ولا يقدر نحو الإنفاق وإن صح أن يكون متعلق الحل وربما توهم بقرينة ما قبله لأنه خلاف الغرض المسوق له الكلام. وإِسْرائِيلَ هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، وعن أبي مجلز أن ملكا سماه بذلك بعد أن صرعه وضرب على فخذه إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ قال مجاهد: حرم لحوم الأنعام، وروى عكرمة عن ابن عباس أنه حرم زائدتي الكبد والكليتين والشحم إلا ما كان على الظهر، وعن عطاء أنه حرم لحوم الإبل وألبانها وسبب تحريم ذلك كما في الحديث الذي أخرجه الحاكم وغيره بسند صحيح عن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام كان به عرق النسا فنذر إن شفي لم يأكل أحب الطعام إليه وكان ذلك أحب إليه، وفي رواية سعيد بن جبير عنه أنه كان به ذلك الداء فأكل من لحوم الإبل فبات بليلة يزقو فحلف أن لا يأكل أبدا، وقيل: حرمه على نفسه تعبدا وسأل الله تعالى أن يجيز له فحرم سبحانه على ولده ذلك، ونسب هذا إلى الحسن، وقيل: إنه حرمه وكف نفسه عنه كما يحرم المستظهر في دينه من الزهاد، اللذائذ على نفسه. وذهب كثير إلى أن التحريم كان بنص ورد عليه، وقال بعض: كان ذلك عن اجتهاد ويؤيده ظاهر النظم، وبه استدل على جوازه للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والاستثناء متصل لأن المراد على كل تقدير أنه حرمه على نفسه وعلى أولاده، وقيل: منقطع، والتقدير ولكن حرم إسرائيل على نفسه خاصة ولم يحرمه عليهم وصحح الأول مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ الظاهر أنه متعلق بقوله تعالى: كانَ حِلًّا ولا يضر الفصل بالاستثناء إذ هو فصل جائز، وذلك على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 مذهب الكسائي وأبي الحسن في جواز أن يعمل ما قبل إلا فيما بعدها إذا كان ظرفا أو جارا ومجرورا أو حالا، وقيل: متعلق بحرم، وتعقبه أبو حيان بأنه بعيد إذ هو من الإخبار بالواضح المعلوم ضرورة ولا فائدة فيه، واعتذر عنه بأن فائدة ذلك بيان أن التحريم مقدم عليها وأن التوراة مشتملة على محرمات أخر حدثت عليهم حرجا وتضييقا، واختار بعضهم أنه متعلق بمحذوف، والتقدير كانَ حِلًّا مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ في جواب سؤال نشأ من سابق المستثنى كأنه قيل: متى كان حلا؟ فأجيب به والذي دعاه إلى ذلك عدم ظهور فائدة تقييد التحريم ولزوم قصر الصفة قبل تمامها على تقدير جعله قيدا للحل. ولا يخفى ما فيه، والمعنى على الظاهر أن كل الطعام ما عدا المستثنى كان حلالا لبني إسرائيل قبل نزول التوراة مشتملة على تحريم ما حرم عليهم لظلمهم، وفي ذلك رد لليهود في دعواهم البراءة فيما نعي عليهم قوله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ [النساء: 160] وقوله سبحانه: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا [الأنعام: 146] الآيتين، وتبكيت لهم في منع النسخ ضرورة أن تحريم ما كان حلالا لا يكون إلا به ودفع الطعن في دعوى الرسول صلّى الله عليه وسلم موافقته لأبيه إبراهيم عليه السلام على ما دل عليه سبب النزول. وذهب السدي إلى أنه لم يحرم عليهم عند نزول التوراة إلا ما كان يحرمونه قبل نزولها اقتداء بأبيهم يعقوب عليه السلام، وقال الكلبي: لم يحرم سبحانه عليهم ما حرم في التوراة، وإنما حرمه بعدها بظلمهم وكفرهم. فقد كانت بنو إسرائيل إذا أصابت ذنبا عظيما حرم الله تعالى عليهم طعاما طيبا وصب عليهم رجزا، وعن الضحاك أنه لم يحرم الله تعالى عليهم شيئا من ذلك في التوراة ولا بعدها، وإنما هو شيء حرموه على أنفسهم اتباعا لأبيهم وإضافة تحريمه إلى الله تعالى مجاز وهذا في غاية البعد قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها أمر له صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يحاجهم بكتابهم الناطق بصحة ما يقول في أمر التحليل والتحريم وإظهار اسم التوراة لكون الجملة كلاما مع اليهود منقطعا عما قبله، وقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في دعواكم شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه أي إن كنتم صادقين فأتوا بالتوراة فاتلوها، روي أنهم لم يجسروا على الإتيان بها فبهتوا وألقموا حجرا. وفي ذلك دليل ظاهر على صحة نبوة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم إذ علم بأن ما في التوراة يدل على كذبهم وهو لم يقرأها ولا غيرها من زبر الأولين ومثله لا يكون إلا عن وحي فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أي اخترع ذلك بزعمه أن التحريم كان على الأنبياء وأممهم قبل نزول التوراة فَمَنِ عبارة عن أولئك اليهود، ويحتمل أن تكون عامة ويدخلون حينئذ دخولا أوليا، وأصل الافتراء قطع الأديم يقال: فرى الأديم يفريه فريا إذا قطعه، واستعمل في الابتداع والاختلاق، والجملة يحتمل أن تكون مستأنفة وأن تكون منصوبة المحل معطوفة على جملة فَأْتُوا فتدخل تحت القول، ومن يجوز أن تكون شرطية وأن تكون موصولة وقد روعي لفظها ومعناها مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي أمرهم بما ذكر وما يترتب عليه من قيام الحجة وظهور البينة. فَأُولئِكَ أي المفترون المبعدون عن عز القرب هُمُ الظَّالِمُونَ لأنفسهم بفعل ما أوجب العقاب عليهم، وقيل: هم الظالمون لأنفسهم بذلك ولأشياعهم بإضلالهم لهم بسبب إصرارهم على الباطل وعدم تصديقهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإنما قيد بالبعدية- مع أنه يستحق الوعيد بالكذب على الله تعالى في كل وقت وفي كل حال- للدلالة على كمال القبح، وقيل: لبيان أنه إنما يؤاخذ به بعد إقامة الحجة عليه ومن كذب فيما ليس بمحجوج فيه فهو بمنزلة الصبي الذي لا يستحق الوعيد بكذبه وفيه تأمل، ثم مناسبة هذه الآية لما قبلها أن الأكل إنفاق مما يحب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 لكن على نفسه وإلى ذلك أشار علي بن عيسى، وقيل: إنه لما تقدم محاجتهم في ملة إبراهيم عليه السلام وكان مما أنكروا على نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم أكل لحوم الإبل وادعوا أنه خلاف ملة إبراهيم ناسب أن يذكر رد دعواهم ذلك عقيب تلك المحاجة قُلْ صَدَقَ اللَّهُ أي ظهر وثبت صدقه في أن كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ وقيل: في أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم على دين إبراهيم عليه السلام وأن دينه الإسلام، وقيل: في كل ما أخبر به ويدخل ما ذكر دخولا أوليا وفيه كما قيل: تعريض بكذبهم الصريح فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ وهي دين الإسلام فإنكم غير متبعين ملته كما تزعمون، وقيل: اتبعوا مثل ملته حتى تخلصوا عن اليهودية التي اضطرتكم إلى الكذب على الله والتشديد على أنفسكم، وقيل: اتبعوا ملته في استباحة أكل لحوم الإبل وشرب ألبانها مما كان حلا له حَنِيفاً أي مائلا عن سائر الأديان الباطلة إلى دين الحق، أو مستقيما على ما شرعه الله تعالى من الدين الحق في حجه ونسكه ومأكله وغير ذلك وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي في أمر من أمور دينهم أصلا وفيه تعريض بشرك أولئك المخاطبين، والجملة تذييل لما قبلهم إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ. أخرج ابن المنذر وغيره عن ابن جريج قال: بلغنا أن اليهود قالت: بيت المقدس أعظم من الكعبة لأنه مهاجر الأنبياء ولأنه في الأرض المقدسة، فقال المسلمون: بل الكعبة أعظم فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم فنزلت إلى مقام إبراهيم. وروي مثل ذلك عن مجاهد، ووجه ربطها بما قبلها أن الله تعالى أمر الكفرة باتباع ملة إبراهيم ومن ملته تعظيم بيت الله تعالى الحرام فناسب ذكر البيت وفضله وحرمته لذلك، وقيل: وجه المناسبة أن هذه شبهة ثانية ادعوها فأكذبهم الله تعالى فيها كما أكذبهم في سابقتها، والمعنى أن أول بيت وضع لعبادة الناس ربهم أي هيئ وجعل متعبدا، والواضع هو الله تعالى كما يدل عليه قراءة من قرأ وُضِعَ بالبناء للفاعل لأن الظاهر حينئذ أن يكون الضمير راجعا إلى الله تعالى وإن لم يتقدم ذكره سبحانه صريحا في الآية بناء على أنها مستأنفة واحتمال عوده إلى إبراهيم عليه السلام لاشتهاره ببناء البيت خلاف الظاهر، وجملة وُضِعَ في موضع جر على أنها صفة بَيْتٍ ولِلنَّاسِ متعلق به واللام فيه للعلة، وقوله تعالى: لَلَّذِي بِبَكَّةَ خبر إن واللام مزحلقة وأخبر بالمعرفة عن النكرة لتخصيصها، وهذا في باب إن، وبكة- لغة في مكة عند الأكثرين والباء والميم تعقب إحداهما الأخرى كثيرا، ومنه نميط ونبيط ولازم ولازب وراتب وراتم، وقيل: هما متغايران فبكة موضع المسجد ومكة البلد بأسرها وأصلها من البك بمعنى الزحم يقال بكه يبكه بكا إذا زحمه، وتبارك الناس إذا ازدحموا وكأنها إنما سميت بذلك لازدحام الحجيج فيها، وقيل: بمعنى الدق وسميت بذلك لدق أعناق الجبابرة إذا أرادوها بسوء وإذلالهم فيها ولذا تراهم في الطواف كآحاد الناس ولو أمكنهم الله تعالى من تخلية المطاف لفعلوا، وقيل: إنها مأخوذة من بكأت الناقة أو الشاة إذا قل لبنها وكأنها إنما سميت بذلك لقلة مائها وخصبها، وقيل: ومن هنا سميت البلد مكة أيضا أخذا لها من أمتك الفصيل ما في الضرع إذا امتصه ولم يبق فيه من اللبن شيئا، وقيل: هي من مكة الله تعالى إذا استقصاه بالهلاك، ثم المراد بالأولية الأولية بحسب الزمان، وقيل: بحسب الشرف، ويؤيد الأول ما أخرجه الشيخان عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن أول بيت وضع للناس فقال: المسجد الحرام ثم بيت المقدس فقيل: كم بينهما؟ فقال: أربعون سنة، واستشكل ذلك بأن باني المسجد الحرام إبراهيم عليه السلام وباني الأقصى داود ثم ابنه سليمان عليهما السلام، ورفع قبته ثمانية عشر ميلا وبين بناء إبراهيم وبنائهما مدة تزيد على الأربعين بأمثالها، وأجيب بأن الوضع غير البناء والسؤال عن مدة ما بين وضعيهما لا عن مدة ما بين بناءيهما فيحتمل أن واضع الأقصى بعض الأنبياء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 قبل داود وابنه عليهما السلام ثم بيناه بعد ذلك، ولا بد من هذا التأويل- قاله الطحاوي- وأجاب بعضهم على تقدير أن يراد من الوضع البناء بأن باني المسجد الحرام والمسجد الأقصى هو إبراهيم عليه السلام وأنه بني الأقصى بعد أربعين سنة من بنائه المسجد الحرام وادعى فهم ذلك من الحديث فتدبر. وورد في بعض الآثار أن أول من بنى البيت الملائكة وقد بنوه قبل آدم عليه السلام بألفي عام، وعن مجاهد وقتادة والسدي ما يؤيد ذلك، وحكي أن بناء الملائكة له كان من ياقوتة حمراء ثم بناه آدم ثم شيث ثم إبراهيم ثم العمالقة ثم جرهم ثم قصي ثم قريش ثم عبد الله بن الزبير ثم الحجاج واستمر بناء الحجاج إلى الآن إلا في الميزاب والباب والعتبة ووقع الترميم في الجدار والسقف غير مرة وجدد فيه الرخام، وقيل: إنه نزل مع آدم من الجنة ثم رفع بعد موته إلى السماء، وقيل: بني قبله ورفع في الطوفان إلى السماء السابعة، وقيل: الرابعة، وذهب أكثر أهل الأخبار أن الأرض دحيت من تحته، وقد أسلفنا لك ما ينفعك هنا فتذكر مُبارَكاً أي كثير الخير لما أنه يضاعف فيه ثواب العبادة قاله ابن عباس، وقيل: لأنه يغفر فيه الذنوب لمن حجه وطاف به واعتكف عنده. وقال القفال: يجوز أن تكون بركته ما ذكر في قوله تعالى: يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ [القصص: 57] ، وقيل: بركته دوام العبادة فيه ولزومها، وقد جاءت البركة بمعنيين: النمو وهو الشائع، والثبوت ومنه البركة لثبوت الماء فيها والبرك الصدر لثبوت الحفظ فيه وتبارك الله سبحانه بمعنى ثبت ولم يزل، ووجه الكرماني كونه مباركا بأن الكعبة كالنقطة وصفوف المتوجهين إليها في الصلوات كالدوائر المحيطة بالمركز ولا شك أن فيهم أشخاصا أرواحهم علوية وقلوبهم قدسية وأسرارهم نورانية وضمائرهم ربانية ومن كان في المسجد الحرام يتصل أنوار تلك الأرواح الصافية المقدسة بنور روحه فتزداد الأنوار الإلهية في قلبه وهذا غاية البركة ثم إن الأرض كرية وكل آن يفرض فهو صبح لقوم ظهر لثان عصر لثالث وهلم جرا، فليست الكعبة منفكة قط عن توجه قوم إليها لأداء الفرائض فهو دائما كذلك والمنصوب حال من الضمير المستتر في الظرف الواقع صلة. وجوز أبو البقاء جعله حالا من الضمير في وُضِعَ وَهُدىً لِلْعالَمِينَ أي هاد لهم إلى الجنة التي أرادها سبحانه أو هاد إليه جل شأنه بما فيه من الآيات العجيبة كما قال تعالى: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ كإهلاك من قصده من الجبابرة بسوء كأصحاب الفيل وغيرهم وعدم تعرض ضواري السباع للصيود فيه وعدم نفرة الطير من الناس هناك، وإن أيّ ركن من البيت وقع الغيث في مقابلته كان الخصب فيما يليه من البلاد فإذا وقع في مقابلة الركن اليماني كان الخصب باليمن، وإذا كان في مقابلة الركن الشامي كان الخصب بالشام، وإذا عم البيت كان في جميع البلدان وكقلة الجمرات على كثرة الرماة إلى غير ذلك وعدوا منه انحراف الطير عن موازاته على مدى الأعصار، وفيه كلام للمحدثين لأن منها ما يعلوه، وقيل: لا يعلوه إلا ما به علة للاستشفاء، واعترض بأن العقاب علته لأخذ الحية، وقيل: إن الطير المهدر دمها تعلوه والحمام مع كثرته لا يعلوه وبه جمع بعضهم بين الكلامين- ومع هذا في القلب منه شيء- فقد نقل بعض الناس أنه شاهد أن الطير مطلقا تعلوه في بعض الأحايين والضمير المجرور عائد على البيت، والظرفية مجازية وإلا لما صح عدّ هذه الآيات، والجملة إما مستأنفة جيء بها بيانا تفسيرا للهدى، وإما حال أخرى ولا بأس في ترك الواو في الجملة الاسمية الحالية على ما أشار إليه عبد القاهر وغيره، وجوز أن تكون حالا من الضمير في العالمين والعامل فيه هدى، أو من الضمير في مُبارَكاً وهو العامل فيها، أو يكون صفة لهدى كما أن العالمين كذلك، وقوله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 تعالى: مَقامُ إِبْراهِيمَ مبتدأ محذوف الخبر أو خبر محذوف المبتدأ أي منها أو أحدها مقام إبراهيم، واختار الحلبي الأخير، وقيل: بدل البعض من الكل واليه ذهب أبو مسلم، وجوز بعضهم أن يكون عطف بيان وصح بيان الجمع بالمفرد بناء على اشتمال المقام على آيات متعددة لان أثر القدمين في الصخرة الصماء آية وغوصهما فيها إلى الكعبين آية وإلانة بعض هذا النوع دون بعض آية وإبقاؤه على ممر الزمان آية وحفظه من الأعداء آية أو على أن هذه الآية الواحدة لظهور شأنها وقوة دلالتها على قدرة الله تعالى ونبوة إبراهيم عليه السلام منزلة منزلة آيات كثيرة، وأيد ذلك بما أخرجه ابن الأنباري عن مجاهد أنه كان يقرأ- فيه آية بينة- بالتوحيد، وفيه أن هذا وإن ساغ معنى إلا أنه يرد عليه أن آياتٌ نكرة، ومَقامُ إِبْراهِيمَ معرفة، وقد صرح أبو حيان أنه لا يجوز التخالف في عطف البيان بإجماع البصريين والكوفيين، ثم إن سبب هذا الأثر في هذا المقام ما ورد في الأثر عن سعيد بن جبير أنه لما ارتفع بنيان الكعبة قام على هذا الحجر ليتمكن من رفع الحجارة فغاصت فيه قدماه وقد تقدم غير ذلك في ذلك أيضا وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً الضمير المنصوب عائد إلى مقام إبراهيم بمعنى الحرم كله على ما قاله ابن عباس لا موضع القدمين فقط، ويمكن أن يكون هناك استخدام، وقال الجصاص: أورد الآيات المذكورات في الحرم، ثم قال: وَمَنْ دَخَلَهُ الله فيجب أن يكون المراد جميع الحرم، والجملة إما ابتدائية وليست بشرطية وإما شرطية عطف كما قال غير واحد من حيث المعنى على مَقامُ لأنه في المعنى أمن من دخله أي ومنها أو ثانيها أمن من دخله أو- فيه آيات مقام إبراهيم- وأمن من دخله وعلى هذا لا حاجة إلى ما تكلف في توجيه الجمعية لأن الآيتين نوع من الجملة كالثلاثة والأربعة، ويجوز أن يذكر هاتان الآيتان ويطوي ذكر غيرهما دلالة على تكاثر الآيات، ومثل هذا الطي واقع في الأحاديث النبوية والأشعار العربية، فالأول كرواية «حبب إليّ من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة» على ما هو الشائع وإن صححوا عدم ذكر ثلاث، وأما الثاني فمنه قول جرير: كانت حنيفة (أثلاثا) فثلثهم ... من العبيد (وثلث من مواليها) ومَنْ إما للعقلاء أو لهم ولغيرهم على سبيل التغليب لأنه يأمن فيه الوحش والطير بل والنبات فحينئذ يراد بالأمن ما يصح نسبته إلى الجميع بضرب من التأويل، وعلى التقدير الأول يحتمل أن يراد بالأمن الأمن في الدنيا من نحو القتل والقطع وسائر العقوبات فقد أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في الآية أنه قال: كان الرجل في الجاهلية يقتل الرجل ثم يدخل الحرم فيلقاه ابن المقتول أو أبوه فلا يحركه. وأخرج ابن المنذر عن عمر بن الخطاب أنه قال: لو وجدت فيه قاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه. وأخرج ابن جرير عن ابنه أنه قال: لو وجدت قاتل عمر في الحرم ما هجته، وعن ابن عباس لو وجدت قاتل أبي في الحرم لم أتعرض له، ومذهبه في ذلك أن من قتل أو سرق في الحل ثم دخل الحرم فإنه لا يجالس ولا يكلم ولا يؤذى ولكنه يناشد حتى يخرج فيؤخذ فيقام عليه ما جرّ فإن قتل أو سرق في الحرم أقيم عليه في الحرم والروايات عنه في ذلك كثيرة وقد تقدم تفصيل الأقوال في المسألة، وأما أن يراد به كما ذهب إليه الصادق رضي الله تعالى عنه الأمن في الآخرة من العذاب، فقد أخرج عبد بن حميد وغيره عن يحيى بن جعدة أن من دخله كان آمنا من النار، وأخرج البيهقي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من دخل البيت دخل في حسنة، وخرج من سيئة مغفورا له، وروي من غير طريق عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: من مات في أحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة، وفي رواية عن ابن عمر قال: من قبر بمكة مسلما بعث آمنا يوم القيامة، ويجوز إرادة العموم بأن يفسر بالأمن في الدنيا والآخرة ولعله الظاهر من إطلاق اللفظ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ جملة ابتدائية فيها حج والخبر لِلَّهِ وعَلَى النَّاسِ متعلق بما تعلق به الخبر أو بمحذوف وقع حالا من المستتر في الجار والمجرور والعامل فيه الاستقرار. وجوز أن يكون عَلَى النَّاسِ خبرا، ولِلَّهِ متعلق بما تعلق به، ولا يجوز أن يكون حالا من المستكن في الناس لأن العامل في الحال حينئذ يكون معنى، والحال لا يتقدم على العامل المعنوي عند الجمهور، وجوزه ابن مالك إذا كان الحال ظرفا أو حرف جر وعامله كذلك بخلاف الظرف وحرف الجر فإنهما لا يتقدمان على عاملهما المعنوي، وجوز أن يرتفع الحج بالجار الأول أو الثاني وهو في اللغة مطلق القصد أو كثرته إلى من يعظم، والمراد به هنا قصد مخصوص غلب فيه حتى صار حقيقة شرعية، وأل في البيت للعهد، وقرأ حمزة والكسائي. وعاصم في رواية حفص حِجُّ بالكسر كعلم وهو لغة نجد مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا بدل من الناس بدل البعض من الكل والضمير في البدل مقدر أي منهم، وقيل: بدل الكل من الكل، والمراد من الناس خاص ولا يحتاج إلى ضمير، وقيل: خبر لمحذوف أي هم من استطاع أو الواجب عليه من استطاع. وجوز أن يكون منصوبا بإضمار فعل أعني أعني، وأن يكون فاعل المصدر وهو مضاف إلى مفعوله أي- ولله على الناس أن يحج من استطاع منهم البيت- وفيه مناقشة مشهورة، ومَنْ على هذه الأوجه موصولة. وجوز أن تكون شرطية والجزاء محذوف يدل عليه ما تقدم، أو هو نفسه على الخلاف المقرر بين البصريين والكوفيين ولا بد من ضمير يعود من جملة الشرط عَلَى النَّاسِ والتقدير من استطاع منهم إليه سبيلا فلله عليه أن يحج، ويترجح هذا بمقابلته بالشرط بعده، والضمير المجرور للبيت أو للحج لأنه المحدث عنه، وهو متعلق بالسبيل لما فيه من معنى الإفضاء وقدم عليه للاهتمام بشأنه، والاستطاعة في الأصل استدعاء طواعية الفعل وتأتيه، والمراد بالاستدعاء الإرادة وهي تقتضي القدرة فأطلقت على القدرة مطلقا أو بسهولة فهي أخص منها وهو المراد هنا، وسيأتي تحقيقه قريبا إن شاء الله تعالى، والقدرة إما بالبدن أو بالمال أو بهما. وإلى الأول ذهب الإمام مالك فيجب الحج عنده على من قدر على المشي والكسب في الطريق، وإلى الثاني ذهب الإمام الشافعي ولذا أوجب الاستنابة على الزمن إذا وجد أجرة من ينوب عنه، وإلى الثالث ذهب إمامنا الأعظم رضي الله تعالى عنه، ويؤيده ما أخرجه البيهقي، وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: السبيل أن يصح بدن العبد ويكون له ثمن زاد وراحلة من غير أن يجحف به. واستدل الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه بما أخرجه الدارقطني عن جابر بن عبد الله قال: «لما نزلت هذه الآية وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا قام رجل فقال: يا رسول الله ما السبيل؟ قال: الزاد والراحلة» وروي هذا من طرق شتى وهو ظاهر فيما ذهب إليه الشافعي حيث قصر الاستطاعة على المالية دون البدنية، وهو مخالف لما ذهب إليه الإمام مالك مخالفة ظاهرة، وأما إمامنا فيؤول ما وقع فيه بأنه بيان لبعض شروط الاستطاعة بدليل أنه لو فقد أمن الطريق مثلا لم يجب الحج عليه، والظاهر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يتعرض لصحة البدن لظهور الأمر كيف لا والمفسر في الحقيقة هو السبيل الموصل لنفس المستطيع إلى البيت وذا لا يتصور بدون الصحة، ومما يؤيد أن ما في الحديث بيان لبعض الشروط أنه ورد في بعض الروايات الاقتصار على واحد مما فيه، فقد أخرج الدارقطني أيضا عن علي كرم الله تعالى وجهه أن النبي صلّى الله عليه وسلم سئل عن السبيل فقال: أن تجد ظهر بعير ولم يذكر الزاد. هذا واستدل بالآية على أن الاستطاعة قبل الفعل وفساد القول بأنها معه، ووجه الاستدلال ظاهر، وأجيب بأن الاستطاعة التي ندعي أنها مع الفعل هي حقيقة القدرة التي يكون بها الفعل وتطلق الاستطاعة على معنى آخر هو سلامة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 الأسباب والآلات والجوارح أي كون المكلف بحيث سلمت أسبابه وآلاته وجوارحه ولا نزاع لنا في أن هذه الاستطاعة قبل الفعل وهي مناط صحة التكليف وما في الآية بهذا المعنى كذا قالوا. وتحقيق الكلام في هذا المقام على ما قالوا: إن المشهور عن الأشعري أن القدرة مع الفعل بمعنى أنها توجد حال حدوثه وتتعلق به في هذه الحال ولا توجد قبله فضلا عن تعلقها به، ووافقه على ذلك كثير من المعتزلة كالنجار ومحمد بن عيسى وابن الراوندي، وأبي عيسى الوراق، وغيرهم، وقال أكثر المعتزلة: القدرة قبل الفعل وتتعلق به حينئذ ويستحيل تعلقها به قبل حدوثه، ثم اختلفوا في بقاء القدرة فمنهم من قال: ببقائها حال وجود الفعل وإن لم تكن القدرة الباقية قدرة عليه ومنهم من نفاه، ودليلهم على ذلك وجوه. الأول أن تعلق القدرة بالفعل معناه الإيجاد وإيجاد الموجود محال لأنه تحصيل الحاصل بل يجب أن يكون الإيجاد قبل الوجود ولهذا صح أن يقال: أوجده فوجد، وأجيب بأن هذا مبني على أن القدرة الحادثة مؤثرة وهو ممنوع وعلى تقدير تسليمه يقال: إيجاد الموجود بذلك الوجود الذي هو أثر ذلك الإيجاد جائز بمعنى أن يكون ذلك الوجود الذي هو به موجود في زمان الإيجاد مستندا إلى الموجد ومتفرعا على إيجاده، والمستحيل هو إيجاد الموجود بوجود آخر وتحقيقه أن التأثير مع حصول الأثر بحسب الزمان، وإن كان متقدما عليه بحسب الذات وهذا التقدم هو المصحح لاستعمال الفاء بينهما. الثاني إن جاز تعلق القدرة حال الحدوث يلزم القدرة على الباقي حال بقائه والتالي باطل، بيان الملازمة أن المانع من تعلق القدرة به ليس إلا كونه متحقق الوجود والحادث حال حدوثه متحقق الوجود أيضا، وأجيب بأنا نلتزمه لدوام وجوده بدوام تعلق القدرة به أو نفرق بما يبطل به الملازمة من احتياج الموجود عن عدمه إلى المقتضي دون الباقي فلو لم تتعلق القدرة بالأول لبقي على عدمه وقد فرض وجوده هذا خلفه ولو لم تتعلق بالثاني لبقي على الوجود وهو المطابق للواقع، أو ننقض الدليل أولا بتأثير العلم أو العالمية بالاتفاق فإن ذلك مشروط حال حدوث الفعل دون بقائه، وثانيا بتأثير الفعل في كون الفاعل فاعلا فإن الفعل مؤثر في ذلك حال الحدوث وبتقدير كون الفعل باقيا لا يؤثر حال البقاء، وثالثا بمقارنة الإرادة إذ يوجبونها حال الحدوث دون البقاء فكذا الحال في القدرة. الثالث أن كون القدرة مع الفعل يوجب حدوث قدرة الله تعالى أو قدم مقدوره وكلاهما باطلان بل قدرته أزلية وتعلقها في الأزل بمقدوراته فقد ثبت تعلق القدرة بمقدوراتها قبل الحدوث ولو كان ممتنعا في القدرة الحادثة لكان ممتنعا في القدرة القديمة وليس فليس، وأجيب بأن القدرة القديمة الباقية مخالفة في الماهية للقدرة الحادثة التي لا يجوز بقاؤها عندنا فلا يلزم من جواز تقدمها على الفعل جواز تقدم الحادثة عليه ثم إن القديمة متعلقة في الأزل بالفعل تعلقا معنويا لا يترتب عليه وجود الفعل ولها تعلق آخر به حال حدوثه موجب لوجوده فلا يلزم من قدمها مع تعلقها المعنوي قدم آثارها. «الرابع» لأنه يلزم على ذلك التقدير أن لا يكون الكافر في زمان كفره مكلفا بالإيمان أنه غير مقدور له في تلك الحالة المتقدمة عليه بل نقول: يلزم أن لا يتصور عصيان من أحد إذ مع الفعل لا عصيان وبدونه لا قدرة فلا تكليف فلا عصيان، وأيضا أقوى أعذار المكلف التي يجب قبولها لدفع المؤاخذة عنه هو كون ما كلف به غير مقدور له فإذا لم يكن قادرا على الفعل قبله وجب رفع المؤاخذة عنه بعدم الفعل المكلف به وهو باطل بإجماع الأمة، وأيضا لو جاز تكليف الكافر بالإيمان مع كونه غير مقدور له فليجز تكليفه بخلق الجواهر والأعراض، وأجيب بأنه يجوز تكليف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 المحال عندنا جواز التكليف بالخلق المذكور، ولنا أن نفرق بأن ترك الإيمان إنما هو بقدرته بخلاف عدم الجواهر والأعراض فإنه ليس مقدورا له أصلا فلا يلزم من جواز التكليف بالإيمان جواز التكليف بخلقها، وبالجملة فكون الشيء مقدورا الذي هو شرط التكليف عندنا أن يكون الشيء أو ضده متعلقا للقدرة، وهذا حاصل في الإيمان لأن تركه لتلبسه بضده مقدور له حال كفره بخلاف إحداث الجواهر والأعراض فإنه غير مقدور له أصلا لا فعلا ولا تركا فلا يجوز التكليف به، وأما ما ذكر من قضية الأعذار ووجوب قبولها فمبني على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين وقد أقيمت الأدلة على بطلانهما في محله كذا في المواقف وشرحه. ودليل ما شاع عن الأشعري قيل: هو أن القدرة عرض يخلقه الله تعالى في الحيوان يفعل به الأفعال الاختيارية فيجب أن تكون مقارنة للفعل بالزمان لا سابقة عليه وإلا لزم وقوع الفعل بلا قدرة لما برهن عليه من امتناع بقاء الأعراض واعترض عليه بما في أدلة امتناع بقاء الأعراض من النظر القوي وأنه قد يقال على تقدير تسليم الامتناع المذكور لا نزاع في إمكان تجدد الأمثال عقيب الزوال فمن أين يلزم وقوع الفعل بدون القدرة؟ وأجيب بأنا إنما ندعي لزوم ذلك إذا كانت القدرة التي بها الفعل هي القدرة السابقة وأما إذا جعلتموها المثل المتجدد المقارن فقد اعترفتم بأن القدرة التي بها الفعل لا تكون إلا مقارنة، ثم إن ادعيتم أنه لا بد لها من أمثال تقع حتى لا يمكن الفعل بأول ما يحدث من القدرة فعليكم البيان. وفيه أن هذا قول بأن نفي وجود المثل السابق ليس داخلا في دعوى الأشعري وهو خلاف ما علم مما تقدم في تقرير مذهبه، وذكر في المواقف دليلا آخر للأشعري على ما ادعاه ونظر فيه أيضا- هذا كلامهم- والحق عندي في هذه المسألة أن شرط التكليف هو القوة التي تصير مؤثرة بإذن الله تعالى عند انضمام الإرادة التابعة الإرادة الله تعالى لقوله سبحانه: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: 286] وإيضاحه أنه تعالى كما أنه غني بالذات عن العالمين كذلك حكيم جواد وكما أن غناه الذاتي أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد كذلك مقتضى جوده ورحمته مراعاة ما اقتضته حكمته سبحانه كما أشار إليه العضد في عيون الجواهر، وأطال الكلام فيه أبو عبد الله الدمشقي في شفاء العليل، ومن المعلوم أن الحكمة لا تقتضي أن يؤمر بالفعل من لا يقدر على الامتثال وينهى عنه من لا يقدر على الاجتناب فلا بد بمقتضى الحكمة التي رعاها سبحانه فيما خلق وأمر فضلا ورحمة أن يكون التكليف بحسب الوسع وإذا كان كذلك كان شرط التكليف هو القوة التي تصير مؤثرة إذا انضم إليها الإرادة وهذه قبل الفعل، والقدرة التي هي مع الفعل هي القدرة المستجمعة لشرائط التأثير التي من جملتها انضمام الإرادة إليها، وبهذا جمع الإمام الرازي- كما في المواقف- بين مذهب الأشعري القائل بأن القدرة مع الفعل، والمعتزلة القائلين بأنها قبله، وقال: لعل الأشعري أراد بالقدرة القوة المستجمعة لشرائط التأثير فلذلك حكم بأنها مع الفعل وأنها لا تتعلق بالضدين، والمعتزلة أرادوا بالقدرة مجرد القوة العضلية فلذلك قالوا بوجودها قبل الفعل وتعلقها بالأمور المتضادة وهو جمع صحيح، وقول السيد قدس سره- في توجيه البحث الذي ذكره صاحب المواقف فيه بأن القدرة الحادثة ليست مؤثرة عند الشيخ فكيف يصح أن يقال: إنه أراد بالقدرة القوة المستجمعة لشرائط التأثير- مدفوع بما تبين في الإبانة التي هي آخر مصنفاته. والمعتمد من كتبه كما صرح به ابن عساكر والمجد بن تيمية وغيرهما أن الشيخ قائل بالتأثير للقدرة المستجمعة للشرائط لكن لا استقلالا كما يقوله المعتزلة بل بإذن الله تعالى وهو معنى الكسب عنده، وأما قوله في شرح المواقف: إن أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله تعالى وحدها ليس لقدرتهم تأثير فيها بل الله تعالى أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختيارا فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارنا لهما فيكون فعل العبد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 مخلوقا لله تعالى إبداعا وإحداثا ومكسوبا للعبد، والمراد بكسبه إياه مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك منه تأثير ومدخل في وجوده سوى كونه محلا له، وهو مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري، ففيه بحث من وجوه. «أما أولا» فلأن هذا ليس مذهب الشيخ المذكور في آخر تصانيفه التي استقر عليها الاعتماد وذكره في غيره إن سلم لا يعول عليه لكونه مرجوحا مرجوعا عنه «وأما ثانيا» فلأن التكليف في صرائح الكتاب والسنة إنما تعلق أمرا أو نهيا بالأفعال الاختيارية أنفسها لا بمقارنة القدرة والإرادة لها فمكسوب العبد نفس الفعل الاختياري، والمراد بكسبه إياه تحصيله إياه بتأثير قدرته بإذن الله تعالى لا مستقلا، فالقول بأن المراد بكسب العبد للفعل هو مقارنة الفعل لقدرته، وإرادته من غير تأثير لا يوافق ما اقتضاه صرائح الكتاب والسنة ونصوص الإبانة، ويزيده وضوحا حديث أبي هريرة «أنه لما نزل إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة: 284] اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم جثوا على الركب فقالوا: يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها» الحديث فإنه صريح بأن الذي كلفوا به ما يطيقونه من نفس الأعمال وهو نفس الصلاة وأخواتها لا مقارنتها لقدرتهم وإرادتهم وأقرهم صلى الله تعالى عليه وسلم على ذلك «وأما ثالثا» فلأن مقارنة الفعل لقدرة العبد وإرادته لو كانت هي الكسب لكانت هي المكلف بها ولو كانت كذلك لكان التكليف بما لا يطاق واقعا لأن المقارنة أمر يترتب على فعل الله تعالى أي على إيجاد الله تعالى الفعل الاختياري مقارنا لهما وما يترتب على فعل الله تعالى ليس مقدورا للعبد أصلا لأن معنى كون الشيء مقدورا له أن يكون ممكن الإيقاع بقدرته عند تعلق مشيئته به الموافقة لمشيئة الله تعالى كما هو واضح من حديث «من كظم غيظه وهو قادر على أن ينفذه» وما يترتب على فعل الله تعالى لا يكون مقدورا للعبد بهذا المعنى إذ لو كان مقدورا له ابتداء لزم أن لا يكون مترتبا على فعل الله تعالى أو بواسطة لزم أن يكون فعل الله تعالى المترتب عليه هذا مقدورا للعبد واللازم باطل بشقيه، بعد القول، بنفي التأثير أصلا فكذا الملزوم «وأما رابعا» فلأن المقارنة لكونها مترتبة على فعل الله تعالى لا تختلف بالنسبة إلى العبد صعوبة وسهولة فلو كانت هي المكلف بها لاستوى بالنسبة إلى العبد التكليف بأشق الأعمال والتكليف بأسهلها مع أن نص الكتاب التكليف بحسب الوسع ونص السنة أن المملوك لا يكلف إلا ما يطيق شاهدان على التفاوت كما أن البديهة تشهد بذلك، واعترض هذا من وجوه. الأول أن القول: بأن من المعلوم أن الحكمة لا تقتضي أن يؤمر بالفعل من لا يقدر على الامتثال. يقتضي أن أفعال الله تعالى وأحكامه لا بدّ فيها من حكمة ومصلحة وهو مسلم لكن لا نسلم أنه لا بدّ أن تظهر هذه المصلحة لنا إذ الحكيم لا يلزمه اطلاع من دونه على وجه الحقيقة- كما قاله القفال في محاسن الشريعة- وحينئذ فما المانع من أن يقال هناك مصلحة لم نطلع عليها. ويجاب بأنا لم ندع سوى أن الله تعالى قد راعى الحكمة فيما أمر وخلق تفضلا ورحمة لا وجوبا وهذا ثابت بقوله تعالى: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل: 88] وقوله سبحانه: أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة: 7] وبالإجماع المعصوم عن الخطأ بفضل الله تعالى وإن مقتضى الحكمة أن لا يطلب حصول شيء إلا ممن يتمكن منه ويقدر عليه كما تشهد له النصوص ولم ندع وجوب ظهور وجه الحكمة في جميع أفعاله وأحكامه ولا ما يستلزم ذلك وبيان وجه الحكمة لحكم واحد لا يستلزم دعوى الكلية ويؤول هذا إلى أن الله تعالى أطلعنا على الحكمة في هذا مع عدم وجوب الاطلاع عليه. والثاني أن القول بأن التكليف في صرائح الكتاب والسنة إنما تعلق إلخ فيه أنه ليس المراد مطلق المقارنة بل المقارنة على جهة التعلق فالكسب عبارة عن تعلق القدرة الحادثة بالمقدور من غير تأثير كما في عبارة غير واحد، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 فالأوامر والنواهي متعلقة بالأفعال التي هي اختيارية في الظاهر باعتبار هذا التعلق الذي لا تأثير معه وادعاء أنها صرائح في التعلق مع التأثير ممنوع بل هي محتملة ولو سلم أنها ظاهرة في التأثير، فالظاهر قد يعدل عنه لدليل خلافه، والقول بأنا لا نفهم من تعلق القدرة إلا تأثيرها وإلا فليست بقدرة، فكيف يثبت للقدرة تعلق بلا تأثير سؤال مشهور «وجوابه» ما في شرح المواقف وغيره من أن التأثير من توابع القدرة، وقد ينفك عنها ويجاب بأن تفسير الكسب- بالتعلق الذي لا تأثير معه مردا به التحصيل بحسب ظاهر الأمر فقط- مصادم للنصوص الناطقة بأن العبد متمكن من إيجاد أفعاله الاختيارية بإذن الله تعالى، ولا دليل على خلافه يوجب العدول، والله خالق كل شيء لا ينافي التأثير بالإذن على أن تعلق القدرة تابع للإرادة وتعلقها على القول بنفي التأثير بالكلية غير صحيح كما يشير إليه كلام الجلال الدواني في بيان مبادئ الأفعال الاختيارية، ويوضحه كلام حجة الإسلام الغزالي في كتاب التوحيد والتوكل من الإحياء، وأما ما في شرح المواقف وغيره من أن التأثير قد ينفك عن القدرة فنحن نقول به إذ ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن وإنما الإنكار على نفي التأثير بالكلية عن القدرة الحادثة والاستدلال بما ذكره حجة الإسلام في الاقتصاد من أن القدرة الأزلية متعلقة في الأزل بالحادث ولا حادث فصح التعلق ولا تأثير، ويجوز أن تكون القدرة الحادثة كذلك مجاب عنه بأن القدرة لا تؤثر إلا على وفق الإرادة والإرادة تعلقت أزلا بإيجاد الأشياء بالقدرة في أوقاتها اللائقة بها في الحكمة فعدم تأثيرها قبل الوقت لكونها مؤثرة على وفق الإرادة لا مطلقا فلا يجب تأثيرها قبل الوقت ويجب تأثيرها فيه والقدرة الحادثة على القول بنفي تأثيرها بالكلية لا يصدق عليها أنها تؤثر وفق الإرادة فلا يصح قياسها على القديمة. والحاصل أن كل تعلق للقديمة على وفق الإرادة لا ينفك عنه التأثير في وقته بخلاف الحادثة فإنه لا تأثير لها أصلا على القول بنفي التأثير عنها كليا فلا تعلق لها بالتأثير على وفق الإرادة. والثالث أن القول في الاعتراض الثالث إنه لو كانت كذلك لكان التكليف بما لا يطاق واقعا إلخ يقال عليه: نلتزم وقوعه عند الأشعري ولا محذور فيه، ويجاب بأنه قد حقق في موضعه أن الإمام الأشعري لم ينص على ذلك ولا يصح أخذه من كلامه فالتزام وقوعه عنده التزام ما لم يقل به لا صريحا ولا التزاما، والقول إنه لا محذور فيه إنما يصح بالنظر إلى الغنى الذاتي وأما بالنظر إلى أنه تعالى جواد حكيم فالتزامه مصادمة للنص رأي محذور أشنع من هذا. والرابع أن القول هناك أيضا إن المقارنة لو كانت هي الكسب لكانت هي المكلف بها غير لازم فإن الكسب يطلق على المعنى المصدري ويطلق على المفعول أي المكسوب وهو نفس الأمر لا الكسب بمعنى المقارنة أو تعلق القدرة الحادثة بالفعل فمعنى كسب تعلقت قدرته بالفعل، وإن شئت قلت: قارنت قدرته الفعل فكان الفعل مكسوبا وهو المكلف به، ويجاب بأن الكسب الحقيقي الوارد في الكتاب والسنة معناه تحصيل العبد ما تعلقت به إرادته التابعة لإرادة الله تعالى بقدرته المؤثره بإذنه وأن مكسوبه ما حصله بقدرته المذكورة فمعنى كون الفعل المكسوب مكلفا به هو أن العبد المكلف مطلوب منه تحصيله بالكسب بالمعنى المصدري لأن المكسوب هو الحاصل بالمصدر فإذا كان المكسوب مكلفا به كان الكسب بالمعنى المصدري مكلف به قطعا لامتناع حصول المكسوب من غير قيام المعنى المصدري بالمكلف ضرورة انتفاء الحاصل بالمصدر عند انتفاء قيام المصدر بالمكلف فظهرت الملازمة في الشرطية «والخامس» أن القول في الاعتراض إن المقارنة لكونها أمرا مترتبا على فعل الله تعالى لا تختلف إلخ، فيه أمران: الأول أنا لا نسلم التلازم بين كون المقارنة هي المكلف بها وبين عدم الاختلاف وأي مانع من أن تكون مختلفة باعتبار أحوال الشخص عندها فتارة يخلق الله تعالى فيه صبرا وعزما وتارة جزعا وفتورا إلى غير ذلك مما يرجع إلى سلامة البنية ومقابله أو غيرهما من الاعراض والأحوال التي يخلقها الله تعالى ويصرف عبده فيها كيف شاء مما يوجب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 ألما لذة. والثاني أن ما ذكرتموه مشترك الإلزام إذ يقال إذا كانت قدرة العبد مؤثرة بإذن الله تعالى فبأي وجه وقع الاختلاف حتى كان هذا سهلا وهذا صعبا وكلاهما مقدور وهما متساويان في الإمكان، ويجاب أما عن الأول بأن التلازم بين كونها مترتبة على فعل الله تعالى وبين عدم اختلافها متحقق لأنها إذا كانت الكسب بالمعنى المصدري كانت تحصيلا للمكسوب والتحصيل لكونه قائما بالمكلف تتفاوت درجاته صعوبة وسهولة قطعا ولهذا قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: «صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب» والمقارنة لكونها أمرا مرتبا على فعل الله تعالى ليست قائمة بالعبد فلا تتفاوت بالنسبة إليه أصلا، والإيراد بتجويز اختلافها بكون بعضها بخلق الله تعالى عنده صبرا في العبد إلخ خارج عن المقصود لأن العبارة صريحة في أن المقصود عدم اختلافها بالنسبة إلى العبد صعوبة وسهولة لا مطلق الاختلاف، وأما عن الثاني فبأنه قد دلت النصوص على تفاوت درجات القوة والبطش كقوله تعالى: كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً [غافر: 82] وقوله سبحانه: كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً [غافر: 21] وقوله عز شأنه: فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً [الزخرف: 8] وباختلاف درجات ذلك في الأقوياء التابع لاستعداداتهم الذاتية الغير المجعولة وقع الاختلاف في الأعمال صعوبة وسهولة، هذا ما ظفرنا به من تحقيق الحق من كتب ساداتنا قدس الله تعالى أسرارهم وجعل أعلى الفردوس قرارهم، وإنما استطردت هذا المبحث هنا مع تقدم إشارات جزئية إلى بعض منه لأنه أمر مهم جدا لا تنبغي الغفلة عنه فاحفظه فإنه من بنات الحقاق لا من حوانيت الأسواق، والله تعالى الموفق لا رب غيره. وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ يحتمل أن يراد بمن كفر من لم يحج وعبر عن ترك الحج بالكفر تغليظا وتشديدا على تاركه كما وقع مثل ذلك فيما أخرجه سعيد بن منصور وأحمد وغيرهما عن أبي أمامة من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «من مات ولم يحج حجة الإسلام لم يمنعه مرض حابس أو سلطان جائر أو حاجة ظاهرة فليمت على أي حالة شاء يهوديا أو نصرانيا» ومثله ما روي بسند صحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال: لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فلينظروا كل من كان له جدة فلم يحج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين، ويحتمل إبقاء الكفر على ظاهره بناء على ما أخرج ابن جرير وعبد بن حميد وغيرهما عن عكرمة «أنه لما نزلت وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً [آل عمران: 85] الآية قال اليهود: فنحن مسلمون فقال لهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: إن الله تعالى فرض على المسلمين حج البيت فقالوا: لم يكتب علينا وأبوا أن يحجوا فنزل وَمَنْ كَفَرَ» الآية. ومن طريق الضحاك أنه لما نزلت آية الحج جمع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أهل الملل مشركي العرب والنصارى واليهود والمجوس والصابئين فقال: إن الله تعالى قد فرض عليكم الحج فحجوا البيت فلم يقبله إلا المسلمون وكفرت به خمس ملل قالوا: لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نستقبله فأنزل الله سبحانه وَمَنْ كَفَرَ إلخ وإلى إبقائه على ظاهره ذهب ابن عباس، فقد أخرج البيهقي عنه أنه قال في الآية: وَمَنْ كَفَرَ بالحج فلم ير حجه برا ولا تركه مأثما، وروى ابن جرير أن الآية لما نزلت قام رجل من هذيل فقال: يا رسول الله من تركه كفر؟ قال: من تركه لا يخاف عقوبته ومن حج لا يرجو ثوابه فهو ذاك، وعلى كلا الاحتمالين لا تصلح الآية دليلا لمن زعم أن مرتكب الكبيرة كافر، ومَنْ تحتمل أن تكون شرطية وهو الظاهر وأن تكون موصولة، وعلى الاحتمالين استغني فيما بعد الفاء عن الرابط بإقامة الظاهر مقام المضمر إذ الأصل فإن الله غني عنهم. ويجوز أن يبقى الجمع على عمومه ويكتفي عن الضمير الرابط بدخول المذكورين فيه دخولا أوليا والاستغناء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 في هذا المقام كناية عن السخط على ما قيل، ولهذا صح جعله جزاء وإن أبيت فهو دليله، وفي الآية- كما قالوا- فنون من الاعتبارات المعربة عن كمال الاعتناء بأمر الحج والتشديد على تاركه ما لا مزيد عليه، وعدوا من ذلك إيثار صيغة الخبر وإبرازها في صورة الجملة الاسمية الدالة على الثبات والدوام على وجه يفيد أنه حق واجب لله تعالى في ذمم الناس وتعميم الحكم أولا وتخصيصه ثانيا وتسمية ترك الحج كفرا من حيث إنه فعل الكفرة وذكر الاستغناء والعالمين. وذكر الطيبي أن في تخصيص اسم الذات الجامع وتقديم الخبر الدلالة على أن ذلك عبادة لا ينبغي أن تختص إلا بمعبود جامع للكمالات بأسرها وأن في إقامة المظهر وهو البيت مقام المضمر بعد سبقه منكرا المبالغة في وصفه أقصى الغاية كأنه رتب الحكم على الوصف المناسب وكذا في ذكر الناس بعد ذكره معرفا الأشعار بعلية الوجوب وهو كونهم ناسا، وفي تذييل وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ لأنها في المعنى تأكيد الإيذان بأن ذلك هو الإيمان على الحقيقة وهو النعمة العظيمة وأن مباشرة مستأهل لأن الله تعالى بجلالته وعظمته يرضى عنه رضا كاملا كما كان ساخطا على تاركه سخطا عظيما، وفي تخصيص هذه العبادة وكونها مبينة لملة إبراهيم عليه السلام بعد الرد على أهل الكتاب فيما سبق من الآيات والعود إلى ذكرهم بعد خطب جليل وشأن خطير لتلك العبادة العظيمة، واستأنس بعضهم لكونه عبادة عظيمة بأنه من الشرائع القديمة بناء على ما روي أن آدم عليه السلام حج أربعين سنة من الهند ماشيا وأن جبريل قال له: إن الملائكة كانوا يطوفون قبلك بهذا البيت سبعة آلاف سنة وادعى ابن إسحاق أنه لم يبعث الله تعالى نبيا بعد إبراهيم إلا حج، والذي صرح به غيره أنه ما من نبي إلا حج خلافا لمن استثنى هودا وصالحا عليهما الصلاة والسلام، وفي وجوبه على من قبلنا وجهان قيل: الصحيح أنه لم يجب إلا علينا واستغرب، وادعى جمع أنه أفضل العبادات لاشتماله على المال والبدن، وفي وقت وجوبه خلاف فقيل: قبل الهجرة، وقيل: أول سنيها وهكذا إلى العاشرة وصحح أنه في السادسة، نعم حج صلى الله تعالى عليه وسلم قبل النبوة وبعدها وقبل الهجرة حججا لا يدري عددها والتسمية مجازية باعتبار الصورة بل قيل ذلك في حجة الصديق رضي الله تعالى عنه أيضا في التاسعة لكن الوجه خلافه لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم لا يؤمر إلا بحج شرعي، وكذا يقال في الثامنة التي أمر فيها عتاب بن أسيد أمير مكة وبعد ذلك حجة الوداع لا غير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ خاطبهم بعنوان أهلية الكتاب الموجبة للإيمان به وبما يصدقه مبالغة في تقبيح حالهم في تكذيبهم بذلك والاستفهام للتوبيخ والإشارة إلى تعجيزهم عن إقامة العذر في كفرهم كأنه قيل: هاتوا عذركم إن أمكنكم. والمراد من الآيات مطلق الدلائل الدالة على نبوة رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وصدق مدعاه الذي من جملته الحج وأمره به، وبه تظهر مناسبة الآية لما قبلها، وسبب نزولها ما أخرجه ابن إسحاق وجماعة عن زيد بن أسلم قال: مر شماس بن قيس وكان شيخا قد عسا في الجاهلية عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين شديد الحسد لهم على نفر من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار فأمر فتى شابا معه من يهود فقال: اعمد إليهم فاجلس معهم ثم ذكرهم يوم بعاث وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، وكان يوم بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج ففعل، فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب- أوس بن قيظي أحد بني حارثة من الأوس وهبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج- فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم والله رددناها الآن وغضب الفريقان جميعا وقالوا قد فعلنا السلاح السلاح. موعدكم الظاهرة- والظاهرة الحرة- فخرجوا إليها وانضمت الأوس بعضها إلى بعض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية فبلغ ذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم فقال: يا معشر المسلمين الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله تعالى إلى الإسلام وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر وألف به بينكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد لهم من عدوهم فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا وعانق الرجال بعضهم بعضا ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سامعين مطيعين قد أطفأ الله تعالى عنهم كيد عدو الله تعالى شماس، وأنزل الله تعالى في شأن شماس، وما صنع قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ إلى قوله سبحانه: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وأنزل في أوس بن قيظي وهبار ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الآية، وعلى هذا يكون المراد من أهل الكتاب ظاهر اليهود. وقيل: المراد منه ما يشمل اليهود والنصارى وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ جملة حالية العامل فيها تكفرون وهي مفيدة لتشديد التوبيخ والإظهار في موضع الإضمار لما مرّ غير مرة والشهيد العالم المطلع، وصيغة المبالغة للمبالغة في الوعيد وجعل الشهيد بمعنى الشاهد تكلف لا داعي إليه، وما إما عبارة عن كفرهم، وإما على عمومها وهو داخل فيها دخولا أوليا والمعنى لأي سبب تكفرون، والحال أنه لا يخفى عليه بوجه من الوجوه جميع أعمالكم وهو مجازيكم عليها على أتم وجه ولا مرية في أن هذا مما يسد عليكم طرق الكفر والمعاصي ويقطع أسباب ذلك أصلا قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ أي تصرفون عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي طريقه الموصلة إليه وهي ملة الإسلام مَنْ آمَنَ أي بالله وبما جاء من عنده أو من صدق بتلك السبيل وآمن بذلك الدين بالفعل أو بالقوة القريبة منه بأن أراد ذلك وصمم عليه وهو مفعول لتصدون قدم عليه الجار للاهتمام به تَبْغُونَها أي السبيل عِوَجاً أي اعوجاجا وميلا عن الاستواء ويستعمل مكسور العين في الدين والقول والأرض، ومنه لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طه: 107] ويستعمل المفتوح في ميل كل شيء منتضب كالقناة والحائط مثلا وهو أحد مفعولي- تبغون- فإن بغى يتعدى لمفعولين أحدهما بنفسه والآخر باللام كما صرح به اللغويون وتعديته للهاء من باب الحذف والإيصال أي تبغون لها كما في قوله: فتولى غلامهم ثم نادى ... أظليما أصيدكم أم حمارا أراد أصيد لكم، وقال ابن المنير: الأحسن جعل الهاء مفعولا من غير حاجة إلى تقدير الجار، وعِوَجاً حال وقع موقع الاسم مبالغة كأنهم طلبوا أن تكون الطريقة القويمة نفس المعوج، وادعى الطيبي أن فيه نظرا إذ لا يستقيم المعنى إلا على أن يكون عِوَجاً هو المفعول به لأنه مطلوبهم فلا بد من تقدير: الجار وفيه تأمل وقيل: عِوَجاً حال من فاعل- تبغون- والكلام فيه كالكلام في سابقه، وجملة- تبغون- على كل حال إما حال من ضمير تَصُدُّونَ أو من- السبيل- وإما مستأنفة جيء بها كالبيان لذلك الصد، والأكثرون على أنه كان بالتحريش والإغراء بين المؤمنين لتختلف كلمتهم ويختل أمر دينهم كما دل عليه ما أوردناه في بيان سبب النزول فعلى هذا يكون المراد بأهل الكتاب هم اليهود أيضا، والتعبير عنهم بهذا العنوان لما تقدم وإعادة الخطاب والاستفهام مبالغة في التقريع والتوبيخ لهم على قبائحهم وتفصيلها ولو قيل: لم تكفرون بآيات الله وتصدون عن سبيل الله لربما توهم أن التوبيخ على مجموع الأمرين، وقيل: الخطاب لأهل الكتاب مطلقا وكان صدهم عن السبيل بهتهم وتغييرهم صفة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم- وإلى هذا ذهب الحسن وقتادة- وعن السدي كانوا إذا سألهم أحد هل تجدون محمدا في كتبكم؟ قالوا: لا فيصدونه عن الإيمان به وهذا ذم لهم بالإضلال إثر ذمهم بالضلال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 وقرئ تَصُدُّونَ من أصد وَأَنْتُمْ شُهَداءُ حال إما من فاعل تَصُدُّونَ أو من فاعل- تبغون- والاستئناف خلاف الظاهر أي كيف تفعلون هذا وأنتم علماء عارفون بتقدم البشارة به صلى الله تعالى عليه وسلم مطلعون على صحة نبوته أو وأنتم عدول عند أهل ملتكم يثقون بأقوالكم ويستشهدونكم في القضايا وصفتكم هذه تقتضي خلاف ما أنتم عليه وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ تهديد لهم على ما صنعوا قيل: لما كان كفرهم ظاهرا ناسب ذكر الشهادة معه في الآية السابقة لأنها تكون لما يظهر ويعلم، أو ما هو بمنزلته- وصدهم عن سبيل الله- وما معه لما كان بالمكر والحيلة الخفية التي تروج على الغافل ناسب ذكر الغفلة معه في هذه الآية فلهذا ختم كلّا من الآيتين بما ختم. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ خطاب للأوس والخزرج على ما يقتضيه سبب النزول ويدخل غيرهم من المؤمنين في عموم اللفظ، وخاطبهم الله تعالى بنفسه بعد ما أمر رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم بخطاب أهل الكتاب إظهارا لجلالة قدرهم وإشعارا بأنهم هم الأحقاء بأن يخاطبهم الله تعالى ويكلمهم فلا حاجة إلى أن يقال المخاطب الرسول صلّى الله عليه وسلم بتقدير قل لهم. والمراد من الفريق بعض غير معين أو هو شماس بن قيس اليهودي، وفي الاقتصار عليه مبالغة في التحذير ولهذا على ما قيل حذف متعلق الفعل، وقال بعضهم: هو على معنى إن تطيعوهم في قبول قولهم بإحياء الضغائن التي كانت بينكم في الجاهلية وكافِرِينَ إما مفعول ثان ليردوكم على تضمين الردّ معنى التصيير كما في قوله: رمى الحدثان نسوة آل سعد ... بمقدار سمدن له سمودا فرد شعورهن السود بيضا ... ورد وجوههن البيض سودا أو حال من مفعوله، قالوا: والأول أدخل في تنزيه المؤمنين عن نسبتهم إلى الكفر لما فيه من التصريح بكون الكفر المفروض بطريق القسر، وبعد يجوز أن يكون ظرفا- ليردوكم- وأن يكون ظرفا- لكافرين- وإيراده مع عدم الحاجة إليه لإغناء ما في الخطاب عنده واستحالة الرد إلى الكفر بدون سبق الإيمان وتوسيطه بين المنصوبين لإظهار كمال شناعة الكفر وغاية بعده من الوقوع إما لزيادة قبحه أو لممانعة الإيمان له كأنه قيل: بعد إيمانكم الراسخ، وفي ذلك من تثبيت المؤمنين ما لا يخفى وقدم توبيخ الكفار على هذا الخطاب لأن الكفار كانوا كالعلة الداعية إليه وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ أي على أيّ حال يقع منكم الكفر وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ الدالة على توحيده ونبوة نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم وَفِيكُمْ رَسُولُهُ يعني محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم يعلمكم الكتاب والحكمة ويزكيكم بتحقيق الحق وإزاحة الشبه، والجملة وقعت حالا من ضمير المخاطبين في تَكْفُرُونَ والمراد استبعاد أن يقع منهم الكفر وعندهم ما يأباه. وقيل: المراد التعجيب أي لا ينبغي لكم أن تكفروا في سائر الأحوال لا سيما في هذه الحال التي فيها الكفر أفظع منه في غيرها وليس المراد إنكار الواقع كما في كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً [البقرة: 28] الآية وقيل: المراد بكفرهم فعلهم أفعال الكفرة كدعوى الجاهلية فلا مانع من أن يكون الاستفهام لإنكار الواقع، والأول أولى وفي الآية تأييس لليهود مما راموه، والأكثرون على تخصيص هذا الخطاب بأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم أو الأوس والخزرج منهم، ومنهم من جعله عاما لسائر المؤمنين وجميع الأمة، وعليه معنى كونه صلى الله تعالى عليه وسلم فيهم أن آثاره وشواهد نبوته فيهم لأنها باقية حتى يأتي أمر الله ولم يسند سبحانه التلاوة إلى رسوله عليه الصلاة والسلام إشارة إلى استقلال كل من الأمرين في الباب، وإيذانا بأن التلاوة كافية في الغرض من أي تال كانت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ إما أن يقدر مضاف أي ومن يعتصم بدين الله والاعتصام بمعنى التمسك استعارة تبعية، وإما أن لا يقدر فيجعل الاعتصام بالله استعارة للالتجاء إليه سبحانه قال الطيبي: وعلى الأول تكون الجملة معطوفة على وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ أي- كيف تكفرون- أي والحال أن القرآن يتلى عليكم وأنتم عالمون بحال المعتصم به جل شأنه، وعلى الثاني تكون تذييلا لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا إلخ لأن مضمونه أنكم إنما تطيعونهم لما تخافون من شرورهم ومكائدهم فلا تخافوهم والتجئوا إلى الله تعالى في دفع شرورهم ولا تطيعوهم أما علمتم أن من التجأ إلى الله تعالى كفاه شر ما يخافه، فعلى الأول جيء بهذه الجملة لإنكار الكفر مع هذا الصارف القوي المفهوم من قوله تعالى: وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ إلخ، وعلى الثاني للحث على الالتجاء، ويحتمل على الأول التذييل، وعلى الثاني الحال أيضا فافهم، ومَنْ شرطية، وقوله تعالى: فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ جواب الشرط ولكونه ماضيا مع قد أفاد الكلام تحقق الهدى حتى كأنه قد حصل، قيل: والتنوين للتفخيم ووصف الصراط بالاستقامة للتصريح بالرد على الذين يبغون له عوجا، والصراط المستقيم وإن كان هو الدين الحق في الحقيقة والاهتداء إليه هو الاعتصام به بعينه لكن لما اختلف الاعتباران وكان العنوان الأخير مما يتنافس فيه المتنافسون أبرز في معرض الجواب للحث والترغيب على طريقة قوله تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ [آل عمران: 185] انتهى. وأنت تعلم أن هذا على ما فيه إنما يحتاج إليه على تقدير أن يكون المراد من الاعتصام بالله الإيمان به سبحانه والتمسك بدينه كما قاله ابن جريج، وأما إذا كان المراد منه الثقة بالله تعالى والتوكل عليه والالتجاء إليه كما روي عن أبي العالية فيبعد الاحتياج، وعلى هذا يكون المراد من الاهتداء إلى الصراط المستقيم النجاة والظفر بالمخرج، فقد أخرج الحكيم الترمذي عن الزهري قال: أوحى الله تعالى داود عليه السلام ما من عبد يعتصم بي من دون خلقي وتكيده السموات والأرض إلا جعلت له من ذلك مخرجا، وما من عبد يعتصم بمخلوق من دوني إلا قطعت أسباب السماء بين يديه وأسخت الأرض من تحت قدميه. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كرر الخطاب بهذا العنوان تشريفا لهم ولا يخفى ما في تكراره من اللطف بعد تكرار خطاب الذين أوتوا الكتاب اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ أي حق تقواه، روى غير واحد عن ابن مسعود موقوفا ومرفوعا هو أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر، وادعى كثير نسخ هذه الآية وروي ذلك عن ابن مسعود. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت اشتد على القوم العمل فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم فأنزل الله تعالى تخفيفا على المسلمين فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] فنسخت الآية الأولى، ومثله عن أنس وقتادة وإحدى الروايتين عن ابن عباس، وروى ابن جرير من بعض الطرق عنه أنه قال: لم تنسخ ولكن حق تقاته أن يجاهدوا في الله حق جهاده ولا تأخذهم في الله تعالى لومة لائم ويقوموا لله سبحانه بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأمهاتهم، ومن قال بالنسخ جنح إلى أن المراد من حق تقاته ما يحق له ويليق بجلاله وعظمته وذلك غير ممكن وما قدروا الله حق قدره، ومن قال بعدم النسخ جنح إلى أن حَقَّ من حق الشيء بمعنى وجب وثبت، والإضافة من باب إضافة الصفة إلى موصوفها وأن الأصل اتقوا الله اتقاء حقا أي ثابتا وواجبا على حد ضربت زيد شديد الضرب تريد الضرب الشديد فيكون قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] بيانا لقوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وادعى أبو علي الجبائي أن القول بالنسخ باطل لما يلزم عليه من إباحة بعض المعاصي، وتعقبه الرماني بأنه إذا وجه قوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ على أن يقوموا بالحق في الخوف والأمن لم يدخل عليه ما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 ذكره لأنه لا يمتنع أن يكون أوجب عليهم أن يتقوا الله سبحانه وتعالى على كل حال، ثم أباح ترك الواجب عند الخوف على النفس كما قال سبحانه: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النحل: 106] وأنت تعلم أن ما ذكره الجبائي إنما يخطر بالبال حتى يجاب عنه إذا فسر حَقَّ تُقاتِهِ على تقدير النسخ بما فسره هو به من ترك جميع المعاصي ونحوه وإن لم يفسر بذلك بل فسر بما جنح إليه القائل بالنسخ فلا يكاد يخطر ما ذكره ببال ليحتاج إلى الجواب، نعم يكون القول بإنكار النسخ حينئذ مبنيا على ما ذهب إليه المعتزلة من امتناع التكليف بما لا يطاق ابتداء كما لا يخفى، وأصل تُقاةً وقية قلبت واوها المضمومة تاء كما في تهمة وتخمة وياؤها المفتوحة ألفا، وأجاز فيها الزجاج ثلاثة أوجه: تقاة، ووقاة، وإقاة وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي مخلصون نفوسكم لله عز وجل لا تجعلون فيها شركة لسواه أصلا، وذكر بعض المحققين أن الإسلام في مثل هذا الموضع لا يراد به الأعمال بل الإيمان القلبي لأن الأعمال حال الموت مما لا تكاد تتأتى ولذا ورد في دعاء صلاة الجنازة اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن أمته منا فأمته على الإيمان فأخذ الإسلام أولا والإيمان ثانيا لما أن لكل مقام مقالا، والاستثناء من أعم الأحوال أي لا تموتن على حال من الأحوال إلا على حال تحقق إسلامكم وثباتكم عليه كما تفيده الجملة الاسمية، ولو قيل: إلا مسلمين لم يقع هذا الموقع والعامل في الحال ما قبل إِلَّا بعد النقض والمقصود النهي عن الكون على حال غير حال الإسلام عند الموت، ويؤول إلى إيجاب الثبات على الإسلام إلى الموت إلا أنه وجه النهي إلى الموت للمبالغة في النهي عن قيده المذكور وليس المقصود النهي عنه أصلا لأنه ليس بمقدور لهم حتى ينهوا عنه، وفي التحبير للإمام السيوطي. ومن عجيب ما اشتهر في تفسير مُسْلِمُونَ قول العوام: أي متزوجون وهو قول لا يعرف له أصل، ولا يجوز الإقدام على تفسير كلام الله تعالى بمجرد ما يحدث في النفس أو يسمع ممن لا عهدة عليه انتهى، وقرأ أبو عبد الله رضي الله تعالى عنه مُسْلِمُونَ بالتشديد ومعناه مستسلمون لما أتى به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم منقادون له وفي الآية تأكيد للنهي عن إطاعة أهل الكتاب وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ أي القرآن وروي ذلك بسند صحيح عن ابن مسعود. وأخرج غير واحد عن أبي سعيد الخدري قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض» . وأخرج أحمد عن زيد بن ثابت قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إني تارك فيكم خليفتين كتاب الله عز وجل ممدود ما بين السماء والأرض وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض» وورد بمعنى ذلك أخبار كثيرة، وقيل: المراد بحبل الله الطاعة والجماعة، وروي ذلك عن ابن مسعود أيضا. أخرج ابن أبي حاتم من طريق الشعبي عن ثابت بن قطنة المزني قال: سمعت ابن مسعود يخطب وهو يقول: أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة فإنهما حبل الله تعالى الذي أمر به، وفي رواية عنه حبل الله تعالى الجماعة، وروي ذلك أيضا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأبي العالية أنه الإخلاص لله تعالى وحده، وعن الحسن أنه طاعة الله عز وجل، وعن ابن زيد أنه الإسلام، وعن قتادة أنه عهد الله تعالى وأمره وكلها متقاربة. وفي الكلام استعارة تمثيلية بأن شبهت الحالة الحاصلة للمؤمنين من استظهارهم بأحد ما ذكر ووثوقهم بحمايته بالحالة الحاصلة من تمسك المتدلي من مكان رفيع بحبل وثيق مأمون الانقطاع من غير اعتبار مجاز في المفردات، واستعير ما يستعمل في المشبه به من الألفاظ للمشبه، وقد يكون في الكلام استعارتان مترادفتان بأن يستعار الحبل للعهد مثلا استعارة مصرحة أصلية والقرينة الإضافة، ويستعار الاعتصام للوثوق بالعهد والتمسك به على طريق الاستعارة المصرحة التبعية والقرينة اقترانها بالاستعارة الثانية، وقد يكون في اعْتَصِمُوا مجاز مرسل تبعي بعلاقة الإطلاق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 والتقييد، وقد يكون مجازا بمرتبتين لأجل إرسال المجاز وقد تكون الاستعارة في الحبل فقط ويكون الاعتصام باقيا على معناه ترشيحا لها على أتم وجه، والقرينة قد تختلف بالتصرف فباعتبار قد تكون مانعة وباعتبار آخر قد لا تكون، فلا يرد أن احتمال المجازية يتوقف على قرينة مانعة عن إرادة الموضع له فمع وجودها كيف يتأتي إرادة الحقيقة ليصح الأمران في اعْتَصِمُوا وقد تكون الاستعارتان غير مستقلتين بأن تكون الاستعارة في الحبل مكنية وفي الاعتصام تخييلية لأن المكنية، مستلزمة للتخييلية قاله الطيبي، ولا يخفى أنه أبعد من العيوق. وقد ذكرنا في حواشينا على رسالة ابن عصام ما يرد على بعض هذه الوجوه مع الجواب عن ذلك فارجع إليه إن أردته جَمِيعاً حال من فاعل اعْتَصِمُوا كما هو الظاهر المبادر أي مجتمعين عليه فيكون قوله تعالى: وَلا تَفَرَّقُوا تأكيدا بناء على أن المعنى ولا تتفرقوا عن الحق الذي أمرتم بالاعتصام به، وقيل: المعنى لا يقع بينكم شقاق وحروب كما هو مراد المذكرين لكم بأيام الجاهلية الماكرين بكم، وقيل: المعنى لا تتفرقوا عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وروي ذلك عن الحسن وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي جنسها ومن ذلك الهداية والتوفيق للإسلام المؤدي إلى التآلف وزوال الأضغان، ويحتمل أن يكون المراد بها ما بينه سبحانه بقوله: إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً أي في الجاهلية فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ بالإسلام، ونِعْمَتَ مصدر مضاف إلى الفاعل، وعَلَيْكُمْ إما متعلق به أو حال منه، وإِذْ إما ظرف للنعمة أو للاستقرار في عَلَيْكُمْ إذا جعلته حالا، قيل: وأراد سبحانه بما ذكر ما كان بين الأوس والخزرج من الحروب التي تطاولت مائة وعشرين سنة إلى أن ألف سبحانه بينهم بالإسلام فزالت الأحقاد- قاله ابن إسحاق- وكان يوم بعاث آخر الحروب التي جرت بينهم وقد فصل ذلك في الكامل، وقيل: أراد ما كان بين مشركي العرب من التنازع الطويل والقتال العريض، ومنه حرب البسوس، ونقل ذلك عن الحسن رضي الله تعالى عنه فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً أي فصرتم بسبب نعمته التي هي ذلك التأليف متحابين- فأصبح- ناقصة، وإِخْواناً خبره، وقيل: فَأَصْبَحْتُمْ أي دخلتم في الصباح فالباء حينئذ متعلقة بمحذوف وقع حالا من الفاعل وكذا إخوانا أي فأصبحتم متلبسين بنعمته حال كونكم إخوانا، والإخوان جمع أخ وأكثر ما يجمع أخو الصداقة على ذلك على الصحيح، وفي الإتقان الأخ في النسب جمعه إخوة وفي الصداقة إخوان، قاله ابن فارس- وخالفه غيره- وأورد في الصداقة إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10] وفي النسب أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ [النور: 31] وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ أي وكنتم على طرف حفرة من جهنم إذ لم يكن بينكم وبينها إلا الموت وتفسير الشفا بالطرف مأثور عن السدي في الآية ووارد عن العرب، ويثنى على شفوان، ويجمع على أشفاء ويضاف إلى الأعلى ك شَفا جُرُفٍ هارٍ [التوبة: 109] وإلى الأسفل قيل: كما هنا وكون المراد من النار ما ذكرنا هو الظاهر وحملها على نار الحرب بعيد فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها أي بمحمد صلّى الله عليه وسلم- قاله ابن عباس- والضمير المجرور عائد إما على النار، أو على حُفْرَةٍ أو على شَفا لأنه بمعنى الشفة، أو لاكتسابه التأنيث من المضاف إليه كما في قوله: وتشرق بالقول الذي قد أذعته ... كما شرقت صدر القناة من الدم فإن المضاف يكتسب التأنيث من المضاف إليه إذا كان بعضا منه أو فعلا له أو صفة كما صرحوا به وما نحن فيه من الأول، ومن أطلق لزمه جواز قامت غلام هند، واختار الزمخشري الاحتمال الأخير، وقال ابن المنير: وعود الضمير إلى الحفرة أتم لأنها التي يمتن بالإنقاذ منها حقيقة، وأما الامتنان بالإنقاذ من الشفا قلما يستلزمه الكون على الشفا غالبا من الهوي إلى الحفرة فيكون الإنقاذ من الشفا إنقاذا من الحفرة التي يتوقع الهوي فيها فإضافة المنة إلى الإنقاذ من الحفرة أبلغ وأوقع مع أن اكتساب التأنيث من المضاف إليه قد عده أبو علي في التعاليق من ضرورة الشعر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 خلاف رأيه في الإيضاح، وما حمل الزمخشري على إعادة الضمير إلى الشفا إلا أنه هو الذي كانوا عليه ولم يكونوا في الحفرة حتى يمتن عليهم بالإنقاذ من الحفرة، وقد علم أنهم كانوا صائرين إليها لولا الإنقاذ الرباني فبولغ في الامتنان بذلك ألا ترى إلى قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «الراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه» وإلى قوله تعالى: أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ [التوبة: 109] فانظر كيف جعل تعالى كون البنيان على الشفا سببا مؤديا إلى انهياره في نار جهنم مع تأكيد ذلك بقوله سبحانه: هارٍ انتهى، ومنه يعلم ما في قول أبي حيان من أنه لا يحسن عوده إلا إلى الشفا لأن كينونتهم عليه هو أحد جزأي الإسناد فالضمير لا يعود إلا إليه لا على الحفرة لأنها غير محدث عنها ولا على النار لأنه إنما جيء بها لتخصيص الحفرة. وأيضا فالإنقاذ من الشفا أبلغ من الإنقاذ من الحفرة ومن النار، والإنقاذ منهما لا يستلزم الإنقاذ من الشفا فعوده على الشفا هو الظاهر من حيث اللفظ ومن حيث المعنى، نعم ما ذكره من أن عوده على الشفا هو الظاهر من حيث اللفظ ظاهر بناء على أن الأصل أن يعود الضمير على المضاف دون المضاف إليه إذا صلح لكل منهما ولو بتأويل إلا أنه قد يترك ذلك فيعود على المضاف إليه إما مطلقا- كما هو قول ابن المنير- أو بشرط كونه بعضه أو كبعضه كقول جرير أرى مرّ السنين «أخذن» مني- فإن مرّ السنين من جنسها، وإليه ذهب الواحدي والشرط موجود فيما نحن فيه كَذلِكَ أي مثل ذلك التبيين الواضح يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ أي دلائله فيما أمركم به ونهاكم عنه لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي لكي تدوموا على الهدى وازديادكم فيه كما يشعر به كون الخطاب للمؤمنين أو صيغة المضارع من الافتعال وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ أمرهم سبحانه بتكميل الغير إثر أمرهم بتكميل النفس ليكونوا هادين مهديين على ضد أعدائهم فإن ما قص الله تعالى من حالهم فيما سبق يدل على أنهم ضالون مضلون، والجمهور على إسكان لام الأمر، وقرئ بكسرها على الأصل، وتكن إما من كان التامة فتكون أُمَّةٌ فاعلا وجملة يَدْعُونَ صفته ومِنْكُمْ متعلق- بتكن- أو بمحذوف على أن يكون صفة- لأمة- قدم عليها فصار حالا. وإما من كان الناقصة فتكون أُمَّةٌ اسمها، ويَدْعُونَ خبرها، ومِنْكُمْ إما حال من أمة أو متعلق بكان الناقصة، والأمة الجماعة التي تؤم أي تقصد لأمر ما، وتطلق على أتباع الأنبياء لاجتماعهم على مقصد واحد وعلى القدوة ومنه إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النحل: 120] وعلى الدين والملة، ومنه إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ [الزخرف: 22، 23] وعلى الزمان، ومنه وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [يوسف: 45] إلى غير ذلك من معانيها، والمراد من الدعاء إلى الخير الدعاء إلى ما فيه صلاح ديني أو دنيوي فعطف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليه في قوله سبحانه: وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ من باب عطف الخاص على العام إيذانا بمزيد فضلهما على سائر الخيرات كذا قيل، قال ابن المنير: إن هذا ليس من تلك الباب لأنه ذكر بعد العام جميع ما يتناوله إذ الخير المدعو إليه إما فعل مأمور أو ترك منهي لا يعدو واحدا من هذين حتى يكون تخصيصهما بتميزهما عن بقية المتناولات، فالأولى أن يقال فائدة هذا التخصيص ذكر الدعاء إلى الخير عاما ثم مفصلا، وفي تثنية الذكر على وجهين ما لا يخفى من العناية إلا إن ثبت عرف يخص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ببعض أنواع الخير وحينئذ يتم ما ذكر، وما أرى هذا العرف ثابتا انتهى، وله وجه وجيه لأن الدعاء إلى الخير لو فسر بما يشمل أمور الدنيا وإن لم يتعلق بها أمر أو نهي كان أعم من فرض الكفاية ولا يخفى ما فيه، على أنه قد أخرج ابن مردويه عن الباقر رضي الله تعالى عنه قال: «قرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ثم قال: الخير اتباع القرآن وسنتي» وهذا يدل أن الدعاء إلى الخير لا يشمل الدعاء إلى أمور الدنيا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 ومن الناس من فسر الخير بمعروف خاص وهو الإيمان بالله تعالى وجعل المعروف في الآية ما عداه من الطاعات فحينئذ لا يتأتى ما قاله ابن المنير أيضا، ويؤيده ما أخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل أن الخير الإسلام والمعروف طاعة الله والمنكر معصيته، وحذف المفعول الصريح من الأفعال الثلاثة إما للإعلام بظهوره أي يدعون الناس ولو غير مكلفين ويأمرونهم وينهونهم، وإما للقصد إلى إيجاد نفس الفعل على حدّ فلان يعطي أي يفعلون الدعاء والأمر والنهي ويوقعونها، والخطاب قيل متوجه إلى من توجه الخطاب الأول إليه في رأي وهم الأوس والخزرج، وأخرج ابن المنذر عن الضحاك أنه متوجه إلى أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خاصة وهم الرواة، والأكثرون على جعله عاما ويدخل فيه من ذكر دخولا أوليا، ومن هنا قيل: للتبعيض، وقيل: للتبيين وهي تجريدية كما يقال لفلان من أولاده جند وللأمير من غلمانه عسكر يراد بذلك جميع الأولاد والغلمان. ومنشأ الخلاف في ذلك أن العلماء اتفقوا على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات ولم يخالف في ذلك إلا النزر، ومنهم الشيخ أبو جعفر من الامامية قالوا: إنها من فروض الأعيان، واختلفوا في أن الواجب على الكفاية هل هو واجب على جميع المكلفين ويسقط عنهم بفعل بعضهم أو هو واجب على البعض، ذهب الإمام الرازي وأتباعه إلى الثاني للاكتفاء بحصوله من البعض ولو وجب على الكل لم يكتف بفعل البعض إذ يستبعد سقوط الواجب على المكلف بفعل غيره، وذهب إلى الأول الجمهور وهو ظاهر نص الإمام الشافعي في الأم، واستدلوا على ذلك بإثم الجميع بتركه ولو لم يكن واجبا عليهم كلهم لما أثموا بالترك. وأجاب الأولون عن هذا بأن إثمهم بالترك لتفويتهم ما قصد حصوله من جهتهم في الجملة لا للوجوب عليهم، واعترض عليه من طرف الجمهور بأن هذا هو الحقيق بالاستبعاد أعني إثم طائفة بترك أخرى فعلا كلفت به. والجواب عنه بأنه ليس الإسقاط من غيرهم بفعلهم أولى من تأثيم غيرهم بتركهم يقال فيه: بل هو أولى لأنه قد ثبت نظيره شرعا من إسقاط ما على زيد بأداء عمرو ولم يثبت تأثيم إنسان بترك آخر فيتم ما قاله الجمهور. واعترض القول بأن هذا هو الحقيق بالاستبعاد بأنه إنما يتأتى لو ارتبط التكليف في الظاهر بتلك الطائفة الأخرى بعينها وحدها لكنه ليس كذلك بل كلتا الطائفتين متساويتان في احتمال الأمر لهما وتعلقه بهما من غير مزية لإحداهما على الأخرى فليس في التأثيم المذكور تأثيم طائفة بترك أخرى فعلا كلفت به إذ كون لأخرى كلفت به غير معلوم بل كلتا الطائفتين متساويتان في احتمال كل أن تكون مكلفة به فالاستبعاد المذكور ليس في محله على أنه إذا قلنا بما اختاره جماعة من أصحاب المذهب الثاني من أن البعض مبهم آل الحال إلى أن المكلف طائفة لا بعينها فيكون المكلف القدر المشترك بين الطوائف الصادق بكل طائفة فجميع الطوائف مستوية في تعلق الخطاب بها بواسطة تعلقه بالقدر المشترك المستوي فيها فلا إشكال في اسم الجميع ولا يصير النزاع بهذا بين الطائفتين لفظيا حيث إن الخطاب حينئذ عم الجميع على القولين وكذا الإثم عند الترك لما أن في أحدهما دعوى التعليق بكل واحد بعينه، وفي الآخر دعوى تعلقه بكل بطريق السراية تعلقه بالمشترك، وثمرة ذلك أن من شك أن غيره هل فعل ذلك الواجب لا يلزمه على القول بالسراية ويلزمه على القول بالابتداء ولا يسقط عنه إلا إذا ظن فعل الغير، ومن هنا يستغني عن الجواب عما اعترض به من طرف الجمهور فلا يضرنا ما قيل فيه على أنه يقال على ما قيل: ليس الدين نظير ما نحن فيه كليا لأن دين زيد واجب عليه وحده بحسب الظاهر ولا تعلق له بغيره فلذا صح أن يسقط عنه بأداء غيره ولم يصح أن يأثم غيره بترك أدائه بخلاف ما نحن فيه فإن نسبة الواجب في الظاهر إلى كلتا الطائفتين على السواء فيه فجاز أن يأثم كل طائفة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 بترك غيرها لتعلق الوجوب بها بحسب الظاهر واستوائها مع غيرها في التعلق. وأما قولهم: ولم يثبت تأثيم إنسان بأداء آخر فهو لا يطابق البحث إذ ليس المدعى تأثيم أحد بأداء غيره بل تأثيمه بترك فالمطابق ولم يثبت تأثيم إنسان بترك أداء آخر ويتخلص منه حينئذ بأن التعلق في الظاهر مشترك في سائر الطوائف فيتم ما ذهب إليه الإمام الرازي وأتباعه- وهو مختار ابن السبكي- خلافا لأبيه، إذا تحقق هذا فاعلم أن القائلين بأن المكلف البعض قالوا: إن من للتبعيض، وإن القائلين بأن المكلف الكل قالوا: إنها للتبيين، وأيدوا ذلك بأن الله تعالى أثبت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكل الأمة في قوله سبحانه: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران: 110] ولا يقتضي ذلك كون الدعاء فرض عين فإن الجهاد من فروض الكفاية بالإجماع مع ثبوته بالخطابات العامة فتأمل وَأُولئِكَ أي الموصوفون بتلك الصفات الكاملة. هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي الكاملون في الفلاح وبهذا صح الحصر المستفاد من الفصل وتعريف الطرفين، أخرج الإمام أحمد وأبو يعلى عن درة بنت أبي لهب قالت: «سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من خير الناس؟ قال: آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله تعالى وأوصلهم للرحم» . وروى الحسن من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله تعالى وخليفة رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وخليفة كتابه، وروي- لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله تعالى عليكم سلطانا ظالما لا يجل كبيركم ولا يرحم صغيركم ويدعو خياركم فلا يستجاب لهم وتستنصرون فلا تنصرون- والأمر بالمعروف يكون واجبا ومندوبا على حسب ما يؤمر به والنهي عن المنكر كذلك أيضا إن قلنا إن المكروه منكر شرعا، وأما إن فسر بما يستحق العقاب عليه كما أن المعروف ما يستحق الثواب عليه فلا يكون إلا واجبا، وبه قال بعضهم إلا أنه يرد أنهما ليسا على طرفي نقيض والأظهر أن العاصي يجب عليه أن ينهى عما يرتكبه لأنه يجب عليه نهي كل فاعل وترك نهي بعض وهو نفسه لا يسقط عنه وجوب نهي الباقي وكذا يقال في جانب الأمر ولا يعكر على ذلك قوله تعالى: لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ [الصف: 2] لأنه مؤول بأن المراد نهيه عن عدم الفعل لا عن القول ولا قوله سبحانه: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 44] لأن التوبيخ إنما هو على نسيان أنفسهم لا على أمرهم بالبر، وعن بعض السلف مروا بالخير وإن لم تفعلوا، نعم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شروط معروفة محلها والأصل فيهما افعل كذا ولا تفعل كذا، والقتال ليمتثل المأمور والمنهي أمر وراء ذلك وليس داخلا في حقيقتهما وإن وجب على بعض كالأمراء في بعض الأحيان لأن ذلك حكم آخر كما يشعر به قوله صلّى الله عليه وسلم: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع» وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وهم اليهود والنصارى قاله الحسن والربيع. وأخرج ابن ماجة عن عوف بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وسبعون في النار وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة والذي نفسي بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار قيل: يا رسول الله من هم؟ قال: الجماعة» وفي رواية أحمد عن معاوية مرفوعا أن أهل الكتاب تفرقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة وتفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين كلها في النار إلا واحدة، وفي رواية له أخرى عن أنس مرفوعا أيضا «إن بني إسرائيل تفرقت إحدى وسبعين فرقة فهلكت سبعون فرقة وخلصت فرقة واحدة وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة تهلك إحدى وسبعون فرقة وتخلص فرقة» ولا تعارض بين هذه الروايات لأن الافتراق حصل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 لمن حصل على طبق ما وقع فيها في بعض الأوقات وهو يكفي للصدق وإن زاد العدد أو نقص في وقت آخر وَاخْتَلَفُوا في التوحيد والتنزيه وأحوال المعاد، قيل: وهذا معنى تفرقوا وكرره للتأكيد، وقيل: التفرق بالعداوة والاختلاف بالديانة. مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ أي الآيات والحجج المبينة للحق الموجبة لاتحاد الكلمة، وقال الحسن: التوراة، وقال قتادة وأبو أمامة: القرآن وَأُولئِكَ إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بما في حيز الصلة لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ لا يكتنه على تفرقهم واختلافهم المذكور، وفي ذلك وعيد لهم وتهديد للمتشبهين بهم لأن التشبيه بالمغضوب عليه يستدعي الغضب، ثم إن هذا الاختلاف المذموم محمول كما قيل على الاختلاف في الأصول دون الفروع ويؤخذ هذا التخصيص من التشبيه، وقيل: إنه شامل للأصول والفروع لما نرى من اختلاف أهل السنة فيها- كالماتريدي والأشعري- فالمراد حينئذ بالنهي عن الاختلاف النهي عن الاختلاف فيما ورد فيه نص من الشارع أو أجمع عليه وليس بالبعيد. واستدل على عدم المنع من الاختلاف في الفروع بقوله عليه الصلاة والسلام: اختلاف أمتي رحمة. وبقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: مهما أوتيتم من كتاب الله تعالى فالعمل به لا عذر لأحد في تركه فإن لم يكن في كتاب الله تعالى فسنة مني ماضية فإن لم يكن سنة مني فما قال أصحابي إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء فأيما أخذتم به اهتديتم واختلاف أصحابي لكم رحمة، وأراد بهم صلى الله تعالى عليه وسلم خواصهم البالغين رتبة الاجتهاد والمقصود بالخطاب من دونهم فلا إشكال فيه خلافا لمن وهم، والروايات عن السلف في هذا المعنى كثيرة. فقد أخرج البيهقي في المدخل عن القاسم بن محمد قال: اختلاف أصحاب محمد رحمة لعباد الله تعالى، وأخرجه ابن سعد في طبقاته بلفظ كان اختلاف أصحاب محمد رحمة للناس، وفي المدخل عن عمر بن عبد العزيز قال: ما سرني لو أن أصحاب محمد لم يختلفوا لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة، واعترض الإمام السبكي بأن اختلاف أمتي رحمة ليس معروفا عند المحدثين ولم أقف له على سند صحيح ولا ضعيف ولا موضوع ولا أظن له أصلا إلا أن يكون من كلام الناس بأن يكون أحد قال اختلاف الأمة رحمة فأخذه بعضهم فظنه حديثا فجعله من كلام النبوة وما زلت أعتقد أن هذا الحديث لا أصل له. واستدل على بطلانه بالآيات والأحاديث الصحيحة الناطقة بأن الرحمة تقتضي عدم الاختلاف والآيات أكثر من أن تحصى، ومن الأحاديث قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إنما هلكت بنو إسرائيل بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم» وقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تختلفوا فتختلف قلوبكم» وهو وإن كان واردا في تسوية الصفوف إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ثم قال: والذي نقطع به أن الاتفاق خير من الاختلاف وأن الاختلاف على ثلاثة أقسام: أحدها في الأصول ولا شك أنه ضلال وسبب كل فساد وهو المشار إليه في القرآن، والثاني في الآراء والحروب ويشير إليه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى لما بعثهما إلى اليمن: «تطاوعا ولا تختلفا» ولا شك أيضا أنه حرام لما فيه من تضييع المصالح الدينية والدنيوية، والثالث في الفروع كالاختلاف في الحلال والحرام ونحوهما والذي نقطع به أن الاتفاق خير منه أيضا لكن هل هو ضلال كالقسمين الأولين أم لا؟ فيه خلاف، فكلام ابن حزم ومن سلك مسلكه ممن يمنع التقليد يقتضي الأول، وأما نحن فإنا نجوز التقليد للجاهل والأخذ عند الحاجة بالرخصة من أقوال بعض العلماء من غير تتبع الرخص وهو يقتضي الثاني، ومن هذا الوجه قد يصح أن يقال: الاختلاف رحمة فإن الرخص منها بلا شبهة وهذا لا ينافي قطعا القطع بأن الاتفاق خير من الاختلاف فلا تنافي بين الكلامين لأن جهة الخيرية تختلف وجهة الرحمة تختلف، فالخيرية في العلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 بالدين الحق الذي كلف الله تعالى به عباده وهو الصواب عنده والرحمة في الرخصة له وإباحة الإقدام بالتقليد على ذلك، ورحمة نكرة في سياق الإثبات لا تقتضي العموم فيكتفي في صحته أن يحصل في الاختلاف رحمة ما في وقت ما في حالة ما على وجه ما فإن كان ذلك حديثا فيخرج على هذا وكذا إن لم يكنه، وعلى كل تقدير لا نقول إن الاختلاف مأمور به، والقول بأن الاتفاق مأمور به يلتفت إلى أن المصيب واحد أم لا؟ فإن قلنا: إن المصيب واحد وهو الصحيح فالحق في نفس الأمر واحد والناس كلهم مأمورون بطلبه واتفاقهم عليه مطلوب والاختلاف حينئذ منهي عنه وإن عذر المخطئ وأثيب على اجتهاده وصرف وسعه لطلب الحق. فقد أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث عمرو بن العاص «إذا حكم الحاكم فاجتهد وأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر» وكذلك إذا قلنا بالشبه كما هو قول بعض الأصوليين، وأما إذا قلنا: كل مجتهد مصيب فكل أحد مأمور بالاجتهاد وباتباع ما غلب على ظنه فلا يلزم أن يكونوا كلهم مأمورين بالاتفاق ولا أن لا يكون اختلافهم منهيا عنه، وإطلاق الرحمة على هذا التقدير في الاختلاف أقوى من إطلاقها على قولنا: المصيب واحد، هذا كله إذا حملنا الاختلاف في الخبر على الاختلاف في الفروع، وأما إذا قلنا المراد الاختلاف في الصنائع والحرف فلا شك أن ذلك من نعم الله تعالى التي يطلب من العبد شكرها كما قال الحليمي في شعب الإيمان، لكن كان المناسب على هذا أن يقال اختلاف الناس رحمة إذ لا خصوصية للأمة بذلك فإن كل الأمم مختلفون في الصنائع والحرف لا هذه الأمة فقط فلا بد لتخصيص الأمة من وجه، ووجهه إمام الحرمين بأن المراتب والمناصب التي أعطيتها أمته صلى الله تعالى عليه وسلم لم تعطها أمة من الأمم فهي من رحمة الله تعالى لهم وفضله عليهم لكنه لا يسبق من لفظ الاختلاف إلى ذلك ولا إلى الصنائع والحرف، فالحرفة الإبقاء على الظاهر المبادر وتأويل الخبر بما تقدم. هذه خلاصة كلامه ولا يخفى أنه مما لا بأس به، نعم كون الحديث ليس معروفا عند المحدثين أصلا لا يخلو عن شيء، فقد عزاه الزركشي في الأحاديث المشتهرة إلى كتاب الحجة لنصر المقدسي ولم يذكر سنده ولا صحته لكن ورد ما يقويه في الجملة مما نقل من كلام السلف، والحديث الذي أوردناه قبل وإن رواه الطبري والبيهقي في المدخل بسند ضعيف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما على أنه يكفي في هذا الباب الحديث الذي أخرجه الشيخان وغيرهما، فالحق الذي لا محيد عنه أن المراد اختلاف الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومن شاركهم في الاجتهاد كالمجتهدين المعتد بهم من علماء الدين الذين ليسوا بمبتدعين وكون ذلك رحمة لضعفاء الأمة، ومن ليس في درجتهم مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان ولا يتنازع فيه اثنان فليفهم يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ نصب بما في لهم من معنى الاستقرار أو منصوب باذكر مقدرا، وقيل: العامل فيه عذاب وضعف بأن المصدر الموصوف لا يعمل، وقيل: عظيم، وأورد عليه أنه يلزم تقييد عظمته بهذا ولا معنى له، ورد بأنه إذا عظم فيه وفيه كل عظيم ففي غيره أولى إلا أن يقال: إن التقييد ليس بمراد، والمراد بالبياض معناه الحقيقي أو لازمه من السرور والفرح وكذا يقال في السواد، والجمهور على الأول قالوا: يوسم أهل الحق ببياض الوجه وإشراق البشرة تشريفا لهم وإظهارا لآثار أعمالهم في ذلك الجمع، ويوسم أهل الباطل بضد ذلك، والظاهر أن الابيضاض والاسوداد يكون لجميع الجسد إلا أنهما أسندا للوجوه لأن الوجه أول ما يلقاك من الشخص وتراه وهو أشرف أعضائه. واختلف في وقت ذلك فقيل: وقت البعث من القبور، وقيل: وقت قراءة الصحف، وقيل: وقت رجحان الحسنات والسيئات في الميزان، وقيل: عند قوله تعالى شأنه: وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس: 59] ، وقيل: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 وقت أن يؤمر كل فريق بأن يتبع معبوده، ولا يبعد أن يقال: إن في كل موقف من هذه المواقف يحصل شيء من ذلك إلى أن يصل إلى حدّ الله تعالى أعلم به إذ البياض والسواد من المشكك دون المتواطئ كما لا يخفى، وقرأ: «تبيضّ وتسودّ» بكسر حرف المضارعة وهي لغة و «تبياضّ وتسوادّ» . فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ تفصيل لأحوال الفريقين وابتدأ بحال الذين اسودت وجوههم لمجاورته وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ وليكون الابتداء والاختتام بما يسر الطبع ويشرح الصدر أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ على إرادة القول المقرون بالفاء أي فيقال لهم ذلك، وحذف القول واستتباع الفاء له في الحذف أكثر من أن يحصى، وإنما الممنوع حذفها وحدها في جواب أما، والاستفهام للتوبيخ والتعجيب من حالهم، والكلام حكاية لما يقال لهم فلا التفات فيه خلافا للسمين، والظاهر من السياق والسباق أن هؤلاء أهل الكتاب وكفرهم بعد إيمانهم كفرهم برسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد الإيمان به قبل مبعثه- وإليه ذهب عكرمة- واختاره الزجاج والجبائي. وقيل: هم جميع الكفار لإعراضهم عما وجب عليهم من الإقرار بالتوحيد حين أشهدهم على أنفسهم أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الأعراف: 172] وروي ذلك عن أبيّ بن كعب، ويحتمل أن يراد بالإيمان الإيمان بالقوة والفطرة وكفر جميع الكفار كان بعد هذا الإيمان لتمكنهم بالنظر الصحيح والدلائل الواضحة والآيات البينة من الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، وعن الحسن أنهم المنافقون أعطوا كلمة الإيمان بألسنتهم وأنكروها بقلوبهم وأعمالهم فالإيمان على هذا مجازي، وقيل: إنهم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة، وروي ذلك عن عليّ كرم الله تعالى وجهه وأبي أمامة وابن عباس وأبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه. فَذُوقُوا الْعَذابَ أي المعهود الموصوف بالعظم والأمر للإهانة لتقرر المأمور به وتحققه، وقيل: يحتمل أن يكون أمر تسخير بأن يذوق العذاب كل شعرة من أعضائهم نعوذ بالله تعالى من غضبه، والفاء للإيذان بأن الأمر بذوق العذاب مترتب على كفرهم المذكور كما يصرح به قوله سبحانه: بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ فالباء للسببية، وقيل: للمقابلة من غير نظر إلى التسبب وليست بمعنى اللام ولعله سبحانه أراد بَعْدَ إِيمانِكُمْ والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على استمرار كفرهم أو على مضيه في الدنيا. وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ أي الجنة فهو من التعبير بالحال عن المحل والظرفية حقيقية، وقد يراد بها الثواب فالظرفية حينئذ مجازية كما يقال: في نعيم دائم وعيش رغد- وفيه إشارة إلى كثرته وشموله للمذكورين شمول الظرف ولا يجوز أن يراد بالرحمة ما هو صفة له تعالى إذ لا يصح فيها الظرفية ويدل على ما ذكر مقابلتها بالعذاب ومقارنتها للخلود في قوله تعالى: هُمْ فِيها خالِدُونَ وإنما عبر عن ذلك بالرحمة إشعارا بأن المؤمن وإن استغرق عمره في طاعة الله تعالى فإنه لا ينال ما ينال إلا برحمته تعالى ولهذا ورد في الخبر «لن يدخل أحدكم الجنة عمله فقيل له: حتى أنت يا رسول الله؟ فقال: حتى أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى برحمته» وجملة هُمْ فِيها خالِدُونَ استئنافية وقعت جوابا عما نشأ من السياق كأنه قيل: كيف يكونون فيها؟ فأجيب بما ترى وفيها تأكيد في المعنى لما تقدم، وقيل: خبر بعد خبر وليس بشيء، وتقديم الظرف للمحافظة على رؤوس الآي، والضمير المجرور للرحمة، ومن أبعد البعيد جعله للدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلافا لمن قال به، وجعل الكلام عليه بيانا لسبب كونهم في رحمة الله تعالى وكون مقابلهم في العذاب كأنه قيل: ما بالهم في رحمة الله تعالى؟ فأجيب بأنهم كانوا خالدين في الخيرات، وقرئ «ابياضت واسوادت» تِلْكَ أي التي مرّ ذكرها وعظم قدرها آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ أي نقرؤها شيئا فشيئا، وإسناد ذلك إليه تعالى مجاز إذ التالي جبريل عليه السلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 بأمره سبحانه وتعالى وفي عدوله عن الحقيقة مع الالتفات إلى التكلم بنون العظمة ما لا يخفى من العناية بالتلاوة والمتلو عليه، والجملة الفعلية في موضع الحال من الآيات والعامل فيها معنى الإشارة. وجوز أن تكون في موضع الخبر لتلك، وآياتُ بدل منه، وقرئ «يتلوها» على صيغة الغيبة. بِالْحَقِّ أي متلبسة أو متلبسين بالصدق أو بالعدل في جميع ما دلت عليه تلك الآيات ونطقت به فالظرف في موضع الحال المؤكدة من الفاعل أو المفعول وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ بأن يحلهم من العقاب ما لا يستحقونه عدلا أو ينقصهم من الثواب عما استحقوه فضلا، والجملة مقررة لمضمون ما قبلها على أتم وجه حيث نكر ظلما ووجه النفي إلى إرادته بصيغة المضارع المفيد بمعونة المقام دوام الانتفاء وعلق الحكم بآحاد الجمع المعرف والتفت إلى الاسم الجليل والظلم وضع الشيء في غير موضعه اللائق به أو ترك الواجب وهو يستحيل عليه تعالى للأدلة القائمة على ذلك ونفي الشيء لا يقتضي إمكانه فقد ينفي المستحيل كما في قوله تعالى: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص: 30] وقيل: الظاهر أن المراد أن الله لا يريد ما هو ظلم من العباد فيما بينهم لا أن كل ما يفعل ليس ظلما منه لأن المقام مقام بيان أنه لا يضيع أجر المحسنين ولا يهمل الكافر ويجازيه بكفره، ولو كان المراد أن كل ما يفعل ليس ظلما لا يستفاد هذا، وفيه ما لا يخفى. وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي له سبحانه وحده ما فيهما من المخلوقات ملكا وخلقا وتصرفا والتعبير ب ما للتغليب أو للإيذان بأن غير العقلاء بالنسبة إلى عظمته كغيرهم وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي أمورهم فيجازي كلّا بما تقتضيه الحكمة من الثواب والعقاب، وتقديم الجار للحصر أي إلى حكم الله تعالى وقضائه لا إلى غيره شركة أو استقلالا، والجملة مقررة لمضمون ما ورد في جزاء الفريقين، وقيل: معطوفة على ما قبلها مقررة لمضمونه والإظهار في مقام الإضمار لتربية المهابة، وقرأ يحيى بن وثاب- «ترجع» - بفتح التاء وكسر الجيم في جميع القرآن كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ كلام مستأنف سيق لتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الاتفاق على الحق والدعوة إلى الخير كذا قيل، وقيل: هو من تتمة الخطاب الأول في قوله سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وتوالت بعد هذا خطابات المؤمنين من أوامر ونواهي واستطرد بين ذلك من يبيض وجهه ومن يسود وشيء من أحوالهم في الآخرة، ثم عاد إلى الخطاب الأول تحريضا على الانقياد والطواعية- وكان- ناقصة ولا دلالة لها في الأصل على غير الوجود في الماضي من غير دلالة على انقطاع أو دوام، وقد تستعمل للأزلية كما في صفاته تعالى نحو كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً [الأحزاب: 40، الفتح: 26] وقد تستعمل للزوم الشيء وعدم انفكاكه نحو وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [الكهف: 54] ، وذهب بعض النحاة إلى أنها تدل بحسب الوضع على الانقطاع كغيرها من الأفعال الناقصة والمصحح هو الأول وعليه لا تشعر الآية بكون المخاطبين ليسوا خير أمة الآن، وقيل: المراد كنتم في علم الله تعالى أو في اللوح المحفوظ أو فيما بين الأمم أي في علمهم كذلك، وقال الحسن: معناه أنتم خير أمة، واعترض بأنه يستدعي زيادة كان وهي لا تزاد في أول الجملة أُخْرِجَتْ أي أظهرت وحذف الفاعل للعلم به لِلنَّاسِ متعلق بما عنده، وقيل: بخير أمة، وجملة أُخْرِجَتْ صفة- لأمة- وقيل: لخير، والأول أولى، والخطاب قيل: لأصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خاصة وإليه ذهب الضحاك، وقيل: للمهاجرين من بينهم وهو أحد خبرين عن ابن عباس، وفي آخر أنه عام لأمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، ويؤيده ما أخرجه الإمام أحمد بسند حسن عن أبي الحسن كرم الله تعالى وجهه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء نصرت بالرعب وأعطيت مفاتيح الأرض وسميت أحمد وجعل التراب لي طهورا وجعلت أمتي خير الأمم» وأخرج ابن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 أبي حاتم عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أن الآية في أهل بيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وأخرج ابن جرير عن عكرمة أنها نزلت في ابن مسعود وعمار بن ياسر وسالم مولى أبي حذيفة وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، والظاهر أن الخطاب وإن كان خاصا بمن شاهد الوحي من المؤمنين أو ببعضهم لكن حكمه يصلح أن يكون عاما للكل كما يشير إليه قول عمر رضي الله تعالى عنه فيما حكى قتادة «يا أيها الناس من سره أن يكون من تلكم الأمة فليؤد شرط الله تعالى منها» وأشار بذلك إلى قوله سبحانه تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ فإنه وإن كان استئنافا مبينا لكونهم خير أمة أو صفة ثانية لأمة على ما قيل إلا أنه يفهم الشرطية والمتبادر من المعروف الطاعات ومن المنكر المعاصي التي أنكرها الشرع. وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس في الآية أن المعنى تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ويقرّوا بما أنزل الله تعالى وتقاتلونهم عليهم ولا إله إلا الله هو أعظم المعروف وتنهونهم عن المنكر والمنكر هو التكذيب وهو أنكر المنكر وكأنه رضي الله تعالى عنه حمل المطلق على الفرد الكامل وإلا فلا قرينة على هذا التخصيص وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ أريد بالإيمان به سبحانه الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به لأن الإيمان إنما يعتد به ويستأهل أن يقال له إيمان إذا آمن بالله تعالى على الحقيقة وحقيقة الإيمان بالله تعالى أن يستوعب جميع ما يجب الإيمان به فلو أخل بشيء منه لم يكن من الإيمان بالله تعالى في شيء، والمقام يقتضيه لكونه تعريضا بأهل الكتاب وأنهم لا يؤمنون بجميع ما يجب الإيمان به كما يشعر بذلك التعقيب بنفي الإيمان عنهم مع العلم بأنهم مؤمنون في الجملة وأيضا المقام مقام مدح للمؤمنين بكونهم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها المعلل للخيرية فلو لم يرد الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به لم يكن مدحا فلا يصلح للتعليل والعطف يقتضيه وإنما أخر الإيمان عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع تقدمه عليهما وجودا ورتبة كما هو الظاهر لأن الإيمان مشترك بين جميع الأمم دون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهما أظهر في الدلالة على الخيرية، ويجوز أن يقال قدمهما عليه للاهتمام وكون سوق الكلام لأجلهما، وأما ذكره فكالتتميم، ويجوز أيضا أن يكون ذلك للتنبيه على أن جدوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الدين أظهر مما اشتمل عليه الإيمان بالله تعالى لأنه من وظيفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام- ولو قيل قدما- وأخر للاهتمام وليرتبط بقوله تعالى: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ لم يبعد أي لو آمنوا إيمانا كما ينبغي لكان ذلك الإيمان خَيْراً لَهُمْ مما هم عليه من الرئاسة في الدنيا لدفع القتل والذل عنهم، والآخرة لدفع العذاب المقيم، وقيل: لو آمن أهل الكتاب بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم لكان خيرا لهم من الإيمان بموسى وعيسى فقط عليهما السلام، وقيل: المفضل عليه ما هم فيه من الكفر فالخيرية إنما هي باعتبار زعمهم، وفيه ضرب تهكم بهم وهذه الجملة معطوفة على كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ مرتبطة بها على معنى ولو آمن أهل الكتاب كما آمنتم وأمروا بالمعروف كما أمرتم ونهوا عن المنكر كما نهيتم لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ كعبد الله بن سلام وأخيه وثعلبة بن شعبة. وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ أي الخارجون عن طاعة الله تعالى وعبر عن الكفر بالفسق إيذانا بأنهم خرجوا عما أوجبه كتابهم، وقيل: للإشارة إلى أنهم في- الكفار- بمنزلة الكفار في العصاة لخروجهم إلى الحال الفاحشة التي هي منهم أشنع وأفظع لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً استثناء متصل لأن الأذى بمعنى الضرر اليسير كما يشهد به مواقع الاستعمال فكأنه قيل: لَنْ يَضُرُّوكُمْ ضررا ما إلا ضررا يسيرا، وقيل: إنه منقطع لأن الأذى ليس بضرر وفيه نظر والآية كما قال مقاتل: نزلت لما عمد رؤساء اليهود مثل كعب وأبي رافع وأبي ياسر وكنانة وابن صوريا إلى مؤمنيهم كعبد الله بن سلام وأصحابه، وآذوهم لإسلامهم وكان إيذاء قوليا على ما يفهمه كلام قتادة وغيره، وكان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 ذلك الافتراء على الله تعالى كما قاله الحسن وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ أي ينهزموا من غير أن يظفروا منكم بشيء، وتولية الأدبار كناية عن الانهزام معروفة. ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ عطف على جملة الشرط والجزاء، وثُمَّ للترتيب والتراخي الإخباري أي لا يكن لهم نصر من أحد ثم عاقبتهم العجز والخذلان إن قاتلوكم أو لم يقاتلوكم. وفيه تثبيت للمؤمنين على أتم وجه. وقرئ- ثم لا ينصروا- والجملة حينئذ معطوفة على جزاء الشرط، وثُمَّ للتراخي في الرتبة بين الخبرين لا في الزمان لمقارنته، وجوز بعضهم كونها للتراخي في الزمان على القراءتين بناء على اعتباره بين المعطوف عليه وآخر أجزاء المعطوف، وقراءة الرفع أبلغ لخلوها عن القيد، وفي هذه الآية دلالة واضحة على نبوة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم ولكونها من الإخبار بالغيب الذي وافقه الواقع لأن يهود بني قينقاع وبني قريظة والنضير ويهود خيبر حاربوا المسلمين ولم يثبتوا ولم ينالوا شيئا منهم ولم تخفق لهم بعد ذلك راية ولم يستقم أمر ولم ينهضوا بجناح ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أي ذلة هدر النفس والمال والأهل، وقيل: ذلة التمسك بالباطل وإعطاء الجزية قال الحسن: أذلهم الله تعالى فلا منعة لهم وجعلهم تحت أقدام المسلمين وهذا من ضرب الخيام والقباب كما قاله أبو مسلم، قيل: ففيه استعارة مكنية تخييلية وقد يشبه إحاطة الذلة واشتمالها عليهم بذلك على وجه الاستعارة التبعية، وقيل: هو من قولهم: ضرب فلان الضريبة على عبده أي ألزمها إياه فالمعنى ألزموا الذلة وثبتت فيهم فلا خلاص لهم منها أَيْنَ ما ثُقِفُوا أي وجدوا، وقيل: أخذوا وظفر بهم، وأَيْنَ ما شرط، وما زائدة وثقفوا في موضع جزم وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله أو هو بنفسه على رأي إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ استثناء مفرغ من أعم الأحوال، والمعنى على النفي أي لا يسلمون من الذلة في حال من الأحوال إلا في حال أن يكونوا معتصمين بذمة الله تعالى أو كتابه الذي أتاهم وذمة المسلمين فإنهم بذلك يسلمون من القتل والأسر وسبي الذراري واستئصال الأموال. وقيل: أي إلا في حال أن يكونوا متلبسين بالإسلام واتباع سبيل المؤمنين فإنهم حينئذ يرتفع عنهم ذل التمسك والإعطاء وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ أي رجعوا به وهو كناية عن استحقاقهم له واستيجابهم إياه من قولهم باء فلان بفلان إذا صار حقيقا أن يقتل به، فالمراد صاروا أحقاء بغضبه سبحانه والتنوين للتفخيم والوصف مؤكد لذلك وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ فهم في الغالب مساكين وقلما يوجد يهودي يظهر الغنى ذلِكَ أي المذكور من المذكورات بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ الدالة على نبوة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ أصلا، ونسبة القتل إليهم مع أنه فعل أسلافهم على نحو ما مر غير مرة ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ إشارة إلى كفرهم وقتلهم الأنبياء عليهم السلام على ما يقتضيه القرب فلا تكرار، وقيل: معناه أن ضرب الذلة وما يليه كما هو معلل بكفرهم وقتلهم فهو معلل بعصيانهم واعتدائهم، والتعبير بصيغة الماضي والمضارع لما مر، ثم إن جملة مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وكذا جملة لَنْ يَضُرُّوكُمْ وما عطف عليها واردتان على سبيل الاستطراد ولذا لم يعطفا على الجملة الشرطية قبلهما وإنما لم يعطف الاستطراد الثاني على الأول لتباعدهما وكون كل منهما نوعا من الكلام، وقال بعض المحققين: إن هاتين الجملتين مع ما بعدهما مرتبط بقوله تعالى: وَلَوْ آمَنَ مبين له، فقوله سبحانه: مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ مبين لذلك باعتبار أن المفروض إيمان الجميع، وإلا فبعضهم مؤمنون رفعا لسوء الظن بالبعض، وقوله عز شأنه: لَنْ يَضُرُّوكُمْ بيان لما هو خير لهم وهو أنهم لعدم إيمانهم مبتلون بمشقة التدبير لإضراركم وبالحزن على الخيبة وتدبير الغلبة عليكم بالمقابلة والغلبة لكم وفي طلب الرئاسة بمخالفتكم وضرب الله تعالى عليهم الذلة لتلك المخالفة وفي طلب المال بأخذ الرشوة بتحريف كتابهم وضرب الله عليهم المسكنة، ولو آمنوا لنجوا من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 جميع ذلك انتهى ولا يخفى أن هذا على تقدير قبوله وتحمل بعده لا يأبى القول بالاستطراد لأنه أن يذكر في أثناء الكلام ما يناسبه وليس السياق له، وإنما يأبى الاعتراض ولا نقول به فتأمل. هذا «ومن باب الإشارة» لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ الذي هو القرب من الله حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ أي بعضه، والإشارة به إلى النفس فإنها إذا أنفقت في سبيل الله زال الحجاب الأعظم وهان إنفاق كل بعدها وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ فينبغي تحرّي ما يرضيه، ويحكى عن بعضهم أنه قال المنفقون على أقسام: فمنهم من ينفق على ملاحظة الجزاء والعوض. ومنهم من ينفق على مراقبة رفع البلاء والمحن. ومنهم من ينفق اكتفاء بعلمه ولله تعالى در من قال: ويهتز للمعروف في طلب العلا ... لتذكر يوما عند سلمى شمائله كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ قيل: فائدة الإخبار بذلك تعليم أهل المحبة أن يتركوا ما حبب إليهم من الأطعمة الشهية واللذائذ الدنيوية رغبة فيما عند الله تعالى إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ وهو الكعبة التي هي من أعظم المظاهر له تعالى حتى قالوا: إنها للمحمديين كالشجرة لموسى عليه السلام مُبارَكاً بما كساه من أنوار ذاته وَهُدىً بما كساه من أنوار صفاته لِلْعالَمِينَ على حسب استعدادهم فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ المشتمل على الرضا والتسليم والانبساط واليقين والمكاشفة والمشاهدة والخلة والفتوة، أو المعرفة والتوحيد والفناء والبقاء والسكر والصحو، أو جميع ذلك وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً من غوائل نفسه لأنه مقام التمكين «وتطبيق ذلك على ما في الأنفس» أن البيت إشارة إلى القلب الحقيقي، ويحمل ما ورد أن البيت أول ما ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض وخلق قبل الأرض بألفي عام وكان زبدة بيضاء على وجه الماء فدحيت الأرض تحته على ذلك وظهوره على الماء حينئذ تعلقه بالنطفة عند خلق سماء الروح الحيوان وأرض البدن، وخلقه قبل الأرض إشارة إلى قدمه وحدوث البدن، وتقييد ذلك بألفي عام إشارة إلى تقدمه على البدن بطورين طور النفس وطور القلب تقدما بالرتبة إذ الألف رتبة تامة، وكونه زبدة بيضاء إشارة إلى صفاء جوهره، ودحو الأرض تحته إشارة إلى تكون البدن من تأثيره وكون أشكاله وصور أعضائه تابعة لهيئاته ولا يخفى أن محل تعلق الروح بالبدن واتصال القلب الحقيقي به أولا هو القلب الصنوبري وهو أول ما يتكون من الأعضاء وأول عضو يتحرك وآخر عضو يسكن فيكون أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ الصدر صورة، أو أول متعبد وضع لهم للقلب الحقيقي الذي هو ببكة الصدر المعنوي الذي هو أشرف مقام في النفس وموضع ازدحام القوى اليه، ومعنى كونه مُبارَكاً أنه ذو بركة إلهية بسبب فيض الخير عليه، وكونه هُدىً أنه يهتدي به إلى الله تعالى- والآيات- التي فيه هي العلوم والمعارف والحكم والحقائق، ومَقامُ إِبْراهِيمَ إشارة إلى العقل الذي هو مقام قدم إبراهيم الروح يعني محل اتصال نوره من القلب ولا شك أن من دخل ذلك كانَ آمِناً من أعداء سعالى المتخيلة وعفاريت أحاديث النفس واختطاف شياطين الوهم وجن الخيالات واغتيال سباع القوى النفسانية وصفاتها وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وهم أهل معرفته عز شأنه، وأما الجاهلون به فلا قاموا ولا قعدوا، يحكى عن بعضهم أنه قال: قلت للشبلي: إني حججت فقال: كيف فعلت؟ فقلت: اغتسلت وأحرمت وصليت ركعتين ولبيت فقال لي: عقدت به الحج؟ فقلت: نعم قال: فسخت بعقدك كل عقد عقدت منذ خلقت مما يضاد هذا العقد؟ قلت: لا قال: فما عقدت، ثم قال نزعت ثيابك؟ قلت: نعم قال: تجردت عن كل فعل فعلت؟ قلت: لا قال: ما نزعت، فقال: تطهرت؟ قال: نعم قال: أزلت عنك كل علة؟ فقلت: لا قال فما تطهرت، قال لبيت؟ قلت: نعم قال: وجدت جواب التلبية مثلا بمثل؟ قلت: لا قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 ما لبيت، قال: دخلت الحرم؟ قلت: نعم قال: اعتقدت بدخولك ترك كل محرم؟ قلت: لا قال: ما دخلت، قال: أشرفت على مكة؟ قلت: نعم قال: أشرف عليك حال من الله تعالى؟ قلت لا قال: ما أشرفت، قال: دخلت المسجد الحرام؟ قلت: نعم قال: دخلت الحضرة؟ قلت: لا قال: ما دخلت المسجد الحرام، قال: رأيت الكعبة؟ قلت: نعم قال: رأيت ما قصدت له؟ قلت: لا قال ما رأيت الكعبة، قال رملت وسعيت؟ قلت: نعم قال: هربت من الدنيا ووجدت أمنا مما هربت؟ قلت: لا قال: ما فعلت شيئا، قال: صافحت الحجر؟ قلت: نعم قال: من صافح الحجر فقد صافح الحق ومن صافح الحق ظهر عليه أثر الأمن أفظهر عليك ذلك؟ قلت: لا قال: ما صافحت قال: أصليت ركعتين بعد؟ قلت: نعم قال: أوجدت نفسك بين يدي الله تعالى؟ قلت: لا قال: ما صليت. قال: خرجت إلى الصفا. قلت: نعم قال: أكبرت؟ قلت: نعم فقال: أصفا سرك وصغرت في عينك الأكوان، قلت: لا قال: ما خرجت ولا كبرت. قال: هرولت في سعيك؟ قلت: نعم قال: هربت منه إليه؟ قلت: لا قال: ما هرولت، قال: وقفت على المروة؟ قلت: نعم قال: رأيت نزول السكينة عليك وأنت عليها: قلت لا قال: ما وقفت على المروة، قال: خرجت إلى منى؟ قلت: نعم قال. أعطيت ما تمنيت؟ قلت: لا قال: ما خرجت، قال: دخلت مسجد الخيف؟ قلت: نعم قال: تجدد لك خوف؟ قلت: لا قال: ما دخلت. قال: مضيت إلى عرفات؟ قلت: نعم قال: عرفت الحال الذي خلقت له والحال الذي تصير إليه؟ وهل عرفت من ربك ما كنت منكرا له؟ وهل تعرف الحق إليك بشيء؟ قلت: لا قال: ما مضيت. قال: نفرت إلى المشعر الحرام؟ قلت: نعم. قال: ذكرت الله تعالى فيه ذكرا أنساك ذكر ما سواه؟ قلت لا قال: ما نفرت، قال: ذبحت؟ قلت: نعم قال: أفنيت شهواتك وإراداتك في رضاء الحق؟ قلت: لا قال ما ذبحت، قال: رميت؟ قلت: نعم قال: رميت جهلك منك بزيادة علم ظهر عليك؟ قلت: لا قال ما رميت، قال: زرت؟ قلت: نعم قال: كوشفت عن الحقائق؟ قلت: لا قال ما زرت، قال: أحللت؟ قلت: نعم قال: عزمت على الأكل من الحلال قدر ما تحفظ به نفسك؟ قلت. لا قال: ما أحللت، قال: ودعت قلت نعم قال: خرجت من نفسك وروحك بالكلية؟ قلت: لا قال: ما ودعت ولا حججت وعليك العود إن أحببت وإذا حججت فاجتهد أن تكون كما وصفت لك انتهى. فهذا الذي ذكره الشبلي هو الحج الذي يستأهل أن يقال له حج، ولله تعالى عباد أهلهم لذلك وأقدرهم على السلوك في هاتيك المسالك فحجهم في الحقيقة منه إليه وله فيه فمطافهم حظائر القربة على بساط الحشمة وموقفهم عرفة العرفان على ساق الخدمة ليس لهم غرض في الجدران والأحجار وهيهات هيهات ما غرض المجنون من الديار إلا الديار، ومن كفر وأعرض عن المولى بهوى النفس فإن الله غني عن العالمين فهو سبحانه غني عنه لا يلتفت إليه قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ الدالة على توحيده وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ إذ هو أقرب من حبل الوريد قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بالإنكار على المؤمنين مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً بإيراد الشبه الباطلة وَأَنْتُمْ شُهَداءُ عالمون بأنها حق لا اعوجاج فيها وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فيجازيكم به يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الإيمان الحقيقي إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ خوفا من إنكارهم ما أنتم عليه من الحقيقة والطريق الموصل إليه سبحانه يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ الراسخ فيكم كافِرِينَ لأن إنكار الحقيقة كفر كإنكار الشريعة وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي من يعتصم به منه فقد اهتدى إليه به، قال الواسطي: ومن زعم أنه يعتصم به من غيره فقد جهل عظمة الربوبية، وحقيقة الاعتصام عند بعضهم انجذاب القلب عن الأسباب التي هي الأصنام المعنوية والتبري إلى الله تعالى من الحول والقوة، وقيل: الاعتصام للمحبين هو اللجأ بطرح السوي، ولأهل الحقائق رفع الاعتصام لمشاهدتهم أنهم في القبضة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ بصون العهود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 وحفظ الحدود والخمود تحت جريان القضاء بنعت الرضا، وقيل: حق التقوى عدم رؤية التقوى وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي لا تموتن إلا على حال إسلام الوجود له أي ليكن موتكم هو الفناء في التوحيد وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وهو عهده الذي أخذه على العباد يوم أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: 172] وَلا تَفَرَّقُوا باختلاف الأهواء وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بالهداية إلى معالم التوحيد المفيد للمحبة في القلوب إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً لاحتجابكم بالحجب النفسانية والغواشي الطبيعية فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ بالتحاب في الله تعالى لتنورها بنوره فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ عليكم إِخْواناً في الدين وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ وهي مهوى الطبيعة الفاسقة وجهنم الحرمان فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها بالتواصل الحقيقي بينكم إلى سدرة مقام الروح وروح جنة الذات وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ كالعلماء العارفين أرباب الاستقامة في الدين يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ أي يرشدون الناس إلى الكمال المطلق من معرفة الحق تعالى والوصول إليه وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ المقرب إلى الله تعالى وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ المبعد عنه تعالى وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الذين لم يبق لهم حجاب وهم خلفاء الله تعالى في أرضه وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا واتبعوا الأهواء والبدع وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ الحجج العقلية والشرعية الموجبة للاتحاد واتفاق الكلمة وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وهو عذاب الحرمان من الحضرة يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ قالوا: ابيضاض الوجه عبارة عن تنور وجه القلب بنور الحق المتوجه إليه والإعراض عن الجهة السفلية النفسانية المظلمة ولا يكون ذلك إلا بالتوحيد واسوداده ظلمة وجه القلب بالإقبال على النفس الطالبة لحظوظها والإعراض عن الجهة العلوية النورانية فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ فيقال لهم أَكَفَرْتُمْ أي احتجبتم عن الحق بصفات النفس بَعْدَ إِيمانِكُمْ أي تنوركم بنور الاستعداد وصفاء الفطرة وهداية العقل فَذُوقُوا الْعَذابَ وهو عذاب الاحتجاب عن الحق بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ به وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ الخاصة التي هي شهود الجمال هُمْ فِيها خالِدُونَ باقون بعد الفناء كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ من مكامن الأزل لِلنَّاسِ أي لنفعهم تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ الموصل إلى مقام التوحيد وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وهو القول بتحقق الكثرة على الحقيقة وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ كإيمانكم لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مما هم عليه مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ كإيمانكم وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن حرم الحق لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وهو الإنكار عليكم بالقول وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ ولم يكتفوا بذلك الإيذاء يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ولا ينالون منكم شيئا لقوة بواطنكم وضعفهم ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ لا ينصرهم أحد أصلا بل يبقون مخذولين لعدم ظهور أنوار الحق عليهم، والله تعالى الموفق. لَيْسُوا سَواءً أخرج ابن إسحاق والطبراني والبيهقي وغيرهم عن ابن عباس قال: لما أسلم عبد الله بن سلام وثعلبة بن شعبة وأسيد بن شعبة وأسيد بن عبيد ومن أسلم من يهود معهم فآمنوا وصدقوا ورغبوا في الإسلام قالت أحبار يهود وأهل الكفر منهم: ما آمن بمحمد وتبعه إلا أشرارنا ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره فأنزل الله تعالى في ذلك لَيْسُوا سَواءً إلى قوله سبحانه وتعالى: وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ والجملة على ما قاله مولانا شيخ الإسلام تمهيد لتعداد محاسن مؤمني أهل الكتاب، وضمير الجمع لأهل الكتاب جميعا لا للفاسقين خاصة وهو اسم- ليس- وسَواءً خبره، وإنما أفرد لكونه في الأصل مصدرا والوقف هنا تام على الصحيح والمراد بنفي المساواة نفي المشاركة في أصل الاتصاف بالقبائح لا نفي المساواة في الاتصاف بمراتبها مع تحقق المشاركة في أصل الاتصاف ومثله كثير في الكلام. مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ استئناف مبين لكيفية عدم التساوي ومزيل لما فيه من الإبهام، وقال أبو عبيدة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 إنه مع الأول كلام واحد، وجعل أُمَّةٌ اسم- ليس- والخبر سَواءً فهو على حد أكلوني البراغيث، وقيل: أُمَّةٌ مرفوع- بسواء- وضعف كلا القولين ظاهر، ووضع أَهْلِ الْكِتابِ موضع الضمير زيادة في تشريفهم والاعتناء بهم- والقائمة- من قام اللازم بمعنى استقام أي أُمَّةٌ مستقيمة على طاعة الله تعالى ثابتة على أمره لم تنزع عنه وتتركه كما تركه الآخرون وضيعوه، وحكي عن ابن عباس وغيره، وزعم الزجاج أن الكلام على حذف مضاف والتقدير ذو أمة قائمة أي ذو طريقة مستقيمة، وفيه أنه عدول عن الظاهر من غير دليل. والمراد من هذه الأمة من تقدم في سبب النزول، وجعل بعضهم أَهْلِ الْكِتابِ عاما لليهود والنصارى وعد من الأمة المذكورة نحو النجاشي وأصحابه ممن أسلم من النصارى يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ صفة لأمة بعد وصفها بقائمة، وجوز أن تكون حالا من الضمير في قائِمَةٌ أو من الأمة لأنها قد وصفت، أو من الضمير في الجار الواقع خبرا عنها، والمراد يقرؤون القرآن آناءَ اللَّيْلِ أي ساعاته وواحده أني بوزن عصا، وقيل: إنى كمعا، وقيل: أني بفتح فسكون أو كسر فسكون وحكى الأخفش أنو كجرو فالهمزة منقلبة عن ياء أو واو وهو متعلق- بيتلون- أو- بقائمة- ومنع أبو البقاء تعلقه بالثاني بناء على أنه قد وصف فلا يعمل فيما بعد الصفة وَهُمْ يَسْجُدُونَ حال من ضمير يَتْلُونَ على ما هو الظاهر، والمراد وهم يصلون إذ من المعلوم أن لا قراءة في السجود وكذا الركوع بل وقع النهي عنها فيهما كما في الخبر، والمراد بصلاتهم هذه التهجد على ما ذهب إليه البعض وعلل بأنه أدخل في المدح وفيه تيسر لهم التلاوة لأنها في المكتوبة وظيفة الإمام، واعتبار حالهم عند الصلاة على الانفراد يأباه مقام المدح وهو الأنسب بالعدول عن إيرادها باسم الجنس المتبادر منه الصلوات المكتوبة وبالتعبير عن وقتها بالآناء المبهمة، وإنما لم يعبر على هذا بالتهجد دفعا لاحتمال المعنى اللغوي الذي لا مدح فيه، والذي عليه بعض السلف أنها صلاة العتمة. واستدل عليه بما أخرجه الإمام أحمد والنسائي وابن جرير والطبراني بسند حسن واللفظ للأخيرين عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: أخر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليلة صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال: أما أنه لا يصلي هذه الصلاة أحد من أهل الكتاب قال: وأنزلت هذه الآية لَيْسُوا سَواءً حتى بلغ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ وعليه تكون الجملة معطوفة على جملة يتلون، وقيل: مستأنفة ويكون المدح لهم بذلك لتميزهم واختصاصهم بتلك الصلاة الجليلة الشان التي لم يتشرف بأدائها أهل الكتاب كما نطق به الحديث بل ولا سائر الأمم، فقد روى الطبراني بسند حسن أيضا عن المنكدر أنه قال: خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذات ليلة وأنه أخر صلاة العشاء حتى ذهب من الليل هنيهة أو ساعة والناس ينتظرون في المسجد فقال: أما إنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتموها ثم قال: أما إنها صلاة لم يصلها أحد ممن كان قبلكم من الأمم ولعل هذا هو السر في تقديم هذا الحكم على الحكم بالإيمان، ولا يرد عليه أن التلاوة لا تتيسر لهم إلا بصلاتهم منفردين ولا تمدح في الانفراد مع أنه خلاف الواقع من حال القوم على ما يشير إليه الخبران لأنه لم تقيد التلاوة فيه بالصلاة وإنما يلزم التقييد لو كانت الجملة حالا من الضمير كما سبق وليس فليس. والتعبير عن الصلاة بالسجود لأنه أدل على كمال الخضوع وهو سر التعبير به عنها في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: لمن طلب أن يدعو له بأن يكون رفيقه في الجنة لفرط حبه له وخوف حيلولة الفراق يوم القيامة أغني بكثرة السجود، وكذا في كثير من المواضع، وقيل: المراد بها الصلاة ما بين المغرب والعشاء الآخرة وهي المسماة بصلاة الغفلة، وقيل: المراد بالسجود سجود التلاوة، وقيل: الخضوع كما في قوله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الرعد: 15] واختيرت الجملة الاسمية للدلالة على الاستمرار وكرر الإسناد تقوية للحكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 وتأكيدا له، واختيار صيغة المضارع للدلالة على التجدد يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ صفة أخرى لأمة، وجوز أن تكون حالا على طرز ما قبلها وإن شئت- كما قال أبو البقاء استأنفتها، والمراد بهذا الإيمان الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به على الوجه المقبول، وخص الله تعالى اليوم الآخر بالذكر إظهارا لمخالفتهم لسائر اليهود فيما عسى أن يتوهم متوهم مشاركتهم لهم فيه لأنهم يدعون أيضا الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر لكن لما كان ذلك مع قولهم: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: 30] وكفرهم ببعض الكتب والرسل ووصفهم اليوم الآخر بخلاف ما نطقت به الشريعة المصطفوية جعل هو والعدم سواء وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ إشارة إلى وفور نصيبهم من فضيلة تكميل الغير إثر الإشارة إلى وفوره من فضيلة تكميل النفس، وفيه تعريض بالمداهنين الصادين عن سبيل الله تعالى وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ أي يبادرون إلى فعل الخيرات والطاعات خوف الفوات بالموت مثلا، أو يعملون الأعمال الصالحة راغبين فيها غير متثاقلين لعلمهم بجلالة موقعها وحسن عاقبتها وهذه صفة جامعة لفنون الفضائل والفواضل وفي ذكرها تعريض بتباطؤ اليهود وتثاقلهم عن ذلك، وأصل المسارعة المبادرة وتستعمل بمعنى الرغبة، واختيار صيغة المفاعلة للمبالغة، قيل: ولم يعبر بالعجلة للفرق بينها وبين السرعة فإن السرعة التقدم فيما يجوز أن يتقدم فيه وهي محمودة وضدها الإبطاء وهو مذموم، والعجلة التقدم فيما لا ينبغي أن يتقدم فيه وهي مذمومة وضدها الأناة وهي محمودة. وإيثار فِي على- إلى- وكثيرا ما تتعدى المسارعة بها للإيذان كما قال شيخ الإسلام: بأنهم مستقرون في أصل الخير متقلبون في فنونه لا أنهم خارجون منتهون إليها وصيغة جمع القلة هنا تغني عن جمع الكثرة كما لا يخفى وَأُولئِكَ أي الموصوفون بتلك الصفات الجليلة الشأن بسبب اتصافهم بها كما يشعر به العدول عن الضمير مِنَ الصَّالِحِينَ أي من عداد الذين صلحت عند الله تعالى حالهم وهذا رد لقول اليهود: ما آمن به إلا شرارنا. وقد ذهب الجلّ إلى أن في الآية استغناء بذكر أحد الفريقين عن الآخر على عادة العرب من الاكتفاء بذكر أحد الضدين عن الآخر، والمراد ومنهم من ليسوا كذلك وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ أي طاعة متعدية أو سارية فَلَنْ يُكْفَرُوهُ أي لن يحرموا ثوابه البتة، وأصل الكفر الستر ولتفسيره بما ذكرنا تعدى إلى مفعولين والخطاب قيل: لهذه الأمة وهو مرتبط بقوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ وجميع ما بينهما استطراد، وقيل: لأولئك الموصوفين بالصفات المذكورة وفيه التفات ونكتته الخاصة هنا الإشارة إلى أنهم لا تصافهم بهذه المزايا أهل لأن يخاطبوا، وقرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر بالياء في الفعلين، والباقون بالتاء فيهما غير أبي عمرو فإنه روي عنه أنه كان يخير بهما، وعلى قراءة الغيبة يجوز أن يراد من الضمير ما أريد من نظائره فيما قبل ويكون الكلام حينئذ على وتيرة واحدة، ويحتمل أن يعود للأمة ويكون العدول إلى الغيبة مراعاة للأمة كما روعيت أولا في التعبير- بأخرجت- دون أخرجتم وهذه طريقة مشهورة للعرب في مثل ذلك. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ أي بأحوالهم فيجازيهم وهذا تذييل مقرر لمضمون ما قبله. والمراد بالمتقين إما عام ويدخل المخاطبون دخولا أوليا وإما خاص بالمتقدمين وفي وضع الظاهر موضع المضمر إيذان بالعلة وأنه لا يفوز عنده إلا أهل التقوى، وعلى هذا يكون قوله تعالى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً مؤكدا لذلك ولهذا فصل. والمراد من الموصول إما سائر الكفار فإنهم فاخروا بالأموال والأولاد حيث قالوا: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ: 35] فرد الله تعالى عليهم بما ترى عليهم، وإما بنو قريظة وبنو النضير حيث كانت معالجتهم بالأموال والأولاد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل: مشركو قريش (وقيل: وقيل:) ولعل من ادعى العموم- وهو الظاهر- قال بدخول المذكورين دخولا أوليا، والمراد من الإغناء الدفع، ويقال: أغنى عنه إذا دفع عنه ضررا لولاه لنزل به أي لن تدفع عنهم يوم القيامة أموالهم التي عولوا عليها في المهمات ولا من هو أرجى من ذلك وأعظم عندهم وهم أولادهم من عذاب الله تعالى لهم شيئا يسيرا منه، وقال بعضهم: المراد بالاغناء الإجزاء، ويقال: ما يغنى عنك هذا أي ما يجزي عنك وما ينفعك، ومِنَ للبدل أو الابتداء، وشَيْئاً مفعول مطلق أي لن يجزي عنهم ذلك من عذاب الله تعالى شيئا من الإجزاء، وعلى التفسير الأول للإغناء وجعل هذا معنى حقيقيا له دونه يقال بالتضمين وأمر المفعولية عليه ظاهر لتعديه حينئذ وَأُولئِكَ أي الموصوفون بالكفر بسبب كفرهم أَصْحابُ النَّارِ أي ملازموها وهو معنى الأصحاب عرفا. هُمْ فِيها خالِدُونَ تأكيد لما يراد من الجملة الأولى واختيار الجملة الاسمية للإيذان بالدوام والاستمرار وتقديم الظرف محافظة على رؤوس الآي ثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كالدليل لعدم إغناء الأموال، ولعل عدم بيان إغناء الأولاد ظاهر لأنهم إن كانوا كفارا- وهو الظاهر- كان حكمهم حكمهم وإن كانوا مسلمين كانوا عليهم لا لهم في الدنيا، وبغضهم لهم في الآخرة يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ [الطارق: 9] يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ [القلم: 42] وتبريهم منهم حين يفر المرء من أمه وأبيه أظهر من أن يخفى، وا موصولة والعائد محذوف أي ينفقونه والإشارة للتحقير، والمراد تمثيل جميع صدقات الكفار ونفقاتهم كيف كانت- وهو المروي عن مجاهد- وقيل: مثل لما ينفقه الكفار مطلقا في عداوة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وقيل: لما أنفقته قريش يوم بدر وأحد لما تظاهروا عليه الصلاة والسلام، وقيل: لما أنفقه سفلة اليهود على علمائهم المحرفين أي حال ذلك وقصته العجيبةمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أي برد شديد قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وجماعة، وقال الزجاج- الصر- صوت لهيب النار وقد كانت في تلك الريح، وقيل: أصل الصر كالصرصر الريح الباردة، وعليه يكون معنى النظم ريح فيها ريح باردة وهو كما ترى محتاج إلى التوجيه، وقد ذكر فيه أنه وارد على التجريد كقوله: ولولا ذاك قد سوّمت مهري ... وفي الرحمن للضعفاء كاف أي هو كاف ومنع بعضهم كونه في الأصل الريح الباردة وإنما هو مصدر بمعنى البرد كما قال الحبر واستعماله فيما ذكر مجاز وليس بمراد، وقيل: إنه صفة بمعنى بارد إلا أن موصوفه محذوف أي برد بارد فهو من الإسناد المجازي كظل ظليل- وفيه بعد- لأن المعروف في مثله ذكر الموصوف وأما حذفه وتقديره فلم يعهد، وقيل: هو في الأصل صوت الريح الباردة من صر القلم والباب صريرا إذا صوت، أو من الصرة الضجة والصيحة وقد استعمل هنا على أصله، وفيه أن هذا المعنى مما لم يعهد في الاستعمال، والريح واحدة الرياح، وفي الصحاح والأرياح، وقد تجمع على أرواح لأن أصلها الواو، وإنما جاءت بالياء لانكسار ما قبلها فإذا رجعوا إلى الفتح عادت إلى الواو كقولك: أروح الماء وتروحت بالمروحة، ويقال أيضا: ريح وريحة كما قالوا: دار ودارة، وسيأتي إن شاء الله تعالى للعلماء من الكلام في هذا المقام، وأفرد الريح لما في البحر أنها مختصة بالعذاب والجمع مختص بالرحمة ولذلك روى اللهم- اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحاصابَتْ حَرْثَ أي زرع. ْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر والمعاصي فباؤوا بغضب من الله تعالى وإنما وصفوا بذلك لما قيل: إن الإهلاك عن سخط أشد وأفظع أو لأن المراد الإشارة إلى عدم الفائدة في الدنيا والآخرة وهو إنما يكون في هلاك مال الكافر وأما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 غيره فقد يثاب على ما هلك له لصبره، وقيل: المراد ظلموا أنفسهم بأن زرعوا في غير موضع الزراعة وفي غير وقتهاأَهْلَكَتْهُ عن آخره ولم تدع له عينا ولا أثرا عقوبة لهم على معاصيهم، وقيل: تأديبا من الله تعالى لهم في وضع الشيء في غير موضعه الذي هو حقه وهذا من التشبيه المركب الذي توجد فيه الزبدة من الخلاصة والمجموع ولا يلزم فيه أن يكون ما يلي الأداة هو المشبه به كقوله تعالى: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ [يونس: 24] وإلا لوجب أن يقال: كمثل حرث لأنه المشبه به المنفق، وجوز أن يراد مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح، أو مثل ما ينفقون كمهلك ريح والمهلك اسم مفعول هو الحرث، والوجه عند كونه مركبا قلة الجدوى والضياع، ويجوز أن يكون من التشبيه المفرق فيشبه إهلاك الله تعالى بإهلاك الريح، والمنفق بالحرث وجعل الله تعالى أعمالهم هباء منثورا بما في الريح الباردة من جعله حطاما، وقرئ- تنفقون- بالتاء ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ الضمير إما للمنفقين أي ما ظلمهم بضياع نفقاتهم التي أنفقوها على غير الوجه اللائق المعتد به، وإما للقوم المذكورين أي ما ظلم الله تعالى أصحاب الحرث بإهلاكه لأنهم استحقوا ذلك وحينئذ يكون هذا النفي مع قوله تعالى: لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ تأكيدا لما فهم من قبل إشعارا وتصريحا، وقرئ «ولكنّ» بالتشديد على أن أنفسهم اسمها، وجملةظْلِمُونَ خبرها والعائد محذوف، والتقدير يظلمونها وليس مفعولا مقدما كما في قراءة التخفيف، واسمها ضمير الشأن لأنه لا يحذف إلا في الشعر كقوله: وما كنت ممن يدخل العشق قلبه ... ولكن من يبصر جفونك يعشق وتعين حذفه فيه لمكان من الشرطية التي تدخل عليها النواسخ وتقديم أنفسهم على الفعل للفاصلة لا للحصر وإلا لا يتطابق الكلام لأن مقتضاه وما ظلمهم الله ولكن هم يظلمون أنفسهم لا أنهم يظلمون أنفسهم لا غيرهم وهو في الحصر لازم، وصيغة المضارع للدلالة على التجدد والاستمرار. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ أخرج ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس قال: كان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من يهود لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية فأنزل الله تعالى فيهم ينهاهم عن مباطنتهم تخوف الفتنة عليهم هذه الآية، وأخرج عبد بن حميد أنها نزلت في المنافقين من أهل المدينة نهى المؤمنون أن يتولوهم، وظاهر ما يأتي يؤيده، والبطانة خاصة الرجل الذين يستبطنون أمره مأخوذ من بطانة الثوب للوجه الذي يلي البدن لقربه وهي نقيض الظهارة ويسمى بها الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ومِنْ متعلقة ب لا تَتَّخِذُوا أو بمحذوف وقع صفة لبطانة، وقيل: زائدة ودون- إما بمعنى غير أو بمعنى الأدون والدنيء، وضمير الجمع المضاف إليه للمؤمنين والمعنى لا تَتَّخِذُوا الكافرين كاليهود والمنافقين أولياء وخواص من غير المؤمنين أو ممن لم تبلغ منزلته، منزلتكم في الشرف والديانة، والحكم عام وإن كان سبب النزول خاصا فإن اتخاذ المخالف وليا مظنة الفتنة والفساد ولهذا ورد تفسير هذه البطانة بالخوارج. وأخرج البيهقي، وغيره عن أنس عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «لا تنقشوا في خواتيكم عربيا ولا تستضيئوا بنار المشركين» فذكر ذلك للحسن فقال: نعم لا تنقشوا في خواتيمكم محمد رسول الله ولا تستسروا المشركين في شيء من أموركم، ثم قال الحسن: وتصديق ذلك من كتاب الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا أصل الألو التقصير يقال: ألا كغزا- يألو ألوا إذا قصر وفتر وضعف، ومنه قول امرئ القيس: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 وما المرء ما دامت خشاشة نفسه ... بمدرك أطراف الخطوب ولا «آلى» أراد ولا مقصر في الطلب وهو لازم يتعدى إلى المفعول بالحرف، وقد يستعمل متعديا إلى مفعولين في قولهم: لا آلوك نصحا ولا آلوك جهدا على تضمين معنى المنع أي لا أمنعك ذلك وقد يجعل بمنع الترك فيتعدى إلى واحد، وفي القاموس ما ألوت الشيء أي ما تركته، والخبال في الأصل الفساد الذي يلحق الإنسان فيورثه اضطرابا كالمرض والجنون، ويستعمل بمعنى الشر والفساد مطلقا، ومعنى الآية على الأول لا يقصرون لكم في الفساد والشر بل يجهدون في مضرتكم، وعليه يكون الضمير المنصوب والاسم الظاهر منصوبين بنزع الخافض وإليه ذهب ابن عطية- وجوز أن يكون الثاني منصوبا على الحال أي مخبلين، أو على التمييز. واعترض ذلك بأنه لا إبهام في نسبة التقصير إلى الفاعل ولا يصح جعله فاعلا إلا على اعتبار الإسناد المجازي والنصب بنزع الخافض، ووقوع المصدر حالا ليس بقياس إلا فيما يكون المصدر نوعا من العامل نحو أتاني سرعة وبطأ كما نص عليه الرضي في بحث المفعول به والحال- واعتمده الساليكوتي- ونقل أبو حيان أن التمييز هنا محول عن المفعول نحو فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً [القمر: 12] وهو من الغرابة بمكان لأن المفروض أن الفعل لازم فمن أين يكون له مفعول ليحول عنه؟! وملاحظة تعديه إليه بتقدير الحرف قول بالنصب على نزع الخافض وقد سمعت ما فيه. وأجيب بالتزام أحد الأمرين الحالية أو كونه منصوبا على النزع مع القول بالسماع هنا والمعنى على الثاني لا يمنعونكم خبالا أي أنهم يفعلون معكم ما يقدرون عليه من الفساد ولا يبقون عندهم شيئا منه في حقكم وهو وجه وجيه، والتضمين قياسي على الصحيح والخلاف فيه واه لا يلتفت إليه، والمعنى والإعراب على الثالث ظاهران بعد الإحاطة بما تقدم وَدُّوا ما عَنِتُّمْ أي أحبوا عنتكم أي مشقتكم الشديدة وضرركم. وقال السدي: تمنوا ضلالتكم عن دينكم، وروي مثله عن ابن جرير قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ أي ظهرت أمارات العداوة لكم من فلتات ألسنتهم وفحوى كلماتهم لأنهم لشدة بغضهم لكم لا يملكون أنفسهم ولا يقدرون أن يحفظوا ألسنتهم، وقال قتادة: ظهور ذلك فيما بينهم حيث أبدى كل منهم ما يدل على بغضه للمسلمين لأخيه، وفيه بعد إذ لا يناسبه ما بعد، والأفواه جمع فم وأصله فوه، فلامه هاء والجموع ترد الأشياء إلى أصولها ويدل على ذلك أيضا تصغيره على فويه والنسبة إليه فوهيّ، وقرأ عبد الله قد بدا البغضاء وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ من البغضاء أَكْبَرُ أي أعظم مما بدا لأنه كان عن فلتة ومثله لا يكون إلا قليلا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ أي أظهرنا لكم الآيات الدالة على النهي عن موالاة أعداء الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، أو قد أظهرنا لكم الدلالات الواضحات التي يتميز بها الولي من العدو إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ أي إن كنتم من أهل العقل، أو إن كنتم تعلمون الفضل بين الولي والعدو، أو إن كنتم تعلمون مواعظ الله تعالى ومنافعها، وجواب إن محذوف لدلالة الكلام عليه، ثم إن هذه الجمل ما عدا وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ لأنها حال لا غير جاءت مستأنفات جوابا عن السؤال عن النهي وترك العطف بينها إيذانا باستقلال كل منها في ذلك، وقيل: إنها في موضع النعت- لبطانة- إلا قَدْ بَيَّنَّا لظهور أنها لا تصلح لذلك، والأول أحسن لما في الاستئناف من الفوائد وفي الصفات من الدلالة على خلاف المقصود أو إيهامه لا أقل وهو تقييد النهي وليس المعنى عليه، وقيل: إن وَدُّوا ما عَنِتُّمْ بيان وتأكيد لقوله: لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا فحكمه حكمه وما عدا ذلك مستأنف للتعليل على طريق الترتيب بأن يكون اللاحق علة للسابق إلى أن تكون الأولى علة للنهي ويتم التعليل بالمجموع أي لا تتخذوهم بطانة لأنهم لا يألونكم خبالا لأنهم يودّون شدة ضرركم بدليل أنهم قد تبدو البغضاء من أفواههم وإن كانوا يخفون الكثير ولا بد على هذا من استثناء قَدْ بَيَّنَّا إذ لا يصلح تعليلا لبدو البغضاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 ويصلح تعليلا للنهي فافهم ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ تنبيه على أن المخاطبين مخطئون في اتخاذهم بطانة، وفي إعراب مثل هذا التركيب مذاهب للنحويين فقال الأزهري وابن كيسان وجماعة: إن ها للتنبيه وأَنْتُمْ مبتدأ وجملة تُحِبُّونَهُمْ خبره، وأُولاءِ منادى أو منصوب على الاختصاص، وضعف بأنه خلاف الظاهر والاختصاص لا يكون باسم الإشارة، وقيل: أَنْتُمْ مبتدأ، وأُولاءِ خبره، والجملة بعد مستأنفة، ويؤيد ذلك ما قاله الرضي من أنه ليس المراد من- ها أنا ذا أفعل، وها أنت ذا تفعل- تعريف نفسك أو المخاطب إذ لا فائدة فيه بل استغراب وقوع مضمون وقوع الفعل المذكور بعد من المتكلم أو المخاطب، فالجملة بعد اسم الإشارة لازمة لبيان الحال المستغربة ولا محل لها إذ هي مستأنفة، وقال البصريون: هي في محل النصب على الحال أي ها أنت ذا قائلا، والحال هاهنا لازمة لأن الفائدة معقودة بها وبها تتم، والعامل فيها حرف التنبيه أو اسم الإشارة. واعترضه الرضي بأنه لا معنى للحال إذ ليس المعنى أنت المشار إليه في حال فعلك ولا يخفى أن ما قاله البصريون هو الظاهر من كلام العرب لأنهم قالوا: ها أنت ذا قائما فصرحوا بالحالية وإن كان المعنى على الاخبار بالحال لأنه المقصود بالاستبعاد، ومدلول الضمير واسم الإشارة متحد واعتبار معنى الإشارة لمجرد تصحيح العمل لا أن المعنى عليه- وبه يندفع بحث الرضي- على أنه قد أجيب عنه بغير ذلك، وقال الزجاج: يجوز أن يكون أُولاءِ بمعنى الذين خبرا عن المبتدأ، وتُحِبُّونَهُمْ في موضع الصلة وليس بشيء، وقيل: أَنْتُمْ مبتدأ أول وأُولاءِ مبتدأ ثان، وتحبونهم خبر المبتدأ الثاني، والجملة خبر المبتدأ الأول على حد أنت زيد تحبه، وقيل: إن أُولاءِ هو الخبر، والجملة ما بعده خبر ثان، وقيل: أُولاءِ في محل نصب بفعل يفسره ما بعده، والجملة خبر المبتدأ والإشارة للتحقير فاستعملت هنا للتوبيخ كأنه ازدرى بهم لظهور خطئهم في ذلك الاتخاذ. والمراد بمحبة المؤمنين لهم المحبة العادية الناشئة من نحو الإحسان والصداقة، ومثلها- وإن كان غريب يلام عليه إذا وقع من المؤمنين في حق أعداء الدين الذين يتربصون بهم ريب المنون لكن لا يصل إلى الكفر وإنما لم يصل إليه باعتبار آخر لا يكاد يقع من أولئك المخاطبين، وقيل. المراد تُحِبُّونَهُمْ لأنكم تريدون الإسلام لهم وتدعونهم إلى الجنة ولا يحبونكم لأنهم يريدون لكم الكفر والضلال وفي ذلك الهلاك، ولا يخفى ما فيه. وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ أي الجنس كله وجعل ذلك من قبيل أنت الرجل أي الكامل في الرجولية ويكون الكتاب حينئذ إشارة إلى القرآن تعسف، والجملة حال من ضمير المفعول في لا يُحِبُّونَكُمْ واعترضه في البحر بأن المضارع المثبت إذا وقع حالا لا تدخل عليه واو الحال ولهذا تأولوا- قمت وأصك عينيه- على حذف المبتدأ أي قمت وأنا أصك عينيه، ومثل هذا التأويل وإن جاء هنا أي ولا يحبونكم وأنتم تؤمنون بالكتاب كله إلا أن العطف على تحبونهم أولى لسلامته من الحذف، وفيه أن الكلام في معرض التخطئة ولا كذلك الإيمان بالكتاب كله فإنه محض الصواب، والحمل- على أنكم تؤمنون بالكتاب كله وهم لا يؤم ژنون بشيء منه لأن إيمانهم كلا إيمان فلا يجامع المحبة- سديد كما قال العلامة الثاني في تقرير الحالية دون العطف، وبهذا يندفع ما في البحر من الاعتذار والمعنى يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بكتابكم وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا نفاقا وَإِذا خَلَوْا أي خلا بعضهم ببعض عَضُّوا عَلَيْكُمُ أي لأجلكم الْأَنامِلَ أي أطراف الأصابع مِنَ الْغَيْظِ أي لأجل الغضب والحنق لما يرون من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم ونصرة الله تعالى إياهم بحيث عجز أعداؤهم عن أن يجدوا سبيلا إلى التشفي واضطروا إلى مداراتهم وعض الأنامل عادة النادم الأسيف العاجز، ولهذا أشير به إلى حال هؤلاء وليس المراد أن هناك عضا بالفعل قُلْ يا محمد بلسانك، وقيل: المراد حدث نفسك بإذلالهم وإعزاز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 الإسلام من غير أن يكون هناك قول، وقيل: هو خطاب لكل مؤمن وتحريض لهم على عداوتهم وحث لهم على خطابهم خطاب الخصماء فإنه لا أقطع للمحبة من جراحة اللسان فالمقصود على هذا من قوله تعالى: مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ مجرد الخطاب بما يكرهونه، والصحيح الذي اتفقت عليه كلمتهم أنه دعاء عليهم وكون ذلك مما فيه خفاء إذ لا يخاطب المدعو عليه بل الله تعالى ويسأل منه ابتلاؤه لا خفاء في خفائه وأنه غفلة عن قولهم: قاتلك الله تعالى، وقولهم: دم بعز، وبت قرير عين، وغيره مما لا يحصى، والمراد كما قيل: الدعاء بدوام الغيظ وزيادته بتضاعف قوة الإسلام وأهله حتى يهلكوا به، وهذا عند العلامة الثاني من كناية الكناية حيث عبر بدعاء موتهم بالغيظ عن ملزومه الذي هو دعاء ازدياد غيظهم إلى حين الهلاك وبه عن ملزومه الذي هو قوة الإسلام وعز اسمه وذلك لأن مجرد الموت بالغيظ أو ازدياده ليس مما يحسن أن يطلب ويدعى به. وتعقب بأن المجاز على المجاز مذكور وأما الكناية على الكناية فنادرة وقد صرح بها السبكي في قواعده الأصولية ونقل فيها خلافا، ومع هذا الفرق بين الكناية بالوسائط والكناية على الكناية مما يحتاج إلى التأمل الصادق ولعله فرق اعتباري، وأيضا ما ذكره من أن مجرد الموت بالغيظ إلخ مدفوع بأنه يمكن أن يكون المحسن لذلك ما فيه من الإشارة إلى ذمهم حيث إنهم قد استحقوا هذا الموت الفظيع والحال الشنيع. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بما خفي فيها، وهذا يحتمل أن يكون من تتمة المقول أي قل لهم إن الله تعالى عليم بما هو أخفى مما تخفونه من عض الأنامل إذا خلوتم فيجازى به وأن يكون خارجا عنه أي قل لهم ما تقدم ولا تتعجب من اطلاعي إياك على أسرارهم فإني عليم بالأخفى من ضمائرهم، والنهي عن التعجب حينئذ إما خارج مخرج العادة مجازا بناء على أن المخاطب عالم بمضمون هذه الجملة، وإما باق على حقيقته إن كان المخاطب غير ذلك ممن يقف على هذا الخطاب فلا إشكال على التقديرين خلافا لمن وهم في ذلك إِنْ تَمْسَسْكُمْ أيها المؤمنون حَسَنَةٌ نعمة من ربكم كالألفة واجتماع الكلمة والظفر بالأعداء تَسُؤْهُمْ أي تحزنهم وتغظهم وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ أي محنة كإصابة العدو منكم واختلاف الكلمة فيما بينكم يَفْرَحُوا أي يبتهجوا بِها وفي ذلك إشارة إلى تناهي عداوتهم إلى حد الحسد والشماتة، والمس قيل: مستعار للإصابة فهما هنا بمعنى، وقد سوى بينهما في غير هذا الموضع كقوله تعالى: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ [التوبة: 50] وقوله سبحانه: إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً [المعارج: 20] والتعبير هنا بالمسّ مع الحسنة وبالإصابة مع السيئة لمجرد التفنن في التعبير، وقال بعض المحققين: الأحسن والأنسب بالمقام ما قيل: إنه للدلالة على إفراطهم في السرور والحزن لأن المسّ أقل من الإصابة كما هو الظاهر فإذا ساءهم أقلّ خير نالهم فغيره أولى منه، وإذا فرحوا بأعظم المصائب مما يرثي له الشامت ويرق الحاسد فغيره أولى فهم لا ترجى موالاتهم أصلا فكيف تتخذونهم بطانة؟! والقول بأنه لا يبعد أن يقال: إن ذلك إشارة إلى أن ما يصيبهم من الخير بالنسبة إلى لطف الله تعالى معهم خير قليل وما يصيبهم من السيئة بالنسبة لما يقابل به من الأجر الجزيل عظيم بعيد كما لا يخفى وَإِنْ تَصْبِرُوا على أذاهم أو على طاعة الله تعالى ومضض الجهاد في سبيله وَتَتَّقُوا ما حرم عليكم لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ أي مكرهم وأصل الكيد المشقة، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب لا يَضُرُّكُمْ بكسر الضاد وجزم الراء على أنه جواب الشرط من ضاره يضيره بمعنى ضره يضره، وضم الراء في القراءة المشهورة لاتباع ضمة الضاد كما في الأمر المضاعف المضموم العين كمد، والجزم مقدر، وجوزوا في مثله الفتح للخفة والكسر لأجل تحريك الساكن، وقيل: إنه مرفوع بتقدير الفاء وهو تكلف مستغنى عنه شَيْئاً نصب على المصدر أي لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً من الضرر لا كثيرا ولا قليلا ببركة الصبر والتقوى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 لكونهما من محاسن الطاعات ومكارم الأخلاق ومن تحلى بذلك كان في كنف الله تعالى وحمايته من أن يضره كيد عدو، وقيل: لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ لأنه أحاط بكم فلكم الأجر الجزيل، إن بطل فهو النعمة الدنيا فأنتم لا تحرمون الحسنى على كلتا الحالتين وفيه بعد إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ من الكيد. وقرأ الحسن وأبو حاتم- تعملون- بالتاء الفوقانية وهو خطاب للمؤمنين أي ما تعملون من الصبر والتقوى مُحِيطٌ علما أو بالمعنى اللائق بجلاله فيعاقبهم به أو فيثيبكم عليه وَإِذْ غَدَوْتَ أي واذكر إذ خرجت عدوة مِنْ عند أَهْلِكَ والخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم خاصة والكلام مستأنف سيق للاستشهاد بما فيه من استتباع عدم الصبر والتقوى للضرر على أن وجودهما مستتبع لما وعد من النجاة عن مضرة كيد الأعداء وكان الخروج من حجرة عائشة رضي الله تعالى عنها تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ أي توطنهم قاله ابن جبير وقيل: تنزلهم، وقيل: تسوي وتهييء لهم، ويؤيده قراءة- «للمؤمنين» - إذ ليس محل التقوية والزيادة غير فصيحة مَقاعِدَ لِلْقِتالِ أي مواطن ومواقف ومقامات له، وأصل المقعد والمقام محل القعود والقيام ثم وسع فيه فأطلق بطريق المجاز على المكان مطلقا وإن لم يكن فيه قيام وقعود، وقد يطلق على من به كقولهم المجلس السامي والمقام الكريم- وجملة تُبَوِّئُ حال من فاعل غَدَوْتَ ولكون المقصود تذكير الزمان الممتد المتسع لابتداء الخروج والتبوئة وما يترتب عليها إذ هو المذكر للقصة لم يحتج إلى القول بأنها حال مقدرة أي ناويا وقاصدا للتبوئة، ومَقاعِدَ مفعول ثان- لتبوئ- والجار والمجرور متعلق بالفعل قبله أو بمحذوف وقع صفة لمقاعد، ولا يجوز- كما قال أبو البقاء- أن يتعلق به لأن المراد به المكان وهو لا يعمل. روى ابن إسحاق وجماعة عن ابن شهاب ومحمد بن يحيى والحصين بن عبد الرحمن وغيرهم وكل قد حدث بعض الحديث «أنه لما أصيب يوم بدر من كفار قريش أصحاب القليب ورجع فلهم إلى مكة ورجع أبو سفيان ابن حرب بعيره مشى عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية في رجال من قريش ممن أصيبت آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر فكلموا أبا سفيان ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة فقالوا: يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل أخياركم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك به ثأرنا بمن أصاب منا ففعلوا فاجتمعت قريش لحرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وخرجت بجدها وجديدها وأحابيشها ومن تابعها من بني كنانة وأهل تهامة وخرجوا معهم بالظعن التماس الحفيظة وأن لا يفروا وخرج أبو سفيان وهو قائد الناس بهند بنت عتبة وخرج آخرون بنساء أيضا فأقبلوا حتى نزلوا بعينين بجبل ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي مقابل المدينة فلما سمع بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمسلمون قد نزلوا حيث نزلوا قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إني رأيت بقرا تنحر ورأيت في ذباب سيفي ثلما ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة (1) فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وندعوهم حيث نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشر مقام وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها وكان رأي عبد الله بن أبي ابن سلول مع رأي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يرى رأيه في ذلك أن لا يخرج إليهم وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يكره الخروج فقال رجال من المسلمين ممن أكرمه الله تعالى بالشهادة يوم أحد وغيرهم ممن كان فاته يوم بدر: اخرج بنا يا رسول الله إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا فقال عبد الله بن أبيّ ابن سلول: يا رسول الله أقم بالمدينة لا تخرج إليهم فو الله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا ولا دخل علينا إلا أصبنا منه فدعهم يا رسول الله فإن أقاموا   (1) وعبر صلّى الله عليه وسلم ذبح البقرة بذبح أناس من أصحابه والثلم الذي بذباب سيفه بقتل رجل من أهل بيته اهـ من مؤلف رحمه الله كتبه مصححه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 أقاموا بشر محبس وإن دخلوا قاتلهم الرجال من فوقهم وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاؤوا فلم يزل الناس برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم حتى دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلبس لأمة حربه وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة ثم خرج عليهم وقد ندم الناس وقالوا: استكرهنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يكن لنا ذلك فإن شئت فاقعد صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل فخرج صلّى الله عليه وسلم بألف من أصحابه وقد وعدهم الفتح أن يصبروا، واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بالناس حتى إذا كان بالشوط بين المدينة وأحد انخذل عنه عبد الله بثلث الناس، وقال: أطاعهم وعصاني وما ندري علام نقتل أنفسنا هاهنا أيها الناس فرجع بمن تبعه من قومه من أهل النفاق والريب واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حزام أخو بني سلمة يقول: يا قوم أذكركم الله تعالى أن تخذلوا قومكم ونبيكم عند ما حضر من عدوهم قال: لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم ولكنا لا نرى أنه يكون قتال فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف قال: أبعدكم الله تعالى أعداء الله فسيغني الله تعالى عنكم نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم ومضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى سلك في حرة بني حارثة فذب فرس بذنبه فأصاب كلاب سيف فاستله فقال صلى الله تعالى عليه وسلم وكان يحب الفأل ولا يعتاف لصاحب السيف: شم سيفك فإني أرى السيوف ستسل اليوم ومضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى نزل الشعب من أحد من عدوة الوادي إلى الجبل فجعل ظهره وعسكره إلى أحد وقال: لا يقاتل أحد حتى نأمره بالقتال وتعبأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم للقتال ومشى على رجليه وجعل يصف أصحابه فكأنما يقوم بهم القدح إن رأى صدرا خارجا قال: تأخر وهو في سبعمائة رجل وأمر على الرماة عبد الله بن جبير وهو معلم يومئذ بثياب بيض وكانوا خمسين رجلا وقال: انضح الخيل عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا إن كان علينا أو لنا فاثبت مكانك لا يؤتين من قبلك وظاهر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بين درعين ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف فيهم مائتا فرس قد جنبوها ووقع القتال وكان ذلك يوم السبت للنصف من شوال سنة- ثلاث من الهجرة- وكان ما كان» وأشار الله تعالى إلى هذا اليوم بهذه الآية، والقول بأنها إشارة إلى يوم بدر كقول مقاتل بأنها إشارة إلى يوم الأحزاب خلاف ما عليه الجمهور وَاللَّهُ سَمِيعٌ لسائر المسموعات ويدخل ما وقع في هذه الغزوة من الأقوال دخولا أوليا عَلِيمٌ بسائر المعلومات ومنها ما في ضمائر القوم يومئذ، والجماعة اعتراض للإيذان بأنه قد قدر من الأقوال والأفعال ما لا ينبغي صدوره منهم، ومن ذلك قول أصحاب عبد الله بن جبير حين رأوا غلبة المسلمين على كفار قريش: قد غنم ونبقى نحن بلا غنيمة وجعلوا ينسلون رجلا فرجلا حتى أخلوا مراكزهم ولم يبق مع عبد الله سوى اثني عشر رجلا مع إيصاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم بثبوتهم مكانهم إِذْ هَمَّتْ قيل: بدل من إذ غدوت مبين لما هو المقصود بالتذكير. وجوز أن يكون ظرفا- لتبوئ- أو- لغدوت- أو- لسميع عليم- على سبيل التنازع أو لهما معا في رأي، وليس المراد تقييد كونه سميعا عليما بذلك الوقت طائِفَتانِ مِنْكُمْ أي فرقتان من المسلمين وهما حيان من الأنصار بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس وكانا جناحي عسكر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قاله ابن عباس وجابر بن عبد الله والحسن وخلق كثير وقال الجبائي: همت طائفة من المهاجرين، وطائفة من الأنصار أَنْ تَفْشَلا أي تضعفا وتجبنا حين رأوا انخذال عبد الله بن أبيّ ابن سلول مع من معه عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والمنسبك من أَنْ والفعل متعلق- بهمت- والباء محذوفة أي همت بالفشل وكان المراد به هنا لازمه لأن الفعل الاختياري الذي يتعلق الهم به والظاهر أن هذا الهم لم يكن عن عزم وتصميم على مخالفة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومفارقته لأن ذلك لا يصدر مثله عن مؤمن بل كان مجرد حديث نفس ووسوسة كما في قوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 أقول لها إذا جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي ويؤيد ذلك قوله تعالى: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما أي ناصرهما والجملة اعتراض. وجوز أن تكون حالا من فاعل هَمَّتْ أو من ضميره في تَفْشَلا مفيدة لاستبعاد فشلهما أو همهما مع كونهما في ولاية الله تعالى، وقرأ عبد الله «والله وليهم» بضمير الجمع على حد وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات: 9] وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي عليه سبحانه لا على غيره كما يؤذن به تقديم المعمول، وإظهار الاسم الجليل للتبرك به والتعليل وأل في الْمُؤْمِنُونَ للجنس ويدخل فيه الطائفتان دخولا أوليا، وفي هذا العنوان إشعار بأن الإيمان بالله تعالى من موجبات التوكل عليه، وحذف متعلق التوكل ليفيد العموم أي ليتوكلوا عليه عز شأنه في جميع أمورهم جليلها وحقيرها سهلها وحزنها وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ بيان لما يترتب على الصبر والتقوى إثر بيان ما ترتب على عدمهما أو مساقة (1) لا يجاب التوكل على الله تعالى بتذكير ما يوجبه. وبدر- كما قال الشعبي- بئر لرجل من جهينة يقال له بدر فسميت به، وقال الواقدي: اسم للموضع، وقيل: للوادي وكانت- كما قال عكرمة- متجرا في الجاهلية. وقال قتادة: إن بدرا ماء بين مكة والمدينة التقى عليه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمشركون وكان أول قتال قاتله النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وكان ذلك في السابع عشر من شهر رمضان يوم الجمعة سنة اثنتين من الهجرة، والباء بمعنى- في- أي نصركم الله في بدر وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ حال من مفعول نَصَرَكُمُ وأَذِلَّةٌ جمع قلة لذليل، واختير على ذلائل ليدل على قلتهم مع ذلتهم، والمراد بها عدم العدة لا الذل المعروف فلا يشكل دخول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في هذا الخطاب إن قلنا به، وقيل: لا مانع من أن يراد المعنى المعروف ويكون المراد وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ في أعين غيركم وإن كنتم أعزة في أنفسكم، وقد تقدم الكلام على عددهم وعدد المشركين إذ ذاك فَاتَّقُوا اللَّهَ باجتناب معاصيه والصبر على طاعته ولم يصرح بالأمر بالصبر اكتفاء بما سبق وما لحق مع الاشعار- على ما قيل- بشرف التقوى وأصالتها وكون الصبر من مبادئها اللازمة لها وفي ترتيب الأمر بها على الاخبار بالنصر إعلام بأن نصرهم المذكور كان بسبب تقواهم فمعنى قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لعلكم تقومون بشكر ما أنعم به عليكم من النصر القريب بسبب تقواكم إياه، ويحتمل أن يكون كناية أو مجازا عن نيل نعمة أخرى توجب الشكر كأنه قيل: فاتقوا الله لعلكم تنالون نعمة من الله تعالى فتشكرونه عليها فوضع الشكر موضع الإنعام لأنه سبب له ومستعد إياه إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ ظرف لنصركم، والمراد به وقت ممتد وقدم عليه الأمر بالتقوى إظهارا لكمال العناية، وقيل: بدل ثان من إِذْ غَدَوْتَ وعلى الأول يكون هذا القول ببدر، وعلى ذلك الحسن وغيره. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وغيرهما عن الشعبي أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين فشق ذلك عليهم فأنزل الله تعالى أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ إلخ فبلغت كرزا الهزيمة فلم يمد المشركين وعلى الثاني يكون القول بأحد وكان مع اشتراط الصبر والتقوى عن المخالفة ولم يوجدا منهم فلم يمدوا، ونسب ذلك إلى عكرمة وقتادة في إحدى الروايتين عنه. أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ الكفاية سد الحاجة وفوقها الغنى بناء على   (1) وقوله: أو مساقة كذا بخطه رحمه الله، ولعلها منساقة أو مسوقة، كتبه مصححه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 أنه الزيادة على نفي الحاجة، والإمداد في الأصل إعطاء الشيء حالا بعد حال، ويقال مد في السير إذا استمر عليه، وامتد بهم السير إذا طال واستمر، وعن بعضهم ما كان بطريق التقوية والإعانة يقال فيه أمده يمده إمدادا وما كان بطريق الزيادة يقال فيه: مده مدا، وقيل: يقال: مده في الشر وأمده في الخير والهمزة لإنكار أن لا يكفيهم ذلك، وأتي بلن لتأكيد النفي بناء على ما ذهب إليه البعض، وفيه إشعار بأنهم كانوا حينئذ كالآيسين من النصر لقلة عددهم وعددهم، وفي التعبير بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين ما لا يخفى من اللطف وتقوية الإنكار، وأَنْ يُمِدَّكُمْ في تأويل المصدر فاعل- بيكفيكم ومِنَ الْمَلائِكَةِ بيان أو صفة لآلاف أو لما أضيف إليه ومُنْزَلِينَ صفة لثلاثة آلاف، وقيل: حال من الملائكة وفي وصفهم بذلك إشارة إلى أنهم من أشرف الملائكة وقد أنزلوا على ما ذكره الشيخ الأكبر قدس سره من السماء الثالثة وذكر سر ذلك في الفتوحات، وقرئ مُنْزَلِينَ بالتشديد للتكثير أو للتدريج، وقرئ مبنيا للفاعل من الصيغتين على معنى مُنْزَلِينَ الرعب في قلوب أعدائكم أو النصر لكم والجمهور على كسر التاء من ثلاثة، وقد أسكنت في الشواذ ووقف عليها بإبدالها هاء أيضا على أنه أجرى الوصل مجرى الوقف فيهما ويضعف ذلك أن المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد بَلى إيجاب لما بعد لَنْ أي بلى يَكْفِيَكُمْ ذلك ثم وعدهم الزيادة بالشرط فقال سبحانه وتعالى: إِنْ تَصْبِرُوا على مضض الجهاد وما أمرتم به وَتَتَّقُوا ربكم بالاجتناب عن معاصيه وعدم المخالفة له وَيَأْتُوكُمْ أي المشركون أو أصحاب كرز كما قال الشعبي. مِنْ فَوْرِهِمْ هذا أصل الفور مصدر من فارت القدر إذا اشتد غليانها ومنه «أن شدة الحر من فور جهنم» ويطلق على الغضب لأنه يشبه فور القدر وعلى أول كل شيء، ثم إنه استعير للسرعة، ثم أطلق على الحال التي لا بطء فيها ولا تراخي، والمعنى ويأتوكم في الحال ووصف بهذا التأكيد السرعة بزيادة التعيين والتقريب ونظم إتيانهم بسرعة في سلك شرطي الإمداد ومداريه مع تحقق الإمداد لا محالة أسرعوا أو أبطؤوا إيذانا بتحقق سرعة الإمداد لا لتحقيق أصله، أو لبيان تحققه على أي حال فرض على أبلغ وجه وآكده حيث علقه بأبعد التقادير ليعلم تحققه على سائرها بالأولى فإن هجوم الأعداء بسرعة من مظان عدم لحوق المد دعاة فمتى علق به تحقق الإمداد مع منافاته له أفاد تحققه لا محالة مع ما هو غير مناف له كذا قيل، وربما يفهم منه أن الإمداد المرتب على الشرط في قوله تعالى: يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ وقع لهم وفي ذلك ترديد وتردد لأن هذا الكلام إن كان في غزوة أحد فلا شبهة في عدم وقوع ذلك ولا بملك واحد لعدم وقوع الشرط ولذا وقعت الهزيمة وإن كان في غزوة بدر كما هو المعتمد فقد وقع الاختلاف في أنهم أمدوا بهذه الخمسة الآلاف أولا. فذهب الشعبي إلى أنهم أمدوا بغيرها ولم يمدوا بها بناء على تعليق الإمداد بها بمجموع الأمور الثلاثة وهي الصبر والتقوى وإيتاء (1) أصحاب كرز وقد فقد الأمر الثالث كما نقلناه أولا فلم يوجد المجموع لانعدامه بانعدام بعض أجزائه فلم يوجد الإمداد المذكور كما صرح به الشعبي، نعم ذهب جمع إلى خلافه ولعله مبنى صاحب القيل لكن يبقى أن تفسير الفور بما فسر به غير متعين بل لم يوجد صريحا في كلام السلف، والذي ذهب إليه عكرمة ومجاهد وأبو صالح مولى أم هانئ أنه بمعنى الغضب فحينئذ تكون من للسببية أي يأتوكم بسبب غضبهم عليكم، والإشارة إما لتعظيم ذلك الغضب من حيث إنه شديد ومتمكن في القلوب، وإما لتحقيره من حيث إنه ليس على الوجه اللائق والطريق المحمود فإنه إنما كان على مخالفة المسلمين لهم في   (1) قوله: وإيتاء كذا بخطه رحمه الله ولعل المناسب، وإتيان كما لا يخفى. كتبه مصححه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 الدين وتسفيه آرائهم وذم آلهتهم أو على ما أوقعوا فيهم وحطموا رؤوس رؤسائهم يوم بدر، وإلى الثاني ذهب عكرمة- وهو مبني على أن هذا القول وقع في أحد. وذهب ابن عباس فيما أخرجه عنه ابن جرير إلى تفسيره بالسفر أي ويأتوكم من سفرهم هذا، قيل: وهو مبني أيضا على ما بني عليه سابقه لأن الكفار في غزوة أحد ندموا بعد انصرافهم حيث لم يعبروا على المدينة وهموا بالرجوع فأوحى الله تعالى إلى نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم أن يأمر أصحابه بالتهيؤ إليهم، ثم قال: إن صبرتم على الجهاد واتقيتم وعادوا إليكم من سفرهم هذا أمدكم الله تعالى بخمسة آلاف من الملائكة فأخذوا في الجهاد وخرجوا يتبعون الكفار على ما كان بهم من الجراح فأخبر المشركين من مر برسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه خرج يتبعكم فخاف المشركون إن رجعوا أن تكون الغلبة للمسلمين وأن يكون قد التأم إليهم من كان تأخر عنهم وانضم إليهم غيرهم فدسوا نعيما الأشجعي حتى يصدهم بتعظيم أمر قريش وأسرعوا بالذهاب إلى مكة وكفى الله تعالى المسلمين أمرهم والقصة معروفة، ثم إن تفسير الفور بالسفر مما لم نظفر به فيما بين أيدينا من الكتب اللغوية فلعل الفور بمعنى الحال التي لا بطء فيها وهذا التفسير بيان لحاصل المعنى، وذهب الحسن والربيع والسدي وقتادة وغيرهم أن من فَوْرِهِمْ بمعنى وجههم وليس بنص فيما ذهب إليه متأخرو المفسرين أصحاب القيل لأنه يحتمل أن يكون المراد من الوجه الجهة التي يقصدها المسافر، ويحتمل أن يكون من وجه الدهر بمعنى أوله اللهم إلا أن يقال: إنه وإن لم يكن نصا لكنه ظاهر قريب من النص لأن كون الوجه بمعنى الجهة المذكورة وإن جاء في اللغة إلا أن كون الفور كذلك في حيز المنع واحتمال كونه من وجه الدهر بمعنى أوله يرجع إلى ما قالوا فتدبر. واعلم أن هذا الإمداد وقع تدريجا فكان أولا بألف، ثم صاروا ألفين، ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسة آلاف لا غير فمعنى يمددكم بخمسة آلاف يمددكم بتمام خمسة آلاف، وإليه ذهب الحسن، وقال غيره: كانت الملائكة ثمانية آلاف فالمعنى يمددكم بخمسة آلاف أخر مُسَوِّمِينَ من التسويم وهو إظهار علامة الشيء، والمراد معلمين أنفسهم أو خيلهم، وقد اختلفت الروايات في ذلك، فعن عبد الله بن الزبير أن الزبير كانت عليه عمامة صفراء معتجرا بها فنزلت الملائكة وعليهم عمائم صفر، وأخرج ابن إسحاق. والطبراني عن ابن عباس أنه قال: كانت سيماء الملائكة يوم بدر عمائم بيض قد أرسلوها في ظهورهم، ويوم حنين عمائم حمر، وفي رواية أخرى عنه لكن بسند ضعيف أنها كانت يوم بدر بعمائم سود ويوم أحد بعمائم حمر. وأخرج ابن أبي شيبة وغيره عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: كانت سيماء الملائكة يوم بدر الصوف الأبيض في نواصي الخيل وأذنابها وكانوا كما قال الربيع على خيل بلق، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أنهم كانوا مسومين بالعهن الأحمر، وأخرج ابن جرير وغيره عن مجاهد أنه قال: كانوا معلمين مجزوزة أذناب خيولهم ونواصيها فيها الصوف والعهن، وأنت تعلم أنه لا مانع من أن يكونوا معلمين أنفسهم وخيولهم أيضا وذا على قراءة ابن كثير: وأبي عمرو وعاصم مُسَوِّمِينَ بكسر الواو، وأما على قراءة الباقين مُسَوِّمِينَ بفتح الواو على أنه اسم مفعول فقيل: المراد به معلمين من جهة الله تعالى، وقيل مرسلين مطلقين، ومنه قولهم: ناقة سائمة أي مرسلة في المرعى، وإليه ذهب السدي، والمتبادر على هذه القراءة أن الإسامة لهم، وأما أنها كانت لخيلهم فغير ظاهر وَما جَعَلَهُ اللَّهُ أي الإمداد المفهوم من الفعل المقدر المدلول عليه بقوة الكلام كأنه قيل: فأمدكم الله تعالى بما ذكر وما جعل الله تعالى ذلك الإمداد إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وقيل: الضمير للوعد بالإمداد، وقيل: للتسويم أو للتنزيل أو للنصر المفهوم من نصركم السابق ومتعلق البشارة غيره، وقيل: للإمداد المدلول عليه بأحد الفعلين، والكل ليس بشيء كما لا يخفى، والبشرى إما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 مفعول له، وجعل- متعدية لواحد أو مفعول لها إن جعلت متعدية لاثنين، وعلى الأول الاستثناء مفرغ من أعم العلل أي وما جعل إمدادكم بإنزال الملائكة لشيء من الأشياء إلا للبشارة لكم بأنكم تنصرون، وعلى الثاني مفرغ من أعم المفاعيل أي وما جعله الله تعالى شيئا من الأشياء إِلَّا بُشْرى لَكُمْ. والجملة ابتداء كلام غير داخل في حيز القول بل مسوق من جنابه تعالى لبيان أن الأسباب الظاهرة بمعزل عن التأثير بدون إذنه سبحانه وتعالى، فإن حقيقة النصر مختص به عز اسمه ليثق به المؤمنون ولا يقنطوا منه عند فقدان أسبابه وأماراته وهي معطوفة على فعل مقدر كما أشرنا إليه، ووجه الخطاب نحو المؤمنين تشريفا لهم وإيذانا بأنهم هم المحتاجون لما ذكر، وأما رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فغني عنه بما منّ به عليه من التأييد الروحاني والعلم الرباني وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ أي ولتسكن قلوبكم بالإمداد فلا تخافوا كثرة عدد العدو وقلة عددكم وهذا إما معطوف على بُشْرى باعتبار الموضع وهو كالمعطوف عليه علة غائية للجعل إلا أنه نصب الأول لاجتماع شرائطه ولم ينصب الثاني لفقدانها، وقيل: للإشارة أيضا إلى أصالته في العلية وأهميته في نفسه كما في قوله تعالى: لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً [النحل: 8] وإما متعلق بمحذوف معطوف على الكلام السابق أي ولتطمئن قلوبكم به، فعل ذلك وهو أولى من تقدير بشركم كما فعل أبو البقاء، والثاني متعين على الاحتمال الثاني في الأول. وَمَا النَّصْرُ أي على الإطلاق فيندرج فيه النصر المعهود دخولا أوليا إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ المودع في الأسباب بمقتضى الحكمة قوة لا تأثر إلا به أو وَمَا النَّصْرُ المعهود إِلَّا مِنْ عنده سبحانه وتعالى لا من الملائكة لأن قصارى أمرهم ما ذكر من البشارة وتقوية القلوب ولم يقاتلوا أو لأن قصارى أمرهم أنهم قاتلوا بتمكين الله تعالى لهم ولم يكن لهم فعل استقلالا ولو شاء الله تعالى ما فعلوا على أن مجرد قتالهم لا يستدعي النصر بل لا بد من انضمام ضعف المقابلين المقاتلين ولو شاء الله تعالى لسلطهم عليهم فحيث أضعف وقوى ومكن وما مكن وبه حصل النصر كان ذلك منه سبحانه وتعالى. والآية على هذا لا تكون دليلا لمن زعم أن المسببات عند الأسباب لا بها وقد مر تحقيقه فتذكر، وكذا لا دليل فيها على وقوع قتالهم ولا على عدمه لاحتمالها الأمرين، وبكل قال بعض. والمختار ما روي عن مجاهد أن الملائكة لم يقاتلوا في غزواته صلى الله تعالى عليه وسلم إلا في غزوة بدر وإنما حضروا في بعضها بمقتضى ما علم الله تعالى من المصلحة مثل حضورهم حلق أهل الذكر، وربما أعانوا بغير القتال كما صنعوا في غزوة أحد على قول، فعن ابن إسحق أن سعد بن مالك كان يرمي في غزوة أحد وفتى شاب كان ينبل له كلما فني النبل أتاه به. وقال له: ارم أبا إسحاق ارم أبا إسحاق، فلما انجلت المعركة سأل عن ذلك الرجل فلم يعرف، وأنكر أبو بكر الأصم الإمداد بالملائكة، وقال: إن الملك الواحد يكفي في إهلاك سائر أهل الأرض كما فعل جبريل عليه السلام بمدائن قوم لوط فإذا حضر هو مأمورا بالقتال فأي حاجة إلى مقاتلة الناس مع الكفار، وأيضا أي فائدة في إرسال سائر الملائكة معه وهو القوي الأمين، وأيضا إن أكابر الكفار الموجودين في غزوة القتال قاتل كل منهم من الصحابة معلوم ولم يعلم أن أحدا من الملائكة قتل أحدا منهم، وأيضا لو قاتلوا فإما أن يكونوا بحيث يراهم الناس أولا، وعلى الأول يكون المشاهد من عسكر الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في غزوة بدر ألوفا عديدة ولم يقل بذلك أحد، وهو أيضا خلاف قوله تعالى: وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ [الأنفال: 44] ولو كانوا في غير صورة ابن آدم لزم وقوع الرعب الشديد في قلوب الخلق ولم ينقل ذلك ولو كان لنقل البتة، وعلى الثاني يلزم حز الرؤوس وتمزيق البطون ونحو ذلك من الكفار من غير مشاهدة فاعل لهذه الأفعال ومثل هذا يكون من أعظم المعجزات وقد وقع بين جمعين سالم ومكسر فكان يجب أن يتواتر ويشتهر لدى الموافق والمخالف فحيث إنه لم يشتهر دل على أنه لم يكن، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 وأيضا أنهم لو كانوا أجساما كثيفة وجب أن يراهم الكل وإن كانوا أجساما لطيفة هوائية تعذر ثبوتهم على الخيل انتهى. ولا يخفى أن هذه الشبه لا يليق إيرادها بقوانين الشريعة ولا بمن يعترف بأنه تعالى قادر على ما يشاء فعال لما يريد فما كان يليق بالأصم إلا أن يكون أخرس عن ذلك إذ نص القرآن ناطق بالإمداد، ووروده في الأخبار قريب من المتواتر فكأن الأصم أصم عن سماعه أو أعمى عن رؤية رباعه، وقد روى عبد بن عمير قال: لما رجعت قريش من أحد جعلوا يتحدثون في أنديتهم بما ظفروا ويقولون لم نر الخيل البلق ولا الرجال البيض الذين كنا نراهم يوم بدر، والتحقيق في هذا المقام كما قال بعض المحققين: إن التكليف ينافي الإلجاء وأنه تعالى شأنه وإن كان قادرا على إهلاك جميع الكفار في لحظة واحدة بملك واحد بل بأدنى من ذلك بل بلا سبب، وكذا وهو قادر على أن يجبرهم على الإسلام ويقسرهم لكنه سبحانه أراد إظهار هذا الدين على مهل وتدريج وبواسطة الدعوة وبطريق الابتداء والتكليف فلا جرم أجرى الأمور على ما أجرى فله الحمد على ما أولى وله الحكم في الآخرة والأولى، وبهذا يندفع كثير من تلك الشبه، وإهلاك قوم لوط عليه الصلاة والسلام كان بعد انقضاء تكليفهم وهو حين نزول البأس فلا جرم أظهر الله تعالى القدرة وجعل عاليها سافلها، وفي غزوة أحد كان الزمان زمان تكليف فلا جرم أظهر الحكمة ليتميز الموافق عن المنافق والثابت عن المضطرب ولو أجرى الأمر فيها كما أجرى في بدر أشبه أن يفضي الأمر إلى حد الإلجاء ونافى التكليف ونوط الثواب والعقاب، ثم لا يخفى أن الملائكة إما أجسام لطيفة نورانية وإما أرواح شريفة قدسية. وعلى التقديرين لهم الظهور في صور بني آدم مثلا من غير انقلاب العين وتبدل الماهية- كما قال ذلك العارفون من المحققين في ظهور جبريل عليه السلام في صورة دحية الكلبي- ومثل هذا من وجه ولله تعالى المثل الأعلى ما صح من تجلي الله تعالى لأهل الموقف بصورة فيقول لهم: أنا ربكم فينكرونه فإن الحكم في تلك القضية صادق مع أن الله تعالى وتقدس وراء ذلك وهو سبحانه في ذلك التجلي باق على إطلاقه حتى عن قيد الإطلاق، ومن سلم هذا- ولا يسلمه إلا ذو قلب سليم- لم يشكل عليه الإمداد بالملائكة وظهورهم على خيول غيبية ثابتين عليها حسبما تقتضيه الحكمة الإلهية والمصلحة الربانية ولا يلزم من ذلك رؤية كل ذي بصر لهم لجواز إحداث أمر مانع عنها إما في الرائي أو في المرئي ولا مانع من أنهم يرون أحيانا ويخفون أحيانا ويرى البعض ويخفى البعض، وزمام ذلك بيد الحكيم العليم فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن والشيء متى أمكن وورد به النص عن الصادق وجب قبوله ومجرد الاستبعاد لا يجدي نفعا ولو ساغ التأويل لذلك لزم تأويل أكثر هذه الشريعة بل الشرائع بأسرها وربما أفضى ذلك إلى أمر عظيم، فالواجب تسليم كل ممكن جاء به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وتفويض تفصيل ذلك وكيفيته إلى الله تعالى الْعَزِيزِ أي الغالب الذي لا يغالب فيما قضى به، وقيل: القادر على انتقامه من الكفار بأيدي المؤمنين وفي إجراء هذا الوصف هنا عليه تعالى إيذان بعلة اختصاص النصر به سبحانه الْحَكِيمِ أي الذي يضع الأشياء مواضعها ويفعل على ما تقتضيه الحكمة في سائر أفعاله ومن ذلك نصره للمؤمنين بواسطة إنزال الملائكة، وفي الإتيان بهذا الوصف رد على أمثال الأصم في إنكارهم ما نطقت به الظواهر فسبحانه من عليم حكيم وعزيز حليم لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا متعلق بقوله تعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وما بينهما تحقيق لحقيقته وبيان لكيفية وقوعه، وإلى ذلك ذهب جمع من المحققين وهو ظاهر على تقدير أن يجعل إِذْ تَقُولُ ظرفا- لنصركم- لا بدلا من إِذْ غَدَوْتَ لئلا يفصل بأجنبي ولأنه كان يوم أحد. والظاهر أن هذا في شأن بدر والمقصور على التعليل بما ذكر من البشرى والاطمئنان إنما هو الإمداد بالملائكة على الوجه المذكور فلا يقدح في تعليل أصل النصر بالقطع وما عطف عليه، وجوز أن يتعلق بما تعلق به الخبر في قوله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 سبحانه: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ على تقدير كونه عبارة عن النصر المعهود والمعلل بالبشارة والاطمئنان إنما هو الإمداد الصوري لا ما في ضمنه من النصر المعنوي الذي هو ملاك الأمر وعموده، وقيل: هو متعلق بنفس الصبر، واعترض عليه بأنه مع ما فيه من الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي هو الخبر مخل بسداد المعنى كيف لا ومعناه قصر النصر المخصوص المعلل بعلة معينة على الحصول من جهته تعالى، وليس المراد إلا قصر حقيقة النصر كما في الأول أو النصر المعهود كما في الثاني على ذلك، والقول بأنه متعلق بمحذوف والتقدير فعل ذلك التدبير، أو أمدكم بالملائكة ليقطع منقطع عن القبول، والقطع الإهلاك، والمراد من- الطرف- طائفة منهم قيل: ولم يعبر عن تلك الطائفة بالوسط بل بالطرف لأن أطراف الشيء يتوصل بها إلى توهينه وإزالته، وقيل: لأن الطرف أقرب إلى المؤمنين فهو كقوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [التوبة: 123] وقيل: للإشارة إلى أنهم كانوا أشرافا، ففي الأساس هو من أطراف العرب أي أشرافها، ولعل إطلاق الأطراف على الأشراف لتقدمهم في السير، ومن ذلك قالوا: الأطراف منازل الأشراف لا يرد أن الوسط أيضا يشعر بالشرف، فالمعنى ليهلك صناديد الذين كفروا ورؤساءهم المتقدمين فيهم بقتل وأسر، وقد وقع ذلك في بدر كما قال الحسن والربيع وقتادة، فقد قتل من أولئك سبعون وأسر سبعون، واعتبار ذلك في أحد حيث قتل فيه ثمانية عشر رجلا من رؤسائهم قول لبعضهم وقد استعبدوه كما أشرنا إليه أَوْ يَكْبِتَهُمْ أي يخزيهم قاله قتادة والربيع: ومنه قول ذي الرمة: لم أنس من شجن لم أنس موقفنا ... في حيرة بين مسرور ومكبوت وقال الجبائي والكلبي: أي يردهم منهزمين، وقال السدي: أي يلعنهم وأصل الكبت الغيظ والغم المؤثر، وقيل: صرع الشيء على وجهه، وقيل: إن كبته يكون بمعنى كبده أي أصاب كبده كراه بمعنى أصاب رئته، ومنه قول المتنبي: لأكبت حاسدا وأرى عدوا ... كأنهما وداعك الرحيل والآية محمولة على ذلك، ويؤيد هذا القول أنه قرئ أو يكبدهم، وأو للتنويع دون الترديد لوقوع الأمرين فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ أي فينهزموا منقطعي الآمال فالخيبة انقطاع الأمل، وفرقوا بينها وبين اليأس بأن الخيبة لا تكون إلا بعد الأمل واليأس يكون بعده وقبله، ونقيض الخيبة الظفر، ونقيض اليأس الرجاء لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أخرج غير واحد «أن رباعية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم السفلى اليمنى أصيبت يوم أحد أصابها عتبة بن أبي وقاص وشجه في وجهه فكان سالم مولى أبي حذيفة أو علي كرم الله تعالى وجهه يغسل الدم والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: كيف يفلح قوم صنعوا هذا بنبيهم» فأنزل الله تعالى هذه الآية. وأخرج أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم أحد: اللهم العن أبا سفيان اللهم العن الحارث بن هشام اللهم العن سهيل بن عمرو اللهم العن صفوان بن أمية فنزلت هذه الآية لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ إلخ فتيب عليهم كلهم، وعن الجبائي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم استأذن يوم أحد أن يدعو على الكفار لما آذوه حتى أنه صلّى الله عليه وسلم صلى الظهر ذلك اليوم قاعدا من الجراح وصلى المسلمون وراءه قعودا فلم يؤذن له ونزلت هذه الآية، وقال محمد بن إسحاق. والشعبي لما رأى صلى الله تعالى عليه وسلم والمسلمون ما فعل الكفار بأصحابه وبعمه حمزة من جدع الأنوف والآذان وقطع المذاكير قالوا: لئن أدالنا الله تعالى منهم لنفعلن بهم مثل ما فعلوا بنا ولنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب قط فنزلت، وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أراد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يدعو على المنهزمين عنه من أصحابه يوم أحد فنهاه الله تعالى عن ذلك وتاب عليهم ونزلت هذه الآية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 وهذا الروايات كلها متضافرة على أن الآية نزلت في أحد والمعول عليه منها أنها بسبب المشركين. وعن مقاتل أنها نزلت في أهل بئر معونة وذلك أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أرسل أربعين وقيل: سبعين رجلا من قراء أصحابه وأمر عليهم المنذر بن عمرو إلى بئر معونة على رأس أربعة أشهر من أحد ليعلموا الناس القرآن والعلم فاستصرخ عليهم عدو الله عامر بن الطفيل قبائل من سليم من عصية ورعل وذكوان فأحاطوا بهم في رحالهم فقاتلوا حتى قتلوا من عند آخرهم إلا كعب بن زيد أخا بني النجار فإنهم تركوه وبه رمق فلما علم بذلك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وجد وجدا شديدا وقنت عليهم شهرا يلعنهم فنزلت هذه الآية فترك ذلك، والمعنى ليس لك من أمر هؤلاء شيء وإن قل أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ عطف إما على الأمر أو على شيء بإضمار أن أي ليس لك من أمرهم شيء أو من التوبة عليهم أو من تعذيبهم شيء، أو ليس لك من أمرهم شيء أو التوبة عليهم أو تعذيبهم، وفرقوا بين الوجهين بأنه على الأول سلب ما يتبع التوبة والتعذيب منه صلى الله تعالى عليه وسلم بالكلية من القبول والرد والخلاص من العذاب والمنع من النجاة. وعلى الثاني سلب نفس التوبة والتعذيب منه عليه الصلاة والسلام يعني لا يقدر أن يجبرهم على التوبة ولا يمنعهم عنها ولا يقدر أن يعذبهم ولا أن يعفو عنهم فإن الأمور كلها بيد الله تعالى، وعلى التقديرين هو من عطف الخاص على العام- كما قال العلامة الثاني- لكن في مجيء مثل هذا العطف بكلمة أَوْ نظر، وتعقبه بعضهم بأن هذا إذا كان الأمر بمعنى الشأن- ولك أن تجعله بمعنى التكليف والإيجاب أي ليس ما تأمرهم به من عندك وليس الأمر بيدك ولا التوبة ولا التعذيب- فليس هناك عطف الخاص على العام، وفيه أن الحمل على التكليف تكلف، والحمل على الشأن أرفع شأنا. ونقل عن الفراء وابن الأنباري أن أَوْ بمعنى إلا أن، والمعنى ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله تعالى عليهم بالإسلام فتفرح، أو يعذبهم فتشتفي بهم وأيا ما كان فالجملة كلام مستأنف سيق لبيان بعض الأمور المتعلقة بغزوة أحد أو ما يشبهها إثر بيان ما يتعلق بغزوة بدر لما بينهما من التناسب من حيث إن كلا منهما مبني على اختصاص الأمر كله بالله تعالى ومبني على سلبه عمن سواه، وقيل: إن كل ما في هذه الآيات في غزوة أحد على ما أشرنا إليه، وقيل: إن قوله تعالى: أَوْ يَتُوبَ إلخ عطف على ينقلبوا أي يكون ثمرة خزيهم انقلابهم خائبين أو التوب عليهم أو تعذيبهم، أو عطف على يَكْبِتَهُمْ ولَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ اعتراض وسط بين المعطوف عليه المتعلق بالعاجل والمعطوف المتعلق بالآجل لتحقيق أن لا تأثير للمنصور إثر بيان أن لا تأثير للناصرين وتخصيص النفي برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على طريق تلوين الخطاب للدلالة على الانتفاء من غيره من باب أولى وإنما خص الاعتراض بموقعه لأن ما قبله من القطع والكبت من مظان أن يكون فيه لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ولسائر مباشري القتال مدخل في الجملة، والمعنى أن مالك أمرهم على الإطلاق وهو الله تعالى نصركم عليهم ليهلكهم أو يكبتهم أو يتوب عليهم إن أسلموا أو يعذبهم إن أصروا، وليس لك من أمرهم شيء إن أنت إلا عبد مأمور بإنذارهم وجهادهم. والمراد بتعذيبهم التعذيب الشديد الأخروي المخصوص بأشد الكفرة كفرا وإلا فمطلق التعذيب الأخروي متحقق في الفريقين الأولين وحمله على التعذيب الدنيوي بالأسر واستيلاء المؤمنين عليهم خلاف المتبادر من التعذيب عند الإطلاق كذا لا يلائم ظاهر قوله سبحانه: فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ فإنه في مقام التعليل لهذا التعذيب وأكثر ما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 يعلل به التعذيب الأخروي، نعم حمله على التعذيب الدنيوي أوفق بالمعنى الذي ذكره الفراء وابن الأنباري لأن التشفي في الغالب إنما يكون في الدنيا ونظم التوبة والتعذيب الأخروي في سلك العلة الغائية للنصر المترتبة عليه في الوجود من حيث إن قبول توبتهم فرع تحققها الناشئ من علمهم بحقية الإسلام بسبب غلبة أهله المترتبة على النصر الذي هو من الآيات الغر المحجلة وأن تعذيبهم المذكور شيء مسبب على إصرارهم على الكفر بعد تبين الحق على الوجه المذكور كما ينبئ عن ذلك قوله تعالى: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الأنفال: 42] وإن فسر بالأسر مثلا كان أمر التسبب مكشوفا لا مرية فيه، واستشكلت هذه الآية بناء على أنها تدل على ما في بعض الروايات على أنه صلّى الله عليه وسلم كان فعل فعلا ومنع منه بأنه إن كان ذلك الفعل من الله تعالى فكيف منعه منه وإن لم يكن فهو قادح بالعصمة ومناف لقوله تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النجم: 3] ، وأجيب بأن ما وقع كان من باب خلاف الأولى نظرا إلى منصبه صلّى الله عليه وسلم، والنهي المفهوم من الكلام من باب الإرشاد إلى اختيار الأفضل ولا يعد ذلك من الهوى في شيء بناء على القول بأنه يصح للنبي أن يجتهد ويعمل بما أدى إليه اجتهاد المأذون به. وجوز أن يكون ذلك الفعل نفسه عن وحي وإذن من الله تعالى له صلى الله تعالى عليه وسلم به وأن النهي عن ذلك كان نسخا لذلك الإذن وأيّا ما كان لا ينافي العصمة الثابتة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام فافهم. وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ كلام مستأنف سيق لبيان اختصاص ملكية جميع الكائنات به تعالى إثر بيان اختصاص طرف من ذلك به عز شأنه تقريرا لما سبق وتكملة له وتقديم الخبر للقصر، وَما عامة للعقلاء وغيرهم تغليبا أي له سبحانه ما في هذين النوعين، أو ما في هاتين الجهتين ملكا وملكا وخلقا واقتدارا لا مدخل لأحد معه في ذلك فالأمر كله له يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ أن يغفر له من المؤمنين فلا يعاقبه على ذنبه فضلا منه وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ أن يعذبه عدلا منه وإيثار كلمة مَنْ في الموضعين لاختصاص المغفرة والتعذيب بالعقلاء وتقديم المغفرة على التعذيب للإيذان بسبق رحمته تعالى على غضبه. وظاهر الآية يدل على أن مغفرة الله تعالى وتعذيبه غير مقيدين بشيء بل قد يدّعي أن التقييد مناف للسوق إذ هو لا ثبات أنه سبحانه المالك على الإطلاق فله أن يفعل ما يشاء لا مانع له من مشيئته ولو كانت مغفرته مقيدة بالتوبة وتعذيبه بالظلم لم يكن فاعلا لما يشاء بل لما تستدعيه التوبة أو الظلم، فالآية ظاهرة في نفي الوجوب على الله تعالى وأنه يجوز أن يغفر سبحانه للمذنب ويعذب المصلح- وهو مذهب الجماعة- وذهب المعتزلة إلى أن المغفرة مشروطة بالتوبة فمن لم يتب لا يجوز أن يغفر له أصلا، وتمسكوا في ذلك بوجهين: الأول الآيات والأحاديث الناطقة بوعيد العصاة، الثاني أن المذنب إذا علم أنه لا يعاقب على ذنبه كان ذلك تقريرا له وإغراء للغير عليه وهذا ينافي حكمة إرسال الرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم، وحملوا هذه الآية على التقييد وخصوا أمثالها من المطلقات بالصغائر أو الكبائر المقرونة بالتوبة، وقالوا: إن المراد يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ إذا تاب وجعلوا القرينة على ذلك أنه تعالى عقب قوله سبحانه: أَوْ يُعَذِّبَهُمْ بقوله جل شأنه: فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ وهو دليل على أن الظلم هو السبب الموجب فلا تعذيب بدونه ولا مغفرة مع وجوده فهو مفسر لِمَنْ يَشاءُ وأيدوا كون المراد ذلك بما روي عن الحسن في الآية يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ بالتوبة ولا يشاء أن يغفر إلا للتائبين وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ولا يشاء أن يعذب إلا للمستوجبين، وبما روي عن عطاء يَغْفِرُ لِمَنْ يتوب عليه وَيُعَذِّبُ مَنْ لقيه ظالما والجماعة تمسكوا بإطلاق الآيات، وأجابوا عن متمسك المخالف، أما عن الأول فبأن تلك الآيات والأحاديث على تقدير عمومها إنما تدل على الوقوع دون الوجوب، والنزاع فيه على أن كثرة النصوص في العفو تخصص المذنب المغفور عن عمومات الوعيد، وأما عن الثاني فبأن مجرد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 جواز العفو لا يوجب ظن عدم العقاب فضلا عن الجزم به، وكيف يوجب جواز العفو العلم بعدم العقاب والعمومات الواردة في الوعيد المقرونة بغاية من التهديد ترجح جانب الوقوع بالنسبة إلى كل واحد وكفى به زاجرا فكيف يكون العلم بجواز العفو تقريرا وإغراء على الذنب مع هذا الزاجر وأيضا إن الكثير من المعتزلة خصوا مثل قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر: 53] بالصغائر فلو كان جواز العفو مستلزما كما زعموا للعلم بعدم العقاب لزم اشتراك الإلزام بأن يقال: إن المرتكب للصغائر إذا علم أنه لا يعاقب على ذنبه كان ذلك تقريرا له وإغراء للغير عليه وفيه من الفساد ما فيه، وما جعلوه قرينة على التقييد معارض بما يدل على الإطلاق أعني قوله: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فإنه معطوف معنى على قوله جل اسمه: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ويدل ذلك على أن له سبحانه التصرف المطلق وهو على خلاف ما يقولون حيث جعلوا تصرفه ومشيئته مقيدا بأن يكون على مقتضى الحكمة والحكمة تقتضي عدم غفران من لم يتب ولا يخفى أنه في حيز المنع لأن المشيئة والحكمة كلاهما من صفاته تعالى لا تتبع إحداهما الأخرى وبتقدير الاستتباع لا نسلم أن الحكمة تقتضي عدم غفران من لم يتب على أن تعقيب أَوْ يُعَذِّبَهُمْ بقوله عز وجل: فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ لا يدل على أكثر من أن الظلم مفض إلى التعذيب ومن يمنع الإفضاء إنما المنع على أن يكون تفسيرا لِمَنْ يَشاءُ وأين الدلالة على أن كل ظلم كذلك ولا عموم للفظ ولا هو من قبيل مفهوم الصفة ليصلح متمسكا في الجملة، وما نقل عن الحسن وعطاء لا يعرف له سند أصلا ومن ادعاه فليأت به إن كان من الصادقين، ومما يدل على كذبه أن فيه حجرا على الرحمة الواسعة وتضييق مسالكها من غير دليل قطعي ولا يظن بمثل الحسن هذا القبيح سلمنا الصدق وعدم لزوم ما ذكر لكن قول الحسن ونحوه لا يترك له ظاهر الكتاب والحق أحق بالاتباع. فإن قال الخصم: نحن نتمسك في هذا المطلب بلزوم الخلف قلنا: يكون رجوعا إلى الاستدلال بالمعقول، وقد أذقناكم الموت الأحمر فيه لا بالآيات فتبقى دلالة هذه الآية على عمومها. وهو مطلوبنا هنا- على أن هذه الآية واردة في الكفار على أكثر الروايات، ومعتقد الجماعة أن المغفرة في حقهم مشروطة بالتوبة من الكفر والرجوع إلى الإيمان كما يفصح عن قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48، 116] وليسوا محل خلاف بين الطائفتين فمن استدل بها من المعتزلة على غرضه الفاسد فقد ضل سواء السبيل. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ تذييل مقرر لمضمون قوله تعالى: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ مع زيادة، وفي تخصيص التذييل به إشارة إلى ترجيح جهة الإحسان والإنعام، وفيه ما يؤيد مذهب الجماعة. هذا «ومن باب الإشارة» لَيْسُوا سَواءً من حيث الاستعداد وظهور الحق فيهم مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ الذين ظهرت فيهم نقوش الكتاب الإلهي الأزلي أُمَّةٌ قائِمَةٌ بالله تعالى له يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ أي يظهرون للمستعدين ما فاض عليهم من الأسرار آناءَ اللَّيْلِ أوقات ليل الجهالة وظلمة الحيرة وَهُمْ يَسْجُدُونَ أي يخضعون لله تعالى ولا يحدث فيهم الأنانية إنهم عالمون وأن من سواهم جاهلون يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أي بالمبدأ والمعاد وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ حسبما اقتضاه الشرع ولكون ما تقدم نظرا للخصوص لأن إيداع الأسرار عند الأحرار، وهذا بالنظر إلى العموم لأن الشريعة أوسع دائرة من الحقيقة قدم وأخر وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ من تكميل أنفسهم وغيرهم وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ القائمين بحقوق الحق والخلق وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يقربكم إلى الله تعالى فَلَنْ يُكْفَرُوهُ فقد جاء «من تقرب إليّ شبرا تقربت إليه ذراعا ومن تقرب إليّ ذراعا تقربت إليه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة» وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ أي الذين اتقوا ما يحجبهم عنه فيتجلى لهم بقدر زوال الحجاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا واحتجبوا عن الحق برؤية الأغيار أَشْرَكُوا بِاللَّهِ تعالى ما لا وجود له في عير ولا نفير لَنْ تُغْنِيَ لن تدفع عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ أي عذابه شَيْئاً من الدفاع لأنها من جملة أصنامهم التي عبدوا وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ وهي الحجاب والبعد عن الحضرة هُمْ فِيها خالِدُونَ لاقتضاء صفة الجلال مع استعدادهم ذلك ثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا الفانية الدنية ولذاتها السريعة الزوال طلبا للشهوات ومحمدة الناس لا يطلبون به وجه الله تعالى مَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أي برد شديدصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالشرك والكفرأَهْلَكَتْهُ عقوبة لهم من الله تعالى لظلمهم ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ بإهلاك حرثهم لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ لسوء استعدادهم الغير المقبول يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً أي خاصة تطلعونه على أسراركم مِنْ دُونِكُمْ كالمنكرين المحجوبين إذ المحبة الحقيقية لا تكون إلا بين الموحدين لكونها ظل الوحدة ولا تكون بين المحجوبين لكونهم في عالم التضاد والظلمة ولا يتأتى الصفاء والوفاق الذي هو ثمرة المحبة في ذلك العالم فلذا ترى محبة غير أهل الله تعالى تدور على الأغراض ومن هنا تتغير لأن اللذات النفسانية لا تدوم فإذا كان هذا حال المحجوبين بعضهم مع بعض فكيف تتحقق المحبة بينهم وبين من يخالفهم في الأصل والوصف، وأنى يتجانس النور والظلمة، وكيف يتوافق مشرق ومغرب؟! أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يماني ففي الحقيقة بينهما عداوة حقيقية وبعد كلي إلى حيث لا تتراءى ناراهما، وآثار ذلك ظاهرة كما بين الله تعالى بقوله سبحانه: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ لامتناع إخفاء الوصف الذاتي وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ لأنه المنشأ لذلك فهو نار وذاك شرار وهو جبل والظاهر غبار قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ وهي العلامات الدالة على المحبة والعداوة وأسبابهما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ وتفهمون من فحوى الكلام ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ بمقتضى ما عندكم من التوحيد لأن الموحد يحب الناس كلهم بالحق للحق ويرى الكل مظهرا لحبيبه جل شأنه فيرحم الجميع ويعلم أن البعض منهم قد اشتغل بباطل نظرا إلى بعض الحيثيات وابتلي بالقدر، وهذا لا ينافي ما قدمنا آنفا عند التأمل وَلا يُحِبُّونَكُمْ بمقتضى الحجاب والظلمة التي ضربت عليهم وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ أي جنسه كُلِّهِ لما أنتم عليه من التوحيد المقتضي لذلك وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بذلك للاحتجاب بما هم عليه وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا لما فيهم من النفاق المستجلب للأغراض العاجلة وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ الكامن في صدورهم إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ كآثار تجلي الجمال تَسُؤْهُمْ ويحزنوا لها وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ أي ما يظنون أنه سيئة كآثار تجلي الجلال يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا على ما ابتليتم به وتثبتوا على التوحيد وَتَتَّقُوا الاستعانة بالسوى لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً لأن الصابر على البلاء المتوكل على الله تعالى المستعين به المعرض عمن سواه ظافر بطلبته غالب على خصمه محفوف محفوظ بعناية الله تعالى، والمخذول من استعان بغيره وقصده سواه كما قيل: من استعان بغير الله في طلب ... فإن (ناصره عجز وخذلان) إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ من المكايد مُحِيطٌ فيبطلها ويطفئ نارها لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ لله تعالى تحت ظل الكبرياء والعظمة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ذلك وبالشكر تزاد النعم إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ لما رأيت من حالهم أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ على صيغة اسم الفاعل السكينة عليكم، أو مُنْزَلِينَ على صيغة اسم المفعول من جانب الملكوت إليكم بَلى إِنْ تَصْبِرُوا على صدمات تجليه سبحانه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 وَتَتَّقُوا من سواه وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا أي بلا بطء يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ على صيغة الفاعل أي معلمين أرواحكم بعلائم الطمأنينة، أو مُسَوِّمِينَ على صيغة المفعول بعمائم بيض، وهي إشارة إلى الأنوار الإلهية الظاهرة عليهم، وتخصيص- الخمسة آلاف- بالذكر لعله إشارة إلى إمداد كل لطيفة من اللطائف الخمس بألف والألف إشارة إلى الإمداد الكامل حيث إنها نهاية مراتب الأعداد وشرط ذلك بالصبر والتقوى لأن النصر على الأعداء- وأعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك- لا يكون إلا عند تقوى القلب وكذا سائر جنود الروح بل والروح نفسها أيضا بتأييد الحق والتنور بنور اليقين فتحصل المناسبة بين القلب مثلا وبين ملكوت السماء وبذلك التناسب يستنزل قواها وأوصافها في أفعاله وربما يستمد من قوى قهرها على من يغضب عليه وذلك عبارة عن نزول الملائكة وهذا لا يكون إلا بالصبر على تحمل المكروه طلبا لرضا الله تعالى والتقوى من مخالفة أمر الحق والميل إلى نحو النفع الدنيوي واللذات الفانية. وأما إذا جزع وهلع ومال إلى الدنيا فلا يحصل له ذلك لأن النفس حينئذ تستولي عليه وتحجبه بظلمة صفاتها عن النور فلم تبق تلك المناسبة وانقطع المدد ولم تنزل الملائكة، وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ أي إلا لتستبشروا به فيزداد نشاطكم في التوجه إلى الحق وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ فيتحقق الفيض بقدر التصفية وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لا من عند الملائكة فلا تحتجبوا بالكثرة عن الوحدة وبالحق عن الحق فالكل منه تعالى وإليه الْعَزِيزِ فلا يعجزه الظهور بما شاء وكيف شاء الْحَكِيمِ الذي ستر نصره بصور الملائكة لحكمة لِيَقْطَعَ أي يهلك طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وهم أعداء الله تعالى أَوْ يَكْبِتَهُمْ يخزيهم ويذلهم فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ فيرجعوا غير ظافرين بما أملوا لَيْسَ لَكَ من حيث أنت مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ وكله لك من حيثية أخرى أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إذا أسلموا فتفرح لأنك المظهر للرحمة الواسعة وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ لأجلك فتشتفي بهم من حيث أنهم خالفوا الأمر الذي بعثت به إلى الناس كافة فإنهم ظالمون بتلك المخالفة وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ من عالم الأرواح وَما فِي الْأَرْضِ من عالم الطبيعيات يتصرف فيهما كيفما يشاء ويختار يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ لأن له التصرف المطلق في الملك والملكوت وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ كثير المغفرة والرحمة نسأل الله تعالى أن يغفر لنا ويرحمنا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا ابتداء كلام مشتمل على أمر ونهي وترغيب وترهيب تتميما لما سلف من الإرشاد إلى ما هو الأصلح في أمر الدين وفي باب الجهاد، ولعل إيراد النهي عن الربا بخصوصه هنا لما أن الترغيب في الإنفاق في السراء والضراء الذي عمدته الإنفاق في سبيل الجهاد متضمن للترغيب في تحصيل المال فكان مظنة مبادرة الناس إلى طرق الاكتساب ومن جملتها بل أسهلها الربا فنهوا عنه، وقدمه على الأمر اعتناء به وليجيء ذلك الأمر بعد سدّ ما يخدشه، وقال القفال: يحتمل أن يكون هذا الكلام متصلا بما قبله من جهة أن أكثر أموال المشركين قد اجتمعت من الربا وكانوا ينفقون تلك الأموال على العساكر وكان من الممكن أن يصير ذلك داعيا للمسلمين إلى الاقدام عليه كي يجمعوا الأموال وينفقوها على العساكر أيضا ويتمكنوا من الانتقام من عدوهم، فورد النهي عن ذلك رحمة عليهم ولطفا بهم، وقيل: إنه تعالى شأنه لما ذكر أن له التعذيب لمن يشاء والمغفرة لمن يشاء وصل ذلك بالنهي عما لو فعلوه لاستحقوا عليه العقاب- وهو الربا- وخصه بالنهي لأنه كان شائعا إذ ذاك وللاعتناء بذلك لم يكتف بما دل على تحريمه مما في سورة البقرة بل صرح بالنهي وساق الكلام له أولا وبالذات إيذانا بشدة الحظر. والمراد من الأكل الأخذ، وعبر به عنه لما أنه معظم ما يقصد به ولشيوعه في المأكولات مع ما فيه من زيادة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 التشنيع، وقد تقدم الكلام في الربا أَضْعافاً مُضاعَفَةً حال من الربا- والأضعاف- جمع ضعف وضعف الشيء مثله، وضعفاه مثلاه، وأضعافه أمثاله، وقال بعض المحققين: الضعف اسم ما يضعف الشيء كالثني اسم ما يثنيه من ضعفت الشيء بالتخفيف فهو مضعوف- على ما نقله الراغب- بمعنى ضعفته، وهو اسم يقع على العدد بشرط أن يكون معه عدد آخر فأكثر والنظر فيه إلى فوق بخلاف الزوج فإن النظر فيه إلى ما دونه فإذا قيل: ضعف العشرة لزم أن تجعلها عشرين بلا خلاف لأنه أول مراتب تضعيفها، ولو قال: له عندي ضعف درهم لزمه درهمان ضرورة الشرط المذكور كما إذا قيل: هو أخو زيد اقتضى أن يكون زيد أخاه وإذا لزم المزاوجة دخل في الإقرار، وعلى هذا له ضعفا درهم منزل على ثلاثة دراهم وليس ذلك بناء على ما يتوهم أن ضعف الشيء موضوعه مثلاه وضعفيه ثلاثة أمثاله، بل ذلك لأن موضوعه المثل بالشرط المذكور. وهذا معزى الفقهاء في الأقارير والوصايا، ومن البين أنهم ألزموا في ضعفي الشيء ثلاثة أمثاله ولو كان موضوع الضعف المثلين لكان الضعفان أربعة أمثال- وليس مبناه العرف العامي بل الموضوع اللغوي- كما قال الأزهري. ومن هنا ظهر أنه لو قال: له الضعفان درهم ودرهم أو الضعفان من الدراهم لم يلزم إلا درهمان كما لو قال الأخوان، ثم قال والحاصل أن تضعيف الشيء ضم عدد آخر إليه وقد يزاد وقد ينظر إلى أول مراتبه لأنه المتيقن، ثم إنه قد يكون الشيء المضاعف مأخوذا معه فيكون ضعفاه ثلاثة وقد لا يكون فيكون اثنين وهذا كله موضوع له في اللغة لا العرف، وليس هذه الحال لتقييد المنهي عنه ليكون أصل الربا غير منهي بل لمراعاة الواقع، فقد روى غير واحد أنه كان الرجل يربي إلى أجل فإذا حل قال للمدين: زدني في المال حتى أزيدك بالأجل فيفعل وهكذا عند كل أجل فيستغرق بالشيء الضعيف ما له بالكلية فنهوا عن ذلك ونزلت الآية، وقرئ- «مضعفة» - بلا ألف مع تشديد العين. وَاتَّقُوا اللَّهَ أي فيما نهيتم عنه ومن جملته أكل الربا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لكي تفلحوا أو راجين الفلاح، فالجملة حينئذ في موضع الحال قيل: ولا يخفى أن اقتران الرجاء بالتخويف يفيد أن العبد ينبغي أن يكون بين الرجاء والخوف فهما جناحاه اللذان يطير بهما إلى (1) حضائر القدس وَاتَّقُوا النَّارَ أي احترزوا عن متابعة المرابين وتعاطى ما يتعاطونه من أكل الربا المفضي إلى دخول النار الَّتِي أُعِدَّتْ أي هيئت لِلْكافِرِينَ وهي الطبقة التي اشتد حرها وتضاعف عذابها وهي غير النار التي يدخلها عصاة أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فإنها دون ذلك، وفيه إشارة إلى أن أكلة الربا على شفا حفرة الكفرة، ويحتمل أن يقال: إن النار مطلقا مخلوقة للكافرين معدّة لهم أولا وبالذات، وغيرهم يدخلها على وجه التبع فالصفة ليست للتخصيص، وإلى هذا ذهب الجل من العلماء، روي عن الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه أنه كان يقول: إن هذه الآية هي أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله تعالى المؤمنين بالنار المعدّة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه وليس بنص في التخصيص وَأَطِيعُوا اللَّهَ في جميع ما أمركم به ونهاكم عنه فلا يتكرر مع الأمر بالتقوى السابق وَالرَّسُولَ أي الذي شرع لكم الدين وبلغكم الرسالة فإن طاعته طاعة الله تعالى. لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي لكي تنالوا رحمة الله تعالى أو راجين رحمته، وعقب الوعيد بالوعد ترهيبا عن المخالفة وترغيبا في الطاعة، قال محمد بن إسحاق: هذه الآية معاتبة للذين عصوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين أمرهم بما أمرهم في أحد ولعلهم الرماة الذين فارقوا المركز وَسارِعُوا عطف على أطيعوا أو اتقوا.   (1) قوله: (حضائر) هو في خط المؤلف رحمه الله بالضاد الساقطة كتبه مصححه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 وقرأ نافع وابن عامر بغير واو على وجه الاستئناف وهي قراءة أهل المدينة والشام، والقراءة المشهورة قراءة أهل مكة والعراق أي بادروا وسابقوا، وقرئ بالأخير إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ أي أسبابهما من الأعمال الصالحة، وعن علي كرم الله تعالى وجهه سارعوا إلى أداء الفرائض، وعن ابن عباس إلى الإسلام، وعن أبي العالية إلى الهجرة، وعن أنس بن مالك إلى التكبيرة الأولى، وعن سعيد بن جبير إلى أداء الطاعات، وعن يمان إلى الصلوات الخمس وعن الضحاك إلى الجهاد، وعن عكرمة إلى التوبة، والظاهر العموم ويدخل فيه سائر الأنواع، وتقديم المغفرة على الجنة لما أن التخلية مقدمة على التحلية، وقيل: لأنها كالسبب لدخول الجنة، ومِنْ متعلقة بمحذوف وقع نعتا- لمغفرة- والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لإظهار مزيد اللطف بهم ووصف المغفرة بكونها من الرب دون الجنة تعظيما لأمرها وتنويها بشأنها وسبب نزول الآية على ما أخرجه عبد بن حميد وغيره عن عطاء بن أبي رباح «أن المسلمين قالوا: يا رسول الله بنو إسرائيل كانوا أكرم على الله تعالى منا كانوا إذا أذنب أحدهم ذنبا أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة في عتبة داره اجدع أنفك اجدع أذنك افعل كذا وكذا فسكت صلى الله تعالى عليه وسلم فنزلت هذه الآيات إلى قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ الآية فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: ألا أخبركم بخير من ذلكم ثم تلاها عليهم» والتنوين في مغفرة للتعظيم ويؤيده الوصف، وكذا في جَنَّةٍ ويؤيده أيضا وصفها بقوله سبحانه: عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ والمراد كعرض السموات فهو على حد قوله: حسبت بغام راحلتي عناقا ... وما هي ويب غيرك بالعناق فإنه أراد كصوت عناق، والعرض أقصر الامتدادين، وفي ذكره دون ذكر الطول مبالغة، وزاد في المبالغة بحذف أداة التشبيه وتقدير المضاف فليس المقصود تحديد عرضها حتى يمتنع كونها في السماء بل الكلام كناية عن غاية السعة بما هو في تصور السامعين، والعرب كثيرا ما تصف الشيء بالعرض إذا أرادوا وصفه بالسعة، ومنه قولهم: أعرض في المكارم إذا توسع فيها، والمراد من السَّماواتُ وَالْأَرْضُ السموات السبع والأرضون السبع، فعن ابن عباس من طريق السدي أنه قال: تقرن السموات السبع والأرضون السبع كما تقرن الثياب بعضها ببعض فذاك عرض الجنة، والأكثرون على أنها فوق السموات السبع تحت العرش وهو المروي عن أنس بن مالك، وقيل: إنها في السماء الرابعة وإليه ذهب جماعة، وقيل: إنها خارجة عن هذا العالم حيث شاء الله تعالى، ومعنى كونها في السماء أنها في جهة العلو ولا مانع عندنا أن يخلق الله تعالى في العلو أمثال السموات والأرض بأضعاف مضاعفة. ولا ينافي هذا خبر أنها في السماء الرابعة إن صح، ولا ما حكي عن الأكثر لأن ذلك مثل قولك: في الدار بستان إذا كان له باب منها يشرع إليه مثلا فإنه لا ينافي خروج البستان عنها، وعلى هذا التأويل لا ينافي الخبر أيضا كون عرض الجنة كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الحديد: 21] من غير حاجة إلى القول بأنه ليس المراد من السَّماواتُ السموات السبع كما قيل به. ومن الناس من ذهب إلى أنها في السماء تحت العرش أو الرابعة إلا أن هذا العرض إنما يكون يوم القيامة حيث يزيد الله تعالى فيها ما يزيد. وحكي ذلك عن أبي بكر أحمد بن علي قيل: وبذلك يدفع السؤال بأنه إذا كان عرض الجنة «كعرض السماء والأرض» فأين تكون النار، ووجه الدفع أن ذلك يوم القيامة، وأما الآن فهي دون ذلك بكثير، ويوم يثبت لها ذلك لا تكون فيه السموات والأرض كهذه السموات والأرض المشبه بعرضهما عرضها، ولا يخفى أن القول بالزيادة في السعة يوم القيامة وإن سلم إلا أن كونها اليوم دون هذه السموات والأرض بكثير في حيز المنع ولا يكاد يقبل، والسؤال المذكور أجاب عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم بغير ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 فقد أخرج ابن جرير عن التنوخي رسول هرقل قال: «قدمت على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بكتاب هرقل، وفيه: إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها السموات والأرض فأين النار؟ فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار؟ ولعل المقصود من الجواب إسقاط المسألة وبيان أن القادر على أن يذهب الليل حيث شاء قادر على أن يخلق النار حيث شاء، وإلى ذلك يشير خبر أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وذهب أبو مسلم الأصفهاني إلى أن العرض هاهنا ليس مقابل الطول بل هو من قولك عرضت المتاع للبيع، والمعنى أن ثمنها لو بيعت كثمن السموات والأرض، والمراد بذلك عظم مقدارها وجلالة قدرها وأنه لا يساويها شيء وإن عظم، فالعرض بمعنى ما يعرض من الثمن في مقابلة المبيع وربما يستغني على هذا عن تقدير ذلك المضاف، ولا يخفى أنه على ما فيه من البعد خلاف المأثور عن السلف الصالح من أن المراد وصفها بأنها واسعة أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ أي هيئت للمطيعين لله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وإنما أضيفت إليهم للإيذان بأنهم المقصودون بالذات وإن دخول غيرهم كعصاة المؤمنين والأطفال والمجانين بطريق التبع وإذا حملت التقوى في غير هذا الموضع، وأما فيه فبعيد على التقوى عن الشرك لا ما يعمه وسائر المحرمات لم نستغن عن هذا القول أيضا لأن المجانين مثلا لا يتصفون بالتقوى حقيقة ولو كانت عن الشرك كما لا يخفى. وجوز أن يكون هناك جنات متفاوتة وإن هذه الجنة للمتقين الموصوفين بهذه الصفات لا يشاركهم فيها غيرهم لا بالذات ولا بالتبع، ولعلها الفردوس المصرح بها في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس» وفيه تأمل، والآية ظاهرة في أن الجنة مخلوقة الآن كما يدل عليه الفعل الماضي، وجعله من باب وَنُفِخَ فِي الصُّورِ [الكهف: 99، يس: 51، الزمر: 68، ق: 20] خلاف الظاهر ولا داعي إليه كما بين في محله، ومثل ذلك أُعِدَّتْ السابق في حق النار، وأما دلالة الآية على أن الجنة خارجة عن هذا العالم بناء على أنها تقتضي أن الجنة أعظم منه فلا يمكن أن يكون محيطا بها ففيه نظر كما يرشدك إليه النظر فيما تقدم. والجملة في موضع جر على أنها صفة لجنة، وجوز أن تكون في موضع نصب على الحالية منها لأنها قد وصفت، وجوز أيضا أن تكون مستأنفة قال أبو البقاء: ولا يجوز أن تكون حالا من المضاف إليه لثلاثة أمور: أحدها أنه لا عمل له وما جاء من ذلك متأول على ضعفه، والثاني أن العرض هنا لا يراد به المصدر الحقيقي بل المسافة، والثالث أن ذلك يلزم منه الفصل بين الحال وصاحبها الَّذِينَ يُنْفِقُونَ في محل الجرّ على أنه نعت للمتقين مادح لهم، وقيل: مخصص أو بدل أو بيان أو في محل نصب على إضمار الفعل أو رفع على إضمار هم ومفعول يُنْفِقُونَ محذوف ليتناول كل ما يصلح للإنفاق المحمود أو متروك بالكلية كما في قولهم: فلان يعطي. فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ أي في اليسر والعسر قاله ابن عباس وقيل: في حال السرور والاغتمام، وقيل: في الحياة وبعد الموت بأن يوصي، وقيل: فيما يسر كالنفقة على الولد والقريب وفيما يضر كالنفقة على الأعداء، وقيل: في ضيافة الغني والإهداء إليه وفيما ينفقه على أهل الضر ويتصدق به عليهم، وأصل السراء الحالة التي تسر والضراء الحالة التي تضر، والمتبادر ما قاله الحبر، والمراد إما ظاهرهما أو التعميم كما عهد في أمثاله أي إنهم لا يخلون في حال ما بإنفاق ما قدروا عليه من كثير أو قليل. وقد روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها تصدقت بحبة عنب، وعن بعض السلف أنه تصدق ببصلة، وفي الخبر «اتقوا النار ولو بشق تمرة، وردوا السائل ولو بظلف محرق» وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ أصل الكظم شدّ رأس القربة عند امتلائها، ويقال: فلان كظيم أي ممتلئ حزنا، والْغَيْظَ هيجان الطبع عند رؤية ما ينكر، والفرق بينه وبين الغضب على ما قيل: إن الغضب يتبعه إرادة الانتقام البتة، ولا كذلك الغيظ، وقيل: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 الغضب ما يظهر على الجوارح والبشرة من غير اختيار والغيظ ليس كذلك وقيل: هما متلازمان إلا أن الغضب يصح إسناده إلى الله تعالى والغيظ لا يصح فيه ذلك. والمراد والمتجرعين للغيظ الممسكين عليه عند امتلاء نفوسهم منه فلا ينقمون ممن يدخل الضرر عليهم ولا يبدون له ما يكره بل يصبرون على ذلك مع قدرتهم على الإنقاذ والانتقام وهذا هو الممدوح، فقد أخرج عبد الرزاق وابن جرير عن أبي هريرة مرفوعا «من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله تعالى قلبه أمنا وإيمانا» . وأخرج أحمد عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله تعالى على رؤوس الخلائق حتى يخيره الله تعالى من أي الحور شاء» وفي الأول جزاء من جنس العمل، وفي الثاني ما هو من توابعه، وهذا الوصف معطوف على ما قبله والعدول إلى صيغة الفاعل هنا للدلالة على الاستمرار، وأما الإنفاق فحيث كان أمرا متجددا عبر عنه بما يفيد التجدد والحدوث وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ أي المتجاوزين عن عقوبة من استحقوا مؤاخذته إذا لم يكن في ذلك إخلال بالدين، وقيل: عن المملوكين إذا أساؤوا، والعموم أولى. أخرج ابن جرير عن الحسن «أن الله تعالى يقول يوم القيامة: ليقم من كان له على الله تعالى أجر فلا يقوم إلا إنسان عفا» ، وأخرج الطبراني عن أبيّ بن كعب أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «من سره أن يشرف له البنيان وترفع له الدرجات فليعف عمن ظلمه ويعط من حرمه ويصل من قطعه» . وأخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أنس بن مالك في الآية «إن هؤلاء في أمتي قليل إلا من عصم الله تعالى وقد كانوا كثيرا في الأمم التي مضت» والاستثناء منقطع إن كانت القلة على ظاهرها ومتصل إن كانت بمعنى العدم، وكون بعض الخصائص كثيرا في الأمم السابقة لا يقتضي تفضيلهم على هذه الأمة من كل الوجوه ومن ظن ذلك تكلف في توجيه الحديث بأن المراد أن الكاظمين الغيظ في أمتي قليل إلا بعصمة الله تعالى لغلبه الغيظ عليهم، وقد كانوا كثيرا في الأمم السالفة لقلة حميتهم ولذا كان الأمر بالمعروف النهي عن المنكر فيما بينهم قليلا ولما تمرنت هذه الأمة في الغضب لله تعالى والتزموا الاجتناب عن المداهنة صار إنفاذ الغيظ عادتهم فلا يكظمون إذا ابتلوا إلا بعصمة الله تعالى، فالقليل في الخبر هم الذين يكظمون لقلة الحمية وهم الكثيرون في الأمم السالفة فلا اختصاص لهم بمزية ليتوهم تفضيلهم على هذه الأمة ولو من بعض الوجوه، ولا يخفى أن هذا التوجيه مما تأباه الإشارة والعبارة، وأحسن منه بل لا نسبة أن الكثرة نظرا إلى مجموع الأمم لا بالنسبة إلى كل أمة أمة ولا يضر قلة وجود الموصوفين بتلك الصفة فينا بالنظر إلى مجموع الخلائق من لدن آدم عليه السلام إلى أن بعث نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم لأن هذه الأمة بأسرها قليلة بالنظر إلى مجموع الأمم فضلا عن خيارها فتدبر، وفي ذكر هذين الوصفين كما قال بعض المحققين: إشعار بكمال حسن موقع عفوه عليه الصلاة والسلام عن الرماة وترك مؤاخذتهم بما فعلوا من مخالفة أمره صلى الله تعالى عليه وسلم وندب له عليه الصلاة والسلام إلى ترك ما عزم عليه من مجازاة المشركين بما فعلوا بحمزة رضي الله تعالى عنه حتى قال: «حين رآه مثل به لأمثلن بسبعين مكانك» ولعل التعبير هنا بصيغة الفاعل أيضا دون الفعل لأن العفو أشبه بالكظم منه بالإنفاق وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ تذييل لمضمون ما قبله- وال- إما للجنس والمذكورون داخلون فيه دخولا أوليا وإما للعهد وعبر عنهم بالمحسنين على ما قيل: إيذانا بأن النعوت المعدودة من باب الإحسان الذي هو الإتيان بالأعمال على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي وقد فسره النبي صلى الله تعالى عليه وسلم- بأن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك- ويمكن أن يقال: الإحسان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 هنا بمعنى الإنعام على الغير على وجه عار عن وجوه القبح، وعبر عنهم بذلك للإشارة إلى أنهم في جميع تلك النعوت محسنون إلى الغير لا في الإنفاق فقط. ومما يؤيد كون الإحسان هنا بمعنى الإنعام ما أخرجه البيهقي أن جارية لعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما جعلت تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة فسقط الإبريق من يدها فشجه فرفع رأسه إليها فقالت: إن الله تعالى يقول وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ فقال لها: قد كظمت غيظي قالت: وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ قال: قد عفا الله تعالى عنك قالت: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ قال: اذهبي فأنت حرة لوجه الله تعالى، ورجح بعضهم العهد على الجنس بأنه أدخل في المدح وأنسب بذكره قبل قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ من تتمة ما نزل حين قال المسلمون لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «بنو إسرائيل كانوا أكرم على الله تعالى منا» إلخ على ما أشرنا إليه فيما تقدم، وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه ذكر عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حال بني إسرائيل فنزلت هذه الآية ولم يذكر صدر الآية. وفي رواية الكلبي «أن رجلين أنصاريا وثقيفا آخى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بينهما فكانا لا يفترقان فخرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في بعض مغازيه وخرج معه الثقفي وخلف الأنصاري في أهله وحاجته فكان يتعاهد أهل الثقفي فأقبل ذات يوم فأبصر امرأة صاحبه قد اغتسلت وهي ناشرة شعرها فوقعت في نفسه فدخل ولم يستأذن حتى انتهى إليها فذهب ليلثمها فوضعت كفها على وجهها فقبل ظاهر كفها ثم ندم واستحيا فأدبر راجعا فقالت: سبحان الله تعالى خنت أمانتك وعصيت ركب ولم تصل إلى حاجتك قال: وندم على صنيعته فخرج يسيح في الجبال ويتوب إلى الله تعالى من ذنبه حتى وافى الثقفي فأخبرته أهله بفعله فخرج يطلبه حتى دل عليه فوافقه ساجدا وهو يقول: رب ذنبي ذنبي قد خنت أخي فقال له: قم يا فلان فانطلق إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاسأله عن ذنبك لعل الله تعالى أن يجعل لك فرجا وتوبة فأقبل معه حتى رجع إلى المدينة وكان ذات يوم عند صلاة العصر نزل جبريل عليه السلام بتوبته فتلا وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا إلى قوله سبحانه وتعالى وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ فقال عمر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله ألهذا الرجل خاصة أم للناس عامة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: بل للناس عامة» . وفي رواية عطاء عن ابن عباس أن تيهان التمار أتته امرأة حسناء تبتاع منه تمرا فضمها إلى نفسه وقبلها ثم ندم على ذلك فأتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وذكر ذلك له فنزلت هذه الآية. وأنت تعلم أنه لا مانع من تعدد سبب النزول وأيا ما كان فبإطلاق اللفظ ينتظم ما فعله الرماة انتظاما أوليا، وأخرج الترمذي عن عطاف بن خالد أنه قال: بلغني أنها لما نزلت صاح إبليس بجنوده وحثا على رأسه التراب ودعا بالويل والثبور حتى جاءته جنوده من كل بر وبحر فقالوا: ما لك يا سيدنا قال: آية نزلت في كتاب الله لا يضر بعدها أحدا من بني آدم ذنب قالوا: وما هي؟ فأخبرهم قالوا: نفتح لهم باب الأهواء فلا يتوبون ولا يستغفرون ولا يرون إلا أنهم على الحق فرضي منهم بذلك، والموصول إما مفصول عما قبله على أنه مبتدأ، وقيل: إنه معطوف على ما قبله من صفات المتقين، وقوله سبحانه: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ اعتراض بينهما مشير إلى ما بينهما من التفاوت فإن درجة الأولين من التقوى أعلى وحظهم أوفى، أو على المتقين فيكون التفاوت أظهر وأكثر،- والفاحشة- الكبائر، وظلم النفس الصغائر قاله القاضي عبد الجبار الهمداني، وقيل: الفاحشة المعصية الفعلية، وظلم النفس المعصية القولية، وقيل: الفاحشة ما يتعدى، ومنه إفشاء الذنب لأنه سبب اجتراء الناس عليه ووقوعهم فيه وظلم النفس ما ليس كذلك، وقيل: الفاحشة كل ما يشتد قبحه من المعاصي والذنوب وتقال لكل خصلة قبيحة من الأقوال والأفعال، وكثيرا ما ترد بمعنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 الزنا، وأصل الفحش مجاوزة الحدّ في السوء ومنه قول طرفة عقيلة مال الفاحش المتشدد يعني الذي جاوز الحد في البخل فلعل المراد منها هنا المعصية البالغة في القبح، والظلم الذنب مطلقا وذكره بعدها من ذكر العام بعد الخاص، وأو على الوجوه للتنويع ولا يرد أنه على بعض الوجوه الترديد بين الخاص والعام وقد توقف في قبوله لأنهم قالوا: إن هذا ترديد بين فرقتين من يستغفر للفاحشة ومن يستغفر لأي ذنب صدر عنه وكم بينهما، وجواب إِذا قوله تعالى شأنه: ذَكَرُوا اللَّهَ أي تذكروا حقه العظيم ووعيده، أو ذكروا العرض عليه، أو سؤاله عن الذنب يوم القيامة أو نهيه أو غفرانه وقيل: ذَكَرُوا جماله فاستحيوا وجلاله فهابوا، وقيل: ذَكَرُوا ذاته المقدسة عن جميع القبائح وأحبوا التقرب إليه بالمناسبة له بالتطهير من الذمائم، وعلى كل تقدير ليس المراد مجرد ذكر اسمه عز اسمه فَاسْتَغْفَرُوا أي طلبوا المغفرة منه تعالى لِذُنُوبِهِمْ كيفما كانت ومفعول فَاسْتَغْفَرُوا محذوف لفهم المعنى أي استغفروه، وليس المراد مجرد طلب المغفرة بل مع التوبة وإلا فطلب المغفرة مع الإصرار كالاستهزاء بالرب جل شأنه، ومن هنا قالت رابعة العدوية: استغفارنا هذا يحتاج إلى استغفار وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ اعتراض بين المعطوفين أو بين الحال وذيها، والتركيب على ما أفاده بعض المحققين يدل على أمور من جهة الله تعالى وأمور من جهة العبد. أما الأول فعلى وجوه: أحدها دلالة اسم الذات بحسب ما يقتضيه المقام من معنى الغفران الواسع وإيراد التركيب على صيغة الإنشاء دون الإخبار بأن لم يقل وما يغفر الذنوب إلا الله تقرير لذلك المعنى وتأكيد له كأنه قيل: هل تعرفون أحدا يقدر على غفر الذنوب كلها صغيرها وكبيرها سالفها وغابرها غير من وسعت رحمته كل شيء، وثانيها تقديمه عن مكانه وإزالته عن مقرّه لأنه اعتراض بين المبتدأ وهو الَّذِينَ والخبر الآتي، ثم بين المعطوف والمعطوف عليه أو الحال وصاحبه للدلالة على شدة الاهتمام به والتنبيه على أنه كلما وجد الاستغفار لم يتخلف الغفران، وثالثها الإتيان بالجمع المحلى باللام إعلاما بأن التائب إذا تقدم بالاستغفار يتلقى بغفران ذنوبه كلها فيصير كمن لا ذنب له، ورابعها دلالة النفي بالحصر والإثبات على أنه لا مفزع للمذنبين إلا كرمه وفضله، وذلك أن من وسعت رحمته كل شىء لا يشاركه أحد في نشرها كرما وفضلا، وخامسها إسناد غفران الذنوب إلى نفسه سبحانه وإثباته لذاته المقدس بعد وجود الاستغفار وتنصل عبيده يدل على تحقق ذلك قطعا إما بحسب الوعد كما نقول، أو بحسب العدل كما يزعمه المعتزلة. وأما الثاني ففيه وجوه أيضا: الأول إن في إبداء سعة الرحمة واستعجال المغفرة بشارة عظيمة وتطييبا للنفوس، والثاني أن العبد إذا نظر إلى هذه العناية الشديدة والاهتمام العظيم في شأن التوبة يتحرك نشاطه ويهتز عطفه فلا يتقاعد عنها، والثالث أن في ضمن معنى الاستغراق قلع اليأس والقنوط ولهذا علل سبحانه النهي في قوله تعالى: لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر: 53] بقوله جل شأنه: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر: 53] والرابع أنه أطلقت الذنوب وعمت بعد ذكر الفاحشة وظلم النفس وترك مقتضى الظاهر ليدل به على عدم المبالاة في الغفران فإن الذنوب وإن كبرت فعفو الله تعالى أكبر، والخامس أن الاسم الجامع في التركيب كما دل على سعة الغفران بحسب المقام يدل أيضا مع إرادة الحصر على أنه تعالى وحده معه مصححات المغفرة من كونه عزيزا ليس فوقه أحد فيرد عليه حكمه وكونه حكيما يغفر لمن تقتضي حكمته غفرانه. وقد التزم بعضهم كون- أل- في الذُّنُوبَ للجنس لتفيد الآية امتناع صدور مغفرة فرد منها من غيره تعالى، وهذا على ظنه لا تفيده الآية على تقدير إرادة كل الذُّنُوبَ وحينئذ يزداد أمر المبالغة، وأما جعل الجملة حالية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 بتقدير قائلين ذلك فتعسف يذهب بكثير من هذه الوجوه اللطيفة كما لا يخفى، ومَنْ مبتدأ ويَغْفِرُ خبره والاسم الجليل بدل من المستكن في يغفر أو فاعل له وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا عطف على فَاسْتَغْفَرُوا أو حال من فاعله أي لم يقيموا أو غير مقيمين على الذي فعلوه من الذنوب فاحشة كانت أو ظلما أو على فعلهم، وأصل الإصرار الشد من الصر، وقيل: الثبات على الشيء، ومنه قول الحطيئة يصف الخيل: عوابس بالشعث الكماة إذا ابتغوا ... غلالتها بالمحصدات (أصرت) ويستعمل شرعا بمعنى الإقامة على القبيح من غير استغفار ورجوع بالتوبة، والظاهر أنه لا يصح إرادة هذا المعنى هنا لئلا يتكرر ما في المفهوم مع ما في المنطوق، فلعله فيه بمعنى الإقامة، وإذا حمل الاستغفار على مجرد طلب المغفرة فقط كان هذا مشيرا للتوبة التي هي ملاك الأمر إلا أنه قدم الاستغفار لأنه دال عليها في الظاهر، وإذا حمل على الحال الذي ينضم إليه التوبة كان هذا تصريحا ببعض ما أريد منه إشارة إلى الاعتناء به كما قالوا في ذكر الخاص بعد العام، أخرج البيهقي عن ابن عباس موقوفا «كل ذنب أصر عليه العبد كبير وليس بكبير ما تاب منه العبد» وأخرج أحمد والبخاري في الأدب المفرد عن ابن عمر مرفوعا ارحموا ترحموا واغفروا يغفر لكم ويل لأقماع القول ويل للمصرين» وَهُمْ يَعْلَمُونَ قيل: الجملة حال من ضمير- استغفروا- وفيه بعد لفظي، والمشهور أنها حال من ضمير- أصروا- ومفعول يَعْلَمُونَ محذوف أي يعلمون قبح فعلهم، وقد ذكر أن الحال بعد الفعل المنفي وكذا جميع القيود قد يكون راجعا إلى النفي قيدا له دون المنفي مثل ما جئتك مشتغلا بأمورك بمعنى تركت المجيء مشتغلا بذلك، وقد يكون راجعا إلى ما دخله النفي مثل ما جئتك راكبا، ولهذا معنيان: أحدهما وهو الأكثر- أن يكون النفي راجعا إلى القيد فقط ويثبت أصل الفعل فيكون المعنى جئت غير راكب، وثانيهما أن يقصد نفي الفعل والقيد معا بمعنى انتفاء كل من الأمرين بالمعنى في المثال لا مجيء ولا ركوب، وقد يكون النفي متوجها للفعل فقط من غير اعتبار لنفي القيد وإثباته. قيل: وهذه الآية لا يصح فيها أن يكون وهم يَعْلَمُونَ قيدا للنفي لعدم الفائدة لأن ترك الإصرار موجب للأجر والجزاء سواء كان مع العلم بالقبح أو مع الجهل بل مع الجهل أولى ولا يصح أيضا فيها أن يتوجه النفي إلى القيد فقط مع إثبات أصل الفعل إذ ليس المعنى على إثبات الإصرار ونفي العلم، وكذا لا يصح توجهه إلى الفعل والقيد معا إذ ليس المعنى على نفي العلم، والظاهر أن المناسب فيها توجهه إلى الفعل فقط من غير اعتبار لنفي القيد وإثباته، والمراد لم يصروا عالمين بمعنى أن عدم الإصرار متحقق البتة. ولك أن تقول: لم لا يجوز أن يكون الحال هنا قيدا للنفي ويكون المعنى تركوا الإصرار على الذنب لعلمهم بأن الذنب قبيح فإن الحال قد يجيء في معرض التعليل. وحديث إن ترك الإصرار موجب للأجر والجزاء سواء كان مع العلم بالقبح أو مع الجعل فلا دخل لمضمون الحال في إيجاب الأجر؟ مجاب عنه بأنه ليس المقصود من ذكر الحال تقييد الإصرار بها لإيجاب الأجر حتى يرد عليه ما ذكر بل المراد مدحهم بأن تركهم الإصرار على الذنب لأجل أن فيهم ما هو زاجر عنه وهو علمهم بقبح الذنب فيكون مدح لهم بأن من صفاتهم التحرز عن القبائح، وادعى بعض المتأخرين تعين كون الحال قيدا للمنفي وأن النفي راجع إلى القيد، والمعنى لم يكن لهم الإصرار مع العلم بقبح الجزاء لأن المصر مع عدم العلم بالقبح لا يحرم الجزاء وغير المصر لكسالة أو لعدم ميل الطبع لا يبلغه لأن الجزاء على الكف لا على العدم وإلا لكان لكل أحد أجزية لا تتناهى لعدم فعل قبائح لا تتنامى لم تخطر بباله، ولا يخفى ما في قوله: «وغير المصر» إلخ، وقوله: «لأن الجزاء» إلخ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 من النظر، وكأن من جعله حالا من ضمير- استغفروا- أراد الفرار من هذه الدغدغة، وأنا أقول: إن الحال قيد للنفي ومتعلق العلم وليس هو القبح بل إنه يغفر لمن استغفر ويتوب على من تاب، وهو المروي عن مجاهد كما أخرجه جماعة عنه، وحكي عن الضحاك أيضا. والمعنى أنهم تركوا الإقامة على الذنب عالمين بأن الله تعالى يقبل التوبة من عباده ويغفر لهم، وهو إيذان بأنهم لا ييأسون من روح الله سبحانه ولا يرد على هذا دعوى عدم الفائدة كما أورد أولا إذ من المعلوم الذي لا شبهة فيه أن ترك الإصرار إنما يوجب الأجر إذا لم يكن معه يأس فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، ولعل مدحهم بأنهم يعلمون ذلك أولى من مدحهم بأنهم يعلمون قبح الفعل، وربما يقال: إن الجملة سيقت معترضة لذلك كما سيقت كذلك جملة وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ لما سيقت له، وأما جعلها معطوفة على جملة- لم يصروا- ورب شيء يصح تبعا ولا يصح استقلالا فليس بالذي تميل النفس إليه أُولئِكَ إشارة إلى المذكورين أخيرا باعتبار اتصافهم بما تقدم من الصفات الحميدة، والبعد للإشعار ببعد منزلتهم في الفضل، وإلى هذا ذهب المعظم، وقيل: هو إشارة إلى المذكورين وهم طائفة واحدة، وهو مبتدأ، وقوله تعالى: جَزاؤُهُمْ بدل اشتمال منه أو مبتدأ ثان، وقوله تعالى: مَغْفِرَةٌ خبر أُولئِكَ أو خبر المبتدأ الثاني، والجملة خبر الأول، وهذه الجملة خبر وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا إلخ على الوجه الأول، وادعى مولانا شيخ الإسلام أنه الأظهر الأنسب بنظم المغفرة المنبئة عن سابقة الذنب في سلك الجزاء إذ على الوجهين الأخيرين أُولئِكَ إلخ جملة مستأنفة مبينة لما قبلها كاشفة عن حال كلا الفريقين المحسنين والتائبين ولم يذكر ما هو من أوصاف الأولين ما في شائبة الذنب حتى يذكر في مطلع الجزاء الشامل لهما المفرة، وتخصيص الإشارة بالأخيرين مع اشتراكهما في حكم إعداد الجنة لهما تعسف ظاهر انتهى. والذي يشعر به ظاهر ما أخرجه ابن جرير عن الحسن أنه قرأ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ الآية ثم قرأ وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً الآية فقال: إن هذين النعتين لنعت رجل واحد أحد الوجهين الأخيرين اللذين أشار إليهما بل الأول منهما، وتكون هذه الإشارة كما قال صاحب القيل، وهذه المغفرة هي المغفرة التي أمر جميع المؤمنين من له ذنب ومن لا ذنب له منهم بالمسارعة إلى ما يؤدي إليها فلا يضر وقوعها في مطلع الجزاء مِنْ رَبِّهِمْ متعلق بمحذوف وقع صفة للمغفرة مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أي مغفرة عظيمة كائنة من جهته تعالى، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم للإشعار بعلة الحكم مع التشريف وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ عطف على مَغْفِرَةٌ والمراد بها جنات في ضمن تلك الجنة التي أخبر سبحانه أن عرضها السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وليس جنات وراءها على ما يقتضيه كلام صاحب القيل إلا أنه لم يكتف بإعداد ما وصف أولا تنصيصا على وصفها باشتمالها على ما يزيدها بهجة من الأنهار الجالية بعد وصفها بالسعة والإخبار بأنها جزاؤهم وأجرهم الذي لا بد بمقتضى الفضل أن يصل إليهم، وهذا فوق الإخبار بالأعداد أو مؤكد له فالتنوين للتعظيم على طرز ما ذكر في المعطوف عليه، وادعى شيخ الإسلام أن التنكير يشعر بكونها أدنى من الجنة السابقة، وإن ذلك مما يؤيد رجحان الوجه الأول الذي أشار إليه وفيه تردد خالِدِينَ فِيها حال مقدرة من الضمير المجرور في جَزاؤُهُمْ لأنه مفعول به معنى إذ هو في قوة يجزيهم الله جنات خالدين فيها، ولا مساغ لأن يكون حالا من جنات في اللفظ وهي لأصحابها في المعنى إذ هو في قوة يجزيهم الله جنات خالدين فيها، ولا مساغ لأن يكون حالا من جنات في اللفظ وهي المخصوص بالمدح محذوف أي ونعم أجر العاملين الجنة، وعلى ذلك اقتصر مقاتل، وذهب غير واحد أنه ذلك أي ما ذكر من المغفرة والجنات. وفي الجملة على ما نص عليه بعض المحققين وجوه من المحسنات: أحدها أنها كالتذييل للكلام السابق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 فيفيد مزيد تأكيد للاستلذاذ بذكر الوعد، وثانيها في إقامة الأجر موضع ضمير الجزاء لأن الأصل وَنِعْمَ هو أي جزاؤهم إيجاب إنجاز هذا الوعد وتصوير صورة العمل في العمالة تنشيطا للعامل، وثالثها في تعميم العاملين وإقامته مقام الضمير الدلالة على حصول المطلوب للمذكورين بطريق برهاني. ولمراد من الكلام السابق الذي جعل هذا كالتذييل له إما الكلام الذي في شأن التائبين، أو جميع الكلام السابق على الخلاف الذي ذكرناه آنفا، ومن ذهب إلى الأول قال: وكفاك في الفرق بين القبيلين وهما المتقون الذين أتوا بالواجبات بأسرها واجتنبوا المعاصي برمتها، والمستغفرون لذنوبهم بعد ما أذنبوا وارتكبوا الفواحش والظلم أنه تعالى فصل آية الأولين بقوله سبحانه وتعالى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ المشعر بأنهم محسنون محبوبون عند الله تعالى، وفصل آية الآخرين بقوله جلا وعلا: وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ المشعر بأن هؤلاء أجراء وأن ما أعطوا من الأجر جزاء لتداركهم بعض ما فوتوه على أنفسهم، وأين هذا من ذاك وبعيد ما بين السمك والسماك، ولا يخفى أنه على تقدير كون النعتين نعت رجل واحد كما حكي عن الحسن يمكن أن يقال: إن ذكر هذه الجملة عقيب تلك لما ذكره بعض المحققين وأي مانع من الاخبار بأنهم محبوبون عند الله تعالى وأن الله تعالى منجز ما وعدهم به ولا بدّ، وكونهم إذا أذنبوا استغفروا وتابوا لا ينافي كونهم محسنين أما إذا أريد من الإحسان الانعام على الغير فظاهر، وأما إذا أريد به الإتيان بالأعمال على الوجه اللائق- أو أن تعبد الله تعالى كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك- كما صرح به في الصحيح فلأن ذلك لو نافى لزم أن لا يصدق المحسن إلا على نحو المعصوم ولا يصدق على من عبد الله تعالى وأطاعه مدة مديدة على أليق وجه وأحسنه ثم عصاه لحظة فندم أشد الندم واستغفر سيد الاستغفار ولا أظن أحدا يقول بذلك فتدبر. ثم إن في هذه الآيات- على ما ذهب إليه المعظم- دلالة على أن المؤمنين ثلاث طبقات، متقين وتائبين ومصرين، وعلى أن غير المصرين تغفر ذنوبهم ويدخلون الجنة، وأما أنها تدل على أن المصرين لا تغفر ذنوبهم ولا يدخلون الجنة كما زعمه البعض فلا لأن السكوت عن الحكم ليس بيانا لحكمهم عند بعض ودال على المخالفة عند آخرين وكفى في تحققها أنهم مترددون بين الخوف والرجاء وأنهم لا يخلون عن تعنيف أقله تعييرهم بما أذنبوه مفصلا- ويا له من فضيحة- وهذا ما لا بد منه على ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وحينئذ لم يتم لهم المغفرة الكاملة كما للتائبين على أن مقتضى ما في الآيات أن الجنة لا تكون جزاء للمصر وكذلك المغفرة أما نفي التفضل بهما فلا، وهذا على أصل المعتزلة واضح للفرق بين الجزاء والتفضل وجوبا وعدم وجوب، وأما على أصل أهل السنة فكذلك لأن التفضل قسمان: قسم مترتب على العمل ترتب الشبع على الأكل يسمى أجرا وجزءا وقسم لا يترتب على العمل فمنه ما هو تتميم للأجر كما أو كيفا كما وعده من الأضعاف وغير ذلك، ومنه ما هو محض التفضل حقيقة واسما كالعفو عن أصحاب الكبائر ورؤية الله تعالى في دار القرار وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله تعالى قاله بعض المحققين، وذكر العلامة الطيبي أن قوله تعالى: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ وردت خطابا لآكلي الربا من المؤمنين وردعا لهم عن الإصرار على ما يؤديهم إلى دركات الهالكين من الكافرين وتحريضا على التوبة والمسارعة إلى نيل الدرجات مع الفائزين من المتقين والتائبين، فإدراج المصرين في هذا المقام بعيد المرمى لأنه إغراء وتشجيع على الذنب لا زجر ولا ترهيب فبين بالآيات معنى المتقين للترغيب والترهيب ومزيد تصوير مقامات الأولياء ومراتبهم ليكون حثا لهم على الانخراط في سلكهم ولا بدّ من ذكر التائبين واستغفارهم وعدم الإصرار ليكون لطفا لهؤلاء وجميع الفوائد التي ذكرت في قوله سبحانه وتعالى: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ تدخل في المعنى، فعلم من هذا أن دلالة وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا مهجورة لأن مقام التحريض والحث أخرج المصرين، والحاصل أن شرط دلالة المفهوم هنا منتف فلا يصح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 الاحتجاج بذلك للمعتزلة أصلا قَدْ خَلَتْ أي مضت مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ أي وقائع في الأمم المكذبة أجراها الله تعالى حسب عادته، وقال المفضل: إن المراد بها الأمم، وقد جاءت السنة بمعنى الأمة في كلامهم، ومنه قوله: ما عاين الناس من فضل كفضلكم ... ولا رأوا مثلكم في سالف السنن وقال عطاء: المراد بها الشرائع والأديان، فالمعنى قد مضت من قبلكم سنن وأديان نسخت، ولا يخفى أن الأول أنسب بالمقام لأن هذا إما مساق لحمل المكلفين أو آكلي الربا على فعل الطاعة أو على التوبة من المعصية أو على كليهما بنوع غير ما سبق- كما قيل- وإما عود إلى تفصيل بقية القصة بعد تمهيد مبادئ الرشد والصلاح وترتيب مقدمات الفوز والفلاح على رأي، وذكر مضي الأديان ليس له كثير ارتباط بذلك، وإن زعم بعضهم أن فيه تثبيتا للمؤمنين على دين النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لئلا يهنوا بقول اليهود إن دين موسى عليه السلام لا ينسخ ولا يجوز النسخ على الله تعالى لأنه بداء وتحريضا لليهود وحثا على قبول دين الإسلام وإنذارا لهم من أن يقع عليهم مثل ما وقع على المكذبين وتقوية لقلوب المؤمنين بأنه سينصرهم على المكذبين، نعم إطلاق السنة على الشريعة أقرب من إطلاقها على الوقعة لأنها في الأصل الطريقة والعادة، ومنه قولهم: سنة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، والجار والمجرور إما متعلق بخلت أو بمحذوف وقع حالا من سُنَنٌ أي سنن كائنة من قبلكم فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي بأقدامكم أو بأفهامكم فَانْظُروا أي تأملوا. كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ أي آخر أمرهم الذي أدى إليه تكذيبهم لأنبيائهم، والفاء للإيذان بسببية الخلو للسير والنظر أو الأمر بهما، وقيل: المعنى على الشرط أي إن شككتم فَسِيرُوا إلخ، والخطاب على كل تقدير مساق للمؤمنين، وقال النقاش: للكفار- وفيه بعد- وكَيْفَ خبر مقدم- لكان- معلق لفعل النظر، والجملة في محل النصب بعد نزع الخافض لأن الأصل استعماله بالجار وتجريد الفعل عن تاء التأنيث لأن المرفوع مجازي التأنيث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ الإشارة إما إلى القرآن- وهو المروي عن الحسن وقتادة- وخدش بأنه بعيد عن السياق. وإما إلى ما لخص من أمر الكفار والمتقين والتائبين، وقوله سبحانه: قَدْ خَلَتْ الآية اعتراض للحث على الإيمان والتقوى والتوبة- كما قيل- ووجه الاعتراض لدفع الاعتراض بأن المعترضة مؤكدة للمعترض فيه وهنا ليس كذلك بأن تلك الآيات واردة على سبيل الترغيب والترهيب لآكلي الربا وهذه الآية دلت على الترهيب ومعناه راجع إلى الترغيب بحسب التضاد كما أن بعض الآيات الواردة في الرحمن للوعيد تعدّ من الآلاء بحسب الزجر عن المعاصي فيتأتى التوكيد دون نقص، واعترض عليه بأنه تعسف. وإما إلى ما سلف من قوله سبحانه: قَدْ خَلَتْ إلخ، وهو المروي عن أبي إسحاق، واختاره الطبري والبلخي، وكثير من المتأخرين- وأل- في الناس للعهد، والمراد بهم المكذبون، والظرف إما متعلق ببيان أو بمحذوف وقع صفة لهم أي هذا إيضاح لسوء عاقبة ما هم عليه من التكذيب فإن الأمر السابق وإن كان خاصا بالمؤمنين على المختار لكن العمل بموجبه غير مختص بهم ففيه حمل للمكذبين أيضا على أن ينظروا في عاقبة أسلافهم ليعتبروا بذلك، والموعظة ما يلين القلب ويدعو إلى التمسك بما فيه طاعة، والهدى بيان طريق الرشد ليسلك دون طريق الغي، والفرق بينه وبين البيان أن الثاني إظهار المعنى كائنا ما كان ولكون المراد به هنا ما كان عاريا عن الهدى والعظة خصه بالناس مع أن ظاهره شامل للمتقين. والمراد بهم مقابل المكذبين وكأنه وضع موضع الضمير بناء على أن المعنى وزيادة بصيرة وموعظة لكم للإيذان بعلة الحكم فإن مدار ذلك كونه هدى وموعظة لهم إنما هو تقواهم وعدم تكذيبهم، وقدم بيان كونه بيانا للمكذبين مع أنه غير مسوق له على بيان كونه هدى للمتقين مع أنه المقصود بالسياق لأن أول ما يترتب على مشاهدة آثار هلاك أسلافهم ظهور حال أخلافهم، وأما الهدى فأمر مترتب عليه والاقتصار على الأمرين في جانب المتقين مع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 ترتبهما على البيان لما أنهما المقصد الأصلي، وقيل: أل في الناس للجنس. والمراد بيان لجميع الناس لكن المنتفع به المتقون لأنهم يهتدون به وينتجعون بوعظه- وليس بالبعيد- وجوز بعضهم أن يراد من المتقين الصائرون إلى التقوى فيبقى الهدى والموعظة بلا زيادة، وأن يراد بهم ما يعمهم وغيرهم من المتقين بالفعل فيحتاج الهدى وما عطف عليه إلى اعتبار ما يعم الابتداء والزيادة فيه، ولا يخفى ما في الثاني من زيادة البعد لارتكاب خلاف الظاهر في موضعين، وأما الأول ففيه بعد من جهة الارتكاب في موضع واحد وهو وإن شارك ما قلناه من هذه الحيثية إلا أن ما ارتكبناه يهدي إليه في الجملة التنوين الذي في الكلمة ولا كذلك ما ارتكبوه بل اعتبار الكمال المشعر به الإطلاق ربما يأباه ولعله لمجموع الأمرين هان أمر نزع الخف. وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا أخرج الواحدي عن ابن عباس أنه قال: «انهزم أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم أحد فبينما هم كذلك إذ أقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريدون أن يعلوا عليهم الجبل فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: اللهم لا قوة لنا إلا بك اللهم ليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر فأنزل الله تعالى هذه الآية وثاب نفر من المسلمين فصعدوا الجبل ورموا خيل المشركين حتى هزموهم» وعن الزهري وقتادة أنها نزلت تسلية للمسلمين لما نالهم يوم أحد من القتل والجراح. وعن الكلبي أنها نزلت بعد يوم أحد حين أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أصحابه رضي الله تعالى عنهم بطلب القوم. وقد أصابهم من الجراح ما أصابهم وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: «لا يخرج إلا من شهد معنا بالأمس فاشتد ذلك على المسلمين فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأيّا ما كان فهي معطوفة على قوله تعالى: فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ بحسب اللفظ ومرتبطة به بحسب المعنى إن قلنا إنه عود إلى التفصيل، وبما تقدم من قصة أحد- إن لم نقل ذلك- وبه قال جمع، وجعلوا توسيط حديث الربا استطرادا أو إشارة إلى نوع آخر من عداوة الدين ومحاربة المسلمين، وبه يظهر الربط وقد مر توجيهه بغير ذلك أيضا. ومن الناس من جعل ارتباط هذه الآية لفظا بمحذوف أي كونوا مجدين ولا تهنوا، ومضى على الخلاف وهو تكلف مستغنى عنه، والوهن- الضعف أي لا تضعفوا عن قتال أعدائكم والجهاد في سبيل الله تعالى بما نالكم من الجراح وَلا تَحْزَنُوا على ما أصبتم به من قتل الأعزة وقد قتل في تلك الغزوة خمسة من المهاجرين حمزة بن عبد المطلب ومصعب عن بن عمير صاحب راية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وعبد الله بن جحش ابن عمة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وعثمان بن شماس وسعد مولى عتبة رضي الله تعالى عنهم، وسبعون من الأنصار، وقيل: لا تَحْزَنُوا على ما فاتكم من الغنيمة ولا يخفى بعده والظاهر أن حقيقة النهي غير مرادة هنا بل المراد التسلية والتشجيع وإن أريدت الحقيقة فلعل ذلك بالنسبة إلى ما يترتب على الوهن والحزن من الآثار الاختيارية أي لا تفعلوا ما يترتب على ذلك وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ جملة حالية من فاعل الفعلين أي والحال أنكم الْأَعْلَوْنَ الغالبون دون أعدائكم فإن مصيرهم مصير أسلافهم المكذبين فهو تصريح بعد الإشعار بالغلبة والنصر. حكى القرطبي أنهم لم يخرجوا بعد ذلك إلا ظفروا في كل عسكر كان في عهده عليه الصلاة والسلام وكذا في كل عسكر كان بعد، ولو لم يكن فيه إلا واحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم. أو المراد والحال أنكم أعلى منهم شأنا فإنكم على الحق وقتالكم لإعلاء كلمة الله تعالى وقتلاكم في الجنة وأنهم على الباطل وقتالهم لنصرة كلمة الشيطان وقتلاهم في النار، واشتراكهم على هذا في العلو بناء على الظاهر وزعمهم، وإذا أخذ العلو بمعنى الغلبة لا يحتاج إلى هذا لما أن الحرب سجال وأن العاقبة للمتقين، وقيل: المراد وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ حالا منهم حيث أصبتم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 منهم يوم بدر أكبر مما أصابوا منكم اليوم، ومن الناس من جوز كون الجملة لا محل لها من الإعراب وجعلها معترضة بين النهي المذكور، وقوله سبحانه: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ لأنه متعلق به معنى وإن كان الجواب محذوف أي- إن كنتم مؤمنين فلا تهنوا ولا تحزنوا- فإن الإيمان يوجب قوة القلب ومزيد الثقة بالله تعالى وعدم المبالاة بأعدائه، ولا يخفى أن دعوى التعلق مما لا بأس بها لكن الحكم- بكون تلك الجملة معترضة- معترض بالبعد، ويحتمل أن يكون هذا الشرط متعلقا- بالأعلون- والجواب محذوف أيضا أي إن كنتم مؤمنين- فأنتم الأعلون- فإن الإيمان بالله تعالى يقتضي العلو لا محالة، ويحتمل أن يراد بالإيمان التصديق بوعد الله تعالى بالنصرة والظفر على أعداء الله تعالى، ولا اختصاص لهذا الاحتمال بالاحتمال الأخير من احتمالي التعلق كما يوهمه صنيع بعضهم، وعلى كل تقدير المقصود من الشرط هنا تحقيق المعلق به كما في قول الأجير: إن كنت عملت لك فأعطني أجري، أو من قبيل قولك لولدك: إن كنت ابني فلا تعصني، وحمل بعضهم الشرط على التعليل أي لا تهنوا ولا تحزنوا لأجل كونكم مؤمنين، أو وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ لأجل ذلك، والقول بأن المراد إن بقيتم على الإيمان ليس له كمال ملاءمة للمقام إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ قرأ حمزة والكسائي، وابن عياش عن عاصم بضم القاف، والباقون بالفتح، وهما لغتان- كالدف والدف، والضعف والضعف- وقال الفراء: القرح بالفتح الجراحة، وبالضم ألمها، ويقرأ بضم القاف والراء على الاتباع- كاليسر واليسر، والطنب والطنب- وقرأ أبو السمال بفتحهما وهو مصدر قرح يقرح إذا صار له قرحة والمعنى إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم قبله يوم بدر، ثم لم يضعف ذلك قلوبهم ولم يثبطهم عن معاودتكم بالقتال وأنتم أحق بأن لا تضعفوا فإنكم ترجون من الله تعالى ما لا يرجون، والمضارع على ما ذهب إليه العلامة التفتازاني لحكاية الحال لأن المساس مضى، وأما استعمال- إن- فبتقدير كان أي إن كان مسكم قرح، وإِنْ لا تتصرف في- كان- لقوة دلالته على المضي، أو على ما قيل: إن إِنْ قد تجيء لمجرد التعليق من غير نقل فعله من الماضي إلى المستقبل، وما وقع في موضع جواب الشرط ليس بجواب حقيقة لتحققه قبل هذا الشرط، بل دليل الجواب، والمراد إن كان مسكم قرح فذلك لا يصحح عذركم وتقاعدكم عن الجهاد بعد لأنه قد مس أعداءكم مثله وهم على ما هم عليه، أو يقال: إن مسكم قرح فتسلوا فقد مس القوم قرح مثله، والمثلية باعتبار كثرة القتلى في الجملة فلا يرد أن المسلمين قتلوا من المشركين يوم بدر سبعين وأسروا سبعين، وقتل المشركون من المسلمين يوم أحد خمسة وسبعين وجرحوا سبعين، والتزم بعضهم تفسير القرح بمجرد الانهزام دون تكثير القتلى فرارا من هذا الإيراد، وأبعد بعض في توجيه الآية وحملها على ما لا ينبغي أن يحمل عليه كلام الله تعالى، فقال: الأوجه أن يقال: إن المراد إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فلا تهنوا لأنه مَسَّ الْقَوْمَ أي الرجال قَرْحٌ مِثْلُهُ والقرح للرجال لا للنساء فمن هو من زمرة الرجال ينبغي أن لا يعرض عما هو سمته بل ينبغي أن يسعى له، وبهذا يظهر بقاء وجه التعبير بالمضارع وأنه على ظاهره، وكذا يندفع ما قيل: إن قرح القوم لم يكن مثل قرحهم ولا يحتاج إلى ما تقدم من الجواب. وقيل: إن كلا المسين كان في أحد فإن المسلمين نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم فإنهم قتلوا منهم نيفا وعشرين رجلا أحدهم صاحب لوائهم، وجرحوا عددا كثيرا وعقروا عامة خيلهم بالنبل، وقيل: إن ذلك القرح الذي مسهم أنهم رجعوا خائبين مع كثرتهم وغلبتهم بحفظ الله تعالى للمؤمنين. وَتِلْكَ الْأَيَّامُ اسم الإشارة مشار به إلى ما بعده كما في الضمائر المبهمة التي يفسرها ما بعدها نحو- ربه رجلا- ومثله يفيد التفخيم والتعظيم، والْأَيَّامُ بمعنى الأوقات لا الأيام العرفية، وتعريفها للعهد إشارة إلى أوقات الظفر والغلبة الجارية فيما بين الأمم الماضية والآتية، ويوما بدر وأحد داخلان فيها دخولا أوليا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ نصرفها بينهم فنديل لهؤلاء مرة ولهؤلاء أخرى كما وقع ذلك يوم بدر ويوم أحد، والمداولة نقل الشيء من واحد إلى آخر، يقال: تداولته الأيدي إذا انتقل من واحد إلى واحد، والنَّاسِ عام، وفسره ابن سيرين بالأمراء، واسم الإشارة مبتدأ، والْأَيَّامُ خبره، ونُداوِلُها في موضع الحال، والعامل فيها معنى الإشارة أو خبر بعد خبر، ويجوز أن تكون الْأَيَّامُ صفة أو بدلا أو عطف بيان، ونُداوِلُها هو الخبر، وبَيْنَ النَّاسِ ظرف لنداولها، وجوز أن يكون حالا من الهاء، وصيغة المضارع الدالة على التجدد والاستمرار للإعلام بأن تلك المداولة سنة مسلوكة فيما بين الأمم قاطبة إلى أن يأتي أمر الله تعالى ومن كلامهم: الأيام دول، والحرب سجال، وفي هذا ضرب من التسلية للمؤمنين، وقرئ- يداولها. وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا تعليل لما هو فرد من أفراد مطلق المداولة المشار إليها فيما قبل، وهي المداولة المعهودة الجارية بين فريقي المؤمنين والكافرين، واللام متعلقة بما دل عليه المطلق من الفعل المقيد بالوقوع بين الفريقين المذكورين أو بنفس الفعل المطلق باعتبار وقوعه بينهما، والجملة معطوفة على علة أخرى لها معتبرة إما على الخصوص والتعيين للدلالة المذكورة عليها كأنه قيل: نُداوِلُها بينكم وبين عدوكم ليظهر أمركم وليعلم، وإما على العموم والإبهام للتنبيه على أن العلل غير منحصرة فيما عد من الأمور، وأن العبد يسوءه ما يجري عليه ولا يشعر بما لله في طيه من الألطاف، كأنه قيل: نجعلها دولا بينكم لتكون حكما وفوائد جمة وَلِيَعْلَمَ إلخ، وفيه من تأكيد التسلية ما لا يخفى، وتخصيص البيان بعلة هذا الفرد من مطلق المداولة دون سائر أفرادها الجارية بين بقية الأمم تعيينا أو إبهاما لعدم تعلق الغرض العلمي ببنيانها، ولك أن تجعل المحذوف المبهم عبارة عن علل سائر أفرادها للإشارة إجمالا إلى أن كل من أفرادها له علة داعية في الظاهر إليه كأنه قيل: نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ كافة ليكون كيت وكيت من الحكم الداعية إلى تلك الأفراد وَلِيَعْلَمَ إلخ، فاللام الأولى متعلقة بالفعل المطلق باعتبار تقييده بتلك الأفراد، والثانية باعتبار تقييده بالفرد المعهود- قاله مولانا شيخ الإسلام. وجوزوا أن يكون الفعل معطوفا على ما قبله باعتبار المعنى كأنه قيل: داولت بينكم الأيام لأن هذه عادتنا وَلِيَعْلَمَ إلخ، وقيل: إن الفعل المعلل به محذوف ويقدر مؤخرا، والتقدير وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا فعل ذلك ومنهم من زعم زيادة الواو وهو من ضيق المجال، والكلام من باب التمثيل أي ليعاملكم معاملة من يريد أن يعلم المخلصين الثابتين على الإيمان من غيرهم. والعلم فيه مجاز عن التمييز من باب إطلاق اسم السبب على المسبب أي ليميز الثابتين على الإيمان من غيرهم. وحمل العلم على التمييز في حال التمثيل تطويل من غير طائل، واختار غير واحد حمل العلم على التعلق التنجيزي المترتب عليه الجزاء. وقد تقدم بعض الكلام على ذلك في البقرة. وبالجملة لا يرد لزوم حدوث العلم الذي هو صفة قائمة بذاته تعالى وإطلاق الإيمان مع أن المراد هو الرسوخ والإخلاص فيه للإشعار بأن اسم الإيمان لا ينطلق على غيره. وزعم بعضهم أن التقدير ليعلم الله المؤمن من المنافق إلا أنه استغنى بذكر أحدهما عن الآخر ولا حاجة إليه، ومثله القول بحذف المضاف أي صبر الذين، والالتفات إلى الغيبة بإسناده إلى الاسم الجليل لتربية المهابة والإشعار بأن صدور كل واحد مما ذكر بصدد التعليل من أفعاله تعالى باعتبار منشأ معين من صفاته التي استجمعها هذا الاسم الأعظم مغاير لمنشأ الآخر وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ جمع شهيد وهو قتيل المعركة وأراد بهم شهداء أحد كما قاله الحسن وقتادة وابن إسحاق، و «من» ابتدائية أو تبعيضية متعلقة- بيتخذ- أو بمحذوف وقع حالا من شُهَداءَ، وقيل: جمع شاهد أي ويتخذ منكم شهودا معدلين بما ظهر من الثبات على الحق والصبر على الشدائد وغير ذلك من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 شواهد الصدق ليشهدوا على الأمم يوم القيامة، و «من» على هذا بيانية لأن تلك الشهادة وظيفة الكل كما يشير إليه قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] ويؤيد الأول ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: لما أبطأ على النساء الخبر خرجن يستخبرن فإذا رجلان مقتولان على دابة أو على بعير فقالت امرأة من الأنصار: من هذان؟ قالوا: فلان وفلان أخوها وزوجها أو زوجها وابنها فقالت: ما فعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؟ قالوا: حي قالت: فلا أبالي يتخذ الله تعالى من عباده الشهداء ونزل القرآن على ما قالت: ويَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وكنى بالاتخاذ عن الإكرام لأن من اتخذ شيئا لنفسه فقد اختاره وارتضاه فالمعنى ليكرم أناسا منكم بالشهادة وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ أي يبغضهم، والمراد من الظالمين إما المنافقون كابن أبيّ وأتباعه الذين فارقوا جيش الإسلام على ما نقلناه فيما قبل فهم في مقابلة المؤمنين فيما تقدم المفسر بالثابتين على الإيمان الراسخين فيه الذين توافق ظواهرهم بواطنهم، وإما بمعنى الكافرين المجاهرين بالكفر، وأيّا ما كان فالجملة معترضة لتقرير مضمون ما قبلها، وفيها تنبيه على أنه تعالى لا ينصر الكافر على الحقيقة وإنما يغلبه أحيانا استدراجا له وابتلاء للمؤمن، وأيضا لو كانت النصرة دائما للمؤمنين لكان الناس يدخلون في الإيمان على سبيل اليمن والفأل، والمقصود غير ذلك وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا أي ليطهرهم من الذنوب ويصفيهم من السيئات. وأصل التمحيص كما قال الخليل: تخليص الشيء من كل عيب. يقال: محصت الذهب إذا أزلت خبثه. والجملة معطوفة على يَتَّخِذَ وتكرير اللام للاعتناء بهذه العلة. ولذلك أظهر الاسم الجليل في موضع الإضمار أو لتذكير التعليل لوقوع الفضل بينهما بالاعتراض. وهذه الأمور الثلاثة- كما قال مولانا شيخ الإسلام- علل للمداولة المعهودة باعتبار كونها على المؤمنين قدمت في الذكر لأنها المحتاجة إلى البيان. ولعل تأخير العلة الأخيرة عن الاعتراض لئلا يتوهم اندراج المذنبين في الظالمين. أو لتقترن بقوله عز وجل: وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ لما بينهما من المناسبة حيث إن في كل من التمحيص والمحق- إزالة إلا أن في الأول إزالة الآثار وإزاحة الأوضار، وفي الثاني إزالة العين وإهلاك النفس، وأصل- المحق- تنقيص الشيء قليلا قليلا ومنه المحاق والمعنى ويهلك الكافرين، ولا يبقى منهم أحدا ينفخ النار. وهذا علة للمداولة باعتبار كونها عليهم. والمراد منهم هنا طائفة مخصوصة وهم الذين حاربوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم أحد وأصروا على الكفر فإن الله تعالى محقهم جميعا، وقيل: يجوز أن يكون هذا علة للمداولة باعتبار كونها على المؤمنين أيضا فإن الكفار إذا غلبوا أحيانا اغتروا وأوقعهم الشيطان في أو حال الأمل ووسوس لهم فبقوا مصرين على الكفر فأهلكهم الله تعالى بذنوبهم وخلدهم في النار. أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ خطاب للمنهزمين يوم أحد وهو كلام مستأنف لبيان ما هي الغاية القصوى من المداولة والنتيجة لما ذكر من العلل الثلاث الأول، و «أم» منقطعة مقدرة ببل وهمزة الاستفهام الإنكاري وكونها متصلة وعديلها مقدر تكلف، والإضراب عن التسلية ببيان العلل فيما لقوا من الشدة إلى تحقيق أنها من مبادئ الفوز بالمطلب الأسنى والمقام الأعلى، والمعنى بل لا ينبغي منكم أن تظنوا أنكم تدخلون الجنة وتفوزون بنعيمها وما أعد الله تعالى لعباده فيها وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ حال من ضمير تَدْخُلُوا مؤكدة للإنكار فإن رجاء الأجر من غير عمل ممن يعلم أنه منوط به مستبعد عند العقول، ولهذا قيل: ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ... إن السفينة لا تجري على اليبس وورد عن شهر بن حوشب طلب الجنة من غير عمل ذنب من الذنوب، وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور، وارتجاء الرحمة ممن لا يطاع حمق وجهالة، ونفي العلم باعتبار تعلقه التنجيزي كما مر في الإثبات على رأي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 ويجوز أن يكون الكلام كناية عن نفي تحقق ذلك لأن نفي العلم من لوازم نفي التحقق إذ التحقق ملزوم علم الله تعالى، ونفي اللازم لازم نفي الملزوم وكثيرا ما يقال: ما علم الله تعالى في فلان خيرا ويراد ما فيه خير حتى يعلمه، وهل يجري ذلك في نفي علمنا أم لا؟ فيه تردد والذي قطع به صاحب الانتصاف الثاني، وإيثار الكناية على التصريح للمبالغة في تحقيق المعنى المراد- وهو عدم تحقق الجهاد الذي هو سبب للفوز الأعظم منهم- لما أن الكلام عليها كدعوى الشيء ببينة، وفي ذلك رمز أيضا إلى ترك الرياء، وأن المقصود علم الله تعالى لا الناس، وإنما وجه النفي إلى الموصوفين مع أن المنفي هو الوصف الذي هو الجهاد للمبالغة في بيان انتفاء ذلك، وعدم تحققه أصلا وكيف تحقق صفة بدون موصوف، وفي اختيار لَمَّا على لم إشارة إلى أن الجهاد متوقع منهم فيما يستقبل بناء على ما يفهم من كلام سيبويه أن لَمَّا تدل على توقع الفعل المنفي بها، وقد ذكر الزجاج أنه إذا قيل: قد فعل فلان فجوابه- لما يفعل، وإذا قيل: فعل؟ فجوابه لم يفعل، فإذا قيل: لقد فعل، فجوابه ما فعل كأنه قال: والله لقد فعل فقال المجيب: والله ما فعل، وإذا قيل: هو يفعل يريد ما يستقبل، فجوابه لا يفعل، وإذا قيل: سيفعل، فجوابه لن يفعل، فقول أبي حيان: إن القول بأن لَمَّا تدل على توقع الفعل المنفي بها فيما يستقبل لا أعلم أحدا من النحويين ذكره غير متعدّ به، نعم هذا التوقع هنا غير معتبر في تأكيد الإنكار، وقرئ «ويعلم» بفتح الميم على أن أصله يعلمن بنون خفيفة فحذفت في الدرج، وقد أجازوا حذفها إما بشرط ملاقاة ساكن بعدها أو مطلقا، ومن ذلك قوله: إذا قلت قدني قال بالله حلفة ... لتغني عني ذا أنائك أجمعا على رواية فتح اللام وقيل: إن فتح الميم لاتباع اللام ليبقى تفخيم اسم الله عز اسمه، ومِنْكُمْ حال من الَّذِينَ ومن فيه للتبعيض، فيؤذن بأن الجهاد فرض كفاية وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ نصب بإضمار إن، وقيل: بواو الصرف، والكلام على طرز- لا تأكل السمك وتشرب اللبن- أي أم حسبتم أن تدخلوا الجنة، والحال أنه لم يتحقق منكم الجهاد والصبر أي الجمع بينهما، وإيثار الصابرين على الذين صبروا للإيذان بأن المعتبر هو الاستمرار على الصبر وللمحافظة على رؤوس الآي، وقيل: الفعل مجزوم بالعطف على المجزوم قبله وحرك لالتقاء الساكنين بالفتحة للخفة والاتباع، ويؤيد ذلك قراءة الحسن وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ بكسر الميم، وقرئ «ويعلم» بالرفع على أن الواو للاستئناف أو للحال بتقدير وهو يعلم، وصاحب الحال الموصول كأنه قيل: ولما تجاهدوا وأنتم صابرون وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ خطاب لطائفة من المؤمنين لم يشهدوا غزوة بدر لعدم ظنهم الحرب حين خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إليها فلما وقع ما وقع ندموا فكانوا يقولون: ليتنا نقتل كما قتل أصحاب بدر ونستشهد كما استشهدوا فلما أشهدهم الله تعالى أحدا لم يلبث إلا من شاء الله تعالى منهم. فالمراد بالموت هنا الموت في سبيل الله تعالى وهي الشهادة ولا بأس بتمنيها ولا يرد أن في تمني ذلك تمني غلبة الكفار لأن قصد المتمني الوصول إلى نيل كرامة الشهداء لا غير، ولا يذهب إلى ذلك وهمه كما أن من يشرب دواء النصراني مثلا يقصد الشفاء لا نفعه ولا ترويج صناعته، وقد وقع هذا التمني من عبد الله بن رواحة من كبار الصحابة ولم ينكر عليه، ويجوز أن يراد بالموت الحرب فإنها من أسبابه، وبه يشعر كلام الربيع وقتادة فحينئذ المتمني الحرب لا الموت مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ متعلق ب تَمَنَّوْنَ مبين لسبب إقدامهم على التمني أي من قبل أن تشاهدوا وتعرفوا هوله، وقرئ بضم اللام على حذف المضاف إليه ونية معناه وأن تلقوه حينئذ بدل من الموت بدل اشتمال أي كنتم تمنون الموت أن تلقوه من قبل ذلك، وقرئ: «تلاقوه» من المفاعلة التي تكون بين اثنين وما لقيك فقد لقيته، ويجوز أن يكون من باب سافرت والضمير عائد إلى الموت، وقيل: إلى العدو المفهوم من الكلام وليس بشيء فَقَدْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 رَأَيْتُمُوهُ أي ما تمنيتموه من الموت بمشاهدة أسبابه أو أسبابه، والفاء فصيحة كأنه قيل: إن كنتم صادقين في تمنيكم ذلك فقد رأيتموه، وإيثار الرؤية على الملاقاة إما للإشارة إلى انهزامهم أو للمبالغة في مشاهدتهم له كتقييد ذلك بقوله سبحانه وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ لأنه في موضع الحال من ضمير المخاطبين أي رأيتموه معاينين له، وهذا على حد قولك: رأيته وليس في عيني علة أي رأيته رؤية حقيقية لا خفاء فيها ولا شبهة، وقيل: تَنْظُرُونَ بمعنى تتأملون وتتفكرون أي وأنتم تتأملون الحال كيف هي، وقيل: معناه وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ إلى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وعلى كل حال فالمقصود من هذا الكلام عتاب المنهزمين على تمنيهم الشهادة وهم لم يثبتوا حتى يستشهدوا، أو على تمنيهم الحرب وتسببهم لها تم جبنهم وانهزامهم لا على تمني الشهادة نفسها لأن ذلك مما لا عتاب عليه كما وهم وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ روي أنه لما التقى الفئتان يوم أحد وحميت الحرب قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «من يأخذ هذا السيف بحقه ويضرب به العدو حتى ينحني؟ فأخذه أبو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري ثم تعمم بعمامة حمراء وجعل يتبختر ويقول: أنا الذي عاهدني خليلي ... ونحن بالسفح لدى النحيل أن لا أقوم الدهر في الكبول ... أضرب بسيف الله والرسول فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إنها لمشية يبغضها الله تعالى ورسوله إلا في هذا الموضع فجعل لا يلقى أحدا إلا قتله وقاتل علي كرم الله تعالى وجهه قتالا شديدا حتى التوى سيفه وأنزل الله تعالى النصر على المسلمين وأدبر المشركون فلما نظر الرماة إلى القوم قد انكشفوا والمسلمون ينتهبون الغنيمة خالفوا أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا قليلا منهم فانطلقوا إلى العسكر فلما رأى خالد بن الوليد قلة الرماة واشتغال الناس بالغنيمة ورأى ظهورهم خالية صاح في خيله من المشركين وحمل على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم من خلفهم في مائتين وخمسين فارسا ففرقوهم وقتلوا نحوا من ثلاثين رجلا ورمى عبد الله بن قميئة الحارثي رسول الله صلّى الله عليه وسلم بحجر فكسر رباعيته وشج وجهه الكريم وأقبل يريد قتله فذب عنه مصعب بن عمير صاحب الراية رضي الله تعالى عنه حتى قتله ابن قميئة. وقيل: إن الرامي عتبة بن أبي وقاص فرجع وهو يرى أنه قتل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: إني قتلت محمدا وصرخ صارخ لا يدري من هو حتى قيل: إنه إبليس ألا إن محمدا قد قتل فانكفأ الناس وجعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يدعو: إليّ عباد الله فاجتمع إليه ثلاثون رجلا فحموه حتى كشفوا عنه المشركين ورمى سعد بن أبي وقاص حتى اندقت سية قوسه ونثل له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كنانته وكان يقول ارم فداك أبي وأمي وأصيبت يد طلحة بن عبيد الله فيبست وعين قتادة حتى وقعت على وجنته فأعادها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فعادت كأحسن ما كانت فلما انصرف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أدركه أبيّ بن خلف الجمحي وهو يقول: لا نجوت إن نجوت فقال القوم: يا رسول الله ألا يعطف عليه رجل منا، فقال: دعوه حتى إذا دنا منه تناول رسول الله صلّى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة ثم استقبله فطعنه في عنقه وخدشه خدشة فتدهدى من فرسه وهو يخور كما يخور الثور وهو يقول: قتلني محمد وكان أبي قبل ذلك يلقى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيقول: عندي رمكة أعلفها كل يوم فرق ذرة أقتلك عليها ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول له: بل أنا أقتلك إن شاء الله تعالى فاحتمله أصحابه وقالوا: ليس عليك بأس فقال: بلى لو كانت هذه الطعنة بربيعة ومضر لقتلهم أليس قال لي: أقتلك؟ فلو بزق على بعد تلك المقالة قتلني فلم يلبث إلا يوما حتى مات بموضع يقال له سرف. ولما فشا في الناس أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد قتل قال بعض المسلمين: ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبيّ فيأخذ لنا أمانا من أبي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 سفيان، وبعضهم جلسوا وألقوا بأيديهم. وقال أناس من أهل النفاق إن كان محمد قد قتل فالحقوا بدينكم الأول، فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك: إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد لم يقتل وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما قال هؤلاء- يعني المسلمين- وأبرأ إليك عما قال هؤلاء- يعني المنافقين- ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل رضي الله تعالى عنه. وروي أن أول من عرف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كعب بن مالك قال: عرفت عينيه تحت المغفر تزهران فناديت بأعلى صوتي يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأشار إليّ أن اسكت فانحازت إليه طائفة من أصحابه رضي الله تعالى عنهم فلامهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على الفرار فقالوا: يا رسول الله فديناك بآبائنا وأبنائنا أتانا الخبر بأنك قتلت فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين» فأنزل الله تعالى هذه الآية ومُحَمَّدٌ علم لنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم منقول من اسم المفعول من حمد المضاعف لغة سماه به جده عبد المطلب السابع ولادته لموت أبيه قبلها ولما سئل عن ذلك قال لرؤية رآها: رجوت أن يحمد في السماء والأرض، ومعناه قبل النقل من يحمد كثيرا وضده المذمم، وفي الخبر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «ألم تروا كيف صرف الله تعالى عني لعن قريش وشتمهم يشتمون مذمما وأنا محمد» . وقد جمع هذا الاسم الكريم من الأسرار ما لا يحصى حتى قيل: إنه يشير إلى عدة الأنبياء كإشارته إلى المرسلين منهم عليهم الصلاة والسلام وعبر عنه صلى الله تعالى عليه وسلم بهذا الاسم هنا لأنه أول أسمائه وأشهرها وبه صرخ الصارخ، وهو مرفوع على الابتداء وخبره ما بعد إلا ولا عمل- لما- بالاتفاق لانتقاض نفيه بإلا، واختلفوا في القصر هل هو قصر قلب أم قصر إفراد؟ فذهب العلامة الطيبي وجماعة إلى أنه قصر قلب لأنه جعل المخاطبون بسبب ما صدر عنهم من النكوص على أعقابهم عند الإرجاف بقتل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كأنهم اعتقدوا أن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم، ليس حكمه حكم سائر الرسل المتقدمة في وجوب اتباع دينهم بعد موتهم بل حكمه على خلاف حكمهم فأنكر الله تعالى عليهم ذلك وبين أن حكم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حكم من سبق من الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين في أنهم ماتوا وبقي أتباعهم متمسكين بدينهم ثابتين عليه فتكون جملة قَدْ خَلَتْ إلخ صفة لرسول منبئة عن كونه صلى الله تعالى عليه وسلم في شرف الخلو فإن خلو مشاركيه في منصب الرسالة من شواهد خلوه لا محالة كأنه قيل: قد خلت من قبله أمثاله فسيخلو كما خلوا، والقصر منصب على هذه الصفة فلا يرد أنه يلزم من قصر القلب أن يكون المخاطبون منكرين للرسالة لأن ذلك ناشئ من الذهول عن الوصف، وقيل: الجملة في موضع الحال من الضمير في رسول والانصباب هو الانصباب. وذهب صاحب المفتاح إلى أنه قصر إفراد إخراجا للكلام على خلاف مقتضى الظاهر بتنزيل استعظامهم عدم بقائه صلّى الله عليه وسلم منزلة استبعادهم إياه وإنكارهم له حتى كأنهم اعتقدوا فيه وصفين الرسالة والبعد عن الهلاك فقصر على الرسالة نفيا للبعد عن الهلاك، واعترض بأنه يتعين على هذا جعل جملة قَدْ خَلَتْ مستأنفة لبيان أنه صلّى الله عليه وسلم ليس بعيدا عن عدم البقاء كسائر الرسل إذ على اعتبار الوصف لا يكون إلا قصر قلب لانصباب القصر عليه، وكون الجملة مستأنفة بعيد لمخالفته القاعدة في الجمل بعد النكرات، وأجيب بأن ذلك ليس بمتعين لجواز أن تكون صفة أيضا مؤكدة لمعنى القصر متأخرة عنه في التقدير، وقرأ ابن عباس- رسل- بالتنكير أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ الهمزة للإنكار والفاء استئنافية أو لمجرد التعقيب، والانقلاب على الأعقاب في الأصل الرجوع القهقرى، وأريد به الارتداد والرجوع إلى ما كانوا عليه من الكفر في المشهور، والغرض إنكار ارتدادهم عن الدين بخلوه صلّى الله عليه وسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 بموت أو قتل بعد علمهم بخلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكا به، واستشكل بأن القوم لم يرتدوا فكيف عبر بالانقلاب على الأعقاب المتبادر منه ذلك؟ وأجيب بأنه ليس المراد ارتدادا حقيقة وإنما هو تغليظ عليهم فيما كان منهم من الفرار والانكشاف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وإسلامهم إياه للهلك، وقيل: الإنكار هنا بمعنى أنه لم يكن ذلك ولا ينبغي لا إنكار لما وقع، وقيل: هو إخبار عما وقع لأهل الردة بعد موته صلى الله تعالى عليه وسلم وتعريض بما وقع من الهزيمة لشبهه به. وحمل بعضهم الانقلاب هنا على نقص الإيمان لا الكفر بعده احتجاجا بما أخرجه ابن المنذر عن الزهري قال: «لما نزلت هذه الآية لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ [الفتح: 4] قالوا: يا رسول الله قد علمنا أن الإيمان يزداد فهل ينقص؟ قال: إي والذي بعثني بالحق إنه لينقص قالوا: فهل لذلك دلالة في كتاب الله تعالى؟ قال: نعم، ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ والانقلاب نقصان لا كفر ولا يخفى أن هذا الخبر ليس من القوة إلى حيث يحتج به وإني لا أجد عليه طلاوة الأحاديث الصحيحة. وذهب بعضهم إلى أن الفاء معلقة للجملة الشرطية بالجملة التي قبلها على معنى التسبب، والهمزة لإنكار ذلك أي لا ينبغي أن تجعلوا خلو الرسل قبله سببا لانقلابكم على أعقابكم بعد موته أو قتله بل اجعلوه سببا للتمسك بدينه كما هو حكم سائر الأنبياء عليهم السلام ففي انقلابكم على أعقابكم تعكيس لموجب القضية المحققة التي هي كوله رسولا يخلو كما خلت الرسل، وإيراد الموت بكلمة إن مع العلم البتة لتنزيل المخاطبين منزلة المترددين فيه لما ذكر من استعظامهم إياه، قال المولى: وهكذا الحال في سائر الموارد فإن كلمة إن في كلام الله تعالى لا تجري على ظاهرها أصلا ضرورة علمه تعالى بالوقوع أو اللاوقوع بل تحمل على اعتبار حال السامع، أو أمر آخر يناسب المقام، والمراد من- الموت- الموت على الفراش وبالقتل- الموت بواسطة نقض البنية وقدم تقدير الموت مع أن تقدير القتل هو الذي كاد يجر الموت الأحمر لما أن الموت في شرف الوقوع فزجر الناس عن الانقلاب عنده وحملهم على الثبات هناك أهم، ولأن الوصف الجامع في نفس الأمر بينه صلى الله تعالى عليه وسلم وبين الرسل عليهم الصلاة والسلام هو الموت دون القتل خلافا لمن زعمه مستدلا بما ورد من أكلة خيبر، وإن كان قد وقع فيهم قتل وموت وإنما ذكر القتل مع علمه سبحانه أنه لا يقتل لتجويز المخاطبين له وآية وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] على تقدير نزولها قبل أحد يحتمل أنها لم تصل هؤلاء المنهزمين، وبتقدير وصولها احتمال أن لا تحضرهم قائم في مثل ذلك المقام الهائل، وقد غفل عمر رضي الله تعالى عنه عن هذه الآية يوم توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم. فقد روى أبو هريرة أنه رضي الله تعالى عنه قام يومئذ فقال: إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم توفي وإن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والله ما مات ولكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل: قد مات والله ليرجعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كما رجع موسى فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مات، فخرج أبو بكر فقال: على رسلك يا عمر انصت فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس من كان بعيد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله تعالى فإن الله تعالى حي لا يموت، ثم تلا هذه الآية وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ إلى آخرها فو الله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ فأخذها الناس من أبي بكر، وقال عمر: فو الله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى وقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي وعرفت أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد مات، والاعتذار باختصاص فهم آية العصمة بالعلماء من الصحابة وذوي البصيرة منهم مع ظهور معنى اللفظ كما اعتذر به الزمخشري لا يخفى ما فيه، وكون المراد منها العصمة من فتنة الناس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 وإضلالهم لا يخفى بعده لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا يظن به ذلك، وإنما يرد مثله في معرض الإلهاب والتعريض وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ بما فعل من الانقلاب لأنه تعالى لا تجوز عليه المضار شَيْئاً من الضرر وإن قل وإنما يضر نفسه بتعريضها للسخط والعذاب أو بحرمانها مزيد الثواب، ويشير إلى ذلك توجه النفي إلى المفعول فإنه يفيد أنه يضر غير الله تعالى وليس إلا نفسه وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ أي سيثيب الثابتين على دين الإسلام، ووضع الشاكرين موضع الثابتين لأن الثبات عن ذلك ناشيء عن تيقن حقيته وذلك شكر له، وفيه إيماء إلى كفران المنقلبين، وإلى تفسير الشاكرين بالثابتين ذهب علي كرم الله تعالى وجهه وقد رواه عنه ابن جرير، وكان يقول: الثابتون هم أبو بكر وأصحابه وأبو بكر رضي الله تعالى عنه أمير الشاكرين، وعن ابن عباس أن المراد بهم الطائعون من المهاجرين والأنصار، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار للإعلان بمزيد الاعتناء بشأن جزائهم واتصال هذا بما قبله اتصال الوعد بالوعيد. وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ استئناف سيق للحض على الجهاد واللوم على تركه خشية القتل مع قطع عذر المنهزمين خشية ذلك بالكلية. ويجوز أن يكون تسلية عما لحق الناس بموت النبي صلّى الله عليه وسلم وإشارة إلى أنه عليه السلام كغيره لا يموت إلا بإذن الله تعالى فلا عذر لأحد بترك دينه بعد موته. والمراد بالنفس الجنس وتخصيصها بالنبي عليه الصلاة والسلام كما روي عن ابن إسحاق ليس بشيء، والموت هنا أعم من الموت حتف الأنف، والموت بالقتل كما سنحققه، وكانَ ناقصة اسمها أَنْ تَمُوتَ لِنَفْسٍ متعلق بمحذوف وقع خبرا لها، والاستثناء مفرغ من أعم الأسباب. وذهب أبو البقاء إلى أن بإذن الله خبر كانَ ولِنَفْسٍ متعلق بها واللام للتبيين، ونقل عن بعضهم أن الجار متعلق بمحذوف تقديره الموت لنفس، وأَنْ تَمُوتَ تبيين للمحذوف، وحكي عن الزجاج وبعض عن الأخفش أن التقدير- وما كان نفس لتموت- ثم قدمت اللام وكل هذه الأقوال أوهن من الوهن لا سيما الأخير، والمعنى ما كان الموت حاصلا لنفس من النفوس مطلقا بسبب من الأسباب إلا بمشيئة الله تعالى وتيسيره. والإذن- مجاز عن ذلك لكونه من لوازمه، وظاهر التركيب يدل على أن الموت من الأفعال التي يقدم عليها اختيارا فقد شاع استعمال ما كان لزيد أن يفعل كذا فيما إذا كان ذلك الفعل اختياريا لكن الظاهر هنا متروك بأن يجعل ذلك من باب التمثيل بأن صور الموت بالنسبة إلى النفوس بصورة الفعل الاختياري الذي لا يقدم عليه إلا بالإذن. والمراد عدم القدرة عليه أو بتنزيل إقدام النفوس على مبادئه كالقتال مثلا منزلة الإقدام عليه نفسه للمبالغة في تحقيق المرام فإن موتها لما استحال وقوعه عند إقدامها عليه أو على مبادئه وسعيها في إيقاعه فلأن يستحيل عند عدم ذلك أولى وأظهر، ويجوز على هذا أن يبقى الأذن على حقيقته ومفعوله مقدر للعلم به، والمراد بإذنه تعالى إذنه لملك الموت فإنه الذي يقبض روح كل ذي روح بشرا كان أولا شهيدا كان أو غير شهيد برا أو بحرا حتى قيل: إنه يقبض روح نفسه، واستثنى بعضهم أرواح شهداء البحر فإن الله تعالى هو الذي يقبضها بلا واسطة واستدل بحديث جويبر- وهو ضعيف جدا- وفيه من طريق الضحاك انقطاع، وذهب المعتزلة إلى أن ملك الموت إنما يقبض أرواح الثقلين دون غيرهم، وقال بعض المبتدعة: إنه يقبض الجميع سوى أرواح البهائم فإن أعوانه هم الذين يقبضونها ولا تعارض بين اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها [الزمر: 42] ويَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السجدة: 11] تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا [الأنعام: 61] لأن إسناد ذلك له تعالى بطريق الخلق والإيجاد الحقيقي، وإلى الملك لأنه المباشر له، وإلى الرسل لأنهم أعوانه المعالجون للنزع من العصب والعظم واللحم والعروق كِتاباً مصدر مؤكد لعامله المستفاد من الجملة السابقة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 والمعنى كتب ذلك الموت المأذون فيه كتابا مُؤَجَّلًا أي موقتا بوقت معلوم لا يتقدم ولا يتأخر، وقيل: حكما لازما مبرما وهو صفة كِتاباً ولا يضر التوصيف بكون المصدر مؤكدا بناء على أنه معلوم مما سبق وليس كل وصف يخرج عن التأكيد، ولك- لما في ذلك من الخفاء- أن تجعل المصدر لوصفه مبينا للنوع وهو أولى من جعله مؤكدا، وجعل مُؤَجَّلًا حالا من الموت لا صفة له لبعد ذلك غاية البعد فتدبر. وقرئ «موجلا» بالواو بدل الهمزة على قياس التخفيف، وظاهر الآية يؤيد مذهب أهل السنة القائلين إن المقتول ميت بأجله أي بوقته المقدر له وأنه لو لم يقتل لجاز أن يموت في ذلك الوقت وأن لا يموت من غير قطع بامتداد العمر ولا بالموت بدل القتل إذ على تقدير عدم القتل لا قطع بوجود الأجل وعدمه فلا قطع بالموت ولا بالحياة، وخالف في ذلك المعتزلة فذهب الكعبي منهم إلى أن المقتول ليس بميت لأن القتل فعل العبد والموت فعل الله سبحانه أي مفعوله وأثر صفته، وأن للمقتول أجلين: أحدهما القتل والآخر الموت وأنه لو لم يقتل لعاش إلى أجله الذي هو الموت، وذهب أو الهذيل إلى أن المقتول لو لم يقتل لمات البتة في ذلك الوقت. وذهب الجمهور منهم إلى أن القاتل قد قطع على المقتول أجله وأنه لو لم يقتل لعاش إلى أمد هو أجله الذي علم الله تعالى موته فيه لولا القتل، وليس النزاع بين الأصحاب والجمهور لفظيا كما رآه الأستاذ وكثير من المحققين حيث قالوا: إنه إذا كان الأجل زمان بطلان الحياة في علم الله تعالى لكان المقتول ميتا بأجله بلا خلاف من المعتزلة في ذلك إذ هم لا ينكرون كون المقتول ميتا بالأجل الذي علمه الله تعالى وهو الأجل بسبب القتل، وإن قيد بطلان الحياة بأن لا يترتب على فعل من العبد لم يكن كذلك بلا خلاف من الأصحاب فيه إذ هم يقولون بعدم كون المقتول ميتا بالأجل غير المرتب على فعل العبد لأنا نقول حاصل النزاع أن المراد بأجل المقتول المضاف إليه زمان بطلان حياته بحيث لا محيص عنه ولا تقدم ولا تأخر على ما يشير إليه قوله تعالى: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [يونس: 49] ويرجع الخلاف إلى أنه هل تحقق ذلك في حق المقتول أم المعلوم في حقه أنه إن قتل مات وإن لم يقتل يعش كذا في شرح المقاصد، ولعله جواب باختيار الشق الأول، وهو أن المراد زمان بطلان الحياة في علم الله تعالى لكنه لا مطلقا بل على ما علمه تعالى وقدره بطريق القطع وحينئذ يصلح محلا للخلاف لأنه لا يلزم من عدم تحقق ذلك في المقتول كما يقوله المعتزلة تخلف العلم عن المعلوم لجواز أن يعلم تقدم موته بالقتل مع تأخر الأجل الذي لا يمكن تخلفه عنه، وقد يقال: إنه يمكن أن يكون جوابا باختيار شق ثالث وهو المقدر بطريق القطع إذ لا تعرض في تقرير الجواب للعلم والمقدر أخص من الأجل المعلوم مطلقا والفرق بينه وبين كونه جواب باختيار الأول لكن لا مطلقا اعتبار قيد العلم في الأجل الذي هو محل النزاع على تقدير اختيار الأول وعدم اعتباره فيه على اختيار الثالث وإن كان معلوما في الواقع أيضا فافهم، ثم إن أبا الحسين ومن تابعه يدعون الضرورة في هذه المسألة وكذا الجمهور في رأي البعض، وعند البعض الآخر هي عندهم استدلالية. واحتجوا على مذهبهم بالأحاديث الواردة في أن بعض الطاعات تزيد في العمر وبأنه لو كان المقتول ميتا بأجله لم يستحق القاتل ذما ولا عقابا ولم يتوجه عليه قصاص ولا غرم دية ولا قيمة في ذبح شاة الغير لأنه لم يقطع أجلا ولم يحدث بفعله موتا، وبأنه ربما يقتل في الملحمة والحرب ألوف تقضي العادة بامتناع اتفاق موتهم في ذلك الوقت بآجالهم، وتمسك أبو الهذيل بأنه لو لم يمت المقتول لكان القاتل قاطعا لأجل قدره الله تعالى ومغيرا لأمر علمه وهو محال، والكعبي بقوله تعالى: أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ حيث جعل القتل قسيما للموت بناء على أن المراد بالقتل المقتولية وأنها نفس بطلان الحياة وأن الموت خاص بما لا يكون على وجه القتل ومتى كان الموت غير القتل كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 للمقتول أجلان: أحدهما القتل، والآخر الموت «وأجيب» عن متمسك الأولين الأول بأن تلك الأحاديث أخبار آحاد فلا تعارض الآيات القطعية كقوله تعالى: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [يونس: 49] أو بأن المراد من أن الطاعة تزيد في العمر أنها تزيد فيما هو المقصود الأهم منه وهو اكتساب الكمالات والخيرات والبركات التي بها تستكمل النفوس الإنسانية وتفوز بالسعادة الأبدية، أو بأن العمر غير الأجل لأنه لغة الوقت، وأجل الشيء يقال لجميع مدته ولآخرها كما يقال أجل الدين شهران أو آخر شهر كذا، ثم شاع استعماله في آخر مدة الحياة، ومن هنا يفسر بالوقت الذي علم الله تعالى بطلان حياة الحيوان عنده على ما قررناه. والعمر لغة مدة الحياة- كعمر زيد- كذا ومدة البقاء- كعمر الدنيا- وكثيرا ما يتجوز به عن مدة بقاء ذكر الناس الشخص للخير بعد موته، ومنه قولهم: ذكر الفتى عمره الثاني ومن هنا يقال لمن مات وأعقب ذكرا حسنا وأثرا جميلا: ما مات فلعله أراد صلى الله تعالى عليه وسلم أن تلك الطاعات تزيد في هذا العمر لما أنها تكون سببا للذكر الجميل، وأكثر ما ورد ذلك في الصدقة وصلة الرحم وكونهما مما يترتب عليهما ثناء الناس مما لا شبهة فيه قيل: ولهذا لم يقل صلى الله تعالى عليه وسلم في ذلك إنه يزيد في الأجل، أو بأن الله تعالى كان يعلم أن هذا المطيع لو لم يفعل هذه الطاعة لكان عمره أربعين مثلا لكنه علم أنه يفعلها ويكون عمره سبعين سنة فنسبة هذه الزيادة إلى تلك الطاعة بناء على علم الله تعالى أنه لولاها لما كانت هذه الزيادة، ومحصل هذا أنه سبحانه قدر عمره سبعين بحيث لا يتصور التقدم والتأخر عنه لعلمه بأن طاعته تصير سببا لثلاثين فتصير مع أربعين من غير الطاعة سبعين، وليس محصل ذلك أنه تعالى قدره سبعين على تقدير وأربعين على تقدير حتى يلزم تعدد الأجل والأصحاب لا يقولون به. والثاني بأن استحقاق الذم وللعقاب وتوجه القصاص أو غرم الدية مثلا على القاتل ليس بما يثبت في المحل من الموت بل هو بما اكتسبه وارتكبه من الإقدام على الفعل المنهي عنه الذي يخلق الله تعالى به الموت كما في سائر الأسباب والمسببات لا سيما عند ظهور أمارات البقاء وعدم ما يظن معه حضور الأجل حتى لو علم موت شاة بإخبار صادق معصوم، أو ظهرت الأمارات المفيدة لليقين لم يضمن عند بعض الفقهاء، والثالث بأن العادة منقوضة أيضا بحصول موت ألوف في وقت واحد من غير قتال ولا محاربة كما في أيام الوباء مثلا على أن التمسك بمثل هذا الدليل في مثل هذا المطلب في غاية السقوط، وأجيب عن متمسك أبي الهذيل بأن عدم القتل إنما يتصور على تقدير علم الله تعالى بأنه لا يقتل وحينئذ لا نسلم لزوم المحال وبأنه لا استحالة في قطع الأجل المقدر الثابت لولا القتل لأنه تقرير للمعلوم لا تغيير له، وعن متمسك الكعبي المخالف للمعتزلة والأشاعرة في إثبات الأجلين بأن القتل قائم بالقاتل وحال له لا للمقتول وإنما حاله الموت وانزهاق الروح الذي هو بإيجاد الله تعالى وإذنه ومشيئته وإرادة المقتولية المتولدة عن قتل القاتل بالقتل وهي حال المقتول إذ هي بطلان الحياة والتخصيص بما لا يكون على وجه القتل على ما يشعر به أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ خلاف مذهبه من إنكار القضاء والقدر في أفعال العباد إذ بطلان الحياة المتولد من قتل القاتل أجل قدره الله تعالى وعينه وحدده، معنى الآية- كما أشرنا إليه- أفإن مات حتف أنفه بلا سبب، أو مات بسبب القتل، فتدل على أن مجرد بطلان الحياة موت ومن هنا قيل: إن في المقتول معنيين قتلا هو من فعل الفاعل وموتا هو من الله تعالى وحده، وذهبت الفلاسفة إلى مثل ما ذهب إليه الكعبي من تعدد الأجل فقالوا: إن للحيوان أجلا طبيعيا بتحلل رطوبته وانطفاء حرارته الغريزيتين وآجالا اخترامية تتعدد بتعدد أسباب لا تحصى من الأمراض والآفات، وبيانه أن الجواهر التي غلبت عليها الأجزاء الرطبة ركبت مع الحرارة الغريزية فصارت لها بمنزلة الدهن للفتيلة المشعلة وكلما انتقصت تلك الرطوبات تبعتها الحرارة الغريزية في ذلك حتى إذا انتهت في الانتقاص وتزايد الجفاف انطفأت الحرارة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 كانطفاء السراج عند نفاد دهنه فحصل الموت الطبيعي وهو مختلف بحسب اختلاف الأمزجة وهو في الإنسان في الأغلب تمام مائة وعشرين سنة. وقد يعرض من الآفات مثل البرد المجمد والحرب المذوب وأنواع السموم وأنواع تفرق الاتصال وسوء المزاج ما يفسد البدن ويخرجه عن صلاحه لقبول الحياة إذ شرطها اعتدال المزاج فيهلك بسببه وهذا هو الأجل الاخترامي، ويردد ذلك أنه مبني على قواعدهم من تأثير الطبيعة والمزاج وهو باطل عندنا إذ لا تأثير إلا له سبحانه وتلك الأمور عندنا أسباب عادية لا عقلية كما زعموا، وادعى بعض المحققين أن النزاع بيننا وبين الفلاسفة كالنزاع بيننا وبين المعتزلة- على رأي الأستاذ- لفظي إذ هم لا ينكرون القضاء والقدر فالوقت الذي علم الله تعالى بطلان الحياة فيه بأي سبب كان واحد عندهم أيضا، وما ذكروه من الأجل الطبيعي نحن لا ننكره أيضا لكنهم يجعلون اعتدال المزاج واستقامة الحرارة والرطوبة ونحو ذلك شروطا حقيقية عقلية لبقاء الحياة ونحن نجعلها أسبابا عادية وذلك بحث آخر وسيأتي تتمة الكلام على هذه المسألة إذ الأمور مرهونة لأوقاتها ولكل أجل كتاب. وَمَنْ يُرِدْ أي بعمله كالجهاد ثَوابَ الدُّنْيا كالغنيمة نُؤْتِهِ بنون العظمة على طريق الالتفات مِنْها أي شيئا من ثوابها إن شئنا فهو على حدّ قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء: 18] وهذا تعريض بمن شغلتهم الغنائم يوم أحد عن مصلحة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقد تقدم تفصيل ذلك. وَمَنْ يُرِدْ أي بعمله كالجهاد أيضا والذب عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. ثَوابَ الْآخِرَةِ مما أعد الله تعالى لعباده فيها من النعيم نُؤْتِهِ مِنْها أي من ثوابها ما نشاء حسبما جرى به قلم الوعد الكريم، وهذا إشارة إلى مدح الثابتين يومئذ مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، والآية وإن نزلت في الجهاد خاصة لكنها عامة في جميع الأعمال وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ يحتمل أنه أريد بهم المريدون للآخرة، ويحتمل أنه أريد بهم جنس الشاكرين وهم داخلون فيه دخولا أوليا. والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله ووعد بالمزيد عليه وفي تصديرها بالسين وإبهام الجزاء من التأكيد والدلالة على فخامة شأن الجزاء وكونه بحيث يضيق عنه نطاق البيان ما لا يخفى، وبذلك جبر اتحاد العبادتين في شأن الفريقين واتضح الفرق لذي عينين، وقرئت الأفعال الثلاثة بالياء. هذا (ومن باب الإشارة) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً إما إشارة إلى الأمر بالتوكل على الله تعالى في طلب الرزق والانقطاع إليه، أو رمز إلى الأمر بالإحسان إلى عباد الله المحتاجين من غير طلب نفع منهم، فقد ورد في بعض الآثار أن القرض أفضل من الصدقة، أو إيماء إلى عدم طلب الأجر على الأعمال بأن يفعلها محضا لإظهار العبودية وَاتَّقُوا اللَّهَ من أكل الربا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي تفوزون بالحق وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ أي اتقوني في النار لأن إحراقها وعذابها مني، وهذا سرّ عين الجمع قالوا: ويرجع في الحقيقة إلى تجلي القهر وهو بظاهره تخويف للعوام والتخويف الأول للخواص، وقليل ما هم وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وهي ستر أفعالكم التي هي حجابكم الأعظم عن رؤية الحق وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وهي جنة توحيد الأفعال وهو توحيد عالم الملك، ولذا ذكر سبحانه السموات والأرض وذكر العرض دون الطول لأن الأفعال باعتبار السلسلة العرضية وهي توقف كل فعل على فعل آخر تنحصر في عالم الملك الذي تصل إليه أفهام الناس ويقدرونه، وأما باعتبار الطول فلا تنحصر فيه ولا يقدر قدرها إذ الفعل مظهر الوصف، والوصف مظهر الذات، والذات لا نهاية لها ولا حد وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ فالمحجوبون عن الذات والصفات لا يرون إلا هذه الجنة، وأما البارزون لله الواحد القهار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 فعرض جنتهم عين طولها ولا حدّ لطولها فلا يقدر قدرها طولا وعرضا أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ حجب أفعالهم وترك نسبة الأفعال إلى غير الحق جل جلاله، ويحتمل أنه سبحانه دعا خلقه على اختلاف مراتبهم إلى فعل ما يؤدي إلى المغفرة على اختلاف مراتبها فإن الذنب مختلف وذنب المعصوم قلة معرفته بربه بالنظر إلى عظمة جماله وجلاله في نفس الأمر. وفي الخبر عن سيد العارفين صلى الله تعالى عليه وسلم «سبحانك ما عرفناك حق معرفتك» فما عرفه العارفون من حيث هو وإنما عرفوه من حيث هم وفرق بين المعرفتين، ولهذا قيل: ما عرف الله تعالى إلا الله تعالى ودعاهم أيضا إلى ما يجرّهم إلى الجنة، والخطاب بذلك إن كان للعارفين فهو دعاء إلى عين الجمع ليتجلى لهم بالوسائط لبقائهم في المعرفة وفي الحقيقة معرفته قربته وجنته مشاهدته، وفي حقيقة الحقيقة هي الذات الجامع التي لا يصل إليها الأغيار، ومن هنا قيل: ليس في الجنة إلا الله تعالى وإن كان الخطاب بالنظر إلى آحاد المؤمنين فالمراد بها أنواع التجليات الجمالية أو ظاهرها الذي أفصح به لسان الشريعة ودعاؤهم إليه من باب التربية وجلب النفوس البشرية التي لم تفطم بعد من رضع ثدي اللذائذ إلى ما يرغبها في كسب الكمالات الإنسانية والترقي إلى ذروة المعارج الإلهية الذين ينفقون نفائس نفوسهم لمولاهم في السراء والضراء في حالتي الجمال والجلال، ويحتمل أن يراد الذين لا تمنعهم الأحوال المتضادة عن الإنفاق فيما يرضي الله تعالى لصحة توكلهم عليه سبحانه برؤية جميع الأفعال منه وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ الذي يعرض للإنسان بحسب الطبيعة البشرية وكظمهم له قد يكون بالشدّ عليه بوكاء التسليم والرضا وذلك بالنظر لمن هو في مقام جنة الصفات، وأما من دونهم فكظمهم دون هذا الكظم، وسبب الكظم أنهم يرون الجناية عليهم فعل الله تعالى وليس للخلق مدخل فيها وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ إما لأنهم في مقام توحيد الأفعال أو لأنهم في مقام توحيد الصفات وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ حسب مراتبهم في الإحسان وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أي كبيرة من الكبائر وهي رؤية أفعالهم المحرمة عليهم تحريم رؤية الأجنبيات بشهوة أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بنقصهم حقوقها والتثبط عن تكميلها ذَكَرُوا اللَّهَ أي تذكروا عظمته وعلموا أنه لا فاعل في الحقيقة سواه فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ أي طلبوا ستر أفعالهم عنهم بالتبري عن الحول والقوة إلا بالله وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ وهي رؤية الأفعال، أو النظر إلى سائر الأغيار إِلَّا اللَّهُ وهو الملك العظيم الذي لا يتعاظمه شيء وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا في غفلتهم ونقص حق نفوسهم وَهُمْ يَعْلَمُونَ حقيقة الأمر وأن لا فعل لغيره أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وهو ستره لوجودهم بوجوده وترقيهم من مقام توحيد الأفعال إلى ما فوقه وَجَنَّاتٌ أي أشياء خفية وهي جنات الغيب وبساتين المشاهدة والمداناة التي هي عيون صفات الذات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي تجري منها أنهار الأوصاف الأزلية خالِدِينَ فِيها بلا مكث ولا قطع، ولا خطر الزمان ولا حجب المكان ولا تغير وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ومنهم الواقفون بشرط الوفاء في العشق على الحضرة القديمة بلا نقض للعهود ولا سهو في الشهود قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ بطشات ووقائع في الذين كذبوا الأنبياء في دعائهم إلى التوحيد فَسِيرُوا بأفكاركم فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا وتأملوا في آثارها لتعلموا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ أي آخر أمرهم ونهايته التي استدعاها التكذيب، ويحتمل أن يكون هذا أمرا للنفوس بأن تنظر إلى آثار القوى النفسانية التي في أرض الطبيعة لتعلم ماذا عراها وكيف انتهى حالها فلعلها ترقى بسبب ذلك عن حضيض اللحوق بها هذا أي كلام الله تعالى بَيانٌ لِلنَّاسِ يبين لهم حقائق أمور الكونين وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ يتوصل به إلى الحضرة الإلهية لِلْمُتَّقِينَ وهم أهل الله تعالى وخاصته. واختلف الحال لاختلاف استعداد المستمعين للكلام إذ منهم قوم يسمعونه بأسماع العقول، ومنهم قوم يسمعونه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 بأسماع الأسرار، وحظ الأولين منه الامتثال والاعتبار، وحظ الآخرين مع ذلك الكشف وملاحظة الأنوار وقد تجلى الحق فيه لخواص عباده ومقربي أهل اصطفائه فشاهدوا أنوارا تجلى وصفة قديمة وراء عالم الحروف تتلى وَلا تَهِنُوا أي لا تضعفوا في الجهاد وَلا تَحْزَنُوا على ما فاتكم من الفتح ونالكم من قتل الإخوان وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ في الرتبة إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي موحدين حيث إن الموحد يرى الكل من مولاه فأقل درجاته الصبر إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ولم يبالوا مع أنهم دونكم وَتِلْكَ الْأَيَّامُ أي الوقائع نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ فيوم لطائفة وآخر لأخرى وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا أي ليظهر علمه التفصيلي التابع لوقوع المعلوم وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وهم الذين يشهدون الحق فيذهلون عن أنفسهم وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ أي الذين ظلموا أنفسهم وأضاعوا حقها ولم يكملوا نشأتها وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا أي ليخلصهم من الذنوب والغواشي التي تبعدهم من الله تعالى بالعقوبة والبلية وَيَمْحَقَ أي يهلك الْكافِرِينَ بنار أنانيتهم أَمْ حَسِبْتُمْ أن تدخلوا الجنة أي تلجوا عالم القدس وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ أي ولم يظهر منكم مجاهدات تورث المشاهدات وصبر على تزكية النفوس وتصفية القلوب على وفق الشريعة وقانون الطريقة ليتجلى للأرواح أنوار الحقيقة وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ أي موت النفوس عن صفاتها مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ بالمجاهدات والرياضات فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ برؤية أسبابه وهي الحرب مع أعداء الله تعالى وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ أي تعلمون أن ذلك الجهاد أحد أسباب موت النفس عن صفاتها، ويحتمل أن يقال: إن الموقن إذا لم يكن يقينه ملكة تمنى أمورا وادعى أحوالا حتى إذا امتحن ظهر منه ما يخالف دعواه وينافي تمنيه، ومن هنا قيل: وإذا ما خلا الجبان بأرض ... طلب الطعن وحده والنزالا ومتى رسخ ذلك اليقين وتمكن وصار ملكة ومقاما ولم يبق حالا لم يختلف الأمر عليه عند الامتحان، والآية تشير إلى توبيخ المنهزمين بأن يقينهم كان حالا ولم يكن مقاما وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أي أنه بشر كسائر إخوانه من المرسلين فكما خلوا من قبله سيخلو هو من بعدهم أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ورجعتم القهقرى، والإشارة في ذلك إلى أنه تعالى عاتب من تزلزل لذهاب الواسطة العظمى عن البين وهو مناف لمشاهدة الحق ومعاينته، ولهذا قال الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله تعالى فإن الله تعالى حي لا يموت وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً لفنائه الذاتي وَسَيَجْزِي اللَّهُ بالإيمان الحقيقي الشَّاكِرِينَ بالإيمان التقليدي بأداء حقوقه من الائتمار بأوامر الشرع والانتهاء عن نواهيه وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ هذا الموت المعلوم، أو الموت عن أوصافها الدنية وأخلاقها الردية إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ومشيئته، أو جذبه بإشراق نوره وَمَنْ يُرِدْ بمقتضى استعداده ثَوابَ الدُّنْيا جزاء لعمله نُؤْتِهِ مِنْها حسبما تقتضيه الحكمة وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ جزاء لعمله نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ولعلهم الذين لم يريدوا الثوابين ولم يكن لهم غرض سوى العبودية، وأبهم جزاءهم للإشارة إلى أنه أمر وراء العبارة- ولعله تجلى الحق لهم- وهذا غاية متمنى المحبين ونهاية مطلب السالكين، نسأل الله تعالى رضاه وتوفيقه وَكَأَيِّنْ كلام مبتدأ سيق توبيخا للمنهزمين أيضا حيث لم يستنوا بسنن الربانيين المجاهدين مع الرسل عليهم الصلاة والسلام مع أنهم أولى بذلك حيث كانوا خير أمة أخرجت للناس. وقد اختلف في هذه الكلمة فقيل: إنها بسيطة وضعت كذلك ابتداء والنون أصلية، وإليه ذهب ابن حيان. وغيره، وعليه فالأمر ظاهر موافق للرسم، وقيل وهو المشهور: إنها مركبة من- أي- المنونة وكاف التشبيه، واختلف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 في- أي- هذه فقيل: هي أي التي في قولهم: أي الرجال، وقال ابن جني: إنها مصدر أوى يأوي إذا انضم واجتمع وأصله أوى فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت وأدغمت مثل- طي وشي- وحدث فيها بعد التركيب معنى التكثير المفهوم من كم كما حدث في كذا بعد التركيب معنى آخر- فكم وكأين- بمعنى واحد قالوا: وتشاركها في خمسة أمور: الإبهام والافتقار إلى التمييز، والبناء، ولزوم التصدير وإفادة التكثير وهو الغالب والاستفهام وهو نادر، ولم يثبته إلا ابن قتيبة، وابن عصفور، وابن مالك، واستدل عليه بقول أبيّ بن كعب لابن مسعود رضي الله تعالى عنهما: كائن تقرأ سورة الأحزاب آية فقال: ثلاثا وسبعين، وتخالفها في خمسة أمور أيضا، أحدها أنها مركبة في المشهور وكم بسيطة فيه خلافا لمن زعم أنها مركبة من الكاف وما الاستفهامية ثم حذفت ألفها لدخول الجار وسكنت للتخفيف لثقل الكلمة بالتركيب، والثاني أن مميزها مجرور بمن غالبا حتى زعم ابن عصفور لزوم ذلك ويرده نص سيبويه على عدم اللزوم، ومن ذلك قوله: اطرد اليأس بالرجاء «فكائن ... ألما حم يسره بعد عسره» والثالث أنها لا تقع استفهامية عند الجمهور، والرابع أنها لا تقع مجرورة خلافا لابن قتيبة وابن عصفور أجازا بكائن تبيع الثوب، والخامس أن خبرها لا يقع مفردا، وقالوا: إن بينها وبين- كذا- موافقة ومخالفة أيضا فتوافقها- كذا- في أربعة أمور: التركيب والبناء والإبهام والافتقار إلى التمييز، وتخالفها في ثلاثة أمور: الأول أنها ليس لها الصدر تقول: قبضت كذا وكذا درهما، الثاني أن تمييزها واجب النصب فلا يجوز جره بمن اتفاقا ولا بالإضافة خلافا للكوفيين أجازوا في غير تكرار ولا عطف أن يقال: كذا ثوب وكذا أثواب قياسا على العدد الصريح، ولهذا قال فقهاؤهم: إنه يلزم بقول القائل له عندي كذا درهم مائة، وبقوله: كذا دراهم ثلاثة، وبقوله: كذا كذا درهما أحد عشر، وبقوله: كذا درهما عشرون، وبقوله: كذا وكذا درهما أحد وعشرون حملا على المحقق من نظائرهن من العدد الصريح ووافقهم على هذا التفصيل- غير مسألتي الإضافة- المبرد والأخفش والسيرافي وابن عصفور، ووهم ابن السيد في نقل الإجماع على إجازة ما أجازه المبرد ومن ذكر معه، الثالث أنها لا تستعمل غالبا إلا معطوفا عليها كقوله: عد النفس نعمى بعد بؤسك ذاكرا ... «كذا وكذا لطفا به نسي الجهد» وزعم ابن خروف أنهم لم يقولوا كذا درهما، وذكر ابن مالك أنه مسموع لكنه قليل قاله ابن هشام، ثم إن إثبات تنوين كَأَيِّنْ على القول المشهور في الوقف والخط على خلاف القياس لما أنه نسخ أصلها، وفيه لغات وكلها قد قرئ به: أحدها كَأَيِّنْ بالتشديد على الأصل وهي اللغة المشهورة، وبها قرأ الجمهور، والثانية- كائن- بألف بعدها همزة مكسورة من غير ياء على وزن كاعن كاسم الفاعل، وبها قرأ ابن كثير ومن ذلك قوله: «وكائن» لنا فضلا عليكم ومنة ... قديما ولا تدرون ما من منعم واختلف في توجيهها فعن المبرد أنها اسم فاعل من كان يكون وهو بعيد الصحة إذ لا وجه لبنائها حينئذ ولا لإفادتها التكثير، وقيل: أصلها المشددة فقدمت الياء المشددة على الهمزة وصار- كيئن- بكاف وياء مفتوحتين وهمزة مكسورة ونون ووزنه كعلف، ونظير هذا التصرف في المفرد تصرفهم في المركب كما ورد في لغة نادرة رعملي بتقديم الراء في لعمري ثم حذفت الياء الأولى للتخفيف فقلبت الثانية ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها أو حذفت الياء الثانية لثقلها بالحركة والتضعيف وقلبت الياء الساكنة ألفا كما في آية، ونظيره في حذف إحدى الياءين وقلب الأخرى ألفا طائي في النسبة إلى طيئ اسم قبيلة فإن أصله طييء بياءين مشددتين بينهما همزة فحذفت إحدى الياءين وقلبت الأخرى، والثالثة- كأي- بياء بعد الهمزة، وبها قرأ ابن محيصن، ووجهها أنها حذفت الياء الثانية وسكنت الهمزة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 لاختلاط الكلمتين وجعلهما كالكلمة الواحدة كما سكنوا الهاء في لهو وفهو، وحركت الياء لسكون ما قبلها، والرابعة كيئن- بياء ساكنة بعدها همزة مكسورة والخامسة- كئن- بكاف مفتوحة وهمزة مكسورة ونون، ووزنه كع، وورد ذلك في قوله: «كئن» من صديق خلته صادق الإخا ... أبان اختباري إنه لمداهن ووجهه أنه حذفت إحدى الياءين ثم حذفت الأخرى للتنوين أو حذفتا دفعة واحدة، واحتمل ذلك لما امتزج الحرفان والكاف لا متعلق لها لخروجها عن معناها، ومن قال به كالحوفي فقد تعسف، وموضعهما رفع بالابتداء، وقوله تعالى: مِنْ نَبِيٍّ تمييز له كتمييزكم، وقد تقدم آنفا الكلام في ذلك، ولعل المراد من النبي هنا الرسول وبه صرح الطبرسي قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ أي جموع كثيرة، وهو التفسير المشهور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، واستشهد له- كما رواه ابن الأنباري حين سأله نافع بن الأزرق- بقول حسان: وإذا معشر تجافوا عن القص ... د «أملنا عليهم ربّا» وعليه فهو منسوب إلى ربة بكسر الراء وكون الضم فيها لغة غير متحقق- وهي الجماعة- للمبالغة وخصها الضحاك بألف، وأخرج سعيد بن منصور عن الحسن أنهم العلماء الفقهاء، وأخرجه ابن جبير عن ابن عباس أيضا- وعليه فهو منسوب إلى الرب- كرباني على خلاف القياس كقراءة الضم، والموافق له الفتح- وبه قرئ- وقال ابن زيد: الرّبيون هم الأتباع والربانيون الولاة، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب «قتل» - بالبناء للمفعول، وفي خبر المبتدأ أوجه: أحدها أنه الفعل مع الضمير المستتر فيه الراجع إلى كَأَيِّنْ أو إلى نَبِيٍّ وحينئذ- فمعه ربيون- جملة حالية من الضمير، أو من نَبِيٍّ لتخصيصه معنى، أو مَعَهُ حال ورِبِّيُّونَ فاعله، وثانيها أنه جملة مَعَهُ رِبِّيُّونَ فحينئذ تكون جملة الفعل- مع- مرفوعه صفة لنبي، وثالثها أنه محذوف وتقديره مضى ونحوه، وحينئذ يجوز أن يكون الفعل صفة لنبي، ومَعَهُ رِبِّيُّونَ حالا على ما تقدم، ويجوز أن يكون الفعل مسندا لربيون فلا ضمير فيه والجملة صفة لنبي، ورابعها أن يكون رِبِّيُّونَ مرفوعا بالفعل فلا ضمير، والجملة هي الخبر. وقرئ- «قتل» - بالتشديد قال ابن جني: وحينئذ فلا ضمير في الفعل لما في التضعيف من الدلالة على التكثير وهو ينافي إسناده إلى الواحد، وأجيب بأنه لا يمتنع أن يكون فيه ضمير الأول لأنه في معنى الجماعة. واعترض بأنه خلاف الظاهر، ومن هنا قيل: إن هذه القراءة تؤيد إسناد- قتل- إلى- الربيين- ويؤيدها أيضا ما أخرجه ابن المنذر عن ابن جبير أنه كان يقول: ما سمعنا قط أن نبيا قتل في القتال، وقول الحسن وجماعة: لم يقتل نبي في الحرب قط ثم إن من ادعى إسناد القتل إلى النبي وأنه في الحرب أيضا على ما يشعر به المقام حمل النصرة الموعود بها في قوله تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا [غافر: 51] على النصرة بإعلاء الكلمة ونحوه لا على الأعداء مطلقا لئلا تتنافى الآيتان، وهذا أحد أجوبة في هذا المقام تقدمت الإشارة إليها فتذكر، والتنوين في نَبِيٍّ للتعظيم. وزعم الأجهوري أنه للتكثير فَما وَهَنُوا عطف على قاتلوا على أن المراد عدم الوهن المتوقع من القتال والتلبس بالشيء بعد ورود ما يستدعي خلافه وإن كان استمرارا عليه بحسب الظاهر لكنه بحسب الحقيقة كما قال مولانا شيخ الإسلام: صنع جديد، ومن هنا صح دخول الفاء المؤذنة بترتب ما بعدها على ما قبلها، ومن ذلك قولهم: وعظته فلم يتعظ وزجرته فلم ينزجر، وأصل الوهن الضعف، وفسره قتادة وابن أبي مالك هنا بالعجز، والزجاج بالجبن أي فما عجزوا أو فما جبنوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ في أثناء القتال وهذا علة للمنفي لا للنفي، نعم يفهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 المنفي من تقييد المثبت بهذا الظرف وما- موصولة أو موصوفة فإن جعل الضميران لجميع الربيين فهي عبارة عما عدا القتل من مكاره الحروب التي تعتري الكل، وإن جعلا للبعض الباقين بعد قتل الآخرين- وهو الأنسب- كما قيل: بمقام توبيخ المنخذلين بعد ما استشهد الشهداء- فهي عبارة عن ذلك أيضا مع ما اعتراهم بعد قتل إخوانهم من نحو الخوف والحزن، هذا على القراءة المشهورة، وأما على القراءتين الأخيرتين أعني «قتل. وقتّل» - على صيغة المبني للمفعول مخففة ومشددة فقد قالوا: إن أسند الفعل إلى الظاهر فالضميران للباقين حتما والكلام حينئذ من قبيل- قتل بنو فلان إذا وقع القتل فيهم ولم يستأصلهم- وإن أسند إلى الضمير كما هو الظاهر الأنسب عند البعض بالتوبيخ على الانخذال بسبب الإرجاف بقتله صلى الله تعالى عليه وسلم. وإليه ذهب قتادة والربيع وابن أبي إسحاق. والسدي- كما قيل- فهما للباقين أيضا إن اعتبر كون الربيين مع النبي في القتل وللجميع إن اعتبر كونهم معه في القتال وَما ضَعُفُوا أي ما فتروا عن الجهاد قاله الزجاج، وقيل: ما عراهم ضعف في الدين بأن تغير اعتقادهم لعدم النصر وَمَا اسْتَكانُوا أي ما ارتدوا عن بصيرتهم ولا عن دينهم قاله قتادة، وقيل: ما خضعوا لعدوهم، وإليه يشير كلام ابن عباس، وكثيرا ما يستعمل استكان بهذا المعنى، وكذا بمعنى تضرع، واختلف فيه هل هو من السكون فوزنه افتعل لأن الخاضع يسكن لمن خضع له فألفه للإشباع وهو كثير وليس بخطأ خلافا لأبي البقاء، ولا يختص بالشعر خلافا لأبي حيان، أو من الكون فوزنه استفعل وألفه منقلبة عن واو السين مزيدة للتأكيد كأنه طلب من نفسه أن يكون لمن قهره، وقيل: لأنه كالعدم فهو يطلب من نفسه الوجود. وجوز أن يكون من قول العرب: بات فلان- بكينة سوء- أي بحالة سوء، أو من- كان يكينه- إذا أذله، وعزي ذلك إلى الأزهري وأبي علي، وحينئذ فألفه منقلبة عن ياء، والجمهور على فتح الهاء من وَهَنُوا وقرئ بكسرها وهي لغة والفتح أشهر، وقرئ بإسكانها على تخفيف المكسور وفي الكلام تعريض لا يخفى وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ على مقاساة الشدائد ومعاناة المكاره في سبيله فينصرهم ويعظم قدرهم. والمراد بالصابرين إما الربيون، والإظهار في موضع الإضمار للتصريح بالثناء عليهم بالصبر الذي هو ملاك الأمر مع الإشعار بعلة الحكم، وإما ما يعمهم وغيرهم وهم داخلون في ذلك دخولا أوليا. والجملة على التقديرين تذييل لما قبلها، وقوله تعالى: وَما كانَ قَوْلَهُمْ كالتتميم والمبالغة في صلابتهم في الدين وعدم تطرق الوهن والضعف إليهم بالكلية، وهو معطوف على ما قبله، وقيل: كلام مبين لمحاسنهم القولية إثر بيان محاسنهم الفعلية، وقَوْلَهُمْ بالنصب خبر لكان واسمها المصدر المتحصل من أَنْ وما بعدها في قوله تعالى: إِلَّا أَنْ قالُوا والاستثناء مفرغ من أعم الأشياء أي- ما كان قولهم- في ذلك المقام واشتباك أسنة الشدائد والآلام إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا أي صغائرنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا أي تجاوزنا عن الحد، والمراد كبائرنا. وروي ذلك عن الضحاك، وقيل: الإسراف تجاوز في فعل ما يجب، والذنب عام فيه وفي التقصير، وقيل: إنه يقابل الإسراف وكلاهما مذموم، وسيأتي في هذه السورة إن شاء الله تعالى إطلاق الذنوب على الكبائر فافهم. والظرف متعلق بما عنده أو حال منه وإنما أضافوا ذلك إلى أنفسهم مع أن الظاهر أنهم برآء من التفريط في جنب الله تعالى هضما لأنفسهم واستقصارا لهمهم وإسنادا لما أصابهم إلى أعمالهم، على أنه لا يبعد أن يراد بتلك الذنوب وذلك الإسراف ما كان ذنبا وإسرافا على الحقيقة لكن بالنسبة إليهم، وحسنات الأبرار سيئات المقربين، وقيل: أرادوا من طلب المغفرة طلب قبول أعمالهم حيث إنه لا يجب على الله تعالى شيء، وفيه ما لا يخفى، وقدموا الدعاء بالمغفرة على ما هو الأهم بحسب الحال من الدعاء بقوله سبحانه: وَثَبِّتْ أَقْدامَنا أي عند جهاد أعدائك بتقوية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 قلوبنا وإمدادنا بالمدد الروحاني من عندك وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ تقريبا له إلى حيز القبول فإن الدعاء المقرون بالخضوع الصادر عن زكاء وطهارة أقرب إلى الاستجابة. ومن الناس من قال: المراد من- ثبت أقدامنا- ثبتنا على دينك الحق فيكون تقديم طلب المغفرة على هذا التثبيت من باب تقديم التخلية على التحلية وتقديمهما على طلب النصرة لما تقدم، وقيل: إنهم طلبوا الغفران أولا ليستحقوا طلب النصر على الكافرين بترجحهم بطهارتهم عن الذنوب عليهم وهم محاطون بالذنوب، وفي طلبهم النصر مع كثرتهم المفرطة التي دل عليها ما سبق إيذان بأنهم لا ينظرون إلى كثرتهم ولا يعوّلون عليها بل يسندون ثبات أقدامهم إلى الله تعالى ويعتقدون أن النصر منه سبحانه وتعالى، وفي الاخبار عنهم بأنه ما كان قولهم إلا هذا دون ما فيه شائبة جزع وخور وتزلزل من التعريض بالمنهزمين ما لا يخفى، وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية عنهما برفع «قولهم» على أنه الاسم والخبر إن وما في حيزها أي ما كان قولهم شيئا من الأشياء إلا هذا القول المنبئ عن أحاسن المحاسن، قال مولانا شيخ الإسلام: وهذا كما ترى أقعد بحسب المعنى وأوفق بمقتضى المقام لما أن الأخبار بكون قولهم المطلق خصوصية قولهم المحكي عنهم مفصلا كما تفيده قراءتهما أكثر إفادة للسامع من الإخبار بكون خصوصية قولهم المذكور قولهم لما أن مصب الفائدة وموقع البيان في الجمل الخبرية هو الخبر، فالأحق بالخبرية ما هو أكثر إفادة وأظهر دلالة على الحدث وأوفر اشتمالا على نسب خاصة بعيدة من الوقوع في الخارج وفي ذهن السامع، ولا يخفى أن ذلك هاهنا في أن مع ما في حيزها أتم وأكمل، وأما ما تفيده الإضافة من النسبة المطلقة الإجمالية فحيث كانت سهلة الحضور خارجا وذهنا كان حقها أن تلاحظ ملاحظة إجمالية وتجعل عنوانا للموضوع لا مقصودا بالذات في باب البيان، وإنما اختار الجمهور ما اختار والقاعدة صناعية هي أنه إذا اجتمع معرفتان فالأعرف منهما أحق بالاسمية، ولا ريب في أعرفية أَنْ قالُوا لدلالته على جهة النسبة وزمان الحدث ولأنه يشبه المضمر من حيث إنه لا يوصف ولا يوصف به، وقَوْلَهُمْ مضاف إلى مضمر وهو بمنزلة العلم فتأمل انتهى. وقال أبو البقاء: جعل ما بعد إلا اسما لكان، والمصدر الصريح خبرا لها أقوى من العكس لوجهين: أحدهما أن أَنْ قالُوا يشبه المضمر في أنه لا يوصف وهو أعرف، والثاني أن ما بعد إِلَّا مثبت، والمعنى كان قولهم ربنا اغفر لنا ذنوبنا إلخ دأبهم في الدعاء، وقال العلامة الطيبي: كأن المعنى ما صح ولا استقام من الربانيين في ذلك المقام إلا هذا القول وكأن غير هذا القول مناف لحالهم، وهذه الخاصية يفيدها إيقاع أَنْ مع الفعل اسما لكان، وتحقيقه ما ذكره صاحب الانتصاف من أن فائدة دخول كانَ المبالغة في نفي الفعل الداخل عليه بتعديد جهة فعله عموما باعتبار الكون وخصوصا باعتبار خصوصية المقال فهو نفي مرتين، ثم قال: فعلى هذا لو جعلت رب الجملة أَنْ قالُوا واعتمدت عليه وجعلت قَوْلَهُمْ كالفضلة حصل لك ما قصدته ولو عكست ركبت التعسف، ألا ترى إلى أبي البقاء كيف جعل الخبر نسيا منسيا في الوجه الثاني واعتمد على ما بعد إِلَّا انتهى. ومنه يعلم ما في كلام مولانا شيخ الإسلام فإنه متى أمكن اعتبار جزالة المعنى مع مراعاة القاعدة الصناعية لا يعدل عن ذلك إلى غيره لا سيما وقد صرحوا بأن جعل الاسم غير الأعرف ضعيف، قال في المغني: واعلم أنهم حكموا لأن وإن- المقدرتين بمصدر معرف بحكم الضمير لأنه لا يوصف كما أن الضمير أيضا كذلك فلهذا قرأت السبعة ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا [الجاثية: 25] فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا [الأعراف: 82، النمل: 56، العنكبوت: 24، 29] والرفع ضعيف كضعف الاخبار بالضمير عما دونه في التعريف انتهى، وعلل بعضهم أعرفية المصدر المؤول بأنه لا ينكر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 وقد اعترضوا على كل من تعليلي ابن هشام والبعض. أما الاعتراض على الأول فبأن كونه لا يوصف لا يقتضي تنزيله منزلة الضمير فكم اسم لا يوصف بل ولا يوصف به وليس بتلك المنزلة؟ وأجيب بأنه جاز أن يكون في ذلك الاسم مانع من جعله بمنزلة الضمير لأن عدم المانع ليس جزءا من المقتضي ولا شرطا في وجوده، وأما الاعتراض على الثاني فبأنه غير مسلم لأنه قد ينكر كما في وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى [يونس: 37] أي افتراء قاله الشهاب. وأجيب بأن مراد من قال: إن المصدر المؤول لا ينكر أنه في مثل هذا الموضع لا ينكر لا أن الحرف المصدري لا يؤول بمصدر منكر أصلا، ويستأنس لذلك بتقييد المصدر بالمعرف في عبارة المغني حيث يفهم منها أن- أن، وإن- تارة يقدران بمصدر معرف وتارة بمصدر منكر وأنهما إذا قدرا بمصدر معرف كان له حكم الضمير، ومن هنا قال صاحب المطلع في معنى ذلك التعليل: إن قول المؤمنين إن اختزل عن الإضافة يبقى منكرا بخلاف أَنْ قالُوا بقي في كلام المغني أمور، الأول أن التقييد- بأن وإن- هل هو اتفاقي أم احترازي؟ الذي ذهب إليه بعض المحققين الأول: احتجاجا بأنه أطلق في الجهة السادسة من الباب الخامس أن الحرف المصدري وصلته في نحو ذلك معرفة فلا يقع صفة للنكرة ولم يخص- بأن وإن- وللذاهب إلى الثاني أن يقول فرق بين مطلق التعريف وكونه في حكم الضمير كما لا يخفى، وابن هشام قد أخذ المطلق في المطلق وقيد المقيد بالمقيد فلا بأس بإبقاء كلا العبارتين على ما يتراءى منهما. الثاني: أنه يفهم من ظاهره أن الأداتين لو قدرتا بمصدر منكر لا يكون في حكم الضمير وظاهر هذا أنه يجوز الوصف حينئذ وفيه تردد لأنه قد يقال: لا يلزم من عدم ثبوت مرتبة الضمير لذلك جواز الوصف لأن امتناع الوصف أعم من مرتبة الضمير، ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم. الثالث: أنه يفهم من كلامه أن المصدر المقدر المعرف بالإضافة سواء أضيف إلى ضمير أو غيره بمثابة الضمير ولم يصرح أحد من الأئمة بذلك لكن حيث إن ابن هشام ثقة وإمام في الفن ولم ينقل عن أئمته ما يخالفه يقبل منه ما يقول. الرابع: أن ما حكم به من أن الرفع ضعيف كضعف الاخبار بالضمير عما دونه في التعريف بينه وبين ما ذهب إليه ابن مالك من جواز الإخبار بالمعرفة عن النكرة المحضة في باب النواسخ بون عظيم، ويؤيد كلام ابن مالك قوله تعالى فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ [الأنفال: 62] وكأنه لتحقيق هذا المقام ولما أشرنا إليه أولا في تحقيق معنى الآية قال المولى قدس سره: فتأمل فتأمل فَآتاهُمُ اللَّهُ أي بسبب قولهم ذلك كما تؤذن به الفاء ثَوابَ الدُّنْيا أي النصر والغنيمة قاله ابن جريج، وقال قتادة: الفتح والظهور والتمكن والنصر على عدوهم، قيل: وتسمية ذلك ثوابا لأنه مترتب على طاعتهم، وفيه إجلال لهم وتعظيم، وقيل: تسمية ذلك ثوابا مجاز لأنه يحاكيه. واستشكل تفسير ابن جريج بأن الغنائم لم تحل لأحد قبل الإسلام بل كانت الأنبياء إذا غنموا مالا جاءت نار من السماء فأخذته فكيف تكون الغنيمة ثوابا دنيويا ولم يصل للغانمين منها شيء؟! وأجيب بأن المال الذي تأخذه النار غير الحيوان، وأما الحيوان فكان يبقى للغانمين دون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فكان ذلك هو الثواب الدنيوي وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ أي وثواب الآخرة الحسن، وهو عند ابن جريج رضوان الله تعالى ورحمته، وعند قتادة هي الجنة، وتخصيص الحسن بهذا الثواب للإيذان بفضله ومزيته وأنه المعتد به عنده تعالى، ولعل تقديم ثواب الدنيا عليه مراعاة للترتيب الوقوعي. أو لأنه أنسب بما قبله من الدعاء بالنصر على الكافرين وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ تذييل مقرر لما قبله فإن محبة الله سبحانه للعبد مبدأ كل خير وسعادة، واللام إما للعهد ووضع الظاهر موضع المضمر إيذانا بأن ما حكي عنهم من باب الإحسان، وإما للجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا وفيه على كلا التقديرين ترغيب للمؤمنين في تحصيل ما حكي من المناقب الجليلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا شروع في زجر المؤمنين عن متابعة الكفار ببيان مضارها إثر ترغيبهم في الاقتداء بأنصار الأنبياء عليهم السلام ببيان فضائله، وتصدير الخطاب بالنداء والتنبيه لإظهار الاعتناء بما في حيزه، ووصفهم بالإيمان لتذكيرهم بحال ينافي تلك الطاعة فيكون الزجر على أكمل وجه والمراد من الَّذِينَ كَفَرُوا إما المنافقون لأن الآية نزلت- كما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه- حين قالوا للمؤمنين عند الهزيمة: ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم والتعبير عنهم بذلك قصدا إلى مزيد التنفير عنهم والتحذير عن طاعتهم، وإما أبو سفيان وأصحابه وحينئذ فالمراد بإطاعتهم الاستكانة لهم وطلب الأمان منهم وإلى ذلك ذهب السدي، وإما اليهود والنصارى فالمراد حينئذ لا تنتصحوا اليهود والنصارى على دينكم ولا تصدقوهم بشيء في ذلك، وإليه ذهب ابن جريج، وحكي أنهم كانوا يلقون إليهم الشبه في الدين ويقولون: لو كان محمد صلى الله تعالى عليه وسلم نبيا حقا لما غلب ولما أصابه وأصحابه ما أصابهم وإنما هو رجل حاله كحال غيره من الناس يوما عليه ويوما له فنهوا عن الالتفات إليها، وإما سائر الكفار. وذهب إلى جواز ذلك بعض المتأخرين، وأتي بأن للإيذان بأن الإطاعة بعيدة الوقوع من المؤمنين. يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ أي يرجعوكم إلى أول أمركم وهو الشرك بالله تعالى والفعل جواب الشرط. وصح ذلك بناء على المأثور عن علي كرم الله تعالى وجهه مع أن الكلام معه في قوة إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا في قولهم: ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم يدخلوكم في دينهم، ويؤول إلى قولك: إن تدخلوا في دينهم تدخلوا في دينهم وفيه اتحاد الشرط والجزاء بناء على أن الارتداد على العقب علم في انتكاس الأمر ومثل في الحور بعد الكور، وقيل: إن المراد بالإطاعة الهمّ بها والتصميم عليها أي إن تصمموا على إطاعتهم في ذلك تردوا وترجعوا إلى ما كنتم عليه من الكفر وهذا أبلغ في الزجر إلا أنه بعيد عن اللفظ، وجوز أن تكون جوابيته باعتبار كونه تمهيدا لقوله تعالى: فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ أي فترجعوا خاسرين لخير الدنيا وسعادة الآخرة وذلك أعظم الخسران بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ إضراب وترك للكلام الأول من غير إبطال والمعنى ليس الكفار أولياء فيطاعوا في شيء ولا ينصرونكم بل الله ناصركم لا غيره وهو مبتدأ وخبر، وقرئ بنصب الاسم الجليل على أنه مفعول لفعل محذوف، والمعنى فلا تطيعوهم بل أطيعوا الله مولاكم وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ لأنه القوي الذي لا يغلب والناصر في الحقيقة فينبغي أن يخص بالطاعة والاستعانة، والجملة معطوفة على ما قبلها. وجوز على القراءة الشاذة الاستئناف والحالية سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ كالبيان لما قبل، وعبر بنون العظمة على طريق الالتفات جريا على سنن الكبرياء لتربية المهابة، والسين لتأكيد الإلقاء، والرُّعْبَ بسكون العين الخوف والفزع أي سنقذف ذلك في قلوبهم، والمراد من الموصول أبو سفيان وأصحابه، فقد أخرج ابن جرير عن السدي قال: «لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين نحو مكة انطلق أبو سفيان حتى بلغ بعض الطريق ثم إنهم ندموا فقالوا: بئس ما صنعتم إنكم قتلتموهم حتى إذا لم يبق إلا الشريد تركتموهم ارجعوا فاستأصلوا فقذف الله تعالى في قلوبهم الرعب فانهزموا فلقوا أعرابيا فجعلوا له جعلا فقالوا له: إن لقيت محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه فأخبرهم بما قد جمعنا لهم فأخبر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلم فطلبهم حتى بلغ حمراء الأسد فأنزل الله تعالى في ذلك هذه الآية يذكر فيها أمر أبي سفيان وأصحابه، وقيل: إن الآية نزلت في يوم الأحزاب، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «نصرت بالرعب على العدو» ، وأخرج أحمد وغيره من حديث أبي أمامة «نصرت بالرعب مسيرة شهر يقذف في قلوب أعدائي» ، وقرئ «سيلقي» بالياء، وقرأ أبو جعفر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 وابن عامر والكسائي «الرعب» بضم العين وهي لغة فيه، وقيل: الضم هو الأصل والسكون للتخفيف، وقيل: الأصل السكون والضم للاتباع. بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ أي بسبب إشراكهم بالذات الواجب الوجود المستجمع لجميع صفات الكمال ولإشعار هذا الاسم بالعظمة المنافية للشركة أتي به، والجار الأول متعلق، ب سَنُلْقِي دون الرُّعْبَ ولا يمنع من ذلك تعلق فِي به لاختلاف المعنى، والثاني متعلق بما عنده وكان الإشراك سببا لإلقاء الرعب لأنه من موجبات خذلانهم ونصر المؤمنين عليهم وكلاهما من دواعي الرعب ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ أي بإشراكه، وقيل: بعبادته، وما نكرة موصوفة أو موصولة اسمية وليست مصدرية سُلْطاناً أي حجة، والإتيان بها للإشارة بأن المتبع في باب التوحيد هو البرهان السماوي دون الآراء والأهواء الباطلة، وسميت بذلك لأنه بها يتقوى على الخصم ويتسلط عليه، والنون زائدة، وقيل: أصلية، وذكر عدم إنزال الحجة مع استحالة تحققها من باب انتفاء المقيد لانتفاء قيده اللازم أي لا حجة حتى ينزلها، فهو على حد قوله في وصف مفازة: لا يفزع الأرنب أهوالها ... ولا ترى الضب بها ينجحر إذ المراد لا ضب بها حتى ينجحر فالمراد نفيهما جميعا وهذا كقولهم: السالبة لا تقتضي وجود الموضوع، وما ذكرنا من استحالة تحقق الحجة على الإشراك يكاد يكون معلوما من الدين بالضرورة أما في الإشراك بالربوبية فظاهر إذ كيف يأمر الله سبحانه باعتقاد أن خالق العالم اثنان مشتركان في وجوب الوجود والاتصاف بكل كمال، وأما الإشراك في الألوهية الذي عليه أكثر المشركين في عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فلأنه يفضي إلى الأمر باعتقاد أشياء خلاف الواقع مما كان المشركون يعتقدونه في أصنامهم وقد رده عليهم، فقول عصام الملة: ونحن نقول الحجة على الإشراك تحت قدرته تعالى لو شاء أنزلها إذ لو أمر بإشراك الأصنام به في العبادة لوجبت العبادة لا أراه إلا حلا لعصام الدين لأن لا إله إلا الله المخاطب بها الثنوية والوثنية تأبى إمكان ذلك كما لا يخفى على من اطلع على معنى هذه الكلمة الطيبة رزقنا الله تعالى الموت عليها ولا جعلنا ممن أشركوا بالله تعالى ما لم ينزل به سلطانا وَمَأْواهُمُ أي ما يأوون إليه في الآخرة النَّارُ لا مأوى لهم غيرها. وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ أي مثواهم وإنما وضع الظاهر موضع الضمير للتغليظ والتعليل والإشعار بأنهم في إشراكهم ظالمون واضعون للشيء في غير موضعه، والمثوى مكان الإقامة على وزن مفعل من ثويت ولامه ياء والمخصوص بالذم محذوف أي بئس مثواهم النار، ولم يعبر بالمأوى للإيذان بالخلود إذ الإقامة مأخوذة في المثوى دونه وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ أخرج الواحدي عن محمد بن كعب قال: لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقد أصيبوا بما أصيبوا يوم أحد، قال ناس من أصحابه: من أين أصابنا هذا قد وعدنا الله تعالى النصر؟ فأنزل الله تعالى الآية، ووعده مفعول ثان لصدق صريحا فإنه يتعدى إلى مفعولين في مثل هذا النحو، وقد يتعدى إلى الثاني بحرف الجر، فيقال: صدقت زيدا في الحديث، ومن هنا جوز بعضهم أن يكون نصبا بنزع الخافض والمراد بهذا الوعد ما وعدهم سبحانه من النصر بقوله عز اسمه: إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا [آل عمران: 120، 125، 186] إلخ وعلى لسان نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم حيث قال للرماة: «لا تبرحوا مكانكم فلن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم» . وفي رواية أخرى «لا تبرحوا عن هذا المكان فإنا لانزال غالبين ما دمتم في هذا المكان» وأيد الأول بما أخرجه البيهقي في الدلائل عن عروة قال: كان الله تعالى وعدهم على الصبر والتقوى أن يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين وكان قد فعل فلما عصوا أمر الرسول وتركوا مصافهم وتركت الرماة عهد الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 إليهم أن لا يبرحوا منازلهم وأرادوا الدنيا رفع الله تعالى مدد الملائكة، واختار مولانا شيخ الإسلام الثاني، وقد تقدم لك ما ينفعك هنا. والقول بأن المراد ما وعده جل شأنه بقوله سبحانه: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ليس بشيء كما لا يخفى، وأخرج الإمام أحمد وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ما نصر الله تعالى نبيه في موطن كما نصره يوم أحد فأنكروا ذلك، فقال ابن عباس: بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله تعالى إن الله تعالى يقول يوم أحد: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ أي تقتلونهم وهو التفسير المأثور، واستشهد عليه الخبر بقول عتبة الليثي: «نحسهم» بالبيض حتى كأننا ... نفلق منهم بالجماجم حنظلا وبقوله: ومنا الذي لاقى بسيف محمد ... «فحس» به الأعداء عرض العساكر وأصل معنى حسه أصاب حاسته بآفة فأبطلها مثل كبده ولذا عبر به عن القتل، ومنه جراد محسوس وهو الذي قتله البرد، وقيل: هو الذي مسته النار، وكثيرا ما يستعمل الحس بالقتل على سبيل الاستئصال، والظرف متعلق ب صَدَقَكُمُ وجوز أبو البقاء أن يكون ظرفا للوعد بِإِذْنِهِ أي بتيسيره وتوفيقه، والتقييد به لتحقيق أن قتلهم بما وعدهم الله تعالى من النصر حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ أي فزعتم وجبنتم عن عدوكم وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ أي أمر الحرب أو أمره صلّى الله عليه وسلم لكم في سدّ ذلك الثغر على ما تقدم تفسيره وَعَصَيْتُمْ إذ لم تثبتوا هناك وملتم إلى الغنيمة مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ من انهزام المشركين وغلبتكم عليهم. قال مجاهد: نصر الله تعالى المؤمنين على المشركين حتى ركب نساء المشركين على كل صعب وزلول ثم أديل عليهم المشركون بمعصيتهم للنبي صلّى الله عليه وسلم، وروي أن خالد بن الوليد أقبل بخيل المشركين ومعه عكرمة بن أبي جهل، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى الزبير رضي الله تعالى عنه أن احمل عليه فحمل عليه فهزمه ومن معه فلما رأى الرماة ذلك انكفؤوا إلا قليلا ودخلوا العسكر وخالفوا الأمر وأخلوا الخلة التي كانوا فيها فدخلت خيول المشركين من ذلك الموضع على الصحابة رضي الله تعالى عنهم فضرب بعضهم بعضا والتبسوا وقتل من المسلمين أناس كثير بسبب ذلك مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وهم الرماة الذين طمعوا في النهب وفارقوا المركز له وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ كعبد الله ابن جبير أمير الرماة ومن ثبت معه ممتثلا أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى استشهد ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ أي كفكم عنهم حتى تحولت الحال من الغلبة إلى ضدها لِيَبْتَلِيَكُمْ أي ليعاملكم معاملة من يمتحن ليبين أمركم وثباتكم على الإيمان ففي الكلام استعارة تمثيلية، وإلا فالامتحان محال على الله تعالى، وفي- حتى- هنا قولان: أحدهما أنها حرف جر بمنزلة إلى ومتعلقها تَحُسُّونَهُمْ أو صَدَقَكُمُ أو محذوف تقديره دام لكم ذلك، وثانيهما أنها حرف ابتداء دخلت على الجملة الشرطية من إذا وما بعدها وجواب إِذا قيل: تَنازَعْتُمْ، والواو زائدة واختاره الفراء، وقيل: صَرَفَكُمْ وثُمَّ زائدة وهو ضعيف جدا والصحيح أنه محذوف وعليه البصريون، وقدره أبو البقاء: بأن أمركم، وأبو حيان: انقسمتم إلى قسمين بدليل ما بعده، والزمخشري: منعكم نصره، وابن عطية: انهزمتم، ولكل وجهة، وبعض المتأخرين امتحنكم، وردّ بجعل الابتداء غاية للصرف المترتب على منع النصر، وعلى كل تقدير يكون صَرَفَكُمْ معطوفا على ذلك المحذوف، وقيل: إن إِذا اسم كما في قولهم: إذا يقوم زيد إذا يقوم عمرو وحَتَّى حرف جر بمعنى إلى متعلقة ب صَدَقَكُمُ باعتبار تضمنه معنى النصر كأنه قيل: لقد نصركم الله تعالى إلى وقت فشلكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 وتنازعكم إلخ، وثُمَّ صَرَفَكُمْ حينئذ عطف على ذلك، وهاتان الجملتان الظرفيتان اعتراض بين المتعاطفين وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ بمحض التفضل أو لما علم من عظيم ندمكم على المخالفة، قيل: والمراد بذلك العفو عن الذنب وهو عام لسائر المنصرفين. ويؤيد ذلك ما أخرجه البخاري عن عثمان بن موهب قال: جاء رجل إلى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فقال: إني سائلك عن شيء فحدثني به أنشدك بحرمة هذا البيت أتعلم أن عثمان بن عفان فرّ يوم أحد؟ قال: نعم قال: فتعلمه تغيب عن بدر فلم يشهدها؟ قال: نعم، قال: فتعلم أنه تخلف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها؟ قال: نعم فكبر فقال ابن عمر: تعال لأخبرك ولأبين لك عما سألتني عنه، أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله تعالى عفا عنه، وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وكانت مريضة فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه. وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه فبعث عثمان فكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بيده اليمنى وضرب بها على يده فقال: هذه يد عثمان اذهب بها الآن معك، وقال البلخي: إنه عفو عن الاستئصال، وروي ذلك عن ابن جريج، وزعم أبو علي الجبائي أنه خاص بمن لم يعص الله تعالى بانصرافه والكل خلاف الظاهر. وقد يقال: الداعي لقول البلخي: إن العفو عن الذنب سيأتي ما يدل عليه بأصرح وجه، والتأسيس خير من التأكيد، وكلام ابن عمر رضي الله تعالى عنه ليس فيه أكثر من أن الله تعالى عفا عن ذنب الفارّين وهو صريح الآية الآتية، وأما أنه يفهم منه ولو بالإشعار أن المراد من العفو هنا العفو عن الذنب فلا أظن منصفا يدعيه. وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ تذييل مقرر لمضمون ما قبله وفيه إيذان بأن ذلك العفو ولو كان بعد التوبة بطريق التفضل لا الوجوب أي شأنه أن يتفضل عليهم بالعفو أو في جميع الأحوال أديل لهم أو أديل عليهم إذ الابتلاء أيضا رحمة، والتنوين للتفخيم، والمراد بالمؤمنين إما المخاطبون والإظهار في مقام الإضمار للتشريف والإشعار بعلة الحكم، وإما الجنس ويدخلون فيه دخولا أوليا ولعل التعميم هنا وفيما قبله أولى من التخصيص، وتخصيص الفضل بالعفو أولى من تخصيصه بعدم الاستئصال كما زعمه البعض إِذْ تُصْعِدُونَ متعلق بصرفكم أو يبتليكم وتعلقه- بعفا- كما قال الطبرسي: ليس بشيء، ومثله تعلقه كما قال أبو البقاء، بعصيتم: أو تَنازَعْتُمْ أو فَشِلْتُمْ، وقيل: متعلق بمقدر كاذكر، واستشكل بأنه يصير المعنى اذكر يا محمد إِذْ تُصْعِدُونَ وفيه خطابان بدون عطف، فالصواب اذكروا. وأجيب بأن المراد- باذكر- جنس هذا الفعل فيقدر- اذكروا- لا اذكر، ويحتمل أنه من قبيل يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطلاق: 1] ولا يخفى أنه خلاف الظاهر، وأجاب الشهاب بأن اذكر متضمن لمعنى القول، والمعنى قل لهم يا محمد حين يصعدون إلخ ومثله لا منع فيه كما تقول لزيد: أتقول كذا فإن الخطاب المحكي مقصود لفظه فلا ينافي القاعدة المذكورة وهم غفلوا عنه فتأمل، ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر أيضا، والإصعاد الذهاب والإبعاد في الأرض، وفرق بعضهم بين الإصعاد والصعود بأن الإصعاد في مستوى الأرض والصعود في ارتفاع، وقيل: لا فرق بين أصعد وصعد سوى أن الهمزة في الأول للدخول نحو أصبح إذا دخل في الصباح والأكثرون على الأول، وقرأ الحسن فيما أخرجه ابن جرير عنه تُصْعِدُونَ بفتح التاء والعين، وحمله بعضهم على صعود الجبل، وقرأ أبو حيوة تُصْعِدُونَ بفتح التاء وتشديد العين وهو إما من تصعد في السلم إذا رقي أو من صعد في الوادي تصعيدا إذا انحدر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 فيه، فقد قال الأخفش: أصعد في الأرض إذا مضى وسار وأصعد في الوادي وصعد فيه إذا انحدر. وأنشد: فإما تريني اليوم مزجي ظعينتي ... «أصعد» طورا في البلاد وأفرع وقال الشماخ: فان كرهت هجائي فاجتنب سخطي ... لا يدهمنك إفراعي «وتصعيدي» وورد عن غير واحد أن القوم لما امتحنوا ذهبوا فرارا في وادي أحد، وقال أبو زيد: يقال صعد في السلم صعودا وصعد في الجبل أو على الجبل تصعيدا ولم يعرفوا فيه صعد، وقرأ أبيّ إِذْ تُصْعِدُونَ في الوادي وهي تؤيد قول من قال: إن الإصعاد الذهاب في مستوى الأرض دون الارتفاع، وقرئ- يصعدون- بالياء التحتية وأمر تعلق إذ باذكر عليه ظاهر وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ أي لا تقيمون على أحد ولا تعرجون وهو من لوى بمعنى عطف وكثيرا ما يستعمل بمعنى وقف وانتظر لأن من شأن المنتظر أن يلوي عنق، وفسر أيضا بلا ترجعون وهو قريب من ذلك، وذكر الطبرسي أن هذا الفعل لا يذكر إلا في النفي فلا يقال لويت على كذا، وقرأ الحسن تلون بواو واحدة بقلب الواو المضمومة همزة وحذفها تخفيفا. وقرئ تَلْوُونَ بضم التاء على أنه من ألوى لغة في لوى، ويلوون بالياء كيصعدون قال أبو البقاء ويقرأ عَلى أَحَدٍ بضمتين- وهو الجبل- والتوبيخ عليه غير ظاهر، ووجهه بعضهم بأن المراد أصحاب أحد أو مكان الوقعة، وفيه إشارة إلى إبعادهم في استشعار الخوف وجدهم في الهزيمة حتى لا يلتفتون إلى نفس المكان. وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ أي يناديكم في ساقتكم أو جماعتكم الأخرى أو يدعوكم من ورائكم فإنه يقال: جاء فلان في آخر الناس وأخرتهم وأخراهم إذا جاء خلفهم، وإيراده عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة للإيذان بأن دعوته صلى الله تعالى عليه وسلم كانت بطريق الرسالة من جهته تعالى مبالغة في توبيخ المنهزمين، روي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان ينادي إليّ عباد الله إليّ عباد الله أنا رسول الله من يكر فله الجنة وكان ذلك حين انهزم القوم وجدوا في الفرار قبل أن يصلوا إلى مدى لا يسمع فيه الصوت فلا ينافي ما تقدم عن كعب بن مالك أنه لما عرف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ونادى بأعلى صوته يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أشار إليه رسول الله عليه الصلاة والسلام أن انصت لأن ذلك كان آخر الأمر حيث أبعد المنهزمون، والجملة في موضع الحال فَأَثابَكُمْ عطف على صَرَفَكُمْ والضمير المستتر عائد على الله تعالى، والتعبير بالإثابة من باب التهكم على حد قوله: تحية بينهم ضرب وجيع- أو أنها مجاز عن المجازاة أي فجازاكم الله تعالى بما عصيتم غَمًّا بِغَمٍّ أي كربا بكرب والأكثرون على أنه لا فرق بين الغم والحزن، والباء إما للمصاحبة والظرف مستقر أي جازاكم غَمًّا متصلا بِغَمٍّ والغم الأول ما حصل لهم من القتل والجرح وغلبة المشركين عليهم، والغم الثاني ما حصل لهم من الإرجاف بقتل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وفوت الغنيمة، وإلى هذا ذهب قتادة والربيع. وقيل: الغم الثاني إشراف أبي سفيان وأصحابه عليهم وهم مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على الصخرة وحكي ذلك عن السدي، وقيل: المراد مجرد التكثير أي جازاكم بغموم كثيرة متصل بعضها ببعض، وإما للسببية والظرف متعلق- بأثابكم- والغم الأول للصحابة رضي الله تعالى عنهم بالقتل نحوه، والغم الثاني للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بمخالفة أمره أي أثابكم غما بسبب غم أذقتموه رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعصيانكم له ومخالفتكم أمره، وقال الحسن بن علي المغربي: الغم الأول للمشركين بما رأوا من قوة المسلمين على طلبهم وخروجهم إلى حمراء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 الأسد، والغم الثاني للمؤمنين بما نيل منهم أي فجازاكم بغم أعدائكم المشركين بسبب غم أذاقوه إياكم، وقيل: الباء على هذا للبدل وكلا القولين بعيد، والعطف عليه غير ظاهر وأبعد من ذلك ما روي عن الحسن أن الغم الأول للمؤمنين بما أصابهم يوم أحد، والغم الثاني للمشركين بما نالهم يوم بدر، والمعنى فجازاكم غما يوم أحد بالقتل والجرح بسبب غم أذقتموه المشركين يوم بدر كذلك واعترض عليه بأن ما لحق المشركين يوم بدر من جهة المسلمين إنما يوجب المجازاة بالكرامة دون الغم، وقيل الضمير المستكن في أثابكم للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وأثابكم بمعنى آساكم أي جعلكم أسوة له متساويين في الحزن فاغتم صلى الله تعالى عليه وسلم بما نزل عليكم كما اغتممتم بما نزل عليه ولم يثربكم على عصيانكم تسلية لكم وتنفيسا عنكم. واعترض عليه بأنه خلاف الظاهر للزوم التفكيك على تقدير أن يكون العطف على صرفكم وعدم ظهور الترتب إلا بتكلف إن كان العطف على يَدْعُوكُمْ نعم التعليل عليه بقوله تعالى: لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ ظاهر إذ المعنى آساكم بذلك لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ من النصر ولا ما أصابكم من الشدائد، وكذا على ما ذهب إليه المغربي، وأما على الأوجه الأخر فالمعنى لتتمرنوا على الصبر في الشدائد فلا تحزنوا على نفع ما فات أو ضر آت، وإنما احتيج إلى هذا التأويل لأن المجازاة بالغم إنما تكون سببا للحزن لا لعدمه. وقيل: لا زائدة والمعنى لكي تأسفوا على ما فاتكم من الظفر والغنيمة وعلى ما أصابكم من الجراح والهزيمة عقوبة لكم، فالتعليل حينئذ ظاهر ولا يخفى أن تأكيد لا وتكريرها يبعد القول بزيادتها. وقيل: التعليل على ظاهره و «لا» ليست زائدة والكلام متعلق بقوله تعالى: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ أي ولقد عفا الله تعالى عنكم لئلا تحزنوا إلخ فإن عفو الله تعالى يذهب كل حزن، ولا يخفى ما فيه، وربما يقال: إن أمر التعليل ظاهر أيضا على ما حكي عن السدي من غير حاجة إلى التأويل ولا القول بزيادة- لا- ويوضح ذلك ما أخرجه ابن جرير عن مجاهد قال: أصاب الناس غم وحزن على ما أصابهم في أصحابهم الذين قتلوا فلما اجتمعوا في الشعب وقف أبو سفيان وأصحابه بباب الشعب فظن المؤمنون أنهم سوف يميلون عليهم فيقتلونهم أيضا فأصابهم حزن أنساهم حزنهم في أصحابهم فذلك قوله تعالى: فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ إلخ، وحديث إن المجازاة بالغم إنما تكون سببا للحزن لا لعدمه غير مسلم على الإطلاق، وأي مانع من أن يكون غم مخصوص سببا لزوال غم آخر مخصوص أيضا بأن يعظم الثاني فينسى الأول فتدبر وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ عليم بأعمالكم وبما قصدتم بها، وفي المقصد الأسنى- الخبير- بمعنى العليم لكن العلم إذا أضيف إلى الخفايا الباطنة سمي خبرة وسمي صاحبها خبيرا، وفيه ترغيب في الطاعة وترهيب عن المعصية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ عطف على فَأَثابَكُمْ والخطاب للمؤمنين حقا، والمعنى ثم وهب لكم أيها المؤمنون مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ الذي اعتراكم والتصريح بتأخر الإنزال عنه مع دلالة ثم عليه وعلى تراخيه عنه لزيادة البيان، وتذكير عظم المنة أَمَنَةً مصدر كالمنعة وهو مفعول أَنْزَلَ أي ثم أنزل عليكم أمنا نُعاساً بدل اشتمال منها، وقيل: عطف بيان، وجوز أن يكون نُعاساً منصوبا على المفعولية وأَمَنَةً حال منه والمراد ذا أمنة ولا يضر كونها من النكرة لتقدمها أو حال من المخاطبين على تقدير مضاف أي ذوي أمنة، أو على أنه جمع آمن كبار وبررة. وقيل: إن أمنة مفعول له لنعاسا، واعترض بأنه يلزم على ظاهره تقديم معمول المصدر عليه، وإن التزم تقدير فعل أي نعستم أمنة، ورد أنه ليس للفعل موقع حسن، وقيل: إنه مفعول له لأنزل. واعترض بأنه فاسد لاختلال شرطه وهو اتحاد الفاعل إذ فاعل أنزل هو الله تعالى وفاعل الأمنة هو المنزل عليهم، ورد بأن الأمنة كما يكون مصدرا لمن وقع به الأمن يكون مصدرا لمن أوقعه، والمراد هنا الثاني كأنه قيل: أنزل عليكم النعاس ليؤمنكم به وحينئذ لا شبهة في اتحاد الفاعل وقرئ بسكون الميم كأنها لوقوعها في زمن يسير مرة من الأمن فلا ينافي كون المقصود مطلق الأمن وتقديم الظرفين على المفعول الصريح للاعتناء بشأن المقدم، والتشويق إلى المؤخر، وتخصيص الخوف من بين فنون الغم بالإزالة لأنه المهم عندهم في ذلك المقام، فقد أخرج ابن جرير عن السدي أن المشركين انصرفوا يوم أحد بعد الذي كان من أمرهم وأمر المسلمين فواعدوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بدرا من قابل فقال لهم: نعم فتخوف المسلمون أن ينزلوا المدينة فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم رجلا فقال: انظر فإن رأيتهم قد قعدوا على أثقالهم وجنبوا خيولهم فإن القوم ذاهبون، وإن رأيتهم قد قعدوا على خيولهم وجنبوا أثقالهم فإن القوم ينزلون المدينة فاتقوا الله تعالى واصبروا، ووطنهم على القتال فلما أبصرهم الرسول قعدوا على الأثقال سراعا عجالا نادى بأعلى صوته بذهابهم فلما رأى المؤمنون ذلك صدقوا نبي الله صلّى الله عليه وسلم فناموا وبقي أناس من المنافقين يظنون أن القوم يأتونهم فلذلك قوله تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ إلخ، وعن ابن عباس في الآية قال: آمنهم الله تعالى يومئذ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 بنعاس غشاهم، وإنما ينعس من يأمن والخائف لا ينام. وأخرج خلق كثير عن أنس أن أبا طلحة قال غشينا النعاس يوم أحد ونحن في مصافنا وكنت ممن غشيه النعاس يومئذ فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه، وفي رواية أخرى عنه أنه قال: رفعت رأسي يوم أحد فجعلت أنظر وما منهم من أحد إلا وهو يميد تحت حجفته- أي ترسه- من النعاس، وعن الزبير بن العوام مثله قيل: وهذه عادة الله تعالى مع المؤمنين جعل النعاس في الحرب علامة للظفر وقد وقع كذلك لعلي كرم الله تعالى وجهه في صفين وهو من الواردات الرحمانية والسكينة الإلهية يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ قال ابن عباس: هم المهاجرون وعامة الأنصار، وفيه إشعار بأنه لم يغش الكل ولا يقدح ذلك في عموم الإنزال للكل، والجملة في موضع نصب على أنها صفة- لنعاسا- وقرأ حمزة والكسائي- تغشى- بالتاء الفوقانية على أن الضمير- للأمنة. والظاهر أن الجملة حينئذ مستأنفة وقعت جوابا لسؤال تقديره ما حكم هذه الأمنة؟ فأجيب بأنها تغشى طائفة، وقيل: إنها في موضع الصفة لأمنة، واعترض بأن الصفة حقها أن تتقدم على البدل وعطف البيان وأن لا يفصل بينها وبين الموصوف بالمفعول له وأن المعهود أن يحدث عن البدل دون المبدل منه وَطائِفَةٌ وهم المنافقون. قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ أي جعلتهم ذوي هم وأوقعتهم فيه أو ما يهمهم إلا أنفسهم لا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا غيره من أهمه بمعنى جعله مهما له ومقصودا والحصر مستفاد من المقام، وذكر بعضهم أن العرب تطلق هذا اللفظ على الخائف الذي شغله هم نفسه عن غيره، طائِفَةً مبتدأ وجملة قَدْ أَهَمَّتْهُمْ إلخ خبره، وجاز ذلك مع كونها نكرة لوقوعها بعد واو الحال كما في قوله: سرينا ونجم قد أضاء فمذ بدا ... محياك أخفى ضوء كل شارق أو لوقوعها موقع التفصيل كما في قوله: إذا مت كان الناس صنفان شامت ... وآخر مثن بالذي أنا صانع وجوز أن تكون الجملة نعتا لها والخبر حينئذ محذف أي ومعكم، أو وهناك طائفة وتقدير- ومنكم طائفة- يقتضي أن يكون المنافقون داخلين في الخطاب بإنزال الأمنة وأيّا ما كان فالجملة إما حالية مبينة لفظاعة الهول مؤكدة لعظم النعمة في الخلاص عنه، وإما مستأنفة مسوقة لبيان حال المنافقين فالواو إما حالية وإما استئنافية وكونها بمعنى إذ ليس بشيء كما نص عليه أبو البقاء يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ في موضع الحال من ضمير أَهَمَّتْهُمْ لا من طائِفَةً وإن تخصصت لما في مجيء الحال من المبتدأ من المقال، وجوز أن تكون صفة بعد صفة لطائفة، أو خبرا بعد خبر، أو هي الخبر وقَدْ أَهَمَّتْهُمْ صفة أو مستأنفة مبينة لما قبلها وغير منصوب على المصدرية المؤكدة لأنه مضاف إلى مصدر محذوف وهو بحسب ما يضاف إليه أي غير الظن الحق وهو الذي يحق أن يظن به تعالى، وقال بعضهم: إنه مفعول مطلق نوعي، وقوله تعالى ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ بدل مما قبله. وقال ابن الحاجب: غَيْرَ الْحَقِّ وظَنَّ مصدران أحدهما للتشبيه والآخر تأكيد لغيره أي يقولون غير الحق ومفعولا يَظُنُّونَ محذوفان أي يظنون أن إخلاف وعده سبحانه حاصل، وأبو البقاء يجعل غَيْرَ الْحَقِّ مفعولا أولا أي أمرا غير الحق، وبِاللَّهِ في موضع المفعول الثاني وإضافة ظَنَّ إلى الجاهلية قيل: إما من إضافة الموصوف إلى مصدر صفته ومعناها الاختصاص بالجاهلية كرجل صدق وحاتم الجود فهي على معنى اللام أي المختص بالصدق والجود فالياء مصدرية والتاء للتأنيث اللازم له، وإما من إضافة المصدر إلى الفاعل على حذف المضاف أي ظن أهل الجاهلية أي الشرك والجهل بالله تعالى وهي اختصاصية حقيقية أيضا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ أي يقول بعضهم لبعض على سبيل الإنكار: هل لنا من النصر والفتح والظفر نصيب أي ليس لنا من ذلك شيء لأن الله سبحانه وتعالى لا ينصر محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم، أو يقول لحاضرون منهم لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على صورة الاسترشاد: هل لنا من أمر الله تعالى ووعده بالنصر شيء، واختاره بعض المحققين. والجملة قيل: إما حال أو خبر إثر خبر أو صفة إثر صفة أو مستأنفة مبينة لما قبلها، أو بدل من يَظُنُّونَ وهو بدل الكل بحسب الصدق، وبدل الاشتمال بحسب المفهوم، واستشكل بأن قوله: يَقُولُونَ هَلْ لَنا إلخ تفسير ل يَظُنُّونَ وترجمة له والاستفهام لا بكون ترجمة للخبر كما لا يصح أن تقول: أخبرني زيد قال: لا تذهب أو أمرني قال: لا تضرب، أو نهاني قال: اضرب فإن المطابقة بين الحكاية والمحكي واجبة. وحاصل الإشكال أن متعلق الظن النسبة التصديقية فكيف يقع استفهام ترجمة له؟ وأجيب بأن الاستفهام طلب علم فيما يشك ويظن فجاز أن يكون متعلق الظن وتحقيقه أن الظن أو العلم يتعلق بما يقال في جواب ذلك الاستفهام على ما ذكر في باب تعليق أفعال القلوب باستفهام، ولا يخفى أن هذا إنما هو على تقدير كون الاستفهام حقيقيا، وأما على تقدير كونه إنكاريا فلا إشكال، ولا قيل ولا قال لأنه خبر فيتطابق مع ما قبله في الخبرية، وبعض من جعله إنكاريا ذهب إلى أن المعنى إنا منعنا تدبير أنفسنا وتصريفها باختيارنا فلم يبق لنا من الأمر شيء، وقد قال ذلك عبد الله بن أبيّ حين أخبره المنافقون بقتل بني الخزرج ثم قال: والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل قيل: وظنهم السوء على هذا تصويبهم رأي عبد الله ومن تبعه، وقيل: الاستفهام على ظاهره والمعنى هل يزول عنا هذا القهر فيكون لنا من الأمر شيء، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر، ومِنْ الثانية سيف خطيب، وشَيْءٍ في موضع رفع على الابتداء، وفي خبره كما قال أبو البقاء: وجهان، أحدهما لَنا فمن الأمر حال، والثاني مِنَ الْأَمْرِ فلنا تبيين وبه تتم الفائدة قُلْ يا محمد إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ أي إن الشأن والغلبة الحقيقية لحزب الله تعالى وأوليائه فينصر رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه ويخذل أعداءه ويقهرهم وكنى بكون الغلبة لله تعالى عن كونها لأوليائه لكونهم من الله سبحانه بمكان، أو أن القضاء أو التدبير له تعالى مخصوص به لا يشاركه فيه غيره فيفعل ما يشاء وتجري الأمور حسبما جرى به القلم في سابق القضاء، وعلى هذا لا كناية في الكلام، وجاء مؤكدا لما أن الكلام الذي وقع هو في مقابلته كذلك. واستظهر في البحر من هذا الأمر كون الاستفهام فيما تقدمه باقيا على حقيقته إذ لو كان معناه نفى أن يكون لهم شيء من الأمر لم يجابوا بإثبات أن الأمر كله لله اللهم إلا أن يقدر مع جملة النفي جملة ثبوتية ليكون المعنى- ليس لنا من الأمر شيء- بل لغيرنا ممن حملنا على الخروج وأكرهنا عليه فحينئذ يمكن أن يكون ذلك جوابا لهذا المقدر، وفيه أنه لا حاجة إلى هذا التقدير على ذلك التقدير أيضا أما إذا كان مرادهم نفي نصر الله تعالى نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه فواضح لأن في هذا القول إثبات ذلك النصر على أتم وجه، وأما إذا كان مرادهم أنه لم يبق لهم من الأمر شيء حيث منعوا تدبير أنفسهم فلأن في ذلك النفي إشعارا بأن لهم تدبيرا وأنهم لو تركوا وتدبيرهم ما غمزت قناتهم وهذا الإثبات متكفل برد ذلك وإبطاله على وجه سترة عليه كما لا يخفى فلا أرى التقدير على ما فيه إلا من ضيق العطن، وقرأ أبو عمرو ويعقوب كُلَّهُ بالرفع على الابتداء والجار متعلق بمحذوف وقع خبرا له، والجملة خبر إِنَّ، وأما على قراءة النصب فكل توكيد لاسم إِنَّ ولِلَّهِ خبرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 وزعم أبو البقاء أنه يجوز أن يكون كُلَّهُ بدلا من الْأَمْرِ وفيه بعد يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أي يضمرون فيها أو يسرون فيما بينهم ما لا يُبْدُونَ لَكَ أي ما لا يستطيعون إظهاره لك، والجملة إما استئناف أو حال من ضمير يَقُولُونَ وقوله سبحانه: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ اعتراض بين الحال وصاحبها أي يقولون ما يقولون مظهرين أنهم مسترشدون طالبون للنصر مبطنين الإنكار والتكذيب وهذا ظاهر على الاحتمال الثاني في الآية الأولى، والذاهب إلى حمل الاستفهام فيها على الإنكار يتعين عنده الاستئناف أو يجوز الخبرية ونحوها أيضا على ما مر، والجملة الجوابية اعتراضية في كل حال سوى احتمال الاستئنافية على الصحيح، وأما جعل هذه الجملة حالا من ضمير قُلْ والرابط لك فلا يخفى حاله يَقُولُونَ أي في أنفسهم أو خفية لبعضهم إذ لو كان القول جهارا لم يكونوا منافقين، والجملة إما بدل من يُخْفُونَ أو استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل: ما الذي أخفوه؟ فقيل ذلك، ورجحه بعض المحققين بأنه أكثر فائدة وبأن القول إذا حمل على ظاهره لم يتفاوت القولان لأن قولهم هَلْ لَنا للمؤمنين ليس في حال قولهم لَوْ كانَ لَنا لأصحابهم، وبدل الحال حال، وأنت تعلم أن هذا الأخير مبني على أن القول الأول كان للمؤمنين وقد علمت أنه غير متعين، وقيل: لأنه لا يجتمع قولان من متكلم واحد، وفيه أن زمان الحال المقارن ليس مبنيا على التضييق كما لا يخفى، ومن هنا علل بعض الفضلاء نفي المقارنة بترتب هذا على ما قبله وعدل عن هذا التعليل فان. لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا على معنى لو كان لنا شيء من ذلك كما وعد محمد وادعى أن الأمر لله تعالى ولأوليائه ما قُتِلْنا فكأن هذا في زعمهم ردّ لما أجيبوا به أولا، ويحتمل أن يكون المراد لو كان لنا اختيار وتدبير لم نبرح كما كان رأي ابن أبيّ وأتباعه، ومعنى ما قُتِلْنا ما غلبنا لأن القائلين ليسوا ممن قتل لاستحالته، ويحتمل أن يكون الإسناد مجازيا بإسناد ما للبعض للكل، فالمعنى لو كان لنا شيء من ذلك ما قتل من قتل منا في هذه المعركة، ثم لا يخفى أن القول بالترتب يستدعي سبق نزول الآية الجوابية وسماعهم لها حتى يتأتى القول بزعم ردها بهذه الشبهة الفاسدة، والظاهر من الآثار عدم نزولها إذ ذاك، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه سئل عن هذه الآية فقال: لما قتل من قتل من أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أتوا عبد الله بن أبيّ فقالوا له: ما ترى فقال: إنا والله ما نؤامر لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا. وأخرج ابن إسحاق وابن المنذر وابن جرير وخلق كثير عن الزبير رضي الله تعالى عنه قال: لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين اشتد الخوف علينا أرسل الله تعالى علينا النوم فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره فو الله إني لأسمع قول معتب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا فحفظتها منه، وفي ذلك أنزل الله تعالى ثم أنزل إلى هاهُنا وقد يقال: إن هذا القول منهم كالاستدلال على القول الأول وإن كلا القولين وقع منهم ابتداء وقصة الله تعالى علينا رادا له وهذا ظاهر على تقدير أن يكون الاستفهام إنكاريا وأما على تقدير أن يكون حقيقيا ففيه خفاء فتأمل قُلْ يا محمد في جواب ذلك لَوْ كُنْتُمْ أيها المنافقون فِي بُيُوتِكُمْ ومنازلكم بالمدينة ولم تخرجوا للقتال بجملتكم لَبَرَزَ أي لخرج لسبب من الأسباب الداعية إلى البروز الَّذِينَ كُتِبَ في اللوح المحفوظ أو قدر في سابق علم الله تعالى عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ في تلك المعركة إِلى مَضاجِعِهِمْ أي مصارعهم التي علم الله تعالى وقدر قتلهم فيها وقتلوا هناك البتة فإن قضاء الله تعالى لا يرد وحكمه لا يعقب، وفيه من المبالغة في ردّ مقالتهم الباطلة ما لا يخفى، وزعم بعض أن الظاهر الأبلغ أن يراد بمن كتب عليهم القتل الكفار القاتلون أي لخرج الذين يقتلون من بين قومهم إلى مضاجع المقتولين ولم ينج أحد منهم مع تحصنهم بالمدينة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 وتحفظهم في بيوتهم ولا يخفى بعده لما فيه من التفكيك، ولأن الظاهر من «عليهم» أنهم مقتولون لا قاتلون، وقيل: المعنى لو لزمتم منازلكم أيها المنافقون والمرتابون وتخلفتم عن القتال لخرج إلى البراز المؤمنون الذين فرض عليهم القتال صابرين محتسبين فيقتلون ويقتلون، ويؤول إلى قولنا: لو تخلفتم عن القتال لا يتخلف المؤمنون، والمضاجع جمع مضجع فإن كان بمعنى المرقد فهو استعارة للمصرع، وإن كان بمعنى محل امتداد البدن مطلقا للحي والميت فهو حقيقة، وقرئ «كتب» بالبناء للفاعل، ونصب «القتل» و «كتب عليهم القتال» و «لبرّز» بالتشديد على البناء للمفعول وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ أي ليختبر الله تعالى ما في صدوركم بأعمالكم فإنه قد علمه غيبا ويريد أن يعلمه شهادة لتقع المجازاة عليه قاله الزجاج، أو ليعاملكم معاملة المبتلى الممتحن قاله غير واحد، وهو خطاب للمؤمنين واللام للتعليل ومدخولها علة لفعل مقدر قبل معطوف على علل أخرى مطوية للإيذان بكثرتها كأنه قيل فعل ما فعل لمصالح جمة وَلِيَبْتَلِيَ إلخ أو لفعل مقدر بعد أي وللابتلاء المذكور فعل ما فعل لا لعدم العناية بشأن أوليائه وأنصار نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم مثلا. والعطف على هذا عند بعض المحققين على قوله تعالى: أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ والفصل بينهما مغتفر لأن الفاصل من متعلقات المعطوف عليه لفظا أو معنى، وقيل: إنه لا حذف في الكلام وإنما هو معطوف على قوله تعالى: لِكَيْلا تَحْزَنُوا أي أثابكم بالغم لأمرين عدم الحزن والابتلاء، واستبعد بأن توسط تلك الأمور محتاج إلى نكتة حينئذ، وهي غير ظاهرة، وأبعد منه بل لا يكاد يقبل العطف على قوله تعالى: لِيَبْتَلِيَكُمْ أي صرفكم عنهم ليبتليكم وليبتلي ما في صدوركم، وجعله بعضهم معطوفا على علة محذوفة وكلتا العلتين لَبَرَزَ الَّذِينَ كأنه قيل: لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ لنفاذ القضاء، أو لمصالح جمة وللابتلاء. واعترض بأن الذوق السليم يأباه فإن مقتضى المقام بيان حكمة ما وقع يومئذ من الشدة والهول لا بيان حكمة البروز المفروض، وإنما جعل الخطاب للمؤمنين لأنهم المعتدّ بهم ولأن إظهار حالهم مظهر لغيرهم. وقيل: إنه لهم وللمنافقين أي ليبتلي ما في سرائركم من الإخلاص والنفاق: وقيل: للمنافقين خاصة لأن سوق الآية لهم وظاهر قوله تعالى: وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ أي ليخلص ما فيها من الاعتقاد من الوسواس، يرجح الأول لأن المنافقين لا اعتقاد لهم ليمحص من الوساوس ويخلص منها، ولعل القائلين بكون الخطاب للمنافقين فقط أو مع المؤمنين يفسرون التمحيص بالكشف والتمييز أي ليكشف ما في قلوبكم من مخفيات الأمور أو النفاق ويميزها، إلا أن حمل التمحيص على هذا المعنى يجعل هذه الجملة كالتأكيد لما قبلها وإنما عبر بالقلوب هنا كما قيل: لأن التمحيص متعلق بالاعتقاد على ما أشرنا إليه وقد شاع استعمال القلب مع ذلك فيقال: اعتقد بقلبه ولا تكاد تسمعهم يقولون اعتقد بصدره أو آمن بصدره، وفي القرآن أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ [المجادلة: 42] وليس فيه كتب في صدورهم الإيمان، نعم يذكر الصدر مع الإسلام كما في قوله تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الزمر: 22] ومن هنا قال بعض السادات: القلب مقر الإيمان، والصدر محل الإسلام، والفؤاد مشرق المشاهدة، واللب مقام التوحيد الحقيقي، ولعل الآية على هذا تؤول إلى قولنا ليبتلي إسلامكم وليمحص إيمانكم، وربما يقال عبر بذلك مع التعبير فيما قبل بالصدور للتفنن بناء على أن المراد بالجمعين واحد. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بما في القلوب التي في الصدور من الضمائر الخفية ووصفت بذلك لأنها لتمكنها من الصدور جعلت كأنها مالكة لها فذات بمعنى صاحبة لا بمعنى ذات الشيء ونفسه، وفي الآية وعد ووعيد أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 أحدهما فقط على الخلاف في الخطاب وفيها تنبيه على أن الله تعالى غني عن الابتلاء وإنما يبرز صورة الابتلاء لحكم يعلمها كتمرين المؤمنين أو إظهار حال المنافقين، واختار الصدور هاهنا لأن الابتلاء الغني عنه سبحانه كان متعلقا بما فيها والتمحيص على المعنى الأول تصفية وتطهير وليس ذلك مما تشعر به هذه الجملة بأنه سبحانه غني عنه وإنما فعله لحكمة، نعم إذا أريد به الكشف والتمييز يصح أن يقال: إن هذه الجملة مشعرة بأنه تعالى غني أيضا. ومن هنا جوّز بعض المحققين كونها حالا من متعلق الفعلين أي فعل ما فعل للابتلاء والكشف، والحال أنه تعالى غني عنهما محيط بخفيات الأمور إلا أنه لا يظهر حينئذ سر التعبير عن الأسرار والخفيات بذات الصدور دون ذات القلوب مع أن التعبير الثاني أولى بها لأن القلوب محلها بلا واسطة ومحلية الصدور لها بحسب الظاهر بواسطة القلوب اللهم إلا أن يقال: إن ذات الصدور بمعنى الأشياء التي لا تكاد تفارق الصدور لكونها حالة فيها بل تلازمها وتصاحبها أشمل من ذات القلوب لصدق الأولى على الأسرار التي في القلوب وعلى القلوب أنفسها لأن كلا من هذين الأمرين ملازم للصدور باعتبار كونه حالا فيها دون الثانية لأنها لا تصدق إلا على الأسرار لأنها الحالة فيها دون الصدور فحينئذ يمكن أن يراد من ذات الصدور هذا المعنى الشامل ويكون التعبير بها لذلك إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا الدبر عن المشركين بأحد مِنْكُمْ أيها المسلمون، أو أن الذين هربوا منكم إلى المدينة يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وهما جمع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. وجمع أبي سفيان. إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ أي طلب منهم الزلل ودعاهم إليه بِبَعْضِ ما كَسَبُوا من ذنوبهم يعني إن الذين تولوا كان السبب في توليتهم أنهم كانوا أطاعوا الشيطان فاقترفوا ذنوبا فمنعوا من التأييد وتقوية القلوب حتى تولوا، وعلى هذا لا يكون الزلل هو التولي بل الذنوب المفضية إليه، وجوز أن يكون الزلل الذي أوقعهم الشيطان فيه ودعاهم إليه هو التولي نفسه، وحينئذ يراد ببعض ما كسبوا إما الذنوب السابقة- ومعنى السببية- انجرارها إليه لأن الذنب يجرّ الذنب كما أن الطاعة تجرّ الطاعة، وإما قبول ما زين لهم الشيطان من الهزيمة وهو المروي عن الحسن، وإما مخالفة أمره صلى الله تعالى عليه وسلم بالثبات في المركز فجرّهم ذلك إلى الهزيمة، وإما الذنوب السابقة لا بطريق الانجرار بل لكراهة الجهاد معها فقد قال الزجاج: إن للشيطان ذكرهم خطايا لهم كرهوا لقاء الله تعالى معها فأخروا الجهاد وتولوا حتى يصلحوا أمرهم ويجاهدوا على حال مرضية، والتركيب على الوجهين من باب تحقيق الخبر كقوله: إن التي ضربت بيتا مهاجرة ... بكوفة الجند غالت ودها غول وليس من باب أن الصفة علة للخبر كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ [لقمان: 8] لأن بِبَعْضِ ما كَسَبُوا يأباه ويحقق التحقيق، وهو أيضا من باب الترديد للتعليق كقوله: صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسها حجر مستة سراء لأن إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ إلخ خبر إن وزيد- إن- للتوكيد وطول الكلام، وما- لتكفها عن العمل، وأصل التركيب إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما تولوا لأن الشيطان استزلهم ببعض إلخ فهو كقولك: إن الذي أكرمك إنما أكرمك لأنك تستحقه، وذكر بعض للإشارة إلى أن في كسبهم ما هو طاعة لا يوجب الاستزلال، أو لأن هذه العقوبة ليست بكل ما كسبوا لأن الكل يستدعي زيادة عليها لكنه تعالى منّ بالعفو عن كثير وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فاطر: 45] وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ. أعاد سبحانه ذكر العفو تأكيدا لطمع المذنبين فيه ومنعا لهم عن اليأس وتحسينا للظنون بأتم وجه، وقد يقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 هذا تأسيس لا تأكيد فتذكر إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ للذنوب صغائرها وكبائرها حَلِيمٌ لا يعاجل بعقوبة المذنب، وقد جاءت هذه الجملة كالتعليل للعفو عن هؤلاء المتولين وكانوا أكثر القوم، فقد ذكر أبو القاسم البلخي أنه لم يبق مع النبي صلّى الله عليه وسلم يوم أحد إلا ثلاثة عشر نفسا خمسة من المهاجرين أبو بكر وعلي وطلحة وعبد الرحمن ابن عوف وسعد بن أبي وقاص، والباقون من الأنصار رضي الله تعالى عنهم أجمعين ومن مشاهير المنهزمين عثمان ورافع بن المعلى وخارجة بن زيد وأبو حذيفة بن عتبة والوليد بن عقبة وسعد وعقبة ابنا عثمان من الأنصار من بني زريق، وروي عن ابن عباس أن الآية نزلت في الثلاثة الأول، وعن غيره غير ذلك ولم يوجد في الآثار تصريح بأكثر من هؤلاء، ولعل الاقتصار عليهم لأنهم بالغوا في الفرار ولم يرجعوا إلا بعد مضي وقت إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى أن منهم من لم يرجع إلا بعد ثلاث، فزعموا أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: لقد ذهبتم بها عريضة، وأما سائر المنهزمين فقد اجتمعوا في ذلك اليوم على الجبل، وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان من هذا الصنف كما في خبر ابن جرير خلافا للشيعة وبفرض التسليم لا تعيير بعد عفو الله تعالى عن الجميع، ونحن لا ندعي العصمة في الصحابة رضي الله تعالى عنهم ولا نشترطها في الخلافة. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وهم المنافقون كعبد الله بن أبيّ وأصحابه قاله السدي. ومجاهد- وإنما ذكر في صدر الجملة كفرهم تصريحا بمباينة حالهم لحال المؤمنين وتنفيرا عن مماثلتهم وهم هم، وفيه دليل على أن الإيمان ليس عبارة عن مجرد الإقرار باللسان- كما يقوله الكرامية- وإلا لما لما سمي المنافق كافرا، وقيل: المراد بالذين كفروا سائر الكفار على العموم أي لا تكونوا كالكفرة في نفس الأمر وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ في المذهب أو النسب، واللام تعليلية أي قالوا لأجلهم، وجعلها ابن الحاجب بمعنى عن، ولا يجوز أن يكون المراد مخاطبة الإخوان كما هو المتبادر لدلالة ما بعد على أنهم كانوا غائبين حين هذا القول، وقول بعضهم: يصح أن يكون جعل القول لإخوانهم باعتبار البعض الحاضرين والضرب الآتي لضرب آخر تكلف لا حاجة إليه سوى كثرة الفضول إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أي سافروا فيها لتجارة، أو طلب معاش فماتوا- قال السدي- وأصل الضرب إيقاع شيء على شيء، واستعمل في السير لما فيه من ضرب الأرض بالرجل، ثم صار حقيقة فيه، وقيل: أصل الضرب في الأرض الإبعاد في السير وهو ممنوع وخص الأرض بالذكر لأن أكثر أسفارهم كان في البر، وقيل: اكتفى بذكر الأرض مرادا بها البر عن ذكر البحر، وقيل: المراد من الأرض ما يشمل البر والبحر وليس بالبعيد، وجيء- بإذا- وحق الكلام إذ كما قالوا لقالوا الدال بهيئته على الزمان المنافي للزمان الدالة عليه إِذا مراعاة لحكاية الحال الماضية، ومعنى ذلك أن تقدر نفسك كأنك موجود في ذلك الزمان الماضي أو تقدر ذلك الزمان كأنه موجود الآن وهذا كقولك: قالوا ذلك حين يضربون والمعنى حين ضربوا إلا أنك جئت بلفظ المضارع استحضارا لصورة ضربهم في الأرض، واعترض بوجهين: الأول أن حكاية الحال إنما تكون حيث يؤتى بصيغة الحال وهذه صيغة استقبال لأن معنى إِذا ضَرَبُوا حين يضربون فيما يستقبل، الثاني أن قولهم: لو كانوا عندنا إنما هو بعد موتهم فكيف يتقيد بالضرب في الأرض. وأجيب عن الأول بأن إِذا ضَرَبُوا في معنى الاستمرار كما في وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة: 14، 76] فيفسد الاستحضار نظرا للحال، وعن الثاني بأن قالُوا لِإِخْوانِهِمْ في موقع جزاء الشرط من جهة المعنى فيكون المعنى لا تكونوا كالذين كفروا، وإذا ضرب إخوانهم فماتوا أَوْ كانُوا غُزًّى فقتلوا قالوا لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا فالضرب والقتل كلاهما في معنى الاستقبال، وتقييد القول بالضرب إنما هو باعتبار الجزء الأخير وهو الموت، والقتل فإنه وإن لم يذكر لفظا لدلالة ما في القول عليه فهو مراد معنى والمعتبر المقارنة عرفا كما في قوله تعالى: فَإِذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ [البقرة: 198] وكقولك إذا طلع هلال المحرم: أتيتك في منتصفه. وقال الزجاج: إِذا هنا تنوب عما مضى من الزمان وما يستقبل يعني أنها لمجرد الوقت أو لقصد الاستمرار والذي يقتضيه النظر الصائب أن لا يجعل إِذا ضَرَبُوا ظرفا لقالوا بل ظرف لما يحصل للإخوان حين يقال لأجلهم وفي حقهم ذلك كأنه قيل: قالوا لأجل الأحوال العارضة للإخوان إِذا ضَرَبُوا بمعنى حين كانوا يضربون قاله العلامة الثاني، وأنت تعلم أن تجريد إِذا عن معنى الاستقبال وجعلها بمعنى الوقت مطلقا كاف في توجيه الآية مزيل لاشكالها، وقصد الاستمرار منها لا يدفع الاعتراض عن ذلك التوجيه لأنها إذا كانت للاستمرار تشمل الماضي فلا تكون لحكاية الحال وكذا إذا كان قالوا جوابا إذ يصير مستقبلا فلا تتأتى فيه الحكاية المذكورة أيضا ويرد على ما اقتضاه النظر الصائب أن دون إثبات صحة مثله في العربية خرط القتاد، وأقعد منه- وإن كان بعيدا- ما قاله أبو حيان من أنه يمكن إقرار إِذا على الاستقبال بأن يقدر العامل فيها مضاف مستقبل على أن ضمير لو كانوا عائدا على إخوانهم لفظا لا معنى على حد عندي درهم ونصفه، والتقدير وَقالُوا مخافة هلاك إخوانهم إِذا ضَرَبُوا أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا أي إخواننا الآخرون الذين تقدم موتهم وقتلهم عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا فتكون هذه المقالة تثبيطا لإخوانهم الباقين عن السفر والغزو لئلا يصيبهم ما أصاب الأولين وإنما لم يحملوا إِذا هنا على الحال كما قيل بحملها عليه بعد القسم نحو وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى [الليل: 1] لتصفوا لهم دعوى حكاية الحال عن الكدر لأن ذلك غير مسلم عند المحققين هناك فقد صححوا فيه بقاءها على الاستقبال من غير محذور، وجوز في الآية كون قالوا بمعنى يقولون وقد جاء في كلامهم استعمال الماضي بمعنى المستقبل ومنه قوله: وإني لآتيكم تشكر ما مضى ... من الأمر واستيجاب ما كان في غد وكذا جوز بقاؤه على معناه وحمل إِذا على الماضي فإنها تجيء له كما جاءت إذا للمستقبل في قول البعض وذلك كقوله تعالى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الجمعة: 11] ، وقوله: وندمان يزيد الكأس طيبا ... سقيت «إذا» تغورت النجوم وحينئذ لا منافاة بين زماني القيد والمقيد فتدبر ذلك كله، والجملة المعينة لوجه الشبه والمماثلة التي نهوا عنها هي الجملة المعطوفة على جملة الصلة والمعنى لا تتشبهوا بالكفار في قولهم لإخوانهم إذا سافروا أَوْ كانُوا غُزًّى جمع غاز كعاف وعفى وهو من نوادر الجمع في المعتل، واستشهد عليه بعضهم بقول امرئ القيس: ومغبرة الآفاق خاشعة الصوى ... لها قلب «عفّى» الحياض أجون ويجمع على غزاة كقاض وقضاة، وعلى غزى مثل حاج وحجيج وقاطن وقطين، وعلى غزاء مثل فاسق وفساق، وأنشدوا له قول تأبط شرا. فيوما «بغزاء» ويوما بسرية ... ويوما بخشخاش من الرجل هيضل وعلى غازون مثل ضارب وضاربون، وهو منصوب بفتحة مقدرة على الألف المنقلبة عن الواو المحذوفة لالتقاء الساكنين إذ أصله غزوا تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا ثم حذفت، وقرئ بتخفيف الزاي قال أبو البقاء: وفيه وجهان، الأول: أن أصله غزاة فحذفت الهاء تخفيفا لأن التاء دليل الجمع، وقد حصل من نفس الصيغة. (والثاني) : أنه أريد قراءة الجمهور فحذفت إحدى الزاءين كراهية التضعيف وذكر هذا الشق مع دخوله فيما قبله لأنه المقصود في المقام وما قبله توطئة له على أنه قيل: قد يوجد بدون الضرب في الأرض بناء على أن المراد به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 السفر البعيد فبين الضرب على هذا وكونهم غزاة عموم من وجه وإنما لم يقل أو غزوا للإيذان باستمرار اتصافهم بعنوان كونهم غزاة أو لانقضاء ذلك أي كانوا غزاة فيما مضى لَوْ كانُوا مقيمين عِنْدَنا بأن لم يسافروا أو يغزوا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا بل كانوا يبقون زيادة على ما بقوا، والجملة الامتناعية في محل النصب مفعول لقالوا ودليل على أن في الكلام السابق مضمرا قد حذف أي إذا ضربوا في الأرض فماتوا أَوْ كانُوا غُزًّى فقتلوا، وتقدير فماتوا، أو قتلوا في كل من الشقين خلاف الظاهر لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ متعلق بقالوا داخل في حيز الصلة ومن جملة المشبه به، والإشارة إلى القول لكن باعتبار ما فيه من الاعتقاد واللام لام العاقبة والمعنى لا تكونوا مثلهم في القول الباطل والمعتقد الفاسد المؤديين إلى الحسرة والندامة والدمار في العاقبة، وإلى هذا يشير كلام الزجاج وأبي علي، وقيل: متعلق- بلا تكونوا- على أنه علة للنهي فهو خارج عن جملة المشبه به لكن القول والمعتقد داخلان فيه أي لا تكونوا مثلهم في النطق بذلك القول واعتقاده ليجعل انتفاء كونكم معهم في ذلك القول والاعتقاد حسرة في قلوبهم خاصة، واعترضه أبو حيان بأنه قول لا تحقيق فيه لأن جعل الحسرة لا يكون سببا للنهي إنما يكون سببا لحصول امتثال النهي وهو انتفاء المماثلة فحصول ذلك الانتفاء والمخالفة فيما يقولون ويعتقدون يحصل عنه ما يغيظهم ويغمهم إذ لم يوافقوهم فيما قالوه واعتقدوه فيترك الضرب في الأرض والغزو. وكأن القائل التبس عليه استدعاء انتفاء المماثلة بحصول الانتفاء وفهم هذا فيه خفاء ودقة. وتعقبه السفاقسي بأنه يلزم على هذا الاعتراض أن لا يجوز نحو لا تعص لتدخل الجنة لأن النهي ليس سببا لدخول الجنة، وكذا لا يجوز أطع الله تعالى لتدخل الجنة لأن الأمر ليس سبب لدخولها. ثم قال: والحق أن اللام تتعلق بالفعل المنهي عنه والمأمور به على معنى أن الكف عن الفعل أو الفعل المأمور به سبب لدخول الجنة ونحوه وهذا لا إشكال فيه، وقيل: متعلق- بلا تكونوا- والإشارة إلى ما دل عليه النهي والكل خارج عن المشبه به والمعنى لا تكونوا مثلهم ليجعل الله انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم وعلى هذا يكون وَقالُوا ابتداء كلام معطوفا على مقدرات شتى كما يقتضيه أقوال المنافقين وأحوالهم وأفعالهم، ووجه اتصاله بما قبله أنه لما وقع التنبيه على عدم الكون مثلهم عم جميع ما يتصل بهم من الرذائل وخص المذكور لكونه أشنع وأبين لنفاقهم أي أنهم أعداء الدين لم يقصروا في المضارة والمضادة بل فعلوا كيت وكيت وقالوا كذا وكذا، ومن هذا يعلم ما في تلك المقدرات، وعلى كل من الأوجه الثلاثة يكون الضمير المجرور في قلوبهم عائدا إلى الكافرين، وذكر القلوب مع أن الحسرة لا تكون إلا فيها لإرادة التمكن والإيذان بعدم الزوال. وجوز ابن تمجيد رجوع الضمير إلى المؤمنين واللام متعلقة- بقالوا- حينئذ لا غير، ووجه الآية بما يقضي منه العجب وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ ردّ لقولهم الباطل إثر بيان غائلته أي والله هو المؤثر الحقيقي في الحياة والممات وحده لا الإقامة أو السفر فإنه تعالى قد يحيي المسافر والغازي مع اقتحامهما موارد الحتوف ويميت المقيم والقاعد وإن كانا تحت ظلال النعيم، وليس المراد أنه تعالى يوجد الحياة والممات وإن كان هو الظاهر لأن الكلام ليس فيه ولا يحصل به الرد وإنما الكلام في إحداث ما يؤثرهما، وقيل: المراد أنه تعالى يحيي ويميت في السفر والحضر عند حضور الأجل ولا مؤخر لما قدم ولا مقدم لما أخر، ولا راد لما قضى ولا محيص عما قدر، وفيه منع المؤمنين عن التخلف في الجهاد لخشية القتل والواو للحال فلا يرد أنه لا يصح عطف الإخبار على الإنشاء. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ترغيب في الطاعة وترهيب عن المعصية أو تهديد للمؤمنين على أن يماثلوا الكفار لأن رؤية الله تعالى كعلمه تستعمل في القرآن للمجازاة على المرئي كالمعلوم، والمؤمنون وإن لم يماثلوهم فيما ذكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 لكن ندمهم على الخروج من المدينة يقتضيه، وقرأ ابن كثير وأهل الكوفة- غير عاصم- يعملون بالياء، وضمير الجمع حينئذ للكفار، والعمل عام متناول للقول المذكور ولمنشئه الذي هو الاعتقاد الفاسد ولما ترتب على ذلك من الأعمال ولذلك تعرض لعنوان البصر لا لعنوان السمع وإظهار الاسم الجليل لما مر غير مرة وكذا تقديم الظرف. هذا (ومن باب الإشارة) وَكَأَيِّنْ وكم مِنْ نَبِيٍّ مرتفع القدر جليل الشأن وهو في الأنفس الروح القدسية قاتَلَ مَعَهُ عدو الله تعالى أعني النفس الأمارة رِبِّيُّونَ متخلقون بأخلاق الرب وهم القوى الروحانية فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وطريق الوصول إليه من تعب المجاهدات وَما ضَعُفُوا في طلب الحق وَمَا اسْتَكانُوا وما خضعوا للسوى وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ على مقاساة الشدائد في جهاد النفس وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا استر لنا وجوداتنا بإفاضة أنوار الوجود الحقيقي علينا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا أي تجاوزنا حدود ظاهر الشريعة عند صدمات التجليات وَثَبِّتْ أَقْدامَنا في مواطن حروب أنفسنا وَانْصُرْنا بتأييدك وإمدادك عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ الساترين لربوبيتك فَآتاهُمُ اللَّهُ بسبب دعائهم بألسنة الاستعدادات والانقطاع إليه تعالى ثَوابَ الدُّنْيا وهو مرتبة توحيد الأفعال وتوحيد الصفات وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وهو مقام توحيد الذات وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ في الطلب الذين لا يلتفتون إلى الأغيار يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الإيمان الحقيقي إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا وهم النفوس الكافرة وصفاتها يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ إلى أسفل سافلين وهو سجين البهيمية فَتَنْقَلِبُوا ترجعوا القهقري خاسِرِينَ أنفسكم بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ ناصركم وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ لمن عول عليه وقطع نظره عمن سواه سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ أي الخوف بِما أَشْرَكُوا أي بسبب إشراكهم بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ أي بوجوده سُلْطاناً أي حجة إذ لا حجة على وجوده حتى ينزلها لتحقق عدمه بحسب ذاته، وجعل سبحانه إلقاء الرعب في قلوبهم مسببا عن شركهم لأن الشجاعة وسائر الفضائل اعتدالات في قوى النفس عند تنورها بنور القلب المنور بنور التوحيد فلا تكون تامة حقيقية إلا للموحد الموقن، وأما المشرك فمحجوب عن منبع القوة بما أشرك ما لا وجود ولا ذات في الحقيقة له فهو ضعيف عاذ بقر ملة وَمَأْواهُمُ النَّارُ وهي نار الحرمان وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ الذين وضعوا الشيء في غير موضعه وعبدوا أسماء سموها ما أنزل الله تعالى بها من كتاب وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ المشروط بالصبر والتقوى إِذْ تَحُسُّونَهُمْ أي تقتلون جنود الصفات البشرية قتلا ذريعا بِإِذْنِهِ وأمره لا على وفق الطبع حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ جبنتم عند تجلي الجلال وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وخالفتم في أمر الطلب وَعَصَيْتُمْ المرشد المربي مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ من الفوز بأنوار الحضرة مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا لقصور همته وضعف رأيه وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ لطول باعه وقوة عقله ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ أي عن أعداء نفوسكم وجنودها لِيَبْتَلِيَكُمْ أي يمتحنكم بالستر بعد التجلي بأنوار المشاهدات والصحو بعد السكر بأقداح الواردات والفطام بعد إرضاع ألبان الملاطفات كما يقتضي ذلك الجلال وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ بعد ذلك فانقطعتم إليه كما هو مقتضى الجمال وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ على المؤمنين في طوري التقريب والإبعاد، وما ألطف قول من قال: فقسا ليزدجروا ومن يك حازما ... فليقس أحيانا على من يرحم إِذْ تُصْعِدُونَ في جبل التوجه إلى الحق وَلا تَلْوُونَ أي لا تلتفتون عَلى أَحَدٍ من الأمرين الدنيا والآخرة وَالرَّسُولُ أي رسول الواردات يَدْعُوكُمْ إليّ عباد الله إليّ عباد الله فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ فجازاكم بدل غم الدنيا والآخرة بغم طلب الحق لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ من زخارف الدنيا وَلا ما أَصابَكُمْ من صدمات تجلي القهر وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ لأنه سبحانه أقرب إليكم منكم ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 أي واردا من ألطافه ظهر في صورة النعاس وهو السكينة الرحمانية يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وهم الصادقون في الطلب وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ وهم أرباب النفوس فإنهم لا هم لهم سوى حظ نفوسهم واستيفاء لذاتها يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ بمقتضى سوء استعدادهم يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ أي إن الخلق حالوا بيننا وبين التدبير ولو لم يحولوا لفعلنا ما به صلاحنا قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ فهو المتصرف وحده حسبما يقتضيه الاستعداد فلا تدبير مع تدبيره ولا وجود لأحد سواه يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ الخبيثة ما لا يُبْدُونَ بزعمهم لك أيها المرشد الكامل يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا بسيف الشهوات هاهُنا أي في هذه النشأة قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ وهي منازل العدم الأصلي قبل ظهور هذه التعينات لَبَرَزَ على حسب العلم الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ في لوح الأزل إِلى مَضاجِعِهِمْ وهي بيداء الشهوات، فقد قال سبحانه: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها [الحديد: 22] أي نظهرها بهذا التعين، وإنما فعل سبحانه ما فعل لحكم شتى وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ تعالى ما فِي صُدُورِكُمْ أي ليمتحن ما في استعدادكم من الصدق والإخلاص والتوكل ونحو ذلك من الأخلاق ويخرجها من القوة إلى الفعل وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ أي يخلص ما برز من مكمن الصدر إلى مخزن القلب من غش الوساوس وخواطر النفس فإن البلاء سوط يسوق الله تعالى به عباده إليه، ولهذا ورد «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل» ولله تعالى در من قال: لله در النائبات فإنها ... صدأ اللئام وصيقل الأحرار ما كنت إلا زبرة فطبعنني ... سيفا وأطلع صرفهن غراري وذلك لأنهم حينئذ ينقطعون إلى الحق ولا يظهر على كل منهم إلا ما في مكمن استعداده كما قيل: عند الامتحان يكرم الرجل أو يهان، والخطاب في كلا الموضعين للمؤمنين، وقيل: إن الخطاب الأول للمنافقين، والثاني للمؤمنين وأنه سبحانه إنما خص الصدور بالأولين لأن الصدر معدن الغل والوسوسة فهو أوفق بحال المنافقين، وخص القلوب بالآخرين لأن القلب مقر الإيمان والاطمئنان وهو أوفق بحال المؤمنين وأن نسبة الإسلام باللسان إلى الإيمان بالجنان كنسبة الصدر إلى القلب قيل: ولهذا قال سبحانه: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بناء على أن المراد به الترهيب والتحذير عن الاتصال بما لا يرضى من تلك الصفات التي يكون الصدر مكمنا لها إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ جمع الروح وقواها وجمع النفس وقواها إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا من الذنوب لأنها تورث الظلمة والشيطان لا مجال له على ابن آدم بالتزيين والوسوسة إلا إذا وجد ظلمة في القلب، ولك أن تبقي الجمعين على ظاهرهما وباقي الإشارة بحاله وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ حين استنارت قلوبهم بنور الندم والتوبة إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ وبمقتضى ذلك ظهرت المخالفات وأردفت بالتوبة ليكون ذلك مرآة لظهور صفات الله تعالى. ومن هنا جاء «لو لم تذنبوا لأتى الله تعالى بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم» . وحكي أن إبراهيم بن أدهم رضي الله تعالى عنه أكثر ليلة في الطواف من قوله: اللهم اعصمني من الذنوب فسمع هاتفا من قلبه يقول: يا إبراهيم أنت تسأله العصمة وكل عباده يسألونه العصمة فإذا عصمكم على من يتفضل وعلى من يتكرم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا برؤية الأغيار واعتقاد تأثير السوي، وقالوا لأجل إخوانهم إذا ضربوا في الأرض إذا فارقوهم بترك ما هم عليه وسافروا في أرض نفوسهم وسلكوا سبيل الرشاد أَوْ كانُوا غُزًّى أي مجاهدين مع أعدى أعدائهم وهي نفوسهم التي بين جنوبهم وقواها وجنودها من الهوى والشيطان لَوْ كانُوا مقيمين عِنْدَنا موافقين لنا ما ماتُوا بمقاساة الرياضة وَما قُتِلُوا بسيف المجاهدة، ولاستراحوا من هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 النصب لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ أي عدم الكون مثلهم حَسْرَةً يوم القيامة فِي قُلُوبِهِمْ حين يرون ما أعد الله تعالى لكم وَاللَّهُ يُحْيِي من يشاء بالحياة الأبدية وَيُمِيتُ من يشاء بموت الجهل والبعد عن الحضرة وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ تحذير عن الميل إلى قول المنكرين واعتقادهم وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ أيها المؤمنون فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في الجهاد أَوْ مُتُّمْ حتف الأنف وأنتم متلبسون به فعلا أو نية. لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ أي الكفار من منافع الدنيا ولذاتها مدة أعمارهم وهذا ترغيب للمؤمنين في الجهاد وأنه مما يجب أن يتنافس فيه المتنافسون، وفيه تعزية لهم وتسلية مما أصابهم في سبيل الله تعالى إثر إبطال ما عسى أن يثبطهم عن إعلاء كلمة الله تعالى، واللام الأولى هي موطئة للقسم، والثانية واقعة في جواب القسم، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ووفائه بمعناه- ومغفرة- مبتدأ ومِنَ متعلقة بمحذوف وقع صفة لها ووصفت بذلك إظهارا للاعتناء بها ورمزا إلى تحقق وقوعها، وذهب غير واحد إلى تقدير صفة أخرى أي لمغفرة لكم من الله، وحذفت صفة رَحْمَةٌ لدلالة المذكور عليها والتنوين فيهما للتقليل ولا ينافي ذلك ما يشير إليه الوصف، وثبوت أصل الخيرية لما يجمعه الكفار كما يقتضيه أفعل التفضيل إما بناء على أن الذي يجمعونه في الدنيا قد يكون من الحلال الذي يعد خيرا في نفس الأمر. وإما أن ذلك وارد على حسب قولهم ومعتقدهم أن تلك الأموال خير، وجوز في- ما- أن تكون موصولة، أو نكرة موصوفة والعائد محذوف، أو مصدرية ويكون المفعول حينئذ محذوف أي من جمعهم المال، وقرأ نافع وأهل الكوفة- غير عاصم- «متّم» بالكسر ووافقهم حفص في سائر المواضع إلا هاهنا، وقرأ الباقون بضم الميم وهو على الأول من مات يمات مثل خفتم من خاف يخاف، وعلى الثاني من مات يموت مثل كنتم من كان يكون، وقرأ حفص عن عاصم يَجْمَعُونَ بالياء على صيغة الغيبة، وقرأ الباقون «تجمعون» بالتاء على صيغة الخطاب والضمير للمؤمنين، وقدم القتل على الموت لأنه أكثر ثوابا وأعظم عند الله تعالى، فترتب المغفرة والرحمة عليه أقوى وعكس في قوله سبحانه: وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ لأن الموت أكثر من القتل وهما مستويان في الحشر، والمعنى أنكم بأي سبب اتفق هلاككم تحشرون إلى الله تعالى لا إلى غيره فيجزي كلّا منكم كما يستحق فيجازي المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته وليس غيره يرجى منه ثواب، أو يتوقع منه دفع عقاب فآثروا ما يقرّبكم إليه ويجرّ لكم رضاه من العمل بطاعته والجهاد في سبيله ولا تركنوا إلى الدنيا، ومما ينسب للحسين رضي الله تعالى عنه: فإن تكن الأبدان للموت أنشئت ... فقتل امرئ بالسيف والله أفضل والكلام في اللامين كالكلام في أختيهما بلامين، وإدخال لام القسم على المعمول المقدم مشعر بتأكيد الحصر والاختصاص بأن ألوهيته تعالى هي التي تقتضي ذلك، وادعى بعضهم أن تقديم هذا المعمول لمجرد الاهتمام ويزيده حسنا وقوع ما بعده فاصلة، وما أشرنا إليه أولا أولى، قالوا: ولولا هذا التقديم لوجب توكيد الفعل بالنون لأن المضارع المثبت إذا كان مستقبلا وجب توكيده مع اللام خلافا للكوفيين حيث يجوزون التعاقب بينهما وظاهر صنيع بعض المحققين يشعر بأن في هذه الجملة مقدرا بقرينة ما قبله أي ولئن متم أو قتلتم في سبيل الله، ولعل الحمل على العموم أولى، وزعم بعض أن في الآية تقسيم مقامات العبودية إلى ثلاثة أقسام، فمن عبد الله تعالى خوفا من ناره آمنه مما يخاف وإليه الإشارة بقوله تعالى: لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ ومن عبد الله تعالى شوقا إلى جنته أناله ما يرجو، وإليه الإشارة بقوله سبحانه: وَرَحْمَةٌ لأن الرحمة من أسماء الجنة، ومن عبد الله تعالى شوقا إلى وجهه الكريم لا يريد غيره فهو العبد المخلص الذي يتجلى عليه الحق جل جلاله في دار كرامته، وإليه الإشارة بقوله عز اسمه: لَإِلَى اللَّهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 تُحْشَرُونَ ولا يخفى أنه من باب التأويل لا من قبيل التفسير فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ خطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم والفاء لترتيب مضمون الكلام على ما ينبئ عنه السياق من استحقاق الفارّين الملامة والتعنيف منه صلى الله تعالى عليه وسلم بمقتضى الجبلة البشرية حيث صدروا عنه وحياض الأهوال مترعة وشمروا للهزيمة والحرب قائمة على ساق، أو من سعة فضاء مغفرته ورحمته والباء متعلقة- بلنت- والتقديم للقصر،- وما- مزيدة للتأكيد وعليه أجلة المفسرين، وهو المأثور عن قتادة، وحكى الزجاج الإجماع عليه وفيه نظر، فقد قال الأخفش وغيره: يجوز أن تكون نكرة بمعنى شيء، ورَحْمَةٍ بدل منها، وجوز أن تكون صفة لها، وقيل: إنها استفهامية للتعجب والتقدير فبأي رحمة لنت لهم، والتنوين في رحمة على كل تقدير للتفخيم ومِنَ متعلقة بمحذوف وقع صفة لها أي فَبِما رَحْمَةٍ عظيمة كائنة من الله تعالى كنت لين الجانب لهم ولم تعنفهم، ولعل المراد بهذه الرحمة ربطه سبحانه وتعالى على جأشه صلى الله تعالى عليه وسلم وتخصيصه له بمكارم الأخلاق، وجعل الرفق ولين الجانب مسببا عن ربط الجأش لأن من ملك نفسه عند الغضب كان كامل الشجاعة. قيل: وأفاد الكلام في هذا المقام فائدتين: إحداهما ما يدل على شجاعته صلى الله تعالى عليه وسلم، والثانية ما يدل على رفقه فهو من باب التكميل، وقد اجتمعت فيه صلى الله تعالى عليه وسلم هاتان الصفتان يوم أحد حيث ثبت حتى كر عليه أصحابه مع أنه عراه ما عراه ثم ما زجرهم ولا عنفهم على الفرار بل آساهم في الغم وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا أي خشن الجانب شرس الأخلاق جافيا في المعاشرة قولا وفعلا غَلِيظَ الْقَلْبِ أي قاسيه، وقال الكلبي: فَظًّا في الأقوال غَلِيظَ الْقَلْبِ في الأفعال. وذكر بعضهم أن الفظ سيئ الخلق في الأمور الظاهرة من الأقوال والأفعال، وغَلِيظَ الْقَلْبِ السيئ في الأمور الباطنة، والثاني سبب للأول وقدم المسبب لظهوره إذ هو الذي يطلع عليه ويمكن أن يقال المراد لو كنت على خلاف تينك الصفتين المعبر عنهما بالرحمة وهو التهور المشار إليه بالفظاظة وسوء الأخلاق المرموز إليه بغلظ القلب فإن قساوة القلب وعدم تأثره يتبعها كل صفة ذميمة، ولهذا ورد أبعد القلوب عن الله تعالى القلوب القاسية وكأنه لبعده صدّر بيمكن وعلى كل تقدير في الكلام حذف أي ولو كنت فظا غليظ القلب فلم تلن لهم وأغلظت عليهم لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ أي لتفرقوا عنك ونفروا منك ولم يسكنوا إليك وتردّوا في مهاوي الردى ولم ينتظم أمر ما بعثت به من هدايتهم وإرشادهم إلى الصراط فَاعْفُ عَنْهُمْ مترتب على ما قبله أي إذا كان أمر كذلك فاعف عنهم فيما يتعلق بحقوقك وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ الله تعالى فيما يتعلق بحقوقه سبحانه وتعالى إتماما للشفقة وإكمالا للتربية وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ أي في الحرب أخرجه ابن أبي حاتم من طريق ابن سيرين عن عبيدة وهو المناسب للمقام، أو فيه وفي أمثاله مما تجري فيه المشاورة عادة، وإليه ذهب جماعة، واختلف في مشاورته صلى الله تعالى عليه وسلم لأصحابه رضي الله تعالى عنهم في أمر الدين إذا لم يكن هناك وحي فمن أبى الاجتهاد له صلى الله تعالى عليه وسلم ذهب إلى عدم جوازها ومن لا يأباه- وهو الأصح- ذهب إلى جوازها، وفائدتها الاستظهار برأيهم، ويؤيد ذلك ما أخرجه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن غنم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر: «لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما» أو التطييب لأنفسهم، وإليه ذهب قتادة، فقد أخرج ابن جرير عنه أنه قال: أمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه في الأمور وهو يأتيه وحي السماء لأنه أطيب لأنفس القوم، أو أن تكون سنة بعده لأمته، وإليه ذهب الحسن، فقد أخرج البيهقي عنه أنه قال في الآية: قد علم الله تعالى ما به إليهم حاجة ولكن أراد أن يستن به من بعده، ويؤيده ما أخرجه ابن عدي والبيهقي في الشعب بسند حسن عن ابن عباس قال: لما نزلت وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ قال رسول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 الله صلّى الله عليه وسلم: «أما إن الله ورسوله لغنيان عنها ولكن جعلها الله تعالى رحمة لأمتي فمن استشار منهم لم يعدم رشدا ومن تركها لم يعدم غيا» وقيل: فائدة ذلك أن يمتحنهم فيتميز الناصح من الغاش وليس بشيء، وادعى الجصاص أن كون الأمر بالمشاورة على جهة تطييب النفوس مثلا غير جائز لأنه لو كان معلوما عندهم أنهم إذا استفرغوا مجهودهم في استنباط الصواب عما سئلوا عنه ثم لم يكن معمولا به لم يكن في ذلك تطييب نفوسهم بل فيه إيحاشهم بأن آراءهم غير مقبولة ولا معوّل عليها وجزم بأنه لا بد أن يكون لمشاورته صلى الله تعالى عليه وسلم إياهم فائدة هي الاستظهار بما عندهم وأن يكون للنبي صلّى الله عليه وسلم معهم ضرب من الاجتهاد فما وافق رأيه عمل به وما خالفه ترك من غير لوم، وفيه إرشاد للاجتهاد وجوازه بحضرته صلّى الله عليه وسلم وإشعار بمنزلة الصحابة وأنهم كلهم أهل اجتهاد وأن باطنهم مرضي عند الله تعالى انتهى، وفيه نظر إذ لا خفاء على من راجع وجدانه أن في قول الكبير للصغير ماذا ترى في أمر كذا وماذا عندك فيه تطييبا لنفسه وتنشيطا لها لاكتساب الآراء وإعمال الفكر لا سيما إذا صادف رأيه رأي الكبير أحيانا وإن لم يكن العمل برأيه الموافق بل العمل بالرأي الموافق، وما ادعاه من أن الرأي إذا لم يكن معمولا به كان فيه إيحاش غير مسلم لا سيما فيما نحن فيه لعلم الصحابة رضي الله تعالى عنهم بعلو شأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأن عقولهم بالنسبة إلى عقله الشريف كالسها بالنسبة إلى شمس الضحى، على أن من قال: إن فائدة المشاورة تطييب النفس أشار إلى أن الوحي يأتيه فهو غني عنها، وحينئذ يكون قصد التطييب أتم وأظهر لما في المشاورة إذ ذاك من تعريضهم لما يمكن أن يوافق الوحي والإيحاش بعدم العمل هنا أبعد لأن مستنده اتباع الوحي ومعلوم لديهم أنه أولى بالاتباع لأنه من قبل الله تعالى اللطيف الخبير كما لا يخفى، ثم ما ذكر من أن في ذلك إشعارا بأن الصحابة كلهم أهل اجتهاد في حيز المنع لأن أمر السلطان مثلا لعامله أن يشاور أهل بلده في أموره لا يستدعي أن يشاور كل واحد واحد منهم في ذلك بل لا يكاد أن يكون ذلك مرادا أصلا بل المراد أن يشاور أهل الآراء منهم والمتدربين فيهم، وكون الصحابة كلهم كذلك أول المدعى، ودون إثباته وقعة الجمل وحرب صفين. ويؤيد كون المراد من الصحابة- المأمور صلى الله تعالى عليه وسلم بمشاورتهم أهل الرأي والتدبير لا مطلقا بما أخرجه الحاكم وصححه. والبيهقي في سننه عن ابن عباس أنه قال في وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ: أبو بكر، وعمر، ومن طريق الكلبي عن أبي صالح عن الحبر أن الآية نزلت فيهما، نعم لو كانت المشاورة لمجرد تطييب النفوس دون الاستظهار كان لمشاورة أي واحد منهم وإن لم يكن من أرباب الرأي وجه لكن الجصاص لم يبن كلامه على ذلك. بقي أن بين ما أخرجه الإمام أحمد من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم للعمرين رضي الله تعالى عنهما: «لو اجتمعتما على مشورة ما خالفتكما» وما أخرجه ابن عدي والبيهقي من قوله عليه الصلاة والسلام عند نزول الآية «أما إن الله ورسوله لغنيان عنها ولكن جعلها الله تعالى رحمة لأمتي» تنافيا إلا أن يحمل خبر عدم مخالفتهما لو اجتمعا على الإشارة إلى رفعة قدرهما وعلو شأنهما وأن اجتماعهما على أمر لا يكون إلا موافقا لما عند الله تعالى وهو الذي عليه المعول وبه العمل، وكأن في قوله صلّى الله عليه وسلم: «وما خالفتكما» دون لعملت بقولكما مثلا نوع إشعار بما قلنا فتدبر، وقرأ ابن عباس كما أخرج البخاري في الأدب المفرد عنه وَشاوِرْهُمْ فِي بعض الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ أي إذا عقدت قلبك على الفعل وإمضائه بعد المشاورة كما تؤذن به الفاء. فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي فاعتمد عليه وثق به وفوض أمرك إليه فإنه الأعلم بما هو الأصلح، وأصل التوكل إظهار العجز والاعتماد على الغير والاكتفاء به في فعل ما يحتاج إليه، وهو عندنا على الله سبحانه لا ينافي مراعاة الأسباب بل يكون بمراعاتها مع تفويض الأمر إليه تعالى شأنه و «اعقلها وتوكل» يرشد إلى ذلك، وعند ساداتنا الصوفية هو إهمال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 التدبير بالكلية، وعن خالد بن زيد أنه قرأ فَإِذا عَزَمْتَ بصيغة المتكلم، والمعنى فإذا قطعت لك بشيء وعينته لك فتوكل علي ولا تشاور به أحدا، والالتفات لتربية المهابة وتعليل التوكل والأمر به فإن عنوان الألوهية الجامعة لجميع صفات الكلام مستدعى للتوكل عليه سبحانه والأمر به. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ عليه الواثقين به المنقطعين إليه فينصرهم ويرشدهم إلى ما هو خير لهم كما تقتضيه المحبة، والجملة تعليل للتوكل عليه سبحانه، وقد روعي في الآية حسن الترتيب وذلك لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم أمر أولا بالعفو عنهم فيما يتعلق بخاصة نفسه فإذا انتهوا إلى هذا المقام أمر أن يستغفر لهم ما بينهم وبين الله تعالى لتنزاح عنهم التبعتان فلما صاروا إلى هنا أمر بأن يشاورهم في الأمر إذ صاروا خالصين من التبعتين مصفين منهما، ثم أمر صلّى الله عليه وسلم بعد ذلك بالتوكل على الله تعالى والانقطاع إليه لأنه سبحانه السند الأقوم والملجأ الأعظم الذي لا تؤثر الأسباب إلا به ولا تنقضي الحاج إلا عند بابه إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ جملة مستأنفة سيقت بطريق تلوين الخطاب تشريفا للمؤمنين لإيجاب التوكل عليه والترغيب في طاعته التي يستحق بها النصرة والتحذير عن معصيته التي يستحق بها الخذلان أي أن يرد نصركم كما أراده يوم بدر فلا أحد يغلبكم على طريق نفي الجنس المنتظم بجميع أفراد الغالب ذاتا وصفة فهو أبلغ من لا يغلبكم أحد لدلالته على نفي الصفة فقط. ثم المفهوم من ظاهر النظم الكريم- كما قال شيخ الإسلام- وإن كان نفي مغلوبيتهم من غير تعرض لنفي المساواة أيضا وهو الذي يقتضيه المقام لكن المفهوم منه فهما قطعيا هو نفي المساواة وإثبات الغالبية للمخاطبين، فإذا قلت: لا أكرم من فلان ولا أفضل منه بالمفهوم منه حتما أنه أكرم من كل كريم وأفضل من كل فاضل وهذا أمر مطرد في جميع اللغات ولا اختصاص بالنفي الصريح بل هو مطرد فيما ورد على طريق الاستفهام الإنكاري كما في قوله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الأنعام: 144، الأعراف: 37، يونس: 17، الكهف: 15] في مواقع كثيرة من التنزيل وقد أشرنا إلى هذا المبحث فيما تقدم وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ أي وإن يرد خذلانكم ويمنعكم معونته كما فعل يوم أحد. وقرئ «يخذلكم» من أخذله إذا جعله مخذولا فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ استفهام إنكاري مفيد لانتفاء الناصر على نحو انتفاء الغالب، وقيل: وجاء جواب الشرط في الأول صريح النفي ولم يجيء في الثاني كذلك تلطفا بالمؤمنين حيث صرح لهم بعدم الغلبة ولم يصرح بأنه لا ناصر لهم وان كان الكلام مفيدا له مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد خذلانه أو من بعد الله تعالى على معنى إذا جاوزتموه فعلى الأول- بعد- ظرف زمان وهو الأصل فيها، وعلى الثاني مستعار للمكان وَعَلَى اللَّهِ لا على غيره كما يؤذن بذلك تقديم المعمول. فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ المراد بهم إما جنس المؤمنين والمخاطبون داخلون فيه دخولا أوليا، وإما المخاطبون خاصة بطريق الالتفات على التقديرين لا يخفى ما في ذلك من تشريف المخاطبين مع الإيماء إلى تعليل تحتم التوكل عليه تعالى، والفاء كما قالوا: لترتيب ما بعدها أو الأمر به على ما مرّ من غلبة المؤمنين ومغلوبيتهم على تقدير نصر الله تعالى لهم وخذلانه إياهم فإن العلم بذلك مما يستدعي قصر التوكل عليه سبحانه لا محالة. وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ أي ما صح ولا استقام لنبي من الأنبياء أن يخوف في المغنم لأن الخيانة تنافي النبوة وأصل الغل الأخذ بخفية ولذا استعمل في السرقة ثم خص في اللغة بالسرقة من المغنم قبل القسمة وتسمى غلولا أيضا، قيل: وسميت بذلك لأن الأيدي فيها مغلولة أي ممنوعة مجعول فيها غل وهي الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 عنقه، ويقال لها: جامعة أيضا، وقال الرماني، وغيره أصل الغلول من الغلل وهو دخول الماء في خلل الشجر، وسميت الخيانة غلولا لأنها تجري في الملك على خفاء من غير الوجه الذي يحل، ومن ذلك الغل للحقد، والغليل لحرارة العطش، والغلالة للشغار، والمراد تنزيه ساحة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على أبلغ وجه عما ظن به الرماة يوم أحد فقد حكى الواحدي عن الكلبي، ومقاتل أن الرماة حين تركوا المركز يومئذ طلبا للغنيمة قالوا: نخشى أن يقول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: من أخذ شيئا فهو له وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسم يوم بدر فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: «ظننتم أنا نغلّ ولا نقسم لكم» ولهذا نزلت الآية، أو تنزيهه صلى الله تعالى عليه وسلم عما اتهمه به بعض المنافقين يوم بدر، فقد أخرج أبو داود والترمذي وابن جرير وحسناه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه قال: نزلت هذه الآية في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر فقال بعض الناس: لعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أخذها، والرواية الأولى أوفق بالمقام، وارتباط الآية بما قبلها عليها أتم لأن القصة أحدية إلا أن فيها إشعارا بأن غنائم بدر لم تقسم وهو مخالف لما سيأتي في الأنفال وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه، والرواية الثانية أولى بالقبول عند أرباب هذا الشأن، ويحتمل أن يكون المراد المبالغة في النهي عن الغلول، فقد أخرج ابن أبي شيبة في المصنف. وابن جرير مرسلا عن الضحاك قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم طلائع فغنم النبي صلّى الله عليه وسلم غنيمة فقسم بين الناس ولم يقسم للطلائع شيئا فلما قدمت الطلائع قالوا قسم النبي صلّى الله عليه وسلم ولم يقسم لنا فأنزل الله تعالى الآية، فالمعنى ما كان لنبي أن يعطي قوما من العسكر ويمنع آخرين بل عليه أن يقسم بين الكل بالسوية، وعبر سبحانه عن حرمان بعض الغزاة بالغلول فطما عن هذا الفعل بالكلية، أو تعظيما لشأنه صلّى الله عليه وسلم، وجعل بعضهم الكلام على هذا الاحتمال على حدّ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] خوطب به صلّى الله عليه وسلم وأريد غيره ممن يفعل مثل هذا بعد النهي عنه- ولا يخفى بعده- والصيغة على الاحتمال الأول إخبار لفظا ومعنى لكنها لا تخلو عن رمز إلى نهي عن اعتقاد ذلك في تلك الحضرة المقدسة وعلى الاحتمال الأخير خبر أجري مجرى الطلب، وقد وردت هذه الصيغة نهيا في مواضع من التنزيل كقوله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى [الأنفال: 67] ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة: 113] وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ [الأحزاب: 53] وكذا للامتناع العقلي كقوله تعالى: ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ [مريم: 35] وما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها [النمل: 60] وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب- أن يغل- على صيغة البناء للمفعول، وفي توجيهها ثلاثة أوجه، أحدها أن يكون ماضيه أغللته أي نسبته إلى الغلول كما تقول أكفرته أي نسبته إلى الكفر قال الكميت: وطائفة قد «أكفرتني» بحبكم ... وطائفة قالت مسيء ومذنب والمعنى ما صح لنبي أن ينسبه أحد إلى الغلول، وثانيها أن يكون من أغللته إذا وجدته غالا كقولهم أحمدته وأبخلته وأجبنته بمعنى وجدته كذلك والمعنى ما صح لنبي أن يوجد غالا، وثالثها أنه من غل إلى أن المعنى ما كان لنبي أن يغله غيره أي يخونه ويسرق من غنيمته، ولعل تخصيص النبي بذلك وإن كان لا يجوز أن يغل غيره من إمام أو أمير إما لعظم خيانته أو لأنه القائم بأمر الغنائم فإذا حرمت الخيانة عليه وهو صاحب الأمر فحرمتها على غيره أولى كذا قيل، وأنت تعلم أنه لا حاجة إلى توجيه التخصيص بما ذكر بعد الالتفات إلى سبب النزول والنظر إلى ما سيأتي بعد. ومن الناس من زعم أن الآية نزلت في أداء الوحي قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ القرآن وفيه عيب دينهم وسب آلهتهم فسألوه أن يطوي ذلك فأنزل الله تعالى الآية، ولا يخفى أنه بعيد جدا- ولا أدري كيف سند هذه الرواية- ولا أظن الخبر إلا موضوعا، ويزيده بعدا بل لا يكاد يجوزه قوله تعالى: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ وهو جملة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 شرطية مستأنفة لا محل لها من الإعراب، وما- موصولة والعائد محذوف أي بالذي غله، وجوز أن تكون حالا ويكون التقدير في حال علم الغال بعقوبة الغلول، وظاهر الآثار يدل على أن الإتيان على ظاهره، فقد أخرج الشيخان والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «قام فينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوما فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ثم قال: ألا لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول: يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك من الله تعالى شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة فيقول: يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق فيقول: يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول: يا رسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك من الله تعالى شيئا قد أبلغتك» والأخبار بهذا المعنى كثيرة ولعل السر في ذلك أن يفضح به على رؤوس الأشهاد زيادة في عقوبته، وإلى هذا ذهب الجبائي، ولا مانع من ذلك عقلا. والاستبعاد غير مفيد وقد وقع ما يشعر بالاستبعاد قديما فقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أن رجلا قال له: أرأيت قول الله تعالى: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ هذا يغل ألف درهم وألفي درهم يأتي بها أرأيت من يغل مائة بعير أو مائتي بعير كيف يصنع بها؟! قال: أرأيت من كان ضرسه مثل أحد وفخذه مثل ورقان وساقه مثل بيضاء ومجلسه ما بين الربذة إلى المدينة ألا يحمل مثل هذا، وورد في بعض الأخبار أن الإتيان بالغلول من النار فحينئذ يكون في الآية حذف أي يأت بما غل من النار، فقد أخرج ابن مردويه والبيهقي عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن الحجر ليزن سبع خلفات فيلقى في جهنم فيهوي فيها سبعين خريفا ويؤتى بالغلول فيلقى معه ثم يكلف صاحبه أن يأتي به وهو قول الله عز وجل: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه قال: لو كنت مستحلا من الغلول القليل لاستحللت منه الكثير ما من أحد يغل إلا كلف أن يأتي به من أسفل درك جهنم، وقيل: الإتيان به مجاز عن الإتيان بإثمه تعبيرا بما عمل عما لزمه من الإثم أي يأت بما احتمل من وباله وإثمه- واختاره البلخي- وقال: يجوز أن يكون ما تضمنته الأخبار جاء على وجه المثل كأن الله تعالى إذ فضح الغال وعاقبه العقوبة الشديدة جرى مجرى أن يكون آتيا به وحاملا له وله صوت، ولا يخفى أن جواب أبي هريرة للرجل يأبى هذا التأويل. وقيل: إن المعاني تظهر في صور جسمانية يوم القيامة كما يؤذن بذلك خبر مجيء الموت في صورة كبش وتلقي القرآن صاحبه في صورة الرجل الشاحب حين ينشق عنه القبر إلى غير ذلك. وقد ذكر غير واحد أنه لا يبعد ظهور الأعمال من الطاعات والمعاصي بصور تناسبها فحينئذ يمكن أن يقال: إن معصية كل غال تظهر يوم القيامة في صورة غلوله فيأتي بها هناك، وعليه تكون الأخبار على ظاهرها من غير حاجة إلى ارتكاب التمثيل، وجواب أبي هريرة لا يأباه، وإلقاؤه في النار أيضا غير مشكل وأهل الظاهر لعلهم يقولون: إنه يلقى من غير تعذيب، وبتقديره لا محذور أيضا فيه لأن الله تعالى لا يجب عليه شيء، وقد ورد في بعض الأخبار أنه تعالى يخلق خلقا حين قول جهنم: هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق: 30] فيضعهم فيها ومع هذا وتسليم صحة الخبر لا بد من القول باستثناء بعض الغلول عن الإلقاء إذ قد يكون الغلول مصحفا ولا أظن أحدا يتجاسر على القول بإلقائه ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ أي تعطى كل نفس مكلفة جزاء ما عملت من خير أو شر تاما وافيا، ففي الكلام مضاف محذوف أو أنه أقيم المكسوب مقام جزائه، وفي تعليق التوفية بكل مكسوب مع أن المقصود بيان حال الغال عند إتيانه بما غل يوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 القيامة من الدلالة على فخامة شأن اليوم والمبالغة في بيان فظاعة حال الغال ما لا يخفى فإنه إذا كان كل كاسب مجزيا بعمله لا ينقص منه شىء وإن كان جرمه في غاية القلة والحقارة، فالغال مع عظم جرمه بذلك أولى، وهذا سبب العدول عما يقتضيه الظاهر من نحو ثم يوفى ما كسب لأنه اللائق بما قبله وقيل: يحتمل أن يكون المراد ثم توفى منه كل نفس لها حق في تلك الغنيمة ما كسبت من نقصان حقها من غله فحينئذ يكون النظم على مقتضى الظاهر وكلمة ثُمَّ للتفاوت بين حمله ما غل وبين جزائه، أو للتراخي الزماني أي بعد حمله ما غله بمدة مديدة وجعله منتظرا فيما بين الناس مفتضحا حاملا ما غله توفى منه كل نفس، ولا يخفى أن مثل هذا الاحتمال مما يصان عنه كلام الملك المتعال، فالحق الذي لا ينبغي العدول عنه هو القول الأول المتضمن لنكتة العدول وأمر ثُمَّ عليه ظاهر سواء جعلت للتراخي الزماني، أو التراخي الرتبي. أما الأول فلأن الإتيان بما غل عند قيامه من القبر على ما هو الظاهر والجزاء بعد ذلك بكثير. وأما الثاني فلأن جزاء الغال وعقوبته أشدّ فظاعة من حمل ما غله والفضيحة به بل لا يبعد أن يكون ذلك الحمل كالعلاوة على الحمل بل يكاد أن يكون نعيما بالنسبة إلى ما يلقى بعد، والجملة على كل تقدير معطوفة على الجملة الشرطية وَهُمْ أي كل الناس المدلول عليهم بكل نفس لا يُظْلَمُونَ أي لا ينقص بمقتضى الحكمة والعدل ثواب مطيعهم ولا يزاد عقاب عاصيهم أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ أي سعى في تحصيله وانتحى نحوه كَمَنْ باءَ أي رجع بِسَخَطٍ أي غضب عظيم جدا وهو بفتحتين مصدر قياسي، ويقال: بضم فسكون وهو غير مقيس والجار متعلق بالفعل قبله، وجوز أن يكون حالا فيتعلق بمحذوف أي رجع مصاحبا لسخط. مِنَ اللَّهِ أي كائن منه تعالى. وفي المراد من الآية أقوال: أحدها أن المعنى أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ تعالى في العمل بالطاعة كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ منه سبحانه في العمل بالمعصية- وهو المروي عن ابن إسحاق- ثانيها أن معناه أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ في ترك الغلول كالنبي ومن يسير بسيرته كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ تعالى بفعل الغلول، وروي ذلك عن الحسن والضحاك واختاره الطبري لأنه أوفق بالمقام، ثالثها أن المراد أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ تعالى بالجهاد في سبيله كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ منه جل جلاله في الفرار عنه، ونقل ذلك عن الجبائي والزجاج، قيل: وهو المطابق لما حكي في سبب النزول أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما أمر بالخروج إلى أحد قعد عنه جماعة من المنافقين واتبعه المؤمنون فأنزل الله تعالى هذه الآية- وفيه بعد- وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لما مر غير مرة وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ أي مصيره ذلك، وفي الجملة احتمالان، الأول أن تكون مستأنفة مسوقة لبيان حال من باء بسخط ويفهم من مقابله أن من اتبع الرضوان كان مأواه الجنة ولم يذكر ذلك ليكون أبلغ في الزجر، وقيل: لم يذكر مع الرضوان الجنة لأن رضوان الله تعالى أكبر وهو مستلزم لكل نعيم وكون السخط مستلزما لكل عقاب فيقتضي أن تذكر معه جهنم في حيز المنع لسبق الجمال الجلال فافهم، والثاني أنها داخلة في حيز الموصول فتكون معطوفة على باءَ بِسَخَطٍ عطف الصلة الاسمية على الصلة الفعلية، وعلى كلا الاحتمالين لا محل لها من الإعراب وَبِئْسَ الْمَصِيرُ إما تذييل، أو اعتراض، أو معطوف على الصلة بتقدير، ويقال: في حقهم ذلك، وأيّا ما كان فالمخصوص بالذم محذوف أي جهنم، والْمَصِيرُ اسم مكان، ويحتمل المصدرية وفرقوا بينه وبين المرجع بأن المصير يقتضي مخالفة ما صار إليه من جهنم لما كان عليه في الدنيا لأن الصيرورة تقتضي الانتقال من حال إلى حال أخرى كصار الطين خزفا، والمرجع انقلاب الشيء إلى حال قد كان عليها كقولك: مرجع ابن آدم إلى التراب، وأما قولهم مرجع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 العباد إلى الله تعالى فباعتبار أنهم ينقلبون إلى حال لا يملكون فيها لأنفسهم شيئا كما كان قبل ما ملكوا هُمْ عائد على الموصولين باعتبار المعنى وهو مبتدأ، وقوله تعالى: دَرَجاتٌ خبره والمراد هم متفاوتون إطلاقا للملزوم على اللازم، أو شبههم بالدرج في تفاوتهم علوا وسفلا على سبيل الاستعارة أو جعلهم نفس الدرجات مبالغة في التفاوت فيكون تشبيها بليغا بحذف الأداة، وقيل: إن الكلام على حذف مضاف ولا تشبيه أي هُمْ ذوو درجات أي منازل، أو أحوال متفاوتة، وهذا معنى قول مجاهد والسدي: لهم درجات، وذهب بعضهم أن في الآية حينئذ تغليب الدرجات على الدركات إذ الأول للأول، والثاني للثاني عِنْدَ اللَّهِ أي في علمه وحكمه، والظرف متعلق بدرجات على المعنى، أو بمحذوف وقع صفة لها. وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ من الأعمال ودرجاتها فيجازيهم بحسبها- والبصير- كما قال حجة الإسلام هو الذي يشاهد ويرى حتى لا يعزب عنه ما تحت الثرى وإبصاره أيضا منزه عن أن يكون بحدقة وأجفان، ومقدس عن أن يرجع إلى انطباع الصور والألوان في ذاته كما ينطبع في حدقة الإنسان، فإن ذلك من التغيير والتأثر المقتضي للحدثان وإذا نزه عن ذلك كان البصر في حقه تعالى عبارة عن الصفة التي ينكشف بها كمال نعوت المبصرات وذلك أوضح وأجلى مما نفهمه من إدراك البصر القاصر على ظواهر المرئيات انتهى، ويفهم منه أن البصر صفة زائدة على العلم- وهو الذي ذهب إليه الجمهور منا، ومن المعتزلة والكرامية قالوا: لأنا إذا علمنا شيئا علما جليا ثم أبصرناه نجد فرقا بين الحالتين بالبديهة، وإن في الحالة الثانية حالة زائدة هي الإبصار. وقال الفلاسفة والكعبي وأبو الحسين البصري والغزالي عند بعض وادعى أن كلامه هذا مشير إليه أن بصره تعالى عبارة عن علمه تعالى بالمبصرات، ومثل هذا الخلاف في السمع، والحق أنهما زائدان على صفة العلم وأنهما لا يكيفان ولا يحدّان والإقرار بهما واجب كما وصف بهما سبحانه نفسه، وإلى ذلك ذهب السلف الصالح وإليه ينشرح الصدر لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ أي أنعم وتفضل، وأصل المنّ القطع وسميت النعمة منة لأنه يقطع بها عن البلية وكذا الاعتداد بالصنيعة منا لأنه قطع لها عن وجوب الشكر عليها، والجملة جواب قسم محذوف أي والله لقد منّ الله عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي من قومه أو من العرب مطلقا أو من الأنس- وخير الثلاثة الوسط- وإليه ذهبت عائشة رضي الله تعالى عنها: فقد أخرج البيهقي وغيره عنها أنها قالت هذه للعرب خاصة- والأول خير من الثالث- وأيّا ما كان فالمراد بهم على ما قال الأجهوري: المؤمنون من هؤلاء في علم الله تعالى أو الذين آل أمرهم إلى الإيمان إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ أي بينهم رَسُولًا عظيم القدر جليل الشأن مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي من نسبهم، أو من جنسهم عربيا مثلهم أو من بني آدم لا ملكا ولا جنيا وإِذْ ظرف- لمن- وهو وإن كان بمعنى الوقت لكن وقع في معرض التعليل كما نص عليه معظم المحققين، والجار إما متعلق ب «بعث» أو بمحذوف وقع صفة- لرسولا- والامتنان بذلك إما لحصول الأنس بكونه من الإنس فيسهل التلقي منه وتزول الوحشة والنفرة الطبيعية التي بين الجنسين المختلفين، وإما ليفهموا كلامه بسهولة ويفتخروا على سائر أصناف نوع بني آدم، وإما ليفهموا ويفتخروا ويكونوا واقفين على أحواله في الصدق والأمانة فيكون ذلك أقرب إلى تصديقه والوثوق به صلى الله تعالى عليه وسلم، وتخصيص المؤمنين بالامتنان مع عموم نعمة البعثة كما يدل عليه قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] لمزيد انتفاعهم على اختلاف الأقوال فيهم بها، ونظير ذلك قوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] وقرئ- «لمن منّ الله» - بمن الجارة ومنّ المشددة النون على أنه خبر لمبتدأ محذوف مثل منه أو بعثه وحذف لقيام الدلالة، وجوز الزمخشري أن تكون إذ في محل الرفع كإذا في قولك: أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائما بمعنى لمن منّ الله تعالى على المؤمنين وقت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 بعثه، ولا يخفى عليك أن هذا يقتضي أن تكون إِذْ مبتدأ والجار والمجرور خبرا «وقد اعترض ذلك» بأنه لم يعلم أن أحدا من النحويين قال بوقوع إِذْ كذلك، وما في المثال إذا لا إذ، وهي أيضا فيه ليست مبتدأ أصلا، وإنما جوزوا فيها وجهين: النصب على أن الخبر محذوف وهي سادّة مسدّه. والرفع على أنها هي الخبر، وعلى الأول يكون الكلام من باب جد جده لأن الأمير أخطب في حال القيام لا كونه، وعلى الثاني من باب نهاره صائم والوجه الأول هو المشهور، وجوز الثاني عبد القاهر تمسكا بقول بعضهم: أخطب ما يكون الأمير يوم الجمعة بالرفع فكأن الزمخشري قاس إذ على إذا والمبتدأ على الخبر. وانتصر بعضهم للزمخشري، بأنه قد صرح جماعة من محققي النحاة بخروج إذ عن الظرفية فتكون مفعولا به، وبدلا من المفعول وهذا في قوة تصريحهم بوقوعها مبتدأ وخبرا مثلا إذ هو قول بتصرفها، ومتى قيل به كانت جميع الأحوال مستوية في جواز الإقدام عليها من غير تفرقة بين حال وحال إلا لمانع يمنع من ذلك الحال فيها وفي غيرها من سائر الأسماء وهو أمر آخر وراء ما نحن فيه، نعم حكى الشلوبين في شرح الجزولية عن بعضهم أن مأخذ التصرف في الظروف هو السماع فإن كان هذا حكم أصل التصرف فقط دون أنواعه ارتفع الغبار عما قاله الزمخشري بناء على ما ذكرنا بلا خفاء وإن كان حكم الأنواع أيضا كذلك فلا يقدم على الفاعلية بمجرد ثبوت المفعولية ولا على الابتدائية بمجرد ثبوت الخبرية مثلا إلا بورود سماع في ذلك، ففي صحة كلام الزمخشري تردد بيّن لأن مجرد تصريحهم حينئذ بوقوع إِذْ مفعولا وبدلا وبوقوع إذا خبرا مثلا لا يجدي نفعا لجواز ورود السماع بذلك دون غيره كما لا يخفى، وفي قراءة رسول الله وفاطمة صلى الله تعالى عليه وعليها وسلم مِنْ أَنْفُسِهِمْ بفتح الفاء أي من أشرفهم لأنه صلّى الله عليه وسلم من أشرف القبائل وبطونها وهو أمر معلوم غني عن البيان ينبغي اعتقاده لكل مؤمن. وقد سئل الشيخ ولي الدين العراقي هل العلم بكونه صلّى الله عليه وسلم بشرا ومن العرب شرط في صحة الإيمان أو من فروض الكفاية؟ فأجاب بأنه شرط في صحة الإيمان، ثم قال: فلو قال شخص: أو من برسالة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم إلى جميع الخلق لكن لا أدري هل هو من البشر أو من الملائكة أو من الجن، أولا أدري هل هو من العرب أو العجم؟ فلا شك في كفره لتكذيبه القرآن وجحده ما تلقته قرون الإسلام خلفا عن سلف وصار معلوما بالضرورة عند الخاص والعام- ولا أعلم في ذلك خلافا- فلو كان غبيا لا يعرف ذلك وجب تعليمه إياه فإن جحده بعد ذلك حكمنا بكفره انتهى، وهل يقاس اعتقاد أنه صلى الله تعالى عليه وسلم من أشرف القبائل والبطون على ذلك فيجب ذلك في صحة الإسلام أو لا يقاس فحينئذ يصح إيمان من لم يعرف ذلك لكنه منزه تلك الساحة العلية عن كل وصمة؟ فيه تأمل، والظاهر الثاني وهو الأوفق بعوام المؤمنين. يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ إما صفة أو حال أو مستأنفة وفيه بعد أي يتلو عليهم ما يوحى إليه من القرآن بعد ما كانوا أهل جاهلية لم يطرق أسماعهم شيء من الوحي أو بعد ما كان بعضهم كذلك وبعضهم متشوفا متشوقا إليه حيث أخبر كتابه الذي بيده بنزوله وبشر به وَيُزَكِّيهِمْ أي يدعوهم إلى ما يكونون به زاكين طاهرين مما كان فيهم من دنس الجاهلية، أو من خبائث الاعتقادات الفاسدة كالاعتقادات التي كان عليها مشركو العرب وأهل الكتابين، أو يشهد بأنهم أزكياء في الدين، أو يأخذ منهم الزكاة التي يطهرهم بها قاله الفراء- ولا يخفى بعده ومثله القريب إليه وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ قد تقدم الكلام في ذلك. وهذا التعليم معطوف على ما قبله مترتب على التلاوة وإنما وسط بينهما التزكية التي هي عبارة عن تكميل النفس بحسب القوة العملية وتهذيبها المتفرع على تكميلها بحسب القوة النظرية الحاصل بالتعليم المترتب على التلاوة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 للإيذان بأن كل واحد من الأمور المترتبة نعمة جليلة على حيالها مستوجبة للشكر ولو روعي ترتيب الوجود كما في قوله تعالى: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة: 129] لتبادر إلى الفهم عدّ الجميع نعمة واحدة وهو السر في التعبير عن القرآن- بالآيات- تارة- وبالكتاب والحكمة- أخرى رمزا إلى أنه باعتبار كل عنوان نعمة على حدة قاله مولانا شيخ الإسلام، وقد يقال: المراد من تلاوة الآيات تلاوة ما يوحى إليه صلى الله تعالى عليه وسلم من الآيات الدالة على التوحيد والنبوة ومن التزكية الدعاء إلى الكلمة الطيبة المتضمنة للشهادة لله تعالى بالتوحيد ولنبيه عليه الصلاة والسلام بالرسالة، وبتعليم الكتاب تعليم ألفاظ القرآن وكيفية أدائه ليتهيأ لهم بذلك إقامة عماد الدين، وبتعليم الحكمة الإيقاف على الأسرار المخبوءة في خزائن كلام الله تعالى، وحينئذ أمر ترتيب هذه المتعاطفات ظاهر إذ حاصل ذل كأنه صلى الله تعالى عليه وسلم يمهد سبل التوحيد ويدعو إليه ويعلم ما يلزم بعد التلبس به ويزيد على الزبد شهدا فتقديم التلاوة لأنها من باب التمهيد ثم التزكية لأنها بعده وهي أول أمر يحصل منه صفة يتلبس بها المؤمنون وهي من قبيل التخلية المقدمة على التحلية لأن درء المفاسد أولى من جلب المصالح، ثم التعليم لأنه إنما يحتاج إليه بعد الإيمان، بقي أمر تقديم التعليم على التزكية في آية البقرة ولعله كان إيذانا بشرافة التحلية كما أشرنا إليه هناك فتأمل وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ أي من قبل بعثة الرسول لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ظاهر وَإِنْ هي المخففة واللام هي الفارقة، والمعنى إن الشأن كانوا من قبل إلخ. وإلى هذا ذهب بعض المحققين، وذكر مثله مكي إلا أنه قال: التقدير وأنهم كانوا من قبل فجعل اسمها ضميرا عائدا على المؤمنين، قال أبو حيان: وكلا الوجهين لا نعرف نحويا ذهب إليه وإنما تقرر عندنا في كتب النحو ومن الشيوخ أنك إذا قلت: إن زيدا قائم ثم خففت. فمذهب البصريين فيها وجهان: أحدهما جواز الأعمال ويكون حالها وهي مخففة كحالها وهي مشددة- إلا أنها لا تعمل في مضمر، ومنع ذلك الكوفيون- وهم محجوبون بالسماع الثابت من لسان العرب- والوجه الثاني وهو الأكثر عندهم أن تهمل فلا تعمل لا في ظاهر ولا مضمر لا ملفوظ ولا مقدر البتة فإن وليها جملة اسمية ارتفعت بالابتداء والخبر ولزمت اللام في ثاني مصحوبيها إن لم ينف، وفي أولهما إن تأخر، فتقول: إن زيد لقائم ومدلوله مدلول إن زيدا قائم، وإن وليها جملة فعلية فلا بد عند البصريين أن تكون من نواسخ الابتداء، وإن جاء الفعل من غيرها فهو شاذ لا يقاس عليه عند جمهورهم. وأجاب الحلبي عمن قدر الشأن بأنه تفسير معنى لا بيان إعراب، وقال عصام الملة: إن الشأن لم يرد تقدير ضمير الشأن بل جعل الجملة حالا بتأويل القصة ذلك لئلا يختلف زمان الحال والعامل فإن زمان الكون في ضلال مبين قبل زمان التعليم لكن كون القصة ذلك مستمر، ثم قال: وهذا تأويل شائع مشهور في الحال الذي يتقدم زمان تحققه زمان تحقق العامل فاحفظه ولا تلفظه انتهى، وأنت تعلم أن ما ذكره الحلبي خلاف الظاهر، وكلام عصام الملة منظور فيه لأن المناسب لما ذكره على تقدير تعينه تقدير الشأن قبل- أن- لا بعدها كما لا يخفى، وجوز بعضهم كون الجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب، والأكثرون على الحالية، وعلى التقديرين فهي مبينة لكمال النعمة وتمامها، وقوله تعالى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا كلام مبتدأ مسوق لإبطال بعض ما نشأ من الظنون الفاسدة إثر إبطال بعض آخر، والهمزة للتقريع والتقرير، والواو عاطفة لمدخولها على محذوف قبلها، ولَمَّا ظرف بمعنى حين مضافة إلى ما بعدها مستعملة في الشرط- كما ذهب إليه الفارسي- وهو الصحيح عند جمع من المحققين وناصبها قُلْتُمْ وهو الجزاء قَدْ أَصَبْتُمْ في محل الرفع على أنه صفة- لمصيبة- وجعله في محل نصب على الحال يحتاج إلى تكلف مستغنى عنه، والمراد بالمصيبة ما أصابهم يوم أحد من قتل سبعين منهم- وبمثليها- ما أصاب المشركين يوم بدر من قتل سبعين منهم وأسر سبعين، وجعل ذلك مثلين يجعل الأسر كالقتل أو لأنهم كانوا قادرين على القتل وكان مرضي الله تعالى فعدمه كان من عندهم فتركه مع القدرة لا ينافي الإصابة. وقيل: المراد بالمثلين المثلان في الهزيمة لا في عدد القتلى وذلك لأن المسلمين هزموا الكفار يوم بدر وهزموهم أيضا يوم أحد أول الأمر، وعليه يكون المراد بالمصيبة هزيمة الكفار للمسلمين بعد أن فارقوا المركز، وأَنَّى هذا جملة اسمية مقدمة الخبر، والمعنى من أين هذا لا كيف هذا لدلالة الجواب مفعول القول، وقيل: أَنَّى منصوبة على الظرفية- لأصابنا- المقدر، وهذا فاعل له، والجملة مقول قلتم، وتوسيط الظرف وما يتعلق به بينه وبين الهمزة مع أنه المقصود إنكاره والمعطوف بالواو حقيقة لتأكيد النكير وتشديد التقريع فإن فعل القبيح في غير وقته أقبح والإنكار على فاعله أدخل، والمعنى أحين نالكم من المشركين نصف ما قد نالهم منكم قبل ذلك رجعتم وقلتم من أين هذا ونحن مسلمون نقاتل غضبا لله تعالى وفينا رسوله، وهؤلاء مشركون أعداء الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم أو قد وعدنا الله تعالى النصر؟ - وإليه ذهب الجبائي- وهذا على تقدير توجيه الإنكار والتقريع إلى صدور ذلك القول عنهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 في ذلك الوقت خاصة بناء على عدم كونه مظنة له داعيا إليه بل على كونه داعيا إلى عدمه فإن كون مصيبة عدوهم مثلي مصيبتهم مما يهون الخطب ويورث السلوة، أو أفعلتم ما فعلتم من الفشل والتنازع أو الخروج من المدينة والإلحاح على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ولما أصابتكم غائلة ذلك قلتم أَنَّى هذا وهذا على تقدير توجيه الإنكار لاستبعادهم الحادثة مع مباشرتهم لسببها، وجوز أن يكون المعطوف عليه القول إشارة إلى أن قولهم كان غير واحد بل قالوا أقوالا لا ينبغي أن يقولوها. وذهب جماعة إلى أن المعطوف عليه ما مضى من قوله تعالى: لَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ [آل عمران: 152] إلى هنا وللتعلق بقصة واحدة لم يتخلل بينهما أجنبي ليكون القول بذلك بعيدا كما ادعاه أبو حيان، والهمزة حينئذ متخللة بين المتعاطفين للتقرير بمعنى التثبيت أو الحمل على الإقرار والتقريع على مضمون المعطوف والمعنى أكان من الله تعالى الوعد بالنصر بشرط الصبر والتقوى فحين فشلتم وتنازعتم وعصيتم وأصابكم الله تعالى بما أصابكم قُلْتُمْ أَنَّى هذا. والجمهور على أن الهمزة مقدمة من تأخير، والواو أصلها التقديم، وهو مذهب سيبويه وغيره، والجملة الاستفهامية معطوفة على ما قبلها واختار هذا في البحر، وإسناد الإصابة إلى المصيبة مجاز وإلى المخاطبين حقيقة ولم يؤت بالإسنادين من باب واحد زيادة في التقريع، وتذكير اسم الإشارة في أَنَّى هذا مراعاة لمعنى المصيبة المشار إليها وهو المشهور أو لما أن إشارتهم ليست إلا لما شاهدوه في المعركة من حيث هو هو من غير أن يخطر ببالهم تسميته باسم ما فضلا عن تسميته باسم المصيبة، وإنما هي عند الحكاية وفي الآية على ما قيل: جواب ضمني عن استبعادهم تلك الإصابة، يعني أن أحوال الدنيا لا تدوم على حالة واحدة فإذا أصبتم منهم مثل ما أصابوا منكم وزيادة فما وجه الاستبعاد، لكن صرح بجواب آخر يبرئ العليل ويشفي الغليل وتطأطئ منه الرؤوس فقال سبحانه: قُلْ يا محمد في جواب سؤالهم الفاسد هُوَ أي هذا الذي أصابكم كائن مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ أي أنها السبب له حيث خالف الرماة أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بتركهم المركز وحرصوا على الغنيمة فعاقبهم الله تعالى بذلك- قاله عكرمة- أو حيث إنكم قد اخترتم قبل أن يقتل منكم سبعون في مقابلة الفداء الذي أخذتموه من أسارى بدر، وعزي هذا إلى الحسن، ويدل عليه ما أخرجه ابن أبي شيبة والترمذي وحسنه والنسائي، وآخرون عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: يا محمد إن الله تعالى قد كره ما فعل قومك في أخذهم الأسارى وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين: إما أن يقدموا فتضرب أعناقهم، وإما أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم فدعا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الناس فذكر لهم ذلك فقالوا: يا رسول الله عشائرنا وإخواننا نأخذ فداءهم نتقوى به على قتال عدونا ويستشهد منا عدتهم فليس ذلك ما نكره فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلا عدة أسارى أهل بدر، أو حيث اخترتم الخروج من المدينة ولم تبقوا حتى تقاتلوا المشركين فيها قاله الربيع وغيره. وأخرج ابن جرير عن قتادة أنه قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال لأصحابه يوم أحد حين قدم أبو سفيان والمشركون: «إنا في جنة حصينة- يعني بذلك المدينة- فدعوا القوم يدخلوا علينا نقاتلهم فقال له ناس من الأنصار: إنا نكره أن نقتل في طرق المدينة وقد كنا نمتنع من ذلك في الجاهلية فبالإسلام أحق أن نمتنع فابرز بنا إلى القوم فانطلق فلبس لأمته فتلاوم القوم فقالوا: عرض نبي الله صلّى الله عليه وسلم بأمر وعرضتم بغيره اذهب يا حمزة فقل له: أمرنا لأمرك تبع فأتى حمزة فقال له: إنه ليس لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يناجز وأنه سيكون فيكم مصيبة قالوا: يا نبي الله خاصة أو عامة؟ قال: سترونها» واعترض هذا القول بأنه يأباه أن الوعد بالنصر كان بعد اختيار الخروج وأن عمل النبي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 صلّى الله عليه وسلم بموجبه قد رفع الخطر عنه وخفف جنايتهم فيه على أن اختيار الخروج والإصرار عليه كان بمن أكرمهم الله تعالى بالشهادة يومئذ، وأين هم من التفوه بمثل هذه الكلمة؟ وأجيب بأن الإباء المذكور في حيز المنع كيف والنصر الموعود كان مشروطا بما يعلم الله تعالى عدم حصوله، وبأن النبي صلّى الله عليه وسلم وإن كان قد عمل بموجبه لكن لم تكن نفسه الكريمة صلّى الله عليه وسلم منبسطة لذلك ولا قلبه الشريف مائلا إليه وكأن سهام الأقدار نفذت حين خالفوا رأيه السامي وعدلوا عن الورود من عذب بحر عقله الطامي كما يرشدك إلى ذلك قوله عليه الصلاة والسلام بعد أن لبس لأمّته: «وإنه سيكون فيكم مصيبة» وقوله في جواب الاستفهام عنها: «خاصة أو عامة» ؟ «سترونها» فإن ذلك كالصريح في عدم الرضا والفصيح في استيجاب ذلك الاختيار نزول القضاء، وبأن الخطاب في قوله تعالى: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ليس نصا في أن المتسببين هم المتفوهون بتلك الكلمة ليضر استشهاد المختارين للخروج في المقصود لجواز أن يكون من قبيل قولك لقبيلة: أنتم قتلتم فلانا والقاتل منهم أناس مخصوصون لم يوجدوا وقت الخطاب، ومثل ذلك كثير في المحاورات على أن كون مصيبة المتفوهين هي قتل أولئك المستشهدين نص في التأسف عليهم فيناسبه التعريض بهم بنسبة القصور إليهم ليهون هذا التأسف وليعلموا أن شؤم الانحراف عن سمت إرادة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يعم الكبير والصغير بل ربما يقال: إن استشهاد أولئك المصرين شاهد على أنهم هم الذين كانوا سببا في تلك المصيبة ولهذا استشهدوا ليذهبوا إلى ربهم على أحسن حال. هذا ولا يخفى أن هذا الجواب لا يخلو عن تكلف وكأن الداعي إليه أن الذاهبين إلى تفسير مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ بالخروج من المدينة وتبعية أبي سفيان وقومه جماعة أجلاء يبعد نسبة الغلط إليهم، فقد أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن وابن جريج، وأخرجه ابن المنذر من طريق ابن جريج عن ابن عباس فتدبر إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ومن جملته النصر عند الموافقة والخذلان عند المخالفة، وحيث خالفتم أصابكم سبحانه بما أصابكم، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها داخل تحت الأمر، وقيل: المراد منها تطييب أنفسهم ومزج مرارة التقريع بحلاوة الوعد أي إنه سبحانه قادر على نصرتكم بعد لأنه على كل شيء قدير فلا تيأسوا من روح الله واعتناء بشأن التطييب وإرشادا لهم إلى حقيقة الحال فيما سألوا عنه وبيانا لبعض ما فيه من الحكم ورفعا لما عسى أن يتوهم من الجواب من استقلالهم في وقوع الحادثة رجع إلى خطابهم برفع الواسطة وجواب سؤالهم بأبسط عبارة فقال سبحانه: وَما أَصابَكُمْ أيها المؤمنون من النكبة بقتل من قتل منكم يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ أي جمعكم وجمع أعدائكم المشركين، والمراد بذلك اليوم يوم أحد، وقول بعضهم- لا يبعد أن يراد به يوم أحد، ويوم بدر- بعيد جدا فَبِإِذْنِ اللَّهِ أي بإرادته، وقيل: بتخليته وَما اسم موصول بمعنى الذي في محل رفع بالابتداء، وجملة أَصابَكُمْ صلته- وبإذن الله- خبره. والمراد بإذن الله يكون ويحصل، ودخول الفاء لتضمن معنى الشرط، ووجه السببية ليس بظاهر إذ الإصابة ليست سببا للإرادة ولا للتخلية بل الأمر بالعكس فهو من قبيل وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل: 53] أي ذلك سبب للإخبار بكونه من الله لأن قيد الأوامر قد يكون للمطلوب وقد يكون للطالب وكذا الإخبار، وإلى هذا ذهب كثير من المحققين، وادعى السمين أن في الكلام إضمارا أي فهو بإذن الله، ودخول الفاء لما تقدم ثم قال: وهذا مشكل على ما قرره الجمهور لأنه لا يجوز عندهم دخول هذه الفاء زائدة في الخبر إلا بشروط، منها أن تكون الصلة مستقبلة في المعنى وذلك لأن الفاء إنما دخلت للشبه بالشرط، والشرط إنما يكون في الاستقبال لا في الماضي، فلو قلت: الذي أتاني أمس فله درهم لم يصح، وأَصابَكُمْ هنا ماض معنى كما أنه ماض لفظا لأن القصة ماضية فكيف جاز دخول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 هذه الفاء وأجابوا عنه بأنه يحمل على التبين أي وما يتبين إصابته إياكم فهو بإذن الله كما تأولوا إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ [يوسف 27] بذلك، ثم قال: وإذا صح هذا التأويل فليجعل (ما) هنا شرطا صريحا وتكون الفاء داخلة وجوبا لكونها واقعة جوابا للشرط انتهى، ولا يخفى ما فيه وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ عطف على بإذن الله- من عطف السبب على المسبب، والمراد ليظهر للناس ويثبت لديهم إيمان المؤمن. وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا كعبد الله بن أبيّ وأصحابه، وهذا عطف على ما قبله من مثله، وإعادة الفعل إما للاعتناء بهذه العلة، أو لتشريف المؤمنين وتنزيههم عن الانتظام في قرن المنافقين وللإيذان باختلاف حال العلم بحسب التعلق بالفريقين فإنه متعلق بالمؤمنين على نهج تعلقه السابق، وبالمنافقين على نهج جديد وهو السر- كما قال شيخ الإسلام- في إيراد الأولين بصيغة اسم الفاعل المنبئة عن الاستمرار والآخرين بموصول صلته فعل دال على الحدوث وَقِيلَ لَهُمْ عطف على نافقوا مؤذن بأن ذلك كان نفاقا خاصا أظهروه في ذلك المقام. وقيل: ابتداء كلام معطوف على مجموع ما قبله عطف قصة على قصة، ووجهه أنه جل شأنه لما ذكر أحوال المؤمنين وما جرى لهم وعليهم فيما تقدم من الآيات وبين أن الدائرة إنما كانت للابتلاء وليتميز المؤمنون عن المنافقين وليعلم كل واحد من الفريقين أن ما قدره الله تعالى من إصابة المؤمنين كائن لا محالة أورد قصة من قصصهم مناسبة لهذا المقام مستطردة، وجيء بالواو لأنها ملائمة لأصل الكلام، والنفاق على هذا مطلق متعارف، وجوز أن يكون كلاما مبتدأ على سبيل الاعتراض للتنبيه على كيفية ظهور نفاقهم، أو عدم ثباتهم على الإيمان. وعلى كل تقدير القائل إما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم- وإليه ذهب الأصم- وإما عبد الله بن عمرو ابن حرام من بني سلمة- وإليه ذهب الأكثر- ومقول القول قوله تعالى: تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قال السدي وابن جريج: أَوِ ادْفَعُوا عنا العدو بتكثير السواد، وهو المروي عن ابن عباس، وقيل: إنهم خيروا بين أن يقاتلوا للآخرة أو لدفع الكفار عن أنفسهم وأموالهم أو بين الأول وبين دفع المؤمنين عن ذلك كأنه قيل: قاتلوا لله تعالى أو للنفاق الدافع عن أنفسكم وأموالكم، وترك العاطف الفاء أو الواو بين تَعالَوْا وقاتِلُوا لما أن المقصود بهما واحد وهو الثاني، وذكر الأول توطئة له وترغيبا فيه لما فيه من الدلالة على التظاهر والتعاون، وقيل: ترك العاطف للإشارة إلى أن كل واحد من الجملتين مقصود بنفسه، وقيل: الأمر الثاني حال ولا يخفى بعده قالُوا استئناف بياني كأنه قيل فما صنعوا حين قيل لهم ذلك؟ فقيل قالوا: لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ أي لو كنا نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ولكن لا نرى أن يكون قتال أخرجه ابن جرير وغيره عن ابن شهاب، وقيل: أرادوا إنا لا نحسن القتال ولا نقدر عليه لأن العلم بالفعل الاختياري من لوازم القدرة عليه فعبر بنفيه عن نفيها، ويحتمل أنهم جعلوا نفي علم القتال كناية عن أن ما هم فيه ليس قتالا بناء على نفي العلم بنفي المعلوم لأن القتال يستدعي التكافؤ من الجانبين مع رجاء مدافعة أو مغالبة ومتى لم يتحقق ذلك كان إلقاء الأنفس إلى التهلكة، ومن الناس من جوز أن يكون المراد لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا في سبيل الله لاتبعناكم أو لو تعلم قتالا معنا لاتبعناكم لكن ليس للمخالف معنا مضادة ولا قصد له إلا معكم، ولا يخفى أن هذا الكلام على جميع تقاديره يصلح وقوعه جوابا لما قيل لهم على جميع تقاديره ما عدا الأول، وعلى الأول يصلح هذا جوابا له على جميع تقاديره ما عدا الثاني إذ عدم المعرفة بالقتال لا يكون عذرا في عدم تكثير السواد إلا على بعد ومن كلامهم: إن لم تقاتل يا جبان فشجع والمراد بالاتباع إما الذهاب للقتال ولم يعبروا به لأن ألسنتهم لكمال تثبط قلوبهم عنه لا تساعدهم على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 الإفصاح به، وأما الذهاب مع المؤمنين مطلقا سواء كان للقتال أو للدفع وتكثير السواد وحمله على امتثال الأمر أي لو كنا نعلم قتالا لامتثلنا أمركم لا يخلو عن بعد. هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ أي هم يوم إذ قالوا لَوْ نَعْلَمُ إلخ أقرب للكفر منهم قبل ذلك لظهور أمارته عليهم بانخذالهم عن نصرة المؤمنين واعتذارهم لهم على وجه الدغل والاستهزاء. والظروف كلها في المشهور عند المعربين متعلقة- بأقرب- ومن قواعدهم أنه لا يتعلق حرفا جر أو ظرفان بمعنى بمتعلق واحد إلا في ثلاث صور: إحداها أن يتعلق أحدهما به مطلقا ثم يتعلق به الآخر بعد تقييده بالأول، وثانيتها أن يكون الثاني تابعا للأول ببدلية ونحوها، وثالثتها أن يكون المتعلق أفعل تفضيل لتضمنه الفاضل والمفضول الذي يجعله بمنزلة تعدد المتعلق كما في المقيد والمطلق، وما نحن فيه من هذا القبيل كأنه قيل قربهم من الكفر يزيد على قربهم من الإيمان، واللام الجارة في الموضعين بمعنى إلى بناء على ما قيل: إن صلة القرب تكون من وإلى لا غير، تقول: قرب منه وإليه، ولا تقول له، أو على حالها بناء على ما في الدر المصون أن القرب الذي هو ضد البعد يتعدى بثلاثة أحرف اللام وإلى ومن، وقيل: إن أَقْرَبُ هنا من القرب بفتح الراء وهو طلب الماء ومنه القارب لسفينته، وليلة القرب أي الورود، والمعنى هم أطلب للكفر وحينئذ يتعدى باللام اتفاقا. وزعم بعضهم أن اللام هنا للتعليل والتقدير هم لأجل كفرهم يومئذ أَقْرَبُ من الكافرين منهم من المؤمنين لأجل إيمانهم، ولا ينبغي أن يخرج كلام الله تعالى عليه لمزيد بعده وركاكة نظمه لو صرح بما حذف فيه. وجوز أن يقدر في الكلام مضاف وهو أهل، واللام متعلقة بتمييز محذوف وهو نصرة والمعنى هم لأهل الكفر أَقْرَبُ نصرة منهم لأهل الإيمان إذ كان انخذالهم ومقالهم تقوية للمشركين وتخذيلا للمؤمنين، وهذا كما تقول: أنا لزيد أشدّ ضربا مني لعمرو. وأنت تعلم أنه يمكن تعلق اللام بالتمييز عند عدم اعتبار حذف المضاف أيضا، وادعى الواحدي أن في الآية دليلا على أن الآتي بكلمة التوحيد لا يكفر لأنه تعالى لم يظهر القول بتكفيرهم. وقال الحسن: إذا قال الله تعالى أَقْرَبُ فهو لليقين بأنهم مشركون ولا يخفى أن الآية كالصريح في كفرهم لكنهم مع هذا لا يستحقون أن يعاملوا بذلك معاملة الكفار ولعله لأمر آخر يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ جملة مستأنفة مبينة لحالهم مطلقا لا في ذلك اليوم فقط ولذا فصلت، وقيل: حال من ضمير أَقْرَبُ وتقييد القول بالأفواه إما بيان لأنه كلام لفظي لا نفسي، وإما تأكيد على حدّ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام: 38] والمراد أنهم يظهرون خلاف ما يضمرون وقال شيخ الإسلام: إن ذكر الأفواه والقلوب تصوير لنفاقهم وتوضيح لمخالفة ظاهرهم لباطنهم وإن ما عبارة عن القول والمراد به إما نفس الكلام الظاهر في اللسان تارة وفي القلب أخرى، فالمثبت والمنفي متحدان ذاتا وصفة وإن اختلفا مظهرا، وإما القول الملفوظ فقط فالمنفي حينئذ منشؤه الذي لا ينفك عنه القول أصلا، وإنما عبر عنه به إبانة لما بينهما من شدة الاتصال، والمعنى يتفوهون بقول لا وجود له أو لمنشئه في قلوبهم أصلا من الأباطيل التي من جملتها ما حكي عنهم آنفا فإنهم أظهروا فيه أمرين ليس في قلوبهم شيء منهما، أحدهما عدم العلم بالقتال، والآخر الاتباع على تقدير العلم به وقد كذبوا فيهما كذبا بينا حيث كانوا عالمين به مصرين مع ذلك على الانخذال عازمين على الارتداد، واختار بعضهم كون ما عبارة عن القول الملفوظ، ومعنى كونه ليس في قلوبهم أنه غير معتقد لهم ولا متصور عندهم إلا كتصور زوجية الثلاثة مثلا والحكم عام ويدخل فيه حكم ما تفوهوا به من مجموع القضية الشرطية لا خصوص المقدم فقط ولا خصوص التالي فقط ولا الأمران معا دون الهيئة الاجتماعية المعتبرة في القضية ولعل ما ذكره الشيخ أولى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ زيادة تحقيق لكفرهم ونفاقهم ببيان اشتغال قلوبهم بما يخالف أقوالهم من فنون الشر والفساد إثر بيان خلوهم عما يوافقها، والمراد أعلم من المؤمنين لأنه تعالى يعلمه مفصلا بعلم واجب، والمؤمنون يعلمونه مجملا بأمارات، ويجوز أن تكون الجملة حالية للتنبيه على أنهم لا ينفعهم النفاق، وأن المراد أعلم منهم لأن الله تعالى يعلم نتيجة أسرارهم وآمالهم الَّذِينَ قالُوا مرفوع على أنه بدل من واو يكتمون كأنه قيل: والله أعلم بما يكتم الذين قالوا، أو خبر لمبتدأ محذوف أي هم الذين، وقيل: مبتدأ خبره قل فادرؤوا بحذف العائد أي قل لهم إلخ، أو منصوب على الذم أو على أنه نعت للذين نافقوا، أو بدل منه، أو مجرور على أنه بدل من ضمير أفواههم، أو قلوبهم، وجاء إبدال المظهر من ضمير الغيبة في كلامهم، ومنه قول الفرزدق: على حالة لو أن في القوم حاتما ... على جوده لضن بالماء حاتم بجر حاتم بدلا من ضمير جوده لأن القوافي مجرورة، والمعنى يقولون بأفواه الذين قالوا، أو يقولون بأفواههم ما ليس في قلوب الذين قالوا، والكلام على الوجهين من باب التجريد كقوله: يا خير من يركب المطي ولا ... يشرب كأسا من كف من بخلا والقائل كما قال السدي وغيره: هو عبد الله بن أبيّ وأصحابه، وقد قالوا ذلك في يوم أحد لِإِخْوانِهِمْ أي لأجل إخوانهم الذين خرجوا مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقتلوا في ذلك اليوم، والمراد لذوي قرابتهم أو لمن هو من جنسهم وَقَعَدُوا حال من ضمير قالُوا وقد مرادة أي قالوا وقد قعدوا عن القتال بالانخذال، وجوز أن يكون معطوفا على الصلة فيكون معترضا بين قالوا ومعمولها وهو قوله تعالى: لَوْ أَطاعُونا أي في ترك القتال ما قُتِلُوا كما لم نقتل وفيه إيذان بأنهم أمروهم بالانخذال حين انخذلوا، ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن جرير عن السدي قال: خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في ألف رجل وقد وعدهم الفتح إن صبروا فلما خرجوا رجع عبد الله ابن أبيّ في ثلاثمائة فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم فلما غلبوه وقالوا له: لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ قالوا له: ولئن أطعتنا لترجعن معنا فذكر الله تعالى نعي قولهم لئن أطعتنا لترجعن معنا بقوله سبحانه: الَّذِينَ قالُوا إلخ، وبعضهم حمل القعود على ما استصوبه ابن أبيّ عند المشاورة من المقامة بالمدينة ابتداء وجعل الإطاعة عبارة عن قبول رأيه والعمل به- ولا يخلو عن شيء- بل قال مولانا شيخ الإسلام: يرده كون الجملة حالية فإنها لتعيين ما فيه العصيان والمخالفة مع أن ابن أبيّ ليس من القاعدين فيها بذلك المعنى على أن تخصيص عدم الطاعة بإخوانهم ينادي باختصاص الأمر أيضا بهم فيستحيل أن يحمل على ما خوطب به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عند المشاورة قُلْ يا محمد تبكيتا لهم وإظهارا لكذبهم فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ أي فادفعوا عنها ذلك وهو جواب لشرط قد حذف لدلالة قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ عليه كما أنه شرط حذف جوابه لدلالة فَادْرَؤُا عليه، ومن جوز تقدم الجواب لم يحتج لما ذكر، ومتعلق الصدق هو ما تضمنه قولهم من أن سبب نجاتهم القعود عن القتال، والمراد أن ما ادعيتموه سبب النجاة ليس بمستقيم ولو فرض استقامته فليس بمفيد، أما الأول فلأن أسباب النجاة كثيرة غايته أن القعود والنجاة وجدا معا وهو لا يدل على السببية، وأما الثاني فلأن المهروب عنه بالذات هو الموت الذي القتل أحد أسبابه فإن صح ما ذكرتم فادفعوا سائر أسبابه فإن أسباب الموت في إمكان المدافعة بالحيل وامتناعها سواء، وأنفسكم أعز عليكم وأمرها أهم لديكم، وقيل: متعلق الصدق ما صرح به من قولهم: لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا والمعنى أنهم لو أطاعوكم وقعدوا لقتلوا قاعدين كما قتلوا مقاتلين، وحينئذ يكون فَادْرَؤُا إلخ استهزاء بهم أي إن كنتم رجالا دفاعين لأسباب الموت فَادْرَؤُا جميع أسبابه حتى لا تموتوا كما درأتم بزعمكم هذا السبب الخاص، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 وفي الكشاف روي أنه مات يوم قالوا هذه المقالة منهم سبعون منافقا بعدد من قتل بأحد. وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً أخرج الإمام أحمد وجماعة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله تعالى أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله تعالى لنا» وفي لفظ «قالوا من يبلغ إخواننا أننا أحياء في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله تعالى أنا أبلغهم عنكم فأنزل هؤلاء الآيات» . وأخرج الترمذي وحسنه والحاكم وصححه وغيرهما عن جابر بن عبد الله قال: لقيني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: «يا جابر ما لي أراك منكسرا فقلت: يا رسول الله استشهد أبي وترك عيالا ودينا فقال: ألا أبشرك بما لقي الله تعالى به أباك؟ قلت: بلى قال: ما كلم الله تعالى أحدا قط إلا من وراء حجاب وأحيا أباك فكلمه كفاحا وقال: يا عبدي تمن علي أعطك قال: يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية قال الرب تعالى: قد سبق مني أنهم لا يرجعون قال: اي ربي فأبلغ من ورائي فأنزل الله تعالى هذه الآية» ولا تنافي بين الروايتين لجواز أن يكون كلا الأمرين قد وقع، وأنزل الله تعالى الآية لهما والأخبار متضافرة على نزولها في شهداء أحد، وفي رواية ابن المنذر عن إسحاق بن أبي طلحة قال: حدثني أنس في أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الذين أرسلهم النبي عليه الصلاة والسلام إلى بئر معونة وساق الحديث بطوله- إلى أن قال- وحدثني أن الله تعالى أنزل فيهم قرآنا بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه ثم نسخت فرفعت بعد ما قرأناه زمانا، فأنزل الله تعالى وَلا تَحْسَبَنَّ إلخ. ومن هنا قيل: إن الآية نزلت فيهم، وأنت تعلم أن الخبر ليس نصا في ذلك، وزعم بعضهم أنها نزلت في شهداء بدر، وادعى العلامة السيوطي أن ذلك غلط، وأن آية البقرة هي النازلة فيهم، وهي كلام مستأنف مسوق إثر بيان أن الحذر لا يسمن ولا يغني لبيان أن القتل الذي يحذرونه ويحذرون منه ليس مما يحذر بل هو من أجل المطالب التي يتنافس فيها المتنافسون، والخطاب لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أو لكل من يقف على الخطاب مطلقا. وقيل: من المنافقين الذين قالوا: «لو أطاعونا وقعدوا» وإنما عبر عن اعتقادهم بالظن لعدم الاعتداد به، وقرئ- يحسبن- بالياء التحتانية على الإسناد إلى ضمير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، أو ضمير من يحسب على طرز ما ذكر في الخطاب، وقيل: إلى الذين قتلوا والمفعول الأول محذوف لأنه في الأصل مبتدأ جائز الحذف عند القرينة أي- ولا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتا. واعترضه أبو حيان بأنه إنما يتمشى على رأي الجمهور فإنهم يجوزون هذا الحذف لكنه عندهم عزيز جدا. ومنعه إبراهيم بن ملكون الإشبيلي البتة، وما كان ممنوعا عند بعضهم عزيزا عند الجمهور ينبغي أن لا يحمل عليه كلام الله تعالى، وفيه أن هذا من باب التعصب لأن حذف أحد المفعولين في باب الحسبان لا يمنع اختصارا على الصحيح بل اقتصارا، وما هنا من الأول فيجوز مع أنه جوز الاقتصار بعضهم ويكفي للتخريج مثله. وذكر العلامة الطيبي أن حذف أحد المفعولين في هذا الباب مذهب الأخفش، وظاهر صنيع البعض يفهم منه تقديره مضمرا أي ولا يحسبنهم الذين قتلوا، والمراد لا يحسبن أنفسهم، واعترضه أبو حيان بشيء آخر أيضا، وهو أن فيه تقديم المضمر على مفسره وهو محصور في أماكن ليس هذا منها، ورده السفاقسي بأنه وإن لم يكن هذا منها لكن عود الضمير على الفاعل لفظا جائز لأنه مقدم معنى وتعدي أفعال القلوب إلى ضمير الفاعل جائز، وقد ظن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 السيرافي (1) وغيره على جواز ظنه زيد منطلقا وظنهما الزيدان منطلقين، وهذا نظيره ما ذكره هذا البعض، فالاعتراض عليه في غاية الغرابة، ثم المراد من توجيه النهي إلى المقتولين تنبيه السامعين على أنهم أحقاء أن يتسلوا بذلك، ويبشروا بالحياة الأبدية والنعيم المقيم لكن لا في جميع أوقاتهم بل عند ابتداء القتل إذ بعد تبين حالهم لهم لا تبقى لاعتبار تسليتهم وتبشيرهم فائدة ولا لتنبيه السامعين وتذكيرهم وجه قاله شيخ الإسلام. وقيل: هو نهي في معنى النفي وقد ورد ذلك، وإن قل، أو هو نهي عن حسبانهم أنفسهم أمواتا في وقت ما وإن كانوا وقت الخطاب عالمين بحياتهم، وقرئ وَلا تَحْسَبَنَّ بكسر السين، وقرأ ابن عامر «قتلوا» بالتشديد لكثرة المقتولين بَلْ أَحْياءٌ أي بل هم أحياء مستمرون على ذلك، وقرئ بالنصب، وخرجه الزجاج على أنه مفعول لمحذوف أي بل أحسبهم أحياء، ورده الفارسي بأن الأمر يقين فلا يؤمر فيه بحسبان وإضمار غير فعل الحسبان كاعتقدهم أو اجعلهم ضعيف إذ لا دلالة عليه على أن تقدير اجعلهم قال فيه أبو حيان: إنه لا يصح البتة سواء جعلته بمعنى أخلقهم أو صيرهم أو سمهم أو ألفهم، نعم قال السفاقسي: يصح إذا كان بمعنى اعتقدهم لكن يبقى حديث عدم الدلالة على حاله، وأجاب الجلبي بأن عدم الدلالة اللفظية مسلم لكن إذا أرشد المعنى إلى شيء قدر من غير ضعف وإن كانت دلالة اللفظ أحسن، وقال العلامة الثاني: لا منع من الأمر بالحسبان لأنه ظن لا شك والتكليف بالظن واقع لقوله تعالى: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الحشر: 2] أمرا بالقياس وتحصيل الظن، وقال بعضهم: المراد اليقين ويقدر أحسبهم للمشاكلة ولا يخفى أنه تعسف لأن الحذف في المشاكلة لم يعهد عِنْدَ رَبِّهِمْ في محل رفع على أنه خبر ثان للمبتدأ المقدر، أو صفة لأحياء، أو في محل نصب على أنه حال من الضمير في أَحْياءٌ وجوز أبو البقاء كونه ظرفا له أو للفعل الذي بعده، وعِنْدَ هنا ليست للقرب المكاني لاستحالته ولا بمعنى في علمه وحكمه كما تقول: هذا عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه كذا لعدم مناسبته للمقام بل بمعنى القرب والشرف أي ذوو زلفى ورتبة سامية، وزعم بعضهم أن معنى في علم الله تعالى مناسب للمقام لدلالته على التحقق أي إن حيلتهم متحققة لا شبهة فيها ولا يخفى أن المقام مقام مدح فتفسير العندية بالقرب أنسب به. وفي الكلام دلالة على التحقق من وجوه أخر وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم مزيد تكرمة لهم يُرْزَقُونَ صفة لأحياء، أو حال من الضمير فيه أو في الظرف وفيه تأكيد لكونهم أحياء وقد تقدم الكلام في حياتهم على أتم وجه، والقول بأن أرواحهم تتعلق بالأفلاك والكواكب فتلتذ بذلك وتكتسب زيادة كمال قول هابط إلى الثرى، ولا أظن القائل به قرع سمعه الروايات الصحيحة والأخبار الصريحة بل لم يذق طعم الشريعة الغراء ولا تراءى له منهج المحجة البيضاء وخبر القناديل لا ينور كلامه ولا يزيل ظلامه فلعمري إن حال الشهداء وحياتهم وراء ذلك فَرِحِينَ جوز أن يكون حالا من الضمير في يُرْزَقُونَ أو من الضمير في أَحْياءٌ أو من الضمير في الظرف، وأن يكون نصبا على المدح، أو الوصفية لأحياء في قراءة النصب ومعناه مسرورين بِما آتاهُمُ اللَّهُ بعد انتقالهم من الدنيا مِنْ فَضْلِهِ متعلق بآتاهم، ومِنْ إما للسببية أو لابتداء الغاية أو متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير المحذوف العائد على الموصول، ومِنْ للتبعيض والتقدير بما آتاهموه حال كونه كائنا بعض فضله. والمراد بهذا المؤتى ضروب النعم التي ينالها الشهداء يوم القيامة أو بعد الشهادة أو نفس الفوز بالشهادة في سبيل الله تعالى وَيَسْتَبْشِرُونَ أي يسرون بالبشارة، وأصل الاستبشار طلب البشارة وهو الخبر السار إلا أن المعنى   (1) قوله: (وقد ظن السيرافي) هكذا بخطه ولعله جرى اهـ مصححه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 هنا على السرور استعمالا للفظ في لازم معناه وهو استئناف أو معطوف على فرحين لتأويله بيفرحون. وجوز أن يكون التقدير وهم يستبشرون فتكون الجملة حالا من الضمير في فَرِحِينَ أو من ضمير المفعول في آتاهم وإنما احتيج إلى تقدير مبتدأ عند جعلها حالا لأن المضارع المثبت إذا كان حالا لا يقترن بالواو. بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ أي بإخوانهم الذين لم يقتلوا بعد في سبيل الله تعالى فيلحقوا بهم مِنْ خَلْفِهِمْ متعلق بيلحقوا والمعنى أنهم بقوا بعدهم وهم قد تقدموهم. ويجوز أن يكون حالا من فاعل يلحقوا أي لم يلحقوهم متخلفين عنهم باقين بعد في الدنيا. أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ بدل من الذين بدل اشتمال مبين لكون استبشارهم بحال إخوانهم لا بذواتهم أي يستبشرون بما تبين لهم من حسن حال إخوانهم الذين تركوهم أحياء وهو أنهم عند قتلهم في سبيل الله تعالى يفوزون كما فازوا ويحوزون من النعيم كما حازوا، وإلى هذا ذهب ابن جريج وقتادة، وقيل: إنه منصوب بنزع الخافض أي لئلا، أو بأن لا وهو معمول ليستبشرون واقع موقع المفعول من أجله أي يستبشرون بقدوم إخوانهم الباقين بعدهم إليهم لأنهم لا خوف عليهم إلخ، فالاستبشار حينئذ ليس بالأحوال. ويؤيد هذا ما روي عن السدي أنه يؤتى الشهيد بكتاب فيه ذكر من يقدم عليه من إخوانه يبشر بذلك فيستبشر كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في الدنيا، فضمير، عَلَيْهِمْ وما بعده على هذا راجع إلى الذين الأول، وعلى الأول إلى الثاني، ومن الناس من فسر- الذين لم يلحقوا- بالمتخلفين في الفضل عن رتبة الشهداء وهم الغزاة الذين جاهدوا في سبيل الله تعالى ولم يقتلوا بل بقوا حتى ماتوا في مضاجعهم، فإنهم وإن لم ينالوا مراتب الشهداء إلا أن لهم أيضا فضلا عظيما بحيث لا خوف عليهم ولا هم يحزنون لمزيد فضل الجهاد، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر من الآية وإن كان فضل الغزاة وإن لم يقتلوا مما لا يتناطح فيه كبشان، وأن على كل تقدير هي المخففة واسمها ضمير الشأن وخبرها الجملة المنفية، والمعنى لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فيمن خلفوه من ذريتهم فإن الله تعالى يتولاهم وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على ما خلفوا من أموالهم لأن الله تعالى قد أجزل لهم العوض، أو لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فيما يقدمون عليه لأن الله تعالى محص ذنوبهم بالشهادة وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على مفارقة الدنيا فرحا بالآخرة، أو خَوْفٌ عَلَيْهِمْ في الدنيا من القتل فإنه عين الحياة التي يجب أن يرغب فيها فضلا عن أن يخاف ويحذر وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على المفارقة، وقيل: إن كلا هذين المنفيين فيما يتعلق بالآخرة، والمعنى أنهم لا يخافون وقوع مكروه من أهوالها، ولا يحزنون من فوات محبوب من نعيمها، وهو وجه وجيه. والمراد بيان دوام انتفاء ذلك لا بيان انتفاء دوامه كما يوهمه كون الخبر في الجملة الثانية مضارعا فإن النفي وإن دخل على نفس المضارع يفيد الدوام والاستمرار بحسب المقام وقد تقدمت الإشارة إليه يَسْتَبْشِرُونَ مكرر للتأكيد وليتعلق به قوله تعالى: بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ فحينئذ يكون بيانا وتفسيرا لقوله سبحانه: أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لأن الخوف غم يلحق الإنسان مما يتوقعه من السوء، والحزن غم يلحقه من فوات نافع أو حصول ضار فمن كان متقلبا في نعمة من الله تعالى وفضل منه سبحانه فلا يحزن أبدا، ومن جعلت أعماله مشكورة غير مضيعة فلا يخاف العاقبة، ويجوز أن يكون بيان ذلك النفي بمجرد قوله جل وعلا: بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ من غير ضم ما بعده إليه، وقيل: الاستبشار الأول بدفع المضار ولذا قدم، والثاني بوجود المسار أو الأول لإخوانهم، والثاني لهم أنفسهم، ومن الناس من أعرب يَسْتَبْشِرُونَ بدلا من الأول ولذا لم تدخل واو العطف عليه، ومِنَ اللَّهِ متعلق بمحذوف وقع صفة- لنعمة- مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية، وجمع- الفضل والنعمة- مع أنهما كثيرا ما يعبر بهما عن معنى واحد إما للتأكيد وإما للإيذان بأن ما خصهم به سبحانه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 ليس نعمة على قدر الكفاية من غير مضاعفة سرور ولذة، بل زائد عليها مضاعف فيها ذلك، ونظيره قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس: 26] وعطف وأن على «فضل» أو على «نعمة» وعلى التقديرين مضمون ما بعدها داخل في المستبشر به. وقرأ الكسائي «وإن» بكسر الهمزة على أنه تذييل لمضمون ما قبله من الآيات السابقة، أو اعتراض بين التابع والمتبوع بناء على أن الموصول الآتي تابع للذين لم يلحقوا، والمراد من المؤمنين إما الشهداء والتعبير عنهم بذلك للإعلام بسمو مرتبة الإيمان وكونه مناطا لما قالوه من السعادة، وإما كافة المؤمنين، وذكرت توفية أجورهم وعدت من جملة المستبشر به على ما اقتضاه العطف بحكم الأخوة في الدين، واختار هذا الوجه كثير. ويؤيده ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن زيدان أن هذه الآية جمعت المؤمنين كلهم سوى الشهداء وقلّ ما ذكر الله تعالى فضلا ذكر به الأنبياء وثوابا أعطاهم إلا ذكر سبحانه ما أعطى الله تعالى المؤمنين من بعدهم، وفي الآية إشعار بأن من لا إيمان له أعماله محبطة وأجوره مضيعة الَّذِينَ اسْتَجابُوا أي أطاعوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ بامتثال الأوامر مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ أي نالهم الجراح يوم أحد، والموصول في موضع جر صفة للمؤمنين أو في موضع نصب بإضمار أعني، أو في موضع رفع على إضمارهم، أو مبتدأ أول وخبره جملة قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ قال الطبرسي وهو الأشبه: ومِنْهُمْ حال من الضمير في أَحْسَنُوا ومِنْ للتبعيض- وإليه ذهب بعضهم- وذهب غير واحد إلى أنها للبيان، فالكلام حينئذ فيه تجريد جرد من الذين استجابوا لله والرسول المحسن المتقي، والمقصود من الجمع بين الوصفين المدح والتعليل لا التقييد لأن المستجيبين كلهم محسنون ومتقون، قال ابن إسحاق وغيره: لما كان يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال وكانت وقعة أحد يوم السبت للنصف منه أذن مؤذن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بطلب العدو وأن لا يخرج معنا أحد إلا أحد حضر يومنا بالأمس فكلمه جابر بن عبد الله بن حرام فقال: يا رسول الله إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع وقال: يا بني لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على نفسي فتخلف على أخواتك فتخلفت عليهم فأذن له رسول الله صلّى الله عليه وسلم فخرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إرهابا للعدو حتى انتهى إلى حمراء الأسد على ثمانية أميال من المدينة فأقام بها يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء ثم رجع إلى المدينة وقد مر به معبد بن أبي معبد الخزاعي وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم عيبة نصح رسول الله صلّى الله عليه وسلم بتهامة صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئا كان بها، ومعبد يومئذ مشرك فقال: يا محمد أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك ولوددنا أن الله تعالى عافاك فيهم، ثم ذهب ورسول الله صلّى الله عليه وسلم بحمراء الأسد حتى لقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه وقالوا: أصبنا أجل أصحابه وقادتهم وأشرافهم ثم نرجع قبل أن نستأصلهم لنكرن عليهم فلنفرغن منهم فلما رأى أبو سفيان معبدا قال: ما وراءك يا معبد؟ قال: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط وهم يتحرقون عليكم تحرقا وقد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على ما صنعوا فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قال: ويلك ما تقول؟ قال ما أرى والله أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل قال: فو الله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم قال: فإني أنهاك عن ذلك وو الله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيهم أبياتا من الشعر قال: وما قلت؟ قال قلت: كادت تهدّ من الأصوات راحلتي ... إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل ترمي بأسد كرام لا تنابلة ... عند اللقاء ولا ميل معازيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 فظلت عدوا كأن الأرض مائلة ... لما سمعوا برئيس غير مخذول وقلت: ويل ابن حرب من لقائهم ... إذا تغطمطت البطحاء بالخيل إني نذير لأهل النبل ضاحية ... لكل آربة منهم ومعقول من خيل أحمد لا وخشا تنابلة ... وليس يوصف ما أنذرت بالقيل فثنى عند ذلك أبو سفيان ومن معه ومرّ به ركب من عبد القيس فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريد المدينة قال ولم؟ قالوا: نريد الميرة قال: فهل أنتم مبلغون عني محمدا رسالة أرسلكم بها إليه وأحمل هذه لكم غدا زبيبا بعكاظ إذا وافيتموه؟ قالوا: نعم قال: إذا وافيتموه فأخبروه أن قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم فمرّ الركب برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، وأخرج ابن هشام أن أبا سفيان لما أراد الرجوع إلى حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لهم صفوان بن أمية بن خلف: لا تفعلوا فإن القوم قد جربوا وقد خشينا أن يكون لهم قتال غير الذي كان فارجعوا إلى محالكم فرجعوا فلما بلغ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو بحمراء الأسد أنهم هموا بالرجعة قال: والذي نفسي بيده لقد سومت لهم حجارة لو صبحوا بها لكانوا كأمس الذاهب ثم رجع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة وأنزل الله تعالى هذه الآيات، وإلى هذا ذهب أكثر المفسرين فقوله تعالى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ بدل من الَّذِينَ اسْتَجابُوا أو صفة، والمراد من الناس الأول ركب عبد قيس، ومن الثاني أبو سفيان ومن معه فأل فيهما للعهد والناس الثاني غير الأول. وروي عن مجاهد، وقتادة، وعكرمة وغيرهم أنهم قالوا: والخبر متداخل نزلت هذه الآيات في غزوة بدر الصغرى، وذلك أن أبا سفيان قال يوم أحد حين أراد أن ينصرف: يا محمد موعد ما بيننا وبينك موسم بدر القابل إن شئت فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ذلك بيننا وبينك إن شاء الله تعالى فلما كان العام المقبل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مجنة من ناحية مر الظهران، وقيل: بلغ عسفان فألقى الله تعالى عليه الرعب فبدا له الرجوع فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي (1) وقد قدم معتمرا فقال له أبو سفيان: إني وأعدت محمدا وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر وإن هذه عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن وقد بدا لي وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج أنا فيزيدهم ذلك جرأة فالحق المدينة فتثبطهم ولك عندي عشرة من الإبل أضعها على يدي سهيل بن عمرو فأتى نعيم المدينة فوجد الناس يتجهزون لميعاد أبي سفيان فقال لهم: بئس الرأي رأيكم أتوكم في دياركم وقراركم فلم يفلت منكم إلا شريد فتريدون أن تخرجوا إليهم وقد جمعوا لكم عند الموسم فو الله لا يفلت منكم أحد فكره أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الخروج فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: والذي نفسي بيده لأخرجن ولو وحدي فخرج ومعه سبعون راكبا يقولون: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ حتى وافى بدرا فأقام بها ثمانية أيام ينتظر أبا سفيان وقد انصرف أبو سفيان ومن معه من مجنة إلى مكة فسماهم أهل مكة جيش السويق يريدون أنكم لم تفعلوا شيئا سوى شرب السويق ولم يلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم أحدا من المشركين فكر راجعا إلى المدينة، وفي ذلك يقول عبد الله بن رواحة، أو كعب بن مالك: وعدنا أبا سفيان وعدا فلم نجد ... لميعاده صدقا وما كان وافيا   (1) قوله: نعيم بن مسعود أسلم رضي الله تعالى عنه عام الخندق اهـ منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 فأقسم لو وافيتنا فلقيتنا ... لأبت دميما وافتقدت المواليا تركنا به أوصال عتبة وابنه ... وعمرا أبا جهل تركناه ثاويا عصيتم رسول الله أف لدينكم ... وأمركم الشيء الذي كان غاويا وإني وإن عنفتموني لقائل ... فدى لرسول الله أهلي وماليا أطعناه لم نعدله فينا بغيره ... شهابا لنا في ظلمة الليل هاديا فعلى هذا المراد من الناس الأول نعيم، وأطلق ذلك عليه كما يطلق الجمع واسم الجمع المحلى بأل الجنسية على الواحد منه مجازا كما صرحوا به، أو باعتبار أن المذيعين له كالقائلين لهم لكن في كون القائل نعيما مقال. وقد ذكره ابن سعد في طبقاته، وذكر بعضهم أن القائلين أناس من عبد قيس فَزادَهُمْ إِيماناً الضمير المستكن للمقول أو لمصدر قال: أو لفاعله إن أريد به نعيم وحده، أو لله تعالى، وتعقب أبو حيان الأول بأنه ضعيف من حيث إنه لا يزيد إيمانا إلا النطق به لا هو في نفسه، وكذا الثالث بأنه إذا أطلق على المفرد لفظ الجمع مجازا فإن الضمائر تجري على ذلك الجمع لا على المفرد فيقال: مفارقة شابت باعتبار الإخبار عن الجمع، ولا يجوز مفارقة شاب باعتبار مفرقه شاب، وفي كلا التعقيبين نظر، أما الأول فقد نظر فيه الحلبي بأن المقول هو الذي في الحقيقة حصل به زيادة الإيمان، وأما الثاني فقد نظر فيه السفاقسي بأنه لا يبعد جوازه بناء على ما علم من استقراء كلامهم فيما له لفظ وله معنى من اعتبار اللفظ تارة والمعنى أخرى. والمراد أنهم لم يلتفتوا إلى ذلك بل ثبت به يقينهم بالله تعالى وازدادوا طمأنينة وأظهروا حمية الإسلام. واستدل بذلك من قال: إن الإيمان يتفاوت زيادة ونقصانا وهذا ظاهر إن جعلت الطاعة من جملة الإيمان وأما إن جعل الإيمان نفس التصديق والاعتقاد فقد قالوا في ذلك: إن اليقين مما يزداد بالألف وكثرة التأمل وتناصر الحجج بلا ريب، ويعضد ذلك أخبار كثيرة، ومن جعل الإيمان نفس التصديق وأنكر أن يكون قابلا للزيادة والنقصان يؤول ما ورد في ذلك باعتبار المتعلق، ومنهم من يقول: إن زيادته مجاز عن زيادة ثمرته وظهور آثاره وإشراق نوره وضيائه في القلب ونقصانه على عكس ذلك، وكأن الزيادة هنا مجاز عن ظهور الحمية وعدم المبالاة بما يثبطهم، وأنت تعلم أن التأويل الأول هنا خفي جدا لأنه لم يتجدد للقوم بحسب الظاهر عند ذلك القول شيء يجب الإيمان به كوجوب صلاة أو صوم مثلا ليقال: إن زيادة إيمانهم باعتبار ذلك المتعلق وكذا التزام التأويل الثاني في الآيات والآثار التي لم تكد تتمنطق بمنطقة الحصر بعيد غاية البعد. فالأولى القول بقبول الإيمان الزيادة والنقصان من غير تأويل، وإن قلنا: إنه نفس التصديق وكونه إذا نقص يكون ظنا أو شكا ويخرج عن كونه إيمانا وتصديقا مما لا ظن ولا شك في أنه على إطلاقه ممنوع. نعم قد يكون التصديق بمرتبة إذا نزل عنها يخرج عن كونه تصديقا وذاك مما لا نزاع لأحد في أنه لا يقبل النقصان مع بقاء كونه تصديقا، وإلى هذا أشار بعض المحققين وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ أي محسبنا وكافينا من أحسبه إذا كفاه، والدليل على أن حسب بمعنى محسب اسم فاعل وقوعه صفة للنكرة في هذا رجل حسبك مع إضافته إلى ضمير المخاطب فلولا أنه اسم فاعل وإضافته لفظية لا تفيده تعريفا كإضافة المصدر ما صح كونه صفة لرجل كذا قالوا، ومنه يعلم أن المصدر المؤول باسم الفاعل له حكمة في الإضافة، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة التي قبلها وَنِعْمَ الْوَكِيلُ أي الموكول إليه ففعيل بمعنى مفعول والمخصوص بالمدح محذوف هو ضميره تعالى، والظاهر عطف هذه الجملة الإنشائية على الجملة الخبرية التي قبلها، والواو إما من الحكاية أو من المحكي فإن كان الأول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 وقلنا: بجواز عطف الإنشاء على الإخبار فيما له محل من الإعراب لكونهما حينئذ في حكم المفردين فأمر العطف ظاهر من غير تكلف التأويل لأن الجملة المعطوف عليها في محل نصب مفعول قالُوا لكن القول بجواز هذا العطف بدون التأويل عند الجمهور ممنوع لا بد له من شاهد ولم يثبت. وإن كان الثاني وقلنا بجواز عطف الإنشاء على الإخبار مطلقا- كما ذهب إليه الصفار- أو قلنا: بجواز عطف القصة على القصة أعني عطف حاصل مضمون إحدى الجملتين على حاصل مضمون الأخرى من غير نظر إلى اللفظ- كما أشار إلى ذلك العلامة الثاني- فالأمر أيضا ظاهر، وإن قلنا: بعدم جواز ذلك- كما ذهب إليه الجمهور- فلا بد من التأويل إما في جانب المعطوف عليه أو في جانب المعطوف، والذاهبون إلى الأول قالوا: إن الجملة الأولى وإن كانت خبرية صورة لكن المقصود منها إنشاء التوكل أو الكفاية لا الإخبار بأنه تعالى كاف في نفس الأمر، والذاهبون إلى الثاني اختلفوا فمنهم من قدر قلنا أي- وقلنا نعم الوكيل. واعترض بأنه تقدير لا ينساق الذهن إليه ولا دلالة للقرينة عليه مع أنه لا يوجد بين الأخبار بأن الله تعالى كافيهم والاخبار بأنهم قالوا- نعم الوكيل- مناسبة معتد بها يحسن بسببها العطف بينهما، ومنهم من جعل مدخول الواو معطوفا على ما قبله بتقدير المبتدأ إما مؤخرا لتناسب المعطوف عليه فإن حَسْبُنَا خبر، واللَّهُ مبتدأ بقرينة ذكره في المعطوف عليه ومجيء حذفه في الاستعمال وانتقال الذهن إليه، وإما مقدما رعاية لقرب المرجع مع ما سبق. واعترض بأنه لا يخفى أنه بعد تقدير المبتدأ لو لم يؤول- نعم الوكيل- بمقول في حقه ذلك تكون الجملة أيضا إنشائية إذ الجملة الاسمية التي خبرها إنشاء إنشائية كما أن التي خبرها فعل فعلية بحسب المعنى كيف لا ولا فرق بين- نعم الرجل زيد، وزيد نعم الرجل- في أن مدلول كل منهما نسبة غير محتملة للصدق والكذب، وبعد التأويل لا يكون المعطوف جملة- نعم الوكيل- بل جملة متعلق خبرها- نعم الوكيل- والإشكال إنما هو في عطف- نعم الوكيل- إلا أن يقال يختار هذا، ويقال: الجواب عن شيء قد يكون بتقرير ذلك الشيء وإبداء شيء آخر وقد يكون بتغيير ذلك الشيء، وما هاهنا من الثاني فمن حيث الظاهر المعطوف هو جملة- نعم الوكيل- فيعود الإشكال، ومن حيث الحقيقة هو جملة هو مقول فلا إشكال لكن يرد أنه بعد التأويل يفوت إنشاء المدح العام الذي وضع أفعال المدح له بل يصير للإخبار بالمدح الخاص، وهو أنه مقول في حقه- نعم الوكيل- وأيضا مقولية المقول المذكور فيه إنما تكون بطريق الحمل والإخبار عنه- بنعم الوكيل- فلا بد من تقدير مقول في حقه مرة أخرى، ويلزم تقديرات غير متناهية وكأنه لهذا لم يؤول الجمهور الإنشاء الواقع خبرا بذلك وإنما هو مختار السعد رحمه الله تعالى، وقد جوز بعضهم على تقدير كون الواو من المحكي عطف- نعم الوكيل- على حَسْبُنَا باعتبار كونه في معنى الفعل كما عطف جَعَلَ على فالِقُ في قوله تعالى: فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً [الأنعام: 69] على رأي فحينئذ يكون من عطف الجملة التي لها محل من الإعراب على المفرد لأنه إذ ذاك خبر عن المفرد، وبعض المحققين يجوزون ذلك لا من عطف الإنشاء على الاخبار- وهذا وإن كان في الحقيقة لا غبار عليه- إلا أن أمر العطف على الخبر بناء على ما ذكره الشيخ الرضي من أن نعم الرجل بمعنى المفرد وتقديره أي رجل جيد- أظهر كما لا يخفى، ومن الناس من ادعى أن الآية شاهد على جواز عطف الإنشاء على الاخبار فيما له محل من الإعراب بناء على أن الواو من الحكاية لا غير. ولا يخفى عليك أنه بعد تسليم كون الواو كذلك فيها لا تصلح شاهدا على ما ذكر لجواز أن يكون قالُوا مقدرا في المعطوف بقرينة ذكره في المعطوف عليه فيكون من عطف الجملة الفعلية الخبرية، على الجملة الفعلية الخبرية، ثم إن الظاهر كما يقتضي أن يكون في الآية عطف على الاخبار- وفيه الخلاف الذي عرفت كذلك يقتضي عطف الفعلية على الاسمية- وفيه أيضا خلاف مشهور كعكسه- ومما ذكرنا في أمر الإنشاء والاخبار يستخرج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 الجواب عن ذلك، وقد أطال العلماء الكلام في هذا المقام وما ذكرناه قليل من كثير ووشل من غدير، ثم إن هذه الكلمة كانت آخر قول إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار كما أخرجه البخاري في الأسماء والصفات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعبد الرزاق وغيره عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وأخرج ابن أبي الدنيا عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان إذا اشتد غمه مسح بيده على رأسه ولحيته ثم تنفس الصعداء، وقال: حسبي الله ونعم الوكيل. وأخرج أبو نعيم عن شداد بن أوس قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: حسبي الله ونعم الوكيل أمان كل خائف» فَانْقَلَبُوا عطف على مقدر دل عليه السياق أي فخرجوا إليهم ورجعوا بِنِعْمَةٍ في موضع الحال من الضمير في- انقلبوا- وجوز أن يكون مفعولا به، والباء على الأول للتعدية، وعلى الثاني للمصاحبة، والتنوين على التقديرين للتفخيم أي بِنِعْمَةٍ عظيمة لا يقدر قدرها مِنَ اللَّهِ صفة لنعمة مؤكدة لفخامتها، والمراد منها السلامة- كما قاله ابن عباس- أو الثبات على الإيمان وطاعة الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم- كما قاله الزجاج- أو إذلالهم أعداء الله تعالى على بعد كما قيل، أو مجموع هذه الأمور على ما نقول وَفَضْلٍ وهو الربح في التجارة، فقد روى البيهقي عن ابن عباس أن عيرا مرت وكان في أيام الموسم فاشتراها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فربح مالا فقسمه بين أصحابه فذلك الفضل. وأخرج ابن جرير عن السدي قال: أعطى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين خرج في غزوة بدر الصغرى ببدر أصحابه دراهم ابتاعوا بها في الموسم فأصابوا تجارة وعن مجاهد الفضل ما أصابوا من التجارة والأجر لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ أي لم يصبهم قتل- وهو المروي عن السدي- أو لم يؤذهم أحد- وهو المروي عن الحبر- والجملة في موضع النصب على الحال من فاعل- انقلبوا- أو من المستكن في بِنِعْمَةٍ إذا كان حالا والمعنى فَانْقَلَبُوا منعمين مبرئين من السوء، والجملة الحالية إذا كان فعلها مضارعا منفيا بلم، وفيها ضمير ذي الحال جاز فيها دخول الواو وعدمه وَاتَّبَعُوا عطف على- انقلبوا- وقيل: حال من ضميره بتقدير قد أي وقد اتبعوا في كل حال ما أوتوا، أو في الخروج إلى لقاء العدو رِضْوانَ اللَّهِ الذي هو مناط كل خير وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ حيث تفضل عليهم بما تفضل وفيما تقدم مع تذييله بهذه الآية المشتملة على الاسم الكريم الجامع وإسناد ذُو فَضْلٍ إليه ووصف الفضل بالعظم إيذان بأن المتخلفين فوتوا على أنفسهم أمرا عظيما لا يكتنه كنهه وهم أحقاء بأن يتحسروا عليه تحسرا ليس بعده إِنَّما ذلِكُمُ الإشارة إلى المثبط بالذات أو بالواسطة، والخطاب للمؤمنين وهو مبتدأ، وقوله: الشَّيْطانُ بمعنى إبليس لأنه علم له بالغلبة خبره على التشبيه البليغ، وقوله تعالى: يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ جملة مستأنفة مبينة لشيطنته، أو حال كما في قوله تعالى: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً [النمل: 52] . ويجوز أن يكون الشيطان صفة لاسم الإشارة على التشبيه أيضا، ويحتمل أن يكون مجازا حيث جعله هو ويخوف هو الخبر، وجوز أن يكون ذا إشارة إلى قول المثبط فلا بدّ حينئذ من تقدير مضاف أي قول الشيطان، والمراد به إبليس أيضا ولا تجوز فيه على الصحيح، وإنما التجوز في الإضافة إليه لأنه لما كان القول بوسوسته وسببه جعل كأنه قوله، والمستكن في يُخَوِّفُ إما للمقدر وإما للشيطان بحذف الراجع إلى المقدر أي يحوف به، والمراد بأوليائه إما أبو سفيان وأصحابه، فالمفعول الأول ليخوف محذوف أي يخوفكم أولياءه بأن يعظمهم في قلوبكم، ونظير ذلك قوله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 تعالى: لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً [الكهف: 2] وبذكر هذا المفعول قرأ ابن عباس. وقرأ بعضهم يخوفكم بأوليائه، وعلى هذا المعنى أكثر المفسرين، وإليه ذهب الزجاج، وأبو علي الفارسي، وغيرهما، ويؤيده قوله تعالى: فَلا تَخافُوهُمْ أي فلا تخافوا أولياءه الذين خوفكم إياهم وَخافُونِ في مخالفة أمري، وإما المتخلفون عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأولياءه هو المفعول الأول والمفعول الثاني إما متروك أو محذوف للعلم به أي يوقعهم في الخوف، أو يخوفهم من أبي سفيان وأصحابه وعلى هذا لا يصح عود ضمير تَخافُوهُمْ إلى الأولياء بل هو راجع إلى الناس الثاني كضمير- اخشوهم- فهو ردّ له أي فلا تخافوا الناس وتقعدوا عن القتال وتجبنوا وَخافُونِ فجاهدوا مع رسولي وسارعوا إلى امتثال ما يأمركم به، وإلى هذا الوجه ذهب الحسن والسدي، وادعى الطيبي أن النظم يساعد عليه، والخطاب حينئذ لفريقي الخارجين والمتخلفين والقصد التعريض بالطائفة الأخيرة، وقيل: الخطاب لها وأَوْلِياءَهُ إذ ذاك من وضع الظاهر موضع المضمر نعيا عليهم بأنهم أولياء الشيطان واستظهر بعضهم هذا القيل مطلقا معللا له بأن الخارجين لم يخافوا إلا الله تعالى وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وأنت تعلم أن قيام احتمال التعريض يمرض هذا التعليل، والفاء لترتيب النهي أو الانتهاء على ما قبلها فإن كون المخوف شيطانا أو قولا له مما يوجب عدم الخوف والنهي عنه، وأثبت أبو عمرو ياء وَخافُونِ وصلا وحذفها وقفا والباقون يحذفونها مطلقا وهي ضمير المفعول وقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إن كان الخطاب للمتخلفين فالأمر فيه واضح، وإن كان للخارجين كان مساقا للإلهاب والتهييج لهم لتحقق إيمانهم، وإن كان للجميع ففيه تغليب، وأيّا ما كان فالجزاء محذوف، وقيل: إن كان الخطاب فيما تقدم للمؤمنين الخلص لم يفتقر إلى الجزاء لكونه في معنى التعليل، وإن كان للآخرين افتقر إليه وكأن المعنى إن كنتم مؤمنين فخافوني وجاهدوا مع رسولي لأن الإيمان يقتضي أن تؤثروا خوف الله تعالى على خوف الناس. هذا (ومن باب الإشارة) في الآيات وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بسيف المحبة أَوْ مُتُّمْ بالموت الاختباري لَمَغْفِرَةٌ أي ستر لوجودكم مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ منه تعالى بتحليكم بصفاته عز وجل خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ أي أهل الكثرة فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ أي باتصافك برحمة رحيمية أي رحمة تابعة لوجودك الموهوب الإلهي لا الوجود البشري لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا موصوفا بصفات النفس كالفظاظة والغلظ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ولم يتحملوا مؤنة ذلك، أو يقال: لو لم تغلب صفات الجمال فيك على نعوت الجلال لتفرقوا عنك ولما صبروا معك، أو يقال: لو سقيتهم صرف شراب التوحيد غير ممزوج بما فيه لهم حظ لتفرقوا هائمين على وجوههم غير مطيقين الوقوف معك لحظة، أو يقال: لو كنت مدققا عليهم أحكام الحقائق لضاقت صدورهم ولم يتحملوا أثقال حقيقة الآداب في الطريق ولكن سامحتهم بالشريعة والرخص فَاعْفُ عَنْهُمْ فيما يتعلق بك من تقصيرهم معك لعلو شأنك وكونك لا ترى في الوجود غير الله وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ فيما يتعلق بحق الله تعالى لاعتذارهم أو استغفر لهم ما يجري في صدورهم من الخطرات التي لا تليق بالمعرفة وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ إذا كنت في مقام الفعل اختبارا لهم وامتحانا لمقامهم فَإِذا عَزَمْتَ وذلك إذا كنت في مقام مشاهدة الربوبية والخروج من التفرقة إلى الجمع فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فإنه حسبك فيما يريد منك وتريد منه، وذكر بعض المتصوفة أنه يمكن أن يفهم من الآية كون الخطاب مع الروح الإنساني وأنه لان (1) لصفات النفس وقواها الشهوية والغضبية لتستوفي حظها ويرتبط بذلك بقاء النسل وصلاح المعاش ولولا ذلك   (1) قوله: (وأنه لان) إلخ كذا في خطه اهـ مصححه. [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 لاضمحك تلك القوى وتلاشت واختلت الحكمة وفقدت الكمالات التي خلق الإنسان لأجلها إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ تحقيق لمعنى التوكل والتوحيد في الأفعال. وقد ذكر بعض السادة قدس الله تعالى أسرارهم أن نصر الله تعالى لعباده متفاوت المراتب، فنصره المريدين بتوفيقهم لقمع الشهوات، ونصره المحبين بنعت المدانات، ونصره العارفين بكشف المشاهدات، وقد قيل: إنما يدرك نصر الله تعالى من تبرأ من حوله وقوته واعتصم بربه في جميع أسبابه وما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ (1) لكمال قدسه وغاية أمانته فلم يخف حق الله تعالى عن عباده وأعطى علم الحق لأهل الحق ولم يضع أسراره إلا عند الأمناء من أمته أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ أي النبي في مقام الرضوان التي هي جنة الصفات لاتصافه بصفات الله تعالى كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وهو الغال المحتجب بصفات نفسه وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وهي أسفل حضيض النفس المظلمة هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ أي كل من أهل الرضا والسخط متفاوتون في المراتب حسب الاستعدادات لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ إذ هو صلى الله تعالى عليه وسلم مرآة الحق يتجلى منه على المؤمنين ولو تجلى لهم صرفا لا حترقوا بأول سطوات عظمته، ومعنى كونه عليه الصلاة والسلام مِنْ أَنْفُسِهِمْ كونه في لباس الشر ظاهرا بالصورة التي هم عليها وحمل المؤمنين على العارفين والرسول على الروح الإنساني المنور بنور الأسماء والصفات المبعوث لإصلاح القوى غير بعيد في مقام الإشارة أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ في أثناء السير في الله تعالى وهي مصيبة الفترة بالنسبة إليكم قَدْ أَصَبْتُمْ قوى النفس مِثْلَيْها مرة عند وصولكم إلى مقام توحيد الأفعال ومرة عند وصولكم إلى مقام توحيد الصفات قُلْتُمْ أَنَّى أصابنا هذا ونحن في بيداء السير في الله تعالى عز وجل قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ لأنه بقي فيها بقية ما من صفاتها ولا ينافي قوله سبحانه: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لأن السبب الفاعلي في الجميع هو الحق جل شأنه والسبب القابلي أنفسهم، ولا يفيض من الفاعل إلا ما يليق بالاستعداد ويقتضيه، فباعتبار الفاعل يكون من عند الله، وباعتبار القابل يكون من عند أنفسهم، وربما يقال ما يكون من أنفسهم أيضا يكون من الله تعالى نظرا إلى التوحيد إذ لا غير ثمة وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ سواء قتلوا بالجهاد الأصغر وبذل الأنفس طلبا لرضا الله تعالى أو بالجهاد الأكبر وكسر النفس وقمع الهوى بالرياضة أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ بالحياة الحقيقة مقربين في حضرة القدس يُرْزَقُونَ من الأرزاق المعنوية وهي المعارف والحقائق، وقد ورد في بعض الأخبار أن أرواح الشهداء في أجواب طير خضر تدور في أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، ونقل ذلك بهذا اللفظ بعض الصوفية، وجعل الطير الخضر إشارة إلى الأجرام السماوية، والقناديل من ذهب إشارة إلى الكواكب، وأنهار الجنة منابع العلوم ومشارعها، وثمارها الأحوال والمعارف. والمعنى أن أرواح الشهداء تتعلق بالنيرات من الأجرام السماوية بنزاهتها وترد مشارع العلوم وتكتسب هناك المعارف والأحوال، ولا يخفى أن هذا مما لا ينبغي اعتقاده كما أشرنا إليه فيما سبق فإن كان ولا بدّ من التأويل فليجعل الطير إشارة إلى الصور التي تظهر بها الأرواح بناء على أنها جواهر مجردة، وأطلق اسم الطير عليها إشارة إلى خفتها ووصولها بسرعة حيث أذن لها. ونظير ذلك في الجملة قوله صلى الله تعالى عليه وسلم في حديث: «الأطفال هم دعاميص الجنة» والدعاميص   (1) قوله: (وما كان لنبي أن يغل) وقوله: (أفمن اتبع) إلخ كذا في خطه رحمه الله، ولا يخفى على من حفظ القرآن ما بينهما كتبه مصححه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 جمع دعموص وهي دويبة تكون في مستنقع الماء كثيرة الحركة لا تكاد تستقر، ومن المعلوم أن الأطفال ليسوا تلك الدويبة في الجنة لكنه أراد صلّى الله عليه وسلم الأخبار بأنهم سياحون في الجنة فعبر بذلك على سبيل التشبيه البليغ، ووصف الطير بالخضر إشارة إلى حسنها وطراوتها، ومنه خبر «إن الدنيا حلوة خضرة» وقول عمر رضي الله تعالى عنه: إن الغزو حلو خضر، ومن أمثالهم النفس خضراء، وقد يريدون بذلك أنها تميل لكل شيء وتشتهيه، وأمر الظرفية في الخبر سهل، وباقي ما فيه إما على ظاهره، وإما مؤول، وعلى الثاني يراد من الجنة الجنة المنوية وهي جنة الذات والصفات، ومن أنهارها ما يحصل من التجليات، ومن ثمارها ما يعقب تلك التجليات من الآثار، ومن القناديل المعلقة في ظل العرش مقامات لا تكتنه معلقة في ظل عرش الوجود المطلق المحيط، وكونها من ذهب إشارة إلى عظمتها وأنها لا تنال إلا بشق الأنفس. وحاصل المعنى على هذا أن أرواح الشهداء الذين جادوا بأنفسهم في مرضاة الله تعالى، أو قتلهم الشوق إليه عز شأنه تتمثل صورا حسنة ناعمة طرية يستحسنها من رآها تطير بجناحي القبول والرضا في أنواع التجليات الإلهية وتكتسب بذلك أنواعا من اللذائذ المعنوية التي لا يقدر قدرها ويتجدد لها في مقدار كل ليلة مقام جليل لا ينال إلا بمثل أعمالهم، وذلك هو النعيم المقيم والفوز العظيم، وكأن من أول هذا الخبر وأمثاله قصد سدّ باب التناسخ ولعله بالمعنى الذي يقول به أهل الضلال غير لازم كما أشرنا إليه في آية البقرة فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ من الكرامة والنعمة والزلفى عنده وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ وهم الغزاة الذين لم يقتلوا بعد، أو السالكون المجاهدون أنفسهم الذين لم يبلغوا درجتهم إلى ذلك الوقت أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لفوزهم بالمأمن الأعظم، والحبيب الأكرم يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ عظيمة وهي جنة الصفات وَفَضْلٍ أي زيادة عليها وهي جنة الذات، ومع ذلك أَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ إيمان الْمُؤْمِنِينَ الذي هو جنة الأفعال وثواب الأعمال الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ بالفناء بالوحدة الذاتية والقيام بحق الاستقامة مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ أي كسر النفس للذين أحسنوا منهم وهم الثابتون في مقام المشاهدة وَاتَّقَوْا النظر إلى نفوسهم لهم أَجْرٌ عَظِيمٌ وراء أجر الإيمان الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ المنكرون قبل الوصول إلى المشاهدة إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ وتحشدوا للإنكار عليكم فَاخْشَوْهُمْ واتركوا ما أنتم عليه فَزادَهُمْ ذلك القول إِيماناً أي يقينا وتوحيدا بنفي الغير وعدم المبالاة به وتوصلوا بنفي ما سوى الله تعالى إلى إثباته وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ فشاهدوه ثم رجعوا إلى تفاصيل الصفات بالاستقامة وقالوا نِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ أي رجعوا بالوجود الحقاني في جنة الصفات والذات لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ لم يؤذهم أحد إذ لا أحد إلا الأحد وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ في حال سلوكهم حتى فازوا بجنة الذات المشار إليها بقوله تعالى: وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ كما أشرنا إليه إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ المحجوبين بأنفسهم- فلا تخافوا- المنكرين وَخافُونِ إذ ليس في الوجود سواي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي موحدين توحيدا حقيقيا والله تعالى الموفق للصواب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ خطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وتوجيهه إليه تشريفا له بالتسلية مع الإيذان بأنه الرئيس المعتنى بشؤونه. والمراد من الموصول إما المنافقون المتخلفون- وإليه ذهب مجاهد وابن إسحاق- وإما قوم من العرب ارتدوا عن الإسلام لمقاربة عبدة الأوثان- وإليه ذهب أبو علي الجبائي- وإما سائر الكفار- وإليه ذهب الحسن- وإما المنافقون وطائفة من اليهود حسبما عين في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ [المائدة: 41] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا [المائدة: 41]- وإليه ذهب بعضهم- ومعنى يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ يقعون فيه سريعا لغاية حرصهم عليه وشدة رغبتهم فيه، ولتضمن المسارعة معنى الوقوع تعدت بفي دون إلى الشائع تعديتها بها كما في سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ [آل عمران: 133] وغيره، وأوثر ذلك قيل: للإشعار باستقرارهم في الكفر ودوام ملابستهم له في مبدأ المسارعة ومنتهاها كما في قوله سبحانه: يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ [آل عمران: 114، المؤمنون: 61] في حق المؤمنين، وأما إيثار كلمة إلى في آيتها فلأن المغفرة والجنة منتهى المسارعة وغايتها والموصول فاعل يَحْزُنْكَ وليست الصلة علة لعدم الحزن كما هو المعهود في مثله لأن الحزن من الوقوع في الكفر هو الأمر اللائق لأنه قبيح عند الله تعالى يجب أن يحزن من مشاهدته فلا يصح النهي عن الحزن من ذلك، بل العلة هنا ما يترتب على تلك المسارعة من مراغمة المؤمنين وإيصال المضرة إليهم إلا أنه عبر بذلك مبالغة في النهي. والمراد لا يحزنك خوف أن يضروك ويعينوا عليك، ويدل على ذلك إيلاء قوله تعالى: إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً ردا وإنكارا لظن الخوف، والكلام على حذف مضاف، والمراد أولياء الله مثلا للقرينة العقلية عليه، وفي حذف ذلك وتعليق نفي الضرر به تعالى تشريف للمؤمنين وإيذان بأن مضارتهم بمنزلة مضارته سبحانه وتعالى، وفي ذلك مزيد مبالغة في التسلية، وشَيْئاً في موضع المصدر أي لن يضروه ضررا ما، وقيل: مفعول بواسطة حرف الجر أي لن يضروه بشيء ما أصلا، وتأويل يضروا بما يتعدى بنفسه إلى مفعولين مما لا داعي إليه، ولعل المقام يدعو إلى خلافه، وقرأ نافع- «يحزن» - بضم الياء وكسر الزاي في جميع القرآن إلا قوله تعالى: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء: 103] فإنه فتحها وضم الزاي، وقرأ الباقون كما قرأ نافع في المستثنى. وقرأ أبو جعفر عكس ما قرأ نافع، والماضي على قراءة الفتح حزن، وعلى قراءة الضم من أحزن، ومعناهما واحد إلا أن حزن لغة قليلة، وقيل: حزنته بمعنى أحدثت له حزنا. وأحزنته بمعنى عرضته للحزن، وقال الخليل: حزنته بمعنى جعلت فيه حزنا كدهنته بمعنى جعلت فيه دهنا، وأحزنته بمعنى جعلته حزينا. وقرئ يسرعون بغير ألف من أسرع ويسارعون بالإمالة والتفخيم. يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ استئناف لبيان الموجب لمسارعتهم كأنه قيل: لم يسارعون في الكفر مع أنهم لا ينتفعون به؟ فأجيب بأنه تعالى يريد أن لا يجعل لهم نصيبا ما من الثواب في الآخرة فهو يريد ذلك منهم، فكيف لا يسارعون، وفيه دليل على أن الكفر بإرادة الله تعالى وإن عاقب فاعله وذمه لأن ذلك لسوء استعداده المقتضي إفاضة ذلك عليه، وذكر بعض المحققين أن في ذكر الإرادة إيذانا بكمال خلوص الداعي إلى حرمانهم وتعذيبهم حيث تعلقت بهما إرادة أرحم الراحمين، وزعم بعضهم أنه مبني على مذهب الاعتزال وليس كذلك كما لا يخفى لأنه لم يقل لم يرد كفرهم ولا رمز إليه، وصيغة المضارع للدلالة على دوام الإرادة واستمرارها، ويرجع إلى دوام واستمرار منشأ هذا المراد وهو الكفر ففيه إشارة إلى بقائهم على الكفر حتى يهلكوا فيه وَلَهُمْ مع هذا الحرمان من الثواب بالكلية عَذابٌ عَظِيمٌ لا يقدر قدره، نقل عن بعضهم أنه لما دلت المسارعة في الشيء على عظم شأنه وجلالة قدرة عند المسارع وصف عذابه بالعظم رعاية للمناسبة وتنبيها على حقارة ما سارعوا فيه وخساسته في نفسه، وقيل: إنه لما دل قوله تعالى: إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً على عظم قدر من قصدوا إضراره وصف العذاب بالعظم إيذانا بأن قصد إضرار العظيم أمر عظيم يترتب عليه العذاب العظيم، والجملة إما حال من الضمير في لهم أي يريد الله تعالى حرمانهم من الثواب معدا لهم عذاب عظيم، وإما مبتدأة مبينة لحظهم من العذاب إثر بيان أن لا شيء لهم من الثواب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 وزعم بعضهم أن هاتين الجملتين في موضع التعليل للنهي السابق، وأن المعنى ولا يحزنك أنهم يسارعون في إعلاء الكفر وهدم الإسلام لا خوفا على الإسلام ولا ترحما عليهم أما الأول فلأنهم لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً فلا يقدرون على هدم دينه الذي يريد إعلاءه، وحينئذ لا حاجة إلى إرادة أولياء الله، وأما الثاني فلأنه يريد الله أن لا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب عظيم. واستأنس له بأنه كثيرا ما وقع نهي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن إيقاعه نفسه الكريمة في المشقة لهدايتهم وعن كونه ضيق الصدر لكفرهم وخوطب بأنه- ما عليك إلا البلاغ- لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية: 22] ولا يخلو عن بعد إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ أي أخذوا الكفر بدلا من الإيمان رغبة فيما أخذوا وإعراضا عما تركوا ولهذا وضع اشْتَرَوُا موضع بدلوا فإن الأول أظهر في الرغبة وأدل على سوء الاختيار، وقوله تعالى: لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً تقدم الكلام فيه، وفيه هنا تعريض ظاهر باقتصار الضرر عليهم كأنه قيل: وإنما يضرون أنفسهم، والمراد من الموصول هنا ما أريد منه هناك والتكرير لتقرير الحكم وتأكيده ببيان علته بتغيير عنوان الموضوع فإن ما ذكر في حيز الصلة لكونه علما في الخسران الكلي والحرمان الأبدي صريح في لحوق ضرره بأنفسهم وعدم تعديه إلى غيرهم أصلا، ودال على كمال سخافة عقولهم وركاكة آرائهم فكيف يتأتى منهم ما يتوقف على قوة الحزم ورزانة الرأي ورصانة التدبير، من مضارة أولياء الله تعالى الذين تكفل سبحانه لهم بالنصر وهي أعز من حليمة وأمنع من لهاة الليث، وجوز أن يراد بالموصول هنا عام، ويراد به هناك خاص وهو ما عدا ما ذهب إليه الحسن فيه، والجملة مقررة لمضمون ما قبلها تقرير القواعد الكلية لما اندرج تحتها من جزئيات الأحكام، وجوز الزمخشري أن يكون الأول عاما للكفار وهذا خاصا بالمنافقين وأفردوا بالذكر لأنهم أشدّ منهم في الضرر والكيد، واعترض بأن إرادة العام هناك مما لا يليق بفخامة شأن التنزيل لما أن صدور المسارعة في الكفر بالمعنى المذكور وكونها مظنة لإيراث الحزن لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كما يفهم من النهي عنه إنما يتصور ممن علم اتصافه بها وأما من لا يعرف حاله من الكفرة الكائنين في الأماكن البعيدة فإسناد المسارعة المذكورة إليهم واعتبار كونها من مبادئ حزنه عليه الصلاة والسلام مما لا وجه له، ويمكن أن يقال: إن القائل بالعموم في الأول لم يرد بالكفار مقابل المؤمنين حيث كانوا وعلى أي حال وجدوا بل ما يشمل المتخلفين والمرتدين مثلا ممن يتوقع إضرارهم له صلى الله تعالى عليه وسلم وحينئذ لا يرد هذا الاعتراض. وقيل: المراد من الأول المنافقون أو من ارتدوا مما هنا اليهود، والمراد من الإيمان إما الإيمان الحاصل بالفعل كما هو حال المرتدين أو بالقوة القريبة منه الحاصلة بمشاهدة دلائله في التوراة كما هو شأن اليهود مثلا، وإما الإيمان الاستعدادي الحاصل بمشاهدة الوحي الناطق والدلائل المنصوبة في الآفاق والأنفس كما هو دأب جميع الكفرة مما عدا ذلك وإما القدر المشترك بين الجميع كما هو دأب الجميع فتفطن وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي مؤلم والجملة مبتدأة مبينة لكمال فظاعة عذابهم بذكر غاية إيلامه بعد ذكر نهاية عظمه، أو مقررة للضرر الذي آذنت به الجملة الأولى قيل: لما جرت العادة باغتباط المشتري بما اشتراه وسروره بتحصيله عند كون الصفقة رابحة وبتألمه عند كونها خاسرة وصف عذابهم بالإيلام مراعاة لذلك، نقله مولانا شيخ الإسلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ عطف على قوله تعالى: وَلا يَحْزُنْكَ والفعل مسند إلى الموصول، و «أن» وما عملت فيه سادّ مسدّ مفعوليه عند سيبويه لحصول المقصود وهو تعلق أفعال القلوب بنسبة بين المبتدأ والخبر، وعند الأخفش المفعول الثاني محذوف، و «ما» إما مصدرية، أو موصولة وكان حقها في الوجهين أن تكتب مفصولة لكنها كتبت في الإمام موصولة، واتباع الإمام لازم، ولعل وجهه مشاكلة ما بعده، والحمل على الأكثر فيها، وخَيْرٌ خبر، وقرئ خيرا بالنصب على أن يكون- لأنفسهم- هو الخبر ولَهُمْ تبيين، أو حال من خَيْرٌ والإملاء في الأصل إطالة المدة والملأ الحين الطويل، ومنه الملوان لليل والنهار لطول تعاقبهما، وأما إملاء الكتاب فسمي بذلك لطول المدة بالوقوف عند كل كلمة. وقيل: الإملاء التخلية والشأن يقال: أملى لفرسه إذا أرخى له الطول ليرعى كيف شاء. وحاصل التركيب لا يحسبن الكافرون أن إملاءنا لهم، أو الذي نمليه خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ أو لا يحسبن الكافرون خيرية إملائنا لهم، أو خيرية الذي نمليه لهم ثابتة أو واقعة، ومآل ذلك نهيهم عن السرور بظاهر إطالة الله تعالى أعمارهم وإمهالهم على ما هم فيه، أو بتخليتهم وشأنهم بناء على حسبان خيريته لهم، وتحسيرهم ببيان أنه شر بحث وضرر محض، وقرأ حمزة ولا تحسبن بالتاء، والخطاب إما لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو الأنسب بمقام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 التسلية إلا أن المقصود التعريض بهم إذ حسبوا ما ذكر، وإما لكل من يتأتى منه الحسبان قصدا إلى إشاعة فظاعة حالهم، والموصول مفعول، وأَنَّما نُمْلِي إلخ بدل اشتمال منه، وحيث كان المقصود بالذات هو البدل وكان هنا مما يسدّ مسدّ المفعولين جاز الاقتصار على مفعول واحد وإلا فالاقتصار لولا ذلك غير صحيح على الصحيح، ويجوز أن يكون أَنَّما نُمْلِي مفعولا ثانيا إلا أنه لكونه في تأويل المصدر لا يصح حمله على الذوات فلا بد من تقدير، أما في الأول أي لا تحسبن حال الذين كفروا وشأنهم، وأما في الثاني أي لا تحسبن الذين كفروا أصحاب أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ إلخ، وإنما قيد الخير بقوله تعالى: لِأَنْفُسِهِمْ لأن الإملاء خير للمؤمنين لما فيه من الفوائد الجمة، ومن جعل خيرا فيما نحن فيه أفعل تفضيل، وجعل المفضل عليه القتل في سبيل الله تعالى جعل التفضيل مبنيا على اعتبار الزعم والمماشاة، والآية نزلت في مشركي مكة- وهو المروي عن مقاتل أو في قريظة والنضير- وهو المروي عن عطاء إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً استئناف بما هو العلة للحكم قبلها، والقائلون بأن الخير والشر بإرادته تعالى يجوزون التعليل بمثل هذا، إما لأنه غرض وإما لأنه مراد مع الفعل فيشبه العلة عند من لم يجوز تعليل أفعاله بالأغراض. وأما المعتزلة فإنهم وإن قالوا بتعليلها لكن القبيح ليس مرادا له تعالى عندهم ومطلوبا وغرضا، ولهذا جعلوا ازدياد الإثم هنا باعثا نحو قعدت عن الحرب جبنا لا غرضا يقصد حصوله، ولما لم يكن الازدياد متقدما على الإملاء هنا، والباعث لا بد أن يكون متقدما جعلوه استعارة بناء على أن سبقه في علم الله تعالى القديم الذي لا يجوز تخلف المعلوم عنه شبهه يتقدم الباعث في الخارج ولا يخفى تعسفه، ولذا قيل: إن الأسهل القول بأن اللام للعاقبة. واعترض بأنه وإن كان أقل تكلفا إلا أن القول بها غير صحيح لأن هذه الجملة تعليل لما قبلها فلو كان الإملاء لغرض صحيح يترتب عليه هذا الأمر الفاسد القبيح لم يصح ذلك ولم يصلح هذا تعليلا لنهيهم عن حسبان الإملاء لهم خيرا فتأمل قاله بعض المحققين. وقرأ يحيى بن وثاب بفتح أَنَّما هذه وكسر الأولى وبياء الغيبة في يَحْسَبَنَّ على أن الَّذِينَ كَفَرُوا فاعل يَحْسَبَنَّ وأَنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً قائم مقام مفعولي الحسبان، والمعنى وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أن إملاءنا لهم لازدياد الإثم بل للتوبة والدخول في الإيمان وتدارك ما فات، أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ اعتراض بين الفعل ومعموله ومعناه أن إملاءنا خير لهم إن انتبهوا وتابوا. والفرق بين القراءتين أن الإملاء على هذه القراءة لإرادة التوبة والإملاء للازدياد منفي، وعلى القراءة الأخرى هو مثبت، والآخر منفي ضمنا ولا تعارض بينهما لأنه عند أهل السنة يجوز إرادة كل منهما ولا يلزم تخلف المراد عن الإرادة لأنه مشروط بشروط كما علمت. وزعم بعضهم أن جملة أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ إلخ حالية أي لا يحسبن في هذه الحالة هذا، وهذه الحالة منافية له وليس بشيء لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ جملة مبتدأة مبينة لحالهم في الآخرة إثر بيان حالهم في الدنيا أو حال من الواو أي ليزدادوا إثما معدا لهم عذاب مهين وهذا متعين في القراءة الأخيرة- كما ذهب إليه غير واحد من المحققين- ليكون مضمون ذلك داخلا في حيز النهي عن الحسبان بمنزلة أن يقال: لِيَزْدادُوا إِثْماً وليكون لهم عذاب، وجعلها بعضهم معطوفة على جملة لِيَزْدادُوا بأن يكون عَذابٌ مُهِينٌ فاعل الظرف بتقدير ويكون لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ وهو من الضعف بمكان، نعم قيل: بجواز كونها اعتراضية وله وجه في الجملة هذا وإنما وصف عذابهم بالإهانة لأنه- كما قال شيخ الإسلام- لما تضمن الإملاء التمتع بطيبات الدنيا وزينتها وذلك مما يستدعي التعزز والتجبر وصفه به ليكون جزاؤهم جزاء وفاقا- قاله شيخ الإسلام- ويمكن أن يقال: إن ذلك إشارة إلى رد ما يمكن أن يكون منشأ لحسبانهم وهو أنهم أعزة لديه عز وجل إثر الإشارة إلى ردّه بنوع آخر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ كلام مستأنف مسوق لوعد المؤمنين ووعيد المنافقين بالعقوبة الدنيوية وهي الفضيحة والخزي إثر بيان عقوبتهم الأخروية، وقدم بيان ذلك لأنه أمس بالإملاء لازدياد الآثام، وفي هذا الوعد والوعيد أيضا ما لا يخفى من التسلية له صلى الله تعالى عليه وسلم كما في الكلام السابق، وقيل: الآية مسوقة لبيان الحكمة في إملائه تعالى للكفرة إثر بيان شريعته لهم، ولا يخفى أنه بعيد فضلا عن كونه أقرب، والمراد من المؤمنين المخلصون والخطاب على ما يقتضيه الذوق لعامة المخلصين والمنافقين ففيه التفات في ضمن التلوين، والمراد بما هم عليه اختلاط بعضهم ببعض واستواؤهم في إجراء أحكام الإسلام عليهم، وإلى هذا جنح المحققون من أهل التفسير، وقال أكثرهم: إن الخطاب للمنافقين ليس إلا، ففيه تلوين فقط، وذهب أكثر أهل المعاني إلى أنه للمؤمنين خاصة ففيه تلوين والتفات أيضا. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس وابن جرير، وغيره عن قتادة أن للكفار، ولعل المراد بهم المنافقون وإلا فهو بعيد جدا، واللام في لِيَذَرَ متعلقة بمحذوف هو الخبر لكان، والفعل منصوب بأن مضمرة بعدها- كما ذهب إليه البصريون- أي ما كان الله مريدا لأن يذر المؤمنين إلخ وقال الكوفيون اللام مزيدة للتأكيد وناصبة للفعل بنفسها والخبر هو الفعل ولا يقدح في عملها زيادتها إذ الزائد قد يعلم كما في حروف الجر المزيدة فلا ضعف في مذهبهم من هذه الحيثية كما وهم، وأصل يذر يوذر فحذفت الواو منها تشبيها لها بيدع وليس لحذفها علة هناك إذ لم تقع بين ياء وكسرة ولا ما هو في تقدير الكسرة بخلاف يدع فإن الأصل يودع فحذفت الواو لوقوعها بين الياء وما هو في تقدير الكسرة، وإنما فتحت الدال لأن لامه حرف حلقي فيفتح له ما قبله ومثله- يسع ويطأ ويقع- ولم يستعملوا من يذر ماضيا ولا مصدرا ولا اسم فاعل مثلا استغناء بتصرف مرادفه وهو يترك. وقوله تعالى: حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ غاية لما يفهمه النفي السابق كأنه قيل: ما يتركهم على ذلك الاختلاف بل يقدر الأمور ويرتب الأسباب حتى يعزل المنافق من المؤمن وليس غاية للكلام السابق نفسه إذ يصير المعنى أنه تعالى لا يترك المؤمنين على ما أنتم عليه إلى هذه الغاية، ويفهم منه كما قال السمين: إنه إذا وجدت الغاية ترك المؤمنين على ما أنتم عليه، وليس المعنى على ذلك وعبر عن المؤمن والمنافق بالطيب والخبيث تسجيلا على كل منهما بما يليق به وإشعارا بعلة الحكم، أفرد الخبيث والطيب مع تعدد ما أريد بكل إيذانا بأن مدار إفراز أحد الفريقين من الآخر هو اتصافهما بوصفهما لا خصوصية ذاتهما وتعدد آحادهما، وتعليق الميز بالخبيث مع أن المتبادر مما سبق من عدم ترك المؤمنين على الاختلاط تعليقه بهم وإفرازهم عن المنافقين لما أن الميز الواقع بين الفريقين إنما هو بالتصرف في المنافقين وتغييرهم من حال إلى حال أخرى مع بقاء المؤمنين على ما كانوا عليه من أصل الإيمان وإن ظهر مزيد إخلاصهم لا بالتصرف فيهم وتغييرهم من حال إلى حال مع بقاء المنافقين على ما هم عليه من الاستتار وإنما لم ينسب عدم الترك إليهم لما أنه مشعر بالاعتناء بشأن من نسب إليه فإن المتبادر منه عدم الترك على حالة غير ملائمة كما يشهد به الذوق السليم قاله بعض المحققين، وقيل: إنما قدم الخبيث على الطيب وعلق به فعل الميز إشعارا بمزيد رداءة ذلك الجنس فإن الملقى من الشيئين هو الأدون. وقرأ حمزة والكسائي «يميّز» بالتشديد وماضيه ميز، وماضي المخفف ماز، وهما- كما قال غير واحد- لغتان بمعنى واحد، وليس التضعيف لتعدي الفعل كما في فرح وفرح، لأن ماز وميز يتعديان إلى مفعول واحد، ونظير ذلك عاض وعوض، وعن ابن كثير أنه قرئ «يميز» بضم أوله مع التخفيف على أنه من أماز بمعنى ميز، واختلف بم يحصل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 هذا الميز؟ فقيل: بالمحن والمصائب كما وقع يوم أحد، وقيل: بإعلاء كلمة الدين وكسر شوكة المخالفين، وقيل: بالوحي إلى النبي صلّى الله عليه وسلم ولهذا أردفه سبحانه بقوله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ ومن هنا جعل مولانا شيخ الإسلام ما قبل الاستدراك تمهيدا لبيان الميز الموعود به على طريق تجريد الخطاب للمخلصين تشريفا لهم. والاستدراك إشارة إلى كيفية وقوعه على سبيل الإجمال وأن المعنى ما كان الله ليترك المخلصين على الاختلاط بالمنافقين بل يرتب المبادي حتى يخرج المنافقين من بينهم، وما يفعل ذلك باطلاعكم على ما في قلوبهم من الكفر والنفاق ولكنه تعالى يوحى إلى رسوله صلّى الله عليه وسلم فيخبره بذلك وبما ظهر منهم من الأقوال والأفعال حسبما حكى عنهم بعضه فيما سلف فيفضحهم على رؤوس الأشهاد ويخلصكم مما تكرهون، وذكر أنه قد جوز أن يكون المعنى لا يترككم مختلطين حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ بأن يكلفكم التكاليف الصعبة التي لا يصبر عليها إلا الخلص الذين امتحن الله تعالى قلوبهم تبذل الأرواح في الجهاد، وإنفاق الأموال في سبيل الله تعالى، فيجعل ذلك عيارا على عقائدكم وشاهدا بضمائركم حتى يعلم بعضكم بما في قلب بعض بطريق الاستدلال لا من جهة الوقوف على ذات الصدور، فإن ذلك مما استأثر الله تعالى به، وتعقبه بأن الاستدراك باجتباء الرسل المنبئ عن مزيد مزيتهم وفضل معرفتهم على الخلق إثر بيان قصور رتبتهم عن الوقوف على خفايا السرائر صريح في أن المراد إظهار تلك السرائر بطريق الوحي لا بطريق التكليف بما يؤدي إلى خروج أسرارهم عن رتبة الخفاء. وأنت تعلم أن دعوى أن الاستدراك صريح فيما ادعاه من المراد مما لا يكاد يثبته الدليل، ولهذا قيل: إن حاصل المعنى ليس لكم رتبة الاطلاع على الغيب وإنما لكم رتبة العلم الاستدلالي الحاصل من نصب العلامات والأدلة، والله تعالى سيمنحكم بذلك فلا تطمعوا في غيره فإن رتبة الاطلاع على الغيب لمن شاء من رسله، وأين أنتم من أولئك المصطفين الأخيار؟ نعم ما ذكره هذا المولى أظهر، وأولى، وقد سبقه إليه أبو حيان، والمراد من قوله سبحانه: لِيُطْلِعَكُمْ إما ليؤتى أحدكم علم الغيب فيطلع على ما في القلوب أو ليطلع جميعكم أي أنه تعالى لا يطلع جميعكم على ذلك بل يختص به من أراد، وأيد الأول بأن سبب النزول أكثر ملاءمة له. فقد أخرج ابن جرير عن السدي أن الكفرة قالوا إن كان محمد صادقا ليخبرنا من يؤمن منا ومن يكفر فنزلت. ونقل الواحدي عن السدي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: عرضت على أمتي في صورها كما عرضت على آدم وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر فبلغ ذلك المنافقين فاستهزؤوا وقالوا: يزعم محمد أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر ونحن معه ولا يعرفنا فأنزل الله تعالى هذه الآية» وقال الكلبي: قالت قريش: «تزعم يا محمد أن من خالفك فهو في النار والله تعالى عليه غضبان وأن من تبعك على دينك فهو من أهل الجنة والله تعالى عنه راض فأخبرنا بمن يؤمن بك ومن لا يؤمن فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأيد الثاني بأن ظاهر السوق يقتضيه قيل: والحق اتباع السوق ويكفي أدنى مناسبة بالقصة في كونها سببا للنزول على أن في سند هذه الآثار مقالا حتى قال بعض الحفاظ في بعضها: إني لم أقف عليه، وقد روي عن أبي العالية ما يخالفها وهو أن المؤمنين سئلوا أن يعطوا علامة يفرقون بها بين المؤمن والمنافق فنزلت، والاجتباء الاستخلاص كما روي عن أبي مالك ويؤول إلى الاصطفاء والاختيار وهو المشهور في تفسيره، ويقال جبوت المال وجبيته بالواو والياء فياء يجتبي هنا إما على أصلها أو منقلبة من واو لانكسار ما قبلها، وعبر به للإيذان بأن الوقوف على الأسرار الغيبية لا يتأتى إلا ممن رشحه الله تعالى لمنصب جليل تقاصرت عنه همم الأمم واصطفاه على الجماهير لإرشادهم و «من» لابتداء الغاية وتعميم الاجتباء لسائر الرسل عليهم السلام للدلالة على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 أن شأنه عليه الصلاة والسلام في هذا الباب أمر مبين له أصل أصيل جار على سنة الله تعالى المسلوكة فيما بين الرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم. وقيل: إنها للتبعيض فإن الاطلاع على المغيبات مختص ببعض الرسل، وفي بعض الأوقات حسبما تقتضيه مشيئته تعالى ولا يخفى أن كون ذلك في بعض الأوقات مسلم، وأما كونه مختصا ببعض الرسل ففي القلب منه شيء. ولعل الصواب خلافه ولا يشكل على هذا أن الله تعالى قد يطلع على الغيب بعض أهل الكشف ذوي الأنفس القدسية لأن ذلك بطريق الوراثة لا استقلالا وهم يقولون: إن المختص بالرسل عليهم السلام هو الثاني على أنه إذا كان المراد ما أيده السوق بعد هذا الاستشكال وإظهار الاسم الجليل في الموضعين لتربية المهابة ومثله على ما قيل ما في قوله تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ والمراد آمنوا بصفة الإخلاص فلا يضر كون الخطاب عاما للمنافقين وهم مؤمنون ظاهرا. وتعميم الأمر مع أن سوق النظم الكريم للإيمان بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم لإيجاب الإيمان به بالطريق البرهاني والإشعار بأن ذلك مستلزم للإيمان بالكل لأنه صلّى الله عليه وسلم مصدق لما بين يديه من الرسل وهم شهداء بصحة نبوته، والمأمور به الإيمان بكل ما جاء به عليه الصلاة والسلام فيدخل فيه تصديقه فيما أخبر به من أحوال المنافقين دخولا أوليا، وقد يقال: إن المراد من الإيمان بالله تعالى أن يعلموه وحده مطلعا على الغيب. ومن الإيمان برسله أن يعلموهم عبادا مجتبين لا يعلمون إلا ما علمهم الله تعالى ولا يقولون إلا ما يوحى إليهم في أمر الشرائع، وكون المراد من الإيمان بالله تعالى الإيمان بأنه سبحانه وتعالى لا يترك المخلصين على الاختلاط حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ بنصب العلامات وتحصيل العلم الاستدلالي بمعرفة المؤمن والمنافق. ومن الإيمان برسله الإيمان بأنهم المترشحون للاطلاع على الغيب لا غيرهم بعيد كما لا يخفى وَإِنْ تُؤْمِنُوا أي بالله تعالى ورسله حق الإيمان وَتَتَّقُوا المخالفة في الأمر والنهي أو تتقوا النفاق فَلَكُمْ بمقابلة ذلك فضلا من الله تعالى أَجْرٌ عَظِيمٌ لا يكتنه ولا يحد في الدنيا والآخرة. وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بيان لحال البخل وسوء عاقبته وتخطئة لأهله في دعواهم خيريته حسب بيان حال الإملاء وبهذا ترتبط الآية بما قبلها. وقيل: وجه الارتباط أنه تعالى لما بالغ في التحريض على بذل الأرواح في الجهاد وغيره شرع هاهنا في التحريض على بذل المال وبين الوعيد الشديد لمن يبخل وإيراد ما بخلوا به بعنوان إيتاء الله تعالى إياه من فضله للمبالغة في بيان سوء صنيعهم فإن ذلك من موجبات بذله في سبيله سبحانه وفعل الحسبان مسند إلى الموصول والمفعول الأول محذوف لدلالة الصلة عليه. واعترض بأن المفعول في هذا الباب مطلوب من جهتين من جهة العامل فيه ومن جهة كونه أحد جزأي الجملة فلما تكرر طلبه امتنع حذفه ونقض ذلك بخبر كان فإنه مطلوب من جهتين أيضا ولا خلاف في جواز حذفه إذا دل عليه دليل. ونقل الطيبي عن صاحب الكشاف أن حذف أحد مفعولي حسب إنما يجوز إذا كان فاعل حسب ومفعولاه شيئا واحدا في المعنى كقوله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً [آل عمران: 169] على القراءة بالياء التحتية، ثم قال: وهذه الآية ليست كذلك فلا بدّ من التأويل بأن يقال: إن الَّذِينَ يَبْخَلُونَ الفاعل لما اشتمل على البخل كان في حكم اتحاد الفاعل والمفعول ولذلك حذف، وقيل: إن الزمخشري كنى عن قوة القرينة بالاتحاد الذي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 ذكره وكلا القولين ليسا بشيء، والصحيح أن مدار صحة الحذف القرينة فمتى وجدت جاز الحذف ومتى لم توجد لم يجز. والقول بأن هو ضمير رفع استعير في مكان المنصوب وهو راجع إلى البخل أو الإيتاء على أنه مفعول أو لا تعسف جدا لا يليق بالنظم الكريم- وإن جوزه المولى عصام الدين تبعا لأبي البقاء- حتى قال في الدر المصون: إنه غلط، والصحيح أنه ضمير فصل بين مفعولي حسب لا توكيد للمظهر كما توهم، وقيل: الفعل مسند إلى ضمير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، أو ضمير من يحسب، والمفعول الأول هو الموصول بتقدير مضاف أي بخل الذين، والثاني خَيْراً كما في الوجه الأول وهو خلاف الظاهر، نعم إنه متعين على قراءة الخطاب. وعلى كل تقدير يقدر بين الباء ومجرورها مضاف أي لا يحسبن، أو «لا تحسبن الذين يبخلون» بإنفاق أو زكاة ما آتاهم الله من فضله هو صفة حسنة أو خيرا لهم من الإنفاق بَلْ هُوَ شَرٌّ عظيم لَهُمْ والتنصيص على ذلك مع علمه مما تقدم للمبالغة سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ بيان لكيفية شريته لهم، والسين مزيدة للتأكيد، والكلام عند الأكثرين إما محمول على ظاهره، فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «من آتاه الله تعالى مالا فلم يؤد زكاته مثّل له شجاع أقرع له زبيبتان يطوّقه يوم القيامة فيأخذ بلهزمتيه يقول: أنا مالك أنا كنزك ثم تلا هذه الآية» . وأخرج غير واحد عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله من فضل ما أعطاه الله تعالى إياه فيبخل عليه إلا خرج له يوم القيامة من جهنم شجاع يتلمظ حتى يطوّقه» ثم قرأ الآية. وأخرج عبد الرزاق وغيره عن إبراهيم النخعي أنه قال: يجعل ما بخلوا به طوقا من نار في أعناقهم. وذهب بعضهم إلى أن الظاهر غير مراد، والمعنى كما قال مجاهد: سيكلفون أن يأتوا بمثل ما بخلوا به من أموالهم يوم القيامة عقوبة لهم فلا يأتون، وقال أبو مسلم: سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق على أنه حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه للإيذان بكمال المناسبة بينهما، ومن أمثالهم تقلدها طوق الحمامة، وكيفما كان فالآية نزلت في مانعي الزكاة كما روي ذلك عن الصادق وابن مسعود والشعبي والسدي وخلق آخرين وهو الظاهر، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنها نزلت في أهل الكتاب الذين كتموا صفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ونبوته التي نطقت بها التوراة، فالمراد بالبخل كتمان العلم وبالفضل التوراة التي أوتوها، ومعنى سَيُطَوَّقُونَ ما قاله أبو مسلم، أو المراد أنهم يطوقون طوقا من النار جزاء هذا الكتمان. فالآية حينئذ نظير قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار» وعليه يكون هذا عودا إلى ما انجرّ منه الكلام إلى قصة أحد، وذلك هو شرح أحوال أهل الكتاب قيل: ويعضده أن كثيرا من آيات بقية السورة فيهم وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي لله تعالى وحده لا لأحد غيره استقلالا أو اشتراكا ما في السموات والأرض مما يتوارث من مال وغيره كالأحوال التي تنتقل من واحد إلى آخر كالرسالات التي يتوارثها أهل السماء مثلا فما لهؤلاء القوم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيله وابتغاء مرضاته، فالميراث مصدر كالميعاد وأصله موراث فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، والمراد به ما يتوارث، والكلام جار على حقيقته ولا مجاز فيه، ويجوز أنه تعالى يرث من هؤلاء ما في أيديهم مما بخلوا به وينتقل منهم إليه حين يهلكهم ويفنيهم وتبقى الحسرة والندامة عليهم، ففي الكلام على هذا مجاز قال الزجاج: أي إن الله تعالى يفني أهلهما فيبقيان بما فيهما ليس لأحد فيهما ملك فخوطبوا بما يعلمون لأنهم يجعلون ما يرجع إلى الإنسان ميراثا ملكا له وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من المنع والبخل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 خَبِيرٌ فيجازيكم على ذلك، وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة والالتفات إلى الخطاب للمبالغة في الوعيد لأن تهديد العظيم بالمواجهة أشدّ وهي قراءة نافع، وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وقرأ الباقون بالياء على الغيبة. لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: دخل أبو بكر رضي الله تعالى عنه بيت المدراس فوجد يهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص- وكان من علمائهم وأحبارهم- فقال أبو بكر: ويحك يا فنحاص اتق الله تعالى وأسلم فو الله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة فقال فنحاص: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله تعالى من فقر وإنه إلينا لفقير وما نتضرع إليه كما تضرع إلينا وإنا عنه لأغنياء ولو كان غنيا عنا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم وأنه ينهاكم عن الربا ويعطينا ولو كان غنيا عنا ما أعطانا الربا فغضب أبو بكر رضي الله تعالى عنه فضرب وجه فنحاص ضربة شديدة وقال: والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عدو الله تعالى فذهب فنحاص إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا محمد انظر ما صنع صاحبك بي فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله تعالى عنه: ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رسول الله قال قولا عظيما يزعم أن الله تعالى شأنه فقير وهم عنه أغنياء فلما قال ذلك غضبت لله تعالى مما قال فضربت وجهه فجحد فنحاص فقال: ما قلت ذلك فأنزل الله تعالى فيما قال فنحاص تصديقا لأبي بكر رضي الله تعالى عنه هذه الآية، وأنزل في أبي بكر وما بلغه في ذلك من الغضب ولَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً [آل عمران: 186] الآية. وأخرج ابن المنذر عن قتادة أنه قال: ذكر لنا أنها نزلت في حيي بن أخطب لما أنزل الله تعالى مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً [الحديد: 11] قال: يستقرضنا ربنا إنما يستقرض الفقير الغني. وأخرج الضياء. وغيره من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أتت اليهود رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين أنزل الله تعالى مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فقالوا: يا محمد فقير ربك يسأل عباده القرض؟ فأنزل الله تعالى الآية، والجمع على الروايتين الأوليين مع كون القائل واحدا لرضا الباقين بذلك، وتخصيص هذا القول بالسماع مع أنه تعالى سميع لجميع المسموعات كناية تلويحية عن الوعيد لأن السماع لازم العلم بالمسموع وهو لازم الوعيد في هذا المقام فهو سماع ظهور وتهديد لا سماع قبول ورضا- كما في سمع الله لمن حمده- وإنما عبر عن ذلك بالسماع للإيذان بأنه من الشناعة والسماجة بحيث لا يرضى قائله بأن يسمعه سامع ولهذا أنكروه، ولكون إنكارهم القول بمنزلة إنكار السمع أكده تعالى بالتأكيد القسمي، وفيه أيضا من التشديد في التهديد والمبالغة في الوعيد ما لا يخفى، والعامل في موضع إن وما عملت فيه قالوا: فهي المحكية به، وجوز أن يكون ذلك معمولا لقول المضاف لأنه مصدر، قال أبو البقاء: وهذا يخرج على قول الكوفيين في إعمال الأول وهو أصل ضعيف ويزداد هنا ضعفا بأن الثاني فعل، والأول مصدر وإعمال الفعل لكونه أقوى أولى. سَنَكْتُبُ ما قالُوا أي سنكتبه في صحائف الكتبة، فالإسناد مجازي والكتابة حقيقة، أو سنحفظه في علمنا ولا نهمله فالإسناد حقيقة والكتابة مجاز، والسين للتأكيد أي لن يفوتنا أبدا تدوينه وإثباته لكونه في غاية العظم والهول، كيف لا وهو كفر بالله تعالى سواء كان عن اعتقاد أو استهزاء بالقرآن؟! وهو الظاهر، ولذلك عطف عليه قوله تعالى وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ إيذانا بأنهما في العظم أخوان وتنبيها على أنه ليس بأول جريمة ارتكبوها ومعصية استباحوها، وأن من اجترأ على قتل الأنبياء بغير حق في اعتقاده أيضا كما هو في نفس الأمر لم يستبعد منه أمثال هذا القول، ونسبة القتل إلى هؤلاء القائلين باعتبار الرضا بفعل القاتلين من أسلافهم، وقيل: المعنى سنجمع ما قالوا وَقَتْلَهُمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 الْأَنْبِياءَ في مقام العذاب ونجزيهما جزاء مماثلا لتشاركهما في أن في كل منهما إبطالا لما جاء به المرسلون، ولا يخفى أنه مما لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى عليه. وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي وننتقم منهم بواسطة هذا القول الذي لا يقال إلا وقد وجد العذاب. والحريق بمعنى المحرق وإضافة العذاب إليه من الإضافة البيانية أي العذاب الذي هو المحرق لأن المعذب هو الله تعالى لا الحريق، أو الإفاضة للسبب لتنزيله منزلة الفاعل- كما قاله بعض المحققين- والذوق: كما قال الراغب- وجود الطعم في الفم وأصله فيما يقل تناوله دون ما يكثر فإنه يقال له: أكل، ثم اتسع فيه فاستعمل لإدراك سائر المحسوسات والحالات، وذكره هنا- كما قال ناصر الدين- لأن العذاب مرتب على قولهم الناشئ عن البخل والتهالك على المالك وغالب حاجة الإنسان إليه لتحصيل المطاعم ومعظم بخله للخوف من فقدانه، ولذلك كثر ذكر الأكل مع المال، ولك أن تقول: إن اليهود لما قالوا ما قالوا وقتلوا من قتلوا فقد أذاقوا المسلمين وأتباع الأنبياء غصصا وشبوا في أفئدتهم نار الغيرة والأسف وأحرقوا قلوبهم بلهب الإيذاء والكرب فعوضوا هذا العذاب الشديد، وقيل: لهم ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ كما أذقتم أولياء الله تعالى في الدنيا ما يكرهون والقائل لهم ذلك- كما قال الضحاك- خزنة جهنم، فالإسناد حينئذ مجازي، وفي هذه الآية مبالغات في الوعيد حيث ذكر فيها العذاب والحريق والذوق المنبئ عن اليأس فقد قال الزجاج: ذق كلمة تقال لمن أيس عن العفو أي ذق ما أنت فيه فلست بمتخلص منه والمؤذن بأن ما هم فيه من العذاب والهوان يعقبه ما هو أشد منه وأدهى، والقول للتشفي المنبئ عن كمال الغيظ والغضب وفيما قبلها ما لا يخفى أيضا من المبالغات، قرأ حمزة سيكتب بالياء والبناء للمفعول وَقَتْلَهُمُ بالرفع، ويقول بصيغة الغيبة ذلِكَ إشارة إلى العذاب المحقق المنزل منزلة المحسوس المشاهد، وللإشارة إلى عظم شأنه وبعد منزلته في الهول والفظاعة أتى باسم الإشارة مقرونا باللام والكاف وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ أي بسبب أعمالكم التي قدمتموها كقتل الأنبياء وهذا القول الذي تكاد السموات يتفطرن منه، والمراد من الأيدي الأنفس والتعبير بها عنها من قبيل التعبير عن الكل بالجزء الذي مدارج العمل عليه، يجوز أن لا يتجوز في الأيدي بل يجعل تقديمها الذي هو عملها عبارة عن جميع الأعمال التي أكثرها أو الكثير منها يزاول باليد على طريق التغليب وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ عطف على ما قدمت فهو داخل تحت حكم باء السببية وسببيته للعذاب من حيث إن نفي الظلم يستلزم العدل المقتضي إثابة المحسن ومعاقبة المسيء- وإليه ذهب الفحول من المفسرين- وتعقبه مولانا شيخ الإسلام بقوله: وفساده ظاهر فإن ترك التعذيب من مستحقه ليس بظلم شرعا ولا عقلا حتى ينتهض نفي الظلم سببا للتعذيب. وخلاصته المعارضة بطريق القياس الاستثنائي بأنه لو كان ترك التعذيب ظلما لكان نفي الظلم سببا للتعذيب لكن ترك التعذيب ليس بظلم فنفي الظلم لا يكون سببا له، وأجيب بأن منشأ هذا الاعتراض عدم الفرق بين السبب والعلة الموجبة، والفرق مثل الصبح ظاهر فإن السبب وسيلة محضة لا يوجب حصول المسبب كما أن القلم سبب الكتابة غير موجب إياها، والعدل اللازم من نفي الظلم سبب لعذاب المستحق وإن لم يوجبه. فالاستدلال بعدم الإيجاب على عدم السببية فاسد جدا، وأما قولهم في العدل المقتضي إلخ فهو بيان لمقتضاه إذا خلي وطبعه، وتقرير لكونه وسيلة ولا يلزم منه إيجاب الإثابة والمعاقبة على ما ينبئ عنه قوله سبحانه في الحديث القدسي: «سبقت رحمتي غضبي» ، وخلاصة هذا أن الملازمة بين المقدم والتالي في القياس الاستثنائي ممنوعة بأنه لم لا يجوز أن لا يكون ترك التعذيب ظلما ويكون نفي الظلم سببا بأن يكون السبب سببا غير موجب ولا محذور وحينئذ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 لا يقال يحتمل أن يكون مبنى ذلك الاعتراض على المفهوم المعتبر عند الشافعي لا على كون السبب موجبا لأنا نقول: إن أريد بالمفهوم مفهوم قوله سبحانه: وَأَنَّ اللَّهَ إلخ فنقول: حاصله أن العدل سبب لعذاب المستحقين، والمفهوم منه أن العدل لا يكون سببا لعذاب غير المستحقين وهو معنى متفق عليه لا نزاع فيه، وإن أريد أن المفهوم من قولنا سبب تعذيبهم كونه تعالى غير ظالم أنه تعالى لو لم يعذبهم لكان ظالما فنقول هو مع بعده عن سياق كلام المعترض من قبيل الاستدلال بانتفاء السبب على انتفاء المسبب فيكون مبنيا على كون المراد بالسبب السبب الموجب- كما قلنا- ويرد عليه ما أوردناه ولا يكون من باب المفهوم في شيء وإن أريد غير هذا وذاك فليبين حتى نتكلم عليه، ومن الناس من دفع الاعتراض بأن حاصل معنى الآية وقع العذاب عليكم ولم يترك، بسبب أن الله تعالى ليس بظلام للعبيد، وهو بمنطوقه يدل على أن نفي الظلم لا يكون سببا لترك التعذيب من مستحقه ولا يدل على كون الظلم سببا لترك التعذيب بل له سبب آخر وهو لطفه تعالى فلا يرد الاعتراض، وأنت تعلم بأن هذا ذهول عن مقصود المعترض أيضا فإن دلالة الكلام على كون الظلم سببا لترك التعذيب وعدمها خارج عن مطمح نظره على ما عرفت من تقرير كلامه على أنه إذا كان المراد بالسبب السبب الموجب على ما هو مبنى كلام ذلك المولى فدلالته عليه ظاهرة فإن وجود السبب الموجب كان يكون سببا لوجود المسبب يكون عدمه سببا لعدمه- كما في طلوع الشمس ووجود النهار- فالعدل أعني نفي الظلم إذا كان سببا لتعذيب المستحق يكون عدمه أعني الظلم سببا لعدم التعذيب، وقيل: إنه عطف على ما قدمت للدلالة على أن سببية ذنوبهم لعذابهم مقيدة بانتفاء ظلمه تعالى إذ لولاه لأمكن أن يعذبهم بغير ذنوبهم لا أن لا يعذبهم بذنوبهم. وتعقبه أيضا مولانا شيخ الإسلام بقوله وأنت خبير بأن إمكان تعذيبه تعالى لعبيده بغير ذنب بل وقوعه لا ينافي كون تعذيب هؤلاء الكفرة بسبب ذنوبهم حتى يحتاج إلى اعتبار عدمه معه، وإنما يحتاج إلى ذلك إن كان المدعى أن جميع تعذيباته تعالى بسبب ذنوب المعذبين انتهى، ولا يخفى عليك أن أن لا يعذبهم بذنوبهم في كلام القيل معطوف على قوله: أن يعذبهم، والمعنى أن ذكر هذا القيد رفع احتمال أن يعذبهم بغير ذنوبهم لاحتمال أن لا يعذبهم بذنوبهم فإنه أمر حسن شرعا وعقلا. وقوله: للدلالة على أن سببية ذنوبهم لعذابهم مقيدة إلخ أراد به أن تعينه للسببية إنما يحصل بهذا القيد إذ بإمكان تعذيبه بغير ذنب يحتمل أن يكون سبب التعذيب إرادة العذاب بلا ذنب فيكون حاصل معنى الآية إن عذابكم هذا إنما نشأ من ذنوبكم لا من شيء آخر، فإذا علمت هذا ظهر لك أن تزييف المولى كلام صاحب القيل بأن إمكان تعذيبه تعالى إلخ ناشئ عن الغفلة عن مراده، فإن كلامه ليس في منافاة هذين الأمرين بحسب ذاتهما بل في منافاة احتمال التعذيب بلا ذنب لتعين سببية الذنوب له وكذا قوله عقيب ذلك، وإنما يحتاج إلى ذلك إن كان المدعى إلخ ناشئ عن الغفلة أيضا لأن الاحتياج إلى ذلك القيد في كل من الصورتين إنما هو لتقريع المخاطبين وتبكيتهم في الاعتراف بتقصيراتهم بأنه لا سبب للعذاب إلا من قبلهم. فالقول بالاحتياج في صورة وعدمه في صورة ركيك جدا، ثم إنه لا تدافع بين هذا القيل وبين ما نقل أولا عن فحول المفسرين حيث جعل المعطوف هناك سببا وهاهنا قيدا للسبب لأن المراد بالسبب الوسيلة المحضة كما أشرنا إليه فيما سبق فهو وسيلة سواء اعتبر سببا مستقلا أو قيدا للسبب، نعم بينهما على ما سيأتي إن شاء الله تعالى تدافع يتراءى من وجه آخر لكنه أيضا غير وارد كما سنحققه بحوله تعالى. والحاصل أن العطف هنا مما لا بأس به وهو الظاهر- وإليه ذهب من ذهب- ويجوز أن يجعل- وإليه ذهب شيخ الإسلام- أَنَّ وما بعدها في محل الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، والجملة اعتراض تذييلي مقرر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 لمضمون ما قبلها، أي والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده بغير ذنب من قبلهم، والتعبير عن ذلك بنفي الظلم مع أن تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم على ما تقرر من قاعدة أهل السنة فضلا عن كونه ظالما بالغا لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه تعالى من الظلم كما يعبر عن ترك الإثابة على الأعمال بإضاعتها مع أن الأعمال غير موجبة للثواب حتى يلزم من تخلفه عنها إضاعتها، وصيغة المبالغة لتأكيد هذا المعنى بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب في صورة المبالغة في الظلم، ومن هنا يعلم الجواب عما قيل: إن نفي نفس الظلم أبلغ من نفي كثرته ونفي الكثرة لا ينفي أصله بل ربما يشعر بوجوده، وأجيب عن ذلك أيضا بأنه نفي لأصل الظلم وكثرته باعتبار آحاد من ظلم فالمبالغة في بِظَلَّامٍ باعتبار الكمية لا الكيفية، وبأنه إذا انتفى الظلم الكثير انتفى القليل لأن من يظلم يظلم للانتفاع بالظلم فإذا ترك كثيره مع زيادته نفعه في حق من يجوز عليه النفع والضر كان لقليله مع قلة نفعه أكثر تركا، وبأن بِظَلَّامٍ للنسب كعطار أي لا ينسب إليه الظلم أصلا وبأن كل صفة له تعالى في أكمل المراتب فلو كان تعالى ظالما سبحانه لكان ظلاما فنفى اللازم لنفي الملزوم، واعترض بأنه لا يلزم من كون صفاته تعالى في أقصى مراتب الكمال كون المفروض ثبوته كذلك بل الأصل في صفات النقص على تقدير ثوبتها أن تكون ناقصة، وأجيب بأنه إذا فرض ثبوت صفة له تعالى تفرض بما يلزمها من الكمال، والقول بأن هذا في صفات الكمال دون صفات النقص إنما يوجب عدم ثبوتها لا ثبوتها ناقصة، وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام في هذا المقام الَّذِينَ قالُوا نصب أو رفع على الذم، وجوز أن يكون في موضع جرّ على البدلية من نظيره المتقدم. والمراد من الموصول جماعة من اليهود منهم كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف ووهب بن يهوذا وزيد بن التابوه وفنحاص بن عازوراء وحيي بن أخطب أتوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا هذا القول: إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أي أمرنا في التوراة وأوصانا أَلَّا نُؤْمِنَ أي بأن لا نصدق ونعترف لِرَسُولٍ يدعي الرسالة إلينا من قبل الله تعالى حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ وهو ما يتقرب به إلى الله تعالى من نعم وغيرها- كما قاله غير واحد- وقرئ بِقُرْبانٍ بضمتين تَأْكُلُهُ النَّارُ أريد به نار بيضاء تنزل من السماء ولها دويّ، والمراد من أكل النار للقربان إحالتها له إلى طبعها بالإحراق، واستعماله في ذلك إما من باب الاستعارة أو المجاز المرسل، وقد كان أمر إحراق النار للقربان إذا قبل شائعا في زمن الأنبياء السالفين إلا أن دعوى أولئك اليهود هذا العهد من مفترياتهم وأباطيلهم لأن أكل النار القربان لم يوجب الإيمان إلا لكونه معجزة فهو وسائر المعجزات شرع في ذلك، ولما كان مرامهم من هذا الكلام الباطل عدم الإيمان برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لعدم إتيانه بما قالوا، ولو تحقق الإتيان به لتحقق الإيمان بزعمهم ردّ الله تعالى عليهم بقوله سبحانه: قُلْ يا محمد لهؤلاء القائلين تبكيتا لهم وإظهارا لكذبهم قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ كثيرة العدد كبيرة المقدار مثل زكريا ويحيى وغيرهم مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ أي المعجزات الواضحة والحجج الدالة على صدقهم وصحة رسالتهم وحقية قولهم كما كنتم تقترحون عليهم وتطلبون منهم وَبِالَّذِي قُلْتُمْ بعينه وهو القربان الذي تأكله النار فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ أي فما لكم لم تؤمنوا بهم حتى اجترأتم على قتلهم مع أنهم جاؤوا بما قلتم مع معجزات أخر إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي فيما يدل عليه كلامكم من أنكم تؤمنون لرسول يأتيكم بما اقترحتموه، والخطاب لمن في زمن نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم وإن كان الفعل لأسلافهم لرضاهم به- على ما مرّ غير مرة- وإنما لم يقطع سبحانه عذرهم بما سألوه من القربان المذكور لعلمه سبحانه بأن في الإتيان به مفسدة لهم، والمعجزات تابعة للمصالح، ونقل عن السدي أن هذا الشرط جاء في التوراة هكذا: من جاء يزعم أنه رسول الله تعالى فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار إلا المسيح ومحمدا عليهما الصلاة والسلام فإذا أتياكم فآمنوا بهما فإنهما يأتيان بغير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 قربان، والظاهر عدم ثبوت هذا الشرط أصلا فَإِنْ كَذَّبُوكَ فيما جئتهم به. فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤوا بمثل ما جئت به، والجملة جواب للشرط لكن باعتبار لازمها الذي دل عليه المقام فإنه لتسليته صلّى الله عليه وسلم من تكذيب قومه واليهود له، واقتصر مجاهد على الثاني كأنه قيل فإن: كذبوك فلا تحزن وتسل، وجعل بعضهم الجواب محذوفا وهذا تعليلا له ومثله كثير في الكلام. وقال عصام الملة: لا حاجة إلى التأويل، والقول بالحذف إذ المعنى إن يكذبوك فتكذيبك تكذيب رسل من قبلك حيث أخبروا ببعثتك، وفي ذلك كمال توبيخهم وتوضيح صدقه صلى الله تعالى عليه وسلم وتسلية له ليس فوقها تسلية، ونظر فيه بأن التسلية، على ما ذهب إليه الجمهور- أتم إذ عليه تكون المشاركة بينه صلى الله تعالى عليه وسلم وبين إخوانه المرسلين عليهم الصلاة والسلام في تكذيب المكذبين شفاها وصريحا، وعلى الثاني لا شركة إلا في التكذيب لكنه بالنسبة إليه صلى الله تعالى عليه وسلم شفاهي وصريح، وبالنسبة إلى المرسلين ليس كذلك، ولا شك لذي ذوق أن الأول أبلغ في التسلية، وعليه يجوز في مِنْ أن تتعلق- بكذب- وأن تتعلق بمحذوف وقع صفة- لرسل- أي كائنة من قبلك. وعلى الثاني يتعين الثاني ويشعر بالأول الذي عليه الجمهور وصف الرسل بقوله سبحانه: جاؤُ بِالْبَيِّناتِ أي المعجزات الواضحات الباهرات وَالزُّبُرِ جمع زبور كالرسول والرسل وهو الكتاب المقصور على الحكم من زبرته بمعنى حسنته قاله الزجاج، وقيل: الزبر المواعظ والزواجر من زبرته إذا زجرته وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ أي الموضح أو الواضح المستنير. أخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه القرآن، ومعنى مجيء الرسل به مجيئهم بما اشتمل عليه من أصول الدين على ما يشير إليه قوله تعالى فيه: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [الشعراء: 196] على وجه، وعن قتادة أن المراد به الزبر والشيء يضاعف بالاعتبار وهو واحد، وقيل: المراد به التوراة، والإنجيل. والزبور وهو في عرف القرآن ما يتضمن الشرائع والأحكام ولذلك جاء هو والحكمة متعاطفين في عامة المواقع، ووجه إفراد الكتاب بناء على القول الأول ظاهر، ولعل وجه إفراده بناء على القول الثاني والثالث، وإن أريد منه الجنس الصادق بالواحد والمتعدد الرمز إلى أن الكتب السماوية وإن تعدّدت فهي من بعض الحيثيات كشيء واحد. وقرأ ابن عامر- وبالزبر- بإعادة الجار للدلالة على أنها مغايرة للبينات بالذات بأن يراد بها المعجزات غير الكتب لأن إعادة العامل تقتضي المغايرة ولولاها لجاز أن يكون من عطف الخاص على العام. ومن الغريب القول بأن المراد بالبينات الحروف باعتبار أسمائها كألف ولام، وبالزبر الحروف باعتبار مسمياتها ورسمها كأب، وبالكتاب الحروف المجتمعة المتلفظ بها كلمة وكلاما. وادعى أهل هذا القول: إن لكل من ذلك معاني وأسرارا لا يعقلها إلا العالمون فهم يبحثون عن الكلمة باعتبار لفظها وباعتبار كل حرف من حروفها المرسومة وباعتبار اسم كل حرف منها الذي هو عبارة عن ثلاثة حروف، ولا يخفى أن هذا اصطلاح لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى عليه. والظاهر من تتبع الآثار الصحيحة أنه لم يثبت فيه عن الشارع الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم شيء ودون إثبات ذلك الموت الأحمر كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ أي نازل بها لا محالة فكأنها ذائقته وهو وعد ووعيد للمصدق والمكذب، وفيه تأكيد للتسلية له صلى الله تعالى عليه وسلم لأن تذكر الموت واستحضاره مما يزيل الهموم والأشجان الدنيوية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 وفي الخبر «أكثروا ذكر هاذم اللذات فإنه ما ذكر في كثير إلا وقلله ولا في قليل إلا وكثره» وكذا العلم بأن وراء هذه الدار دارا أخرى يتميز فيها المحسن عن المسيء ويرى كل منهما جزاء عمله، وهذه القضية الكلية لا يمكن إجراؤها على عمومها لظاهر قوله تعالى: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [الزمر: 68] وإذا أريد بالنفس الذات كثرت المستثنيات جدا، وهل تدخل الملائكة في هذا العموم؟ قولان، والجمهور على دخولهم. فعن ابن عباس أنه قال: لما نزل قوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرحمن: 26] قالت الملائكة: مات أهل الأرض فلما نزل كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: 185، الأنبياء: 35، العنكبوت: 57] قالت الملائكة: متنا. ووقوع الموت للأنفس في هذه النشأة الحيوانية الجسمانية مما لا ريب فيه إلا أن الحكماء بنوا ذلك على أن هذه الحياة لا تحصل إلا بالرطوبة والحرارة الغريزيتين. ثم إن الحرارة تؤثر في تحليل الرطوبة، فإذا قلت الرطوبة ضعفت الحرارة ولا تزال هذه الحال مستمرة إلى أن تفنى الرطوبة الأصلية فتنطفي الحرارة الغريزية ويحصل الموت، ومن هنا قالوا: إن الأرواح المجردة لا تموت ولا يتصور موتها إذ لا حرارة هناك ولا رطوبة، وقد ناقشهم المسلمون في ذلك والمدار عندهم على حرارة الكاف ورطوبة النون، ولعلهم يفرقون بين موت وموت، وقد استدل بالآية على أن المقتول ميت وعلى أن النفس باقية بعد البدن لأن الذائق لا بد أن يكون باقيا حال حصول المذوق فتدبر، وقرأ اليزيدي ذائِقَةُ الْمَوْتِ بالتنوين ونصب الموت على الأصل وقرأ الأعمش ذائِقَةُ الْمَوْتِ بطرح التنوين مع النصب كما في قوله: فألفيته غير مستعتب ... ولا ذاكر لله إلا قليلا وعلى القراءات الثلاث كُلُّ نَفْسٍ مبتدأ وجاز ذلك وإن كان نكرة لما فيه من العموم، وذائِقَةُ الخبر، وأنث على معنى كُلُّ لأن كُلُّ نَفْسٍ نفوس ولو ذكر في غير القرآن على لفظ كُلُّ جاز. وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ أي تعطون أجزية أعمالكم وافية تامة يَوْمَ الْقِيامَةِ أي وقت قيامكم من القبور، فالقيامة مصدر والوحدة لقيامهم دفعة واحدة، وفي لفظ التوفية إشارة إلى أن بعض أجورهم من خير أو شر تصل إليهم قبل ذلك اليوم، ويؤيده ما أخرجه الترمذي عن أبي سعيد الخدري والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة مرفوعا «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران» ، وقيل: النكتة في ذلك أنه قد يقع الجزاء ببعض الأعمال في الدنيا، ولعل من ينكر عذاب القبر تتعين عنده هذه النكتة. فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ أي بعد يومئذ عن نار جهنم، وأصل الزحزحة تكرير الزح، وهو الجذب بعجلة، وقد أريد هنا المعنى اللازم وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ أي سعد ونجا قاله ابن عباس، وأصل الفوز الظفر بالبغية، وبعض الناس قدر له هنا متعلقا أي فاز بالنجاة، ونيل المراد، ويحتمل أنه حذف للعموم أي بكل ما يريد، وفي الخبر «لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذه الآية» . وأخرج أحمد، ومسلم عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتي إليه» وذكر دخول الجنة بعد البعد عن النار لأنه لا يلزم من البعد عنها دخول الجنة كما هو ظاهر. وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا أي لذاتها وشهواتها وزينتها إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ المتاع ما يتمتع به وينتفع به مما يباع ويشترى وقد شبهها سبحانه بذلك المتاع الذي يدلس به على المستام ويغير حتى يشتريه إشارة إلى غاية رداءتها عند الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 من أمعن النظر فيها: إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت ... له عن عدو في ثياب صديق وعن قتادة هي متاع متروك أو شكت والله أن تضمحل عن أهلها فخذوا من هذا المتاع طاعة الله تعالى إن استطعتم ولا قوة إلا بالله، وعن علي كرم الله تعالى وجهه هي لين مسها قاتل سمها، وقيل: الدنيا ظاهرها مظنة السرور وباطنها مطية الشرور، وذكر بعضهم أن هذا التشبيه بالنسبة لمن آثرها على الآخرة، وأما من طلب بها الآخرة فهي له متاع بلاغ، وفي الخبر «نعم المال الصالح للرجل الصالح» ، والغرور مصدر أو جمع غار لَتُبْلَوُنَّ جواب قسم محذوف أي والله لتختبرن، والمراد لتعاملن معاملة المختبر ليظهر ما عندكم من الثبات على الحق والأفعال الحسنة ولا يصح حمل الابتلاء على حقيقته لأنه محال على علام الغيوب كما مر، والخطاب للمؤمنين أو لهم معه صلّى الله عليه وسلم، وإنما أخبرهم سبحانه بما سيقع ليوطنوا أنفسهم على احتماله عند وقوعه ويستعدوا للقائه ويقابلوه بحسن الصبر والثبات فإن هجوم البلاء مما يزيد في اللأواء، والاستعداد للكرب مما يهون الخطب ولتحقيق معنى الابتلاء لهذا التهوين أتى بالتأكيد، وقد يقال: أتي به لتحقيق وقوع المبتلى به مبالغة في الحث على ما أريد منهم من التهيؤ والاستعداد، وعلى أي وجه فالجملة مسوقة لتسلية أولياء الله تعالى عما سيلقونه من جهة أعدائه سبحانه إثر تسليتهم عما وقع منهم، وقيل: إنما سيقت لبيان أن الدنيا دار محنة وابتلاء، وإنها إنما زويت عن المؤمنين ليصبروا فيؤجروا إثر بيان أنها مَتاعُ الْغُرُورِ، ولعل الأول أولى كما لا يخفى، والواو المضمومة ضمير الرفع ولام الكلمة محذوفة لعلة تصريفية، وإنما حركت هذه الواو دفعا للثقل الحاصل من التقاء الساكنين وكان ذلك بالضم ليدل على المحذوف في الجملة ولم تقلب الواو ألفا مع تحركها وانفتاح ما قبلها لعروض ذلك فِي أَمْوالِكُمْ بالفرائض فيها والجوائح، واقتصر بعض على الثاني مدعيا أن الأول الممثل في كلامهم بالإنفاق المأمور به في سبيل الله تعالى، والزكاة لا يليق نظمه في سلك الابتلاء لما أنه من باب الأضعاف لا من قبيل الإتلاف، وفيه نظر تقدم في البقرة الإشارة إليه، وعن الحسن الاقتصار على الأول. والأولى القول بالعموم وفي أَنْفُسِكُمْ بالقتل والجراح، والأسر والأمراض وفقد الأقارب وسائر ما يرد عليها من أصناف المتاعب والمخاوف والشدائد، وقدم الأموال على الأنفس للترقي إلى الأشرف. أو لأن الرزايا في الأموال أكثر من الرزايا في الأنفس وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي من قبل إيتائكم القرآن وهم اليهود والنصارى. والتعبير عنهم بذلك إما للإشعار بمدار الشقاق والإيذان بأن ما يسمعونه منهم مستند على زعمهم إلى الكتاب. وإما للإشارة إلى عظم صدور ذلك المسموع منهم. وشدة وقعه على الأسماع حيث إنه كلام صدر ممن لا يتوقع صدوره منه لوجود زاجر عنه معه. وهو إيتاؤه الكتاب كما قيل: والتصريح بالقليلة إما لتأكيد الإشعار وتقوية المدار وإما للمبالغة في أمر الزاجر عن صدور ذلك المسموع من أولئك المسمعين وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا وهم كفار العرب أَذىً كَثِيراً كالطعن في الدين وتخطئة من آمن والافتراء على الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم والتشبيب بنساء المؤمنين وَإِنْ تَصْبِرُوا على تلك الشدائد عند ورودها وَتَتَّقُوا أي تتمسكوا بتقوى الله تعالى وطاعته والتبتل إليه بالكلية والإعراض عما سواه بالمرة بحيث يستوي عندكم وصول المحبوب ولقاء المكروه فَإِنَّ ذلِكَ إشارة إلى المذكور ضمنا من الصبر والتقوى. وما فيه من معنى البعد إما لكونه غير مذكور صريحا على ما قيل، أو للإيذان بعلو درجة هذين الأمرين وبعد منزلتهما. وتوحيد حرف الخطاب إما باعتبار كل واحد من المخاطبين اعتناء بشأن المخاطب به، وإما لأن المراد بالخطاب مجرد التنبيه من غير خصوصية أحوال المخاطبين مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي الأمور التي ينبغي أن يعزمها كل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 أحد لما فيه من كمال المزية والشرف والعز، أو مما عزمه الله تعالى وأوجبه على عباده، وعلى كلا التقديرين فالعزم مصدر بمعنى المعزوم وهو مأخوذ من قولهم عزمت الأمر- كما نقله الراغب- والأشهر عزمت على الأمر، ودعوى أنه لم يسمع سواه غير مسموعة كدعوى عدم صحة نسبة العزم إليه تعالى لأنه توطين النفس وعقد القلب على ما يرى فعله وهو محال عليه تعالى، ومما يؤيد صحة النسبة أنه قرئ «فإذا عزمت» بضم التاء وهو حينئذ بمعنى الإرادة والإيجاب، ومنه قول أم عطية رضي الله تعالى عنها: نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا وما في حديث آخر يرغبنا في قيام رمضان من غير عزيمة، وقولهم: عزمات الله تعالى- كما نقله الأزهري- ومن هذا الباب قول الفقهاء: ترك الصلاة زمن الحيض عزيمة، والجملة تعليل لجواب واقع موقعه كأنه قيل: «وإن تصبروا وتتقوا فهو خير لكم» أو فقد أحسنتم، أو نحوهما فَإِنَّ ذلِكَ إلخ، وجوز أن يكون ذلِكَ إشارة إلى صبر المخاطبين وتقواهم فحينئذ تكون الجملة بنفسها جواب الشرط، وفي إبراز الأمر بالصبر والتقوى في صورة الشرطية من إظهار كمال اللطف بالعباد ما لا يخفى، وزعم بعضهم أن هذا الأمر الذي أشارت إليه الآية كان قبل نزول آية القتال وبنزولها نسخ ذلك، وصحح عدم النسخ وأن الأمر بما ذكر كان من باب المداراة التي لا تنافي الأمر بالقتال، وسبب نزول هذه الآية في قول ما تقدمت الإشارة إليه، وأخرج الواحدي عن عروة بن الزبير أن أسامة بن زيد أخبره أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ركب على حمار على قطيفة فدكية وأردف أسامة بن زيد وسار يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر حتى مر بمجلس فيه عبد الله ابن أبيّ- وذلك قبل أن يسلم عبد الله فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، وفي المجلس عبد الله بن رواحة فلما غشي المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبيّ أنفه بردائه ثم قال: لا تغبروا علينا فسلم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم وقف فنزل ودعاهم إلى الله تعالى، وقرأ عليهم القرآن فقال عبد الله بن أبيّ: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه، وقال عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك واستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتساورون فلم يزل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يخفضهم حتى سكنوا، ثم ركب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة فقال له: يا سعد ألم تسمع ما قال أبو حباب- يريد عبد الله بن أبيّ- قال: كذا وكذا فقال سعد: يا رسول الله اعف عنه واصفح فو الذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله تعالى بالحق الذي نزل عليك وقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوّجوه ويعصبوه بالعصابة فلما ردّ الله تعالى ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق فغص بذلك فعفا عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى الآية. وروى الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرا وكان يهجو النبي صلّى الله عليه وسلم ويحرض عليه كفار قريش في شعره وكان النبي صلّى الله عليه وسلم قدم المدينة وأهلها أخلاط منهم المسلمون ومنهم المشركون ومنهم اليهود فأراد النبي صلّى الله عليه وسلم أن يستصلحهم كلهم فكان المشركون واليهود يؤذونه ويؤذون أصحابه أشدّ الأذى فأمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلم بالصبر على ذلك وفيهم أنزل الله تعالى وَلَتَسْمَعُنَّ الآية. وفي رواية أخرى عن الزهري أن كعبا هذا كان يهجو النبي صلّى الله عليه وسلم ويشبب بنساء المؤمنين فقال صلّى الله عليه وسلم: من لي بابن الأشرف؟ فقال محمد بن مسلمة: أنا يا رسول الله فخرج هو ورضيعه أبو نائلة مع جماعة فقتلوه غيلة وأتوا برأسه إلى النبي صلّى الله عليه وسلم آخر الليل وهو قائم يصلي ثم إنه سبحانه بين بعض أذيات أهل الكتاب بقوله عز قائلا وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ والمراد بهم إما أحبار اليهود خاصة- وإليه ذهب ابن جبير- وهو المروي عن ابن عباس من طريق عكرمة وإما ما يشملهم وأحبار النصارى- وهو المروي عنه من طريق علقمة- وإنما ذكروا بعنوان إيتاء الكتاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 مبالغة في تقبيح حالهم، وقيل: رمزا إلى أن أخذ الميثاق كان في كتابهم الذي أوتوه، وروى سعيد بن جبير ان أصحاب عبد الله يقرؤون وإذ أخذ ربك من الذين أوتوا الكتاب ميثاقهم- لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ جواب ميثاق لتضمنه معنى القسم، والضمير للكتاب أي بالله لتظهرن جميع ما فيه من الأحكام والأخبار التي من جملتها أمر نبوة محمد صلى الله تعالى عليه ولم وهو المقصود بالحكاية، وظاهر كلام السدي وابن جبير أن الضمير لمحمد صلّى الله عليه وسلم وإن لم يصرح باسمه الشريف عليه الصلاة والسلام. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية ابن عياش ليبيننه بياء الغيبة، وقد قرر علماء العربية أنك إذا أخبرت عن يمين حلف بها فلك في ذلك ثلاثة أوجه: أحدها أن يكون بلفظ الغائب كأنك تخبر عن شيء كأن تقول: استحلفته ليقومنّ، الثاني أن تأتي بلفظ الحاضر تريد اللفظ الذي قيل له فتقول: استحلفته لتقومن كأنك قلت: قلت له: لتقومن، الثالث أن تأتي بلفظ المتكلم فتقول: استحلفته لأقومنّ، ومنه قوله تعالى: تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ [النمل: 49] بالنون والياء والتاء، ولو كان تقاسموا أمرا لم يجىء فيه الياء التحتية لأنه ليس بغائب قاله بعض المحققين وَلا تَكْتُمُونَهُ عطف على الجواب وإنما لم يؤكد بالنون لكونه منفيا، وقال أبو البقاء: اكتفاء بالتوكيد في الفعل الأول. وجوز أن يكون حالا من ضمير المخاطبين إما على إضمار مبتدأ بعد الواو أي وأنتم لا تكتمونه وإما على رأي من يجوز دخول الواو على المضارع المنفي عند وقوعه حالا أي لتظهرنه غير كاتمين، والنهي عن الكتمان بعد الأمر بالبيان للمبالغة في إيجاب المأمور به- كما ذهب اليه غير واحد- أو لأن المراد بالبيان المأمور به ذكر الآيات الناطقة بنبوته صلّى الله عليه وسلم وبالكتمان المنهي عنه إلغاء التأويلات الزائغة والشبهات الباطلة كما قيل. وأخرج ابن جرير عن الحسن أنه كان يفسر لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ بقوله لتتكلمن بالحق ولتصدقنه بالعمل، وأمر النهي بعد الأمر على هذا ظاهر أيضا، ولعل الكلام عليه أفيد. وقرأ ابن كثير ومن معه ولا يكتمونه بالياء كما في سابقه فَنَبَذُوهُ أي طرحوا ما أخذ منهم من الميثاق وَراءَ ظُهُورِهِمْ ولم يراعوه ولم يلتفتوا اليه أصلا فإن النبذ وراء الظهر تمثيل واستعارة لترك الاعتداد وعدم الالتفات وعكسه جعل الشيء نصب العين ومقابلها وَاشْتَرَوْا بِهِ أي بالكتاب الذي أمروا ببيانه ونهوا عن كتمانه، وقيل: الضمير للعهد والأول أولى، والمعنى أخذوا بدله ثَمَناً قَلِيلًا من حطام الدنيا الفانية وأغراضها الفاسدة فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ أي بئس شيئا يشترونه ذلك الثمن فيما نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس وجملة يشترونه صفته، والمخصوص بالذم محذوف، وقيل: ما مصدرية فاعل بئس والمخصوص محذوف أي بئس شراؤهم هذا الشراء لأستحقاقهم به العذاب الأليم، واستدل بالآية على وجوب إظهار العلم وحرمة كتمان شيء من أمور الدين لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة وتطييب لنفوسهم واستجلاب لمسارهم واستجذاب لمبارهم ونحو ذلك، وفي الخبر «من سئل عن علم فكتمه ألجم بالجام من نار» ، وروى الثعلبي بإسناده عن الحسن بن عمارة قال: أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فألفيته على بابه فقلت: إن رأيت أن تحدثني؟ فقال: أما علمت أني تركت الحديث؟ فقلت: إما أن تحدثني، وإما أن أحدثك؟ فقال: حدثني فقلت: حدثني الحكم بن عيينة عن نجم الخراز قال: سمعت علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه يقول: ما أخذ الله تعالى على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا، قال: فحدثني أربعين حديثا، وأخرج عبد بن حميد عن أبي هريرة لولا ما أخذ الله تعالى على أهل الكتاب ما حدثتكم وتلا هذه الآية. وأخرج ابن سعد عن الحسن لولا الميثاق الذي أخذه الله تعالى على أهل العلم ما حدثتكم بكثير مما تسألون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 عنه، ويؤيد الاستدلال بالآية على ما ذكر ما أخرجه ابن جرير عن أبي عبيدة قال: جاء رجل إلى قوم في المسجد وفيهم عبد الله بن مسعود فقال: إن كعبا يقرئكم السلام ويبشركم أن هذه الآية وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إلخ ليست فيكم، فقال له عبد الله: وأنت فأقرئه السلام إنها نزلت وهو يهودي وأراد ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن كعبا لم يعرف ما أشارت اليه وإن نزلت في أهل الكتاب لا تَحْسَبَنَّ خطاب لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب أي لا تظنن. الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا أي بما فعلوا، وبه قرأ أبي، وقرئ «بما آتوا» و «بما أتوا» وروي الثاني عن علي كرم الله تعالى وجهه وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا أي أن يحمدهم الناس، وقيل: المسلمون، وقيل: رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بِما لَمْ يَفْعَلُوا قال ابن عباس فيما أخرجه عنه ابن أبي حاتم من طريق العوفي: هم أهل الكتاب أنزل عليهم الكتاب فحكموا بغير الحق وحرفوا الكلام عن مواضعه وفرحوا بذلك وأحبوا أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا من الصلاة والصيام، وفي رواية البخاري وغيره عنه «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه وفرحوا بِما أَتَوْا من كتمان ما سألهم عنه» ، وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير أنهم يَفْرَحُونَ بكتمانهم صفة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم التي نطق بها كتابهم وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بأنهم متبعون دين إبراهيم عليه السلام، فعلى هذا يكون الموصول عبارة عن المذكورين سابقا الذين أخذ ميثاقكم، وقد وضع موضع ضميرهم، وسيقت الجملة لبيان ما يستتبع أعمالهم المحكية من العذاب إثر بيان قباحتها، وفي ذلك من التسلية أيضا ما لا يخفى، وقد أدمج فيها بيان بعض آخر من شنائعهم وفضائحهم وهو إصرارهم على القبيح وفرحهم بذلك ومحبتهم لأن يوصفوا بما ليس فيهم من الأوصاف الجميلة وأخرج سبحانه ذلك مخرج المعلوم إيذانا بشهرة اتصافهم به، وقيل: إن الموصول عبارة عن أناس منافقين وهم طائفة معهودون من المذكورين وغيرهم، وأيد ذلك بما أخرجه الشيخان والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فإذا قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فنزلت هذه الآية، وروي مثل ذلك عن رافع بن خديج وزيد بن ثابت. وغيرهما، وقيل: المراد بهؤلاء المنافقون كافة، وقد كان أكثرهم من اليهود. وادعى بعضهم أنه الأنسب بما في حيز الصلة لشهرة أنهم كانوا يفرحون بما فعلوا من إظهار الإيمان وقلوبهم مطمئنة بالكفر ويستحمدون إلى المسلمين بالإيمان وهم عن فعله بألف منزل، وكانوا يظهرون محبة المؤمنين وهم في الغاية القاصية من العداوة، ولا يخفى عليك أنه وإن سلم كونه أنسب إلا أنه لم يوجد فيما نعلم من الآثار الصحيحة ما يؤيده، ومن هنا يعلم بعد القول بأن الأولى إجزاء الموصول على عمومه شاملا لكل من يأتي بشيء من الحسنات فيفرح به فرح إعجاب، ويود أن يمدحه الناس بما هو عار منه من الفضائل منتظما للمعهودين انتظاما أوليا على أنه قد اعترض بأن انتظام المعهودين مطلقا فضلا عن كونه أوليا غير مسلم إلا إذا عمم ما في بِما أَتَوْا بحيث يشمل الحسنات الحقيقية وغيرها. أما إذا خص بالحسنات كما يوهمه ظاهر هذا القول فلا يسلم الانتظام لأن أولئك الفرحين لم يأتوا بحسنة في نفس الأمر ليفرحوا بها فرح إعجاب كما لا يخفى، ولعل الأمر في هذا سهل، نعم يزيده بعدا ما أخرجه الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي والبيهقي في الشعب من طريق حميد بن عبد الرحمن أن مروان قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 معذبا لنعذبن أجمعون، فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه الآية إنما أنزلت هذه الآية في أهل الكتاب، ثم تلا وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إلى آخر الآيتين فإنه لو كان الأولى إجراء الموصول على عمومه لأجراه حبر الأمة وترجمان القرآن، وأزال الإشكال يتقييد الفرح بفرح الإعجاب كما فعل صاحب هذا القول ولا يلزم من كلام الحبر على هذا عدم حرمة الفرح فرح إعجاب وحب الحمد بما لم يفعل بالمرة بل قصارى ما يلزم منه كلام الحبر على هذا عدم حرمة الفرح فرح إعجاب وحب الحمد بما لم يفعل بالمرة بل قصارى ما يلزم منه عدم كون ذلك مفاد الآية كما قيل وهو لا يستلزم عدم كونه مفاد شيء أصلا ليكون ذلك قولا بعدم الحرمة، كيف وكثير من النصوص ناطق بحرمة ذلك حتى عده البعض من الكبائر؟! فليفهم وأيّا ما كان فالموصول مفعول أول لتحسبن وقوله تعالى: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ تأكيد له والعرب كما قال الزجاج إذا أطالت القصة تعيد حسبت وما أشبهها إعلاما بأن الذي جرى متصل بالأول وتوكيد له، فتقول: لا تظنن زيدا إذا جاءك وكلمك بكذا وكذا فلا تظنه صادقا فيفيد لا تظنن توكيدا وتوضيحا، والفاء زائدة كما في قوله: فإذا هلكت «فعند» ذلك فاجزعي والمفعول الثاني في قوله سبحانه: بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ أي متلبسين بنجاة منه على أن المفازة مصدر ميمي بمعنى الفوز، والتاء ليست للوحدة لبناء المصدر عليه، ومِنَ الْعَذابِ متعلق به، وجوز أن تكون المفازة اسم مكان أي محل فوز ونجاة، وأن يستعار من المفازة للقفر وحينئذ يكون من العذاب صفة له لأن اسم المكان لا يعمل ولا بد من تقدير المتعلق خاصا أي منجية مِنَ الْعَذابِ وتقديره عاما- أي بمفازة كائنة من العذاب- غير صحيح لأن المفازة ليست من العذاب، واعترض بأن تقديره خاصا مع كونه خلاف الأصل تعسف مستغنى عنه، وقرئ بضم الباء الموحدة في الفعلين على أن الخطاب شامل للمؤمنين أيضا، وبياء الغيبة وفتح الباء فيهما على أن الفعل له عليه الصلاة والسلام أو لكل من يأتي منه الحسبان ومفعولاه في القراءتين كما ذكر من قبل. وقرأ أبو عمرو وابن كثير بالياء وفتح الباء في الفعل الأول، وبالياء وضم الباء في الفعل الثاني على أن فاعل «لا يحسبن الذين» بعده ومفعولاه محذوفان يدل عليهما مفعولا مؤكده وفاعل مؤكده ضمير الموصول ومفعولاه ضميرهم، وبمفازة أي «لا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا» فلا «يحسبن» أنفسهم بِمَفازَةٍ. ويجوز أن يكون المفعول الأول- للا يحسبن- محذوفا والمفعول الثاني مذكورا أي أعني بِمَفازَةٍ أن «لا يحسبن الذين يفرحون» أنفسهم فائزين، وقوله تعالى: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ مؤكد والفاء زائدة كما مر وأن يكون كلا مفعولي «لا يحسبن» مذكورا، الأول ضميرهم المتصل بالفعل الثاني، والثاني «بمفازة» وهو مبني على جعل التأكيد هو الفعل والفاعل فقط على ما هو الأنسب إذ ليس المذكور سابقا سواهما. ورد بأن فيه اتصال ضمير المفعول بغير عامله أو فاعله المتصل بعامله ولم يقل به أحد من النحاة وإن كان فيه تحاش عن الحذف في هذا الباب، وفيه نظر إذ قد صرح كثير بجواز ذلك، وقد أفردت هذه المسألة بالتدوين، وجوز أيضا أن يكون الفعل الأول مسندا إلى ضمير النبي صلّى الله عليه وسلم أو كل حاسب والمفعول الأول الموصول، والمفعول الثاني محذوفا لدلالة مفعول الفعل الثاني عليه والفعل الثاني مسندا إلى ضمير الموصول والفاء للعطف لظهور تفرع عدم حسبانهم على عدم حسبانه عليه الصلاة والسلام أو عدم حسبان كل حاسب ومفعولاه الضمير المنصوب وبِمَفازَةٍ تصدير الوعيد بنهيهم عن الحسبان المذكور على ما قال شيخ الإسلام للتنبيه على بطلان آرائهم الركيكة وقطع أطماعهم الفارغة حيث كانوا يزعمون أنهم ينجون بما صنعوا من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 عذاب الآخرة كما نجوا به من المؤاخذة الدنيوية وعليه كان مبنى فرحهم، وأما نهيه صلّى الله عليه وسلم فللتعريض بحسبانهم المذكور لا لاحتمال وقوع الحسبان من جهته صلّى الله عليه وسلم. وأنت تعلم أن تعليل التصدير بما ذكر على تقدير إجراء الموصول على عمومه على ما مر غير ظاهر إلا أن يقال بالتغليب وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بيان لثبوت فرد من العذاب لا غاية له في المدة والشدة إثر ما أشير إليه من عدم نجاتهم من مطلق العذاب ويلوح بذلك الجملة الاسمية والتنكير التفخيمي والوصف. وجوز أن يكون هذا إشارة إلى العذاب الأخروي ويحمل نفي النجاة من العذاب فيما تقدم على نفي العذاب العاجل وهو كونهم مذمومين مردودين فيما بين الناس لأن لباس الزور لا يبقى وينكشف حال صاحبه ويفتضح. وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تقرير لما قبله حيث أفاد أن لله وحده السلطان القاهر في جميع العالم يتصرف فيه كيفما يشاء ويختار إيجادا وإعداما إحياء وإماتة ومن هو كذلك فهو مالك أمرهم لا راد له عما أراد بهم وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تقرير إثر تقرير والإظهار في مقام الإضمار لتربية المهابة مع الإشعار بمناط الحكم فإن شمول القدرة لجميع الأشياء من أحكام الألوهية والرمز إلى استقلال كل من الجملتين بالتقرير، وقيل: مجموع الجملتين مسوق لرد قول اليهود السابق إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ وضعف بالبعد- ولو قيل- وفيه ردّ لهان الأمر. هذا (ومن باب الإشارة في الآيات) وَلا يَحْزُنْكَ لتوقع الضرر، أو لشدة الغيرة الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ لحجابهم الأصلي وظلمتهم الذاتية إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً فإن ساحة الكبرياء مقدسة عن هجوم ظلال الضلال، أو المراد لن يضروك أيها المظهر الأعظم إلا أنه تعالى أقام نفسه تعالى مقام نفسه صلى الله تعالى عليه وسلم، وفي الآية إشارة إلى الفرق والجمع يُرِيدُ اللَّهُ إظهارا لصفة قهره أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ لعظم حجابهم ونظرهم إلى الأغيار إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ وأخذوه بالإيمان بدله لقبح استعدادهم وسوء اختيارهم الغير المجعول لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً «لكن يضرون أنفسهم لحرمانها تجلي الجمال وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ لكونهم غدوا بذلك مظهر الجلال وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ ونزيد في مددهم خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ ينتفعون به في القرب إلينا إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً بسبب ذلك لازديادهم حجابا على حجاب وبعدا على بعد وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ لفرط بعدهم عن منبع العز ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ من ظاهر الإسلام وتصديق اللسان حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ من صفات النفس وحظوظ الشيطان ودواعي الهوى مِنَ الطَّيِّبِ وهو صفات القلب كالاخلاص واليقين والمكاشفة ومشاهدة الروح ومناغاة السر ومسامراته وذلك بوقوع الفتن والمصائب بينكم وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ أي غيب وجودكم من الحقائق الكامنة فيكم بلا واسطة الرسول للبعد وعدم المناسبة وانتفاء استعداد التلقي منه سبحانه وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فيطلعه على ذلك ويهديكم إلى ما غاب عنكم من كنوز وجودكم وأسراره للجنسية التي بينكم وبينه فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ بالتصديق والتمسك بالشريعة ليمكنكم التلقي منهم وَإِنْ تُؤْمِنُوا بعد ذلك الإيمان الحقيقي الحاصل بالسلوك والمتابعة في الطريقة وَتَتَّقُوا الحجب والموانع فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ من كشف الحقيقة، وقد يقال: إن لله تعالى غيوبا غيب الظاهر وغيب الباطن وغيب الغيب وسر الغيب وغيب السر، فغيب الظاهر هو ما أخبر به سبحانه عن أمر الآخرة، وغيب الباطن هو غيب المقدورات المكنونة عن قلوب الأغيار، وغيب الغيب هو سر الصفات في الأفعال، وسر الغيب هو نور الذات في الصفة، وغيب السر هو غيب القدم وسر الحقيقة والاطلاع بالواسطة على ما عدا الأخير واقع للسالكين على حسب مراتبهم، وأما الاطلاع على الأخير فغير واقع لأحد أصلا فإن الأزلية منزهة عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 الإدراك وخاصة بنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم من ذلك المعنى رؤيته بنعت الكشف له وابتسام صباح الأزل في وجهه لا بنعت الإحاطة والإدراك وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ من المال أو العلم أو القدرة أو النفس فلا ينفقونه في سبيل الله على المستحقين، أو المستعدين، أو الأنبياء والصديقين في الذب عنهم، أو في الفناء في الله تعالى هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ لاحتجابهم به سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ ويلزمون وباله ويبقى ذلك حسرة في قلوبهم عند هلاكهم على ما يشير قوله تعالى: وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وقد ذكر بعض العارفين أن من أعظم أنواع البخل كتم الأسرار عن أهلها وعدم إظهار مواهب الله تعالى على المريدين وإبقائهم في مهامه الطريق مع التمكن من إرشادهم ويقال: إن مبنى الطريق على السخاء وإن السخاء بالمال وصف المريدين، والسخاء بالنفس وصف المحبين، وبالروح وصف العارفين. وقال ابن عطاء: السخاء النفس والسر والروح والكل، ومن بخل في طريق الحق بماله حجب وبقي معه، ومن نظر إلى الغير حرم فوائد الحق وسواطع أنوار القرب لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ وهم اليهود حيث سمعوا الاستقراض ولم يفهموا سره فوقعوا فيما وقعوا وقالوا ما قالوا وهذا القول إنما يجر إليه الطغيان وغلبة الصفات الذميمة واستيلاء سلطان الهوى على النفس الأمارة فتطلب حينئذ الارتداء برداء الربوبية، ومن هنا تقول: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات: 24] أحيانا مع حجابها وبعدها عن الحضرة الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قيل: إنه روي أن أنبياء بني إسرائيل كانت معجزتهم أن يأتوا بقربان فيدعوا الله تعالى فتأتي نار من السماء فتأكله وتأويله أن يأتوا بنفوسهم يتقربون بها إلى الله تعالى ويدعون بالزهد والعبادة فتأتي نار العشق من سماء الروح فتأكله وتفنيه في الوحدة وبعد ذلك تصح نبوتهم وتظهر فلما سمع بذلك عوام بني إسرائيل اعتقدوا ظاهره الممكن في عالم القدرة فاقترحوا على كل نبي تلك الآية إلى أن جاء نبينا صلّى الله عليه وسلم فاقترحوا عليه ونقل الله تعالى ذلك لنا ورده عليهم، وأولى من هذا في باب التأويل أن يهود صفات النفس البهيمية والشيطانية قالوا لرسول الخاطر الرحماني والإلهام الرباني لا ننقاد لك حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ هو الدنيا وما فيها تجعلها نسيكة لله عز وجل فتأكلها نار المحبة قُلْ يا وارد الحق قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي أي واردات الحق بِالْبَيِّناتِ بالحجج الباهرة وَبِالَّذِي قُلْتُمْ وهو جعل الدنيا وما فيها قربانا فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ أي غلبتموهم ومحوتموهم حتى لم تبقوا أثرا لتلك الواردات إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أنكم تؤمنون لمن يأتيكم بذلك فَإِنْ كَذَّبُوكَ خطاب للرسول الأعظم صلّى الله عليه وسلم فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ للعوام وَالزُّبُرِ للمتوسطين وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ للخواص، ويحتمل أن يكون الأول إشارة إلى توحيد الأفعال والثاني إلى توحيد الصفات، والثالث إلى توحيد الذات المشار إليه بقوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ولهذا أتى بالكتاب مفردا ووصفه بالمنير، وجوز أن يكون الخطاب للوارد الرحماني والرسل إشارة إلى الواردات المختلفة المتنوعة كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ حكم شامل لجميع الأنفس مجردة كانت أو بسيطة بحمل الموت على ما يشمل الموت الطبيعي والفناء في الله سبحانه وتعالى تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ على اختلافها يوم القيامة فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ أي نار الحجاب أو ما يعمها والنار المعروفة وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ المتنوعة إلى ما قدمناه غير مرة، أو الجنة بالمعنى الأعم فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا ولذاتها الفانية إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ لأنها الحجاب الأعظم لمن نظر إليها من حيث هي لَتُبْلَوُنَّ لتختبرن في أموالكم بإيجاب إنفاقها مع ميلكم إليها وأنفسكم بتعريضها لما يكاد يجر إلى إتلافها مع حبكم لها. وقال بعض العارفين: إن الله تعالى أظهر النفس وزينها بكسوة الربوبية وملأها باللطف والقهر وكساها زينة الملك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 من الأموال ابتلاء وامتحانا فمن نظر إلى نفسه بعين زينة الربوبية فنيت نفسه فيها ونطق لسان الربوبية منه وصار كشجرة موسى عليه السلام حيث نطق الحق منها وذلك مثل الحلاج القائل: أنا الحق، ومن نظر إلى زينة الأموال التي هي زينة الملك صار حاله كحال سليمان عليه السلام حيث كان ينظر إلى عظم جلال المولى من خلال تلك الزينة، ومن نظر إلى نفسه من حيث إنها نفسه واغتر بالسراب ولم يحقق بالذوق ما عنده صار حاله كحال فرعون إذ نادى أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات: 24] ، ومن نظر إلى خضرة الدنيا وحسا كأس شهواتها وسكر بها صار كبلعام فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف: 176] وهذا وجه الابتلاء بالأموال والأنفس، وأي ابتلاء أعظم من رؤية الملك ورؤية الربوبية في الكون الذي هو محل الالتباس وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وهم أهل مقام الجمع وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا وهم أهل الكثرة أَذىً كَثِيراً لنطقهم بما يخالف مشربكم والخطاب للمتوسطين من السالكين فإنهم ينكرون على أهل مقام الجمع وعلى أهل الكثرة جميعا ما داموا غير واصلين إلى توحيد الذات وغير كارعين من بحار الفرق بعد الجمع وَإِنْ تَصْبِرُوا على مجاهدة أنفسكم وَتَتَّقُوا النظر إلى الأغيار فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي من الأمور المطلوبة التي تجرّ إلى المقصود والفوز بالمطلوب وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ الظاهر هنا عدم صحة إرادة المعنى الذي أريد مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آنفا ومن حمله عليه تكلف جدا فلعله باق على ظاهره، أو أنه إشارة إلى العلماء مطلقا وضمير فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ إلخ راجع إليهم باعتبار البعض فتدبر لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا أي يعجبون بما فعلوا من طاعة ويحجبون برؤيته وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا أي يحمدهم الناس فهم محجوبون بغرض الحمد والثناء من الناس، أو أن يكونوا محمودين عند الله بِما لَمْ يَفْعَلُوا بل فعله الله تعالى على أيديهم إذ لا فعل حقيقة إلا لله تعالى فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وهو عذاب الحرمان والحجاب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ليس لأحد فيهما شيء وهو المتصرف فيهما وفيما اشتملتا عليه فكيف يعجب من ظهر على يده فعل بما ظهر وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لا يقدر سواه على فعل ما حتى يحجب برؤيته إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تأكيد لما قبله وإقامة دليل عليه ولذا لم يعطف، وأتى بكلمة إن اعتناء بتحقق مضمون الجملة أي إن في إيجادهما وإنشائهما على ما هما عليه من العجائب والبدائع وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي تعاقبها ومجيء كل منهما خلف الآخر بحسب طلوع الشمس وغروبها التابعين لسباحتها في بحر قدرته سبحانه حسب إرادته، وخبر الخرزتين خارج عن سلك القبول وبفرض نظمه فيه مؤول، وثقب التأويل واسع وكون ذلك تابعا لحركة السموات وسكون الأرض- كما قاله مولانا شيخ الإسلام- مخالف لما ذهب إليه جمهور أهل السنة من المحدثين وغيرهم من سكون السموات وتحرك النجوم أنفسها بتقدير الله تعالى العليم، وما ذهب إليه هو مذهب الحكماء المشهور بين الناس، وقد ذكر مولانا الشيخ الأكبر قدس سره ما يخالفه أيضا حيث قال: إن الله سبحانه جعل هذه السموات ساكنة وخلق فيها نجوما تسبح بها وجعل لها في سباحتها حركان مقدرة لا تزيد ولا تنقص وجعلها تسير في جرم السماء الذي هو مساحتها فتخرق الهواء المماس لها فيحدث بسيرها أصوات ونغمات مطربة لكون سيرها على وزن معلوم فتلك نغمات الأفلاك الحادثة من قطع الكواكب المسافات السماوية وجعل أصحاب علم الهيئة للأفلاك ترتيبا ممكنا في حكم العقل وجعلوا الكواكب في الأفلاك كالشامات على سطح الجسم وكل ما قالوه يعطيه ميزان حركاتها وإن الله تعالى لو فعل ذلك كما ذكروه لكان السير السير بعينه، ولذلك يصيبون في علم الكسوفات ونحوه، وقالوا: إن السموات كالأكر وإن الأرض في جوفها وذلك كله ترتيب وضعي يجوز في الإمكان غيره وهم مصيبون في الأوزان مخطئون في أن الأمر كما رتبوه فليس الأمر إلا على ما ذكرناه شهودا انتهى. ويؤيد دعوى أنه يجوز في الإمكان غيره ما ذهب إليه أصحاب الزيج الجديد من أن الشمس ساكنة لا تتحرك أصلا وأنها مركز العالم وأن الأرض وكذا سائر السيارات والثوابت تتحرك عليها وأقاموا على ذلك الأدلة والبراهين بزعمهم وبنوا عليه الكسوف والخسوف ونحوهما ولم يتخلف شيء من ذلك فهذا يشعر بأنه لا قطع فيما ذهب اليه أصحاب الهيئة، ويحتمل أن يراد باختلاف الليل والنهار تفاوتهما بازدياد كل منهما بانتقاص الآخر وانتقاصه بازدياده باختلاف حال الشمس بالنسبة إلينا قربا وبعدا بحسب الأزمنة، أو في اختلافهما وتفاوتهما بحسب الأمكنة إما في الطول والقصر فإن البلاد القريبة من قطب الشمال أيامها الصيفية أطول وليالها الصيفية أقصر من أيام البلاد البعيدة منه ولياليها، وإما في أنفسهما فإن كرية الأرض تقتضي أن يكون بعض الأوقات في بعض الأماكن ليلا، وفي مقابله نهارا وفي بعضها صباحا وفي بعضها ظهرا أو عصرا أو غير ذلك، وهذا مما لا شبهة فيه عند كثير من الناس، وذكره شيخ الإسلام أيضا- وليس بالبعيد- بل اختلاف الأوقات في الأماكن مشاهد محسوس لا يختلف فيه اثنان إلا أن في كرية الأرض اختلافا، فقد ذكر مولانا الشيخ الأكبر قدس سره أن الله تعالى بعد أن خلق الفلك المكوكب في جوف الفلك الأطلس خلق الأرض سبع طبقات وجعل كل أرض أصغر من الأخرى ليكون على كل أرض قبة سماء فلما تم خلقها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 وقدر فيها أقواتها واكتسى الهواء صورة البخار الذي هو الدخان فتق ذلك الدخان سبع سموات طباقا وأجساما شفافة وجعلها على الأرضين كالقباب على كل أرض سماء أطرافها عليها نصف كرة وكرة الأرض لها كالبساط فهي مدحية دحاها من أجل السماء أن تكون عليها وجعل في كل سماء من هذه واحدة من الجواري على الترتيب المعروف انتهى، والقلب يميل إلى الكرية والله لا يستحي من الحق، وما ذهب إليه الشيخ الأكبر قدس سره أمر شهودي وفيه الموافق والمخالف لما ذهب إليه معظم المحدثين. وأكثر علماء الدين. والذي قطع به بعض المحققين أنه لم يجىء في الأحاديث الصحيحة المرفوعة ما يفصل أمر السموات والأرض أتم تفصيل إذ ليست المسألة من المهمات في نظر الشارع صلى الله تعالى عليه وسلم والمهم في نظره منها واضح لا مرية فيه، وسبحان من لا يتعاصى قدرته شيء، والليل واحد بمعنى جمع وواحدة ليلة مثل تمرة وتمر وقد جمع على ليال فزادوا فيها الياء على غير قياس، ونظيره أهل وأهال، ويقال: كان الأصل فيها ليلاة فحذفت لأن تصغيرها لييلية كذا في الصحاح، وصحح غير واحد أنه مفرد ولا يحفظ له جمع، وأن القول بأنه جمع والليالي جمع جمع غير مرضي فافهم، وقد تقدم الكلام مستوفى في الليل والنهار، ووجه تقديم الأول على الثاني. لَآياتٍ أي دلالات على وحدة الله تعالى وكمال علمه وقدرته، وهو اسم إن وقد دخله اللام لتأخره عن خبرها والتنوين فيه للتفخيم كما وكيفا أي آيات كثيرة عظيمة، وجمع القلة هنا قائم مقام جمع الكثرة، قيل: وفي ذلك رمز إلى أن الآيات الظاهرة وإن كانت كثيرة في نفسها إلا أنها قليلة في جنب ما خفي منها في خزائن العلم ومكامن الغيب ولم يظهر بعد لِأُولِي الْأَلْبابِ أي لأصحاب العقول الخالصة عن شوائب الحسّ والوهم، ومنه خبر «أن الله تعالى منع مني بني مدلج لصلتهم الرحم وطعنهم في ألباب الإبل» أي خالص إبلهم وكرائمها، ويقال: لبّ يلب كعض يعض إذا صار لبيبا وهي لغة أهل الحجاز وأهل نجد يقولون: لب يلب كفر يفر ويقال: لبب الرجل بالكسر يلب الفتح إذا صار ذا لب، وحكي لبب بالضم وهو نادر لا نظير له في المضاعف. ووجه دلالة المذكورات على وحدته تعالى أنها تدل على وجود الصانع لتغيرها المستلزم لحدوثها واستنادها إلى مؤثر قديم ومتى دلت على ذلك لزم منه الوحدة، ووجه دلالتها على ما بعد أنها في غاية الإتقان ونهاية الإحكام لمن تأمل فيها وتفكر في ظاهرها وخافيها وذلك يستدعي كمال العلم والقدرة كما لا يخفى، وللمتكلمين في الاستدلال على وجود الصانع بمثل هذه المذكورات طريقان: أحدهما طريق التغير، والثاني طريق الإمكان، والأكثرون على ترجيح الثاني، والبحث مفصل في موضعه. وإنما اقتصر سبحانه هنا على هذه الثلاثة بعد ما زاده في البقرة لأن الآيات على كثرتها منحصرة في السماوية والأرضية والمركبة منهما، فأشار إلى الأولين بخلق السموات والأرض، وإلى الثالثة باختلاف الليل والنهار لأنهما من دوران الشمس على الأرض، أو لأنهما بواسطة مفيض بحسب الظاهر وهو الجرم العلوي وقابل للإفاضة وهو الجرم السفلي القابل للظلمة والضياء قاله بعضهم وقال ناصر الدين: لعل ذلك لأن مناط الاستدلال هو التغير، وهذه الثلاثة متعرضة لجملة أنواعه فإنه إنما يكون في ذات الشيء كتغير الليل والنهار، أو جزئه كتغير العناصر بتبدل صورها، أو الخارج عنه كتغير الأفلاك بتبدل أوضاعها، واعترض بأنه مبني على مذهب الحكماء في إثبات الهيولى والصورة والأوضاع الفلكية فلا يناسب تخريج كتاب الله تعالى عليه، ولعل الأولى من هذا وذاك ما قاله شيخ الإسلام في عدم التعرض لما ذكر في تلك السورة من أن المقصود هاهنا بيان استبداده تعالى بما ذكر من الملك والقدرة، والثلاثة المذكورة معظم الشواهد الدالة على ذلك فاكتفي بها، وأما هناك فقد قصد في ضمن بيان اختصاصه تعالى بالألوهية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 بيان اتصافه تعالى بالرحمة الواسعة فنظمت دلائل الفضل والرحمة في سلك دلائل التوحيد فإن ما فصل هناك من آيات رحمته تعالى كما أنه من آيات ألوهيته ووحدته. ومما يؤيد كون المذكورات معظم الشواهد الدالة على التوحيد ما أخرجه الطبراني وابن مردويه وغيرهما عن ابن عباس أنه قال أتت قريش اليهود فقالوا: ما جاءكم به موسى من الآيات قالوا: عصاه ويده بيضاء للناظرين وأتوا النصارى فقالوا: كيف كان عيسى فيكم؟ قالوا: كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى فأتوا النبي صلّى الله عليه وسلم ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا فدعا ربه فنزلت: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ وأخرج ابن حبان في صحيحه وابن عساكر وغيرهما عن عطاء قال: قلت لعائشة رضي الله تعالى عنها أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول صلى الله تعالى عليه وسلم قالت: وأي شأنه لم يكن عجبا!؟ إنه أتاني ليلة فدخل معي في لحافي ثم قال: ذريني أتعبد لربي فقام فتوضأ ثم قام يصلي فبكى حتى سألت دموعه على صدره ثم ركع فبكى ثم سجد فبكى ثم رفع رأسه فبكى فلم يزل كذلك حتى جاء بلال فآذنه بالصلاة فقلت: يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله تعالى لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا ولم لا أفعل وقد أنزل الله تعالى علي في هذه الليلة إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلى قوله سبحانه: فَقِنا عَذابَ النَّارِ ثم قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها، وكان صلى الله تعالى عليه وسلم على ما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه إذا قام من الليل تسوك ثم ينظر إلى السماء ثم يقول: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ الآية. وأخرج الشيخان وأبو داود والنسائي وغيرهم عن ابن عباس قال: بتّ عند خالتي ميمونة فنام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى انتصف الليل، أو قبله بقليل، أو بعده بقليل ثم استيقظ فجعل يمسح النوم عن وجهه بيديه ثم قرأ العشر الآيات الأواخر من سورة آل عمران حتى ختم. الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ في موضع جرّ على أنه نعت لِأُولِي ويجوز أن يكون في موضع رفع على المدح، وجعله مبتدأ والخبر محذوف تقديره يقولون «ربنا آمنا» بعيد لما فيه من تفكيك النظم، ويزيده بعدا ما أخرجه الأصبهاني في الترغيب عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «ينادي مناد يوم القيامة أين أولو الألباب؟ قالوا: أي أولي الألباب تريد؟ قال: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً إلخ عقد لهم لواء فاتبع القوم لواءهم وقال لهم ادخلوها خالدين» والظاهر أن المراد من الذكر الذكر باللسان لكن مع حضور القلب إذ لا تمدح بالذكر بدونه بل أجمعوا على أنه لا ثواب لذاكر غافل، وإليه ذهب كثير، وعد ابن جريج قراءة القرآن ذكرا فلا تكره للمضطجع القادر، نعم نص بعض الشافعية على كراهتها له إذا غطى رأسه للنوم وقال بعض المحققين: المراد به ذكره تعالى مطلقا كان ذلك من حيث الذات أو من حيث الصفات والأفعال، وسواء قارنه ذكر اللسان أو لا، والمعنى عليه الذين لا يغفلون عنه تعالى في عامة أوقاتهم باطمئنان قلوبهم بذكره واستغراق سرائرهم في مراقبته، وعليه فيحمل ما حكي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما وعروة بن الزبير وجماعة رضي الله تعالى عنهم من أنهم خرجوا يوم العيد إلى المصلى فجعلوا يذكرون الله تعالى فقال بعضهم: أما قال الله تعالى يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً فقاموا يذكرون الله تعالى على أقدامهم على أن مرادهم بذلك التبرك بنوع موافقة للآية في ضمن فرد من أفراد مدلولها وليس مرادهم به تفسيرها وتحقيق مصداقها على التعيين وإلا لاضطجعوا وذكروا أيضا ليتم التفسير وتحقيق المصداق. وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن مسعود في الآية أنه قال: إنما هذا في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 الصلاة إذا لم تستطع قائما فقاعدا وإن لم تستطع قاعدا فعلى جنب، وكذلك أمر صلّى الله عليه وسلم عمران بن حصين، وكانت به بواسير. كما أخرجه البخاري عنه وبهذا الخبر أحج الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه على أن المريض يصلي مضطجعا على جنبه الأيمن مستقبلا بمقادم بدنه ولا يجوز له أن يستلقي على ظهره على ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه، وجعل الآية حجة على ذلك بناء على أنه لما حصر أمر الذاكر في الهيئات المذكورة دل على أن غيرها ليس من هيئته والصلاة مشتملة على الذكر فلا ينبغي أن تكون على غير هيئته محل تأمل، وتخصيص ابن مسعود الذكر بالصلاة لا ينتهض حجة على أنه بعيد من سياق النظم الجليل وسباقه. والقيام والقعود جمع قائم وقاعد- كنيام ورقود- جمع نائم وراقد، وانتصابهما على الحالية من ضمير الفاعل في يَذْكُرُونَ ويحتمل أن يكونا مصدرين مؤولين بقائمين وقاعدين لتتأتى الحالية، وقوله تعالى: وَعَلى جُنُوبِهِمْ متعلق بمحذوف معطوف على الحال أي وكائنين على جنوبهم أي مضطجعين، وجوز أن يقدر المتعلق المعطوف خاصا أي ومضطجعين على جنوبهم، والمراد من ذكر هذه الأحوال الإشارة إلى الدوام وانفهامه منها عرفا مما لا شبهة فيه وليس المراد الدوام الحقيقي لاستحالته بل في غالب أحوالهم، وبعضهم يأخذ الدوام من المضارع الدال على الاستمرار وكيفما كان فالمراد يذكرون الله تعالى كثيرا وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عطف على يَذْكُرُونَ وعطفه على الأحوال السابقة غير ظاهر وتقديم الذكر في تلك الحالات على التفكر لما أن فيهما الاعتراف بالعبودية، والعبد مركب من النفس الباطنة والبدن الظاهر، وفي الأول إشارة إلى عبودية الثاني، وفي الثاني إشارة إلى عبودية الأول لأن التفكر إنما يكون بالقلب والروح، وفي بيان العبودية بعد الفراغ من آيات الربوبية ما لا يخفى من اللطف، وقيل: قدم الأول لأنه إشارة إلى النظر في الأنفس وأخر الثاني لأنه إشارة إلى النظر في الآفاق، ولا شبهة في تقدم الأول على الثاني، وصرح مولانا شيخ الإسلام بأن هذا بيان للتفكر في أفعاله تعالى، وما تقدم بيان للتفكر في ذاته تعالى على الإطلاق، والذي عليه أئمة التفسير أنه سبحانه إنما خصص التفكر بالخلق للنهي عن التفكر في الخالق لعدم الوصول إلى كنه ذاته وصفاته جل شأنه وعز سلطانه، وقد ورد هذا النهي في غير ما حديث، فقد أخرج أبو الشيخ والأصبهاني عن عبد الله بن سلام قال: «خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يتفكرون فقال: لا تفكروا في الله تعالى ولكن تفكروا فيما خلق» وعن عمرو بن مرة قال: «مر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على قوم يتفكرون فقال: «تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق» وعن ابن عمر قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «تفكروا في آلاء الله تعالى ولا تفكروا في الله تعالى» ، وعن ابن عباس تفكروا في كل شيء ولا تفكروا في ذات الله تعالى- إلى غير ذلك- ففي كون الأول بيانا للتفكر في ذاته سبحانه على الإطلاق نظر على أن بعض الفضلاء ذكر في تفسيره أن التفكر في الله سبحانه محال لما أنه يستدعي الإحاطة بمن هو بكل شيء محيط فتدبر، وقيل: قدم الذكر على الدوام على التفكير للتنبيه على أن العقل لا يفي بالهداية ما لم يتنور بنور ذكر الله تعالى وهدايته فلا بد للمتفكر من الرجوع إلى الله تعالى ورعاية ما شرع له، وأن العقل المخالف للشرع لبس الضلال ولا نتيجة لفكره إلا الضلال، والخلق- إما بمعنى المخلوق على أن الإضافة بمعنى في أي يتفكرون فيما خلق في السموات والأرض أعم من أن يكون بطريق الجزئية منهما أو بطريق الحلول فيهما، أو على أنها بيانية أي في المخلوق الذي هو السموات والأرض، وإما باق على مصدريته أي يتفكرون في إنشائهما وإبداعهما بما فيهما من عجائب المصنوعات ودقائق الأسرار ولطائف الحكم ويستدلون بذلك على الصانع ووحدته الذاتية وأنه الملك القاهر والعالم القادر والحكيم المتقن إلى غير ذلك من صفات الكمال، ويجرّهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 ذلك إلى معرفة صدق الرسل وحقية الكتب الناطقة بتفاصيل الأحكام الشرعية وتحقيق المعاد وثبوت الجزاء، ولشرافة هذه الثمرة الحاصلة من التفكر مع كونه من الأعمال المخصوصة بالقلب البعيدة عن مظان الرياء كان من أفضل العبادات، وقد أخرج أبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس قال: تفكر ساعة خير من قيام ليلة، وأخرج ابن سعد عن أبي الدرداء مثله، وأخرج الديلمي عن أنس مرفوعا مثله، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «فكرة ساعة خير من عبادة ستين سنة» ، وعنه أيضا مرفوعا بينما رجل مستلق ينظر إلى النجوم وإلى السماء فقال والله إني لأعلم إن لك ربا وخالقا اللهم اغفر لي فنظر الله تعالى له فغفر له، وأخرج ابن المنذر عن عون قال: سألت أم الدرداء ما كان أفضل عبادة أبي الدرداء؟ قالت: التفكر والاعتبار. وأخرج ابن أبي الدنيا عن عامر بن قيس قال: سمعت غير واحد- لا اثنين ولا ثلاثة- من أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم يقولون: إن ضياء الإيمان- أو نور الإيمان- التفكر، واقتصر سبحانه على ذكر التفكر فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ولم يتعرض جل شأنه لإدراج اختلاف الليل والنهار في ذلك السلك مع ذكره فيما سلف- وشرف التفكر فيه أيضا كما يقتضيه التعليل، وظاهر ما أخرجه الديلمي عن أنس مرفوعا تفكر ساعة في اختلاف الليل والنهار خير من عبادة ثمانين سنة- إما للايذان بظهور اندراج ذلك فيما ذكر لما أن الاختلاف من الأحوال التابعة لأحوال السموات والأرض على ما أشير اليه، وإما للاشعار بمسارعة المذكورين إلى الحكم بالنتيجة لمجرد تفكرهم في بعض الآيات من غير حاجة إلى بعض آخر منها في إثبات المطلوب. رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا الإشارة إلى السموات والأرض لما أنهما باعتبار تعلق الخلق بهما في معنى المخلوق، أو إلى الخلق على تقدير كونه بمعنى المخلوق، وقيل: إليهما باعتبار المتفكر فيه وعلى كل فأمر الأفراد والتذكير واضح والعدول عن الضمير إلى اسم الإشارة للإشارة إلى أنها مخلوقات عجيبة يجب أن يعتني بكمال تمييزها استعظاما لها، ونظير ذلك قوله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9] والباطل العبث وهو ما لا فائدة فيه مطلقا أو ما لا فائدة فيه يعتد بها أو ما لا يقصد به فائدة، وقيل: الذاهب الزائل الذي لا يكون له قوة وصلابة ولا يخفى أنه قول لا قوة له ولا صلابة، وهو إما صفة لمصدر محذوف أي خلقا باطلا، أو حال من المفعول. والمعنى ربنا ما خلقت هذا المخلوق، أو المتفكر فيه العظيم الشأن عاريا عن الحكمة خاليا عن المصلحة كما ينبئ عنه أوضاع الغافلين عن ذلك المعرضين عن التفكر فيه العادمين من جناح النظر قداماه وخوافيه بل خلقته مشتملا على حكم جليلة منتظما لمصالح عظيمة تقف الأفكار حسرى دون الإحاطة بها وتكل أقدام الأذهان دون الوقوف عليها بأسرها، ومن جملتها أن يكون مدارا لمعايش العباد ومنارا يرشدهم إلى معرفة أحوال المبدأ والمعاد حسبما نطقت به كتبك وجاءت به رسلك. والجملة بتمامها في حيز النصب بقول مقدر أي يقولون «ربنا» إلخ، وجملة القول حال من المستكن في يَتَفَكَّرُونَ أي يتفكرون في ذلك قائلين رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا، وإلى هذا ذهب عامة المفسرين. واعترض بأن النظم الكريم لا يساعده لما أن «ما» في حيز الصلة وما هو قيد له حقه أن يكون من مبادئ الحكم الذي أجري على الموصول ودواعي ثبوته له كذكرهم لله تعالى في عامة أوقاتهم وتفكرهم في خلق السموات والأرض فإنهما مما يؤدي إلى اجتلاء تلك الآيات والاستدلال بها على المطلوب، ولا ريب أن قولهم ذلك ليس من مبادئ الاستدلال المذكور بل من نتائجها المترتبة عليه فاعتباره قيدا لما في حيز الصلة مما لا يليق بشأن التنزيل الجليل، فاللائق أن تكون جملة القول استئنافا مبينا لنتيجة التفكر ومدلول الآيات ناشئا مما سبق فإن النفس عند سماع تخصيص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 الآيات المنصوبة في خلق العالم- بأولي الألباب- ثم وصفهم بذكر الله تعالى والتفكر في مجال تلك الآيات تبقى مترقبة لما يظهر منهم من آثارها وأحكامها كأنه قيل: فماذا يكون عند تفكرهم في ذلك وما يترتب عليه من نتيجة؟ فقيل يقولون كيت وكيت مما ينبئ عن وقوفهم على سر الخلق المؤدي إلى معرفة صدق الرسل وحقية الكتب الناطقة بتفاصيل الأحكام الشرعية وهذا على تقدير كون الموصول موصولا نعتا، لِأُولِي وأما على تقدير كونه مفصولا منصوبا أو مرفوعا على المدح مثلا فتأتي الحالية من ذلك إذ لا اشتباه في أن قولهم هذا من مبادى مدحهم ومحاسن مناقبهم ويكون في إبراز هذا القول في معرض الحال إشعار بمقارنته لتفكرهم من غير تردد وتلعثم في ذلك انتهى، وهو كلام تلوح عليه أمارات التحقيق ومخايل التدقيق. والقول بأن الحالية تجتمع مع كون القول المذكور من النتائج لا يخفى ما فيه، ثم كون هذا القول من نتائج التفكر مما لا يكاد ينكره ذو فكر، وتوضيح ذلك- على رأي- أن القوم لما تفكروا في مخلوقاته سبحانه ولا سيما السموات مع ما فيها من الشمس والقمر والنجوم والأرض وما عليها من البحار والجبال والمعادن عرفوا أن لها ربا وصانعا فقالوا: رَبَّنا ثم لما اعترفوا في أن في كل من ذلك حكما ومقاصد وفوائد لا تحيط بتفاصيل الأفكار قالوا: ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا ثم لما تأملوا وقاسوا أحوال هذه المصنوعات إلى صانعها رأوا أنه لا بدّ وأن يكون الصانع منزها عن مشابهة شيء منها، فإذن هو ليس بجسم ولا عرض ولا في حيز ولا بمفتقر «ولا، ولا ... » فقالوا: سُبْحانَكَ أي تنزيها لك مما لا يليق بك، ثم لما استغرقوا في بحار العظمة والجلال وبلغوا هذا المبلغ الأعظم وتحققوا أن من قدر على ما ذكر من الإنشاء بلا مثال يحتذيه أو قانون ينتحيه واتصف بالقدرة الشاملة والحكمة الكاملة كان على إعادة من نطقت الكتب السماوية بإعادته أقدر، وإن ذلك ليس إلا لحكمة باهرة هي جزاء المكلفين بحسب استحقاقهم المنوط بأعمالهم القلبية والقابلية طلبوا النجاة مما يحيق بالمقصرين ويليق بالمخلين فقالوا: فَقِنا عَذابَ النَّارِ أي فوفقنا للعمل بما فهمنا من الدلالة، ومن هنا قيل: إن الفاء لترتب الدعاء بالاستعاذة من النار على ما دل عليه رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا من وجوب الطاعة واجتناب المعصية كأنه قيل: فنحن نطيعك فَقِنا عَذابَ النَّارِ التي هي جزاء من عصاك، وسُبْحانَكَ مصدر منصوب بفعل محذوف، والجملة معترضة لتقوية الكلام وتأكيده، ولا ينافي ذلك كونها مؤكدة لنفي العبث عن خلقه. وبعضهم قال بهذا التأكيد ولم يقل بالاعتراض، وجعل ما بعد الفاء مترتبا على التنزيه المدلول عليه «بسبحانك» وادعى أنه أظهر لاندراج تنزهه تعالى عن ردّ سؤال الخاضعين الملتجئين إليه فيه، ولا يخفى تفرع المسألة على التنزيه عن خيبة رجاء الراجين، وقيل: إنه جواب شرط مقدر وإن التقدير إذا نزهناك أو وحدناك فَقِنا عَذابَ النَّارِ الذي هو جزاء الذين لم ينزهوا أو لم يوحدوا، واستدل الطبرسي بالآية على أن الكفر والضلال والقبائح ليست خلقا لله تعالى لأن هذه الأشياء كلها باطلة بالإجماع وقد نفى الله سبحانه ذلك حكاية عن أولي الألباب الذين رضي قولهم بأنه لا باطل فيما خلقه سبحانه فيجب بذلك القطع بأن القبائح كلها ليست مضافة إليه عز شأنه ومنفية عنه خلقا وإيجادا- وفيه نظر- لأن الأشياء كلها سواء من حيث إنها خلق الله تعالى ومشتملة على المصالح والحكم كما ينبئ عن ذلك قوله تعالى: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: 50] وتفاوتها إنما هو باعتبار نسبة بعضها إلى بعض وكون بعضها متعلق الأمر والبعض الآخر متعلق النهي مثلا لا باعتبار كون البعض مشتملا على الحكمة والبعض الآخر عاريا عنها، فالقبائح من حيث إنها خلق الله تعالى ليست باطلة لأن الباطل كما علمت هو ما لا فائدة فيه مطلقا، أو ما لا فائدة فيه يعتد بها أو ما لا يقصد به فائدة وهي ليست كذلك لاشتمالها في أنفسها على الحكم والفوائد الجمة التي لا يبعد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 قصد الله تعالى لها مع غناه الذاتي عنها ولا يشترط كون تلك الفوائد لمن صدرت على يده وإلا لزم خلو كثير من مخلوقاته تعالى عن الفوائد، وتسميتها قبائح إنما هي باعتبار كونها متعلق النهي لحكمة أيضا وهو لا يستدعي كونها خالية عن الحكمة بل قصارى ذلك إنه يستلزم عدم رضاه سبحانه بها شرعا المستدعي ذلك للعقاب عليها بسبب أن إفاضتها كانت حسب الاستعداد الأزلي فدعوى- أن هذه الأشياء كلها باطلة- كدعوى الإجماع على ذلك وكأن القائل لم يفهم معنى الباطل فقال ما قال، واستدل بها بعضهم أيضا على أن أفعال الله تعالى معللة بالأغراض وهو مبني ظاهرا على أن الباطل العبث بالمعنى الثالث، وقد علمت أن معنى العبث ليس محصورا فيه وبفرض الحصر لا بأس بهذا القول على ما ذهب كثير من المحققين لكن مع القول بالغنى الذاتي وعدم الاستكمال بالغير كما أشرنا إليه في البقرة، واحتج حكماء الإسلام بها على أنه سبحانه وتعالى خلق الأفلاك والكواكب وأودع فيها قوى مخصوصة وجعلها بحيث يحصل من حركاتها واتصال بعضها ببعض مصالح في هذا العالم لأنها لو لم تكن كذلك لكانت باطلة ولا يمكن أن تقصر منافعها على الاستدلال بها على الصانع فقط لأن كل ذرة من ذرات الماء والهواء يشاركها في ذلك فلا تبقى لخصوصياتها فائدة وهو خلاف النص، وناقشها المتكلمون في ذلك بأنه يجوز أن تكون الفلكيات أسبابا عادية للأرضيات لا حقيقية وأن التأثير عندها لا بها ويكفي ذلك فائدة لخلقها. وأنت تعلم أن القول بإيداع القوى في الفلكيات بل وفي جميع الأسباب مع القول بأنها مؤثرة بإذن الله تعالى مما لا بأس به بل هو المذهب المنصور الذي درج عليه سلف الأمة وحققناه فيما قبل وهو لا ينافي استناد الكل إلى مسبب ولا يزاحم جريان الأمور كلها بقضائه وقدره تعالى شأنه، نعم القول بأن الفلكيات ونحوها مؤثرة بنفسها ولو لم يأذن الله تعالى ضلال واعتقاده كفر، وعلى ذلك يخرج ما وقع في الخبر «من قال: أمطرنا بنوء كذا فهو كافر بالله تعالى مؤمن بالكوكب» ، ومن قال: أمطرنا بفضل الله تعالى فهو مؤمن بالله تعالى كافر بالكوكب فليحفظ رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ مبالغة في استدعاء الوقاية من النار وبيان لسببه، وصدرت الجملة بالنداء مبالغة في التضرع إلى معود الإحسان كما يشعر به لفظ الرب، وعن ابن عباس أنه كان يقول: اسم الله تعالى الأكبر رب رب، والتأكيد بأن الإظهار كمال اليقين بمضمون الجملة، والإيذان بشدّة الخوف ووضع الظاهر موضع الضمير للتهويل، وذكر الإدخال في مورد العذاب لتعيين كيفيته وتبيين غاية فظاعته والإخزاء- كما قال الواحدي- جاء لمعان متقاربة فعن الزجاج يقال: أخزى الله تعالى العدو أي أبعده، وقيل: أهانه، وقيل: فضحه، وقيل: أهلكه، ونقل هذا عن المفضل، وقيل: أحله محلا وأوقفه موقفا يستحى منه. وقال ابن الأنباري: الخزي في اللغة الهلاك بتلف أو بانقطاع حجة أو بوقوع في بلاء، والمراد فقد أخزيته خزيا لا غاية وراءه، ومن القواعد المقررة أنه إذا جعل الجزاء أمرا ظاهر اللزوم للشرط سواء كان اللزوم بالعموم والخصوص كما في قولهم: من أدرك مرعى الصمان فقد أدرك، أو بالاستلزام كما في هذه الآية يحمل على أعظم أفراده وأخصها لتربية الفائدة، ولهذا قيد الخزي بما قيد، واحتج حكماء الإسلام بهذه الآية على أن العذاب الروحاني أقوى من العذاب الجسماني وذلك لأنه رتب فيها العذاب الروحاني وهو الإخزاء بناء على أنه الإهانة والتخجيل على الجسماني الذي هو إدخال النار، وجعل الثاني شرطا والأول جزاء، والمراد من الجملة الشرطية الجزاء والشرط قيد له فيشعر بأنه أقوى وأفظع وإلا لعكس- كما قال الإمام الرازي- وأيضا المفهوم من قوله تعالى: فَقِنا عَذابَ النَّارِ طلب الوقاية منه، وقوله سبحانه: رَبَّنا إلخ دليل عليه فكأنه طلب الوقاية من المذكور لترتب الخزي عليه فيدل على أنه غاية يخاف منه- كما قاله بعض المحققين- واحتج بها المعتزلة على أن صاحب الكبيرة ليس بمؤمن لأنه إذا أدخله الله تعالى النار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 فقد أخزاه والمؤمن لا يخزى لقوله تعالى: يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [التحريم: 8] وأجيب بأنه لا يلزم من أن لا يكون من آمن مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مخزيا أن لا يكون غيره وهو مؤمن كذلك، وأيضا الآية ليست عامة لقوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا [مريم: 71] فتحمل على من أدخل النار للخلود وهم الكفار، وهو المروي عن أنس وسعيد بن المسيب وقتادة وابن جرير. وأيضا يمكن أن يقال: إن كل من يدخلها مخزي حال دخوله وإن كانت عاقبة أهل الكبائر منهم الخروج، وقوله تعالى: يَوْمَ لا يُخْزِي إلخ نفي الخزي فيه على الإطلاق والمطلق يكفي في صدقه صورة واحدة وهو نفي الخزي المخلد، وأيضا يحتمل أن يقال: الإخزاء مشترك بين التخجيل والإهلاك والمثبت هو الأول والمنفي هو الثاني، وحينئذ لا يلزم التنافي، واحتجت المرجئة بها على أن صاحب الكبيرة لا يدخل النار لأنه مؤمن لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى [البقرة: 178] وقوله سبحانه: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات: 9] والمؤمن لا يخزى لقوله تعالى: يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ إلخ والمدخل في النار مخزي لهذه الآية، وأجيب بمنع المقدمات بأسرها أما الأولى فباحتمال أن لا يسمى بعد القتل مؤمنا وإن كان قبل مؤمنا، وأما الأخريان فبخصوص المحمول وجزئية الموضوع كما تقرر آنفا وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ أي ليس لكل منهم ناصر ينصره مما هو فيه، والجملة تذييل لإظهار فظاعة حالهم، وفيه تأكيد للاستدعاء ووضع الظالمين موضع ضمير المدخلين لذمهم والإشعار بتعليل دخولهم النار بظلمهم، وتمسكت المعتزلة بنفي الأنصار على نفي الشفاعة لسائر المدخلين، وأجيب بأن الظالم على الإطلاق هو الكافر لقوله تعالى: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة: 254] ، وقيل: نفي الناصر لا يمنع نفي الشفيع لأن النصر دفع بقوة والشفاعة تخليص بخضوع وتضرع وله وجه، والقول: بأن العرف لا يساعده غير متجه. وقال في الكشف: الظاهر من الآية أن من دخل النار لا ناصر له من دخولها أما إنه لا ناصر له من الخروج بعد الدخول فلا، وذلك لأنه عام في نفي الأفراد مهمل بحسب الأوقات، والظاهر التقييد بما يطلب النصر أولا لأجله كمن أخذ يعاقب فقلت: ما له من ناصر لم يفهم منه أن العقاب لا ينتهي بنفسه وأنه بعد العقاب لم يشفع بل فهم منه لم يمنعه أحد مما حل به، ثم إن سلم التساوي لم يدل على النفي وأجاب غير واحد على تقدير عموم الظالم، وعدم الفرق بين النصر والشفاعة بأن الأدلة الدالة على الشفاعة- وهي أكثر من أن تحصى- مخصصة للعموم، وقد تقدم ما ينفعك هنا رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ على معنى القول أيضا وهو كما قال شيخ الإسلام: حكاية لدعاء آخر مبني على تأملهم في الدليل السمعي بعد حكاية دعائهم السابق المبني على تفكرهم في الأدلة القطعية، ولا يخفى أن ذلك التفكر مستدع في الجملة لهذا القول، وفي تصدير مقدمة الدعاء بالنداء إشارة إلى كمال توجههم إلى مولاهم وعدم غفلتهم عنه مع إظهار كمال الضراعة والابتهال إلى معوّد الإحسان والإفضال، وفي التأكيد إيذان بصدور ذلك عنهم بفور الرغبة ومزيد العناية وكمال النشاط، والمراد بالمنادى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو المروي عن ابن مسعود وابن عباس وابن جريج- واختاره الجبائي وغيره. وقيل: المراد به القرآن، وهو المحكي عن محمد بن كعب القرظي وقتادة، واختاره الطبري معللا ذلك بأنه ليس يسمع كل واحد النبي صلّى الله عليه وسلم ولا يراه، والقرآن ظاهر باق على ممر الأيام والدهور يسمعه من أدرك عصر نزوله ومن لم يدرك، ولأهل القول الأول أن يقولوا: من بلغه بعثة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم ودعوته جاز له أن يقول: سَمِعْنا مُنادِياً وإن كان فيه ضرب من التجوز، وأيضا المراد بالنداء الدعاء ونسبته إليه صلى الله تعالى عليه وسلم أشهر وأظهر، فقد قال تعالى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ [النحل: 125] أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ [يوسف: 108] وَداعِياً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 إِلَى اللَّهِ [الأحزاب: 46] وهي إليه عليه الصلاة والسلام حقيقة، وإلى القرآن على حد قوله: تناديك أجداث وهن صموت ... وسكانها تحت التراب سكوت والتنوين في المنادى للتفخيم وإيثاره على الداعي للإشارة إلى كمال اعتنائه بشأن الدعوة وتبليغها إلى القريب والبعيد لما فيه من الإيذان برفع الصوت، وقد كان شأنه الرفيع صلّى الله عليه وسلم في الخطب ذلك الرفع حقيقة، ففي الخبر كان صلى الله تعالى عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم. ولما كان النداء مخصوصا بما يؤدي له ومنتهيا إليه تعدي باللام وإلى تارة، وتارة فاللام في للإيمان على ظاهرها ولا حاجة إلى جعلها بمعنى إلى أو الباء، ولا إلى جعلها بمعنى العلة- كما ذهب إليه البعض- وجملة يُنادِي في موضع المفعول الثاني- لسمع- على ما ذهب إليه الأخفش وكثير من النحاة من تعدي- سمع- هذه إلى مفعولين ولا حذف في الكلام، وذهب الجمهور إلى أنها لا تتعدى إلا إلى واحد، واختاره ابن الحاجب قال في أماليه: وقد يتوهم أن السماع متعد إلى مفعولين من جهة المعنى والاستعمال، أما المعنى فلتوقفه على مسموع، وأما الاستعمال فلقولهم: سمعت زيدا يقول ذلك وسمعته قائلا، قوله تعالى: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ [الشعراء: 72] ولا وجه له لأنه يكفي في تعلقه المسموع دون المسموع منه، وإنما المسموع منه كالمشموم منه فكما أن الشم لا يتعدى إلا إلى واحد فكذلك السماع فهو مما حذف فيه المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه للعلم به ويذكر بعده حال تبينه ويقدر في «يسمعونكم إذ تدعون» يسمعون أصواتكم انتهى، والزمخشري جعل المسموع صفة بعد النكرة وحالا بعد المعرفة وهو الظاهر، وادعى بعض المحققين أن الأوفق فيما جعله حالا أو وصفا أن يجعل بدلا بتأويل الفعل بالمصدر على ما يراه بعض النحاة لكنه قليل في الاستعمال فلذا أوثرت الوصفية أو الحالية. وزعم بعضهم أن السماع إذا وقع على غير الصوت فلا بدّ أن يذكر بعده فعل مضارع يدل على الصوت ولا يجوز غيره- وهو غير صحيح- لوقوع الظرف واسم الفاعل كما سمعته، وفي تعليق السماع بالذات مبالغة في تحقيقه، والإيذان بوقوعه بلا واسطة عند صدور المسموع عن المتكلم، وفي إطلاق المنادي أولا حيث قال سبحانه: مُنادِياً ولم يذكر ما دعى له، ثم قوله عز شأنه بعد: يُنادِي لِلْإِيمانِ ما لا يخفى من التعظيم لشأن المنادي والمنادى له، ولو قيل من أول الأمر مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ لم يكن بهذه المثابة، وحذف المفعول الصريح- لينادي- إيذانا بالعموم أي ينادي كل واحد أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ أي أن آمنوا به على أن أَنْ تفسيرية، أو بأن آمنوا- على أنها مصدرية، وعلى الأول فآمنوا تفسير لينادي لأن نداءه عين قوله: آمِنُوا والتقدير يُنادِي لِلْإِيمانِ أي يقول: آمِنُوا وليس تفسيرا للإيمان كما توهم، وعلى الثاني يكون- بأن آمنوا- متعلقا ب يُنادِي لأنه المنادى به وليس بدلا من الإيمان- كما زعمه البعض- ومن المحققين من اقتصر على احتمال المصدرية لما أن كثيرا من النحاة يأبى التفسيرية لما فيها من التكلف، ومن اختارها قال: إن المصدرية تستدعي التأويل بالمصدر وهو مفوّت لمعنى الطلب المقصود من الكلام. وأجيب بأنه يقدر الطلب في التأويل إذا كانت داخلة على الأمر وكذا يقدر ما يناسب الماضي والمستقبل إذا كانت داخلة عليهما، ولا ينبغي أن يجعل الحاصل من الكل بمجرد معنى المصدر لئلا يفوت المقصود من الأمر وأخويه، وفي التعرض لعنوان الربوبية إشارة إلى بعض الأدلة عليه سبحانه وتعالى ورمز إلى نعمته جل وعلا على المخاطبين ليذكروها فيسارعوا إلى امتثال الأمر، وفي إطلاق الإيمان ثم تقييده تفخيم لشأنه فَآمَنَّا عطف على سَمِعْنا والعطف بالفاء مؤذن بتعجيل القبول وتسبب الإيمان عن السماع من غير مهلة، والمعنى فآمنا بربنا لما دعينا إلى ذلك، قال أبو منصور: فيه دليل على بطلان الاستثناء في الإيمان ولا يخفى بعده رَبَّنا تكرير- كما قيل- الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 للتضرع وإظهار لكمال الخضوع وعرض للاعتراف بربوبيته تعالى مع الإيمان به فَاغْفِرْ لَنا مرتب على الإيمان به تعالى والإقرار بربوبيته كما تدل عليه الفاء أي فاستر لنا ذُنُوبَنا أي كبائرنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا أي صغائرنا، وقيل: المراد من الذنوب ما تقدم من المعاصي، ومن السيئات ما تأخر منها، وقيل: الأول ما أتى به الإنسان مع العلم بكونه معصية، والثاني ما أتى به من الجهل بذلك، والأول هو التفسير المأثور عن ابن عباس. وأيد بأنه المناسب للغة لأن الذنب مأخوذ من الذنب بمعنى الذيل، فاستعمل فيما تستوخم عاقبته وهو الكبيرة لما يعقبها من الإثم العظيم، ولذلك تسمى تبعة اعتبارا بما يتبعها من العقاب كما صرح به الراغب، وأما السيئة فمن السوء وهو المستقبح ولذلك تقابل بالحسنة فتكون أخف، وتأييده بأن الغفران مختص بفعل الله تعالى والتكفير قد يستعمل في فعل العبد- كما يقال: كفر عن يمينه- وهو يقتضي أن يكون الثاني أخف من الأول على تحمل ما فيه إنما يقتضي مجرد الأخفية، وأما كون الأول الكبائر والثاني الصغائر بالمعنى المراد فلا يجوز يراد بالأول والثاني ما ذكر في القول الثالث، فإن الأخفية وعدمها فيه مما لا سترة عليه كما لا يخفى، ثم المفهوم من كثير من عبارات اللغويين عدم الفرق بين الغفران والتكفير بل صرح بعضهم بأن معناهما واحد. وقيل: في التكفير معنى زائد وهو التغطية للأمن من الفضيحة، وقيل: إنه كثيرا ما يعتبر فيه معنى الإذهاب والإزالة ولهذا يعدى بعن والغفران ليس كذلك، وفي ذكر لَنا وعَنَّا في الآية مع أنه لو قيل: فاغفر ذنوبنا وكفر سيئاتنا لأفاد المقصود إيماء إلى وفور الرغبة في هذين الأمرين، وادعى بعضهم أن الدعاء الأول متضمن للدعاء بتوفيق الله تعالى للتوبة لأنه السبب لمغفرة الكبائر وأن الدعاء الثاني متضمن لطلب التوفيق منه سبحانه للاجتناب عن الكبائر لأنه السبب لتكفير الصغائر، وأنت تعلم أن المغفرة غير مشروطة بالتوبة عند الأشاعرة. وأن بعضهم احتج بهذه الآية على ذلك حيث إنهم طلبوا المغفرة بدون ذكر التوبة بل بدون التوبة بدلالة فاء التعقيب كذا قيل، وسيأتي تحقيق ما فيه فتدبر وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ أي مخصوصين بالانخراط في سلكهم والعدّ من زمرتهم ولا مجال لكون المعية زمانية إذ منهم من مات قبل، ومن يموت بعد، وفي طلبهم التوفي وإسنادهم له إلى الله تعالى إشعار بأنهم يحبون لقاء الله تعالى ومن أحب لقاء الله تعالى أحب الله تعالى لقاءه. والأبرار جمع برّ كأرباب جمع رب، وقيل: جمع بارّ كأصحاب جمع صاحب، وضعف بأن فاعلا لا يجمع على أفعال، وأصحاب جمع صحب بالسكون، أو صحب بالكسر مخفف صاحب بحذف الألف. وبعض أهل العربية أثبته وجعله نادرا، ونكتة قولهم مع الْأَبْرارِ دون أبرار التذلل، وأن المراد لسنا بأبرار فاسلكنا معهم واجعلنا من أتباعهم، وفي الكشف إن في ذلك هضما للنفس وحسن أدب مع إدماج مبالغة لأنه من باب- هو من العلماء- بدل عالم رَبَّنا وَآتِنا أي بعد التوفي ما وَعَدْتَنا أي به أو إياه، والمراد بذلك الثواب عَلى رُسُلِكَ إما متعلق بالوعد، أو بمحذوف وقع صفة لمصدر مؤكد محذوف وعلى التقديرين في الكلام مضاف محذوف والتقدير على التقدير الأول، وعدتنا على تصديق أو امتثال رسلك وهو كما يقال- وعد الله تعالى الجنة على الطاعة، وعلى الثاني وعدتنا وعدا كائنا على ألسنة رسلك، ويجوز أن يتعلق الجار على تقدير الألسنة بالوعد أيضا فتخف مؤنة الحذف وتعلقه- بآتنا- كما جوزه أبو البقاء خلاف الظاهر. وبعض المحققين جوز التعلق بكون مقيد هو حال من ما أي منزلا أو محمولا عَلى رُسُلِكَ. واعترضه أبو حيان بأن القاعدة أن متعلق الظرف إذا كان كونا مقيدا لا يجوز حذفه وإنما يحذف إذا كان كونا مطلقا، وأيضا الظرف هنا حال وهو إذا وقع حالا أو خبرا أو صفة يتعلق بكون مطلق لا مقيد، وأجيب بمنع انحصار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 التعلق في كون مطلق بل يجوز التعلق به أو بمقيد، ويجوز حذفه إذا كان عليه دليل ولا يخفى متانة الجواب، وأن إنكار أبي حيان ليس بشيء إلا أن تقدير كون مقيد فيما نحن فيه تعسف مستغنى عنه. وزعم بعضهم جواز كون عَلى بمعنى مع، وأنه متعلق- بآتنا- ولا حذف لشيء أصلا والمراد- آتنا مع رسلك وشاركهم معنا في أجرنا- فإن الدال على الخير كفاعله، وفائدة طلب تشريكهم معهم أداء حقهم وتكثير فضيلتهم ببركة مشاركتهم ولا يخفى أن هذا مما لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى الجليل عليه بل ولا كلام أحد من فصحاء العرب، وتكرير النداء لما مرّ غير مرة وجمع الرسل مع أن المنادي هو واحد الآحاد صلّى الله عليه وسلم وحده لما أن دعوته ولا سيما على منبر التوحيد، وما أجمع عليه الكل من الشرائع منطوية على دعوة الكل فتصديقه صلّى الله عليه وسلم تصديق لهم عليهم السلام، وكذا الموعود على لسانه عليه الصلاة والسلام من الثواب موعود على لسانهم وإيثار الجمع على الأول لإظهار الرغبة في تيار فضل الله تعالى إذ من المعلوم أن الثواب على تصديق رسل أعظم من الثواب على تصديق رسول واحد، وعلى الثاني لإظهار كمال الثقة بإنجار الموعود بناء على كثرة الشهود وتأخير هذا الدعاء بناء على ما ذكرنا في تفسير الموصول، ويكاد يكون مقطوعا به ظاهرا لأن الأمر أخروي. وأما إذا فسر بالنصر على الأعداء- كما قيل- فتأخيره عما قبله إما لأنه من باب التحلية والآخر من باب التخلية والتحلية متأخرة عن التخلية، وإما لأن الأول مما يترتب على تحققه النجاة في العقبى وعلى عدمه الهلاك فيها والثاني ليس كذلك- كما لا يخفى- فيكون دونه فلهذا أخر عنه، وأيد كون المراد النصر لا الثواب الأخروي تعقيب ذلك بقوله تعالى: وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ لأن طلب الثواب يغني عن هذا الدعاء لأن الثواب متى حصل كان الخزي عنهم بمراحل، وهذا بخلاف ما إذا كان المراد من الأول الدعاء بالنصر في الدنيا فإن عدم الإغناء عليه ظاهر بل في الجمع بين الدعاءين حينئذ لطافة إذ مآل الأول لا تُخْزِنا في الدنيا بغلبة العدو علينا فكأنهم قالوا: لا تخزنا في الدنيا ولا تخزنا في الآخرة، وغايروا في التعبير فعبروا في طلب كل من الأمرين بعبارة للاختلاف بين المطلوبين أنفسهما، وأجيب بأن فائدة التعقيب على ذلك التقدير الإشارة إلى أنهم طلبوا ثوابا كاملا لم يتقدمه خزي ووقوع في بلاء وكأنهم لما طلبوا ما هو المتمنى الأعظم وغاية ما يرجوه الراجون في ذلك اليوم الأيوم، وهو الثواب التفتوا إلى طلب ما يعظم به أمره ويرتفع به في ذلك لموقف قدره وهو ترك العذاب بالمرة، وفي الجمع بين الأمرين على هذا من اللطف ما لا يخفى، وأيضا يحتمل أن يقال: إنهم طلبوا الثواب أولا باعتبار أنه يندفع به العذاب الجسماني، ثم طلبوا دفع العذاب الروحاني بناء على أن الخزي الإهانة والتخجيل، فيكون في الكلام ترق من الأدنى إلى الأعلى كأنهم قالوا: ربنا ادفع عنا العذاب الجسماني وادفع عنا ما هو أشدّ منه وهو العذاب الروحاني، وإن أنت أبيت هذا وذاك وادعيت التلازم بين الثواب وترك الخزي فلنا أن نقول: إن القوم لمزيد حرصهم وفرط رغبتهم في النجاة في ذلك اليوم الذي تظهر فيه الأهوال وتشيب فيه الأطفال لم يكتفوا بأحد الدعاءين وإن استلزم الآخر بل جمعوا بينهما ليكون ذلك من الإلحاح- والله تعالى يحب الملحين في الدعاء- فهو أقرب إلى الإجابة، وقدموا الأول لأنه أوفق بما قبله صيغة، ومن الناس من يؤول هذا الدعاء بأنه طلب العصمة عما يقتضي الإخزاء، وجعل ختم الأدعية ليكون ختامها مسكا لأن المطلوب فيه أمر عظيم، والظرف متعلق بما عنده معنى ولفظا ويجب ذلك قطعا إن كان الكلام مؤولا، أو كان الموصول عبارة عن النصر، ويترجح- بل يكاد يجب أيضا- إذا كان الموصول عبارة عن الثواب واحتمال أنه مما تنازع فيه آتِنا وَلا تُخْزِنا على ذلك التقدير هو كما ترى إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ تذييل لتحقيق ما نظموا في سلك الدعاء، وقيل: متعلق بما قبل الأخير اللازم له، وإليه يشير كلام الأجهوري، والْمِيعادَ مصدر ميمي بمعنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 الوعد، وقيده الكثير هنا بالإثابة والإجابة. وهو الظاهر، وأما تفسيره بالبعث بعد الموت- كما روي عن ابن عباس- فصحيح لأنه ميعاد الناس للجزاء، وقد يرجع إلى الأول وترك العطف في هذه الأدعية المفتتحة بالنداء بعنوان الربوبية للإيذان باستقلال المطالب وعلو شأنها، وقد أشرنا إلى سر تكرار النداء بذلك الاسم، وفي بعض الآثار أن موسى عليه السلام قال مرة: يا رب فأجابه الله تعالى لبيك يا موسى فعجب موسى عليه السلام من ذلك فقال: يا رب أهذا لي خاصة؟ فقال: لا ولكن لكل من يدعوني بالربوبية، وعن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه من أحزنه أمر فقال: ربنا ربنا خمس مرات نجاه الله تعالى مما يخاف وأعطاه ما أراد- وقرأ هذه الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء قال: «ما من عبد يقول يا رب ثلاث مرات إلا نظر الله تعالى إليه. فذكر للحسن فقال: أما تقرأ القرآن رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً إلخ «فإن قلت» إن وعد الله تعالى واجب الوقوع لاستحالة الخلف في وعده سبحانه إجماعا فكيف طلب القوم ما هو واقع لا محالة؟ «قلت» أجيب بأن وعد الله تعالى لهم ليس بحسب ذواتهم بل بحسب أعمالهم، فالمقصود من الدعاء التوفيق للأعمال التي يصيرون بها أهلا لحصول الموعود، أو المقصود مجرد الاستكانة والتذلل لله تعالى بدليل قولهم: إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ وبهذا يلتئم التذييل أتم التئام، واختار هذا الجبائي وعلي بن عيسى، أو الدعاء تعبدي لقوله سبحانه: ادْعُونِي [غافر: 60] فلا يضر كونه متعلقا بواجب الوقوع، وما يستحيل خلافه، ومن ذلك رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ [الأنبياء: 112] وقيل: إن الموعود به هو النصر لا غير، والقوم قد علموا ذلك لكنهم لم يوقت لهم في الوعد ليعلموه فرغبوا إلى الله تعالى في تعجيل ذلك لما فيه من السرور بالظفر، فالموعود غير مسؤول والمسئول غير موعود، فلا إشكال- وإلى هذا ذهب الطبري- وقال: إن الآية مختصة بمن هاجر من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم واستبطؤوا النصر على أعدائهم بعد أن وعدوا به وقالوا: لا صبر لنا على أناتك وحلمك، وقوي بما بعد من الآيات وكلام أبي القاسم البلخي يشير إلى هذا أيضا وفيه كلام يعلم مما قدمنا، وقيل: ليس هناك دعاء حقيقة بل الكلام مخرّج مخرج المسألة- والمراد منه الخبر- ولا يخفى أنه بمعزل عن التحقيق، ويزيده وهنا على وهن قوله سبحانه فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ الاستجابة الإجابة، ونقل عن الفراء أن الإجابة تطلق على الجواب ولو بالرد، والاستجابة الجواب بحصول المراد لأن زيادة السين تدل عليه إذ هو لطلب الجواب، والمطلوب ما يوافق المراد لا ما يخالفه وتتعدى باللام وهو الشائع، وقد تتعدى بنفسها كما في قوله: وداع دعا يا من يجيب إلى الندا ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب وهذا كما قال الشهاب وغيره: في التعدية إلى الداعي وأما إلى الدعاء فشائع بدون اللام مثل استجاب الله تعالى دعاءه، ولهذا قيل: إن هذا البيت على حذف مضاف أي لم يستحب دعاءه، والفاء للعطف وما بعده معطوف إما على الاستئناف المقدر في قوله سبحانه: رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا ولا ضير في اختلافهما صيغة لما أن صيغة المستقبل هناك للدلالة على الاستمرار المناسب لمقام الدعاء، وصيغة الماضي هنا للإيذان بتحقيق الاستجابة وتقررها، ويجوز أن يكون معطوفا على مقدر ينساق إليه الذهن أي دعوا بهذه الأدعية فَاسْتَجابَ لَهُمْ إلخ، وإن قدر ذلك القول المقدر حالا فهو عطف على يَتَفَكَّرُونَ باعتبار مقارنته لما وقع حالا من فاعله أعني قوله سبحانه: رَبَّنا إلخ، فإن الاستجابة مترتبة على دعواتهم لا على مجرد تفكرهم، وحيث كانت من أوصافهم الجميلة المترتبة على أعمالهم بالآخرة واستحقت الانتظام في سلك محاسنهم المعدودة في أثناء مدحهم وأما على كون الموصول نعتا لأولي الألباب فلا مساغ لهذا العطف لما عرفت سابقا. وقد أوضح ذلك مولانا شيخ الإسلام. والمشهور العطف على المنساق إلى الذهن وهو المنساق إليه الذهن، وفي ذكر الرب هنا مضافا ما لا يخفى من اللطف. وأخرج الترمذي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 والحاكم وخلق كثير عن أم سلمة قال: قلت: يا رسول الله لا أسمع الله تعالى ذكر النساء في الهجرة بشيء فأنزل الله تعالى فَاسْتَجابَ لَهُمْ إلى آخر الآية، فقالت الأنصار: هي أول ظعينة قدمت علينا. ولعل المراد أنها نزلت تتمة لما قبلها. وأخرج ابن مردويه عنها أنها قالت: آخر آية نزلت هذه الآية فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ أي بأني، وهكذا قرأ أبي، واختلف في تخريجه فخرجه العلامة شيخ الإسلام على أن الباء للسببية كأنه قيل: فَاسْتَجابَ لَهُمْ بسبب أنه لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ منهم أي سنته السنية مستمرة على ذلك وجعل التكلم في أَنِّي والخطاب في مِنْكُمْ من باب الالتفات، النكتة الخاصة فيه إظهار كمال الاعتناء بشأن الاستجابة وتشريف الداعين بشرف الخطاب والتعرض لبيان السبب لتأكيد الاستجابة، والإشعار بأن مدارها أعمالهم التي قدموها على الدعاء لا مجرد الدعاء. وقال بعض المحققين: إنها صلة لمحذوف وقع حالا إما من فاعل فَاسْتَجابَ أو من الضمير المجرور في لَهُمْ والتقدير مخاطبا لهم بأني، أو مخاطبين بأني إلخ، وقيل: إنها متعلقة باستجاب لأن فيها معنى القول- وهو مذهب الكوفيين- ويؤيد القولين أنه قرئ «إني» بكسر الهمزة وفيها يتعين إرادة القول وموقعه الحال أي قائلا إني أو مقولا لهم «إني» إلخ، وتوافق القراءتين خير من تخالفهما، وهذا التوافق ظاهر على ما ذهب إليه البعض وصاحب القيل وإن اختلف فيهما شدة وضعفا، وأما على ما ذكره العلامة فالظهور لا يكاد يظهر على أنه في نفسه غير ظاهر كما لا يخفى، وقرئ «لا أضيّع» بالتشديد، وفي التعرض لوعد العاملين على العموم مع الرمز إلى وعيد المعرضين غاية اللطف بحال هؤلاء الداعين لا سيما وقد عبر هناك عن ترك الإثابة بالإضاعة مع أنه ليس بإضاعة حقيقة إذ الأعمال غير موجبة للثواب حتى يلزم من تخلفه عنها إضاعتها ولكن عبر بذلك تأكيدا لأمر الإثابة حتى كأنها واجبة عليه تعالى- كذا قيل- والمشهور أن الإضاعة في الأصل الإهلاك ومثلها التضييع ويقال: ضاع يضيع ضيعة وضياعا بالفتح إذ هلك، واستعملت هنا بمعنى الإبطال أي لا أبطل عمل عامل كائن منكم مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بيان لعامل، وتأكيد لعمومه إما على معنى شخص عامل أو على التغليب. وجوّز أن يكون بدلا من منكم بدل الشيء من الشيء إذ هما لعين واحدة، وأن يكون حالا من الضمير المستكن فيه وقوله تعالى: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ مبتدأ وخبر، ومِنْ إما ابتدائية بتقدير مضاف أي من أصل بعض، أو بدونه لأن الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر، وإما اتصالية والاتصال إما بحسب اتحاد الأصل، أو المراد به الاتصال في الاختلاط، أو التعاون، أو الاتحاد في الدين حتى كأن كل واحد من الآخر لما بينهما من أخوة الإسلام، والجملة مستأنفة معترضة مبينة لسبب انتظام النساء في سلك الدخول مع الرجال في الوعد. وجوز أن تكون حالا أو صفة، وقوله تعالى: فَالَّذِينَ هاجَرُوا ضرب تفصيل لما أجمل في العمل وتعداد لبعض أحاسن أفراده مع المدح والتعظيم. وأصل المهاجرة من الهجرة وهو الترك وأكثر ما تستعمل في المهاجرة من أرض إلى أرض أي ترك الأولى للثانية مطلقا. أو للدين على ما هو الشائع في استعمال الشرع، والمتبادر في الآية هو هذا المعنى وعليه يكون قوله تعالى: وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ عطف تفسير مع الإشارة إلى أن تلك المهاجرة كانت عن قسر واضطرار لأن المشركين آذوهم وظلموهم حتى اضطروا إلى الخروج، ويحتمل أن يكون المراد هاجروا الشرك وتركوه وحينئذ يكون وَأُخْرِجُوا إلخ تأسيسا وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي أي بسبب طاعتي وعبادتي وديني وذلك سبيل الله تعالى، والمراد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 من الإيذاء هو أعم من أن يكون بالإخراج من الديار، أو غير ذلك مما كان يصيب المؤمنين من قبل المشركين وَقاتَلُوا أي الكفار في سبيل الله تعالى وَقُتِلُوا استشهدوا في القتال. وقرأ حمزة والكسائي بالعكس، ولا إشكال فيها لأن الواو لا توجب ترتيبا، وقدم القتل لفضله بالشهادة هذا إذا كان القتل والمقاتلة من شخص واحد، أما إذا كان المراد قتل بعض وقاتل بعض آخر ولم يضعفوا بقتل إخوانهم فاعتبار الترتيب فيها أيضا لا يضر، وصحح هذه الإرادة أن المعنى ليس على اتصاف كل فرد من أفراد الموصول المذكور بكل واحد مما ذكر في حيز الصلة بل على اتصاف الكل بالكل في الجملة سواء كان ذلك باتصاف كل فرد من الموصول بواحد من الأوصاف المذكورة، أو باثنين منها، أو بأكثر فحينئذ يتأتى ما ذكر إما بطريق التوزيع أي منهم الذين قتلوا ومنهم الذين قاتلوا، أو بطريق حذف بعض الموصولات من البين- كما هو رأي الكوفيين- أي والذين قتلوا والذين قاتلوا، ويؤيد كون المعنى على اتصاف الكل بالكل في الجملة أنه لو كان المعنى على اتصاف كل فرد بالكل لكان قد أضيع عمل من اتصف بالبعض مع أن الأمر ليس كذلك، والقول- بأن المراد قتلوا وقد قاتلوا فقد مضمرة، والجملة حالية- مما لا ينبغي أن يخرج عليه الكلام الجليل. وقرأ ابن كثير وابن عامر «قتلوا» بالتشديد للتكثير لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ جواب قسم محذوف أي والله لأكفرن، والجملة القسمية خبر للمبتدأ الذي هو الموصول. وزعم ثعلب أن الجملة لا تقع خبرا ووجهه أن الخبر له محل وجواب القسم لا محل له- وهو الثاني- فإما أن يقال: إن له محلا من جهة الخبرية ولا محل له من جهة الجوابية. أو الذي لا محل له الجواب والخبر مجموع القسم وجوابه. ولا يضر كون الجملة إنشائية لتأويلها بالخبر، أو بتقدير قول كما هو معروف في أمثاله والتكفير في الأصل الستر كما أشرنا إليه فيما مر ولاقتضائه بقاء الشيء المستور- وهو ليس بمراد- فسره هنا بعض المحققين بالمحو، والمراد من محو السيئات محو آثارها من القلب، أو من ديوان الحفظة وإثبات الطاعة مكانها كما قال سبحانه: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ [الفرقان: 70] والمراد من السيئات فيما نحن فيه الصغائر لأنها التي تكفر بالقربات- كما نقله ابن عبد البر عن العلماء- لكن بشرط اجتناب الكبائر كما حكاه ابن عطية عن جمهور أهل السنة، واستدلوا على ذلك بما في الصحيحين من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينها ما اجتنبت الكبائر» . وقالت المعتزلة: إن الصغائر تقع مكفرة بمجرد اجتناب الكبائر ولا دخل للقربات في تكفيرها، واستدلوا عليه بقوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [النساء: 31] ، وحمله الجمهور على معنى نكفر عنكم سيئاتكم بحسناتكم وأوردوا على المعتزلة أنه قد ورد صوم يوم عرفة كفارة سنتين وصوم يوم عاشوراء كفارة سنة ونحو ذلك من الأخبار كثير، فإذا كان مجرد اجتناب الكبائر مكفرا فما الحاجة لمقاساة هذا الصوم مثلا؟ وإنما لم تحمل السيئات على ما يعم الكبائر لأنها لا بد لها من التوبة ولا تكفرها القربات أصلا في المشهور لإجماعهم على أن التوبة فرض على الخاصة والعامة لقوله تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ [النور: 31] ويلزم من تكفير الكبائر بغيرها بطلان فرضيتها وهو خلاف النص. وقال ابن الصلاح في فتاويه قد يكفر بعض القربات- كالصلاة- مثلا بعض الكبائر إذا لم يكن صغيرة، وصرح النووي بأن الطاعات لا تكفر الكبائر لكن قد تخففها، وقال بعضهم: إن القربة تمحو الخطيئة سواء كانت كبيرة أو صغيرة، واستدل عليه بقوله تعالى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود: 114] وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «أتبع السيئات الحسنة تمحها» وفيه بحث إذ الحسنة في الآية والحديث بمعنى التوبة إن أخذت السيئة عامة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 ولا يمكن على ذلك التقدير حملها على الظاهر لما أن السيئة حينئذ تشمل حقوق العباد، والإجماع على أن الحسنات لا تذهبها وإنما تذهبها التوبة بشروطها المعتبرة المعلومة، وأيضا لو أخذ بعموم الحكم لترتب عليه الفساد من عدم خوف في المعاد على أن في سبب النزول ما يرشد إلى تخصيص كل من الحسنة والسيئة. فقد روى الشيخان عن ابن مسعود «أن رجلا أصاب من امرأة قبلة ثم أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فذكر له ذلك فسكت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حتى نزلت الآية فدعاه فقرأها عليه فقال رجل: هذه له خاصة يا رسول الله؟ فقال: بل للناس عامة» ووجه الإرشاد إما إلى تخصيص الحسنة بالتوبة فهو أنه جاءه تائبا وليس في الحديث ما يدل على أنه صدر منه حسنة أخرى، وإما على تخصيص السيئة بالصغيرة فلأن ما وقع منه كان كذلك لأن تقبيل الأجنبية من الصغائر كما صرحوا به، وقال بعض أهل السنة: إن الحسنة تكفر الصغيرة ما لم يصر عليها سواء فعل الكبيرة أم لا. مع القول الأصح بأن التوبة من الصغيرة واجبة أيضا ولو لم يأت بكبيرة لجواز تعذيب الله سبحانه لها خلافا للمعتزلة، وقيل: والواجب الإتيان بالتوبة أو بالتوبة أو بمكفرها من الحسنة- وفي المسألة كلام طويل.. ولعل التوبة إن شاء الله تعالى تفضي إلى إتمامه، وهذا وربما يقال: إن حمل السيئات هنا على ما يعم الكبائر سائغ بناء على أن المهاجرة ترك الشرك وهو إنما يكون بالإسلام والإسلام يجبّ ما قبله، وحينئذ يعتبر في السيئات شبه التوزيع بأن يؤخذ من أنواع مدلولها مع كل وصف ما يناسبه ويكون هذا تصريحا بوعد ما سأله الداعون من غفران الذنوب وتكفير السيئات بالخصوص بعد ما وعد ذلك بالعموم، واعترض بأن هذا على ما فيه مبني على أن الإسلام يجبّ ما قبله مطلقا وفيه خلاف، فقد قال الزركشي: إن الإسلام المقارن للندم إنما يكفر وزر الكفر لا غير، وأما غيره من المعاصي فلا يكفر إلا بتوبة عنه بخصوصه كما ذكره البيهقي، واستدل عليه بقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بالأول ولا بالآخر وإن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر» ولو كان الإسلام يكفر سائر المعاصي لم يؤاخذ بها إذا أسلم، وأجيب بأنه مع اعتبار ما ذكر من شبه التوزيع يهون أمر الخلاف كما لا يخفى على أرباب الإنصاف فتدبر وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إشارة إلى ما عبر عنه الداعون فيما قبل بقولهم وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ على أحد القولين، أو رمز إلى ما سألوه بقولهم وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ على قول الآخر ثَواباً مصدر مؤكد لما قبله لأن معنى الجملة لأثيبنهم بذلك فوضع ثوابا موضع الإثابة وإن كان في الأصل اسما لما يثاب به كالعطاء لما يعطى، وقيل: إنه تمييز أو حال من جنات لوصفها، أو من ضمير المفعول أي مثابا أو مثابين، وقيل: إنه بدل من جنات، وقال الكسائي: إنه منصوب على القطع، وقوله تعالى: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ صفة لثوابا وهو وصف مؤكد لأن الثواب لا يكون إلا من عنده تعالى لكنه صرح به تعظيما للثواب وتفخيما لشأنه، ولا يرد أن المصدر إذا وصف كيف يكون مؤكدا، لما تقرر في موضعه أن الوصف المؤكد لا ينافي كون المصدر مؤكدا. وقيل: إنه متعلق- بثوابا- باعتبار تأويله باسم المفعول، وقوله سبحانه: وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ تذييل مقرر لمضمون ما قبله، والاسم الجليل مبتدأ خبره عِنْدَهُ وحُسْنُ الثَّوابِ مرتفع بالظرف على الفاعلية لاعتماده على المبتدأ، أو هو مبتدأ ثان والظرف خبره، ولجملة خبر المبتدأ الأول، والكلام مخرّج مخرج قول الرجل: عندي ما تريد يريد اختصاصه به وتملكه له، وإن لم يكن عنده فليس معنى عنده حُسْنُ الثَّوابِ أن الثواب بحضرته وبالقرب منه على ما هو حقيقة لفظ عنده، بل مثل هناك كونه بقدرته وفضله بحيث لا يقدر عليه غيره بحال الشيء يكون بحضرة أحد لا يدعيه لغيره، والاختصاص مستفاد من هذا التمثيل حتى لو لم يجعل حُسْنُ الثَّوابِ مبتدأ مؤخرا كان الاختصاص بحاله، وقد أفادت الآية مزيد فضل المهاجرين ورفعة شأنهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ والبيهقي وغيرهم عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: «إن أول ثلاثة يدخلون الجنة لفقراء المهاجرين الذين تتقى بهم المكاره إذا أمروا سمعوا وأطاعوا وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى السلطان لم تقض حتى يموت وهي في صدره. وإن الله تعالى يدعو يوم القيامة الجنة فتأتي بزخرفتها وزينتها فيقول: أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وأوذوا في سبيلي وجاهدوا في سبيلي أدخلوا الجنة فيدخلونها بغير عذاب ولا حساب وتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون: ربنا نحن نسبح لك الليل والنهار ونقدس لك ما هؤلاء الذين آثرتهم علينا؟ فيقول: هؤلاء عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وأوذوا في سبيلي فتدخل الملائكة عليهم من كل باب سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد: 24] . لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ الخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، والمراد منه أمته، وكثيرا ما يخاطب سيد القوم بشيء ويراد أتباعه فيقوم خطابه مقام خطابهم، ويحتمل أن يكون عاما للنبي صلّى الله عليه وسلم وغيره بطريق التغليب تطييبا لقلوب الخاطبين، وقيل: إنه خطاب له عليه الصلاة والسلام على أن المراد تثبيته صلّى الله عليه وسلم على ما هو عليه كقوله تعالى: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ [القلم: 8] وضعف بأنه عليه الصلاة والسلام لا يكون منه تزلزل حتى يؤمر بالثبات- وفيه نظر لا يخفى- والنهي في المعنى للمخاطب أي لا تغتر بما عليه الكفرة من التبسط في المكاسب والمتاجر والمزارع ووفور الحظ، وإنما جعل النهي ظاهرا للتقلب تنزيلا للسبب منزلة المسبب فإن تغرير التقلب للمخاطب سبب واغتراره به مسبب فمنع السبب بورود النهي عليه ليمتنع المسبب الذي هو اغترار المخاطب بذلك السبب على طريق برهاني وهو أبلغ من ورود النهي على المسبب من أول الأمر، قالوا: وهذا على عكس قول القائل: لا أرينك هنا فإن فيه النهي عن المسبب وهو الرؤية ليمتنع السبب وهو حضور المخاطب. وأورد عليه أن الغارية والمغرورية متضايفان، وقد صرحوا بأن القطع والانقطاع ونحو ذلك مثلا متضايفان، وحقق أن المتضايفين لا يصح أن يكون أحدهما سببا للآخر بل هما معا في درجة واحدة، فالأولى أن يقال: علق النهي بكون التقلب غارا ليفيد نهي المخاطب عن الاغترار لأن نفي أحد المتضايفين يستلزم نفي الآخر، ولا يخفى أن هذا مبني على ما لم يقع الإجماع عليه، ولعل النظر الصائب يقضي بخلافه، وفسر الموصول بالمشركين من أهل مكة، فقد ذكر الواحدي أنهم كانوا في رخاء ولين من العيش وكانوا يتجرون ويتنعمون فقال بعض المؤمنين: إن أعداء الله تعالى فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد فنزلت الآية، وبعض فسره باليهود، وحكي أنهم كانوا يضربون في الأرض ويصيبون الأموال والمؤمنون في عناء فنزلت، وإلى ذلك ذهب الفراء، والقول الأول أظهر، وأيّا ما كان فالجملة مسوقة لتسلية المؤمنين وتصبيرهم ببيان قبح ما أوتي الكفرة من حظوظ الدنيا إثر بيان حسن ما سينالونه من الثواب الجزيل والنعيم المقيم، وقرأ يعقوب برواية رويس وزيد لا يَغُرَّنَّكَ بالنون الخفيفة مَتاعٌ قَلِيلٌ خبر مبتدأ محذوف أي هو يعني تقلبهم متاع قليل، وقلته إما باعتبار قصر مدته أو بالقياس إلى ما فاتهم مما أعد الله تعالى للمؤمنين من الثواب، وفيما رواه مسلم مرفوعا «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فينظر بم ترجع» ، وقيل: إن وصف ذلك المتاع بالقلة بالقياس إلى مؤنة السعي وتحمل المشاق فضلا عما يلحقه من الحساب والعقاب في دار الثواب ولا يخفى بعده ثُمَّ مَأْواهُمْ أي مصيرهم الذي يأوون إليه ويستقرون فيه بعد انتقالهم من الأماكن التي يتقلبون فيها. جَهَنَّمُ التي لا يوصف عذابها وَبِئْسَ الْمِهادُ أي بئس ما مهدوا لأنفسهم وفرشوا جهنم، وفيه إشارة إلى مصيرهم إلى تلك الدار مما جنته أنفسهم وكسبته أيديهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها. لكِنِ للاستدراك عند النجاة وهو رفع توهم ناشئ من السابق وعند علماء المعاني لقصر القلب وردّ اعتقاد المخاطب، وتوجيه الآية على الأول أنه لما وصف الكفار بقلة نفع تقلبهم في التجارة وتصرفهم في البلاد لأجلها جاز أن يتوهم متوهم أن التجارة من حيث هي مقتضية لذلك فاستدرك أن المتقين وإن أخذوا في التجارة لا يضرهم ذلك وأن لهم ما وعدوا به أو يقال إنه تعالى لما جعل تمتع المتقلبين قليلا مع سعة حالهم أو هم ذلك أن المسلمين الذين لا يزالون في الجهد والجوع في متاع في كمال القلة فدفع بأن تمتعهم للاتقاء والاجتناب عن الدنيا ولا تمتع من الدنيا فوقه لأنه وسيلة إلى نعمة عظيمة أبدية هي الخلود في الجنات، وعلى الثاني ردّ لاعتقاد الكفرة أنهم متمتعون من الحياة والمؤمنون في خسران عظيم، وعلل بعض المحققين جعل التقوى في حيز الصلة بالإشعار بكون الخصال المذكورة من باب التقوى، والمراد بها الاتقاء عن الشرك والمعاصي، والموصول مبتدأ والظرف خبره، وجَنَّاتٌ مرتفع به على الفاعلية لاعتماده على المبتدأ، أو مرتفع بالابتداء، والظرف خبره، والجملة خبر المبتدأ، وخالِدِينَ حال مقدرة من الضمير المجرور في لَهُمْ أو من جَنَّاتٌ لتخصيصها بجملة الصفة، والعامل ما في الظرف من معنى الاستقرار، وقرأ أبو جعفر «لكنّ» بتشديد النون نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ النزل بضمتين وكذا النزل بضم فسكون ما يعد للضيف أول نزوله من طعام وشراب وصلة، قال الضبي: وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا ... جعلنا القنا والمرهفات له (نزلا) ويستعمل بمعنى الزاد مطلقا، ويكون جمعا بمعنى النازلين كما في قول الأعشى: أو ينزلون فإنا معشر (نزل) وقد جوز ذلك أبو علي في الآية، وكذا يجوز أن يكون مصدرا، قيل: وأصل معنى النزل مفردا الفضل والريع في الطعام، ويستعار للحاصل عن الشيء، ونصبه هنا إما على الحالية من جَنَّاتٌ لتخصيصها بالوصف والعامل فيه ما في الظرف من معنى الاستقرار إن كان بمعنى ما يعد إلخ، وجعل الجنة حينئذ نفسها نُزُلًا من باب التجوز، أو بتقدير مضاف أي ذات نزل، وإما على الحالية من الضمير في خالِدِينَ إن كان جمعا، وإما على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف إن كان مصدرا وهو حينئذ بمعنى النزول أي نزلوها نزلا، وجوز على تقدير مصدريته أن يكون بمعنى المفعول فيكون حالا من الضمير المجرور في فِيها أي منزولة، والظرف صفة نُزُلًا إن لم تجعله جمعا وإن جعلته ففيه- كما قال أبو البقاء- وجهان: أحدهما أنه حال من المفعول المحذوف لأن التقدير نُزُلًا إياها، والثاني أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي ذلك من عند الله أي بفضله، وذهب كثير من العلماء على أن النزل بالمعنى الأول- وعليه تمسك بعضهم بالآية على رؤية الله تعالى لأنه لما كانت الجنة بكليتها نزلا فلا بد من شيء آخر يكون أصلا بالنسبة إليها وليس وراء الله تعالى شيء- وهو كما ترى، نعم فيه حينئذ إشارة إلى أن القوم ضيوف الله تعالى وفي ذلك كمال اللطف بهم وَما عِنْدَ اللَّهِ من الأمور المذكورة الدائمة لكثرته ودوامه خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ مما يتقلب فيه الفجار من المتاع القليل الزائل لقلته وزواله، والتعبير عنهم- بالأبرار- ووضع الظاهر موضع الضمير كما قيل: للإشعار بأن الصفات المعدودة من أعمال البر كما أنها من قبيل التقوى والجملة تذييل، وزعم بعضهم أن هذا مما يحتمل أن يكون إشارة إلى الرؤية لأن فيه إيذانا بمقام العندية والقرب الذي لا يوازيه شيء من نعيم الجنة، والموصول مبتدأ، والظرف صلته، وخَيْرٌ خبره ولِلْأَبْرارِ صفة خَيْرٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 وجوز أن يكون لِلْأَبْرارِ خبرا والنية به التقديم أي والذي عند الله مستقر للأبرار وخَيْرٌ على هذا خبر ثان، وقيل لِلْأَبْرارِ حال من الضمير في الظرف، وخَيْرٌ خبر المبتدأ، وتعقبه أبو البقاء بأنه بعيد لأن فيه الفصل بين المبتدأ والخبر بحال لغيره والفصل بين الحال وصاحب الحال غير المبتدأ وذلك لا يجوز في الاختيار وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ أخرج ابن جرير عن جابر أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال لما مات النجاشي: «اخرجوا فصلوا عن أخ لكم فخرج فصلى بنا فكبر أربع تكبيرات فقال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني لم يره قط» فأنزل الله تعالى هذه الآية. وروي ذلك أيضا عن ابن عباس وأنس وقتادة، وعن عطاء أنها نزلت في أربعين رجلا من أهل نجران من بني الحارث بن كعب اثنين وثلاثين من أرض الحبشة وثمانية من الروم كانوا جميعا على دين عيسى عليه السلام فآمنوا بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وروي عن ابن جريج وابن زيد وابن إسحاق أنها نزلت في جماعة من اليهود أسلموا، منهم عبد الله بن سلام ومن معه، وعن مجاهد أنها نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم، وأشهر الروايات أنها نزلت في النجاشي- وهو بفتح النون على المشهور- كما قال الزركشي. ونقل ابن السيد كسرها- وعليه ابن دحية- وفتح الجيم مخففة- وتشديدها غلط- وآخره ياء ساكنة وهو الأكثر رواية لأنها ليست للنسبة، ونقل ابن الأثير تشديدها، ومنهم من جعله غلطا- وهو لقب كل من ملك الحبشة- واسمه أصحمة- بفتح الهمزة وسكون الصاد المهملة وحاء مهملة- والحبشة يقولونه بالخاء المعجمة، ومعناه عندهم عطية الصنم، وذكر مقاتل في نوادر التفسير أن اسمه مكحول بن صعصعة، والأول هو المشهور، وقد توفي في رجب سنة تسع، والجملة مستأنفة سيقت لبيان أن أهل الكتاب ليس كلهم كمن حكيت صفاتهم من نبذ الميثاق وتحريف الكتاب وغير ذلك، بل منهم من له مناقب جليلة، وفيها أيضا تعريض بالمنافقين الذين هم أقبح أصناف الكفار وبهذا يحصل ربط بين الآية وما قبلها من الآيات، وإذا لاحظت اشتراك هؤلاء مع أولئك المؤمنين فيما عند الله تعالى من الثواب قويت المناسبة وإذا لاحظ أن فيما تقدم مدح المهاجرين وفي هذا مدحا للمهاجرين إليهم من حيث إن الهجرة الأولى كانت إليهم كان المناسبة أقوى، وإذا اعتبر تفسير الموصول في قوله تعالى: لا يَغُرَّنَّكَ باليهود زادت قوة بعد ولام الابتداء داخلة على اسم إن وجاز ذلك لتقدم الخبر وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ من القرآن العظيم الشأن وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من الإنجيل والتوراة أو منهما وتأخير إيمانهم بالقرآن في الذكر مع أن الأمر بالعكس في الوجود لما أن القرآن عيار ومهيمن عليه فإن إيمانهم بذلك إنما يعتبر بتبعية إيمانهم بالقرآن إذ لا عبرة بما في الكتابين من الأحكام المنسوخة وما لم ينسخ إنما يعتبر من حيث ثبوته بالقرآن ولتعلق ما بعد بذلك، وقيل: قدم الإيمان بما أنزل على المؤمنين تعجيلا لإدخال المسرة عليهم، والمراد من الإيمان بالثاني الإيمان به من غير تحريف ولا كتم كما هو شأن المحرفين والكاتمين واتباع كل من العامة خاشِعِينَ لِلَّهِ أي خاضعين له سبحانه، وقال ابن زيد: خائفين متذللين، وقال الحسن: الخشوع الخوف اللازم للقلب من الله تعالى وهو حال من فاعل يُؤْمِنُ وجمع حملا على المعنى بعد ما حمل على اللفظ أولا، وقيل: حال من ضمير إليهم وهو أقرب لفظا فقط، وجيء بالحال تعريضا بالمنافقين الذين يؤمنون خوفا من القتل، ولِلَّهِ متعلق- بخاشعين. وقيل: هو متعلق بالفعل المنفي بعده وهو في نية التأخير كأنه قال سبحانه: لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا لأجل الله تعالى، والأول أولى، وفي هذا النفي تصريح بمخالفتهم للمحرفين، والجملة في موضع الحال أيضا والمعنى لا يأخذون عوضا يسيرا على تحريف الكتاب وكتمان الحق من الرشا والمآكل كما فعله غيره ممن وصفه سبحانه فيما تقدم، ووصف الثمن بالقليل إما لأن كل ما يؤخذ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 على التحريف كذلك ولو كان ملء الخافقين، وإما لمجرد التعريض بالآخذين ومدحهم بما ذكر ليس من حيث عدم الأخذ فقط بل لتضمن ذلك إظهار ما في الآيات من الهدى وشواهد نبوته صلّى الله عليه وسلم. أُولئِكَ أي الموصوفون بما ذكر من الصفات الحميدة، واختيار صيغة البعد لإيذان بعلو مرتبتهم وبعد منزلتهم في الشرف والفضيلة لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي ثواب أعمالهم وأجر طاعتهم والإضافة للعهد أي الأجر المختص بهم الموعود لهم بقوله سبحانه: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ [القصص: 54] وقوله تعالى: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [الحديد: 28] وفي التعبير بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم ما لا يخفى من اللطف وفي الكلام أوجه من الإعراب فقد قالوا: إن أُولئِكَ مبتدأ والظرف خبره وأجرهم مرتفع بالظرف، أو الظرف خبر مقدم، وأَجْرُهُمْ مبتدأ مؤخر، والجملة خبر المبتدأ، وعِنْدَ رَبِّهِمْ نصب على الحالية من أَجْرُهُمْ. وقيل: متعلق به بناء على أن التقدير لهم أن يؤجروا عند ربهم، وجوز أن يكون أَجْرُهُمْ مبتدأ، وعِنْدَ رَبِّهِمْ خبره، «ولهم متعلق بما دل عليه الكلام من الاستقرار والثبوت لأنه في حكم الظرف، والأوجه من هذه الأوجه هو الشائع على ألسنة المعربين إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ إما كناية عن كمال علمه تعالى بمقادير الأجور ومراتب الاستحقاق وإنه يوفيها كل عامل على ما ينبغي وقدر ما ينبغي وحينئذ تكون الجملة استئنافا واردا على سبيل التعليل لقوله تعالى: لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ أو تذييلا لبيان علة الحكم المفاد بما ذكر، وإما كناية عن قرب الأجر الموعود فإن سرعة الحساب تستدعي سرعة الجزاء، وحينئذ تكون الجملة تكميلا لما قبلها فإنه في معنى الوعد كأنه قيل: لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ عن قريب، وفصلت لأن الحكم بقرب الأجر مما يؤكد ثبوته ثم لما بين سبحانه في تضاعيف هذه السورة الكريمة- ما بين من الحكم والأحكام وشرح أحوال المؤمنين والكافرين وما قاساه المؤمنون الكرام من أولئك اللئام من الآلام- ختم السورة بما يضوع منه مسك التمسك بما مضى، ويضيع بامتثال ما فيه مكايد الأعداء ولو ضاق لها الفضا، فقال عز من قائل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا أي احبسوا نفوسكم عن الجزع مما ينالها، والظاهر أن المراد الأمر بما يعم أقسام الصبر الثلاثة المتفاوتة في الدرجة الواردة في الخبر، وهو الصبر على المصيبة والصبر على الطاعة والصبر عن المعصية وَصابِرُوا أي اصبروا على شدائد الحرب مع أعداء الله تعالى صبرا أكثر من صبرهم، وذكره بعد الأمر بالصبر العام لأنه أشدّ فيكون أفضل، فالعطف كعطف جبريل على الملائكة وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [البقرة: 238] عَلَى الصَّلَواتِ [البقرة: 238] وهذا وإن آل إلى الأمر بالجهاد إلا أنه أبلغ منه وَرابِطُوا أي أقيموا في الثغور رابطين خيولكم فيها حابسين لها مترصدين للغزو مستعدين له بالغين في ذلك المبلغ الأوفى أكثر من أعدائكم، والمرابطة أيضا نوع من الصبر، فالعطف هنا كالعطف السابق. وقد أخرج الشيخان عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها» وأخرج ابن ماجه بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «من مات مرابطا في سبيل الله تعالى أجري عليه أجر عمله الصالح الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن من الفتان وبعثه الله تعالى آمنا من الفزع» ، وأخرج الطبراني بسند لا بأس به عن جابر قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «من رابط يوما في سبيل الله تعالى جعل الله تعالى بينه وبين النار سبع خنادق كل خندق كسبع سموات وسبع أرضين» ، وأخرج أبو الشيخ عن أنس مرفوعا «الصلاة بأرض الرباط بألف ألفي صلاة» . وروي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن الرباط أفضل من الجهاد لأنه حقن دماء المسلمين والجهاد سفك دماء المشركين وَاتَّقُوا اللَّهَ في مخالفة أمره على الإطلاق فيندرج فيه جميع ما مرّ اندراجا أوليا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لكي تظفروا وتفوزا بنيل المنية ودرك البغية والوصول إلى النجح في الطلبة وذلك حقيقة الفلاح، وهذه الآية على ما سمعت مشتملة على ما يرشد المؤمن إلى ما فيه مصلحة الدين والدنيا ويرقى به إلى الذروة العليا، وقرر ذلك بعضهم بأن أحوال الإنسان قسمان الأول ما يتعلق به وحده، والثاني ما يتعلق به من حيث المشاركة مع أهل المنزل والمدينة، وقد أمر سبحانه- نظرا إلى الأول- بالصبر ويندرج فيه الصبر على مشقة النظر، والاستدلال في معرفة التوحيد والنبوة والمعاد، والصبر على أداء الواجبات والمندوبات والاحتراز عن المنهيات والصبر على شدائد الدنيا وآفاتها ومخاوفها، وأمر- نظرا إلى الثاني- بالمصابرة ويدخل فيها تحمل الأخلاق الردية من الأقارب والأجانب وترك الانتقام منهم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد مع أعداء الدين باللسان والسنان، ثم إنه لما كان تكليف الإنسان بما ذكر لا بد له من إصلاح القوى النفسانية الباعثة على أضداد ذلك أمره سبحانه بالمرابطة أعم من أن تكون مرابطة ثغر أو نفس، ثم لما كانت ملاحظة الحق جل وعلا لا بدّ منها في جميع الأعمال والأقوال حتى يكون معتدا بها أمر سبحانه بالتقوى، ثم لما تمت وظائف العبودية ختم الكلام بوظيفة الربوبية وهو رجاء الفلاح منه انتهى، ولا يخفى أنه على ما فيه تمحل ظاهر وتعسف لا ينكره إلا مكابر، وأولى منه أن يقال: إنه تعالى أمر بالصبر العام أو لا لأنه كما في الخبر بمنزلة الرأس من الجسد وهو مفتاح الفرج. وقال بعضهم: لكل شيء جوهر وجوهر الإنسان العقل، وجوهر العقل الصبر، وادعى غير واحد أن جميع المراتب العلية والمراقي السنية الدينية والدنيوية لا تنال إلا بالصبر، ومن هنا قال الشاعر: لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى ... فما انقادت الآمال إلا لصابر ثم إنه تعالى أمر ثانيا بنوع خاص من الصبر وهي المجاهدة التي يحصل بها النفع العام والعز التام، وقد جاء عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم «إذا تركتم الجهاد سلط الله تعالى عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم» ثم ترقى إلى نوع آخر من ذلك هو أعلى وأغلى وهو المرابطة التي هي الإقامة في ثغر لدفع سوء مترقب ممن وراءه، ثم أمر سبحانه آخر الأمر بالتقوى العامة إذ لولاها لأوشك أن يخالط تلك الأشياء شيء من الرياء والعجب، ورؤية غير الله سبحانه فيفسدها، وبهذا تم المعجون الذي يبرئ العلة وروق الشراب الذي يروي الغلة. ومن هنا عقب ذلك بقوله عز شأنه: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وهذا مبني على ما هو المشهور في تفسير الآية، وقد روي في بعض الآثار غير ذلك، فقد اخرج ابن مردويه عن سلمة بن عبد الرحمن قال: أقبل عليّ أبو هريرة يوما فقال: أتدري يا ابن أخي فيم أنزلت هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا إلخ؟ قلت: لا قال: إما إنه لم يكن في زمان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم غزو يرابطون فيه ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد يصلون الصلاة في مواقيتها ثم يذكرون الله تعالى فيها، ففيهم أنزلت أي اصْبِرُوا على الصلوات الخمس وَصابِرُوا أنفسكم وهواكم وَرابِطُوا في مساجدكم وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما علمكم لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وأخرج مالك والشافعي وأحمد ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بما يمحو الله تعالى به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط» . ولعل هذه الرواية عن أبي هريرة أصح من الرواية الأولى مع ما في الحكم فيها بأنه لم يكن في زمان النبي صلّى الله عليه وسلم غزو يرابطون فيه من البعد بل لا يكاد يسلم ذلك له، ثم إن هذه الرواية وإن كانت صحيحة لا تنافي التفسير المشهور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 لجواز أن تكون اللام في الرباط فيها للعهد، ويراد به الرباط في سبيل الله تعالى ويكون قوله عليه السلام: «فذلكم الرباط» من قبيل زيد أسد، والمراد تشبيه ذلك بالرباط على وجه المبالغة. وأخرج عبد بن حميد عن زيد بن أسلم أن المراد اصْبِرُوا على الجهاد وَصابِرُوا عدوكم وَرابِطُوا على دينكم، وعن الحسن أنه قال: اصْبِرُوا على المصيبة وَصابِرُوا على الصلوات وَرابِطُوا في الجهاد في سبيل الله تعالى، وعن قتادة أنه قال: اصْبِرُوا على طاعة الله تعالى وَصابِرُوا أهل الضلال وَرابِطُوا في سبيل الله، وهو قريب من الأول، والأول أولى. هذا «ومن باب الإشارة» إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي العالم العلوي والعالم السفلي وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ الظلمة والنور لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ وهم الناظرون إلى الخلق بعين الحق الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً في مقام الروح بالمشاهدة وَقُعُوداً في محل القلب بالمكاشفة وَعَلى جُنُوبِهِمْ أي تقلباتهم في مكامن النفس بالمجاهدة، وقال بعضهم: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً أي قائمين باتباع أوامره وَقُعُوداً أي قاعدين عن زواجره ونواهيه وَعَلى جُنُوبِهِمْ أي ومجتنبين مطالعات المخالفات بحال وَيَتَفَكَّرُونَ بألبابهم الخالصة عن شوائب الوهم فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وذلك التفكر على معنيين، الأول طلب غيبة القلوب في الغيوب التي هي كنوز أنوار الصفات لإدراك أنوار القدرة التي تبلغ الشاهد إلى المشهود، والثاني جولان القلوب بنعت التفكر في إبداع الملك لمشاهدة الملك في الملك فإذا شاهدوا قالوا رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا بل هو مرايا لأسمائك ومظاهر لصفاتك، ويفصح بالمقصود قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائل سُبْحانَكَ أي تنزيها لك من أن يكون في الوجود سواك فَقِنا عَذابَ النَّارِ وهي نار الاحتجاب بالأكوان عن رؤية المكون رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ وتحجبه عن الرؤية فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وأذللته بالبعد عنك وَما لِلظَّالِمِينَ الذين أشركوا ما لا وجود له في العير ولا النفير مِنْ أَنْصارٍ لاستيلاء التجلي القهري عليهم رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا بأسماع قلوبنا مُنادِياً من أسرارنا التي هي شاطئ وادي الروح الأيمن يُنادِي لِلْإِيمانِ العياني أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا أي شاهدوا ربكم فشاهدنا، أو إِنَّنا سَمِعْنا في المقام الأول مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ والمراد به هو الله تعالى حين خاطب الأرواح في عالم الذر بقوله سبحانه: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: 172] فإن ذلك دعاء لهم إلى الإيمان فَآمَنَّا يعنون قولهم: «بلى» حين شاهدوه هناك سبحانه رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا أي ذنوب صفاتنا بصفاتك وَكَفِّرْ عَنَّا سيئات أفعالنا برؤية أفعالك وَتَوَفَّنا عن ذواتنا بالموت الاختياري مَعَ الْأَبْرارِ وهم القائمون على حد التفريد والتوحيد رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى ألسنة رُسُلِكَ بقولك: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ بأن تحجبنا بنعمتك عنك إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ لكمال رحمته أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ القلب وعمله مثل الإخلاص واليقين أَوْ أُنْثى النفس وعملها إذا تركت المجاهدات والطاعات القالبية بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ إذ يجمعكم أصل واحد وهو الروح الإنسانية فَالَّذِينَ هاجَرُوا من غير الله تعالى عز وجل وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وهي مألوفات أنفسهم وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي بما قاسوا من المنكرين، وعن بعض العارفين أن القوم إذا لم يذوقوا مرارة إيذاء المنكرين لم يفوزوا بحلاوة كأس القرب من الله تعالى، ولهذا قال الجنيد قدس سره: جزى الله تعالى إخواننا عنا خيرا ردونا بجفائهم إلى الله تعالى وقاتلوا أنفسهم في وهي أعدى أعدائهم وقتلوا بسيف الفناء لَأُكَفِّرَنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ الصغائر والكبائر من بقايا صفاتهم وذواتهم وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ ثلاث وهي جنة الأفعال، وجنة الصفات، وجنة الذات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أنهار العلوم والتجليات ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الجامع لجميع الصفات وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ فلا يكون بيد غيره ثواب أصلا لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي حجبوا عن التوحيد فِي الْبِلادِ في المقامات الدنيوية والأحوال مَتاعٌ قَلِيلٌ لسرعة زواله وعدم نفعه ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ الحرمان وَبِئْسَ الْمِهادُ الذي اختاروه بحسب استعدادهم لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ بأن تجردوا كمال التجرد لَهُمْ جَنَّاتٌ ثلاث عوض ذلك نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ معدا لهم «وما عند الله» من نعم المشاهدة ولطائف القربة وحلاوة الوصلة خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ ويحقق التوحيد الذاتي وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ من علم التوحيد والاستقامة وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من علم المبدأ والمعاد ونيل الدرجات خاشِعِينَ لِلَّهِ للتجلي الذاتي وما تجلى الله تعالى لشيء إلا خضع له لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ تعالى وهي تجليات صفاته ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وهي تلك الجنات إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ فيوصل إليهم أجرهم بلا إبطاء يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا عن المعاصي وَصابِرُوا على الطاعات وَرابِطُوا الأرواح بالمشاهدة وَاتَّقُوا اللَّهَ من مشاهدة الأغيار لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ بالتجرد عن همومكم وخطراتكم، أو «اصبروا» في مقام النفس بالمجاهدة وَصابِرُوا في مقام القلب مع التجليات وَرابِطُوا في مقام الروح ذواتكم حتى لا تعتريكم فترة أو غفلة واتقوا الله عن المخالفة والإعراض والجفاء لَعَلَّكُمْ تفوزون بالفلاح الحقيقي، نسأل الله تعالى أن يجعل لنا الحظ الأوفى من امتثال هذه الأوامر وما يترتب عليها بمنه وكرمه. وهذه الآيات العشر كان يقرؤها صلى الله تعالى عليه وسلم كل ليلة- كما أخرج ذلك ابن السني وأبو نعيم وابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. وأخرج الدارمي عن عثمان قال: من قرأ آخر آل عمران في ليلة كتب الله تعالى له قيام ليلة، وأخرج الطبراني من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعا من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى الله تعالى عليه وملائكته حتى تجب الشمس، وخبر- من قرأ سورة آل عمران أعطي بكل آية أمانا على جسر جهنم- موضوع مختلق على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقد عابوا على من أورده من المفسرين، نسأل الله تعالى أن يعصمنا عن الزلل ويحفظنا من الخطأ والخطل إنه جواد كريم رؤوف رحيم، وليكن هذا خاتمة ما أمليته من تفسير الفاتحة والزهراوين، وأنا أرغب إلى الله تعالى بالإخلاص أن يوصلني إلى تفسير المعوذتين، وهو الجلد الأول من روح المعاني (1) ، ويتلوه إن شاء الله تعالى الجلد الثاني وكان الفراغ منه في غرة محرم الحرام سنة 1254 ألف ومائتين وأربعة وخمسين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين آمين.   (1) هو من الطبعة الأولى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 سورة النّساء مدنية على الصحيح، وزعم النحاس أنها مكية مستندا إلى أن قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ [النساء: 58] . الآية نزلت بمكة اتفاقا (1) في شأن مفتاح الكعبة، وتعقبه العلامة السيوطي، بأن ذلك مستند واه لأنه لا يلزم من نزول آية، أو آيات بمكة من سورة طويلة نزل معظمها بالمدينة أن تكون مكية خصوصا أن الأرجح أن ما نزل بعد الهجرة مدني ومن راجع أسباب نزول آياتها عرف الرد عليه، ومما يردّ عليه أيضا ما أخرجه البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده صلى الله تعالى عليه وسلم، وبناؤه عليها صلى الله تعالى عليه وسلم كان بعد الهجرة اتفاقا، وقيل: إنها نزلت عند الهجرة، وعدة آياتها عند الشاميين مائة وسبع وسبعون، وعند الكوفيين ست وسبعون، وعند الباقين خمس وسبعون، والمختلف فيه منها آيتان: إحداهما أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ [النساء: 44] وثانيتهما فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً [النساء: 173] فالكوفيون يثبتون الأولى آية فقط، والشاميون يثبتون الثانية أيضا، والباقون يقولون هما بعضا آية، ووجه مناسبتها لآل عمران أمور، منها أن آل عمران ختمت بالأمر بالتقوى، وافتتحت هذه السورة به، وذلك من آكد وجوه المناسبات في ترتيب السور، وهو نوع من أنواع البديع يسمى في الشعر تشابه الأطراف (2) وقوم يسمونه بالتسبيغ، وذلك كقول ليلى الأخيلية: إذا نزل الحجاج أرضا مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذا هز القناة رواها رواها فأرواها بشرب سجالها ... دماء رجال حيث نال حشاها ومنها أن في آل عمران ذكر قصة أحد مستوفاة، وفي هذه السورة ذكر ذيلها، وهو قوله تعالى: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ [النساء: 88] فإنه نزل فيما يتعلق بتلك الغزوة على ما ستسمعه إن شاء الله تعالى مرويا عن البخاري ومسلم وغيرهما، ومنها أن في آل عمران ذكر الغزوة التي بعد أحد كما أشرنا إليه في قوله تعالى: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [آل عمران: 172] إلخ، وأشير إليها هاهنا بقوله سبحانه: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ [النساء: 104] الآية، وبهذين الوجهين يعرف أن تأخير النساء عن آل عمران أنسب من تقديمها عليها كما في مصحف ابن مسعود لأن المذكور هنا ذيل لما ذكر هناك وتابع فكان الأنسب فيه التأخير، ومن أمعن نظره وجد كثيرا مما ذكر في هذه السورة مفصلا لما ذكر فيما قبلها فحينئذ يظهر مزيد الارتباط وغاية الاحتباك.   (1) وذكر الطبرسي أن آية الكلالة نزلت بمكة أيضا اهـ منه. (2) ولا يضر في ذلك كون الخطاب الأول (يا أيها الذين آمنوا) والخطاب الثاني (يا أيها الناس) كما لا يخفى اهـ منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب يعم المكلفين من لدن نزل إلى يوم القيامة على ما مرّ تحقيقه، وفي تناول نحو هذه الصيغة للعبيد شرعا حتى يعمهم الحكم خلاف، فذهب الأكثرون إلى التناول لأن العبد من الناس مثلا فيدخل في الخطاب العام له قطعا وكونه عبدا لا يصلح مانعا لذلك، وذهب البعض إلى عدم التناول قالوا: لأنه قد ثبت بالإجماع صرف منافع العبد إلى سيده فلو كلف بالخطاب لكان صرفا لمنافعه إلى غير سيده وذلك تناقض فيتبع الإجماع ويترك الظاهر، وأيضا خرج العبد عن الخطاب بالجهاد والجمعة والعمرة والحج والتبرعات والأقارير ونحوها، ولو كان الخطاب متناولا له للعموم لزم التخصيص، والأصل عدمه، والجواب عن الأول أنا لا نسلم صرف منافعه إلى سيده عموما بل قد يستثنى من ذلك وقت تضايق العبادات حتى لو أمره السيد في آخر وقت الظهر ولو أطاعه لفاتته الصلاة وجبت عليه الصلاة، وعدم صرف منفعته في ذلك الوقت إلى السيد، وإذا ثبت هذا فالتعبد بالعبادة ليس مناقضا لقولهم: بصرف المنافع للسيد، وعن الثاني بأن خروجه بدليل اقتضى خروجه وذلك كخروج المريض، والمسافر، والحائض عن العمومات الدالة على وجوب الصوم والصلاة والجهاد، وذلك لا يدل على عدم تناولها اتفاقا، غايته أنه خلاف الأصل ارتكب لدليل وهو جائز ثم الصحيح أن الأمم الدارجة قبل نزول هذا الخطاب لا حظ لها فيه لاختصاص الأوامر والنواهي بمن يتصور منه الامتثال، وأنى لهم به وهم تحت أطباق الثرى لا يقومون حتى ينفخ في الصور. وجوز بعضهم كون الخطاب عاما بحيث يندرجون فيه، ثم قال: ولا يبعد أن يكون الأمر الآتي عاما لهم أيضا بالنسبة إلى الكلام القديم القائم بذاته تعالى، وإن كان كونه عربيا عارضا بالنسبة إلى هذه الأمة، وفيه نظر لأن المنظور إليه إنما هو أحكام القرآن بعد النزول وإلا لكان النداء وجميع ما فيه من خطاب المشافهة مجازات ولا قائل به فتأمل. وعلى العلات لفظ النَّاسُ يشمل الذكور والإناث بلا نزاع، وفي شمول نحو قوله تعالى: اتَّقُوا رَبَّكُمُ خلاف والأكثرون على أن الإناث لا يدخلن في مثل هذه الصيغة ظاهرا خلافا للحنابلة، استدل الأولون بأنه قد روي عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله إن النساء قلن ما نرى الله تعالى ذكر إلا الرجال فأنزل ذكرهن، فنفت ذكرهن مطلقا ولو كن داخت لما صدق نفيهن ولم يجز تقريره عليه الصلاة والسلام للنفي، وبأنه قد أجمع أرباب العربية على أن نحو هذه الصيغة جمع مذكر وأنه لتضعيف المفرد والمفرد مذكر، وبأن نظير هذه الصيغة المسلمون ولو كان مدلول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 المسلمات داخلا فيه لما حسن العطف فيقوله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ [الأحزاب: 35] إلا باعتبار التأكيد، والتأسيس خير من التأكيد، وقال الآخرون: المعروف من أهل اللسان تغليبهم المذكر على المؤنث عند اجتماعهما باتفاق، وأيضا لو لم تدخل الإناث في ذلك لما شاركن في الأحكام لثبوت أكثرها بمثل هذه الصيغة، واللازم منتف بالاتفاق كما في أحكام الصلاة والصيام الزكاة، وأيضا لو أوصى لرجال ونساء بمائة درهم، ثم قال: أوصيت لهم بكذا دخلت النساء بغير قرينة، وهو معنى الحقيقة فيكون حقيقة في الرجال والنساء ظاهرا فيهما وهو المطلوب، وأجيب أما عن الأول فبإنه إنما يدل على أن الإطلاق صحيح إذا قصد الجميع، والجمهور يقولون به، لكنه يكون مجازا ولا يلزم أن يكون ظاهرا وفيه النزاع (1) . وأما عن الثاني فبمنع الملازمة، نعم يلزم أن لا يشاركن في الأحكام بمثل هذه الصيغة، وما المانع أن يشاركن بدليل خارج؟ والأمر كذلك، ولذلك لم يدخلن في الجهاد والجمعة مثلا لعدم الدليل الخارجي هناك، وأما عن الثالث فبمنع المبادرة ثمة بلا قرينة فإن الوصية المتقدمة قرينة دالة على الإرادة، فالحق عدم دخول الإناث ظاهرا، نعم الأولى هنا القول بدخولهن باعتبار التغليب، وزعم بعضهم أن لا تغليب بل الأمر للرجال فقط كما يقتضيه ظاهر الصيغة، ودخول الإناث في الأمر- بالتقوى- للدليل الخارجي، ولا يخفى أن هذا يستدعي تخصيص لفظ الناس ببعض أفراده لأن إبقاءه حينئذ على عمومه مما يأباه الذوق السليم، والمأمور به إما الاتقاء بحيث يشمل ما كان باجتناب الكفر والمعاصي وسائر القبائح، ويتناول رعاية حقوق الناس كما يتناول رعاية حقوق الله تعالى. وأما الاتقاء في الإخلال بما يجب حفظه من الحقوق فيما بين العباد- وهذا المعنى مطابق لما في السورة من رعاية حال الأيتام وصلة الأرحام والعدل في النكاح والإرث ونحو ذلك بالخصوص- بخلاف الأول فإنه إنما يطابقها من حيث العموم، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين ما لا يخفى من تأييد الأمر وتأكيد إيجاب الامتثال، وكذا في وصف الرب بقوله سبحانه: الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ لأن الاستعمال جار على أن الوصف الذي علق به الحكم علة موجبة له، أو باعثة عليه، داعية إليه، ولا يخفى أن ما هنا كذلك لأن ما ذكر يدل على القدرة العظيمة، أو النعمة الجسيمة، ولا شك أن الأول يوجب التقوى مطلقا حذرا عن العقاب العظيم، وأن الثاني يدعو إليها وفاء بالشكر الواجب، وإيجاب الخلق من أصل واحد للاتقاء على الاحتمال الثاني ظاهر جدا، وفي الوصف المذكور تنبيه على أن المخاطبين عالمون بما ذكر مما يستدعي التحلي بالتقوى، وفيه كمال توبيخ لمن يفوته ذلك، والمراد من النفس الواحدة آدم عليه السلام، والذي عليه الجماعة من الفقهاء والمحدثين ومن وافقهم أنه ليس سوى آدم واحد- وهو أبو البشر- وذكر صاحب جامع الأخبار من الإمامية في الفصل الخامس عشر خبرا طويلا نقل فيه أن الله تعالى خلق قبل أبينا آدم ثلاثين آدم وآدم، بين كل آدم ألف سنة، وأن الدنيا بقيت خرابا بعدهم خمسين ألف سنة، ثم عمرت خمسين ألف سنة، ثم خلق أبونا آدم عليه السلام، وروي ابن بابويه في كتاب التوحيد عن الصادق في حديث طويل أيضا أنه قال: لعلك ترى أن الله تعالى لم يخلق بشرا غيركم بلى والله لقد خلق ألف ألف آدم أنتم في آخر أولئك الآدميين، وقال الميثم في شرحه الكبير على النهج- ونقل عن محمد بن علي الباقر- أنه قال: قد انقضى قبل آدم الذي هو أبونا ألف ألف آدم وأكثر، وذكر الشيخ الأكبر قدس سره في فتوحاته ما يقتضي بظاهره أن قبل آدم   (1) فإن قيل: الأصل في الإطلاق الحقيقة فلا يصار إلى المجاز إلا لدليل، أجيب بأنه لا نزاع في أن الصيغة للرجال وحدهم حقيقة ولو كانت لهم وللنساء معا حقيقة أيضا لزم الاشتراك، وإلا فالمجاز وقد تقرر في الأصول أن المجاز أولى من الاشتراك اهـ منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 بأربعين ألف سنة آدم غيره، وفي كتاب الخصائص (1) ما يكاد يفهم منه التعدد أيضا الآن حيث روى فيه عن الصادق أنه قال: إن لله تعالى اثني عشر ألف عالم كل عالم منهم أكبر من سبع سموات وسبع أرضين ما يرى عالم منهم أن لله عز وجل عالما غيرهم، وأنى للحجة عليهم، ولعل هذا وأمثاله من أرض السمسمة وجابرسا وجابلقا إن صح محمول على عالم المثال لا على هذا العالم الذي نحن فيه، وحمل تعدد آدم في ذلك العالم أيضا غير بعيد، وأما القول بظواهر هذه الأخبار فما لا يراه أهل السنة والجماعة، بل قد صرح زين العرب بكفر من يعتقد التعدد، نعم إن آدمنا هذا عليه السلام مسبوق بخلق آخرين كالملائكة والجن وكثير من الحيوانات وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله تعالى لا يخلق أمثاله وهو حادث نوعا وشخصا خلافا لبعض الفلاسفة في زعمهم قدم نوع الإنسان، وذهب الكثير منا إلى أنه منذ كان إلى زمن البعثة ستة آلاف سنة وأن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة ورووا أخبارا كثيرة في ذلك، والحق عندي أنه كان بعد أن لم يكن ولا يكون بعد أن كان، وأما أنه متى كان ومتى لا يكون فمما لا يعلمه إلا الله تعالى، الأخبار مضطربة في هذا الباب فلا يكاد يعول عليها. والقول- بأن النفس الكلي يجلس لفصل القضاء بين الأنفس الجزئية في كل سبعة آلاف سنة مرة وأن قيام الساعة بعد تمام ألف البعثة محمول على ذلك- فمما لا أرتضيه دينا ولا أختاره يقينا، والخطاب في رَبَّكُمُ وخَلَقَكُمْ للمأمورين وتعميمه بحيث يشمل الأمم السالفة مع بقاء ما تقدم من الخطاب غير شامل بناء على أن شمول ربوبيته تعالى وخلقه للكل أتم في تأكيد الأمر السابق مع أن فيه تفكيكا للنظم مستغنى عنه لأن خلقه تعالى للمأمورين من نفس آدم عليه السلام حيث كانوا بواسطة ما بينه وبينهم من الآباء والأمهات كان التعرض لخلقهم متضمنا لحق الوسائط جميعا، وكذا التعرض لربوبيته تعالى لهم متضمن لربوبيته تعالى لأصولهم قاطبة لا سيما وقد أردف الكلام بقوله تعالى شأنه: وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وهو عطف على خَلَقَكُمْ داخل معه في حيز الصلة، وأعيد الفعل لإظهار ما بين الخلقين من التفاوت لأن الأول بطريق التفريع من الأصل، والثاني بطريق الإنشاء من المادة فإن المراد من الزوج حواء وهي قد خلقت من ضلع آدم عليه السلام والأيسر (2) كما روي ذلك عن ابن عمر وغيره، وروى الشيخان «استوصوا بالنساء خيرا فإنهن خلقن من ضلع وإن أعوج شيء من الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج» وأنكر أبو مسلم خلقها من الضلع لأنه سبحانه قادر على خلقها من التراب فأي فائدة في خلقها من ذلك، وزعم أن معنى منها من جنسها والآية على حد قوله تعالى: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً [النحل: 72] ووافقه على ذلك بعضهم مدعيا أن القول بما ذكر يجر إلى القول بأن آدم عليه السلام كان ينكح بعضه بعضا، وفيه من الاستهجان ما لا يخفى، وزعم بعض أن حواء كانت حورية خلقت مما خلق منه الحور بعد أن أسكن آدم الجنة وكلا القولين باطل، أما الثاني فلأنه ليس في الآيات ولا الأحاديث ما يتوهم منه الإشارة إليه أصلا فضلا عن التصريح به، ومع هذا يقال عليه: إن الحور خلقن من زعفران الجنة- كما ورد في بعض الآثار- فإن كانت حواء مخلوقة مما خلقن منه- كما هو نص كلام الزاعم- فبينها وبين آدم عليه السلام المخلوق من تراب الدنيا بعد كليّ يكاد يكون افتراقا في الجنسية التي ربما توهمها الآية، ويستدعي بعد وقوع التناسل بينهما في هذه النشأة وإن كانت مخلوقة مما خلق منه آدم فهو مع كونه خلاف نص كلامه يردّ عليه أن هذا قول بما قاله أبو مسلم وإلا يكنه فهو قريب   (1) لابن بابويه اهـ منه. (2) وقيل: إنها خلقت من فضل طينته ونسب للباقر اهـ منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 منه، وأما الأول فلأنه لو كان الأمر كما ذكر فيه لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفس واحدة وهو خلاف النص، وأيضا هو خلاف ما نطقت به الأخبار الصحيحة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهذا يردّ على الثاني أيضا. والقول بأنه أي فائدة في خلقها من ضلع والله تعالى قادر على أن يخلقها من تراب؟ يقال عليه: إن فائدة ذلك سوى الحكمة التي خفيت عنا إظهار أنه سبحانه قادر على أن يخلق حيا من حي لا على سبيل التوالد- كما أنه قادر على أن يخلق حيا من جماد كذلك- ولو كانت القدرة على الخلق من التراب مانعة عن الخلق من غيره لعدم الفائدة لخلق الجميع من التراب بلا واسطة لأنه سبحانه- كما أنه قادر على خلق آدم من التراب- هو قادر على خلق سائر أفراد الإنسان منه أيضا، فما هو جوابكم عن خلق الناس بعضهم من بعض مع القدرة على خلقهم كخلق آدم عليه السلام فهو جوابنا عن خلق حواء من آدم مع القدرة على خلقها من تراب والقول: بأن ذلك يجر إلى ما فيه استهجان لا يخفى ما فيه. لأن هذا التشخص الخاص الحاصل لذلك الجزء بحيث لم يبق من تشخصه الأصلي شيء ظاهر يدفع الاستهجان الذي لا مقتضى له إلا الوهم الخالص لا سيما والحكمة تقتضي ذلك التناكح الكذائي. فقد ذكر الشيخ الأكبر قدس سره أن حواء لما انفصلت من آدم عمر موضعها منه بالشهوة النكاحية التي بها وقع الغشيان لظهور التوالد والتناسل وكان الهواء الخارج الذي عمر موضعه جسم حواء عند خروجها إذ لا خلاء في العالم فطلب ذلك الجزء الهوائي موضعه الذي أخذته حواء بشخصيتها فحرك آدم لطلب موضعه فوجده معمورا بحواء، فوقع عليها فلما تغشاها حملت منه فجاءت بالذرية فبقي بعد ذلك سنة جارية في الحيوان من بني آدم وغيره بالطبع، لكن الإنسان هو الكلمة الجامعة ونسخة العالم فكل ما في العالم جزء منه، وليس الإنسان بجزء واحد من العالم وكان سبب الفصل وإيجاد هذا المنفصل الأول طلب الأنس بالمشاكل في الجنس الذي هو النوع الأخص، وليكون في عالم الأجسام بهذا الالتحام الطبيعي للإنسان الكامل بالصورة التي أرادها الله تعالى ما يشبه القلم الأعلى واللوح المحفوظ الذي يعبر عنه بالعقل الأول والنفس الكلية انتهى. ويفهم من كلامهم أن هذا الخلق لم يقع هكذا إلا بين هذين الزوجين دون سائر أزواج الحيوانات ولم أظفر في ذلك بما يشفي الغليل، نعم أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن زوج إبليس عليهما اللعنة خلقت من خلفه الأيسر، والخلف- كما في الصحاح- أقصر أضلاع الجنب، وبذلك فسره الضحاك في هذا المقام، وإنما أخر بيان خلق الزوج عن بيان خلق المخاطبين لما أن تذكير خلقهم أدخل في تحقيق ما هو المقصود من حملهم على امتثال الأمر من تذكير خلقها، وقدم الجار للاعتناء ببيان مبدئية آدم عليه السلام لها مع ما في التقديم من التشويق إلى المؤخر واختير عنوان الزوجية تمهيدا لما بعده من التناسل. وذهب بعض المحققين إلى جواز عطف هذه الجملة على مقدر ينبئ عنه السوق لأن تفريع الفروع من أصل واحد يستدعي إنشاء ذلك الأصل لا محالة، كأنه قيل: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ خلقها أولا وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها إلخ، وهذا المقدر إما استئناف مسوق لتقرير وحدة المبدأ، وبيان كيفية خلقهم منه بتفصيل ما أجمل أولا، وإما صفة لنفس مفيدة لذلك، وأوجب بعضهم هذا التقدير على تقدير جعل الخطاب فيما تقدم عاما في الجنس، ولعل ذلك لأنه لولا التقدير حينئذ لكان هذا مع قوله تعالى: وَبَثَّ مِنْهُما أي نشر وفرق من تلك النفس وزوجها على وجه التناسل والتوالد رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً تكرارا لقوله سبحانه: خَلَقَكُمْ لأن مؤادهما واحد وليس على سبيل بيان الأول لأنه معطوف عليه على عدم التقدير ولأوهم أن الرجال والنساء غير المخلوقين من نفس واحدة، وأنهم منفردون بالخلق منها ومن زوجها، والناس إنما خلقوا مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ من غير مدخل للزوج، ولا يلزم ذلك على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 العطف، وجعل المخاطب- بخلقكم- من بعث إليهم عليه الصلاة والسلام إذ يكون وَبَثَّ مِنْهُما إلخ واقعا على من عدا المبعوث إليهم من الأمم الفائتة للحصر، والتوهم في غاية البعد وكذا لا يلزم على تقدير حذف المعطوف عليه وجعل الخطاب عامّا لأن ذلك المحذوف وما عطف عليه يكونان بيانا لكيفية الخلق من تلك النفس، ومن الناس من ادعى أنه لا مانع من جعل الخطاب عامّا من غير حاجة إلى تقدير معطوف عليه معه، وإلى ذلك ذهب صاحب التقريب. والمحذور الذي يذكرونه ليس بمتوجه إذ لا يفهم من خلق بني آدم من نفس واحدة خلق زوجها منه ولا خلق الرجال والنساء من الأصلين جميعا. والمعطوف متكفل ببيان ذلك، وقد ذكر غير واحد أن اللازم في العطف تغاير المعطوفات ولو من وجه وهو هنا محقق بلا ريب كما لا يخفى، والتلوين في رِجالًا وَنِساءً للتكثير، وكَثِيراً نعت ل رِجالًا مؤكد لما أفاده التنكير، والإفراد باعتبار معنى الجمع أو العدد أو لرعاية صيغة فعيل، ونقل أبو البقاء أنه نعت لمصدر محذوف أي بثا كَثِيراً ولهذا أفرد، وجعله صفة حين- كما قيل- تكلف سمج، وليس المراد بالرجال والنساء البالغين والبالغات، بل الذكور والإناث مطلقا تجوزا، ولعل إيثارهما على الذكور والإناث لتأكيد الكثرة والمبالغة فيها بترشيح كل فرد من الأفراد المبثوثة لمبدئية غيره، وقيل: ذكر الكبار منهم لأنه في معرض المكلفين بالتقوى واكتفى بوصف الرجال بالكثرة عن وصف النساء بها لأن الحكمة تقتضي أن يكن أكثر إذ للرجل أن يزيد في عصمته على واحدة بخلاف المرأة قاله الخطيب، واحتج بعضهم بالآية على أن الحادث لا يحدث إلا عن مادة سابقة وأن خلق الشيء عن العدم المحض والنفي الصرف محال، وأجيب بأنه لا يلزم من إحداث شيء في صورة واحدة من المادة لحكمة أن يتوقف الإحداث على المادة في جميع الصور، على أن الآية لا تدل على أكثر من خلقنا وخلق الزوج مما ذكر سبحانه وهو غير واف بالمدعى، وقرئ- وخالق، وباث- على حذف المبتدأ لأنه صلة لعطفه على الصلة فلا يكون إلا جملة بخلاف نحو- زيد راكب وذاهب- أي وهو- خالق وباث. وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ تكرير للأمر الأول وتأكيد له، والمخاطب من بعث إليهم صلّى الله عليه وسلم أيضا كما مر، وقيل: المخاطب هنا وهناك هم العرب- كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- لأن دأبهم هذا التناشد، وقيل: المخاطب هناك من بعث إليهم مطلقا وهنا العرب خاصة، وعموم أول الآية لا يمنع خصوص آخرها كالعكس ولا يخفى ما فيه من التفكيك، ووضع الاسم الجليل موضع الضمير للإشارة إلى جميع صفات الكمال ترقيا بعد صفة الربوبية فكأنه قيل: اتقوه لربوبيته وخلقه إياكم خلقا بديعا ولكونه مستحقا لصفات الكمال كلها. وفي تعليق الحكم بما في حيز الصلة إشارة إلى بعض آخر من موجبات الامتثال، فإن قول القائل لصاحبه: أسألك بالله، وأنشدك الله تعالى على سبيل الاستعطاف يقتضي الاتقاء من مخالفة أوامره ونواهيه، وتَسائَلُونَ إما بمعنى يسأل بعضكم بعضا فالمفاعلة على ظاهرها، وإما بمعنى تسألون- كما قرئ به- وتفاعل يرد بمعنى فعل إذا تعدد فاعله وأصله على القراءة المشهورة- «تتساءلون» - بتاءين فحذفت إحداهما للثقل، وقرأ نافع وابن كثير وسائر أهل الكوفة تَسائَلُونَ بإدغام تاء التفاعل في السين لتقاربهما في الهمس وَالْأَرْحامَ بالنصب وهو معطوف إما على محل الجار والمجرور إن كان المحل لهما، أو على محل المجرور إن كان المحل له، والكلام على حدّ مررت بزيد، وعمرا، وينصره قراءة- «تساءلون به وبالأرحام» وأنهم كانوا يقرنونها في السؤال والمناشدة بالله تعالى، ويقولون: أسألك بالله تعالى وبالله سبحانه وبالرحم- كما أخرج ذلك غير واحد- عن مجاهد، وهو اختيار الفارسي وعلي بن عيسى، وإما معطوف على الاسم الجليل أي اتقوا الله تعالى والأرحام وصلوها ولا تقطعوها فإن قطعها مما يجب أن يتقى، وهو رواية ابن حميد عن مجاهد، والضحاك عن ابن عباس، وابن المنذر عن عكرمة، وحكي عن أبي جعفر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 رضي الله تعالى عنه، واختاره الفراء. والزجاج، وجوز الواحدي النصب على الإغراء أي والزموا الأرحام وصلوها، وقرأ حمزة بالجر، وخرجت في المشهور على العطف على الضمير المجرور، وضعف ذلك أكثر النحويين بأن الضمير المجرور كبعض الكلمة لشدة اتصاله بها فكما لا يعطف على جزء الكلمة لا يعطف عليه. وأول من شنع على حمزة في هذه القراءة أبو العباس المبرد حتى قال: لا تحل القراءة بها، وتبعه في ذلك جماعة- منهم ابن عطية- وزعم أنه يردها وجهان: أحدهما أن ذكر أن الأرحام مما يتساءل بها لا معنى له في الحض على تقوى الله تعالى، ولا فائدة فيها أكثر من الاخبار بأن الأرحام يتساءل بها، وهذا مما يغض من الفصاحة، والثاني أن في ذكرها على ذلك تقرير التساؤل بها، والقسم بحرمتها، والحديث الصحيح يرد ذلك، فقد أخرج الشيخان عنه صلى الله تعالى عليه وسلم «من كان حالفا فليحلف بالله تعالى أو ليصمت» . وأنت تعلم أن حمزة لم يقرأ كذلك من نفسه ولكن أخذ ذلك بل جميع القرآن عن سليمان بن مهران الأعمش. والإمام بن أعين ومحمد بن أبي ليلى وجعفر بن محمد الصادق- وكان صالحا ورعا ثقة في الحديث- من الطبقة الثالثة. وقد قال الإمام أبو حنيفة والثوري ويحيى بن آدم في حقه غلب حمزة الناس على القراءة والفرائض، وأخذ عنه جماعة وتلمذوا عليه، ومنهم إمام الكوفة- قراءة وعربية- أبو الحسن الكسائي، وهو أحد القراء السبعة الذين قال أساطين الدين: إن قراءتهم متواترة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ومع هذا لم يقرأ بذلك وحده بل قرأ به جماعة من غير السبعة كابن مسعود وابن عباس وإبراهيم النخعي والحسن البصري وقتادة ومجاهد وغيرهم- كما نقله ابن يعيش فالتشنيع على هذا الإمام في غاية الشناعة ونهاية الجسارة والبشاعة وربما يخشى منه الكفر، وما ذكر من امتناع العطف على الضمير المجرور هو مذهب البصريين ولسنا متعبدين باتباعهم، وقد أطال أبو حيان في البحر الكلام في الردّ عليهم، وادعى أن ما ذهبوا إليه غير صحيح، بل الصحيح ما ذهب اليه الكوفيون من الجواز، وورد ذلك في لسان العرب نثرا ونظما، وإلى ذلك ذهب ابن مالك، وحديث إن ذكر الأرحام- حينئذ لا معنى له في الحض على تقوى الله تعالى- ساقط من القول لأن التقوى إن أريد بها تقوى خاصة- وهي التي في حقوق العباد التي من جملتها صلة الرحم فالتساؤل بالأرحام يقتضيه بلا ريب، وإن أريد الأعم فلدخوله فيها وأما شبهة أن في ذكرها تقرير التساؤل بها، والقسم بحرمتها والحديث يرد ذلك للنهي فيه عن الحلف بغير الله تعالى، فقد قيل في جوابها: لا نسلم أن الحلف بغير الله تعالى مطلقا منهي عنه، بل المنهي عنه ما كان مع اعتقاد وجوب البر، وأما الحلف على سبيل التأكيد مثلا فمما لا بأس به ففي الخبر «أفلح وأبيه إن صدق» . وقد ذكر بعضهم أن قول الشخص لآخر: أسألك بالرحم أن تفعل كذا ليس الغرض منه سوى الاستعطاف وليس هو- كقول القائل- والرحم لأفعلن كذا. ولقد فعلت كذا، فلا يكون متعلق النهي في شيء، والقول بأن المراد هاهنا حكاية ما كانوا يفعلون في الجاهلية- لا يخفى ما فيه فافهم، وقد خرج ابن جني هذه القراءة على تخريج آخر فقال في الخصائص: باب في أن المحذوف إذا دلت الدلالة عليه كان في حكم الملفوظ به من ذلك. رسم دار وقفت في طلله. أي رب رسم دار، وكان رؤبة إذا قيل له: كيف أصبحت؟ بقول: خير عفاك الله تعالى- أي بخير- ويحذف الباء لدلالة الحال عليها، وعلى نحو من هذا تتوجه عندنا قراءة حمزة، وفي شرح المفصل أن الباء في هذه القراءة محذوفة لتقدم ذكرها، وقد مشى على ذلك أيضا الزمخشري في أحاجيه، وذكر صاحب الكشف أنه أقرب من التخريج الأول عند أكثر البصرية لثبوت إضمار الجار في نحو- الله لأفعلن- وفي نحو- ما مثل عبد الله ولا أخيه يقولان ذلك- والحمل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 على ما ثبت هو الوجه، ونقل عن بعضهم أن الواو للقسم على نحو- اتق الله تعالى فو الله إنه مطلع عليك- ترك الفاء لأن الاستئناف أقوى الأصلين وهو وجه حسن. وقرأ ابن زيد وَالْأَرْحامَ بالرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر، أي وَالْأَرْحامَ كذلك أي مما يتقى لقرينة اتَّقُوا أو مما يتساءل به لقرينة تَسائَلُونَ وقدره ابن عطية- أهل لأن توصل- وابن جني- مما يجب أن توصلوه وتحتاطوا فيه- ولعل الجملة حينئذ معترضة وإلا ففي العطف خفاء، وقد نبه سبحانه إذ قرن الأرحام باسمه سبحانه على أن صلتها بمكان منه تعالى وقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة؟ قال: نعم أما ترضين أني أصل من وصلك وأقطع من قطعك، قالت: بلى قال: فذلك لك» وأخرج البزار بإسناد حسن «الرحم حجنة (1) متمسكة بالعرش تكلم بلسان زلق اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني فيقول الله تعالى: أنا الرحمن أنا الرحيم فإني شققت الرحم من اسمي فمن وصلها وصلته ومن بتكها بتكته» . وأخرج الإمام أحمد بإسناد صحيح «إن من أربى الربا الاستطالة بغير حق وإن هذه الرحم شجنة (2) من الرحمن فمن قطعها حرم الله تعالى عليه الجنة» . والأخبار في هذا الباب كثيرة، والمراد بالرحم الأقارب ويقع على كل من يجمع بينك وبينه نسب وإن بعد ويطلق على الأقارب من جهة النساء وتخصيصه في باب الصلة بمن ينتهي إلى رحم الأم منقطع عن القبول إذ قد ورد الأمر بالإحسان إلى الأقارب مطلقا إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً أي حفيظا- قاله مجاهد- فهو من رقبه بمعنى حفظه- كما قاله الراغب- وقد يفسر بالمطلع، ومنه المرقب للمكان العالي الذي يشرف عليه ليطلع على ما دونه، ومن هنا فسره ابن زيد بالعالم، وعلى كل فهو فعيل بمعنى فاعل، والجملة في موضع التعليل للأمر ووجوب الامتثال، وإظهار الاسم الجليل لتأكيده وتقديم الجار لرعاية الفواصل وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ شروع في تفصيل موارد الاتقاء على أتم وجه، وبدأ بما يتعلق باليتامى إظهارا لكمال العناية بشأنهم ولملابستهم بالأرحام إذ الخطاب للأوصياء والأولياء وقلما تفوض الوصاية لأجنبي، واليتيم- من الإنسان من مات أبوه، ومن سائر الحيوانات فاقد الأم- من اليتم وهو الانفراد، ومن هنا يطلق على كل شيء عز نظيره، ومنه الدرة اليتيمة وجمع على يتامى مع أن فعيلا لا يجمع على فعالى بل على فعال- ككريم وكرام وفعلاء- ككريم وكرماء- وفعل كنذير ونذر- وفعلى- كمريض ومرضى- إما لأنه أجري مجرى الأسماء، ولذا قلما يجري على موصوف فجمع على يتايم كأفيل (3) وأفايل، ثم قلب فقيل: يتامي بالكسر، ثم خفف بقلب الكسرة فتحة فقبلت الياء ألفا، وقد جاء على الأصل في قوله: أأطلال حسن بالبراق «اليتايم» ... سلام على أحجاركنّ القدايم أو لأنه جمع أولا على يتمى، ثم جمع يتمى على يتامى إلحاقا له بباب الآفات والأوجاع، فإن فعيلا فيها يجمع على فعلى، وفعلى يجمع على فعالى كما جمع أسير على أسرى ثم على أسارى، ووجه الشبه ما فيه من الذل   (1) الحجنة بفتح الحاء المهملة والجيم وتخفيف النون- صنارة المغزل التي يعلق بها الخيط ثم يفتل الغزل اهـ منه. (2) الشجنة- بسكر أوله المعجم وضمه- القرابة المشتبكة اشتباك العروق اهـ منه. (3) بوزن- أمير ابن المخاض فما فوقه- الفصيل اهـ منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 والانكسار المؤلم، وقيل: ما فيه من سوء الأدب المشبه بالآفات، والاشتقاق يقتضي صحة إطلاقه على الصغار والكبار لكن الشرع- وكذا العرف- خصصه بالصغار، وحديث «لا يتم بعد احتلام» تعليم للشريعة لا تعيين لمعنى اللفظ. والمراد بإيتاء أموالهم تركها سالمة غير متعرض لها بسوء فهو مجاز مستعمل في لازم معناه لأنها لا تؤتى إلا إذا كانت كذلك، والنكتة في هذا التعبير الإشارة إلى أنه ينبغي أن يكون الغرض من ترك التعرض إيصال الأموال إلى من ذكر لا مجرد ترك التعرض لها. وعلى هذا يصح أن يراد باليتامى الصغار على ما هو المتبادر، والأمر خاص بمن يتولى أمرهم من الأولياء والأوصياء، وشمول حكمه لأولياء من كان بالغا عند نزول الآية بطريق الدلالة دون العبارة، ويصح أن يراد من جرى عليه اليتم في الجملة مجازا أعم من أن يكون كذلك عند النزول، أو بالغا فالأمر شامل لأولياء الفريقين صيغة موجب عليهم ما ذكر من كف الكف عنها، وعدم فك الفك لأكلها، وأما وجوب الدفع إلى الكبار فمستفاد مما سيأتي من الأمر به، وقيل: المراد من الإيتاء الإعطاء بالفعل، واليتامى إما بمعناه اللغوي الأصلي فهو حقيقة وارد على أصل اللغة، وإما مجاز باعتبار ما كان أوثر لقرب العهد بالصغر، والإشارة إلى وجوب المسارعة إلى دفع أموالهم إليهم حتى كأن اسم اليتيم باق بعد غير زائل، وهذا المعنى يسمى في الأصول بإشارة النص، وهو أن يساق الكلام لمعنى ويضمن معنى آخر، وهذا في الكون نظير المشارفة في الأول، وقيل: يجوز أن يراد باليتامى الصغار، ولا مجاز بأن يجعل الحكم مقيدا كأنه قيل: وآتوهم إذا بلغوا، وردّ بأنه قال في التلويح: إن المراد من قوله تعالى: «وآتوا اليتامى أموالهم» وقت البلوغ باعتبار ما كان، فإن العبرة بحال النسبة لا بحال التكلم، فالورود للبالغ على كل حال. وقال بعض المحققين: تقدير القيد لا يغني عن التجوز إذ الحكم على ما عبر عنه بالصفة يوجب اتصافه بالوصف حين تعلق الوصف وحين تعلق الإيتاء به يكون يتيما فلا بدّ من التأويل بما مر، وأجيب بأن هذه المسألة وإن كانت مذكورة في التلويح لكنها ليست مسلمة، وقد تردد فيها الشريف في حواشيه، والتحقيق أن في مثل ذلك نسبتين: نسبة بين الشرط والجزاء- وهي التعليقية- وهي واقعة الآن، ولا تتوقف على وجودهما في الخارج، ونسبة إسنادية في كل من الطرفين- وهي غير واقعة في الحال بل مستقبلة- والمقصود الأولى، وفي زمان تلك النسبة كانوا يتامى حقيقة، ألا تراهم قالوا في نحو- عصرت هذا الخل في السنة الماضية- أنه حقيقة؟ مع أنه في حال العصر عصير لا خل لأن المقصود النسبة التي هي تبعية فيما بين اسم الإشارة وتابعه لا النسبة الإيقاعية بينه وبين العصر كما حققه بعض الفضلاء- وقد مرت الإشارة إليه في أوائل البقرة فتأمله فإنه دقيق. وقيل: المراد من الإيتاء ما هو أعم من الإيتاء حالا أو مآلا، ومن الْيَتامى ما يعم الصغار والكبار بطريق التغليب، والخطاب عام لأولياء الفريقين على أن من بلغ منهم فوليه مأمور بالدفع إليه بالفعل وإن من لم يبلغ بعد فوليه مأمور بالدفع اليه عند بلوغه رشيدا، ورجح غير واحد الوجه الأول لقوله تعالى بعد آيات: وَابْتَلُوا الْيَتامى [النساء: 6] إلخ فإنه كالدليل على أن الآية الأولى في الحض على حفظها لهم ليؤتوها عند بلوغهم ورشدهم، والثانية في الحض على الإيتاء الحقيقي عند حصول البلوغ والرشد، ويلوح بذلك التعبير بالإيتاء هنا وبالدفع هناك، وايضا تعقيب هذه الآية بقوله تعالى: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ يقوي ذلك، فهذا كله تأديب للوصي ما دام المال بيده واليتيم في حجره، وأما على سائر الوجوه فيكون مؤدى هذه الآية- وما سيأتي بعد- كالشيء الواحد من حيث إن فيهما الأمر بالإيتاء حقيقة، ومن قال بذلك جعل الأولى كالمجملة والثانية كالمبينة لشرط الإيتاء من البلوغ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 وإيناس الرشد، ويرد على آخر الوجوه أيضا أن فيه تكلفا لا يخفى، ولا يرد على الوجه الراجح أن ابن أبي حاتم أخرج عن سعيد بن جبير أن رجلا من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلما بلغ طلب المال فمنعه عمه فخاصمه إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فنزلت وَآتُوا الْيَتامى إلخ، فإن ذلك يدل على أن المراد بالإيتاء الإعطاء بالفعل لا سيما وقد روى الثعلبي. والواحدي عن مقاتل. والكلبي أن العمّ لما سمعها قال: أطعنا الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم نعوذ بالله عز وجل من الحوب الكبير لما أنهم قالوا: العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، ولعل العمّ لم يفهم الأمر بالإعطاء حقيقة بطريق العبارة بل بشيء آخر، فقال ما قال هذا وتبدل الشيء بالشيء واستبداله به أخذ الأول بدل الثاني بعد أن كان حاصلا له أو في شرف الحصول يستعملان أبدا بإفضائهما إلى الحاصل بأنفسهما وإلى الزائل بالباء كما في قوله تعالى: وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ [البقرة: 108] إلخ، وقوله سبحانه: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [البقرة: 61] وأما التبديل فيستعمل تارة كذلك كما في قوله تعالى: وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ [سبأ: 16] إلخ، وأخرى بالعكس كما في قولك: بدلت الحلقة بالخاتم إذا أذبتها وجعلتها خاتما وبدلت الخاتم بالحلقة إذا أذبته وجعلته حلقة، واقتصر الدميري على الأول، ونقل الأزهري عن ثعلب الثاني، ويشهد له قول الطفيل لما أسلم. وبدل طالعي نحسي بسعدي. وتارة أخرى بإفضائه إلى مفعوليه بنفسه كما في قوله تعالى: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ [الفرقان: 7] فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ [الكهف: 81] بمعنى يجعل الحسنات بدل السيئات ويعطيهما بدل ما كان لهما خيرا منه، ومرة يتعدى إلى مفعول واحد مثل بدلت الشيء أي غيرته، وقوله تعالى: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ [البقرة: 181] وذكر الطيبي أن معنى التبديل التغيير وهو عام في أخذ شيء وإعطاء شيء، وفي طلب ما ليس عنده وترك ما عنده، وهذا معنى قول الجوهري: تبديل الشيء تغييره وإن لم يأت ببدل، ومعنى التبدل الاستبدال، والاستبدال طلب البدل فكل تبدل تبديل وليس كل تبديل تبدلا، وفرق بعضهم بين التبديل والإبدال بأن الأول تغيير الشيء مع بقاء عينه والثاني رفع الشيء ووضع غيره مكانه فيقال: أبدلت الخاتم بالحلقة إذا نحيت هذا وجعلت هذه مكانه وقد أطالوا الكلام في هذا المقام وفيما ذكر كفاية لما نحن بصدده. والمراد- بالخبيث والطيب- إما الحرام والحلال، والمعنى لا تستبدلوا أموال اليتامى بأموالكم أو لا تذروا أموالكم الحلال وتأكلوا الحرام من أموالهم فالمنهي عنه استبدال مال اليتيم بمال أنفسهم مطلقا، أو أكل ماله مكان مالهم المحقق أو المقدر، وإلى الأول ذهب الفراء والزجاج، وقيل: المعنى لا تستبدلوا الأمر الخبيث- وهو اختزال مال اليتيم- بالأمر الطيب- وهو حفظ ذلك المال- وأيّا ما كان فالتعبير عن ذلك بالخبيث والطيب للتنفير عما أخذوه والترغيب فيما أعطوه وإما الرديء والجيد، ومورد النهي حينئذ ما كان الأوصياء عليه من أخذ الجيد من مال اليتيم وإعطاء الرديء من مال أنفسهم، فقد أخرج ابن جرير عن السدي أنه قال: كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم ويجعل في مكانها الشاة المهزولة، ويقول: شاة بشاة، ويأخذ الدرهم الجيد ويضع مكانه الزائف، ويقول: درهم بدرهم وإلى هذا ذهب النخعي والزهري وابن المسيب، وتخصيص هذه المعاملة بالنهي لخروجها مخرج العادة لا لإباحة ما عداها فلا مفهوم لانخرام شرطه عنه القائل به واعترض هذا بأن المناسب حينئذ التبديل. أو تبدل الطيب بالخبيث على ما يقتضيه الكلام السابق. وأجيب بأنه إذا أعطى الوصي رديئا وأخذ جيدا من مال اليتيم بصدق عليه أنه تبدل الرديء بالجيد لليتيم وبدل لنفسه، وظاهر الآية أنه أريد التبدل لليتيم لأن الأوصياء هم المتصرفون في أموال اليتامى فنهوا عن بيع بوكس من أنفسهم ومن غيرهم وما ضاهاه، ولا يضر تبدل لنفسه أيضا باعتبار آخر لأن المتبادر إلى الفهم النهي عن تصرف لأجل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 اليتيم ضار سواء عامل الوصي نفسه أو غيره، ومن غفل عن اختلاف الاعتبار كالزمخشري أول (1) بما لا اشعار للفظ به، وعلى العلات المراد من الآية النهي عن أخذ مال اليتيم على الوجه المخصوص بعد النهي الضمني عن أخذه على الإطلاق، والمراد من الأكل في النهي الأخير مطلق الانتفاع والتصرف، وعبر بذلك عنه لأنه أغلب أحواله، والمعنى لا تأكلوا أموالهم مضمونة إلى أموالكم أي تنفقوهما معا ولا تسووا بينهما، وهذا حلال وذاك حرام، فإلى متعلقة بمقدر يتعدى بها، وقد وقع حالا، وقدره أبو البقاء مضافة، ويجوز تعلقها بالأكل على تضمينه معنى الضم، واختار بعضهم كونها بمعنى مع كما في «الذود إلى الذود إبل» ، والمراد بالمعية مجرد التسوية بين المالين في الانتفاع أعم من أن يكون على الانفراد، أو مع أموالهم، يفهم من الكشاف أن المعية تدل على غاية قبح فعلهم حيث أكلوا أموالهم مع الغنى عنها، وفي ذلك تشهير لهم بما كانوا يصنعون فلا يلزم القائل بمفهوم المخالفة جواز أكل أموالهم وحدها، ويندفع السؤال بذلك. وأنت تعلم أن السؤال لا يرد ليحتاج إلى الجواب إذا فسر تبدل الخبيث بالطيب باستبدال أموال اليتامى بماله وأكلها مكانه لأنه حينئذ يكون ذلك نهيا عن أكلها وحدها وهذا عن ضمها، وليس الأول مطلقا حتى يرد سؤال بأنه أي فائدة في هذا بعد ورود النهي المطلق، وفي الكشف لو حمل الانتهاء في إلى على أصله- على أن النهي عن أكلها مع بقاء مالهم لأن أموالهم جعلت غاية- لحصلت المبالغة، والتخلص عن الاعتذار، وظاهر هذا النهي عدم جواز أكل شيء من أموال اليتامى وقد خص من ذلك مقدار أجر المثل عند كون الولي فقيرا، وكون ذلك من مال اليتيم مما لا يكاد يخفى فالقول- بأنه لا حاجة إلى التخصيص لأن ما يأخذه الأولياء من الأجرة فهو مالهم وليس أكله أكل مالهم مع مالهم- لا يخلو عن خفاء إِنَّهُ أي الأكل المفهوم من النهي، وقيل: الضمير للتبدل، وقيل: لهما وهو منزل منزلة اسم الإشارة في ذلك كانَ حُوباً أي إثما، أو ظلما وكلاهما عن ابن عباس وهما متقاربان، وأخرج الطبراني أن رافع بن الأزرق سأله رضي الله تعالى عنه عن الحوب، فقال: هو الإثم بلغة الحبشة، فقال: فهل تعرف العرب ذلك؟ فقال: نعم أما سمعت قول الأعشى: فإني وما كلفتموني من أمركم ... ليعلم من أمسى أعق «وأحوبا» وخصه بعضهم بالذنب العظيم، وقرأ الحسن «حوبا» بفتح الحاء وهو مصدر حاب يحوب حوبا. وقرىء- «حابا» - وهو أيضا مصدر كالقول والقال وهو على القراءة المشهورة اسم لا مصدر خلافا لبعضهم وتنوينه للتعظيم أي حوبا عظيما، ووصف بقوله تعالى كَبِيراً للمبالغة في تهويل أمر المنهي عنه كأنه قيل إنه من كبار الذنوب العظيمة لا من أفنائها. وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ شروع في النهي عن منكر آخر كانوا يباشرونه متعلق بأنفس اليتامى أصالة وبأموالهم تبعا عقيب النهي عما يتعلق بأموالهم خاصة، وتأخيره عنه لقلة وقوع المنهي عنه بالنسبة إلى الأموال ونزوله منه منزلة المركب من المفرد مع كون المراد من اليتامى هنا صنفا مما أريد منه فيما تقدم، وذلك أنهم كانوا يتزوجون من تحل لهم من يتامى النساء اللاتي يلونهم (2) لكن لا رغبة فيهن بل في ما لهنّ   (1) قيل: وإن ذهب إلى التأويل لا محالة فالأولى أن يقال: المهزول هو الطيب، والسمين هو الخبيث ضربه مثالا للحرام والحلال فتدبر اهـ منه. (2) كذا بخطه، والخطب سهل اهـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 ويسيئون صحبتهن ويتربصون بهن أن يمتن فيرثوهن فوعظو في ذلك وهذا قول الحسن، ورواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عائشة رضي الله تعالى عنها، وأخرج هؤلاء من طريق آخر والبخاري ومسلم والنسائي والبيهقي في سننه عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة رضي الله تعالى عنها عن هذه الآية. فقالت يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها يشركها في مالها ويعجبه مالها وجمالها فيريد أن يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره فنهوا أن ينكحوهنّ إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن فالمراد من اليتامى المتزوج بهن والقرينة على ذلك الجواب فإنه صريح فيه- والربط يقتضيه- ومِنَ النِّساءِ غير اليتامى كما صرحت به الحميراء رضي الله تعالى عنها لدلالة المعنى وإشارة لفظ النساء إليه، والإقساط العدل والإنصاف، وجعل بعض الهمزة فيه للإزالة فأصل معناه حينئذ إزالة القسوط أي الظلم والحيف، وقرأ النخعي تُقْسِطُوا بفتح التاء فقيل: هو من قسط بمعنى جار وظلم، ومنه أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً [الجن: 15] ولا مزيدة كما في قوله تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ [الحديد: 29] ، وقيل: هو بمعنى أقسط فإن الزجاج حكى أن قسط بلا همزة تستعمل استعمال أقسط، والْيَتامى جمع يتيمة على القلب كما قيل أيامى والأصل أيائم ويتائم وهو كما يقال للذكور يقال للإناث، والمراد من الخوف العلم عبر عنه بذلك إيذانا بكون المعلوم مخوفا محذورا لا معناه الحقيقي لأن الذي علق به الجواب هو العلم بوقوع الجور المخوف لا الخوف منه وإلا لم يكن الأمر شاملا لمن يصبر على الجور ولا يخافه، وإِنْ وما بعدها في تأويل مصدر فإن لم تقدر من كان منصوبا وكان الفعل واصلا إليه بنفسه وإن قدرت جاز فيه أمران: النصب عند سيبويه، والجر عند الخليل، وما موصولة أو موصوفة وما بعدها صلتها، أو صفتها، وأوثرت على من ذهابا إلى الوصف من البكر أو الثيب مثلا، وما تختص- أو تغلب- في غير العقلاء فيما إذا أريد الذات، وأما إذا أريد الوصف فلا كما تقول: ما زيد؟ في الاستفهام، أي أفاضل أم كريم؟ وأكرم ما شئت من الرجال تعني الكريم أو اللئيم. وحكي عن الفراء أنها هنا مصدرية وأن المصدر المقدر بها وبالفعل مقدر باسم الفاعل أي- انكحوا الطيب من النساء- وهو تكلف مستغنى عنه، وقيل: إن إيثارها على مِنَ بناء على أن الإناث من العقلاء يجرين مجرى غير العقلاء لما روي في حقهن أنهن ناقصات عقل ودين، وفيه أنه مخل بمقام الترغيب فيهن، ومِنَ بيانية، وقيل: تبعيضية، والمراد مما طاب لكم ما مالت له نفوسكم واستطابته، وقيل: ما حل لكم، وروي ذلك عن عائشة، وبه قال الحسن وابن جبير وأبو مالك، واعترضه الإمام بأنه في قوة أبيح المباح، ويلزم الإجمال حيث لا يعلم المباح من الآية وآثر الحمل على الأول ويلزم التخصيص وجعله أولى من الإجمال، وأجاب المدقق في الكشف بأن المبين تحريمه في قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ [النساء: 23] إلخ إن كان مقدم النزول فلا إجمال ولا تخصيص لأن الموصول جار مجرى المعرف باللام، والحمل على العهد في مثله هو الوجه وإلا فالإجمال المؤخر بيانه أولى من التخصيص بغير المقارن لأن تأخير بيان المجمل جائز عند الفريقين، وتأخير بيان التخصيص غير جائز عند أكثر الحنفية. وقال بعض المحققين: ما طابَ لَكُمْ ما لا تحرج منه لأنه في مقابل المتحرج منه من اليتامى ولا يخلو عن حسن، وكيفما كان فالتعبير عن الأجنبيات بهذا العنوان فيه من المبالغة في الاستمالة إليهن والترغيب فيهن ما لا يخفى، والسر في ذلك الاعتناء بصرف المخاطبين عن نكاح اليتامى عند خوف عدم العدل رعاية ليتمهن وجبرا لانكسارهن ولهذا الاعتناء أوثر الأمر بنكاح الأجنبيات على النهي عن نكاحهن مع أنه المقصود بالذات وذلك لما فيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 من مزيد اللطف في استنزالهم فإن النفس مجبولة على الحرص على ما منعت منه، ووجه النهي الضمني إلى النكاح المترقب مع أن سبب النزول هو النكاح المحقق على ما فهمه البعض من الأخبار، ودل عليه ما أخرجه البخاري عن عائشة أن رجلا كانت له يتيمة فنكحها وكان لها عزق فكان يمسكها عليه ولم يكن لها من نفسه شيء فأنزل الله تعالى وَإِنْ خِفْتُمْ إلخ لما فيه من المسارعة إلى دفع الشر قبل وقوعه فرب واقع لا يرفع، والمبالغة في بيان حال النكاح المحقق فإن محظورية المترقب حيث كان للجور المترقب فيه فمحظورية المحقق مع تحقق الجور فيه أولى، وقرأ ابن أبي عبلة- من طاب- وفي بعض المصاحف- كما في الدر المنثور- ما طيب لكم بالياء، وفي الآية على هذا التفسير دليل الجواز نكاح اليتيمة وهي الصغيرة إذ يقتضي جوازه إلا عند خوف الجور. وقد بسط الكلام في كتب الفقه على ولي النكاح، ومذهب الإمام مالك أن اليتيمة الصغيرة لا تزوج إذ لا إذن لها وعنده خلاف في تزويج الوصي لها إذا جعل له الأب الإجبار أو فهم عنه ذلك، والمشهور أن له ذلك فيحمل اليتامى في الآية على الحديثات العهد بالبلوغ، واسم اليتيم كما أشرنا إليه فيما مر مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ منصوبة على الحال من فاعل طابَ المستتر، أو من مرجعه، وجوز العلامة كونها حالا من النساء على تقدير جعل مِنَ بيانية، وذهب أبو البقاء إلى كونها بدلا من ما وإلى الحالية ذهب البصريون وهو المذهب المختار، والكوفيون لم يجوزوا ذلك لأنها معارف عندهم، وأوجبوا في هذا المقام ما ذهب إليه أبو البقاء، وهي ممنوعة من الصرف على الصحيح، وجوز الفراء صرفها، والمذاهب المنقولة في علة منع صرفها أربعة: أحدها قول سيبويه والخليل وأبي عمرو: إنه العدل والوصف، وأورد عليه أن الوصفية في أسماء العدد عارضة وهي لا تمنع الصرف، وأجيب بأنها وإن عرضت في أصلها فهي نقلت عنها بعد ملاحظة الوصف العارض فكان أصليا في هذه دون أصلها ولا يخلو عن نظر، والثاني قول الفراء: إنها منعت للعدل والتعريف بنية الألف واللام ولذا لم تجز إضافتها ولا دخول (1) أل عليها، والثالث ما نقل عن الزجاج أنها معدولة عن اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة، فعدلت عن ألفاظ العدد وعن المؤنث إلى المذكر ففيها عدلان وهما سببان، والرابع ما نقله أبو الحسن عن بعض النحويين أن العلة المانعة من الصرف تكرار العدل فيه لأن مثنى مثلا عدلت عن لفظ اثنين ومعناه لأنها لا تستعمل في موضع تستعمل فيه إذ لا تلي العوامل وإنما تقع بعد جمع إما خبرا، أو حالا، أو وصفا وشذ أن تلي العوامل وأن تضاف، وزاد السفاقسي في علة المنع خامسا وهو العدل من غير جهة العدل لأن باب العدل أن يكون في المعارف وهذا عدل في النكرات، وسادسا وهو العدل والجمع لأنه يقتضي التكرار فصار في معنى الجمع، وقال: زاد هذين ابن الصائغ في شرح الجمل، وجاء آحاد وموحد، وثناء ومثنى وثلاث ومثلث، ورباع ومربع، ولم يسمع فيما زاد على ذلك- كما قال أبو عبيدة- إلا في قول الكميت: ولم يستر يثوك حتى رميت ... فوق الرجال خصالا عشارا من هنا أعابوا (2) على المتنبي قوله: أحاد أم سداس في أحاد ... لييلتنا المنوطة بالتناد ومن الناس من جوز خماس ومخمس إلى آخر العقد قياسا، وليس بشيء، واختير التكرار، والعطف بالواو لتفهم الآية أن لكل واحد من المخاطبين أن يختار من هذه الأعداد المذكورة أي عدد شاء إذ هو المقصود لا أن بعضها   (1) ودعوى الزمخشري دخولها عليها لا دليل لها وكان اللائق الاستشهاد على ذلك اهـ منه. (2) كذا بخطه. [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 لبعض منهم والبعض الآخر لآخر، ولو أفردت الأعداد لفهم من ذلك تجويز الجمع بين تلك الأعداد دون التوزيع ولو ذكرت بكلمة- أو- لفات تجويز الاختلاف في العدد بأن ينكح واحد اثنتين، وآخر ثلاثا أو أربعا وما قيل إنه لا يلتفت إليه الذهن- لأنه لم يذهب إليه أحد- لا يلتفت إليه لأن الكلام في الظاهر الذي هو نكتة العدول، وادعى بعض المحققين أنه لو أتى من الأعداد بما لا يدل على التكرار لم يصح جعله حالا معللا ذلك بأن جميع الطيبات ليس حالها أنها اثنان ولا حالها أنها ثلاثة، وكذا لو قيل: اقتسموا هذا المال الذي هو ألف درهم درهما واثنين وثلاثة وأربعة لم يصح جعل العدد حالا من المال الذي هو ألف درهم لأن حال الألف ليس ذلك بخلاف ما إذا كرر فإن المقصود حينئذ التفصيل في حكم الانقسام كأنه قيل: فانكحوا الطيبات لكم مفصلة ومقسمة إلى ثنتين ثنتين (1) ، وثلثا ثلثا، وأربعا أربعا، واقتسموا هذا المال الذي هو ألف درهم مفصلا ومقسما إلى درهم درهم، واثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، وبهذا يظهر فساد ما قيل: من أنه لا فرق بين اثنين ومثنى في صحة الحالية لأن انفهام الانقسام ظاهر من الثاني دون الأول كما لا يخفى، وأنه إنما أتي بالواو دون أو ليفيد الكلام أن تكون الأقسام على هذه الأنواع غير متجاوز إياها إلى ما فوقها لا أن تكون على أحد هذه الأنواع غير مجموع بين اثنين منها وذلك بناء على أن الحال بيان لكيفية الفعل، والقيد في الكلام نفي لما يقابله والواو ليست لأحد الأمرين أو الأمور كأو، وبهذا يندفع ما ذهب إليه البعض من جواز التسع تمسكا بأن الواو للجمع فيجوز الثنتان والثلاث والأربع وهي تسع، وذلك لأن من نكح الخمس أو ما فوقها لم يحافظ على القيد أعني كيفية النكاح وهي كونه على هذا التقدير والتفصيل بل جاوزه إلى ما فوقه ولعل هذا مراد القطب بقوله: إنه تعالى لما ختم الأعداد على الأربعة لم يكن لهم الزيادة عليها وإلا لكان نكاحهم خمسا خمسا، فقول بعضهم: اللزوم ممنوع لعدم دلالة الكلام على الحصر فإن الإنسان إذا قال لولده: افعل ما شئت اذهب إلى السوق وإلى المدرسة وإلى البستان كان هذا تنصيصا في تفويض زمام الاختيار إليه مطلقا ورفع الحجر عنه ولا يكون ذلك تخصيصا للإذن بتلك الأشياء المذكورة بل كان إذنا في المذكور وغيره فكذا هنا، وأيضا ذكر جميع الأعداد متعذر- فإذا ذكر بعض الأعداد بعد فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ كان ذلك تنبيها على حصول الإذن في جميع الأعداد- كلام ليس في محله، وفرق ظاهر بين ما نحن فيه والمثال الحادث. وقد ذكر الإمام الرازي شبه المجوزين التزوج بأي عدد أريد، وأطال الكلام في هذا المقام إلا أنه لم يأت بما يشرح الصدر ويريح الفكر، وذلك أنه قال: إن قوما شذاذا ذهبوا إلى جواز التزوج بأي عدد واحتجوا بالقرآن والخبر، أما القرآن فقد تمسكوا بهذه الآية بثلاثة أوجه: الأول أن قوله سبحانه: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ إطلاق في جميع الأعداد بدليل أنه لا عدد إلا ويصح استثناؤه منه، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لكان داخلا، والثاني أن مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ لا يصلح مخصصا لذلك العموم لأن التخصيص بالبعض لا ينفي ثبوت الحكم في الباقي، والثالث أن الواو للجمع المطلق- فمثنى وثلاث ورباع- يفيد حل المجموع وهو تسع بل ثماني عشرة. وأما الخبر فمن وجهين: الأول أنه ثبت بالتواتر أنه صلى الله تعالى عليه وسلم مات عن تسع ثم إن الله تعالى أمرنا باتباعه، فقال فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام: 153، 155] وأقل مراتب الأمر الإباحة، الثاني أن سنة الرجل طريقته والتزوج بالأكثر من الأربع طريقة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فكان ذلك سنة له ثم إنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «من رغب عن سنتي فليس مني» وظاهر الحديث يقتضي توجه الذم على من ترك التزوج بالأكثر من الأربع فلا أقل من   (1) كذا بخطه أيضا. والخطب سهل اهـ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 أن يثبت أصل الجواز، ثم قال: واعلم أن معتمد الفقهاء في إثبات الحسر على أمرين: الأول الخبر، وهو ما روي أن غيلان أسلم وتحته عشر نسوة فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: «أمسك أربعا وفارق سائرهن» وهذا الطريق ضعيف لوجهين الأول أن القرآن لما دل على عدم الحصر فلو أثبتنا الحصر بهذا الخبر كان ذلك نسخا للقرآن بخبر الواحد، وأنه غير جائز، والثاني أنه صلّى الله عليه وسلم لعله إنما أمر بإمساك أربع ومفارقة البواقي لأن الجمع بين الأربع والبواقي غير جائز إما بسبب النسب، أو بسبب الرضاع، وبالجملة فهذا الاحتمال قائم في هذا الخبر فلا يمكن نسخ القرآن بمثله، والأمر الثاني هو إجماع فقهاء الأمصار على أنه لا يجوز الزيادة على الأربع وهذا هو المعتمد لكن فيه سؤالان: الأول أن الإجماع لا ينسخ به (1) فكيف يقال: إن الإجماع نسخ هذه الآية، الثاني أن في الأمة أقواما شذاذا لا يقولون بحرمة الزيادة على الأربع والإجماع عند مخالفة الواحد والاثنين لا ينعقد. وأجيب عن السؤال الأول أن الإجماع يكشف عن حصول الناسخ في زمان الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وعن الثاني أن مخالف هذا الإجماع من أهل البدعة فلا اعتبار بمخالفته فلا تضر في انعقاد الإجماع انتهى، ولا يخفى ما في احتجاج الشذاذ بالآية من النظر، ويعلم ذلك من التأمل فيما ذكرنا. وأما الاحتجاج بالخبر فليس بشيء أيضا لأن الإجماع قد وقع على أن الزيادة على الأربع من خصوصياته صلى الله تعالى عليه وسلم ونحن مأمورون باتباعه والرغبة في سنته عليه الصلاة والسلام في غير ما علم أنه من الخصوصيات أما فيما علم أنه منها فلا، وأما الأمران اللذان اعتمد عليهما الفقهاء في هذا المقام ففي غاية الإحكام. والوجه الأول في تضعيف الأمر الأول منهما يرد عليه أن قول الإمام فيه: إن القرآن لما دل على عدم الحصر إلخ ممنوع، كيف وقد تقدم ما يفهم منه دلالته على الحصر؟ وبتقدير عدم دلاله على الحصر لا يدل على عدم الحصر بل غياة الأمر أنه يحتمل الأمرين الحصر وعدمه، فيكون حينئذ مجملا، وبيان المجمل بخبر الواحد جائز كما بين في الأصول، وما ذكر في الوجه الثاني من وجهي التضعيف- بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم لعله إنما أمر بإمساك أربع ومفارقة البواقي لأن الجمع غير جائز إما بسبب النسب أو بسبب الرضاع- مما لا يكاد يقبل مع تنكير أربعا وثبوت «اختر منهنّ أربعا» كما في بعض الروايات الصحيحة في حديث غيلان، وكذا في الحديث الذي أخرجه ابن أبي شيبة والنحاس عن قيس بن الحارث الأسدي أنه قال: أسلمت وكان تحتي ثمان نسوة فأخبرت النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: «اختر منهنّ أربعا وخل سائرهنّ ففعلت» فإن ذلك يدل دلالة لا مرية فيها أن المقصود إبقاء أي أربع لا أربع معينات، فالاحتمال الذي ذكره الإمام قاعد لا قائم، ولو اعتبر مثله- قادحا في الدليل- لم يبق دليل على وجه الأرض، نعم الحديث مشكل على ما ذهب اليه الإمام الأعظم على ما نقل ابن هبيرة فيمن أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة من أنه إن كان العقد وقع عليهن في حالة واحدة فهو باطل وإن كان في عقود صح النكاح في الأربع الأوائل فإنه حينئذ لا اختيار، وخالفه في ذلك الأئمة الثلاثة وهو بحث آخر لسنا بصدده. وأقوى الأمرين المعتمد عليهما في الحصر الإجماع فإنه قد وقع وانقضى عصر المجمعين قبل ظهور المخالف ولا يشترط في الإجماع اتفاق كل الأمة من لدن بعثته عليه الصلاة والسلام إلى قيام الساعة كما يوهمه كلام الإمام الغزالي، وإلا لا يوجد إجماع أصلا، وبهذا يستغنى عما ذكره الإمام الرازي- وهو أحد مذاهب في المسألة- من أن   (1) أي عند الجمهور اهـ منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 مخالف هذا الإجماع من أهل البدعة فلا اعتبار بمخالفته، فالحق الذي لا محيص عنه أنه يحرم الزيادة على الأربع- وبه قال الإمامية- ورووا عن الصادق رضي الله تعالى عنه لا يحل لماء الرجل أن يجري في أكثر من أربعة أرحام، وشاع عنهم خلاف ذلك، ولعله قول شاذ عندهم. ثم إن مشروعية نكاح الأربع خاصة بالأحرار والعبيد غير داخلين في هذا الخطاب لأنه إنما يتناول إنسانا متى طابت له امرأة قدر على نكاحها والعبد ليس كذلك لأنه لا يجوز نكاحه إلا بإذن مولاه لقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر» ولأن في تنفيذ نكاحه تعيبا له إذ النكاح عيب فيه فلا يملكه بدون إذن المولى، وأيضا قوله تعالى بعد: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ لا يمكن أن يدخل فيه العبيد لعدم الملك فحيث لم يدخلوا في هذا الخطاب لم يدخلوا في الخطاب الأول لأن هذه الخطابات وردت متتالية على نسق واحد فبعيد أن يدخل في الخطاب السابق ما لا يدخل في اللاحق وكذا لا يمكن دخولهم في قوله تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً لأن العبد لا يأكل فيكون لسيده، وخالف في ذلك الإمام مالك فأدخل العبيد في الخطاب، وجوز لهم أن ينكحوا أربعا كالأحرار ولا يتوقف نكاحهم على الإذن لأنهم يملكون الطلاق فيملكون النكاح، ومن الفقهاء من ادعى أن ظاهر الآية يتناولهم إلا أنه خصص هذا العموم بالقياس لأن الرق له تأثير في نقصان حقوق النكاح كالطلاق والعدة، ولما كان العدد من حقوق النكاح وجب أن يجعل للعبد نصف ما للحر فيه أيضا، واختلفوا في الأمر بالنكاح فقيل للإباحة ولا يلغو «طاب» إذا كان بمعنى خل لأنه يصير المعنى أبيح لكم ما أبيح هنا لأن مناط الفائدة القيد وهو العدد المذكور، وقيل: للوجوب أي الاقتصار على هذا العدد لا وجوب أصل النكاح فقد قال الإمام النووي: لا يعلم أحد أوجب النكاح إلا داود ومن وافقه من أهل الظاهر، ورواية عن أحمد فإنهم قالوا: يلزمه إذا خاف العنت أن يتزوج أو يتسرى قالوا: وإنما يلزمه في العمر مرة واحدة ولم يشرط بعضهم خوف العنت، وقال أهل الظاهر: إنما يلزمه التزوج فقط ولا يلزمه الوطء، واختلف العلماء في الأفضل من النكاح وتركه. وذكر الإمام النووي أن الناس في ذلك أربعة أقسام: قسم تتوق إليه نفسه ويجد المؤن فيستحب له النكاح، وقسم لا تتوق ولا يجد المؤن فيكره له، وقسم تتوق ولا يجد المؤن فيكره له أيضا، وهذا مأمور بالصوم لدفع التوقان، وقسم يجد المؤن ولا تتوق نفسه، فمذهب الشافعي. وجمهور الشافعية أن ترك النكاح لهذا والتخلي للتحلي بالعبادة أفضل، ولا يقال النكاح مكروه بل تركه أفضل، ومذهب أبي حنيفة وبعض أصحاب مالك والشافعي أن النكاح له أفضل انتهى المراد منه، وأنت تعلم أن المذكور في كتب ساداتنا الحنفية متونا وشروحا مخالف لما ذكره هذا الإمام في تحقيق مذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه، ففي تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار في كتاب النكاح ما نصه: ويكون واجبا عند التوقان فإن تيقن الزنا إلا به فرض كما في النهاية وهذا إن ملك المهر والنفقة وإلا فلا إثم بتركه كما في البدائع، ويكون سنة مؤكدة في الأصح فيأثم بتركه ويثاب إن نوى تحصينا وولدا حال الاعتدال أي القدرة على وطء ومهر ونفقة. ورجح في النهر وجوبه للمواظبة عليه، والإنكار على من رغب عنه، ومكروها لخوف الجور فإن تيقنه حرم انتهى، لكن في دليل الوجوب على ما ذكره صاحب النهر مقالا للمخالفين وتمام الكلام في محله، هذا وقد قيل: في تفسير الآية الكريمة أن المراد من النِّساءِ اليتامى أيضا، وأن المعنى وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا في اليتامى المرباة في حجوركم فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ من يتامى قراباتكم، وإلى هذا ذهب الجبائي وهو كما ترى، وقيل: إنه لما نزلت الآية في اليتامى وما في أكل أموالهم من الحوب الكبير أخذ الأولياء يتحرجون من ولايتهم خوفا من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 لحوق الحوب بترك الاقساط مع أنهم كانوا لا يتحرجون من ترك العدل في حقوق النساء حيث كان تحت الرجل منهم عشر منهن فقيل لهم: إِنْ خِفْتُمْ ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرجتم منها فخافوا أيضا ترك العدل بين النساء وقللوا عدد المنكوحات لأن من تحرج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب مثله فهو غير متحرج ولا تائب عنه، وإلى نحو من هذا ذهب ابن جبير والسدي وقتادة والربيع والضحاك وابن عباس في إحدى الروايات عنه، وقيل: كانوا لا يتحرجون من الزنا وهم يتحرجون من ولاية اليتامى فقيل: إن خفتم الحوب في حق اليتامى فخافوا الزنا فانكحوا ما حل لكم من النساء ولا تحوموا حول المحرمات، ونظيره ما إذا داوم على الصلاة من لا يزكي فتقول له: إن خفت الإثم في ترك الصلاة فخف من ترك الزكاة، وإلى قريب من هذا ذهب مجاهد. وتعقب هذين القولين العلامة شيخ الإسلام بقوله: ولا يخفى أنه لا يساعدهما جزالة النظم الكريم لابتنائهما على تقدم نزول الآية الأولى وشيوعها بين الناس وظهور توقف حكمها على ما بعدها من قوله تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ إلى قوله سبحانه: وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً ويفهم من كلام بعض المحققين أيضا أن الأظهر في الآية ما رواه الشيخان وغيرهما عن عائشة رضي الله تعالى عنها دون هذين القولين لأن الآية على تلك الرواية تتنزل على قوله تعالى: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ [النساء: 127] فيتطابق الآيتان ولا يتأتى ذلك على القولين بل لا ارتباط بين الآيتين عليهما لأن مقتضاهما أن الكلام في مطلق اليتامى لا في يتامى النساء، ثم يبعدهما أن الشرط لا يرتبط معهما بالجواب إلا من وجه عام، أما الأول فمن حيث إن الجور على النساء في الحرمة كالجور على اليتامى في أن كلّا منهما جور، وأما الثاني فلأن الزنا محرم كما أن الجور على اليتامى محرم وكم من محرم يشاركهما في التحريم فليس ثم خصوصية تربط الشرط والجواب كالخصوصية الرابطة بينهما هناك، ثم الظاهر من قوله سبحانه: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ أنه وارد بصيغة التوسعة عليهم بنوع من التقييد كأنه قيل: إن خفتم من نكاح اليتامى ففي غيرهن متسع إلى كذا، وعلى القول الأول من القولين يكون المراد التضييق لأن حاصله إن خفتم الجور على النساء فاحتاطوا بأن تقللوا عدد المنكوحات وهو خلاف ما يشعر به (1) السياق من التوسعة وبعيد (2) عن جزالة التنزيل كما لا يخفى، وقيل: إن الرجل كان يتزوج الأربع والخمس والست والعشر ويقول: ما يمنعني أن أتزوج كما تزوج فلان فإذا فني ماله مال على مال اليتيم الذي في حجره فأنفقه فنهى أولياء اليتامى على أن يتجاوزوا الأربع لئلا يحتاجوا إلى أخذ مال اليتيم، ونسب هذا إلى ابن عباس وعكرمة، وعليه يكون المراد من اليتامى أعم من الذكور والإناث وكذا على القولين قبله. وأورد عليه أنه يفهم منه جواز الزيادة على الأربع لمن لا يحتاج إلى أخذ مال اليتيم وهو خلاف الإجماع، وأيضا يكون المراد من هذا الأمر التضييق وهو كما علمت خلاف ما يشعر به السياق المؤكد بقوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً كأنه لما وسع عليهم أنبأهم أنه قد يلزم من الاتساع خوف الميل فالواجب حينئذ أن يحترزوا بالتقليل فيقتصروا على الواحدة، والمراد فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فيما بين هذه المعدودات ولو في أقل   (1) ووجه إشعاره بذلك أنه أطلق قوله سبحانه: ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ثم جاء مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ كأنه بيان لما وقع إطلاقه على نوع من التقييد اهـ منه. (2) إذ لو كان المراد التضييق لكان التقييد من الأول أوقع فيه وأمسّ به اهـ منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 الأعداد المذكورة كما خفتموه في حق اليتامى، أو كما لم تعدلوا في حقهن فاختاروا، أو الزموا واحدة واتركوا الجميع بالكلية، وقرأ إبراهيم- وثلث وربع- على القصر من- ثلاث ورباع، وقرأ أبو جعفر فَواحِدَةً بالرفع أي فالمقنع واحدة، أو فكفت واحدة أو فحسبكم واحدة أو فالمنكوحة واحدة. أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي من السراري بالغة ما بلغت كما يؤخذ من السياق، ومقابلة الواحدة وهو عطف على واحدة على أن اللزوم والاختيار فيه بطريق التسري لا بطريق النكاح كما فيما عطف عليه لاستلزامه ورود ملك النكاح على ملك اليمين بموجب اتحاد المخاطبين في الموضعين، وقد قالوا: لا يجوز أن يتزوج المولى أمته ولا المرأة عبدها لأن النكاح ما شرع إلا مثمرا بثمرات مشتركة بين المتناكحين والمملوكية تنافي المالكية فيمتنع وقوع الثمرة على الشركة، وهذا بخلاف ما سيأتي بقوله سبحانه: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ [النساء: 25] فإن المأمور بالنكاح هناك غير المخاطبين بملك اليمين وبعضهم يقدر في المعطوف عليه فانكحوا لدلالة أول الكلام عليه، ويعطف هذا عليه على معنى اقتصروا على ما ملكت، والكلام على حد قوله: علفتها تبنا وماء باردا وأو للتسوية وسوى في السهولة واليسرة بين الحرة الواحدة والسراري من غير حصر لقلة تبعتهن وخفة مؤنتهن وعدم وجوب القسم فيهن، وزعم بعضهم أن هذا معطوف على النساء أي فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ أو مما ملكت أيمانكم ولا يخفى بعده، وقرأ ابن أبي عبلة من ملكت، وعبر بما في القراءة المشهورة ذهابا للوصف ولكون المملوك لبيعه وشرائه والمبيع أكثره ما لا يعقل كان التعبير بما فيه أظهر، وإسناد الملك لليمين لما أن سببه الغالب هو الصفقة الواقعة بها، وقيل: لأنه أول ما يكون بسبب الجهاد والأسر، وذلك محتاج إلى أعمالها وقد اشتهر ذلك في الأرقاء لا سيما في إناثهم كما هو المراد هنا رعاية للمقابلة بينه وبين ملك النكاح الوارد على الحرائر، وقيل: إنما قيل للرقيق ملك اليمين لأنها مخصوصة بالمحاسن وفيها تفاؤل باليمن أيضا، وعن بعضهم أن أعرابيا سئل لم حسنتم أسماء مواليكم دون أسماء أبنائكم؟ فقال: أسماء موالينا لنا وأسماء أبنائنا لأعدائنا فليفهم، وادعى ابن الفرس أن في الآية ردا على من جعل النكاح واجبا على العين لأنه تعالى خير فيها بينه وبين التسري ولا يجب التسري بالاتفاق ولو كان النكاح واجبا لما خير بينه وبين التسري لأنه لا يصح عند الأصوليين التخيير بين واجب وغيره لأنه يؤدي إلى إبطال حقيقة الواجب وأن تاركه لا يكون آثما، ولا يرد هذا على من يقول: الواجب أحد الأمرين، ويمنع الاتفاق على عدم وجوب التسري في الجملة فتدبر، وزعم بعضهم أن فيها دليلا على منع نكاح الجنيات لأنه تعالى خص النساء بالذكر. وأنت تعلم أن مفهوم المخالفة عند القائل به غير معتبر هنا لظهور نكتة تخصيص النساء بالذكر وفائدته، وادعى الإمام السيوطي أن فيها إشارة إلى حل النظر قبل النكاح لأن الطيب إنما يعرف به، ولا يخفى أن الإشارة ربما تسلم إلا أن الحصر ممنوع وهذا الحل ثبت في غير ما حديث، وفي صحيح مسلم أنه صلّى الله عليه وسلم قال للمتزوج امرأة من الأنصار: «أنظرت إليها؟ قال: لا، قال: فاذهب وانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا» وهو مذهب جماهير العلماء، وحكي عن قوم كراهته وهم محجوجون بالحديث والإجماع على جواز النظر للحاجة عند البيع والشراء والشهادة ونحوها، ثم إنه إنما يباح له النظر إلى الوجه والكفين، وقال الأوزاعي: إلى مواضع اللحم. وقال داود: إلى جميع بدنها وهو خطأ ظاهر منابذ لأصول السنة والإجماع، وهل يشترط رضا المرأة أم لا؟ الجمهور على عدم الاشتراط بل للرجل النظر مع الغفلة وعدم الرضا، وعن مالك كراهة النظر مع الغفلة، وفي رواية ضعيفة عنه لا يجوز النظر إليها إلا برضاها، واستحسن كثير كون هذا النظر قبل الخطبة حتى إن كرهها تركها من غير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 إيذاء بخلاف ما إذا تركها بعد الخطبة كما لا يخفى، وقال بعضهم: إن فيها إشارة أيضا إلى استحباب الزيادة على الواحدة لمن لم يخف عدم العدل لأنه سبحانه قدم الأمر بالزيادة وعلق أمر الواحدة بخوف عدم العدل، ويا ما أحيلى الزيادة إن ائتلفت الزوجات وصح جمع المؤنث بعد التثنية معربا بالضم من بين سائر الحركات، وهذا لعمري أبعد من العيوق، وأعز من الكبريت الأحمر، وبيض الأنوق: ما كل ما يتمنى المرء يدركه ... تجري الرياح بما لا تشتهي السفن ذلِكَ أي اختيار الواحدة أو التسري أو الجميع- وهو الأولى- وإليه يشير كلام ابن أبي زيد أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا والعول في الأصل الميل المحسوس يقال: عال الميزان عولا إذا مال، ثم نقل إلى الميل المعنوي وهو الجور، ومنه عال الحاكم إذا جار، والمراد هاهنا الميل المحظور المقابل للعدل أي ما ذكر من اختيار الواحدة والتسري أقرب بالنسبة إلى ما عداهما، من أن لا تميلوا ميلا محظورا لانتفائه رأسا بانتفاء محله في الأول، وانتفاء خطره في الثاني بخلاف اختيار العدد في المهائر، فإن الميل المحظور متوقع فيه لتحقق المحل والخطر، وإلى هذا ذهب بعض المحققين، وجوز بعضهم كون الإشارة إلى ثلاثة أمور: التقليل من الأزواج واختيار الواحدة والتسري، أي هذه الأمور الثلاثة أدنى من جميع ما عداها، والأول أظهر. وقد حكي عن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه فسر أَلَّا تَعُولُوا بأن لا تكثر عيالكم وقد ذكر الشهاب أنه خطأه وحاشاه فيه كثير من المتقدمين لأنه إنما يقال لمن كثرت عياله: أعال يعيل إعالة ولم يقولوا عال يعول. وأجيب بأن الإمام الشافعي سلك في هذا التفسير سبيل الكناية فقد جعل رضي الله تعالى عنه الفعل في الآية من عال الرجل عياله يعولهم كقولك: مانهم يمونهم إذا أنفق عليهم، ومن كثرت عياله لزمه أن يعولهم فاستعمل الإنفاق وأراد لازم معناه وهو كثرة العيال، واعترض بأن عال بمعنى مان وأنفق لا دلالة له على كثرة المئونة حتى يكنى به عن كثرة العيال، وأجيب بأن الراغب ذكر أن أصل معنى العول الثقل يقال: عاله أي تحمل ثقل مؤنته، والثقل إنما يكون في كثير الإنفاق لا في قليله فيراد من أَلَّا تَعُولُوا كثرة الإنفاق بقرينة المقام والسياق لأنه ليس المراد نفي المئونة والعيال من أصله إذ من تزوج واحدة كان عائلا وعليه مؤنة فالكلام كالصريح فيه واستعمال أصل الفعل في الزيادة فيه غير عزيز فلا غبار، وذكر في الكشف أنه لا حاجة إلى أصل الجواب عن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه فإن الكسائي نقل عن فصحاء العرب عال يعول إذا كثر عياله وممن نقله الأصمعي والأزهري وهذا التفسير نقله ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم وهو من أجلة التابعين، وقراءة طاوس- أن لا تعيلوا- مؤيدة له فلا وجه لتشنيع من شنع على الإمام جاهلا باللغات والآثار، وقد نقل الدوري إمام القراء أنها لغة حمير وأنشد: وإن الموت يأخذ كل حي ... بلا شك وإن أمشى وعالا أي وإن كثرت ماشيته وعياله، وأما ما قيل: إن عال بمعنى كثرت عياله يأتي وبمعنى جار واوي فليست التخطئة في استعمال عال في كثرة العيال بل في عدم الفرق بين المادتين، فرد أيضا بما اقتضاه كلام البعض من أن عال له معان: مال وجار وافتقر وكثرت عياله ومان وأنفق وأعجز، يقال: عالني الأمر أي أعجزني ومضارعه ويعيل يعول فهو من ذوات الواو والياء على اختلاف المعاني، تم المراد بالعيال على هذا التفسير يحتمل أن يكون الأزواج كما أشرنا إليه وعدم كثرة الأزواج في اختيار الواحدة وكذا في التقليل إن قلنا إنه داخل في المشار إليه ظاهر، وأما عدم كثرتهن في التسري فباعتبار أن ذلك صادق على عدمهنّ بالكلية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 ويحتمل أن يكون الأولاد وعدم كثرتهم في اختيار الواحدة وكذا في التقليل ظاهر أيضا، وأما عدم كثرتهم في التسري فباعتبار أنه مظنة قلة الأولاد إذ العادة على أن لا يتقيد المرء بمضاجعة السراري ولا يأبى العزل عنهن بخلاف المهائر فإن العادة على تقيد المرء بمضاجعتهن وإباء العزل عنهن وإن كان العزل عنهن كالعزل عن السراري جائزا شرعا بإذن وبغير إذن في المشهور من مذهب الشافعي، وفي بعض شروح الكشاف ما يدل على أن في ذلك خلافا عند الشافعية فمنعه بعضهم كما هو مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان بن عيينة أنه فسر أَلَّا تَعُولُوا بأن لا تفتقروا وقد قدمنا أن عال يجيء بمعنى افتقر، ومن وروده كذلك قوله: فما يدري الفقير متى غناه ... وما يدري الغنى متى «يعيل» إلا أن الفعل في البيت يائي لا واوي كما في الآية والأمر فيه سهل كما عرفت، وعلى سائر التفاسير الجملة مستأنفة جارية مما قبلها مجرى التعليل وَآتُوا النِّساءَ أي أعطوا النساء اللاتي أمر بنكاحهن صَدُقاتِهِنَّ جمع صدقة بفتح الصاد وضم الدال، وهي كالصداق بمعنى المهر، وقرئ صَدُقاتِهِنَّ بفتح الصاد وسكون الدال، وأصلها بضم الدال فخففت بالتسكين، وصَدُقاتِهِنَّ بضم الصاد وسكون الدال جمع صدقة بوزن غرفة، وقرئ صدقتهن بضم الصاد والدال على التوحيد، وأصله صدقة بضم الصاد وسكون الدال فضمت الدال اتباعا لضم الأول كما يقال: ظلمة وظلمة نِحْلَةً أي فريضة قاله ابن عباس وابن زيد وابن جريج وقتادة فانتصابها على الحالية من الصدقات أي أعطوهن مهورهنّ حال كونها فريضة من الله تعالى لهنّ. وقال الزجاج وابن خالويه: تدينا فانتصابها على أنها مفعول له أي أعطوهنّ ديانة وشرعة، وقال الكلبي: هبة وعطية من الله وتفضلا منه تعالى عليهن فانتصابها على الحالية من الصدقات أيضا، وقيل: عطية من الأزواج لهنّ فانتصابها على المصدر، أو على الحالية من ضمير آتوا أو من النساء أو من صدقاتهنّ. واعترض بأن الحال قيد للعامل ليلزم هنا كون الإيتاء قيدا للإيتاء والشيء لا يكون قيدا لنفسه، وأجيب بأن النحلة ليست مطلق الإيتاء بل هي نوع منه، وهو الإيتاء عن طيب نفس، فالمعنى أعطوهنّ صدقاتهن طيبي النفوس بالإعطاء، أو معاطاة عن طيب نفس، وعليه فالمصدر مبين للنوع «فإن قلت» : إن النحلة أخذ في مفهومها أيضا عدم العوض فكيف يكون المهر بلا عوض وهو في مقابلة البضع والتمتع به؟ أجيب بأنه لما كان للزوجة في الجماع مثل ما للزوج أو أزيد وتزيد عليه بوجوب النفقة والكسوة كان المهر مجانا لمقابلة التمتع بتمتع أكثر منه، وقيل: إن الصداق كان في شرع من قبلنا للأولياء بدليل قوله تعالى: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ [القصص: 27] إلخ، ثم نسخ فصار ذلك عطية اقتطعت لهنّ فسمي نحلة، وأيد- غير واحد- قول الكلبي: بأن ما وضع له لفظ النحلة هو العطية من غير عوض كما ذهب إليه جماعة، منهم الرماني، وجعل من ذلك النحلة للديانة لأنها كالنحلة التي هي عطية من الله تعالى والنحل للدبر لما يعطي من العسل، والناحل للمهزول لأنه يأخذ لحمه حالا بعد حال كأنه المعطيه بلا عوض، والمنحول من الشعر لأنه نحلة الشاعر ما ليس له. وحينئذ فمن فسر النحلة بالفريضة نظر إلى أن هذه العطية فريضة، والخطاب على ما هو المتبادر للأزواج وإليه ذهب ابن عباس وجماعة، واختاره الطبري والجبائي وغيرهما قيل: كان الرجل يتزوج بلا مهر يقول: أرثك وترثيني؟ فتقول: نعم، فأمروا أن يسرعوا إلى إعطاء المهور، وقيل: الخطاب لأولياء النساء فقد أخرج ابن حميد وابن أبي حاتم عن أبي صالح قال: كان الرجل إذا زوج أيما أخذ صداقها دونها فنهاهم الله تعالى عن ذلك ونزلت وَآتُوا النِّساءَ إلخ، وروي ذلك الجارود من الإمامية عن الباقر رضي الله تعالى عنه، وهذه عادة كثير من العرب اليوم، وهو حرام كأكل الأزواج شيئا من مهور النساء بغير رضاهنّ فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ الضمير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 للصدقات وتذكيره لإجرائه مجرى ذلك فإنه كثيرا ما يشار به إلى المتعدد كقوله تعالى: قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ [آل عمران: 15] بعد ذكر الشهوات المعدودة، وقد روي عن أبي عبيدة أنه قال: قلت لرؤبة في قوله: فيها خطوط من سواد وبلق ... كأنه في الجلد توليع البهق إن أردت الخطوط: فقل كأنها، وإن أردت السواد والبلق فقل كأنهما، فقال: أردت كأن ذلك ويلك، أو للصداق الواقع موقعه صَدُقاتِهِنَّ كأنه قيل: وآتوا النساء صداقهن والحمل على المعنى كثير، ومنه قوله تعالى: فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ [المنافقون: 10] حيث عطف على ما دل عليه المذكور ووقع موقعه، أو للصداق الذي في ضمن الجمع لأن المعنى آتوا كل واحدة من النساء صداقا، وقيل: الضمير عائد إلى الإيتاء، واعترض بأنه إنما يستقيم إذا أريد به المأتي، ورجوع ضمير إلى مصدر مفهوم، ثم تأويل ذلك المصدر بمعنى المفعول لا يخلو عن بعد، واللام متعلقة بالفعل وكذا عن بتضمينه معنى التجافي والتباعد، وإلا فأصله أن يتعدى لمثل ذلك بالباء كقوله: وما كاد نفسا بالفراق تطيب ومن متعلقة بمحذوف وقع صفة لشيء أي كائن من الصداق، وفيه بعث لهنّ على تقليل الموهوب حتى نقل (1) عن الليث أنه لا يجوز تبرعهن إلا باليسير ولا فرق بين المقبوض وما في الذمة إلا أن الأول هبة والثاني إبراء، ولذلك تعامل الناس على التعويض فيه ليرتفع الخلاف نَفْساً تمييز لبيان الجنس ولذا وحد، وتوضيح ذلك على ما ذكره بعض المحققين أن التمييز- كما قاله النحاة- إن اتحد معناه بالمميز وجبت المطابقة نحو كرم الزيدون رجالا كالخبر والصفة والحال، وإلا فإن كان مفردا غير متعدد وجب إفراده نحو- كرم بنو فلان أبا- إذا المراد أن أصلهم واحد، متصف بالكرم فإن تعدد وألبس وجب خلفه بظاهر نحو- كرم الزيدون آباء إذا أريد أن لكل منهم أبا كريما إذ لو أفرد توهم أنهم من أب واحد، والغرض خلافه وإن لم يلبس جاز الأمران، ومصحح الإفراد عدم الإلباس كما هنا لأنه لا يتوهم أن لهن نفسا واحدة ومرجحه أنه الأصل مع خفته ومطابقته لضمير منه، وهو اسم جنس والغرض هنا بيان الجنس، والواحد يدل عليه كقولك: عشرون درهما والمعنى فإن وهبن لكم شيئا من الصداق متجافيا عنه نفوسهن طيبات غير مخبثات بما يضطرهن إلى البذل من شكاسة أخلاقكم وسوء معاملتكم، وإنما أوثر ما في النظم الكريم دون فإن وهبن لكم شيئا منه عن طيب نفس إيذانا بأن العمدة في الأمر طيب النفس وتجافيها عن الموهوب بالمرة حيث جعل ذلك مبتدأ وركنا من الكلام لا فضلة كما في التركيب المفروض فَكُلُوهُ أي فكلوا ذلك الشيء الذي طابت لكم عنه نفوسهن وتصرفوا فيه تملكا، وتخصيص الأكل بالذكر لأنه معظم وجوه التصرفات المالية. هَنِيئاً مَرِيئاً صفتان من- هنؤ الطعام يهنؤ هناءة. ومرؤ يمرؤ مراءة- إذا لم يثقل على المعدة وانحدر عنها طيبا. وفي الصحاح نقلا عن الأخفش يقال: هنؤ وهنئ ومرؤ ومرىء، كما يقال: فقه وفقه- بكسر القاف وضمها- ويقال: هنأني الطعام يهنئني وينهنأني ولا نظير له في المهموز هنأ وهنأ، وتقول: هنئت الطعام أي تهنأت به وكذا يقال: مرأني الطعام يمرأ مرءا، وقال بعضهم: أمرأني، وقال الفراء: يقال: هنأني الطعام ومرأني بغير ألف فإذا أفردوها عن هنأني قالوا: أمرأني، وقيل الهنيء الذي يلذه الآكل، والمريء ما تحمد عاقبته، وقيل: ما ينساغ في مجراه الذي هو المريء كأمير- وهو رأس المعدة، والكرش اللاصق بالحلقوم سمي به لمرور الطعام فيه أي انسياغه، وانتصابهما- كما قال الزمخشري- على أنهما صفتان للمصدر أي أكلا هنيئا مريئا ووصف المصدر بهما كما قال السعد: على الإسناد   (1) وعن الأوزاعي- كما في الكشاف- لا يجوز تبرعها ما لم تلد. أو تقم في بيت زوجها سنة اهـ منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 المجازي إذ الهنيء حقيقة هو المأكول أو على أنهما حالان من الضمير المنصوب أي كلوه وهو هنيء مريء، وقد يوقف على كلوه ويبتدأ هنيئا مريئا على الدعاء وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدرين كأنه قيل: هنا مرأ، وأورد على ذلك مع أن الدعاء لا يكون من الله تعالى حتى أولوه أنه تحريف لكلام النحاة ومخالفة لهم، فإنهم يجعلون انتصاب هنيئا على الحال، ومريئا إما على الحال، وإما على الوصف، ويدل على فساد ما خرّجه الزمخشري- وصحة قول النحاة- ارتفاع الأسماء الظاهرة بعدا هنيئا مرئيا ولو كانا منتصبين انتصاب المصادر المراد بها الدعاء لما جاز ذلك فيها كما لا يجوز أن يقال: في سقيا لك ورعيا سقيا الله تعالى لك ورعيا الله لك، وإن كان ذلك جائزا في فعله، والدليل على جواز رفع الأسماء الظاهرة بعدهما قول كثير: «هنيئا مريئا» غير داء مخامر ... لعزة من أعراضنا ما استحلت فإن (ما) مرفوعة بما تقدم من هنيئا أو مريئا على طريق الإعمال، وجاز الإعمال في هذه المسألة، وإن لم يكن بينهما رابط عطف لكون مريئا في الغالب (1) لا يستعمل إلا تابعا لهنيئا فصارا كأنهما مرتبطان لذلك ورد بأن سيبويه قال: هنيئا مريئا صفتان نصبهما نصب المصادر المدعو بها بالفعل غير المستعمل إظهاره المختزل لدلالة الكلام عليه، وفيه أنه ليس بنص فيما ذهب إليه الزمخشري لاحتمال أنه أراد أنهما صفتان منصوبان على الحالية، والعامل فيهما فعل محذوف يدل الكلام عليه كالمصادر المدعو بها في أنها معمولة لفعل محذوف يدل الكلام عليه، ويؤيد ذلك أنه قال بعد ذلك كأنهم قالوا: ثبت ذلك هنيئا فإن هذا مما يقال: على تقدير إقامتهما مقام المصدر، ومن هنا قال السفاقسي: إن مذهب سيبويه والجماعة أنهما حال منصوب بفعل مقدر محذوف وجوبا لقيامهما مقامه كقولك: أقائما وقد قعد الناس، واعترض بهذا على ما تقدم من احتمال جعلهما حالا من الضمير المنصوب في فَكُلُوهُ إذ عليه يكونان من جملة أخرى لا تعلق لهما- بكلوا- من حيث الإعراب واعترض أيضا على الاستدلال بالبيت على رفع الظاهر بهما بأنه لا يتم لجواز أن تكون ما مرفوعة بالابتداء ولعزة خبره، أو مرفوعة بفعل مقدر، وكيفما كان الأمر يكون قوله سبحانه ذلك عبارة عن التحليل والمبالغة في الإباحة وإزالة التبعة، وفي كتاب العياشي من الإمامية مرفوعا إلى عليّ كرم الله تعالى وجهه أنه جاءه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إن في بطني وجعا فقال: ألك زوجة؟ قال: نعم قال استوهب منها شيئا طيبة به نفسها من مالها ثم اشتر به عسلا ثم اسكب عليه من ماء السماء ثم اشربه فإني سمعت الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه: وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً [ق: 9] وقال تعالى: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ [النحل: 69] وقال عز شأنه: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً فإذا اجتمعت البركة والشفاء والهنيء والمريء شفيت إن شاء الله تعالى ففعل الرجل ذلك فشفي، وأخرج عبد بن حميد وغيره من أصحابنا عن علي كرم الله تعالى وجهه ما يقرب من هذا بلفظ إذا اشتكى أحدكم فليسأل امرأته ثلاثة دراهم أو نحوها فليشتر بها عسلا وليأخذ من ماء السماء فيجمع هنيئا مرئيا وشفاء ومباركا وأخرج ابن جرير عن حضرمي أن أناسا يتأثمون أن يرجع أحدهم في شيء مما ساقه الى امرأته فنزلت هذه الآية، وفيها دليل على ضيق المسلك في ذلك ووجوب الاحتياط حيث بني الشرط على طيب النفس وقلما يتحقق ولهذا كتب عمر رضي الله تعالى عنه إلى قضاته أن النساء تعطين رغبة ورهبة فأيما امرأة أعطت ثم أرادت أن ترجع فذلك لها   (1) ومن غير الغالب قوله صلّى الله عليه وسلم في حديث الاستسقاء: «اسقنا غيثا مريئا» اهـ منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 وحكى الشعبي أن رجلا أتى مع امرأته شريحا في عطية أعطتها إياه وهي تطلب أن ترجع فقال شريح: ردها عليها فقال الرجل: أليس قد قال الله تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ قال: لو طابت نفسها عنه لما رجعت فيه، وعنه ولا أقيلها وهبت ولا أقيله لأنهن يخدعن والذي عليه الحنفيون أن الزوجة إذا وهبت شيئا للزوج ليس لها الرجوع فيه بل ذكر ابن هبيرة اتفاق الأئمة الأربعة على أنه ليس لأحد من الزوجين الرجوع فيما وهب لصاحبه. وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ رجوع إلى بيان بقية الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى وتفصيل ما أجمل فيما سبق من شرط إيتائها وكيفيته إثر بيان الأحكام المتعلقة بالأنفس أعني النكاح، وبيان بعض الحقوق المتعلقة بالأجنبيات من حيث النفس ومن حيث المال استطرادا إذ الخطاب- كما يدل عليه كلام عكرمة- للأولياء، وصرح هو وابن جبير بأن المراد من السُّفَهاءَ اليتامى، ومن أَمْوالَكُمُ أموالهم وإنما أضيفت إلى ضمير الأولياء المخاطبين- تنزيلا لاختصاصها بأصحابها منزلة اختصاصها بهم فكأن أموالهم عين أموالهم لما بينهم وبينهم من الاتحاد الجنسي والنسبي- مبالغة في حملهم على المحافظة عليها، ونظير ذلك قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: 29] فإن المراد لا يقتل بعضكم بعضا إلا أنه عبر عن نوعهم بأنفسهم مبالغة في الزجر عن القتل حتى كأن قتلهم قتل أنفسهم، وقد أيد ذلك بما دل عليه قوله سبحانه: الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً حيث غير عن جعلها مناطا لمعاش أصحابها بجعلها مناطا لمعاش الأولياء، ومفعول جعل الأول محذوف وهو ضمير الأموال، والمراد من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 القيام ما به القيام والتعيش، والتعبير بذلك زيادة في المبالغة وهو المفعول الثاني لجعل، وقد جوز أن يكون المحذوف وحده مفعولا، وهذا حالا منه، وقيل: إنما أضيفت الأموال إلى ضمير الأولياء نظرا إلى كونها تحت ولايتهم. واعترض بأنه وإن كان صحيحا في نفسه لأن الإضافة لأدنى ملابسة ثابتة في كلامهم كما في قوله: إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرة ... سهيل أذاعت غزالها في القرائب إلا أنه غير مصحح لاتصاف الأموال بما بعدها من الصفة، وقيل: إنما أضيفت إلى ضميرهم لأن المراد بالمال جنسه مما يتعيش الناس به ونسبته إلى كل أحد كنسبته إلى الآخر لعموم النسبة والمخصوص بواحد دون واحد شخص المال فجاز أن ينسب حقيقة إلى الأولياء كما ينسب إلى الملاك، ويؤيد ذلك وصفه بما لا يختص بمال دون مال، واعترض بأن ذلك بمعزل عن حمل الأولياء على المحافظة المذكورة كيف لا والواحدة الجنسية المالية ليست مختصة بما بين أموال اليتامى وأموال الأولياء بل هي متحققة بين أموالهم وأموال الأجانب فإذا لا وجه لاعتبارها أصلا، وروي أنه سئل الصادق رضي الله تعالى عنه عن هذه الإضافة، وقيل له: كيف كانت أموالهم أموالنا؟ فقال: إذ كنتم وارثين لهم، وفيه احتمالان: أحدهما أنه إشارة إلى ما ذكرناه أولا في توجيه الإضافة، وثانيهما أن ذلك من مجاز الأول، ويرد عليه حينئذ بعد القول بكذب نسبته إلى الصادق رضي الله تعالى عنه أن الأول غير متحقق بل العادة في الغالب على خلافه، والحمل على التفاؤل مما يتشاءم منه الذوق السليم. وذكر العلامة الطيبي أنه إنما أضيف الأموال إلى اليتامى في قوله تعالى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ ولم يضفه إليهم هنا مع أن الأموال في الصورتين لهم ليؤذن بترتب الحكم على الوصف فيهما فإن تسميتهم يتامى هناك يناسب قطع الطمع فيفيد المبالغة في ردّ الأموال إليهم، فاقتضى ذلك أن يقال: أموالهم، وأما الوصف هنا فهو السفاهة فناسب أن لا يختصوا بشيء من المالكية لئلا يتورطوا في الأموال فلذلك لم يضف أموالهم إليهم وأضافها إلى الأولياء انتهى، ولا يخفى أنه بيان للعلة المرجحة لإضافة الأموال لمن ذكر، وينبغي أن تكون العلة المصححة ما مرّ آنفا، ثم وصف اليتامى بأنهم سفهاء باعتبار خفة أحلامهم واضطراب آرائهم لما فيهم من الصغر وعدم التدرب، وأصل السفه الخفة والحركة، يقال: تسفهت الريح الشجر أي مالت به، قال ذو الرمة: جرين كما اهتزت رماح «تسفهت» ... أعاليها مر الرياح النواسم وقال أيضا: على ظهر مقلات «سفيه» جديلها يعني خفيف زمامها، ولكون هذا الوصف مما ينشأ منه تبذير المال وتلفه المخل بحال اليتيم ناسب أن يجعل مناطا لهذا الحكم، وقد فسر السفهاء بالمبذرين بالفعل من اليتامى؟ وإلى تفسير الآية بما ذكرنا ذهب الكثير من المتأخرين، وروي عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما أن المراد بالسفهاء النساء والصبيان، والخطاب لكل أحد كائنا من كان، والمراد نهيه عن إيتاء ماله من لا رشد له من هؤلاء، وقيل: إن المراد بهم النساء خاصة، وروي عن مجاهد وابن عمر، وروي (1) عن أنس بن مالك أنه قال: «جاءت امرأة سوداء جرية المنطق ذات ملح إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله قل فينا خيرا مرة واحدة فإنه بلغني أنك تقول فيناكل شر قال:   (1) ذكر ذلك الطبرسي. ولي في صحته شك اهـ منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 أي شيء قلت فيكن؟ قالت: سميتنا السفهاء فقال: الله تعالى سماكن السفهاء في كتابه، قالت: وسميتنا النواقص، قال: كفى نقصانا أن تدعن من كل شهر خمسة أيام لا تصلين فيها، ثم قال: أما يكفي إحداكن أنها إذا حملت كان لها كأجر المرابط في سبيل الله تعالى وإذا وضعت كانت كالمتشحط في دمه في سبيل الله تعالى فإذا أرضعت كان لها بكل جرعة كعتق رقبة من ولد إسماعيل فإذا سهرت كان لها بكل سهرة تسهرها كعتق رقبة من ولد إسماعيل وذلك للمؤمنات الخاشعات الصابرات اللاتي لا يكفرن العشير فقالت السوداء: يا له من فضل لولا ما يتبعه من الشرط» . وقيل: إن السفهاء عام في كل سفيه من صبي أو مجنون أو محجور عليه للتبذير، وقريب منه ما روي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن السفيه شارب الخمر ومن يجري مجراه، وجعل الخطاب عاما أيضا للأولياء وسائر الناس والإضافة في أَمْوالَكُمُ لا تفيد إلا الاختصاص وهو شامل لاختصاص الملكية واختصاص التصرف، وأيد ما ذهب إليه الكثير بأنه الملائم للآيات المتقدمة والمتأخرة، ومن ذهب إلى غيره جعل ذكر هذا الحكم استطرادا وكون ذلك مخلا بجزالة النظم الكريم محل تأمل، وقرأ نافع وابن عامر «قيما» بغير ألف، وفيه- كما قال أبو البقاء- ثلاثة أوجه: أحدها أنه مصدر مثل الحول والعوض وكان القياس أن تثبت الواو لتحصنها بتوسطها كما صحت في العوض والحول لكن أبدلوها ياء حملا على قيام، وعلى اعتلالها في الفعل، والثاني أنها جمع قيمة- كديمة وديم- والمعنى أن الأموال كالقيم للنفوس إذ كان بقاؤها بها، وقال أبو علي: هذا لا يصح لأنه قد قرئ في قوله تعالى: دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ [الأنعام: 161] وقوله سبحانه: الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً [المائدة: 97] ولا يصح معنى القيمة فيهما. والثالث أن يكون الأصل قياما فحذفت الألف كما حذفت في خيم، وإلى هذا ذهب بعض المحققين وجعل ذلك مثل عوذا وعياذا، وقرأ ابن عمر- قواما- بكسر القاف وبواو وألف، وفيه وجهان: الأول أنه مصدر قاومت قواما مثل لاوذت لواذا فصحت في المصدر كما صحت في الفعل، والثاني أنه اسم لما يقوم به الأمر وليس بمصدر، وقرئ كذلك إلا أنه بغير ألف وهو مصدر صحت عينه وجاءت على الأصل كالعوض، وقرئ بفتح القاف وواو وألف، وفيه وجهان: أحدهما: أنه اسم مصدر مثل السلام والكلام والدوام، وثانيهما: أنه لغة في القوام الذي هو بمعنى يقال: جارية حسنة القوام والقوام والمعنى التي جعلها الله تعالى سبب بقاء قامتكم، وعلى سائر القراءات في الآية إشارة إلى مدح الأموال وكان السلف يقولون: المال سلاح المؤمن ولأن أترك مالا يحاسبني الله تعالى عليه خير من أن أحتاج إلى الناس، وقال عبد الله بن عباس: الدراهم والدنانير خواتيم الله في الأرض لا تؤكل ولا تشرب حيث قصدت بها قضيت حاجتك، وقال قيس بن سعد: اللهم ارزقني حمدا ومجدا فإنه لا حمد إلا بفعال ولا مجد إلا بمال، وقيل لأبي الزناد: لم تحب الدراهم وهي تدنيك من الدنيا؟ فقال: هي وإن أدنتني منها فقد صانتني عنها، وفي منثور الحكم من استغنى كرم على أهله، وفيه أيضا الفقر مخذلة والغنى مجذلة والبؤس مرذلة والسؤال مبذلة. وكانوا يقولون: اتجروا واكتسبوا فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل دينه، وقال أبو العتاهية: أجلك قوم حين صرت إلى الغنى ... وكل غنى في العيون جليل إذا مالت الدنيا على المرء رغبت ... اليه ومال الناس حيث يميل وليس الغنى إلا غنى زين الفتى ... عشية يقرى أو غداة ينيل وقد أكثر الناس في مدح المال واختلفوا في تفضيل الغنى والفقر، واستدل كل على مدعاه بما لا يتسع له هذا المجال، ولشيخنا علاء الدين أعلى الله تعالى درجته في أعلى عليين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 قالوا اغتنى ناس وإنا نرى ... عنك وأنت العلم المال مال قلت غنى النفس كمال الغنى ... والفقر كل الفقر فقد الكمال «وله أيضا» : قالوا حوى المال رجال وما ... على كمال نلت هذا المنال فقلت حازوا بعض أجزائه ... وإنني حزت جميع الكمال وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ أي اجعلوها مكانا لرزقهم وكسوتهم بأن تتجروا وتربحوا حتى تكون نفقاتهم من الأرباح لا من صلب المال لئلا يأكله الإنفاق، وهذا ما يقتضيه جعل الأموال نفسها ظرفا للرزق والكسوة، ولو قيل: منها كان الإنفاق من نفس المال، وجوز بعضهم أن تكون في بمعنى من التبعيضية. وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً أي كلاما تطيب به نفوسهم كأن يقول الولي لليتيم: مالك عندي وأنا أمين عليه فإذا بلغت ورشدت أعطيتك مالك، وعن مجاهد وابن جريج أنهما فسرا القول المعروف بعدة جميلة في البر والصلة، وقال ابن عباس: هو مثل أن يقول: إذا ربحت في سفري هذا فعلت بك ما أنت أهله، وإن غنمت في غزاي جعلت لك حظا، وقال الزجاج: علموهم- مع إطعامكم وكسوتكم إياهم- أمر دينهم مما يتعلق بالعلم والعمل، وقال القفال: إن كان صبيا فالوصي يعرفه أن المال ماله وأنه إذا زال صباه يرد المال إليه، وإن كان سفيها وعظه وحثه على الصلاة وعرفه أن عاقبة الإتلاف فقر واحتياج. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في الآية إن كان ليس من ولدك ولا ممن يجب عليك أن تنفق عليه فقل له: عافانا الله تعالى وإياك بارك الله تعالى فيك، ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر لما أنه ظاهر في أن الخطاب في هذه الجملة ليس للأولياء، وبالجملة كل ما سكنت إليه النفس لحسنه شرعا أو عقلا من قول أو عمل معروف، وكل ما أنكرته لقبحه شرعا أو عقلا منكر- قاله غير واحد- وليس إشارة إلى المذهبين في الحسن والقبح هل هو شرعي أو عقلي- كما قيل- إذ لا خلاف بيننا وبين القائلين بالحسن والقبح العقليين في الصفة الملائمة للغرض والمنافرة له، وإن منها ما مأخذه العقل وقد يرد به الشرع، وإنما الخلاف- فيما يتعلق به المدح والذم عاجلا والثواب والعقاب آجلا- هل هو مأخذه للشرع فقط أو العقل على ما حقق في الأصول وَابْتَلُوا الْيَتامى شروع في تعيين وقت تسليم أموال اليتامى إليهم وبيان شرطه بعد الأمر بإيتائها على الإطلاق، والنهي عنه عند كون أصحابها سفهاء- قاله شيخ الإسلام- وهو ظاهر على تقدير أن يراد السفهاء المبذرين (1) بالفعل من اليتامى وأما على تقدير أن يراد بهم اليتامى مطلقا ووصفهم بالسفه باعتبار ما أشير إليه فيما مر ففيه نوع خفاء، وقيل: إن هذا رجوع إلى بيان الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى لا شروع وهو مبني على أن ما تقدم كان مذكورا على سبيل الاستطراد والخطاب للأولياء، والابتلاء الاختبار أي- واختبروا من عندكم من اليتامى بتتبع أحوالهم في الاهتداء إلى ضبط الأموال وحسن التصرف فيها وجربوهم بما يليق بحالهم- والاقتصار على هذا الاهتداء رأي أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، والشافعي رحمه الله تعالى يعتب مع هذا أيضا الصلاح في الدين، إلى ذلك ذهب ابن جبير، ونسب إلى ابن عباس، والحسن. واتفق الإمامان رضي الله تعالى عنهما على أن هذا الاختبار قبل البلوغ وظاهر الكلام يشهد لهما لما تدل عليه الغاية، وقال الإمام مالك: إنه بعد البلوغ، وفرع الإمام الأعظم على كون الاختيار قبل أن تصرفات العاقل المميز بإذن   (1) قوله: «المبذرين» كذا بخط المؤلف اهـ مصححه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 الولي صحيحة لأن ذلك الاختبار إنما يحصل إذا أذن له في البيع والشراء مثلا، وقال الشافعي: الاختيار لا يقتضي الإذن في التصرف لأنه يتوقف على دفع المال إلى اليتيم- وهو موقوف على الشرطين- وهما إنما يتحققان بعد، بل يكون بدونه على حسب ما يليق بالحال، فولد التاجر مثلا يختبر في البيع والشراء إلى حيث يتوقف الأمر على العقد وحينئذ يعقد الولي إن أراد وعلى هذا القياس حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ أي إذا بلغوا حدّ البلوغ وهو إما بالاحتلام، أو بالسن- وهو خمس عشرة سنة- عند الشافعي وأبي يوسف ومحمد- وهي رواية عن أبي حنيفة- وعليها الفتوى عند الحنفية لما أن العادة الفاشية أن الغلام والجارية يصلحان للنكاح وثمرته في هذه المدة ولا يتأخران عنها، والاستدلال بما أخرجه البيهقي في الخلافيات من حديث أنس إذا استكمل المولود خمس عشرة سنة كتب ماله وما عليه وأقيمت عليه الحدود- ضعيف لأن البيهقي نفسه صرح بأن إسناد الحديث ضعيف، وشاع عن الإمام الأعظم أن السن للغلام تمام ثماني عشرة سنة وللجارية تمام سبع عرة سنة، وله في ذلك قوله تعالى: حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ [الأنعام: 152] وأشدّ الصبي ثماني عشرة سنة- هكذا قاله ابن عباس- وتابعه القتبي، وهذا أقل ما قيل فيه فيبنى الحكم عليه للتيقن غير أن الإناث نشوءهن وإدراكهن أسرع فنقصنا في حقهن سنة لاشتمالها على الفصول الأربعة التي يوافق واحد منها المزاج لا محالة، وعنه في الغلام تسع عشرة سنة، والمراد أن يطعن في التاسعة عشرة ويتم له ثماني عشرة، وقيل: فيه اختلاف الرواية لذكر حتى يستكمل تسع عشرة سنة. وشاع عن الإمام الشافعي أنه قد جعل الإنبات دليلا على البلوغ في المشركين خاصة، وشنع ابن حزم الضال عليه، والذي ذكره الشافعية أنه إذا أسر مراهق ولم يعلم أنه بالغ فيفعل فيه ما يفعل بالبالغين من قتل ومنّ وفداء بأسرى منا أو مال واسترقاق. أو غير بالغ فيفعل فيه ما يفعل بالصبيان من الرق يكشف عن سوأته فإن أنبت فله حكم الرجال وإلا فلا وإنما يفعل به ذلك لأنه لا يخبر المسلمين ببلوغه خوفا من القتل بخلاف المسلم فإنه لا يحتاج إلى معرفة بلوغه بذلك، ولا يخفى أن هذا لا يصلح محلا للتشنيع وغاية ما فيه أنه جعل الإنبات سببا لإجراء أحكام الرجال عليه في هذه المسألة لعدم السبيل إلى معرفة البلوغ فيها وصلاحتيه لأن يكون أمارة في الجملة لذلك ظاهرة، وأما أن فيه أن الإنبات أحد أدلة البلوغ مثل الاحتلام والإحبال والحيض والحبل في الكفار دون المسلمين فلا فَإِنْ آنَسْتُمْ أي أحسستم- قاله مجاهد- وأصل معنى الاستئناس- كما قال الشهاب- النظر من بعد مع وضع اليد على العين إلى قادم ونحوه مما يؤنس به، ثم عم في كلامهم قال الشاعر: «آنست» نبأة وأفزعها الق ... ناص عصرا وقد دنا الإمساء ثم استعير للتبين أي علم الشيء بينا، وزعم بعضهم أن أصله الإبصار مطلقا وأنه أخذ من إنسان العين وهو حدقتها التي يبصر بها، وهو هنا محتمل لأن يراد منه المعنى المجازي أو المعنى الحقيقي، وقرأ ابن مسعود أحستم بحاء مفتوحة وسين ساكنة، وأصله أحسستم بسينين نقلت حركة الأولى إلى الحاء وحذفت لالتقاء الساكنين إحداهما على غير القياس، وقيل: إنها لغة سليم وإنها مطردة في عين كل فعل مضاعف اتصل بها تاء الضمير، أو نونه كما في قول أبي زيد الطائي: خلا أن العتاق من المطايا ... أحسن به فهن إليه شوس مِنْهُمْ رُشْداً أي اهتداء إلى ضبط الأموال وحسن التصرف فيها، وقيل: صلاحا في دينهم وحفظا لأموالهم، وتقديم الجار والمجرور لما مر غير مرة، وقرئ رشدا بفتحتين، ورشدا بضمتين، وهما بمعنى رشدا، وقيل: الرشد، بالضم في الأمور الدنيوية والأخروية، وبالفتح في الأخروية لا غير، والراشد والرشيد يقال فيهما فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 أَمْوالَهُمْ أي من غير تأخير عن حدّ البلوغ كما تدل عليه الفاء، وفي إيثار الدفع على الإيتاء في أول الأمر إيذان على ما ذهب إليه البعض بتفاوتهما بحسب المعنى، وقد تقدم الكلام في ذلك، ونظم الآية أن حتى هي التي تقع بعدها الجمل كالتي في قوله: سريت بهم حتى تكل مطيهم ... وحتى الجياد ما يقدن بأرسان وتسمى ابتدائية في ذلك، ولا يذهب منها معنى الغاية كما نصوا عليه في عامة كتب النحو، وذكره الكثير من الأصوليين خلافا لمن وهم فيه، وما بعدها جملة شرطية جعلت غاية للابتلاء، وفعل الشرط بلغوا وجوابه الشرطية الثانية كما حققه غير واحد من المعربين، وبيان ذلك أنه ذكر في شرح التسهيل لابن عقيل أنه إذا توالى شرطان فأكثر كقولك: إن جئتني إن وعدتك أحسنت إليك فأحسنت إليك جواب إن جئتني، واستغنى به عن جواب إن وعدتك، وزعم ابن مالك أن الشرط الثاني مقيد للأول بمنزلة الحال، وكأنه قيل: إن جئتني في حال وعدي لك، والصحيح في هذه المسألة أن الجواب للأول، وجواب الثاني محذوف لدلالة الشرط الأول وجوابه عليه فإذا قلت: إن دخلت الدار إن كلمت زيدا إن جاء إليك فأنت حر، فأنت حرّ جواب إن دخلت، وإن دخلت وجوابه دليل جواب إن كلمت، وإن كلمت وجوابه دليل جواب إن جاء، والدليل على الجواب جواب في المعنى، والجواب متأخر فالشرط الثالث مقدم وكذا الثاني فكأنه قيل: إن جاء فإن كلمت فإن دخلت فأنت حر فلا يعتق إلا إذا وقعت هكذا مجيء ثم كلام ثم دخول، وهو مذهب الشافعي، وذكر الجصاص أن فيها خلافا بين محمد وأبي يوسف، وليس مذهب الشافعي فقط والسماع يشهد له قال: إن تستغيثوا بنا إن تذعروا تجدوا ... منا معاقد عز زانها كرم وعليه فصحاء المولدين، وقال بعض الفقهاء: الجواب للأخير والشرط الأخير وجوابه جواب الثاني، والشرط الثاني وجوابه جواب الأول فعلى هذا لا يعتق حتى يوجد هكذا دخول ثم كلام ثم مجيء، وقال بعضهم: إذا اجتمعت حصل العتق من غير ترتيب وهذا إذا كان التوالي بلا عاطف فإن عاطف بأو فالجواب لأحدهما دون تعيين نحو- إن جئتني، أو إن أكرمت زيدا أحسنت إليك- وإن كان بالواو فالجواب لهما، وإن كان بالفاء فالجواب للثاني، وهو وجوابه جواب الأول فتخرج الفاء عن العطف وما نحن فيه من المقرون بالفاء وهي رابطة للجواب كالفاء الثانية وما خرجناه عليه هو الذي ارتضاه جماعة منهم الزمخشري ومذهب الزجاج. وبعض النحاة والمئونة عليه أقل أن حتى الداخلة على هذه الجملة حرف جر، وإذا ممتحضة للظرفية وليس فيها معنى الشرط، والعامل فيها على التقدير الأول ما يتلخص من معنى جوابها والمعنى (1) وَابْتَلُوا الْيَتامى إلى وقت بلوغهم فاستحقاقهم دفع أموالهم إليهم بشرط إيناس الرشد منهم، وعبر في البلوغ بإذا وفي الإيناس بإن للفرق بينهما ظهورا وخفاء وظاهر الآية الكريمة أنه لا يدفع إليهم ولو بلغوا ما لم يؤنس منهم الرشد، وهو مذهب الشافعي وقول الإمامين، وبه قال مجاهد، فقد أخرج ابن المنذر، وغيره عنه أنه قال: لا يدفع إلى اليتيم ماله وإن شمط ما لم يؤنس منه رشد، ونسب إلى الشعبي، وقال الإمام الأعظم: إذا زادت على سن البلوغ سبع سنين وهي مدة معتبرة في تغير الأحوال إذ الطفل يميز بعدها ويؤمر بالعبادة كما في الحديث- يدفع إليه ماله، وإن لم يؤنس الرشد لأن المنع كان لرجاء التأديب فإذا بلغ ذلك السن ولم يتأدب انقطع عنه لرجاء غالبا فلا معنى   (1) تلخيص للمعنى وإظهار لكون المقصود الجزاء أعني الدفع وأن استحقاقهم الدفع لا يتخلف عن البلوغ البتة عند تحقق الشرط كذا في الكشف اهـ منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 للحجر بعده وفي الكافي وللإمام الأعظم قوله تعالى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ، والمراد بعد البلوغ فهو تنصيص على وجوب دفع المال بعد البلوغ إلا أنه منع عنه ماله قبل هذه المدة بالإجماع ولا إجماع هنا فيجب دفع المال بالنص والتعليق بالشرط لا يوجب العدم عند العدم عندنا على أن الشرط رشد نكرة فإذا صار الشرط في حكم الوجود بوجه وجب جزاؤه، وأول أحوال البلوغ قد يقارنه السفه باعتبار أثر الصبا وبقاء أثره كبقاء عينه، وإذا امتد الزمان وظهرت الخبرة والتجربة لم يبق أثر الصبا وحدث ضرب من الرشد لا محالة لأنه حال كمال لبه فقد ورد عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: ينتهي لب الرجل إذا بلغ خمسا وعشرين. وقال أهل الطباع: من بلغ خمسا وعشرين سنة فقد بلغ أشده ألا ترى أنه قد يصير جدا صحيحا في هذا السن لأن أدنى مدة البلوغ اثنا عشر حولا وأدنى مدة الحمل ستة أشهر، ففي هذه المدة يمكن أن يولد له ابن ثم ضعف هذا المبلغ يولد لابنه ابن. وأنت تعلم أن الاستدلال بما ذكر من الآية على الوجه الذي ذكر ظاهر بناء على أن المراد بالإيتاء فيها الدفع، وقد مر الكلام في ذلك، واعترض على قوله: على أن الشرط إلخ بأنه إذا كان ضرب من الرشد كافيا- كما يشعر به التنكير وكان ذلك حاصلا لا محالة في ذلك السن كما هو صريح كلامه، واستدل عليه بما استدل- كان الدفع حينئذ عند إيناس الرشد- وهو مذهب الشافعي، وقول الإمامين- فلم يصح أن يقال: إن مذهب الإمام وجوب دفع مال اليتيم إليه إن أونس منه الرشد أو لم يؤنس غاية ما في الباب أنه يبقى خلاف بين الإمام وغيره في أن الرشد المعتبر شرطا للدفع في الآية ماذا- وهو أمر آخر وراء ما شاع عن الإمام رضي الله تعالى عنه في هذه المسألة- وأيضا إن أريد بهذا الضرب من الرشد الذي أشار إليه التنوين هو الرشد في مصلحة المال فكونه لا بدّ وأن يحصل في سن خمس وعشرين سنة في حيز المنع، وإن أريد ضرب من الرشد كيفما كان فهو على فرض تسليم حصوله إذ ذاك لا يجدي نفعا إذ الآية كالصريحة في اشتراط الضرب الأول فقد قال الفخر: لا شك أن المراد من ابتلاء اليتامى المأمور به ابتلاؤهم فيما يتعلق بمصالح حفظ المال، وقد قال الله تعالى بعد ذلك الأمر فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فيجب أن يكون المراد فإن آنستم رشدا في ضبط مصالحه فإنه إن لم يكن المراد ذلك تفكك النظم ولم يبق للبعض تعلق بالبعض، وإذا ثبت هذا علمنا أن الشرط المعتبر في الآية هو حصول الرشد في رعاية مصالح المال لا ضرب من الرشد كيف كان، ثم قال: والقياس الجلي يقوي الاستدلال بالآية لأن الصبي إنما منع منه المال لفقدان العقل الهادي إلى كيفية حفظ المال وكيفية الانتفاع به، فإذا كان هذا المعنى حاصلا في الشاب والشيخ كانا في حكم الصبي فوجب أن يمنع دفع المال إليهما إن لم يؤنس منهما الرشد ومنه يعلم ما في التعليل السابق أعني قولهم لأن المنع كان لرجاء التأديب إلخ من النظر ولقوة كلام المخالف في هذه المسألة شنع الضال ابن حزم كعادته مع سائر أئمة الدين على الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه، وتابعه في ذلك سفهاء الشيعة- كيوسف الأوالي وغيره- ولا يخفى أن المسألة من الفروع، وكم لابن حزم وأتباعه فيها من المخالفات للكتاب والسنة ومتمسكهم في ذلك بما هو أوهى وأوهن من بيت العنكبوت. ومن أمعن النظر فيما ذهب إليه الإمام علم أن نظره رضي الله تعالى عنه في ذلك دقيق لأن اليتيم بعد أن بلغ مبلغ الرجال واعتبر إيمانه وكفره وصار مورد الخطابات الإلهية والتكاليف الشرعية وسلم الله تعالى إليه نفسه يتصرف بها حسب اختياره المترتب عليه المدح والذم والثواب والعقاب كان منع ماله عنه وتصرف الغير به أشبه الأشياء بالظلم، ثم هذا وإن اقتضى دفع المال إليه بعد البلوغ مطلقا من غير تأخير إلى بلوغه سن خمس وعشرين فيمن بلغ غير رشيد إلا أنا أخرنا الدفع إلى هذه المدة للتأديب ورجاء الرشد والكف عن السفه وما فيه تبذير المال وإفساده، نظير ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 من وجه أخذ أموال البغاة وحبسها عنهم ليفيئوا، واعتبرت الزيادة سبع سنين لأنها- كما تقدم- مدة معتبرة في تغير الأحوال، والعشر مثلا وإن كانت كذلك كما يشير إليه قوله صلّى الله عليه وسلم: «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع» إلا أنا اعتبرنا الأقل لأنه كاف في الغرض غالبا، ولا يرد أن المنع يدور مع السفه لأنا لا نسلم أنه يدور مع السفه مطلقا بل مع سفه الصبا ولا نسلم بقاءه بعد تلك المدة على أن التعليق بالشرط لا يوجب العدم عند عدمه عندنا فأصل الدوران حينئذ ممنوع، وعلى هذا لا معنى للتشنيع على الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه فيما ذهب إليه، ويؤيد مذهبه أيضا قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا فإنه مشير إلى أنه لا يمنع مال اليتيم عنه إذا كبر، إذ المعنى لا تأكلوا أموالهم مسرفين ومبادرين كبرهم بأن تفرطوا في إنفاقها وتقولوا ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا إلا أنه قدر الكبر فيمن بلغ سفيها بما تقدم لما تقدم، فافهم ذاك والله تعالى يتولى هداك. والإسراف في الأصل تجاوز الحدّ المباح إلى ما لم يبح، وربما كان ذلك في الإفراط، وربما كان في التقصير غير أنه إذا كان في الإفراط منه يقال: أسرف يسرف إسرافا، وإذا كان في التقصير يقال: سرف يسرف سرفا ويستعمل بمعنى السهو والخطأ وهو غير مراد أصلا، والمبادرة المسارعة وهي لأصل الفعل هنا وتصح المفاعلة فيه بأن يبادر الولي أخذ مال اليتيم واليتيم يبادر نزعه منه، وأصلها كما قيل: من البدار وهو الامتلاء ومنه البدر لامتلائه نورا، والبدرة لامتلائها بالمال، والبيدر لامتلائه بالطعام والاسمان المتعاطفان منصوبان على الحال كما أشرنا اليه، وقيل: إنهما مفعول لهما والجملة معطوفة على- ابتلوا- لا على جواب الشرط لفساد المعنى لأن الأول بعد البلوغ وهذا قبله، ويَكْبَرُوا بفتح الباء الموحدة من باب علم يستعمل في السن، وأما بالضم فهو في القدرة والشرف، وإذا تعدى الثاني بعلى كان للمشقة نحو كبر عليه كذا وتخصيص الأكل الذي هو أساس الانتفاع وتكثر الحاجة إليه بالنهي يدل على النهي عن غيره بالطريق الأولى، وفي الجملة تأكيد للأمر بالدفع وتقرير لها وتمهيد لما بعدها من قوله تعالى: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ إلخ أي ومن كان من الأولياء والأوصياء ذا مال فليكف نفسه عن أكل مال اليتيم ولينتفع بما آتاه الله تعالى من الغنى، فالاستعفاف الكف وهو أبلغ من العف، وفي المختار يقال: عف عن الحرام يعف بالكسر عفة وعفا وعفافة أي كف فهو عف وعفيف، والمرأة عفة وعفيفة، وأعفه الله تعالى، واستعف عن المسألة أي عف، وتعفف تكلف العفة، وتفسيره بالتنزه كما يشير إليه كلام البعض بيان لحاصل المعنى وَمَنْ كانَ من الأولياء والأوصياء فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ بقدر حاجته الضرورية من سدّ الجوعة وستر العورة قاله عطاء وقتادة. وأخرج ابن المنذر والطبراني عن ابن عباس أنه قال: يأكل الفقير إذا ولي مال اليتيم بقدر قيامه على ماله ومنفعته له ما لم يسرف أو يبذر، وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن ابن عمر سأل النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: ليس لي مال وإني ولي يتيم فقال: كل من مال يتيمك غير مسرف ولا متأثل مالا ومن غير أن تقي مالك بماله، وهل يعد ذلك أجرة أم لا؟ قولان، ومذهبنا الثاني كما صرح به الجصاص في الأحكام، وعن سعيد بن جبير ومجاهد وأبي العالية والزهري وعبيدة السلماني والباقر رضي الله تعالى عنهم. وآخرين أن للولي الفقير أن يأكل من مال اليتيم بقدر الكفاية على جهة القرض فإذا وجد ميسرة أعطى ما استقرض، وهذا هو الأكل بالمعروف، ويؤيده ما أخرجه عبد بن حميد وابن أبي شيبة وغيرهما من طرق عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال: إني أنزلت نفسي من مال الله تعالى بمنزلة مال اليتيم إن استغنيت استعففت وإن احتجت أخذت منه بالمعروف فإذا أيسرت قضيت، وأخرج أبو داود والنحاس كلاهما في الناسخ. وابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: وَمَنْ كانَ فَقِيراً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 الآية نسختها إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً [النساء: 10] إلخ، وذهب قوم إلى إباحة الأكل دون الكسوة، ورواه عكرمة عن ابن عباس، وزعم آخرون أن الآية نزلت في حق اليتيم ينفق عليه من ماله بحسب حاله، وحكي ذلك عن يحيى بن سعيد- وهو مردود- لأن قوله سبحانه: فَلْيَسْتَعْفِفْ لا يعطي معنى ذلك، والتفكيك مما لا ينبغي أن يخرج عليه النظم الكريم فَإِذا دَفَعْتُمْ أيها الأولياء الأوصياء إِلَيْهِمْ أي اليتامى بعد رعاية ما ذكر لكم أَمْوالَهُمْ التي تحت أيديكم، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح للاهتمام به فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ بأن قبضوها وبرئت عنها ذممكم لما أن ذلك أبعد عن التهمة وأنفى للخصومة وأدخل في الأمانة وهو أمر ندب عندنا، وذهب الشافعية والمالكية إلى أنه أمر وجوب، واستدلوا بذلك على أن القيم لا يصدق بقوله في الدفع بدون بينة وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أي شهيدا قاله السدي، وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أن معنى وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أنه لا شاهد أفضل من الله تعالى فيما بينكم وبينهم وهذا موافق لمذهبنا في عدم لزوم البينة، وقيل: إن المعنى وَكَفى به تعالى محاسبا لكم فلا تخالفوا ما أمرتم به ولا تجاوزوا ما حدّ لكم، ولا يخفى موقع المحاسب هنا لأن الوصي يحاسب على ما في يده، وفي فاعل كَفى كما قال أبو البقاء: وجهان، أحدهما أنه الاسم الجليل، والباء زائدة دخلت لتدل على معنى الأمر، فالتقدير اكتفوا بالله تعالى، والثاني أن الفاعل مضمر والتقدير كَفى الاكتفاء بالله تعالى، فبالله على هذا في موضع نصب على أنه مفعول به، وحَسِيباً حال، وقيل: تمييز، وَكَفى متعدية إلى مفعول واحد عند السمين، والتقدير وكفاكم الله حسيبا، وإلى مفعولين عند أبي البقاء والتقدير، وكفاكم الله شركم، ونحو ذلك. هذا «ومن باب الإشارة» يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ أي احذروه من المخالفات والنظر إلى الأغيار والزموا عهد الأزل حين أشهدكم على أنفسكم الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وهي الحقيقة المحمدية ويعبر عنها أيضا بالنفس الناطقة الكلية التي هي قلب العالم وبآدم الحقيقي الذي هو الأب لآدم، وإلى ذلك أشار سلطان العاشقين ابن الفارض قدس سره بقوله على لسان تلك الحقيقة: وإني وإن كنت ابن آدم صورة ... فلي فيه معنى شاهد بأبوتي وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وهي الطبيعة أو النفس الحيوانية الناشئة منها، وقد خلقت من الجهة التي تلي عالم الكون وهو الضلع الأيسر المشار إليه في الخبر، وقد خصت بذلك لأنها أضعف من الجهة التي تلي الحق وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً أي كاملين يميلون إلى أبيهم وَنِساءً ناقصين يميلون إلى أمهم وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ فلا تثبتوا لأنفسكم وجودا مع وجوده لأنه الذي أظهر تعيناتكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا واتقوا الأرحام أي اجتنبوا مخالفة أوليائي وعدم محبتهم فإن من وصلهم وصلته ومن قطعهم قطعته فالأرحام الحقيقية هي قرابة المبادئ العالية إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ناظرا إلى قلوبكم مطلعا على ما فيها فإذا رأى فيها الميل إلى السوي وسوء الظن بأهل حضرته ارتحلت مطايا أنواره منها فبقيت بلاقع تتجاوب في أرجائها اليوم وَآتُوا الْيَتامى وهم يتامى القوى الروحانية المنقطعين عن تربية الروح القدسي الذي هو أبوهم أَمْوالَهُمْ وهي حقوقهم من الكمالات وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ بأن تعطوا الطيب من الصفات وتذيلوه وتأخذوه بدله الخبيث منها وتتصفوا به وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ بأن تخلطوا الحق بالباطل إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً أي حجابا عظيما وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا أي تعدلوا في تربية يتامى القوى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ لتقل شهواتكم وتحفظوا فروجكم فتستعينوا بذلك على التربية لما يحصل لكم من التزكية عن الفاحشة فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 بين النساء فتقعوا في نحو ما هربتم منه فَواحِدَةً تكفيكم في تحصيل غرضكم (1) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ مهورهن نِحْلَةً عطية من الله وفضلا، وفيه إشارة إلى التخلية عن البخل والغدر والتحلية بالوفاء والكرم، وذلك من جملة ما يربى به القوى فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً ولا تأنفوا وتتكبروا عن ذلك وهذا أيضا نوع من التربية لما فيه من التخلية عن الكبر والأنفة والتحلية بالتواضع والشفقة وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ أي لا تودعوا الناقصين عن مراتب الكمال أسراركم وعلومكم الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها أي غذوهم بشيء منها وَاكْسُوهُمْ أي حلوهم وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً لينقادوا إليكم ويسلموا أنفسهم بأيديهم وَابْتَلُوا الْيَتامى أي اختبروهم، ولعله إشارة إلى اختبار الناقصين من السائرين حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ وصلحوا للإرشاد والتربية فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً أي استقامة في الطريق وعدم تلون فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ التي يستحقونها من الأسرار التي لا تودع إلا عند الأحرار. والمراد إيصاء الكمل من الشيوخ أن يخلفوا ويأذنوا بالإرشاد من يصلح لذلك من المريدين السالكين على أيديهم وَلا تَأْكُلُوها أي ننتفعوا بتلك الأموال دونهم إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا بالتصدي للإرشاد فإن ذلك من أعظم أدواء النفس والسموم القاتلة وَمَنْ كانَ منكم غَنِيًّا بالله لا يلتفت إلى ضرورات الحياة أصلا فَلْيَسْتَعْفِفْ عما للمريد وَمَنْ كانَ فَقِيراً لا يتحمل الضرورة فَلْيَأْكُلْ أي فلينتفع بما للمريد بِالْمَعْرُوفِ وهو ما كان بقدر الضرورة فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ الله تعالى وأرواح أهل الحضرة وخذوا العهد عليهم برعاية الحقوق مع الحق والخلق وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً لأنه الموجود الحقيقي والمطلع الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وهو حسبنا ونعم الوكيل لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ شروع في بيان أحكام المواريث بعد بيان أموال اليتامى المنتقلة إليهم بالإرث، والمراد من الرجال الأولاد الذكور، أو الذكور أعم من أن يكون كبارا أو صغارا، ومن الأقربين الموروثون، ومن الوالدين ما لم يكن بواسطة، والجد والجدة داخلان تحت الأقربين، وذكر الولدان مع دخولهما أيضا اعتناء بشأنهما، وجوز أن يراد من الوالدين ما هو أعم من أن يكون بواسطة أو بغيرها فيشمل الجد والجدة، واعترض بأنه يلزم توريث أولاد الأولاد مع وجود الأولاد. وأجيب بأن عدم التوريث في هذه الصورة معلوم من أمر آخر لا يخفى، والنصيب الحظ كالنصب بالكسر ويجمع على أنصباء وأنصبة، ومن- في «مما» متعلقة بمحذوف وقع صفة للنكرة قبله أي نصيب كائن مِمَّا تَرَكَ وجوز تعلقه بنصيب. وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ المراد من النساء البنات مطلقا، أو الإناث كذلك، وإيراد حكمهن على الاستقلال دون الدرج في تضاعيف أحكام السالفين بأن يقال للرجال والنساء نصيب إلخ للاعتناء- كما قال شيخ الإسلام- بأمرهن والإيذان بأصالتهن في استحقاق الإرث، والإشارة من أول الأمر إلى تفاوت ما بين نصيبي الفريقين والمبالغة في إبطال حكم الجاهلية فإنهم ما كانوا يورثون النساء والأطفال ويقولون: إنما يرث من يحارب ويذب عن الحوزة، وللرد عليهم نزلت هذه الآية- كما قال ابن جبير وغيره- وروي أن أوس بن ثابت، وقيل: أوس بن مالك، وقيل: ثابت بن قيس، وقيل: أوس بن الصامت- وهو خطأ- لأنه توفي في زمن خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه مات وترك ابنتين وابنا صغيرا، وزوجته أم كجة، وقيل: بنت كجة، وقيل: أم كحلة، وقيل: أم كلثوم فجاء أبناء عمه خالد، أو سويد وعرفطة، أو قتادة وعرفجة فأخذا ميراثه كله فقالت امرأته لهما: تزوجا بالابنتين وكانت بهما دمامة فأبيا   (1) قوله: وَآتُوا إلخ سقط من خط المؤلف قبلها أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إلخ اهـ مصححه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 فأتت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبرته الخبر فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «ما أدري ما أقول؟ فنزلت لِلرِّجالِ نَصِيبٌ الآية فأرسل صلى الله تعالى عليه وسلم إلى ابني العم فقال: لا تحركا من الميراث شيئا فإنه قد أنزل علي فيه شيء أخبرت فيه أن للذكر والأنثى نصيبا ثم نزل بعد ذلك وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ إلى قوله: عَلِيماً ثم نزل يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ إلى قوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النساء: 11] فدعا صلّى الله عليه وسلم بالميراث فأعطى المرأة الثمن وقسم ما بقي بين الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين ولم يعط ابني العم شيئا» ، وفي بعض طرقه- أن الميت خلف زوجة وبنتين وابني عم فأعطى صلّى الله عليه وسلم الزوجة الثمن، والبنتين الثلثين وابني العم الباقي. وفي الخبر دليل على جواز تأخير البيان عن الخطاب، ومن عمم الرجال والنساء، وقال: إن الأقربين عام لذوي القرابة النسبية والسببية جعل الآية متضمنة لحكم الزوج والزوجة واستحقاق كل منهما الإرث من صاحبه، ومن لم يذهب إلى ذلك وقال: إن الأقربين خاص بذوي القربة النسبية جعل فهم الاستحقاق كفهم المقادر المستحق مما سيأتي من الآيات، وعلل الاقتصار على ذكر الأولاد والبنات هنا بمزيد الاهتمام بشأن اليتامى، واحتج الحنفية والإمامية بهذه الآية على توريث ذوي الأرحام قالوا: لأن العمات والخالات وأولاد البنات من الأقربين فوجب دخولهم تحت قوله سبحانه: لِلرِّجالِ إلخ غاية ما في الباب أن قدر ذلك النصيب غير مذكور في هذه الآية إلا أنا نثبت كونهم مستحقين لأصل النصيب بها، وأما المقدار فمستفاد من سائر الدلائل، والإمامية فقط على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يورثون كغيرهم، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا رده على أتم وجه. مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ بدل من ما الأخيرة بإعادة العامل قبل، ولعلهم إنما لم يعتبروا كون الجار والمجرور بدلا من الجار المجرور لاستلزامه إبدال من- من من- واتحاد اللفظ في البدل غير معهود. وجوز أبو البقاء كون الجار والمجرور حالا من الضمير المحذوف في تَرَكَ أي مما تركه قليلا أو كثيرا أو مستقرا مما قل، ومثل هذا القيد معتبر في الجملة الأولى إلا أنه لم يصرح به هناك تعويلا على ذكره هنا، وفائدته دفع توهم اختصاص بعض الأموال ببعض الورثة كالخيل وآلات الحرب للرجال، وبهذا يرد على الإمامية لأنهم يخصون أكبر أبناء الميت من تركته بالسيف والمصحف والخاتم واللباس البدني بدون عوض عند أكثرهم وهذا من الغريب كعدم توريث الزوجة من العقار مع أن الآية مفيدة أن لكل من الفريقين حقا من كل ما جل ودق، وتقديم القليل على الكثير من باب لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الكهف: 49] نَصِيباً مَفْرُوضاً نصب إما على أنه مصدر مؤكد بتأويله بعطاء ونحوه من المعاني المصدرية وإلا فهو اسم جامد، ونقل عن بعضهم أنه مصدر، وإما على الحالية من الضمير المستتر في قَلَّ وكَثُرَ أو في الجار والمجرور الواقع صفة، أو من نصيب لكون وصفه بالظرف سوغ مجيء الحال منه أو من الضمير المستتر في الجار والمجرور الواقع خبرا إذ المعنى ثبت لهم مفروضا نصيب، وهو حينئذ حال موطئة والحال في الحقيقة وصفه، وقيل: هو منصوب على أنه مفعول بفعل محذوف والتقدير أوجب لهم نصيبا، وقيل: منصوب على إضمار أعني ونصبه على الاختصاص بالمعنى المشهور مما أنكره أبو حيان لنصهم على اشتراط عدم التنكير في الاسم المنصوب عليه، والفرض- كالضرب- التوقيت ومنه فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ [البقرة: 197] والحز في الشيء كالتفريض وما أوجبه الله تعالى كالمفروض سمي بذلك لأن له معالم وحدودا، ويستعمل بمعنى القطع، منه قوله تعالى: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً [النساء: 118] أي مقتطعا محدودا كما في الصحاح، فمفروضا هنا إما بمعنى مقتطعا محدودا كما في تلك الآية، وإما بمعنى ما أوجبه الله تعالى أي نصيبا أوجبه الله تعالى لهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 وفرق الحنفية بين الفرض والواجب بأن الفعل غير الكف المتعلق به خطاب بطلب فعل بحيث ينتهض تركه في جميع وقته سببا للعقاب إن ثبت بقطعي، ففرض كقراءة القرآن في الصلاة الثابتة بقوله تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل: 20] وإن ثبت بظني فهو الواجب نحو تعيين الفاتحة الثابت بقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» وهو آحاد، ونفي الفضيلة محتمل ظاهر، وذهب الشافعية إلى ترادفهما، واحتج كل لمدعاه بما احتج به، والنزاع على ما حقق في الأصول لفظي قاله غير واحد، وقال بعض المحققين: لا نزاع للشافعي في تفاوت مفهومي الفرض والواجب في اللغة ولا في تفاوت ما ثبت بدليل قطعي- كحكم الكتاب- وما ثبت بدليل ظني- كحكم خبر الواحد في الشرع- فإن جاحد الأول كافر دون الثاني، وتارك العمل بالأول مؤولا فاسق دون الثاني، وإنما يزعم أن الفرض والواجب لفظان مترادفان منقولان عن معناهما اللغوي إلى معنى واحد هو ما يمدح فاعله ويذم تاركه شرعا سواء ثبت بدليل قطعي أو ظني، وهذا مجرد اصطلاح، فلا معنى للاحتجاج بأن التفاوت بين الكتاب وخبر الواحد موجب للتفاوت بين مدلوليهما، أو بأن الفرض في اللغة التقدير والوجوب هو السقوط، فالفرض علم قطعا أنه مقدر علينا، والواجب ما سقط علينا بطريق الظن ولا يكون المظنون مقدرا ولا المعلوم القطعي ساقطا علينا على أن للخصم أن يقول: لو سلم ملاحظة المفهوم اللغوي فلا نسلم امتناع أن يثبت كون الشيء مقدرا علينا بدليل ظني، وكونه ساقطا علينا بدليل قطعي، ألا ترى أن قولهم: الفرض أي المفروض المقدر في المسح هو الربع، وأيضا الحق أن الوجوب في اللغة هو الثبوت، وأما مصدر الواجب بمعنى الساقط والمضطرب إنما هو الوجبة والوجيب، ثم استعمال الفرض- فيما ثبت بظني، والواجب فيما ثبت بقطعي- شائع مستفيض كقولهم: الوتر فرض، وتعديل الأركان فرض ونحو ذلك، ويسمى فرضا عمليا، وكقولهم: الصلاة واجبة والزكاة واجبة، ونحو ذلك، ومن هنا يعلم سقوط كلام بعض الشافعية في ردّ استدلال الحنفية بما تقدم على توريث ذوي الأرحام بأن الواجب عند الحنفية ما علم ثبوته بدليل مظنون، والمفروض ما علم بدليل قاطع، وتوريث ذوي الأرحام ليس من هذا القبيل بالاتفاق، فعرفنا أنه غير مراد من الآية ووجه السقوط ظاهر غني عن البيان. واحتج بعضهم بالآية على أن الوارث لو أعرض عن نصيبه لم يسقط حقه وهو مذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أي قسمة التركة بين أربابها وهي مفعول به، وقدمت لأنها المبحوث عنها ولأن في الفاعل تعددا فلو روعي الترتيب يفوت تجاذب أطراف الكلام، وقيل: قدمت لتكون أمام الحاضرين في اللفظ كما أنها أمامهم في الواقع، وهي نكتة للتقديم لم أر من ذكرها من علماء المعاني أُولُوا الْقُرْبى ممن لا يرث لكونه عاصبا محجوبا أو لكونه من ذوي الأرحام، والقرينة على إرادة ذلك ذكر الورثة قبله وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ من الأجانب فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ أي أعطوهم شيئا من المال، أو المقسوم المدلول عليه بالقسمة، وقيل: الضمير لما وهو أمر ندب كلف به البالغون من الورثة تطييبا لقلوب المذكورين وتصدقا عليهم، وقيل: أمر وجوب، واختلف في نسخه ففي بعض الروايات عن ابن عباس أنه لا نسخ والآية محكمة وروي ذلك عن عائشة رضي الله تعالى عنها. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن أبي حاتم من طريق عطاء عن ابن عباس أنه قال: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ الآية نسختها آية الميراث فجعل لكل إنسان نصيبه مما ترك مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ. وحكي عن سعيد بن جبير أن المراد من أولي القربى هنا الوارثون، ومن الْيَتامى وَالْمَساكِينُ غير الوارثين وأن قوله سبحانه: فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ راجع إلى الأولين، وقوله تعالى: وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً راجع للآخرين وهو بعيد جدا، والمتبادر ما ذكر أولا وهذا القول للمرزوقين من أولئك المذكورين، والمراد من القول المعروف أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 يدعوا لهم ويستقلوا ما أعطوهم ويعتذروا من ذلك ولا يمنوا عليهم، وقوله سبحانه: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فيه أقوال: أحدها أنه أمر للأوصياء بأن يخشوا الله تعالى أو يخافوا على أولادهم فيفعلوا مع اليتامى ما يحبون أن يفعل بذراريهم الضعاف بعد وفاتهم، وإلى ذلك يشير كلام ابن عباس، فقد أخرج ابن جرير عنه أنه قال في الآية: يعني بذلك الرجل يموت وله أولاد صغار ضعاف يخاف عليهم العيلة والضيعة ويخاف بعده أن لا يحسن إليهم من يليهم يقول: فإن ولى مثل ذريته ضعافا يتامى فليحسن إليهم ولا يأكل أموالهم إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا والآية على هذا مرتبطة بما قبلها لأن قوله تعالى: لِلرِّجالِ إلخ في معنى الأمر للورثة أي أعطوهم حقهم دفعا لأمر الجاهلية وليحفظ الأوصياء ما أعطوه ويخافوا عليهم كما يخافون على أولادهم، وقيل في وجه الارتباط: إن هذا وصية للأوصياء بحفظ الأيتام بعد ما ذكر الوارثين الشاملين للصغار والكبار على طريق التتميم، وقيل: إن الآية مرتبطة بقوله تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتامى، وثانيها أنه أمر لمن حضر المريض من العواد عند الإيصاء بأن يخشوا ربهم أو يخشوا أولاد المريض ويشفقوا عليهم شفقتهم على أولادهم فلا يتركوه أن يضرّ بهم بصرف المال عنهم، ونسب نحو هذا إلى الحسن وقتادة ومجاهد وسعيد بن جبير. وروي عن ابن عباس أيضا ما يؤيده، فقد أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي عنه أنه قال في الآية: يعني الرجل يحضره الموت فيقال له: تصدق من مالك وأعتق وأعط منه في سبيل الله فنهوا أن يأمروا بذلك يعني أن من حضر منكم مريضا عند الموت فلا يأمره أن ينفق من ماله في العتق أو في الصدقة أو في سبيل الله ولكن يأمره أن يبين ما له وما عليه من دين، ويوصي من ماله لذوي قرابته الذين لا يرثون يوصي لهم بالخمس، أو الربع، يقول: أليس أحدكم إذا مات وله ولد ضعاف- يعني صغار- لا يرضى أن يتركهم بغير مال فيكونوا عيالا على الناس؟ فلا ينبغي لكم أن تأمروه بما لا ترضون به لأنفسكم ولأولادكم ولكن قولوا الحق من ذلك، وعلى هذا يكون أول الكلام للأوصياء وما بعده للورثة، وهذا للأجانب بأن لا يتركوه يضرهم أو لا يأمروه بما يضر، فالآية مرتبطة بما قبلها أيضا، وثالثها أنه أمر للورثة بالشفقة على من حضر القسمة من ضعفاء الأقارب واليتامى والمساكين متصورين أنهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضعافا مثلهم هل يجوزون حرمانهم، واتصال الكلام على هذا بما قبله ظاهر لأنه حث على الإيتاء لهم وأمرهم بأن يخافوا من حرمانهم كما يخافون من حرمان ضعاف ذريتهم، ورابعها أمر للمؤمنين أن ينظروا للورثة فلا يسرفوا في الوصية. وقد روي عن السلف أنهم كانوا يستحبون أن لا تبلغ الوصية الثلث ويقولون: إن الخمس أفضل من الربع والربع أفضل من الثلث، وورد في الخبر ما يؤيده، وعلى هذا فالمراد من الذين المرضى. وأصحاب الوصية أمرهم بعدم الإسراف في الوصية خوفا على ذريتهم الضعاف، والقرينة عليه أنهم المشارفون لذلك ويكون التخويف من أكل مال اليتامى بعده تخويفا عن أخذ ما زاد من الوصية فيرتبط به، ويكون متصلا بما قبله تتميما لأمر الأوصياء، والورثة بأمر مرضى المؤمنين، وهذا أبعد الوجوه وأبعد منه ما قيل: إنه أمر لمن حضر المريض بالشفقة على ذوي القربى بأن لا يقول للمريض لا توص لأقاربك ووفر على ذريتك، وأبعد من ذلك القول: بأنه أمر للقاسمين بالعدل بين الورثة في القسمة بأن لا يراعوا الكبير منهم فيعطوه الجيد من التركة ولا يلتفتوا إلى الصغير ولو بما في حيزه صلة الموصول كما قال غير واحد. ولما كانت الصلة يجب أن تكون قصة معلومة للخاطب ثابتة للموصول كالصفة قالوا: إنها هنا كذلك أيضا وأن المعنى وَلْيَخْشَ الَّذِينَ حالهم وصفتهم أنهم لو شارفوا أن يخلفوا ذرية ضعافا خافوا عليهم الضياع. وذهب الأجهوري وغيره إلى أن لَوْ بمعنى إن فتقلب الماضي إلى الاستقبال، وأوجبوا حمل تَرَكُوا على المشارفة ليصح وقوع خافُوا جزاء له ضرورة أنه لا خوف بعد حقيقة الموت وترك الورثة، وفي ترتيب الأمر على الوصف المذكور في حيز الصلة المشعر بالعلية إشارة إلى أن المقصود من الأمر أن لا يضيعوا اليتامى حتى لا تضيع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 أولادهم، وفيه تهديد لهم بأنهم إن فعلوه أضاع الله أولادهم، ورمز إلى أنهم إن راعوا الأمر حفظ الله تعالى أولادهم، أخرج ابن جرير عن الشيباني قال: كنا في القسطنطينية أيام مسلمة بن عبد الملك وفينا ابن محيريز وابن الديلمي وهانىء بن كلثوم فجعلنا نتذاكر ما يكون في آخر الزمان فضقت ذرعا مما سمعت فقلت لابن الديلمي: يا أبا بشر يودني أنه لا يولد لي ولد أبدا فضرب بيده على منكبي وقال: يا ابن أخي لا تفعل فإنه ليست من نسمة كتب الله أن تخرج من صلب رجل إلا وهي خارجة إن شاء وإن أبى، ثم قال: ألا أدلك على أمر إن أنت أدركته نجاك الله تعالى منه وإن تركت ولدا من بعدك حفظهم الله تعالى فيك؟ قلت: بلى فتلا وَلْيَخْشَ الَّذِينَ الآية، وفي وصف الذرية بالضعاف بعث على الترحم والظاهر أن مِنْ خَلْفِهِمْ ظرف لتركوا، وفي التصريح به مبالغة في تهويل تلك الحالة، وجوز أن يكون حالا من ذُرِّيَّةً وضِعافاً كما قال أبو البقاء: يقرأ بالتفخيم على الأصل وبالإمالة لأجل الكسرة، وجاز ذلك مع حرف الاستعلاء لأنه مكسور مقدم ففيه انحدار، وكذلك «خافوا» يقرأ بالتفخيم على الأصل وبالإمالة لأن الخاء تنكسر في بعض الأحوال وهو خفت وقرئ- «ضعفاء» «وضعافى» و «ضعافى» ، نحو سكارى وسكارى فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ في ذلك والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها وإنما أمرهم سبحانه بالتقوى التي هي غاية الخشية بعد ما أمرهم بها مراعاة للمبدأ والمنتهى ولما لم ينفع الأول بدون الثاني لم يقتصر عليه مع استلزامه له عادة وَلْيَقُولُوا لليتامى، أو للمريض، أو لحاضري القسمة، أو ليقولوا في الوصية قَوْلًا سَدِيداً فيقول الوصي لليتيم ما يقول لولده من القول الجميل الهادي له إلى حسن الآداب ومحاسن الأفعال، ويقول عائد المريض ما يذكره التوبة والنطق بكلمة الشهادة وحسن الظن بالله، وما يصده عن الإسراف بالوصية وتضييع الورثة، ويقول الوارث لحاضر القسمة ما يزيل وحشته، أو يزيد مسرته ويقول الموصي في إيصائه ما لا يؤدي إلى تجاوز الثلث، والسديد- على ما قال الطبرسي- المصيب العدل الموافق للشرع. وقيل: ما لا خلل فيه، ويقال سدّ قوله يسدّ بالكسر إذا صار سديدا، وأنه ليسد في القول فهو مسدّ إذا كان يصيب السداد أي القصد، وأمر سديد وأسد أي قاصد، والسداد بالفتح الاستقامة والصواب، وكذلك السدد مقصور منه، وأما السداد بالكسر فالبلغة، وما يسد به، ومنه قولهم: فيه سداد من عوز- قاله غير واحد- وفي درّة الغواص في أوهام الخواص أنهم يقولون: سداد من عوز فيفتحون السين- وهو لحن- والصواب الكسر، وتعقبه ابن بري بأنه وهم فإن يعقوب بن السكيت سوى بين الفتح والكسر في إصلاح المنطق في باب فعال وفعال بمعنى واحد، فقال: يقال سداد من عوز وسداد، وكذا حكاه ابن قتيبة في أدب الكاتب وكذا في الصحاح إلا أنه زاد والكسر أفصح، نعم ذكر فيها أن سداد القارورة وسداد الثغر بالكسر لا غير، وأنشد قول العرجي: أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة «وسداد» ثغر فليحفظ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً استئناف جيء به لتقرير ما فصل من الأوامر والنواهي وظُلْماً إما حال أي ظالمين، أو مفعول لأجله وقيل: منصوب على المصدرية أي أكل ظلم على معنى أكلا على وجهه، وقيل: على التمييز وإنما علق الوعيد على الأكل بذلك لأنه قد يأكل مال اليتيم على وجه الاستحقاق كالأجرة والقرض مثلا فلا يكون ظلما، ولا الآكل ظالما. وقيل: ذكر الظلم للتأكيد والبيان لأن أكل مال اليتيم لا يكون إلا ظلما ومن أخذ مال اليتيم قرضا أو أجرة فقد أكل مال نفسه ولم يأكل مال اليتيم. وفيه منع ظاهر. إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ أي ملء بطونهم، وشاع هذا التعبير في ذلك، وكأنه مبني على أن حقيقة الظرفية المتبادر منها الإحاطة بحيث لا يفضل الظرف عن المظروف فيكون الأكل في البطن ملء البطن، وفي بعض البطن دونه، وهو المراد في قوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 كلوا في «بعض بطنكم» تعفوا ... فإن زمانكم زمن خميص ولا ينافي هذا قول الأصوليين: إن الظرف إذا جر بفي لا يكون بتمامه ظرفا بخلاف المقدرة فيه، فنحو سرت يوم الخميس لتمامه وفي يوم الخميس لغيره، فقد قال عصام الملة: إن هذا مذهب الكوفيين، والبصريون لا يفرقون بينهما كما بين في النحو، وقال شهاب الدين: الظاهر أن ما ذكره أهل الأصول فيما يصح جره بفي ونصبه على الظرفية، وهذا ليس كذلك لأنه لا يقال: أكل بطنه بمعنى في بطنه فليس مما ذكره أهل الأصول في شيء، وهو مثل جعلت المتاع في البيت فهو صادق بملئه وبعدمه لكن الأصل الأول كما ذكروه. وجوز أن يكون ذكر البطون للتأكيد والمبالغة كما في قوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران: 167] والقول لا يكون إلا بالفم، وقوله تعالى: وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46] والقلب لا يكون إلا في الصدر، وقوله سبحانه: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام: 38] والطير لا يطير إلا بجناح، فقد قالوا: إن الغرض من ذلك كله التأكيد والمبالغة، ثم المظروف هنا المفعول أي المأكول لا الفاعل، وتحقيق ذلك على ما نقل عن التمرتاشي في الإيمان أنه إذا ذكر ظرف بعد فعل له فاعل ومفعول كما إذا قلت: إن ضربت زيدا في الدار، أو في المسجد فكذا فإن كانا معا فيه فالأمر ظاهر، وإن كان الفاعل فيه دون المفعول، أو بالعكس فإن كان الفعل مما يظهر أثره في المفعول كالضرب والقتل والجرح فالمعتبر كون المفعول فيه وإن كان مما لا يظهر أثره فيه كالشتم فالمعتبر كون الفاعل فيه، ولذا قال بعض الفقهاء: لو قال: إن شتمته في المسجد أو رميت إليه فشرط حنثه كون الفاعل فيه، ولو قال: إن ضربته، أو جرحته، أو قتلته، أو رميته فشرطه كون المفعول فيه، وإنما كان الرمي في الأول مما لا يظهر له أثر لأنه أريد به إرسال السهم من القوس بنيته، وذلك مما لا يظهر له أثر في المحل ولا يتوقف على وصول فعل الفاعل، وفي الثاني مما يظهر له أثر لأنه أريد به إرسال السهم، أو ما يضاهيه على وجه يصل إلى المرمى إليه فيجرحه أو يوجعه ويؤلمه، ولا شك أن ما نحن فيه من قبيل هذا القسم، وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام على ذلك، والجار والمجرور متعلق- بيأكلون- وهو الظاهر، وقيل: إنه حال من قوله تعالى: ناراً أي ما يجرّ إليها فالنار مجاز مرسل من ذكر المسبب وإرادة السبب، وجوز في ذلك الاستعارة على تشبيه ما أكل من أموال اليتامى بالنار لمحق ما معه، واستبعده بعض المحققين، وذهب بعضهم إلى جواز حمله على ظاهره، فعن عبيد الله بن جعفر أنه قال: من أكل مال اليتيم فإنه يؤخذ بمشفره يوم القيامة فيملأ فمه جمرا ويقال له كل ما أكلته في الدنيا ثم يدخل السعير الكبرى. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري قال: «حدثني النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم عن ليلة أسري به قال: نظرت فإذا أنا بقوم لهم مشافر كمشافر الإبل وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من نار فيقذف في أجوافهم حتى تخرج من أسافلهم ولهم خوار وصراخ فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما» وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً أي سيدخلون نارا هائلة مبهمة الوصف، وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم بضم ياء المضارعة، والباقون بفتحها، وقرئ وَسَيَصْلَوْنَ بتشديد اللام، وفي الصحاح يقال: صليت اللحم، وغيره أصليه صليا مثل رميته رميا إذا شويته، وصليت الرجل نارا إذا أدخلته وجعلته يصلاها فإن ألقيته فيها إلقاء- كأنك تريد الإحراق- قلت: أصليته بالألف وصليته تصلية، ويقال: صلى بالأمر إذا قاسى حره وشدته، قال الطهوي: ولا تبلى بسالتهم وإن هم ... صلوا بالحرب حينا بعد حين وقال بعض المحققين: إن أصل الصلي القرب من النار وقد استعمل هنا في الدخول مجازا، وظاهر كلام البعض أنه متعد بنفسه، وقيل: إنه يتعدي بالباء فيقال: صلي بالنار، وذكر الراغب أنه يتعدى بالباء تارة أو بنفسه أخرى ولعله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 بمعنيين كما يشير إليه ما في الصحاح، والسعير فعيل بمعنى مفعول من سعرت النار إذا أوقدتها وألهبتها. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن جبير أن السعير واد من فيح جهنم، وظاهر الآية أن هذا الحكم عام لكل من يأكل مال اليتيم مؤمنا كان أو مشركا، وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم أنه قال: هذه الآية لأهل الشرك حين كانوا لا يورثونهم أي اليتامى ويأكلون أموالهم، ولا يخفى أنه إن أراد حكم الآية خاص بأهل الشرك فقط فغير مسلم، وإن أراد أنها نزلت فيهم فلا بأس به إذ العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، وفي بعض الأخبار أنه لما نزلت هذه الآية ثقل ذلك على الناس واحترزوا عن مخالطة اليتامى بالكلية فصعب الأمر على اليتامى فنزل قوله تعالى: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ [البقرة: 220] الآية يُوصِيكُمُ اللَّهُ شروع في بيان ما أجمل في قوله عز وجل لِلرِّجالِ نَصِيبٌ إلخ، والوصية كما قال الراغب: أن يقدم إلى الغير ما يعمل فيه مقترنا بوعظ من قولهم: أرض واصية متصلة النبات وهي في الحقيقة أمر له بعمل ما عهد إليه، فالمراد يأمركم الله ويفرض عليكم، وبالثاني فسره في القاموس وعدل عن الأمر إلى الإيصاء لأنه أبلغ وأدل على الاهتمام وطلب الحصول بسرعة فِي أَوْلادِكُمْ أي في توريث أولادكم، أو في شأنهم وقدر ذلك ليصح معنى الظرفية، وقيل: فِي بمعنى اللام كما في خبر «إن امرأة دخلت النار في هرة» أي لها كما صرح به النحاة، والخطاب قيل: للمؤمنين وبين المتضايفين مضاف محذوف أي يوصيكم في أولاد موتاكم لأنه لا يجوز أن يخاطب الحي بقسمة الميراث في أولاده، وقيل: الخطاب لذوي الأولاد على معنى يوصيكم في توريثهم إذا متم وحينئذ لا حاجة إلى تقدير المضاف كما لو فسر يوصيكم يبين لكم، وبدأ سبحانه بالأولاد لأنهم أقرب الورثة إلى الميت وأكثرهم بقاء بعد المورث، وسبب نزول الآية ما أشرنا إليه فيما مر. وأخرج عبد بن حميد عن جابر قال: كان رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم يعودني وأنا مريض فقلت كيف أقسم مالي بين ولدي؟ فلم يرد عليّ شيئا فنزلت لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ في موضع التفصيل والبيان للوصية فلا محل للجملة من الإعراب وجعلها أبو البقاء في موضع نصب على المفعولية ليوصي باعتبار كونه في معنى القول، أو الفرض أو الشرع وفيه تكلف، والمراد أنه يعدّ كل ذكر بأنثيين حيث اجتمع الصنفان من الذكور والإناث واتحدت جهة إرثهما فيضعف للذكر نصيبه كذا قيل، والظاهر أن المراد بيان حكم اجتماع الابن والبنت على الإطلاق. ولا بد في الجملة من ضمير عائد إلى الأولاد محذوف ثقة بظهوره كما في قولهم: السمن منوان بدرهم، والتقدير هنا للذكر منهم فتدبر، وتخصيص الذكر بالتنصيص على حظه- مع أن مقتضى كون الآية نزلت في المشهور لبيان المواريث- ردا لما كانوا عليه من توريث الذكور دون الإناث الاهتمام بالإناث، وأن يقال: للأنثيين مثل حظ الذكر لأن الذكر أفضل، ولأن ذكر المحاسن أليق بالحكيم من غيره، ولذا قال سبحانه: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الإسراء: 7] فقدم ذكر الإحسان وكرره دون الإساءة، ولأن في ذلك تنبيها على أن التضعيف كاف في التفضيل فكأنه حيث كانوا يورثون الذكور دون الإناث قيل لهم: كفى الذكور أن ضوعف لهم نصيب الإناث فلا يحرمن عن الميراث بالكلية مع تساويهما في جهة الإرث. وإيثار اسمي الذكر والأنثى على ما ذكر أولا من الرجال والنساء للتنصيص على استواء الكبار والصغار من الفريقين في الاستحقاق من غير دخل للبلوغ والكبر في ذلك أصلا- كما هو زعم أهل الجاهلية- حيث كانوا لا يورثون الأطفال كالنساء، والحكمة في أنه تعالى جعل نصيب الإناث من المال أقل من نصيب الذكور نقصان عقلهن ودينهن كما جاء في الخبر مع أن احتياجهن إلى المال أقل لأن أزواجهن ينفقون عليهن وشهوتهنّ أكثر فقد يصير المال سببا لكثرة فجورهنّ، ومما اشتهر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 إن الشباب والفراغ والجده ... مفسدة للمرء أي مفسده وروي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه- أن حواء عليها السلام أخذت حفنة من الحنطة وأكلت وأخذت أخرى وخبأتها ثم أخرى ودفعتها إلى آدم عليه السلام فلما جعلت نصيب نفسها ضعف نصيب الرجل قلب الأمر عليها فجعل نصيب المرأة نصف نصيب الرجل- ذكره بعضهم ولم أقف على صحته، ثم محل الإرث إن لم يقم مانع كالرق والقتل واختلاف الدين كما لا يخفى، واستثني من العموم الميراث من النبي صلّى الله عليه وسلم بناء على القول بدخوله صلّى الله عليه وسلم في العمومات الواردة على لسانه عليه الصلاة والسلام المتناولة له لغة، والدليل على الاستثناء قوله صلّى الله عليه وسلم: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» وأخذ الشيعة بالعموم وعدم الاستثناء وطعنوا بذلك على أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه حيث لم يورث الزهراء رضي الله تعالى عنها من تركة أبيها صلّى الله عليه وسلم حتى قالت له بزعمهم: يا ابن أبي قحافة أنت ترث أباك وأنا لا أرث أبي أي إنصاف هذا، وقالوا: إن الخبر لم يروه غيره وبتسليم أنه رواه غيره أيضا فهو غير متواتر بل آحاد، ولا يجوز تخصيص الكتاب بخبر الآحاد بدليل أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رد خبر فاطمة بنت قيس أنه لم يجعل لها سكنى ولا نفقة لما كان مخصصا لقوله تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ [الطلاق: 6] فقال: كيف نترك كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم بقول امرأة. فلو جاز تخصيص الكتاب بخبر الآحاد لخصص به ولم يرده ولم يجعل كونه خبر امرأة مع مخالفته للكتاب مانعا من قبوله، وأيضا العام- وهو الكتاب- قطعي، والخاص- وهو خبر الآحاد- ظني فيلزم ترك القطعي بالظني. وقالوا أيضا: إن مما يدل على كذب الخبر قوله تعالى: وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ [النمل: 16] وقوله سبحانه حكاية عن زكريا عليه السلام: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ [مريم: 6] فإن ذلك صريح في أن الأنبياء يرثون ويورثون، والجواب أن هذا الخبر قد رواه أيضا حذيفة بن اليمان والزبير بن العوام وأبو الدرداء وأبو هريرة والعباس وعلي وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، وقد أخرج البخاري عن مالك بن أوس ابن الحدثان أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال بمحضر من الصحابة فيهم علي والعباس وعثمان وعبد الرحمن ابن عوف والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض أتعلمون أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: لا نورث ما تركناه صدقة؟ قالوا: اللهم نعم، ثم أقبل على عليّ والعباس فقال: أنشدكما بالله تعالى هل تعلمان أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد قال ذلك؟ قالا: اللهم نعم، فالقول بأن الخبر لم يروه إلا أبو بكر رضي الله تعالى عنه لا يلتفت إليه، وفي كتب الشيعة ما يؤيده، فقد روى الكليني في الكافي عن أبي البختري في الكافي عن أبي عبد الله جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قال: «إن العلماء ورثة الأنبياء وذلك أن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا وإنما ورثوا أحاديث فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ بحظ وافر» وكلمة إنما مفيدة للحصر قطعا باعتراف الشيعة فيعلم أن الأنبياء لا يورثون غير العلم والأحاديث. وقد ثبت أيضا بإجماع أهل السير والتواريخ وعلماء الحديث أن جماعة (1) من المعصومين عند الشيعة والمحفوظين عند أهل السنة عملوا بموجبه فإن تركة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لما وقعت في أيديهم لم يعطوا منها العباس ولا بنيه ولا الأزواج المطهرات شيئا ولو كان الميراث جاريا في تلك التركة لشاركوهم فيها قطعا، فإذا ثبت من مجموع ما ذكرنا التواتر فحبذا ذلك لأن تخصيص القرآن بالخبر المتواتر جائز اتفاقا وإن لم يثبت وبقي الخبر   (1) كعلي كرم الله تعالى وجهه والحسن والحسين وعلي بن الحسين والحسن بن الحسن رضي الله تعالى عنهم اهـ منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 من الآحاد فنقول: إن تخصيص القرآن بخبر الآحاد جائز على الصحيح وبجوازه قال الأئمة الأربعة، ويدل على جوازه أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم خصصوا به من غير نكير فكان إجماعا، ومنه قوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء: 24] ويدخل فيه نكاح المرأة على عمتها وخالتها فخص بقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تنكحوا المرأة على عمتها ولا على خالتها» والشيعة أيضا قد خصصوا عمومات كثيرة من القرآن بخبر الآحاد فإنهم لا يورثون الزوجة من العقار ويخصون أكبر أبناء الميت من تركته بالسيف والمصحف والخاتم واللباس بدون بدل كما أشرنا إليه فيما مر، ويستندون في ذلك إلى آحاد تفردوا بروايتها مع أن عموم الآيات على خلاف ذلك، والاحتجاج على عدم جواز التخصيص بخبر عمر رضي الله تعالى عنه مجاب عنه بأن عمر إنما رد خبر ابنة قيس لتردده في صدقها وكذبها، ولذلك قال بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت، فعلل الرد بالتردد في صدقها وكذبها لا بكونه خبر واحد وكون التخصيص يلزم منه ترك القطعي بالظني مردود بأن التخصيص وقع في الدلالة لأنه دفع للدلالة في بعض الموارد فلم يلزم ترك القطعي بالظني بل هو ترك للظني بالظني وما زعموه من دلالة الآيتين اللتين ذكروهما على كذب الخبر في غاية الوهن لأن الوراثة فيهما وراثة العلم والنبوة والكمالات النفسانية لا وراثة العروض والأموال، ومما يدل على أن الوراثة في الآية الأولى منهما كذلك ما رواه الكليني عن أبي عبد الله أن سليمان ورث داود وأن محمدا ورث سليمان فإن وراثة المال بين نبينا صلّى الله عليه وسلم وسليمان عليه السلام غير متصورة بوجه، وأيضا إن داود عليه السلام- على ما ذكره أهل التاريخ- كان له تسعة عشر ابنا وكلهم كانوا ورثة بالمعنى الذي يزعمه الخصم فلا معنى لتخصيص بعضهم بالذكر دون بعض في وراثة المال لاشتراكهم فيها من غير خصوصية لسليمان عليه السلام بها بخلاف وراثة العلم والنبوة. وأيضا توصيف سليمان عليه السلام بتلك الوراثة مما لا يوجب كمالا ولا يستدعي امتيازا لأن البر والفاجر يرث أباه فأي داع لذكر هذه الوراثة العامة في بيان فضائل هذا النبي ومناقبه عليه السلام، ومما يدل على أن الوراثة في الآية الثانية كذلك أيضا أنه لو كان المراد بالوراثة فيها وراثة المال كان الكلام أشبه شيء بالسفسطة لأن المراد بآل يعقوب حينئذ إن كان نفسه الشريفة يلزم أن مال يعقوب عليه السلام كان باقيا غير مقسوم إلى عهد زكريا وبينهما نحو من ألفي سنة وهو كما ترى، وإن كان المراد جميع أولاده يلزم أن يكون يحيى وارثا جميع بني إسرائيل أحياء وأمواتا، وهذا أفحش من الأول، وإن كان المراد بعض الأولاد، أو أريد من يعقوب غير المتبادر، وهو ابن إسحاق عليهما السلام يقال: أي فائدة في وصف هذا الولي عند طلبه من الله تعالى بأنه يرث أباه ويرث بعض ذوي قرابته، والابن وارث الأب ومن يقرب منه في جميع الشرائع مع أن هذه الوراثة تفهم من لفظ الولي بلا تكلف وليس المقام مقام تأكيد، وأيضا ليس في الأنظار العالية وهمم النفوس القدسية التي انقطعت من تعلقات هذا العالم الفاني واتصلت بحضائر القدس الحقاني ميل للمتاع الدنيوي قدر جناح بعوضة حتى يسأل حضرة زكريا عليه السلام ولدا ينتهي إليه ماله ويصل إلى يده متاعه، ويظهر لفوات ذلك الحزن والخوف، فإن ذلك يقتضي صريحا كمال المحبة وتعلق القلب بالدنيا وما فيها، وذلك بعيد عن ساحته العلية وهمته القدسية، وأيضا لا معنى لخوف زكريا عليه السلام من صرف بني أعمامه ماله بعد موته أما إن كان الصرف في طاعة فظاهر، وأما إن كان في معصية فلأن الرجل إذا مات وانتقل المال إلى الوارث وصرفه في المعاصي لا مؤاخذة على الميت ولا عتاب على أن دفع هذا الخوف كان متيسرا له بأن يصرفه ويتصدق به في سبيل الله تعالى قبل وفاته ويترك ورثته على أنقى من الراحة واحتمال موت الفجأة. وعدم التمكن من ذلك لا ينتهض عند الشيعة لأن الأنبياء عندهم يعلمون وقت موتهم فما مراد ذلك النبي عليه السلام بالوراثة إلا وراثة الكمالات النفسانية والعلم والنبوة المرشحة لمنصب الحبورة فإنه عليه السلام خشي من أشرار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 بني إسرائيل أن يحرفوا الأحكام الإلهية والشرائع الربانية ولا يحفظوا علمه ولا يعملوا به ويكون ذلك سببا للفساد العظيم، فطلب الولد ليجري أحكام الله تعالى بعده ويروج الشريعة ويكون محط رحال النبوة وذلك موجب لتضاعيف الأجر واتصال الثواب، والرغبة في مثله من شأن ذوي النفوس القدسية والقلوب الطاهرة الزكية، فإن قيل: الوراثة في وراثة العلم مجاز وفي وراثة المال حقيقة، وصرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز لا يجوز بلا ضرورة، فما الضرورة هنا؟ أجيب بأن الضرورة هنا حفظ كلام المعصوم من التكذيب، وأيضا لا نسلم كون الوراثة حقيقة في المال فقط بل صار لغلبة الاستعمال في العرف مختصا بالمال، وفي أصل الوضع إطلاقه على وراثة العلم والمال والمنصب صحيح، وهذا الإطلاق هو حقيقته اللغوية سلمنا أنه مجاز ولكن هذا المجاز متعارف ومشهور بحيث يساوي الحقيقة خصوصا في استعمال القرآن المجيد، ومن ذلك قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ [فاطر: 32] وأورثوا الكتاب إلى غير ما آية، ومن الشيعة من أورد هنا بحثا، وهو أن النبي صلّى الله عليه وسلم إذا لم يورث أحدا فلم أعطيت أزواجه الطاهرات حجراتهن؟ والجواب أن ذلك مغلطة لأن إفراز الحجرات للأزواج إنما كان لأجل كونها مملوكة لهن لا من جهة الميراث بل لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بنى كل حجرة لواحدة منهن فصارت الهبة مع القبض متحققة وهي موجبة للملك وقد بنى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مثل ذلك لفاطمة رضي الله تعالى عنها. وأمامة وسلمه إليهما، وكان كل من بيده شيء ما بناه له رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتصرف فيه تصرف المالك على عهده عليه الصلاة والسلام، ويدل على ما ذكر ما ثبت بإجماع أهل السنة، والشيعة أن الإمام الحسن رضي الله تعالى عنه لما حضرته الوفاة استأذن من عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها وسألها أن تعطيه موضعا للدفن جوار جده المصطفى صلّى الله عليه وسلم فإنه إن لم تكن الحجرة ملك أم المؤمنين لم يكن للاستئذان والسؤال معنى وفي القرآن نوع إشارة إلى كون الأزواج المطهرات مالكات لتلك الحجر حيث قال سبحانه: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب: 33] فأضاف البيوت إليهنّ ولم يقل في بيوت الرسول، ومن أهل السنة من أجاب عن أصل البحث بأن المال بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم صار في حكم الوقف على جميع المسلمين فيجوز لخليفة الوقت أن يخص من شاء بما شاء كما خص الصديق جناب الأمير رضي الله تعالى عنهما بسيف ودرع وبغلة شهباء تسمى الدلدل. إن الأمير كرم الله تعالى وجهه لم يرث النبي صلّى الله عليه وسلم بوجه، وقد صح أيضا أن الصديق أعطى الزبير بن العوام ومحمد بن مسلمة بعضا من متروكاته صلّى الله عليه وسلم وإنما لم يعط رضي الله تعالى عنه فاطمة صلى الله تعالى على أبيها وعليها وسلم فدكا مع أنها طلبتها إرثا وانحرف مزاج رضاها رضي الله تعالى عنها بالمنع إجماعا وعدلت عن ذلك إلى دعوى الهبة، وأتت بعلي والحسنين وأم أيمن للشهادة فلم تقم على ساق بزعم الشيعة، ولم تمكن لمصلحة دينية ودنيوية رآهما الخليفة إذ ذاك كما ذكره الأسلمي في الترجمة العبقرية والصولة الحيدرية وأطال فيه. وتحقيق الكلام في هذا المقام أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه خص آية المواريث بما سمعه من رسول الله صلّى الله عليه وسلم وخبره عليه الصلاة والسلام في حق من سمعه منه بلا واسطة مفيد للعلم اليقيني بلا شبهة والعمل بسماعة واجب عليه سوء سمعه غيره أو لم يسمع، وقد أجمع أهل الأصول من أهل السنة والشيعة على أن تقسيم الخبر إلى المتواتر وغيره بالنسبة إلى من لم يشاهدوا النبي صلّى الله عليه وسلم وسمعوا خبره بواسطة الرواة لا في حق من شاهد النبي صلّى الله عليه وسلم وسمع منه بلا واسطة، فخبر «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» عند أبي بكر قطعي لأنه في حقه كالمتواتر بل أعلى كعبا منه، والقطعي يخصص القطعي اتفاقا، ولا تعارض بين هذا الخبر والآيات التي فيها نسبة الوراثة إلى الأنبياء عليهم السلام لما علمت، ودعوى الزهراء رضي الله تعالى عنها فدكا بحسب الوراثة لا تدل على كذب الخبر بل على عدم سماعه وهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 غير مخل بقدرها ورفعة شأنها ومزيد علمها، وكذا أخذ الأزواج المطهرات حجراتهن لا يدل على ذلك لما مر وحلا، وعدولها إلى دعوى الهبة غير متحقق عندنا بل المتحقق دعوى الإرث، ولئن سلمنا أنه وقع منها دعوى الهبة فلا نسلم أنها أتت بأولئك الأطهار شهودا، وذلك لأن المجمع عليه أن الهبة لا تتم إلا بالقبض ولم تكن فدك في قبضة الزهراء رضي الله تعالى عنها في وقت فلم تكن الحاجة ماسة لطلب الشهود، ولئن سلمنا أن أولئك الأطهار شهدوا فلا نسلم أن الصديق ردّ شهادتهم بل لم يقض بها، وفرق بين عدم القضاء هنا والرد، فإن الثاني عبارة عن عدم القبول لتهمة كذب مثلا، والأول عبارة عن عدم الإمضاء لفقد بعض الشروط المعتبر بعد العدالة، وانحراف مزاج رضا الزهراء كان من مقتضيات البشرية، وقد غضب موسى عليه السلام على أخيه الأكبر هارون حتى أخذ بلحيته ورأسه ولم ينقص ذلك من قدريهما شيئا على أن أبا بكر استرضاها رضي الله تعالى عنها مستشفعا إليها بعلي كرم الله تعالى وجهه فرضيت عنه- كما في مدارج النبوة وكتاب الوفاء وشرح المشكاة للدهلوي- وغيرها، وفي محاج السالكين. وغيره من كتب الإمامية المعتبرة ما يؤيد هذا الفصل حيث رووا أن أبا بكر لما رأى فاطمة رضي الله تعالى عنها انقبضت عنه وهجرته ولم تتكلم بعد ذلك في أمر فدك كبر ذلك عنده فأراد استرضاءها فأتاها فقال: صدقت يا بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما ادعيت ولكن رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقسمها فيعطي الفقراء والمساكين وابن السبيل بعد أن يؤتى منها قوتكم فما أنتم صانعون بها؟ فقالت: افعل فيها كما كان أبي صلى الله تعالى عليه وسلم يفعل فيها فقال: لك الله تعالى أن أفعل فيها ما كان يفعل أبوك، فقالت: والله لتفعلن؟ فقال: والله لأفعلن ذلك، فقالت: اللهم اشهد، ورضيت بذلك، وأخذت العهد عليه فكان أبو بكر يعطيهم منها قوتهم ويقسم الباقي بين الفقراء والمساكين وابن السبيل، وبقي الكلام في سبب عدم تمكينها رضي الله تعالى عنها من التصرف فيها، وقد كان دفع الالتباس وسد باب الطلب المنجر إلى كسر كثير من القلوب، أو تضييق الأمر على المسلمين. وقد ورد «المؤمن إذا ابتلي ببليتين اختار أهونهما» على أن رضا الزهراء رضي الله تعالى عنها بعد على الصديق سد باب الطعن عليه أصاب في المنع أم لم يصب، وسبحان الموفق للصواب والعاصم أنبياءه عن الخطأ في فصل الخطاب فَإِنْ كُنَّ نِساءً الضمير للأولاد مطلقا والخبر مفيد بلا تأويل، ولزوم تغليب الإناث على الذكور لا يضر لأن ذلك مما صرحوا بجوازه مراعاة للخبر ومشاكلة له، ويجوز أن يعود الى المولودات أو البنات التي في ضمن مطلق الأولاد، والمعنى فإن كانت المولودات أو البنات نساء خلصا ليس معهن ذكر، وبهذا يفيد الحمل وإلا لاتحد الاسم والخبر فلا يفيد على أن قوله تعالى: فَوْقَ اثْنَتَيْنِ إذا جعل صفة- لنساء- فهو محل الفائدة، وأوجب ذلك أبو حيان فلم يجز ما أجازه غير واحد من كونه خبرا ثانيا ظنا منه عدم إفادة الحمل حينئذ وهو من بعض الظن كما علمت، وجوز الزمخشري أن تكون كان تامة، والضمير مبهم مفسر بالمنصوب على أنه تمييز ولم يرتضه النحاة لأن- كان- ليست من الأفعال التي يكون فاعلها مضمرا يفسره ما بعده لاختصاصه بباب نعم، والتنازع- كما قاله الشهاب- والمراد من الفوقية زيادة العدد لا الفوقية الحقيقية، وفائدة ذكر ذلك التصريح بعدم اختصاص المراد بعدد دون عدد أي فَإِنْ كُنَّ نِساءً زائدات على اثنتين بالغات ما بلغن. فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ أي المتوفى منكم وأضمر لدلالة الكلام عليه، ومثله شائع سائغ وَإِنْ كانَتْ أي المولودة المفهومة من الكلام واحِدَةً أي امرأة واحدة ليس معها أخ ولا أخت. وقرأ نافع وأهل المدينة واحِدَةً بالرفع على أن كان تامة والمرفوع فاعل لها، ورجحت قراءة النصب بأنها أوفق بما قبل، وقال ابن تمجيد: القراءة بالرفع أولى وأنسب للنظم لتفكك النظم في قراءة النصب بحسب الظاهر، فإنه إن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 كان ضمير كان راجعا إلى الأولاد فسد المعنى كما هو ظاهر، وإن كان راجعا إلى المولودة كما قالوه يلزم الإضمار قبل الذكر، وكلا الأمرين مرتفع على قراءة الرفع إذ المعنى وإن وجدت بنت واحدة من تلك الأولاد، والمحققون لا ينكرون مثل هذا الإضمار كما علمت آنفا فَلَهَا النِّصْفُ أي مِمَّا تَرَكَ وترك اكتفاء بالأول والنِّصْفُ مثلث كما في القاموس أحد شقي الشيء، وقرأ زيد بن ثابت النِّصْفُ بضم النون وهي لغة أهل الحجاز، وذكر أنها أقيس لأنك تقول: الثلث والربع والخمس وهكذا وكلها مضمومة الأوائل. وأخذ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بظاهر الآية فجعل الثلثين لما زاد على البنتين كالثلاث فأكثر، وجعل نصيب الاثنتين النصف كنصيب الواحدة، وجمهور الصحابة والأئمة والإمامية على خلافه حيث حكموا بأن للاثنتين وما فوقهما الثلثين، وأن النصف إنما هو للواحدة فقط، ووجه ذلك- على ما قاله القطب- أنه لما تبين أن للذكر مع الأنثى ثلثين إذ للذكر مثل حظ الأنثيين فلا بد أن يكون للبنتين الثلثان في صورة وإلا لم يكن للذكر مثل حظ الأنثيين لأن الثلثين ليس بحظ لهما أصلا لكن تلك الصورة ليست صورة الاجتماع إذ ما من صورة يجتمع فيها الاثنتان مع الذكر ويكون لهما الثلثان فتعين أن تكون صورة الانفراد، وإلى هذا أشار السيد السند في شرح السراجية، وأورد أن الاستدلال دوري لأن معرفة أن للذكر الثلثين في الصورة المذكورة موقوفة على معرفة حظ الأنثيين لأنه ما علم من الآية إلا أن للذكر مثل حظ الأنثيين، فلو كانت معرفة حظ الأنثيين مستخرجة من حظ الذكر لزم الدور، وأجيب بأن المستخرج هو حظ المعين للأنثيين وهو الثلثان، والذي يتوقف عليه معرفة حظ الذكر هو معرفة حظ الأنثيين مطلقا فلا دور، ولما في هذا الوجه من التكلف عدل عنه بعض المحققين، وذكر أن حكم البنتين مفهوم من النص بطريق الدلالة، أو الإشارة، وذلك لما رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجة عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد قتل أبوهما يوم أحد وأن عمهما أخذ مالهما ولم يدع لهما مالا ولا ينكحان إلا ولهما مال، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: «يقضي الله تعالى في ذلك فنزلت آية الميراث فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال: أعط لابنتي سعد الثلثين، وأعط أمهما الثمن وما بقي فهو لك» . فدل ذلك على أن انفهام الحكم من النص بأحد الطريقين لأنه حكم به بعد نزول الآية، ووجهه أن البنتين لما استحقتا مع الذكر النصف علم أنهما إذا انفردا عنه استحقتا أكثر من ذلك لأن الواحدة إذا انفردت أخذت النصف بعد ما كانت معه تأخذ الثلث ولا بد أن يكون نصيبهما كما يأخذه الذكر في الجملة وهو الثلثان لأنه يأخذه مع البنت (1) فيكون قوله سبحانه: فَإِنْ كُنَّ نِساءً إلخ بيانا لحظ الواحدة، وما فوق الثنتين بعد ما بين حظهما ولذا فرعه عليه إذ لو لم يكن فيما قبله ما يدل على سهم الإناث لم تقع الفاء موقعها، وهذا مما لا غبار عليه، وقيل: إن حكم البنتين ثبت بالقياس على البنت مع أخيها أو على الأختين. أما الأول فلأنها لما استحقت البنت الثلث مع الأخ فمع البنت بالطريق الأولى، وأما الثاني فلأنه ذكر حكم الواحدة والثلاث فما فوقها من البنات ولم يذكر حكم البنتين، وذكر في ميراث الأخوات حكم الأخت الواحدة والأختين ولم يذكر حكم الأخوات الكثيرة فيعلم حكم البنتين من ميراث الأخوات وحكم الأخوات من ميراث البنات لأنه لما كان نصيب الأختين الثلثين كانت البنتان أولى بهما، ولما كان نصيب البنات الكثيرة لا يزيد على الثلثين فبالأولى أن لا يزداد نصيب الأخوات على ذلك، وقد ذهب إلى هذا غير واحد من المتأخرين، وجعله العلامة ناصر   (1) وليس هذا بطريق القياس بل بطريق الدلالة أو الإشارة اهـ منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 الدين مؤيدا ولم يجعله دليلا للاستغناء عنه بما تقدم، ولأنه قيل: إن القياس لا يجري في الفرائض والمقادير، ونظر بعضهم في الأول بأن البنت الواحدة لم تستحق الثلث مع الأخ بل تستحق نصف حظه وكونه ثلثا على سبيل الاتفاق ولا يخفى ضعفه، وقيل: يمكن أن يقال: ألحق البنتان بالجماعة لأن وصف النساء يفوق اثنتين للتنبيه على عدم التفاوت بين عدد وعدد، والبنتان تشارك الجماعة في التعدد، وقد علم عدم تأثير القلة والكثرة، فالظاهر إلحاقهما بالجماعة بجامع التعدد، وعدم اعتبار القلة والكثرة دون الواحدة لعدم الجامع بينهما. وقيل: إن معنى الآية فَإِنْ كُنَّ نِساءً اثنتين فما فوقهما إلا أنه قدم ذكر الفوق على الاثنتين كما روي عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «لا تسافر المرأة سفرا فوق ثلاثة أيام إلا ومعها زوجها أو ذو محرم لها» فإن معناه لا تسافر سفرا ثلاثة أيام فما فوقها، وإلى ذلك ذهب من قال: إن أقل الجمع اثنان، واعترض على ابن عباس رضي الله تعالى عنه بأنه لو استفيد من قوله سبحانه: فَوْقَ اثْنَتَيْنِ أن حال الاثنتين ليس حال الجماعة بناء على مفهوم الصفة فهو معارض بأنه يستفاد من واحدة أن حالهما ليس حال الواحدة لمفهوم العدد، وقد قيل به، وأجيب بالفرق بينهما فإن النساء ظاهر فيما فوقهما فلما أكد به صار محكما في التخصيص بخلاف وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً وأورد عليه بأن هذا إنما يتم على تقدير كون الظرف صفة مؤكدة لا خبرا بعد خبر، وأجيب بأن قوله سبحانه: نِساءً ظاهر في كونها فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فعدم الاكتفاء به والإتيان بخبر بعده يدل دلالة صريحة على أن الحكم مقيد به لا يتجاوزه، وأيضا مما ينصر الحبر أن الدليلين لما تعارضا دار أمر البنتين بين الثلثين والنصف، والمتيقن هو النصف، والزائد مشكوك غير ثابت، فتعين المصير إليه، ولا يخفى أن الحديث الصحيح الذي سلف يهدم أمر التمسك بمثل هذه العرى، ولعله لم يبلغه رضي الله تعالى عنه ذلك- كما قيل- فقال ما قال، وفي شرح الينبوع نقلا عن الشريف شمس الدين الأرموني أنه قال في شرح فرائض الوسيط: صح رجوع ابن عباس رضي الله تعالى عنه عن ذلك فصار إجماعا وعليه فيحتمل أنه بلغه الحديث، أو أنه أمعن النظر في الآية ففهم منها ما عليه الجمهور فرجع إلى وفاقهم. وحكاية النظام عنه رضي الله تعالى عنه في كتاب النكت أنه قال: للبنتين نصف وقيراط لأن للواحدة النصف ولما فوق الاثنتين الثلثين فينبغي أن يكون للبنتين ما بينهما مما لا تكاد تصح فافهم وَلِأَبَوَيْهِ أي الميت ذكرا كان أو أنثى غير النظم الكريم لعدم اختصاص حكمه بما قبله من الصور بل هو في الحقيقة شروع في إرث الأصول بعد ذكر إرث الفروع، والمراد من الأبوين الأب والأم تغليبا للفظ الأب، ولا يجوز أن يقال في ابن وبنت ابنان للإيهام فإن لم يوهم جاز ذلك كما قاله الزجاج لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا بدل من لِأَبَوَيْهِ بتكرير العامل، وسط بين المبتدأ وهو قوله تعالى: السُّدُسُ والخبر، وهو لأبويه- وزعم ابن المنير أن في إعرابه بدلا نظرا، وذلك أنه يكون على هذا التقدير من بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة، ويكون أصل الكلام- والسدس- لأبويه لكل واحد منهما ومقتضى الاقتصار على المبدل منه التشريك بينهما في السدس كما قال سبحانه: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ فاقتضى اشتراكهن فيه، ومقتضى البدل لو قدر إهدار الأول إفراد كل واحد منهما بالسدس وعدم التشريك، وهذا يناقض حقيقة هذا النوع من البدل إذ يلزم فيه أن يكون مؤدى المبدل منه والبدل واحدا، وإنما فائدته التأكيد بمجموع الاسمين لا غير بلا زيادة معنى فإذا تحقق ما بينهما من التباين تعذرت البدلية المذكورة وليس من بدل التقسيم أيضا على هذا الإعراب، وإلا لزم زيادة معنى في البدل، فالوجه أن يقدر مبتدأ محذوف كأنه قيل: ولأبويه الثلث ثم لما ذكر نصيبهما مجملا فصله بقوله: لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ وساغ حذف المبتدأ لدلالة التفصيل عليه ضرورة إذ يلزم من استحقاق كل واحد منهما السدس استحقاقهما معا للثلث، ورده أبو حيان بأن هذا بدل بعض من كل، ولذلك أتى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 بالضمير، ولا يتوهم أنه بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة لجواز أبواك يصنعان كذا، وامتناع أبواك كل واحد منهما يصنعان كذا، بل تقول: يصنع كذا إلا أنه اعترض على جعل لِأَبَوَيْهِ خبر المبتدأ بأن البدل هو الذي يكون خبر المبتدأ في أمثال ذلك دون المبدل منه كما في المثال، وتعقبه الحلبي بأن في هذه المناقشة نظرا لأنه إذا قيل لك: ما محل لِأَبَوَيْهِ من الإعراب؟ تضطر إلى أن تقول: إنه في محل رفع على أنه خبر مقدم. ولكنه نقل نسبة الخبرية إلى كل واحد منهما دون لِأَبَوَيْهِ واختير هذا التركيب دون أن يقال: ولكل واحد من أبويه السُّدُسُ لما في الأول من الإجمال، والتفصيل الذي هو أوقع في الذهن دون الثاني، ودون أن يقال: لِأَبَوَيْهِ السدسان للتنصيص على تساوي الأبوين في الأول وعدم التنصيص على ذلك في الثاني لاحتماله التفاضل، وكونه خلاف الظاهر لا يضر لأنه يكفي نكتة للعدول. وقرأ الحسن ونعيم بن ميسرة السُّدُسُ بالتخفيف وكذلك الثلث والربع والثمن مِمَّا تَرَكَ متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير المستكن في الظرف الراجع إلى المبتدأ، والعامل الاستقرار أي كائنا مِمَّا تَرَكَ المتوفى إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ذكرا كان أو أنثى واحدا كان أو أكثر، وولد الابن كذلك، ثم إن كان الولد ذكرا كان الباقي له وإن كانوا ذكورا فالباقي لهم بالسوية، وإن كانوا ذكورا وإناثا فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وإن كانت بنتا فلها النصف ولأحد الأبوين السدس، أولهما السدسان والباقي يعود للأب إن كان لكن بطريق العصوبة وتعدد الجهات منزل منزلة تعدد الذوات، وإن كان هناك أم وبنت فقط فالباقي بعد فرض الأم والبنت يرد عليهما، وزعمت الإمامية في صورة أبوين أو أب أو أم وبنت أن الباقي بعد أخذ كل فرضه يرد على البنت، وعلى أحد الأبوين أو عليهما بقدر سهامهم فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ ولا ولد ابن وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فقط وهو مأخوذ من التخصيص الذكرى كما تدل عليه الفحوى فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ مِمَّا تَرَكَ والباقي للأب وإنما لم يذكر لعدم الحاجة إليه لأنه لما فرض انحصار الوارث في أبويه، وعين نصيب الأم علم أن الباقي للأب وهو مما أجمع عليه المسلمون، وقيل: إنما لم يذكر لأن المقصود تغيير السهم، وفي هذه الصورة لم يتغير إلا سهم الأم وسهم الأب بحاله، وإنما يأخذ الباقي بعد سهمه وسهم الأم بالعصوبة فليس المقام مقام حصة الأب- وفيه تأمل- لأن الظاهر أن أخذ الأب الباقي بعد فرض الأم بطريق العصوبة وبه صرح الفرضيون، وتخصيص جانب الأم بالذكر وإحالة جانب الأب على دلالة الحال مع حصول البيان بالعكس أيضا لذلك، ولما أن حظها أخصر واستحقاقه أتم وأوفر هذا إذا لم يكن معهما أحد الزوجين أما إذا كان معهما ذلك وتسمى المسألتان بالغراوين وبالغريبتين وبالعمريتين، فللأم ثلث ما بقي بعد فرض أحدهما عند جمهور الصحابة والفقهاء لا ثلث الكل خلافا لابن عباس رضي الله تعالى عنهما مستدلا بأنه تعالى جعل لها أولا سدس التركة مع الولد بقوله سبحانه: وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ثم ذكر أن لها مع عدمه الثلث بقوله عز وجل: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فيفهم منه أن المراد ثلث أصل التركة أيضا. ويؤيده أن السهام المقدرة كلها بالنسبة إلى أصلها بعد الوصية والدين، وإلى ذلك ذهبت الإمامية وكان أبو بكر الأصم يقول: بأن لها مع الزوج ثلث ما يبقى من فرضه ومع الزوجة ثلث الأصل، ونسب إلى ابن سيرين لأنه لو جعل لها مع الزوج ثلث جميع المال لزم زيادة نصيبها على نصيب الأب لأن المسألة حينئذ من ستة لاجتماع النصف والثلث فللزوج ثلاثة وللأم اثنان على ذلك التقدير فيبقى للأب واحد، وفي ذلك تفضيل الأنثى على الذكر، وإذا جعل لها ثلث ما بقي من فرض الزوج كان لها واحد وللأب اثنان ولو جعل لها مع الزوجة ثلث الأصل لم يلزم ذلك التفضيل لأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 المسألة من اثني عشر لاجتماع الثلث والربع، فإذا أخذت الأم أربعة بقي للأب خمسة فلا تفضيل لها عليه، ورجح مذهب الجمهور على مذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بخلوه عن الإفضاء إلى تفضيل الأنثى على الذكر المساوي لها في الجهة والقرب بل الأقوى منها في الإرث بدليل إضعافه عليها عند انفرادهما عن أحد الزوجين، وكونه صاحب فرض وعصبة وذلك خلاف وضع الشرع، وهذا الإفضاء ظاهر في المسألة الأولى، وبذلك علل زيد بن ثابت حكمه فيها مخالفا لابن عباس، فقد أخرج عبد الرزاق والبيهقي عن عكرمة قال: أرسلني ابن عباس إلى زيد بن ثابت أسأله عن زوج وأبوين. فقال زيد: للزوج النصف، وللأم ثلث ما بقي، وللأب بقية المال فأرسل إليه ابن عباس أفي كتاب الله تعالى تجد هذا؟ قال: لا ولكن أكره أن أفضل أما على أب، ولا يخفى أن هذا لا ينتهض مرجحا لمذهب الجمهور على مذهب الأصم، ومن هنا قال السيد السند وغيره في نصرة مذهبهم عادلين عن المسلك الذي سلكناه: إن معنى قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ هو أن لها ثلث ما ورثاه سواء كان جميع المال أو بعضه، وذلك لأنه لو أريد ثلث الأصل لكفى في البيان فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث كما قال تعالى في حق البنات: وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ بعد قوله سبحانه: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ فيلزم أن يكون قوله تعالى: وَوَرِثَهُ أَبَواهُ خاليا عن الفائدة، فإن قيل: نحمله على أن الوراثة لهما فقط قلنا: ليس في العبارة دلالة على حصر الإرث فيهما وإن سلم فلا دلالة في الآية حينئذ على صورة النزاع لا نفيا ولا إثباتا، فيرجع فيهما إلى أن الأبوين في الأصول كالابن والبنت في الفروع لأن السبب في وراثة الذكر والأنثى واحد وكل منهما يتصل بالميت بلا واسطة فيجعل ما بقي من فرض أحد الزوجين بينهما أثلاثا كما في حق الابن والبنت وكما في حق الأبوين إذا انفردا بالإرث فلا يزيد نصيب الأم على نصف نصيب الأب كما يقتضيه القياس فلا مجال لما ذهب إليه الأصم أيضا على هذا، وليته سمع ذلك فليفهم. وقد اختلفوا أيضا في حظ الأم فيما إذا كان مكان الأب جد وباقي المسألة على حالها، فمذهب ابن عباس وإحدى الروايتين عن الصديق، وروى ذلك أهل الكوفة عن ابن مسعود في صورة الزوج وحده أن للأم ثلث جميع المال. وقول أبي يوسف- وهو الرواية الأخرى- عن الصديق رضي الله تعالى عنه: إن لها ثلث الباقي كما مع الأب فعلى هذه الرواية جعل الجد كالأب فيعصب الأم كما يعصبها الأب، والوجه على الرواية الأولى على ما ذكره الفرضيون هو أنه ترك ظاهر قوله تعالى: فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ في حق الأب، وأول بما مر لئلا يلزم تفضيلها عليه مع تساويهما في القرب في الرتبة، وأيد التأويل بقول أكثر الصحابة، وأما في حق الجد فأجرى على ظاهره لعدم التساوي في القرب وقوة الاختلاف فيما بين الصحابة ولا استحالة في تفضيل الأنثى على الذكر مع التفاوت في الدرجة كما إذا ترك امرأة وأختا لأم وأب وأخا للأب، فإن للمرأة الربع، وللأخت النصف وللأخ لأب الباقي، فقد فضلت هاهنا الأنثى لزيادة قربها على الذكر، وأيضا للأم حقيقة الولاد كما للأب فيعصبها والجد له حكم الولاد لا حقيقته فلا يعصبها إذ لا تعصيب مع الاختلاف في السبب بل مع الاتفاق فيه فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ الجمهور على أن المراد بالإخوة عدد ممن له إخوة من غير اعتبار التثليث سواء كانوا من الإخوة أو الأخوات، وسواء كانوا من جهة الأبوين، أو من جهة أحدهما. وخالف ابن عباس في ذلك فإنه جعل الثلاثة من الإخوة والأخوات حاجبة للأم دون الاثنين فلها معهما الثلث عنده بناء على أن الإخوة صيغة الجمع فلا يتناول المثنى، وبهذا حاج عثمان بن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقد أخرج ابن جرير والحاكم والبيهقي في سننه عن ابن عباس أنه دخل على عثمان فقال: إن الأخوين لا يردان الأم عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 الثلث وتلا الآية. والأخوان ليسا بلسان قومك إخوة فقال عثمان: لا أستطيع أن أرد ما كان قبلي ومضى في الأمصار وتوارث به الناس، وقال الجمهور: إن حكم الاثنين في باب الميراث حكم الجماعة، ألا يرى أن البنتين كالبنات، والأختين كالأخوات في استحقاق الثلثين فكذا في الحجب وأيضا معنى الجمع المطلق مشترك بين الاثنين وما فوقهما، وهذا المقام يناسب الدلالة على الجمع المطلق فدل بلفظ الإخوة عليه بل قال: جمع إن صيغة الجمع حقيقة في الاثنين كما فيما فوقهما في كلام العرب، فقد أخرج الحاكم والبيهقي في سننه عن زيد بن ثابت أنه كان يحجب الأم بالأخوين فقالوا له: يا أبا سعيد إن الله تعالى يقول: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ وأنت تحجبها بأخوين فقال: إن العرب تسمي الأخوين إخوة، وهذا يعارض الخبر السابق عن ابن عباس فإنه صريح في أن صيغة الجمع لا تقال على اثنين في لغة العرب، وعثمان رضي الله تعالى عنه سلم ذلك إلا أنه احتج بأن إطلاق الإخوة على الأعم كان إجماعا. ومن هنا اختلف الناس في مدلول صيغة الجمع حقيقة، وصرح بعض الأصوليين أنها في الاثنين في المواريث والوصايا ملحقة بالحقيقة، والنحاة على خلاف ذلك وخالف ابن عباس أيضا في توريث الأم السدس مع الإناث الخلص لأن الإخوة جمع أخ فلا يشمل الأخت إلا بطريق التغليب، والخلص لا ذكور معهم فيغلبون، وهو كلام متين إلا أن العمل على اختلافه اعتبارا لوصف الإخوة في الآية للإجماع على ذلك قبل ظهور خلاف ابن عباس وخرق الإجماع إنما يحرم على من لم يكن موجودا عنده، وذهب الزيدية والإمامية إلى أن الإخوة لأم لا يحجبونها بخلاف غيرهم فإن الحجب هاهنا بمعنى معقول كما يشير إليه كلام قتادة، وهو أنه إن كان هناك إخوة لأب وأم أو لأب فقد كثر عيال الأب فيحتاج إلى زيادة مال للإنفاق، وهذا المعنى لا يوجد فيما إذا كان الإخوة لأم إذ ليس نفقتهم على الأب، والجمهور ذهبوا إلى عدم الفرق لأن الاسم حقيقة في الأصناف الثلاثة، وهذا حكم غير معقول المعنى ثبت بالنص، ألا يرى أنهم يحجبون الأم بعد موت الأب ولا نفقة عليه بعد موته ويحجبونها كبارا أيضا وليست عليه نفقتهم، ثم الشائع المعلوم من خارج أو من الآية في رأي أن الإخوة يحجبون الأم حجب نقصان، وإن كانوا محجوبين بالأب حجب حرمان، ويعود السدس الذي حجبوها عنه للأب- وهو مذهب جمهور الصحابة أيضا- ويروى عن ابن عباس أنه للإخوة لأنهم إنما حجبوها عنه ليأخذوه فإن غير الوارث لا يحجب كما إذا كانت الإخوة كفارا أو أرقاء، وقد يستدل عليه بما رواه طاوس مرسلا أنه عليه الصلاة والسلام أعطى الإخوة السدس مع الأبوين. وللجمهور- كما قال الشريف- إن صدر الكلام يدل على أن لأمه الثلث والباقي للأب فكذا الحال في آخره كأنه قيل: فإن كان له إخوة وورثه أبواه فلأمه السدس ولأبيه الباقي، ثم إن شرط الحاجب أن يكون وارثا في حق من يحجبه، والأخ المسلم وارث في حق الأم بخلاف الرقيق والكافر، فالإخوة يحجبونها وهم يحجبون بالأب، ألا يرى أنهم لا يرثون مع الأب شيئا عند عدم الأم لأنهم كلالة فلا ميراث لهم مع الوالد، وليس حال الإخوة مع الأم بأقوى من حالهم مع عدمها، وقد روي عن طاوس أنه قال: لقيت ابن رجل من الإخوة الذين أعطاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم السدس مع الأبوين وسألته عن ذلك فقال: كان ذلك وصية وحينئذ صار الحديث دليلا للجمهور إذ لا وصية لوارث، والظاهر أنه لا صحة لهذه الرواية عن ابن عباس لأنه يوافق الصديق رضي الله تعالى عنه في حجب الجد للإخوة فكيف يقول بإرثهم مع الأب كذا في شرح الإمام السرخسي، وفي الدر المنثور أن ابن جرير، وعبد الرزاق والبيهقي عنه، وقرأ حمزة والكسائي «فلإمه» بكسر الهمزة اتباعا لكسرة اللام، وقيل: إنه اتباع لكسرة الميم، وضعف بأن فيه اتباع حركة أصلية لحركة عارضة وهي الإعرابية، وقيل: إنه لغة في الأم، وأنكرها الشهاب، وفي القاموس الأم- وقد تكسر- الوالدة، ويقال: أمة وأمهة وتجمع على أمات وأمهات، وهذه لمن يعقل، وأمات لما لا يعقل، وحكي ذلك في الصحاح عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 بعضهم مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ متعلق- بيوصيكم- والكلام على حذف مضاف بناء على أن المراد من الوصية المال الموصى به، والمعنى أن هذه الأنصباء للورثة من بعد إخراج وصية. وجوز أن يكون حالا من السدس، والتقدير مستحقا من بعد ذلك والعامل فيه الجار والمجرور الواقع خبرا لاعتماده، ويقدر لما قبله مثله كالتنازع، وقيل: إنه متعلق بكون عام محذوف أي استقر ذلك لهؤلاء مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها الميت. وقرأ ابن عامر وابن كثير وأبو بكر عن عاصم يُوصِي مبنيا للمفعول مخففا، وقرئ «يوصّي» مبنيا للفاعل مشددا، والجملة صفة وَصِيَّةٍ وفائدة الوصف الترغيب في الوصية والندب إليها، وقيل: التعميم لأن الوصية لا تكون إلا موصى بها أَوْ دَيْنٍ عطف على وصية إلا أنه غير مقيد بما قيدت به من الوصف السابق فلا يتوقف إخراج الدين على الإيصاء به بل هو مطلق يتناول ما ثبت بالبينة والإقرار في الصحة، وإيثار أَوْ على الواو للإيذان بتساويهما في الوجوب وتقدمهما على القسمة مجموعين أو مفردين، وتقديم الوصية على الدين ذكرا مع أن الدين مقدم عليها حكما كما قضى به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيما رواه علي كرم الله تعالى وجهه، وأخرجه عنه جماعة- لإظهار كمال العناية بتنفيذها لكونها مظنة للتفريط في أدائها حيث إنها تؤخذ كالميراث بلا عوض فكانت تشق عليهم ولأن الجميع مندوب إليها حيث لا عارض بخلاف الدين في المشهور مع ندرته أو ندرة تأخيره إلى الموت، وقال ابن المنير: إن الآية لم يخالف فيها الترتيب الواقع شرعا لأن أول ما يبدأ به إخراج الدين ثم الوصية، ثم اقتسام ذوي الميراث، فانظر كيف جاء إخراج الميراث آخرا تلو إخراج الوصية والوصية تلو الدين فوافق قولنا قسمة المواريث بعد الوصية، والدين صورة الواقع شرعا، ولو سقط ذكر بَعْدِ وكان الكلام أخرجوا الميراث والوصية والدين لأمكن ورود السؤال المذكور وهو من الحسن بمكان آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً الخطاب للورثة، وآباؤُكُمْ مبتدأ، ووَ أَبْناؤُكُمْ معطوف عليه، ولا تَدْرُونَ مع ما في حيزه خبر له، وأي- إما استفهامية مبتدأ، وأَقْرَبُ خبره، والفعل معلق عنها فهي سادة مسدّ المفعولين، وإما موصولة، وأَقْرَبُ خبر مبتدأ محذوف، والجملة صلة الموصول وهو مفعول أول مبني على الضم لإضافته، وحذف صدر صلته، والمفعول الثاني محذوف، ونَفْعاً نصب على التمييز، وهو منقول من الفاعلية، والجملة اعتراضية مؤكدة لوجوب تنفيذ الوصية. والآباء والأبناء عبارة عن الورثة الأصول والفروع، فيشمل البنات والأمهات والأجداد والجدات، أي أصولكم وفروعكم الذين يموتون قبلكم لا تعلمون من أنفع لكم منهم أمن أوصى ببعض ماله فعرضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته، أم من لم يوص فوفر عليكم عرض الدنيا، وليس المراد- كما قال شيخ الإسلام- بنفي الدراية عنهم بيان اشتباه الأمر عليهم، وكون أنفعية كل من الأول والثاني في حيز الاحتمال عندهم من غير رجحان لأحدهما على الآخر فإن ذلك بمعزل من إفادة التأكيد المذكور، والترغيب في تنفيذ الوصية بل تحقيق أنفعية الأول في ضمن التعريض بأن لهم اعتقادا بأنفعية الثاني مبنيا على عدم الدراية، وقد أشير إلى ذلك حيث عبر عن الأنفعية بأقربية النفع تذكيرا لمناط زعمهم وتعيينا لمنشأ خطئهم ومبالغة في الترغيب المذكور بتصوير الصواب الآجل بصورة العاجل لما أن الطباع مجبولة على حب الخير الحاضر كأنه قيل: لا تدرون أيهم أنفع لكم فتحكمون نظرا إلى ظاهر الحال وقرب المنال بأنفعية الثاني مع أن الأمر بخلافه فإن ما يترتب على الأول الثواب الدائم في الآخرة، وما يترتب على الثاني العرض الفاني في الحياة الدنيا، والأول لبقائه هو الأقرب الأدنى، والثاني لفنائه هو الأبعد الأقصى، واختار كثير من المحققين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 كون الجملة اعتراضا مؤكدا لأمر القسمة، وجعل الخطاب للمورثين، وتوجيه ذلك أنه تعالى بين أنصباء الأولاد والأبوين فيما قبل وكانت الأنصباء مختلفة، والعقول لا تهتدي إلى كمية ذلك. فربما يخطر للإنسان أن القسمة لو وقعت على غير هذا الوجه كانت أنفع وأصلح كما تعارفه أهل الجاهلية حيث كانوا يورثون الرجال الأقوياء، ولا يورثون الصبيان والنسوان الضعفاء فأنكر الله تعالى عليهم ما عسى أن يخطر ببالهم من هذا القبيل، وأشار إلى قصور أذهانهم فكأنه قال: إن عقولكم لا تحيط بمصالحكم فلا تعلمون من أنفع لكم ممن يرثكم من أصولكم وفروعكم في عاجلكم وآجلكم فاتركوا تقدير المواريث بالمقادير التي تستحسنونها بعقولكم ولا تعمدوا إلى تفضيل بعض وحرمانه، وكونوا مطيعين لأمر الله تعالى في هذه التقديرات التي قدرها سبحانه فإنه العالم بمغيبات الأمور وعواقبها، ووجه الحكمة فيما قدره ودبره وهو العليم الحكيم، والنفع على هذا أعم من الدنيوي والأخروي وانتفاع بعضهم ببعض في الدنيا يكون بالإنفاق عليه والتربية له والذب عنه مثلا، وانتفاعهم في الآخرة يكون بالشفاعة، فقد أخرج الطبراني، وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال: إنهم لم يبلغوا درجتك فيقول: يا رب قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به، وإلى هذا ذهب الحسن رحمه الله تعالى، وخص مجاهد النفع بالدنيوي وخصه بعضهم بالأخروي. وذكر أن المعنى لا تدرون أي الآباء من الوالدين والوالدات وأي الأبناء من البنين والبنات أقرب لكم نفعا لترفعوا إليهم في الدرجة في الآخرة، وإذا لم تدروا فادفعوا ما فرض الله تعالى وقسم ولا تقولوا: لماذا أخر الأب عن الابن ولأي شيء حاز الجميع دون الأم والبنت، واعترض بأن ذلك غير معلل بالنفع حتى يتم ما ذكر وأنه يدل على أن من قدم في الورثة، أو ضوعف نصيبه أنفع ولا كذلك، والجواب بأنه أريد أن المنافع لما كانت محجوبة عن درايتكم فاعتقدوا فيه نفعا لاتصل إليه عقولكم بعيد لعدم فهمه من السياق، ويرد نحو هذا على ما اختار الكثير، وربما يقال: المعنى أنكم لا تدرون أي الأصول والفروع أقرب لكم نفعا فضلا عن النفع فكيف تحكمون بالقسمة حسب المنفعة وهي محجوبة عن درايتكم بالمرة، والكلام مسوق لردّ ما كان في الجاهلية فإن أهل الجاهلية كانوا- كما قال السدي- لا يورثون الجواري ولا الضعفاء من الغلمان ولا يرث الرجل من ولده إلا من أطاق القتال، وعن ابن عباس أنهم كانوا يعطون الميراث الأكبر فالأكبر، وهذا مشعر بأن مدار الإرث عندهم الأنفعية مع العلاقة النسبية فرد الله تعالى عليهم بأن الأنفعية لا تدرونها فكيف تعتبرونها والغرض من ذلك الإلزام لا بيان أن الأنفعية معتبرة في نفس الأمر إلا أنهم لا يدرونها، ولعله على هذا لا يرد ما تقدم من الاعتراض فتدبر، وقيل: إن المراد من الآية إنكم لا تدرون أي الوارثين والمورثين أسرع موتا فيرثه صاحبه فلا تتمنوا موت الموروث ولا تستعجلوه، ونسب إلى أبي مسلم، ولا يخفى مزيد بعده فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ مصدر مؤكد لنفسه على حدّ هذا ابني حقا لأنه واقع بعد جملة لا محتمل لها غيره فيكون فعله الناصب له محذوفا وجوبا أي فرض ذلك فريضة من الله: وقيل: إنه ليس بمصدر بل هو اسم مفعول وقع حالا، والتقدير لهؤلاء الورثة هذه السهام حال كونها مفروضة من الله تعالى، وقيل: بل هو مصدر إلا أنه مؤكد لفعله وهو يوصيكم السابق على غير لفظه إذ المعنى يفرض عليكم وأورد عليه عصام الملة أن المصدر إذا أضيف لفاعله أو مفعوله أو تعلقا به يجب حذف فعله كما صرح به الرضي إلا أن يفرق بين صريح المصدر وما تضمنه لكن لا بدّ لهذا من دليل ولم نطلع عليه إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً أي بالمصالح والرتب حَكِيماً في كل ما قضى وقدر فتدخل فيه أحكام المواريث دخولا أوليا، وموقع هذه الجملة هنا موقع قوله تعالى للملائكة: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ [البقرة: 30] والخبر عن الله تعالى بمثل هذه الألفاظ- كما قال الخليل- كالخبر بالحال والاستقبال لأنه تعالى منزه عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 الدخول تحت الزمان، وقال سيبويه: القوم لما شاهدوا علما وحكمة وفضلا وإحسانا تعجبوا فقيل لهم: إن الله تعالى كان كذلك أي لم يزل موصوفا بهذه الصفات فلا حاجة إلى القول بزيادة كان كما ذهب إليه البعض. وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إن دخلتم بهن أولا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ ذكرا كان أو أنثى واحدا كان أو متعددا منكم كان أو من غيركم، ولذا قال سبحانه: لَهُنَّ ولم يقل لكم، ولا فرق بين أن يكون الولد من بطن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 الزوجة، وأن يكون من صلب بنيها أو بني بنيها إلى حيث شاء الله تعالى فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ على ما ذكر من التفصيل، وروي عن ابن عباس أن ولد الولد لا يحجب والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن ذكر تقدير عدم الولد وبيان حكمه مستتبع لتقدير وجوده وبيان حكمه فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ من المال والباقي في الصورتين لبقية الورثة من أصحاب الفروض والعصبات أو ذوي الأرحام، أو لبيت المال إن لم يكن وارث آخر مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ متعلق بكلتا الصورتين لا بما يليه وحده، والكلام على فائدة الوصف وكذا على تقديم الوصية ذكرا قد مر آنفا فلا فائدة في ذكره وَلَهُنَّ أي الأزواج تعددن أو لا الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ عى التفصيل المتقدم. فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ فرض للرجل بحق الزواج (1) ضعف ما فرض للمرأة كما في النسب لمزية عليها ولذا اختص بتشريف الخطاب، وتقديم ذكر حكم ميراثه وهكذا قياس كل رجل وامرأة اشتركا في الجهة والقرب، ولا يستثنى من ذلك إلا أولاد الأم والمعتق والمعتقة لاستواء الذكر والأنثى منهم وَإِنْ كانَ رَجُلٌ المراد بالرجل الميت وهو اسم كان يُورَثُ على البناء للمفعول من ورث الثلاثي خبر كان، والمراد يورث منه فإن ورث تتعدى بمن وكثيرا ما تحذف كَلالَةً هي في الأصل مصدر بمعنى الكلال وهو الاعياء قال الأعشى: فآليت لا أرثي لها من (كلالة) ... ولا من حفي حتى ألاقي محمدا ثم استعيرت واستعملت استعمال الحقائق للقرابة من غير جهة الوالد والولد بضعفها بالنسبة إلى قرابتهما، وتطلق على من لم يخلف والدا ولا ولدا، وعلى من ليس بوالد ولا ولد من المخلفين بمعنى ذي كلالة كما تطلق القرابة على ذوي القرابة وجعل ذلك بعضهم من باب التسمية بالمصدر وآخرون جوزوا كونها- صفة- كالهجاجة- للأحمق قال الشاعر: «هجاجة» منتخب الفؤاد ... كأنه نعامة في واد وتستعمل في المال الموروث مما ليس بوالد ولا ولد إلا أنه استعمال غير شائع وهي في جميع ذلك لا تثنى ولا تجمع، واختار كثيرون كون أصلها من تكلله النسب إذ أحاط به، ومن ذلك الإكليل لإحاطته بالرأس، والكل لإحاطته بالعدد، وقال الحسين بن علي المغربي: أصل الكلالة عندي ما تركه الإنسان وراء ظهره آخذا من الكلّ وهو الظهر والقفا، ونصبها (2) على أنها مفعول له أي يورث منه لأجل القرابة المذكورة، أو على أنها حال من ضمير يورث أي حال كونه ذا كلالة، واختاره الزجاج، أو على أنها خبر لكان ويُورَثُ صفة لرجل أي إِنْ كانَ رجل موروث ذا كلالة ليس بوالد ولا ولد، وذكر أبو البقاء احتمال كون كانَ تامة، ورَجُلٌ فاعلها، ويُورَثُ صفة له، وكَلالَةً حال من الضمير في يورث، واحتمال نصبها على هذا الاحتمال على أنها مفعول له أيضا ظاهر، وجوز فيها الرفع على أنها صفة، أو بدل من الضمير إلا أنه لم يعرف أحد قرأ به فلا يجوز القراءة به أصلا، وجعل نصبها على الاستعمال الغير الشائع على أنها مفعول ثان ليورث. وقرئ «يورث» ، و «يورّث» بالتخفيف والتشديد على البناء للفاعل، فانتصاب كَلالَةً إما على أنها حال من   (1) كقتال اهـ منه. (2) وجوز نصبها على أنها خبر ثان إن أريد أحد الملابسين. وعلى التمييز إن أريد المصدر اهـ منه. [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 ضمير الفعل والمفعول محذوف أي يُورَثُ وارثه حال كونه ذا كَلالَةً، وإما على أنها مفعول به أي يُورَثُ ذا كلالة، وإما على أنها مفعول له أي يورث لأجل الكلالة كذا قالوا، ثم إن الذي عليه أهل الكوفة. وجماعة من الصحابة والتابعين هو أن الكلالة هنا بالمعنى الثالث، وروي عن آخرين، منهم ابن جبير وصح به خبر عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم- أنها بالمعنى الثاني، ولم نر نسبة القولين الآخرين لأحد من السلف، والأول منهما غير بعيد، والثاني سائغ إلا أن فيه بعدا كما لا يخفى أَوِ امْرَأَةٌ عطف على رجل مقيد بما قيد به، وكثيرا ما يستغني بتقييد المعطوف عليه عن تقييد المعطوف، ولعل فصل ذكرها عن ذكره فللإيذان بشرفه وأصالته في الأحكام، وقيل: لأن سبب النزول كان بيان حكمه بناء على ما روي عن جابر أنه قال: أتاني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأنا مريض فقلت: كيف الميراث وإنما يرثني كلالة؟ فنزلت آية الفرائض لذلك وَلَهُ أي الرجل، وتوحيد الضمير لوجوبه فيما وقع بعد، أو حتى أن ما ورد على خلاف ذلك مؤول عند الجمهور كقوله تعالى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما [النساء: 135] وأتى به مذكرا للخيار بين أن يراعي المعطوف أو المعطوف عليه في مثل ذلك، وقد روعي هنا المذكر لتقدمه ذكرا وشرافة، ويجوز أن يكون الضمير لواحد منهما، والتذكير للتغليب، وجوز أن يكون راجعا للميت، أو الموروث ولتقدم ما يدل عليه، وأبعد من جوز أن يكون عائدا للرجل، وضمير المرأة محذوف. والمراد وله أولها أَخٌ أَوْ أُخْتٌ أي من الأم فقط- وعلى ذلك عامة المفسرين- حتى أن بعضهم حكى الإجماع عليه. وأخرج غير واحد عن سعيد أبي وقاص أنه كان يقرأ وله أخ أو أخت من أم، وعن أبي من الأم، وهذه القراءة وإن كانت شاذة إلا أن كثيرا من العلماء استند إليها بناء على أن الشاذ من القراءات إذا صح سنده كان كخبر الواحد في وجوب العمل به خلافا لبعضهم، ويرشد إلى هذا القيد أيضا أن أحكام بني الأعيان والعلات هي التي تأتي في آخر السورة الكريمة، وأيضا ما قدر هنا لكل واحد من الأخ والأخت، وللأكثر وهو السدس، والثلث هو فرض الأم، فالمناسب أن يكون ذلك لأولاد الأم، ويقال لهم إخوة أخياف، وبنو الأخياف، والإضافة بيانية، والجملة في محل النصب على أنها حال من ضمير يورث. أو من رجل على تقدر كون يورث صفة له ومساقها لتصوير المسألة، وذكر الكلالة لتحقيق جريان الحكم المذكور، وإن كان مع من ذكر ورثة أخرى بطريق الكلالة ولا يضر عند من لم يقل بالمفهوم جريانه في صورة الأم، أو الجدة مع أن قرابتهما ليس بطريق الكلالة، وكذا لا يضر عند القائل به أيضا للإجماع على ذلك فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا أي الأخت والأخ السُّدُسُ مما ترك من غير تفضيل للذكر على الأنثى، ولعله إنما عدل عن- فله السدس- إلى هذا دفعا لتوهم أن المذكور حكم الأخ، وترك حكم الأخت لأنه يعلم منه أن لها نصف الأخ بحكم الأنوثة والحكمة في تسوية الشارع بينهما تساويهما في الإدلاء إلى الميت بمحض الأنوثة فَإِنْ كانُوا أي الإخوة والأخوات من الأم المدلول عليهم بما تقدم والتذكير للتغليب أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ أي المذكور بواحد، أو بما فوقه والتعبير باسم الإشارة دون الواحد لأنه لا يقال أكثر من الواحد حتى لو قيل أول بأن المعنى زائدا عليه، وبعض المحققين التزم التأويل هنا أيضا إذ لا مفاضلة بعد انكشاف حال المشار إليه، ولعل التعبير باسم الإشارة حينئذ تأكيد الإشارة إلى أن المسألة فرضية، والفاء لما مر من أن ذكر احتمال الانفراد مستتبع لذكر احتمال العدد. فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ يقتسمونه فيما بينهم بالسوية، وهذا مما لا خلاف فيه لأحد من الأمة، والباقي لباقي الورثة من أصحاب الفروض والعصبات، وفيه خلاف الشيعة، هذا ومن الناس من جوز أن يكون يُورَثُ في القراءة المشهورة مبنيا للمفعول من أورث على أن المراد به الوارث، والمعنى وإن كان رجل يجعل وارثا لأجل الكلالة أو ذا كلالة أي غير والد ولا ولد، ولذلك الوارث أخ أو أخت فلكل من ذلك الوارث، أو أخيه أو أخته السدس، فإن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 كانوا أكثر من ذلك أي من الاثنين بأن كانوا ثلاثة، أو أكثر فهم شركاء في الثلث الموزع للاثنين لا يزداد عليه شيء، ولا يخفى أن الكلام عليه قاصر عن بيان حكم صورة انفراد الوارث عن الأخ والأخت ومقتض أن يكون المعتبر في استحقاق الورثة للفرض المذكور إخوة بعضهم لبعض من جهة الأم فقط، وخارج على مخرج لا عهد به، وفيه أيضا ما فيه، وقد أوضح ذلك مولانا شيخ الإسلام قدس سره بما لا مزيد عليه. مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ أي من غير ضرار لورثته فلا يقر بحق ليس عليه، ولا يوصي بأكثر من الثلث. قاله ابن جبير فالدين هنا مقيد كالوصية وفي يُوصى قراءتان سبعيتان في البناء للمفعول، والبناء للفاعل، وغَيْرَ على القراءة الأولى حال من فاعل فعل مبني للفاعل مضمر يدل عليه المذكور، وما حذف من المعطوف اعتمادا عليه، ونظيره قوله تعالى: يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ [النور: 36] على قراءة «يسبّح» بالبناء للمفعول، وقول الشاعر: «ليبك» يزيد ضارع لخصومة ... ومختبط مما تطيح الطوائح وعلى القراءة الثانية حال من فاعل الفعل المذكور والمحذوف اكتفاء به، ولا يلزم على هذا الفصل بين الحال وذيها بأجنبي كما لا يخفى، أي يوصي بما ذكر من الوصية والدين حال كونه غَيْرَ مُضَارٍّ، ولا يجوز أن يكون حالا من الفاعل المحذوف في المجهول لأنه ترك بحيث لا يلتفت إليه فلا يصح مجئ الحال منه، وجوز فيه أن يكون صفة مصدر أي إيصاء غَيْرَ مُضَارٍّ، واختار بعضهم جعله حالا من وَصِيَّةٍ أو دَيْنٍ أي من بعد أداء وصية أو دين غَيْرَ مُضَارٍّ ذلك الواحد وجعل التذكير للتغليب وليس بشيء، وجوز هذا البعض أن يكون المعنى على ما تقدم غير مضر نفسه بأن يكون مرتكبا خلاف الشرع بالزيادة على الثلث وهو صحيح في نفسه إلا أن المتبادر الأول وعليه مجاهد وغيره ويحتمل- كما قال جمع- أن يكون المعنى غير قاصد الإضرار بل القربة، وذكر عصام الملة أن المفهوم من الآية أن الإيصاء والإقرار بالدين لقصد الإضرار لا يستحق التنفيذ وهو كذلك إلا أن إثبات القصد مشكل إلا أن يعلم ذلك بإقراره، والظاهر أن قصد الإضرار لا القربة بالوصية بالثلث فما دونه لا يمنع من التنفيذ، فقد أخرج ابن أبي شيبة عن معاذ بن جبل قال: إن الله تعالى تصدق عليكم بثلث أموالكم زيادة في حياتكم، نعم ذاك محرم بلا شبهة وليس كل محرم غير منفذ فإن نحو العتق والوقف للرياء والسمعة محرم بالإجماع مع أنه نافذ، ومن ادعى تخصيص ذلك بالوصية فعليه البيان وإقامة البرهان. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الإضرار بالوصية من الكبائر، وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا «إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة» وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ مصدر مؤكد أي يوصيكم الله بذلك وصية. والتنوين للتفخيم، و «من» متعلقة بمحذوف وقع صفة للنكرة مؤكدا لفخامتها، ونظير ذلك فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ [النساء: 11، التوبة: 60] ولعل السر في تخصيص كل منهما بمحله ما قاله الإمام من أن لفظ الفرض أقوى وآكد من لفظ الوصية، فختم شرح ميراث الأولاد بذكر الفرضية، وختم شرح ميراث الكلالة بالوصية ليدل بذلك على أن الكل وإن كان واجب الرعاية إلا أن القسم الأول وهو حال رعاية الأولاد أولى، وقيل إن الوصية أقوى من الفرض للدلالة على الرغبة وطلب سرعة الحصول، فختم شرح ميراث الكلالة بها لأنها لبعدها ربما لا يعتني بشأنها فحرض على الاعتناء بها بذكر الوصية ولا كذلك ما تقدم، أو منصوب بمضار على أنه مفعول به له إما بتقدير أي أهل وصية الله تعالى، أو على المبالغة لأن المضارة ليست للوصية بل لأهلها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 فهو على حدّ يا سارق الليلة أهل الدار ومضارتها الإخلال بحقوقهم ونقصها مما ذكر من الوصية بما زاد على الثلث، أو به مثلا لقصد الإضرار ودون القربة والإقرار بالدين كاذبا. والمراد من الأهل الورثة المذكورة هاهنا ووقع في بعض العبارات أن المراد وصية الله تعالى بالأولاد، ولعل المراد بهم الورثة مطلقا بطريق التعبير عن الكلي بأشهر أفراده كما عبر عن مطلق الانتفاع بالمال بأكله وإلا فهو غير ملائم وإنما نصب مضار المفعول به لأنه اسم فاعل معتمد على ذي الحال، أو منفي معنى فيعمل في المفعول الصريح، ويشهد لهذا الاحتمال قراءة الحسن غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً بالإضافة، وذكر أبو البقاء في هذه القراءة وجهين: الأول أن التقدير غَيْرَ مُضَارٍّ أهل وَصِيَّةٍ فحذف المضاف، والثاني أن التقدير غَيْرَ مُضَارٍّ وقت وَصِيَّةٍ فحذف وهو من إضافة الصفة إلى الزمان، والجمهور لا يثبتون الإضافة بمعنى في، ووقع في الدر المصون احتمال أنه منصوب على الخروج ولم يبين المراد من ذلك، ووقع في همع الهوامع في المفعول به: إن الكوفيين يجعلونه منصوبا على الخروج ولم يبينه أيضا، قال الشهاب: فكأن مرادهم أنه خارج عن طرفي الإسناد، فهو كقولهم: فضلة فلينظر وَاللَّهُ عَلِيمٌ بالمضار وغيره، وقيل: بما دبره بخلقه من الفرائض حَلِيمٌ لا يعاجل بالعقوبة فلا يغترن المضار بالإمهال أو لا يغترن من خالفه فيما بينه من الفرائض بذلك، والإضمار في مقام الإظهار لإدخال الروعة وتربية المهابة، ثم اعلم أن الله سبحانه أورد أقسام الورثة في هذه الآيات على أحسن الترتيبات، وذلك أن الوارث إما أن يتصل بالميت بنفسه من غير واسطة، أو يتصل به بواسطة فإن اتصل بغير واسطة فسبب الاتصال إما أن يكون النسب أو الزوجية، فحصل هنا ثلاثة أقسام أشرفها وأعلاها الاتصال الحاصل ابتداء من جهة النسب، وذلك هو قرابة الولادة، ويدخل فيها الأولاد. والوالدان، وثانيها الاتصال الحاصل ابتداء من جهة الزوجية وهذا القسم متأخر في الشرف عن القسم الأول لأن الأول ذاتي والثاني عرضي والذاتي أشرف من العرضي، وثالثها الاتصال الحاصل بواسطة الغير، وهو المسمى بالكلالة، وهذا القسم متأخر عن القسمين الأولين لوجوه: أحدها أن الأولاد والوالدين والأزواج والزوجات لا يعرض لهم السقوط بالكلية، وأما الكلالة فقد يعرض لها السقوط بالكلية، وثانيها أن القسمين الأولين ينتسب كل واحد منهما إلى الميت بغير واسطة، والكلالة ينتسب إلى الميت بواسطة، والثابت ابتداء أشرف من الثابت بواسطة، وثالثها أن مخالطة الإنسان بالوالدين والأولاد والأزواج والزوجات أكثر وأتم من مخالطته بالكلالة وكثرة المخالطة مظنة الألفة والشفقة وذلك يوجب شدة الاهتمام بأحوالهم، فلهذه الأسباب وأشباهها أخر الله سبحانه ذكر ميراث الكلالة عن ذكر القسمين الأولين فما أحسن هذا الترتيب وما أشدّ انطباقه على قوانين المعقولات- كما قاله الإمام تِلْكَ أي الأحكام المذكورة في شؤون اليتامى والمواريث وغيرها، واقتصر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما على المواريث حُدُودُ اللَّهِ أي شرائعه أو طاعته أو تفصيلاته أو شروطه، وأطلقت عليها الحدود لشبهها بها من حيث إن المكلف لا يجوز له أن يتجاوزها إلى غيرها. وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فيما أمر به من الأحكام أو فيما فرض من الفرائض، والإظهار في مقام الإضمار لما مرت الإشارة إليه يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ نصب على الظرفية عند الجمهور، وعلى المفعولية عند الأخفش. تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي من تحت أشجارها وأبنيتها، وقد مرّ الكلام في ذلك الْأَنْهارُ أي ماؤها خالِدِينَ فِيها حال مقدرة من مفعول يُدْخِلْهُ لأن الخلود بعد الدخول فهو نظير قولك: مررت برجل معه صقر يصيد به غدا، وصيغة الجمع لمراعاة معنى مَنْ كما أن إفراد الضمير لمراعاة لفظها وَذلِكَ أي دخول الجنات على الوجه المذكور الْفَوْزُ أي الفلاح والظفر بالخير الْعَظِيمُ في نفسه أو بالإضافة إلى حيازة التركة على ما قيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 والجملة اعتراض وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فيما أمر به من الأحكام أو فيما فرض من الفرائض، وقال ابن جريج: من لا يؤمن بما فصل سبحانه من المواريث، وحكي مثله عن ابن جبير. وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ التي جاء بها رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، ومن جملتها ما قص لنا قبل، أو يتعد حدوده في القسمة المذكورة استحلالا كما حكي عن الكلبي يُدْخِلْهُ قرأ نافع وابن عامر بالنون في الموضعين ناراً أي عظيمة هائلة خالِداً فِيها حال كما سبق، وأفرد هنا وجمع هناك لأن أهل الطاعة أهل الشفاعة. وإذا شفع أحدهم في غيره دخلها معه، وأهل المعاصي لا يشفعون فلا يدخل بهم غيرهم فيبقون فرادى، أو للإيذان بأن الخلود في دار الثواب بصيغة الاجتماع الذي هو أجلب للأنس، والخلود في دار العقاب بصيغة الانفراد الذي هو أشد في استجلاب الوحشة، وجوز الزجاج، والتبريزي كون خالِدِينَ هناك وخالِداً هنا صفتين لجنات أو نار، واعترض بأنه لو كان كذلك لوجب إبراز الضمير لأنهما جريا على غير من هما له، وتعقبه أبو حيان بأن هذا على مذهب البصريين. ومذهب الكوفيين جواز الوصفية في مثل ذلك ولا يحتاج إلى إبراز الضمير إذ لا لبس وَلَهُ عَذابٌ أي عظيم لا يكتنه مُهِينٌ أي مذل له والجملة حالية، والمراد جمع أمرين للعصاة المعتدين عذاب جسماني وعذاب روحاني، نسأل الله تعالى العافية، واستدل بالآية من زعم أن المؤمن العاصي مخلد في النار، والجواب أنها لا تصدق عليه إما لأنها في الكافر على ما سمعت عن الكلبي وابن جبير وابن جريج وإما لأن المراد من حدود الله تعالى جميع حدوده لصحة الاستثناء والمؤمن العاصي واقف عند حد التوحيد، وإما لأن ذلك مشروط بعدم العفو كما أنه مشروط بعدم التوبة عند الزاعم، وفي ختم آيات المواريث بهذه الآية إشارة إلى عظم أمر الميراث ولزوم الاحتياط والتحري وعدم الظلم فيه، وقد أخرج ابن ماجه عن أنس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «من قطع ميراثا فرضه الله ورسوله قطع الله ميراثه من الجنة» . وأخرج أبو منصور عن سليمان بن موسى، والبيهقي عن أبي هريرة نحو ذلك، وأخرج الحاكم عن ابن مسعود أن الساعة لا تقوم حتى لا يقسم ميراث ولا يفرح بغنيمة عدو، وكأن عدم القسمة إما للتهاون في الدين وعدم المبالاة وكثرة الظلم بين الناس، وإما لفشو الجهل وعدم من يعرف الفرائض، فقد ورد عن أبي هريرة مرفوعا إن علم الفرائض أول ما ينزع من الأمة، وأخرج البيهقي والحاكم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «تعلموا الفرائض وعلموه الناس فإني امرؤ مقبوض وإن العلم سيقبض وتظهر الفتن حتى يختلف الاثنان في الفريضة لا يجدان من يقضي بها» ولعل الاحتمال الأول أظهر. (هذا وقد سددنا باب الإشارة في الآيات) لما في فتحه من التكلف، وقد تركناه لأهله. وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ شروع في بيان بعض الأحكام المتعلقة بالرجال والنساء إثر بيان أحكام المواريث، وَاللَّاتِي جمع التي على غير قياس، وقيل: هي صيغة موضوعة للجمع، وموضعها رفع على الابتداء، والفاحشة ما اشتد قبحه، واستعملت كثيرا في الزنا لأنه من أقبح القبائح، وهو المراد هنا على الصحيح، والإتيان في الأصل المجيء، وفي الصحاح يقال: أتيته أتيا قال الشاعر: فاختر لنفسك قبل «أتى» العسكر وأتوته أتوة لغة فيه، ومنه قول الهذلي: كنت إذا «أتوته» من غيب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 وفي القاموس أتوته أتوة (1) وأتيته أتيا وإتيانا وإتيانة بكسرهما، ومأتاة وإتيا كعتى، ويكسر جئته، وقد يعبر به كالمجيء والرهق والغشي عن الفعل، وشاع ذلك حتى صار حقيقة عرفية، وهو المراد هنا فالمعنى يفعلن الزنا أي يزنين، والتعبير بذلك لمزيد التهجين، وقرأ ابن مسعود يَأْتِينَ بالفاحشة- فالإتيان على أصله المشهور، ومِنْ متعلقة بمحذوف وقع حالا من فاعل يَأْتِينَ والمراد من النساء- كما قال السدي، وأخرجه عنه ابن جرير- النساء اللاتي قد أنكحن وأحصن، ومثله عن ابن جبير فَاسْتَشْهِدُوا أي فاطلبوا أن يشهد عَلَيْهِنَّ بإتيانهن الفاحشة أَرْبَعَةً مِنْكُمْ أي أربعة من رجال المؤمنين وأحرارهم قال الزهري: مضت السنة من رسول الله صلّى الله عليه وسلم والخليفتين بعده أن لا تقبل شهادة النساء في الحدود، واشترط الأربعة في الزنا تغليظا على المدعي وسترا على العباد، وقيل: ليقوم نصاب الشهادة كاملا على كل واحد من الزانيين كسائر الحقوق ولا يخفى ضعفه، والجملة خبر المبتدأ والفاء مزيدة فيه لتضمن معنى الشرط، وجاز الإخبار بذلك لأن الكلام صار في حكم الشرط حيث وصلت اللاتي بالفعل- قاله أبو البقاء- وذكر أنه إذا كان كذلك لم يحسن النصب على الاشتغال لأن تقدير الفعل قبل أداة الشرط لا يجوز، وتقديره بعد الصلة يحتاج إلى إضمار فعل غير فَاسْتَشْهِدُوا لأنه لا يصح أن يعمل النصب في اللاتي، وذلك لا يحتاج إليه مع صحة الابتداء (2) وأجاز قوم النصب بفعل محذوف تقديره اقصدوا اللاتي أو تعمدوا، وقيل: الخبر محذوف والتقدير فيما يتلى عليكم حكم اللاتي، فالجار والمجرور هو الخبر وحكم هو المبتدأ فحذفا لدلالة فَاسْتَشْهِدُوا لأنه الحكم المتلو عليهم، والخطاب قيل: للحكام، وقيل: للأزواج فَإِنْ شَهِدُوا عليهن بالإتيان فَأَمْسِكُوهُنَّ أي فاحبسوهن عقوبة لهن فِي الْبُيُوتِ واجعلوها سجنا عليهن حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ المراد بالتوفي في أصل معناه أي الاستيفاء وهو القبض تقول: توفيت مالي على فلان واستوفيته إذا قبضته. وإسناده إلى الموت باعتبار تشبيه بشخص يفعل ذلك فهناك استعارة بالكناية والكلام على حذف مضاف، والمعنى حتى يقبض أرواحهن الموت ولا يجوز أن يراد من التوفي معناه المشهور إذ يصير الكلام بمنزلة حتى يميتهن الموت ولا معنى له إلا أن يقدر مضاف يسند إليه الفعل أي ملائكة الموت، أو يجعل الإسناد مجازا من إسناد ما للفاعل الحقيقي إلى أثر فعله أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا أي مخرجا من الحبس بما يشرعه من الحدّ لهن- قاله ابن جبير- وأخرج الإمامان الشافعي وأحمد وغيرهما عن عبادة بن الصامت قال: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك واربد وجهه، وفي لفظ لابن جرير يأخذه كهيئة الغشي لما يجد من ثقل ذلك فأنزل عليه ذات يوم فلما سري عنه قال: «خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا الثيب جلد مائة ورجم بالحجارة والبكر جلد مائة ثم نفي سنة» وروى ابن أبي حاتم عن ابن جبير أنه قال: كانت المرأة أول الإسلام إذا شهد عليها أربعة من المسلمين عدول بالزنا حبست في السجن فإن كان لها زوج أخذ المهر منها ولكنه ينفق عليها من غير طلاق وليس عليها حد ولا يجامعها. وروى ابن جرير عن السدي كانت المرأة في بدء الإسلام إذا زنت حبست في البيت وأخذ زوجها مهرها حتى جاءت الحدود فنسختها، وحكاية النسخ قد وردت في غير ما طريق عن ابن عباس ومجاهد وقتادة ورويت عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما، والناسخ عند بعض آية الجلد على ما في سورة النور وعند آخرين إن آية الحبس نسخت بالحديث، والحديث منسوخ بآية الجلد، وآية الجلد بدلائل الرجم.   (1) قوله: في القاموس. أتوته أتوة والذي في القاموس أتوته أتيته فليحرر اهـ مصححه. (2) ولم يمنعوا التقدير مقدما فيما تضمن معنى الشرط لأنه لا يعامل معاملته من كل وجه اهـ منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 وقال الزمخشري: من الجائز أن لا تكون الآية منسوخة بأن يترك ذكر الحدّ لكونه معلوما بالكتاب والسنة، ويوصي بإمساكهن في البيوت بعد أن يحددن صيانة لهن عن مثل ما جرى عليهن بسبب الخروج من البيوت والتعرض للرجال، ويكون السبيل على هذا النكاح المغني عن السفاح، وقال الشيخ أبو سليمان الخطابي في معالم السنن: إنه لم يحصل النسخ في الآية ولا في الحديث وذلك أن الآية تدل على أن إمساكهن في البيوت ممدود إلى غاية أن يجعل الله تعالى لهن سبيلا ثم إن ذلك السبيل كان مجملا فلما قال صلّى الله عليه وسلم: «خذوا عني» ، إلى آخر ما في الحديث صار ذلك بيانا لما في تلك الآية لا ناسخا له، وصار مخصصا لعموم آية الجلد، وقد تقدم لك في سورة البقرة ما ينفعك في تحقيق هذا المقام فتذكره وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ هما الزاني والزانية بطريق التغليب. قاله السدي وابن زيد وابن جبير أراد بهما البكران اللذان لم يحصنا، ويؤيد ذلك كون عقوبتهما أخف من الحبس المخلد، وبذلك يندفع التكرار لكن يبقى حكم الزاني المحصن غير ظاهر. وقرأ ابن كثير «واللذان» بتشديد النون وهي لغة وليس مخصوصا بالألف كما قيل بل يكون مع الياء أيضا وهو عوض عن ياء الذي المحذوف إذ قياسه اللذيان والتقاء الساكنين هنا على حده كما في دابة وشابة فَآذُوهُما أي بعد استشهاد أربعة شهود عليهما بالإتيان، وترك ذكر ذلك تعويلا على ما ذكر آنفا، واختلف في الإيذاء على قولين: فعن ابن عباس أنه بالتعيير والضرب بالنعال، وعن السدي وقتادة ومجاهد أنه بالتعيير والتوبيخ فقط فَإِنْ تابا عما فعلا من الفاحشة بسبب الإيذاء كما ينبئ عنه الفاء وَأَصْلَحا أي العمل فَأَعْرِضُوا عَنْهُما أي اصفحوا عنهما وكفوا عن أذاهما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً مبالغا في قبول التوبة رَحِيماً واسع الرحمة، والجملة في معرض التعليل للأمر بالإعراض، والخطاب هنا للحكام، وجوز أن يكون للشهود الواقفين على فعلتهما، ويراد بالإيذاء ذمهما وتعنيفهما وتهديدهما بالرفع إلى القضاة والجر إلى الولاة وفتح باب الشر عليهما، وبالإعراض عنهما ترك التعرض لهما بذلك، والوجه الأول هو المشهور، والحكم عليه منسوخ بالحد المفروض في سورة النور أيضا عند الحسن وقتادة والسدي والضحاك وابن جبير وغيرهم. وإلى ذلك ذهب البلخي والجبائي والطبري، وقال الفراء إن هذه الآية نسخت الآية التي قبلها، وهذا مما لا يتمشى على القول بأن المراد بالموصول البكران كما لا يخفى، وذهب أبو مسلم إلى أنه لا نسخ لحكم الآيتين بل الآية الأولى في السحاقات وهن النساء اللاتي يستمتع بعضهن ببعض وحدهن الحبس، والآية الثانية في اللائطين وحدهما الإيذاء، وأما حكم الزناة فسيأتي في سورة النور، وزيف هذا القول بأنه لم يقل به أحد، وبأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم اختلفوا في حكم اللوطي ولم يتمسك أحد منهم بهذه الآية، وعدم تمسكهم بها مع شدة احتياجهم إلى نص يدل على الحكم دليل على أن الآية ليست في ذلك، وأيضا جعل الحبس في البيت عقوبة السحاق مما لا معنى له لأنه مما لا يتوقف على الخروج كالزنا، فلو كان المراد السحاقات لكانت العقوبة لهن عدم اختلاط بعضهم ببعض لا الحبس والمنع من الخروج، فحيث جعل هو عقوبة دل ذلك على أن المراد- باللاتي يأتين الفاحشة- الزانيات، وأجاب أبو مسلم بأنه قول مجاهد- وهو من أكابر المفسرين المتقدمين- وقد قال غير واحد: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك على أنه تبين في الأصول أن استنباط تأويل جديد في الآية لم يذكره المتقدمون جائز، وبأن مطلوب الصحابة رضي الله تعالى عنهم معرفة حد اللوطي وكمية ذلك، وليس في الآية دلالة عليه بالنفي والإثبات، ومطلق الإيذاء لا يصلح حدا ولا بيانا للكمية فلذا اختلفوا، وبأن المراد من إمساكهن في البيوت حبسهن فيها واتخاذها سجنا عليهن ومن حال المسجون منع من يريد الدخول عليه وعدم تمكينه من الاختلاط، فكان الكلام في قوة فامنعوهن عن اختلاط بعضهن ببعض على أن الحبس المذكور حد، وليس المقصود منه إلا الزجر والتنكيل، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 وأيد مذهبه بتمحيض التأنيث في الآية الأولى والتذكير في الآية الثانية، والتغليب خلاف الأصل، ويبعده أيضا لفظ مِنْكُمْ فإن المتبادر منه من رجالكم كما في قوله تعالى: أَرْبَعَةً مِنْكُمْ وأيضا لو كان كل واحد من الآيتين واردا في الزنا يلزم أن يذكر الشيء الواحد في الموضع الواحد مرتين وأنه تكرير لا وجه له، وأيضا على هذا التقدير لا يحتاج إلى التزام النسخ في شيء من الآيتين بل يكون حكم كل واحدة منهما مقررا على حاله، وعلى ما قاله الغير يحتاج إلى التزام القول بالنسخ وهو خلاف الأصل، وأيضا على ما قالوه يكون الكتاب خاليا عن بيان حكم السحاق واللواطة، وعلى ما قلناه يكون متضمنا لذلك وهو الأنسب بحاله، فقد قال سبحانه: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 38] ، تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89] ، وأجيب بأنا لا نسلم أن هذا قول لمجاهد، ففي مجمع البيان أنه حمل الَّذانِ يَأْتِيانِها على الرجلين الزانيين، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أنهما الفاعلان وهو ليس بنص على أنهما اللائطان على أن حمل اللَّاتِي في الآية الأولى على السحاقات لم نجد فيه عنه رواية صحيحة بل قد أخرجوا عنه ما هو ظاهر في خلافه، فقد أخرج آدم والبيهقي في سننه عنه في تلك الآية أنه كان أمر أن يحبس ثم نسختها الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا [النور: 2] وما ذكر من العلاوة مسلم لكن يبعد هذا التأويل أنه لا معنى للتثنية في الآية الثانية لأن الوعد والوعيد إنما عهدا بلفظ الجمع ليعم الآحاد أو بلفظ الواحد لدلالته على الجنس ولا نكتة للعدول عن ذلك هنا على تقرير أبي مسلم بل كان المناسب عليه الجمع لتكون آية اللواطة كآية السحاق، ولا يرد هذا على ما قرره الجمهور لأن الآية الأولى عندهم للإناث الثيبات إذا زنين، والآية الثانية للذكر البكر والأنثى البكر إذا زنيا فغوير بين التعبيرين لقوة المغايرة بين الموردين، ويحتمل أيضا أن تكون المغايرة على رأيهم للإيذان بعزة وقوع زنا البكر بالنسبة إلى وقوع زنا الثيب لأن البكر من النساء تخشى الفضيحة أكثر من غيرها من جهة ظهور أثر الزنا، وهو زوال البكارة فيها ولا كذلك الثيب، ولا يمكن اعتبار مثل هذه النكتة في المغايرة على رأي أبي مسلم إذ لا نسلم أن وقوع اللواطة من الرجال أقل من وقوع السحاق من النساء بل لعل الأمر بالعكس، وكون مطلوب الصحابة رضي الله تعالى عنهم معرفة حد اللوطي وكمية ذلك والإيذاء لا يصلح حدا ولا بيانا للكمية- ليس بشيء- كما يرشد إلى ذلك أن منهم من لم يوجب عليه شيئا، وقال: تؤخر عقوبته إلى الآخرة، وبه أخذ الأئمة رضي الله تعالى عنهم على أنه أي مانع من أن يعتبر الإيذاء حدا بعد أن ذكر في معرض الحدّ وتفوض كيفيته إلى رأي الإمام فيفعل مع اللوطي ما ينزجر به مما لم يصل إلى حد القتل وكون الكلام في قوة فامنعوهن عن اختلاط بعضهن ببعض في غاية الخفاء كما لا يخفى. نعم ما في حيز العلاوة مما لا بأس به، وما ذكر من أن التغليب خلاف الأصل مسلم لكنه في القرآن العظيم أكثر من أن يحصى، واعتباره في مِنْكُمْ تبع لاعتباره في الَّذانِ وذكر مثله قبل بلا تغليب فيه ربما يؤيد اعتبار التغليب فيه ليغاير الأول فيكون لذكره بعده أتم فائدة ألا ترى كيف أسقط من الآية الثانية الاستشهاد مع اشتراطه إجماعا اكتفاء بما ذكر في الآية الأولى لاتحاد الاستشهادين في المسألتين، ودعوى لزوم التكرار في الموضع الواحد على رأي الجمهور ليست في محلها على ما أشرنا إليه في تفسير الآية، ودعوى الاحتياج إلى التزام القول بالنسخ لا تضر لأن النسخ أمر مألوف في كثير من الأحكام، وقد نص عليه هنا جماعة من الصحابة والتابعين على أن في كون فرضية الحد نسخا في الآية الأولى مقالا يعلم مما قدمناه في البقرة، وإذا جعل «أو يجعل» إلخ معتبرا في الآية الثانية إلا أنه حذف منها اكتفاء بما في الأولى كما يشير إلى ذلك خبر عبادة بن الصامت. جرى المقال في الآيتين ولزوم خلو الكتاب عن بيان حكم السحاق واللواطة على رأي الجمهور دون رأيه في حيز المنع أما على تقدير تسمية السحاق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 واللواطة زنا فظاهر، وأما على تقدير عدم التسمية فلأن ذكر ما يمكن قياسهما عليه في حكم البيان لحكمهما، وكم حكم ترك التصريح به في الكتاب اعتمادا على القياس- كحكم النبيذ، وكحكم الجد وغيرهما- اعتمادا على بيان ما يمكن القياس عليه وذلك لا ينافي كونه تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89] وأنه ما فرط فيه من شيء، ومن ادعى أن جميع الأحكام الدينية مذكورة في القرآن صريحا من غير اعتبار قياس، فقد ارتكب شططا وقال غلطا، وبالجملة المعول عليه ما ذهب إليه الجمهور، ويد الله تعالى مع الجماعة، ومذهب أبي مسلم وإن لم يكن من الفساد بمحل إلا أنه لم يعوّل عليه ولم تحط رحال القبول لديه، وهذا ما عندي في تحقيق المقام وبالله سبحانه الاعتصام. ولما وصف سبحانه نفسه بالتواب الرحيم عقب ذلك ببيان شرط قبول التوبة بقوله جل شأنه: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ أي إن قبول التوبة، وعَلَى وإن استعملت للوجوب حتى استدل بذلك الواجبة عليه، فالمراد أنه لازم متحقق الثبوت البتة بحكم سبق الوعد حتى كأنه من الواجبات كما يقال: واجب الوجود، وقيل: عَلَى بمعنى من، وقيل: هي بمعنى عند، وعليه الطبرسي أي إنما التوبة عند الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ أي المعصية صغيرة كانت أو كبيرة، والتوبة مبتدأ، ولِلَّذِينَ خبره، وعَلَى اللَّهِ متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار، أو بمحذوف وقع حالا من ضمير المبتدأ المستكن في متعلق الجار الواقع خبرا على رأي من يجوز تقديم الحال على عاملها المعنوي عند كونها ظرفا، وجعله بعضهم على حد هذا بسرا أطيب من رطبا، وجوز أن يكون عَلَى اللَّهِ متعلقا بمحذوف وقع صفة للتوبة أي إِنَّمَا التَّوْبَةُ الكائنة عَلَى اللَّهِ ولِلَّذِينَ هو الخبر، وهو ظاهر على رأي من جوز حذف الموصول مع بعض صلته، وذكر أبو البقاء احتمال أن يكون عَلَى اللَّهِ الخبر، ولِلَّذِينَ متعلقا بمحذوف وقع حالا من الضمير المستكن في متعلق الخبر، ويحتمل أن يكون متعلقا بما تعلق به الخبر، ولا يخفى أن سوق الآية يؤيد جعل لِلَّذِينَ خبرا كما لا يخفى على من لم يتعسف بِجَهالَةٍ حال من فاعل يَعْمَلُونَ أي يَعْمَلُونَ السُّوءَ متلبسين بها، أو متعلق يَعْمَلُونَ والباء للسببية، والمراد من الجهالة الجهل والسفه بارتكاب ما لا يليق بالعاقل لا عدم العلم خلافا للجبائي فإن من لا يعلم لا يحتاج إلى التوبة، والجهل بهذا المعنى حقيقة واردة في كلام العرب كقوله: ألا (لا يجهلن) أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا ومن هنا قال مجاهد فيما أخرجه عنه البيهقي في الشعب، وغيره: كل من عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته، وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة قال: اجتمع أصحاب محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فرأوا أن كل شيء عصي به فهو جهالة عمدا كان أو غيره، وروي مثل ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقال أبو عبد الله رضي الله تعالى عنه: كل ذنب عمله العبد وإن كان عالما فهو جاهل فيه حين خاطر بنفسه في معصية ربه، فقد حكى الله تعالى قول يوسف عليه السلام لإخوته: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ [يوسف: 89] فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية الله تعالى، وقال الفراء: معنى قوله سبحانه: بِجَهالَةٍ أنهم لا يعلمون كنه ما في المعصية من العقوبة. وقال الزجاج: معنى ذلك اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ أي من زمان قريب وهو ما قبل حضور الموت كما ينبئ عنه ما سيأتي من قوله تعالى: حَتَّى إِذا حَضَرَ إلخ يروى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال في آخر خطبة خطبها: «من تاب قبل موته بسنة تاب الله تعالى عليه» ثم قال: «وإن السنة لكثيرة من تاب قبل موته بشهر تاب الله تعالى عليه» ثم قال: «وإن الشهر لكثير من تاب قبل موته بيوم تاب الله تعالى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 عليه» ثم قال: «وإن اليوم لكثير من تاب قبل موته بساعة تاب الله تعالى عليه» ثم قال «وإن الساعة لكثيرة من تاب قبل موته وقد بلغت نفسه هذه- وأهوى بيده الشريفة إلى حلقه- تاب الله تعالى عليه» . وأخرج أحمد والترمذي عن ابن عمر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر. وأخرج ابن أبي شيبة عن قتادة قال: كنا عند أنس بن مالك وثمّ أبو قلابة فحدث أبو قلابة قال: إن الله تعالى لما لعن إبليس سأله النظرة فأنظره إلى يوم الدين فقال وعزتك لا أخرج من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح قال: وعزتي لا أحجب عنه التوبة ما دام فيه الروح، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال- القريب- ما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت، وروي مثله عن الضحاك، وعن عكرمة الدنيا كلها قريب وعن الإمام القشيري- القريب- على لسان أهل العلم قبل الموت، وعلى لسان أهل المعاملة قبل أن تعتاد النفس السوء ويصير لها كالطبيعة، ولعل مرادهم أنه إذا كان كذلك يبعد عن القبول، وإن لم يمتنع قبول توبته، ومِنْ تبعيضية كأنه جعل ما بين وجود المعصية وحضور الموت زمانا قريبا، ففي أي جزء من أجزاء هذا الزمان تاب فهو تائب في بعض أجزاء زمان قريب، وجعلها بعضهم لابتداء الغاية، ورجح الأول بأن مِنْ إذا كانت لابتداء الغاية لا تدخل على الزمان على القول المشهور، والذي لابتدائيته مذ ومنذ، وفي الإتيان بثم إيذان بسعة عفوه تعالى فَأُولئِكَ أي المتصفون بما ذكر وما فيه من معنى البعد باعتبار كونهم بانقضاء ذكرهم في حكم البعيد، وجوز أن يكون ذلك إيذانا ببعد مرتبتهم ورفعة شأنهم من حيث إنهم تائبون، والخطاب للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب، والفاء للدلالة على السببية، واسم الإشارة مبتدأ خبره قوله تعالى: يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وما فيه من تكرير الإسناد لتقوية الحكم، وهذا وعد بالوفاء بما وعد به سبحانه أولا فلا تكرار، وضمن يَتُوبُ معنى يعطف فلذا عدي بعلى. وجوز أن يكون ذلك من المذهب الكلامي كأنه قيل: التوبة كالواجب على الله تعالى، وكل ما هو كالواجب عليه تعالى كائن لا محالة فالتوبة أمر كائن لا محالة فالآية الأولى واقعة موقع الصغرى والكبرى مطوية، والآية الثانية واقعة موقع النتيجة وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً فيعلم بإخلاص من يتوب حَكِيماً فلا يعاقب التائب، والجملة اعتراض مقرر لمضمون ما قبلها، والإظهار في مقام الإضمار للإشعار بعلة الحكم وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ على الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أي المعاصي وجمعت باعتبار تكرر وقوعها في الزمان المديد لا لأن المراد بها جميع أنواعها وبما مر من السُّوءَ نوع منها حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ بأن شاهد الأحوال التي لا يمكن معها الرجوع إلى الدنيا بحال وعاين ملك الموت وانقطع حبل الرجاء قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ أي هذا الوقت الحاضر، وذكر لمزيد تعيين الوقت، وإيثار قالَ على تاب لإسقاط ذلك عن درجة الاعتبار والتحاشي عن تسميته توبة، ولو أكده ورغب فيه، ولعل ذلك كون تلك الحالة أشبه شيء بالآخرة بل هي أول منزل من منازلها، والدنيا دار عمل ولا جزاء، والآخرة دار جزاء ولا عمل، وحَتَّى حرف ابتداء، والجملة الشرطية بعدها غاية لما قبلها أي لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لقوم يعملون السيئات إلى حضور موتهم، وقولهم: كيت وكيت وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ عطف على الموصول قبله أي ليس قبول التوبة لهؤلاء ولا لهؤلاء، والمراد من ذكر هؤلاء مع أنه لا توبة لهم رأسا المبالغة في عدم قبول توبة المسوفين والإيذان بأن وجودها كالعدم بل في تكرير حرف النفي في المعطوف كما قيل: إشعار خفي يكون حال المسوّفين في عدم استتباع الجدوى أقوى من حال الذين يموتون على الكفر. والكثير من أهل العلم على أن المراد ب الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ ما يشمل الفسقة والكفرة، ومن الَّذِينَ يَمُوتُونَ إلخ الكفار فقط، وجوز أن يراد بالموصولين الكفار خاصة، وأن يراد بهما الفسقة وحدهم، وتسميتهم في الجملة الحالية كفارا للتغليظ، وأن يراد بهما ما يعم الفريقين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 جميعا فالتسمية حينئذ للتغليب، وأخرج ابن جرير عن الربيع، وابن المنذر عن أبي العالية أن الآية الأولى نزلت في المؤمنين والثانية في المنافقين، والثالثة في المشركين، وفي جعل الوسطى في المنافقين مزيد ذم لهم حيث جعل عمل السيئات من غيرهم في جنب عملهم بمنزلة العدم، فكأنهم عملوها دون غيرهم، وعلى هذا لا يخفى لطف التعبير بالجمع في أعمالهم، وبالمفرد في المؤمنين لكن ضعف هذا القول بأن المراد بالمنافقين إن كان المصرين على النفاق فلا توبة لهم يحتاج إلى نفيها، وإلا فهم وغيرهم سواء، هذا واستدل بالآية على أن توبة اليائس كإيمانه غير مقبول، وفي المسألة خلاف فقد قيل: إن توبة اليائس مقبولة دون إيمانه لأن الرجاء باق ويصح معه الندم، والعزم على الترك، وأيضا التوبة تجديد عهد مع الرب سبحانه، والإيمان إنشاء عهد لم يكن وفرق بين الأمرين، وفي البزازية أن الصحيح أنها تقبل بخلاف إيمان اليائس، وإذا قبلت الشفاعة في القيامة وهي حالة يائس فهذا أولى، وصرح القاضي عبد الصمد الحنفي في تفسيره أن مذهب الصوفية أن الإيمان أيضا ينتفع به عند معاينة العذاب ويؤيده أن مولانا الشيخ الأكبر قدس سره صرح في فتوحاته بصحة الإيمان عند الاضطرار، وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لو غرغر المشرك بالإسلام لرجوت له خيرا كثيرا. وأيد بعضهم القول بقبول توبة الكافر عند المعاينة بما أخرجه أحمد والبخاري في التاريخ والحاكم وابن مردويه عن أبي ذر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الله يقبل توبة عبده- أو يغفر لعبده- ما لم يقع الحجاب قيل: وما وقوع الحجاب؟ قال: تخرج النفس وهي مشركة» ولا يخفى أن الآية ظاهرة فيما ذهب إليه أهل القول الأول، وأجاب بعض المحققين عنها بأن مفادها أن قبول توبة المسوّف والمصر غير متحقق، ونفي التحقيق غير تحقق النفي فيبقى الأمر بالنسبة إليهما بين بين، وأنه تعالى إن شاء عفا عنهما وإن شاء لم يعف وآية إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48، 116] تبين أنه سبحانه لا يشاء المغفرة للكافر المصر ويبقى التائب عند الموت من أي ذنب كان تحت المشيئة، وزعم بعضهم أنه ليس في الآية الوسطى توبة حقيقية لتقبل بل غاية ما فيها قول، إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وهو إشارة إلى عدم وجود توبة صادقة، ولذا لم يقل وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ تاب- وعلى تسليم أن التعبير بالقول لنكتة غير ذلك يلتزم القول بأن التقييد بالآن مشعر بعدم استيفاء التوبة للشروط لأن فيه رمزا إلى عدم العزم على عدم العود إلى ما كان عليه من الذنب فيما يأتي من الأزمنة إن أمكن البقاء، ومن شروط التوبة الصحيحة ذلك فتدبر. أُولئِكَ أي المذكورون من الفريقين المترامي حالهم إلى الغاية القصوى في الفظاعة أَعْتَدْنا لَهُمْ أي هيأنا لهم، وقيل: أعددنا فأبدلت الدال تاء عَذاباً أَلِيماً أي مؤلما موجعا، وتقديم الجار على المفعول الصريح لإظهار الاعتناء بكون العذاب مهيأ لهم، والتنكير للتفخيم، وتكرير الإسناد لما مر، واستدل المعتزلة بالآية على وجوب العقاب لمن مات من مرتكبي الكبائر من المؤمنين قبل التوبة، وأجيب بأن تهيئة العذاب هو خلق النار التي يعذب بها، وليس في الآية أن الله تعالى يدخلهم فيها البتة، وكونه تعالى يدخل من مات كافرا فيها معلوم من غير هذه الآية، ويحتمل أيضا أن يكون المراد أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً إن لم نعف كما تدل على ذلك النصوص، ويروى عن الربيع أن الآية منسوخة بقوله تعالى: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48، 116] . واعترض بأن أَعْتَدْنا خبر ولا نسخ في الأخبار، وقيل: إن «أولئك» إشارة إلى الذين يموتون وهم كفار فلا إشكال كما لو جعل إشارة إلى الفريقين وأريد بالأول المنافقون، وبالثاني المشركون. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً لما نهى الله سبحانه فيما تقدم عن عادات أهل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 الجاهلية في أمر اليتامى والأموال عقبه بالنهي عن الاستنان بنوع من سننهم في النساء أنفسهن أو أموالهن فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس قال: كان الرجل إذا مات وترك جارية ألقى عليها حميمه ثوبه فمنعها من الناس فإن كانت جميلة تزوجها وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها، وفي رواية البخاري وأبي داود كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاؤوا زوجوها وإن شاؤوا لم يزوجوها فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية في ذلك، وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال: نزلت هذه الآية في كبيشة ابنة معن بن عاصم من الأوس كانت عند أبي قيس بن الأسلت فتوفي عنها فجنح عليها ابنه فجاءت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: لا أنا ورثت زوجي ولا أنا تركت فأنكح فنزلت، وروي مثله عن أبي جعفر. وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال: كان أهل يثرب إذا مات الرجل منهم في الجاهلية ورث امرأته من يرث ماله فكان يعضلها حتى يتزوجها أو يزوجها من أراد فنهى الله تعالى المؤمنين عن ذلك. وروي عن الزهري أنها نزلت في الرجل يحبس المرأة عنده لا حاجة له بها وينتظر موتها حتى يرثها- فالنساء- إما مفعول ثان- لترثوا- على أن يكنّ هنّ الموروثات، كَرْهاً مصدر منصوب على أنه حال من النِّساءَ وقيل: من ضمير تَرِثُوا والمعنى لا يحل لكم أن تأخذوا نساء موتاكم بطريق الإرث على زعمكم كما حل لكم أخذ الأموال وهنّ كارهات لذلك أو مكرهات عليه، أو أنتم مكروهون لهن، وإما مفعول أول له، والمعنى لا يَحِلُّ لَكُمْ أن تأخذوا من النساء المال بطريق الإرث كَرْهاً والمراد من ذلك أمر الزوج أن يطلق من كره صحبتها ولا يمسكها كرها حتى تموت فيرث منها مالها، وقرأ حمزة والكسائي كَرْهاً بالضم في مواضعه، ووافقهما عاصم وابن عامر ويعقوب في الأحقاف، وقرأ الباقون بالفتح في جميع ذلك وهما بمعنى كالضعف والضعف، وقيل: الكره بالضم الإكراه وبالفتح الكراهية، وقرئ- لا تحل- بالتاء الفوقانية لأن أَنْ تَرِثُوا بمعنى الوراثة كما قرئ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا [الأنعام: 23] لأنه بمعنى المقالة، وهذا عكس تذكير المصدر المؤنث لتأويله بأن والفعل، فكل منهما جار في اللسان الفصيح وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ أصل العضل التضييق والحبس، ومنه عضلت المرأة بولدها عسر عليها كأعضلت فهي معضل ومعضل، ويقال: عضل المرأة يعضلها مثلثة عضلا وعضلا وعضلانا بكسرهما، وعضلها منعها الزوج ظلما، وعضلت الأرض بأهلها غضت قال أوس: ترى الأرض منا بالفضاء مريضة ... «معضلة» منا بجيش عرمرم وَلا إما ناهية على ما قيل، والفعل مجزوم بها، والجملة مستأنفة- كما قال أبو البقاء- أو معطوفة على الجملة التي قبلها بناء على جواز عطف جملة النهي على جملة خبرية كما نسب إلى سيبويه، أو بناء على أن الجملة الأولى في معنى النهي إذ معناها لا ترثوا النساء كرها فإنه غير حلال لكم، وإما نافية مزيدة لتأكيد النفي، والفعل منصوب بالعطف على تَرِثُوا كأنه قيل: لا يحل ميراث النساء كَرْهاً ولا عضلهن، ويؤيد ذلك قراءة ابن مسعود، ولا أن تعضلوهن،- وأما جعل لا نافية غير مزيدة والفعل معطوف على المنصوب قبله- فقد ردّه بعضهم بأنه إذا عطف فعل منفي- بلا- على مثبت وكانا منصوبين فالقاعدة أن الناصب يقدر بعد حرف العطف لا بعد لا ولو قدرته هنا بعد العاطف على ذلك التقدير فسد المعنى كما لا يخفى، والخطاب في المتعاطفين إما للورثة غير الأزواج فقد كانوا يمنعون المرأة المتوفى عنها زوجها من التزوج لتفتدي بما ورثت من زوجها، أو تعطيهم صداقا أخذته كما كانوا يرثونهن كرها، والمراد- بما آتيتموهن- على هذا ما أتاه جنسكم وإلا لم يلتئم الكلام لأن الورثة ما آتوهن شيئا، وإلا للأزواج فإنهم كما كانوا يفعلون ما تقدم كانوا يمسكون النساء من غير حاجة لهم إليهم فيضاروهن ويضيقوا عليهن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 ليذهبوا ببعض ما آتوهن بأن يختلعن بمهورهن، وإلى هذا ذهب الكثير من المفسرين- وهو المروي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه- والالتئام عليه ظاهر، وجوز أن يكون الخطاب الأول للورثة، وهذا الخطاب للأزواج، والكلام قد تم بقوله سبحانه: كَرْهاً فلا يرد عليه بعد تسليم القاعدة أنه لا يخاطب في كلام واحد اثنان من غير نداء، فلا يقال: قم واقعد خطابا لزيد وعمرو، بل يقال: قم يا زيد، واقعد يا عمرو، وقيل: هذا خطاب للأزواج ولكن بعد مفارقتهم منكوحاتهم، فقد أخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: كانت قريش بمكة ينكح الرجل منهم المرأة الشريفة فلعلها ما توافقه فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها فإذا خطبها خاطب فإن أعطته وأرضته أذن لها وإلا عضلها. والمراد من قوله سبحانه: لِتَذْهَبُوا إلخ أن يدفعن إليكم بعض ما آتيتموهن وتأخذوه منهن، وإنما لم يتعرض لفعلهن لكونه لصدوره عن اضطرار منهن بمنزلة العدم، وعبر عن ذلك بالذهاب به لا بالأخذ، والاذهاب للمبالغة في تقبيحه ببيان تضمنه لأمرين كل منهما محظور شنيع الأخذ والإذهاب لأنه عبارة عن الذهاب مصطحبا به، وذكر- البعض- ليعلم منه أن الذهاب بالكل أشنع شنيع إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ على صيغة الفاعل من بين اللازم بمعنى تبين أو المتعدي، والمفعول محذوف أي مبينة حال صاحبها. وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم «مبيّنة» على صيغة المفعول، وعن ابن عباس أنه قرأ «مبيّنة» على صيغة الفاعل من أبان اللازم بمعنى تبين أو المتعدي، والمراد بالفاحشة هنا النشوز وسوء الخلق- قاله قتادة والضحاك وابن عباس وآخرون- ويؤيده قراءة أبيّ إلا أن يفحشن عليكم، وفي الدر المنثور نسبة هذه القراءة- لكن بدون عليكم- إلى أبيّ وابن مسعود، وأخرج ابن جرير عن الحسن أن المراد بها الزنا. وحكي ذلك عن أبي قلابة وابن سيرين، والاستثناء قيل: منقطع، وقيل: متصل وهو من ظرف زمان عام أي لا تعضلوهن في وقت من الأوقات إلا وقت إيتائهن إلخ، أو من حال عامة أي في حال من الأحوال إلا في هذه الحال، أو من علة عامة أي لا تعضلوهن لعلة من العلل إلا لإيتائهن ولا يأبى هذا ذكر العلة المخصوصة لجواز أن يكون المراد العموم أي للذهاب وغيره، وذكر فرد منه لنكتة أو لأن العلة المذكورة غائية والعامة المقدرة باعثة على الفعل متقدمة عليه في الوجود، وفي الآية إباحة الخلع عند النشوز لقيام العذر بوجود السبب من جهتهن. وحكي عن الأصم أن إباحة أخذ المال منهن كان قبل الحدود عقوبة لهن. وروي مثل ذلك عن عطاء، فقد أخرج عبد الرزاق وغيره عنه كان الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة أخذ ما ساق إليها وأخرجها فنسخ ذلك الحدود، وذهب أبو علي الجبائي وأبو مسلم أن هذا متعلق بالعضل بمعنى الحبس والإمساك، ولا تعرض له بأخذ المال ففيه إباحة الحبس لهن إذا أتين بفاحشة- وهي الزنا عند الأول- والسحاق عند الثاني، فالآية على نحو ما تقدم من قوله تعالى: فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ وَعاشِرُوهُنَّ أي خالقوهن بِالْمَعْرُوفِ وهو ما لا ينكره الشرع والمروءة، والمراد هاهنا النصفة في القسم والنفقة، والإجمال في القول والفعل. وقيل: المعروف أن لا يضربها ولا يسيء الكلام معها ويكون منبسط الوجه لها، وقيل: هو أن يتصنع لها كما تتصنع له، واستدل بعمومه من أوجب لهن الخدمة إذا كنّ ممن لا يخدمن أنفسهن، والخطاب للذين يسيئون العشرة مع أزواجهم، وجعله بعضهم مرتبطا بما سبق أول السورة من قوله سبحانه: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً وفيه بعد فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ أي كرهتم صحبتهن وإمساكهن بمقتضى الطبيعة من غير أن يكون من قبلهن ما يوجب ذلك فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً كالصحبة والإمساك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً كالولد أو الألفة التي تقع بعد الكراهة، وبذلك قال ابن عباس ومجاهد، وهذه الجملة علة للجزاء وقد أقيمت مقامه إيذانا بقوة استلزامها إياه فإن- عسى- لكونها لإنشاء الترجي لا تصلح للجوابية وهي تامة رافعة لما بعدها مستغنية عن الخبر، والمعنى فإن كرهتموهن فاصبروا عليهن، ولا تفارقوهن لكراهة الأنفس وحدها، فلعل لكم فيما تكرهونه خَيْراً كَثِيراً فإن النفس ربما تكره ما يحمد وتحب ما هو بخلافه فليكن مطمح النظر ما فيه خير وصلاح، دون ما تهوى الأنفس، ونكر شَيْئاً وخَيْراً ووصفه بما وصفه مبالغة في الحمل على ترك المفارقة وتعميما للإرشاد، ولذا استدل بالآية على أن الطلاق مكروه، وقرئ «ويجعل» بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، والجملة حال أي- وهو- أي ذلك الشيء يَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً وقيل: تقديره والله يجعل الله بوضع المظهر موضع المضمر فالواو حينئذ حالية. وفي دخولها على المضارع ثلاثة مذاهب: الأول منع دخولها عليه إلا بتقدير مبتدأ، والثاني جوازه مطلقا. والثالث التفصيل بأنه إن تضمن نكتة كدفع إيهام الوصفية حسن وإلا فلا، ولا يخفى أن تقدير المبتدأ هنا خلاف الظاهر وَإِنْ أَرَدْتُمُ أيها الأزواج اسْتِبْدالَ زَوْجٍ إقامة امرأة ترغبون فيها مَكانَ زَوْجٍ أي امرأة ترغبون عنها بأن تطلقوها وَآتَيْتُمْ أي أعطى أحدكم إِحْداهُنَّ أي إحدى الزوجات، فإن المراد من الزوج هو الجنس الصادق مع المتعدد المناسب لخطاب الجمع، والمراد من الإيتاء كما قال الكرخي: الالتزام والضمان كما في قوله تعالى: إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ [البقرة: 233] أي ما التزمتم وضمنتم، ومفهوم الشرط غير مراد على ما نص عليه بعض المحققين، وإنما ذكر لأن تلك الحالة قد يتوهم فيها الأخذ فنبهوا على حكم ذلك، والجملة حالية بتقدير قد لا معطوفة على الشرط أي وقد آتيتم التي تريدون أن تطلقوها وتجعلوا مكانها غيرها قِنْطاراً أي مالا كثيرا، وقد تقدمت الأقوال فيه فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ أي من القنطار المؤتى شَيْئاً يسيرا أي فضلا عن الكثير أَتَأْخُذُونَهُ أي الشيء بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً استئناف مسوق لتقرير النهي والاستفهام للإنكار والتوبيخ، والمصدران منصوبان على الحالية بتأويل الوصف أي أتأخذونه باهتين وآثمين، ويحتمل أن يكون منصوبين على العلة ولا فرق في هذا الباب بين أن تكون علة غائية وأن تكون علة باعثة- وما نحن فيه من الثاني- نحو قعدت عن الحرب جبنا لأن الأخذ بسبب بهتانهم واقترافهم المآثم فقد قيل: كان الرجل منهم إذا أراد جديدة بهت التي تحته بفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوج الجديدة فنهوا عن ذلك، والبهتان الكذب الذي يبهت المكذوب عليه، وقال الزجاج: الباطل الذي يتحير من بطلانه، وفسر هنا بالظلم، وعن مجاهد أنه الإثم فعطف الإثم عليه للتفسير كما في قوله: وألفي قولها كذبا ومينا وقيل: المراد به هنا إنكار التمليك والمبين البين الظاهر وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ إنكار بعد إنكار، وقد بولغ فيه على ما تقدم في كَيْفَ تَكْفُرُونَ، وقيل: تعجيب منه سبحانه وتعالى أي إن أخذكم له لعجيب وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ كناية عن الجماع على ما روي عن ابن عباس ومجاهد والسدي. وقيل: المراد به الخلوة الصحيحة وإن لم يجامع واختاره الفراء- وبه قال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه- وهو أحد قولين للإمامية، وفي تفسير الكلبي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- الإفضاء- الحصول معها في لحاف واحد جامعها أو لم يجامعها، ورجح القول الأول بأن الكلام كناية بلا شبهة، والعرب إنما تستعملها فيما يستحى من ذكره كالجماع، والخلوة لا يستحى من ذكرها فلا تحتاج إلى الكناية، وأيضا في تعدية الإفضاء بإلى ما يدل على معنى الوصول والاتصال، وذلك أنسب بالجماع، ومن ذهب إلى الثاني قال: إنما سميت الخلوة إفضاء لوصول الرجل بها إلى مكان الوطء ولا يسلم أن الخلوة لا يستحى من ذكرها، والجملة حال من فاعل تَأْخُذُونَهُ مفيدة لتأكيد النكير وتقرير الاستبعاد أي على أي حال أو في أي تأخذونه، والحال أنه قد وقع منكم ما وقع وقد أَخَذْنَ مِنْكُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 مِيثاقاً أي عهدا غَلِيظاً أي شديدا قال قتادة: هو ما أخذ الله تعالى للنساء على الرجال فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ [البقرة: 229] ثم قال: وقد كان ذلك يؤخذ عند عقد النكاح فيقال: الله عليك لتمسكن بمعروف أو لتسرحن بإحسان، وروي ذلك عن الضحاك ويحيى بن أبي كثير. وكثير، وعن مجاهد- الميثاق الغليظ- كلمة النكاح التي استحل بها فروجهن، واستدل بالآية من منع الخلع مطلقا وقال: إنها ناسخة لآية البقرة، وقال آخر: إنها منسوخة بها، وروي ذلك عن أبي زيد. وقال جماعة: لا ناسخة ولا منسوخة، والحكم فيها هو الأخذ بغير طيب نفس، واستدل بها- كما قال ابن الفرس- قوم على جواز المغالاة في المهور. وأخرج أبو يعلى عن مسروق أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه نهى أن يزاد في الصداق على أربعمائة درهم فاعترضته امرأة من قريش فقالت: أما سمعت ما أنزل الله تعالى وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فقال: اللهم غفرا كل الناس أفقه من عمر ثم رجع فركب المنبر، فقال: إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب، وطعن الشيعة بهذا الخبر على عمر رضي الله تعالى عنه لجهله بهذه المسألة وإلزام امرأة له وقالوا: إن الجهل مناف للإمامة، وأجيب بأن الآية ليست نصا في جواز إيتاء القنطار فإنها على حدّ قولك: إن جاءك زيد وقد قتل أخاك فاعف عنه، وهو لا يدل على جواز قتل الأخ. سلمنا أنها تدل على جواز إيتائه إلا أنا لا نسلم جواز إيتائه مهرا بل يحتمل أن يكون المراد بذلك إعطاء الحلي وغيره لا بطريق المهر بل بطريق الهبة، والزوج لا يصح له الرجوع عن هبته لزوجته خصوصا إذا أوحشها بالفراق، وقوله تعالى: وَقَدْ أَفْضى لا يعين كون المؤتى مهرا سلمنا كونه مهرا لكن لا نسلم كون عدم المغالاة أفضل منه. فقد روى ابن حبان في صحيحه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن من خير النساء أيسرهن صداقا» وعن عائشة رضي الله تعالى عنها عنه صلى الله تعالى عليه وسلم «يمن المرأة تسهيل أمرها في صداقها» . وأخرج أحمد والبيهقي مرفوعا أعظم النساء بركة أيسرهن صداقا، فنهي أمير المؤمنين عن التغالي يحتمل أنه كان للتيسير ميلا لما هو الأفضل ورغبة فيما أشار إليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قولا وفعلا، وعدوله عن ذلك وعدم رده على القرشية كان من باب الترغيب في تتبع معاني القرآن واستنباط الدقائق منه، وفي إظهار الكبير العالم المغلوبية للصغير الجاهل تنشيط للصغير وإدخال للسرور عليه وحث له ولأمثاله على الاشتغال بالعلم وتحصيل ما يغلب به، فقوله رضي الله تعالى عنه: اللهم غفرا كل الناس أفقه من عمر كان من باب هضم النفس والتواضع وحسن الخلق وقد دعاه إليه ما دعاه، ومع هذا لم يأمرهم بالمغالاة بل قصارى أمره أنه رفع النهي عنهم وتركهم واختيارهم بين فاضل ومفضول ولا إثم عليهم في ارتكاب أي الأمرين شاؤوا، سلمنا أن هذه المسألة قد غابت عن أفق ذهنه الشريف لكن لا نسلم أن ذلك جهل يضر بمنصب الإمامة فقد وقع لأمير المؤمنين عليّ كرم الله تعالى وجهه مثل ذلك وهو إمام الفريقين، فقد أخرج ابن جرير وابن عبد البر عن محمد بن كعب قال: سأل رجل عليّا كرم الله تعالى وجهه عن مسألة فقال فيها، فقال الرجل: ليس هكذا ولكن كذا وكذا، فقال الأمير: أصبت وأخطأنا وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف: 76] ، وقد وقع لداود عليه السلام ما قص الله تعالى لنا في كتابه من قوله سبحانه: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ [الأنبياء: 87] إلى أن قال عز من قائل: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ [الأنبياء: 79] فحيث لم ينقص ذلك من منصب النبوة والخلافة المشار إليها بقوله تعالى: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ [ص: 26] لا ينقص من منصب الإمامة كما لا يخفى، فمن أنصف جعل هذه الواقعة من فضائل عمر رضي الله تعالى عنه لا من مطاعنه، ولكن لا علاج لداء البغض والعناد وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الرعد: 33] . وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 آباؤُكُمْ شروع في بيان من يحرم نكاحها من النساء ومن لا يحرم بعد بيان كيفية معاشرة الأزواج، وهو عند بعض مرتبط بقوله سبحانه: لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وإنما خص هذا النكاح بالنهي ولم ينظم في سلك نكاح المحرمات الآتية مبالغة في الزجر عنه حيث كان ذلك ديدنا لهم في الجاهلية. وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب قال: كان الرجل إذا توفي عن امرأته كان ابنه أحق أن ينكحها إن شاء إن لم تكن أمه، أو ينكحها من شاء. فلما مات أبو قيس بن الأسلت قام ابنه حصن فورث نكاح امرأته ولم ينفق عليها ولم يورثها من المال شيئا فأتت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: ارجعي لعل الله تعالى ينزل فيك شيئا فنزلت وَلا تَنْكِحُوا الآية، ونزلت أيضا لا يَحِلُّ لَكُمْ إلخ» وذكر الواحدي وغيره أنها نزلت في حصن المذكور، وفي الأسود بن خلف تزوج امرأة أبيه، وفي صفوان بن أمية بن خلف تزوج امرأة أبيه فاختة بنت الأسود بن المطلب، وفي منظور بن ريان تزوج امرأة أبيه مليكة بنت خارجة، واسم الآباء ينتظم الأجداد كيف كانوا باعتبار معنى يعمهما لغة لا باعتبار الجمع بين الحقيقة والمجاز، وفي النهاية إن دلالة الأب على الجد بأحد طريقين: إما أن يكون المراد بالأب الأصل وإما بالإجماع، ولا يخفى أن كون الدلالة بالإجماع مما لا معنى له، نعم لثبوت حرمة من نكحها الجد بالإجماع معنى لا خفاء فيه فتثبت حرمة ما نكحوها نصا وإجماعا، ويستقل في إثبات هذه الحرمة نفس النكاح أعني العقد إن كان صحيحا ولا يشترط الدخول، وإلى ذلك ذهب ابن عباس، فقد أخرج عنه ابن جرير والبيهقي أنه قال: كل امرأة تزوجها أبوك دخل بها أو لم يدخل بها فهي عليك حرام، وروي ذلك عن الحسن وابن أبي رباح، وإن كان النكاح فاسدا فلا بدّ في إثبات الحرمة من الوطء أو ما يجري مجراه من التقبيل والمس بشهوة مثلا بل هو المحرم في الحقيقة حتى لو وقع شيء من ذلك بملك اليمين، وبالوجه المحرم ثبتت به الحرمة عندنا، وإليه ذهبت الإمامية، وخالفت الشافعية في المحرم، وتحقيق ذلك أن الناس اختلفوا في مفهوم النكاح لغة فقيل: هو مشترك لفظي بين الوطء والعقد وهو ظاهر كلام كثير من اللغويين، وقيل: حقيقة في العقد مجاز في الوطء وعليه الشافعية، وقيل: بالعكس وعليه أصحابنا، ولا ينافيه تصريحهم بأنه حقيقة في الضم (1) لأن الوطء من أفراده والموضوع للأعم حقيقة في كل من أفراده على ما أطلقه الأقدمون، وقد تحقق استعمال النكاح في كل من هذه المعاني، ففي الوطء قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «ولدت من نكاح لا من سفاح» أي من وطء حلال لا من وطء حرام، وقوله عليه الصلاة والسلام: «يحل للرجل من امرأته الحائض كل شيء إلا النكاح» ، وقول الشاعر: ومن أيم قد (أنكحتها) رماحنا ... وأخرى على خال وعم تلهف وقول الآخر: «ومنكوحة» غير ممهورة وقول الفرزدق: إذ سقى الله قوما صوب عادية ... فلا سقى الله أرض الكوفة المطرا التاركين على طهر نساءهم ... (والناكحين) بشطي دجلة البقرا وفي العقد قول الأعشى: فلا تقربن جارة إن سرها ... عليك حرام (فانكحن) أو تأبدا   (1) قال في البحر: وهو مردود فإن الوطء مغاير للضم. وأيده بما في المغرب فارجع إليه اهـ منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 وفي المعنى الأعم قول القائل: ضممت إلى صدري معطر صدرها ... كما (نكحت) أم الغلام صبيها وقول أبي الطيب: «أنكحت» صم حصاها خف يعملة ... تغشمرت بي إليك السهل والجبلا فمدعي الاشتراك اللفظي يقول تحقق الاستعمال والأصل الحقيقة، والثاني يقول: كونه مجازا في أحدهما حقيقة في الآخر حيث أمكن أولى من الاشتراك، ثم يدعي تبادر العقد عند إطلاق لفظ النكاح دون الوطء ويحيل فهم الوطء منه حيث فهم على القرينة، ففي الحديث الأول هي عطف السفاح بل يصح حمل النكاح فيه على العقد وإن كانت الولادة بالذات من الوطء، وفي الثاني إضافة المرأة إلى ضمير الرجل فإن امرأته هي المعقود عليها فيلزم إرادة الوطء من النكاح المستثنى وإلا فسد المعنى إذ يصير بحل من المعقود عليها كل شيء إلا العقد، وفي الأبيات الإضافة إلى البقر ونفي المهور، والإسناد إلى الرماح إذ يستفاد أن المراد وطء البقر والمسبيات، والجواب منع تبادر العقد عند الإطلاق لغة بل ذلك في المفهوم الشرعي الفقهي، ولا نسلم أن فهم الوطء فيما ذكر مسند إلى القرينة وإن كانت موجودة إذ وجود قرينة تؤيد إرادة المعنى الحقيقي مما يثبت مع إرادة الحقيقي فلا يستلزم ذلك كون المعنى مجازيا بل المعتبر مجرد النظر إلى القرينة إن عرف أنه لولاها لم يدل اللفظ على ما عنيته فهو مجاز وإلا فلا، ونحن في هذه المواد المذكورة نفهم الوطء قبل طلب القرينة، والنظر في وجه دلالتها فيكون اللفظ حقيقة وإن كان مقرونا بما إذا نظر فيه استدعى إرادة ذلك المعنى، ألا يرى أن ما ادعوا فيه الشهادة على أنه حقيقة في العقد مجاز في الوطء من بيت الأعشى فيه قرينة تفيد العقد أيضا فإن قوله: فلا تقربن جارة نهي عن الزنا بدليل أن سرها عليك حرام فيلزم أن قوله: فانكحن أمر بالعقد أي فتزوج إن كان الزنا عليك حراما أو تأبد- أي توحش أي كن كالوحش بالنسبة إلى الآدميات فلا يكن منك قربان لهن كما لا يقربهن وحش، ولم يمنع ذلك أن يكون اللفظ حقيقة في العقد عندهم في البيت إذ هم لا يقولون بأنه مجاز فيه، وأما ادعاء أنه في الحديث للعقد فيستلزم التجوز في نسبة الولادة إليه لأن العقد إنما هو سبب السبب، ففيه دعوى حقيقة بالخروج عن حقيقة وهو ترجيح بلا مرجح لو كانا سواء، فكيف والأنسب كونه في الوطء ليتحقق التقابل بينه وبين السفاح إذ يصير المعنى عن وطء حلال لا وطء حرام فيكون على خاص من الوطء، والدال على الخصوصية لفظ السفاح أيضا فثبتت إلى هنا أنا لم نزده على ثبوت مجرد الاستعمال شيئا يجب اعتباره، وقد علم أيضا ثبوت الاستعمال في الضم فباعتباره حقيقة فيه يكون مشتركا معنويا من أفراده الوطء والعقد إن اعتبرنا الضم أعم من ضم الجسم إلى الجسم والقول إلى القول، أو الوطء فقط فيكون مجازا في العقد لأنه إذا دار بين المجاز والاشتراك اللفظي كان المجاز أولى ما لم يثبت صريحا خلافه. ولم يثبت نقل ذلك بل قالوا: نقل المبرد عن البصريين، وغلام ثعلب عن الكوفيين أنه الجمع والضم، ثم المتبادر من لفظ الضم تعلقه بالأجسام لا الأقوال لأنها أعراض بتلاشى الأول منها قبل وجود الثاني فلا يصادف الثاني ما ينضم إليه فوجب كونه مجازا في العقد- كذا في فتح القدير-. إذا علمت ذلك فنقول: حمل الشافعية النكاح في الآية التي نحن فيها على العقد دون الوطء، واستدلوا بها على حرمة المعقود عليها وإن لم توطأ، وذهبوا إلى عدم ثبوت الحرمة بالزنا وحمله بعض أصحابنا على العقد فيها، واستدلوا بها على حرمة نكاح نساء الآباء والأجداد، وثبوت حرمة المصاهرة بالزنا وجعلوا حرمة العقد ثابتة بالإجماع، ثم قالوا: ولو حمل على العقد تكون حرمة الوطء ثابتة بطريق الأولى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 واعترض بأنه لا ينبغي أن يقال: ثبت حرمة الموطوءة بالآية، والمعقود عليها بلا وطء بالإجماع لأنه إذا كان الحكم الحرمة بمجرد العقد- ولفظ الدليل الصالح له- كان مرادا منه بلا شبهة فإن الإجماع تابع للنص إذ القياس عن أحدهما يكون، ولو كان عن علم ضروري يخلق لهم ثبت بذلك أن ذلك الحكم مراد من كلام الشارع إذا احتمله، وحمله آخرون على الوطء والعقد معا فقد قال الزيلعي: الآية تتناول منكوحة الأب وطءا وعقدا صحيحا، ولا يضر الجمع بين الحقيقة والمجاز لأن الكلام نفي، وفي النفي يجوز الجمع بينهما كما يجوز فيه أن يعم المشترك جميع معانيه، وقد نقل أيضا سعدي أفندي عن وصايا الهداية جواز الجمع بين معاني المشترك في النفي وحينئذ لا إشكال في كون الآية دليلا على حرمة الموطوءة والمعقود عليها كما لا يخفى. واعترض ما قاله الزيلعي بأنه ضعيف في الأصول، والصحيح أنه لا يجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز لا في النفي ولا في الإثبات، ولا عموم للمشترك مطلقا، وفي الأكمل، والحق أن النفي كما اقتضاه الإثبات فإن اقتضى الإثبات الجمع بين المعنيين فالنفي كذلك وإلا فلا، ومسألة اليمين المذكورة في المبسوط حلف لا يكلم مواليه- وله أعلون وأسفلون فأيهم كلم حنث- ليست باعتبار عموم المشترك في النفي كما توهم البعض، وإنما هو لأن حقيقة الكلام متروكة بدلالة اليمين إلى مجاز يعمها، وفي البحر: أن الأولى أن النكاح في الآية للعقد كما هو المجمع عليه، ويستدل لثبوت حرمة المصاهرة بالوطء الحرام بدليل آخر فليفهم، وما موصول اسمي واقعة على من يعقل ولا كلام في ذلك على رأي من جوزه مطلقا، وكذا على رأي من جوزه إذا أريد معنى صفة مقصودة منه، وقيل: مصدرية على إرادة المفعول من المصدر أي منكوحات آبائكم وليس بالوجيه مِنَ النِّساءِ في موضع الحال من ما أو من العائد عليها، وعند الطبري متعلقة بنكح، وذكر غير واحد أنها بيان لما على الوجهين السابقين، وظاهره أنها بيانية، ويحتمل أن تكون تبعيضية والبيان معنوي، ونكتته مع عدم الاحتياج إليه إذا المنكوحات لا يكن إلا نساء التعميم كأنه قيل: أي امرأة كانت، واحتمال كونه رفع توهم التغليب في آبائكم وجعله أعم من الأمهات حتى يفيد أنه نهي للبنت عن نكاح منكوح أمها لا يخلو عن خفاء إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ أي مات كما روي ذلك عن أبي بن كعب وهو استثناء متصل على المختار مما نكح للمبالغة في التحريم والتعميم، والكلام حينئذ من باب تأكيد الشيء بما يشبه نقيضه كما في قول النابغة: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... «بهن فلول من قراع الكتائب» والمعنى لا تنكحوا حلائل آبائكم إلا من مات منهن. والمقصود سدّ باب الإباحة بالكلية لما فيه من تعليق الشيء بالمحال كقوله تعالى: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الأعراف: 40] والمعلق على المحال محال، وقيل: إنه استثناء متصل مما يستلزمه النهي وتستلزمه مباشرة المنهي عنه من العقاب كأنه قيل: تستحقون العقاب بنكاح ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف ومضى فإنه معفو عنه، وبهذا التأويل يندفع الاستشكال بأن النهي للمستقبل، وما قَدْ سَلَفَ ماض فكيف يستثنى منه، وجعل بعض محققي النحاة الاستثناء مما دخل في حكم دلالة المفهوم منقطعا فحكم على ما هنا بالانقطاع أي لكن ما سلف لا مؤاخذة عليه فلا تلامون به لأن الإسلام يهدم ما قبله فتثبت به أحكام النسب وغيره، ولا يعد ذلك زنا، وقد ذكر البلخي أنه ليس كل نكاح حرمه الله تعالى يكون زنا لأن الزنا فعل مخصوص لا يجري على طريقة لازمة وسنة جارية، ولذلك لا يقال للمشركين في الجاهلية أولاد زنا، ولا لأولاد أهل الذمة مثلا إذا كان ذلك عن عقد بينهم يتعارفونه، وزعم بعضهم على تقدير الانقطاع أن المعنى لكن ما سلف أنتم مقرون عليه، وحكي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أقرهم على منكوحات آبائهم مدة ثم أمر بمفارقتهن، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 وفعل ذلك ليكون إخراجهم عن هذه العادة الرديئة على سبيل التدريج، قال البلخي: وهذا خلاف الإجماع، وما علم من دين الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فالقول به خطأ والمعول عليه من بين الأقوال الأول لقوله سبحانه: إِنَّهُ أي نكاح ما نكح الآباء كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً فإنه تعليل للنهي وبيان لكون المنهي عنه في غاية القبح كما يدل عليه الاخبار بأنه فاحشة مبغوضا باستحقار جدا حتى كأنه نفس البغض كما يدل عليه الاخبار بأنه مقت، وإنه لم يزل في حكم الله تعالى وعلمه موصوفا بذلك ما رخص فيه لأمة من الأمم كما يقتضيه كانَ على ما ذكره علي بن عيسى وغيره، وهذا لا يلائم أن يوسط بينهما ما يهون أمره من ترك المؤاخذة على ما سلف منه كما أشار إليه الزمخشري، وارتضاه جمع من المحققين، ومن الناس من استظهر كون هذه الجملة خبرا على تقدير الانقطاع وليس بالظاهر، ومنهم من فسر الفاحشة هنا بالزنا، وليس بشيء، وقد كان هذا النكاح يسمى في الجاهلية نكاح المقت، ويسمى الولد منه مقتي، ويقال له أيضا: مقيت أي مبغوض مستحقر، وكان من هذا النكاح- على ما ذكره الطبرسي- الأشعث بن قيس ومعيط جد الوليد بن عقبة وَساءَ سَبِيلًا أي بئس طريقا طريق ذلك النكاح، ففي ساء ضمير مبهم يفسره ما بعده، والمخصوص بالذم محذوف، وذم الطريق مبالغة في ذم سالكها وكناية عنه، ويجوز- واختاره الليث- أن تكون ساءَ كسائر الأفعال ففيها ضمير يعود إلى ما عاد اليه ضمير به. وسَبِيلًا تمييز محول عن الفاعل، والجملة إما مستأنفة لا محل لها من الإعراب، وإما معطوفة على خبر كانَ محكية بقول مضمر هو المعطوف في الحقيقة أي ومقولا في حقه ذلك في سائر الأعصار. قال الإمام الرازي: مراتب القبح ثلاث: القبح العقلي، والقبح الشرعي، والقبح العادي، وقد وصف الله سبحانه هذا النكاح بكل ذلك، فقوله سبحانه: فاحِشَةً إشارة إلى مرتبة قبحه العقلي، وقوله تعالى: وَمَقْتاً إشارة إلى مرتبة قبحه الشرعي، وقوله عز وجل: وَساءَ سَبِيلًا إشارة إلى مرتبة قبحه العادي، وما اجتمع فيه هذه المراتب فقد بلغ أقصى مراتب القبح، وأنت تعلم أن كون قوله عز شأنه: وَمَقْتاً إشارة إلى مرتبة قبحه الشرعي ظاهر على تقدير أن يكون لمراد وَمَقْتاً عند الله تعالى، وأما على تقدير أن يكون المراد وَمَقْتاً عند ذوي المروءات فليس بقاهر، ومن هنا قيل: إن قوله جل شأنه: فاحِشَةً إشارة إلى القبح الشرعي وَمَقْتاً إشارة إلى العقلي بمعنى المنافرة وَساءَ سَبِيلًا إلى العرفي، وعندي أن لكل وجها، ولعل ترتيب الإمام أولى من بعض الحيثيات كما لا يخفي، ومما يدل على فظاعة أمره ما أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وأحمد والحاكم والبيهقي عن البراء قال: لقيت خالي ومعه الراية قلت: أين تريد؟ قال: بعثني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ ليس المراد تحريم ذاتهن لأن الحرمة وأخواتها إنما تتعلق بأفعال المكلفين، فالكلام على حذف مضاف بدلالة العقل، والمراد تحريم نكاحهن لأنه معظم ما يقصد منهن ولأنه المتبادر إلى الفهم ولأن ما قبله وما بعده في النكاح، ولو لم يكن المراد هذا كأن تخلل أجنبي بينهما من غير نكتة فلا إجمال في الآية خلافا للكرخي، والجملة إنشائية وليس المقصود منها الإخبار عن التحريم في الزمان الماضي وقال بعض المحققين: لا مانع من كونها إخبارية والفعل الماضي فيها مثله في التعاريف نحو الاسم ما دل على معنى في نفسه ولم يقترن بأحد الأزمنة، والفعل ما دل واقترن، فإنهم صرحوا أن الجملة الماضوية هناك خبرية وإلا لما صح كونها صلة الموصول مع أنه لم يقصد من الفعل فيها الدلالة على الزمان الماضي فقط، وإلا للزم أن يكون حال المعرف في الزمان الحال والمستقبل ليس ذلك الحال، وبني الفعل لما لم يسم فاعله لأنه لا يشتبه أن المحرم هو الله تعالى، وأُمَّهاتُكُمْ تعم الجدات كيف كنّ إذ الأم هي الأصل في الأصل- كأم الكتاب، وأم القرى- فتثبت حرمة الجدات بموضوع اللفظ وحقيقته لأن الأم على هذا من قبيل المشكك، وذهب بعضهم إلى أن إطلاق الأم على الجدة مجاز، وأن إثبات حرمة الجدات بالإجماع، والتحقيق أن الأم مراد به الأصل على كل حال لأنه إن استعمل فيه حقيقة فظاهر، وإلا فيجب أن يحكم بإرادته مجازا فتدخل الجدات في عموم المجاز والمعرف لإرادة ذلك في النص الإجماع على حرمتهن. والمراد بالبنات من ولدتها أو ولدت من ولدها وتسمية الثانية بنتا حقيقة باعتبار أن البنت يراد به الفرع- كما قيل به- فيتناولها النص حقيقة أو مجازا عند البعض، أو عند الكل، ومن منع إطلاق البنت على الفرع مطلقا قال: إن ثبوت حرمة بنات الأولاد بالإجماع، وقد يستدل على تحريم الجدات وبنات الأولاد بدلالة النص المحرم للعمات والخالات وبنات الأخ والأخت، ففي الأول لأن الأشقّاء منهن أولاد الجدات فتحريم الجدات وهن أقرب أولى، وفي الثاني لأن بنات الأولاد أقرب من بنات الإخوة، ثم ظاهر النص يدل على أنه يحرم للرجل بنته من الزنا لأنها بنته، والخطاب إنما هو باللغة العربية ما لم يثبت نقل- كلفظ الصلاة ونحوه- فيصير منقولا شرعيا، وفي ذلك خلاف الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه فقد قال: إن المخلوقة من ماء الزنا تحل للزاني لأنها أجنبية عنه إذ لا يثبت لها توارث ولا غيره من أحكام النسب، ولقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «الولد للفراش» وهو يقتضي حصر النسب في الفراش. وقال بعض الشافعية: تحرم إن أخبره نبي- كعيسى عليه السلام- وقت نزوله بأنها من مائه، ورد عليه بأن الشارع قطع نسبها عنه كما تقرر فلا نظر لكونها من ماء سفاحه، واعترضوا على القائلين بالحرمة بأنهم إما أن يثبتوا كونها بنتا له بناء على الحقيقة لكونها مخلوقة من مائة، أو بناء على حكم الشرع، والأول باطل على مذهبهم طردا وعكسا، أما الأول فلأنه لو اشترى بكرا وافتضها وحبسها إلى أن تلد فهذا الولد مخلوق من مائه بلا شبهة مع أنه لا يثبت نسبه إلا عند الاستلحاق، وأما الثاني فلأن المشرقي لو تزوج مغربية وحصل هناك ولد منها مع عدم اجتماعها مع زوجها وحيلولة ما بين المشرق والمغرب بينهما فإنه يثبت النسب مع القطع بأنه غير مخلوق من مائه، والثاني باطل بإجماع المسلمين على أنه لا نسب لولد الزنا من الزاني ولو انتسب إليه وجب على القاضي منعه، وأجيب باختيار الشق الأول إذ لا خلاف بين أهل اللسان في أن المخلوقة من ماء إنسان بنته سواء كان ذلك الماء ماء حلال أو سفاح والجزئية ثابتة في الصورتين، والظاهر أنها هي مبدأ حرمة النكاح، ألا ترى كيف حرم على المرأة ولدها من الزنا إجماعا، والتفرقة بين المسألتين بأن الولد في المسألة الثانية بعضها، وانفصل منها إنسانا، ولا كذلك البنت في المسألة الأولى لأنها انفصلت منه منيا لا تفيد سوى أن البعضية في المسألة الثانية أظهر، وأما أنها تنفي البعضية في المسألة الأولى فلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 لأنهم يطلقون البضعة- وهي تقتضي البعضية- على الولد المنفصل منيا من أبيه، فيقولون: فلان بضعة، وفلانة بضعة من فلان، وإنكار وجود الجزئية في المسألتين مكابرة، وعدم ثبوت التوارث مثلا بين المخلوقة من ماء الزنا وصاحب الماء ليس لعدم الجزئية وكونها ليست بنته حقيقة بل للإجماع على ذلك، ولولاه لورثت كما يرث ولد الزنا أمه. وما ذكر في بيان إبطال الطرد من أنه لو اشترى بكرا فافتضها وحبسها فولدت فالولد مخلوق من مائه قطعا مع أنه لا يثبت نسبه إلا بالاستلحاق أخذه من قول الفقهاء في الأمة إذا ولدت عند المولى أنه لا يثبت نسب ولدها منه إلا أن يعترف به، ولا يكفي أنه وطئها فولدت، لكن في الهداية، وغيرها أن هذا حكم، فأما الديانة بينه وبين الله تعالى- فالمروي عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه- أنه إن كان حين وطئها لم يعزل عنها وحصنها عن مظان ريبة الزنا يلزمه من قبل الله تعالى عنه- أنه إن كان حين وطئها لم يعزل عنها وحصنها عن مظان ريبة الزنا يلزمه من قبل الله تعالى أن يدعيه بالإجماع لأن الظاهر- والحال هذه- كونه منه، والعمل بالظاهر واجب، وإن كان عزل عنها حصنها أو لا أو لم يعزل ولكن لم يحصنها فتركها تدخل وتخرج بلا رقيب مأمون جاز له أن ينفيه لأن هذا الظاهر- وهو كونه منه بسبب أن الظاهر عدم زنا المسلمة- يعارضه ظاهر آخر وهو كونه من غيره لوجود أحد الدليلين على ذلك، وهما العزل، أو عدم التحصين، وفيه روايتان أخريان عن أبي يوسف ومحمد ذكرهما في المبسوط فقال: وعن أبي يوسف إذا وطئها ولم يستبرئها بعد ذلك حتى جاءت بولد فعليه أن يدعيه سواء عزل عنها أو لم يعزل حصنها أو لم يحصنها تحسينا للظن بها وحملا لأمرها على الصلاح ما لم يتبين خلافه، وهذا كمذهب الجمهور لأن ما ظهر بسببه يكون حالا به عليه حتى يتبين خلافه، وعن محمد لا ينبغي أن يدعي ولدها إذا لم يعلم أنه منه ولكن ينبغي أن يعتق الولد، وفي الإيضاح ذكرهما بلفظ الاستحباب، فقال: قال أبو يوسف: أحب أن يدعيه، وقال محمد: أحب أن يعتق الولد، وقال في الفتح بعد كلام. وعلى هذا ينبغي أن لو اعترف فقال: كنت أطأ لقصد الولد عند مجيئها بالولد أن يثبت نسب ما أتت به وإن لم يقل هو ولدي لأن ثبوته بقوله: هو ولدي بناء على أن وطأه حينئذ لقصد الولد، وعلى هذا قال بعض فضلاء الدرس: ينبغي أنه لو أقر أنه كان لا يعزل عنها وحصنها أن يثبت نسبه من غير توقف دعواه، وإن كنا نوجب عليه في هذه الحالة الاعتراف به فلا حاجة إلى أن نوجب عليه الاعتراف ليعترف فيثبت نسبه بل يثبت نسبه ابتداء، وأظن أن لا بعد في أن يحكم على المذهب بذلك انتهى، وفي المبسوط أنه إذا تطاول الزمان ألحق به لأن التطاول دليل إقراره لأنه يوجد منه حينئذ ما يدل على الإقرار من قبول التهنئة ونحوه فيكون كالتصريح بإقراره. ومن مجموع ما ذكر يعلم ما في كلام المعترض، وأن للخصم عدم تسليمه لكن ذكر في البحر متعقبا: ظن بعد الفضلاء أنه لا يصح أن يحكم على المذهب به لتصريح أهله بخلافه، ونقل نص البدائع في ذلك. ثم قال فإن أراد الثبوت عند القاضي ظاهرا فقد صرحوا أنه لا بد من الدعوة مطلقا، وإن أراد فيما بينه وبين الله تعالى فقد صرح في الهداية وغيرها بأن ما ذكرناه من اشتراط الدعوة إنما هو في القضاء إلى آخر ما ذكرناه لكن في المجتبى لا يصح إعتاق المجنون وتدبيره ويصح استيلاده، فهذا إن صح يستثنى من الحكم وهو مشكل انتهى، وعلى هذا يقال في المسألة التي ذكرها المعترض: المولود ولد للمولى في نفس الأمر لأنه مخلوق من مائه وولد الزنا كذلك وزيادة حيث انضم إلى ذلك الإقرار، والله سبحانه جعل مناط الحرمة البنوة وهي متحققة في مسألتنا فكيف يحل النكاح في نفس الأمر، وعدم ثبوت التوارث ونحوه كما قلنا كان إجماعا، وعدم الاستلحاق قضاء إلا بالدعوى أمر آخر وراء تحقق البنوة في نفس الأمر فكم متحقق في نفس الأمر لا يقضى به وكم مقضي به غير متحقق في نفس الأمر- كما في خبر الفرس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 التي اشتراها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من الأعرابي وشهد له خزيمة لما أنكر الأعرابي البيع- وقد حقق الكلام في بحث الاستيلاء في فتح القدير وغيره من مبسوطات كتب القوم، وما ذكر في إبطال العكس من مسألة تزوج المشرقي بمغربية فلا نسلم القطع فيها بأن الولد ليس مخلوق من مائه لثبوت كرامات الأولياء والاستخدامات فيتصور أن يكون الزوج صاحب خطوة أو جنى، وأنه ذهب إلى المغرب فجامعها، ولولا قيام هذا الاحتمال مع قيام النكاح لم يلحق الولد به، ألا ترى كيف قال الأصحاب: لو جاءت امرأة الصبي بولد لم يثبت نسبه منه لعدم تصور ذلك هناك والتصور شرط، وقيام الفراش وحده غير كاف على الصحيح، ولعل اعتبار هذه البنوة قضاء وإلا فحيث لم يكن الولد مخلوقا من مائه لا يقال له ولد الزوج في نفس الأمر وإنما اعتبروا ذلك مع ضعف الاحتمال سترا للحرائر وصيانة للولد عن الضياع، وقريب من هذا ما ذهب إليه الشافعي ومالك وأحمد رحمهم الله تعالى في باب الاستيلاد أن الجارية إذا ولدت يثبت نسب الولد من المولى إذا أقر بوطئها مع العزل كما يثبت مع عدم العزل بل لو وطئها في دبرها يلزمه الولد عند مالك، ومثله عن أحمد، وهو وجه مضعف للشافعية، وقيل: إن بين هذه المسألة ومسألة تزويج المشرقي بمغربية بعدا كبعد ما بين المشرق والمغرب لأن الوطء هنا متحقق في الجملة من غير حاجة إلى قطع براري وقفار ولا كذلك هناك والله تعالى أعلم. والبنات جمع بنت في المشهور وصحح أن لامها واو كأخت وإنما رد المحذوف في أخوات ولم يرد في بنات حملا لكل واحد من الجمعين على مذكره، فمذكر بنات لم يرد إليه المحذوف بل قالوا فيه بنون، ومذكر أخوات رد فيه محذوفه فقالوا في جمع أخ: إخوة وأخوات، وقد نظم الدنوشري السؤال فقال: أيها الفاضل اللبيب تفضل ... بجواب به يكون رشادي لفظ أخت ولفظ بنت إذا ما ... جمعا جمع صحة لا فساد فلأخت ترد لام وأما ... لفظ بنت فلا فأوضح مرادي مع تعويضهم من اللام تاء ... فيهما لا برحت أهل اعتمادي وقد أجاب هو رحمه الله تعالى عن ذلك بقوله: لفظ أخت له انضمام بصدر ... ناسب الواو فاكتسى بالمعاد وقال أبو البقاء: التاء فيها ليست للتأنيث لأن تاء التأنيث لا يسكن ما قبلها، وتقلب هاء في الوقف فبنات ليس بجمع بنت بل إ، وكسرت الباء تنبيها على المحذوف قاله الفراء، وقال غيره: أصلها الفتح وعلى ذلك جاء جمعها، ومذكرها وهو بنون، وإلى ذلك ذهب البصريون، وأما أخت فالتاء فيها بدل من الواو لأنها من الأخوة، والأخوات ينتظمن الأخوات من الجهات الثلاث وكذا الباقيات لأن الاسم يشمل الكل ويدخل في العمات والخالات أولاد الأجداد والجدات وإن علوا، وكذا عمة جده وخالته وعمة جدته وخالاتها لأب وأم أو لأب أو لأم وذلك كله بالإجماع، وفي الخانية وعمة العمة لأب وأم أو لأب كذلك، وأما عمة العمة لأم فلا تحرم، وفي المحيط: وأما عمة العمة فإن كانت العمة القربى عمة لأب وأم أو لأب فعمة العمة حرام لأن القربى إذا كانت أخت أبيه لأب وأم أو لأب فإن عمتها تكون أخت جدة أب الأب وأخت أب الأب حرام لأنها عمته وإن كانت القربى عمة لأم فعمة العمة لا تحرم عليه لأن أب العمة يكون زوج أم أبيه فعمتها تكون أخت زوج الجدة أو الأب، وأخت زوج الأم لا تحرم، فأخت زوج الجدة أولى أن لا تحرم، وأما خالة الخالة فإن كانت الخالة القربى خالة لأب وأم أو لأم فخالتها تحرم عليه، وإن كانت القربى خالة لأب فخالتها لا تحرم عليه لأن أم الخالة القربى تكون امرأة الجد أب الأم لا أم أمه فأختها تكون أخت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 امرأة الأب وأخت امرأة الجد لا تحرم عليه انتهى، ولا يخفى أنه كما يحرم على الرجل أن يتزوج بمن ذكر يحرم على المرأة التزوج بنظير من ذكر. والظاهر أن هذا التحريم الذي دلت عليه الآية لم يثبت في جميع المذكورات في سائر الأديان، نعم ذكروا أن حرمة الأمهات، والبنات كانت ثابتة حتى في زمان آدم عليه السلام ولم يثبت حل نكاحهن في شيء من الأديان، وقيل: إن زرادشت نبي المجوس بزعمهم قال بحله، وأكثر المسلمين اتفقوا على أنه كان كذابا، وعدم إيذاء الصفر المذاب له لأدوية كان يلطخ بها جسده، وقد شاهدنا من يحمل النار بيده بعد لطخها بأدوية مخصوصة ولا تؤذيه- وحينئذ لا يصلح أن يكون معجزة. وأما نكاح الأخوات فقد قيل: إنه كان مباحا في زمان آدم عليه السلام للضرورة وكانت حواء عليها السلام تلد في كل بطن ذكرا وأنثى فيأخذ ذكر البطن الثانية أنثى البطن الأولى، وبعض المسلمين ينكر ذلك ويقول: إنه بعث الحور من الجنة حتى تزوج بهن أبناء آدم عليه السلام، ويرد عليه أن هذا النسل حينئذ لا يكون محض أولاد آدم وذلك باطل الإجماع وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ عطف على سابقه والرضاعة بفتح الراء مصدر رضع كسمع وضرب، ومثله الرضاعة بالكسر، والرضع بسكون الضاء وفتحها، والرضاع كالسحاب، والرضع كالكتف، وحكوا رضع ككرم ورضاعا كقتال، وقد تبدل ضاده تاء، ورضاعا كسؤال لكن المضموم كالمراضعة تقتضي الشركة، ويقال: أرضعت المرأة فهي مرضع إذا كان لها ولد ترضعه فإن وصفتها بإرضاع الولد قلت: مرضعة، ومعناها لغة مص الثدي، وشرعا مص الرضيع من ثدي الآدمية في وقت مخصوص، وأرادوا بذلك وصول اللبن من ثدي المرأة إلى جوف الصغير من فمه أو أنفه في المدة الآتية سواء وجد مص أو لم يوجد، وإنما ذكروا المص لأنه سبب للوصول فأطلقوا السبب وأرادوا المسبب، وقد صرح في الخانية أنه لا فرق بين المص والسعوط ونحوه، وقيدوا بالآدمية ليخرج الرجل والبهيمة، وتفرد الإمام البخاري- وهو سبب فتنته في قول- فذهب فيما إذا ارتضع صبي وصبية من ثدي شاة إلى وقوع الحرمة بينهما وأطلقت لتشمل البكر والثيب الحية والميتة، وقيدنا بالفم والأنف ليخرج ما إذا وصل بالإقطار في الأذن. والإحليل والجائفة والآمة وبالحقنة في ظاهر الرواية، وخرج بالوصول ما لو أدخلت المرأة حلمة ثديها في فم رضيع ولا تدري أدخل اللبن في حلقه أم لا لا يحرم النكاح لأن في المانع شكا، وقد نزل الله سبحانه الرضاعة منزلة النسب حتى سمى المرضعة أما للرضيع، والمراضعة أختا، وكذلك زوج المرضعة أبوه وأبواه جداه وأخته عمته، وكل ولد ولد له من غير المرضعة قبل الرضاع وبعده فهم إخوته وأخواته لأبيه، وأم المرضعة جدته، وأختها خالته، وكل ولد لها من هذا الزوج فهم إخوته وأخواته لأبيه وأمه، ومن ولد لها من غيره فهم إخوته وأخواته لأمه، ومن هنا قال صلى الله تعالى عليه وسلم فيما أخرجه البخاري ومسلم من حديث عائشة، وابن عباس رضي الله تعالى عنهم: «يحرم من الرضاع ما يحرم بالنسب» . وذهب كثير من المحققين كمولانا شيخ الإسلام، وغيره إلى أن الحديث جار على عمومه وأما أم أخيه لأب وأخت ابنه لأم وأم أم ابنه وأم عمه وأم خاله لأب فليست حرمتهن من جهة النسب حتى تخل بعمومه ضرورة حلهن في صورة الرضاع بل من جهة المصاهرة، ألا يرى أن الأولى موطوءة أبيه، والثانية بنت موطوءته والثالثة أم موطوءته. والرابعة موطوءة جده الصحيح، والخامسة موطوءة جده الفاسد، ووقع في عبارة بعضهم استثناء صور بعد سوق الحديث، وأنهى في البحر المسائل المستثنيات إلى إحدى وثمانين مسألة، وأطال الكلام في هذا المقام، وأتى بالعجب العجاب، وظاهر الآية أنه لا فرق بين قليل الرضاع وهو ما يعلم وصوله إلى الجوف وكثيره في التحريم، وأما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 خبر مسلم «لا تحرم المصة والمصتان» وما دل على التقدير فمنسوخ (1) صرح بنسخه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حين قيل له: إن الناس يقولون: إن الرضعة لا تحرم فقال: كان ذلك ثم نسخ. وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: آل أمر الرضاع إلى أن قليله وكثيرة يحرم، وروي عن ابن عمر أن القليل يحرم، وعنه أنه قيل له: إن الزبير يقول: لا بأس الرضعة والرضعتين فقال: قضاء الله تعالى خير من قضاء ابن الزبير، وتلا الآية، وقال الشافعي عليه الرحمة على ما نقله أصحابنا (2) عنه لا يثبت التحريم إلا بخمس رضعات مشبعات في خمسة أوقات متفاصلة عرفا، وعن أحمد روايتان كقولنا وكقوله، واستدل على ذلك بما أخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث الزبير أنه قال: قال صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تحرم المصة والمصتان ولا الإملاجة والإملاجتان، ووجه الاستدلال بذلك بأن المصة داخلة في المصتين، والإملاجة في الإملاجتين، فحاصله لا تحرم المصتان ولا الإملاجتان فنفى التحريم على أربع فلزم أن يثبت بخمس. واعترضه ابن الهمام بأنه ليس بشيء، أما أولا فلأن مذهب الشافعي ليس التحريم بخمس مصات بل بخمس شبعات في أوقات، وأما ثانيا فلأن المصة فعل الرضيع والإملاجة الإرضاعية فعل المرضعة، فحاصل المعنى أنه صلى الله تعالى عليه وسلم نفى كون الفعلين محرمين منه ومنها ثم حقق أن ما في هذه الرواية لا ينبغي أن يكون حديثا واحدا بأن الاملاج ليس حقيقة المحرم بل لازمه من الارتضاع فنفي تحريم الاملاج نفي تحريم لازمه فليس الحاصل من لا تحرم الاملاجتان إلا لا يحرم لازمهما أعني المصتين فلو جمعا في حديث كان الحاصل لا تحرم المصتان ولا المصتان فلزم أن لا يصح أن يراد إلا المصتان لا الأربع، وعلى هذا يجب كون الراوي وهو الزبير رضي الله تعالى عنه- أراد أن يجمع بين ألفاظه صلى الله تعالى عليه وسلم التي سمعها منه في وقتين كأنه قال: « قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لا تحرم المصة والمصتان» وقال أيضا: «لا تحرم الإملاجة والإملاجتان» . وقيل: في وجه الاستدلال طريق آخر، وهو أن الحديث ناف لما ذهب إليه الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه فيثبت به مذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى لعدم القائل بالفصل، واعترض بأن القائل بالفصل أبو ثور وابن المنذر وداود وأبو عبيد، وهؤلاء أئمة الحديث قالوا: المحرم ثلاث رضعات، والقول بعدم اعتبار قولهم في حيز المنع لقوة وجهه بالنسبة إلى وجه قول الشافعي. واستدل بعض أصحابه على هذا المطلب بما رواه مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس رضعات معلومات يحرمن فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهي فيما يقرأ من القرآن، وفي رواية أنه كان في صحيفة تحت سريري فلما مات رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تشاغلنا بموته فدخلت دواجن فأكلتها، وبما روي عن عائشة أيضا قالت: جاءت سهلة بنت سهيل امرأة أبي حذيفة إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني أرى في وجه أبي حذيفة من دخول سالم وهو حليفه فقال صلّى الله عليه وسلم: «أرضعي سالما خمسا تحرمي بها عليه» والجواب أن جميع ذلك منسوخ كما صرح بذلك ابن عباس فيما مر. ويدل على نسخ ما في خبر عائشة الأول أنه لو لم يكن منسوخا لزم ضياع بعض القرآن الذي لم ينسخ والله تعالى قد تكفل بحفظه، وما في الرواية لا ينافي النسخ لجواز أن يقال: إنها رضي الله تعالى عنها أرادت أنه كان مكتوبا   (1) كحديث «يا نبي الله هل تحرم الرضعة الواحدة؟ قال: لا» اهـ منه. (2) وإنما قيدنا بذلك لأن قيد «مشبعات» خلاف ما يدل عليه كتب مذهبه اهـ منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 ولم يغسل بعد للقرب حتى دخلت الدواجن فأكلته، والقول بأن ما ذكر إنما يلزم منه نسخ التلاوة فيجوز أن تكون التلاوة منسوخة مع بقاء الحكم- كالشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما- ليس بشيء لأن ادعاء بقاء حكم الدال بعد نسخه يحتاج إلى دليل وإلا فالأصل أن نسخ الدال يرفع حكمه، وما نظر به لولا ما علم بالسنة. والإجماع لم يثبت به، ثم الذي نجزم به في حديث سهلة أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يرد أن يشبع سالما خمس رضعات في خمسة أوقات متفاصلات جائعا لأن الرجل لا يشبعه من اللبن رطل ولا رطلان فأين تجد الآدمية في ثديها قدر ما يشبعه هذا محال عادة، فالظاهر أن معدود خمس فيه إن صح أنها من الخبر المصات، ثم كيف جاز أن يباشر عورتها بشفتيه فلعل المراد أن تحلب له شيئا مقدار خمس رضعات فيشربه- كما قال القاضي- وإلا فهو مشكل، وقد يقال: هو منسوخ من وجه آخر لأنه يدل على أن الرضاع في الكبر يوجب التحريم لأن سالما كان إذ ذاك رجلا وهذا مما لم يقل به أحد من الأئمة الأربعة فإن مدة الرضاع التي يتعلق به التحريم ثلاثون شهرا عند الإمام الأعظم، وسنتان عند صاحبيه ومستندهما قوي جدا، وإلى ذلك ذهب الأئمة الثلاثة، وعن مالك: سنتان وشهر، وفي رواية أخرى شهران، وفي أخرى سنتان وأيام، وفي أخرى ما دام محتاجا إلى اللبن غير مستغن عنه، وقال زفر: ثلاث سنين، نعم قال بعضهم: خمس عشرة سنة، وقال آخرون: أربعون سنة، وقال داود: الإرضاع في الكبر محرم أيضا، ولا حدّ للمدة- وهو مروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها- وكانت إذا أرادت أن يدخل عليها أحد من الرجال أمرت أختها أم كلثوم أو بعض بنات أختها أن ترضعه، وروى مسلم عن أم سلمة وسائر أزواج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنهن خالفن عائشة في هذا، وعمدة من رأى رأيها في هذا الباب خبر سهلة مع أن الآثار الصحيحة على خلافه، فقد صح مرفوعا وموقوفا «لارضاع إلا ما كان في حولين» وفي الموطأ وسنن أبي داود عن يحيى بن سعيد «أن رجلا سأل أبا موسى الأشعري فقال: إني مصصت من امرأتي ثديها لبنا فذهب في بطني فقال أبو موسى: لا أراها إلا قد حرمت عليك فقال ابن مسعود: انظر ما تفتي به الرجل فقال أبو موسى: فما تقول أنت؟ فقال ابن مسعود: لا رضاع إلا في حولين، فقال أبو موسى: لا تسألوني عن شيء ما دام هذا الحبر بين أظهركم، وفيه عن ابن عمر جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال: كانت لي وليدة فكنت أصيبها فعمدت امرأتي إليها فأرضعتها فدخلت عليها فقالت: دونك قد والله أرضعتها قال عمر: أرجعها وأت جاريتك فإنما الرضاعة رضاعة الصغر، وروى الترمذي- وقال حديث صحيح- من حديث أم سلمة أنه قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «لا يحرم من الرضاع إلا فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام» وفي سنن أبي داود من حديث ابن مسعود يرفعه «لا يحرم من الرضاع إلا ما أنبت اللحم وأنشز العظم» (1) حتى أن عائشة نفسها رضي الله تعالى عنها روت ما يخالف عملها، ففي الصحيحين عنها أنها قالت: «دخل عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعندي رجل فقال: يا عائشة من هذا؟ فقلت: أخي من الرضاعة فقال: يا عائشة انظرن من إخوانكم إنما الرضاعة من المجاعة» واعتبر مرويها دون رأيها لظهور غفلتها فيه وعدم وقوع اجتهادها على المحز، ولهذا قيل: يشبه أنها رجعت كما رجع أبو موسى لما تحقق عندها النسخ وحمل كثير من العلماء حديث سهلة على أنه مختص بها وبسالم، وجعلوا أيضا العفو عن مباشرة العورة من الخواص. هذا ومن غرائب ما وقفت عليه مما يتعلق بهذه الآية عبارة من مقامة للعلامة السيوطي رحمه الله تعالى سماها- الدوران الفلكي على ابن الكركي- وفيها يخاطب الفاضل المذكور بما نصه: ماذا صنعت بالسؤال المهم الذي دار   (1) بالزاي والراء اهـ منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 في البلد ولم يجب عنه أحد، وفي الفرق بين قوله تعالى: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وبين ما لو قيل: واللاتي أرضعنكم أمهاتكم حيث رتب على الأول خمس رضعات واردة، ولو قيل: الثاني لا كتفي برضعة واحدة، ولقد ورد عليّ وسيق إلي فلم أكتب عليه مع أن جوابه نصب عيني، وعتيد لدي لا يحول شيء بينه وبيني لأنظر هل من رجل رشيد أو أحد له في العلم قصر مشيد هلا أبدعت فيه جوابا مسددا، ونوعت فيه طرائق قددا، واتخذت بذلك على دعوى العلم ساعدا وعضدا، وها له نحو عامين ما حلاه أحد بحرف، ولا رمقه ناظر بطرف ولا أودعه ذو ظرف بظرف، ولو شئت أنا لكتبت عليه عدة مؤلفات ولسطرت فيه خمس مصنفات، بسيط حريز ووسيط غريز، ومختصر وجيز، ومنظومة ذات تطريز، ومقامة إنشاء كأنها ذهب إبريز انتهى كلامه. (وأقول) لعل الفرق أنه سبحانه لما ذكر أُمَّهاتُكُمْ في هذه الآية معطوفا على ما تقدم في الآية السابقة وفيها تحريم الأمهات بقي الذهن مشرئبا إلى بيان الفارق بين هذه الأمهات وتلك الأمهات فأتى سبحانه بقوله: اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ بيانا لذلك دافعا لتوهم التكرار فكان قيد الإرضاع الواقع صلة معتنى به أتم اعتناء، ومما يترتب على هذا الاعتناء اعتباره أينما لوحظ، وقد لوحظ في الآية خمس مرات الأولى حين أتى به فعلا، والثانية حين أسند إلى الفاعل أعني ضمير النسوة، والثالثة حين تعلق بالمفعول أعني ضمير المخاطبين، والرابعة حين جعل جزء الجملة الواقعة صلة الموصول، والخامسة حين جعل اللَّاتِي صفة أُمَّهاتُكُمْ لأن وصفيته لها باعتبار الصلة بلا شبهة فهذه خمس ملاحظات للإرضاع في هذا التركيب تشير إلى أن ما به تحصل الأمومة خمس رضعات، وهذا أحد الأسرار لاختيار هذا التركيب مع إمكان تراكيب غيره لعل بعضها أخصر منه، وكثيرا ما وقع في القرآن تراكيب وتعبيرات يشار بها إلى أمور واقعية بينها وبين ما في تلك التعبيرات مناسبة مثل ما وقع في قوله تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة: 228] من الاحتباك المشير إلى ما بين الزوجين من الائتلاف، وما وقع في قوله تعالى: أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ [البقرة: 282] من الإدغام في يُمِلَّ المشير إلى حال الفاعل وهو الأخرس المعقود اللسان في كثير من الأقوال، وما وقع في قوله تعالى: كُلٌّ فِي فَلَكٍ [الأنبياء: 33] من عدم الاستحالة بالانعكاس المشير إلى كرية الأفلاك في رأي إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة. وليس هذا من باب الاستدلال بل من باب الإشارة المقوية له ألا ترى أنه لم يستدل أحد ممن ذهب إلى اشتراط الخمس بهذه الآية ولكن استدلوا عليه بورود الخمس في الأخبار، وإلى ذلك تشير عبارة الجلال السيوطي رحمه الله تعالى، وهذه الإشارة مفقودة في القول المفروض أعني واللاتي أرضعنكم أمهاتكم، لأن العطف فيه لا يوهم التكرار لعدم تقدم نظيره فلا يشرأب الذهن إلى ما يذكر بعد كما اشرأب فيما ذكر قبل، فلا داعي لاعتباره أينما لوحظ كما كان كذلك هناك بل يكفي اعتباره مرة واحدة وهي أدنى ما تتحقق به الماهية لا سيما وقد ذكر بعد أُمَّهاتُكُمْ على أنه بدل والبدل كما قالوا: هو المقصود بالنسبة على نية تكرار العامل المفيد لتقرير معنى الكلام وتوكيده، وهذا التوكيد أيضا مشعر بوحدة الإرضاع لأن التحريم بالرضعة الواحدة مما يكاد يستبعد فيحتاج إلى توكيده بخلاف الرضعات العديدة، وقد رأيت في بعض نسخ شرح صحيح مسلم للإمام النووي بعد ذكر استدلال الإمام مالك رضي الله تعالى عنه على دعوى ثبوت الحرمة برضعة واحدة بقوله تعالى: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ حيث لم يذكر عددا ما نصه: واعترض أصحاب الشافعي على المالكية فقالوا: إنما كانت تحصل الدلالة لكم لو كانت الآية واللاتي أرضعنكم أمهاتكم انتهى، ولم يصرح رحمه الله تعالى بأن الآية التي استدل بها المالكية مشعرة بالخمس بل اقتصر على أن الدلالة على الواحدة لا تحصل بها وأراد أن ما أشرنا إليه من الإشعار القوي إلى التعدد يأبى حمل الماهية على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 أقل ما تتحقق فيه، وفي بعض نسخ ذلك الشرح- واعترض أصحاب الشافعي على المالكية- فقالوا: إنما كانت تحصل لكم الدلالة لو كانت الآية واللاتي أرضعنكم وأمهاتكم بواو بين أَرْضَعْنَكُمْ وبين أُمَّهاتُكُمْ والظاهر أنها غلط من الناسخ، والتزام توجيهها تعسف رأينا تركه ربحا. هذا ما ظهر لنظري القاصر وفكري الفاتر، ولقد سألت بالرفق عن هذا الفرق جمعا من علماء عصري، وراجعت لشرح ذلك المتن جميع الفضلاء الذين تضمنتهم حواشي مصري فلم أر من نطق ببنت شفة ولا من ادعى في حل ذلك الإشكال معرفة مع أن منهم من خضعت له الأعناق، وطبقت فضائله الآفاق، وما رأيت من المروءة أن أمهلهم حتى ينقر في الناقور أو أنتظر بنات أفكارهم إلى أن يلد البغل العاقور الباقور، فكتبت ما ترى ولست على يقين أنه الأولى والأحرى فتأمل، فلمسلك الذهن اتساع والحق أحق بالاتباع وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ شروع في بيان المحرمات من جهة المصاهرة إثر بيان المحرمات من جهة الرضاعة التي لها لحمة كلحمة النسب. والمراد بالنساء المنكوحات على الإطلاق سواء كن مدخولا بهن أولا وهو مجمع عليه عند الأئمة الأربعة لكن يشترط أن يكون النكاح صحيحا أما إذا كان فاسدا فلا تحرم الأم إلا إذا وطئ بنتها، أخرج البيهقي في سننه، وغيره من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالابنة أو لم يدخل وإذا تزوج الأم ولم يدخل بها ثم طلقها فإن شاء تزوج الابنة» وإلى ذلك ذهب جماعة من الصحابة والتابعين، وعن ابن عباس روايتان، فقد أخرج ابن المنذر عنه أنه قال: «النساء مبهمة إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها أو ماتت لم تحل له أمها» . وأخرج هو أيضا عن مسلم بن عويمر أنه قال: نكحت امرأة فلم أدخل بها حتى توفي عمي عن أمها فسألت ابن عباس فقال: انكح أمها، وعن زيد بن ثابت أيضا روايتان، فقد أخرج مالك عنه أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ففارقها قبل أن يمسها هل تحل له أمها؟ فقال: لا الأم مبهمة ليس فيها شرط إنما الشرط في الربائب. وأخرج ابن جرير وجماعة عنه أنه كان يقول: إذا ماتت عنده فأخذ ميراثها كره أن يخلف على أمها، وإذا طلقها قبل أن يدخل بها فلا بأس أن يتزوج أمها، وحكي عن ابن مسعود كان يفتي بحل أم الامرأة إذا لم يكن دخل ببنتها ثم رجع عن ذلك، فقد أخرج مالك عنه أنه استفتي بالكوفة عن نكاح الأم بعد البنت إذا لم تكن البنت مست فأرخص في ذلك، ثم أنه قدم المدينة فسئل عن ذلك فأخبر أنه ليس كما قال، وإن الشرط في الربائب فرجع إلى الكوفة فلم يصل إلى بيته حتى أتى الرجل الذي أفتاه بذلك فأمره أن يفارقها. وأخرج ابن أبي حاتم عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه سئل في الرجل يتزوج المرأة ثم يطلقها أو تموت قبل أن يدخل بها هل تحل له أمها؟ فقال: هي بمنزلة الربيبة، وإلى ذلك ذهب ابن الزبير ومجاهد، ويدخل في لفظ الأمهات الجدات من قبل الأب والأم وإن علون وإن كانت امرأة الرجل أمة فلا تحرم أمها إلا بالوطء أو دواعيه لأن لفظ النساء إذا أضيف إلى الأزواج كان المراد منه الحرائر كما في الظهار والإيلاء، وقرئ «وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن» وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ الربائب جمع ربيبة ورب وربي بمعنى، والربيب فعيل بمعنى مفعول، ولما ألحق بالأسماء الجامدة جاز لحوق التاء له وإلا ففعيل بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث، وهذا معنى قولهم: إن التاء للنقل إلى الاسمية، والربيب ولد المرأة من آخر سمي به لأنه يربه غالبا كما يرب ولده، والحجور جمع حجر بالفتح والكسر، وهو في اللغة حضن الإنسان أعني ما دون إبطه إلى الكشح، وقالوا: فلان في حجر فلان أي في كنفه ومنعته، وهو المراد في الآية، ووصف الربائب بكونهن في الحجور مخرج مخرج الغالب والعادة إذ الغالب كون البنت مع الأم عند الزوج، وفائدته تقوية علة الحرمة كما أنها النكتة في إيرادهن باسم الربائب دون بنات النساء، وقيل: ذكر ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 للتشنيع عليهم نحو أَضْعافاً مُضاعَفَةً [آل عمران: 130] في قوله تعالى: لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً ولولا ما ذكر لثبتت الإباحة عند انتفائه بدلالة اللفظ في غير محل النطق عند من يعتبر مفهوم المخالفة وبالرجوع إلى الأصل وهو الإباحة عند من لا يعتبر المفهوم لأن الخروج عنه إلى التحريم مقيد بقيد فإذا انتفى القيد رجع إلى الأصل لا بدلالة اللفظ، وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه يقول بحل الربيبة إذا لم تكن في الحجر فقد أخرج عبد الرزاق. وابن أبي حاتم بسند صحيح عن مالك بن أوس قال: «كانت عندي امرأة فتوفيت وقد ولدت لي فوجدت عليها فلقيني عليّ بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه فقال: ما لك؟ فقلت: توفيت المرأة فقال: لها بنت؟ قلت: نعم وهي بالطائف قال: كانت في حجرك؟ قلت: لا قال: أنكحها قلت: فأين قوله تعالى: وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ؟ قال: إنها لم تكن في حجرك إنما ذلك إذا كانت في حجرك» وإلى هذا ذهب داود، والأول مذهب الجمهور، وإليه رجع ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، ويدخل في الحرمة بنات الربيبة والربيب وإن سفلن لأن الاسم يشملهن بخلاف الأبناء والآباء لأنه اسم خاص بهن فلذا جاز التزوج بأم زوجة الابن وبنتها، وجاز للابن التزوج بأم زوجة الأب وبنتها. وقال بعض المحققين: إن ثبوت حرمة المذكورات بالإجماع مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ الجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من رَبائِبُكُمُ أو من ضميرها المستكن في الظرف أي اللاتي استقررن في حجوركم كائنات من نسائكم إلخ، واللَّاتِي صفة للنساء المذكور قبله، وهي للتقييد إذ ربيبة الزوجة الغير المدخول بها ليست بحرام ولا يجوز كون الجار حالا من أمهات أيضا، أو مما أضيفت هي إليه ضرورة أن الحالية من ربائبكم أو من ضميره يقتضي كون مِنَ ابتدائية وحاليته من أمهات، أو مِنْ نِسائِكُمُ يستدعي كونها بيانية، وادعاء كونها اتصالية كما في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» وقوله: إذا حاولت في أسد فجورا ... فلست (1) منك ولست مني وهو معنى ينتظم الابتداء والبيان فيتناول اتصال الأمهات بالنساء لأنهن والدات، وبالربائب لأنهن مولودات، أو جعل الموصول صفة للنساءين مع اختلاف عامليهما لأن النساء المضاف إليه أمهات مخفوض بالإضافة، والمجرور بمن بها بعيد جدا بل ينبغي أن ينزه ساحة التنزيل عنه، وأما القراءة فضعيفة الرواية، وعلى تقدير الصحة محمولة على النسخ كما قاله شيخ الإسلام، والباء من بهن للتعدية، وفيها معنى المصاحبة أو بمعنى مع أي دخلتم معهن الستر، وهو كناية عن الجماع- كبنى عليها، وضرب عليها الحجاب- وكثير من الناس يقول: بنى بها، ووهمهم الحريري- وهو وهم- واللمس ونظائره في حكم الجماع عند الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه، قال بعض الفضلاء: واعترض بأن ما ذهب إليه لا مجال له لأن صريح الآية غير مراد قطعا بل ما اشتهر من معناها الكنائي فما قاله إن أثبت بالقياس فهو مخالف لصريح معنى الشرط، وإذا جاء نهر الله تعالى بطل نهر معقل، وإن أثبت بالحديث وهو غير مشهور لم يوافق أصوله، ويدفع بأنه من صريح النص لأن باء الإلصاق صريحة فيه لأنه يقال: دخل بها إذا أمسكها وأدخلها البيت (فإن قلت) هب أن الكناية لا يشترط فيها القرينة المانعة عن إرادة الحقيقة لكن تلزم إرادته كما حقق في المعاني فلا دلالة للآية عليه (أجيب) بأنه وإن لم يلزم إرادته لكن لا مانع منه عند قيام قرينة على إرادته، وكفى بالآثار قرينة، ومنها ما روي من طريق ابن وهب عن أبي أيوب عن ابن جريج «أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال في الذي يتزوج المرأة فيغمز لا يزيد على ذلك: لا يتزوج ابنتها» وهو مرسل ومنقطع إلا أن هذا لا يقدح عندنا إذا كانت الرجال ثقات فلذا   (1) قوله: «فلست» إلخ كذا بخط المؤلف وهو غير متزن، ولعله «فإني لست» أو نحو ذلك فليحرر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 أدرجوه في مدلول النظم، وروي عن ابن عمر أنه قال: «إذا جامع الرجل المرأة أو قبلها أو لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة حرمت على أبيه وابنه وحرمت عليه أمها وبنتها» . (فإن قلت) هب أنه يدخل اللمس في صريحه فكيف يدخل نظيره فيه؟ (أجيب) بأنه داخل بدلالة النص، وما ذكر من مخالفة صريح الشرط مبني على اعتبار مفهوم الشرط، ونحن لا نقول به مع أنه غير عام، وبتقدير عمومه لا يبعد القول بالتخصيص فتدبر، والزنا في الفرج محرم عندنا فمن زنى بامرأة حرمت عليه بنتها خلافا للشافعي حيث ذهب إلى أن الزنا لا يوجب حرمة المصاهرة لأنها نعمة فلا تنال بمحظور، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يحرم الحرام الحلال» ولنا أن الوطء سبب للولد يتعلق به التحريم قياسا على الوطء الحلال، ووصف الحل لا دخل له في المناط فإن وطء الأمة المشتركة وجارية الابن والمكاتبة والمظاهر منها وأمته المجوسية والحائض والنفساء ووطء المحرم والصائم كله حرام، وتثبت به الحرمة المذكورة، ويدل ذلك على أن المعتبر في الأصل هو ذات الوطء من غير نظر لكونه حلالا أو حراما. وروي «أن رجلا قال: يا رسول الله إني زنيت بامرأة في الجاهلية أفأنكح ابنتها فقال صلّى الله عليه وسلم: لا أرى ذلك ولا يصلح أن تنكح امرأة تطلع من ابنتها على ما تطلع عليه منها» ، وهذا وإن كان فيه إرسال وانقطاع لكن جئنا به في مقابلة خبرهم وقد طعن فيه المحدثون، وذكره عبد الحق عن ابن عمر ثم قال: في إسناده إسحاق بن أبي فروة وهو متروك على أنه غير مجري على ظاهره، أرأيت لو بال أو صب خمرا في ماء قليل ألم يكن حراما مع أنه يحرم استعماله فيجب كون المراد منه أن الحرام لا يحرم باعتبار كونه حراما وحينئذ نقول بموجبه إذ لم نقل بإثبات الزنا حرمة المصاهرة باعتبار كونه زنا بل باعتبار كونه وطءا، وأجاب صاحب الهداية عن قولهم في تعليل كون الزنا لا يوجب حرمة المصاهرة بأنها نعمة فلا تنال بمحظور بأن الوطء يحرم من حيث إنه سبب للولد لا من حيث ذاته ولا من حيث أنه زنا، وفي فتح القدير أن هذا القول مغلطة فإن النعمة ليست التحريم من حيث هو تحريم لأنه تضييق ولذا اتسع الحل لرسول الله صلّى الله عليه وسلم نعمة من الله سبحانه وتعالى بل من حيث هو يترتب على المصاهرة فحقيقة النعمة هي المصاهرة لأنها التي تصير الأجنبي قريبا عضدا وساعدا يهمه ما أهمك ولا مصاهرة بالزنا، فالصهر زوج البنت مثلا لا من زنا ببنت الإنسان فانتفت الصهرية وفائدتها أيضا إذ الإنسان ينفر من الزاني ببنته فلا يتعرف به بل يعاديه فأنى ينتفع به، والمنقولات متكافئة فالمرجع القياس، وقد بينا فيه إلغاء وصف زائد على كونه وصفا، وتمام الكلام في المبسوطات من كتب أئمتنا فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا أي فيما قبل دَخَلْتُمْ بِهِنَّ أي بأولئك النساء أمهات الربائب فَلا جُناحَ أي فلا إثم عَلَيْكُمْ أصلا في نكاح بناتهن إذا طلقتموهن، أو متن، وهذا تصريح بما أشعر به ما قبله، وفيه دفع توهم أن قيد الدخول كقيد الكون في الحجور، والفاء الأولى لترتيب ما بعدها على ما قبلها على طرز ما مر، وفي الاقتصار في بيان نفي الحرمة على نفي الدخول إشارة إلى أن المعتبر في الحرمة إنما هو الدخول دون كون الربائب في الحجور، وإلا لقيل: فإن لم تكونوا دخلتم بهن ولسن في حجوركم أو فإن لم تكونوا دخلتم بهن أو لسن في حجوركم جريا على العادة في إضافة نفي الحكم إلى نفي تمام العلة المركبة أو أحد جزأيها الدائر، وإن صح إضافته إلى نفي جزئها المعين لكنه خلاف المستمر من الاستعمال وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ أي زوجاتهم جمع حليلة سميت الزوجة بذلك لأنها تحل مع زوجها في فراش واحد، أو لأنها تحل معه حيث كان فهي فعيلة بمعنى فاعلة، وكذا يقال للزوج حليل، وقيل: اشتقاقهما من الحل لحل كل منهما إزار صاحبه، وقيل: من الحل إذ كل منهما حلال لصاحبه ففعيل بمعنى مفعول، والتاء في حليلة لإجرائها مجرى الجوامد ولو جعل فعيل في جانب الزوج بمعنى فاعل، وفي جانب الزوجة بمعنى مفعول كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 فيه نوع لطافة لا تخفى، والآية ظاهرة في تحريم الزوجة فقط، وأما حرمة من وطئها الابن ممن ليس بزوجة فبدليل آخر، وقال ابن الهمام: إن عتبروا الحليلة من حلول الفراش، أو حل الإزار تناول الموطوءة بملك اليمين أو شبهة أو زنا فيحرم الكل على الآباء وهو الحكم الثابت عندنا، ولا يتناول المعقود عليهما للابن أو بنيه، وإن سفلوا قبل الوطء والفرض أنها بمجرد العقد تحرم على الآباء وذلك باعتباره من الحل بالكسر، وقد قام الدليل على حرمة المزني بها للابن على الأب فيجب اعتباره في أعم من الحل والحل، ثم يراد بالأبناء الفروع فتحرم حليلة الابن السافل على الجد الأعلى وكذا ابن البنت وإن سفل، والظاهر من كلام اللغويين أن الحليلة الزوجة كما أشرنا إليه، واختار بعضهم إرادة المعنى الأعم الشامل لملك اليمين ليكون السر في التعبير بها هنا دون الأزواج أو النساء أن الرجل ربما يظن أن مملوكة ابنه مملوكة له بناء على أن الولد وماله لأبيه فلا يبالي بوطئها وإن وطئها الابن فنبهوا على تحريمها بعنوان صادق عليها وعلى الزوجة صدق العام على أفراده للإشارة إلى أنه لا فرق بينهما فتدبر، وحكم الممسوسات ونحوهن حكم اللاتي وطئهن الأبناء الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ صفة للأبناء، وذكر لاسقاط حليلة المتبنى، وعن عطاء أنها نزلت حين تزوج النبي صلّى الله عليه وسلم امرأة زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه فقال المشركون في ذلك، وليس المقصود من ذلك إسقاط حليلة الابن من الرضاع فإژنها حرام أيضا كحليلة الابن من النسب. وذكر بعضهم فيه خلافا للشافعي رضي الله تعالى عنه والمشهور عنه الوفاق في ذلك وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ في حيز الرفع عطف على ما قبله من المحرمات، والمراد جمعهما في النكاح لا في ملك اليمين، ولا فرق بين كونهما أختين من النسب أو الرضاعة حتى قالوا: لو كان له زوجتان رضيعتان أرضعتهما أجنبية فسد نكاحهما. وحكي عن الشافعي أنه يفسد نكاح الثانية فقط ولا يحرم الجمع بين الأختين في ملك اليمين، نعم جمعهما في الوطء بملك اليمين ملحق به بطريق الدلالة لاتحادهما في المدار فيحرم عند الجمهور، وعليه ابن مسعود وابن عمر وعمار بن ياسر رضي الله تعالى عنهم. واختلفت الرواية عن علي كرم الله تعالى وجهه، فأخرج البيهقي وابن أبي شيبة عنه أنه سئل عن رجل له أمتان أختان وطئ إحداهما ثم أراد أن يطأ الأخرى قال: لا حتى يخرجها من ملكه، وأخرجا من طريق أبي صالح عنه أنه قال: في الأختين المملوكتين أحلتهما آية وحرمتهما آية ولا آمر ولا أنهى ولا أحلل ولا أحرم ولا أفعله أنا ولا أهل بيتي، وروى عبد بن حميد عن ابن عباس أن الجمع مما لا بأس به، وحكي مثله عن عثمان رضي الله تعالى عنه، وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: ما أحب أن أجيز الجمع ونهى السائل عنه، وزعم بعضهم أن الظاهر أن القائل بالحل من الصحابة رضي الله تعالى عنهم رجع إلى قول الجمهور، وإن قلنا بعدم الرجوع فالإجماع اللاحق يرفع الخلاف السابق، وإنما يتم إذا لم يعتد بخلاف أهل الظاهر وبتقدير عدمه فالمرجح التحريم عند المعارضة، وإذا تزوج أخت أمته الموطوءة صح النكاح وحرم وطء واحدة منهما حتى يحرم الموطوءة على نفسه بسبب من الأسباب فحينئذ يطأ المنكوحة لعدم الجمع- كالبيع كلّا أو بعضا- والتزوج الصحيح والهبة مع التسليم والإعتاق كلّا أو بعضا والكتابة- ولو تزوج الأخت نكاحا فاسدا لم تحرم عليه أمته الموطوءة إلا إذا دخل بالمنكوحة فحينئذ تحرم الموطوءة لوجود الجمع بينهما حقيقة، ولا يؤثر الإحرام والحيض والنفاس والصوم وكذا الرهن والإجارة والتدبير لأن فرجها لا يحرم بهذه الأسباب، وإذا عادت الموطوءة إلى ملكه بعد الإخراج سواء كان بفسخ أو شراء جديد لم يحل وطء واحدة منهما حتى يحرم الأمة على نفسه بسبب كما كان أولا، وظاهر قولهم: لا يحل الوطء حتى يحرم أن النكاح صحيح، وقد نصوا على ذلك وعللوه بصدوره عن أهله مضافا إلى محله، وأورد عليه أن المنكوحة موطوءة حكما باعترافهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 فيصير بالنكاح جامعا وطءا حكما وهو باطل، ومن هنا ذهب بعض المالكية إلى عدم الصحة، وأجيب بأن لزوم الجمع بينهما وطءا حكما ليس بلازم لأن بيده إزالته فلا يضر بالصحة ويمنع من الوطء بعدها لقيامه إذ ذاك وإسناد الحرمة إلى الجمع لا إلى الثانية بأن يقال: وأخوات نسائكم للاحتراز عن إفادة الحرمة المؤبدة كما في المحرمات السابقة، ولكونه بمعزل عن إفادة حرمة الجمع على سبيل المعية، ويشترك في هذا الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها ونظائر ذلك فإن مدار حرمة الجمع بين الأختين إفضاؤه خلافا لما في المبسوط إلى قطع ما أمر الله تعالى بوصله كما يدل عليه ما أخرجه الطبراني من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «فإنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم» وما رواه أبو داود في مراسيله عن عيسى بن طلحة قال: «نهى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن تنكح المرأة على قرابتها مخافة القطيعة» وذلك متحقق في الجمع بين من ذكرنا بل أولى فإن العمة والخالة بمنزلة الأم فقوله صلى الله تعالى عليه وسلم مبالغا في بيان التحريم: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا على ابنة أختها ولا على ابنة أخيها» من قبيل بيان التفسير لا بيان التعبير عند بعض المحققين. وقال آخرون: إن الحديث مشهور فقد ثبت في صحيحي مسلم وابن حبان، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي، وتلقاه الصدر الأول بالقبول من الصحابة، والتابعين، ورواه الجم الغفير منهم أبو هريرة وجابر وابن عباس وابن عمر وابن مسعود وأبو سعيد الخدري، فيجوز تخصيص عموم قوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ بل لو كان من أخبار الآحاد جاز التخصيص به غير متوقف على كونه مشهورا، وقال ابن الهمام: الظاهر أنه لا بد من ادعاء الشهرة لأن الحديث موقعه النسخ لا التخصيص، وبينه في فتح القدير فارجع إليه إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ استثناء منقطع. وقصد المبالغة والتأكيد هنا غير مناسب للتذييل بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً لأن الغفران والرحمة لا يناسب تأكيد التحريم. والمراد مما سلف ما مضى قبل النهي فإنهم كانوا يجمعون به الأختين. أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه عن فيرز الديلمي أنه أدركه الإسلام وتحته أختان فقال له النبي صلّى الله عليه وسلم: «طلق أيتهما شئت» ، وقال عطاء والسدي: معناه إلا ما كان من يعقوب عليه السلام إذ جمع بين الأختين، ليا أم يهودا وراحيل أم يوسف عليه السلام، ولا يساعده التذييل لما أن فعله يعقوب عليه السلام إن صح كان حلالا في شريعته. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان أهل الجاهلية يحرمون ما حرم الله تعالى إلا امرأة الأب. والجمع بين الأختين، وروي مثله عن محمد بن الحسن وأنه قال: ألا يرى أنه قد عقب النهي عن كل منهما بقوله سبحانه: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ وهذا- كما قال شيخ الإسلام- يشير إلى كون الاستثناء فيهما على سنن واحد ويأباه اختلاف ما بعدهما. تم الجزء الرابع من تفسير روح المعاني ويتلوه الجزء الخامس أوله وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 بسم الله الرّحمن الرّحيم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ عطف على ما قبله من المحرمات. والمراد بهن على المشهور ذوات الأزواج، أحصنهن التزوج أو الأزواج الأولياء أي منعهن عن الوقوع في الإثم، وأجمع القراء كما قال أبو عبيدة: على فتح الصاد هنا ورواية الفتح عن الكسائي لا تصح، والمشهور رواية ذلك عن طلحة بن مصرف ويحيى بن وثاب، وعليه يكون اسم فاعل لأنهن أحصن فروجهن عن غير أزواجهن، أو أحصن أزواجهن، وقيل: الصيغة للفاعل على القراءة الأولى أيضا، فقد قال ابن الأعرابي: كل أفعل اسم فاعله بالكسر إلا ثلاثة أحرف أحصن، وألفج إذا ذهب ماله، وأسهب إذا كثر كلامه. وحكي عن الأزهري مثله، وقال ثعلب: كل امرأة عفيفة محصنة ومحصنة. وكل امرأة متزوجة محصنة بالفتح لا غير، ويقال: حصنت المرأة بالضم حصنا أي عفت فهي حاصن وحصنان بالفتح وحصناء أيضا بينة الحصانة، وفرس حصان بالكسر بيّن التحصين والتحصن، ويقال: إنه سمي حصانا، لأنه ضن بمائه فلم ينز إلا على كريمة، ثم كثر ذلك حتى سموا كل ذكر من الخيل حصانا، والإحصان في المرأة ورد في اللغة، واستعمل في القرآن بأربعة معان: الإسلام. والحرية، والتزوج، والعفة، وزاد الرافعي العقل لمنعه من الفواحش. والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من المحصنات أي حرمت عليكم المحصنات كائنات من النساء، وفائدته تأكيد عمومها، وقيل: دفع توهم شمولها للرجال بناء على كونها صفة للأنفس وهي شاملة للذكور والإناث- وليس بشيء- كما لا يخفى، وفي المراد بالآية غموض حتى قال مجاهد: لو كنت أعلم من يفسرها لي لضربت إليه أكباد الإبل أخرجه عنه ابن جرير، وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي السوداء قال: سألت عكرمة عن هذه الآية وَالْمُحْصَناتُ إلخ فقال: لا أدري، وللعلماء المتقدمين فيها أقوال: أحدها أن المراد بها المزوجات كما قدمنا. والمراد بالملك الملك بالسبي خاصة فإنه المقتضي لفسخ النكاح وحلها للسابي دون غيره، وهو قول عمر وعثمان وجمهور الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة لكن وقع الخلاف هل مجرد السبي محل لذلك أو سبيها وحدها؟ فعند الشافعي رحمه الله تعالى مجرد السبي موجب للفرقة ومحل للنكاح، وعند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه سبيها وحدها حتى لو سبيت معه لم تحل للسابي، واحتج أهل هذا القول بما أخرجه مسلم عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه أنه قال: أصبنا سبيا يوم أوطاس ولهن أزواج فكرهنا أن نقع عليهن فسألنا النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت الآية فاستحللناهن، وهذه الرواية عنه أصح من الرواية الأخرى أنها نزلت في المهاجرات، واعترض بأن هذا من قصر العام على سببه وهو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 مخالف لما تقرر في الأصول من أنه لا يعتبر خصوص السبب، وأجيب بأنه ليس من ذاك القصر في شيء وإنما خص لمعارضة دليل آخر وهو الحديث المشهور عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها لما اشترت بريرة وكانت مزوجة (1) أعتقتها وخيرها صلّى الله عليه وسلّم فلو كان بيع الأمة طلاقا ما خيرها فاقتصر بالعام حينئذ على سببه الوارد عليه لما كان غير البيع من أنواع الانتقالات كالبيع في أنه ملك اختياري مترتب على ملك متقدم بخلاف السباء فإنه ملك جديد قهري فلا يلحق به غيره كذا قيل، واعترض أصحاب الشافعي بإطلاق الآية والخبر على الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه وجعلوا ذلك حجة عليه فيما ذهب إليه، وأجاب الشهاب بأن الإطلاق غير مسلم ففي الأحكام المروي أنه لما كان يوم أوطاس لحقت الرجال بالجبال وأخذت النساء فقال المسلمون: كيف نصنع ولهن أزواج؟ فأنزل الله تعالى الآية، وكذا في حنين كما ذكره أهل المغازي فثبت أنه لم يكن معهن أزواج فإن احتجوا بعموم اللفظ قيل لهم: قد اتفقنا على أنه ليس بعام وأنه لا تجب الفرقة بتجدد الملك فإذا لم يكن كذلك علمنا أن الفرقة لمعنى آخر وهو اختلاف الدارين فلزم تخصيصها بالمسبيات وحدهن، وليس السبي سبب الفرقة بدليل أنها لو خرجت مسلمة أو ذمية ولم يلحق بها زوجها وقعت الفرقة بلا خلاف. وقد حكم الله تعالى به في المهاجرات في قوله سبحانه: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ [الممتحنة: 10] فلا يرد ما أورد، وثانيها أن المراد بالمحصنات ما قدمنا، وبالملك مطلق ملك اليمين فكل من انتقل إليه ملك أمة ببيع أو هبة أو سباء أو غير ذلك وكانت مزوجة كان ذلك الانتقال مقتضيا لطلاقها وحلها لمن انتقلت إليه- وهو قول ابن مسعود وجماعة من الصحابة- وإليه ذهب جمهور الإمامية، وثالثها أن المحصنات أعم من العفائف والحرائر وذوات الأزواج، والملك أعم من ملك اليمين. وملك الاستمتاع بالنكاح فيرجع معنى الآية إلى تحريم الزنا وحرمة كل أجنبية إلا بعقد أو ملك يمين، وإلى ذلك ذهب ابن جبير وعطاء والسدي، وحكي عن بعض الصحابة، واختاره مالك في الموطأ. ورابعها كون المراد من المحصنات الحرائر، ومن الملك المطلق والمقصود تحريم الحرائر بعد الأربع. أخرج عبد الرزاق وغيره عن عبيدة أنه قال في هذه الآية: «أحل الله تعالى لك أربعا في أول السورة وحرم نكاح كل محصنة بعد الأربع إلا ما ملكت يمينك» وروي مثله عن كثير. وقال شيخ الإسلام: المراد من المحصنات ذوات الأزواج والموصول إما عام حسب عموم صلته، والاستثناء ليس لإخراج جميع الأفراد من حكم التحريم بطريق شمول النفي بل بطريق نفي الشمول المستلزم لإخراج البعض أي حرمت عليكم المحصنات على الإطلاق إلا المحصنات اللاتي ملكتموهن فإنهن لسن من المحرمات على الإطلاق بل فيهن من لا يحرم نكاحهن في الجملة وهن المسبيات بغير أزواجهن أو مطلقا على اختلاف المذهبين، وإما خاص بالمسبيات فالمعنى حرمت عليكم المحصنات إلا اللاتي سبين فإن نكاحهن مشروع في الجملة أي لغير ملاكهن، وأما حلهن لهم بحكم ملك اليمين فمفهوم بدلالة النص لاتحاد المناط لا بعبارته لأن مساق النظم الكريم لبيان حرمة التمتع بالمحرمات المعدودة بحكم ملك النكاح، وإنما ثبوت حرمة التمتع بهن بحكم ملك اليمين بطريق دلالة النص وذلك مما لا يجري فيه الاستثناء قطعا، وأما عدهن من ذوات الأزواج مع تحقق الفرقة بينهن وبين أزواجهن قطعا بتباين الدارين أو بالسباء فمبني على اعتقاد الناس حيث كانوا غافلين عن الفرقة كما ينبي عن ذلك خبر أبي سعيد، وليس في   (1) اختلفوا هل كان الزوج عبدا أو حرا؟ فذهب الحنفيون إلى أنه كان حرا، والأئمة الثلاثة إلى أنه كان عبدا، وأكثر الروايات على ذلك فتدبر اهـ منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 ترتب ما فيه من الحكم على نزول الآية الكريمة ما يدل على كونها مسوقة له فإن ذلك إنما يتوقف على إفادتها له بوجه من وجوه الدلالات لا على إفادتها بطريق العبارة أو نحوها. واعترض بأن فيه ارتكاب خلاف الظاهر من غير ما وجه ولا مانع على تقدير تسليم أن يكون مساق النظم الكريم لبيان حرمة التمتع بالمحرمات المعدودة بحكم ملك النكاح فقط من أن يكون الاستثناء باعتبار لازم تحريم النكاح وهو تحريم الوطء فكأنه قيل: يحرم عليكم نكاح المحصنات فلا يجوز لكم وطؤهن إلا ما ملكت أيمانكم فإنه يجوز لكم وطؤهن فتدبر كِتابَ اللَّهِ مصدر مؤكد أي كتب الله تعالى عَلَيْكُمْ تحريم هؤلاء كتابا، ولا ينافيه الإضافة كما توهم، والجملة مؤكدة لما قبلها وعَلَيْكُمْ متعلق بالفعل المقدر، وقيل كِتابَ منصوب على الإغراء أي الزموا كتاب الله وعَلَيْكُمْ متعلق إما بالمصدر أو بمحذوف وقع حالا منه. وقيل: هو إغراء آخر مؤكد لما قبله وقد حذف مفعوله لدلالة ما قبله عليه وقيل: منصوب بعليكم، واستدلوا به على جواز تقديم المفعول في باب الإغراء وليس بشيء. وقرأ أبو السميفع- كتب الله- بالجمع، والرفع أي هذه فرائض الله تعالى عليكم، وكتب الله- بلفظ الفعل وَأُحِلَّ لَكُمْ قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم على البناء للمفعول، والباقون على البناء للمفاعل، وجعله الزمخشري على القراءة الأولى معطوفا على حرمت، وعلى الثانية معطوفا على «كتب» المقدر، وتعقبه أبو حيان بأن ما اختاره من التفرقة غير مختار لأن جملة «كتب» لتأكيد ما قبلها، وهذه غير مؤكدة فلا ينبغي عطفها على المؤكدة بل على الجملة المؤسسة خصوصا مع تناسبهما بالتحليل والتحريم، ونظر فيه الحلبي، ولعل وجه النظر أن تحليل ما سوى ذلك مؤكد لتحريمه معنى، وما ذكر أمر استحساني رعاية لمناسبة ظاهرة ما وَراءَ ذلِكُمْ إشارة إلى ما تقدم من المحرمات أي أحل لكم نكاح ما سواهن انفرادا وجمعا، وفي إيثار اسم الإشارة على الضمير إشارة إلى مشاركة من في معنى المذكورات للمذكورات في حكم الحرمة فلا يرد حرمة الجمع بين المرأة وعمتها وكذا الجمع بين كل امرأتين أيتهما فرضت ذكرا لم تحل لها الأخرى كما بين في الفروع لأن تحريم من ذكر داخل فيما تقدم بطريق الدلالة كما مرت إليه الإشارة عن بعض المحققين، وحديث تخصيص هذا العموم بالكتاب والسنة مشهور. أَنْ تَبْتَغُوا مفعول له لما دل عليه الكلام أي بين لكم تحريم المحرمات المذكورات وإحلال ما سواهن إرادة، وطلب أن تبتغوا والمفعول محذوف أي تبتغوا النساء، أو متروك أي تفعلوا الابتغاء بِأَمْوالِكُمْ بأن تصرفوها إلى مهورهن، أو بدل اشتمال من ما وَراءَ ذلِكُمْ بتقدير المفعول ضميرا. وجوز بعضهم كون ما عبارة عن الفعل كالتزوج والنكاح، وجعل هذا بدل كل من كل، والمروي عن ابن عباس تعميم الكلام بحيث يشمل صرف الأموال إلى المهور والأثمان مُحْصِنِينَ حال من فاعل تبتغوا، والمراد بالإحصان هنا العفة وتحصين النفس عن الوقوع فيما لا يرضي الله تعالى غَيْرَ مُسافِحِينَ حال من الضمير البارز، أو من الضمير المستكن وهي في الحقيقة حال مؤكدة، والسفاح الزنا من السفح وهو صب الماء وسمي الزنا به لأن الزاني لا غرض له إلا صب النطفة فقط لا النسل، وعن الزجاج المسافحة والمسافح الزانيان اللذان لا يمتنعان من أحد، ويقال للمرأة إذا كانت تزني بواحد: ذات خدن، ومفعول الوصفين محذوف أي محصنين فروجكم أو نفوسكم غير مسافحين الزواني، وظاهر الآية حجة لمن ذهب إلى أن المهر لا بد وأن يكون مالا كالإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه، وقال بعض الشافعية: لا حجة في ذلك لأن تخصيص المال لكونه الأغلب المتعارف فيجوز النكاح على ما ليس بمال، ويؤيد ذلك ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن سعد «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سأل رجلا خطب الواهبة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلّم ماذا معك من القرآن؟ قال: معي سورة كذا وكذا وعددهن قال: تقرأهن على ظهر قلبك؟ قال: نعم قال: اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن، ووجه التأييد أنه لو كان في الآية حجة لما خالفها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وأجيب بأن كون القرآن معه لا يوجب كونه بدلا والتعليل ليس له ذكر في الخبر فيجوز أن يكون مراده صلّى الله عليه وسلّم زوجتك تعظيما للقرآن ولأجل ما معك منه- قاله بعض المحققين- ولعل في الخبر إشارة إليه فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ «ما» إما عبارة عن النساء أو عما يتعلق بهن من الأفعال وعليهما فهي إما شرطية أو موصولة وأيّا ما كان فهي مبتدأ وخبرها على تقدير الشرطية فعل الشرط أو جوابه أو كلاهما وعلى تقدير الموصولية قوله تعالى: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ والفاء لتضمن الموصول معنى الشرط ثم على تقدير كونها بمعنى النساء بتقديرية العائد إلى المبتدأ الضمير المنصوب في فَآتُوهُنَّ ومن بيانية أو تبعيضية في موضع النصب على الحال من ضمير بِهِ واستعمال ما للعقلاء لأنه أريد بها الوصف كما مر غير مرة، وقد روعي في الضمير أولا جانب اللفظ وأخيرا جانب المعنى، والسين للتأكيد لا للطلب، والمعنى فأي فرد أو فالفرد الذي تمتعتم به حال كونه من جنس النساء أو بعضهن فأعطوهن أجورهن، وعلى تقدير كونها عبارة عما يتعلق بهن- فمن- ابتدائية متعلقة بالاستمتاع بمعنى التمتع أيضا وما لما لا يعقل، والعائد إلى المبتدأ محذوف أي فأي فعل تمتعتم به من قبلهن من الأفعال المذكورة فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ لأجله أو بمقابلته، والمراد من الأجور المهور، وسمي المهر أجرا لأنه بدل عن المنفعة لا عن العين فَرِيضَةً حال من الأجور بمعنى مفروضة أو صفة مصدر محذوف أي إيتاء مفروضا، أو مصدر مؤكد أي فرض ذلك فريضة فهي كالقطيعة بمعنى القطع وَلا جُناحَ أي لا إثم عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ من الحط عن المهر أو الإبراء منه أو الزيادة على المسمى، ولا جناح في زيادة الزيادة لعدم مساعدة لا جُناحَ إذا جعل الخطاب للأزواج تغليبا فإن أخذ الزيادة مظنة ثبوت المنفي للزوجة مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ أي الشيء المقدر، وقيل: فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ من نفقة ونحوها، وقيل: من مقام أو فراق، وتعقبه شيخ الإسلام بأنه لا يساعده ذكر الفريضة إذ لا تعلق لهما بها إلا أن يكون الفراق بطريق المخالعة، وقيل: الآية في المتعة وهي النكاح إلى أجل معلوم من يوم أو أكثر، والمراد وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ من استئناف عقد آخر بعد انقضاء الأجل المضروب في عقد المتعة بأن يزيد الرجل في الأجر وتزيده المرأة في المدة، وإلى ذلك ذهبت الإمامية، والآية أحد أدلتهم على جواز المتعة، وأيدوا استدلالهم بها بأنها في حرف أبيّ «فما استمتعتم به منهن» إلى أجل مسمى، وكذلك قرأ ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم- والكلام في ذلك شهير- ولا نزاع عندنا في أنها أحلت ثم حرمت، وذكر القاضي عياض في ذلك كلاما طويلا، والصواب المختار أن التحريم والإباحة كانا مرتين، وكانت حلالا قبل يوم خيبر، ثم حرمت يوم خيبر، ثم أبيحت يوم فتح مكة وهو يوم أوطاس لاتصالهما، ثم حرمت يومئذ بعد ثلاث تحريما مؤبدا إلى يوم القيامة، واستمر التحريم، ولا يجوز أن يقال: إن الإباحة مختصة بما قبل خيبر، والتحريم يوم خيبر للتأبيد وإن الذي كان يوم الفتح مجرد توكيد التحريم من غير تقدم إباحة يوم الفتح إذ الأحاديث الصحيحة تأبى ذلك، وفي صحيح مسلم ما فيه مقنع. وحكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يقول بحلها ثم رجع عن ذلك حين قال له علي كرم الله تعالى وجهه: إنك رجل تائه إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن المتعة كذا قيل، وفي صحيح مسلم ما يدل على أنه لم يرجع حين قال له عليّ ذلك، فقد أخرج عن عروة بن الزبير أن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنه قام بمكة فقال: إنا ناسا أعمى الله تعالى قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة يعرض برجل- يعني ابن عباس- كما قال النووي، فناداه فقال: إنك لجلف جاف فلعمري لقد كانت المتعة تفعل في عهد إمام المتقين- يريد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- فقال له ابن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 الزبير: فجرب نفسك فو الله لئن فعلتها لأرجمنك بأحجارك فإن هذا إنما كان في خلافة عبد الله بن الزبير، وذلك بعد وفاة علي كرم الله تعالى وجهه، فقد ثبت أنه مستمر القول على جوازها لم يرجع إلى قول الأمير كرم الله تعالى وجهه، وبهذا قال العلامة ابن حجر في شرح المنهاج، فالأولى أن يحكم بأنه رجع بعد ذلك بناء على ما رواه الترمذي والبيهقي والطبراني عنه أنه قال: «إنما كانت المتعة في أول الإسلام كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أنه مقيم فتحفظ له متاعه وتصلح له شأنه» حتى نزلت الآية إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [المعارج: 30] فكل فرج سواهما فهو حرام، ويحمل هذا على أنه اطلع على أن الأمر إنما كان على هذا الوجه فرجع إليه وحكاه، وحكي عنه أيضا أنه إنما أباحها حالة الاضطرار والعنت في الأسفار، فقد روي عن ابن جبير أنه قال: قلت لابن عباس: لقد سارت بفتياك الركبان، وقال فيها الشعراء قال: وما قالوا؟ قلت: قالوا: قد قلت للشيخ لما طال مجلسه ... يا صاح هل لك في فتوى ابن عباس هل لك في رخصة الأطراف آنسة ... تكون مثواك حتى مصدر الناس فقال: سبحان الله ما بهذا أفتيت وما هي إلا كالميتة والدم ولحم الخنزير، ولا تحل إلا للمضطر، ومن هنا قال الحازمي: إنه صلّى الله عليه وسلّم لم يكن أباحها لهم وهم في بيوتهم وأوطانهم، وإنما أباحها لهم في أوقات بحسب الضرورات حتى حرمها عليهم في آخر الأمر تحريم تأبيد، وأما ما روي أنهم كانوا يستمتعون على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وأبي بكر وعمر حتى نهى عنها عمر فمحمول على أن الذي استمتع لم يكن بلغه النسخ، ونهى عمر كان لإظهار ذلك حيث شاعت المتعة ممن لم يبلغه النهي عنها ومعنى- أنا محرمها- في كلامه إن صح مظهر تحريمها لا منشئة كما يزعمه الشيعة، وهذه الآية لا تدل على الحل، والقول بأنها نزلت في المتعة غلط، وتفسير البعض لها بذلك غير مقبول لأن نظم القرآن الكريم يأباه حيث بين سبحانه أولا المحرمات ثم قال عز شأنه: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ وفيه شرط بحسب المعنى فيبطل تحليل الفرج وإعارته، وقد قال بهما الشيعة، ثم قال جل وعلا: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وفيه إشارة إلى النهي عن كون القصد مجرد قضاء الشهوة وصب الماء واستفراغ أوعية المني فبطلت المتعة بهذا القيد لأن مقصود المتمتع ليس إلا ذاك دون التأهل والاستيلاد وحماية الذمار والعرض، ولذا تجد المتمتع بها في كل شهر تحت صاحب، وفي كل سنة بحجر ملاعب، فالإحصان غير حاصل في امرأة المتعة أصلا ولهذا قالت الشيعة: إن المتمتع الغير الناكح إذ زنى لا رجم عليه، ثم فرع سبحانه على حال النكاح قوله عز من قائل: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ وهو يدل على أن المراد بالاستمتاع هو الوطء والدخول لا الاستمتاع بمعنى المتعة التي يقول بها الشيعة، والقراءة التي ينقلونها عمن تقدم من الصحابة شاذة. وما دل على التحريم كآية إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [المعارج: 30] قطعي فلا تعارضه على أن الدليلين إذا تساويا في القوة وتعارضا في الحل والحرمة قدم دليل الحرمة منهما، وليس للشيعة أن يقولوا: إن المرأة المتمتع بها مملوكة لبداهة بطلانه أو زوجة لانتفاء جميع لوازم الزوجية- كالميراث والعدة والطلاق والنفقة- فيها، وقد صرح بذلك علماؤهم. وروى أبو نصير منهم في صحيحه عن الصادق رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن امرأة المتعة أهي من الأربع؟ قال: لا ولا من السبعين، وهو صريح في أنها ليست زوجة وإلا لكانت محسوبة في الأربع، وبالجملة الاستدلال بهذه الآية على حل المتعة ليس بشيء كما لا يخفى، ولا خلاف الآن بين الأئمة وعلماء الأمصار إلا الشيعة في عدم جوازها، ونقل الحل عن مالك رحمه الله تعالى غلط لا أصل له بل في حد المتمتع روايتان عنه، ومذهب الأكثرين أنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 لا يحد لشبهة العقد وشبهة الخلاف، ومأخذ الخلاف على ما قال النووي: اختلاف الأصوليين في أن الإجماع بعد الخلاف هل يرفع الخلاف وتصير المسألة مجمعا عليها؟ فبعض قال: لا يرفعه بل يدوم الخلاف ولا تصير المسألة بعد ذلك مجمعا عليها أبدا، وبه قال القاضي أبو بكر الباقلاني، وقال آخرون: بأن الإجماع اللاحق يرفع الخلاف السابق وتمامه في الأصول وحكى بعضهم عن زفر أنه قال: من نكح نكاح متعة تأبد نكاحه ويكون ذكر التأجيل من باب الشروط الفاسدة في النكاح وهي ملغية فيها، والمشهور في كتب أصحابنا أنه قال ذلك في النكاح المؤقت- وفي كونه عين نكاح المتعة- بحث، فقد قال بعضهم باشتراط الشهود في المؤقت وعدمه في المتعة، ولفظ التزويج أو النكاح في الأول، وأستمتع أو أتمتع في الثاني، وقال آخرون: النكاح المؤقت من أفراد المتعة، وذكر ابن الهمام أن النكاح لا ينعقد بلفظ المتعة، وإن قصد به النكاح الصحيح المؤبد وحضر الشهود لأنه لا يصلح مجازا عن معنى النكاح كما بينه في المبسوط بقي ما لو نكح مطلقا ونيته أن لا يمكث معها إلا مدة نواها فهل يكون ذلك نكاحا صحيحا حلاليا أم لا؟ الجمهور على الأول بل حكى القاضي الإجماع عليه، وشذ الأوزاعي فقال: هو نكاح متعة ولا خير فيه فينبغي عدم نية ذلك إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بما يصلح أمر الخلق حَكِيماً فيما شرع لهم، ومن ذلك عقد النكاح الذي يحفظ الأموال والأنساب وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ مَنْ إما شرطية، وما بعدها شرطها، وإما موصولة وما بعدها صلتها، ومِنْكُمْ حال من الضمير في يَسْتَطِعْ وقوله سبحانه: طَوْلًا مفعول به- ليستطع- وجعله مفعولا لأجله على حذف مضاف أي لعدم طول تطويل بلا طول. والمراد به الغنى والسعة وبذلك فسره ابن عباس ومجاهد، وأصله الفضل والزيادة، ومنه الطائل، وفسره بعضهم بالاعتلاء والنيل فهو من قولهم: طلته أي نلته، ومنه قول الفرزدق: إن الفرزدق صخرة ملمومة ... طالت فليس تنالها الأوعالا قوله عز وجل:- أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ أي الحرائر بدليل مقابلتهن بالمملوكات، وعبر عنهن بذلك لأن حريتهن أحصنتهن عن نقص الإماء- إما أن يكون متعلقا «بطولا» على معنى- ومن لم يستطع أن ينال نكاح المحصنات- وإما أن يكون بتقدير إلى أو اللام والجار في موضع الصفة «لطولا» أي- ومن لم يستطع غنى موصلا إلى نكاحهن- أو لنكاحهن- أو- على- على أن الطول بمعنى القدرة- كما قال الزجاج، ومحل أَنْ بعد الحذف جر، أو نصب على الخلاف المعروف، وهذا التقدير قول الخليل، وإليه ذهب الكسائي، وجوز أبو البقاء أن يكون بدلا من طَوْلًا بدل الشيء من الشيء، وهما لشيء واحد بناء على أن الطول هو القدرة، أو الفضل، والنكاح قوة وفضل، وقيل: يجوز أن يكون مفعولا- ليستطع- وطَوْلًا مصدر مؤكد له إذ الاستطاعة هي الطول أو تمييز- أي ومن لم يستطع منكم استطاعة- أو من جهة الطول والغنى أي لا من جهة الطبيعة والمزاج إذ لا تعلق لذلك بالمقام، وقوله تعالى وتقدس: فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ جواب الشرط أو خبر الموصول وجاءت الفاء لما مر غير مرة، وما موصولة في محل جر بمن التبعيضية، والجار والمجرور متعلق بفعل مقدر حذف مفعوله، وفي الحقيقة متعلق بمحذوف وقع صفة لذلك المفعول أي فلينكح امرأة كائنة بعض النوع الذي ملكته أيمانكم، وأجاز أبو البقاء كون مَنْ زائدة أي فلينكح ما ملكته أيمانكم، وقوله تعالى: مِنْ فَتَياتِكُمُ أي إمائكم الْمُؤْمِناتِ في موضع الحال من الضمير المحذوف العائد إلى ما، وقيل: مَنْ زائدة، وفَتَياتِكُمُ هو المفعول للفعل المقدر قبل، ومما ملكت- متعلق بنفس الفعل، ومَنْ لابتداء الغاية، أو متعلق بمحذوف وقع حالا من هذا المفعول، ومَنْ للتبعيض، والْمُؤْمِناتِ على جميع الأوجه صفة فَتَياتِكُمُ، وقيل: هو مفعول ذلك الفعل المقدر، وفيه بعد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 وظاهر الآية يفيد عدم جواز نكاح الأمة للمستطيع لمفهوم الشرط- كما ذهب إليه الشافعي- وعدم جواز نكاح الأمة الكتابية مطلقا لمفهوم الصفة كما هو رأي أهل الحجاز- وجوزهما الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه لإطلاق المقتضي من قوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء: 3] وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ فلا يخرج منه شىء إلا بما يوجب التخصيص ولم ينتهض ما ذكر حجة مخرجة أما أولا فالمفهومان- أعني مفهوم الشرط ومفهوم الصفة- ليسا بحجة عنده رضي الله تعالى عنه كما تقرر في الأصول. وأما ثانيا فبتقدير الحجة مقتضى المفهومين عدم الإباحة الثابتة عند وجود القيد المبيح، وعدم الإباحة أعم من ثبوت الحرمة أو الكراهة، ولا دلالة للأعم على أخص بخصوصه فيجوز ثبوت الكراهة عند وجود- طول- الحرة كما يجوز ثبوت الحرمة على السواء، والكراهة أقل فتعينت فقلنا بها، وبالكراهة صرح في البدائع، وعلل بعضهم عدم حل تزوج الأمة حيث لم يتحقق الشرط بتعريض الولد للرق لتثبت الحرمة بالقياس على أصول شتى، أو ليتعين أحد فردي الأعم الذي هو عدم الإباحة وهو التحريم مرادا بالأعم. واعترض بأنهم إن عنوا أن فيه تعريضا موصوفا بالحرية للرق سلمنا استلزامه للحرمة لكن وجود الوصف ممنوع إذ ليس هنا متصف بحرية عرض للرق بل الوصفان من الحرية والرق يقارنان وجود الولد باعتبار أمه إن كانت حرة فحر، أو رقيقة فرقيق، وإن أرادوا به تعريض الولد الذي سيوجد لأن يقارنه الرق في الوجود لا إرقاقه سلمنا وجوده ومنعنا تأثيره في الحرمة بل في الكراهة، وهذا لأنه كان له أن لا يحصل الولد أصلا بنكاح الآيسة ونحوها فلأن يكون له أن يحصل رقيقا بعد كونه مسلما أولى إذ المقصود بالذات من التناسل تكثير المقرين لله تعالى بالوحدانية والألوهية وما يجب أن يعترف له به وهذا ثابت بالولد المسلم، والحرية مع ذلك كمال يرجع أكثره إلى أمر دنيوي وقد جاز للعبد أن يتزوج أمتين بالاتفاق مع أن فيه تعريض الولد للرق في موضع الاستغناء عن ذلك وعدم الضرورة، وكون العبد أبا لا أثر له في ثبوت رق الولد فإنه لو تزوج حرة كان ولده حرا والمانع إنما يعقل كونه ذات الرق لأنه الموجب للنقص الذي جعلوه محرما لا مع قيد حرية الأب فوجب استواء العبد والحر في هذا الحكم لو صح ذلك التعليل- قاله ابن الهمام- وفيه مناقشة ما فتأمل. وفي هذه الآية ما يشير إلى وهن استدلال الشيعة بالآية السابقة على حل المتعة لأن الله تعالى أمر فيها بالاكتفاء بنكاح الإمام عند عدم الطول إلى نكاح الحرائر فلو كان أحل المتعة في الكلام السابق لما قال سبحانه بعده: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ إلخ لأن المتعة في صورة عدم الطول المذكور ليست قاصرة في قضاء حاجة الجماع بل كانت بحكم- لكل جديد لذة- أطيب وأحسن على أن المتعة أخف مؤنة وأقل كلفة فإنها مادة يكفي فيها الدرهم والدرهمان فأية ضرورة كانت داعية إلى نكاح الإماء؟ ولعمري إن القول بذلك أبعد بعيد كما لا يخفى على من أطلق من ربقة قيد التقليد وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ جملة معترضة جيء بها تأنيسا لقلوبهم وإزالة للنفرة عن نكاح الإماء ببيان أن مناط التفاخر الإيمان دون الأحساب والأنساب، ورب أمة يفوق إيمانها إيمان كثير من الحرائر. والمعنى أنه تعالى أعلم منكم بمراتب إيمانكم الذي هو المدار في الدارين فليكن هو مطمح نظركم، وقيل: جيء بها للإشارة إلى أن الإيمان الظاهر كاف في صحة نكاح الأمة ولا يشترط في ذلك العلم بالإيمان علما يقينيا إذ لا سبيل إلى الوقوف على الحقائق إلا لعلام الغيوب بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أي أنتم وفتياتكم متناسبون إما من حيث الدين وإما من حيث النسب، وعلى الثاني يكون اعتراضا آخر مؤكدا للتأنيس من جهة أخرى وعلى الأول يكون بيانا لتناسبهم من تلك الحيثيّة إثر بيان تفاوتهم في ذلك، وأيّا ما كان- فبعضكم- مبتدأ والجار والمجرور متعلق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 بمحذوف وقع خبرا له، وزعم بعضهم أن بَعْضُكُمْ فاعل للفعل المحذوف، قيل: وفي الكلام تقديم وتأخير، والتقدير فلينكح بعضكم من بعض الفتيات، ولا ينبغي أن يخرج كتاب الله تعالى الجليل على ذلك. فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ مترتب على ما قبله ولذا صدر بالفاء أي فإذا وقعتم على جلية الأمر فانكحوهن إلخ وأعيد الأمر مع فهمه مما قبله لزيادة الترغيب في نكاحهن، أو لأن المفهوم منه الإباحة وهذا للوجوب. والمراد من الأهل الموالي، وحمل الفقهاء ذلك على من له ولاية التزويج ولو غير مالك فقد قالوا: للأب والجد والقاضي والوصي تزويج أمة اليتيم لكن في الظهيرية الوصي لو زوج أمة اليتيم من عبده لا يجوز، وفي جامع الفصولين القاضي لا يملك تزويج أمة الغائب، وفي فتح القدير: للشريك المفاوض تزويج الأمة، وليس لشريك العنان والمضارب والعبد المأذون تزويجها عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه. ومحمد، وقال أبو يوسف: يملكون ذلك، وهذا الإذن شرط عندنا لجواز نكاح الأمة فلا يجوز نكاحها بلا إذن، والمراد بعدم الجواز عدم النفاذ لا عدم الصحة بل هو موقوف كعقد الفضولي، وإلى هذا ذهب مالك- وهو رواية عند أحمد- ومثل ذلك نكاح العبد واستدلوا على عدم الجواز فيهما بما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث جابر، وقال: حديث حسن عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر» والعهر الزنا وهو محمول على ما إذا وطئ لا بمجرد العقد وهو زنا شرعي لا فقهي فلم يلزم منه وجوب الحد لأنه مرتب على الزنا الفقهي كما بين في الفروع، وبأن في تنفيذ نكاحهما تعييبهما إذ النكاح عيب فيهما فلا يملكانه إلا بإذن مولاهما، ونسب إلى الإمام مالك ولم يصح أنه يجوز نكاح العبد بلا إذن السيد لأنه يملك الطلاق فيملك النكاح، وأجيب بالفرق فإن الطلاق إزالة عيب عن نفسه بخلاف النكاح، قال ابن الهمام: لا يقال: يصح إقرار العبد على نفسه بالحد والقصاص مع أن فيه هلاكه فضلا عن تعييبه لأنا نقول: هو لا يدخل تحت ملك السيد فيما يتعلق به خطاب الشرع أمرا ونهيا كالصلاة والغسل والصوم والزنا والشرب وغيره إلا فيما علم إسقاط الشارع إياه عنه كالجمعة والحج، ثم هذه الأحكام تجب جزاء على ارتكاب المحظور شرعا، فقد أخرجه عن ملكه في ذلك الذي أدخله فيه باعتبار غير ذلك- وهو الشارع- زجرا عن الفساد وأعاظم العيوب انتهى. وادعى بعض الحنفية أن الآية تدل على أن للإماء أن يباشرن العقد بأنفسهن لأنه اعتبر إذن الموالي لا عقدهم. واعترض بأن عدم الاعتبار لا يوجب اعتبار العدم فلعل العاقد يكون هو المولى أو الوكيل فلا يلزم جواز عقدهن كما لا يخفى، ولو كانت الأمة مشتركة بين اثنين مثلا لا يجوز نكاحها إلا بإذن الكل، وفي الظهيرية لو زوج أحد الموليين أمته ودخل بها الزوج فللآخر النقض فإن نقض فله نصف مهر المثل وللزوج الأقل من نصف مهر المثل، ومن نصف المسمى وحكم معتق البعض حكم كامل الرق عند الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه، وعندهما يجوز نكاحه بلا إذن لأنه حر مديون وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي أدوا إليهن مهورهن بإذن أهلهن وحذف هذا القيد لتقدم ذكره لا لأن العطف يوجب مشاركة المعطوف المعطوف عليه في القيد، ويحتمل أنه يكون في الكلام مضاف محذوف أي آتوا أهلهن، ولعل ما تقدم قرينة عليه، قيل: ونكتة اختيار آتوهن على أتوهم مع تقدم الأهل على ما ذكره بعض المحققين إن في ذلك تأكيدا لإيجاب المهر وإشعارا بأنه حقهن من هذه الجهة، وإنما تأخذه الموالي بجهة ملك اليمين، والداعي لهذا كله أن المهر للسيد عند أكثر الأئمة لأنه عوض حقه. وقال الإمام مالك: الآية على ظاهرها والمهر للأمة، وهذا يوجب كون الأمة مالكة مع أنه لا ملك للعبد فلا بد أن تكون مالكة له يدا كالعبد المأذون له بالتجارة لأن جعلها منكوحة إذن لها فيجب التسليم إليهن كما هو ظاهر الآية، وإن حملت الأجور على النفقات استغني عن اعتبار التقدير أولا وآخرا، وكذا إن فسر قوله تعالى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 بِالْمَعْرُوفِ بما عرف شرعا من إذن الموالي، والمعروف فيه أنه متعلق- بآتوهن- والمراد أدوا إليهن من غير مماطلة وإضرار، ويجوز أن يكون حالا أي متلبسات بالمعروف غير ممطولات أو متعلقا-. بأنكحوهن- أي فانكحوهن بالوجه المعروف يعني بإذن أهلهن ومهر مثلهن مُحْصَناتٍ حال إما من مفعول آتُوهُنَّ فهو بمعنى متزوجات، أو من مفعول فَانْكِحُوهُنَّ فهو بمعنى عفائف، وحمله على مسلمات وإن جاز خصوصا على مذهب الجمهور الذين لا يجيزون نكاح الأمة الكتابية لكن هذا الشرط تقدم في قوله سبحانه: فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ فليس في إعادته كثير جدوى، والمشهور هنا تفسير المحصنات بالعفائف فقوله تعالى: غَيْرَ مُسافِحاتٍ تأكيد له، والمراد غير مجاهرات بالزنا- كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ عطف على مسافحات وَلا لتأكيد ما في غَيْرَ من معنى النفي- والأخدان- جمع خدن وهو الصاحب، والمراد به هنا من تتخذه المرأة صديقا يزني بها والجمع للمقابلة، والمعنى ولا مسرات الزنا. وكان الزنا في الجاهلية منقسما إلى سر وعلانية، وروي عن ابن عباس أن أهل الجاهلية كانوا يحرمون ما ظهر منه ويقولون: إنه لؤم، ويستحلون ما خفي ويقولون: لا بأس به، ولتحريم القسمين نزل قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ [الأنعام: 151] فَإِذا أُحْصِنَّ أي بالأزواج- كما قال ابن عباس وجماعة- وقرأ إبراهيم أُحْصِنَّ بالبناء للفاعل أي أحصن فروجهن وأزواجهن، وأخرج عبد بن حميد أنه قرىء كذلك، ثم قال: إحصانها إسلامها، وذهب كثير من العلماء إلى أن المراد من الإحصان على القراءة الأولى الإسلام أيضا لا التزوج، وبعض من أراده من الآية قال: لا تحد الأمة إذا زنت ما لم تتزوج بحرّ، وروي ذلك مذهبا لابن عباس، وحكي عدم الحد قبل التزوج عن مجاهد وطاوس، وقال الزهري: هو فيها بمعنى التزوج. والحد واجب على الأمة المسلمة إذا لم تتزوج لما في الصحيحين عن زيد بن خالد الجهني أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن قال: «اجلدوها» ، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بضفير» فالمزوجة محدودة بالقرآن وغيرها بالسنة، ورجح هذا الحمل بأنه سبحانه شرط الإسلام بقوله جلّ وعلا: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ فحمل ما هنا على غيره أتم فائدة وإن جاز أنه تأكيد لطول الكلام. وذكر بعض المحققين أن تفسير الإحصان بالإسلام ظاهر على قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه من جهة أنه لا يشترط في التزوج بالأمة أن تكون مسلمة وإن الكفار ليسوا مخاطبين بالفروع، وهو مشكل على قول من يقول بمفهوم الشرط من الشافعية فإنه يقتضي أن الأمة الكافرة إذا زنت لا تجلد، وليس مذهبه كذلك فإنه يقيم الحد على الكفار فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ أي فإن فعلن فاحشة وهي الزنا وثبت ذلك. فَعَلَيْهِنَّ أي فثابت عليهن شرعا نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ أي الحرائر الأبكار مِنَ الْعَذابِ أي الحد الذي هو جلد مائة، فنصفه خمسون ولا رجم عليهن لأنه لا يتنصف وهذا دفع لتوهم أن الحد لهن يزيد بالإحصان، فيسقط الاستدلال به على أنهن قبل الإحصان لا حد عليهن كما روي ذلك عمن تقدم. قال الشهاب: وعلم من بيان حالهن حال العبيد بدلالة النص (1) فلا وجه لما قيل: إنه خلاف المعهود لأن المعهود أن يدخل النساء تحت حكم الرجال بالتبعية وكأن وجهه أن دواعي الزنا فيهن أقوى وليس هذا تغليبا وذكرا   (1) وقال بعضهم: لاحد على العبد أصلا وإنما الحد على الأمة إذا زنت محصنة، وقال آخرون: يجلد كالحر لعموم الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي إلى آخرها لأن الآية المنصفة وردت في الإماء اهـ منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 بطريق التبعية حتى يتجه ما ذكر، ويرد على وجه التخصيص أنه لو كان كذلك لم يدل على حكم العبيد بل الوجه فيه أن الكلام في تزوج الإماء فهو مقتضى الحال انتهى. والظاهر أن المراد بالحال المعلوم بدلالة النص حال العبيد إذا أتوا بفاحشة لا مطلقا فإن حال العبيد ليس حال الإماء في مسألة النكاح من كل وجه كما بين في كتب الفروع، وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد أنه قرىء فإن أتوا، وأتين بفاحشة، هذا والفاء في فَإِنْ أَتَيْنَ جواب إذا، والثانية جواب إن، والشرط الثاني مع جوابه مترتب على وجود الأول، ومِنَ الْعَذابِ في موضع الحال من الضمير في الجار والمجرور والعامل فيها هو العامل في صاحبها، قال أبو البقاء: ولا يجوز أن تكون حالا من ما لأنها مجرورة بالإضافة فلا يكون لها عامل ذلِكَ أي نكاح الإماء لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ أي لمن خاف الزنا بسبب غلبة الشهوة عليه، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن نافع بن الأزرق سأله عن العنت فقال: الإثم، فقال نافع: وهل تعرف العرب ذلك؟ فقال: نعم أما سمعت قول الشاعر: رأيتك تبتغي «عنتي» وتسعى ... مع الساعي عليّ بغير ذحل وقيل: أصل العنت انكسار العظم بعد الجبر فاستعير لكل مشقة وضرر يعتري الإنسان بعد صلاح حاله، ولا ضرر أعظم من مواقعة المآثم بارتكاب أفحش القبائح، ويفهم من كلام كثير من اللغويين أنه حقيقة في الإثم وكذا في الجهد والمشقة، ومنه- أكمة عنوت- أي صعبة المرتقى، وفسره الزجاج هنا بالهلاك، والذي عليه الأكثرون ما تقدم وهو مأثول أيضا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل: المراد به الحد لأنه إذا هو يخشى أن يواقعها فيحد، ورجح القول الأول بكثرة الذاهبين إليه مع ما فيه من الإشارة إلى أن اللائق بحال المؤمن الخوف من الزنا المفضي إلى العذاب، وفي هذا إيهام بأن المحذور عنده الحد لا ما يوجبه وأيّا ما كان فهو شرط آخر لجواز تزوج الإماء عند الشافعي عليه الرحمة، ومذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه أنه ليس بشرط وإنما هو إرشاد للأصلح وَأَنْ تَصْبِرُوا أي وصبركم عن نكاح الإماء متعففين. خَيْرٌ لَكُمْ من نكاحهن وإن رخص لكم فيه لأن حق الموالي فيهن أقوى فلا يخلصن للأزواج خلوص الحرائر إذ هم يقدرون على استخدامهن سفرا وحضرا، وعلى بيعهن للحاضر والبادي، وفي ذلك مشقة عظيمة على الأزواج لا سيما إذا ولد لهم منهن أولاد، ولأنهن ممتهنات مبتذلات خراجات ولاجات ذلك ذل ومهانة سارية للناكح، ولا يكاد يتحمل ذلك غيور، ولأن في نكاحهن تعريض الولد للرق. وقد أخرج عبد الرزاق وغيره عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: «إذا نكح العبد الحرة فقد أعتق نصفه وإذا نكح الحر الأمة فقد أرق نصفه» وأخرج سعيد بن منصور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: «ما تزحف ناكح الأمة عن الزنا إلا قليلا» وعن أبي هريرة وابن جبير مثله. وأخرج ابن أبي شيبة عن عامر قال: «نكاح الأمة كالميتة والدم ولحم الخنزير لا يحل إلا للمضطر» وفي مسند الديلمي والفردوس عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: الحرائر صلاح البيت والإماء هلاك البيت» وقال الشاعر: ومن لم تكن في بيته قهرمانة ... فذلك بيت لا أبا لك ضائع وقال الآخر: إذا لم يكن في منزل المرء حرة ... تدبره ضاعت مصالح داره وَاللَّهُ غَفُورٌ أي مبالغ في المغفرة فيغفر لمن لم يصبر عن نكاحهن، وإنما عبر بذلك تنفيرا عنه حتى كأنه ذنب رَحِيمٌ أي مبالغ في الرحمة فلذلك رخص لكم ما رخص. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 هذا ومن باب الإشارة الإجمالية في بعض الآيات السابقة أنه سبحانه أشار بقوله عز من قائل: ووَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ إلى النهي عن التصرف في السفليات التي هي الأمهات التي قد تصرف فيها الآباء العلوية إلا ما قد سلف من التدبير الإلهي في ازدواج الأرواح لضرورة الكمالات، فإن الركون إلى العالم السفلي يوجب مقت الحق سبحانه، وأشار سبحانه بتحريم المحصنات من النساء أي الأمور التي تميل إليها النفوس إلى تحريم سلب السالك مقاما ناله غيره، وليس له قابلية لنيله، ومن هنا قوبل الكليم بالصعق لما سأل الرؤية، وقال شاعر الحقيقة المحمدية: ولست مريدا أرجعن بلن ترى ... ولست بطور كي يحركني الصدع وقال سيدي ابن الفارض على لسانها: وإذا سألتك أن أراك حقيقة ... فاسمح ولا تجعل جوابي لن ترى ولقد أحسن بعض المحجوبين حيث يقول: إذا لم تستطع شيئا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع وقال النيسابوري: المحصنات من النساء الدنيا حرمها الله تعالى على خلّص عباده وأباح لهم بقوله: إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ تناول الأمور الضرورية من المأكل والمشرب مُحْصِنِينَ أي حرائر من الدنيا وما فيها غَيْرَ مُسافِحِينَ في الطلب مياه الوجوه، ثم أمرهم إذا استمتعوا بشيء من ذلك بأن يؤدوا حقوقه من الشكر والطاعة والذكر مثلا، وعلى هذا النمط ما في سائر الآيات. ولم يظهر لي في البنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت والمرضعات والأخوات من الرضاع والربائب والجمع بين الأختين ما ينشرح له الخاطر وتبتهج به الضمائر ولا شبهة لي في أن لله تعالى عبادا يعرفونه على التحقيق ولكنهم في الزوايا، وكم في الزوايا من خبايا، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ استئناف مقرر لما سبق من الأحكام، ومثل هذا التركيب وقع في كلام العرب قديما وخرجه النحاة- كما قال الشهاب على مذاهب فقيل: مفعول يريد محذوف أي تحليل ما أحل وتحريم ما حرم ونحوه، واللام للتعليل أو العاقبة أي ذلك لأجل التبيين، ونسب هذا إلى سيبويه وجمهور البصريين، فتعلق الإرادة غير التبيين وإنما فعلوه لئلا يتعدى الفعل إلى مفعوله المتأخر عنه باللام وهو ممتنع أو ضعيف. وقيل: إنه إذا قصد التأكيد جاز من غير ضعف، وقد قصد هنا تأكيد الاستقبال اللازم للإرادة ولكن باعتبار التعلق وإلا فإرادة الله تعالى قديمة، وسمى صاحب اللباب هذه اللام لام التكملة وجعلها مقابلة للام التعدية. وذهب بعض البصريين إلى أن الفعل مؤول بالمصدر من غير سابك كما قيل به في- تسمع بالمعيدي خير من أن تراه- على أنه مبتدأ والجار والمجرور خبره أي إرادتي كائنة للتبيين وفيه تكلف، وذهب الكوفيون إلى أن اللام هي الناصبة للفعل من غير إضمار إن وهي وما بعدها مفعول للفعل المقدم لأن اللام قد تقام مقام إن في فعل الإرادة والأمر، والبصريون يمنعون ذلك ويقولون: إن وظيفة اللام الجر والنصب بأن مضمرة بعدها، ومفعول- يبين- على بعض الأوجه محذوف أي لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ما هو خفي عنكم من مصالحكم وأفاضل أعمالكم، أو ما تعبدكم به أو نحو ذلك، وجوز أن يكون قوله تعالى: لِيُبَيِّنَ وقوله تعالى: وَيَهْدِيَكُمْ تنازعا في قوله سبحانه: سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي مناهج من تقدمكم من الأنبياء والصالحين لتقتفوا أثرهم وتتبعوا سيرهم، وليس المراد أن الحكم كان كذلك في الأمم السالفة كما قيل به، بل المراد كون ما ذكر من نوع طرائق المتقدمين الراشدين وجنسها في بيان المصالح وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ عطف على ما قبله وحيث كانت التوبة ترك الذنب مع الندم والعزم على عدم العود وهو مما يستحيل إسناده إلى الله تعالى ارتكبوا تأويل ذلك في هذا المقام بأحد أمور: فقيل إن التوبة هنا بمعنى المغفرة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 مجازا لتسببها عنها، أو بمعنى الإرشاد إلى ما يمنع عن المعاصي على سبيل الاستعارة التبعية لأن التوبة تمنع عنها كما أن إرشاده تعالى كذلك، أو مجاز عن حثه تعالى عليها لأنه سبب لها عكس الأول، أو بمعنى الإرشاد إلى ما يكفرها على التشبيه أيضا، وإلى جميع ذلك أشار ناصر الدين البيضاوي. وقرر العلامة الطيبي أن هذا من وضع المسبب موضع السبب وذلك لعطف وَيَتُوبَ على وَيَهْدِيَكُمْ إلخ على سبيل البيان كأنه قيل: ليبين لكم ويهديكم ويرشدكم إلى الطاعات، فوضع موضعه وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وما يرد على بعض الوجوه من لزوم تخلف المراد عن الإرادة وهي علة تامة يدفعه كون الخطاب ليس عاما لجميع المكلفين بل لطائفة معينة حصلت لهم هذه التوبة وَاللَّهُ عَلِيمٌ مبالغ في العلم بالأشياء فيعلم ما شرع لكم من الأحكام وما سلكه المهتدون من الأمم قبلكم وما ينفع عباده المؤمنين وما يضرهم حَكِيمٌ مراع في جميع أفعاله الحكمة والمصلحة فيبين لمن يشاء ويهدي من يشاء ويتوب على من يشاء، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ جعله بعضهم تكرارا لما تقدم للتأكيد والمبالغة وهو ظاهر إذا كان المراد من التوبة هناك وهنا شيئا واحدا، وأما إذا فسر يَتُوبَ أولا بقبول التوبة والإرشاد مثلا، وثانيا بأن يفعلوا ما يستوجبون به القبول فلا يكون تكرارا، وأيضا إنما يتمشى ذلك على كون لِيُبَيِّنَ لَكُمْ مفعولا وإلا فلا تكرار أيضا لأن تعلق الإرادة بالتوبة في الأول على جهة العلية، وفي الثاني على جهة المفعولية وبذلك يحصل الاختلاف لا محالة وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ يعني الفسقة لأنهم يدورون مع شهوات أنفسهم من غير تحاش عنها فكأنهم بانهماكهم فيها أمرتهم الشهوات باتباعها فامتثلوا أمرها واتبعوها فهو استعارة تمثيلية، وأما المتعاطي لما سوغه الشرع منها دون غيره فهو متبع له لا لها. وروي هذا عن ابن زيد، وأخرج مجاهد عن ابن عباس أنهم الزناة، وأخرج ابن جرير عن السدي أنهم اليهود والنصارى، وقيل: إنهم اليهود خاصة حيث زعموا أن الأخت من الأب حلال في التوراة، وقيل: إنهم المجوس حيث كانوا يحلون الأخوات لأب لأنهم لم يجمعهم رحم، وبنات الأخ والأخت قياسا على بنات العمة والخالة بجامع أن أمهما لا تحل، فكانوا يريدون أن يضلوا المؤمنين بما ذكر، ويقولون: لم جوزتم تلك ولم تجوزوا هذه؟! فنزلت، وغوير بين الجملتين ليفرق بين إرادة الله تعالى وإرادة الزائغين أَنْ تَمِيلُوا عن الحق بموافقتهم فتكونوا مثلهم، وعن مجاهد أن تزنوا كما يزنون. وقرىء بالياء التحتانية فالضمير حينئذ- للذين يتبعون الشهوات مَيْلًا عَظِيماً بالنسبة إلى ميل من اقترف حطيئة على ندرة، واعترف بأنها خطيئة ولم يستحل يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ أي في التكليف في أمر النساء والنكاح بإباحة نكاح الإماء- قاله طاوس ومجاهد- وقيل: يخفف في التكليف على العموم فإنه تعالى خفف عن هذه الأمة ما لم يخفف عن غيرها من الأمم الماضية، وقيل: يخفف بقبول التوبة والتوفيق لها، والجملة مستأنفة، لا محل لها من الإعراب وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً أي في أمر النساء لا يصبر عنهن- قاله طاوس- وفي الخبر «لا خير في النساء ولا صبر عنهن يغلبن كريما ويغلبهن لئيم فأحب أن أكون كريما مغلوبا ولا أحب أن أكون لئيما غالبا» وقيل: يستميله هواه وشهوته ويستشيطه خوفه وحزنه، وقيل: عاجز عن مخالفة الهوى وتحمل مشاق الطاعة، وقيل: ضعيف الرأي لا يدرك الأسرار والحكم إلا بنور إلهي. وعن الحسن رضي الله تعالى عنه أن المراد ضعيف الخلقة يؤلمه أدنى حادث نزل به، ولا يخفى ضعف مساعدة المقام لهما فإن الجملة اعتراض تذييلي مسوق لتقرير ما قبله من التخفيف بالرخصة في نكاح الإماء، وليس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 لضعف الرأي ولا لضعف البنية مدخل في ذلك، وكونه إشارة إلى تجهيل المجوس في قياسهم على أول القولين ليس بشيء، ونصب ضعيفا على الحال. وقيل: على التمييز، وقيل: على نزع الخافض أي من ضعيف وأريد به الطين أو النطفة، وكلاهما (1) كما ترى، وقرأ ابن عباس «وخلق الإنسان» على البناء للفاعل والضمير لله عزّ وجلّ. وأخرج البيهقي في الشعب عنه أنه قال: ثماني آيات نزلت في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت، الأولى يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ والثانية وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ إلى آخرها، والثالثة يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ إلى آخرها، والرابعة إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً والخامسة إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ [النساء: 4] والسادسة وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً [النساء: 110] والسابعة إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ [النساء: 48، 116] إلى آخرها، والثامنة وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ [النساء: 152] . الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ بيان لبعض المحرمات المتعلقة بالأموال والأنفس إثر بيان تحريم النساء على غير الوجوه المشروعة، وفيه إشارة إلى كمال العناية بالحكم المذكور، والمراد من الأكل سائر التصرفات، وعبر به لأنه معظم المنافع، والمعنى لا يأكل بعضكم أموال بعض، والمراد بالباطل ما يخالف الشرع كالربا والقمار والبخس والظلم- قاله السدي- وهو المروي عن الباقر رضي الله تعالى عنه، وعن الحسن هو ما كان بغير استحقاق من طريق الأعواض وأخرج عنه وعن عكرمة بن جرير أنهما قالا: كان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس بهذه الآية فنسخ ذلك بالآية التي في سورة [النور: 61] وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ الآية، والقول الأول أقوى لأن ما أكل على وجه مكارم الأخلاق لا يكون أكلا بالباطل، وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني بسند صحيح عن ابن مسعود أنه قال في الآية: إنها محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة، وبَيْنَكُمْ نصب على الظرفية، أو الحالية من أموالكم إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ استثناء منقطع، ونقل أبو البقاء القول بالاتصال وضعفه، وعَنْ متعلقة بمحذوف وقع صفة لتجارة، ومِنْكُمْ صفة تَراضٍ أي إلا أن تكون التجارة تجارة صادرة عَنْ تَراضٍ كائن مِنْكُمْ أو إلا أن تكون الأموال أموال تجارة، والنصب قراءة أهل الكوفة، وقرأ الباقون بالرفع على أن- كان- تامة. وحاصل المعنى لا تقصدوا أكل الأموال بالباطل لكن اقصدوا كون أي وقوع تجارة عَنْ تَراضٍ أو لا تأكلوا ذلك كذلك فإنه منهي عنه لكن وجود تجارة عن تراض غير منهي عنه، وتخصيصها بالذكر من بين سائر أسباب الملك لكونها أغلب وقوعا وأوفق لذوي المروءات. وقد أخرج الأصبهاني عن معاذ بن جبل قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا وإذا وعدوا لم يخلفوا وإذا ائتمنوا لم يخونوا وإذا اشتروا لم يذموا وإذا باعوا لم يمدحوا وإذا كان عليهم لم يمطلوا وإذا كان لهم لم يعسروا» وأخرج سعيد بن منصور عن نعيم بن عبد الرحمن الأزدي قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: تسعة أعشار الرزق في التجارة والعشر في المواشي» . وجوز أن يراد بها انتقال المال من الغير بطريق شرعي سواء كان تجارة أو إرثا أو هبة أو غير ذلك من استعمال الخاص وإرادة العام، وقيل: المقصود بالنهي المنع عن صرف المال فيما لا يرضاه الله تعالى، وبالتجارة صرفه فيما   (1) أي القولين اهـ منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 يرضاه وهذا أبعد مما قبله، والمراد بالتراضي مراضاة المتبايعين بما تعاقدا عليه في حال المبايعة وقت الإيجاب والقبول عندنا وعند الإمام مالك، وعند الشافعي حالة الافتراق عن مجلس العقد، وقيل: التراضي التخيير بعد البيع، أخرج عبد ابن حميد عن أبي زرعة أنه باع فرسا له فقال لصاحبه: اختر فخيره ثلاثا، ثم قال له: خيرني فخيره ثلاثا، ثم قال: سمعت أبا هريرة رضي الله تعالى عنه يقول: هذا البيع عن تراض. وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أي لا يقتل بعضكم بعضا، وعبر عن البعض المنهي عن قتلهم بالأنفس للمبالغة في الزجر، وقد ورد في الحديث «المؤمنون كالنفس الواحدة» وإلى هذا ذهب الحسن وعطاء والسدي والجبائي وقيل: المعنى لا تهلكوا أنفسكم بارتكاب الآثام كأكل الأموال بالباطل وغيره من المعاصي التي تستحقون بها العقاب، وقيل: المراد به النهي عن قتل الإنسان نفسه في حال غضب أو ضجر، وحكي ذلك عن البلخي. وقيل: المعنى لا تخاطروا بنفوسكم في القتال فتقاتلوا من لا تطيقونه، وروي ذلك عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه، وقيل: المراد لا تتجروا في بلاد العدو فتفردوا بأنفسكم، وبه استدل مالك على كراهة التجارة إلى بلاد الحرب، وقيل: المعنى لا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة، وأيد بما أخرجه أحمد وأبو داود عن عمرو بن العاص قال: «لما بعثني النبي صلّى الله عليه وسلّم عام ذات السلاسل احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح فلما قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكر ذلك له فقال: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ قلت: نعم يا رسول الله إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك وذكرت قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ الآية فتيممت ثم صليت فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يقل شيئا» ، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه «ولا تقتلوا» بالتشديد للتكثير، ولا يخفى ما في الجمع بين التوصية بحفظ المال والوصية بحفظ النفس من الملاءمة لما أن المال شقيق النفس من حيث إنه سبب لقوامها وتحصيل كمالاتها واستيفاء فضائلها، والملاءمة بين النهيين على قول مالك أتم، وقدم النهي الأول لكثرة التعرض لما نهي عنه فيه. إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً تعليل للنهي، والمعنى أنه تعالى لم يزل مبالغا في الرحمة، ومن رحمته بكم نهيكم عن أكل الحرام وإهلاك الأنفس، وقيل: معناه أنه كان بكم يا أمة محمد رحيما إذ لم يكلفكم قتل الأنفس في التوبة كما كلف بني إسرائيل بذلك وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي قتل النفس فقط، أو هو وما قبله من أكل الأموال بالباطل، أو مجموع ما تقدم من المحرمات من قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً [النساء: 19] ، أو من أول السورة إلى هنا أقوال: روي الأول منها عن عطاء- ولعله الأظهر- وما في ذلك من البعد إيذان بفظاعة قتل النفس وبعد منزلته في الفساد، وإفراد اسم الإشارة على تقدير تعدد المشار إليه باعتبار تأويله بما سبق. عُدْواناً أي إفراطا في التجاوز عن الحد، وقرىء «عدوانا» بكسر العين وَظُلْماً أي إيتاء بما لا يستحقه، وقيل هما بمعنى فالعطف للتفسير، وقيل: أريد بالعدوان التعدي على الغير، وبالظلم الظلم على النفس بتعريضها للعقاب، وأيّا ما كان فهما منصوبان على الحالية، أو على العلية، وقيل: وخرج بهما السهو والغلط والخطأ وما كان طريقه الاجتهاد في الأحكام فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً أي ندخله إياها ونحرقه بها، والجملة جواب الشرط. وقرىء «نصليه» بالتشديد، و «نصليه» بفتح النون من صلاه لغة كأصلاه، ويصليه بالياء التحتانية والضمير لله عزّ وجلّ، أو لذلك، والإسناد مجازي من باب الإسناد إلى السبب. وَكانَ ذلِكَ أي إصلاؤه النار يوم القيامة عَلَى اللَّهِ يَسِيراً هينا لا يمنعه منه مانع ولا يدفعه عنه دافع ولا يشفع فيه إلا بإذنه شافع، وإظهار الاسم الجليل بطريق الالتفات لتربية المهابة وتأكيد استقلال الاعتراض التذييلي إِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 تَجْتَنِبُوا أي تتركوا جانبا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ أي ينهاكم الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم عَنْهُ أي عن ارتكابه مما ذكر ومما لم يذكر، وقرىء- كبير- على إرادة الجنس فيطابق القراءة المشهورة، وقيل: يحتمل أن يراد به الشرك نُكَفِّرْ أي نغفر ونمحو (1) واختيار ما يدل على العظمة بطريق الالتفات تفخيم لشأن ذلك الغفران، وقرىء (2) يغفر- بالياء التحتانية عَنْكُمْ أيها المجتنبون سَيِّئاتِكُمْ أي صغائركم كما قال السدي، واختلفوا في حد الكبيرة على أقوال: الأول أنها ما لحق صاحبها عليها بخصوصها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة، وإليه ذهب الشافعية، والثاني أنها كل معصية أوجبت الحد، وبه قال البغوي وغيره، والثالث أنها كل ما نص الكتاب على تحريمه أو وجب في جنسه حد، والرابع أنها كل جريرة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة، وبه قال الإمام، والخامس أنها ما أوجب الحد أو توجه إليه الوعيد، وبه قال الماوردي في فتاويه، والسادس أنها كل محرم لعينه منهي عنه لمعنى في نفسه، وحكي ذلك بتفصيل مذكور في محله عن الحليمي، والسابع أنها كل فعل نص الكتاب على تحريمه بلفظ التحريم، وقال الواحدي: الصحيح أن الكبيرة ليس لها حد يعرفها العباد به، وإلا لاقتحم الناس الصغائر واستباحوها، ولكن الله تعالى أخفى ذلك عن العباد ليجتهدوا فى اجتناب المنهي عنه رجاء أن تجتنب الكبائر، ونظير ذلك إخفاء الصلاة الوسطى وليلة القدر وساعة الإجابة انتهى. وقال شيخ الإسلام البارزي: التحقيق أن الكبيرة كل ذنب قرن به وعيد أو حد أو لعن بنص كتاب أو سنة، أو علم أن مفسدته كمفسدة ما قرن به وعيد أو حد أو لعن أو أكثر من مفسدته، أو أشعر بتهاون مرتكبه في دينه إشعار أصغر الكبائر المنصوص عليها بذلك كما لو قتل معصوما فظهر أنه مستحق لدمه، أو وطئ امرأة ظانا أنه زان بها فإذا هي زوجته أو أمته، وقال بعضهم: كل ما ذكر من الحدود إنما قصدوا به التقريب فقط وإلا فهي ليست بحدود جامعة، وكيف يمكن ضبط ما لا مطمع في ضبطه، وذهب جماعة إلى ضبطها بالعد من غير ضبطها بحد، فعن ابن عباس وغيره أنها ما ذكره الله تعالى من أول هذه السورة إلى هنا وقيل: هي سبع، ويستدل له بخبر الصحيحين «اجتنبوا السبع الموبقات الشرك بالله تعالى والسحر وقتل النفس التي حرم الله تعالى إلا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» ، وفي رواية لهما «الكبائر الإشراك بالله تعالى والسحر وعقوق الوالدين وقتل النفس» زاد البخاري «واليمين الغموس» ومسلم بدلها «وقول الزور» والجواب أن ذلك محمول على أنه صلّى الله عليه وسلّم ذكره قصدا لبيان المحتاج منها وقت الذكر لا لحصره الكبائر فيه- وممن صرح بأن الكبائر سبع- علي كرم الله تعالى وجهه وعطاء وعبيد بن عمير، وقيل: تسع لما أخرجه علي بن الجعد عن ابن عمر أنه قال حين سئل عن الكبائر: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: هن تسع الإشراك بالله تعالى وقذف المحصنة وقتل النفس المؤمنة والفرار من الزحف والسحر وأكل الربا وأكل مال اليتيم وعقوق الوالدين والإلحاد بالبيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا» ونقل عن ابن مسعود أنها ثلاث وعنه أيضا أنها عشرة، وقيل: أربع عشرة، وقيل: خمس عشرة، وقيل: أربع، وروى عبد الرزاق عن ابن عباس أنه قيل له: هل الكبائر سبع؟ فقال: هي إلى السبعين أقرب، وروى ابن جبير أنه قال له: هي إلى السبعمائة أقرب منها إلى السبع غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار، وأنكر جماعة من الأئمة أن في الذنوب صغيرة، وقالوا: بل سائر المعاصي كبائر منهم الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني والقاضي أبو بكر الباقلاني وإمام الحرمين   (1) قوله: «ونمحو» كذا بخطه بالواو مع أنه تفسير للمجزوم فكان حقه حذف الواو. (2) قوله: وقرىء «يغفر» كذا بخطه، ولفظ القرآن «يكفر» اهـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 في الإرشاد وابن القشيري في المرشد بل حكاه ابن فورك عن الأشاعرة، واختاره في تفسيره فقال: معاصي الله تعالى كلها عندنا كبائر، وإنما يقال لبعضها: صغيرة وكبيرة بالإضافة، وأول الآية بما ينبو عنه ظاهرها، وقالت المعتزلة: الذنوب على ضربين: صغائر وكبائر وهذا ليس بصحيح انتهى، وربما ادعي في بعض المواضع اتفاق الأصحاب على ما ذكره واعتمد ذلك التقي السبكي، وقال القاضي عبد الوهاب: لا يمكن أن يقال في معصية: إنها صغيرة إلا على معنى أنها تصغر عند اجتناب الكبائر، ويوافق هذا القول ما رواه الطبراني عن ابن عباس لكنه منقطع أنه ذكر عنده الكبائر فقال: كل ما نهى الله تعالى عنه فهو كبيرة، وفي رواية كل ما عصي الله تعالى فيه فهو كبيرة - قاله العلامة ابن حجر- وذكر أن جمهور العلماء على الانقسام، وأنه لا خلاف بين الفريقين في المعنى، وإنما الخلاف في التسمية، والإطلاق لإجماع الكل على أن من المعاصي ما يقدح في العدالة، ومنها ما لا يقدح فيها وإنما الأولون فروا من التسمية فكرهوا تسمية معصية الله تعالى صغيرة نظرا إلى عظمة الله تعالى وشدة عقابه وإجلالا له عزّ وجلّ عن تسمية معصيته صغيرة لأنها إلى باهر عظمته تعالى كبيرة وأيّ كبيرة، ولم ينظر الجمهور إلى ذلك لأنه معلوم بل قسموها إلى قسمين- كما يقتضيه صرائح الآيات والأخبار- لا سيما هذه الآية وكون المعنى- إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما نهيتم عنه في هذه السورة من المناكح الحرام وأكل الأموال وغير ذلك مما تقدم نُكَفِّرْ عَنْكُمْ ما كان من ارتكابها فيما سلف، ونظير ذلك من التنزيل قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ [الأنفال: 38] بعيد غاية البعد، ولذلك قال حجة الإسلام الغزالي: لا يليق إنكار الفرق بين الصغائر والكبائر وقد عرفتا من مدارك الشرع، نعم قد يقال لذنب واحد: كبير، وصغير باعتبارين لأن الذنوب تتفاوت في ذلك باعتبار الأشخاص والأحوال، ومن هنا قال الشاعر: لا يحقر الرجل الرفيع دقيقة ... في السهو فيها للوضيع معاذر فكبائر الرجل الصغير صغائر ... وصغائر الرجل الكبير كبائر قال سيدي ابن الفارض قدس سره: ولو خطرت لي في سواك إرادة ... على خاطري سهوا حكمت بردتي وأشار إلى التفاوت من قال: حسنات الأبرار سيئات المقربين، هذا وقد استشكلت هذه الآية مع ما في حديث مسلم من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الصلوات الخمس مكفرة لما بينها ما اجتنبت الكبائر» ووجهه أن الصلوات إذا كفرت لم يبق ما يكفره غيرها فلم يتحقق مضمون الآية، وأجيب عنه بأجوبة أصحها- على ما قاله الشهاب- إن الآية والحديث بمعنى واحد لأن قوله صلّى الله عليه وسلّم فيه: «ما اجتنبت» إلخ دال على بيان الآية لأنه إذا لم يصل ارتكب كبيرة وأي كبيرة فتدبر وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا الجمهور على ضم الميم، وقرأ أبو جعفر ونافع بفتحها، وهو على الضم إما مصدر ومفعول نُدْخِلْكُمْ محذوف أي ندخلكم الجنة إدخالا، أو مكان منصوب على الظرف عنه سيبويه، وعلى أنه مفعول به عند الأخفش، وهكذا كل مكان مختص بعد دخل فيه الخلاف، وعلى الفتح قيل: منصوب بمقدر أي ندخلكم فتدخلون مدخلا ونصبه كما مر، وجوز كونه كقوله تعالى: أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17] ورجح حمله على المكان لوصفه بقوله سبحانه: كَرِيماً [الشعراء: 58] أي حسنا، وقد جاء في القرآن العظيم وصف المكان به. فقد قال سبحانه، وَمَقامٍ كَرِيمٍ [الدخان: 26] . وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ قال القفال: لما نهى الله تعالى المؤمنين عن أكل أموال الناس بالباطل وقتل الأنفس عقبه بالنهي عما يؤدي إليه من الطمع في أموالهم، وقيل: نهاهم أولا عن التعرض لأموالهم بالجوارح، ثم عن التعرض لها بالقلب على سبيل الحسد لتطهر أعمالهم الظاهرة والباطنة، فالمعنى وَلا تَتَمَنَّوْا ما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 أعطاه الله تعالى بَعْضَكُمْ وميزه بِهِ عليكم من المال والجاه وكل ما يجري فيه التنافس، فإن ذلك قسمة صادرة من حكيم خبير وعلى كل من المفضل عليهم أن يرضى بما قسم له ولا يتمنى حظ المفضل ولا يحسده لأن ذلك أشبه الأشياء بالاعتراض على من أتقن كل شيء وأحكمه ودبر العالم بحكمته البالغة ونظمه. وأظلم خلق الله من بات حاسدا ... لمن بات في نعمائه يتقلب وإلى هذا الوجه ذهب ابن عباس وأبو عبد الله رضي الله تعالى عنهم، فقد روي عنهما في الآية لا يقل أحدكم ليت ما أعطى فلان من المال والنعمة والمرأة الحسناء كان عندي فإن ذلك يكون حسدا ولكن ليقل: اللهم أعطني مثله، ويفهم من هذا أن التمني المذكور كناية عن الحسد، وجعل بعضهم المقتضي للمنع عنه كونه ذريعة للحسد ولكل وجهة، وزعم البلخي أن المعنى لا يجوز للرجل أن يتمنى أن لو كان امرأة ولا للمرأة أن لو كانت رجلا لأن الله تعالى لا يفعل إلا ما هو الأصلح فيكون قد تمنى ما ليس بأصلح، ونقل شيخ الإسلام أنه لما جعل الله تعالى للذكر مثل حظ الأنثيين قالت النساء: نحن أحوج لأن يكون لنا سهمان وللرجال سهم واحد لأنا ضعفاء وهم أقوياء وأقدر على طلب المعاش منا فنزلت، ثم قال: وهذا هو الأنسب بتعليل النهي بقوله. لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ فإنه صريح في جريان التمني بين فريقي الرجال والنساء، ولعل صيغة المذكر في النهي لما عبر عنهن بالبعض، والمعنى لكل من الفريقين (1) في الميراث نصيب معين المقدار مما أصابه بحسب استعداده، وقد عبر عنه بالاكتساب على طريقة الاستعارة التبعية المبنية على تشبيه اقتضاه حاله لنصيبه باكتسابه إياه تأكيدا لاستحقاق كل منهما لنصيبه وتقوية لاختصاصه بحيث لا يتخطاه إلى غيره فإن ذلك مما يوجب الانتهاء عن التمني المذكور انتهى، وهذا المعنى الذي ذكره للآية مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لكن القيل الذي نقله تبعا للزمخشري في سبب النزول لم نقف له على سند، والذي ذكره الواحدي في ذلك ثلاثة أخبار: الأول ما أخرجه عن مجاهد قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله تغزو الرجال ولا نغزو وإنما لنا نصف الميراث فأنزل الله تعالى الآية، والثاني ما أخرجه عن عكرمة أن النساء سألن الجهاد فقلن: وددنا أن الله جعل لنا الغزو فنصيب من الأجر ما يصيب الرجال فنزلت. والثالث ما أخرجه عن قتادة والسدي قالا: لما نزل قوله تعالى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء: 11] قال الرجال: إنا لنرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا كما فضلنا عليهن في الميراث فيكون أجرنا على الضعف من أجر النساء، وقالت النساء: إنا لنرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال في الآخرة كما لنا الميراث على النصف من نصيبهم في الدنيا فأنزل الله تعالى وَلا تَتَمَنَّوْا إلى آخرها، وذكر الجلال السيوطي في الدر المنثور نحو ذلك، ولا يخفى أن القيل الذي نقله ظاهر في حمل التمني المنهي عنه على الحسد، والخبر الأول والثاني مما أخرجه الواحدي ليسا كذلك إذ عليهما يجوز حمله على الحسد أو على ما هو ذريعة له. وربما يتراءى أن حمله على الثاني نظرا إليهما أظهر، وأما الخبر الثالث فيأباه معنى الآية سواء كان التمني كناية عن الحسد أو ذريعة إلا بتكلف بعيد جدا، ومعنى الآية على الأولين أن لكل من الرجال والنساء حظا من الثواب على حسب ما كلفه الله تعالى من الطاعات بحسن تدبيره فلا تتمنوا خلاف هذا التدبير، وروي ذلك عن قتادة، وفيه استعمال الاكتساب في الخير. وقد استعمل في الشر، واستعمل الكسب في الخير في قوله تعالى: لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة: 286] وعن مقاتل وأبي جرير أنهما قالا المراد مما اكتسبوا من الإثم، وفيه استعمال   (1) و «من» . كما قال غير واحد على هذا. بيانية لا تبعيضية فتدبر اهـ منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 اللام مع الشر دون على، وهو خلاف ما في الآية، وقيل: المراد لكل، وعلى كل من الفريقين مقدار من الثواب والعقاب حسبما رتبه الحكيم على أفعاله إلا أنه استغني باللام عن على وبالاكتساب عن الكسب- وهو كما ترى- ويرد على هذه المعاني أنه لا يساعدها النظم الكريم المتعلق بالمواريث وفضائل الرجال. ولعل من يذهب إليها يجعل الآية معترضة في البين. وذكر بعضهم أن معنى الآية على الوجه الأول المروي عن أبي عبد الله وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أن لكل فريق من الرجال والنساء نصيبا مقدرا في أزل الآزال من نعيم الدنيا بالتجارات والزراعات وغير ذلك من المكاسب فلا يتمنّ خلاف ما قسم له وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ عطف على النهي بعد تقرير الانتهاء بالتعليل كأنه قيل: لا تتمنوا نصيب غيركم ولا تحسدوا من فضل عليكم واسألوا الله تعالى من إحسانه الزائد وإنعامه المتكاثر فإن خزائنه مملوءة لا تنفد أبدا، والمفعول محذوف إفادة للعموم أي واسألوا ما شئتم فطنه سبحانه يعطيكموه إن شاء، أو لكونه معلوما من السياق، أي واسألوا مثله، ويقال لذلك: غبطة. وقيل: مِنْ زائدة أي واسألوا الله تعالى فضله، وقد ورد في الخبر «لا يتمنين أحدكم مال أخيه ولكن ليقل اللهم ارزقني اللهم أعطني مثله» وذهب بعض العلماء- كما في البحر- إلى المنع عن تمني مثل نعمة الغير ولو بدون تمني زوالها لأن تلك النعمة ربما كانت مفسدة له في دينه ومضرة عليه في دنياه، فلا يجوز عنده أن يقول: اللهم أعطني دارا مثل دار فلان ولا زوجا مثل زوجه بل ينبغي أن يقول: اللهم أعطني ما يكون صلاحا لي في ديني ودنياي ومعادي ومعاشي، ولا يتعرض لمن فضل عليه، ونسب ذلك للمحققين وهم محجوجون بالخبر اللهم إلا إذا لم يسلموا صحته، وقيل: المعنى لا تتمنوا الدنيا بل اسألوا الله تعالى العبادة التي تقربكم إليه، وإلى هذا ذهب ابن جبير وابن سيرين، وأخرج ابن المنذر عن الثاني أنه إذا سمع الرجل يتمنى الدنيا يقول: قد نهاكم الله تعالى عن هذا ويتلو الآية، والظاهر العموم، وعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «سلوا الله تعالى من فضله فإن الله تعالى يحب أن يسأل وإن من أفضل العبادة انتظار الفرج» وقال ابن عيينة: لم يأمر سبحانه بالمسألة إلا ليعطي إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ولذلك فضل بعض الناس على بعض حسب مراتب استعداداتهم وتفاوت قابلياتهم. ويحتمل أن يكون المعنى أنه تعالى لم يزل ولا يزال عليما بكل شيء فيعلم ما تضمرونه من الحسد ويجازيكم عليه وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ لا بد فيه من تقدير مضاف إليه أي لكل إنسان، أو لكل قوم، أو لكل مال أو تركة وفيه على هذا وجوه ذكرها الشهاب نور الله تعالى مرقده: الأول أنه على التقدير الأول معناه لكل إنسان موروث جعلنا موالي أي وراثا مما ترك وهنا تم الكلام، فيكون مِمَّا تَرَكَ متعلقا بموالي أو بفعل مقدر، ومَوالِيَ مفعولا أولا- لجعل- بمعنى صير، ولِكُلٍّ هو المفعول الثاني له قدم عليه لتأكيد الشمول ودفع توهم تعلق الجعل ببعض دون بعض، وفاعل تَرَكَ ضمير كل، ويكون الْوالِدانِ مرفوعا على أنه خبر مبتدأ محذوف كأنه قيل: ومن الوارث؟ فقيل: هم الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ، والثاني أن التقدير لكل إنسان موروث جعلنا وراثا مما تركه ذلك الإنسان، ثم بين ذلك الإنسان بقوله سبحانه: الْوالِدانِ كأنه قيل: ومن هذا الإنسان الموروث؟ فقيل: الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وإعرابه كما قبله غير أن الفرق بينهما أن الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ في الأول وارثون، وفي الثاني موروثون، وعليهما فالكلام جملتان، والثالث أن التقدير ولكل إنسان وارث- مما تركه الوالدان والأقربون جعلنا موالي- أي موروثين،- فالمولى- الموروث والْوالِدانِ مرفوع ب تَرَكَ وما بمعنى من، والجار والمجرور صفة ما أضيفت إليه كل، والكلام جملة واحدة، والرابع أنه على التقدير الثاني معناه، ولكل قوم جعلناهم مَوالِيَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 نصيب- مما تركه والداهم وأقربوهم، فلكل خبر نصيب المقدر مؤخرا وجعلناهم صفة قوم والعائد الضمير المحذوف الذي هو مفعول جعل، وموالي: إما مفعول ثان، أو حال ومِمَّا تَرَكَ صفة المبتدأ المحذوف الباقي صفته كصفة المضاف إليه وحذف العائد منها. ونظيره قولك: لكل من خلقه الله تعالى إنسانا من رزق الله تعالى، أي لكل واحد خلقه الله تعالى إنسانا نصيب من رزق الله تعالى، والخامس أنه على التقدير الثالث معناه لكل مال أو تركة مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ جعلنا موالي أي وراثا يلونه ويحوزونه، ويكون لِكُلٍّ متعلقا- بجعل- ومِمَّا تَرَكَ صفة كل، واعترض على الأول والثاني بأن فيهما تفكيك النظم الكريم مع أن المولى يشبه أن يكون في الأصل اسم مكان لا صفة فكيف تكون من صلة له؟ وأجيب عن هذا بأن ذلك لتضمنه معنى الفعل كما أشير إليه على أن كون المولى ليس صفة مخالف لكلام الراغب فإنه قال: إنه بمعنى الفاعل والمفعول أي الموالي والموالي لكن وزن مفعل في الصفة أنكره قوم، وقال ابن الحاجب في شرح المفصل: إنه نادر، فإما أن يجعل من النادر أو مما عبر عن الصفة فيه باسم المكان مجازا لتمكنها وقرارها في موصوفها، ويمكن أن يجعل من باب المجلس السامي، واعترض على الثالث بالبعد وعلى الرابع بأن فيه حذف المبتدأ الموصوف بالجار والمجرور وإقامته مقامه وهو قليل، وبأن لكل قوم من الموالي جميع ما ترك الوالدان والأقربون لا نصيب وإنما النصيب لكل فرد، وأجيب عن الأول بأنه ثابت مع قلته كقوله تعالى: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات: 164] وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ [الجن: 11] وعن الثاني بأن ما يستحقه القوم بعض التركة لتقدم التجهيز والدين والوصية إن كانا، وأما حمل من على البيان للمحذوف فبعيد جدا، وتعقب الشهاب الجواب عن الأول بأن فيه خللا من وجهين: أما أولا فلأن ما ذكر لا شاهد له فيه لما قرره النحاة أن الصفة إذا كانت جملة أو ظرفا تقام مقام موصوفها بشرط كون المنعوت بعض ما قبله من مجرور بمن، أو في، وإلا لم تقم مقامه إلا في شعر، وما ذكر داخل فيه دون الآية، وأما ثانيا فلأنه ليس المراد بقيامها مقامه أن تكون مبتدأ حقيقة بل المبتدأ محذوف وهذا بيانه كما أشير إليه في التقرير فلا وجه لاستبعاده، نعم ما ذكروه وإن كان مشهورا غير مسلم، فإن ابن مالك صرح بخلافه في التوضيح، وجوز حذف الموصوف في السعة بدون ذلك الشرط. فالحق أنه أغلبي لا كلي، واعترض على الخامس بأن فيه الفصل بين الصفة والموصوف بجملة عاملة في الموصوف نحو- بكل رجل مررت تميمي- وفي جوازه نظر، ورد بأنه جائز كما في قوله تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأنعام: 14] ففاطر صفة الاسم الجليل وقد فصل بينهما- بأتخذ- العامل في غير، فهذا أولى، والجواب بأن العامل لم يتخلل بل المعمول تقدم فجاء التخلل من ذلك فلم يضعف إذ حق المعمول التأخر عن عامله وحينئذ يكون الموصوف مقرونا بصفته تكلف مستغنى عنه، واختار جمع من المحققين هذا الخامس والذي قبله، وجعلوا الجملة مبتدأة مقررة لمضمون ما قبلها، واعترضوا على الوجه الأول بأن فيه خروج الأولاد لأنهم لا يدخلون في الأقربين عرفا كما لا يدخل الوالدان فيهم، وإذا أريد المعنى اللغوي شمل الوالدين، ورد بأن هذا مشترك الورود على أنه قد أجيب عنه بأن ترك الأولاد لظهور حالهم من آية المواريث كما ترك ذكر الأزواج لذلك، أو بأن ذكر الوالدين لشرفهم والاهتمام بشأنهم فلا محذور من هذه الحيثية تدبر وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ هم موالي الموالاة. أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة قال: كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيقول دمي دمك وهدمي هدمك وترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك فجعل له السدس من جميع المال في الإسلام، ثم يقسم أهل الميراث ميراثهم، فنسخ ذلك بعد في سورة الأنفال بقوله سبحانه: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ [الأنفال: 75] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 وروي ذلك من غير ما طريق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وكذلك عن غيره، ومذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه إذا أسلم رجل على يد رجل وتعاقدا على أن يرثه ويعقل عنه صح وعليه عقله وله إرثه إن لم يكن له وراث أصلا، وخبر النسخ المذكور لا يقوم حجة عليه إذ لا دلالة فيما ادعى ناسخا على عدم إرث الحليف لا سيما وهو إنما يرثه عند عدم العصبات وأولي الأرحام، والأيمان هنا جمع يمين بمعنى اليد اليمنى، وإضافة العقد إليها لوضعهم الأيدي في العقود، أو بمعنى القسم وكون العقد هنا عقد النكاح خلاف الظاهر إذ لم يعهد فيه إضافته إلى اليمين وقرأ الكوفيون عَقَدَتْ بغير ألف، والباقون «عاقدت» بالألف، وقرىء بالتشديد أيضا. والمفعول في جميع القراءات محذوف أي عهودهم، والحذف تدريجي ليكون العائد المحذوف منصوبا كما هو الكثير المطرد، وفي الموصول أوجه من الإعراب: الأول أن يكون مبتدأ وجملة قوله تعالى: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ خبره وزيدت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، والثاني أنه منصوب على الاشتغال قيل: وينبغي أن يكون مختارا لئلا يقع الطلب خبرا لكنهم لم يختاروه لأن مثله قلما يقع في غير الاختصاص وهو غير مناسب هنا. ورد بأن زيدا ضربته إن قدر العامل فيه مؤخرا أفاد الاختصاص، وإن قدر مقدما فلا يفيده، ولا خفاء أن الظاهر تقديره مقدما فلا يلزم الاختصاص، والثالث أنه معطوف على الْوالِدانِ فإن أريد أنهم موروثون عاد الضمير من- فآتوهم- على- موالي- وإن أريد أنهم وارثون جاز عوده على مَوالِيَ وعلى الوالدين وما عطف عليهم، قيل: ويضعفه شهرة الوقف على الْأَقْرَبُونَ دون أَيْمانُكُمْ، والرابع أنه منصوب بالعطف على موالي وهو تكلف. وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أخرجها البخاري وأبو داود والنسائي وجماعة أنه قال في الآية: كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجر الأنصاري دون ذوي رحمة للأخوة التي آخى النبي صلّى الله عليه وسلّم بينهم فلما نزلت وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ نسخت، ثم قال: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ من النصر والرفادة والنصيحة- وقد ذهب الميراث ويوصى له- وروي عن مجاهد مثله، وظاهر ذلك عدم جواز العطف إذ من عطف أراد فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ من الإرث إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً أي لم يزل سبحانه عالما بجميع الأشياء مطلعا عليها جليها وخفيها فيطلع «على الإيتاء والمنع، ويجازي كلّا من المانع والمؤتى حسب فعله، ففي الجلة وعد ووعيد الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ أي شأنهم القيام عليهن قيام الولاة على الرعية بالأمر والنهي ونحو ذلك، واختيار الجملة الاسمية مع صيغة المبالغة للإيذان بعراقتهم ورسوخهم في الاتصاف بما أسند إليهم، وفي الكلام إشارة إلى سبب استحقاق الرجال الزيادة في الميراث كما أن فيما تقدم رمزا إلى تفاوت مراتب الاستحقاق، وعلل سبحانه الحكم بأمرين: وهبي وكسبي فقال عز شأنه: بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ فالباء للسببية وهي متعلقة ب قَوَّامُونَ كعلى ولا محذور أصلا، وجوز أن تتعلق بمحذوف وقع حالا من ضميره والباء للسببية أو للملابسة، وما مصدرية وضمير الجمع لكلا الفريقين تغليبا أي قوّامون عليهن بسبب تفضيل الله تعالى إياهم عليهن، أو مستحقين ذلك بسبب التفضيل، أو متلبسين بالتفضيل، وعدل عن الضمير فلم يقل سبحانه بما فضلهم الله عليهن للإشعار بغاية ظهور الأمر وعدم الحاجة إلى التصريح بالمفضل والمفضل عليه بالكلية، وقيل: للإبهام للإشارة إلى أن بعض النساء أفضل من كثير من الرجال وليس بشيء، وكذا لم يصرح سبحانه بما به التفضيل رمزا إلى أنه غني عن التفصيل، وقد ورد أنهن ناقصات عقل ودين، والرجال بعكسهن كما لا يخفى، ولذا خصوا بالرسالة والنبوة على الأشهر، وبالإمامة الكبرى والصغرى، وإقامة الشعائر كالأذان والإقامة والخطبة والجمعة وتكبيرات التشريق عند إمامنا الأعظم- والاستبداد بالفراق وبالنكاح عند الشافعية- وبالشهادة في أمهات القضايا وزيادة السهم في الميراث والتعصيب إلى غير ذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ عطف على ما قبله فالباء متعلقة بما تعلقت به الباء الأولى، وما مصدرية أو موصولة وعائدها محذوف، ومِنْ تبعيضية أو ابتدائية متعلقة- بأنفقوا- أو بمحذوف وقع حالا من العائد المحذوف وأريد بالمنفق- كما قال مجاهد- المهر، ويجوز أن يراد بما أنفقوه ما يعمه، والنفقة عليهن، والآية- كما روي عن مقاتل- نزلت في سعد بن الربيع بن عمرو وكان من النقباء، وفي امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير وذلك أنها نشزت عليه فلطمها فانطلق أبوها معها إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: أفرشته كريمتي فلطمها فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لتقتص من زوجها، فانصرفت مع أبيها لتقتص منه فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ارجعوا هذا جبرائيل عليه السلام أتاني وأنزل الله هذه الآية فتلاها صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: أردنا أمرا وأراد الله تعالى أمرا والذي أراده الله تعالى خير» . وقال الكلبي: نزلت في سعد بن الربيع وامرأته خولة بنت محمد بن سلمة وذكر القصة، وقال بعضهم: نزلت في جميلة بنت عبد الله بن أبيّ وزوجها ثابت بن قيس بن شماس، وذكر قريبا منه، واستدل بالآية على أن للزوج تأديب زوجته ومنعها من الخروج وأن عليها طاعته إلا في معصية الله تعالى، وفي الخبر «لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لبعلها» واستدل بها أيضا من أجاز فسخ النكاح عند الإعسار عن النفقة والكسوة، وهو مذهب مالك والشافعي لأنه إذا خرج عن كونه قواما عليها، فقد خرج عن الغرض المقصود بالنكاح، وعندنا لا فسخ لقوله تعالى: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ [البقرة: 28] واستدل بها أيضا من جعل للزوج الحجر على زوجته في نفسها ومالها فلا تتصرف فيه إلا بإذنه لأنه سبحانه جعل الرجل قواما بصيغة المبالغة وهو الناظر على الشيء الحافظ له فَالصَّالِحاتُ أي منهن قانِتاتٌ شروع في تفصيل أحوالهن وكيفية القيام عليهن بحسب اختلاف أحوالهن، والمراد فَالصَّالِحاتُ منهن مطيعات لله تعالى ولأزواجهن حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ أي يحفظن أنفسهن وفروجهن في حال غيبة أزواجهن، قال الثوري، وقتادة: أو يحفظن في غيبة الأزواج ما يجب حفظه في النفس والمال، فاللام بمعنى في، والغيب بمعنى الغيبة، وأل عوض عن المضاف إليه على رأي، ويجوز أن يكون المراد حافظات لواجب الغيب أي لما يجب عليهن حفظه حال الغيبة، فاللام على ظاهرها، وقيل: المراد حافظات لأسرار أزواجهن أي ما يقع بينهم وبينهن في الخلوة، ومنه المنافسة والمنافرة واللطمة المذكورة في الخبر، وحينئذ لا حاجة إلى ما قيل في اللام، ولا إلى تفسير الغيب بالغيبة إلا أن ما أخرجه ابن جرير والبيهقي وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: خير النساء التي إذا نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها، ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الرِّجالُ قَوَّامُونَ إلى الغيب» يبعد هذا القول ومن الناس من زعم أنه أنسب بسبب النزول بِما حَفِظَ اللَّهُ أي بما حفظهن الله تعالى في مهورهن، وإلزام أزواجهن النفقة عليهن قاله الزجاج، وقيل: بحفظ الله تعالى لهن وعصمته إياهن ولولا أن الله تعالى حفظهن وعصمهن لما حفظن- فما- إما موصولة أو مصدرية وقرأ أبو جعفر بِما حَفِظَ اللَّهُ بالنصب، ولا بد من تقدير مضاف على هذه القراءة- كدين الله، وحقه- لأن ذاته تعالى لا يحفظها أحد، وما موصولة أو موصوفة، ومنع غير واحد المصدرية لخلو حفظ حينئذ عن الفاعل لأنه كان يجب أن يقال بما حفظن الله، وأجيب عنه بأنه يجوز أن يكون فاعله ضميرا مفردا عائدا على جمع الإناث لأنه في معنى الجنس كأنه قيل: فمن (1) حفظ الله، وجعله ابن جني كقوله: فإن الحوادث أودى بها   (1) قوله: «فمن» إلخ كذا بخطه ولعله سبق قلم، والأصل «بمن» تأمل. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 ولا يخفى ما فيه من التكلف، وشذوذ ترك التأنيث ومثله لا يليق بالنظم الكريم كما لا يخفى، ثم إن صيغة جمع السلامة هنا للكثرة أما المعرف فظاهر، وأما المنكر فلأنه حمل عليه فلا بد من مطابقته له في الكثرة وإلا لم يصدق على جميع أفراده، وقد نص على ذلك في الدر المصون. وقرأ ابن مسعود- فالصوالح قوانت حوافظ للغيب بما حفظ الله فأصلحوا إليهن، وأخرج ابن جرير عنه زيادة- فأصلحوا إليهن- فقط وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ أي ترفعهن عن مطاوعتكم وعصيانهن لكم، من النشز- بسكون الشين وفتحها- وهو المكان المرتفع ويكون بمعنى الارتفاع فَعِظُوهُنَّ أي فانصحوهن وقولوا لهن اتقين الله وارجعن عما أنتن عليه، وظاهر الآية ترتب هذا على خوف النشوز وإن لم يقع وإلا لقيل نشزن، ولعله غير مراد ولذا فسر في التيسير تَخافُونَ بتعلمون، وبه قال الفراء- كما نقله عنه الطبرسي- وجاء الخوف بهذا كما في القاموس، وقيل: المراد تَخافُونَ دوام نشوزهن أو أقصى مراتبه كالفرار منهم في المراقد. واختار في البحر أن في الكلام مقدرا وأصله واللاتي تخافون نشوزهن ونشزن فعظوهن، وهو خطاب للأزواج وإرشاد لهم إلى طريق القيام عليهن وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ أي مواضع الاضطجاع، والمراد اتركوهن منفردات في مضاجعهن فلا تدخلونهن تحت اللحف ولا تباشروهن فيكون الكلام كناية عن ترك جماعهن، وإلى ذلك ذهب ابن جبير، وقيل: المراد اهجروهن في الفراش بأن تولوهن ظهوركم فيه ولا تلتفوا إليهن، وروي ذلك عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه ولعله كناية أيضا عن ترك الجماع، وقيل: المضاجع المبايت أي اهجروا حجرهن ومحل مبيتهن، وقيل: فِي للسببية أي اهجروهن بسبب المضاجع أي بسبب تخلفهن عن المضاجعة، وإليه يشير كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيما أخرجه عنه ابن أبي شيبة من طريق أبي الضحى، فالهجران على هذا بالمنطق، قال عكرمة: بأن يغلظ لها القول، وزعم بعضهم أن المعنى أكرهوهن على الجماع واربطوهن من هجر البعير إذا شده بالهجار، وتعقبه الزمخشري بأنه من تفسير الثقلاء، وقال ابن المنير: لعل هذا المفسر يتأيد بقوله تعالى: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فإنه يدل على تقدم إكراه في أمر ما، وقرينة المضاجع ترشد إلى أنه الجماع، فإطلاق الزمخشري لها أطلقه في حق هذا المفسر من الإفراط انتهى، وأظن أن هذا لو عرض على الزمخشري لنظم قائله في سلك ذلك المفسر، ولعد تركه من التفريط وقرىء في المضطجع والمضجع وَاضْرِبُوهُنَّ يعني ضربا غير مبرح- كما أخرجه ابن جرير عن حجاج عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- وفسر غير المبرح بأن لا يقطع لحما ولا يكسر عظما. وعن ابن عباس أنه الضرب بالسواك ونحوه، والذي يدل عليه السياق والقرينة العقلية أن هذه الأمور الثلاثة مترتبة فإذا خيف نشوز المرأة تنصح، ثم تهجر، ثم تضرب إذ لو عكس استغني بالأشد عن الأضعف، وإلا فالواو لا تدل على الترتيب وكذا الفاء في فَعِظُوهُنَّ لا دلالة لها على أكثر من ترتيب المجموع، فالقول بأنها أظهر الأدلة على الترتيب ليس بظاهر، وفي الكشف الترتيب مستفاد من دخول الواو على أجزئة مختلفة في الشدة والضعف مترتبة على أمر مدرج، فإنما النص هو الدال على الترتيب. هذا وقد نص بعض أصحابنا أن للزوج أن يضرب المرأة على أربع خصال وما هو في معنى الأربع ترك الزينة، والزوج يريدها، وترك الإجابة إذا دعاها إلى فراشه، وترك الصلاة في رواية والغسل، والخروج من البيت إلا لعذر شرعي، وقيل: له أن يضربها متى أغضبته، فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنه كنت رابعة أربع نسوة عند الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه فإذا غضب على واحدة منا ضربها بعود المشجب حتى يكسره عليها، ولا يخفى أن تحمل أذى النساء والصبر عليهن أفضل من ضربهن إلا لداع قوي، فقد أخرج ابن سعد، والبيهقي عن أم كلثوم بنت الصديق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 رضي الله تعالى عنه قالت: «كان الرجال نهوا عن ضرب النساء ثم شكوهن إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخلى بينهم وبين ضربهن، ثم قال: ولن يضرب خياركم» وذكر الشعراني قدس سره «أن الرجل إذا ضرب زوجته ينبغي أن لا يسرع في جماعها بعد الضرب، وكأنه أخذ ذلك مما أخرجه الشيخان. وجماعة عن عبد الله بن زمعة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أيضرب أحدكم امرأته كما يضرب العبد ثم يجامعها في آخر اليوم، وأخرج عبد الرزاق عن عائشة رضي الله تعالى عنها بلفظ «أما يستحي أحدكم أن يضرب امرأته كما يضرب العبد يضربها أول النهار ثم يجامعها آخره» وللخبر محمل آخر لا يخفى فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ أي وافقنكم وانقدن لما أوجب الله تعالى عليهن من طاعتكم بذلك كما هو الظاهر فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا أي فلا تطلبوا سبيلا وطريقا إلى التعدي عليهن، أو لا تظلموهن بطريق من الطرق بالتوبيخ اللساني والأذى الفعلي وغيره واجعلوا ما كان منهن كأن لم يكن، فالبغي إما بمعنى الطلب، وسَبِيلًا مفعوله والجار متعلق به، أو صفة النكرة قدم عليها، وإما بمعنى الظلم، وسَبِيلًا منصوب بنزع الخافض، وعن سفيان بن عيينة أن المراد فلا تكلفوهن المحبة، وحاصل المعنى إذا استقام لكم ظاهرهن فلا تعتلوا عليهن بما في باطنهن إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً فاحذروه فإن قدرته سبحانه عليكم أعظم من قدرتكم على من تحت أيديكم منهن، أو أنه تعالى على علو شأنه وكمال ذاته يتجاوز عن سيئاتكم ويتوب عليكم إذا تبتم فتجاوزوا أنتم عن سيئات أزواجكم واعفوا عنهن إذا تبن، أو أنه تعالى قادر على الانتقام منكم غير راض بظلم أحد، أو أنه سبحانه مع علوه المطلق وكبريائه لم يكلفكم إلا ما تطيقون فكذلك لا تكلفوهن إلا ما يطقن وَإِنْ خِفْتُمْ الخطاب- كما قال ابن جبير والضحاك وغيرهما- للحكام، وهو وارد على بناء الأمر على التقدير المسكوت عنه للإيذان أن ذلك مما ليس ينبغي أن يفرض تحققه أعني عدم الإطاعة، وقيل: لأهل الزوجين أو للزوجين أنفسهما، وروي ذلك عن السدي، والمراد فإن علمتم- كما قال ابن عباس- أو فإن ظننتم- كما قيل- شِقاقَ بَيْنِهِما أي الزوجين، وهما وإن لم يجر ذكرهما صريحا فقد جرى ضمنا لدلالة النشوز الذي هو عصيان المرأة زوجها، والرجال والنساء عليهما، والشقاق الخلاف والعداوة واشتقاقه من الشق وهو الجانب لأن كلّا من المتخالفين في شق غير شق الآخر، وبين- من الظروف المكانية التي يقل تصرفها، وإضافة الشقاق إليها إما لإجراء الظرف مجرى المفعول كما في قوله: يا سارق الليلة أهل الدار. أو الفاعل كقولهم صام نهاره، والأصل- شقاقا بينهما- أي أن يخالف أحدهما الآخر، فللملابسة بين الظرف والمظروف نزل منزلة الفاعل أو المفعول وشبه بأحدهما ثم عومل معاملته في الإضافة إليه، وقيل: الإضافة بمعنى في وقيل: إن- بين- هنا بمعنى الوصل الكائن بين الزوجين أعني المعاشرة وهو ليس بظرف، وإلى ذلك يشير كلام أبي البقاء، ولم يرتض ذلك المحققون. فَابْعَثُوا أي وجهوا وأرسلوا إلى الزوجين لإصلاح ذات البين حَكَماً أي رجلا عدلا عارفا فأحسن السياسة والنظر في حصول المصلحة مِنْ أَهْلِهِ أي الزوج، و «من» إما متعلق- بابعثوا- فهو لابتداء الغاية، وإما بمحذوف وقع صفة للنكرة فهي للتبعيض وَحَكَماً آخر على صفة الأول مِنْ أَهْلِها أي الزوجة، وخص الأهل لأنهم أطلب للصلاح وأعرف بباطن الحال وتسكن إليهم النفس فيطلعون على ما في ضمير كل من حب وبغض، وإرادة صحبة، أو فرقة وهذا على وجه الاستحباب، وإن نصبا من الأجانب جاز، واختلف في أنهما هل يليان الجمع والتفريق إن رأيا ذلك؟ فقيل: لهما- وهو المروي عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما وإحدى الروايتين عن ابن جبير، وبه قال الشعبي- فقد أخرج الشافعي في الإمام والبيهقي في السنن وغيرهما عن عبيدة السلماني قال: «جاء رجل وامرأة إلى عليّ كرم الله تعالى وجهه مع كل واحد منهما فئام من الناس فأمرهم عليّ كرم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 الله تعالى وجهه أن يبعثوا رجلا وحكما من أهله ورجلا حكما من أهلها، ثم قال للحكمين: تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا، قالت المرأة: رضيت بكتاب الله تعالى بما عليّ فيه ولي، وقال الرجل: أما الفرقة فلا، فقال عليّ كرم الله تعالى وجهه: كذبت والله حتى تقر بمثل الذي أقرت به، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في هذه الآية: وَإِنْ خِفْتُمْ إلخ هذا في الرجل والمرأة إذا تفاسد الذي بينهما أمر الله تعالى أن يبعثوا رجلا صالحا من أهل الرجل ورجلا مثله من أهل المرأة فينظران أيهما المسيء فإن كان الرجل هو المسيء حجبوا عنه امرأته وقسروه على النفقة، وإن كانت المرأة هي المسيئة قسروها على زوجها ومنعوها النفقة فإن اجتمع أمرهما على أن يفرقا أو يجمعا فأمرهما جائز، فإن رأيا أن يجمعا فرضي أحد الزوجين وكره ذلك الآخر ثم مات أحدهما فإن الذي رضي يرث الذي كره ولا يرث الكاره الراضي، وقيل: ليس لهما ذلك، وروي ذلك عن الحسن. فقد أخرج عبد الرزاق وغيره عنه أنه قال: إنما يبعث الحكمان ليصلحا ويشهدا على الظالم بظلمه، وأما الفرقة فليست بأيديهما، وإلى ذلك ذهب الزجاج، ونسب إلى الإمام الأعظم، وأجيب عن فعل علي كرم الله تعالى وجهه بأنه إمام وللإمام أن يفعل ما رأى فيه المصلحة فلعله رأى المصلحة فيما ذكر فوكل الحكمين على ما رأى على أن في كلامه ما يدل على أن تنفيذ الأمر موقوف على الرضا حيث قال: للرجل كذبت حتى تقر بمثل الذي أقرت به. وأنت تعلم أن هذا على ما فيه لا يصلح جوابا عما روي عن ابن عباس، ولعل المسألة اجتهادية وكلام أحد المجتهدين لا يقوم حجة على الآخر وذهب الإمامية إلى ما ذهب إليه الحسن وكأن الخبر عن علي كرم الله تعالى وجهه لم يثبت عندهم، وعن الشافعي روايتان في المسألة، وعن مالك أن لهما أن يتخالعا إن وجدا الصلاح فيه، ونقل عن بعض علمائنا أن الإساءة إن كانت من الزوج فرقا بينهما وإن كانت منها فرقا على بعض ما أصدقها، والظاهر أن من ذهب إلى القول بنفاذ حكمهما جعلهما وكيلين حكما على ذلك. وقال ابن العربي في الأحكام: إنهما قاضيان لا وكيلان فإن الحكم اسم في الشرع له إِنْ يُرِيدا أي الحكمان إِصْلاحاً أي بين الزوجين وتأليفا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما فتتفق كلمتهما ويحصل مقصودهما فالضمير أيضا للحكمين، وإلى ذلك ذهب ابن عباس ومجاهد والضاحك وابن جبير والسدي. وجوز أن يكون الضميران للزوجين أي إن أرادا إصلاح ما بينهما من الشقاق أوقع الله تعالى بينهما الألفة والوفاق، وأن يكون الأول للحكمين، والثاني للزوجين أي إن قصدا إصلاح ذات البين وكانت نيتهما صحيحة وقلوبهما ناصحة لوجه الله تعالى أوقع الله سبحانه بين الزوجين الألفة والمحبة وألقى في نفوسهما الموافقة والصحبة، وأن يكون الأول للزوجين، والثاني للحكمين أي إن يرد الزوجان إصلاحا واتفاقا يوفق الله تعالى شأنه بين الحكمين حتى يعملا بالصلاح ويتحرياه إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً بالظواهر والبواطن فيعلم إرادة العباد ومصالحهم وسائر أحوالهم، وقد استدل الحبر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بهذه الآية على الخوارج في إنكارهم التحكيم في قصة علي كرم الله تعالى وجهه، وهو أحد أمور ثلاثة علقت في أذهانهم فأبطلها كلها رضي الله تعالى عنه فرجع إلى موالاة الأمير كرم الله تعالى وجهه منهم عشرون ألفا، وفيها- كما قال ابن الفرس- رد على من أنكر من المالكية بعث الحكمين في الزوجين، وقال: تخرج المرأة إلى دار أمين أو يسكن معها أمين وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً كلام مبتدأ مسوق للإرشاد إلى خلال مشتملة على معالي الأمور إثر إرشاد كل من الزوجين إلى المعاملة الحسنة، وإزالة الخصومة والخشونة إذا وقعت في البين وفيه تأكيد لرعاية حق الزوجية وتعليم المعاملة مع أصناف من الناس، وقدم الأمر بما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 يتعلق بحقوق الله تعالى لأنها المدار الأعظم، وفي ذلك إيماء أيضا إلى ارتفاع شأن ما نظم في ذلك السلك، والعبادة أقصى غاية الخضوع، وشَيْئاً إما مفعول به أي لا تشركوا به شيئا من الأشياء صنما كان أو غيره، فالتنوين للتعميم. واختار عصام الدين كونه للتحقير ليكون فيه توبيخ عظيم- أي لا تشركوا به شيئا حقيرا مع عدم تناهي كبريائه إذ كل شيء في جنب عظمته سبحانه أحقر حقير- ونسبة الممكن إلى الواجب أبعد من نسبة المعدوم إلى الموجود إذ المعدوم إمكان الموجود، وأين الإمكان من الوجوب؟ ضدان مفترقان أي تفرق، وإما مصدر أي لا تشركوا به عز شأنه شيئا من الإشراك جليا أو خفيا، وعطف النهي عن الإشراك على الأمر بالعبادة مع أن الكف عن الإشراك لازم للعبادة بذلك التفسير إذ لا يتصور غاية الخضوع لمن له شريك ضرورة أن الخضوع لمن لا شريك له فوق الخضوع لمن له شريك للنهي عن الإشراك فيما جعله الشرع علامة نهاية الخضوع، أو للتوبيخ بغاية الجهل حيث لا يدركون هذا اللزوم كذا قيل: ولعل الأوضح أن يقال: إن هذا النهي إشارة إلى الأمر بالإخلاص فكأنه قيل: «واعبدوا الله مخلصين له» . ويؤول ذلك كما أومأ إليه الإمام إلى أنه سبحانه أمر أولا بما يشمل التوحيد وغيره من أعمال القلب والجوارح ثم أردفه بما يفهم منه التوحيد الذي لا يقبل الله تعالى عملا بدونه فالعطف من قبيل عطف الخاص على العام وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي وأحسنوا بهما إحسانا فالجار متعلق بالفعل المقدر، وجوز تعلقه بالمصدر وقدم للاهتمام- وأحسن- يتعدى بالباء وإلى واللام، وقيل: إنما يتعدى بالباء إذا تضمن معنى العطف. والإحسان المأمور به أن يقوم بخدمتهما ولا يرفع صوته عليهما، ولا يخشن في الكلام معهما، ويسعى في تحصيل مطالبهما والإنفاق عليهما بقدر القدرة، وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام فيما يتعلق بهما. وَبِذِي الْقُرْبى أي بصاحب القرابة من أخ وعم وخال وأولاد كل ونحو ذلك، وأعيد الباء هنا ولم يعد في البقرة قال في البحر: لأن هذا توصية لهذه الأمة فاعتنى به وأكد، وذلك في بني إسرائيل. وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ من الأجانب وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى أي الذي قرب جواره وَالْجارِ الْجُنُبِ أي البعيد من الجنابة ضد القرابة، وهي على هذا مكانية، ويحتمل أن يراد- بالجار ذي القربى- من له مع الجوار قرب واتصال بنسب أو دين- وبالجار الجنب- الذي لا قرابة له ولو مشركا، أخرج أبو نعيم والبزار من حديث جابر بن عبد الله- وفيه ضعف- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الجيران ثلاثة: فجار له ثلاثة حقوق: حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام وجار له حقان: حق الجوار وحق الإسلام، وجار له حق واحد: حق الجوار، وهو المشرك من أهل الكتاب» ، وأخرج البخاري في الأدب عن عبد الله بن عمر أنه ذبحت له شاة فجعل يقول لغلامه: أهديت لجارنا اليهودي أهديت لجارنا اليهودي؟ سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» . والظاهر أن مبنى الجوار على العرف، وعن الحسن كما في الأدب أنه سئل عن الجار فقال: أربعين دارا أمامه وأربعين خلفه وأربعين عن يمينه وأربعين عن يساره، وروي مثله عن الزهري، وقيل: أربعين ذراعا، ويبدأ بالأقرب فالأقرب، فعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قلت: يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما منك بابا، وقرىء- والجار ذا القربى- بالنصب أي وأخص الجار، وفي ذلك تنبيه على عظم حق الجار. وقد أخرج الشيخان عن أبي شريح الخزاعي «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره» وفيما سمعه عبد الله كفاية، وأخرجه الشيخان وأحمد من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ هو الرفيق في السفر، أو المنقطع إليك يرجو نفعك ورفدك، وكلا القولين عن ابن عباس، وقيل: الرفيق في أمر حسن- كتعلم وتصرف وصناعة وسفر- وعدوا من ذلك من قعد بجنبك في مسجد أو مجلس وغير ذلك من أدنى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 صحبة التأمت بينك وبينه، واستحسن جماعة هذا القيل لما فيه من العموم. وأخرج عبد بن حميد عن علي كرم الله تعالى وجهه- الصاحب- بالجنب- المرأة، والجار متعلق بمحذوف وقع حالا من الصاحب، والعامل فيه الفعل المقدر وَابْنِ السَّبِيلِ وهو المسافر أو الضيف. وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ قال مقاتل: من عبيدكم وإمائكم، وكان كثيرا ما يوصي بهم صلّى الله عليه وسلّم فقد أخرج أحمد والبيهقي عن أنس قال: «كان عامة وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين حضره الموت الصلاة وما ملكت أيمانكم حتى جعل يغرغرها في صدره وما يفيض بها لسانه» ثم الإحسان إلى هؤلاء الأصناف متفاوت المراتب حسبما يليق بكل وينبغي إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا أي ذا خيلاء وكبر يأنف من أقاربه وجيرانه مثلا ولا يلتفت إليهم فَخُوراً يعد مناقبه عليهم تطاولا وتعاظما، والجملة تعليل للأمر السابق. أخرج الطبراني وابن مردويه عن ثابت بن قيس بن شماس قال: «كنت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقرأ هذه الآية إِنَّ اللَّهَ إلخ فذكر الكبر وعظمه فبكى ثابت فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما يبكيك؟ فقال: يا رسول الله إني لأحب الجمال حتى إنه ليعجبني أن يحسن شراك نعلي قال: فأنت من أهل الجنة إنه ليس بالكبر أن تحسن راحلتك ورحلك ولكن الكبر من سفه الحق وغمص الناس» والأخبار في هذا الباب كثيرة. الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ فيه أوجه من الإعراب: الأول أن يكون بدلا من من بدل كل من كل، الثاني أن يكون صفة لها بناء على رأي من يجوز وقوع الموصول موصوفا، والزجاج يقول به، الثالث أن يكون نصبا على الذم، الرابع أن يكون رفعا عليه، الخامس أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين، السادس أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي مبغوضون، أو أحقاء بكل ملامة ونحو ذلك- مما يؤخذ من السياق- وإنما حذف لتذهب نفس السامع كل مذهب، وتقديره بعد تمام الصلة أولى، السابع أن يكون كما قال أبو البقاء: مبتدأ وَالَّذِينَ الآتي معطوفا عليه، والخبر إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ على معنى لا يظلمهم، وهو بعيد جدا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 وفرق الطيبي بين كونه خبرا ومبتدأ بأنه على الأول متصل بما قبله لأن هذا من جنس أوصافهم التي عرفوا بها، وعلى الثاني منقطع جيء به لبيان أحوالهم، وذكر أن الوجه الاتصال وأطال الكلام عليه، وفي البخل أربع لغات: فتح الخاء والباء- وبها قرأ حمزة والكسائي- وضمهما- وبها قرأ الحسن وعيسى بن عمر وفتح الباء وسكون الخاء- وبها قرأ قتادة- وضم الباء وسكون الخاء- وبها قرأ الجمهور- وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أي من المال والغنى، أو من نعوته صلّى الله تعالى عليه وسلّم. وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً أي أعددنا لهم ذلك ووضع المظهر موضع المضمر إشعارا بأن من هذا شأنه فهو كافر لنعم الله تعالى، ومن كان كافرا لنعمه فله عذاب يهينه كما أهان النعم بالبخل والإخفاء، ويجوز حمل الكفر على ظاهره، وذكر ضمير التعظيم للتهويل لأن عذاب العظيم عظيم، وغضب الحليم وخيم، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبلها، وسبب نزول الآية ما أخرجه ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر بسند صحيح عن ابن عباس قال: كان كردم بن زيد حليف كعب بن الأشرف وأسامة بن حبيب ونافع بن أبي نافع وبحري بن عمرو وحيي بن أخطب ورفاعة بن زيد بن التابوت يأتون رجالا من الأنصار يتنصحون لهم فيقولون لهم: لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها ولا تسارعوا في النفقة فإنكم لا تدرون ما يكون فأنزل الله تعالى الَّذِينَ يَبْخَلُونَ إلى قوله سبحانه: وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً، وقيل: نزلت في الذين كتموا صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وروي ذلك عن سعيد بن جبير وغيره، أخرج عبد بن حميد وآخرون عن قتادة أنه قال في الآية: هم أعداء الله تعالى أهل الكتاب بخلوا بحق الله تعالى عليهم وكتموا الإسلام ومحمدا صلّى الله عليه وسلّم وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، والبخل على هذه الرواية ظاهر في البخل بالمال، وبه صرح ابن جبير في إحدى الروايتين عنه، وفي الرواية الأخرى أنه البخل بالعلم، وأمرهم الناس أي اتباعهم به يحتمل أن يكون حقيقة، ويحتمل أن يكون مجازا تنزيلا لهم منزلة الآمرين بذلك لعلمهم باتباعهم لهم وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ أي للفخار، ولما يقال لا لوجه الله العظيم المتعال، والموصول عطف على نظيره، أو على الكافرين، وإنما شاركوهم في الذم والوعيد لأن البخل والسرف الذي هو الإنفاق لا على ما ينبغي من حيث إنهما طرفا إفراط وتفريط سواء في الشناعة واستجلاب الذم، وجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي قرينهم الشيطان كما يدل عليه الكلام الآتي. ورِئاءَ مصدر منصوب على الحال من ضمير يُنْفِقُونَ وإضافته إلى النَّاسِ من إضافة المصدر لمفعوله أي مرائين الناس وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ القادر على الثواب والعقاب وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الذي يثاب فيه المطيع ويعاقب العاصي ليقصدوا بالإنفاق ما تورق به أغصانه ويجتنى منه ثمره وهم اليهود، وروي ذلك عن مجاهد، أو مشركو مكة، أو المنافقون- كما قيل- وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ والمراد به إبليس وأعوانه الداخلة والخارجة من قبيلته، والناس التابعين له أو من القوى النفسانية والهوى وصحبة الأشرار، أو من النفس والقوى الحيوانية وشياطين الإنس والجن لَهُ قَرِيناً أي صاحبا وخليلا في الدنيا فَساءَ فبئس الشيطان أو القرين. قَرِيناً لأنه يدعوه إلى المعصية المؤدية إلى النار- وساء- منقولة إلى باب- نعم، وبئس- فهي ملحقة بالجامدة فلذا قرنت بالفاء، ويحتمل أن تكون على بابها بتقدير «قد» كقوله سبحانه: وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ [النمل: 90] والغرض من هذه الجملة التنبيه على أن الشيطان قرينهم، فحملهم على ذلك وزينه لهم، وجوز أن يكون وعيدا لهم بأن يقرن بهم الشيطان يوم القيامة في النار فيتلاعنان ويتباغضان وتقوم لهم الحسرة على ساق وَماذا عَلَيْهِمْ أي ما الذي عليهم، أو أي وبال وضرر يحيق بهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا على من ذكر من الطوائف ابتغاء وجه الله تعالى- كما يشعر به السياق- ويفهمه الكلام مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ من الأموال، وليس المراد السؤال عن الضرر المترتب على الإيمان والإنفاق في سبيل الله تعالى كما هو الظاهر إذ لا ضرر في ذلك ليسأل عنه بل المراد توبيخهم على الجهل بمكان المنفعة والاعتقاد في الشيء على خلاف ما هو عليه، وتحريضهم على صرف الفكر لتحصيل الجواب لعله يؤدي بهم إلى العلم بما في ذلك مما هو أجدى من تفاريق العصا، وتنبيههم على أن المدعو إلى أمر لا ضرر فيه ينبغي أن يجيب احتياطا، فكيف إذا تدفقت منه المنافع؟! وهذا أسلوب بديع كثيرا ما استعملته العرب في كلامها، ومن ذلك قول من قال: ما كان ضرك لو مننت وربما ... منّ الفتى وهو المغيظ المحنق وفي الكلام رد على الجبرية إذ لا يقال مثل ذلك لمن لا اختيار له ولا تأثير أصلا في الفعل، ألا ترى أن من قال للأعمى: ماذا عليك لو كنت بصيرا، وللقصير ماذا عليك لو كنت طويلا؟ نسب إلى ما يكره. واستدل به القائلون بجواز إيمان المقلد أيضا لأنه مشعر بأن الإيمان في غاية السهولة. ولو كان الاستدلال واجبا لكان في غاية الصعوبة، وأجيب بعد تسليم الاشعار بأن الصعوبة في التفاصيل- وليست واجبة- وأما الدلائل على سبيل الإجمال فسهلة وهي الواجبة، و «لو» إما على بابها والكلام محمول على المعنى أي- لو آمنوا لم يضرهم- وإما بمعنى أن المصدرية- كما قال أبو البقاء- وعلى الوجهين لا استئناف. وجوز أن تكون الجملة مستأنفة وجوابها مقدر أي حصلت لهم السعادة ونحوه، وإنما قدم الإيمان هاهنا وأخر في الآية المتقدمة لأنه ثمة ذكر لتعليل ما قبله من وقوع مصارفهم في دنياهم في غير محلها، وهنا للتحريض فينبغي أن يبدأ فيه بالأهم فالأهم، ولو قيل: أخر الإيمان هناك وقدم الإنفاق لأن ذلك الإنفاق كان بمعنى الإسراف الذي هو عديل البخل فأخر الإيمان لئلا يكون فاصلا بين العديلين لكان له وجه لا سيما إذا قلنا بالعطف. وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً خبر يتضمن وعيدا وتنبيها على سوء بواطنهم، وأنه تعالى مطلع على ما أخفوه في أنفسهم فيجازيهم به، وقيل: فيه إشارة إلى إثابته تعالى إياهم لو كانوا آمنوا وأنفقوا، ولا بأس بأن يراد- كان عليما بهم- وبأحوالهم المحققة والمفروضة فيعاقب على الأولى ويثيب على الثانية- كما ينبىء عن ذلك قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ المثقال مفعال من الثقل، ويطلق على المقدار المعلوم الذي لم يختلف كما قيل: جاهلية وإسلاما وهو كما أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أربعة وعشرون قيراطا، وعلى مطلق المقدار- وهو المراد هنا- ولذا قال السدي: أي وزن ذرة- وهي النملة الحمراء الصغيرة التي لا تكاد ترى. وروي ذلك عن ابن عباس وابن زيد، وعن الأول أنها رأس النملة، وعنه أيضا أنه أدخل يده في التراب ثم نفخ فيه فقال: كل واحدة من هؤلاء ذرة، وقريب منه ما قيل: إنها جزء من أجزاء الهباء في الكوة، وقيل: هي الخردلة، ويؤيد الأول ما أخرجه ابن أبي داود في المصاحف من طريق عطاء عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قرأ- مثقال نملة- ولم يذكر سبحانه الذرة لقصر الحكم عليها بل لأنها أقل شيء مما يدخل في وهم البشر، أو أكثر ما يستعمل عند الوصف بالقلة، ولم يعبر سبحانه بالمقدار ونحوه بل عبر بالمثقال للإشارة بما يفهم منه من الثقل الذي يعبر به عن الكثرة، والعظم كقوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ [القارعة: 6] إلى أنه وإن كان حقيرا فهو باعتبار جزئه عظيم، وانتصابه على أنه صفة مصدر محذوف كالمفعول، أي ظلما قدر مثقال ذرة فحذف المصدر وصفته، وأقيم المضاف إليه مقامهما، أو مفعول ثان ليظلم أي لا يظلم أحدا أو لا يظلمهم مثقال ذرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 قال السمين: وكأنهم ضمنوا يظلم معنى يغصب، أو ينقص فعدوه لاثنين. وذكر الراغب أن الظلم عند أهل اللغة وضع الشيء في غير موضعه المختص به إما بنقصان أو بزيادة أو بعدول عن وقته أو مكانه، وعليه ففي الكلام إشارة إلى أن نقص الثواب وزيادة العقاب لا يقعان منه تعالى أصلا، وفي ذلك حث على الإيمان والإنفاق بل إرشاد إلى أن كل ما أمر به مما ينبغي أن يفعل وكل ما نهي عنه مما ينبغي أن يجتنب. واستدل المعتزلة بالآية على أن الظلم ممكن في حدّ ذاته إلا أنه تعالى لا يفعله لاستحالته في الحكمة لا لاستحالته في القدرة لأنه سبحانه مدح نفسه بتركه ولا مدح بترك القبيح ما لم يكن عن قدرة، ألا ترى أن العنين لا يمدح بترك الزنا، واعترض على ذلك بقوله تعالى: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة: 255] فإنه ذكر في معرض المدح مع أن النوم غير ممكن عليه سبحانه، قال في الكشف: وهو غير وارد لأنه مدح بانتفاء النقص عن ذاته المقدسة وهو كما تقول: الباري عز وعلا ليس بجسم ولا عرض، وأمّا ما نحن فيه فمدح بترك الفعل والترك الممدوح إنما يكون إذا كان بالاختيار، نعم للمانع أن لا يسلم أنه تعالى مدح بالترك بل من حيث الدلالة على النقص لأن وجوب الوجود ينافي جواز الاتصاف بالظلم، وتحقيقه على مذهبهم أن وضع الشيء في غير موضعه الحقيق به ممكن في نفسه وقدرة الحق جل شأنه تسع جميع الممكنات، لكن الحكمة- وهي الإتيان بالممكن على وجه الإحكام وعلى ما ينبغي- مانعة، وعن هذا قالوا: الحكيم لا يفعل إلا الحسن من بين الممكنات إلا إذا دعته حاجة والمنزه عن الحاجات جمع يتعالى عن فعل القبيح، ونحن نقول: إنه عز اسمه لا ينقص من الأجر ولا يزيد في العقاب أيضا بناء على وعده المحتوم، فإن الحلف فيه ممتنع لكونه نقصا منافيا للألوهية وكمال الغنى، وبهذا الاعتبار يصح أن يسمى ظلما، وإن كان لا يتصور حقيقة الظلم منه تعالى لكونه المالك على الإطلاق، فالزيادة والنقص ممكنان لذاتهما، والخلف ممتنع لذاته، ولا يلزم من كون الخلف ممتنعا لذاته بالنسبة إلى الواجب تعالى وتقدس أن يكون متعلقه كذلك، وهذا على نحو ما تقرر في مسألة التكليف بالممتنع أن أخبار الله تعالى عن عدم إيمان المصر ووجوب الصدق اللازم له لا يخرج الفعل عن كونه مقدور المكلف بل يحقق قدرته عليه فليحفظ فإنه مهم. وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً الضمير المستتر في الفعل الناقص عائد إلى المثقال، وإنما أنث حملا على المعنى لأنه بمعنى وإن تكن زنة ذرة حسنة، وقيل: لأن المضاف قد يكتسب التأنيث من المضاف إليه إذا كان جزأه نحو كما شرقت صدر القناة من الدم. أو صفة له نحو لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها [الأنعام: 158] في قراءة من قرأ بالتاء الفوقانية ومقدار الشيء صفة له كما أن الإيمان صفة للنفس، وقيل: أنث الضمير لتأنيث الخبر، واعترض بأن تأنيث الخبر إنما يكون لمطابقة تأنيث المبتدأ، فلو كان تأنيث المبتدأ له لزم الدور، وأجيب بأن ذلك إذا كان مقصودا وصفيته، والحسنة غلبت عليها الاسمية فألحقت بالجوامد التي لا تراعى فيها المطابقة نحو- الكلام هو الجملة- وقيل: الضمير عائد إلى المضاف إليه وهو مؤنث بلا خفاء، وحذفت النون من آخر الفعل من غير قياس تشبيها لها بحروف العلة من حيث الغنة والسكون وكونها من حروف الزوائد، وكان القياس عود الواو المحذوفة لالتقاء الساكنين بعد حذف النون إلا أنهم خالفوا القياس في ذلك أيضا حرصا على التخفيف فيما كثر دوره، وقد أجاز يونس حذف النون من هذا الفعل أيضا في مثل قوله. فإن لم تك المرآة أبدت وسامة ... فقد أبدت المرآة جبهة ضيغم وسيبويه يدعي أن ذلك ضرورة، وقرأ ابن كثير «حسنة» بالرفع على أن تَكُ تامة أي وإن توجد أو تقع حَسَنَةً يُضاعِفْها أضعافا كثيرة حتى يوصلها- كما مر عن أبي هريرة- إلى ألفي ألف حسنة، وعنى التكثير لا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 التحديد، والمراد يضاعف ثوابها لأن مضاعفة نفس الحسنة بأن تجعل الصلاة الواحدة صلاتين مثلا مما لا يعقل، وإن ذهب إليه بعض المحققين، وما في الحديث- من أن تمرة الصدقة يربيها الرحمن حتى تصير مثل الجبل- محمول على هذا للقطع بأنها أكلت، واحتمال إعادة المعدوم بعيد، وكذا كتابة ثوابها مضاعفا، وهذه المضاعفة ليست هي المضاعفة في المدة عند الإمام لأنها غير متناهية، وتضعيف غير المتناهي محال بل المراد أنه تعالى ضعفه بحسب المقدار، مثلا يستحق على طاعته عشرة أجزاء من الثواب فيجعله عشرين جزءا أو ثلاثين أو أزيد، وقيل: هي المضاعفة بحسب المدة على معنى أنه سبحانه لا يقطع ثواب الحسنة في المدد الغير المتناهية لا أنه يضاعف جل شأنه مدتها ليجيء حديث محالية تضعيف ما لا نهاية، وجعل قوله تعالى: وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً على هذا عطفا لبيان الأجر المتفضل به، وهو الزيادة في المقدار إثر بيان الأجر المستحق وهو إعطاء مثله واحدا بعد واحد إلى أبد الدهر، وتسمية ذلك أجرا من مجاز المجاورة لأنه تابع للأجر مزيد عليه، وعلى الأول جعله البعض واردا على طريقة عطف التفسير على معنى يضاعف ثواب تلك الحسنة بإعطاء الزائد عليه من فضله، وزعموا أن القول بالأجر المستحق مذهب المعتزلة ولا يتأتى على مذهب الجماعة- وليس بشيء- لأن الجماعة يقولون بالاستحقاق أيضا لكن بمقتضى الوعد الذي لا يخلف، وبه يكون الأجر الموعود به كأنه حق للعبد كما أنه يكون كذلك أيضا بمقتضى الكرم كما قيل: وعد الكريم دين، نعم حمل الأجر على ما ذكر لا يخلو عن بعد، والداعي إليه عدم التكرار، وقال الإمام أيضا: إن ذلك التضعيف يكون من جنس اللذات الموعود بها في الجنة، وأما هذا الأجر العظيم الذي يؤتيه من لدنه فهو اللذة الحاصلة عند الرؤية والاستغراق في المحبة والمعرفة. وبالجملة فذلك التضعيف إشارة إلى السعادات الجسمانية، وهذا الأجر إشارة إلى السعادات الروحانية، ولا يخلو عن حسن، ولدن- بمعنى عند، وفرق بينهما بعضهم بأن لدن أقوى في الدلالة على القرب ولذا لا يقال: لدي مال إلا وهو حاضر بخلاف عند، وتقول: هذا القول عندي صواب، ولا تقول: لدي. ولدني- كما قاله الزجاج- ونظر فيه بأنه شاع استعمال لدن في غير المكان كقوله تعالى: مِنْ لَدُنَّا عِلْماً [الكهف: 65] . اللهم إلا أن يخرج ما قاله الزجاج مخرج الغالب، وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب وابن جبير- يضعفها- بتضعيف العين وتشديدها، والمختار عند أهل اللغة والفارسي أنهما بمعنى، وقال أبو عبيدة: ضاعف يقتضي مرارا كثيرا، وضعف يقتضي مرتين، ورد بأنه عكس اللغة لأن المضاعفة تقتضي زيادة الثواب فإذا شددت دلت البنية على التكثير فيقتضي ذلك تكرير المضاعفة، وقد تقدم من الكلام ما ينفعك فتذكر. فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ الفاء فصيحة، وكيف محلها إما الرفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف، وإما النصب بفعل محذوف على التشبيه بالحال- كما هو رأي سيبويه- أو على التشبيه بالظرف كما هو رأي الأخفش- والعامل بالظرف مضمون الجملة من التهويل والتفخيم المستفاد من الاستفهام، أو الفعل المصدر كما قرره صاحب الدر المصون، والجار متعلق بما عنده أي إذا كان كل قليل وكثير يجازى عليه، فكيف حال هؤلاء الكفرة من اليهود والنصارى وغيرهم، أو كيف يصنعون، أو كيف يكون حالهم إذا جئنا يوم القيامة من كل أمة من الأمم وطائفة من الطوائف بشهيد يشهد عليهم بما كانوا عليه من فساد العقائد وقبائح الأعمال- وهو نبيهم؟؟؟ وَجِئْنا بِكَ يا خاتم الأنبياء عَلى هؤُلاءِ إشارة إلى الشهداء المدلول عليهم بما ذكر شَهِيداً تشهد على صدقهم لعلمك بما أرسلوا واستجماع شرعك مجامع ما فرعوا وأوصلوا، وقيل: إلى المكذبين المستفهم عن حالهم يشهد عليهم بالكفر والعصيان تقوية لشهادة أنبيائهم عليهم السلام، أو كما يشهدون على أممهم، وقيل: إلى المؤمنين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 لقوله تعالى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة: 143] ومتى أقحم المشهود عليه في الكلام وأدخلت «على» عليه لا يحتاج لتضمين الشهادة معنى التسجيل، أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم من طرق عن ابن مسعود قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اقرأ عليّ قلت: يا رسول الله اقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: نعم إني أحب أن أسمعه من غيري فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ إلخ فقال: حسبك الآن فإذا عيناه تذرفان» فإذا كان هذا الشاهد تفيض عيناه لهول هذه المقالة وعظم تلك الحالة، فماذا لعمري يصنع المشهود عليه؟! وكأنه بالقيامة وقد أناخت لديه. يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ استئناف لبيان حالهم التي أشير إلى شدتها وفظاعتها، وتنوين إذ عوض- على الصحيح- عن الجملتين السابقتين، وقيل: عن الأولى، وقيل: عن الأخيرة، والظرف متعلق- بيود- وجعله متعلقا بشهيد، وجملة (يود) صفة، والعائد محذوف أي فيه بعيد، والمراد بالموصول إما المكذبون لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والتعبير عنهم بذلك لذمهم بما في حيز الصلة والإشعار بعلة ما اعتراهم من الحال الفظيعة والأمر الهائل، وإيراده صلّى الله عليه وسلّم بعنوان الرسالة لتشريفه وزيادة تقبيح حال مكذبيه، وإما جنس الكفرة ويدخل أولئك في زمرتهم دخولا أوليا. والمراد من الرَّسُولَ الجنس أيضا ويزيد شرفه انتظامه للنبي صلّى الله عليه وسلّم انتظاما أوليا، وعَصَوُا معطوف على كَفَرُوا داخل معه في حيز الصلة والمراد عصيانهم بما سوى الكفر، فيدل على أن الكفار مخاطبون بالفروع في حق المؤاخذة، وقال أبو البقاء: إنه في موضع الحال من ضمير كَفَرُوا وقد مرادة، وقيل: صلة لموصول آخر أي والذين عصوا، فالإخبار عن نوعين: الكفرة والعصاة، وهو ظاهر على رأي من يجوز إضمار الموصول كالفراء، وفي المسألة خلاف أي يود في ذلك اليوم لمزيد شدّته ومضاعف هوله الموصوفون بما ذكر في الدنيا. لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ إما مفعول يَوَدُّ على أن لَوْ مصدرية أي يودون أن يدفنوا وتسوى الأرض ملتبسة بهم، أو تسوى عليهم كالموتى، وقيل: يودون أنهم بقوا ترابا على أصلهم من غير خلق، وتمنوا أنهم كانوا هم والأرض سواء، وقيل: تصير البهائم ترابا فيودون حالها. وعن ابن عباس أن المعنى يودون أن يمشي عليهم أهل الجمع يطؤونهم بأقدامهم كما يطؤون الأرض، وقيل: يودون لو يعدل بهم الأرض أي يؤخذ منهم ما عليها فدية، وإما مستأنفة على أن لَوْ على بابها ومفعول يَوَدُّ محذوف لدلالة الجملة، وكذا جواب لَوْ إيذانا بغاية ظهوره أي يودون تسوية الأرض بهم لَوْ تُسَوَّى لسروا. وقرأ نافع وابن عامر ويزيد تُسَوَّى على أن أصله تتسوى، فأدغم التاء في السين لقربها منها، وحمزة والكسائي تُسَوَّى بحذف التاء الثانية مع الإمالة يقال: سويته فتسوى وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً عطف على يَوَدُّ أي أنهم يومئذ لا يكتمون من الله تعالى حديثا لعدم قدرتهم على الكتمان حيث إن جوارحهم تشهد عليهم بما صنعوا، أو أنهم لا يكتمون شيئا من أعمالهم بل يعترفون بها فيدخلون النار باعترافهم، وإنما لا يكتمون لعلمهم بأنهم لا ينفعهم الكتمان، وإنما يقولون: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] في بعض المواطن قاله الحسن، وقيل: الواو للحال أي يودون أن يدفنوا في الأرض وهم لا يكتمون منه تعالى حديثا ولا يكذبونه بقولهم: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ إذ روى الحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إذا قالوا ذلك ختم الله على أفواههم فتشهد عليهم جوارحهم فيتمنون أن تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وجعلها للعطف وما بعدها معطوف على تُسَوَّى على معنى- يودون لو تسوى بهم الأرض وأنهم لا يكونون كتموا أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم وبعثه في الدنيا- كما روي عن عطاء بعيد جدا. وأقرب منه العطف على مفعول يَوَدُّ على معنى يودون تسوية الأرض بهم وانتفاء كتمانهم إذ قالوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 هذا «ومن باب الإشارة» يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ بأن يكاشفكم بأسراره المودعة فيكم أثناء السير إليه وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي مقاماتهم وحالاتهم ورياضاتهم، وأشار بهم إلى الواصلين إليه قبل المخاطبين، ويجوز أن تكون الإشارة بالسنن إلى التفويض والتسليم والرضا بالمقدور فإن ذلك شنشنة الصديقين ونشنشة الواصلين وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ من ذنب وجودكم حين يفنيكم فيه، ويحتمل أن يكون التبيين إشارة إلى الإيصال إلى توحيد الأفعال. والهداية إلى توحيد الصفات. والتوبة إلى توحيد الذات وَاللَّهُ عَلِيمٌ بمراتب استعدادكم حَكِيمٌ ومن حكمته أن يفيض عليكم حسب قابلياتكم والله يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ تكرار لما تقدم إيذانا بمزيد الاعتناء به لأنه غاية المراتب وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أي اللذائذ الفانية الحاجبة عن الوصول إلى الحضرة أَنْ تَمِيلُوا إلى السوي مَيْلًا عَظِيماً لتكونوا مثلهم يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ أثقال العبودية في مقام المشاهدة، أو أثقال النفس بفتح باب الاستلذاذ بالعبادة بعد الصبر عليها وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً عن حمل واردات الغيب وسطوات المشاهدة فلا يستطيع حمل ذلك إلا بتأييد إلهي، أو ضعيفا لا يطيق الحجاب عن محبوبه لحظة، ولا يصبر عن مطلوبه ساعة لكمال شوقه ومزيد غرامه. والصبر يحمد في المواطن كلها ... إلا عليك فإنه مذموم وكان الشبلي قدس سره يقول: إلهي لا معك قرار ولا منك فرار المستغاث بك إليك يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الإيمان الحقيقي لا تَأْكُلُوا أي تذهبوا أَمْوالَكُمْ وهو ما حصل لكم من عالم الغيب بالكسب الاستعدادي بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ بأن تنفقوا على غير وجهه وتودعوه غير أهله إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً أي إلا أن يكون التصرف تصرفا صادرا عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ واستحسان ألقي من عالم الإلهام إليكم فإن ذلك مباح لكم وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ بالغفلة عنها فإن من غفل عنها فقد غفل عن ربه ومن غفل عن ربه فقد هلك، أو لا تقتلوا أنفسكم أي أرواحكم القدسية بمباشرتكم ما لا يليق فإن مباشرة ما لا يليق يمنع الروح من طيرانها في عالم المشاهدات ويحجب عنها أنوار المكاشفات إِنَّ اللَّهَ كانَ في أزل الآزال بِكُمْ رَحِيماً فلذا أرشدكم إلى ما أرشدكم إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ وهي عند العارفين رؤية العبودية في مشهد الربوبية وطلب الأعواض في الخدمة وميل النفس إلى السوي من العرش إلى الثرى، والسكون في مقام الكرامات، ودعوى المقامات السامية قبل الوصول إليها. وأكبر الكبائر إثبات وجود غير وجود الله تعالى نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ أي نمح عنكم تلوناتكم بظهور نور التوحيد وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً وهي حضرة عين الجمع وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ من الكمالات التابعة للاستعدادات فإن حصول كمال شخص لآخر محال إذا لم يكن مستعدا له، ولهذا عبر بالتمني للرجال وهم الأفراد الواصلون نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا بنور استعدادهم وَلِلنِّساءِ وهم الناقصون القاصرون نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ حسب استعدادهم وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ بأن يفيض عليكم ما تقتضيه قابلياتكم إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ومن جملة ذلك ما أنتم عليه من الاستعداد فيعطيكم ما يليق بكم وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ أي ولكل قوم جعلناهم موالي نصيب من الاستعداد يرثون به مما تركه والداهم- وهما الروح والقلب- والأقربون- وهم القوى الروحانية- وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ وهم المريدون فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ من الفيض على قدر نصيبهم من الاستعداد إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً إذ كل شيء مظهر لاسم من أسمائه الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ أي الكاملون شأنهم القيام بتدبير الناقصين والإنفاق عليهم من فيوضاتهم بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ بالاستعداد وَبِما أَنْفَقُوا في سبيل الله تعالى وطريق الوصول إليه مِنْ أَمْوالِهِمْ أي قواهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 أو معارفهم فَالصَّالِحاتُ للسلوك من النساء بالمعنى السابق قانِتاتٌ مطيعات لله تعالى بالعبادات القالبية حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ أي القلب عن دنس الأخلاق الذميمة، ولعله إشارة إلى العبادات القلبية بِما حَفِظَ اللَّهُ لهم من الاستعداد وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ ترفعهن عن الانقياد إلى ما ينفعهن فَعِظُوهُنَّ بذكر أحوال الصالحين ومقاماتهم فإن النفس تميل إلى ما يمدح لها غالبا وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ أي امنعوا دخول أنوار فيوضاتكم إلى حجرات قلوبهن ليستوحشن فربما يرجعن عن ذلك الترفع وَاضْرِبُوهُنَّ بعصا القهر إن لم ينجع ما تقدم فيهن فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ بعد ذلك ورجعن عن الترفع والأنانية فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا بتكليفهن فوق طاقتهن وخلاف مقتضى استعدادهن إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً ومع هذا لم يكلف أحدا فوق طاقته وخلاف مقتضى استعداده وَإِنْ خِفْتُمْ أيها المرشدون الكمل شِقاقَ بَيْنِهِما أي بين الشيخ والمريد فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها فابعثوا متوسطين من المشايخ والسالكين إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً ويقصداه يُوَفِّقِ اللَّهُ تعالى بَيْنِهِما وهمة الرجال تقلع الجبال. ويمكن أن يكون الرجال إشارة إلى العقول الكاملة والنساء إشارة إلى النفوس الناقصة، ولا شك أن العقل هو القائم بتدبير النفس وإرشادها إلى ما يصلحها، ويراد من الحكمين حينئذ ما يتوسط بين العقل والنفس من القوى الروحانية وَاعْبُدُوا اللَّهَ بالتوجه إليه والفناء فيه وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً مما تحسبونه شيئا وليس بشيء إذ لا وجود حقيقة لغيره سبحانه وَبِالْوالِدَيْنِ الروح والنفس اللذين تولد بينهما القلب أحسنوا إِحْساناً فاستفيضوا من الأول وتوجهوا بالتسليم إليه وزكوا الثاني وطهروا برديه وَبِذِي الْقُرْبى وهم من يناسبكم بالاستعداد الأصلي والمشاكلة الروحانية وَالْيَتامى المستعدين المنقطعين عن نور الأب وهو الروح بالاحتجاب وَالْمَساكِينِ العاملين الذين لا حظ لهم من المعارف ولذا سكنوا عن السير وهم الناسكون وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى القريب من مقامك في السلوك وَالْجارِ الْجُنُبِ البعيد مقامه عن مقامك وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ الذي هو في عين مقامك وَابْنِ السَّبِيلِ أي السالك المتغرب عن مأوى النفس الذي لم يصل إلى مقام بعد وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من المنتمين إليكم بالمحبة والإرادة، وقيل: الوالدين إشارة إلى المشايخ وإحسان المريد إليهم إطاعتهم والانقياد إليهم وامتثال أوامرهم فإنهم أطباء القلوب وهم أعرف بالداء والدواء ولا يداوون إلا بما يرضي الله تعالى وإن خفي على المريد وجهه. ومن هنا قال الجنيد قدس سره: أمرني ربي أمرا وأمرني السري أمرا فقدمت أمر السري على أمر ربي وكل ما وجدت فهو من بركاته، وأول الْجارِ ذِي الْقُرْبى بالروح الناطقة العارفة العاشقة الملكوتية التي خرجت من العدم بتجلي القدم وانقدحت من نور الأزل وهي أقرب كل شيء وهي جار الله تعالى المصبوغة بنوره والإحسان إليها أن تطلقها من فتنة الطبيعة وتقدس مسكنها من حظوظ البشرية لتطير بجناح المعرفة والشوق إلى عالم المشاهدة وَالْجارِ الْجُنُبِ بالصورة الحاملة للروح والإحسان إليها أن تفطم جوارحها من رضع ضرع الشهوات وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وهو القلب الذي يصحبك في سفر الغيب والإحسان إليه أن تفرده من الحدثان وتشوقه إلى جمال الرحمن، وقيل: هو النفس الأمارة، وفي الخبر «أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك» والإحسان إليها أن تحبسها في سجن العبودية وتحرقها بنيران المحبة، وأول ابْنِ السَّبِيلِ بالولي الكامل فإنه لم يزل ينتقل من نور الأفعال إلى نور الصفات ومن نور الصفات إلى نور الذات والإحسان إليه كتم سره وعدم الخروج عن دائرة أمره، وقال بعض العارفين: وإن شئت أولت ذا القربى بما يتصل بالشخص من المجردات وَالْيَتامى بالقوى الروحانية، وَالْمَساكِينِ بالقوى النفسانية من الحواس الظاهرة وغيرها وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى بالعقل وَالْجارِ الْجُنُبِ بالوهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ بالشوق والإرادة وَابْنِ السَّبِيلِ بالفكر والمماليك بالملكات المكتسبة التي هي مصادر الأفعال الجميلة، وباب التأويل واسع جدا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا يسعى بالسلوك في نفسه فَخُوراً بأحواله ومقاماته محتجبا برؤيتها الَّذِينَ يَبْخَلُونَ على أنفسهم وعلى المستحقين فلا يعملون بعلومهم ولا يعلمونها وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ قالا أو حالا وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فلا يشكرون نعمة الله، أو يكتمون ما أوتوا من المعارف في كتم الاستعداد وظلمة القوة حتى كأنها معدومة وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ للحق الساترين أنوار الوحدة بظلمة الكثرة عَذاباً مُهِيناً يهينهم في ذل وجودهم وشين صفاتهم وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ أي يبرزون كمالاتهم رِئاءَ النَّاسِ مرائين الناس بأنها لهم وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ الإيمان الحقيقي ليعلموا أن لا كمال إلا له وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ أي الفناء فيه سبحانه ليبرزوا لله الواحد القهار وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ النفس وقواها لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً لأنه يضله عن الحق كهؤلاء وَماذا عَلَيْهِمْ ما كان يضرهم لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فصدقوا بالتوحيد والفناء فيه وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ ولم يروا كمالا لأنفسهم وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً فيجازيهم بالبقاء بعد الفناء إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ مقدار ما يظهر من الهباء وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً ولا تكون كذلك إلا إذا كانت له فإن كانت له يُضاعِفْها بالتأييد الحقاني وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً وهو الشهود الذاتي، أو العلم اللدني فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وهو ما يحضر كل أحد ويظهر له بصورة معتقدة فيكشف عن حاله وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ وهم المحمديون شَهِيداً ومن لوازم الإتيان بالحقيقة المحمدية شهيدا للمحمديين معرفتهم لله تعالى عند التحول في جميع الصور فليس شهيدهم في الحقيقة إلا الحق سبحانه يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالاحتجاب وَعَصَوُا الرَّسُولَ بعدم المتابعة لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ لتنطمس نفوسهم أو تصير ساذجة لا نقش فيها من العقائد الفاسدة والرذائل الموبقة وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً أي لا يقدرون على كتم حديث من تلك النقوش وهيهات أنى يخفون شيئا منها، وقد صارت الجبال كالعهن المنفوش. سهم أصاب وراميه بذي سلم ... من بالعراق لقد أبعدت مرماك والله تعالى يتولى الحق وهو يهدي السبيل. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ إرشاد لإخلاص الصلاة التي هي رأس العبادة من شوائب الكدر ليجمعوا بين إخلاص عبادة الحق ومكارم الأخلاق التي بينهم وبين الخلق المبينة فيما تقدم وبهذا يحصل الربط، ويجوز أن يقال: لما نهوا فيما سلف عن الإشراك به تعالى نهوا هاهنا عما يؤدي إليه من حيث لا يحتسبون، فقد أخرج أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وصححه عن عليّ كرم الله تعالى وجهه قال: «صنع لنا عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه طعاما فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت الخمر منا وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون فنزلت» . وفي رواية ابن جرير وابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه «أن إمام القوم يومئذ هو عبد الرحمن وكانت الصلاة صلاة المغرب وكان ذلك لما كانت الخمر مباحة، والخطاب للصحابة وتصدير الكلام بحرفي النداء والتنبيه اعتناء بشأن الحكم، والمراد بالصلاة عند الكثير الهيئة المخصوصة، وبقربها القيام إليها والتلبس بها إلا أنه نهى عن القرب مبالغة، وبالسكر الحالة المقررة التي تحصل لشارب الخمر، ومادته تدل على الانسداد ومنه سكرت أعينهم أي انسدت، والمعنى لا تصلوا في حالة السكر حتى تعلموا قبل الشروع ما تقولونه قبلها إذ بذلك يظهر أنكم ستعلمون ما ستقرؤونه فيها، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أن المعنى- لا تقربوا الصلاة وأنتم نشاوى من الشراب حتى تعلموا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 ما تقرءونه في صلاتكم- ولعل مراده حتى تكونوا بحيث تعلمون ما تقرءونه وإلا فهو يستدعي تقدم الشروع في الصلاة على غاية النهي، وإذا أريد ذلك رجع إلى ما تقدم ولكن فيه تطويل بلا طائل على أن إيثار ما تَقُولُونَ على ما تقرءون حينئذ يكون عاريا عن الداعي، وروي عن ابن المسيب والضحاك وعكرمة والحسن أن المراد من الصلاة مواضعها فهو مجاز من ذكر الحال وإرادة المحل بقرينة قوله تعالى فيما يأتي: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ فإنه يدل عليه بحسب الظاهر، فالآية مسوقة عن نهي قربان السكران المسجد تعظيما له، وفي الخبر «جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم» ويأباه ظاهر قوله تعالى: حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وروي عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه حمل الصلاة على الهيئة المخصوصة وعلى مواضعها مراعاة للقولين، وفي الكلام حينئذ الجمع بين الحقيقة والمجاز ونحن لا نقول به، وروي عن جعفر رضي الله تعالى عنه والضحاك- وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- أن المراد من السكر سكر النعاس وغلبة النوم، وأيد بما أخرجه البخاري عن أنس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف فلينم حتى يعلم ما يقول» وروي مثله عن عائشة رضي الله تعالى عنها - وفيه بعد- وأبعد منه حمله على سكر الخمر وسكر النوم لما فيه من الجمع بين الحقيقة والمجاز، أو عموم المجاز مع عدم القرينة الواضحة على ذلك، وأيّا ما كان فليس مرجع النهي هو المقيد مع بقاء القيد مرخصا بحاله بل إنما هو القيد مع بقاء المقيد على حاله لأن القيد مصب النفي والنهي في كلامهم ولأنه مكلف بالصلاة مأمور بها والنهي ينافيه، نعم لا مانع عن النهي عنها للسكران مع الأمر المطلق إلا أن مرجعه إلى هذا. والحاصل كما قال الشهاب: إنه مكلف بها في كل حال، وزوال عقله بفعله لا يمنع تكليفه ولذا وقع طلاقه ونحوه، ولو لم يكن مأمورا بها لم تلزمه الإعادة إذا استغرق السكر وقتها- وقد نص عليه الجصاص في الأحكام- وفصله انتهى، وزعم بعضهم أن النهي عن الصلاة نفسها لكن المراد بها الصلاة جماعة مع النبي صلّى الله عليه وسلّم تعظيما له عليه الصلاة والسلام وتوقيرا، ولا يخفى أنه مما لا يدل عليه نقل ولا عقل ويأباه الظاهر وسبب النزول، وقد روي أنهم كانوا بعد ما أنزلت الآية لا يشربون الخمر في أوقات الصلاة فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون، وقرىء «سكارى» بفتح السين جمع سكران كندمان وندامى. وقرأ الأعمش «سكرى» بضم السين على أنه صفة- كحبلى- وقع صفة لجماعة أي وأنتم جماعة سكرى، والنخعي «سكرى» بالفتح، وهو إما صفة مفردة جماعة كما في الضم، وإما جمع تكسير كجرحى، وإنما جمع سكران عليه لما فيه من الآفة اللاحقة للعقل، والصيغة على قراءة الجمهور جمع تكسير عند سيبويه، واسم جمع عند غيره لأنه ليس من أبنية الجمع، ورجح الأول وَلا جُنُباً عطف على قوله تعالى: وَأَنْتُمْ سُكارى فإنه في حيز النصب كأنه قيل: لا تقربوا الصلاة سكارى ولا جنبا- قاله غير واحد- وقال الشهاب نقلا عن البحر: إن هذا حكم الاعراب، وأما المعنى ففرق بين قولنا جاء القوم سكارى وجاؤوا وهم سكارى إذ معنى الأول جاؤوا كذلك، والثاني جاؤوا وهم كذلك باستئناف الإثبات- ذكره عبد القاهر- ويعني بالاستئناف أنه مقرر في نفسه مع قطع النظر عن ذي الحال وهو مع مقارنته له يشعر بتقرره في نفسه، ويجوز تقدمه واستمراره. ولذا قال السبكي في الأشباه: لو قال: لله تعالى عليّ أن أعتكف صائما لا بد له من صوم يكون لأجل ذلك النذر من غير سبب آخر فلا يجزئه الاعتكاف بصوم رمضان، ولو قال: وأنا صائم أجزأه، ولعل وجه الفرق أن الحال إذا كانت جملة دلت على المقارنة، وأما اتصافه بمضمونها فقد يكون وقد لا يكون نحو- جاء زيد وقد طلعت الشمس- والحال المفردة صفة معنى فإذا قال: لله تعالى عليّ أن أعتكف وأنا صائم نذر مقارنته للصوم ولم ينذر صوما فيصح في رمضان، ولو قال: صائما نذر صومه فلا يصح فيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 وهذه المسألة نقلها الأسنوي في التمهيد ولم يبين وجهها، ولم نر لأئمتنا فيها كلاما انتهى كلامه. ولم يبين رحمه الله تعالى السر في مخالفة هذين الحالين على وجه يتضح به ما ذكره في المسألة، وبين العلامة الطيبي فائدتها غير أنه لم يتعرض لهذا الفرق فقال: فائدتها- والعلم عند الله تعالى- الإشعار بأن قربان الصلاة مع السكر مناف لحال المسلمين، ومن يناجي الحضرة الصمدانية دل عليه الخطاب بأنتم ولهذا قرنه بقوله سبحانه: حَتَّى تَعْلَمُوا إلخ، والمجنبون لا يعدمون إحضار القلب، ومن ثمّ رخص لهم بالأعذار فتأمل جدا،- والجنب- من أصابته الجنابة يستوي فيه على اللغة الفصيحة المذكر والمؤنث. والواحد والتثنية والجمع لجريانه مجرى المصدر وإن لم يكنه- كما قاله بعض المحققين- ومن العرب من يثنيه ويجمعه فيقول جنبان وأجناب وجنوب، واشتقاقه كما قال أبو البقاء: من المجانبة وهي المباعدة إِلَّا عابِرِي أي مجتازي سَبِيلٍ أي طريق، والمراد إلا مسافرين وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال محله النصب على أنه حال من ضمير لا تَقْرَبُوا باعتبار تقييده بالحال الثانية دون الأولى، والعامل فيه معنى النهي أي لا تقربوا الصلاة جنبا في حال من الأحوال إلا حال كونكم مسافرين على معنى أنه في حالة السفر ينتهي حكم النهي لكن لا بطريق شمول النفي لجميع صورها بل بطريق نفي الشمول في الجملة من غير دلالة على انتفاء خصوصية البعض المنتفي ولا على بقاء خصوصية البعض الباقي ولا ثبوت نقيضه لا كليا ولا جزئيا فإن الاستثناء لا يدل على ذلك عبارة، نعم يشير إلى مخالفة حكم ما بعده لما قبله إشارة إجمالية يكتفى بها في المقامات الخطابية لا في إثبات الأحكام الشرعية، فإن ملاك الأمر في ذلك إنما هو الدليل، وقد ورد عقيبه على طريق البيان، قاله المولى شيخ الإسلام، وقيل: هو صفة لجنبا على أن إِلَّا بمعنى غير، واعترض بأن مثل هذا إنما يصح عند تعذر الاستثناء ولا تعذر هنا لعموم النكرة بالنفي، وأجيب بأن هذا الشرط في التوصيف ذكره ابن الحاجب، وقد خالفه فيه النحاة، ورجح بعضهم الوصفية بناء على أن الكلام على تقدير الاستثناء يفيد الحصر ولا حصر لورود المريض إشكالا عليه بخلافه على تقدير الوصفية، وادعى البعض إفادة الكلام له مطلقا وأن المريض يرد إشكالا إلا أن يؤول- كما ستعرفه- ومن حمل الصلاة على مواضعها فسر العبور بالاجتياز بها وجوز للجنب عبور المسجد،- وبه قال الشافعي رحمه الله تعالى- والمشهور عندنا منع الجنب المسجد مطلقا، ورخص علي كرم الله تعالى وجهه كما في خبر الترمذي عن أبي سعيد بناء على ما فسره ضرار بن صرد حين سأله عن معناه علي بن المنذر، وكونه كرم الله تعالى وجهه رخص ثم منع لم يثبت عندي، وإن نقله البعض، ونقل الجصاص في الأحكام أنه لا يجوز الدخول إلا أن يكون الماء أو الطريق فيه، وعن الليث أن الجنب لا يمرّ فيه إلا أن يكون بابه في المسجد، فقد روي أن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد وكان يصيبهم الجنابة ولا يجدون ممرا إلا فيه فرخص لهم في ذلك حَتَّى تَغْتَسِلُوا غاية للنهي عن قربان الصلاة حال الجنابة، ولعل تقديم الاستثناء عليه- كما قال شيخ الإسلام- للإيذان من أول الأمر بأن حكم النهي في هذه السورة ليس على الإطلاق كما في صورة السكر تشويقا إلى البيان وروما لزيادة تقربه في الأذهان، وقيل: لما لم يكن لقوله سبحانه: حَتَّى تَغْتَسِلُوا مدخل في المقصود إذ المقصود إنما هو صحة الصلاة جنبا أخره وقدم الاستثناء عليه، وكان الظاهر عدم ذكره لذلك إلا أنه ذكره تنبيها على أن الجنابة إنما ترتفع بالاغتسال، وفي الآية الكريمة رمز إلى أنه ينبغي للمصلي أن يتحرز عما يلهيه ويشغل قلبه، وأن يزكي نفسه عما يدنسها لأنه إذا وجب تطهير البدن فتطهير القلب أولى أو لأنه إذا صين موضع الصلاة عمن به حدث فلأن يصان القلب الذي هو عرض الرحمن عن خاطر غير طاهر ظاهر الأولوية وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى تفصيل لما أجمل في الاستثناء وبيان ما هو في حكم المستثنى من الأعذار، والاقتصار فيما قبل على استثناء السفر مع مشاركة الباقي له في حكم الترخيص الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 للإشعار بأنه العذر الغالب المبني على الضرورة الذي (1) يدور عليها أمر الرخصة، ولهذا قيل: المراد بغير عابِرِي سَبِيلٍ غير معذورين بعذر شرعي إما بطريق الكناية أو بإيماء النص ودلالته. وبهذا يندفع الإيراد السابق على الحصر- وإنما لم يقل: إلا عابري سبيل أو مرضى فاقدي الماء حسا أو حكما- لما أن ما في النظم الكريم أبلغ وأوكد منه لما فيه من الإجمال والتفصيل، ومعرفة تفاضل العقول والأفهام، والمراد بالمرض ما يمنع من استعمال الماء مطلقا سواء كان بتعذر الوصول إليه أو بتعذر استعماله، وأخرج ابن جريج عن ابن مسعود أنه قال: المريض الذي قد أرخص له في التيمم الكسير والجريح فإذا أصابته الجنابة لا يحل جراحته إلا جراحة لا يخشى عليها، وأخرج البيهقي في المعرفة عن ابن عباس يرفعه «إذا كانت بالرجل الجراحة في سبيل الله تعالى أو القروح أو الجدري فيجنب فيخاف إن اغتسل أن يموت فليتيمم» والذي تقرر في الفروع: أن المريض الذي يخاف إذا استعمل الماء أن يشتد مرضه يتيمم، ولا فرق بين أن يشتد مرضه بالتحرك- كالمبطون- أو بالاستعمال- كمن به حصبة أو جدري- ولم يشترط أصحابنا خوف التلف لظاهر النص وهو بإطلاقه يبيح التيمم لكل مريض إلا أن في بعض الآيات ما أخرج من لا يشتد مرضه، وتفصيل ذلك في كتب الفقه. أَوْ عَلى سَفَرٍ عطف على مرضى أي أو كنتم على سفر ما طال أو قصر، ولعل اختيار هذا على نحو مسافرين لأنه أوضح في المقصود منه، وفي الهداية: ومن لم يجد الماء وهو مسافر أو خارج المصر بينه وبين المصر ميل أو أكثر يتيمم، والظاهر أن حكم من هو خارج المصر غير مسافر كما يقتضيه العطف معلوم بالقياس لا بالنص وإيراد المسافر صريحا مع سبق ذكره بطريق الاستثناء لبناء الحكم الشرعي عليه وبيان كيفيته. فإن الاستثناء- كما أشار إليه شيخ الإسلام- بمعزل من الدلالة على ثبوته فضلا عن الدلالة على كيفيته، وقيل: ذكر السفر هنا لإلحاق المرض به والتسوية بينه وبينه بإلحاق الواجد بالفاقد بجامع العجز عن الاستعمال، وهذه الشرطية ظاهرة على رأي من حمل الصلاة على مواضعها، وفسر العبور بالاجتياز بها إذ ليس فيها حينئذ ما يتوهم منه شائبة التكرار بل هي عنده بيان حكم آخر لم يذكر قبل، وأيد بأن القراء كلهم استحبوا الوقف عند قوله سبحانه: حَتَّى تَغْتَسِلُوا ويبتدئون بقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ إلخ بل التعبير بالقرب يومىء إلى حمل الصلاة على ذلك لأن حقيقة القرب والبعد في المكان وكذا التعبير ب عابِرِي سَبِيلٍ هناك، وب عَلى سَفَرٍ هنا فيه إيماء إلى الفرق بين ما هنا وما هناك إلا أن الكثير على خلافه. وإنما قدم المرض على السفر للإيذان بأصالته واستقلاله بأحكام لا توجد في غيره، وقيل: لأنه سبب النزول، فقد أخرج ابن جريج عن إبراهيم النخعي قال: «نال أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم جراحة ففشت فيهم ثم ابتلوا بالجنابة فشكوا ذلك إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى الآية كلها» وهذا خلاف ما عليه الجمهور حيث رووا أن نزولها في غزوة المريسيع «حين عرس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة فسقطت عن عائشة رضي الله تعالى عنها قلادة لأسماء فلما ارتحلوا ذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فبعث رجلين في طلبها فنزلوا ينتظرونهما فأصبحوا وليس معهم ماء فأغلظ أبو بكر على عائشة رضي الله تعالى عنها، وقال حبست رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين على غير ماء فنزلت فلما صلوا بالتيمم جاء أسيد بن الحضير إلى مضرب عائشة فجعل يقول: ما أكثر بركتكم يا آل أبي بكر- وفي رواية- يرحمك الله تعالى يا عائشة ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله تعالى فيه للمسلمين فرجا» وهذا يدل على أن سبب النزول كان فقد الماء في السفر وهو ظاهر أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ هو المكان المنخفض، وجاء الغيط بفتح الغين وسكون الياء، وبه قرأ ابن مسعود رضي الله تعالى   (1) قوله «الذي» كذا بخطه، ولعله «التي» اهـ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 عنه- وهو في رأي- مصدر يغوط، وكان القياس غوطا فقلبت الواو ياء وسكنت وانفتح ما قبلها لخفتها، ولعل الأولى ما قيل: إنه تخفيف غيط كهين وهين، والغيط الغائط، والمجيء منه كناية عن الحدث لأن العادة أن من يريده يذهب إليه ليواري شخصه عن أعين الناس. وفي ذكر أَحَدٌ فيه دون غيره إيماء إلى أن الإنسان ينفرد عند قضاء الحاجة كما هو دأبه وأدبه، وقيل: إنما ذكر وأسند المجيء إليه دون المخاطبين تفاديا عن التصريح بنسبتهم إلى ما يستحى منه أو يستهجن التصريح به والفعل عطف على كُنْتُمْ، والجار الأول متعلق بمحذوف وقع صفة للنكرة قبله، والثاني متعلق بالفعل أي وإن جاء أَحَدٌ كائن مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ يريد سبحانه أو جامعتم النساء إلا أنه كنى بالملامسة عن الجماع لأنه مما يستهجن التصريح به أو يستحى منه، وإلى ذلك ذهب علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما والحسن فيكون إشارة إلى الحدث الأكبر كما أن الأول إشارة إلى الحدث الأصغر. وعن ابن مسعود والنخعي والشعبي أن المراد بالملامسة ما دون الجماع أي ماسستم بشرتهن ببشرتكم، وبه استدل الشافعي رضي الله تعالى عنه على أن اللمس ينقض الوضوء، وبه قال الزهري والأوزاعي، وقال مالك والليث بن سعد وأحمد في إحدى الروايات عنه: إن كان اللمس بشهوة نقض وإلا فلا، وذهب أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه إلى أنه لا ينتقض الوضوء بالمس ولو بشهوة، قيل: ما لم يحدث الانتشار، واختلف قول الشافعي رضي الله تعالى عنه في لمس المحارم كالأم والبنت والأخت، وفي لمس الأجنبية الصغيرة وأصح القولين: إنه لا ينقض كلمس نحو السن والظفر والشعر وينتقض عنده وضوء الملموسة كاللامس في الأظهر لاشتراكهما في مظنة اللذة كالمشتركين في الجماع، وإنما لم ينتقض وضوء الملموس فرجه على مذهبه لأنه لم يوجد منه مس لمظنة لذة أصلا بخلافه هنا، ودليل القول بعدم نقض وضوء الملموس حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنها وضعت يدها على قدميه صلّى الله عليه وسلّم وهو ساجد، ووجه استدلاله بما في الآية على ما استدل عليه أن الحمل على الحقيقة هو الراجح لا سيما في قراءة حمزة والكسائي- أو لمستم- إذ لم يشتهر اللمس في الجماع كالملامسة، ورجح بعضهم الحمل على الجماع في القراءتين ترجيحا للمجاز المشهور وعملا بهما إذ لا منافاة وهو الأوفق بمذهبنا، وقال بعض المحققين: إن المتجه أن الملامسة حقيقة في تماس البدنين بشيء من أجزائهما من غير تقييد باليد، وعلى هذا فالجماع من أفراد مسمى الحقيقة فيتناوله اللفظ حقيقة، وإنما يكون مجازا لو اقتصر على إرادته باللفظ، وادعى الجلال المحلي أن الملامسة حقيقة في الجس باليد مجاز في الوطء، وأن الشافعي رحمه الله تعالى حملها على المعنيين جمعا بين الحقيقة والمجاز وظاهر عبارة الأم أن الشافعي لم يحمل الملامسة على الوطء بل على ما عداه من أنواع التقاء البشرتين، وأنه إنما ذكر الجس باليد تمثيلا للملامسة بنوع من أنواعها لا تفسيرا لها بذكر كمال معناها الحقيقي كما بينه الكمال ابن أبي شريف فليفهم، ثم إن نظم هذين الأمرين في سلك سببي سقوط الطهارة والمصير إلى التيمم مع كونهما سببي وجوبهما ليس باعتبار أنفسهما بل باعتبار قيدهما المستفاد من قوله سبحانه: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً بل هو السبب في الحقيقة وإنما ذكرا تمهيدا له وتنبيها على أنه سبب للرخصة بعد انعقاد سبب الطهارة بقسميها كأنه قيل: أو لم تكونوا مرضى أو مسافرين بل كنتم فاقدين للماء بسبب من الأسباب مع تحقق ما يوجب استعماله من الحدث الأصغر أو الأكبر. قيل: وتخصيص ذكره بهذه الصورة مع أنه معتبر أيضا في صورة المرض والسفر لندرة وقوعه فيها واستغنائهما عن ذكره لأن الجنابة معتبرة فيهما قطعا فيعلم من حكمها حكم الحدث الأصغر بدلالة النص لأن تقدير النظم- لا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 تقربوا الصلاة في حال الجنابة إلا حال كونكم مسافرين فإن كنتم كذلك، أو كنتم مرضى- إلخ، وقيل: إن هذا القيد راجع للكل، وقيد وجوب التطهر المكنى عنه بالمجيء من الغائط والملامسة معتبر فيه أيضا، واعترض بأن النظم الكريم لا يساعده، وفي الكشف عن بعضهم أن في الآية تقديما وتأخيرا، والتقدير لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى، ولا جنبا ولا جائيا أحد منكم من الغائط، أو لامسا يعني ولا محدثين، ثم قيل: وإن كنتم مرضى أو على سفر فتيمموا، وفيه الفصل بين الشرط والجزاء والمعطوف عليه من غير نكتة، ثم قال بعد أن نقل ما اعترضه: ولعل الأوجه في تقرير الآية- والله تعالى أعلم- أن يجعل عدم الوجدان عبارة عن عدم القدرة على استعمال الماء لفقد الماء، أو المانع ليصح أن يكون قيدا للكل، أو يحمل على ظاهره ويجعل قيدا للأخيرين لأن عموم الإعواز في حق المسافر غالبا، والمنع من القدرة على استعمال الماء القائم مقامه في حق المريض مغن عن التقييد لفظا، وأن يبقى قوله سبحانه: مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ على إطلاقه من غير تقييد بكونهم محدثين أو مجنبين لأن المقصود بيان سبب العدول عن الطهارة بالماء إلى التيمم، أما المشترك بين الطهارتين فلا يحتاج إلى ذكره قصدا وأن يجعل ذكر المحدثين من غير القبيلين بيانا لسبب العدول وهو فقد القدرة من غير سفر ولا مرض لا لأن الحدث سبب وإن أفاد ذلك ضمنا ولم يقل أو لم تجدوا دون ذكر السببين تنبيها على أن عدم الوجدان مرخص بعد انعقاد سبب الطهارة، وأفيد ضمنا أنهما معتبران أيضا في المريض والمسافر إذ لا فرق بين المرض والسفر وبين سائر الأعذار في ذلك انتهى، ولا يخفى أن الحمل على الظاهر أظهر وما ذكره على تقدير الحمل عليه ليس بالبعيد عما قدمناه، نعم الآية من معضلات القرآن، ولعلها تحتاج بعد إلى نظر دقيق، والفاء في فَلَمْ عاطفة، وأما الفاء في قوله سبحانه: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فواقعة في جواب الشرط، والظاهر أن الضمير راجع إلى جميع ما اشتمل عليه، وفيه تغليب الخطاب على الغيبة، ومثله في ذلك تَجِدُوا فلا حاجة إلى تقدير فليتيمم جزاء لقوله سبحانه: جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ والتيمم لغة القصد قال الأعشى: تيممت قيسا وكم دونه ... من الأرض من مهمه ذي شزن والصعيد وجه الأرض كما روي عن الخليل وثعلب وقال الزجاج: لا أعلم خلافا بين أهل اللغة في أن الصعيد وجه الأرض وسمي بذلك لأنه نهاية ما يصعد إليه من باطن الأرض، أو لصعوده وارتفاعه فوق الأرض، والطيب الطاهر، وعن سفيان الحلال، وقيل: المنبت دون السبخة كما في قوله تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ [الأعراف: 58] والحمل على الأول هو الأنسب بمقام الطهارة، والمعنى فتعمدوا واقصدوا شيئا من وجه الأرض طاهرا، وهذا دليل واضح لجواز التيمم بالكحل والآجر والمرداسنج والياقوت والفيروزج والمرجان والزمرد ونحو ذلك. وإن لم يكن عليه غبار وإلى ذلك ذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه. ومحمد في إحدى الروايتين عنه، وفي رواية أخرى عنه- وهو قول أبي يوسف والشافعي وأحمد رضي الله تعالى عنهم- أنه لا يجوز التيمم إلا أن يعلق باليد شيء من التراب لتقييد المسح- بمنه- في المائدة، وكلمة «من» للتبعيض وهو يقتضي التراب، والحنفية يحملونها على الابتداء أو الخروج مخرج الأغلب، وقيل: الضمير للحدث المفهوم من السياق، و «من» للتعليل، وأغرب الإمام مالك فأجاز التيمم بالثلج، وقد شنع الشيعة عليه بذلك، وقد اعتذرنا عنه في كتابنا- الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية- ونصب صَعِيداً على أنه مفعول به، وقيل: إنه منصوب بنزع الخافض أي فتيمموا بصعيد فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ أي وجوهكم وأيديكم على أن الباء صلة، والمراد استيعاب هذين العضوين بالمسح حتى إذا ترك شيئا منهما لم يجز كما في الوضوء وهو ظاهر الرواية، وفي رواية الحسن عن الإمام رضي الله تعالى عنه أن الأكثر يقوم مقام الكل لأن الاستيعاب في الممسوحات ليس بشرط كما في مسح الخف والرأس، ووجه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 الظاهر أن التيمم قائم مقام الوضوء، ولهذا قالوا: يخلل الأصابع وينزع الخاتم ليتم المسح، والاستيعاب في الوضوء شرط فكذا فيما قام مقامه، والأيدي جمع يد، وهي مشتركة بين معان من أطراف الأصابع إلى الرسغ وإلى المرفق وإلى الإبط، وهل هي حقيقة في واحد منها مجاز في غيره، أو حقيقة فيها جميعا؟ رجح بعضهم الثاني، ولذا ذهب إلى كل منها بعض السلف، فأخرج ابن جرير عن الزهري أن التيمم إلى الآباط، وأخرج عن مكحول أنه قال: التيمم ضربة للوجه والكفين إلى الكوع، وأخرج الحاكم عن ابن عمر في كيفية تيممهم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنهم مسحوا من المرافق إلى الأكف على منابت الشعر من ظاهر وباطن، ومن حديث أبي داود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تيمم ومسح يديه إلى مرفقيه - وهذا مذهبنا- ومذهب الشافعي والجمهور- ويشهد لهم القياس- على الوضوء الذي هو أصله وإن كان الحدث والجنابة فيه كيفية سواء، وكذا جوازا على الصحيح المروي عن المعظم. ومن الناس من قال: لا يتيمم الجنب والحائض والنفساء- وهو المروي عن عمر وابنه وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم- قيل: ومنشأ الخلاف فيما بينهم حمل الملامسة فيما سبق على الوقاع أو المس باليد، فذهب الأولون إلى الأول والآخرون إلى الأخير، وقالوا: القياس أن لا يكون التيمم طهورا وإنما أباحه الله تعالى للمحدث فلا يباح للجنب لأنه ليس معقول المعنى حتى يصح القياس، وليست الجنابة في معنى الحدث لتلحق به بل هي فوقه. وأنت تعلم أن الآية كالصريح في جواز تيمم الجنب وإن لم تحمل الملامسة على الوقاع- كما يشير إليه تفسيرها السابق- على أن الأحاديث ناطقة بذلك، فقد أخرج البخاري عن عمران بن حصين «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأى رجلا معتزلا لم يصل في القوم فقال: يا فلان ما منعك أن تصلي؟ فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك» وروي «أن قوما جاؤوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: إنا قوم نسكن هذه الرمال ولم نجد الماء شهرا أو شهرين وفينا الجنب والحائض والنفساء فقال صلّى الله عليه وسلّم: عليكم بأرضكم» إلى غير ذلك، وهل يرفع التيمم الحدث أم لا؟ خلاف، ولا دلالة في الآية على أحد الأمرين عند من أمعن النظر إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً تعليل لما يفهمه الكلام من الترخيص والتيسير وتقرير لهما فإن من عادته المستمرة أن يعفو عن الخاطئين ويغفر للمذنبين لا بد أن يكون ميسرا لا معسرا، وجوز أن يكون كناية عن ذلك فإنه من روادف العفو وتوابع الغفران، وأدمج فيه أن الأصل الطهارة الكاملة وأن غيرها من الرخص من العفو والغفران، وقيل: العفو هنا بمعنى التيسير- كما في التيسير- واستدل على وروده بهذا المعنى بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «عفوت لكم صدقة الخيل والرقيق» وذكر المغفرة للدلالة على أنه غفر ذنب المصلين سكارى، وما صدر عنهم في القراءة، وأنت تعلم أن حمل العفو على التيسير في الحديث غير متعين وكون ذكر المغفرة لما ذكر بعيد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ استئناف لتعجيب المؤمنين من سوء حالهم والتحذير عن موالاتهم إثر ذكر أنواع التكاليف والأحكام الشرعية، والخطاب لكل من يتأتى منه الرؤية من المؤمنين وفيه إيذان بكمال شهرة شناعة حالهم، وقيل: لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم، وخطاب سيد القوم في مقام خطابهم والرؤية بصرية، وتعديها بإلى حملا لها على النظر- أي ألم تنظر إليهم- وجعلها علمية وتعديها بإلى لتضمينها معنى الانتهاء- أي ألم ينته علمك إليهم- منحط في مقام التعجيب وتشهير شنائعهم، ونظمها في سلك الأمور المشاهدة، والمراد من الموصول يهود المدينة. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في رفاعة بن زيد ومالك بن دخشم كانا إذا تكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لويا لسانهما وعاباه، وعنه أنها نزلت في حبرين كانا يأتيان رأس المنافقين عبد الله بن أبيّ ورهطه يثبطانهم عن الإسلام. والمراد من الكتاب التوراة، وقيل: الجنس وتدخل فيه دخولا أوليا وفيه تطويل للمسافة، وقيل: القرآن لأن اليهود علموا أنه كتاب حق أتى به نبي صادق لا شبهة في نبوته، وفيه أنه خلاف الظاهر، و «بالذي أوتوه» ما بين لهم فيه من الأحكام والعلوم التي من جملتها ما علموه من نعت النبي صلّى الله عليه وسلّم، والتعبير عنه بالنصيب المشعر بأنه حق من حقوقهم التي تجب مراعاتها والمحافظة عليها للإيذان بركاكة آرائهم في الإهمال، والتنوين للتفخيم، وهو مؤيد للتشنيع، ومثله ما لو حمل على التكثير، ومِنَ متعلقة بمحذوف وقع صفة لنصيبا مبينة لفخامته الإضافية إثر فخامته الذاتية، وقيل: متعلقة- بأوتوا- وقوله تعالى: يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ استئناف مبين لمناط التشنيع ومدار التعجيب المفهومين من صدر الكلام مبني على سؤال نشأ منه كأنه قيل: ماذا يصنعون حتى ينظر إليهم؟ فقيل: يختارون الضلالة على الهدى أو يستبدلونها به بعد تمكنهم منه المنزل منزلة الحصول، أو حصوله لهم بالفعل بإنكارهم نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم. وقال الزجاج: المعنى يأخذون الرشا ويحرفون التوراة، فالضلالة هو هذا التحريف أي اشتروها بمال الرشا، وذهب أبو البقاء إلى أن جملة يَشْتَرُونَ حال مقدرة من ضمير أُوتُوا أو حال من الَّذِينَ، وتعقب الوجه الأول بأنه لا ريب في أن اعتبار تقدير اشترائهم المذكور في الإيتاء مما لا يليق بالمقام، والثاني بأنه خال عن إفادة أن مادة التشنيع والتعجيب هو الاشتراء المذكور، وما عطف عليه من قوله تعالى: وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ فالأوجه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 الاستئناف والمعطوف شريك للمعطوف عليه فيما سبق له، والمعنى أنهم لا يكتفون بضلال أنفسهم بل يريدون بما فعلوا من تكذيب النبي صلّى الله عليه وسلّم وكتم نعوته الناطقة بها التوراة أن تكونوا أنتم أيضا ضالين الطريق المستقيم الموصل إلى الحق، والتعبير بصيغة المضارع في الموضعين للإيذان بالاستمرار التجددي فإن تجدد حكم اشترائهم المذكور وتكرر العمل بموجبه في قوة تجدد نفسه وتكرره، وفي ذلك أيضا من التشنيع ما لا يخفى، وقرىء أن يضلوا بالياء بفتح الضاد وكسرها وَاللَّهُ أَعْلَمُ منكم أيها المؤمنون بِأَعْدائِكُمْ الذين من جملتهم هؤلاء، وقد أخبركم بعداوتهم لكم وما يريدون فاحذروهم، فالجملة معترضة للتأكيد وبيان التحذير وإلا فأعلمية الله تعالى معلومة، وقيل: المعنى أنه تعالى أعلم بحالهم ومآل أمرهم فلا تلتفتوا إليهم ولا تكونوا في فكر منهم وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا يلي أمركم وينفعكم بما شاء وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً يدفع عنكم مكرهم وشرهم فاكتفوا بولايته ونصرته ولا تبالوا بهم ولا تكونوا في ضيق مما يمكرون، وفي ذلك وعد للمؤمنين ووعيد لأعدائهم، والجملة معترضة أيضا، والباء مزيدة في فاعل كَفى تأكيدا للنسبة بما يفيد الاتصال وهو الباء الإلصاقية، وقال الزجاج: إنما دخلت هذه الباء لأن الكلام على معنى اكتفوا بالله، ووَلِيًّا ونَصِيراً منصوبان على التمييز، وقيل: على الحال، وتكرير الفعل في الجملتين مع إظهار الاسم الجليل لتأكيد كفايته عز وجل مع الإشعار بالعلية. مِنَ الَّذِينَ هادُوا قيل: هو بيان- للذين أوتوا- المتناول بحسب المفهوم لأهل الكتابين، وقد وسط بينهما ما وسط لمزيد الاعتناء ببيان محل التشنيع والتعجيب والمسارعة إلى تنفير المؤمنين عنهم والاهتمام بحثهم على الثقة بالله تعالى والاكتفاء بولايته ونصرته، واعترضه أبو حيان بأن الفارسي قد منع الاعتراض بجملتين فما ظنك بالثلاث؟! وأجاب الحلبي بأن الخلاف إذا لم يكن عطف- والجمل هنا متعاطفة- وبه يصير الشيئان شيئا واحدا، وقيل: إنه بيان لأعدائكم، وفيه أنه لا وجه لتخصيص علمه سبحانه بطائفة من أعدائهم لا سيما في معرض الاعتراض، وقيل: إنه صلة- لنصير- أي ينصركم مِنَ الَّذِينَ هادُوا وفيه تحجير لواسع نصرة الله تعالى مع أنه لا داعي لوضع الموصول موضع ضمير الأعداء وكون ما في حيز الصلة وصفا ملائما للنصر غير ظاهر، وقيل: إنه خبر مبتدأ محذوف، وقوله تعالى: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ صفة له أي مِنَ الَّذِينَ هادُوا قوم يُحَرِّفُونَ ويتعين هذا في قراءة عبد الله ومِنَ الَّذِينَ وقد تقرر أن المبتدأ إذا وصف بجملة أو ظرف، وكان بعض اسم مجرور بمن أو في مقدم عليه يطرد حذفه، ومنه قوله: وما الدهر إلا تارتان فمنهما ... أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح والفراء يجعل المبتدأ المحذوف اسما موصولا، ويُحَرِّفُونَ صلته أي مِنَ الَّذِينَ هادُوا من يُحَرِّفُونَ والبصريون يمنعون حذف الموصول مع بقاء صلته إلا أنه يؤيده ما في مصحف حفصة رضي الله تعالى عنها- من يحرفون- واعترض هذا أيضا بأنه يقتضي بظاهره كون الفريق السابق بمعزل من التحريف الذي هو المصداق لاشترائهم في الحقيقة، والْكَلِمَ اسم جنس واحده كلمة- كلبنة ولبن، ونبقة ونبق- وقيل: جمع- وليس بشيء على المختار- ولعل من أطلقه عليه أراد المعنى اللغوي أعني ما يدل على ما فوق الاثنين مطلقا، وتذكير ضميره باعتبار أفراده لفظا، وجمعيته باعتبار تعدده معنى، وقرىء بكسر الكاف وسكون اللام جمع- كلمة- تخفيف كلمة بنقل كسرة اللام إلى الكاف، وقرىء يُحَرِّفُونَ الكلام، والمراد به هاهنا إما ما في التوراة وإما ما هو أعم منه، ومما سيحكى عنهم من الكلمات الواقعة منهم في أثناء محاورتهم مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم، والأول هو المأثور عن السلف كابن عباس ومجاهد وغيرهما، وتحريف ذلك إما إزالته عن مواضعه التي وضعه الله تعالى فيها من التوراة كتحريفهم- ربعة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 - في نعت النبي صلّى الله عليه وسلّم، ووضعهم مكانه طوال، وكتحريفهم- الرجم- ووضع الحد موضعه، وإما صرفه عن المعنى الذي أنزله الله تعالى فيه إلى ما لا صحة له بالتأويلات الفاسدة والتمحلات الزائغة كما تفعله المبتدعة في الآيات القرآنية المخالفة لمذهبهم، ويؤيد الأول ما رواه البخاري عن ابن عباس قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل على رسوله أحدث تقرءونه محضا لم يشب وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله تعالى وغيروه وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا، واستشكل بأنه كيف يمكن ذلك في الكتاب الذي بلغت آحاد حروفه وكلماته مبلغ التواتر وانتشرت نسخه شرقا وغربا؟!. وأجيب بأن ذلك كان قبل اشتهار الكتاب في الآفاق وبلوغه مبلغ التواتر وفيه بعد، وإن أيد بوقوع الاختلاف في نسخ التوراة التي عند طوائف اليهود، وقيل: إن اليهود فعلوا ذلك في نسخ من التوراة ليضلوا بها ولما لم ترج عدلوا إلى التأويل، والمراد من مَواضِعِهِ على تقدير إرادة الأعم ما يليق به مطلقا سواء كان ذلك بتعيينه تعالى صريحا كمواضع ما في التوراة أو بتعيين العقل والدين كمواضع غيره، وأصل التحريف إمالة الشيء إلى حرف أي طرف فإذا كان يُحَرِّفُونَ بمعنى يزيلون كان كناية لأنهم إذا بدلوا الْكَلِمَ ووضعوا مكانه غيره لزم أنهم أمالوه عن مواضعه وحرفوه، والفرق بين ما هنا وما يأتي في سورة المائدة من قوله سبحانه: مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ [المائدة: 41] أن الثاني أدل على ثبوت مقار الْكَلِمَ واشتهارها مما هنا، وذلك لأن الظرف يدل على أنه بعد ما ثبت الموضع وتقرر حرفوه عنه، واختار ذلك هنا لك لأن فيه ما يقتضي الإتيان بالأدل الأبلغ وَيَقُولُونَ عطف على يُحَرِّفُونَ وأكثر العلماء على أن المراد به القول اللساني بمحضر النبي صلّى الله عليه وسلّم، واختار البعض حمله على ما يعم ذلك وما يترجم عنه عنادهم ومكابرتهم ليندرج فيه ما نطقت به ألسنة حالهم عند تحريف التوراة ولا يقيد حينئذ بزمان أو مكان ولا يخصص بمادة دون مادة ويحتاج إلى ارتكاب عموم المجاز لئلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز والمعنى عليه أنهم مع ذلك التحريف يقولون ويفهمون في كل أمر مخالف لأهوائهم الفاسدة سواء كان بمحضر النبي صلّى الله عليه وسلّم أو بلسان الحال أو المقال عنادا وتحقيقا للمخالفة سَمِعْنا أي فهمنا وَعَصَيْنا أي لم نأتمر وبذلك فسره الراغب وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ عطف على سَمِعْنا داخل معه تحت القول لكن باعتبار أنه لساني، وفي أثناء مخاطبته صلّى الله عليه وسلّم- وهو كلام ذو وجهين- محتمل للشر والخير، ويسمى في البديع بالتوجيه كما قاله غير واحد، ومثلوا له بقوله: خاط لي عمرو قباء ... ليت عينيه سواء واحتماله للشر بأن يحمل على معنى اسمع مدعوا عليك بلا سمعت، أو اسْمَعْ غَيْرَ مجاب إلى ما تدعو إليه، أو اسْمَعْ نابي السمع عما تسمعه لكراهيته عليك، أو اسْمَعْ كلاما غَيْرَ مُسْمَعٍ إياك لأن أذنيك تنبو عنه- فغير- إما حال لا غير، وإما مفعول به وصحت الحالية على الاحتمال الأول باعتبار أن الدعاء هو المقصود لهم وأنهم لما قدروا- لعنهم الله تعالى- إجابته صار كأنه واقع مقرر، واحتماله للخير بأن يحمل على معنى اسْمَعْ منا غَيْرَ مُسْمَعٍ مكروها من قولهم: أسمعه فلان إذا سبه، وكان أصله أسمعه ما يكره فحذف مفعوله نسيا منسيا وتعورف في ذلك، وقد كانوا لعنهم الله تعالى يخاطبون بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استهزاء مظهرين له صلّى الله عليه وسلّم المعنى الأخير وهم يضمرون سواه وَراعِنا عطف على ما قبله أي ويقولون أيضا في أثناء خطابهم له صلّى الله عليه وسلّم هذا وهو ذو وجهين كسابقه، فاحتماله للخير على معنى أمهلنا وانظر إلينا، أو انتظرنا نكلمك، واحتماله للشر يحمله على السب، ففي التيسير: إن راعنا بعينه مما يتسابون به وهو للوصف بالرعونة، وقيل: إنه يشبه كلمة سب عندهم عبرانية أو سريانية وهي راعينا، وقيل: بل كانوا يشبعون كسر العين ويعنون- لعنهم الله تعالى- أنه- وحاشاه صلّى الله عليه وسلّم- بمنزلة خدمهم ورعاة غنمهم، وقد كانوا يقولون ذلك مظهرين الاحترام والتوقير مضمرين ما يستحقون به جهنم وبئس المصير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 وهذا نوع من النفاق ولا ينافيه تصريحهم بالعصيان لما قيل: إن جميع الكفار يخاطبون النبي صلّى الله عليه وسلّم بالكفر ولا يخاطبونه بالسب والذم والدعاء عليه عليه الصلاة والسلام، واعترض بأنه حينئذ لا وجه لإيراد السماع والعصيان مع التحريف وإلقاء الكلام المحتمل احتيالا، وأجيب بأنه يمكن أن يقال: المقصود على هذا عد صفاتهم الذميمة لا مجرد التحريف والاحتيال فكأنه قيل: يحرفون كتابهم ويجاهرون بإنكار نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم قالا وحالا، وعصيانهم بعد سماع ما بلغهم وتحققه لديهم ويحتالون في سبه صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: إن قولهم سَمِعْنا وَعَصَيْنا [البقرة: 93، النساء: 46] لم يكن بمحضره عليه الصلاة والسلام بل كان فيما بينهم فلا ينافي نفاقهم في الجملتين بين يديه صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: القول نظرا إلى الجملة الأولى حالي وإلى الجملتين الأخيرتين لساني، وقيل: إن الأولى أيضا ذات وجهين كالأخيرتين إذ يحتمل أن يكون مرادهم أطعنا أمرك وعصينا أمر قومنا، ويحتمل أن يكون مرادهم ما تقدم. ومن الناس من جوز أن يراد بتحريف الكلم إمالتها عن مواضعها سواء كانت مواضع وضعها الله تعالى فيها أو جعلها المقام والعرف مواضع لذلك فيكون المعنى هم قوم عادتهم التحريف، ويكون قوله سبحانه: وَيَقُولُونَ إلخ تعدادا لبعض تحريفاتهم، والمراد أنهم يقولون لك: سَمِعْنا وعند قومهم عَصَيْنا ويقولون كذا وكذا فيظهرون لك شيئا ويبطنون خلافه لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ اللي يكون بمعنى الانحراف والالتفات والانعطاف عن جهة إلى أخرى، ويكون بمعنى ضم إحدى نحو طاقات الحبل على الأخرى. والمراد به هنا إما صرف الكلام من جانب الخير إلى جانب الشر، وإما ضم أحد الأمرين إلى الآخر، وأصله لوى فقلبت الواو ياء وأدغمت، ونصبه على أنه مفعول له- ليقولون- باعتبار تعلقه بالقولين الأخيرين، وقيل: بالأقوال جميعها، أو على أنه حال أي- لاوين- ومثله في ذلك قوله تعالى: وَطَعْناً فِي الدِّينِ أي قدحا فيه بالاستهزاء والسخرية، وكل من الظرفين متعلق بما عنده وَلَوْ أَنَّهُمْ عند ما سمعوا شيئا من أوامر الله تعالى ونواهيه قالُوا بلسان المقال كما هو الظاهر أو به وبلسان الحال كما قيل: سَمِعْنا سماع قبول مكان قولهم: سَمِعْنا المراد به سماع الرد وَأَطَعْنا مكان قولهم: عَصَيْنا وَاسْمَعْ بدل قولهم: اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ. وَانْظُرْنا بدل قولهم: راعِنا لَكانَ قولهم هذا خَيْراً لَهُمْ وأنفع من قولهم ذلك وَأَقْوَمَ أي أعدل في نفسه، وصيغة التفضيل إما على بابها واعتبار أصل الفعل في المفضل عليه بناء على اعتقادهم أو بطريق التهكم، وإما بمعنى اسم الفاعل فلا حاجة إلى تقدير من، وفي تقديم حال القول بالنسبة إليهم على حاله في نفسه إيماء إلى أن همم اليهود لعنهم الله تعالى طماحة إلى ما ينفعهم، والمنسبك من أن وما بعدها فاعل ثبت المقدر لدلالة أن عليه أي لو ثبت قولهم: سَمِعْنا إلخ وهو مذهب المبرد، وقيل: مبتدأ لا خبر له، وقيل: خبره مقدر وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ أي ولكن لم يقولوا الأنفع والأقوم، واستمروا على ذلك فخذلهم الله تعالى وأبعدهم عن الهدى بسبب كفرهم فَلا يُؤْمِنُونَ بعد إِلَّا قَلِيلًا اختار العلامة الثاني كونه استثناء من ضمير المفعول في لَعَنَهُمُ أي ولكن لعنهم الله تعالى إلا فريقا قليلا منهم فإنه سبحانه لم يلعنهم فلهذا آمن من آمن منهم كعبد الله بن سلام وأضرابه، وقيل: هو مستثنى من فاعل يُؤْمِنُونَ ويتجه عليه أن الوجه حينئذ الرفع على البدل لأنه من كلام غير موجب مع أن القراء قد اتفقوا على النصب، ويبعد منهم الاتفاق على غير المختار مع أنه يقتضي وقوع إيمان من لعنه الله تعالى وخذله إلا أن يحمل لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ على لعن أكثرهم وهو كما ترى، وقيل: إنه صفة مصدر محذوف أي إلا إيمانا قليلا لأنهم وحدوا وكفروا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وشريعته، والإيمان بمعنى التصديق لا الإيمان الشرعي، وجوز على هذا الوجه أن يراد بالقلة العدم كما في قوله: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 قليل التشكي للمهم يصيبه ... كثير الهوى شتى النوى والمسالك والمراد أنهم لا يؤمنون إلا إيمانا معدوما إما على حد لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدخان: 56] أي إن كان المعدوم إيمانا فهم يحدثون شيئا من الإيمان فهو من التعليق بالمحال، أو أن ما أحدثوه منه لما لم يشتمل على ما لا بد منه كان معدوما انعدام الكل بجزئه، والوجه هو الأول يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ نزلت كما قال السدي: في زيد بن التابوت ومالك بن الصيف. وأخرج البيهقي في الدلائل وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «كلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رؤساء من أحبار يهود منهم عبد الله بن صوريا وكعب بن أسد فقال لهم: يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فو الله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحق فقالوا: ما نعرف ذلك يا محمد فأنزل الله تعالى فيهم الآية، ولا يخفى أن العبرة لعموم اللفظ وهو شامل لمن حكيت أحوالهم وأقوالهم ولغيرهم، وجعل الخطاب للأولين خاصة- بطريق الالتفات، وأن وصفهم بإيتاء الكتاب تارة وبإيتاء نصيب منه أخرى لتوفية كل من المقامين حظه- بعيد جدا، ولما كان تفصيل هاتيك الأحوال والأقوال من مظان إقلاع من توجه الخطاب إليهم عما هم عليه من الضلالة عقب ذلك بالأمر بالمبادرة إلى سلوك محجة الهدى مشفوعا بالتحذير والتخويف والوعيد الشديد على المخالفة فقال سبحانه: آمِنُوا إيمانا شرعيا بِما نَزَّلْنا أي بالذي أنزلناه من عندنا على رسولنا محمد صلّى الله عليه وسلّم من القرآن مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ من التوراة الغير المبدلة، وقد تقدم كيفية تصديق القرآن لذلك وعبر عن التوراة بما ذكر للإيذان بكمال وقوفهم على حقيقة الحال المؤدي إلى العلم بكون القرآن مصدقا لها مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً متعلق بالأمر مفيد للمسارعة إلى الامتثال لما فيه من الوعيد الوارد على أبلغ وجه وآكده حيث لم يعلق وقوع المتوعد به بالمخالفة ولم يصرح بوقوعه عندها تنبيها على أن ذلك أمر محقق غني عن الإخبار به وأنه على شرف الوقوع متوجه نحو المخاطبين، وفي تنكير وجوه تهويل للخطب مع لطف، وحسن استدعاء، وأصل الطمس استئصال أثر الشيء، والمراد آمنوا من قبل أن نمحو ما خطه الباري بقلم قدرته في صحائف الوجوه من نون الحاجب، وصاد العين، وألف الأنف، وميم الفم فنجعلها كخف البعير أو كحافر الدابة، وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وقال الفراء والبلخي وحسين المغربي: إن المعنى آمنوا من قبل أن نجعل الوجوه منابت الشعر كوجوه القردة فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أي فنجعلها على هيئة أدبارها وأقفائها مطموسة مثلها فإن ما خلف الوجه لا تصوير فيه وهو منبت الشعر أيضا والعطف بالفاء إما على إرادة نريد الطمس، أو على جعل العطف من عطف المفصل على المجمل، وعن عطية العوفي: أن المراد ننكسها بعد الطمس بجعل العيون التي فيها وما معها في القفا، فالعطف بالفاء ظاهر، وقيل: المراد بالوجوه الوجهاء على أن الطمس بمعنى مطلق التغيير أي من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلب وجاهتهم وإقبالهم ونكسوهم صغارا وإدبارا، أو نردهم من حيث جاؤوا منه، وهي أذرعات الشام، فالمراد بذلك إجلاء بني النضير، وإلى هذا المراد ذهب ابن زيد، وضعف بأنه لا يساعده مقام تشديد الوعيد، وتعميم التهديد للجميع. وقد اختلف في أن الوعيد هل كان بوقوعه في الدنيا أو في الآخرة، فقال جماعة: كان بوقوعه في الدنيا وأيد بما أخرجه ابن جرير عن عيسى بن المغيرة قال: تذاكرنا عند إبراهيم إسلام كعب فقال: أسلم كعب في زمان عمر رضي الله تعالى عنه أقبل وهو يريد بيت المقدس فمر على المدينة فخرج إليه عمر فقال: يا كعب أسلم قال: ألستم تقرءون في كتابكم مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً [الجمعة: 5] ؟ وأنا قد حملت التوراة فتركه، ثم خرج حتى انتهى إلى حمص فسمع رجلا من أهلها يقرأ هذه الآية فقال: رب آمنت رب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 أسلمت مخافة أن يصيبه وعيدها، ثم رجع فأتى أهله باليمن ثم جاء بهم مسلمين، وروي أن عبد الله بن سلام لما قدم من الشام وقد سمع هذه الآية أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يأتي أهله فأسلم، وقال: يا رسول الله ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي إلى قفاي، ثم اختلفوا فقال المبرد: إنه منتظر بعد ولا بد من طمس في اليهود ومسخ قبل قيام الساعة، وأيد بتنكير وجوه، والتعبير بضمير الغيبة فيما يأتي، واعترضه شيخ الإسلام بأن انصراف العذاب الموعود عن أوائلهم وهم الذين باشروا أسباب نزوله وموجبات حلوله حيث شاهدوا شواهد النبوة في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكذبوها وفي التوراة فحرفوها وأصروا على الكفر والضلالة، وتعلق بهم خطاب المشافهة بالوعيد ثم نزوله على من وجه بعد ما فات من السنين من أعقابهم الضالين بإضلالهم العاملين بما مهدوا من قوانين الغواية بعيد من حكمة العزيز الحكيم، والجواب بأن عادة الله سبحانه قد جرت مع اليهود بأن ينتقم من أخلافهم بما صنعت أسلافهم وإن لم يعلم وجه الحكمة فيه على تقدير تسليمه لا يزيل البعد في هذه الصورة، وقال البرسي: إن هذا الوعيد كان متوجها إليهم لو لم يؤمن أحد منهم، وقد آمن جماعة من أحبارهم فلم يقع ورفع عن الباقين، واعترض أيضا بأن إسلام البعض إن لم يكن سببا لتأكد نزول العذاب على الباقين لتشديدهم النكير والعناد بعد ازدياد الحق وضوحا وقيام الحجة عليهم بشهادة أماثلهم العدول فلا أقل من أن لا يكون سببا لرفعه عنهم، وقيل: في الجواب أنه إذا جاز أن ينزل سبحانه البلاء على قوم بسبب عصيان بعض منهم كما يشير إليه قوله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: 25] فلأن يجوز أن يرفع ذلك عن الكل بسبب طاعة البعض من باب أولى لأنه سبحانه الرحمن الرحيم الذي سبقت رحمته غضبه. وقد ورد في الأخبار ما يدل على وقوع ذلك، ودعوى الفرق مما لا تكاد تسلم، وقيل: كان الوعيد بوقوع أحد الأمرين كما ينطق به قوله تعالى: أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ فإن لم يقع الأمر الأول فلا نزاع في وقوع الأمر الثاني فإن اليهود ملعونون بكل لسان وفي كل زمان، فاللعن بمعناه الظاهر والمراد من التشبيه بلعن أصحاب السبت الإغراق في وصفه، واعترض بأن اللعن الواقع عليهم ما تداولته الألسنة وهو بمعزل من صلاحيته أن يكون حكما لهذا الوعيد أو مزجرة عن مخالفة للعنيد، فاللعن هنا الخزي بالمسخ وجعلهم قردة وخنازير كما أخرجه ابن المنذر عن الضحاك وابن جرير عن الحسن، ويؤيده ظاهر التشبيه، وليس في عطفه على الطمس والرد على الأدبار شائبة دلالة على إرادة ذلك ضرورة أنه تعبير مغاير لما عطف عليه، والاستدلال على مغايرة اللعن للمسخ بقوله تعالى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ [المائدة: 60] لا يفيد أكثر من مغايرته للمسخ في تلك الآية، وذهب البلخي والجبائي إلى أن الوعيد إنما كان بوقوع ما ذكر في الآخرة عند الحشر وسيقع فيها أحد الأمرين أو كلاهما على سبيل التوزيع. وأجيب عما روي عن الحبرين الظاهر في أن ذلك في الدنيا بأنه مبني على الاحتياط وغلبة الخوف اللائق بشأنها، وقد ورد «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يكثر الدخول والخروج في الحجرات ولا يكاد يقر له قرار إذا اشتد الهواء، ويقول: أخشى أن تقوم الساعة» مع علمه صلّى الله عليه وسلّم بأن قبل قيامها القائم وعيسى عليه السلام. والدجال عليه اللعنة والدابة وطلوع الشمس من مغربها إلى غير ذلك مما قصه صلّى الله عليه وسلّم علينا، وجوز بعضهم على تقدير كون الوعيد بالوقوع في الآخرة أن يراد بالطمس والرد على الأدبار الختم على العين والفم والطبع عليهما، فقد قال الله تعالى: لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ [يس: 66] والْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ [يس: 65] وجوز نحو هذا بعض من ادعى أن ذلك في الدنيا فقال: إن المعنى آمنوا من قبل أن نطمس وجوها بأن نعمي الأبصار عن الاعتبار، ونصم الأسماع عن الإصغاء إلى الحق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 بالطبع، ونردها عن الهداية إلى الضلالة. وروي ذلك عن الضحاك، وأخرجه أبو الجارود عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه، والحق أن الآية ليست بنص في كون ذلك في الدنيا أو في الآخرة بل المتبادر منها بحسب المقام كونه في الدنيا لأنه أدخل في الزجر، وعليه مبنى ما روي عن الحبرين لكن لما كان في وقوع ذلك خفاء واحتمال أنه وقع ولم يبلغنا- على ما في التيسير- مما لا يلتفت إليه، ورجح احتمال كونه في الآخرة، وأيّا ما كان فلعل السر في تخصيصهم بهذه العقوبة من بين العقوبات- كما قال شيخ الإسلام- مراعاة المشاكلة بينها وبين ما أوجبها من جنايتهم التي هي التحريف والتغيير والفاعل والراضي سواء، والضمير المنصوب في- نلعنهم- لأصحاب الوجوه، أو- للذين- على طريق الالتفات لأنه بعد تمام النداء يقتضي الظاهر الخطاب، وأما قبله فالظاهر الغيبة، ويجوز الخطاب لكنه غير فصيح كقوله: يا من يعز علينا أن نفارقهم ... وجداننا كل شيء بعدكم عدم أو للوجوه إن أريد به الوجهاء وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ بإيقاع شيء ما من الأشياء، فالمراد بالأمر معناه المعروف، ويحتمل أن يراد به واحد الأمور ولعله الأظهر أي كان وعيده أو ما حكم به وقضاه مَفْعُولًا نافذا واقعا في الحال أو كائنا في المستقبل لا محالة، ويدخل في ذلك ما أوعدتم به دخولا أوليا، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما سبق، ووضع الاسم الجليل موضع الضمير بطريق الالتفات لما مر غير مرة. إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ كلام مستأنف مقرر لما قبله من الوعيد ومؤكد وجوب امتثال الأمر بالإيمان حيث إنه لا مغفرة بدونه كما زعم اليهود، وأشار إليه قوله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا [الأعراف: 169] وفيه أيضا إزالة خوفهم من سوء الكبائر السابقة إذا آمنوا. والشرك يكون بمعنى اعتقاد أن لله تعالى شأنه شريكا إما في الألوهية أو في الربوبية، وبمعنى الكفر مطلقا- وهو المراد هنا- كما أشار إليه ابن عباس فيدخل فيه كفر اليهود دخولا أوليا فإن الشرع قد نص على إشراك أهل الكتاب قاطبة وقضى بخلود أصناف الكفرة كيف كانوا، ونزول الآية في حق اليهود على ما روي عن مقاتل لا يقتضي الاختصاص بكفرهم بل يكفي الاندراج فيما يقتضيه عموم اللفظ، والمشهور أنها نزلت مطلقة، فقد أخرج ابن المنذر عن أبي مجلز قال: «لما نزل قوله تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزمر: 53] الآية قام النبي صلّى الله عليه وسلّم على المنبر فتلاها على الناس فقام إليه رجل فقال: والشرك بالله؟ فسكت، ثم قام إليه فقال: يا رسول الله والشرك بالله تعالى؟ فسكت مرتين أو ثلاثا فنزلت هذه الآية إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ» إلخ والمعنى أن الله تعالى لا يغفر الكفر لمن اتصف به بلا توبة وإيمان لأنه سبحانه بت الحكم على خلود عذابه، وحكمه لا يتغير، ولأن الحكمة التشريعية مقتضية لسد باب الكفر ولذا لم يبعث نبي إلا لسده وجواز مغفرته بلا إيمان مما يؤدي إلى فتحه، وقيل: لأن ذنبه لا ينمحي عنه أثره فلا يستعد للعفو بخلاف غيره، ولا يخفى أن هذا مبني على أن فعل الله تعالى تابع لاستعداد المحل، وإليه ذهب أكثر الصوفية وجميع الفلاسفة، فإن يُشْرَكَ في موضع النصب على المفعولية وقيل: المفعول محذوف والمعنى لا يغفر من أجل أن يشرك به شيئا من الذنوب فيفيد عدم غفران الشرك من باب أولى، والذي عليه المحققون هو الأول. وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ عطف على خبر إن لا مستأنف، وذلك إشارة إلى الشرك، وفيه إيذان ببعد درجته في القبح أي يغفر ما دونه من المعاصي وإن عظمت وكانت كرمل عالج، ولم يتب عنها تفضلا من لدنه وإحسانا لِمَنْ يَشاءُ أن يغفر له ممن اتصف بما ذكر فقط، فالجار متعلق- بيغفر- المثبت، والآية ظاهرة في التفرقة بين الشرك وما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 دونه بأن الله تعالى لا يغفر الأول البتة ويغفر الثاني لمن يشاء، والجماعة يقولون بذلك عند عدم التوبة فحملوا الآية عليه بقرينة الآيات والأحاديث الدالة على قبول التوبة فيهما جميعا، ومغفرتهما عندها بلا خلاف من أحد، وذهب المعتزلة إلى أنه لا فرق بين الشرك وما دونه من الكبائر في أنهما يغفران بالتوبة ولا يغفران بدونها فحملوا الآية كما قيل: على معنى- إن الله لا يغفر الإشراك لمن يشاء أن لا يغفر له وهو غير التائب ويغفر ما دونه لمن يشاء أن يغفر له وهو التائب- وجعلوا لِمَنْ يَشاءُ متعلقا بالفعلين وقيدوا المنفي بما قيد به المثبت على قاعدة التنازع لكن من يشاء في الأول المصرون بالاتفاق وفي الثاني التائبون قضاء لحق التقابل وليس هذا من استعمال اللفظ الواحد في معنيين متضادين لأن المذكور إنما تعلق بالثاني وقدر في الأول مثله والمعنى واحد لكن يقدر مفعول المشيئة في الأول عدم الغفران وفي الثاني الغفران بقرينة سبق الذكر، ولا يخفى أن كون هذا من التنازع مع اختلاف متعلق المشيئة مما لا يكاد يتفوه به فاضل ولا يرتضيه كامل على أنه لا جهة لتخصيص كل من القيدين بما خصص لأن الشرك أيضا يغفر للتائب وما دونه لا يغفر للمصر عندهم من غير فرق بينهما، وسوق الآية ينادي بالتفرقة وتقييد مغفرة ما دُونَ ذلِكَ بالتوبة مما لا دليل عليه إذ ليس عموم آيات الوعيد بالمحافظة أولى من آيات الوعد. وقد ذكر الآمدي في أبكار الأفكار أنها راجحة على آيات الوعيد بالاعتبار من ثمانية أوجه سردها هناك وزعم أنها لو لم تقيد، وقيل: بجواز المغفرة لمن لم يتب لزم إغراء الله تعالى للعبد بالمعصية لسهولتها عليه حينئذ والإغراء بذلك قبيح يستحيل على الله سبحانه ليس بشيء، أما أولا فلأنه مبني على القول بالحسن والقبح العقليين وقد أبطل في محله. وأما ثانيا فلأن لو سلم يلزم منه تقبيح العفو شاهدا وهو خلاف إجماع العقلاء، وأما ثالثا فلأنه منقوض بالتوبة فإنهم قالوا: بوجوب قبولها ولا يخفى أن ذلك مما يسهل على العاصي الإقدام على المعصية أيضا ثقة منه بالتوبة حسب وثوقه بالمغفرة بل أبلغ من حيث إن التوبة مقدورة له بخلاف المغفرة فكان يجب أن لا تقبل توبته لما فيه من الإغراء وهو خلاف الإجماع فلئن قالوا: هو غير واثق بالإمهال إلى التوبة قلنا: هو غير واثق بالمغفرة لإبهام الموصول، والقول: بأنه لو لم تشترط التوبة لزم المحاباة من الله تعالى في الغفران للبعض دون البعض والمحاباة غير جائزة عليه تعالى ساقط من القول لأن الله تعالى متفضل بالغفران وللمتفضل أن يتفضل على قوم دون قوم وإنسان دون إنسان وهو عادل في تعذيب من يعذبه، وليس يمنع العقل والشرع من الفضل والعدل كما لا يخفى، ومن المعتزلة من قال: إن المغفرة قد جاءت بمعنى تأخير العقوبة دون إسقاطها كما في قوله تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ [الرعد: 6] فإنه لا يصح هنا حملها على إسقاط العقوبة لأن الآية في الكفار والعقوبة غير ساقطة عنهم إجماعا، وقوله تعالى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ [الكهف: 58] فإنه صريح في أن المغفرة بمعنى تأخير العقوبة فلتحمل فيما نحن فيه على ذلك بقرينة إن الله تعالى خاطب الكفار وحذرهم تعجيل العقوبة عن ترك الإيمان، ثم قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ إلخ فيكون المعنى إن الله تعالى لا يؤخر عقوبة الشرك بل يعجلها ويؤخر عقوبة ما دونه لمن يشاء فلا تنهض الآية دليلا على ما هو محل النزاع على أنه لو سلم أن المغفرة فيها بمعنى إسقاط العقوبة لا يحصل الغرض أيضا لأنه إما أن يراد إسقاط كل واحد واحد من أنواع العقوبة، أو يراد إسقاط جملة العقوبات، أو يراد إسقاط بعض أنواعها لا سبيل إلى الأول لعدم دلالة اللفظ عليه بقي الاحتمالان الآخران، وعلى الأول منهما لا يلزم من كونه لا يعاقب بكل أنواع العقوبات أن لا يعاقب ببعضها، وعلى الثاني لا يلزم من إسقاط بعض الأنواع إسقاط البعض الآخر. وأجيب بأن حمل المغفرة على إسقاط العقوبة أولى من حملها على التأخير لثلاثة أوجه: الأول أنه المعنى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 المتبادر من إطلاق اللفظ، الثاني أنه لو حمل لفظ المغفرة في الآية على التأخير لزم منه التخصيص في أن الله لا يغفر أن يشرك به لأن عقوبة الشرك مؤخرة في حق كثير من المشركين بل ربما كانوا في أرغد عيش وأطيبه بالنسبة إلى عيش بعض المؤمنين وأن لا يفرق في مثل هذه الصورة بين الشرك وما دونه بخلاف حملها على الإسقاط، الثالث أن الأمة من السلف قبل ظهور المخالفين لم يزالوا مجمعين على حمل لفظ المغفرة في الآية على سقوط العقوبة وما وقع عليه الإجماع هو الصواب وضده لا يكون صوابا. وقولهم: لا يحصل الغرض أيضا لو حملت على ذلك لأنه إما أن يراد إلخ قلنا: بل المراد إسقاط كل واحد واحد وبيانه أن قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ سلب للغفران فإذا كان المفهوم من الغفران إسقاط العقوبة فسلب الغفران سلب السلب فيكون إثباتا، ومعناه إقامة العقوبة، وعند ذلك فإما أن يكون المفهوم إقامة كل أنواع العقوبات، أو بعضها لا سبيل إلى الأول لاستحالة الجمع بين العقوبات المتضادة ولأن ذلك غير مشترط في حق الكفار إجماعا فلم يبق إلا الثاني، ويلزم من ذلك أن يكون الغفران فيما دون الشرك بإسقاط كل عقوبة وإلا لما تحقق الفرق بين الشرك وما دونه، ومنهم من وقع في حيص بيص في هذه الآية حتى زعم أن وَيَغْفِرُ عطف على المنفي والنفي منسحب عليهما، والآية للتسوية بين الشرك وما دونه لا للتفرقة، ولا يخفى أنه من تحريف كلام الله تعالى ووضعه في غير مواضعه. ومن الجماعة من قال في الرد على المعتزلة: إن التقييد بالمشيئة ينافي وجوب التعذيب قبل التوبة ووجوب الصفح بعدها، وتعقبه صاحب الكشف بأنه لم يصدر عن ثبت لأن الوجوب بالحكمة يؤكد المشيئة عندهم، وأيضا قد أشار الزمخشري في هذا المقام إلى أن المشيئة بمعنى الاستحقاق وهي تقتضي الوجوب وتؤكده فلا يرد ما ذكر رأسا. ثم إن هذه الآية كما يرد بها على المعتزلة يرد بها على الخوارج الذين زعموا أن كل ذنب شرك وأن صاحبه خالد في النار، وذكر الجلال السيوطي أن فيها ردا أيضا على المرجئة القائلين: إن أصحاب الكبائر من المسلمين لا يعذبون. وأخرج ابن الضريس وابن عدي بسند صحيح عن ابن عمر قال: «كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا صلّى الله عليه وسلّم إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ» الآية، وقال: إني ادخرت دعوتي وشفاعتي لأهل الكبائر من أمتي فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا ثم نطقنا ورجونا، وقد استبشر الصحابة رضي الله تعالى عنهم بهذه الآية جدا حتى قال علي كرم الله تعالى وجهه فيما أخرجه عنه الترمذي وحسنه: أحب آية إليّ في القرآن إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ. وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ استئناف مشعر بتعليل عدم غفران الشرك، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لإدخال الروعة، وزيادة تقبيح الإشراك، وتفظيع حال من يتصف به أي ومن يشرك بالله تعالى الجامع لجميع صفات الكمال من الجمال، والجلال أي شرك كان فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً أي ارتكب ما يستحقر دونه الآثام فلا تتعلق به المغفرة قطعا، وأصل الافتراء من الفري، وهو القطع ولكون قطع الشيء مفسدة له غالبا غلب على الإفساد، واستعمل في القرآن بمعنى الكذب، والشرك والظلم كما قاله الراغب، فهو ارتكاب ما لا يصلح أن يكون قولا أو فعلا، فيقع على اختلاق الكذب وارتكاب الإثم، وهو المراد هنا، وهل هو مشترك بين اختلاق الكذب وافتعال ما لا يصلح أم حقيقة في الأول مجاز مرسل، أو استعارة في الثاني؟ قولان: أظهرهما عند البعض الثاني، ولا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز لأن الشرك أعم من القولي والفعلي لأن المراد معنى عام وهو ارتكاب ما لا يصلح، وفي مجمع البيان التفرقة بين فريت وأفريت في أصل المعنى بأنه يقال: فريت الأديم إذا قطعته على وجه الإصلاح، وأفريته إذا قطعته على وجه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 الإفساد أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ قال الكلبي: نزلت في رجال من اليهود أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأطفالهم فقالوا: يا محمد هل على أولادنا هؤلاء من ذنب؟ فقال: لا فقالوا: والذي يحلف به ما نحن فيه إلا كهيئتهم ما من ذنب نعمله بالنهار إلا كفر عنا بالليل وما من ذنب نعمله بالليل إلا كفر عنا بالنهار فهذا الذي زكوا به أنفسهم وأخرج ابن جرير عن الحسن «أنها نزلت في اليهود والنصارى حيث قالوا: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 18] وقالوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة: 111] والمعنى انظر إليهم فتعجب من ادعائهم أنهم أزكياء عند الله تعالى مع ما هم عليه من الكفر والإثم العظيم، أو من ادعائهم أن الله تعالى يكفر ذنوبهم الليلية والنهارية مع استحالة أن يغفر لكافر شيء من كفره أو معاصيه، وفي معناهم من زكى نفسه وأثنى عليها لغير غرض. صحيح كالتحدث بالنعمة ونحوه بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ إبطال لتزكية أنفسهم وإثبات لتزكية الله تعالى وكون ذلك للإضراب عن ذمهم بتلك التزكية إلى ذمهم بالبخل والحسد بعيد لفظا ومعنى، والجملة عطف على مقدر ينساق إليه الكلام كأنه قيل: هم لا يزكونها في الحقيقة بل الله يزكي من يشاء تزكيته ممن يستأهل من عباده المؤمنين «إذ هو العليم الخبير» وأصل التزكية التطهير والتنزيه من القبيح قولا- كما هو ظاهر- أو فعلا كقوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها [الشمس: 9] ، وخُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التوبة: 103] وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا عطف على جملة حذفت تعويلا على دلالة الحال عليها، وإيذانا بأنها غنية عن الذكر أي يعاقبون بتلك الفعلة الشنيعة ولا يظلمون في ذلك العقاب أدنى ظلم، وأصغره، وهو المراد بالفتيل، وهو الخيط الذي شق النواة وكثيرا ما يضرب به المثل في القلة والحقارة- كالنقير للنقرة التي في ظهرها- والقطمير- وهو قشرتها الرقيقة، وقيل: الفتيل ما خرج بين إصبعيك وكفيك من الوسخ، وروي ذلك عن ابن عباس وأبي مالك والسدي رضي الله تعالى عنهم، وجوز أن تكون جملة وَلا يُظْلَمُونَ في موضع الحال والضمير راجع إلى من حملا له على المعنى أي والحال أنهم لا ينقصون من ثوابهم أصلا بل يعطونه يوم القيامة عملا مع ما زكاهم الله تعالى ومدحهم في الدنيا. وقيل: هو استئناف، والضمير عائد على الموصولين من زكى نفسه، ومن زكاه الله تعالى أي لا ينقص هذا من ثوابه ولا ذاك من عقابه، والأول أمس بمقام الوعيد، وانتصاب فَتِيلًا على أنه مفعول ثان كقولك: ظلمته حقه، قال علي بن عيسى: ويحتمل أن يكون تمييزا كقولك: تصببت عرقا. انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ في زعمهم أنهم أزكياء عند الله تعالى المتضمن لزعمهم قبول الله تعالى وارتضاءه إياهم ولشناعة هذا لما فيه من نسبته تعالى إلى ما يستحل عليه بالكلية وجه النظر إلى كيفيته تشديدا للتشنيع وتأكيدا للتعجيب الدال عليه الكلام وإلا فهم أيضا مفترون على أنفسهم بادعائهم الاتصاف بما هم متصفون بنقيضه، وكَيْفَ في موضع نصب إما على التشبيه بالظرف أو بالحال على الخلاف المشهور بين سيبويه، والأخفش، والعامل يَفْتَرُونَ وبِهِ متعلق به. وجوز أبو البقاء أن يكون حالا من الكذب، وقيل: هو متعلق به، والجملة في موضع النصب بعد نزع الخافض وفعل النظر معلق بذلك والتصريح بالكذب مع أن الافتراء لا يكون إلا كذبا للمبالغة في تقبيح حالهم وَكَفى بِهِ أي بافترائهم، وقيل: بهذا الكذب الخاص إِثْماً مُبِيناً لا يخفى كونه مأثما من بين آثامهم وهذا عبارة عن كونه عظيما منكرا، والجملة كما قال عصام الملة: في موضع الحال بتقدير قد أي- كيف يفترون الكذب والحال أن ذلك ينافي مضمونه لأنه إثم مبين- والآثم بالإثم المبين غير المتحاشى عنه مع ظهوره لا يكون ابن الله سبحانه وتعالى وحبيبه ولا يكون زكيا عند الله تعالى، وانتصاب إِثْماً على التمييز. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ تعجيب من حال أخرى لهم ووصفهم بما في حيز الصلة تشديدا للتشنيع وتأكيدا للتعجيب، وقد تقدم نظيره، والآية نزلت- كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف- في جمع من يهود، وذلك أنهم خرجوا إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه ونزلت اليهود في دور قريش فقال أهل مكة: إنكم أهل كتاب ومحمد صلّى الله عليه وسلّم صاحب كتاب فلا يؤمن هذا أن يكون مكرا منكم فإن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما ففعل، ثم قال كعب: يا أهل مكة ليجيء منكم ثلاثون ومنا ثلاثون فنلزق أكبادنا بالكعبة فنعاهد رب البيت لنجهدن على قتال محمد صلّى الله عليه وسلّم ففعلوا ذلك فلما فرغوا قال أبو سفيان لكعب: إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ونحن أميون لا نعلم فأينا أهدى طريقا وأقرب إلى الحق نحن أم محمد؟ قال كعب: اعرضوا عليّ دينكم، فقال أبو سفيان: نحن ننحر للحجيج الكوماء ونسقيهم اللبن ونقري الضيف ونفك العاني ونصل الرحم ونعمر بيت ربنا ونطوف به ونحن أهل الحرم ومحمد صلّى الله عليه وسلّم فارق دين آبائه وقطع الرحم وفارق الحرم وديننا القديم ودين محمد الحديث، فقال كعب: أنتم والله أهدى سبيلا مما عليه محمد صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى في ذلك الآية، والجبت- في الأصل اسم صنم فاستعمل في كل معبود غير الله تعالى، وقيل: أصله الجبس، وهو كما قال الراغب: الرذيل الذي لا خير فيه فقلبت سينه تاء كما في قول عمرو بن يربوع: شرار- النات- أي الناس، وإلى ذلك ذهب قطرب- والطاغوت- يطلق على كل باطل من معبود أو غيره. وأخرج الفريابي وغيره عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: «الجبت الساحر والطاغوت الشيطان» . وأخرج ابن جرير من طرق عن مجاهد مثله، ومن طريق أبي الليث عنه قال: الجبت كعب بن الأشرف، والطاغوت الشيطان كان في صورة إنسان، وعن سعيد بن جبير الجبت الساحر بلسان الحبشة، والطاغوت الكاهن وأخرج ابن حميد عن عكرمة أن الجبت الشيطان بلغة الحبشة، والطاغوت الكاهن- وهي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- وفي رواية أخرى الجبت حيي بن أخطب والطاغوت كعب بن الأشرف، وفي أخرى الجبت الأصنام، والطاغوت الذين يكونون بين يديها يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس، ومعنى الإيمان بهما إما التصديق بأنهما آلهة وإشراكهما بالعبادة مع الله تعالى، وإما طاعتهما وموافقتهما على ما هما عليه من الباطل، وإما القدر المشترك بين المعنيين كالتعظيم مثلا، والمتبادر المعنى الأول أي أنهم يصدقون بألوهية هذين الباطلين ويشركونهما في العبادة مع الإله الحق ويسجدون لهما وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي لأجلهم وفي حقهم فاللام ليست صلة القول وإلا لقيل أنتم بدل قوله سبحانه هؤُلاءِ أي الكفار من أهل مكة. أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أي أقوم دينا وأرشد طريقة، قيل: والظاهر أنهم أطلقوا أفعل التفضيل ولم يلحظوا معنى التشريك فيه أو قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء لكفرهم، وإيراد النبي صلّى الله عليه وسلّم وأتباعه بعنوان الإيمان ليس من قبل القائلين بل من جهة الله تعالى تعريفا لهم بالوصف الجميل وتخطئة لمن رجح عليهم المتصفين بأشنع القبائح أُولئِكَ القائلون المبعدون في الضلالة الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أي أبعدهم عن رحمته وطردهم، واسم الإشارة مبتدأ والموصول خبره، والجملة مستأنفة لبيان حالهم وإظهار مآلهم وَمَنْ يَلْعَنِ أي يبعده اللَّهُ من رحمته فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً أي ناصرا يمنع عنه العذاب دنيويا كان أو أخرويا بشفاعة أو بغيرها، وفيه بيان لحرمانهم ثمرة استنصارهم بمشركي قريش وإيماء إلى وعد المؤمنين بأنهم المنصورون حيث كانوا بضد هؤلاء فهم الذين قربهم الله تعالى ومن يقربه الله تعالى فلن تجد له خاذلا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 وفي الإتيان بكلمة- لن- وتوجيه الخطاب إلى كل واحد يصلح له وتوحيد النصير منكرا والتعبير عن عدمه بعدم الوجدان المؤذن بسبق الطلب مسندا إلى المخاطب العام من الدلالة على حرمانهم الأبدي عن الظفر بما أملوا بالكلية ما لا يخفى، وإن اعتبرت المبالغة في- نصير- متوجهة للنفي كما قيل ذلك في قوله سبحانه: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ [فصلت: 46] قوى أمر هذه الدلالة أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ شروع في تفصيل بعض آخر من قبائحهم، وأَمْ منقطعة فتقدر ببل، والهمزة أي بل آلهم، والمراد إنكار أن يكون لهم نصيب من الملك، وجحد لما تدعيه اليهود من أن الملك يعود إليهم في آخر الزمان. وعن الجبائي أن المراد بالملك هاهنا النبوة أي ليس لهم نصيب من النبوة حتى يلزم الناس اتباعهم وإطاعتهم والأول أظهر لقوله تعالى شأنه فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ أي أحدا أو الفقراء أو محمدا صلّى الله عليه وسلّم وأتباعه- كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نَقِيراً أي شيئا قليلا، وأصله ما أشرنا إليه آنفا. وأخرج ابن جرير من طريق أبي العالية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: هذا النقير فوضع طرف الإبهام على باطن السبابة ثم نقرها، وحاصل المعنى على ما قيل: إنهم لا نصيب لهم من الملك لعدم استحقاقهم له بل لاستحقاقهم حرمانه بسبب أنهم لو أوتوا نصيبا منه لما أعطوا الناس أقل قليل منه، ومن حق من أوتي الملك الإيتاء وهم ليسوا كذلك، فالفاء في فَإِذاً للسببية والجزائية لشرط محذوف هو أن حصل لهم نصيب لا لو كان لهم نصيب كما قدره الزمخشري لأن الفاء لا تقع في جواب لو سيما مع إذا والمضارع، ويجوز أن تكون الفاء عاطفة والهمزة لإنكار المجموع من المعطوف والمعطوف عليه بمعنى أنه لا ينبغي أن يكون هذا الذي وقع وهو أنهم قد أوتوا نصيبا من الملك حيث كانت لهم أموال وبساتين وقصور مشيدة كالملوك ويعقبه منهم البخل بأقل قليل، وفائدة «إذا» زيادة الإنكار والتوبيخ حيث يجعلون ثبوت النصيب الذي هو سبب الإعطاء سببا للمنع، والفرق بين الوجهين أن الإنكار في الأول متوجه إلى الجملة الأولى وهو بمعنى إنكار الوقوع، وفي الثاني متوجه لمجموع الأمرين وهو بمعنى إنكار الواقع، «وإذا» في الوجهين ملغاة، ويجوز إعمالها لأنه قد شرط في إعمالها الصدارة فإذا نظر إلى كونها في صدر جملتها أعملت، وإن نظر إلى العطف وكونها تابعة لغيرها أهملت، ولذلك قرأ ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم- فإذا لا يؤتوا الناس- بالنصب على الإعمال. أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ انتقال عن توبيخهم بالبخل إلى توبيخهم بالحسد الذي هو من أقبح الرذائل المهلكة من اتصف بها دنيا وأخرى، وذكره بعده من باب الترقي، وأَمْ منقطعة والهمزة المقدرة بعدها لإنكار الواقع، والمراد من الناس سيدهم بل سيد الخليقة على الإطلاق محمد صلّى الله عليه وسلّم، وإلى هذا ذهب عكرمة ومجاهد والضحاك وأبو مالك وعطية، وقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «قال أهل الكتاب: زعم محمد أنه أوتي ما أوتي في تواضع وله تسع نسوة وليس همه إلا النكاح فأي ملك أفضل من هذا فأنزل الله تعالى هذه الآية» . وذهب قتادة والحسن وابن جريج إلى أن المراد بهم العرب، وعن أبي جعفر وأبي عبد الله أنهم النبي وآله عليه وعليهم أفضل الصلاة وأكمل السلام، وقيل: المراد بهم جميع الناس الذين بعث إليهم النبي صلّى الله عليه وسلّم من الأسود والأحمر أي بل أيحسدونهم عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ يعني النبوة وإباحة تسع نسوة أو بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم منهم ونزول القرآن بلسانهم أو جمعهم كمالات تقصر عنها الأماني، أو تهيئة سبب رشادهم ببعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم إليهم، والحسد على هذا مجاز لأن اليهود لما نازعوه في نبوته صلّى الله عليه وسلّم التي هي إرشاد لجميع الناس فكأنما حسدوهم جمع فَقَدْ آتَيْنا تعليل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 للإنكار والاستقباح وإجراء الكلام على سنن الكبرياء بطريق الالتفات لإظهار كمال العناية بالأمر، والفاء كما قيل: فصيحة أي أن يحسدوا الناس على ما أوتوا فقد أخطؤوا إذ ليس الإيتاء ببدع منا لأنا قد آتينا من قبل هذا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ أي جنسه والمراد به التوراة والإنجيل أو هما والزبور وَالْحِكْمَةَ أي النبوة، أو إتقان العلم والعمل، أو الأسرار المودعة في الكتاب أقوال وَآتَيْناهُمْ مع ذلك مُلْكاً عَظِيماً لا يقادر قدره، وجوز أن يكون المعنى أنهم لا ينتفعون بهذا الحسد فإنا قد آتينا هؤلاء ما آتينا مع كثرة الحساد الجبابرة من نمروذ وفرعون وغيرهما فلم ينتفع الحاسد ولم يتضرر المحسود، وأن يراد أن حسدهم هذا في غاية القبح والبطلان فإنا قد آتينا من قبل أسلاف هذا النبي المحسود صلّى الله عليه وسلّم وأبناء عمه ما آتيناهم فكيف يستبعدون نبوته عليه الصلاة والسلام ويحسدونه على إيتائها وتكرير الإيتاء لما يقتضيه مقام التفصيل مع الإشعار بما بين الملك وما قبله من المغايرة، والمراد من الإيتاء إما الإيتاء بالذات وإما ما هو أعم منه ومن الإيتاء بالواسطة، وعلى الأول فالمراد من آل إبراهيم أنبياء ذريته، ومن الضمير الراجع إليهم من آتَيْناهُمْ بعضهم، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الملك في آل إبراهيم ملك يوسف وداود وسليمان عليهم السلام، وخصه السدي بما أحل لداود وسليمان من النساء فقد كان للأول تسع وتسعون امرأة ولولده ثلاثمائة امرأة ومثلها سرية» وعن محمد بن كعب قال: «بلغني أنه كان لسليمان عليه السلام ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سرية» ، وعلى الثاني فالمراد بهم ذريته كلها فإن تشريف البعض بما ذكر تشريف للكل لاغتنامهم بآثار ذلك واقتباسهم من أنوار. ومن الناس من فسر الحكمة بالعلم، والملك العظيم بالنبوة، ونسب ذلك إلى الحسن ومجاهد، ولا يخفى أن إطلاق الملك العظيم على النبوة في غاية البعد والحمل على المتبادر أولى فَمِنْهُمْ أي من جنس هؤلاء الحاسدين وآبائهم مَنْ آمَنَ بِهِ أي بما أوتي آل إبراهيم وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ أي أعرض عَنْهُ ولم يؤمن به وهذا في رأي حكاية لما صدر عن أسلافهم عقيب وقوع المحكي من غير أن يكون له دخل في الإلزام، وقيل: له دخل في ذلك ببيان أن الحسد لو لم يكن قبيحا لأجمع عليه أسلافهم فلم يؤمن منهم أحد كما أجمعوهم عليه فلم يؤمن أحد منهم، وليس بشيء، وقيل: معناه فمن آل إبراهيم من آمن به ومنهم من كفر، ولم يكن في ذلك توهين أمره فكذلك لا يوهن كفر هؤلاء أمرك فضمير بِهِ وعَنْهُ على هذا لإبراهيم، وفيه تسلية له عليه الصلاة والسلام ورجوع الضميرين لمحمد صلّى الله عليه وسلّم وجعل الكلام متفرعا على قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ [النساء: 47] أو على قوله سبحانه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ إلخ في غاية البعد، وكذا جعل الضميرين لما ذكر من حديث آل إبراهيم وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً أي نارا مسعرة موقدة إيقادا شديدا أي إن انصرف عنهم بعض العذاب في الدنيا فقد كفاهم ما أعد لهم من سعير جهنم في العقبى. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً استئناف وقع كالبيان والتقرير لما قبله، والمراد بالموصول إما الذين كفروا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإما ما يعمهم وغيرهم ممن كفر بسائر الأنبياء عليهم السلام، ويدخل أولئك دخولا أوليا، وعلى الأول فالمراد بالآيات إما القرآن أو ما يعم كله وبعضه، أو ما يعم سائر معجزاته عليه الصلاة والسلام، وعلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 الثاني فالمراد بها ما يعم المذكورات وسائر الشواهد التي أتى بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على مدعاهم، وسَوْفَ كما قال سيبويه: كلمة تذكر للتهديد والوعيد، وتنوب عنها السين كما في قوله تعالى: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [المدثر: 26] وقد تذكر للوعد كما في قوله سبحانه: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضحى: 5] وسَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي [يوسف: 98] وكثيرا ما تفيد هي والسين توكيد الوعيد، وتنكير ناراً للتفخيم أي يدخلون ولا بد ناراً هائلة كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ أي احترقت وتهرت وتلاشت، من نضج الثمر واللحم نضجا ونضجا إذا أدرك، وكُلَّما ظرف زمان والعامل فيه بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها أي أعطيناهم مكان كل جلد محترق عند احتراقه جلدا جديدا مغايرا للمحترق صورة وإن كانت مادته الأصلية موجودة بأن يزال عنه الإحراق فلا يرد أن الجلد الثاني لم يعص فكيف يعذب، وذلك لأنه هو العاصي باعتبار أصله فإنه لم يبدل إلا صفته، وعندي أن هذا السؤال مما لا يكاد يسأله عاقل فضلا عن فاضل، وذلك لأن عصيان الجلد وطاعته وتألمه وتلذذه غير معقول لأنه من حيث ذاته لا فرق بينه وبين سائر الجمادات من جهة عدم الإدراك والشعور وهو أشبه الأشياء بالآلة فيد قاتل النفس ظلما مثلا آلة له كالسيف الذي قتل به ولا فرق بينهما إلا بأن اليد حاملة للروح، والسيف ليس كذلك، وهذا لا يصلح وحده سببا لإعادة اليد بذاتها وإحراقها دون إعادة السيف وإحراقه لأن ذلك الحمل غير اختياري، فالحق أن العذاب على النفس الحساسة بأي بدن حلت وفي أي جلد كانت وكذا يقال في النعيم، ويؤيد هذا أن من أهل النار من يملأ زاوية من زوايا جهنم وأن سن الجهنمي كجبل أحد، وأن أهل الجنة يدخلونها على طول آدم عليه السلام ستين ذراعا في عرض سبعة أذرع، ولا شك أن الفريقين لم يباشروا الشر والخير بتلك الأجسام بل من أنصف رأى أن أجزاء الأبدان في الدنيا لا تبقى على كميتها كهولة وشيوخة وكون الماهية واحدة لا يفيد لأنا لم ندع فيما نحن فيه أن الجلد الثاني يغاير الأول كمغايرة العرض للجوهر أو الإنسان للحجر بل كمغايرة زيد المطيع لعمرو العاصي مثلا على أنه لو قيل: إن الكافر يعذب أولا ببدن من حديد تحله الروح، وثانيا ببدن من غيره كذلك لم يسغ لأحد أن يقول: إن الحديد لم يعص فكيف أحرق بالنار ولولا ما علم من الدين بالضرورة من المعاد الجسماني بحيث صار إنكاره كفرا لم يبعد عقلا القول بالنعيم والعذاب الروحانيين فقط. ولما توقف الأمر عقلا على إثبات الأجسام أصلا ولا يتوهم من هذا أني أقول باستحالة إعادة المعدوم معاذ الله تعالى، ولكني أقول بعدم الحاجة إلى إعادته وإن أمكنت، والنصوص في هذا الباب متعارضة، فمنها ما يدل على إعادة الأجسام بعينها بعد إعدامها، ومنها ما يدل على خلق مثلها وفناء الأولى، ولا أرى بأسا بعد القول بالمعاد الجسماني في اعتقاد أي الأمرين كان، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في الآيات التي يدل ظاهرها على إعادة العين مثل قوله سبحانه: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [النور: 24] وما في شرح البخاري للسفيري- من أنه لا تزال الخصومة بين الناس حتى تختصم الروح والجسد يوم القيامة، فتقول الروح للجسد: أنت فعلت وأني كنت ريحا ولولاك لم أستطع أن أعمل شيئا، ويقول الجسد للروح: أنت أمرت وأنت سولت ولولاك لكنت بمنزلة الجذع الملقى لا أحرك يدا ولا رجلا، فيبعث الله تعالى ملكا يقضي بينهما فيقول لهما: إن مثلكما كمثل رجل مقعد بصير وآخر ضرير دخلا بستانا فقال المقعد للضرير: إني أرى هاهنا ثمارا لكن لا أصل إليها فقال له الضرير: اركبني فتناولها فأيهما المتعدي؟ فيقولان: كلاهما فيقول لهما الملك: فإنكما قد حكمتما على أنفسكما- لا أراه صحيحا لظهور الفرق بين المثال والممثل له فإن الحامل فيما نحن فيه لا اختيار له ولا شعور بوجه من الوجوه اللهم إلا أن يكون هناك شعور لكن لا شعور لنا به، ولعل لنا عودة إن شاء الله تعالى لتحقيق هذا المقام، ثم إن هذا التبديل كيفما كان يكون في الساعة الواحدة مرات كثيرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 فقد أخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن ابن عمر قال: «قرىء عند عمر هذه الآية فقال كعب: عندي تفسيرها قرأتها قبل الإسلام فقال هاتها يا كعب فإن جئت بها سمعت كما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صدقناك قال: إني قرأتها قبل «كلمات نضجت جلودهم بدلناها جلودا غيرها» في الساعة الواحدة عشرين ومائة مرة فقال عمر: هكذا سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأخرج ابن أبي شيبة وغيره عن الحسن قال: «بلغني أنه يحرق أحدهم في اليوم سبعين ألف مرة كلما نضجتهم النار وأكلت لحومهم قيل لهم: عودوا فعادوا» . لِيَذُوقُوا الْعَذابَ أي ليدوم ذوقه ولا ينقطع كقولك للعزيز: أعزك الله والتعبير عن إدراك العذاب بالذوق من حيث إنه لا يدخله نقصان بدوام الملابسة، أو للإشعار بمرارة العذاب مع إيلامه أو للتنبيه على شدة تأثيره من حيث إن القوة الذائقة أشد الحواس تأثيرا أو على سرايته للباطن، ولعل السر في تبديل الجلود مع قدرته تعالى على إبقاء إدراك العذاب وذوقه بحال مع الاحتراق أو مع بقاء أبدانهم على حالها مصونة عنه أن النفس ربما تتوهم زوال الإدراك بالاحتراق ولا تستبعد كل الاستبعاد أن تكون مصونة عن التألم والعذاب صيانة بدنها عن الاحتراق قاله مولانا شيخ الإسلام، وقيل: السر في ذلك أن في النضج والتبديل نوع إياس لهم وتجديد حزن على حزن، وأنكر بعضهم نضج الجلود بالمعنى المتبادر وتبديلها زاعما أن التبديل إنما هو للسرابيل التي ذكرها الله سبحانه بقوله: سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ [إبراهيم: 50] وسميت السرابيل جلودا للمجاورة، وفيه أنه ترك للظاهر، ويوشك أن يكون خلاف المعلوم ضرورة، وأن السرابيل لا توصف بالنضج وكأنه ما دعاه إلى هذا الزعم سوى استبعاد القول بالظاهر، وليس هو بالبعيد عن قدرة الله سبحانه وتعالى إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً أي لم يزل منيعا لا يدافع ولا يمانع، وقيل: إنه قادر لا يمتنع عليه ما يريده مما تواعد أو وعد به حَكِيماً في تدبيره وتقديره وتعذيب من يعذبه والجملة تعليل لما قبلها من الإصلاء والتبديل، وإظهار الاسم الجليل لتعليل الحكم مع ما مر مرارا. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ عقب بيان سوء حال الكفرة ببيان حسن حال المؤمنين تكميلا للمساءة والمسرة، وقدم بيان حال الأولين لأن الكلام فيهم، والمراد بالموصول إما المؤمنون بنبينا صلّى الله عليه وسلّم، وإما ما يعمهم وسائر من آمن من أمم الأنبياء عليهم السلام أي إن الذين آمنوا بما يجب الإيمان به وعملوا الأعمال الحسنة سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ قرأ عبد الله- سيدخلهم- بالياء والضمير للاسم الجليل، وفي السين تأكيد للوعد، وفي اختبارها هنا واختيار سَوْفَ في آية الكفر ما لا يخفى. خالِدِينَ فِيها أَبَداً إعظاما للمنة وهو حال مقدرة من الضمير المنصوب في سَنُدْخِلُهُمْ وقوله تعالى: لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ أي من الحيض والنفاس وسائر المعايب والأدناس والأخلاق الدنيئة والطباع الرديئة لا يفعلن ما يوحش أزواجهن ولا يوجد فيهن ما ينفر عنهن في محل النصب على أنه حال من جنات، أو حال ثانية من الضمير المنصوب أو أنه صفة لجنات بعد صفة، أو في محل الرفع على أنه خبر للموصول بعد خبر. والمراد أزواج كثيرة كما تدل عليه الأخبار وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا أي فينانا لا وجوب فيه، ودائما لا تنسخه الشمس وسجسجا لا حر فيه ولا قرّ، رزقنا الله تعالى التفيؤ فيه برحمته إنه أرحم الراحمين، والمراد بذلك إما حقيقته ولا يمنع منه عدم الشمس وإما أنه إشارة إلى النعمة التامة الدائمة، والظليل صفة مشتقة من لفظ الظل للتأكيد كما هو عادتهم في نحو- يوم أيوم، وليل أليل- وقال الإمام المرزوقي: إنه مجرد لفظ تابع لما اشتق منه وليس له معنى وضعي بل هو- كبسن- في قولك: حسن بسن، وقرىء «يدخلهم» بالياء عطف على سيدخلهم لا على أنه غير الإدخال الأول بالذات بل بالعنوان كما في قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ [هود: 58] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 هذا ومن باب الإشارة في الآيات يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ خطاب لأهل الإيمان العلمي، ونهي لهم أن يناجوا ربهم أو يقربوا مقام الحضور والمناجاة مع الله سبحانه وتعالى في حال كونهم سكارى خمر الهوى ومحبة الدنيا، أو نوم الغفلة حتى يصحوا ولا يشتغلوا بغير مولاهم، والمقصود النهي عن إشغال القلب بسوى الرب، وقيل: إنه خطاب لأهل المحبة والعشق الذين أسكرهم شراب ليلى ومدام مي، فبقوا حيارى مبهوتين لا يميزون الحي من الليّ ولا يعرفون الأوقات ولا يقدرون على أداء شرائط الصلوات فكأنهم قيل لهم: يا أيها العارفون بي وبصفاتي وأسمائي السكارى من شراب محبتي وسلسبيل أنسي وتسنيم قدمي وزنجبيل قربي ومدام عشقي وعقار مشاهدتي إذا كشفت لكم جمالي وآنستكم في مقام ربوبيتي فلا تكلفوا نفوسكم أداء الرسوم الظاهرة لأنكم في جنان مشاهدتي، وليس في الجنان تقييد، وإذا سكنتم من سكركم وصرتم صاحين بنعت التمكين فأدوا ما افترضته عليكم وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ وحاصله رفع التكليف عن المجذوبين الغارقين في بحار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 المشاهدة إلى أن يعقلوا ويصحوا، فالإيمان على هذا محمول على الإيمان العيني والمعنى الأول أولى بالإشارة وَلا جُنُباً أي ولا تقربوا الصلاة في حال كونكم بعداء عن الحق لشدة الميل إلى النفس ولذاتها إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ أي سالكي طريق من طرق تمتعاتها بقدر الضرورة كعبور طريق الاغتذاء بالمأكل والمشرب لسد الرمق أو الاكتساء لدفع ضرورة الحر والقرّ وستر العورة، أو المباشرة لحفظ النسل حَتَّى تَغْتَسِلُوا وتتطهروا بمياه التوبة والاستغفار وحسن التنصل والاعتذار وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى بأدواء الرذائل أَوْ عَلى سَفَرٍ في بيداء الجهالة والحيرة لطلب الشهوات أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أي الاشتغال بلوث المال ملوثا بمحبته أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ أي لازمتم النفوس وباشرتموها في قضاء وطرها فَلَمْ تَجِدُوا ماءً علما يهديكم إلى التخلص عن ذلك فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً أي فاقصدوا صعيد استعدادكم أو ارجعوا إلى المرشدين أرباب الاستعداد فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ أي امسحوا ذواتكم وصفاتكم بما يتصاعد من أنوار استعدادهم وتخلقوا بأخلاقهم واسلكوا مسالكهم حتى تمحى عنكم تلك الهيئات المهلكة وتبقى أنفسكم صافية إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا يعفو عما صدر منكم بمقتضى تلك الهيئات غَفُوراً يستر الشين بالزين أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً أي بعضا مِنَ الْكِتابِ وهو اعترافهم بالحق مع احتجابهم برؤية الخلق يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ ويتركون التوحيد الحقيقي وَيُرِيدُونَ مع ذلك أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ الحق وهو التوحيد الصرف وعدم رؤية الأغيار فتكونوا مثلهم وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وعنى بهم أولئك الموصوفين بما ذكر، وسبب عداوتهم لهم اختلاف الأسماء الظاهرة فيهم ولهذا ودوا تكفيرهم وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا يلي أموركم بالتوفيق لطريق التوحيد وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً ينصركم على أعدائكم فلا يستطيعون إيذاءكم وردكم عما أنتم عليه من الحق مِنَ الَّذِينَ هادُوا رجعوا عن مقتضى الاستعداد من نفي السوي إلى ما سولت لهم أنفسهم واستنتجته أفكارهم وأيدته أنظارهم ودعت إليه علومهم الرسمية يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ يحتمل أن يراد بالكلم معناها الظاهر أي أنهم يؤولون جميع ما يشعر ظاهره بالوحدة على حسب إرادتهم زاعمين أنه لا يمكن أن يكون غير ذلك مرادا لله تعالى لا قصدا ولا تبعا لا عبارة ولا إشارة، ويحتمل أن يراد بها هذه الممكنات فإنها كلم الله تعالى بمعنى الدوال عليه، أو كلمه بمعنى آثار كلمه أعنى كن المتعددة حسب تعلقات الإرادة. ومعنى تحريفها عن مواضعها إمالتها عما وضعها الله تعالى فيه من كونها مظاهر أسمائه فيثبتون لها وجودا غير وجود الله تعالى: وَيَقُولُونَ سَمِعْنا ما يشعر بالوحدة أو سمعنا ما يقال في هذه الممكنات وَعَصَيْنا فلا نقول بما تقولون ولا نعتقد ما تعتقدون وَيَقُولُونَ أيضا في أثناء مخاطبتهم للعارف مستخفين مستهزئين به اسْمَعْ ما يعارض ما تدعيه غَيْرَ مُسْمَعٍ أي لا أسمعك الله وَراعِنا يعنون رميه بالرعونة وهي الحماقة لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ الذي عليه العارف بربه يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي فهموا عليه الظاهر ولم يفهموا ما أشار إليه من علم الباطن آمِنُوا بِما نَزَّلْنا على قلوب أوليائي من العلم اللدني مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ من علم الظاهر إذ كل باطن يخالف الظاهر فهو باطل مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً وهي وجوه القلوب بالعمى فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها ناظرة إلى الدنيا وزخارفها بعد أن كانت في أصل الفطرة متوجهة إلى ما في الميثاق الأول أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ فنمسخ صورهم المعنوية كما مسخنا صور اليهود الحسية، ويحتمل أن يكون هذا خطابا لمن أوتي كتاب الاستعداد أمرهم بالإيمان الحقيقي وهددهم بإزالة استعدادهم وردهم إلى أسفل سافلين، وإبعادهم بالمسخ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ إلا بالتوبة عنه لشدة غيرته «لا أحد أغير من الله» وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ أن يغفر له تاب أو لم يتب، وقد ذكروا أن الشرك ثلاث مراتب ولكل مرتبة توبة: فشرك جلي بالأعيان، وهو للعوام كعبدة الأصنام والكواكب مثلا، وتوبته إظهار العبودية في إثبات الربوبية مصدقا بالسر والعلانية، وشرك خفي بالأوصاف- الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 وهو للخواص وفسر بشوب العبودية بالالتفات إلى غير الربوبية- وتوبته الالتفات عن ذلك الالتفات- وشرك أخفى لخواص الخواص وهو الأنانية- وتوبته بالوحدة- وهي فناء الناسوتية في بقاء اللاهوتية وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ أيّ شرك كان من هذه المراتب فَقَدِ افْتَرى وارتكب حسب مرتبته إِثْماً عَظِيماً لا يقدر قدره أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ كعلماء السوء من أهل الظاهر الذين لم يحصلوا من علومهم سوى العجب والكبر والحسد والحقد وسائر الصفات الرذيلة بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ كالعارفين به الذين لا يرون لأنفسهم فعلا، ويحتمل أن يكون هذا تعجيبا ممن يزكي نفسه بنفسه ويسلك في مسالك القوم على رأيه غير معتمد على مرب مرشد له من ولي كامل أو أثارة من علم إلهي كبعض المتفلسفين من أهل الرياضات انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بادعاء تزكية نفوسهم من صفاتها وما تزكت أو بانتحال صفات الله تعالى إلى أنفسهم مع وجودها وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً ظاهرا لا خفاء فيه أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً بعضا مِنَ الْكِتابِ الجامع، وأشير به إلى علم الظاهر يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ أي بجبت النفس وَالطَّاغُوتِ أي طاغوت الهوى فيميلون مع أنفسهم وهواهم وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي لأجل الذين ستروا الحق هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا الإيمان الحقيقي سَبِيلًا أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أي أبعدهم عن معرفته وقربه وَمَنْ يَلْعَنِ أي يبعده اللَّهُ عن ذلك فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً يهديه إلى الحق أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً ذم لهم بالبخل الذي هو الوصمة الكبرى عند أهل الله تعالى أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ من المعرفة وإعزازهم بين خلقه وإرشادهم لمن استرشدهم فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ وهم المتبعون له على ملته من أهل المحبة والخلة الْكِتابَ أي علم الظاهر أو الجامع له ولعلم الباطن وَالْحِكْمَةَ علم الباطن أو باطن الباطن وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً وهو الوصول إلى العين وعدم الوقوف عند الأثر إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا أي حجبوا عن تجليات صفاتنا وأفعالنا أو أنكروا على أوليائنا الذين هم مظاهر الآيات سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً عظيمة وهي نار القهر والحجاب، أو نار الحسد كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ وتقطعت أماني نفوسهم الأمارة ومقتضيات هواها بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها بتجدد نوع آخر من أنواع تجليات القهر أو بتجدد نعم أخرى تظهر على أوليائنا الذين حسدوهم وأنكروا عليهم لِيَذُوقُوا الْعَذابَ ما داموا منغمسين في أوحال الرذائل إن الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الأعمال التي يصلحون بها لقبول التجليات سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ من ماء الحكمة ولبن الفطرة وخمر الشهود وعسل الكشف خالِدِينَ فِيها أَبَداً لبقاء أرواحهم المفاضة عليها ما يروحها لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ من التجليات التي يلتذون بها مُطَهَّرَةٌ من لوث النقص وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا وهو ظل الوجود والصفات الإلهية وذلك بمحو البشرية عنهم، نسأل الله تعالى من فضله فلا فضل إلا فضله، ثم إنه سبحانه وتعالى أرشد المؤمنين بأبلغ وجه إلى بعض أمهات الأعمال الصالحة فقال عز من قائل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها أخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «لما فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة دعا عثمان بن أبي طلحة فلما أتاه قال: أرني المفتاح فأتاه به فلما بسط يده إليه قام العباس فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي اجعله لي مع السقاية فكف عثمان يده فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أرني المفتاح يا عثمان فبسط يده يعطيه، فقال العباس مثل كلمته الأولى فكف عثمان يده، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا عثمان إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فهاتني المفتاح، فقال: هاك بأمانة الله تعالى فقام ففتح الكعبة فوجد فيها تمثال إبراهيم عليه السلام معه قداح يستقسم بها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما للمشركين قاتلهم الله تعالى وما شأن إبراهيم عليه السلام وشأن القداح وأزال ذلك، وأخرج مقام إبراهيم عليه السلام وكان في الكعبة ثم قال: أيها الناس هذه القبلة، ثم خرج فطاف بالبيت، ثم نزل عليه جبريل عليه السلام- فيما ذكر لنا- برد المفتاح فدعا عثمان بن أبي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 طلحة فأعطاه المفتاح ثم قال إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ» الآية. وفي رواية الطبراني «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال حين أعطى المفتاح: خذوها يا بني طلحة خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم» يعني سدانة الكعبة، وفي تفسير ابن كثير «أن عثمان دفع المفتاح بعد ذلك إلى أخيه شيبة بن أبي طلحة فهو في يد ولده إلى اليوم» ، وذكر الثعلبي والبغوي والواحدي «أن عثمان امتنع عن إعطاء المفتاح للنبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه فلوى علي كرم الله تعالى وجهه يده وأخذه منه فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الكعبة وصلى ركعتين فلما خرج سأله العباس أن يجمع له السدانة والسقاية فنزلت فأمر عليا كرم الله تعالى وجهه أن يرد ويعتذر إليه وصار ذلك سببا لإسلامه ونزول الوحي بأن السدانة في أولاده أبدا وما ذكرناه أولى بالاعتبار. أما أولا فلما قال الأشموني: إن المعروف عند أهل السير أن عثمان بن طلحة أسلم قبل ذلك في هدنة الحديبية مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص- كما ذكره ابن إسحاق وغيره، وجزم به ابن عبد البر في الاستيعاب والنووي في تهذيبه والذهبي وغيرهم، وأما ثانيا فلما فيه من المخالفة لما ذكره ابن كثير، وقد نصوا على أنه هو الصحيح، وأما ثالثا فلأن المفتاح على هذا لا يعد أمانة لأن عليا كرم الله تعالى وجهه أخذه منه قهرا وما هذا شأنه هو الغصب لا الأمانة، والقول- بأن تسمية ذلك أمانة لأن الله تعالى لم يرد نزعه منه، أو للإشارة إلى أن الغاصب يجب أن يكون كالمؤتمن في قصد الرد، أو إلى أن عليا كرم الله تعالى وجهه لما قصد بأخذه الخير وكان أيضا بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم جعل كالمؤتمن في أنه لا ذنب عليه لا يخلو عن بعد، وأيّا ما كان فالخطاب يعم كل أحد- كما أن الأمانات، وهي جمع أمانة مصدر سمي به المفعول- نعم الحقوق المتعلقة بذممهم من حقوق الله تعالى وحقوق العباد سواء كانت فعلية أو قولية أو اعتقادية، وعموم الحكم لا ينافي خصوص السبب، وقد روي ما يدل على العموم عن ابن عباس وأبيّ وابن مسعود.. والبراء بن عازب وأبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وإليه ذهب الأكثرون، وعن زيد بن أسلم- واختاره الجبائي وغيره أن هذا خطاب لولاة الأمر أن يقوموا برعاية الرعية وحملهم على موجب الدين والشريعة، وعدوا من ذلك تولية المناصب مستحقيها، وجعلوا الخطاب الآتي لهم أيضا، وفي تصدير الكلام- بأن- الدالة على التحقيق وإظهار الاسم الجليل وإيراد الأمر على صورة الإخبار من الفخامة وتأكيد وجوب الامتثال والدلالة على الاعتناء ما لا مزيد عليه، ولهذا ورد من حديث ثوبان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا إيمان لمن لا أمانة له» . وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أربع إذا كن فيك فلا عليك فيما فاتك من الدنيا حفظ أمانة وصدق حديث وحسن خليقة وعفة طعمة» . وأخرج عن ميمون بن مهران «ثلاث تؤدين إلى البر والفاجر الرحم توصل برة كانت أو فاجرة. والأمانة تؤدي إلى البر والفاجر والعهد يوفى به للبر والفاجر» ، وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان» والأخبار في ذلك كثيرة، وقرىء- الأمانة- بالإفراد، والمراد الجنس لا المعهود أي يأمركم بأداء أيّ أمانة كانت. وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ أمر بإيصال الحقوق المتعلقة بذمم الغير إلى أصحابها إثر الأمر بإيصال الحقوق المتعلقة بذممهم، فالواو للعطف، والظرف متعلق بما بعد أن وهو معطوف على أَنْ تُؤَدُّوا والجار متعلق به أو بمقدر وقع حالا من فاعله أي ويأمركم أَنْ تَحْكُمُوا بالإنصاف والسوية، أو متلبسين بذلك إذا قضيتم بين الناس ممن ينفذ عليه أمركم أو يرضى بحكمكم، وهذا مبني على مذهب من يرى جواز تقدم الظرف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 المعمول لما في حيز الموصول الحرفي عليه، والفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف، وفي التسهيل الفصل بين العاطف والمعطوف إذا لم يكن فعلا بالظرف والجار والمجرور جائز وليس ضرورة خلافا لأبي علي، ولقيام الخلاف في المسألة ذهب أبو حيان إلى أن الظرف متعلق بمقدر يفسره المذكور أي- وأن تحكموا إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا- ليسلم مما تقدم، ولا يجوز تعلقه بما قبله لعدم استقامة المعنى لأن تأدية الأمانة ليست وقت الحكومة، والمراد بالحكم ما كان عن ولاية عامة أو خاصة، وأدخلوا في ذلك ما كان عن تحكيم. وفي بعض الآثار أن صبيين ارتفعا إلى الحسن رضي الله تعالى عنه ابن علي كرم الله تعالى وجهه في خط كتباه وحكماه في ذلك ليحكم أي الخطين أجود فبصر به علي كرم الله تعالى وجهه فقال: يا بني انظر كيف تحكم فإن هذا حكم والله تعالى سائلك عنه يوم القيامة إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ جملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها متضمنة لمزيد اللطف بالمخاطبين وحسن استدعائهم إلى الامتثال وإظهار الاسم الأعظم لتربية المهابة وهو اسم إِنَّ وجملة نِعِمَّا يَعِظُكُمْ خبرها، وما إما بمعنى الشيء معرفة تامة، ويَعِظُكُمْ صفة موصوف محذوف وهو المخصوص بالمدح، أي نعم الشيء شيء يعظكم به، ويجوز- نعم هو أي الشيء شيئا يعظكم به- والمخصوص بالمدح محذوف، وإما بمعنى الذي وما بعدها صلتها وهو فاعل- نعم- والمخصوص محذوف أيضا، أي نعم الذي يعظكم به تأدية الأمانة والحكم بالعدل- قاله أبو البقاء- ونظر فيه بأنه قد تقرر أن فاعل- نعم- إذا كان مظهرا لزم أن يكون محلى بلام الجنس أو مضافا إليه كما في المفصل، وأجيب بأن سيبويه جوز قيام ما إذا كانت معرفة تامة مقامه، وابن السراج أيضا جوز قيام الموصولة لأنها في معنى المعرف باللام، واعترض القول بوقوع ما تمييزا بأنها مساوية للمضمر في الإبهام فلا تميزه لأن التمييز لبيان جنس المميز، وأجيب بمنع كونها مساوية له لأن المراد بها شيء عظيم، والضمير لا يدل على ذلك، ومن الغريب ما قيل: إن ما كافة فتدبر، وقد تقدم الكلام فيما في نِعِمَّا من القراءات إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بجميع المسموعات ومنها أقوالكم بَصِيراً بكل شيء، ومن ذلك أفعالكم، ففي الجملة وعد ووعيد، وقد روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لعلي كرم الله تعالى وجهه: سوّ بين الخصمين في لحظك ولفظك يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بعد ما أمر سبحانه ولاة الأمور بالعموم أو الخصوص بأداء الأمانة والعدل في الحكومة أمر الناس بإطاعتهم في ضمن إطاعته عز وجل وإطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم حيث قال عز من قائل: أَطِيعُوا اللَّهَ أي الزموا طاعته فيما أمركم به ونهاكم عنه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ المبعوث لتبليغ أحكامه إليكم في كل ما يأمركم به وينهاكم عنه أيضا، وعن الكلبي أن المعنى أَطِيعُوا اللَّهَ في الفرائض وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ في السنن، والأول أولى وأعاد الفعل وإن كانت طاعة الرسول مقترنة بطاعة الله تعالى اعتناء بشأنه عليه الصلاة والسلام وقطعا لتوهم أنه لا يجب امتثال ما ليس في القرآن وإيذانا بأن له صلّى الله عليه وسلّم استقلالا بالطاعة لم يثبت لغيره، ومن ثمّ لم يعد في قوله سبحانه: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ إيذانا بأنهم لا استقلال لهم فيها استقلال الرسول صلّى الله عليه وسلّم، واختلف في المراد بهم فقيل: أمراء المسلمين في عهد الرسول صلّى الله عليه وسلّم وبعده ويندرج فيهم الخلفاء والسلاطين والقضاة وغيرهم، وقيل: المراد بهم أمراء السرايا، وروي ذلك عن أبي هريرة وميمون بن مهران، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي، وأخرجه ابن عساكر عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد في سرية، وفيها عمار بن ياسر فساروا قبل القوم الذين يريدون فلما بلغوا قريبا منهم عرسوا وأتاهم ذو العيينتين (1) فأخبرهم فأصبحوا قد هربوا غير رجل   (1) أي الجاسوس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 أمر أهله فجمعوا متاعهم ثم أقبل يمشي في ظلمة الليل حتى أتى عسكر خالد يسأل عن عمار بن ياسر فأتاه فقال: يا أبا اليقظان إني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن قومي لما سمعوا بكم هربوا وإني بقيت فهل إسلامي نافعي غدا وإلا هربت؟ فقال عمار: بل هو ينفعك فأقم فأقام فلما أصبحوا أغار خالد فلم يجد أحدا غير الرجل فأخذه وأخذ ماله فبلغ عمارا الخبر فأتى خالدا فقال: خل عن الرجال فإنه قد أسلم وهو في أمان مني، قال خالد: وفيم أنت تجير؟ فاستبا وارتفعا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأجاز أمان عمار، ونهاه أن يجير الثانية على أمير فاستبا عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال خالد: يا رسول الله أتترك هذا العبد الأجدع يشتمني فقال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم: يا خالد لا تسب عمارا فإن من سب عمارا سبه الله تعالى ومن أبغض عمارا أبغضه الله تعالى ومن لعن عمارا لعنه الله تعالى فغضب عمار فقام فتبعه خالد حتى أخذ بثوبه فاعتذر إليه فرضي، فأنزل الله تعالى هذه الآية» . ووجه التخصيص على هذا أن في عدم إطاعتهم ولا سلطان ولا حاضرة مفسدة عظيمة، وقيل: المراد بهم أهل العلم، وروى ذلك غير واحد عن ابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهد والحسن وعطاء وجماعة، واستدل عليه أبو العالية بقوله تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء: 83] فإن العلماء هم المستنبطون المستخرجون للأحكام، وحمله كثير- وليس ببعيد- على ما يعم الجميع لتناول الاسم لهم لأن للأمراء تدبير أمر الجيش والقتال، وللعلماء حفظ الشريعة وما يجوز مما لا يجوز، واستشكل إرادة العلماء لقوله تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فإن الخطاب فيه عام للمؤمنين مطلقا والشيء خاص بأمر الدين بدليل ما بعده، والمعنى فإن تنازعتم أيها المؤمنون أنتم وأولو الأمر منكم في أمر من أمور الدين فَرُدُّوهُ فراجعوا فيه إِلَى اللَّهِ أي إلى كتابه وَالرَّسُولِ أي إلى سنته، ولا شك أن هذا إنما يلائم حمل أولي الأمر على الأمراء دون العلماء لأن للناس والعامة منازعة الأمراء في بعض الأمور وليس لهم منازعة العلماء إذ المراد بهم المجتهدون والناس ممن سواهم لا ينازعونهم في أحكامهم. وجعل بعضهم: الخطاب فيه لأولي الأمر على الالتفات ليصح إرادة العلماء لأن للمجتهدين أن ينازع بعضهم بعضا مجادلة ومحاجة فيكون المراد أمرهم بالتمسك بما يقتضيه الدليل، وقيل: على إرادة الأعم يجوز أن يكون الخطاب للمؤمنين وتكون المنازعة بينهم وبين أولي الأمر باعتبار بعض الأفراد وهم الأمراء، ثم إن وجوب الطاعة لهم ما داموا على الحق فلا يجب طاعتهم فيما خالف الشرع، فقد أخرج ابن أبي شيبة عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا طاعة لبشر في معصية الله تعالى» ، وأخرج هو وأحمد والشيخان وأبو داود والنسائي عنه أيضا كرم الله تعالى وجهه قال: «بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سرية واستعمل عليهم رجلا (1) من الأنصار فأمرهم عليه الصلاة والسلام أن يسمعوا له ويطيعوا فأغضبوه في شيء فقال: اجمعوا لي حطبا فجمعوا له حطبا قال: أوقدوا نارا فأوقدوا نارا قال: ألم يأمركم صلّى الله عليه وسلّم أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى قال: فادخلوها فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من النار فسكن غضبه وطفئت النار فلما قدموا على رسول الله ذكروا له ذلك فقال عليه الصلاة والسلام لو دخلوها ما خرجوا منها إنما الطاعة في المعروف» . وهل يشمل المباح أم لا؟ فيه خلاف، فقيل: إنه لا يجب طاعتهم فيه لأنه لا يجوز لأحد أن يحرم ما حلله الله تعالى ولا أن يحلل ما حرمه الله تعالى، وقيل: تجب أيضا كما نص عليه الحصكفي وغيره، وقال بعض محققي الشافعية: يجب طاعة الإمام في أمره ونهيه ما لم يأمر بمحرم، وقال بعضهم: الذي يظهر أن ما أمر به مما ليس فيه   (1) اسمه علقمة اهـ منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 مصلحة عامة لا يجب امتثاله إلا ظاهرا فقط بخلاف ما فيه ذلك فإنه يجب باطنا أيضا، وكذا يقال في المباح الذي فيه ضرر للمأمور به، ثم هل العبرة بالمباح والمندوب المأمور به باعتقاد الأمر فإذا أمر بمباح عنده سنة عند المأمور يجب امتثاله ظاهرا فقط أو المأمور فيجب باطنا أيضا وبالعكس فينعكس ذلك كل محتمل؟ وظاهر إطلاقهم في مسألة أمر الإمام الناس بالصوم للاستسقاء الثاني لأنهم لم يفصلوا بين كون الصوم المأمور به هناك مندوبا عند الآمر أو لا، وأيد بما قرروه في باب الاقتداء من أن العبرة باعتقاد المأموم لا الإمام، ولم أقف على ما قاله أصحابنا في هذه المسألة فليراجع هذا، واستدل بالآية من أنكر القياس وذلك لأن الله تعالى أوجب الرد إلى الكتاب والسنة دون القياس، والحق أن الآية دليل على إثبات القياس بل هي متضمنة لجميع الأدلة الشرعية، فإن المراد بإطاعة الله العمل بالكتاب، وبإطاعة الرسول العمل بالسنة، وبالرد إليهما القياس لأن رد المختلف فيه الغير المعلوم من النص إلى المنصوص عليه إنما يكون بالتمثيل والبناء عليه، وليس القياس شيئا وراء ذلك، وقد علم من قوله سبحانه: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ أنه عند عدم النزاع يعمل بما اتفق عليه وهو الإجماع إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ متعلق بالأمر الأخير الوارد في محل النزاع إذ هو المحتاج إلى التحذير عن المخالفة، وجواب الشرط محذوف عند جمهور البصريين ثقة بدلالة المذكور عليه، والكلام على حد- إن كنت ابني فأطعني- فإن الإيمان بالله تعالى يوجب امتثال أمره، وكذا الإيمان باليوم الآخر لما فيه من العقاب على المخالفة ذلِكَ أي الرد المأمور به العظيم الشأن ولو حمل- كما قيل- على جميع ما سبق على التفريع لحسن. وقال الطبرسي: إنه إشارة إلى ما تقدم من الأوامر أي طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وأولي الأمر، ورد المتنازع فيه إلى الله والرسول عليه الصلاة والسلام خَيْرٌ لكم وأصلح وَأَحْسَنُ أي أحمد في نفسه تَأْوِيلًا أي عاقبة، قاله قتادة والسدي وابن زيد، وأفعل التفضيل في الموضعين للإيذان بالكمال على خلاف الموضوع له، ووجه تقديم الأول على الثاني أن الأغلب تعلق أنظار الناس بما ينفعهم، وقيل: المراد خَيْرٌ لكم في الدنيا وَأَحْسَنُ عاقبة في الآخرة، ووجه التقديم عليه أظهر. وعن الزجاج أن المراد أَحْسَنُ تَأْوِيلًا من تأويلكم أنتم إياه من غير رد إلى أصل من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم. فالتأويل إما بمعنى الرجوع إلى المآل والعاقبة، وإما بمعنى بيان المراد من اللفظ الغير الظاهر منه، وكلاهما حقيقة، وإن غلب الثاني في العرف ولذا يقابل التفسير. أَلَمْ تَرَ خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وتعجيب له عليه الصلاة والسلام أي ألم تنظر أو ألم ينته علمك إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ من الزعم، وهو كما في القاموس مثلث القول: الحق والباطل والكذب ضد، وأكثر ما يقال: فيما يشك فيه، ومن هنا قيل: إنه قول بلا دليل، وقد كثر استعماله بمعنى القول الحق، وفي الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «زعم جبريل» وفي حديث ضمام بن ثعلبة رضي الله تعالى عنه «زعم رسولك» وقد أكثر سيبويه في الكتاب من قوله: زعم الخليل كذا- في أشياء يرتضيها- وفي شرح مسلم للنووي أن زعم في كل هذا بمعنى القول، والمراد به هنا مجرد الادعاء أي يدعون أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ أي القرآن. وَما أُنْزِلَ إلى موسى عليه السلام مِنْ قَبْلِكَ وهو التوراة، ووصفوا بهذا الادعاء لتأكيد التعجيب وتشديد التوبيخ والاستقباح، وقرىء أُنْزِلَ وأُنْزِلَ بالبناء للفاعل يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ بيان لمحل التعجيب على قياس نظائره أخرج الثعلبي وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن رجلا من المنافقين يقال له بشر خاصم يهوديا فدعاه اليهود إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف، ثم إنهما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 احتكما إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقضى لليهودي فلم يرض المنافق وقال: تعال نتحاكم إلى عمر بن الخطاب، فقال اليهودي لعمر رضي الله تعالى عنه: قضى لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم يرض بقضائه، فقال للمنافق: أكذلك؟ قال: نعم، فقال عمر: مكانكما حتى أخرج إليكما فدخل عمر فاشتمل على سيفه ثم خرج فضرب عنق المنافق حتى برد ثم قال: هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت» ، وفي بعض الروايات: «وقال جبريل عليه السلام إن عمر فرق بين الحق والباطل وسماه النبي صلّى الله عليه وسلّم الفاروق رضي الله تعالى عنه» ، والطاغوت على هذا كعب بن الأشرف، وإطلاقه عليه حقيقة بناء على أنه بمعنى كثير الطغيان، أو أنه علم لقب له- كالفاروق- رضي الله تعالى عنه، ولعله في مقابلة الطاغوت، وفي معناه كل من يحكم بالباطل ويؤثر لأجله، ويحتمل أن يكون الطاغوت بمعنى الشيطان، وإطلاقه على الأخس ابن الأشرف إما استعارة أو حقيقة، والتجوز في إسناد التحاكم إليه بالنسبة الإيقاعية بين الفعل ومفعوله بالواسطة، وقيل: إن التحاكم إليه تحاكم إلى الشيطان من حيث إنه الحامل عليه فنقله عن الشيطان إليه على سبيل المجاز المرسل، وأخرج الطبراني بسند صحيح عن ابن عباس أيضا قال: كان أبو برزة الأسلمي كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه فتنافر إليه ناس من المسلمين فأنزل الله تعالى فيهم الآية. وأخرج ابن جرير عن السدي كان أناس من يهود قريظة، والنضير قد أسلموا ونافق بعضهم، وكانت بينهم خصومة في قتيل فأبى المنافقون منهم إلا التحاكم إلى أبي برزة فانطلقوا إليه فسألوه فقال: أعظموا اللقمة، فقالوا: لك عشرة أوساق فقال: لا بل مائة وسق، فأبوا أن يعطوه فوق العشرة، فأنزل الله تعالى فيهم ما تسمعون، وعلى هذا ففي الآية من الإشارة إلى تفظيع التحاكم نفسه ما لا يخفى، وهو أيضا أنسب بوصف المنافقين بادعاء الإيمان بالتوراة، ويمكن حمل خبر الطبراني عليه بحمل المسلمين فيه على المنافقين ممن أسلم من قريظة والنضير وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ في موضع الحال من ضمير يُرِيدُونَ وفيه تأكيد للتعجيب كالوصف السابق، والضمير المجرور راجع إلى الطاغوت وهو ظاهر على تقدير أن يراد منه الشيطان وإلا فهو عائد إليه باعتبار الوصف لا الذات أي أمروا أن يكفروا بمن هو كثير الطغيان أو شبيه بالشيطان، وقيل: الضمير للتحاكم المفهوم من: «يتحاكموا» ، وفيه بعد وقرأ عباس بن المفضل بها، وقرىء بهن، والضمير أيضا للطاغوت لأنه يكون للواحد والجمع، وإذا أريد الثاني أنث باعتبار معنى الجماعة، وقد تقدم وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً عطف على الجملة الحالية داخلة في حكم التعجيب، وفيها على بعض الاحتمالات وضع المظهر موضع المضمر على معنى «يريدون أن يتحاكموا إلى الشيطان» وهو بصدد إرادة إضلالهم ولا يريدون أن يتحاكموا إليك وأنت بصدد إرادة هدايتهم، وضَلالًا إما مصدر مؤكد للفعل المذكور بحذف الزوائد على حد ما قيل في أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17] وإما مؤكد لفعله المدلول عليه بالمذكور أي فيضلون ضلالا، ووصفه بالبعد الذي هو نعت موصوفه للمبالغة وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أي لأولئك الزاعمين تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ في القرآن من الأحكام وَإِلَى الرَّسُولِ المبعوث للحكم بذلك رَأَيْتَ أي أبصرت أو علمت الْمُنافِقِينَ وهم الزاعمون، والإظهار في مقام الإضمار للتسجيل عليهم بالنفاق وذمهم به والإشعار بعلة الحكم أي رأيتهم لنفاقهم يَصُدُّونَ أي يعرضون عَنْكَ صُدُوداً أي إعراضا أيّ إعراض فهو مصدر مؤكد لفعله وتنوينه للتفخيم، وقيل: هو اسم للمصدر الذي هو الصد، وعزي إلى الخليل، والأظهر أنه مصدر لصد اللازم، والصد مصدر للمتعدي، ودعوى- أن يصدون هنا متعد حذف مفعوله أي يصدون المتحاكمين أي يمنعونهم- مما لا حاجة إليه، وهذه الجملة تكملة لمادة التعجيب ببيان إعراضهم صريحا عن التحاكم إلى كتاب الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم إثر بيان إعراضهم عن ذلك في ضمن التحاكم إلى الطاغوت، وقرأ الحسن «تعالوا» بضم اللام على أنه حذف لام الفعل اعتباطا كما قالوا: ما باليت به بالة، وأصلها بالية كعافية، وكما قال الكسائي في آية: إن أصلها آيية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 كفاعلة فصارت اللام كاللام فضمت للواو، ومن ذلك قول أهل مكة: «تعالي» بكسر اللام للمرأة، وهي لغة مسموعة أثبتها ابن جني فلا عبرة بمن لحن كابن هشام الحمداني فيها حيث يقول: أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا ... تعالي أقاسمك الهموم تعالي ولا حاجة إلى القول بأن- تعالي- الأولى مفتوحة اللام، والثانية مكسورتها للقافية كما لا يخفى، وأصل معنى هذا الفعل طلب الإقبال إلى مكان عال ثم عمم فَكَيْفَ يكون حالهم إِذا أَصابَتْهُمْ نالتهم مُصِيبَةٌ نكبة تظهر نفاقهم بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي بسبب ما عملوا من الجنايات، كالتحاكم إلى الطاغوت والإعراض عن حكمك ثُمَّ جاؤُكَ للاعتذار، وهو عطف على أَصابَتْهُمْ والمراد تهويل ما دهاهم، وقيل: على يَصُدُّونَ وما بينهما اعتراض يَحْلِفُونَ حال من فاعل جاؤُكَ أي حالفين لك بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا أي ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك إِلَّا إِحْساناً إلى الخصوم وَتَوْفِيقاً بينهم، ولم نرد بالمرافعة إلى غيرك عدم الرضا بحكمك فلا تؤاخذنا بما فعلنا، وهذا وعيد لهم على ما فعلوا وأنهم سيندمون حين لا ينفعهم الندم، ويعتذرون ولا يغني عنهم الاعتذار، وقيل: جاء أصحاب القتيل طالبين بدمه، وقالوا: إن أردنا بالتحاكم إلى عمر رضي الله تعالى عنه إلا أن يحسن إلى صاحبنا ويوفق بينه وبين خصمه- فإذا- على هذا لمجرد الظرفية دون الاستقبال. وقيل: المعنى بالآية عبد الله بن أبيّ والمصيبة ما أصابه وأصحابه من الذل برجوعهم من غزوة بني المصطلق- وهي غزوة مريسيع- حين نزلت سورة المنافقين فاضطروا إلى الخشوع والاعتذار على ما سيذكر في محله إن شاء الله تعالى وقالوا: ما أردنا بالكلام بين الفريقين المتنازعين في تلك الغزوة إلا الخير، أو مصيبة الموت لما تضرع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الإقالة والاستغفار واستوهبه ثوبه ليتقي به النار أُولئِكَ أي المنافقون المذكورون. الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ من فنون الشرور المنافية لما أظهروا لك من بنات غير وجاؤوا به من أذني عناق فَأَعْرِضْ حيث كانت حالهم كذلك عَنْهُمْ أي قبول عذرهم، ويلزم ذلك الإعراض عن طلبهم دم القتيل لأنه هدر، وقيل: عن عقابهم لمصلحة في استبقائهم، ولا تظهر لهم علمك بما في بواطنهم الخبيثة حتى يبقوا على نيران الوجل وَعِظْهُمْ بلسانك وكفهم عن النفاق وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أي قل لهم خاليا لا يكون معهم أحد لأنه أدعى إلى قبول النصيحة، ولذا قيل: النصح بين الملأ تقريع، أو قل لهم في شأن أنفسهم ومعناها قَوْلًا بَلِيغاً مؤثرا واصلا إلى كنه المراد مطابقا لما سيق له من المقصود فالظرف على التقديرين متعلق بالأمر. وقيل: متعلق ب بَلِيغاً وهو ظاهر على مذهب الكوفيين، والبصريون لا يجيزون ذلك لأن معمول الصفة عندهم لا يتقدم على الموصوف لأن المعمول إنما يتقدم حيث يصح تقدم عامله، وقيل: إنه إنما يصح إذا كان ظرفا وقواه البعض، وقيل: إنه متعلق بمحذوف يفسره المذكور- وفيه بعد- والمعنى على تقدير التعلق قُلْ لَهُمْ قَوْلًا بَلِيغاً فِي أَنْفُسِهِمْ مؤثرا فيها يغتمون به اغتماما، ويستشعرون منه الخوف استشعارا، وهو التوعد بالقتل والاستئصال، والإيذان بأن ما انطوت عليه قلوبهم الخبيثة من الشر والنفاق بمرأى من الله تعالى ومسمع- غير خاف عليه سبحانه- وإن ذلك مستوجب لما تشيب منه النواصي، وإنما هذه المكافة والتأخير لإظهارهم الإيمان وإضمارهم الكفر، ولئن أظهروا الشقاق وبرزوا بأشخاصهم من نفق النفاق لتسامرنهم السمر والبيض، وليضيقن عليهم رحب الفلا بالبلاء العريض، واستدل بالآية الأولى على أنه قد تصيب المصيبة بما يكتسبه العبد من الذنوب، ثم اختلف في ذلك فقال الجبائي: لا يكون ذلك إلا عقوبة في التائب، وقال أبو هاشم: يكون ذلك لطفا. وقال القاضي عبد الجبار: قد يكون لطفا وقد يكون جزاء وهو موقوف على الدليل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ تمهيد لبيان خطئهم باشتغالهم بستر نار جنايتهم بهشيم اعتذارهم الباطل وعدم إطفائها بماء التوبة أي وما أرسلنا رسولا من الرسل لشيء من الأشياء إلا ليطاع بسبب إذنه تعالى وأمره المرسل إليهم أن يطيعوه لأنه مؤد عنه عز شأنه فطاعته طاعته ومعصيته معصيته أو بتيسيره وتوفيقه سبحانه في طاعته، ولا يخفى ما في العدول عن الضمير إلى الاسم الجليل، واحتج المعتزلة بالآية على أن الله تعالى لا يريد إلا الخير والشر على خلاف إرادته، وأجاب عن ذلك صاحب التيسير بأن المعنى إلا ليطيعه من أذن له في الطاعة وأرادها منه، وأما من لم يأذن له فيريد عدم طاعته فلذا لا يطيعه ويكون كافرا، أو بأن المراد إلزام الطاعة أي وما أرسلنا رسولا إلا لإلزام طاعته الناس ليثاب من انقاد ويعاقب من سلك طريق العناد فلا تنتهض دعواهم الاحتجاج بها على مدعاهم، واحتج بها أيضا من أثبت الغرض في أفعاله تعالى وهو ظاهر، ولا يمكن تأويل ذلك بكونه غاية لا غرضا لأن طاعة الجميع لا تترتب على الإرسال إلا أن يقال إن الغاية كونه مطاعا بالإذن لا للكل إذ من لا إذن له لا يطيع، وقد تقدم الكلام في هذه المسألة وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وعرضوها للبوار بالنفاق والتحاكم إلى الطاغوت جاؤُكَ على إثر ظلمهم بلا ريث متوسلين بك تائبين عن جنايتهم غير جامعين- حشفا وسوء كيلة- باعتذارهم الباطل وأيمانهم الفاجرة فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ لذنوبهم ونزعوا عمّا هم عليه وندموا على ما فعلوا. وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ وسأل الله تعالى أن يقبل توبتهم ويغفر ذنوبهم، وفي التعبير- باستغفر- إلخ دون استغفرت تفخيم لشأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيث عدل عن خطابه إلى ما هو من عظيم صفاته على طريق حكم الأمير بكذا مكان حكمت وتعظيم لاستغفاره عليه الصلاة والسلام حيث أسنده إلى لفظ مبنىء عن علو مرتبته لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً أي لعلموه قابلا لتوبتهم متفضلا عليهم بالتجاوز عما سلف من ذنوبهم، ومن فسر- الوجدان- بالمصادفة كان الوصف الأول حالا، والثاني بدلا منه أو حالا من الضمير فيه أو مثله، وفي وضع الاسم الجامع موضع الضمير إيذان بفخامة القبول والرحمة فَلا وَرَبِّكَ أي- فو ربك- ولا مزيدة لتأكيد معنى القسم لا لتأكيد النفي في جوابه أعني قوله تعالى لا يُؤْمِنُونَ لأنها تزاد في الإثبات أيضا كقوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ [الواقعة: 75] وهذا ما اختاره الزمخشري ومتابعوه في «لا» التي تذكر قبل القسم، وقيل: إنها رد لمقدر أي لا يكون الأمر كما زعمتم، واختاره الطبرسي، وقيل: مزيدة لتأكيد النفي في الجواب ولتأكيد القسم إن لم يكن نفي، وقال ابن المنير: الظاهر عندي أنها هاهنا لتوطئة النفي المقسم عليه، والزمخشري لم يذكر مانعا من ذلك سوى مجيئها لغير هذا المعنى في الإثبات وهو لا يأبى مجيئها في النفي على الوجه الآخر من التوطئة على أنها لم ترد في القرآن إلا مع صريح فعل القسم ومع القسم بغير الله تعالى مثل لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ [البلد: 1] لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ [القيامة: 1] فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ [الانشقاق: 16] قصدا إلى تأكيد القسم وتعظيم المقسم به إذ لا يقسم بالشيء إلا إعظاما له فكأنه بدخولها يقول: إن إعظامي لهذه الأشياء بالقسم بها- كلا إعظام- يعني أنها تستوجب من التعظيم فوق ذلك، وهو لا يحسن في القسم بالله تعالى إذ لا توهم ليزاح، ولم تسمع زيادتها مع القسم بالله إلا إذا كان الجواب منفيا فدل ذلك على أنها معه زائدة موطئة للنفي الواقع في الجواب، ولا تكاد تجدها في غير الكتاب العزيز داخلة على قسم مثبت وإنما كثر دخولها على القسم وجوابه نفي كقوله: فلا وأبيك ابنة العامري ... لا يدعي القوم أني أفر وقوله: ألا نادت أمامة بارتحال ... لتحزنني فلا بك ما أبالي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 وقوله: رأى برقا (1) فأوضع فوق بكر ... فلا بك ما أسال ولا أغاما إلى ما لا يحصى كثرة، ومن هذا يعلم الفرق بين المقامين والجواب عن قولهم: إنه لا فرق بينهما فتأمل ذلك فهو حقيق بالتأمل حَتَّى يُحَكِّمُوكَ أي يجعلوك حكما أو حاكما، وقال شيخ الإسلام: يتحاكموا إليك ويترافعوا، وإنما جيء بصيغة التحكيم مع أنه صلّى الله عليه وسلّم حاكم بأمر الله إيذانا بأن اللائق بهم أن يجعلوه عليه الصلاة والسلام حكما فيما بينهم ويرضوا بحكمه وإن قطع النظر عن كونه حاكما على الإطلاق فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ أي فيما اختلف بينهم من الأمور واختلط، ومنه الشجر لتداخل أغصانه، وقيل: للمنازعة تشاجر لأن المتنازعين تختلف أقوالهم وتتعارض دعاويهم ويختلط بعضهم ببعض ثُمَّ لا يَجِدُوا عطف على مقدر ينساق إليه الكلام أي فتحكم بينهم ثم لا يجدوا فِي أَنْفُسِهِمْ وقلوبهم حَرَجاً أي شكا- كما قاله مجاهد- أو ضيقا- كما قاله الجبائي- أو إثما- كما روي عن الضحاك- واختار بعض المحققين تفسيره بضيق الصدر لشائبة الكراهة والإباء لما أن بعض الكفرة كانوا يستيقنون الآيات بلا شك ولكن يجحدون ظلما وعتوا فلا يكونوا مؤمنين، وما روي عن الضحاك يمكن إرجاعه إلى أيّ الأمرين شئت ونفي وجدان الحرج أبلغ من نفي الحرج كما لا يخفى، وهو مفعول به- ليجدوا- والظرف قيل: حال منه أو متعلق بما عنده، وقوله تعالى: مِمَّا قَضَيْتَ متعلق بمحذوف وقع صفة لحرجا، وجوز أبو البقاء تعلقه به، وما يحتمل أن تكون موصولة ونكرة موصوفة ومصدرية أي من الذي قضيته أي قضيت به أو من شيء قضيت أو من قضائك وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً أي ينقادوا لأمرك ويذعنوا له بظاهرهم وباطنهم كما يشعر به التأكيد، ولعل حكم هذه الآية باق إلى يوم القيامة وليس مخصوصا بالذين كانوا في عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم فإن قضاء شريعته عليه الصلاة والسلام قضاؤه، فقد روي عن الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قال: لو أن قوما عبدوا الله تعالى وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاموا رمضان وحجوا البيت ثم قالوا لشيء صنعه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ألا صنع خلاف ما صنع، أو وجدوا في أنفسهم حرجا لكانوا مشركين ثم تلا هذه الآية، وسبب نزولها- كما قال الشعبي ومجاهد: ما مر من قصة بشر- واليهودي اللذين قضى بينهما عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بما قضى. وأخرج الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي من طريق الزهري «أن عروة بن الزبير حدثه عن الزبير بن العوام أنه خاصم (2) رجلا من الأنصار إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في شراج (3) من الحرة كان يسقيان به كلاهما النخل فقال الأنصاري: سرح الماء يمر فأبى عليه فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك فغضب الأنصاري وقال: يا رسول الله إن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر (4) ثم أرسل الماء إلى جارك، واستوعى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للزبير حقه وكان رسول الله عليه الصلاة والسلام قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه السعة له وللأنصاري فلما أحفظ (5) رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الأنصاري استوعى   (1) أي أسرع اهـ منه. (2) قيل: هو حاطب بن أبي بلتعة وقيل: ثعلبة بن حاطب وقيل: حاطب بن راشد، وقيل: ثابت بن قيس اهـ منه. (3) جمع شرجة مسيل الماء اهـ منه. (4) بالدال والذال. المسناة. حول الزرع، ويقال لها: المرز اهـ منه. (5) أي أغضب اهـ منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 للزبير حقه في صريح الحكم فقال الزبير: ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك فَلا وَرَبِّكَ إلخ. وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أي فرضنا وأوجبنا أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أي كما أمرنا بني إسرائيل وتفسير ذلك بالتعرض له بالجهاد بعيد أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ كما أمرنا بني إسرائيل أيضا بالخروج من مصر. والمراد إنما كتبنا عليهم إطاعة الرسول والانقياد لحكمه والرضا به ولو كتبنا عليهم القتل والخروج من الديار كما كتبنا ذلك على غيرهم ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وهم المخلصون من المؤمنين كأبي بكر رضي الله تعالى عنه. فقد أخرج ابن أبي حاتم عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال: «لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر: يا رسول الله لو أمرتني أن أقتل نفسي لفعلت فقال: صدقت يا أبا بكر» وكعبد الله بن رواحة، فقد أخرج عن شريح بن عبيد «أنها لما نزلت أشار صلّى الله عليه وسلّم إليه بيده فقال: لو أن الله تعالى كتب ذلك لكان هذا من أولئك القليل» . وكابن أم عبد، فقد أخرج عن سفيان «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال فيه: لو نزلت كان منهم» ، وأخرج عن الحسن قال: «لما نزلت هذه الآية قال أناس من الصحابة: لو فعل ربنا لفعلنا فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: للإيمان أثبت في قلوب أهله من الجبال الرواسي» وروي أن عمر رضي الله تعالى عنه قال: والله لو أمرنا لفعلنا فالحمد لله الذي عافانا فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن من أمتي لرجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي. وفي بعض الآثار أن الزبير وصاحبه لما خرجا بعد الحكم من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرا على المقداد فقال: لمن القضاء؟ فقال الأنصاري: لابن عمته ولوى شدقه ففطن يهودي كان مع المقداد فقال: قاتل الله تعالى هؤلاء يشهدون أنه رسول الله ويتهمونه في قضاء يقضي بينهم وايم الله تعالى لقد أذنبنا ذنبا مرة في حياة موسى عليه السلام فدعانا إلى التوبة منه، وقال اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين ألفا في طاعة ربنا حتى رضي عنا فقال ثابت بن قيس: أما والله إن الله تعالى ليعلم مني الصدق لو أمرني محمد صلّى الله عليه وسلّم أن أقتل نفسي لقتلتها، وروي أن قائل ذلك هو وابن مسعود وعمار بن ياسر وأنه بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنهم فقال: «والذي نفسي بيده إن من أمتي رجالا الإيمان في قلوبهم أثبت من الجبال الرواسي وإن الآية نزلت فيهم، وفي رواية البغوي الاقتصار على ثابت بن قيس، وعلى هذا الأثر وجه مناسبة ذكر هذه الآية مما لا يخفى، وكأنه لذلك قال صاحب الكشاف في معناها: لو أوجبنا عليهم مثل ما أوجبنا على بني إسرائيل من قتلهم أنفسهم، أو خروجهم من ديارهم حين استتيبوا من عبادة العجل ما فعلوه إلا قليل، وقال بعضهم: إن المراد أننا قد خففنا عليهم حيث اكتفينا منهم في توبتهم بتحكيمك والتسليم له ولو جعلنا توبتهم كتوبة بني إسرائيل لم يتوبوا. والذي يفهم من فحوى الأخبار المعول عليها أن هذه الكتابة لا تعلق لها بالاستتابة، ولعل المراد من ذكر ذلك مجرد التنبيه على قصور كثير من الناس ووهن إسلامهم إثر بيان أنه لا يتم إيمانهم إلا بأن يسلموا حق التسليم، وظاهر ما ذكره الزمخشري من أن بني إسرائيل أمروا بالخروج حين استتيبوا مما لا يكاد يصح إذا أريد بالديار الديار المصرية لأن الاستتابة من عبادة العجل إنما كانت بعد الخروج منها وبعد انفلاق البحر- وهذا مما لا امتراء فيه- على أنا لا نسلم أنهم أمروا بالخروج استتابة في وقت من الأوقات، وحمل الذلة على الخروج من الديار لأن ذل الغربة مثل مضروب في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ [الأعراف: 152] لا يفيد إذ الآية لا تدل على الأمر به والنزاع فيه على أن في كون هذه الآية في التائبين من عبادة العجل نزاعا، وقد حقق بعض المحققين أنها في المصرين المستمرين على عبادته كما ستعلمه إن شاء الله تعالى والعجب من صاحب الكشف كيف لم يتعقب كلام صاحب الكشاف بأكثر من أنه ليس منصوصا في القرآن، ثم نقل كلامه في الآية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 هذا والكلام في لَوْ هنا أشهر من نار على علم، وحقها كما قالوا: أن يليها فعل، ومن هنا قال الطبرسي: التقدير لو وقع كتبنا عليهم، وقال الزجاج: إنها وإن كان حقها ذلك إلا أن إن الشديدة تقع بعدها لأنها تنوب عن الاسم والخبر، فنقول ظننت أنك عالم كما تقول: ظننتك عالما أي ظننت علمك ثابتا فهي هنا نائبة عن الفعل والاسم كما أنها هناك نائبة عن الاسم والخبر، وضمير الجمع في عَلَيْهِمْ وما بعده قيل: للمنافقين، ونسب إلى ابن عباس ومجاهد، واعترض بأن فعل القليل منهم غير متصور إذ هم المنافقون الذين لا تطيب أنفسهم بما دون القتل بمراتب، وكل شيء دون المنية سهل، فكيف تطيب بالقتل ويمتثلون الأمر به؟ وأجيب بأن المراد لو كتبنا على المنافقين ذلك ما فعله إلا قليل منهم رياء وسمعة وحينئذ يصعب الأمر عليهم وينكشف كفرهم. فإذا لم نفعل بهم ذلك بل كلفناهم الأشياء السهلة فليتركوا النفاق وليلزموا الإخلاص، ونسب ذلك للبلخي. ولا يخفى أن قوله صلّى الله عليه وسلّم في عبد الله بن رواحة: «لو أن الله تعالى كتب ذلك لكان منهم» وكذا غيره من الأخبار السالفة تأبى هذا التوجيه غاية الإباء لأنها مسوقة للمدح، ولا مدح في كون أولئك المذكورين من القليل الذين يمتثلون الأمر رياء وسمعة بل ذلك غاية في الذم لهم وحاشاهم، وقيل: للناس مطلقا، والقلة إضافية لأن المراد بالقليل المؤمنون وهم وإن كثروا قليلون بالنسبة إلى من عداهم من المنافقين، والكفرة المتمردين وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: 103] وحينئذ لا يرد أنه يلزم من الآية كون بني إسرائيل أقوى إيمانا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيث امتثلوا أمر الله تعالى لهم بقتل أنفسهم حتى بلغ قتلاهم سبعين ألفا. ولا يمتثله لو كان من الصدر الأول إلا قليل. ومن الناس من جعل الآية بيانا لكمال اللطف بهذه الأمة حيث إنه لا يقبل القتل منهم إلا القليل لأن الله تعالى يعفو عنهم بقتل قليل ولا يدعهم أن يقتل الكثير كبني إسرائيل لا أنهم لا يفعلون كما فعل بنو إسرائيل لقلة المخلصين فيهم وكثرة المخلصين في بني إسرائيل ليلزم التفضيل. وقيل: يحتمل أن يكون قتل كثير من بني إسرائيل لأنهم لو لم ينقادوا لأهلكهم عذاب الله تعالى، وهذه الأمة مأمونون إلى يوم القيامة فلا يقدمون كما أقدموا لعدم خوف الاستئصال لا لأنهم دون، وأن بني إسرائيل أقوى منهم إيمانا، وأنت تعلم أن الآية بمراحل عن إفادتها كمال اللطف، والسباق والسياق لا يشعران به أصلا وأن خوف الاستئصال وعدمه مما لا يكاد يخطر ببال كما لا يخفى على من عرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال، والضمير المنصوب في فَعَلُوهُ للمكتوب الشامل للقتل والخروج لدلالة الفعل عليه، أو هو عائد على القتل والخروج وللعطف- بأو- لزم توحيد الضمير لأنه عائد لأحد الأمرين، وقول الإمام الرازي: إن الضمير عائد إليهما معا بالتأويل تنبو عنه الصناعة، وقَلِيلٌ لكون الكلام غير موجب بدل من الضمير المرفوع في فَعَلُوهُ، وقرأ ابن عامر إلا قليلا بالنصب وجعله غير واحد على أنه صفة لمصدر محذوف، والاستثناء مفرغ أي ما فعلوه إلا فعلا قليلا، ومن- في مِنْهُمْ حينئذ للابتداء على نحو ما ضربته إلا ضربا منك مبرحا، وقال الطيبي: إنها بيان للضمير في- فعلوا- كقوله تعالى: لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ [المائدة: 73] على التجريد وليس بشيء، وكأن الذي دعاهم إلى هذا والعدول عن القول بنصبه على الاستثناء أن النصب عليه في غير الموجب غير مختار، فلا يحمل القرآن عليه- كما يشير إليه كلام الزجاج- حيث قال: النصب جائز في غير القرآن لكن قال ابن الحاجب: لا بعد في أن يكون أقل القراء على الوجه الأقوى، وأكثرهم على الوجه الذي هو دونه بل التزم بعض الناس أنه يجوز أن يجمع القراء غير الأقوى وحققه الحمصي، وقيل: بل يكون إجماعهم دليلا على أن ذلك هو القوي لأنهم هم المتفننون الآخذون عن مشكاة النبوة، وأن تعليل النحاة غير ملتفت إليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 ورجح بعضهم أيضا النصب على الاستثناء هنا بأن فيه توافق القراءتين معنى وهو مما يهتم به، وبأن توجيه الكلام على غيره لا يخلو عن تكلف ودغدغة، وقرأ أبو عمرو ويعقوب- «أن اقتلوا» - بكسر النون على الأصل في التخلص من الساكنين، وأَوِ اخْرُجُوا بضم الواو للاتباع، والتشبيه بواو الجمع في نحو وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة: 237] ، وقرأ حمزة وعاصم بكسرهما على الأصل، والباقون بضمهما وهو ظاهر، وأَنِ كيفما كانت نونها إما مفسرة- لأنا كتبنا- في معنى أمرنا ولا يضر تعديه بعلى لأنه لم يخرج عن معناه، ولو خرج فتعديه باعتبار معناه الأصلي جائز كما في- نطقت الحال بكذا- حيث تعدى الفعل بالباء مع أنهم قد يريدون به دل، وهو يتعدى بعلى. وإن أبيت هذا ولا أظن قلنا: إنه بمعنى أو حينا وإما مصدرية وهو الظاهر ولا يضر زوال الأمر بالسبك لأنه أمر تقديري وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ أي ما يؤمرون به مقرونا بالوعد والوعيد من متابعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم والانقياد إلى حكمه ظاهرا وباطنا لَكانَ فعلهم ذلك خَيْراً لَهُمْ عاجلا وآجلا وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً لهم على الحق والصواب وأمنع لهم من الضلال وأبعد من الشبهات كما قال سبحانه: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [محمد: 17] ، وقيل: معناه أكثر انتفاعا لأن الانتفاع بالحق يدوم ولا يبطل لاتصاله بثواب الآخرة، والانتفاع بالباطل يبطل ويضمحل ويتصل بعقاب الآخرة. وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ لأعطيناهم مِنْ لَدُنَّا من عندنا أَجْراً ثوابا عَظِيماً لا يعرف أحد مبداه ولا يبلغ منتهاه، وإنما ذكر من لدنا تأكيدا ومبالغة وهو متعلق بآتيناهم، وجوز أن يكون حالا من أَجْراً والواو للعطف ولآتيناهم- معطوف على لكان خيرا لهم لفظا وإِذاً مقحمة للدلالة على أن هذا الجزاء الأخير بعد ترتب التالي السابق على المقدم ولإظهار ذلك وتحقيقه قال المحققون: إنه جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: وماذا يكون لهم بعد التثبيت؟ فقيل: وَإِذاً لو ثبتوا لآتيناهم وليس مرادهم أنه جواب لسؤال مقدر لفظا ومعنى، وإلا لم يكن لاقترانه بالواو وجه، وإظهار لَوْ ليس لأنها مقدرة بل لتحقيق أن ذلك جواب للشرط لكن بعد اعتبار جوابه الأول، والمراد بالجواب في قولهم جميعا: إن إذا حرف جواب دائما أنها لا تكون في كلام مبتدأ بل هو في كلام مبني على شيء تقدمه ملفوظ، أو مقدر سواء كان شرطا، أو كلام سائل، أو نحوه كما أنه ليس المراد بالجزاء اللازم لها، أو الغالب إلا ما يكون مجازاة لفعل فاعل سواء السائل وغيره، وبهذا تندفع الشبه الموردة في هذا المقام، وزعم الطيبي أن ما أشرنا إليه من التقدير تكلف من ثلاثة أوجه- وهو توهم منشؤه الغفلة عن المراد- كالذي زعمه العلامة الثاني، فتدبر وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً وهو المراتب- بعد الإيمان- التي تفتح أبوابها للعاملين، فقد أخرج أبو نعيم في الحلية عن أنس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من عمل بما علم أورثه الله تعالى علم ما لم يعلم» ، وقال الجبائي: المعنى ولهديناهم في الآخرة إلى طريق الجنة وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ بالانقياد لأمره ونهيه وَالرَّسُولَ المبلغ ما أوحي إليه منه باتباع شريعته، والرضا بحكمه، والكلام مستأنف فيه فضل ترغيب في الطاعة ومزيد تشويق إليها ببيان أن نتيجتها أقصى ما تنتهي إليه همم الأمم، وأرفع ما تمتد إليه أعناق أمانيهم، وتشرئب إليه أعين عزائمهم من مجاورة أعظم الخلائق مقدارا وأرفعهم منارا، ومتضمن لتفسير ما أبهم وتفصيل ما أجمل في جواب الشرطية السابقة وَمَنْ شرطية وإفراد ضمير يُطِعِ مراعاة للفظ، والجمع في قوله سبحانه فَأُولئِكَ مراعاة للمعنى أي فالمطيعون الذين علت درجتهم وبعدت منزلتهم شرفا وفضلا. مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بما تقصر العبارة عن تفصيله وبيانه مِنَ النَّبِيِّينَ بيان للمنعم عليهم فهو حال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 إما من الَّذِينَ أي مقارنيهم حال كونهم مِنَ النَّبِيِّينَ وإما من ضميره والتعرض لمعية الأنبياء دون نبينا صلّى الله عليه وسلّم خاصة مع أن الكلام في بيان حكم طاعته عليه الصلاة والسلام لجريان ذكرهم في سبب النزول مع الإشارة إلى أن طاعته متضمنة لطاعتهم، أخرج الطبراني وأبو نعيم والضياء المقدسي وحسنه قال: «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إنك لأحب إليّ من نفسي وإنك لأحب إليّ من ولدي وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك فلم يرد عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم شيئا حتى نزل جبريل بهذه الآية وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ، إلخ، وروي مثله عن ابن عباس. وقال الكلبي: إن ثوبان مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان شديد الحب له عليه الصلاة والسلام قليل الصبر عنه، وقد نحل جسمه وتغير لونه خوف عدم رؤيته صلّى الله عليه وسلّم بعد الموت فذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى هذه الآية، وعن مسروق «إن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا: ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا فإنك إذا فارقتنا رفعت فوقنا فنزلت» وبدأ بذكر النبيين لعلو درجتهم وارتفاعهم على من عداهم، وقد نقل الشعراني عن مولانا الشيخ الأكبر قدس سره أنه قال: «فتح لي قدر خرم إبرة من مقام النبوة تجليا لا دخولا فكدت أحترق» ثم عطف عليهم على سبيل التدلي قوله سبحانه: وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ فالمنازل أربعة بعضها دون بعض: الأول منازل الأنبياء وهم الذين تمدهم قوة إلهية وتصحبهم نفس في أعلى مراتب القدسية، ومثلهم كمن يرى الشيء عيانا من قريب، ولذلك قال تعالى في صفة نبينا صلّى الله عليه وسلّم: أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى [النجم: 12] ، والثاني منازل الصديقين وهم الذين يتأخرون على الأنبياء عليهم السلام في المعرفة، ومثلهم كمن يرى الشيء عيانا من بعيد، وإياه عنى علي كرم الله تعالى وجهه حيث قيل له: هل رأيت الله تعالى؟ فقال: ما كنت لأعبد ربا لم أره، ثم قال: لم تره العيون بشواهد العيان ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، والثالث منازل الشهداء وهم الذين يعرفون الشيء بالبراهين، ومثلهم كمن يرى الشيء في المرآة من مكان قريب كحال من قال: كأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وإياه قصد النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «اعبد الله تعالى كأنك تراه» ، والرابع منازل الصالحين وهم الذين يعلمون الشيء بالتقليد الجازم، ومثلهم كمن يرى الشيء من بعيد في مرآة وإياه قصد النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «فإن لم تكن تراه فإنه يراك» قاله الراغب ونقله الطيبي وغيره، ونقل بعض تلامذة مولانا الشيخ خالد النقشبندي قدس سره عنه «أنه قرر يوما أن مراتب الكمل أربعة: نبوة وقطب مدارها نبينا صلّى الله عليه وسلّم، ثم صديقية وقطب مدارها أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، ثم شهادة وقطب مدارها عمر الفاروق رضي الله تعالى عنه، ثم ولاية وقطب مدارها علي كرم الله تعالى وجهه، وأن الصلاح في الآية إشارة إلى الولاية فسأله بعض الحاضرين عن عثمان رضي الله تعالى عنه في أي مرتبة هو من مراتب الثلاثة بعد النبوة فقال: إنه رضي الله تعالى عنه قد نال حظا من رتبة الشهادة، وحظا من رتبة الولاية، وأن معنى كونه ذا النورين هو ذلك عند العارفين انتهى. وأنا مستعينا بالله تعالى، ومستمدا من القوم قدس الله تعالى أسرارهم أقول: إن الولاية هي المحيطة العامة والفلك الدائر والدائرة الكبرى، وأن الولي من كان على بينة من ربه في حاله فعرف ما له بإخبار الحق إياه على الوجه الذي يقع به التصديق عنده ويصدق على أصناف كثيرة إلا أن المذكور منها في هذه الآية أربعة: الصنف الأول الأنبياء، والمراد بهم هنا الرسل أهل الشرع سواء بعثوا أو لم يبعثوا أعني بطريق الوجوب عليهم ولا بحث لأهل الله تعالى عن مقاماتهم وأحوالهم إذ لا ذوق لهم فيها وكلهم معترفون بذلك غير أنهم يقولون: إن النبوة عامة وخاصة والتي لا ذوق لهم فيها هي الخاصة أعني نبوة التشريع وهي مقام خاص في الولاية. وأما النبوة العامة فهي مستمرة سارية في أكابر الرجال غير منقطعة دنيا وأخرى لكن باب الإطلاق قد انسد، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 وعلى هذا يخرج ما رواه البدر التماسكي البغدادي عن الشيخ بشير عن القطب عبد القادر الجيلي قدس سره أنه قال:- معاشر الأنبياء أوتيتم اللقب وأوتينا ما لم تؤتوا- فإن معنى قوله:- أوتيتم اللقب- أنه حجر علينا إطلاق لفظ النبي، وإن كانت النبوة العامة أبدية، وقوله: وأوتينا ما لم تؤتوا على حد قول الخضر لموسى عليه السلام- وهو أفضل منه- يا موسى أنا على علم علمنيه الله تعالى لا تعلمه أنت، وهذا وجه آخر غير ما أسلفنا من قبل في توجيه هذا الكلام. والصنف الثاني الصديقون وهم المؤمنون بالله تعالى ورسله عن قول المخبر لا عن دليل سوى النور الإيماني الذي أعد في قلوبهم قبل وجود المصدق به المانع لها من تردد، أو شك يدخلها في قول المخبر الرسول ومتعلقه في الحقيقة الإيمان بالرسول ويكون الإيمان بالله تعالى على جهة القربة لا على إثباته إذ كان بعض الصديقين قد ثبت عندهم وجود الحق جل وعلا ضرورة، أو نظرا لكن ما ثبت كونه قربة وليس بين النبوة والصديقية- كما قال حجة الإسلام وغيره- مقام، ومن تخطى رقاب الصديقين وقع في النبوة وهي باب مغلق، وأثبت الشيخ الأكبر قدس سره مقاما بينهما سماه مقام القربة، وهو السر الذي وقر في قلب أبي بكر رضي الله تعالى عنه المشار إليه في الحديث «فليس بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر رضي الله تعالى عنه رجل أصلا» لا أنه ليس بين الصديقية والنبوة مقام ولها أجزاء على عدد شعب الإيمان، وفسرها بعضهم بأنها نور أخضر بين نورين يحصل به شهود عين ما جاء به المخبر من خلف حجاب الغيب بنور الكرم وبين ذلك بما يطول. والصنف الثالث الشهداء تولاهم الله تعالى بالشهادة وجعلهم من المقربين، وهم أهل الحضور مع الله تعالى على بساط العلم به فقد قال سبحانه: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ [آل عمران: 18] فجمعهم مع الملائكة في بساط الشهادة فهم موحدون عن حضور إلهيّ وعناية أزلية فإن بعث الله تعالى رسولا وآمنوا به فهم المؤمنون العلماء ولهم الأجر التام يوم القيامة وإلا فليس هم الشهداء المنعم عليهم وإيمانهم بعد العلم بما قاله الله سبحانه: إن ذلك قربة إليه من حيث- قال الله سبحانه، أو قاله الرسول الذي جاء من عنده- فقدم الصديق على الشهيد وجعل بإزاء النبي فإنه لا واسطة بينهما لاتصال نور الإيمان بنور الرسالة، والشهداء لهم نور العلم مساوق لنور الرسول من حيث هو شاهد لله تعالى بتوحيده لا من حيث هو رسول فلا يصح أن يكون بعده مع المساوقة لئلا تبطل ولا أن يكون معه لكونه رسولا، والشاهد ليس به فلا بد أن يتأخر فلم يبق إلا أن يكون في الرتبة التي تلي الصديقية فإن الصديق أتم نورا منه في الصديقية لأنه صديق من وجهين: وجه التوحيد ووجه القربة، والشهيد من وجه القربة خاصة لأن توحيده عن علم لا عن إيمان فنزل عن الصديق في مرتبة الإيمان وهو فوقه في مرتبة العلم فهو المتقدم في مرتبة العلم المتأخر برتبة الإيمان، والتصديق فإنه لا يصح من العالم أن يكون صديقا، وقد تقدم العلم مرتبة الخبر فهو يعلم أنه صادق في توحيد الله تعالى إذا بلغ رسالة الله تعالى والصديق لم يعلم ذلك إلا بنور الإيمان المعد في قلبه فعند ما جاء الرسول اتبعه من غير دليل ظاهر، والصنف الرابع الصالحون تولاهم الله تعالى بالصلاح وهم الذين لا يدخل في علمهم بالله تعالى ولا إيمانهم به وبما جاء من عنده سبحانه خلل فإذا دخله بطل كونه صالحا وكل من لم يدخله خلل في صديقيته فهو صالح، ولا في شهادته فهو صالح، ولا في توبته فهو صالح، ولكل أحد أن يدعو بتحصيل الصلاح له في المقام الذي يكون فيه لجواز دخول الخلل عليه في مقامه لأن الأمر اختصاص إلهي وليس بذاتي فيجوز دخول الخلل فيه، ويجوز رفعه، فصح أن يدعو الصالح بأن يجعل من الصالحين أي الذين لا يدخل صلاحهم خلل في زمان ما، وقد ذكر أنه ما من نبي إلا وذكر أنه صالح أو أنه دعا أن يكون من الصالحين مع كونه نبيا، ومن هنا قيل: إن مرتبة الصلاح خصوص في النبوة وقد تحصل لمن ليس بنبي ولا صديق ولا شهيد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 هذا ما وقفت عليه من كلام القوم قدس الله تعالى أسرارهم، ولم أظفر بالتفصيل الذي ذكره، مولانا الشيخ قدس سره فتدبر، وقد ذكر أصحابنا الرسميون أن الصديق صيغة مبالغة- كالسكير- بمعنى المتقدم في التصديق المبالغ في الصدق والإخلاص في الأقوال والأفعال، ويطلق على كل من أفاضل أصحاب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأماثل خواصهم كأبي بكر رضي الله تعالى عنه، وأن الشهداء جمع شهيد، والمراد بهم الذين بذلوا أرواحهم في طاعة الله تعالى وإعلاء كلمته وهم المقتولون بسيف الكفار من المسلمين، وقيل: المراد بهم هاهنا ما هو أعم من ذلك، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: يا رسول الله من قتل في سبيل الله تعالى فقال صلّى الله عليه وسلّم: إن شهداء أمتي إذا لقليل من قتل في سبيل الله تعالى فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات مبطونا فهو شهيد» وعد بعضهم الشهداء أكثر من ذلك بكثير، وقيل: الشهيد هو الذي يشهد لدين الله تعالى تارة بالحجة والبيان، وأخرى بالسيف والسنان، وزعم النيسابوري أنه لا يبعد أن يدخل كل هذه الأمة في الشهداء لقوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] وليس بشيء كما لا يخفى، وأن المراد بالصالحين الصارفين (1) أعمارهم في طاعة الله تعالى وأموالهم في مرضاته سبحانه، ويقال: الصالح هو الذي صلحت حاله واستقامت طريقته. والمصلح هو الفاعل لما فيه الصلاح قال الطبرسي: ولذا يجوز أن يقال: مصلح في حق الله تعالى دون صالح، وليس المراد بالمعية اتحاد الدرجة ولا مطلق الاشتراك في دخول الجنة بل كونهم فيها بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر وزيارته متى أراد وإن بعدت المسافة بينهما، وذكر غير واحد أنه لا مانع من أن يرفع الأدنى إلى منزلة الأعلى متى شاء تكرمة له ثم يعود ولا يرى أنه أرغد منه عيشا ولا أكمل لذة لئلا يكون ذلك حسرة في قلبه، وكذا لا مانع من أن ينحدر الأعلى إلى منزلة الأدنى ثم يعود من غير أن يرى ذلك نقصا في ملكه أو حطا من قدره. وقد ثبت في غير ما حديث أن أهل الجنة يتزاورون، وادعى بعضهم أن لا تزاور مع رؤية كل واحد الآخر، وذلك لأن عالم الأنوار لا تمانع فيها ولا تدافع فينعكس بعضها على بعض كالمرايا المجلوة المتقابلة، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ [الحجر: 47] وزعم أنه التحقيق وهو بعيد عنه، وأبعد من ذلك بمراحل ما قيل: يحتمل أن يكون المراد أن معنى كون المطيع مع هؤلاء أنه معهم في سلوك طريق الآخرة فيكون مأمونا من قطاع الطريق محفوظ الطاعة عن النهب وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً أي صاحبا، وهو مشتق من الرفق، وهو لين الجانب واللطافة في المعاشرة قولا وفعلا، والإشارة يحتمل أن تكون إلى النبيين ومن بعدهم وما فيها من معنى البعد لما مرّ مرارا ورَفِيقاً حينئذ إما تمييز أو حال على معنى أنهم وصفوا بالحسن من جهة كونهم رفقاء للمطيعين، أو حال كونهم رفقاء لهم ولم يجمع لأن فعيلا يستوي فيه الواحد وغيره أو اكتفاء بالواحد عن الجمع في باب التمييز لفهم المعنى، وحسنة وقوعه في الفاصلة أو لأنه بتأويل حسن كل واحد منهم أو لأنه قصد بيان الجنس مع قطع النظر عن الأنواع، ويحتمل أن تكون إلى- من يطع- والجمع على المعنى ف رَفِيقاً حينئذ تمييز على معنى أنهم وصفوا بحسن الرفيق من الفرق الأربع لا بنفس الحسن فلا يجوز دخول- من- عليه كما يجوز في الوجه الأول. والجملة على الاحتمالين تذييل مقرر لما قبله مؤكد للترغيب والتشويق، وفي الكشاف فيه معنى التعجب كأنه قيل: وما أحسن أولئك رفيقا ولاستقلاله بمعنى التعجيب قرىء وَحَسُنَ بسكون السين يقول المتعجب: حسن   (1) قوله: (الصارفين) كذا بخطه اهـ مصححه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 الوجه وجهك، وحسن الوجه وجهك بالفتح والضم مع التسكين انتهى. وفي الصحاح يقال: حسن الشيء وإن شئت خففت الضمة فقلت: حسن الشيء، ولا يجوز أن تنقل الضمة إلى الحاء لأنه خبر، وإنما يجوز النقل إذا كان بمعنى المدح أو الذم لأنه يشبه في جواز النقل بنعم وبئس، وذلك أن الأصل فيهما نعم وبئس فسكن ثانيهما، ونقلت حركته إلى ما قبله وكذلك كل ما كان في معناهما قال الشاعر: لم يمنع الناس مني ما أردت وما ... أعطيهم ما أرادوا حسن ذا أدبا أراد حسن هذا أدبا فخفف ونقل، وأراد أنه لما نقل إلى الإنشاء حسن أن يغير تنبيها على مكان النقل، وفي الارتشاف: إن فعل المحول، ذهب الفارسي وأكثر النحويين إلى إلحاقه بباب نعم وبئس فقط، وإجراء أحكامه عليه، وذهب الأخفش والمبرد إلى إلحاقه بباب التعجب. وحكى الأخفش الاستعمالين عن العرب ويجوز فيه ضم العين وتسكينها ونقل حركتها إلى الفاء، وظاهره تغاير المذهبين، وفي التسهيل أنه من باب نعم وبئس، وفيه معنى التعجب، وهو يقتضي أن لا تغاير بينهما وإليه يميل كلام الشيخين فافهم، والحسن عبارة عن كل مبهج مرغوب إما عقلا أو هوى أو حسا، وأكثر ما يقال في متعارف العامة في المستحسن بالبصر، وقد جاء في القرآن له وللمستحسن من جهة البصيرة ذلِكَ إشارة إلى ما ثبت للمطيعين من جميع ما تقدم، أو إلى فضل هؤلاء المنعم عليهم ومزيتهم وهو مبتدأ، وقوله سبحانه: الْفَضْلُ صفة، وقوله تعالى: مِنَ اللَّهِ خبره أي ذلك الفضل العظيم كائن من الله تعالى لا من غيره، وجوز أبو البقاء أن يكون الْفَضْلُ هو الخبر، ومِنَ اللَّهِ متعلق بمحذوف وقع حالا منه والعامل فيه معنى الإشارة، ويجوز أن يكون خبرا ثانيا أي ذلك الذي ذكر الفضل كائنا، أو كائن من الله تعالى لا أن أعمال العباد توجبه وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً بثواب من أطاعه وبمقادير الفضل واستحقاق أهله بمقتضى الوعد فثقوا بما أخبركم به وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر: 14] . وقيل: وكفى به سبحانه عليما بالعصاة والمطيعين والمنافقين والمخلصين، ومن يصلح لمرافقة هؤلاء ومن لا يصلح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ أي عدتكم من السلاح- قاله مقاتل- وهو المروي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه، وقيل: الحذر مصدر كالحذر، وهو الاحتراز عما يخاف فهناك الكناية والتخييل بتشبيه الحذر بالسلاح وآلة الوقاية، وليس الأخذ مجازا ليلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز في قوله سبحانه: وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ [النساء: 102] إذ التجوز في الإيقاع، وقد صرح المحققون بجواز الجمع فيه، والمعنى استعدوا لأعدائكم أو تيقظوا واحترزوا منهم ولا تمكنوهم من أنفسكم فَانْفِرُوا بكسر الفاء، وقرىء بضمها أي اخرجوا إلى قتال عدوكم والجهاد معه عند خروجكم، وأصل معنى النفر الفزع كالنفرة، ثم استعمل فيما ذكر ثُباتٍ جمع- ثبة- وهي الجماعة من الرجال فوق العشرة، وقيل: فوق الاثنين، وقد تطلق على غير الرجال، ومنه قول عمرو بن كلثوم: فأما يوم خشيتنا عليهم ... فتصبح خيلنا عصبا ثباتا ووزنها في الأصل فعلة- كحطمة- حذفت لامها وعوض عنها هاء التأنيث وهل هي واو من- ثبا يثبو، كعدى يعدو- أي اجتمع، أو ياء من- ثبيت- على فلان بمعنى أثنيت عليه بذكر محاسنه وجمعها؟ قولان، وثبة الحوض وسطه واوية، وهي من ثاب يثوب إذا رجع، وقد جمع جمع المؤنث، وأعرب إعرابه على اللغة الفصيحة، وفي لغة ينصب بالفتح، وقد جمع أيضا جمع المذكر السالم فيقال: ثبون، وقد أطرد ذلك فيما حذف آخره وإن لم يستوف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 الشروط جبرا له، وفي ثائه حينئذ لغتان: الضم والكسر، والجمع هنا في موضع الحال أي انفروا جماعات متفرقة جماعة بعد جماعة أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً أي مجتمعين جماعة واحدة، ويسمى الجيش إذا اجتمع ولم ينتشر كتيبة، وللقطعة المنتخبة المقتطعة منه سرية، وعن بعضهم أنها التي تخرج ليلا وتعود إليه وهي من مائة إلى خمسمائة، أو من خمسة أنفس إلى ثلاثمائة وأربعمائة، وما زاد على السرية- منسر- كمجلس ومنبر إلى الثمانمائة فإن زاد يقال له: جيش إلى أربعة آلاف، فإن زاد يسمى- جحفلا- ويسمى الجيش العظيم- خميسا- وما افترق من السرية- بعثا- وقد تطلق السرية على مطلق الجماعة، والآية وإن نزلت في الحرب لكن فيها إشارة إلى الحث على المبادرة إلى الخيرات كلها كيفما أمكن قبل الفوات وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ أي ليتثاقلن وليتأخرنّ عن الجهاد من بطأ بمعنى أبطأ كعتم بمعنى أعتم إذا أبطأ، والخطاب لعسكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مؤمنيهم ومنافقيهم والمبطئون هم المنافقون منهم، وجوز أن يكون منقولا لفظا ومعنى من بطؤ نحو ثقل من ثقل، فيراد لَيُبَطِّئَنَّ غيره وليثبطنه عن الجهاد كما ثبط ابن أبيّ ناسا يوم أحد، والأنسب (1) بما بعده، واللام الأولى لام التأكيد التي تدخل على خبر إن أو اسمها إذا تأخر، والثانية جواب قسم، وقيل: زائدة، وجملة القسم وجوابه صلة الموصول وهما كشيء واحد فلا يرد أنه لا رابطة في جملة القسم كما لا يرد أنها إنشائية فلا تقع صلة لأن المقصود الجواب، وهو خبري فيه عائد، ولا يحتاج إلى تقدير أقسم على صيغة الماضي ليعود ضميره إلى المبطئ بل هو خلاف الظاهر. وجوز في- من- أن تكون موصوفة والكلام في الصفة كالكلام في الصلة، وهذه الجملة قيل: عطف على خُذُوا حِذْرَكُمْ عطف القصة على القصة وقيل: إنها معترضة إلى قوله سبحانه فَلْيُقاتِلْ وهو عطف على خُذُوا، وقرىء «ليبطئن» ، بالتخفيف فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ من العدو كقتل وهزيمة قالَ أي- المبطئ- فرحا بما فعل وحامدا لرأيه قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ بالقعود إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً حاضرا معهم في المعركة فيصيبني مثل الذي أصابهم من البلاء والشدة، وقيل: يحتمل أن يكون المعنى إذ لم أكن مع شهدائهم شهيدا، أو لم أكن معهم في معرض الشهادة، فالإنعام هو النجاة عن القتل وخوفه عبر عنه بالشهادة تهكما ولا يخفى بعده، والفاء في الشرطية لترتيب مضمونها على ما قبلها فإن ذكر التبطئة مستتبع لذكر ما يترتب عليها كما أن نفس التبطئة مستدعية لشيء ينتظر المبطئ وقوعه وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ كفتح وغنيمة مِنَ اللَّهِ متعلق بأصابكم أو بمحذوف وقع صفة لفضل، وفي نسبة إصابة الفضل إلى جانب الله تعالى دون إصابة المصيبة تعليم لحسن الأدب مع الله تعالى وإن كانت المصيبة فضلا في الحقيقة، وتقديم الشرطية الأولى لما أن مضمونها لمقصدهم أوفق، وأثر نفاقهم فيها أظهر لَيَقُولَنَّ ندامة على تثبطه وتهالكا على حطام الدنيا وحسرة على فواته، وفي تأكيد القول دلالة على فرط التحسر المفهوم من الكلام ولم يؤكد القول الأول، وأتى به ماضيا إما لأنه لتحققه غير محتاج إلى التأكيد أو لأن العدول عن المضارع للماضي تأكيد، وقرأ الحسن ليقولن: بضم اللام مراعاة لمعنى مِنَ وذلك شائع سائغ. وقوله تعالى: كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ من كلامه تعالى اعتراض بين القول ومقوله الذي هو يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً لئلا يتوهم من مطلع كلامه أن تمنيه المعية للنصرة والمظاهرة حسبما يقتضيه ما في البين من المودة بل هو للحرص على حطام الدنيا كما ينطق به آخره فإن الفوز العظيم الذي عناه هو ذلك، وليس إثبات المودة في البين بطريق التحقيق بل بطريق التهكم، وقيل: الجملة التشبيهية حال من ضمير يقولن، أي ليقولن:   (1) قوله: «والأنسب» بما بعده كذا بخطه، وتأمله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 مشبها بمن لا مودة بينكم وبينه حيث لم يتمن نصرتكم ومظاهرتكم، وقيل: هي من كلام المبطئ داخلة كجملة التمني في المقول أي ليقولن المبطئ لمن يثبطه من المنافقين وضعفة المؤمنين كأن لم تكن بينكم وبين محمد صلّى الله عليه وسلّم مودة حيث لم يستصحبكم معه في الغزو حتى تفوزوا بما فاز به المستصحبون يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ إلخ، وغرضه إلقاء العداوة بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتأكيدها، وإلى ذلك ذهب الجبائي، وذهب أبو علي الفارسي والزجاج وتبعه الماتريدي إلى أنها متصلة بالجملة الأولى أعني قال: قد أنعم إلخ أي قال: ذلك «كأن لم يكن» إلخ ورده الراغب والأصفهاني بأنها إذا كانت متصلة بالجملة الأولى فكيف يفصل بها بين أبعاض الجملة الثانية، ومثل مستقبح، واعتذر بأن مرادهم أنها معترضة بين أجزاء هذه الجملة صريحا متعلق بالأولى وضمنا بهذه، وكَأَنْ مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وهو محذوف، وقيل: إنها لا تعمل إذا خففت. وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم ورويس عن يعقوب تَكُنْ بالتاء لتأنيث لفظ المودة، والباقون- يكن- بالياء للفصل ولأنها بمعنى الودّ، والمنادى في يا لَيْتَنِي عند الجمهور محذوف أي يا قومي، وأبو علي يقول في نحو هذا: ليس في الكلام منادى محذوف بل تدخل- يا- خاصة على الفعل والحرف لمجرد التنبيه، ونصب- أفوز- على جواب التمني، وعن يزيد النحوي والحسن فَأَفُوزَ بالرفع على تقدير فأنا أفوز في ذلك الوقت، أو العطف على خبر ليت فيكون داخلا في التمني فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ الموصول فاعل الفعل وقدم المفعول الغير الصريح عليه للاهتمام به، ويَشْرُونَ مضارع شرى، ويكون بمعنى باع واشترى من الأضداد، فإن كان بمعنى- يشترون- فالمراد من الموصول المنافقون أمروا بترك النفاق، والمجاهدة مع المؤمنين، والفاء للتعقيب أي ينبغي بعد ما صدر منهم من التثبيط والنفاق تركه وتدارك ما فات من الجهاد بعد، وإن كان بمعنى- يبيعون- فالمراد منه المؤمنون الذين تركوا الدنيا واختاروا الآخرة أمروا بالثبات على القتال وعدم الالتفات إلى تثبيط المبطئين، والفاء جواب شرط مقدر أي إن صدهم المنافقون فليقاتلوا ولا يبالوا. وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ ولا بدّ، وفي الالتفات مزيد التفات أَجْراً عَظِيماً لا يكاد يعلم كمية وكيفية وفي تعقيب القتال بما ذكر تنبيه على أن المجاهد ينبغي أن يكون همه أحد الأمرين إما إكرام نفسه بالقتل والشهادة، أو إعزاز الدين وإعلاء كلمة الله تعالى بالنصر ولا يحدث نفسه بالهرب بوجه، ولذا لم يقل: فيغلب، أَوْ يَغْلِبْ وتقديم القتل للإيذان بتقدمه في استتباع الأجر، وفي الآية تكذيب للمبطىء بقوله: قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ إلخ وَما لَكُمْ خطاب للمأمورين بالقتال على طريقة الالتفات مبالغة في التحريض والحث عليه وهو المقصود من الاستفهام، وما مبتدأ ولَكُمْ خبره، وقوله تعالى: لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ في موضع الحال والعامل فيها الاستقرار، أو الظرف لتضمنه معنى الفعل أي أيّ شيء لكم غير مقاتلين والمراد لا عذر لكم في ترك المقاتلة وَالْمُسْتَضْعَفِينَ إما عطف على الاسم الجليل أي في سبيل المستضعفين وهو تخليصهم عن الأسر وصونهم عن العدو- وهو المروي عن ابن شهاب- واستبعد بأن تخليصهم سبيل الله تعالى لا سبيلهم، وفيه أنه وإن كان سبيل الله عز اسمه له نوع اختصاص بهم فلا مانع من إضافته إليهم: واحتمال أن يراد بالمقاتلة في سبيلهم- المقاتلة في فتح طريق مكة إلى المدينة ودفع سد المشركين إياه ليتهيأ خروج المستضعفين- مستضعف جدا، وإما عطف على سبيل بحذف مضاف، وإليه ذهب المبرد أي وفي خلاص المستضعفين، ويجوز نصبه بتقدير أعني، أو أخص فإن سبيل الله تعالى يعم أبواب الخير وتخليص المستضعفين من أيدي المشركين من أعظمها وأخصها، ومعنى المستضعفين الذين طلب المشركون ضعفهم وذلهم أو الضعفاء منهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 والسين للمبالغة مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ بيان للمستضعفين وهم المسلمون الذين بقوا بمكة لمنع المشركين لهم من الخروج، أو ضعفهم عن الهجرة، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كنت أنا وأمي من المستضعفين، وقد ذكر أن منهم سلمة بن هشام، والوليد بن الوليد وأبا جندل بن سهيل، وإنما ذكر الولدان تكميلا للاستعطاف والتنبيه على تناهي ظلم المشركين، والإيذان بإجابة الدعاء الآتي واقتراب زمان الخلاص وفي ذلك مبالغة في الحث على القتال. ومن هنا يعلم أن الآية لا تصلح دليلا على صحة إسلام الصبي بناء على أنه لولا ذلك لما وجب تخليصهم على أن في انحصار وجوب التخليص في المسلم نظرا لأن صبي المسلم يتوقع إسلامه فلا يبعد وجوب تخليصه لينال مرتبة السعداء، وقيل: المراد- بالولدان العبيد والإماء وهو على الأول جمع وليد ووليدة بمعنى صبي وصبية. وقيل: إنه جمع ولد كورل وورلال، وعلى الثاني كذلك أيضا إلا أن الوليد والوليدة بمعنى العبد والجارية. وفي الصحاح: الوليد الصبي والعبد، والجمع ولدان، والوليدة الصبية والأمة، والجمع ولائد، فالتعبير- بالولدان- على طريق التغليب ليشمل الذكور والإناث الَّذِينَ في محل جر على أنه صفة للمستضعفين، أو لما في حيز البيان، وجوز أن يكون نصبا بإضمار فعل أي أعني، أو أخص الَّذِينَ. يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها بالشرك الذي هو ظلم عظيم، وبأذية المؤمنين ومنعهم عن الهجرة والوصف صفة قرية وتذكيره لتذكير ما أسند إليه فإن اسم الفاعل والمفعول إذا أجري على غير من هو له فتذكيره وتأنيثه على حسب الاسم الظاهر الذي عمل فيه، ولم ينسب الظلم إليها مجازا كما في قوله تعالى: «وكأين من قرية بطرت معيشتها» (1) وقوله سبحانه: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً إلى قوله عز وجل: فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ [النحل: 112] لأن المراد بها مكة كما قال ابن عباس والحسن والسدي وغيرهم، فوقرت عن نسبة الظلم إليها تشريفا لها شرفها الله تعالى وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يلي أمرنا حتى يخلصنا من أيدي الظلمة، وكلا الجارين متعلق- باجعل- لاختلاف معنييهما وتقديمهما على المفعول الصريح لإظهار الاعتناء بهما وإبراز الرغبة في المؤخر بتقديم أحواله، وتقديم اللام على مِنَ للمسارعة إلى إبراز كون المسئول نافعا لهم مرغوبا فيه لديهم، وجوز أن يكون مِنْ لَدُنْكَ متعلقا بمحذوف وقع حالا من وَلِيًّا وكذا الكلام في قوله تعالى: وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً أي حجة ثابتة قاله عكرمة ومجاهد وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: المراد ولّ علينا واليا من المؤمنين يوالينا ويقوم بمصالحنا ويحفظ علينا ديننا وشرعنا وينصرنا على أعدائنا، ولقد استجاب الله تعالى شأنه دعاءهم حيث يسر لبعضهم الخروج إلى المدينة وجعل لمن بقي منهم خير وليّ وأعز ناصر، ففتح مكة على يدي نبيه صلّى الله عليه وسلّم فتولاهم أيّ تولّ، ونصرهم أيّ نصرة، ثم استعمل عليهم عتاب بن أسيد، وكان ابن ثماني عشرة سنة فحماهم ونصرهم حتى صاروا أعز أهلها، وقيل: المراد اجعل لنا من لدنك ولاية ونصرة أي كن أنت ولينا وناصرنا. وتكرير الفعل ومتعلقيه للمبالغة في التضرع والابتهال. هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها أمر للعارفين أن يظهروا ما كوشفوا به من الأسرار الإلهية لأمثالهم ويكتموا ذلك عن الجاهلين، أو أن يؤدوا حق كل ذي حق إليه فيعطوا الاستعداد حقه وألقوا حقها وآخر الأمانات أداء أمانة الوجود فليؤده العبد إلى سيده سبحانه وليفن فيه عز وجل وَإِذا حَكَمْتُمْ   (1) كذا في الأصل، وفي المصحف الشريف وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ ... [القصص: 58] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 بَيْنَ النَّاسِ بالإرشاد ولا يكون إلا بعد الفناء والرجوع إلى البقاء فاحكموا بالعدل وهو الإفاضة حسب الاستعداد يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ بتطهير كعبة تجليه- وهو القلب- عن أصنام السوي وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ بالمجاهدة وإتعاب البدن بأداء رسوم العبادة التي شرعها لكم وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وهم المشايخ المرشدون بامتثال أمرهم فيما يرونه صلاحا لكم وتهذيبا لأخلاقكم. وربما يقال: إنه سبحانه جعل الطاعة على ثلاث مراتب، وهي في الأصل ترجع إلى واحدة: فمن كان أهلا لبساط القربة وفهم خطاب الحق بلا واسطة كالقائل أخذتم علمكم ميتا عن ميت، ونحن أخذناه من الحي الذي لا يموت، فليطلع الله تعالى بمراده وليتمثل ما فهمه منه، ومن لم يبلغ هذه الدرجة فليرجع إلى بيان الواسطة العظمى وهو الرسول صلّى الله عليه وسلّم إن فهم بيانه، أو استطاع الأخذ منه كبعض أهل الله تعالى تعالى، وليطعه فيما أمر ونهى، ومن لم يبلغ إلى هذه الدرجة فليرجع إلى بيان أكابر علماء الأمة وليتقيد بمذهب من المذاهب وليقف عنده في الأوامر والنواهي فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ أنتم والمشايخ، وذلك في مبادئ السلوك حيث النفس قوية فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ تعالى «والرسول» فارجعوا إلى الكتاب والسنة فإن فيهما ما يزيل النزاع عبارة أو إشارة، أو إذا وقع عليكم حكم من أحكام الغيب المتشابهة، وظهر في أسراركم معارضات الامتحان فارجعوا إلى خطاب الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فإن فيه بحار علوم الحقائق، فكل خاطر لا يوافق خطاب الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فهو مردود أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من علم التوحيد وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ من علم المبدأ والمعاد يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وهو النفس الأمارة الحاكمة بما تؤدي إليه أفكارها الغير المستندة إلى الكتاب والسنة وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ويخالفوه إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ وهو الطاغوت أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً وهو الانحراف عن الحق فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ وهي مصيبة التحير وفقد الطريق الموصل بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من تقديم أفكارهم الفاسدة وعدم رجوعهم إليك ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً بأنفسنا لتمرنها على التفكر حتى يكون لها ملكة استنباط الأسرار والدقائق من عباراتك وإشاراتك وَتَوْفِيقاً أي جمعا بين العقل والنقل أو بين الخصمين بما يقرب من عقولهم ولم نرد مخالفتك أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ من رين الشكوك فيجازيهم على ذلك يوم القيامة فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ولا تقبل عذرهم وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً مؤثرا ليرتدعوا أو كلمهم على مقادير عقولهم ومتحمل طاقتهم وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ باشتغالهم بحظوظها جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ طلبوا منه ستر صفات نفوسهم التي هي مصادر تلك الأفعال وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ بإمداده إياهم بأنوار صفاته لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً مطهرا لنفوسهم مفيضا عليها الكمال اللائق بها. وقال ابن عطاء في هذه الآية: أي لو جعلوك الوسيلة لدي لوصلوا إلى فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً قال بعضهم: أظهر الله تعالى في هذه الآية على حبيبه خلعة من خلع الربوبية فجعل الرضا بحكمه ساء أم ستر سببا لإيمان المؤمنين كما جعل الرضا بقضائه سببا لإيقان الموقنين فأسقط عنهم اسم الواسطة لأنه صلّى الله عليه وسلّم متصف بأوصاف الحق متخلق بأخلاقه، ألا ترى كيف قال حسان: وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرض محمود وهذا محمد وقال آخرون: سد سبحانه الطريق إلى نفسه على الكافة إلا بعد الإيمان بحبيبه صلّى الله عليه وسلّم فمن لم يمش تحت قبابه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 فليس من الله تعالى في شيء، ثم جعل جل شأنه من شرط الإيمان زوال المعارضة بالكلية فلا بد للمؤمن من تلقي المهالك بقلب راض ووجه ضاحك وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ بسيف المجاهدة لتحيى حياة طيبة أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ وهي الملاذ التي ركنتم إليها وخيمتم فيها وعكفتم عليها، أو لو فرضنا عليهم أن اقمعوا الهوى، أو اخرجوا من مقاماتكم التي حجبتم بها عن التوحيد الصرف كالصبر والتوكيل مثلا ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وهم أهل التوفيق والهمم العالية، وأيد الاحتمال الثاني بما حكي عن بعض العارفين أنه سئل إبراهيم بن أدهم عن حاله فقال إبراهيم: أدور في الصحارى وأطوف في البراري حيث لا ماء ولا شجر ولا روض ولا مطر فهل يصح حالي في التوكل فقال: إذا أفنيت عمرك في عمران باطنك فأين الفناء في التوحيد» وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ لما فيه من الحياة الطيبة وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً بالاستقامة بالدين وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وهو كشف الجمال وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً وهو التوحيد وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بما لا يدخل في حيطة الفكر مِنَ النَّبِيِّينَ أرباب التشريع الذين ارتفعوا قدرا فلا يدرك شأواهم وَالصِّدِّيقِينَ الذين قادهم نورهم إلى الانخلاع عن أنواع الربوب والشكوك فصدقوا بما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم من غير دليل ولا توقف وَالشُّهَداءِ أهل الحضور وَالصَّالِحِينَ أهل الاستقامة في الدين يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ من أنفسكم فإنها أعدى أعدائكم فَانْفِرُوا ثُباتٍ اسلكوا في سبيل الله تعالى جماعات كل فرقة على طريقة شيخ كامل أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً في طريق التوحيد والإسلام واتبعوا أفعال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتخلقوا بأخلاقه وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ أي ليثبطن المجاهدين المرتاضين فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ شدة في السير قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ حيث لم أفعل كما فعلوا وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ مواهب غيبية وعلوم لدنية ومراتب سنية وقبول عند الخواص والعوام لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ أي حسدا لكم يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ دونهم فَوْزاً عَظِيماً وأنال ذلك وحدي وَمَنْ يُقاتِلْ نفسه فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ بسيف الصدق أَوْ يَغْلِبْ عليها بالظفر لتسلم على يده فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً وهو الوصول إلينا وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وخلاص المستضعفين مِنَ الرِّجالِ العقول وَالنِّساءِ الأرواح وَالْوِلْدانِ القوى الروحانية الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ وهي قرية البدن الظَّالِمِ أَهْلُها وهي النفس الأمارة وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يلي أمورنا ويرشدنا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً ينصرنا على من ظلمنا وهو الفيض الأقدس، نسأل الله تعالى بمنه وكرمه. الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كلام مستأنف سيق لتشجيع المؤمنين وترغيبهم في الجهاد أي المؤمنون إنما يقاتلون في دين الله تعالى الموصل لهم إليه عز وجل وفي إعلاء كلمته فهو وليهم وناصرهم لا محالة. وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فيما يبلغ بهم إلى الشيطان وهو الكفر فلا ناصر لهم سواه فَقاتِلُوا يا أولياء الله تعالى إذا كان الأمر كذلك. أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ. جميع الكفار فإنكم تغلبونهم. إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً. في حد ذاته فكيف بالقياس إلى قدرة الله تعالى الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ [الصف: 4] وهو سبحانه وليكم، ولم يتعرض لبيان قوة جنابه تعالى إيذانا بظهورها، وفائدة كانَ التأكيد ببيان أن كيده مذ كان ضعيف، وقيل: هي بمعنى صار أي صار ضعيفا بالإسلام، وقيل: إنها زائدة وليس بشيء. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ نزلت كما قال الكلبي: في عبد الرحمن بن عوف الزهري والمقداد بن الأسود الكندي وقدامة بن مظعون الجمحي وسعد بن أبي وقاص كان يلقون من المشركين أذى شديدا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 وهم بمكة قبل الهجرة فيشكون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويقولون: ائذن لنا يا رسول الله في قتال هؤلاء فإنهم قد آذونا والنبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: كفوا أيديكم وأمسكوا عن القتال فإني لم أومر بذلك، وفي رواية: إني أمرت بالعفو. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ. واشتغلوا بما أمرتم به، ولعل أمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تنبيها على أن الجهاد مع النفس مقدم وما لم يتمكن المسلم في الانقياد لأمر الله تعالى بالجود بالمال لا يكاد يتأتى منه الجود بالنفس، والجود بالنفس أقصى غاية الجود، وبناء القول للمفعول مع أن القائل هو النبي صلّى الله عليه وسلّم لأن المقصود والمعتبر في التعجيب المشار إليه في صدر الكلام إنما هو كمال رغبتهم في القتال وكونهم بحيث احتاجوا إلى النهي عنه، وإنما ذكر في حيز الصلة الأمر بكف الأيدي لتحقيقه وتصويره بطريق الكناية فلا يتعلق ببيان خصوصية الآمر غرض، وقيل: للإيذان بكون ذلك بأمر الله تعالى فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ وأمروا به بعد أن هاجروا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ أي الكفار أن يقتلوهم، وذلك لما ركز في طباع البشر من خوف الهلاك كَخَشْيَةِ اللَّهِ أي كما يخشون الله تعالى أن ينزل عليهم بأسه، والفاء عاطفة وما بعدها عطف على قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ باعتبار معناه الكنائي إذ حينئذ يتحقق التباين بين مدلولي المعطوفين، وعليه يدور أمر التعجيب كأنه قيل: ألم تر إلى الذين كانوا حراصا على القتال فلما كتب عليهم كرهه- بمقتضى البشرية- جماعة منهم، وتوجيه التعجيب إلى الكل مع أن تلك الكراهة إنما كانت من البعض للإيذان بأنه ما كان ينبغي أن يصدر من أحدهم ما ينافي حالته الأولى، وإِذا للمفاجأة وهي ظرف مكان، وقيل: زمان وليس بشيء، وفيها تأكيد لأمر التعجيب، وفَرِيقٌ مبتدأ، ومِنْهُمْ صفته، ويَخْشَوْنَ خبره، وجوز أن يكون صفة أيضا أو حالا، والخبر إِذا وكَخَشْيَةِ اللَّهِ في موقع المصدر أي خشية كخشية الله، وجوز أن يكون حالا من فاعل يَخْشَوْنَ ويقدر مضاف أي حال كونهم مثل أهل خشية الله تعالى أي مشبهين بأهل خشيته سبحانه، وقيل- وفيه بعد- إنه حال من ضمير مصدر محذوف أي يخشونها الناس كخشية الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً عطف عليه إن جعلته حالا أي أنهم أَشَدَّ خَشْيَةً من أهل خشية الله، بمعنى أن خشيتهم أشد من خشيتهم، ولا يعطف عليه على تقدير المصدرية- على ما قيل بناء على أن خَشْيَةً منصوب على التمييز وعلى أن التمييز متعلق الفاعلية، وأن المجرور بمن التفضيلية يكون مقابلا للموصوف بأفعل التفضيل فيصير المعنى إن خشيتهم أشدّ من خشية غيرهم، ويؤول إلى أن خشية خشيتهم أشدّ، وهو غير مستقيم اللهم إلا على طريقة جدّ جدّه- على ما ذهب إليه أبو علي وابن جني- ويكون كقولك: زيد جدّ جدّا بنصب جدّا على التمييز لكنه بعيد، بل يعطف على الاسم الجليل فهو مجرور بالفتحة لمنع صرفه، والمعنى- يخشون الناس خشية كخشية الله، أو خشية كخشية أشدّ خشية منه تعالى- ولكن على سبيل الفرض إذ لا أشدّ خشية عند المؤمنين من الله تعالى، ويؤول هذا إلى تفضيل خشيتهم على سائر الخشيات إذا فصلت واحدة واحدة، وذكر ابن الحاجب أنه يجوز أن يكون هذا العطف من عطف الجمل- أي يخشون الناس كخشية الناس، أو يخشون أشدّ خشية- على أن الأول مصدر والثاني حال، وقيل عليه: إن حذف المضاف أهون من حذف الجملة وأوفى بمقتضى المقابلة وحسن المطابقة وجوز أن يكون خَشْيَةً منصوبا على المصدرية وأَشَدَّ صفة له قدمت عليه، فانتصب على الحالية، وذكر بعضهم أن التمييز بعد اسم التفضيل قد يكون نفس ما انتصب عنه نحو فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً [يوسف: 64] فإن الحافظ هو الله تعالى كما لو قلت: الله خير حافظ بالجر، وحينئذ لا مانع من أن تكون الخشية نفس الموصوف ولا يلزم أن يكون للخشية خشية بمنزلة أن يقال: أشد خشية بالجر، والقول- بأن جواز هذا فيما إذا كان التمييز نفس الموصوف بحسب المفهوم واللفظ- محل نظر محل نظر، إذ اتحاد اللفظ مع حذف الأول ليس فيه كبير محذور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 وهذا إيراد قوي على ما قيل، وقد نقل ابن المنير عن الكتاب ما يعضده فتأمل، وأَوْ قيل: للتنويع، وقيل للإبهام على السامع، وقيل: للتخيير، وقيل: بمعنى الواو، وقيل: بمعنى بل وَقالُوا عطف على جواب- لما- أي فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ فاجأ بعضهم بألسنتهم، أو بقلوبهم، وحكاه الله تعالى عنهم على سبيل تمني التخفيف لا الاعتراض على حكمه تعالى، والإنكار لإيجابه ولذا لم يوبخوا عليه رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ في هذا الوقت. لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ وهو الأجل المقدر ووصف بالقريب للاستعطاف أي أنه قليل لا يمنع من مثله، والجملة كالبيان لما قبلها ولذا لم تعطف عليه، وقيل: إنما لم تعطف عليه للإيذان بأنهما مقولان مستقلان لهم، فتارة قالوا الجملة الأولى، وتارة الجملة الثانية، ولو عطفت لتبادر أنهم قالوا مجموع الكلامين بعطف الثانية على الأولى قُلْ أي تزهيدا لهم فيما يؤملونه بالقعود عن القتال، والتأخير إلى الأجل المقدر من المتاع الفاني وترغيبا فيما ينالونه بالقتال من النعيم الباقي مَتاعُ الدُّنْيا أي جميع ما يستمتع به وينتفع في الدنيا قَلِيلٌ في نفسه سريع الزوال وهو أقل قليل بالنسبة إلى ما في الآخرة وَالْآخِرَةُ أي ثوابها المنوط بالأعمال التي من جملتها القتال خَيْرٌ لكم من ذلك المتاع القليل لكثرته وعدم انقطاعه وصفائه عن الكدورات، وفي اختلاف الأسلوب ما لا يخفى، وإنما قال سبحانه لِمَنِ اتَّقى حثا لهم وترغيبا على الاتقاء والإخلال بموجب التكليف. وقيل: المراد أن نفس الآخرة خير ولكن للمتقين، لأن للكافر والعاصي هنالك نيرانا وأهوالا، ولذا قيل: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، ولا يخفى أن الأول أنسب بالسياق وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا عطف على مقدر أي تجزون فيها ولا تبخسون هذا المقدار اليسير فضلا عما زاد من ثواب أعمالكم فلا ترغبوا عن القتال الذي هو من غرورها، وقرأ ابن كثير وكثير «ولا يظلمون» بالياء إعادة للضمير إلى ظاهر من. أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ يحتمل أن يكون ابتداء كلام مسوق من قبله تعالى بطريق تلوين الخطاب وصرفه عن سيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم إلى من ذكر أولا اعتناء بإلزامهم إثر بيان حقارة الدنيا وفخامة الآخرة بواسطته صلّى الله عليه وسلّم فلا محل للجملة من الإعراب، ويحتمل أن يكون داخلا في حيز القول المأمور به، فمحل الجملة النصب، وجعل غير واحد ما تقدم جوابا للجملة الأولى من قولهم، وهذا جوابا للثانية منه، فكأنه لما قالوا: لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ؟ أجيبوا ببيان الحكمة بأنه كتب عليكم ليكثر تمتعكم ويعظكم نفعكم لأنه يوجب تمتع الآخرة، ولما قالوا: لَوْلا أَخَّرْتَنا؟! إلخ أجيبوا بأنه أَيْنَما تَكُونُوا في السفر، أو في الحضر يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ لأن الأجل مقدر فلا يمنع عنه عدم الخروج إلى القتال، وفي التعبير بالإدراك إشعار بأن القوم لشدة تباعدهم عن أسباب الموت وقرب وقت حلوله إليهم بممر الأنفاس والآنات كأنهم في الهرب منه وهو مجد في طلبهم لا يفتر نفسا واحدا في التوجه إليهم، وقرأ طلحة بن سليمان يُدْرِكْكُمُ بالرفع، واختلف في تخريجه فقيل: إنه على حذف الفاء كما في قوله- على ما أنشده سيبويه.: من يفعل الحسنات الله يشكرها ... والشر بالشر عند الله مثلان وظاهر كلام الكشاف الاكتفاء بتقدير الفاء، وقدر بعضهم مبتدأ معها أي فأنتم يدرككم، وقيل: هو مؤخر من تقديم، وجواب الشرط محذوف أي- يدرككم الموت أينما تكونوا يدرككم- واعترض بأن هذا إنما يحسن فيما إذا كان ما قبله طالبا له كما في قوله: يا أقرع بن حابس يا أقرع ... إنك إن يصرع أخوك تصرع أو فيما إذا لم تكن الأداة اسم شرط، وأجيب بأن الشرط الأول وإن نقل عن سيبويه إلا أنه نقل عنه أيضا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 الإطلاق، والشرط الثاني لم يعول عليه المحققون، وقيل: إن الرفع على توهم كون الشرط ماضيا فإنه حينئذ لا يجب ظهور الجزم في الجواب لأن الأداة لما لم يظهر أثرها في القريب لم يجب ظهوره في البعيد وما قيل عليه من أن كون الشرط ماضيا والجزاء مضارعا إنما يحسن في كلمة- إن- لقلبها الماضي إلى معنى الاستقبال فلا يحسن- أينما كنتم يدرككم الموت- إلا على حكاية الماضي وقصد الاستحضار فيه نظر، نعم يرد عليه أن فيه تعسفا إذا لتوهم- كما قال ابن المنير- أن يكون ما يتوهم هو الأصل، أو مما كثر في الاستعمال حتى صار كالأصل، وما توهم هنا ليس كذلك، وقيل: إن يُدْرِكْكُمُ كلام مبتدأ وأَيْنَما تَكُونُوا متصل ب لا تُظْلَمُونَ، واعترض كما قال الشهاب: بأنه ليس بمستقيم معنى وصناعة، أما الأول فلأنه لا يناسب اتصاله بما قبله لأن لا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا المراد منه في الآخرة فلا يناسبه التعميم، وأما الثاني فلأنه يلزم عليه عمل ما قبل اسم الشرط فيه وهو غير صحيح لصدارته، وأجيب عن الأول بأنه لا مانع من تعميم وَلا تُظْلَمُونَ للدنيا والآخرة أو يكون المعنى لا ينقصون شيئا من مدة الأجل المعلوم لا من الأجود، وبه ينتظم الكلام، وعن الثاني بأن المراد من الاتصال بما قبله- كما قال الحلبي- والسفاقسي اتصاله به معنى لا عملا على أن أَيْنَما تَكُونُوا شرط جوابه محذوف تقديره لا تُظْلَمُونَ وما قبله دليل الجواب، وأنت تعلم أن هذا التخريج وإن التزم الذب عنه بما ترى خلاف الظاهر المنساق إلى الذهن، وأولى التخريجات أنه على حذف الفاء وهو الذي اختاره المبرد، والقول بأن الحذف ضرورة في حيز المنع وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ أي قصور، قاله مجاهد وقتادة وابن جريج، وعن السدي والربيع رضي الله تعالى عنهم أنها قصور في السماء الدنيا، وقيل: المراد بها بروج السماء المعلومة، وعن أبي علي الجبائي أنها البيوت التي فوق القصور، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنها الحصون والقلاع وهي جمع برج وأصله من التبرج وهو الإظهار، ومنه تبرجت المرأة إذا أظهرت حسنها مُشَيَّدَةٍ أي مطلية بالشيد وهو الجص قاله عكرمة أو مطولة بارتفاع- قاله الزجاج- فهو من شيد البناء إذا رفعه وقرأ مجاهد مُشَيَّدَةٍ بفتح الميم وتخفيف الياء كما في قوله تعالى: وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج: 45] وقرأ أبو نعيم بن ميسرة مُشَيَّدَةٍ بكسر الياء على التجوز ك عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة: 21- القارعة: 7] وقصيدة شاعرة، والجملة معطوفة على أخرى مثلها أي لو لم تكونوا في بروج وَلَوْ كُنْتُمْ إلخ، وقد أطرد الحذف في مثل ذلك لوضوح الدلالة وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ نزلت على ما روي عن الحسن وابن زيد في اليهود وذلك أنهم كانوا قد بسط عليهم الرزق فلما قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة فدعاهم إلى الإيمان فكفروا أمسك عنهم بعض الإمساك فقالوا: ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا مذ قدم علينا هذا الرجل، فالمعنى إن تصبهم نعمة أو رخاء نسبوها إلى الله تعالى وإن تصبهم بلية من جدب وغلاء أضافوها إليك متشائمين كما حكي عن أسلافهم بقوله تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ [الأعراف: 131] وإلى هذا ذهب الزجاج والفراء والبلخي والجبائي وقيل: نزلت في المنافقين، ابن أبيّ وأصحابه الذين تخلفوا عن القتال يوم أحد، وقالوا للذين قتلوا لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا [آل عمران: 91] فالمعنى إن تصبهم غنيمة قالوا: هي من عند الله تعالى، وإن تصبهم هزيمة قالوا: هي من سوء تدبيرك، وهو المروي عن ابن عباس وقتادة وقيل: نزلت فيمن تقدم وليس بالصحيح، وصحح غير واحد أنها نزلت في اليهود والمنافقين جميعا لما تشاءموا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين قدم المدينة وقحطوا، وعلى هذا فالمتبادر من الحسنة والسيئة هنا النعمة والبلية، وقد شاع استعمالها في ذلك كما شاع استعمالها في الطاعة والمعصية، وإلى هذا ذهب كثير من المحققين، وأيد بإسناد الإصابة إليهما بل جعله صاحب الكشف دليلا بينا عليه وبأنه أنسب بالمقام لذكر الموت والسلامة قبل، وقوله تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أمر له صلّى الله عليه وسلّم بأن يرد زعمهم الباطل واعتقادهم الفاسد ويرشدهم إلى الحق ببيان إسناد الكل إليه تعالى على الإجمال أي كل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 واحدة من النعمة والبلية من جهة الله تعالى خلقا وإيجادا من غير أن يكون لي مدخل في وقوع شيء منها بوجه من الوجوه كما تزعمون، بل وقوع الأولى منه تعالى بالذات تفضلا، ووقوع الثانية بواسطة ذنوب من ابتلي بها عقوبة كما سيأتي بيانه. وهذا الجواب المجمل في معنى ما قيل: ردا على أسلاف اليهود من قوله تعالى: إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ [الأعراف: 131] أي إنما سبب خيرهم وشرهم عند الله تعالى لا عند غيره حتى يستند ذلك إليه ويطيروا به- قاله شيخ الإسلام- ومنه يعلم اندفاع ما قيل: إن القوم لم يعتقدوا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم فاعل السيئة كما اعتقدوا أن الله تعالى فاعل الحسنة بل تشاءموا به وحاشاه عليه الصلاة والسلام فكيف يكون هذا ردا عليهم، ولا حاجة إلى ما أجاب به العلامة الثاني من أن الجواب ليس مجرد قوله تعالى قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بل هو إلى قوله سبحانه: وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ إلخ وقوله تعالى: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ أي اليهود والمنافقين المحتقرين لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ أي يفهمون حَدِيثاً أي كلاما يوعظون به وهو القرآن، أو كلاما ما أو كل شيء حدث وقرب عهده كلام من قبله تعالى معترض بين المبين وبيانه مسوق لتعييرهم بالجهل وتقبيح حالهم والتعجيب من كمال غباوتهم، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، والجملة المنفية حالية والعامل فيها ما في الظرف من الاستقرار أو الظرف نفسه، والمعنى حيث كان الأمر كذلك فأي شيء حصل لهؤلاء حال كونهم بمعزل من أن يفقهوا نصوص القرآن الناطقة بأن الكل فائض من عند الله تعالى، أو بمعزل من أن يفهموا- حديثا- مطلقا حتى عدوا كالبهائم التي لا أفهام لها، أو بمعزل من أن يعقلوا صروف الدهر وتغيره حتى يعلموا أنه لها فاعلا حقيقيا بيده جميع الأمور ولا مدخل لأحد معه، ويجوز أن تكون الجملة استئنافا مبنيا على سؤال نشأ من الاستفهام وهو ظاهر، وعلى التقديرين فالكلام مخرج مخرج المبالغة في عدم فهمهم فلا ينافي اعتقادهم أن الحسنة من عند الله تعالى، ويفهم من كلام بعضهم أن المراد من الحديث هو ما تفوهوا به آنفا حيث إنه يلزم منه تعدد الخالق المستلزم للشرك المؤدي إلى فساد العالم، وإن ما في حيز الأمر ردّ لهذا اللازم، وقدم لكونه أهم ثم استأنف بما هو حقيقة الجواب أعني قوله سبحانه ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وعلى ما ذكرنا- ولعله الأولى- يكون هذا بيانا للجواب المجمل المأمور به، والخطاب فيه كما قال الجبائي وروي عن قتادة: عام لكل من يقف عليه لا للنبي صلّى الله عليه وسلّم كقوله: إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا ويدخل فيه المذكورون دخولا أولياء، وفي إجراء الجواب أولا على لسان النبي صلّى الله عليه وسلّم وسوق البيان من جهته تعالى ثانيا بطريق تلوين الخطاب، والالتفات إيذان بمزيد الاعتناء به والاهتمام برد اعتقادهم الباطل وزعمهم الفاسد، والإشعار بأن مضمونه مبني على حكمة دقيقة حرية بأن يتولى بيانها علام الغيوب عز وجل، والعدول عن خطاب الجميع كما في قوله تعالى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: 30] للمبالغة في التحقيق بقطع احتمال سببية بعضهم لعقوبة الآخرين، وما كما قال أبو البقاء: شرطية و «أصاب» بمعنى يصيب والمراد- بالحسنة والسيئة- هنا ما أريد بهما من قبل، أي ما أصابك أيها الإنسان من نعمة من النعم فهي من الله تعالى بالذات تفضلا وإحسانا من غير استيجاب لها من قبلك كيف لا وكل ما يفعله العبد من الطاعات التي يرجى كونها ذريعة إلى إصابة نعمة ما فهي بحيث لا تكاد تكافئ نعمة الوجود، أو نعمة الإقدار على أدائها مثلا فضلا عن أن تستوجب نعمة أخرى، ولذلك قال صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة: «لن يدخل أحدا عمله الجنة قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى بفضل رحمته» وَما أَصابَكَ مِنْ بلية ما من البلايا فهي بسبب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 اقتراف نفسك المعاصي والهفوات المقتضية لها، وإن كانت من حيث الإيجاد منتسبة إليه تعالى نازلة من عنده عقوبة وهذا كقوله تعالى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ، وأخرج الترمذي عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يصيب عبدا نكبة فما فوقها- أو ما دونها إلا بذنب وما يعفو الله تعالى عنه أكثر» . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية: ما كان من نكبة فبذنبك وأنا قدرت ذلك عليك، وعن أبي صالح مثله، وقال الزجاج: الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والمقصود منه الأمة، وقيل: له عليه الصلاة والسلام لكن لا لبيان حاله بل لبيان حال الكفرة بطريق التصوير، ولعل العدول عن خطابهم لإظهار كمال السخط والغضب عليهم والإشعار بأنهم لفرط جهلهم وبلادتهم بمعزل من استحقاق الخطاب لا سيما بمثل هذه الحكمة الأنيقة، ثم اعلم أنه لا حجة لنا ولا للمعتزلة في مسألة الخير والشر بهاتين الآيتين لأن إحداهما بظاهرها لنا، والأخرى لهم فلا بد من التأويل وهو مشترك الإلزام ولأن المراد بالحسنة والسيئة النعمة والبلية لا الطاعة والمعصية، والخلاف في الثاني، ولا تعارض بينهما أيضا لظهور اختلاف جهتي النفي والإثبات، وقد أطنب الإمام الرازي في هذا المقام كل الإطناب بتعديد الأقوال والتراجيح، واختار تفسير الحسنة والسيئة بما يعم النعم والطاعات والمعاصي والبليات، وقال بعضهم: يمكن أن يقال: لما جاء قوله تعالى وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ بعد قوله سبحانه: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ ناسب أن تحمل الحسنة الأولى على النعمة، والسيئة على البلية، ولما أردف قوله عز وجل: وما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ بما سيأتي ناسب أن يحملا على ما يتعلق بالتكليف من المعصية والطاعة- كما روي ذلك عن أبي العالية- ولهذا غير الأسلوب فعبر بالماضي بعد أن عبر بالمضارع، ثم نقل عن الراغب أنه فرق بين قولك: هذا من عند الله تعالى، وقولك هذا من الله تعالى بأن من عند الله أعم من حيث إنه يقال فيما كان برضاه سبحانه وبسخطه، وفيما يحصل، وقد أمر به ونهى عنه ولا يقال: من الله إلا فيما كان برضاه وبأمره، وبهذا النظر قال عمر رضي الله تعالى عنه: «إن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن الشيطان» فتدبر. ونقل أبو حيان عن طائفة من العلماء أن ما أَصابَكَ إلخ على تقرير القول أي فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً يقولون ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ إلخ، والداعي لهم على هذا التمحل توهم التعارض، وقد دعا آخرين إلى جعل الجملة بدلا من حَدِيثاً على معنى أنهم لا يفقهون هذا الحديث أعني ما أَصابَكَ إلخ فيقولونه غير متحاشين عما يلزمه من تعدد الخالق وآخرين إلى تقدير استفهام إنكاري أي فَمِنْ نَفْسِكَ، وزعموا أنه قرىء به، وقد علمت أن لا تعارض أصلا من غير احتياج إلى ارتكاب ما لا يكاد يسوغه الذوق السليم، وكذا لا حجة للمعتزلة في قوله سبحانه: حَدِيثاً على كون القرآن محدثا لما علمت من أنه ليس نصا في القرآن، وعلى فرض تسليم أنه نص لا يدل على حدوث الكلام النفسي والنزاع فيه، ثم وجه ارتباط هذه الآيات بما قبلها على ما قيل: إنه سبحانه بعد أن حكى عن المسلمين ما حكى ورد عليهم بما رد نقل عن الكفار ما رده عليهم أيضا وبين المحكيين مناسبة من حيث اشتمالها على إسناد ما يكره إلى بعض الأمور وكون الكراهة له بسبب ذلك وهو كما ترى. وفي الكشف أن جملة وَإِنْ تُصِبْهُمْ إلخ معطوفة على جملة قوله تعالى: فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ، وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ دلالة على تحقق التبطئة والتثبيط، أما دلالة الأولتين فلا خفاء بهما، وأما الثانية فلأنهم إذا اعتقدوا في الداعي إلى الجهاد صلّى الله عليه وسلّم ذلك الاعتقاد قطعوا أن في اتباعه- لا سيما فيما يجر إلى ما عدوه سيئة- الخبال والفساد، ولهذا قلب الله عليهم في قوله سبحانه فَمِنْ نَفْسِكَ ليصير ذلك كافا لهم عن التثبيط إلى التنشيط، وأردفه ذكر ما هم فيه من التعكيس في شأن من هو رحمة مرسلة للناس كافة، وأكد أمر اتباعه بأن جعل طاعته صلّى الله عليه وسلّم طاعة الله تعالى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 مع ما أمده به من التهديد البالغ المضمن في قوله سبحانه: فَمَنْ تَوَلَّى ثم قال- ولا يخفى أن ما وقع بين المعطوفين ليس بأجنبي- وأن فَلْيُقاتِلْ شديد التعلق بسابقه، ولما لزم من هذا النسق تقسيم المرسل إليهم إلى كافر مبطىء ومؤمن قوي وضعيف استأنف تقسيمهم مرة أخرى في قوله سبحانه الآتي: ويَقُولُونَ أي الناس المرسل إليهم إلى مبيت هو الأول ومذيع هو الثالث، ومن يرجع إليه هو الثاني فهذا وجه النظم والارتباط بين الآيات السابقة واللاحقة انتهى، ولا يخلو عن حسن وليس بمتعين كما لا يخفى. هذا ووقف أبو عمرو والكسائي بخلاف عنه على ما من قوله تعالى: فَمالِ هؤُلاءِ وجماعة على- لام الجر- وتعقب ذلك السمين بأنه ينبغي أن لا يجوز كلا الوقفين إذ الأول وقف على المبتدأ دون خبره، والثاني على الجار دون مجروره، وقرأ أبيّ وابن مسعود وابن عباس وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وأنا كتبتها عليك وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا بيان لجلالة منصبه صلّى الله عليه وسلّم ومكانته عند ربه سبحانه بعد الذب عنه بأتم وجه، وفيه رد أيضا لمن زعم اختصاص رسالته عليه الصلاة والسلام بالعرب فتعريف- الناس للاستغراق، والجار متعلق: ب رَسُولًا قدم عليه للاختصاص الناظر إلى قيد العموم أي مرسلا لكل الناس لا لبعضهم فقط كما زعموا، ورَسُولًا حال مؤكدة لعاملها، وجوز أن يتعلق الجار بما عنده، وأن يتعلق بمحذوف وقع حالا من رَسُولًا وجوز أيضا أن يكون رَسُولًا مفعولا مطلقا إما على أنه مصدر كما في قوله: لقد كذب الواشون ما فهت عندهم ... بشيء ولا أرسلتهم برسول وإما على أن الصفة قد تستعمل بمعنى المصدر مفعولا مطلقا كما استعمل الشاعر خارجا بمعنى خروجا في قوله: على حلفة لا أشتم الدهر مسلما ... ولا خارجا من فيّ زور كلام حيث أراد كما قال سيبويه: ولا يخرج خروجا وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على رسالتك، أو على صدقك في جميع ما تدعيه حيث نصب المعجزات، وأنزل الآيات البينات، وقيل: المعنى كفى الله تعالى شهيدا على عباده بما يعملون من خير أو شر، والالتفات لتربية المهابة مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ بيان لأحكام رسالته صلّى الله عليه وسلّم إثر بيان تحققها، وإنما كان كذلك لأن الآمر والناهي في الحقيقة هو الحق سبحانه، والرسول إنما هو مبلغ للأمر والنهي فليست الطاعة له بالذات إنما هي لمن بلغ عنه. وفي بعض الآثار عن مقاتل «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: من أحبني فقد أحب الله تعالى ومن أطاعني فقد أطاع الله تعالى فقال المنافقون: ألا تسمعون إلى ما يقول هذا الرجل لقد قارف الشرك، وهو نهى أن يعبد غير الله تعالى ما يريد إلا أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى عليه السلام؟ فنزلت» فالمراد «بالرسول» نبينا صلّى الله عليه وسلّم، والتعبير عنه بذلك ووضعه موضع المضمر للإشعار بالعلية، وقيل: المراد به الجنس ويدخل فيه نبينا صلّى الله عليه وسلّم دخولا أوليا، ويأباه تخصيص الخطاب في قوله تعالى: وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وجعله من باب الخطاب لغير معين خلاف الظاهر، و «من» شرطية وجواب الشرط محذوف، والمذكور تعليل له قائم مقامه أي ومن أعرض عن الطاعة فأعرض عنه لأنا إنما أرسلناك رسولا مبلغا لا حفيظا مهيمنا تحفظ أعمالهم عليهم وتحاسبهم عليها، ونفى- كما قيل- كونه حفيظا أي مبالغا في الحفظ دون كونه حافظا لأن الرسالة لا تنفك عن الحفظ لأن تبليغ الأحكام نوع حفظ عن المعاصي والآثام، وانتصاب الوصف على الحالية من الكاف، وجعله مفعولا ثانيا لأرسلنا لتضمينه معنى جعلنا مما لا حاجة إليه، وعليهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 متعلق به وقدم رعاية للفاصلة، وفي إفراد ضمير الرفع وجمع ضمير الجر مراعاة للفظ- من- ومعناها، وفي العدول عن- ومن تولى فقد عصاه- الظاهر في المقابلة إلى ما ذكر ما لا يخفى من المبالغة، وَيَقُولُونَ الضمير للمنافقين كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والحسن والسدي وقيل: للمسلمين الذين حكي عنهم أنهم يخشون الناس كخشية الله أي ويقولون إذا أمرتهم بشيء طاعَةٌ أي أمرنا وشأننا طاعة على أنه خبر مبتدأ محذوف وجوبا، وتقدير طاعتك طاعة خلاف الظاهر أو عندنا أو منا طاعة على أنه مبتدأ وخبره محذوف وكان أصله النصب كما يقول المحب: سمعا وطاعة لكنه يجوز في مثله الرفع- كما صرح به سيبويه- للدلالة على أنه ثابت لهم قبل الجواب فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ أي خرجوا من مجلسك وفارقوك بَيَّتَ طائِفَةٌ أي جماعة مِنْهُمْ وهم رؤساؤهم، والتبييت إما من البيتوتة لأنه تدبير الفعل ليلا والعزم عليه، ومنه تبييت نية الصيام ويقال: هذا أمر تبيت بليل، وإما من بيت الشعر لأن الشاعر يدبره ويسويه، وإما من البيت المبني لأنه يسوي ويدبر، وفي هذا بعد- وإن أثبته الراغب لغة- والمراد زورت وسوت غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ أي خلاف ما قلت لها أو ما قالت لك من القبول وضمان الطاعة، والعدول عن الماضي لقصد الاستمرار، وإسناد الفعل إلى طائفة منهم لبيان أنهم المتصدون له بالذات والباقون أتباع لهم في ذلك لا لأنهم ثابتون على الطاعة، وتذكيره أو لا لأن تأنيث الفاعل غير حقيقي، وقرأ أبو عمرو وحمزة بَيَّتَ طائِفَةٌ بالإدغام لقربهما في المخرج، وذكر بعض المحققين أن الإدغام هنا على خلاف الأصل والقياس، ولم تدغم تاء متحركة غير هذه وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ أي يثبته في صحائفهم ليجازيهم عليه، أو فيما يوحيه إليك فيطلعك على أسرارهم ويفضحهم- كما قال الزجاج- والقصد على الأول لتهديدهم، وعلى الثاني لتحذيرهم فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي تجاف عنهم ولا تتصد للانتقام منهم، أو قلل المبالاة بهم والفاء لسببية ما قبلها لما بعدها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي فوض أمرك إليه وثق به في جميع أمورك لا سيما في شأنهم، وإظهار الاسم الجليل للإشعار بعلة الحكم وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا قائما بما فوض إليه من التدبير فيكفيك مضرتهم وينتقم لك منهم، والإظهار لما سبق للإيذان باستقلال الجملة واستغنائها عما عداها من كل وجه أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ لعله جواب سؤال نشأ من جعل الله تعالى شهيدا كأنه قيل: شهادة الله تعالى لا شبهة فيها ولكن من أين يعلم أن ما ذكرته شهادة الله تعالى محكية عنه؟ فأجاب سبحانه بقوله: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ وأصل التدبر التأمل في أدبار الأمور وعواقبها ثم استعمل في كل تأمل سواء كان نظرا في حقيقة الشيء وأجزائه، أو سوابقه وأسبابه، أو لواحقه وأعقابه، والفاء للعطف على مقدر أي- أيشكون في أن ما ذكر شهادة الله تعالى فلا يتدبرون القرآن الذي جاء به هذا النبي صلّى الله عليه وسلّم المشهود له ليعلموا كونه من عند الله فيكون حجة وأي حجة على المقصود- وقيل: المعنى أيعرضون عن القرآن فلا يتأملون فيه ليعلموا كونه من عند الله تعالى بمشاهدة ما فيه من الشواهد التي من جملتها هذا الوحي الصادق والنص الناطق بنفاقهم المحكي على ما هو عليه وَلَوْ كانَ أي القرآن. مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ كما يزعمون لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً بأن يكون بعض إخباراته الغيبية كالإخبار عما يسره المنافقون غير مطابق للواقع لأن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى فحيث أطرد الصدق فيه ولم يقع ذلك قط علم أنه بإعلامه تعالى ومن عنده، وإلى هذا يشير كلام الأصم والزجاج، وفي رواية عن ابن عباس أن المراد لوجدوا فيه تناقضا كثيرا، وذلك لأن كلام البشر إذا طال لم يخل- بحكم العادة- من التناقض، وما يظن من الاختلاف كما في كثير من الآيات، ومنه ما سبق آنفا ليس من الاختلاف عند المتدبرين، وقيل- وهو مما لا بأس به خلافا لزاعمه- المراد لكان الكثير منه مختلفا متناقضا قد تفاوت نظمه وبلاغته فكان بعضه بالغا حدّ الإعجاز وبعضه قاصرا عنه يمكن معارضته، وبعضه إخبارا بغيب قد وافق المخبر عنه، وبعضه إخبارا مخالفا للمخبر عنه، وبعضه دالا على معنى صحيح عند علماء المعاني، وبعضه دالا على معنى فاسد غير ملتئم فلما تجاوب كله بلاغة معجزة فائقة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 لقوى البلغاء وتناصر صحة معان وصدق أخبار علم أنه ليس إلا من عند قادر على ما لا يقدر عليه غيره عالم بما لا يعلمه سواه انتهى. وهو مبني على كون وجه الإعجاز عند علماء العربية كون القرآن في مرتبة الأعلى من البلاغة، وكون المقصود من الآية إثبات القرآن كله وبعضه من الله تعالى، وحينئذ لا يمكن وصف الاختلاف بالكثرة لأنه لا يكون الاختلاف حينئذ إلا بأن يكون البعض منه معجزا والبعض غير معجز، وهو اختلاف واحد فلذا جعل وجدوا متعديا إلى مفعولين أولهما كَثِيراً، وثانيهما اخْتِلافاً بمعنى مختلفا، وإليه يشير قوله: لكان الكثير منه مختلفا وإنما جعل اللازم على تقدير كونه من عند غير الله تعالى كون الكثير مختلفا مع أنه يلزم أن يكون الكل مختلفا اقتصارا على الأقل كما في قوله تعالى: يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ [غافر: 28] وهو من الكلام المنصف، وبهذا يندفع ما أورد من أن الكثرة صفة الاختلاف والاختلاف صفة للكل في النظم، وقد جعل صفة الكثرة والكثرة صفة الكثير، لأنا لا نسلم أن الكثرة صفة الاختلاف بل هما مفعولا «وجدوا» وكذا ما أورد من أنه يفهم من قوله: لكان بعضه بالغا حد الإعجاز ثبوت قدرة غيره تعالى على الكلام المعجز وهو باطل لأنا لا نسلم ذلك فإن المقصود أن القرآن كلّا وبعضا من الله تعالى أي البعض الذي وقع به التحدي- وهو مقدار أقصر سورة منه ولو كان بعض من أبعاضه من غيره تعالى- لوجدوا فيه الاختلاف المذكور، وهو أن لا يكون بعضه بالغا حد الإعجاز- قاله بعض المحققين- وقال بعضهم: لا محيص عن الإيراد الأخير سوى أن يحمل الكلام على الفرض والتقدير أي لو كان فيه مرتبة الإعجاز ففي البعض خاصة على أن يكون ذلك القدر مأخوذا من كلام الله تعالى كما في الاقتباس ونحوه- إلا أنه لا يخفى بعده، وإلى تفسير الاختلاف بالتفاوت بلاغة وعدم بلاغة ذهب أبو علي الجبائي إلى هذا ونقل عن الزمخشري أن في الآية فوائد: وجوب النظر في الحجج والدلالات، وبطلان التقليد، وبطلان قول من يقول: إن المعارف الدينية ضرورية، والدلالة على صحة القياس، والدلالة على أن أفعال العباد ليست بخلق الله تعالى لوجود التناقض فيها انتهى. ولا يخفى أن دلالتها على وجوب النظر في الجملة وبطلان التقليد للكل، وقول من يقول: إن المعارف الدينية كلها ضرورية إما على صحة القياس على المصطلح الأصولي فلا، وإما تقرير الأخير- على ما في الكشف- فلأن اللازم كل مختلف من عند غير الله تعالى على قولهم: ان لو عكس لولا ولو كان أفعال العباد من خلقه لكانت من عنده بالضرورة، وكذبت القضية أو بعض المختلف من عند غير الله تعالى على ما حققه الشيخ ابن الحاجب، والمشهور عند أهل الاستدلال فيكون بعض أفعال العباد غير مخلوقة له تعالى ويكفي ذلك في الاستدلال إذ لا قائل بالفرق بين بعض وبعض إذا كان اختياريا، وأجاب فيه بأن اللازم كل مختلف هو قرآن من عند غير الله تعالى على الأول، وحينئذ لا يتم الاستدلال، وذكر أن معنى وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ تعالى عند الجماعة ولو كان قائما بغيره تعالى ولا مدخل للخلق في هذه الملازمة، وأنت تعلم أنه غير ظاهر الإرادة هنا. وكذا استدل بالآية على فساد قول من زعم أن القرآن لا يفهم إلا بتفسير الرسول صلّى الله عليه وسلّم أو الإمام المعصوم- كما قال بعض الشيعة- وَإِذا جاءَهُمْ أي المنافقين- كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والضحاك وأبي معاذ- أو ضعفاء المسلمين- كما روي عن الحسن، وذهب إليه غالب المفسرين- أو الطائفتين كما نقله ابن عطية- أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أي مما يوجب الأمن والخوف أَذاعُوا بِهِ أي أفشوه، والباء مزيدة، وفي الكشاف يقال: أذاع الشر وأذاع به، ويجوز أن يكون المعنى فعلوا به الإذاعة وهو أبلغ من أذاعوه لدلالته على أنه يفعل نفس الحقيقة كما في نحو- فلان يعطي ويمنع- ولما فيه من الإبهام والتفسير، وقيل: الباء لتضمن الإذاعة معنى التحديث وجعلها بمعنى مع والضمير للمجيء مما لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى الجليل عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 والكلام مسوق لبيان جناية أخرى من جنايات المنافقين، أو لبيان جناية الضعفاء إثر بيان جناية المنافقين وذلك أنه إذا غزت سرية من المسلمين خبر الناس عنها فقالوا: أصاب المسلمون من عدوهم كذا وكذا، وأصاب العدو من المسلمين كذا وكذا فأفشوه بينهم من غير أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الذي يخبرهم به، ولا يكاد يخلو ذلك عن مفسدة، وقيل: كانوا يقفون من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأولي الأمر على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء أو على خوف فيذيعونه فينشر فيبلغ الأعداء فتعود الإذاعة مفسدة، وقيل: الضعفاء يسمعون من أفواه المنافقين شيئا من الخبر عن السرايا مظنون غير معلوم الصحة فيذيعونه قبل أن يحققوه فيعود ذلك وبالا على المؤمنين، وفيه إنكار على من يحدث بالشيء قبل تحقيقه، وقد أخرج مسلم عن أبي هريرة مرفوعا «كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع» والجملة عند صاحب الكشف معطوفة على قوله تعالى: وَيَقُولُونَ طاعَةٌ، وقوله سبحانه: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ اعتراض تحذيرا لهم عن الإضمار لما يخالف الظاهر، فإن في تدبر القرآن جارا إلى طاعة المنزل عليه أي جار، وقيل: الكلام مسوق لدفع ما عسى أن يتوهم في بعض المواد من شائبة الاختلاف بناء على عدم فهم المراد ببيان أن ذلك لعدم وقوفهم على معنى الكلام لا لتخلف مدلوله عنه، وذلك أن ناسا من ضعفة المسلمين الذين لا خبرة لهم بالأحوال كانوا إذا أخبرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بما أوحي إليه من وعد بالظفر أو تخويف من الكفرة يذيعونه من غير فهم لمعناه ولا ضبط لفحواه على حسب ما كانوا يفهمونه ويحملونه عليه من المحامل، وعلى تقدير الفهم قد يكون ذلك مشروطا بأمور تفوت بالإذاعة فلا يظهر أثره المتوقع فيكون ذلك منشأ لتوهم الاختلاف- ولا يخلو عن حسن- غير أن روايات السلف على خلافه، وأيّا ما كان فقد نعى الله تعالى ذلك عليهم، وقال سبحانه: وَلَوْ رَدُّوهُ أي ذلك الأمر الذي جاءهم إِلَى الرَّسُولِ صلّى الله عليه وسلّم وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ وهم كبائر الصحابة رضي الله تعالى عنهم البصراء في الأمور، وهو الذي ذهب إليه الحسن وقتادة وخلق كثير. وقال السدي وابن زيد وأبو علي الجبائي: المراد بهم أمراء السرايا والولاة، وعلى الأول المعول لَعَلِمَهُ أي لعلم تدبير ذلك الأمر الذي أخبروا به الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ أي يستخرجون تدبيره بفطنتهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكائده، أو لو ردوه إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومن ذكر، وفوضوه إليهم وكانوا كأن لم يسمعوا لعلم الذي يستنبطون تدبيره كيف يدبرونه وما يأتون وما يذرون، أو لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ صلّى الله عليه وسلّم وإلى كبار أصحابه رضي الله تعالى عنهم، وقالوا: نسكت حتى نسمعه منهم ونعلمه هل مما يذاع أو لا يذاع لعلم صحته، وهل هو مما يذاع أو لا هؤلاء المذيعون وهم الذين يستنبطون من الرسول وأولي الأمر أي يتلقونه منهم ويستخرجون علمه من جهتهم، أو لو عرضوه على رأيه عليه الصلاة والسلام مستكشفين لمعناه وما ينبغي له من التدبير، وإلى أجلة صحبه رضي الله تعالى عنهم لعلم الرادون معناه وتدبيره وهم الذين يستنبطونه ويستخرجون علمه وتدبيره من جهة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن تشرف بالعطف عليه، والتعبير بالرسالة لما أنها من موجبات الرد. وكلمة- من- إما ابتدائية والظرف لغو متعلق بيستنبطونه، وإما تبعيضية أو بيانية تجريدية والظرف حال، ووضع الموصول موضع الضمير في الاحتمالين الأخيرين للإيذان بأنه ينبغي أن يكون القصد بالرد استكشاف المعنى واستيضاح الفحوى، والاستنباط في الأصل استخراج الشيء من مأخذه- كالماء من البئر، والجوهر من المعدن- ويقال للمستخرج: نبط بالتحريك ثم تجوز به فأطلق على كل أخذ وتلق وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ خطاب للطائفة المذكورة آنفا بناء على أنهم ضعفة المؤمنين على طريقة الالتفات، والمراد من الفضل والرحمة شيء واحد أي لولا فضله سبحانه عليكم ورحمته بإرشادكم إلى سبيل الرشاد الذي هو الرد إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم وإلى أولي الأمر لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ وعملتم بآرائكم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 الضعيفة، أو أخذتم بآراء المنافقين فيما تأتون وتذرون ولم تهتدوا إلى صوب الصواب إِلَّا قَلِيلًا وهم أولو الأمر المستنيرة عقولهم بأنوار الإيمان الراسخ، الواقفون على الأسرار الراسخون في معرفة الأحكام بواسطة الاقتباس من مشكاة النبوة، فالاستثناء منقطع أو الخطاب للناس أي وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ تعالى بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وَرَحْمَتُهُ بإنزال القرآن- كما فسرهما بذلك السدي والضحاك- وهو اختيار الجبائي، ولا يبعد العكس لَاتَّبَعْتُمُ كلكم الشَّيْطانَ وبقيتم على الكفر والضلالة إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ قد تفضل عليه بعقل راجح فاهتدى به إلى طريق الحق، وسلم من مهاوي الضلالة وعصم من متابعة الشيطان من غير إرسال الرسول عليه الصلاة والسلام وإنزال الكتاب- كقس بن ساعدة الايادي وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل (1) وأضرابهم- فالاستثناء متصل، وإلى ذلك ذهب الأنباري. وقال أبو مسلم: المراد بفضل الله تعالى ورحمته النصرة والمعونة مرة بعد أخرى، والمعنى لولا حصول النصرة والظفر لكم على سبيل التتابع لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ فيما يلقى إليكم من الوساوس والخواطر الفاسدة المؤدية إلى الجبن والفشل والركون إلى الضلال وترك الدين إِلَّا قَلِيلًا وهم أهل البصائر النافذة، والعزائم المتمكنة والنيات الخالصة من أفاضل المؤمنين الذين يعلمون أنه ليس من شرط كون الدين حقا حصول الدولة في الدنيا، أو باطلا حصول الانكسار والانهزام، بل مدار الأمر في كونه حقا وباطلا على الدليل، ولا يرد أنه يلزم من جعل الاستثناء من الجملة التي وليها جواز أن ينتقل الإنسان من الكفر إلى الإيمان، ومن اتباع الشيطان إلى عصيانه وخزيه، وليس لله تعالى عليه في ذلك فضل ومعاذ الله تعالى أن يعتقد هذا مسلم موحد سنيا كان أو معتزليا، وذلك لأن لَوْلا حرف امتناع لوجود، وقد أنبأت أن امتناع اتباع المؤمنين للشيطان في الكفر وغيره إنما كان بوجود فضل الله تعالى عليهم، فالفضل هو السبب المانع من اتباع الشيطان فإذا جعل الاستثناء ما ذكر فقد سلبت تأثير فضل الله تعالى في امتناع الاتباع عن البعض المستثنى ضرورة، وجعلهم مستبدين بالإيمان وعصيان الشيطان الداعي إلى الكفر بأنفسهم لا بفضل الله تعالى، ألا تراك إذا قلت لمن تذكره بحقك عليه: لولا مساعدتي لك لسلبت أموالك إلا قليلا كيف لم تجعل لمساعدتك أثرا في بقاء القليل للمخاطب، وإنما مننت عليه في تأثير مساعدتك في بقاء أكثر ماله لا في كله، لأنا نقول هذا إذا عم الفضل لا إذا خص كما أشرنا إليه لأن عدم الاتباع إذا لم يكن بهذا الفضل المخصوص لا ينافي أن يكون بفضل آخر، نعم ظاهر عبارة الكشاف في هذا المقام مشكل حيث جعل الاستثناء من الجملة الأخيرة، وزاد التوفيق في البيان، ويمكن أن يقال أيضا: أراد به توفيقا خاصا نشأ مما قبله، وهذا أولى من الإطلاق ودفع الإشكال بأن عدم الفضل والرحمة على الجميع لا يلزم منه العدم على البعض لما فيه من التكلف، وذهب بعضهم للتخلص من الإيراد إلى أن الاستثناء من قوله تعالى: أَذاعُوا بِهِ، وروي ذلك عن ابن عباس- وهو اختيار المبرد، والكسائي والفراء والبلخي والطبري- واتخذ القاضي أبو بكر الآية دليلا في الرد على من جزم بعود الاستثناء عند تعدد الجمل إلى الأخيرة. وعن بعض أهل اللغة أن الاستثناء من قوله سبحانه: لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً وعن أكثرهم أنه من قوله تعالى: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ واعترضه الفراء والمبرد بأن ما يعلم بالاستنباط فالأقل يعلمه والأكثر يجهله، وصرف الاستثناء إلى ما ذكروه يقتضي ضد ذلك، وتعقب ذلك الزجاج بأنه غلط لأنه لا يراد بهذا الاستنباط ما يستخرج بنظر دقيق وفكر غامض إنما هو استنباط خبر، وإذا كان كذلك فالأكثرون يعرفونه ولا يجهله إلا البالغ في   (1) عد الطبرسي منهم. البراء وأباذر. اهـ منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 البلادة- وفيه نظر- وبعضهم إلى جعل الاستثناء مفرغا من المصدر فما بعد إِلَّا منصوب على أنه مفعول مطلق أي لاتبعتموه كل اتباع إلا اتباعا قليلا بأن تبقوا على إجراء الكفر وآثاره إلا البقاء القليل النادر بالنسبة إلى البعض، وذلك قد يكون بمجرد الطبع والعادة، وأحسن الوجوه وأقربها إلى التحقيق عند الإمام ما ذكره أبو مسلم، وأيد التخصيص فيما ذهب إليه الأنباري بأن قوله تعالى: ومَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ إلخ، وقوله سبحانه: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ يشهدان له، وفي الذي بعده بأن قوله عز وجل: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ [النساء: 83] إلخ، وقوله جل وعلا: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ يشهد له، وأنت تعلم أن قرينة التخصيص بهما غير ظاهرة، والفاء في هذه الآية واقعة في جواب شرط محذوف ينساق إليه النظم الكريم أي إذا كان الأمر كما حكي من عدم طاعة المنافقين وتقصير الآخرين في مراعاة أحكام الإسلام فقاتل أنت وحدك غير مكترث بما فعلوا. ونقل الطبرسي في اتصال الآية قولين: أحدهما أنها متصلة بقوله تعالى: وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً والمعنى فإن أردت الأجر العظيم فقاتل. ونقل عن الزجاج وثانيهما أنها متصلة بقوله عز وجل: وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ والمعنى إن لم يقاتلوا في سبيل الله فقاتل أنت وحدك، وقيل: هي متصلة بقوله تعالى: فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ ومعنى لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ لا تكلف إلا فعلها إذ لا تكليف بالذوات، وهو استثناء مقرر لما قبله فإن اختصاص تكليفه عليه الصلاة والسلام بفعل نفسه من موجبات مباشرته صلّى الله عليه وسلّم للقتال وحده، وفيه دلالة على أن ما فعلوه من التثبيط والتقاعد لا يضره صلّى الله عليه وسلّم ولا يؤاخذ به، وذهب بعض المحققين إلى أن الكلام مجاز أو كناية عن ذلك فلا يرد أنه مأمور بتكليف الناس، فكيف هذا ولا حاجة إلى ما قيل، بل في ثبوته فقال: إنه عليه الصلاة والسلام كان مأمورا بأن يقاتل وحده أولا، ولهذا قال الصديق رضي الله تعالى عنه في أهل الردة: أقاتلهم وحدي ولو خالفتني يميني لقاتلتها بشمالي، وجعل أبو البقاء هذه الجملة في موضع الحال من فاعل- قاتل- أي فقاتل غير مكلف إلا نفسك، وقرىء «لا تكلف» بالجزم على أن لا ناهية والفعل مجزوم بها أي لا تكلف أحدا الخروج إلا نفسك، وقيل: هو مجزوم في جواب الأمر وهو بعيد، ولا نكلف بالنون على بناء الفاعل فنفسك مفعول ثان بتقدير مضاف، وليس في موقع المفعول الأول أي لا نكلفك إلا فعل نفسك لا أنا لا نكلف أحدا إلا نفسك، وقيل: لا مانع من ذلك على معنى لا نكلف أحدا هذا التكليف إلا نفسك. والمراد من هذا التكليف مقاتلته وحده وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ أي حثهم على القتال ورغبهم فيه وعظهم لما أنهم آثمون بالتخلف لفرضه عليهم قبل هذا بسنين، وأصل التحريض إزالة الحرض وهو ما لا خير فيه ولا يعتد به، فالتفعيل للسلب والإزالة- كقذيته وجلدته- ولم يذكر المحرض عليه لغاية ظهوره. عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ نكاية الَّذِينَ كَفَرُوا ومنهم قريش وعَسَى من الله تعالى- كما قال الحسن وغيره- تحقيق، وقد فعل سبحانه ما وعد به، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما واعد صلّى الله عليه وسلّم أبا سفيان بعد حرب أحد موسم بدر الصغرى في ذي القعدة فلما بلغ الميعاد دعا الناس إلى الخروج فكرهه بعضهم فنزلت فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع جماعة من أصحابه رضي الله تعالى عنهم حتى أتى موسم بدر فكفاهم الله سبحانه بأس العدو ولم يوافقهم أبو سفيان، وألقى الله تعالى الرعب في قلبه، ولم يكن قتال يومئذ وانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمن معه سالمين وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً من الذين كفروا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا أي تعذيبا، وأصله التعذيب بالنكل وهو القيد فعمم، والمقصود من الجملة التهديد والتشجيع، وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة، وتعليل الحكم وتقوية استقلال الجملة، وتذكير الخبر لتأكيد التشديد، وقوله تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ أي حظ وافر مِنْها أي من ثوابها، جملة مستأنفة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 سيقت لبيان أن له عليه الصلاة والسلام فيما أمر به من تحريض المؤمنين حظا موفورا من الثواب، وبه ترتبط الآية بما قبلها كما قال القاضي. وقال علي بن عيسى: إنه سبحانه لما قال لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ مشيرا به إلى أنه عليه الصلاة والسلام غير مؤاخذ بفعل غيره كان مظنة لتوهم أنه كما لا يؤاخذ بفعل غيره لا يزيد عمله بعمل غيره أيضا فدفع ما عسى أن يتوهم بذلك، وليس بشيء كما لا يخفى، والشفاعة- هي التوسط بالقول في وصول الشخص ولو كان أعلى قدرا من الشفيع إلى منفعة من المنافع الدنيوية أو الأخروية، أو خلاصه عن مضرة ما كذلك من الشفع ضد الوتر كأن المشفوع له كان وترا فجعله الشفيع شفعا، ومنه الشفيع في الملك لأنه يضم ملك غيره إلى نفسه أو يضم نفسه إلى من يشتريه ويطلبه منه، والحسنة- منها ما كانت في أمر مشروع روعي بها حق مسلم ابتغاء لوجه الله تعالى، ومنها الدعاء للمسلمين فإنه شفاعة معنى عند الله تعالى، روى مسلم وغيره عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له» وقال الملك: ولك مثل ذلك، وفيه بيان لمقدار النصيب الموعود ولا أرى حسنا إطلاق الشفاعة على الدعاء للنبي صلّى الله عليه وسلّم بل لا أكاد أسوغه، وإن كانت فيه منفعة له صلّى الله عليه وسلّم كما أن فيه منفعة لنا على الصحيح. وتفسيرها بالدعاء- كما نقل عن الجبائي- أو بالصلح بين اثنين- كما روى الكلبي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- لعله من باب التمثيل لا التخصيص، وكون التحريض الذي فعله صلّى الله عليه وسلّم من باب الشفاعة ظاهر فإن المؤمنين تخلصوا بذلك من مضرة التثبط وتعيير العدو، واحتمال الذل وفازوا بالأجر الجزيل المخبوء لهم يوم القيامة وربحوا أموالا جسيمة بسبب ذلك، فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام لما وافى بجيشه بدرا ولم ير بها أحدا من العدو أقام ثماني ليال وكان معهم تجارات فباعوها وأصابوا خيرا كثيرا، ومن الناس من فسر الشفاعة هنا بأن يصير الإنسان شفع صاحبه في طاعة أو معصية، والحسنة منها ما كان في طاعة، فالجملة مسوقة للترغيب في الجهاد والترهيب عن التخلف والتقاعد، وأمر الارتباط عليه ظاهر ولا بأس به غير أن الجمهور على خلافه. وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً وهي ما كانت بخلاف الحسنة، ومنها الشفاعة في حد من حدود الله تعالى، ففي الخبر «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله تعالى فقد ضاد الله تعالى في ملكه ومن أعان على خصومة بغير علم كان في سخط الله تعالى حتى ينزع» واستثني من الحدود القصاص، فالشفاعة في إسقاطه إلى الدية غير محرمة يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها أي نصيب من وزرها، وبذلك فسره السدي والربيع وابن زيد وكثير من أهل اللغة، فالتعبير بالنصيب في الشفاعة الحسنة، وبالكفل في الشفاعة السيئة للتفنن، وفرق بينهما بعض المحققين بأن النصيب يشمل الزيادة، والكفل هو المثل المساوي، فاختيار النصيب أولا لأن جزاء الحسنة يضاعف والكفل ثانيا لأن من جاء بالسيئة لا يجزى إلا مثلها، ففي الآية إشارة إلى لطف الله تعالى بعباده، وقال بعضهم: إن الكفل وإن كان بمعنى النصيب إلا أنه غلب في الشر وندر في غيره كقوله تعالى: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [الحديد: 28] فلذا خص بالسيئة تطرية وهربا من التكرار وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً أي مقتدرا- كما قاله ابن عباس- حين سأله عنه نافع بن الأزرق، واستشهد عليه بقول أحيحة الأنصاري: وذي ضغن كففت النفس عنه ... وكنت على مساءته مقيتا وروي ذلك عن جماعة من التابعين، وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه الحفيظ واشتقاقه من القوت، فإنه يقوي البدن ويحفظه، وعن الجبائي أنه المجازي أي يجازي على كل شيء من الحسنات والسيئات، وأصله مقوت فأعلّ كمقيم والجملة تذييل مقرر لما قبلها على سائر التفاسير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ ترغيب كما قال شيخ الإسلام: في فرد شائع من الشفاعة الحسنة إثر ما رغب فيها على الإطلاق، وحذر عما يقابلها من الشفاعة السيئة، فإن تحية الإسلام من المسلم شفاعة منه لأخيه عند الله عز وجل، وهذا أولى في الارتباط مما قاله الطبرسي: إنه لما كان المراد بالسلام المسالمة التي هي ضد الحرب- وقد تقدم ذكر القتال- عقبه به للإشارة إلى الكف عمن ألقى إلى المؤمنين السلم وحياهم بتحية الإسلام، والتحية مصدر حيى أصلها تحيية- كتتمية، وتزكية- وأصل الأصل تحييي بثلاث ياءات فحذفت الأخيرة وعوض عنها هاء التأنيث ونقلت حركة الياء الأولى إلى ما قبلها، ثم أدغمت وهي في الأصل كما قال الراغب: الدعاء بالحياة وطولها، ثم استعملت في كل دعاء، وكانت العرب إذا لقي بعضهم بعضا تقول: حياك الله تعالى، ثم استعملها الشرع في السلام، وهو تحية الإسلام قال الله تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [الأحزاب: 44] وقال سبحانه: فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النور: 61] ، وفيه على ما قالوا: مزية على قولهم: حياك الله تعالى لما أنه دعاء بالسلامة عن الآفات، وربما تستلزم طول الحياة، وليس في ذلك سوى الدعاء بطول الحياة أو به وبالملك، ورب حياة الموت خير منها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 ألا موت يباع فأشتريه ... فهذا العيش ما لا خير فيه ألا رحم المهيمن نفس حرّ ... تصدق بالممات على أخيه وقال آخر: ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميت الأحياء إنما الميت من يعيش كئيبا ... كاسفا باله قليل الرجاء ولأن السلام من أسمائه تعالى والبداءة بذكره مما لا ريب في فضله ومزيته أي إذا سلم عليكم من جهة المؤمنين كما قال الحسن وعطاء، أو مطلقا كما أخرج ابن أبي شيبة والبخاري في الأدب وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أي بتحية أحسن من التحية التي حييتم بها بأن تقولوا وعليكم السلام ورحمة الله تعالى إن اقتصر المسلم على الأول، وبأن تزيدوا وبركاته إن جمعهما المسلم وهي النهاية، فقد أخرج البيهقي عن عروة بن الزبير- أن رجلا سلم عليه فقال: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته فقال عروة: ما ترك لنا فضلا إن السلام قد انتهى إلى وبركاته- وفي معناه ما أخرجه الإمام أحمد والطبراني عن سلمان الفارسي مرفوعا وذلك لانتظام تلك التحية لجميع فنون المطالب التي هي السلامة عن المضار، ونيل المنافع ودوامها ونمائها، وقيل: يزيد المحيي إذا جمع المحيي الثلاثة له، فقد أخرج البخاري في الأدب المفرد عن سالم مولى عبد الله بن عمر قال: كان ابن عمر إذا سلم عليه فرد زاد فأتيته فقلت: السلام عليكم فقال: السلام عليكم ورحمة الله تعالى، ثم أتيته مرة أخرى فقلت: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، فقال: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وطيب صلواته، ولا يتعين ما ذكر للزيادة، فقد ورد خبر رواه أبو داود والبيهقي عن معاذ زيادة ومغفرته، فما في الدر من أن المراد لا يزيد على- وبركاته- غير مجمع عليه أَوْ رُدُّوها أي حيوا بمثلها وأَوْ للتخيير بين الزيادة وتركها، والطاهر أن الأول هو الأفضل في الجواب، بل لو زاد المسلم على السلام عليكم كان أفضل، فقد أخرج البيهقي عن سهل بن حنيف قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من قال: السلام عليكم كتب الله تعالى له عشر حسنات فإن قال السلام عليكم ورحمة الله تعالى كتب الله تعالى له عشرين حسنة، فإن قال: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته كتب الله تعالى له ثلاثين حسنة» وورد في معناه غير ما خبر. وقد نصوا على أن جواب- السلام- المسنون واجب، ووجوبه على الكفاية، ولا يؤثر فيه إسقاط المسلم لأن الحق لله تعالى، ودليل الوجوب الكفائي خبر أبي داود، وفي معناه ما أخرجه البيهقي عن زيد بن أسلم ولم يضعفه- يجزىء عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم، ويجزي عن الجلوس أن يردّ أحدهم فبه يسقط الوجوب عن الباقين ويختص بالثواب فلو ردوا كلهم ولو مرتبا أثيبوا ثواب الواجب. وفي المبتغى يسقط عن الباقين بر: صبي يعقل لأنه من أهل إقامة الفرض في الجملة بدليل حل ذبيحته، وقيل: لا، وظاهر النهاية ترجيحه- وعليه الشنيعة- قالوا: ولو رد صبي أو لم يسمع منهم لم يسقط بخلاف نظيره في الجنازة لأن القصد ثمّ الدعاء، وهو منه أقرب للإجابة، وهنا الأمن، وهو ليس من أهله وقضيته أنه يجزىء تشميت الصبي عن جمع لأن القصد التبرك والدعاء كصلاة الجنازة- ويسقط بردّ العجوز. وفي رد الشابة قولان: عندنا، وعند الشافعية لو ردّت امرأة عن رجل أجزأ إن شرع السلام عليها وعليه فلا يختص بالعجوز بل المحرم وأمة الرجل وزوجته كذلك، وفي تحفتهم ويدخل في المسنون سلام امرأة على امرأة أو نحو محرم أو سيد أو زوج، وكذا على أجنبي وهي عجوز لا تشتهى، ويلزمها في هذه الصورة ردّ سلام الرجل، أما مشتهاة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 ليس معها امرأة أخرى فيحرم عليها ردّ سلام أجنبي، ومثله ابتداؤه، ويكره له ردّ سلامها ومثله ابتداؤه أيضا، والفرق أن ردها وابتداءها يطمعه فيها أكثر بخلاف ابتدائه ورده والخنثى مع رجل كامرأة ومع امرأة كرجل في النظر فكذا هنا، ولو سلم على جمع نسوة وجب ردّ إحداهن إذ لا يخشى فتنة حينئذ، ومن ثمّ حلت الخلوة بامرأتين، والظاهر أن الأمر هنا كالرجل ابتداء وردّا، وفي الدر المختار لو قال: السلام عليك يا زيد لم يسقط برد غيره، ولو قال: يا فلان أو أشار لمعين سقط، ولو سلم جمع مترتبون على واحد فرد مرة قاصدا جميعهم، وكذا لو أطلق على الأوجه أجزأه ما لم يحصل فصل ضار، ولا بدّ في الابتداء والردّ من رفع الصوت بقدر ما يحصل به السماع بالفعل ولو في ثقيل السمع، نعم إن مرّ عليه سريعا بحيث لم يبلغه صوته فالذي يظهر أنه يلزمه الرفع وسعه، ولا يجهر بالرد الجهر الكثير، والمروي عن الإمام رضي الله تعالى عنه لعله مقيد بغير هذه الصورة دون العدو خلفه، واستظهر أنه لا بد من سماع جميع الصيغة ابتداء وردا، والفرق بينه وبين إجابة أذان سمع بعضه ظاهر، ولو سلم يهودي أو نصراني أو مجوسي فلا بأس بالردّ، ولكن لا يزيد في الجواب على قوله: وعليك كما في الخانية، وروي ذلك مرفوعا في الصحيح، ولا يسلم ابتداء على كافر لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه» رواه البخاري، وأوجب بعض الشافعية ردّ سلام الذمي بعليك فقط، وهو الذي يقتضيه كلام الروضة لكن قال البلقيني والأذرعي والزركشي: إنه يسن ولا يجب، وعن الحسن يجوز أن يقال للكافر، وعليك السلام ولا يقل رحمة الله تعالى فإنها استغفار، وعن الشعبي أنه قال لنصراني سلم عليه ذلك- فقيل له فيه فقال: أليس في رحمة الله تعالى يعيش. وأخرج ابن المنذر من طريق يونس بن عبيد عن الحسن أنه قال في الآية: إن- حيوا بأحسن منها- للمسلمين أَوْ رُدُّوها لأهل الكتاب، وورد مثله عن قتادة، ورخص بعض العلماء ابتداءهم به إذا دعت إليه داعية ويؤدي حينئذ بالسلام، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يقول للذمي، والظاهر عند الحاجة السلام عليك ويريد- كما قال الله تعالى عليك- أي هو عدوك، ولا مانع عندي إن لم يقصد ذلك من أن يقصد الدعاء له بالسلامة بمعنى البقاء حيا ليسلم، أو يعطي الجزية ذليلا، وفي الأشباه النص على ذلك في الدعاء له بطول البقاء، بقي الخلاف في الإتيان بالواو عند الردّ له، وعامة المحدثين- كما قال الخطابي- بإثباتها في الخبر غير سفيان بن عيينة فإنه يرويه بغير واو، واستصوب لأن الواو تقتضي الاشتراك معه، والدخول فيما قال، وهو قد يقول السام عليكم كما يدل عليه خبر عمر رضي الله تعالى عنه، ووجه العلامة الطيبي إثباتها بأن مدخولها قد يقطع عما عطف عليه لإفادة العموم بحسب اقتضاء المقام فيقدر هنا عليكم اللعنة أو الغضب وعليكم ما قلتم ولا يخفى خفاء ذلك، وإن أيده بما ظنه شيئا. فالأولى ما في الكشف من أن رواية الجمهور هو الصواب وهما مشتركان في أنهما على سبيل الدعاء ولكن يستجاب دعاء المسلم على الكافر ولا يستجاب دعاؤه عليه، فقد جاء في الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما قالت عائشة في رهط اليهود القائلين له عليه الصلاة والسلام: «السام عليك، بل عليكم السام واللعنة، أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: لا تكوني فاشحة، قالت: أو لم تسمع ما قالوا؟! قال: رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم في» ويجب في الردّ على الأصم الجمع بين اللفظ والإشارة ليعلم، بل العلم هو المدار، ولا يلزمه الرد إلا إن جمع له المسلم عليه بينهما، وتكفي إشارة الأخرس ابتداء وردا ويجب ردّ جواب كتاب التحية كردّ السلام. وعند الشافعية يكفي جوابه كتابة ويجب فيها- إن لم يرد لفظا- الفور فيما يظهر، ويحتمل خلافه، ولو قال لآخر: أقرئ فلانا السلام يجب عليه أن يبلغه وعللوه بأن ذلك أمانة، ويجب أداؤها، ويؤخذ منه أن محله ما إذا رضي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 بتحمل تلك الأمانة أما لو ردها فلا، وكذا إن سكت أخذا من قولهم: لا ينسب لساكت قول، ويحتمل التفصيل بين أن تظهر منه قرينة تدل على الرضا وعدمه، وإذا قلنا بالوجوب، فالظاهر عند بعض أنه لا يلزمه قصد الموصى له بل إذا اجتمع به وذكر بلغه، وقال بعض المحققين الذي يتجه أنه يلزمه قصد محله حيث لا مشقة شديدة عرفا عليه لأن أداء الأمانة ما أمكن واجب، وفرق بعضهم بين أن يقول المرسل: قل له فلان يقول: السلام عليك وبين ما لو قال له سلم لي، والظاهر عدم الفرق وفاقا لما نقل عن النووي فيجب فيهما الرد ويسن الردّ على المبلغ والبداءة، فيقول: وعليك وعليه السلام للخبر المشهور فيه. وأوجبوا ردّ سلام صبي أو مجنون مميز، وكذا سكران مميز لم يعص بسكره، وقول المجموع: لا يجب ردّ سلام مجنون وسكران يحمل على غير المميز وزعم أن الجنون والسكر ينافيان التمييز غفلة عما صرحوا به من عدم التنافي، ولا يجب ردّ سلام فاسق أو مبتدع زجرا له أو لغيره، وإن شرع سلامه، وكذا لا يجب ردّ سلام السائل لأنه ليس للتحية بل لأجل أن يعطي، ولا ردّ سلام المتحلل من الصلاة إذا نوى الحاضر عنده على الأوجه لأن المهم له التحلل وقصد الحاضر به لتعود عليه بركته وذلك حاصل، وإن لم يرد، وإنما حنث به الحالف على ترك الكلام، والسلام لأن المدار فيهما على صدق الاسم لا غير، وقد نص على ذلك علماء الشافعية ولم أر لأصحابنا سوى التصريح بالحنث فيمن حلف لا يكلم زيدا فسلم على جماعة هو فيهم، وأما التصريح بهذه المسألة فلم أره، وصرح في الضياء بعدم وجوب الرد لو قال المسلم: السلام عليك بجزم الميم، وكأنه على ما في تحفتنا لمخالفة السنة، وعليه لو رفع الميم بلا تنوين ولا تعريف كان كجزم الميم في عدم وجوب الرد لمخالفته السنة أيضا. وجزم غير واحد من الشافعية أن صيغة السلام ابتداء وجوابا عليك السلام وعكسه، وأنه يجوز تنكير لفظه وإن حذف التنوين، وأنه يجزىء سلاما عليكم، وكذا سلام الله تعالى، بل وسلامي عليك وعكسه، واستظهر إجزاء سلمت، وأنا مسلم عليك، ونحو ذلك أخذا مما ذكروه أنه يجزىء في التشهد صلى الله تعالى على محمد والصلاة على محمد صلّى الله عليه وسلّم ونحوهما، ولا بأس فيما قالوه عندي، ولعل تفسير تحية في الآية لتشمل كل هذه الصيغ، وقال بعض الجماعة: السلام معرفة تحية الأحياء، ونكرة تحية الموتى، ورووا في ذلك خبرا والشيعة ينكرون مطلقا وينكرون. وقد جاء عن ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة وأنس «أن السلام في السلام اسم من أسماء الله تعالى» وهذا يقتضي أولوية التعريف أيضا فافهم، والأفضل في الرد واو قبله، ويجزىء بدونه على الصحيح، ويضر في الابتداء كالاقتصار في أحدهما على أحد جزئي الجملة، وإن نوى إضمار الآخر، وفي الكشف ما يؤيده، والخبر الذي فيه الاكتفاء- بو عليك- في الجواب لا يراد منه الاكتفاء على هذه اللفظة، بل المراد منه أنه صلّى الله عليه وسلّم أجاب بمثل ما سلم به عليه، ولم يزد كما يشعر به آخره، وذكر الطحاوي أن المستحب الرد على طهارة أو تيمم، فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي الجهم قال: أقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الغائط فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه صلّى الله عليه وسلّم حتى أقبل على الحائط فوضع يده عليه ثم مسح وجهه ويديه، ثم رد على الرجل السلام» والظاهر عدم الفرق بين الرد والابتداء في ذلك، ويسن السلام عينا للواحد وكفاية للجماعة كما أشرنا إليه ابتداء عند إقباله وانصرافه للخبر الصحيح الحسن «إن أولى الناس بالله تعالى من بدأهم بالسلام، وفارق الرد بأن الإيحاش والإخافة في ترك الرد أعظم منهما في ترك الابتداء، وأفتى غير واحد بأن الابتداء أفضل- كإبراء المعسر أفضل من إنظاره- ويؤخذ من قولهم: ابتداء أنه لو أتى به بعد تكلم لم يعتد به، نعم يحتمل في تكلم سهوا أو جهلا، وعذر به أنه لا يفوت الابتداء فيجب جوابه، ومثل ذلك بل أولى لمشروعيته الكلام للاستئذان، فقد صرحوا بأنه إذا أتى دار إنسان يجب أن يستأذن قبل السلام ويسن إظهار البشر عنده، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 فقد أخرج البيهقي عن الحسن قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن من الصدقة أن تسلم على الناس وأنت منطلق الوجه» وعن عمر «إذا التقى المؤمنان فسلم كل واحد منهما على الآخر وتصافحا كان أحبهما إلى الله تعالى أحسنهما بشرا لصاحبه» ويسن عليكم في الواحد، وإن جاء في بعض الآثار بالإفراد نظرا لمن معه من الملائكة، ويقصدهم ليردوا عليه فينال بركة دعائهم، ولو دخل بيتا ولم ير أحدا يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإن السكنة تردّ عليه، وفي الآكام إن في كل بيت سكنة من الجن، ويسن عند التلاقي سلام صغير على كبير، وماش على واقف أو مضطجع، وراكب عليهم، وراكب فرس على راكب حمار، وقليلين على كثيرين لأن نحو الماشي يخاف من نحو الراكب، ولزيادة نحو مرتبة الكبير على نحو الصغير، وخرج بالتلاقي الجالس والواقف والمضطجع، فكل من ورد على أحدهم يسلم عليه مطلقا ولو سلم كل على الآخر فإن ترتبا كان الثاني جوابا أي ما لم يقصد به الابتداء وحده- كما قيل- وإلا لزم كلّا الرد، وكره أصحابنا السلام في مواضع، وفي النهر عن صدر الدين الغزي: سلامك مكروه على من ستسمع ... ومن بعد ما أبدى يسن ويشرع مصلّ وتال ذاكر ومحدث ... خطيب ومن يصغي إليهم ويسمع مكرر فقه جالس لقضائه ... ومن بحثوا في الفقه دعهم لينفعوا مؤذن أيضا مع مقيم مدرس ... كذا الأجنبيات الفتيات أمنع ولعاب شطرنج وشبه بخلقهم ... ومن هو مع أهل له يتمتع ودع كافرا أيضا ومكشوف عورة ... ومن هو في حال التغوط أشنع ودع آكلا إلا إذا كنت جائعا ... وتعلم منه أنه ليس يمنع كذلك أستاذ مغنّ مطير ... فهذا ختام والزيادة تنفع فلو سلم على هؤلاء لا يستحق الرد عند بعضهم، وأوجب بعض الرد في بعضها وذكر الشافعية أن مستمع الخطيب يجب عليه الرد، وعندنا يحرم الرد كسائر الكلام بلا فرق بين قريب وبعيد على الأصح، وكرهوه لقاضي الحجة ونحوه كالمجامع، وسنوه للآكل كسن السلام عليه بعد البلع وقبل وضع اللقمة بالفم ويلزمه الرد حينئذ ولمن بالحمام ونحوهما باللفظ. ورجحوا أنه يسلم على من بمسلخه ولا يمنع كونه مأوى الشياطين فالسوق كذلك والسلام على من فيه مشروع، وإن اشتغل بمساومة ومعاملة ومصل ومؤذن بالإشارة، وإلا فبعد الفراغ إن قرب الفصل، وحرموا الرد على من سلم عليه نحو مرتد وحربي، وندبه بعضهم على القارئ وإن اشتغل بالتدبر، وأوجب الرد عليه، ومحله في متدبر لم يستغرق التدبر قلبه وإلا لم يسن ابتداء، ولا جواب كالداعي المستغرق لأنه الآن بمنزلة غير المميز، بل ينبغي فيمن استغرقه الهم كذلك أن يكون حكمه ذلك، وصرحوا أيضا بعدم السلام على فاسق بل يسن تركه على مجاهر بفسقه، ومرتكب ذنب عظيم لم يتب عنه، ومبتدع إلا لعذر أو خوف مفسدة، وعلى ملب، وساجد وناعس ومتخاصمين بين يدي قاض، وأفتى بعضهم بكراهة حني الظهر، وقال كثيرون: حرام للحديث الحسن أنه صلّى الله عليه وسلّم نهى عنه، وعن التزام الغير، وتقبيله، وأمر بمصافحته ما لم يكن ذميا، وإلا فيكره للمسلم مصافحته بل يكفر إن قصد التبجيل كما يكفر بالسلام عليه كذلك. وأفتى البعض أيضا بكراهة الانحناء بالرأس وتقبيل نحو الرأس أو يد أو رجل لا سيما لنحو غني لحديث «من تواضع لغني ذهب ثلثا دينه» وندب ذلك لنحو صلاح أو علم أو شرف لأن أبا عبيدة قبّل يد عمر رضي الله تعالى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 عنهما، ولا يعدّ- نحو صبحك الله تعالى بالخير، أو قواك الله تعالى- تحية ولا يستحق مبتدأ به جوابا، والدعاء له بنظيره حسن إلا أن يقصد بإهماله له تأديبه لتركه سنة السلام ونحو مرحبا مثل ذلك في ذلك، وذكر أنه لو قال المسلم السلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته، فقال الراد: عليك السلام فقد أجزأه لكنه خلاف الأولى، وظاهر الآية خلافه إذ الأمر فيها دائر بين الجواب بالأحسن، والجواب بالمثل، وليس ما ذكر شيئا منهما. وحمل التحية على السلام هو ما ذهب إليه الأكثرون من المحققين وأئمة الدين، وقيل: المراد بها الهدية والعطية، وأوجب القائل العوض أو الرد على المتهب- وهو قول قديم للشافعي- ونسب أيضا لإمامنا الأعظم رضي الله تعالى عنه، وعلل بعضهم بأن السلام قد وقع فلا يرد بعينه فلذا حمل على الهدية وقد جاء إطلاقها عليها، وأجيب بأنه مجاز كقول المتنبي: قفي تغرم الأولى من اللحظ مقلتي ... بثانية والمتلف الشيء غارمه وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عيينة أنه قال في الآية: أترون هذا في السلام وحده هذا في كل شيء من أحسن إليك فأحسن إليه وكافه، فإن لم تجد فادع له واثن عليه عند إخوانه، ولعل مراده رحمه الله تعالى قياس غير السلام من أنواع الإحسان عليه لأن المراد من التحية ما يعم السلام وغيره لخفاء ذلك، ولعل من أراد الأعم فسرها بما يسدي إلى الشخص مما تطيب به حياته إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً فيحاسبكم على كل شيء من أعمالكم ويدخل في ذلك ما أمروا به من التحية دخولا أوليا. هذا «ومن باب الإشارة في هذه الآيات» الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ أنفسهم فِي سَبِيلِ اللَّهِ فيهلكونها بسيوف المجاهدة ليصلوا إليه تعالى شأنه وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ عقولهم وينازعونها فِي سَبِيلِ طاغوت أنفسهم ليحصلوا اللذات ويغنموا في هذه الدار الفانية أمتعة الشهوات فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ وهي القوى النفسانية أو النفس وقواها إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً فوليه ضعيف، عاذ بقرملة أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ أي قال لهم المرصدون كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ عن محاربة الأنفس الآن قبل أداء رسوم العبادات وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ والمراد بها إتعاب البدن بأداء العبادة البدنية وَآتُوا الزَّكاةَ والمراد بها إتعاب القلب بأداء العبادة المالية فإذا تم لكم ذلك فتوجهوا إلى محاربة النفس فإن محاربتها قبل ذلك بغير سلاح، فإن هذه العبادات الرسمية سلاح السالكين فلا يتم لأحد تهذيب الباطن قبل إصلاح الظاهر فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ حين أداء ما أمروا بأدائه إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ لضعف استعدادهم يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً فلا يستطيعون هجرهم، ولا ارتكاب ما فيه ذل نفوسهم خشية اعتراضهم عليهم، أو إعراضهم عنهم، وقالوا بلسان الحال: رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ الآن لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ وهو الموت الاضطراري، فالمنية ولا الدنية، وهذا حال كثير من الناسكين يرغبون عن السلوك وتحمل مشاقة مما فيه إذلال نفوسهم وامتهانها خوفا من الملامة، واعتراض الناس عليهم فيبقون في حجاب أعمالهم- ويحسبون أنهم يحسنون صنعا ولبئس ما كانوا يصنعون- قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ فلا ينبغي أن يلاحظوا الناس في تركه وعدم الالتفات إليه وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى فينبغي أن يتحملوا الملامة في تحصيلها وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا مما كتب لكم فينبغي عدم خشية سوى الله تعالى أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وتفارقون ولا بد من تخشون فراقه إن سلكتم ففارقوهم بالسلوك وهو الموت الاختياري قبل أن تفارقوهم بالهلاك وهو الموت الاضطراري وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ أي أجساد قوية: فمن يك ذا عظم صليب رجا به ... ليكسر عود الدهر فالدهر كاسره وَإِنْ تُصِبْهُمْ أي المحجوبين حَسَنَةٌ أي شيء يلائم طباعهم يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فيضيفونها إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 الله تعالى من فرح النفس ولذة الشهوة لاتبعت المعرفة والمحبة وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي شيء تنفر عنه طباعهم وإن كان على خلاف ذلك في نفس الأمر يَقُولُوا لضيق أنفسهم هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ فيضيفونها إلى غيره تعالى ويرجعون إلى الأسباب لعدم رسوخ الإيمان الحقيقي في قلوبهم قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وهذا دعاء لهم إلى توحيد الأفعال، ونفى التأثير عن الأغيار، والإقرار بكونه سبحانه خالق الخير والشر فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ المحجوبين لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً لاحتجابهم بصفات النفوس وارتياح آذان قلوبهم التي هي أوعية السماع والوعي، ثم زاد سبحانه في البيان بقوله عز وجل: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ صغرت أو عظمت فَمِنَ اللَّهِ تعالى أفاضها حسب الاستعداد الأصلي وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ حقرت أو جلت فَمِنْ نَفْسِكَ أي من قبلها بسبب الاستعداد الحادث بسبب ظهور النفس بالصفات والأفعال الحاجبة للقلب المكدرة لجوهره حتى احتاج إلى الصقل بالرزايا والمصائب والبلايا والنوائب، لا من قبل الرسول صلّى الله عليه وسلّم أو غيره وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا فأنت الرحمة لهم فلا يكون من عندك شر عليهم وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على ذلك مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ لأنه صلّى الله عليه وسلّم مرآة الحق يتجلى منه للخلق، وقال بعض العارفين، إن باطن الآية إشارة إلى عين الجمع أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ليرشدهم إلى أنك رسول الله تعالى، وأن إطاعتك إطاعته سبحانه حيث أنه مشتمل على الفرق والجمع، وقيل: ألا يتدبرونه فيتعظون بكريم مواعظه ويتبعون محاسن أوامره، أو أفلا يتدبرونه ليعلموا أن الله جل شأنه تجلى لهم فيه وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً أي لوجدوا الكثير منه مختلفا بلاغة وعدمها فيكون مثل كلام المخلوقين فيكون لهم مساغ إلى تكذيبه وعدم قبول شهادته، أو القول بأنه لا يصلح أن يكون مجلى لله تعالى، وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ إخبار عمن في مبادي السلوك أي إذا ورد عليهم شيء من آثار الجمال أو الجلال أفشوه وأشاعوه وَلَوْ رَدُّوهُ أي عرضوه إِلَى الرَّسُولِ إلى ما علم من أحواله، وما كان عليه وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ وهم المرشدون الكاملون الذين نالوا مقام الوراثة المحمدية لَعَلِمَهُ أي لعلم مآله وأنه مما يذاع أو أنه لا يذاع الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ ويتلقونه منهم أي من جهتهم وواسطة فيوضاتهم، والمراد بالموصول الرادون أنفسهم، وحاصل ذلك أنه لا ينبغي للمريد إذا عرض له في أثناء سيره وسلوكه شيء من آثار الجمال أو الجلال أن يفشيه لأحد قبل أن يعرضه على شيخه فيوقفه على حقيقة الحال فإن في إفشائه قبل ذلك ضررا كثيرا وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أيها الناس بالواسطة العظمى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَرَحْمَتُهُ بالمرشدين الوارثين لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ والنفس أعظم جنوده إن لم تكنه إِلَّا قَلِيلًا وهم السالكون بواسطة نور إلهي أفيض عليهم فاستغنوا به كبعض أهل الفترة، قيل: وهم على قدم الخليل عليه الصلاة والسلام فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ أي قاتل من يخالفك وحدك وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ على أن يقاتلوا من يحول بينهم وبين ربهم عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي ستروا أوصاف الربوبية وَاللَّهُ أَشَدُّ منهم بَأْساً أي نكاية وَأَشَدُّ منهم تَنْكِيلًا أي تعذيبا مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً أي من يرافق نفسه على الطاعات يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها أي حظ وافر من ثوابها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً أي من يرافق نفسه على معصية يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها أي مثل مساو من عقابها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً فيوصل الثواب والعقاب إلى مستحقيهما وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها تعليم لنوع من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، وقيل: المعنى إذا منّ الله تعالى عليكم بعطية فابذلوا الأحسن من عطاياه أو تصدقوا بما أعطاكم وردوه إلى الله تعالى على يد المستحقين، والله تعالى خير الموفقين. اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ مبتدأ وخبر، وقوله سبحانه: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ جواب قسم محذوف أي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 والله ليجمعنكم، والجملة إما مستأنفة لا محل لها من الإعراب، أو خبر ثان، أو هي الخبر، ولا إِلهَ إِلَّا هُوَ اعتراض، واحتمال- أن تكون خبرا بعد خبر لكان، وجملة اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ معترضة مؤكدة لتهديد قصد بما قبلها وما بعدها- بعيد، ثم الخبر وإن كان هو القسم وجوابه لكنه في الحقيقة الجواب فلا يرد وقوع الإنشاء خبرا، ولا أن جواب القسم من الجمل التي لا محل لها من الإعراب فكيف يكون خبرا مع أنه لا امتناع من اعتبار المحل وعدمه باعتبارين، والجمع بمعنى الحشر، ولهذا عدى بإلى كما عدى الحشر بها في قوله تعالى: لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ [آل عمران: 158] ، وقد يقال: إنما عدى بها لتضمينه معنى الإفضاء المتعدى بها أي ليحشرنكم من قبوركم إلى حساب يوم القيامة، أو مفضين إليه، وقيل: إلى بمعنى في كما أثبته أهل العربية ليجمعنكم في ذلك اليوم لا رَيْبَ فِيهِ أي في يوم القيامة، أو في الجمع، فالجملة إما حال من اليوم، أو صفة مصدر محذوف أي جمعا «لا ريب فيه» والقيامة بمعنى القيام، ودخلت التاء فيه للمبالغة- كعلامة، ونسابة- وسمى ذلك اليوم بذلك لقيام الناس فيه للحساب مع شدة ما يقع فيه من الهول، ومناسبة الآية لما قبلها ظاهرة، وهي أنه تعالى لما ذكر إِنَّ اللَّهَ تعالى كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً تلاه بالإعلام بوحدانيته سبحانه والحشر والبعث من القبور للحساب بين يديه، وقال الطبرسي: وجه النظم أنه سبحانه لما أمر ونهى فيما قبل بين بعد أنه لا يستحق العبادة سواه ليعملوا على حسب ما أوجبه عليهم، وأشار إلى أن لهذا العمل جزاء ببيان وقته، وهو يوم القيامة ليجدوا فيه ويرغبوا ويرهبوا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً الاستفهام إنكاري، والتفضيل باعتبار الكمية في الأخبار الصادقة لا الكيفية إذ لا يتصور فيها تفاوت لما أن الصدق المطابقة للواقع وهي لا تزيد، فلا يقال لحديث معين: إنه أصدق من آخر إلا بتأويل وتجوز والمعنى لا أحد أكثر صدقا منه تعالى في وعده وسائر أخباره ويفيد نفي المساواة أيضا كما في قولهم: ليس في البلد أعلم من زيد، وإنما كان كذلك لاستحالة نسبة الكذب إليه سبحانه بوجه من الوجوه، ولا يعرف خلاف بين المعترفين بأن الله تعالى متكلم بكلام في تلك الاستحالة، وإن اختلف مأخذهم في الاستدلال. وقد استدل المعتزلة على استحالة الكذب في كلام الرب تعالى بأن الكلام من فعله تعالى، والكذب قبيح لذاته- والله تعالى لا يفعل القبيح- وهو مبني على قولهم: بالحسن والقبح الذاتيين وإيجابهم رعاية الصلاح والأصلح، وأما الأشاعرة فلهم- كما قال الآمدي- في بيان استحالة الكذب في كلامه تعالى القديم النفساني مسلكان: عقلي وسمعي، أما المسلك الأول: فهو أن الصدق والكذب في الخبر من الكلام النفساني القديم ليس لذاته ونفسه بل بالنظر إلى ما يتعلق به من المخبر عنه فإن كان قد تعلق به على ما هو عليه كان الخبر صدقا، وإن كان على خلافه كان كذبا، وعند ذلك فلو تعلق من الرب سبحانه كلامه القائم على خلاف ما هو عليه لم يحل إما أن يكون ذلك مع العلم به أولا لا جائز أن يكون الثاني، وإلا لزم الجهل الممتنع عليه سبحانه من أوجه عديدة، وإن كان الأول فمن كان عالما بالشيء يستحيل أن لا يقوم به الإخبار عنه على ما هو به وهو معلوم بالضرورة، وعند ذلك فلو قام بنفسه الإخبار عنه على خلاف ما هو عليه حال كونه عالما به مخبرا عنه على ما هو عليه لقام بالنفس الخبر الصادق والكاذب بالنظر إلى شيء واحد من جهة واحدة، وبطلانه معلوم بالضرورة. واعترض بأنا نعلم ضرورة من أنفسنا إنا حال ما نكون عالمين بالشيء يمكننا أن نخبر بالخبر الكاذب، ونعلم كوننا كاذبين، ولولا إنا عالمون بالشيء المخبر عنه لما تصور علمنا بكوننا كاذبين، وأجيب بأن الخبر الذي نعلم من أنفسنا كوننا كاذبين فيه إنما هو الخبر اللساني، وأما النفساني فلا نسلم صحة علمنا بكذبه حال الحكم به، وأما المسلك الثاني: فهو أنه قد ثبت صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم بدلالة المعجزة القاطعة فيما هو رسول فيه على ما بين في محله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 وقد نقل عنه بالخبر المتواتر أن كلام الله تعالى صدق، وأن الكذب عليه سبحانه محال، ونظر فيه الآمدي بأن لقائل أن يقول: صحة السمع متوقفة على صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم وصدقه متوقف على استحالة الكذب على الله تعالى من حيث أن ظهور المعجزة على وفق تحديه بالرسالة نازل منزلة التصديق من الله سبحانه له في دعواه، فلو جاز الكذب عليه جل شأنه لأمكن أن يكون كاذبا في تصديقه له ولا يكون الرسول صادقا، وإذا توقف كل منهما على صاحبه كان دورا لا يقال إثبات الرسالة لا يتوقف على استحالة الكذب على الله تعالى ليكون دورا فإنه لا يتوقف إثبات الرسالة على الإخبار بكونه رسولا حتى يدخله الصدق والكذب، بل على إظهار المعجزة على وفق تحديه، وهو منزل منزلة الإنشاء، وإثبات الرسالة وجعله رسولا في الحال كقول القائل: وكلتك في أشغالي، واستنبتك في أموري، وذلك لا يستدعي تصديقا ولا تكذيبا إذ يقال حينئذ: فلو ظهرت المعجزة على يد شخص لم يسبق منه التحدي بناء على جوازه على أصول الجماعة لم تكن المعجزة دالة على ثبوت رسالته إجماعا ولو كان ظهور المعجزة على يده منزل منزلة الإنشاء لرسالته لوجب أن يكون رسولا متبعا بعد ظهورها. وليس كذلك، وكون الإنشاء مشروطا بالتحدي بعيد بالنظر إلى حكم الإنشاءات، وبتقدير أن يكون كذلك غايته ثبوت الرسالة بطريق الإنشاء، ولا يلزم منه أن يكون الرسول صادقا في كل ما يخبر به دون دليل عقلي يدل على صدقه فيما يخبر به، أو تصديق الله تعالى له في ذلك، ولا دليل عقلي يدل على ذلك، وتصديق الله تعالى له لو توقف على صدق خبره عاد ما سبق، فينبغي أن يكون هذا المسلك السمعي في بيان استحالة الكلام اللساني وهو صحيح فيه، والسؤال الوارد ثم منقطع هنا فإن صدق الكلام اللساني وإن توقف على صدق الرسول لكن صدق الرسول غير متوقف على صدق الكلام اللساني بل على الكلام اللساني نفسه فامتنع الدور الممتنع، وفي المواقف: الاستدلال على امتناع الكذب عليه تعالى عند أهل السنة بثلاثة أوجه: الأول أنه نقص والنقص ممنوع إجماعا، وأيضا فيلزم أن يكون نحن أكمل منه سبحانه في بعض الأوقات أعني وقت صدقنا في كلامنا، والثاني أنه لو اتصف بالكذب سبحانه لكان كذبه قديما إذ لا يقوم الحادث بذاته تعالى فيلزم أن يمتنع عليه الصدق، فإن ما ثبت قدمه استحال عدمه واللازم باطل، فإنا نعلم بالضرورة أن من علم شيئا أمكن له أن يخبر عنه على ما هو عليه، وهذان الوجهان إنما يدلان على أن الكلام النفسي الذي هو صفة قائمة بذاته تعالى يكون صادقا، ثم أتى بالوجه الثالث دليلا على استحالة الكذب في الكلام اللفظي والنفسي على طرز ما في المسلك الثاني وقد علمت ما للآمدي فيه فتدبر جميع ذلك ليظهر لك الحق. فَما لَكُمْ مبتدأ وخبر، والاستفهام للإنكار، والنفي والخطاب لجميع المؤمنين، وما فيه من معنى التوبيخ لبعضهم، وقوله سبحانه: فِي الْمُنافِقِينَ يحتمل- كما قال السمين- أن يكون متعلقا بما يدل عليه قوله تعالى: فِئَتَيْنِ أي فما لكم تفترقون في المنافقين، وأن يكون حالا من فِئَتَيْنِ مفترقين في المنافقين، فلما قدم نصب على الحال، وأن يكون متعلقا بما تعلق به الخبر أي أي شيء كائن لكم في أمرهم وشأنهم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وفي انتصاب فِئَتَيْنِ وجهان- كما في الدر المصون.. أحدهما أنه حال من ضمير لَكُمْ المجرور، والعامل فيه الاستقرار، أو الظرف لنيابته عنه، وهذه الحال لازمة لا يتم الكلام بدونها، وهذا مذهب البصريين في هذا التركيب وما شابهه، وثانيهما- وهو مذهب الكوفيين- أنه خبر كان مقدرة أي ما لكم في شأنهم كنتم فئتين، ورد بالتزام تنكيره في كلامهم نحو فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ [المدثر: 49] وأما ما قيل على الأول: من أن كون ذي الحال بعضا من عامله غريب لا يكاد يصح عند الأكثرين فلا يكون معمولا له، ولا يجوز اختلاف العامل في الحال وصاحبها، فمن فلسفة النحو كما قال الشهاب، والمراد إنكار أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 يكون للمخاطبين شيء مصحح لاختلافهم في أمر المنافقين، وبيان وجوب قطع القوم بكفرهم وإجرائهم مجرى المجاهرين في جميع الأحكام وذكرهم بعنوان النفاق باعتبار وصفهم السابق. أخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال: هم قوم خرجوا من مكة حتى جاؤوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون ثم ارتدوا بعد ذلك فاستأذنوا النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتجرون فيها، فاختلف فيه المسلمون فقائل يقول: هم منافقون وقائل يقول: هم مؤمنون، فبين الله تعالى نفاقهم وأنزل هذه الآية وأمر بقتلهم. وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: «هم ناس تخلفوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأقاموا بمكة وأعلنوا الإيمان ولم يهاجروا فاختلف فيهم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتولاهم ناس وتبرأ من ولايتهم آخرون وقالوا: تخلفوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يهاجروا فسماهم الله تعالى منافقين وبرأ المؤمنين من ولايتهم وأمرهم أن لا يتولوهم حتى يهاجروا» ، وأخرج الشيخان والترمذي والنسائي وأحمد، وغيرهم عن زيد بن ثابت «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج إلى أحد فرجع ناس خرجوا معه فكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه ومسلم فيهم فِئَتَيْنِ فرقة تقول: نقتلهم، وفرقة تقول: لا فأنزل الله تعالى فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ الآية كلها» ويشكل على هذا ما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى من جعل هجرتهم غاية للنهي عن توليتهم إلا أن يصرف عن الظاهر كما ستعمله، وقيل: هم العرنيون الذين أغاروا على السرح وأخذوا يسارا راعى رسول الله ومثلوا به فقطعوا يديه ورجليه وغرزوا الشوك في لسانه وعينيه حتى مات، ويرده كما قال شيخ الإسلام ما سيأتي إن شاء الله تعالى من الآيات الناطقة بكيفية المعاملة معهم من السلم والحرب وهؤلاء قد أخذوا وفعل بهم ما فعل من المثلة والقتل ولم ينقل في أمرهم اختلاف المسلمين، وقيل غير ذلك. وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا حال من المنافقين مفيد لتأكيد الإنكار السابق، وقيل: من ضمير المخاطبين والرابط الواو، وقيل: مستأنفة والباء للسببية، وما إما مصدرية، وإما موصولة، وأركس وركس بمعنى واختلف في معنى الركس لغة، فقيل: الرد- كما قيل- في قول أمية بن أبي الصلت: فأركسوا في جحيم النار إنهم ... كانوا عصاة وقالوا الإفك والزورا وهذه رواية الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والمعنى حينئذ والله تعالى ردهم إلى الكفر بعد الإيمان بسبب ما كسبوه من الارتداد واللحوق بالمشركين. أو نحو ذلك، أو بسبب كسبهم، وقيل: هو قريب من النكس، وحاصله أنه تعالى رماهم منكسين فهو أبلغ من التنكيس لأن من يرمي منكسا في هوة قلما يخلص منها، والمعنى أنه سبحانه بكسبهم الكفر، أو بما كسبوه منه قلب حالهم ورماهم في حفر النيران. وأخرج ابن جرير عن السدي أنه فسر أَرْكَسَهُمْ بأضلهم وقد جاء الإركاس بمعنى الإضلال، ومنه: وأركستني عن طريق الهدى ... وصيرتني مثلا للعدا وأخرج الطستي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: المعنى حبسهم في جهنم، والبخاري عنه أن المعنى بددهم أي فرقهم وفرق شملهم، وابن المنذر، عن قتادة أهلكهم، ولعلها معان ترجع إلى أصل واحد، وروي عن عبد الله وأبيّ أنهما قرآ- ركسوا- بغير ألف، وقد قرأ- ركّسهم- مشددا. أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ توبيخ للفئة القائلة بإيمان أولئك المنافقين على زعمهم ذلك، وإشعار بأن يؤدي إلى محاولة المحال الذي هو هداية من أضله الله تعالى، وذلك لأن الحكم بإيمانهم وادعاء اهتدائهم مع أنهم بمعزل من ذلك سعي في هدايتهم وإرادة لها، فالمراد بالموصول المنافقون إلا أن وضع موضع ضميرهم لتشديد الإنكار، وتأكيد استحالة الهداية بما ذكر في حيز الصلة، وحمله على العموم، والمذكورون داخلون فيه دخولا أوليا- الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 كما زعمه أبو حيان- ليس بشيء، وتوجيه الإنكار إلى الإرادة دون متعلقها للمبالغة في إنكاره ببيان أن إرادته مما لا يمكن فضلا عن إمكان نفسه، والآية ظاهرة في مذهب الجماعة، وحمل الهداية والإضلال على الحكم بها خلاف الظاهر، ويبعده قوله تعالى: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا فإن المتبادر منه الخلق أي من يخلق فيه الضلال كائنا من كان، ويدخل هنا من تقدم دخولا أوليا فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا من السبل فضلا عن أن تهديه إليه، والخطاب في تَجِدَ لغير معين، أو لكل أحد من المخاطبين للإشعار بعدم الوجدان للكل على سبيل التفصيل، ونفي وجدان السبيل أبلغ من نفي الهادي، وحمل إضلاله تعالى على حكمه وقضائه بالضلال مخل بحسن المقابلة بين الشرط والجزاء، وجعل السبيل بمعنى الحجة، وأن المعنى من يجعله الله تعالى في حكمه ضالا فلن تجد له في ضلالته حجة- كما قال جعفر بن حرب- ليس بشيء كما لا يخفى، والجملة إما اعتراض تذييلي مقرر للإنكار السابق مؤكد لاستحالة الهداية، أو حال من فاعل تُرِيدُونَ أو تَهْدُوا، والرابط الواو. وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ بيان لغلوهم وتماديهم في الكفر وتصديهم لإضلال غيرهم إثر بيان كفرهم وضلالتهم في أنفسهم، ولَوْ مصدرية لا جواب لها أي تمنوا أن تكفروا وقوله كَما كَفَرُوا نعت لمصدر محذوف، وما مصدرية أي كفرا مثل كفرهم، أو حال من ضمير ذلك المصدر كما هو رأي سيبويه، ولا دلالة في نسبة الكفر إليهم على أنه مخلوق لهم استقلالا لا دخل لله تعالى فيه لتكون هذه الآية دليلا على صرف ما تقدم عن ظاهره كما زعمه ابن حرب لأن أفعال العباد لها نسبة إلى الله تعالى باعتبار الخلق، ونسبة إلى العباد باعتبار الكسب بالمعنى الذي حققناه فيما تقدم، وقوله تعالى: فَتَكُونُونَ سَواءً عطف على لَوْ تَكْفُرُونَ داخل معه في حكم التمني أي وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ فتكونون مستوين في الكفر والضلال، وجوز أن تكون كلمة لَوْ على بابها، وجوابها محذوف كمفعول «ود» أي ودوا كفركم لو تكفرون كما كفروا فَتَكُونُونَ سَواءً لسروا بذلك فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ الفاء فصيحة، وجمع أَوْلِياءَ مراعاة لجمع المخاطبين فإن المراد نهي كل من المخاطبين عن اتخاذ كل من المنافقين وليا أي إذا كان حالهم ما ذكر من الودادة فلا توالوهم. حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي حتى يؤمنوا وتحققوا إيمانهم بهجرة هي لله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم لا لغرض من أغراض الدنيا، وأصل السبيل الطريق، واستعمل كثيرا في الطريق الموصلة إليه تعالى وهي امتثال الأوامر واجتناب النواهي، والآية ظاهرة في وجوب الهجرة. وقد نص في التيسير على أنها كانت فرضا في صدر الإسلام، وللهجرة ثلاث استعمالات: أحدهما الخروج من دار الكفر إلى دار الإسلام، وهو الاستعمال المشهور، وثانيها ترك المنهيات، وثالثها الخروج للقتال وعليه حمل الهجرة. من قال: إن الآية نزلت فيمن رجع يوم أحد على ما حكاه خبر الشيخين وجزم به في الخازن فَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن الهجرة في سبيل الله تعالى- كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- فَخُذُوهُمْ إذا قدرتم عليهم وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ من الحل والحرم فإن حكمهم حكم سائر المشركين أسرا وقتلا، وقيل: المراد القتل لا غير إلا أن الأمر بالأخذ لتقدمه على القتل عادة. وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً أي جانبوهم مجانبة كلية ولا تقبلوا منهم ولاية ولا نصرة أبدا كما يشعر بذلك المضارع الدال على الاستمرار أو التكرير المفيد للتأكيد إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ استثناء من الضمير في قوله سبحانه فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ أي إلا الذين يصلون وينتهون إلى قوم عاهدوكم ولم يحاربوكم وهم بنو مدلج. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 أخرج ابن أبي شيبة وغيره عن الحسن أن سراقة بن مالك المدلجي حدثهم قال: لما ظهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أهل بدر وأحد وأسلم من حولهم قال سراقة: بلغني أنه عليه الصلاة والسلام يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي من بني مدلج فأتيته فقلت: أنشدك النعمة، فقالوا: مه فقال: دعوه ما تريد؟ قلت: بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي، وأنا أريد أن توادعهم، فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام، وإن لم يسلموا لم تخش بقلوب قومك عليهم، فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيد خالد فقال: اذهب معه فافعل ما يريد فصالحهم خالد على أن لا يعينوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإن أسلمت قريش أسلموا معهم ومن وصل إليهم من الناس كانوا على مثل عهدهم فأنزل الله تعالى وَدُّوا حتى بلغ إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ فكان من وصل إليهم كانوا معهم على عهدهم، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الآية نزلت في هلال بن عويمر الأسلمي وسراقة بن مالك المدلجي، وفي بني جذيمة بن عامر ولا يجوز أن يكون استثناء من الضمير في لا تَتَّخِذُوا وإن كان أقرب لأن اتخاذ الولي منهم حرام مطلقا. أَوْ جاؤُكُمْ عطف على الصلة أي والذين جاؤُكُمْ كافين من قتالكم وقتال قومهم، فقد استثني من المأمور بأخذهم وقتلهم فريقان: من ترك المحاربين ولحق بالمعاهدين ومن أتى المؤمنين وكف عن قتال الفريقين، أو عطف على صفة قوم كأنه قيل: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ معاهدين، أو إلى قوم كافين عن القتال لكم وعليكم، والأول أرجح رواية ودراية إذ عليه يكون لمنع القتال سببان: الاتصال بالمعاهدين، والاتصال بالكافين وعلى الثاني يكون السببان الاتصال بالمعاهدين والاتصال بالكافين لكن قوله تعالى الآتي: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ إلخ يقرر أن أحد السببين هو الكف عن القتال لأن الجزاء مسبب عن الشرط فيكون مقتضيا للعطف على الصلة إذ لو عطف على الصفة كان أحد السببين الاتصال بالكافين لا الكف عن القتال، فإن قيل: لو عطف على الصفة تحققت المناسبة أيضا لأن سبب منع التعرض حينئذ الاتصال بالمعاهدين والاتصال بالكافين، والاتصال بهؤلاء وهؤلاء سبب للدخول في حكمهم، وقوله سبحانه: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ يبين حكم الكافين لسبق حكم المتصلين بهم، أجيب: بأن ذلك جائز إلا أن الأول أظهر وأجري على أسلوب كلام العرب لأنهم إذا استثنوا بينوا حكم المستثنى تقريرا وتوكيدا، وقال الإمام: جعل الكف عن القتال سببا لترك التعرض أولى من جعل الاتصال بمن يكف عن القتال سببا لترك التعرض لأنه سبب بعيد على أن المتصلين بالمعاهدين ليسوا معاهدين لكن لهم حكمهم بخلاف المتصلين بالكافين فإنهم إن كفوا فهم هم وإلا فلا أثر له، وقرأ أبي جاؤُكُمْ بغير أو على أنه استئناف وقع جوابا لسؤال كأنه قيل: كيف كان الميثاق بينكم وبينهم؟ فقيل: جاؤُكُمْ إلخ، وقيل: يقدر السؤال كيف وصلوا إلى المعاهدين، ومن أين علم ذلك، وليس بشيء، أو على أنه صفة بعد صفة لقوم، أو بيان ليصلون، أو بدل منه، وضعف أبو حيان البيان بأنه لا يكون في الأفعال، والبدل بأنه ليس إياه ولا بعضه ولا مشتملا عليه، وأجيب بأن الانتهاء إلى المعاهدين والاتصال بهم حاصله الكف عن القتال فصح جعل مجيئهم إلى المسلمين بهذه الصفة، وعلى هذه العزيمة بيانا لاتصالهم بالمعاهدين، أو بدلا منه كلّا أو بعضا أو اشتمالا وكون ذلك لا يجري في الأفعال لا يقول به أهل المعاني، وقيل: هو معطوف على حذف العاطف، وقوله تعالى: حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ حال بإضمار قد ويؤيده قراءة الحسن- حصرة صدورهم- وكذا قراءة- حصرات، وحاصرات- واحتمال الوصفية السببية لقوم لاستواء النصب والجر بعيد. وقيل: هو صفة لموصوف محذوف هو حال من فاعل «جاؤوا» أي جاؤوكم قوما حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ولا حاجة حينئذ إلى تقدير قد، وما قيل: إن المقصود بالحالية هو الوصف لأنها حال موطئة فلا بد من قد سيما عند الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 حذف الموصوف فما ذكر التزام لزيادة الإضمار من غير ضرورة غير مسلم. وقيل: بيان لجاؤوكم وذلك كما قال الطيبي لأن مجيئهم غير مقاتلين وحَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أن يقاتلوكم بمعنى واحد، وقال العلامة الثاني: من جهة أن المراد بالمجيء الاتصال وترك المعاندة والمقاتلة لا حقيقة المجيء، أو من جهة أنه بيان لكيفية المجيء، وقيل: بدل اشتمال من جاؤُكُمْ لأن المجيء مشتمل على الحصر وغيره، وقيل: إنها جملة دعائية، ورد بأنه لا معنى للدعاء على الكفار بأن لا يقاتلوا قومهم، بل بأن يقع بينهم اختلاف وقتل، والحصر بفتحتين الضيق والانقباض أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ أي عن أن يقاتلوكم، أو لأن، أو كراهة أن وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ بأن قوى قلوبهم وبسط صدورهم وأزال الرعب عنهم فَلَقاتَلُوكُمْ عقيب ذلك ولم يكفوا عنكم، واللام جوابية لعطفه على الجواب، ولا حاجة لتقدير لو، وسماها مكي وأبو البقاء لام المجازاة والازدواج، وهي تسمية غريبة، وفي الاعادة إشارة إلى أنه جواب مستقل والمقصود من ذلك الامتنان على المؤمنين وقرىء فلقتلوكم بالتخفيف والتشديد فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ ولم يتعرضوا لكم فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ مع ما علمتم من تمكنهم من ذلك بمشيئة الله تعالى وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ أي الصلح فانقادوا واستسلموا، وكان إلقاء السلم استعارة لأن من سلم شيئا ألقاه وطرحه عند المسلم له، وقرىء بسكون اللام مع فتح السين وكسرها فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا فما أذن لكم في أخذهم وقتلهم، وفي- نفي جعل السبيل- مبالغة في عدم التعرض لهم لأن من لا يمر بشيء كيف يتعرض له. وهذه الآيات منسوخة الحكم بآية براءة فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] وقد روي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ هم أناس كانوا يأتون النبي صلّى الله عليه وسلّم فيسلمون رياء ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان يبتغون بذلك أن يأمنوا نبي الله صلّى الله عليه وسلّم ويأمنوا قومهم فأبى الله تعالى ذلك عليهم- قاله ابن عباس ومجاهد- وقيل: الآية في حق المنافقين كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أي دعوا إلى الشرك- كما روى عن السدي- وقيل: إلى قتال المسلمين أُرْكِسُوا فِيها أي قلبوا فيها أقبح قلب وأشنعه، يروى عن ابن عباس أنه كان الرجل يقول له قومه: بماذا آمنت؟ فيقول: آمنت بهذا القرد والعقرب والخنفساء فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ بالكف عن التعرض لكم بوجه ما وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ أي ولم يلقوا إليكم الصلح والمهادنة وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ أي ولم يكفوا أنفسهم عن قتالكم. فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أي وجدتموهم وأصبتموهم أو حيث تمكنتم منهم، وعن بعض المحققين أن هذه الآية مقابلة للآية الأولى، وبينهما تقابل إما بالإيجاب والسلب، وإما بالعدم والملكة لأن إحداهما عدمية والأخرى وجودية وليس بينهما تقابل التضاد ولا تقابل التضايف لأنهما على ما قرروا لا يوجدان إلا بين أمرين وجوديين فقوله سبحانه: فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ مقابل لقوله تعالى: فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ وقوله جل وعلا: وَيُلْقُوا مقابل لقوله عز شأنه: وَأَلْقَوْا وقوله جل جلاله: وَيَكُفُّوا مقابل لقوله عز من قائل: فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ والواو لا تقتضي الترتيب، فالمقدم مركب من ثلاثة أجزاء في الآيتين، وهي في الآية الأولى الاعتزال وعدم القتال وإلقاء السلم فبهذه الأجزاء الثلاثة تم الشرط، وجزاؤه عدم التعرض لهم بالأخذ والقتل كما يشير إليه قوله تعالى: فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا وفي الآية الثانية عدم الاعتزال وعدم إلقاء السلم وعدم الكف عن القتال، فبهذه الأجزاء الثلاثة تم الشرط، وجزاؤه الأخذ والقتل المصرح به بقوله سبحانه: فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ. ومن هذا يعلم أن وَيَكُفُّوا بمعنى لم يكفوا عطف على المنفي لا على النفي بقرينة سقوط النون الذي هو علامة الجزم، وعطفه على النفي والجزم بأن الشرطية لا يصح لأنه يستلزم التناقض لأن معنى فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ إن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 لم يكفوا، وإذا عطف وَيَكُفُّوا على النفي يلزم اجتماع عدم الكف والكف، وكلام الله تعالى منزه عنه، وكذا لا يصح كون قوله سبحانه: وَيَكُفُّوا جملة حالية، أو استئنافية بيانية، أو نحوية لاستلزام كل منهما التناقض مع أنه يقتضي ثبوت النون في يَكُفُّوا على ما هو المعهود في مثله، وأبو حيان جعل الجزاء في الأول مرتبا على شيئين، وفي الثانية على ثلاثة، والسر في ذلك الإشارة إلى مزيد خباثة هؤلاء الآخرين، وكلام العلامة البيضاوي- بيض الله تعالى غرة أحواله- في هذا المقام لا يخلو عن تعقيد، وربما لا يوجد له محمل صحيح إلا بعد عناية وتكلف فتأمل جدا وَأُولئِكُمْ الموصوفون بما ذكر من الصفات الشنيعة. جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً أي حجة واضحة فيما أمرناكم به في حقهم لظهور عداوتهم ووضوح كفرهم وخبائثهم، أو تسلطا لا خفاء فيه حيث أذنا لكم في أخذهم وقتلهم وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ شروع في بيان حال المؤمنين بعد بيان حال الكافرين والمنافقين، وقيل: لما رغب سبحانه في قتال الكفار ذكر إثره ما يتعلق بالمحاربة في الجملة أي ما صح له وليس من شأنه أَنْ يَقْتُلَ بغير حق مُؤْمِناً فإن الإيمان زاجر عن ذلك إِلَّا خَطَأً فإنه مما لا يكاد يحترز عنه بالكلية. وقلما يخلو المقاتل عنه، وانتصابه إما على أنه حال أي ما كان له أن يقتل مؤمنا في حال من الأحوال إلا في حال الخطأ، أو على أنه مفعول به أي ما كان له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ، أو على أنه صفة للمصدر أي إلا قتلا خطأ فالاستثناء في جميع ذلك مفرغ وهو استثناء متصل على ما يفهمه كلام بعض المحققين، ولا يلزم جواز القتل خطأ شرعا حيث كان المعنى أن من شأن المؤمن أن لا يقتل إلا خطأ. وقال بعضهم: الاستثناء في الآية منقطع أي لكن إن قتله خطأ فجزاؤه ما يذكر، وقيل: إلا بمعنى ولا، والتقدير وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا عمدا ولا خطأ، وقيل: الاستثناء من مؤمن أي إلا خاطئا، والمختار مع الفصل الكثير في مثل ذلك النصب، والخطأ ما لا يقارنه القصد إلى الفعل، أو الشخص، أو لا يقصد به زهوق الروح غالبا، أو لا يقصد به محظور كرمي مسلم في صف الكفار مع الجهل بإسلامه، وقرىء- خطاء- بالمد- وخطا- بوزن عمى بتخفيف الهمزة، أخرج ابن جرير وابن المنذر عن السدي أن عياش بن أبي ربيعة المخزومي- وكان أخا أبي جهل والحارث بن هشام لأمهما- أسلم وهاجر إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وكان أحب ولد أمه إليها فشق ذلك عليها فحلفت أن لا يظلها سقف بيت حتى تراه، فأقبل أبو جهل والحارث حتى قدما المدينة فأخبرا عياشا بما لقيت أمه، وسألاه أن يرجع معهما فتنظر إليه ولا يمنعاه أن يرجع وأعطياه موثقا أن يخليا سبيله بعد أن تراه أمه فانطلق معهما حتى إذا خرجا من المدينة عمدا إليه فشداه وثاقا وجلداه نحوا من مائة جلدة، وأعانهما على ذلك رجل من بني كنانة فحلف عياش ليقتلن الكناني إن قدر عليه فقدما به مكة فلم يزل محبوسا حتى فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة فخرج عياش فلقي الكناني وقد أسلم، وعياش لا يعلم بإسلامه فضربه حتى قتله فأخبر بعد ذلك فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره الخبر فنزلت، وروي مثل ذلك عن مجاهد وعكرمة. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد «أنها نزلت في رجل قتله أبو الدرداء كان في سرية فعدل أبو الدرداء إلى شعب يريد حاجة له فوجد رجلا من القوم في غنم له فحمل عليه بالسيف، فقال: لا إله إلا الله فبدر فضربه، ثم جاء بغنمه إلى القوم ثم وجد في نفسه شيئا فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فذكر ذلك له فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ألا شققت عن قلبه وقد أخبرك بلسانه فلم تصدقه؟! فقال: كيف بي يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: فكيف بلا إله إلا الله؟! وتكرر ذلك- قال أبو الدرداء- فتمنيت أن ذلك اليوم مبتدأ إسلامي ثم نزل القرآن» وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أي فعليه- أي فواجبه تحرير رقبة- والتحرير الإعتاق وأصل معناه جعله حرا أي كريما لأنه يقال لكل مكرم حر، ومنه حر الوجه- الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 للخد- وأحرار الطير، وكذا تحرير الكتاب من هذا أيضا، والمراد بالرقبة النسمة تعبيرا عن الكل بالجزء، قال الراغب: إنها في المتعارف للمماليك كما يعبر بالرأس والظهر عن المركوب، فيقال: فلان يربط كذا رأسا وكذا ظهرا مُؤْمِنَةٍ محكوم بإيمانها وإن كانت صغيرة، وإلى ذلك ذهب عطاء، وعن ابن عباس والشعبي وإبراهيم والحسن لا يجزىء في كفارة القتل الطفل ولا الكافر، وأخرج عبد الرزاق عن قتادة قال في حرف أبي: فتحرير رقبة مؤمنة لا يجزىء فيها صبي، وفي الآية رد على من زعم جواز عتق كتابي صغير أو مجوسي كبير أو صغير، واستدل بها على عدم إجزاء نصف رقبة ونصف أخرى وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ أي مؤداة إلى ورثة القتيل يقتسمونها بينهم على حسب الميراث، فقد أخرج أصحاب السنن الأربعة عن الضحاك بن سفيان الكلابي قال: كتب إليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمرني أن أورث امرأة أشيم الضبابي من عقل زوجها ويقضى منها الدين وتنفذ الوصية ولا فرق بينها وبين سائر التركة، وعن شريك لا يقضى من الدية دين ولا تنفذ وصية. وعن ربيعة الغرة لأم الجنين وحدها وذلك خلاف قول الجماعة، وتجب الرقبة في مال القاتل، والدية تتحملها عنه العاقلة، فإن لم تكن فهي في بيت المال، فإن لم يكن ففي ماله إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا أي يتصدق أهله عليه، وسمي العفو عنها صدقة حثا عليه، وقد أخرج الشيخان عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «كل معروف صدقة» وهو متعلق بعليه المقدر قبل، أو- بمسلمة- أي فعليه الدية أو يسلمها في جميع الأحيان إلا حين أن يتصدق أهله بها فحينئذ تسقط ولا يلزم تسليمها، وليس فيه- كما قيل- دلالة على سقوط التحرير حتى يلزم تقدير عليه آخر قبل قوله: وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ فالمنسبك في محل نصب على الاستثناء، وقال الزمخشري: إن المنسبك في محل النصب على الحال من القاتل أو الأهل أو لظرف، وتعقبه أبو حيان بأن كلا التخريجين خطأ لأن أَنْ والفعل لا يجوز وقوعهما حالا، ولا منصوبا على الظرفية- كما نص عليه النحاة- وذكر أن بعضهم استشهد على وقوع أَنْ وصلتها موقع ظرف الزمان بقوله: فقلت لها لا تنكحيه فإنه ... لأول سهم أن يلاقي مجمعا أي لأول سهم زمان ملاقاته، وابن مالك- كما قال السفاقسي- يقدر في الآية والبيت حرف الجر أي بأن يصدقوا، وبأن يلاقي، وقرأ أبي- إلا أن يتصدقوا- فَإِنْ كانَ أي المقتول خطأ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ أي كفار يناصبونكم الحرب وَهُوَ مُؤْمِنٌ ولم يعلم به القاتل لكونه بين أظهر قومه بأن أتاهم بعد أن أسلم أعلمهم، أو بأن أسلم فيما بينهم ولم يفارقهم، والآية نزلت- كما قال ابن جبير- في مرداس بن عمرو لما قتله خطأ أسامة بن زيد فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ أي فعلى قاتله الكفارة دون الدية إذ لا وراثة بينه وبين أهله فَإِنْ كانَ أي المقتول المؤمن- كما روي عن جابر بن زيد- مِنْ قَوْمٍ كفار بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أي عداء مؤقت أو مؤبد فَدِيَةٌ أي فعلى قاتله دية مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ من أهل الإسلام إن وجدوا، ولا تدفع إلى ذوي قرابته من الكفار، وإن كانوا معاهدين إذ لا يرث الكافر المسلم، ولعل تقديم هذا الحكم- كما قيل- مع تأخير نظيره فيما سلف للإشعار بالمسارعة إلى تسليم الدية تحاشيا عن توهم نقض الميثاق وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ كما هو حكم سائر المسلمين، ولعل إفراده بالذكر- كما قيل- أيضا مع اندراجه في حكم ما سبق في قوله سبحانه: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً إلخ لبيان أن كونه فيما بين المعاهدين لا يمنع وجوب الدية كما منعه كونه بين المحاربين. وقيل: المراد بالمقتول هنا أحد أولئك القوم المعاهدين فيلزم قاتله تحرير الرقبة، وأداء الدية إلى أهله المشركين للعهد الذي بيننا وبينهم، وروي ذلك عن ابن عباس والشعبي وأبي مالك، واستدل بها على أن دية المسلم والذمي سواء لأنه تعالى ذكر في كل الكفارة والدية فيجب أن تكون ديتهما سواء كما أن الكفارة عنهما سواء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب قال: بلغنا أن دية المعاهد كانت كدية المسلم ثم نقصت بعد في آخر الزمان فجعلت مثل نصف دية المسلم وأخرج أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن دية أهل الكتاب كانت على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم النصف من دية المسلمين وبذلك أخذ مالك. وعن الشافعي رضي الله تعالى عنه دية اليهودي والنصراني نصف دية المسلم ودية المجوسي ثلثا عشرها، وزعم بعضهم وجوب الدية أيضا فيما إذا كان المقتول من قوم عدو لنا وهو مؤمن لعموم الآية الأولى، وأن السكوت عن الدية في آيته لا ينفيها، وإنما سكت عنها لأنه لا يجب فيه دية تسلم إلى أهله لأنهم كفار بل تكون لبيت المال، فأراد أن يبين بالسكوت أن أهله لا يستحقون شيئا، وقال آخرون إن الدية تجب في المؤمن إذا كان من قوم معاهدين، وتدفع إلى أهله الكفار وهم أحق بديته لعهدهم، ولعل هؤلاء لا يعدون ذلك إرثا إذ لا يرث الكافر- ولو معاهدا- المسلم كما برهن عليه فَمَنْ لَمْ يَجِدْ رقبة يحررها بأن لم يملكها ولا ما يتوصل به إليها من الثمن فَصِيامُ أي فعليه صيام شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ قال مجاهد: لا يفطر فيهما ولا يقطع صيامهما، فإن فعل من غير مرض ولا عذر استقبل صيامهما جميعا، فإن عرض له مرض أو عذر صام ما بقي منهما، فإن مات ولم يصم أطعم عنه ستين مسكينا لكل مسكين مدّ، رواه ابن أبي حاتم. وأخرج عنه أيضا أنه قال: فمن لم يجد دية، أو عتاقة فعليه الصوم، وبه أخذ من قال: إن الصوم لفاقد الدية والرقبة يجزيه عنهما، والاقتصار على تقدير الرقبة مفعولا- هو المروي عن الجمهور- وأخرج ابن جرير عن الضحاك أنه قال: الصيام لمن لم يجد رقبة، وأما الدية فواجبة لا يبطلها شيء، ثم قال- وهو الصواب- لأن الدية في الخطأ على العاقلة والكفارة على القاتل، فلا يجزىء صوم صائم عما لزم غيره في ماله، واستدل بالآية من قال: إنه لا إطعام في هذه الكفارة، ومن قال: ينتقل إليه عند العجز عن الصوم قاسه على الظهار وهو أحد قولين للشافعي رحمه الله تعالى، وبذكر الكفارة في الخطأ دون العمد، من قال إن لا كفارة في العمد، والشافعي يقول: هو أولى بها من الخطأ تَوْبَةً نصب على أنه مفعول له أي شرع لكم ذلك توبة أي قبولا لها من تاب الله تعالى عليه إذ قبل توبته، وفيه إشارة إلى التقصير بترك الاحتياط. وقيل: التوبة هنا بمعنى التخفيف أي شرع لكم هذا تخفيفا عليكم، وقيل: إنه منصوب على الحالية من الضمير المجرور في- عليه- بحذف المضاف أي فعليه صيام شهرين حال كونه ذا توبة، وقيل: على المصدرية أي تاب عليكم توبة، وقوله سبحانه مِنَ اللَّهِ متعلق بمحذوف وقع صفة للنكرة أي توبة كائنة من الله تعالى. وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بجميع الأشياء التي من جملتها حال هذا القاتل حَكِيماً في كل ما شرع وقضى من الأحكام التي من جملتها ما شرع وقضى في شأنه وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً بأن يقصد قتله بما يفرق الأجزاء، أو بما لا يطيقه البتة عالما بإيمانه، وهو نصب على الحال من فاعل «يقتل» . وروي عن الكسائي أنه سكن التاء وكأنه فر من توالي الحركات فَجَزاؤُهُ الذي يستحقه بجنايته جَهَنَّمُ خالِداً فِيها أي ماكثا إلى الأبد، أو مكثا طويلا إلى حيث شاء الله تعالى، وهو حال مقدرة من فاعل فعل مقدر يقتضيه المقام كأنه قيل: فجزاؤه أن يدخل جهنم خالدا. وقال أبو البقاء: هو حال من الضمير المرفوع، أو المنصوب في يجزاها المقدر، وقيل: هو من المنصوب لا غير ويقدر جازاه، وأيد بأنه أنسب بعطف ما بعده عليه لموافقته له صيغة، ومنع جعله حالا من الضمير المجرور في فَجَزاؤُهُ لوجهين: أحدهما أنه حال من المضاف إليه، وثانيهما أنه فصل بين الحال وذيها بخبر المبتدأ، وقول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 سبحانه: وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ عطف على مقدر تدل عليه الشرطية دلالة واضحة كأنه قيل: يطريق الاستئناف تقريرا لمضمونها حكم الله تعالى بأن جزاءه ذلك- وغضب عليه- أي انتقم منه على ما عليه الأشاعرة وَلَعَنَهُ أي أبعده عن رحمته بجعل جزائه ما ذكر، وقيل: هو وما بعده معطوف على الخبر بتقدير أن وحمل الماضي على معنى المستقبل أي فجزاؤه جهنم وأن يغضب الله تعالى عليه إلخ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً لا يقادر قدره. والآية- كما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير- نزلت في مقيس بن ضبابة الكناني (1) أنه أسلم هو وأخوه هشام وكانا بالمدينة فوجد مقيس أخاه هشاما ذات يوم قتيلا في الأنصار في بني النجار فانطلق إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبره بذلك فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا من قريش من بني فهر- ومعه مقيس إلى بني النجار ومنازلهم يومئذ بقباء- أن ادفعوا إلى مقيس قاتل أخيه إن علمتم ذلك وإلا فادفعوا إليه الدية فلما جاءهم الرسول قالوا: السمع والطاعة لله تعالى وللرسول صلّى الله عليه وسلّم والله تعالى ما نعلم له قاتلا ولكن نؤدّي الدية فدفعوا إلى مقيس مائة من الإبل دية أخيه، فلما انصرف مقيس، والفهري راجعين من قباء إلى المدينة، وبينهما ساعة عمد مقيس إلى الفهري رسول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقتله وارتد عن الإسلام، وفي رواية أنه ضرب به الأرض وفضخ رأسه بين حجرين وركب جملا من الدية وساق معه البقية ولحق بمكة، وهو يقول في شعر له: قتلت به فهرا وحملت عقله ... سراة بني النجار أرباب فارع وأدركت ثاري وأضجعت موسدا ... وكنت إلى الأوثان أول راجع فنزلت هذه الآية مشتملة على إبراق وإرعاد وتهديد شديد وإبعاد، وقد تأيدت بغير ما خبر ورد عن سيد البشر صلّى الله عليه وسلّم فقد أخرج أحمد والنسائي عن معاوية سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: كل ذنب عسى الله تعالى أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا، وأخرج ابن المنذر عن أبي الدرداء مثله، وأخرج ابن عدي والبيهقي عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أعان على دم امرئ مسلم بشطر كلمة كتب بين عينيه يوم القيامة آيس من رحمة الله تعالى» ، وأخرجا عن البراء بن عازب «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: لزوال الدنيا وما فيها أهون عند الله تعالى من قتل مؤمن ولو أن أهل سمواته وأهل أرضه اشتركوا في دم مؤمن لأدخلهم الله تعالى النار» ، وفي رواية الأصبهاني عن ابن عمر أنه عليه الصلاة والسلام قال: «لو أن الثقلين اجتمعوا على قتل مؤمن لأكبهم الله تعالى على مناخرهم في النار، وأن الله تعالى حرم الجنة على القاتل والآمر» ، واستدل بذلك ونحوه من القوارع المعتزلة على خلود من قتل مؤمنا متعمدا في النار، وأجاب بعض المحققين بأن ذلك خارج مخرج التغليظ في الزجر لا سيما الآية لاقتضاء النظم له فيها كقوله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ [آل عمران: 97] في آية الحج، وقوله صلّى الله عليه وسلّم للمقداد بن الأسود- كما في الصحيحين حين سأله عن قتل من أسلم من الكفار بعد أن قطع يده في الحرب- «لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وإنك بمنزلته قبل أن يقول الكلمة التي قال» ، وعلى ذلك يحمل ما أخرجه عبد بن حميد عن الحسن قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: نازلت ربي في قاتل المؤمن أن يجعل له توبة فأبى علي» وما أخرجه عن سعيد بن مينا أنه قال: «كنت جالسا بجنب أبي هريرة رضي الله تعالى عنه إذ أتاه رجل فسأله عن قاتل المؤمن هل له من توبة؟ فقال: لا والذي لا إله إلا هو لا يدخل الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط» . وشاع القول بنفي التوبة عن ابن عباس، وأخرجه غير واحد عنه وهو محمول على ما ذكرنا، ويؤيد ذلك ما   (1) وهو الذي قتل متعلقا بأستار الكعبة يوم الفتح اهـ منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 أخرجه ابن حميد والنحاس عن سعيد بن عبيدة أن ابن عباس كان يقول لمن قتل مؤمنا توبة فجاءه رجل فسأله ألمن قتل مؤمنا توبة؟ قال: لا إلا النار فلما قام الرجل قال له جلساؤه: ما كنت هكذا تفتينا كنت تفتينا أن لمن قتل مؤمنا توبة مقبولة فما شأن هذا اليوم؟! قال: إني أظنه رجلا مغضبا يريد أن يقتل مؤمنا فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك، وكان هذا أيضا شأن غيره من الأكابر فقد قال سفيان: كان أهل العلم إذا سئلوا قالوا: لا توبة له فإذا ابتلي رجل قالوا له: تب، وأجاب آخرون بأن المراد من الخلود في الآية المكث الطويل لا الدوام لتظاهر النصوص الناطقة بأن عصاة المؤمنين لا يدوم عذابهم، وأخرج ابن المنذر عن عون بن عبد الله أنه قال: فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ إن هو جازاه، وروي مثله بسند ضعيف عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، قيل: وهذا كما يقول الإنسان لمن يزجره عن أمر: إن فعلته فجزاؤك القتل والضرب، ثم إن لم يجازه لمن يكن ذلك منه كذبا، والأصل في هذا على ما قال الواحدي: أن الله عز وجل يجوز أن يخلف الوعيد وإن امتنع أن يخلف الوعد، وبهذا وردت السنة ففي حديث أنس رضي الله تعالى عنه «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: من وعده الله تعالى على عمله ثوابا فهو منجزه له، ومن أوعده على عمله عقابا فهو بالخيار» ومن أدعية الأئمة الصادقين رضي الله تعالى عنهم: يا من إذا وعد وفا، وإذا توعد عفا، وقد افتخرت العرب بخلف الوعيد، ولم تعده نقصا كما يدل عليه قوله: وإني إذا أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي واعترض بأن الوعيد قسم من أقسام الخبر، وإذا جاز الخلف فيه وهو كذب لإظهار الكرم، فلم لا يجوز في القصص والاخبار لغرض من الأغراض، وفتح ذلك الباب يفضي إلى الطعن في الشرائع كلها. والقائلون بالعفو عن بعض المتوعدين منهم من زعم أن آيات الوعيد إنشاء، ومنهم من قال إنها إخبار إلا أن هناك شرطا محذوفا للترهيب فلا خلف بالعفو فيها، وقال شيخ الإسلام: والتحقيق أنه لا ضرورة إلى تفريع ما نحن فيه على الأصل لأنه إخبار منه تعالى بأن جزاءه ذلك لا بأنه يجزيه كيف لا وقد قال عز وجل: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: 40] ولو كان هذا إخبارا بأنه سبحانه يجزي كل سيئة بمثلها لعارضه قوله جل شأنه وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ وهذا مأخوذ من كلام أبي صالح وبكر بن عبد الله، واعترضه أبو علي الجبائي بأن ما لا يفعل لا يسمى جزاء ألا ترى أن الأجير إذا استحق الأجرة فالدراهم التي عند مستأجرة لا تسمى جزاء ما لم تعط له وتصل إليه؟. وتعقبه الطبرسي بأن هذا لا يصح لأن الجزاء عبارة عن المستحق سواء فعل أم لم يفعل، ولهذا يقال: جزاء المحسن الإحسان وجزاء المسيء الإساءة، وإن لم يتعين المحسن والمسيء حتى يقال: فعل ذلك معهما أو لم يفعل، ويقال لمن قتل غيره: جزاء هذا أن يقتل، وهو كلام صادق وإن لم يفعل القتل وإنما لا يقال للدراهم إنها جزاء الأجير لأن الأجير إنما يستحق الأجرة في الذمة لا في الدراهم المعينة فللمستأجر أن يعطيه منها ومن غيرها. واعترض بأنا سلمنا أنه لا يلزم في الجزاء أن يفعل إلا أن كثيرا من الآيات كقوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء: 123] وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 8] يدل على أنه تعالى يوصل الجزاء إلى المستحقين البتة، وفي الآية ما يشير إليه ولا يخفى ما فيه لأن الآيات التي فيها أنه تعالى يوصل الجزاء إلى مستحقه كلها في حكم آيات الوعيد والعفو فيه جائز، فلا معنى للقول بالبت، ومن هنا قيل: إن الآية لا تصلح دليلا للمعتزلة مع قوله تعالى: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48] . وقد أخرج البيهقي عن قريش بن أنس قال: «كنت عند عمرو بن عبيد في بيته فأنشأ يقول: يؤتى بي يوم القيامة فأقام بين يدي الله تعالى فيقول لي: لم قلت: إن القاتل في النار؟ فأقول أنت قلته ثم تلا هذه الآية وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 إلخ فقلت له وما في البيت أصغر مني: أرأيت إن قال لك فإني قد قلت: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48، 116] فمن أين علمت أني لا أشاء أن أغفر لهذا؟ قال: فما استطاع أن يرد عليّ شيئا» ، ويؤيد هذا ما أخرجه ابن المنذر عن إسماعيل بن ثوبان قال: «جالست الناس قبل الداء الأعظم في المسجد الأكبر فسمعتهم يقولون لما نزلت وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً الآية: قال المهاجرون والأنصار وجبت لمن فعل هذا النار حتى نزلت إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ إلخ، فقال المهاجرون والأنصار يصنع الله تعالى ما شاء» وبآية المغفرة ردّ ابن سيرين على من تمسك بآية الخلود وغضب عليه وأخرجه من عنده وكون آية الخلود بعد تلك الآية نزولا بستة أشهر، أو بأربعة أشهر- كما روى زيد بن ثابت- لا يفيد شيئا، ودعوى النسخ في مثل ذلك مما لا يكاد يصح كما لا يخفى، وأجاب بعض الناس بأن حكم الآية إنما هو للقاتل المستحل وكفره مما لا شك فيه فليس ذلك محلا للنزاع، ويدل عليه أنها نزلت في الكناني حسبما مرت حكايته، وقد روي عن عكرمة وابن جريج، وجماعة أنهم فسروا مُتَعَمِّداً بمستحلا: واعترض بأن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، وبأن تفسير المتعمد بالمستحل مما لا يكاد يقبل إذ ليس هو معناه لغة ولا شرعا فإن التزم المجاز فلا دليل عليه وسبب النزول لا يصلح أن يكون دليلا لما علمت الآن على أنه يفوت التقابل بين هذا القتل المذكور في هذه الآية والقتل المذكور في الآية السابقة وهو الخطأ الصرف، وقيل: إن الاستحلال يفهم من تعليق القتل بالمؤمن لأنه مشتق وتعليق الحكم بالمشتق يفيد علية مبدأ الاشتقاق، فكأنه قيل ومن يقتل مؤمنا لأجل إيمانه ولا شك أن من يقتله لذلك لا يكون إلا مستحلا فلا يكون إلا كافرا فيخرج هذا القاتل عن محل النزاع وإن لم يعتبر سبب النزول، واعترض بأن المؤمن وإن كان مشتقا في الأصل إلا أنه عومل معاملة الجوامد، ألا ترى أن قولك كلمت مؤمنا مثلا لا يفهم منه أنك كلمته لأجل إيمانه؟ ولو أفاد تعليق الحكم بالمؤمن العلية لكان ضرب المؤمن وترك السلام عليه والقيام له كقتله كفرا ولا قائل به، واعتبار الاشتقاق تارة وعدم اعتباره أخرى خارج عن حيز الاعتبار فليفهم، ثم إنه سبحانه ذكر هنا حكم القتل العمد الأخروي، ولم يذكر حكمه الدنيوي اكتفاء بما تقدم في آية البقرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شروع في التحذير عما يوجب الندم من قتل من لا ينبغي قتله. إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي سافرتم للغزو على ما يدل عليه السباق والسياق فَتَبَيَّنُوا أي فاطلبوا بيان الأمر في كل ما تأتون وتذرون ولا تعملوا فيه من غير تدبر وروية، وقرأ حمزة وعلي وخلف- فتثبتوا- أي فاطلبوا ثبات الأمر ولا تعجلوا فيه، والمعنيان متقاربان، وصيغة التفعيل بمعنى الاستقبال، ودخلت الفاء لما في إِذا من معنى الشرط كأنه قيل: إن غزوتم فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ أي حياكم بتحية الإسلام ومقابلها تحية الجاهلية- كأنعم صباحا، وحياك الله تعالى- وقرأ حمزة وخلف وأهل الشام- السلم- بغير ألف، وفي بعض الروايات عن عاصم أنه قرأ- السلم- بكسر السين وفتح اللام، ومعناه في القراءتين الاستسلام والانقياد، وبه فسر بعضهم السَّلامَ أيضا في القراءة المشهورة، واللام على ما قال السمين: للتبليغ، والماضي بمعنى المضارع، وَمَنْ موصولة، أو موصوفة، والمراد النهي عما هو نتيجة لترك المأمور به، وتعيين مادة مهمة من المواد التي يجب فيها التبيين والتثبيت، وتقييد ذلك بالسفر لأن عدم التبيين كان فيه لا لأنه يجب إلا فيه، والمعنى لا تقولوا لمن أظهر لكم ما يدل على إسلامه: لَسْتَ مُؤْمِناً وإنما فعلت ذلك خوف القتل بل اقبلوا منه ما أظهر وعاملوه بموجبه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه ومحمد بن علي الباقر رضي الله تعالى عنهما وأبي جعفر القاري أنهم قرؤوا «مؤمنا» بفتح الميم الثانية أي مبذولا لك الأمان تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي تطلبون ماله الذي هو حطام سريع الزوال وشيك الانتقال، والجملة في موضع الحال من فاعل تَقُولُوا مشعرا بما هو الحامل لهم على العجلة، والنهي راجع إلى القيد والمقيد، وقوله تعالى: فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ تعليل للنهي عن القيد بما فيه من الوعد الضمني كأنه قيل: لا تبتغوا ذلك العرض القليل الزائل فإن عنده سبحانه وفي مقدوره مَغانِمُ كَثِيرَةٌ يغنمكموها فيغنيكم عن ذلك، وقوله سبحانه: كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ تعليل للنهي عن المقيد باعتبار أن المراد منه ردّ إيمان الملقي لظنهم أن الإيمان العاصم ما ظهرت على صاحبه دلائل تواطئ الباطن والظاهر ولم تظهر فيه، واسم الإشارة إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة والفاء في فَمَنَّ للعطف على كُنْتُمْ وقدم خبرها للقصر المفيد لتأكيد المشابهة كأنه قيل: لا تردّوا إيمان من حياكم بتحية الإسلام وَتَقُولُوا إنه ليس بإيمان عاصم ولا يعد المتصف به مؤمنا معصوما لظنكم اشتراط التواطؤ في العصمة ومجرد التحية لا يدل عليه، فإنكم كنتم أنتم في مبادئ إسلامكم مثل هذا الملقي في عدم ظهور شيء للناس منكم غير ما ظهر منه لكم من التحية ونحوها، ولم يظهر منكم ما تظنونه شرطا مما يدل على التواطؤ، ومجرد أن الدخول في الإسلام لم يكن تحت ظلال السيوف لا يدل على ذلك فمنّ الله تعالى عليكم بأن قبل ذلك منكم ولم يأمر بالفحص عن تواطؤ ألسنتكم وقلوبكم، وعصم بذلك دماءكم وأموالكم، فإذا كان الأمر كذلك فَتَبَيَّنُوا هذا الأمر ولا تعجلوا وتدبروا ليظهر لكم أن ظاهر الحال كاف في الإيمان العاصم حيث كفى فيكم من قبل، وأخر هذا التعليل على ما قيل: لما فيه من نوع تفصيل ربما يخلّ تقديمه بتجاوب أطراف النظم الكريم مع ما فيه من مراعاة المقارنة بين التعليل السابق وبين ما علل به، أو لأن في تقديم الأول إشارة ما إلى ميل القوم نحو ذلك العرض، وأن سرورهم به أقوى، ففي تقديمه تعجيل لمسرتهم، وفيه نوع حط عليهم- رفع الله تعالى قدرهم ورضي المولى عز شأنه عنهم- أو لأنه أوضح في التعليل من التعليل الأخير وأسبق للذهن منه، ولعله لم يعطف أحد التعليلين على الآخر لئلا يتوهم أنهما تعليلا شيء واحد، أو أن مجموعهما علة، وقيل: موافقة لما علل بهما من القيد والمقيد حيث لم يتمايزا بالعطف، وقيل: إنما لم يعطف لأن الأول تعليل للنهي الثاني بالوعد بأمر أخروي لأن المعنى لا تبتغوا عرض الحياة الدنيا لأن عنده سبحانه ثوابا كثيرا في الآخرة أعده لمن لم يبتغ ذلك، وعبر عن الثواب- بالمغانم- مناسبة للمقام، والتعليل الثاني للنهي الأول ليس كذلك، وذكر الزمخشري وغيره في الآية ما رده شيخ الإسلام بما يلوح عليه مخايل التحقيق، وقال بعض الناس فيها: إن المعنى كما كان هذا الذي قلتموه مستخفيا بدينه في قومه خوفا على نفسه منهم كنتم أنتم مستخفين بدينكم حذرا من قومكم على أنفسكم، فمنّ الله تعالى عليكم بإظهار دينه وإعزاز أهله حتى أظهرتم الإسلام بعد ما كنتم تكتمونه من أهل الشرك فَتَبَيَّنُوا نعمة الله تعالى عليكم، أو تبينوا أمر من تقتلونه، ولا يخفى أن هذا- وإن كان بعضه مرويا عن ابن جبير- غير واف بالمقصود على أن القول: بأن المخاطبين كانوا مستخفين بدينهم حذرا من قومهم في حيز المنع اللهم إلا أن يقال: إن كون البعض كان مستخفيا كاف في الخطاب، وقيل: إن قوله سبحانه: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ منقطع عما قبله، وذلك أنه تعالى لما نهى القوم عن قتل من ذكر أخبرهم بعد بأنه منّ عليهم بأن قبل توبتهم عن ذلك الفعل المنكر، ثم أعاد الأمر بالتبيين مبالغة في التحذير، أو أمر بتبيين نعمته سبحانه شكرا لما منّ عليهم به- وهو كما ترى. واختلف في سبب الآية، فأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن حميد وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «مر رجل من بني سليم بنفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يسوق غنما له فسلم عليهم فقالوا: ما سلم علينا إلا ليتعوذ منا فعمدوا له فقتلوه وأتوا بغنمه النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 وأخرج ابن جرير عن السدي قال: «بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سرية عليها أسامة بن زيد إلى بني ضمرة فلقوا رجلا منهم يدعى مرداس بن نهيك معه غنيمة له وجمل أحمر فآوى إلى كهف جبل واتبعه أسامة فلما بلغ مرداس الكهف وضع فيه غنمه ثم أقبل عليهم فقال: السلام عليكم أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فشد عليه أسامة فقتله من أجل جمله وغنيمته، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا بعث أسامة أحب أن يثني عليه خيرا ويسأل عنه أصحابه، فلما رجعوا لم يسألهم عنه فجعل القوم يحدثون النبي صلّى الله عليه وسلّم ويقولون: يا رسول الله لو رأيت أسامة وقد لقيه رجل فقال الرجل: لا إله إلا الله محمد رسول الله فشد عليه فقتله وهو معرض عنهم فلما أكثروا عليه رفع رأسه إلى أسامة فقال: كيف أنت ولا إله إلا الله؟! فقال يا رسول الله إنما قالها متعوذا يتعوذ بها فقال عليه الصلاة والسلام: هلا شققت عن قلبه فنظرت إليه؟!» ثم نزلت الآية. وأخرج عن ابن زيد أنها نزلت في رجل قتله أبو الدرداء، وذكر من قصته مثل ما ذكر من قصة أسامة، والاقتصار على ذكر تحية الإسلام على هذا- مع أنها كانت مقرونة بكلمة الشهادة- للمبالغة في النهي والزجر، والتنبيه على كمال ظهور خطئهم ببيان أن التحية كانت كافية في المكافة والانجزار عن التعرض لصاحبها. فكيف وهي مقرونة بتلك الكلمة الطيبة، واستدل بالآية وسياقها على صحة إيمان المكره، وإن المجتهد قد يخطىء وإن خطأه مغتفر، وجه الدلالة على الأول أنه مع ظن القاتلين أن إسلام من ذكر لخوف القتل وهو إكراه معنى أنكر عليهم قتله فلولا صحة إسلامه لم ينكر، ووجه الدلالة على الثاني أنه أمر فيها بالتبيين المشعر بأن العجلة خطأ. ووجه الدلالة على الثالث مأخوذ من السياق وعدم الوعيد على ترك التبيين، وذهب بعضهم إلى أنه لا عذر في ترك التثبت في مثل هذه الأمور، وأن المخطئ آثم، واحتج على ذلك بما أخرجه ابن أبي حاتم والبيهقي عن الحسن «أن ناسا من أصحاب رسول الله ذهبوا يتطرقون فلقوا ناسا من العدو فحملوا عليهم فهزموهم فشد رجل منهم فتبعه رجل يريد متاعه فلما غشيه بالسنان قال: إني مسلم إني مسلم فأوجره السنان فقتله وأخذ متيعه، فرفع ذلك إلى رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام للقاتل: أقتلته بعد ما قال: إني مسلم؟! قال: يا رسول الله إنما قالها متعوذا قال: أفلا شققت عن قلبه؟! قال لم يا رسول الله؟ قال: لتعلم أصادق هو أو كاذب؟ قال: كنت عالم ذلك يا رسول الله قال عليه الصلاة والسلام: إنما كان يبين عنه لسانه إنما كان يعبر عنه لسانه، قال: فما لبث القاتل أن مات فحفر له أصحابه فأصبح وقد وضعته الأرض، ثم عادوا فحفروا له، فأصبح وقد وضعته الأرض إلى جنب قبره، قال الحسن فلا أدري كم، قال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دفناه مرتين، أو ثلاثا كل ذلك لا تقبله الأرض فلما رأينا الأرض لا تقبله أخذنا برجله فألقيناه في بعض تلك الشعاب» فأنزل الله تعالى قوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الآية، وفي رواية عبد الرزاق عن قتادة «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إن الأرض أبت أن تقبله فألقوه في غار من الغيران» . ووجه الدلالة في هذا على الإثم ظاهر، وأجيب بأن هذا القاتل لعله لم يفعل ذلك لكون المقتول غير مقبول الإسلام عنده بل لأمر آخر، واعتذر بما اعتذر كاذبا بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويؤيد ذلك ما أخرجه أحمد وابن المنذر والطبراني وجماعة عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي قال: بعثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى إضم فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحارث بن ربعي ومحلم بن جثامة بن قيس الليثي فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود معه متيع له ووطب من لبن فلما مر بنا سلم علينا بتحية الإسلام فأمسكنا عنه وحمل عليه محلم بن جثامة لشيء كان بينه وبينه فقتله وأخذ متيعه فلما قدمنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأخبرناه الخبر نزل فينا القرآن يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ، والظاهر أن الرجل المبهم في خبر الحسن هو هذا الرجل المصرح به في هذا الخبر، وهو يدل على أن القتل كان لشيء كان في القلب من ضغائن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 قديمة، وإنما قلنا: إن هذا هو الظاهر لما في خبر ابن عمر أن محلم بن جثامة لما رجع جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بردين فجلس بين يديه عليه الصلاة والسلام ليستغفر له فقال: لا غفر الله تعالى لك، فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه فما مضت ساعة حتى مات ودفنوه فلفظته الأرض فجاؤوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكروا ذلك له، فقال: إن الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم ولكن الله تعالى أراد أن يعظكم، ثم طرحوه بين صدفي جبل وألقوا عليه الحجارة، فإن الذي يميل القلب إليه اتحاد القصة، واعترض على القول بعدم الوعيد بأن قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً. يستفاد منه الوعيد أي أنه سبحانه لم يزل ولا يزال بكل ما تعملونه من الأعمال الظاهرة والخفية وبكيفياتها، ويدخل في ذلك التثبيت وتركه دخولا أوليا مطلع أتم اطلاع فيجازيكم بحسب ذلك إن خيرا فخير وإن شرا فشر، والجملة تعليل بطريق الاستئناف، وقرىء بفتح «أن» على أنه معمول- لتبينوا- أو على حذف لام التعليل. لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ شروع في الحث على الجهاد ليأنفوا عن تركه وليرغبوا عما يوجب خللا فيه، والمراد بالقاعدين الذين أذن لهم في القعود عن الجهاد اكتفاء بغيرهم، وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- هم القاعدون- عن بدر وهو الظاهر الموافق للتاريخ على ما قيل، وقال أبو حمزة: إنهم المتخلفون عن تبوك، وروي أن الآية نزلت في كعب بن مالك من بني سلمة ومرارة بن الربيع من بني عمرو بن عوف والربيع وهلال بن أمية من بني واقف، حين تخلفوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في تلك الغزوة. مِنَ الْمُؤْمِنِينَ حال من القاعدين، وجوز أن يكون من الضمير المستتر فيه، وفائدة ذلك الإيذان من أول الأمر بأن القعود عن الجهاد لا يقعد بهم عن الإيمان، والإشعار بعلة استحقاقهم لما سيأتي من الحسنى أي لا يعتدل المتخلفون عن الجهاد حال كونهم كائنين من المؤمنين غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ بالرفع على أنه صفة- للقاعدون- وهو إن كان معرفة، وغَيْرُ لا تتعرف في مثل هذا الموضع لكنه غير مقصود منه- قاعدون- بعينهم بل الجنس، فأشبه الجنس وصفه بها، وزعم عصام الدين أن غَيْرُ هنا معرفة، وغَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ بمعنى من لا ضرر له، ونقل عن الرضي- وبه ضعف ما تقدم- أن المعرف باللام المبهم وإن كان في حكم النكرة لكنه لا يوصف بما توصف به النكرة، بل يتعين أن تكون صفته جملة فعلية فعلها مضارع كما في قوله: ولقد أمر على اللئيم يسبني ... فأصد ثم أقول ما يعنيني واستحسن بعضهم جعله بدلا من الْقاعِدُونَ لأن أل فيه موصولة، والمعروف إرادة الجنس في المعرف بالألف واللام، وبينهما فرق، وجوز الزجاج الرفع على الاستثناء، وتبعه الواحدي فيه، وقرأ نافع وابن عامر والكسائي بالنصب على أنه حال، وهو نكرة لا معرفة، أو على الاستثناء ظهر إعراب ما بعده عليه، وقرىء بالجر على أنه صفة للمؤمنين، أو بدل منه وكون النكرة لا تبدل من المعرفة إلا موصوفة أكثري لا كلي، والضَّرَرِ المرض والعلل التي لا سبيل معها إلى الجهاد، وفي معناها- أو هو داخل فيها- العجز عن الأهبة، وقد نزلت الآية وليس فيها غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ثم نزل بعد، فقد روى مالك عن الزهري عن خارجة بن زيد قال: قال زيد بن ثابت: «كنت أكتب بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلّم في كثف- لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون- وابن أم مكتوم عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله قد أنزل الله تعالى في فضل الجهاد ما أنزل وأنا رجل ضرير فهل لي من رخصة؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لا أدري قال زيد: وقلمي رطب ما جف حتى غشي النبي صلّى الله عليه وسلّم الوحي ووقع فخذه على فخذي حتى كادت تدق من ثقل الوحي، ثم جلي عنه، فقال لي: أكتب يا زيد غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ» وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ في منهاج دينه بِأَمْوالِهِمْ إنفاقا فيما يوهن كيد الأعداء وَأَنْفُسِهِمْ حملا لها على الكفاح عند اللقاء، وكلا الجارين متعلق- الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 بالمجاهدون- وأوردوا بهذا العنوان دون عنوان الخروج المقابل لوصف المعطوف عليه، وقيده بما قيده مدحا لهم وإشعارا بعلة استحقاقهم لعلو المرتبة مع ما فيه من حسن موقع السبيل في مقابلة القعود كما قيل، وقيل: إنما أوردوا بعنوان الجهاد إشعارا بأن القعود كان عنه ولكن ترك التصريح به هناك رعاية لهم في الجملة، وقدم الْقاعِدُونَ على- المجاهدين- ولم يؤخر عنهم ليتصل التصريح بتفضيلهم بهم، وقيل: للإيذان من أول الأمر بأن القصور الذي ينبىء عنه عدم الاستواء من جهة القاعدين لا من جهة مقابليهم، فإن مفهوم عدم الاستواء بين الشيئين المتفاوتين زيادة ونقصانا وإن جاز اعتباره بحسب زيادة الزائد، لكن المتبادر اعتباره بحسب قصور القاصر، وعليه قوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ [الرعد: 16] إلى غير ذلك، وأما قوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9] فلعل تقديم الفاضل فيه لأن صلته ملكة لصلة المفضول. وأنت تعلم أنه لا تزاحم في النكات وأنه قد يكون في شيء واحد جهة تقديم وجهة تأخير، فتعتبر هذه تارة وتلك أخرى، وإنما قدم سبحانه وتعالى هنا ذكر الأموال على الأنفس وعكس في قوله عز شأنه: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ [التوبة: 111] لأن النفس أشرف من المال فقدم المشتري النفس تنبيها على أن الرغبة فيها أشد وأخّر البائع تنبيها على أن المماكسة فيها أشد فلا يرضى ببذلها إلا في فائدة، وعلى ذلك النمط جاء أيضا قوله تعالى: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ في سبيله بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ من المؤمنين غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ دَرَجَةً لا يقادر قدرها ولا يبلغ كنهها، وهذا تصريح بما أفهمه نفي المساواة فإنه يستلزم التفضيل إلى أنه لم يكتف بما فهم اعتناء به وليتمكن أشد تمكن، ولكون الجملة مبينة وموضحة لما تقدم لم تعطف عليه، وجوز أن تكون جواب سؤال ينساق إليه المقال كأنه قيل: كيف وقع ذلك التفضيل؟ فقيل: فَضَّلَ اللَّهُ إلخ واللام كما أشرنا إليه في الجمعين للعهد ولا يأباه كون مدخولها وصفا- كما قيل- إذ كثيرا ما ترد أل فيه للتعريف كما صرح به النحاة، ودَرَجَةً منصوب على المصدر لتضمنها التفضيل لأنها المنزلة والمرتبة وهي تكون في الترقي والفضل، فوقعت موقع المصدر كأنه قيل: فضلهم تفضيلة، وذلك مثل قولهم: ضربته سوطا أي ضربة، وقيل: على الحال أي ذوي درجة، وقيل: على التمييز، وقيل: على تقدير حذف الجار أي بدرجة، وقيل: هو واقع موقع الظرف أي في درجة ومنزلة، وقوله تعالى: وَكُلًّا مفعول أول لما يعقبه قدم عليه لإفادة القصر تأكيدا للوعد، وتنوينه عوض عن المضاف إليه أي كل واحد من الفريقين المجاهدين والقاعدين وَعَدَ اللَّهُ المثوبة الْحُسْنى وهي الجنة- كما قال قتادة وغيره- لا أحدهما فقط، وقرأ الحسن- وكل- بالرفع على الابتداء، فالمفعول الأول- وهو العائد في جملة الخبر- محذوف أي وعده، وكأن التزام النصب في المتواترة لأن قبله جملة فعلية وبذلك خالف ما في- الحديد- والْحُسْنى على القراءتين هو المفعول الثاني، والجملة اعتراض جيء به تداركا لما عسى يوهمه تفضيل أحد الفريقين على الآخر من حرمان المفضول وقوله سبحانه: وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ عطف على ما قبله، وأغنت أل عن ذكر ما ترك على سبيل التدريج من القيود، وإنما لم يعتبر التدريج في ترك ما ذكر مع القاعدين أولا بأن يترك من المؤمنين فقط، ويذكر غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ في الآية الأولى ويتركهما معا في الآية الثانية، بل تركهما دفعة واحدة عند أول قصد التدريج قيل: لأن قيد غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ كان بعد السؤال كما يشير إليه سبب النزول. وفي بعض أخباره أن ابن أم مكتوم لما نزلت الآية جعل يقول: أي رب أين عذري، أي رب أين عذري؟؟ فنزل ذلك فانسدت باب الحاجة إليه، وقنع السائل بذكره مرة فأسقط مع ما معه الساقط لذلك القصد دفعة، ولا كذلك ما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 ذكر مع المجاهدين، فإن الإتيان به كان عن محض الفضل والامتنان من غير سابقة سؤال فلما فتحت باب الإسقاط اعتبر فيه التدريج فرقا بين المقامين، وقوله تعالى: أَجْراً عَظِيماً مصدر مؤكد- لفضل- وهو وإن كان بمعنى أعطي الفضل وهو أعم من الأجر لأنه ما يكون في مقابلة أمر لكن أريد به هنا الأخص لأنه في مقابلة الجهاد، ويجوز أن يبقى على معناه، وأَجْراً مفعول به ولتضمنه معنى الإعطاء نصب المفعول أي أعطاهم زيادة عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً، وقيل: هو منصوب بنزع الخافض أي فضلهم بأجر. وجعله- صفة لقوله تعالى: دَرَجاتٍ قدم عليها فانتصب على الحال، ولكونه مصدرا في الأصل يستوي فيه الواحد وغيره جاز نعت الجمع به- بعيد، وجوز في دَرَجاتٍ أين يكون بدلا من أَجْراً بدل الكل مبينا لكمية التفضيل، وأن يكون حالا أي ذوي درجات، وأن يكون واقعا موقع الظرف أي في درجات، وقوله سبحانه: مِنْهُ متعلق بمحذوف وقع صفة- لدرجات- دالة على فخامتها وعلو شأنها، أخرج عبد بن حميد عن ابن محيريز أنه قال: هي سبعون درجة ما بين الدرجتين عدو الفرس الجواد المضمر سبعين سنة، وأخرج مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي سعيد «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: من رضي بالله تعالى ربا وبالإسلام دينا وبمحمد عليه الصلاة والسلام رسولا وجبت له الجنة فعجب لها أبو سعيد فقال: أعدها علي يا رسول الله فأعادها عليه، ثم قال صلّى الله عليه وسلّم: وأخرى يرفع الله تعالى بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض قال: وما هي يا رسول الله؟ قال: الجهاد في سبيل الله تعالى» ، وعن السدي أنها سبعمائة، وجوز أن يكون انتصاب درجات على المصدرية كما في قولك: ضربته أسواطا أي ضربات، كأنه قيل: فضلهم تفضيلات، وجمع القلة هنا قائم مقام جمع الكثرة، وقيل: إنه على بابه. والمراد بالدرجات ما ذكر في آية براءة ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ [التوبة: 120] إلى قوله سبحانه: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [التوبة: 121] ونسب إلى عبد الله بن زيد، وقوله عز شأنه: وَمَغْفِرَةً عطف على درجات الواقع بدلا من أَجْراً بدل الكل إلا أن هذا بدل البعض منه لأن بعض الأجر ليس من باب المغفرة، أي ومغفرة عظيمة لما يفرط منهم من الذنوب التي لا يكفرها سائر الحسنات التي يأتي بها القاعدون، فحينئذ تعد من خصائصهم، وقوله تعالى: وَرَحْمَةً عطف عليه أيضا وهو بدل الكل من أَجْراً، وجوز أن يكون انتصابهما بفعل مقدر أي غفر لهم مغفرة ورحمهم رحمة. هذا ولعل تكرير التفضيل بطريق العطف المنبئ عن المغايرة، وتقييده- تارة بدرجة وأخرى بدرجات مع اتحاد المفضل والمفضل عليه حسبما يستدعيه الظاهر إما لتنزيل الاختلاف العنواني بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات منزلة الاختلاف الذاتي تمهيدا لسلوك طريق الإبهام ثم التفسير روما لمزيد التحقيق والتقرير المؤذن بأن فضل المجاهدين بمحل لا تستطيع طير الأفكار الخضر أن تصل إليه، ولما كان هذا مما يكاد أن يتوهم منه حرمان القاعدين اعتنى سبحانه بدفع ذلك بقوله عز قائلا: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى ثم أراد جل شأنه تفسير ما أفاده التنكير بطريق الإبهام بحيث يقطع احتمال كونه للوحدة، فقال ما قال وسد باب الاحتمال. ولا يخفى ما في الإبهام والتفسير من اللطف، وأما ما قيل من إفراد الدرجة أولا لأن المراد هناك تفضيل كل مجاهد، والجمع ثانيا لأن المراد فيه تفضيل الجمع ففي الدرجات مقابلة الجمع بالجمع، فلكل مجاهد درجة ومآل العبارتين واحد والاختلاف تفنن، فمن الكلام الملفوظ لا من اللوح المحفوظ، وأما للاختلاف بالذات بين التفضيلين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 وبين الدرجة والدرجات، وفي هذا- رغب الراغب، واستطيبه الطيبي- على أن المراد بالتفضيل الأول ما خولهم الله تعالى عاجلا في الدنيا من الغنيمة والظفر والذكر الجميل الحقيقي بكونه درجة واحدة، وبالتفضيل الثاني ما ادخره سبحانه لهم من الدرجات العالية والمنازل الرفيعة المتعالية عن الحصر كما ينبىء عنه تقديم الأول وتأخير الثاني وتوسيط الوعد بالجنة بينهما، كأنه قيل: فضلهم عليهم في الدنيا درجة واحدة، وفي الأخرى درجات لا تحصى، وقد وسط بينهما في الذكر ما هو متوسط بينهما في الوجود أعني الوعد بالجنة توضيحا لحالهما ومسارعة إلى تسلية المفضول كذا قرره الفاضل مولانا شيخ الإسلام، وقيل: المراد من التفضيل الأول رضوان الله تعالى ونعيمه الروحاني، ومن التفضيل الثاني نعيم الجنة المحسوس، وفيه أن عطف المغفرة والرحمة يبعد هذا التخصيص، وقيل: المراد من المجاهدين الأولين من جاهد الكفار، ومن المجاهدين الآخرين من جاهد نفسه، وزيد لهم في الأجر لمزيد فضلهم كما يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» وفيه أن السياق وسبب النزول يأبيان ذلك، والحديث الذي ذكره لا أصل له، كما قال المحدثون. وقيل المراد من الْقاعِدِينَ في الأول الأضراء، وفي الثاني غيرهم كما قال ابن جريج، وأخرجه عنه ابن جرير، وفيه من تفكيك النظم ما لا يخفى. بقي أن الآية لا تدل نصا على حكم أولي الضرر بناء على التفسير المقبول عندنا، نعم في بعض الأحاديث ما يؤذن بمساواتهم للمجاهدين، فقد صح من حديث أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما رجع من غزوة تبوك فدنا من المدينة قال: «إن في المدينة لأقواما ما سرتم من سير ولا قطعتم من واد إلا كانوا معكم فيه قالوا: يا رسول الله وهم بالمدينة؟ قال: نعم وهم بالمدينة حبسهم العذر» وعليه دلالة مفهوم الصفة والاستثناء في غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، وعن الزجاج أنه قال: إلا أولو الضرر فإنهم يساوون المجاهدين، وعن بعضهم إن هذه المساواة مشروطة بشريطة أخرى غير الضرر قد ذكرت في قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى إلى قوله سبحانه: إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ [التوبة: 91] والذي يشهد له النقل والعقل أن الأضراء أفضل من غيرهم درجة كما أنهم دون المجاهدين في الدرجة الدنيوية، وأما أنهم مساوون لهم في الدرجة الأخروية فلا قطع به، والآية- على ما قاله ابن جريج- تدل على أنهم دونهم في ذلك أيضا. وقد أخرج ابن المنذر من طريق ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن ابن أم مكتوم كان بعد نزول الآية يغزو، ويقول: ادفعوا إليّ اللواء وأقيموني بين الصفين فإني لن أفر، وأخرج ابن منصور عن أنس بن مالك أنه قال: لقد رأيت ابن أم مكتوم بعد ذلك في بعض مشاهد المسلمين ومعه اللواء، ويعلم من نفي المساواة في صدر الآية المستلزم للتفضيل المصرح به بعد بين المجاهد بالمال والنفس والقاعد نفيها بين المجاهد بأحدهما والقاعد واحتمال أن يراد من الآية نفي المساواة بين القاعد عن الجهاد بالمال والمجاهد به وبين القاعد عن الجهاد بالنفس والمجاهد بها بأن يكون المراد بالمجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم المجاهدين فيه بأموالهم، والمجاهدين فيه بأنفسهم وبالقاعدين أيضا قسمي القاعد، ويكون المراد نفي المساواة بين كل قسم من القاعد ومقابله بعيد جدا، واحتج بها كما قال ابن الفرس: من فضل الغنى على الفقر بناء على أنه سبحانه فضل المجاهد بماله على المجاهد بغير ماله، ولا شك أن الدرجة الزائدة من الفضل للمجاهد بماله إنما هي من جهة المال، واستدلوا بها أيضا على تفضيل المجاهد بمال نفسه على المجاهد بمال يعطاه من الديوان ونحوه وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً تذييل مقرر لما وعد سبحانه من قبل إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ بيان لحال القاعدين عن الهجرة إثر بيان القاعدين عن الجهاد، أو بيان لحال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 القاعدين عن نصرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والجهاد معه من المنافقين عقب بيان حال القاعدين من المؤمنين، وتَوَفَّاهُمُ يحتمل أن يكون ماضيا، وتركت علامة التأنيث للفصل ولأن الفاعل غير مؤنث حقيقي، ويحتمل أن يكون مضارعا، وأصله- تتوفاهم- فحذفت إحدى التاءين تخفيفا، وهو لحكاية الحال الماضية، ويؤيد الأول قراءة من قرأ توفتهم، والثاني قراءة إبراهيم تَوَفَّاهُمُ بضم التاء على أنه مضارع وفيت بمعنى أن الله تعالى يوفي الملائكة أنفسهم، فيتوفونها أي يمكنهم من استيفائها فيستوفونها، وإلى ذلك أشار ابن جني، والمراد من التوفي قبض الروح، وهو الظاهر الذي ذهب إليه ابن عباس رضي الله تعالى عنه. وعن الحسن أن المراد به الحشر إلى النار، والمراد من الملائكة ملك الموت وأعوانه، وهم- كما في البحر- ستة: ثلاثة لأرواح المؤمنين، وثلاثة لأرواح الكافرين، وعن الجمهور أن المراد بهم ملك الموت فقط وهو من إطلاق الجمع مرادا به الواحد تفخيما له وتعظيما لشأنه، ولا يخفى أن إطلاق الجمع على الواحد لا يخلو عن بعد، والتحقيق أنه لا مانع من نسبة التوفي إلى الله تعالى، وإلى ملك الموت، وإلى أعوانه، والوجه في ذلك أن الله تعالى هو الآمر بل هو الفاعل الحقيقي، والأعوان هم المزاولون لإخراج الروح من نحو العروق والشرايين والعصب، والقاطعون لتعلقها بذلك، والملك هو القابض المباشر لأخذها بعد تهيئتها، وفي القرآن اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ [الزمر: 42] ويَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ [السجدة: 11] وتَوَفَّتْهُ رُسُلُنا [الأنعام: 61] ومثله تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ بترك الهجرة، واختيار مجاورة الكفار الموجبة للإخلال بأمور الدين، أو بنفاقهم وتقاعدهم عن نصرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإعانتهم الكفرة، فقد أخرج الطبراني عن ابن عباس «أنه كان قوم بمكة قد أسلموا فلما هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كرهوا أن يهاجروا وخافوا فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية» . وأخرج ابن جرير عن الضحاك «أن هؤلاء أناس من المنافقين تخلفوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة فلم يخرجوا معه إلى المدينة وخرجوا مع مشركي قريش إلى بدر فأصيبوا فيمن أصيب فأنزل الله فيهم هذه الآية» وروي عن عكرمة أن الآية نزلت في قيس بن الفاكه بن المغيرة والحارث بن زمعة بن الأسود وقيس بن الوليدة بن المغيرة وأبي العاص بن منبه بن الحجاج، وعلي بن أمية بن خلف كانوا قد أسلموا واجتمعوا ببدر مع المشركين من قريش فقتلوا هناك كفارا، ورواه أبو الجارود عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه، وظالِمِي منصوب على الحالية من ضمير المفعول في تَوَفَّاهُمُ وإضافته لفظية فلا تفيده تعريفا، والأصل ظالمين أنفسهم قالُوا أي الملائكة عليهم السلام للمتوفين توبيخا لهم بتقصيرهم في إظهار إسلامهم وإقامة أحكامه وشعائره أو قالوا تقريعا لهم وتوبيخا بما كانوا فيه من مساعدة الكفرة وتكثير سوادهم وانتظامهم في عسكرهم وتقاعدهم عن نصرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فِيمَ كُنْتُمْ أي في أي شيء كنتم من أمور دينكم وحذفت ألف- ما- الاستفهامية المجرورة وفاء بالقاعدة، وتكتب متصلة تنزيلا لها مع ما قبلها منزلة الكلمة الواحدة. ولهذا تكتب- إلى وعلى وحتى في إلام وعلام وحتام بالألف ما لم يوقف على- م- بالهاء، ولكن السؤال كما علمت طابقه الجواب بقوله تعالى: قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ وإلا فالظاهر في الجواب كنا في كذا، أو لم نكن في شيء، والجملة استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية سؤال الملائكة كأنه قيل: فماذا قال أولئك المتوفون؟ في الجواب، فقيل: قالوا في جوابهم: كنا مستضعفين فى أرض مكة بين ظهراني المشركين الأقرباء. والمراد أنهم اعتذروا عن تقصيرهم في إظهار الإسلام وإدخالهم الخلل فيه بالاستضعاف والعجز عن القيام بمواجب الدين بين أهل مكة فلذا قعدوا وناموا، أو تعللوا عن الخروج معهم والانتظام في ذلك الجمع المكسر بأنهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 كانوا مقهورين تحت أيديهم، وأنهم فعلوا ذلك كارهين، وعلى التقديرين لم تقبل الملائكة ذلك منهم كما يشير إليه قوله سبحانه: قالُوا أي الملائكة أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها أي إن عذركم عن ذلك التقصير بحلولكم بين أهل تلك الأرض أبرد من الزمهرير إذ يمكنكم حل عقدة هذا الأمر الذي أخل بدينكم بالرحيل إلى قطر آخر من الأرض تقدرون فيه على إقامة أمور الدين كما فعل من هاجر إلى الحبشة وإلى المدينة، أو إن تعللكم عن الخروج مع أعداء الله تعالى لما يغيظ رسوله صلّى الله عليه وسلّم بأنكم مقهورون بين أولئك الأقوام غير مقبول لأنكم بسبيل من الخلاص عن قهرهم متمكنون من المهاجرة عن مجاورتهم والخروج من تحت أيديهم فَأُولئِكَ الذين شرحت حالهم الفظيعة مَأْواهُمْ أي مسكنهم في الآخرة جَهَنَّمُ لتركهم الفريضة المحتومة، فقد كانت الهجرة واجبة في صدر الإسلام، وعن السدي كان يقول: من أسلم ولم يهاجر فهو كافر حتى يهاجر، والأصح الأول أو لنفاقهم وكفرهم ونصرتهم أعداء الله تعالى على سيد أحبائه عليه الصلاة والسلام، وعدم التقييد بالتأييد ليس نصا في العصيان بما دون الكفر، وإنما النص التقييد بعدمه، واسم الإشارة مبتدأ أول، ومَأْواهُمْ مبتدأ ثان، وجَهَنَّمُ خبر الثاني وهما خبر الأول، والرابط الضمير المجرور، والمجموع خبر إن، والفاء لتضمن اسمها معنى الشرط، وقوله سبحانه: قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ في موضع الحال من الملائكة، وقد معه مقدرة في المشهور، وجعله حالا- من الضمير المفعول بتقدير قد أولا، ولهم آخرا بعيد، أو هو الخبر والعائد فيه محذوف أي لهم، والجملة المصدرة بالفاء معطوفة عليه مستنتجة منه ومما في خبره، ولا يصح جعل شيء من قالوا الثاني، والثالث خبرا لأنه جواب، ومراجعة- فمن قال: لو جعل قالوا: الثاني خبرا لم يحتج إلى تقدير عائد فقد- وهم، وقيل: الخبر محذوف تقديره هلكوا ونحوه، و «تهاجروا» منصوب في جواب الاستفهام وقوله تعالى: وَساءَتْ من باب بئس أي بئست مَصِيراً والمخصوص بالذم مقدر أي مصيرهم، أو جهنم. واستدل بعضهم بالآية على وجوب الهجرة من موضع لا يتمكن الرجل فيه من إقامة دينه، وهو مذهب الإمام مالك، ونقل ابن العربي وجوب الهجرة من البلاد الوبيئة أيضا، وفي كتاب الناسخ والمنسوخ أنها كانت فرضا في صدر الإسلام فنسخت وبقي ندبها، وأخرج الثعلبي من حديث الحسن مرسلا من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجبت له الجنة، وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم وقد قدمنا لك ما ينفعك هنا فتذكر إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ استثناء منقطع لأن الموصول وضمائره، والإشارة إليه بأولئك لمن توفته الملائكة ظالما لنفسه، فلم يندرج فيهم المستضعفون المذكورون، وقيل: إنه متصل، والمستثنى منه «أولئك مأواهم جهنم» وليس بشيء أي إلا الذين عجزوا عن الهجرة وضعفوا مِنَ الرِّجالِ كعياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام والوليد بن الوليد وَالنِّساءِ كأم الفضل لبابة بنت الحارث أم عبد الله بن عباس وغيرها وَالْوِلْدانِ كعبد الله المذكور وغيره رضي الله تعالى عنهم، والجار حال من المستضعفين، أو من الضمير المستتر فيه أي كائنين من هؤلاء، وذكر الولدان للقصد إلى المبالغة في وجوب الهجرة والأمر بها حتى كأنها مما كلف بها الصغار، أو يقال: إن تكليفهم عبارة عن تكليف أوليائهم بإخراجهم من ديار الكفر، وأن المراد بهم المراهقون، أو من قرب عهده بالصغر مجازا كما مر في اليتامى أو أن المراد التسوية بين هؤلاء في عدم الإثم والتكليف، أو أن العجز ينبغي أن يكون كعجز الولدان، أو المراد بهم العبيد والإماء. لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً أي لا يجدون أسباب الهجرة ومبادئها وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا أي ولا يعرفون طريق الموضع المهاجر إليه بأنفسهم أو بدليل، والجملة صفة لما بعد من، أو للمستضعفين لأن المراد به الجنس سواء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 كانت أل موصولة أو حرف تعريف وهو في المعنى كالنكرة، أو حال منه، أو من الضمير المستتر فيه، وجوز أن تكون مستأنفة مبينة لمعنى الاستضعاف المراد هنا فَأُولئِكَ أي المستضعفون عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ فيه إيذان بأن ترك الهجرة أمر خطير حتى أن المضطر الذي تحقق عدم وجوبها عليه ينبغي أن يعد تركها ذنبا، ولا يأمن، ويترصد الفرصة ويعلق قلبه بها. وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً تذييل مقرر لما قبله بأتم وجه. وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً ترغيب في المهاجرة وتأنيس لها، والمراد من المراغم، المتحول والمهاجر- كما روي ذلك عن ابن عباس والضحاك وقتادة وغيرهم فهو اسم مكان، وعبر عنه بذلك تأكيدا للترغيب لما فيه من الإشعار بكون ذلك المتحول الذي يجده يصل فيه المهاجر إلى ما يكون سببا لرغم أنف قومه الذين هاجرهم، وعن مجاهد: إن المعنى يجد فيها متزحزحا عما يكره، وقيل: متسعا مما كان فيه من ضيق المشركين، وقيل: طريقا يراغم بسلوكه قومه- أي يفارقهم على رغم أنوفهم والرغم الذل والهوان، وأصله لصوق الأنف بالرغام وهو التراب، وقرىء مرغما وَسَعَةً أي من الرزق، وعليه الجمهور، وعن مالك سعة من البلاد. وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ أي يحل به قبل أن يصل إلى المقصد ويحط رحال التسيار، بل وإن كان ذلك خارج بابه كما يشعر به إيثار الخروج من بيته على المهاجرة، وثمّ لا تأبى ذلك كما ستعرفه قريبا إن شاء الله تعالى، وهو معطوف على فعل الشرط، وقرىء يُدْرِكْهُ بالرفع، وخرجه ابن جني كما قال السمين، على أنه فعل مضارع مرفوع للتجرد من الناصب والجازم، والموت فاعله، والجملة خبر لمبتدأ محذوف أي- ثم هو يدركه الموت- وتكون الجملة الاسمية معطوفة على الفعلية الشرطية وعلى ذلك حمل يونس قول الأعشى: إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا ... أو تنزلون فإنا معشر نزل أي أو أنتم تنزلون وتكون الاسمية حينئذ كما قال بعض المحققين: في محل جزم وإن لم يصح وقوعها شرطا لأنهم يتسامحون في التابع، وإنما قدروا المبتدأ ليصح رفعه مع العطف على الشرط المضارع، وقال عصام الملة: ينبغي أن يعلم أنه على تقدير المبتدأ يجب جعل مَنْ موصولة لأن الشرط لا يكون جملة اسمية ويكون يَخْرُجْ أيضا مرفوعا ويرد عليه حينئذ أنه لا حاجة إلى تقدير المبتدأ، فالأولى أن الرفع بناء على توهم رفع يَخْرُجْ لأن المقام من مظان الموصول، ولا يخفى أنه خبط وغفلة عما ذكروا، وقيل: إن ضم الكاف منقول من الهاء كأنه أراد أن يقف عليها، ثم نقل حركتها إلى الكاف كقوله: عجبت والدهر كثير عجبه ... من عنزي يسبني لم أضربه وهو كما في الكشف ضعيف جدا لإجراء الوصل مجرى الوقف والنقل أيضا، ثم تحريك الهاء بعد النقل بالضم وإجراء الضمير المتصل مجرى الجزء من الكلمة والبيت ليس فيه إلا النقل وإجراء الضمير مجرى الجزء، وقرأ الحسن «يدركه» بالنصب، وخرجه غير واحد على أنه بإضمار أن نظير ما أنشده سيبويه من قوله: سأترك منزلي لبني تميم ... وألحق بالحجاز فاستريحا ووجهه فيه أن سأترك مستقبل مطلوب فجرى مجرى الأمر ونحوه، والآية- لكون المقصود منها الحث على الخروج وتقدم الشرط الذي هو شديد الشبه بغير الموجب- كانت أقوى من البيت، وذكر بعض المحققين أن النصب في الآية جوزه الكوفيون لما أن الفعل الواقع بين الشرط والجزاء يجوز فيه الرفع والنصب والجزم عندهم إذا وقع بعد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 الواو والفاء كقوله: ومن لا يقدم رجله مطمئنة ... فيثبتها في مستوى القاع يزلق وقاسوا عليهما ثم، وليس ما ذكر في البيت نظير الآية، وقيل: من عطف المصدر المتوهم على المصدر المتوهم مثل- أكرمني وأكرمك- أي ليكن منك إكرام ومني، والمعنى من يكن منه خروج من بيته وإدراك الموت له فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ أي وجب بمقتضى وعده وفضله وهو جواب الشرط، وفي مقارنة هذا الشرط مع الشرط السابق الدلالة على أن المهاجر له إحدى الحسنيين إما أن يرغم أنف أعداء الله ويذلهم بسبب مفارقته لهم واتصالهم بالخير والسعة، وإما أن يدركه الموت ويصل إلى السعادة الحقيقية والنعيم الدائم، وفي الآية ما لا يخفى من المبالغة في الترغيب فقد قيل: كان مقتضى الظاهر- ومن يهاجر إلى الله ورسوله ويمت يثبه- إلا أنه اختير «ومن يخرج مهاجرا من بيته» على- ومن يهاجر- لما أشرنا إليه آنفا، ووضع يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ موضع- يمت- إشعارا بمزيد الرضا من الله تعالى، وأن الموت كالهدية منه سبحانه له لأنه سبب للوصول إلى النعيم المقيم الذي لا ينال إلا بالموت، وجيء- بثم- بدل الواو تتميما لهذه الدقيقة، وأن مرتبة الخروج دون هذه المرتبة، وأقيم فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ مقام- يثبه- لما أنه مؤذن باللزوم والثبوت، وأن الأجر عظيم لا يقادر قدره ولا يكتنه كنهه لأنه على الذات الأقدس المسمى بذلك الاسم الجامع وعن الزمخشري: إن فائدة ثُمَّ يُدْرِكْهُ بيان أن الأجر إنما يستقر إذا لم يحبط العمل الموت، واختلف فيمن نزلت فأخرج ابن جرير عن ابن جبير أنها نزلت في جندب بن ضمرة، وكان بلغه قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ الآية وهو بمكة حين بعث بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى مسلميها فقال لبنيه: احملوني فإني لست من المستضعفين، وإني لأهتدي الطريق، وإني لا أبيت الليلة بمكة فحملوه على سرير متوجها إلى المدينة وكان شيخا كبيرا فمات بالتنعيم ولما أدركه الموت أخذ يصفق يمينه على شماله ويقول: اللهم هذه لك، وهذه لرسولك صلّى الله عليه وسلّم أبايعك على ما بايع عليه رسولك، ولما بلغ خبر موته الصحابة رضي الله تعالى عنهم قالوا: ليته مات بالمدينة فنزلت، وروى الشعبي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في أكثم بن صيفي لما أسلم ومات وهو مهاجر، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن الزبير أنها نزلت في خالد بن حزام وقد كان هاجر إلى الحبشة فنهشته حية في الطريق فمات، وروي غير ذلك، وعلى العلات فالمراد عموم اللفظ لا خصوص السبب، وقد ذكر أيضا غير واحد أن من سار لأمر فيه ثواب كطلب علم وحج وكسب حلال وزيارة صديق وصالح ومات قبل الوصول إلى المقصد فحكمه كذلك، وقد أخرج أبو يعلى والبيهقي عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من خرج حاجا فمات كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة، ومن خرج معتمرا فمات كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة، ومن خرج غازيا في سبيل الله تعالى فمات كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة» ، واحتج أهل المدينة بالآية على أن الغازي إذا مات في الطريق وجب سهمه في الغنيمة، والصحيح ثبوت الأجر الأخروي فقط وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً مبالغا في المغفرة فيغفر له ما فرط منه من الذنوب التي من جملتها القعود عن الهجرة إلى وقت الخروج رَحِيماً مبالغا في الرحمة فيرحمه سبحانه بإكمال ثواب هجرته ونيته. ومن باب الإشارة في بعض ما تقدم من الآيات: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أي وما ينبغي لمؤمن الروح أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً وهو مؤمن القلب إلا أن يكون قتلا خطأ، وذلك إنما يكون إذا خلصت الروح من حجب الصفات البشرية فإذا أرادت أن تتوجه إلى النفس أنوارها لتميتها وقع تجليها على القلب فخر صعقا من ذلك التجلي ودك جبل النفس دكا فكان قتله خطأ لأنه لم يكن مقصودا وَمَنْ قَتَلَ قلبا مُؤْمِناً خطأ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وهي رقبة السر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 الروحاني وتحريرها إخراجها عن رق المخلوقات وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ تسلمها العاقلة وهي الألطاف الإلهية إلى القوى الروحانية فيكون لكل منهما من حظ الأخلاق الربانية إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا وذلك وقت غنائهم بالفناء بالله تعالى فَإِنْ كانَ المقتول بالتجلي مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ بأن كان من قوى النفس الأمارة وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وهي رقبة القلب فيطلقه من وثاق رق حب الدنيا والميل إليها، ولا دية في هذه الصورة لأهل القتيل وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ بأن كان من قوى النفس القابلة للأحكام الشرعية ظاهرا والمهادنة للقلب فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ واجبة على عاقلة الرحمة إِلى أَهْلِهِ أي أهل تلك النفس من الصفات الأخر وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وهي رقبة الروح وتحريرها إفناؤها وإطلاقها عن سائر القيود فَمَنْ لَمْ يَجِدْ رقبة كذلك بأن كانت روحه محررة قبل فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ أي فعليه الإمساك عن العادات وترك المألوفات ستين يوما، وهي مقدار مدة الميقات الموسوي ونصفها رجاء أن يحصل له البقاء بعد الفناء وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ إشارة إلى أن النفس إذا قتلت القلب واستولت عليه بقيت معذبة في نيران الطبيعة مبعدة عن الرحمة مظهرا لغضب الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإرشاد عباده فَتَبَيَّنُوا حال المريد في الرد والقبول وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي لا تنفروا من استسلم لكم وأسلم نفسه بأيديكم لترشدوه فتقولوا له لست مؤمنا صادقا لتعلق قلبك بالدنيا فسلم ما عندك من حطامها ليخلو قلبك لربك وتصلح لسلوك الطريق فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ للسالكين إليه فإذا حظي بها السالك ترك لها ما في يده من الدنيا وأعرض قلبه عن ذلك كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا أي مثل هذا المريد كنتم أنتم في مبادئ طلبكم وتسليم أنفسكم للمشايخ حيث كان لكم تعلق بالدنيا فمنّ الله عليكم بعد السلوك بتلك المغانم الكثيرة التي عنده فأنساكم جميع ما في أيديكم وفطم قلوبكم عن الدنيا بأسرها فقيسوا حال من يسلم نفسه إليكم بحالكم لتعلموا أن الله سبحانه بمقتضى ما عود المتوجهين إليه الطالبين له سيمنّ على هؤلاء بما منّ به عليكم، ويخرج حب الدنيا من قلوبهم بأحسن وجه كما أخرجه من قلوبكم. والحاصل أنه لا ينبغي أن يقال لمن أراد التوجه إلى الحق جل وعلا من أرباب الدنيا في مبادئ الأمر: اترك دنياك واسلك لأن ذلك مما ينفره ويسد باب التوجه عليه لشدة ترك المحبوب دفعة واحدة، ولكن يؤمر بالسلوك ويكلف من الأعمال ما يخرج ذلك عن قلبه لكن على سبيل التدريج إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ بمنعها عن حقوقها التي اقتضتها استعداداتهم من الكمالات المودعة فيها قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ حيث قعدتم عن السعي وفرطتم في جنب الله تعالى وقصرتم عن بلوغ الكمال الذي ندبتم إليه قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ أي أرض الاستعداد باستيلاء قوى النفس الأمارة وغلبة سلطان الهوى وشيطان الوهم قالوا: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها أي ألم تكن سعة استعدادكم بحيث تهاجروا فيها من مبدأ فطرتكم إلى نهاية كمالكم، وذلك مجال واسع فلو تحركتم وسرتم بنور فطرتكم خطوات يسيرة بحيث ارتفعت عنكم بعض الحجب انطلقتم عن أسر القوى وتخلصتم عن قيود الهوى وخرجتم عن القرية الظالم أهلها التي هي مكة النفس الأمارة إلى البلدة الطيبة التي هي مدينة القلب، وإنما نسب سبحانه وتعالى هنا التوفي إلى الملائكة لأن التوفي وهو استيفاء الروح من البدن بقبضها عنه على ثلاثة أوجه: توفي الملائكة وتوفي ملك الموت وتوفي الله تعالى، فأما توفي الملائكة فهو لأرباب النفوس، وهم إما سعداء وإما أشقياء، وأما توفي ملك الموت فهو لأرباب القلوب الذين برزوا عن حجاب النفس إلى مقام القلب وأما توفي الله تعالى فهو للموحدين الذين عرج بهم عن مقام القلب إلى محل الشهود فلم يبق بينهم وبين ربهم حجاب فهو سبحانه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 يتولى قبض أرواحهم بنفسه ويحشرهم إلى نفسه عز وجل، ولما لم يكن هؤلاء الظالمين من أحد الصنفين الأخيرين نسب سبحانه توفيهم إلى الملائكة، وقيد ذلك بحال ظلمهم أنفسهم فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ الطبيعة وَساءَتْ مَصِيراً لما أن نار البعد والحجاب بها موقدة إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وهم كما قال بعض العارفين: أقوياء الاستعداد الذين قويت قواهم الشهوية والغضبية مع قوة استعدادهم فلم يقدروا على قمعها في سلوك طريق الحق ولم يذعنوا لقواهم الوهبية والخيالية فيبطل استعدادهم بالعقائد الفاسدة فبقوا في أسر قواهم البدنية مع تنور استعدادهم بنور العلم وعجزهم عن السلوك برفع القيود وَالنِّساءِ أي القاصرين الاستعداد عن درك الكمال العلمي وسلوك طريق التحقيق الضعفاء القوى، قيل: وهم البله المذكورون في خبر «أكثر أهل الجنة البله» وَالْوِلْدانِ أي القاصرين عن بلوغ درجة الكمال لفترة تلحقهم من قبل صفات النفس لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً لعدم قدرتهم وعجزهم عن كسر النفس وقمع الهوى وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا لعدم علمهم بكيفية السلوك فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ بمحو تلك الهيئات المظلمة لعدم رسوخها وسلامة عقائدهم وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا عن الذنوب ما لم تتغير الفطرة غَفُوراً يستر بنور صفاته صفات النفوس القابلة لذلك وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عن مقار النفس المألوفة يَجِدْ فِي الْأَرْضِ أي أرض استعداده مُراغَماً كَثِيراً أي منازلا كثيرة يرغم فيها أنوف قوى نفسه وَسَعَةً أي انشراحا في الصدر لسبب الخلاص من مضايق صفات النفس وأسر الهوى وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ أي مقامه الذي هو فيه مهاجرا إلى الله بالتوجه إلى توحيد الذات وَرَسُولِهِ بالتوجه إلى طلب الاستقامة في توحيد الصفات ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ أي الانقطاع فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ حسبما توجه إليه وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً فيستر بصفاته صفات من توجه إليه ويرحم من انقطع دون الوصول بما هو أهله، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل، ثم إنه سبحانه بعد أن أمر بالجهاد ورغب في الهجرة أردف ذلك ببيان كيفية الصلاة عند الضرورات من تخفيف المئونة ما يؤكد العزيمة على ذلك، فقال سبحانه وتعالى: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ أي سافرتم أيّ سفر كان، ولذا لم يقيد بما قيد به المهاجرة، والشافعي رضي الله تعالى عنه يخص السفر بالمباح- كسفر التجارة- والطاعة- كسفر الحج- ويخرج سفر المعصية- كقطع الطريق والإباق- فلا يثبت فيه الحكم الآتي لأنه رخصة، وهي إنما تثبت تخفيفا وما كان كذلك لا يتعلق بما يوجب التغليظ لأن إضافة الحكم إلى وصف يقتضي خلافه فساد في الوضع، ولنا إطلاق النصوص مع وجود قرينة في بعضها تشعر بإرادة المطلق وزيادة قيد عدم المعصية نسخ على ما عرف في موضعه، ولأن نفس السفر ليس بمعصية إذ هو عبارة عن خروج مديد وليس في هذا شيء من المعصية، وإنما المعصية ما يكون بعده كما في السرقة، أو مجاوره كما في الإباق فيصلح من حيث ذاته متعلق الرخصة لإمكان الانفكاك عما يجاوره كما إذا غصب خفا ولبسه فإنه يجوز له أن يمسح عليه لأن الموجب ستر قدمه ولا محظور فيه، وإنما هو في مجاوره وهو صفة كونه مغصوبا وتمامه في الأصول. والمراد من الأرض ما يشمل البر والبحر، والمقصود التعميم أي إذا سافرتم في أي مكان يسافر فيه من بر أو بحر فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي حرج وإثم أَنْ تَقْصُرُوا أي في أن تقصروا، والقصر خلاف المد يقال: قصرت الشيء إذا جعلته قصيرا بحذف بعض أجزائه أو أوصافه، فمتعلق القصر إنما هو ذلك الشيء لا بعضه فإنه متعلق الحذف دون القصر، فقوله تعالى: مِنَ الصَّلاةِ ينبغي على هذا أن يكون مفعولا لتقصروا ومِنَ زائدة حسبما نقله أبو البقاء عن الأخفش القائل بزيادتها في الإثبات، وأما على تقدير أن تكون تبعيضية ويكون المفعول محذوفا والجار والمجرور في موضع الصفة- على ما نقله الفاضل المذكور عن سيبويه- أي شيئا من الصلاة فينبغي أن يصار إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 وصف الجزء بوصف الكل، أو يراد بالقصر الحبس كما في قوله تعالى: حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ [الرحمن: 72] أو يراد بالصلاة الجنس ليكون المقصود بعضا منها وهي الرباعية أي فليس عليكم جناح في أن تقصروا بعض الصلاة بتنصيفها، وقرىء «تقصروا» من أقصر ومصدره الإقصار. وقرأ الزهري «تقصروا» بالتشديد ومصدره التقصير والكل بمعنى، وأدنى مدة السفر الذي يتعلق به القصر في المشهور- عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه- مسيرة ثلاثة أيام ولياليها بسير الإبل، ومشي الأقدام بالاقتصاد في البر، وجري السفينة والريح معتدلة في البحر، ويعتبر في الجبل كون هذه المسافة من طريق الجبل بالسير الوسط أيضا، وفي رواية عنه رضي الله تعالى عنه التقدير بالمراحل وهو قريب من المشهور. وقدر أبو يوسف بيومين وأكثر الثالث، والشافعي رحمه الله تعالى في قول: بيوم وليلة، وقدر عامة المشايخ ذلك بالفراسخ، ثم اختلفوا فقال بعضهم: أحد وعشرون فرسخا. وقال آخرون ثمانية عشر، وآخرون خمسة عشر، والصحيح عدم التقدير بذلك، ولعل كل من قدر بقدر مما ذكر اعتقد أنه مسيرة ثلاثة أيام ولياليها، والدليل على هذه المدة ما صح من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «يمسح المقيم كمال يوم وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها» لأنه صلّى الله عليه وسلّم عمم الرخصة الجنس، ومن ضرورته عموم التقدير، والقول بكون «ثلاثة أيام» ظرفا للمسافر لا ليمسح يأباه أن السوق ليس إلا لبيان كمية مسح المسافر لا لإطلاقه، وعلى تقدير كونه ظرفا للمسافر يكون يمسح مطلقا وليس بمقصود، وأيضا يبطل كونه ظرفا لذلك أن المقيم يمسح يوما وليلة إذ يلزم عليه اتحاد حكم السفر والإقامة في بعض الصور وهي صورة مسافر يوم وليلة لأنه إنما يمسح يوما وليلة وهو معلوم البطلان للعلم بفرق الشرع بين المسافر والمقيم على أن ظرفية «ثلاثة» للمسافر تستدعي ظرفية اليوم للمقيم ليتفق طرفا الحديث، وحينئذ- يكون لا يكاد ينسب إلى أفصح من نطق بالضاد صلّى الله عليه وسلّم، وربما يستدل للقصر في أقل من ثلاثة بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: «يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان» فإنه يفيد القصر في الأربعة برد وهي تقطع في أقل من ثلاثة، وأجيب بأن راوي الحديث عبد الوهاب بن مجاهد، وهو ضعيف عند النقلة جدا حتى كان سفيان يزريه بالكذب فليفهم، واحتج الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه بظاهر الآية الكريمة على عدم وجوب القصر وأفضلية الإتمام، وأيد ذلك بما أخرجه ابن أبي شيبة والبزار والدارقطني عن عائشة رضي الله تعالى عنها «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقصر في السفر ويتم» وما أخرجه النسائي والدارقطني وحسنه البيهقي وصححه «أن عائشة رضي الله تعالى عنها لما اعتمرت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالت: يا رسول الله قصرت وأتممت وصمت وأفطرت؟ فقال: أحسنت يا عائشة» وبما روي عن عثمان رضي الله تعالى عنه أنه كان يتم ويقصر، وعندنا يجب القصر لا محالة خلا أن بعض مشايخنا سماه عزيمة، وبعضهم رخصة إسقاط بحيث لا مساغ للإتمام لا رخصة توفية إذ لا معنى للتخيير بين الأخف والأثقل، وهو قول عمر وعلي وابن عباس وابن عمر وجابر وجميع أهل البيت رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وبه قال الحسن وعمر بن عبد العزيز وقتادة، وهو قول مالك، وأخرج النسائي وابن ماجه عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: «صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم عليه الصلاة والسلام» وروى الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: «أول ما فرض الله تعالى الصلاة ركعتين ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر» وأما ما روي عنها من الإتمام فقد اعتذرت عنه وقالت: أنا أم المؤمنين فحيث حللت فهي داري كما اعتذر عثمان رضي الله تعالى عنه من إتمامه بأنه تأهل بمكة وأزمع الإقامة بها كما روي عن الزهري فلا يرد أنها رضي الله تعالى عنها خالف رأيها روايتها، وإذا خالف الراوي روايته في أمر لا يعمل بروايته فيه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 والقول: بأن حديثها غير مرفوع لأنها لم تشهد فرض الصلاة غير مسلم لجواز أنها سمعته من النبي صلّى الله عليه وسلّم، نعم ذكر بعض الشافعية أن الخبر مؤول بأن الفرض في قولها: «فرضت ركعتين» بمعنى البيان وقد ورد بهذا المعنى ك فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ [التحريم: 2] . وقال الطبري: معناه فرضت لمن اختار ذلك من المسافرين، وهذا كما قيل في الحاج: إنه مخير في النفر في اليوم الثاني والثالث، وأيا فعل فقد قام الفرض وكان صوابا، وقال النووي: المعنى فرضت ركعتين لمن أراد الاقتصار عليهما فزيد في الحضر ركعتان على سبيل التحتم، وأقرت صلاة السفر على جواز الإتمام وحيث ثبتت دلائل الإتمام وجب المصير إلى ذلك جمعا بين الأدلة، وقال ابن حجر عليه الرحمة: والذي يظهر لي في جمع الأدلة أن الصلاة فرضت ليلة الإسراء ركعتين ركعتين إلا المغرب، ثم زيدت عقب الهجرة إلا الصبح كما رواه ابن خزيمة وابن حبان والبيهقي عن عائشة، وفيه: وتركت الفجر لطول القراءة والمغرب لأنها وتر النهار، ثم بعد ما استقر فرض الرباعية خفف منها في السفر عند نزول الآية، ويؤيده قول ابن الأثير: إن القصر كان في السنة الرابعة من الهجرة، وهو مأخوذ من قول غيره: إن نزول آية الخوف فيها، وقيل: القصر كان في ربيع الآخر من السنة الثانية كما ذكره الدولابي، وقال السهيلي: إنه بعد الهجرة بعام أو نحوه، وقيل: بعد الهجرة بأربعين يوما فعلى هذا قول عائشة رضي الله تعالى عنها فأقرت صلاة السفر أي باعتبار ما آل إليه الأمر من التخفيف لا أنها استمرت منذ فرضت فلا يلزم من ذلك أن القصر عزيمة انتهى. واستبعد هذا الجمع بأنها لو كانت قبل الهجرة ركعتين لاشتهر ذلك، وقال آخرون منهم: إن الآية صريحة في عدم وجوب الإتمام، وما ذكر خبر واحد فلا يعارض النص الصريح على أنه مخصوص بغير الصبح والمغرب، وحجية العام المخصوص مختلف فيها، وذكر أصحابنا أن كثرة الأخبار، وعمل الجم الغفير من الصحابة والتابعين وجميع العترة رضي الله تعالى عنهم أجمعين بها يقوي القول بالوجوب ووردوه بنفي الجناح لأنهم ألفوا الإتمام فكانوا مظنة أن يخطر ببالهم أن عليهم نقصانا في القصر فصرح بنفي الجناح عليهم لتطيب به نفوسهم وتطمئن إليه كما في قوله تعالى: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما [البقرة: 158] مع أن ذلك الطواف واجب عندنا، ركن عند الشافعي رحمه الله تعالى، وعن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أنه تلا هذه الآية لمن استبعد الوجوب بنفي الجناح إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا جوابه محذوف لدلالة ما قبل عليه أي إن خفتم أن يتعرضوا لكم بما تكرهونه من القتال أو غيره فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ إلخ، وقد أخذ بعضهم بظاهر هذا الشرط فقصر القصر على الخوف، وأخرج ابن جرير عن عائشة رضي الله تعالى عنها، والذي عليه الأئمة أن القصر مشروع في الأمن أيضا وقد تظاهرت الأخبار على ذلك فقد أخرج النسائي، والترمذي وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «صلينا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين مكة والمدينة ونحن آمنون لا نخاف شيئا ركعتين» وأخرج الشيخان، وغيرهما من أصحاب السنن عن حارثة بن وهب الخزاعي أنه قال: «صليت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم الظهر والعصر بمنى أكثر ما كان الناس وآمنه ركعتين» إلى غير ذلك، ولا يتوهمن أنه مخالف للكتاب لأن التقييد بالشرط عندنا إنما يدل على ثبوت الحكم عند وجود الشرط، وأما عدمه عند عدمه فساكت عنه فإن وجد له دليل ثبت عنده أيضا، وإلا يبقى على حاله لعدم تحقق دليله لا لتحقق دليل عدمه. وناهيك ما سمعت من الأدلة الواضحة، وأما عند القائلين بالمفهوم فلأنه إنما على نفي الحكم عند عدم الشرط إذا لم يكن فيه فائدة أخرى، وقد خرج الشرط هاهنا مخرج الأغلب كما قيل في قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة: 229] بل قد يقال إن الآية الكريمة مجملة في حق مقدار القصر وكيفيته وفي حق ما يتعلق به من الصلوات وفي مقدار مدة الضرب الذي نيط به القصر فكل ما ورد منه صلّى الله عليه وسلّم من القصر في حال الأمن وتخصيصه بالرباعيات على وجه التنصيف وبالضرب في المدة المعينة بيان لإجمال الكتاب كما قاله شيخ الإسلام، وقال بعضهم: إن القصر في الآية محمول على قصر الأحوال من الإيماء وتخفيف التسبيح والتوجه إلى أي وجه وحينئذ يبقى الشرط على ظاهر مقتضاه المتبادر إلى الأذهان، ونسب ذلك إلى طاوس والضحاك. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية: قصر الصلاة إن لقيت العدو وقد حانت الصلاة أن تكبر الله تعالى وتخفض رأسك إيماء راكبا كنت أو ماشيا، وقيل: إن قوله تعالى: إِنْ خِفْتُمْ إلخ متعلق بما بعده من صلاة الخوف منفصل عما قبله. فقد أخرج ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: «سأل قوم من التجار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي؟ فأنزل الله تعالى: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ثم انقطع الوحي فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي صلّى الله عليه وسلّم فصلى الظهر فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم؟ فقال قائل منهم: إن لهم أخرى مثلها في إثرها فأنزل الله تعالى بين الصلاتين إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى قوله سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً فنزلت صلاة الخوف» ولعل جواب الشرط على هذا محذوف أيضا على طرز ما تقدم، ونقل الطبرسي عن بعضهم أن القصر في الآية بمعنى الجمع بين الصلاتين وليس بشيء أصلا. وقرأ أبيّ كما قال ابن المنذر: فأقصروا من الصلاة أن يفتنكم، والمشهور أنه كعبد الله أسقط إِنْ خِفْتُمْ فقط، وأيا ما كان فإن أَنْ يَفْتِنَكُمُ في موضع المفعول له لما دل عليه الكلام بتقدير مضاف كأنه قيل: شرع لكم ذلك كراهة أَنْ يَفْتِنَكُمُ إلخ فإن استمرار الاشتغال بالصلاة لاقتدار الكافرين على إيقاع الفتنة، وقوله تعالى: إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً إما تعليل لذلك باعتبار تعلله بما ذكر، أو تعليل لما يفهم من الكلام من كون فتنتهم متوقعة فإن كمال العداوة من موجبات التعرض بالسوء، وعَدُوًّا كما قال أبو البقاء: في موضع أعداء، وقيل: هو مصدر على فعول مثل الولوع والقبول، ولَكُمْ حال منه، أو متعلق بكان. وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ بيان لما قبله من النص المجمل في مشروعية القصر بطريق التفريع وتصوير لكيفيته عند الضرورة التامة، والخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم بطريق التجريد، وتعلق بظاهره من خص صلاة الخوف بحضرته عليه الصلاة والسلام كالحسن بن زيد، ونسب ذلك أيضا لأبي يوسف، ونقله عنه الجصاص في كتاب الأحكام، والنووي في المهذب، وعامة الفقهاء على خلافه فإن الأئمة بعده صلّى الله عليه وسلّم نوابه وقوّام بما كان يقوم به فيتناولهم حكم الخطاب الوارد له عليه الصلاة والسلام كما في قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة: 103] وقد أخرج أبو داود والنسائي وابن حبان وغيرهم عن ثعلبة بن زهدم قال: «كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان فقال: أيكم صلى مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا، ثم وصف له ذلك فصلوا كما وصف ولم يقضوا، وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ولم ينكره أحد منهم وهم الذين لا تأخذهم في الله تعالى لومة لائم» وهذا يحل محل الإجماع، ويرد ما زعمه المزني من دعوى النسخ أيضا فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ أي أردت أن تقيم بهم الصلاة فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ بعد أن جعلتهم طائفتين ولتقف الطائفة الأخرى تجاه العدو للحراسة ولظهور ذلك ترك وَلْيَأْخُذُوا أي الطائفة المذكورة القائمة معك أَسْلِحَتَهُمْ مما لا يشغل عن الصلاة كالسيف والخنجر وعن ابن عباس أن الآخذة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 هي الطائفة الحارسة فلا يحتاج حينئذ إلى التقييد إلا أنه خلاف الظاهر، والمراد من الأخذ عدم الوضع وإنما عبر بذلك عنه للايذان بالاعتناء باستصحاب الأسلحة حتى كأنهم يأخذونها ابتداء فَإِذا سَجَدُوا أي القائمون معك أي إذا فرغوا من السجود وأتموا الركعة- كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ أي فلينصرفوا للحراسة من العدو. وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا بعد وهي التي كانت تحرس، ونكرها لأنها لم تذكر قبل فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ الركعة الباقية من صلاتك، والتأنيث والتذكير مراعاة للفظ، والمعنى- ولم يبين في الآية الكريمة- حال الركعة الباقية لكل من الطائفتين، وقد بين ذلك بالسنة، فقد أخرج الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم عن سالم عن أبيه في قوله سبحانه: فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ هي صلاة الخوف صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإحدى الطائفتين ركعة، والطائفة الأخرى مقبلة على العدو، ثم انصرفت التي صلت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم فقاموا مقام أولئك مقبلين على العدو، وأقبلت الطائفة الأخرى التي كانت مقبلة على العدو فصلى بهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ركعة أخرى، ثم سلم بهم، ثم قامت كل طائفة فصلوا ركعة ركعة فتم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ركعتان ولكل من الطائفتين ركعتان ركعة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وركعة بعد سلامه. وعن ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حين صلى صلاة الخوف صلى بالطائفة الأولى ركعة وبالطائفة الأخرى ركعة كما في الآية فجاءت الطائفة الأولى وذهبت إلى مقابلة العدو حتى قضت الأولى الركعة الأخرى بلا قراءة وسلموا، ثم جاءت الطائفة الأخرى وقضوا الركعة الأولى بقراءة حتى صار لكل طائفة ركعتان، وهذا ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه، وإنما سقطت القراءة عن الطائفة الأولى في صلاتهم الركعة الثانية بعد سلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأنهم وإن كانوا في ثانيته عليه الصلاة والسلام في مقابلة العدو إلا أنهم في الصلاة وفي حكم المتابعة فكانت قراءة الإمام قائمة مقام قراءتهم كما هو حكم الاقتداء ولا كذلك الطائفة الأخرى لأنهم اقتدوا بالإمام في الركعة الثانية وأتم الإمام صلاته فلا بد لهم من القراءة في ركعتهم الثانية إذ لم يكونوا مقتدين بالإمام حينئذ، وذهب بعضهم إلى أن صلاة الخوف هي ما في هذه الآية ركعة واحدة ونسب ذلك إلى ابن عباس وغيره، فقد أخرج ابن جرير وابن أبي شيبة والنحاس عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: «فرض الله تعالى على لسان نبيكم صلّى الله عليه وسلّم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة، وأخرج الأولان وابن أبي حاتم عن يزيد الفقير «قال سألت جابر بن عبد الله عن الركعتين في السفر أقصرهما فقال: الركعتان في السفر تمام إنما القصر واحدة عند القتال بينا نحن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قتال إذ أقيمت الصلاة فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصفت طائفة وطائفة وجوهها قبل العدو فصلى بهم ركعة وسجد بهم سجدتين ثم انطلقوا إلى أولئك فقاموا مقامهم وجاء أولئك فقاموا خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصلى بهم ركعة وسجد بهم سجدتين، ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جلس فسلم وسلم الذين خلفه وسلم الأولون فكانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ركعتان وللقوم ركعة ركعة ثم قرأ الآية» ، وذهب الإمام مالك رضي الله تعالى عنه إلى أن كيفية صلاة الخوف أن يصلي الإمام بطائفة ركعة فإذا قام للثانية فارقته وأتمت وذهبت إلى وجه العدو وجاء الواقفون في وجهه والإمام ينتظرهم فاقتدوا به وصلى الركعة الثانية فإذا جلس للتشهد قاموا فأتموا ثانيتهم ولحقوه وسلم بهم، وهذه- كما رواه الشيخان- صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم بذات الرقاع، وهي أحد الأنواع التي اختارها الشافعي رضي الله تعالى عنه، واستشكل من ستة عشر نوعا، ويمكن حمل الآية عليها، ويكون المراد من السجود الصلاة والمعنى فإذا فرغوا من الصلاة فَلْيَكُونُوا إلخ، وأيد ذلك بأنه لا قصور في البيان عليه، وبأن ظاهر قوله سبحانه: فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ أن الطائفة الأخيرة تتم الصلاة مع الإمام، وليس فيه إشعار بحراستها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 مرة ثانية وهي في الصلاة البتة، وتحتمل الآية، بل قيل: إنها ظاهرة في ذلك أن الإمام يصلي مرتين كل مرة بفرقة وهي صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- كما رواه الشيخان أيضا- ببطن نخل، واحتمالها للكيفية التي فعلها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعسفان بعيد جدا، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام- كما قال ابن عباس ورواه عنه أحمد وأبو داود وغيرهما- صف الناس خلفه صفين، ثم ركع فركعوا جميعا، ثم سجد بالصف الذي يليه، والآخرون قيام يحرسونهم فلما سجدوا وقاموا جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم، ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء وهؤلاء إلى مصاف هؤلاء، ثم ركع عليه الصلاة والسلام فركعوا جميعا، ثم رفع فرفعوا ثم سجد هو والصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم فلما جلسوا جلس الآخرون فسجدوا ثم سلم عليهم، ثم انصرف صلّى الله عليه وسلّم وتمام الكلام يطلب من محله. وَلْيَأْخُذُوا أي الطائفة الأخرى حِذْرَهُمْ أي احترازهم وشبهه بما يتحصن به من الآلات ولذا أثبت له الأخذ تخييلا وإلا فهو أمر معنوي لا يتصف بالأخذ، ولا يضر عطف قوله سبحانه: وَأَسْلِحَتَهُمْ عليه للجمع بين الحقيقة والمجاز لأن التجوز في التخييل في الإثبات والنسبة لا في الطرف على الصحيح، ومثله لا بأس فيه بالجمع كما في قوله تعالى: تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ [الحشر: 9] ، وقال بعض المحققين: إن هذا وأمثاله من المشاكلة لما يلزم على الكناية التصريح بطرفيها وإن دفع بأن المشبه به أعم من المذكور، وإن فسر الحذر بما يدفع به فلا كلام، ولعل زيادة الأمر بالحذر- كما قال شيخ الإسلام- في هذه المرة لكونها مظنة لوقوف الكفرة على كون الطائفة القائمة مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في شغل شاغل، وأما قبلها فربما يظنونهم قائمين للحراب. وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً بيان لما لأجله أمروا بأخذ السلاح، والخطاب للفريقين بطريق الالتفاف أي تمنوا أن ينالوا منكم غرة في صلاتكم فيحملون عليكم جملة واحدة، والمراد بالأمتعة ما يمتع به في الحرب لا مطلقا وقرىء- أمتعاتكم- والأمر للوجوب لقوله تعالى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ حيث رخص لهم في وضعها إذا ثقل عليهم حملها واستصحابها بسبب مطر أو مرض، وأمروا بعد ذلك بالتيقظ والاحتياط فقال سبحانه: وَخُذُوا حِذْرَكُمْ أي بعد إلقاء السلاح للعذر لئلا يهجم عليكم العدو غيلة، واختار بعض أئمة الشافعية أن الأمر للندب، وقيدوه بما إذا لم يخف ضررا يبيح التيمم بترك الحمل، أما لو خاف وجب الحمل على الأوجه ولو كان السلاح نجسا ومانعا للسجود، وفي شرح المنهاج للعلامة ابن حجر ولو انتفى خوف الضرر وتأذى غيره بحمله كره إن خف الضرر بأن احتمل عادة، وإلا حرم، وبه يجمع بين إطلاق كراهته وإطلاق حرمته، والآية كما أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نزلت في عبد الرحمن بن عوف وكان جريحا، وذكر أبو ضمرة، ورواه الكلبي عن أبي صالح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غزا محاربا وبني أنمار فهزمهم الله تعالى وأحرزهم الذراري والمال، فنزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون ولا يرون من العدو واحدا فوضعوا أسلحتهم وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لحاجة له وقد وضع سلاحه حتى قطع الوادي والسماء ترش فحال الوادي بينه صلّى الله عليه وسلّم وبين أصحابه فجلس في ظل سمرة فبصر به غورث بن الحارث المحاربي فقال: قتلني الله تعالى إن لم أقتله وانحدر من الجبل ومعه السيف ولم يشعر به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا وهو قائم على رأسه ومعه السيف قد سله من غمده، فقال: يا محمد من يعصمك مني الآن؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: الله عزّ وجلّ ثم قال: اللهم اكفني غورث بن الحارث بما شئت فانكب عدو الله تعالى لوجهه وقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخذ سيفه فقال: يا غورث من يمنعك مني الآن؟ فقال: لا أحد قال صلّى الله عليه وسلّم: أتشهد أن لا إله إلا الله وأني عبد الله ورسوله؟ قال: لا، ولكني أعهد إليك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 أن لا أقاتلك أبدا ولا أعين عليك عدوا فأعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سيفه فقال له غورث: لأنت خير مني، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إني أحق بذلك فرجع غورث إلى أصحابه فقالوا: يا غورث لقدر رأيناك قائما على رأسه بالسيف فما منعك منه؟ قال: الله عزّ وجلّ أهويت له بالسيف لأضربه فما أدري من لزجني بين كتفي فخررت لوجهي وخر سيفي وسبقني إليه محمد عليه الصلاة والسلام فأخذه وأتم لهم القصة فآمن بعضهم ولم يلبث الوادي أن سكن، فقطع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أصحابه فأخبرهم الخبر، وقرأ عليهم الآية. إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً تعليل للأمر بأخذ الحذر أي أعدّ لهم عذابا مذلا وهو عذاب المغلوبية لكم ونصرتكم عليهم فاهتموا بأموركم ولا تهملوا مباشرة الأسباب كي يعذبهم بأيديكم، وقيل: لما كان الأمر بالحذر من العدو موهما لغلبته واعتزازه نفي ذلك الإيهام بالوعد بالنصر وخذلان العدو لتقوى قلوب المأمورين ويعلموا أن التحرز في نفسه عبادة كما أن النهي عن إلقاء النفس في التهلكة لذلك لا للمنع عن الإقدام على الحرب، وقيل: لا يبعد أن يراد بالعذاب المهين شرع صلاة الخوف فيكون لختم الآية به مناسبة تامة، ولا يخفى بعده فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ أي فإذا أديتم صلاة الخوف على الوجه المبين وفرغتم منها. فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ أي فداوموا على ذكره سبحانه في جميع الأحوال حتى في حال المسابقة والمقارعة والمراماة، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال عقب تفسيرها: لم يعذر الله تعالى أحدا في ترك ذكره إلا المغلوب على عقله، وقيل: المعنى وإذا أردتم أداء الصلاة واشتد الخوف أو التحم القتال فصلوا كيفما كان، وهو الموافق لمذهب الشافعي من جوب الصلاة حال المحاربة وعدم جواز تأخيرها عن الوقت، ويعذر المصلي حينئذ في ترك القبلة لحاجة القتال لا لنحو جماح دابة وطال الفصل، وكذا الأعمال الكثيرة لحاجة في الأصح لا الصياح أو النطق بدونه ولو دعت الحاجة إليه كتنبيه من خشي وقوع مهلك به أو زجر الخيل أو الإعلام بأنه فلان المشهور بالشجاعة لندرة الحاجة ولا قضاء بعد الأمن فيه، نعم لو صلوا كذلك لسواد ظنوه ولو بإخبار عدل عدوا فبان أن لا عدو وأن بينهم وبينه ما يمنع وصوله إليهم كخندق، أو أن بقربهم عرفا حصنا يمكنهم التحصن به من غير أن يحاصرهم فيه قضوا في الأظهر، ولا يخفى أن حمل الآية على ذلك في غاية البعد فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ أي أقمتم- كما قال قتادة ومجاهد- وهو راجع إلى قوله تعالى: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ ولما كان الضرب اضطرابا وكني به عن السفر ناسب أن يكنى بالاطمئنان عن الإقامة، وأصله السكون والاستقرار أي إذا استقررتم وسكنتم من السير والسفر في أمصاركم فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أي أدوا الصلاة التي دخل وقتها وأتموها وعدلوا أركانها وراعوا شروطها وحافظوا على حدودها، وقيل: المعنى فإذا أمنتم فأتموا الصلاة أي جنسها معدلة الأركان ولا تصلوها ماشين أو راكبين أو قاعدين، وهو المروي عن ابن زيد، وقيل: المعنى فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ في الجملة فاقضوا ما صليتم في تلك الأحوال التي هي حال القلق والانزعاج، ونسب إلى الشافعي رضي الله تعالى عنه وليس بالصحيح لما علمت من مذهبه وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر: 14] . إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً أي مكتوبا مفروضا مَوْقُوتاً محدود الأوقات لا يجوز إخراجها عن أوقاتها في شيء من الأحوال فلا بدّ من إقامتها سفرا أيضا، وقيل: المعنى كانت عليهم أمرا مفروضا مقدرا في الحضر بأربع ركعات وفي السفر بركعتين فلا بدّ أن تؤدى في كل وقت حسبما قدر فيه، واستدل بالآية من حمل الذكر فيما تقدم على الصلاة وأوجبها في حال القتال على خلاف ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ أي لا تضعفوا ولا تتوانوا في طلب الكفار بالقتال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ تعليل للنهي وتشجيع لهم أي ليس ما ينالكم من الآلام مختصا بكم بل الأمر مشترك بينكم وبينهم ثم إنهم يصبرون على ذلك فما لكم أنتم لا تصبرون مع إنكم أولى بالصبر منهم حيث إنكم ترجون وتطمعون من الله تعالى ما لا يخطر لهم ببال من ظهور دينكم الحق على سائر الأديان الباطلة، ومن الثواب الجزيل والنعيم المقيم في الآخرة. وجوز أن يحمل الرجاء على الخوف فالمعنى- ان الألم لا ينبغي أن يمنعكم لأن لكم خوفا من الله تعالى ينبغي أن يحترز عنه فوق الاحتراز عن الألم وليس لهم خوف يلجئهم إلى الألم وهم يختارونه لإعلاء دينهم الباطل فما لكم والوهن- ولا يخلو عن بعد، وأبعد منه ما قيل: إن المعنى أن الألم قدر مشترك وأنكم تعبدون الإله العالم القادر السميع البصير الذي يصح أن يرجى منه، وأنهم يعبدون الأصنام التي لا خيرهن يرجى ولا شرهن يخشى. وقرأ أبو عبد الرحمن الأعرج «أن تكونوا» بفتح الهمزة أن لا تهنوا لأن تكونوا تألمون وقوله تعالى: فَإِنَّهُمْ تعليل للنهي عن الوهن لأجله، وقرىء- تئلمون كما يئلمون- بكسر حرف المضارعة، والآية قيل: نزلت في الذهاب إلى بدر الصغرى لموعد أبي سفيان يوم أحد، وقيل: نزلت يوم أحد في الذهاب خلف أبي سفيان وعسكره إلى حمراء الأسد، وروي ذلك عن عكرمة وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً مبالغا في العلم فيعلم مصالحكم وأعمالكم ما تظهرون منها وما تسرون حَكِيماً فيما يأمر وينهى فجدوا في الامتثال لذلك فإن فيه عواقب حميدة وفوزا بالمطلوب إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ أخرج غير واحد عن قتادة بن النعمان رضي الله تعالى عنه أنه قال: كان أهل بيت منا يقال لهم: بنو أبيرق بشر وبشير ومبشر، وكان بشر رجلا منافقا يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم ينحله بعض العرب، ويقول: قال فلان كذا، وقال فلان كذا فإذا سمع أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك الشعر قالوا: والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث فقال: أو كلما قال الرجال قصيدة ... أضموا (1) فقالوا: ابن الأبيرق قالها وكانوا أهل حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام وكان طعام الناس بالمدينة التمر والشعير وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة من الشام من الدرمك (2) ابتاع منها فخص بها نفسه فقدمت ضافطة فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من الدرمك فجعله في مشربة له وفي المشربة سلاح له درعان وسيفاهما وما يصلحهما فعدا عدي من تحت الليل فنقب المشربة وأخذ الطعام والسلاح فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي تعلم أنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا فذهب بطعامنا وسلاحنا فتجسسنا في الدار وسألنا فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق قد استوقدوا في هذه الليلة ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم فقال بنو أبيرق: ونحن نسأل في الدار والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل رجلا منا له صلاح وإسلام فلما سمع ذلك لبيد اخترط سيفه ثم أتى بني أبيرق، وقال: أنا أسرق فو الله ليخالطنكم هذا السيف أو لتبينن هذه السرقة قالوا: إليك عنا أيها الرجل فو الله ما أنت بصاحبها فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها، فقال لي عمي: يا ابن أخي لو أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكرت له ذلك فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله إن أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي رفاعة فنقبوا مشربة له وأخذوا سلاحه وطعامه فليردوا علينا سلاحنا وأما الطعام فلا حاجة لنا فيه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: سأنظر في ذلك فلما سمع بنو أبيرق أتو رجلا منهم   (1) أضم. كفرح. غضب اهـ منه. [ ..... ] (2) الدرمك. كجعفر. دقيق الحواري اهـ منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 يقال له أسير بن عروة فكلموه في ذلك واجتمع إليه ناس من أهل الدار فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت قال قتادة: فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكلمته فقال: عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير بينة ولا ثبت فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك فأتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: الله تعالى المستعان فلم نلبث أن نزل القرآن إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ إلخ فلما نزل أتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالسلاح فرده إلى رفاعة فلما أتيت عمي بالسلاح وكان شيخا قد عسى في الجاهلية وكنت أرى إسلامه مدخولا قال: يا ابن أخي هو في سبيل الله فعرفت أن إسلامه كان صحيحا ثم لحق بشير بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد فأنزل الله تعالى وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ [النساء: 115] الآية، ثم إن حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه هجا سلافة فقال: فقد أنزلته بنت سعد وأصبحت ... ينازعها جلد استها وتنازعه ظننتم بأن يخفى الذي قد صنعتم ... وفينا نبي عنده الوحي واضعه فلما سمعت ذلك حملت رحله على رأسها فألقته بالأبطح فقالت: أهديت إليّ شعر حسان ما كنت تأتيني بخير، وأخرج ابن جرير عن السدي- واختاره الطبري- أن يهوديا استودع طعمة بن أبيرق درعا فانطلق بها إلى داره فحفر لها اليهودي ودفنها فخالف إليها طعمة فاحتفر عنها فأخذها فلما جاء اليهودي يطلب درعه كافره عنها فانطلق إلى أناس من اليهود من عشيرته فقال: انطلقوا معي فإني أعرف موضع الدرع فلما علم به طعمة أخذ الدرع فألقاها في دار أبي مليك الأنصاري فلما جاءت اليهود تطلب الدرع فلم تقدر عليها وقع به طعمة وأناس من قومه فسبوه، وقال طعمة: أتخونون ي فانطلقوا يطلبونها في داره فأشرفوا على دار أبي مليك فإذا هم بالدرع فقال طعمة: أخذها أبو مليك وجادلت الأنصار دون طعمة، وقال لهم: انطلقوا معي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقولوا له: ينضح عني ويكذب حجة اليهود، فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهمّ أن يفعل فأنزل الله تعالى الآية فلما فضح الله تعالى طعمة بالقرآن هرب حتى أتى مكة فكفر بعد إسلامه ونزل على الحجاج بن علاط السلمي فنقب بيته وأراد أن يسرقه فسمع الحجاج خشخشة في بيته وقعقعة جلود كانت عنده فنظر فإذا هو بطعمة فقال: ضيفي وابن عمي أردت أن تسرقني؟! فأخرجه فمات بحرة بني سليم كافرا وأنزل الله تعالى فيه وَمَنْ يُشاقِقِ إلخ، وعن عكرمة أن طعمة لما نزل فيه القرآن ولحق بقريش ورجع عن دينه وعدا على مشربة للحجاج سقط عليه حجر فلحج فلما أصبح أخرجوه من مكة فخرج فلقي ركبا من قضاعة فعرض لهم فقالوا: ابن سبيل منقطع به فحملوه حتى إذا جن عليه الليل عدا عليهم فسرقهم ثم انطلق فرجعوا في طلبه فأدركوه فقذفوه بالحجارة حتى مات، وعن ابن زيد أنه بعد أن لحق بمكة نقب بيتا يسرقه فهدمه الله تعالى عليه فقتله، وقيل: إنه أخرج فركب سفينة إلى جدة فسرق فيها كيسا فيه دنانير فأخذ وألقي في البحر. هذا وفي تأكيد الحكم إيذان بالاعتناء بشأنه كما أن في إسناد الإنزال إلى ضمير العظمة تعظيما لأمر المسند، وتقديم المفعول الغير الصريح للاهتمام والتشويق، وقوله سبحانه: بِالْحَقِّ في موضع الحال أي إنا أنزلنا إليك القرآن متلبسا بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ برهم وفاجرهم بِما أَراكَ اللَّهُ أي بما عرفك وأوحي به إليك، و «ما» موصولة والعائد محذوف وهو المفعول الأول- لأرى- وهي من رأى بمعنى عرف المتعدية لواحد وقد تعدت لاثنين بالهمزة، وقيل: إنها من الرأي من قولهم: رأي الشافعي كذا وجعلها علمية يقتضي التعدي إلى ثلاثة مفاعيل وحذف اثنين منها أي بما أراكه الله تعالى حقا وهو بعيد، وأما جعلها- من رأى البصرية مجازا- فلا حاجة إليه وَلا تَكُنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 لِلْخائِنِينَ وهم بنو أبيرق، أو طعمة ومن يعينه، أو هو ومن يسير بسيرته، واللام للتعليل، وقيل: بمعنى عن أي لا تكن لأجلهم أو عنهم خَصِيماً أي مخاصما للبرآء، والنهي معطوف على مقدر ينسحب عليه النظم الكريم كأنه قيل: إنا أنزلنا إليك الكتاب فاحكم به وَلا تَكُنْ إلخ، وقيل: عطف على أنزلنا بتقدير قلنا، وجوز عطفه على الكتاب لكونه منزلا ولا يخفى أنه خلاف الظاهر جدا وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ مما قلت لقتادة، أو مما هممت به في أمرت طعمة وبراءته لظاهر الحال، وما قاله صلّى الله عليه وسلّم لقتادة، وكذا الهمّ بالشيء خصوصا إذ يظن أنه الحق ليس بذنب حتى يستغفر منه لكن لعظم النبي صلّى الله عليه وسلّم وعصمة الله تعالى له وتنزيهه عما يوهم النقص وحاشاه- أمره بالاستغفار لزيادة الثواب وإرشاده إلى التثبت وأن ما ليس بذنب مما يكاد يعدّ حسنة من غيره إذا صدر منه عليه الصلاة والسلام بالنسبة لعظمته ومقامه المحدود يوشك أن يكون كالذنب فلا متمسك بالأمر بالاستغفار في عدم العصمة كما زعمه البعض، وقيل: يحتمل أن يكون المراد وَاسْتَغْفِرِ لأولئك الذين برؤوا ذلك الخائن إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً مبالغا في المغفرة والرحمة لمن استغفره، وقيل: لمن استغفر له وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ أي يخونونها وجعلت خيانة الغير خيانة لأنفسهم لأن وبالها وضررها عائد عليهم، ويحتمل أنه جعلت المعصية خيانة فمعنى يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ يظلمونها باكتساب المعاصي وارتكاب الآثام، وقيل: الخيانة مجاز عن المضرة ولا بعد فيه، والمراد بالموصول إما السارق أو المودع المكافر وأمثاله، وإما هو ومن عاونه فإنه شريك له في الإثم والخيانة، والخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم وهو عليه الصلاة والسلام المقصود بالنهي، والنهي عن الشيء لا يقتضي كون المنهي مرتكبا للمنهي عنه، وقد يقال: إن ذلك من قبيل لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] ومن هنا قيل: المعنى لا تجادل أيها الإنسان. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً كثير الخيانة مفرطا فيها أَثِيماً منهمكا في الإثم، وتعليق عدم المحبة المراد منه البغض والسخط بصيغة المبالغة ليس لتخصيصه بل لبيان إفراط بني أبيرق وقومهم في الخيانة والإثم. وقال أبو حيان: أتي بصيغة المبالغة فيهما ليخرج منه من وقع منه الإثم والخيانة مرة ومن صدر منه ذلك على سبيل الغفلة وعدم القصد، وليس بشيء، وإرداف الخوان بالأثيم قيل: للمبالغة، وقيل: إن الأول باعتبار السرقة أو إنكار الوديعة، والثاني باعتبار تهمة البريء، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقدمت صفة الخيانة على صفة الإثم لأنها سبب له، أو لأن وقوعهما كان كذلك، أو لتواخي الفواصل على ما قيل: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ أي يستترون منهم حياء وخوفا من ضررهم، وأصل ذلك طلب الخفاء وضمير الجمع عائد على الذين يَخْتانُونَ على الأظهر، والجملة مستأنفة لا موضع لها من الإعراب، وقيل: هي في موضع الحال من «من» وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ أي ولا يستحيون منه سبحانه وهو أحق بأن يستحى منه ويخاف من عقابه، وإنما فسر الاستخفاء منه تعالى بالاستحياء لأن الاستتار منه عز شأنه محال فلا فائدة في نفيه ولا معنى للذم في عدمه. وذكر بعض المحققين أن التعبير بذلك من باب المشاكلة وَهُوَ مَعَهُمْ على الوجه اللائق بذاته سبحانه، وقيل: المراد أنه تعالى عالم بهم وبأحوالهم فلا طريق إلى الاستخفاء منه تعالى سوى ترك ما يؤاخذ عليه والجملة في موضع الحال من ضمير يستخفون إِذْ يُبَيِّتُونَ أي يدبرون ولما كان أكثر التدبير مما يبيت عبر به عنه والظرف متعلق بما تعلق به ما قبله، وقيل: متعلق ب يَسْتَخْفُونَ. حيان: أتي بصيغة المبالغة فيهما ليخرج منه من وقع منه الإثم والخيانة مرة ومن صدر منه ذلك على سبيل الغفلة وعدم القصد، وليس بشيء، وإرداف الخوان بالأثيم قيل: للمبالغة، وقيل: إن الأول باعتبار السرقة أو إنكار الوديعة، والثاني باعتبار تهمة البريء، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقدمت صفة الخيانة على صفة الإثم لأنها سبب له، أو لأن وقوعهما كان كذلك، أو لتواخي الفواصل على ما قيل: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ أي يستترون منهم حياء وخوفا من ضررهم، وأصل ذلك طلب الخفاء وضمير الجمع عائد على الذين يَخْتانُونَ على الأظهر، والجملة مستأنفة لا موضع لها من الإعراب، وقيل: هي في موضع الحال من «من» وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ أي ولا يستحيون منه سبحانه وهو أحق بأن يستحى منه ويخاف من عقابه، وإنما فسر الاستخفاء منه تعالى بالاستحياء لأن الاستتار منه عز شأنه محال فلا فائدة في نفيه ولا معنى للذم في عدمه. وذكر بعض المحققين أن التعبير بذلك من باب المشاكلة وَهُوَ مَعَهُمْ على الوجه اللائق بذاته سبحانه، وقيل: المراد أنه تعالى عالم بهم وبأحوالهم فلا طريق إلى الاستخفاء منه تعالى سوى ترك ما يؤاخذ عليه والجملة في موضع الحال من ضمير يستخفون إِذْ يُبَيِّتُونَ أي يدبرون ولما كان أكثر التدبير مما يبيت عبر به عنه والظرف متعلق بما تعلق به ما قبله، وقيل: متعلق ب يَسْتَخْفُونَ . ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ من رمي البريء وشهادة الزور. قال النيسابوري: وتسمية التدبير وهو معنى في النفس قولا لا إشكال فيها عند القائلين بالكلام النفسي وأما عند غيرهم فمجاز، أو لعلهم اجتمعوا في الليل ورتبوا كيفية المكر فسمى الله تعالى كلامهم ذلك بالقول المبيت الذي لا يرضاه سبحانه، وقد تقدم لك في المقدمات ما ينفعك هاهنا فتذكر وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ أي بعملهم أو بالذي يعملونه من الأعمال الظاهرة والخافية مُحِيطاً أي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 حفيظا- كما قال الحسن- أو عالما لا يعزب عنه شيء ولا يفوت- كما قال غيره- وعلى القولين الإحاطة هنا مجاز ونظمها البعض في سلك المتشابه. ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ خطاب للذابين مؤذن بأن تعديد جناياتهم يوجب مشافهتهم بالتوبيخ والتقريع، والجملة مبتدأ وخبر، وقوله سبحانه: جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا جملة مبينة لوقوع أولاء خبرا فهو بمعنى المجادلين وبه تتم الفائدة، ويجوز أن يكون أولاء اسما موصولا كما هو مذهب بعض النحاة في كل اسم إشارة، وجادَلْتُمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 صلته، فالحمل حينئذ ظاهر، والمجادلة أشد المخاصمة وأصلها من الجدل وهو شدة الفتل، ومنه قيل للصقر: أجدل والمعنى هبوا أنكم بذلتم الجهد في المخاصمة عمن أشارت إليه الأخبار في الدنيا. فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي فمن يخاصمه سبحانه عنهم يوم لا يكتمون حديثا ولا يغني عنهم من عذاب الله تعالى شيء أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ يومئذ وَكِيلًا أي حافظا ومحاميا من بأس الله تعالى وعقابه، وأصل معنى الوكيل الشخص الذي توكل الأمور له وتسند إليه، وتفسيره بالحافظ المحامي مجاز من باب استعمال الشيء في لازم معناه، وأَمْ هذه منقطعة كما قال السمين، وقيل: عاطفة كما نقله في الدر المصون، والاستفهام كما قال الكرخي: في الموضعين للنفي أي لا أحد يجادل عنهم ولا أحد يكون عليهم وكيلا. وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أي شيئا يسوء به غيره كما فعل بشير برفاعة أو طعمة باليهودي أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ بما يختص به كالإنكار، وقيل: السوء ما دون الشرك، والظلم الشرك، وقيل: السوء الصغيرة، والظلم الكبيرة. ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ بالتوبة الصادقة ولو قبل الموت بيسير يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً لما استغفره منه كائنا ما كان رَحِيماً متفضلا عليه، وفيه حث لمن فيهم نزلت الآية من المذنبين على التوبة والاستغفار، قيل: وتخويف لمن لم يستغفر ولم يتب بحسب المفهوم فإنه يفيد أن من لم يستغفر حرم من رحمته تعالى وابتلي بغضبه وَمَنْ يَكْسِبْ أي يفعل إِثْماً ذنبا من الذنوب فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ بحيث لا يتعدى ضرره إلى غيرها فليحترز عن تعريضها للعقاب والوبال وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بكل شيء ومنه الكسب حَكِيماً في كل ما قدر وقضى، ومن ذلك لا تحمل وازرة وزر أخرى، وقيل: عَلِيماً بالسارق حَكِيماً في إيجاب القطع عليه، والأول أولى وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أي صغيرة، أو ما لا عمد فيه من الذنوب. وقرأ معاذ بن جبل يَكْسِبْ بكسر الكاف والسين المشددة وأصله يكتسب أَوْ إِثْماً أي كبيرة، أو ما كان عن عمد، وقيل: الخطيئة الشرك والإثم ما دونه، وفي الكشاف: الإثم الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب، والهمزة فيه بدل من الواو كأنه يثم الأعمال أي يكسرها بإحباطه، وفي الكشف كأن هذا أصله، ثم استعمل في مطلق الذنب في نحو قوله تعالى: كَبائِرَ الْإِثْمِ [الشورى: 37، النجم: 32] ، ومن هذا يعلم ضعف ما ذكره صاحب القيل ثُمَّ يَرْمِ بِهِ أي يقذف به ويسنده، وتوحيد الضمير لأنه عائد على أحد الأمرين لا على التعيين كأنه قيل: ثُمَّ يَرْمِ بأحد الأمرين، وقيل: إنه عائد على إِثْماً فإن المتعاطفين- بأو- يجوز عود الضمير فيما بعدهما على المعطوف عليه نحو إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الجمعة: 11] وعلى المعطوف نحو وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها [التوبة: 34] ، وقيل: إنه عائد على الكسب على حد اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة: 8] ، وقيل: في الكلام حذف أي- يرم بها وبه- وثُمَ للتراخي في الرتبة، وقرىء بهما بَرِيئاً مما رماه به ليحمله عقوبة العاجلة كما فعل من عنده الدرع بلبيد بن سهل، أو بأبي مليك فَقَدِ احْتَمَلَ بما فعل من رمي البريء، وقصده تحميل جريرته عليه وهو أبلغ من حمل، وقيل: افتعل بمعنى فاقتدر وقدر بُهْتاناً وهو الكذب على الغير بما يبهت منه ويتحير عند سماعه لفظاعته، وقيل: هو الكذب الذي يتحير في عظمه، والماضي- بهت- كمنع، ويقال في المصدر: بهتا وبهتا وبهتا وَإِثْماً مُبِيناً أي بينا لا مرية فيه ولا خفاء وهو صفة- لإثما- وقد اكتفي في بيان عظم البهتان بالتنكير التفخيمي على أن وصف الإثم بما ذكر بمنزلة وصف البهتان به لأنهما عبارة عن أمر واحد هو رمي البريء بجناية نفسه. وعبر عنه بهما تهويلا لأمره وتفظيعا لحاله فمدار العظم والفخامة كون المرمي به للرامي فإن رمي البريء بجناية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 ما خطيئة كانت أو إثما بهتان وإثم في نفسه، أما كونه بهتانا فظاهر، وأما كونه إثما فلأن كون الذنب بالنسبة إلى من فعله خطيئة لا يلزم منه كونه بالنسبة إلى من نسبه إلى البريء منه أيضا كذلك، بل لا يجوز ذلك قطعا كيف لا وهو كذب محرم في سائر الأديان فهو في نفسه بهتان وإثم لا محالة، وبكون تلك الجناية للرامي يتضاعف ذلك شدة ويزداد قبحا لكن لا لانضمام جنايته المكسوبة إلى رمي البريء وإلا لكان الرمي بغير جنايته مثله في العظم، ولا لمجرد اشتماله على تبرئة نفسه الخاطئة وإلا لكان الرمي بغير جنايته مع تبرئة نفسه مثله في العظم بل لاشتماله على قصد تحميل جنايته على البريء وإجراء عقوبتها عليه كما ينبىء عنه إيثار الاحتمال على الاكتساب ونحوه لما فيه من الإيذان بانعكاس تقديره مع ما فيه من الإشعار بثقل الوزر وصعوبة الأمر على ما يقتضيه ظاهر صيغة الافتعال، نعم بما ذكر من انضمام كسبه وتبرئة نفسه إلى رمي البريء تزداد الجناية قبحا لكن تلك الزيادة وصف للمجموع لا للإثم فقط- كذا قاله شيخ الإسلام- ولا يخفى أنه أولى مما يفهم من ظاهر كلام الكشاف من أن في التنزيل لفا ونشرا غير مرتب حيث قال إثر قوله تعالى: فَقَدِ احْتَمَلَ إلخ: لأنه بكسبه الإثم آثم، وبرميه البريء باهت فهو جامع بين الأمرين لخلوه عما يلزمه، وإن أجيب عنه فافهم. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ بإعلامك بما هم عليه بالوحي وتنبيهك على الحق، وقيل: لولا فضله بالنبوة ورحمته بالعصمة، وقيل: لولا فضله بالنبوة ورحمته بالوحي وقيل: المراد لولا حفظه لك وحراسته إياك. لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أي من الذين يختانون، والمراد بهم أسير بن عروة وأصحابه أو الذابون عن طعمة المطلعون على كنه القصة العالمون بحقيقتها، ويجوز أن يكون الضمير راجعا إلى الناس، والمراد بالطائفة الذين انتصروا للسارق أو المودع الخائن، وقيل: المراد بهم وفد ثقيف، فقد روي عن جرير عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أنهم قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: يا محمد جئناك نبايعك على أن لا نكسر أصنامنا بأيدينا وعلى أن نتمتع بالعزى سنة، فلم يجبهم صلّى الله عليه وسلّم وعصمه الله تعالى من ذلك فنزلت» . وعن أبي مسلم أنهم المنافقون هموا بما لم ينالوا من إهلاك النبي صلّى الله عليه وسلّم فحفظه الله تعالى منهم وحرسه بعين عنايته أَنْ يُضِلُّوكَ أي بأن يضلوك عن القضاء بالحق، أو عن اتباع ما جاءك في أمر الأصنام، أو بأن يهلكوك، وقد جاء الإضلال بهذا المعنى، ومنه على ما قيل: قوله تعالى: وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ [السجدة: 10] والجملة جواب لَوْلا وإنما نفى همهم مع أن المنفي إنما هو تأثيره فقط إيذانا بانتفاء تأثيره بالكلية، وقيل: المراد هو الهم المؤثر ولا ريب في انتفائه حقيقة. وقال الراغب: إن القوم كانوا مسلمين ولم يهموا بإضلاله صلّى الله عليه وسلّم أصلا وإنما كان ذلك صوابا عندهم وفي ظنهم وجوز أبو البقاء أن يكون الجواب محذوفا والتقدير- ولولا فضل الله عليك ورحمته لأضلوك- ثم استأنف بقوله سبحانه: لَهَمَّتْ أي لقد همت بذلك وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ أي ما يزيلون عن الحق إلا أنفسهم، أو ما يهلكون إلا إياها لعود وبال ذلك وضرره عليهم، والجملة اعتراضية، وقوله تعالى: وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ عطف عليه وعطفه على أَنْ يُضِلُّوكَ وهم محض ومِنْ صلة، والمجرور في محل النصب على المصدرية أي وما يضرونك شيئا من الضرر لما أنه تعالى عاصمك عن الزيغ في الحكم، وأما ما خطر ببالك فكان عملا منك بظاهر الحال ثقة بأقوال القائلين من غير أن يخطر لك أن الحقيقة على خلاف ذلك، أو لما أنه سبحانه عاصمك عن المداهنة والميل إلى آراء الملحدين والأمر بخلاف ما أنزل الله تعالى عليك، أو لما أنه جل شأنه وعدك العصمة من الناس وحجبهم عن التمكن منك وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ أي القرآن الجامع بين العنوانين، وقيل: المراد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 بالحكمة السنة، وقد تقدم الكلام في تحقيق ذلك، والجملة على ما قال الأجهوري: في موضع التعليل لما قبلها، وإلى ذلك أشار الطبرسي وهو غير مسلم على ما ذهب إليه أبو مسلم. وَعَلَّمَكَ بأنواع الوحي ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ أي الذي لم تكن تعلمه من خفيات الأمور وضمائر الصدور، ومن جملتها وجوه إبطال كيد الكائدين، أو من أمور الدين وأحكام الشرع- كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- أو من الخير والشر- كما قال الضحاك- أو من أخبار الأولين والآخرين- كما قيل- أو من جميع ما ذكر- كما يقال.. ومن الناس من فسر الموصول بأسرار الكتاب والحكمة أي إنه سبحانه أنزل عليك ذلك وأطلعك على أسراره وأوقفك على حقائقه فتكون الجملة الثانية كالتتمة للجملة الأولى، واستظهر في البحر العموم. وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً لا تحويه عبارة ولا تحيط به إشارة، ومن ذلك النبوة العامة والرئاسة التامة والشفاعة العظمى يوم القيامة لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ أي الذين يختانون، واختار جمع أن الضمير للناس، وإليه يشير كلام مجاهد، والنجوى- في الكلام كما قال الزجاج: ما يتفرد به الجماعة، أو الاثنان، وهل يشترط فيه أن يكون سرا أم لا؟ قولان: وتكون بمعنى التناجي، وتطلق على القوم المتناجين- كإذ هم نجوى- وهو إما من باب رجل عدل، أو على أنه جمع نجي- كما نقله الكرماني- والظرف الأول خبر لا والثاني في موضع الصفة للنكرة أي كائن مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ أي إلا في نجوى من أمر بِصَدَقَةٍ فالكلام على حذف مضاف، وبه يتصل الاستثناء، وكذا إن أريد بالنجوى المتناجون على أحد الاعتبارين، ولا يحتاج إلى ذلك التقدير حينئذ، ويكفي في صحة الاتصال صحة الدخول وإن لم يجزم به فلا يرد ما توهمه عصام الدين من أن مثل جاءني كثير من الرجال إلا زيدا لا يصح فيه الاتصال لعدم الجزم بدخول زيد في الكثير، ولا الانقطاع لعدم الجزم بخروجه، ولا حاجة إلى ما تكلف في دفعه- بأن المراد لا خير في كثير من نجوى واحد منهم إلا نجوى من أمر إلخ، فإنه في كثير من نجواه خير- فإنه على ما فيه لا يتأتى مثله على احتمال الجمع، وجوز رحمه الله تعالى، بل زعم أنه الأولى أن يجعل إِلَّا مَنْ أَمَرَ متعلقا بما أضيف إليه النجوى بالاستثناء أو البدل، ولا يخفى أنه إن سلم أن له معنى خلاف الظاهر، وجوز غير واحد أن يكون الاستثناء منقطعا على معنى لكن من أمر بصدقة وإن قلّت ففي نجواه الخير أَوْ مَعْرُوفٍ وهو كل ما عرفه الشرع واستحسنه، فيشمل جميع أصناف البر كقرض وإغاثة ملهوف، وإرشاد ضال إلى غير ذلك، ويراد به هنا ما عدا الصدقة وما عدا ما أشير إليه بقوله تعالى: أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وتخصيصه بالقرض وإغاثة الملهوف وصدقة التطوع، وتخصيص الصدقة فيما تقدم بالصدقة الواجبة مما لا داعي إليه وليس له سند يعول عليه، وخص الصدقة والإصلاح بين الناس بالذكر من بين ما شمله هذا العام إيذانا بالاعتناء بهما لما في الأول من بذل المال الذي هو شقيق الروح، وما في الثاني من إزالة فساد ذات البين- وهي الحالقة للدين- كما في الخبر، وقدم الصدقة على الإصلاح لما أن الأمر بها أشق لما فيه من تكليف بذل المحبوب، والنفس تنفر عمن يكلفها ذلك، ولا كذلك الأمر بالإصلاح، وذكر الإمام الرازي أن السر في إفراد هذه الأقسام الثلاثة بالذكر أن عمل الخير المتعدي إلى الناس، إما لإيصال المنفعة أو لدفع المضرة، والمنفعة إما جسمانية كإعطاء المال، وإليه الإشارة بقوله تعالى: إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ وإما روحانية وإليه الإشارة بالأمر بالمعروف، وإما رفع الضرر فقد أشير إليه بقوله تعالى: أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ولا يخفى ما فيه، والمراد من الإصلاح بين الناس التأليف بينهم بالمودة إذا تفاسدوا من غير أن يجاوز في ذلك حدود الشرع الشريف، نعم أبيح الكذب لذلك، فقد أخرج الشيخان وأبو داود عن أم كلثوم بنت عقبة أنها سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ليس الكذاب بالذي يصلح بين الناس فينمي خيرا أو يقول خيرا، وقالت: لم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 ثلاث: في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها» . وعد غير واحد الإصلاح من الصدقة، وأيد بما أخرجه البيهقي عن أبي أيوب «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال له: يا أبا أيوب ألا أدلك على صدقة يرضى الله تعالى ورسوله موضعها؟ قال: بلى قال: تصلح بين الناس إذا تفاسدوا وتقرب بينهم إذا تباعدوا» ، وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أفضل الصدقة إصلاح ذات البين» وهذا الخبر ظاهر في أن الإصلاح أفضل من الصدقة بالمال. ومثله ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه عن أبي الدرداء قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى قال: إصلاح ذات البين» ولا يخفى أن هذا ونحوه مخرّج مخرج الترغيب، وليس المراد ظاهره إذ لا شك أن الصيام المفروض والصلاة المفروضة والصدقة كذلك أفضل من الإصلاح اللهم إلا أن يكون إصلاح يترتب على عدمه شر عظيم وفساد بين الناس كبير. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي المذكور من الصدقة وأخويها والكلام تذييل للاستثناء، وكان الظاهر ومن يأمر بذلك ليكون مطابقا للمذيل إلا أنه رتب الوعد على الفعل إثر بيان خيرية الآمر لما أن المقصود الترغيب في الفعل وبيان خيرية الآمر به للدلالة على خيريته بالطريق الأولى، وجوز أن يكون عبر عن الأمر بالفعل إذ هو يكنى به عن جميع الأشياء كما إذا قيل: حلفت على زيد وأكرمته وكذا وكذا فتقول: نعم ما فعلت، ولعل نكتة العدول عن يأمر إلى يَفْعَلْ حينئذ الإشارة إلى أن التسبب لفعل الغير الصدقة والإصلاح والمعروف بأي وجه كان كاف في ترتب الثواب، ولا يتوقف ذلك على اللفظ، ويجوز جعل ذلك إشارة إلى الأمر فيكون معنى من أمر وَمَنْ يَفْعَلْ الأمر واحدا، وقيل: لا حاجة إلى جعله تذييلا ليحتاج إلى التأويل تحصيلا للمطابقة، بل لما ذكر لآمر استطراد ذكر ممتثل أمره كأنه قيل: ومن يمتثل ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ أي لأجل طلب رضاء الله تعالى فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ بنون العظمة على الالتفات، وقرأ أبو عمرو وحمزة وقتيبة عن الكسائي وسهل وخلف بالياء أَجْراً عَظِيماً لا يحيط به نطاق الوصف، قيل: وإنما قيد الفعل بالابتغاء المذكور لأن الأعمال بالنيات، وإن من فعل خيرا لغير ذلك لم يستحق به غير الحرمان، ولا يخفى أن هذا ظاهر في أن الرياء محبط لثواب الأعمال بالكلية وهو ما صرح به ابن عبد السلام والنووي وقال الغزالي: إذا غلب الإخلاص فهو مثاب وإلا فلا، وقيل: هو مثاب غلب الإخلاص أم لا لكن على قدر الإخلاص، وفي دلالة الآية- على أن غير المخلص لا يستحق غير الحرمان- نظر لأنه سبحانه أثبت فيها للمخلص أجرا عظيما وهو لا ينافي أن يكون لغيره ما دونه، وكون العظمة بالنسبة إلى أمور الدنيا خلاف الظاهر وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ أي يخالفه- من الشق فإن كلّا من المتخالفين في شق غير شق الآخر، ولظهور الانفكاك بين الرسول- ومخالفة فك الإدغام هنا، وفي قوله سبحانه في [الأنفال: 13] مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ - رعاية لجانب المعطوف، ولم يفك في قوله تعالى في [الحشر: 4] وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ. وقال الخطيب: في حكمة الفك والإدغام أن أل في الاسم الكريم لازمة بخلافها في الرسول، واللزوم يقتضي الثقل فخفف بالإدغام فيما صحبته الجلالة بخلاف ما صحبه لفظ الرسول، وفي آية الأنفال صار المعطوف والمعطوف عليه كالشيء الواحد، وما ذكرناه أولى، والتعرض لعنوان الرسالة لإظهار كمال شناعة ما اجترءوا إليه من المشاقة والمخالفة، وتعليل الحكم الآتي بذلك، والآية نزلت كما قدمناه في سارق الدرع أو مودعها، وقيل: في قوم طعمة لما ارتدوا بعد أن أسلموا، وأيا ما كان فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فيندرج فيه ذلك وغيره من المشاقين مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى أي ظهر له الحق فيما حكم به النبي صلّى الله عليه وسلّم أو فيما يدعيه عليه الصلاة والسلام بالوقوف على المعجزات الدالة على نبوته وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ أي غير ما هم مستمرون عليه من عقد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 وعمل فيعم الأصول والفروع والكل والبعض نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى أي نجعله واليا لما تولاه من الضلال ويؤول إلى أنا نضله، وقيل: معناه نخل بينه وبين ما اختاره لنفسه، وقيل: نكله في الآخرة إلى ما اتكل عليه وانتصر به في الدنيا من الأوثان وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ أي ندخله إياها، وقد تقدم. وقرىء بفتح النون من صلاه وَساءَتْ مَصِيراً أي جهنم أو التولية، واستدل الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه على حجية الإجماع بهذه الآية، فعن المزني أنه قال: كنت عند الشافعي يوما فجاءه شيخ عليه لباس صوف وبيده عصا فلما رآه ذا مهابة استوى جالسا وكان مستندا لإسطوانة وسوى ثيابه فقال له: ما الحجة في دين الله تعالى؟ قال: كتابه، قال: وماذا؟ قال: سنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم قال: وماذا؟ قال: اتفاق الأمة، قال: من أين هذا الأخير أهو في كتاب الله تعالى؟ فتدبر ساعة ساكتا، فقال له الشيخ: أجلتك ثلاثة أيام بلياليهنّ فإن جئت بآية، وإلا فاعتزل الناس فمكث ثلاثة أيام لا يخرج وخرج في اليوم الثالث بين الظهر والعصر وقد تغير لونه فجاءه الشيخ وسلم عليه وجلس، وقال: حاجتي، فقال: نعم أعوذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم قال الله عز وجل: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ إلخ لم يصله جهنم على خلاف المؤمنين إلا واتباعهم فرض، قال: صدقت، وقام وذهب، وروي عنه أنه قال: قرأت القرآن في كل يوم وفي كل ليلة ثلاث مرات حتى ظفرت بها ونقل الإمام عنه أنه سئل عن آية من كتاب الله تعالى تدل على أن الإجماع حجة فقرأ القرآن ثلاثمائة مرة حتى وجد هذه الآية. واعترض ذلك الراغب بأن سبيل المؤمنين الإيمان كما إذا قال اسلك سبيل الصائمين والمصلين أي في الصوم والصلاة، فلا دلالة في الآية على حجية الإجماع، ووجوب اتباع المؤمنين في غير الإيمان، ورده في الكشف بأنه تخصيص بما يأباه الشرط الأول، ثم إنه إذا كان مألوف الصائمين الاعتكاف مثلا تناول الأمر باتباعهم ذلك أيضا فكذلك يتناول ما هو مقتضى الإيمان فيما نحن فيه، فسبيل المؤمنين هنا عام على ما أشرنا إليه. واعترض بأن المعطوف عليه مقيد بتبين الهدى فيلزم في المعطوف ذلك فإذا لم يكن في الإجماع فائدة لأن الهدى عام لجميع الهداية، ومنها دليل الإجماع وإذا حصل الدليل لم يكن للمدلول فائدة، وأجيب بمنع لزوم القيد في المعطوف، وعلى تقدير التسليم فالمراد بالهداية الدليل على التوحيد والنبوة، فتفيد الآية أن مخالفة المؤمنين بعد دليل التوحيد والنبوة حرام، فيكون الإجماع مفيدا في الفروع بعد تبين الأصول، وأوضح القاضي وجه الاستدلال بها على حجية الإجماع وحرمة مخالفته بأنه تعالى رتب فيها الوعيد الشديد على المشاقة واتباع غير سبيل المؤمنين، وذلك إما لحرمة كل واحد منهما، أو أحدهما، أو الجمع بينهما، والثاني باطل إذ يقبح أن يقال: من شرب الخمر وأكل الخبز استوجب الحدّ، وكذا الثالث لأن المشاقة محرمة ضم إليها غيرها أو لم يضم، وإذا كان اتباع غير سبيلهم محرما كان اتباع سبيلهم واجبا لأن ترك اتباع سبيلهم ممن عرف سبيلهم اتباع غير سبيلهم. «فإن قيل» : لا نسلم أن ترك اتباع سبيل المؤمنين يصدق عليه أنه اتباع لغير سبيل المؤمنين لأنه لا يمتنع أن لا يتبع سبيل المؤمنين ولا غير سبيل المؤمنين «أجيب» بأن المتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير فإذا كان من شأن غير المؤمنين أن لا يقتدوا في أفعالهم بالمؤمنين فكل من لم يتبع من المؤمنين سبيل المؤمنين فقد أتى بفعل غير المؤمنين واقتفى أثرهم فوجب أن يكون متبعا لهم، وبعبارة أخرى إن ترك اتباع سبيل المؤمنين اتباع لغير سبيل المؤمنين لأن المكلف لا يخلو من اتباع سبيل البتة، واعترض أيضا بأن هذا الدليل غير قاطع لأن «غير سبيل المؤمنين» يحتمل وجوها من التخصيص لجواز أن يراد سبيلهم في متابعة الرسول أو في مناصرته أو في الاقتداء به عليه الصلاة والسلام أو فيما صاروا به مؤمنين، وإذا قام الاحتمال كان غايته الظهور، والتمسك بالظاهر إنما يثبت بالإجماع ولولاه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 لوجب العمل بالدلائل المانعة من اتباع الظن فيكون إثباتا للإجماع بما لا يثبت حجيته إلا به فيصير دورا، واستصعب التفصي عنه، وقد ذكره ابن الحاجب في المختصر، وقريب منه قول الأصفهاني، في اتباع سبيلهم لما احتمل ما ذكر وغيره صار عاما، ودلالته على فرد من أفراده غير قطعية لاحتمال تخصيصه بما يخرجه مع ما فيه من الدور، وأجاب عن الدور بأنه إنما يلزم لو لم يقم عليه دليل آخر، وعليه دليل آخر، وهو أنه مظنون يلزم العمل به لأنا إن لم نعمل به وحده فإما أن نعمل به وبمقابله أو لا نعمل بهما، أو نعمل بمقابله، وعلى الأول يلزم الجمع بين النقيضين، وعلى الثاني ارتفاعهما، وعلى الثالث العمل بالمرجوح مع وجود الراجح والكل باطل، فيلزم العمل به قطعا، واعترض أيضا بمنع حرمة اتباع غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ مطلقا بل بشرط المشاقة، وأجاب عنه القوم بما لا يخلو عن ضعف وبأن الاستدلال يتوقف على تخصيص المؤمنين بأهل الحل والعقد في كل عصر، والقرينة عليه غير ظاهرة، وبأمور أخر ذكرها الآمدي والتلمساني وغيرهما، وأجابوا عما أجابوا عنه منها، وبالجملة لا يكاد يسلم هذا الاستدلال من قيل وقال، وليست حجية الإجماع موقوفة على ذلك كما لا يخفى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ قد مر تفسيره فيما سبق وكرر للتأكيد، وخص هذا الموضع به ليكون كالتكميل لقصة من سبق بذكر الوعد بعد ذكر الوعيد في ضمن الآيات السابقة فلا يضر بعد العهد، أو لأن للآية سببا آخر في النزول، فقد أخرج الثعلبي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن شيخا من العرب جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إني شيخ منهمك في الذنوب إلا أني لم أشرك بالله تعالى منذ عرفته وآمنت به ولم أتخذ من دونه وليا ولم أوقع المعاصي جراءة وما توهمت طرفة عين أني أعجز الله تعالى هربا وإني لنادم تائب، فما ترى حالي عند الله تعالى؟» فنزلت. وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ شيئا من الشرك، أو أحدا من الخلق، وفي معنى الشرك به تعالى نفي الصانع، ولا يبعد أن يكون من أفراده فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً عن الحق، أو عن الوقوع ممن له أدنى عقل، وإنما جعل الجزاء على ما قيل هنا فَقَدْ ضَلَّ إلخ، وفيما تقدم فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً [النساء: 48] لما أن تلك كانت في أهل الكتاب وهم مطلعون من كتبهم على ما لا يشكون في صحته من أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم ووجوب اتباع شريعته وما يدعو إليه من الإيمان بالله تعالى ومع ذلك أشركوا وكفروا فصار ذلك افتراء واختلافا وجراءة عظيمة على الله تعالى، وهذه الآية كانت في أناس لم يعلموا كتابا ولا عرفوا من قبل وحيا ولم يأتهم سوى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالهدى ودين الحق فأشركوا بالله عز وجل وكفروا وضلوا مع وضوح الحجة وسطوع البرهان فكان ضلالهم بعيدا، ولذلك جاء بعد تلك أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ [النساء: 49] وقوله سبحانه: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [النساء: 50] وجاء بعد هذه قوله تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً أي ما يعبدون، أو ما ينادون لحوائجهم من دون الله تعالى إلا أصناما، والجملة مبينة لوجه ما قبلها ولذا لم تعطف عليه، وعبر عن الأصنام بالإناث لما روي عن الحسن أنه كان لكل حي من أحياء العرب صنم يعبدونه ويسمونه أنثى بني فلان لأنهم يجعلون عليه الحلي وأنواع الزينة كما يفعلون بالنسوان، أو لما أن أسماءها مؤنثة- كما قيل- وهم يسمون ما اسمه مؤنث أنثى كما في قوله: وما ذكر فإن يكبر فأنثى ... شديد اللزم ليس له ضروس فإنه عنى القراد، وهو ما دام صغيرا يسمى قرادا فإذا كبر سمي حلمة كثمرة، واعترض بأن من الأصنام ما اسمه مذكر- كهبل وودّ وسواع وذي الخلصة- وكون ذلك باعتبار الغالب غير مسلم، وقيل: إنها جمادات وهي كثيرا ما تؤنث لمضاهاتها الإناث لانفعالها، ففي التعبير عنها بهذا الاسم تنبيه على تناهي جهلهم وفرط حماقتهم حيث يدعون ما ينفعل ويدعون الفعال لما يريد، وقيل: المراد بالإناث الأموات، فقد أخرج ابن جرير وغيره عن الحسن أن الأنثى كل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 ميت ليس فيه روح مثل الخشبة اليابسة والحجر اليابس، ففي التعبير بذلك دون أصناما التنبيه السابق أيضا إلا أن الظاهر أن وصف الأصنام بكونهم أمواتا مجاز، وقيل: سماها الله تعالى إناثا لضعفها وقلة خيرها وعدم نصرها، وقيل: لاتضاع منزلتها وانحطاط قدرها بناء على أن العرب تطلق الأنثى على كل ما اتضعت منزلته من أي جنس كان، وقيل: كان في كل صنم شيطانة تتراءى للسدنة وتكلمهم أحيانا فلذلك أخبر سبحانه أنهم ما يعبدون من دون إلا إناثا وروي ذلك عن أبيّ بن كعب، وقيل: المراد الملائكة لقولهم: الملائكة بنات الله عز اسمه، وروي ذلك عن الضحاك، وهو جمع أنثى- كرباب وربي- في لغة من كسر الراء. وقرىء- إلا أنثى- على التوحيد- وإلا أنثى- بضمتين كرسل، وهو إما صفة مفردة مثل امرأة جنب، وإما جمع أنيث كقليب وقلب، وقد جاء حديد أنيث، وإما جمع إناث كثمار وثمر، وقرىء- وثنا وأثنا- بالتخفيف والتثقيل، وتقديم الثاء على النون- جمع وثن- كقولك: أسد وأسد، وأسد ووسد، وقلبت الواو ألفا كأجوه في وجوه. وأخرج ابن جرير أنه كان في مصحف عائشة رضي الله تعالى عنها- إلا أوثانا- وَإِنْ يَدْعُونَ أي وما يعبدون بعبادة تلك الأوثان إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً إذ هو الذي أمرهم بعبادتها وأغراهم فكانت طاعتهم له عبادة. فالكلام محمول على المجاز فلا ينافي الحصر السابق، وقيل: المراد من يدعون يطيعون فلا منافاة أيضا. وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان أنه قال: «ليس من صنم إلا فيه شيطان» والظاهر أن المراد من الشيطان هنا إبليس، وهو المروي عن مقاتل وغيره، والمريد والمارد والمتمرد: العاتي الخارج عن الطاعة، وأصل مادة- م ر د- للملامسة والتجرد، ومنه رْحٌ مُمَرَّدٌ [النمل: 44] وشجرة مرداء للتي تناثر ورقها، ووصف الشيطان بذلك إما لتجرده للشر أو لتشبيهه بالأملس الذي لا يعلق به شيء، وقيل: لظهور شره كظهور ذقن الأمرد وظهور عيدان الشجرة المرداء لَعَنَهُ اللَّهُ أي طرده وأبعده عن رحمته، وقيل: المراد باللعنة فعل ما يستحقها به من الاستكبار عن السجود كقولهم: أبيت اللعن أي ما فعلت ما تستحقه به، والجملة في موضع نصب صفة ثانية لشيطان. وجوز أبو البقاء أن تكون مستأنفة على الدعاء فلا موضع لها من الإعراب. وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً عطف على الجملة المتقدمة، والمراد شيطانا مريدا جامعا بين لعنة الله تعالى وهذا القول الشنيع الصادر منه عند اللعن، وجوز أن تكون في موضع الحال بتقدير قد أي وقد قال، وأن تكون مستأنفة مستطردة كما أن ما قبلها اعتراضية في رأي، والجار والمجرور إما متعلق بالفعل، وإما حال مما بعده، واختاره البعض، والاتخاذ أخذ الشيء على وجه الاختصاص، وأصل معنى الفرض القطع. وأطلق هنا على المقدار المعين لاقتطاعه عما سواه، وهو كما أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك، وابن المنذر عن الربيع من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، والظاهر أن هذا القول وقع نطقا من اللعين، وكأنه عليه اللعنة لما نال من آدم عليه السلام ما نال طمع في ولده، وقال ذلك ظنا، وأيد بقوله تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ [سبأ: 20] ، وقيل: إنه فهم طاعة الكثير له مما فهمت منه الملائكة حين قالوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [البقرة: 30] وادعى بعضهم أن هذا القول حالي كما في قوله: امتلأ الحوض. وقال: قطني ... مهلا رويدا قد ملأت بطني وفي هذه الجمل ما ينادي على جهل المشركين وغاية انحطاط درجتهم عن الانخراط في سلك العقلاء على أتم وجه وأكمله، وفيها توبيخ لهم كما لا يخفى وَلَأُضِلَّنَّهُمْ عن الحق وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ الأماني الباطلة، وأقول لهم: ليس وراءكم بعث ولا نشر ولا جنة. ولا نار ولا ثواب ولا عقاب فافعلوا ما شئتم وقيل: أمنيهم بطول البقاء في الدنيا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 فيسوفون العمل، وقيل: أمنيهم بالأهواء الباطلة الداعية إلى المعصية وأزين لهم شهوات الدنيا وزهراتها وأدعو كلّا منهم إلى ما يميل طبعه إليه فأصده بذلك عن الطاعة، وروى الأول عن الكلبي وَلَآمُرَنَّهُمْ بالتبتيك- كما قال أبو حيان- أو بالضلال كما قال غيره فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ أي فليقطعنها من أصلها كما روي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه، أو ليشقنها- كما قال الزجاج- بموجب أمري من غير تلعثم في ذلك ولا تأخير كما يؤذن بذلك الفاء، وهذا إشارة إلى ما كانت الجاهلية تفعله من شق أو قطع أذن الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكرا وتحريم ركوبها. والحمل عليها وسائر وجوه الانتفاع بها وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ ممتثلين به بلا ريث خَلْقَ اللَّهِ عن نهجه صورة أو صفة، ويندرج فيه ما فعل من فقء عين فحل الإبل إذا طال مكثه حتى بلغ نتاج نتاجه، ويقال له الحامي وخصاء العبيد والوشم والوشر واللواطة والسحاق ونحو ذلك وعبادة الشمس والقمر والنار والحجارة مثلا. وتغيير فطرة الله تعالى التي هي الإسلام واستعمال الجوارح والقوى فيما لا يعود على النفس كمالا ولا يوجب لها من الله سبحانه زلفى. وورد عن السلف الاقتصار على بعض المذكورات وعموم اللفظ بمنع الخصاء مطلقا، وروي النهي عنه عن جمع من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وأخرج البيهقي عن ابن عمر قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن خصاء الخيل والبهائم» ، وادعى عكرمة أن الآية نزلت في ذلك، وأجاز بعضهم ذلك في الحيوان، وأخرج ابن المنذر عن عروة أنه خصى بغلا له، وعن طاوس أنه خصى جملا، وعن محمد بن سيرين أنه سئل عن خصاء الفحول، فقال: لا بأس به، وعن الحسن مثله، وعن عطاء أنه سئل عن خصاء الفحل فلم ير به عند عضاضه وسوء خلقه بأسا. وقال النووي: لا يجوز خصاء حيوان لا يؤكل في صغره ولا في كبره ويجوز إخصاء المأكول في صغره لأن فيه غرضا وهو طيب لحمه، ولا يجوز في كبره، والخصاء في بني آدم محظور عند عامة السلف والخلف، وعند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه يكره شراء الخصيان واستخدامهم وإمساكهم لأن الرغبة فيهم تدعو إلى إخصائهم، وخص من تغيير خلق الله تعالى الختان والوشم لحاجة وخضب اللحية وقص ما زاد منها على السنة ونحو ذلك، وعن قتادة أنه قرأ الآية، ثم قال: ما بال أقوام جهلة يغيرون صبغة الله تعالى ولونه سبحانه، ولا يكاد يسلم له إن أراد ما يعم الخضاب المسنون كالخضاب بالحناء بل وبالكتم أيضا لإرهاب العدو، وقد صح عن جمع من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أنهم فعلوا ذلك منهم أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وحديث النهي محمول على غير ذلك وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ بإيثار ما يدعو إليه على ما أمر الله تعالى به ومجاوزته عن طاعة الله تعالى إلى طاعته، وقيد مِنْ دُونِ اللَّهِ لبيان أن اتباعه ينافي متابعة أمر الله تعالى وليس احترازيا كما يتوهم، وأما ما قيل: من أنه ما من مخلوق لله تعالى إلا ولك فيه ولاية لو عرفتها، ولك في وجوده منفعة لو طلبتها، فلهذا قيدت الولاية بكونها من دون الله تعالى فناشىء من الغفلة عن تحقيق معنى الولاية فافهم فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً أي ظاهرا، وأيّ خسران أعظم من استبدال الجنة بالنار؟ وأي صفقة أخسر من فوات رضا الرحمن برضا الشيطان؟ يَعِدُهُمْ ما لا يكاد ينجزه، وقيل: النصر والسلامة، وقيل: الفقر والحاجة إن أنفقوا، وقرأ الأعمش يَعِدُهُمْ بسكون الدال وهو تخفيف لكثرة الحركات. وَيُمَنِّيهِمْ الأماني الفارغة، وقيل: طول البقاء في الدنيا ودوام النعيم فيها، وجوز أن يكون المعنى في الجملتين يفعل لهم الوعد ويفعل التمنية على طريقة: فلان يعطي ويمنع، وضمير الجمع المنصوب في يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ راجع إلى- من- باعتبار معناها كما أن ضمير الرفع المفرد في يَتَّخِذِ وخَسِرَ راجع إليها باعتبار لفظها، وأخبر سبحانه عن وقوع الوعد والتمنية مع وقوع غير ذلك مما أقسم عليه اللعين أيضا لأنهما من الأمور الباطنة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 وأقوى أسباب الضلال وحبائل الاحتيال وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً وهو إيهام النفع فيما فيه الضرر، وهذا الوعد والأمر عندي مثله إما بالخواطر الفاسدة، وإما بلسان أوليائه، واحتمال أن يتصور بصورة إنسان فيفعل ما يفعل بعيد، وغُرُوراً إما مفعول ثان للوعد، أو مفعول لأجله، أو نعت لمصدر محذوف أي وعدا ذا غرور، أو غارا، أو مصدرا على غير لفظ المصدر لأن يَعِدُهُمْ في قوة يغرهم بوعده كما قال السمين، والجملة اعتراض وعدم التعرض للتمنية لأنها من باب الوعد، وفي البحر أنهما متقاربان فاكتفي بأولهما أُولئِكَ إشارة إلى من اتخذ الشيطان وليا باعتبار معناه، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الخسران مَأْواهُمْ ومستقرهم جميعا جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً أي معدلا ومهربا، وهو اسم مكان، أو مصدر ميمي من حاص يحيص إذا عدل وولى، ويقال: محيص ومحاص، وأصل معناه كما قيل: الروغان، ومنه وقعوا في حيص بيص، وحاص باص أي في أمر يعسر التخلص منه، ويقال: حاص يحوص أيضا وحوصا وحياصا، وعَنْها متعلق بمحذوف وقع حالا من محيصا. ولم يجوزوا تعلقه ب يَجِدُونَ لأنه لا يتعدى بعن، ولا بمحيصا لأنه إن كان اسم مكان فهو لا يعمل لأنه ملحق بالجوامد، وإن كان مصدرا فمعمول المصدر لا يتقدم عليه، ومن جوز تقدمه إذا كان ظرفا أو جارا ومجرورا جوزه هنا. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مبتدا خبره قوله تعالى: سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وجوز أبو البقاء أن يكون الموصول في موضع نصب بفعل محذوف يفسره ما بعده ولا يخفى مرجوحيته، وهذا وعد للمؤمنين إثر وعيد الكافرين، وإنما قرنهما سبحانه وتعالى زيادة لمسرة أحبائه ومساءة أعدائه وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا أي وعدهم وعدا وأحقه حقا، فالأول مؤكد لنفسه كله على ألف عرفا فإن مضمون الجملة السابقة لا تحتمل غيره إذ ليس الوعد إلا الإخبار عن إيصال المنافع قبل وقوعه، والثاني مؤكد لغيره كزيد قائم حقا فإن الجملة الخبرية بالنظر إلى نفسها وقطع النظر عن قائلها تحتمل الصدق والكذب والحق والباطل، وجوز أن ينتصب وعد على أنه مصدر ل سَنُدْخِلُهُمْ على ما قال أبو البقاء من غير لفظه لأنه في معنى نعدهم إدخال جنات، ويكون حَقًّا حالا منه. وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا تذييل للكلام السابق مؤكد له، فالواو اعتراضية، والقيل- مصدر قال ومثله القال. وعن ابن السكيت: أنهما اسمان لا مصدران، ونصبه على التمييز، ولا يخفى ما في الاستفهام وتخصيص اسم الذات الجليل الجامع، وبناء أفعل، وإيقاع القول تمييزا من المبالغة، والمقصود معارضة مواعيد الشيطان الكاذبة لقرنائه التي غرتهم حتى استحقوا الوعيد بوعد الله تعالى الصادق لأوليائه الذي أوصلهم إلى السعادة العظمى، ولذا بالغ سبحانه فيه وأكده حثا على تحصيله وترغيبا فيه، وزعم بعضهم أن الواو عاطفة والجملة معطوفة على محذوف أي صدق الله وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا أي صدق ولا أصدق منه، ولا يخفى أنه تكلف مستغنى عنه، وكأن الداعي إليه الغفلة عن حكم الواو الداخلة على الجملة التذييلة، وتجويز أن تكون الجملة مقولا لقول محذوف أي وقائلين: من أصدق من الله قيلا، فيكون عطفا على خالِدِينَ أدهى وأمر. وقرأ الكوفي غير عاصم وورش بإشمام الصاد الزاي لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ الخطاب للمؤمنين، والأماني بالتشديد والتخفيف- وبهما قرىء- جمع أمنية على وزن أفعولة، وهي كما قال الراغب: الصورة الحاصلة في النفس من تمني الشيء أي تقديره في النفس وتصويره فيها، ويقال: منى له الماني أي قدر له المقدر، ومنه قيل: منية أي مقدرة، وكثيرا ما يطلق التمني على تصور ما لا حقيقة له، ومن هنا يعبر به عن الكذب لأنه تصور الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 ما ذكر، وإيراده باللفظ فكأن التمني مبدأ له فلهذا صح التعبير به عنه، ومنه قول عثمان رضي الله تعالى عنه: ما تعنيت ولا تمنيت منذ أسلمت، والباء في بِأَمانِيِّكُمْ مثلها في- زيد بالباب- وليست زائدة والزيادة محتملة، ونفاها البعض واسم لَيْسَ مستتر فيها عائد على الوعد بالمعنى المصدري، أو بمعنى الموعود فهو استخدام كما قال السعد وقيل: عائد على الموعود الذي تضمنه عامل وعد الله، أو على إدخال الجنة أو العمل الصالح، وقيل: عائد على الإيمان المفهوم من الذين آمنوا وقيل على الأمر المتحاور فيه بقرينة سبب النزول. أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال: التقى ناس من المسلمين واليهود والنصارى، فقال اليهود للمسلمين: نحن خير منكم، ديننا قبل دينكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن على دين إبراهيم ولَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً [البقرة: 111] ، وقالت النصارى مثل ذلك، فقال المسلمون: كتابنا بعد كتابكم ونبينا صلّى الله عليه وسلّم بعد نبيكم، وديننا بعد دينكم وقد أمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم فنحن خير منكم نحن على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ولن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا، فأنزل الله تعالى لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ، وقوله سبحانه وَمَنْ أَحْسَنُ إلخ أي ليس وعد الله تعالى، أو ما وعده سبحانه من الثواب أو إدخال الجنة، أو العمل الصالح، أو الإيمان، أو ما تحاورتم فيه حاصلا بمجرد أمانيكم أيها المسلمون ولا أماني اليهود والنصارى، وإنما يحصل بالسعي والتشمير عن ساق الجد لامتثال الأمر، ويؤيد عود الضمير على الإيمان المفهوم مما قبله، أنه أخرج ابن أبي شيبة عن الحسن موقوفا «ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل إن قوما ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم، وقالوا: نحسن الظن بالله تعالى وكذبوا لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل» وأخرج البخاري في تاريخه عن أنس مرفوعا «ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن هو ما وقر في القلب فأما علم القلب فالعلم النافع وعلم اللسان حجة على بني آدم» . وروي عن مجاهد وابن زيد أن الخطاب لأهل الشرك فإنهم قالوا: لانبعث ولا نعذب كما قال أهل الكتاب لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى وأيد بأنه لم يجر للمسلمين ذكر في الأماني وجرى للمشركين ذكر في ذلك أي ليس الأمر بأماني المشركين وقولهم: لا بعث ولا عذاب، ولا بأماني أهل الكتاب وقولهم ما قالوا: وقرر سبحانه ذلك بقوله عز من قائل: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ عاجلا أو آجلا، فقد أخرج الترمذي وغيره عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قال: «كنت عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت هذه الآية فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا أبا بكر ألا أقرئك آية نزلت علي؟ فقلت: بلى يا رسول الله فأقرأنيها فلا أعلم إلا أني وجدت انقصاما في ظهري حتى تمطأت لها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما لك يا أبا بكر؟ قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله وأينا لم يعمل السوء وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أما أنت وأصحابك يا أبا بكر المؤمنون فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله تعالى ليس عليكم ذنوب، وأما الآخرون فيجمع لهم ذلك حتى يجزون يوم القيامة» . وأخرج مسلم وغيره عن أبي هريرة قال: «لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين وبلغت منهم ما شاء الله تعالى فشكوا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: سددوا وقاربوا فإن في كل ما أصاب المسلم كفارة حتى الشوكة يشاكها والنكبة ينكبها» والأحاديث بهذا المعنى أكثر من أن تحصى، ولهذا أجمع عامة العلماء على أن الأمراض والأسقام ومصائب الدنيا وهمومها وإن قلّت مشقتها يكفر الله تعالى بها الخطيئات، والأكثرون على أنها أيضا يرفع بها الدرجات وتكتب الحسنات وهو الصحيح المعول عليه، فقد صح في غير ما طريق «ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 وحكى القاضي عن بعضهم أنها تكفر الخطايا فقط ولا ترفع درجة، وروي عن ابن مسعود- الوجع لا يكتب به أجر لكن يكفر به الخطايا- واعتمد على الأحاديث التي فيها التكفير فقط ولم تبلغه الأحاديث الصحيحة المصرحة برفع الدرجات وكتب الحسنات، بقي الكلام في أنها هل تكفر الكبائر أم لا؟، وظاهر الأحاديث- ومنها خبر أبي بكر رضي الله تعالى عنه- أنها تكفرها، وقد جاء في خبر حسن عن عائشة أن العبد ليخرج بذلك من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير، وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن يزيد بن أبي حبيب قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا يزال الصداع والمليلة بالمرء المسلم حتى يدعه مثل الفضة البيضاء» إلى غير ذلك. ولا يخفى أن إبقاء ذلك على ظاهره مما يأباه كلامهم، وخص بعضهم الجزاء بالآجل، ومن بالمشركين وأهل الكتاب، وروي ذلك عن الحسن والضحاك وابن زيد قالوا: وهذا كقوله تعالى: وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ [سبأ: 17] ، وقيل: المراد من السوء هنا الشرك، وأخرجه ابن جريج عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وابن جبير، وكلا القولين خلاف الظاهر، وفي الآية ردّ على المرجئة القائلين: لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي مجاوزا لولاية الله تعالى ونصرته وَلِيًّا يلي أمره ويحامي عنه ويدفع ما ينزل به من عقوبة الله تعالى وَلا نَصِيراً ينصره وينجيه من عذاب الله تعالى إذا حل به، ولا مستند في الآية لمن منع العفو عن العاصي إذ العموم فيها مخصص بالتائب إجماعا، وبعد فتح باب التخصيص لا مانع من أن نخصصه أيضا بمن يتفضل الله تعالى بالعفو عنه على ما دلت عليه الأدلة الأخر وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الأعمال الصَّالِحاتِ أي بعضها وشيئا منها لأن أحدا لا يمكنه عمل كل الصالحات وكم من مكلف لا حج عليه ولا زكاة ولا جهاد، «فمن» تبعيضية، وقيل: هي زائدة. واختاره الطبرسي وهو ضعيف، وتخصيص الصالحات بالفرائض كما روي عن ابن عباس خلاف الظاهر، وقوله سبحانه مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى في موضع الحال من ضمير يَعْمَلْ ومَنْ بيانية. وجوز أن يكون حالا مِنَ الصَّالِحاتِ ومَنْ ابتدائية أي كائنة مِنْ ذَكَرٍ إلخ، واعترض بأنه ليس بسديد من جهة المعنى، ومع هذا الأظهر تقدير كائنا لا كائنة لأنه حال من شيئا منها. وكون المعنى- الصالحات الصادرة من الذكر والأنثى- لا يجدي نفعا لما في ذلك من الركاكة. ولعل تبيين العامل بالذكر والأنثى لتوبيخ المشركين في إهلاكهم إناثهم، وجعلهن محرومات من الميراث، وقوله تعالى: وَهُوَ مُؤْمِنٌ حال أيضا، وفي اشتراط اقتران العمل بها في استدعاء الثواب الذي تضمنه ما يأتي تنبيه على أنه لا اعتداد به دونه، وفيه دفع توهم أن العمل الصالح ينفع الكافر حيث قرن بذكر العمل السوء المضر للمؤمن والكافر والتذكير لتغليب الذكر على الأنثى كما قيل، وقد مر لك قريبا ما ينفعك فتذكر فَأُولئِكَ إشارة إلى من بعنوان اتصافه بالعمل الصالح والإيمان، والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد السابق باعتبار لفظها، وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة. يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ جزاء عملهم، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر يَدْخُلُونَ مبنيا للمفعول من الإدخال وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً أي لا ينقصون شيئا حقيرا من ثواب أعمالهم، فإن النقير علم في القلة والحقارة، وأصله نقرة في ظهر النواة منها تنبت النخلة، ويعلم من نفي تنقيص ثواب المطيع نفي زيادة عقاب العاصي من باب الأولى لأن الأذى في زيادة العقاب أشد منه في تنقيص الثواب، فإذا لم يرض بالأول- وهو أرحم الراحمين- فكيف يرضى بالثاني- وهو السر في تخصيص عدم تنقيص الثواب بالذكر دون ذكر عدم زيادة العقاب- مع أن المقام مقام ترغيب في العمل الصالح فلا يناسبه إلا هذا، والجملة تذييل لما قبلها، أو عطف عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ أي أخلص نفسه له تعالى لا يعرف لها ربا سواه، وقيل: أخلص توجهه له سبحانه، وقيل: بذل وجهه له عزّ وجلّ في السجود، والاستفهام إنكاري وهو في معنى النفي، والمقصود مدح من فعل ذلك على أتم وجه، ودِيناً نصب على التمييز من أحسن منقول من المبتدأ والتقدير: ومن دينه أحسن من دين من أسلم إلخ، فيؤول الكلام إلى تفضيل دين على دين، وفيه تنبيه على أن صرف العبد نفسه بكليتها لله تعالى أعلى المراتب التي تبلغها القوة البشرية، ومِمَّنْ متعلق بأحسن وكذا الاسم الجليل، وجوز فيه أن يكون حالا من وَجْهَهُ وَهُوَ مُحْسِنٌ أي آت بالحسنات تارك للسيئات، أو آت بالأعمال الصالحة على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي، وقد صح أنه صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الإحسان فقال عليه الصلاة والسلام: «أن تعبد الله تعالى كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» ، وقيل: الأظهر أن يقال: المراد وَهُوَ مُحْسِنٌ في عقيدته، وهو مراد من قال: أي وهو موحد، وعلى هذا فالأولى أن يفسر إسلام الوجه لله تعالى بالانقياد إليه سبحانه بالأعمال، والجملة في موضع الحال من فاعل أَسْلَمَ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ الموافقة لدين الإسلام المتفق على صحتها، وهذا عطف على أَسْلَمَ وقوله سبحانه: حَنِيفاً أي مائلا عن الأديان الزائفة حال من إِبْراهِيمَ. وجوز أن يكون حالا من فاعل اتَّبَعَ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا تذييل جيء به للترغيب في اتباع ملته عليه السلام، والإيذان بأنه نهاية في الحسن، وإظهار اسمه عليه السلام تفخيما له وتنصيصا على أنه الممدوح، ولا يجوز العطف خلافا لمن زعمه على وَمَنْ أَحْسَنُ إلخ سواء كان استطرادا أو اعتراضا، وتوكيدا لمعنى قوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وبيانا لأن الصالحات ما هي؟ وأن المؤمن من هو لفقد المناسبة، والجامع بين المعطوف والمعطوف عليه وأدائه ما يؤديه من التوكيد والبيان، ولا على صلة مَنْ لعدم صلوحه لها وعدم صحة عطفه على وَهُوَ مُحْسِنٌ أظهر من أن يخفى، وجعل الجملة حالية بتقدير قد خلاف الظاهر، والعطف على حَنِيفاً لا يصح إلا بتكلف، والخليل مشتق من الخلة بضم الخاء، وهي إما من الخلال بكسر الخاء فإنها مودة تتخلل النفس وتخالطها مخالطة معنوية، فالخليل من بلغت مودته هذه المرتبة كما قال: قد تخللت مسلك الروح مني ... ولذا سمي الخليل خليلا فإذا ما نطقت كنت حديثي ... وإذا ما سكت كنت الغليلا وإما من الخلل كما قيل: على معنى أن كلّا من الخليلين يصلح خلل الآخر، وإما من الخلة بالفتح، وهو الطريق في الرمل لأنهما يتوافقان على طريقة، وإما من الخلة بفتح الخاء إما بمعنى الخصلة والخلق لأنهما يتوافقان في الخصال والأخلاق، وقد جاء- المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل- أو بمعنى الفقر والحاجة لأن كلّا منهما محتاج إلى وصال الآخر غير مستغن عنه، وإطلاقه على إبراهيم عليه السلام قيل: لأن محبة الله تعالى قد تخللت نفسه وخالطتها مخالطة تامة، أو لتخلقه بأخلاق الله تعالى، ومن هنا كان يكرم الضيف ويحسن إليه ولو كان كافرا، فإن من صفات الله تعالى الإحسان إلى البر والفاجر، وفي بعض الآثار- ولست على يقين في صحته- أنه عليه السلام نزل به ضيف من غير أهل ملته فقال له: وحد الله تعالى حتى أضيفك وأحسن إليك، فقال: يا إبراهيم من أجل لقمة أترك ديني ودين آبائي فانصرف عنه. فأوحى الله تعالى: إليه يا إبراهيم صدقك لي سبعون سنة أرزقه وهو يشرك بي، وتريد أنت منه أن يترك دينه ودين آبائه لأجل لقمة فلحقه إبراهيم عليه السلام وسأله الرجوع إليه ليقريه واعتذر إليه فقال له المشرك: يا إبراهيم ما بدا لك؟ فقال: إن ربي عاتبني فيك، وقال: أنا أرزقه منذ سبعين سنة على كفره بي وأنت تريد أن يترك دينه ودين آبائه لأجل لقمة فقال المشرك: أو قد وقع هذا؟! مثل هذا ينبغي أن يعبد فأسلم ورجع مع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 إبراهيم عليه السلام إلى منزله ثم عمت بعد كرامته خلق الله تعالى من كل وارد ورد عليه. فقيل له في ذلك فقال: تعلمت الكرم من ربي رأيته لا يضيع أعداءه فلا أضيعهم أنا فأوحى الله تعالى إليه أنت خليلي حقا، وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن عمر قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا جبريل لم اتخذ الله تعالى إبراهيم خليلا؟ قال: لإطعامه الطعام يا محمد» ، وقيل- واختاره البلخي والفراء- لإظهاره الفقر والحاجة إلى الله تعالى وانقطاعه إليه وعدم الالتفات إلى من سواه كما يدل على ذلك قوله لجبريل عليه السلام حين قال له يوم ألقي في النار: ألك حاجة؟ أما إليك فلا، ثم قال: حسبي الله تعالى ونعم الوكيل، وقيل: في وجه تسميته عليه السلام خليل الله غير ذلك، والمشهور أن الخليل دون الحبيب. وأيد بما أخرجه الترمذي وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «جلس ناس من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم ينتظرونه فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون فسمع حديثهم وإذا بعضهم يقول: إن الله تعالى اتخذ من خلقه خليلا فإبراهيم خليله وقال آخر: ماذا بأعجب من أن كلم الله تعالى موسى تكليما، وقال آخر: فعيسى روح الله تعالى وكلمته وقال آخر: آدم اصطفاه الله تعالى فخرج عليهم فسلم فقال: قد سمعت كلامكم وعجبكم أن إبراهيم خليل الله تعالى وهو كذلك. وموسى كليمه وعيسى روحه وكلمته وآدم اصطفاه الله تعالى وهو كذلك ألا وإني حبيب الله تعالى ولا فخر، وأنا أول شافع ومشفع ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتحها الله تعالى فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين يوم القيامة ولا فخر» ، وأخرج الترمذي في نوادر الأصول والبيهقي في الشعب وضعفه وابن عساكر والديلمي قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اتخذ الله تعالى إبراهيم خليلا وموسى نجيا واتخذني حبيبا، ثم قال وعزتي لأوثرون حبيبي على خليلي ونجيي» ، والظاهر من كلام المحققين أن الخلة مرتبة من مراتب المحبة، وأن المحبة أوسع دائرة، وأن من مراتبها ما لا تبلغه أمنية الخليل عليه السلام، وهي المرتبة الثابتة له صلّى الله عليه وسلّم، وأنه قد حصل لنبينا عليه الصلاة والسلام من مقام الخلة ما لم يحصل لأبيه إبراهيم عليه السلام، وفي الفرع ما في الأصل وزيادة، ويرشدك إلى ذلك أن التخلق بأخلاق الله تعالى الذي هو من آثار الخلة عند أهل الاختصاص أظهر وأتم في نبينا صلّى الله عليه وسلّم منه في إبراهيم عليه السلام، فقد صح أن خلقه القرآن، وجاء عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» وشهد الله تعالى له بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4] ومنشأ إكرام الضيف الرحمة وعرشها المحيط رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما يؤذن بذلك قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] ولهذا كان الخاتم عليه الصلاة والسلام. وقد روى الحاكم وصححه عن جندب «أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول قبل أن يتوفى: إن الله تعالى اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، والتشبيه على حدّ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: 183] في رأي، وقيل: إن يتوفى لا دلالة فيه على أن مقام الخلة بعد مقام المحبة كما لا يخفى. وفي لفظ الحب والخلة ما يكفي العارف في ظهور الفرق بينهما، ويرشده إلى معرفة أن أي الدائرتين أوسع، وذهب غير واحد من الفضلاء إلى أن الآية من باب الاستعارة التمثيلية لتنزهه تعالى عن صاحب وخليل، والمراد اصطفاه وخصصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله، وأما في الخليل وحده فاستعارة تصريحية على ما نص عليه الشهاب إلا أنه صار بعد علما على إبراهيم عليه الصلاة والسلام. وادعى بعضهم أنه لا مانع من وصف إبراهيم عليه الصلاة والسلام بالخليل حقيقة على معنى الصادق، أو من أصفى المودة وأصحها أو نحو ذلك، وعدم إطلاق الخليل على غيره عليه الصلاة والسلام مع أن مقام الخلة بالمعنى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 المشهور عند العارفين غير مختص به بل كل نبي خليل الله تعالى، إما لأن ثبوت ذلك المقام له عليه الصلاة والسلام على وجه لم يثبت لغيره- كما قيل- وإما لزيادة التشريف والتعظيم كما نقول، واعترض بعض النصارى بأنه إذا جاز إطلاق الخليل على إنسان تشريفا فلم لم يجز إطلاق الابن على آخر لذلك؟ أجيب بأن الخلة لا تقتضي الجنسية بخلاف النبوة فإنها تقتضيها قطعا، والله تعالى هو المنزه عن مجانسة المحدثات. وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يحتمل أن يكون متصلا بقوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ علبى أنه كالتعليل لوجوب العمل، وما بينهما من قوله سبحانه: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً اعتراض أي إن جميع ما في العلو والسفل من الموجودات له تعالى خلقا وملكا لا يخرج من ملكوته شيء منها فيجازي كلّا بموجب أعماله إن خيرا فخير وإن شرا فشر وأن يكون متصلا بقوله جل شأنه: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إلخ بناء على أن معناه اختاره واصطفاه أي هو مالك لجميع خلقه فيختار من يريده منهم كإبراهيم عليه الصلاة والسلام، فهو لبيان أن اصطفاءه عليه الصلاة والسلام بمحض مشيئته تعالى. وقيل: لبيان أن اتخاذه تعالى لإبراهيم عليه الصلاة والسلام خليلا ليس لاحتياجه سبحانه إلى ذلك لشأن من شؤونه كما هو دأب المخلوقين، فإن مدار خلتهم افتقار بعضهم إلى بعض في مصالحهم، بل لمجرد تكرمته وتشريفه، وفيه أيضا إشارة إلى أن خلته عليه السلام لا تخرجه عن العبودية لله تعالى. وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً إحاطة علم وقدرة بناء على أن حقيقة الإحاطة في الأجسام، فلا يوصف الله تعالى بذلك فلا بدّ من التأويل وارتكاب المجاز على ما ذهب إليه الخلف، والجملة تذييل مقرر لمضمونه ما قبله على سائر وجوهه. هذا ومن باب الإشارة في الآيات وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ أي سافرتم في أرض الاستعداد لمحاربة عدو النفس، أو لتحصيل أحوال الكمالات فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ أي تنقصوا من الأعمال البدنية إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي حجبوا عن الحق من قوى الوهم والتخيل، وحاصله الترخيص لأرباب السلوك عند خوف فتنة القوى أن ينقصوا من الأعمال البدنية ويزيدوا في الأعمال القلبية كالفكر والذكر ليصفوا القلب ويشرق نوره على القوى فتقل غائلتها فتركوا عند ذلك الأعمال البدنية، ولا يجوز عند أهل الاختصاص ترك الفرائض لذلك كما زعمه بعض الجهلة وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ ولم تكن غائبا عنهم بسيرك في غيب الغيب وجلال المشاهدة وعائما في بحار «لي مع الله تعالى وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل» فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ أي الأعمال البدنية فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وليفعلوا كما تفعل وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ من قوى الروح ويجمعوا حواسهم ليتأتى لهم المشابهة، أو ليقفوا على ما في فعلك من الأسرار فلا تضلهم الوسائس فَإِذا سَجَدُوا وبلغوا الغاية في معرفة ما أقمته لهم وأتوا به على وجهه فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ ذابين عنكم اعتراض الجاهلين، أو قائمين بحوائجكم الضرورية وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى منهم لَمْ يُصَلُّوا بعد فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وليفعلوا فعلك وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ كما أخذا الأولون أسلحتهم، وإنما أمر هؤلاء بأخذ الحذر أيضا حثا لهم على مزيد الاحتياط لئلا يقصروا فيها يراد منهم اتكالا على الأخذ بعد ممن أخذ أولا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وحاصل هذا الإشارة إلى أن تعليم الشرائع والآداب للمريدين ينبغي أن يكون لطائفة طائفة منهم ليتمكن ذلك لديهم أتم تمكن، وقيل: الطائفة الأولى إشارة إلى الخواص، والثانية إلى العوام ولهذا اكتفي في الأول بالأمر بأخذ الأسلحة، وفي الثاني أمر الحذر أيضا وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وهم قوى النفس الأمارة لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وهي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 قوى الروح وَأَمْتِعَتِكُمْ وهي المعارف الإلهية فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً ويرمونكم بنبال الآفات والشكوك ويهلكونكم وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً بأن أصابكم شؤبوب مِنْ مَطَرٍ يعني مطر سحائب التجليات أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى بحمى الوجد والغرام وعجزتم عن أعمال القوى الروحانية أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وتتركوا أعمال تلك القوى حتى يتجلى ذلك السحاب وينقطع المطر وتهتز أرض قلوبكم بأزهار رحمة الله تعالى وتطفأ حمى الوجد بمياه القرب وَخُذُوا حِذْرَكُمْ عند وضع أسلحتكم واحفظوا قلوبكم من الالتفات إلى غير الله تعالى إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ من القوى النفسانية عَذاباً مُهِيناً أي مذلا لهم وذلك عند حفظ القلب وتنور الروح فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ أي أديتموها فَاذْكُرُوا اللَّهَ في جميع الأحوال قِياماً في مقام الروح بالمشاهدة وَقُعُوداً في محل القلب بالمكاشفة وَعَلى جُنُوبِكُمْ أي تقلباتكم في مكان النفس بالمجاهدة فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ ووصلتم إلى محل البقاء فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ فأدوها على الوجه الأتم لسلامة القلب حينئذ عن الوساوس النفسانية التي هي بمنزلة الحدث عند أهل الاختصاص إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً فلا تسقط عنهم ما دام العقل والحياة وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ الذين يحاربونكم وهم النفس وقواها فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ منكم لمنعكم لهم عن شهواتهم كَما تَأْلَمُونَ منهم لمعارضتهم لكم عن السير إلى الله تعالى وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ أي تأملون منه سبحانه ما لا يَرْجُونَ لأنكم ترجون التنعم بجنة القرب والمشاهدة، ولا يخطر ذلك لهم ببال، أو تخافون القطيعة وهم لا يخافونها وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً فيعلم أحوالكم وأحوالهم حَكِيماً فيفيض على القوابل حسب القابليات إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ أي علم تفاصيل الصفات وأحكام تجلياتها بِالْحَقِّ متلبسا ذلك الكتاب بالصدق أو قائما أنت بالحق لا بنفسك لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ خواصهم وعوامهم بِما أَراكَ اللَّهُ أي بما علمك الله سبحانه من الحكمة وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ الذين لم يؤدوا أمانة الله تعالى التي أودعت عندهم في الأزل مما ذكر في استعدادهم من إمكان طاعته وامتثال أمره خَصِيماً تدفع عنهم العقاب وتسلط الخلق عليهم بالذل والهوان، أو تقول لله تعالى: يا رب لم خذلتهم وقهرتهم فإنهم ظالمون، ولله تعالى الحجة البالغة عليهم. وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ من الميل الطبيعي الذي اقتضته الرحمة التي أحاطت بك إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً فيفعل ما تطلبه منه وزيادة وَلا تُجادِلْ أحدا عن الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ بتضييع حقوقها إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً لنفسه أَثِيماً مرتكبا الإثم ميالا مع الشهوات يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ بكتمان رذائلهم وصفات نفوسهم وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ بإزالتها وقلعها وَهُوَ مَعَهُمْ محيط بظواهرهم وبواطنهم إِذْ يُبَيِّتُونَ أي يدبرون في ظلمة عالم النفس والطبيعة ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ من الوهميات والتخيلات الفاسدة وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً فيجازيهم حسب أعمالهم وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً بظهور صفة من صفات نفسه أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ بنقص شيء من كمالاتها ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ ويطلب منه ستر ذلك بالتوجه إليه والتذلل بين يديه يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً فيستر ويعطى ما يقتضيه الاستعداد وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً بإظهار بعض الرذائل أَوْ إِثْماً بمحو ما في الاستعداد ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً بأن يقول: حملني الله تعالى على ذلك، أو حملني فلان عليه فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً حيث فعل ونسب فعله إلى الغير ولو لم تكن مستعدة لذلك طالبة له بلسان الاستعداد في الأزل لم يفض عليه ولم يبرز إلى ساحة الوجود، ولذا أفحم إبليس اللعين أتباعه بما قص الله تعالى لنا من قوله: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ إلى أن قال: فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ، وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ أي توفيقه وإمداده لسلوك طريقه وَرَحْمَتُهُ حيث وهب لك الكمال المطلق لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ لعود ضرره عليهم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 وحفظك في قلاع استعدادك عن أن ينالك شيء من ذلك وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ الجامع لتفاصيل العلم وَالْحِكْمَةَ التي هي أحكام تلك التفاصيل مع العمل وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ من علم عواقب الخلق وعلم ما كان وما سيكون وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً حيث جعلك أهلا لمقام قاب قوسين أو أدنى ومنّ عليك بما لا يحيط به سوى نطاق الوجود لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ وهو ما كان من جنس الفضول، والأمر الذي لا يعني إِلَّا نجوى مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ وأرشد إلى فضيلة السخاء الناشئ من العفة، أَوْ مَعْرُوفٍ قولي كتعلم علم، أو فعلي كإغاثة ملهوف أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ الذي هو من باب العدل وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ويجمع بين تلك الكمالات ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ لا للرياء والسمعة من كل ما يعود به الفضيلة رذيلة فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ الله تعالى أَجْراً عَظِيماً ويدخله جنات الصفات وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ أي يخالف ما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو العقل المسمى عندهم بالرسول النفسي وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ أي غير ما عليه أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن اقتفى أثرهم من الأخيار أو القوى الروحانية نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ الحرمان وَساءَتْ مَصِيراً لمن يصلاها إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً وهي الأصنام المسماة بالنفوس إذ كل من يعبد غير الله تعالى فهو عابد لنفسه مطيع لهواها، أو المراد بالإناث الممكنات لأن كل ممكن محتاج ناقص من جهة إمكانه منفعل متأثر عند تعينه فهو أشبه كل شيء بالأنثى وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً وهو شيطان الوهم حيث قبلوا إغواءه وأطاعوه لَعَنَهُ اللَّهُ أي أبعده عن رياض قربه وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً وهم غير المخلصين الذين استثنوا في آية أخرى وَلَأُضِلَّنَّهُمْ عن الطريق الحق وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ الأماني الفاسدة من كسب اللذات الفانية وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ أي فليقطعن آذان نفوسهم عن سماع ما ينفعهم وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وهي الفطرة التي فطر الناس عليها من التوحيد وَالَّذِينَ آمَنُوا ووحدوا وعملوا الصالحات واستقاموا سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ جنة الأفعال وجنة الصفات وجنة الذات لَيْسَ أي حصول الموعود بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ بل لا بد من السعي فيما يقتضيه، وفي المثل إن التمني رأس مال المفلس، وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً أي حالا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وسلم نفسه إليه وفني فيه وَهُوَ مُحْسِنٌ مشاهد للجمع في عين التفصيل سالك طريق الإحسان بالاستقامة في الأعمال وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ في التوحيد حَنِيفاً مائلا عن السوي وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا حيث تخللت المعرفة جميع أجزائه من حيث ما هو مركب فلم يبق جوهر فرد إلا وقد حلت فيه معرفة ربه عزّ وجلّ فهو عارف به بكل جزء منه، ومن هنا قيل: إن دم الحلاج لما وقع على الأرض انكتب بكل قطرة منه الله وأنشد: ما قدّ لي عضو ولا مفصل ... إلا وفيه لكم ذكر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لأن كل ما برز في الوجود فهو شأن من شؤونه سبحانه وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً من حيث إنه الذي أفاض عليه الجود، وهو رب الكرم والجود، لا رب غيره، ولا يرجى إلا خيره وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ أي يطلبون منك تبيين المشكل من الأحكام في النساء مما يجب لهن وعليهن مطلقا فإنه عليه الصلاة والسلام قد سئل عن أحكام كثيرة مما يتعلق بهن فما بين فيما سلف أحيل بيانه على ما ورد في ذلك من الكتاب وما لم يبين بعد بين هنا، وقال غير واحد: إن المراد يَسْتَفْتُونَكَ في ميراثهن، والقرينة الدالة على ذلك سبب النزول، فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جبير قال: كان لا يرث إلا الرجل الذي قد بلغ أن يقوم في المال ويعمل فيه ولا يرث الصغير ولا المرأة شيئا، فلما نزلت المواريث في سورة النساء شق ذلك على الناس، وقالوا: أيرث الصغير الذي لا يقوم في المال والمرأة التي هي كذلك فيرثان كما يرث الرجل؟! فرجوا أن يأتي في ذلك حدث من السماء فانتظروا فلما رأوا أنه لا يأتي حدث قالوا لئن تم هذا إنه لواجب ما عنه بدّ، ثم قالوا: سلوا فسألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى هذه الآية. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال: كان أهل الجاهلية لا يورّثون النساء ولا الصبيان شيئا كانوا يقولون لا يغزون ولا يغنمون خيرا فنزلت، وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نحوه، وإلى الأول مال شيخ الإسلام: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ أي يبين لكم حكمه فيهن، والإفتاء إظهار المشكل على السائل، وفي البحر يقال: أفتاه إفتاء، وفتيا وفتوى، وأفتيت فلانا رؤياه عبرتها له. وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ في ما ثلاثة احتمالات: الرفع والنصب والجر، وعلى الأول: إما أن تكون مبتدأ والخبر محذوف أي- وما يتلى عليكم في القرآن يفتيكم ويبين لكم- وإيثار صيغة المضارع للإيذان بدوام التلاوة واستمرارها، وفي الكتاب متعلق- بيتلى- أو بمحذوف وقع حالا من المستكن فيه أي يتلى كائنا في الكتاب، وإما أن تكون مبتدأ، وفِي الْكِتابِ خبره، والمراد بالكتاب حينئذ اللوح المحفوظ إذ لو أريد به معناه المتبادر لم يكن فيه فائدة إلا أن يتكلف له، والجملة معترضة مسوقة لبيان عظم شأن المتلو، وما يتلى متناول لما تلي وما سيتلى، وإما أن تكون معطوفة على الضمير المستتر في يُفْتِيكُمْ وصح ذلك للفصل، والجمع بين الحقيقة والمجاز في المجاز العقلي سائغ شائع، فلا يرد أن الله تعالى فاعل حقيقي للفعل، والمتلو فاعل مجازي له، والإسناد إليه من قبيل الإسناد إلى السبب فلا يصح العطف، ونظير ذلك أغناني زيد وعطاؤه، وإما أن تكون معطوفة على الاسم الجليل، والإيراد أيضا غير وارد، نعم المتبادر أن هذا العطف من عطف المفرد على المفرد، ويبعده إفراد الضمير كما لا يخفى، وعلى الثاني تكون مفعولا لفعل محذوف أي ويبين لكم ما يتلى، والجملة إما معطوفة على جملة يُفْتِيكُمْ وإما معترضة، وعلى الثالث إما أن تكون في محل الجر على القسم المنبئ عن تعظيم المقسم به وتفخيمه كأنه قيل: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وأقسم- بما يتلى عليكم في الكتاب- وإما أن تكون معطوفة على الضمير المجرور كما نقل عن محمد بن أبي موسى، وما عند البصريين ليس بوحي فيجب اتباعه، نعم فيه اختلال معنوي لا يكان ينفعه، وإما أن تكون معطوفة على النساء كما نقله الطبرسي عن بعضهم، ولا يخفى ما فيه، وقوله سبحانه: فِي يَتامَى النِّساءِ متعلق- بيتلى- في غالب الاحتمالات أي ما يتلى عليكم في شأنهن ومنعوا ذلك على تقدير كون ما مبتدأ، وفِي الْكِتابِ خبره لما يلزم عليه من الفصل بالخبر بين أجزاء الصلة، وكذا على تقدير القسم إذ لا معنى لتقييده بالمتلو بذلك ظاهرا، وجوزوا أن يكون بدلا من فِيهِنَّ وأن يكون صلة أخرى- ليفتيكم- ومتى لزم تعلق حرفي جر بشيء واحد بدون اتباع يدفع بالتزام كونهما ليسا بمعنى، والممنوع تعلقهما كذلك إذا كانا بمعنى واحد، وفي الثاني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 هنا سببية كما في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن امرأة دخلت النار في هرة» فالكلام إذا مثل جئتك في يوم الجمعة في أمر زيد أي بسببه، وإضافة اليتامى إلى النساء بمعنى من لأنها إضافة الشيء إلى جنسه، وجعلها أبو حيان بمعنى اللام ومعناها الاختصاص، وادعي أنه الأظهر وليس بشيء- كما قال الحلبي وغيره- وقرىء- ييامى- بياءين على أنه جمع أيم والعرب تبدل الهمزة ياء كثيرا اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ أي ما فرض لهن من الميراث وغيره على ما اختاره شيخ الإسلام، أو ما فرض لهن من الميراث فقط على ما روي عن ابن عباس وابن جبير ومجاهد رضي الله تعالى عنه، واختاره الطبري، أو ما وجب لهن من الصداق على ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها، واختاره الجبائي، وقيل: ما كُتِبَ لَهُنَّ من النكاح فإن الأولياء كانوا يمنعوهن من التزوج. وروي ذلك عن الحسن وقتادة والسدي وإبراهيم وَتَرْغَبُونَ عطف على صلة اللَّاتِي أو على المنفي وحده، وجوز أن يكون حالا من فاعل تُؤْتُونَهُنَّ فإن قلنا بجواز اقتران الجملة المضارعية الحالية بالواو: فظاهر، وإذا قلنا بعدم الجواز: التزم تقدير مبتدأ أي وأنتم ترغبون أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ أي في أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ أو عن أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ فإن أولياء اليتامى- كما ورد في غير ما خبر- كانوا يرغبون فيهن إن كن جميلات ويأكلون ما لهن، وإلا كانوا يعضلوهن طمعا في ميراثهن، وحذف الجار هنا لا يعد لبسا، بل إجمال، فكل من الحرفين مراد على سبيل البدل، واستدل بعض أصحابنا بالآية على جواز تزويج اليتيمة لأنه ذكر الرغبة في نكاحها فاقتضى جوازه، والشافعية يقولون: إنه إنما ذكر ما كانت تفعله الجاهلية على طريق الذم فلا دلالة فيها على ذلك مع أنه لا يلزم من الرغبة في نكاحها فعله في حال الصغر، وهذا الخلاف في غير الأب والجدّ، وأما هما فيجوز لهما تزويج الصغير بلا خلاف وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ عطف على يتامى النساء، وكانوا لا يورثونهم كما لا يورثون النساء كما تقدّم آنفا. وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ عطف على ما قبله، وإن جعل في يتامى بدلا، فالوجه النصب في هذا، والْمُسْتَضْعَفِينَ عطفا على محل فيهن ومنعوا العطف على البدل، بناء على أن المراد بالمستضعفين الصغار مطلقا الذين منعوهم عن الميراث ولو ذكورا، ولو عطف على البدل لكان بدلا، ولا يصح فيه غير بدل الغلط وهو لا يقع في فصيح الكلام، وجوز في أَنْ تَقُومُوا الرفع على أنه مبتدأ، والخبر محذوف أي خير ونحوه، والنصب بإضمار فعل أي ويأمركم- أن تقوموا، وهو خطاب للأئمة أن ينظروا لهم ويستوفوا حقوقهم، أو للأولياء والأوصياء بالنصفة في حقهم وَما تَفْعَلُوا في حقوق المذكورين مِنْ خَيْرٍ حسبما أمرتم به أو ما تفعلوه من خير على الإطلاق ويندرج فيه ما يتعلق بهؤلاء اندراجا أوليا. فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً فيجازيكم عليه، واقتصر على ذكر الخير لأنه الذي رغب فيه، وفي ذلك إشارة إلى أن الشر مما لا ينبغي أن يقع منهم أو يخطر ببال وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ شروع في بيان أحكام لم تبين قبل، وأخرج الترمذي وحسنه عن ابن عباس قال: «خشيت سودة رضي الله تعالى عنها أن يطلقها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله لا تطلقني واجعل يومي لعائشة ففعل» ونزلت هذه الآية، وأخرج الشافعي رضي الله تعالى عنه عن ابن المسيب أن ابنة محمد بن مسلمة كانت عند رافع بن خديج فكره منها أمرا إما كبرا أو غيره، فأراد طلاقها فقالت: لا تطلقني واقسم لي ما بدا لك فاصطلحا على صلح فجرت السنة بذلك ونزل القرآن، وأخرج ابن جرير عن مجاهد أنها نزلت في أبي السائب أي وإن خافت امرأة خافت، فهو من باب الاشتغال، وزعم الكوفيون أن امْرَأَةٌ مبتدأ وما بعده الخبر وليس بالمرضي، وقدر بعضهم هنا- كانت- لاطراد حذف كان بعد إن، ولم يجعله من الاشتغال وهو مخالف للمشهور بين الجمهور، والخوف إما على حقيقته، أو بمعنى التوقع أي وإن امرأة توقعت لما ظهر لها من المخايل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 مِنْ بَعْلِها أي زوجها، وهو متعلق- بخافت- أو بمحذوف وقع حالا من قوله تعالى: نُشُوزاً أي استعلاء وارتفاعا بنفسه عنها إلى غيرها لسبب من الأسباب، ويطلق على كل من صفة أحد الزوجين أَوْ إِعْراضاً أي انصرافا بوجهه أو ببعض منافعه التي كانت لها منه، وفي البحر: النشوز أن يتجافى عنها بأن يمنعها نفسه ونفقته والمودة التي بينهما، وأن يؤذيها بسب أو ضرب مثلا، والإعراض أن يقلل محادثتها ومؤانستها لطعن في سن، أو دمامة، أو شين في خلق، أو خلق، أو ملال، أو طموح عين إلى أخرى، أو غير ذلك وهو أخف من النشوز فَلا جُناحَ أي فلا حرج ولا إثم «عليهما» أي الامرأة وبعلها حينئذ. أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً أي في أن يصلحا بينهما بأن تترك المرأة له يومها كما فعلت سودة رضي الله تعالى عنها مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أو تضع عنه بعض ما يجب لها من نفقة، أو كسوة، أو تهبه المهر، أو شيئا منه، أو تعطيه مالا لتستعطفه بذلك وتستديم المقام في حباله، وصدر ذلك بنفي الجناح لنفي ما يتوهم من أن ما يؤخذ كالرشوة فلا يحل، وقرأ غير أهل الكوفة- يصالحا- بفتح الياء وتشديد الصاد وألف بعدها، وأصله يتصالحا فأبدلت التاء صادا وأدغمت، وقرأ الجحدري- يصلحا- بالفتح والتشديد من غير ألف وأصله يصطلحا فخفف بإبدال الطاء المبدلة من تاء الافتعال صادا وأدغمت الأولى فيها لا أنه أبدلت التاء ابتداء صادا وأدغم- كما قال أبو البقاء- لأن تاء الافتعال يجب قلبها طاء بعد الأحرف الأربعة. وقرىء يصطلحا- وهو ظاهر، وصُلْحاً على قراءة أهل الكوفة إما مفعول به على معنى يوقعا الصلح، أو بواسطة حرف أي يصلح، والمراد به ما يصلح به، وبَيْنَهُما ظرف ذكر تنبيها على أنه ينبغي أن لا يطلع الناس على ما بينهما بل يسترانه عنهم أو حال من صُلْحاً أي كائنا بينهما، وإما مصدر محذوف الزوائد، أو من قبيل أَنْبَتَها الله نَباتاً [آل عمران: 37] وبَيْنَهُما هو المفعول على أنه اسم بمعنى التباين والتخالف، أو على التوسع في الظرف لا على تقدير ما بينهما كما قيل، ويجوز أن يكون بَيْنَهُما ظرفا، والمفعول محذوف أي حالهما ونحوه، وعلى قراءة غيرهم يجوز أن يكون واقعا موقع تصالحا واصطلاحا، وأن يكون منصوبا بفعل مترتب على المذكور أي فيصلح حالهما صُلْحاً واحتمال هذا في القراءة الأولى بعيد وجوز أن يكون منصوبا على إسقاط حرف الجر أي يصالحا أو يصلحا بصلح أي بشيء تقع بسببه المصالحة وَالصُّلْحُ خَيْرٌ أي من الفرقة وسوء العشرة أو من الخصومة، فاللام للعهد، وإثبات الخيرية للمفضل عليه على سبيل الفرض والتقدير أي إن يكن فيه خير فهذا أخير منه وإلا فلا خيرية فيما ذكر، ويجوز أن لا يراد بخير التفضيل بل يراد به المصدر أو الصفة أي إنه خير من الخيور فاللام للجنس وقيل: إن اللام على التقديرين تحتمل العهدية والجنسية، والجملة اعتراضية، وكذا قوله تعالى: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ ولذلك اغتفر عدم تجانسهما إذ الأولى اسمية، والثانية فعلية ولا مناسبة معنى بينهما، وفائدة الأولى الترغيب في المصالحة، والثانية تمهيد العذر في المماكسة والمشاقة كما قيل، وحضر متعد لواحد وأحضر لاثنين، والأول هو الْأَنْفُسُ القائم مقام الفاعل والثاني الشُّحَّ، والمراد أحضر الله تعالى الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وهو البخل مع الحرص، ويجوز أن يكون القائم مقام الفاعل هو الثاني أي إن الشح جعل حاضرا لها لا يغيب عنها أبدا، أو أنها جعلت حاضرة له مطبوعة عليه فلا تكاد المرأة تسمح بحقوقها من الرجل ولا الرجل يكاد يجود بالإنفاق وحسن المعاشرة مثلا على التي لا يريدها، وذكر شيخ الإسلام أن في ذلك تحقيقا للصلح وتقريرا له بحث كل من الزوجين عليه لكن لا بالنظر إلى حال نفسه فإن ذلك يستدعي التمادي في الشقاق بل بالنظر إلى حال صاحبه، فإن شح نفس الرجل وعدم ميلها عن حالتها الجبلية بغير استمالة مما يحمل المرأة على بذل بعض حقوقها إليه لاستمالته، وكذا شح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 نفسها بحقوقها مما يحمل الرجل على أن يقنع من قبلها بشيء يسير ولا يكلفها بذل الكثير فيتحقق بذلك الصلح الذي هو خير وَإِنْ تُحْسِنُوا في العشرة مع النساء وَتَتَّقُوا النشوز والإعراض وإن تظافرت الأسباب الداعية إليهما وتصبروا على ذلك ولم تضطروهن على فوت شيء من حقوقهن، أو بذل ما يعز عليهن. فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ من الإحسان والتقوى، أو بجميع ما تعملون، ويدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا خَبِيراً فيجازيكم ويثيبكم على ذلك، وقد أقام سبحانه كونه عالما مطلعا أكمل اطلاع على أعمالهم مقام مجازاتهم وإثابتهم عليها الذي هو في الحقيقة جواب الشرط إقامة السبب مقام المسبب، ولا يخفى ما في خطاب الأزواج بطريق الالتفات، والتعبير عن رعاية حقوقهن بالإحسان، ولفظ التقوى المنبئ عن كون النشوز والإعراض مما يتوقى منه، وترتيب الوعد الكريم على ذلك من لطف الاستمالة والترغيب في حسن المعاملة وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ أي لا تقدروا البتة على العدل بينهن بحيث لا يقع ميل ما إلى جانب في شأن من الشؤون كالقسمة والنفقة والتعهد والنظر والإقبال والممالحة والمفاكهة والمؤانسة وغيرها مما لا يكاد الحصر يأتي من ورائه. وأخرج البيهقي عن عبيدة أنه قال: لن تستطيعوا ذلك في الحب والجماع، وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود أنه قال: في الجماع، وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن وابن جرير عن مجاهد أنهما قالا: في المحبة، وأخرجا عن أبي مليكة أن الآية نزلت في عائشة رضي الله تعالى عنها وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحبها أكثر من غيرها، وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم عنها أنها قالت: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» وعنى صلّى الله عليه وسلّم «بما تملك» المحبة وميل القلب الغير الاختياري وَلَوْ حَرَصْتُمْ على إقامة ذلك وبالغتم فيه فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ أي فلا تجوروا على المرغوب عنها كل الجور فتمنعوها حقها من غير رضا منها واعدلوا ما استطعتم فإن عجزكم عن حقيقة العدل لا يمنع عن تكليفكم بما دونها من المراتب التي تستطيعونها، وانتصاب «كل» على المصدرية فقد تقرر أنها بحسب ما تضاف إليه من مصدر أو ظرف أو غيره فَتَذَرُوها أي فتدعوا التي ملتم عنها كَالْمُعَلَّقَةِ وهي كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: التي ليست مطلقة ولا ذات بعل، وقرأ أبي- كالمسجونة- وبذلك فسر قتادة المعلقة، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير المنصوب في فَتَذَرُوها وجوز السمين كونه في موضع المفعول الثاني لتذر على أنه بمعنى تصير، وحذف نون فَتَذَرُوها إما للناصب وهو أن المضمرة في جواب النهي، إما للجازم بناء على أنه معطوف على الفعل قبله، وفي الآية ضرب من التوبيخ، وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط» ، وأخرج غير واحد عن جابر بن زيد أنه قال:- كانت لي امرأتان فلقد كنت أعدل بينهما حتى أعدّ القبل، وعن مجاهد قال: كانوا يستحبون أن يسووا بين الضرائر حتى في الطيب يتطيب لهذه كما يتطيب لهذه، وعن ابن سيرين في الذي له امرأتان يكره أن يتوضأ في بيت إحداهما دون الأخرى. وَإِنْ تُصْلِحُوا ما كنتم تفسدون من أمورهن وَتَتَّقُوا الميل الذي نهاكم الله تعالى عنه فيما يستقبل فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً فيغفر لكم ما مضى من الحيف رَحِيماً فيتفضل عليكم برحمته وَإِنْ يَتَفَرَّقا أي المرأة وبعلها، وقرىء- يتفارقا- أي وإن لم يصطلحا ولم يقع بينهما وفاق بوجه ما من الصلح وغيره ووقعت بينهما الفرقة بطلاق يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا منهما أي يجعله مستغنيا عن الآخر ويكفه ما أهمه، وقيل: يغني الزوج بامرأة أخرى والمرأة بزوج آخر مِنْ سَعَتِهِ أي من غناه وقدرته، وفي ذلك تسلية لكل من الزوجين بعد الطلاق، وقيل: زجر لهما عن المفارقة، وكيفما كان فهو مقيد بمشيئة الله تعالى وَكانَ اللَّهُ واسِعاً أي غنيا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 وكافيا للخلق، أو مقتدرا أو عالما حَكِيماً متقنا في أفعاله وأحكامه. وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فلا يتعذر عليه الإغناء بعد الفرقة، ولا الإيناس بعد الوحشة- ولا ولا- وفيه من التنبيه على كمال سعته وعظم قدرته ما لا يخفى، والجملة مستأنفة جيء بها- على ما قيل- لذلك وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي أمرناهم بأبلغ وجه، والمراد بهم اليهود والنصارى ومن قبلهم من الأمم، والكتاب عام للكتب الإلهية، ولا ضرورة تدعو إلى تخصيص الموصول باليهود والكتاب بالتوراة، بل قد يدعى أن التعميم أولى بالغرض المسوق له الكلام وهو تأكيد الأمر بالإخلاص، ومِنْ متعلقة- بوصينا- أو- بأوتوا- وَإِيَّاكُمْ عطف على الموصول وحكم الضمير المعطوف أن يكون منفصلا ولم يقدم ليتصل لمراعاة الترتيب الوجودي أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ أي وصينا كلا منهم ومنكم بأن اتقوا الله تعالى على أن أَنِ مصدرية بتقدير الجار ومحلها نصب أو جر على المذهبين، ووصلها بالأمر- كالنهي وشبهه- جائز كما نص عليه سيبويه، ويجوز أن تكون مفسرة للوصية لأن فيها معنى القول، وقوله تعالى: وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ عطف على وَصَّيْنَا بتقدير قلنا- أي وصينا وقلنا لكم ولهم إن تكفروا فاعلموا أنه سبحانه مالك الملك والملكوت لا يضره كفركم ومعاصيكم، كما أنه لا ينفعه شكركم وتقواكم وإنما وصاكم وإياهم لرحمته لا لحاجته- وفي الكلام تغليب للمخاطبين على الغائبين، ويشعر ظاهر كلام البعض أن العطف على اتَّقُوا اللَّهَ وتعقب بأن الشرطية لا تقع بعد أن المصدرية، أو المفسرة فلا يصح عطفها على الواقع بعدها سواء كان إنشاء أم إخبارا، والفعل وَصَّيْنَا أو أمرنا أو غيره، وقيل: إن العطف المذكور من باب: علفتها تبنا وماء باردا. وجوز أبو حيان أن تكون جملة مستأنفة خوطب بها هذه الأمة وحدها، أو مع الذين أوتوا الكتاب وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا بالغنى الذاتي عن الخلق وعبادتهم حَمِيداً أي محمودا في ذاته حمدوه أم لم يحمدوه، والجملة تذييل مقرر لما قبله، وقيل: إن قوله سبحانه: ولِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ إلخ تهديد على الكفر أي إنه تعالى قادر على عقوبتكم بما يشاء، ولا منجى عن عقوبته فإن جميع ما في السّماوات والأرض له، وقوله عز وجل: وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً للإشارة إلى أنه جل وعلا لا يتضرر بكفرهم، وقوله سبحانه: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يحتمل أن يكون كلاما مبتدأ مسوقا للمخاطبين توطئة لما بعده من الشرطية أي له سبحانه ما فيهما من الخلائق خلقا وملكا يتصرف في ذلك كيفما يشاء إيجادا وإعداما وإحياء وإماتة، ويحتمل أن يكون كالتكميل للتذييل ببيان الدليل فإن جميع المخلوقات تدل لحاجتها وفقرها الذاتي على غناه وبما أفاض سبحانه عليها من الوجود والخصائص والكمالات على كونه حميدا وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا تذييل لما قبله، والوكيل هو القيم، والكفيل بالأمر الذي يوكل إليه، وهذا على الإطلاق هو الله تعالى، وفي النهاية يقال: وكل فلان فلانا إذا استكفاه أمره ثقة أو عجزا عن القيام بأمر نفسه، والوكيل في أسماء الله تعالى هو القيم بأرزاق العباد، وحقيقته أنه يستقل بالأمر الموكول إليه، ولا يخفى أن الاقتصار على الأرزاق قصور فعمم، وتوكل على الله تعالى، وادعى البيضاوي- بيض الله تعالى غرة أحواله- أن هذه الجملة راجعة إلى قوله سبحانه: يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ فإنه إذا توكلت وفوضت فهو الغنى لأن من توكل على الله عز وجل كفاه، ولما كان ما بينهما تقريرا له لم يعد فاصلا، ولا يخفى أنه على بعده لا حاجة إليه إِنْ يَشَأْ إن يرد إذهابكم وإيجاد آخرين يُذْهِبْكُمْ يفنكم ويهلككم. أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ أي يوجد مكانكم دفعة قوما آخرين من البشر، فالخطاب لنوع من الناس، وقد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 أخرج سعيد بن منصور وابن جرير من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «أنه لما نزل قوله تعالى وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ [محمد: 38] ضرب النبي صلّى الله عليه وسلّم بيده على ظهر سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه، وقال: إنهم قوم هذا» وفيه نوع تأييد لما ذكر في هذه الآية، وما نقل عن العراقي أن الضرب كان عند نزولها وحينئذ يتعين ما ذكر سهو على ما نص عليه الجلال السيوطي وجوز الزمخشري وابن عطية ومقلدوهما أن يكون المراد خلقا آخرين أي جنسا غير جنس الناس، وتعقبه أبو حيان بأنه خطأ وكونه من قبيل المجاز- كما قيل- لا يتم به المراد لمخالفته لاستعمال العرب فإن- غيرا- تقع على المغاير في جنس أو وصف،- وآخر- لا يقع إلا على المغايرة بين أبعاض جنس واحد. وفي درّة الغواص في أوهام الخواص أنهم يقولون: ابتعت عبدا وجارية أخرى فيوهمون فيه لأن العرب لم تصف بلفظي آخر، وأخرى وجمعهما إلا ما يجانس المذكور قبله كما قال تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النجم: 19، 20] وقوله سبحانه: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: 185] فوصف جل اسمه- مناة- بالأخرى لما جانست- العزى، واللات- ووصف الأيام بالأخر لكونها من جنس الشهر، والأمة ليست من جنس العبد لكونها مؤنثة وهو مذكر فلم يجز لذلك أن يتصف بلفظ أخرى كما لا يقال: جاءت هند ورجل آخر، والأصل في ذلك أن آخر من قبيل أفعل الذي يصحبه من، ويجانس المذكور بعده كما يدل على ذلك أنك إذا قلت: قال: الفند الزماني، وقال آخر: كان تقدير الكلام، وقال آخر: من الشعراء وإنما حذفت لفظة من لدلالة الكلام عليها، وكثرة استعمال آخر في النطق، وفي الدر المصون: إن هذا غير متفق عليه، وإنما ذهب إليه كثير من النحاة وأهل اللغة وارتضاه نجم الأئمة الرضي إلا أنه يردّ على الزمخشري ومن معه أن آخرين صفة موصوف محذوف، والصفة لا تقوم مقام موصوفها إلا إذا كانت خاصة نحو مررت بكاتب، أو إذا دل الدليل على تعيين الموصوف- وهنا ليست بخاصة- فلا بد أن يكون من جنس الأول لتدل على المحذوف وقال ابن يسعون والصقلي وجماعة: إن العرب لا تقول: مررت برجلين وآخر لأنه إنما يقابل آخر ما كان من جنسه تثنية وجمعا، وإفرادا، وقال ابن هشام هذا غير صحيح لقول ربيعة بن يكدم: ولقد شفعتهما بآخر ثالث ... وأبى الفرار إلى الغداة تكرمي وقال أبو حية النميري: وكنت أمشي على ثنتين معتدلا ... فصرت أمشي على أخرى من الشجر وإنما يعنون بكونه من جنس ما قبله أن يكون اسم الموصوف بآخر في اللفظ، أو التقدير يصح وقوعه على المتقدم الذي قوبل بآخر على جهة التواطؤ ولذلك لو قلت: جاءني زيد وآخر كان سائغا لأن التقدير ورجل آخر، وكذا جاءني زيد وأخرى تريد نسمة أخرى وكذا اشتريت فرسا ومركوبا آخر سائغ، وإن كان المركوب الآخر جملا لوقوع المركوب عليهما بالتواطؤ فإن كان وقوع الاسم عليهما على جهة الاشتراك المحض فإن كانت حقيقتهما واحدة جازت المسألة نحو قام أحد الزيدين وقعد الآخر، وإن لم تكن حقيقتهما واحدة لم تجز لأنه لم يقابل به ما هو من جنسه نحو رأيت المشتري والمشتري الآخر تريد بأحدهما الكوكب، وبالآخر مقابل البائع، وهل يشترط مع التواطؤ اتفاقهما في التذكير؟ فيه خلاف، فذهب المبرد إلى عدم اشتراطه فيجوز جاءتني جاريتك وإنسان آخر، واشترطه ابن جني، والصحيح ما ذهب إليه المبرد بدليل قول عنترة: والخيل تقتحم الغبار عوابسا ... من بين منظمة وآخر ينظم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 وما ذكر من أن آخر يقابل به ما تقدمه من جنسه هو المختار، وإلا فقد يستعملونه من غير أن يتقدمه شيء من جنسه، وزعم أبو الحسن أن ذلك لا يجوز إلا في الشعر، فلو قلت: جاءني آخر من غير أن تتكلم قبله بشيء من صنفه لم يجز، ولو قلت: أكلت رغيفا، وهذا قميص آخر لم يحسن، وأما قول الشاعر: صلى على عزة الرحمن وابنتها ... ليلى وصلى على جاراتها الأخر فمحمول على أنه جعل ابنتها جارة لها لتكون الأخرى من جنسها، ولولا هذا التقدير لما جاز أن يعقب ذكر البنت بالجارات، بل كان يقول وصلى على بناتها الأخر، وقد قوبل في البيت أيضا- أخر- وهو جمع بابنتها وهو مفرد، وزعم السهيلي أن- أخرى- في قوله تعالى: وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النجم: 20] استعملت من غير أن يتقدمها شيء من صنفها لأنه غير مَناةَ الطاغية التي كانوا يهلون إليها بقديد فجعلها ثالثة اللات والعزى، وأخرى لمناة التي كان يعبدها عمرو بن الجموح وغيره من قومه مع أنه لم يتقدم لها ذكر، والصواب أنه جعلها أخرى بالنظر إلى اللات والعزى، وساغ ذلك لأن الموصوف بالأخرى، وهو الثالثة يصح وقوعه على اللات والعزى، ألا ترى أن كل واحدة منهنّ ثالثة بالنظر إلى صاحبتها؟ وإنما اتجه ذلك لما ذكره أبو الحسن من أن استعمال آخر وأخرى من غير أن يتقدمهما صنفهما لا يجوز إلا في الشعر انتهى. وهو تحقيق نفيس إلا أنه سيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق الكلام في الآية الآتي ذكرها، وفي المسائل الصغرى للأخفش في باب عقده لتحقيق هذه المسألة أن العرب لا تستعمل آخر إلا فيما هو من صنف ما قبله، فلو قلت: أتاني صديق لك وعدو لك آخر لم يحسن لأنه لغو من الكلام، وهو يشبه- سائر وبقية وبعض- في أنه لا يستعمل إلا في جنسه، فلو قلت: ضربت رجلا وتركت سائر النساء لم يكن كلاما، وقد يجوز ما امتنع بتأويل كرأيت فرسا وحمارا آخر نظرا إلى أنه دابة قال امرؤ القيس: إذا قلت: هذا صاحبي ورضيته ... وقرت به العينان بدلت آخرا وفي الحديث «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجد خفة في مرضه فقال: انظروا من أتكىء عليه فجاءت بريرة ورجل آخر فاتكأ عليهما» . وحاصل هذا أنه لا يوصف بآخر إلا ما كان من جنس ما قبله لتتبين مغايرته في محل يتوهم فيه اتحاده ولو تأويلا، وحينئذ لا يكون ما ذكره الزمخشري نصا في الخطأ ومخالفة استعمال العرب المعول عليه عند الجمهور وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ أي إفنائكم بالمرة وإيجاد آخرين قَدِيراً بليغ القدرة لكنه سبحانه لم يفعل وأبقاكم على ما أنتم عليه من العصيان لعدم تعلق مشيئته لحكمة اقتضت ذلك لا لعجزه سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا كالمجاهد يريد بجهاده الغنيمة والمنافع الدنيوية. فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ جزاء الشرط بتقدير الإعلام والإخبار أي مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فأعلمه وأخبره أن عند الله تعالى ثواب الدارين فما له لا يطلب ذلك كمن يقول: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً [البقرة: 201] ، أو يطلب الأشرف وهو ثواب الآخرة فإن من جاهد مثلا خالصا لوجه الله تعالى لم تخطه المنافع الدنيوية وله في الآخرة ما هي في جنبه كلا شيء، وفي مسند أحمد عن زيد بن ثابت «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: من كان همه الآخرة جمع الله تعالى شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت نيته الدنيا فرق الله تعالى عليه ضيعته وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له» وجوز أن يقدر الجزاء من جنس الخسران، فيقال: من كان يريد ثواب الدنيا فقط فقد خسر وهلك، فعند الله تعالى ثواب الدنيا والآخرة له إن أراده، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت قال: كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل: ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما فعلت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال: كذبت ولكنك تعلمت ليقال: عالم، وقرأت ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله تعالى عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها، قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار» ، وقيل: إنه الجزاء إلا أنه مؤول بما يجعله مرتبا على الشرط لأن مآله أنه ملوم موبخ لتركه الأهم الأعلى الجامع لما أراده مع زيادة لكن من يشترط العائد في الجزاء يقدره كما أشرنا إليه، وقيل: المراد أنه تعالى عنده ثواب الدارين فيعطي كلا ما يريده كقوله تعالى. مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ [الشورى: 20] الآية وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً تذييل لمعنى التوبيخ أي كيف يرائي المرائي وأن الله تعالى سميع بما يهجس في خاطره وما تأمر به دواعيه بصير بأحواله كلها ظاهرها وباطنها فيجازيه على ذلك، وقد يقال: ذيل بذلك لأن إرادة الثواب إما بالدعاء وإما بالسعي، والأول مسموع، والثاني مبصر، وقيل: السمع والبصر عبارتان عن اطلاعه تعالى على غرض المريد للدنيا أو الآخرة وهو عبارة عن الجزاء، ولا يخفى أنه وإن كان لا يخلو عن حسن إلا أنه يوهم إرجاع صفة السمع والبصر إلى العلم وهو خلاف المقرر في الكلام يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ أي مواظبين على العدل في جميع الأمور مجتهدين في ذلك كل الاجتهاد لا يصرفكم عنه صارف. وعن الراغب أنه سبحانه نبه بلفظ القوّامين على أن مراعاة العدالة مرة أو مرتين لا تكفي بل يجب أن تكون على الدوام، فالأمور الدينية لا اعتبار بها ما لم تكن مستمرة دائمة، ومن عدل مرة أو مرتين لا يكون في الحقيقة عادلا أي لا ينبغي أن يطلق فيه ذلك شُهَداءَ بالحق لِلَّهِ بأن تقيموا شهاداتكم لوجه الله تعالى لا لغرض دنيوي، وانتصاب شُهَداءَ على أنه خبر ثان لكونوا ولا يخفى ما في تقديم الخبر الأول من الحسن. وجوز أن يكون على أنه حال من الضمير المستكن فيه، وأيد بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في معنى الآية: أي كونوا قوّالين بالحق في الشهادة على من كانت ولمن كانت من قريب وبعيد، وقيل: إنه صفة قَوَّامِينَ، وقيل: إنه خبر كُونُوا وقوّامين حال وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أي ولو كانت الشهادة على أنفسكم، وفسرت الشهادة ببيان الحق مجازا فتشمل الإقرار المراد هاهنا، والشهادة بالمعنى الحقيقي المراد فيما بعد فلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، وقيل: الكلام خارج مخرج المبالغة وليس المقصود حقيقته فلا حاجة إلى القول بعموم المجاز ليشمل الإقرار حيث إن شهادة المرء على نفسه لم تعهد، والجار- على ما أشير إليه- ظرف مستقر وقع خبرا لكان المحذوفة وإن كان في الأصل صلة الشهادة لأن متعلق المصدر قد يجعل خبرا عنه فيصير مستقرا مثل الحمد لله ولا يجوز ذلك في اسم الفاعل ونحوه، ويجوز أن يكون ظرفا لغوا متعلقا بخبر محذوف أي ولو كانت الشهادة وبالا على أنفسكم، وعلقه أبو البقاء بفعل دل عليه شُهَداءَ أي لو شهدتم على أنفسكم وجوز تعلقه- بقوّامين- وفيه بعد، وَلَوْ إما على أصلها أو بمعنى إن وهي وصلية، وقيل: جوابها مقدر أي لوجب أن تشهدوا عليها أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ أي ولو كانت على والديكم وأقرب الناس إليكم أو ذوي قرابتكم، وعطف الأول- بأو- لأنه مقابل للأنفس وعطف الثاني عليه بالواو لعدم المقابلة إِنْ يَكُنْ أي المشهود عليه غَنِيًّا يرجى في العادة ويخشى أَوْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 فَقِيراً يترحم عليه في الغالب ويحنى، وقرأ عبد الله- إن يكن غني أو فقير- بالرفع على أن كان تامة، وجواب الشرط محذوف دل عليه قوله تعالى: فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما أي فلا تمتنعوا عن الشهادة على الغني طلبا لرضاه أو على الفقير شفقة عليه لأن الله تعالى أولى بالجنسين وأنظر لهما من سائر الناس، ولولا أن حق الشهادة مصلحة لهما لما شرعها فراعوا أمر الله تعالى فإنه أعلم بمصالح العباد منكم، وقرأ أبيّ «فالله أولى بهم» بضمير الجمع وهو شاهد على أن المراد جنسا الغني والفقير وأن ضمير التثنية ليس عائدا على الغني والفقير المذكورين لأن الحكم في الضمير العائد على المعطوف- بأو- الإفراد كما قيل: لأنها لأحد الشيئين أو الأشياء، وقيل: إن أَوِ بمعنى الواو، والضمير عائد إلى المذكورين، وحكي ذلك عن الأخفش، وقيل: إنها على بابها وهي هنا لتفصيل ما أبهم في الكلام، وذلك مبني على أن المراد بالشهادة ما يعم الشهادة للرجل والشهادة عليه، فكل من المشهود له والمشهود عليه يجوز أن يكون غنيا وأن يكون فقيرا فقد يكونان غنيين، وقد يكونان فقيرين، وقد يكون أحدهما فقيرا والآخر غنيا، فحيث لم تذكر الأقسام أتي- بأو- لتدل على ذلك، فضمير التثنية على المشهود له والمشهود عليه على أي وصف كانا عليه، وقيل: غير ذلك، وقال الرضي: الضمير الراجع إلى المذكور المتعدد الذي عطف بعضه على بعض- بأو- يجوز أن يوحد وأن يطابق المتعدد، وذلك يدور على القصد، فيجوز: جاءني زيد أو عمرو وذهب، أو وهما ذاهبان إلى المسجد، وعلى هذا لا حاجة إلى التوجيه لعدم صحة التثنية ووجوب الإفراد في مثل هذا الضمير، نعم قيل: إن الظاهر الإفراد دون التثنية، وإن جاز كل منهما فيحتاج العدول عن الظاهر إلى نكتة. وادعى بعضهم أنها تعميم الأولوية ودفع توهم اختصاصها بواحد، فتأمل فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أي هوى أنفسكم أَنْ تَعْدِلُوا من العدول والميل عن الحق، أو من العدل مقابل الجور وهو في موضع المفعول له، إما للاتباع المنهي عنه أو للنهي، فالاحتمالات أربعة: الأول أن يكون بمعنى العدول وهو علة للمنهي عنه، فلا حاجة إلى تقدير، والثاني أن يكون بمعنى العدل وهو علة للمنهي عنه فيقدر مضاف أي كراهة أن تعدلوا، والثالث أن يكون بمعنى العدول وهو علة للنهي فيحتاج إلى التقدير كما في الاحتمال الثاني أي أنهاكم عن اتباع الهوى كراهة العدول عن الحق، والرابع أن يكون بمعنى العدل وهو علة للنهي فلا يحتاج إلى التقدير كما في الاحتمال الأول، أي أنهاكم عن اتباع الهوى للعدل وعدم الجور وَإِنْ تَلْوُوا ألسنتكم عن الشهادة بأن تأتوا بها على غير وجهها الذي تستحقه كما روي ذلك عن ابن زيد والضحاك، وحكي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه وهو الظاهر، وقيل: اللي المطل في أدائها، ونسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. أَوْ تُعْرِضُوا أي تتركوا إقامتها رأسا وهو خطاب للشهود، وقيل: إن الخطاب للحكام، واللي الحكم بالباطل، والإعراض عدم الالتفات إلى أحد الخصمين، ونسب هذا إلى السدي، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا، وقرأ حمزة وَإِنْ تَلْوُوا بضم اللام وواو ساكنة وهو من الولاية بمعنى مباشرة الشهادة، وقيل: إن أصله تلووا بواوين أيضا نقلت ضمة الواو بعد قلبها همزة، أو ابتداء إلى ما قبلها ثم حذفت لالتقاء الساكنين، وعلى هذا فالقراءتان بمعنى فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ من اللي والإعراض، أو من جميع الأعمال التي من جملتها ما ذكر خَبِيراً عالما مطلعا فيجازيكم على ذلك، وهو وعيد محض على القراءة الأولى، وعلى القراءة الأخيرة يحتمل أن يكون كذلك وأن يكون متضمنا للوعد، والآية كما أخرج ابن جرير عن السدي نزلت في النبي صلّى الله عليه وسلّم اختصم إليه رجلان غني وفقير فكان خلقه مع الفقير يرى أن الفقير لا يظلم الغني فأبى الله تعالى إلا أن يقول بالقسط في الغني والفقير، وهي متضمنة للشهادة على من ذكره الله تعالى، ولا تعرض فيها للشهادة لهم على ما هو الظاهر، وحملها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 بعضهم على ما يشمل القسمين، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما أشرنا إليه فيجوز عنده شهادة الولد لوالده والوالد لولده. وحكي عن ابن شهاب الزهري أنه قال: كان سلف المسلمين على ذلك حتى ظهر من الناس أمور حملت الولاة على اتهامهم فتركت شهادة من يتهم، ولا يخفى أن حمل الآية على ذلك بعيد جدا، وأبعد منه بمراحل- بل ينبغي أن يكون من باب الإشارة- كون المراد منها كونوا شُهَداءَ لِلَّهِ تعالى بوحدانيته وكمال صفاته وحقيقة أحكامه ولو كان ذلك مضرا لأنفسكم أو لوالديكم وأقربيكم بأن توجب الشهادة ذهاب حياة هؤلاء أو أموالهم أو غير ذلك إِنْ يَكُنْ أي الشاهد غَنِيًّا تضر شهادته بغناه أَوْ فَقِيراً تسد شهادته باب دفع الحاجة عليه فَاللَّهُ تعالى أَوْلى بِهِما من أنفسهما، فينبغي أن يرجحا الله تعالى على أنفسهما، واستدل بالآية على أن العبد لا مدخل له في الشهادة إذ ليس قوّاما بذلك لكونه ممنوعا من الخروج إلى القاضي وعلى وجوب التسوية بين الخصمين على الحاكم، وهو ظاهر على رأي، ووجه مناسبتها لما تقدم على ما في البحر أنه تعالى لما ذكر النساء والنشوز والمصالحة عقبه بالقيام لأداء الحقوق، وفي الشهادة حقوق، أو لأنه سبحانه لما بين أن طالب الدنيا ملوم وأشار إلى أن طالب الأمرين أو أشرفهما هو الممدوح بين أن كمال ذلك أن يكون قول الإنسان وفعله لله تعالى، أو لأنه تعالى شأنه لما ذكر في هذه السورة وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى [النساء: 3] والإشهاد عند دفع أموالهم إليهم وأمر ببذل النفس والمال في سبيل الله تعالى وذكر قصة الخائن واجتماع قومه على الكذب والشهادة بالباطل وندب للمصالحة عقب ذلك بأن أمر عباده المؤمنين بالقيام بالعدل والشهادة لوجه الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خطاب للمسلمين كافة فمعنى قوله تعالى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ أثبتوا على الإيمان بذلك وداوموا عليه، وروي هذا عن الحسن، واختاره الجبائي، وقيل: الخطاب لهم، والمراد ازدادوا في الإيمان طمأنينة ويقينا، أو آمَنُوا بما ذكر مفصلا بناء على أن إيمان بعضهم إجمالي، وأيا ما كان فلا يلزم تحصيل الحاصل، وقيل: الخطاب للمنافقين المؤمنين ظاهرا فمعنى آمَنُوا أخلصوا الإيمان، واختاره الزجاج وغيره. وقيل: لمؤمني اليهود خاصة، ويؤيده ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن عبد الله بن سلام وأسد وأسيد ابني كعب وثعلبة بن قيس وابن أخت عبد الله بن سلام ويامين بن يامين أتوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: نؤمن بك وبكتابك وبموسى وبالتوراة وعزير ونكفر بما سواه من الكتب والرسل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: بل آمنوا بالله تعالى ومحمد صلّى الله عليه وسلّم وبكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله فقالوا: لا نفعل» فنزلت فآمنوا كلهم، وقيل: لمؤمني أهل الكتابين، وروي ذلك عن الضحاك، وقيل: للمشركين المؤمنين باللات والعزى، وقيل: لجميع الخلق لإيمانهم يوم أخذ الميثاق حين قال لهم سبحانه: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الأعراف: 172] والكتاب الأول القرآن، والمراد من الكتاب الثاني الجنس المنتظم لجميع الكتب السماوية، ويدل عليه قوله تعالى فيما بعد: وَكُتُبِهِ والمراد بالإيمان بها الإيمان بها في ضمن الإيمان بالكتاب المنزل على الرسول صلّى الله عليه وسلّم على معنى أن الإيمان بكل واحد منها مندرج تحت الإيمان بذلك الكتاب، وأن أحكام كل منها كانت حقة ثابتة يجب الأخذ بها إلى ورود ما نسخها، وأن ما لم ينسخ منها إلى الآن من الشرائع والأحكام ثابتة من حيث إنها من أحكام ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه ولا تغيير يعتريه. ومن هنا يعلم أن أمر مؤمني أهل الكتاب بالإيمان بكتابهم بناء على أن الخطاب لهم ليس على معنى الثبات لأن هذا النحو من الإيمان غير حاصل لهم وهو المقصود، ولا حاجة إلى القول بأن متعلق الأمر حقيقة هو الإيمان بما عداه كأنه قيل: آمنوا بالكل ولا تخصوه بالبعض، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو- نزل، وأنزل- على البناء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 للمفعول، واستعمال- نزل- أولا وأَنْزَلَ ثانيا لأن القرآن نزل مفرقا بالإجماع، وكان تمامه في ثلاث وعشرين سنة على الصحيح ولا كذلك غيره من الكتب فتذكر. وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أي بشيء من ذلك فإن الحكم المتعلق بالأمور المتعاطفة بالواو- كما قال العلامة الثاني- قد يرجع إلى كل واحد، وقد يرجع إلى المجموع، والتعويل على القرائن، وهاهنا قد دلت القرينة على الأول لأن الإيمان بالكل واجب والكل ينتفي بانتفاء البعض ومثل هذا ليس من جعل الواو بمعنى أو في شيء، وجوز بعضهم رجوعه إلى المجموع لوصف الضلال بغاية البعد في قوله تعالى: فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً ويستفاد منه أن الكفر بأي بعض كان ضلال متصف- ببعد- والمشهور أن المراد- بالضلال البعيد- الضلال البعيد عن المقصد بحيث لا يكاد يعود المتصف به إلى طريقه، ويجوز أن يراد ضَلالًا بَعِيداً عن الوقوع، والجملة الشرطية تذييل للكلام السابق وتأكيد له، وزيادة- الملائكة واليوم الآخر- في جانب الكفر على ما ذكره شيخ الإسلام لما أن بالكفر بأحدهما لا يتحقق الإيمان أصلا، وجمع الكتب والرسل لما أن الكفر بكتاب أو رسول كفر بالكل، وتقديم الرسول فيما سبق لذكر الكتاب بعنوان كونه منزلا عليه، وتقديم الملائكة والكتب على الرسل لأنهم وسائط بين الله عز وجل وبين الرسل في إنزال الكتب، وقيل: اختلاف الترتيب في الموضعين من باب التفنن في الأساليب والزيادة في الثاني لمجرد المبالغة، وقرىء بكتابه على إرادة الجنس إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً هم قوم تكرر منهم الارتداد وأصروا على الكفر وازدادوا تماديا في الغي، وعن مجاهد وابن زيد أنهم أناس منافقون أظهروا الإيمان، ثم ارتدوا، ثم أظهروا، ثم ارتدوا، ثم ماتوا على كفرهم، وجعلها ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عامة لكل منافق في عهده صلّى الله عليه وسلّم في البر والبحر، وعن الحسن أنهم طائفة من أهل الكتاب أرادوا تشكيك أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكانوا يظهرون الإيمان بحضرتهم، ثم يقولون قد عرضت لنا شبهة أخرى فيكفرون، ثم يظهرون، ثم يقولون: قد عرضت لنا شبهة أخرى فيكفرون، ويستمرون على الكفر إلى الموت، وذلك معنى قوله تعالى: وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران: 72] ، وقيل: هم اليهود آمنوا بموسى عليه السلام، ثم كفروا بعبادتهم العجل حين غاب عنهم، ثم آمنوا عند عوده إليهم، ثم كفروا بعيسى عليه السلام، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وروي ذلك عن قتادة، وقال الزجاج والفراء: إنهم آمنوا بموسى عليه السلام ثم كفروا بعده، ثم آمنوا بعزير، ثم كفروا بعيسى عليه السلام، ثم ازدادوا كفرا بنبينا عليه الصلاة والسلام، وأورد على ذلك بأن الذين ازدادوا كفرا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم ليسوا بمؤمنين بموسى عليه السلام، ثم كافرين بعبادة العجل أو بشيء آخر، ثم مؤمنين بعوده إليهم أو بعزير، ثم كافرين بعيسى عليه السلام بل هم إما مؤمنون بموسى عليه السلام وغيره، أو كفار لكفرهم بعيسى عليه السلام والإنجيل. وأجيب بأنه لم يرد على هذا قوم بأعيانهم بل الجنس، ويحصل التبكيت على اليهود الموجودين باعتبار عد ما صدر من بعضهم كأنه صدر من كلهم، والذي يميل القلب إليه أن المراد قوم تكرر منهم الارتداد أعم من أن يكونوا منافقين أو غيرهم، ويؤيده ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في المرتد: إن كنت لمستتيبه ثلاثا، ثم قرأ هذه الآية وإلى رأي الإمام كرم الله تعالى وجهه ذهب بعض الأئمة فقال: يقتل المرتد في الرابعة ولا يستتاب، وكأنه أراد أنه لا فائدة في الاستتابة إذ لا منفعة، وعليه فالمراد من قوله سبحانه: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا أنه سبحانه لا يفعل ذلك أصلا وإن تابوا، وعلى القول المشهور الذي عليه الجمهور: المراد من نفي المغفرة والهداية نفي ما يقتضيهما وهو الإيمان الخالص الثابت ومعنى نفيه استبعاد وقوعه فإن من تكرر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 منهم الارتداد وازدياد الكفر والإصرار عليه صاروا بحيث قد ضربت قلوبهم بالكفر وتمرنت على الردة وكان الإيمان عندهم أدون شيء وأهونه فلا يكادون يقربون منه قيد شبر ليتأهلوا للمغفرة وهداية سبيل الجنة لا أنهم لو أخلصوا الإيمان لم يقبل منهم ولم يغفر لهم. وخص بعضهم عدم الاستتابة بالمتلاعب المستخف إذا قامت قرينة على ذلك، وخبر كان في أمثال هذا الموضع محذوف وبه تتعلق اللام كما ذهب إليه البصريون أي ما كان الله تعالى مريدا للغفران لهم، ونفي إرادة الفعل أبلغ من نفيه. وذهب الكوفيون إلى أن اللام زائدة والخير هو الفعل وضعف بأن ما بعدها قد انتصب فإن كان النصب باللام نفسها فليست بزائدة، وإن كان- بأن- ففاسد لما فيه من الإخبار بالمصدر عن الذات وأجيب باختيار الشق الأول، وأنه لا مانع من العمل مع الزيادة كما في حروف الجر الزائدة، وباختيار الشق الثاني وامتناع الإخبار بالمصدر عن الذات لعدم كونه دالا بصيغته على فاعل وعلى زمان دون زمان، والفعل المصدر- بأن- يدل عليهما فيجوز الإخبار به- وإن لم يجز بالمصدر- ولا يخفى ما فيه، فإن الإخبار على هذا بالفعل لا بالمصدر وإن أول المصدر باسم الفاعل كان الإخبار باسم الفاعل لا به أيضا فافهم واختار قوم في القوم ما ذهب إليه مجاهد. وأيد ذلك بقوله تعالى: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ووضع فيه بَشِّرِ موضع أنذر تهكما بهم، ففي الكلام استعارة تهكمية وقيل: موضع أخبر فهناك مجاز مرسل تهكمي. الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ في موضع النصب، أو الرفع على الذم على معنى أريد بهم الذين أو هم الذين، ويجوز أن يكون منصوبا على اتباع المنافقين ولا يمنع منه وجود الفاصل فقد جوزه العرب، والمراد بالكافرين قيل: اليهود، وقيل: مشركو العرب، وقيل: ما يعم ذلك والنصارى، وأيد الأول بما روي أنه كان يقول بعضهم لبعض: إن أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم لا يتم فتولوا اليهود. مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أي متجاوزين ولاية المؤمنين، وهو حال من فاعل يَتَّخِذُونَ أَيَبْتَغُونَ أي المنافقون عِنْدَهُمُ أي الكافرين الْعِزَّةَ أي القوة والمنعة وأصلها الشدة، ومنه قيل: للأرض الصلبة: عزاز، والاستفهام للإنكار، والجملة معترضة مقررة لما قبلها، وقيل: للتهكم، وقيل: للتعجب. فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً أي إنها مختصة به تعالى يعطيها من يشاء وقد كتبها سبحانه لأوليائه فقال عز شأنه: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ والجملة تعليل لما يفيده الاستفهام الإنكاري من بطلان رأيهم وخيبة رجائهم. وقيل: بيان لوجه التهكم، أو التعجب، وقيل: إنها جواب شرط محذوف أي إن يبتغوا العزة من هؤلاء فَإِنَّ الْعِزَّةَ إلخ، وهي على هذا التقدير قائمة مقام الجواب لا أنها الجواب حقيقة، وجَمِيعاً قيل: حال من الضمير في الجار والمجرور لاعتماده على المبتدأ، وليس في الكلام مضاف أي لأولياء كما زعمه البعض، وقوله سبحانه: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ خطاب للمنافقين بطريق الالتفات مفيد لتشديد التوبيخ الذي يستدعيه تعديد جناياتهم. وقرأ- ما عدا عاصما- ويعقوب نَزَّلَ بالبناء لما لم يسم فاعله، والجملة حال من ضمير يَتَّخِذُونَ مفيدة أيضا لكمال قباحة حالهم ببيان أنهم فعلوا ما فعلوا من موالاة أعداء الله تعالى مع تحقق ما يمنعهم عن ذلك، وهو ورود النهي عن المجالسة المستلزم للنهي عن الموالاة على آكد وجه وأبلغه إثر بيان انتفاء ما يدعوهم إليه بالجملة المعترضة كأنه قيل: تتخذونهم أولياء والحال أنه تعالى نَزَّلَ عَلَيْكُمْ قبل هذا بمكة فِي الْكِتابِ أي القرآن العظيم الشأن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وذلك قوله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [الأنعام: 68] الآية، وهذا يقتضي الانزجار عن مجالستهم في تلك الحالة القبيحة، فكيف بموالاتهم والاعتزاز بهم؟! وأَنْ هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن مقدر أي إنه إذا سمعتم، وقدره بعضهم ضمير المخاطبين أي إنكم، وكون المخففة لا تعمل في غير ضمير الشأن إلا لضرورة- كما قال أبو حيان- في حيز المنع، وقد صحح غير واحد جواز ذلك من غير ضرورة، والجملة الشرطية خبر وهي تقع خبرا في كلام العرب، وأَنْ وما بعدها في موضع النصب على أنه مفعول به- لنزل- وهو القائم مقام الفاعل على القراءة الثانية، واحتمال أنه قد يجعل القائم مقامه عليكم، وتكون أَنْ مفسرة لأن التنزيل في معنى القول لا يلتفت إليه، ويُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ في موضع الحال من الآيات جيء بهما لتقييد النهي عن المجالسة، فإن قيد القيد قيد، والمعنى لا تقعدوا معهم وقت كفرهم واستهزائهم بالآيات، وإضافة الآيات إلى الاسم الجليل لتشريفها وإبانة خطرها وتهويل أمر الكفر بها، والضمير في مَعَهُمْ للكفرة المدلول عليهم ب يُكْفَرُ وَيُسْتَهْزَأُ والضمير في غيره راجع إلى تحديثهم بالكفر والاستهزاء، وقيل: الكفر والاستهزاء لأنهما في حكم شيء واحد، وقوله تعالى: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ تعليل للنهي غير داخل تحت التنزيل وإِذا ملغاة لأن شرط علمها النصب في الفعل أن تكون في صدر الكلام فلذا لم يجيء بعدها فعل، ومثل- خبر عن ضمير الجمع وصح مع إفراده لأنه في الأصل مصدر، فيستوي فيه الواحد المذكر وغيره، وقيل: لأنه كالمصدر في الوقوع على القليل والكثير أو لأنه مضاف لجمع فيعم، وقد يطابق ما قبله كقوله تعالى: ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [محمد: 38] ، والجمهور على رفعه، وقرىء شاذا بالنصب، فقيل: إنه منصوب على الظرفية لأن معنى قولك: زيد مثل عمرو في أنه حال مثله، وقيل: إنه إذا أضيف إلى مبني اكتسب البناء ولا يختص ذلك بما المصدرية كما توهم بل يكون فيها مثل مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ [الصافات: 92] ، وفي غيرها كقوله: فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم ... إذ هم قريش وإذ ما مثلهم بشر وابن مالك يشترط لاكتساب البناء أن لا يقبل المضاف التثنية والجمع- كدون وغير وبين- ولم يصحح ذلك في- مثل- وأعربه حالا من الضمير المستتر في- حق- في قوله تعالى: إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ- ما- أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ، وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً تعليل لكونهم مثلهم في الكفر ببيان ما يستلزمه من شركتهم لهم في العذاب، والمراد من المنافقين إما المخاطبون، وأقيم المظهر مقام المضمر تسجيلا لنفاقهم وتعليلا للحكم بمأخذ الاشتقاق، وإما للجنس وهم داخلون دخولا أوليا وتقديمهم لتشديد الوعيد على المخاطبين وانتصابه على الحال طرز ما مر، واستشكل كون الخطاب للمنافقين بأنهم مثل الكافرين في الكفر من غير سببية القعود معهم فلا وجه لترتب الجزاء على الشرط، والعدول عن كون المماثلة في الكفر إلى المماثلة في المجاهرة به لا يحسن معه كون جملة إِنَّ اللَّهَ إلخ تعليلا لكونهم مثلهم بتلك المماثلة بالطريق الذي ذكر، وأيضا الذين نهوا عن مجالسة الكافرين والمستهزئين بمكة هم المؤمنون المخلصون لا المنافقون لأن نجم النفاق إنما ظهر بالمدينة، فكيف يذكر المنافقون فيها بنهي نزل في مكة قبل أن يكونوا؟. وأجيب عن هذا بأنه إن سلم أن المنزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم وإن خوطب به خاصة منزل على الأمة مخلصهم ومنافقهم إلى قيام الساعة، صح دخول المنافقين وإن لم يكونوا وقت النزول وإن لم يسلم ذلك فإن ادعي الاقتصار على النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يدخل المؤمنون المخلصون أيضا، وإن ادّعي دخولهم فقط دون المنافقين الذين هم مؤمنون ظاهرا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 فلا دليل عليه، كيف وجميع الأحكام متعلقة بالمؤمنين كيف كانوا ولسنا مكلفين بأن نشق على قلوب العباد، بل لنا الظاهر والله تعالى يتولى السرائر، على أنه قد قام الدليل على أن الأحكام الشرعية التي كانت صدر الإسلام ولم تنسخ مخاطب بها من نطق بالكلمة الطيبة وبلغته قبل يوم الساعة، فقد قال الله تعالى: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام: 19] ولهذه الدغدغة قال بعض المحققين: إن المقصود من الخطاب هنا المؤمنون الصادقون، والمراد بمن يكفر ويستهزىء أعم من المنافقين والكافرين، وضمير مَعَهُمْ للمفهوم من الفعلين، ويؤيد ذلك ما نقل عن الواحدي أنه قال: كان المنافقون يجلسون إلى أحبار اليهود فيسخرون من القرآن فنهى الله تعالى المسلمين عن مجالستهم، والمراد من المماثلة في الجزاء المماثلة في الإثم لأنهم قادرون على الإعراض والإنكار لا عاجزون كما في مكة، أو في الكفر على معنى إن رضيتم بذلك وهو مبني على أن الرضا بكفر الغير كفر من غير تفصيل، وهي رواية عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه عثر عليها صاحب الذخيرة. وقال شيخ الإسلام خواهر زاده: الرضا بكفر الغير إنما يكون كفرا إذا كان يستجيز الكفر أو يستحسنه أما إذا لم يكن كذلك ولكن أحب الموت، أو القتل على الكفر لمن كان مؤذيا حتى ينتقم الله تعالى منه فهذا لا يكون كفرا، ومن تأمل قوله تعالى: رَبَّنَا اطْمِسْ [يونس: 88] الآية يظهر له صحة هذه الدعوى وهو المنقول عن الماتريدي، وقول بعضهم: إن من جاءه كافر ليسلم فقال: اصبر حتى أتوضأ أو أخره يكفر لرضاه بكفره في زمان موافق لما روي عن الإمام لكن يدل على خلافه ما روي في الحديث الصحيح في فتح مكة أن ابن أبي سرح أتى به عثمان رضي الله تعالى عنه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله بايعه فكف صلّى الله عليه وسلّم يده ونظر إليه ثلاث مرات وهو معروف في السير، وهو يدل بظاهره على أن التوقف مطلقا ليس كما قالوه كفرا. واستدل بعضهم بالآية على تحريم مجالسة الفساق والمبتدعين من أي جنس كانوا، وإليه ذهب ابن مسعود وإبراهيم وأبو وائل، وبه قال عمر بن عبد العزيز، وروى عنه هشام بن عروة أنه ضرب رجلا صائما كان قاعدا مع قوم يشربون الخمر، فقيل له في ذلك: فتلا الآية، وهي أصل لما يفعله المصنفون من الإحالة على ما ذكر في مكان آخر، والتنبيه عليه والاعتماد على المعنى، ومن هنا قيل: إن مدار الإعراض عن الخائضين فيما يرضي الله تعالى هو العلم بخوضهم، ولذلك عبر عن ذلك تارة بالرؤية وأخرى بالسماع، وأن المراد بالإعراض إظهار المخالفة بالقيام عن مجالستهم لا الإعراض بالقلب أو بالوجه فقط، وعن الجبائي أن المحذور مجالستهم من غير إظهار كراهة لما يسمعه أو يراه، وعلى هذا- الذي ذهب إليه بعض المحققين- يحتمل أن يراد بالمنافقين والكافرين في جملة التعليل ما أريد بضمير معهم، وصرح بهذا العنوان لما أشرنا إليه قبل، ويحتمل أن يراد الجنس ويدخل أولئك فيه دخولا أوليا، والخطاب في قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ للمؤمنين الصادقين بلا خلاف، والموصول إما بدل من- الذين يتخذون- أو صفة للمنافقين فقط إذ هم المتربصون دون الكافرين. وجوز أبو البقاء وغيره كونه صفة لهما أو مرفوع أو منصوب على الذم، وجعله مبتدأ خبره الجملة شرطية لا يخلو من تكلف، والتربص الانتظار، والظاهر من كلام البعض أن مفعوله مقدر والجار والمجرور متعلق به أي ينتظرون وقوع أمر بكم وكلام الراغب يقتضي أنه يتعدى بالباء لأنه من انتظر بالسلعة غلاء السعر، والفاء في قوله تعالى: فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ لترتيب مضمونه على ما قبلها فإن حكاية تربصهم مستتبعة لحكاية ما يقع بعد ذلك أي فإن اتفق لكم فتح وظفر على الأعداء قالُوا أي لكم أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ نجاهد عدوكم فأعطونا نصيبا من الغنيمة وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ أي حظ من الحرب، فإنها سجال قالُوا أي المنافقون للكفار أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ أي ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم فأبقينا عليكم، أو ألم نغلبكم بالتفضل ونطلعكم على أسرار محمد صلّى الله عليه وسلّم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 وأصحابه ونكتب إليكم بأخبارهم حتى غلبتم عليهم وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي ندفع عنكم صولة المؤمنين بتخذيلنا إياهم وتثبيطنا لهم وتوانينا في مظاهرتهم وإلقائنا عليهم ما ضعفت به قلوبهم عن قتالكم فاعرفوا لنا هذا الحق عليكم وهاتوا نصيبنا مما أصبتم: وقيل: المعنى ألم نغلبكم على رأيكم بالموالاة لكم وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الدخول في جملة الْمُؤْمِنِينَ وهو خلاف الظاهر، وأصل الاستحواذ الاستيلاء، وكان القياس فيه استحاذ يستحيذ استحاذة بالقلب لكن صحت فيه الواو وكثر ذلك فيه. وفي نظائر له حتى ألحق بالمقيس وعدّ فصيحا، وقال أبو زيد: إنه قياسي، وعلى كل حال لا يرد على فصاحة القرآن كما حقق في موضعه. وقرىء وَنَمْنَعْكُمْ بالنصب بإضمار أن، والتقدير لم يكن منا الاستحواذ والمنع كقولك: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، سمي ظفر المسلمين فتحا وما للكافرين نصيبا لتعظيم شأن المسلمين وتخسيس حظ الكافرين، وقيل: سمي الأول فتحا إشارة إلى أنه من مداخل فتح دار الإسلام بخلاف ما للكافرين فإنه لا فتح لهم في استيلائهم بل سينطفئ ضياء ما نالوا فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فيثيب أحباءه ويعاقب أعداءه، وأما في الدنيا فأنتم وهم سواء في العصمة بدليل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم» وفي الكلام قيل: تغليب، وقيل: حذف أي بينكم وبينهم وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا أي يوم القيامة وحين الحكم كما قد يجعل ذلك في الدنيا ابتلاء واستدراجا، وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو في الدنيا أي لم يجعل لهم على المؤمنين سلطانا تاما بالاستئصال، أو حجة قائمة عليهم مفحمة لهم، وحكي ذلك عن السدي، ويجوز إبقاء الكلام على إطلاقه ليشمل الدنيا والآخرة ولعله الأولى، واحتج الشافعية بالآية على فساد شراء الكافر العبد المسلم لأنه لو صح لكان له عليه يد وسبيل بتملكه، ونحن نقول: يصح ولكن يمنع من استخدامه والتصرف فيه إلا بالبيع والإخراج عن ملكه فلم يحصل له سبيل عليه، واحتج بظاهرها بعض الأصحاب على وقوع الفرقة بين الزوجين بردة الزوج لأن عقد النكاح يثبت للزوج سبيلا في إمساكها في بيته وتأديبها ومنعها من الخروج وعليها طاعته فيما يقتضيه عقد النكاح، والمؤمنين والكافرين شامل للإناث وكذا الكافر إذا أسلمت زوجته، وضعف بأن الارتداد لا ينفي أن يكون النكاح إذا عاد إلى الإيمان قبل مضي العدة، واعترض بأنه حين الكفر لا سبيل له ونفي السبيل بوقوع الفرقة وبعد وقوع الفرقة لا بد لحدوث العلقة من موجب- وهو ظاهر- فإن كان العود يكون الارتداد كالطلاق الرجعي، والعود كالرجعة فلا ضعف فيه. وأنت تعلم أنه إذا كان نفي السبيل في الآخرة أو في الدنيا بالاستئصال، أو السبيل بمعنى الحجة لا متمسك في الآية لأصحابنا ولا الشافعية فلا تغفل إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ أي يفعلون ما يفعل المخادع فيظهرون الإيمان ويضمرون نقيضه، وعن الحسن- واختاره الزجاج- أن المراد يخادعون النبي صلّى الله عليه وسلّم على حد إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: 10] وَهُوَ خادِعُهُمْ أي فاعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع حيث تركهم في الدنيا معصومي الدماء والأموال وأعد لهم في الآخرة الدرك الأسفل من النار، وقيل: خداعه تعالى لهم أن يعطيهم سبحانه نورا يوم القيامة يمشون به مع المسلمين ثم يسلبهم ذلك النور ويضرب بينهم بسور. وروي ذلك عن الحسن، أيضا- والسدي- واختاره جماعة من المفسرين- وقد مر تحقيق ذلك، ولله تعالى الحمد. والجملة في محل نصب على الحال أو معطوفة على خبر إِنَ أو مستأنفة كالأولى. وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى أي متثاقلين متباطئين لا نشاط لهم ولا رغبة كالمكره على الفعل لأنهم لا يعتقدون ثوابا في فعلها ولا عقابا على تركها، وقرىء بفتح الكاف وهما جمعا كسلان. يُراؤُنَ النَّاسَ ليحسبوهم مؤمنين، والمراءاة مفاعلة من الرؤية إما بمعنى التفعيل لأن فاعل بمعنى فعل وارد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 في كلامهم- كنعم وناعم- وقراءة عبد الله وإسحاق- يروون- تدل على ذلك، أو للمقابلة لأنهم لفعلهم في مشاهد الناس يرون الناس والناس يرونهم وهم يقصدون أن ترى أعمالهم والناس يستحسنونها، فالمفاعلة في الرؤية متحدة وإنما الاختلاف في متعلق الإراءة، فلا يرد على هذا الشق أن المفاعلة لا بد في حقيقتها من اتحاد الفعل ومتعلقه، والجملة إما استئناف مبني على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل: فماذا يريدون بقيامهم هذا؟ فقيل: يُراؤُنَ إلخ، أو حال من ضمير قامُوا أو من الضمير في كسالى. وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا عطف على يُراؤُنَ ، وقيل: حال من فاعله أي ولا يذكرونه سبحانه مطلقا إلا زمانا قليلا، أو إلا ذكرا قليلا إذ المرائي لا يفعل إلا بحضرة من يرائيه وهو أقل أحواله، أو لأن ذكرهم باللساني قليل بالنسبة إلى الذكر بالقلب، وقيل: إنما وصف بالقلة لأنه لم يقبل وكل ما لم يقبله الله تعالى قليل وإن كان كثيرا، وروي ذلك عن قتادة، وأخرج البيهقي وغيره عن الحسن ما بمعناه. وأخرج ابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال:- لا يقل عمل مع تقوى وكيف يقل ما يتقبل- وقيل: المراد بالذكر الذكر الواقع في الصلاة نحو التكبير والتسبيح، وإليه ذهب الجبائي، وأيد بما أخرجه مسلم وأبو داود عن أنس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله تعالى فيها إلا قليلا» ، وقيل: الذكر بمعنى الصلاة لأن الكلام فيها لا بمعناه المتبادر منه، وجوز أن يراد بالقلة العدم، واستشكل توجيه الاستثناء حينئذ. وأجيب بأن المعنى لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تعالى إِلَّا ذكرا ملحقا بالعدم لأنه لا ينفعهم فلا إشكال، ولا يخفى ما فيه فإن القلة بمعنى العدم مجاز، وجعل العدم بمعنى ما لا نفع فيه مجاز آخر، ومع ذلك ليس في الكلام ما يدل عليه، وقال بعض المحققين: في توجيه الكلام على ذلك التقدير إن المعنى حينئذ لو صح أن يعد عدم الذكر ذكرا فذلك ذكرهم على طريقة قوله: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب وفيه- وإن كان أهون من الأول- ما فيه، واستدل بالآية على استحباب دخول الصلاة بنشاط، وعلى كراهة قول الإنسان كسلت، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه يكره أن يقول الرجل إني كسلان ويتأول هذه الآية مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ حال من فاعل يُراؤُنَ أو من فاعل يَذْكُرُونَ وجوز أن يكون حالا من فاعل قامُوا أو منصوب على الذم بفعل مقدر، وذلك إشارة إلى الإيمان والكفر المدلول عليه بذكر المؤمنين والكافرين، ولذا أضيف بَيْنَ إليه، وروي هذا عن ابن زيد ويصح أن يكون إشارة إلى المؤمنين والكافرين فيكون ما بعده تفسيرا له على حد قوله: الألمعي الذي يظن بك الظن ... كأن قد رأى وقد سمعا والمعنى مرددين بينهما متحيرين قد ذبذبهم الشيطان، وأصل الذبذبة كما قال الراغب: صوت الحركة للشيء المعلق، ثم استعير لكل اضطراب وحركة، أو تردد بين شيئين، والذال الثانية أصلية عند البصريين، ومبدلة من باء عند الكوفيين، وهو خلاف معروف بينهم، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مُذَبْذَبِينَ بكسر الذال الثانية ومفعوله على هذا محذوف أي- مذبذبين قلوبهم، أو دينهم، أو رأيهم- ويحتمل أن يجعل لازما على أن فعلل بمعنى تفعلل كما جاء صلصل بمعنى تصلصل أي متذبذبين، ويؤيده ما في مصحف ابن مسعود متذبذبين. وقرىء بالدال غير المعجمة وهو مأخوذ من- الدبة- بضم الدال وتشديد الباء بمعنى الطريقة والمذهب كما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 في النهاية، ويقال: هو على دبتي أي طريقتي وسمتي، وفي حديث ابن عباس «اتبعوا دبة قريش ولا تفارقوا الجماعة» والمعنى حينئذ أنهم أخذ بهم تارة طريقا وأخرى أخرى لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ أي لا منسوبين إلى المؤمنين حقيقة لإضمارهم الكفر، ولا إلى الكافرين لإظهارهم الإيمان، أو لا صائرين إلى الأولين ولا إلى الآخرين، ومحله النصب على أنه حال من ضمير مُذَبْذَبِينَ أو على أنه بدل منه، ويحتمل أن يكون بيانا وتفسيرا له وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ لعدم استعداده للهداية والتوفيق فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا موصلا إلى الحق والصواب فضلا عن أن تهديه إليه، والخطاب لكل من يصلح له وهو أبلغ في التفظيع. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ نهي المؤمنين الصادقين عن موالاة الكفار اليهود فقط- كما قيل- أو ما يعمهم وغيرهم كما هو الظاهر بعد بيان حال المنافقين، أي لا تتخذوهم أولياء فإن ذلك ديدن المنافقين ودينهم فلا تتشبهوا بهم، وقيل: المراد بالذين آمنوا المنافقون وبالمؤمنين المخلصون، فالآية نهي للمنافقين عن موالاة الكافرين دون المخلصين وقيل: المراد بالموصول المخلصون، وبالكافرين المنافقون فكأنه قيل: قد بينت لكم أخلاق هؤلاء المنافقين فلا تتخذوا منهم أولياء، وإلى ذلك ذهب القفال، وفي كلا القولين بعد أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً أي حجة ظاهرة في العذاب، وفيه دلالة على أن الله تعالى لا يعذب أحدا بمقتضى حكمته إلا بعد قيام الحجة عليه، ويشعر بذلك كثير من الآيات، وقيل: أتريدون بذلك أن تجعلوا له تعالى حجة بينة على أنكم موافقون (1) فإن موالاة الكافرين أوضح أدلة النفاق. ومن الناس من أبقى السلطان على معناه المعروف، لكن أخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: كل سلطان في القرآن فهو حجة، وهو مما يجوز فيه التذكير والتأنيث إجماعا، فتذكيره باعتبار البرهان أو باعتبار معناه المعروف، والتأنيث باعتبار الحجة والتأنيث أكثر عند الفصحاء على ما قاله الفراء إلا أنه لم يعتبر هنا، واعتبر التذكير لتحسن الفاصلة، وادعى ابن عطية أن التذكير أشهر وهي لغة القرآن حيث وقع، وعَلَيْكُمْ يجوز تعلقه بالجعل وبمحذوف وقع حالا من سُلْطاناً، وتوجيه الإنكار إلى الإرادة دون متعلقها بأن يقال: أتجعلون إلخ للمبالغة في إنكاره وتهويل أمره ببيان أنه مما لا يصدر عن العاقل إرادته فضلا عن صدور نفسه إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ أي في الطبقة السفلى منها وهو قعرها، ولها طبقات سبع تسمى الأولى كما قيل: جهنم، والثانية لظى، والثالثة الحطمة والرابعة السعير، والخامسة سقر، والسادسة الجحيم، والسابعة الهاوية. وقد تسمى النار جميعا باسم الطبقة الأولى، وبعض الطبقات باسم بعض لأن لفظ النار يجمعها وتسمية تلك الطبقات دركات لكونها متداركة متتابعة بعضها تحت بعض، والدَّرْكِ كالدرج إلا أنه يقال باعتبار الهبوط، والدرج باعتبار الصعود، وفي كون المنافق فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ إشارة إلى شدة عذابه. وقد أخرج ابن أبي الدنيا عن الأحوص عن ابن مسعود- أن المنافق يجعل في تابوت من حديد يصمد عليه ثم يجعل في الدرك الأسفل- وإنما كان أشدّ عذابا من غيره من الكفار لكونه ضم إلى الكفر المشترك استهزاء بالإسلام وخداعا لأهله، وأما ما روي في الصحيحين من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا وعد غدر، وإذا خاصم فجر» فقد قال المحدثون فيه: إنه مخصوص بزمانه صلّى الله عليه وسلّم لاطلاعه بنور الوحي على بواطن المتصفين بهذه الخصال فأعلم عليه   (1) قوله: «موافقون» وقوله بعده في الحديث: «وإذا وعد غدر» كذا بخطه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 الصلاة والسلام أصحابه رضي الله تعالى عنهم بأماراتهم ليحترزوا عنهم، ولم يعينهم حذرا عن الفتنة وارتدادهم ولحوقهم بالمحاربين، وقيل: ليس بمخصوص ولكنه مؤول بمن استحل ذلك، أو المراد من اتصف بهذه فهو شبيه بالمنافقين الخلص، وأطلق صلّى الله عليه وسلّم ذلك عليه تغليظا وتهديدا له، وهذا في حق من اعتاد ذلك لا من ندر منه، أو هو منافق في أمور الدين عرفا والمنافق في العرف يطلق على كل من أبطن خلاف ما يظهر مما يتضرر به وإن لم يكن إيمانا وكفرا، وكأنه مأخوذ من النافقاء، وليس المراد الحصر وهذا صدر منه صلّى الله عليه وسلّم باقتضاء المقام، ولذا ورد في بعض الروايات «ثلاث» وفي بعضها «أربع» . وقرأ الكوفيون الدَّرْكِ بسكون الراء وهو لغة كالسطر والسطر، والفتح أكثر وأفصح لأنه ورد جمعه على أفعال، وأفعال في فعل المحرك كثير مقيس، ووروده في الساكن نادر كفرخ وأفراخ، وزند وأزناد.- وكونه استغني بجمع أحدهما عن الآخر جائز لكنه خلاف الظاهر، فلا يندفع به الترجيح، والكلام مخرّج مخرج الحقيقة، وزعم أبو القاسم البلخي أن لا طبقات في النار، وأن هذا إخبار عن بلوغ الغاية في العقاب كما يقال: إن السلطان بلغ فلانا الحضيض وفلانا العرش، يريدون بذلك انحطاط المنزلة وعلوها لا المسافة، ولا يخفى أنه خلاف ما جاءت به الآثار، ومِنَ النَّارِ في محل النصب على الحال وفي صاحبها وجهان: أحدهما أنه الدَّرْكِ والعامل الاستقرار، والثاني أنه الضمير المستتر في الْأَسْفَلِ لأنه صفة، فيتحمل الضمير أي حال كون ذلك من النار وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً يخرجهم منه أو يخفف عنهم ما هم فيه يوم القيامة حين يكونون في الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ وكون المراد وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً في الدنيا لتكون الآية وصفا لهم بأنهم خسروا الدنيا والآخرة ليس بشيء كما لا يخفى، والخطاب لكل من يصلح له إِلَّا الَّذِينَ تابُوا عن النفاق وهو استثناء من المنافقين، أو من ضميرهم في الخبر، أو من الضمير المجرور في لهم، وقيل: هو في موضع رفع بالابتداء والخبر ما بعد الفاء ودخلت- لما- في الكلام من معنى الشرط وَأَصْلَحُوا ما أفسدوا من نياتهم وأحوالهم في حال النفاق، وقيل: ثبتوا على التوبة في المستقبل، والأول أولى وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ أي تمسكوا بكتابه، أو وثقوا به وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ لا يريدون بطاعتهم إلا وجهه ورضاه سبحانه لا رياء الناس، ودفع الضرر كما في النفاق، وأخرج أحمد والترمذي وغيرهما عن أبي ثمامة قال: قال الحواريون لعيسى عليه السلام: يا روح الله من المخلص لله؟ قال: الذي يعمل لله تعالى لا يحب أن يحمده الناس عليه فَأُولئِكَ إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصفة وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة مَعَ الْمُؤْمِنِينَ أي المعهودين من الذين لم يصدر منهم نفاق أصلا منذ آمنوا، والمراد أنهم معهم في الدرجات العالية من الجنة، أو معدودون من جملتهم في الدنيا والآخرة وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً لا يقادر قدره فيساهمونهم فيه ويقاسمونهم. وفسر أبو حيان الأجر العظيم بالخلود، والتعميم أولى، والمراد بالمؤمنين هاهنا ما أريد به فيما قبله. واعتبار المساهمة جرى عليه غير واحد، ولولا تفسير الآية بذلك لم يكن لها في ذكر أحوال من تاب من النفاق معنى ظاهر. وذهب بعضهم إلى عدم اعتبارها، والمراد الإخبار بزيادة ثواب من لم يسبق منه نفاق أصلا، وعمم بعض المؤمنين ليشمل من لم يتقدم منه نفاق ومن تقدم منه وتاب عنه، والظاهر ما ذكرناه، ورسم يُؤْتِ بغير ياء، وهو مضارع مرفوع فحق يائه أن تثبت لفظا وخطا إلا أنها حذفت في اللفظ لالتقاء الساكنين، وجاء الرسم تبعا للفظ والقراء يقفون عليه دونها اتباعا للرسم إلا يعقوب فإنه يقف بالياء نظرا إلى الأصل. وروي ذلك أيضا عن الكسائي وحمزة ونافع وادعى السمين أن الأولى اتباع الرسم لأن الأطراف قد كثر حذفها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ خطاب للمنافقين- وقيل: للمؤمنين، وضعف- مسوق لبيان أن مدار تعذيبهم وجودا وعدما إنما هو كفرهم لا شيء آخر، فتكون الجملة مقررة لما قبلها من ثباتهم عند توبتهم، وما استفهامية مفيدة للنفي على أبلغ وجه وآكده، وقيل: نافية والباء سببية، وقيل: زائدة أي أيّ شيء يفعل الله سبحانه بسبب تعذيبكم أيتشفى به من الغيظ؟ أم يدرك به الثأر؟ أم يستجلب نفعا؟ أو يستدفع به ضررا كما هو شأن الملوك، وهو الغني المطلق المتعالي عن أمثال ذلك؟ وإنما هو أمر يقتضيه مرض كفركم ونفاقكم فإذا احتميتم عن النفاق ونقيتم نفوسكم بشربة الإيمان والشكر في الدنيا برئتم وسلمتم وإلا هلكتم هلاكا لا محيص عنه بالخلود في النار، وإنما قدم الشكر مع أن الظاهر تأخيره لأنه لا يعتد به إلا بعد الإيمان لما أنه طريق موصل إليه في أول درجاته، فقد ذكر العارف أبو إسماعيل الأنصاري أن الشكر في الأصل اسم لمعرفة النعمة لأنها السبيل إلى معرفة المنعم وله ثلاث درجات لأنه إذا نظر إلى النعمة كالرزق والخلق ينبغث منه شوق إلى معرفة المنعم وهذه الحركة تسمى باليقظة والشكر القلبي والشكر المبهم لأن منعمه لم يتضح له تعيينه، وإنما عرف منعما ما فهو منعم عليه فإذا تيقظ لهذا وفق لنعمة أكبر منها، وهي المعرفة بأن المنعم عليه هو الصمد الواسع الرحمة المثيب المعاقب فتتحرك جوارحه لتعظيمه ويضيف إلى شكر الجنان شكر الأركان، ثم ينادي على ذلك الجميل باللسان، ويقول: أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجبا فالمذكور في الآية هو الشكر المبهم وهو مقدم على الإيمان، فلا حاجة إلى ما زعمه الإمام من أن الكلام على التقديم والتأخير أي آمنتم وشكرتم، وأما القول: بأن هذا السؤال إنما هو على تقدير أن تكون الواو للترتيب، وأما إذا لم تكن للترتيب فلا سؤال فمما لا ينبغي أن يتفوه به من له أدنى ذوق في علم الفصاحة والبلاغة لأن الواو وإن لم تفد الترتيب لكن تقديم ما ليس مقدما لا يليق بالكلام الفصيح فضلا عن المعجز، ولذا تراهم يذكرون لما يخالفه وجها ونكتة، وذكر النيسابوري وجها آخر في التقديم لكنه بناه على إفادة الواو للترتيب فقال: لعل الوجه في ذلك أن الآية مسوقة في شأن المنافقين ولا نزاع في إيمانهم ظاهرا وإنما النزاع في بواطنهم وأفعالهم التي تصدر عنهم غير مطابقة للقول اللساني، فكان تقديم الشكر هاهنا أهم لأنه عبارة عن صرف جميع ما أعطاه الله تعالى فيما خلق لأجله حتى تكون أفعاله وأقواله على نهج السداد وسنن الاستقامة انتهى، ولا يخفى أنه لم يحمل الشكر في الآية على الشكر المبهم، ولا يخلو عن حسن. وأوضح منه وأطيب ما حاك في صدري، ثم رأيت العلامة الطيبي عليه الرحمة صرح به إن الذي يقتضيه النظم الفائق أن هذا الخطاب مع المنافقين، وأن قوله سبحانه ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ متصل بقوله تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً إلخ، وتنبيه لهم على أن الذي ورطهم في تلك الورطة كفرانهم نعم الله تعالى وتهاونهم في شكر ما أوتوا وتفويتهم على أنفسهم بنفاقهم البغية العظمى، وهو الإسعاد بصحبة أفضل الخلق صلّى الله عليه وسلّم والانخراط في زمرة الذين مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ [الفتح: 29] فإذا تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله تعالى وأخلصوا دينهم له فأولئك حكمهم أن ينتظموا في سلك أولئك السعداء من المؤمنين بعد ما كانوا مستأهلين الدرجات السفلى من النيران، ثم التفت تعريضا لهم أن ذلك العذاب كان منهم وبسبب تقاعدهم وكفرانهم تلك النعمة الرفيعة وتفويتهم على أنفسهم تلك الفرصة السنية وإلا فإن الله تعالى غني مطلق عن عذابهم فضلا على أن يوقعهم في تلك الورطات، فقوله عز وجل: إِنْ شَكَرْتُمْ فذلكة لمعنى الرجوع عن الفساد في الأرض إلى الإصلاح فيها، ومن اللجأ إلى الخلق إلى الاعتصام بالله تعالى، ومن الرياء في الدين إلى الإخلاص فيه، فقوله عز الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 من قائل: وَآمَنْتُمْ تفسير له وتقرير لمعناه أي وَآمَنْتُمْ الإيمان الذي هو حائز لتلك الخلال الفواضل جامع لتلك الخصال الكوامل، فتقديم الشكر على الإيمان وحقه التأخير في الأصل إعلام بأن الكلام فيه، وأن الآية السابقة مسوقة لبيان كفران نعمة الله تعالى العظمى والكفر تابع فإذا أخر الشكر أخل بهذه الأسرار واللطائف، ومن ثم ذيل سبحانه الآية على سبيل التعليل بقوله جل وعلا: وَكانَ اللَّهُ شاكِراً أي مثيبا على الشكر عَلِيماً بجميع الجزئيات والكليات فلا يعزب عن علمه شيء فيوصل الثواب كاملا إلى الشاكر، وإلى هذا ذهب الإمام، وقال غير واحد: الشاكر وكذا الشكور من أسمائه تعالى هو الذي يجزي بيسير الطاعات كثير الدرجات، ويعطي بالعمل في أيام معدودة نعما في الآخرة غير محدودة، وعلى التقديرين يرجع إلى صفة فعلية، وقيل: معناه المثنى على من تمسك بطاعته فيرجع إلى صفة كلامية. هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» : أما في قوله سبحانه: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ إلى قوله عز وجل: وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً فقد قال النيسابوري فيه: إن النفس للروح كالمرأة للزوج، فِي يَتامَى النِّساءِ صفات النفوس، وما كُتِبَ لَهُنَّ ما أوجب الله تعالى من الحقوق. وحاصل المعنى إن نفسك مطيتك فارفق بها، وإليه الإشارة بقوله تعالى: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ فالروح تشح بترك حقوق الله تعالى، والنفس تشح بترك حظوظها فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ في رفض حظوظ النفس، فقد جاء في الخبر «إن لنفسك عليك حقا» فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ بين العالم العلوي والعالم السفلي وَإِنْ يَتَفَرَّقا أي الروح والنفس يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ فالروح يجتذب بجذبة- خل نفسك وائتني إلى سعة غنى الله تعالى في عالم هويته- فيستغنى عن مركب النفس بالوصول إلى المقصود، والنفس تجتذب بجذبة ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: 28] إلى سعة غنى الله تعالى في عالم فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر: 29، 30] انتهى، ولا يخفى أن باب التأويل واسع، وما ذكره ليس بمتعين فيمكن أن تجعل الآية في شأن الشيخ والمريد وأما في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا إلخ فنقول: إنه سبحانه أمر المؤمنين بالتوحيد العلمي المريدين لثواب الدارين أن يكونا ثابتين في مقام العدالة التي في أشرف الفضائل قَوَّامِينَ بحقوقها بحيث تكون ملكة راسخة فيهم لا يمكن معها جور في شيء ولا ظهور صفة نفس لاتباع هوى في جلب نفع دنيوي أو رفع مضرة كذلك، ثم قال جل وعلا: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا من حيث البرهان آمَنُوا من حيث البيان إلى أن تؤمنوا من حيث العيان أو يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالإيمان التقليدي آمَنُوا بالإيمان العيني، أو المراد يا أَيُّهَا المدعون تجريد الإيمان لي من غير وساطة لا سبيل لكم إلى الوصول إلى عين التجريد إلا بقبول الوسائط، فالآية إشارة إلى الفرق بعد الجمع إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بالتقليد ثُمَّ كَفَرُوا إذ لم يكن للتقليد أصل ثُمَّ آمَنُوا بالاستدلال العقلي ثُمَّ كَفَرُوا إذ لم تكن عقولهم مشرقة بالنور الإلهي ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً بالشبهات والاعتراضات، وقد يكون ذلك إشارة إلى وصف أهل التردد في سلوك سبيل أولياء الله تعالى، والإيمان بأحوالهم حين هاجت رغبتهم إلى رئاسة القوم. فلما جن عليهم ليل المجاهدات لم يتحملوا وأنكروا ورجعوا إلى حظوظ أنفسهم، ولما رأوا نهاية الأكابر وظنوا اللحوق بهم لو استقاموا آمنوا فلما لم يصلوا إلى شيء من مقامات القوم وكراماتهم لعدم إخلاصهم وسوء استعدادهم ارتدوا وصاروا منكرين عليهم وعلى مقاماتهم وازدادوا إنكارا على إنكار حين رجعوا إلى اللذات والشهوات واختاروا الدنيا على الآخرة وجعلوا يقولون للخلق: إن هؤلاء ليسوا على الحق فقد سلكنا ما سلكوا وخضنا ما خاضوا فلم نر إلا سرابا بقيعة، وهذا حال كثير من علماء السوء المنكرين على القوم قدس الله تعالى أسرارهم ما كان الله ليغفر لهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 لمكان الريب الحاجب وفساد جوهر القلب وزوال الاستعداد وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا إلى الحق ولا إلى الكمال لعدم قبولهم ذلك الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ لمناسبتهم إياهم وشبيه الشيء منجذب إليه مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ لعدم الجنسية أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ أي أيطلبون التعزز بهم في الدنيا والتقوى بمالهم وجاههم فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً فلا سبيل لهم إليها إلا منه سبحانه عز وجل، ثم ذكر سبحانه من وصف المنافقين أنهم- إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى- لعدم شوقهم إلى الحضور ونفورهم عنه لعدم استعدادهم واستيلاء الهوى عليهم يُراؤُنَ النَّاسَ لاحتجابهم بهم عن رؤية الله تعالى وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا لأنهم لا يذكرونه إلا باللسان وعند حضورهم بين الناس بخلاف المؤمنين الصادقين فإنهم إذا قاموا إلى الصلاة يطيرون إليها بجناحي الرغبة والرهبة بل يحنون إلى أوقاتها. حنين أعرابية حنت إلى ... أطلال نجد فارقته ومرخه ومن هنا كان صلّى الله عليه وسلّم يقول لبلال: «أرحنا يا بلال» يريد عليه الصلاة والسلام أقم لنا الصلاة لنصلي فنستريح بها لا منها، وظن الأخير برسول الله صلّى الله عليه وسلّم كفر والعياذ بالله تعالى وإذا عبدوا لا يرون إلا الله تعالى، وما قدر السوي عندهم ليراؤوه؟ وإن كل جزء منهم يذكر الله تعالى، نعم إنهم قد يشتغلون به عنه فهناك لا يتأتى لهم الذكر، وقد عد العارفون الذكر لأهل الشهود ذنبا، ولهذا قال قائلهم: بذكر الله تزداد الذنوب ... وتنكشف الرذائل والعيوب وترك الذكر أفضل كل شيء ... وشمس الذات ليس لها مغيب لكن ذكر بعضهم أنه لا يصل العبد إلى ذلك المقام إلا بكثرة الذكر، وأشار إلى مقام عال من قال: لا يترك الذكر إلا من يشاهده ... وليس يشهده من ليس يذكره والذكر ستر على مذكوره ستر ... فحين أذكره في الحال يستره فلا أزال على الأحوال أشهده ... ولا أزال على الأنفاس أذكره يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ لئلا تتعدى إليكم ظلمة كفرهم أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً حجة ظاهرة في عقابكم برسوخ الهيئة التي بها تميلون إلى ولايتهم إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ لتحيرهم بضعف استعدادهم وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً ينصرهم من عذاب الله تعالى لانقطاع وصلتهم وارتفاع محبتهم مع أهل الله تعالى إِلَّا الَّذِينَ تابُوا رجعوا إلى الله تعالى ببقية نور الاستعداد وقبول مدد التوفيق وَأَصْلَحُوا ما أفسدوا من استعدادهم بقمع الهوى وكسر صفات النفس ورفع حجاب القوى وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ بالتمسك بأوامره والتوجه إليه سبحانه وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ بإزالة خفايا الشرك وقطع النظر عن السوي فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ الصادقين وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً من مشاهدة تجليات الصفات وجنات الأفعال ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ بالتوبة وإصلاح ما فسد والاعتصام بحبل الأوامر والتوجه إلى الله عز وجل وإخلاص الدين له سبحانه وَآمَنْتُمْ الإيمان الحائز لذلك وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً فيثبت ويوصل الثواب كاملا، والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل. «تم والحمد لله الجزء الخامس من تفسير روح المعاني، ويتلوه الجزء السادس إن شاء الله تعالى» أوله «لا يحب الله الجهر بالسوء من القول» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 روح المعاني الجزء السادس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 بسم الله الرحمن الرحيم لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ عدم محبته سبحانه لشيء كناية عن غضبه، والباء متعلقة بالجهر وموضع الجار والمجرور نصب أو رفع، ومِنَ متعلقة بمحذوف وقع حالا من السوء، والجهر بالشيء- الإعلان به، والإظهار كما يفهم من القاموس، وفي الصحاح: جهر بالقول رفع صوته به، ولعل المراد هنا الإظهار وإن لم يكن برفع صوت أي لا يحب الله سبحانه أن يعلن أحد بالسوء كائنا من القول إِلَّا مَنْ ظُلِمَ أي إلا جهر من ظلم فإنه غير مسخوط عنده تعالى، وذلك بأن يدعو على ظالمه أو يتظلم منه ويذكره بما فيه من السوء وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة هو أن يدعو على من ظلمه، وعن مجاهد أن المراد لا يحب الله سبحانه أن يذم أحد أحدا أو يشكوه إِلَّا مَنْ ظُلِمَ فيجوز له أن يشكو ظالمه ويظهر أمره ويذكره بسوء ما قد صنعه، وعن الحسن والسدي- وهو المروي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه- المراد لا يحب الله تعالى الشتم في الانتصار إِلَّا مَنْ ظُلِمَ فلا بأس له أن ينتصر ممن ظلمه بما يجوز الانتصار به في الدين، وجوز الحسن للرجل إذا قيل له: يا زاني أن يقابل القائل له بمثل ذلك، وأخرج ابن جرير عن مجاهد أن رجلا ضاف قوما فلم يطعموه فاشتكاهم فعوتب عليه فنزلت، وأنت تعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأبيّ وابن جبير والضحاك وعطاء أنهم قرؤوا إِلَّا مَنْ ظُلِمَ على البناء للفاعل، فالاستثناء منقطع، والمعنى لكن الظالم يحبه أو لكنه يفعل ما لا يحبه الله تعالى فيجهر بالسوء، والموصول في محل نصب، وجوز الزمخشري أن يكون مرفوعا بالإبدال من فاعل يُحِبُّ كأنه قيل: لا يحب الجهر بالسوء إلا الظالم على لغة من يقول: ما جاءني زيد إلا عمرو بمعنى ما جاءني إلا عمرو، ومنه لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل: 65] وهي لغة تميمية، وعليها قول الشاعر: عشية ما تغني الرماح مكانها ... ولا النبل إلا المشرفي المصمم وقد نقل هذه اللغة سيبويه وأنكرها البعض، وكفى بنقل شيخ الصناعة سندا للمثبت، ونقل عن أبي حيان أنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 ليس البيت كالمثال لأنه قد يتخيل فيه عموم على معنى السلاح، وأما زيد فلا يتوهم فيه عموم ولا يمكن تصحيحه إلا على أن أصله ما جاءني زيد ولا غيره، فحذف المعطوف لدلالة الاستثناء وكذا الآية التي ذكرت، ورد- كما قال الشهاب- بأنه لو كان التقدير ما ذكره في المثال لكان الاستثناء متصلا والمفروض خلافه، وأن المراد- كما يفهمه كلام الطيبي- جعل المبدل منه بمنزلة غير المذكور حتى كأن الاستثناء مفرغ والنفي عام إلا إنه صرح بنفي بعض أفراد العام لزيادة اهتمام بالنفي عنه، أو لكونه مظنة توهم الإثبات، فيقولون: ما جاءني زيد إلا عمرو، والمعنى ما جاءني إلا عمرو فكذا هاهنا المعنى- لا يحب الجهر بالسوء إلا الظالم- فأدخل لفظ اللَّهُ تأكيدا لنفي محبته تعالى يعني لله سبحانه اختصاص في عدم محبته ليس لأحد غيره ذلك. فإن قيل: ما بعد إِلَّا حينئذ لا يكون فاعلا وهو ظاهر فتعين البدل وهو غلط، أجيب بأنه إنما يكون غلطا لو لم يكن هذا الخاص في موقع العام، ولم يكن المعنى ما جاءني أحد إلا عمرو «فإن قيل» : فيكون لفظ اللَّهُ مجازا عن أحد ولا سبيل إليه، أجيب بأن لا يحب الله مؤول بلا يحب أحد، وواقع موقعه من غير تجوز في لفظ اللَّهُ كذا قيل وتعقبه الشهاب بأن المستثنى منه إذا كان عاما، فإما بتقدير لفظ- كما ذكره أبو حيان- وإما بالتجوز في لفظ العلم، وكلاهما مرّ ما فيه، ولا طريق آخر للعموم، فما ذكره المجيب لا بد من بيان طريقه اللهم إلا أن يقال: إن الاستثناء من العلم يشترط فيه أن يكون صاحبه أحق بالحكم بحيث إذا نفي عنه يعلم نفيه عن غيره بالطريق الأولى من غير تقدير ولا تجوز فيقال هنا مثلا: إذا لم يحب الله سبحانه الجهر بالسوء وهو الغني عن جميع الأشياء فغيره لا يحبه بطريق من الطرق، وأنت تعلم أن هذا لا يشفي الغليل لأن الاشتراط المذكور مما لم يقم عليه دليل على أن دعوى كون نفي حب الجهر بالسوء عنه تعالى يعلم منه نفيه عن غيره بالطريق الأولى في غاية الخفاء، فالأولى ما ذكره بعد بأن يقال يقدر في الكلام ما ذكر لكنه عد الاستثناء منقطعا بحسب المتبادر، والنظر إلى الظاهر. وجوّز على قراءة المعلوم أن يكون متعلقا بالسوء أي إلا سوء من ظلم فيجب الجهر به ويقبله، وقيل: إنه متعلق بقوله تعالى: ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ فقد روي عن الضحاك بن مزاحم أنه كان يقول هذا على التقديم والتأخير أي- ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم، إلا من ظلم- وكان يقرأها كذلك، ولا يكاد يقبل هذا في تخريج كلام الله تعالى العزيز وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بجميع المسموعات فيندرج فيها كلام المظلوم والظالم عَلِيماً بجميع المعلومات التي من جملتها حال المظلوم والظالم، والجملة تذييل مقرر لما يفيده الاستثناء ولا يأبى ذلك التعميم كما توهم. ووجه ربط هذه الآية بما قبلها- على ما قاله العلامة الطيبي- أنه سبحانه لما فرغ من بيان إيراد رحمته وتقرير إظهار رأفته جاء بقوله جل وعلا: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ تتميما لذلك وتعليما للعباد التخلق بأخلاقه جل جلاله، وفيه أن هذا مما لا محصل له ولا تتم به المناسبة، وزعم أن الآية الأولى فيها أيضا إشارة إلى تعليم التخلق بالأخلاق العلية- كما قرره عصام الملة- ورجا أن يكون من الملهمات، وحينئذ يشتركان في أن كلا منهما متضمنا (1) التعليم المذكور ليس بشيء كما لا يخفى، ومثل ذلك ما ذكره علي بن عيسى في وجه الاتصال وهو أنه تعالى شأنه لما ذكر أهل النفاق، وهو إظهار خلاف ما يبطن بيّن جل وعلا أن ما في النفس منه ما يجوز إبطانه ومنه ما يجوز إظهاره، وقال شهاب الدين: الظاهر أنه لما ذكر الشكر على وجه علم منه رضاه سبحانه به ومحبة إظهاره تممه   (1) قوله: «متضمنا» كذا بخطه اهـ مصححه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 عز وجل بذكر ضده، فكأنه قيل: إنه يحب الشكر وإعلانه ويكره السوء وإعلانه، وفيه احتباك بديع إِنْ تُبْدُوا أي تظهروا خَيْراً أي خير كان من الأقوال والأفعال، وقيل المراد إِنْ تُبْدُوا جميلا حسنا من القول فيمن أحسن إليكم شكرا له على إنعامه عليكم، وقيل: المراد بالخير المال والمعنى إن تظهروا التصدق أَوْ تُخْفُوهُ أي تفعلوه سرا، وقيل: تعزموا على فعله أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ أي تصفحوا عمن أساء إليكم مع ما سوّغ لكم من مؤاخذته وأذن فيها، والتنصيص على هذا مع اندراجه في ابتداء الخير وإخفائه على أحد الأقوال للاعتداد به، والتنبيه على منزلته وكونه من الخير بمكان، وذكر إبداء الخير وإخفائه توطئة وتمهيدا له كما ينبئ عن ذلك قوله تعالى فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً فإن إيراد العفو في معرض جواب الشرط يدل على أن العمدة العفو مع القدرة ولو كان إبداء الخير وإخفاؤه أيضا مقصودا بالشرط لم يحسن الاقتصار في الجزاء على كون الله تعالى عفوّا قديرا أي يكثر العفو عن العصاة مع كمال قدرته على المؤاخذة، وقال الحسن: يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام فعليكم أن تقتدوا بسنة الله تعالى، وقال الكلبي: هو أقدر على عفو ذنوبكم منكم على عفو ذنوب من ظلمكم، وقيل: عَفُوًّا عمن عفا قَدِيراً على إيصال الثواب إليه، نقله النيسابوري وغيره إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أي على ما يؤدي إليه مذهبهم وتقتضيه آراؤهم لا أنهم يصرحون بذلك كما ينبئ عنه قوله تعالى: وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ في الإيمان بأن يؤمنوا به عز وجل ويكفروا برسله عليهم الصلاة والسلام، لكن لا يصرحون بالإيمان به تعالى وبالكفر بهم قاطبة، بل بطريق الالتزام كما يحكيه قوله تعالى: وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ أي نؤمن ببعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ونكفر ببعضهم كما فعل أهل الكتاب، وما ذلك إلا كفر بالله تعالى وتفريق بين الله تعالى ورسله، لأنه عز وجل قد أمرهم بالإيمان بجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وما من نبي إلا وقد أخبر قومه بحقية دين نبينا صلّى الله عليه وسلّم فمن كفر بواحد منهم فقد كفر بالكل وبالله تعالى أيضا من حيث لا يشعر وَيُرِيدُونَ بهذا القول أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ أي الإيمان والكفر سَبِيلًا أي طريقا يسلكونه مع أنه لا واسطة بينهما قطعا، إذ الحق لا يختلف، فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ [يونس: 32] ! هذا ما ذهب إليه البعض في تفسير الآية وهو الذي تؤيده الآثار، فقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أنه قال فيها أولئك أعداء الله تعالى اليهود والنصارى، آمنت اليهود بالتوراة وموسى وكفروا بالإنجيل وعيسى عليه السلام، وآمنت النصارى بالإنجيل وعيسى عليه السلام وكفروا بالقرآن ومحمد صلّى الله عليه وسلّم، فاتخذوا اليهودية والنصرانية وهما بدعتان ليستا من الله عز وجل وتركوا الإسلام وهو دين الله تعالى الذي بعث به ورسله، وأخرج ابن جرير عن السدي وابن جريج مثله، وقال بعضهم: الذين يكفرون بالله تعالى رسله عليهم الصلاة والسلام هم الذين خلص كفرهم الصرف بالجميع فنفوا الصانع مثلا وأنكروا النبوات، والذين يفرقون بينه تعالى وبين رسله عليهم الصلاة والسلام هم الذين آمنوا بالله تعالى وكفروا برسله عليهم الصلاة والسلام لا عكسه، وإن قيل: إنه يتصور في النصارى لإيمانهم بعيسى عليه السلام وكفرهم بالله تعالى حيث قالوا: إنه ثالث ثلاثة، والكفر بالله سبحانه شامل للشرك والإنكار إذ لا يخفى ما فيه، والذين يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض هم الذين آمنوا ببعض الأنبياء عليهم السلام وكفروا ببعضهم كاليهود، فهذه أقسام متقابلة كان الظاهر عطفها- بأو- لكن أتي بالواو بدلها فهي بمعناها، وقيل: إن الموصول مقدر بناء على جواز حذفه مع بقاء صلته، وقيل: إن قوله تعالى وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا إلخ عطف تفسيري على قوله سبحانه: يَكْفُرُونَ لأن هذه الإرادة عين الكفر بالله تعالى لأن من كفر برسل الله سبحانه فقد كفر بالله تعالى كالبراهمة، وأما قوله جل وعلا: وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ إلخ فعطف على صلة الموصول والواو بمعنى أو التنويعية، فالأولون فرقوا بين الإيمان بالله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 تعالى ورسوله والآخرون فرقوا بين رسل الله تعالى عليهم السلام فآمنوا ببعض وكفروا ببعض كاليهود، وعلى كل تقدير فخبر إِنَّ قوله تعالى: أُولئِكَ أي الموصوفون بالصفات القبيحة هُمُ الْكافِرُونَ الكاملون في الكفر لا عبرة بما يدعونه ويسمونه إيمانا أصلا حَقًّا مصدر مؤكد لغيره وعامله محذوف أي حق ذلك أي كونهم كاملين في الكفر حقا، وجوّزوا أن يكون صفة لمصدر الكافرين، أي هم الذين كفروا كفرا حقا أي لا شك فيه ولا ريب، فالعامل مذكور وحَقًّا بمعنى اسم المفعول، وليس بمعنى مقابل الباطل، ولهذا صح وقوعه صفة صناعة ومعنى، واحتمال الحالية- كما زعم أبو البقاء- بعيد، والآية على ما زعمه البعض متعلقة بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا إلخ على أنها كالتعليل له وما توسط بين العلة والمعلول من الجمل والآيات إما معترض أو مستطرد عند إمعان النظر وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ أي لهم، ووضع المظهر موضع المضمر تذكيرا بوصف الكفر الشنيع المؤذن بالعلية، وقد يراد جميع الكفار وهم داخلون دخولا أوليا. عَذاباً مُهِيناً يهينهم ويذلهم جزاء كفرهم الذي ظنوا به العزة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ بأن يؤمنوا ببعض ويكفروا بآخرين كما فعل الكفرة، ودخول بَيْنَ على أحد قد مرّ الكلام فيه والموصول مبتدأ خبره جملة قوله: أُولئِكَ أي المنعوتون بهذه النعوت الجليلة سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أي الله تعالى أُجُورَهُمْ الموعودة لهم، فالإضافة للعهد. وزعم بعضهم أن الخبر محذوف أي أضدادهم ومقابلوهم، والإتيان بسوف لتأكيد الموعود الذي هو الإيتاء والدلالة على أنه كائن لا محالة وإن تأخر لا الإخبار بأنه متأخر إلى حين، فعن الزمخشري أن يفعل الذي للاستقبال موضوع لمعنى الاستقبال بصيغته فإذا دخل عليه سوف أكد ما هو موضوع له من إثبات الفعل في المستقبل لا أن يعطى ما ليس فيه من أصله فهو في مقابلة لن ومنزلته من يفعل منزلة لن من لا يفعل لأن لا لنفي المستقبل فإذا وضع لن موضعه أكد المعنى الثابت وهو نفي المستقبل فإذا كل واحد من- لن وسوف- حقيقته التوكيد، ولهذا قال سيبويه: لن يفعل نفي سوف يفعل وكأنه اكتفى سبحانه ببيان ما لهؤلاء المؤمنين عن أن يقال: أولئك هم المؤمنون- حقا- مع استفادته مما دل على الضدية، وفي الآية التفات من التكلم إلى الغيبة. وقرأ نافع وابن كثير وكثير- نؤتيهم- بالنون فلا التفات وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لمن هذه صفتهم ما سلف لهم من المعاصي والآثام رَحِيماً بهم فيضاعف حسناتهم ويزيدهم على ما وعدوا يَسْئَلُكَ يا محمد. أَهْلُ الْكِتابِ الذين فرقوا بين الرسل أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فقالوا: إن موسى عليه السلام جاء بالألواح من عند الله تعالى فأتنا بألواح من عنده تعالى فطلبوا أن يكون المنزل جملة، وأن يكون بخط سماوي، وروي ذلك عن محمد بن كعب القرظي والسدي. وعن قتادة أنهم سألوا أن ينزل عليهم كتابا خاصا لهم، وقريب منه ما أخرجه ابن جرير عن ابن جريج قال: إن اليهود قالوا لمحمد صلّى الله عليه وسلّم: لن نبايعك على ما تدعونا إليه حتى تأتينا بكتاب من عند الله تعالى من الله تعالى إلى فلان إنك رسول الله وإلى فلان إنك رسول الله، وما كان مقصدهم بذلك إلا التحكم والتعنت، قال الحسن: ولو سألوه ذلك استرشادا لا عنادا لأعطاهم ما سألوا فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى عليه السلام شيئا أو سؤلا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ المذكور وأعظم، والفاء في جواب شرط مقدر والجواب مؤول ليصح الترتيب. أي إن استكبرت هذا وعرفت ما كانوا عليه تبين لك رسوخ عرقهم في الكفر، وقيل: إنها سببية والتقدير لا تبال ولا تستكبر فإنهم قد سألوا موسى عليه السلام ما هو أكبر، وهذه المسألة وإن صدرت عن أسلافهم لكنهم لما كانوا على سيرتهم في كل ما يأتون ويذرون أسند إليهم، وجعله بعض المحققين من قبيل إسناد ما للسبب للمسبب، وجوز أن يكون من إسناد فعل البعض إلى الكل بناء على كمال الاتحاد نحو: قومي هم قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي فيكون المراد بضمير سَأَلُوا جميع أهل الكتاب لصدور السؤال عن بعضهم، وأن يكون المراد بأهل الكتاب أيضا الجميع فيكون إسناد يَسْئَلُكَ إلى أهل الكتاب من ذلك الإسناد، وأن يكون المراد بهم هذا النوع ويكون المراد بيان قبائح النوع فلا تكلف ولا تجوّز لا في جانب الضمير ولا في المرجع. وأنت تعلم أن إسناد فعل البعض إلى الكل مما ألف في الكتاب العزيز، ووقع في نحو ألف موضع. وقرأ الحسن أكثر بالمثلثة فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ الذي أرسلك جَهْرَةً أي مجاهرين معاينين فهو في موضع الحال من المفعول الأول- كما قال أبو البقاء- ويحتمل الحالية من المفعول الثاني أي معاينا على صيغة المفعول ولا لبس فيه لاستلزام كل منهما للآخر، فلا يقال: إنه يتعين كونه حالا من الثاني لقربه منه. وجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف هو الرؤية لا الإرادة لأن الجهرة في كتب اللغة صفة للأول لا الثاني فيقال التقدير أَرِنَا نره رؤية جهرة، وقيل: يقدر المصدر الموصوف سؤالا أي سؤالا جهرة، وقيل: قولا أي قولا جهرة، ويؤيد هذا ما أخرجه ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية: إنهم إذا رأوه فقد رأوه إنما قالوا جَهْرَةً أَرِنَا اللَّهَ تعالى فهو مقدم ومؤخر- وفيه بعد- والفاء تفسيرية فَأَخَذَتْهُمُ أي أهلكتهم لما سألوا وقالوا ما قالوا الصَّاعِقَةُ وهي نار جاءت من السماء. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: الصَّاعِقَةُ الموت أماتهم الله تعالى قبل آجالهم عقوبة بقولهم ما شاء الله تعالى أن يميتهم، ثم بعثهم، وفي ثبوت ذلك تردد. وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه- الصعقة- بِظُلْمِهِمْ أي بسبب ظلمهم وهو تعنتهم وسؤالهم لما يستحيل في تلك الحالة التي كانوا عليها، وإنكار طلب الكفار للرؤية تعنتا لا يقتضي امتناعها مطلقا، واستدل الزمخشري بالآية على الامتناع مطلقا، وبنى ذلك على كون الظلم المضاف إليهم لم يكن إلا لمجرد أنهم طلبوا الرؤية ثم قال: ولو طلبوا أمرا جائزا لما سموا به ظالمين ولما أخذتهم الصاعقة، كما سأل إبراهيم عليه الصلاة والسلام إحياء الموتى فلم يسمه ظالما ولا رماه بالصواعق، ثم أرعد وأبرق ودعا على مدعي جواز الرؤية بما هو به أحق. وأنت تعلم أن الرجل قد استولى عليه الهوى فغفل عن كون اليهود إنما سألوا تعنتا ولم يعتبروا المعجز من حيث هو مع أن المعجزات سواسية الإقدام في الدلالة ويكفيهم ذلك ظلما، والتنظير بسؤال إبراهيم عليه الصلاة والسلام من العجب العجاب كما لا يخفى على ذوي الألباب ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ وعبدوه. مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ أي المعجزات التي أظهرها لفرعون من العصا واليد البيضاء، وفلق البحر وغيرها، أو الحجج الواضحة الدالة على ألوهيته تعالى ووحدته لا التوراة لأنها إنما نزلت عليهم بعد الاتخاذ فَعَفَوْنا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 عَنْ ذلِكَ الاتخاذ حين تابوا، وفي هذا على ما قيل: استدعاء لهم إلى التوراة كأنه قيل: إن أولئك الذين أجرموا تابوا فعفونا عنهم فتوبوا أنتم أيضا حتى نعفو عنكم. وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً أي تسلطا ظاهرا عليهم حين أمرهم أن يقتلوا أنفسهم توبة عن اتخاذهم، وهذا على ما قيل: وإن كان قبل العفو فإن الأمر بالقتل كان قبل التوبة لأن قبول القتل كان توبة لهم، لكن الواو لا تقتضي الترتيب، واستظهر أن لا يجعل التسلط ذلك التسلط بل تسلطا بعد العفو حيث انقادوا له ولم يتمكنوا بعد ذلك من مخالفته وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ وهو ما روي عن قتادة جبل كانوا في أصله فرفعه الله تعالى فجعله فوقهم كأنه ظلة، وكان كمعسكرهم قدر فرسخ في فرسخ وليس هو- على ما في البحر- الجبل المعروف بطور سيناء، والظرف متعلق- برفعنا- وجوز أن يكون حالا من الطور أي رفعنا الطور كائنا فوقهم بِمِيثاقِهِمْ أي بسبب ميثاقهم ليعطوه- على ما روي- أنهم امتنعوا عن قبول شريعة التوراة فرفع عليهم فقبلوها، أو ليخافوا فلا ينقضوا الميثاق- على ما روي- أنهم هموا بنقضه فرفع عليهم الجبل فخافوا وأقلعوا عن النقض، قيل: وهو الأنسب بقوله تعالى: وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً [الأحزاب: 7] ، وزعم الجبائي أن المراد بنقض ميثاقهم الذي أخذ عليهم بأن يعملوا بما في التوراة فنقضوه بعبادة العجل، وفيه أن التوراة إنما نزلت بعد عبادتهم العجل كما مر آنفا فلا يتأتى هذا، وقال أبو مسلم: إنما رفع الله تعالى الجبل فوقهم إظلالا لهم من الشمس جزاء لعهدهم وكرامة لهم، ولا يخفى أن هذا خرق لإجماع المفسرين، وليس له مستند أصلا. وَقُلْنا لَهُمُ على لسان يوشع عليه السلام بعد مضي زمان التيه ادْخُلُوا الْبابَ قال قتادة فيما رواه ابن المنذر وغيره عنه: كنا نتحدث أنه باب من أبواب بيت المقدس، وقيل: هو إيلياء، وقيل: أريحا، وقيل: هو اسم قرية، أو قُلْنا لَهُمُ على لسان موسى عليه السلام والطور مظل عليهم ادْخُلُوا الْبابَ المذكور إذا خرجتم من التيه، أو باب القبة التي كانوا يصلون إليها لأنهم لم يخرجوا من التيه في حياته عليه السلام، والظاهر عدم القيد سُجَّداً متطامنين خاضعين، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ركعا، وقيل: ساجدين على جباهكم شكرا لله تعالى وَقُلْنا لَهُمُ على لسان داود عليه السلام لا تَعْدُوا أي لا تتجاوزوا ما أبيح لكم أو لا تظلموا باصطياد الحيتان فِي السَّبْتِ ويحتمل- كما قال القاضي بيض الله تعالى غرة أحواله- أن يراد على لسان موسى عليه السلام حين ظلل الجبل عليهم فإنه شرع السبت لكن كان الاعتداء فيه، والمسخ في زمن داود عليه السلام، وقرأ ورش عن نافع لا تَعْدُوا بفتح العين وتشديد الدال، وروي عن قالون تارة سكون العين سكونا محضا، وتارة إخفاء فتحة العين، فأما الأول فأصلها- تعتدوا- لقوله تعالى: اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ [البقرة: 65] فإنه يدل على أنه من الاعتداء وهو افتعال من العدوان. فأريد إدغام تائه في الدال فنقلت حركتها إلى العين وقلبت دالا وأدغمت، وأما السكون المحض فشيء لا يراه النحويون لأنه جمع بين ساكنين على غير حدّهما، وأما الإخفاء والاختلاس فهو أخف من ذلك لما أنه قريب من الإتيان بحركة ما، وقرأ الأعمش «تعتدوا» على الأصل، وأصل تَعْدُوا في القراءة المشهورة- تعدووا- بواوين الأولى واو الكلمة والثانية ضمير الفاعل فاستثقلت الضمة على لام الكلمة فحذفت فالتقى ساكنان فحذف الأول- وهو الواو الأولى- وبقي ضمير الفاعل وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً أي عهدا وثيقا مؤكدا بأن يأتمروا بأوامر الله تعالى وينتهوا عن مناهيه، قيل: هو قولهم: سمعنا وأطعنا وكونه مِيثاقاً ظاهر، وكونه غَلِيظاً يؤخذ من التعبير بالماضي، أو من عطف الإطاعة على السمع بناء على تفسيره بها، وفي أخذ ذلك مما ذكر خفاء لا يخفى، وحكي أنهم بعد أن قبلوا ما كلفوا به من الدين أعطوا الميثاق على أنهم إن هموا بالرجوع عنه فالله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 تعالى يعذبهم بأي أنواع العذاب أراد، فإن صح هذا كانت وكادة الميثاق في غاية الظهور، وزعم بعضهم أن هذا الميثاق هو الميثاق الذي أخذه الله تعالى على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالتصديق بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والإيمان به، وهو المذكور في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ [آل عمران: 81] الآية، وكونه غَلِيظاً باعتبار أخذه من كل نبي نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأخذ كل واحد واحد له من أمته فهو ميثاق مؤكد متكرر، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر الذي يقتضيه السياق فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ في الكلام مقدر والجار والمجرور متعلق بمقدر أيضا، والباء للسببية وما مزيد لتوكيدها، والإشارة إلى أنها سببية قوية، وقد يفيد ذلك الحصر بمعونة المقام كما يفيده التقديم على العامل إن التزم هنا، وجوز أن تكون- ما- نكرة تامة، ويكون نَقْضِهِمْ بدلا منهما أي فخالفوا ونقضوا ففعلنا بهم ما فعلنا بنقضهم، وإن شئت أخرت العامل. واختار أبو حيان عليه الرحمة تقدير لعناهم مؤخرا لوروده مصرحا به كذلك في قوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ [المائدة: 13] ، وجوز غير واحد تعلق الجار- بحرمنا- الآتي على أن قوله تعالى: فَبِظُلْمٍ بدل من قوله سبحانه: فَبِما نَقْضِهِمْ، وإليه ذهب الزجاج، وتعقبه في البحر بأن فيه بعدا لكثرة الفواصل بين البدل والمبدل منه، ولأن المعطوف على السبب سبب فيلزم تأخر بعض أجزاء السبب الذي للتحريم عن التحريم، فلا يمكن أن يكون جزء سبب أو سببا إلا بتأويل بعيد، وبيان ذلك أن قولهم- على مريم بهتانا عظيما- وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ، متأخر في الزمان عن تحريم الطيبات عليهم، واستحسنه السفاقسي، ثم قال: وقد يتكلف لحله بأن دوام التحريم في كل زمن كابتدائه، وفيه بحث، وجعل العلامة الثاني الفاء في فَبِظُلْمٍ على هذا التقدير تكرارا للفاء في فَبِما نَقْضِهِمْ عطفا على أخذنا منهم، أو جزاء شرط مقدر، واستبعده أيضا من وجهين: لفظي ومعنوي، وبين الأول بطول الفصل وبكونه من إبدال الجار والمجرور مع حرف العطف، أو الجزاء مع القطع بأن المعمول هو الجار والمجرور فقط، والثاني بدلالته على أن تحريم بعض الطيبات مسبب عن مثل هذه الجرائم العظيمة ومترتب عليه، ثم قال: ولو جعلت الفاء للعطف على فَبِما نَقْضِهِمْ كما في قولك: بزيد وبحسنه، أو فبحسنه أو ثم حسنه افتتنت لم يحتج إلى جعله بدلا، وجوز أبو البقاء وغيره التعلق بمحذوف دل عليه قوله تعالى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ ورد بأن ذلك لا يصلح مفسرا ولا قرينة للمحذوف، أما الأول فلتعلقه بكلام آخر لأنه رد وإنكار لقولهم قُلُوبُنا غُلْفٌ، وأما الثاني فلأنه استطراد يتم الكلام دونه وكونه قرينة لما هو عمدة في الكلام يوجب أن لا يتم دونه. والحاصل أنه لا بد للقرينة من التعلق المعنوي بسابقتها حتى تصلح لذلك، ومنه يعلم أنه لا مورد للنظر بأن الطبعين متوافقان في العروض، أحدهما بالكفر، والآخر بالنقض، وقيل: هو متعلق بلا يؤمنون، والفاء زائدة، وقيل: بما دل عليه ولا يخفى ردّ ذلك وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ أي حججه الدالة على صدق أنبيائه عليهم الصلاة والسلام والقرآن، أو ما في كتابهم لتحريفه وإنكاره وعدم العمل به. وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ كزكريا ويحيى عليهما السلام وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ جمع غلاف بمعنى الظرف، وأصله غلف بضمتين فخفف، أي أوعية للعلم فنحن مستغنون بما فيها عن غيره، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعطاء، وقال الكلبي: يعنون أن قلوبنا بحيث لا يصل إليها شيء إلا وعته ولو كان في حديثك شيء لوعته أيضا، ويجوز أن يكون جمع أغلف أي هي مغشاة بأغشية خلقية لا يكاد يصل إليها ما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم فيكون كقوله تعالى: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ [فصلت: 5] . بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ كلام معترض بين المعطوفين جيء به على وجه الاستطراد مسارعة إلى رد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 زعمهم الفاسد، أي ليس الأمر كما زعمتم من أنها أوعية العلم فإنها مطبوع عليها محجوبة من العلم لم يصل إليها شيء منه كالبيت المقفل المختوم عليه، والباء للسببية، وجوز أن تكون للآلة، ويجوز أن يكون المعنى ليس عدم وصول الحق إلى قلوبكم لكونها في أكنة وحجب خلقية كما زعمتم بل لأن الله تعالى ختم عليها بسبب كفركم الكسبي، وهذا الطبع بمعنى الخذلان والمنع من التوفيق للتدبر في الآيات والتذكر بالمواعظ عند الكثير وطبع حقيقي عند البعض، وأيد بما أخرجه البزار عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الطابع معلق بقائمة العرش فإذا انتهكت الحرمة وعمل بالمعاصي واجترأ على الله تعالى بعث الله تعالى الطابع فطبع على قلبه فلا يعقل بعد ذلك شيئا» وأخرجه البيهقي أيضا في الشعب إلا أنه ضعفه. فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا نصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي إلا إيمانا قليلا فهو كالتصديق بنبوّة موسى عليه السلام وهو غير مفيد لأن الكفر بالبعض كفر بالكل كما مر، أو صفة لزمان محذوف أي زمانا قليلا، أو نصب على الاستثناء من ضمير فَلا يُؤْمِنُونَ أي إِلَّا قَلِيلًا منهم كعبد الله بن سلام وأضرابه، ورده السمين بأن الضمير عائد على المطبوع على قلوبهم، ومن طبع على قلبه بالكفر لا يقع منه إيمان، وأجيب بأن المراد بما مر الإسناد إلى الكل ما هو للبعض باعتبار الأكثر. وقال عصام الملة: كما يجب استثناء القليل من عدم الإيمان المتفرع على الطبع على قلوبهم يجب استثناء قليل من القلوب من قلوبهم، فكأن المراد بل طبع الله تعالى على أكثرها فليفهم وَبِكُفْرِهِمْ عطف على- بكفرهم- الذي قبله، ولا يتوهم أنه من عطف الشيء على نفسه ولا فائدة فيه لأن المراد بالكفر المعطوف الكفر بعيسى عليه السلام والمراد بالكفر المعطوف عليه، إما الكفر المطلق أو الكفر بمحمد صلّى الله عليه وسلّم لاقترانه بقوله تعالى: قُلُوبُنا غُلْفٌ، وقد حكى الله عنهم هذه المقالة في مواجهتهم له عليه الصلاة والسلام في مواضع، ففي العطف إيذان بصلاحية كل من الكفرين للسببية. وقد يعتبر في جانب المعطوف المجموع، ومغايرته للمفرد المعطوف عليه ظاهرة، أو عطف على فَبِما نَقْضِهِمْ ويجوز اعتبار عطف مجموع هذا وما عطف عليه على مجموع ما قبله، ولا يتوهم المحذور، وإن قلنا باتحاد الكفر أيضا لمغايرة المجموع للمجموع وإن لم يغاير بعض أجزائه بعضا، وقد يقال بمغايرة الكفر في المواضع الثلاثة بحمله في الأخيرين على ما أشرنا إليه، وفي الأول على الكفر بموسى عليه السلام لاقترانه بنقض الميثاق، وتقدم حديث العدو في السبت وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً لا يقادر قدره حيث نسبوها- وحاشاها- إلى ما هي عنه في نفسها بألف ألف منزل، وتمادوا على ذلك غير مكترثين بقيام المعجزة بالبراءة، والبهتان الكذب الذي يتحير من شدته وعظمه، ونصبه على أنه مفعول به- لقولهم- وجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف أي قولا بهتانا، وقيل: هو مصدر في موضع الحال أي مباهتين وَقَوْلِهِمْ على سبيل التبجح. إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ ذكروه بعنوان الرسالة تهكما واستهزاء كما في قوله تعالى حكاية عن الكفار: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ [الحجر: 6] إلخ، ويحتمل أن يكون ذلك منهم بناء على قوله عليه الصلاة والسلام وإن لم يعتقدوه، وقيل: إنهم وصفوه بغير ذلك من صفات الذم فغير في الحكاية، فيكون من الحكاية لا من المحكي، وقيل: هو استئناف منه مدحا له عليه الصلاة والسلام ورفعا لمحله وإظهارا لغاية جراءتهم في تصديهم لقتله ونهاية وقاحتهم في تبجحهم وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ حال أو اعتراض وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- أن رهطا من اليهود سبوه عليه السلام وأمه فدعا عليهم فمسخوا قردة وخنازير فبلغ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 ذلك يهوذا رأس اليهود فخاف فجمع اليهود فاتفقوا على قتله فساروا إليه ليقتلوه فأدخله جبريل عليه السلام بيتا ورفعه منه إلى السماء ولم يشعروا بذلك فدخل عليه طيطانوس ليقتله فلم يجده وأبطأ عليهم وألقى الله تعالى عليه شبه عيسى عليه السلام فلما خرج قتلوه وصلبوه. وقال وهب بن منبه في خبر طويل رواه عنه ابن المنذر: «أتى عيسى عليه السلام ومعه سبعة وعشرون من الحواريين في بيت فأحاطوا بهم فلما دخلوا عليهم صيرهم الله تعالى كلهم على صورة عيسى عليه السلام فقالوا لهم: سحرتمونا ليبرزن لنا عيسى عليه السلام أو لنقتلنكم جميعا فقال عيسى لأصحابه: من يشتري نفسه منكم اليوم بالجنة؟ فقال رجل منهم: أنا فخرج إليهم فقال: أنا عيسى فقتلوه وصلبوه ورفع الله تعالى عيسى عليه السلام» ، وبه قال قتادة والسدي ومجاهد وابن إسحاق، وإن اختلفوا في عدد الحواريين ولم يذكر أحد غير وهب أن شبهه عليه السلام ألقي على جميعهم بل قالوا: ألقي شبهه على واحد ورفع عيسى عليه السلام من بينهم. ورجح الطبري قول وهب، وقال: إنه الأشبه، وقال أبو علي الجبائي: إن رؤساء اليهود أخذوا إنسانا فقتلوه وصلبوه على موضع عال ولم يمكنوا أحدا من الدنو منه فتغيرت حليته، وقالوا: إنا قتلنا عيسى ليوهموا بذلك على عوامهم لأنهم كانوا أحاطوا بالبيت الذي به عيسى عليه السلام فلما دخلوه ولم يجدوه فخافوا أن يكون ذلك سببا لإيمان اليهود ففعلوا ما فعلوا، وقيل: كان رجل من الحواريين ينافق عيسى عليه السلام فلما أرادوا قتله قال: أنا أدلكم عليه وأخذ على ذلك ثلاثين درهما فدخل بيت عيسى عليه السلام فرفع عليه السلام وألقى شبهه على المنافق فدخلوا عليه فقتلوه وهم يظنون أنه عيسى عليه السلام، وقيل: غير ذلك، وشُبِّهَ مسند إلى الجار والمجرور، والمراد وقع لهم تشبيه بين عيسى عليه السلام ومن صلب، أو في الأمر- على قول الجبائي- أو هو مسند إلى ضمير المقتول الذي دل عليه إنا قتلنا أي شُبِّهَ لَهُمْ من قتلوه بعيسى عليه السلام، أو الضمير للأمر وشُبِّهَ من الشبهة أي التبس عليهم الأمر بناء على ذلك القول، وليس المسند إليه ضمير المسيح عليه الصلاة والسلام لأنه مشبه به لا مشبه وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ أي في شأن عيسى عليه السلام فإنه لما وقعت تلك الواقعة اختلف الناس فقال بعضهم: إنه كان كاذبا فقتلناه حقا، وتردد آخرون فقال بعضهم: إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا، وإن كان صاحبنا فأين عيسى؟! وقال بعضهم: الوجه وجه عيسى والبدن بدن صاحبنا، وقال من سمع منه- إن الله تعالى يرفعني إلى السماء- إنه رفع إلى السماء، وقالت النصارى الذين يدعون ربوبيته عليه السلام: صلب الناسوت وصعد اللاهوت، ولهذا لا يعدون القتل نقيصة حيث لم يضيفوه إلى اللاهوت ويرد هؤلاء أن ذلك يمتنع عنه اليعقوبية القائلين: إن المسيح قد صار بالاتحاد طبيعة واحدة إذ الطبيعة الواحدة لم يبق فيها ناسوت متميز عن لاهوت والشيء الواحد لا يقال: مات ولم يمت، وأهين ولم يهن. وأما الروم القائلون: بأن المسيح بعد الاتحاد باق على طبيعتين، فيقال لهم: فهل فارق اللاهوت ناسوته عند القتل؟ فإن قالوا: فارقه فقد أبطلوا دينهم، فلم يستحق المسيح الربوبية عندهم إلا بالاتحاد، وإن قالوا: لم يفارقه فقد التزموا ما ورد على اليعقوبية وهو قتل اللاهوت مع الناسوت، وإن فسروا الاتحاد بالتدرع وهو أن الإله جعله مسكنا وبيتا ثم فارقه عند ورود ما ورد على الناسوت أبطلوا إلهيته في تلك الحالة، وقلنا لهم: أليس قد أهين؟ وهذا القدر يكفي في إثبات النقيصة إذ لم يأنف اللاهوت لمسكنه أن تناله هذه النقائص، فإن كان قادرا على نفيها فقد أساء مجاورته ورضي بنقيصته وذلك عائد بالنقص عليه في نفسه، وإن لم يكن قادرا فذلك أبعد له عن عز الربوبية، وهؤلاء ينكرون إلقاء الشبه، ويقولون: لا يجوز ذلك لأنه إضلال، ورده أظهر من أن يخفى، ويكفي في إثباته أنه لو لم يكن ثابتا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 لزم تكذيب المسيح، وإبطال نبوته بل وسائر النبوات على أن قولهم في الفصل: إن المصلوب قال: إلهي إلهي لم تركتني وخذلتني، وهو ينافي الرضا بمرّ القضا ويناقض التسليم لأحكام الحكيم، وأنه شكا العطش وطلب الماء والإنجيل مصرح بأن المسيح كان يطوي أربعين يوما وليلة إلى غير ذلك مما لهم فيه إن صح مما ينادي على أن المصلوب هو الشبه كما لا يخفى. فالمراد من الموصول ما يعم اليهود والنصارى جميعا لَفِي شَكٍّ مِنْهُ أي لفي تردد، وأصل- الشك- أن يستعمل في تساوي الطرفين وقد يستعمل في لازم معناه، وهو التردد مطلقا وإن لم يترجح أحد طرفيه وهو المراد هنا ولذا أكده بنفي العلم الشامل لذلك أيضا بقوله سبحانه: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ والاستثناء منقطع، أي لكنهم يتبعون الظن. وجوز أن يفسر الشك بالجهل، والعلم بالاعتقاد الذي تسكن إليه النفس جزما كان أو غيره فالاستثناء حينئذ متصل، وإليه ذهب ابن عطية إلا أنه خلاف المشهور، وما قيل: إن اتباع الظن ليس من العلم قطعا فلا يتصور اتصاله فمدفوع بأن من قال به جعله بمعنى الظن المتبع وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً الضمير لعيسى عليه السلام كما هو الظاهر أي ما قتلوه قتلا يقينا، أو متيقنين، ولا يرد أن نفي القتل المتيقن يقتضي ثبوت القتل المشكوك لأنه لنفي القيد ولا مانع من أنه قتل في ظنهم فإنه يقتضي أنه ليس في نفس الأمر كذلك فلا حاجة إلى التزام جعل يقينا مفعولا مطلقا لفعل محذوف، والتقدير تيقنوا ذلك يقينا، وقيل: هو راجع إلى العلم وإليه ذهب الفراء وابن قتيبة أي وما قتلوا العلم يَقِيناً من قولهم: قتلت العلم والرأي، وقتلت كذا علما إذا تبالغ علمك فيه، وهو مجاز كما في الأساس، والمعنى ما علموه يقينا، وقيل: الضمير للظن أي ما قطعوا الظن يَقِيناً ونقل ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والسدي، وحكى ابن الأنباري أن في الكلام تقديما وتأخيرا، وأن يَقِيناً متعلق بقوله تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ أي بل رفعه سبحانه إليه يقينا، ورده في البحر بأنه قد نص الخليل على أنه لا يعمل ما بعد بل فيما قبلها، والكلام ردّ وإنكار لقتله وإثبات لرفعه عليه الصلاة والسلام، وفيه تقدير مضاف عند أبي حيان أي إلى سمائه، قال: وهو حي في السماء الثانية على ما صح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في حديث المعراج، وهو هنالك مقيم حتى ينزل إلى الأرض يقتل الدجال ويملؤها عدلا كما ملئت جورا ثم يحيا فيها أربعين سنة أو تمامها من سنّ رفعه، وكان إذ ذاك ابن ثلاث وثلاثين سنة ويموت كما تموت البشر ويدفن في حجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو في بيت المقدس، وقال قتادة: رفع الله تعالى عيسى عليه السلام إليه فكساه الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب فطار مع الملائكة فهو معهم حول العرش فصار إنسيا ملكيا سماويا أرضيا، وهذا الرفع على المختار كان قبل صلب الشبه، وفي إنجيل لوقا ما يؤيده وأما رؤية بعض الحواريين له عليه السلام بعد الصلب فهو من باب تطور الروح، فإن للقدسيين قوة التطور في هذا العالم وإن رفعت أرواحهم إلى المحل الأسنى، وقد وقع التطور لكثير من أولياء هذه الأمة، وحكاياتهم في ذلك يضيق عنها نطاق الحصر وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً لا يغالب فيما يرده حَكِيماً في جميع أفعاله فيدخل فيه تدبيراته سبحانه في أمر عيسى عليه السلام وإلقاء الشبه على من ألقاه دخولا أوليا وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أي اليهود خاصة كما أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو هم والنصارى كما ذهب إليه كثير من المفسرين وَإِنْ نافية بمعنى ما، وفي الجار والمجرور وجهان: أحدهما أنه صفة لمبتدأ محذوف، وقوله تعالى: إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ جملة قسمية، والقسم مع جوابه خبر المبتدأ ولا يرد عليه أن القسم إنشاء لأن المقصود بالخبر جوابه وهو خبر مؤكد بالقسم، ولا ينافيه كون جواب القسم لا محل له لأن ذلك من حيث كونه جوابا فلا يمتنع كونه له محل باعتبار آخر لو سلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 أن الخبر ليس هو المجموع، والتقدير وما أحد من أهل الكتاب إلا والله ليؤمنن به، والثاني أنه متعلق بمحذوف وقع خبرا لذلك المبتدأ، وجملة القسم صفة له لا خبر، والتقدير وإن أحد إلا ليؤمنن به كائن من أهل الكتاب ومعناه كل رجل يؤمن به قبل موته من أهل الكتاب، وهو كلام مفيد، فالاعتراض على هذا الوجه- بأنه لا ينتظم من أحد والجار والمجرور إسناد لأنه لا يفيد- لا يفيد لحصول الفائدة بلا ريب، نعم المعنى على الوجه الأول كل رجل من أهل الكتاب يؤمن به قبل موته، والظاهر أنه المقصود، وأنه أتم فائدة، والاستثناء مفرغ من أعم الأوصاف، وأهل الكوفة يقدرون موصولا بعد إلا، وأهل البصرة يمنعون حذف الموصول وإبقاء صلته، والضمير الثاني راجع للمبتدأ المحذوف أعني أحد والأول لعيسى عليه السلام فمفاد الآية أن كل يهودي ونصراني يؤمن بعيسى عليه السلام قبل أن تزهق روحه بأنه عبد الله تعالى ورسوله، ولا ينفعه إيمانه حينئذ لأن ذلك الوقت لكونه ملحقا بالبرزخ لما أنه ينكشف عنده لكل الحق ينقطع فيه التكليف، ويؤيد ذلك أنه قرأ أبي- ليؤمنن به قبل موتهم- بضم النون وعود ضمير الجمع لأحد ظاهر لكونه في معنى الجمع، وعوده لعيسى عليه السلام غير ظاهر. وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه فسر الآية كذلك فقيل له: أرأيت إن خرّ من فوق بيت؟ قال: يتكلم به في الهواء، فقيل: أرأيت إن ضرب عنقه؟ قال: يتلجلج بها لسانه. وأخرج ابن المنذر أيضا عن شهر بن حوشب قال: قال لي الحجاج: يا شهر آية من كتاب الله تعالى ما قرأتها إلا اعترض في نفسي منها شيء قال الله تعالى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، وإني أوتى بالأسارى فأضرب أعناقهم ولا أسمعهم يقولون شيئا فقلت: رفعت إليك على غير وجهها إن النصراني إذا خرجت روحه- أي إذا قرب خروجها كما تدل عليه رواية أخرى عنه- ضربته الملائكة من قبله ومن دبره، وقالوا: أي خبيث إن المسيح الذي زعمت أنه الله تعالى، وأنه ابن الله سبحانه، وأنه ثالث ثلاثة عبد الله وروحه وكلمته، فيؤمن به حين لا ينفعه إيمانه، وأن اليهودي إذا خرجت نفسه ضربته الملائكة من قبله ودبره، وقالوا: أي خبيث إن المسيح الذي زعمت أنك قتلته عبد الله وروحه فيؤمن به حين لا ينفعه الإيمان، فإذا كان عند نزول عيسى آمنت به أحياؤهم كما آمنت به موتاهم، فقال: من أين أخذتها؟ فقلت: من محمد بن علي، قال: لقد أخذتها من معدنها، قال شهر: وايم الله تعالى ما حدثنيه إلا أم سلمة، ولكني أحببت أن أغيظه، والإخبار بحالهم هذه وعيد لهم وتحريض إلى المسارعة إلى الإيمان به قبل أن يضطروا إليه مع انتفاء جدواه، وقيل: الضميران لعيسى عليه السلام، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا وأبي مالك والحسن وقتادة وابن زيد، واختاره الطبراني، والمعنى أنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب الموجودين عند نزول عيسى عليه السلام إلا ليؤمنن به قبل أن يموت وتكون الأديان كلها دينا واحدا، وأخرج أحمد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الخنزير ويمحو الصليب وتجمع له الصلاة ويعطي المال حتى لا يقبل. ويضع الخراج وينزل الروحاء فيحج منها أو يعتمر أو يجمعهما» قال: وتلا أبو هريرة رضي الله تعالى عنه وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، وقيل: الضمير الأول لله تعالى ولا يخفى بعده، وأبعد من ذلك أنه لمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وروي هذا عن عكرمة، ويضعفه أنه لم يجر له عليه الصلاة والسلام ذكر هنا، ولا ضرورة توجب رد الكناية إليه، لا أنه- كما زعم الطبري- لو كان صحيحا لما جاز إجراء أحكام الكفار على أهل الكتاب بعد موتهم لأن ذلك الإيمان إنما هو في حال زوال التكليف فلا يعتد به وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ أي عيسى عليه السلام عَلَيْهِمْ أي أهل الكتاب شَهِيداً فيشهد على اليهود بتكذيبهم إياه وعلى النصارى بقولهم فيه: إنه ابن الله تعالى، والظرف متعلق- بشهيدا- وتقديمه يدل على جواز تقديم خبر كان مطلقا، أو إذا كان ظرفا أو مجرورا لأن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 المعمول إنما يتقدم حيث يصح تقديم عامله، وجوز أبو البقاء كون العامل فيه يكون. فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا أي تابوا من عبادة العجل، والتعبير عنهم بهذا العنوان إيذان بكمال عظم ظلمهم بتذكير وقوعه بعد تلك التوبة الهائلة إثر بيان عظمه بالتنوين التفخيمي أي بسبب ظلم عظيم خارج عن حدود الأشياء والنظائر صادر عنهم حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ولمن قبلهم لا لشيء غيره كما زعموا، فإنهم كانوا كلما ارتكبوا معصية من المعاصي التي اقترفوها يحرم عليهم نوع من الطيبات التي كانت محللة لهم ولمن تقدمهم من أسلافهم عقوبة لهم، ومع ذلك كانوا يفترون على الله تعالى الكذب ويقولون: لسنا بأول من حرمت عليه وإنما كانت محرمة على نوح وإبراهيم ومن بعدهما عليهم الصلاة والسلام حتى انتهى الأمر إلينا فكذبهم الله تعالى في مواقع كثيرة وبكتهم بقوله سبحانه: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ [آل عمران: 93] الآية، وقد تقدم الكلام فيها، وذهب بعض المفسرين أن المحرم عليهم ما سيأتي إن شاء الله تعالى في الأنعام مفصلا. واستشكل بأن التحريم كان في التوراة ولم يكن حينئذ كفر بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وبعيسى عليه السلام ولا ما أشار إليه قوله تعالى: وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً أي ناسا كثيرا، أو صدا، أو زمانا كثيرا وقيل في جوابه: إن المراد استمرار التحريم فتدبر ولا تغفل، وهذا معطوف على الظلم وجعله، وكذا ما عطف عليه في الكشاف بيانا له، وهو- كما قال بعض المحققين- لدفع ما يقال: إن العطف على المعمول المتقدم ينافي الحصر، ومن جعل الظلم بمعناه وجعل بِصَدِّهِمْ متعلقا بمحذوف فلا إشكال عليه، ومن هذا يعلم تخصيص ما ذكره أهل المعاني من أنه مناف للحصر بما إذا لم يكن الثاني بيانا للأول كما إذا قلت: بذنب ضربت زيدا وبسوء أدبه، فإن المراد فيه لا بغير ذنب، وكذا خصصوا ذلك بما إذا لم يكن الحصر مستفادا من غير التقديم، وأعيدت الباء هنا ولم تعد في قوله تعالى: وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ لأنه فصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما ليس معمولا للمعطوف عليه، وحيث فصل بمعموله لم تعد، وجملة وَقَدْ نُهُوا حالية، وفي الآية دلالة على أن الربا كان محرما عليهم كما هو محرم علينا، وأن النهي يدل على حرمة المنهي عنه، وإلا لما توعد سبحانه على مخالفته وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ بالرشوة وسائر الوجوه المحرمة وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ أي للمصرين على الكفر لا لمن تاب وآمن من بينهم- كعبد الله بن سلام وأضرابه- عَذاباً أَلِيماً سيذوقونه في الآخرة كما ذاقوا في الدنيا عقوبة التحريم، وذكر في البحر أن التحريم كان عاما للظالم وغيره، وأنه من باب وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: 25] دون العذاب، ولذا قال سبحانه: لِلْكافِرِينَ دون- لهم- وإلى ذلك ذهب الجبائي أيضا فتدبر لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ استدراك من قوله سبحانه: وَأَعْتَدْنا إلخ، وبيان لكون بعضهم على خلاف حالهم عاجلا وآجلا، ومِنْهُمْ في موضع الحال أي لكن الثابتون المتقنون منهم في العلم المستبصرون فيه غير التابعين للظن كأولئك الجهلة، والمراد بهم عبد الله بن سلام وأسيد وثعلبة وأضرابهم، وفي المذكورين نزلت الآية كما أخرجه البيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وَالْمُؤْمِنُونَ أي منهم، وإليه يشير كلام قتادة، وقد وصفوا بالإيمان بعد ما وصفوا بما يوجبه من الرسوخ في العلم بطريق العطف المبني على المغايرة بين المتعاطفين تنزيلا للاختلاف العنواني منزلة الاختلاف الذاتي كما مر، وقوله سبحانه: يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من القرآن وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ من الكتب على الأنبياء والرسل حال من- المؤمنون- مبينة لكيفية إيمانهم، وقيل: اعتراض مؤكد لما قبله، وقوله تعالى: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ قال سيبويه وسائر البصريين: نصب على المدح، وطعن فيه الكسائي بأن النصب على المدح إنما يكون بعد تمام الكلام، وهنا ليس كذلك لأن الخبر سيأتي، وأجيب بأنه لا دليل على أنه لا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 يجوز الاعتراض بين المبتدأ وخبره، وحكى ابن عطية عن قوم منع نصبه على القطع من أجل حرف العطف لأن القطع لا يكون في العطف وإنما يكون في النعوت، ومن ادعى أن هذا من باب القطع في العطف تمسك بما أنشده سيبويه للقطع مع حرف العطف من قوله: ويأوي إلى نسوة عطل ... وشعثا مراضيع مثل السعالي وقال الكسائي: هو مجرور بالعطف على بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ على أن المراد بهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قيل: وليس المراد بإقامة الصلاة على هذا أداؤها بل إظهارها بين الناس وتشريعها ليكون وصفا خاصا، وقيل: المراد بالمقيمين الملائكة لقوله تعالى: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء: 20] ، وقيل: المسلمون بتقدير مضاف أي وبدين المقيمين، وقال قوم: إنه معطوف على ضمير مِنْهُمْ، وقيل ضمير إِلَيْكَ، وقيل: ضمير قَبْلِكَ والبصريون لا يجيزون هذه الأوجه الثلاثة لما فيها من العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار، وقد تقدم الكلام في ذلك، وزعم بعض المتأخرين أن الأشبه نصبه على التوهم لكون السابق مقام- لكن- المثقلة وضع موضعها لكِنِ المخففة، ولا يخفى ما فيه، وبالجملة لا يلتفت إلى من زعم أن هذا من لحن القرآن، وأن الصواب والمقيمون بالواو كما في مصحف عبد الله، وهي قراءة مالك بن دينار والجحدري وعيسى الثقفي إذ لا كلام في نقل النظم تواترا فلا يجوز اللحن فيه أصلا، وأما ما روي أنه لما فرغ من المصحف أتى به إلى عثمان رضي الله تعالى عنه فقال: قد أحسنتم وأجملتم أرى شيئا من لحن ستقيمه العرب بألسنتها، ولو كان المملي من هذيل والكاتب من قريش لم يوجد فيه هذا، فقد قال السخاوي: إنه ضعيف، والإسناد فيه اضطراب وانقطاع فإن عثمان رضي الله تعالى عنه جعل للناس إماما يقتدون به، فكيف يرى فيه لحنا ويتركه لتقيمه العرب بألسنتها، وقد كتب عدة مصاحف وليس فيها اختلاف أصلا إلا فيما هو من وجوه القراءات، وإذا لم يقمه هو ومن باشر الجمع وهم هم كيف يقيمه غيرهم؟! وتأول قوم اللحن في كلامه على تقدير صحته عنه بأن المراد الرمز والإيماء كما في قوله: منطق رائع وتلحن أحيا ... نا وخير الكلام ما كان لحنا أي المراد به الرمز بحذف بعض الحروف خطا كألف الصابرين مما يعرفه القراء إذا رأوه، وكذا زيادة بعض الحروف وقد قدمنا لك ما ينفعك هنا فتذكر. ثم الظاهر أن المقيمين على قراءة الرفع معطوف على سابقه وينزل أيضا التغاير العنواني منزلة التغاير الذاتي، والعطف على ضمير يُؤْمِنُونَ ليس بشيء وكذا الحال في قوله تعالى: وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فإن المراد بالكل مؤمنو أهل الكتاب وصفوا أولا بكونهم راسخين في علم الكتاب لا يعترضهم شك ولا تزلزلهم شبهة إيذانا بأن ذلك موجب للإيمان وأن من عداهم إنما بقوا مصرين لعدم رسوخهم فيه، بل هم كريشة في بيداء الضلال تقلبهم زعازع الشكوك والأوهام، ثم بكونهم مؤمنين بجميع ما أنزل من الكتاب على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ثم بكونهم عاملين بما فيها من الأحكام، واكتفى من بينها بذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة المستتبعين لسائر العبادات البدنية والمالية، ولما أن في إقامة الصلاة على وجهها انتصابا بين يدي الحق جل جلاله، وانقطاعا عن السوي، وتوجها إلى المولى كسا المقيمين حلة النصب ليهون عليهم النصب وقطعهم عن التبعية، فيا ما أحيلى قطع يشير إلى الاتصال بأعلى الرتب، ثم وصفهم بكونهم بالمبتدأ والمعاد تحقيقا لحيازتهم الإيمان بقطريه، وإحاطتهم به من طرفيه، وتعريضا بأن من عداهم من أهل الكتاب ليسوا مؤمنين بواحد منهما حقيقة لأنهم قد مزجوا الشهد سما وغدوا عن اتباع الحق الصرف عميا وصما أُولئِكَ إشارة إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 الموصوفين بما تقدم من الصفات الجليلة الشأن المحكمة البنيان، وهو مبتدأ وقوله تعالى: سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً خبره، والجملة خبر المبتدأ الذي هو الراسخون، والسين لتوكيد الوعد كما قدمنا، وتنكير الأجر للتفخيم كما مر غير مرة، ولا يخفى ما في هذا من المناسبة التامة بين طرفي الاستدراك حيث أوعد الأولون بالعذاب الأليم، ووعد الآخرون بالأجر العظيم، وجوز غير واحد من المفسرين كون خبر المبتدأ الأول جملة يُؤْمِنُونَ وحمل المؤمنين على أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم ممن عدا أهل الكتاب والمناسبة عليه غير تامة، وذهب بعضهم إلى أن الاستدراك إنما هو من قوله تعالى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ [النساء: 153] الآية كأنه قيل: لكن هؤلاء لا يسألونك ما يسألك هؤلاء الجهال من إنزال كتاب من السماء لأنهم قد علموا صدق قولك فيما قرؤوا من الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ووجوب اتباعك عليهم فلا حاجة بهم أن يسألوك معجزة أخرى إذ قد علموا من أمرك بالعلم الراسخ في قلوبهم ما يكفيهم عن ذلك، وروي هذا عن قتادة وتجاوب طرفي الاستدراك عليه أتم منه على قول الجمهور. وقرأ حمزة «سيؤتيهم» بالياء مراعاة لظاهر قوله تعالى: الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ. إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتابا من السماء، واحتجاج عليهم بأن شأنه في الوحي كشأن سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين لا ريب في نبوّتهم، وقيل: هو تعليل لقوله تعالى: الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ. وأخرج ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «قال سكين وعدي بن زيد: يا محمد ما نعلم الله تعالى أنزل على بشر من شيء بعد موسى عليه السلام فأنزل الله تعالى هذه الآية» والكاف في محل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي إيحاء مثل إيحائنا إلى نوح عليه السلام، أو حال من ذلك المصدر المقدر معرفا كما هو رأي سيبويه أي إنا أوحينا الإيحاء مشبها بإيحائنا إلخ، وما في الوجهين مصدرية. وجوّز أبو البقاء أن تكون موصولة فيكون الكاف مفعولا به أي أوحينا إليك مثل الذي أوحيناه إلى نوح من التوحيد وغيره وليس بالمرضي: ومِنْ بعده متعلق- بأوحينا- ولم يجوّزوا أن يكون حالا من النبيين لأن ظروف الزمان لا تكون أحوالا للجثث، وبدأ سبحانه بنوح عليه السلام تهديدا لهم لأنه أول نبي عوقب قومه، وقيل: لأنه أول من شرع الله تعالى على لسانه الشرائع والأحكام، وتعقب بالمنع، وقيل: لمشابهته بنبينا صلّى الله عليه وسلّم في عموم الدعوة لجميع أهل الأرض، ولا يخلو عن نظر لأن عموم دعوته عليه السلام اتفاقي لا قصدي، وعموم الفرق على القول به، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه ليس قطعي الدلالة على ذلك كما لا يخفى. وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ عطف على أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ داخل معه في حكم التشبيه أي كما أوحينا إلى إبراهيم وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وهم أولاد يعقوب عليه السلام في المشهور، وقال غير واحد: إن الأسباط في ولد إسحاق كالقبائل في أولاد إسماعيل، وقد بعث منهم عدة رسل، فيجوز أن يكون أراد سبحانه بالوحي إليهم الوحي إلى الأنبياء منهم كما تقول: أرسلت إلى بني تميم، وتريد أرسلت إلى وجوههم، ولم يصح أن الأسباط الذين هم إخوة يوسف عليه السلام كانوا أنبياء بل الذي صح عندي- وألف فيه الجلال السيوطي رسالة- خلافه وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ ذكروا مع ظهور انتظامهم في سلك النبيين تشريفا لهم وإظهارا لفضلهم على ما هو المعروف في ذكر الخاص بعد العام في مثل هذا المقام، وتكرير الفعل لمزيد تقرير الإيحاء والتنبيه على أنهم طائفة خاصة مستقلة بنوع مخصوص من الوحي، وبدأ بذكر إبراهيم بعد التكرير لمزيد شرفه ولأنه الأب الثالث للأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما نص عليه الأجهوري وغيره، وقدم عيسى عليه السلام على من بعده تحقيقا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 لنبوته وقطعا لما رآه اليهود فيه، وقيل: ليكون الابتداء بواحد من أولي العزم بعد تغير صفة المتعاطفات إفرادا وجمعا وكل هذه الأسماء- على ما ذكره أبو البقاء- أعجمية إلا الأسباط، وفي ذلك خلاف معروف، وفي يُونُسَ لغات أفصحها ضم النون من غير همز، ويجوز فتحها وكسرها مع الهمز وتركه وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً عطف على أوحينا داخل في حكمه لأن إيتاء الزبور من باب الإيحاء، وكما آتينا داود زبورا- وإيثاره على أوحينا إلى داود- لتحقق المماثلة في أمر خاص، وهو إيتاء الكتاب بعد تحققها في مطلق الإيحاء والزبور بفتح الزاي عند الجمهور وهو فعول بمعنى مفعول- كالحلوب والركوب- كما نص عليه أبو البقاء. وقرأ حمزة وخلف زَبُوراً بضم الزاي حيث وقع، وهو جمع زبر بكسر فسكون بمعنى مزبور أي مكتوب، أو زبر بالفتح والسكون كفلس وفلوس، وقيل: إنه مصدر كالقعود والجلوس، وقيل: إنه جمع زبور على حذف الزوائد، وعلى العلات جعل اسما للكتاب المنزل على داود عليه السلام، وكان إنزاله عليه عليه السلام منجما وبذلك يحصل الإلزام، وكان فيه- كما قال القرطبي- مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم من الأحكام، وإنما هي حكم ومواعظ والتحميد والتمجيد والثناء على الله تعالى شأنه وَرُسُلًا نصب بمضمر أي أرسلنا رسلا والقرينة عليه قوله سبحانه: أَوْحَيْنا السابق لاستلزامه الإرسال، وهو معطوف عليه داخل معه في حكم التشبيه، وقيل: القرينة قوله تعالى: قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ لا أنه منصوب- بقصصنا- بحذف مضاف أي قصصنا أخبار رسل، ولا أنه منصوب بنزع الخافض أي كما أوحينا إلى نوح وإلى رسل- كما قيل- لخلوه عما في الوجه الأول من تحقيق المماثلة بين شأنه صلّى الله عليه وسلّم وبين شؤون من يعترفون بنبوته من الأنبياء عليهم السلام في مطلق الإيحاء، ثم في إيتاء الكتاب، ثم في الإرسال، فإن قوله سبحانه: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ منتظم لمعنى آتَيْناكَ وأَرْسَلْناكَ حتما فكأنه قيل: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى فلان وفلان، وآتيناك مثل ما آتينا فلانا، وأرسلناك مثل ما أرسلنا الرسل الذي قصصناهم وغيرهم ولا تفاوت بينك وبينهم في حقيقة الإيحاء والإرسال فما للكفرة يسألونك شيئا لم يعطه أحد من هؤلاء الرسل عليهم الصلاة والسلام، ومعنى قصصهم عليه عليه الصلاة والسلام حكاية إخبارهم له وتعريف شأنهم وأمورهم مِنْ قَبْلُ أي من قبل هذه السورة، أو اليوم، قيل: قصصهم عليه صلّى الله عليه وسلّم بمكة في سورة الأنعام وغيرها، وقال بعضهم: قصهم سبحانه عليه عليه الصلاة والسلام بالوحي في غير القرآن ثم قصهم عليهم بعد في القرآن وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ أي من قبل فلا تنافي الآية ما ورد في الخبر من أن الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر، والأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، وعن كعب أنهم ألف ألف وأربعمائة ألف وأربعة وعشرون ألفا لأن نفي قصهم من قبل لا يستلزم نفي قصهم مطلقا فإن نفي الخاص لا يستلزم نفي العام، فيمكن أن يكون قصهم عليه صلّى الله عليه وسلّم بعد فعلمهم، فأخبر بما أخبر على أن القبلية تفهم من الكلام ولو لم تكن في القابل لأن لَمْ في المشهور إذا دخلت على المضارع تقلب معناه للمضي على أن القص ذكر الأخبار، ولا يلزم من نفي ذكر أخبارهم له صلّى الله عليه وسلّم نفي ذكر عددهم مجردا من ذكر الأخبار والقصص، فيمكن أن يقال: لم يذكر سبحانه له صلّى الله عليه وسلّم أخبارهم أصلا لكن ذكر جل شأنه له عليه الصلاة والسلام أنهم كذا رجلا فاندفع ما توهمه بعض المعاصرين من أن الآية نص في عدم علمه «وحاشاه عليه الصلاة والسلام» عدة المرسلين عليهم الصلاة والسلام فيأخذ بها ويرد الحديث وكأن الذي أوقعه في الوهم كلام بعض المحققين. والأولى أن لا يقتصر على عدد الآية، فأخطأ في الفهم ومات في ربقة التقليد نسأل الله تعالى العافية. وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى برفع الجلالة ونصب موسى، وعن إبراهيم ويحيى بن وثاب أنهما قرآ على القلب. تَكْلِيماً مصدر مؤكد رافع لاحتمال المجاز على ما ذكره غير واحد، ونظر فيه الشهاب بأنه مؤكد للفعل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 فيرفع المجاز عنه، وأما رفعه المجاز عن الإسناد بأن يكون المكلم رسله من الملائكة كما يقال قال الخليفة كذا إذا قاله وزيره فلا، مع أنه أكد الفعل، والمراد به معنى مجازي كقول هند بنت النعمان في زوجها روح بن زنباع وزير عبد الملك بن مروان. بكى الخز من روح وأنكر جلده ... وعجت عجيجا من جذام المطارف فأكدت «عجت» مع أنه مجاز لأن الثياب لا تعج وما نقل عن الفراء من أن العرب تسمي ما وصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل ما لم يؤكد بالمصدر. فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام لا يفي بالمقصود إذ نهاية ما فيه رفع المجاز عن الفعل في هذه المادة، ولا تعرض له لرفع المجاز عن الإسناد فللخصم أن يقول: التكليم حقيقة إلا أن إسناده إلى الله تعالى مجاز ولا تقوم الآية حجة عليه إلا بنفي ذلك الاحتمال، نعم إنها ظاهرة فيما ذهب إليه أهل السنة. والجملة إما معطوفة على قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ عطف القصة على القصة لا على- آتينا- وما عطف عليه، وإما حال بتقدير قد كما ينبئ عنه تغيير الأسلوب بالالتفات، والمعنى أن التكليم بغير واسطة منتهى مراتب الوحي وأعلاها، وقد خص به من بين الأنبياء الذين اعترفتم بنبوتهم موسى عليه السلام ولم يقدح ذلك فيهم أصلا فكيف يتوهم أن نزول التوراة عليه جملة قادح في نبوة من أنزل عليه الكتاب مفصلا مع ظهور حكمة ذلك. هذا وقد تقدم لك كيفية سماع موسى عليه السلام لكلام الله عز وجل، وقد وقع التكليم أيضا لنبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم في الإسراء مع زيادة رفعة، بل ما من معجزة لنبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلا لنبينا صلّى الله عليه وسلّم مثلها مع زيادة شرف له شرفه الله تعالى، بل ما من ذرة نور شعث في العالمين إلا تصدقت بها شمس ذاته صلّى الله عليه وسلّم، ولله سبحانه در البوصيري حيث يقول: وكل آي أتى الرسل الكرام بها ... فإنما اتصلت من نوره بهم فصلى الله تعالى عليه وسلّم تسليما كثيرا رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ نصب على المدح، أو بإضمار أرسلنا أو على الحال من رُسُلًا الذي قبله، أو ضميره وهي حال موطئة والمقصود وصفها. وضعف هذا بأنه حينئذ لا وجه للفصل بين الحال وذيها، وجوز أن يكون نصبا على البدلية من رُسُلًا الأول، وضعف بأن اتحاد البدل والمبدل منه لفظا بعيد، وإن كان المعتمد بالبدلية الوصف أي مُبَشِّرِينَ من آمن وأطاع بالجنة والثواب وَمُنْذِرِينَ من كفر وعصى بالنار والعقاب لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ أي معذرة يعتذرون بها قائلين لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا [طه: 134] فيبين لنا شرائعك ويعلمنا ما لم نكن نعلم من أحكامك لقصور القوى البشرية عن إدراك جزئيات المصالح، وعجز أكثر الناس عن إدراك كلياتها. فالآية ظاهرة في أنه لا بد من الشرع وإرسال الرسل وأن العقل لا يغني عن ذلك، وزعم المعتزلة أن العقل كاف وأن إرسال الرسل إنما هو للتنبيه عن سنة الغفلة التي تعتري الإنسان من دون اختيار، فمعنى الآية عندهم لئلا يبقى للناس على الله حجة، وسيأتي ردّ ذلك إن شاء الله تعالى مع تحقيق هذا المبحث. وتسمية ما يقال عند ترك الإرسال حجة مع استحالة أن يكون لأحد عليه سبحانه حُجَّةٌ مجاز بتنزيل المعذرة في القبول عنده تعالى بمقتضى كرمه ولطفه منزلة الحجة القاطعة التي لا مردّ لها، فلا يبطل قول أهل السنة إنه لا اعتراض لأحد على الله تعالى في فعل من أفعاله بل له سبحانه أن يفعل بمن شاء ما شاء، واللام متعلقة- بأرسلنا- المقدر، أو- بمبشرين ومنذرين- على التنازع، وجوز أن تتعلق بما يدلان عليه، وحُجَّةٌ اسم كان وخبرها لِلنَّاسِ، وعَلَى اللَّهِ حال من حُجَّةٌ ويجوز أن يكون الخبر عَلَى اللَّهِ ولِلنَّاسِ حال، ولا يجوز أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 يتعلق على- بحجة- لأنها مصدر ومعموله لا يتقدم عليه، ومن جوزه في الظرف جوزه هنا، وقوله تعالى: بَعْدَ الرُّسُلِ- أي بعد إرسالهم وتبليغ الشريعة على ألسنتهم- ظرف لحجة، وجوز أن يكون صفة لها لأن ظرف الزمان يوصف به المصادر كما يخبر به عنها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً لا يغالب في أمر يريده. حَكِيماً في جميع أفعاله، ومن قضية ذلك الامتناع عن إجابة مسألة المتعنتين، وقطع الحجة بإرسال الرسل وتنوع الوحي إليهم والإعجاز، وقيل: عَزِيزاً في عقاب الكفار حَكِيماً في الأعذار بعد تقدم الإنذار كأنه بعد أن سألوا إنزال كتاب الله تعالى لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بتخفيف النون ورفع الجلالة. وقرأ السليمي بتشديد النون ونصب الجلالة، وهو استدراك عن مفهوم ما قبله كأنهم لما سألوه صلّى الله عليه وسلّم إنزال كتاب من السماء وتعنتوا ورد عليهم بقوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ إلخ قيل: إنهم لا يشهدون لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ. وحاصل ذلك إن لم تلزمهم الحجة ويشهدوا لك فالله تعالى يشهد، وقيل: إنه سبحانه لما شبه الإيحاء إليه صلّى الله عليه وسلّم بالإيحاء إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أوهم ذلك التشبيه مزية الإيحاء إليهم، فاستدرك عنه بأن للإيحاء إليك مزية شهادة الله تعالى بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أي بحقية الذي أنزله إليك وهو القرآن، فالجار والمجرور متعلق- بيشهد- والباء صلة والمشهود به هو الحقية، ويجوز أن يكون المشهود به هو النبوة وتعلق بما أنزل تعلق الآلية أي يشهد بنبوتك بسبب ما أنزل إليك لدلالته بإعجازه على صدقك ونبوتك، ولعل مآل المعنى ومؤداه واحد فإن شهادته سبحانه بحقية ما أنزله من القرآن بإظهار المعجز المقصود منه إثبات نبوته صلّى الله عليه وسلّم، وأخرج البيهقي في الدلائل وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «دخل جماعة من اليهود على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال عليه الصلاة والسلام لهم: إني والله أعلم أنكم تعلمون أني رسول الله فقالوا: ما نعلم ذلك فنزلت لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ» وفي رواية ابن جرير عنه «أنه لما نزل إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» ، قالوا: ما نشهد لك فنزل لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ» وقرىء «أنزل» على البناء للمفعول أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ذكر فيه أربعة أوجه: الأول أن يكون المعنى أنزله بعلمه الخاص به الذي لا يعلمه غيره سبحانه، وهو تأليفه على نظم وأسلوب يعجز عنه كل بليغ وصاحب بيان، واختاره جماعة من المفسرين، والثاني أن يكون المعنى أَنْزَلَهُ وهو عالم بأنك أهل لإنزاله إليك لقيامك فيه بالحق ودعائك الناس إليه، واختاره الطبرسي، والثالث أن يكون المعنى أَنْزَلَهُ بما علم من مصالح العباد مشتملا عليه، والرابع أن يكون المعنى أَنْزَلَهُ وهو عالم به رقيب عليه حافظ له من الشياطين برصد من الملائكة، والعلم على الوجه الأول قيل: بمعنى المعلوم، والمراد به التأليف والنظم المخصوص وليس من جعل العلم مجازا عن ذلك ولو جعل عليه العلم بمعناه المصدري، والباء للملابسة ويكون تأليفه بيانا لتلبسه لا للعلم نفسه صح لكن فيه تجوز من جهة أن التأليف ليس نفس التلبس بل أثره، ويحتمل على هذا أن تكون الباء للآلية كما يقال: فعله بعلمه إذا كان متقنا وعلى ما ينبغي، فيكون وصفا للقرآن بكمال الحسن والبلاغة، وأما على الوجه الثاني والثالث فالعلم بمعناه، أو هو في الثالث بمعنى المعلوم، والظرف حال من الفاعل أو المفعول، ومتعلق العلم مختلف وهو أنك أهل لإنزاله أو مصالح العباد، وظاهر كلام البعض أنه على الثاني حال من الفاعل، وعلى الثالث من المفعول، وجوز أن يكون مفعولا مطلقا مطلقا أي إنزالا متلبسا بعلمه، وموقع الجملة على الأول موقع الجملة المفسرة لأنه بيان للشهادة على ما نص عليه الزمخشري، وعلى الوجهين موقع التقرير والبيان للصلة وقيل: إنها في الأوجه الثلاثة كالتفسير- لأنزل إليك- لأنها بيان لإنزاله على وجه مخصوص، وأما على الوجه الرابع فقد ضمن العلم بمعنى الرقيب والحافظ، والظرف حال من الفاعل، ويكون أَنْزَلَهُ تكريرا ليعلق به ما علق أو كما قيل، ولم يعتبر بعضهم هذا الوجه لأنه لا مساس له بهذا المقام، وقيل: إن فيه تعظيما لأمر القرآن بحفظه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 من شياطين الجن المشعر بحفظه أيضا من شياطين الإنس فتكون الجملة حينئذ كالتفسير للشهادة أيضا، وقرىء نزله وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ أيضا بما شهد الله تعالى به لأنهم تبع له سبحانه في الشهادة، والجملة عطف على ما قبلها، وقيل: حال من مفعول أَنْزَلَهُ أي أنزله وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ بصدقه وحقيته، وجعل بعضهم شهادة الملائكة على صدقه صلّى الله عليه وسلّم في دعواه بإتيانهم لإعانته عليه الصلاة والسلام في القتال ظاهرين كما كان في غزوة بدر، وأيّا ما كان- فيشهدون- من الشهادة، وذكر أنه على الوجه الرابع من الشهود للحفظ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على ما شهد به لك حيث نصب الدليل وأوضح السبيل وأزال الشبه وبالغ في ذلك على وجه لا يحتاج معه إلى شهادة غيره عز وجل. هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» : لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ أي لا يحب أن يهتك العبد ستره إذا صدرت منه هفوة أو اتفقت منه كبوة إِلَّا مَنْ ظُلِمَ أي إلا جهر من ظلمته نفسه برسوخ الملكات الخبيثة فيه فإنه مأذون له بإظهار ما فيه من تلك الملكات وعرضها على أطباء القلوب ليصفوا له دواءها، وقيل: لا يُحِبُّ اللَّهُ تعالى إفشاء سر الربوبية وإظهار مواهب الألوهية، أو كشف القناع من مكنونات الغيب ومصونات غيب الغيب إِلَّا مَنْ ظُلِمَ بغلبات الأحوال وتعاقب كؤوس الجلال والجمال فاضطر إلى المقال فقال باللسان الباقي لا باللسان الفاني أنا الحق وسبحاني ما أعظم شأني، وفي تسمية تلك الغلبة ظلما خفاء لا يخفى. وفي ظاهر الآية بشارة عظيمة للمذنبين حيث بين سبحانه أنه لا يرضى بهتك الستر إلا من المظلوم فكيف يرضى سبحانه من نفسه أن يهتك ستر العاصين وليسوا بظالميه جل جلاله، وإنما ظلموا أنفسهم كما نطق بذلك الكتاب إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ هؤلاء قوم احتجبوا بالجمع عن التفصيل، فأنكروا الرسل لتوهمهم وحدة منافية للكثرة وجمعا مباينا للتفصيل، ومن هنا عطلوا الشرائع وأباحوا المحرمات وتركوا الصلوات وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ أي الإيمان بالكل جمعا وتفصيلا والكفر بالكل سَبِيلًا أي طريقا أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ المحجوبون حقا بذواتهم وصفاتهم لأن معرفتهم وهم وغلط، وتوحيدهم زندقة وضلال، ولقتل واحد منهم أنفع من قتل ألف كافر حربي على ما أشار إليه حجة الإسلام الغزالي قدس سره وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وهم المؤمنون جمعا وتفصيلا لا يحجبهم جمع عن تفصيل ولا تفصيل عن جمع كالسادة الصادقين من أهل الوحدة أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ من الجنات الثلاث وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً يستر ذواتهم وصفاتهم رَحِيماً يرحمهم بالوجود الموهوب الحقاني والبقاء السرمدي يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ أي علما يقينا بالمكاشفة من سماء الروح فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً أي طلبوا المشاهدة ولا شك أنها أكبر وأعلى من المكاشفة فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ أي استولت عليهم نار الأنانية وأهلكت استعدادهم بِظُلْمِهِمْ وهو طلبهم المشاهدة مع بقاء ذواتهم ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ أي عجل الشهوات الذي صاغه لهم سامري النفس الأمارة مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ الرادعة لهم عن ذلك وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً وهو سطوع نور التجلي من وجهه حتى احتاج إلى أن يستر وجهه بالبرقع رحمة بخفافيش أمته وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ أي جعلناه مستوليا عليهم بِمِيثاقِهِمْ أي بسبب أن يعطوا الميثاق، وأشير بالطور إلى موسى عليه السلام، أو إلى العقل ورفعه فوقهم تأييده بالأنوار الإلهية وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ أي باب السير والسلوك الموصل إلى حضيرة القدس وملك الموت سُجَّداً خضعا متذللين، وقوله تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ أشير به- على ما ذكره بعض القوم، والعهدة عليه- إلى اتصال روحه عليه السلام بالعالم العلوي عند مفارقته للعالم السفلي، وذلك الرفع عندهم إلى السماء الرابعة لأن مصدر فيضان روحه عليه السلام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 روحانية فلك الشمس الذي هو بمثابة قلب العالم، ولما لم يصل إلى الكمال الحقيقي الذي هو درجة المحبة لم يكن له بدّ من النزول مرة أخرى في صورة جسدانية، يتبع الملة المحمدية لنيل تلك الدرجة العلية، وحينئذ يعرفه كل أحد فيؤمن به أهل الكتاب أي أهل العلم العارفين بالمبدأ والمعاد كلهم عن آخرهم قبل موته عليه السلام بالفناء بالله عز وجل، فإذا آمنوا به يكون يوم القيامة أي يوم بروزهم عن الحجب الجسمانية وانتباههم عن نوم الغفلة شهيدا، وذلك بأن يتجلى الحق عليهم في صورته فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا وهو عبادتهم عجل الشهوات واتخاذه إلها وامتناعهم عن دخول باب حضيرة القدس واعتدائهم في السبت بمخالفة الشرع الذي هو المظهر الأعظم والاحتجاب عن كشف توحيد الأفعال ونقضهم ميثاق الله تعالى واحتجابهم عن توحيد الصفات الذي هو كفر بآيات الله تعالى إلى غير ذلك من المساويء. مساو لو قسمن على الغواني ... لما أمهرن إلا بالطلاق حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ عظيمة جليلة وهي ما في الجنات الثلاث أُحِلَّتْ لَهُمْ بحسب استعدادهم لولا هذه الموانع وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي طريقه الموصلة إليه سبحانه كَثِيراً أي خلقا كثيرا وهي القوى الروحانية وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وهو فضول العلم الرسمي الجدلي الذي هو كشجرة الخلاف لا ثمرة له، وكاللذات البدنية والحظوظ النفسانية وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ لما أنه الحجاب العظيم وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ أي استعمال علوم القوى الروحانية في تحصيل الخسائس الدنيوية، أو أخذ ما في أيدي العباد برذيلة الحرص والطمع لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ المستقيمون في السماع الخاص من الله سبحانه من غير معارضة النفوس واضطراب الأسرار وَالْمُؤْمِنُونَ بالإيمان العياني حال كونهم يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ من الأحكام الشرعية والأسرار الإلهية وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ على أكمل وجه وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ ببذل قوامهم في أصناف الطاعة وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أي بالمبدأ والمعاد، والمراد من المتعاطفات طائفة واحدة كما قدمنا أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً لا يقادر قدره فيما أعدّ لهم من الجنات إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ الآية التشبيه على حد التشبيه في قوله تعالى كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ على قول رُسُلًا مُبَشِّرِينَ بتجليات اللطف وَمُنْذِرِينَ بتجليات القهر لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ أي لئلا يكون لهم ظهور وسلطنة بعد ما محي ذلك بإمداد الرسل وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً فيمحو صفاتهم ويفني ذواتهم حَكِيماً فيفيض عليهم من صفاته ويبقيهم في ذاته حسبما تقتضيه الحكمة لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ لتجليه فيه سبحانه أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ أي متلبسا بعلمه المحيط الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض. ومن هنا علم صلّى الله عليه وسلّم ما كان وما هو كائن وَالْمَلائِكَةُ هم أصحاب النفوس القدسية يَشْهَدُونَ أيضا لعدم احتجابهم وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً لأنه الجامع ولا موجود غيره، والله تعالى الموفق للصواب. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بما أنزل إليك، أو بكل ما يجب الإيمان به ويدخل ذلك فيه دخولا أوليا، والمراد بهم اليهود، وكأن الجملة لبيان حكم الله سبحانه فيهم بعد بيان حالهم وتعنتهم وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي دين الإسلام من أراد سلوكه بإنكارهم نعت النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقولهم: لا نعرفه في كتابنا وأن شريعة موسى عليه السلام لا تنسخ، وأن الأنبياء لا يكونون إلا من أولاد هارون وداود عليهما السلام. وقرىء «صدوا» بالبناء للمفعول قَدْ ضَلُّوا بالكفر والصد ضَلالًا بَعِيداً لأنهم جمعوا بين الضلال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 والإضلال ولأن المضل يكون أقوى وأدخل في الضلال وأبعد عن الانقلاع عنه إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بما ذكر آنفا وَظَلَمُوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم بإنكار نبوته وكتمان نعوته الجليلة، أو الناس بصدهم لهم عن الصراط المستقيم، والمراد أن الذين جمعوا بين الكفر وهذا النوع من الظلم. لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ لاستحالة تعلق المغفرة بالكافر، والآية في اليهود على الصحيح، وقيل: إنها في المشركين وما قبلها في اليهود، وزعم بعضهم أن المراد من الظلم ما ليس بكفر من سائر أنواع الكبائر، وحمل الآية على معنى أن الذين كان بعضهم كافرين، وبعضهم ظالمين أصحاب كبائر لَمْ يَكُنِ إلخ، ولا يخفى أن ذلك عدول عن الظاهر لم يدع إليه إلا اعتقاد أن العصاة مخلدون في النار تخليد الكفار، والآية تنبو عن هذا المعتقد، فإنه قد جعل فيها الفعلان كلاهما صلة للموصول فيلزم وقوع الفعلين جميعا من كل واحد من آحاده، ألا تراك إذا قلت: الزيدون قاموا فقد أسندت القيام إلى كل واحد من آحاد الجمع، فكذلك لو عطفت عليه فعلا آخر لزم فيه ذلك ضرورة، وسياق الآية أيضا يأبى ذلك المعنى لكن لم يزل ديدن المعتزلة اتباع الهوى فلا يبالون بأي واد وقعوا وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ لعدم استعدادهم للهداية إلى الحق والأعمال الصالحة التي هي طريق الجنة، والمراد من الهداية المفهومة من الاستثناء بطريق الإشارة كما قال غير واحد: خلقه سبحانه لأعمالهم السيئة المؤدية لهم إلى جهنم حسب استعدادهم، أو سوقهم إلى جهنم يوم القيامة بواسطة الملائكة، وذكر بعضهم أن التعبير بالهداية تهكم إن لم يرد بها مطلق الدلالة، والطريق على عمومه، والاستثناء متصل كما اختاره أبو البقاء وغيره، وجوز السمين أن يراد بالطريق شيء مخصوص وهو العمل الصالح والاستثناء منقطع خالِدِينَ فِيها حال مقدرة من الضمير المنصوب لأن الخلود يكون بعد إيصالهم إلى جهنم، ولو قدر يقيمون خالدين لم يلتئم، وقيل: يمكن أن يستغنى عن جعله حالا مقدرة بأن هذا من الدلالة الموصلة إلى جهنم، أو الدلالة إلى طريق يوصل إليها فهو حال عن المفعول باعتبار الإيصال لا الدلالة فتدبر، وقوله تعالى: أَبَداً نصب على الظرفية رافع احتمال أن يراد بالخلود المكث الطويل وَكانَ ذلِكَ أي انتفاء غفرانه وهدايته سبحانه إياهم وطرحهم في النار إلى الأبد عَلَى اللَّهِ يَسِيراً سهلا لا صارف له عنه، وهذا تحقير لأمرهم وبيان لأنه تعالى لا يعبأ بهم ولا يبالي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب لجميع المكلفين بعد أن حكى سبحانه لرسوله صلّى الله عليه وسلّم تعلل اليهود بالأباطيل واقتراحهم الباطل تعنتا، ورد جل شأنه عليهم بما رد وأكد ذلك بما أكد، وفي توجيه الخطاب إليهم وأمرهم بالإيمان مشفوعا بالوعد والوعيد بعد تنبيه على أن المحجة قد وضحت والحجة قد لزمت فلم يبق لأحد عذر في القبول، وقيل: الخطاب لأهل مكة لأن الخطاب- بيا أيها الناس- أينما وقع لهم، ولا يخفى أن التعميم أولى، وما ذكر في حيز الاستدلال، وإن روي عن بعض السلف أغلبي، وقيل: هو للكفار مطلقا إبقاء للأمر على ظاهره، ولم يحتج إلى حمله على ما يعم الأحداث والثبات قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ يعني به محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وإيراده عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة لتأكيد وجوب طاعته بِالْحَقِّ أي متلبسا به، وفسر بالقرآن، وبدين الإسلام وبشهادة التوحيد، وجوز أن تكون الباء للتعدية أو للسببية متعلقة- بجاء- أي جاءكم بسبب إقامة الحق، وقوله سبحانه: مِنْ رَبِّكُمْ متعلق إما بالفعل أيضا أو بمحذوف وقع حالا من الحق أي جاءكم به من عند الله تعالى، أو كائنا منه سبحانه، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين للإيذان بأن ذلك لتربيتهم وتبليغهم إلى كمالهم اللائق بهم ترغيبا لهم في الامتثال لما بعد من الأمر كما أن في ذكر الجملة تمهيدا لما يعقبها من ذلك وقيل: إنها تكرير للشهادة وتقرير للمشهود به وتمهيد لما ذكر فَآمِنُوا أي بالرسول صلّى الله عليه وسلّم وبما جاء به من الحق، والفاء للدلالة على إيجاب ما قبلها لما بعدها، وقوله سبحانه: خَيْراً لَكُمْ منصوب بفعل محذوف وجوبا تقديره وافعلوا أو ائتوا خيرا لكم، وإلى هذا ذهب الخليل وسيبويه، وذهب الفراء إلى أنه نعت لمصدر محذوف أي إيمانا خيرا لكم، وأورد عليه أنه يقتضي أن الإيمان ينقسم إلى خير وغيره، ودفع بأنه صفة مؤكدة، وأن مفهوم الصفة قد لا يعتبر، وعلى القول باعتباره قد يقال: إن ذكره تعريض بأهل الكتاب فإن لهم إيمانا ببعض ما يجب الإيمان به كاليوم الآخر مثلا إلا أنه ليس خيرا حيث لم يكن على الوجه المرضي. وذهب الكسائي وأبو عبيد إلى أنه خبر كان مضمرة، والتقدير يكن الإيمان خيرا لكم، ورد بأن كان تحذف مع اسمها دون خبرها إلا في مواضع اقتضته، وأن المقدر جواب شرط محذوف فيلزم حذف الشرط وجوابه إذ التقدير إن تؤمنوا يكن الإيمان خيرا، وأجيب بأن تخصيص حذف كان واسمها في مواضع لا يسلمه هذا القائل وبأن لزوم حذف الشرط وجوابه مبني على أن الجزم بشرط مقدر، وإن قلنا: بأنه بنفس الأمر وأخواته كما هو مذهب لبعض النحاة لم يرد ذلك، ونقل مكي عن بعض الكوفيين أنه منصوب على الحال وهو بعيد وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الموجودات سواء كانت داخلة في حقيقتهما وبذلك يعلم حال أنفسهما على أبلغ وجه وآكده، أو خارجة عنهما مستقرة فيهما من العقلاء وغيرهم ويدخل في ذلك المخاطبون دخولا أوليا أي كل ذلك له تعالى خلقا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 وملكا وتصرفا، ولا يخرج من ملكوته وقهره ذرة فما دونها، والجملة دليل الجواب أقيم مقامه لأن مضمونها مقرر قبل كفرهم فلا يصلح للجواب، والتقدير وإن تكفروا فهو سبحانه قادر على تعذيبكم بكفرهم لأن له جل شأنه ما في السموات والأرض، أو فهو غني عنكم لا يتضرر بكفركم كما لا ينتفع بإيمانكم، وقال بعضهم: التقدير «وإن تكفروا» فقد كابرتم عقولكم. فَإِنَّ لِلَّهِ سبحانه ما له مما يدل على ما ينافي حالكم واعتقادكم فكيف يتأتى الكفر به مع ذلك، وقيل: التقدير وَإِنْ تَكْفُرُوا فإن عبيدا غيركم لا يكفرون بل يعبدونه وينقادون لأمره، ولا يخلو عن بعد. وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بأحوال، كل ويدخل في ذلك كفرهم دخولا أوليا حَكِيماً في جميع أفعاله وتدبيراته، ويدخل في ذلك كذلك تعذيب من كفر يا أَهْلَ الْكِتابِ تجريد للخطاب وتخصيص له بالنصارى زجرا لهم عما هم عليه من الضلال البعيد، وإلى ذلك ذهب أبو علي الجبائي وأبو مسلم وجماعة من المفسرين، وعن الحسن أنه خطاب لهم ولليهود لأن الغلو أي مجاوزة الحد والإفراط المنهي عنه في قوله تعالى: لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وقع منهم جميعا، أما النصارى، فقال بعضهم: عيسى عليه السلام ابن الله عز وجل، وبعضهم أنه الله سبحانه، وآخرون ثالث ثلاثة وأما اليهود فقالوا: إنه عليه السلام ولد لغير رشده، ورجح ما عليه الجماعة بأن قول اليهود قد نعى فيما سبق وبأنه أوفق بما بعد وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ أي لا تذكروا ولا تعتقدوا إلا القول الحق دون القول المتضمن لدعوى الاتحاد والحلول واتخاذ الصاحبة والولد والاستثناء مفرغ، وهو متصل عند الأكثرين. وادعى بعض أن المراد من الحق هنا تنزيهه تعالى عن الصاحبة والولد، والأشبه بالاستثناء الانقطاع لأن التنزيه لا يكون مقولا عليه بل له وفيه لأن معنى قال عليه افترى وهو مخالف لما عليه الأكثر في الاستثناء المفرغ فافهم إِنَّمَا الْمَسِيحُ بالتخفيف، وقد مر معناه، وقرىء المسيح بكسر الميم وتشديد السين كالسكيت وهو مبتدأ، وقوله تعالى: عِيسَى بدل منه أو عطف بيان له- كما قال أبو البقاء وغيره- وقوله تعالى: ابْنُ مَرْيَمَ صفة له مفيدة بطلان ما زعموه فيه من نبوته عليه السلام له عز وجل، وقوله سبحانه: رَسُولُ اللَّهِ خبر المبتدأ والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل النهي عن القول الباطل المستلزم للأمر بضده أي أنه عليه السلام مقصور على رتبة الرسالة لا يتخطاها إلى ما تقولون وَكَلِمَتُهُ عطف على رَسُولُ اللَّهِ ومعنى كونه «كلمة» أنه حصل بكلمة كن من غير مادة معتادة، وإلى ذلك ذهب الحسن وقتادة. وقال الغزالي قدس سره: لكل مولود سبب قريب وبعيد، فالأول المني والثاني قول كن، ولما دل الدليل على عدم القريب في حق عيسى عليه السلام أضافه إلى البعيد، وهو قول كن إشارة إلى انتفاء القريب، وأوضحه بقوله سبحانه: أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ أي أوصلها إليها وحصلها فيها، فجعله كالمني الذي يلقى في الرحم فهو استعارة، وقيل: معناه أنه يهتدي به كما يهتدي بكلام الله تعالى، وروي ذلك عن أبي علي الجبائي، وقيل: معناه بشارة الله تعالى التي بشر بها مريم عليها السلام على لسان الملائكة كما قال سبحانه: إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ [آل عمران: 45] وجملة أَلْقاها حال على ما قيل: من الضمير المجرور في كَلِمَتُهُ بتقدير قد والعامل فيها معنى الإضافة، والتقدير- وكملته ملقيا إياها- وقيل: حال من ضميره عليه السلام المستكن فيما دل عليه وَكَلِمَتُهُ من معنى المشتق الذي هو العامل فيها، وقيل: حال من فاعل كان مقدرة مع إذ المتعلقة بالكلمة باعتبار أن المراد بها المكون، والتقدير إذ كان أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ عطف على ما قبله وسمي عليه السلام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 روحا لأنه حدث عن نفخة جبرائيل عليه السلام في درع مريم عليها السلام بأمره سبحانه، وجاء تسمية النفخ روحا في كلامهم، ومنه قول ذي الرمة في نار وأحيها بروحك. ومن- متعلقة بمحذوف وقع صفة لروح، وهي لابتداء الغاية مجازا لا تبعيضية كما زعمت النصارى. يحكى أن طبيبا نصرانيا حاذقا للرشيد ناظر علي بن الحسين الواقدي المروزي ذات يوم فقال له: إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى عليه السلام جزء منه تعالى، وتلا هذه الآية، فقرأ الواقدي قوله تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ [الجاثية: 13] فقال: إذن يلزم أن يكون جميع الأشياء جزءا منه سبحانه وتعالى علوا كبيرا فانقطع النصراني فأسلم، وفرح الرشيد فرحا شديدا، ووصل الواقدي بصلة فاخرة، وقيل: سمي روحا لأن الناس يحيون به كما يحيون بالأرواح، وإلى ذلك ذهب الجبائي، وقيل: الروح هنا بمعنى الرحمة كما في قوله تعالى: وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة: 22] على وجه، وقيل: أريد بالروح الوحي الذي أوحي إلى مريم عليها السلام بالبشارة، وقيل: جرت العادة بأنهم إذا أرادوا وصف شيء بغاية الطهارة والنظافة قالوا: إنه روح فلما كان عيسى عليه السلام متكونا من النفخ لا من النطفة وصف بالروح، وقيل: أريد بالروح السر كما يقال: روح هذه المسألة كذا أي أنه عليه السلام سر من أسرار الله تعالى وآية من آياته سبحانه، وقيل: المراد ذو روح على حذف المضاف، أو استعمال الروح في معنى ذي الروح، والإضافة إلى الله تعالى للتشريف، ونظير ذلك ما في التوراة إن موسى عليه السلام رجل الله وعصاه قضيب الله. وأورشليم بيت الله، وقيل: المراد من الروح جبريل عليه السلام، والعطف على الضمير المستكن في أَلْقاها والمعنى ألقاها الله تعالى وجبريل إلى مريم، ولا يخفى بعده وعلى العلات لا حجة للنصارى على شيء مما زعموا في تشريف عيسى عليه السلام بنسبة الروح إليه لغيره عليه السلام مشاركة له في ذلك، ففي إنجيل لوقا قال يسوع لتلاميذه: إن أباكم السماوي يعطي روح القدس الذين يسألونه، وفي إنجيل متى: إن يوحنا المعمداني امتلأ من روح القدس وهو في بطن أمه، وفي التوراة: قال الله تعالى لموسى عليه السلام اختر سبعين من قومك حتى أفيض عليهم من الروح التي عليك فيحملوا عنك ثقل هذا النعت، ففعل فأفاض عليهم من روحه فتبنوا لساعتهم، وفيها في حق يوسف عليه السلام يقول الملك: هل رأيتم مثل هذا الفتى الذي روح الله تعالى عز وجل فيه، وفيها أيضا: إن روح الله تعالى حلت على دانيال إلى غير ذلك. ولعل الروح في جميع ذلك أمر قدسي وسر إلهي يفيضه الله تعالى على من يشاء من عباد حسبما يشاء وفي أي وقت يشاء، وإطلاق ذلك على عيسى عليه السلام من باب المبالغة على حد ما قيل في زيد: عدل، وليس المراد به الروح الذي به الحياة أصلا، وقد يظهر ذلك بصورة كما يظهر القرآن بصورة الرجل الشاحب، والموت بصورة الكبش، ويؤيد ذلك في الجملة ما في إنجيل متى في تمام الكلام على تعميد عيسى عليه السلام: إن يسوع لما تعمد وخرج من الماء انفتحت له أبواب السماء ونظر روح الله تعالى جاءت له في صفة حمامة وإذا بصوت من السماء هذا ابن الحبيب الذي سرت به نفسي فإنه على تقدير صحته يهدم ما يزعمه النصارى من أنه عليه السلام تجسد بروح القدس في بطن أمه: وما فيه من وصفه عليه السلام بالنبوة سيأتي إن شاء الله تعالى الجواب عنه. فَآمِنُوا بِاللَّهِ وخصوه بالألوهية وَرُسُلِهِ أجمعين ولا تخرجوا أحدا منهم إلى ما يستحيل وصفه به من الألوهية وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ أي الآلهة ثلاثة: الله سبحانه، والمسيح، ومريم كما ينبىء عنه قوله تعالى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة: 116] إذ معناه «إلهين» غير الله تعالى فيكونون معه ثلاثة. وحكي هذا التقدير عن الزجاج، أو الله سبحانه ثلاثة إن صح عنهم أنهم يقولون: الله تعالى جوهر واحد ثلاثة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 أقانيم، أقنوم الأب، وأقنوم الابن، وأقنوم روح القدس، وأنهم يريدون بالأول الذات أو الوجود، وبالثاني العلم أي الكلمة، وبالثالث الحياة كذا قيل، وتحقيق الكلام في هذا المقام على ما ذكره بعض المحققين أن النصارى اتفقوا على أن الله تعالى جوهر بمعنى قائم بنفسه غير متحيز. ولا مختص بجبهة، ولا مقدر بقدر ولا يقبل الحوادث بذاته ولا يتصور عليه الحدوث والعدم، وأنه واحد بالجوهرية، ثلاثة بالأقنومية، والأقانيم صفات للجوهر القديم، وهي الوجود والعلم والحياة، وعبروا عن الوجود بالأب والحياة بروح القدس والعلم بالكلمة. ثم اختلفوا فذهب الملكانية أصحاب ملكا الذي ظهر بالروم واستولى عليها إلى أن الأقانيم غير الجوهر القديم، وأن كل واحد منها إله، وصرحوا بإثبات التثليث، وقالوا: إن الله ثالث ثلاثة سبحانه وتعالى عما يشركون، وأن الكلمة اتحدت بجسد المسيح وتدرعت بناسوته وامتزجت به امتزاج الماء بالخمر وانقلبت الكثرة وحدة وأن المسيح ناسوت كلي لا جزئي وهو قديم أزلي، وأن مريم ولدت إلها أزليا مع اختلافهم في مريم أنها إنسان كلي أو جزئي، واتفقوا على أن اتحاد اللاهوت بالمسيح دون مريم، وأن القتل والصلب وقع على الناسوت واللاهوت معا، وأطلقوا لفظ الأب على الله تعالى، والابن على عيسى عليه السلام، وذهب نسطور الحكيم- في زمان المأمون- إلى أن الله تعالى واحد والأقانيم الثلاثة ليست غير ذاته ولا نفس ذاته، وأن الكلمة اتحدت بجسد المسيح لا بمعنى الامتزاج بل بمعنى الإشراق أي أشرقت عليه كإشراق الشمس من كوة على بلور. ومن النسطورية من قال: إن كل واحد من الأقانيم الثلاثة حي ناطق موجود، وصرحوا بالتثليث كالملكانية، ومنهم من منع ذلك، ومنهم من أثبت صفات أخر كالقدرة والإرادة ونحوها لكن لم يجعلوها أقانيم، وزعموا أن الابن لم يزل متولدا من الأب وإنما تجسده وتوحده بجسد المسيح حين ولد، والحدوث راجع إلى الناسوت، فالمسيح إله تام وإنسان تام، وهما قديم وحادث، والاتحاد غير مبطل لقدم القديم ولا لحدوث الحادث. وقالوا: إن الصلب ورد على الناسوت دون اللاهوت، وذهب بعض اليعقوبية إلى أن الكلمة انقلبت لحما ودما فصار الإله هو المسيح، وقالوا: إن الله هو المسيح عيسى ابن مريم، ورووا عن يوحنا الإنجيلي أنه قال في صدر إنجيله: إن الكلمة صارت جسدا وحلت فينا، وقال: في البدء كانت الكلمة والكلمة عند الله والله تعالى هو الكلمة، ومنهم من قال: ظهر اللاهوت بالناسوت بحيث صار هو هو وذلك كظهور الملك في الصورة المشار إليه بقوله تعالى: فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا [مريم: 17] ومنهم من قال: جوهر الإله القديم وجوهر الإنسان المحدث تركبا تركب النفس الناطقة مع البدن وصارا جوهرا واحدا، وهو المسيح، وهو الإله، ويقولون صار الإله إنسانا وإن لم يصر الإنسان إلها كما يقال في الفحمة الملقاة في النار صارت نارا، ولا يقال: صارت النار فحمة، ويقولون: إن اتحاد اللاهوت بالإنسان الجزئي دون الكلي، وإن مريم ولدت إلها وإن القتل والصلب واقع على اللاهوت والناسوت جميعا إذ لو كان على أحدهما بطل الاتحاد، ومنهم من قال: المسيح مع اتحاد جوهره قديم من وجه، محدث من وجه، ومن اليعقوبية من قال: إن الكلمة لم تأخذ من مريم شيئا وإنما مرت بها كمرور الماء بالميزاب، ومنهم من زعم أن الكلمة كانت تداخل جسد المسيح فتصدر عنه الآيات التي كانت تظهر عنه وتفارقه تارة فتحله الآفات والآلام، ومن النصارى من زعم أن معنى اتحاد اللاهوت بالناسوت ظهور اللاهوت على الناسوت وإن لم ينتقل من اللاهوت إلى الناسوت شيء ولا حل فيه، وذلك كظهور نقش الطابع على الشمع والصورة المرئية في المرآة، ومنهم من قال: إن الوجود والكلمة قديمان والحياة مخلوقة ومنهم من قال إن الله تعالى واحد وسماه أبا وأن المسيح كلمة الله تعالى وابنه على طريق الاصطفاء وهو مخلوق قبل العالم وهو خالق للأشياء كلها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 وحكى المؤرخون وأصحاب النقل أن أريوس أحد كبار النصارى كان يعتقد هو وطائفته توحيد الباري ولا يشرك معه غيره ولا يرى في المسيح ما يراه النصارى بل يعتقد رسالته وأنه مخلوق بجسمه وروحه ففشت مقالته في النصرانية فتكاتبوا واجتمعوا بمدينة نيقية عند الملك قسطنطين وتناظروا فشرح أريوس مقالته، فرد عليه الاكصيدروس بطريق الإسكندرية وشنع على مقالته عند الملك، ثم تناظروا فطال تنازعهم فتعجب الملك من انتشار مقالتهم وكثرة اختلافهم وقام لهم البترك وأمرهم أن يبحثوا عن القول المرضي فاتفق رأيهم على شيء فحرروه وسموه بالأمانة وأكثرهم اليوم عليها، وهي نؤمن بالله تعالى الواحد الأب صانع كل شيء. مالك كل شيء، صانع ما يرى وما لا يرى، وبالرب الواحد المسيح ابن الله تعالى الواحد بكر الخلائق كلها الذي ولد من أبيه قبل العوالم كلها وليس بمصنوع، إله حق. من إله حق، من جوهر أبيه الذي بيده أتقنت العوالم وخلق كل شيء الذي من أجلنا معاشر الناس، ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس ومريم وصار إنسانا وحبل به وولد من مريم البتول واتجع، وصلب أيام فيلاطس ودفن وقام في اليوم الثالث- كما هو مكتوب- وصعد إلى السماء وجلس على يمين أبيه وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء، ونؤمن بروح القدس الواحد روح الحق الذي يخرج من أبيه وبعمودية واحدة لغفران الخطايا، والجماعة واحدة قدسية كاطولكية وبالحياة الدائمة إلى أبد الآبدين انتهى. وهذه جملة الأقاويل وما لهؤلاء الكفرة من الأباطيل وهي مع مخالفتها للعقول ومزاحمتها للأصول مما لا مستند لها ولا معول لهم فيها غير التقليد لأسلافهم والأخذ بظواهر ألفاظ لا يحيطون بها علما على أن ما سموه أمانة لا أصل له في شرع الإنجيل ولا مأخوذة من قول المسيح ولا من أقوال تلاميذه، وهو مع ذلك مضطرب متناقض متهافت يكذب بعضه بعضا ويعارضه ويناقضه، وإذ قد علمت ذلك فاستمع لما يتلى عليك في ردهم تتميما للفائدة وتأكيدا لإبطال تلك العقائد الفاسدة، أما قولهم: بأن الله تعالى جوهر بالمعنى المذكور فلا نزاع لنا معهم فيه من جهة المعنى بل من جهة الإطلاق اللفظي سمعا، والأمر فيه هين، وأما حصرهم الأقانيم في ثلاثة: صفة الوجود، وصفة الحياة، وصفة العلم فباطل لأنه بعد تسليم أن صفة الوجود زائدة لو طولبوا بدليل الحصر لم يجدوا إليه سبيلا سوى قولهم: بحثنا فلم نجد غير ما ذكرناه وهو غير يقيني كما لا يخفى، ثم هو باطل بما تحقق في موضعه من وجوب صفة القدرة والإرادة والسمع والبصر فإن قالوا: الأقانيم هي خواص الجوهر وصفات نفسه، ومن حكمها أن تلزم الجوهر ولا تتعداه إلى غيره وذلك متحقق في الوجود والحياة إذ لا تعلق لوجود الذات القديمة وحياتها بغيرها، وكذلك العلم إذ العلم مختص بالجوهر من حيث هو معلوم به، وهذا بخلاف القدرة، والإرادة فإنهما لا اختصاص لهما بالذات القديمة بل يتعلقان بالغير مما هو مقدور، ومراد، والذات القديمة غير مقدورة ولا مرادة وأيضا فإن الحياة تجزيء عن القدرة والإرادة من حيث إن الحي لا يخلو عنهما بخلاف العلم فإنه قد يخلو عنه، ولأنه يمتنع أجزاء الحياة عن العلم لاختصاص الحياة بامتناع جريان المبالغة والتفضيل بخلاف العلم، قلنا: أما قولهم: إن الوجود والحياة مختصة بذات القديم- ولا تعلق لهما بغيره- فمسلم، ولكن يلزم عليه أن لا يكون العلم أقنوما لتعلقه بغير ذات القديم إذ هو معلوم به فلئن قالوا: العلم إنما كان أقنوما من حيث كان متعلقا بذات القديم لا من حيث كان متعلقا بغيره فيلزمهم أن يكون البصر أقنوما لتعلقه بذات القديم من حيث إنه يرى نفسه ولم يقولوا به، ويلزمهم من ذلك أن يكون بقاء ذات الله تعالى أقنوما لاختصاص البقاء بنفسه وعدم تعلقه بغيره كما في الوجود والحياة، فلئن قالوا: البقاء هو نفس الوجود فيلزم أن يكون الموجود في زمان حدوثه باقيا وهو محال. وقولهم: بأن الإرادة تجزىء عن القدرة والإرادة إما أن يريدوا به أن القدرة والإرادة نفس الحياة، أو أنهما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 خارجتان عنها لازمتان لها لا تفارقانها، فإن كان الأول فقد نقضوا مذهبهم حيث قالوا: إن الحياة أقنوم لاختصاصها بجوهر القديم، والقدرة والإرادة غير مختصتين بذات القديم تعالى، وذلك مشعر بالمغايرة ولا اتحاد معها، وإن قالوا: إنها لازمة لها مع المغايرة فهو ممنوع فإنه كما يجوز خلو الحي، عن العلم، فكذلك قد يجوز خلوه عن القدرة والإرادة كما في حالة النوم والإغماء مثلا، وقولهم: إنه يمتنع اجزاء الحياة عن العلم لاختصاص العلم بالمبالغة والتفضيل، فيلزم منه أن لا تكون مجزئة عن القدرة أيضا لاختصاصها بهذا النوع من المبالغة والتفضيل، وأما قولهم: بأن الكلمة حلت في المسيح وتدرعت به فهو باطل من وجهين. الأول أنه قد تحقق امتناع حلول صفة القديم في غيره، الثاني أنه ليس القول بحلول الكلمة أولى من القول بحلول الروح وهي الحياة، ولئن قالوا: إنما استدللنا على حلول العلم فيه لاختصاصه بعلوم لا يشاركه فيها غيره، قلنا: أولا لا نسلم ذلك. فقد روى النصارى أنه عليه السلام سئل عن القيامة فلم يجب، وقال لا يعرفها إلا الله تعالى وحده، وثانيا سلمنا لكنه قد اختص عندكم بإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وبأمور لا يقدر عليها غيره من المخلوقين بزعمكم، والقدرة عندكم في حكم الحياة إما بمعنى أنها عينها أو ملازمة لها فوجب أن يقال: بحلول الحياة فيه ولم تقولوا به. وأما قول الملكانية بالتثليث في الآلهة، وأن كل أقنوم إله فلا يخلو إما أن يقولوا: إن كل واحد متصف بصفات الإله تعالى من الوجود والحياة والعلم والقدرة وغير ذلك من الصفات أو ألا يقولوا به، فإن قالوا به فهو خلاف أصلهم، وهو مع ذلك ممتنع لقيام الأدلة على امتناع إلهين، وأيضا فإنهم إما أن يقولوا: بأن جوهر القديم أيضا إله أو ألا يقولوا فإن كان الأول فقد أبطلوا مذهبهم فإنهم مجمعون على الثالوث، وبقولهم هذا يلزم التربيع، وإن كان الثاني لم يجدوا إلى الفرق سبيلا مع أن جوهر القديم أصل والأقانيم صفات تابعة، فكان أولى أن يكون إلها، وإن قالوا بالثاني فحاصله يرجع إلى منازعة لفظية، والمرجع فيها إلى ورود الشرع بجواز إطلاق ذلك، وأما قولهم: بأن الكلمة امتزجت بجسد المسيح فيبطله امتناع حلول صفات القديم بغير ذات الله تعالى، ودعواهم الاتحاد ممتنعة من جهة الدلالة والإلزام، أما الأول فإنهما عند الاتحاد إما أن يقال: ببقائهما أو بعدمهما أو ببقاء أحدهما وعدم الآخر، أما على التقدير الأول فهما اثنان كما كانا، وإن كان الثاني فالواحد الموجود غيرهما وإن كان الثالث فلا اتحاد للاثنينية وعدم أحدهما، وأما على التقدير الثاني فمن أربعة أوجه: الأول أنه إذا جاز أقنوم الجوهر القديم بالحادث، فما المانع من اتحاد صفة الحادث بالجوهر القديم؟ فلئن قالوا المانع أن اتحاد صفة الحادث بالجوهر القديم يوجب نقصه وهو ممتنع، واتحاد صفة القديم بالحادث يوجب شرفه، وشرف الحادث بالقديم غير ممتنع، قلنا: فكما أن ذات القديم تنقص باتحاد صفة الحادث بها فالأقنوم القديم ينقص باتحاده بالناسوت الحادث فليكن ذلك ممتنعا، الثاني أنه قد وقع الاتفاق على امتناع اتحاد أقنوم الجوهر القديم بغير ناسوت المسيح فما الفرق بين ناسوت وناسوت؟ فلئن قالوا: إنما اتحد بالناسوت الكلي دون الجزئي رددناه بما ستعلمه قريبا إن شاء الله تعالى، الثالث أن مذهبهم أن الأقانيم زائدة على ذات الجوهر القديم مع اختصاصها به ولم يوجب قيامها به الاتحاد فأن لا يوجب اتحاد الأقنوم بالناسوت أولى. الرابع أن الإجماع منعقد على أن أقنوم الجوهر القديم مخالف للناسوت كما أن صفة نفس الجوهر تخالف نفس العرض، وصفة نفس العرض تخالف الجوهر، فإن قالوا: بجواز اتحاد صفة الجوهر بالعرض أو صفة العرض بالجوهر حتى أنه يصير الجوهر في حكم العرض والعرض في حكم الجوهر، فقد التزموا محالا مخالفا لأصولهم، وإن قالوا: بامتناع اتحاد صفة نفس الجوهر بالعرض ونفس العرض بالجوهر مع أن العرض والجوهر أقبل للتبدل والتغير فلأن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 يمتنع في القديم والحادث أولى، وقولهم إن المسيح إنسان كلي باطل من أربعة أوجه: الأول أن الإنسان الكلي لا اختصاص له بجزئي دون جزئي من الناس، وقد اتفقت النصارى أن المسيح مولود من مريم عليهما السلام، وعند ذلك فإما أن يقال: إن إنسان مريم أيضا كلي- كما حكي عن بعضهم- أو جزئي، فإن كان كليا فإما أن يكون هو عين إنسان المسيح أو غيره، فإن كان عينه لزم أن يولد الشيء من نفسه وهو محال، ثم يلزم أن يكون المسيح مريم ومريم المسيح ولم يقل به أحد، وإن كان غيره فالإنسان الكلي ما يكون عاما مشتركا بين جميع، وطبيعته جزء من معنى كل إنسان، ويلزم من ذلك أن يكون إنسان المسيح بطبيعته جزء من مفهوم إنسان مريم وبالعكس وذلك محال، وإن كان إنسان مريم جزئيا فمن ضرورة كون المسيح مولودا عنها أن يكون الكلي الصالح لاشتراك الكثرة منحصرا في الجزئي الذي لا يصلح لذاته وهو ممتنع، الثاني أن النصارى مجمعون على أن المسيح كان مرئيا ومشارا إليه، والكلي ليس كذلك. الثالث أنهم قائلون: إن الكلمة حلت في المسيح إما بجهة الاتحاد أولا بجهة الاتحاد. فلو كان المسيح إنسانا كليا لما اختص به بعض أشخاص الناس دون البعض ولما كان المولود من مريم مختصا بحلول الكلمة دون غيره ولم يقولوا به، الرابع أن الملكانية متفقون على أن القتل وقع على اللاهوت والناسوت، ولو كان ناسوت المسيح كليا لما تصور وقوع الجزئي عليه. وأما ما ذهب إليه نسطور من أن الأقانيم ثلاثة، فالكلام معه في الحصر على طرز ما تقدم، وقوله: ليست عين ذاته ولا غير ذاته فإن أراد بذلك ما أراد به الأشعري في قوله: إن الصفات لا عين ولا غير فهو حق، وإن أراد غيره فغير مفهوم وأما تفسيره العلم بالكلمة، فالنزاع معه- في هذا الإطلاق- لفظي، ثم لا يخلو إما أن يريد بالكلمة الكلام النفسي أو الكلام اللساني، والكلام في ذلك معروف وقوله: إن الكلمة اتحدت بالمسيح بمعنى أنها أشرقت عليه لا حاصل له لأنه إما أن يريد إشراق الكلمة عليه عليه السلام ما هو مفهوم من مثاله، وهو أن يكون مطرحا لشعاعها عليه، أو يريد أنها متعلقة به كتعلق العلم القديم بالمعلومات، أو يريد غير ذلك فإن كان الأول يلزم أن تكون الكلمة ذات شعاع، وفي جهة من مطرح شعاعها، ويلزم من ذلك أن تكون جسما، وأن لا تكون صفة للجوهر القديم وهو محال، وإن كان الثاني فهو حق غير أن تعلق الأقنوم بالمسيح بهذا التفسير لا يكون خاصة، وإن كان الثالث فلا بدّ من تصويره ليتكلم عليه. وأما قول بعض النسطورية: إن كل واحد من الأقانيم الثلاثة إله حي ناطق فهو باطل بأدلة إبطال التثليث، وأما من أثبت منهم لله تعالى صفات أخر كالقدرة والإرادة ونحوهما فقد أصاب خلا أن القول بإخراجها عن كونها من الأقانيم مع أنها مشاركة لها في كونها من الصفات تحكم بحت، والفرق الذي يستند إليه باطل كما علمت وأما قولهم: إن المسيح إنسان تام وإله تام، وهما جوهران: قديم وحادث، فطريق ردّه من وجهين الأول التعرض لإبطال كون الأقنوم المتحد بجسد المسيح إلها وذلك بأن يقال: إما أن يقولوا: بأن ما اتحد بجسد المسيح هو إله فقط أو أن كل أقنوم إله كما ذهبت إليه الملكانية، فإن كان الأول فهو ممتنع لعدم الأولوية، وإن كان الثاني فهو ممتنع أيضا لما تقدم، الثاني أنه إذا كان المسيح مشتملا على الأقنوم والناسوت الحادث فإما أن يقولوا: بالاتحاد، أو بحلول الأقنوم في الناسوت، أو حلول الناسوت في الأقنوم، أو أنه لا حلول لأحدهما في الآخر، فإن كان الأول فهو باطل بما سبق في إبطال الاتحاد، وإن كان الثاني فهو باطل بما يبطل حلول الصفة القديمة في غير ذات الله تعالى، وحلول الحادث في القديم، وإن كان الثالث، فإما أن يقال: بتجاورهما واتصالهما أولا، فإن قيل: بالأول فإما أن يقال: بانفصال الأقنوم القديم عن الجوهر الحادث أو لا يقال به، فإن قيل: بالانفصال فهو ممتنع لوجهين الأول ما يدل على إبطال انتقال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 الصفة عن الموصوف، الثاني أنه يلزم منه قيام صفة حال مجاورتها للناسوت بنفسها وهو محال، وإن لم يقل بانفصال الأقنوم عن الجوهر القديم يلزم منه أن يكون ذات الجوهر القديم متصلة بجسد المسيح ضرورة اتصال أقنومها به، وعند ذلك فليس اتحاد الأقنوم بالناسوت أولى من اتحاد الجوهر القديم به ولم يقولوا بذلك، وإن لم يقل بتجاورهما واتصالهما فلا معنى للاتحاد بجسد المسيح، وليس القول بالاتحاد مع عدم الاتصال بجسد المسيح أولى من العكس، وأما قول من قال منهم: إن الإله واحد، وإن المسيح ولد من مريم وإنه عبد صالح مخلوق إلا أن الله تعالى شرفه بتسميته ابنا فهو كما يقول الموحدون، ولا خلاف معهم في غير إطلاق اسم الابن، وأما قول بعض اليعقوبية: إن الكلمة انقلبت لحما ودما وصار الإله هو المسيح فهو أظهر بطلانا مما تقدم وبيانه من وجهين: الأول أنه لو جاز انقلاب الأقنوم لحما ودما مع اختلاف حقيقتيهما لجاز انقلاب المستحيل ممكنا والممكن مستحيلا والواجب ممكنا أو ممتنعا والممكن- أو الممتنع- واجبا، ولم يبق لأحد وثوق بشيء من القضايا البديهية، ولجاز انقلاب الجوهر عرضا والعرض جوهرا، واللحم والدم أقنوما، والأقنوم ذاتا، والذات أقنوما، والقديم حادثا والحادث قديما، ولم يقل به أحد من العقلاء، الثاني أنه لو انقلب الأقنوم لحما ودما، فإما أن يكون هو عين الدم واللحم اللذين كانا للمسيح، أو زائدا عليه منضما إليه، والأول ظاهر الفساد، والثاني لم يقولوا به وأما ما نقل عن يوحنا من قوله: في البدء كانت الكلمة والكلمة عند الله والله هو الكلمة، فهو مما انفرد به ولم يوجد في شيء من الأناجيل، والظاهر أنه كذب، فإنه بمنزلة قول القائل: الدينار عند الصيرفي والصيرفي هو الدينار، ولا يكاد يتفوه به عاقل، وكذا قوله: إن الكلمة صارت جسدا وحلت فينا غير مسلم الثبوت، وعلى تقدير تسليمه يحتمل التقديم والتأخير. أي إن الجسد الذي صار بالتسمية كلمة حل فينا، وعنى بذلك الجسد عيسى عليه السلام، ويحتمل أنه أشار بذلك إلى بطرس، كبير التلاميذ ووصي المسيح، فإنه أقام بعده عليه السلام بتدبير دينه وكانت النصارى تفزع إليه على ما تشهد به كتبهم، فكأنه يقول: إن ذهبت الكلمة أي عيسى الذي سماه الله تعالى بذلك من بيننا فإنها لم تذهب حتى صارت جسدا وحل فينا، يريد أن تدبيرها حاضر في جسد بيننا وهو بطرس. ومن الناس من خرج كلامه على إسقاط همزة الإنكار عند إخراجه من العبراني إلى اللسان العربي، والمراد أصارت وفيه بعد، ومن العجب العجيب أن يوحنا ذكر أن المسيح قال لتلاميذه: إن لم تأكلوا جسدي وتشربوا دمي فلا حياة لكم بعدي لأن جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق، ومن يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وأثبت فيه، فلما سمع تلاميذه هذه الكلمة قالوا: ما أصعبها من يطيق سماعها فرجع كثير منهم عن صحبته، فإن هذا مع قوله: إن الله سبحانه هو الكلمة والكلمة صارت جسدا في غاية الإشكال إذ فيه أمر الحادث بأكل الله تعالى القديم الأزلي وشربه، والحق أن شيئا من الكلامين لم يثبت، فلا نتحمل مؤنة التأويل. وأما قولهم: إن اللاهوت ظهر بالناسوت فصار هو هو، فإما أن يريدوا به أن اللاهوت صار عين الناسوت كما يصرح به قولهم: صار هو هو، فيرجع إلى تجويز انقلاب الحقائق وهو محال كما علمت وإما أن يريدوا به أن اللاهوت اتصف بالناسوت فهو أيضا محال لما ثبت من امتناع حلول الحادث بالقديم، أو أن الناسوت اتصف باللاهوت وهو أيضا محال لامتناع حلول القديم بالحادث، وأما من قال منهم: بأن جوهر الإله القديم وجوهر الإنسان المحدث تركبا وصارا جوهرا واحدا هو المسيح فباطل من وجهين: الأول ما ذكر من إبطال الاتحاد، الثاني أنه ليس جعل الناسوت لاهوتا بتركبه مع اللاهوت أولى من جعل اللاهوت ناسوتا من جهة تركبه مع الناسوت ولم يقولوا به، وأما جوهر الفحمة إذا ألقيت في النار فلا نسلم أنه صار بعينه جوهر النار بل صار مجاورا لجوهر النار، وغايته أن بعض صفات جوهر الفحمة وأعراضها بطلت بمجاورة جوهر النار، أما إن جوهر أحدهما صار جوهر الآخر فلا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 وأما قولهم: إن الاتحاد بالناسوت الجزئي دون الكلي فمحال لأدلة إبطال الاتحاد وحلول القديم بالحادث وبذلك يبطل قولهم: إن مريم ولدت إلها، وقولهم: القتل وقع على اللاهوت والناسوت معا على أنه يوجب موت الإله وهو بديهي البطلان، وأما قول من قال: إن المسيح مع اتحاد جوهره قديم من وجه محدث من وجه فباطل لأنه إذا كان جوهر المسيح متحدا لا كثرة فيه، فالحدوث إما أن يكون لعين ما قيل بقدمه، أو لغيره فإن كان الأول فهو محال وإلا لكان الشيء الواحد قديما لا أول له حادثا له أول وهو متناقض، وإن كان الثاني فهو خلاف المفروض، وأما قول من قال: إن الكلمة مرت بمريم كمرور الماء في الميزاب فيلزم منه انتقال الكلمة وهو ممتنع كما لا يخفى، وبه يبطل قول من قال: إن الكلمة كانت تدخل جسد المسيح تارة وتفارقه أخرى، وقولهم: إن ما ظهر من صورة المسيح في الناسوت لم يكن جسما بل خيالا كالصورة المرئية في المرآة باطل لأن من أصلهم أن المسيح إنما أحيا الميت وأبرأ الأكمه والأبرص بما فيه من اللاهوت، فإذا كان ما ظهر فيه من اللاهوت لا حقيقة له بل هو خيال محض لا يصلح لحدوث ما حدث عن الإله عنه، والقول: بأن أقنوم الحياة مخلوق حادث ليس كذلك لقيام الأدلة على قدم الصفات فهو قديم أزلي كيف وأنه لو كان حادثا لكان الإله قبله غير حي، ومن ليس بحي لا يكون عالما ولا ناطقا، وقول من قال: إن المسيح مخلوق قبل العالم وهو خالق لكل شيء باطل لقيام الأدلة على أنه كان الله تعالى ولا شيء غيره. وأما الأمانة التي هم بها متقربون وبما حوته متعبدون فبيان اضطرابها وتناقضها وتهافتها من وجوه: الأول أن قولهم: نؤمن بالواحد الأب صانع كل شيء، يناقض قولهم: وبالرب الواحد المسيح إلخ مناقضة لا تكاد تخفى، الثاني أن قولهم: إن يسوع المسيح ابن الله تعالى بكر الخلائق مشعر بحدوث المسيح إذ لا معنى لكونه ابنه إلا تأخره عنه إذ الوالد والولد لا يكونان معا في الوجود وكونهما معا مستحيل ببداهة العقول لأن الأب لا يخلو إما أن يكون ولد ولدا لم يزل أو لم يكن، فإن قالوا: ولد ولدا لم يزل، قلنا: فما ولد شيئا إذ الابن لم يزل وإن ولد شيئا لم يكن، فالولد حادث مخلوق وذلك مكذب لقولهم: إله حق من إله حق من جوهر أبيه وأنه أتقن العوالم بيده وخلق كل شيء، الثالث أن قولهم: إله حق من إله حق من جوهر أبيه يناقضه قول المسيح في الإنجيل: وقد سئل عن يوم القيامة فقال: لا أعرفه ولا يعرفه إلا الأب وحده، فلو كان من جوهر الأب لعلم ما يعلمه الأب على أنه لو جاز أن يكون إله ثان من إله أول لجاز أن يكون إله ثالث من إله ثان ولما وقف الأمر على غاية وهو محال، الرابع أن قولهم: إن يسوع أتقن العوالم بيده وخلق كل شيء باطل مكذب لما في الإنجيل إذ يقول متى: هذا مولد يسوع المسيح ابن داود، وأيضا خالق العالم لا بد وأن يكون سابقا عليه وأنى يسبق المسيح وقد ولدته مريم؟! وأيضا في الإنجيل إن إبليس قال للمسيح: اسجد لي وأعطيك جميع العالم وأملكك كل شيء ولا زال يسحبه من مكان إلى مكان ويحول بينه وبين مراده ويطمع في تعبده له فكيف يكون خالق العالم محصورا في يد بعض العالم؟! نعوذ بالله تعالى من الضلالة. الخامس أن قولهم: المسيح الإله الحق الذي نزل من السماء لخلاص الناس وتجسد من روح القدس وصار إنسانا وحبل به وولد، فيه عدة مفاسد: منها أن المسيح لا يخص مجرد الكلمة ولا مجرد الجسد بل هو اسم يخص هذا الجسد الذي ولدته مريم عليها السلام ولم تكن الكلمة في الأزل مسيحا فبطل أن يكون هو الذي نزل من السماء، ومنها أن الذي نزل من السماء لا يخلو إما أن يكون الكلمة أو الناسوت، فإن زعموا أن الذي نزل هو الناسوت فكذب صراح لأن ناسوته من مريم، وإن زعموا أنه اللاهوت فيقال: لا يخلو إما أن يكون الذات أو العلم المعبر عنه بالكلمة فإن كان الأول لزم لحوق النقائص للباري عز اسمه، وإن كان الثاني لزم انتقال الصفة وبقاء الباري بلا علم وذلك باطل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 ومنها أن قولهم: إنما نزل لخلاص معشر الناس يريدون به أن آدم عليه السلام لما عصى أوثق سائر ذريته في حبالة الشيطان وأوجب عليهم الخلود في النار فكان خلاصهم بقتل المسيح وصلبه والتنكيل به وذلك دعوى لا دلالة عليها، هب أنا سلمناها لهم لكن يقال: أخبرونا مم هذا الخلاص الذي تعنى الإله الأزلي له وفعل ما فعل بنفسه لأجله؟ ولم خلصكم؟ وممن خلصكم؟ وكيف استقل بخلاصكم دون الأب والروح والربوبية بينهم؟ وكيف ابتذل وامتهن في خلاصكم دون الأب والروح؟ فإن زعموا أن الخلاص من تكاليف الدنيا وهمومها أكذبهم الحس، وإن كان من تكاليف الشرع وأنهم قد حط عنهم الصلاة والصوم مثلا أكذبهم المسيح والحواريون بما وضعوه عليهم من التكاليف، وإن زعموا أنهم قد خلصوا من أحكام الدار الآخرة فمن ارتكب محرما منهم لم يؤاخذ أكذبهم الإنجيل والنبوات إذ يقول المسيح في الإنجيل: إني أقيم الناس يوم القيامة عن يميني وشمالي فأقول لأهل اليمين: فعلتم كذا وكذا فاذهبوا إلى النعيم المعد لكم قبل تأسيس الدنيا، وأقول لأهل الشمال: فعلتم كذا وكذا فاذهبوا إلى العذاب المعدّ لكم قبل تأسيس العالم، السادس أن قولهم: وتجسد من روح القدس باطل بنص الإنجيل إذ يقول: متى في الفصل الثاني منه، إن يوحنا المعمداني حين عمد المسيح جاءت روح القدس إليه من السماء في صفة حمامة وذلك بعد ثلاثين من عمره. السابع أن قولهم: إن المسيح نزل من السماء وحملت به مريم وسكن في رحمها مكذب بقول لوقا الإنجيلي إذ يقول في قصص الحواريين في الفصل الرابع عشر منه: إن الله تعالى هو خالق العالم بما فيه وهو رب السماء والأرض لا يسكن الهياكل ولا تناله أيدي الرجال ولا يحتاج إلى شيء من الأشياء لأنه الذي أعطى الناس الحياة، فوجودنا به وحياتنا وحركاتنا منه، فقد شهد لوقا بأن الباري وصفاته لا تسكن الهياكل ولا تناله الرجال بأيديها، وهذا ينافي كون الكلمة سكنت في هيكل مريم وتحولت إلى هيكل المسيح، الثامن أن قولهم: إنه بعد أن قتل وصلب قام من بين الأموات وصعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه من الكذب الفاحش المستلزم للحدوث، التاسع أن قولهم: إن يسوع هذا الرب الذي صلب وقتل مستعد للمجيء تارة أخرى لفصل القضاء بين الأموات والأحياء بمنزلة قول القائل: لألفينك بعد الموت تندبني ... وفي حياتي ما زودتني زادا إذ زعموا أنه في المرة الأولى عجز عن خلاص نفسه حتى تم عليه من أعدائه ما تم فكيف يقدر على خلاصهم بجملتهم في المرة الثانية، العاشر أن قولهم: ونؤمن بمعمودية واحدة لغفران الذنوب فيه مناقضة لأصولهم، وذلك أن اعتقاد النصارى أنه لم تغفر خطاياهم بدون قتل المسيح، ولذلك سموه جمل الله تعالى الذي يحمل عليه الخطايا، ودعوه مخلص العالم من الخطيئة فإذا آمنوا بأن المعمودية الواحدة هي التي تغفر خطاياهم وتخلص من ذنوبهم فقد صرحوا بأنه لا حاجة إلى قتل المسيح لاستقلال المعمودية بالخلاص والمغفرة فإن كان التعميد كافيا للمغفرة فقد اعترفوا أن وقوع القتل عبث وإن كانت لا تحصل إلا بقتله فما فائدة التعميد وما هذا الإيمان؟ فهذه عشرة وجوه كاملة في ردّ تلك الأمانة وإظهار ما لهم فيها من الخيانة، ومن أمعن نظره ردّها بأضعاف ذلك. وقال أبو الفضل المالكي بعد كلام: بطلت أمانتهم فمن مضمونها ... ظهرت خيانتها خلال سطورها بدؤوا بتوحيد الإله وأشركوا ... عيسى به، فالخلف في تعبيرها قالوا: بأن إلههم عيسى الذي ... ذر الوجود على الخليقة كلها خلق أمه قبل الحلول ببطنها ... ما كان أغنى ذاته عن مثلها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 هل كان محتاجا لشرب لبانها ... أو أن يربى في مواطن حجرها جعلوه ربا جوهرا من جوهر ... ذهبوا لما لا يرتضيه أولو النهى قالوا: وجاء من السماء عناية ... لخلاص آدم من لظاه وحرها قد تاب آدم توبة مقبولة ... فضلا لهم جعل الفداء بغيرها لو جاء في ظلل الغمام وحوله ... شرفا ملائكة السماء بأسرها وفدى الذي بيديه أحكم طينه ... بالعفو عن كل الأمور وسترها ثم اجتباه محببا ومفضلا ... ووقاه من غيّ النفوس وشرها كنتم تحلون الإله مقامه ... فيما تراه نفوسكم من شركها من غير أن يحتاج في تلخيصه ... كل الخلائق أن تبوء بضرها ويشينه الأعداء بما لا يرتضي ... من كيدها وبما دهى من مكرها هذي أمانتهم وهذا شرحها ... الله أكبر من معاني كفرها ثم اعلم أنه لا حجة للنصارى القائلين بالتثليث بما روي عن متى التلميذ أنه قال: إن المسيح عند ما ودعهم قال: اذهبوا وعمدوا الأمم باسم الأب والابن وروح القدس، ومن هنا جعلوا مفتتح الإنجيل ذلك كما أن مفتتح القرآن بسم الله الرحمن الرحيم، ويوهم كلام بعض منا أن هذه التسمية نزلت من السماء كالبسملة عندنا لأنا نقول- على تقدير صحة الرواية، ودونها خرط القتاد: يحتمل أن يراد بالأب المبدأ، فإن القدماء كانوا يسمون المبادئ بالآباء، ومن الابن الرسول، وسمي بذلك تشريفا وإكراما كما سمي إبراهيم عليه السلام خليلا، أو باعتبار أنهم يسمون الآثار أبناء، وقد رووا عن المسيح عليه السلام أنه قال: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم، وقال: لا تعطوا صدقاتكم قدّام الناس لتراءوهم فإنه لا يكون لكم أجر عند أبيكم الذي في السماء. وربما يقال: إن الابن بمعنى الحبيب أو نحوه، ويشير إلى ذلك ما رووه أنه عليه السلام قال عقيب وصية وصى بها الحواريين: لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماء وتكونوا تامّين كما أن أباكم الذي في السماء تام، ويراد بروح القدس جبريل عليه السلام، والمعنى عمدوا ببركة الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم والملك المؤيد للأنبياء عليهم الصلاة والسلام على تبليغ أوامر ربهم، وفي كشف الغين عن الفرق بين البسملتين للشيخ عبد الغني النابلسي قدس سره أن بسملة النصارى مشيرة إلى ثلاث حضرات للأمر الإلهي الواحد الأحد: الغيب المطلق، فالأب إشارة إلى الروح الذي هو أول مخلوق لله تعالى كما في الخبر وهو المسمى بالعقل والقلم والحقيقة المحمدية، ويضاف إلى الله تعالى فيقال: روح الله تعالى للتشريف والتعظيم ك (ناقة الله) تعالى، وروح القدس إشارة إليه أيضا باعتبار ظهوره بصورة البشر السوي النافخ في درع مريم عليها السلام، والابن إشارة إلى عيسى عليه السلام وهو ابن لذلك الروح باعتبار أن تكوّنه بسبب نفخه، والأب هو الابن، والابن هو روح القدس في الحقيقة والغيب المطلق منزه مقدس عن هذه الثلاثة، فإنه سبحانه من حيث هو لا شيء معه ولا يمكن أن يكون معه شيء، فبسملة الإنجيل من مقام الصفات الإلهية والأسماء الربانية لا من مقام الذات الأقدسية. ثم لا يتوهمن أن كلمات ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم تدندن حول كلمات النصارى كما يزعمه من لا اطلاع له على تحقيق كلامهم ولا ذوق له في مشربهم، وذلك لأن القوم نفعنا الله تعالى بهم مبرؤون عما نسبه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 المحجوبون إليهم من اعتقاد التجسيم والعينية والاتحاد والحلول، أما إنهم لم يقولوا بالتجسيم فلما تقرر عندهم من أن الحق سبحانه هو الوجود المحض الموجود بذاته القائم بذاته المتعين بذاته، وكل جسم فهو صورة في الوجود المنبسط على الحقائق المعبر عنه بالعماء متعينة بمقتضى استعداد ماهية المعدومة ولا شيء من الوجود المجرد من الماهية المتعين بذاته بالصورة المتعينة في الوجود المنبسط بمقتضى الماهية المعدومة فلا شيء من الجسم بالوجود المجرد عن الماهية المتعين بذاته، وتنعكس إلى لا شيء من الوجود المجرد عن الماهية المتعين بذاته بجسم وهو المطلوب، وأما إنهم لم يقولوا بالعينية، فلأن الحق تعالى هو ما علمت من الوجود المحض، إلخ، والمخلوق هو الصورة الظاهرة في الوجود المنبسط على الحقائق المتعين بحسب ماهيته المعدومة ولا شيء من المجرد عن الماهية المتعين بذاته بالمقترن بالماهية المتعين بحسبها، ومما يشهد لذلك قول الشيخ الأكبر قدس سره في الباب الثامن والخمسين وخمسمائة من الفتوحات في حضرة البديع بعد بسط: وهذا يدلك على أن العالم ما هو عين الحق وإنما ظهر في الوجود الحق إذ لو كان عين الحق ما صح كونه بديعا، وقوله في هذا الباب أيضا في قوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الأنعام: 59] انفرد سبحانه بعلمها ونفى العلم عن كل ما سواه. فأثبتك في هذه الآية وأعلمك أنك لست هو إذ لو كنت هو لعلمت مفاتح الغيب بذاتك، وما لا تعلمه إلا بموقف فلست عين الموقف، وكذا قال غير واحد، وقال الشيخ شرف الدين إسماعيل بن سودكين في شرح التجليات نقلا عن الشيخ قدس سره أيضا: لما ظهرت الممكنات بإظهار الله تعالى لها وتحقق ذلك تحققا لا يمكن أن يزيل هذه الحقيقة أبدا فبقي متواضعا لكبرياء الله خاشعا له وهذه سجدة الأبد وهي عبارة عن معرفة العبد بحقيقته. ومن هنا يعلم حقيقة قوله سبحانه: «كنت سمعه وبصره» الحديث، ولما لاح من هذا المشهد لبعض الضعفاء لائح قال: أنا الحق فسكر وصاح ولم يتحقق لغيبته عن حقيقته انتهى، وأما أنهم لم يقولوا بالاتحاد فلأن الاتحاد إما بصيرورة الوجود المحض المجرد المتعين بذاته وجودا مقترنا بالماهية المعدومة متعينا بحسبها أو بالعكس، وذلك محال بوجهيه لأن التجرد عن الماهية ذاتي للحق تعالى والاقتران بها ذاتي للممكن وما بالذات لا يزول. وفي كتاب المعرفة للشيخ الأكبر قدس سره إذا كان الاتحاد مصيّر الذاتين واحدة فهو محال لأنه إن كان عين كل منهما موجودا في حال الاتحاد فهما ذاتان وإن عدمت العين الواحدة وثبتت الأخرى فليست إلا واحدة، وقال في كتاب الياء وهو كتاب ألهو الاتحاد محال، وساق الكلام إلى أن قال: فلا اتحاد البتة لا من طريق المعنى ولا من طريق الصورة، وقال في الباب الخامس من الفتوحات خطابا من الحق تعالى للروح الكلي: وقد حجبتك عن معرفة كيفية إمدادي لك بالأسرار الإلهية إذ لا طاقة لك بحمل مشاهدتها، إذ لو عرفتها لاتحدت الإنية واتحاد الانية محال، فمشاهدتك لذلك محال، هل ترجع إنية المركب البسيط؟ لا سبيل إلى قلب الحقائق، وأما إنهم لم يقولوا بالحلول فلأنهم فسروا الحلول تارة بأنه الحصول على سبيل التبعية، وتارة بأنه كون الموجود في محل قائما به، ومن المعلوم أن الواجب تعالى- وهو الوجود المحض القائم بذاته المتعين كذلك- يستحيل عليه القيام بغيره. قال الشيخ الأكبر قدس سره في الباب الثاني والتسعين ومائتين من الفتوحات: نور الشمس إذا تجلى في البدر يعطي من الحكم ما لا يعطيه من الحكم بغير البدر لا شك في ذلك، كذلك الاقتدار الإلهي إذا تجلى في العبد يظهر الأفعال عن الخلق فهو وإن كان بالاقتدار الإلهي، لكن يختلف الحكم لأنه بواسطة هذا المجلى الذي كان مثل المرآة لتجليه، وكما يعلم عقلا أن القمر في نفسه ليس فيه من نور الشمس شيء وأن الشمس ما انتقلت إليها بذاتها وإنما كان لها مجلى، كذلك العبد ليس فيه من خالقه شيء ولا حل فيه وإنما هو مجلى له وخاصة ومظهر له انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 وهذا نص في نفي الحلول ومنشأ غلط المحجوبين المنكرين عدم الفهم لكلام هؤلاء السادة نفعنا الله تعالى بهم على وجهه، وعدم التمييز بين الحلول والتجلي ولم يعلموا أن كون الشيء مجلي لشيء ليس كونه محلا له، فإن الظاهر في المرآة خارج عن المرآة بذاته قطعا بخلاف الحال في محل فإنه حاصل فيه فالظهور غير الحلول فإن الظهور في المظاهر للواسع القدوس يجامع التنزيه بخلاف الحلول، نعم وقع في كلامهم التعبير بالحلول ومرادهم به الظهور، ومن ذلك قوله: يا قبلتي قابليني بالسجود فقد ... رأيت شخصا لشخص فيه قد سجدا لاهوته حل ناسوتي فقدسني ... إني عجبت لمثلي كيف ما عبدا وكان الأولى بحسب الظاهر عدم التعبير بمثل ذلك ولكن للقوم أحوال ومقامات لا تصل إليها أفهامنا، ولعل عذرهم واضح عند المنصفين، إذا علمت ذلك وتحققت اختلاف النصارى في عقائدهم، فاعلم أنه سبحانه إنما حكى في بعض الآيات قول بعض منهم، وفي بعض آخر قول آخرين، وحكاية دعواهم ألوهية مريم عليها السلام كدعواهم ألوهية عيسى عليه السلام مما نطق بها القرآن ولم يشع ذلك عنهم صريحا لكن يلزمهم ذلك بناء على ما حققه الإمام الرازي رحمه الله تعالى، والنصارى اليوم ينكرونه والله تعالى أصدق القائلين، ويمكن أن يقال: إن مدعي ألوهيتها عليها السلام صريحا طائفة منهم هلكت قديما كالطائفة اليهودية التي تقول عزير ابن الله تعالى على ما قيل، ثم إنه سبحانه بالغ في زجر القائلين فأردف سبحانه النهي بقوله عز من قائل: انْتَهُوا عن القول بالتثليث خَيْراً لَكُمْ قد مر الكلام في أوجه انتصابه إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ أي بالذات منزه عن التعدد بوجه من الوجوه سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ أي أسبحه تسبيحا عن، أو من أن يكون له ولد، أو سبحوه عن، أو من ذلك لأن الولد يشابه الأب ويكون مثله والله تعالى منزه عن التشبيه والمثل، وأيضا الولد إنما يطلب ليكون قائما مقام أبيه إذا عدم ولذا كان التناسل والله تعالى باق لا يتطرق ساحته العلية فناء فلا يحتاج إلى ولد ولا حكمة تقتضيه، وقد علمت ما أوقع النصارى في اعتقادهم أن عيسى عليه السلام ابن الله تعالى. ومن الاتفاقات الغريبة ما نقله مولانا راغب باشا رحمه الله تعالى ملخصا من تعريفات أبي البقاء قال: قال الإمام العلامة محمد بن سعيد الشهير بالبوصيري نور الله تعالى ضريحه: إن بعض النصارى انتصر لدينه وانتزع من البسملة الشريفة دليلا على تقوية اعتقاده في المسيح عليه السلام وصحة يقينه به فقلب حروفها ونكر معروفها وفرق مألوفها وقدّم فيها وأخر وفكر وقدّر. فقتل كيف قدّر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر، فقال: قد انتظم من البسملة المسيح ابن الله المحرر، فقلت له: حيث رضيت البسملة بيننا وبينك حكما وحزت منها أحكاما وحكما فلتنصرن البسملة منا الأخيار على الأشرار، ولتفضلن أصحاب الجنة على أصحاب النار إذ قد قالت لك البسملة بلسان حالها: إنما الله المسيح راحم النحر لأمم لها المسيح رب، ما برح الله راحم المسلمين، سل ابن مريم أحل له الحرام، لا المسيح ابن الله المحرر، لا مرحم للئام أبناء السحرة رحم حرّ مسلم أناب إلى الله، لله نبي مسلم حرم الراح، ربح رأس مال كلمة الإيمان، فإن قلت: إنه عليه السلام رسول صدقتك، وقالت: إيل أرسل الرحمة بلحم، وإيل من أسماء الله تعالى بلسان كتبهم وترجمة بلحم ببيت لحم، وهو المكان الذي ولد فيه عيسى عليه السلام إلى غير ذلك مما يدل على إبطال مذهب النصارى، ثم انظر إلى البسملة قد تخبر أن من وراء حلها خيولا وليوثا، ومن دون طلها سيولا وغيوثا، ولا تحسبني استحسنت كلمتك الباردة فنسجت على منوالها وقابلت الواحدة بعشر أمثالها بل أتيتك بما يغنيك فيبهتك ويسمعك ما يصمك عن الإجابة فيصمتك، فتعلم أن هذه البسملة مستقر لسائر العلوم والفنون ومستودع لجوهر سرها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 المكنون، ألا ترى أن البسملة إذا حصلت جملتها كان عددها سبعمائة وستة وثمانين فوافق جملها أن مثل عيسى كآدم ليس لله من شريك بحساب الألف التي بعد لامي الجلالة ولا أشرك بربي أحدا، يهدي الله لنوره من يشاء، بإسقاط ألف الجلالة، فقد أجابتك البسملة بما لم تحط به خبرا، وجاءك ما لم تستطع عليه صبرا انتهى. وقد تقدم نظير ذلك في الباقي بعد إسقاط المكرر من حروف المعجم في أوائل السور حيث رتب الشيعي منه ما ظنه مقويا لما هو عليه أعني صراط على حقا نمسكه وقابلناه بما يبهته مرتبا من هذا الحروف أيضا فتذكر، وقرأ الحسن «إن يكون» بكسر الهمزة ورفع النون أي سبحانه ما يكون له ولد على أن الكلام جملتان. لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جملة مستأنفة مسوقة لتعليل التنزيه، وبيان ذلك أنه سبحانه مالك لجميع الموجودات علويها وسفليها لا يخرج من ملكوته شيء منها، ولو كان له ولد لكان مثله في المالكية فلا يكون مالكا لجميعها، وقوله تعالى: وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا إشارة إلى دليل آخر لأن الوكيل بمعنى الحافظ فإذا استقل سبحانه وتعالى في الحفظ لم يحتج إلى الولد فإن الولد يعين أباه في حياته ويقوم مقامه بعد وفاته والله تعالى منزه عن كل هذا فلا يتصور له ولد عقلا ويكون افتراؤه حمقا وجهلا. ْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ استئناف مقرر لما سبق من التنزيه، وروي أن وفد نجران قالوا لنبينا صلّى الله عليه وسلّم: «يا محمد لم تعيب صاحبنا؟ قال: ومن صاحبكم؟ قالوا: عيسى عليه السلام، قال: وأي شيء أقول فيه؟ قالوا تقول: إنه عبد الله ورسوله فنزلت» والاستنكاف استفعال من النكف، وأصله- كما قال الراغب- من نكفت الشيء نحيته وأصله تنحية الدمع عن الخد بالأصبع، وقالوا: بحر لا ينكف أي لا ينزح، ومنه قوله: فبانوا ولولا ما تذكر منهم ... من الخلف لم ينكف لعينيك مدمع وقيل: النكف قول السوء، ويقال: ما عليه في هذا الأمر نكف ولا وكف، واستفعل فيه للسلب قاله المبرد، وفي الأساس استنكف ونكف امتنع وانقبض أنفا وحمية. وقال الزجاج: الاستنكاف تكبر في تركه أنفة وليس في الاستكبار ذلك، والمعنى لن يأنف ولن يمتنع، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لن يستكبر المسيح نْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ أي عن، أو من أن يكون عبد الله تعالى مستمرا على عبادته تعالى وطاعته حسبما هو وظيفة العبودية كيف وأن ذلك أقصى مراتب الشرف، وقد أشار القاضي عياض إلى شرف العبودية بقوله: ومما زادني عجبا وتيها ... وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك: يا عبادي ... وجعلك خير خلقك لي نبيا والاقتصار على ذكر عدم استنكافه عليه السلام عن ذلك مع أن شأنه عليه السلام المباهاة به كما تدل عليه أحواله وتفصح عنه أقواله لوقوعه في موضع الجواب عما قاله الكفرة كما علمت آنفا. وهو السر في جعل المستنكف منه كونه عليه السلام عبدا له تعالى دون أن يقال: عن عبادة الله تعالى ونحو ذلك مع إفادته- كما قيل- فائدة جليلة هي كمال نزاهته عليه السلام عن الاستنكاف بالكلية لاستمرار هذا الوصف واستتباعه وصف العبادة فعدم الاستنكاف عنه مستلزم لعدم استنكاف ذلك بخلاف وصف العبادة فإنها حالة متجددة غير مستلزمة للدوام يكفي في اتصاف موصوفها بها تحققها مرة، فعدم الاستنكاف عنها لا يستلزم عنها عدم الاستنكاف عن دوامها. ومما يدل على عبوديته عليه السلام من كتب النصارى أن قولس قال في رسالته الثانية: انظروا إلى هذا الرسول رئيس أحبارنا يسوع المؤتمن من عند من خلقه مثل موسى عليه السلام في جميع أحواله غير أنه أفضل من موسى عليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 السلام، وقال مرقس في إنجيله: قال يسوع: إن نفسي حزينة حتى الموت، ثم خر على وجهه يصلي لله تعالى، وقال أيها الأب كل شيء بقدرتك أخر عني هذا الكأس لكن كما تريد لا كما أريد، ثم خرّ على وجهه يصلي لله تعالى، ووجه الدلالة في ذلك ظاهر إذ هو سائل والله تعالى مسؤول، وهو مصل والله تعالى مصلى له، وأي عبودية تزيد على ذلك، ونصوص الأناجيل ناطقة بعبوديته عليه السلام في غير ما موضع، ولله تعالى در أبي الفضل حيث يقول فيه: هو عبد مقرب ونبيّ ... ورسول قد خصه مولاه طهر الله ذاته وحباه ... ثم أتاه وحيه وهداه وبكن خلقه بدا كلما الل ... هـ إلى مريم البتول براه والأناجيل شاهدات وعنه ... إنما الله ربه لا سواه هكذا شأن ربه خالق الخلق ... بكن خلقهم فنعم الإله كان لله خاشعا مستكينا ... راغبا راهبا يرجى رضاه ليس يحيا وليس يخلق إلا ... أن دعاه وقد أجاب دعاه إنما فاعل الجميع هو الل ... هـ ولكن على يديه قضاه ويكفي في إثبات عبوديته عليه السلام ما أشار الله تعالى إليه بقوله: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ [المائدة: 75] وفي التعبير بالمسيح ما يشعر بالعبودية أيضا لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ عطف على المسيح كما هو الظاهر أي لا يستنكف الملائكة المقربون أن يكونوا عبيدا لله تعالى، وقيل: إنه عطف على الضمير المستتر في كُونَ أوبْداً لأنه صفة وليس بشيء، وتقدير متعلق الفعل لازم على ما ذهب إليه الأكثرون، وقيل: أريد- بالملائكة- كل واحد منهم فلا حاجة إلى التقدير، وزعم بعضهم أنه من عطف الجمل والتزم تقدير الفعل وهو كما ترى واحتج بالآية القاضي أبو بكر، والحليمي والمعتزلة على أن الملائكة أفضل من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأن الذي يقتضيه السياق وقواعد المعاني وكلام العرب الترقي الفاضل إلى الأفضل فيكون المعنى لا يستنكف المسيح ولا من هو فوقه، كما يقال: لن يستنكف من هذا الأمر الوزير ولا السلطان دون العكس، وأجيب بأن سوق الآية وإن كان ردا على النصارى لكنه أدمج فيه الرد على عبدة الملائكة المشاركين لهم في رفع بعض المخلوقين عن مرتبة العبودية إلى درجة المعبودية، وادعاء انتسابهم إلى الله تعالى بما هو من شوائب الألوهية، وخصْ مُقَرَّبُونَ لأنهم كانوا يعبدونهم دون غيرهم، ورد هذا الجواب بأن هذا لا ينفي فوقية الثاني كما هو مقتضى علم المعاني قيل: ولا ورود له لأنه يعلم من التقرير دفعه لأن المقصود بالذات أمر المسيح فلذا قدم، ولو سلم أنه لا ينفي الفوقية فهو لا يثبتها كما إذا قلت: ما فعل هذا زيد ولا عمرو، وهو يكفي لدفع حجة الخصم، وأما كون السباق والسياق يخالفه فليس بشيء لأن المجيب قال: إنه إدماج، واستطراد، وأجيب أيضا على تقدير تسليم اختصاص الرد بالنصارى بأن الملائكة المقربون صيغة جمع تتناول مجموع الملائكة، فهذا العطف يقتضي كون مجموع الملائكة أفضل من المسيح، ولا يلزم أن يكون كل واحد منهم أفضل من المسيح، قال في الانتصاف: وفيه نظر لأن مورده إذا بني على أن المسيح أفضل من كل واحد من آحاد الملائكة فقد يقال: يلزمه القول بأنه أفضل من الكل كما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما كان أفضل من كل واحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كان أفضل من كلهم، ولم يفرق بين التفضيل على التفضيل، والتفضيل على الجملة أحد ممن صنف في هذا المعنى. وقد كان طار عن بعض الأئمة المعاصرين تفضيله بين التفضيلين، ودعوى أنه لا يلزم منه على التفضيل تفضيل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 على الجملة، ولم يثبت عنه هذا القول، ولو قاله فهو مردود بوجه لطيف، وهو أن التفضيل المراد جل أماراته رفع درجة الأفضل في الجنة، والأحاديث متظافرة بذلك، وحينئذ لا يخلو إما أن ترتفع درجة واحد من المفضولين على من اتفق أنه أفضل من كل واحد منهم، أو لا ترتفع درجة أحد منهم عليه لا سبيل إلى الأول لأنه يلزم منه رفع المفضول على الفاضل فيتعين الثاني وهو ارتفاع درجة الأفضل على درجات المجموع ضرورة فيلزم ثبوت أفضليته على المجموع من ثبوت أفضليته على كل واحد منهم قطعا انتهى. قلت: فما شاع من الخلاف بين الحنفية والشافعية في أن النبي صلّى الله عليه وسلّم هل هو أفضل من المجموع كما أنه أفضل من الجميع أم أنه أفضل من الجميع فقط دون المجموع ليس في محله على هذا فتدبر، وقيل في الجواب: إن غاية ما تدل عليه الآية تفضيل المقربين من الملائكة وهم الكروبيون الذين حول العرش، أو من هم أعلى رتبة منهم من الملائكة على المسيح من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وذلك لا يستلزم فضل أحد الجنسين على الآخر مطلقا وفيه النزاع ورد بأن المدعى أن في مثل هذا الكلام مقتضى قواعد المعاني الترقي من الأدنى إلى الأعلى دون العكس أو التسوية، وقد علم أن الحكم في الجمع المحلى بأل على الآحاد وأن المدعى ليس إلا دلالة الكلام على أن الملك المقرب أفضل من عيسى عليه السلام، وهذا كاف في إبطال القول بأن خواص البشر أفضل من خواص الملك وزعم بعضهم أن عطف الملائكة على المسيح بالواو لا يقتضي ترتيبا، وما يورد من الأمثلة لكون الثاني أعلى مرتبة من الأول معارض بأمثلة لا تقتضي ذلك كقول القائل: ما أعانني على هذا الأمر زيد ولا عمرو، وكقولك: لا تؤذ مسلما ولا ذميا بل لو عكست في هذا المثال وجعلت الأعلى ثانيا لخرجت عن حد الكلام وقانون البلاغة- كما قال في الانتصاف- ثم قال فيه: ولكن الحق أولى من المراد وليس بين المثالين تعارض، ونحن نمهد تمهيدا يرفع اللبس ويكشف الغطاء، فنقول: النكتة في الترتيب في المثالين الموهوم تعارضهما واحدة وهي توجب في مواضع تقديم الأعلى وفي مواضع تأخيره، وتلك النكتة أن مقتضى البلاغة التنائي عن التكرار والسلامة عن النزول فإذا اعتمدت ذلك فهما أدى إلى أن يكون آخر كلامك نزولا بالنسبة إلى أوله، أو يكون الآخر مندرجا في الأول قد أفاده، وأنت مستغن عن الآخر فاعدل عن ذلك إلى ما يكون ترقيا من الأدنى إلى الأعلى، واستئنافا لفائدة لم يشتمل عليها الأول، مثاله الآية المذكورة فإنك لو ذهبت فيها إلى أن يكون المسيح أفضل من الملائكة وأعلى رتبة لكان ذكر الملائكة بعده كالمستغنى عنه لأنه إذا كان الأفضل وهو المسيح على هذا التقدير عبدا غير مستنكف من العبودية لزم من ذلك أن ما دونه في الفضيلة أولى أن لا يستنكف عن كونه عبدا لله تعالى وهم الملائكة على هذا التقدير، فلم يتجدد إذن بقوله تعالى: لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ إلا ما سلف أول الكلام، وإذا قدرت المسيح مفضولا بالنسبة إلى الملائكة فكأنك ترقيت من تعظيم الله تعالى بأن المفضول لا يستنكف عن كونه عبدا له تعالى إلى أن الأفضل لا يستنكف عن ذلك، وليس يلزم من عدم استنكاف المفضول عدم استنكاف الأفضل، فالحاجة داعية إلى ذكر الملائكة إذ لم يستلزم الأول الآخر فصار الكلام على هذا التقدير متجدد الفائدة متزائدها، ومتى كان كذلك تعين أن يحمل عليه الكتاب العزيز لأنه الغاية في البلاغة. وبهذه النكتة يجب أن تقول: لا تؤذ مسلما ولا ذميا، فتؤخر الأدنى على عكس الترتيب في الآية لأنك إذا نهيته عن أذى المسلم فقد يقال ذاك من خواصه احتراما لدين الإسلام، فلا يلزم من ذلك نهيه عن أذى الكافر المسلوبة عنه هذه الخصوصية، فإذا قلت: ولا ذميا فقد جددت فائدة لم تكن في الأول وترقيت من النهي عن بعض أنواع الأذى إلى النهي عن أكثر منه، ولو رتبت هذا المثال كترتيب الآية فقلت: لا تؤذ ذميا فهم المنهي أن أذى المسلم أدخل في النهي إذ يساوي الذميّ في سبب الالتزام وهو الإنسانية مثلا، ويمتاز عنه بسبب هو أجلّ وأعظم وهو الإسلام، فيقنعه هذا النهي عن تجديد نهي آخر عن أذى المسلم، فإن قلت: ولا مسلما لم تجدد له فائدة ولم تعلمه غير ما أعلمته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 أولا، فقد علمت أنها نكتة واحدة توجب أحيانا تقديم الأعلى وأحيانا تأخيره، ولا يميز لك ذلك إلا السياق، وما أشك أن سياق الآية يقتضي تقديم الأدنى وتأخير الأعلى، ومن البلاغة المرتبة على هذه النكتة قوله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ [الإسراء: 23] استغناء عن نهيه عن ضربهما فما فوقه بتقديم الأدنى، ولم يلق ببلاغة الكتاب العزيز أن يريد نهيا عن أعلى من التأفيف والانتهار لأنه مستغنى عنه، وما يحتاج المدبر لآيات القرآن مع التأييد شاهدا سواها، ولما اقتضى الإنصاف تسليم اقتضاء الآية لتفضيل الملائكة، وكان القول بتفضيل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام اعتقادا لأكثر أهل السنة والشيعة التزم حمل التفضيل في الآية على غير محل الخلاف، وذلك تفضيل الملائكة في القوة وشدة البطش وسعة التمكن والاقتدار. وهذا النوع من الفضيلة هو المناسب لسياق الآية لأن المقصود الردّ على النصارى في اعتقادهم ألوهية عيسى عليه السلام مستندين إلى كونه أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص، وصدرت على يديه آثار عظيمة خارقة، فناسب ذلك أن يقال: هذا الذي صدرت على يديه هذه الخوارق لا يستنكف عن عبادة الله تعالى بل من هو أكثر خوارقا وأظهر آثارا كالملائكة المقربين الذين من جملتهم جبريل عليه السلام، وقد بلغ من قوته وإقدار الله تعالى له أن اقتلع المدائن واحتملها على ريشة من جناحه فقلبها عاليها سافلها فيكون تفضيل الملائكة إذن بهذا الاعتبار، ولا خلاف في أنهم أقوى وأبطش وأن خوارقهم أكثر، وإنما الخلاف في التفضيل باعتبار مزيد الثواب والكرامات ورفع الدرجات في دار الجزاء، وليس في الآية عليه دليل، وقد يقال: لما كان أكثر ما لبس على النصارى في ألوهية عيسى عليه السلام كونه موجودا من غير أب أنبأ الله تعالى أن هذا الموجود من غير أب لا يستنكف من عبادة الله تعالى ولا الملائكة الموجودون من غير أب ولا أم، فيكون تأخير ذكرهم لأن خلقهم أغرب من خلق عيسى عليه السلام، ويشهد لذلك أن الله تعالى نظر عيسى بآدم عليهما السلام، فنظر الغريب بالأغرب وشبه العجيب من آثار قدرته بالأعجب إذ عيسى مخلوق من آدم عليهما الصلاة والسلام وآدم عليه السلام من غير أب ولا أم، ولذلك قال سبحانه: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 59] ومدار هذا البحث على النكتة التي أشير إليها. فمتى استقام اشتمال المذكور ثانيا على فائدة لم يشتمل عليها الأول بأي طريق كان من تفضيل أو غيره من الفوائد فقد طابق صيغة الآية انتهى. وبالجملة المسألة سمعية، وتفصيل الأدلة والمذاهب فيها حشو الكتب الكلامية، والقطع فيها منوط بالنص الذي لا يحتمل تأويلا ووجوده عسر. وقد ذكر الآمدي في أبكار الأفكار بعد بسط كلام ونقض وإبرام أن هذه المسألة ظنية لا حظ للقطع فيها نفيا وإثباتا، ومدارها على الأدلة السمعية دون الأدلة العقلية، وقال أفضل المعاصرين صالح أفندي الموصلي تغمده الله تعالى برحمته في تعليقاته على البيضاوي: الأولى عندي التوقف في هذه المسألة بالنسبة إلى غير نبينا صلّى الله عليه وسلّم إذ لا قاطع يدل على الحكم فيها وليس معرفة ذلك ما كلفنا به، والباب ذو خطر لا ينبغي المجاذفة فيه، فالوقف أسلم والله تعالى أعلم مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ أي طاعته فيشمل جميع الكفرة لعدم طاعتهم له تعالى وإنما جعل المستنكف عنه هاهنا عبادته تعالى لا ما سبق- كما قال شيخ الإسلام- لتعليق الوعيد بالوصف الظاهر الثبوت للكفرة فإن عدم طاعتهم له تعالى مما لا سبيل لهم إلى إنكار اتصافهم به، وعبر سبحانه عن عدم طاعتهم له بالاستنكاف مع أن ذلك كان منهم بطريق إنكار كون الأمر من جهته تعالى لا بطريق الاستنكاف لأنهم كانوا يستنكفون عن طاعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهذا هو الاستنكاف عن طاعة الله تعالى إذ لا أمر له صلّى الله عليه وسلّم سوى أمره عز وجل مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء: 80] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 وقيل: التعبير بالاستنكاف من باب المشاكلة يَسْتَكْبِرْ أي عن ذلك، وأصل الاستكبار طلب الكبر من غير استحقاق لا بمعنى طلب تحصيله مع اعتقاد عدم حصوله بل بمعنى عد نفسه كبيرا واعتقاده كذلك وإنما عبر عنه بما يدل على الطلب للإيذان بأن مآله محض بدون حصول المطلوب، ونظير ذلك على ما قيل: قوله تعالى: يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً [الأعراف: 45، هود: 19، إبراهيم: 3] ، والاستكبار على ما أشار إليه الزجاج- وتقدم- دون الاستنكاف وجاء في الحديث عنه صلّى الله عليه وسلّم: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر فقال رجل: يا رسول الله إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس» . وللناس في تأويل الحديث أقوال ذكرها الإمام النووي في شرح مسلم، منها أن المراد بالكبر المانع من دخول الجنة هو التكبر على الإيمان، واختاره مولانا أفضل المعاصرين، ثم قال: وعليه فالمنفي أصل الدخول كما هو الظاهر المتبادر، وتنكير الكبر للنوعية، والمعرف في آخر الحديث هو جنس الكبر لا هذا النوع بخصوصه وإن كان الغالب في إعادة النكرة معرفة إرادة عين الأول، وإنما خص صلّى الله عليه وسلّم حكم ذلك النوع بالبيان ليكون أبلغ في الزجر عن الكبر فإن جنسا يبلغ بعض أنواعه بصاحبه من وخامة العاقبة وسوء المغبة، هذا المبلغ أعني الشقاء المؤبد جدير بأن يحترز عنه غاية الاحتراز، ثم عرف صلّى الله عليه وسلّم الكبر بما عرفه لئلا يتوهم انحصار الكبر المذموم في النوع المذكور. وبهذا التقرير اندفع استبعاد النووي رحمه الله تعالى لهذا التأويل بأن الحديث ورد في سياق الزجر عن الكبر المعروف وهو إنكار الحق واحتقار الناس، فحمل الكبر على ذلك خاصة خروج عن مذاق الكلام ووجه اندفاعه غير خفي على ذوي الأفهام انتهى. والظاهر أن ما في الحديث تعريف باللازم للمعنى اللغوي سَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً أي المستنكفين ومقابليهم المدلول عليهم بذكر عدم استنكاف المسيح والملائكة المقربين عليهم السلام، وقد ترك ذكر أحد الفريقين في المفصل تعويلا على انباء التفصيل عنه وثقة بظهور اقتضاء حشر أحدهما لحشر الآخر ضرورة عموم الحشر للخلائق أجمعين كما ترك ذكر أحد الفريقين في التفصيل عند قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ مع عموم الخطاب لهما ثقة بمثل ذلك فلا يقال: التفصيل غير مطابق للمفصل لأنه اشتمل على الفريقين والمفصل على فريق واحد، وقيل في توجيه المطابقة: إن المقصود من الحشر المجازاة ويكون قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ إلخ تفصيلا للجزاء كأنه قيل: ومن يستنكف عن عبادته فسيعذب بالحسرة إذا رأى أجور العاملين وبما يصيبه من عذاب الله تعالى، فالضمير راجع إلى المستنكفين المستكبرين لا غير وقد روعي لفظ من ومعناها. وتعقب العلامة التفتازاني ذلك بأنه غير مستقيم لأن دخول أَمَّا على الفريقين لا على قسمي الجزاء، وأورد هذا الفريق بعنوان الإيمان والعمل الصالح لا بوصف عدم الاستنكاف المناسب لما قبله وما بعده للتنبيه على أنه المستتبع لما يعقبه من الثمرات، ومعنى توفيتهم أجورهم إيتاؤهم إياها من غير أن ينقص منها شيئا أصلا، وقرىء «فسيحشرهم» بكسر الشين وهي لغة، وقرىء- فسنحشرهم- بنون العظمة، وفيه التفات وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بتضعيف أجورهم أضعافا مضاعفة وبإعطائهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية، والإسماعيلي في معجمه بسند ضعيف عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» قال: يوفيهم أجورهم يدخلهم الجنة ويزيدهم من فضله الشفاعة فيمن وجبت لهم النار ممن صنع إليهم المعروف في الدنيا» وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا عن عبادة الله تعالى وَاسْتَكْبَرُوا عنها فَيُعَذِّبُهُمْ بسبب ذلك عَذاباً أَلِيماً لا يحيط به الوصف وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا يلي أمورهم ويدبر مصالحهم وَلا نَصِيراً ينصرهم من بأسه تعالى وينجيهم من عذابه سبحانه يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب لكافة المكلفين إثر بيان بطلان ما عليه الكفرة من فنون الكفر والضلال وإلزامهم بما تخر له صم الجبال، وفيه تنبيه لهم على أن الحجة قد تمت فلم يبق بعد ذلك علة لمتعلل ولا عذر لمعتذر قَدْ جاءَكُمْ أتاكم ووصل إليكم بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي حجة قاطعة، والمراد بها المعجزات على ما قيل. وأخرج ابن عساكر عن سفيان الثوري عن أبيه عن رجل لا يحفظ اسمه إن المراد بالبرهان هو النبي صلّى الله عليه وسلّم، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وعبر عنه عليه الصلاة والسلام بذلك لما معه من المعجزات التي تشهد بصدقه صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: المراد بذلك دين الحق الذي جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم، والتنوين للتفخيم، ومن- لابتداء الغاية مجازا وهي متعلقة- بجاء- أو بمحذوف وقع صفة مشرفة- لبرهان- مؤكدة لما أفاده التنوين، وجوز أن تكون تبعيضية بحذف المضاف أي كائن من براهين ربكم، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإفاضة إلى ضمير المخاطبين لإظهار اللطف بهم والإيذان بأن مجيء ذلك لتربيتهم وتكميلهم. وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ بواسطة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفي عدم ذكر الواسطة إظهار لكمال اللطف بهم ومبالغة في الأعذار نُوراً مُبِيناً وهو القرآن- كما قاله قتادة ومجاهد والسدي واحتمال إرادة الكتب السابقة الدالة على نبوته صلّى الله عليه وسلّم بعيد غاية البعد، وإذا كان المراد من البرهان القرآن أيضا فقد سلك به مسلك العطف المبني على تغاير الطرفين تنزيلا للمغايرة العنوانية منزلة المغايرة الذاتية، وإطلاق البرهان عليه لأنه أقوى دليل على صدق من جاء به، وإطلاق النور المبين لأنه بيّن بنفسه مستغن في ثبوت حقيته وكونه من الله تعالى بإعجازه غير محتاج إلى غيره، مبين لغيره من حقية الحق وبطلان الباطل، مهدي للخلق بإخراجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وعبر عن ملابسته للمخاطبين تارة بالمجيء المسند إليه المنبئ عن كمال قوته في البرهانية كأنه يجيء بنفسه فيثبت ما ثبت من غير أن يجيء به أحد، ويجيء على شبه الكفرة بالإبطال والأخرى بالإنزال الموقع عليه الملائم لحيثية كونه نورا توفيرا له باعتبار كل واحد من عنوانيه حظه اللائق به، وإسناد إنزاله إليه تعالى بطريق الالتفات لكمال تشريفه- قاله مولانا شيخ الإسلام- والأمر على غير ذلك التقدير هين فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ حسبما يوجبه البرهان الذي جاءهم وَاعْتَصَمُوا بِهِ أي عصموا به سبحانه أنفسهم مما يرديها من زيغ الشيطان وغيره. وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن جريج أن الضمير راجع إلى القرآن أعني النور المبين، وهو خلاف الظاهر فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ أي ثواب عظيم قدره بإزاء إيمانهم وعملهم رحمة منه سبحانه لا قضاء لحق واجب، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد بالرحمة الجنة، فعلى الأول التجوز في كلمة فِي لتشبيه عموم الثواب وشموله بعموم الظرف، وعلى الثاني التجوز في المجرور دون الجار- قاله الشهاب- والبحث في ذلك شهير ومِنْهُ متعلق بمحذوف وقع صفة مشرفة لرحمة وَفَضْلٍ أي إحسان لا يقادر قدره زائد على ذلك. وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ أي إلى الله عز وجل، والمراد في المشهور إلى عبادته سبحانه، وقيل: الضمير عائد على جميع ما قبله باعتبار أنه موعود، وقيل: على الفضل صِراطاً مُسْتَقِيماً هو الإسلام والطاعة في الدنيا، وطريق الجنة في الأخرى، وتقديم ذكر الوعد بالإدخال في الرحمة الثواب أو الجنة على الوعد بهذه الهداية للمسارعة إلى التبشير بما هو المقصد الأصلي. وفي وجه انتصاب صِراطاً أقوال، فقيل: إنه مفعول ثان لفعل مقدر أي يعرفهم صِراطاً، وقيل: إنه مفعول ثان ليهديهم باعتبار تضمينه معنى يعرفهم، وقيل: مفعول ثان له بناء على أن الهداية تتعدى إلى مفعولين حقيقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 ومن الناس من جعل إِلَيْهِ متعلقا بمقدر أي مقربين إليه، أو مقربا إياهم إليه على أنه حال من الفاعل أو المفعول، ومنهم من جعله حالا من صِراطاً ثم قال: ليس لقولنا: يَهْدِيهِمْ طريق الإسلام إلى عبادته كبير معنى، فالأوجه أن يجعل صِراطاً بدلا من إِلَيْهِ وتعقبه عصام الملة والدين بأن قولنا: يَهْدِيهِمْ طريق الإسلام موصلا إلى عبادته معناه واضح، ولا وجه لكون صِراطاً بدلا من الجار والمجرور فافهم يَسْتَفْتُونَكَ أي- في الكلالة- استغني عن ذكره لوروده في قوله تعالى: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ والجار متعلق ب يُفْتِيكُمْ، وقال الكوفيون: ب يَسْتَفْتُونَكَ وضعفه أبو البقاء بأنه لو كان كذلك لقال يفتيكم فيها في الكلالة، وقد مر تفسير الكلالة في مطلع السورة، والآية نزلت في جابر بن عبد الله كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم وغيره. وأخرج الشيخان وخلق كثير عنه قال: «دخل عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا مريض لا أعقل فتوضأ ثم صب عليّ فعقلت، فقلت: إنه لا يرثني إلا كلالة فكيف الميراث؟ فنزلت آية الفرائض» وهي آخر آية نزلت، فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن البراء قال: آخر سورة نزلت كاملة براءة، وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء، والمراد من الآيات المتعلقة بالأحكام- كما نص على ذلك المحققون، وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى- وتسمى آية الصيف، أخرج مالك ومسلم عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: «ما سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة حتى طعن بأصبعه في صدري، وقال: يكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء» إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ استئناف مبين للفتيا، وارتفع امْرُؤٌ بفعل يفسره المذكور على المشهور، وقوله تعالى: لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ صفة له ولا يضر الفصل بالمفسر لأنه تأكيد، وقيل: حال منه، واعترض بأنه نكرة، ومجيء الحال منها خلاف الظاهر إذ المتبادر في الجمل الواقعة بعد النكرات أنها صفات، وقال الحلبي: يصح كونه حالا منه وهَلَكَ، صفة له، وجعله أبو البقاء حالا من الضمير المستكن في هَلَكَ وقيل عليه: إن المفسر غير مقصود حتى ادعى بعضهم أنه لا ضمير فيه لأنه تفسير لمجرد الفعل بلا ضمير، وإن رد بقوله تعالى: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ [الإسراء: 100] ، وقال أبو حيان: الذي يقتضيه النظم أن ذلك ممتنع، وذلك لأن المسند إليه في الحقيقة إنما هو الاسم الظاهر المعمول للفعل المحذوف فهو الذي ينبغي أن يكون التقييد له، أما الضمير فإنه في جملة مفسرة لا موضع لها من الإعراب فصارت كالمؤكدة لما سبق، وإذا دار الاتباع والتقييد بين مؤكد ومؤكد فالوجه أن يكون للمؤكد بالفتح إذ هو معتمد الإسناد الأصلي، ووافقه الحلبي، وقال السفاقسي: الأظهر أن هذا مرجح لا موجب، والمراد من- الولد- على ما اختاره البعض الذكر لأنه المتبادر ولأن الأخت وإن ورثت مع البنت- عند غير ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والإمامية- لكنها لا ترث النصف بطريق الفرضية، وتعقبه بعض المحققين مختارا العموم بأنه تخصيص من غير مخصص، والتعليل بأن الابن يسقط الأخت دون البنت ليس بسديد لأن الحكم تعيين النصف، وهذا ثابت عند عدم الابن والبنت غير ثابت عند وجود أحدهما، أما الابن فلأنه يسقط الأخت، وأما البنت فلأنها تصيرها عصبة فلا يتعين لها فرض، نعم يكون نصيبها مع بنت واحدة النصف بحكم العصوبة لا الفرضية فلا حاجة إلى تفسير الولد بالابن لا منطوقا ولا مفهوما، وأيضا الكلام في الكلالة- وهو من لا يكون له ولد أصلا- وكذا ما لا يكون له والد إلا أنه اقتصر على عدم ذكر الولد ثقة بظهور الأمر والولد مشترك معنوي في سياق النفي فيعم، فلا بد للتخصيص من مخصص وأنى به؟ فليفهم، وقوله تعالى: وَلَهُ أُخْتٌ عطف على ليس له ولد، ويحتمل الحالية، والمراد بالأخت الأخت من الأبوين والأب لأن الأخت من الأم فرضها السدس، وقد مر بيانه في صدر السورة الكريمة. فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ أي بالفرض والباقي للعصبة، أو لها بالردّ إن لم يكن له عصبة، والفاء واقعة في جواب الشرط وَهُوَ أي المرء المفروض يَرِثُها أي أخته المفروضة إن فرض هلاكها مع بقائه، والجملة مستأنفة لا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 موضع لها من الإعراب وقد سدت- كما قال أبو البقاء- مسدّ جواب الشرط في قوله تعالى: إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ ذكرا كان أو أنثى، فالمراد بإرثه لها إحراز جميع مالها إذ هو المشروط بانتفاء الولد بالكلية لا إرثه لها في الجملة فإنه يتحقق مع وجود بنتها، والآية كما لم تدل على سقوط الأخوة بغير الولد لم تدل على عدم سقوطهم به، وقد دلت السنة على أنهم لا يرثون مع الأب إذ صح عنه صلّى الله عليه وسلّم «الحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى عصبة ذكر» ولا ريب في أن الأب أولى من الأخ وليس ما ذكر بأول حكمين بين أحدهما بالكتاب والآخر بالسنة فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ عطف على الشرطية الأولى، والضمير لمن يرث بالأخوة وتثنيته محمولة على المعنى وحكم ما فوق الاثنتين كحكمهما، واستشكل الإخبار عن ضمير التثنية بالاثنتين لأن الخبر لا بد أن يفيد غير ما يفيده المبتدأ، ولهذا لا يصح سيد الجارية مالكها، وضمير التثنية دال على الاثنينية فلا يفيد الإخبار عنه بما ذكر شيئا، وأجيب عن ذلك أن الاثنينية تدل على مجرد التعدد من غير تقييد بكبر أو صغر أو غير ذلك من الأوصاف فكأنه قيل: إنهما يستحقان ما ذكر بمجرد التعدد من غير اعتبار أمر آخر وهذا مفيد، وإليه ذهب الأخفش، ورد بأن ضمير التثنية يدل على ذلك أيضا فعاد الإشكال، وروى مكي عنه أنه أجاب بأن ذلك حمل على معنى من يرث، وأن الأصل والتقدير إن كان من يرث بالأخوة اثنين، وإن كان من يرث ذكورا وإناثا فيما يأتي وإنما قيل: كانَتَا وكانُوا لمطابقة الخبر كما قيل: من كانت أمك، ورد بأنه غير صحيح وليس نظير المثال، لأنه صرح فيه بمن وله لفظ ومعنى، فمن أنث راعى المعنى وهو الأم ولم يؤنث لمراعاة الخبر، ومدلول الخبر فيه مخالف لمدلول الاسم بخلاف ما نحن فيه فإن مدلولهما واحد. وذكر أبو حيان لتخريج الآية وجهين: الأول أن ضمير كانَتَا لا يعود على الأختين بل على الوارثين، وثم صفة محذوفة لاثنتين، والصفة مع الموصوف هو الخبر، والتقدير فَإِنْ كانَتَا أي الوارثتان اثْنَتَيْنِ من الأخوات فيفيد إذ ذاك الخبر ما لا يفيده الاسم، وحذف الصفة لفهم المعنى جائز، والثاني أن يكون الضمير عائدا على الأختين- كما ذكروا- ويكون خبر «كان» محذوفا لدلالة المعنى عليه وإن كان حذفه قليلا، ويكون اثْنَتَيْنِ حالا مؤكدة، والتقدير فإن كانتا أي الأختان له أي للمرء الهالك، ويدل على حذف له وَلَهُ أُخْتٌ. وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أصله وإن كانوا إخوة وأخوات فغلب المذكر بقرينة رِجالًا وَنِساءً الواقع بدلا، وقيل: فيه اكتفاء يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ حكم الكلالة أو أحكامه وشرائعه التي من جملتها حكمها، وإلى هذا ذهب أبو مسلم أَنْ تَضِلُّوا أي كراهة أن تضلوا في ذلك وهو رأي البصريين وبه صرح المبرد. وذهب الكسائي والفراء وغيرهما من الكوفيين إلى تقدير اللام ولا في طرفي إِنِ أي لئلا تضلوا، وقيل: ليس هناك حذف ولا تقدير وإنما المنسبك مفعول يُبَيِّنُ أي يبين لكم ضلالكم، ورجح هذا بأنه من حسن الختام والالتفات إلى أول السورة وهو يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ فإنه سبحانه أمرهم بالتقوى وبين لهم ما كانوا عليه في الجاهلية، ولما تم تفصيله قال عز وجل لهم: إني بينت لكم ضلالكم فاتقوني كما أمرتكم فإن الشر إذا عرف اجتنب، والخير إذا عرف ارتكب، واعترض بأن المبين صريحا هو الحق والضلال يعلم بالمقايسة، فكان الظاهر يبين لكم الحق إلا أن يقال: بيان الحق واضح وبيان الضلال خفي فاحتيج إلى التنبيه عليه وفيه تأمل، وذكر الجلال السيوطي أن حسن الختام في هذه السورة أنها ختمت بآية الفرائض، وفيها أحكام الموت الذي هو آخر أمر كل حي وهي أيضا آخر ما نزل من الأحكام وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ من الأشياء التي من جملتها أحوالكم المتعلقة بمحياكم ومماتكم عَلِيمٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 مبالغ في العلم فيبين لكم ما فيه مصلحتكم ومنفعتكم. هذا ومن باب الإشارة في الآيات: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ستروا ما اقتضاه استعدادهم وَصَدُّوا ومنعوا غيرهم عَنْ سلوك سَبِيلِ اللَّهِ أي الطريق الموصلة إليه قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً لحرمانهم أنفسهم وغيرهم عما فيه النجاة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا منعوا استعدادهم عن حقوقها من الكمال بارتكاب الرذائل لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ لبطلان استعدادهم وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً لجهلهم المركب واعتقادهم الفاسد إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ وهي نيران أشواق نفوسهم الخبيثة وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً لانجذابهم إليها بالطبيعة يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ نهي لليهود، والنصارى عند الكثيرين من ساداتنا، وقد غلا الفريقان في دينهم، أما اليهود فتعمقوا في الظواهر ونفي البواطن فحطوا عيسى عليه السلام عن درجة النبوة والتخلق بأخلاق الله تعالى، وأما النصارى فتعمقوا في البواطن ونفي الظواهر فرفعوا عيسى عليه السلام إلى درجة الألوهية وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ بالجمع بين الظواهر والبواطن والجمع والتفصيل كما هو التوحيد المحمدي إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ الداعي إليه وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ أي حقيقة من حقائقه الدالة عليه وَرُوحٌ مِنْهُ أي أمر قدسي منزه عن سائر النقائص، وذكر الشيخ الأكبر قدس سره أن سبب تخصيص عيسى عليه السلام بهذا الوصف أن النافخ له من حيث الصورة الجبريلية هو الحق تعالى لا غيره فكان بذلك روحا كاملا مظهرا لاسم الله تعالى صادرا من اسم ذاتي ولم يكن صادرا من الأسماء الفرعية كغيره وما كان بينه وبين الله تعالى وسائط كما في أرواح الأنبياء غيره عليهم الصلاة والسلام فإن أرواحهم- وإن كانت من حضرة اسم الله تعالى- لكنها بتوسط تجليات كثيرة من سائر الحضرات الاسمائية فما سمي عيسى عليه السلام روح الله تعالى وكلمته إلا لكونه وجد من باطن أحدية جمع الحضرة الإلهية ولذلك صدرت منه الأفعال الخاصة بالله تعالى من إحياء الموتى وخلق الطير وتأثيره في الجنس العالي والجنس الدون، وكانت دعوته عليه السلام إلى الباطن والعالم القدسي فإن الكلمة إنما هي من باطن اسم الله تعالى وهويته الغيبية، ولذلك طهر الله تعالى جسمه من الأقذار الطبيعية لأنه روح متجسدة في بدن مثالي روحاني إلى آخر ما ذكره الإمام الشعراني في الجواهر والدرر فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ بالجمع والتفصيل وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ لأن ذلك ينافي التوحيد الحقيقي، وعيسى عليه السلام في الحقيقة فإن وجوده بوجود الله تعالى وحياته عليه السلام بحياته جل شأنه وعلمه عليه السلام بعلمه سبحانه إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ وهو الوجود المطلق حتى عن قيد الإطلاق سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ أي أنزهه عن أن يكون موجود غيره متولد منه مجالس له في الوجود لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي ما في سموات الأرواح وأرض الأجساد لأنها مظاهر أسمائه وصفاته عز شأنه نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ في مقام التفصيل إذ كل ما ظهر فهو ممكن والممكن لا وجود له بنفسه فيكون عبدا محتاجا ذليلا مفتقرا غير مستنكف عن ذلة العبودية لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ الذين هم أرواح مجردة وأنوار قدسية محضة، وأما في مقام الجمع، فلا عيسى ولا ملك ولا قرب ولا بعد ولا ولا ... مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ بظهور أنانيته ويستكبر بطغيانه في الظهور بصفاته سَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً بظهور نور وجهه وتجليه بصفة القهر حتى يفنوا بالكلية في عين الجمع فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا الإيمان الحقيقي بمحو الصفات وطمس الذات وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وراعوا تفاصيل الصفات وتجلياتها فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ من جنات صفاته وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بالوجود الموهب لهم بعد الفناء وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وأظهروا الأنانية وَاسْتَكْبَرُوا وطغوا فقال قائلهم: أنا ربكم الأعلى مع رؤيته نفسه فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً باحتجابهم وحرمانهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وهو التوحيد الذاتي وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً وهو التفصيل في عين الجمع فالأول إشارة إلى القرآن، والثاني إلى الفرقان فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ ولم يلتفتوا إلى الأغيار من حيث إنها أغيار فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وهي جنات الأفعال وَفَضْلٍ وهو جنات الصفات وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً وهو الفناء في الذات، أو- الرحمة- جنات الصفات، والفضل- جنات الذات والهداية إليه صراطا مستقيما- الاستقامة على الوحدة في تفاصيل الكثرة، ولا حجر على أرباب الذوق، فكتاب الله تعالى بحر لا تنزفه الدلاء، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل، ونسأله التوفيق لفهم كلامه، وشرح صدورنا بعوائد إحسانه وموائد إنعامه لا رب غيره ولا يرجى إلا خيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 بسم الله الرّحمن الرّحيم سورة المائدة وتسمى أيضا العقود والمنقذة، قال ابن الفرس: لأنها تنقذ صاحبها من ملائكة العذاب وهي مدنية في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة، وقال أبو جعفر بن بشر والشعبي: إنها مدنية إلا قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: 3] فإنه نزل بمكة. وأخرج أبو عبيد عن محمد القرظي قال: «نزلت سورة المائدة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع فيما بين مكة والمدينة وهو على ناقته فانصدعت كتفها فنزل عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذلك من ثقل الوحي» وأخرج غير واحد عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: المائدة آخر سورة نزلت، وأخرج أحمد والترمذي عن ابن عمر أن آخر سورة المائدة والفتح، وقد تقدم آنفا عن البراء أن آخر سورة نزلت براءة، ولعل كلا ذكر ما عنده، وليس في ذلك شيء مرفوع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، نعم أخرج أبو عبيد عن ضمرة بن حبيب وعطية بن قيس قالا: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: المائدة من آخر القرآن تنزيلا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها» وهو غير واف بالمقصود لمكان «من» . واستدل قوم بهذا الخبر على أنه لم ينسخ من هذه السورة شيء، وممن صرح بعدم النسخ عمرو بن شرحبيل والحسن رضي الله تعالى عنهما، كما أخرج ذلك عنهما أبو داود، وأخرج عن الشعبي أنه لم ينسخ منها إلا قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ [المائدة: 2] ، وأخرج ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: نسخ من هذه السورة آيتان آية القلائد وقوله سبحانه: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [المائدة: 42] وادعى بعضهم أن فيها تسع آيات منسوخات، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى. وعدة آيها مائة وعشرون عند الكوفيين، وثلاث وعشرون عند البصريين، واثنان وعشرون عند غيرهم، ووجه اعتلاقها بسورة النساء- على ما ذكره الجلال السيوطي عليه الرحمة- أن سورة النساء قد اشتملت على عدة عقود صريحا وضمنا، فالصريح عقود الأنكحة وعقد الصداق وعقد الحلف وعقد المعاهدة والأمان، والضمني عقد الوصية والوديعة والوكالة والعارية والإجارة، وغير ذلك الداخل في عموم قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [النساء: 58] فناسب أن تعقب بسورة مفتتحة بالأمر بالوفاء بالعقود فكأنه قيل: يا أيها الناس أوفوا بالعقود التي فرغ من ذكرها في السورة التي تمت، وإن كان في هذه السورة أيضا عقود، ووجه أيضا تقديم النساء وتأخير المائدة بأن أول تلك يا أَيُّهَا النَّاسُ [النساء: 1] وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهو أشبه بتنزيل المكي، وأول هذه يا أَيُّهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 الَّذِينَ آمَنُوا [المائدة: 1] وفيها الخطاب بذلك في مواضع وهو أشبه بخطاب المدني، وتقديم العام وشبه المكي أنسب. ثم إن هاتين السورتين في التلازم والاتحاد نظير البقرة وآل عمران، فتانك اتحدا في تقرير الأصول من الوحدانية والنبوة ونحوهما، وهاتان في تقرير الفروع الحكمية. وقد ختمت المائدة في صفة القدرة كما افتتحت النساء بذلك، وافتتحت النساء ببدء الخلق، وختمت المائدة بالمنتهى من البعث والجزاء، فكأنهما سورة واحدة اشتملت على الأحكام من المبدأ إلى المنتهى، ولهذه السورة أيضا اعتلاق بالفاتحة والزهراوين كما لا يخفى على المتأمل. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ الوفاء حفظ ما يقتضيه العقد والقيام بموجبه، ويقال: وفى ووفى وأوفى بمعنى، لكن في المزيد مبالغة ليست في المجرد، وأصل العقد الربط محكما. ثم تجوز به عن العهد الموثوق، وفرق الطبرسي بين العقد والعهد، بأن العقد فيه معنى الاستيثاق والشد ولا يكون إلا بين اثنين، والعهد قد يتفرد به واحد، واختلفوا في المراد بهذه العقود على أقوال: أحدها أن المراد به العهود التي أخذ الله تعالى على عباده بالإيمان به وطاعته فيما أحل لهم أو حرم عليهم وهو مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وثانيهما العقود التي يتعاقدها الناس بينهم كعقد الايمان وعقد النكاح وعقد البيع. ونحو ذلك وإليه ذهب ابن زيد وزيد بن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 أسلم، وثالثها العهود التي كانت تؤخذ في الجاهلية على النصرة والمؤازرة على من ظلم، وروي ذلك عن مجاهد، والربيع وقتادة وغيرهم ورابعها العهود التي أخذها الله تعالى على أهل الكتاب بالعمل بما في التوراة والإنجيل مما يقتضيه التصديق بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وبما جاء به، وروي ذلك عن ابن جريج وأبي صالح، وعليه فالمراد من الَّذِينَ آمَنُوا مؤمنو أهل الكتاب وهو خلاف الظاهر، واختار بعض المفسرين أن المراد بها ما يعم جميع ما ألزمه الله تعالى عباده وعقد عليهم من التكاليف والأحكام الدينية، وما يعقدونه فيما بينهم من عقود الأمانات والمعاملات ونحوهما مما يجب الوفاء به، أو يحسن دينا، ويحمل الأمر على مطلق الطلب ندبا أو وجوبا، ويدخل في ذلك اجتناب المحرمات والمكروهات لأنه أوفق بعموم اللفظ إذ هو جمع محلى باللام وأوفى بعموم الفائدة. واستظهر الزمخشري كون المراد بها عقود الله تعالى عليهم في دينه من تحليل حلاله وتحريم حرامه لما فيه- كما في الكشف- من براعة الاستهلال والتفصيل بعد الإجمال، لكن ذكر فيه أن مختار البعض أولى لحصول الغرضين وزيادة التعميم، وأن السور الكريمة مشتملة على أمهات التكاليف الدينية في الأصول والفروع. ولو لم يكن إلا تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى واعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة: 8] لكفى، وتعقب بما لا يخلو عن نظر. وزعم بعضهم أن فيه نزع الخف قبل الوصول إلى الماء، وما استظهره الزمخشري خال عن ذلك. والأمر فيه هين، وفي القول بالعموم رغب الراغب- كما هو الظاهر- فقد قال: العقود باعتبار المعقود، والعاقد ثلاثة أضرب، عقد بين الله تعالى وبين العبد، وعقد بين العبد ونفسه، وعقد بينه وبين غيره من البشر، وكل واحد باعتبار الموجب له ضربان: ضرب أوجبه العقل وهو ما ركز الله تعالى معرفته في الإنسان فتوصل إليه إما ببديهة العقل، وإما بأدنى نظر دل عليه قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ [الأعراف: 172] الآية، وضرب أوجبه الشرع وهو ما دلنا عليه كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم فذلك ستة أضرب، وكل واحد من ذلك إما أن يلزم ابتداء أو يلزم بالتزام الإنسان إياه، والثاني أربعة أضرب: فالأول واجب الوفاء كالنذور المتعلقة بالقرب نحو أن يقول: عليّ أن أصوم إن عافاني الله تعالى، والثاني مستحب الوفاء به ويجوز تركه كمن حلف على ترك فعل مباح فإن له أن يكفر عن يمينه ويفعل ذلك، والثالث يستحب ترك الوفاء به، وهو ما قال صلّى الله عليه وسلّم: «إذا حلف أحدكم على شيء فرأى غيره خيرا منه فليأت الذي هو خير منه وليكفر عن يمينه» ، والرابع واجب ترك الوفاء به نحو أن يقول: عليّ أن أقتل فلانا المسلم، فيحصل من ضرب ستة في أربعة أربعة وعشرون ضربا وظاهر الآية يقتضي كل عقد سوى ما كان تركه قربة أو واجبا فافهم ولا تغفل أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ شروع في تفصيل الأحكام التي أمر بإيفائها، وبدأ سبحانه بذلك لأنه مما يتعلق بضروريات المعاش، والبهيمة- من ذوات الأرواح ما لا عقل له مطلقا، وإلى ذلك ذهب الزجاج، وسمي «بهيمة» لعدم تمييزه وإبهام الأمر عليه. ونقل الإمام الشعراني عن شيخه علي الخواص قدس سره أن سبب تسمية البهائم بهائم ليس إلا لكون أمر كلامها وأحوالها أبهم على غالب الخلق لا أن الأمر أبهم عليها، وذكر ما يدل على عقلها وعلمها، وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى. وقال غير واحد: البهيمة اسم لكل ذي أربع من دواب البر والبحر، وإضافته إلى الأنعام للبيان كثوب خز أي أحل لكم أكل البهيمة من الأنعام، وهي الأزواج الثمانية المذكورة في سورتها، واعترض بأن البهيمة اسم جنس، والأنعام نوع منه، فإضافتها إليه كإضافة حيوان إنسان وهي مستقبحة، وأجيب بأن إضافة العام إلى الخاص إذا صدرت من بليغ وقصد بذكره فائدة فحسنة- كمدينة بغداد- فإن لفظ بغداد لما كان غير عربي لم يعهد معناه أضيف إليه مدينة لبيان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 مسماه وتوضيحه- وكشجر الأراك- فإنه لما كان الأراك يطلق على قضبانه أضيف لبيان المراد وهكذا وإلا فلغو زائد مستهجن، وهنا لما كان الأنعام قد يختص بالإبل إذ هو أصل معناه على ما قيل، ولذا لا يقال: النعم إلا لها أضيف إليه بهيمة إشارة إلى ما قصد به، وذكر البهيمة وإفرادها لإرادة الجنس، وجمع الأنعام ليشمل أنواعها وألحق بها الظباء وبقر الوحش، وقيل: هما المراد بالبهيمة ونحوهما مما يماثل الأنعام في الاجترار وعدم الأنياب، وروي ذلك عن الكلبي والفراء، وإضافتها إلى الأنعام حينئذ لملابسة المشابهة بينهما، وجوز بعض المحققين في إضافة المشبه للمشبه به كونها بمعنى اللام على جعل ملابسة المشبه اختصاصا بينهما، أي بمعنى من البيانية على جعل المشبه نفس المشبه به، وفائدة هذه الإضافة هنا الإشعار بعلة الحكم المشتركة بين المتضايفين كأنه قيل: أحلت لكم البهيمة المشبهة بالأنعام التي بين إحلالها فيما سبق لكم المماثلة لها في مناط الحكم، وقيل: المراد ببهيمة الأنعام ما يخرج من بطونها من الأجنة بعد ذكاتها وهي ميتة، وروي ذلك عن ابن عباس وابن عمر- وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهم- فيكون مفاد الآية صريحا حل أكلها، وبه قال الشافعي، واستدل عليه بغير ما خبر، ويفهم منها حل الأنعام، وتقديم الجار والمجرور على القائم مقام الفاعل لإظهار العناية بالمقدم لما فيه من تعجيل المسرة والتشويق إلى ذكر المؤخر. وفي الآية ردّ على المجوس فإنهم حرموا ذبح الحيوانات وأكلها قالوا: لأن ذبحها إيلام والإيلام قبيح خصوصا إيلام من بلغ في العجز إلى حيث لا يقدر أن يدفع عن نفسه والقبيح لا يرضى به الإله الرحيم الحكيم. وزعموا لعنهم الله أن إيلام الحيوانات إنما يصدر من الظلمة دون النور، والتناسخية لم يجوزوا صدور الآلام منه تعالى ابتداء بوجه من الوجوه إلا بطريق المجازاة على ما سبق من اقتراف الجرائم، والتزموا أن البهائم مكلفة عالمة بما يجري عليها من الآلام وأنها مجازاة على فعلها ولولا ذلك لما تصور انزجارها بالآلام عن العود إلى الجريمة بتقدير انتقالها إلى بدن أشرف. وزعم البعض منهم أنه ما من جنس من البهائم إلا وفيهم نبي مبعوث إليهم من جنسهم، بل زعم آخرون أن جميع الجمادات أحياء مكلفة وأنها مجازاة على ما تقترفه من الخير والشر، ونسب نحوا من ذلك الإمام الشعراني إلى السادة الصوفية، وأبى أهل الظاهر ذلك كل الإباء، ولما أشكل على البكرية من المسلمين الجواب عن هذه الشبهة على أصولهم واعتقدوا ورود الأمر بذبح الحيوانات من الله تعالى زعموا أن البهائم لا تتألم وكذلك الأطفال الذين لا يعقلون، ولا يخفى أن ذلك مصادم للبديهة ولا يقصر عن إنكار حياة المذكورين وحركاتهم وحسهم وإدراكهم، وأجاب المعتزلة بما ردّه أهل السنة، وأجابوا بأن الإذن في ذبح الحيوانات تصرف من الله تعالى في خالص ملكه فلا اعتراض عليه، والتحسين والتقبيح العقليان قد طوي بساط الكلام فيهما في علم الكلام وكذا القول بالنور والظلمة، وقال بعض المحققين: لما كان الإنسان أشرف أنواع الحيوانات وبه تمت نسخة العالم لم يقبح عقلا جعل شيء مما دونه غذاء له مأذونا بذبحه وإيلامه اعتناء بمصلحته حسبما تقتضيه الحكمة التي لا يحلق إلى سرها طائر الأفكار، وقال بعض الناس: الآية مجملة لاحتمال أن يكون المراد إحلال الانتفاع بجلدها أو عظمها أو صوفها أو الكل، وفيه نظر لأن ظهور تقدير الأكل مما لا يكاد ينتطح فيه كبشان، نعم ذكر ابن السبكي وغيره أن قوله تعالى: إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ مجمل للجهل بمعناه قبل نزول مبينه، ويسري الإجمال إلى ما تقدم، ولكن ذاك ليس محل النزاع، والاستثناء متصل من بَهِيمَةُ بتقدير مضاف محذوف م ما يُتْلى أي إلا محرم ما يُتْلى عَلَيْكُمْ، وعني بالمحرم الميتة وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ إلى آخر ما ذكر في الآية الثالثة من السورة، أو من فاعل يُتْلى أي إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 آية تحريمه لتكون ما عبارة عن البهيمة المحرمة لا اللفظ المتلو، وجوز اعتبار التجوز في الإسناد من غير تقدير وليس بالبعيد وأما جعله مفرغا من الموجب في موقع الحال أي إلا كائنة على الحالات المتلوة فبعيد- كما قال الشهاب- جدا، وذهب بعضهم إلى أنه منقطع بناء على الظاهر لأن المتلو لفظ، والمستثنى منه ليس من جنسه والأكثرون على الأول، ومحل المستثنى النصب وجوز الرفع على ما حقق في النحو غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ حال من الضمير في لَكُمْ على ما عليه أكثر المفسرين، والصَّيْدِ يحتمل المصدر والمفعول، وقوله تعالى: وَأَنْتُمْ حُرُمٌ حال عما استكن في «محل» والحرم جمع حرام وهو المحرم، ومحصل المعنى أحلت لكم هذه الأشياء لا محلين الاصطياد، أو أكل الصيد في الإحرام، وفسر الزمخشري عدم إجلال الصيد في حالة الإحرام بالامتناع عنه وهم محرمون حيث قال: كأنه قيل: أحللنا لكم بعض الأنعام في حالة امتناعكم عن الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ لئلا يكون عليكم حرج، ولم يحمل الاحلال على اعتقاد الحل ظنّا منه أن تقييد الإحلال بعدم اعتقاد الحل غير موجه، وقد يقال: إن الأمر كذلك لو كان المراد مطلق اعتقاد الحل أما لو كان المراد عدم اعتقاد ناشئ من الشرع ومترتب منه فلا لأن حاله إن لم يكن عين حال الامتناع فليس بالأجنبي عنه كما لا يخفى على المتدبر، وأشار إليه شيخ مشايخنا جرجيس أفندي الاربلي رحمة الله تعالى عليه. واعترض في البحر على ما ذهب إليه الأكثرون بأنه يلزم منه تقييد إحلال بهيمة الأنعام بحال انتفاء حل الصيد وهم حرم، وهي قد أحلت لهم مطلقا فلا يظهر له فائدة إلا إذا أريد ببهيمة الأنعام الصيود المشبهة بها كالظباء وبقر الوحش وحمره، ودفع بأنه مع عدم اطراد اعتبار المفهوم يعلم منه غيره بالطريق الأولى لأنها إذا أحلت في عدم الإحلال لغيرها وهم محرمون لدفع الحرج عنهم، فكيف في غير هذه الحال؟ فيكون بيانا لإنعام الله تعالى عليهم بما رخص لهم من ذلك وبيانا لأنهم في غنية عن الصيد وانتهاك حرمة الحرم. وعبارة الزمخشري كالصريحة في ذلك، ودفعه العلامة الثاني بأن المراد من الْأَنْعامِ ما هو أعم من الإنسي والوحشي مجازا أو تغليبا أو دلالة أو كيفما شئت، وإحلالها على عمومها مختص بحال كونكم غير محلين الصيد في الإحرام إذ معه يحرم البعض وهو الوحش، ولا يخفى أنه توجيه وحشي لا ينبغي لحمزة- غابة التنزيل- أن يقصده من مراصد عباراته، وذهب الأخفش إلى أن انتصاب غَيْرَ على الحالية من ضمير أَوْفُوا وضعف بأن فيه الفصل من الحال وصاحبها بجملة ليست اعتراضية إذ هي مبينة، وتخلل بعض أجزاء المبين بين أجزاء المبين مع ما يجب فيه من تخصيص العقود بما هو واجب أو مندوب في الحج، وإلا فلا يبقى للتقييد بتلك الحال- مع أنهم مأمورون بمطلق العقود مطلقا- وجه. وزعم العلامة أنه أقرب من الأول معنى وإن كان أبعد لفظا، واستدل عليه بما هو على طرف الثمام، ثم قال: ومنهم من جعله حالا من فاعل أحللنا المدلول عليه بقوله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ ويستلزم جعل وَأَنْتُمْ حُرُمٌ أيضا حالا من مقدر أي حال كوننا غير محلين الصيد في حال إحرامكم وليس ببعيد إلا من جهة انتصاب حالين متداخلين من غير ظهور ذي الحال في اللفظ. وتعقبه أبو حيان بأنه فاسد لأنهم نصوا على أن الفاعل المحذوف في مثل هذا يصير نسيا منسيا فلا يجوز وقوع الحال منه، فقد قالوا: لو قلت: أنزل الغيث مجيبا لدعائهم على أن مجيبا حال من فاعل الفعل المبني للمفعول لم يجز لا سيما على مذهب القائلين: بأن المبني للمفعول صيغة أصلية ليست محولة عن المعلوم على أن في التقييد أيضا مقالا، وجعله بعضهم حالا من الضمير المجرور في عَلَيْكُمْ ويرده أن الذي يُتْلى لا يتقيد بحال انتفاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 إحلالهم الصيد وهم حرم، بل هو يتلى عليهم في هذه الحال وفي غيرها، ونقل العلامة البيضاوي عن بعض أن النصب على الاستثناء، وذكر أن فيه تعسفا، وبينه مولانا شيخ الكل في الكل صبغة الله أفندي الحيدري عليه الرحمة بأنه لو كان استثناء لكان إما من الضمير في لَكُمْ أو في أَوْفُوا إذ لا جواز لاستثنائه من بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ وعلى الأول يجب أن يخص البهيمة بما عدا الأنعام مما يماثلها، أو تبقى على العموم لكن بشرط إدارة المماثل فقط في حيز الاستثناء، وأن يجعل قوله تعالى: وَأَنْتُمْ حُرُمٌ من تتمة المستثنى بأن يكون حالا عما استكن في مُحِلِّي ليصح الاستثناء إذ لا صحة له بدون هذين الاعتبارين، فسوق العبارة يقتضي أن يقال: وهم حرم لأن الاستثناء أخرج المحلين من زمرة المخاطبين، واعتبار الالتفات هنا بعيد لكونه رافعا فيما هو بمنزلة كلمة واحدة، وعلى الثاني يجب تخصيص العقود بالتكاليف الواردة في الحج، وتأويل الكلام الطلبي بما يلزمه من الخبر مع ما يلزمه من الفصل بين المستثنى والمستثنى منه بالأجنبي، وكل ذلك تعسف أي تعسف انتهى، وكأنه رحمه الله تعالى لم يذكر احتمال كون الاستثناء من الاستثناء، مع أن القرطبي نقله عن البصريين لأن ذلك فاسد- كما قاله القرطبي وأبو حيان- لا متعسف إذ يلزم عليه إباحة الصيد في الحرم لأن المستثنى من المحرم حلال، نعم ذكر أبو حيان أنه استثناء من بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ على وجه عينه وأنفه التكلف والتعسف فقد قال رحمه الله تعالى: إنما عرض الإشكال في الآية حتى اضطرب الناس في تخريجها من كون رسم مُحِلِّي بالياء فظنوا أنه اسم فاعل من أحل، وأنه مضاف إلى الصيد إضافة اسم الفاعل المتعدي إلى المفعول، وأنه جمع حذف منه النون للإضافة، وأصل غير محلين الصيد. والذي يزول به الإشكال ويتضح المعنى أن يجعل قوله تعالى: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ من باب قولهم: حسان النساء، والمعنى النساء الحسان، وكذا هذا أصله غير الصيد المحل، والمحلّ صفة للصيد لا للناس، ووصف الصيد بأنه محل، إما بمعنى داخل في الحل كما تقول أحل الرجل أي دخل في الحل، وأحرم أي دخل في الحرم، أو بمعنى صار ذا حل أي حلالا بتحليل الله تعالى، ومجيء أفعل على الوجهين المذكورين كثير في لسان العرب، فمن الأول أعرق وأشأم وأيمن وأنجد وأتهم، ومن الثاني أعشبت الأرض وأبقلت، وأغد البعير، وإذا تقرر أن الصيد يوصف بكونه محلا باعتبار الوجهين اتضح كونه استثناء ثانيا، ثم إن كان المراد ب بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ أنفسها فهو استثناء منقطع، أو الظباء ونحوها فمتصل على تفسير المحل بالذي يبلغ الحل في حال كونهم محرمين، «فإن قلت» ما فائدة هذا الاستثناء بقيد بلوغ الحل والصيد الذي في الحرم لا يحل أيضا؟. قلت: الصيد الذي في الحرم لا يحل للمحرم ولا لغير المحرم، والقصد بيان تحريم ما يختص تحريمه بالمحرم. فإن قلت: ما ذكرته من هذا التوجيه الغريب يعكر عليه رسمه في المصحف بالياء والوقف عليه بها. قلت: قد كتبوا في المصحف أشياء تخالف النطق نحو «لأذبحنه» بالألف، والوقف اتبعوا فيه الرسم انتهى. وتعقبه السفاقسي بمثل ما قدمناه من حيث زيادة الياء، وفيها التباس المفرد بالجمع وهم يفرّون من زيادة أو نقصان في الرسم، فكيف يزيدون زيادة ينشأ عنها لبس؟ ومن حيث إضافة الصفة للموصوف وهو غير مقيس، وقال الحلبي: إن فيه خرقا للإجماع فإنهم لم يعربوا غير إلا حالا، وإنما اختلفوا في صاحبها، ثم قال السفاقسي: ويمكن فيه تخريجان: أحدهما أن يكون غير استثناء منقطعا، ومُحِلِّي جمع على بابه، والمراد به الناس الداخلون حل الصيد، أي لكن إن دخلتم حل الصيد فلا يجوز لكم الاصطياد، والثاني أن يكون متصلا من بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ، وفي الكلام حذف مضاف، أي أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا صيد الداخلين حل الاصطياد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ فلا يحل، ويحتمل أن يكون على بابه من التحليل، ويكون الاستثناء متصلا والمضاف محذوف، أي إلا صيد محلي الاصطياد وَأَنْتُمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 حُرُمٌ ، والمراد بالمحلين الفاعلون فعل من يعتقد التحليل فلا يحل، ويكون معناه أن صيد الحرم كالميتة لا يحل أكله مطلقا، ويحتمل أن يكون حالا من ضمير لكم، وحذف المعطوف للدلالة عليه وهو كثير، وتقديره غير محلي الصيد محليه كما قال تعالى: تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] أي والبرد، وهو تخريج حسن. هذا ولا يخفى أن يد الله تعالى مع الجماعة، وأن ما ذكره غيرهم لا يكاد يسلم من الاعتراض. إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ من الأحكام حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم البالغة التي تقف دونها الأفكار، فيدخل فيها ما ذكره من التحليل والتحريم دخولا أوليا، وضمن يَحْكُمُ معنى يفعل، فعداه بنفسه وإلا فهو متعد بالياء يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ لما بين سبحانه حرمة إحلال الحرم الذي هو من شعائر الحج عقب جل شأنه ببيان إحلال سائر الشعائر، وهو جمع شعرة، وهي اسم لما أشعر، أي جعل شعارا وعلامة للنسك من مواقف الحج ومرامي الجمار والطواف والمسعى، والأفعال التي هي علامات الحاج يعرف بها من الإحرام والطواف والسعي والحلق والنحر، وإضافتها إلى الله تعالى لتشريفها وتهويل الخطب في إحلالها، والمراد منه التهاون بحرمتها، وأن يحال بينها وبين المتنسكين بها، وروي عن عطاء أنه فسر الشعائر بمعالم حدود الله تعالى وأمره ونهيه وفرضه، وعن أبي علي الجبائي أن المراد بها العلامات المنصوبة للفرق بين الحل والحرم، ومعنى إحلالها عنده مجاوزتها إلى مكة بغير إحرام، وقيل: هي الصفا والمروة، والهدي من البدن وغيرها، وروي ذلك عن مجاهد وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ أي لا تحلوه بأن تقاتلوا فيه أعداءكم من المشركين- كما روي عن ابن عباس وقتادة- أو بالنسيء كما نقل عن القتيبي، والأول هو الأولى بحال المؤمنين. واختلف في المراد منه فقيل: رجب، وقيل: ذو القعدة، وروي ذلك عن عكرمة، وقيل: الأشهر الأربعة الحرم، واختاره الجبائي والبلخي، وإفراده لإرادة الجنس وَلَا الْهَدْيَ بأن يتعرض له بالغصب أو بالمنع من أن يبلغ محله، والمراد به ما يهدى إلى الكعبة من إبل أو بقر أو شاء، وهو جمع هدية- كجدي وجدية- وهي ما يحشى تحت السرج والرحل، وخص ذلك بالذكر بناء على دخوله في الشعائر لأن فيه نفعا للناس، ولأنه مالي قد يتساهل فيه، وتعظيما له لأنه من أعظمها وَلَا الْقَلائِدَ جمع قلادة وهي ما يقلد به الهدي من نعل أو لحاء شجر أو غيرهما ليعلم أنه هدي فلا يتعرض له، والمراد النهي عن التعرض لذوات القلائد من الهدي وهي البدن، وخصت بالذكر تشريفا لها واعتناء بها، أو التعرض لنفس القلائد مبالغة في النهي عن التعرض لذواتها كما في قوله تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ [النور: 31] فإنهن إذا نهين عن إظهار الزينة كالخلخال والسوار علم النهي عن إبداء محلها بالطريق الأولى، ونقل عن أبي علي الجبائي أن المراد النهي عن إحلال نفس القلائد، وإيجاب التصدق بها إن كانت لها قيمة، وروي ذلك عن الحسن، وروي عن السدي أن المراد من القلائد أصحاب الهدي فإن العرب كانوا يقلدون من لحاء شجر مكة يقيم الرجل بمكة حتى إذا انقضت الأشهر الحرم، وأراد أن يرجع إلى أهله قلد نفسه وناقته من لحاء الشجر فيأمن حتى يأتي أهله، وقال الفراء: أهل الحرم كانوا يتقلدون بلحاء الشجر، وغير أهل الحرم كانوا يتقلدون بالصوف والشعر وغيرهما، وعن الربيع وعطاء أن المراد نهي المؤمنين أن ينزعوا شيئا من شجر الحرم يقلدون به كما كان المشركون يفعلونه في جاهليتهم وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ أي ولا تحلوا أقواما قاصدين البيت الحرام بأن تصدوهم عنه بأي وجه كان، وجوز أن يكون على حذف مضاف أي قتال قوم أو أذى قوم آمِّينَ. وقرىء- ولا آمي البيت الحرام- بالإضافة، والْبَيْتَ مفعول به لا ظرف، ووجه عمل اسم الفاعل فيه ظاهر، وقوله تعالى: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً حال من المستكن في آمِّينَ، وجوز أن يكون صفة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 وضعف بأن اسم الفاعل الموصوف لا يعمل لضعف شبهه بالفعل الذي عمل بالحمل عليه لأن الموصوفية تبعد الشبه بأنها من خواص الأسماء، وأجيب بأن الوصف إنما يمنع من العمل إذا تقدم المعمول، فلو تأخر لم يمنع لمجيئه بعد الفراغ من مقتضاه كما صرح به صاحب اللب وغيره، وتنكير فَضْلًا وَرِضْواناً للتفخيم، ومِنْ رَبِّهِمْ متعلق بنفس الفعل، أو بمحذوف وقع صفة- لفضلا- مغنية عن وصف ما عطف عليه بها، أي فضلا كائنا من ربهم ورضوانا كذلك، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم لتشريفهم والإشعار بحصول مبتغاهم، والمراد بهم المسلمون خاصة، والآية محكمة. وفي الجملة إشارة إلى تعليل النهي واستنكار المنهي عنه كذا قيل، واعترض بأن التعرض للمسلمين حرام مطلقا سواء كانوا آمين أم لا؟ فلا وجه لتخصيصهم بالنهي عن الإحلال، ولذا قال الحسن وغيره: المراد بالآمين هم المشركون خاصة، والمراد من الفضل حينئذ الربح في تجاراتهم، ومن الرضوان ما في زعمهم، ويجوز إبقاء الفضل على ظاهره إذا أريد ما في الزعم أيضا لكنه لما أمكن حمله على ما هو في نفس الأمر كان حمله عليه أولى، ويؤيد هذا القول إن الآية نزلت- كما قال السدي وغيره- في رجل من بني ربيعة يقال له الحطيم بن هند، وذلك أنه أتى إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وحده وخلف خيله خارج المدينة فقال: إلام تدعو الناس؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فقال: حسن إلا أن لي أمراء لا أقطع أمرا دونهم، ولعلي أسلم وآتي بهم، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لأصحابه: يدخل عليكم رجل يتكلم بلسان شيطان ثم خرج من عنده، فلما خرج قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقبى غادر وما الرجل بمسلم، فمر بسرح المدينة فاستاقه وانطلق به وهو يرتجز ويقول: قد لفها بسواق حطم ... ليس براعي إبل ولا غنم ولا بخوار على ظهر قطم ... باتوا نياما وابن هند لم ينم بات يقاسيها غلام كالزلم ... مدملج الساقين ممسوح القدم فطلبه المسلمون فعجزوا، فلما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام قضاء العمرة التي أحصر عنها سمع تلبية حجاج اليمامة فقال صلّى الله عليه وسلّم: هذا الحطيم وأصحابه فدونكموه وكان قد قلد ما نهب من السرح وجعله هديا فلما توجهوا لذلك نزلت الآية فكفوا. وروي عن ابن زيد «أنها نزلت يوم فتح مكة في فوارس يؤمون البيت من المشركين يهلون بعمرة فقال المسلمون: يا رسول الله هؤلاء المشركون مثل هؤلاء، دعنا نغير عليهم، فأنزل الله سبحانه الآية» واختلف القائلون بأن المراد من الآمين المشركون في النسخ وعدمه، فعن ابن جريج أنه لا نسخ لأنه يجوز أن يبتدىء المشركون في الأشهر الحرم بالقتال، وأنت تعلم أن الآية ليست نصا في القتال على تقدير تسليم ما في حيز التعليم، وقال أبو مسلم: إن الآية منسوخة بقوله تعالى: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا [التوبة: 28] ، وقيل: بآية السيف، وقيل: بهما، وقيل: لم ينسخ من هذه الآية إلا القلائد، وروي ذلك عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، وادعى بعضهم أن المراد بالآمين كافة المسلمين والمشركين وخصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ، والنسخ حينئذ في حق المشركين خاصة. وبعض الأئمة يسمي مثل ذلك تخصيصا كما حقق في الأصول، ولا بد على هذا من تفسير الفضل والرضوان بما يناسب الفريقين، وقرأ حميد بن قيس الأعرج تبتغون بالتاء على خطاب المؤمنين، والجملة على ذلك حال من ضمير المخاطبين في لا تُحِلُّوا على أن المراد بيان منافاة حالهم هذه للمنهي عنه لا تقييد النهي بها، واعترض بأنه لو أريد خطاب المؤمنين لكان المناسب من ربكم وربهم وأجيب بأن ترك التعبير بما ذكر للتخويف بأن ربهم يحميهم ولا يرضى بما فعلوه وفيه بلاغة لا تخفى. وإشارة إلى ما مر من أن الله تعالى رب العالمين لا المسلمين فقط، وقال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 شيخ الإسلام: إن إضافة الرب إلى ضمير آمِّينَ على قراءة الخطاب للإيماء إلى اقتصار التشريف عليهم وحرمان المخاطبين عنه وعن نيل المبتغى، وفي ذلك من تعليل النهي وتأكيده والمبالغة في استنكار المنهي عنه ما لا يخفى وَإِذا حَلَلْتُمْ من الإحرام المشار إليه بقوله سبحانه: وَأَنْتُمْ حُرُمٌ فَاصْطادُوا أي فلا جناح عليكم بالاصطياد لزوال المانع، فالأمر للإباحة بعد الحظر ومثله لا تدخلن هذه الدار حتى تؤدي ثمنها فإذا أديت فادخلها أي إذا أديت أبيح لك دخولها، وإلى كون الأمر للإباحة بعد الحظر ذهب كثير. وقال صاحب القواطع: إنه ظاهر كلام الشافعي في أحكام القرآن، ونقله ابن برهان عن أكثر الفقهاء والمتكلمين لأن سبق الحظر قرينة صارفة، وهو أحد ثلاثة مذاهب في المسألة، ثانيها أنه للوجوب لأن الصيغة تقتضيه، ووروده بعد الحظر لا تأثير له، وهو اختيار القاضي أبي الطيب والشيخ أبي إسحاق والسمعاني والإمام في المحصول، ونقله الشيخ أبو حامد الأسفرايني في كتابه عن أكثر الشافعية، ثم قال: وهو قول كافة الفقهاء وأكثر المتكلمين، وثالثها الوقف بينهما، وهو قول إمام الحرمين مع كونه أبطل الوقف في لفظه ابتداء من غير تقدم حظر، ولا يبعد على- ما قاله الزركشي- أن يقال هنا برجوع الحال إلى ما كان قبل، كما قيل في مسألة النهي الوارد بعد الوجوب. ومن قال: إن حقيقة الأمر المذكور للإيجاب قال: إنه مبالغة في صحة المباح حتى كأنه واجب، وقيل: إن الأمر في مثله لوجوب اعتقاد الحل فيكون التجوز في المادة كأنه قيل: اعتقدوا حل الصيد وليس بشيء، وقرىء- أحللتم- وهو لغة في حل، وعن الحسن أنه قرىء فَاصْطادُوا بكسر الفاء بنقل حركة همزة الوصل عليها، وضعفت من جهة العربية بأن النقل إلى المتحرك مخالف للقياس، وقيل: إنه لم يقرأ بكسرة محضة بل أمال لإمالة الطاء، وإن كانت من المستعلية وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ أي لا يحملنكم كما فسره به قتادة، ونقل عن ثعلب والكسائي وغيرهما، وأنشدوا له بقوله: ولقد طعنت أبا عيينة طعنة ... جرمت فزارة بعدها أن تغضبا فجرم على هذا يتعدى لواحد بنفسه، وإلى الآخر بعلى، وقال الفراء وأبو عبيدة: المعنى لا يكسبنكم، وجرم جار مجرى كسب في المعنى، والتعدي إلى مفعول واحد وإلى اثنين يقال: جرم ذنبا نحو كسبه، وجرمته ذنبا نحو كسبته إياه خلا أن جرم يستعمل غالبا في كسب ما لا خير فيه، وهو السبب في إيثاره هاهنا على الثاني، ومنه الجريمة، وأصل مادته موضوعة لمعنى القطع لأن الكاسب ينقطع لكسبه، وقد يقال: أجرمته ذنبا على نقل المتعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين كما يقال: أكسبته ذنبا، وعليه قراءة عبد الله «لا يجرمنكم» بضم الياء شَنَآنُ قَوْمٍ بفتح النون وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم، وإسماعيل عن نافع بسكونها، وفيهما احتمالان: الأول أن يكونا مصدرين بمعنى البغض أو شدته شذوذا لأن فعلان بالفتح مصدر ما يدل على الحركة- كجولان- ولا يكون لفعل متعد كما قال: س، وهذا متعد إذ يقال: شنئته، ولا دلالة له على الحركة إلا على بعد، وفعلان بالسكون في المصادر قليل نحو- لويته ليانا- بمعنى مطلته، والثاني أن يكونا صفتين لأن فعلان في الصفات كثير كسكران، وبالفتح ورد فيها قليلا- كحمار قطوان عسر السير، وتيس عدوان كثير العدو- فإن كان مصدرا فالظاهر أن إضافته إلى المفعول أي إن تبغضوا قوما، وجوز أن تكون إلى الفاعل أي إن يبغضكم قوم، والأول أظهر- كما في البحر- وإن كان وصفا فهو بمعنى بغيض، وإضافته بيانية وليس مضافا إلى مفعوله أو فاعله كالمصدر أي البغيض من بينهم أَنْ صَدُّوكُمْ بفتح الهمزة بتقدير اللام على أنه علة- للشنآن- أي لأن صدوكم عام الحديبية، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر الهمزة على أن أَنْ شرطية، وما قبلها دليل الجواب، أو الجواب على القول المرجوح بجواز تقدمه، وأورد على ذلك أنه لا صد بعد فتح مكة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 وأجيب بأنه للتوبيخ على أن الصدّ السابق على فتح مكة مما لا يصح أن يكون وقوعه إلا على سبيل الفرض، وذلك كقوله تعالى: أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ [الزخرف: 5] وجوز أن يكون بتقدير إن كانوا قد صدوكم، وأن يكون على ظاهره إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ بعد ظهور الإسلام وقوته، ويعلم منه النهي عن ذلك باعتبار الصد السابق بالطريق الأولى عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي عن زيارته والطواف به للعمرة، وهذه- كما قال شيخ الإسلام- آية بينة في عموم آمِّينَ للمشركين قطعا، وجعلها البعض دليلا على تخصيصه بهم أَنْ تَعْتَدُوا أي عليهم، وحذف تعويلا على الظهور، وإيماء إلى أن المقصد الأصلي منع صدور الاعتداء من المخاطبين محافظة على تعظيم الشعائر لا منع وقوعه على القوم مراعاة لجانبهم، وأن على حذف الجار أي على أن تعتدوا، والمحل بعده إما جر، أو نصب على المذهبين أي لا يحملنكم بغض قوم لصدهم إياكم عن المسجد الحرام على اعتدائكم عليهم وانتقامكم منهم للتشفي، أو لا حذف، والمنسبك ثاني مفعولي يَجْرِمَنَّكُمْ أي لا يكسبنكم ذلك اعتداؤكم، وهذا على التقديرين وإن كان بحسب الظاهر نهيا للشنآن عما نسب إليه لكنه في الحقيقة نهي لهم عن الاعتداء على أبلغ وجه وآكده، فإن النهي عن أسباب الشيء ومبادئه المؤدية إليه نهي عنه بالطريق البرهاني وإبطال للسببية، ويقال: لا أرينك هاهنا والمقصود نهي المخاطب على الحضور. ووجه العلامة الطيبي الاعتراض بقوله تعالى: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا بين ما تقدم وبين هذا النهي المتعلق به ليكون إشارة وإدماجا إلى أن القاصدين ما داموا محرمين مبتغين فضلا من ربهم كانوا كالصيد عند المحرم فلا تتعرضوهم، وإذا حللتم أنتم وهم فشأنكم وإياهم لأنهم صاروا كالصيد المباح أبيح لكم تعرضهم حينئذ. وقال شيخ الإسلام: لعل تأخير هذا النهي عن ذلك مع ظهور تعلقه بما قبله للإيذان بأن حرمة الاعتداء لا تنتهي بالخروج عن الإحرام كانتهاء حرمة الاصطياد به بل هي باقية ما لم تنقطع علاقتهم عن الشعائر بالكلية، وبذلك يعلم بقاء حرمة التعرض لسائر الآمّين بالطريق الأولى، ولعله الأولى وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى عطف على وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ من حيث المعنى كأنه قيل: لا تعتدوا على قاصدي المسجد الحرام لأجل أن صددتم عنه وتعاونوا على العفو والإغضاء، وقال بعضهم: هو استئناف والوقف على أَنْ تَعْتَدُوا لازم، واختار غير واحد أن المراد بالبر متابعة الأمر مطلقا، وبالتقوى اجتناب الهوى لتصير الآية من جوامع الكلم وتكون تذييلا للكلام، فيدخل في البر والتقوى جميع مناسك الحج، فقد قال تعالى: فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج: 32] ويدخل العفو والإغضاء أيضا دخولا أوليا، وعلى العموم أيضا حمل قوله تعالى: وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ فيعم النهي كل ما هو من مقولة الظلم والمعاصي، ويندرج فيه النهي عن التعاون على الاعتداء والانتقام. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأبي العالية أنهما فسرا الإثم بترك ما أمرهم به وارتكاب ما نهاهم عنه، والعدوان بمجاوزة ما حده سبحانه لعباده في دينهم وفرضه عليهم في أنفسهم، وقدمت التحلية على التخلية مسارعة إلى إيجاب ما هو المقصود بالذات، وقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ أمر بالاتقاء في جميع الأمور التي من جملتها مخالفة ما ذكر من الأوامر والنواهي، ويثبت وجوب الاتقاء فيها بالطريق البرهاني. إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن لا يتقيه، وهذا في موضع التعليل لما قبله، وإظهار الاسم الجليل لما مر غير مرة حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ شروع في بيان المحرمات التي أشير إليها بقوله سبحانه: إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ والمراد تحريم أكل الميتة، وهي ما فارقه الروح حتف أنفه من غير سبب خارج عنه وَالدَّمُ أي المسفوح منه وكان أهل الجاهلية يجعلونه في المباعر ويشوونه ويأكلونه، وأما الدم غير المسفوح كالكبد فمباح، وأما الطحال فالأكثرون على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 إباحته، وأجمعت الإمامية على حرمته، ورويت الكراهة فيه عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن مسعود رضي الله تعالى عنه وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ إقحام اللحم لما مر، وأخذ داود وأصحابه بظاهره فحرموا اللحم وأباحوا غيره، وظاهر العطف أنه حرام حرمة غيره، وأخرج عبد الرزاق في المصنف عن قتادة أنه قال: «من أكل لحم الخنزير عرضت عليه التوبة فإن تاب وإلا قتل» وهو غريب، ولعل ذلك لأن أكله صار اليوم من علامات الكفر كلبس الزنار، وفيه تأمل وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أي رفع الصوت لغير الله تعالى عند ذبحه، والمراد بالإهلال هنا ذكر ما يذبح له- كاللات والعزى- وَالْمُنْخَنِقَةُ قال السدي: هي التي يدخل رأسها بين شعبتين من شجرة فتختنق فتموت، وقال الضحاك وقتادة: هي التي تختنق بحبل الصائد فتموت. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كان أهل الجاهلية يخنقون البهيمة ويأكلونها فحرم ذلك على المؤمنين، والأولى أن تحمل على التي ماتت بالخنق مطلقا وَالْمَوْقُوذَةُ أي التي تضرب حتى تموت، قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة والسدي، وهو من وقذته بمعنى ضربته، وأصله أن تضربه حتى يسترخي، ومنه وقذه النعاس أي غلب عليه وَالْمُتَرَدِّيَةُ أي التي تقع من مكان عال أو في بئر فتموت وَالنَّطِيحَةُ أي التي ينطحها غيرها فتموت، وتاؤها للنقل فلا يرد أن فعيل بمعنى مفعول لا يدخله التاء، وقال بعض الكوفيين: إن ذلك حيث ذكر الموصوف مثل- كف خضيب وعين كحيل- وأما إذا حذف فيجوز دخول التاء فيه، ولا حاجة إلى القول بأنها للنقل، وقرىء والمنطوحة وَما أَكَلَ السَّبُعُ أي ما أكل منه السبع فمات وفسر بذلك لأن ما أكله كله لا يتعلق به حكم ولا يصح أن يستثنى منه قوله تعالى: إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ أي إلا ما أدركتموه وفيه بقية حياة يضطرب اضطراب المذبوح وذكيتموه وعن السيدين السندين الباقر والصادق رضي الله تعالى عنهما أن أدنى ما يدرك به الذكاة أن يدركه وهو يحرك الأذن أو الذنب أو الجفن، وبه قال الحسن وقتادة وإبراهيم وطاوس والضحاك وابن زيد، وقال بعضهم: يشترط الحياة المستقرة وهي التي لا تكون على شرف الزوال وعلامتها على ما قيل: أن يضطرب بعد الذبح لا وقته، وعن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الاستثناء راجع إلى جميع ما تقدم ذكره من المحرمات سوى ما لا يقبل الذكاة من الميتة والدم والخنزير وما أكل السبع على تقدير إبقائه على ظاهره، وقيل: هو استثناء من التحريم لا من المحرمات، والمعنى حرم عليكم سائر ما ذكر لكن ما ذكيتم مما أحله الله تعالى بالتذكية فإنه حلال لكم. وروي ذلك عن مالك وجماعة من أهل المدينة، واختاره الجبائي، والتذكية في الشرع قطع الحلقوم والمريء بمحدد، والتفصيل في الفقه، واستدل بالآية على أن جوارح الصيد إذا أكلت مما صادته لم يحل. وقرأ الحسن: «السبع» بسكون الباء، وابن عباس رضي الله تعالى عنهما- وأكيل السبع.. وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ جمع نصاب كحمر وحمار، وقيل: واحد الأنصاب كطنب وأطناب، واختلف فيها فقيل هي حجارة كانت حول الكعبة وكانت ثلاثمائة وستين حجرا، وكان أهل الجاهلية يذبحون عليها- فعلى- على أصلها، ولعل ذبحهم عليها كان علامة لكونه لغير الله تعالى وقيل: هي الأصنام لأنها تنصب فتعبد من دون الله تعالى، وعَلَى إما بمعنى اللام، أو على أصلها بتقدير وما ذبح مسمى على الأصنام. واعترض بأنه حينئذ يكون كالتكرار لقوله سبحانه: وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ والأمر في ذلك هين، والموصول معطوف على المحرمات، وقرىء النُّصُبِ بضم النون وتسكين الصاد تخفيفا، وقرىء بفتحتين، وبفتح فسكون وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ جمع زلم- كجمل- أو زلم- كصرد- وهو القدح، أي وحرم عليكم الاستقسام بالأقداح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 وذلك أنهم- كما روي عن الحسن وغيره- إذا قصدوا فعلا ضربوا ثلاثة أقداح، مكتوب على أحدها أمرني ربي، وعلى الثاني نهاني ربي وأبقوا الثالث غفلا لم يكتب عليه شيء فإن خرج الآمر مضوا لحاجتهم، وإن خرج الناهي تجنبوا، وإن خرج الغفل أجالوها ثانيا، فمعنى الاستقسام طلب معرفة ما قسم لهم دون ما لم يقسم بالأزلام، واستشكل تحريم ما ذكر بأنه من جملة التفاؤل، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يحب الفأل. وأجيب بأنه كان استشارة مع الأصنام واستعانة منهم كما يشير إلى ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أنهم إذا أرادوا ذلك أتوا بيت أصنامهم وفعلوا ما فعلوا فلهذا صار حراما، وقيل: لأن فيه افتراء على الله تعالى إن أريد- بربي- الله تعالى، وجهالة وشركا إن أريد به الصنم، وقيل: لأنه دخول في علم الغيب الذي استأثر الله تعالى به، واعترض بأنا لا نسلم أن الدخول في علم الغيب حرام، ومعنى استئثار الله تعالى بعلم الغيب أنه لا يعلم إلا منه، ولهذا صار استعلام الخير والشر من المنجمين والكهنة ممنوعا حراما بخلاف الاستخارة من القرآن فإنه استعلام من الله تعالى، ولهذا أطبقوا على جوازها ومن ينظر في ترتيب المقدمات أو يرتاض فهو لا يطلب إلا علم الغيب منه سبحانه فلو كان طلب علم الغيب حراما لا نسد طريق الفكر والرياضة، ولا قائل به. وقال الإمام رحمه الله تعالى: لو لم يجز طلب علم الغيب لزم أن يكون علم التعبير كفرا لأنه طلب للغيب، وأن يكون أصحاب الكرامات المدعون للإلهامات كفارا، ومعلوم أن كل ذلك باطل، وتعقب القول- بجواز الاستخارة بالقرآن- بأنه لم ينقل فعلها عن السلف، وقد قيل: إن الإمام مالكا كرهها. وأما ما في فتاوى الصوفية نقلا عن الزندوستي من أنه لا بأس بها وأنه قد فعلها علي كرم الله تعالى وجهه ومعاذ رضي الله تعالى عنه. وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال:- من أراد أن يتفاءل بكتاب الله تعالى فليقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1] سبع مرات، وليقل ثلاث مرات: اللهم بكتابك تفاءلت، وعليك توكلت، اللهم أرني في كتابك ما هو المكتوم من سرك المكنون في غيبك، ثم يتفاءل بأول الصحيفة- ففي النفس منه شيء. وفي كتاب الأحكام للجصاص أن الآية تدل على بطلان القرعة في عتق العبيد لأنها في معنى ذلك بعينه إذا كان فيها إثبات ما أخرجته القرعة من غير استحقاق كما إذا أعتق أحد عبيده عند موته على ما بين في الفقه، ولا يرد أن القرعة قد جازت في قسمة الغنائم مثلا، وفي إخراج النساء لأنا نقول: إنها فيما ذكر لتطييب النفوس والبراءة من التهمة في إيثار البعض ولو اصطلحوا على ذلك جاز من غير قرعة، وأما الحرية الواقعة على واحد من البعيد فيما نحن فيه فغير جائز نقلها عنه إلى غيره، وفي استعمال القرعة النقل، وخالف الشافعي في ذلك، فجوز القرعة في العتق كما جوزها في غيره، وظواهر الأدلة معه، وتحقيق ذلك في موضعه. والحق عندي أن الاستقسام الذي كان يفعله أهل الجاهلية حرام بلا شبهة كما هو نص الكتاب، وأن حرمته ناشئة من سوء الاعتقاد، وأنه لا يخلو عن تشاؤم، وليس بتقاؤل محض، وإن مثل ذلك ليس من الدخول في علم الغيب أصلا بل هو من باب الدخول في الظن، وأن الاستخارة بالقرآن مما لم يرد فيها شيء يعول عليه عن الصدر الأول، وتركها أحب إليّ لا سيما وقد أغنى الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم عنها بما سن من الاستخارة الثابتة في غير ما خبر صحيح، وأن تصديق المنجمين فيما ليس من جنس الخسوف والكسوف مما يخبرون به من الحوادث المستقبلة محظور وليس من علم الغيب ولا دخولا فيه، وإن زعمه الزجاج لبنائه على الأسباب، ونقل الشيخ محيي الدين النووي في شرح مسلم عن القاضي كانت الكهانة في العرب ثلاثة أضرب: أحدها أن يكون للإنسان رئي من الجن يخبره به بما يسترقه من السمع من السماء، وهذا القسم بطل من حين بعث الله تعالى نبينا صلّى الله عليه وسلّم الثاني أن يخبره بما يطرأ ويكون في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 أقطار الأرض وما خفي عنه مما قرب أو بعد، وهذا لا يبعد وجوده، ونفت المعتزلة وبعض المتكلمين هذين الضربين وأحالوهما، ولا استحالة في ذلك ولا بعد في وجوده لكنهم يصدقون ويكذبون، والنهي عن تصديقهم والسماع منهم عام، الثالث المنجمون وهذا الضرب بخلق الله تعالى في بعض الناس قوة ما لكن الكذب فيه أغلب، ومن هذا الفن العرافة فصاحبها عرّاف وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفتها بها- كالزجر والطرق بالحصى- وهذه الأضراب كلها تسمى كهانة، وقد أكذبهم الشرع ونهى عن تصديقهم وإتيانهم انتهى. ولعل النهي عن ذلك لغلبة الكذب في كلامهم ولأن في تصديقهم فتح باب يوصل إلى لظى إذ قد يجر إلى تعطيل الشريعة والطعن فيها لا سيما من العوام، واستثناء ما هو من جنس الكسوف والخسوف لندرة خطئهم فيه بل لعدمه إذا أمكنوا الحساب، ولا كذلك ما يخبرون به من الحوادث إذ قد بنوا ذلك على أوضاع السيارات بعضها مع بعض، أو مع بعض الثوابت ولا شك أن ذلك لا يكفي في الغرض والوقوف على جميع الأوضاع، وما تقتضيه مما يتعذر الوقوف عليه لغير علام الغيوب فليفهم، وقيل: المراد بالاستقسام استقسام الجزور بالأقداح على الأنصباء المعلومة أي طلب قسم من الجزور أو ما قسمه الله تعالى عنهم، ورجح بأنه يناسب ذكره مع محرمات الطعام، وروي عن مجاهد أنه فسر الأزلام بسهام العرب وكعاب فارس التي يتقامرون بها. وعن وكيع أنها أحجار الشطرنج ذلِكُمْ أي الاستقسام بالأزلام، ومعنى البعد فيه الإشارة إلى بعد منزلته في الشر فِسْقٌ أي ذنب عظيم وخروج عن طاعة الله تعالى إلى معصيته لما أشرنا إليه، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن ذلِكُمْ إشارة إلى تناول جميع ما تقدم من المحرمات المعلوم من السياق الْيَوْمَ أي الزمان الحاضر وما يتصل به من الأزمنة الآتية، وقيل: يوم نزول الآية، وروي ذلك عن ابن جريج ومجاهد وابن زيد، وكان- كما رواه الشيخان عن عمر رضي الله تعالى عنه- عصر يوم الجمعة عرفة حجة الوداع، وقيل: يوم دخوله صلّى الله عليه وسلّم مكة لثمان بقين من رمضان سنة تسع، وقيل: سنة ثمان، وهو منصوب على الظرفية بقوله تعالى: يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ واليأس انقطاع الرجاء وهو ضد الطمع. والمراد انقطع رجاؤهم من إبطال دينكم ورجوعكم عنه بتحليل هذه الخبائث وغيرها، أو من أن يغلبوكم عليه لما شاهدوا أن الله تعالى وفى بوعده حيث أظهره على الدين كله. وروي أنه لما نزلت الآية نظر صلّى الله عليه وسلّم في الموقف فلم ير إلا مسلما، ورجح هذا الاحتمال بأنه الأنسب بقوله سبحانه: فَلا تَخْشَوْهُمْ أن يظهروا عليكم وهو متفرع عن اليأس وَاخْشَوْنِ أن أحل بكم عقابي إن خالفتم أمري وارتكبتم معصيتي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ بالنصر والإظهار لأنهم بذلك يجرون أحكام الدين من غير مانع وبه تمامه، وهذا كما تقول: تم لي الملك إذا كفيت ما تخافه، وإلى ذلك ذهب الزجاج، وعن ابن عباس والسدي أن المعنى اليوم أكملت لكم حدودي وفرائضي وحلالي وحرامي بتنزيل ما أنزلت وبيان ما بينت لكم فلا زيادة في ذلك ولا نقصان منه بالنسخ بعد هذا اليوم، وكان يوم عرفة عام حجة الوداع، واختاره الجبائي والبلخي وغيرهما، وادعوا أنه لم ينزل بعد ذلك شيء من الفرائض على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في تحليل ولا تحريم، وأنه عليه الصلاة والسلام لم يلبث بعد سوى أحد وثمانين يوما، ومضى- روحي فداه- إلى الرفيق الأعلى صلّى الله عليه وسلّم. وفهم عمر رضي الله تعالى عنه لما سمع الآية نعي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقد أخرج ابن أبي شيبة عن عنترة «أن عمر رضي الله تعالى عنه لما نزلت الآية بكى فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: ما يبكيك؟ قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء قط إلا نقص فقال عليه الصلاة والسلام: صدقت» ولا يحتج بها على هذا القول على إبطال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 القياس- كما زعم بعضهم- لأن المراد إكمال الدين نفسه ببيان ما يلزم بيانه، ويستنبط منه غيره والتنصيص على قواعد العقائد، والتوقيف على أصول الشرع وقوانين الاجتهاد، وروي عن سعيد بن جبير وقتادة أن المعنى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ حجكم وأقررتكم بالبلد الحرام تحجونه دون المشركين- واختاره الطبري- وقال: يرد على ما روي عن ابن عباس والسدي رضي الله تعالى عنهم أن الله تعالى أنزل بعد ذلك آية الكلالة وهي آخر آية نزلت، واعترض بالمنع، وتقديم الجار للإيذان من أول الأمر بأن الإكمال لمنفعتهم ومصلحتهم، وفيه أيضا تشويق إلى ذكر المؤخر كما في قوله تعالى: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وليس الجار فيه متعلقا- بنعمتي- لأن المصدر لا يتقدم عليه معموله، وقيل: متعلق به ولا بأس بتقدم معمول المصدر إذا كان ظرفا، وإتمام النعمة على المخاطبين بفتح مكة، ودخولها آمنين ظاهرين، وهدم منار الجاهلية ومناسكها، والنهي عن حج المشركين وطواف العريان، وقيل: بإتمام الهداية والتوفيق بإتمام سببهما، وقيل: بإكمال الدين، وقيل: بإعطائهم من العلم والحكمة ما لم يعطه أحدا قبلهم، وقيل: معنى أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي أنجزت لكم وعدي بقوله سبحانه: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً أي اخترته لكم من بين الأديان، وهو الدين عند الله تعالى لا غير وهو المقبول وعليه المدار. وأخرج ابن جبير عن قتادة قال: «ذكر لنا أنه يمثل لأهل كل دين دينهم يوم القيامة، فأما الإيمان فيبشر أصحابه وأهله ويعدهم في الخير حتى يجيء الإسلام فيقول: رب أنت السلام وأنا الإسلام، فيقول: إياك اليوم أقبل وبك اليوم أجزي» وقد نظر في الرضا معنى الاختيار ولذا عدي باللام، ومنهم من جعل الجار- صفة لدين- قدم عليه فانتصب حالا، والْإِسْلامَ ودِيناً مفعولا رَضِيتُ إن ضمن معنى صير، أو دِيناً منصوب على الحالية من الإسلام، أو تمييز من لَكُمْ والجملة- على ما ذهب إليه الكرخي- مستأنفة لا معطوفة على أَكْمَلْتُ وإلا كان مفهوم ذلك أنه لم يرض لهم الإسلام قبل ذلك اليوم دينا، وليس كذلك إذ الإسلام لم يزل دينا مرضيا لله تعالى وللنبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم منذ شرع والجمهور على العطف، وأجيب عن التقييد بأن المراد برضاه سبحانه حكمه جل وعلا باختياره حكما أبديا لا ينسخ وهو كان في ذلك اليوم. وأخرج الشيعة عن أبي سعيد الخدري أن هذه الآية نزلت بعد أن قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لعلي كرم الله تعالى وجهه في غدير خم: من كنت مولاه فعلي مولاه فلما نزلت قال عليه الصلاة والسلام: الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضاء الرب برسالتي وولاية علي كرم الله تعالى وجهه بعدي، ولا يخفى أن هذا من مفترياتهم، وركاكة الخبر شاهدة على ذلك في مبتدأ الأمر، نعم ثبت عندنا أنه صلّى الله عليه وسلّم قال في حق الأمير كرم الله تعالى وجهه هناك: من كنت مولاه فعلي مولاه وزاد على ذلك- كما في بعض الروايات- لكن لا دلالة في الجميع على ما يدعونه من الإمامة الكبرى والزعامة العظمى كما سيأتي إن شاء الله تعالى غير بعيد. وقد بسطنا الكلام عليه في كتابنا النفحات القدسية في رد الإمامية ولم يتم إلى الآن ونسأل الله تعالى إتمامه، ورواياتهم في هذا الفصل ينادي لفظها على وضعها، وقد أكثر منها يوسف إلا والى عليه ما عليه فَمَنِ اضْطُرَّ متصل بذكر المحرمات وما بينهما، وهو سبع جمل- على ما قال الطيبي- اعتراض بما يوجب التجنب عنها، وهو أن تناولها فسق عظيم، وحرمتها من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام المرضي، والاضطرار الوقوع في الضرورة، أي فمن وقع في ضرورة تناول شيء من هذه المحرمات فِي مَخْمَصَةٍ أي مجاعة تخمص لها البطون أن تضمر يخاف معها أو مبادئه غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ أي غير مائل ومنحرف إليه ومختار له بأن يأكل منها زائدا على ما يمسك رمقه، فإن ذلك حرام- كما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة رضي الله تعالى عنهم- وبه قال أهل العراق، وقال أهل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 المدينة: يجوز أن يشبع عند الضرورة، وقيل: المراد غير عاص بأن يكون باغيا، أو عاديا بأن ينتزعها من مضطر آخر أو خارجا في معصيته، وروي هذا أيضا عن قتادة فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لا يؤاخذه بأكله وهو الجواب في الحقيقة، وقد أقيم سببه مقامه، وقيل: إنه مقدر في الكلام يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ شروع في تفصيل المحللات التي ذكر بعضها على وجه الإجمال إثر بيان المحرمات، أخرج ابن جرير والبيهقي في سننه وغيرهما عن أبي رافع قال: «جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فاستأذن عليه فأذن له فأبطأ فأخذ رداءه فخرج إليه وهو قائم بالباب فقال عليه الصلاة والسلام: قد أذنا لك قال: أجل ولكنا لا ندخل بيتا فيه صورة ولا كلب فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو، قال أبو رافع: فأمرني صلّى الله عليه وسلّم أن أقتل كل كلب بالمدينة ففعلت، وجاء الناس فقالوا: يا رسول الله ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها فسكت النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى يسألونك الآية. وأخرج ابن جرير عن عكرمة أن السائل عاصم بن عدي وسعد بن خيثمة وعويم بن ساعدة، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أن السائل عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيان، وقد ضمن السؤال معنى القول، ولذا حكيت به الجملة كما تحكى بالقول، وليس معلقا لأنه وإن لم يكن من أفعال القلوب لكنه سبب للعلم وطريق له، فيعلق كما يعلق خلافا لأبي حيان، فاندفع ما قيل: إن السؤال ليس مما يعمل في الجمل ويتعدى بحرف الجر، فيقال: سئل عن كذا، وادعى بعضهم لذلك أنه بتقدير مضاف أي جواب ماذا، والأول مختار الأكثرين، وضمير الغيبة دون ضمير المتكلم الواقع في كلامهم لما أن يسألون بلفظ الغيبة كما تقول: أقسم زيد ليضربن، ولو قلت: لأضربن جاز، والمسئول نظرا للكلام السابق ما أحل من المطاعم والمآكل، وقيل: إن المسئول ما أحل من الصيد والذبائح قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ أي ما لم تستخبثه الطباع السليمة ولم تنفر عنه، وإلى ذلك ذهب البلخي، وعن أبي علي الجبائي وأبي مسلم هي ما أذن سبحانه في أكله من المأكولات والذبائح والصيد، وقيل: ما لم يرد بتحريمه نص أو قياس، ويدخل في ذلك الإجماع إذ لا بد من استناده لنص وإن لم نقف عليه، والطيب- على هذين القولين- بمعنى الحلال، وعلى الأول بمعنى المستلذ، وقد جاء بالمعنيين وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ عطف على الطيبات بتقدير مضاف على أن ما موصولة، والعائد محذوف أي وصيد ما علمتموه، قيل: والمراد مصدره لأنه الذي أحل بعطفه على الطَّيِّباتُ من عطف الخاص على العام، وقيل: الظاهر أنه لا حاجة إلى جعل الصيد بمعنى المصيد لأنه الحل والحرمة مما يتعلق بالفعل، ويحتمل أن تكون ما شرطية مبتدأ، والجواب فكلوا، والخبر الجواب، والشرط على المختار، والجملة عطف على جملة أُحِلَّ لَكُمُ ولا يحتاج إلى تقدير مضاف. ونقل عن الزمخشري أنه قال بالتقدير فيه، وقال تقديره لا يبطل كون ما شرطية لأن المضاف إلى اسم الشرط في حكم المضاف إليه- كما تقول- غلام من يضرب أضرب- كما تقول- من يضرب أضرب، وتعقب بأنه على ذلك التقدير يصير الخبر خاليا عن ضمير المبتدأ إلا أن يتكلف بجعل مِمَّا أَمْسَكْنَ من وضع الظاهر موضع ضمير ما عَلَّمْتُمْ فافهم، وجوز كونها مبتدأ على تقدير كونها موصولة أيضا، والخبر كلوا، والفاء إنما دخلت تشبيها للموصول باسم الشرط لكنه خلاف الظاهر، ومِنَ الْجَوارِحِ حال من الموصول، أو من ضميره المحذوف، والْجَوارِحِ جمع جارحة، والهاء فيها- كما قال أبو البقاء- للمبالغة، وهي صفة غالبة إذ لا يكاد يذكر معها الموصوف، وفسرت بالكواسب من سباع البهائم والطير، وهو من قولهم: جرح فلان أهله خيرا إذا أكسبهم، وفلان جارحة أهله أي كاسبهم، وقيل: سميت جوارح لأنها تجرح الصيد غالبا. وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما والسدي والضحاك- وهو المروي عن أئمة أهل البيت بزعم الشيعة- أنها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 الكلاب فقط مُكَلِّبِينَ أي معلمين لها الصيد، والمكلب مؤدب الجوارح ومضربها بالصيد، وهو مشتق من الكلب لهذا الحيوان المعروف لأن التأديب كثيرا ما يقع فيه أو لأن كل سبع يسمى كلبا على ما قيل، فقد أخرج الحاكم في المستدرك- وقال: صحيح الإسناد- من حديث أبي نوفل قال: «كان لهب بن أبي لهب يسب النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال صلّى الله عليه وسلّم: اللهم سلط عليه كلبا من كلابك- أو كلبك- فخرج في قافلة يريد الشام فنزلوا منزلا فيه سباع فقال: إني أخاف دعوة محمد صلّى الله عليه وسلّم فجعلوا متاعه حوله وقعدوا يحرسونه فجاء أسد فانتزعه وذهب به» ، ولا يخفى أن في شمول ذلك لسباع الطير نظرا، ولا دلالة في تسمية الأسد كلبا عليه. وجوز أن يكون مشتقا من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة، يقال: هو كلب بكذا إذا كان ضاريا به، وانتصابه على الحالية من فاعل عَلَّمْتُمْ، وفائدتها المبالغة في التعليم لما أن المكلب لا يقع إلا على النحرير في علمه، وعن ابن عباس وابن مسعود والحسن رضي الله تعالى عنهم أنهم قرؤوا مُكَلِّبِينَ بالتخفيف من أكلب، وفعل وأفعل قد يستعملان بمعنى واحد تُعَلِّمُونَهُنَّ حال من ضمير مُكَلِّبِينَ أو استئنافية إن لم تكن ما شرطية وإلا فهي معترضة، وجوز أن تكون حالا ثانية من ضمير عَلَّمْتُمْ ومنع ذلك أبو البقاء بأن العامل الواحد لا يعمل في حالين وفيه نظر، ولم يستحسن جعلها حالا من الْجَوارِحِ للفصل بينهما. مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ من الحيل وطرق التعليم والتأديب، وذلك إما بالإلهام منه سبحانه، أو بالعقل الذي خلقه فيهم جل وعلا، وقيل: المراد مما عرفكم سبحانه أن تعلموه من اتباع الصيد بأن يسترسل بإرسال صاحبه وينزجر بزجره وينصرف بدعائه ويمسك عليه الصيد ولا يأكل منه. ورجح بدلالته على أن المعلم ينبغي أن يكون مكلبا فقيها أيضا، ومن- أجلية، وقيل: تبعيضية أي بعض ما علمكم الله فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ جملة متفرعة على بيان حل صيد الجوارح المعلمة مبينة للمضاف المقدر ومشيرة إلى نتيجة التعليم وأثره، أو جواب للشرط، أو خبر للمبتدأ، ومن- تبعيضية إذ من الممسك ما لا يؤكل كالجلد والعظم وغير ذلك، وقيل: «زائدة على رأي الأخفش وخروج ما ذكر بديهي وما موصولة أو موصوفة، والعائد محذوف أي أمسكنه، وضمير المؤنث للجوارح، وعَلَيْكُمْ متعلق بأمسكن، والاستعلاء مجازي والتقييد بذلك لإخراج ما أمسكنه على أنفسهن، وعلامته أن يأكلن منه فلا يؤكل منه وقد أشار إلى ذلك صلّى الله عليه وسلّم، روى أصحاب السنن عن عدي بن حاتم قال: «سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن صيد الكلب المعلم فقال عليه الصلاة والسلام: إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله تعالى فكل مما أمسك عليك، فإن أكل منه فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه» وإلى هذا ذهب أكثر الفقهاء، وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه والشعبي وعكرمة، وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وأصحابه: إذا أكل الكلب من الصيد فهو غير معلم لا يؤكل صيده، ويؤكل صيد البازي ونحوه وإن أكل، لأن تأديب سباع الطير إلى حيث لا تؤكل متعذر، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقد أخرج عبد بن حميد عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: إذا أكل الكلب فلا تأكل وإذا أكل الصقر فكل، لأن الكلب تستطيع أن تضربه، والصقر لا تستطيع أن تضربه، وعليه إمام الحرمين من الشافعية، وقال مالك والليث: يؤكل وإن أكل الكلب منه، وقد روي عن سلمان وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم أنه إذا أكل الكلب ثلثيه وبقي ثلثه وقد ذكرت اسم الله تعالى عليه فكل وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ الضمير- لما علمتم- كما يدل عليه الخبر السابق، والمعنى سموا عليه عند إرساله وروي ذلك عن ابن عباس والحسن والسدي، وقيل:- لما أمسكن- أي سموا عليه إذا أدركتم ذكاته، وقيل: للمصدر المفهوم من- كلوا- أي سموا الله تعالى على الأكل- وهو بعيد- وإن استظهره أبو حيان، والأمر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 للوجوب عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، وللندب عند الشافعي، وهو على القول الأخير للندب بالاتفاق وَاتَّقُوا اللَّهَ في شأن محرماته، ومنها أكل صيد الجوارح الغير المعلمة إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ أي سريع إتيان حسابه، أو سريع إتمامه إذا شرع فيه، فقد جاء- أنه سبحانه يحاسب الخلق كلهم في نصف يوم- والمراد على التقديرين أنه جل شأنه يؤاخذكم على جميع الأفعال حقيرها وجليلها، وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة وتعليل الحكم، ولعل ذكر هذا إثر بيان حكم الصيد لحث متعاطيه على التقوى لما أنه مظنة التهاون والغفلة عن طاعة الله تعالى فقد رأينا أكثر من يتعاطى ذلك يترك الصلاة ولا يبالي بالنجاسة، والمحتاجون للصيد- الحافظون لدينهم- أعز من الغراب الأبيض وهم مثابون فيه. فقد أخرج الطبراني عن صفوان بن أمية «أن عرفطة بن نهيك التميمي قال: يا رسول الله إني وأهل بيتي مرزوقون من هذا الصيد ولنا فيه قسم وبركة وهو مشغلة عن ذكر الله تعالى، وعن الصلاة في جماعة، وبنا إليه حاجة أفتحله أم تحرمه؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: أحله لأن الله تعالى قد أحله، نعم العمل والله تعالى أولى بالعذر قد كانت قبلي رسل كلهم يصطاد أو يطلب الصيد ويكفيك من الصلاة في جماعة إذا غبت عنها في طلب الرزق حبك الجماعة وأهلها وحبك ذكر الله تعالى وأهله وابتغ على نفسك وعيالك حلالها فإن ذلك جهاد في سبيل الله تعالى» واعلم أن عون الله تعالى في صالح التجار، واستدل بالآية على جواز تعليم الحيوان وضربه للمصلحة لأن التعليم قد يحتاج لذلك، وعلى إباحة اتخاذ الكلب للصيد وقيس به الحراسة، وعلى أنه لا يحل صيد الكلب المجوس، وإلى هذا ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقد روي عنه في المسلم يأخذ كلب المجوسي أو بازه أو صقره أو عقابه فيرسله أنه قال: لا تأكله وإن سميت لأنه من تعليم المجوس، وإنما قال الله تعالى: تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ إعادة هذا الحكم للتأكيد والتوطئة لما بعده، وسبب ذكر اليوم يعلم مما ذكر أمس. وقال النيسابوري: فائدة الإعادة أن يعلم بقاء هذا الحكم عند إكمال الدين واستقراره، والأول أولى. وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ أي حلال، والمراد بالموصول اليهود والنصارى حتى نصارى العرب عندنا، وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه استثنى نصارى بني تغلب، وقال: ليسوا على النصرانية ولم يأخذوا منها إلا شرب الخمر، وإلى ذلك ذهب ابن جبير، وحكاه الربيع عن الشافعي رضي الله تعالى عنه والمراد بطعامهم ما يتناول ذبائحهم وغيرها من الأطعمة- كما روي عن ابن عباس وأبي الدرداء وإبراهيم وقتادة والسدي والضحاك ومجاهد رضوان الله عليهم أجمعين وبه قال الجبائي والبلخي وغيرهم. وفي البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد به الذبائح لأن غيرها لم يختلف في حله وعليه أكثر المفسرين، وقيل: إنه مختص بالحبوب وما لا يحتاج فيه إلى التذكية وهو المروي عند الإمامية عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه، وبه قال جماعة من الزيدية، فلا تحل ذبائحهم عند هؤلاء، وحكم الصابئين حكم أهل الكتاب عند الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه، وقال صاحباه: الصابئة صنفان: صنف يقرؤون الزبور ويعبدون الملائكة، وصنف لا يقرؤون كتابا ويعبدون النجوم، فهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب، وأما المجوس فقد سن بهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم لما روى عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي من طريق الحسن بن محمد بن علي قال: «كتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى مجوس هجر يعرض عليهم الإسلام فمن أسلم قبل ومن أصر ضربت عليه الجزية غير ناكحي نسائهم» وهو وإن كان مرسلا، وفي إسناده قيس بن الربيع- وهو ضعيف- إلا أن إجماع أكثر المسلمين- كما قال البيهقي- عليه يؤكده، واختلف العلماء في حل ذبيحة اليهودي والنصراني إذا ذكر عليها اسم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 غير الله تعالى- كعزير وعيسى عليهما السلام- فقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: لا تحل وهو قول ربيعة، وذهب أكثر أهل العلم إلى أنها تحل- وهو قول الشعبي وعطاء- قالا: فإن الله تعالى قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون. وقال الحسن: إذا ذبح اليهودي والنصراني فذكر اسم غير الله تعالى وأنت تسمع فلا تأكل، فإذا غاب عنك فكل فقد أحل الله تعالى لك وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ قال الزجاج وكثير من المتأخرين: إن هذا خطاب للمؤمنين، والمعنى لا جناح عليكم أيها المؤمنون أن تطعموا أهل الكتاب من طعامكم، فلا تصلح الآية دليلا لمن يرى أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة لأن التحليل حكم، وقد علقه سبحانه بهم فيها كما علق الحكم بالمؤمنين، واعترض على ظاهره بأنه إنما يتأتى لو كان الإطعام بدل الطعام فإن زعموا أن الطعام يقوم مقام الإطعام توسعا ورد الفصل بين المصدر وصلته بخبر المبتدأ، وهو ممتنع فقد صرحوا بأنه لا يجوز إطعام زيد حسن للمساكين وضربك شديد زيدا فكيف جاز وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ؟ وعن بعضهم فإن قيل: ما الحكمة في هذه الجملة وهم كفار لا يحتاجون إلى بياننا؟ أجيب بأن المعنى انظروا إلى ما أحل لكم في شريعتكم فإن أطعمكموه فكلوه ولا تنظروا إلى ما كان محرما عليهم، فإن لحوم الإبل ونحوها كانت محرمة عليهم، ثم نسخ ذلك في شريعتنا، فالآية بيان لنا لا لهم أي اعلموا أن ما كان محرما عليهم مما هو حلال لكم قد أحل لكم أيضا ولذلك لو أطعمونا خنزيرا أو نحوه وقالوا: هو حلال في شريعتنا، وقد أباح الله تعالى لكم طعامنا كذبناهم وقلنا: إن الطعام الذي يحل لكم هو الذي يحل لنا لا غيره، فحاصل المعنى طعامهم حل لكم إذا كان الطعام الذي أحللته لكم، وهذا التفسير معنى قول السدي وغيره فافهمه فقد أشكل على بعض المعاصرين. وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ عطف على الطيبات أو مبتدأ والخبر محذوف لدلالة ما تقدم عليه أي حل لكم أيضا، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من المحصنات، أو من الضمير فيها على ما قاله أبو البقاء، والمراد بهن عند الحسن، والشعبي وإبراهيم العفائف، وعند مجاهد الحرائر، واختاره أبو علي، وعند جماعة العفائف والحرائر، وتخصيصهن بالذكر للبعث على ما هو أولى لا لنفي ما عداهن، فإن نكاح الإماء المسلمات بشرطه صحيح بالاتفاق، وكذا نكاح غير العفائف منهن، وأما الإماء الكتابيات فهن كالمسلمات عند الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وإن كن حربيات كما هو الظاهر، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لا يجوز نكاح الحربيات، وخص الآية بالذميات، واحتج له بقوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: 22] والنكاح مقتض للمودة لقوله تعالى: خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم: 21] قال الجصاص: وهذا عندنا إنما يدل على الكراهة، وأصحابنا يكرهون مناكحة أهل الحرب، وذهبت الإمامية إلى أنه لا يجوز عقد نكاح الدوام على الكتابيات لقوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة: 221] ولقوله سبحانه: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ [الممتحنة: 10] . وأولوا هذه الآية بأن المراد من المحصنات من الذين أوتوا الكتاب اللاتي أسلمن منهن، والمراد من المحصنات من المؤمنات اللاتي كن في الأصل مؤمنات، وذلك أن قوما كانوا يتحرجون من العقد على من أسلمت عن كفر فبين الله تعالى أنه لا حرج في ذلك، وإلى تفسير المحصنات بمن أسلمن ذهب ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أيضا، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر ويأباه النظم، ولذلك زعم بعضهم أن المراد هو الظاهر إلا أن الحل مخصوص بنكاح المتعة وملك اليمين، ووطؤهن حلال بكلا الوجهين عند الشيعة، وأنت تعلم أن هذا أدهى وأمر، ولذلك هرب بعضهم إلى دعوى أن الآية منسوخة بالآيتين المتقدمتين آنفا احتجاجا بما رواه الجارود عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه في ذلك، ولا يصح ذلك من طريق أهل السنة، نعم أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 عنهما قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات وحرم كل ذات دين غير الإسلام» . وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن جابر بن عبد الله «أنه سئل عن نكاح المسلم اليهودية والنصرانية فقال: تزوجناهن زمن الفتح ونحن لا نكاد نجد المسلمات كثيرا فلما رجعنا طلقناهن. وأخرج ابن جرير عن الحسن أنه سئل أيتزوج الرجل المرأة من أهل الكتاب؟ فقال: ما له ولأهل الكتاب وقد أكثر الله تعالى المسلمات فإن كان لا بد فاعلا فليعمد إليها حصانا غير مسافحة، قال الرجل: وما المسافحة؟ قال: هي التي إذا لمح الرجل إليها بعينة اتبعته» إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي مهورهن وهي عوض الاستمتاع بهن- كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره- وتقييد الحل بإيتائها لتأكيد وجوبها لا للاحتراز، ويجوز أن يراد بالإيتاء التعهد والالتزام مجازا، ولعله أقرب من الأول، وإن كان المآل واحدا، و «إذا» ظرف لحل المحذوف، ويحتمل أن تكون شرطية حذف جوابها أي إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ حللن لكم. مُحْصِنِينَ أي إعفاء بالنكاح وهو منصوب على الحال من فاعل آتَيْتُمُوهُنَّ وكذا قوله تعالى: غَيْرَ مُسافِحِينَ، وقيل: هو حال من ضمير مُحْصِنِينَ، وقيل: صفة- لمحصنين- أي غير مجاهرين بالزنا، وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ أي ولا مسرين به، والخدن الصديق يقع على الذكر والأنثى، وقيل: الأول نهي عن الزنا، والثاني نهي عن مخالطتهنّ، ومُتَّخِذِي يحتمل أن يكون مجرورا عطفا على مُسافِحِينَ وزيدت لا لتأكيد النفي المستفاد من غير، ويحتمل أن يكون منصوبا عطفا على غَيْرَ مُسافِحِينَ باعتبار أوجهه الثلاثة وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ أي من ينكر المؤمن به، وهو شرائع الإسلام التي من جملتها ما بين هنا من الأحكام المتعلقة بالحل والحرمة، ويمتنع عن قبولها فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ أي الذي عمله واعتقد أنه قربة له إلى الله تعالى. وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ أي الهالكين، والآية تذييل لقوله تعالى: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ إلخ تعظيما لشأن ما أحله الله تعالى وما حرمه، وتغليظا على من خالف ذلك، فحمل الإيمان على المعنى المصدري وتقدير مضاف- كما قيل- أي بموجب الإيمان، وهو الله تعالى ليس بشيء، وإن أشعر به كلام مجاهد، وضمير الرفع مبتدأ، ومِنَ الْخاسِرِينَ خبره، وفِي متعلقة بما تعلق به الخبر من الكون المطلق، وقيل: بمحذوف دلّ عليه المذكور أي خاسرين في الآخرة، وقيل: بالخاسرين على أن أل معرفة لا موصولة لأن ما بعدها لا يعمل فيما قبلها، وقيل: يغتفر في الظرف ما لا يغتفر في غيره كما في قوله: ربيته (1) حتى إذا ما تمعددا ... كان جزائي بالعصا أن أجلدا هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالإيمان العلمي أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أي بعزائم التكليف، وقال أبو الحسن الفارسي: أمر الله تعالى عباده بحفظ النيات في المعاملات، والرياضات في المحاسبات، والحراسة في الخطرات، والرعاية في المشاهدات، وقال بعضهم: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ عقد القلب بالمعرفة، وعقد اللسان بالثناء، وعقد الجوارح بالخضوع، وقيل: أول عقد عقد على المرء عقد الإجابة له سبحانه بالربوبية وعدم المخالفة بالرجوع إلى ما سواه، والعقد الثاني عقد تحمل الأمانة وترك الخيانة أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ أي أحل لكم جميع أنواع التمتعات والحظوظ بالنفوس السليمة التي لا يغلب عليها السبعية والشره إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ من   (1) قوله: «ربيته» إلخ هكذا بخطه وليس بمستقيم الوزن كما هو ظاهر لمن له إلمام بفن الشعر، فلعل «ما» زيدت من قلمه اه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 التمتعات المنافية للفضيلة والعدالة غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ أي لا متمتعين بالحظوظ في حال تجردكم للسلوك وقصدكم كعبة الوصال وتوجهكم إلى حرم صفات الجمال والجلال إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ فليرض السالك بحكمه ليستريح، ويهدي إلى سبيل رشده يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ من المقامات والأحوال التي يعلم بها السالك إلى حرم ربه سبحانه من الصبر والتوكل والشكر ونحوها أي لا تخرجوا عن حكمها وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وهو وقت الحج الحقيقي وهو وقت السلوك إلى ملك الملوك، وإحلاله بالخروج عن حكمه والاشتغال بما فيه وَلَا الْهَدْيَ وهو النفس المستعدة المعدة للقربان عند الوصول إلى الحضرة، وإحلالها باستعمالها بما يصرفها، أو تكليفها بما يكون سبب مللها وَلَا الْقَلائِدَ وهي ما قلدته النفس من الأعمال الشرعية التي لا يتم الوصول إلا بها، وإحلالها بالتطفيف بها وعدم إيقاعها على الوجه الكامل وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ وهم السالكون، وإحلالهم بتنفيرهم وشغلهم بما يصدهم أو يكسلهم يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ بتجليات الأفعال وَرِضْواناً بتجليات الصفات، وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا أي إذا رجعتم إلى البقاء بعد الفناء فلا جناح عليكم في التمتع وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا أي لا يكسبنكم بغض القوى النفسانية بسبب صدها إياكم عن السلوك أَنْ تَعْتَدُوا عليها، وتقهروها بالكلية فتتعطل أو تضعف عن منافعها، أو لا يكسبنكم بغض قوم من أهاليكم أو أصدقائكم بسبب صدهم إياكم أن تعتدوا عليهم بمقتهم وإضرارهم وإرادة الشر لهم وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى بتدبير تلك القوى وسياستها، أو بمراعاة الأهل والأصدقاء والإحسان إليهم وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ فإن ذلك يقطعكم عن الوصول، وعن سهل أن الْبِرِّ الإيمان وَالتَّقْوى السنة والْإِثْمِ الكفر وَالْعُدْوانِ البدعة، وعن الصادق رضي الله تعالى عنه الْبِرِّ الايمان وَالتَّقْوى الإخلاص وَالْإِثْمَ الكفر وَالْعُدْوانِ المعاصي، وقيل: الْبِرِّ ما توافق عليه العلماء من غير خلاف وَالتَّقْوى مخالفة الهوى وَالْإِثْمَ طلب الرخص وَالْعُدْوانِ التخطي إلى الشبهات وَاتَّقُوا اللَّهَ في هذه الأمور إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ فيعاقبكم بما هو أعلم حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وهي خمود الشهوة بالكلية فإنه رذيلة التفريط المنافية للعفة وَالدَّمُ وهو التمتع بهوى النفس وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ أي وسائر وجوه التمتعات بالحرص والشره وقلة الغيرة وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ من الأعمال التي فعلت رياء وسمعة وَالْمُنْخَنِقَةُ وهي الأفعال الحسنة صورة مع كمون الهوى فيها، وَالْمَوْقُوذَةُ وهي الأفعال التي أجبر عليها الهوى وَالْمُتَرَدِّيَةُ وهي الأفعال المائلة إلى التفريط والنقصان وَالنَّطِيحَةُ وهي الأفعال التي تصدر خوف الفضيحة وزجر المحتسب مثلا وَما أَكَلَ السَّبُعُ وهي الأفعال التي هي من ملائمات القوة الغضبية من الأنفة والحمية النفسانية إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ من الأفعال الحسنة التي تصدر بإرادة قلبية لم يمازجها ما يشينها وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وهو ما يفعله أبناء العادات لا لغرض عقلي أو شرعي وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ بأن تطلبوا السعادة والكمال بالحظوظ والطوالع وتتركوا العمل وتقولوا: لو كان مقدرا لنا لعملنا فإنه ربما كان القدر معلقا بالسعي ذلِكُمْ فِسْقٌ خروج عن الدين الحق لأن فيه الأمر والنهي، والاتكال على المقدر يجعلهما عبثا الْيَوْمَ وهو وقت حصول الكمال يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ بأن يصدّوكم عن طريق الحق فَلا تَخْشَوْهُمْ فإنهم لا يستولون عليكم بعد وَاخْشَوْنِ لتنالوا ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ببيان ما بينت وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي بذلك أو بالهداية إليّ وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ أي الانقياد للانمحاء دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ إلى تناول لذة في مخمصة، وهي الهيجان الشديد للنفس غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ غير منحرف لرذيلة فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فيستر ذلك ويرحم بمدد التوفيق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ من الحقائق التي تحصل لكم بعقولكم وقلوبكم وأرواحكم وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ وهي الحواس الظاهرة والباطنة وسائر القوى والآلات البدنية مُكَلِّبِينَ معلمين لها على اكتساب الفضائل تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ من علوم الأخلاق والشرائع فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ مما يؤدي إلى الكمال وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ بأن تقصدوا أنه أحد أسباب الوصول إليه عز شأنه لا أنه لذة نفسانية وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وهو مقام الفرق والجمع وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ فلا عليكم أن تطعموهم منه بأن تضموا لأهل الفرق جمعا، ولأهل الجمع فرقا وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وهي النفوس المهذبة الكاملة وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي حقوقهن من الكمال اللائق بهن وألحقتموهن بالمحصنات من المؤمنات مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ بل قاصدين تكميلهن واستيلاء الآثار النافعة منهن لا مجرد الصحبة وإفاضة ماء المعارف من غير ثمرة وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ بأن ينكر الشرائع والحقائق ويمتنع من قبولها فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ بإنكاره الشرائع وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ بإنكاره الحقائق، والظاهر عدم التوزيع، والله تعالى أعلم بمراده، وهو الموفق للصواب. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شروع في بيان الشرائع المتعلقة بدينهم بعد بيان ما يتعلق بدنياهم، ووجه التقديم والتأخير ظاهر إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ أي إذا أردتم القيامة إليها والاشتغال بها، فعبر عن إرادة الفعل بالفعل المسبب عنها مجازا، وفائدة الإيجاز والتنبيه على أن من أراد العبادة ينبغي أن يبادر إليها بحيث لا ينفك الفعل عن الإرادة، وقيل: يجوز أن يكون المراد إذا قصدتم الصلاة، فعبر عن أحد لازمي الشيء بلازمه الآخر وظاهر الآية يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة وإن لم يكن محدثا نظرا إلى عموم الَّذِينَ آمَنُوا من غير اختصاص بالمحدثين، وإن لم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 يكن في الكلام دلالة على تكرار الفعل، وإنما ذلك من خارج على الصحيح، لكن الإجماع على خلاف ذلك، وقد أخرج مسلم وغيره «أنه صلّى الله عليه وسلّم صلّى الخمس بوضوء واحد يوم الفتح فقال عمر رضي الله تعالى عنه: صنعت شيئا لم تكن تصنعه، فقال عليه الصلاة والسلام: عمدا فعلته يا عمر؟؟» يعني بيانا للجواز، فاستحسن الجمهور كون الآية مقيدة، والمعنى إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ محدثين بقرينة دلالة الحال، ولأنه اشترط الحدث في البدل وهو التيمم فلو لم يكن له مدخل في الوضوء مع المدخلية في التيمم لم يكن البدل بدلا، وقوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً صريح في البدلية، وبعض المتأخرين أن في الكلام شرطا مقدرا أي إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا إلخ إن كنتم محدثين لأنه يلائمه كل الملاءمة عطف وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا عليه، وقيل: الأمر للندب، ويعلم الوجوب للمحدث من السنة واستبعد لإجماعهم على أن وجوب الوضوء مستفاد من هذه الآية مع الاحتياج إلى التخصيص بغير المحدثين من غير دليل، وأبعد منه أنه ندب بالنسبة إلى البعض، ووجوب بالنسبة إلى آخرين، وقيل: هو للوجوب، وكان الوضوء واجبا على كل قائم أول الأمر ثم نسخ، فقد أخرج أحمد وأبو داود وابن جرير وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبيهقي والحاكم (1) عن عبد الله بن حنظلة الغسيل «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا كان أو غير طاهر فلما شق ذلك عليه صلّى الله عليه وسلّم أمر بالسواك عند كل صلاة ووضع عنه الوضوء إلا من حدث» ولا يعارض ذلك خبر أن المائدة آخر القرآن نزولا إلخ لأنه ليس في القوة مثله حتى قال العراقي: لم أجده مرفوعا، نعم الاستدلال على الوجوب على كل الأمة أولا، ثم نسخ الوجوب عنهم آخرا بما يدل على الوجوب عليه عليه الصلاة والسلام أولا، ونسخه عنه آخرا لا يخلو عن شيء كما لا يخفى. وأخرج مالك والشافعي وغيرهما عن زيد بن أسلم أن تفسير الآية إِذا قُمْتُمْ من المضاجع يعني النوم إِلَى الصَّلاةِ والأمر عليه ظاهر، ويحكى عن داود: أنه أوجب الوضوء لكل صلاة لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم والخلفاء من بعده كانوا يتوضؤون كذلك، وكان علي كرم الله تعالى وجهه يتوضأ كذلك ويقرأ هذه الآية، وفيه أن حديث عمر رضي الله تعالى عنه يأبى استمرار النبي عليه الصلاة والسلام على ما ذكر، والخبر عن علي كرم الله تعالى وجهه لم يثبت، وفعل الخلفاء لا يدل على أكثر من الندب والاستحباب، وقد ورد «من توضأ على طهر كتب الله تعالى له عشر حسنات» فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ أي أسيلوا عليها الماء، وحد الإسالة أن يتقاطر الماء ولو قطرة عندهما، وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى لا يشترط التقاطر، وأما الدلك فليس من حقيقة الغسل خلافا لمالك فلا يتوقف حقيقته عليه، قيل: ومرجعهم فيه قول العرب: غسل المطر الأرض، وليس في ذلك إلا الإسالة، ومنع بأن وقعه من علو خصوصا مع الشدة والتكرر دلك أيّ دلك. وهم لا يقولونه إلا إذا نظفت الأرض، وهو إنما يكون بدلك، وبأنه غير مناسب للمعنى المعقول من شرعية الغسل، وهو تحسين هيئة الأعضاء الظاهرة للقيام بين يدي الرب سبحانه وتعالى الذي لا يتم بالنسبة إلى سائر المتوضئين إلا بالدلك. وحكي عنه أن الدلك ليس واجبا لذاته، وإنما هو واجب لتحقق وصول الماء فلو تحقق لم يجب- كما قاله ابن الحاج في شرح المنية- ومن الغريب أنه قال: باشتراط الدلك في الغسل ولم يشترط السيلان فيما لو أمر المتوضئ الثلج على العضو فإنه قال: يكفي ذلك وإن لم يذب الثلج ويسيل، ووافقه عليه الأوزاعي مع أن ذلك لا يسمى غسلا أصلا ويبعد قيامه مقامه، وحد الوجه عندنا طولا من مبدأ سطح الجبهة إلى أسفل اللحيين، وعرضا ما بين   (1) قوله: «والحاكم» كذا بخط المؤلف مكررا مع ما قبله فليحرر اه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 شحمتي الأذن لأن المواجهة تقع بهذه الجملة وهو مشتق منها، واشتقاق الثلاثي من المزيد- إذا كان المزيد أشهر في المعنى الذي يشتركان فيه- شائع، وقال العلامة أكمل الدين: إن ما ذكروا من منع اشتقاق الثلاثي من المزيد إنما هو في الاشتقاق الصغير، وأما في الاشتقاق الكبير وهو أن يكون بين كلمتين تناسب في اللفظ والمعنى فهو جائز، ويعطي ظاهر التحديد وجوب إدخال البياض المعترض بين العذار والأذن بعد نباته، وهو قولهما خلافا لأبي يوسف، ويعطي أيضا وجوب الاسالة على شعر اللحية، وقد اختلفت الروايات فيه عن الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه وغيره، فعنه يجب مسح ربعها، وعنه مسح ما يلاقي البشرة، وعنه لا يتعلق به شيء، وهو رواية عن أبي يوسف، وعن أبي يوسف يجب استيعابها، وعن محمد أنه يجب غسل الكل، قيل:- وهو الأصح- وفي الفتاوى الظهيرية، وعليه الفتوى لأنه قام مقام البشرة فتحول الفرض إليه كالحاجب. وقال في البدائع عن ابن شجاع: إنهم رجعوا عما سوى هذا وكل هذا في الكثة، أما الخفيفة التي ترى بشرتها فيجب إيصال الماء إلى ما تحتها ولو أمرّ الماء على شعر الذقن ثم حلقه لا يجب غسل الذقن، وفي البقال: لو قص الشارب لا يجب تخليله، وإن طال وجب تخليله وإيصال الماء إلى الشفتين وكأن وجهه أن قطعة مسنون فلا يعتبر قيامه في سقوط ما تحته بخلاف اللحية فإن إعفاءها هو المسنون، وعد شيخ الإسلام المرغيناني في التجنيس إيصال الماء إلى منابت شعر الحاجبين والشارب من الآداب من غير تفصيل، وأما الشفة فقيل: تبع للفم وقال أبو جعفر: ما انكتم عند انضمامه تبع له وما ظهر فللوجه، وروي هذا التحديد عن ابن عباس وابن عمر والحسن وقتادة والزهري رضوان الله تعالى عليهم أجمعين وغيرهم، وقيل: الوجه كل ما دون منابت الشعر من الرأس إلى منقطع الذقن طولا، ومن الأذن إلى الأذن عرضا ما ظهر من ذلك لعين الناظر، وما بطن كداخل الأنف والفم، وكذا ما أقبل من الأذنين، وروي عن أنس بن مالك وأم سلمة وعمار ومجاهد وابن جبير وجماعة فأوجبوا غسل ذلك كله ولم أر لهم نصا في باطن العين، والظاهر عدم وجوب غسله عندهم لمزيد الحرج وتوقع الضرر، ولهذا صرح البعض بعدم سنية الغسل أيضا، بل قال بعضهم: يكره، نعم يخطر في الذهن رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يوجب غسل باطن العين في الغسل ويفعله، وأنه كان سببا في كف بصره رضي الله تعالى عنه وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ جمع مرفق بكسر ففتح افصح من عكسه، وهو موصل الذراع في العضد، ولعل وجه تسميته بذلك أنه يرتفق به أي يتكئ عليه من اليد، وجمهور الفقهاء على دخولها. وحكي عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال: لا أعلم خلافا في أن المرافق يجب غسلها، ولذلك قيل: «إلى» بمعنى مع كما في قوله تعالى: وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ [هود: 52] ومَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ [آل عمران: 52] [الصف: 14] ، وقيل: هي إنما تفيد معنى الغاية، ومن الأصول المقررة أن ما بعد الغاية إن دخل في المسمى لولا ذكرها دخل وإلا فلا، ولا شك أن المرافق داخلة في المسمى فتدخل، وما أورد على هذا الأصل من أنه لو حلف لا يكلم فلانا إلى غد لا يدخل مع أنه يدخل لو تركت الغاية غير قادح فيه لأن الكلام هنا في مقتضى اللغة والأيمان تبنى على العرف، وجاز أن يخالف العرف اللغة. وذكر بعض المحققين أن إِلَى جاءت وما بعدها داخل في الحكم فيما قبلها، وجاءت وما بعدها غير داخل، فمنهم من حكم بالاشتراك، ومنهم من حكم بظهور الدخول، ومنهم من حكم بظهور انتفاء الدخول، وعليه النحويون، ودخول المرافق ثابت بالسنة، فقد صح عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه أدار الماء عليها. ونقل أصحابنا حكاية عدم دخولها عن زفر، واستدل بتعارض الأشباه وبأن في الدخول في المسمى اشتباها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 أيضا فلا تدخل بالشك، وحديث الإدارة لا يستلزم الافتراض لجواز كونه على وجه السنة كالزيادة في مسح الرأس إلى أن يستوعبه، وأجيب بأنه لا تعارض مع غلبة الاستعمال في الأصل المقرر، وأيضا على ما قال يثبت الإجمال في دخولها فيكون اقتصاره صلّى الله عليه وسلّم على المرفق وقع بيانا للمراد من اليد، فيتعين دخول ما أدخله- واغسل يدك للأكل- من إطلاق اسم الكل على البعض اعتمادا على القرينة. وقال العلامة ابن حجر: دل على دخولها الاتباع والإجماع، بل والآية أيضا بجعل إِلَى غاية للترك المقدر بناء على أن اليد حقيقة إلى المنكب كما هو الأشهر لغة، وكأنه عنى بالإجماع إجماع أهل الصدر الأول وإلا فلا شك في وجود المخالف بعد، وعدوا داود- وكذا الإمام مالك رضي الله تعالى عنه من ذلك- ولي في عد الأخير تردد، فقد نقل ابن هبيرة إجماع الأئمة الأربعة على فرضية غسل اليدين مع المرفقين، قيل: ويترتب على هذا الخلاف أن فاقد اليد من المرفق يجب عليه إمرار الماء على طرف العظم عند القائل بالدخول، ولا يجب عند المخالف لأن محل التكليف لم يبق أصلا كما لو فقد اليد مما فوق المرفق، نعم يندب له غسل ما بقي من العضد محافظة على التحجيل، هذا واستيعاب غسل المأمور به من الأيدي فرض كما هو الظاهر من الآية، فلو لزق بأصل ظفره طين يابس أو نحوه، أو بقي قدر رأس إبرة من موضع الغسل لم يجز ولا يجب نزع الخاتم وتحريكه إذا كان واسعا، والمختار في الضيق الوجوب، وفي الجامع الأصغر إن كان وافر الأظفار وفيها درن أو طين أو عجين جاز في القروي والمدني على الصحيح المفتي به- كما قال الدبوسي- وقيل: يجب إيصال الماء إلى ما تحتها إلا الدرن لتولده منه. وقال الصفار: يجب الإيصال مطلقا إن طال الظفر، واستحسنه ابن الهمام لأن الغسل وإن كان مقصورا على الظواهر لكن إذا طال الظفر بمنزلة عروض الحائل كقطرة شمعة، وفي النوازل يجب في المصري لا القروي لأن دسومة أظفار المصري مانعة من وصول الماء بخلاف القروي، ولو طالت أظفاره حتى خرجت عن رؤوس الأصابع وجب غسلها قولا واحدا، ولو خلق له يدان على المنكب فالتامة هي الأصلية يجب غسلها، والأخرى زائدة فما حاذى منها محل الفرض وجب غسله، وما لا فلا، ومن الغريب أن بعضا من الناس أوجب البداية في غسل الأيدي من المرافق، فلو غسل من رؤوس الأصابع لم يصح وضوءه. وقد حكى ذلك الطبرسي في مجمع البيان، والظاهر أن هذا البعض من الشيعة، ولا أجد لهم في ذلك متمسكا وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ، قيل: الباء زائدة لتعدي الفعل بنفسه وقيل: للتبعيض، وقد نقل ابن مالك عن أبي علي في التذكرة أنها تجيء لذلك، وأنشد: شربن بماء البحر ثم ترفعت ... متى لجج خضر لهن نئيج وقيل: إن العرف نقلها إلى التبعيض في المتعدي، والمفروض في المسح عندنا مقدار الناصية، وهو ربع الرأس من أي جانب كان فوق الأذنين لما روى مسلم عن المغيرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم توضأ فمسح بناصيته والكتاب مجمل في حق الكمية فالتحق بيانا له، والشافعي رضي الله تعالى عنه يمنع ذلك، ويقول: هو مطلق لا مجمل فإنه لم يقصد إلى كمية مخصوصة أجمل فيها، بل إلى الإطلاق فيسقط عنده بأدنى ما يطلق عليه مسح الرأس على أن في حديث المغيرة روايتان: على ناصيته وبناصيته، والأولى لا تقتضي استيعاب الناصية لجواز كون ذكرها لدفع توهم أنه مسح على الفود، أو القذال، فلا يدل على مطلوبكم ولو دل مثل هذا على الاستيعاب لدل- مسح على الخفين- عليه أيضا، ولا قائل به هناك عندنا وعندكم، وإذا رجعنا إلى الثانية كان محل النزاع في الباء كالآية، ويعود التبعيض، ومن هنا قال بعضهم: الأولى أن يستدل برواية أبي داود عن أنس رضي الله تعالى عنه «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتوضأ وعليه عمامة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 قطرية فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه» وسكت عليه أبو داود فهو حجة، وظاهره استيعاب تمام المقدم، وتمام مقدم الرأس هو الربع المسمى بالناصية، ومثله ما رواه البيهقي عن عطاء «أنه صلّى الله عليه وسلّم توضأ فحسر العمامة ومسح مقدم رأسه، أو قال: ناصيته» فإنه حجة وإن كان مرسلا عندنا، وكيف وقد اعتضد بالمتصل؟ بقي شيء وهو أن ثبوت الفعل كذلك لا يستلزم نفي جواز الأقل فلا بد من ضم الملازمة القائلة لو جاز الأقل لفعله مرة تعليما للجواز، وقد يمنع بأن الجواز إذا كان مستفادا من غير الفعل لم يحتج إليه فيه، وهنا كذلك نظرا إلى الآية فإن الباء فيها للتبعيض وهو يفيد جواز الأقل فيرجع البحث إلى دلالة الآية، فيقال حينئذ: إن الباء للإلصاق وهو المعنى المجمع عليه لها بخلاف التبعيض، فإن الكثير من محققي أئمة العربية ينفون كونه معنى مستقلا للباء بخلاف ما إذا كان في ضمن الإلصاق كما فيما نحن فيه، فإن إلصاق الآلة بالرأس الذي هو المطلوب لا يستوعب الرأس، فإذا ألصق فلم يستوعب خرج عن العهدة بذلك البعض، وحينئذ فتعين الربع لأن اليد إنما تستوعب قدره غالبا فلزم. وفي بعض الروايات أن المفروض مقدار ثلاث أصابع، وصححها بعض المشايخ إلى أن الواجب إلصاق اليد والأصابع أصلها، ولذا يلزم كمال دية اليد بقطعها والثلاث أكثرها، وللأكثر حكم الكل، ولا يخفى ما فيه، وإن قيل: إنه ظاهر الرواية، وذهب الإمام مالك رضي الله تعالى عنه والإمام أحمد في أظهر الروايات عنه إلى أنه يجب استيعاب الرأس بالمسح، والإمامية إلى ما ذهب إليه الشافعي رضي الله تعالى عنه، ولو أصاب المطر قدر الفرض سقط عندنا، ولا يشترط إصابته باليد لأن الآلة لم تقصد إلا للإيصال إلى المحل فحيث وصل استغنى عن استعمالها، ولو مسح ببل في يده لم يأخذه من عضو آخر جاز، وإن أخذه لا يجوز، ولو مسح بإصبع واحدة مدها قدر الفرض، وكذا بإصبعين- على ما قيل- لا يجوز خلافا لزفر، وعللوه بأن البلة صارت مستعملة وهو على إشكاله بأن الماء لا يصير مستعملا قبل الانفصال ليستلزم عدم جواز مد الثلاث على القول بأنه لا يجزىء أقل من الربع، والمشهور في ذلك الجواز، واختار شمس الأئمة أن المنع في مد الأصبع والاثنتين غير معلل باستعمال البلة بدليل أنه لو مسح بإصبعين في التيمم لا يجوز مع عدم شيء يصير مستعملا خصوصا إذا تيمم على الحجر الصلد، بل الوجه عنده أنا مأمورون بالمسح باليد والإصبعان منها لا تسميان يدا بخلاف الثلاث لأنها أكثر ما هو الأصل فيها، وهو حسن- كما قال ابن الهمام- لكنه يقتضي تعين الإصابة باليد وهو منتف بمسألة المطر، وقد يدفع بأن المراد تعينها أو ما يقوم مقامها من الآلات عند قصد الإسقاط بالفعل اختيارا غير أن لازمه كون تلك الآية التي هي غير اليد مثلا قدر ثلاث أصابع من اليد حتى لو كان عودا مثلا لا يبلغ ذلك القدر قلنا: بعدم جواز مده، وقد يقال: عدم الجواز بالإصبع بناء على أن البلة تتلاشى وتفرغ قبل بلوغ قدر الفرض بخلاف الإصبعين، فإن الماء يتحمل بين الإصبعين المضمومتين فضل زيادة تحتمل الامتداد إلى قدر الفرض وهذا مشاهد أو مظنون، فوجب إثبات الحكم باعتباره، فعلى اعتبار صحة الاكتفاء بقدر ثلاث أصابع يجوز مد الإصبعين لأن ما بينهما من الماء يمتد قدر إصبع ثالثة، وعلى اعتبار توقف الإجزاء على الربع لا يجوز لأن ما بينهما لا يغلب على الظن إيعابه الربع إلا أن هذا يعكر عليه عدم جواز التيمم بإصبعين فلو أدخل رأسه إناء ماء ناويا للمسح جاز، والماء طهور عند أبي يوسف لأنه لا يعطى له حكم الاستعمال إلا بعد الانفصال والذي لاقى الرأس من أجزائه لصق به فطهره، وغيره لم يلاقه فلا يستعمل. واتفقت الأئمة على أن المسح على العمامة غير مجزىء إلا أحمد فإنه أجاز ذلك بشرط أن يكون من العمامة شيء تحت الحنك رواية واحدة، وهل يشترط أن يكون قد لبسها على طهارة؟ فيه روايتان، واختلفت الرواية عنه أيضا في مسح المرأة على قناعها المستدير تحت حلقها، فروي عنه جواز المسح كعمامة الرجل ذات الحنك وروي عنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 المنع، ونقل عن الأوزاعي والثوري جواز المسح على العمامة، ولم أر حكاية الاشتراط ولا عدمه عنهما، وقد ذكرنا دليل الجواز في كتاب الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وهما العظمان الناتئان من الجانبين عند مفصل الساق والقدم، ومنه الكاعب- وهي الجارية التي تبدو ثديها للنهود- وروى هشام عن محمد أن الكعب هو المفصل الذي في وسط القدم عند معترك الشراك لأن الكعب اسم للمفصل، ومنه كعوب الرمح والذي في وسط القدم مفصل دون ما على الساق، وهذا صحيح في المحرم إذا لم يجد نعلين فإنه يقطع خفيه أسفل من الكعبين، ولعل ذلك مراد محمد، فأما في الطهارة فلا شك أنه ما ذكرنا، وفي الأرجل ثلاث قراءات: واحدة شاذة واثنتان متواترتان أما الشاذة فالرفع- وهي قراءة الحسن- وأما المتواترتان فالنصب، وهي قراءة نافع وابن عامر وحفص والكسائي ويعقوب، والجر وهي قراءة ابن كثير وحمزة وأبي عمرو وعاصم وفي رواية أبي بكر عنه، ومن هنا اختلف الناس في غسل الرجلين ومسحهما. قال الإمام الرازي: فنقل القفال في تفسيره عن ابن عباس وأنس بن مالك وعكرمة والشعبي وأبي جعفر محمد بن علي الباقر رضي الله تعالى عنهم أن الواجب فيها المسح، وهو مذهب الإمامية، وقال جمهور الفقهاء والمفسرين: فرضهما الغسل، وقال داود: يجب الجمع بينهما، وهو قول الناصر للحق من الزيدية، وقال الحسن البصري ومحمد بن جرير الطبري: المكلف مخير بين المسح والغسل وحجة القائلين بالمسح قراءة الجر فإنها تقتضي كون الأرجل معطوفة على الرؤوس فكما وجب المسح فيها وجب فيها والقول إنه جرّ بالجوار كما في قولهم: هذا جحر ضب خرب، وقوله: كان ثبيرا في عرانين وبله ... كبير أناس في بجاد مزمل باطل من وجوه: أولها أن الكسر على الجوار معدود في اللحن الذي قد يتحمل لأجل الضرورة في الشعر، وكلام الله تعالى يجب تنزيهه عنه، وثانيها أن الكسر إنما يصار إليه حيث حصل الأمن من الالتباس كما فيما استشهدوا به، وفي الآية الأمن من الالتباس غير حاصل، وثالثها أن الجر بالجوار إنما يكون بدون حرف العطف، وأما مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب، وردوا قراءة النصب إلى قراءة الجر فقالوا: إنها تقتضي المسح أيضا لأن العطف حينئذ على محل الرؤوس لقربه فيتشاركان في الحكم وهذا مذهب مشهور للنحاة، ثم قالوا أولا: يجوز رفع ذلك بالإخبار لأنها بأسرها من باب الآحاد ونسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز، ثم قال الإمام: واعلم أنه لا يمكن الجواب عن هذا إلا من وجهين: الأول أن الأخبار الكثيرة وردت بإيجاب الغسل، والغسل مشتمل على المسح ولا ينعكس، فكان الغسل أقرب إلى الاحتياط، فوجب المصير إليه، وعلى هذا الوجه يجب القطع بأن غسل الأرجل يقوم مقام مسحها، والثاني أن فرض الأرجل محدود إلى الكعبين، والتحديد إنما جاء في الغسل لا في المسح، والقوم أجابوا عنه من وجهين: الأول أن الكعب عبارة عن العظم الذي تحت مفصل القدم، وعلى هذا التقدير يجب المسح على ظهر القدمين، والثاني أنهم سلموا أن الكعبين عبارة عن العظمين الناتئين من جانبي الساق، إلا أنهم التزموا أنه يجب أن يسمح ظهور القدمين إلى هذين الموضعين وحينئذ لا يبقى هذا السؤال انتهى. ولا يخفى أن بحث الغسل والمسح مما كثر فيه الخصام، وطالما زلت فيه أقدام، وما ذكره الإمام رحمه الله تعالى يدل على أنه راجل في هذا الميدان، وضالع لا يطيق العروج إلى شاوي ضليع تحقيق تبتهج به الخواطر والأذهان، فالنبسط الكلام في تحقيق ذلك رغما لأنوف الشيعة السالكين من السبل كل سبيل حالك، فنقول وبالله تعالى التوفيق، وبيده أزمة التحقيق: إن القراءتين متواترتان بإجماع الفريقين بل بإطباق أهل الإسلام كلهم، ومن القواعد الأصولية عند الطائفتين أن القراءتين المتواترتين إذا تعارضتا في آية واحدة فلهما حكم آيتين، فلا بد لنا أن نسعى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 ونجتهد في تطبيقهما أولا مهما أمكن لأن الأصل في الدلائل الأعمال دون الإهمال كما تقرر عند أهل الأصول ثم نطلب بعد ذلك الترجيح بينهما، ثم إذا لم يتيسر لها الترجيح بينهما نتركهما ونتوجه إلى الدلائل الأخر من السنة، وقد ذكر الأصوليون أن الآيات إذا تعارضت بحيث لا يمكن التوفيق، ثم الترجيح بينهما يرجع إلى السنة فإنها لما لم يمكن لنا العمل بها صارت معدومة في حقنا من حيث العمل وإن تعارضت السنة كذلك نرجع إلى أقوال الصحابة وأهل البيت، أو نرجع إلى القياس عند القائلين بأن قياس المجتهد يعمل به عند التعارض، فلما تأملنا في هاتين القراءتين في الآية وجدنا التطبيق بينهما بقواعدنا من وجهين: الأول أن يحمل المسح على الغسل كما صرح به أبو زيد الأنصاري وغيره من أهل اللغة، فيقال للرجل إذا توضأ: تمسح ويقال: مسح الله تعالى ما بك أي أزال عنك المرض، ومسح الأرض المطر إذا غسلها فإذا عطفت الأرجل على الرؤوس في قراءة الجر لا يتعين كونها ممسوحة بالمعنى الذي يدعيه الشيعة. واعترض ذلك من وجوه: أولها أن فائدة اللفظين في اللغة والشرع مختلفة، وقد فرق الله تعالى بين الأعضاء المغسولة والممسوحة، فكيف يكون معنى الغسل والمسح واحدا؟! وثانيها أن الأرجل إذا كانت معطوفة على الرؤوس- وكان الفرض في الرؤوس المسح الذي ليس بغسل بلا خلاف- وجب أن يكون حكم الأرجل كذلك، وإلا لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، وثالثها أنه لو كان المسح بمعنى الغسل يسقط الاستدلال على الغسل بخبر «أنه صلّى الله عليه وسلّم غسل رجليه» لأنه على هذا يمكن أن يكون مسحها فسمي المسح غسلا. ورابعها أن استشهاد أبي زيد بقولهم: تمسحت للصلاة لا يجدي نفعا لاحتمال أنهم لما أرادوا أن يخبروا عن الطهور بلفظ موجز، ولم يجز أن يقولوا: تغسلت للصلاة لأن ذلك يوهم الغسل، قالوا بدله: تمسحت لأن المغسول من الأعضاء ممسوح أيضا، فتجوزوا بذلك تعويلا على فهم المراد، وذلك لا يقتضي أن يكونوا جعلوا المسح من أسماء الغسل، وأجيب عن الأول بأنّا لا ننكر اختلاف فائدة اللفظين لغة وشرعا ولا تفرقة الله تعالى بين المغسول والممسوح من الأعضاء، لكنا ندعي أن حمل المسح على الغسل في بعض المواضع جائز وليس في اللغة والشرع ما يأباه، على أنه قد ورد ذلك في كلامهم، وعن الثاني بأنا نقدر لفظ امسحوا قبل أرجلكم أيضا وإذا تعدد اللفظ فلا بأس بأن يتعدد المعنى ولا محذور فيه، فقد نقل شارح زبدة الأصول من الإمامية أن هذا القسم من الجمع بين الحقيقة والمجاز جائز بحيث يكون ذلك اللفظ في المعطوف عليه بالمعنى الحقيقي وفي المعطوف بالمعنى المجازي، وقالوا: في آية لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ [النساء: 43] : إن الصلاة في المعطوف عليه بالمعنى الحقيقي الشرعي- وهو الأركان المخصوصة- وفي المعطوف بالمعنى المجازي- وهو المسجد- فإنه محل الصلاة، وادعى ذلك الشارح أن هذا نوع من الاستخدام، وبذلك فسر الآية جمع من مفسري الإمامية وفقهائهم، وعليه فيكون هذا العطف من عطف الجمل في التحقيق، ويكون المسح المتعلق بالرؤوس بالمعنى الحقيقي، والمسح المتعلق بالأرجل بالمعنى المجازي، على أن من أصول الإمامية- كالشافعية- جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز، وكذا استعمال المشترك في معنييه، ويحتمل هنا إضمار الجار تبعا للفعل فتدبر ولا يشكل أن في الآية حينئذ إبهاما ويبعد وقوع ذلك في التنزيل لأنا نقول: إن الآية نزلت بعد ما فرض الوضوء وعلمه عليه الصلاة والسلام روح القدس إياه في ابتداء البعثة بسنين فلا بأس أن يستعمل فيها هذا القسم من الإبهام، فإن المخاطبين كانوا عارفين بكيفية الوضوء ولم تتوقف معرفتهم بها على الاستنباط من الآية، ولم تترك الآية لتعليمهم بل سوقها لإبدال التيمم من الوضوء والغسل في الظاهر، وذكر الوضوء فوق التيمم للتمهيد والغالب فيما يذكر لذلك عدم البيان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 المشبع، وعن الثالث بأن حمل المسح على الغسل لداع لا يستلزم حمل الغسل على المسح بغير داع، فكيف يسقط الاستدلال؟! سبحان الله تعالى هذا هو العجب العجاب. وعن الرابع بأنا لا نسلم أن العدول عن تغسلت لإيهامه الغسل فإن تمسحت يوهم ذلك أيضا بناء على ما قاله من أن المغسول من الأعضاء ممسوح أيضا سلمنا ذلك لكنا لم نقتصر في الاستشهاد على ذلك، ويكفي- مسح الأرض المطر- في الفرض. والوجه الثاني أن يبقى المسح على الظاهر، وتجعل الأرجل على تلك القراءة معطوفة على المغسولات كما في قراءة النصب، والجر للمجاورة، واعترض أيضا من وجوه: الأول والثاني والثالث ما ذكره الإمام من عد الجر بالجوار لحنا وأنه إنما يصار إليه عند أمن الالتباس ولا أمن فيما نحن فيه، وكونه إنما يكون بدون حرف العطف، والرابع أن في العطف على المغسولات سواء كان المعطوف منصوب اللفظ أو مجروره الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة أجنبية ليست اعتراضية وهو غير جائز عند النحاة، على أن الكلام حينئذ من قبيل ضربت زيدا، وأكرمت خالدا وبكرا بجعل بكر عطفا على زيد، أو إرادة أنه مضروب لا مكرم، وهو مستهجن جدا تنفر عنه الطباع، ولا تقبله الأسماع، فكيف يجنح إليه أو يحمل كلام الله تعالى عليه؟! وأجيب عن الأول بأن إمام النحاة الأخفش وأبا البقاء وسائر مهرة العربية وأئمتها جوزوا جر الجوار، وقالوا بوقوعه في الفصيح كما ستسمعه إن شاء الله تعالى، ولم ينكره إلا الزجاج- وإنكاره مع ثبوته في كلامهم- يدل على قصور تتبعه، ومن هنا قالوا: المثبت مقدم على النافي، وعن الثاني بأنا لا نسلم أنه إنما يصار إليه عند أمن الالتباس ولا نقل في ذلك عن النحاة في الكتب المعتمدة، نعم قال بعضهم: شرط حسنه عدم الالتباس مع تضمن نكتة وهو هنا كذلك لأن الغاية دلت على أن هذا المجرور ليس بممسوح إذ المسح لم يوجد مغيا في كلامهم، ولذا لم يغي في آية التيمم، وإنما يغيا الغسل، ولذا غيي في الآية حين احتيج إليه فلا يرد أنه لم يغي غسل الوجه لظهور الأمر فيه، ولا قول المرتضى: إنه لا مانع من تغييه، والنكتة فيه الإشارة إلى تخفيف الغسل حتى كأنه مسح، وعن الثالث بأنهم صرحوا بوقوعه في النعت كما سبق من الأمثلة، وقوله تعالى: عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ [هود: 84] بجر مُحِيطٍ مع أنه نعت للعذاب، وفي التوكيد كقوله: ألا بلغ ذوي الزوجات كلهم ... أن ليس وصل إذا انحلت عرى الذنب بجر- كلهم- على ما حكاه الفراء، وفي العطف كقوله تعالى: وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ [الواقعة: 22، 23] على قراءة حمزة والكسائي، وفي رواية المفضل عن عاصم فإنه مجرور بجوار بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ ومعطوف على وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ [الواقعة: 17] ، وقول النابغة: لم يبق إلا أسير غير منفلت ... وموثق في حبال القد مجنوب بجر- موثق- مع أن العطف على أسير، وقد عقد النحاة لذلك بابا على حدة لكثرته ولما فيه من المشاكلة وقد كثر في الفصيح حتى تعدوا عن اعتباره في الإعراب إلى التثنية والتأنيث وغير ذلك، وكلام ابن الحاجب في هذا المقام لا يعبأ به، وعن الرابع بأن لزوم الفصل بالجملة إنما يخل إذا لم تكن جملة وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ متعلقة بجملة المغسولات فإن كان معناها وامسحوا الأيدي بعد الغسل برؤوسكم فلا إخلال- كما هو مذهب كثير من أهل السنة- من جواز المسح ببقية ماء الغسل، واليد المبلولة من المغسولات، ومع ذلك لم يذهب أحد من أئمة العربية إلى امتناع الفصل بين الجملتين المتعاطفتين، أو معطوف ومعطوف عليه، بل صرح الأئمة بالجواز، بل نقل أبو البقاء إجماع النحويين على ذلك، نعم توسط الأجنبي في كلام البلغاء يكون لنكتة وهي هنا ما أشرنا إليه، أو الإيماء إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 الترتيب، وكون الآية من قبيل ما ذكر من المثال في حيز المنع، وربما تكون كذلك لو كان النظم- وامسحوا رؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين- والواقع ليس كذلك، وقد ذكر بعض أهل السنة أيضا وجها آخر في التطبيق، وهو أن قراءة الجر محمولة على حالة التخفيف، وقراءة النصب على حال دونه، واعترض بأن الماسح على الخف ليس ماسحا على الرجل حقيقة ولا حكما، لأن الخف اعتبر مانعا سراية الحدث إلى القدم فهي طاهرة، وما حل بالخف أزيل بالمسح فهو على الخف حقيقة وحكما، وأيضا المسح على الخف لا يجب إلى الكعبين اتفاقا، وأجيب بأنه يجوز أن يكون لبيان المحل الذي يجزىء عليه المسح لأنه لا يجزىء على ساقه، نعم هذا الوجه لا يخلو عن بعد، والقلب لا يميل إليه، وإن ادعى الجلال السيوطي أنه أحسن ما قيل في الآية، وللإمامية في تطبيق القراءتين وجهان أيضا- لكن الفرق بينهما وبين ما سبق من الوجهين اللذين عند أهل السنة- أن قراءة النصب التي هي ظاهرة في الغسل عند أهل السنة، وقراءة الجر تعاد إليها وعند الإمامية بالعكس، الوجه الأول: أن تعطف الأرجل في قراءة النصب على محل بِرُؤُسِكُمْ فيكون حكم الرؤوس والأرجل كليهما مسحا. الوجه الثاني: أن الواو فيه بمعنى مع من قبيل استوى الماء والخشبة، وفي كلا الوجهين بحث لأهل السنة من وجوه: الأول أن العطف على المحل خلاف الظاهر بإجماع الفريقين، والظاهر العطف على المغسولات والعدول عن الظاهر إلى خلافه بلا دليل لا يجوز وإن استدلوا بقراءة الجر، قلنا: إنها لا تصلح دليلا لما علمت، والثاني أنه لو عطف وَأَرْجُلَكُمْ على محل بِرُؤُسِكُمْ جاز أن نفهم منه معنى الغسل، إذ من القواعد المقررة في العلوم العربية أنه إذا اجتمع فعلان متغايران في المعنى- ويكون لكل منهما متعلق- جاز حذف أحدهما وعطف متعلق المحذوف على متعلق المذكور كأنه متعلقه، ومن ذلك قوله: يا ليت بعلك قد غدا ... متقلدا سيفا ورمحا فإن المراد وحاملا رمحا، ومنه قوله: إذا ما الغانيات برزن يوما ... وزجّجن الحواجب والعيونا فإنه أراد وكحلن العيونا، وقوله: تراه كان مولاه يجدع أنفه ... وعينيه إن مولاه كان له وفر أي يفقئ عينيه إلى ما لا يحصى كثرة، والثالث أن جعل الواو بمعنى مع بدون قرينة مما لا يكاد يجوز، ولا قرينة هاهنا على أنه يلزم كما قيل: فعل المسحين معا بالزمان، ولا قائل به بالاتفاق، بقي لو قال قائل: لا أقنع بهذا المقدار في الاستدلال على غسل الأرجل بهذه الآية ما لم ينضم إليها من خارج ما يقوي تطبيق أهل السنة فإن كلامهم وكلام الإمامية في ذلك عسى أن يكون فرسا رهان، قيل له: إن سنة خير الورى صلّى الله عليه وسلّم وآثار الأئمة رضي الله تعالى عنهم شاهدة على ما يدعيه أهل السنة وهي من طريقهم أكثر من أن تحصى، وأما من طريق القوم، فقد روى العياشي عن علي عن أبي حمزة قال: «سألت أبا هريرة عن القدمين فقال: تغسلان غسلا» . وروى محمد بن النعمان عن أبي بصير عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: «إذا نسيت مسح رأسك حتى غسلت رجليك فامسح رأسك ثم اغسل رجليك» وهذا الحديث رواه أيضا الكلبي وأبو جعفر الطوسي بأسانيد صحيحة بحيث لا يمكن تضعيفها ولا الحمل على التقية لأن المخاطب بذلك شيعي خاص، وروى محمد بن الحسن الصفار عن زيد بن علي عن أبيه عن جده أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه أنه قال: «جلست أتوضأ فأقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما غسلت قدمي قال: يا علي خلل بين الأصابع» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 ونقل الشريف الرضي عن أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه في نهج البلاغة حكاية وضوئه صلّى الله عليه وسلّم وذكر فيه غسل الرجلين، وهذا يدل على أن مفهوم الآية كما قال أهل السنة، ولم يدع أحد منهم النسخ ليتكلف لإثباته كما ظنه من لا وقوف له، وما يزعمه الإمامية من نسبة المسح إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأنس بن مالك وغيرهما كذب مفترى عليهم، فإن أحدا منهم ما روي عنه بطريق صحيح أنه جوز المسح، إلا أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فإنه قال بطريق التعجب: «لا نجد في كتاب الله تعالى إلا المسح ولكنهم أبوا إلا الغسل» ومراده أن ظاهر الكتاب يوجب المسح على قراءة الجر التي كانت قراءته، ولكن الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه لم يفعلوا إلا الغسل، ففي كلامه هذا إشارة إلى قراءة الجر مؤولة متروكة الظاهر بعمل الرسول صلّى الله عليه وسلّم والصحابة رضي الله تعالى عنهم، ونسبة جواز المسح- إلى أبي العالية وعكرمة والشعبي- زور وبهتان أيضا، وكذلك نسبة الجمع بين الغسل والمسح، أو التخيير بينهما إلى الحسن البصري عليه الرحمة، ومثله نسبة التخيير إلى محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ الكبير والتفسير الشهير، وقد نشر رواة الشيعة هذه الأكاذيب المختلفة، ورواها بعض أهل السنة ممن لم يميز الصحيح والسقيم من الأخبار بلا تحقق ولا سند، واتسع الخرق على الراقع، ولعل محمد بن جرير القائل بالتخيير هو محمد بن جرير بن رستم الشيعي صاحب الإيضاح للمترشد في الإمامة لا أبو جعفر محمد بن جرير بن غالب الطبري الشافعي الذي هو من أعلام أهل السنة، والمذكور في تفسير هذا هو الغسل فقط لا المسح ولا الجمع ولا التخيير الذي نسبه الشيعة إليه، ولا حجة لهم في دعوى المسح بما روي عن أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه «أنه مسح وجهه ويديه، ومسح رأسه ورجليه، وشرب فضل طهوره قائما، وقال: إن الناس يزعمون أن الشرب قائما لا يجوز، وقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صنع مثل ما صنعت» وهذا وضوء من لم يحدث لأن الكلام في وضوء المحدث لا في مجرد التنظيف بمسح الأطراف كما يدل عليه ما في الخبر من مسح المغسول اتفاقا، وأما ما روي عن عباد بن تميم عن عمه بروايات ضعيفة أنه صلّى الله عليه وسلّم توضأ ومسح على قدميه فهو كما قال الحفاظ: شاذ منكر لا يصلح للاحتجاج مع احتمال حمل القدمين على الخفين ولو مجازا واحتمال اشتباه القدمين المتخففين بدون المتخففين من بعيد، ومثل ذلك عند من اطلع على أحوال الرواة ما رواه الحسين بن سعيد الأهوازي عن فضالة عن حماد بن عثمان عن غالب بن هذيل قال: «سألت أبا جعفر رضي الله تعالى عنه عن المسح على الرجلين فقال: هو الذي نزل به جبريل عليه السلام» وما روي عن أحمد بن محمد قال: «سألت أبا الحسن موسى بن جعفر رضي الله تعالى عنه عن المسح على القدمين كيف هو؟ فوضع بكفيه على الأصابع ثم مسحهما إلى الكعبين فقلت له: لو أن رجلا قال: بإصبعين من أصابعه هكذا إلى الكعبين أيجزئ؟ قال: لا إلا بكفه كلها» إلى غير ذلك مما روته الإمامية في هذا الباب، ومن وقف على أحوال رواتهم لم يعول على خبر من أخبارهم. وقد ذكرنا نبذة من ذلك في كتابنا- النفحات القدسية في رد الإمامية- على أن لنا أن نقول: لو فرض أن حكم الله تعالى المسح على ما يزعمه الإمامية من الآية فالغسل يكفي عنه ولو كان هو الغسل لا يكفي عنه. فبالغسل يلزم الخروج عن العهدة بيقين دون المسح وذلك لأن الغسل محصل لمقصود المسح من وصول البلل وزيادة، وهذا مراد من عبر بأنه مسح وزيادة، فلا يرد ما قيل: من أن الغسل والمسح متضادان لا يجتمعان في محل واحد كالسواد والبياض، وأيضا كان يلزم الشيعة الغسل لأنه الأنسب بالوجة المعقول من الوضوء وهو التنظيف للوقوف بين يدي رب الأرباب سبحانه وتعالى لأنه الأحوط أيضا لكون سنده متفقا عليه للفريقين كما سمعت دون المسح للاختلاف في سنده، وقال بعض المحققين: قد يلزمهم- بناء على قواعدهم- أن يجوزوا الغسل والمسح ولا يقتصروا على المسح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 فقط، وزعم الجلال السيوطي أنه لا إشكال في الآية بحسب القراءتين عند المخيرين إلا أنه يمكن أن يدعى لغيرهم أن ذلك كان مشروعا أولا ثم نسخ بتعيين الغسل، وبقيت القراءتان ثابتتين في الرسم كما نسخ التخيير بين الصوم والفدية بتعيين الصوم وبقي رسم ذلك ثابتا، ولا يخفى أنه أوهن من بيت العنكبوت وإنه لأوهن البيوت. هذا وأما قراءة الرفع فلا تصلح في الاستدلال للفريقين إذ لكل أن يقدر ما شاء، ومن هنا قال الزمخشري فيها: إنها على معنى وأرجلكم مغسولة أو ممسوحة، لكن ذكر الطيبي أنه لا شك أن تغيير الجملة من الفعلية إلى الاسمية وحذف خبرها يدل على إرادة ثبوتها وظهورها، وأن مضمونها مسلم الحكم ثابت لا يلتبس، وإنما يكون كذلك إذا جعلت القرينة ما علم من منطوق القراءتين ومفهومهما وشوهد وتعورف من فعل الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم، وسمع منهم واشتهر فيما بينهم. وقد قال عطاء: والله ما علمت أن أحدا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسح على القدمين، وكل ذلك دافع لتفسيره هذه القراءة بقوله: وَأَرْجُلَكُمْ مغسولة أو ممسوحة على الترديد لا سيما العدول من الإنشائية إلى الإخبارية المشعر بأن القوم كأنهم سارعوا فيه وهو يخبر عنه انتهى، فالأولى أن يقدر ما هو من جنس الغسل على وجه يبقى معه الإنشاء. وبمجموع ما ذكرنا يعلم ما في كلام الإمام الرازي قدس الله تعالى سره، ونقله مما قدمناه، فاعرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. ثم اعلم أنهم اختلفوا في أن الآية هل تقتضي وجوب النية أم لا؟ فقال الحنفية: إن ظاهره لا يقتضي ذلك، والقول بوجوبها يقتضي زيادة في النص، والزيادة فيه تقتضي النسخ، ونسخ القرآن بخبر الواحد غير واقع بل غير جائز عند الأكثرين، وكذا بالقياس على المذهب المنصور للشافعي رضي الله تعالى عنه- كما قاله المروزي- فإذن لا يصح إثبات النية، وقال بعض الشافعية: إن الآية تقتضي الإيجاب لأن معنى قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إذا أردتم القيام وأنتم محدثون، والغسل وقع جزاء لذلك، والجزاء مسبب عن الشرط فيفيد وجوب الغسل لأجل إرادة الصلاة، وبذلك يثبت المطلوب، وقال آخرون- وعليه المعول عندهم- وجه الاقتضاء أن الوضوء مأمور به فيها وهو ظاهر، وكل مأمور به يجب أن يكون عبادة وإلا لما أمر به، وكل عبادة لا تصح بدون النية لقوله تعالى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ [البينة: 5] والإخلاص لا يحصل إلا بالنية، وقد جعل حالا للعابدين، والأحوال شروط فتكون كل عبادة مشروطة بالنية، وقاسوا أيضا الوضوء على التيمم في كونهما طهارتين للصلاة، وقد وجبت النية في المقيس عليه فكذا في المقيس، ولنا القول بموجب العلة يعني سلمنا أن كل عبادة بنية، والوضوء لا يقع عبادة بدون لكن ليس كلامنا في ذلك بل في أنه لم ينو حتى لم يقع عبادة سببا للثواب فهل يقع الشرط المعتبر للصلاة حتى تصح به أو لا؟ ليس في الآية ولا في الحديث المشهور الذي يوردونه في هذا المقام دلالة على نفيه ولا إثباته، فقلنا: نعم لأن الشرط مقصود التحصيل لغيره لا لذاته، فكيف حصل المقصود وصار كستر العورة؟! وباقي شروط الصلاة التي لا يفتقر اعتبارها إلى أن ينوي، ومن ادعى- أن الشرط وضوء هو عبادة- فعليه البيان، والقياس المذكور على التيمم فاسد، فإن من المتفق عليه أن شرط القياس أن لا يكون شرعية حكم الأصل متأخرة عن حكم الفرع، وإلا لثبت حكم الفرع بلا دليل وشرعية التيمم متأخرة عن الوضوء فلا يقاس الوضوء على التيمم في حكمه، نعم إن قصد الاستدلال بآية التيمم بمعنى أنه لما شرع التيمم بشرط النية ظهر وجوبها في الوضوء وكان معنى القياس أنه لا فارق لم يرد ذلك، وذكر بعض المحققين في الفرق بين الوضوء والتيمم وجهين: الأول أن التيمم ينبئ لغة عن القصد فلا يتحقق بدونه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 بخلاف الوضوء، والثاني أن التراب جعل طهورا في حالة مخصوصة والماء طهور بنفسه كما يستفاد من قوله تعالى: ماءً طَهُوراً [الفرقان: 48] وقوله سبحانه: لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال: 11] فحينئذ يكون القياس فاسدا أيضا. واعترض الوجه الأول بأن النية المعتبرة ليست نية نفس الفعل بل أن ينوي المقصود به الطهارة والصلاة ولو صلاة الجنازة وسجدة التلاوة على ما بين في محله، وإذا كان كذلك فإنما ينبئ عن قصد هو غير المعتبر نية فلا يكون النص بذلك موجبا للنية المعتبرة، ومن هنا يعلم ما في استدلال- بعض الشافعية بآية الوضوء على وجوب النية فيه- السابق آنفا، وذلك لأن المفاد بالتركيب المقدر إنما هو وجوب الغسل لأجل إرادة الصلاة مع الحدث لا إيجاب أن يغسل لأجل الصلاة إذ عقد الجزاء الواقع طلبا بالشرط يفيد طلب مضمون الجزاء إذا تحقق مضمون الشرط، وأن وجوبه اعتبر مسببا عن ذلك، فأين طلبه على وجه مخصوص هو فعله على قصد كونه لمضمون الشرط فتأمل، فقد خفي هذا على بعض الأجلة حتى لم يكافئه بالجواب، والوجه الثاني بأنه إن أريد بالحالة المخصوصة حالة الصلاة فهو مبني على أن الإرادة مرادة في الجملة المعطوفة عليها جملة التيمم. وأنت قد علمت الآن أن لا دلالة فيها على اشتراط النية، وإن أريد حالة عدم القدرة على استعمال الماء فظاهر أن ذلك لا يقتضي إيجاب النية ولا نفيها، واستفاد كون الماء طهورا بنفسه مما ذكر بأن كون المقصود من إنزاله التطهير به، وتسميته طهورا لا يفيد اعتباره مطهرا بنفسه أي رافعا للأمر الشرعي بلا نية، وهو المطلوب بخلاف إزالته الخبث لأن ذلك محسوس أنه مقتضى طبعه ولا تلازم بين إزالته حسا صفة محسوسة وبين كونه يرتفع عند استعماله اعتبار شرعي، والمفاد من لِيُطَهِّرَكُمْ كون المقصود من إنزاله التطهير به، وهذا يصدق مع اشتراط النية- كما قال الشافعي رضي الله تعالى عنه- وعدمه كما قلنا ولا دلالة للأعم على أخص بخصوصه كما هو المقرر فتدبر. واختلفوا أيضا في أنها هل تقتضي وجوب الترتيب أم لا؟ فذهب الحنفية إلى الثاني لأن المذكور فيها الواو وهي لمطلق الجمع على الصحيح المعول عليه عندهم، والشافعية إلى الأول لأن الفاء في- اغسلوا- للتعقيب فتفيد تعقيب القيام إلى الصلاة بغسل الوجه، فيلزم الترتيب بين الوجه وغيره، فيلزم في الكل لعدم القائل بالفصل. وأجيب بأنا لا نسلم إفادتها تعقيب القيام به بل جملة الأعضاء وتحقيقه أن المعقب طلب الغسل وله متعلقات وصل إلى أولها ذكرا بنفسه وإلى الباقي بواسطة الحرف المشترك فاشتركت كلها فيه من غير إفادة طلب تقديم تعليقه ببعضها على بعض في الوجود فصار مؤدى التركيب طلب إعقاب غسل جملة الأعضاء، وهذا نظير قولك: ادخل السوق فاشتر لنا خبزا ولحما حيث كان المفاد إعقاب الدخول بشراء ما ذكر كيفما وقع. وزعم بعضهم أن إفادة النظم للترتيب لأنه لو لم يرد ذلك لأوجب تقديم الممسوح أو تأخيره عن المغسول، ولأنهم يقدمون الأهم فالأهم، وفيه نظر لأن قصارى ما يدل عليه النظم أولوية الترتيب ونحن لا ننكر ذلك، وقال آخرون: الدليل على الترتيب فعله صلّى الله عليه وسلّم فقد توضأ عليه الصلاة والسلام مرتبا، ثم قال: «هذا وضوء لا يقبل الله تعالى الصلاة إلا به» وفيه أن الإشارة كانت لوضوء مرتب موالى فيه فلو دل على فرضية الترتيب لدل على فرضية الموالاة ولا قائل بها عند الفريقين، نعم أقوى دليل لهم قوله صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع: «ابدؤوا بما بدأ الله تعالى به» بناء على أن الأمر للوجوب، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وأجيب عن ذلك بما أجيب إلا أن الاحتياط لا يخفى، وهذا المقدار يكفي في الكلام على هذه الآية، والزيادة- على ذلك ببيان سنن الوضوء ونواقضه وما يتعلق به- مما لا تفهمه الآية كما فعل بعض المفسرين- فضول لا فضل، وإظهار علم يلوح من خلاله الجهل وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً أي عند القيام إلى الصلاة فَاطَّهَّرُوا أي فاغتسلوا على أتم وجه، وقرى «فأطهروا» أي فطهروا أبدانكم، والمضمضة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 والاستنشاق هنا فرض كغسل سائر البدن لأنه سبحانه أضاف التطهير إلى مسمى الواو، وهو جملة بدن كل مكلف، فيدخل كل ما يمكن الإيصال إليه إلا ما فيه حرج كداخل العينين فيسقط للحرج ولا حرج في داخل الفم والأنف فيشملهما نص الكتاب من غير معارض كما شملها قوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أبو داود: «تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وأنقوا البشرة» وكونهما من الفطرة كما جاء في الخبر لا ينفي الوجوب لأنها الدين، وهو أعم منه، وتشعر الآية بأنه لا يجب الغسل على الجنب فورا ما لم يرد فعل ما لا يجوز بدونه ويؤيد ذلك ما صح أنه صلّى الله عليه وسلّم خرج لصلاة الفجر ناسيا أنه جنب حتى إذا وقف تذكر فانصرف راجعا فاغتسل وخرج ورأسه الشريف يقطر ماء وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى مرضا تخافون به الهلاك، أو ازدياده باستعمال الماء. أَوْ عَلى سَفَرٍ أي مستقرين عليه. أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ- من- لابتداء الغاية، وقيل: للتبعيض وهو متعلق- بامسحوا- وقرأ عبد الله- فأموا صعيدا- وقد تقدم تفسير الآية في سورة النساء فليراجع، ولعل التكرير ليتصل الكلام في بيان أنواع الطهارة، ولئلا يتوهم النسخ- على ما قيل- بناء على أن هذه السورة من آخر ما نزل ما يُرِيدُ اللَّهُ بما فرض عليكم من الوضوء إذا قمتم إلى الصلاة والغسل من الجنابة، أو بالأمر بالتيمم لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ أي ضيق في الامتثال، والجعل- يحتمل أن يكون بمعنى الخلق والإيجاد فيتعدى لواحد وهو مِنْ حَرَجٍ ومِنَ زائدة، وعَلَيْكُمْ حينئذ متعلق- بالجعل- وجوز أن يتعلق- بحرج- وإن كان مصدرا متأخرا، ويحتمل أن يكون بمعنى التصيير، فيكون عَلَيْكُمْ هو المفعول الثاني وَلكِنْ يُرِيدُ أي بذلك لِيُطَهِّرَكُمْ أي لينظفكم، فالطهارة لغوية، أو ليذهب عنكم دنس الذنوب، فإن الوضوء يكفر الله تعالى به الخطايا، فقد أخرج مالك ومسلم وابن جرير عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إذا توضأ العبد المسلم فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء- أو مع آخر قطر الماء- فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء- أو مع آخر قطر الماء- فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء- أو مع آخر قطر الماء- حتى يخرج نقيا من الذنوب» فالطهارة معنوية بمعنى تكفير الذنوب لا بمعنى إزالة النجاسة، لأن الحدث ليس نجاسة بلا خلاف، وإطلاق ذلك عليه باعتبار أنه نجاسة حكمية بمعنى كونه مانعا من الصلاة لا بمعنى كونه بحيث يتنجس الطعام أو الشراب الرطب بملاقاة المحدث أو تفسد الصلاة بحمله، وأما تنجس الماء فيما شاع عن الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه، وروي رجوعه عنه فلانتقال المانعية والآثام إليه حكما، وقيل: المراد تطهير القلب عن دنس التمرد عن طاعة الله تعالى. وجوز أن يكون المراد ليطهركم بالتراب إذا أعوزكم التطهر بالماء، والمراد بالتطهر رفع الحدث والمانع الحكمي، وأما ما نقل عن بعض الشافعية- كإمام الحرمين- من أن القول: بأن التراب مطهر قول ركيك، فمراده به منع الطهارة الحسية فلا يرد عليه أنه مخالف للحديث الصحيح «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» والإرادة صفة ذات، وقد شاع تفسيرها، ومفعولها في الموضعين محذوف كما أشير إليه، واللام للعلة، وإلى ذلك ذهب بعض المحققين، وقيل: هي مزيدة والمعنى ما يريد الله أن يجعل عليكم من حرج حتى لا يرخص لكم في التيمم «ولكن يريد أن يطهركم» وضعف بأن ألا تقدر بعد المزيدة، وتعقب بأن هذا مخالف لكلام النحاة، فقد قال الرضي: الظاهر أن تقدر أن بعد اللام الزائدة التي بعد فعل الأمر والإرادة، وكذا في المغني. وغيره، ووقوع هذه اللام بعد الأمر والإرادة في القرآن وكلام العرب شائع مقيس، وهو من مسائل الكتاب قال فيه: سألته- أي الخليل- عن معنى أريد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 لأن يفعل فقال: إنما تريد أن تقول: أريد لهذا كما قال تعالى: وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ [الزمر: 12] انتهى، واختلف فيه النحاة فقال السيرافي: فيه وجهان: أحدهما- ما اختاره البصريون- أن مفعوله مقدر أي أريد ما أريد لأن تفعل، فاللام تعليلية غير زائدة، الثاني أنها زائدة لتأكيد المفعول، وقال أبو علي في التعليق عن المبرد: إن الفعل دال على المصدر فهو مقدر أي أردت وإرادتي لكذا فحذف إرادتي واللام زائدة وهو تكلف بعيد، والمذاهب ثلاثة: أقربها الأول، وأسهلها الثاني- وهو من بليغ الكلام القديم- كقوله: أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل سبيل البلاغة فيه مما يعرفه الذوق السليم قاله الشهاب وَلِيُتِمَّ بشرعه ما هو مطهرة لأبدانكم نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ في الدين، أو ليتم برخصة إنعامه عليكم بالعزائم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمته بطاعتكم إياه فيما أمركم به ونهاكم عنه، ومن لطائف الآية الكريمة- كما قال بعض المحققين- إنها مشتملة على سبعة أمور كلها مثنى: طهارتان أصل وبدل، والأصل اثنان: مستوعب وغير مستوعب، وغير المستوعب- باعتبار الفعل- غسل ومسح، وباعتبار المحل محدود وغير محدود، وأن آلتهما مائع وجامد، وموجبهما حدث أصغر وأكبر، وأن المبيح للعدول إلى البدل مرض أو سفر، وأن الموعود عليهما التطهير وإتمام النعمة، وزاد البعض مثنيات أخر، فإن غير المحدود وجه ورأس، والمحدود يد ورجل، والنهاية كعب ومرفق، والشكر قولي وفعلي. وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وهي نعمة الإسلام، أو الأعم على إرادة الجنس، وأمروا بذلك ليذكرهم المنعم ويرغبهم في شكره وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ أي عهده الذي أخذه عليكم وقوله تعالى: إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا ظرف- لواثقكم به- أو لمحذوف وقع حالا من الضمير المجرور في بِهِ أو من ميثاقه أي كائنا وقت قولكم: سَمِعْنا وَأَطَعْنا وفائدة التقييد به تأكيد وجوب مراعاته بتذكير قولهم، والتزامهم بالمحافظة عليه، والمراد به الميثاق الذي أخذه على المسلمين حين بايعهم النبي صلّى الله عليه وسلّم في العقبة الثانية سنة ثلاث عشرة من النبوة على السمع والطاعة في حال اليسر والعسر والمنشط والمكره كما أخرجه البخاري ومسلم من حديث عبادة بن الصامت، وقيل: هو الميثاق الواقع في العقبة الأولى سنة إحدى عشرة، أو بيعة الرضوان بالحديبية، فإضافة الميثاق إليه تعالى مع صدوره عنه صلّى الله عليه وسلّم لكون المرجع إليه سبحانه كما نطق في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: 10] . وأخرج ابن جرير وابن حميد عن مجاهد قال: هو الميثاق الذي واثق بني آدم حين أخرجهم من صلب أبيهم عليه السلام وفيه بعد وَاتَّقُوا اللَّهَ في نسيان نعمته ونقض ميثاقه، أو في كل ما تأتون وتذرون فيدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي مخفياتها الملابسة لها ملابسة تامة مصححة لإطلاق الصاحب عليه فيجازيكم عليها، فما ظنكم بجليات الأعمال؟؟ والجملة اعتراض وتعليل للأمر وإظهار الاسم الجليل لما مر غير مرة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شروع في بيان الشرائع المتعلقة لما يجري بينهم وبين غيرهم إثر ما يتعلق بأنفسهم كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ أي كثيري القيام له بحقوقه اللازمة، وقيل: أي ليكن من عادتكم القيام بالحق في أنفسكم بالعمل الصالح، وفي غيركم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ابتغاء مرضاة الله تعالى شُهَداءَ بِالْقِسْطِ أي بالعدل، وقيل: دعاة لله تعالى مبينين عن دينه بالحجج الحقة وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ أي لا يحملنكم شَنَآنُ قَوْمٍ أي شدة بغضكم لهم عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا فلا تشهدوا في حقوقهم بالعدل، أو فتعدوا عليهم بارتكاب ما لا يحل اعْدِلُوا أيها المؤمنون في أوليائكم وأعدائكم، واقتصر بعضهم على الأعداء بناء على ما روي أنه لما فتحت مكة كلف الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 تعالى المسلمين بهذه الآية أن لا يكافئوا كفار مكة بما سلف منهم، وأن يعدلوا في القول والفعل هُوَ راجع إلى العدل الذي تضمنه الفعل، وهو إما مطلق العدل فيندرج فيه العدل (1) الذي أشار إليه سبب النزول، وإما العدل مع الكفار أَقْرَبُ لِلتَّقْوى أي أدخل في مناسبتها لأن التقوى نهاية الطاعة وهو أنسب الطاعات بها فالقرب بينهما على هذا مناسبة الطاعة للطاعة، ويحتمل أن يكون أقربيته على التقوى باعتبار أنه لطف فيها فهي مناسبة إفضاء السبب إلى المسبب وهو بمنزلة الجزء الأخير من العلة، واللام مثلها في قولك: هو قريب لزيد للاختصاص لا مكملة فإنه بمن أو إلى. وتكلف الراغب في توجيه الآية فقال: فإن قيل: كيف ذكر سبحانه أَقْرَبُ لِلتَّقْوى، وأفعل إنما يقال في شيئين اشتركا في أمر واحد لأحدهما مزية وقد علمنا أن لا شيء من التقوى ومن فعل الخير إلا وهو من العدالة؟ قيل: إن أفعل وإن كان كما ذكرت فقد يستعمل على تقدير بناء الكلام على اعتقاد المخاطب في الشيء في نفسه قطعا لكلامه وإظهارا لتبكيته فيقال لمن اعتقد مثلا في زيد فضلا- وإن لم يكن فيه فضل ولكن لا يمكنه أن ينكر أن عمرا أفضل منه- اخدم عمرا فهو أفضل من زيد، وعلى ذلك جاء قوله تعالى: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ [النمل: 59] وقد علم أن لا خير فيما يشركون، والجملة في موضع التعليل للأمر بالعدل، وصرح لهم به تأكيدا وتشديدا، وأمر سبحانه بالتقوى بقوله جلّ وعلا: وَاتَّقُوا اللَّهَ إثر ما بين أن العدل أقرب لها اعتناء بشأنها وتنبيها على أنها ملاك الأمر كله إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ من الأعمال فيجازيكم بذلك، وقد تقدم نظير هذه الآية في النساء، ولم يكتف بذلك لمزيد الاهتمام بالعدل والمبالغة في إطفاء نائرة الغيظ، وقيل: لاختلاف السبب، فإن الأولى نزلت في المشركين وهذه في اليهود، وذكر بعض المحققين وجها لتقديم القسط هناك وتأخيره هنا، وهو أن آية النساء جيء بها في معرض الإقرار على نفسه ووالديه وأقاربه فبدأ فيها بالقسط الذي هو العدل من غير محاباة نفس ولا والد ولا قرابة، والتي هنا جيء بها في معرض ترك العداوة فبدأ فيها بالقيامة لله تعالى لأنه أردع للمؤمنين، ثم ثني بالشهادة بالعدل فجيء في كل معرض بما يناسبه وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ من الواجبات والمندوبات ومن جملتها العدل والتقوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ جملة مستأنفة مبينة لثاني مفعول وَعَدَ المحذوف كأنه قيل: أي شيء وعده؟ فقيل لهم: مغفرة إلخ. ويحتمل أن يكون المفعول متروكا والمعنى قدم لهم وعدا وهو ما بين بالجملة المذكورة، وجوز أن تكون مفعول وعد باعتبار كونه بمعنى قال، أو المراد حكايته لأنه يحكى بما هو في معنى القول عند الكوفيين، ويحتمل أن يكون القول مقدرا أي وعدهم قائلا ذلك لهم أي في حقهم فيكون إخبارا بثبوته لهم وهو أبلغ، وقيل: إن هذا القول يقال لهم عند الموت تيسيرا لهم وتهوينا لسكرات الموت عليهم. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا القرآنية التي من جملتها ما تليت من النصوص الناطقة بالأمر بالعدل والتقوى، وحمل بعضهم الآيات على المعجزات التي أيد الله تعالى بها نبيه صلّى الله عليه وسلّم أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر أَصْحابُ الْجَحِيمِ أي ملابسو النار الشديدة التأجج ملابسة مؤبدة، والموصول مبتدأ أول، واسم الإشارة مبتدأ ثان وما بعده خبره، والجملة خبر الأول، ولم يؤت بالجملة في سياق الوعيد كما أتي بالجملة قبلها في سياق الوعد قطعا لرجائهم، وفي ذكر حال الكفرة بعد حال المؤمنين كما هو السنة السنية القرآنية وفاء بحق الدعوة، وتطييبا لقلوب المؤمنين   (1) هكذا الأصل «فيه العدل مع الكفار الذي» إلخ ولا معنى له مع ما سيأتي بعد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 بجعل أصحاب النار أعداءهم دونهم. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ تذكير لنعمة الإنجاء من الشر إثر تذكير نعمة إيصاله الخير الذي هو نعمة الإسلام وما يتبعها من الميثاق، أو تذكير نعمة خاصة بعد تذكير النعمة العامة اعتناء بشأنها، وعَلَيْكُمْ متعلق- بنعمة الله- أو بمحذوف وقع حالا منها، وقوله تعالى: إِذْ هَمَّ قَوْمٌ على الأول ظرف لنفس النعمة، وعلى الثاني لما تعلق به الظرف، ولا يجوز أن يكون ظرفا- لاذكروا- لتنافي زمنيهما فإن إِذْ للمضي، واذْكُرُوا للمستقبل، أي اذكروا إنعامه تعالى عَلَيْكُمْ، أو اذكروا نعمته تعالى كائنة عَلَيْكُمْ وقت قصد قوم أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ أي بأن يبطشوا بكم بالقتل والإهلاك، يقال: بسط إليه يده إذا بطش به، وبسط إليه لسانه إذا شتمه، والبسط في الأصل مطلق المد، وإذا استعمل في اليد واللسان كان كناية عما ذكر، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح للمسارعة إلى بيان رجوع ضرر البسط وغائلته إليهم حملا لهم من أول الأمر على الاعتداد بنعمة دفعه فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ عطف على هَمَّ وهو النعمة التي أريد تذكيرها، وذكر- الهم- للإيذان بوقوعها عند مزيد الحاجة إليها، والفاء للتعقيب المفيد لتمام النعمة وكمالها، وإظهار الأيدي لزيادة التقرير وتقديم المفعول الصريح على الأصل أن منع أيديهم أي تمد إليكم عقيب همهم بذلك وعصمكم منهم، وليس المراد أنه سبحانه كفها عنكم بعد أن مدوها إليكم، وفي ذلك ما لا يخفى من إكمال النعمة ومزيد اللطف. والآية إشارة إلى ما أخرجه مسلم وغيره من حديث جابر أن المشركين رأوا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم بعسفان قاموا إلى الظهر معا صلوا ندموا إلا كانوا أكبوا عليهم، وهموا أن يوقعوا بهم إذا قاموا إلى صلاة العصر، فردّ الله تعالى كيدهم بأن أنزل صلاة الخوف، وقيل: إشارة إلى ما أخرجه أبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء والضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن عمرو بن أمية الضمري حيث انصرف من بئر معونة لقي رجلين كلابيين معهما أمان من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقتلهما ولم يعلم أن معهما أمانا فواداهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومضى إلى بني النضير ومعه أبو بكر رضي الله تعالى عنه وعمر وعلي فتلقوه فقالوا: مرحبا يا أبا القاسم لماذا جئت؟ قال: رجل من أصحابي قتل رجلين من كلاب معهما أمان مني طلب مني ديّتهما فأريد أن تعينوني قالوا: نعم اقعد حتى نجمع لك فقعد تحت الحصن وأبو بكر وعمر وعلي، وقد تآمر بنو النضير أن يطرحوا عليه عليه الصلاة والسلام حجرا فجاء جبريل عليه السلام فأخبره فقام ومن معه. وقيل: إشارة إلى ما أخرجه غير واحد من حديث جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نزل منزلا فتفرق الناس في العضاه يستظلون تحتها فعلق النبي صلّى الله عليه وسلّم سلاحه بشجرة فجاء أعرابي إلى سيفه فأخذه فسله، ثم أقبل على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: من يمنعك مني؟ قال: الله تعالى- قالها الأعرابي مرتين، أو ثلاثا- والنبي صلّى الله عليه وسلّم في كل ذلك يقول: الله تعالى، فشام الأعرابي السيف فدعا النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه فأخبرهم بصنيع الأعرابي وهو جالس إلى جنبه لم يعاقبه، ولا يخفى أن سبب النزول يجوز تعدده، وأن القوم قد يطلق على الواحد كالناس في قوله تعالى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ [آل عمران: 173] وأن ضرر الرئيس ونفعه يعودان إلى المرءوس وَاتَّقُوا اللَّهَ عطف على اذْكُرُوا أي اتقوه في رعاية حقوق نعمته ولا تخلوا بشكرها، أي في الأعم من ذلك ويدخل هو دخولا أوليا. وَعَلَى اللَّهِ خاصة دون غيره استقلالا، أو اشتراكا فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فإنه سبحانه كاف في درء المفاسد وجلب المصالح، والجملة تذييل مقرر لما قبله، وإيثار صيغة أمر الغائب وإسنادها للمؤمنين لإيحاب التوكل على المخاطبين بطريق برهاني ولإظهار ما يدعو إلى الامتثال، ويزع عن الإخلال مع رعاية الفاصلة، وإظهار الأمر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 الجليل لتعليل الحكم وتقوية استقلال الجملة التذييلية- وقد مرت نظائره- وهذه الآية كما نقل عن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه- تقرأ سبعا صباحا وسبعا مساء لدفع الطاعون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ كلام مستأنف مشتمل على بيان بعض ما صدر من بني إسرائيل مسوق لتقرير المؤمنين على ذكر نعمة الله تعالى ومراعاة حق الميثاق، وتحذيرهم من نقضه، أو لتقرير ما ذكر من الهم بالبطش، وتحقيقه بناء على أنه كان صادرا من أسلافهم ببيان أن الغدر والخيانة فيهم شنشنة أخزمية، وإظهار الاسم الجليل هنا لتربية المهابة، وتفخيم الميثاق وتهويل الخطب في نقضه مع ما فيه من رعاية حق الاستئناف المستدعي للانقطاع عما قبله، والالتفات في قوله تعالى: وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً للجري على سنن الكبرياء، وتقديم المفعول الغير الصريح على الصريح لما مر غير مرة من الاهتمام والتشويق، والنقيب- قيل: فعيل بمعنى فاعل مشتقا من النقب بمعنى التفتيش، ومنه فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ [ق: 36] وسمي بذلك لتفتيشه عن أحوال القوم وأسرارهم، وقيل: بمعنى مفعول كأن القوم اختاروه على علم منهم، وتفتيش على أحوالهم. قال الزجاج: وأصله من النقب وهو الثقب الواسع والطريق في الجبل، ويقال: فلان حسن النقيبة أي جميل الخليقة، ونقاب للعالم بالأشياء الذكي القلب الكثير البحث عن الأمور، وهذا الباب كله معناه التأثير في الشيء الذي له عمق، ومن ذلك نقبت الحائط أي بلغت في النقب آخره. روي أن بني إسرائيل لما فرغوا من أمر فرعون أمرهم الله تعالى بالمسير إلى أريحا أرض الشام وكان يسكنها الجبابرة الكنعانيون، وقال سبحانه لهم: إني كتبتها لكم دارا وقرارا فاخرجوا إليها وجاهدوا من فيها فإني ناصركم، وأمر جل شأنه موسى عليه السلام أن يأخذ من كل سبط كفيلا عليهم بالوفاء فيما أمروا به فأخذ عليهم الميثاق، واختار منهم النقباء وسار بهم فلما دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسسون الأخبار ونهاهم أن يحدثوا قومهم فرأوا أجراما عظاما وبأسا شديدا فهابوا، فرجعوا وحدثوا قومهم إلا كالب بن يوقنا من سبط يهوذا ويوشع بن نون من سبط إفرائيم بن يوسف عليه السلام، وعند ذلك قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [المائدة: 24] . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد أن النقباء لما دخلوا على الجبارين وجدوهم يدخل في كم أحدهم اثنان منهم ولا يحمل عنقود عنبهم إلا خمس أنفس بينهم في خشبة، ويدخل في شطر الزمانة إذا نزع حبها خمس أنفس أو أربع، وذكر البغوي أنه لقيهم رجل من أولئك يقال له: عوج بن عنق، وكان طوله ثلاثة آلاف وثلاثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعا وثلث ذراع وكان يحتجز بالسحاب ويشرب منه ويتناول الحوت من قرار البحر فيشويه بعين الشمس يرفعه إليها ثم يأكله، ويروى أن الماء طبق ما على الأرض من جبل وما جاوز ركبتي عوج، وعاش ثلاثة آلاف سنة حتى أهلكه الله تعالى على يد موسى عليه السلام، وذلك أنه جاء وقور صخرة من الجبل على قدر عسكر موسى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 عليه السلام وكان فرسخا في فرسخ وحملها ليطبقها عليهم فبعث الله تعالى الهدهد فقور الصخرة بمنقاره فوقعت في عنقه فصرعته فأقبل موسى عليه السلام وهو مصروع فقتله. وكانت أمه عنق إحدى بنات آدم عليه السلام، وكان مجلسها جريبا من الأرض، فلما لقوا عوجا وعلى رأسه حزمة حطب أخذهم جميعا وجعلهم في حزمته، وانطلق بهم إلى امرأته وقال: انظري إلى هؤلاء الذين يزعمون أنهم يريدون قتالنا وطرحهم بين يديها، وقال: ألا أطحنهم برجلي؟ فقالت امرأته: لا بل خل عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا ففعل انتهى. وأقول: قد شاع أمر عوج عند العامة ونقلوا فيه حكايات شنيعة، وفي فتاوى العلامة ابن حجر قال الحافظ العماد ابن كثير: قصة عوج وجميع ما يحكون عنه هذيان لا أصل له، وهو من مختلقات أهل الكتاب، ولم يكن قط على عهد نوح عليه السلام ولم يسلم من الكفار أحد، وقال ابن القيم: من الأمور التي يعرف بها كون الحديث موضوعا أن يكون مما تقوم الشواهد الصحيحة على بطلانه- كحديث عوج الطويل- وليس العجب من جرأة من وضع هذا الحديث وكذب على الله تعالى إنما العجب ممن يدخل هذا الحديث في كتب العلم من التفسير وغيره، ولا يبين أمره، ثم قال: ولا ريب في أن هذا وأمثاله من وضع زنادقة أهل الكتاب الذين قصدوا الاستهزاء والسخرية بالرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم انتهى. وأورد ابن المنذر عن ابن عمر من قصته شيئا عجيبا، وتعقبه بعض المصنفين بأن هذا مما يستحي الشخص من نسبته إلى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، ومشى صاحب القاموس على أن أخباره موضوعة، وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن حبان في كتاب العظمة فيه آثارا قال الحفاظ في أطولها المشتمل على غرائب من أحواله: إنه باطل كذب، وقال الحافظ السيوطي: والأقرب في خبر عوج أنه من بقية عاد، وأنه كان له طول في الجملة مائة ذراع، أو شبه ذلك وأن موسى عليه الصلاة والسلام، وهذا هو القدر الذي يحتمل قبوله انتهى، ونعم ما قال، فإن بقاءه في الطوفان مع كفره الظاهر إذ لم ينقل إيمانه، ودعوة نوح عليه السلام التي عمت الأرض مما لا يكاد يقبله المنصف، وكذا بقاؤه بعد الطوفان مع قوله تعالى: وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ [الصافات: 77] مما لا يسوغه العارف، وشبه الحوت بعين الشمس، مما لا يكاد يعقل- على ما ذكره الحكماء- فقد ذكر الخلخالي أنهم ذهبوا إلى أن الشمس ليست حارة وإلا لكان قلل الجبال أحر من الوهاد لقرب القلل إلى الشمس- وبعد الوهاد عنها- بل الحرارة تحدث من وصول شعاع الشمس إلى وجه الأرض وانعكاسه عنه ولذلك يرى الوهاد أحر لتراكم الأشعة المنعكسة فيها فما وصل إليه الشعاع من وجه الأرض يصير حارا وإلا فلا، وذكر نحو ذلك شارح حكمة العين، ولا يرد على هذا أن بعض الناس روى أن كذا ملائكة ترمي الشمس بالثلج إذا طلعت، ولولا ذلك لأحرقت أهل الأرض لأن ذلك مما لم يثبت عند الحفاظ، وهو إلى الوضع أقرب منه إلى الصحة، ثم كان القائل بوجود عوج هذا من الناس لا يقول بالطبقة الزمهريرية التي هي الطبقة الثالثة من طبقات العناصر السبع، ولا بما فوقها وإلا فكيف يكون الاحتجاز بالسحاب وهو كالرعد والبرق، والصاعقة إنما ينشأ من تلك الطبقة الباردة التي لا يصل إليها أثر شعاع الشمس بالانعكاس من وجه الأرض، وقد ذكروا أيضا أن فوقها طبقتين: الأولى ما يمتزج مع النار وهي التي يتلاشى فيها الأدخنة المرتفعة عن السفل، ويتكون فيها الكواكب ذوات الأذناب والنيازك، والثانية ما يقرب من الخلوص إذ لا يصل إليه حرارة ما فوقه ولا برودة ما تحته من الأرض والماء، وهي التي يحدث فيها الشهب، فإذا احتجز هذا الرجل بالسحاب وصل رأسه على زعمهم إلى إحدى تينك الطبقتين. فكيف يكون حاله مع ذلك البرد والحر؟! ولا أظن بشرا- كيف كان- يقوى على ذلك، على أن أصل الاحتجاز مما لا يمكن بناء على كلام الحكماء إذ قد علمت أن منشأ السحب الطبقة الزمهريرية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 وفي كتاب نزهة القلوب- نقلا عن الحكيم أبي نصر- أن غاية ارتفاعها اثني عشر فرسخا وستمائة ذراع، وعن المتقدمين أنها ثمانية عشر فرسخا، والفرسخ ثلاثة أميال، والميل ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع انتهى. واختلفوا أيضا في غاية انحطاطها، ولم يذكر أحد منهم أنها تنحط إلى ما يتصور معه احتجاز الرجل الذي ذكروا من طوله ما ذكروا بالسحاب. اللهم إلا أن يراد به سحاب لم يبلغ هذا الارتفاع ومع هذا كله قد أخطؤوا في قولهم: ابن عنق، وإنما هو ابن عوق- كنوح- كما نص على ذلك في القاموس، وهو أيضا اسم والده لا والدته كما ذكر هناك أيضا فليحفظ. وأخرج ابن حميد وابن جرير عن أبي العالية أنه قال في الآية: أخذ الله تعالى ميثاق بني إسرائيل أن يخلصوا له ولا يعبدوا غيره وبعث منهم اثني عشر كفيلا كفلوا عليهم بالوفاء لله تعالى بما واثقوه عليه من العهود فيما أمرهم به ونهاهم عنه، واختاره الجبائي،- والنقباء- حينئذ يجوز أن يكونوا رسلا، وأن يكونوا قادة- كما قال البلخي- واختار أبو مسلم أنهم بعثوا أنبياء ليقيموا الدين ويعلموا الأسباط التوراة ويأمروهم بما فرضه الله تعالى عليهم، وأخرج الطيبي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا وزراء وصاروا أنبياء بعد ذلك وَقالَ اللَّهُ أي- للنقباء- عند الربيع، ورجحه السمين للقرب، وعند أكثر المفسرين- لبني إسرائيل- ورجحه أبو حيان إذ هم المحتاجون إلى ما ذكر من الترغيب والترهيب كما ينبئ عنه الالتفاف مع ما فيه من تربية المهابة وتأكيد ما يتضمنه الكلام من الوعد إِنِّي مَعَكُمْ أسمع كلامكم وأرى أعمالكم وأعلم ضمائركم فأجازيكم بذلك، وقيل: مَعَكُمْ بالنصرة، وقيل: بالعلم، والتعميم أولى. لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي أي بجميعهم، واللام موطئة للقسم المحذوف، وتأخير الإيمان عن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مع كونهما من الفروع المترتبة عليه لما أنهم- كما قال غير واحد- كانوا معترفين بوجوبهما حسبما يراد منهم مع ارتكابهم تكذيب بعض الرسل عليهم الصلاة والسلام، ولمراعاة المقارنة بينه وبين قوله تعالى: وَعَزَّرْتُمُوهُمْ، وقال بعضهم: إن جملة وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي إلى آخره كناية إيمائية عن المجاهدة، ونصرة دين الله تعالى ورسله عليهم الصلاة والسلام والإنفاق في سبيله كأنه قيل: لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وجاهدتم في سبيل الله يدل عليه قوله تعالى: وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ [المائدة: 21] فإن المعنى لا ترتدوا على أدباركم في دينكم لمخالفتكم أمر ربكم وعصيانكم نبيكم عليه الصلاة والسلام، وإنما وقع الاهتمام بشأن هذه القرينة دون الأولين، وأبرزت في معرض الكناية لأن القوم كانوا يتقاعدون عن القتال ويقولون لموسى عليه السلام فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [المائدة: 24] انتهى، ولا يخلو عن نظر. وقيل: إنما قدم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لأنها الظاهر من أحوالهم الدالة على إيمانهم، والتعزير- أصل معناه المنع والذب، وقيل: التقوية من العزر، وهو والأزر من واد واحد، ولا يخفى أن في التقوية منعا لمن قويته عن غيره فهما متقاربان، ثم تجوز فيه عن النصرة لما فيها من ذلك، وعن التأديب وهو في الشرع ما كان دون الحدّ لأنه رادع ومانع عن ارتكاب القبيح، ولذا سمي في الحديث نصرة، فقد صح عنه صلّى الله عليه وسلّم: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما، فقال رجل: يا رسول الله انصره إذا كان مظلوما أفرأيت إن كان ظالما كيف أنصره؟! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: تحجزه- أو تمنعه- عن الظلم فإن ذلك نصره» ، وقال الراغب: التعزير النصرة مع التعظيم، وبالنصرة فقط- فسره الحسن ومجاهد، وبالتعظيم فقط فسره ابن زيد وأبو عبيدة، وقرىء- عزرتموهم- بالتخفيف وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ أي بالإنفاق في سبيل الخير، وقيل: بالصدق بالصدقات وأيّا ما كان فهو استعارة لأنه سبحانه لما وعد بجزائه والثواب عليه شبه بالقرض الذي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 يقضي بمثله، وفي كلام العرب قديما الصالحات قروض قَرْضاً حَسَناً وهو ما كان عن طيب نفس على ما قال الأخفش، وقيل: ما لا يتبعه منّ ولا أذى، وقيل: ما كان من حلال. وذكر غير واحد أن قرضا يحتمل المصدر والمفعول به لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ دال على جواب الشرط المحذوف وسادّ مسدّه معنى، وليس هو الجواب له خلافا لأبي البقاء بل هو جواب للقسم، فقد تقرر أنه إذا اجتمع شرط وقسم أجيب السابق منهما إلا أن يتقدمه ذو خبر، وجوز أن يكون هذا جوابا لما تضمنه قوله تعالى: ولَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ [البقرة: 83، المائدة: 70] من القسم، وقيل: إن جوابه لَئِنْ أَقَمْتُمُ فلا تكون اللام موطئة، أو تكون ذات وجهين- وهو غريب- وجملة القسم المشروط وجوابه مفسرة لذلك الميثاق المتقدم. وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ عطف على ما قبله داخل معه في حكمه متأخر عنه في الحصول ضرورة تقدم التخلية على التحلية فَمَنْ كَفَرَ أي برسلي أو بشيء مما عدد في حيز الشرط، والفاء لترتيب بيان حكم من كفر على بيان حكم من آمن تقوية للترغيب بالترهيب بَعْدَ ذلِكَ الشرط المؤكد المعلق به الوعد العظيم أعني لَأُكَفِّرَنَّ، وقيل: بعد الشرط المؤكد المعلق بالوعد العظيم أعني أني معكم بناء على حمل المعية على المعية بالنصرة والإعانة، أو التوفيق للخير فإن الشرط معلق به من حيث المعنى نحو أنا معتن بشأنك إن خدمتني رفعت محلك، وقيل: المراد بعد ما شرطت هذا الشرط ووعدت هذا الوعد وأنعمت هذا الإنعام، وقوله تعالى: مِنْكُمْ متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل كَفَرَ، ولعل تغيير السبك حيث لم يقل وإن كفرتم عطفا على الشرطية السابقة- كما قال شيخ الإسلام- لإخراج كفر الكل عن حيز الاحتمال وإسقاط من كفر عن رتبة الخطاب، ثم ليس المراد بالكفر إحداثه بعد الإيمان، بل ما يعم الاستمرار عليه أيضا كأنه قيل: فمن اتصف بالكفر بعد ذلك إلا أنه قصد بإيراد ما يدل على الحدوث بيان ترقيهم في مراتب الكفر فإن الاتصاف بشيء بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه، وإن كان استمرارا عليه لكن بحسب العنوان فعل جديد وصنع حادث فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي وسط الطريق وحاقه ضلالا لا شبهة فيه ولا عذر معه بخلاف من كفر قبل ذلك إذ ربما يمكن أن يكون له شبهة ويتوهم عذر. فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ أي بسبب نقضهم ميثاقهم المؤكد لا بشيء آخر استقلالا وانضماما، فالباء سببية، وما مزيدة لتوكيد الكلام وتمكينه في النفس، أو بمعنى شيء كما قال أبو البقاء، والجار متعلق بقوله تعالى: لَعَنَّاهُمْ أي طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا عقوبة لهم- قاله عطاء وجماعة- وعن الحسن ومقاتل أن المعنى مسخناهم قردة وخنازير، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عذبناهم بضرب الجزية عليهم، ولا يخفى أن ما قاله عطاء أقرب إلى المعنى الحقيقي لأنه حقيقة اللعن في اللغة الطرد والإبعاد فاستعماله في المعنيين الأخيرين مجاز باستعماله في لازم معناه، وهو الحقارة بما ذكر لكنه لا قرينة في الكلام عليه، وتخصيص البيان بما ذكر مع أن حقه أن يبين بعد بيان تحقق اللعن والنقض بأن يقال مثلا: فنقضوا ميثاقهم فلعناهم ضرورة تقدم هلية الشيء البسيطة على هليته المركبة- كما قال شيخ الإسلام- للإيذان بأن تحققهما أمر جلي غني عن البيان، وإنما المحتاج إلى ذلك ما بينهما من السببية والمسببية وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يابسة غليظة تنبو عن قبول الحق ولا تلين- قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.. وقيل: المراد سلبناهم التوفيق واللطف الذي تنشرح به صدورهم حتى- ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون- وهذا كما تقول لغيرك: أفسدت سيفك إذا ترك تعاهده حتى صدىء، وجعلت أظافيرك سلاحك إذا لم يقصها، وقال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 الجبائي: المعنى بينا عن حال قلوبهم وما هي عليه من القساوة وحكمنا بأنهم لا يؤمنون ولا تنفع فيهم موعظة، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر وما دعا إليه إلا الاعتزال، وقرأ حمزة والكسائي قسية، وهي إما مبالغة قاسية لكونه على وزن فعيل، أو بمعنى ردية من قولهم: درهم قسي إذا كان مغشوشا، وهو أيضا من القسوة، فإن المغشوش فيه يبس وصلابة، وقيل: إن قسي غير عربي بل معرب وقرىء- قسية- بكسر القاف للاتباع يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ استئناف لبيان مرتبة قساوة قلوبهم فإنه لا مرتبة أعظم مما ينشأ عنه الاجتراء على تحريف كلام رب العالمين والافتراء عليه عز وجل، والتعبير بالمضارع للحكاية واستحضار الصورة، وللدلالة على التجدد والاستمرار، وجوز أن يكون حالا من مفعول لَعَنَّاهُمْ، أو من المضاف إليه في قلوبهم وضعف بما ضعف، وجعله حالا من القلوب، أو من ضميره في قاسِيَةً كما قيل، لا يصح لعدم العائد منه إلى ذي الحال، وجعل القلوب بمعنى أصحابها مما لا يلتفت إليه أصحابها وَنَسُوا حَظًّا أي وتركوا نصيبا وافيا، واستعمال النسيان بهذا المعنى كثير مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ من التوراة: أو مما أمروا به فيها من اتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم وقيل: حرفوا التوراة فسقطت بشؤم ذلك أشياء منها عن حفظهم، وأخرج ابن المبارك وأحمد في الزهد عن ابن مسعود قال: إني لأحسب الرجل ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها، وفي معنى ذلك قول الشافعي رضي الله تعالى عنه: شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نور ... ونور الله لا يهدى لعاصي وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ أي خيانة كما قرىء به على أنها مصدر على وزن فاعلة- كالكاذبة، واللاغية- أو فعلة خائِنَةٍ أي ذات خيانة، وإلى ذلك يشير كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو فرقة خائِنَةٍ، أو نفس خائِنَةٍ، أو شخص خائِنَةٍ على أنه وصف، والتاء للمبالغة لكنها في فاعل قليلة، ومِنْهُمْ متعلق بمحذوف وقع صفة لها، خلا أن- من- على الوجهين، الأولين ابتدائية أي على خيانة، أو فعلة ذات خيانة كائنة منهم صادرة عنهم، وعلى الأوجه الأخر تبعيضية، والمعنى أن الغدر والخيانة عادة مستمرة لهم ولأسلافهم كما يعلم من وصفهم بالتحريف وما معه بحيث لا يكادون يتركونها أو يكتمونها فلا تزال ترى ذلك منهم إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ استثناء من الضمير المجرور في مِنْهُمْ والمراد بالقليل عبد الله بن سلام وأضرابه الذين نصحوا لله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وجعله بعضهم استثناء من خائِنَةٍ على الوجه الثاني، فالمراد بالقليل الفعل القليل، ومن ابتدائية كما مر أي إلا فعلا قليلا كائنا منهم، وقيل: الاستثناء من قوله تعالى: وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ أي إذا تابوا أو بذلوا الجزية- كما روي عن الحسن وجعفر بن مبشر- واختاره الطبري، فضمير عنهم راجع إلى ما رجع إليه نظائره، وعن أبي مسلم أنه عائد على القليل المستثنى أي فاعف عنهم ما داموا على عهدك ولم يخونوك، وعلى القولين فالآية محكمة، وقيل: الضمير عائد على ما اختاره الطبري، وهي مطلقة إلا أنها نسخت بقوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [التوبة: 29] الآية. وروي ذلك عن قتادة، وعن الجبائي أنها منسوخة بقوله تعالى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ [الأنفال: 58] إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ تعليل للأمر وحث على الامتثال وتنبيه على أن العفو على الإطلاق من باب الإحسان. هذا ومن باب الإشارة في الآيات: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ أمر بالتطهير لمن أراد الوقوف بين يدي الملك الكبير جل شأنه وعظم سلطانه، وبدأ بالوجه- لأنه سبحانه وتعالى نقشه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 بنقش خاتم صفاته، وفي الفتوحات لا خلاف في أن غسل الوجه فرض وحكمه في الباطن المراقبة والحياء من الله تعالى مطلقا، ثم اختلف الحكم في الظاهر في أن تحديد غسل الوجه في الوضوء في ثلاثة مواضع: منها البياض الذي بين العذار والأذن، والثاني ما سدل من اللحية، والثالث تخليل اللحية، فأما البياض المذكور فمن قائل: إنه من الوجه، ومن قائل: إنه ليس من الوجه، وأما ما انسدل من اللحية فمن قائل: بوجوب إمرار الماء عليه، ومن قائل: بأنه لا يجب، وكذلك تخليل اللحية، فمن قائل: بوجوبه، ومن قائل: بأنه لا يجب، وحكم ذلك في الباطن أما غسل الوجه مطلقا من غير نظر إلى تحديد الأمر في ذلك فإن فيه ما هو فرض، وفيه ما هو ليس بفرض، فأما الفرض فالحياء من الله تعالى أن يراك حيث نهاك، أو يفقدك حيث أمرك، وأما السنة منه فالحياء من الله تعالى أن تنظر إلى عورتك أو عورة امرأتك، وإن كان ذلك قد أبيح لك، ولكن استعمال الحياء فيها أفضل وأولى فما يتعين منه فهو فرض عليك، وما لا يتعين ففعلته فهو سنة واستحباب، فيراقب الإنسان أفعاله ظاهرا وباطنا، ويراقب ربه في باطنه، فإن وجه قلبه هو المعتبر، ووجه الإنسان على الحقيقة ذاته يقال: وجه الشيء أي حقيقته وعينه وذاته، فالحياء خير كله، و الحياء من الإيمان- ولا يأتي إلا بخير، وأما البياض الذي بين العذار والأذن، وهو الحد الفاصل بين الوجه والأذن فهو الحد بين ما كلف الإنسان من العمل في وجهه والعمل في سماعه، فالعمل في ذلك إدخال الحد في المحدود، فالأولى بالإنسان أن يصرف حياءه في سمعه كما صرفه في بصره، فكما أن الحياء غض البصر كما قال تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ [النور: 30] كذلك يلزم الحياء من الله تعالى أن لا يسمع ما لا يحل له من غيبة وسوء قول من متكلم بما لا ينبغي فإن ذلك البياض هو بين العذار والأذن- وهو محل الشبهة- وهو أن يقول: أصغيت إليه لأرد عليه، وهذا معنى العذار فإنه من العذر أي الإنسان يعتذر إذا قيل له: لم أصغيت إلى هذا القول بأذنك؟ فيقول: إني أردت أن أحقق سماع ما قال حتى أنهاه عنه، فكنى عنه بالعذار فمن رأى وجوب ذلك عليه غسله، ومن لم ير وجوب ذلك إن شاء غسل وإن شاء ترك، وأما غسل ما استرسل من اللحية وتخليلها فهي الأمور العوارض، فإن اللحية شيء يعرض في الوجه وليست من أصله، فكل ما يعرض لك في وجه ذلك من المسائل فأنت فيها بحكم ذلك العارض، فإن تعين عليك طهارة ذلك العارض فهو قول من يقول بوجوب غسله، وإن لم يتعين عليك طهارته فطرته استحبابا أو تركته لكونه ما تعين عليك فهو قول من لم يقل بوجوب الطهارة فيه، وقد بين أن حكم الباطن يخالف الظاهر بأن فيه وجها إلى الفريضة، ووجها إلى السنة والاستحباب، فالفرض من ذلك لا بد من إتيانه، وغير الفرض عمله أولى من تركه، وذلك سار في جميع العبادات انتهى. وقال بعض العارفين: هذا خطاب للمؤمنين بالإيمان العلمي إذا قاموا عن نوم الغفلة وقصدوا صلاة الحضور والمناجاة الحقيقية والتوجه إلى الحق أن يطهروا وجوه قواهم بماء العلم النافع الطاهر المطهر من علم الشرائع والأخلاق والمعاملات الذي يتعلق بإزالة الموانع عن لوث صفات النفس، وأول هذا الأيدي في قوله تعالى: وَأَيْدِيَكُمْ بالقوى والقدر أي طهروا أيضا قواكم وقدركم عن دنس تناول الشهوات والتصرفات في مواد الرجس إِلَى الْمَرافِقِ أي قدر الحقوق والمنافع، وقال الشيخ الأكبر قدس سره: أجمع الناس على غسل اليدين والذراعين، واختلفوا في إدخال المرافق في هذا الغسل، فمن قائل: بوجوب إدخالهما، ومن قائل: بعدم الوجوب، لكن لم ينازع بالاستحباب، وحكم الباطن في ذلك أن غسل اليدين والذراعين إشارة إلى غسلهما بالكرم والجود والسخاء والهباة والاعتصام والتوكل، فإن هذا وشبهه من نعوت اليدين والمعاصم للمناسبة، بقي غسل المرافق وهي رؤية الأسباب التي يرتفق العبد ويأنس بها لنفسه، فمن رأى إدخال المرافق في نفسه رأى أن الأسباب إنما وضعها الله تعالى حكمة منه في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 خلقه فلا يريد أن تعطل حكمة الله تعالى لا على طريق الاعتماد عليها فإن ذلك يقدح في اعتماده على الله تعالى، ومن رأى عدم إيجابها في الغسل رأى سكون النفس إلى الأسباب، وأنه لا يخلص له مقام الاعتماد على الله تعالى مع وجود رؤية الأسباب، وكل من يقول: بأنه لا يجب غسلها يقول: يستحب كذلك رؤية الأسباب مستحبة عند الجميع وإن اختلفت أحكامهم فيها، فإن الله تعالى ربط الحكمة في وجودها وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ قال بعض العارفين: أي بجهات أرواحكم عن قتام كدورة القلب وغبار تغيره بالتوجه إلى العالم السفلي ومحبة الدنيا بنور الهدى، فإن الروح لا يتكدر بالتعلق بل يحتجب نوره عن القلب فيسود القلب ويظلم ويكفي في انتشار نوره صقل الوجه العالي الذي يتوجه إليه، فإن القلب ذو وجهين: أحدهما إلى الروح- والرأس- هنا إشارة إليه، والثاني إلى النفس وقواها، وأحرى- بالرجل- أن تكون إشارة إليه. وقال الشيخ الأكبر قدس الله سره بعد أن بين اختلاف العلماء في القدر الذي يجب مسحه: وأما حكم مسح الرأس في الباطن فأصله من الرياسة وهي العلو والارتفاع، ولما كان أعلا ما في البدن في ظاهر العين وجميع البدن تحته سمي رأسا، فإن الرئيس فوق المرءوس وله جهة فوق، وقد وصل الله تعالى نفسه بالفوقية على عباده بصفة القهر، فقال سبحانه: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ [الأنعام: 18، 61] فكان الرأس أقرب عضو في الجسد إلى الحق تعالى لمناسبة الفوقية، ثم له الشرف الآخر في المعنى الذي به رأس على البدن كله، وهو أنه محل جميع القوى كلها الحسية والمعنوية، فلما كانت له هذه الرياسة من هذه الجهة سمي رأسا، ثم إن العقل الذي جعله الله تعالى أشرف ما في الإنسان جعل محله اليافوخ وهو أعلى موضع في الرأس فجعله سبحانه مما يلي جانب الفوقية، ولما كان محلا لجميع القوى الظاهرة والباطنة ولكل قوة حكم وسلطان وفخر يورثها ذلك عزة على غيرها، وكان محل هذه القوى من الرأس مختلفة فعمت الرأس كله وجب مسح كله في هذه العبارة لهذه الرياسة السارية فيه كله من جهة هذه القوى بالتواضع والإقناع، فيكون لكل قوة مسح مخصوص من مناسبة دعواها، وهذا ملحظ من يرى وجوب مسح جميع الرأس ومن رأى تفاوت القوى بالرياسة فإن القوة المصورة مثلا لها سلطان على القوة الخيالية فهي الرئيسة عليها، وإن كانت للقوة الخيالية رياسة قال: الواجب عليه مسح بعض الرأس وهو المقسم بالأعلى، ثم اختلفوا في هذا البعض، فكل عارف قال بحسب ما أعطاه الله تعالى من الإدراك في مراتب هذه القوى فيمسح بحسب ما يرى، ومعنى المسح هو التذلل وإزالة الكبرياء والشموخ بالتواضع والعبودية لأن المتوضئ بصدد مناجاة ربه وطلب وصلته، والعزيز الرئيس إذا دخل على من ولاه تلك العزة ينعزل عن عزته ورياسته بعز من دخل عليه فيقف بين يديه وقوف العبيد في محل الإذلال لا بصفة الإذلال فمن غلب على خاطره رئاسة بعض القوى على غيرها وجب عليه مسح ذلك البعض من أجل الوصلة التي تطلب بهذه العبادة ولهذا لم يشرع مسح الرأس في التيمم لأن وضع التراب على الرأس من علامات الفراق، فترى الفاقد حبيبه بالموت يضع التراب على رأسه، وتفصيل رياسات القوى معلوم عند أهل هذا الشأن، وأما التبعيض في اليد الممسوح بها، واختلافهم في ذلك فاعمل فيه كما تعمل في الممسوح سواء، فإن المزيل لهذه الرياسة أسباب مختلفة في القدرة على ذلك، ومحل ذلك اليد، فمن مزيل بصفة القهر، ومن مزيل بسياسة وترغيب إلى آخر ما قال: وَأَرْجُلَكُمْ أشير بها إلى القوى الطبيعية البدنية المنهمكة في الشهوات والإفراط باللذات، وغسلها بماء علم الأخلاق وعلم الرياضيات حتى ترجع إلى الصفاء الذي يستعد به القلب للحضور والمناجاة. وفي الفتوحات اختلفوا في صفة طهارتها بعد الاتفاق على أنها من أعضاء الوضوء هل ذلك بالغسل أو بالمسح أو بالتخيير بينهما؟ ومذهبنا التخيير، والجمع أولى، وما من قول إلا وبه قائل، والمسح بظاهر الكتاب، والغسل بالسنة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 ومحتمل الآية بالعدول عن الظاهر منها، وأما حكم ذلك في الباطن فاعلم أن السعي إلى الجماعات وكثرة الخطا إلى المساجد. والثبات يوم الزحف مما تظهر به الأقدام فلتكن طهارة رجليك بما ذكرناه وأمثاله، ولا تتمثل بالنميمة بين الناس ولا تمش مرحا واقصد في مشيك واغضض من صوتك، ومن هذا ما هو فرض بمنزلة المرة الواحدة في غسل عضو الوضوء الرجل وغيره، ومنه ما هو سنة وهو ما زاد على الفرض، وهو مشيك فيما ندبك الشرع إليه وما أوجبه عليك، فالواجب عليك نقل الأقدام إلى مصلاك، والمندوب والمستحب والسنة وما شئت فقل من ذلك نقل الأقدام إلى المساجد من قرب وبعد، فإن ذلك ليس بواجب وإن كان الواجب من ذلك عند بعض الناس مسجدا لا بعينه وجماعة لا بعينها فعلى هذا يكون غسل رجليك في الباطن من طريق المعنى، واعلم أن الغسل يتضمن المسح فمن غسل فقد أدرج المسح فيه كاندراج نور الكواكب في نور الشمس، ومن مسح لم يغسل إلا في مذهب من يرى، وينقل عن العرب أن المسح لغة في الغسل فيكون من الألفاظ المترادفة، والصحيح في المعنى في حكم الباطن أن يستعمل المسح فيما يقتضي الخصوص من الأعمال، والغسل فيما يقتضي العموم، ولهذا كان مذهبنا التخيير بحسب الوقت، فإن الشخص قد يسعى لفضيلة خاصة في حاجة شخص بعينه فذلك بمنزلة المسح، وقد يسعى لذلك في حاجة تعم الرعية فيدخل ذلك الشخص في هذا العموم فذلك بمنزلة الغسل الذي اندرج فيه المسح انتهى. وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا الجنابة غربة العبد عن موطنه الذي يستحقه، وليس إلا العبودية. وتغريب صفة ربانية عن موطنها وكل ذلك يوجب التطهير، وقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى إلخ قد تقدم نظيره. وفي الفتوحات اختلف في حد الأيدي المذكورة في هذه الطهارة، فمن قائل: حدها مثل حدها في الوضوء ومن قائل: هو الكف فقط- وبه أقول- ومن قائل: إن الاستحباب إلى المرفقين والفرض الكفان، ومن قائل: إن الفرض إلى المناكب، والاعتبار في ذلك أنه لما كان التراب في الأرض أصل نشأة الإنسان وهو تحقيق عبوديته وذلته أمر بطهارة نفسه من التكبر بالتراب، وهو حقيقة عبوديته ويكون ذلك بنظره في أصل خلقه، ولما كان من جملة ما يدعيه الاقتدار والعطاء مع أنه مجبول على العجز والبخل، وهذه الصفات من صفات الأيدي قيل له عند هذه الدعوة ورؤية نفسه في الاقتدار الظاهر منه، والكرم والعطاء: طهر نفسك من هذه الصفة بنظرك فيما جبلت عليه من ضعفك ومن بخلك فقد قال تعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ [الروم: 54] وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ [الحشر: 9، التغابن: 16] وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً [المعارج: 21] فإذا نظر إلى هذا الأصل زكت نفسه وتطهرت من الدعوى، واختلفوا في عدد الضربات على الصعيد للتيمم، فمن قائل: واحدة، ومن قائل: اثنتان، والقائلون بذلك، منهم من قال: ضربة للوجه وضربة لليدين، ومنهم من قال: ضربتان لليد وضربتان للوجه، ومذهبنا أنه من ضرب واحدة أجزأه، ومن ضرب اثنتين أجزأه وحديث الضربة الواحدة أثبت، والاعتبار في ذلك التوجه إلى ما يكون به هذه الطهارة، فمن غلب التوحيد في الأفعال قال: بالضربة الواحدة، ومن غلب حكم السبب الذي وضعه الله تعالى ونسب الفعل إلى الله تعالى مع تعريته عنه مثل قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ [الصافات: 96] فأثبت ونفى قال: بالضربتين ومن قال: إن ذلك في كل فعل قال: بالضربتين لكل عضو انتهى. وقد أطال الشيخ قدس سره الكلام في أنواع الطهارة وأتى فيه بالعجب العجاب. ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ أي من ضيق ومشقة بكثرة المجاهدات وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ من الصفات الخبيثة، وعن سهل: الطهارة على سبعة أوجه: طهارة العلم من الجهل وطهارة الذكر من النسيان وطهارة اليقين من الشك وطهارة العقل من الحمق وطهارة الظن من التهمة وطهارة الإيمان مما دونه وطهارة القلب من الإرادات، وقال: إسباغ طهارة الظاهر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 تورث طهارة الباطن، وإتمام الصلاة يورث الفهم عن الله تعالى، والطهارة تكون في أشياء: في صفاء المطعم، ومباينة الأنام وصدق اللسان وخشوع السر، وكل واحد من هذه الأربع مقابل لما أمر الله تعالى بتطهيره وغسله من الأعضاء الظاهرة. وقال ابن عطاء: البواطن مواضع نظر الحق سبحانه فقد روي عنه صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم» ، فموضع نظر الحق جل وعلا أحق بالطهارة، وذلك إنما يكون بإزالة أنواع الخيانات والمخالفات وفنون الوساوس والغش والحقد والرياء والسمعة وغير ذلك من المناهي، وليس شيء على العارفين أشد من جمع الهم وطهارة السر، وفي إضافة التطهير إليه تعالى ما لا يخفى من اللطف وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ بالتكميل، وقال بعض العارفين: إتمام النعمة لقوم نجاتهم بتقواهم، وعلى آخرين نجاتهم عن تقواهم فشتان بين قوم وقوم ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمة الكمال بالاستقامة والقيام بحق العدالة عند البقاء بعد الفناء وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بالهداية إلى طريق الوصول إليه، وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ وهو عقود عزائمه المذكورة إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا أي إذا قبلتموها من معدن النبوة بصفاء الفطرة، وقال بعضهم: المراد بنعمة الله تعالى هدايته سبحانه السابقة في الأزل لأهل السعادة، وبالميثاق الميثاق الذي واثق الله تعالى به عباده أن لا يشتغلوا بغيره عنه سبحانه، وقال أبو عثمان: النعم كثيرة وأجلها المعرفة به سبحانه، والمواثيق كثيرة وأجلها الإيمان يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أي من قوى نفوسكم المحجوبة وصفاتها أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ بالاستيلاء والقهر لتحصيل مآربها وملاذها فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ أي فمنعها عنكم بما أراكم من طريق التطهير والتنزيه وَاتَّقُوا اللَّهَ واجعلوه سبحانه وقاية في قهرها ومنعها وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ برؤية الأفعال كلها منه عز وجل وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وهم في الأنفس الحواس الخمس الظاهرة، والخمس الباطنة والقوة العاقلة النظرية والقوة العملية وذكر غير واحد من ساداتنا الصوفية أن النقباء أحد أنواع: الأولياء: نفعنا الله تعالى ببركاتهم ففي الفتوحات: ومنهم النقباء وهم اثنا عشر نقيبا في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون على عدد بروج الفلك الاثني عشر برجا، كل نقيب عالم بخاصية كل برج، وبما أودع الله تعالى في مقامه من الأسرار والتأثيرات، وما يعطى للنزلاء فيه من الكواكب السيارة والثوابت، فإن للثوابت حركات وقطعا في البروج لا يشعر به في الحس لأنه لا يظهر ذلك إلا في آلاف من السنين، وإعمار الرصد، تقصر عن مشاهدة ذلك واعلم أن الله تعالى قد جعل بأيدي هؤلاء النقباء علوم الشرائع المنزلة، ولهم استخراج خبايا النفوس وغوائلها ومعرفة مكرها وخداعها، وإبليس مكشوف عندهم يعرفون منه ما لا يعرفه من نفسه وهم من العلم بحيث إذا رأى أحدهم أثر وطأة شخص في الأرض علم أنها وطأة سعيد أو شقي مثل العلماء بالآثار والقيافة، وبالديار المصرية منهم كثير يخرجون الأثر في الصخور، وإذا رأوا شخصا يقولون: هذا الشخص هو صاحب ذلك الأثر وليسوا بأولياء، فما ظنك بما يعطيه الله تعالى لهؤلاء النقباء من علوم الآثار؟ انتهى. وقد عد الشيخ قدس سره فيها أنواعا كثيرة، والسلفيون ينكرون أكثر تلك الأسماء، ففي بعض فتاوى ابن تيمية، وأما الأسماء الدائرة على ألسنة كثير من النساك والعامة مثل الغوث الذي بمكة والأوتاد الأربعة والأقطاب السبعة، والأبدال الأربعين، والنجباء الثلاثمائة، فهي ليست موجودة في كتاب الله تعالى ولا هي مأثورة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لا بإسناد صحيح ولا ضعيف محتمل إلا لفظ الأبدال، فقد روي فيهم حديث شامي منقطع الإسناد عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن فيهم- يعني أهل الشام- الأبدال أربعين رجلا كلما مات رجل أبدل الله تعالى مكانه رجلا» ولا توجد أيضا في كلام السلف انتهى، وأنا أقول: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 وما أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد وقال الله تعالى: إِنِّي مَعَكُمْ بالتوفيق والإعانة لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وتحليتم بالعبادات البدنية وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وتخليتم عن الصفات الذميمة من البخل والشح فزهدتم وآثرتم وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي جميعهم من العقل والإلهامات والأفكار الصائبة والخواطر الصادقة من الروح والقلب وإمداد الملكوت وَعَزَّرْتُمُوهُمْ أي وعظتموهم بأن سلطتموهم على شياطين الوهم وقويتموهم ومنعتموهم من الوساوس وإلقاء الوهميات والخيالات والخواطر النفسانية وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً بأن تبرأتم من الحول والقوة والعلم والقدرة، وأسندتم كل ذلك إليه عز شأنه، بل ومن الأفعال والصفات جميعها، بل ومن الذات بالمحو والفناء وإسلامها إلى باريها جل وعلا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ التي هي الحجب والموانع لكم وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ مما عندي تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وهي أنهار علوم التوكل والرضاء والتسليم والتوحيد، وتجليات الأفعال والصفات والذات فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ العهد وبعث النقباء منكم فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ وهلك مع الهالكين فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ الذي وثقوه لَعَنَّاهُمْ وطردناهم عن الحضرة وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً باستيلاء صفات النفس عليها وميلها إلى الأمور الأرضية يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ حيث حجبوا عن أنوار الملكوت والجبروت التي هي كلمات الله تعالى واستبدلوا قوى أنفسهم بها واستعملوا وهمياتهم وخيالاتهم بدل حقائقها وَنَسُوا حَظًّا نصيبا وافرا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ في العهد اللاحق وهو ما أوتوه في العهد السابق من الكمالات الكامنة في استعداداتهم الموجودة فيها بالقوة وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ من نقض عهد ومنع أمانة لاستيلاء شيطان النفس عليهم وقساوة قلوبهم إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وهو من جره استعداده إلى ما فيه صلاحه فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ إلى عباده باللطف والمعاملة الحسنة جعلنا الله تعالى وإياكم من المحسنين. وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ شروع في بيان قبائح النصارى وجناياتهم إثر بيان قبائح وجنايات إخوانهم اليهود، وَمِنَ متعلقة- بأخذنا- وتقديم الجار للاهتمام، ولأن ذكر إحدى الطائفتين مما يوقع في ذهن السامع أن حال الأخرى ماذا؟ كأنه قيل: ومن الطائفة الأخرى أيضا أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ والضمير المجرور راجع إلى الموصول، أو عائد على بني إسرائيل الذين عادت إليهم الضمائر السابقة، وهو نظير قولك: أخذت من زيد ميثاق عمرو أي مثل ميثاقه. وجوز أن يكون الجار متعلقا بمحذوف وقع خبرا لمبتدأ محذوف أيضا، وجملة أَخَذْنا صفة أي- ومن الذين قالوا إنا نصارى قوم أخذنا منهم ميثاقهم- وقيل: المبتدأ المحذوف مِنَ الموصولة، أو الموصوفة، ولا يخفى أن جواز حذف الموصول وإبقاء صلته لم يذهب إليه سوى الكوفيين، وإنما قال سبحانه: قالُوا إِنَّا نَصارى ولم يقل جل وعلا- ومن النصارى- كما هو الظاهر بدون إطناب للإيماء كما قال بعضهم: إلى أنهم على دين النصرانية بزعمهم وليسوا عليها في الحقيقة لعدم عملهم بموجبها ومخالفتهم لما في الإنجيل من التبشير بنبينا صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: للإشارة إلى أنهم لقبوا بذلك أنفسهم على معنى أنهم أنصار الله تعالى، وأفعالهم تقتضي نصرة الشيطان، فيكون العدول عن الظاهر ليتصور تلك الحال في ذهن السامع ويتقرر أنهم ادعوا نصرة الله تعالى وهم منها بمعزل، ونكتة تخصيص هذا الموضع بإسناد النصرانية إلى دعواهم أنه لما كان المقصود في هذه الآية ذمهم بنقض الميثاق المأخوذ عليهم في نصرة الله تعالى ناسب ذلك أن يصدر الكلام بما يدل على أنهم لم ينصروا الله تعالى ولم يفوا بما واثقوا عليه من النصرة وما كان حاصل أمرهم إلا التفوه بالدعوى وقولها دون فعلها، ولا يخفى أن هذا مبني على أن وجه تسميتهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 نصارى كونهم أنصار الله تعالى وهو وجه مشهور، ولهذا يقال لهم أيضا: أنصار، وفي غير ما موضع أن عيسى عليه السلام ولد في سنة أربع وثلاثمائة لغلبة الإسكندر في بيت لحم من المقدس، ثم سارت به أمه عليها السلام إلى مصر، ولما بلغ اثنتي عشرة سنة عادت به إلى الشام فأقام ببلدة تسمى الناصرة، أو نصورية وبها سميت النصارى، ونسبوا إليها، وقيل: إنهم جمع نصران كندامى وندمان- أو جمع نصرى- كمهرى ومهارى- والنصرانية والنصرانة واحدة النصارى، والنصرانية أيضا دينهم، ويقال لهم: نصارى وأنصار، وتنصر دخل في دينهم فَنَسُوا على إثر أخذ الميثاق حَظًّا نصيبا وافرا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ في تضاعيف الميثاق من الإيمان بالله تعالى وغير ذلك من الفرائض، وقيل: هو ما كتب عليهم في الإنجيل من الإيمان بالنبي صلّى الله عليه وسلّم فنبذوه وراء ظهورهم واتبعوا أهواءهم وتفرقوا إلى اثنتين وسبعين فرقة فَأَغْرَيْنا أي ألزمنا وألصقنا، وأصله اللصوق يقال: غريت بالرجل غرى إذا لصقت به قاله الأصمعي، وقال غيره: غريت به غراء بالمد، وأغريت زيدا بكذا حتى غري به، ومنه الغراء الذي يلصق به الأشياء، وقوله تعالى: بَيْنَهُمُ ظرف- لأغرينا- أو متعلق بمحذوف وقع حالا من مفعوله أي أغرينا الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ كائنة بينهم. قال أبو البقاء: ولا سبيل إلى جعله ظرفا لهما لأن المصدر لا يعمل فيما قبله، وأنت تعلم أن منهم من أجاز ذلك إذا كان المعمول ظرفا، وقوله تعالى: إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إما غاية للإغراء، أو للعداوة والبغضاء أي يتعادون ويتباغضون إلى يوم القيامة حسبما تقتضيه أهواؤهم المختلفة وآراؤهم الزائغة المؤدية إلى التفرق إلى الفرق الكثيرة، ومنها النسطورية: واليعقوبية، والملكانية، وقد تقدم الكلام فيهم، فضمير بَيْنَهُمُ إلى النصارى كما روي عن الربيع، واختاره الزجاج والطبري، وعن الحسن وجماعة من المفسرين أنه عائد على اليهود والنصارى وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ في الدنيا من نقض الميثاق ونسيان الحظ الوافر مما ذكروا به، والكلام مساق للوعيد الشديد بالجزاء والعقاب فالإنباء مجاز عن وقوع ذلك وانكشافه لهم، لا أن ثمت أخبارا حقيقة، والنكتة في التعبير بالإنباء الإنباء بأنهم لا يعلمون حقيقة ما يعملونه من الأعمال السيئة واستتباعها للعذاب، فيكون ترتيب العذاب عليها في إفادة العلم بحقيقة حالها بمنزلة الإخبار بها، والالتفات إلى ذكر الاسم الجليل لما مرّ مرارا، والتعبير عن العمل بالصنع للإيذان برسوخهم فيه وَسَوْفَ لتأكيد الوعيد يا أَهْلَ الْكِتابِ التفات إلى خطاب الفريقين من اليهود والنصارى على أن الكتاب جنس صادق بالواحد والاثنين وما فوقهما، والتعبير عنهم بعنوان أهلية الكتاب للتشنيع، فإن أهلية الكتاب من موجبات مراعاته والعمل بمقتضاه وبيان ما فيه من الأحكام، وقد فعلوا ما فعلوا وهم يعلمون قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، والتعبير عنه بذلك مع الإضافة إلى ضمير العظمة للتشريف والإيذان بوجوب اتباعه عليه الصلاة والسلام يُبَيِّنُ لَكُمْ حال من رَسُولُنا وإيثار الفعلية للدلالة على تجدد البيان أي حال كونه مبينا لكم على سبيل التدريج حسبما تقتضيه المصلحة كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ أي التوراة والإنجيل، وذلك كنعت النبي صلّى الله عليه وسلّم وآية الرجم وبشارة عيسى بأحمد عليهما الصلاة والسلام، وأخرج ابن جرير عن عكرمة أنه قال: إن نبي الله تعالى صلّى الله عليه وسلّم أتاه اليهود يسألونه عن الرجم فقال عليه الصلاة والسلام: «أيكم أعلم؟ فأشاروا إلى ابن صوريا فناشده بالذي أنزل التوراة على موسى عليه السلام والذي رفع الطور وبالمواثيق التي أخذت عليهم حتى أخذه أفكل (1) فقال: إنه لما كثر فينا جلدنا مائة وحلقنا الرؤوس فحكم عليهم بالرجم فأنزل الله تعالى هذه الآية» وتأخير كَثِيراً عن الجار والمجرور لما مرّ غير مرة، والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على استمرارهم على الكتم والإخفاء، ومِمَّا متعلق   (1) أي رعدة اه منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 بمحذوف وقع صفة- لكثيرا- وما موصولة اسمية وما بعدها صلتها، والعائد محذوف، ومن الْكِتابِ حال من ذلك المحذوف أي يبين لكم كثيرا من الذي تخفونه على الاستمرار حال كونه من الكتاب الذي أنتم أهله والعاكفون عليه وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ أي ولا يظهر كثيرا مما تخفونه إذا لم تدع إليه داعية دينية صيانة لكم عن زيادة الافتضاح، وقال الحسن: أي يصفح عن كثير منكم ولا يؤاخذه إذا تاب واتبعه، وأخرج ابن حميد عن قتادة مثله، واعترض أنه مخالف للظاهر لأن الظاهر أن يكون هذا الكثير كالكثير السابق، وفيه نظر- كما قال الشهاب- لأن النكرة إذا أعيدت نكرة فهي متغايرة، نعم اختار الأول الجبائي وجماعة من المفسرين، والجملة معطوفة على الجملة الحالية داخلة في حكمها قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ عظيم وهو نور الأنوار والنبي المختار صلّى الله عليه وسلّم، وإلى هذا ذهب قتادة، واختاره الزجاج، وقال أبو علي الجبائي: عنى بالنور القرآن لكشفه وإظهاره طرق الهدى واليقين، واقتصر على ذلك الزمخشري، وعليه فالعطف في قوله تعالى: وَكِتابٌ مُبِينٌ لتنزيل المغايرة بالعنوان منزلة المغايرة بالذات، وأما على الأول فهو ظاهر، وقال الطيبي: إنه أوفق لتكرير قوله سبحانه: قَدْ جاءَكُمْ بغير عاطف فعلق به أولا وصف الرسول والثاني وصف الكتاب، وأحسن منه ما سلكه الراغب حيث قال: بين في الآية الأولى والثانية النعم الثلاث التي خص بها العباد النبوة والعقل، والكتاب، وذكر في الآية الثالثة ثلاثة أحكام يرجع كل واحد إلى نعمة مما تقدم فيهدي به إلى آخره ويرجع إلى قوله سبحانه: قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا ويخرجهم إلخ يرجع إلى قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ ويهديهم يرجع إلى قوله عز شأنه: وَكِتابٌ مُبِينٌ كقوله: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] انتهى. وأنت تعلم أنه لا دليل لهذا الإرجاع سوى اعتبار الترتيب اللفظي ولو أرجعت الأحكام الثلاثة إلى الأول لم يمتنع، ولا يبعد عندي أن يراد بالنور والكتاب المبين النبي صلّى الله عليه وسلّم، والعطف عليه كالعطف على ما قاله الجبائي، ولا شك في صحة إطلاق كل عليه عليه الصلاة والسلام، ولعلك تتوقف في قبوله من باب العبارة فليكن ذلك من باب الإشارة، والجار والمجرور متعلق بجاء، ومِنَ لابتداء الغاية مجازا، أو متعلق بمحذوف وقع حالا من نور، وتقديم ذلك على الفاعل للمسارعة إلى بيان كون المجيء من جهته تعالى العالية والتشويق إلى الجائي، ولأن فيه نوع طول يخل تقديمه بتجاوب النظم الكريم، والمبين من بان اللازم بمعنى ظهر فمعناه الظاهر الإعجاز، ويجوز أن يكون من المتعدي فمعناه المظهر للناس ما كان خافيا عليهم. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ توحيد الضمير لاتحاد المرجع بالذات، أو لكونهما في حكم الواحد، أو لكون المراد يهدي بما ذكر، وتقديم المجرور للاهتمام نظرا إلى المقام وإظهار الاسم الجليل لإظهار كمال الاعتناء بأمر الهداية، ومحل الجملة الرفع على أنها صفة ثانية لكتاب، أو النصب على الحالية منه لتخصيصه بالصفة. وجوز أبو البقاء أن تكون حالا من رَسُولُنا بدلا من يُبَيِّنُ وأن تكون حالا من الضمير في يُبَيِّنُ، وأن تكون حالا من الضمير في مُبِينٌ، وأن تكون صفة لنور مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ أي من علم الله تعالى أنه يريد اتباع رضا الله تعالى بالإيمان به، ومَنِ موصولة أو موصوفة سُبُلَ السَّلامِ أي طرق السلامة من كل مخافة- قاله الزجاج- فالسلام مصدر بمعنى السلامة. وعن الحسن والسدي أنه اسمه تعالى، ووضع المظهر موضع المضمر ردا على اليهود والنصارى الواصفين له سبحانه بالنقائص تعالى عما يقولون علوا كبيرا، والمراد حينئذ بسبله تعالى شرائعه سبحانه التي شرعها لعباده عز وجل، ونصبها قيل: على أنها مفعول ثان ليهدي على إسقاط حرف الجر نحو وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الأعراف: 155] . وقيل: إنها بدل من- رضوان- بدل كل من كل، أو بعض من كل، أو اشتمال، والرضوان بكسر الراء وضمها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 لغتان، وقد قرىء بهما، والسبل- بضم الباء والتسكين لغة، وقد قرىء به وَيُخْرِجُهُمْ الضمير المنصوب عائد إلى مَنِ والجمع باعتبار المعنى كما أن إفراد الضمير المرفوع في اتَّبَعَ باعتبار اللفظ. مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي من فنون الكفر والضلال إلى الإيمان بِإِذْنِهِ أي بإرادته أو بتوفيقه. وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو دين الإسلام الموصل إلى الله تعالى- كما قال الحسن- وفي إرشاد العقل السليم، وهذه الهداية عين الهداية إلى سُبُلَ السَّلامِ وإنما عطفت عليها تنزيلا للتغاير الوصفي منزلة التغاير الذاتي كما في قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ [هود: 58] . وقال الجبائي: المراد بالصراط المستقيم طريق الجنة لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ لا غير المسيح كما يقال: الكرم هو التقوى، وإن الله تعالى هو الدهر أي الجالب للحوادث لا غير الجالب، فالقصر هنا للمسند إليه على المسند بخلاف قولك: زيد هو المنطلق فإن معناه لا غير زيد، والقائلون لذلك- على ما هو المشهور- هم اليعقوبية المدعون بأن الله سبحانه قد يحل في بدن إنسان معين أو في روحه. وقيل: لم يصرح بهذا القول أحد من النصارى، ولكن لما زعموا أن فيه لاهوتا مع تصريحهم بالوحدة، وقولهم: لا إله إلا واحد لزمهم أن الله سبحانه هو المسيح، فنسب إليهم لازم قولهم توضيحا لجهلهم وتفضيحا لمعتقدهم، وقال الراغب: فإن قيل: إن أحدا لم يقل الله تعالى هو المسيح وإن قالوا المسيح هو الله تعالى وذلك أن عندهم أن المسيح من لاهوت وناسوت فيصح أن يقال المسيح هو اللاهوت وهو ناسوت كما صح أن يقال: الإنسان هو حيوان مع تركبه من العناصر، ولا يصح أن يقال: اللاهوت هو المسيح كما لا يصح أن يقال: الحيوان هو الإنسان، قيل: إنهم قالوا: هو المسيح على وجه آخر غير ما ذكرت، وهو ما روي عن محمد بن كعب القرظي أنه لما رفع عيسى عليه الصلاة والسلام اجتمع طائفة من علماء بني إسرائيل فقالوا: ما تقولون في عيسى عليه الصلاة والسلام؟ فقال أحدهم: أو تعلمون أحدا يحيي الموتى إلا الله تعالى؟ فقالوا: لا، فقال: أو تعلمون أحدا يبرىء الأكمه والأبرص إلا الله تعالى؟ قالوا: لا، قالوا: فما الله تعالى إلا من هذا وصفه أي حقيقة الإلهية فيه، وهذا كقولك: الكريم زيد أي حقيقة الكرم في زيد، وعلى هذا قولهم: إن الله تعالى هو المسيح انتهى، وأنت تعلم أنه مع دعوى أن القائلين بالاتحاد يقولون بانحصار المعبود في المسيح كما هو ظاهر النظم لا يرد شيء قُلْ يا محمد تبكيتا لهم وإظهارا لبطلان قولهم الفاسد وإلقاما لهم الحجر، وقد يقال: الخطاب لكل من له أهلية ذلك، والفاء في قوله تعالى: فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً عاطفة على مقدر، أو جواب شرط محذوف، ومِنَ استفهامية للإنكار والتوبيخ، والملك الضبط والحفظ التام عن حزم، والمراد هنا- فمن يمنع، أو يستطيع- كما في قوله: أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا ومِنَ اللَّهِ متعلق به على حذف مضاف أي ليس الأمر كذلك، أو إن كان كما تزعمون فمن يمنع من قدرته تعالى وإرادته شيئا إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ومن حق من يكون إلها أن لا يتعلق به، ولا بشأن من شؤونه، بل بشيء من الموجودات قدرة غيره فضلا عن أن يعجز عن دفع شيء منها عند تعلقها بهلاكه، فلما كان عجزه بينا لا ريب فيه ظهر كونه بمعزل عما تقولون فيه. والمراد بالإهلاك الإماتة والإعدام مطلقا لا عن سخط وغضب، وإظهار المسيح على الوجه الذي نسبوا إليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 الألوهية حيث ذكرت معه الصفة في مقام الإضمار لزيادة التقرير والتنصيص على أنه من تلك الحيثية بعينها داخل تحت قهره تعالى وملكوته سبحانه، وقيل: وصفه بذلك للتنبيه على أنه حادث تعلقت به القدرة بلا شبهة لأنه تولد من أم، وتخصيص الأم بالذكر مع اندراجها في عموم المعطوف لزيادة تأكيد عجز المسيح، ولعل نظمها في سلك من فرض إهلاكهم مع تحقق هلاكها قبل لتأكيد التبكيت وزيادة تقرير مضمون الكلام بجعل حالها أنموذجا لحال بقية من فرض إهلاكه، وتعميم إرادة الإهلاك مع حصول الغرض بقصرها على عيسى عليه الصلاة والسلام لتهويل الخطب وإظهار كمال العجز ببيان أن الكل تحت قهره وملكوته تعالى لا يقدر على دفع ما أريد به فضلا عما أريد بغيره، وللإيذان بأن المسيح أسوة لسائر المخلوقات في كونه عرضة للهلاك كما أنه أسوة لهم في العجز وعدم استحقاق الألوهية. قاله المولى أبو السعود، وجَمِيعاً حال من المتعاطفات، وجوز أن يكون حالا من مِنَ فقط لعمومها، وقوله تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما أي ما بين طرفي العالم الجسماني فيتناول ما في السموات من الملائكة وغيرها، وما في أعماق الأرض والبحار من المخلوقات، قيل: تنصيص على كون الكل تحت قهره تعالى وملكوته إثر الإشارة إلى كون البعض كذلك أي له تعالى وحده ملك جميع الموجودات والتصرف المطلق فيها إيجادا وإعداما، وإحياء وإماتة لا لأحد سواه استقلالا ولا اشتراكا، فهو تحقيق لاختصاص الألوهية به تعالى إثر بيان انتفائها عما سواه، وقيل: دليل آخر على نفي ألوهية عيسى عليه الصلاة والسلام لأنه لو كان إلها كان له ملك السموات والأرض وما بينهما، وقيل: دليل على نفي كونه عليه الصلاة والسلام ابنا ببيان أنه مملوك لدخوله تحت العموم، ومن المعلوم أن المملوكية تنافي البنوة، وقوله تعالى: يَخْلُقُ ما يَشاءُ جملة مستأنفة مسوقة لبيان بعض أحكام الملك والألوهية على وجه يزيح ما اعتراهم من الشبه في أمر المسيح عليه السلام لولادته من غير أب وخلق الطير وإبراء الأكمه والأبرص. وإحياء الموتى، وما موصوفة محلها النصب على المصدرية أي يخلق أي خلق يشاؤه، فتارة يخلق من غير أصل- كخلق السموات والأرض- مثلا، وأخرى من أصل- كخلق بعض ما بينهما- وذلك متنوع أيضا، فطورا ينشئ من أصل ليس من جنسه كخلق آدم، وكثير من الحيوانات- وتارة من أصل يجانسه إما من ذكر وحده- كخلق حواء- أو من أنثى وحدها- كخلق عيسى عليه الصلاة والسلام- أو منهما- كخلق سائر الناس، ويخلق بلا توسط شيء من المخلوقات- ككثير من المخلوقات- وقد يخلق بتوسط مخلوق آخر- كخلق الطير- على يد عيسى عليه السلام معجزة له وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، فينبغي أن ينسب كل ذلك إليه تعالى لا من أجرى على يده قاله غير واحد. وقيل: إن الجملة جيء بها هاهنا مبينة لما هو المراد من قوله تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلخ بحسب اقتضاء المقام، وما نصب على المصدرية أيضا، وقيل: يجوز أن تكون موصولة ومحلها النصب على المفعولية أي يخلق الذي يشاء أن يخلقه، والجملة مسوقة لبيان أن قدرته تعالى أوسع من عالم الوجود، وعلى كل تقدير فقوله سبحانه: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تذييل مقرر لمضمون ما قبله وإظهار الاسم الجليل لما مر من التعليل وتقوية استقلال الجملة وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ حكاية لما صدر من الفريقين من الدعوى الباطلة لأنفسهم، وبيان لبطلانها إثر ذكر ما صدر عن أحدهما من الدعوى الباطلة لغيره وبيان بطلانها أي قال كل من الطائفتين هذا القول الباطل، ومرادهم- بالأبناء المقربون- أي نحن مقربون عند الله تعالى قرب الأولاد من والدهم، وبالأحباء- جمع حبيب بمعنى محب أو محبوب، ويجوز أن يكون أرادوا من الأبناء الخاصة كما يقال: أبناء الدنيا، وأبناء الآخرة، وأن يكون أرادوا أشياع من وصف بالبنوة أي قالت اليهود نحن أشياع ابنه عزير، وقالت النصارى: نحن أشياع ابنه المسيح عليهما السلام، وأطلق الأبناء على الأشياع مجازا إما تغليبا أو تشبيها لهم بالأبناء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 في قرب المنزلة، وهذا كما يقول أتباع الملك: نحن الملوك، وكما أطلق على أشياع أبي خبيب عبد الله بن الزبير الخبيبون في قوله: قدني من نصر الخبيبين قدني على رواية من رواه بالجمع، فقد قال ابن السكيت: يريد أبا خبيب ومن كان معه، فحيث جاز جمع خبيب وأشياع أبيه فأولى أن يجوز جمع ابن الله عز اسمه وأشياع الابن بزعم الفريقين، فاندفع ما قيل: إنهم لا يقولون ببنوة أنفسهم ولم يحمل على التوزيع بمعنى أنفسنا الأحباء وأبناؤنا الأبناء بجمع الابنين لمشاكلة الأحباء لأن خطاب بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ يأباه ظاهرا ويدل على ادعائهم البنوة بأي معنى كان: وقيل: الكلام على حذف المضاف أي نحن أبناء أنبياء الله تعالى وهو خلاف الظاهر، وقائل ذلك من اليهود بعضهم ونسب إلى الجميع لما مر غير مرة، فقد أخرج ابن جرير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نعمان بن آصى وبحرى بن عمرو وشاش بن عدي فكلموه وكلمهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودعاهم إلى الله تعالى وحذرهم نقمته فقالوا: ما تخوفنا يا محمد نحن والله أبناء الله وأحباؤه، وقالت النصارى ذلك قبلهم فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية. وعن الحسن أن النصارى تأولوا ما في الإنجيل من قول المسيح: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم فقالوا ما قالوا. وعندي أن إطلاق ابن الله تعالى على المطيع قد كان في الزمن القديم، ففي التوراة قال الله تعالى لموسى عليه الصلاة والسلام: اذهب إلى فرعون وقل له يقول لك الرب إسرائيل ابني بكري أرسله يعبدني فإن أبيت أن ترسل ابني بكري قتلت ابنك بكرك، وفيها أيضا في قصة الطوفان أنه لما نظر بنو الله تعالى إلى بنات الناس وهم حسان جدا شغفوا بهن فنكحوا منهن ما أحبوا واختاروا فولدوا جبابرة فأفسدوا فقال الله تعالى: لا تحل عنايتي على هؤلاء القوم، وأريد بأبناء الله تعالى أولاد هابيل، وبأبناء الناس أبناء قابيل، وكنّ حسانا جدا فصرفن قلوبهن عن عباده الله تعالى إلى عبادة الأوثان، وفي المزامير أنت ابني سلني أعطك، وفيها أيضا أنت ابني وحبيبي، وقال شعيا في نبوته عن الله تعالى: تواصوا بي في أبنائي وبناتي يريد ذكور عباد الله تعالى الصالحين وإناثهم، وقال يوحنا الإنجيلي في الفصل الثاني من الرسالة الأولى- انظروا إلى محبة الأب لنا أن أعطانا أن ندعي أبناء- وفي الفصل الثالث- أيها الأحباء الآن صرنا أبناء الله تعالى فينبغي لنا أن ننزله في الإجلال على ما هو عليه فمن صح له هذا الرجاء فليزك نفسه بترك لخطيئة والإثم، واعلموا أن من لابس الخطيئة فإنه لم يعرفه- وقال المسيح: أحبوا أعدائكم، وباركوا على لاعنيكم، وأحسنوا إلى من يبغضكم، وصلوا على من طردكم، كيما تكونوا بني أبيكم المشرق شمسه على الأخيار والأشرار، والممطر على الصديقين والظالمين، وقال يوحنا التلميذ في قصص الحواريين: يا أحبائي إنا أبناء الله تعالى سمانا بذلك، وقال بولس الرسول في رسالته إلى ملك الروم: إن الروح تشهد لأرواحنا أننا أبناء الله تعالى وأحباؤه، إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة، وقد جاء أيضا إطلاق الابن على العاصي ولكن بمعنى الأثر ونحوه، ففي الرسالة الخامسة لبولس إياكم والسفه والسب واللعب فإن الزاني والنجس كعابد الوثن لا نصيب له في ملكوت الله تعالى واحذروا هذه الشرور فمن أجلها يأتي رجز الله على الأبناء الذين لا يطيعونه، وإياكم أن تكونوا شركاء لهم فقد كنتم قبل في ظلمة فاسعوا الآن سعي أبناء النور، ومقصود الفريقين ب نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ هو المعنى المتضمن مدحا، وحاصل دعواهم أن لهم فضلا ومزية عند الله تعالى على سائر الخلق، فرد سبحانه عليهم ذلك، وقال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قُلْ إلزاما لهم وتبكيتا فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ أي إن صح ما زعمتم فلأي شيء يعذبكم يوم القيامة بالنار أياما بعدد أيام عبادتكم العجل، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 وقد اعترفتم بذلك في غير ما موطن، وهذا ينافي دعواكم القرب ومحبة الله تعالى لكم أو محبتكم له المستلزمة لمحبته لكم كما قيل: ما جزاء من يحب إلا يحب، أو فلأيّ شيء أذنبتم بدليل أنكم ستعذبون، وأبناء الله تعالى إنما يطلق إن أطلق في مقام الافتخار على المطيعين كما نطقت به كتبكم، أو إن صح ما زعمتم فلم عذبكم بالمسخ الذي لا يسعكم إنكاره وعدّ بعضهم من العذاب البلايا والمحن كالقتل والأسر، واعترض ذلك بأنه لا يصلح للإلزام فإن البلايا والمحن قد كثرت في الصلحاء، وقد ورد «أشد الناس بلاء الأنبياء- عليهم السلام- ثم الأمثل فالأمثل» ، وقال الشاعر: ولكنهم أهل الحفائظ والعلا ... فهم لملمات الزمان خصوم وقوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي ليس الأمر كذلك بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ وإن شئت قدرت مثل هذا في أول الكلام وجعلت الفاء عاطفة، وقوله سبحانه: مِمَّنْ خَلَقَ متعلق بمحذوف وقع صفة بَشَرٌ أي بشر كائن من جنس من خلقه الله تعالى من غير مزية لكم عليهم. يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ أن يغفر له من أولئك المخلوقين وهم المؤمنون به تعالى وبرسله عليهم الصلاة والسلام وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ أن يعذبه وهم الذين كفروا به سبحانه وبرسله عليهم السلام مثلكم، والذي دل على التخصيص قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: 48] إن قلنا بعمومه كما هو المعروف المشهور، ومن الغريب ما في شرح مسلم للنووي أنه يحتمل أن يكون مخصوصا بهذه الأمة وفيه نظر. هذا وأورد بعض المحققين هنا إشكالا ذكر أنه قوي وهو أنه إذا كان معنى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ تعالى أشياع بنيه فغاية الأمر أن يكونوا على طريقة الابن تحقيقا للتبعية لكن من أين يلزم أن يكونوا من جنس الأب كما صرح به الزمخشري في انتفاء فعل القبائح، وانتفاء البشرية والمخلوقية ليحسن الرد عليهم بأنهم بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ، نعم ما ذكروه في هذا المقام من استلزام المحبة عدم العصيان والمعاقبة ربما يتمشى لأن من شأن المحب أن لا يعصي الحبيب ولا يستحق منه المعاقبة ومن هنا قيل: تعصي الإله وأنت تظهر حبه ... هذا لعمري في الفعال بديع لو كان حبك صادقا لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع وفيه مناقشة لأن هذا شأن المحبين والأحباء هم المحبون، وأجاب عن إشكال إثبات البشرية بأنه ليس إثباتا لمطلق البشرية ليجب أن يكون رد الدعوى بانتفائه بل هو إثبات أنهم بشر مثل سائر البشر، ومن جنس سائر المخلوقين منهم العاصي والمطيع والمستحق للمغفرة والعذاب لا كما ادعوا من أنهم الأشياع المخصوصون بمزيد قرب واختصاص لا يوجد في سائر البشر ولذا وصف بشرا بقوله سبحانه مِمَّنْ خَلَقَ حتى لا يبعد أن يكون يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ أيضا في موقع الصفة على حذف العائد أي لمن يشاء منهم، وأما إشكال الجنسية فقيل في جوابه: المراد أنكم لو كنتم أشياع بني الله تعالى لكنتم على صفتهم في ترك القبائح وعدم استحقاق العذاب لأن من شأن الأشياع والأتباع أن يكونوا على صفة المتبوعين، والمتبوعون هنا هم الأبناء بالزعم، ومن شأن الأبناء أن يكونوا على صفة الأب فمن شأن الأتباع أن يكونوا على صفة الأب بالواسطة، وقيل: كلام من قال: يلزم أن يكونوا من جنس الأب على حذف مضاف، أي لو كنتم أشياع بني الله تعالى لكنتم من جنس أشياع الأب يعني أهل الله تعالى الذين لا يفعلون القبائح ولا يستوجبون العقاب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 وفي الكشف إن قولهم: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ تعالى فيه إثبات الابن، وأنهم من أشياعه مستوجبون محبة الأب لذلك فينبغي أن يكون الرد مشتملا على هدم القولين فقيل: من أسندتم إليه البنوة لا يصلح لها لإمكان القبيح عليه وصدوره هفوة ومؤاخذته بالزلة ودعواكم المحبة كاذبة وإلا لما عذبتم، وأيضا إذا بطل أن يكون له تعالى ابن بطل أن يكونوا أشياعه، وكذلك المحبة المبنية على ذلك، ثم قال: وجاز أن يقال: إنه لإبطال أن يكونوا أبناء حقيقة كما يفهم من ظاهر اللفظ أو مجازا كما فسره الزمخشري اه. وأنت تعلم أن كل ما ذكره ليس بشيء كما لا يخفى على من له أدنى تأمل، وما ذكرناه كاف في الغرض. نعم ذكر الشهاب عليه الرحمة توجيها لا بأس به، وهو أن اللائق أن يكون مرادهم بكونهم أبناء الله تعالى أنه لما أرسل إليهم الابن على زعمهم وأرسل لغيرهم رسل عباده دل ذلك على امتيازهم عن سائر الخلق، وأن لهم مع الله تعالى مناسبة تامة وزلفى تقتضي كرامة لا كرامة فوقها، كما أن الملك إذا أرسل لدعوة قوم أحد جنده ولآخرين ابنه علموا أنه مريد لتقريبهم وأنهم آمنون من كل سوء يطرق غيرهم، ووجه الرد أنكم لا فرق بينكم وبين غيركم عند الله تعالى، فإنه لو كان كما زعمتم لما عذبكم وجعل المسخ فيكم، وكذا على كونه بمعنى المقربين المراد قرب خاص فيطابقه الرد ويتعانق الجوابان فافهمه انتهى، والجواب عن المناقشة التي فعلها البعض يعلم ممّا أشرنا إليه سابقا فلا تغفل وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما من تتمة الرد أي كل ذلك له تعالى لا ينتمي إليه سبحانه شيء منه إلا بالمملوكية والعبودية والمقهورية تحت ملكوته يتصرف فيه كيف يشاء إيجادا وإعداما، إحياء وإماتة، وإثابة وتعذيبا فأنّى لهؤلاء ادّعاء ما زعموا؟! وربما يقال: إن هذا مع ما تقدم ردّ لكونهم أبناء الله تعالى بمعنى أشياع بنيه، فنفى أولا كونهم أشياعا وثانيا وجود بنين له عز شأنه وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي الرجوع في الآخرة لا إلى غيره استقلالا أو اشتراكا فيجازي كلّا من المحسن والمسيء بما يستدعيه علمه من غير صارف يثنيه ولا عاطف يلويه. يا أَهْلَ الْكِتابِ تكرير للخطاب بطريق الالتفات ولطف في الدعوة، وقيل: الخطاب هنا لليهود خاصة قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ على التدريج حسبما تقتضيه المصلحة- الشرائع والأحكام النافعة معادا ومعاشا- المقرونة بالوعد والوعيد، وحذف هذا المفعول اعتمادا على الظهور إذ من المعلوم أن ما يبينه الرسول هو الشرائع والأحكام، ويجوز أن ينزل الفعل منزلة اللازم أي يفعل البيان ويبذله لكم في كل ما تحتاجون فيه من أمور الدين، وأما إبقاؤه متعديا مع تقدير المفعول كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ كما قيل، فقد قيل فيه: مع كونه تكريرا من غير فائدة يرده قوله سبحانه: عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ فإن فتور الإرسال وانقطاع الوحي إنما يحوج إلى بيان الشرائع والأحكام لا إلى بيان ما كتموه، وعَلى فَتْرَةٍ متعلق- بجاءكم- على الظرفية كما في قوله تعالى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ [البقرة: 102] أي «جاءكم» على حين فتور من الإرسال وانقطاع الوحي ومزيد الاحتياج إلى البيان. وجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من ضمير يُبَيِّنُ أو من ضمير لَكُمْ أي يُبَيِّنُ لَكُمْ حال كونه على فترة، أو حال كونكم على فترة. ومِنَ الرُّسُلِ صفة فَتْرَةٍ ومِنَ ابتدائية، أي فترة كائنة من الرسل مبتدأة من جهتهم، والفترة فعلة من فتر عن عمله يفتر فتورا إذا سكن، والأصل فيها الانقطاع عما كان عليه من الجد في العمل، وهي عند جميع المفسرين انقطاع ما بين الرسولين. واختلفوا في مدتها بين نبينا صلّى الله عليه وسلّم وعيسى عليه السلام، فقال قتادة: كان بينهما عليهما الصلاة والسلام خمسمائة سنة وستون سنة، وقال الكلبي: خمسمائة وأربعون سنة، وقال ابن جريج: خمسمائة سنة، وقال الضحاك: أربعمائة سنة وبضع وثلاثون سنة، وأخرج ابن عساكر عن سلمان رضي الله تعالى عنه أنها ستمائة سنة، وقيل: كان بين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 نبينا صلّى الله عليه وسلّم وأخيه عيسى عليه السلام ثلاثة أنبياءهم المشار إليهم بقوله تعالى: أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ [يس: 14] ، وقيل: بينهما عليهما الصلاة والسلام أربعة: الثلاثة المشار إليهم، وواحد من العرب من بني عبس- وهو خالد بن سنان عليه السلام- الذي قال فيه صلّى الله عليه وسلّم: «ذلك نبي ضيعه قومه» ولا يخفى أن الثلاثة الذين أشارت إليهم الآية رسل عيسى عليه السلام ونسبة إرسالهم إليه تعالى بناء على أنه كان بأمره عزّ وجلّ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك وأما خالد بن سنان العبسي فقد تردد فيه الراغب في محاضراته، وبعضهم لم يثبته، وبعضهم قال: إنه كان قبل عيسى عليهما الصلاة والسلام لأنه ورد في حديث: «لا نبي بيني وبين عيسى» صلّى الله عليه وسلّم، لكن في التواريخ إثباته، وله قصة في كتب الآثار مفصلة، وذكر أن بنته أتت النبي صلّى الله عليه وسلّم وآمنت به، ونقش الشيخ الأكبر قدس سره له فصا في كتابه فصوص الحكم، وصحح الشهاب أنه عليه السلام من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأنه قبل عيسى عليهما الصلاة والسلام، وعلى هذا فالمراد ببنته الجائية إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- إن صح الخبر- بنته بالواسطة لا البنت الصلبية إذ بقاؤها إلى ذلك الوقت مع عدم ذكر أحد أنها من المعمرين بعيد جدا، وكان بين موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام ألف وسبعمائة سنة في المشهور، لكن لم يفتر فيها الوحي، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الله تعالى بعث فيها ألف بني من بني إسرائيل سوى من بعث من غيرهم أَنْ تَقُولُوا تعليل لمجيء الرسول بالبيان أي كراهة أن تقولوا- كما قدره البصريون- أو لئلا تقولوا- كما يقدر الكوفيون- معتذرين من تفريطكم في أحكام الدين يوم القيامة ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ وقد انطمست آثار الشريعة السابقة وانقطعت أخبارها، وزيادة مِنَ في الفاعل للمبالغة في نفي المجيء، وتنكير بَشِيرٍ ونَذِيرٍ على ما قال شيخ الإسلام: للتقليل وتعقيب- قد جاءكم- إلخ بهذا يقتضي أن المقدر، أو المنوي فيما سبق هو الشرائع والأحكام لا كيفما كانت بل مشفوعة بذكر الوعد والوعيد، والفاء في قوله تعالى: فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ تفصح عن محذوف ما بعدها علة له، والتقدير هنا لا تعتذروا فَقَدْ جاءَكُمْ وتسمى الفاء الفصيحة، وتختلف عبارة المقدر قبلها، فتارة يكون أمرا أو نهيا، وتارة يكون شرطا كما في قوله تعالى: فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ [الروم: 56] ، وقول الشاعر: فقد جئنا خراسانا . وتارة معطوفا عليه كما في قوله تعالى: فَانْفَجَرَتْ [البقرة: 60] وقد يصار إلى تقدير القول- كما في الفرقان- في قوله تعالى: فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ، وإن شئت قدرت هنا أيضا، فقلنا: لا تعتذروا فقد إلخ، وقد صرح بعض علماء العربية أن حقيقة هذه الفاء أنها تتعلق بشرط محذوف، ولا ينافي ذلك إضمار القول لأنه إذا ظهر المحذوف لم يكن بدّ من إضمار ليرتبط بالسابق فيقال: في البيت مثلا، وقلنا، أو فقلنا: إن صح ما ذكرتم فقد جئنا خراسانا، وكذلك ما نحن فيه فقلنا: لا تعتذروا فقد جاءكم، ثم إنه في المعنى جواب شرط مقدر سواء صرح بتقديره أم لا لأن الكلام إذا اشتمل على مترتبين أحدهما على الآخر ترتب العلية كان في معنى الشرط والجزاء، فلا تنافي بين التقادير والتقارير المختلفة، ولو سلّم التنافي فهما وجهان ذكروا أحدهما في موضع والآخر في آخر- كما حققه في الكشف- وقد مرت الإشارة من بعيد إلى أمر هذه الفاء فتذكر، وتنوين بَشِيرٍ ونَذِيرٍ للتفخيم وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيقدر على إرسال الرسل تترى، وعلى الإرسال بعد الفترة. وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ جملة مستانفة مسوقة لبيان ما فعلت بنو إسرائيل بعد أخذ الميثاق منهم، وتفصيل كيفية نقضهم له مع الإشارة إلى انتفاء فترة الرسل عليهم الصلاة والسلام فيما بينهم وإِذْ نصب على أنه مفعول لفعل محذوف خوطب به سيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم بطريق تلوين الخطاب وصرفه عن أهل الكتاب ليعدد عليهم ما سلف من بعضهم من الجنايات، أي واذكر لهم يا محمد وقت قول موسى عليه السلام ناصحا ومستميلا لهم بإضافتهم إليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت أبلغ من توجيهه إلى ما وقع فيه، وإن كان هو المقصود بالذات كما مرت الإشارة إليه، وعَلَيْكُمْ متعلق إما بالنعمة إن جعلت مصدرا، وإما بمحذوف وقع حالا منها إذا جعلت اسما أي اذكروا إنعامه عليكم بالشكر، واذكروا نعمته كائنة عليكم، وكذا إِذْ في قوله تعالى: إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ متعلقة بما تعلق به الجار والمجرور أي اذكروا إنعامه عليكم في وقت جعله، أو اذكروا نعمته تعالى كائنة عليكم في وقت جعله فيما بينكم من أقربائكم أنبياء، وصيغة الكثرة على حقيقتها كما هو الظاهر، والمراد بهم موسى وهارون ويوسف وسائر أولاد يعقوب على القول بأنهم كانوا أنبياء، أو الأولون، والسبعون الذين اختارهم موسى لميقات ربه، فقد قال ابن السائب ومقاتل: إنهم كانوا أنبياء. وقال الماوردي وغيره: المراد بهم الأنبياء الذين أرسلوا من بعد في بني إسرائيل، والفعل الماضي مصروف عن حقيقته، وقيل: المراد بهم من تقدم ومن تأخر ولم يبعث من أمة من الأمم ما بعث من بني إسرائيل من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً عطف على جَعَلَ فِيكُمْ وغير الأسلوب فيه لأنه لكثرة الملوك فيهم أو منهم صاروا كلهم كأنهم ملوك لسلوكهم مسلكهم في السعة والترفه، فلذا تجوز في إسناد الملك إلى الجميع بخلاف النبوة فإنها وإن كثرت لا يسلك أحد مسلك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لأنها أمر إلهي يخص الله تعالى به من يشاء، فلذا لم يتجوز في إسنادها، وقيل: لا مجاز في الإسناد، وإنما هو في لفظ الملوك فإن القوم كانوا مملوكين في أيدي القبط فأنقذهم الله تعالى، فسمي ذلك الإنقاذ ملكا، وقيل: لا مجاز أصلا بل جعلوا كلهم ملوكا على الحقيقة، والملك من كان له بيت وخادم كما جاء عن زيد بن أسلم مرفوعا. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكا. وأخرج ابن جرير عن الحسن هل الملك إلا مركب وخادم ودار، وأخرج البخاري عن عبد الله بن عمرو أنه سأله رجل فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال عبد الله: ألك زوجة تأوي إليها؟ قال: نعم، قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم، قال: فأنت من الأغنياء، قال: فإن لي خادما، قال: فأنت من الملوك، وقيل: الملك من له مسكن واسع فيه ماء جار، وقيل: من له مال لا يحتاج معه إلى تكلف الأعمال وتحمل المشاق، وإليه ذهب أبو علي الجبائي، وأنت تعلم أن الظاهر هنا القول بالمجاز وما ذكر في معرض الاستدلال محتمل له أيضا وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ من فلق البحر وإغراق العدو وتظليل الغمام وانفجار الحجر وإنزال المنّ والسلوى وغير ذلك مما آتاهم الله تعالى من الأمور المخصوصة، والخطاب لقوم موسى عليه السلام كما هو الظاهر، وأل في الْعالَمِينَ للعهد، والمراد عالمي زمانهم، أو للاستغراق، والتفضيل من وجه لا يستلزم التفضيل من جميع الوجوه، فإنه قد يكون للمفضول ما ليس للفاضل، وعلى التقديرين لا يلزم تفضيلهم على هذه الأمة المحمدية على نبيها أفضل الصلاة وأكمل التحية، وإيتاء ما لم يؤت أحد وإن لم يلزم منه التفضيل لكن المتبادر من استعماله ذلك، ولذا أول بما أول، وعن سعيد بن جبير وأبي مالك أن الخطاب هنا لهذه الأمة وهو خلاف الظاهر جدا ولا يكاد يرتكب مثله في الكتاب المجيد لأن الخطابات السابقة واللاحقة لبني إسرائيل فوجود خطاب في الأثناء لغيرهم مما يخل بالنظم الكريم، وكأن الداعي للقول به ظن لزوم التفضيل مع عدم دافع له سوى ذلك، وقد علمت أنه من بعض الظن يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ كرر النداء مع الإضافة التشريفية اهتماما بشأن الأمر، ومبالغة في حثهم على الامتثال به. والْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ هي- كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والسدي وابن زيد- بيت المقدس، وقال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 الزجاج: دمشق وفلسطين والأردن (1) ، وقال مجاهد هي أرض الطور وما حوله، وعن معاذ بن جبل هي ما بين الفرات وعريش مصر، والتقديس التطهير، ووصفت تلك الأرض بذلك إما لأنها مطهرة من الشرك حيث جعلت مسكن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أو لأنها مطهرة من الآفات، وغلبة الجبارين عليها لا يخرجها عن أن تكون مقدسة، أو لأنها طهرت من القحط والجوع، وقيل: سميت مقدسة لأن فيها المكان الذي يتقدس فيه من الذنوب. الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أي قدرها وقسمها لكم، أو كتب في اللوح المحفوظ أنها تكون مسكنا لكم. روي أن الله تعالى أمر الخليل عليه الصلاة والسلام أن يصعد جبل لبنان فما انتهى بصره إليه فهو له ولأولاده فكانت تلك الأرض مدى بصره، وعن قتادة والسدي أن المعنى التي أمركم الله تعالى بدخولها وفرضه عليكم، فالكتب هنا مثله في قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [البقرة: 183] وذهب إلى الاحتمالين الأولين كثير من المفسرين، والكتب على أولهما مجاز، وعلى ثانيهما حقيقة، وقيدوه بإن آمنتم وأطعتم لقوله تعالى لهم بعد ما عصوا: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ [المائدة: 26] وقوله سبحانه: وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ فإن ترتيب الخيبة والخسران على الارتداد يدل على اشتراط الكتب بالمجاهدة المترتبة على الإيمان قطعا، والأدبار جمع دبر وهو ما خلفهم من الأماكن من مصر وغيرها، والجار والمجرور حال من فاعل تَرْتَدُّوا أي لا ترجعوا عن مقصدكم منقلبين خوفا من الجبابرة، وجوز أن يتعلق بنفس الفعل، ويحتمل أن يراد بالارتداد صرف قلوبهم عما كانوا عليه من الاعتقاد صرفا غير محسوس أي لا ترجعوا عن دينكم بالعصيان وعدم الوثوق بالله تعالى، وإليه ذهب أبو علي الجبائي، وقوله تعالى: فَتَنْقَلِبُوا إما مجزوم بالعطف وهو الأظهر، وإما منصوب في جواب النهي، قال الشهاب: على أنه من قبيل لا تكفر تدخل النار، وهو ممتنع خلافا للكسائي، وفيه نظر لا يخفى، والمراد بالخسران خسران الدارين قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ شديدي البطش متغلبين لا تتأتى مقاومتهم ولا تجز لهم ناصية، والجبار صيغة مبالغة من جبر الثلاثي على القياس لا من أجبره على خلافه- كالحساس- من الإحساس وهو الذي يقهر الناس ويكرههم كائنا من كان على ما يريده كائنا ما كان، ومعناه في البخل ما فات اليد طولا، وكان هؤلاء القوم من العمالقة بقايا قوم عاد وكانت لهم أجسام ليست لغيرهم، أخرج ابن عبد الحكم في فتوح مصر عن ابن حجيرة قال: استظل سبعون رجلا من قوم موسى عليه السلام في قحف رجل من العمالقة، وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن زيد بن أسلم قال: بلغني أنه رئيت ضبع وأولادها رابضة في فجاج عين رجل منهم إلى غير ذلك من الأخبار، وهي عندي كأخبار عوج بن عنق وهي حديث خرافة وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها بقتال غيرنا، أو بسبب يخرجهم الله تعالى به فإنه لا طاقة لنا بإخراجهم منها، وهذا امتناع عن القتال على أتم وجه فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها بسبب من الأسباب التي لا تعلق لنا بها فَإِنَّا داخِلُونَ فيها حينئذ، وأتوا بهذه الشرطية- مع كون مضمونها مفهوما مما تقدم- تصريحا بالمقصود وتنصيصا على أن امتناعهم من دخولها ليس إلا لمكانهم فيها، وأتوا في الجزاء بالجملة الاسمية المصدرة- بإن- دلالة على تقرر الدخول وثباته عند تحقق الشرط لا محالة وإظهارا لكمال الرغبة فيه وفي الامتثال بالأمر قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أي يخافون الله تعالى، وبه قرىء، والمراد رجلان من المتقين وهما- كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد والسدي والربيع- يوشع بن نون وكالب بن يوقنا، وفي وصفهم بذلك تعريض بأن من عداهما من القوم لا يخافونه تعالى بل يخافون العدو، وقيل: المراد بالرجلين ما ذكر، ومِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ بنو إسرائيل   (1) بضم الهمزة وسكون الراء المهملة وضم الدال كذلك وتشديد النون وهي كورة بالشام اه منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 والمراد يخافون العدو، ومعنى كون الرجلين منهم أنهما منهم في النسب لا في الخوف، وقيل: في الخوف أيضا، والمراد أنهما لم يمنعهما الخوف عن قول الحق، وأخرج ابن المنذر عن ابن جبير أن الرجلين كانا من الجبابرة أسلما وصارا إلى موسى عليه السلام، فعلى هذا يكون الَّذِينَ عبارة عن الجبابرة، والواو ضمير بني إسرائيل، وعائد الموصول محذوف أي يخافونهم، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد وسعيد بن جبير «يخافون» بضم الياء، وجعلها الزمخشري شاهدة على أن الرجلين من الجبارين كأنه قيل: من المخوّفين أي يخافهم بنو إسرائيل، وفيها احتمالان آخران: الأول أن يكون من الإخافة، ومعناه من الذين يخوّفون من الله تعالى بالتذكير والموعظة أو يخوّفهم وعيد الله تعالى بالعقاب، والثاني أن معنى يَخافُونَ يهابون ويوقرون، ويرجع إليهم لفضلهم وخيرهم: ومع هذين الاحتمالين لا ترجيح في هذه القراءة لكونهما من الجبارين، وترجيح ذلك بقوله تعالى: أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا بالإيمان والتثبيت غير ظاهر أيضا لأنه صفة مشتركة بين يوشع وكالب وغيرهما، وكونه إنما يليق أن يقال لمن أسلم من الكفار لا لمن هو مؤمن في حيز المنع، والجملة صفة ثانية- لرجلين- أو اعتراض، وقيل: حال بتقدير قد من ضمير يَخافُونَ أو من رَجُلانِ لتخصيصه بالصفة، أو من الضمير المستتر في الجار والمجرور أي قالا مخاطبين لهم ومشجعين ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ أي باب مدينتهم وتقديم عَلَيْهِمُ عليه للاهتمام به لأن المقصود إنما هو دخول الباب وهم في بلدهم أي فاجئوهم وضاغطوهم في المضيق ولا تمهلوهم ليحصروا ويجدوا للحرب مجالا فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ عليهم الباب فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ من غير حاجة القتال فإنا قد رأيناهم وشاهدناهم أن قلوبهم ضعيفة وإن كانت أجسامهم عظيمة فلا تخشوهم واهجموا عليهم في المضائق فإنهم لا يقدرون على الكر والفر، وقيل: إنما حكما بالغلبة لما علماها من جهة موسى عليه السلام، وقوله: الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، وقيل: من جهة غلبة الظن، وما تبينا من عادة الله تعالى في نصرة رسله، وما عهدا من صنع الله تعالى لموسى عليه السلام في قهر أعدائه، قيل: والأول أنسب بتعليق الغلبة بالدخول وَعَلَى اللَّهِ تعالى خاصة فَتَوَكَّلُوا بعد ترتيب الأسباب ولا تعتمدوا عليها فإنها لا تؤثر من دون إذنه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بالله تعالى، والمراد بهذا الإلهاب والتهييج وإلا فإيمانهم محقق، وقد يراد بالإيمان التصديق بالله تعالى وما يتبعه من التصديق بما وعده أي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ به تعالى مصدقين لوعده فإن ذلك مما يوجب التوكل عليه حتما قالُوا غير مبالين بهما وبمقالتهما مخاطبين لموسى عليه السلام إظهارا لإصرارهم على القول الأول وتصريحا بمخالفتهم له عليه السلام يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أي أرض الجبابرة فضلا عن الدخول عليهم وهم في بلدهم أَبَداً أي دهرا طويلا، أو فيما يستقبل من الزمان كله ما دامُوا فِيها أي في تلك الأرض، وهو بدل من أَبَداً بدل البعض وقيل: بدل الكل من الكل، أو عطف بيان لوقوعه بين النكرتين ومثله في الإبدال قوله: وأكرم أخاك الدهر ما دمتما معا ... كفى بالممات فرقة وتنائيا فإن قوله: «ما دمتما» بدل من الدهر فَاذْهَبْ أي إذا كان الأمر كذلك فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا أي فقاتلاهم وأخرجاهم حتى ندخل الأرض وقالوا ذلك استهانة واستهزاء به سبحانه وبرسوله عليه الصلاة والسلام وعدم مبالاة، وقصدوا ذهابهما حقيقة كما ينبئ عنه غاية جهلهم وقسوة قلوبهم، والمقابلة بقوله تعالى إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ، وقيل: أرادوا إرادتهما وقصدهما كما تقول: كلمته فذهب يجيبني كأنهم قالوا: فأريدا قتالهم واقصداهم، وقال البلخي: المراد فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ يعينك، فالواو للحال، وأَنْتَ مبتدأ حذف خبره وهو خلاف الظاهر، ولا يساعده فَقاتِلا ولم يذكروا أخاه هارون عليهما السلام ولا الرجلين اللذين قالا كأنهم لم يجزموا بذهابهم أولم يعبؤوا بقتالهم، وأرادوا بالقعود عدم التقدم لا عدم التأخر أيضا قالَ موسى عليه السلام لما رأى منهم ما رأى من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 العناد على طريق البث والحزن والشكوى إلى الله تعالى مع رقة القلب التي بمثلها تستجلب الرحمة وتستنزل النصرة، فليس القصد إلى الإخبار وكذا كل خبر يخاطب به علام الغيوب يقصد به معنى سوى إفادة الحكم أو لازمه، فليس قوله ردا لما أمر الله تعالى به ولا اعتذارا عن عدم الدخول رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي هارون عليه السلام وهو عطف على نَفْسِي أي لا يجيبني إلى طاعتك ويوافقني على تنفيذ أمرك سوى نَفْسِي وَأَخِي ولم يذكر الرجلين اللذين أنعم الله تعالى عليهما وإن كانا يوافقانه إذا دعا لما رأى من تلون القوم وتقلب آرائهم فكأنه لم يثق بهما ولم يعتمد عليهما. وقيل: ليس القصد إلى القصر بل إلى بيان قلة من يوافقه تشبيها لحاله بحال من لا يملك إلا نفسه وأخاه، وجوز أن يراد- بأخي- من يؤاخيني في الدين فيدخلان فيه ولا يتم إلا بالتأويل بكل مؤاخ له في الدين، أو بجنس الأخ وفيه بعد، ويجوز في أَخِي وجوها أخر من الإعراب: الأول أنه منصوب بالعطف على اسم- إن- الثاني أنه مرفوع بالعطف على فاعل أَمْلِكُ للفصل، الثالث أنه مبتدأ خبره محذوف، الرابع أنه معطوف على محل اسم- إن- البعيد لأنه بعد استكمال الخبر، والجمهور على جوازه حينئذ، الخامس أنه مجرور بالعطف على الضمير المجرور على رأي الكوفيين، ثم لا يلزم على بعض الوجوه الاتحاد في المفعول بل يقدر للمعطوف مفعول آخر أي وأخي إلا نفسه، فلا يرد ما قيل: إنه يلزم من عطفه على اسم- إن- أو فاعل أَمْلِكُ أن موسى وهارون عليهما السلام لا يملكان إلا نفس موسى عليه السلام فقط، وليس المعنى على ذلك كما لا يخفى، وليس من عطف الجمل بتقدير ولا يملك أخي إلا نفسه كما توهم، وتحقيقه أن العطف على معمول الفعل لا يقتضي إلا المشاركة في مدلول ذلك ومفهومه الكلي لا الشخص المعين بمتعلقاته المخصوصة فإن ذلك إلى القرائن فَافْرُقْ بَيْنَنا يريد نفسه وأخاه عليهما الصلاة والسلام، والفاء لترتيب الفرق والدعاء به على ما قبله، وقرىء «فافرق» بكسر الراء وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ أي الخارجين عن طاعتك بأن تحكم لنا بما نستحقه، وعليهم بما يستحقونه كما هو المروي عن ابن عباس والضحاك رضي الله تعالى عنهم، وقال الجبائي: سأل عليه السلام ربه أن يفرق بالتبعيد في الآخرة بأن يجعله وأخاه في الجنة ويجعلهم في النار، وإلى الأول ذهب أكثر المفسرين، ويرجحه تعقيب الدعاء بقوله تعالى: قالَ فَإِنَّها فإن الفاء فيه لترتيب ما بعدها على ما قبلها من الدعاء فكان ذلك إثر الدعاء ونوع من المدعو به، وقد أخرج ابن جرير عن السدي قال: إن موسى عليه السلام غضب حين قال له القوم ما قالوا فدعا- وكان ذلك عجلة منه عليه السلام عجلها- فلما ضرب عليهم التيه ندم فأوحى الله تعالى عليه فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ والضمير المنصوب عائد إلى الأرض المقدسة أي فإنها لدعائك مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ لا يدخلونها ولا يملكونها، والتحريم تحريم منع لا تحريم تعبد، ومثله قول امرئ القيس يصف فرسه: جالت لتصرعني فقلت لها اقصري ... إني امرؤ صرعي عليك حرام يريد إني فارس لا يمكنك أن تصرعيني، وجوز أبو علي الجبائي- وإليه يشير كلام البلخي- أن يكون تحريم تعبد والأول أظهر أَرْبَعِينَ سَنَةً متعلق- بمحرمة- فيكون التحريم مؤقتا لا مؤبدا فلا يكون مخالفا لظاهر قوله تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ والمراد بتحريمها عليهم أنه لا يدخلها أحد منهم هذه المدة لكن- لا- بمعنى أن كلهم يدخلونها بعدها، بل بعضهم ممن بقي حسبما روي أن موسى عليه السلام سار بمن بقي من بني إسرائيل إلى الأرض المقدسة، وكان يوشع بن نون على مقدمته ففتحها وأقام بها ما شاء الله تعالى ثم قبض عليه السلام، وروي ذلك عن الحسن ومجاهد، وقيل: لم يدخلها أحد ممن قال: لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً وإنما دخلها مع موسى عليه السلام النواشئ من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 ذرياتهم، وعليه فالمؤقت بالأربعين في الحقيقة تحريمها على ذرياتهم وإنما جعل تحريما عليهم لما بينهما من العلاقة التامة، وقوله تعالى: يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ استئناف لبيان كيفية حرمانهم، وقيل: حال من ضمير عَلَيْهِمْ، والتيه: الحيرة، ويقال: تاه يتيه ويتوه، وهو أتوه وأتيه، فهو مما تداخل فيه الواو والياء، والمعنى يسيرون متحيرين وحيرتهم عدم اهتدائهم للطريق. وقيل: الظرف متعلق ب يَتِيهُونَ، وروي ذلك عن قتادة فيكون التيه مؤقتا والتحريم مطلقا يحتمل التأبيد وعدمه، وكانت مسافة الأرض التي تاهوا فيها ثلاثين فرسخا في عرض تسعة فراسخ كما قال مقاتل، وقيل: اثني عشر فرسخا في عرض ستة فراسخ، وقيل: ستة في عرض تسعة، وقيل: كان طولها ثلاثين ميلا في عرض ستة فراسخ وهي ما بين مصر والشام، وذكر أنهم كانوا ستمائة ألف مقاتل وكانوا يسيرون فيصبحون حيث يمسون ويمسون حيث يصبحون- كما قاله الحسن ومجاهد- قيل: وحكمة ابتلائهم بالتيه أنهم لما قالوا: إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ عوقبوا بما يشبه القعود، وكان أربعين سنة لأنها غاية زمن يرعوي فيه الجاهل. وقيل: لأنهم عبدوا العجل أربعين يوما فجعل عقاب كل يوم سنة في التيه وليس بشيء، وكان ذلك من خوارق العادات إذ التحير في مثل تلك المسافة على عقلاء كثيرين هذه المدة الطويلة مما تحيله العادة، ولعل ذلك كان بمحو العلامات التي يستدل بها، أو بأن ألقي شبه بعضها على بعض. وقال أبو علي الجبائي: إنه كان بتحول الأرض التي هم عليها وقت نومهم ويغني الله تعالى عن قبوله. وروي أنه كان الغمام يظلهم من حر الشمس وينزل عليهم المنّ والسلوى، وجعل معهم حجر موسى عليه السلام يتفجر منه الماء دفعا لعطشهم، قيل: ويطلع بالليل عمود من نور يضيء لهم ولا يطول شعرهم ولا تبلى ثيابهم كما روي عن الربيع بن أنس، وكانت تشب معهم إذا شبوا كما روي عن طاوس. وذكر غير واحد من القصاص أنهم كانوا إذا ولد لهم مولود كان عليه ثوب كالظفر يطول بطوله ولا يبلى إلى غير ذلك مما ذكروه. والعادة تبعد كثيرا منه فلا يقبل إلا ما صح عن الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، ولقد سألت بعض أحبار اليهود عن لباس بني إسرائيل في التيه، فقال: إنهم خرجوا من مصر ومعهم الكثير من ثياب القبط وأمتعتهم، وحفظها الله تعالى لكبارهم وصغارهم فذكرت له حديث الظفر، فقال لم نظفر به وأنكره فقلت له: هي فضيلة فهلا أثبتها لقومك؟ فقال: لا أرضى بالكذب ثوبا، واستشكل معاملتهم بهذه النعم مع معاقبتهم بالحيرة، وأجيب بأن تلك المعاقبة من كرمه تعالى، وتعذيبهم إنما كان للتأديب كما يضرب الرجل ولده مع محبته له ولا يقطع عنه معروفه، ولعلهم استغفروا من الكفر إذا كان قد وقع منهم، وأكثر المفسرين على أن موسى وهارون عليهما السلام كانا معهم في التيه لكن لم ينلهما من المشقة ما نالهم، وكان ذلك لهما روحا وسلامة كالنار لإبراهيم عليه السلام، ولعل الرجلين أيضا كانا كذلك. وروي أن هارون مات في التيه واتهم به موسى عليهما السلام فقالوا: قتله لحبنا له فأحياه الله تعالى بتضرعه، فبرأه مما يقولون، وعاد إلى مضجعه، ومات موسى عليه السلام بعده بسنة، وقيل: بستة أشهر ونصف، وقيل: بثمانية أعوام، ودخل يوشع أريحا بعده بثلاثة أشهر، وقال قتادة: بشهرين، وكان قد نبئ قبل بمن بقي من بني إسرائيل ولم يبق المكلفون وقت الأمر منهم، قيل- ولا يساعده النظم الكريم- فإنه بعد ما قبل دعوته عليه السلام على بني إسرائيل وعذبهم بالتيه بعيد أن ينجو من نجا، ويقدر وفاة النبيين عليهما السلام في محل العقوبة ظاهرا، وإن كان ذلك لهما منزل روح وراحة، وأنت تعلم أن الأخبار بموتهما عليهما السلام بالتيه كثيرة لا سيما الأخبار بموت هارون عليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 السلام، ولا أرى للاستبعاد محلا، ولعل ذلك أنكى لبني إسرائيل. وقيل: إنهما عليهما السلام لم يكونا مع بني إسرائيل في التيه، وأن الدعاء- وقد أجيب- كان بالفرق بمعنى المباعدة في المكان بالدنيا، وأرى هذا القول مما لا يكاد يصح، فإن كثيرا من الآيات كالنص في وجود موسى عليه السلام معهم فيه كما لا يخفى فَلا تَأْسَ أي فلا تحزن لموتهم، أو لما أصابهم فيه من الأسى- وهو الحزن- عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ الذين استجيب لك في الدعاء عليهم لفسقهم، فالخطاب لموسى عليه السلام كما هو الظاهر، وإليه ذهب أجلة المفسرين. وقال الزجاج: إنه للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والمراد- بالقوم الفاسقين- معاصروه عليه الصلاة والسلام من بني إسرائيل كأنه قيل: هذه أفعال أسلافهم فلا تحزن أنت بسبب أفعالهم الخبيثة معك وردهم عليك فإنهم ورثوا ذلك عنهم. وَاتْلُ عَلَيْهِمْ عطف على مقدر تعلق به قوله تعالى: وَإِذْ قالَ موسى إلخ، وتعلقه به قيل: من حيث إنه تمهيد لما سيأتي إن شاء الله تعالى من جنايات بني إسرائيل بعد ما كتب عليهم ما كتب وجاءتهم الرسل بما جاءتهم به الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 من البينات وقيل: من حيث إن في الأول الجبن عن القتل، وفي هذا الإقدام عليه مع كون كل منهما معصية، وضمير عَلَيْهِمْ يعود على بني إسرائيل كما هو الظاهر إذ هم المحدث عنهم أولا، وأمر صلّى الله عليه وسلّم بتلاوة ذلك عليهم إعلاما لهم بما هو في غامض كتبهم الأول الذي لا تعلق للرسول عليه الصلاة والسلام بها إلا من جهة الوحي لتقوم الحجة بذلك عليهم، وقيل: الضمير عائد على هذه الأمة أي اتل يا محمد على قومك نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ هابيل عليه الرحمة، وقابيل عليه ما يستحقه، وكانا بإجماع غالب المفسرين ابني آدم عليه السلام لصلبه. وقال الحسن: كانا رجلين من بني إسرائيل- ويد الله تعالى مع الجماعة- وكان من قصتهما ما أخرجه ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين أنه كان لا يولد لآدم عليه السلام مولود إلا ولد معه جارية فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر، جعل افتراق البطون بمنزلة افتراق النسب للضرورة إذ ذاك حتى ولد له ابنان يقال لهما هابيل وقابيل، وكان قابيل صاحب زرع، وهابيل صاحب ضرع، وكان قابيل أكبرهما، وكانت له أخت واسمها إقليما أحسن من أخت هابيل، وأن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل فأبى عليه، وقال: هي أختي ولدت معي وهي أحسن من أختك وأنا أحق أن أتزوج بها فأمره أبوه أن يزوجها هابيل فأبى، فقال لهما: قربا قربانا فمن أيكما قبل تزوجها، وإنما أمر بذلك لعلمه أنه لا يقبل من قابيل لا أنه لو قبل جاز، ثم غاب عليه السلام عنهما آتيا مكة ينظر إليها فقال آدم للسماء: احفظي ولدي بالأمانة فأبت، وقال للأرض: فأبت، وقال للجبال: فأبت، فقال لقابيل: فقال نعم تذهب وترجع وتجد أهلك كما يسرك فلما انطلق آدم عليه السلام قربا قربانا فقرب هابيل جذعة، وقيل: كبشا، وقرب قابيل حزمة سنبل فوجد فيها سنبلة عظيمة ففركها وأكلها فنزلت النار فأكلت قربان هابيل، وكان ذلك علامة القبول، وكان أكل القربان غير جائز في الشرع القديم وتركت قربان قابيل فغضب، وقال: لأقتلنك فأجابه بما قص الله تعالى بِالْحَقِّ متعلق بمحذوف وقع صفة لمصدر اتْلُ أي اتل تلاوة متلبسة بالحق والصحة، أو حال من فاعل اتْلُ أو من مفعوله أي متلبسا أنت أو نبأهما بالحق والصدق موافقا لما في زبر الأولين، وقوله تعالى: إِذْ قَرَّبا قُرْباناً ظرف لنبأ، وعمل فيه لأنه مصدر في الأصل، والظرف يكفي فيه رائحة الفعل، وجوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا منه، ورد بأنه حينئذ يكون قيدا في عامله وهو اتْلُ المستقبل، وإِذْ لما مضى فلا يتلاقيان، ولذا لم يتعلق به مع ظهوره، وقد يجاب بالفرق بين الوجهين فتأمل. وقيل: إنه بدل من نَبَأَ على حذف المضاف ليصح كونه متلوا أي اتل عليهم نبأهما نبأ ذلك الوقت، ورده في البحر بأن إِذْ لا يضاف إليها إلا الزمان نحو يومئذ وحينئذ ونَبَأَ ليس بزمان، وأجيب بالمنع، ولا فرق بين نبأ ذلك الوقت ونبأ إِذْ وكل منهما صحيح معنى وإعرابا، ودعوى- جواز الأول سماعا دون الثاني- دون إثباتها خرط القتاد، والقربان اسم لما يتقرب به إلى الله تعالى من ذبيحة أو غيرها- كالحلوان- اسم لما يحلى أي يعطى، وتوحيده لما أنه في الأصل مصدر، وقيل: تقديره إذ قرب كل منهما قربانا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وهو هابيل وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ لأنه سخط حكم الله تعالى، وهو عدم جواز نكاح التوأمة قالَ استئناف سؤال نشأ من الكلام السابق كأنه قيل: فماذا قال من لم يتقبل قربانه؟ فقيل: قال لأخيه لفرط الحسد على قبول قربانه ورفعة شأنه عند ربه عز وجل كما يدل عليه الكلام الآتي، وقيل: على ما سيقع من أخذ أخته الحسناء لَأَقْتُلَنَّكَ أي والله تعالى لَأَقْتُلَنَّكَ بالنون المشددة، وقرىء بالمخففة قالَ استئناف كالذي قبله أي قال الذي تقبل قربانه لما رأى جسد أخيه إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ أي القربان والطاعة مِنَ الْمُتَّقِينَ في ذلك بإخلاص النية فيه لله تعالى لا من غيرهم، وليس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 المراد من التقوى التقوى من الشرك التي هي أول المراتب كما قيل، ومراده من هذا الجواب أنك إنما أتيت من قبل نفسك لانسلاخها عن لباس التقوى لا من قبلي، فلم تقتلني وما لك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على تقوى الله تعالى التي هي السبب في القبول؟! وهو جواب حكيم مختصر جامع لمعان. وفيه إشارة إلى أن الحاسد ينبغي أن يرى حرمانه من تقصيره ويجتهد في تحصيل ما به صار المحسود محظوظا لا في إزالة حظه ونعمته، فإن اجتهاده فيما ذكر يضره ولا ينفعه، وقيل: مراده الكناية عن أنه لا يمتنع عن حكم الله تعالى بوعيده لأنه متق والمتقي يؤثر الامتثال على الحياة، أو الكناية عن أنه لا يقتله دفعا لقتله لأنه متق فيكون ذلك كالتوطئة لما بعده، ولا يخفى بعده وما أنعى هذه الآية على العاملين أعمالهم، وعن عامر بن عبد الله أنه بكى حين حضرته الوفاة، فقيل له: ما يبكيك، فقد كنت وكنت؟ قال: إني أسمع الله تعالى يقول: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ قيل: كان هابيل أقوى منه ولكن تحرج عن قتله واستسلم له خوفا من الله تعالى لأن المدافعة لم تكن جائزة في ذلك الوقت، وفي تلك الشريعة- كما روي عن مجاهد- وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج- قال: كانت بنو إسرائيل قد كتب عليهم إذا الرجل بسط يده إلى الرجل لا يمتنع منه حتى يقتله أو يدعه، أو تحريا لما هو الأفضل الأكثر ثوابا وهو كونه مقتولا لا قاتلا بالدفع عن نفسه بناء على جوازه إذ ذاك، قال بعض المحققين: واختلف في هذا الآن على ما بسطه الإمام الجصاص فالصحيح من المذهب أنه يلزم الرجل دفع الفساد عن نفسه وغيره وإن أدى إلى القتل، ولذا قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره: إن المعنى في الآية لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ على سبيل الظلم والابتداء لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ على وجه الظلم والابتداء، وتكون الآية على ما قاله مجاهد وابن جريج: منسوخة، وهل نسخت قبل شريعتنا أم لا؟ فيه كلام، والدليل عليه قوله تعالى: فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ [الحجرات: 9] وغيره من الآيات والأحاديث، وقيل: إنه لا يلزم ذلك بل يجوز، واستدل بما أخرجه ابن سعد في الطبقات عن خباب بن الأرت عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه ذكر «فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي فإن أدركت ذلك فكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل» وأولوه بترك القتال في الفتنة واجتنابها وأول الحديث يدل عليه، وأما من منع ذلك الآن مستدلا بحديث: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» فقد رد بأن المراد به أن يكون كل منهما عزم على قتل أخيه وإن لم يقاتله وتقابلا بهذا القصد انتهى بزيادة. وعن السيد المرتضى أن الآية ليست من محل النزاع لأن اللام الداخلة على فعل القتل لام كي وهي منبئة عن الإرادة والغرض، ولا شبهة في قبح ذلك أولا وآخرا لأن المدافع إنما يحسن منه المدافعة للظالم طلبا للتخلص من غير أن يقصد إلى قتله، فكأنه قال له: لئن ظلمتني لم أظلمك وإنما قال سبحانه: ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ في جواب لَئِنْ بَسَطْتَ للمبالغة في أنه ليس من شأنه ذلك ولا ممن يتصف به، ولذلك أكد النفي بالباء ولم يقل وما أنا بقاتل بل قال: بِباسِطٍ للتبري عن مقدمات القتل فضلا عنه، وقدم الجار والمجرور المتعلق- ببسطت- إيذانا على ما قيل من أول الأمر برجوع ضرر البسط وغائلته إليه، ويخطر لي أنه قدم لتعجيل تذكيره بنفسه المنجر إلى تذكيره بالأخوة المانعة عن القتل، وقوله تعالى: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ تعليل للامتناع عن بسط يده ليقتله، وفيه إرشاد قابيل إلى خشية الله تعالى على أتم وجه، وتعريض بأن القاتل لا يخاف الله تعالى إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ تعليل آخر لامتناعه عن البسط، ولما كان كل منهما علة مستقلة لم يعطف أحدهما على الآخر إيذانا بالاستقلال ودفعا لتوهم أن يكون جزء علة لا علة تامة، وأصل البوء اللزوم، وفي النهاية: أبوء بنعمتك علي وأبوء بذنبي أي ألتزم وأرجع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 وأقر، والمعنى أني أريد باستسلامي وامتناعي عن التعرض لك أن ترجع بإثمي أي تتحمله لو بسطت يدي إليك حيث كنت السبب له، وأنت الذي علمتني الضرب والقتل، وإثمك حيث بسطت إلي يدك، وهذا نظير ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة مرفوعا «المستبان ما قالا فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم» أي على البادئ إثم سبه، ومثل إثم سب صاحبه لأنه كان سببا فيه إلا أن الإثم محطوط عن صاحبه معفو عنه لأنه مكافئ دافع عن عرضه، ألا ترى إلى قوله: «ما لم يعتد المظلوم» لأنه إذا خرج من حدّ المكافأة واعتدى لم يسلم كذا في الكشاف، قيل: وفيه نظر لأن حاصل ما قرره أن على البادئ إثمه ومثل إثم صاحبه إلا أن يتعدى الصاحب فلا يكون هذا المجموع على البادئ، ولا دلالة فيه على أن المظلوم إذ لم يتعد كان إثمه المخصوص بسببه ساقطا عنه اللهم إلا بضميمة تنضم إليه، وليس في اللفظ ما يشعر بها، ورده في الكشف بأنه كيف لا يدل على سقوطه عنه، وقوله عليه الصلاة والسلام: «فعلى البادئ» مخصص ظاهر، وقول الكشاف: «إلا أن الإثم محطوط» تفسير لقوله: «فعلى البادئ» وقوله: فعليه إثم سبه، ومثل إثم سب صاحبه تفسير لقوله: ما قالا، فكما يدل على أن عليه إثما مضاعفا يدل على أن إثم صاحبه ساقط. هذا ثم قال: ولعل الأظهر في الحديث أن لا يضمر المثل، والمعنى إثم سبابهما على البادئ، وكان ذلك لئلا يلتزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، والقول: بأنه إذا لم يكن لما قاله غير البادئ إثم، فكيف يقال: إثم سبابهما، وكيف يضاف إليه الإثم مشترك الإلزام؟ وتحقيقه أن لما قاله غير البادئ إثما وليس على البادي، وليس بمناف لقوله تعالى: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: 164، الإسراء: 15، فاطر: 18، الزمر: 7] لأنه بحمله عليه عد جانيا، وهذا كما ورد فيمن سن سنة حسنة أو سنة سيئة، نعم فيما نحن فيه العامل لا إثم له إنما هو للحامل، والحاصل أن سب غير البادئ يترتب عليه شيئان، أحدهما بالنسبة إلى فاعله وهو ساقط إذا كان على وجه الدفع دون اعتداء، والثاني بالنسبة إلى حامله عليه وهو غير ساقط أعني أنه يثبت ابتداء لا أنه لا يعفى، وأورد في التحقيق أن ما ذكره من حط الإثم من المظلوم لأنه مكافىء غير صحيح لأنه إذا سب شخص لم يستوف الجزاء إلا بالحاكم، والجواب إن صريح الحديث يدل على ما ذكر في الكشاف، والجمع بينه وبين الحكم الفقهي أن السب إما أن يكون بلفظ يترتب عليه الحد شرعا فذلك سبيله الرفع إلى الحاكم، أو بغير ذلك وحينئذ لا يخلو إما أن يكون كلمة إيحاش أو امتنان أو تفاخر بنسب ونحوه مما يتضمن إزراء بنسب صاحبه من دون شتم- كنحو الرمي بالكفر والفسق- فله أن يعارضه بالمثل، ويدل عليه حديث زينب وعائشة رضي الله تعالى عنهما، وقوله عليه الصلاة والسلام لعائشة: «دونك فانتصري» أو يتضمن شتما فذلك أيضا يرفع إلى الحاكم ليعزره، والحديث محمول على القسم الذي يجري فيه الانتصار، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما لم يعتد المظلوم» يدل عليه لأنه إذا كان حقه الرفع إلى الحاكم فاشتغل بالمعارضة عد متعديا انتهى، وهو تفصيل حسن، وقيل: معنى بِإِثْمِي بإثم قتلي، ومعنى «بإثمك» إثمك الذي كان قبل قتلي، وروي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما وقتادة ومجاهد والضحاك، وأطلق هؤلاء الإثم الذي كان قبل، وعن الجبائي، والزجاج أنه الإثم الذي من أجله لم يتقبل القربان وهو عدم الرضا بحكم الله تعالى كما مر، وقيل: معناه بإثم قتلي وَإِثْمِكَ الذي هو قتل الناس جميعا حيث سننت القتل، وإضافة الإثم على جميع هذه الأقوال إلى ضمير المتكلم لأنه نشأ من قبله، أو هو على تقدير مضاف ولا حاجة إلى تقدير مضاف إليه كما قد قيل به أولا إلا أنه لا خفاء في عدم حسن المقابلة بين التكلم والخطاب على هذا لأن كلا الإثمين إثم المخاطب، والأمر فيه سهل، والجار والمجرور مع المعطوف عليه حال من فاعل تَبُوءَ أي ترجع متلبسا بالإثمين حاملا لهما، ولعل مراده بالذات إنما هو عدم ملابسته للإثم لا ملابسة أخيه إذ إرادة الإثم من آخر غير جائزة، وقيل: المراد بالإثم ما يلزمه ويترتب عليه من العقوبة، ولا يخفى أنه لا يتضح حينئذ تفريع قوله تعالى: فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ على تلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 الإرادة، فإن كون المخاطب من أصحاب النار إنما يترتب على رجوعه بالإثمين لا على ابتلاء بعقوبتهما وهو ظاهر، وحمل العقوبة على نوع آخر يترتب عليه العقوبة النارية يرده- كما قال شيخ الإسلام- قوله سبحانه: وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ فإنه صريح في أن كونه من أصحاب النار تمام العقوبة وكمالها، والجملة تذييل مقرر لما قبله، وهي من كلام هابيل على ما هو الظاهر، وقيل: بل هي إخبار منه تعالى للرسول صلّى الله عليه وسلّم فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فسهلته له ووسعته من طاع له المرتع إذا اتسع، وترتيب التطويع على ما قبله من مقالات هابيل مع تحققه قبل كما يفصح عنه قوله: لَأَقْتُلَنَّكَ لما أن بقاء الفعل بعد تقرر ما يزيله- وإن كان استمرارا عليه بحسب الظاهر- لكنه في الحقيقة أمر حادث وصنع جديد، أو لأن هذه المرتبة من التطويع لم تكن حاصلة قبل ذلك بناء على تردده في قدرته على القتل لما أن أخاه كان أقوى منه، وأنها حصلت بعد وقوفه على استسلامه وعدم معارضته له، والتصريح بأخوته لكمال تقبيح ما سولته نفسه، وقرأ الحسن- فطاوعت- وفيها وجهان: الأول أن فاعل بمعنى فعل كما ذكره سيبويه وغيره، وهو أوفق بالقراءة المتواترة، والثاني أن المفاعلة مجازية بجعل القتل يدعو النفس إلى الإقدام عليه وجعلت النفس تأباه، فكل من القتل والنفس كأنه يريد من صاحبه أن يطيعه إلى أن غلب القتل النفس فطاوعته، ولَهُ للتأكيد والتبيين كما في قوله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح: 1] . والقول بأنه للاحتراز عن أن يكون طوعت لغيره أن يقتله ليس بشيء فَقَتَلَهُ أخرج ابن جرير عن ابن مجاهد، وابن جريج أن قابيل لم يدر كيف يقتل هابيل فتمثل له إبليس اللعين في هيئة طير فأخذ طيرا فوضع رأسه بين حجرين فشدخه فعلمه القتل فقتله كذلك وهو مستسلم، وأخرج عن ابن مسعود، وناس من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن قابيل طلب أخاه ليقتله فراغ منه في رؤوس الجبال فأتاه يوما من الأيام وهو يرعى غنما له وهو نائم فرفع صخرة فشدخ بها رأسه فمات فتركه بالعراء ولا يعلم كيف يدفن إلى أن بعث الله تعالى الغراب، وكان لهابيل لما قتل عشرون سنة، واختلف في موضع قتله، فعن عمر الشعباني عن كعب الأحبار أنه قتل على جبل دير المران، وفي رواية عنه أنه قتل على جبل قاسيون، وقيل: عند عقبة حراء، وقيل: بالبصرة في موضع المسجد الأعظم، وأخرج نعيم بن حماد عن عبد الرحمن بن فضالة أنه لما قتل قابيل هابيل مسخ الله تعالى عقله وخلع فؤاده فلم يزل تائها حتى مات، وروي أنه لما قتله اسود جسده وكان أبيض فسأله آدم عن أخيه، فقال: ما كنت عليه وكيلا، قال: بل قتلته ولذلك اسود جسدك، وأخرج ابن عساكر وابن جرير عن سالم بن أبي الجعد قال: إن آدم عليه السلام لما قتل أحد ابنيه الآخر مكث مائة عام لا يضحك حزنا عليه فأتى على رأس المائة، فقيل له: حياك الله تعالى وبياك وبشر بغلام، فعند ذلك ضحك، وذكر محيي السنة أنه عليه السلام ولد له بعد قتل ولده بخمسين سنة شيث عليه السلام، وتفسيره- هبة الله- يعني أنه خلف من هابيل، وعلمه الله تعالى ساعات الليل والنهار وعبادة الخلق من كل ساعة منها، وأنزل عليه خمسين صحيفة، وصار وصي آدم وولي عهده، وأخرج ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: لما قتل ابن آدم عليه السلام أخاه بكى آدم عليه السلام ورثاه بشعر، وأخرج نحو ذلك الخطيب وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو مشهور. وروي عن ميمون بن مهران عن الحبر رضي الله تعالى عنه أنه قال: من قال: إن آدم عليه السلام قال شعرا فقد كذب إن محمدا صلّى الله عليه وسلّم والأنبياء كلهم عليهم الصلاة والسلام في النهي عن الشعر سواء، ولكن لما قتل قابيل هابيل رثاه آدم بالسرياني فلم يزل ينقل حتى وصل إلى يعرب بن قحطان، وكان يتكلم بالعربية والسريانية، فنظر فيه فقدم وأخر وجعله شعرا عربيا، وذكر بعض علماء العربية إن في ذلك الشعر لحنا، أو إقواء، أو ارتكاب ضرورة، والأولى عدم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 نسبته إلى يعرب أيضا لما فيه من الركاكة الظاهرة. فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ دنيا وآخرة، أخرج الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل» ، وأخرج ابن جرير والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «إنا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة العذاب عليه شطر عذابهم» وورد أنه أحد الأشقياء الثلاثة، وهذا ونحوه صريح في أن الرجل مات كافرا. وأصرح من ذلك ما روي أنه لما قتل أخاه هرب إلى عدن من أرض اليمن فأتاه إبليس عليهما اللعنة، فقال: إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يخدمها ويعبدها فإن عبدتها أيضا حصل مقصودك فبنى بيت نار فعبدها فهو أول من عبد النار، والظاهر أن عليه أيضا وزر من يعبد النار بل لا يبعد أن يكون عليه وزر من يعبد غير الله تعالى إلى يوم القيامة، واستدل بعضهم بقول سبحانه: فَأَصْبَحَ على أن القتل وقع ليلا- وليس بشيء- فإن من عادة العرب أن يقولوا: أصبح فلان خاسر الصفقة إذا فعل أمرا ثمرته الخسران، ويعنون بذلك الحصول مع قطع النظر عن وقت دون وقت، وإنما لم يقل سبحانه- فأصبح خاسرا- للمبالغة وإن لم يكن حينئذ خاسر سواه فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عطية قال: لما قتله ندم فضمه إليه حتى أروح وعكفت عليه الطير والسباع تنتظر متى يرمي به فتأكله، وكره أن يأتي به آدم عليه الصلاة والسلام فيحزنه وتحير في أمره إذ كان أول ميت من بني آدم عليه السلام، فبعث الله تعالى غرابين قتل أحدهما الآخر وهو ينظر إليه ثم حفر له بمنقاره وبرجله حتى مكن له ثم دفعه برأسه حتى ألقاه في الحفرة ثم بحث عليه برجله حتى واراه، وقيل: إن أحد الغرابين كان ميتا. والغراب: طائر معروف، قيل: والحكمة في كونه المبعوث دون غيره من الحيوان كونه يتشاءم به في الفراق والاغتراب وذلك مناسب لهذه القصة، وقال بعضهم: إنه كان ملكا ظهر في صورة الغراب والمستكن في- يريه- لله تعالى، أو للغراب، واللام على الأول متعلقة- ببعث- حتما، وعلى الثاني- بيبحث- ويجوز تعلقها ببعث أيضا، وكَيْفَ حال من الضمير في يُوارِي قدم عليه لأن له الصدر، وجملة كَيْفَ يُوارِي في محل نصب مفعول ثان- ليرى- البصرية المتعدية بالهمزة لاثنين وهي معلقة عن الثاني، وقيل: إن- يريه- بمعنى يعلمه إذ لو جعل بمعنى الإبصار لم يكن لجملة كَيْفَ يُوارِي موقع حسن، وتكون الجملة في موقع مفعولين له، وفيه نظر، والبحث- في الأصل التفتيش عن الشيء مطلقا، أو في التراب، والمراد به هنا الحفر، والمراد- بالسوأة- جسد الميت وقيده الجبائي بالمتغير، وقيل: العورة لأنها تسوء ناظرها، وخصت بالذكر مع أن المراد مواراة جميع الجسد للاهتمام بها لأن سترها آكد، والأول أولى، ووجه التسمية مشترك، وضمير أَخِيهِ عائد على المبحوث عنه لا على الباحث كما توهم، وبعثة الغراب كانت من باب الإلهام إن كان المراد منه المتبادر، وبعثه حقيقة إن كان المراد منه ملكا ظهر على صورته، وعلى التقديرين ذهب أكثر العلماء إلى أن الباحث وارى جثته، وتعلم قابيل، ففعل مثل ذلك بأخيه، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وابن مسعود وغيرهما، وذهب الأصم إلى أن الله تعالى بعث من بعثه فبحث في الأرض ووارى هابيل، فلما رأى قابيل ما أكرم الله تعالى به أخاه قالَ يا وَيْلَتى كلمة جزع وتحسر، والويلة- كالويل- الهلكة كأن المتحسر ينادي هلاكه وموته ويطلب حضوره بعد تنزيله منزلة من ينادي، ولا يكون طلب الموت إلا ممن كان في حال أشدّ منه، والألف بدل من ياء المتكلم أي- يا ويلتي- وبذلك قرأ الحسن احضري فهذا أوانك أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ تعجب من عجزه عن كونه مثله لأنه لم يهتد إلى ما اهتدى إليه مع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286 كونه أشرف منه فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي عطف على أَكُونَ وجعله في الكشاف منصوبا في جواب الاستفهام، واعترضه كثير من المعربين، وقال أبو حيان: إنه خطأ فاحش لأن شرط هذا النصب أن ينعقد من الجملة الاستفهامية، والجواب جملة شرطية نحو أتزورني فأكرمك، فإن تقديره إن تزرني أكرمك، ولو قيل هاهنا: 7 ن- أعجز أن أكون مثل هذا الغراب أواري سوءة أخي- لم يصح المعنى لأن المواراة تترتب على عدم العجز لا عليه، وأجاب في الكشف بأن الاستفهام للإنكار التوبيخي، ومن باب أتعصي ربك فيعفو عنك، بالنصب لينسحب الإنكار على الأمرين، وفيه تنبيه على أنه في العصيان وتوقع العفو مرتكب خلاف المعقول، فإذا رفع كان كلاما ظاهريا في انسحاب الإنكار، وإذا نصب جاءت المبالغة للتعكيس حيث جعل سبب العقوبة سبب العفو، وفيما نحن فيه نعى على نفسه عجزها فنزلها منزلة من جعل العجز سبب المواراة دلالة على التعكيس المؤكد للعجز والقصور عما يهتدي إليه غراب، ثم قال: فإن قلت: الإنكار التوبيخي إنما يكون على واقع أو متوقع، فالتوبيخ على العصيان والعجز له وجه، أما على العفو والمواراة فلا قلت: التوبيخ على جعل كل واحد سببا، أو تنزيله منزلة من جعله سببا لا على العفو والمواراة فافهم انتهى، ولعل الأمر بالفهم إشارة إلى ما فيه من البعد، وقيل في توجيه ذلك إن الاستفهام للإنكار- وهو بمعنى النفي- وهو سبب، والمعنى إن لم أعجز واريت، واعترض بأنه غير صحيح لأنه لا يكفي في النصب سببية النفي بل لا بد من سببية المنفي قبل دخول النفي، ألا ترى أن ما تأتينا فتحدثنا مفسر عندهم بأنه لا يكون منك إتيان فتحديث، قال الشهاب: والجواب عنه أنه فرق بين ما نصب في جواب النفي وما نصب في جواب الاستفهام، والكلام في الثاني، فكيف يرد الأول نقضا، ولو جعل في جواب النفي لم يرد ما ذكره أيضا لأنه لا حاجة إلى أخذ النفي من الاستفهام الإنكاري مع وضوح تأويل- عجزت- بلم اهتد، وقد قال في التسهيل: إنه ينتصب في جواب النفي الصريح والمؤول، وما نحن فيه من الثاني حكمه فتأمل انتهى. ولعل الأمر بالتأمل الإشارة أن ما في دعوى الفرق بين الاستفهام الإنكاري الذي هو بمعنى النفي، والنفي من الخفاء، وكذا في تأويل- عجزت- بلم أهتد هنا فليفهم، وقرىء «أعجزت» بكسر الجيم وهو لغة شاذة في عجز، وقرىء- فأواري- بالسكون على أنه مستأنف وهم يقدرون المبتدأ لإيضاح القطع عن العطف، أو معطوف إلا أنه سكن للتخفيف كما قاله غير واحد، واعترضه في البحر بأن الفتحة لا تستثقل حتى تحذف تخفيفا، وتسكين المنصوب عند النحويين ليس بلغة كما زعم ابن عطية، وليس بجائز إلا في الضرورة فلا تحمل القراءة عليها مع وجود محمل صحيح، وهو الاستئناف لها انتهى، وعلى دعوى الضرورة منع ظاهر، فإن تسكين المنصوب في كلامهم كثير، وادعى المبرد أن ذلك من الضرورات الحسنة التي يجوز مثلها في النثر فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ أي صار معدودا من عدادهم، وكان ندمه على قتله لما كابد فيه من التحير في أمره. وحمله على رقبته أربعين يوما أو سنة أو أكثر على ما قيل. وتلمذة الغراب فإنها إهانة ولذا لم يلهم من أول الأمر ما ألهم واسوداد وجهه وتبري أبويه منه لا على الذنب إذ هو توبة مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أي ما ذكر في تضاعيف القصة، ومِنْ ابتدائية متعلقة بقوله تعالى: كَتَبْنا أي قضينا، وقيل: بالنادمين وهو ظاهر ما روي عن نافع، وكَتَبْنا استئناف، واستبعده أبو البقاء وغيره. والأجل- بفتح الهمزة وقد تكسر، وقرىء به- لكن بنقل الكسرة إلى النون كما قرىء بنقل الفتحة إليها في الأصل- الجناية يقال: أجل عليهم شرا إذا جنى عليهم جناية، وفي معناه جر عليهم جريرة، ثم استعمل في تعليل الجنايات، ثم اتسع فيه فاستعمل لكل سبب أي من ذلك ابتداء الكتب ومنه نشأ لا من غيره. عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ وتخصيصهم بالذكر لما أن الحسد كان منشأ لذلك الفساد وهو غالب عليهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 وقيل: إنما ذكروا دون الناس لأن التوراة أول كتاب نزل فيه تعظيم القتل، ومع ذلك كانوا أشد طغيانا فيه وتماديا حتى قتلوا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فكأنه قيل: بسبب هذه العظيمة كتبنا في التوراة تعظيم القتل، وشددنا عليهم وهم بعد ذلك لا يبالون. ومن هنا تعلم أن هذه الآية لا تصلح- كما قال الحسن والجبائي وأبو مسلم- على أن ابني آدم عليه السلام كانا من بني إسرائيل، على أن بعثة الغراب الظاهر في التعليم المستغنى عنه في وقتهم لعدم جهلهم فيه بالدفن- تأبى ذلك أَنَّهُ أي الشأن مَنْ قَتَلَ نَفْساً واحدة من النفوس الإنسانية بِغَيْرِ نَفْسٍ أي بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص، والباء للمقابلة متعلقة بقتل، وجوز أن تتعلق بمحذوف وقع حالا أي متعديا ظالما أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ أي فساد فيها يوجب هدر الدم كالشرك مثلا، وهو عطف على ما أضيف إليه- غير- والنفي هنا وارد على الترديد لأن إباحة القتل مشروطة بأحد ما ذكر من القتل والفساد، ومن ضرورته اشتراط حرمته بانتفائهما معا فكأنه قيل: من قتل نفسا بغير أحدهما فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً لاشتراك الفعلين في هتك حرمة الدماء والاستعصاء على الله تعالى والتجبر على القتل في استتباع القود واستجلاب غضب الله تعالى العظيم. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود إن هذا التشبيه عند المقتول كما أن التشبيه الآتي عند المستنقذ، والأول أولى وأنسب للغرض المسوق له التشبيه، وقرىء- أو فسادا- بالنصب بتقدير أو عمل فسادا- أو فسد فسادا وَمَنْ أَحْياها أي تسبب لبقاء نفس واحدة موصوفة بعدم ما ذكر من القتل والفساد إما بنهي قاتلها عن قتلها أو استنقاذها من سائر أسباب الهلكة بوجه من الوجوه فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً، وقيل: المراد ومن أعان على استيفاء القصاص فكأنما إلخ، وما في الموضعين كافة مهيئة لوقوع الفعل بعدها، وجَمِيعاً حال من النَّاسَ أو تأكيد، وفائدة التشبيه الترهيب والردع عن قتل نفس واحدة بتصويره بصورة قتل جميع الناس، والترغيب والتحضيض على إحيائها بتصويره بصورة إحياء جميع الناس وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ أي الآيات الواضحة الناطقة بتقرير ما كتبنا عليهم تأكيدا لوجوب مراعاته وتأييدا لتحتم المحافظة عليه. والجملة مستقلة غير معطوفة على كَتَبْنا وأكدت بالقسم لكمال العناية بمضمونها، وإنما لم يقل ولقد أرسلنا إليهم إلخ للتصريح بوصول الرسالة إليهم فإنه أدل على تناهيهم في العتو والمكابرة. ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ المذكور من الكتب وتأكيد الأمر بالإرسال، ووضع اسم الإشارة موضع الضمير للإيذان بكمال تميزه وانتظامه بسبب ذلك في سلك الأمور المشاهدة، وما فيه من معنى البعد للإيماء إلى علو درجته وبعد منزلته في عظم الشأن، وثُمَّ للتراخي في الرتبة والاستبعاد فِي الْأَرْضِ متعلق بقوله تعالى: لَمُسْرِفُونَ وكذا بعد فيما قبل، ولا تمنع اللام المزحلقة من ذلك، والإسراف في كل أمر التباعد عن حدّ الاعتدال مع عدم مبالاة به، والمراد مسرفون في القتل غير مبالين به ولما كان إسرافهم في أمر القتل مستلزما لتفريطهم في شأن الإحياء وجودا وعدما وكان هو أقبح الأمرين وأفظعهما اكتفى في ذكره في مقام التشنيع المسوق له الآي، وعن الكلبي أن المراد مجاوزون حدّ الحق بالشرك، وقيل: إن المراد ما هو أعم من الإسراف بالقتل والشرك وغيرهما، وإنما قال سبحانه: وإِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ لأنه عز شأنه على ما في الخازن علم أن منهم من يؤمن بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم وهم قليل من كثير، وذكر الْأَرْضِ مع أن الإسراف لا يكون إلا فيها للإيذان بأن إسراف ذلك الكثير ليس أمرا مخصوصا بهم بل انتشر شره في الأرض وسرى إلى غيرهم، ولما بين سبحانه عظم شأن القتل بغير حق استأنف بيان حكم نوع من أنواع القتل وما يتعلق به من الفساد بأخذ المال ونظائره وتعيين موجبه، وأدرج فيه بيان ما أشير إليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 288 إجمالا من الفساد المبيح للقتل، فقال جل شأنه: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ذهب أكثر المفسرين- كما قال الطبرسي، وعليه جملة الفقهاء- إلى أنها نزلت في قطاع الطريق، والكلام- كما قال الجصاص- على حذف مضاف أي يحاربون أولياء الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام فهو كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب: 57] . ويدل على ذلك أنهم لو حاربوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لكانوا مرتدين بإظهار محاربته ومخالفته عليه الصلاة والسلام، وقيل: المراد يحاربون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وذكر الله تعالى للتمهيد والتنبيه على رفعة محله عليه الصلاة والسلام عنده عز وجل، ومحاربة أهل شريعته وسالكي طريقته من المسلمين محاربة له صلّى الله عليه وسلّم فيعم الحكم من يحاربهم بعد الرسول عليه الصلاة والسلام ولو بأعصار كثيرة بطريق العبارة لا بطريق الدلالة أو القياس كما يتوهم، لأن ورود النص ليس بطريق خطاب المشافهة حتى يختص بالمكلفين حين النزول ويحتاج في تعميمه إلى دليل آخر على ما تحقق في الأصول، وقيل: ليس هناك مضاف محذوف وإنما المراد محاربة المسلمين إلا أنه جعل محاربتهم محاربة الله عز وجل ورسوله صلّى الله عليه وسلّم تعظيما له وترفيعا لشأنهم، وجعل ذكر الرسول على هذا تمهيدا على تمهيد وفيه ما لا يخفى، والحرب في الأصل السلب والأخذ، يقال: حربه إذا سلبه، والمراد به هاهنا قطع الطريق وقيل: الهجوم جهرة باللصوصية وإن كان في مصر وَيَسْعَوْنَ عطف على يحاربون، وبه يتعلق قوله تعالى: فِي الْأَرْضِ، وقيل: بقوله سبحانه: فَساداً وهو إما حال من فاعل يَسْعَوْنَ بتأويله بمفسدين، أو ذوي فساد، أو لا تأويل قصدا للمبالغة كما قيل، وإما مفعول له أي لأجل الفساد، وإما مصدر مؤكد- ليسعون- لأنه في معنى يفسدون، وفَساداً إما مصدر حذف منه الزوائد أو اسم مصدر، وقوله تعالى: إِنَّما جَزاءُ مبتدأ خبره المنسبك من قوله تعالى: أَنْ يُقَتَّلُوا أي حدا من غير صلب إن أفردوا القتل، ولا فرق بين أن يكون بآلة جارحة أو لا، والإتيان بصيغة التفعيل لما فيه من الزيادة على القصاص من أنه لكونه حق الشرع لا يسقط بعفو الولي، وكذا التصليب في قوله سبحانه: أَوْ يُصَلَّبُوا لما فيه من القتل أي يصلبوا مع القتل إن جمعوا بين القتل والأخذ، وقيل: صيغة التفعيل في الفعلين للتكثير، والصلب قبل القتل بأن يصلبوا أحياء وتبعج بطونهم برمح حتى يموتوا، وأصح قولي الشافعي عليه الرحمة أن الصلب ثلاثا بعد القتل، قيل: إنه يوم واحد. وقيل: حتى يسيل صديده، والأولى أن يكون على الطريق في ممر الناس ليكون ذلك زجرا للغير عن الإقدام على مثل هذه المعصية. وفي ظاهر الرواية أن الإمام مخير إن شاء اكتفى بذلك وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وقتلهم وصلبهم أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أي تقطع مختلفة بأن تقطع أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى إن اقتصروا على أخذ المال من مسلم أو ذمي إذ له ما لنا وعليه ما علينا وكان في المقدار بحيث لو قسم عليهم أصاب كلّا منهم عشرة دراهم أو ما يساويها قيمة، وهذا في أول مرة فإن عادوا قطع منهم الباقي، وقطع الأيدي لأخذ المال، وقطع الأرجل لإخافة الطريق وتفويت أمنه أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ إن لم يفعلوا غير الإخافة والسعي للفساد، والمراد بالنفي عندنا هو الحبس والسجن والعرب تستعمل النفي بذلك المعنى لأن الشخص به يفارق بيته وأهله، وقد قال بعض المسجونين: خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها ... فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا إذا جاءنا السجان يوما لحاجة ... عجبنا، وقلنا: جاء هذا من الدنيا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 289 ويعزرون أيضا لمباشرتهم إخافة الطريق وإزالة أمنه، وعند الشافعي عليه الرحمة المراد به النفي من بلد إلى بلد ولا يزال يطلب وهو هارب فرقا إلى أن يتوب ويرجع، وبه قال ابن عباس والحسن والسدي رضي الله تعالى عنهم وابن جبير وغيرهم، وإليه ذهب الإمامية، وعن عمر بن عبد العزيز وابن جبير في رواية أخرى أنه ينفى عن بلده فقط، وقيل: إلى بلد أبعد، وكانوا ينفونهم إلى- دهلك- وهو بلد في أقصى تهامة- وناصع- وهو بلد من بلاد الحبشة، واستدل للأول بأن المراد بنفي قاطع الطريق زجره ودفع شره فإذا نفي إلى بلد آخر لم يؤمن ذلك منه، وإخراجه من الدنيا غير ممكن، ومن دار الإسلام غير جائز فإن حبس في بلد آخر فلا فائدة فيه إذ بحبسه في بلده يحصل المقصود وهو أشد عليه. هذا ولما كانت المحاربة والفساد على مراتب متفاوتة ووجوه شتى شرعت لكل مرتبة من تلك المراتب عقوبة معينة بطريق كما أشرنا إليه- فأو- للتقسيم واللف والنشر المقدر على الصحيح، وقيل: إنها تخييرية والإمام مخير بين هذه العقوبات في كل قاطع طريق، والأول علم بالوحي وإلا فليس في اللفظ ما يدل عليه دون التخيير، ولأن في الآية أجزية مختلفة غلظا وخفة فيجب أن تقع في مقابلة جنايات مختلفة ليكون جزاء كل سيئة سيئة مثلها، ولأنه ليس للتخيير في الأغلظ والأهون في جناية واحدة كبير معنى، والظاهر أنه أوحي إليه صلّى الله عليه وسلّم هذا التنويع والتفصيل، ويشهد له ما أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وزعم بعضهم أن التخيير أقرب وكونه بين الأغلظ والأهون بالنظر إلى الأشخاص والأزمنة فإن العقوبات للانزجار وإصلاح الخلق، وربما يتفاوت الناس في الانزجار فوكل ذلك إلى رأي الإمام وفيه تأمل فتأمل ذلِكَ أي ما فصل من الأحكام والأجزية، وهو مبتدأ، وقوله تعالى: لَهُمْ خِزْيٌ جملة من خبر مقدم ومبتدأ في محل رفع خبر للمبتدأ، وقوله سبحانه: فِي الدُّنْيا متعلق بمحذوف وقع صفا لخزي، أو متعلق به على الظرفية، وقيل: خِزْيٌ خبر- لذلك- ولَهُمْ متعلق بمحذوف وقع حالا من خِزْيٌ لأنه في الأصل صفة له فلما قدم انتصب حالا، وفِي الدُّنْيا إما صفة- لخزي- أو متعلق به كما مر آنفا والخزي الذل والفضيحة وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ لا يقادر قدره وذلك لغاية عظم جنايتهم واقتصر في الدنيا على الخزي مع أن لهم فيها عذابا أيضا، وفي الآخرة على العذاب مع أن لهم فيها خزيا أيضا لأن الخزي في الدنيا أعظم من عذابها، والعذاب في الآخرة أشد من خزيها، والآية أقوى دليل لمن يقول إن الحدود لا تسقط العقوبة في الآخرة، والقائلون بالإسقاط يستدلون بقوله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح: «من ارتكب شيئا فعوقب به كان كفارة له» فإنه يقتضي سقوط الإثم عنه وأن لا يعاقب في الآخرة، وهو مشكل مع هذه الآية، وأجاب النووي بأن الحد يكفر به عنه حق الله تعالى، وأما حقوق العباد فلا، وهاهنا حقان لله تعالى والعباد، ونظر فيه إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ استثناء مخصوص بما هو من حقوق الله تعالى كما ينبئ عنه قوله تعالى: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وأما ما هو من حقوق العباد- كحقوق الأولياء من القصاص ونحوه- فيسقط بالتوبة وجوبه على الإمام من حيث كونه حدّا، ولا يسقط جوازه بالنظر إلى الأولياء من حيث كونه قصاصا، فإنهم إن شاؤوا عفوا، وإن أحبوا استوفوا. وقال ناصر الدين البيضاوي: إن القتل قصاصا يسقط بالتوبة وجوبه لا جوازه، وشنع عليه لضيق عبارة العلامة ابن حجر في كتابه التحفة، وأفرد له تنبيها فقال- بعد نقله- وهو عجيب، أعجب منه سكوت شيخنا عليه في حاشيته مع ظهور فساده لأن التوبة لا دخل لها في القصاص أصلا إذ لا يتصور بقيد كونه قصاصا حالتا وجوب وجواز لأنا إن نظرنا إلى الولي فطلبه جائز له لا واجب مطلقا، أو للإمام فإن طلبه منه الولي وجب وإلا لم يجب من حيث كونه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290 قصاصا، وإن جاز أو وجب من حيث كونه حدا فتأمله انتهى. وتعقبه ابن قاسم فقال: ادعاؤه الفساد ظاهر الفساد فإنه لم يدع ما ذكر وإنما ادعى أن لها دخلا في صفة القتل قصاصا وهي وجوبه، وقوله: إذ لا يتصور إلخ قلنا: لم يدع أن له حالتي وجوب وجواز بهذا القيد بل ادعى أن له حالتين في نفسه- وهو صحيح- على أنه يمكن أن يكون له حالتان بذلك القيد لكن باعتبارين، اعتبار الولي واعتبار الإمام إذا طلب منه، وقوله: لأنا إذا نظرنا إلخ كلام ساقط، ولا شك أن النظر إليهما يقتضي ثبوت الحالتين قصاصا، وقوله: فتأمله تأملنا فوجدنا كلامه ناشئا من قلة التأمل انتهى. وجعل مولانا شيخ الكل في الكل صبغة الله تعالى الحيدري منشأ تشنيع العلامة ما يتبادر من العبارة من كونها بيانا لتفويض القصاص إلى الأولياء أما لو جعلت بيانا لسقوط الحد في قتل قاطع الطريق بالتوبة قبل القدرة دون القتل قصاصا فلا يرد التشنيع فتدبر، وتقييد التوبة بالتقدم على القدرة يدل على أنها بعد القدرة لا تسقط الحد وإن أسقطت العذاب، وذهب أناس إلى أن الآية في المرتدين لا غير لأن محاربة الله تعالى ورسوله إنما تستعمل في الكفار، وقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أنس أن نفرا من عكل قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلموا واجتووا المدينة، فأمرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها فقتلوا راعيها واستاقوها فبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم في طلبهم قافة فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ولم يحسمهم وتركهم حتى ماتوا، فأنزل الله تعالى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية، وأنت تعلم أن القول بالتخصيص قول ساقط مخالف لإجماع من يعتد به من السلف والخلف، ويدل على أن المراد قطاع الطريق من أهل الملة قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا إلخ، ومعلوم أن المرتدين لا يختلف حكمهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة كما تسقطها عنهم قبل القدرة، وقد فرق الله تعالى بين توبتهم قبل القدرة وبعدها، وأيضا إن الإسلام لا يسقط الحد عمن وجب عليه. وأيضا ليست عقوبة المرتدين كذلك، ودعوى أن المحاربة إنما تستعمل في الكفار يردها أنه ورد في الأحاديث إطلاقها على أهل المعاصي أيضا، وسبب النزول لا يصلح مخصصا فإن العبرة- كما تقرر- بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم وغيرهما عن الشعبي قال: كان حارثة بن بدر التيمي من أهل البصرة قد أفسد في الأرض وحارب، فكلم رجالا من قريش أن يستأمنوا له عليا فأبوا فأتى سعيد بن قيس الهمداني فأتى عليا فقال: يا أمير المؤمنين ما جزاء الذين يحاربون الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم ويسعون في الأرض الفساد؟ قال: أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ثم قال: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فقال سعيد: وإن كان حارثة بن بدر؟ قال: وإن كان حارثة بن بدر، فقال: هذا حارثة بن بدر قد جاء تائبا فهو آمن؟ قال: نعم، فجاء به إليه فبايعه، وقبل ذلك منه وكتب له أمانا، وروي عن أبي موسى الأشعري ما هو بمعناه، ثم إن السمل الذي فعله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يفعله في غير أولئك، وأخرج مسلم والبيهقي عن أنس أنه قال: إنما سمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاء، وأخرج ابن جرير عن الوليد بن مسلم قال: ذاكرت الليث بن سعد ما كان من سمل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعينهم وتركه حسمهم حتى ماتوا، فقال: سمعت محمد بن عجلان يقول: أنزلت هذه الآية على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معاتبة في ذلك وعلمه صلّى الله عليه وسلّم عقوبة مثلهم من القتل والصلب والقطع والنفي، ولم يسمل بعدهم غيرهم، قال: وكان هذا القول ذكره لأبي عمر فأنكر أن تكون نزلت معاتبة وقال: بل كانت تلك عقوبة أولئك النفر بأعيانهم، ثم نزلت هذه الآية عقوبة غيرهم ممن حارب بعدهم فرفع عنهم السمل. هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» : وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 291 فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ أي ألزمناهم ذلك لتخالف دواعي قواهم باحتجابهم عن نور التوحيد وبعدهم عن العالم القدسي إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي إلى وقت قيامهم بظهور نور الروح، أو القيامة الكبرى بظهور نور التوحيد وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ وذلك عند الموت وظهور الخسران بظهور الهيئات القبيحة المؤذية الراسخة فيهم يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ بحسب الدواعي والمقتضيات كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ عن الناس في أنفسكم مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ إذا لم تدع إليه داعية قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ أبرزته العناية الإلهية من مكامن العماء وَكِتابٌ خطه قلم الباري في صحائف الإمكان جامعا لكل كمال، وهما إشارة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، ولذلك وحد الضمير في قوله سبحانه: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ أي بواسطته مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ أي من أراد ذلك سُبُلَ السَّلامِ وهي الطرق الموصلة إليه عز وجل. وقد قال بعض العارفين: الطرق إلى الله تعالى مسدودة إلا على من اتبع النبي صلّى الله عليه وسلّم وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ وهي ظلمات الشك والاعتراضات النفسانية والخطرات الشيطانية إِلَى النُّورِ وهو نور الرضا والتسليم وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو طريق الترقي في المقامات العلية، وقد يقال: الجملة الأولى إشارة إلى توحيد الأفعال، والثانية إلى توحيد الصفات، والثالثة إلى توحيد الذات لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ فحصروا الألوهية فيه وقيدوا الإله بتعينه- وهو الوجود المطلق- حتى عن قيد الإطلاق قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فإن كل ذلك من التعينات والشؤون والله من ورائهم محيط وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما أي عالم الأرواح وعالم الأجساد وعالم الصور يَخْلُقُ ما يَشاءُ ويظهر ما أراد من الشؤون وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ فادّعوا بنوة الاسرار والقرب من حضرة نور الأنوار، وقد قال ذلك قوم من المتقدمين كما مرت الإشارة إليه، وقال ما يقرب من ذلك بعض المتأخرين، فقال الواسطي: ابن الأزل والأبد لكن هؤلاء القوم لم يعرفوا الحقائق ولم يذوقوا طعم الدقائق فرد الله تعالى دعواهم بقوله سبحانه: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ والأبناء والأحباب لا يذنبون فيعذبون، أو لا يمتحنون إذ قد خرجوا من محل الامتحان من حيث الأشباح بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ كسائر عباد الله تعالى لا امتياز لكم عليهم بشيء كما تزعمون يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ منهم فضلا وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ منهم عدلا وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً بالولاية ومعرفة الصفات، أو بسلطنة الوجد وقوة الحال وعزة علم المعرفة، أو مالكين أنفسكم بمنعها عن غير طاعتي، والملوك عندنا الأحرار من رق الكونين وما فيه وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ أي عالمي زمانكم، ومنه اجتلاء نور التجلي من وجه موسى عليه السلام يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ وهي حضرة القلب الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ في القضاء السابق حسب الاستعداد وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ في الميل إلى مدينة البدن، والإقبال عليه بتحصيل لذاته فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ لتفويتكم أنوار القلب وطيباته قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وهي صفات النفس وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها بأن يصرفهم الله تعالى بلا رياضة منا ولا مجاهدة، أو يضعفوا عن الاستيلاء بالطبع فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ حينئذ قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ سوء عاقبة ملازمة الجسم أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا بالهداية إلى الصراط السوي- وهما العقل النظري والعقل العملي- ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ أي باب قرية القلب- وهو التوكل بتجلي الأفعال- كما أن باب قرية الروح هو الرضا فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ بخروجكم عن أفعالكم وحولكم، ويدل على أن الباب هو التوكل قوله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بالحقيقة وهو الإيمان عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 292 حضور، وأقل درجاته تجلي الأفعال قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا أولئك الجبارين عنا وأزيلاهم لتخلو لنا الأرض إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ أي ملازمون مكاننا في مقام النفس معتكفون على الهوى واللذات قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ أي أرض الطبيعة، وذلك مدة بقائهم في مقام النفس، وكان ينزل عليهم من سماء الروح نور عقد المعاش فينتفعون بضوئه وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ القلب اللذين هما هابيل العقل وقابيل الوهم إِذْ قَرَّبا قُرْباناً وذلك كما قال بعض العارفين: إن توأمة العقل البوذا العاقلة العملية المدبرة لأمر المعاش والمعاد بالآراء الصالحة المقتضية للأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة المستنبطة لأنواع الصناعات والسياسات، وتوأمة الوهم إقليميا القوة المتخيلة المتصرفة في المحسوسات والمعاني الجزئية لتحصيل الآراء الشيطانية، فأمر آدم القلب بتزوج الوهم توأمة العقل لتدبره بالرياضات الإذعانية والسياسات الروحانية وتصاحبه بالقياسات العقلية البرهانية فتسخره للعقل، وتزويج لعقل توأمة الوهم ليجعلها صالحة ويمنعها عن شهوات التخيلات الفاسدة وأحاديث النفس الكاذبة ويستعمل فيما ينفع فيستريح أبوها وينتفع، فحسد قابيل الوهم هابيل العقل لكون توأمته أجمل عنده وأحب إليه لمناسبتها إياه فأمرا عند ذلك بالقربان، فقربا قربانا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وهو هابيل العقل بأن نزلت نار من السماء فأكلته، والمراد بها العقل الفعال النازل من سماء عالم الأرواح، وأكله إفاضته النتيجة على الصورة القياسية التي هي قربان العقل وعمله الذي يتقرب به إلى الله تعالى وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ وهو قابيل الوهم إذ يمتنع قبول الصورة الوهمية لأنها لا تطابق ما في نفس الأمر قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ لمزيد حسده بزيادة قرب العقل من الله تعالى وبعده عن رتبة الوهم في مدركاته وتصرفاته، وقتله إياه إشارة إلى منعه عن فعله وقطع مدد الروح ونور الهداية الإلهية- الذي به الحياة- عنه بإيراد التشكيكات الوهمية والمعارضات في تحصيل المطالب النظرية قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ الذين يتخذون الله تعالى وقاية، أو يحذرون الهيئات المظلمة البدنية والأهواء المردية والتسويلات المهلكة لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ أي أني لا أبطل أعمالك التي هي سديدة في مواضعها إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ أي لأني أعرف الله سبحانه فأعلم أنه خلقك لشأن وأوجدك لحكمة، ومن جملة ذلك أن أسباب المعاش لا تحصل إلا بالوهم ولولا الأمل بطل العمل إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ أي بإثم قتلي وإثم عملك من الآراء الباطلة فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وهي نار الحجاب والحرمان وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ الواضعين للأشياء في غير موضعها كما وضع الأحكام الحسية موضع المعقولات فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ بمنعه عن أفعاله الخاصة وحجبه عن نور الهداية فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ لتضرره باستيلائه على العقل فإن الوهم إذا انقطع عن معاضدة العقل حمل النفس على أمور تتضرر منها فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً وهو غراب الحرص يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ أي أرض النفس لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ وهو العقل المنقطع عن حياة الروح المشوب بالوهم والهوى المحجوب عن عالمه في ظلمات أرض النفس قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي بإخفائها في ظلمة النفس فأنتفع بها فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ عند ظهور الخسران وحصول الحرمان مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً لأن الواحد مشتمل على ما يشتمل عليه جميع أفراد النوع، وقيام النوع بالواحد كقيامه بالجميع في الخارج، ولا اعتبار بالعدد فإن حقيقة النوع لا تزيد بزيادة الأفراد ولا تنقص بنقصها، ويقال في جانب الأحياء مثل ذلك إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي أولياءهما وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً بتثبيط السالكين أَنْ يُقَتَّلُوا بسيف الخذلان أَوْ يُصَلَّبُوا بحبل الهجران على جذع الحرمان أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ عن أذيال الوصال وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ عن الاختلاف والتردد إلى السالكين أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 الْأَرْضِ أي أرض القربة والائتلاف فلا يلتفت إليهم السالك ولا يتوجه لهم ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ وهوان فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ لعظم جنايتهم، وقد جاء- أن الله تعالى يغضب لأوليائه كما يغضب الليث الحرب، ومن آذى وليا فقد آذنته بالمحاربة- نسأل الله تعالى العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ لما ذكر سبحانه جزاء المحارب وعظم جنايته- وأشار في تضاعيف ذلك إلى مغفرته تعالى لمن تاب- أمر المؤمنين بتقواه عز وجل في كل ما يأتون ويذرون بترك ما يجب اتقاؤه من المعاصي التي من جملتها المحاربة والفساد، وبفعل الطاعة التي من عدادها التوبة والاستغفار ودفع الفساد وَابْتَغُوا إِلَيْهِ أي اطلبوا لأنفسكم إلى ثوابه والزلفى منه الْوَسِيلَةَ هي فعيلة بمعنى ما يتوسل به ويتقرب إلى الله عز وجل من فعل الطاعات وترك المعاصي من وسل إلى كذا أي تقرب إليه بشيء، والظرف متعلق بها وقدم عليها للاهتمام وهي صفة لا مصدر حتى يمتنع تقدم معموله عليه، وقيل: متعلق بالفعل قبله، وقيل: بمحذوف وقع حالا منها أي كائنة إليه، ولعل المراد بها الاتقاء المأمور به كما يشير إليه كلام قتادة، فإنه ملاك الأمر كله والذريعة لكل خير والمنجاة من كل ضير، والجملة حينئذ جارية مما قبلها مجرى البيان والتأكيد، وقيل: الجملة الأولى أمر بترك المعاصي، والثانية أمر بفعل الطاعات، وأخرج ابن الأنباري وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الوسيلة الحاجة، وأنشد له قول عنترة: إن الرجال لهم إليك وسيلة ... أن يأخذوك تكحلي وتخضبي وكأن المعنى حينئذ اطلبوا متوجهين إليه حاجكم فإن بيده عز شأنه مقاليد السماوات والأرض ولا تطلبوها متوجهين إلى غيره فتكونوا كضعيف عاذ بقرملة، وفسر بعضهم- الوسيلة- بمنزلة في الجنة، وكونها بهذا المعنى غير ظاهر لاختصاصها بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام بناء على ما رواه مسلم وغيره «أنها منزلة في الجنة جعلها الله تعالى لعبد من عباده وأرجو أن أكون أنا فاسألوا لي الوسيلة» وكون الطلب هنا للنبي صلّى الله عليه وسلّم مما لا يكاد يذهب إليه ذهن سليم، وعليه يمتنع تعلق الظرف بها كما لا يخفى، واستدل بعض الناس بهذه الآية على مشروعية الاستغاثة بالصالحين وجعلهم وسيلة بين الله تعالى وبين العباد والقسم على الله تعالى بهم بأن يقال: اللهم إنا نقسم عليك بفلان أن تعطينا كذا، ومنهم من يقول للغائب أو الميت من عباد الله تعالى الصالحين: يا فلان ادع الله تعالى ليرزقني كذا وكذا، ويزعمون أن ذلك من باب ابتغاء الوسيلة، ويروون عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال- إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأهل القبور، أو فاستغيثوا بأهل القبور- وكل ذلك بعيد عن الحق بمراحل. وتحقيق الكلام في هذا المقام أن الاستغاثة بمخلوق وجعله وسيلة بمعنى طلب الدعاء منه لا شك في جوازه إن كان المطلوب منه حيا ولا يتوقف على أفضليته من الطالب بل قد يطلب الفاضل من المفضول، فقد صح أنه صلّى الله عليه وسلّم قال لعمر رضي الله تعالى عنه لما استأذنه في العمرة: «لا تنسنا يا أخي من دعائك» وأمره أيضا أن يطلب من أويس القرني رحمة الله تعالى عليه أن يستغفر له، وأمر أمته صلّى الله عليه وسلّم بطلب الوسيلة له كما مر آنفا وبأن يصلوا عليه، وأما إذا كان المطلوب منه ميتا أو غائبا فلا يستريب عالم أنه غير جائز وأنه من البدع التي لم يفعلها أحد من السلف، نعم السلام على أهل القبور مشروع ومخاطبتهم جائزة فقد صح أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون يرحم الله تعالى المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله تعالى لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم» ولم يرد عن أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم- وهم أحرص الخلق على كل خير- أنه طلب من ميت شيئا، بل قد صح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان يقول إذا دخل الحجرة النبوية زائرا: السلام عليك يا رسول الله السلام عليك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 294 يا أبا بكر السلام عليك يا أبت، ثم ينصرف ولا يزيد على ذلك ولا يطلب من سيد العالمين صلّى الله عليه وسلّم أو من ضجيعيه المكرمين رضي الله تعالى عنهما شيئا- وهم أكرم من ضمته البسيطة وأرفع قدرا من سائر من أحاطت به الأفلاك المحيطة- نعم الدعاء في هاتيك الحضرة المكرمة والروضة المعظمة أمر مشروع فقد كانت الصحابة تدعو الله تعالى هناك مستقبلين القبلة ولم يرد عنهم استقبال القبر الشريف عند الدعاء مع أنه أفضل من العرش، واختلف الأئمة في استقباله عند السلام، فعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا يستقبل بل يستدبر ويستقبل القبلة، وقال بعضهم: يستقبل وقت السلام، وتستقبل القبلة ويستدبر وقت الدعاء، والصحيح المعول عليه أنه يستقبل وقت السلام وعند الدعاء تستقبل القبلة، ويجعل القبر المكرم عن اليمين أو اليسار، فإذا كان هذا المشروع في زيارة سيد الخليقة وعلة الإيجاد على الحقيقة صلّى الله عليه وسلّم، فماذا تبلغ زيارة غيره بالنسبة إلى زيارته عليه الصلاة والسلام ليزاد فيها ما يزاد، أو يطلب من المزور بها ما ليس من وظيفة العباد؟؟! وأما القسم على الله تعالى بأحد من خلقه مثل أن يقال: اللهم إني أقسم عليك أو أسألك بفلان إلا ما قضيت لي حاجتي، فعن ابن عبد السلام جواز ذلك في النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه سيد ولد آدم، ولا يجوز أن يقسم على الله تعالى بغيره من الأنبياء والملائكة والأولياء لأنهم ليسوا في درجته، وقد نقل ذلك عنه المناوي في شرحه الكبير للجامع الصغير، ودليله في ذلك ما رواه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح عن عثمان بن حنيف رضي الله تعالى عنه أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: ادع الله تعالى أن يعافيني، فقال: إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك، قال: فادعه فأمره أن يتوضأ فيحسن الوضوء ويدعو بهذا الدعاء اللهم إني أسألك وأتوجه بنبيك صلّى الله عليه وسلّم نبي الرحمة يا رسول الله إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضي لي اللهم فشفعه في، ونقل عن أحمد مثل ذلك. ومن الناس من منع التوسل بالذات والقسم على الله تعالى بأحد من خلقه مطلقا وهو الذي يرشح به كلام المجد ابن تيمية ونقله عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وأبي يوسف وغيرهما من العلماء الأعلام، وأجاب عن الحديث بأنه على حذف مضاف أي بدعاء أو شفاعة نبيك صلّى الله عليه وسلّم، ففيه جعل الدعاء وسيلة- وهو جائز- بل مندوب، والدليل على هذا التقدير قوله في آخر الحديث: «اللهم فشفعه في» بل في أوله أيضا ما يدل على ذلك، وقد شنع التاج السبكي- كما هو عادته- على المجد، فقال: ويحسن التوسل والاستغاثة بالنبي صلّى الله عليه وسلّم إلى ربه ولم ينكر ذلك أحد من السلف والخلف حتى جاء ابن تيمية فأنكر ذلك وعدل عن الصراط المستقيم وابتدع ما لم يقله عالم وصار بين الأنام مثلة انتهى. وأنت تعلم أن الأدعية المأثورة عن أهل البيت الطاهرين وغيرهم من الأئمة ليس فيها التوسل بالذات المكرمة صلّى الله عليه وسلّم، ولو فرضنا وجود ما ظاهره ذلك فمؤول بتقدير مضاف كما سمعت، أو نحو ذلك- كما تسمع إن شاء الله تعالى- ومن ادعى النص فعليه البيان، وما رواه أبو داود في سننه وغيره «من أن رجلا قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنا نستشفع بك إلى الله تعالى ونستشفع بالله تعالى عليك، فسبح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى رئي ذلك في وجوه أصحابه، فقال: ويحك أتدري ما الله تعالى؟ إن الله تعالى لا يشفع به على أحد من خلقه شأن الله تعالى أعظم من ذلك» لا يصلح دليلا على ما نحن فيه حيث أنكر عليه قوله: «إنا نستشفع بالله تعالى عليك» ولم ينكر عليه الصلاة والسلام قوله: «نستشفع بك إلى الله تعالى» لأن معنى الاستشفاع به صلّى الله عليه وسلّم طلب الدعاء منه، وليس معناه الإقسام به على الله تعالى، ولو كان الإقسام معنى للاستشفاع فلم أنكر النبي صلّى الله عليه وسلّم مضمون الجملة الثانية دون الأولى؟ وعلى هذا لا يصلح الخبر ولا ما قبله دليلا لمن ادعى جواز الإقسام بذاته صلّى الله عليه وسلّم حيا وميتا، وكذا بذات غيره من الأرواح المقدسة مطلقا قياسا عليه عليه الصلاة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 295 والسلام بجامع الكرامة، وإن تفاوت قوة وضعفا، وذلك لأن ما في الخبر الثاني استشفاع لا إقسام، وما في الخبر الأول ليس نصا في محل النزاع، وعلى تقدير التسليم ليس فيه إلا الإقسام بالحي والتوسل به، وتساوي حالتي حياته ووفاته صلّى الله عليه وسلّم في هذا الشأن يحتاج إلى نص، ولعل النص على خلافه، ففي صحيح البخاري عن أنس أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه- كان إذا قحطوا استسقى بالعباس رضي الله تعالى عنه، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك صلّى الله عليه وسلّم فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيسقون- فإنه لو كان التوسل به عليه الصلاة والسلام بعد انتقاله من هذه الدار لما عدلوا إلى غيره، بل كانوا يقولون: اللهم إنا نتوسل إليك بنبينا فاسقنا، وحاشاهم أن يعدلوا عن التوسل بسيد الناس إلى التوسل بعمه العباس، وهم يجدون أدنى مساغ لذلك، فعدولهم هذا- مع أنهم السابقون الأولون، وهم أعلم منا بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وبحقوق الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، وما يشرع من الدعاء وما لا يشرع، وهم في وقت ضرورة ومخمصة يطلبون تفريج الكربات وتيسير العسير، وإنزال الغيث بكل طريق- دليل واضح على أن المشروع ما سلكوه دون غيره. وما ذكر من قياس غيره من الأرواح المقدسة عليه صلّى الله عليه وسلّم مع التفاوت في الكرامة- الذي لا ينكره إلا منافق- مما لا يكاد يسلم، على أنك قد علمت أن الإقسام به عليه الصلاة والسلام على ربه عز شأنه حيا وميتا مما لم يقم النص عليه لا يقال: إن في خبر البخاري دلالة على صحة الإقسام به صلّى الله عليه وسلّم حيا وكذا بغيره كذلك، أما الأول فلقول عمر رضي الله تعالى عنه فيه: كنا نتوسل بنبيك صلّى الله عليه وسلّم، وأما الثاني فلقوله: إنا نتوسل بعم نبيك لما قيل: إن هذا التوسل ليس من باب الإقسام بل هو من جنس الاستشفاع، وهو أن يطلب من الشخص الدعاء والشفاعة، ويطلب من الله تعالى أن يقبل دعاءه وشفاعته، ويؤيد ذلك أن العباس كان يدعو وهم يؤمنون لدعائه حتى سقوا، وقد ذكر المجد أن لفظ التوسل بالشخص والتوجه إليه وبه فيه إجمال واشتراك بحسب الاصطلاح، فمعناه في لغة الصحابة أن يطلب منه الدعاء والشفاعة فيكون التوسل والتوجه في الحقيقة بدعائه وشفاعته، وذلك مما لا محذور فيه، وأما في لغة كثير من الناس فمعناه أن يسأل الله تعالى بذلك ويقسم به عليه- وهذا هو محل النزاع- وقد علمت الكلام فيه، وجعل من الإقسام الغير المشروع قول القائل- اللهم أسألك بجاه فلان- فإنه لم يرد عن أحد من السلف أنه دعا كذلك، وقال: إنما يقسم به تعالى وبأسمائه وصفاته فيقال: أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت يا الله، المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم، وأسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، وأسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك الحديث، ونحو ذلك من الأدعية المأثورة، وما يذكره بعض العامة من قوله صلّى الله عليه وسلّم:- إذا كانت لكم إلى الله تعالى حاجة فاسألوا الله تعالى بجاهي فإن جاهي عند الله تعالى عظيم- لم يروه أحد من أهل العلم، ولا هو شيء في كتب الحديث، وما رواه القشيري عن معروف الكرخي قدس سره- أنه قال لتلامذته: إن كانت لكم إلى الله تعالى حاجة فأقسموا عليه بي فإني الواسطة بينكم وبينه جل جلاله- الآن لا يوجد له سند يعول عليه عند المحدثين، وأما ما رواه ابن ماجة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في دعاء الخارج إلى الصلاة اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة ولكن خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك أن تنقذني من النار وأن تدخلني الجنة، ففي سنده العوفي- وفيه ضعف- وعلى تقدير أن يكون من كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم يقال فيه: إن حق السائلين عليه تعالى أن يجيبهم، وحق الماشين في طاعته أن يثيبهم، والحق بمعنى الوعد الثابت المتحقق الوقوع فضلا لا وجوبا كما في قوله تعالى: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم: 47] ، وفي الصحيح من حديث معاذ- حق الله تعالى على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحقهم عليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 296 إن فعلوا ذلك أن لا يعذبهم- فالسؤال حينئذ بالإثابة والإجابة وهما من صفات الله تعالى الفعلية، والسؤال بها مما لا نزاع فيه فيكون هذا السؤال كالاستعاذة في قوله صلّى الله عليه وسلّم «أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك» فمتى صحت الاستعاذة بمعافاته صح السؤال بإثابته وإجابته. وعلى نحو ذلك يخرج سؤال الثلاثة لله عز وجل بأعمالهم، على أن التوسل بالأعمال معناه التسبب بها لحصول المقصود، ولا شك أن الأعمال الصالحة سبب لثواب الله تعالى لنا، ولا كذلك ذوات الأشخاص أنفسها، والناس قد أفرطوا اليوم في الإقسام على الله تعالى، فأقسموا عليه عز شأنه بمن ليس في العير ولا النفير وليس عنده من الجاه قدر قطمير، وأعظم من ذلك أنهم يطلبون من أصحاب القبور نحو إشفاء المريض وإغناء الفقير ورد الضالة وتيسير كل عسير، وتوحي إليهم شياطينهم خبر- إذا أعيتكم الأمور- إلخ، وهو حديث مفترى على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإجماع العارفين بحديثه، لم يروه أحد من العلماء، ولا يوجد في شيء من كتب الحديث المعتمدة، وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم: عن- اتخاذ القبور مساجد ولعن على ذلك- فكيف يتصور منه عليه الصلاة والسلام الأمر بالاستغاثة والطلب من أصحابها؟! سبحانك هذا بهتان عظيم. وعن أبي يزيد البسطامي قدس سره أنه قال: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون، ومن كلام السجاد رضي الله تعالى عنه أن طلب المحتاج من المحتاج سفه في رأيه وضلة في عقله، ومن دعاء موسى عليه السلام- وبك المستغاث- وقال صلّى الله عليه وسلّم لابن عباس رضي الله تعالى عنهما: «إذا استعنت فاستعن بالله تعالى، الخبر، وقال تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5] . وبعد هذا كله أنا لا أرى بأسا في التوسل إلى الله تعالى بجاه النبي صلّى الله عليه وسلّم عند الله تعالى حيا وميتا، ويراد من الجاه معنى يرجع إلى صفة من صفاته تعالى، مثل أن يراد به المحبة التامة المستدعية عدم رده وقبول شفاعته، فيكون معنى قول القائل: إلهي أتوسل بجاه نبيك صلّى الله عليه وسلّم أن تقضي لي حاجتي، إلهي اجعل محبتك له وسيلة في قضاء حاجتي، ولا فرق بين هذا وقولك: إلهي أتوسل برحمتك أن تفعل كذا إذ معناه أيضا إلهي اجعل رحمتك وسيلة في فعل كذا، بل لا أرى بأسا أيضا بالإقسام على الله تعالى بجاهه صلّى الله عليه وسلّم بهذا المعنى، والكلام في الحرمة كالكلام في الجاه، ولا يجري ذلك- في التوسل والإقسام بالذات- البحت، نعم لم يعهد التوسل بالجاه والحرمة عن أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم. ولعل ذلك كان تحاشيا منهم عما يخشى أن يعلق منه في أذهان الناس إذ ذاك- وهم قريبو عهد بالتوسل بالأصنام- شيء، ثم اقتدى بهم من خلفهم من الأئمة الطاهرين، وقد ترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هدم الكعبة وتأسيسها على قواعد إبراهيم لكون القوم حديثي عهد بكفر كما ثبت ذلك في الصحيح، وهذا الذي ذكرته إنما هو لدفع الحرج عن الناس والفرار من دعوى تضليلهم- كما يزعمه البعض- في التوسل بجاه عريض الجاه صلّى الله عليه وسلّم لا للميل إلى أن الدعاء كذلك أفضل من استعمال الأدعية المأثورة التي جاء بها الكتاب وصدحت بها ألسنة السنة، فإنه لا يستريب منصف في أن ما علمه الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم ودرج عليه الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم وتلقاه من بعدهم بالقبول أفضل وأجمع وأنفع وأسلم، فقد قيل ما قيل إن حقا وإن كذبا «بقي هاهنا أمران» الأول أن التوسل بجاه غير النبي صلّى الله عليه وسلّم لا بأس به أيضا إن كان المتوسل بجاهه مما علم أن له جاها عند الله تعالى كالمقطوع بصلاحه وولايته، وأما من لا قطع في حقه بذلك فلا يتوسل بجاهه لما فيه من الحكم الضمني على الله تعالى بما لم يعلم تحققه منه عز شأنه، وفي ذلك جرأة عظيمة على الله تعالى، الثاني أن الناس قد أكثروا من دعاء غير الله تعالى من الأولياء الأحياء منهم والأموات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 297 وغيرهم، مثل يا سيدي فلان أغثني، وليس ذلك من التوسل المباح في شيء، واللائق بحال المؤمن عدم التفوه بذلك وأن لا يحوم حول حماه، وقد عدّه أناس من العلماء شركا وأن لا يكنه، فهو قريب منه ولا أرى أحدا ممن يقول ذلك إلا وهو يعتقد أن المدعو الحي الغائب أو الميت المغيب يعلم الغيب أو يسمع النداء ويقدر بالذات أو بالغير على جلب الخير ودفع الأذى وإلا لما دعاه ولا فتح فاه، وفي ذلك بلاء من ربكم عظيم، فالحزم التجنب عن ذلك وعدم الطلب إلا من الله تعالى القوي الغني الفعال لما يريد (1) ومن وقف على سر ما رواه الطبراني في معجمه من أنه كان في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم منافق يؤذي المؤمنين فقال الصديق رضي الله تعالى عنه: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلّى الله عليه وسلّم من هذا المنافق فجاؤوا إليه، فقال: إنه لا يستغاث بي إنما يستغاث بالله تعالى» لم يشك في أن الاستغاثة بأصحاب القبور- الذين هم بين سعيد شغله نعيمه وتقلبه في الجنان عن الالتفات إلى ما في هذا العالم، وبين شقي ألهاه عذابه وحبسه في النيران عن إجابة مناديه والإصاخة إلى أهل ناديه- أمر يجب اجتنابه ولا يليق بأرباب العقول ارتكابه، ولا يغرنك أن المستغيث بمخلوق قد تقضى حاجته وتنجح طلبته فإن ذلك ابتلاء وفتنة منه عز وجل، وقد يتمثل الشيطان للمستغيث في صورة الذي استغاث به فيظن أن ذلك كرامة لمن استغاث به، هيهات هيهات إنما هو شيطان أضله وأغواه وزين له هواه، وذلك كما يتكلم الشيطان في الأصنام ليضل عبدتها الطغام، وبعض الجهلة يقول: إن ذلك من تطور روح المستغاث به، أو من ظهور ملك بصورته كرامة له ولقد ساء ما يحكمون، لأن التطور والظهور وإن كانا ممكنين لكن لا في مثل هذه الصورة وعند ارتكاب هذه الجريرة، نسأل الله تعالى بأسمائه أن يعصمنا من ذلك، ونتوسل بلطفه أن يسلك بنا وبكم أحسن المسالك وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ مع أعدائكم بما أمكنكم. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ بنيل نعيم الأبد والخلاص من كل نكد إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا كلام مبتدأ مسوق لتأكيد وجوب الامتثال بالأوامر السابقة، وترغيب المؤمنين في المسارعة إلى تحصيل الوسيلة إليه عز شأنه قبل انقضاء أوانه، ببيان استحالة توسل الكفار يوم القيامة بما هو من أقوى الوسائل إلى النجاة من العذاب فضلا عن نيل الثواب لَوْ أَنَّ لَهُمْ أي لكل واحد منهم كقوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ [يونس: 54] إلخ، وفيه من تهويل الأمر وتفظيع الحال ما ليس في قولنا: لجميعهم ما فِي الْأَرْضِ أي من أصناف أموالها وذخائرها وسائر منافعها قاطبة، وهو اسم إِنَّ ولَهُمْ خبرها ومحلها الرفع عندهم خلا أنه عند سيبويه رفع على الابتداء لا حاجة فيه إلى الخبر لاشتمال صلتها على المسند والمسند إليه، وقد اختصت من بين سائر ما يؤول بالاسم بالوقوع بعد لَوْ، وقيل: الخبر محذوف ويقدر مقدما أو مؤخرا قولان، وعند الزجاج والمبرد والكوفيين رفع على الفاعلية أي لو ثبت لهم ما في الأرض، وقوله تعالى: جَمِيعاً توكيد للموصول أو حال منه، وقوله سبحانه: وَمِثْلَهُ بالنصب عطف عليه، وقوله عز وجل: مَعَهُ ظرف وقع حالا من المعطوف، والضمير راجع إلى الموصول، وفائدة التصريح بفرض كينونتهما لهم بطريق المعية لا بطريق التعاقب تحقيقا لكمال فظاعة الأمر، واللام في قوله تعالى: لِيَفْتَدُوا بِهِ متعلقة بما تعلق به خبر إِنَّ وهو الاستقرار المقدر في لَهُمْ وبالخبر المقدر عند من يراه، وبالفعل المقدر بعد لَوْ عند الزجاج ومن نحا نحوه، قيل: ولا ريب في أن مدار الاقتداء بما ذكر هو كونه لهم لا ثبوت كونه لهم وإن كان مستلزما له، والباء في بِهِ متعلقة بالافتداء، والضمير راجع إلى الموصول وَمِثْلَهُ مَعَهُ وتوحيده لكونهما بالمعية شيئا واحدا، أو لإجراء الضمير مجرى اسم الإشارة كما مرت الإشارة إلى ذلك، وقيل: هو راجع إلى الموصول، والعائد إلى   (1) هذا هو الحق وهو أنه يجتنب ذلك مطلقا، وما مال إليه المصنف قبل من الجواز هو رأي له غير مقبول فتنبه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 298 المعطوف- أعني مثله- مثله، وهو محذوف كما حذف الخبر من قيار في قوله: ومن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيار بها لغريب وقد جوز أن يكون نصب، ومثله على أنه مفعول مَعَهُ ناصبه الفعل المقدر بعد لَوْ تفريعا على رأي الزجاج ومن رأى رأيه، وأمر توحيد الضمير حينئذ ظاهر إذ حكم الضمير بعد المفعول معه الإفراد، وأجاز الأخفش أن يعطى حكم المتعاطفين فيثنى الضمير، وقال بعض النحاة: الصحيح جوازه على قلة. واعترض هذا الوجه أبو حيان بأنه يصير التقدير مع مثله مَعَهُ، وإذا كان ما في الأرض مع مثله كان مثله معه ضرورة، فلا فائدة في ذكر مَعَهُ معه لملازمة معية كل منهما للآخر، وأجاب الطيبي بأن مَعَهُ على هذا تأكيد، وقال السفاقسي: جوابه أن التقدير ليس كالتصريح، والواو- متضمنة معنى مع، وإنما يقبح لو صرح- بمع- وكثيرا ما يكون التقدير بخلاف التصريح، كقولهم: رب شاة وسخلتها، ولو صرحت- برب- فقلت: ورب سخلتها لم يجز، وأجاب الحلبي بأن الضمير في مَعَهُ عائد على مِثْلَهُ ويصير المعنى مع مثلين وهو أبلغ من أن يكون مع مثل واحد، نعم أن كون العامل ثبت ليس بصحيح لأن العامل في المفعول معه هو العامل في المصاحب له كما صرحوا به، وهو هنا ما أو ضميرها، وشيء منهما ليس عاملا فيه ثبت المقدر، وأما صحته على تقدير جعله لهم، أو متعلقه على ما قيل، فممتنع أيضا على ما نقل عن سيبويه أنه قال: وأما هذا لك وأباك فقبيح، لأنه لم يذكر فعل ولا حرف فيه معنى فعل حتى يصير كأنه قد تكلم بالفعل، فإن فيه تصريحا بأن اسم الإشارة وحرف الجر والظرف لا تعمل في المفعول معه، وقوله تعالى: مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ متعلق بالافتداء أيضا أي لو أن ما في الأرض ومثله ثابت لهم ليجعلوه فدية لأنفسهم من العذاب الواقع ذلك اليوم. ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ ذلك، وهو جواب لَوْ وترتيبه- كما قال شيخ الإسلام- على ذلك لهم لأجل افتدائهم به من غير ذكر الافتداء بأن يقال: وافتدوا به، مع أن الرد والقبول إنما يترتب عليه لا على مبادئه للإيذان بأنه أمر محقق الوقوع غني عن الذكر، وإنما المحتاج إلى الفرض قدرتهم على ما ذكر، أو للمبالغة في تحقق الرد، وتخييل أنه وقع قبل الافتداء على منهاج ما في قوله تعالى: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ [النمل: 40] حيث لم يقل فأتى به فلما رآه إلخ، وما في قوله سبحانه: وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ [يوسف: 31] من غير ذكر خروجه عليه السلام عليهن ورؤيتهن له، وقال بعض الأفاضل: إنما لم يكتف بقوله: إن الذين كفروا لو يفتدون بما في الأرض جميعا من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم، لأن ما في النظم الكريم يفيد أنهم لو حصلوا ما في الأرض ومثله معه لهذه الفائدة وكانوا خائفين من الله تعالى وحفظوا الفدية وتفكروا في الافتداء ورعاية أسبابه- كما هو شأن من هو بصدد أمر- ما تقبل منهم فضلا عن أن يكونوا غافلين عن تحصيل الفدية وقصدوا الفدية فجأة، ولهذا لم يقل لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ويفتدون به ما تقبل إلخ، والجملة الامتناعية بحالها خبر إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وهي كناية عن لزوم العذاب لهم وأنه لا سبيل لهم إلى الخلاص منه، فإن لزوم العذاب من لوازمه أن ما في الأرض جميعا ومثله معه لو افتدوا به لم يتقبل منهم، فلما كانت هذه الجملة، بل هذه الملازمة لازمة للزوم العذاب عبر عنها بها، وأطلق بعضهم على هذه الجملة تمثيلا، ولعل مراده- على ما ذكره القطب- ما ذكره، وقال بعض المحققين: لا يريد به الاستعارة التمثيلية بل إيراد مثال وحكم يفهم منه لزوم العذاب لهم، أي لم يقصد بهذا الكلام إثبات هذه الشرطية بل انتقال الذهن منه إلى هذا المعنى، وبهذا الاعتبار يقال له: كناية، ويمكن تنزيله على التمثيل الاصطلاحي بأن يقال: إن حالهم في حال التفصي عن العذاب بمنزلة حال من يكون له ذلك الأمر الجسيم ويحاول به التخلص من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 العذاب فلا يتقبل منه ولا يتخلص وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ قيل: محله النصب على الحالية، وقيل: الرفع عطفا على خبر إن، وقيل: إنه معطوف على إِنَّ الَّذِينَ فلا محل له من الإعراب مثله، وفائدة الجملة التصريح بالمقصود من الجملة الأولى لزيادة تقريره وبيان هوله وشدته، وقيل: إن المقصود بها الإيذان بأنه كما لا يندفع بذلك عذابهم لا يخفف بل لهم بعد عذاب في كمال الإيلام، وكذلك قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ فإنه لإفادة أنه كما لا يندفع بذلك الافتداء عذابهم لا يندفع دوامه ولا ينفصل، وهو على ما تقدم استئناف مسوق لبيان حالهم في أثناء مكابدة العذاب مبني على سؤال نشأ مما قبله، كأنه قيل: فكيف يكون حالهم، أو ماذا يصنعون؟ فقيل: يُرِيدُونَ إلخ، وقد بين في تضاعيفه أن عذابهم عذاب النار، والإرادة قيل: على معناها الحقيقي المشهور، وذلك أنهم يرفعهم لهب النار فيريدون الخروج وأنى به، وروي ذلك عن الحسن، وقال الجبائي: الإرادة بمعنى التمني أي يتمنون ذلك. وقيل: المعنى يكادون يخرجون منها لقوتها وزيادة رفعها إياهم، وهذا كقوله تعالى: فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ [الكهف: 77] أي يكاد ويقارب، لا يقال: كيف يجوز أن يريدوا الخروج من النار مع علمهم بالخلود؟ لأنا نقول: الهول يومئذ ينسيهم ذلك، وعلى تقدير عدم النسيان يقال: العلم بعدم حصول الشيء لا يصرف عن إرادته كما أن العلم بالحصول كذلك، فإن الداعي إلى الإرادة حسن الشيء والحاجة إليه. وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها إما حال من فاعل يُرِيدُونَ أو اعتراض، وأيا ما كان فإيثار الجملة الاسمية على الفعلية مصدرة- بما- الحجازية الدالة بما في حيزها من الباء على تأكيد النفي لبيان كمال سوء حالهم باستمرار عدم خروجهم منها، فإن الجملة الاسمية الإيجابية- كما مرت الإشارة إليه- كما تفيد بمعونة المقام دوام الثبوت، تفيد السلبية أيضا بمعونة دوام النفي لا نفي الدوام، وقرأ أبو واقد أَنْ يَخْرُجُوا بالبناء لما لم يسم فاعله من الإخراج، ويشهد لقراءة الجمهور قوله تعالى: بِخارِجِينَ دون بمخرجين، وهذه الآية كما ترى في حق الكفار، فلا تنافي القول بالشفاعة لعصاة المؤمنين في الخروج منها كما لا يخفى على من له أدنى إيمان. وقد أخرج مسلم وابن المنذر وابن مردويه عن جابر بن عبد الله «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: يخرج من النار قوم فيدخلون الجنة، قال يزيد الفقير: فقلت لجابر: يقول الله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها قال: اتل أول الآية إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ ألا إنهم الذين كفروا، وأخرج ابن جرير عن عكرمة أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس رضي الله تعالى عنهما: تزعم أن قوما يخرجون من النار وقد قال الله تعالى: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: ويحك اقرأ ما فوقها هذه للكفار، ورواية أنه قال له: يا أعمى البصر أعمى القلب تزعم إلخ حكاها الزمخشري وشنع إثرها على أهل السنة ورماهم بالكذب والافتراء، فحقق ما قيل: رمتني بدائها وانسلت، ولسنا مضطرين لتصحيح هذه الرواية ولا وقف الله تعالى صحة العقيدة على صحتها، فكم لنا من حديث صحيح شاهد على حقيقة ما نقول وبطلان ما يقوله المعتزلة تبا لهم وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ تصريح بما أشير إليه من عدم تناهي مدة العذاب بعد بيان شدته أي عذاب دائم ثابت لا يزول ولا ينتقل أبدا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 300 وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما شروع في بيان حكم السرقة الصغرى بعد بيان أحكام الكبرى، وقد تقدم بيان اقتضاء الحال لإيراد ما توسط بينهما من المقال، والكلام جملتان- عند سيبويه- إذ التقدير فيما يتلى عليكم- السارق والسارقة- أي حكمهما، وجملة عند المبرد، وقرأ عيسى بن عمر بالنصب، وفضلها سيبويه على قراءة العامة لأجل الأمر- لأن زيدا فاضربه أحسن من زيد فاضربه- قاله الزمخشري، واتبعه من تبعه ومنهم ابن الحاجب. وتعقبه العلامة أحمد في الانتصاف بكلام كله محاسن فلا بأس في نقله برمته، فنقول: قال فيه: المستقرأ من وجوه القراءات أن العامة لا تتفق فيها أبدا على العدول عن الأفصح، وجدير بالقرآن أن يحرز أفصح الوجوه وأن لا يخلو من الأفصح ويشتمل عليه كلام العرب الذي لم يصل أحد منهم إلى ذروة فصاحته ولم يتعلق بأهدابها، وسيبويه يحاشي من اعتقاد عراء القرآن عن الأفصح واشتمال الشاذ الذي لا يعدّ من القرآن عليه، ونحن نورد الفصل من كلام سيبويه على هذه الآية ليتضح لسامعه براءة سيبويه من عهدة هذا النقل، قال سيبويه في ترجمة باب الأمر والنهي بعد أن ذكر المواضع التي يختار فيها النصب، وملخصها: أنه متى بني الاسم على فعل الأمر فذاك موضع اختيار النصب، ثم قال كالموضح لامتياز هذه الآية عما اختار فيه النصب: وأما قوله عزّ وجلّ: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما وقوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا [النور: 2] فإن هذا لم يبن على الفعل ولكنه جاء على مثال قوله عزّ وجلّ: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [محمد: 15] ثم قال سبحانه بعد: فِيها أَنْهارٌ منها كذا، يريد سيبويه تمييز هذه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 301 الآي عن المواضع التي بين اختيار النصب فيها، ووجه التمييز أن الكلام حيث يختار النصب يكون الاسم فيه مبنيا على الفعل، وأما في هذه الآي فليس بمبني عليه فلا يلزم فيه اختيار النصب، ثم قال: وإنما وضع المثل للحديث الذي ذكره بعده فذكر أخبارا وقصصا، فكأنه قال: ومن القصص- مثل الجنة- فهو محمول على هذا الإضمار والله تعالى أعلم، وكذلك الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي لما قال جل ثناؤه: سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها [النور: 1] قال جل وعلا في جملة الفرائض: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي ثم جاء فَاجْلِدُوا بعد أن مضى فيهما الرفع- يريد سيبويه- لم يكن الاسم مبنيا على الفعل المذكور بعد، بل بني على محذوف متقدم، وجاء الفعل طارئا، ثم قال: كما جاء- وقائلة: خولان- فانكح فتاتهم، فجاء بالفعل بعد أن عمل فيه المضمر، وكذلك وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فيما فرض عليكم السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ وإنما دخلت هذه الأسماء بعد قصص وأحاديث، وقد قرأ أناس السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ بالنصب وهو في العربية على ما ذكرت لك من القوة، ولكن أبت العامة إلا الرفع، يريد أن قراءة النصب جاء الاسم فيها مبنيا على الفعل غير معتمد على متقدم، فكان النصب قويا بالنسبة إلى الرفع، حيث يبنى الاسم على الفعل لا على متقدم، وليس يعني أنه قوي بالنسبة إلى الرفع، حيث يعتمد الاسم على المحذوف المتقدم، فإنه قد بين أن ذلك يخرجه عن الباب الذي يختار فيه النصب، فكيف يفهم عنه ترجيحه عليه، والباب مع القرائن مختلف، وإنما يقع الترجيح بعد التساوي في الباب، فالنصب أرجح من الرفع حيث يبنى الاسم على الفعل، والرفع متعين- لا أقول أرجح- حيث يبنى الاسم على كلام متقدم، وإنما التبس على الزمخشري كلام سيبويه من حيث اعتقد أنه باب واحد عنده، ألا ترى إلى قوله: لأن زيدا فاضربه أحسن من زيد فاضرب، كيف رجح النصب على الرفع، حيث يبنى الكلام في الوجهين على الفعل، وقد صرح سيبويه بأن الكلام في الآية مع الرفع مبني على كلام متقدم، ثم حقق هذا المقدار بأن الكلام واقع بعد قصص وأخبار، ولو كان كما ظنه الزمخشري لم يحتج سيبويه إلى تقدير، بل كان يرفعه على الابتداء، ويجعل الأمر خبره- كما أعربه الزمخشري- فالملخص- على هذا- أن النصب على وجه واحد، وهو بناء الاسم على فعل الأمر، والرفع على وجهين: أحدهما ضعيف وهو الابتداء، وبناء الكلام على الفعل، والآخر قوي بالغ كوجه النصب، وهو رفعه على خبر ابتداء محذوف دل عليه السياق، وإذا تعارض لنا وجهان في الرفع، أحدهما قوي والآخر ضعيف تعين حمل القراءة على القوي كما أعربه سيبويه رحمه الله تعالى ورضي عنه انتهى. والفاء إذا بني الكلام على جملتين سببية لا عاطفة، وقيل: زائدة وكذا على الوجه الضعيف، فإن المبتدأ متضمن معنى الشرط إذ المعنى والذي سرق والتي سرقت، وزعم بعض المحققين أن مثل هذا التركيب لا يتوجه إلا بأحد أمرين: زيادة الفاء كما نقل عن الأخفش، أو تقدير إما لأن دخول الفاء في خبر المبتدأ إما لتضمنه معنى الشرط، وإما لوقوع المبتدأ بعد أما، ولما لم يكن الأول وجب الثاني ولا يخفى ما فيه، وعلى قراءة عيسى بن عمر يكون النصب على إضمار فعل يفسره الظاهر، والفاء أيضا- كما قال ابن جني- لما في الكلام من معنى الشرط، ولذا حسنت مع الأمر لأنه بمعناه، ألا تراه جزم جوابه لذلك إذ معنى أسلم تدخل الجنة إن تسلم تدخل الجنة، والمراد كما يشير إليه بعض شروح الكشاف إن أردتم حكم السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا إلخ، ولذا لم يجز زيدا فضربته لأن الفاء لا تدخل في جواب الشرط إذا كان ماضيا، وتقديره إن أردتم معرفة إلخ أحسن من تقديره إن قطعتم لأن لا يدل على الوجوب المراد، وقال أبو حيان: إن الفاء في جواب أمر مقدر أي تنبه لحكمهما فَاقْطَعُوا، وقيل: إنما دخلت الفاء لأن حق المفسر أن يذكر عقب المفسر كالتفصيل بعد الإجمال في قوله تعالى: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 54] وليس بشيء، وبما ذكر صاحب الانتصاف يعلم فساد ما قيل: إن سبب الخلاف السابق في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 302 مثل هذا التركيب أن سيبويه والخليل يشترطان في دخول الفاء الخبر كون المبتدأ موصولا بما يقبل مباشرة أداة الشرط، وغيرهما لا يشترط ذلك، والظاهر أن سبب هذا عدم الوقوف على المقصود فليحفظ، والسرقة أخذ مال الغير خفية، وإنما توجب القطع إذا كان الأخذ من حرز، والمأخوذ يساوي عشرة دراهم فما فوقها، مع شروط تكفلت ببيانها الفروع، ومذهب الشافعي والأوزاعي وأبي ثور والإمامية رضي الله تعالى عنهم أن القطع فيما يساوي ربع دينار فصاعدا، وقال بعضهم: لا تقطع الخمس إلا بخمسة دراهم، واختاره أبو علي الجبائي، قيل: يجب القطع في القليل والكثير- وإليه ذهب الخوارج- والمراد بالأيدي الأيمان- كما روي عن ابن عباس والحسن والسدي وعامة التابعين رضوان الله عليهم أجمعين- ويؤيده قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه- أيمانهما- ولذلك ساغ وضع الجمع موضع المثنى كما في قوله: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التحريم: 4] اكتفاء بتثنية المضاف إليه كذا قالوا، قال الزجاج: وحقيقة هذا الباب أن ما كان في الشيء منه واحد لم يثن، ولفظ به على الجمع لأن الإضافة تبينه، فإذا قلت: أشبعت بطونهما علم أن للاثنين بطنين فقط. وفرع الطيبي عليه عدم استقامة تشبيه ما في الآية هنا بما في الآية الأخرى لأن لكل من السارق يدين فيجوز الجمع، وأن تقطع الأيدي كلها من حيث ظاهر اللغة، وكذا قال أبو حيان، وفيه نظر لأن الدليل قد دل على أن المراد من اليد يد مخصوصة وهي اليمين فجرت مجرى القلب والظهر واليد اسم لتمام العضو، ولذلك ذهب الخوارج إلى أن المقطع هو المنكب، والإمامية على أنه يقطع من أصول الأصابع ويترك له الإبهام والكف، ورووه عن علي كرم الله تعالى وجهه، واستدلوا عليه أيضا بقوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ [البقرة: 79] إذ لا شك في أنهم إنما يكتبونه بالأصابع، وأنت تعلم أن هذا لا يتم به الاستدلال على ذلك المدعى، وحال روايتهم أظهر من أن تخفى، والجمهور على أن المقطع هو الرسغ، فقد أخرج البغوي وأبو نعيم في معرفة الصحابة من حديث الحارث بن أبي عبد الله بن أبي ربيعة «أنه عليه الصلاة والسلام أتي بسارق فأمر بقطع يمينه منه» والمخاطب بقوله سبحانه: فَاقْطَعُوا على ما في البحر الرسول صلّى الله عليه وسلّم، أو ولاة الأمور كالسلطان، ومن أذن له في إقامة الحدود، أو القضاة والحكام، أو المؤمنون أقوال أربعة، ولم تدرج السارقة في السارق تغليبا كما هو المعروف في أمثاله لمزيد الاعتناء بالبيان والمبالغة في الزجر جَزاءً نصب على أنه مفعول له أي فاقطعوا للجزاء، أو على أنه مصدر- لاقطعوا- من معناه، أو لفعل مقدر من لفظه، وجوز أن يكون حالا من فاعل- اقطعوا- مجازين لهما بِما كَسَبا بسبب كسبهما، أو ما كسباه من السرقة التي تباشر بالأيدي وقوله تعالى: نَكالًا مفعول له أيضا- كما قال أكثر المعربين- وقال السمين: منصوب كما نصب جَزاءً، واعترض الوجه الأول بأنه ليس بجيد لأن المفعول له لا يتعدد بدون عطف واتباع لأنه على معنى اللام، فيكون كتعلق حرفي جر بمعنى بعامل واحد وهو ممنوع، ودفع بأن النكال نوع من الجزاء فهو بدل منه، وقال الحلبي وبعض المحققين: إنه إنما ترك العطف إشعارا بأن القطع للجزاء والجزاء للنكال والمنع عن المعاودة، وعليه يكون مفعولا له متداخلا كالحال المتداخلة، وبه أيضا يندفع الاعتراض وهو حسن، وقال عصام الملة: إنما لم يعطف لأن العلة مجموعهما- كما في هذا خلو حامض- والجزاء إشارة إلى أن فيه حق العبد، والنكال إشارة إلى أن فيه حق الله تعالى، ولا يخفى ما فيه فتأمل، ونقل عن بعض النحاة أنه أجاز تعدد المفعول له بلا أتباع وحينئذ لا يرد السؤال رأسا، وقوله تعالى: مِنَ اللَّهِ متعلق بمحذوف وقع صفة لنكالا أي نكالا كائنا منه تعالى وَاللَّهُ عَزِيزٌ في شرع الردع حَكِيمٌ في إيجاب القطع، أو عَزِيزٌ في انتقامه من السارق وغيره من أهل المعاصي حَكِيمٌ في فرائضه وحدوده، والإظهار في مقام الإضمار لما مر غير مرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 303 ومن الغريب أنه نقل عن أبيّ رضي الله تعالى أنه قرأ- والسرق والسرقة- بترك الألف وتشديد الراء، فقال ابن عطية: إن هذه القراءة تصحيف لأن السارق والسارقة قد كتبا في المصحف بدون الألف، وقيل في توجيهها: إنهما جمع سارق وسارقة، لكن قيل: إنه لم ينقل هذا الجمع في جمع المؤنث، فلو قيل: إنهما صيغة مبالغة لكان أقرب، واعترض- الملحد- المعري على وجوب قطع اليد بسرقة القليل، فقال: يد بخمس مئين عسجد وديت ... ما بالها قطعت في ربع دينار تحكم: ما لنا إلا السكوت له ... وأن نعوذ بمولانا من النار فأجابه- ولله دره- علم الدين السخاوي بقوله: عز الأمانة: أغلاها وأرخصها ... ذل الخيانة، فافهم حكمة الباري وفي الأحكام لابن عربي أنه كان جزاء السارق في شرع من قبلنا استرقاقه، وقيل: كان ذلك إلى زمن موسى عليه الصلاة والسلام ونسخ، فعلى الأول شرعنا ناسخ لما قبله، وعلى الثاني مؤكد للنسخ فَمَنْ تابَ من السرّاق إلى الله تعالى مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ الذي هو سرقته، والتصريح بذلك لبيان عظم نعمته تعالى بتذكير عظم جنايته وَأَصْلَحَ أمره بالتفصي عن التبعات بأن يرد مال السرقة إن أمكن أو يستحل لنفسه من مالكه أو ينفقه في سبيل الله تعالى إن جهله، وقيل: المعنى وفعل الفعل الصالح الجميل بأن استقام على التوبة كما هو المطلوب منه فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ يقبل توبته فلا يعذبه في الآخرة، وأما القطع فلا يسقطه التوبة عندنا لأن فيه حق المسروق منه، ويسقطه عند الشافعي رضي الله تعالى عنه في أحد قوليه، ولا يخفى ما في هذه الجملة من ترغيب العاصي بالتوبة، وأكد ذلك بقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وهو في موضع التعليل لما قبله، وفيه إشارة إلى أن قبول التوبة تفضل منه تعالى أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، أو لكل أحد يصلح له، واتصاله بما قبله على ما قاله الطبرسي: اتصال الحجاج، والبيان عن صحة ما تقدم من الوعد والوعيد، وقال شيخ الإسلام: المراد به الاستشهاد بذلك على قدرته تعالى- على ما سيأتي- من التعذيب والمغفرة على أبلغ وجه وأتمه أي ألم تعلم أن الله تعالى له السلطان القاهر والاستيلاء الباهر المستلزمان للقدرة التامة على التصرف الكلي فيهما وفيما اشتملا عليه إيجادا وإعداما إحياء وإماتة إلى غير ذلك حسبما تقتضيه مشيئته، والجار والمجرور خبر مقدم، ومُلْكُ السَّماواتِ مبتدأ، والجملة خبر أَنَّ وهي مع ما في حيزها سادّ مسدّ مفعولي «تعلم» عند الجمهور، وتكرير الإسناد لتقوية الحكم، وقوله تعالى: يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ إما تقرير لكون ملكوت السماوات والأرض له سبحانه، وإما خبر آخر- لأن- وكان الظاهر لحديث «سبقت رحمتي غضبي» تقديم المغفرة على التعذيب، وإنما عكس هنا لأن التعذيب للمصر على السرقة، والمغفرة للتائب منها، وقد قدمت السرقة في الآية أولا ثم ذكرت التوبة بعدها فجاء هذا اللاحق على ترتيب السابق، أو لأن المراد بالتعذيب القطع، وبالمغفرة التجاوز عن حق الله تعالى، والأول في الدنيا، والثاني في الآخرة، فجيء به على ترتيب الوجود أو لأن المقام مقام الوعيد، أو لأن المقصود وصفه تعالى بالقدرة، والقدرة في تعذيب من يشاء أظهر من القدرة في مغفرته لأنه لا إباء في المغفرة من المغفور، وفي التعذيب إباء بين وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيقدر على ما ذكر من التعذيب والمغفرة، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها، ووجه الإظهار كالنهار يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ خوطب صلّى الله عليه وسلّم بعنوان الرسالة للتشريف والإشعار بما يوجب عدم الحزن، والمراد بالمسارعة في الشيء الوقوع فيه بسرعة ورغبة، وإيثار كلمة فِي على- إلى- للإيذان بأنهم مستقرون في الكفر لا يبرحون، وإنما ينتقلون بالمسارعة عن بعض فنونه وأحكامه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 304 إلى بعض آخر منها، كإظهار موالاة المشركين وإبراز آثار الكيد للإسلام ونحو ذلك. والتعبير عنهم بالموصول للإشارة بما في حيز صلته إلى مدار الحزن، وهذا وإن كان بحسب الظاهر نهيا للكفرة عن أن يحزنوه صلّى الله عليه وسلّم بمسارعتهم في الكفر- لكنه في الحقيقة نهي له عليه الصلاة والسلام عن التأثر من ذلك والمبالاة، والغرض منه مجرد التسلية على أبلغ وجه وآكده، فإن النهي عن أسباب الشيء ومبادئه المؤدية إليه نهي عنه بالطريق البرهاني وقطع له من أصله. وقرىء «يحزنك» بضم الياء وكسر الزاي من أحزن وهي لغة، وقرىء «يسرعون» يقال أسرع فيه الشيب أي وقع فيه سريعا أي لا تحزن ولا تبال بتهافتهم في الكفر بسرعة حذرا- كما قيل- من شرهم وموالاتهم للمشركين فإن الله تعالى ناصرك عليهم، أو شفقة عليهم حيث لم يوفقوا للهداية فإن الله تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ بيان للمسارعين في الكفر، وقال أبو البقاء: إنه متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل يُسارِعُونَ أو من الموصول أي كائنين مِنَ الَّذِينَ إلخ، والباء متعلقة- بقالوا- لا- بآمنا- لظهور فساده وتعلقها به على معنى- بذي أفواههم- أي يؤمنون بما يتفوهون به من غير أن تلتف به قلوبهم مما لا ينبغي أن يلتفت إليه من له أدنى تمييز وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ جملة حالية من ضمير قالُوا، وقيل: عطف على قالُوا وقوله سبحانه وتعالى: وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا عطف على مِنَ الَّذِينَ قالُوا وبه تم تقسيم المسارعين إلى قسمين: منافقين ويهود، فقوله سبحانه وتعالى: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ خبر مبتدأ محذوف أي هم سَمَّاعُونَ، والضمير للفريقين أو للذين يسارعون، وجوز أن يكون- للذين هادوا- واعترض بأنه مخل بعموم الوعيد الآتي ومباديه للكل- كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى- وكذا جعل غير واحد وَمِنَ الَّذِينَ إلخ خبرا على أن سَمَّاعُونَ صفة لمبتدأ محذوف، أي ومنهم قوم سماعون لأدائه إلى اختصاص ما عدد من القبائح وما يترتب عليها من الغوائل الدنيوية والأخروية بهم، على أنه قد قرىء- سماعين- بالنصب على الذم وهو ظاهر في أرجحية العطف، فالوجه ذلك، واللام للتقوية كما في قوله تعالى: فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ [هود: 107، البروج: 16] وقيل: لتضمين السماع معنى القبول أي قابلون لما يفتريه الأحبار من الكذب على الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام وتحريف كتابه، واعترضه الشهاب بأن هذا يقتضي أنه إنما فسر بالقبول ليعديه اللام. وقد قال الزجاج: يقال: لا تسمع من فلان أي لا تقبل، ومنه سمع الله لمن حمده أي تقبل منه حمده، وكلام الجوهري يخالفه أيضا، ويقتضي أنه ليس مبنيا على التضمين، وقال عصام الملة: إن القبول أيضا متعد بنفسه ففي القاموس: قبله- كعمله- وتقبله بمعنى أخذه، نعم يتعدى السماع بمعنى القبول باللام بمعنى من، كما في- سمع الله لمن حمده- أي قبل الله تعالى ممن حمده، لكن هذه اللام تدخل على المسموع منه لا المسموع. وجوز أن تكون اللام للعلة، والمفعول محذوف أي سماعون كلامك ليكذبوا عليك فيه بأن يمسخوه بالزيادة والنقصان والتبديل والتغيير، أو كلام الناس الدائر فيما بينهم ليكذبوا بأن يرجفوا بقتل المؤمنين وانكسار سراياهم، أو نحو ذلك مما فيه ضرر بهم، وأيا ما كان فالجملة مستأنفة جارية- على ما قيل- مجرى التعليل للنهي، أو مسوقة لمجرد الذم كما يقتضيه قراءة النصب، وقوله تعالى شأنه: سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ خبر ثان للمبتدأ المقدر للأول، ومبين لما هو المراد بالكذب على تقدير التقوية والتضمين، واللام هنا مثلها في- سمع الله لمن حمده- والمعنى مبالغون في قبول كلام قوم آخرين، واختاره شيخ الإسلام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 305 وجوز كونها لام التعليل أي سماعون كلامه صلّى الله عليه وسلّم الصادر منه ليكذبوا عليه لأجل قوم آخرين، والمراد أنهم عيون عليه عليه الصلاة والسلام لأولئك القوم، وروي ذلك عن الحسن والزجاج واختاره أبو علي الجبائي، وليس في النظم ما يأباه ولا بعد فيه، نعم ما قيل: من أنه يجوز أن تتعلق اللام بالكذب على أن سَمَّاعُونَ الثاني مكرر للتأكيد بمعنى سماعون ليكذبوا لقوم آخرين بعيد، وآخَرِينَ صفة لِقَوْمٍ وجملة لَمْ يَأْتُوكَ صفة أخرى، والمعنى لم يحضروا عندك، وقيل: هو كناية عن أنهم لم يقدروا أن ينظروا إليك، وفيه دلالة على شدة بغضهم له صلّى الله عليه وسلّم، وفرط عداوتهم، واحتمال كونها صفة سَمَّاعُونَ أي سَمَّاعُونَ لم يقصدوك بالإتيان بل قصدوا السماع للإنهاء إلى قوم آخرين مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، وقوله سبحانه وتعالى: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ صفة أخرى لِقَوْمٍ وصفوا أولا بمغايرتهم للسماعين تنبيها على استقلالهم وأصالتهم في الرأي، ثم بعدم حضورهم مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إيذانا بكمال طغيانهم في الضلال، أو بعدم قدرتهم على النظر إليه عليه الصلاة والسلام إيذانا بما تقدم ثم باستمرارهم على التحريف بيانا لإفراطهم في العتو والمكابرة والاجتراء على الله تعالى، وتعيينا للكذب الذي سمعه السماعون على بعض الوجوه كما هو الظاهر، وقيل: الجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب ناعية عليهم شنائعهم، وقيل: خبر مبتدأ محذوف راجع إلى القوم، وقيل: إلى الفريقين، والمعنى يميلون ويزيلون التوراة، أو كلام الرسول صلّى الله عليه وسلّم أو كليهما أو مطلق الكلم في قول عن المواضع التي وضع ذلك فيها إما لفظا بإهماله، أو تغيير وضعه، وإما معنى بحمله على غير المراد وإجرائه في غير مورده. ومن هنا يعلم توجيه قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ دون عن مواضعه، وقال عصام الملة: إن إدراج لفظ بَعْدِ للتنبيه على تنزيل الكلم منزلة هي أدنى مما وضعت فيه لأنه إبطال النافع بالضار لا بالنافع أو الأنفع، فكأن المحرف واقف في موضع هو أدنى من موضع الكلمة يحرفها إلى موضعه، ولا يخفى بعده، وقال بعضهم: إن مِنَ للابتداء، ولفظ بَعْدِ للإشارة إلى أن التحريف مما بعد إلى موضع أبعد، وفيه من المبالغة في التشنيع ما لا يخفى، وقرأ إبراهيم- يحرفون الكلام (1) عن مواضعه- وقوله سبحانه وتعالى: يَقُولُونَ كالجملة السابقة في الوجوه، ويجوز أن تكون حالا من ضمير يُحَرِّفُونَ وجوز كونها كالتي قبلها صفة- لسماعون- أو حالا من الضمير فيه، وتعقبه شيخ الإسلام بأنه مما لا سبيل إليه أصلا كيف لا وأن مقول القول ناطق بأن قائله ممن لا يحضر مجلس الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمخاطب به ممن يحضره، فكيف يمكن أن يقوله السماعون المترددون إليه عليه الصلاة والسلام لمن لا يحوم حول حضرته قطعا، وادعاء قول السماعين لأعقابهم المخالطين للمسلمين تعسف ظاهر مخل بجزالة النظم الكريم، فالحق الذي لا محيد عنه- وعليه درج غالب المفسرين- أن المحرفين والقائلين هم القوم الآخرون أي يقولون لأتباعهم السماعين لهم إِنْ أُوتِيتُمْ من جهة الرسول صلّى الله عليه وسلّم كما هو الظاهر هذا فَخُذُوهُ واعملوا بموجبه فإنه موافق للحق وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ من جهته بل أوتيتم غيره فَاحْذَرُوا قبوله وإياكم وإياه، أو فاحذروا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفي ترتيب الأمر بالحذر على مجرد عدم إيتاء المحرف من المبالغة والتحذير ما لا يخفى، أخرج أحمد وأبو داود وابن جرير وغيرهم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: إن طائفتين من اليهود قهرت إحداهما الأخرى في الجاهلية حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق، فكانوا على ذلك حتى قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة فذلت الطائفتان كلتاهما لمقدم رسول الله   (1) قوله: «عن مواضعه» كذا بخط مؤلفه وحرر قراءة إبراهيم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 306 صلّى الله عليه وسلّم ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ لم يظهر عليهم، فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا، وأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا إلينا بمائة وسق، فقالت الذليلة: وهل كان هذا في حيين قط دينهما واحد ونسبهما واحد وبلدهما واحد ودية بعضهم نصف دية بعض إنما أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا وقوة منكم، فأما إذ قدم محمد صلّى الله عليه وسلّم فلا نعطيكم ذلك، فكادت الحرب تهيج بينهما ثم ارتضوا على أن جعلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينهما ففكرت العزيزة فقال: والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم ولقد صدقوا ما أعطونا هذا إلا ضيما وقهرا لهم، فدسوا إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم من يخبر لكم رأيه فإن أعطاكم ما تريدون حكمتموه وإن لم يعطكموه حذرتموه فلم تحكموه، فدسوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ناسا من المنافقين ليختبروا لهم رأي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما جاؤوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخبر الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام بأمرهم كله وماذا أرادوا فأنزل يا أَيُّهَا الرَّسُولُ الآية، وعلى هذا يكون أمر التحريف غير ظاهر الدخول في القصة. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن أحبار يهود اجتمعوا في بيت المدارس حين قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة- وقد زنى رجل بعد إحصانه بامرأة من يهود وقد أحصنت- فقالوا: ابعثوا بهذا الرجل وبهذه المرأة إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم فاسألوه كيف الحكم فيهما وولوه الحكم فيهما، فإن عمل فيهما عملكم من التجبية- وهي الجلد بحبل من ليف مطلي بقار- ثم تسود وجوههما، ثم يحملان على حمارين وجوههما من قبل دبر الحمار فاتبعوه، فإنما هو ملك سيد قوم وإن حكم فيهما بغيره فإنه نبي فاحذروه على ما في أيديكم أن يسلبكم إياه، فأتوه فقالوا: يا محمد هذا رجل قد زنى بعد إحصانه بامرأة قد أحصنت فاحكم فيهما فقد وليناك الحكم فيهما، فمشى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أتى أحبارهم في بيت المدارس فقال: يا معشر يهود اخرجوا إلى علمائكم فأخرجوا إليه عبد الله بن صوريا وأبا ياسر بن أخطب ووهب بن يهود، فقالوا: هؤلاء علماؤنا، فسألهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم حصل أمرهم إلى أن قالوا لعبد الله بن صوريا: هذا أعلم من بقي بالتوراة، فخلا به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- وكان غلاما شابا من أحدثهم سنا- فألظ به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسألة يقول: يا ابن صوريا أنشدك الله تعالى وأذكرك أيامه عند بني إسرائيل هل تعلم أن الله تعالى حكم فيمن زنى بعد إحصانه بالرجم في التوراة؟ فقال: اللهم نعم، أما والله يا أبا القاسم إنهم ليعرفون أنك نبي مرسل ولكنهم يحسدونك، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمر بهما فرجما عند باب مسجده ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا وجحد نبوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الرَّسُولُ إلخ. وأخرج الحميدي في مسنده وأبو داود وابن ماجة عن جابر بن عبد الله أنه قال: «زنى رجل من أهل فدك فكتبوا إلى ناس من اليهود بالمدينة أن سلوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك فإن أمركم بالجلد فخذوه عنه وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه عنه، فسألوه عن ذلك فقال: أرسلوا إلى أعلم رجلين منكم، فجاؤوا برجل أعور يقال له ابن صوريا وآخر، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لهما: أليس عندكما التوراة فيها حكم الله تعالى؟ قالا: بلى، قال: فأنشدكم بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وظلل عليكم الغمام ونجاكم من آل فرعون وأنزل التوراة على موسى عليه السلام وأنزل المنّ والسلوى على بني إسرائيل ما تجدون في التوراة في شأن الرجم، فقال أحدهما للآخر: ما أنشدت بمثله قط قالا: نجد ترداد النظر ريبة والاعتناق ريبة والقبل ريبة، فإذا شهد أربعة أنهم رأوه بيدي ويعيد كما يدخل الميل في المكحلة فقد وجب الرجم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم فهو كذلك فأمر به فرجم. وفي جريان الإحصان الشرعي الموجب للرجم في الكافر ما هو مذكور في الفروع، ولعل هذا عند من يشترط الإسلام- كالإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه- كان على اعتبار شريعة موسى عليه الصلاة والسلام، أو كان قبل نزول الجزية فليتدبر وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ أي عذابه كما روي عن الحسن وقتادة، واختاره الجبائي وأبو مسلم، أو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 307 إهلاكه كما روي عن السدي والضحاك، أو خزيه وفضيحته بإظهار ما ينطوي عليه كما نقل عن الزجاج، أو اختياره بما يبتليه به من القيام بحدوده فيدفع ذلك ويحرفه- كما قيل- وليس بشيء، والمراد العموم ويندرج فيه المذكورون اندراجا أوليا، وعدم التصريح بكونهم كذلك للإشعار بظهوره واستغنائه عن الذكر فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ فلن تستطيع له مِنَ اللَّهِ شَيْئاً في دفع تلك الفتنة، والفاء جوابية، ومِنَ اللَّهِ متعلق- بتملك- أو بمحذوف وقع حالا من شَيْئاً لأنه صفته في الأصل أي شيئا كائنا من لطف الله تعالى، أو بدل الله عز اسمه، وشَيْئاً مفعول به- لتملك- وجوز بعض المعربين أن يكون مفعولا مطلقا. والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها، أو مبينة لعدم انفكاك أولئك عن القبائح المذكورة أبدا أُولئِكَ أي المذكورون من المنافقين واليهود، وما في اسم الإشارة من معنى البعد لما مرت الإشارة إليه مرارا، وهو مبتدأ خبره قوله سبحانه: الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ من رجس الكفر وخبث الضلالة، والجملة استئنافية مبينة لكون إرادته تعالى لفتنتهم منوطة بسوء اختيارهم المقتضي لها لا واقعة منه سبحانه ابتداء، وفيها- كالتي قبلها على أحد التفاسير- دليل على فساد قول المعتزلة: إن الشرور ليست بإرادة الله تعالى وإنما هي من العباد، وقول بعضهم: إن المراد لم يرد تطهير قلوبهم من الغموم بالذم والاستخفاف والعقاب، أو لم يرد أن يطهرها من الكفر بالحكم عليها بأنها بريئة منه ممدوحة بالإيمان- كما قال البلخي- لا يقدم عليه من له أدنى ذوق بأساليب الكلام. ومن العجيب أن الزمخشري لما رأى ما ذكر خلاف مذهبه قال: معنى- من يرد الله فتنته- من يرد تركه مفتونا وخذلانه فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً فلن تستطيع له من لطف الله تعالى وتوفيقه شيئا، ومعنى لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لم يرد أن يمنحهم من ألطافه ما يطهر به قلوبهم لأنهم ليسوا من أهلها لعلمه أن ذلك لا ينجع فيهم ولا ينفع انتهى. وقد تعقبه ابن المنير بقوله: كم يتلجلج والحق أبلج، هذه الآية كما تراها منطبقة على عقيدة أهل السنة في أن الله تعالى أراد الفتنة من المفتونين ولم يرد أن يطهر قلوبهم من دنس الفتنة ووضر الكفر، لا كما تزعم المعتزلة من أن الله تعالى ما أراد الفتنة من أحد، وأراد من كل أحد الإيمان وطهارة القلب، وأن الواقع من الفتن على خلاف إرادته سبحانه وأن غير الواقع من طهارة قلوب الكفار مراد ولكن لم يقع، فحسبهم هذه الآية وأمثالها لو أراد الله تعالى أن يطهر قلوبهم من وضر البدع أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد: 24] ، وما أشنع صرف الزمخشري هذه الآية عن ظاهرها بقوله: لم يرد الله تعالى أن يمنحهم ألطافه لعلمه أن ألطافه لا تنجح تعالى الله سبحانه عما يقول الظالمون، وإذا لم تنجع ألطاف الله تعالى ولم تنفع، فلطف من ينفع؟! وإرادة من تنجع؟! وليس وراء الله للعبد مطمع انتهى، وتفصيهم عن ذلك عسير لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ أما المنافقون فخذيهم فضيحتهم وهتك سترهم بظهور نفاقهم بين المسلمين، وازدياد غمهم بمزيد انتشار الإسلام وقوة شوكته وعلو كلمته، وأما خزي اليهود فالذل والجزية والافتضاح بظهور كذبهم في كتمان نص التوراة. وإجلاء بني النضير من ديارهم، وتنكير خِزْيٌ للتفخيم وهو مبتدأ ولَهُمْ خبره، وفِي الدُّنْيا متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار، والجملة استئناف مبني على سؤال نشأ من أحوالهم الموجبة للعقاب، كأنه قيل: فما لهم على ذلك من العقوبة؟ فقيل: لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وكذا الحال في قوله تعالى: وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ أي مع الخزي الدنيوي عَذابٌ عَظِيمٌ لا يقادر قدره وهو الخلود في النار مع أعد لهم فيها، وضمير لَهُمْ في الجملتين- لأولئك- من المنافقين واليهود جميعا، وقيل: لليهود خاصة، وقيل: لَهُمْ إن استأنفت بقوله سبحانه: وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا وإلا فللفريقين، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 308 والتكرير مع اتحاد المرجع لزيادة التقرير والتأكيد، ولذلك كرر قوله سبحانه: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ، وقيل: إن الظاهر أنه تعليل لقوله تعالى: لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ إلخ. أو توطئة لما بعده، أو المراد بالكذب هنا الدعوى الباطلة وفيما مر ما يفتريه الأحبار، ويؤيده الفصل بينهما. أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ أي الحرام من سحته إذا استأصلته، وسمي الحرام سحتا- عند الزجاج- لأنه يعقب عذاب الاستئصال والبوار، وقال الجبائي: لأنه لا بركة فيه لأهله فيهلك هلاك الاستئصال غالبا، وقال الخليل: لأن في طريق كسبه عارا فهو يسحت مروءة الإنسان، والمراد به هنا- على المشهور- الرشوة في الحكم، وروي ذلك عن ابن عباس والحسن. وأخرج عبد بن حميد وغيره عن ابن عمر قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به، قيل: يا رسول الله وما السحت؟ قال: الرشوة في الحكم» وأخرج عبد الرزاق عن جابر بن عبد الله قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هدايا الأمراء سحت» وأخرج ابن المنذر عن مسروق قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: أرأيت الرشوة في الحكم أمن السحت هي؟ قال: لا، ولكن كفر، إنما السحت أن يكون للرجل عند السلطان جاه ومنزلة، ويكون للآخر إلى السلطان حاجة فلا يقضي حاجته حتى يهدي إليه هدية، وأخرج عبد بن حميد عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه سئل عن السحت فقال: الرشا، فقيل له في الحكم، قال: ذاك الكفر، وأخرج البيهقي في سننه عن ابن مسعود نحو ذلك، وأخرج ابن مردويه والديلمي عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ست خصال من السحت: رشوة الإمام- وهي أخبث ذلك كله- وثمن الكلب وعسب الفحل ومهر البغي وكسب الحجام وحلوان الكاهن» ، وعدّ ابن عباس رضي الله تعالى عنه في رواية ابن منصور والبيهقي عنه أشياء أخر. قيل: ولعظم أمر الرشوة اقتصر عليها من اقتصر، وجاء من طرق عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «أنه لعن الراشي والمرتشي والرائش الذي يمشي بينهما» . ولتفاقم الأمر في هذه الأزمان بالارتشاء صدر الأمر من حضرة مولانا- ظل الله تعالى على الخليقة ومجدد نظام رسوم الشريعة والحقيقة- السلطان العدلي محمود خان لا زال محاطا بأمان الله تعالى- حيثما كان في السنة الرابعة والخمسين بعد الألف والمائتين- بمؤاخذة المرتشي وأخويه على أتم وجه، وحد للهدية حدا لئلا يتوصل بها إلى الارتشاء كما يفعله اليوم كثير من الأمراء، فقد أخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ستكون من بعدي ولاة يستحلون الخمر بالنبيذ، والنجش بالصدقة، والسحت بالهدية، والقتل بالموعظة يقتلون البريء ليوطئوا العامة يملي لهم فيزدادوا إثما» . هذا وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب «السحت» بضمتين، وهما لغتان- كالعنق والعنق. وقرىء «السحت» بفتح السين على لفظ المصدر أريد به المسحوت كالصيد بمعنى المصيد، و «السحت» بفتحتين و «السحت» بكسر السين فَإِنْ جاؤُكَ خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والفاء فصيحة أي إذا كان حالهم كما شرح فَإِنْ جاؤُكَ متحاكمين إليك فيما شجر بينهم من الخصومات فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بما أراك الله تعالى أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ غير مبال بهم ولا مكترث، وهذا كما ترى تخيير له صلّى الله عليه وسلّم بين الأمرين، وهو معارض لقوله تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وتحقيق المقام على ما ذكر الجصاص- في كتاب الأحكام- أن العلماء اختلفوا، فذهب قوم إلى أن التخيير منسوخ بالآية الأخرى، وروي ذلك عن ابن عباس، وإليه ذهب أكثر السلف: قالوا: إنه صلّى الله عليه وسلّم كان أولا مخيرا، ثم أمر عليه الصلاة والسلام بإجراء الأحكام عليهم، ومثله لا يقال من قبل الرأي، وقيل: إن هذه الآية فيمن لم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 309 يعقد له ذمة، والأخرى في أهل الذمة فلا نسخ، وأثبته بعضهم بمعنى التخصيص لأن من أخذت منه الجزية تجري عليه أحكام الإسلام، وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أيضا. وقال أصحابنا: أهل الذمة محمولون على أحكام الإسلام في البيوع والمواريث وسائر العقود إلا في بيع الخمر والخنزير فإنهم يقرون عليه، ويمنعون من الزنا كالمسلمين فإنهم نهوا عنه، ولا يرجمون لأنهم غير محصنين، وخبر الرجم السابق سبق توجيهه، واختلف في مناكحتهم، فقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: يقرون عليها، وخالفه- في بعض ذلك- محمد وزفر، وليس لنا عليهم اعتراض قبل التراضي بأحكامنا، فمتى تراضوا بها وترافعوا إلينا وجب إجراء الأحكام عليهم، وتمام التفصيل في الفروع وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ بيان لحال الأمرين بعد تخييره صلّى الله عليه وسلّم بينهما، وتقديم حال الإعراض للمسارعة إلى بيان أنه لا ضرر فيه حيث كان مظنة لترتب العداوة المقتضية للتصدي للضرر، فمآل المعنى إن تعرض عنهم ولم تحكم بينهم فعادوك وقصدوا ضررك فَلَنْ يَضُرُّوكَ بسبب ذلك شَيْئاً من الضرر فإن الله تعالى يحفظك من ضررهم وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أي بالعدل الذي أمرت به، وهو ما تضمنه القرآن واشتملت عليه شريعة الإسلام، وما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه من أنه قال:- لو ثنيت لي الوسادة لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم وأهل الإنجيل بإنجيلهم- إن صح يراد منه لازم المعنى إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أي العادلين فيحفظهم عن كل مكروه ويعظم شأنهم وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ تعجيب من تحكيمهم من لا يؤمنون به، والحال أن الحكم منصوص عليه في كتابهم الذي يدعون الإيمان به، وتنبيه على أن ذلك التحكيم لم يكن لمعرفة الحق وإنما هو لطلب الأهون، وإن لم يكن ذلك حكم الله تعالى بزعمهم فقوله سبحانه: وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ حال من فاعل يُحَكِّمُونَكَ، وقوله تعالى: فِيها حُكْمُ اللَّهِ حال من التوراة إن جعلت مرتفعة بالظرف وكون ذلك ضعيفا لعدم اعتماد الظرف سهو لأنه معتمد- كما قال السمين- على ذي الحال لكن قال: جعل التوراة- مرفوعا بالظرف المصدر بالواو- محل نظر، ولعل وجهه أنها تجعله جملة مستقلة غير معتمدة، أو أنه لا يقرن بالواو، وإن جعلت مبتدأ فهو حال من ضميرها المستكن في الخبر لأنه لا يصح مجيء الحال من المبتدأ عن سيبويه. وقيل: استئناف مسوق لبيان أن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم، وأنثت التوراة معاملة لها- بعد التعريب- معاملة الأسماء العربية الموازنة لها- كموماة ودوداة- ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ عطف على يُحَكِّمُونَكَ داخل في حكم التعجيب لأن التحكيم مع وجود ما فيه الحق المغني عن التحكيم، وإن كان محلا للتعجب والاستبعاد لكن مع الإعراض عن ذلك أعجب، وثُمَّ للتراخي في الرتبة، وجوز الأجهوري كون الجملة مستأنفة غير داخلة في حكم التعجيب أي ثم هم يتولون أي عادتهم فيما إذا وضح لهم الحق أن يعرضوا ويتولوا، والأول أولى، وقوله سبحانه: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد أن يحكموك تصريح بما علم لتأكيد الاستبعاد والتعجب، وقوله عز وجل: وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ تذييل مقرر لفحوى ما قبله، ووضع اسم الإشارة موضع ضميرهم قصدا إلى إحضارهم في الذهن بما وصفوا به من القبائح إيماء إلى علة الحكم مع الإشارة إلى أنهم قد تميزوا بذلك عن غيرهم أكمل تميز حتى انتظموا في سلك الأمور المشاهدة، أي وَما أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر بِالْمُؤْمِنِينَ بكتابهم لإعراضهم عنه المنبئ عن عدم الرضا القلبي به أولا وعن حكمك الموافق له ثانيا، أو بك وبه، وقيل: هذا إخبار منه تعالى عن أولئك اليهود أنهم لا يؤمنون بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وبحكمه أصلا. وقيل: المعنى- وما أولئك بالكاملين في الإيمان- تهكما بهم إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ كلام مستأنف سيق لتقرير مزيد فظاعة حال أولئك اليهود ببيان علو شأن التوراة على أتم وجه فِيها هُدىً أي إرشاد للناس إلى الحق وَنُورٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 310 أي ضياء يكشف به ما تشابه عليهم وأظلم- قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه-. وقال الزجاج: فِيها هُدىً أي بيان للحكم الذي جاؤوا يستفتون فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم وَنُورٌ أي بيان أن أمر النبي عليه الصلاة والسلام حق، ولعل تعميم المهدي إليه كما في كلام ابن عباس أولى، ويندرج فيه اندراجا أوليا ما ذكره الزجاج من الحكم، وإطلاق النور على ما في التوراة مجاز، ولعل إطلاقه على ذلك دون إطلاقه على القرآن بناء على أن النور مقول بالتشكيك، وقد يقال: إن إطلاقه على ما به بيان أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم- بناء على ما قال الزجاج- باعتبار كون الأمر المبين متعلقا بأول الأنوار الذي لولاه ما خلق الفلك الدوار صلّى الله عليه وسلّم، وحينئذ يكون الفرق بين الإطلاقين مثل الصبح ظاهرا، والظرف خبر مقدم، وهُدىً مبتدأ، والجملة حال من التَّوْراةَ أي كائنا فيها ذلك، وكذا جملة يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ في قول إلا أنها حال مقدرة، والأكثرون على أنها مستأنفة مبينة لرفعة رتبة التوراة وسمو طبقتها، والمراد من النبيين من كان منهم من لدن موسى إلى عيسى عليهما الصلاة والسلام على ما رواه ابن أبي حاتم عن مقاتل، وكان بين النبيين عليهما السلام ألف نبي. وأخرج ابن جرير عن عكرمة أن المراد بهم نبينا صلّى الله عليه وسلّم ومن قبله من أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام، وعلى هذا بني الاستدلال بالآية من قال: إن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ، وتقديم الجار والمجرور على الفاعل لما مر غير مرة، والمراد يحكم بأحكامها النبيون الَّذِينَ أَسْلَمُوا صفة أجريت على النبيين- كما قيل- على سبيل المدح، والظاهر لهم، ونظر فيه ابن المنير بأن المدح إنما يكون غالبا بالصفات الخاصة التي يتميز بها الممدوح عمن دونه، والإسلام أمر عام يتناول أمم الأنبياء ومتبعيهم كما يتناولهم، ألا ترى أنه لا يحسن في مدح النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقتصر على كونه رجلا مسلما فإن أقل متبعيه كذلك، ثم قال: فالوجه- والله تعالى أعلم- أن الصفة قد تذكر لتعظم في نفسها، ولينوه بها إذا وصف بها عظيم القدر، كما تذكر تنويها بقدر موصوفها، وعلى هذا الأسلوب جرى وصف الأنبياء عليهم السلام بالصلاح في غير ما آية تنويها بمقدار الصلاح إذ جعل صفة للأنبياء عليهم السلام، وبعثا لآحاد الناس على الدأب في تحصيل صفته، وكذلك قيل في قوله تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر: 7] ، فأخبر سبحانه عن الملائكة المقربين بالإيمان تعظيما لقدره، وبعثا للبشر على الدخول فيه ليساووا الملائكة المقربين في هذه الصفة، وإلا فمن المعلوم أن الملائكة مؤمنون ليس إلا، كيف لا؟! وهم- عند ربهم- كما في الخبر، ثم قال جل وعلا: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا يعني من البشر لثبوت حق الأخوة في الإيمان بين القبيلتين، فلذلك- والله تعالى أعلم- جرى وصف الأنبياء في هذه الآية بالإسلام تنويها به، ولقد أحسن القائل: أوصاف الأشراف أشراف الأوصاف، وحسان الناظم في مدحه عليه الصلاة والسلام بقوله: ما إن مدحت محمدا بمقالتي ... لكن مدحت مقالتي بمحمد والإسلام- وإن كان من أشرف الأوصاف، إذ حاصله معرفة الله تعالى بما يجب له ويستحيل عليه ويجوز في حكمه- إلا أن النبوة أشرف وأجل لاشتمالها على عموم الإسلام مع خواص المواهب التي لا تسعها العبارة فلو لم نذهب إلى الفائدة المذكورة في ذكر الإسلام بعد النبوة لخرجنا عن قانون البلاغة المألوف في الكتاب العزيز وفي كلام العرب الفصيح، وهو الترقي من الأدنى إلى الأعلى لا النزول على العكس، ألا ترى أن أبا الطيب كيف تزحزح عن هذا المهيع في قوله: شمس ضحاها هلال ليلتها ... در مقاصيرها زبرجدها فنزل عن الشمس إلى الهلال، وعن الدر إلى الزبرجد فمضغت الألسن عرض بلاغته ومزقت أديم صنعته؟ فعلينا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 311 أن نتدبر الآيات المعجزات حتى يتعلق فهمنا بأهداب علوها في البلاغة المعهودة لها، والله تعالى الموفق للصواب انتهى. وفي المفتاح: والتخليص إشارة إلى ما ذكره، وإيراد الطيبي عليه ما أورده غير طيب، نعم قد يقال: إن القائل بكونها مادحة لمن جرت عليه نفسه قد يدعي أن ذلك مما لا بأس به إذا قصد مع المدح فوائد أخر كالتنويه بعلو مرتبة المسلمين هنا والتعريض باليهود بأنهم بمعزل عن الإسلام، على أنه قد ورد في الفصيح- بل في الأفصح- ذكر غير الأبلغ بعد الأبلغ من الصفات، ومن ذلك الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة: 1 وغيرها] حيث كان متضمنا نكتة، وقال عصام الملة: إن الإسلام للنبي كمال المدح لأن الانقياد من المقتدي للخلائق التي لا تحصى وصف لا وصف فوقه، ويمكن أن يكون الوصف به هنا إشعارا بمنشأ الحكم ليحافظ عليه الأمة ولا يخرم، ولا يتوهم أن الحكم للنبوة، فغير النبي صلّى الله عليه وسلّم خارج عن هذا المسلك انتهى، وفيه تأمل، إذ الترقي من الأدنى إلى الأعلى لم يظهر بعد، ونهاية الأمر الرجوع إلى نحو ما تقدم فافهم لِلَّذِينَ هادُوا أي تابوا من الكفر- كما قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه- والمراد بهم اليهود- كما قال الحسن- والجار إما متعلق- بيحكم- أي يحكمون فيما بينهم، واللام إما لبيان اختصاص الحكم بهم أعم من أن يكون لهم أو عليهم، كأنه قيل: لأجل الذين هادوا، وإما للإيذان بنفعه للمحكوم عليه أيضا بإسقاط التبعة عنه، وإما للإشعار بكمال رضاهم به وانقيادهم له كأنه أمر نافع لكلا الفريقين ففيه تعريض بالمحرفين، وقيل: من باب سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] وإما متعلق- بأنزلنا- ولعل الفاصل ليس بالأجنبي ليضر، وقيل: بأنزل على صيغة المبني للمفعول، وحذف لدلالة الكلام عليه، وتكون الجملة حينئذ معترضة، وعلى هذا تكون الآية نصا في تخصيص النبيين بأنبياء بني إسرائيل لأنه لا يلزم من إنزالها لهم اختصاصها بهم، وقيل: الجار متعلق- بهدى ونور- وفيه فصل بين المصدر ومعموله، وقيل: متعلق بمحذوف وقع صفة لهما أي هُدىً وَنُورٌ كائنان لهما، وكلام الزجاج يحتمل هذا وما قبله وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ أي العباد والعلماء قاله قتادة، وقال مجاهد: الرَّبَّانِيُّونَ العلماء الفقهاء وهم فوق الأحبار، وعن ابن زيد الرَّبَّانِيُّونَ الولاة، وَالْأَحْبارُ العلماء، والواحد: حبر بالفتح والكسر، قال الفراء: وأكثر ما سمعت فيه الكسر، وهو مأخوذ من التحبير والتحسين، فإن العلماء يحبرون العلم ويزينونه ويبينونه، ومن ذلك الحبر- بكسر الحاء لا غير- لما يكتب به، وهذا عطف على «النبيون» أي هم أيضا يحكمون بأحكامها، وتوسيط المحكوم لهم- كما قال شيخ الإسلام- بين المتعاطفين للإيذان بأن الأصل في الحكم بها، وحمل الناس على ما فيها هم النبيون، وإنما الربانيون والأحبار خلفاء ونواب لهم في ذلك كما ينبئ عنه قوله تعالى: بِمَا اسْتُحْفِظُوا أي بالذي استحفظوه من جهة النبيين وهو التوراة حيث سألوهم أن يحفظوها من التغيير والتبديل على الإطلاق، ولا ريب في أن ذلك منهم عليهم السلام مشعر باستخلافهم في إجراء أحكامها من غير إخلال بشيء منها، والجار متعلق «بيحكم» ، وما موصولة، وضمير الجمع عائد إلى الربانيين والأحبار، وقوله تعالى: مِنْ كِتابِ اللَّهِ بيان- لما- وفي الإبهام والبيان بذلك ما لا يخفى من تفخيم أمر التوراة ذاتا وإضافة، وفيه أيضا تأكيد إيجاب حفظها والعمل بما فيها، والباء الداخلة على الموصول سببية فلا يلزم تعلق حرفي جر متحدي المعنى بفعل واحد أي ويحكم الربانيون والأحبار أيضا بالتوراة بسبب ما حفظوه مِنْ كِتابِ اللَّهِ حسبما وصاهم به أنبياؤهم وسألوهم أن يحفظوه، وليس المراد بسببيته لحكمهم ذلك سببيته من حيث الذات بل من حيث كونه محفوظا، فإن تعليق حكمهم بالموصول مشعر بسببية الحفظ المترتب لا محالة على ما في حيز الصلة من الاستحفاظ له، وتوهم بعضهم أن ما بمعنى أمر، ومِنْ لتبيين مفعول محذوف- لاستحفظوا- والتقدير بسبب أمر اسْتُحْفِظُوا به الجزء: 3 ¦ الصفحة: 312 شيئا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وهو مما لا ينبغي أن يخرج عليه كتاب الله تعالى، وقيل: الأولى أن تجعل ما مصدرية ليستغني عن تقدير العائد، وحينئذ لا يتأتى القول بأن مِنْ بيان لها، ومن الناس من جوز كون بِمَا بدلا من بها، وأعيد الجار لطول الفصل وهو جائز أيضا وإن لم يطل، ومنهم من أرجع الضمير المرفوع للنبيين ومن عطف عليهم، فالمستحفظ حينئذ هو الله تعالى، وحديث الأنباء لا يتأتى إذ ذاك، وقيل: إن الرَّبَّانِيُّونَ فاعل بفعل محذوف، والباء صلة له، والجملة معطوفة على ما قبلها، أي ويحكم الربانيون والأحبار بحكم كتاب الله تعالى الذي سألهم أنبياؤهم أن يحفظوه من التغيير وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ عطف على اسْتُحْفِظُوا ومعنى شُهَداءَ رقباء يحمونه من أن يحوم حول حماه التغيير والتبديل بوجه من الوجوه، أو شُهَداءَ عليه أنه حق. ورجح على الأول بأنه يلزم عليه أن يكون الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ رقباء على أنفسهم لا يتركونها أن تغير وتحرف التوراة لأن المحرف لا يكون إلا منهم لا من العامة، وهو كما ترى ليس فيه مزيد معنى، وإرجاع ضمير كانُوا للنبيين مما لا يكاد يجوز، وقيل: عطف على يَحْكُمُ المحذوف المراد منه حكاية الحال الماضية أي حكم الربانيون والأحبار بكتاب الله تعالى. وكانوا شهداء عليه، ويجوز على هذا- بلا خفاء- أن تكون الشهادة مستعارة للبيان أي مبينين ما يخفى منه، وأمر التعدي بعلى سهل، ولعل المراد به شيء وراء الحكم، وقيل: الضمير المرفوع هنا كسابقه عائد على النبيين وما عطف عليه، والعطف إما على اسْتُحْفِظُوا أو على يَحْكُمُ وتوهم عبارة البعض- حيث قال وبسبب كونهم شهداء- أن العطف على- ما- الموصولة فيؤوّل كانُوا بالمصدر، وكأن المقصود منه تلخيص المعنى لكون ما ذكر ضعيفا فيما لا يكون المعطوف عليه حدثا، وأما العطف على كتاب الله بتقدير حرف مصدري ليكون المعطوف داخلا تحت الطلب فكما ترى، وإرجاع ضمير عَلَيْهِ إلى حكم النبي صلّى الله عليه وسلّم بالرجم كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه مما تأباه العربية في بعض الاحتمالات، وهو وإن جاز عربية في البعض الآخر لكنه خلاف الظاهر ولا قرينة عليه، ولعل مراد الحبر بيان بعض ما تضمنه الكتاب الذي هم شهداء عليه، وبالجملة احتمالات هذه الآية كثيرة فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ خطاب لرؤساء اليهود وعلمائهم بطريق الالتفات كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه والسدي والكلبي، ويتناول النهي غير أولئك المخاطبين بطريق الدلالة، والفاء لجواب شرط محذوف أي إذا كان الشأن كما ذكر يا أيها الأحبار فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ كائنا من كان، واقتدوا في مراعاة أحكام التوراة وحفظها بمن قبلكم من النبيين والربانيين والأحبار، ولا تعدلوا عن ذلك ولا تحرفوا خشية من أحد وَاخْشَوْنِ في ترك أمري فإن النفع والضر بيدي، أو في الإخلال بحقوق مراعاتها فضلا عن التعرض لها بسوء وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي أي لا تستبدلوا بآياتي التي فيها بأن تخرجوها منها أو تتركوا العمل بها وتأخذوا لأنفسكم ثَمَناً قَلِيلًا من الرشوة والجاه وسائر الحظوظ الدنيوية، فإنه وإن جلت قليلة مسترذلة في نفسها لا سيما بالنسبة إلى ما يفوتهم بمخالفة الأمر، وذهب الحسن البصري إلى أن الخطاب للمسلمين وهو الذي ينبئ عنه كلام الشعبي. وعن ابن مسعود- وهو الوجه كما في الكشف- أنه عام، والفاء على الوجهين فصيحة أي وحين عرفتم ما كان عليه النبيون والأحبار، وما تواطأ عليه الخلوف من أمر التحريف والتبديل للرشوة والخشية، فلا تخشوا الناس ولا تكونوا أمثال هؤلاء الخالفين، والذي يقتضيه كلام بعض أئمة العربية أنها على الوجه فصيحة أيضا، وقد تقدم الكلام على مثل هذا التركيب فتذكر وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ من الأحكام فَأُولئِكَ إشارة إلى مِنْ والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد في سابقه باعتبار لفظها، وهو مبتدأ خبره جملة قوله سبحانه: هُمُ الْكافِرُونَ ويجوز أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 313 يكون هُمُ ضمير فصل، والْكافِرُونَ هو الخبر، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها أبلغ تقرير وتحذير عن الإخلال به أشد تحذير، واحتجت الخوارج بهذه الآية على أن الفاسق كافر غير مؤمن، ووجه الاستدلال بها أن كلمة مِنْ فيها عامة شاملة لكل من لم يحكم بما أنزل الله تعالى، فيدخل الفاسد المصدق أيضا لأنه غير حاكم وعامل بما أنزل الله تعالى، وأجيب بأن الآية متروكة الظاهر، فإن الحكم وإن كان شاملا لفعل القلب والجوارح لكن المراد به هنا عمل القلب وهو التصديق، ولا نزاع في كفر من لم يصدق بما أنزل الله تعالى، وأيضا إن المراد عموم النفي بحمل ما على الجنس، ولا شك أن من لم يحكم بشيء مما أنزل الله تعالى لا يكون إلا غير مصدق ولا نزاع في كفره، وأيضا أخرج ابن منصور وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إنما أنزل الله تعالى- ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون والظالمون والفاسقون- في اليهود خاصة، وأخرج ابن جرير عن أبي صالح قال: الثلاث الآيات التي في المائدة وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ إلخ ليس في أهل الإسلام منها شيء هي في الكفار، وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة وابن جرير عن الضحاك نحو ذلك، ولعل وصفهم بالأوصاف الثلاث باعتبارات مختلفة، فلإنكارهم ذلك وصفوا- بالكافرين- ولوضعهم الحكم في غير موضعه وصفوا- بالظالمين- ولخروجهم عن الحق وصفوا- بالفاسقين- أو أنهم وصفوا بها باعتبار أطوارهم وأحوالهم المنضمة إلى الامتناع عن الحكم، فتارة كانوا على حال تقتضي الكفر، وتارة على أخرى تقتضي الظلم أو الفسق، وأخرج أبو حميد وغيره عن الشعبي أنه قال: الثلاث الآيات التي في المائدة أولها لهذه الأمة والثانية في اليهود والثالثة في النصارى، ويلزم على هذا أن يكون المؤمنون أسوأ حالا من اليهود والنصارى إلا أنه قيل: إن الكفر إذا نسب إلى المؤمنين حمل على التشديد والتغليظ، والكافر إذا وصف بالفسق والظلم أشعر بعتوه وتمرده فيه. ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الكفر الواقع في أولى الثلاث: إنه ليس بالكفر الذي تذهبون إليه إنه ليس كفرا ينقل عن الملة كفر دون كفر، والوجه أن هذا كالخطاب عام لليهود وغيرهم، وهو مخرج مخرج التغليظ، أو يلتزم أحد الجوابين، واختلاف الأوصاف لاختلاف الاعتبارات، والمراد من الأخيرين منها الكفر أيضا عند بعض المحققين، وذلك بحملهما على الفسق والظلم الكاملين، وما أخرجه الحاكم وصححه وعبد الرزاق وابن جرير عن حذيفة رضي الله تعالى عنه- أن الآيات الثلاث ذكرت عنده، فقال رجل: إن هذا في بني إسرائيل، فقال حذيفة: نعم الأخوة لكم بنو إسرائيل إن كان لكم كل حلوة ولهم كل مرة، كلا والله لتسلكن طريقهم قدّ الشراك- يحتمل أن يكون ذلك ميلا منه إلى القول بالعموم، ويحتمل أن يكون كما قيل: ميلا إلى القول بأن ذلك في المسلمين، وروي الأول عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما إلا أنه قال: كفر ليس ككفر الشرك وفسق ليس كفسق الشرك وظلم ليس كظلم الشرك. هذا وقد تكلم بعض العارفين على ما في بعض هذه الآيات من الإشارة فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ أي اتقوه سبحانه بتزكية نفوسكم من الأخلاق الذميمة وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ أي واطلبوا إليه تعالى الزلفى بتحليتها بالأخلاق المرضية وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ بمحو الصفات والفناء في الذات لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لكي تفوزوا بالمطلوب، وقيل: ابتغاء الوسيلة التقرب إليه بما سبق من إحسانه وعظيم رحمته وهو على حد قوله: أيا جود معن ناج معنا بحاجتي ... فليس إلى معن سواه شفيع إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ أي ما في الجهة السفلية جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ الكبرى ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ لأنه سبب زيادة الحجاب والبعد ولا ينجع ثمة إلا ما في الجهة العلوية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 314 من المعارف والحقائق النورية وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ أي المتناول من الأنفس والمتناولة من القوى النفسانية للشهوات التي حرمت عليها فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما أي امنعوهما بحسم قدرتهما بسيف المجاهدة وسكين الرياضة جَزاءً بِما كَسَبا من تناول ما لا يحل تناوله لها نَكالًا أي عقوبة من الله عز وجل سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ووساوس شيطان النفس سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ وهم القوى النفسانية لَمْ يَأْتُوكَ أي ينقادوا لكم، أو سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ يسنون السنن السيئة يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ وهي التعينات الإلهية مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ فيزيلونها عما هي من الدلالة على الوجود الحقاني، أو يغيرون قوانين الشريعة بتمويهات الطبيعة- كمن يؤوّل القرآن والأحاديث على وفق هواه- وليس ما نحن فيه من هذا القبيل كما يزعمه المحجوبون لأن ذلك إنما يكون بإنكار أن يكون الظاهر مرادا لله تعالى، وقصر مراده سبحانه على هذه التأويلات، ونحن نبرأ إلى الله عز وجل من ذلك فإنه كفر صريح، وإنما نقول: المراد هو الظاهر وبه تعبد الله تعالى خلقه لكن فيه إشارة إلى أشياء أخر لا يكاد يحيط بها نطاق الحصر يوشك أن يكون ما ذكر بعضا منها وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً قال ابن عطاء: من يحجبه الله تعالى عن فوائد أوقاته لم يقدر أحد إيصاله إليه أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ أي بالمراقبة والمراعاة، وقال أبو بكر الوراق: طهارة القلب في شيئين: إخراج الحسد والغش، وحسن الظن بجماعة المسلمين أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ وهو ما يأكلونه بدينهم فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ مداويا لدائهم إن رأيت التداوي سببا لشفائهم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ إن تيقنت إعواز الشفاء لشقائهم وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أي داوهم على ما يستحقون ويقتضيه داؤهم، والكلام في باقي الآيات ظاهر والله تعالى الموفق. وَكَتَبْنا عطف على أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ والمعنى قدرنا وفرضنا عَلَيْهِمْ أي على الذين هادوا، وفي مصحف أبيّ وأنزلنا على بني إسرائيل فِيها أي في التوراة، والجار متعلق بكتبنا، وقيل: بمحذوف وقع حالا أي فرضنا هذه الأمور مبينة فيها، وقيل: صفة لمصدر محذوف أي كَتَبْنا كتابة مبينة فِيها. أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ أي مأخوذة أو مقتولة أو مقتصة بها إذا قتلتها بغير حق، ويقدر في كل مما في قوله تعالى: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ ما يناسبه كالفقء والجذع والصلم والقلع، ومنهم من قدر الكون المطلق، وقال: إنه مرادهم أي يستقر أخذها بالعين ونحو ذلك. وقرأ الكسائي: الْعَيْنَ وما عطف عليه بالرفع، ووجهه أبو علي الفارسي بأن الكلام حينئذ جمل معطوفة على جملة أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ لكن من حيث المعنى لا من حيث اللفظ، فإن معنى- كتبنا عليهم أن النفس بالنفس- قلنا لهم: النفس بالنفس، فالجملة مندرجة تحت ما كتب على بني إسرائيل، وجعله ابن عطية على هذا القول من العطف على التوهم وهو غير مقيس، وقيل: إنه محمول على الاستئناف بمعنى أن الجمل اسمية معطوفة على الجملة الفعلية، ويكون هذا ابتداء تشريع وبيان حكم جديد غير مندرج فيما كتب في التوراة، وقيل: إنه مندرج فيه أيضا على هذا، والتقدير وكذلك- العين بالعين- إلخ لتتوافق القراءتان. وقال الخطيب: لا عطف، والاستئناف بمعناه المتبادر منه، والكلام جواب سؤال كأنه قيل: ما حال غير النفس؟ فقال سبحانه: الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ إلخ، وقيل: إن العين وكذا سائر المرفوعات معطوفة على الضمير المرفوع المستتر في الجار والمجرور الواقع خبرا، والجار والمجرور بعدها حال مبينة للمعنى، وضعف هذا بأنه يلزم العطف على الضمير المرفوع المتصل من غير فصل ولا تأكيد، وهو لا يجوز عند البصريين إلا ضرورة. وأجيب بأنه مفصول تقديرا إذ أصله النفس مأخوذة أو مقتصة هي بالنفس إذ الضمير مستتر في المتعلق المقدم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 315 على الجار والمجرور بحسب الأصل وإنما تأخر بعد الحذف وانتقاله إلى الظرف كذا قيل، وهو يقتضي أن الفصل المقدر يكفي للعطف وفيه نظر، ويقدر المتعلق على هذا عاما ليصح العطف إذ لو قدر النفس مقتولة بالنفس والعين لم يستقم المعنى كما لا يخفى فليفهم. واعلم أن النفس في كلامهم إذا أريد منها الإنسان بعينه مذكر، ويقال: ثلاثة أنفس على معنى ثلاثة أشخاص، وإذا أريد بها الروح فهي مؤنثة لا غير، وتصغيرها نفيسة لا غير، والعين بمعنى الجارحة المخصوصة مؤنثة، وإطلاق القول بالتأنيث لا يظهر له وجه إذ لا يصح أن يقال: هذه عين هؤلاء الرجال، وأنت تريد الخيار، والأذن مثلها، والأنف مذكر لا غير، والسن تؤنث ولا تذكر وإن كانت السن من الكبر لكن ذكر ابن الشحنة أن السن تطلق على الضرس والناب، وقد نصوا على أنهما مذكران وكذا الناجذ والضاحك والعارض، ونص ابن عصفور على أن الضرس يجوز فيه الأمران، ونظم ما يجوز فيه ذلك بقوله: وهاك من الأعضاء ما قد عددته ... تؤنث أحيانا وحينا تذكر لسان الفتى والإبط والعنق والقفا ... وعاتقه والمتن والضرس يذكر وعندي الذراع والكراع مع المعى ... وعجز الفتى ثم القريض المحبر كذا كل نحوي حكى في كتابه ... سوى سيبويه وهو فيهم مكبر يرى أن تأنيث الذراع هو الذي ... أتى، وهو للتذكير في ذاك منكر وقد شاع أن ما منه اثنان في البدن كاليد والضلع والرجل مؤنث، وما منه واحد كالرأس والفم والبطن مذكر، وليس ذاك بمطرد فإن الحاجب والصدغ والخد والمرفق والزند كل منها مذكر مع أن في البدن منه اثنين، والكبد والكرش فإنهما مؤنثان وليس منهما في البدن إلا واحد، وتفصيل ما يذكر ولا يؤنث وما يؤنث ولا يذكر من الأعضاء يفضي إلى بسط يد المقال، والكف أولى بمقتضى الحال هذا وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ بالنصب عطف على اسم إن، وقِصاصٌ هو الخبر، ولكونه مصدرا كالقتال، وليس عين المخبر عنه يؤوّل بأحد التأويلات المعروفة في أمثاله، والكسائي كما قرأ بالرفع فيما قبل قرأ به هنا أيضا، وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وإن نصبوا فيما تقدم رفعوا هنا على أنه إجمال لحكم الجراح بعد ما فصل حكم غيرها من الأعضاء، وهذا الحكم فيما إذا كانت بحيث تعرف المساواة كما فصل في الكتب الفقهية، واستدل بعموم أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ من قال: يقتل المسلم بالكافر والحر بالعبد والرجل بالمرأة، ومن خالف استدل بقوله تعالى: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى [البقرة: 178] وبقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يقتل مؤمن بكافر» وأجاب بعض أصحابنا بأن النص تخصيص بالذكر فلا يدل على نفي ما عداه، والمراد بما روى الحربي لسياقه ولا ذو عهد في عهده، والعطف يقتضي المغايرة، وقد روي أنه عليه الصلاة والسلام قتل مسلما بذمي، وذكر ابن الفرس أن الآية في الأحرار المسلمين لأن اليهود المكتوب عليهم ذلك في التوراة كانوا ملة واحدة ليسوا منقسمين إلى مسلم وكافر، وكانوا كلهم أحرارا لا عبيد فيهم، لأن عقد الذمة والاستعباد إنما أبيح للنبي صلّى الله عليه وسلّم من بين سائر الأنبياء لأن الاستعباد من الغنائم، ولم تحل لغيره عليه الصلاة والسلام، وعقد الذمة لبقاء الكفار ولم يقع ذلك في عهد نبي بل كان المكذبون يهلكون جميعا بالعذاب، وآخر ذلك في هذه الأمة رحمة انتهى. وأنت تعلم أن اللفظ ظاهر في العموم لكن لم يبقوه على ذلك، فقال قال الأصحاب: لا يقتل المسلم بالمستأمن ولا الذمي به لأنه غير محقون الدم على التأبيد، وكذا كفره باعث على الحرب لأنه على قصد الرجوع، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 316 ولا المستأمن بالمستأمن استحسانا لقيام المبيح، ويقتل قياسا للمساواة، ولا الرجل بابنه لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يقاد الوالد بولده» وهو بإطلاقه حجة على مالك في قوله: يقاد إذا ذبحه ذبحا، ولأنه سبب لإحيائه، فمن المحال أن يستحق له إفناؤه، ولهذا لا يجوز له قتله وإن وجده في صف الأعداء مقاتلا أو زانيا وهو محصن، والقصاص يستحقه المقتول أولا ثم يخلفه وارثه، والجد من قبل الرجال والنساء وإن علا في هذا بمنزلة الأب، وكذا الوالدة والجدة من قبل الأم أو الأب قربت أو بعدت لما بينا، ولا الرجل بعبده ولا مدبره ولا مكاتبه ولا بعبد ولده لأنه لا يستوجب لنفسه على نفسه القصاص ولا ولده عليه، وكذا لا يقتل بعبد ملك بعضه لأن القصاص لا يتجزأ فليفهم، واستدل بها على ما روي عن الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه من أنه لا يقتل الجماعة بالواحد لقوله تعالى فيها: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ بالإفراد، وأجيب بأن حكمة القصاص- وهو صون الدماء والأحياء- اقتضت القتل، وصرف الآية عما ذكر فإنه لو كان كذلك قتلوا مجتمعين حتى يسقط عنهم القصاص، وحينئذ تهدر الدماء ويكثر الفساد كذا قيل فَمَنْ تَصَدَّقَ أي من المستحقين للقصاص بِهِ أي بالقصاص أي فمن عفا عنه، والتعبير عن ذلك بالتصدق للمبالغة في الترغيب فَهُوَ أي التصدق المذكور كَفَّارَةٌ لَهُ للمتصدق كما أخرجه ابن أبي شيبة عن الشعبي وعليه أكثر المفسرين، وأخرج الديلمي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ الآية فقال: «هو الرجل يكسر سنه أو يجرح من جسده فيعفو فيحط عنه من خطاياه بقدر ما عفا عنه من جسده، إن كان نصف الدية فنصف خطاياه، وإن كان ربع الدية فربع خطاياه، وإن كان ثلث الدية فثلث خطاياه، وإن كان الدية كلها فخطاياه كلها» . وأخرج سعيد بن منصور وغيره عن عدي بن ثابت «أن رجلا هتم فم رجل على عهد معاوية رضي الله تعالى عنه فأعطي دية فأبى إلا أن يقتص فأعطي ديتين فأبى فأعطي ثلاثا فحدث رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم عن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: من تصدق بدم فما دونه فهو كفارة له من يوم ولد إلى يوم يموت» وقيل: الضمير عائد إلى الجاني، وإلى ذلك ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيما أخرجه عنه ابن جرير ومجاهد وجابر فيما أخرجه عنهما ابن أبي شيبة، ومعنى كون ذلك كفارة له على هذا التقدير أنه يسقط به ما لزمه ويتعين عليه أن يكون خبر المبتدأ مجموع الشرط والجزاء حيث لم يكن العائد إلا في الشرط، وإليه ذهب العلامة الثاني، وقيل: إن في الجزاء عائدا أيضا باعتبار أن هو بمعنى تصدقه فيشتمل بحسب المعنى على ضمير المبتدأ، فالتعين ليس بمسلم، وقال بعضهم إنه يحتمل أن يكون معنى الآية أن كل من تصدق واعترف بما يجب عليه من القصاص، وانقاد له فهو كفارة لما جناه من الذنب، ويلائمه كل الملاءمة قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ فضمير له حينئذ عائد إلى المتصدق مرادا به الجاني نفسه، وفيه بعد ظاهر، وقرأ أبيّ فهو كفارته له، فالضمير المرفوع حينئذ للمتصدق لا للتصدق، وكذا الضميران المجروران والإضافة للاختصاص واللام مؤكدة لذلك، أي فالمتصدق كفارته التي يستحقها بالتصدق له لا ينقص منها شيء لأن بعض الشيء لا يكون ذلك الشيء، وهو تعظيم لما فعل حيث جعل مقتضيا للاستحقاق اللائق من غير نقصان، وفيه ترغيب في العفو، والآية نزلت- كما قال غير واحد- لما اصطلح اليهود على أن لا يقتلوا الشريف بالوضيع والرجل بالمرأة، فلم ينصفوا المظلوم من الظالم، وعن السيد السند أن القصاص كان في شريعتهم متعينا عليهم فيكون التصدق مما زيد في شريعتنا، وقال الضحاك: لم يجعل في التوراة دية في نفس ولا جرح، وإنما كان العفو أو القصاص وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 317 وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ شروع في بيان أحكام الإنجيل- كما قيل- إثر بيان أحكام التوراة، وهو عطف على أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ وضمير الجمع المجرور- للنبيين الذين أسلموا- كما قاله أكثر المفسرين، واختاره علي بن عيسى والبلخي وقيل: للذين فرض عليهم الحكم الذي مضى ذكره، وحكي ذلك عن الجبائي- وليس بالمختار- والتقفية الاتباع، ويقال: قفا فلان أثر فلان إذا تبعه، وقفيته بفلان إذا أتبعته إياه، والتقدير هنا أتبعناهم على آثارهم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فالفعل كما قيل: متعد لمفعولين أحدهما بنفسه والآخر بالباء، والمفعول الأول محذوف، وعَلى آثارِهِمْ كالساد مسده لأنه إذا قفا به على آثارهم فقد قفاهم به، واعترض بأن الفعل قبل التضعيف كان متعديا إلى واحد، وتعدية المتعدي إلى واحد لثان بالباء لا تجوز سواء كان بالهمزة أو التضعيف، ورد بأن الصواب أنه جائز لكنه قليل، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 318 وقد جاء منه ألفاظ قالوا: صك الحجر الحجر، وصككت الحجر بالحجر، ودفع زيد عمرا ودفعت زيدا بعمرو أي جعلته دافعا له. وذهب بعض المحققين إلى أن التضعيف فيما نحن فيه ليس للتعدية، وأن تعلق الجار بالفعل لتضمينه معنى المجيء أي جئنا يعيسى ابن مريم على آثارهم قافيا لهم فهو متعد لواحد لا غير بالباء، وحاصل المعنى أرسلنا عيسى عليه الصلاة والسلام وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ عطف على قَفَّيْنا، وقرأ الحسن بفتح الهمزة، ووجه صحة ذلك أنه اسم أعجمي فلا بأس بأن يكون على ما ليس في أوزان العرب، وهو بأفعيل أو فعليل بالفتح، وأما إفعيل بالكسر فله نظائر- كإبزيم وإحليل- وغير ذلك فِيهِ هُدىً وَنُورٌ كما في التوراة، والجملة في موضع النصب على أنها حال من الإنجيل، وقوله تعالى: وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ عطف على الحال وهو حال أيضا، وعطف الحال المفردة على الجملة الحالية وعكسه جائز لتأويلها بمفرد وتكرير هذا لزيادة التقرير، وقوله عز وجل: وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ عطف على ما تقدم منتظم معه في سلك الحالية، وجعل كله هدى- بعد ما جعل مشتملا عليه- مبالغة في التنويه بشأنه لما أن فيه البشارة بنبينا صلّى الله عليه وسلّم أظهر، وتخصيص المتقين بالذكر لأنهم المهتدون بهداه والمنتفعون بجدواه، وجوز نصب هُدىً وَمَوْعِظَةً على المفعول لها عطفا على مفعول له آخر مقدر أي إثباتا لنبوته وَهُدىً إلخ، ويجوز أن يكونا معللين لفعل محذوف عامل فيه أي وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ آتيناه ذلك وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ أمر مبتدأ لهم بأن يحكموا ويعملوا بما فيه من الأمور التي من جملتها دلائل رسالته صلّى الله عليه وسلّم وما قررته شريعته الشريفة من أحكامه، وأما الأحكام المنسوخة فليس الحكم بها حكما بما أنزل الله تعالى بل هو إبطال وتعطيل له إذ هو شاهد بنسخها وانتهاء وقت العمل بها لأن شهادته بصحة ما ينسخها من الشريعة الأحمدية شاهدة بنسخها، وأن أحكامه ما قررته تلك الشريعة التي تشهد بصحتها- كما قرره شيخ الإسلام قدس سره- واختار كونه أمرا مبتدأ الجبائي، وقيل: هو حكاية للأمر الوارد عليهم بتقدير فعل معطوف على- آتيناه- أي وقلنا ليحكم أهل الإنجيل، وحذف القول- لدلالة ما قبله عليه- كثير في الكلام، ومنه قوله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرعد: 23- 24] واختار ذلك علي بن عيسى. وقرأ حمزة وَلْيَحْكُمْ بلام الجر ونصب الفعل بأن مضمرة، والمصدر معطوف على هُدىً وَمَوْعِظَةً على تقدير كونهما معللين، وأظهرت اللام فيه لاختلاف الفاعل، فإن فاعل الفعل المقدر ضمير الله تعالى، وفاعل هذا أهل الكتاب، وهو متعلق بمحذوف على الوجه الأول في هُدىً وَمَوْعِظَةً أي وآتيناه ليحكم إلخ، وإنما لم يعطف لعدم صحة عطف العلة على الحال، ومنهم من جوز العطف بناء على أن الحال هنا في معنى العلة وهو ضعيف، وقدر بعضهم في الكلام على تقدير التعليل عليه متعلقا- بأنزل- ليصح كونه علة لإيتاء عيسى عليه الصلاة والسلام ما ذكر. وعن أبي علي أنه قرأ- وأن ليحكم- على أن- أن- موصولة بالأمر كما في قولك: أمرته بأن قم، ومعنى الوصل أن- أن- تتم بما بعدها جزء كلام كالذي وأخواته، ووصل- أن- المصدرية بفعل الأمر مما تكرر القول به في الكشاف، وذكر فيه نقلا عن سيبويه وقدر هنا أمرنا، كأنه قيل: وآتيناه الإنجيل وأمرنا بأن يحكم، وأورد على سيبويه ما دقق صاحب الكشف في الجواب عنه، وأتى بما يندفع به كثير من الأسئلة على أن المصدرية والتفسيرية وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أي المتمردون الخارجون عن حكمه أو عن الإيمان، وقد مر تحقيقه، والجملة تذييل مقرر لمضمون الجملة السابقة ومؤكدة لوجوب الامتثال بالأمر. والآية تدل على أن الإنجيل مشتمل على الأحكام، وأن عيسى عليه السلام كان مستقلا بالشرع مأمورا بالعمل بما فيه من الأحكام قلت أو كثرت لا بما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 319 في التوراة خاصة، ويشهد لذلك أيضا حديث البخاري «أعطي أهل التوراة التوراة فعملوا بها وأهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به» وخالف في ذلك بعض الفضلاء، ففي الملل والنحل للشهرستاني جميع بني إسرائيل كانوا متعبدين بشريعة موسى عليه السلام مكلفين التزام أحكام التوراة والإنجيل النازل على المسيح عليه السلام لا يحتضن أحكاما ولا يستبطن حلالا وحراما، ولكنه رموز وأمثال ومواعظ وما سواها من الشرائع والأحكام محال على التوراة ولهذا لم تكن اليهود لتنقاد لعيسى عليه الصلاة والسلام، وحمل المخالف هذه الآية على وليحكموا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ تعالى فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة، وهو خلاف الظاهر كتخصيص ما أنزل فيه نبوة نبينا صلّى الله عليه وسلّم. وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ أي الفرد الكامل الحقيق بأن يسمى كتابا على الإطلاق لتفوقه على سائر الكتب السماوية- وهو القرآن العظيم- فاللام للعهد، والجملة عطف على أَنْزَلْنا وما عطف عليه، وقوله تعالى: بِالْحَقِّ حال مؤكدة من الكتاب أي متلبسا بالحق والصدق، وجوز أن يكون حالا من فاعل أَنْزَلْنا، وقيل: حال من الكاف في إِلَيْكَ وقوله تعالى: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ حال من الْكِتابَ أي حال كونه مصدقا لما تقدمه، وقد تقدم الكلام في كيفية تصديقه لذلك، وزعم أبو البقاء عدم جواز كونه حالا مما ذكر إذ لا يكون حالان لعامل واحد، وأوجب كونه حالا من الضمير المستكن في الجار والمجرور قبله، وقوله سبحانه: مِنَ الْكِتابِ بيان لِما واللام فيه للجنس بناء على ادعاء أن ما عدا الكتب السماوية ليست كتابا بالنسبة إليها. ويجوز- كما قال غير واحد- أن تكون للعهد نظرا إلى أنه لم يقصد إلى جنس مدلول لفظ الكتاب بل إلى نوع مخصوص منه هو بالنظر إلى مطلق الكتاب معهود بالنظر إلى وصف كونه سماويا غايته أن عهديته ليست إلى حد الخصوصية الفردية بل إلى خصوصية نوعية أخص من مطلق الكتاب وهو ظاهر، ومن الكتاب السماوي أيضا حيث خص بما عدا القرآن وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ قال الخليل وأبو عبيدة: أي رقيبا على سائر الكتب السماوية المحفوظة عن التغيير حيث يشهد لها بالصحة والثبات ويقرر أصول شرائعها وما يتأبد من فروعها ويعين أحكامها المنسوخة. وقال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة رضي الله تعالى عنهم: أي شاهدا عليه بأنه الحق، والعطف حينئذ للتأكيد وهاؤه أصلية، وفعله هيمن، وله نظائر- بيطر وخيمر وسيطر- وزاد الزجاج: بيقر، ولا سادس لها، وقيل: إنها مبدلة من الهمزة ومادته من الأمن- كهراق- وقال المبرد وابن قتيبة: إن المهيمن أصله مؤمن وهو من أسمائه تعالى، فصغر وأبدلت همزته هاء، وتعقبه السمين وغيره بأن ذلك خطأ بل كفر أو شبيه به لأن أسماء الله تعالى لا تصغر، وكذا كل اسم معظم شرعا، وعن ابن محيصن ومجاهد أنهما قرآ مُهَيْمِناً بفتح الميم على بنية المفعول فضمير عَلَيْهِ على هذا يعود على الكتاب الأول، والمعنى أنه حوفظ من التحريف والتبديل، والحافظ له هو الله تعالى كما قال سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أي بين أهل الكتاب- كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فإن كون القرآن العظيم بذلك الشأن من موجبات الحكم المأمور به أي إذا كان شأن القرآن كما ذكر فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ أي بما أنزله إليك فإنه الحق الذي لا محيص عنه، والمشتمل على جميع الأحكام الشرعية الباقية في الكتب الإلهية، وتقديم بَيْنَهُمْ للاعتناء بتعميم الحكم لهم، ووضع الموصول موضع الضمير تنبيها على علية ما في حيز الصلة للحكم، وترهيبا عن المخالفة، والالتفات بإظهار الاسم الجليل لما مر مرارا وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ الزائغة. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يريد ما حرفوا وبدلوا من أمر الرجم عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ الذي لا محيد عنه، وعن متعلقة بلا تتبع على تضمين معنى العدول ونحوه كأنه قيل: لا تعدل عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 320 متبعا لأهوائهم، وقيل: بمحذوف وقع حالا من فاعله أي لا تتبع أهواءهم عادلا عما جاءك، أو من مفعوله أي لا تتبع أهواءهم عادلة عما جاءك، واعترض ذلك بأن ما وقع حالا لا بد أن يكون فعلا عاما، ولعل القائل لا يسلم ذلك، ومِنَ كما قال أبو البقاء: متعلقة بمحذوف وقع حالا من مرفوع جاءَكَ أو من ما، ووضع الموصول موضع ضمير الموصول الأول للإيماء بما في حيز الصلة إلى ما يوجب كمال الاجتناب عن اتباع الأهواء، والنهي يجوز أن يكون لمن لا يتصور منه وقوع المنهي عنه، فلا يقال: كيف نهى صلّى الله عليه وسلّم عن اتباع أهوائهم وهو عليه الصلاة والسلام معصوم عن ارتكاب ما دون ذلك، وقيل: الخطاب له صلّى الله عليه وسلّم والمراد سائر الأحكام لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً استئناف جيء به لحمل أهل الكتاب من معاصريه صلّى الله عليه وسلّم على الانقياد لحكمه عليه الصلاة والسلام بما أنزل الله تعالى إليه من الحق ببيان أنه هو الذي كلفوا العمل به دون غيره مما في كتابهم، وإنما الذين كلفوا العمل به من مضى قبل النسخ، والخطاب- كما قال جماعة من المفسرين- للناس كافة الموجودين والماضين بطريق التغليب، والشرعة- بكسر الشين، وقرأ يحيى بن وثاب بفتحها الشريعة، وهي في الأصل الطريق الظاهر الذي يوصل منه إلى الماء، والمراد بها الدين، واستعمالها فيه لكونه سبيلا موصلا إلى ما هو سبب للحياة الأبدية كما أن الماء سبب للحياة الفانية، أو لأنه طريق إلى العمل الذي يطهر العامل عن الأوساخ المعنوية كما أن الشريعة طريق إلى الماء الذي يطهر مستعمله عن الأوساخ الحسية. وقال الراغب: سمي الدين شريعة تشبيها بشريعة الماء من حيث إن من شرع في ذلك على الحقيقة روي وتطهر، وأعني بالري ما قال بعض الحكماء: كنت أشرب فلا أروى فلما عرفت الله تعالى رويت بلا شرب، وبالتطهر ما قال تعالى: وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب: 33] والمنهاج الطريق الواضح في الدين من نهج الأمر إذا وضح، والعطف باعتبار جمع الأوصاف، وقال المبرد: الشرعة ابتداء الطريق، والمنهاج الطريق المستقيم، وقيل: هما بمعنى واحد وهو الطريق، والتكرير للتأكيد، والعطف مثله في قول الحطيئة: وهند أتى من دونها النأي والبعد. وقول عنترة: حييت من طلل تقادم عهده ... أقوى وأقفر بعد أم الهيثم وقيل: الشرعة الطريق مطلقا سواء كان واضحا أم لا، وقيل: المنهاج الدليل، وقيل: الشرعة النبي صلّى الله عليه وسلّم، والمنهاج الكتاب، وقيل: الشرعة الأحكام الفرعية، والمنهاج الأحكام الاعتقادية، وليس بشيء، واللام متعلقة- بجعلنا- المتعدية لواحد، وهو إخبار بجعل ماض لا إنشاء، وتقديمها عليه للتخصيص، ومِنْكُمْ متعلق بمحذوف وقع صفة لما عوض عنه تنوين- كل- أي «ولكل أمة» كائنة مِنْكُمْ أيها الأمم الباقية، والخالية عينا ووضعنا شِرْعَةً وَمِنْهاجاً خاصين بتلك الأمة لا تكاد أمة تتخطى شرعتها، والأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما الصلاة والسلام شرعتهم ما في الإنجيل، وأما أنتم أيها الموجودون فشرعتكم ما في الفرقان ليس إلا فآمنوا به واعملوا بما فيه، وأوجب أبو البقاء تعلق مِنْكُمْ بمحذوف تقديره أعني، ولم يجوز الوصفية لما أن ذلك يوجب الفصل بين الصفة والموصوف بالأجنبي الذي لا تسديد فيه للكلام، ويوجب أيضا أن يفصل بين جَعَلْنا ومعموله وهو شرعة، وقال شيخ الإسلام: لا ضير في توسط جَعَلْنا بين الصفة والموصوف كما في قوله تعالى: أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأنعام: 14] إلخ، والفصل بين الفعل ومفعوله لازم على كل حال، وما ذكر من كون الخطاب للأمم هو الظاهر، وقيل: إنه للأنبياء الذين أشير إليهم في الآيات قبل، ولا يخفى بعده، وأبعد منه جعل الخطاب لهذه الأمة المحمدية ولا يساعده السباق ولا اللحاق، واستدل بالآية من ذهب إلى أنا غير متعبدين بشرائع من قبلنا لأن الخطاب كما علمت يعم الأمم، واللام للاختصاص، فيكون لكل أمة دين يخصها، ولو كان متعبدا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 321 بشريعة أخرى لم يكن ذلك الاختصاص. وأجاب العلامة التفتازاني بعد تسليم دلالة اللام على الاختصاص الحصري بمنع الملازمة لجواز أن نكون متعبدين بشريعة من قبلنا مع زيادة خصوصيات في ديننا بها يكون الحصر، لما ذكر مع تقدم الاختصاص، وفيه أنه لا حاجة في إفادة المتعلق، وأيضا الخصوصيات المذكورة لا تنافي تعبدنا لأن القائلين به يدّعون أنه فيما لم يعلم نسخه ومخالفة ديننا له لا مطلقا إذ لم يقل به أحد على الإطلاق، ولذا جمع المحققون بين أضراب هذه الآية الدالة على اختلاف الشرائع، وبين ما يخالفها نحو قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً [الشورى: 13] إلخ، وقوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] بأن كل آية دلت على عدم الاختلاف محمولة على أصول الدين ونحوها، والتحقيق في هذا المقام أنا متعبدون بأحكام الشرائع الباقية من حيث إنها أحكام شرعتنا لا من حيث إنها شرعة للأولين وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً أي جماعة متفقة على دين واحد في جميع الأعصار، أو ذي ملة واحدة من غير اختلاف بينكم في وقت من الأوقات في شيء من الأحكام الدينية ولا نسخ ولا تحويل- قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- ومفعول شاءَ محذوف تعويلا على دلالة الجزاء عليه، أي لو شاء الله تعالى أن يجعلكم أمة واحدة لجعلكم إلخ، وقيل: المعنى ولو شاء الله تعالى اجتماعكم على الإسلام لأجبركم عليه، وروي عن الحسن نحو ذلك، وقال الحسين بن علي المغربي: المعنى لو شاء الله تعالى لم يبعث إليكم نبيا فتكونون متعبدين بما في العقل وتكونون أمة واحدة وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ متعلق بمحذوف يستدعيه النظام أي ولكن لم يشأ ذلك الجعل بل شاء غيره ليعاملكم سبحانه معاملة من يبتليكم. فِي ما آتاكُمْ من الشرائع المختلفة لحكم إلهية يقتضيها كل عصر هل تعملون بها مذعنين لها معتقدين أن في اختلافها ما يعود نفعه لكم في معاشكم ومعادكم، أو تزيغون عنها وتبتغون الهوى وتشترون الضلالة بالهدى، وبهذا- كما قال شيخ الإسلام- اتضح أن مدار عدم المشيئة المذكورة ليس مجرد الابتلاء، بل العمدة في ذلك ما أشير إليه من انطواء الاختلاف على ما فيه مصلحتهم معاشا ومعادا كما ينبىء عنه قوله عز وجل: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أي إذا كان الأمر كما ذكر فسارعوا إلى ما هو خير لكم في الدارين من العقائد الحقة والأعمال الصالحة المندرجة في القرآن الكريم وابتدروها انتهازا للفرصة وإحرازا لفضل السبق والتقدم، فالسابقون السابقون أولئك المقربون، وقوله تعالى: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً استئناف مسوق مساق التعليل لاستباق الخيرات بما فيه من الوعد والوعيد، وجَمِيعاً حال من الضمير المجرور، والعامل فيه إما المصدر المضاف المنحل إلى فعل مبني للفاعل، أو لما لم يسم فاعله، وإما الاستقرار المقدر في الجار، وقيل- وفيه بعد- إن الجملة واقعة جواب سؤال مقدر كأنه قيل: كيف ما في ذلك من الحكم؟ فأجيب بأنكم سترجعون إلى الله تعالى وتحشرون إلى دار الجزاء التي تنكشف فيها الحقائق وتتضح الحكم فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ أي فيفعل بكم من الجزاء الفاصل بين الحق والباطل ما لا يبقى لكم معه شائبة شك فيما كنتم فيه تختلفون في الدنيا من أمر الدين، فالإنباء هنا مجاز عن المجازاة لما فيها من تحقق الأمر. وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عطف على الكتاب، كأنه قيل: وأنزلنا إليك الكتاب، وقولنا: احكم أي الأمر بالحكم لا الحكم لأن المنزل الأمر بالحكم لا الحكم، ولئلا يلزم إبطال الطلب بالكلية، ولك أن تقدر الأمر بالحكم من أول الأمر من دون إضمار القول كما حققه في الكشف، وجوز أن يكون عطفا على الحق، وفي المحل وجهان: الجر والنصب على الخلاف المشهور، وقيل: يجوز أن يكون الكلام جملة اسمية بتقدير مبتدأ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 322 أي وأمرنا أن احكم، وزعم بعضهم أن أَنِ هذه تفسيرية، ووجهه أبو البقاء بأن يكون التقدير وأمرناك، ثم فسر هذا الأمر باحكم، ومنع أبو حيان من تصحيحه بذلك بأنه لم يحفظ من لسانهم حذف المفسر بأن والأمر كما ذكر، وقال الطيبي: ولو جعل هذا الكلام عطفا على فَاحْكُمْ من حيث المعنى ليكون التكرير لإناطة قوله سبحانه: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ كان أحسن، ورد بأن أَنِ هي المانعة من ذلك العطف، وأمر الإناطة ملتزم على كل حال، وقال بعضهم: إنما كرر الأمر بالحكم لأن الاحتكام إليه صلّى الله عليه وسلّم كان مرتين: مرة في زنا المحصن. ومرة في قتيل كان بينهم، فجاء كل أمر في أمر، وحكي ذلك عن الجبائي والقاضي أبي يعلى، ونون أَنِ فيها الضم والكسر، والمنسبك من أَنْ يَفْتِنُوكَ بدل من ضمير المفعول بدل اشتمال، أي واحذر: فتنتهم لك وأن يصرفوك عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ- تعالى- إِلَيْكَ ولو كان أقل قليل بتصوير الباطل بصورة الحق وقال ابن زيد: بالكذب على التوراة في أن ذلك الحكم ليس فيها، وجوز أن يكون مفعولا من أجله، أي احذرهم مخافة أَنْ يَفْتِنُوكَ وإعادة ما أَنْزَلَ اللَّهُ- تعالى- إِلَيْكَ لتأكيد التحذير بتهويل الخطب، ولعل هذا لقطع أطماعهم قاتلهم الله تعالى، أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن أحبار اليهود قالوا: اذهبوا بنا إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم لعلنا نفتنه عن دينه، فقالوا: يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وإنا إن اتبعناك اتبعنا اليهود كلهم. وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم إليك فتقضي لنا عليهم ونحن نؤمن بك ونصدقك، فأبى ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت فَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن قبول الحكم بما أنزل الله تعالى إليك وأرادوا غيره فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وهو ذنب التولي والإعراض، فهو بعض مخصوص والتعبير عنه بذلك للإيذان بأن لهم ذنوبا كثيرة، وهذا مع كمال عظمه واحد من جملتها، وفي هذا الإبهام تعظيم للتولي كما في قوله: ترّاك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حمامها يريد بالبعض نفسه أي نفسا كبيرة ونفسا أي نفس، وقال الجبائي: ذكر البعض، وأريد الكل كما يذكر العموم ويراد به الخصوص، وقيل: المراد بعض مبهم تغليظا للعقاب كأنه أشير إلى أنه يكفي أن يؤخذوا ببعض ذنوبهم أي بعض كان، ويهلكوا ويدمر عليهم بذلك، وزعم بعضهم أنه لا يصح إرادة الكل لأن المراد بهذه الإصابة عقوبة الدنيا وهي تختص ببعض الذنوب دون بعض، والذي يعم إنما هو عذاب الآخرة وهذه الإصابة- على ما روي عن الحسن- إجلاء بني النضير، وقيل: قتل بني قريظة، وقيل: هي أعم من ذلك، وما عرى بني قينقاع وأهل خيبر وفدك، ولعله الأولى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ أي متمردون في الكفر مصرون عليه خارجون من الحدود المعهودة، وهو اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله، وفيه من التسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم ما لا يخفى، وقيل: إنه عطف على قوله تعالى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها يعني كتبنا حكم القصاص في التوراة وقررناه في الإنجيل، وأنزلنا عليك الكتاب مصدقا لما فيهما وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ من الأحكام الإلهية المقررة في الأديان ولا يخفى بعده، والمراد من الناس العموم، وقيل: اليهود، وقوله سبحانه: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ إنكار وتعجيب من حالهم وتوبيخ لهم، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام، أي أيتولون عن قبول حكمك بما أنزل الله تعالى إليك فيبغون حكم الجاهلية، وقيل: محل الهمزة بعد الفاء، وقدمت أن لها الصدارة، وتقديم المفعول للتخصيص المفيد لتأكيد الإنكار والتعجب لأن التولي عن حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وطلب حكم آخر منكر عجيب، وطلب حكم الجاهلية أقبح وأعجب، والمراد بالجاهلية الملة الجاهلية التي هي متابعة الهوى الموجبة للميل والمداهنة في الأحكام، أو الأمة الجاهلية، وحكمهم: ما كانوا عليه من التفاضل فيما بين القتلى، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي أهل الجاهلية، وحكمهم: ما ذكر، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 323 فقد روي أن بني النضير لما تحاكموا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في خصومة قتيل وقعت بينهم وبين بني قريظة طلب بعضهم من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يحكم بينهم بما كان عليه أهل الجاهلية من التفاضل، فقال عليه الصلاة والسلام: «القتلى بواء فقال بنو النضير: نحن لا نرضى بذلك» فنزلت، وقرأ ابن عامر- تبغون- بالتاء، وهي إما على الالتفات لتشديد التوبيخ، وإما بتقدير القول أي قل لهم أَفَحُكْمَ إلخ، وقرأ ابن وثاب والأعرج وأبو عبد الرحمن وغيرهم أَفَحُكْمَ بالرفع على أنه مبتدأ، ويَبْغُونَ خبره، والعائد محذوف، وقيل: الخبر محذوف، والمذكور صفته أي حكم يبغون، واستضعف حذف العائد من الخبر، وذكر ابن جني أنه جاء الحذف منه كما جاء الحذف من الصلة والصفة كقوله: قد أصبحت أم الخيار تدعي ... عليّ ذنبا كله لم أصنع وقال أبو حيان وحسن الحذف في الآية شبه يَبْغُونَ برأس الفاصلة فصار كالمشاكلة، وزعم- أن القراءة المذكورة خطأ- خطأ كما لا يخفى، وقرأ قتادة «أفحكم» بفتح الفاء والحاء والكاف، أي أفحاكما كحكام الجاهلية يَبْغُونَ وكانت الجاهلية تسمى من قبل- كما أخرج ابن أبي حاتم عن عروة- عالمية حتى جاءت امرأة، فقالت يا رسول الله كان في الجاهلية كذا وكذا فأنزل الله تعالى ذكر الجاهلية وحكم عليهم بهذا العنوان وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً إنكار لأن يكون أحد حكمه أحسن من حكم الله تعالى، أو مساو له كما يدل عليه الاستعمال وإن كان ظاهر السبك غير متعرض لنفي المساواة وإنكارها لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أي عند قوم، فاللام بمعنى عند، وإليه ذهب الجبائي، وضعفه في الدر المصون، وصحح أنها للبيان متعلقة بمحذوف كما في هَيْتَ لَكَ [يوسف: 23] وسقيا لك، أي تبين وظهر مضمون هذا الاستفهام الإنكاري لقوم يتدبرون الأمور ويتحققون الأشياء بأنظارهم وأما غيرهم فلا يعلمون أنه لا أحسن حكما من الله تعالى، ولعل من فسر بعند أراد بيان محصل المعنى، وقيل: إن اللام على أصلها، وإنها صلة أي حكم الله تعالى للمؤمنين على الكافرين أحسن الأحكام وأعدلها، وهذه الجملة حالية مقررة لمعنى الإنكار السابق. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خطاب يعم حكمه كافة المؤمنين من المخلصين وغيرهم، وإن كان سبب وروده بعضا- كما ستعرفه إن شاء الله تعالى- ووصفهم بعنوان الإيمان لحملهم من أول الأمر على الانزجار عما نهوا عنه بقوله سبحانه وتعالى: لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ فإن تذكير اتصافهم بضد صفات الفريقين من أقوى الزواجر عن موالاتهما أي لا يتخذ أحد منكم أحدا منهم وليا بمعنى لا تصافوهم مصافاة الأحباب ولا تستنصروهم. أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال: لما كانت وقعة أحد اشتد على طائفة من الناس وتخوفوا أن تدال عليهم الكفار، فقال رجل لصاحبه: أما أنا فألحق بذلك اليهودي فآخذ منه أمانا وأتهود معه فإني أخاف أن تدال علينا اليهود، وقال الآخر: أما أنا فألحق بفلان النصراني ببعض أرض الشام فآخذ منه أمانا وأتنصر معه، فأنزل الله تعالى فيهما ينهاهما يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ. وأخرج ابن جرير وابن أبي شيبة عن عطية بن سعد قال: «جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إن لي موالي من يهود كثير عددهم وإني أبرأ إلى الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم من ولاية يهود وأتولى الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، فقال عبد الله بن أبيّ: إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالي» فنزلت بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي بعض اليهود أولياء لبعض منهم، وبعض النصارى أولياء لبعض منهم، وأوثر الإجمال لوضوح المراد بظهور أن اليهود لا يوالون النصارى كالعكس، والجملة مستأنفة تعليلا للنهي قبلها وتأكيدا لإيجاب اجتناب المنهي عنه أي بعضهم أولياء بعض متفقون على كلمة واحدة في كل ما يأتون وما يذرون، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 324 ومن ضرورة ذلك إجماع الكل على مضادتكم ومضارتكم بحيث يسومونكم السوء ويبغونكم الغوائل، فكيف يتصور بينكم وبينهم موالاة، وزعم الحوفي أن الجملة في موضع الصفة لأولياء، والظاهر هو الأول وقوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ أي من جملتهم، وحكمه حكمهم كالمستنتج مما قبله، وهو مخرج مخرج التشديد والمبالغة في الزجر لأنه لو كان المتولي منهم حقيقة لكان كافرا وليس بمقصود، وقيل: المراد وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ كافر مثلهم حقيقة، وحكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ولعل ذلك إذا كان توليهم من حيث كونهم يهودا أو نصارى، وقيل: لا بل لأن الآية نزلت في المنافقين، والمراد أنهم بالموالاة يكونون كفارا مجاهرين، وقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أنفسهم بموالاة الكفار. أو المؤمنين بموالاة أعدائهم، تعليل آخر على ما قيل يتضمن عدم نفع موالاة الكفرة بل ترتب الضرر عليها، وقيل: هو تعليل لكون من يتولاهم منهم أي لا يهديهم إلى الإيمان بل يخليهم وشأنهم فيقعون في الكفر والضلالة، وإنما وضع المظهر موضع ضميرهم تنبيها على أن توليهم ظلم لما أنه تعريض للنفس للعذاب الخالد ووضع للشيء في غير موضعه، وقوله تعالى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي نفاق- كعبد الله بن أبيّ وأضرابه- كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بيان لكيفية توليتهم وإشعار بسببه وبما يؤول إليه أمرهم، والفاء للإيذان بترتبه على عدم الهداية وهي للسببية المحضة. وجوز الكرخي كونها للعطف على إِنَّ اللَّهَ إلخ من حيث المعنى، والخطاب إما للرسول صلّى الله عليه وسلّم بطريق التلوين، وإما لكل من له أهلية، والإتيان بالموصول دون ضمير القوم ليشار بما في حيز الصلة إلى أن ما ارتكبوه من التولي بسبب ما كمن من المرض والرؤية إما بصرية، وقوله تعالى: يُسارِعُونَ فِيهِمْ حال من المفعول وهو الأنسب بظهور نفاقهم، وإما قلبية والجملة في موضع المفعول الثاني، والمراد على التقديرين مسارعين في موالاتهم إلا أنه قيل: فيهم مبالغة في بيان رغبتهم فيها وتهالكهم عليها، وإيثار كلمة فِي على كلمة- إلى- للدلالة على أنهم مستقرون في الموالاة، وإنما مسارعتهم من بعض مراتبها إلى بعض آخر منها. وفسر الزمخشري المسارعة بالانكماش لكثرة استعماله بفي، وعدل عنه بعض المحققين لكونه تفسيرا بالأخفى. واختير أن تعدي المسارعة هنا بإلى لتضمنها معنى الدخول، وقرىء- فيرى- بياء الغيبة على أن الضمير- كما قال أبو البقاء- لله تعالى، وقيل: لمن يصح منه الرؤية، وقيل: الفاعل هو الموصول، والمفعول هو الجملة على حذف أن المصدرية، والرؤية قلبية أي فيرى القوم الذين في قلوبهم مرض أن يسارعوا فيهم فلما حذفت أن انقلب الفعل مرفوعا كما في قوله: ألا أي هذا الزاجري احضر الوغى. وقوله عز وجل: يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ حال من فاعل يسارعون، والدائرة- من الصفات الغالبة التي لا يذكر معها موصوفها، وأصلها داورة لأنها من دار يدور، ومعناها لغة- على ما في القاموس- ما أحاط بالشيء، وفي شرح الملخص إن الدائرة سطح مستو يحيط به خط مستدير يمكن أن يفرض في داخله نقطة يكون البعد بينها وبينه واحدا في جميع الجهات، وقد تطلق الدائرة على ذلك الخط المحيط أيضا انتهى، واختلف في أن أي المعنيين حقيقة، فقيل: إنها حقيقة في الأول، مجاز في الثاني، وقيل: بالعكس، قال البرجندي: وتحقيق ذلك أنه إذا ثبت أحد طرفي خط مستقيم وأدير دورة تامة يحصل سطح دائرة يسمى بها لأن هيئة هذا السطح ذات دور، على أن صيغة الفاعل للنسبة، وإذا توهم حركة نقطة حول نقطة ثابتة دورة تامة بحيث لا يختلف بعد النقطة المتحركة عن النقطة الثابتة يحصل محيط دائرة يسمى بها لأن النقطة كانت دائرة فسمي ما حصل من دورانها دائرة فإن اعتبر الأول ناسب أن يكون إطلاق الدائرة على السطح حقيقة وعلى المحيط مجازا، وإذا اعتبر الثاني ناسب أن يكون الأمر بالعكس انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 325 وتعقبه بعض الفضلاء بأنه لا يخفى ما فيه لأن إطلاقها بالاعتبار الثاني على المحيط أيضا مجاز لأنه من باب تسمية المسبب باسم السبب اللهم إلا أن يقال: إنه أراد بكون إطلاقها على المحيط حقيقة أن إطلاقها عليه ليس مجازا بالوجه الذي كان به مجازا في الاعتبار الأول، فإن وجه المجاز فيه التسمية للمحيط باسم المحاط، وهاهنا ليس كذلك كما سمعت لكن هذا تكلف بعيد، ولو قال في وجه التسمية في اللاحق لأن هيئة الخط ذات دور على وفق قوله في وجه التسمية السابق لم يرد عليه هذا فتدبر، وكيفما كان فقد استعيرت لنوائب الزمان بملاحظة إحاطتها، وقولهم هذا كان اعتذارا عن الموالاة أي نخشى أن تدور علينا دائرة من دوائر الدهر ودولة من دولة بأن ينقلب الأمر للكفار وتكون الدولة لهم على المسلمين فنحتاج إليهم قاله مجاهد وقتادة والسدي. وعن الكلبي أن المعنى نخشى أن يدور الدهر علينا بمكروه- كالجدب والقحط- فلا يميروننا ولا يقرضوننا، ولا يبعد من المنافقين أنهم يظهرون للمؤمنين أنهم يريدون بالدائرة ما قاله الكلبي، ويضمرون في دوائر قلوبهم ما قاله الجماعة المنبئ عن الشك في أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد رد الله تعالى عليهم عللهم الباطلة وقطع أطماعهم الفارغة وبشر المؤمنين بحصول أمنيتهم بقوله سبحانه: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ فإن- عسى- منه عز وجل وعد محتوم لما أن الكريم إذا أطمع أطعم فما ظنك بأكرم الأكرمين، والمراد بالفتح فتح مكة- كما روي عن السدي- وقيل: فتح بلاد الكفار، واختاره الجبائي، وقال قتادة ومقاتل: هو القضاء الفصل بنصره عليه الصلاة والسلام على من خالفه وإعزاز الدين، وأن يأتي في تأويل المصدر، وهو خبر- لعسى- على رأي الأخفش، ومفعول به على رأي سيبويه لئلا يلزم الإخبار بالحدث عن الذات، والأمر في ذلك عند الأخفش سهل أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ وهو القتل وسبي الذراري لبني قريظة، والجلاء لبني النضير عند مقاتل، وقيل: إظهار نفاق المنافقين مع الأمر بقتلهم، وروي عن الحسن والزجاج، وقيل: موت رأس النفاق، وحكي ذلك عن الجبائي فَيُصْبِحُوا أي أولئك المنافقون، وهو عطف على يَأْتِيَ داخل معه في حيز خبر عسى، وفاء السببية لجعلها الجملتين كجملة واحدة مغنية عن الضمير العائد على الاسم، والمراد فيصيروا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ من الكفر والشك في أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم نادِمِينَ خبر- يصبح- وبه يتعلق عَلى ما أَسَرُّوا وتخصيص الندامة به لا بما كانوا يظهرونه من موالاة الكفرة لما أنه الذي كان يحملهم على تلك الموالاة ويغريهم عليها، فدل ذلك على أن ندامتهم على التولي بأصله وسببه. وأخرج ابن منصور وابن أبي حاتم عن عمرو أنه سمع ابن الزبير يقرأ- عسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبح الفساق على ما أسروا في أنفسهم نادمين- قال عمرو: لا أدري أكان ذلك منه قراءة أم تفسيرا وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا كلام مستأنف مسوق لبيان كمال سوء حال الطائفة المذكورة. وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر بغير واو على أنه استئناف بياني كأنه قيل: فماذا يقول المؤمنون حينئذ؟ وقرأ أبو عمرو ويعقوب «ويقول» بالنصب عطفا على «فيصبحوا» ، وقيل: على أَنْ يَأْتِيَ بحسب المعنى كأنه قيل: عسى أن يأتي الله بالفتح وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا بإسناد يَأْتِيَ إلى الاسم الجليل دون ضميره، واعتبر ذلك لأن العطف على خبر- عسى- أو مفعولها يقتضي أن يكون فيه ضمير الله تعالى ليصح الإخبار به، أو ليجرى على استعماله، ولا ضمير فيه هنا ولا ما يغني عنه، وفي صورة العطف باعتبار المعنى تكون- عسى- تامة لإسنادها إلى أَنْ وما في حيزها فلا حاجة حينئذ إلى ضمير، وهذا كما قيل: قريب من عطف التوهم، وكأنهم عبروا عنه بذلك دونه تأدبا، وجوز بعضهم أن يكون أَنْ يَأْتِيَ بدلا من الاسم الجليل، والعطف على البدل، وعسى- تامة أيضا كما صرح به الفارسي، وبعضهم يجعل العطف على خبر- عسى- ويقدر ضميرا أي وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا به، وذهب ابن النحاس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 326 إلى أن العطف على الفتح وهو نظير، ولبس عباءة وتقر عيني. واعترض بأن فيه الفصل بين أجزاء الصلة، وهو لا يجوز وبأن المعنى حينئذ عسى الله تعالى أن يأتي بقول المؤمنين وهو ركيك وأجيب عن الأول بالفرق بين الإجزاء بالفعل، والإجزاء بالتقدير، وعن الثاني بأن المراد عسى الله سبحانه أن يأتي بما يوجب قول المؤمنين من النصرة المظهرة لحالهم. واختار شيخ الإسلام قدس سره ما قدمناه، ولا يحتاج إلى تكلف مؤونة تقدير الضمير لأن- فتصبحوا- كما علمت معطوف على يَأْتِيَ والفاء كافية فيه عن الضمير، فتكفي عن الضمير في المعطوف عليه أيضا لأن المتعاطفين كالشيء الواحد، ولا حاجة مع هذا إلى القول بأن العطف عليه بناء على أنه منصوب في جواب الترجي إجراء له مجرى التمني- كما قال ابن الحاجب- لأن هذا إنما يجيزه الكوفيون فقط بخلاف الوجه الذي ذكرناه، والمعنى ويقول الذين آمنوا مخاطبين لليهود مشيرين إلى المنافقين الذين كانوا يوالونهم ويرجون دولتهم ويظهرون لهم غاية المحبة وعدم المفارقة عنهم في السراء والضراء عند مشاهدتهم تخيبة رجائهم وانعكاس تقديرهم لوقوع ضد ما كانوا يترقبونه، ويتعالون به تعجيبا للمخاطبين من حالهم وتعريضا بهم. أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ أي بالنصرة والمعونة- كما قالوه- فيما حكي عنهم، وإن قوتلتم لننصرنكم، فاسم الإشارة مبتدأ وما بعده خبره، والمعنى إنكار ما فعلوه واستبعاده وتخطئتهم في ذلك- قاله شيخ الإسلام، وغيره، واختار غير واحد- أن المعنى يقول المؤمنون الصادقون بعضهم لبعض أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ تعالى لليهود إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ والخطاب على التقديرين لليهود إلا أنه على الأول من جهة المؤمنين، وعلى الثاني من جهة المقسمين، وفي البحر أن الخطاب على التقدير الثاني للمؤمنين أي يقول الذين آمنوا بعضهم لبعض تعجبا من حال المنافقين إذ أغلظوا بالأيمان لهم وأقسموا أنهم معكم وأنهم معاضدوكم على أعدائكم اليهود فلما حل باليهود ما حل أظهروا ما كانوا يسرونه من موالاتهم والتمالؤ على المؤمنين، وإليه يشير كلام عطاء وليس بشيء كما لا يخفى، وجملة إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ لا محل لها من الإعراب لأنها تفسير وحكاية لمعنى أقسموا لكن لا بألفاظهم وإلا لقيل: إنا معكم، وذكر السمين وغيره أنه يجوز أن يقال: حلف زيد لأفعلن وليفعلن، وجَهْدَ أَيْمانِهِمْ منصوب على أنه مصدر- لأقسموا- من معناه، والمعنى أقسموا إقساما مجتهدا فيه، أو هو حال بتأويل مجتهدين، وأصله يجتهدون جهد أيمانهم، فالحال في الحقيقة الجملة، ولذا ساغ كونه حالا كقولهم: افعل ذلك جهدك مع أن الحال حقها التنكير لأنه ليس حالا بحسب الأصل. وقال غير واحد: لا يبالى بتعريف الحال هنا لأنها في التأويل نكرة وهو مستعار من جهد نفسه إذا بلغ وسعها، فحاصل المعنى أهؤلاء الذين أكدوا الأيمان وشددوها حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ يحتمل أن يكون هذا جملة مستأنفة مسوقة من جهته تعالى لبيان مآل ما صنعوه من ادعاء الولاية والقسم على المعية في كل حال إثر الإشارة إلى بطلانه بالاستفهام، وأن يكون من جملة مقول المؤمنين بأن يجعل خبرا ثانيا لاسم الإشارة، وقد قال بجواز نحو ذلك بعض النحاة، ومنه قوله سبحانه: فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى [طه: 20] ، أو يجعل هو الخبر والموصول مع ما في حيز صلته صفة للمبتدأ، فالاستفهام حينئذ للتقرير، وفيه معنى التعجب كأنه قيل: ما أحبط أعمالهم فما أخسرهم، والمعنى بطلت أعمالهم التي عملوها في شأن موالاتكم وسعوا في ذلك سعيا بليغا حيث لم تكن لكم دولة كما ظنوا فينتفعوا بما صنعوا من المساعي وتحملوا من مكابدة المشاق، وفيه من الاستهزاء بالمنافقين والتقريع للمخاطبين ما لا يخفى- قاله شيخ الإسلام- وذهب بعضهم إلى أنه إذا كانت من جملة المقول فهي في محل نصب بالقول بتقدير أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 327 قائلا يقول: ماذا قال المؤمنون بعد كلامهم ذلك؟ فقيل: قالوا: حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ إلخ، والجملة إما إخبارية، وشهادة المؤمنين بمضمونها على تقدير أن يكون المراد به خسران دنيوي وذهاب الأعمال بلا نفع يترتب عليها هو ما أملوه من دولة اليهود مما لا إشكال فيه، وعلى تقدير أن يكون المراد أمرا أخرويا فيحتمل أن يكون باعتبار ما يظهر من حال المنافقين في ارتكاب ما ارتكبوا، وأن تكون باعتبار إخبار النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك، وإما جملة دعائية ولا ضير في الدعاء بمثل ذلك على ما مرت الإشارة إليه، وأشعر كلام البعض أن في الجملة معنى التعجب مطلقا سواء كانت من جملة المقول، أو من قول الله تعالى، ولعله غير بعيد عند من يتدبر. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ شروع في بيان حال المرتدين على الإطلاق بعد أن نهى سبحانه فيما سلف عن موالاة اليهود والنصارى، وبين أن موالاتهم مستدعية للارتداد عن الدين، وفصل مصير من يواليهم من المنافقين قيل: وهذا من الكائنات التي أخبر عنها القرآن قبل وقوعها، فقد روي أنه ارتد عن الإسلام إحدى عشرة فرقة، ثلاث في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنو مدلج ورئيسهم ذو الخمار- وهو الأسود العنسي- كان كاهنا تنبأ باليمن واستولى على بلاده فأخرج منها عمال النبي صلّى الله عليه وسلّم، فكتب عليه الصلاة والسلام إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن، فأهلكه الله تعالى على يدي فيروز الديلمي بيته فقتله، وأخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقتله ليلة قتل فسر به المسلمون وقبض عليه الصلاة والسلام من الغد، وأتى خبره في شهر ربيع الأول، وبنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب ابن حبيب تنبأ وكتب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سلام عليك، أما بعد: فإني قد أشركت في الأمر معك وإن لنا نصف الأرض، ولكن قريشا قوم يعتدون، فقدم عليه عليه الصلاة والسلام رسولان له بذلك فحين قرأ صلّى الله عليه وسلّم كتابه، قال لهما: فما تقولان أنتما؟ قال: نقول كما قال، فقال صلّى الله عليه وسلّم: أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما، ثم كتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب السلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، وكان ذلك في سنة عشر فحاربه أبو بكر رضي الله تعالى عنه بجنود المسلمين وقتل على يدي وحشي قاتل حمزة رضي الله تعالى عنهما وكان يقول: قتلت في جاهليتي خير الناس وفي إسلامي شر الناس، وقيل: اشترك في قتله هو وعبد الله بن زيد الأنصاري طعنه وحشي وضربه عبد الله بسيفه، وهو القائل: يسائلني الناس عن قتله ... فقلت: ضربت، وهذا طعن في أبيات، وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد تنبأ فبعث أبو بكر رضي الله تعالى عنه خالد بن الوليد فانهزم بعد القتال إلى الشام، فأسلم وحسن إسلامه، وارتدت سبع في عهد أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فزارة قوم عيينة بن حصين، وغطفان قوم قرة بن سلمة القشيري، وبنو سليم قوم الفجاءة بن عبد يا ليل، وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة، وبعض بني تميم قوم سجاح بنت المنذر الكاهنة تنبأت وزوجت نفسها من مسيلمة في قصة شهيرة، وصح أنها أسلمت بعد وحسن إسلامها، وكندة قوم الأشعث بن قيس، وبنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن زيد، وكفى الله تعالى أمرهم على يدي أبي بكر رضي الله تعالى عنه وفرقة واحدة في عهد عمر رضي الله تعالى عنه- وهم غسان- قوم جبلة ابن الأيهم تنصر ولحق بالشام ومات على ردته، وقيل: إنه أسلم، ويروى أن عمر رضي الله تعالى عنه كتب إلى أحبار الشام لما لحق بهم كتابا فيه: إن جبلة ورد إلي في سراة قومه فأسلم فأكرمته ثم سار إلى مكة فطاف فوطئ إزاره رجل من بني فزارة فلطمه جبلة فهشم أنفه وكسر ثناياه، وفي رواية قلع عينه فاستعدى الفزاري على جبلة إليّ، فحكمت إما بالعفو وإما بالقصاص، فقال: أتقتص مني وأنا ملك، وهو سوقة؟! فقلت: شملك وإياه الإسلام فما تفضله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 328 إلا بالعافية، فسأل جبلة التأخير إلى الغد فلما كان من الليل ركب مع بني عمه ولحق بالشام مرتدا، وروي أنه ندم على ما فعله وأنشد: تنصرت بعد الحق عارا للطمة ... ولم يك فيها لو صبرت لها ضرر فأدركني منها لجاج حمية ... فبعت لها العين الصحيحة بالعور فيا ليت أمي لم تلدني وليتني ... صبرت على القول الذي قاله عمر هذا واعترض القول بأن هذا من الكائنات التي أخبر الله تعالى عنها قبل وقوعها بأن من شرطية، والشرط لا يقتضي الوقوع إذ أصله أن يستعمل في الأمور المفروضة، وأجيب بأن الشرط قد يستعمل في الأمور المحققة تنبيها على أنها لا يليق وقوعها بل كان ينبغي أن تدرج في الفرضيات وهو كثير، وقد علم من وقوع ذلك بعد هذه الآية أن المراد هذا، وقرأ نافع وابن عامر- ومن يرتدد- بفك الإدغام وهو الأصل لسكون ثاني المثلين، وهو كذلك في بعض مصاحف الإمام، وقوله تعالى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ جواب مَنْ الشرطية الواقعة مبتدأ، واختلف في خبرها، فقيل: مجموع الشرط والجزاء، وقيل: الجزاء فقط فعلى الأول لا يحتاج الجزاء وحده إلى ضمير يربطه، وعلى الثاني يحتاج إليه وهو هنا مقدر أي فسوف يأتي الله تعالى مكانهم بعد إهلاكهم بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ محبة تليق بشأنه تعالى على المعنى الذي أراده وَيُحِبُّونَهُ أي يميلون إليه جل شأنه ميلا صادقا فيطيعونه في امتثال أوامره واجتناب مناهيه، وهو معطوف على يُحِبُّونَهُ، وجوز أن يكون حالا من الضمير المنصوب فيه أي وهم يحبونه، وفي الكشاف محبة العباد لربهم طاعته وابتغاء مرضاته وأن لا يفعلوا ما يوجب سخطه وعقابه، ومحبة الله تعالى لعباده أن يثيبهم أحسن الثواب على طاعتهم ويعظمهم ويثني عليهم ويرضى عنهم، وأما ما يعتقده أجهل الناس- وأعداهم للعلم وأهله وأمقتهم للشرع وأسوأهم طريقة- وإن كانت طريقتهم عند أمثالهم من الجهلة والسفهاء- شيئا، وهم الفرقة المفتعلة المنفعلة من الصوف وما يدينون به من المحبة والعشق والتغني على كراسيهم خربها الله تعالى وفي مراقصهم عطلها الله تعالى بأبيات الغزل المقولة في المرد إن الذين يسمونهم شهداء وصعقاتهم التي أين منها صعقة موسى عليه السلام، ثم دك الطور فتعالى الله عنه علوا كبيرا، ومن كلماتهم كما أنه بذاته يحبهم كذلك يحبون ذاته فإن الهاء راجعة إلى الذات دون النعوت والصفات، ومنها الحب شرطه أن تلحقه سكرات المحبة فإذا لم يكن ذلك لم يكن فيه حقيقة انتهى كلامه. وقد خلط فيه الغث بالسمين فأطلق القول بالقدح الفاحش في المتصوفة ونسب إليهم ما لا يعبأ بمرتكبه ولا يعد في البهائم فضلا عن خواص البشر، ولا يلزم من تسمي طائفة بهذا الاسم غاصبين له من أهله ثم ارتكابهم ما نقل عنهم بل وزيادة أضعاف أضعافه مما نعلمه من هذه الطائفة في زماننا- مما ينافي حال المسمين به حقيقة أن نؤاخذ الصالح بالطالح ونضرب رأس البعض بالبعض وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: 164، الإسراء: 15، فاطر: 18، الزمر: 7] . وتحقيق هذا المقام على ما ذكره ابن المنير في الانتصاف أنه لا شك أن تفسير محبة العبد لله تعالى بطاعته له سبحانه على خلاف الظاهر وهو من المجاز الذي يسمى فيه المسبب باسم السبب، والمجاز لا يعدل إليه عن الحقيقة إلا بعد تعذرها فليمتحن حقيقة المحبة لغة بالقواعد لننظر أهي ثابتة للعبد متعلقة بالله تعالى أم لا، فالمحبة لغة ميل المتصف بها إلى أمر ملذ واللذات الباعثة على المحبة منقسمة إلى مدرك بالحس كلذة الذوق في المطعوم. ولذة النظر في الصور المستحسنة إلى غير ذلك، وإلى لذة مدركة بالعقل كلذة الجاه والرياسة والعلوم وما يجري الجزء: 3 ¦ الصفحة: 329 مجراها، فقد ثبت أن في اللذات الباعثة على المحبة ما لا يدركه إلا العقل دون الحس، ثم تتفاوت المحبة ضرورة بحسب تفاوت البواعث عليها فليس اللذة برياسة الإنسان على أهل قرية كلذته بالرياسة على أقاليم معتبرة، وإذا تفاوتت المحبة بحسب تفاوت البواعث فلذات العلوم أيضا متفاوتة بحسب تفاوت المعلومات، وليس معلوم أكمل ولا أجل من المعبود الحق، فاللذة الحاصلة من معرفته ومعرفة جلاله وكماله تكون أعظم، والمحبة المنبعثة عنها تكون أمكن، وإذا حصلت هذه المحبة بعثت على الطاعات والموافقات، فقد تحصل من ذلك أن محبة العبد لربه سبحانه ممكنة واقعة من كل مؤمن فهي من لوازم الإيمان وشروطه، والناس فيها متفاوتون بحسب تفاوت إيمانهم، وإذا كان كذلك وجب تفسير محبة العبد لله عزّ وجلّ بمعناها الحقيقي لغة وكانت الطاعات والموافقات كالمسبب عنها والمغاير لها، ألا ترى إلى الأعرابي الذي سأل عن الساعة فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها كبير عمل ولكن حب الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، فقال عليه الصلاة والسلام: المرء مع من أحب» فهذا ناطق بأن المفهوم من المحبة لله تعالى غير الأعمال والتزام الطاعات لأن الأعرابي نفاها وأثبت الحب، وأقره صلّى الله عليه وسلّم على ذلك، ثم أثبت إجراء محبة العبد لله تعالى على حقيقتها لغة والمحبة إذا تأكدت سميت عشقا، فهو المحبة البالغة المتأكدة، والقول بأنه عبارة عن المحبة فوق قدر المحبوب فيكفر من قال: أنا عاشق لله تعالى أو لرسوله صلّى الله عليه وسلّم- كما قاله بعض ساداتنا الحنفية- في حيز المنع عندي، والمعترفون بتصور محبة العبد لله عز شأنه بالمعنى الحقيقي ينسبون المنكرين إلى أنهم جهلوا فأنكروا كما أن الصبي ينكر على من يعتقد أن وراء اللعب لذة من جماع أو غيره، والمنهمك في الشهوات والغرام بالنساء يظن أن ليس وراء ذلك لذة من رياسة أو جاه أو نحو ذلك، وكل طائفة تسخر مما فوقها وتعتقد أنهم مشغولون في غير شيء. قال حجة الإسلام الغزالي روّح الله تعالى روحه: والمحبون الله تعالى يقولون لمن أنكر عليهم ذلك: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ [هود: 38] انتهى، مع أدنى زيادة ولم يتكلم على معنى محبة الله تعالى للعبد، وأنت تعلم أن ذلك من المتشابه والمذاهب فيه مشهورة، وقد قدمنا طرفا من الكلام في هذا المقام فتذكر. والمراد بهؤلاء القوم في المشهور أهل اليمن، فقد أخرج ابن أبي شيبة في مسنده، والطبراني والحاكم وصححه من حديث عياض بن عمر الأشعري أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما نزلت أشار إلى أبي موسى الأشعري- وهو من صميم اليمن- وقال: هم قوم هذا، وعن الحسن وقتادة والضحاك أنهم أبو بكر وأصحابه رضي الله تعالى عنهم الذين قاتلوا أهل الردة، وعن السدي أنهم الأنصار، وقيل: هم الذين جاهدوا يوم القادسية ألفان من النخع وخمسة آلاف من كندة وبجيلة وثلاثة آلاف من أفناء الناس، وقد حارب هناك سعد بن أبي وقاص رستم الشقي صاحب جيش يزدجر، وقال الإمامية: هم علي كرم الله تعالى وجهه وشيعته يوم وقعة الجمل وصفين، وعنهم أنهم المهدي ومن يتبعه، ولا سند لهم في ذلك إلا مروياتهم الكاذبة، وقيل: هم الفرس لأنه صلّى الله عليه وسلّم سئل عنهم فضرب يده على عاتق سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه، وقال: هذا وذووه، وتعقبه العراقي قائلا: لم أقف على خبر فيه، وهو هنا وهم، وإنما ورد ذلك في قوله تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ [محمد: 38] كما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه فمن ذكره هنا فقد وهم أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عاطفين عليهم متذللين لهم، جمع ذليل لا ذلول فإن جمعه ذلل، وكان الظاهر أن يقال: أذلة للمؤمنين كما يقال تذلل له، ولا يقال: تذلل عليه للمنافاة بين التذلل والعلو لكنه عدي بعلى لتضمينه معنى العطف والحنو المتعدي بها، وقيل: للتنبيه على أنهم مع علو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 ولعل المراد بذلك أنه استعيرت عَلَى لمعنى اللام ليؤذن بأنهم غلبوا غيرهم من المؤمنين في التواضع حتى علوهم بهذه الصفة، لكن في استفادة هذا من ذاك خفاء، وكون المراد به أنه ضمن الوصف معنى الفضل والعلو- يعني أن كونهم أذلة ليس لأجل كونهم أذلاء في أنفسهم بل لإرادة أن يضموا إلى علو منصبهم وشرفهم فضيلة التواضع- لا يخفى ما فيه، لأن قائل ذلك قابله بالتضمين فيقتضي أن يكون وجها آخر لا تضمين فيه، وكون الجار على ذلك متعلقا بمحذوف وقع صفة أخرى- لقوم- ومع علو طبقتهم إلخ تفسير لقوله سبحانه عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وخافضون إلخ تفسير- لأذلة- مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، وقيل: عديت الذلة بعلى لأن العزة في قوله تعالى: أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ عديت بها كما يقتضيه استعمالها، وقد قارنتها فاعتبرت المشاكلة، وقد صرحوا أنه يجوز فيها التقديم والتأخير، وقيل: لأن العزة تتعدى بعلى، والذلة ضدها، فعوملت معاملتها لأن النظير كما يحمل على النظير يحمل الضد على الضد كما صرح به ابن جني وغيره، وجر «أذلة» و «أعزة» على أنهما صفتان- لقوم- كالجملة السابقة، وترك العطف بينهما للدلالة على استقلالهم بالاتصاف بكل منهما وفيه دليل على صحة تأخير الصفة الصريحة عن غير الصريحة، وقد جاء ذلك في غير ما آية، ومن لم يجوزه جعل الجملة هنا معترضة ولا يخفى أنه تكلف، ومعنى كونهم أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ أنهم أشداء متغلبون عليهم من عزه إذا غلبه، ونص العلامة الطيبي أن هذا الوصف جيء به للتكميل لأن الوصف قبله يوهم أنهم أذلاء محقرون في أنفسهم، فدفع ذلك الوهم بالإتيان به على حد قوله: جلوس في مجالسهم رزان ... وإن ضيف ألمّ فهم خفوف وقرىء «أذلة» و «أعزة» بالنصب على الحالية من- قوم- لتخصيصه بالصفة يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بالقتال لإعلاء كلمته سبحانه وإعزاز دينه جل شأنه، وهو صفة أخرى- لقوم- مترتبة على ما قبلها مبينة مع ما بعدها لكيفية عزتهم، وجوز أبو البقاء أن يكون حالا من الضمير في أَعِزَّةٍ أي يعزون مجاهدين، وأن يكون مستأنفا وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ فيما يأتون من الجهاد أو في كل ما يأتون ويذرون، وهو عطف على يُجاهِدُونَ بمعنى أنهم جامعون بين المجاهدة والتصلب في الدين، وفيه تعريض بالمنافقين، وجوز أن يكون حالا من فاعل يُجاهِدُونَ أي يجاهدون وحالهم غير حال المنافقين، والتعريض فيه حينئذ أظهر، وقيل: إنه على الأولى لا تعريض فيه بل هو تتميم لمعنى يُجاهِدُونَ مفيد للمبالغة والاستيعاب وليس بشيء، واعترض القول بالحالية بأنهم نصوا على أن المضارع المنفي- بلا أو- ما- كالمثبت في عدم جواز دخول الواو عليه، وأجيب بأن ذلك مبني على مذهب الزمخشري القائل بجواز اقتران المضارع المنفي- بلا، وما- بالواو، فإن النحاة جوزوه في المنفي- بلم، ولما- ولا فرق بينهما، واللومة- المرة من اللوم أي الاعتراض وهو مضاف لفاعله، وأصل لائم لاوم فاعل كقائم، وفي اللومة مع تنكير لائم مبالغتان على ما قيل، ووجه ذلك العلامة الطيبي بأنه ينتفي بانتفاء الخوف من اللومة الواحدة خوف جميع اللومات لأن النكرة في سياق النفي تعم، ثم إذا انضم إليها تنكير فاعلها يستوعب انتفاء خوف جميع اللوّام، فيكون هذا تتميما في تتميم أي لا يخافون شيئا من اللوم من أحد من اللوّام. وقيل عليه: بأنه كيف يكون لَوْمَةَ أبلغ من لوم مع ما فيها من معنى الوحدة، فلو قيل: لوم لائم كان أبلغ وأجيب بأنها في الأصل للمرة لكن المراد بها هنا الجنس، وأتي بالتاء للإشارة إلى أن جنس اللوم عندهم بمنزلة لومة واحدة، وتعقب بأنه لا يدفع السؤال لأنه لا قرينة على هذا التجوز مع بقاء الإبهام فيه، وقد يقال: إن مقام المدح قرينة قوية على ذلك ذلِكَ إشارة إلى ما تقدم من الأوصاف لا بعضها كما قيل، والإفراد لما تقدم، وكذلك ما فيه من معنى البعد فَضْلُ اللَّهِ أي لطفه وإحسانه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ إيتاءه إياه لا أنهم مستقلون في الاتصاف به وَاللَّهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 331 واسِعٌ كثير الفضل، أو جواد لا يخاف نفاد ما عنده سبحانه عَلِيمٌ مبالغ في تعلق العلم في جميع الأشياء التي من جملتها من هو أهل الفضل ومحله، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله، وإظهار الاسم الجليل للإشعار بالعلة وتأكيد استقلال الجملة الاعتراضية كما مر غير مرة. هذا ومن باب الإشارة في الآيات على ما قاله بعض العارفين: إنا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ يحتمل أن يكون الكتاب الأول إشارة إلى علم الفرقان، والثاني إشارة إلى علم القرآن، والأول هو ظهور تفاصيل الكمال، والثاني هو العلم الإجمالي الثابت في الاستعداد، ومعنى كونه مُهَيْمِناً عَلَيْهِ حافظا عليه بالإظهار، ويحتمل أن يكون الأول إشارة إلى ما بين أيدينا من المصحف، والثاني إشارة إلى الجنس الشامل للتوراة التي دعوتها للظاهر، والإنجيل الذي دعوته للباطن، وكتابنا مشتمل على الأمرين حافظ لكل من الكتابين فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ من العدل الذي هو ظل المحبة التي هي ظل الوحدة التي انكشفت عليك وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ في تغليب أحد الجانبين إما الظاهر، وإما الباطن لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً موردا كمورد النفس ومورد القلب، ومورد الروح وَمِنْهاجاً طريقا كعلم الأحكام والمعارف التي تتعلق بالنفس وسلوك طريق الباطن الموصل إلى جنة الصفات، وعلم التوحيد والمشاهدة الذي يتعلق بالروح وسلوك طريق الفناء الموصل إلى جنة الذات، وقال بعضهم: إن لله سبحانه بحارا للأرواح وأنهارا للقلوب، وسواقي للعقول، ولكل واحد منها شرعة في ذلك ترد منها كشرعة العلم. وشرعة القدرة وشرعة الصمدية وشرعة المحبة إلى غير ذلك، وله عزّ وجلّ طرق بعدد أنفاس الخلائق كما قال أبو يزيد قدس سره، والمراد بها الطرق الشخصية لا مطلقا وكلها توصل إليه سبحانه، وهذا إشارة إلى اختلاف مشارب القوم وعدم اتحاد مسالكهم، وقد قال جلّ وعلا: قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ [البقرة: 60 الأعراف: 160] وفرق سبحانه بين الأبرار والمقربين في ذلك، وقلما يتفق اثنان في مشرب ومنهج، ومن هنا ينحل الإشكال فيما حكي عن حضرة الباز الأشهب مولانا الشيخ محيي الدين عبد القادر الكيلاني قدس سره أنه قال:- لا زلت أسير في مهامه القدس حتى قطعت الآثار فلاح لي أثر قدم من بعيد فكادت روحي تزهق فإذا النداء هذا أثر قدم نبيك محمد صلّى الله عليه وسلّم فإن ظاهره يقتضي سبقه للأنبياء والرسل أرباب التشريع عليهم الصلاة والسلام ونحوهم من الكاملين وهو كما ترى، ووجهه أنه قدس سره قطع الآثار في الطريق الذي هو فيه، وذلك يقتضي السبق على سالكي ذلك الطريق لا غير، فيجوز أن يكون مسبوقا بمن ذكرنا من السالكين طريقا آخر غير ذلك الطريق، وهذا أحسن ما يخطر لي في الجواب عن ذلك الإشكال نظرا إلى مشربي، ومشارب القوم شتى وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً متفقين في المشرب والطريق وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ أي ليظهر عليكم ما آتاكم بحسب استعداداتكم على قدر قبول كل واحد منكم فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أي الأمور الموصلة لكم إلى كمالكم الذي قدر لكم بحسب الاستعدادات المقربة إياكم إليه بإخراجه إلى الفعل «إلى الله مرجعكم» في عين جمع الوجود على حسب المراتب فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وذلك بإظهار آثار ما يقتضيه ذلك الاختلاف وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ حسب ما تقتضيه الحكمة ويقبله الاستعداد بِما أَنْزَلَ اللَّهُ إليك من القرآن الجامع للظاهر والباطن وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ فتقصر على الظاهر البحت أو الباطن المحض وتنفي الآخر فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ كذنب حجب الأفعال لليهود وذنب حجب الصفات للنصارى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ وأنواع الفسق مختلفة، ففسق اليهود خروجهم عن حكم تجليات الأفعال الإلهية برؤية النفس أفعالها، وفسق النصارى خروجهم عن حكم تجليات الصفات الحقانية برؤية النفس صفاتها، والفسق الذي يعتري بعض هذه الأمة الالتفات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 332 إلى ذواتهم والخروج عن حكم الوحدة الذاتية أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وهو الحكم الصادر عن مقام النفس بالجهل لا عن علم إلهي يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ الحق فيحتجب ببعض الحجب فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ في الأزل لا لعلة وَيُحِبُّونَهُ كذلك ومرجع المحبة التي لا تتغير عند الصوفية الذات دون الصفات كما قاله الواسطي، وطعن فيه- كما قدمنا- الزمخشري، وحيث أحبهم- ولم يكونوا إلا في العلم- كان المحب والمحبوب واحدا في عين الجمع. وقال السلمي: إنهم بفضل حبه لهم أحبوه وإلا فمن أين لهم المحبة لله تعالى وما للتراب ورب الأرباب؟! وشرط الحب- كما قال- أن يلحقه سكرات المحبة، وإلا فليس بحب حقيقة، وقالت أعرابية في صفة الحب: خفي أن يرى وجل أن يخفى فهو كامن ككمون النار في الحجر إن قدحته أورى وإن تركته توارى وإن لم يكن شعبة من الجنون فهو عصارة السحر، وهذا شأن حب الحادث فكيف شأن حب القديم جل شأنه، والكلام في ذلك طويل أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لمكان الجنسية الذاتية ورابطة المحبة الأزلية والمناسبة الفطرية بينهم أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ المحجوبين لضد ما ذكر يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بمحو صفاتهم وإفناء ذواتهم التي هي حجب المشاهدة وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ لفرط حبهم الذي هو الرشاد الأعظم للمتصف به: وإذا الفتى عرف الرشاد لنفسه ... هانت عليه ملامة العذال بل إذا صدقت المحبة التذ المحب بالملامة كما قيل: أجد الملامة في هواك لذيذة ... حبا لذكرك فليلمني اللوّم ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ الذي لا يدرك شأواه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ من عباده الذين سبقت لهم العناية الإلهية وَاللَّهُ واسِعٌ الفضل عَلِيمٌ حيث يجعل فضله، نسأل الله تعالى أن يمنّ علينا بفضله الواسع وجوده الذي ليس له مانع، ثم إنه سبحانه لما قال: لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ وعلله بما علله، ذكر عقب ذلك من هو حقيق بالموالاة بطريق القصر، فقال عزّ وجلّ: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فكأنه قيل: لا تتخذوا أولئك أولياء لأن بعضهم أولياء بعض وليسوا بأوليائكم إنما أولياؤكم الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون فاختصوهم بالموالاة ولا تتخطوهم إلى الغير، وأفرد الولي مع تعدده ليفيد كما قيل: إن الولاية لله تعالى بالأصالة وللرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين بالتبع، فيكون التقدير إنما وليكم الله سبحانه وكذلك رسوله صلّى الله عليه وسلّم والذين آمنوا، فيكون في الكلام أصل وتبع لا أن وَلِيُّكُمُ مفرد استعمل استعمال الجمع كما ظن صاحب الفرائد، فاعترض بأن ما ذكر بعيد عن قاعدة الكلام لما فيه من جعل ما لا يستوي الواحد والجمع جمعا، ثم قال: ويمكن أن يقال: التقدير إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا أولياؤكم فحذف الخبر لدلالة السابق عليه، وفائدة الفصل في الخبر هي التنبيه على أن كونهم أولياء بعد كونه سبحانه وليا، ثم بجعله إياهم أولياء، ففي الحقيقة هو الولي انتهى. ولا يخفى على المتأمل أن المآل متحد والمورد واحد، ومما تقرر يعلم أن قول الحلبي، ويحتمل وجها آخر وهو أن وليا زنة فعيل، وقد نص أهل اللسان أنه يقع للواحد والاثنين والجمع تذكيرا وتأنيثا بلفظ واحد- كصديق- غير واقع موقعه لأن الكلام في سر بياني وهو نكتة العدول من لفظ إلى لفظ، ولا يرد على ما قدمنا أنه لو كان التقدير كذلك لنا في حصر الولاية في الله تعالى ثم إثباتها للرسول صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين، لأن الحصر باعتبار أنه سبحانه الولي أصالة وحقيقة، وولاية غيره إنما هي بالإسناد إليه عز شأنه الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ بدل من الموصول الأول، أو صفة له باعتبار إجرائه مجرى الأسماء لأن الموصول وصلة إلى وصف المعارف بالجمل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 333 والوصف لا يوصف إلا بالتأويل، ويجوز أن يعتبر منصوبا على المدح، ومرفوعا عليه أيضا، وفي قراءة عبد الله «- والذين يقيمون الصلاة» بالواو وَهُمْ راكِعُونَ حال من فاعل الفعلين أي يعملون ما ذكر من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وهم خاشعون ومتواضعون لله تعالى. وقيل: هو حال مخصوصة بإيتاء الزكاة، والركوع ركوع الصلاة، والمراد بيان كمال رغبتهم في الإحسان ومسارعتهم إليه، وغالب الأخباريين على أنها نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه، فقد أخرج الحاكم وابن مردويه وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بإسناد متصل قال: «أقبل ابن سلام ونفر من قومه آمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله إن منازلنا بعيدة وليس لنا مجلس ولا متحدث دون هذا المجلس وإن قومنا لما رأونا آمنا بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم وصدقناه رفضونا وآلوا على نفوسهم أن لا يجالسونا ولا يناكحونا ولا يكلمونا فشق ذلك علينا، فقال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم: إنما وليكم الله ورسوله، ثم إنه صلّى الله عليه وسلّم خرج إلى المسجد والناس بين قائم وراكع فبصر بسائل، فقال: هل أعطاك أحد شيئا؟ فقال: نعم خاتم من فضة، فقال: من أعطاكه؟ فقال: ذلك القائم، وأومأ إلى علي كرم الله تعالى وجهه، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: على أي حال أعطاك؟ فقال: وهو راكع، فكبر النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم تلا هذه الآية» فأنشأ حسان رضي الله تعالى عنه يقول: أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي ... وكل بطيء في الهدى ومسارع أيذهب مدحيك المحبر ضائعا ... وما المدح في جنب الإله بضائع فأنت الذي أعطيت إذ كنت راكعا ... زكاة فدتك النفس يا خير راكع فأنزل فيك الله خير ولاية ... وأثبتها أثنا كتاب الشرائع واستدل الشيعة بها على إمامته كرم الله تعالى وجهه، ووجه الاستدلال بها عندهم أنها بالإجماع أنها نزلت فيه كرم الله تعالى وجهه، وكلمة إِنَّما تفيد الحصر، ولفظ الولي بمعنى المتولي للأمور والمستحق للتصرف فيها، وظاهر أن المراد هنا التصرف العام المساوي للإمامة بقرينة ضم ولايته كرم الله تعالى وجهه بولاية الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، فثبتت إمامته وانتفت إمامة غيره، وإلا لبطل الحصر، ولا إشكال في التعبير عن الواحد بالجمع، فقد جاء في غير ما موضع وذكر علماء العربية أنه يكون لفائدتين: تعظيم الفاعل وأن من أتى بذلك الفعل عظيم الشأن بمنزلة جماعة كقوله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النحل: 12] ليرغب الناس في الإتيان بمثل فعله، وتعظيم الفعل أيضا حتى أن فعله سجية لكل مؤمن، وهذه نكتة سرية تعتبر في كل مكان بما يليق به. وقد أجاب أهل السنة عن ذلك بوجوه: الأول النقض بأن هذا الدليل كما يدل بزعمهم على نفي إمامة الأئمة المتقدمين كذلك يدل على سلب الإمامة عن الأئمة المتأخرين كالسبطين رضي الله تعالى عنهما وباقي الاثني عشر رضي الله تعالى عنهم أجمعين بعين ذلك التقرير، فالدليل يضر الشيعة أكثر مما يضر أهل السنة كما لا يخفى، ولا يمكن أن يقال: الحصر إضافي بالنسبة إلى من تقدمه لأنا نقول: إن حصر ولاية من استجمع تلك الصفات لا يفيد إلا إذا كان حقيقيا، بل لا يصح لعدم استجماعها فيمن تأخر عنه كرم الله تعالى وجهه، وإن أجابوا عن النقض بأن المراد حصر الولاية في الأمير كرم الله تعالى وجهه في بعض الأوقات أعني وقت إمامته لا وقت إمامة السبطين ومن بعدهم رضي الله تعالى عنهم «قلنا» فمرحبا بالوفاق إذ مذهبنا أيضا أن الولاية العامة كانت له وقت كونه إماما لا قبله وهو زمان خلافة الثلاثة، ولا بعده وهو زمان خلافة من ذكر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 334 «فإن قالوا» إن الأمير كرم الله تعالى وجهه لو لم يكن صاحب ولاية عامة في عهد الخلفاء يلزمه نقص بخلاف وقت خلافة أشباله الكرام رضي الله تعالى عنهم فإنه لما لم يكن حيا لم تصر إمامة غيره موجبة لنقص شرفه الكامل لأن الموت رافع لجميع الأحكام الدنيوية «يقال» هذا فرار وانتقال إلى استدلال آخر ليس مفهوما من الآية إذ مبناه على مقدمتين: الأول أن كون صاحب الولاية العامة في ولاية الآخر- ولو في وقت من الأوقات- غير مستقل بالولاية نقص له، والثانية أن صاحب الولاية العامة لا يلحقه نقص ما بأي وجه وأي وقت كان، وكلتهما لا يفهمان من الآية أصلا كما لا يخفى على ذي فهم، على أن هذا الاستدلال منقوض بالسبطين زمن ولاية الأمير كرم الله تعالى وجهه، بل وبالأمير أيضا في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، والثاني أنا لا نسلم الإجماع على نزولها في الأمير كرم الله تعالى وجهه، فقد اختلف علماء التفسير في ذلك، فروى أبو بكر النقاش صاحب التفسير المشهور عن محمد الباقر رضي الله تعالى عنه أنها نزلت في المهاجرين والأنصار، وقال قائل: نحن سمعنا أنها نزلت في عليّ كرم الله تعالى وجهه، فقال: هو منهم يعني أنه كرم الله تعالى وجهه داخل أيضا في المهاجرين والأنصار ومن جملتهم. وأخرج أبو نعيم في الحلية عن عبد الملك بن أبي سليمان وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الباقر رضي الله تعالى عنه أيضا نحو ذلك، وهذه الرواية أوفق بصيغ الجمع في الآية، وروى جمع من المفسرين عن عكرمة أنها نزلت في شأن أبي بكر رضي الله تعالى عنه، والثالث أنا لا نسلم أن المراد بالولي المتولي للأمور والمستحق للتصرف فيها تصرفا عاما، بل المراد به الناصر لأن الكلام في تقوية قلوب المؤمنين وتسليها وإزالة الخوف عنها من المرتدين وهو أقوى قرينة على ما ذكره، ولا يأباه الضم كما لا يخفى على من فتح الله تعالى عين بصيرته، ومن أنصف نفسه علم أن قوله تعالى فيما بعد: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ آب عن حمل الولي على ما يساوي الإمام الأعظم لأن أحدا لم يتخذ اليهود والنصارى والكفار أئمة لنفسه وهم أيضا لم يتخذ بعضهم بعضا إماما، وإنما اتخذوا أنصارا وأحبابا، وكلما إِنَّما المفيدة للحصر تقتضي ذلك المعنى أيضا لأن الحصر يكون فيما يحتمل اعتقاد الشركة والتردد والنزاع، ولم يكن بالإجماع وقت نزول هذه الآية تردد ونزاع في الإمامة وولاية التصرف بل كان في النصرة والمحبة، والرابع أنه لو سلّم أن المراد ما ذكروه فلفظ الجمع عام، أو مساو له- كما ذكره المرتضى في الذريعة، وابن المطهر في النهاية- والعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب كما اتفق عليه الفريقان، فمفاد الآية حينئذ حصر الولاية العامة لرجال متعددين يدخل فيهم الأمير كرم الله تعالى وجهه، وحمل العام على الخاص خلاف الأصل لا يصح ارتكابه بغير ضرورة ولا ضرورة. «فإن قالوا» : الضرورة متحققة هاهنا إذ التصدق على السائل في حال الركوع لم يقع من أحد غير الأمير كرم الله تعالى وجهه «قلنا» ليست الآية نصا في كون التصدق واقعا في حال ركوع الصلاة لجواز أن يكون الركوع بمعنى التخشع والتذلل لا بالمعنى المعروف في عرف أهل الشرع كما في قوله: لا تهين الفقير علك أن ... تركع يوما والدهر قدر رفعه وقد استعمل بهذا المعنى في القرآن أيضا كما قيل في قوله سبحانه: وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران: 43] إذ ليس في صلاة من قبلنا من أهل الشرائع ركوع هو أحد الأركان بالإجماع، وكذا في قوله تعالى: وَخَرَّ راكِعاً [ص: 24] وقوله عزّ وجلّ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ [المرسلات: 48] على ما بينه بعض الفضلاء، وليس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 335 حمل الركوع في الآية على غير معناه الشرعي بأبعد من حمل الزكاة المقرونة بالصلاة على مثل ذلك التصدق، وهو لازم على مدعى الإمامية قطعا. وقال بعض منا أهل السنة: إن حمل الركوع على معناه الشرعي وجعل الجملة حالا من فاعل يُؤْتُونَ يوجب قصورا بينا في مفهوم يُقِيمُونَ الصَّلاةَ إذ المدح والفضيلة في الصلاة كونها خالية عما لا يتعلق بها من الحركات سواء كانت كثيرة أو قليلة، غاية الأمر أن الكثيرة مفسدة للصلاة دون القليلة ولكن تؤثر قصورا في معنى إقامة الصلاة البتة، فلا ينبغي حمل كلام الله تعالى الجليل على ذلك انتهى. وبلغني أنه قيل لابن الجوزي رحمه الله تعالى: كيف تصدّق علي كرم الله تعالى وجهه بالخاتم وهو في الصلاة والظن فيه- بل العلم الجازم- أن له كرم الله تعالى وجهه شغلا شاغلا فيها عن الالتفات إلى ما لا يتعلق بها، وقد حكي مما يؤيد ذلك كثير، فأنشأ يقول: يسقي ويشرب لا تلهيه سكرته ... عن النديم ولا يلهو عن الناس أطاعه سكره حتى تمكن من ... فعل الصحاة فهذا واحد الناس وأجاب الشيخ إبراهيم الكردي قدس سره عن أصل الاستدلال بأن الدليل قائم في غير محل النزاع، وهو كون علي كرم الله تعالى وجهه إماما بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من غير فصل لأن ولاية الذين آمنوا على زعم الإمامية غير مرادة في زمان الخطاب، لأن ذلك عهد النبوة، والإمامة نيابة فلا تتصور إلا بعد انتقال النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإذا لم يكن زمان الخطاب مرادا تعين أن يكون المراد الزمان المتأخر عن زمن الانتقال ولا حدّ للتأخير فليكن ذلك بالنسبة إلى الأمير كرم الله تعالى وجهه بعد مضي زمان الأئمة الثلاثة فلم يحصل مدعى الإمامية، ومن العجائب أن صاحب إظهار الحق قد بلغ سعيه الغاية القصوى في تصحيح الاستدلال بزعمه، ولم يأت بأكثر مما يضحك الثكلى وتفزع من سماعه الموتى، فقال: إن الأمر بصحبة الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم يكون بطريق الوجوب لا محالة، فالأمر بمحبة المؤمنين المتصفين بما ذكر من الصفات وولايتهم أيضا كذلك إذ الحكم في كلام واحد يكون موضعه متحدا أو متعددا أو متعاطفا لا يمكن أن يكون بعضه واجبا وبعضه مندوبا وإلا لزم استعمال اللفظ بمعنيين، فإذا كانت محبة أولئك المؤمنين وولايتهم واجبة وجوب محبة الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم امتنع أن يراد منهم كافة المسلمين وكل الأمة باعتبار أن من شأنهم الاتصاف بتلك الصفات لأن معرفة كل منهم ليحب ويوالي مما لا يمكن لأحد من المكلفين بوجه من الوجوه، وأيضا قد تكون معاداة المؤمنين لسبب من الأسباب مباحة بل واجبة فتعين أن يراد منهم البعض، وهو على المرتضى كرم الله تعالى وجهه انتهى. ويرد عليه أنه مع تسليم المقدمات أين اللزوم بين الدليل والمدعى وكيف استنتاج المتعين من المطلق، وأيضا لا يخفى على من له أدنى تأمل أن موالاة المؤمنين من جهة الإيمان أمر عام بلا قيد ولا جهة، وترجع إلى موالاة إيمانهم في الحقيقة، والبغض لسبب غير ضار فيها، وأيضا ماذا يقول في قوله سبحانه: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التوبة: 71] الآية، وأيضا ماذا يجاب عن معاداة الكفار وكيف الأمر فيها وهم أضعاف المؤمنين؟؟ ومتى كفت الملاحظة الإجمالية هناك فلتكف هنا. وأنت تعلم أن ملاحظة الكثرة بعنوان الوحدة مما لا شك في وقوعها فضلا عن إمكانها، والرجوع إلى علم الوضع يهدي لذلك، والمحذور كون الموالاة الثلاثة في مرتبة واحدة وليس فليس إذ الأولى أصل، والثانية تبع والثالثة تبع التبع، فالمحمول مختلف، ومثله الموضوع إذ الموالاة من الأمور العامة وكالعوارض المشككة، والعطف موجب للتشريك في الحكم لا في جهته، فالموجود في الخارج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 336 الواجب والجوهر، والعرض مع أن نسبة الوجود إلى كل غير نسبته إلى الآخر، والجهة مختلفة بلا ريب، وهذا قوله سبحانه: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يونس: 108] مع أن الدعوة واجبة على الرسول صلّى الله عليه وسلّم مندوبة في غيره، ولهذا قال الأصوليون: القرآن في النظم لا يوجب القرآن في الحكم، وعدوا هذا النوع من الاستدلال من المسالك المردودة، ثم انه أجاب عن حديث عدم وقوع التردد مع اقتضاء إِنَّما له بأنه يظهر من بعض أحاديث أهل السنة أن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم التمسوا من حضرة النبي صلّى الله عليه وسلّم الاستخلاف، فقد روى الترمذي عن حذيفة «أنهم قالوا: يا رسول الله لو استخلفت؟ قال: لو استخلفت عليكم فعصيتموه عذبتم ولكن ما حدثكم حذيفة فصدقوه وما أقرأكم عبد الله فاقرؤوه» وأيضا استفسروا منه عليه الصلاة والسلام عمن يكون إماما بعده صلّى الله عليه وسلّم، فقد أخرج أحمد عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: يا رسول الله من نؤمر بعدك؟ قال: إن تؤمروا أبا بكر رضي الله تعالى عنه تجدوه أمينا زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة، وإن تؤمروا عمر رضي الله تعالى عنه تجدوه قويا أمينا لا يخاف في الله لومة لائم، وإن تؤمروا عليا- ولا أراكم فاعلين- تجدوه هاديا مهديا يأخذ بكم الصراط المستقيم» وهذا الالتماس والاستفسار يقتضي كل منهما وقوع التردد في حضوره صلّى الله عليه وسلّم عند نزول الآية، فلم يبطل مدلول إِنَّما انتهى، وفيه أن محض السؤال والاستفسار لا يقتضي وقوع التردد، نعم لو كانوا شاوروا في هذا الأمر ونازع بعضهم بعضا بعد ما سمعوا من النبي صلّى الله عليه وسلّم جواب ما سألوه لتحقق المدلول، وليس فليس، ومجرد السؤال والاستفسار غير مقتض- لإنما- ولا من مقاماته بل هو من مقامات- إن- والفرق مثل الصبح ظاهر، وأيضا لو سلمنا التردد، ولكن كيف العلم بأنه بعد الآية أو قبلها منفصلا أو متصلا سببا للنزول أو اتفاقيا، ولا بد من إثبات القبيلة والاتصال والسببية، وأين ذلك؟ والاحتمال غير مسموع ولا كاف في الاستدلال. وبعد هذا كله الحديث الثاني ينافي الحصر صريحا لأنه صلّى الله عليه وسلّم في مقام السؤال عن المستحق للخلافة ذكر الشيخين، فإن كانت الآية متقدمة لزم مخالفة الرسول صلّى الله عليه وسلّم القرآن أو بالعكس لزم التكذيب، والنسخ لا يعقل في الأخبار على ما قرر، ومع ذا تقدم كل على الآخر مجهول فسقط العمل. فإن قالوا: الحديث خبر الواحد وهو غير مقبول في باب الإمامة «قلنا» وكذلك لا يقبل في إثبات التردد والنزاع الموقوف عليه التمسك بالآية، والحديث الأول يفيد أن ترك الاستخلاف أصلح فتركه- كما تفهمه الآية بزعمهم- تركه، وهم لا يجوزونه فتأمل، وذكر الطبرسي في مجمع البيان وجها آخر غير ما ذكره صاحب إظهار الحق في أن الولاية مختصة، وهو أنه سبحانه قال: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ فخاطب جميع المؤمنين، ودخل في الخطاب النبي صلّى الله عليه وسلّم وغيره، ثم قال تعالى: وَرَسُولُهُ فأخرج نبيه عليه الصلاة والسلام من جملتهم لكونهم مضافين إلى ولايته، ثم قال جل وعلا: وَالَّذِينَ آمَنُوا فوجب أن يكون الذي خوطب بالآية غير الذي جعلت له الولاية، وإلا لزم أن يكون المضاف هو المضاف إليه بعينه، وأن يكون كل واحد من المؤمنين ولي نفسه وذلك محال انتهى. وأنت تعلم أن المراد ولاية بعض المؤمنين بعضا لا أن يكون كل واحد منهم ولي نفسه، وكيف يتوهم من قولك مثلا: أيها الناس لا تغتابوا الناس أنه نهي لكل واحد من الناس أن يغتاب نفسه، وفي الخبر أيضا «صوموا يوم يصوم الناس» ولا يختلج في القلب أنه أمر لكل أحد أن يصوم يوم يصوم الناس، ومثل ذلك كثير في كلامهم، وما قدمناه في سبب النزول ظاهر في أن المخاطب بذلك ابن سلام وأصحابه، وعليه لا إشكال إلا أن ذلك لا يعتبر مخصصا كما لا يخفى، فالآية على كل حال لا تدل على خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه على الوجه الذي تزعمه الإمامية، وهو ظاهر لمن تولى الله تعالى حفظ ذهنه عن غبار العصبية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 337 وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا أي ومن يتخذهم أولياء، وأوثر الإظهار على الإضمار رعاية لما مر من نكتة بيان أصالته تعالى في الولاية كما ينبئ عنه قوله تعالى: فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ حيث أضيف الحزب- أي الطائفة والجماعة مطلقا، أو الجماعة التي فيها شدة- إليه تعالى خاصة وفي هذا- على رأي وضع الظاهر موضع الضمير أيضا العائد إلى مَنْ أي فإنهم الغالبون لكنهم جعلوا حزب الله تعالى- تعظيما لهم وإثباتا لغلبتهم بالطريق البرهاني كأنه قيل: ومن يتول هؤلاء فإنهم حزب الله تعالى وحزب الله تعالى هم الغالبون. والجملة دليل الجواب عند كثير من المعربين يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً أخرج ابن إسحاق وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ونافقا، وكان رجال من المسلمين يوادّونهما فأنزل الله تعالى هذه الآية، ورتب سبحانه النهي على وصف يعمهما وغيرهما تعميما للحكم وتنبيها على العلة وإيذانا بأن من هذا شأنه جدير بالمعاداة فكيف بالموالاة، والهزؤ- كما في الصحاح- السخرية، تقول: هزئت منه، وهزئت به- عن الأخفش- واستهزأت به وتهزأت، وهزأت به أيضا هزؤا ومهزأة- عن أبي زيد- ورجل هزأة بالتسكين أي يهزأ به، وهزأة بالتحريك يهزأ بالناس، وذكر الزجاج أنه يجوز في هُزُواً أربعة أوجه: الأول- «هزؤ» - بضم الزاي مع الهمزة وهو الأصل والأجود، والثاني- «هزو» - بضم الزاي مع إبدال الهمزة واوا لانضمام ما قبلها، والثالث- «هزأ» - بإسكان الزاي مع الهمزة، والرابع- هزى- كهدى، ويجوز القراءة بما عدا الأخير، واللعب- بفتح أوله وكسر ثانيه كاللعب، واللعب بفتح اللام وكسرها مع سكون العين، والتلعاب مصدر لعب كسمع، وهو ضد الجد كما في القاموس، وفي مجمع البيان: هو الأخذ على غير طريق الجد، ومثله العبث، وأصله من لعاب الصبي يقال: لعب كسمع، ومنع إذا سال لعابه وخرج إلى غير جهة، والمصدران: إما بمعنى اسم المفعول، أو الكلام على حذف مضاف أو قصد المبالغة، وقوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ في موضع الحال من الَّذِينَ قبله، أو من فاعل- اتخذوا- والتعرض لعنوان إيتاء الكتاب لبيان كمال شناعتهم وغاية ضلالتهم لما أن إيتاء الكتاب وازع لهم عن اتخاذ دين المؤمنين المصدقين بكتابهم هُزُواً وَلَعِباً وَالْكُفَّارَ أي المشركين، وقد ورد بهذا المعنى في مواضع من القرآن وخصوا به لتضاعف كفرهم، وهو عطف على الموصول الأول، وعليه لا تصريح باستهزائهم هنا، وإن أثبت لهم في آية إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر: 95] إذ المراد بهم مشركو العرب، ولا يكون النهي حينئذ بالنظر إليهم معللا بالاستهزاء بل نهوا عن موالاتهم ابتداء، وقرأ الكسائي وأهل البصرة وَالْكُفَّارَ بالجر عطفا على الموصول الأخير، ويعضد ذلك قراءة أبيّ- ومن الكفار- وقراءة عبد الله «ومن الذين أشركوا» فهم أيضا من جملة المستهزئين صريحا، وقوله تعالى: أَوْلِياءَ مفعول ثاني- للاتتخذوا- والمراد جانبوهم كل المجانبة وَاتَّقُوا اللَّهَ في ذلك بترك موالاتهم، أو بترك المناهي على الإطلاق فيدخل فيه ترك موالاتهم دخولا أوليا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ حقا فإن قضية الإيمان توجب الاتقاء لا محالة وَإِذا نادَيْتُمْ أي دعا بعضكم بعضا إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها أي الصلاة، أو المناداة إليها هُزُواً وَلَعِباً. أخرج البيهقي في الدلائل من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان منادي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا نادى بالصلاة فقام المسلمون إليها قالت اليهود: قد قاموا لا قاموا، فإذا رأوهم ركعا وسجدا استهزؤوا بهم وضحكوا منهم، وأخرج ابن جرير وغيره عن السدي قال: كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي- أشهد أن محمدا رسول الله- قال: حرق الكاذب، فدخلت خادمه ذات ليلة بنار وهو نائم وأهله نيام فسقطت شرارة فأحرقت البيت وأحرق هو وأهله، والكلام مسوق لبيان استهزائهم بحكم خاص من أحكام الدين بعد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 338 بيان استهزائهم بالدين على الإطلاق إظهارا لكمال شقاوتهم ذلِكَ أي الاتخاذ المذكور بِأَنَّهُمْ أي بسبب أنهم قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ فإن السفه يؤدي إلى الجهل بمحاسن الحق والهزء به، ولو كان لهم عقل في الجملة لما اجترءوا على تلك العظيمة، قيل: وفي الآية دليل على ثبوت الأذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده، واعترض بأن قوله سبحانه: وَإِذا نادَيْتُمْ لا يدل على الأذان اللهم إلا أن يقال: حيث ورد بعد ثبوته كان إشارة إليه فيكون تقريرا له، قال في الكشف: أقول فيه: إن اتخاذ المناداة هُزُواً منكر من المناكير لأنها من معروفات الشرع، فمن هذه الحيثية دل على أن المناداة التي كانوا عليها حق مشروع منه تعالى، وهو المراد بثبوته بالنص بعد أن ثبت ابتداء بالسنة، ومنام عبد الله بن زيد الأنصاري الحديث بطوله، ولا ينافيه أن ذلك كان أول ما قدموا المدينة، والمائدة من آخر القرآن نزولا، وقوله: لا بالمنام وحده ليس فيه ما يدل على أن السنة غير مستقلة في الدلالة لأن الأدلة الشرعية معرفات وأمارات لا مؤثرات وموجبات وترادف المعرفات لا ينكر انتهى، ولأبي حيان في هذا المقام كلام لا ينبغي أن يلتفت إليه لما فيه من المكابرة الظاهرة، وسمي الأذان مناداة لقول المؤذن فيه: حي على الصلاة حي على الفلاح. قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ أمر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بطريق تلوين الخطاب بعد نهي المؤمنين عن قول المستهزئين بأن يخاطبهم ويبين أن الدين منزه عما يصحح صدور ما صدر منهم من الاستهزاء ويظهر لهم سبب ما ارتكبوه ويلقمهم الحجر، ووصفوا بأهلية الكتاب تمهيدا لما سيذكر سبحانه من تبكيتهم وإلزامهم بكفرهم بكتابهم أي قل يا محمد لأولئك الفجرة هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا أي هل تنكرون وتعيبون منا، وهو من نقم منه كذا إذا أنكره وكرهه من حد ضرب، وقرأ الحسن تَنْقِمُونَ بفتح القاف من حدّ علم، وهي لغة قليلة، وقال الزجاج: يقال: نقم بالفتح والكسر، ومعناه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 339 بالغ في كراهة الشيء، وأنشد لعبد الله بن قيس: ما نقموا من بني أمية ... إلا أنهم يحلمون إن غضبوا وفي النهاية يقال: نقم ينقم إذا بلغت به الكراهة حد السخط، ويقال: نقم من فلان الإحسان إذا جعله مما يؤديه إلى كفر النعمة، ومنه حديث الزكاة «ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرا فأغناه الله تعالى» أي ما ينقم شيئا من منع الزكاة إلا أن يكفر النعمة، فكأن غناه أداه إلى كفر نعمة الله تعالى، وعن الراغب إن تفسير نقم بأنكر وأعاب لأن النقمة معناها الإنكار باللسان أو بالعقوبة لأنه لا يعاقب إلا على ما ينكر فيكون على حد قوله: ونشتم بالأفعال لا بالتكلم. وهو كما قال الشهاب: مما يعدى- بمن، وعلى- وقال أبو حيان: أصله أن يتعدى بعلى، ثم افتعل المبني منه يعدى بمن لتضمنه معنى الإصابة بالمكروه، وهنا فعل بمعنى افتعل ولم يذكر له مستندا في ذلك إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا من القرآن المجيد. وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ أي من قبل إنزاله من التوراة والإنجيل وسائر الكتب المنزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ أي متمردون خارجون عن دائرة الإيمان بما ذكر، فإن الكفر بالقرآن العظيم مستلزم للكفر بسائر الكتب كما لا يخفى، والواو للعطف وما بعدها عطف على أَنْ آمَنَّا. واختار بعض أجلة المحققين أنه مفعول له- لتنتقمون- والمفعول به الدين وحذف ثقة بدلالة ما قبل وما بعد عليه دلالة واضحة، فإن اتخاذ الدين هزوا ولعبا عين نقمه وإنكاره، والإيمان بما فصل عين الدين الذي نقموه، خلا أنه في معرض علة نقمهم له تسجيلا عليهم بكمال المكابرة والتعكيس حيث جعلوه موجبا لنقمه مع كونه في نفسه موجبا لقبوله وارتضائه، فالاستثناء على هذا من أعم العلل أي ما تنقمون منا ديننا لعلة من العلل إلا لإيماننا بالله تعالى وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل من كتبكم ولأن أكثركم متمردون غير مؤمنين بشيء مما ذكر حتى لو كنتم مؤمنين بكتابكم الناطق بصحة كتابنا لآمنتم به، وقدر بعضهم المفعول المحذوف شيئا ولا أرى فيه بأسا، وقيل: العطف على أَنْ آمَنَّا باعتبار كونه المفعول به لكن لا على أن المستثنى مجموع المعطوفين إذ لا يعترفون أن أكثرهم فاسقون حتى ينكروه بل هو ما يلزمهما من المخالفة، فكأنه قيل: هل تنكرون منا إلا أنا على حال يخالف حالكم حيث دخلنا في الإسلام وخرجتم منه بما خرجتم، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي واعتقاد أن أكثركم فاسقون، وقيل: العطف على المؤمن به أي هل تنقمون منا إلا إيماننا بالله وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وبأن أكثركم كافرون، وهذا في المعنى كالوجه الذي قبله. وقيل: العطف على علة محذوفة، وقد حذف الجار في جانب المعطوف، ومحله إما جر أو نصب على الخلاف المشهور أي هل تنقمون منا إلا الإيمان لقلة إنصافكم ولأن أكثركم فاسقون، وقيل: هو منصوب بفعل مقدر منفي دل عليه المذكور أي ولا تنقمون إن أكثركم فاسقون، وقيل: هو مبتدأ خبره محذوف، ويقدر مقدما عند بعض لأن أَنْ المفتوحة لا يقع ما معها مبتدأ إلا إذا تقدم الخبر. وقال أبو حيان: إن أَنْ لا يبتدأ بها متقدمة إلا بعد أما فقط، وخالف الكثير من النحاة في هذا الشرط على أنه يغتفر في الأمور التقديرية ما لا يغتفر في غيرها، والجملة على التقديرين حالية، أو معترضة أي وفسقكم ثابت أو معلوم، وقيل: الواو بمعنى مع أي هل تنقمون منا إلا الإيمان مع أن أكثركم إلخ. وتعقبه العلامة التفتازاني بأن هذا لا يتم على ظاهر كلام النحاة من أنه لا بد في المفعول معه من المصاحبة في معمولية الفعل، وحينئذ يعود المحذور وهو أنهم نقموا كون أكثرهم فاسقين، نعم يصح على مذهب الأخفش حيث اكتفى في المفعول معه بالمقارنة في الوجود مستدلا بقولهم: سرت والنيل وجئتك وطلوع الشمس، وبحث فيه بأن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 340 ذلك الاشتراط في المفعول معه لا يوجب الاشتراط في كل واو بمعنى مع، فليكن الواو بمعنى مع من غير أن يكون مفعولا معه لانتفاء شرطه وهو مصاحبته معمول الفعل بل يكون للعطف. وقيل: الواو زائدة «وأن أكثركم» إلخ في موضع التعليل أي هل تنقمون منا إلا الإيمان لأن أكثركم فاسقون. وقرأ نعيم بن ميسرة «وإن أكثركم» بكسر الهمزة، والجملة حينئذ مستأنفة مبينة لكون أكثرهم متمردين، والمراد بالأكثر من لم يؤمن وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ [هود: 40] قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ تبكيت لأولئك الفجرة أيضا ببيان أن الحقيق بالنقم والعيب حقيقة ما هم عليه من الدين المحرف، وفيه نعي عليهم على سبيل التعريض بجناياتهم وما حاق بهم من تبعاتها وعقوباتها، ولم يصرح سبحانه لئلا يحملهم التصريح بذلك على ركوب متن المكابرة والعناد، وخاطبهم قبل البيان بما ينبئ عن عظم شأن المبين، ويستدعي إقبالهم على تلقيه من الجملة الاستفهامية المشوقة إلى المخبر به، والتنبئة المشعرة بكونه أمرا خطرا لما أن النبأ هو الخبر الذي له شأن وخطر، والإشارة إلى الدين المتقوم لهم، واعتبرت الشرّية بالنسبة إليه- مع أنه خير محض منزه عن شائبة الشرّية بالكلية- مجاراة معهم على زعمهم الباطل المنعقد على كمال شرّيته، وحاشاه ليثبت أن دينهم شر، من كل شر، ولم يقل سبحانه بأنقم تنصيصا على مناط الشرية لأن مجرد النقم لا يفيدها البتة لجواز كون العيب من جهة العائب: فكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم وفي ذلك تحقيق لشرية ما سيذكر وزيادة تقرير لها، وقيل: إنما قال: بِشَرٍّ لوقوعه في عبارة المخاطبين، فقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير، وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم نفر من يهود فيهم أبو ياسر بن أخطب ونافع بن أبي نافع وغازي بن عمرو وزيد وخالد وإزار بن أبي إزار فسألوه عليه الصلاة والسلام عمن يؤمن به من الرسل قال: أومن بالله تعالى وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون، فلما ذكر عيسى عليه الصلاة والسلام جحدوا نبوته، وقالوا: لا نؤمن بعيسى ولا نؤمن بمن آمن به، ثم قالوا- كما في رواية الطبراني- لا نعلم دينا شرا من دينكم، فأنزل الله تعالى الآية، وبهذا الخبر انتصر من ذهب إلى أن المخاطبين- بأنبئكم- هم أهل الكتاب. وقال بعضهم: المخاطب هم الكفار مطلقا، وقيل: هم المؤمنون، وكما اختلف في الخطاب اختلف في المشار إليه بذلك، فالجمهور على ما قدمناه، وقيل: الإشارة إلى الأكثر الفاسقين، ووحد الاسم إما لأنه يشار به إلى الواحد وغيره، وليس كالضمير، أو لتأويله بالمذكور ونحوه. وقيل: الإشارة إلى الأشخاص المتقدمين الذين هم أهل الكتاب، والمراد أن السلف شر من الخلف مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ أي جزاء ثابتا عنده تعالى، وهو مصدر ميمي بمعنى الثواب، ويقال في الخير والشر لأنه ما رجع إلى الإنسان من جزاء أعماله سمي به بتصور أن ما عمله يرجع إليه كما يشير إليه قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7، 8] حيث لم يقل سبحانه- ير جزاءه- إلا أن الأكثر المتعارف استعماله في الخير، ومثله في ذلك المثوبة واستعمالها هنا في الشر على طريقة التحكم كقوله: تحية بينهم ضرب وجيع. ونصبها على التمييز من بِشَرٍّ، وقيل: يجوز أن تجعل مفعولا له- لأنبئكم- أي هل أنبئكم لطلب مثوبة عند الله تعالى في هذا الإنباء، ويحتمل أن يصير سبب مخافتكم ويفضي إلى هدايتكم، وعليه فالمثوبة في المتعارف من استعمالها، وهو وإن كان له وجه لكنه خلاف الظاهر، وقرىء «مثوبة» بسكون الثاء وفتح الواو، ومثلها مشورة. ومشورة خلافا للحريري في إيجابه مشورة كمعونة، وقوله سبحانه: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ خبر لمبتدأ محذوف بتقدير مضاف قبله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 341 مناسب لما أشير إليه بذلك أي دين من لعنه الله إلخ، أو بتقدير مضاف قبل اسم الإشارة مناسب لمن أي بشر من أهل ذلك، والجملة على التقديرين استئناف وقع جوابا لسؤال نشأ من الجملة الاستفهامية- كما قال الزجاج- إما على حالها- أو باعتبار التقدير فيها فكأنه قيل: ما الذي هو شر من ذلك؟ فقيل: هو دين من لعنه إلخ، أو من الذي هو شر من أهل ذلك؟ فقيل: هو من لعنه الله إلخ. وجوز- ولا ينبغي أن يجوز عند التأمل- أن يكون بدلا من شر، ولا بد من تقدير مضاف أيضا على نحو ما سبق آنفا، والاحتياج إليه هاهنا- ليخرج من كونه بدل- غلط، وهو لا يقع في فصيح الكلام، وأما في الوجه الأول فأظهر من أن يخفى، وإذا جعل ذلك إشارة إلى الأشخاص لم يحتج الكلام إلى ذلك التقدير كما هو ظاهر، ووضع الاسم الجليل موضع الضمير لتربية المهابة وإدخال الروعة وتهويل أمر اللعن وما تبعه، والموصول عبارة عن أهل الكتاب حيث أبعدهم الله تعالى عن رحمته وسخط عليهم بكفرهم وانهماكهم في المعاصي بعد وضوح الآيات وسطوع البينات وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ أي مسخ بعضهم قردة- وهم أصحاب السبت- وبعضهم خنازير- وهم كفار مائدة عيسى عليه الصلاة والسلام- وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المسخين كانا في أصحاب السبت، مسخت شبانهم قردة وشيوخهم خنازير، وضمير مِنْهُمُ راجع إلى- من- باعتبار معناه كما أن الضميرين الأولين له باعتبار لفظه، وكذا الضمير في قوله سبحانه: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ فإنه عطف على صلة- من- كما قال الزجاج، وزعم الفراء أن في الكلام موصولا محذوفا أي ومن عبد، وهو معطوف على منصوب جَعَلَ أي وجعل منهم من عبد إلخ، ولا يخفى أنه لا يصلح إلا عند الكوفيين، والمراد بالطاغوت- عند الجبائي- العجل الذي عبده اليهود، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والحسن أنه الشيطان، وقيل: الكهنة وكل من أطاعوه في معصية الله تعالى، والعبادة فيما عدا القول الأول مجاز عن الإطاعة، قال شيخ الإسلام: وتقديم أوصافهم المذكورة بصدد إثبات شرية دينهم على وصفهم هذا مع أنه الأصل المستتبع لها في الوجود وأن دلالته على شريته بالذات لأن عبادة الطاغوت عين دينهم البين البطلان، ودلالتها عليها بطريق الاستدلال بشرية الآثار على شرية ما يوجبها من الاعتقاد، والعمل إما للقصد إلى تبكيتهم من أول الأمر بوصفهم بما لا سبيل لهم إلى الجحود لا بشريته وفظاعته ولا باتصافهم به، وإما للإيذان باستقلال كل من المقدم والمؤخر بالدلالة على ما ذكر من الشرية. ولو روعي ترتيب الوجود، وقيل: من عبد الطاغوت ولعنه الله وغضب عليه إلخ لربما فهم أن علية الشرية هو المجموع انتهى. وأنت تعلم أن كون هذا الوصف أصلا غير ظاهر على ما ذهب إليه الجبائي، وأن كون الاتصاف- باللعن والغضب مما لا سبيل لهم إلى الجحود به- في حيز المنع، كيف وهم يقولون: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 18] إلا أن يقال: إن الآثار المترتبة على ذلك الدالة عليه في غاية الظهور بحيث يكون إنكار مدلولها مكابرة، وقيل: قدم وصفي اللعن والغضب لأنهما صريحان في أن القوم منقومون، ومشيران إلى أن ذلك الأمر عظيم وعقبهما بالجعل المذكور ليكون كالاستدلال على ذلك، وأردفه بعبادة الطاغوت الدالة على شرية دينهم أتم دلالة ليتمكن في الذهن أتم تمكن لتقدم ما يشير إليها إجمالا، وهذا أيضا غير ظاهر على مذهب الجبائي، ولعل رعايته غير لازمة لانحطاط درجته في هذا المقام، والظاهر من عبارة شيخ الإسلام أنه بنى كلامه على هذا المذهب حيث قال بعد ما قال: والمراد من الطاغوت العجل، وقيل: الكهنة وكل من أطاعوه في معصية الله تعالى، فيعم الحكم دين النصارى أيضا، ويتضح وجه تأخير عبادته عن العقوبات المذكورة إذ لو قدمت عليها لزم اشتراك الفريقين في تلك العقوبات انتهى، فتدبر حقه. وفي الآية كما قال جمع: عدة قراءات اثنتان من السبعة وما عداهما شاذ، فقرأ الجمهور غير حمزة «عبد» على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 342 صيغة الماضي المعلوم، والطاغوت بالنصب وهي القراءة التي بني التفسير عليها، وقرأ حمزة «وعبد الطاغوت» بفتح العين وضم الباء وفتح الدال، وخفض الطاغوت على أن عَبَدَ واحد مراد به الجنس وليس بجمع لأنه لم يسمع مثله في أبنيته بل هو صيغة مبالغة، ولذا قال الزمخشري: معناه الغلو في العبودية، وأنشد عليه قول طرفة: أبني لبني إن أمكم ... أمة وإن أباكم عبد أراد عبدا، وقد ذكر مثله ابن الأنباري والزجاج فقالا: ضمت الباء للمبالغة، كقولهم، للفطن والحذر: فطن وحذر، بضم العين، فطعن أبي عبيدة والفراء في هذه القراءة، ونسبة قارئها إلى الوهم وهم، والنصب بالعطف على الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وقرىء وَعَبَدَ بفتح العين وضم الباء. وكسر الدال وجر الطاغوت بالإضافة، والعطف على- من- بناء على أنه مجرور بتقدير المضاف، أو بالبدلية على ما قيل، ولم يرتض. وقرأ أبيّ «عبدوا» بضمير الجمع العائد على من باعتبار معناها، والعطف مثله في قراءة الجمهور، وقرأ الحسن «عباد» جمع عبد «وعبد» بالإفراد بجر «الطاغوت» ونصبه، والجر بالإضافة، والنصب إما على أن الأصل «عبد» بفتح الباء، أو عبد بالتنوين فحذف كقوله. ولا ذاكر الله إلا قليلا. بنصب الاسم الجليل والعطف ظاهر، وقرأ الأعمش والنخعي وأبان «عبد» على صيغة الماضي المجهول مع رفع «الطاغوت» على أنه نائب الفاعل، والعطف على صلة- من- وعائد الموصول محذوف أي عَبَدَ فيهم أو بينهم وقرأ بعض كذلك إلا أنه أنث، فقرأ «عبدت» بتاء التأنيث الساكنة، والطاغوت: يذكر ويؤنث كما مر وأمر العطف والعائد على طرز القراءة قبل. وقرأ ابن مسعود «عبد» بفتح العين وضم الباء وفتح الدال مع رفع الطاغوت على الفاعلية- لعبد- وهو كشرف كأن العبادة صارت سجية له، أو أنه بمعنى صار معبودا كأمر أي صار أميرا، والعائد على الموصول على هذا أيضا محذوف، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «عبد» بضم العين والباء وفتح الدال، وجر «الطاغوت» فعن الأخفش أنه جمع عبيد جمع عبد فهو جمع الجمع. أو جمع عابد- كشارف وشرف- أو جمع عبد كسقف وسقف. أو جمع عباد- ككتاب وكتب- فهو جمع الجمع أيضا مثل ثمار وثمر. وقرأ الأعمش أيضا «عبّد» بضم العين وتشديد الباء المفتوحة وفتح الدال وجر «الطاغوت» جمع عابد وعبد- كحطم وزفر- منصوبا مضافا للطاغوت مفردا وقرأ ابن مسعود أيضا «عبّد» بضم العين وفتح الباء المشددة وفتح الدال، ونصب «الطاغوت» على حد: ولا ذاكر الله إلا قليلا بنصب الاسم الجليل، وقرىء «وعابد الشيطان» بنصب عابد، وجر الشيطان بدل الطاغوت، وهو تفسير عند بعض لا قراءة. وقرىء- «عباد» - كجهال- «وعباد» - كرجال جمع عابد أو عبد، وفيه إضافة العباد لغير الله تعالى وقد منعه بعضهم، وقرىء «عابد» بالرفع على أنه خبر مبتدأ مقدر، وجر «الطاغوت» وقرىء «عابدوا» بالجمع والإضافة، وقرىء «عابد» منصوبا، وقرىء «عبد الطاغوت» بفتحات مضافا على أن أصله عبدة ككفرة فحذفت تاؤه للإضافة كقوله: وأخلفوك عدا الأمر الذي وعدوا أي عدته كإقام الصلاة، أو هو جمع أو اسم جمع لعابد- كخادم وخدم- وقرىء «أعبد» كأكلب، وعبيد جمع أو اسم جمع، «وعابدي» جمع بالياء، وقرأ ابن مسعود أيضا «ومن عبدوا» أُولئِكَ أي الموصوفون بتلك القبائح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 343 والفضائح وهو مبتدأ، وقوله سبحانه: شَرٌّ خبره، وقوله تعالى: مَكاناً تمييز محول عن الفاعل، وإثبات الشرارة لمكانهم ليكون أبلغ في الدلالة على شرارتهم، فقد صرحوا أن إثبات الشرارة لمكان الشيء كناية عن إثباتها له كقولهم: سلام على المجلس العالي والمجد بين برديه، فكأن شرهم أثر في مكانهم، أو عظم حتى صار مجسما. وجوّز أن يكون الإسناد مجازيا كجري النهر، وقيل: يجوز أن يكون المكان بمعنى محل الكون والقرار الذي يكون أمرهم إلى التمكن فيه أي شر منصرفا، والمراد به جهنم وبئس المصير، والجملة مستأنفة مسوقة منه تعالى شهادة عليهم بكمال الشرارة والضلال، وداخلة تحت الأمر تأكيدا للإلزام، وتشديدا للتبكيت، وجعلها- جوابا للسؤال الناشئ من الجملة الاستفهامية ليستقيم احتمال البدلية السابق- مما لا يكاد يستقيم. وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ أي أكثر ضلالا عن طريق الحق المعتدل، وهو دين الإسلام والحنيفية، وهو عطف على شَرٌّ مقرر له، وفيه دلالة على كون دينهم شرا محضا بعيدا عن الحق لأن ما يسلكونه من الطريق دينهم، فإذا كانوا أضل كان دينهم ضلالا مبينا لا غاية وراءه، والمقصود من صيغتي التفضيل الزيادة مطلقا من غير نظر إلى مشاركة غير في ذلك، وقيل: للتفضيل على زعمهم وقيل: إنه بالنسبة إلى غيرهم من الكفار. وقال بعضهم: لا مانع أن يقال: إن مكانهم في الآخرة شر من مكان المؤمنين في الدنيا لما لحقهم فيه من مكاره الدهر وسماع الأذى والهضم من جانب أعدائهم وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا نزلت- كما قال قتادة والسدي- في ناس من اليهود كانوا يدخلون على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيظهرون له الإيمان والرضا بما جاء به نفاقا، فالخطاب للرسول صلّى الله عليه وسلّم، والجمع للتعظيم، أو له عليه الصلاة وللسلام مع من عنده من أصحابه رضي الله تعالى عنهم أي إذا جاؤوكم أظهروا لكم الإسلام. وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ أي يخرجون من عندك كما دخلوا لم ينتفعوا بحضورهم بين يديك ولم يؤثر فيهم ما سمعوا منك، والجملتان في موضع الحال من ضمير قالُوا على الأظهر. وجوّز أبو البقاء أن يكونا حالين من الضمير في آمنا، وباء بالكفر، وبِهِ للملابسة، والجار والمجرور حالان من فاعل دَخَلُوا وخَرَجُوا والواو الداخلة على الجملة الاسمية الحالية للحال، ومن منع تعدد الجملة الحالية من غير عطف يقول: إنها عاطفة والمعطوف على الحال حال أيضا، ودخول قَدْ في الجملة الحالية الماضوية- كما قال العلامة الثاني- لتقرب الماضي إلى الحال فتكسر سورة استبعاد ما بين الماضي والحال في الجملة، وإلا- فقد- إنما تقرب إلى حال التكلم، وهذا إشارة إلى ما أوضحه السيد السند في حاشية المتوسط من أنه قيل: إن الماضي إنما يدل على انقضاء زمان قبل زمان التكلم، والحال الذي يبين هيئة الفاعل أو المفعول قيد لعامله، فإن كان العامل ماضيا كان الحال أيضا ماضيا بحسب المعنى، وإن كان حالا كان حالا، وإن كان مستقبلا كان مستقبلا، فما ذكروه غلط نشأ من اشتراك لفظ الحال بين الزمان الحاضر- وهو الذي يقابل الماضي- وبين ما يبين الحالة المذكورة، ثم قال: ويمكن أن يقال: إن الفعل إذا وقع قيدا لشيء يعتبر كونه ماضيا أو حالا أو مستقبلا بالنظر إلى ذلك المقيد، فإذا قيل: جاءني زيد ركب يفهم منه أن الركوب كان متقدما على المجيء فلا بد من قد حتى يقربه إلى زمان المجيء فيقارنه، وذكر نحو ذلك العلامة الكافيجي في شرح القواعد، ثم قال: وأما الاعتذار بأن تصدير الماضي المثبت بلفظة قَدْ لمجرد استحسان لفظي فإنما هو تسليم لذلك الاعتراض فليس بمقبول ولا مرضي انتهى. ولذلك زيادة تفصيل في محله، وقد ذكر لها معنى آخر في الآية غير التقريب وهو التوقع فتفيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يتوقع دخول أولئك الفجرة وخروجهم من خضيلة حضرته- أفرغ من يد تفت البر- مع لم يعلق بهم شيء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 344 مما سمعوا من تذكيره عليه الصلاة والسلام بآيات الله عز وجل لظنه بما يرى من الأمارات اللائحة عليهم نفاقهم الراسخ، ولذلك قال سبحانه: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ وفيه من الوعيد ما لا يخفى، وفي الكشاف إن أمارات النفاق كانت لائحة عليهم، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متوقعا لإظهار الله تعالى ما كتموه، فدخل حرف التوقع لذلك، واعترضه الطيبي بأن قَدْ موضوعة لتوقع مدخولها، وهو هاهنا عين النفاق، فكيف يقال لإظهار الله تعالى ما كتموه؟ وأجاب بأنه لا شك أن المتوقع ينبغي أن لا يكون حاصلا، وكونهم منافقين كان معلوما عنده صلوات الله تعالى وسلامه عليه بدليل قوله: «إن أمارات النفاق» إلخ فيجب المصير إلى المجاز، والقول بإظهار الله تعالى ما كتموه، وقال في الكشف معرضا به: إن الدخول في الكفر والخروج به إظهار له، فلذلك أدخل عليه حرف التوقع لا أنه عين النفاق ليحتاج إلى تجوز في رجوع التوقع إلى إظهاره، وإن ظهور أماراته غير إظهار الله تعالى إياه بإخباره سبحانه عنهم وأنهم متلبسون بالكفر متقلبون فيه خروجا ودخولا انتهى فليتأمل، وإنما لم يقل سبحانه وقَدْ خَرَجُوا على طرز الجملة الأولى إفادة لتأكيد الكفر حال الخروج لأنه خلاف الظاهر إذ كان الظاهر بعد تنور أبصارهم برؤية مطلع شمس الرسالة وتشنف أسماعهم بلآلئ كلمات بحر البسالة عليه الصلاة والسلام أن يرجعوا عما هم عليه من الغواية ويحلوا جياد قلوبهم العاطلة عن حلي الهداية، وأيضا أنهم إذا سمعوا قول النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنكروه ازداد كفرهم وتضاعف ضلالهم وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ أي من أولئك اليهود- كما روي عن ابن زيد- والخطاب لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم أو لكل من يصلح للخطاب، والرؤية بصرية، وقيل: قلبية، وقوله تعالى: يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ في موضع الحال من كَثِيراً الموصوف بالجار والمجرور، وقيل: مفعول ثان- لترى- والمسارعة مبادرة الشيء بسرعة، وإيثار فِي على إلى للإشارة إلى تمكنهم فيما يسارعون إليه تمكن المظروف في ظرفه، وإحاطته بأعمالهم، وقد مرت الإشارة إلى ذلك. والمراد بالإثم الحرام، وقيل: الكذب مطلقا، وقيل: الكذب بقولهم آمَنَّا لأنه إما إخبار أو إنشاء متضمن الإخبار بحصول صفة الإيمان لهم، واستدل على التخصيص بقوله تعالى الآتي: عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ، وأنت تعلم أنه لا يقتضيه، وقيل: المراد به الكفر، وروي ذلك عن السدي، ولعل الداعي لتخصيصه به كونه الفرد الكامل، والمراد من العدوان الظلم، أو مجاوزة الحد في المعاصي، وقيل: الإثم ما يختص بهم، والعدوان ما يتعدى إلى غيرهم، والكلام مسوق لوصفهم بسوء الأعمال بعد وصفهم لسوء الاعتقاد وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ أي الحرام مطلقا، وقال الحسن: الرشوة في الحكم والتنصيص على ذلك بالذكر مع اندراجه في المتقدم للمبالغة في التقبيح لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي لبئس شيئا يعملونه هذه الأمور- فما- نكرة موصوفة وقعت تمييزا لضمير الفاعل المستتر في- بئس- والمخصوص بالذم محذوف كما أشرنا إليه، وجوز جعل ما موصولة فاعل- بئس- والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ قال الحسن: الربانيون علماء الإنجيل والأحبار علماء التوراة، وقال غيره: كلهم في اليهود لأنه يتصل بذكرهم، ولَوْلا الداخلة على المضارع- كما قرره ابن الحاجب وغيره- للتحضيض، والداخلة على الماضي للتوبيخ، والمراد هنا تحضيض الذين يقتدي بهم أفناؤهم، ويعلمون قباحة ما هم فيه وسوء مغبته على نهي أسافلهم. عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ مع علمهم بقبحها واطلاعهم على مباشرتهم لهما، وفي البحر إن هذا التحضيض يتضمن توبيخهم على السكوت وترك النهي لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ الكلام فيه كالكلام السابق في نظيره خلا أن هذا أبلغ مما تقدم في حق العامة لما تقرر في اللغة والاستعمال أن الفعل ما صدر عن الحيوان مطلقا، فإن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 345 كان عن قصد سمي عملا ثم إن حصل بمزاولة وتكرر حتى رسخ وصار ملكة له سمي صنعا وصنعة وصناعة، فلذا كان الصنع أبلغ لاقتضائه الرسوخ، ولذا يقال للحاذق، صانع، وللثوب الجيد النسج: صنيع- كما قاله الراغب- ففي الآية إشارة إلى أن ترك النهي أقبح من الارتكاب، ووجه بأن المرتكب له في المعصية لذة وقضاء وطر بخلاف المقر له، ولذا ورد أن جرم الديوث أعظم من الزانيين. واستشكل ذلك بأنه يلزم عليه أن ترك النهي عن الزنا والقتل أشد إثما منهما وهو بعيد، وأجيب بأنه لا يبعد أن يكون إثم ترك النهي ممن يؤثر نهيه كف المنهي عن فعل المنهي عنه أشد من إثم المرتكب كيفما كان مرتكبه قتلا أو زنا، أو غيرهما، وقال الشهاب: إن قيد الأشدية يختلف بالاعتبار، فكونه أشد باعتبار ارتكاب ما لا فائدة له فيه لا ينافي كون المباشرة أكثر إثما منه فتأمل، وفي الآية- مما ينعى على العلماء توانيهم في النهي عن المنكرات- ما لا يخفى، ومن هنا قال الضحاك: ما أخوفني من هذه الآية، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ما في القرآن آية أشد توبيخا من هذه الآية، وقرىء- لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم العدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون وَقالَتِ الْيَهُودُ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وعكرمة والضحاك قالوا: إن الله تعالى قد بسط لليهود الرزق فلما عصوا أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كف عنهم ما كان بسط لهم، فعند ذلك قال فنحاص بن عازوراء رأس يهود قينقاع، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما النباش بن قيس يَدُ اللَّهِ عز وجل مَغْلُولَةٌ وحيث لم ينكر على القائل الآخرون ورضوا به نسبت تلك العظيمة إلى الكل، ولذلك نظائر تقدم كثير منها، وأرادوا بذلك- لعنهم الله تعالى- أنه سبحانه ممسك ما عنده بخيل به تعالى عما يقولون علوا كبيرا فإن كلّا من غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود، أو كناية عن ذلك، وقد استعمل حيث لا تصح يد كقوله: جاد الحمى بسط اليدين بوابل ... شكرت نداه تلاعه ووهاده ولقد جعلوا للشمال يدا كما في قوله: أضل صواره وتضيفته ... نطوف أمرها بيد الشمال «وقول لبيد» : وغداة ريح قد كشفت وقرة ... إذ أصبحت بيد الشمال زمامها ويقال: بسط اليأس كفيه في صدر فلان، فيجعل لليأس الذي هو من المعاني لا من الأعيان كفان، قال الشاعر: وقد رابني وهن المنى وانقباضها ... وبسط جديد اليأس كفيه في صدري وقيل: معناه أنه سبحانه فقير، كقوله تعالى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ [آل عمران: 181] ، وقيل: اليد هنا بمعنى النعمة أي إن نعمته مقبوضة عنا، وعن الحسن أن المعنى أن يد الله تعالى مكفوفة عن عذابنا فليس يعذبنا إلا بما يبر به قسمه قدر ما عبد آباؤنا العجل، وكأنه حمل اليد على القدرة، والغل على عدم التعلق. وقيل: لا يبعد أن يقصدوا اليد الجارحة فإنهم مجسمة، وقد حكي عنهم أنهم زعموا أن ربهم أبيض الرأس واللحية قاعد على كرسي، وأنه فرغ من خلق السموات والأرض يوم الجمعة واستلقى على ظهره واضعا إحدى رجليه على الأخرى وإحدى يديه على صدره للاستراحة مما عراه من النصب في خلق ذلك تعالى الله سبحانه عما يقولون علوا كبيرا، والأقوال كلها كما ترى، وكل العجب من الحسن رضي الله تعالى عنه من قول ذلك وليته لم يقل غير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 346 الحسن، ولعل نسبته إليه غير صحيحة، والذي تقتضيه البلاغة ويشهد له مساق الكلام القول الأول، ولا يبعد من قوم قالوا لموسى عليه الصلاة والسلام اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف: 138] وعبدوا العجل- أن يعتقدوا اتصاف الله عز وجل بالبخل ويقولوا ما قالوا، وقال أبو القاسم البلخي: يجوز أن يكون اليهود قالوا قولا واعتقدوا مذهبا يؤدي معناه إلى أن الله تعالى عز شأنه يبخل في حال ويجود في حال آخر، فحكي عنهم على وجه التعجب منهم والتكذيب لهم. وقال آخر: إنهم قالوا ذلك على وجه الهزء حيث لم يوسع سبحانه على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى أصحابه ولا يخفى أن ما روي في سبب النزول لا يساعد ذلك، وقيل: إنهم قالوا ذلك على سبيل الاستفهام والاستغراب، والمراد يد الله سبحانه مغلولة عنا حيث قتر المعيشة علينا، ولا يخفى بعده غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ دعاء عليهم بالبخل المذموم- كما قال الزجاج- ودعاؤه بذلك عبارة عن خلقه الشح في قلوبهم والقبض في أيديهم، ولا استحالة في ذلك على مذهب أهل الحق، ويجوز أن يكون دعاء عليهم بالفقر والمسكنة، وقيل: تغل الأيدي حقيقة، يغلون في الدنيا أسارى، وفي الآخرة معذبين في أغلال جهنم، ومناسبة هذا لما قبله حينئذ من حيث اللفظ فقط فيكون تجنيسا، وقيل: هي من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز كما تقول: سبني سب الله تعالى دابره، أي قطعه لأن السبب أصله القطع، وإلى هذا ذهب الزمخشري، واستطيبه الطيبي، وقال: إن هذه مشاكلة لطيفة بخلاف قوله: قالوا: اقترح شيئا نجد لك طبخه ... قلت: اطبخوا لي جبة وقميصا واختار أبو علي الجبائي أن ذلك إخبار عن حالهم يوم القيامة أي شدت أيديهم إلى أعناقهم في جهنم جزاء هذه الكلمة العظيمة، وحكاه الطبرسي عن الحسن، ثم قال: فعلى هذا يكون الكلام بتقدير الفاء أو الواو، فقد تم كلامهم واستؤنف بعده كلام آخر، ومن عادتهم أن يحذفوا فيما يجري هذا المجرى، ومن ذلك قوله: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً [البقرة: 67] ، وأنت تعلم أن مثل هذا على الاستئناف البياني، ولا حاجة فيه إلى تجشم مؤونة التقدير، على أن كلام الحسن- فيما نرى- ليس نصا في كون الجملة إخبارية إذ قصارى ما قال: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ في جهنم وهو محتمل لأن يكون دعاء عليهم بذلك وَلُعِنُوا أي أبعدوا عن رحمة الله تعالى وثوابه بِما قالُوا أي بسبب قولهم، أو بالذي قالوه من ذلك القول الشنيع، وهذا دعاء ثان معطوف على الدعاء الأول، والقائل بخبريته قائل بخيريته، وقرىء وَلُعِنُوا بسكون العين. بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ عطف على مقدر يقتضيه المقام أي كلا ليس الشأن كما زعموا بل في غاية ما يكون من الجود، وإليه- كما قيل- أشير بتثنية اليد، فإن أقصى ما تنتهي إليه همم الأسخياء أن يعطوا بكلتا يديهم، وقيل: اليد هنا أيضا بمعنى النعمة، وأريد بالتثنية نعم الدنيا ونعم الآخرة، أو النعم الظاهرة والنعم الباطنة أو ما يعطى للاستدراج وما يعطى للإكرام، وقيل: وروي عن الحسن أنها بمعنى القدرة كاليد الأولى، وتثنيتها باعتبار تعلقها بالثواب وتعلقها بالعقاب، وقيل: المراد من التثنية التكثير كما في ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الملك: 4] والمراد من التكثير مجرد المبالغة في كمال القدرة وسعتها لا أنها متعددة، ونظير ذلك قول الشاعر: فسرت أسرة طرتيه فغورت ... في الخصر منه وأنجدت في نجده فإنه لم يرد أن لذلك الرشا طرتين إذ ليس للإنسان إلا طرة واحدة وإنما أراد المبالغة. وقال سلف الأمة رضي الله تعالى عنهم: إن هذا من المتشابه، وتفويض تأويله إلى الله تعالى هو الأسلم، وقد صح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه أثبت لله عز وجل يدين، وقال: «وكلتا يديه يمين» ولم يرو عن أحد من أصحابه صلّى الله عليه وسلّم وعليهم أنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 347 أول ذلك بالنعمة، أو بالقدرة بل أبقوها كما وردت وسكتوا، ولئن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب لا سيما في مثل هذه المواطن، وفي مصحف عبد الله- بل يداه بسطان- يقال: يد بسط بالمعروف، ونحوه مشية سجح وناقة سرح يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ جملة مستأنفة واردة لتأكيد كمال جوده سبحانه لما فيها من الدلالة على تعميم الأحوال المستفاد من كَيْفَ وفيها تنبيه على سر ما ابتلوا به من الضيق الذي اتخذوه من غاية جهلهم وضلالهم ذريعة إلى الاجتراء على كلمة ملأ الفضاء قبحها، والمعنى أن ذلك ليس لقصور في فيضه بل لأن إنفاقه تابع لمشيئته المبنية على الحكم الدقيقة التي عليها تدور أفلاك المعاش والمعاد، وقد اقتضت الحكمة- إذ كفروا بآيات الله تعالى وكذبوا رسوله صلّى الله عليه وسلّم- أن يضيق عليهم، وكَيْفَ ظرف- ليشاء- والجملة في موضع نصب على الحالية من ضمير يُنْفِقُ أن ينفق كائنا على أي حال يشاء أي على مشيئته أي مريدا، وقيل: إن جملة يُنْفِقُ في موضع الحال من الضمير المجرور في يَداهُ واعترض بأن فيه الفصل بالخبر وبأنه مضاف إليه، والحال لا يجيء منه، ورد بأن الفصل بين الحال وذيها ليس بممتنع كما في قوله تعالى حكاية: هذا بَعْلِي شَيْخاً [هود: 72] إذ قيل: إن «شيخا» حال من اسم الإشارة، والعامل فيه التنبيه، وأن الممنوع مجيء الحال من المضاف إليه إذا لم يكن جزأ أو كجزء أو عاملا، وهاهنا المضاف جزء من المضاف إليه، أو كجزء فليس بممتنع، وجوّز أن تكون في موضع الحال من اليدين أو من ضميرهما، ورد بأنه لا ضمير لهما فيها، وأجيب بأنه لا مانع من تقدير ضمير لهما أي ينفق بهما، ومن هنا قيل: بجواز كونها خبرا ثانيا للمبتدأ، نعم التقدير خلاف الأصل، والظاهر، وهو إنما يقتضي المرجوحية لا الامتناع، وترك سبحانه ذكر ما ينفقه لقصد التعميم وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ وهم علماؤهم ورؤساؤهم، أو المقيمون على الكفر منهم مطلقا ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من القرآن المشتمل على هذه الآيات، وتقديم المفعول للاعتناء به مِنْ رَبِّكَ متعلق- بأنزل- كما أن إِلَيْكَ كذلك، وتأخيره عنه مع أن حق المبتدأ أن يقدم على المنتهى لاقتضاء المقام- كما قال شيخ الإسلام- الاهتمام ببيان المنتهى لأن مدار الزيادة هو النزول إليه صلّى الله عليه وسلّم، وفي التعبير بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى من التشريف، والموصول فاعل- ليزيدن- والإسناد مجازي، وكَثِيراً مفعوله الأول، ومِنْهُمْ صفته، وقوله تعالى: طُغْياناً وَكُفْراً مفعوله الثاني أي ليزيدنهم طغيانا على طغيانهم وكفرا على كفرهم القديمين، لأن الزيادة تقتضي وجود المزيد عليه قبلها، وهذه الزيادة إما من حيث الشدة والغلو، وإما من حيث الكم والكثرة إذ كلما نزلت آية كفروا بها فيزداد طغيانهم وكفرهم بحسب المقدار، وهذا كما أن الطعام للأصحاء يزيد المرضى مرضا، ويحتمل أن يراد- بما أنزل- النعم التي منحها الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام أي إنهم كفروا وتمادوا على الكفر وقالوا ما قالوا حيث ضيق الله تعالى عليهم وكف عنهم ما بسط لهم، فمتى رأوا مع ذلك بسط نعمائه وتواتر آلائه على نبيه صلّى الله عليه وسلّم الذي هو أعدى أعدائهم ازدادوا غيظا وحنقا على ربهم سبحانه، فضموا إلى طغيانهم الأول طغيانا وإلى كفرهم كفرا وحينئذ تلائم الآية ما قبلها أشد ملاءمة إلا أن ذلك لا يخلو عن بعد، ولم أر من ذكره. وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ أي اليهود. وقال في البحر: الضمير لليهود والنصارى لأنه قد جرى ذكرهم في قوله سبحانه: لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى ولشمول قوله عز وجل: يا أَهْلَ الْكِتابِ للفريقين، وروي ذلك عن الحسن ومجاهد. الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فلا تكاد تتوافق قلوبهم ولا تتحد كلمتهم، فمن اليهود جبرية ومنهم قدرية ومنهم مرجئة ومنهم مشبهة، والْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ بين فرقة وفرقة قائمتان على ساق، وكذا من النصارى الملكانية واليعقوبية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 348 والنسطورية، وحالهم حالهم في ذلك، وحال اليهود مع النصارى أظهر من أن تخفى، ورجح عود الضمير إلى اليهود بأن الكلام فيهم، وفائدة هذا الإخبار هنا إزاحة ما عسى أن يتوهم من ذكر طغيانهم وكفرهم من الاجتماع على أمر يؤدي إلى الإضرار بالمسلمين، وقال أبو حيان بعد أن أرجع الضمير للطائفتين: إن المعنى لا يزال اليهود والنصارى متباغضين متعادين قلما توافق إحدى الطائفتين الأخرى، ولا تجتمعان على قتالك وحربك، وفي ذلك إخبار بالغيب فإنه لم يجتمع لحرب المسلمين جيش يهود ونصارى منذ سل سيف الإسلام. وفرق السمين بين الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ بأن العداوة أخص من البغضاء لأن كل عدو مبغض وقد يبغض من ليس بعدو إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ متعلق- بألقينا- وجوز أن يتعلق بالبغضاء أي إن التباغض بينهم مستمر ما داموا، وليست حقيقة الغاية مرادة، ولم يجوز أن يتعلق- بالعداوة- لئلا يلزم الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ تصريح بما أشير إليه من عدم وصول غائلة ما هم فيه إلى المسلمين، والمراد كلما أرادوا محاربة الرسول صلّى الله عليه وسلّم ورتبوا مباديها ردهم الله تعالى وقهرهم بتفرق آرائهم وحل عزائمهم وإلقاء الرعب في قلوبهم، فإيقاد النار كناية عن إرادة الحرب، وقد كانت العرب إذا تواعدت للقتال جعلوا علامتهم إيقاد نار على جبل أو ربوة، ويسمونها نار الحرب، وهي إحدى نيران مشهورة عندهم، وإطفاؤها عبارة عن دفع شرهم، وحكي في البحر قولين في الآية: فعن قوم أن الإيقاد حقيقة، وكذا الإطفاء أي إنهم كلما أوقدوا نارا للمحاربة ألقى عليهم الرعب فتقاعدوا وأطفؤوها، وإضافة الإطفاء إليه تعالى إضافة المسبب إلى السبب الأصلي. وعن الجمهور أن الكلام مخرّج مخرج الاستعارة، والمراد من إيقاد النار إظهار الكيد بالمؤمنين الشبيه بالنار في الإضرار، ومن إطفائها صرف ذلك عن المؤمنين، ولعل القول بالكناية ألطف منهما، وكون المراد من الحرب محاربة الرسول صلّى الله عليه وسلّم هو المروي عن الحسن ومجاهد، وقيل: هو أعم من ذلك أي كلما أرادوا حرب أحد غلبوا، فإن اليهود لما خالفوا حكم التوراة سلط الله تعالى عليهم بختنصر، ثم أفسدوا فسلط سبحانه عليهم فطرس الرومي، ثم أفسدوا فسلط جل شأنه عليهم المجوس، ثم أفسدوا فسلط عليهم عز وجل رسوله عليه الصلاة والسلام، فأباد خضراءهم واستأصل شأفتهم. وفرق جمعهم وأذلهم فأجلى بني النضير وبني قينقاع، وقتل بني قريظة وأسر أهل خيبر، وغلب على فدك، ودان له أهل وادي القرى، وضرب على أهل الذمة الجزية وأبقاهم الله تعالى في ذل لا يعزون بعده أبدا، وإطفاء النار- على هذا- عبارة عن الغلبة عليهم قاتلهم الله تعالى، ولِلْحَرْبِ متعلق- بأوقدوا- واللام للتعليل، أو متعلق بمحذوف وقع صفة لنار، وهو الأوفق بالتسمية وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أي يجتهدون في الكيد للإسلام وأهله، وإثارة الشر والفتنة فيما بينهم مما يغاير ما عبر عنه بإيقاد نار الحرب كتغيير صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم وإدخال الشبه على ضعفاء المسلمين والمشي بالنميمة مع الافتراء ونحو ذلك، وفَساداً إما مفعول له وعليه اقتصر أبو البقاء، أو في موضع المصدر، أو حال من ضمير يَسْعَوْنَ أي يسعون للفساد، أو سعي فساد، أو مفسدين. وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ بل يبغضهم، ولذلك أطفأ نائرة فسادهم، واللام إما للجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا، وإما للعهد، ووضع المظهر موضع ضميرهم للتعليل وبيان كونهم راسخين في الإفساد. والجملة ابتدائية مسوقة لإزاحة ما عسى أن يتوهم من تأثير اجتهادهم شيئا من الضرر، وجعلها بعضهم في موضع الحال، وفائدتها مزيد تقبيح حالهم وتفظيع شأنهم وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ أي اليهود والنصارى على أن المراد بالكتاب الجنس الشامل للتوراة والإنجيل، ويمكن أن يراد بهم اليهود فقط، وذكر الإنجيل ليس نصا في اقتضاء العموم إلا أن الذي عليه عامة المفسرين العموم، وذكروا بذلك العنوان تأكيدا للتشنيع عليهم، والمراد بهم معاصر و الجزء: 3 ¦ الصفحة: 349 رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أي ولو أنهم مع صدور ما صدر منهم من فنون الجنايات قولا وفعلا آمَنُوا بما نفي عنهم الإيمان، فيندرج فيه فرض إيمانهم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وحذف المتعلق ثقة بظهوره مما سبق من قوله تعالى: هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ [المائدة: 59] إلخ، وما لحق من قوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ إلخ. وتخصيص المفعول بالإيمان به عليه الصلاة والسلام يأباه- كما قال شيخ الإسلام- المقام لأن ما ذكر فيما سبق وما لحق من كفرهم به عليه الصلاة والسلام إنما ذكر مشفوعا بكفرهم بكتابهم أيضا قصدا إلى الإلزام والتبكيت ببيان أن الكفر به صلّى الله عليه وسلّم مستلزم للكفر بكتابهم، فحمل الإيمان هاهنا على الإيمان به عليه الصلاة والسلام مخل بتجاوب النظم الكريم، وقدر قتادة فيما أخرجه عنه ابن حميد وغيره، المتعلق بما أنزل الله، وهو ميل إلى التعميم، وكذا عمم في قوله تعالى: وَاتَّقَوْا فقال: أي ما حرم الله تعالى. وقال شيخ الإسلام: ما عددنا من معاصيهم التي من جملتها مخالفة كتابهم لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ التي اقترفوها وسارعوا فيها وإن كانت في غاية العظمة، ولم نؤاخذهم بها، وجمعها جمع قلة إما باعتبار الأنواع وإما باعتبار أنها وإن كثرت قليلة بالنسبة إلى كرم الله تعالى، وقد أشرنا فيما تقدم أن جمع القلة قد يقوم مقام جمع الكثرة إذا اقتضاه المقام وَلَأَدْخَلْناهُمْ مع ذلك جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وجعل أبو حيان تكفير السيئات في مقابلة الإيمان، وإدخال جنات النعيم في مقابلة التقوى، وفسرها بامتثال الأوامر واجتناب النواهي، فالآية من باب التوزيع، والظاهر عدمه، وتكرير اللام لتأكيد الوعد، وفيه تنبيه على كمال عظم ذنوبهم وكثرة معاصيهم، وأن الإسلام يجب ما قبله وإن جل وجاوز الحد، وفي إضافة الجنات إلى النعيم تنبيه على ما يستحقونه من العذاب لو لم يؤمنوا ويتقوا. وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن مالك بن دينار أنه قال: جَنَّاتِ النَّعِيمِ بين جنات الفردوس وجنات عدن، وفيها جوار خلقن من ورد الجنة، قيل: فمن يسكنها؟ قال: الذين هموا بالمعاصي فلما ذكروا عظمة الله تعالى شأنه راقبوه، ولا يخفى أن مثل هذا لا يقال من قبل الرأي، والذي يقتضيه الظاهر أن يقال لسائر الجنات: جَنَّاتِ النَّعِيمِ وإن اختلفت مراتب النعيم فيها وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ أي وفوا حقهما بمراعاة ما فيهما من الأحكام التي من جملتها شواهد نبوته صلّى الله عليه وسلّم ومبشرات بعثته، وليس المراد مراعاة جميع ما فيها من الأحكام منسوخة كانت أو غيرها، فإن ذلك ليس من الإقامة في شيء وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ من القرآن المجيد المصدق لما بين يديه- كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- واختاره الجبائي وغيره، وقيل: المراد بالموصول كتب أنبياء بني إسرائيل- ككتاب شعيا وكتاب حزقيل وكتاب حبقوق وكتاب دانيال- فإنها مملوءة بالبشائر بمبعثه صلّى الله عليه وسلّم، واختاره أبو حيان، ويجوز أن يراد به ما يعم ذلك والقرآن العظيم، وإنزال الكتاب إلى أحد مجرد وصوله إليه، وإيجاب العمل به وإن لم يكن الوحي نازلا عليه، والتعبير عن القرآن بذلك العنوان للإيذان بوجوب إقامته عليهم لنزوله إليهم وللتصريح ببطلان ما كانوا يدعونه من عدم نزوله إلى بني إسرائيل، وتقديم إِلَيْهِمْ لما مر آنفا، وفي إضافة الرب إلى ضميرهم مزيد لطف بهم في الدعوة إلى الإقامة. لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ أي لأعطتهم السماء مطرها وبركتها والأرض نباتها وخيرها: كما قال سبحانه: لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: 96] قاله ابن عباس وقتادة ومجاهد، وقيل: المراد لانتفعوا بكثرة ثمار الأشجار وغلال الزروع، وقيل: بما يهدل من الثمار من رؤوس الأشجار وما يتساقط منها على الأرض، وقيل: بما يأتيهم من كبرائهم وملوكهم وما يعطيه لهم سفلتهم وعوامهم، وقيل: المراد المبالغة في شرح السعة والخصب لا تعيين الجهتين كأنه قيل: لأكلوا من كل جهة، وجعله الطبرسي نظير قولك: فلان في الخير من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 350 قرنه إلى قدمه أي يأتيه الخير من كل جهة يلتمسه منها، والمراد بالأكل الانتفاع مطلقا، وعبر عن ذلك به لكونه أعظم الانتفاعات ويستتبع سائرها، ومفعول- أكلوا- محذوف لقصد التعميم أو للقصد إلى نفس الفعل كما في قولك: فلان يعطي ويمنع، ومِنْ في الموضعين لابتداء الغاية. وسنشير إن شاء الله تعالى في باب الإشارة إلى سر ذكر الأرجل، وفي الشرطية الأولى ترغيب بأمر أخروي، وفي الثانية ترغيب بأمر دنيوي وتنبيه على أن ما أصاب أولئك الفجرة من الضنك والضيق إنما هو من شؤم جناياتهم لا لقصور في فيض الفياض، وتقديم الترغيب بالأمر الأخروي لأنه أهم إذا به النجاة السرمدية والنعيم المقيم، وخولف بين العبارتين، فقيل: أولا: آمَنُوا وَاتَّقَوْا وثانيا أَقامُوا ذا وذا سلوكا لطريق البلاغة قيل: ويشبه أن يكون ما في الشرطية الثانية إشارة إلى ما جرى على بني قريظة وبني النضير من قطع نخيلهم وإفساد زروعهم وإجلائهم عن أوطانهم، فكأنه قيل في حقهم: لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا لأقاموا في ديارهم وانتفعوا بنخيلهم وزروعهم لكنهم تعدوا عن الإقامة فحرموا وتاهوا في مهامه الضنك إذ ظلموا، وفرق بعضهم بين الشرطيتين بأن الأولى متحققة اللزوم في أهل الكتاب إلى يوم القيامة إذ لا شبهة في أنه إذا آمن كتابي واتقى كفّر الله تعالى عنه سيئاته وأدخله جل شأنه في رحمته سواء في ذلك معاصر النبي صلّى الله عليه وسلّم وغيره، ولا كذلك الشرطية الثانية فإن الظاهر اختصاص تحقق اللزوم في المعاصر إذ نرى كثيرا من أهل الكتاب اليوم بمعزل عن الإقامة المذكورة قد وسع عليه أكثر مما وسع على كثير ممن أقام، ونرى الكثير أيضا منهم يقيم التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم ويؤمن بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم على الوجه اللائق وهو في ضنك من العيش قبل ولا يتغير حاله، وربما كان في رفاهية حتى إذا أقام وقفت به سفينة العيش فوقع في حيص بيص، وجعلها كالشرطية الأولى، وحمل التوسعة على ما هو أعم من التوسعة الصورية الظاهرة والتوسعة المعنوية الباطنية- كأن يرزقهم سبحانه القناعة والرضا بما في أيديهم فيكون عندهم كالكثير وإن كان قليلا- لا أظنه يأخذ محلا من فؤادك ولا أحسبه حاسما لما يقال، والقول- بأنها كالأولى إلا أن الملازمة بين إقامتهم بأسرهم ما تقدم وانتفاعهم كذلك أي لو أنهم كلهم أقاموا التوراة إلخ لأكلوا كلهم من فوقهم إلخ لا لو أقام بعضهم- لا أراه إلا منكرا من القول وزورا. وذكر بعض المحققين أن بعضا فسر قوله سبحانه: لَأَكَلُوا إلخ بقوله: لوسع عليهم الرزق، وفسر التوسعة بأوجه ذكرها، ولم يجعله شاملا لرزق الدارين، ولو حمل على الترقي، وتفصيل ما أجمل في الأول شرطا وجزاء لكان وجها انتهى، وبهذا الوجه أقول وإليه أتوجه، وإني أراه كالمتعين إلا أن الشرطيتين عليه ليستا سواء، والإشكال فيه باق من وجه ولا مخلص عنه على ما أرى إلا بالذهاب إلى اختلاف الشرطيتين، ولعل النوبة تفضي إن شاء الله تعالى إلى تحقيق ما يتعلق بهذا المقام فتدبر مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ أي طائفة عادلة غير غالية ولا مقصرة- كما روي عن الربيع- وهم الذين أسلموا منهم وتابعوا النبي صلّى الله عليه وسلّم- كما قال مجاهد والسدي وابن زيد- واختاره الجبائي، وأولئك- كعبد الله بن سلام وأضرابه من اليهود- وثمانية وأربعون من النصارى، وقيل: المراد بهم النجاشي وأصحابه رضي الله تعالى عنهم، والجملة مستأنفة مبنية على سؤال نشأ من مضمون الشرطيتين المصدرتين بحرف الامتناع الدالتين على انتفاء الإيمان والاتقاء والإقامة المذكورات كأنه قيل: هل كلهم مصروف على عدم الإيمان وأخويه؟ فقيل: مِنْهُمْ إلخ، وتفسير الاقتصاد بالتوسط في العداوة بعيد، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ وهم الأجلاف المتعصبون- ككعب بن الأشرف وأشباهه والروم.. ساءَ ما يَعْمَلُونَ من العناد والمكابرة وتحريف الحق والإعراض عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 351 وقيل: من الإفراط في العداوة وَكَثِيرٌ مبتدأ، ومِنْهُمْ صفته، وساءَ كبئس للذم. وعن بعض النحاة أن فيها معنى التعجب- كقضو زيد- أي ما أقضاه، فالمعنى هنا ما أسوأ عملهم، وبعضهم يقول: هي لمجرد الذم والتعجب مأخوذ من المقام، وتمييزها محذوف، وما موصولة فاعل لها أي ساء عملا الذي يعملونه، ويجوز أن تكون ما نكرة في موضع التمييز، والجملة الإنشائية خبر للمبتدأ، والكلام في ذلك شهير. هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» : إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ أي صلاة الشهود والحضور الذاتي وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ أي زكاة وجودهم وَهُمْ راكِعُونَ أي خاضعون في البقاء بالله. والآية عند معظم المحدثين نزلت في عليّ كرم الله تعالى وجهه، والإمامية- كما علمت- يستدلون بها على خلافته بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلا فصل، وقد علمت منا ردهم- والحمد لله سبحانه- رد كلام وكثير من الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم يشير إلى القول بخلافته كرم الله تعالى وجهه بعد الرسول عليه الصلاة والسلام بلا فصل أيضا إلا أن تلك الخلافة عندهم هي الخلافة الباطنة التي هي خلافة الإرشاد والتربية والإمداد والتصرف الروحاني لا الخلافة الصورية التي هي عبارة عن إقامة الحدود الظاهرة وتجهيز الجيوش والذب عن بيضة الإسلام ومحاربة أعدائه بالسيف والسنان، فإن تلك عندهم على الترتيب الذي وقع كما هو مذهب أهل السنة، والفرق عندهم بين الخلافتين كالفرق بين القشر واللب، فالخلافة الباطنة لب الخلافة الظاهرة، وبها يذب عن حقيقة الإسلام، وبالظاهرة يذب عن صورته، وهي مرتبة القطب في كل عصر، وقد تجتمع مع الخلافة الظاهرة كما اجتمعت في علي كرم الله تعالى وجهه أيام إمارته، وكما تجتمع في المهدي أيام ظهوره، وهي والنبوة رضيعا ثدي، وإلى ذلك الإشارة بما يروونه عنه عليه الصلاة والسلام من قوله: «خلقت أنا وعلي من نور واحد» وكانت هذه الخلافة فيه كرم الله تعالى وجهه على الوجه الأتم. ومن هنا كانت سلاسل أهل الله عز وجل منتهية إليه إلا ما هو أعز من بيض الأنوق، فإنه ينتهي إلى الصديق رضي الله تعالى عنه كسلسلة ساداتنا النقشبندية نفعنا الله تعالى بعلومهم، ومع هذا ترد عليه كرم الله تعالى وجهه أيضا، وبتقسيم الخلافة إلى هذين القسمين جمع بعض العارفين بين الأحاديث المشعرة أو المصرحة بخلافة الأئمة الثلاثة رضي الله تعالى عنهم بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الترتيب المعلوم، وبين الأحاديث المشعرة أو المصرحة بخلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه بعده عليه الصلاة والسلام بلا فصل، فحمل الأحاديث الواردة في خلافة الخلفاء الثلاثة على الخلافة الظاهرة، والأحاديث الواردة في خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه على الخلافة الباطنة ولم يعطل شيئا من الأخبار، وقال بحقيقة خلافة الأربعة رضي الله تعالى عنهم أجمعين. وأنت تعلم أن هذا مشعر بأفضلية الأمير كرم الله تعالى وجهه على الخلفاء الثلاثة، وبعضهم يصرح بذلك، ويقول: بجواز خلافة المفضول خلافة صورية مع وجود الفاضل لكن قد قدمنا عن الشيخ الأكبر قدس الله تعالى سره أنه قال: ليس بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه رجل، وليس مقصوده سوى بيان المرتبة في الفضل فافهم وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فإنه من حزب الله تعالى أي أهل خاصته القائمين معه على شرائط الاستقامة فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ على أعدائهم الأنفسية والأفاقية، وقد صح «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله سبحانه لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تعالى وهم على ذلك» يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ أي حالكم الذي أنتم عليه في السير والسلوك هُزُواً وَلَعِباً فطعنوا فيه مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وهم المقتصرون على الظاهر فقط- كاليهود- أو على الباطن فقط- كالنصارى- وَالْكُفَّارَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 352 الذين حجبوا بأنفسهم عن الحق أَوْلِياءَ للمباينة في الأحوال وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ به عز شأنه وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ أي الحضور في حضرة الرب اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ الأسرار ولم يفهموا ما في الصلاة من بلوغ الأوطار، فقد صح «حبب لي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة» قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ وتنكرون مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ فجمعنا بين الظاهر والباطن وطرنا بهذين الجناحين إلى الحضرة القدسية وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ أي بدلنا صفاتهم بصفات هاتيك الحيوانات من الحيل والحرص والشهوة وقلة الغيرة وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ وهو كل ما يطغى مما سوى الله تعالى أي إنهم انقادوا إليه وخضعوا له، ومن أولئك من هو عابد الدرهم والدينار أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً لأنهم أبطلوا استعدادهم الفطري وضلوا ضلالا بعيدا وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ أي يقدمون بسرعة على جميع الرذائل لاعتيادهم لها وتدربهم فيها وكونها ملكات لنفوسهم، فالإثم رذيلة القوة النطقية والعدوان رذيلة القوى الغضبية، وأكل السحت رذيلة القوى الشهوية وَقالَتِ الْيَهُودُ لحرمانهم من الأسرار التي لا يطلع عليها أهل الظاهر يَدُ اللَّهِ تعالى عما يقولون مَغْلُولَةٌ فلا يفيض غير ما نحن فيه من العلوم الظاهرة غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وحرموا إلى يوم القيامة عن تناول ثمار أشجار الأسرار وَلُعِنُوا أي أبعدوا عن الحضرة الإلهية بِما قالُوا من تلك الكلمة العظيمة بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ بهما كَيْفَ يَشاءُ فيفيض حسب الحكمة من أنواع العلوم الظاهرة والباطنة على من وجده أهلا لذلك، وإلى الظاهر والباطن أشار صلّى الله عليه وسلّم «بالليل والنهار» فيما أخرجه البخاري وغيره «يد الله تعالى ملأى لا يغيضها سحاء الليل والنهار» وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا الإيمان الحقيقي وَاتَّقَوْا شرك أفعالهم وصفاتهم وذواتهم، ولو أنهم آمنوا بالعلوم الظاهرة وَاتَّقَوْا الإنكار والاعتراض على من روى من العلوم الباطنة وسلموا لهم أحوالهم كما قيل: وإذا لم تر الهلال فسلم ... لأناس رأوه بالأبصار لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ التي ارتكبوها وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ في مقابلة إيمانهم واتقائهم وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ بتحقق علوم الظاهر والقيام بحقوق تجليات الأفعال والمحافظة على أحكامها في المعاملات وَالْإِنْجِيلَ بتحقق علوم الباطن والقيام بحقوق تجليات الصفات والمحافظة على أحكامها في المكاشفات وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ من علم المبدأ والمعاد وتوحيد الملك والملكوت من عالم الربوبية الذي هو عالم الأسماء لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ أي لرزقوا من العالم الروحاني العلوم الإلهية والحقائق العقلية والمعارف الحقانية وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ أي من العالم السفلي الجسماني العلوم الطبيعية والإدراكات الحسية، وبالأول يهتدون إلى معرفة الله تعالى ومعرفة الملك والجبروت، وبالثاني يهتدون إلى معرفة عالم الملك، فيعرفون الله تعالى إذا تم لهم الأمران باسمه الباطن والظاهر بل بجميع الأسماء والصفات، وللطيبي هنا كلام طيب يصلح لهذا الباب، فإنه قال بعد أن حكى عن البعض أنه قال في لَأَكَلُوا إلخ: أي لوسع عليهم خير الدارين، وقلت: هذا في حق من عدد سيئاتهم من أهل الكتاب إذا أقاموا مجرد حدود التوراة والإنجيل، فما ظنك بالعارف السالك إذا قمع هوى النفس وانكمش من هذا العالم إلى معالم القدس معتصما بحبل الله تعالى وسنة حبيبه صلّى الله عليه وسلّم فإنه تعالى يفيض على قلبه سجال فضائله وسحائب بركاته، فكمن فيه كمون الأمطار في الأرض، فتظهر ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه. وفي تعليق الأكل من فوق ومن تحت الأرجل على الإقامة بما ذكر، واختصاص مِنْ الابتدائية ما يلوح إلى معنى قوله عليه الصلاة والسلام: «من عمل بما علم ورثه الله تعالى علم ما لم يعلم» لأنهم إذا أقاموا العمل بكتاب الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 353 سبحانه استنزل ذلك من فوقهم البركات، فإذا استجدوا العمل لتلك البركات المنزلة وقاموا عليها بثبات أقدامهم الراسخة استنزل ذلك لهم من الله عز وجل بركات هي أزكى من الأولى، فلا يزال العلم والعمل يتناوبان إلى أن ينتهي السالك إلى مقام القرب ومنازل العارفين، وفي ذكر الأرجل إشارة إلى حصول ثبات القدم ورسوخ العلم، وفي اقترانها مع تحت دلالة على مزيد الثبات وأنهم من الراسخين المقتبسين علومهم من مشكاة النبوة دون المتزلزلين الذين أخذوا علومهم من الأوهام، ولذا كتب بعض العارفين بهذه الآية إلى الإمام إرشادا له إلى معرفة طريق أهل الله عز شأنه انتهى. وقد وجه بعض أهل العبارة ممن هو مني في موضع التاج من الرأس لا زال باقيا ذكر الأرجل هنا بأنه للإشارة إلى أن المراد بقوله سبحانه: مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ الأمور السفلية الحاصلة بالسعي والاكتساب كما أن المراد بقوله تعالى: مِنْ فَوْقِهِمْ الأمور الحاصلة بمجرد الفيض، وحينئذ يقوى الطباق بين المتعاطفين. ولعلك تستنبط مما ذكره الطيبي غير هذا الوجه مما يوافق أيضا مشرب أهل الظاهر، فتدبر مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ، قيل: عادلة واصلة إلى توحيد الأسماء والصفات وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ وهم المحجوبون بالكلية الذين لن يصلوا إلى توحيد الأفعال بعد فضلا عن توحيد الصفات، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 354 يا أَيُّهَا الرَّسُولُ إلى الثقلين كافة وهو نداء تشريف لأن الرسالة منة الله تعالى العظمى وكرامته الكبرى، وفي هذا العنوان إيذان أيضا بما يوجب الإتيان بما أمر به صلّى الله عليه وسلّم من تبليغ ما أوحي إليه. بَلِّغْ أي أوصل الخلق ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ أي جميع ما أنزل كائنا ما كان مِنْ رَبِّكَ أي مالك أمرك ومبلغك إلى كمالك اللائق بك، وفيه عدة ضمنية بحفظه عليه الصلاة والسلام وكلاءته أي بلغه غير مراقب في ذلك أحدا ولا خائف أن ينالك مكروه أبدا وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ أي ما أمرت به من تبليغ الجميع. فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ أي فما أديت شيئا من رسالته لما أن بعضها ليس أولى بالأداء من بعض، فإذا لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعا كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها لإدلاء كل منها بما يدليه غيرها وكونها لذلك في حكم شيء واحد، والشيء الواحد لا يكون مبلغا غير مبلغ مؤمنا به غير مؤمن به، ولأن كتمان بعضها يضيع ما أدى منها كترك بعض أركان الصلاة فإن غرض الدعوة ينتقض به، واعترض القول بنفي أولوية بعضها من بعض بالأداء بأن الأولوية ثابتة باعتبار الوجوب قطعا وظنا وجلاء وخفاء أصلا وفرعا، وأجاب في الكشف بأنه نفى الأولوية نظرا إلى أصل الوجوب، وأيضا أن ذلك راجع إلى المبلغ، والكلام في التبليغ وهو غير مختلف الوجوب لأنه شيء واحد نظرا إلى ذاته، ثم كتمان البعض يدل على أنه لم ينظر إلى أنه مأمور بالتبليغ بل إلى ما في المبلغ من المصلحة، فكأنه لم يتمثل هذا الأمر أصلا فلم يبلغ، وإن أعلم الناس لم ينفعه لأنه مخبر إذ ذاك لا مبلغ، ونوقش في التعليل الثاني بأن الصلاة اعتبرها الشارع أمرا واحدا بخلاف التبليغ، وهي مناقشة غير واردة لأنه تعالى ألزمه عليه الصلاة والسلام تبليغ الجميع، فقد جعلها كالصلاة بلا ريب. ومما ذكرنا في تفسير الشرطية يعلم أن لا اتحاد بين الشرط والجزاء، ومن ادّعاه بناء على أن المآل إن لم تبلغ الرسالة لم تبلغ الرسالة- جعله نظير: أنا أبو النجم وشعري شعري. حيث جعل فيه الخبر عين المبتدأ بلا مزيد في اللفظ، وأراد- وشعري شعري- المشهور بلاغته والمستفيض فصاحته، ولكنه أخبر بالسكوت عن هذه الصفات التي بها تحصل الفائدة أنها من لوازم شعره في أفهام الناس السامعين لاشتهاره بها، وأنه غني عن ذكرها لشهرتها وذياعها، وكذلك كما قال ابن المنير: أريد في الآية- لأن عدم تبليغ الرسالة أمر معلوم عند الناس مستقر في الأفهام- أنه عظيم شنيع ينعي على مرتكبه، ألا ترى أن عدم نشر العلم من العالم أمر فظيع؟ فكيف كتمان الرسالة من الرسول؟! فاستغنى عن ذكر الزيادات التي يتفاوت بها الشرط والجزاء للصوقها بالجزاء في الأفهام، وأن كل من سمع عدم تبليغ الرسالة فهم ما وراءه من الوعيد والتهديد، وحسن هذا الأسلوب في الكتاب العزيز بذكر الشرط عاما حيث قال سبحانه: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ولم يقل: وإن لم تبلغ الرسالة فما بلغت الرسالة ليتغايرا لفظا وإن اتحدا معنى، وهذا أحسن رونقا وأظهر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 355 طلاوة من تكرار اللفظ الواحد في الشرط والجزاء، وهذه الذروة انحط عنها أبو النجم بذكر المبتدأ بلفظ الخبر، وحق له أن تتضاءل فصاحته عند فصاحة المعجز، فلا معاب عليه في ذلك، وقيل: إن المراد فإن لم تفعل فلك ما يوجبه كتمان الوحي كله، فوضع السبب موضع المسبب، ويعضده ما أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وأخرجه أبو الشيخ وابن حبان في تفسيره من مرسل الحسن أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «بعثني الله تعالى بالرسالة فضقت بها ذرعا، فأوحى الله تعالى إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك وضمن لي العصمة فقويت» . وقيل: إن المراد إن تركت تبليغ ما أنزل إليك حكم عليك بأنك لم تبلغ أصلا، وقيل- وليته ما قيل- المراد بما أنزل القرآن، وبما في الجواب بقية المعجزات، وقيل: غير ذلك، واستدل بالآية على أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يكتم شيئا من الوحي، ونسب إلى الشيعة أنهم يزعمون أنه عليه الصلاة والسلام كتم البعض تقية. وعن بعض الصوفية أن المراد تبليغ ما يتعلق به مصالح العباد من الأحكام، وقصد بإنزاله اطلاعهم عليه، وأمّا ما خص به من الغيب ولم يتعلق به مصالح أمته فله بل عليه كتمانه، وروى السلمي عن جعفر رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى [النجم: 10] قال: أوحى بلا واسطة فيما بينه وبينه سرا إلى قلبه، ولا يعلم به أحد سواه إلا في العقبى حين يعطيه الشفاعة لأمته، وقال الواسطي- ألقى إلى عبده ما ألقى- ولم يظهر ما الذي أوحى لأنه خصه سبحانه به صلّى الله عليه وسلّم، وما كان مخصوصا به عليه الصلاة والسلام كان مستورا، وما بعثه الله تعالى به إلى الخلق كان ظاهرا، قال الطيبي: وإلى هذا ينظر معنى ما روينا في صحيح البخاري عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: حفظت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعاءين: فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع مني هذا البلعوم- أراد عنقه- وأصل معناه مجرى الطعام، وبذلك فسره البخاري، ويسمون ذلك علم الأسرار الإلهية وعلم الحقيقة، وإلى ذلك أشار رئيس العارفين علي زين العابدين حيث قال: إني لأكتم من علمي جواهره ... كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا وقد تقدم في هذا أبو حسن ... إلى الحسين، وأوصى قبله الحسنا فرب جوهر علم لو أبوح به ... لقيل لي: أنت ممن يعبد الوثنا ولاستحل رجال مسلمون دمي ... يرون أقبح ما يأتونه حسنا ومن ذلك علم وحدة الوجود، وقد نصوا على أنه طور ما وراء طور العقل، وقالوا: إنه مما تعلمه الروح بدون واسطة العقل، ومن هنا قالوا بالعلم الباطن على معنى أنه باطن بالنسبة إلى أرباب الأفكار، وذوي العقول المنغمسين في أوحال العوائق والعلائق لا المتجردين العارجين إلى حضائر القدس ورياض الأنوار. وقد ذكر الشيخ عبد الوهاب الشعراني روح الله تعالى روحه في كتابه الدرر المنثورة في بيان زبد العلوم المشهورة ما نصه: وأما زبدة علم التصوف الذي وضع القوم فيه رسائلهم فهو نتيجة العمل بالكتاب والسنة، فمن عمل بما علم تكلم كما تكلموا وصار جميع ما قالوه بعض ما عنده، لأنه كلما ترقى العبد في باب الأدب مع الله تعالى دق كلامه على الأفهام، حتى قال بعضهم لشيخه: إن كلام أخي فلان يدق على فهمي، فقال: لأن لك قميصين وله قميص واحد فهو أعلى مرتبة منك، وهذا هو الذي دعا الفقهاء ونحوهم من أهل الحجاب إلى تسمية علم الصوفية بعلم الباطن، وليس ذلك بباطن إذ الباطن إنما هو علم الله تعالى، وأما جميع ما علمه الخلق على اختلاف طبقاتهم فهو من علم الظاهر لأنه ظهر للخلق، فاعلم ذلك انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 356 وقد فهم بعضهم كون المراد تبليغ الأحكام وما يتعلق بها من المصالح دون ما يشمل علم الأسرار من قوله سبحانه: مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ دون ما تعرفنا به إليك، وذكر أن علم الأسرار لم يكن منزلا بالوحي بل بطريق الإلهام والمكاشفة، وقيل: يفهم ذلك من لفظ الرسالة، فإن الرسالة ما يرسل إلى الغير، وقد أطال بعض الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم الكلام في هذا المقام، والتحقيق عندي أن جميع ما عند النبي صلّى الله عليه وسلّم من الأسرار الإلهية وغيرها من الأحكام الشرعية قد اشتمل عليه القرآن المنزل. فقد قال سبحانه: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89] وقال تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 38] ، وقال صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه الترمذي وغيره: «ستكون فتن، قيل: وما المخرج منها؟ قال: كتاب الله تعالى فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما فيكم» ، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: أنزل في هذا القرآن كل علم وبين لنا فيه كل شيء ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه: جميع ما حكم به النبي صلّى الله عليه وسلّم فهو مما فهمه من القرآن، ويؤيد ذلك ما رواه الطبراني في الأوسط من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إني لا أحل إلا ما أحل الله تعالى في كتابه ولا أحرم إلا ما حرم الله تعالى في كتابه» ، وقال المرسي: جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم به، ثم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خلا ما استأثر به سبحانه، ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأعلامهم مثل الخلفاء الأربعة ومثل ابن مسعود وابن عباس رضي الله تعالى عنهما، حتى قال: لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى، ثم ورث عنهم التابعون بإحسان، ثم تقاصرت الهمم وفترت العزائم وتضاءل أهل العلم وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه، فنوّعوا علومه، وقامت كل طائفة بفن من فنونه. وقال بعضهم: ما من شيء إلا يمكن استخراجه من القرآن لمن فهمه الله تعالى حتى أن البعض استنبط عمر النبي صلّى الله عليه وسلّم ثلاثا وستين سنة من قوله سبحانه في سورة المنافقين: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها [المنافقون: 11] فإنها رأس ثلاث وستين سورة، وعقبها- بالتغابن- ليظهر التغابن في فقده بنفس ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهذا مما لا يكاد ينتطح فيه كبشان، فإذا ثبت أن جميع ذلك في القرآن كان تبليغ القرآن تبليغا له، غاية ما في الباب أن التوقيف على تفصيل ذلك سرا سرا وحكما حكما لم يثبت بصريح العبارة لكل أحد، وكم من سر وحكم نبهت عليهما الإشارة ولم تبينهما العبارة، ومن زعم أن هناك أسرارا خارجة عن كتاب الله تعالى تلقاها الصوفية من ربهم بأي وجه كان، فقد أعظم الفرية وجاء بالضلال ابن السبهلل بلا مرية. وقول بعضهم: أخذتم علمكم ميتا عن ميت ونحن أخذناه عن الحي الذي لا يموت، لا يدل على ذلك الزعم لجواز أن يكون ذلك الأخذ من القرآن بواسطة فهم قدسي أعطاه الله تعالى لذلك الآخذ، ويؤيد هذا ما صح عن أبي جحيفة، قال: قلت لعلي كرم الله تعالى وجهه: هل عندكم كتاب خصكم به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: لا إلا كتاب الله تعالى أو فهم أعطيه رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة- وكانت متعلقة بقبضة سيفه- قال: قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر. ويفهم منه- كما قال القسطلاني- جواز استخراج العالم من القرآن بفهمه ما لم يكن منقولا عن المفسرين إذا وافق أصول الشريعة، وما عند الصوفية- على ما أقول- كله من هذا القبيل إلا أن بعض كلماتهم مخالف ظاهرها لما جاءت به الشريعة الغراء، لكنها مبنية على اصطلاحات فيما بينهم إذا علم المراد منها يرتفع الغبار، وكونهم ملامين على تلك الاصطلاحات لقول علي كرم الله تعالى وجهه كما في صحيح البخاري- حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 357 أن يكذب الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم- أو غير ملامين لوجود داع لهم إلى ذلك على ما يقتضيه حسن الظن بهم بحث آخر لسنا بصدده. وقريب من خبر أبي جحيفة ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عنترة، قال: كنت عند ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فجاءه رجل، فقال: إن ناسا يأتونا فيخبرونا أن عندكم شيئا لم يبده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للناس، فقال: ألم تعلم أن الله تعالى قال: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ؟ والله ما ورّثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سوداء في بيضاء، وحمل- وعاء أبي هريرة رضي الله تعالى عنه الذي لم يبثه على علم الأسرار- غير متعين لجواز أن يكون المراد منه أخبار الفتن. وأشراط الساعة وما أخبر به الرسول صلّى الله عليه وسلّم من فساد الدين على أيدي أغيلمة من سفهاء قريش، وقد كان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يقول: لو شئت أن أسميهم بأسمائهم لفعلت، أو المراد الأحاديث التي فيها تعيين أسماء أمراء الجور وأحوالهم وذمهم، وقد كان رضي الله تعالى عنه يكني عن بعض ذلك ولا يصرح خوفا على نفسه منهم بقوله: أعوذ بالله سبحانه من رأس الستين وإمارة الصبيان، يشير إلى خلافة يزيد الطريد لعنه الله تعالى على رغم أنف أوليائه لأنها كانت سنة ستين من الهجرة، واستجاب الله تعالى دعاء أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، فمات قبلها بسنة، وأيضا قال القسطلاني: لو كان كذلك لما وسع أبي هريرة كتمانه مع ما أخرج عنه البخاري أنه قال: إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة الحديث، ولولا آيتان في كتاب الله تعالى ما حدثت حديثا ثم يتلو إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى إلى قوله تعالى: الرَّحِيمِ [البقرة: 159، 160] إلى آخر ما قال، فإن ما تلاه دال على ذم كتمان العلم لا سيما العلم الذي يسمونه علم الأسرار فإن الكثير منهم يدعي أنه لب ثمرة العلم، وأيضا إن أبا هريرة نفى بث ذلك الوعاء على العموم من غير تخصيص، فكيف يستدل به لذلك، وأبو هريرة لم يكشف مستوره فيما أعلم؟ فمن أين علم أن الذي علمه هو هذا؟! ومن ادعى فعليه البيان، ودونه قطع الأعناق. فالاستدلال بالخبر لطريق القوم فيه ما فيه، ومثله ما روي عن زين العابدين رضي الله تعالى عنه، نعم للقوم متمسك غير هذا مبين في موضعه لكن لا يسلم لأحد كائنا من كان أن ما هم عليه مما خلا عنه كتاب الله تعالى الجليل، أو أنه أمر وراء الشريعة، ومن برهن على ذلك بزعمه فقد ضل ضلالا بعيدا، فقد قال الشعراني قدس سره في الأجوبة المرضية عن الفقهاء والصوفية: سمعت سيدي عليا المرصفي يقول: لا يكمل الرجل في مقام المعرفة والعلم حتى يري الحقيقة مؤيدة للشريعة، وإن التصوف ليس بأمر زائد على السنة المحمدية، وإنما هو عينها. وسمعت سيدي عليا الخواص يقول مرارا: من ظن أن الحقيقة تخالف الشريعة أو عكسه فقد جهل لأنه ليس عند المحققين شريعة تخالف حقيقة أبدا، حتى قالوا: شريعة بلا حقيقة عاطلة وحقيقة بلا شريعة باطلة، خلاف ما عليه القاصرون من الفقهاء والفقراء، وقد يستند من زعم المخالفة بين الحقيقة والشريعة إلى قصة الخضر مع موسى عليهما السلام، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك على وجه لا يستطيع المخالف معه على فتح شفة. ومما نقلنا عن القسطلاني في خبر أبي جحيفة يعلم الجواب عما قيل في الاعتراض على الصوفية: من أن ما عندهم إن كان موافقا للكتاب والسنة فهما بين أيدينا، وإن كان مخالفا لهما فهو ردّ عليهم، وما بعد الحق إلا الضلال، والجواب باختيار الشق الأول وكون الكتاب والسنة بين أيدينا لا يستدعي عدم إمكان استنباط شيء منهما بعد، ولا يقتضي انحصار ما فيهما فيما علمه العلماء قبل، فيجوز أن يعطي الله تعالى لبعض خواص عباده فهما يدرك به منهما ما لم يقف عليه أحد من المفسرين والفقهاء المجتهدين في الدين، وكم ترك الأول للآخر، وحيث سلم للأئمة الأربعة مثلا اجتهادهم واستنباطهم من الآيات والأحاديث، مع مخالفة بعضهم بعضا فما المانع من أن يسلم للقوم ما فتح لهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 358 من معاني كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم وإن خالف ما عليه بعض الأئمة، لكن لم يخالف ما انعقد عليه الإجماع الصريح من الأمة المعصومة، وأرى التفرقة بين الفريقين مع ثبوت علم كل في القبول والرد تحكما بحتا كما لا يخفى على المنصف، وزعمت الشيعة أن المراد «بما أنزل إليك» خلافة علي كرم الله تعالى وجهه، فقد رووا بأسانيدهم عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن الله تعالى أوحى إلى نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يستخلف عليا كرم الله تعالى وجهه، فكان يخاف أن يشق ذلك على جماعة من أصحابه فأنزل الله تعالى هذه الآية تشجيعا له عليه الصلاة والسلام بما أمره بأدائه. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: نزلت هذه الآية في علي كرم الله تعالى وجهه حيث أمر سبحانه أن يخبر الناس بولايته فتخوّف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقولوا حابى ابن عمه وأن يطعنوا في ذلك عليه، فأوحى الله تعالى إليه هذه الآية فقام بولايته يوم غدير خم، وأخذ بيده فقال عليه الصلاة والسلام: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وأخرج الجلال السيوطي في الدر المنثور عن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر راوين عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت هذه الآية على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم غدير خم في علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه، وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: كنا نقرأ على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أن عليا ولي المؤمنين وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وخبر الغدير عمدة أدلتهم على خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه، وقد زادوا فيه إتماما لغرضهم زيادات منكرة ووضعوا في خلاله كلمات مزورة ونظموا في ذلك الأشعار وطعنوا على الصحابة رضي الله تعالى عنهم بزعمهم أنهم خالفوا نص النبي المختار صلّى الله عليه وسلّم، فقال إسماعيل بن محمد الحميري- عامله الله تعالى بعدله- من قصيدة طويلة: عجبت من قوم أتوا أحمدا ... بخطة ليس لها موضع قالوا له: لو شئت أعلمتنا ... إلى من الغاية والمفزع إذا توفيت وفارقتنا ... وفيهم في الملك من يطمع؟ فقال: لو أعلمتكم مفزعا ... كنتم عسيتم فيه أن تصنعوا كصنع أهل العجل إذ فارقوا ... هارون فالترك له أورع ثم أتته بعده عزمة ... من ربه ليس لها مدفع أبلغ وإلا لم تكن مبلغا ... والله منهم عاصم يمنع فعندها قام النبي الذي ... كان بما يأمره يصدع يخطب مأمورا وفي كفه ... كف على نورها يلمع رافعها، أكرم بكف الذي ... يرفع، والكف التي ترفع من كنت مولاه فهذا له ... مولى فلم يرضوا ولم يقنعوا وظل قوم غاظهم قوله ... كأنما آنافهم تجدع حتى إذا واروه في لحده ... وانصرفوا عن دفنه ضيعوا ما قال بالأمس وأوصى به ... واشتروا الضر بما ينفع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 359 وقطعوا أرحامهم بعده ... فسوف يجزون بما قطعوا وأزمعوا مكرا بمولاهم ... تبا لما كانوا به أزمعوا لا هم عليه يردوا حوضه ... غدا، ولا هو لهم يشفع إلى آخر ما قال لا غفر الله تعالى له عثرته ولا أقال، وأنت تعلم أن أخبار الغدير التي فيها الأمر بالاستخلاف غير صحيحة عند أهل السنة ولا مسلمة لديهم أصلا، ولنبين ما وقع هناك أتم تبيين ولنوضح الغث منه والسمين، ثم نعود على استدلال الشيعة بالإبطال ومن الله سبحانه الاستمداد وعليه الاتكال، فنقول: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم في مكان بين مكة والمدينة عند مرجعه من حجة الوداع قريب من الجحفة يقال له: غدير خم، فبين فيها فضل علي كرم الله تعالى وجهه وبراءة عرضه مما كان تكلم فيه بعض من كان معه بأرض اليمن بسبب ما كان صدر منه من المعدلة التي ظنها بعضهم جورا وتضييقا وبخلا، والحق مع علي كرم الله تعالى وجهه في ذلك، وكانت يوم الأحد ثامن عشر ذي الحجة تحت شجرة هناك. فروى محمد بن إسحاق عن يحيى بن عبد الله عن يزيد بن طلحة قال: لما أقبل علي كرم الله تعالى وجهه من اليمن ليلقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة تعجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واستخلف على جنده الذين معه رجلا من أصحابه، فعمد ذلك الرجل فكسا كل رجل حلة من البز الذي كان مع علي كرم الله تعالى وجهه، فلما دنا جيشه خرج ليلقاهم فإذا عليهم الحلل، قال: ويلك ما هذا؟ قال: كسوت القوم ليتجملوا به إذا قدموا في الناس، قال: ويلك انتزع قبل أن ننتهي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: فانتزع الحلل من الناس فردها في البز، وأظهر الجيش شكواه لما صنع بهم. وأخرج عن زينب بنت كعب- وكانت عند أبي سعيد الخدري- عن أبي سعيد قال: اشتكى الناس عليا كرم الله تعالى وجهه، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فينا خطيبا فسمعته يقول: أيها الناس لا تشكوا عليا فو الله إنه لأخشن في ذات الله تعالى- أو في سبيل الله تعالى. ورواه الإمام أحمد، وروي أيضا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن بريدة الأسلمي قال: غزوت مع علي اليمن فرأيت منه جفوة، فلما قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكرت عليا كرم الله تعالى وجهه، فرأيت وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد تغير، فقال بريدة: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت: بلى يا رسول الله قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، وكذا رواه النسائي بإسناد جيد قوى رجاله كلهم ثقات، وروي بإسناد آخر تفرد به، وقال الذهبي: إنه صحيح عن زيد بن أرقم قال: لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حجة الوداع ونزل غدير خم أمر بدوحات فغممن، ثم قال: كأني قد دعيت فأجبت إني قد تركت فيكم الثقلين كتاب الله تعالى وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما فإنهما لم يفترقا حتى يردا على الحوض، الله تعالى مولاي وأنا ولي كل مؤمن، ثم أخذ بيد علي كرم الله تعالى وجهه، فقال: من كنت مولاه فهذا وليه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، فما كان في الدوحات أحد إلا رآه بعينه وسمعه بأذنيه. وروى ابن جرير عن علي بن زيد وأبي هارون العبيدي وموسى بن عثمان عن البراء قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع فلما أتينا على غدير خم كسح لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم تحت شجرتين ونودي في الناس الصلاة جامعة، ودعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليا كرم الله تعالى وجهه وأخذ بيده وأقامه عن يمينه، فقال: ألست أولى بكل امرئ من نفسه؟ قالوا: بلى، قال: فإن هذا مولى من أنا مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، فلقيه عمر بن الخطاب فقال رضي الله تعالى عنه: هنيئا لك أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة - وهذا ضعيف- فقد نصوا أن علي بن زيد وأبا هارون وموسى ضعفاء لا يعتمد على روايتهم، وفي السند أيضا- أبو إسحاق- وهو شيعي مردود الرواية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 360 وروى ضمرة بإسناده عن أبي هريرة قال: لما أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يد علي كرم الله تعالى وجهه قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، فأنزل الله تعالى الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: 3] ثم قال أبو هريرة: وهو يوم غدير خم، ومن صام يوم ثماني عشرة من ذي الحجة كتب الله تعالى له صيام ستين شهرا، وهو حديث منكر جدا، ونص في البداية والنهاية على أنه موضوع، وقد اعتنى بحديث الغدير أبو جعفر بن جرير الطبري فجمع فيه مجلدين أورد فيهما سائر طرقه وألفاظه، وساق الغث والسمين والصحيح والسقيم على ما جرت به عادة كثير من المحدثين، فإنهم يوردون ما وقع لهم في الباب من غير تمييز بين صحيح وضعيف، وكذلك الحافظ الكبير أبو القاسم ابن عساكر أورد أحاديث كثيرة في هذه الخطبة، والمعول عليه فيها ما أشرنا إليه، ونحوه مما ليس فيه خبر الاستخلاف كما يزعمه الشيعة، وعن الذهبي أن من كنت مولاه فعلي مولاه متواتر يتيقن أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قاله، وأما اللهم وال من والاه، فزيادة قوية الإسناد، وأما صيام ثماني عشرة ذي الحجة فليس بصحيح- ولا والله نزلت تلك الآية إلا يوم عرفة قبل غدير خم بأيام. والشيخان لم يرويا خبر الغدير في صحيحهما لعدم وجدانهما له على شرطهما، وزعمت الشيعة أن ذلك لقصور وعصبية فيهما وحاشاهما من ذلك، ووجه استدلال الشيعة بخبر- من كنت مولاه فعلي مولاه- أن المولى بمعنى الأولى بالتصرف، وأولوية التصرف عين الإمامة، ولا يخفى أن أول الغلط في هذا الاستدلال جعلهم المولى بمعنى الأولى، وقد أنكر ذلك أهل العربية قاطبة بل قالوا: لم يجىء مفعل بمعنى أفعل أصلا، ولم يجوز ذلك إلا أبو زيد اللغوي متمسكا بقول أبي عبيدة في تفسير قوله تعالى: هِيَ مَوْلاكُمْ [الحديد: 15] أي أولى بكم. وردّ بأنه يلزم عليه صحة فلان مولى من فلان كما يصح فلان أولى من فلان، واللازم باطل إجماعا فالملزوم مثله، وتفسير أبي عبيدة بيان لحاصل المعنى، يعني النار مقركم ومصيركم. والموضع اللائق بكم، وليس نصا في أن لفظ المولى ثمة بمعنى الأولى، والثاني أنا لو سلمنا أن المولى بمعنى الأولى لا يلزم أن يكون صلته بالتصرف، بل يحتمل أن يكون المراد أولى بالمحبة وأولى بالتعظيم ونحو ذلك، وكم قد جاء الأولى في كلام لا يصح معه تقدير التصرف كقوله تعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران: 68] على أن لنا قرينتين على أن المراد من الولاية من لفظ المولى أو الأولى: المحبة، إحداهما ما رويناه عن محمد بن إسحاق في شكوى الذين كانوا مع الأمير كرم الله تعالى وجهه في اليمن- كبريدة الأسلمي وخالد بن الوليد وغيرهما- ولم يمنع صلّى الله عليه وسلّم الشاكين بخصوصهم مبالغة في طلب موالاته وتلطفا في الدعوة إليها كما هو الغالب في شأنه صلّى الله عليه وسلّم في مثل ذلك، وللتلطف المذكور افتتح الخطبة صلّى الله عليه وسلّم بقوله: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وثانيهما قوله عليه الصلاة والسلام على ما في بعض الروايات: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، فإنه لو كان المراد من المولى المتصرف في الأمور أو الأولى بالتصرف لقال عليه الصلاة والسلام: اللهم وال من كان في تصرفه وعاد من لم يكن كذلك، فحيث ذكر صلّى الله عليه وسلّم المحبة والعداوة فقد نبه على أن المقصود إيجاب محبته كرم الله تعالى وجهه والتحذير عن عداوته وبغضه لا التصرف وعدمه، ولو كان المراد الخلافة لصرح صلّى الله عليه وسلّم بها. ويدل لذلك ما رواه أبو نعيم عن الحسن المثنى بن الحسن السبط رضي الله تعالى عنهما أنهم سألوه عن هذا الخبر، هل هو نص على خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه؟ فقال: لو كان النبي صلّى الله عليه وسلّم أراد خلافته لقال: أيها الناس هذا ولي أمري والقائم عليكم بعدي فاسمعوا وأطيعوا، ثم قال الحسن: أقسم بالله سبحانه أن الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم لو آثر عليا لأجل هذا الأمر- ولم يقدم علي كرم الله تعالى وجهه عليه- لكان أعظم الناس خطأ، وأيضا ربما يستدل على أن المراد بالولاية المحبة بأنه لم يقع التقييد بلفظ بعدي، والظاهر حينئذ اجتماع الولايتين في زمان واحد، ولا يتصور الجزء: 3 ¦ الصفحة: 361 الاجتماع على تقدير أن يكون المراد أولوية التصرف بخلاف ما إذا كان المراد المحبة، وتمسك الشيعة في إثبات أن المراد بالمولى الأولى بالتصرف باللفظ الواقع في صدر الخبر على إحدى الروايات، وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ونحن نقول: المراد من هذا أيضا الأولى بالمحبة يعني ألست أولى: بالمؤمنين من أنفسهم بالمحبة، بل قد يقال: الأولى هاهنا مشتق من الولاية بمعنى المحبة، والمعنى ألست أحب إلى المؤمنين من أنفسهم؟ ليحصل تلاؤم أجزاء الكلام ويحسن الانتظام، ويكون حاصل المعنى هكذا: يا معشر المؤمنين إنكم تحبوني أكثر من أنفسكم، فمن يحبني يحب عليا اللهم أحب من أحبه وعاد من عاداه، ويرشد إلى أنه ليس المراد بالأولى- في تلك الجملة- الأولى بالتصرف أنها مأخوذة من قوله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ [الأحزاب: 6] وهو مسوق لنفي نسب الأدعياء ممن يتبنونهم، وبيانه أن زيد بن حارثة لا ينبغي أن يقال: إنه ابن محمد صلّى الله عليه وسلّم لأن نسبة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى جميع المؤمنين كالأب الشفيق بل أزيد، وأزواجه عليه والسلام أمهاتهم، والأقرباء في النسب أحق وأولى من غيرهم، وإن كانت الشفقة والتعظيم للأجانب أزيد لكن مدار النسب على القرابة وهي مفقودة في الأدعياء لا على الشفقة والتعظيم، وهذا ما «في كتاب الله» تعالى أي في حكمه، ولا دخل لمعنى الأولى بالتصرف في المقصود أصلا، فالمراد فيما نحن فيه هو المعنى الذي أريد في المأخوذ منه، ولو فرضنا كون الأولى في صدر الخبر بمعنى الأولى بالتصرف فيحتمل أن يكون ذلك لتنبيه المخاطبين بذلك الخطاب ليتوجهوا إلى سماع كلامه صلّى الله عليه وسلّم كمال التوجه ويلتفتوا إليه غاية الالتفات، فيقرر ما فيه من الإرشاد أتم تقرر، وذلك كما يقول الرجل لأبنائه في مقام الوعظ والنصيحة: ألست أباكم؟ وإذا اعترفوا بذلك يأمرهم بما قصده منهم ليقبلوا بحكم الأبوة والبنوة ويعملوا على طبقهما، فقوله عليه الصلاة والسلام في هذا المقام: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ مثل «ألست رسول الله تعالى إليكم؟» أو لست نبيكم، ولا يمكن إجراء مثل ذلك فيما بعده تحصيلا للمناسبة، ومن الشيعة من أورد دليلا على نفي معنى المحبة، وهو أن محبة الأمير كرم الله تعالى وجهه أمر ثابت في ضمن آية وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التوبة: 71] فلو أفاد هذا الحديث ذلك المعنى أيضا كان لغوا ولا يخفى فساده، ومنشؤه أن المستدل لم يفهم أن إيجاب محبة أحد في ضمن العموم شيء، وإيجاب محبته بالخصوص شيء آخر، والفرق بينهما مثل الشمس ظاهر، ومما يزيد ذلك ظهورا أنه لو آمن شخص بجميع أنبياء الله تعالى، ورسله عليهم الصلاة والسلام، ولم يتعرض لنبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم بخصوصه بالذكر لم يكن إيمانه معتبرا، وأيضا لو فرضنا اتحاد مضمون الآية والخبر لا يلزم اللغو، بل غاية ما يلزم التقرير والتأكيد، وذلك وظيفة النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقد كان عليه الصلاة والسلام كثيرا ما يؤكد مضامين القرآن ويقررها، بل القرآن نفسه قد تكررت فيه المضامين لذلك، ولم يقل أحد إن ذلك من اللغو- والعياذ بالله تعالى- وأيضا التنصيص على إمامة الأمير كرم الله تعالى وجهه تكرر مرارا عند الشيعة، فيلزم على تقدير صحة ذلك القول اللغوي، ويجل كلام الشارع عنه، ثم إن ما أشار إليه الحميري في قصيدته التي أسرف فيها من أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم بهذه الهيئة الاجتماعية جاؤوا النبي صلّى الله عليه وسلّم وطلبوا منه تعيين الإمام بعده مما لم يذكره المؤرخون وأهل السير من الفريقين فيما أعلم، بل هو محض زور وبهتان نعوذ بالله تعالى منه. ومن وقف على تلك القصيدة الشنيعة بأسرها وما يرويه الشيعة فيها، وكان له أدنى خبرة رأى العجب العجاب وتحقق أن قعاقع القوم كصرير باب أو كطنين ذباب، ثم إن الأخبار الواردة من طريق أهل السنة الدالة على أن هذه الآية نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه- على تقدير صحتها وكونها بمرتبة يستدل بها- ليس فيها أكثر من الدلالة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 362 على فضله كرم الله تعالى وجهه وأنه ولي المؤمنين بالمعنى الذي قررناه، ونحن لا ننكر ذلك وملعون من ينكره، وكذا ما أخرجه ابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ليس فيه أكثر من ذلك، والتنصيص عليه كرم الله تعالى وجهه بالذكر لما قدمنا، وقال بعض أصحابنا على سبيل التنزل: إن الآية على خبر ابن مسعود وكذا خبر الغدير- على الرواية المشهورة- على تقدير دلالتهما على أن المراد الأولى بالتصرف لا بد أن يقيدا بما يدل على ذلك في المآل، وحينئذ فمرحبا بالوفاق لأن أهل السنة قائلون بذلك حين إمامته، ووجهه تخصيص الأمير كرم الله تعالى وجهه حينئذ بالذكر ما علمه عليه الصلاة والسلام بالوحي من وقوع الفساد والبغي في زمن خلافته، وإنكار بعض الناس لإمامته الحقة، وكون ذلك بعد الوفاة من غير فصل مما لا دليل عليه، والخبر المصدر- بكأني قد دعيت فأجبت- ليس نصا في المقصود كما لا يخفى، ومما يبعد دعوى الشيعة من أن الآية نزلت في خصوص خلافة علي كرّم الله تعالى وجهه، وأن الموصول فيها خاص قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فإن الناس فيه وإن كان عاما إلا أن المراد بهم الكفار، ويهديك إليه إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ فإنه في موضع التعليل لعصمته عليه الصلاة والسلام، وفيه إقامة الظاهر مقام المضمر أي لأن الله تعالى لا يهديهم إلى أمنيتهم فيك، ومتى كان المراد بهم الكفار بعد إرادة الخلافة، بل لو قيل: لم تصح لم يبعد لأن التخوف الذي تزعمه الشيعة منه صلّى الله عليه وسلّم- وحاشاه في تبليغ أمر الخلافة- إنما هو من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، حيث إن فيهم- معاذ الله تعالى- من يطمع فيها لنفسه، ومتى رأى حرمانه منها لم يبعد منه قصد الإضرار برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والتزام القول- والعياذ بالله عزّ وجلّ- بكفر من عرضوا بنسبة الطمع في الخلافة إليه مما يلزمه محاذير كلية أهونها تفسيق الأمير كرم الله تعالى وجهه وهو هو، أو نسبة الجبن إليه- وهو أسد الله تعالى الغالب- أو الحكم عليه بالتقية- وهو الذي لا تأخذه في الله تعالى لومة لائم ولا يخشى إلا الله سبحانه- أو نسبة فعل الرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، بل الأمر الإلهي إلى العبث والكل كما ترى، لا يقال: إن عندنا أمرين يدلان على أن المراد بالموصول الخلافة، أحدهما أنه صلّى الله عليه وسلّم كان مأمورا بأبلغ عبارة بتبليغ الأحكام الشرعية التي يؤمر بها حيث قال سبحانه مخاطبا له عليه الصلاة والسلام: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر: 94] فلو لم يكن المراد هنا فرد هو أهم الأفراد وأعظمها شأنا- وليس ذلك إلا الخلافة إذ بها ينتظم أمر الدين والدنيا- لخلا الكلام عن الفائدة، وثانيهما أن ابن إسحاق ذكر في سيرته أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطب الناس في حجة الوداع خطبته التي بين فيها ما بين، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال: «أيها الناس اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا، أيها الناس إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألنكم عن أعمالكم، وقد بلغت، ثم أوصى صلّى الله عليه وسلّم بالنساء، ثم قال عليه الصلاة والسلام: فاعقلوا قولي فإني قد بلغت، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلّى الله عليه وسلّم- إلى أن قال: بأبي هو وأمي صلّى الله عليه وسلّم- اللهم هل بلغت؟ قال ابن إسحاق: فذكر لي أن الناس قالوا: اللهم نعم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اللهم اشهد» انتهى. فإن هذه الرواية ظاهرة في أن الخطبة كانت يوم عرفة يوم الحج الأكبر- كما في رواية يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير- ويوم الغدير كان اليوم الثامن عشر من ذي الحجة بعد أن فرغ صلّى الله عليه وسلّم من شأن المناسك وتوجه إلى المدينة المنوّرة، وحينئذ يكون المأمور بتبليغه أمرا آخر غير ما بلغه صلّى الله عليه وسلّم قبل، وشهد الناس على تبليغه، وأشهد الله تعالى على ذلك، وليس هذا إلا الخلافة الكبرى والإمامة العظمى، فكأنه سبحانه يقول: يا أيها الرسول بلغ كون علي كرم الله تعالى وجهه خليفتك وقائما مقامك بعدك وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وإن قال لك الناس حين قلت: اللهم هل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 363 بلغت؟ اللهم نعم، لأنا نقول: إن الشرطية في الأمر الأول- بعد غمض العين عما فيه- ممنوعة لجواز أن يراد بالموصول في الآيتين الأحكام الشرعية المتعلقة بمصالح العباد في معاشهم ومعادهم، ولا يلزم الخلو عن الفائدة إذ كم آية تكررت في القرآن، وأمر ونهي ذكر مرارا للتأكيد والتقرير، على أن بعضهم ذكر أن فائدة الأمر هنا إزالة توهم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم ترك ويترك تبليغ شيء من الوحي تقية، ويرد على الأمر الثاني أمران: الأول أن كون يوم الغدير بعد يوم عرفة مسلم، لكن لا نسلم أن الآية نزلت فيه ليكون المأمور بتبليغه أمرا آخر، بل الذي يقتضيه ظاهر الخطبة وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم فيها- اللهم هل بلغت- أن الآية نزلت قبل يومي الغدير وعرفة، وما ورد في غير ما أثر- من أن سورة المائدة نزلت بين مكة والمدينة في حجة الوداع لا يصلح دليلا للبعدية ولا للقبلية إذ ليس فيه ذكر الإياب ولا الذهاب، وظاهر حاله صلّى الله عليه وسلّم في تلك الحجة- من إراءة المناسك ووضع الربا ودماء الجاهلية، وغير ذلك مما يطول ذكره، وقد ذكره أهل السير- يرشد إلى أن النزول كان في الذهاب، والثاني أنا لو سلمنا كون النزول يوم الغدير، فلا نسلم أن المأمور بتبليغه أمر آخر لكنا لا نسلم أنه ليس إلا الخلافة، وكم قد بلغ صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك غير ذلك من الآيات المنزلة عليه عليه الصلاة والسلام، والذي يفهم من بعض الروايات أن هذه الآية قبل حجة الوداع، فقد أخرج ابن مردويه والضياء في مختاره عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أي آية أنزلت من السماء أشد عليك؟ فقال: «كنت بمنى أيام موسم واجتمع مشركو العرب وأفناء الناس في الموسم فأنزل علي جبريل عليه السلام فقال: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ الآية، قال: فقمت عند العقبة فناديت: يا أيها الناس من ينصرني على أن أبلغ رسالات ربي ولكم الجنة، أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله وأنا رسول الله إليكم تفلحوا وتنجحوا ولكم الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: فما بقي رجل ولا امرأة ولا أمة ولا صبي إلا يرمون علي بالتراب والحجارة، ويقولون: كذاب صابىء، فعرض علي عارض فقال: يا محمد إن كنت رسول الله فقد آن لك أن تدعو عليهم كما دعا نوح على قومه بالهلاك، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون وانصرني عليهم أن يجيبوني إلى طاعتك، فجاء العباس عمه فأنقذه منهم وطردهم عنه» . قال الأعمش: فبذلك تفتخر بنو العباس، ويقولون: فيهم نزلت إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص: 56] هوى النبي صلّى الله عليه وسلّم أبا طالب، وشاء الله تعالى عباس بن عبد المطلب، وأصرح من هذا ما أخرجه أبو الشيخ وأبو نعيم في الدلائل وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يحرس وكان يرسل معه عمه أبو طالب كل يوم رجالا من بني هاشم يحرسونه حتى نزلت وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه، فقال: يا عم إن الله عز وجل قد عصمني» فإن أبا طالب مات قبل الهجرة، وحجة الوداع بعدها بكثير، والظاهر اتصال الآية، وعن بعضهم أن الآية نزلت ليلا بناء على ما أخرج عبد بن حميد والترمذي والبيهقي وغيرهم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يحرس حتى نزلت وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ أخرج رأسه من القبة فقال: «أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله تعالى» ولا يخفى أنه ليس بنص في المقصود، والذي أميل إليه جمعا بين الأخبار أن هذه الآية مما تكرر نزوله، والله تعالى أعلم، والمراد بالعصمة من الناس حفظ روحه عليه الصلاة والسلام من القتل والإهلاك، فلا يرد أنه صلّى الله عليه وسلّم شج وجهه الشريف وكسرت رباعيته يوم أحد، ومنهم من ذهب إلى العموم وادعى أن الآية إنما نزلت بعد أحد، واستشكل الأمران بأن اليهود سموه عليه الصلاة والسلام حتى قال: «لا زالت أكلة خيبر تعاودني وهذا أوان قطعت أبهري وأجيب بأنه سبحانه وتعالى ضمن له العصمة من القتل ونحوه بسبب تبليغ الوحي، وأما ما فعل به صلّى الله عليه وسلّم وبالأنبياء عليهم الصلاة والسلام فللذب عن الأموال والبلاد والأنفس، ولا يخفى بعده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 364 وقال الراغب: عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حفظهم بما خصوا به من صفاء الجوهر، ثم بما أولاهم من الأخلاق والفضائل، ثم بالنصرة وتثبيت أقدامهم، ثم بإنزال السكينة عليهم وبحفظ قلوبهم وبالتوفيق، وقيل: المراد بالعصمة الحفظ من صدور الذنب، والمعنى بلغ والله تعالى يمنحك الحفظ من صدور الذنب من بين الناس، أي يعصمك بسبب ذلك دونهم، ولا يخفى أن هذا توجيه لم يصدر إلا ممن لم يعصمه الله تعالى من الخطأ، ومثله ما نقل عن علي بن عيسى في قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ حيث قال: لا يهديهم بالمعونة والتوفيق والألطاف إلى الكفر بل إنما يهديهم إلى الإيمان، وزعم أن الذي دعاه إلى هذا التفسير أن الله تعالى هدى الكفار إلى الإيمان بأن دلهم عليه ورغبهم فيه وحذرهم من خلافه، وأنت قد علمت المراد بالآية على أن في كلامه ما لا يخفى من النظر، وقال الجبائي: المراد لا يهديهم إلى الجنة والثواب، وفيه غفلة عن كون الجملة في موضع التعليل، وزعم بعضهم أن المراد أن عليك البلاغ لا الهداية، فمن قضيت عليه بالكفر والوفاة عليه لا يهتدي أبدا- وهو كما ترى- فليفهم جميع ما ذكرناه في هذه الآية وليحفظ فإني لا أظن أنك تجده في كتاب. وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم «رسالاته» على الجمع، وإيراد الآية في تضاعيف الآية الواردة في أهل الكتاب لما أن الكل قوارع يسوء الكفار سماعها ويشق على الرسول صلّى الله عليه وسلّم مشافهتهم بها، وخصوصا ما يتلوها من النص الناعي عليهم كمال ضلالهم، ولذلك أعيد الأمر فقال سبحانه: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ، والمراد بهم اليهود والنصارى- كما قال بعض المفسرين- وقال آخرون: المراد بهم اليهود، فقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: جاء رافع بن حارثة وسلام بن مشكم ومالك بن الصيف ورافع بن حريملة «فقالوا: يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه وتؤمن بما عندنا من التوراة وتشهد أنها من الله تعالى حق؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: بلى ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أخذ عليكم من الميثاق وكتمتم منها ما أمرتم أن تبينوه للناس فبرئت من إحداثكم. قالوا: فإنا نأخذ بما في أيدينا فإنا على الهدى والحق ولا نؤمن بك ولا نتبعك» فأنزل الله تعالى فيهم قال يا أهل الكتاب لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ أي دين يعتد به ويليق بأن يسمى شيئا لظهور بطلانه ووضوح فساده، وفي هذا التعبير ما لا يخفى من التحقير، ومن أمثالهم أقل من لا شيء حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ أي تراعوهما وتحافظوا على ما فيهما من الأمور التي من جملتها دلائل رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم وشواهد نبوته، فإن إقامتهما وتوفية حقوقهما إنما تكون بذلك لا بالعمل بجميع ما فيهما منسوخا كان أو غيره، فإن مراعاة المنسوخ تعطيل لهما وردّ لشهادتهما وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ أي القرآن المجيد، وإقامته بالإيمان به، وقدمت إقامة الكتابين على إقامته- مع أنها المقصودة بالذات- رعاية لحق الشهادة واستنزالا لهم عن رتبة الشقاق. وقيل: المراد بالموصول كتب أنبياء بني إسرائيل عليهم الصلاة والسلام، وقيل: الكتب الإلهية، فإنها كلها ناطقة بوجوب الإيمان بمن ادعى النبوة وأظهر المعجزة ووجوب طاعة من بعث إليهم له، وقد مر تمام الكلام على مثل هذا النظم الكريم وكذا على قوله تعالى: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً والجملة مستأنفة- كما قال شيخ الإسلام مبينة لشدة شكيمتهم وغلوهم في المكابرة والعناد وعدم إفادة التبليغ نفعا، وتصديرها بالقسم لتأكيد مضمونها وتحقيقه ونسبة الإنزال إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- مع نسبته فيما مر إليهم- للإنباء عن انسلاخهم عن تلك النسبة، وإذا أريد بالموصول النعم التي أعطيها صلّى الله عليه وسلّم فأمر النسبة ظاهر جدا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 365 فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أي لا تأسف ولا تحزن عليهم لزيادة طغيانهم وكفرهم، فإن غائلة ذلك موصولة بهم وتبعته عائدة إليهم، وفي المؤمنين غنى لك عنهم، ووضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالرسوخ في الكفر، وقيل: المراد لا تحزن على هلاكهم وعذابهم، ووضع الظاهر موضع الضمير للتنبيه على العلة الموجبة لعدم الأسى، ولا يخلو عن بعد إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا كلام مستأنف مسوق للترغيب في الإيمان والعمل الصالح. وقد تقدم في آية البقرة الاختلاف في المراد- من الذين آمنوا- والمروي عن الثوري أنهم الذين آمنوا بألسنتهم- وهم المنافقون- وهو الذي اختاره الزجاج، واختار القاضي أن المراد بهم المتدينون بدين محمد صلّى الله عليه وسلّم مخلصين كانوا أو منافقين، وقيل: غير ذلك وَالَّذِينَ هادُوا أي دخلوا في اليهودية وَالصَّابِئُونَ، وهم كما قال حسن جلبي وغيره: قوم خرجوا عن دين اليهود والنصارى وعبدوا الملائكة وقد تقدم الكلام على ذلك، وفي حسن المحاضرة في أخبار مصر القاهرة للجلال السيوطي ما لفظه: ذكر أئمة التاريخ أن آدم عليه الصلاة والسلام أوصى لابنه شيث- وكان فيه وفي بنيه النبوة والدين- وأنزل عليه تسع وعشرون صحيفة وأنه جاء إلى أرض مصر، وكانت تدعى بايلون فنزلها هو وأولاد أخيه، فسكن شيث فوق الجبل، وسكن أولاد قابيل أسفل الوادي، واستخلف شيث ابنه أنوش واستخلف أنوش ابنه قونان، واستخلف قونان ابنه مهلائيل، واستخلف مهلائيل ابنه يرد، ودفع الوصية إليه وعلمه جميع العلوم وأخبره بما يحدث في العالم، ونظر في النجوم وفي الكتاب الذي أنزل على آدم عليه الصلاة والسلام، وولد ليرد أخنوخ- وهو إدريس عليه الصلاة والسلام- ويقال له: هرمس، وكان الملك في ذلك الوقت محويل بن أخنوخ بن قابيل، وتنبأ إدريس عليه الصلاة والسلام وهو ابن أربعين سنة، وأراد به الملك سوءا فعصمه الله تعالى وأنزل عليه ثلاثين صحيفة، ودفع إليه أبوه وصية جده والعلوم التي عنده وكان قد ولد بمصر وخرج منها، وطاف الأرض كلها ورجع فدعا الخلق إلى الله تعالى فأجابوه حتى عمت ملته الأرض، وكانت ملته الصابئة، وهي توحيد الله تعالى والطهارة والصوم، وغير ذلك من رسوم التعبدات، وكان في رحلته إلى المشرق قد أطاعه جميع ملوكها، وابتنى مائة وأربعين مدينة أصغرها الرها، ثم عاد إلى مصر وأطاعه ملكها وآمن به- إلى آخر ما قاله- ونقله عن التيفاشي، ويفهم منه قول في الصابئة غير الأقوال المتقدمة وفي شذرات الذهب لعبد الحي بن أحمد بن العماد الحنبلي في ترجمة أبي إسحاق الصابئي ما نصه: والصابئي بهمز آخره، قيل: نسبة إلى صابئي بن متوشلخ بن إدريس عليه الصلاة والسلام، وكان على الحنيفية الأولى، وقيل: الصابئي بن ماوي، وكان في عصر الخليل عليه الصلاة والسلام، وقيل: الصابئ عند العرب من خرج عن دين قومه انتهى وَالنَّصارى جمع نصران، وقد مر تفصيله، ورفع الصَّابِئُونَ على الابتداء وخبره محذوف لدلالة خبر- إن- عليه، والنية فيه التأخير عما في خبر إِنَّ والتقدير إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى حكمهم كيت وكيت وَالصَّابِئُونَ كذلك بناء على أن المحذوف في إن زيدا، وعمرو قائم خبر الثاني لا الأول كما هو مذهب بعض النحاة، واستدل عليه بقول: صابئ بن الحارث البرجمي: فمن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني، وقيار بها لغريب فإن قوله: «لغريب» خبر إن، ولذا دخلت عليه اللام لأنها تدخل على خبر «إن» لا على خبر المبتدأ إلا شذوذا، وقيل: إن «غريب» فيه خبر عن الاسمين جميعا لأن فعيلا يستوي فيه الواحد وغيره نحو وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم: 4] ، ورده الخلخالي بأنه لم يرد للاثنين، وإن ورد للجمع، وأجاب عنه ابن هشام بأنهم قالوا في قوله تعالى: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ [ق: 17] : إن المراد قعيدان، وهذا يدل على إطلاقه على الاثنين أيضا، فالصواب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 366 منع هذا الوجه بأنه يلزم عليه توارد عاملين على معمول واحد، ومثله لا يصح على الأصح خلافا للكوفيين، وبقول بشر بن أبي حازم: إذا جزت نواصي آل بدر ... فأدوها وأسرى في الوثاق وإلا فاعلموا أنا وأنتم ... بغاة ما بقينا في شقاق فإن قوله: «بغاة ما بقينا» خبر إن ولو كان خبر- أنتم- لقال: ما بقيتم، وبغاة- جمع باغ بمعنى طالب، وقيل: إنه جمع باغي من البغي والتعدي- وأنتم بغاة- جملة معترضة لأنه لا يقول في قومه إنهم بغاة. وما بقينا في شقاق- خبر إن، وحينئذ لا يصلح البيت شاهدا لما ذكر لأن ضمير المتكلم مع الغير في محله، وإنما وسطت الجملة هنا بين إن وخبرها مع اعتبار نية التأخير ليسلم الكلام عن الفصل بين الاسم والخبر، وليعلم أن الخبر ماذا دلالة- كما قيل- على أن الصابئين- مع ظهور ضلالهم وزيغهم عن الأديان كلها حيث قبلت توبتهم- إن صح منهم الإيمان والعمل الصالح فغيرهم أولى بذلك، ومن هنا قيل: إن الجملة كاعتراض دل به على ما ذكر، وإنما لم تجعل اعتراضا حقيقة لأنها معطوفة على جملة إِنَّ الَّذِينَ وخبرها، وأورد عليه ما قاله ابن هشام: من أن فيه تقديم الجملة المعطوفة على بعض الجملة المعطوفة عليها، وإنما يتقدم المعطوف على المعطوف عليه في الشعر، فكذا ينبغي أن يكون تقديمه على بعض المعطوف عليه بل هو أولى منه بالمنع، وأما ما أجاب به عنه بأن الواو واو الاستئناف التي تدخل على الجمل المعترضة، كقوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ [البقرة: 24] إلخ، وهذه الجملة معترضة لا معطوفة، فلا يتمشى فيما نحن فيه لأنه يفوت نكتة التقديم من تأخير التي أشير إليها لأنها إذا كانت معترضة لا تكون مقدمة من تأخير، وبعض المحققين صرف الخبر المذكور إلى قوله تعالى: وَالصَّابِئُونَ وجعل خبر إن محذوفا، وهو القول الآخر للنحاة في مثل هذا التركيب، وهو موافق للاستعمال أيضا كما في قوله: نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف فإن قوله- راض- خبر- أنت- وخبر- نحن- محذوف، ورجح بأن الإلحاق بالأقرب أقرب، وبأنه خال عما يلزم على التوجيه الأول، نعم غاية ما يرد عليه أن الأكثر الحذف من الثاني لدلالة الأول، وعكسه قليل لكنه جائز، وعورض بأن الكلام فيما نحن فيه مسوق لبيان حال أهل الكتاب، فصرف الخبر إليهم أولى، وفي توسيط بيان حال الصابئين ما علمت من التأكيد، وأيضا في صرف الخبر إلى الثاني فصل للنصارى عن اليهود وتفرقة بين أهل الكتاب لأنه حينئذ عطف على قوله سبحانه: وَالصَّابِئُونَ قطعا، نعم لو صح أن المنافقين واليهود أوغل المعدودين في الضلال، والصابئين والنصارى أسهل حسن تعاطفهما وجعل المذكور خبرا عنهما، وترك كلمة التحقيق المذكورة في الأولين دليلا على هذا المعنى، وقيل: إن الصَّابِئُونَ عطف على محل إِنَّ واسمها، وقد أجازه بعضهم مطلقا، وبعضهم منعه مطلقا، وفصل آخرون فقالوا: يمتنع قبل مضي الخبر ويجوز بعده. وذهب الفراء إلى أنه إن خفي إعراب الاسم جاز لزوال الكراهة اللفظية نحو: إنك وزيد ذاهبان، وإلا امتنع، والمانع عند الجمهور لزوم توارد عاملين، وهما إِنَّ والابتداء أو المبتدأ على معمول واحد وهو الخبر، ولهذا ضعفوا هذا القول في الآي وبنوا على مذهب الكوفيين، وكون خبر المعطوف فيها محذوفا- وحينئذ لا يلزم التوارد- ليس بشيء لأن الجملة حينئذ تكون معطوفة على الجملة، ولم يكن ذلك من العطف على المحل في شيء، ومن قال: إن خبر إِنَّ مرفوع بما كان مرفوعا به قبل دخولها لم يلزم عليه حديث التوارد. ونقل عن الكسائي إن العطف على الضمير في هادُوا وخطأه الزجاج بأنه لا يعطف على الضمير المرفوع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 367 المتصل من غير فصل، وبأنه لو عطف على الفاعل لكان التقدير- وهاد الصابئون- فيقتضي أنهم هود- وليس كذلك- ولعل الكسائي يرى صحة العطف من غير فاصل فلا يرد عليه الاعتراض الأول، وقيل: إِنَّ بمعنى نعم الجوابية ولا عمل لها حينئذ، فما بعدها مرفوع المحل على الابتداء والمرفوع معطوف عليه، وضعفه أبو حيان بأن ثبوت إِنَّ بمعنى نعم فيه خلاف بين النحويين. وعلى تقدير ثبوته فيحتاج إلى شيء يتقدمها تكون تصديقا له ولا يجيء أول الكلام، والجواب بأن ثمة سؤالا مقدرا بعيد ركيك، وقيل: إن- الصابئين- عطف على الصلة بحذف الصدر أي الذين هم الصابئون، ولا يخفى بعده، وإن عدّ أحسن الوجوه، وقيل: إنه منصوب بفتحة مقدرة على الواو والعطف حينئذ مما لا خفاء فيه، واعترض بأن لغة- بلحارث وغيرهم- الذين جعلوا المثنى دائما بالألف نحو- رأيت الزيدان. ومررت بالزيدان- وأعربوه بحركات مقدرة، إنما هي في المثنى خاصة، ولم ينقل نحو ذلك عنهم في الجمع خلافا لما تقتضيه عبارة أبي البقاء، والمسألة مما لا يجري فيها القياس فلا ينبغي تخريج القرآن العظيم على ذلك، وقرأ أبي وكذا ابن كثير «والصابئين» وهو الظاهر «والصابيون» بقلب الهمزة ياء على خلاف القياس «والصابون» بحذفها من صبا بإبدال الهمزة ألفا فهو كرامون من رمى، وقرأ عبد الله «يا أيها الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون» وقوله سبحانه وتعالى: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً إما في محل رفع على أنه مبتدأ خبره قوله تعالى: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، وجمع الضمائر الأخيرة باعتبار معنى الموصول كما أن إفراد ما في صلته باعتبار لفظه، والجملة خبر إن أو خبر المبتدأ، وعلى كل لا بد من تقدير العائد أي من آمن منهم، وإما في محل النصب على أنه بدل من اسم إِنَّ وما عطف عليه، أو ما عطف عليه فقط، وهو بدل بعض، ولا بد فيه من الضمير كما تقرر في العربية فيقدر أيضا، وقوله تعالى: فَلا خَوْفٌ إلخ خبر، والفاء كما في قوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ [البروج: 10] الآية، والمعنى- كما قال غير واحد- على تقدير كون المراد- بالذين آمنوا- المؤمنين بألسنتهم وهم المنافقون من أحدث من هؤلاء الطوائف إيمانا خالصا بالمبدأ والمعاد على الوجه اللائق لا كما يزعمه أهل الكتاب فإنه بمعزل عن ذلك، وعمل عملا صالحا حسبما يقتضيه الإيمان فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ حين يخاف الكفار العقاب وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ حين يحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب، والمراد بيان انتفاء الأمرين لا انتفاء دوامهما على ما مرت الإشارة إليه غير مرة وأما على تقدير كون المراد- بالذين آمنوا- المتدينين بدين النبي صلّى الله عليه وسلّم مخلصين كانوا أو منافقين، فالمراد بمن آمن من اتصف منهم بالإيمان الخالص بما ذكر على الإطلاق سواء كان ذلك بطريق الثبات والدوام- كما في المخلصين- أو بطريق الإحداث والإنشاء- كما هو حال من عداهم من المنافقين. وسائر الطوائف- وليس هناك الجمع بين الحقيقة والمجاز كما لا يخفى لأن الثبات على الإيمان والإحداث فردان من مطلق الإيمان إلا أن في هذا الوجه ضم المخلصين إلى الكفرة، وفيه إخلال بتكريمهم، وربما يقال: إن فائدة ذلك المبالغة في ترغيب الباقين في الإيمان ببيان أن تأخرهم في الاتصاف به غير مخل بكونهم أسوة لأولئك الأقدمين الأعلام وتمام الكلام قد مر في آية البقرة فليراجع لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ كلام مبتدأ مسوق لبيان بعض آخر من جناياتهم المنادية باستبعاد الإيمان منهم، وجعله بعضهم متعلقا بما افتتح الله تعالى به السورة، وهو قوله سبحانه: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] ولا يخفى بعده. والمراد بالميثاق المأخوذ العهد المؤكد الذي أخذه أنبياؤهم عليهم في الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وابتاعه فيما يأتي ويذر، أو في التوحيد وسائر الشرائع والأحكام المكتوبة عليهم في التوراة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 368 وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا ذوي عدد كثير، وأولي شأن خطير، يعرفونهم ذلك ويتعهدونهم بالعظة والتذكير ويطلعونهم على ما يأتون ويذرون في دينهم كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ أي بما لا تميل إليه من الشرائع ومشاق التكاليف، والتعبير بذلك دون بما تكرهه أنفسهم للمبالغة في ذمهم، وكلمة كُلَّما كما قال أبو حيان: منصوبة على الظرفية لإضافتها إلى ما المصدرية الظرفية وليست كلمة شرط، وقد أطلق ذلك عليها الفقهاء وأهل المعقول، ووجه ذلك السفاقسي بأن تسميتها شرطا لاقتضائها جوابا كالشرط الغير الجازم فهي مثل- إذا- ولا بعد فيه، وجوابها- كما قيل- قوله تعالى: فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ. وقيل: الجواب محذوف دل عليه المذكور، وقدره ابن المنير استكبروا لظهور ذلك في قوله تعالى: أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً [البقرة: 87] إلخ، والبعض ناصبوه لأنه أدخل في التوبيخ على ما قابلوا به مجيء الرسول الهادي لهم، وأنسب بما وقع في التفصيل مستقبحا غاية الاستقباح، وهو القتل على ما سنشير إليه إن شاء الله تعالى، فإن الاستكبار إنما يفضى إليه بواسطة المناصبة، وأما في الآية الأخرى فقد قصد إلى استقباح الاستكبار نظرا إليه في نفسه لاقتضاء المقام، وادعى بعضهم أن في الإتيان بالفاء في آية الاستكبار إشارة إلى اعتبار الواسطة كأنه قيل: استكبرتم فناصبتم فَفَرِيقاً إلخ، وفيه نظر، والجملة حينئذ استئناف لبيان الجواب، وجعل الزمخشري هذا القول متعينا لأن الكلام تفصيل لحكم أفراد جمع الرسل الواقع قبل، أي- كلما جاءهم رسول من الرسل- والمذكور بقوله سبحانه: فَرِيقاً كَذَّبُوا إلخ يقتضي أن الجائي في كل مرة فريقان فبينهما تدافع، وعلى تقدير قطع النظر عن هذا لا يحسن في مثل هذا المقام تقديم المفعول مثل- إن أكرمت أخي، أخاك أكرمت- لأنه يشعر بالاختصاص المستلزم للجزم بوقوع أصل الفعل مع النزاع في المفعول، وتعليقه بالشرط يشعر بالشك في أصل الفعل، ولأن تقديم المفعول على ما قيل: يوجب الفاء إما لجعله الفعل بعيدا عن المؤثر فيحوجه إلى رابط، وإما لأنه بتقديم المفعول أشبه الجملة الاسمية المفتقرة إلى الفاء، وقيل: فيه مانع آخر لأن المعنى على أنهم كلما جاءهم رسول وقع أحد الأمرين لا كلاهما، فلو كان جوابا لكان الظاهر أو بدل الواو، ومن جعل الجملة جوابا لم ينظر إلى هذه الموانع، قال بعض المحققين: أما الأول فلأنه لقصد التغليظ جعل قتل واحد كقتل فريق، وقيل: المراد بالرسول جنسه الصادق بالكثير ويؤيده كُلَّما الدالة على الكثرة، وأما الثاني فلأنه لا يقتضي قواعد العربية مثله، وما ذكر من الوجوه أوهام لا يلتفت إليها ولا يوجد مثله في كتب النحو، ومنه يعلم دفع الأخير، وتعقب ذلك مولانا شهاب الدين بأنه عجيب من المتبحر الغفلة عن مثل هذا، وقد قال في شرح التسهيل: ويجوز أن ينطلق خيرا يصب- خلافا للفراء- فقال شراحه: أجاز سيبويه، والكسائي تقديم المنصوب بالجواب مع بقاء جزمه، وأنشد الكسائي: وللخير أيام فمن يصطبر لها ... ويعرف لها أيامها الخير يعقب تقديره يعقب الخير، ومنع ذلك الفراء مع بقاء الجزم، وقال: بل يجب الرفع على التقديم والتأخير أو على إضمار الفاء، وتأول البيت بأن الخير صفة للأيام، كأنه قال: أيامها الصالحة. واختار ابن مالك هذا المذهب في بعض كتبه، ولما رأى الزمخشري اشتراك المانع بين الشرط الجازم وما في معناه مال إليه خصوصا، وقوة المعنى تقتضيه فهو الحق انتهى. والجملة الشرطية صفة رُسُلًا والرابط محذوف أي رسول منهم، وإلى هذا ذهب جمهور المعربين. واختار مولانا شيخ الإسلام أن الجملة الشرطية مستأنفة وقعت جوابا عن سؤال نشأ من الإخبار بأخذ الميثاق وإرسال الرسل كأنه قيل: فماذا فعلوا بالرسل؟ فقيل: كلما جاءهم رسول من أولئك الرسل بما لا تحبه أنفسهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 369 المنهمكة في الغي والفساد من الأحكام الحقة والشرائع عصوه وعادوه، واعترض رحمه الله تعالى على ما ذهب إليه الجمهور من القول بالوصفية بأنه لا يساعده المقام لأن الجملة الخبرية إذا جعلت صفة أو صلة ينسخ ما فيها من الحكم، ويجعل عنوانا للموصوف وتتمة له، ولذا وجب أن تكون معلومة الانتساب له، ومن هنا قالوا: إن الصفات قبل العلم بها إخبار والإخبار بعد العلم بها أوصاف، ولا ريب في أن ما سيق له النظم إنما هو بيان أنهم جعلوا كل من جاءهم من الرسل عرضة للقتل والتكذيب حسبما يفيده جعلها استئنافا على أبلغ وجه وآكده لا بيان أنه أرسل إليهم رسلا موصوفين بكون كل منهم كذلك كما هو مقتضى جعلها صفة انتهى. وتعقبه الشهاب بأنه تخيل لا طائل تحته، فإن قوله سبحانه: ولَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ إلخ مسوق لبيان جناياتهم والنعي عليهم بذلك كما اعترف به المعترض وهو لا يفيده إلا بالنظر إلى الصفة التي هي مرمى النظر كما في سائر القيود، وأما كونها معلومة فلا ضير فيه فإنك إذا وبخت شخصا، وقلت له: فعلت كيت وكيت وهو أعلم بما فعل لا يضر ذلك في تقريعه وتعييره بل هو أقوى- كما لا يخفى- على الخبير بأساليب الكلام، فلا تلتفت إلى مثل هذه الأوهام انتهى، ولا يخفى ما في قوله، وهو لا يفيده إلا بالنظر إلى الصفة إلخ من المنع الظاهر، وكذا جعل ما نحن فيه نظير قولك لشخص تريد توبيخه: فعلت كيت وكيت- وهو أعلم بما فعل- فيه خفاء، والذي يحكم به الإنصاف بعد التأمل جواز الأمرين، وأن ما ذهب إليه شيخ الإسلام أولى فتأمل وأنصف. والتعبير- بيقتلون- مع أن الظاهر قتلوا ككذبوا لاستحضار الحال الماضية من أسلافهم للتعجيب منها ولم يقصد ذلك في التكذيب لمزيد الاهتمام بالقتل، وفي ذلك أيضا رعاية الفواصل، وعلل بعضهم التعبير بصيغة المضارع فيه، بالتنبيه على أن ذلك ديدنهم المستمر فهم بعد يحومون حول قتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واقتصر البعض على قصد حكاية الحال لقرينة ضمائر الغيبة، وتقديم فَرِيقاً في الموضعين للاهتمام وتشويق السامع إلى ما فعلوا به لا للقصر وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي ظن بنو إسرائيل أن لا يصيبهم من الله تعالى مما فعلوا بلاء وعذاب لزعمهم- كما قال الزجاج- أنهم أبناء الله تعالى وأحباؤه أو لإمهال الله تعالى لهم أو لنحو ذلك، وعن مقاتل تفسير الفتنة بالشدة والقحط، والأولى حملها على العموم، وعلى التقديرين ليس المراد منها معناها المعروف. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب «أن لا تكون» بالرفع على أن «أن» هي المخففة من الثقيلة، وأصله أنه لا تكون فخفف «أن» وحذف ضمير الشأن- وهو اسمها- وتعليق فعل الحسبان بها، وهي للتحقيق لتنزيله منزلة العلم لكمال قوته، و «أن» بما في حيزها سادّ مسد مفعوليه، وقيل: إن «حسب» هنا بمعنى علم، و «أن» لا تخفف إلا بعد ما يفيد اليقين، وقيل: إن المفعول الثاني محذوف أي وحسبوا عدم الفتنة كائنا، ونقل ذلك عن الأخفش، وتَكُونَ على كل تقدير تامة، وقوله تعالى: فَعَمُوا عطف على حَسِبُوا والفاء للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها أي أمنوا بأس الله تعالى فتمادوا في فنون الغي والفساد. وعموا عن الدين بعد ما هداهم الرسل إلى معالمه وبينوا لهم مناهجه وَصَمُّوا عن استماع الحق الذي ألقوه إليهم، وهذا إشارة إلى المرة الأولى من مرتي إفساد بني إسرائيل حين خالفوا أحكام التوراة وركبوا المحارم وقتلوا شعيا، وقيل: حبسوا أرميا عليهما السلام ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ حين تابوا ورجعوا عما كانوا عليه من الفساد بعد ما كانوا ببابل دهرا طويلا تحت قهر بختنصر أسارى في غاية الذل والمهانة، فوجه الله عز وجل ملكا عظيما من ملوك فارس إلى بيت المقدس فعمره ورد من بقي من بني إسرائيل في أسر بختنصر إلى وطنهم وتراجع من تفرق منهم في الأكناف فاستقروا وكثروا وكانوا كأحسن ما كانوا عليه، وقيل: لما ورث بهمن بن أسفنديار الملك من جده كاسف ألقى الله تعالى في قلبه شفقة عليهم فردهم إلى الشام، وملك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 370 عليهم دانيال عليه السلام فاستولوا على من كان فيها من أتباع بختنصر فقامت فيه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فرجعوا إلى أحسن ما كانوا عليه من الحال، وذلك قوله تعالى: ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ [الإسراء: 6] ولم يسند سبحانه التوبة إليهم كسائر أحوالهم من الحسبان والعمى والصمم تجافيا عن التصريح بنسبة الخير إليهم، وإنما أشير إليها في ضمن بيان توبة الله تعالى عليهم تمهيدا لبيان نقضهم إياها بقوله سبحانه: ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا وهو إشارة إلى المرة الآخرة من مرتي إفسادهم وهو اجتراؤهم على قتل زكريا ويحيى، وقصدهم قتل عيسى عليهم السلام، وجعل الزمخشري العمى والصمم أولا إشارة إلى ما صدر منهم من عبادة العجل، وثانيا إشارة إلى ما وقع منهم من طلبهم الرؤية، وفيه أن عبادة العجل وإن كانت معصية عظيمة ناشئة عن كمال العمى والصمم لكنها في عصر موسى عليه السلام، ولا تعلق لها بما حكي عنهم بما فعلوا بالرسل الذين جاؤوهم بعده عليه السلام بأعصار، وكذا القول- على زعمه- في طلب الرؤية على أن طلب الرؤية كان من القوم الذين مع موسى عليه السلام حين توجه للمناجاة، وعبادة العجل كانت من القوم المتخلفين فلا يتحقق تأخره عنها وحمل ثُمَّ للتراخي الرتبي دون الزماني مما لا ضرورة إليه، وقيل: إن العمى والصمم أولا إشارة إلى ما كان في زمن زكريا ويحيى عليهما السلام، وثانيا إشارة إلى ما كان في زمن نبينا صلّى الله عليه وسلّم من الكفر والعصيان، وبدأ بالعمى لأنه أول ما يعرض للمعرض عن الشرائع فلا يبصر من أتى بها من عند الله تعالى ولا يلتفت إلى معجزاته، ثم لو أبصره لم يسمع كلامه فيكون عروض الصمم بعد عروض العمى، وقرىء عَمُوا وَصَمُّوا بالضم على تقدير عماهم الله تعالى وصمهم أي رماهم وضربهم بالعمى والصمم، كما يقال: نزكته إذا ضربته بالنيزك، وركبته إذا ضربته بركبتك، وقوله تعالى: كَثِيرٌ مِنْهُمْ بدل من الضمير في الفعلين، وقيل: هو فاعل والواو علامة الجمع لا ضمير، وهذه لغة لبعض العرب يعبر عنها النحاة- بأكلوني البراغيث- أو هو خبر مبتدأ محذوف أي العمى والصم كثير منهم. وقيل: أي العمى والصمم كثير منهم أي صادر ذلك منهم كثيرا وهو خلاف الظاهر، وجوز أن يكون مبتدأ والجملة قبله خبره، وضعف بأن الخبر الفعلي لا يتقدم على المبتدأ لالتباسه بالفاعل، ورد بأن منع التقديم مشروط بكون الفاعل ضميرا مستترا إذ لا التباس فيما إذا كان بارزا، والتباسه بالفاعل في لغة- أكلوني البراغيث- لم يعتبروه مانعا لأن تلك اللغة ضعيفة لا يلتفت إليها، ومن هنا صرح النحاة بجواز التقديم في مثل الزيدان قاما لكن صرحوا بعدم جواز تقديم الخبر فيما يصلح المبتدأ أن يكون تأكيدا للفاعل، نحو- أنا قمت- فإن أنا لو أخر لالتبس بتأكيد الفاعل، وما نحن فيه مثله إلا أن الالتباس فيه بتابع آخر أعني البدل فتدبر، وإنما قال سبحانه: كَثِيرٌ مِنْهُمْ لأن بعضا منهم لم يكونوا كذلك وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ أي بما عملوا، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية استحضارا لصورتها الفظيعة مع ما في ذلك من رعاية الفواصل، والجملة تذييل أشير به إلى بطلان حسبانهم المذكور ووقوع العذاب من حيث لم يحتسبوا إشارة إجمالية اكتفي بها تعويلا على ما فصل نوع تفصيل في سورة بني إسرائيل، ولا يخفى موقع بَصِيرٌ هنا مع قوله سبحانه: عَمُوا. لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ شروع في تفصيل قبائح النصارى، وإبطال أقوالهم الفاسدة بعد تفصيل قبائح اليهود، وقائل ذلك: طائفة منهم كما روي عن مجاهد، وقد أشبعنا الكلام على تفصيل أقوالهم وطوائفهم فيما تقدم فتذكر وَقالَ الْمَسِيحُ حال من فاعل قالُوا بتقدير قد مفيدة لمزيد تقبيح حالهم ببيان تكذيبهم للمسيح وعدم انزجارهم عما أصروا عليه بما أوعدهم به، أي قالوا ذلك، «و- قد- قال المسيح» عليه السلام مخاطبا لهم يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ فإني مربوب مثلكم فاعبدوا خالقي وخالقكم إِنَّهُ أي الشأن مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ أي شيئا في عبادته سبحانه، أو فيما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 371 يختص به من الصفات والأفعال- كنسبة علم الغيب وإحياء الموتى بالذات- إلى عيسى عليه السلام فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ لأنها دار الموحدين، والمراد يمنع من دخولها كما يمنع المحرم عليه من المحرم، فالتحريم مجاز مرسل، أو استعارة تبعية للمنع إذ لا تكليف ثمة، وإظهار الاسم الجليل في موقع الإضمار لتهويل الآمر وتربية المهابة وَمَأْواهُ النَّارُ فإنها المعدة للمشركين، وهذا بيان لابتلائهم بالعقاب إثر بيان حرمانهم الثواب، ولا يخفى ما في هذه الجملة من الإشارة إلى قوة المقتضي لإدخاله النار وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ أي ما لهم من أحد ينصرهم بإنقاذهم من النار: وإدخالهم الجنة، إما بطريق المغالبة أو بطريق الشفاعة، والجمع لمراعاة المقابلة بالظالمين. وقيل: ليعلم نفي الناصر من باب أولى لأنه إذا لم ينصرهم الجم الغفير، فكيف ينصرهم الواحد منهم؟!. وقيل: إن ذلك جار على زعمهم أن لهم أنصارا كثيرة، فنفي ذلك تهكما بهم، واللام إما للعهد والجمع باعتبار معنى من كما أن إفراد الضمائر الثلاثة باعتبار لفظها، وإما للجنس وهم يدخلون فيه دخولا أوليا، ووضعه على الأول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بأنهم ظلموا بالإشراك، وعدلوا عن طريق الحق، والجملة تذييل مقرر لما قبله، وهو إما من تمام كلام عيسى عليه السلام، وإما وارد من جهته تعالى تأكيدا لمقالته عليه السلام وتقريرا لمضمونها لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ شروع في بيان كفر طائفة أخرى منهم، وقد تقدم لك من هم، وثالِثُ ثَلاثَةٍ لا يكون إلا مضافا كما قال الفراء، وكذا- رابع أربعة- ونحوه، ومعنى ذلك أحد تلك الأعداد لا الثالث والرابع خاصة، ولو قلت: ثالث اثنين ورابع ثلاثة مثلا جاز الأمران: الإضافة والنصب. وقد نص على ذلك الزجاج أيضا، وعنوا بالثلاثة- على ما روي عن السدي- الباري عز اسمه، وعيسى وأمه عليهما السلام فكل من الثلاثة إله بزعمهم، والإلهية مشتركة بينهم، ويؤكده قوله تعالى للمسيح عليه السلام: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة: 116] ، وهو المتبادر من ظاهر قوله تعالى: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ أي والحال أنه ليس في الموجودات ذات واجب مستحق للعبادة- لأنه مبدأ جميع الموجودات- إِلَّا إِلهٌ موصوف بالوحدة متعال عن قبول الشركة بوجه، إذ التعدد يستلزم انتفاء الألوهية- كما يدل عليه برهان التمانع- فإذا نافت الألوهية مطلق التعدد، فما ظنك بالتثليث؟ ومِنْ مزيدة للاستغراق كما نص على ذلك النحاة، وقالوا في وجهه: لأنها في الأصل مِنْ الابتدائية حذف مقابلها إشارة إلى عدم التناهي، فأصل لا رجل: لا مِنْ رجل إلى ما لا نهاية له. وهذا حاصل ما ذكره صاحب الإقليد في ذلك، وقيل: إنهم يقولون، الله سبحانه جوهر واحد، ثلاثة أقانيم أقنوم الأب وأقنوم الابن، وأقنوم روح القدس، ويعنون بالأول الذات، وقيل: الوجود وبالثاني العلم، وبالثالث الحياة، وإن منهم من قال بتجسمها، فمعنى قوله تعالى: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ لا إله بالذات منزه عن شائبة التعدد بوجه من الوجوه التي يزعمونها، وقد مرّ تحقيق هذا المقام بما لا مزيد عليه، فارجع إن أردت ذلك إليه وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ أي إن لم يرجعوا عما هم عليه إلى خلافه، وهو التوحيد والإيمان لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ جواب قسم محذوف سادّ مسد جواب الشرط- على ما قاله أبو البقاء- والمراد من الذين كفروا إما الثابتون على الكفر- كما اختاره الجبائي والزجاج- وإما النصارى كما قيل، ووضع الموصول موضع ضميرهم لتكرير الشهادة عليهم بالكفر، و «من» على هذا بيانية، وعلى الأول تبعيضية، وإنما جيء بالفعل المنبئ عن الحدوث تنبيها على أن الاستمرار عليه- بعد ورود ما ورد مما يقتضى القلع عنه- كفر جديد وغلو زائد على ما كانوا عليه من أصل الكفر، والاستفهام في قوله تعالى: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ للإنكار، وفيه تعجيب من إصرارهم أو عدم مبادرتهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 372 إلى التوبة، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي ألا ينتهون عن تلك العقائد الزائغة والأقوال الباطلة فلا يتوبون إلى الله تعالى الحق ويستغفروه بتنزيهه تعالى عما نسبوه إليه عز وجل، أو يسمعون هذه الشهادات المكررة والتشديدات المقررة فلا يتوبون عقيب ذلك وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فيغفر لهم ويمنحهم من فضله إن تابوا، والجملة في موضع الحال، وهي مؤكدة للإنكار والتعجيب، والإظهار في موضع الإضمار لما مر غير مرة. مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ استئناف مسوق لتحقيق الحق الذي لا محيد عنه، وبيان حقيقة حاله عليه السلام وحال أمه بالإشارة أولا إلى ما امتازوا به من نعوت الكمال حتى صارا من أكمل أفراد الجنس، وآخرا إلى الوصف المشترك بينهما وبين أفراد البشر، بل أفراد الحيوانات، وفي ذلك استنزال لهم بطريق التدريج عن رتبة الإصرار، وإرشاد إلى التوبة والاستغفار أي هو عليه السلام مقصور على الرسالة لا يكاد يتخطاها إلى ما يزعم النصارى فيه عليه الصلاة والسلام، وهو قوله سبحانه: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ صفة رسول منبئة عن اتصافه بما ينافي الألوهية، فإن خلو الرسل قبله منذر بخلوه، وذلك مقتض لاستحالة الألوهية أي ما هو إلا رسول كالرسل الخالية قبله خصه الله تعالى ببعض الآيات كما خص كلا منهم ببعض آخر منها، ولعل ما خص به غيره أعجب وأغرب مما خصه به، فإنه عليه الصلاة والسلام إن أحيا من مات من الأجسام التي من شأنها الحياة، فقد أحيا موسى عليه الصلاة والسلام الجماد، وإن كان قد خلق من غير أب، فآدم عليه الصلاة والسلام قد خلق من غير أب وأم، فمن أين لكم وصفه بالألوهية؟! وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ أي وما أمه أيضا إلا كسائر النساء اللواتي يلازمن الصدق أو التصديق ويبالغن في الاتصاف به، فمن أين لكم وصفها بما عرى عنه أمثالها؟! والمراد بالصدق هنا صدق حالها مع الله تعالى، وقيل: صدقها في براءتها مما رمتها به اليهود، والمراد بالتصديق تصديقها بما حكى الله تعالى عنها بقوله سبحانه: وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ [التحريم: 12] . وروي هذا عن الحسن، واختاره الجبائي، وقيل: تصديقها بالأنبياء، والصيغة كيفما كانت للمبالغة- كشريب ورجح كونها من الصدق بأن القياس في صيغ المبالغة الأخذ من الثلاثي لكن ما حكي ربما يؤيد أنها من المضاعف، والحصر الذي أشير إليه مستفاد من المقام والعطف- كما قال العلامة الثاني- وتوقف في ذلك بعضهم، وليس في محله، واستدل بالآية من ذهب إلى عدم نبوة مريم عليها السلام، وذلك أنه تعالى شأنه إنما ذكر في معرض الإشارة إلى بيان أشرف ما لها الصديقية، كما ذكر الرسالة لعيسى عليه الصلاة والسلام في مثل ذلك المعرض، فلو كان لها عليها السلام مرتبة النبوة لذكرها سبحانه دون الصديقية لأنها أعلى منها بلا شك، نعم الأكثرون على أنه ليس بين النبوة والصديقية مقام، وهذا أمر آخر لا ضرر له فيما نحن بصدده كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ استئناف لا موضع له من الإعراب مبين لما أشير إليه من كونهما كسائر أفراد البشر، بل أفراد الحيوان في الاحتياج إلى ما يقوم به البدن من الغذاء، فالمراد من- أكل الطعام- حقيقته، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وقيل: هو كناية عن قضاء الحاجة لأن من أكل الطعام احتاج إلى النفض، وهذا أمرّ ذوقا في أفواه مدعي ألوهيتهما لما في ذلك مع الدلالة على الاحتياج المنافي للألوهية بشاعة عرفية، وليس المقصود سوى الرد على النصارى في زعمهم المنتن واعتقادهم الكريه، قيل: والآية في تقديم ما لهما من صفات الكمال، وتأخير ما لأفراد جنسهما من نقائص البشرية على منوال قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: 43] حيث قدم سبحانه العفو على المعاتبة له صلّى الله عليه وسلّم لئلا توحشه مفاجأته بذلك، وقوله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ تعجيب من حال الذين يدعون لهما الربوبية ولا يرعوون عن ذلك بعد ما بين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 373 لهم حقيقة الحال بيانا لا يحوم حوله شائبة ريب، والخطاب إما لسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام، أو لكل من له أهلية ذلك، وكَيْفَ معمول- لنبين- والجملة في موضع النصب معلقة للفعل قبلها، والمراد من الْآياتِ الدلائل أي- انظر كيف نبين لهم الدلائل- القطعية الصادعة ببطلان ما يقولون. ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي كيف يصرفون عن الإصاخة إليها والتأمل فيها لسوء استعدادهم وخباثة نفوسهم، والكلام فيه كما مر فيما قبله، وتكرير الأمر بالنظر للمبالغة في التعجيب، وثُمَّ لإظهار ما بين العجبين من التفاوت، أي إن بياننا للآيات أمر بديع في بابه بالغ لأقصى الغايات من التحقيق والإيضاح، وإعراضهم عنها- مع انتفاء ما يصححه بالمرة وتعاضد ما يوجب قبولها- أعجب وأبدع، ويجوز أن تكون على حقيقتها، والمراد منها بيان استمرار زمان بيان الآيات وامتداده، أي إنهم مع طول زمان ذلك لا يتأثرون، ويُؤْفَكُونَ. قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً أمر بتبكيتهم إثر التعجيب من أحوالهم، والمراد بما لا يملك عيسى، أو هو وأمه عليهما الصلاة والسلام، والمعنى أتعبدون شيئا لا يستطيع مثل ما يستطيعه الله تعالى من البلايا والمصائب والصحة والسعة، أو أتعبدون شيئا لا استطاعة له أصلا، فإن كل ما يستطيعه البشر بإيجاد الله تعالى وإقداره عليه لا بالذات، وإنما قال سبحانه: مَا نظرا إلى ما عليه المحدث عنه في ذاته، وأول أمره وأطواره توطئة لنفي القدرة عنه رأسا، وتنبيها على أنه من هذا الجنس، ومن كان بينه وبين غيره مشاركة وجنسية كيف يكون إلها، وقيل: إن المراد بما كل ما عبد من دون الله تعالى- كالأصنام وغيرها- فغلب ما لا يعقل على من يعقل تحقيرا، وقيل: أريد بها النوع كما في قوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء: 3] . وقيل: يمكن أن يكون المراد الترقي من توبيخ النصارى على عبادة عيسى عليه الصلاة والسلام إلى توبيخهم على عبادة الصليب- فما- على بابها، ولا يخفى بعده وتقديم الضر على النفع لأن التحرز عنه أهم من تحري النفع ولأن أدنى درجات التأثير دفع الشر ثم جلب الخير، وتقديم المفعول الغير الصريح على المفعول الصريح لما مرّ مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر، وقوله سبحانه وتعالى: وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ في موضع الحال من فاعل أَتَعْبُدُونَ مقرر للتوبيخ متضمن للوعيد، والواو هو الواو، أي أتعبدون غير الله تعالى وتشركون به سبحانه ما لا يقدر على شيء ولا تخشونه، والحال أنه سبحانه وتعالى المختص بالإحاطة التامة بجميع المسموعات والمعلومات التي من جملتها ما أنتم عليه من الأقوال الباطلة والعقائد الزائغة، وقد يقال: المعنى أَتَعْبُدُونَ العاجز وَاللَّهُ هُوَ الذي يصح أن يسمع كل مسموع ويعلم كل معلوم، ولن يكون كذلك إلا وهو حي قادر على كل شيء، ومنه الضر والنفع والمجازاة على الأقوال والعقائد إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وفرق بين الوجهين بأن ما على هذا الوجه للتحقير، والوصفية على هذا الوجه على معنى أن العدول إلى المبهم استحقار إلا أن ما للوصف والحال مقررة لذلك، وعلى الأول للتحقير المجرد، والحال كما علمت فافهم قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تلوين للخطاب وتوجيه له لفريقي أهل الكتاب بإرادة الجنس من المحلى بأل على لسان النبي صلّى الله عليه وسلّم. واختار الطبرسي كونه خطابا للنصارى خاصة لأن الكلام معهم لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ أي لا تجاوزوا الحدّ، وهو نهي للنصارى عن رفع عيسى عليه الصلاة والسلام عن رتبة الرسالة إلى ما تقولوا في حقه من العظيمة، وكذا عن رفع أمه عن رتبة الصديقية إلى ما انتحلوه لها عليها السلام، ونهي لليهود على تقدير دخولهم في الخطاب عن وضعهم له عليه السلام، وكذا لأمه عن الرتبة العلية إلى ما افتروه من الباطل والكلام الشنيع، وذكرهم بعنوان أهل الكتاب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 374 للإيماء إلى أن في كتابهم ما ينهاهم عن الغلو في دينهم غَيْرَ الْحَقِّ نصب على أنه صفة مصدر محذوف أي غلو غير الحق- أي باطلا- وتوصيفه به للتوكيد فإن الغلو لا يكون إلا غير الحق على ما قاله الراغب، وقال بعض المحققين: إنه للتقييد، وما ذكره الراغب غير مسلم، فإن الغلو قد يكون غير حق، وقد يكون حقا كالتعمق في المباحث الكلامية. وفي الكشاف الغلو في الدين غلوان: حق- وهو أن يفحص عن حقائقه ويفتش عن أباعد معانيه ويجتهد في تحصيل حججه كما يفعله المتكلمون من أهل العدل والتوحيد- وغلو باطل- وهو أن يجاوز الحق ويتخطاه بالإعراض عن الأدلة واتباع الشبه كما يفعله أهل الأهواء والبدع- انتهى، وقد يناقش فيه على ما فيه من الغلو في التمثيل بأن الغلو المجاوزة عن الحد، ولا مجاوزة عنه ما لم يخرج عن الدين، وما ذكر ليس خروجا عنه حتى يكون غلوا، وجوز أن يكون غَيْرَ حالا من ضمير الفاعل أي لا تَغْلُوا مجاوزين الحق، أو من دينكم أي لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ حال كونه باطلا منسوخا ببعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: هو نصب على الاستثناء المتصل أو المنقطع وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وهم أسلافهم وأئمتهم الذين قد ضلوا من الفريقين أو من النصارى قبل مبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم في شريعتهم،- والأهواء- جمع هوى وهو الباطل الموافق للنفس، والمراد لا توافقوهم في مذاهبهم الباطلة التي لم يدع إليها سوى الشهوة ولم تقم عليها حجة وَأَضَلُّوا كَثِيراً أي أناسا كثيرا ممن تابعهم ووافقهم فيما دعوا إليه من البدعة والضلالة، أو إضلالا كثيرا، والمفعول به حينئذ محذوف وَضَلُّوا عند بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم ووضوح محجة الحق وتبين مناهج الإسلام عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ أي قصد السبيل الذي هو الإسلام، وذلك حين حسدوا النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكذبوا وبغوا عليه، فلا تكرار بين ضَلُّوا هنا وضَلُّوا مِنْ قَبْلُ، والظاهر أن عَنْ متعلقة بالأخير، وجوز أن تكون متعلقة بالأفعال الثلاثة، ويراد- بسواء السبيل- الطريق الحق، وهو بالنظر إلى الأخير دين الإسلام، وقيل: في الإخراج عن التكرار أن الأول إشارة إلى ضلالهم عن مقتضى العقل، والثاني إلى ضلالهم عما جاء به الشرع، وقيل: إن ضمير ضَلُّوا الأخير عائد على- الكثير- لا على قَوْمٍ والفعل مطاوع للإضلال، أي- إن أولئك القوم أضلوا كثيرا من الناس، وأن أولئك الكثير قد ضلوا بإضلال أولئك لهم- فلا تكرار، وقيل: أيضا قد يراد- بالضلال- الأول الضلال بالغلو في الرفع والوضع مثلا وكذا بالإضلال، ويراد- بالضلال عن سواء السبيل- الضلال عن واضحات دينهم وخروجهم عنه بالكلية، وقال الزجاج: المراد بالضلال الأخير ضلالهم في الإضلال أي- إن هؤلاء ضلوا في أنفسهم وضلوا بإضلالهم لغيرهم- كقوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل: 25] ، ونقل هذا- كالقيل الأول- عن الراغب، وجوز أيضا أن يكون قوله سبحانه وتعالى: عَنْ سَواءِ متعلقا ب قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ إلا أنه لما فصل بينه وبين ما يتعلق به أعيد ذكره، كقوله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ [آل عمران: 188] ولعل ذم القوم على ما ذهب إليه الجمهور أشنع من ذمهم على ما ذهب إليه غيرهم، والله تعالى أعلم بمراده لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ أي لعنهم الله تعالى، وبناء الفعل لما لم يسم فاعله للجري على سنن الكبرياء، والجار متعلق بمحذوف وقع حالا من الموصول أو من فاعل كَفَرُوا، وقوله سبحانه وتعالى: عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ متعلق- بلعن- أي لعنهم جل وعلا في الإنجيل والزبور على لسان هذين النبيين عليهما السلام بأن أنزل سبحانه وتعالى فيهما- ملعون من يكفر من بني إسرائيل بالله تعالى أو أحد من رسله عليهم السلام، وعن الزجاج أن المراد أن داود وعيسى عليهما الصلاة والسلام أعلما بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وبشرا به وأمرا باتباعه ولعنا من كفر به من بني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 375 إسرائيل، والأول أولى، وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل: إن أهل إيلة لما اعتدوا في السبت قال داود عليه الصلاة والسلام: اللهم ألبسهم اللعن مثل الرداء ومثل المنطقة على الحقوين، فمسخهم الله تعالى قردة، وأصحاب المائدة لما كفروا قال عيسى عليه الصلاة والسلام: اللهم عذب من كفر بعد ما أكل من المائدة عذابا لم تعذبه أحدا من العالمين والعنهم كما لعنت أصحاب السبت، فأصبحوا خنازير وكانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة ولا صبي، وروي هذا القول عن الحسن ومجاهد وقتادة، وروي مثله عن الباقر رضي الله تعالى عنه، واختاره غير واحد، والمراد باللسان الجارحة، وإفراده أحد الاستعمالات الثلاث المشهورة في مثل ذلك، وقيل: المراد به اللغة ذلِكَ أي اللعن المذكور، وإيثار الإشارة على الضمير للإشارة إلى كمال ظهوره وامتيازه عن نظائره وانتظامه بسببه في سلك الأمور المشاهدة، وما في ذلك من البعد للإيذان بكمال فظاعته وبعد درجته في الشناعة والهول بِما عَصَوْا أي بسبب عصيانهم، والجار متعلق بمحذوف وقع خبرا عن المبتدأ قبله، والجملة استئناف واقع موقع الجواب عما نشأ من الكلام، كأنه قيل: بأي سبب وقع ذلك؟ فقيل: ذلك اللعن الهائل الفظيع بسبب عصيانهم، وقوله تعالى: وَكانُوا يَعْتَدُونَ يحتمل أن يكون معطوفا على عَصَوْا فيكون داخلا في حيز السبب، أي وبسبب اعتدائهم المستمر، وينبئ عن إرادة الاستمرار الجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل. وادعى الزمخشري إفادة الكلام حصر السبب فيما ذكر، أي بسبب ذلك لا غير، ولعله- كما قيل- استفيد من العدول عن الظاهر، وهو تعلق بِما عَصَوْا بلعن دون ذكر اسم الإشارة، فلما جيء به استحقارا لذلك اللعن وجوابا عن سؤال الموجب دل على أن مجموعه بهذا السبب لا بسبب آخر، وقيل: استفيد من السببية لأن المتبادر منها ما في ضمن السبب التام وهو يفيد ذلك، ولا يرد على الحصر أن كفرهم سبب أيضا- كما يشعر به أخذه في حيز الصلة- لأن ما ذكر في حيز السببية هنا مشتمل على كفرهم أيضا، ويحتمل أن يكون استئناف إخبار من الله تعالى بأنه كان شأنهم وأمرهم الاعتداء، وتجاوز الحد في العصيان، وقوله تعالى: كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ مؤذن باستمرار الاعتداء فإنه استئناف مفيد لاستمرار عدم التناهي عن المنكر، ولا يمكن استمراره إلا باستمرار تعاطي المنكرات، وليس المراد بالتناهي أن ينهى كل منهم الآخر عما يفعله من المنكر- كما هو المعنى المشهور لصيغة التفاعل- بل مجرد صدور النهي عن أشخاص متعددة من غير أن يكون كل واحد منهم ناهيا ومنهيا معا، كما في تراؤوا الهلال، وقيل: التناهي بمعنى الانتهاء من قولهم: تناهى عن الأمر وانتهى عنه إذا امتنع، فالجملة حينئذ مفسرة لما قبلها من المعصية والاعتداء، ومفيدة لاستمرارهما صريحا، وعلى الأول إنما تفيد استمرار انتفاء النهي عن المنكر ومن ضرورته استمرار فعله، وعلى التقديرين لا تقوى هذه الجملة احتمال الاستئناف فيما سبق خلافا لأبي حيان. والمراد بالمنكر قيل: صيد السمك يوم السبت، وقيل: أخذ الرشوة في الحكم، وقيل: أكل الربا وأثمان الشحوم، والأولى أن يراد به نوع المنكر مطلقا، وما يفيده التنوين وحدة نوعية لا شخصية، وحينئذ لا يقدح وصفه بالفعل الماضي في تعلق النهي به لما أن متعلق الفعل إنما هو فرد من أفراد ما يتعلق به النهي، أو الانتهاء عن مطلق المنكر باعتبار تحققه في ضمن أي فرد كان من أفراده على أنه لو جعل المضي في فَعَلُوهُ بالنسبة إلى زمن الخطاب لا زمان النهي لم يبق في الآية إشكال، ولما غفل بعضهم عن ذلك قال: إن الآية مشكلة لما فيها من ذم القوم بعدم النهي عما وقع مع أن النهي لا يتصور فيه أصلا، وإنما يكون عن الشيء قبل وقوعه، فلا بد من تأويلها بأن المراد النهي عن العود إليه، وهذا إما بتقدير مضاف قبل مُنكَرٍ أي معاودة منكر، أو بفهم من السياق، أو بأن المراد فعلوا مثله، أو بحمل فَعَلُوهُ على أرادوا فعله، كما في قوله سبحانه: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ [النحل: 98] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 376 واعترض الأول بأن المعاودة كالنهي لا تتعلق بالمنكر المفعول، فلا بد من المصير إلى أحد الأمرين الأخيرين، وفيهما من التعسف ما لا يخفى، وقيل: إن الإشكال إنما يتوجه لو لم يكن الكلام على حد قولنا: كانوا لا ينهون يوم الخميس عن منكر فعلوه يوم الجمعة مثلا، فإنه لا خفاء في صحته، وليس في الكلام ما يأباه، فليحمل على نحو ذلك، وقوله سبحانه: لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ تقبيح لسوء فعلهم وتعجيب منه، والقسم لتأكيد التعجيب، أو للفعل المتعجب منه، وفي هذه الآية زجر شديد لمن يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد أخرج أحمد والترمذي وحسنه عن حذيفة بن اليمان أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله تعالى أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم» ، وأخرج أحمد عن عدي بن عميرة، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله تعالى لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرونه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله تعالى الخاصة والعامة» ، وأخرج الخطيب من طريق أبي سلمة عن أبيه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «والذي نفس محمد صلّى الله عليه وسلّم بيده ليخرجن من أمتي أناس من قبورهم في صورة القردة والخنازير بما داهنوا أهل المعاصي وكفوا عن نهيهم وهم يستطيعون» والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وفيها ترهيب عظيم، فيا حسرة على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهي عن المناكير وقلة عبئهم به تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم أو لكل من تصح منه الرؤية، وهي هنا بصرية، والجملة الفعلية بعدها في موضع الحال من مفعولها لكونه موصوفا، وضمير مِنْهُمْ لأهل الكتاب أو لبني إسرائيل، واستظهره في البحر، والمراد من الكثير- كعب بن الأشرف وأصحابه- ومن الَّذِينَ كَفَرُوا مشركو مكة وقد روي أن جماعة من اليهود خرجوا إلى مكة ليتفقوا مع مشركيها على محاربة النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين فلم يتم لهم ذلك. وروي عن الباقر رضي الله تعالى عنه أن المراد من الَّذِينَ كَفَرُوا الملوك الجبارون أي ترى كثيرا منهم- وهم علماؤهم- يوالون الجبارين ويزينون لهم أهواءهم ليصيبوا من دنياهم، وهذا في غاية البعد، ولعل نسبته إلى الباقر رضي الله تعالى عنه غير صحيحة، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والحسن ومجاهد أن المراد من- الكثير- منافقو اليهود، ومن الَّذِينَ كَفَرُوا مجاهروهم، وقيل: المشركون لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أي لبئس شيئا فعلوه في الدنيا ليردوا على جزائه في العقبى أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هو المخصوص بالذم على حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه تنبيها على كمال التعلق والارتباط بينهما كأنهما شيء واحد، ومبالغة في الذم أي بئس ما قدموا لمعادهم موجب سخط الله تعالى عليهم، وإنما اعتبروا المضاف لأن نفس سخط الله تعالى شأنه باعتبار إضافته إليه سبحانه ليس مذموما بل المذموم ما أوجبه من الأسباب على أن نفس السخط مما لم يعمل في الدنيا ليرى جزاؤه في العقبى كما لا يخفى، وفي إعراب المخصوص بالذم، أو المدح أقوال شهيرة للمعربين، واختار أبو البقاء كون المخصوص هنا خبر مبتدأ محذوف تنبئ عنه الجملة المتقدمة، كأنه قيل: ما هو، أو أي شيء هو؟ فقيل هو أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ونقل عن سيبويه أنّ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ مرفوع على البدل من المخصوص بالذم، وهو محذوف، وجملة قَدَّمَتْ صفته، وما اسم تام معرفة في محل رفع بالفاعلية لفعل الذم، والتقدير لبئس الشيء شيء قدمته لهم أنفسهم سخط الله تعالى، وقيل: إنه في محل رفع بدل من ما إن قلنا: إنها معرفة فاعل لفعل الذم، أو في محل نصب منها إن كانت تمييزا، واعترض بأن فيه إبدال المعرفة من النكرة، وقيل: إنه على تقدير الجار، والمخصوص محذوف أي لبئس شيئا ذلك لأن سخط الله تعالى عليهم وَفِي الْعَذابِ أي عذاب جهنم هُمْ خالِدُونَ أبد الآبدين، والجملة في موضع الحال وهي متسببة عما قبلها، وليست داخلة في حيز الحرف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 377 المصدري إعرابا كما توهمه عبارة البعض، وتعسف لها عصام الملة بجعل- أن- مخففة عاملة في ضمير الشأن بتقدير أنه سخط الله تعالى عليهم وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ، وجوز أيضا أن تكون هذه الجملة معطوفة على ثاني مفعولي تَرى بجعلها علمية أي تعلم كثيرا منهم يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ويخلدون في النار، وكل ذلك مما لا حاجة إليه، وَلَوْ كانُوا أي الذين يتولون المشركين يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ أي نبيهم موسى عليه السلام وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ من التوراة، وقيل: المراد- بالنبي- نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم وبما أُنْزِلَ القرآن، أي لو كان المنافقون يؤمنون بالله تعالى ونبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم إيمانا صحيحا مَا اتَّخَذُوهُمْ أي المشركين أو اليهود المجاهرين أَوْلِياءَ، فإن الإيمان المذكور وازع عن توليهم قطعا وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ أي خارجون عن الدين، أو متمردون في النفاق مفرطون فيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 378 بسم الله الرحمن الرحيم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا جملة مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها من قبائح اليهود، وأكدت بالقسم اعتناء ببيان تحقق مضمونها، والخطاب إما لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم وإما لكل أحد يصلح له إيذانا بأن حالهم مما لا تخفى على أحد من الناس. والوجدان متعد لاثنين أولهما أَشَدَّ وثانيهما اليهود وما عطف عليه كما قال أبو البقاء، واختار السمين العكس لأنهما في الأصل مبتدأ وخبر ومحط الفائدة هو الخبر ولا ضير في التقديم والتأخير إذا دل على الترتيب دليل وهو هنا واضح إذ المقصود بيان كون الطائفتين أشد الناس عداوة للمؤمنين لا كون أشدهم عداوة لهم الطائفتين المذكورتين فليفهم. وعَداوَةً تمييز، واللام الداخلة على الموصول متعلقة بها مقوية لعملها. ولا يضر كونها مؤنثة بالتاء لأنها مبنية عليه كرهبة عقابك، وجوز أبو البقاء والسمين تعلقها بمحذوف وقع صفة لها أي عداوة كائنة للذين آمنوا، والظاهر أن المراد من اليهود العموم لمن كان بحضرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم من يهود المدينة وغيرهم. ويؤيده ما أخرجه أبو الشيخ. وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ما خلا يهودي بمسلم إلا هم بقتله» وفي لفظ «إلا حدث نفسه بقتله» وقيل: المراد بهم يهود المدينة وفيه بعد. وكما اختلف في عموم اليهود اختلف في عموم الذين أشركوا، والمراد من الناس كما قال أبو حيان الكفار أي لتجدن أشد الكفار عداوة هؤلاء ووصفهم سبحانه بذلك لشدة شكيمتهم وتضاعف كفرهم وانهماكهم في اتباع الهوى وقربهم إلى التقليد وبعدهم عن التحقيق وتمرنهم على التمرد والاستعصاء على الأنبياء عليهم السلام والاجتراء على تكذيبهم ومناصبتهم. وقد قيل: إن من مذهب اليهود أنه يجب عليهم إيصال الشر إلى من يخالفهم في الدين بأي طريق كان، وفي تقديم اليهود على المشركين إشعار بتقدمهم عليهم في العداوة كما أن في تقديمهم عليهم في قوله تعالى كان، وفي تقديم اليهود على المشركين إشعار بتقدمهم عليهم في العداوة كما أن في تقديمهم عليهم في قوله تعالى وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا [البقرة: 96] إيذانا بتقدمهم عليهم في الحرص. وقيل: التقديم لكون الكلام في تعديد قبائحهم، ولعل التعبير بالذين أشركوا دون المشركين مع أنه أخصر للمبالغة في الذم. وقيل: ليكون على نمط لِلَّذِينَ آمَنُوا والتعبير به دون المؤمنين لأنه أظهر في علية ما في حيز الصلة، وأعيد الموصول مع صلته في قوله تعالى: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا روما لزيادة التوضيح والبيان، والتعبير بقوله سبحانه وتعالى: الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى دون النصارى إشعارا بقرب مودتهم حيث يدعون أنهم أنصار الله تعالى وأوداء أهل الحق وإن لم يظهروا اعتقاد حقية الإسلام. وقال ابن المنير: لم يقل سبحانه النصارى كما قال جل شأنه اليهود تعريضا بصلابة الأولين في الكفر والامتناع عن الانقياد لأن اليهود لما قيل لهم: ادخلوا الأرض المقدسة قالوا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا [المائدة: 24] والنصارى لما قيل لهم من أنصاري إلى الله؟ قالوا: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ [آل عمران: 52، الصف: 14] وكذلك أيضا ورد في أول السورة في قوله عز وجل وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة: 14] لكن ذكر هاهنا تنبيها على انقيادهم وأنهم لم يكافحوا الأمر بالرد مكافحة اليهود. وذكر هناك تنبيها على أنهم لم يثبتوا على الميثاق والله تعالى أعلم بأسرار كلامه والعدول كما قال شيخ الإسلام عن جعل ما فيه التفاوت بين الفريقين شيئا واحدا قد تفاوتا فيه بالشدة والضعف أو بالقرب والبعد بأن يقال آخرا: ولتجدن أضعفهم مودة إلخ، أو بأن يقال أولا: لتجدن أبعد الناس مودة للإيذان بكمال تباين ما بين الفريقين من التفاوت ببيان أن أحدهما في أقصى مراتب أحد النقيضين والآخر في أقرب مراتب النقيض الآخر والكام في مفعولي لَتَجِدَنَّ وتعلق اللام كالذي سبق، والمراد من النصارى على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه: وابن جبير، وعطاء، والسدي النجاشي، وأصحابه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 وعن مجاهد أنهم الذين جاؤوا مع جعفر رضي الله تعالى عنه مسلمين وهم سبعون رجلا اثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام وهم بحيرى الراهب، وأبرهة، وإدريس، وأشرف، وتمام، وقثم، ودريد، وأيمن، والظاهر العموم على طرز ما تقدم ذلِكَ أي كونهم أقرب مودة للذين آمنوا بِأَنَّ مِنْهُمْ أي بسبب أن منهم قِسِّيسِينَ وهم علماء النصارى وعبادهم ورؤساؤهم. والقسيس صيغة مبالغة من تقسس الشيء إذا تتبعه بالليل سموا به لمبالغتهم في تتبع العلم قاله الراغب، وقيل: القس مثلث الفاء تتبع الشيء وطلبه ومنه سمي عالم النصارى قسا بالفتح وقسيسا لتتبعه العلم. وقيل: قص الأثر وقسه بمعنى. وقال قطرب: القس والقسيس العالم بلغة الروم وقد تكلمت به العرب وأجروه مجرى سائر كلماتهم وقالوا في المصدر قسوسة (1) وقسيسة وفي الجمع قسوس وقسيسون وقساوسة كمهالبة، وكان الأصل قساسسة إلا أنه كثرت السينات فأبدلوا إحداهن واوا. وفي مجمع البيان نقلا عن بعضهم أن النصارى ضيعت الإنجيل وأدخلوا فيه ما ليس منه وبقي من علمائهم واحدا على الحق والاستقامة يقال له قسيسا فمن كان على هديه ودينه فهو قسيس وَرُهْباناً جمع راهب كراكب وركبان وفارس وفرسان ومصدره الرهبة والرهبانية، وقيل: إنه يطلق على الواحد والجمع، وأنشد فيه قول من قال: لو عاينت (2) رهبان دير في قلل ... لأقبل الرهبان يعدو ونزل وجمع الرهبان واحدا كما في القاموس رهابين ورهابنة ورهبانون، والترهب التعبد في صومعة، وأصله من الرهبة المخافة، وأطلق الفيروزابادي. والجوهري التعبد ولم يقيداه بالصومعة، وفي الحديث «لا رهبانية في الإسلام» والمراد بها كما قال الراغب الغلو في تحمل التعبد في فرط الخوف. وفي النهاية هي من رهبنة النصارى وأصلها من الرهبة الخوف كانوا يترهبون بالتخلي من أشغال الدنيا وترك ملاذها والزهد فيها والعزلة عن أهلها وتعمد مشاقها حتى أن منهم من كان يخصي نفسه ويضع السلسلة في عنقه وغير ذلك من أنواع التعذيب فنفاها النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الإسلام ونهى المسلمين عنها، وهي منسوبة إلى الرهبنة بزيادة الألف والرهبنة فعلنة أو فعللة على تقدير أصالة النون وزيادتها، والتنكير في رُهْباناً لإفادة الكثرة ولا بد من اعتبارها في القسيسين أيضا إذ هي التي تدل على مودة جنس النصارى للمؤمنين فإن اتصاف أفراد كثيرة لجنس بخصلة مظنة لاتصاف الجنس بها وإلا فمن اليهود أيضا قوم مهتدون لكنهم لما لم يكونوا في الكثرة كالذين من النصارى لم يتعد حكمهم إلى جنس اليهود. وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عطف على أن منهم أي وبأنهم لا يستكبرون عن اتباع الحق والانقياد له إذا فهموه أو أنهم يتواضعون ولا يتكبرون كاليهود، وهذه الخصلة على ما قيل شاملة لجميع أفراد الجنس فسببيتها لأقربيتهم مودة للمؤمنين واضحة. وفي الآية دليل على أن التواضع والإقبال على العلم والعمل والإعراض عن الشهوات محمودة أينما كان وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ عطف على لا يَسْتَكْبِرُونَ وإِذا في موضع نصب بتري، وجملة تَفِيضُ في موضع الحال والرؤية بصرية أي ذلك بسبب أنهم لا يستكبرون وأنهم إذا سمعوا القرآن رأيت أعينهم فائضة من الدمع، وجوز السمين وغيره الاستئناف، وأيّا ما كان فهو بيان لرقة قلوبهم وشدة خشيتهم ومسارعتهم إلى قبول الحق وعدم إبائهم إياه. والظاهر عود ضمير سَمِعُوا للذين قالوا إنا نصارى. وقد تقدم أن الظاهر فيه العموم، وقيل: يتعين هنا إرادة البعض، وهو من جار من الحبشة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم لأن كل   (1) قوله وقسيسة كذا بخط مؤلفه تبعا للقاموس والذي في شرحه ان الصواب قسيسية كما نص عليه الليث. (2) قوله لو عاينت كذا بخط مؤلفه والمعروف من كتب اللغة لو كلمت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 النصارى ليسوا كذلك، والفيض انصباب عن امتلاء، ووضع هنا موضع الامتلاء بإقامة المسبب مقام السبب أي تمتلىء من الدمع أو قصد المبالغة فجعلت أعينهم بأنفسها تفيض من أجل الدمع قاله في الكشاف. وأراد على ما في الكشف أن الدمع على الأول هو الماء المخصوص وعلى الثاني الحدث، وهو على الأول مبدأ مادي وعلى الثاني سببي. وفي الانتصاف أن هذه العبارة أبلغ العبارات وهي ثلاث مراتب فالأولى فاض دمع عينه وهذا هو الأصل والثانية محولة من هذه وهي فاضت عينه دمعا فإنه قد حول فيها الفعل إلى العين مجازا ومبالغة ثم نبه على الأصل والحقيقة بنصب ما كان فاعلا على التمييز، والثالثة ما في النظم الكريم وفيها التحويل المذكور إلا أنها أبلغ من الثانية باطراح التنبيه على الأصل وعدم نصب التمييز وإبرازه في صورة التعليل، وجوز الزمخشري أن تكون- من- هذه هي الداخلة على التمييز وهو مردود وإن كان الكوفيون ذهبوا إلى جواز تعريف التمييز وأنه لا يشترط تنكيره كما هو مذهب الجمهور لأن التمييز المنقول عن الفاعل يمتنع دخول من عليه وإن كانت مقدرة معه فلا يجوز تفقا زيد من شحم فليفهم مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ مِنَ الأولى لابتداء الغاية متعلقة بمحذوف وقع حالا من الدَّمْعِ أي حال كونه ناشئا من معرفة الحق. وجوز أن تكون تعليلية متعلقة بتفيض أي أن فيض دمعهم بسبب عرفانهم. وجوز على تقدير كونها للابتداء أن تتعلق بذلك أيضا لكن لا يجوز على تقدير اتحاد متعلق مِنَ هذه ومن في مِنَ الدَّمْعِ القول باتحاد معناهما فإنه لا يتعلق حرفا جر بمعنى بعامل واحد، ومِنَ الثانية للتبعيض متعلقة بعرفوا على معنى أنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم فكيف لو عرفوه كله وقرؤوا القرآن وأحاطوا بالسنة، أو لبيان ما بناء على أنها موصولة، ونص أبو البقاء على أنها متعلقة بمحذوف وقع حالا من العائد المحذوف ولم يذكر الاحتمال الأول. وقرىء «ترى أعينهم» على صيغة المبني للمفعول يَقُولُونَ استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية حالهم عند سماع القرآن كأنه قيل: ماذا يقولون؟ فأجيب يقولون: رَبَّنا آمَنَّا بما أنزل أو بمن أنزل عليه أو بهما. وقال أبو البقاء: إنه حال من الضمير في عَرَفُوا، وقال السمين: يجوز الأمران. وكونه حالا من الضمير المجرور في أَعْيُنَهُمْ لما أن المضاف جزؤه كما في قوله تعالى: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً [الحجر: 47] . فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ أي اجعلنا عندك مع محمد صلّى الله عليه وسلّم وأمته الذين يشهدون يوم القيامة على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أو مع الذين يشهدون بحقية نبيك صلّى الله عليه وسلّم وكتابك كما نقل عن الجبائي وروي ما بمعناه عن الحسن وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ جعله جماعة ومنهم شيخ الإسلام كلاما مستأنفا تحقيقا لإيمانهم وتقريرا له بإنكار سبب انتفائه ونفيه بالكلية على أن لا نُؤْمِنُ حال من الضمير في لَنا والعامل ما فيه من معنى الاستقرار أي أي شيء حصل لنا غير مؤمنين والإنكار متوجه إلى السبب والمسبب جميعا كما في قوله تعالى: وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي [يس: 22] ونظائره لا إلى السبب فقط مع تحقيق المسبب كما في قوله تعالى فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الانشقاق: 20] وأمثاله، وقيل: هو معطوف على الجملة الأولى مندرج معها في حيز القول أي يقولون ربنا آمنا إلخ. ويقولون ما لنا لا نؤمن إلخ، وقيل: هو عطف على جملة محذوفة والتقدير ما لكم لا تؤمنون بالله وما لنا لا نؤمن نحن بالله إلخ. وقال بعضهم: إنه جواب سائل قال: لم آمنتم؟ واختاره الزجاج. واعترض بأن علماء العربية صرحوا بأن الجملة المستأنفة الواقعة جواب سؤال مقدر لا تقترن بالواو وذكر علماء المعاني أنه لا بد فيها من الفصل إذ الجواب لا يعطف على السؤال، وأجيب بأن الواو زائدة وقد نقل الأخفش أنها تزاد في الجمل المستأنفة، ولا يخفى أنه لا بد لذلك من ثبت، والحال المذكورة على ما نص عليه الشهاب لازمة لا يتم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 المعنى بدونها قال: ولذا لا يصح اقترانها بالواو في مالنا وما بالنا لا نفعل كذا لأنها خبر في المعنى وهي المستفهم عنها. وأنت تعلم أن الاستفهام في نحو هذا التركيب في الغالب غير حقيقي وإنّما هو للإنكار ويختلف المراد منه على ما أشرنا إليه، ومعنى الإيمان بالله تعالى الإيمان بوحدانيته سبحانه على الوجه الذي جاءت به الشريعة المحمدية فإن القوم لم يكونوا موحدين كذلك، وقيل: بكتابه ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فإن الإيمان بهما إيمان به سبحانه والظاهر هو الأول، والإيمان بالكتاب والرسول صلّى الله عليه وسلّم يفهمه العطف فإن الموصول المعطوف على الاسم الجليل يشمل ذلك قطعا. ومِنَ الْحَقِّ على ما ذكره أبو البقاء حال من ضمير الفاعل، وجوز أن تكون من لا بتاء الغاية أي وبما جاءنا من عند الله وأن يكون الموصول مبتدأ ومِنَ الْحَقِّ خبره والجملة في موضع الحال أيضا، ولا يخفى ما في الوجهين من البعد، وقوله تعالى: وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ حال أخرى عند الجماعة من الضمير المتقدم بتقدير مبتدأ لأن المضارع المثبت لا يقترن بالواو والعامل فيها هو العامل في الأولى مقيد بها فيتعدد معنى كما قيل نحو ذلك في قوله تعالى: كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ [البقرة: 25] أي أي شيء حصل لنا غير مؤمنين ونحن نطمع في صحبة الصالحين. وهي حال مترادفة ولزوم الأولى لا يخرجها عن الترادف أو حال من الضمير في لا نُؤْمِنُ على معنى أنهم أنكروا على أنفسهم عدم إيمانهم مع أنهم يطمعون في صحبة المؤمنين، وجوز فيه أن يكون معطوفا على نؤمن أو على لا نُؤْمِنُ على معنى وما لنا نجمع بين ترك الإيمان والطمع في صحبة الصالحين أو على معنى ما لنا لا نجمع بين الإيمان والطمع المذكور بالدخول في الإسلام لأن الكافر ما ينبغي له أن يطمع في تلك الصحبة، وموضع المنسبك من أن وما بعدها إما نصب أو جر على الخلاف بين الخليل وسيبويه، والمراد في أن يدخلنا، واختار غير واحد من المعربين أن- نا- مفعول أول ليدخل والمفعول الثاني محذوف أي الجنة، قيل: ولولا إرادة ذلك لقال سبحانه في القوم بدل مع القوم فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا أي بسبب قولهم أو بالذي قالوه عن اعتقاد فإن القول إذا لم يقيد بالخلو عن الاعتقاد يكون المراد به المقارن له كما إذا قيل هذا قول فلان لأن القول إنما يصدر عن صاحبه لإفادة الاعتقاد. وقيل: إن القول هنا مجاز عن الرأي والاعتقاد والمذهب كما يقال: هذا قول الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه مثلا أي هذا مذهبه واعتقاده. وذهب كثير من المفسرين إلى أن المراد بهذا القول قولهم: «وما لنا لا نؤمن» إلخ. واستظهر أبو حيان أنه عنى به قولهم: «ربنا آمنا» وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه. وعطاء أن المراد به «فاكتبنا مع الشاهدين» وقولهم «ونطمع أن يدخلنا ربنا» إلخ، قال الطبرسي: فالقول على هذا بمعنى المسألة وفيه نظر، والإثابة المجازاة، وفي البحر أنها أبلغ من الإعطاء لأنها ما تكون عن عمل بخلاف الإعطاء فإنه لا يلزم فيه ذلك. وقرأ الحسن «فآتاهم الله» جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أبد الآبدين وهو حال مقدرة وَذلِكَ المذكور من الأمر الجليل الشأن جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ أي جزاؤهم، وأقيم الظاهر مقام ضميرهم مدحا لهم وتشريفا بهذا الوصف الكريم، ويحتمل أن يراد الجنس ويندرجون فيه اندراجا أوليا أي جزاء الذين اعتادوا الإحسان في الأمور وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ عطف التكذيب بآيات الله تعالى على الكفر مع أنه ضرب منه لما أن القصد إلى بيان حال المكذبين وذكرهم بمقابلة المصدقين بها ليقترن الوعيد بالوعد وبضدها تتبين الأشياء. هذا «ومن باب الإشارة في بعض ما تقدم من الآيات» يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ. ذهب كثير من ساداتنا الصوفية إلى أن هذا أمر منه عز شأنه أن يبلغ رسوله صلّى الله عليه وسلّم ما أنزله إليه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 مما يتعلق بأحكام العبودية ولم يأمره جل جلاله بأن يعرف الناس أسرار ما بينه وبينه فإن ذرة من أسراره سبحانه لا تتحملها السماوات والأرض، وهذه الأسرار هي المشار إليها بقوله تعالى: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى [النجم: 10] . ولهذا قال سبحانه ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ولم يقل ما خصصناك به أو ما تعرفنا به إليك. وقال بعضهم وهو المنصور: إن الموصول عام ويندرج فيه الوحي والإلهامات والمنامات والمشاهدات وسائر المواهب، والرسول صلّى الله عليه وسلّم مأمور بتبليغ كل ذلك إلا أن مراتب التبليغ مختلفة حسب اختلاف الاستعدادات فتبليغ بالعبارة وتبليغ بالإشارة وتبليغ بالهمة وتبليغ بالجذبة إلى غير ذلك «فسبحان من أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها «والله يعصمك من الناس» بما أودع فيك من أسرار الألوهية فلا يقدرون أن يوصلوا إليك ما يقطعك عن الله تعالى، وقريب من ذلك ما قيل: يعصمك منهم أن يكون لك بهم اشتغال، وقيل: يعصمك من أن ترى لنفسك فيهم شيئا بل ترى الكل منه سبحانه وبه قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ يعتد به حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ فتعطوا الظاهر حقه وتعملوا بالشريعة على الوجه الأكمل مع توحيد الأفعال وَالْإِنْجِيلَ فتعطوا الباطن حقه وتعملوا بالطريقة على الوجه الأتم مع توحيد الصفات «وما أنزل إليكم» فتعطوا الحقيقة حقها وتشاهدوا الكثرة في عين الوحدة والوحدة في عين الكثرة ولا تحجبكم الكثرة عن الوحدة ولا الوحدة عن الكثرة «وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا» لجهلهم به وقلة استعدادهم لمعرفة أسراره. وعن بعض السادة قدس الله تعالى أسرارهم أن القرآن المنزل على النبي المرسل صلّى الله عليه وسلّم ذو صفتين: صفة قهر وصفة لطف فمن تجلى له القرآن بصفة اللطف يزيد نور بصيرته بلطائف حكمته وحقائق أسراره ودقائق بيانه ويزيد ذلك نور إيمانه وتوحيده ويعرف بذلك ظاهر الخطاب وباطنه، ومن يتجلى له بصفة القهر تزيد ظلمة طغيانه وينسد عليه باب عرفانه بحيث لا يدرك سر الخطاب فتكثر عليه الشكوك والأوهام، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] وقوله سبحانه يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ [البقرة: 26] وشبه بعضهم ذلك بنور الشمس فإنه ينتفع به من ينتفع ويتضرر به الخفاش ونحوه. ومن ذلك كتب كثير من الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم فإنه قد هدى بها أرباب القلوب الصافية وضل بها الكثير حتى تركوا الصلاة واتبعوا الشهوات وعطلوا الشرائع واستحلوا المحرمات وزعموا والعياذ بالله تعالى أن ذلك هو الذي يقتضيه القول بوحدة الوجود التي هي معتقد القوم نفعنا الله تعالى بفتوحاتهم، وقد نقل لي عن بعض من أضله الله تعالى بالاشتغال بكتب القوم ممن لم يقف على حقيقة الحال أنه لا فرق بين أن يدخل الرجل أصبعه في فمه وبين أن يدخل ذكره في فرج محرم لأن الكل واحد، وكذا لا فرق بين أن يتزوج أجنبية وبين أن يتزوج أمه أو بنته أو أخته وهذا كفر صريح عافانا الله تعالى والمسلمين منه، ومنشأ ذلك النظر في كتب القوم من دون فهم لمرادهم وما درى هذا المسكين أن مراعاة المراتب أمر واجب عندهم وإن ترك ذلك زندقة وأنهم قد صرحوا بأن الشريعة مظهر أعظم لأنها مظهر اسم الله تعالى الظاهر وأنه لا يمكن لأحد أن يصل إلى الله تعالى بإهمالها، فقد جاء عن غير واحد من العارفين إن الطرق إلى الله تعالى مسدودة إلا على من اقتفى أثر الرسول صلّى الله عليه وسلّم وإذا رأيتم الرجل يطير في الهواء وقد أخل بحكم واحد من الشريعة فقولوا: إنه زنديق ولله در من قال خطابا للحضرة المحمدية: وأنت باب الله أي امرئ ... أتاه من غيرك لا يدخل ولَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الإيمان الحقيقي الْيَهُودَ وذلك لقوة المباينة لأنهم محجوبون عن توحيد الصفات وتوحيد الذات ولم يكن لهم إلا توحيد الأفعال وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا كذلك بل هم أشد مباينة منهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 للمؤمنين وأقوى لأنهم محجوبون مطلقا، وإنما قدم اليهود عليهم لأن البحث فيهم، وهذا خلاف ما عليه أهل العبارة وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى لأنهم برزوا من حجاب الصفات ولم يبق لهم إلا حجاب الذات، وإلى هذا الإشارة بقوله سبحانه وتعالى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ حيث مدحوا بالعلم والعمل وعدم الاستكبار، وذلك يقتضي أنهم وصلوا إلى توحيد الأفعال والصفات وأنهم ما رأوا نفوسهم موصوفة بصفة العلم والعمل ولا نسبوا عملهم وعلمهم إليها بل إلى الله تعالى وإلا لاستكبروا وأظهروا العجب وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ من أنواع التوحيد التي من جملتها توحيد الذات تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مما عرفوا بالدليل وبواسطة الرياضة مِنَ الْحَقِّ الذي أنزل إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا بذلك فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ المعاينين لذلك وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ جمعا وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ تفصيلا وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ الذين استقاموا بالبقاء بعد الفناء «فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار» من التجليات الثلاث مع علومها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ المشاهدين للوحدة في عين الكثرة بالاستقامة في الله عز وجل «والذين كفروا» أي حجبوا عن الذات «وكذبوا بآياتنا» الدالة على التوحيد «أولئك أصحاب الجحيم» لحرمانهم الكلي واحتجابهم بنفوسهم وصفاتها والله تعالى الموفق. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ أي لذائذ ذلك وما تميل إليه القلوب منه كأنه لما تضمن ما سلف من مدح النصارى على الرهبانية ترغيب المؤمنين في كسر النفس ورفض الشهوات عقب سبحانه ذلك بالنهي عن الإفراط في هذا الباب أي لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم، وقيل: لا تلتزموا تحريمها بنحو يمين، وقيل: لا تقولوا حرمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهدا منكم، وكون المعنى لا تحرموها على غيركم بالفتوى والحكم مما لا يلتفت إليه. فقد روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جلس يوما فذكر الناس ووصف القيامة فرق الناس وبكوا واجتمع عشرة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم في بيت عثمان بن مظعون الجمحي وهم علي كرم الله تعالى وجهه، وأبو بكر رضي الله تعالى عنه وعبد الله بن مسعود، وأبو ذر الغفاري، وسالم مولى أبي حذيفة، وعبد الله بن عمر والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي ومعقل بن مقرن، وصاحب البيت واتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم ولا الودك ولا يقربوا النساء والطيب ويلبسوا المسوح ويرفضوا الدنيا ويسيحوا في الأرض وهم بعضهم أن يجب مذاكيره. فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأتى دار عثمان فلم يصادفه فقال لامرأته أم حكيم: أحق ما بلغني عن زوجك وأصحابه؟ فكرهت أن تنكر إذ سألها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكرهت أن تبدي على زوجها فقالت: يا رسول الله إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك وانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما دخل عثمان فأخبرته بذلك أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو وأصحابه فقال عليه الصلاة والسلام لهم: انبئت أنكم اتفقتم على كذا وكذا قال: نعم يا رسول الله وما أردنا إلا الخير فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إني لم أؤمر بذلك ثم قال عليه الصلاة والسلام: «إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني» ثم جمع الناس وخطبهم فقال: «ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا أما أني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا فإنه ليس في ديني ترك اللحم والنساء ولا اتخاذ الصوامع وإن سياحة أمتي الصوم ورهبانيتهم الجهاد اعبدوا الله تعالى ولا تشركوا به شيئا وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان واستقيموا يستقم لكم فإنما هلك من قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدد الله تعالى عليهم فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع» فأنزل الله تعالى هذه الآية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 وروي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أن الآية نزلت في عليّ كرم الله تعالى وجهه، وبلال، وعثمان بن مظعون فأما علي كرم الله تعالى وجهه فإنه حلف أن لا ينام بالليل أبدا إلا ما شاء الله تعالى، وأمّا بلال فحلف أن لا يفطر بالنهار أبدا. وأما عثمان فإنه حلف أن لا ينكح أبدا. وروي أيضا غير ذلك ولم نقف على رواية فيها ما يدل على أن هذا التحريم كان على الغير بالفتوى والحكم كما ذهب إليه هذا القائل. ومع هذا يبعده ما يأتي بعد من الأمر بالأكل. لا ينافي هذا النهي أن الله تعالى مدح النصارى بالرهبانية فرب ممدوح بالنسبة إلى قوم مذموم بالنسبة إلى آخرين. وقوله تعالى: وَلا تَعْتَدُوا تأكيد للنهي السابق أي لا تتعدوا حدود ما أحل سبحانه لكم إلى ما حرم جل شأنه عليكم أو نهي عن تحليل الحرام بعد النهي عن تحريم الحلال فيكون تأسيسا. ويحتمل أن يكون نهيا عن الإسراف في الحلال، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، ومجاهد، وقتادة أن المراد لا تجبوا أنفسكم ولا يخفى أن الجب فرد من أفراد الاعتداء وتجاوز الحدود والحمل على الأعم أعم فائدة. وقوله سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ في موضع التعليل لما قبله. وقد تقدمت الإشارة إلى أن نفي محبة الله سبحانه لشيء مستلزم لبغضه له لعدم الواسطة في حقه تعالى. وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً أي كلوا ما أحل لكم وطاب مما رزقكم الله تعالى. فحلالا مفعول به لكلوا ومِمَّا رَزَقَكُمُ إما حال منه وقد كان في الأصل صفة له إلا أن صفة النكرة إذا قدمت صارت حالا أو متعلق بكلوا ومن ابتدائية. ويحتمل أن يكون في موضع المفعول لكلوا على معنى أنه صفة مفعول له قائمة مقامه أي شيئا مما رزقكم أو بجعله نفسه مفعولا بتأويل بعض إلا أن في هذا تكلفا. وحَلالًا حال من الموصول أو من عائدة المحذوف أو صفة لمصدر محذوف أي أكلا حلالا. وعلى الوجوه كلها الآية دليل لنا في شمول الرزق للحلال والحرام إذ لو لم يقع الرزق على الحرام لم يكن لذكر الحلال فائدة سوى التأكيد وهو خلاف الظاهر في مثل ذلك وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ استدعاء إلى التقوى وامتثال الوصية بوجه حسن. والآية ظاهرة في أن أكل اللذائذ لا ينافي التقوى، وقد أكل صلّى الله عليه وسلّم ثريد اللحم ومدحه وكان يحب الحلوى. وقد فصلت الأخبار ما كان يأكله عليه الصلاة والسلام وأواني الكتب ملأى من ذلك. وروي أن الحسن كان يأكل الفالوذج فدخل عليه فرقد السنجي فقال: يا فرقد ما تقول في هذا؟ فقال: لا آكله ولا أحب أكله فأقبل الحسن على غيره كالمتعجب وقال: لعاب النحل بلعاب البرمع سمن البقر هل يعيبه مسلم، وذكر الطبرسي أن فيها دلالة على النهي عن الترهب وترك النكاح. وقد جاء في غير ما خبر أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله تعالى لم يبعثني بالرهبانية» وقال عليه الصلاة والسلام في خبر طويل: «شراركم عزابكم وأراذل موتاكم عزابكم» وعن أنس قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمرنا بالباءة وينهانا عن التبتل نهيا شديدا» . وعن أبي نجيح قال: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ اللغو في اليمين الساقط الذي لا يتعلق به حكم وهو عندنا أن يحلف على أمر مضى يظنه كذلك فإن علمه على خلافه فاليمين غموس، وروي ذلك عن مجاهد. وعند الشافعي رحمه الله تعالى ما يسبق إليه اللسان من غير نية اليمين وهو المروي عن أبي جعفر. وأبي عبد الله. وعائشة رضي الله تعالى عنهم، والأدلة على المذهبين مبسوطة في الفروع والأصول وقد تقدم شطر من الكلام على ذلك، وفِي أَيْمانِكُمْ إما متعلق باللغو فإنه يقال لغا في يمينه لغوا وإما بمحذوف وقع حالا منه أي كائنا أو واقعا في أيمانكم وجوز أن يكون متعلقا بيؤاخذكم، وقيل عليه: إنه لا يظهر ربطه بالمؤاخذة إلا أن يجعل في للعلة كما في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 «إن امرأة دخلت النار في هرة» وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ أي بتعقيدكم الأيمان وتوثيقها بالقصد والنية فما مصدرية، وقيل: إنها موصولة والعائد محذوف أي بما عقدتم الإيمان عليه. ورجح الأول بأن الكلام في مقابلة اللغو وبأنه خال عن مؤنة التقدير، وقال بعضهم: إن ذلك التقدير في غير محله لأن شرط حذف العائد المجرور أن يكون مجرورا بمثل ما جر به الموصول لفظا ومعنى ومتعلقا وما هنا ليس كذلك فليتدبر والمعنى ولكن يؤاخذكم بنكث ما عقدتم أو لكن يؤاخذكم بما عقدتموها إذا حنثتم وحذف ذلك للعلم به، والمراد بالمؤاخذة المؤاخذة في الدنيا وهي الإثم والكفارة فلا إشكال في تقدير الظرف، وتعقيد الأيمان شامل للغموس عند الشافعية وفيه كفارة عندهم وأما عندنا فلا كفارة ولا حنث. وقرأ حمزة. والكسائي. وابن عياش عن عاصم «عقدتم» بالتخفيف، وابن عامر برواية ابن ذكوان «عاقدتم» والمفاعلة فيها لأصل الفعل وكذا قراءة التشديد لأن القراءات يفسر بعضها بعضا، وقيل: إن ذلك فيها للمبالغة باعتبار أن العقد باللسان والقلب لا أن ذلك للتكرار اللساني كما توهم. والآية كما أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نزلت حين نهى القوم عما صنعوا فقالوا: يا رسول الله كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ وروي عن ابن زيد أنها نزلت في عبد الله بن رواحة كان عنده ضيف فأخرت زوجته عشاءه فحلف لا يأكل من الطعام وحلفت المرأة لا تأكل إن لم يأكل وحلف الضيف لا يأكل إن لم يأكلا فأكل عبد الله بن رواحة وأكلا معه فأخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك فقال عليه الصلاة والسلام له: أحسنت ونزلت. فَكَفَّارَتُهُ الضمير عائد إما على الحنث المفهوم من السياق أو على العقد الذي في ضمن الفعل بتقدير مضاف أي فكفارة نكثه أو على ما الموصولة بذلك التقدير، وأما عوده على الأيمان لأنه مفرد كالأنعام عند سيبويه أو مؤول بمفرد فكما ترى، والمراد بالكفارة المعنى المصدري وهي الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة وتسترها، والمراد بالستر المحو لأن الممحو لا يرى كالمستور وبهذا وجه تأنيثها، وذكر عصام الدين أن فعالا يستوي فيه المذكر والمؤنث إلا أن ما يستوي فيه ذلك كفعيل إذا حذف موصوفة يؤنث للمؤنث كمررت بقتيلة بني فلان ولا يقال بقتيل للالتباس، وذكر أن التاء يحتمل أن تكون للنقل وأن تكون للمبالغة انتهى. ويدل على أنها بالمعنى المصدري الإخبار عنها بقوله تعالى: إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ واستدل الشافعية بظاهر الآية على جواز التكفير بالمال قبل الحنث سواء كان الحنث معصية أم لا، وتقييد ذلك كما فعل الرافعي بما إذا لم يكن معصية غير معول عليه عندهم، ووجه الاستدلال بذلك على ما ذكر أنه سبحانه جعل الكفارة عقب اليمين من غير ذكر الحنث وقال عز شأنه: ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وقيدوا ذلك بالمال ليخرج التكفير بالصوم فأنه لا يكون إلا بعد الحنث عندهم لأنه عند العجز عن غيره والعجز لا يتحقق بدون حنث، وقد قاسوا ذلك أيضا على تقديم الزكاة على الحول، واستدلوا أيضا بما أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حلف على يمين ورأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير» . ونحن نقول: إن الآية تضمنت إيجاب الكفارة عند الحنث وهي غير واجبة قبله فثبت أن المراد بما عقدتم الأيمان وحنثتم فيها، وقد اتفقوا على أن معنى قوله سبحانه: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: 184] فأفطر فعدة من أيام أخر فكذا هذا. والحديث الذي استدلوا به لا يصلح للاستدلال لأنه بعد تسليم دلالة الفاء الجزائية على التعقيب من غير تراخ يقال: إن الواقع في حيزها مجموع التكفير والإيتاء ولا دلالة على الترتيب بينهما ألا ترى أن قوله تعالى: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 [الجمعة: 9] لا يقتضي تقديم السعي على ترك البيع بالاتفاق، وأيضا جاء في رواية «فليأت الذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه» . ونقل بعضهم عن الشافعية أنهم يجمعون بين الروايتين بأن إحداهما لبيان الجواز والأخرى لبيان الوجوب، وقال عصام الدين: إن تقديم الكفارة تارة وتأخيرها أخرى يدل على أن التقديم والتأخير سيان اه. وأنت تعلم أن الشافعية كالحنفية في أنهم يقدرون في الآية ما أشرنا إليه قبل في تفسيرها إلا أن ذلك عندهم قيد للوجوب وإلا فالاستدلال بالآية في غاية الخفاء كما لا يخفى فتدبر. وإِطْعامُ مصدر مضاف لمفعوله وهو مقدر بحرف وفعل مبني للفاعل وفاعل المصدر يحذف كثيرا، ولا ضرورة تدعو إلى تقدير الفعل مبنيا للمفعول لأنه مع كونه خلاف الأصل في تقديره خلاف ذكره السمين فالتقدير هنا فكفارته أن يطعم الحانث أو الحالف عشرة مساكين مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أي من أقصده في النوع أو المقدار، وهو عند الشافعية مد لكل مسكين وعندنا نصف صاع من بر أو صاع من شعير. وأخرج ابن حميد وغيره عن ابن عمر أن الأوسط الخبز والتمر والخبز والزيت والخبز والسمن، والأفضل نحو الخبز واللحم. وعن ابن سيرين قال: كانوا يقولون الأفضل الخبز واللحم والأوسط الخبز والسمن والأخس الخبز والتمر. ومحل الجار والمجرور النصب لأنه صفة مفعول ثان للإطعام لأنه ينصب مفعولين وأولهما هنا ما أضيف إليه، والتقدير طعاما أو قوتا كائنا من أوسط، وقيل: إنه صفة مصدر محذوف أي إطعاما كائنا من ذلك وجوز أن يكون محله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي طعامهم من أوسط أو على أنه صفة لإطعام أو على أنه بدل من إطعام. واعترض هذا بأن أقسام البدل لا تتصور هنا. وأجيب بأنه بدل اشتمال بتقدير موصوف وذلك على مذهب ابن الحاجب. وصاحب اللباب. ومتابعيهما ظاهر لأنهم يكتفون بملابسة بين البدل والمبدل منه بغير الجزئية والكلية، وأما على مذهب الجمهور فلأنهم يشترطون اشتمال التابع على المتبوع لا كاشتمال الظرف على المظروف بل من حيث كونه دالا عليه إجمالا ومتقاضيا له بوجه ما بحيث تبقى النفس عند ذكر الأول متشوقة إلى ذكر الثاني فيجاء بالثاني ملخصا لما أجمله الأول ومبينا له، ويعدون من هذا القبيل قولهم: نظرت إلى القمر فلكه كما صرح به ركن الدين في شرح اللباب. ولا يخفى أن إطعام عشرة مساكين دال على الطعام إجمالا ومتقاض له بوجه. واختار بعض المحققين أنه بدل كل من كل بتقدير إطعام من أوسط نحو أعجبني قرى الأضياف قراهم من أحسن ما وجد، وما إما مصدرية وإما موصولة اسمية والعائد محذوف أي من أوسط الذي تطعمونه. وجوز أبو البقاء تقديره مجرورا بمن أي تطعمون منه، ونظر فيه السمين بأن من شرط العائد المحذوف المجرور بالحرف أن يكون مجرورا بمثل ما جرا به الموصول لفظا ومعنى ومتعلقا والحرفان هنا وإن اتفقا من وجه إلا أن المتعلق مختلف لأن من الثانية متعلقة بتطعمون والأولى ليست متعلقة بذلك. ثم قال: فإن قلت الموصول غير مجرور بمن وإنما هو مجرور بالإضافة. فالجواب أن المضاف إلى الموصول كالموصول في ذلك اه. وقد قدمنا آنفا نحو هذا النظر، وأجاب بعضهم عن ذلك بأن الحذف تدريجي ولا يخفى أن فيه تطويلا للمسافة. والأهلون جمع أهل على خلاف القياس كأرض وأرضون إذ شرط هذا الجمع أن يكون علما أو صفة وأهل اسم جامد، قيل: والذي سوغه أنه استعمل كثيرا بمعنى مستحق فأشبه الصفة. وروي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قرأ «أهاليكم» بسكون الياء على لغة من يسكنها في الحالات الثلاث كالألف وهو أيضا جمع أهل على خلاف القياس كليال في جمع ليلة. وقال ابن جني: وأحدهما ليلاة وأهلاة وهو محتمل كما قيل لأن يكون مراده أن لهما مفردا مقدرا هو ما ذكر ولأن يكون مراده أن لهما مفردا محققا مسموعا من العرب هو ذاك، وقيل: إن أهالي جمع أهلون وليس بشيء أَوْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 كِسْوَتُهُمْ عطف كما قال أبو البقاء على إطعام واستظهره غير واحد، واختار الزمخشري أنه عطفت على محل مِنْ أَوْسَطِ ووجهه فيما نسب إليه بأن مِنْ أَوْسَطِ بدل من الإطعام والبدل هو المقصود ولذلك كان المبدل منه في حكم المنحي فكأنه قيل: فكفارته من أوسط ما تطعمون. ووجه صاحب التقريب عدوله عن الظاهر بأن الكسوة اسم لنحو الثوب لا مصدرا، فقد قال الراغب: الكساء والكسوة اللباس فلا يليق عطفه على المصدر السابق مع أن كليهما فيما يتعلق بالمساكين، وبأنه يؤدي إلى ترك ذكر كيفية الكسوة وهو كونها أوسط، ثم قال: ويمكن أن يجاب عن الأول بأن الكسوة إما مصدر كما يشعر به كلام الزجاج أو يضمر مصدر كالإلباس، وعن الثاني بأن يقدر أو كسوتهم من أوسط ما تكسون وحذف ذلك لقرينة ذكره في المعطوف عليه أو بان تترك على إطلاقها إما بإرادة إطلاقها أو بإحالة بيانها على الغير، وأيضا العطف على محل مِنْ أَوْسَطِ لا يفيد هذا المقصود وهو تقدير الأوسط في الكسوة فالإلزام مشترك ويؤدي إلى صحة إقامته مقام المعطوف عليه وهو غير سديد اه. واعترض بعض المحققين على ما نسب إلى الزمخشري أيضا بأن العطف على البدل يستدعي كون المعطوف بدلا أيضا وإبدال الكسوة من إِطْعامُ لا يكون إلا غلطا لعدم المناسبة بينهما أصلا وبدل الغلط لا يقع في الفصيح فضلا عن أفصح الأفصح. ومنع عدم الوقوع مما لا يلتفت إليه، وجعل غير واحد هذا العطف من باب. علفتها تبنا وماء باردا. كأنه قيل إطعام هو أوسط ما تطعمون أو إلباس هو كسوتهم على معنى إطعام هو إطعام الأوسط وإلباس هو إلباس الكسوة وفيه إبهام وتفسير في الموضعين. واعترض بأن العطف على هذا يكون على المبدل منه لا البدل، وأجيب بأن المراد أنه بالنظر إلى ظاهر اللفظ عطف على البدل وهو كما ترى، واعترض الشهاب على دعوى أن الداعي الزمخشري عن العدول إلى الظاهر إلى اختيار العطف على محل مِنْ أَوْسَطِ تحصيل التناسب بين نوعي الكفارة المتعلقة بالمساكين بأنه كيف يتأتى ذلك وقد جعل العطف على «من أوسط» على تقدير بدليته وهو على ذلك التقدير صفة إطعام مقدر انتهى. وقد علمت أن هذا رأي لبعضهم. وبالجملة فيما ذهب إليه الزمخشري دغدغة حتى قال العلم العراقي: إنه غلط والصواب العطف على «إطعام» ، وقال الحلبي: ما ذكره الزمخشري إنما يتمشى على وجه وهو أن يكون مِنْ أَوْسَطِ خبر لمبتدأ محذوف يدل عليه ما قبله تقديره طعامهم من أوسط فالكلام تام على هذا عند قوله سبحانه: عَشَرَةِ مَساكِينَ ثم ابتدأ أخبارا آخر بأن الطعام يكون أوسط كذا. وأما إذا قلنا إن مِنْ أَوْسَطِ هو المفعول الثاني فيستحيل عطف كِسْوَتُهُمْ عليه لتخالفهما إعرابا انتهى. ثم المراد بالكسوة ما يستر عامة البدن على ما روي عن الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه. وأبي يوسف فلا يجزي عندهما السراويل لأن لابسه يسمى عريانا في العرف لكن ما لا يجزئه عن الكسوة يجزئه عن الإطعام باعتبار القيمة، وفي اشتراط النية حينئذ روايتان. وظاهر الرواية الإجزاء نوى أو لم ينو. وروي أيضا أنه إن أعطى السراويل المرأة لا يجوز وإن أعطى الرجل يجوز لأن المعتبر رد العرى بقدر ما تجوز به الصلاة وذلك ما به يحصل ستر العورة والزائد تفضل للتجمل أو نحوه فلا يجب في الكسوة كالأدام في الطعام والمروي عن محمد أن ما تجوز فيه الصلاة يجزىء مطلقا. والصحيح المعول عليه عندنا هو الأول، ويشترط أن يكون ذلك ما يصلح فيه الصلاة يجزىء مطلقا. والصحيح المعول عليه عندنا هو الأول، ويشترط أن يكون ذلك مما يصلح للأوساط وينتفع به فوق ثلاثة أشهر، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كانت العباءة تجزىء يومئذ، وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه يجزىء قميص أو رداء أو كساء، وعن الحسن أنهما ثوبان أبيضان. وروى الإمامية عن الصادق رضي الله تعالى عنه أنها ثوبان لكل مسكين ويجزىء ثوب واحد عند الضرورة واشترط الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 أصحابنا في المسكين أن يكون مراهقا فما فوقه فلا يجزىء غير المراهق على ما ذكره الحصكفي نقلا عن البدائع في كفارة الظهار، وسيأتي إن شاء الله تعالى في آية كفارة الظهار أن المراد من الإطعام التمكين من الطعم وتحقيق الكلام في ذلك على أتم وجه. وقرىء «أو كسوتهم» بضم الكاف وهو لغة كقدوة في قدوة وأسوة في أسوة. وقرأ سعيد بن المسيب واليماني «أو كاسوتهم» بكاف الجر الداخلة على أسوة وهي كما قال الراغب الحال التي يكون الإنسان عليها في اتباع غيره إن حسنا وإن قبيحا. والهمزة كما قال غير واحد: بدل من واو لأنه من المواساة. والجار والمجرور خبر مبتدأ محذوف والتقدير أو طعامهم كأسوة أهليكم، وقال السعد: الكاف زائدة أي أو طعامهم أسوة أهليكم، وقيل: الأولى أن يكون التقدير طعام كاسوتهم على الوصف فهو عطف أيضا على مِنْ أَوْسَطِ وعلى هذه القراءة يكون التخيير بين الإطعام والتحرير في قوله تعالى: أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فقط وتكون الكسوة ثابتة بالسنة. وزعم أبو حيان أن الآية تنفي الكسوة وليس بشيء، وقال أبو البقاء: المعنى مثل أسوة أهليكم في الكسوة فلا تكون الآية عارية عن الكسوة وفيه نظر إذ ليس في الكلام ما يدل على ذلك التقدير. والمراد بتحرير رقبة إعتاق إنسان كيف ما كان. وشرط الشافعي عليه الرحمة فيه الإيمان حملا للمطلق هنا على المقيد في كفارة القتل. وعندنا لا يحمل لاختلاف السبب. واستدل بعض الشافعية على ذلك بأن الكفارة حق الله تعالى وحق الله سبحانه لا يجوز صرفه إلى عدو الله عز اسمه كالزكاة. ونحن نقول: المنصوص عليه تحرير رقبة وقد تحقق. والقصد بالإعتاق أن يتمكن المعتق من الطاعة بخلوصه عن خدمة المولى ثم مقارفته المعصية وبقاؤه على الكفر يحال به إلى سوء اختياره. واعترض بأن لقائل أن يقول: نعم مقارفته المعصية يحال به إلى ما ذكر لكن لم لا يكون تصور ذلك منه مانعا عن الصرف إليه كما في الزكاة. وأجيب بأن القياس جواز صرف الزكاة إليه أيضا لأن فيه مواساة عبيد الله تعالى أيضا لكن قوله صلّى الله عليه وسلّم: «خذها من أغنيائهم وردها إلى فقرائهم» أخرجهم عن المصرف. وقد ذكر بعض أصحابنا ضابطا لما يجوز إعتاقه في الكفارة وما لا يجوز فقال: متى أعتق رقبة كاملة الرق في ملكه مقرونا بنية الكفارة وجنس ما يبتغي من المنافع فيها قائم بلا بدل جاز وإن لم يكن كذلك فإنه لا يجوز وهل يجوز عتق الأصم أم لا؟ قولان. وفي الهداية، ويجوز الأصم والقياس أن لا يجوز وهو رواية النوادر لأن الفائت جنس المنفعة إلا أنا استحسنا الجواز لأن أصل المنفعة باق فإنه إذا صيح عليه يسمع حتى لو كان بحال لا يسمع أصلا بأن ولد أصم وهو الأخرس لا يجزئه انتهى. ومعنى أو إيجاب إحدى الخصال الثلاث مطلقا وتخيير المكلف في التعيين ونسب إلى بعض المعتزلة أن الواجب الجمع ويسقط واحدا. وقيل الواجب متعين عند الله تعالى وهو ما يفعله المكلف فيختلف بالنسبة إلى المكلفين. وقيل: إن الواجب واحد معين لا يختلف لكن يسقط به وبالآخر. وتفاوتها قدرا وثوابا لا ينافي التخيير المفوض تفاوته إلى الهمم وقصد زيادة الثواب فإن الكسوة أعظم من الإطعام والتحرير أعظم منهما. وبدأ سبحانه بالإطعام تسهيلا على العباد. وذكر غير واحد من أصحابنا أن المكلف لو أدى الكل جملة أو مرتبا ولم ينو إلا بعد تمامها وقع عنها واحد هو أعلاها قيمة ولو ترك الكل عوقب بواحد هو أدناها قيمة لسقوط الفرض بالأدنى. وتحقيق ذلك في الأصول فَمَنْ لَمْ يَجِدْ أي شيئا من الأمور المذكورة فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ أي فكفارته ذلك. ويشترط الولاء عندنا ويبطل بالحيض بخلاف كفارة الفطر. وإلى اشتراط الولاء ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد وقتادة والنخعي. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما نزلت آية الكفارات قال حذيفة: يا رسول الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 نحن بالخيار فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أنت بالخيار إن شئت أعتقت وإن شئت كسوت وإن شئت أطعمت فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات» . وأخرج ابن أبي شيبة، وابن حميد، وابن جرير، وابن أبي داود في المصاحف، وابن المنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» . وأخرج غالب هؤلاء عن ابن مسعود أنه كان يقرأ أيضا كذلك، وقال سفيان: نظرت في مصحف الربيع فرأيت فيه «فمن لم يجد من ذلك شيئا فصيام ثلاثة أيام متتابعات» وبمجموع ذلك يثبت اشتراط التتابع على أتم وجه، وجوز الشافعي رحمه الله تعالى التفريق ولا يرى الشواذ حجة، ولعل غير ذلك لم يثبت عنده واعتبر عدم الوجدان والعجز عما ذكر عندنا وقت الأداء حتى لو وهب ماله وسلمه ثم صام ثم رجع بهبته أجزأه الصوم كما في المجتبى، ونسب إلى الشافعي رضي الله تعالى عنه اعتبار العجز عند الحنث. ويشترط استمرار العجز إلى الفراغ من الصوم فلو صام المعسر يومين ثم قبل فراغه ولو بساعة أيسر ولو بموت. مورثه موسرا لا يجوز له الصوم ويستأنف بالمال. ولو صام ناسيا له لم يجز على الصحيح، واختلف في الواجد فأخرج أبو الشيخ عن قتادة قال: إذا كان عنده خمسون درهما فهو ممن يجد ويجب عليه الإطعام وإن كان عنده أقل فهو ممن لا يجد ويصوم. وأخرج عن النخعي قال: إذا كان عنده عشرون درهما فعليه أن يطعم في الكفارة، ونقل أبو حيان عن الشافعي. وأحمد. ومالك أن من عنده فضل عن قوته وقوت من تلزمه نفقته يومه وليلته وعن كسوته بقدر ما يطعم أو يكسو فهو واجد، وعن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه إذا لم يكن عنده نصاب فهو غير واجد. ذلِكَ أي الذي مضى ذكره كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ أي وحنثتم وقد مر تفصيل ذلك. وإِذا على ما قال السمين لمجرد الظرفية وليس فيها معنى الشرط، وجوز أن تكون شرطية ويكون جوابها محذوفا عند البصريين، والتقدير إذا حلفتم وحنثتم فذلك كفارة أيمانكم. ويدل على ذلك ما تقدم أو هو ما تقدم عند الكوفيين والخلاف بين الفريقين مشهور وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ أي راعوها لكي تؤدوا الكفارة عنها إذا حنثتم أو احفظوا أنفسكم من الحنث فيها وإن لم يكن الحنث معصية أو لا تبذلوها وأقلوا منها كما يشعر به قوله تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ [البقرة: 224] وعليه قول الشاعر: قليل الألايا حافظ ليمينه ... إذا بدرت منه الألية برت أو احفظوها ولا تنسوا كيف حلفتم تهاونا بها وصحح الشهاب الأول. واعترض الثاني بأنه لا معنى له لأنه غير منهي عن الحنث إذا لم يكن الفعل معصية، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم «فليأت الذي هو خير وليكفر» وقال سبحانه. فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ [التحريم: 2] فثبت أن الحنث غير منهي عنه إذا لم يكن معصية فلا يجوز أن يكون احْفَظُوا أَيْمانَكُمْ نهيا عن الحنث، والثالث بأنه ساقط واه لأنه كيف يكون الأمر بحفظ اليمين نهيا عن اليمين وهل هو إلا كقولك: احفظ المال بمعنى لا تكسبه، وأما البيت فلا شاهد فيه لأن معنى حافظ ليمينه أنه مراع لها بأداء الكفارة ولو كان معناه ما ذكر لكان مكررا مع ما قبله أعني قليل الألايا-. واعترض الرابع بأنه بعيد فتدير كَذلِكَ أي ذلك البيان البديع يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ أعلام شريعته وأحكامه لا بيانا أدنى منه، وتقديم لَكُمْ على المفعول الصريح لما مر مرارا. لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمة التعليم أو نعمة الواجب شكرها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وهو المسكر المتخذ من عصير العنب أو كل ما يخامر العقل ويغطيه من الأشربة. وروي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما وَالْمَيْسِرُ وهو القمار وعدوا منه اللعب بالجوز والكعاب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 والْأَنْصابُ وهي الأصنام المنصوبة للعبادة، وفرق بعضهم بين الأنصاب والأصنام بأن الأنصاب حجارة لم تصور كانوا ينصبونها للعبادة ويذبحون عندها، والأصنام ما صور وعبد من دون الله عز وجل وَالْأَزْلامُ وهي القداح وقد تقدم الكلام في ذلك على أتم وجه رِجْسٌ أي قذر تعاف عنه العقول، وعن الزجاج الرجس كل ما استقذر من عمل قبيح. وأصل معناه الصوت الشديد ولذا يقال للغمام رجاس لرعده والرجز بمعناه عند بعضهم. وفرق ابن دريد بين الرجس والرجز والركس فجعل الرجس الشر والرجز العذاب والركس العذرة والنتن، وأفراد الرجس مع أنه خبر عن متعدد لأنه مصدر يستوي فيه القليل والكثير، ومثل ذلك قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة: 28] وقيل: لأنه خبر عن الخمر وخبر المعطوفات محذوف ثقة بالمذكور. وقيل: لأن في الكلام مضافا إلى تلك الأشياء وهو خبر عنه أي إنما شأن هذه الأشياء أو تعاطيها رجس. وقوله سبحانه: مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ في موضع الرفع على أنه صفة رِجْسٌ أي كائن من عمله لأنه مسبب من تزيينه وتسويله، وقيل: إن من للابتداء أي ناشىء من عمله. وعلى التقديرين لا ضير في جعل ذلك من العمل وإن كان ما ذكر من الأعيان. ودعوى أنه إذا قدر المضاف لم يحتج إلى ملاحظة علاقة السببية ولا إلى القول بأن من ابتدائية لا يخلو عن نظر فَاجْتَنِبُوهُ أي الرجس أو جميع ما مر بتأويل ما مر أو التعاطي المقدر أو الشيطان لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي راجين فلا حكم أو لكي تفلحوا بالاجتناب عنه. وقد مر الكلام في ذلك، ولقد أكد سبحانه تحريم الخمر والميسر في هذه الآية بفنون التأكيد حيث صدرت الجملة بإنما وقرنا بالأصنام والأزلام وسميا رجسا من عمل الشيطان تنبيها على غاية قبحهما وأمر بالاجتناب عن عينهما بناء على بعض الوجوه وجعله سببا يرجى منه الفلاح فيكون ارتكابهما خيبة. ثم قرر ذلك ببيان ما فيهما من المفاسد الدنيوية والدينية فقال سبحانه: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ أي بسبب تعاطيهما لأن السكران يقدم على كثير من القبائح التي توجب ذلك ولا يبالي وإذا صحا ندم على ما فعل، والرجل قد يقامر حتى لا يبقى له شيء وتنتهي به المقامرة إلى أن يقامر بولده وأهله فيؤدي به ذلك إلى أن يصير أعدى الأعداء لمن قمره وغلبه وهذه إشارة إلى مفاسدهما الدنيوية. وقوله تعالى: وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ إشارة إلى مفاسدهما الدينية. ووجه صد الشيطان لهم بذلك عما ذكر أن الخمر لغلبة السرور بها والطرب على النفوس والاستغراق في الملاذ الجسمانية تلهي عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة. وأن الميسر إن كان اللاعب به غالبا انشرحت نفسه ومنعه حب الغلب والقهر والكسب عما ذكر وإن كان مغلوبا حصل له من الانقباض والقهر ما يحثه على الاحتيال لأن يصير غالبا فلا يكاد يخطر بقلبه غير ذلك. وقد شاهدنا كثيرا ممن يلعب بالشطرنج يجري بينهم من اللجاج والحلف الكاذب والغفلة عن الله تعالى ما ينفر منه الفيل وتكبو له الفرس ويصوح من سمومه الرخ بل يتساقط ريشه ويحار لشناعته بيذق الفهم ويضطرب رزين العقل ويموت شاه القلب وتسود رقعة الأعمال، وتخصيص الخمر والميسر بإعادة الذكر وشرح ما فيهما من الوبال للتنبيه على أن المقصود بيان حالهما وذكر الأنصاب والأزلام للدلالة على أنهما مثلهما في الحرمة والشرارة كما يشعر بذلك ما جاء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم والسلف الصالح من الأخبار الصادحة بمزيد ذمهما والحط على مرتكبهما. وخص الصلاة من الذكر بالأفراد بالذكر مع أن الذي يصد عنه يصد عنها لأنه من أركانها تعظيما لها كما في ذكر الخاص بعد العام وإشعارا بأن الصاد عنها كالصاد عن الإيمان لما أنها عماده والفارق بينه وبين الكفر إذ التصديق القلبي لا يطلع عليه وهي أعظم شعائره المشاهدة في كل وقت ولذا طلبت فيها الجماعة ليشاهدوا الإيمان ويشهدوا به، ففي الكلام إشارة إلى أن مراد اللعين ومنتهى آماله من تزيين تعاطي شرب الخمر واللعب بالميسر الإيقاع في الكفر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 الموجب للخلود معه في النار وبئس القرار. ثم إنه سبحانه أعاد الحث على الانتهاء بصيغة الاستفهام الإنكاري مع الجملة الاسمية مرتبا على ما تقدم من أصناف الصوارف فقال جل شأنه: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ إيذانا بأن الأمر في الردع والمنع قد بلغ الغاية وأن الأعذار قد انقطعت بالكلية حتى أن العاقل إذا خلي ونفسه بعد ذلك لا ينبغي أن يتوقف في الانتهاء. ووجه تلك التأكيدات أن القوم رضي الله تعالى عنهم كما قيل كانوا مترددين في التحريم بعد نزول آية البقرة ولذا قال عمر رضي الله تعالى عنه: «اللهم بين لنا في ذلك بيانا شافيا» فنزلت هذه الآية، ولما سمع عمر رضي الله تعالى عنه فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ قال: «انتهينا يا رب» ، وأخرج عبد بن حميد عن عطاء قال: أول ما نزل في تحريم الخمر يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [البقرة: 219] الآية، فقال بعض الناس: نشربها لمنافعها التي فيها، وقال آخرون: لا خير في شيء فيه إثم ثم نزل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النساء: 43] الآية فقال بعض الناس: نشربها ونجلس في بيوتنا، وقال آخرون لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصلاة مع المسلمين فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ الآية فانتهوا. وأخرج عن قتادة قال: ذكر لنا أن هذه الآية لما نزلت قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله سبحانه قد حرم الخمر فمن كان عنده شيء فلا يطعمه ولا تبيعوها» فلبث المسلمون زمانا يجدون ريحها من طرق المدينة مما أهراقوا منها. وأخرج عن الربيع أنه قال لما نزلت آية البقرة قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن ربكم يقدم في تحريم الخمر» ثم نزلت آية النساء فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن ربكم يقدم في تحريم الخمر» ثم نزلت آية بالمائدة فحرمت الخمر عند ذلك. وقد تقدم في آية البقرة شيء من الكلام في هذا المقام فتذكر. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ عطف على «اجتنبوه» أي أطيعوهما في جميع ما أمرا به ونهيا عنه ويدخل فيه أمرهما ونهيهما في الخمر والميسر دخولا أوليا وَاحْذَرُوا أي مخالفتهما في ذلك وهذا مؤكد للأمر الأول، وجوز أن يكون المراد أطيعوا فيما أمرا واحذروا عما نهيا فلا تأكيد. وجوز أيضا أن لا يقدر متعلق للحذر أي وكونوا حاذرين خاشين وأمروا بذلك لأنهم إذا حذروا دعاهم الحذر إلى اتقاء كل سيئة وعمل كل حسنة فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي أعرضتم ولم تعملوا بما أمرتم به فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي ولم يأل جهدا في ذلك فقامت عليكم الحجة وانتهت الأعذار وانقطعت العلل ولم يبق بعد ذلك إلا العقاب. وفي هذا كما قال الطبرسي وغيره من التهديد وشدة الوعيد ما لا يخفى، وقيل: إن المعنى فاعلموا أنكم لم تضروا بتوليتكم الرسول صلّى الله عليه وسلّم لأنه ما كلف إلا البلاغ المبين بالآيات وقد فعل وإنما ضررتم أنفسكم حين أعرضتم عما كلفتموه وليس بشيء إذ لا يتوهم منهم ادعاء الضرر بتوليتهم حتى يرد عليهم. ومثل ذلك ما قيل: إن المعنى فإن توليتم فلا تطمعوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يهملكم لأن ما على الرسول إلا البلاغ المبين فلا يجوز له ترك البلاغ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ أي إثم وحرج فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ قيل: لما نزل تحريم الخمر والميسر قالت الصحابة رضي الله عنهم: كيف بمن شربها من إخواننا الذين ماتوا وهم قد شربوا الخمر وأكلوا الميسر؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقيل: إنها نزلت في القوم الذين حرموا على نفوسهم اللحوم وسلكوا طريق الترهب كعثمان بن مظعون وغيره والأول هو المختار، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وأنس بن مالك، والبراء بن عازب. ومجاهد. وقتادة. والضحاك. وخلق آخرين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 وللمفسرين في معنى الآية كلام طويل الذيل فنقل الطبرسي والعهدة عليه عن تفسير أهل البيت أن ما عبارة عن المباحات، واختاره غير واحد من المتأخرين. وتعقب بأنه يلزم عليه تقييد إباحتها باتقاء ما عداها من المحرمات لقوله سبحانه: «إذا ما اتقوا» واللازم منتف بالضرورة فهي سواء كانت موصولة أو موصوفة على عمومها وإنما تخصصت بذلك القيد الطارئ عليها، والطعم كالطعام يستعمل في الأكل والشرب كما تقدمت إليه الإشارة والمعنى ليس عليهم جناح فيما تناولوه من المأكول والمشروب كائنا ما كان إذا اتقوا أن يكون في ذلك شيء من المحرم واستمروا على الإيمان والأعمال الصالحة وإلا لم يكن نفي الجناح في كل ما طعموه بل في بعضه، ولا محذور في هذا إذ اللازم منه تقييد إباحة الكل بأن لا يكون فيه محرم لا تقييد إباحة بعضه باتقاء الآخر منه كما هو اللازم مما عليه الجماعة. واتَّقَوْا الثاني عطف على نظيره المتقدم داخل معه في حيز الشرط. والمراد اتقوا ما حرم عليهم بعد ذلك مع كونه مباحا فيما سبق، والمراد بالإيمان المعطوف عليه أما الإيمان بتحريمه وتقديم الاتقاء عليه أما للاعتناء به أو لأنه الذي يدل على التحريم الحادث الذي هو المؤمن به، وأما الاستمرار على الإيمان بما يجب الإيمان به ومتعلق الاتقاء ثالثا ما حرم عليهم أيضا بعد ذلك مما كان مباحا من قبل على أن المشروط بالاتقاء في كل مرة إباحة ما طعموه في ذلك الوقت لا إباحة ما طعموه قبله لانتساخ إباحة بعضه حينئذ وأريد بالإحسان فعل الأعمال الحسنة الجميلة المنتظمة بجميع ما ذكر من الأعمال القلبية والقالبية. وليس تخصيص هذه المراتب بالذكر لتخصيص الحكم بها بل لبيان التعدد والتكرار بالغا ما بلغ، والمعنى أنهم إذا اتقوا المحرمات واستمروا على ما هم عليه من الإيمان والأعمال الصالحة وكانوا في طاعة الله تعالى ومراعاة أوامره ونواهيه بحيث كلما حرم عليهم شيء من المباحات اتقوه ثم وثم فلا جناح عليهم فيما طعموه في كل مرة من المآكل والمشارب إذ ليس فيها شيء محرم عند طعمه قاله مولانا شيخ الإسلام، ثم قال: وأنت خبير بأن ما عدا اتقاء المحرمات من الصفات الجميلة المذكورة لا دخل لها في انتفاء الجناح وإنما ذكرت في حيز إذا شهادة باتصاف الذين سئل عن حالهم بها ومدحا لهم بذلك وحمدا لأحوالهم، وقد أشير إلى ذلك حيث جعلت تلك الصفات تبعا للاتقاء في كل مرة تميزا بينها وبين ما له دخل في الحكم فإن مساق النظم الكريم بطريق العبارة وإن كان لبيان حال المتصفين بما ذكر من النعوت فيما سيأتي من الزمان بقضية «إذا ما» لكنه قد أخرج مخرج الجواب عن حال الماضين لإثبات الحكم في حقهم ضمن التشريع الكلي على الوجه البرهاني بطريق دلالة النص بناء على كمال اشتهارهم بالاتصاف بها فكأنه قيل: ليس عليهم جناح فيما طعموه إذا كانوا في طاعته تعالى مع ما لهم من الصفات الحميدة بحيث كلما أمروا بشيء تلقوه بالامتثال، وإنما كانوا يتعاطون الخمر والميسر في حياتهم لعدم تحريمهما إذ ذلك ولو حرما في عصرهم لا تقوهما بالمرة انتهى. ومما يدل على أن الآية للتشريع الكلي ما أخرجه مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن مسعود قال: لما نزلت لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا الآية قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قيل لي أنت منهم» وقيل: إن ما في حيز الشرط من الاتقاء وغيره إنما ذكر على سبيل المدح والثناء للدلالة على أن القوم بتلك الصفة لأن المراد بما المباحات، ونفي الجناح في تناول المباح الذي لم يحرم لا يتقيد بشرط، وقال علي بن الحسين النقيب المرتضى: إن المفسرين تشاغلوا بإيضاح الوجه في التكرار الذي تضمنته هذه الآية وظنوا أنه المشكل فيها وتركوا ما هو أشد إشكالا من ذلك وهو أنه تعالى نفى الجناح عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيما يطعمونه بشرط الاتقاء والإيمان والعمل الصالح مع أن المباح لو وقع من الكافر لا إثم عليه ولا وزر. ولنا في حل هذه الشبهة طريقان، أحدهما أن يضم إلى المشروط الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 المصرح بذكره غيره حتى يظهر تأثير ما شرط فيكون تقدير الآية ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا وغيره إذا ما اتقوا إلخ لأن الشرط في نفي الجناح لا بد من أن يكون له تأثير حتى يكون متى انتفي ثبت الجناح، وقد علمنا أن باتقاء المحارم ينتفي الجناح فيما يطعم فهو الشرط الذي لا زيادة عليه، ولما ولى ذكر الاتقاء الإيمان والعمل الصالح ولا تأثير لهما في نفي الجناح علمنا أنه أضمر ما تقدم ذكره ليصح الشرط ويطابق المشروط لأن من اتقى الحرام فيما يطعم لا جناح عليه فيما يطعم ولكنه قد يصح أن يثبت عليه الجناح فيما أخل به من واجب وضيعه من فرض فإذا شرطنا الإيمان والعمل الصالح ارتفع عنه الجناح من كل وجه، وليس بمنكر حذف ما ذكرناه لدلالة الكلام عليه فمن عادة العرب أن يحذفوا ما يجري هذا المجرى ويكون قوة الدلالة عليه مغنية عن النطق به، ومنه قول الشاعر: تراه كأن الله يجدع أنفه ... وعينيه إن مولاه بات له وفر فإنه لما كان الجدع لا يليق بالعين وكانت معطوفة على الأنف الذي يليق الجدع به أضمر ما يليق بالعين من البخص وما يجري مجراه. الطريق الثاني أن يجعل الإيمان والعمل الصالح ليس شرطا حقيقيا وإن كان معطوفا على الشرط فكأنه تعالى لما أراد أن يبين وجوب الإيمان وما عطف عليه عطفه على ما هو واجب من اتقاء المحارم لاشتراكهما في الوجوب وإن لم يشتركا في كونهما شرطا في نفي الجناح فيما يطعم وهذا توسع في البلاغة يحار فيه العقل استحسانا واستغرابا انتهى. ولا يخفى ما في الطريق الثاني من البعد وأن الطريق الأول حزن فإن مثل هذا الحذف مع ما زعمه من القرينة لا يكاد يوجد في الفصيح في أمثال هذه المقامات، وليس ذلك كالبيت الذي ذكره فإنه من باب. علفتها تبنا وماء باردا وهو مما لا كلام لنا فيه وأين البيض من الباذنجان. وقيل في الجواب أيضا عن ذلك: إن المؤمن يصح أن يطلق عليه بأنه لا جناح عليه والكافر مستحق للعقاب مغمور به يوم الحساب فلا يطلق عليه ذلك، وأيضا أن الكافر قد سد على نفسه طريق معرفة التحليل والتحريم فلذلك يخص المؤمن بالذكر ولا يخفى ما فيه. وقال عصام الملة: الأظهر أن المراد أنه لا جناح فيما طعموا مما سوى هذه المحرمات إذا ما اتقوا ولم يأكلوا فوق الشبع ولم يأكلوا من مال الغير، وذكر الإيمان والعمل الصالح للإيذان بأن الاتقاء لا بد له منهما فإن من لا إيمان له لا يتقي وكذا من لا عمل صالح له فضمهما إلى الإيمان لأنهما ملاك الاتقاء، وتكرير التقوى والثبات على الإيمان للإشارة إلى أن ثبات نفي الجناح فيما يطعم على ثبات التقوى، وترك ذكر العمل الصالح ثانيا للإشارة إلى أن الإيمان بعد التمرن على العمل لا يدع أن يترك العمل. وذكر الإحسان بعد للإشارة إلى أن كثرة مزاولة التقوى والعمل الصالح ينتهي إلى الإحسان وهو أن تعبد الله تعالى كأنك تراه إلى آخر ما في الخبر انتهى. وفيه الغث والسمين. وكلامهم الذي أشار إليه المرتضى في إيضاح وجه التكرير كثير فقال أبو علي الجبائي: إن الشرط الأول يتعلق بالزمان الماضي. والثاني يتعلق بالدوام على ذلك والاستمرار على فعله. والثالث يختص بمظالم العباد وبما يتعدى إلى الغير من الظلم والفساد. واستدل على اختصاص الثالث بذلك بقوله تعالى: وَأَحْسَنُوا فإن الإحسان إذا كان متعديا وجب أن تكون المعاصي التي أمروا باتقائها قبله أيضا متعدية وهو في غاية الضعف إذ لا تصريح في الآية بأن المراد بالإحسان الإحسان المتعدي ولا يمتنع أن يراد به فعل الحسن والمبالغة فيه وإن خص الفاعل ولم يتعد إلى غيره كما يقولون لمن بالغ في فعل الحسن أحسنت وأجملت، ثم لو سلّم أن المراد به الإحسان المتعدي فلم لا يجوز أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 يعطف فعل متعد على فعل لا يتعدى. ولو صرح سبحانه فقال: اتقوا القبائح كلها وأحسنوا إلى الناس لم يمتنع وذلك ظاهر، وقيل: إن الاتقاء الأول هو اتقاء المعاصي العقلية التي تخص المكلف ولا تتعداه. والإيمان الأول الإيمان بالله تعالى وبما أوجب الإيمان به والإيمان بقبح هذه المعاصي ووجوب تجنبها. والاتقاء الثاني هو اتقاء المعاصي السمعية والإيمان الثاني هو الإيمان بقبحها ووجوب تجنبها. والاتقاء الثالث يختص بمظالم العباد وهو كما ترى، وقيل: المراد بالأول اتقاء ما حرم عليهم أولا مع الثبات على الإيمان والأعمال الصالحة إذ لا ينفع الاتقاء بدون ذلك. وبالثاني اتقاء ما حرم عليهم بعد ذلك من الخمر ونحوه والإيمان التصديق بتحريم ذلك. وبالثالث الثبات على اتقاء جميع ذلك من السابق والحادث مع تحري الأعمال الجميلة. وهذا مراد من قال: إن التكرير باعتبار الأوقات الثلاثة، وقيل: إنه باعتبار المراتب الثلاث للتقوى المبدأ والوسط والمنتهى وقد مر تفصيلها، وقيل: باعتبار الحالات الثلاث بأن يتقي الله تعالى ويؤمن به في السر ويجتنب ما يضر نفسه من عمل واعتقاد ويتقي الله تعالى ويؤمن به علانية ويجتنب ما يضر الناس ويتقي الله تعالى ويؤمن به بينه وبين الله تعالى بحيث يرفع الوسائط وينتهي إلى أقصى المراتب. ولما في هذه الحالة من الزلفى منه تعالى ذكر الإحسان فيها بناء على أنه كما فسره صلّى الله عليه وسلّم في الخبر الصحيح «أن تعبد الله تعالى كأنك تراه» . وقيل: باعتبار ما يتقي فإنه ينبغي أن يترك المحرمات توقيا من العقاب. والشبهات توقيا من الوقوع في الحرام. وبعض المباحات حفظا للنفس عن الخسة وتهذيبا لها عن دنس الطبيعة، وقيل: المراد بالأول اتقاء الكفر وبالثاني اتقاء الكبائر وبالثالث اتقاء الصغائر، وقيل: إن التكرير لمجرد التأكيد ويجوز فيه العطف بثم كما صرح به ابن مالك في قوله تعالى: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ [التكاثر: 453] ولا يخفى أن أكثر هذه الأقوال غير مناسبة للمقام، وذكر العلامة الطيبي أن معنى الآية أنه ليس المطلوب من المؤمنين الزهادة عن المستلذات وتحريم الطيبات وإنما المطلوب منهم الترقي في مدارج التقوى والإيمان إلى مراتب الإخلاص واليقين ومعارج القدس والكمال وذلك بأن يثبتوا على الاتقاء عن الشرك وعلى الإيمان بما يجب الإيمان وعلى الأعمال الصالحة لتحصل الاستقامة التامة التي يتمكن بها إلى الترقي إلى مرتبة المشاهدة ومعارج أن تعبد الله تعالى كأنك تراه وهو المعنى بقوله تعالى: «وَأَحْسَنُوا» إلخ وبها يمنح الزلفى عند الله تعالى ومحبته سبحانه المشار إليها بقوله عز وجل: «وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» . وفي هذا النظم نتيجة مما رواه الترمذي. وابن ماجة من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ولكن الزهد أن تكون بما بيد الله تعالى أوثق منك بما في يدك انتهى» . وهو ظاهر جدا على تقدير أن تكون الآية في القوم الذين سلكوا طريق الترهب وهو قول مرجوح فتدبر. وجملة وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ على سائر التقادير تذييل مقرر لمضمون ما قبله أبلغ تقرير، وذكر بعضهم أنه كان الظاهر والله يحب هؤلاء فوضع المحسنين موضعه إشارة إلى أنهم متصفون بذلك. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ جواب قسم محذوف أي والله ليعاملنكم معاملة من يختبركم ليتعرف حالكم بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ أي مصيد البر كما قال الكلبي مأكولا كان أو غير مأكول ما عدا المستثنيات كما سيأتي إن شاء الله تعالى فاللام للعهد. والآية كما أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل نزلت في عمرة الحديبية حيث ابتلاهم الله تعالى بالصيد وهم محرمون فكانت الوحوش تغشاهم في رحالهم وكانوا متمكنين من صيدها أخذا بأيديهم وطعنا برماحهم وذلك قوله تعالى: تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ فهموا بأخذها فنزلت. وعن ابن عباس ومجاهد وهو المروي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أن الذي تناله الأيدي فراخ الطير وصغار الوحش والبيض والذي تناله الرماح الكبار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 من الصيد. واختار الجبائي أن المراد بما تناله الأيدي والرماح صيد الحرم مطلقا لأنه كيفما كان يأنس بالناس ولا ينفر منهم كما ينفر في الحل، وقيل: ما تناله الأيدي ما يتأتى ذبحه وما تناله الرماح ما لا يتأتى ذبحه، وقيل: المراد بذلك ما قرب وما بعد، وذكر ابن عطية أن الظاهر أنه سبحانه خص الأيدي بالذكر لأنها أعظم تصرفا في الاصطياد وفيها يدخل الجوارح والحبالات وما عمل بالأيدي من فخاخ وأشباك. وخص الرماح بالذكر لأنها أعظم ما يجرح به الصيد ويدخل فيها السهم ونحوه. وتنكير «شيء» كما قال غير واحد للتحقير المؤذن بأن ذلك من الفتن الهائلة التي تزل فيها أقدام الراسخين كالابتلاء بقتل الأنفس وإتلاف الأموال وإنما هو من قبيل ما ابتلي به أهل أيلة من صيد البحر. وفائدته التنبيه على أن من لم يثبت في مثل هذا كيف يثبت عند شدائد المحن. فمن بيانية أي بشيء حقير وهو الصيد. واعترضه ابن المنير بأنه قد وردت هذه الصيغة بعينها في الفتن العظيمة كما في قوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة: 155] فالظاهر والله تعالى أعلم أن من للتبعيض، والمراد بما يشعر به اللفظ من التقليل والتبعيض التنبيه على أن جميع ما يقع الابتلاء به من هذه البلايا بعض من كل بالنسبة إلى مقدور الله تعالى وأنه تعالى قادر على أن يجعل ما يبتليهم به من ذلك أعظم مما يقع وأهول وأنه مهما اندفع عنهم ما هو أعظم في المقدور فإنما يدفعه عنهم إلى ما هو أخف وأسهل لطفا بهم ورحمة ليكون هذا التنبيه باعثا لهم على الصبر وحاملا على الاحتمال. والذي يرشد إلى هذا سبق الإخبار بذلك قبل حلوله لتوطين النفوس عليه فإن المفاجأة بالشدائد شديدة الألم والإنذار بها قبل وقوعها مما يسهل موقعها. وإذا فكر العاقل فيما يبتلي به من أنواع البلايا وجد المندفع منها عنه أكثر مما وقع فيه بإضعاف لا تقف عنده غاية فسبحان اللطيف بعباده انتهى. وتعقبه مولانا شهاب الدين بأن ما ذكر بعينه أشار إليه الشيخ في دلائل الإعجاز لأن شيئا إنما يذكر لقصد التعميم نحو قوله سبحانه: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء: 44] أو الإبهام وعدم التعيين أو التحقير لادعاء أنه لحقارته لا يعرف. وهنا لو قيل: ليبلونكم بصيد تم المعنى فإقحامها لا بد له من نكتة وهي ما ذكر، وأما ما أورده من الآية الأخرى فشاهد له عليه لأن المقصود فيه أيضا التحقير بالنسبة إلى ما دفعه الله تعالى عنهم كما صرح به المعترض نفسه مع أنه لا يتم الاعتراض به إلا إذا كان «ونقص» معطوفا على مجرور من ولو عطف على- شيء- لكان مثل هذه الآية بلا فرق انتهى. وقال عصام الملة: يمكن أن يقال: التعبير بالشيء للإبهام المكنى به عن العظمة والتنوين للتعظيم أي بشيء عظيم في مقام المؤاخذة بهتكه إذا آخذ الله تعالى المبتلى به في الأمم السابقة بالمسخ والجعل قردة وخنازير ثم استظهر أن التعبير بذلك لإفادة البعضية، ومما قدمنا يعلم ما فيه. وقرأ إبراهيم «يناله أيديكم» بالياء لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ أي ليتعلق عمله سبحانه بمن يخافه بالفعل فلا يتعرض للصيد فإن علمه تعالى بأنه سيخافه وإن كان متعلقا به لكن تعلقه بأنه خائف بالفعل وهو الذي يدور عليه أمر الجزاء إنما يكون عند تحقق الخوف بالفعل، وإلى هذا يشير كلام البلخي. والغيب مصدر في موضع اسم الفاعل أي يخافه في الموضع الغائب عن الخلق، فالجار متعلق بما قبله. وجوز أبو البقاء أن يكون في موضع الحال من من أو من ضمير الفاعل في «يخافه» أي يخافه غائبا عن الخلق. وقال غير واحد: العلم مجاز عن وقوع المعلوم وظهوره. ومحصل المعنى ليتميز الخائف من عقابه الأخروي وهو غائب مترقب لقوة إيمانه فلا يتعرض للصيد من لا يخافه كذلك لضعف إيمانه فيقدم عليه، وقيل: إن هناك مضافا محذوفا، والتقدير ليعلم أولياء الله تعالى ومن على كل تقدير موصولة، واحتمال كونها استفهامية أي ليعلم جواب من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 يخافه أي هذا الاستفهام بعيد. وقرىء ليعلم من الإعلام على حذف المفعول الأول أي ليعلم الله عباده إلخ، وإظهار الاسم الجليل في موقع الإضمار لتربية المهابة وإدخال الروعة فَمَنِ اعْتَدى أي تجاوز حد الله تعالى وتعرض للصيد بَعْدَ ذلِكَ الإعلام وبيان أن ما وقع ابتلاء من جهته سبحانه لما ذكر من الحكمة. وقيل: بعد التحريم والنهي، ورد بأن النهي والتحريم ليس أمرا حادثا ترتب عليه الشرطية بالفاء، وقيل: بعد الابتلاء ورد بأن الابتلاء نفسه لا يصلح مدارا لتشديد العذاب بل ربما يتوهم كونه عذرا مسوغا لتحقيقه. وفسر بعضهم الابتلاء بقدرة المحرم على المصيد فيما يستقبل، وقال: ليس المراد به غشيان الصيود إياهم فإنه قد مضى، وأنت تعلم إن إرادة ذلك المعنى ليست في حيز القبول والمعول عليه ما أشرنا إليه أي فمن تعرض للصيد بعد ما بينا أن ما وقع من كثرة الصيد وعدم توحشه منهم ابتلاء مؤد إلى تعلق العلم بالخائف بالفعل أو تميز المطيع من العاصي فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ لأن التعرض والاعتداء حينئذ مكابرة محضة وعدم مبالاة بتدبير الله تعالى وخروج عن طاعته وانخلاع عن خوفه وخشيته بالكلية، ومن لا يملك زمام نفسه ولا يراعي حكم الله تعالى في أمثال هذه البلايا الهينة لا يكاد يراعيه في عظائم المداحض. والمتبادر على ما قيل: إن هذا العذاب الأليم في الآخرة، وقيل: هو في الدنيا. فقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق قيس بن سعد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: هو أن يوسع ظهره وبطنه جلدا ويسلب ثيابه وكان الأمر كذلك في الجاهلية أيضا، وقيل: المراد بذلك عذاب الدارين وإليه ذهب شيخ الإسلام. ومناسبة الآية لما قبلها على ما ذكره الأجهوري أنه سبحانه لما أمرهم أن لا يحرموا الطيبات. وأخرج من ذلك الخمر والميسر وجعلهما حرامين، وإنما أخرج بعد من الطيبات ما يحرم في حال دون حال وهو الصيد، ثم إنه عز اسمه شرع في بيان ما يتدارك به الاعتداء من الأحكام إثر بيان ما يلحقه من العذاب فقال عز من قائل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ والتصريح بالنهي مع كونه معلوما لا سيما من قوله تعالى: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة: 1] لتأكيد الحرمة وترتيب ما يعقبه عليه، واللام في الصَّيْدَ للعهد حسبما سلف، وإطلاقه على غير المأكول شائع، وإلى التعميم ذهبت الإمامية، وأنشدوا لعلي كرم الله تعالى وجهه: صيد الملوك ثعالب وأرانب ... وإذا ركبت فصيدي الأبطال وخصه الشافعية بالمأكول قالوا: لأنه الغالب فيه عرفا، وأيد ذلك بما رواه الشيخان «خمس يقتلن في الحل والحرم الحدأة والغراب والعقرب والفأرة والكلب العقور» . وفي رواية لمسلم والحية بدل العقرب، وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة البحث. والحرم جمع حرام كردح جمع رداح والحرام والمحرم بمعنى والمراد به من أحرم بحج أو عمرة وإن كان في الحل وفي حكمه من كان في الحرم وإن كان حلالا، وقيل: المراد به من كان في الحرم وإن لم يكن محرما بنسك وفي حكمه المحرم وإن كان في الحل، وقال أبو علي الجبائي: الآية تدل على تحريم قتل الصيد على المحرم بنسك أينما كان وعلى من في الحرم كيفما كان معا، وقال علي بن عيسى: لا تدل إلا على تحريم ذلك على الأول خاصة، ولعل الحق مع علي لا مع أبيه، وذكر القتل دون الذبح ونحوه للإيذان بأن الصيد وإن ذبح في حكم الميتة، وإلى ذلك ذهب الإمام الأعظم. وأحمد. ومالك رضي الله تعالى عنهم، وهو القول الجديد للشافعي رضي الله تعالى عنه، وفي القديم لا يكون في حكم الميتة ويحل أكله للغير ويحرم على المحرم وَمَنْ قَتَلَهُ كائنا مِنْكُمْ حال كونه مُتَعَمِّداً أي ذاكرا لإحرامه عالما بحرمة قتل ما يقتله ومثله من قتله خطأ للسنة. فقد أخرج ابن جرير عن الزهري قال: نزل القرآن بالعمد وجرت السنة في الخطأ. وأخرج الشافعي وابن المنذر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 عن عمرو بن دينار قال: رأيت الناس أجمعين يغرمون في الخطأ، وقال بعضهم: التقييد به بالعمد لأنه الأصل والخطأ ملحق به قياسا. واعترض بأن القياس في الكفارات مختلف فيه، والحنفية لا تراه، وقيل: التقييد به لأنه المورد، فقد روي أنه عن لهم حمار وحشي فحمل عليه أبو اليسر فطعنه برمحه فقتله فقيل له: قتلته وأنت محرم فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسأله عن ذلك فأنزل الله تعالى الآية. واعترض بأن الخبر على تقدير ثبوته إنما يدل على أن القتل من أبي اليسر كان عن قصد وهو غير العمد بالمعنى السابق إذ قد أخذ فيه العلم بالتحريم، وفعل أبي اليسر خال عن ذلك بشهادة الخبر إذ يدل أيضا على أن حرمة قتل المحرم الصيد علمت بعد نزول الآية. وأجيب بأنا لا نسلم أن أبا اليسر لم يكن عالما بالحرمة إذ ذاك. فقد روي عن جابر بن عبد الله وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أن الصيد كان حراما في الجاهلية حيث كانوا يضربون من قتل صيدا ضربا شديدا والمعلوم من الآية كون ذلك من شرعنا، وقيل: إن العلم بالحرمة جاء من قوله تعالى: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ ولعله أولى. وعن داود أنه لا شيء في الخطأ أخذا بظاهر الآية. وروى ابن المنذر ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وابن جبير وطاوس وأخرج أبو الشيخ عن ابن سيرين قال: من قتله ناسيا لإحرامه فعليه الجزاء ومن قتله متعمدا لقتله غير ناس لإحرامه فذاك إلى الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له. وأخرج ابن جرير عن الحسن. ومجاهد نحو ذلك، ومَنْ يجوز أن تكون شرطية وهو الظاهر ويجوز أن تكون موصولة، والفاء في قوله تعالى: فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ جزائية على الأول وزائدة لشبه المبتدأ بالشرط على الثاني. وفَجَزاءٌ بالرفع والتنوين مبتدأ ومِثْلُ مرفوع على أنه صفته والخبر محذوف أي فعليه، وجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي فواجبه أو فالواجب عليه جزاء مماثل لما قتله. وجوز أبو البقاء أن يكون مِثْلُ بدلا والزجاج أن يكون جزاء مبتدأ ومِثْلُ خبره إذ التقدير جزاء ذلك الفعل أو المقتول مماثل لما قتله وبهذا قرأ الكوفيون ويعقوب، وقرأ باقي السبعة برفع «جزاء» مضافا إلى «مثل» . واستشكل ذلك الواحدي بل قال: ينبغي أن لا يجوز لأن الجزاء الواجب للمقتول لا لمثله. ولا يخفى أن هذا طعن في المنقول المتواتر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وذلك غاية في الشناعة، وما ذكر مجاب عنه، أما أولا فبأن جزاء كما قيل مصدر مضاف لمفعوله الثاني أي فعليه أن يجزي مثل ما قتل ومفعوله الأول محذوف والتقدير فعليه أن يجزي المقتول من الصيد مثله ثم حذف المفعول الأول لدلالة الكلام عليه وأضيف المصدر إلى الثاني، وقد يقال لا حاجة إلى ارتكاب هذه المئونة بأن يجعل مصدرا مضافا إلى مفعوله من غير تقدير مفعول آخر على أن معنى أن يجزىء مثل أن يعطي المثل جزاء، وأما ثانيا فبأن تجعل الإضافة بيانية أي جزاء هو مثل ما قتل، وأما ثالثا فبأن يكون مِثْلُ مقحما كما في قولهم: مثلك لا يفعل كذا. واعترض هذا بأنه يفوت عليه اشتراط المماثلة بين الجزاء والمقتول وكون جزائه المحكوم به ما يقاومه ويعادله وهو يقتضي المماثلة مما لا يكاد يسلم انفهامه من هذه الجملة كما لا يخفى. وقرأ محمد بن مقاتل بتنوين جزاء ونصبه ونصب مِثْلُ أي فليجز جزاء أو فعليه أن يجزي جزاء مثل ما قتل، وقرأ السلمي برفع جزاء منونا ونصب مِثْلُ أما رفع جزاء فظاهر وأما نصب مثل فبجزاء أو بفعل محذوف دل جزاء عليه أي يخرج أو يؤدي مثل. وقرأ عبد الله «فجزاؤه» برفع جزاء مضافا إلى الضمير ورفع مثل على الابتداء والخبرية. والمراد عند الإمام الأعظم وأبي يوسف المثل باعتبار القيمة يقوم الصيد من حيث أنه صيد لا من حيث ما زاد عليه بالصنع في المكان الذي أصابه المحرم فيه أو في أقرب الأماكن إليه مما يباع فيه ويشري الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 وكذا يعتبر الزمان الذي أصابه فيه لاختلاف القيم باختلاف الأمكنة والأزمنة فإن بلغت قيمته قيمة هدى يخير الجاني بين أن يشتري بها ما قيمته قيمة الصيد فيهديه إلى الحرم وبين أن يشتري بها طعاما فيعطي كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعا من غيره، ولا يجوز أن يطعم مسكينا أقل من نصف صاع ولا يمنع أن يعطيه أكثر ولو كان كل الطعام غير أنه إن فعل أجزأ عن إطعام مسكين نصف صاع وعليه أن يكمل بحسابه ويقع الباقي تطوعا وبين أن يصوم عن طعام كل مسكين يوما فإن فضل ما لا يبلغ طعام مسكين تصدق به أو صام عنه يوما كاملا لأن الصوم أقل من يوم لم يعهد في الشرع وإن لم تبلغ قيمته قيمة هدي فإن بلغت ما يشتري به طعام مسكين يخير بين الإطعام والصوم وإن لم تبلغ إلا ما يشتري به مدا من الحنطة مثلا يخير بين أن يطعم ذلك المقدار وبين أن يصوم يوما كاملا لما قلنا فيكون قوله تعالى: مِنَ النَّعَمِ تفسيرا للهدي المشتري بالقيمة على أحد وجوه التخيير فإن من فعل ذلك يصدق عليه أنه جزى بمثل ما قتل من النعم. ونظر فيه صاحب التقريب لأن قراءة رفع «جزاء ومثل» تقتضي أن يكون الجزاء مماثلا من النعم للصيد فإن كان الجزاء القيمة فليس مماثلا له منها بل الجزاء قيمة يشتري بها مماثل. وأجاب في الكشف بأن ما يشتري بالجزاء جزاء أيضا فإن طعام المساكين جزاء بالإجماع وهو مشترى بالقيمة. والحاصل أنه يصدق عليه أنه جزاء وأنه اشترى بالجزاء ولا تنافي بينهما، وادعى صاحب الهداية أن مِنَ النَّعَمِ بيان لما قتل وأن معنى الآية فجزاء هو قيمة ما قتل من النعم بجعل المثل بمعنى القيمة وحمل النعم على النعم الوحشي لأن الجزاء إنما يجب بقتله لا بقتل الحيوان الأهلي، وقد ثبت كما قال أبو عبيدة. والأصمعي أن النعم كما تطلق على الأهلي في اللغة تطلق على الوحشي، وكان كلام أبي البقاء حيث قال: يجوز أن يكون مِنَ النَّعَمِ حالا من الضمير في قَتَلَ لأن المقتول يكون من النعم مبنيا على هذا، وهو مع بعد إرادته من النظم الكريم خلاف المتبادر في نفسه، فإن المشهور أن النعم في اللغة الإبل والبقر والغنم دون ما ذكر، وقد نص على ذلك الزجاج وذكر أنه إذا أفردت الإبل قيل لها نعم أيضا وإن أفردت البقر والغنم لا تسمى نعما. وقال محمد ونسب إلى الشافعي. ومالك. والإمامية أيضا: المراد بالمثل والنظير في المنظر فيما له نظير في ذلك لا في القيمة ففي الظبي شاة. وفي الضبع شاة. وفي الأرنب عناق. وفي اليربوع جفرة. وفي النعامة بدنة، وفي حمار الوحش بقرة لأن الله تعالى أوجب مثل المقتول مقيدا بالنعم فمن اعتبر القيمة فقد خالف النص لأنها ليست بنعم ولأن الصحابة كعلي كرم الله تعالى وجه وعمر وعبد الله بن مسعود وغيرهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين أوجبوا في النعامة بدنة، وفي حمار الوحش بقرة إلى غير ذلك، وجاء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم كما رواه أبو داود «الضبع صيد وفيه شاة» وما ليس له نظير من حيث الخلقة مثل العصفور، والحمام تجب فيه القيمة عند محمد كما هو عند الإمام الأعظم وصاحبه، وعن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه يعتبر المماثلة من حيث الصفات فأوجب في الحمام شاة لمشابهة بينهما من حيث إن كل واحد منهما يعب ويهدر. وروي ذلك عن ابن عباس وابن عمر ومقاتل رضي الله تعالى عنهم، وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء قال: أول من فدى طير الحرم بشاة عثمان رضي الله تعالى عنه، ولأبي حنيفة وأبي يوسف رضي الله تعالى عنهما أن الله تعالى أطلق المثل والمثل المطلق هو المثل صورة ومعنى وهو المشارك في النوع وهو غير مراد هنا بالإجماع فبقي أن يراد المثل معنى وهو القيمة وهذا لأن المعهود في الشرع في إطلاق لفظ المثل أن يراد المشارك في النوع أو القيمة فقد قال تعالى في ضمان العدوان: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [البقرة: 194] والمراد الأعم منها أعني المماثل في النوع إذا كان المتلف مثليا والقيمة إذا كان قيميا بناء على أنه مشترك معنوي، والحيوانات من القيميات شرعا إهدارا للماثلة الكائنة في تمام الصورة فيها تغليبا للاختلاف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 الباطني في أبناء نوع واحد فما ظنك إذا انتفى المشاركة في النوع أيضا فلم يبق إلا مشاكلة في بعض الصورة كطول العنق والرجلين في النعامة مع البدنة ونحو ذلك في غيره فإذا حكم الشرع بانتفاء اعتبار المماثلة مع المشاكلة في تمام الصورة ولم يضمن المتلف بما شاركه في تمام نوعه بل بالمثل المعنوي فعند عدمها وكون المشاكلة في بعض الهيئة انتفاء الاعتبار أظهر إلا أن لا يمكن وذلك بأن يكون للفظ محمل يمكن سواه فالواجب إذا عهد المراد بلفظ في الشرع وتردد فيه في موضع يصح حمله على ذلك المعهود وغيره أن يحمل على المعهود وما نحن فيه كذلك فوجب المصير إليه وأن يحمل ما جاء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وعن صحابته الكرام رضي الله تعالى عنهم من الحكم بالنظير على أنه كان باعتبار التقدير بالقيمة إلا أن الناس إذ ذاك لما كانوا أرباب مواش كان الأداء عليهم منها أيسر لا على معنى أنه لا يجزىء غير ذلك، وحديث التقييد بالنعم قد علمت الجواب عنه، وذكر مولانا شيخ الإسلام أن الموجب الأصلي للجناية والجزاء المماثل للمقتول إنما هو قيمته لكن لا باعتبار أن الجاني يعمد إليها فيصرفها إلى المصارف ابتداء بل باعتبار أن يجعلها معيارا فيقدر بها إحدى الخصال الثلاث فيقيمها مقامها فقوله تعالى: مِثْلُ ما قَتَلَ وصف لازم للجزاء غير مفارق عنه بحال. وأما قوله سبحانه مِنَ النَّعَمِ فوصف له معتبر في ثاني الحال بناء على وصفه الأول الذي هو المعيار له ولما بعده من الطعام والصيام فحقهما أن يعطفا على الوصف المفارق لا على الوصف اللازم فضلا عن العطف على الموصوف كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ومما يرشد إلى أن المراد بالمثل هو القيمة قوله عز وجل: يَحْكُمُ بِهِ أي بمثل ما قتل ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أي حكمان عدلان من المسلمين لأن التقويم هو الذي يحتاج إلى النظر والاجتهاد دون المماثلة في الصورة التي يستوفي في معرفتها كل أحد من الناس. وهذا ظاهر الورود على ظاهر قول محمد. وقد يقال: إن هذه الجملة مرشدة إلى ما قلنا أيضا على رأي من يجعل مدار المماثلة بين الصيد والنعم المشاكلة والمضاهاة في بعض الأوصاف والهيآت مع تحقق التباين بينهما في بقية الأحوال فإن ذلك مما لا يهتدي إليه من أساطين أئمة الاجتهاد وصناديد أهل الهداية والرشاد إلا المؤيدون بالقوة القدسية. ألا يرى أن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه ومن أسلفنا ذكره أوجبوا في قتل الحمامة شاة بناء على ما أثبت بينهما من المماثلة في العب والهدير مع أن النسبة بينهما من سائر الحيثيات كما بين الضب والنون بل السمك والسماك فكيف يفوض معرفة هذه الدقائق العويصة إلى رأي عدلين من آحاد الناس على أن الحكم بهذا المعنى إنما يتعلق بالأنواع لا بالأشخاص فبعد ما عين بمقابلة كل نوع من أنواع الصيد نوع من أنواع النعم يتم الحكم ولا يبقى عند وقوع خصوصيات الحوادث حاجة إلى حكم أصلا. وقرأ محمد بن جعفر «ذو عدل» وخرجها ابن جني على إرادة الإمام، وقيل: إن «ذو» تستعمل استعمال من للتقليل والتكثير، وليس المراد بها هنا الوحدة بل التعدد ويراد منه اثنان لأنه أقل مراتبه، وفي الهداية قالوا: والعدل الواحد يكفي والمثنى أولى لأنه أحوط وأبعد من الغلط، وعلى هذا لا حاجة إلى حمل «ذو» على المتعدد ولا على الإمام بل المراد منها الواحد إماما كان أو غيره، ومن اشترط الاثنين حمل العدد في الآية على القراءة المتواترة على الأولوية، والجملة صفة لجزاء أو حال من الضمير المستتر في خبره المقدر، وقيل: حال منه لتخصيصه بالصفة، وجوز ابن الهمام على قراءة رفع جزاء وإضافته أن تكون صفة لمثل كما أن تكون صفة لجزاء لأن مثلا لا تتعرف بالإضافة فجاز وصفها ووصف ما أضيف إليها بالجملة. وقوله تعالى: هَدْياً حال مقدرة من الضمير في بِهِ كما قال الفارسي أو من جزاء بناء على أنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 خبر أو منه على تقدير كونه مبتدأ في رأي أو بدل من مِثْلُ فيمن نصبه أو من محله فيمن جره أو نصب على المصدر أي يهديه هديا والجملة صفة أخرى لجزاء بالِغَ الْكَعْبَةِ صفة لهديا لأن إضافته لفظية أَوْ كَفَّارَةٌ عطف على محل من النعم على أنه خبر مبتدأ محذوف والجملة صفة لجزاء على ما اختاره شيخ الإسلام. وقوله تعالى: طَعامُ مَساكِينَ عطف بيان لكفارة عند من يراه كالفارسي في النكرات أو بدل منه أو خبر مبتدأ محذوف أي هي طعام مساكين. وقوله سبحانه: أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً عطف على طَعامُ وذلك إشارة إليه وصِياماً تمييز. وخلاصة الآية كأنه قيل: فعليه جزاء أو فالواجب جزاء مماثل للمقتول هو من النعم أو طعام مساكين أو صيام بعددهم فحينئذ تكون المماثلة وصفا لازما للجزاء يقدر به الهدي والطعام والصيام. أما الأولان فبلا واسطة، وأما الثالث فبواسطة الثاني فيختار الجاني كلا منها بدلا عن الآخرين، وكون الاختيار للجاني هو ما ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف رضي الله تعالى عنهما فعندهما إذا ظهر قيمة الصيد بحكم الحكمين وهي تبلغ هديا فله الخيار في أن يجعله هديا أو طعاما أو صوما لأن التخيير شرع رفقا بمن عليه فيكون الخيار إليه ليرتفق بما يختار كما في كفارة اليمين. وقال محمد- وحكاه أصحابنا عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أيضا-: إن الخيار إلى الحكمين في تعيين أحد الأشياء فإن حكما بالهدي يجب النظير على ما مر وإن حكما بالطعام أو الصيام فعلى ما قاله الإمام وصاحبه من اعتبار القيمة من حيث المعنى. واستدل كما قيل على ذلك بالآية، ووجهه أنه ذكر الهدى منصوبا على أنه تفسير للضمير المبهم العائد على مِثْلُ في قوله تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ سواء كان حالا منه كما قدمنا أو تمييزا على ما قيل فيثبت أن المثل إنما يصير هديا باختيارهما وحكمهما أو هو مفعول لحكم الحاكم على أن يكون بدلا عن الضمير محمولا على محله كما في قوله تعالى: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً [الأنعام: 161] وفي ذلك تنصيص على أن التعيين إلى الحكمين. ثم لما ثبت ذلك في الهدي ثبت في الطعام والصيام لعدم القائل بالفصل لأنه سبحانه عطفهما عليه بكلمة أو وهي عند غير الشعبي. والسدي. وابن عباس رضي الله تعالى عنهم في رواية للتخيير فيكون الخيار إليهما وأجاب عن ذلك غير واحد من أصحابنا بأن الاستدلال إنما يصح لو كان كفارة معطوفة على هديا وليس كذلك لاختلاف إعرابهما وإنما هي معطوفة على قوله تعالى: فَجَزاءٌ بدليل أنه مرفوع وكذا قوله: أَوْ عَدْلُ إلخ فلم يكن في الآية دلالة على اختيار للحكمين في الطعام والصيام وإذا لم يثبت الخيار فيهما للحكمين لم يثبت في الهدي لعدم القائل بالفصل وإنما يرجع إليهما في تقديم المتلف لا غير، ثم الاختيار بعد ذلك إلى من عليه رفقا به على أن في توجيه الاستدلال على ما قاله أكمل الدين في العناية إشكالا لأن ذكر الطعام والصيام بكلمة أو لا يفيد المطلوب إلا إذا كان كفارة منصوبا على ما هو قراءة عيسى بن عمر النحوي وهي شاذة، والشافعي لا يرى الاستدلال بالقراءة الشاذة لا من حيث إنها كتاب ولا من حيث إنها خبر كما عرف في الأصول. واعترض مولانا شيخ الإسلام على عطف كَفَّارَةٌ على جزاء وقد ذهب إليه أجلة المفسرين والفقهاء بأنه لا يبقى حينئذ في النظم الكريم ما يقدر به الطعام والصيام، والالتجاء إلى القياس على الهدي تعسف لا يخفى وقد علمت ما اختاره. والآية عليه أيضا لا تصلح دليلا على مدعي الخصم كما هو ظاهر على أن الظاهر منها كما قاله ابن الهمام أن الاختيار لمن عليه فإن مرجع ضمير المحذوف من الخبر أو متعلق المبتدأ إليه بناء على أن التقدير من الضأن أو الثني من غيره عند أبي حنيفة لأن مطلق اسم الهدي ينصرف إليه كما في هدي المتعة والقران. واعترض عليه بأن اسم الهدي قد ينصرف إلى غيره كما إذا قال: إذا فعلت كذا فثوبي هذا هدي فليكن في محل النزاع كذلك. وأجيب بأن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 الكلام في مطلق الهدي وما ذكر ليس كذلك لأن الإشارة إلى الثوب قيدته، وعند محمد يجزىء صغار النعم لأن الصحابة كما تقدم أوجبوا عناقا وجفرة فدل على جواز ذلك في باب الهدي، وعن أبي يوسف روايتان رواية كقول الإمام، وأخرى كقول محمد وهي التي في المبسوط. والأسرار. وغيرهما، وعند أبي حنيفة يجوز الصغار على وجه الإطعام فيجوز أن يكون حكم الصحابة رضي الله تعالى عنهم كان على هذا الاعتبار فمجرد فعلهم حينئذ لا ينافي ما ذهب إليه الإمام فلا ينتهض حجة عليه. وإذا اختار الهدي وبلغ ما يضحي به فلا يذبح إلا بالحرم وهو المراد بقوله تعالى: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ إلا أن ذكر الكعبة للتعظيم. ولو ذبحه في الحل لا يجزيه عن الهدي بل عن الإطعام فيشترط أن يعطي كل مسكين قيمة نصف صاع حنطة أو صاع من غيرها، ويجوز أن يتصدق بالشاة الواقعة هديا على مسكين واحد كما في هدي المتعة. ولا يتصدق بشيء من الجزاء على من لا تقبل شهادته له، ويجوز على أهل الذمة والمسلم أحب. ولو أكل من الجزاء غرم قيمة ما أكل، ولا يشترط في الإطعام أن يكون في الحرم. ونقلوا عن الشافعي أنه يشترط ذلك اعتبارا له بالهدي والجامع التوسعة على سكان الحرم، ونحن نقول: الهدي قربة غير معقولة فيختص بمكان أو زمان أما الصدقة فقربة معقولة في كل زمان ومكان كالصوم فإنه يجوز في غير الحرم بالإجماع فإن ذبح في الكوفة مثلا أجزأه عن الطعام إذا تصدق باللحم، وفيه وفاء بقيمة الطعام لأن الإراقة لا تنوب عنه، ولو سرق هذا المذبوح أو ضاع قبل التصدق به بقي الواجب عليه كما كان. وهذا بخلاف ما لو كان الذبح في الحرم حيث يخرج عن العهدة. وإن سرق المذبوح أو ضاع قبل التصدق به وإذا وقع الاختيار على الطعام يقوم المتلف بالقيمة ثم يشتري بالقيمة طعام ويتصدق به على ما أشرنا إليه أولا. وفي الهداية يقوم المتلف بالطعام عندنا لأنه المضمون فتعتبر قيمته. ونقل حميد الدين الضرير عن محمد أنه يقوم النظير لأنه الواجب عينا إذا كان للمقتول نظير، وأنت تعلم أنه لو سلّم أن النظير هو الواجب عينا عند اختيار الهدي لم يلزم منه وجوب تقديمه عند اختيار خصلة أخرى فكيف وهو ممنوع، وإن اختار الصيام فعلى ما في الهداية يقوم المقتول طعاما ثم يصوم عن طعام كل مسكين يوما على ما مر لأن تقدير الصيام بالمقتول غير ممكن إذ لا قيمة للصيام فقدرناه بالطعام، والتقدير على هذا الوجه معهود في الشرع كما في الفدية. وتمام البحث في الفروع. والكفارة والطعام في الآية على ما يشعر به كلام بعض المفسرين بالمعنى المصدري ولو أبقيا على الظاهر لصح هذا، وما ذكرنا من عطف «كفارة» إنما هو على قراءة جزاء بالرفع. وعلى سائر القراءات يكون خبر مبتدأ محذوف والجملة معطوفة على جملة مِنَ النَّعَمِ. وذكر الشهاب أنه يجوز في «كفارة» على قراءة جزاء بالنصب أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي الواجب عليه كفارة وأن يقدر هناك فعل أي أن يجزىء جزاء فيكون «أو كفارة» عطفا على أن يجزىء وهو مبتدأ مقدم عليه خبره. وقرىء أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ على الإضافة لتبيين نوع الكفارة بناء على أنها بمعنى المكفر به وهي عامة تشمل الطعام وغيره، وكذا الطعام يكون كفارة وغيرها فبين المتضايفين عموم وخصوص من وجه كخاتم جديد. وقال أبو حيان: إن الطعام ليس جنسا للكفارة إلا بتجوز بعيد جدا فالإضافة إنما هي إضافة الملابسة وليس بشيء. وقرأ الأعرج «أو كفارة طعام مسكين» على أن التبيين يحصل بالواحد الدال على الجنس. وقرىء «أو عدل» بكسر العين، والفرق بينهما إن عدل الشيء كما قال الفراء ما عادله من غير جنسه كالصوم والإطعام وعدله ما عدل به الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 في المقدار كأن المفتوح تسمية بالمصدر والمكسور بمعنى المفعول، وقال البصريون: العدل والعدل كلاهما بمعنى المثل سواء كان من الجنس أو من غيره. وقال الراغب: العدل والعدل متقاربان لكنه بالفتح فيما يدرك بالبصيرة كالأحكام وبالكسر فيما يدرك بالحواس كالعديل فالعدل بالفتح هو التقسيط على سواء. وعلى هذا روي بالعدل قامت السماوات تنبيها على أنه لو كان ركن من الأركان الأربعة في العالم زائدا على الآخر أو ناقصا عنه على خلاف مقتضى الحكمة لم يكن العالم منتظما. لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ متعلق بالاستقرار الذي تعلق به المقدر، وقيل: بجزاء، وقيل: بصيام أو بطعام، وقيل: بفعل مقدر وهو جوزي أو شرعنا ذلك ونحوه، والوبال في الأصل الثقل ومنه الوابل للمطر الكثير والوبيل للطعام الثقيل الذي لا يسرع هضمه والمرعى الوخيم ولخشبة القصار وضمير «أمره» إما لله تعالى أو لمن قتل الصيد أي ليذوق ثقل فعله وسوء عاقبة هتك حرمة ما هو فيه أو الثقل الشديد على مخالفة أمر الله تعالى القوي، وعلى هذا لا بد من تقدير مضاف كما أشرنا إليه لأن أمر الله تعالى لا وبال فيه وإنما الوبال في مخالفته. عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ لكم من الصيد وأنتم محرمون فلم يجعل فيه إثما ولم يوجب فيه جزاء أو لم يؤاخذكم على ما كان منكم في الجاهلية من ذلك مع أنه ذنب عظيم أيضا حيث كنتم على شريعة إسماعيل عليه السلام والصيد محرم فيها، وقد مر رواية التحريم جاهلية والمؤاخذة على قتل الصيد بالضرب الوجيع وَمَنْ عادَ إلى مثل ذلك فقتل الصيد متعمدا وهو محرم فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ أي فهو ينتقم الله تعالى منه لأن الجزاء إذا وقع مضارعا مثبتا لم تدخله الفاء ما لم يقدر المبتدأ على المشهور، وكذا المنفي بلا، وجوز السمين أن تكون من موصولة ودخلت الفاء لشبه المبتدأ بالشرط وهي زائدة والجملة بعدها خبر ولا حاجة حينئذ إلى إضمار المبتدأ. والمراد بالانتقام التعذيب في الآخرة، وأما الكفارة فعن عطاء. وإبراهيم. وابن جبير. والحسن. والجمهور أنها واجبة على العائد فيتكرر الجزاء عندهم بتكرر القتل. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وشريح أنه إن عاد لم يحكم عليه بكفارة حتى أنهم كانوا يسألون المستفتي هل أصبت شيئا قبله؟ فإن قال: نعم لم يحكم عليه وإن قال لا حكم عليه تعلقا بظاهر الآية. وأنت تعلم أن وعيد العائد لا ينافي وجوب الجزاء عليه وإنما لم يصرح به لعلمه فيما مضى، وقيل: معنى الآية ومن عاد بعد التحريم إلى ما كان قبله وليس بالبعيد، وأما حمل الانتقام على الانتقام في الدنيا بالكفارة وإن كان محتملا لكنه خلاف الظاهر. وكذا كون المراد ينتقم منه إذا لم يكفر. وقد اختلفوا فيما إذا اضطر محرم إلى أكل الميتة أو الصيد فقال زفر: يأكل الميتة لا الصيد لتعدد جهات حرمته عليه، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: يتناول الصيد ويؤدي الجزاء لأن حرمة الميتة أغلظ ألا ترى أن حرمة الصيد ترتفع بالخروج من الإحرام فهي مؤقتة بخلاف حرمة الميتة فعليه أن يقصد أخف الحرمتين دون أغلظهما. والصيد وإن كان محظور الإحرام لكن عند الضرورة يرتفع الحظر فيقتله ويأكل منه ويؤدي الجزاء كما في المبسوط. وفي الخانية المحرم إذا اضطر إلى ميتة وصيد فالميتة أولى في قول أبي حنيفة. ومحمد. وقال أبو يوسف. والحسن: يذبح الصيد. ولو كان الصيد مذبوحا فالصيد أولى عند الكل. ولو وجد لحم صيد ولحم آدمي كان لحم الصيد أولى ولو وجد صيدا وكلبا فالكلب أولى لأن في الصيد ارتكاب محظورين. وعن محمد الصيد أولى من لحم الخنزير انتهى. وفي هذا خلاف ما ذكر في المبسوط وَاللَّهُ عَزِيزٌ غالب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 لا يغالب ذُو انْتِقامٍ شديد فينتقم ممن يتعدى حدوده ويخالف أوامره ويصر على معاصيه أُحِلَّ لَكُمْ أيها المحرمون صَيْدُ الْبَحْرِ أي ما يصاد في الماء بحرا كان أو نهرا أو غديرا وهو ما يكون توالده ومثواه في الماء مأكولا كان أو غيره كما في البدائع. وفي مناسك الكرماني الذي رخص من صيد البحر المحرم هو السمك خاصة وأما نحو طيره فلا رخصة فيه له والأول هو الأصح وَطَعامُهُ أي ما يطعم من صيده. وهو عطف على «صيد» من عطف الخاص على العام. والمعنى أحل لكم التعرض لجميع ما يصاد في المياه والانتفاع به وأكل ما يؤكل منه وهو السمك عندنا. وعند ابن أبي ليلى الصيد والطعام على معناهما المصدري وقدر مضافا في صيد البحر وجعل ضمير «طعامه» راجعا إليه لا إلى البحر أي أحل لكم صيد حيوان البحر وأن تطعموه وتأكلوه فيحل عنده أكل جميع حيوانات البحر من حيث أنها حيواناته، وقيل: المراد بصيد البحر ما صيد ثم مات وبطعامه ما قذفه البحر ميتا، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وابن عمر. وقتادة. وقيل: المراد بالأول الطري وبالثاني المملوح. وسمي طعاما لأنه يدخر ليطعم فصار كالمقتات به من الأغذية وروي ذلك عن ابن المسيب وابن جرير ومجاهد وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وفيه بعد. وأبعد منه كون المراد بطعامه ما ينبت بمائة من الزروع والثمار. وقرىء «وطعمه» مَتاعاً لَكُمْ نصب على أنه مفعول له لأحل أي تمتيعا. وجعله في الكشاف مختصا بالطعام كما أن «نافلة» في باب الحال من قوله تعالى: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً [الأنبياء: 72] مختص بيعقوب عليه السلام، والذي حمله على ذلك كما قال الشهاب مذهبه وهو مذهب إمامنا الأعظم رضي الله تعالى عنه من أن صيد البحر ينقسم إلى ما يؤكل وإلى ما لا يؤكل وأن طعامه هو المأكول منه إلا أنه أورد عليه أنه يؤدي إلى أن الفعل الواحد المسند إلى فاعلين متعاطفين يكون المفعول له المذكور بعدهما لأحدهما دون الآخر كقام زيد وعمرو إجلالا لك على أن الإجلال مختص بقيام أحدهما وفيه إلباس. وأما الحال في الآية المذكورة فليست نظيرة لهذا لأن فيه قرينة عقلية ظاهرة لأن النافلة ولد الولد فلا تعلق لها بإسحاق لأنه ولد صلب لإبراهيم عليهما السلام. وعلى غير مذهب الإمام لا اختصاص للمفعول له بأحدهما وهو ظاهر جلي. وقيل: نصب على أنه مصدر مؤكد لفعل مقدر أي متعكم به متاعا، وقيل: مؤكد لمعنى «أحل» فإنه في قوة متعكم به تمتيعا كقوله كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النساء: 24] وقيل وليس بشيء: إنه حال مقدرة من طعام أي مستمتعا به للمقيمين منكم يأكلونه طريا وَلِلسَّيَّارَةِ منكم يتزودونه قديدا وهو مؤنث سيار باعتبار الجماعة كما قال الراغب. وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ وهو ما توالده ومثواه في البر مما هو ممتنع لتوحشه الكائن في أصل الخلقة فيدخل الظبي المستأنس ويخرج البعير والشاة المتوحشان لعروض الوصف لهما، وكون زكاة الظبي المستأنس بالذبح والأهلي المتوحش بالعقر لا ينافيه لأن الذكاة بالذبح والعقر دائران مع الإمكان وعدمه لا مع الصيدية وعدمها. واستثنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خمسا. ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خمس من الدواب. ليس على المحرم في قتلهن جناح العقرب والفأرة والكلب العقور والغراب والحدأة» وقد تقدم ما في رواية لمسلم وجاء تسميتهن فواسق، وفي فتح القدير ويستثنى من صيد البر بعضه كالذئب والغراب والحدأة وأما باقي الفواسق فليست بصيود. وأما باقي السباع فالمنصوص عليه في ظاهر الرواية عدم الاستثناء وأنه يجب بقتلها الجزاء ولا يجاوز شاة إن ابتدأها المحرم وإن ابتدأته فلا شيء عليه وذلك كالأسد، والفهد، والنمر، والصقر، والبازي، وأما صاحب البدائع فيقسم البري إلى مأكول وغيره، والثاني إلى ما يبتدىء بالأذى غالبا كالأسد. والذئب. والنمر وإلى ما ليس كذلك كالضبع، والفهد. والثعلب فلا يحل قتل الأول والأخير إلا أن يصول ويحل قتل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 الثاني ولا شيء فيه وإن لم يصل، وجعل ورود النص في الفواسق ورودا فيها دلالة ولم يحك خلافا لكن في الخانية، وعن أبي يوسف الأسد بمنزلة الذئب. وفي ظاهر الرواية السباع كلها صيد إلا الكلب والذئب ولعل استثناء الذئب لذكره في المستثنيات على ما أخرجه أبو شيبة. والدارقطني. والطحاوي. وقيل: لأنه المراد بالكلب العقور في الخبر السابق، وقيل: وأما الكلب فقد جاء استثناؤه في الحديث إلا أنه وصف منه بالعقورية ولعل الإمام إنما يعتبر الجنس. ونظر فيه بأنه يفضي إلى إبطال الوصف المنصوص عليه. وأجيب بأنه ليس للقيد بل لإظهار نوع إذائه فإن ذلك طبع فيه، وقال سعدي جلبي: لو صح هذا النظر يلزم اعتبار مفهوم الصفة بل سائر المفاهيم وهو خلاف ما في أصولنا، وأما كون السباع كلها صيدا إلا ما استثني ففيه خلاف للشافعي رضي الله تعالى عنه أيضا فعنده هي داخلة في الفواسق المستثنيات قياسا أو ملحقة بها دلالة أو لأن الكلب العقور يتناولها لغة. وأجاب بعض الأصحاب بأن القياس على الفواسق ممتنع لما فيه من إبطال العدد وكذلك الإلحاق بها دلالة لأن الفواسق مما تعدو علينا للقرب منا والسبع ليس كذلك لبعده عنا فلا يكون في معنى الفواسق ليلحق بها، واسم الكلب وإن تناوله لغة لم يتناوله عرفا والعرف أقوى وأرجح في هذا الموضع كما في الإيمان لبنائه على الاحتياط، وفيه بحث طويل الذيل فتأمل. وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «حرم عليكم صيد» ببناء حرم للفاعل ونصب صيد أي وحرم الله عليكم صيد البر ما دُمْتُمْ حُرُماً أي محرمين. وقرىء «دمتم» بكسر الدال كخفتم من دام يدام وذلك لغة فيها. وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «حرما» بفتحتين أي ذوي حرم بمعنى إحرام أو على المبالغة، وظاهر الآية يوجب حرمة ما صاده الحلال على المحرم وإن لم يكن له مدخل فيه وهو قول ابن عباس، وابن عمر، ونقل عن علي كرم الله تعالى وجهه، وجماعة من السلف، واحتج له أيضا بما أخرجه مسلم عن الصعب بن حثامة الليثي أنه أهدى لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم حمارا وحشيا، وفي رواية حمار وحش، وفي رواية من لحم حمار وحش، وفي رواية من رجل حمار وحش، وفي رواية عجز حمار وحش يقطر دما، وفي رواية شق حمار وحش، وفي أخرى عضوا من لحم صيد وهو عليه الصلاة والسلام بالأبواء أو بودان فرده عليه صلّى الله عليه وسلّم قال: فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما في وجهي قال: «إنا لم نرده عليك إلّا أنا حرم» . وعن أبي هريرة، وعطاء، ومجاهد وابن جبير ورواه الطحاوي عن عمر وطلحة، وعائشة رضي الله تعالى عنهم أنه يحل له أكل ما صاده الحلال وإن صاده لأجله إذا لم يدل عليه ولم يشر إليه ولا أمره بصيده. وكذا ما ذبحه قبل إحرامه وهو مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه على ما اختاره الطحاوي لأن الخطاب للمحرمين فكأنه قيل: وحرم عليكم ما صدتم في البر فيخرج منه مصيد غيرهم، أو يقال: إن المراد صيدهم حقيقة أو حكما وصورة الدلالة أو الأمر من الشق الثاني، وعن مالك، والشافعي، وأحمد، وداود رحمهم الله تعالى لا يباح ما صيد له لما رواه أبو داود. والترمذي والنسائي عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لحم الصيد حلال لكم وأنتم محرمون ما لم تصيدوه أو يصاد لكم» وأجيب: بأنه قد روى محمد عن أبي حنيفة عن ابن المنكدر عن طلحة بن عبيد الله رضي الله تعالى عنه «تذاكرنا لحم الصيد يأكله المحرم والنبي صلّى الله عليه وسلّم نائم فارتفعت أصواتنا فاستيقظ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: فيم تتنازعون؟ فقلنا: في لحم الصيد يأكله المحرم فأمرنا بأكله» ، وروى الحافظ أبو عبد الله الحسين عن أبي حنيفة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 عن هشام بن عروة عن أبيه عن جده الزبير بن العوام قال: «كنا نحمل لحم الصيد صفيفا (1) وكنا نتزوده وكنا نأكله ونحن محرمون مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» . وأخرج مسلم عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال: «خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حاجا وخرجنا معه فصرف نفرا من أصحابه فيهم أبو قتادة فقال: خذوا ساحل البحر حتى تلقوني قال: فأخذوا ساحل البحر فلما انصرفوا قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحرموا كلهم إلا أبا قتادة فإنه لم يحرم فبينما هم يسيرون إذ رأوا حمر وحش فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتانا فنزلوا فأكلوا من لحمها قال فقالوا: أكلنا لحما ونحن محرمون قال: فحملوا ما بقي من لحم الأتان فلما أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا: يا رسول الله إنا كنا أحرمنا وكان أبو قتادة لم يحرم فرأينا حمر وحش فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتانا فنزلنا فأكلنا من لحمها فقلنا: نأكل لحم صيد ونحن محرمون فحملنا ما بقي من لحمها فقال عليه الصلاة والسلام: هل معكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء؟ قالوا: لا قال: فكلوا ما بقي من لحمها» . وفي رواية لمسلم أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «هل عندكم منه؟ شيء قالوا: معنا رجله فأخذها عليه الصلاة والسلام فأكلها» . وحديث جابر مؤول بوجهين الأول كون اللام للملك، والمعنى أن يصاد ويجعل له فيكون مفاده تمليك عين الصيد من المحرم وهو ممتنع أن يتملكه فيأكل من لحمه، والثاني الحمل على أن المراد أن يصاد بأمره وهذا لأن الغالب في عمل الإنسان لغيره أن يكون بطلب منه، والتزام التأويل دفعا للتعارض كما قال غير واحد. وقال ابن الهمام وقد يقال: القواعد تقتضي أن لا يحكم بالتعارض بين حديث جابر وبين الخبرين الأولين من هذه الأخبار الثلاثة لأن قول طلحة: فأمرنا بأكله مقيد عندنا بما إذا لم يدله المحرم على الصحيح خلافا لأبي عبد الله الجرجاني ولا أمره بقتله على ما يدل عليه حديث أبي قتادة فيجب تخصيصه بما إذا لم يصد للمحرم بالحديث الآخر. وحديث الزبير حاصله نقل وقائع أخبار وهي لا عموم لها فيجوز كون ما كانوا يحملونه من لحوم الصيد للتزود ما لم يصد لأجل المحرمين بل هو الظاهر لأنهم يتزودونه من الحضر ظاهرا والإحرام بعد الخروج إلى الميقات، فالأولى الاستدلال على أصل المطلوب بحديث أبي قتادة المذكور على وجه المعارضة فإنه أفاد أنه عليه الصلاة والسلام لم يجب بحله لهم حتى سألهم عن موانع الحل أكانت. موجودة أم لا فلو كان من الموانع أن يصاد لهم لنظمه صلّى الله عليه وسلّم في سلك ما يسأل عنه منها في التفحص عن الموانع ليجيب بالحل عند خلوه عنها. وهذا المعنى كالصريح في نفي كون الاصطياد مانعا فيعارض حديث جابر ويقدم عليه لقوة ثبوته إذ هو في الصحيحين وغيرهما من الكتب الستة بخلاف ذلك بل قيل في حديث جابر انقطاع لأن المطلب في سنده لم يسمع من جابر عند غير واحد، وكذا في رجاله من فيه لين، وبعد ثبوت ما ذهبنا إليه بما ذكرنا يقوم دليل على ما ذكر من التأويل انتهى. وأنت تعلم أن في حديث جابر أيضا شيئا من جهة العربية ولعل الأمر فيه سهل. بقي أن حديث الصعب بظاهره يعارض ما استدل به أهل المذهبين الأخيرين، واختار بعض الحنفية في الجواب بأن فيه اضطرابا ليس مثله في حديث قتادة حتى روى عمرو بن أمية الضمري عن أبيه أن الصعب أهدى لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم عجز حمار وحش بالجحفة فأكل منه عليه الصلاة والسلام وأكل القوم فكان حديث قتادة أولى وقد وقع ما وقع فيه في الحج كما تحكيه الرواية التي ذكرناها، ومعلوم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يحج بعد الهجرة إلا حجة الوداع، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه في الجواب: يحتمل أن يكون صلّى الله عليه وسلّم علم أنه صيد له فرده عليه فلا يعارض حديث جابر،   (1) اي قديدا اه منه. [ ..... ] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 وتعليله عليه الصلاة والسلام الرد بأنه محرم لا يمنع من كونه صيد له لأنه إنما يحرم الصيد على الإنسان إذا صيد له بشرط أن يكون محرما، فبين صلّى الله عليه وسلّم الشرط الذي يحرم به، وقيل: إن جابرا إنما أهدى حمارا فرده صلّى الله عليه وسلّم لامتناع تملك المحرم الصيد، ولا يخفى أن الروايات الدالة على البعضية أكثر ولا تعارض بينها فتحمل رواية أنه أهدى حمارا على أنه من إطلاق اسم الكل على البعض ويمتنع هنا العكس إذ إطلاق الرجل مثلا على كل الحيوان غير معهود، وقد صرحوا أنه لا يجوز أن يطلق على زيد أصبع ونحوه لأن شرط إطلاق اسم البعض على الكل التلازم كالرقبة والرأس على الإنسان فإنه لا إنسان دونهما بخلاف نحو الرجل والظفر، وأما إطلاق العين على الرؤية فليس من حيث هو إنسان بل من حيث هو رقيب وهو من هذه الحيثية لا يتحقق بلا عين أو هو أحد معاني المشترك اللفظي كما عده كثير منها فليتيقظ. وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما نهاكم عنه من الصيد أو في جميع المعاصي التي من جملتها ذلك الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ لا إلى غيره حتى يتوهم الخلاص من أخذه تعالى بالالتجاء إلى ذلك الغير. هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إيمانا علميا لا تُحَرِّمُوا بتقصيركم في السلوك طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ من مكاشفات الأحوال وتجليات الصفات وَلا تَعْتَدُوا بظهور النفس بصفاتها وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي اجعلوا ما من الله تعالى به عليكم من علوم التجليات ومواهب الأحوال والمقامات غذاء قلوبكم حَلالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ في حصول ذلك لكم بأن تردوها منه وله، وجعل غير واحد هذا خطابا للواصلين من أرباب السلوك حيث أرادوا الرجوع إلى حال أهل البدايات من المجاهدات فنهوا عن ذلك وأمروا بأكل الحلال الطيب، وفسروا الحلال بما وصل إلى المعارف من خزائن الغيب بلا كلفة، والطيب ما يقوي القلب في شوق الله تعالى وذكر جلاله، وقيل: الحلال الطيب ما يأكل على شهود وإلا فعلى ذكر، فإن الأكل على الغفلة حرام في شرع السلوك، وقال آخرون: الحلال الطيب هو الذي يراه العارف في خزانة القدر فيأخذه منها بوصف الرضا والتسليم، والحرام ما قدر لغيره وهو يجتهد في طلبه لنفسه لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وهو الحلف لملالة النفس وكلالة القوى وغلبة سلطان الهوى، وعدوا من اللغو في اليمين الإقسام على الله تعالى بجماله وجلاله سبحانه عند غلبة الشوق ووجدان الذوق أن يرزقه شيئا من إقباله عز وجل ووصاله فإن ذلك لغو في شريعة الرضا ومذهب التسليم. والذي يقتضيه ذلك ما أشير إليه بقوله: أريد وصاله ويريد هجري ... فأترك ما أريد لما يريد لكن لا يؤاخذ الله تعالى عليه الحالف لعلمه بضعف حاله. وعدوا من ذلك أيضا ما يجري على لسان السالكين في غلبة الوجد من تجديد العهد وتأكيد العقد كقول بعضهم: وحقك لا نظرت إلى سواكا ... بعين مودة حتى أراكا فإن ذلك ينافي التوحيد وهل في الدار ديار كلا بل هو الله الواحد القهار وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ وذلك إذا عزمتم على الهجران وتعرضتم للخذلان عن صميم الفؤاد فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ وهي على ما قال البعض الحواس الخمس الظاهرة والحواس الخمس الباطنة مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ وهم القلب والسر والروح والخفي، وطعامهم الشوق، والمحبة، والصدق، والإخلاص، والتفويض، والتسليم، والرضا، والإنس، والهيبة، والشهود، والكشوف، والأوسط الذكر، والفكر، والشوق، والتوكل، والتعبد، والخوف، والرجاء، وإطعام الحواس ذلك أن يشغلها به أَوْ كِسْوَتُهُمْ لباس التقوى أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ وهي رقبة النفس فيحررها من عبودية الحرص والهوى فَمَنْ لَمْ يَجِدْ ولم يستطع فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فيمسك في اليوم الأول عما عزم عليه وفي اليوم الثاني الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 عما لا يعنيه وفي اليوم الثالث عن العود إليه، وقيل كنى سبحانه بصيام ثلاثة أيام عن التوبة والاستقامة عليها ما دامت الدنيا، فقد قيل: الدنيا ثلاثة أيام، يوم مضى، ويوم أنت فيه، ويوم لا تدري ما الله سبحانه قاض فيه وَأَطِيعُوا اللَّهَ بالفناء فيه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ بالبقاء بعد الفناء وَاحْذَرُوا ظهور ذلك بالنظر إلى نفوسكم فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ ولم يقصر فيه فالقصور منكم لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا بالتقليد وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الأعمال البدنية الشرعية جُناحٌ فِيما طَعِمُوا من المباحات إِذا مَا اتَّقَوْا الشبهة والإسراف وَآمَنُوا بالتحقيق وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الأعمال القلبية الحقيقية من تخلية القلب عما سواه سبحانه ومن تحليته بالأحوال المضادة لهواه من الصدق، والإخلاص، والتوكل، والتسليم ونحو ذلك ثُمَّ اتَّقَوْا شرك الأنانية وَآمَنُوا بالهوية ثُمَّ اتَّقَوْا هذا الشرك وهو الفناء وَأَحْسَنُوا بالبقاء به جل شأنه قاله النيسابوري. وقال غيره: ليس على الذين آمنوا الإيمان العيني بتوحيد الأفعال وعملوا بمقتضى إيمانهم أعمالا تخرجهم عن حجب الأفعال وتصلحهم لرؤية أفعال الحق جناح وضيق فيما تمتعوا به من أنواع الحظوظ إذا ما اجتنبوا بقايا أفعالهم واتخذوا الله تعالى وقاية في صدور الأفعال منهم وآمنوا بتوحيد الصفات وعملوا ما يخرجهم عن حجبها ويصلحهم لمشاهدة الصفات الإلهية بالمحو فيها ثم اتقوا بقايا صفاتهم واتخذوا الله تعالى وقاية في ظهور صفاته عليهم وآمنوا بتوحيد الذات ثم اتقوا بقية ذواتهم واتخذوا الله تعالى وقاية في وجودهم بالفناء المحض والاستهلاك في عين الذات وأحسنوا بشهود التفصيل في عين الجمع والاستقامة في البقاء بعد الفناء وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ الباقين بعد فنائهم أو المشاهدين للوحدة في عين الكثرة المراعين لحقوق التفاصيل في عين الجمع بالوجود الحقاني يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالغيب لَيَبْلُوَنَّكُمُ في أثناء السير والإحرام لزيارة كعبة الوصول بشيء من الصيد أي الحظوظ والمقاصد النفسانية تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ أي يتيسر لكم ويتهيأ ما يتوصل به إليه. وقيل: ما تناله الأيدي اللذات البدنية وما تناله الرماح اللذات الخيالية لِيَعْلَمَ اللَّهُ العلم الذي ترتب عليه الجزاء «من يخافه» بالغيب أي في حال الغيبة ولا يكون ذلك إلا للمؤمنين بالغيب لتعلقه بالعقاب الذي هو من باب الأفعال، وأما في الحضور فالخشية والهيبة دون الخوف، والأولى بتجلي صفات الربوبية والعظمة، والثانية بتجلي الذات، فالخوف كما قيل من صفات النفس والخشية من صفات القلب، والهيبة من صفات الروح «فمن اعتدى بعد ذلك» بتناول شيء من الحظوظ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ وهو عذاب الاحتجاب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ أي في حال الإحرام الحقيقي وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً بأن ارتكب شيئا من الحظوظ النفسانية قصدا فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ بأن يقهر تلك القوة التي ارتكب بها من قوى النفس البهيمية بأمر يماثل ذلك الحظ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ وهما القوتان النظرية والعملية هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ الحقيقية وذلك بإفنائها في الله عز وجل أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً أي أو يستر تلك القوة بصدقة أو صيام أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وهو ما في العالم الروحاني من المعارف وَطَعامُهُ وهو العلم النافع من علم المعاملات والأخلاق مَتاعاً أي تمتيعا لكم أيها السالكون بطريق الحق وَلِلسَّيَّارَةِ المسافرين سفر الآخرة، وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ وهو في العالم الجسماني من المحسوسات والحظوظ النفسانية وَاتَّقُوا اللَّهَ في سيركم وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ بالفناء فاجتهدوا في السلوك ولا تقفوا مع الموانع وهو الله تعالى الميسر للرشاد وإليه المرجع والمعاد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ أي صيرها، وسميت كعبة على ما روي عن عكرمة. ومجاهد لأنها مربعة والتكعيب التربيع، وتطلق لغة على كل بيت مربع، وقد يقال: التكعب للارتفاع، قيل: ومنه سميت الكعبة كعبة لكونها مرتفعة، ومن ذلك كعب الإنسان لارتفاعه ونتوه، وكعبت المرأة إذا نتأ ثديها، وقيل: سميت كعبة لانفرادها من البناء ورده الكرماني إلى ما قبله لأن المنفرد من البناء نات من الأرض. وقوله تعالى: الْبَيْتَ الْحَرامَ عطف بيان على جهة المدح لأنه عرف بالتعظيم عندهم فصار في معنى المعظم أو لأنه وصف بالحرام المشعر بحرمته وعظمته، وذكر البيت كالتوطئة له فالاعتراض بالجمود من الجمود دون التوضيح، وقيل: جيء به للتبيين لأنه كان لخثعم بيت يسمونه بالكعبة اليمانية. وجوز أن يكون بدلا وأن يكون مفعولا ثانيا لجعل، وقوله سبحانه: قِياماً لِلنَّاسِ نصب على الحال ويرده عطف ما بعده على المفعول الأول كما ستعلم قريبا إن شاء الله تعالى بل هذا هو المفعول الثاني. وقيل: جَعَلَ بمعنى خلق فتعدى لواحد وهذا حال، ومعنى كونه قياما لهم أنه سبب إصلاح أمورهم وجبرها دينا ودنيا حيث كان مأمنا لهم وملجأ ومجمعا لتجارتهم يأتون إليه من كل فج عميق. ولهذا قال سعيد بن جبير: من أتى هذا البيت يريد شيئا للدنيا والآخرة أصابه، ومن ذلك أخذ بعضهم أن التجارة في الحج ليست مكروهة. وروي هذا عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: كان الناس كلهم فيهم ملوك يدفع بعضهم عن بعض ولم يكن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 في العرب ملوك كذلك فجعل الله تعالى لهم البيت الحرام قياما يدفع به بعضهم عن بعض فلو لقي الرجل قاتل أبيه أو ابنه عنده ما قتله، فالمراد من الناس على هذا العرب خاصة، وقيل: معنى كونه قياما للناس كونه أمنا لهم من الهلاك فما دام البيت يحج إليه الناس لم يهلكوا فإن هدم وترك الحج هلكوا وروي ذلك عن عطاء. وقرأ ابن عامر «قيما» على أنه مصدر كشيع. وكان القياس أن لا تقلب واوه ياء لكنها لما قلبت في فعله ألفا تبعه المصدر في إعلال عينه وَالشَّهْرَ الْحَرامَ أي الذي يؤدى فيه الحج وهو ذو الحجة فالتعريف للعهد بقرينة قرنائه واختار غير واحد إرادة الجنس على ما هو الأصل والقرينة المعهودة لا تعين العهد، والمراد الأشهر الحرم وهي أربعة واحد فرد وثلاثة سرد فالفرد رجب والسرد ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، وهو وما بعده عطف على الْكَعْبَةَ فالمفعول الثاني محذوف ثقة بما مر أي وجعل الشهر الحرام وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ أيضا قياما لهم، والمراد بالقلائد ذوات القلائد وهي البدن خصت بالذكر لأن الثواب فيها أكثر والحج بها أظهر وقيل: الكلام على ظاهره، فقد أخرج أبو الشيخ عن أبي مجلز أن أهل الجاهلية كان الرجل منهم إذا أحرم تقلد قلادة من شعر فلا يتعرض له أحد فإذا حج وقضى حجه تقلد قلادة من إذخر، وقيل: كان الرجل يقلد بعيره أو نفسه قلادة من لحاء شجر الحرم فلا يخاف من أحد ولا يتعرض له أحد بسوء، وكانوا لا يغيرون في الأشهر الحرم وينصلون فيها الأسنة ويهرع الناس فيها إلى معايشهم ولا يخشون أحدا، وقد توارثوا- على ما قيل- ذلك من دين إسماعيل عليه السلام ذلِكَ أي الجعل المذكور خاصة أو مع ما ذكر من الأمر بحفظ حرمة الإحرام وغيره. ومحل اسم الإشارة النصب بفعل مقدر يدل عليه السياق وبه تتعلق اللام فيما بعد. وقيل: محله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الحكم الذي قررناه ذلك أو مبتدأ خبره محذوف أي ذلك الحكم هو الحق والحكم الأول هو الأقرب، والتقدير شرع ذلك لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فإن تشريع هذه الشرائع المستتبعة لدفع المضار الدينية والدنيوية قبل الوقوع وجلب المنافع الأولية والأخروية من أوضح الدلائل على حكمة الشارع وإحاطة علمه سبحانه وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ واجبا كان أو ممتنعا أو ممكنا عَلِيمٌ كامل العلم، وهذا تعميم إثر تخصيص، وقدم الخاص لأنه كالدليل على ما بعد. وجوز أن يراد بما في السماوات والأرض الأعيان الموجودة فيهما وبكل شيء الأمور المتعلقة بتلك الموجودات من العوارض والأحوال التي هي من قبيل المعاني. والإظهار في مقام الإضمار لما مر غير مرة. اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وعيد لمن انتهك محارمه أو أصر على ذلك والعقاب كما قيل هو الضرر الذي يقارنه استخفاف وإهانة. وسمي عقابا لأنه يستحق عقيب الذنب وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وعد لمن حافظ على مراعاة حرماته تعالى وأقلع عن الانتهاك. ووجه تقديم الوعيد ظاهر ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ ولم يأل جهدا في تبليغكم ما أمرتم به فأي عذر لكم بعد. وهذا تشديد في إيجاب القيام بما أمر به سبحانه. والبلاغ اسم أقيم مقام المصدر كما أشير إليه وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ فيعاملكم بما تستحقونه في ذلك قُلْ يا محمد لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ أي الرديء والجيد من كل شيء. فهو حكم عام في نفي المساواة عند الله تعالى بين النوعين والتحذير عن رديها وإن كان سبب النزول ان المسلمين أرادوا أن يوقعوا بحجاج اليمامة وكان معهم تجارة عظيمة فنهوا عن ذلك على ما مر ذكره، وقيل: نزلت في رجل سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إن الخمر كانت تجارتي وإني جمعت من بيعها مالا فهل ينفعني من ذلك إن عملت فيه بطاعة الله تعالى؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إن أنفقته في حج أو جهاد لم يعدل جناج بعوضة إن الله تعالى لا يقبل إلا الطيب. وعن الحسن واختاره الجبائي الخبيث الحرام والطيب الحلال، وأخرج ابن جرير وغيره عن السدي قال: الخبيث هم المشركون والطيب هم المؤمنون وتقديم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 الخبيث في الذكر للإشعار من أول الأمر بأن القصور الذي ينبىء عنه عدم الاستواء فيه لا في مقابله، وقد تقدمت الإشارة إلى تحقيقه، وَلَوْ أَعْجَبَكَ أي وإن سرك أيها الناظر بعين الاعتبار كَثْرَةُ الْخَبِيثِ. وقيل الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد أمته والواو لعطف الشرطية على مثلها المقدر. وقيل للحال أي لو لم يعجبك ولو أعجبك وكلتاهما في موضع الحال من فاعل «لا يستوي» أي لا يستويان كائنين على كل حال مفروض. وقد حذفت الأولى في مثل هذا التركيب لدلالة الثانية عليها دلالة واضحة فإن الشيء إذا تحقق مع المعارض فلأن يتحقق بدونه أولى. وجواب لو محذوف في الجملتين لدلالة ما قبلها عليه فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ في تحري الخبيث وإن كثر وآثروا عليه الطيب وإن قل فإن مدار الاعتبار هو الخيرية والرداءة لا الكثرة والقلة وفي الأكثر أحسن كل شيء أقله. ولله در من قال: والناس ألف منهم كواحد ... وواحد كالألف إن أمر عنا وفي الآية كما قيل إشارة إلى غلبة أهل الإسلام وإن قلوا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ راجين أن تنالوا الفلاح والفوز بالثواب العظيم والنعيم المقيم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ ظاهر اللفظ كما قال ابن يعيش يقضي بكونها جمع شيء لأن فعلا إذا كان معتل العين يجمع في القلة على أفعال نحو بيت وأبيات وشيخ وأشياخ إلا أنهم رأوها غير مصروفة في حال التنكير كما هنا فتشعبت آراء الجماعة فيها. فذهب سيبويه. والخليل إلى أن الهمزة للتأنيث وأن الكلمة اسم مفرد يراد به الجمع نحو الحلفاء والطرفاء فأشياء في الأصل شيئا بهمزتين بينهما ألف فقدمت الهمزة الأولى التي هي لام الكلمة على الفاء لاستثقال همزتين بينهما ألف قبلهما حرف علة وهو الياء والهمزة الثانية زائدة للتأنيث ولذلك لا تنصرف ووزنها لفعاء، وقصارى ما في هذا المذهب القلب وهو كثير في كلامهم ارتكبوه مع عدم الثقل كما في أينق وقسى ونحوهما فارتكابه مع الثقل أولى فلا يضر الاعتراض بأنه خلاف الأصل. وذهب الفراء إلى أنها جمع شيء بياء مشددة وهمزة بوزن هين ولين إلا أنهم خففوه فقالوا شيء كميت في ميت وبعد التخفيف جمعوه على أشآء بهمزتين بينهما ألف بعد ياء بزنة افعلاء فاجتمعت همزتان إحداهما لام الكلمة والأخرى للتأنيث فخففوا ذلك بقلب الهمزة الأولى ياء ثم حذفوا الياء الأولى التي هي عين الكلمة فصار وزنه أفلاء، وقيل: في تصريف هذا المذهب أنهم حذفوا الهمزة التي هي لام الكلمة لأن الثقل حصل بها فوزنها أفعاء ومنع الصرف لهمزة التأنيث. واستحسن هذا المذهب لو كان على أن أصل شيء بالتخفيف شيء بالتشديد دليل، وذهب الأخفش إلى أنها جمع شيء بوزن فلس وأصلها أشيئاء بهمزتين بينهما ألف بعد ياء ثم عمل فيه ما مر. ورده الزجاج بأن فعلا لا يجمع على أفعلاء، وناظر أبو عثمان المازني الأخفش في هذه المسألة كما قاله أبو علي في التكملة فقال: كيف تصغر أشياء قال أقول أشياءاء فقال المازني: هلا رددتها إلى الواحد فقلت شييئات لأن أفعلاء لا تصغر فلم يأت بمقنع انتهى. وأراد أن أفعلاء من أمثلة الكثرة وجموع الكثرة لا تصغر على ألفاظها وتصغر بآحادها ثم يجمع الواحد بالألف والتاء كقولك في تصغير درهم: دريهمات، والجواب كما قال أبو علي عن ذلك بأن أفعلاء هنا جاز تصغيرها على لفظها لأنها قد صارت بدلا من أفعال بدلالة استجازتهم إضافة العدد إليها كما أضيف إلى أفعال، ويدل على كونها بدلا أيضا تذكيرهم العدد المضاف إليها في قولهم: ثلاثة أشياء فكما صارت بمنزلة أفعال في هذا الموضع بالدلالة المذكورة كذلك يجوز تصغيرها من حيث جاز تصغير أفعال ولم يمتنع تصغيرها على اللفظ من حيث امتنع تصغير هذا الوزن في غير هذا الموضع لارتفاع المعنى المانع من ذلك عن أشياء وهو أنها صارت بمنزلة أفعال وإن كان كذلك لم يجتمع في الكلمة ما يتدافع من إرادة التقليل والتكثير في شيء واحد انتهى، ومراده كما قال ابن الشجري بأن فعلاء في هذا الموضع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 صارت بدلا من أفعال أنه كان القياس في جمع شيء أشياء مصروفا كقولك في جمع فيء أفياء على أن تكون همزة الجمع هي همزة الواحد ولكنهم أقاموا أشياء التي همزتها للتأنيث مقام أشياء التي وزنها أفعال، واستدلاله في تجويز تصغير أشياء على لفظها بأنها صارت بدلا من أفعال بدلالة أنهم أضافوا العدد إليها وألحقوه الهاء فقالوا ثلاثة أشياء مما لا يقوم به دلالة لأن أمثلة القلة وأمثلة الكثرة يشتركن في ذلك، ألا ترى أنهم يضيفون العدد إلى أبنية الكثرة إذا عدم بناء القلة فيقولون: ثلاثة شسوع وخمسة دراهم، وأما إلحاق الهاء في قولنا: ثلاثة أشياء وإن كان أشياء مؤنثا لأن الواحد مذكر ألا ترى أنك تقول ثلاثة: أنبياء وخمسة أصدقاء وسبعة شعراء فتلحق الهاء وإن كان لفظ الجمع مؤنثا وذلك لأن الواحد نبي وصديق وشاعر كما أن واحد أشياء شيء فأي دلالة في قوله: ويدل على كونها بدلا تذكيرهم العدد المضاف إليها إلخ ثم قال: والذي يجوز أن يستدل به لمذهب الأخفش أن يقال: إنما جاز تصغير أفعلاء على لفظه وإن كان من أبنية الكثرة لأن وزنه نقص بحذف لامه فصار أفعاء فشبهوه بأفعال فصغروه، وذهب الكسائي إلى أنها جمع شيء كضيف وأضياف. وأورد عليه منع الصرف من غير علة ويلزمه صرف أبناء (1) وأسماء، وقد استشعر الكسائي هذا الإيراد وأشار إلى دفعه بأنه على أفعال ولكن كثرت في الكلام فأشبهت فعلاء فلم يصرف كما لم يصرف حمراء، وقد جمعوها على أشاوى كعذارء وعذارى وأشياوات كحمراء وحمراوات فعاملوا أشياء وإن كانت على أفعال معاملة حمراء وعذراء في جمعي التكسير والتصحيح. ورد بأن الكثرة تقتضي تخفيفه وصرفه. وأيده بعضهم بأن العرب قد اعتبروا في باب ما لا ينصرف الشبه اللفظي كما قيل في سراويل إنه منع من الصرف لشبهه بمصابيح وأجروا ألف الإلحاق مجرى ألف التأنيث المقصورة ولكن مع العلمية فاعتبروا مجرد الصورة فليكن هذا من ذلك القبيل، وقيل: إنها جمع شيء ووزنها أفعلاء جمع فعيل كنصيب وأنصباء وصديق وأصدقاء وحذفت الهمزة الأولى التي هي لام الكلمة وفتحت الياء لتسلم الألف فصارت أشياء بزنة أفعاء، وجعل مكي تصريفه كمذهب الأخفش إذا بدل الهمزة ياء ثم حذفت إحدى الياءين وحسن حذفها من الجمع حذفها من المفرد لكثرة الاستعمال وعدم الصرف لهمزة التأنيث الممدودة، وهو حسن إلا أنه يرد عليه كما ورد على الأخفش مع إيرادات أخر، وقيل غير ذلك، وللشهاب عليه الرحمة: أشياء لفعاء في وزن وقد قلبوا ... لاما لها وهي قبل القلب شيئاء وقيل أفعال لم تصرف بلا سبب ... منهم وهذا لوجه الرد إيماء أو أشيّاء وحذف اللام من ثقل ... وشيء أصل شيء وهي آراء وأصل أسماء اسما أو كمثل كسا ... فاصرفه حتما ولا تغررك أسماء واحفظ وقل للذي ينسى العلا سفها ... حفظت شيئا وغابت عنك أشياء وظاهر صنيعه كغيره يشير إلى اختيار مذهب الخليل وسيبويه، وقال غير واحد: إنه الأظهر لقولهم في جمعها أشاوى فجمعوها كما جمعوا صحراء على صحارى، وأصله كما قال ابن الشجري أشايا بالياء لظهورها في أشياء لكنهم أبدلوها واوا على غير قياس كإبدالها واوا في قولهم جبيت الخراج جباوة، وأيضا يدل على أنها مفرد قولهم في تحقيرها أشيئاء كصحيراء ولو كانت جمعا لقالوا شياءات على ما تقدمت الإشارة، وتمام البحث في أمالي ابن الشجري إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ صفة لأشياء داعية إلى الانتهاء عن السؤال عنها، وعطف عليها قوله سبحانه: وَإِنْ تَسْئَلُوا   (1) قوله ويلزمه صرف أبناء إلخ كذا بخطه، ولعل الأصل ويلزمه منع صرف إلخ تأمل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ أي بالوحي كما ينبىء عنه تقييد السؤال بحين نزول القرآن لأن المساءة في الشرطية الأولى معلقة بإبداء تلك الأشياء لا بالسؤال عنها فعقبها جل شأنه بما هو ناطق باستلزام السؤال عنها لإبدائها الموجب للمحذور، فضمير عَنْها راجع إلى تلك الأشياء وليس على حد عندي درهم ونصفه كما وهم، والمراد بها ما لا خير لهم فيه من نحو التكاليف الصعبة التي لا يطيقونها والأسرار الخفية التي قد يفتضحون بها، فكما أن السؤال عن الأمور الواقعة مستتبع لإبدائها كذلك السؤال عن تلك التكاليف مستتبع لإيجابها عليهم بطريق التشديد لإساءتهم الأدب وتركهم ما هو الأولى بهم من الاستسلام لأمر الله تعالى من غير بحث فيه ولا تعرض لكيفيته وكميته ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال أيها الناس قد فرض الله تعالى عليكم الحج فحجوا» فقال رجل- وهو كما قال ابن الهمام الأقرع بن حابس، وصرح به أحمد والدارقطني والحاكم في حديث صحيح رووه على شرط الشيخين «أكل عام يا رسول الله فسكت عليه الصلاة والسلام حتى قالها ثلاثا فقال صلّى الله عليه وسلّم: لو قلت: نعم لو جبت ولما استطعتم ثم قال صلّى الله عليه وسلّم: ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» وذكر كما قال ابن حبان أن الآية نزلت لذلك. وأخرج مسلم وغيره أنهم سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أحفوه في المسألة فصعد ذات يوم المنبر وقال: «لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم فلما سمعوا ذلك أزموا ورهبوا أن يكون بين يدي أمر قد حضر قال أنس رضي الله تعالى عنه: فجعلت أنظر يمينا وشمالا فإذا كل رجل لاف رأسه في ثوبه يبكي فأنشأ رجل كان إذا لاحى يدعى إلى غير أبيه فقال: يا رسول الله من أبي؟ قال: أبوك حذافة، ثم أنشأ عمر رضي الله تعالى عنه فقال: رضينا بالله تعالى ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم نبيا نعوذ بالله تعالى من الفتن ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما رأيت في الخير والشر كاليوم قط إنه صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط» ، وذكر ابن شهاب أن أم ابن حذافة واسمه عبد الله قالت له لما رجع إليها: ما سمعت قط أعق منك آمنت أن تكون أمك قارفت بعض ما يقارف أهل الجاهلية فتفضحها على أعين الناس فقال ابن حذافة: لو ألحقني بعبد أسود للحقته. وأخرج غير واحد عن قتادة أن هذه الآية نزلت يومئذ. ووجه اتصالها بما قبلها على الرواية الأولى ظاهر جدا لما أن الكلام فيما يتعلق بالحج. وذكر الطبرسي في ذلك ثلاثة أوجه، الأول أنها متصلة بقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لأن من الفلاح ترك السؤال بما لا خير فيه، والثاني أنها متصلة بقوله سبحانه: ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ أي فإنه بلغ ما فيه المصلحة فلا تسألوه عما لا يعنيكم، والثالث أنها متصلة بقوله جل وعلا: وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ أي فلا تسألوا عن تلك الأشياء فتظهر سرائركم عَفَا اللَّهُ عَنْها أي عن المسألة المدلول عليها بلا تسألوا. والجملة استئناف مسوق لبيان أن نهيهم عنها لم يكن لمجرد صيانتهم عن المساءة بل لأنها في نفسها معصية مستتبعة للمؤاخذة وقد عفا سبحانه عنها، وفيه من حثهم على الجد، في الانتهاء عنها ما لا يخفى أي عفا الله تعالى عن مسألتكم السالفة حيث لم يفرض عليكم الحج في كل عام جزاء لمسألتكم أو المراد تجاوز عن عقوبتكم الأخروية بسبب ذلك فلا تعودوا لمثله، وقد يحمل العفو عنها على معنى شامل للتجاوز عن العقوبة الدنيوية والعقوبة الأخروية واختاره بعض المحققين، وجوز غير واحد كون الجملة صفة أخرى لأشياء والضمير المجرور عائد إليها وهو الرابط على معنى لا تسألوا عن أشياء لم يكلفكم الله تعالى بها. واعترض بأن هذا يقتضي أن يكون الحج قد فرض أولا ثم نسخ بطريق العفو وأن يكون ذلك معلوما للمخاطبين ضرورة أن حق الوصف أن يكون معلوم الثبوت للموصوف عند الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 المخاطب قبل جعله وصفا له وكلاهما ضروري الانتفاء قطعا على أنه يستدعي اختصاص النهي بمسألة الحج ونحوها مع أن النظم الكريم صريح في أنه مسوق للنهي عن السؤال عن الأشياء التي يسوءهم إبداؤها سواء كانت من قبيل الأحكام والتكاليف الموجبة لمساءتهم بإنشائها وإيجابها بسبب السؤال عقوبة وتشديدا كمسألة الحج لولا عفوه تعالى عنها أو من قبيل الأمور الواقعة قبل السؤال الموجبة للمساءة بالإخبار بها كما في سبب النزول على ما أخرج ابن جرير. وغيره عن أبي هريرة قال: «خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو غضبان محمار وجهه حتى جلس على المنبر فقام إليه رجل فقال: أين أبي؟ قال: في النار» ، وفسر بعضهم العفو عنها بالكف عن بيانها والتعرض لشأنها وحينئذ يوشك أن لا يتوجه هذا الاعتراض أصلا، وإلى التفسير الأول يشير كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقد أخرج مجاهد عنه أنه كان إذا سئل عن الشيء لم يجىء فيه أثر يقول: هو من العفو ثم يقرأ هذه الآية. والذي ذهب إليه شيخ الإسلام عليه الرحمة هو الاستئناف لا غير لما علمت، واستبعاد بعض الفضلاء ليس في محله. ثم قال: إن قلت تلك الأشياء غير موجبة للمساءة البتة بل هي محتملة لإيجاب المسرة أيضا لأن إيجابها للأولى وإن كان من حيث وجودها فهي من حيث عدمها موجبة للأخرى قطعا وليست إحدى الحيثيتين محققة عند السائل وإنما غرضه من السؤال ظهورها كيف كانت بل ظهورها بحيثية إيجابها للمسرة فلما عبر عنها بحيثية إيجابها للمساءة قلت: لتحقيق المنهي عنه كما ستعرفه مع ما فيه من تأكيد النهي وتشديده لأن تلك الحيثية من الموجبة للانتهاء لا الحيثية الثانية ولا حيثية التردد بين الإيجابين، فإن قيل: الشرطية الثانية ناطقة بأن السؤال عن تلك الأشياء الموجبة للمساءة مستلزم لإبدائها فلم تخلف الإبداء في مسألة الحج ولم يفرض كل عام؟ قلنا: لوقوع السؤال قبل النهي وما في الشرطية إنما هو السؤال الواقع بعده إذ هو الموجب للتغليظ والتشديد لا تخلف فيه. فإن قيل: ما ذكر إنما يتمشي فيما إذا كان السؤال عن الأمور المترددة بين الوقوع وعدمه كما ذكر في التكاليف الشاقة وأما إذا كان عن الأمور الواقعة قبله فلا يكاد يتسنى لأن ما يتعلق به الإبداء هو الذي وقع في نفس الأمر ولا مرد له سواء كان السؤال قبل أو بعد وقد يكون الواقع ما يوجب المسرة كما في مسألة ابن حذافة فيكون هو متعلق الإبداء لا غيره فيتعين التخلف حتما. قلنا: لا احتمال له فضلا عن تعينه فإن المنهي عنه في الحقيقة إنما هو السؤال عن الأشياء الموجبة للمساءة الواقعة في نفس الأمر قبل السؤال كسؤال من قال: أين أبي؟ لا ما يعمها وغيرها مما ليس بواقع لكنه محتمل الوقوع عند المكلفين حتى يلزم التخلف في صورة عدم الوقوع. وجملة الكلام أن مدلول النظم الكريم بطريق العبارة إنما هو النهي عن السؤال عن الأشياء التي يوجب إبداؤها المساءة البتة إما بأن تكون تلك الأشياء بعرضية الوقوع فتبدى عند السؤال بطريق الإنشاء عقوبة وتشديدا كما في صورة كونها من قبيل التكاليف الشاقة، وإما بأن تكون واقعة في نفس الأمر قبل السؤال فتبدى عنده بطريق الإخبار بها فالتخلف ممتنع في الصورتين معا، ومنشأ توهمه عدم الفرق بين المنهي عنه وغيره بناء على عدم امتياز ما هو موجود أو بعرضية الوجود من تلك الأشياء في نفس الأمر وما ليس كذلك عند المكلفين وملاحظتهم للكل باحتمال الوجود والعدم، وفائدة هذا الإبهام الانتهاء عن تلك الأشياء على الإطلاق حذار إبداء المكروه انتهى وهو تحرير لم يسبق إليه وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ أي مبالغ في مغفرة الذنوب والإغضاء عن المعاصي ولذلك عفا سبحانه عنكم ولم يعاقبكم بما فرط منكم، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما سبق من عفوه تعالى. قَدْ سَأَلَها أي المسألة فالضمير في موقع المصدر لا المفعول به، والمراد سأل مثلها في كونها محظورة ومستتبعة للوبال قَوْمٌ وعدم التصريح بالمثل للمبالغة في التحذير، وجوز أن يكون الضمير للأشياء على تقدير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 المضاف أيضا فالضمير في موقع المفعول به وذلك من باب الحذف والإيصال والمراد سأل عنها، وقيل: لا حاجة إلى جعله من ذلك الباب لأن السؤال هنا استعطاء وهو يتعدى بنفسه كقولك: سألته درهما بمعنى طلبته منه لا استخبار كما في صدر الآية، واختلف في تعيين القوم. فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه هم قوم عيسى عليه الصلاة والسلام سألوه إنزال المائدة ثم كفروا بها، وقيل: هم قوم صالح عليه السلام سألوه الناقة ثم عقروها وكفروا بها، وقيل: هم قوم موسى عليه السلام سألوه أن يريهم الله تعالى جهرة أو سألوه بيان البقرة. وعن مقاتل هم بنو إسرائيل مطلقا كانوا يسألون أنبياءهم عن أشياء فإذا أخبروهم كذبوهم. وعن السدي هم قريش سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يحول الصفا ذهبا، وقال الجبائي: كانوا يسألونه صلّى الله عليه وسلّم عن أنسابهم فإذا أخبرهم عليه الصلاة والسلام لم يصدقوا ويقولوا: ليس الأمر كذلك، ولا يخفى عليك الغث والسمين من هذه الأقوال وأن بعضها يؤيد حمل السؤال على الاستعطاء وبعضها يؤيد حمله على الاستخبار، والحمل على الاستخبار أولى، وإلى تعينه ذهب بعض العلماء مِنْ قَبْلِكُمْ متعلق بسألها، وجوز كونه متعلقا بمحذوف وقع صفة لقوم، واعترض بأن ظرف الزمان لا يكون صفة الجثة ولا حالا منها ولا خبرا عنها، وأجيب بأن التحقيق أن هذا مشروط بما إذا عدمت الفائدة أما إذا حصلت فيجوز كما إذا أشبهت الجثة المعنى في تجددها ووجودها وقتا دون وقت نحو الليلة الهلال بخلاف زيد يوم السبت وما نحن فيه مما فيه فائدة لأن القوم لا يعلم هل هم ممن مضى أم لا. وقال أبو حيان وهو تحقيق بديع غفلوا عنه: هذا المنع إنما هو في الزمان المجرد عن الوصف أما إذا تضمن وصفا فيجوز كقبل وبعد فإنهما وصفان في الأصل فإذا قلت: جاء زيد قبل عمرو فالمعنى جاء في زمان قبل زمان مجيئه أي متقدم عليه ولذا وقع صلة للموصول، ولو لم يلحظ فيه الوصف وكان ظرف زمان مجرد لم يجز أن يقع صلة ولا صفة. قال تعالى: وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: 21] ولا يجوز والذين اليوم وما نحن فيه من المتضمن لا المجرد وهو ظاهر، وما قيل من أنه ليس من المتنازع فيه في شيء لأن الواقع صفة هو الجار والمجرور لا الظرف نفسه ليس بشيء لأن دخول الجار عليه إذا كان من أو في لا يخرجه عن كونه في الحقيقة هو الصفة أو نحوها فليفهم ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها أي بسببها، وهو متعلق بقوله سبحانه وتعالى: كافِرِينَ قدم عليه رعاية للفواصل. وقرأ أبي «قد سألها قوم بينت لهم فأصبحوا بها كافرين» ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ هي فعيلة بمعنى مفعولة من البحر وهو الشق والتاء للنقل إلى الاسمية أو لحذف الموصوف، قال الزجاج: كان أهل الجاهلية إذا نتجت الناقة خمس أبطن آخرها ذكر بحروا أذنها وشقوها وامتنعوا من نحرها وركوبها ولا تطرد من ماء ولا تمنع عن مرعى وهي البحيرة، وعن قتادة أنها إذا نتجت خمسة أبطن نظر في الخامس فإن كان ذكرا ذبحوه وأكلوه وإن كان أنثى شقوا أذنها وتركوها ترعى ولا يستعملها أحد في حلب وركوب ونحو ذلك، وقيل: البحيرة هي الأنثى التي تكون خامس بطن وكانوا لا يحلون لحمها ولبنها للنساء فإن ماتت اشترك الرجال والنساء في أكلها، وعن محمد بن إسحاق. ومجاهد أنها بنت السائبة، وستأتي إن شاء الله تعالى قريبا وكانت تهمل أيضا. وقيل: هي التي ولدت خمسا أو سبعا، وقيل: عشرة أبطن وتترك هملا وإذا ماتت حل لحمها للرجال خاصة. وعن ابن المسيب أنها التي منع لبنها للطواغيت فلا تحلب، وقيل: هي التي ولدت خمس إناث فشقوا أذنها وتركوها هملا، وجعلها في القاموس على هذا القول من الشاء خاصة، وكما تسمى بالبحيرة تسمى بالغزيرة أيضا. وقيل: هي السقب الذي إذا ولد شقوا أذنه وقالوا: اللهم إن عاش فعبى وإن مات فذكى فإذا مات أكلوه، وقيل: هي التي تترك في المرعى بلا راع وَلا سائِبَةٍ هي فاعلة من سيبته أي تركته وأهملته فهو سائب وهي سائبة أو بمعنى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 مفعول كعيشة راضية. واختلف فيها فقيل هي الناقة تبطن عشرة أبطن إناث فتهمل ولا تركب ولا يجز وبرها ولا يشرب لبنها إلا ضيف ونسب إلى محمد بن إسحاق، وقيل: هي التي تسيب للأصنام فتعطى للسدنة ولا يطعم من لبنها إلا أبناء السبيل ونحوهم وروي ذلك عن ابن عباس. وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم، وقيل: هي البعير يدرك نتاج نتاجه فيترك ولا يركب، وقيل: كان الرجل إذا قدم من سفر بعيد أو نجت دابته من مشقة أو حرب قال: هي سائبة أو كان ينزع من ظهرها فقارة أو عظما وكانت لا تمنع عن ماء ولا كلأ ولا تركب، وقيل: هي ما ترك ليحج عليه، وقيل: هي العبد يعتق على أن لا يكون عليه ولاء ولا عقل ولا ميراث وَلا وَصِيلَةٍ هي فعيلة بمعنى فاعلة وقيل: مفعولة والأول أظهر كما ينبىء عن ذلك بيان المراد بها. واختلف فيه. فقال الفراء: هي الشاة تنتج سبعة أبطن عناقين عناقين وإذا لدت في آخرها عناقا وجديا قيل: وصلت أخاها فلا يشرب لبن الأم إلا الرجال دون النساء وتجري مجرى السائبة، وقال الزجاج: هي الشاة إذا ولدت ذكرا كان لآلهتهم وإذا ولدت أنثى كانت لهم وإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا: وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم. وقيل: هي الشاة تلد ذكرا ثم أنثى فتصل أخاها فلا يذبحون أخاها من أجلها وإذا ولدت ذكرا قالوا: هذا قربان لآلهتنا. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هي الشاة تنتج سبعة أبطن فإن كان السابع أنثى لم ينتفع النساء منها بشيء إلا أن تموت فتأكلها الرجال والنساء وكذا إن كان ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فتترك معه ولا ينتفع بها إلا الرجال دون النساء فإن ماتت اشتركوا فيها. وقال ابن قتيبة: إن كان السابع ذكرا ذبح وأكلوا منه دون النساء وقالوا: خالصة لذكورنا محرمة على أزواجنا وإن كانت أنثى تركت في الغنم وإن كان ذكرا وأنثى فكقول ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وقال محمد بن إسحاق: وهي الشاة تنتج عشر إناث متواليات في خمس أبطن فما ولدت بعده للذكور دون الإناث فإذا ولدت ذكرا وأنثى معا قالوا: وصلت أخاها فلم يذبحوها لمكانها، وقيل: هي الشاة تنتج خمسة أبطن أو ثلاثة فإن كان جديا ذبحوه وإن كان أنثى أبقوها وإن كان ذكرا وأنثى قالوا: وصلت أخاها، وقال بعضهم: الوصيلة من الإبل وهي الناقة تبكر فتلد أنثى ثم تثني بولادة أنثى أخرى ليس بينهما ذكر فيتركونها لآلهتهم ويقولون: قد وصلت أنثى بأنثى ليس بينهما ذكر. وقيل: هي الناقة التي وصلت بين عشرة أبطن لا ذكر بينها. وَلا حامٍ هو فاعل من الحمى بمعنى المنع. واختلف فيه أيضا فقال الفراء: هو الفحل إذا لقح ولد ولده فيقولون: قد حمى ظهره فيهمل ولا يطرد عن ماء ولا مرعى، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه. وابن مسعود وهو قول أبي عبيدة. والزجاج أنه الفحل يولد من ظهره عشرة أبطن فيقولون: حمى ظهره فلا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ومرعى. وعن الشافعي أنه الفحل يضرب في مال صاحبه عشر سنين، وقيل: هو الفحل ينتج له سبع أناث متواليات فيحمي ظهره، وجمع بين الأقوال المتقدمة في كل من تلك الأنواع بأن العرب كانت تختلف أفعالهم فيها. والمراد من هذه الجملة رد وإبطال لما ابتدعه أهل الجاهلية. ومعنى ما جَعَلَ ما شرع ولذلك عدى إلى مفعول واحد وهو بَحِيرَةٍ وما عطف عليها. ومِنْ سيف خطيب أتى بها لتأكيد النفي. وأنكر بعضهم مجيء جعل بمعنى شرع عن أحد من أهل اللغة وجعلها هنا للتصيير والمفعول الثاني محذوف أي ما جعل البحيرة ولا ولا مشروعة (1) وليس كما قال فإن الراغب نقل ذلك عن أهل اللغة وهو ثقة لا يفتري عليهم. وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ حيث يفعلون ما يفعلون ويقولون: الله سبحانه وتعالى أمرنا بهذا وأمامهم عمرو بن لحي فإنه في المشهور أول من فعل تلك الأفاعيل الشنيعة. أخرج ابن جرير وغيره عن أبي هريرة   (1) هكذا الأصل بتكرار ولا فتدبر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لأكثم بن الجون: يا أكثم عرضت على النار فرأيت فيها عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا به منك فقال: أكثم أخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا إنك مؤمن وهو كافر أنه أول من غير دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام وبحر البحيرة وسيب السائبة وحمى الحامي، وجاء في خبر آخر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه- ووصل الوصيلة-. وأخرج عبد الرزاق وغيره عن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إني لأعرف أول من سبب السوائب ونصب النصب وأول من غير دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال عليه الصلاة والسلام: عمرو بن لحي أخو بني كعب لقد رأيته يجر قصبه في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه وأني لأعرف أول من بحر البحائر قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال عليه الصلاة والسلام: رجل من بني مدلج كانت له ناقتان فجدع آذانهما وحرم ألبانهما وظهورهما وقال: هاتان لله ثم احتاج إليهما فشرب ألبانهما وركب ظهورهما فلقد رأيته في النار وهما تقضمانه بأفواههما وتطآنه بإخفافهما واستدل بالآية على تحريم هذه الأمور وهو ظاهر واستنبط منه تحريم جميع تعطيل المنافع. واستدل ابن الماجشون بها على منع أن يقول الرجل لعبده: أنت سائبة وقال: لا يعتق بذلك. وجعل بعض العلماء من صور السائبة إرسال الطير ونحوه، وصرح بعض علمائنا بأنه لا ثواب في ذلك ولعل الجاعل لا يكتفي بهذا القدر ويدعي الإثم فيه والناس عن ذلك غافلون وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ أن ذلك افتراء باطل فما تقدم فعل الرؤساء وهذا شأن الأتباع وهم المراد بالأكثر كما روي عن قتادة. والشعبي، وظاهر سياق النظم الكريم إنهم المقلدون لأسلافهم المفترين من معاصري رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهذا بيان لقصور عقولهم وعجزهم عن الاهتداء بأنفسهم. وقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أي للذين عبر عنهم بأكثرهم على سبيل الهداية والإرشاد إلى الحق: تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ من الكتاب المبين للحلال والحرام والإيمان به وَإِلَى الرَّسُولِ الذي أنزل عليه ذلك لتقفوا على حقيقة الحال وتميزوا الحرام من الحلال قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا في هذا الشأن فلا نلتفت لغيره بيان لعنادهم واستعصائهم على الهادي إلى الحق وانقيادهم للداعي إلى الضلال، وما موصولة اسمية، وجوز أن تكون نكرة موصوفة والوجدان المصادفة وعَلَيْهِ متعلق به أو حال من مفعوله، وجوز أن يكون بمعنى العلم و «عليه» عليه في موضع المفعول الثاني أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ ذهب الراغب إلى أن الواو للعطف، وصرح غير واحد أنه على شرطية أخرى مقدرة قبلها والهمزة للتعجيب وهي داخلة على مقدر في الحقيقة أي أيكفيهم ذلك لو لم يكن آباؤهم جهلة ضالين ولو كانوا كذلك وكلتا الجملتين في موقع الحال أي أيكفيهم ما وجدوا عليه آباءهم كائنين على كل حال مفروض، وعلى هذا لا يلزم كون الجملة الاستفهامية الإنشائية حالا ليحتاج توجيه ذلك إلى نظر دقيق، وحذفت الجملة الأولى للدلالة عليها دلالة واضحة وهو حذف مطرد في هذا الباب لذلك كما في قولك: أحسن إلى زيد ولو أساء إليك فإن الشيء إذا تحقق عند المانع فلأن يتحقق عند عدمه أولى. وجواب- لو- كما قال أبو البقاء- محذوف لظهور انفهامه مما سبق وقدره يتبعونهم. ويجوز أن يقدر حسبهم ذلك أو يقولون، وما في لو من معنى الامتناع والاستبعاد إنما هو بالنظر إلى زعمهم لا في نفس الأمر، وفائدة ذلك المبالغة في الإنكار والتعجيب، وقيل: الواو للحال والهمزة لإنكار الفعل على هذه الحال والمراد نفي صحة الاقتداء بالجاهل الضال، والحال ما يفهم من الجملة أي كائنين على هذا الحال المفروض فما قيل: إنهم جعلوا الواو للحال وليس ما دخلته الواو حالا من جهة المعنى بل ما دخلته لو أي ولو كان الحال أن آباءهم لا يعلمون فيفعلون ما يقتضيه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 علمهم ولا يهتدون بمن له علم ناشىء من قلة التأمل وذلك غريب من حال ذلك القائل، وأغرب من ذلك ما قيل: إن المعنى أنهم هل يكفيهم ما عليه آباؤهم ولو كان آباؤهم جهلة ضالين أي هل يكفيهم الجهل والضلال اللذان كان عليهما آباؤهم. ويوشك أن يكون هذا من الجهل والضلال فما يليق بالتنزيل. واستدل بالآية على أن الاقتداء إنما يصح بمن علم أنه عالم مهتد وذلك لا يعرف إلا بالحجة فلا يكفي التقليد من غير أن يعلم أن لمن قلده حجة صحيحة على ما قلده فيه حتى قالوا: إن للمقلد دليلا إجماليا وهو دليل من قلده فتدبر يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي ألزموا أنفسكم واحفظوها من ملابسة المعاصي والإصرار على الذنوب، فعليكم اسم فعل أمر نقل إلى ذلك مجموع الجار والمجرور لا الجار وحده كما قيل. وهو متعد إلى المفعول به بعده وقد يكون لازما، والمراد به الأمر بالتمسك كما في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «عليك بذات الدين» وذكر أبو البقاء أن الكاف والميم في موضع جر لأن اسم الفعل هو المجموع وعلى وحدها لم تستعمل اسما للفعل بخلاف رويدكم فإن الكاف والميم هناك للخطاب فقط ولا موضع لها لأن رويدا قد استعمل اسما لأمر المواجه من غير كاف الخطاب وإلى ذلك ذهب سيبويه وهو الصحيح، ونقل الطبرسي أن استعمال على من الضمير اسم فعل خاص فيما إذا كان الضمير للخطاب فلو قلت عليه زيدا لم يجز وفيه خلاف. وقرأ نافع في الشواذ أَنْفُسَكُمْ بالرفع، والكلام حينئذ مبتدأ وخبر أي لازمة عليكم أنفسكم أو حفظ أنفسكم لازم عليكم بتقدير مضاف في المبتدأ، وقوله تعالى: لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ يحتمل الرفع على أنه كلام مستأنف في موضع التعليل لما قبله وينصره قراءة أبي حيوة «لا يضيركم» ، ويحتمل أن يكون مجزوما جوابا للأمر، والمعنى إن لزمتم أنفسكم لا يضركم. وإنما ضمت الراء اتباعا لضمة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة والأصل لا يضرركم، ويجوز أن يكون نهيا مؤكدا للأمر السابق والكلام على حد لا أريتك هاهنا. وينصر احتمال الجزم قراءة من قرأ «لا يضركم» بالفتح «ولا يضركم» بكسر الضاد وضمها من ضاره يضيره ويضوره بمعنى ضره كذمه وذامه، وتوهم من ظاهر الآية الرخصة في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأجيب عن ذلك بوجوه. الأول أن الاهتداء لا يتم إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن ترك ذلك مع القدرة عليه ضلال. فقد أخرج ابن جرير عن قيس بن أبي حازم قاف: «صعد أبو بكر رضي الله تعالى عنه منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنكم لتتلون آية من كتاب الله سبحانه وتعدونها رخصة والله ما أنزل الله تعالى في كتابه أشد منها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ الآية والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليعمنكم الله تعالى منه بعقاب- وفي رواية- يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية وإنكم تضعونها على غير موضعها وإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقاب» . وفي رواية ابن مردويه عن أبي بكر بن محمد قال: خطب أبو بكر الصديق الناس فكان في خطبته «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا أيها الناس لا تتكلوا على هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ إلخ إن الداعر ليكون في الحي فلا يمنعونه فيعمهم الله تعالى بعقاب» . ومن الناس من فسر الاهتداء هنا بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وروي ذلك عن حذيفة وسعيد بن المسيب، والثاني أن الآية تسلية لمن يأمر وينهى ولا يقبل منه عند غلبة الفسق وبعد عهد الوحي، فقد أخرج عبد الرزاق وأبو الشيخ والطبراني وغيرهم عن الحسن أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه سأله رجل عن هذه الآية فقال: أيها الناس إنه ليس بزمانها ولكنه قد أوشك أن يأتي زمان تأمرون بالمعروف فيصنع بكم كذا وكذا أو قال: فلا يقبل منكم فحينئذ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 وأخرج ابن جرير عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قيل له: لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه فإن الله تعالى يقول: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ فقال: إنها ليست لي ولا لأصحابي لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا فليبلغ الشاهد الغائب» فكنا نحن الشهود وأنتم الغيب ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم. وأخرج ابن مردويه عن معاذ بن جبل أنه قال: يا رسول الله أخبرني عن قول الله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «يا معاذ مروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر فإذا رأيتم شحا مطاعا وهوى متبعا وإعجاب كل امرئ برأيه فعليكم أنفسكم لا يضركم ضلالة غيركم فإن من ورائكم أيام صبر المتمسك فيها بدينه مثل القابض على الجمر فللعامل منهم يومئذ مثل عمل أحدكم اليوم كأجر خمسين منكم قلت: يا رسول الله خمسين منهم قال: بل خمسين منكم أنتم» . والثالث أنها للمنع عن هلاك النفس حسرة وأسفا على ما فيه الكفرة والفسقة من الضلال فقد كان المؤمنون يتحسرون على الكفرة ويتمنون إيمانهم فنزلت. والرابع أنها للرخصة في ترك الأمر والنهي إذا كان فيهما مفسدة. والخامس أنها للأمر بالثبات على الإيمان من غير مبالاة بنسبة الآباء إلى السفه، فقد قيل: كان الرجل إذا أسلم قالوا له سفهت أباك فنزلت، وقيل: معنى الآية يا أيها الذين آمنوا الزموا أهل دينكم واحفظوهم وانصروهم لا يضركم من ضل من الكفار إذا فعلتم ذلك، والتعبير عن أهل الدين بالأنفس على حد قوله تعالى: لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: 29] ونحوه، والتعبير عن ذلك الفعل بالاهتداء للترغيب فيه ولا يخفى ما فيه إِلَى اللَّهِ لا إلى أحد سواه مَرْجِعُكُمْ رجوعكم يوم القيامة جَمِيعاً بحيث لا يتخلف عنه أحد من المهتدين وغيرهم فَيُنَبِّئُكُمْ بالثواب والعقاب بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا من أعمال الهداية والضلال، فالكلام وعد ووعيد للفريقين، وفيه كما قيل دليل على أن أحدا لا يؤاخذ بعمل غيره وكذا يدل على أنه لا يثاب بذلك، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا استئناف مسوق لبيان الأحكام المتعلقة بأمور دنياهم إثر بيان الأحوال المتعلقة بأمور دينهم، وفيه من إظهار كمال العناية بمضمونه ما لا يخفى شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ للشهادة معان الإحضار، والقضاء، والحكم، والحلف، والعلم، والإيصاء، والمراد بها هنا الأخير كما نص عليه جماعة من المفسرين، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك، وقرأها الجمهور بالرفع على أنها مبتدأ واثْنانِ خبرها، والكلام على حذف مضاف من الأول أي ذو شهادة بينكم اثنان أو من الثاني أي شهادة بينكم شهادة اثنين، والتزم ذلك ليتصادق المبتدأ والخبر، وقيل: الشهادة بمعنى الشهود كرجل عدل فلا حاجة إلى التزام الحذف، وقيل: الخبر محذوف واثْنانِ مرفوع بالمصدر الذي هو شَهادَةُ والتقدير فيما فرض عليكم أن يشهد اثنان وإلى هذا ذهب الزجاج والشهادة فيه على معناها المتبادر منها لا بمعنى الإشهاد، وكلام البعض يوهم ذلك وهو في الحقيقة بيان لحاصل معنى الكلام. وزعم بعضهم أنها بمعنى الإشهاد الذي هو مصدر المجهول واثْنانِ قائم مقام فاعله، وفيه أن الإتيان لمصدر الفعل المجهول بنائب فاعل وهو اسم ظاهر، وإن جوزه البصريون كما في شرح التسهيل للمرادي فقد منعه الكوفيون وقالوا: إنه هو الصحيح لأن حذف فاعل المصدر سائغ شائع فلا يحتاج إلى ما يسد مسد فاعله كفاعل الفعل الصريح. وإِذا ظرف لشهادة أي ليشهد وقت حضور الميت والمراد مشارفته وظهور أماراته، وحِينَ الْوَصِيَّةِ إما بدل من إِذا وفيه تنبيه على أن الوصية من المهمات المقررة التي لا ينبغي أن يتهاون بها المسلم ويذهل عنها. وجوز أن يتعلق بنفس الموت أي وقوع الموت أي أسبابه حين الوصية أو يحضر، وأن يكون شَهادَةُ مبتدأ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 خبره إذا حضر أي وقوع الشهادة في وقت حضور الموت وحِينَ الْوَصِيَّةِ على الأوجه السابقة، ولا يجوز فيه أن يكون ظرفا للشهادة لئلا يخبر عن الموصول قبل تمام صلته أو خبره حِينَ الْوَصِيَّةِ. وإِذا منصوب بالشهادة ولا يجوز نصبه بالوصية وإن كان المعنى عليه لأن معمول المصدر لا يتقدمه على الصحيح مع ما يلزم من تقديم معمول المضاف إليه على المضاف وهو لا يجوز في غير- غير- لأنها بمنزلة لا. واثْنانِ على هذين الوجهين إما فاعل يشهد مقدرا أو خبرا لشاهدان كذلك. وعن الفراء أن شَهادَةُ مبتدأ واثْنانِ فاعله سد مسد الخبر وجعل المصدر بمعنى الأمر أي ليشهد، وفيه نيابة المصدر عن فعل الطلب وهو ضعيف عند غيره لأن الاكتفاء بالفاعل مخصوص بالوصف المعتمد. وإِذا وحِينَ عليه منصوبان على الظرفية كما مر، وإضافة شَهادَةُ إلى الظرف على التوسع لأنه متصرف ولذا قرىء تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الأنعام: 94] بالرفع، وقيل: إن الأصل ما بينكم وهو كناية عن التخاصم والتنازع، وحذف «ما» جائز نحو وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ [الإنسان: 20] أي ما ثم، وأورد عليه أن ما الموصولة لا يجوز حذفها ومنهم من جوزه. وقرأ الشعبي «شهادة بينكم» بالرفع والتنوين فبينكم حينئذ منصوب على الظرفية. وقرأ الحسن «شهادة» بالنصب والتنوين، وخرج ذلك ابن جني على أنها منصوبة بفعل مضمر اثْنانِ فاعله أي ليقم شهادة بينكم اثنان. وأورد عليه أن حذف الفعل وإبقاء فاعله لم يجزه النحاة إلا إذا تقدم ما يشعر به كقوله تعالى: يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ [النور: 36] في قراءة من قرأ «يسبّح» بالبناء للمفعول، وقول الشاعر: ليبك يزيد ضارع لخصومة. أو أجيب به نفي أو استفهام وذلك ظاهر، والآية ليست واحدا من هذه الثلاثة. وأجيب بأن ما ذكر من الاشتراط غير مسلم بل هو شرط الأكثرية، واختار في البحر وجهين للتخريج، الأول أن تكون شَهادَةُ منصوبة على المصدر النائب مناب فعل الأمر واثْنانِ مرتفع به، والتقدير ليشهد بينكم اثنان فيكون من باب ضربا زيدا إلا أن الفاعل في ضربا يستند إلى ضمير المخاطب لأن معناه اضرب، وهذا يستند إلى الظاهر لأن معناه ما علمت، والثاني أن تكون مصدرا لا بمعنى الأمر بل خبرا ناب مناب الفعل في الخبر وإن كان ذلك قليلا كقوله: وقوفا بها صحبي على مطيهم. فارتفاع صحبي وانتصاب مطيهم بقوله وقوفا فإنه بدل من اللفظ بالفعل في الخبر، والتقدير وقف صحبي على مطيهم والتقدير في الآية يشهد إذا حضر أحدكم الموت اثنان ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أي من المسلمين كما روي عن ابن عباس وابن مسعود والباقر رضي الله تعالى عنهم وابن المسيب عليه الرحمة أو من أقاربكم وقبيلتكم كما روي عن الحسن وعكرمة، وهو الذي يقتضيه كلام الزهري وهما صفتان لاثنان أَوْ آخَرانِ عطف على اثْنانِ في سائر احتمالاته. وقوله سبحانه: مِنْ غَيْرِكُمْ صفة له أي كائنان من غيركم، والمراد بهم غير المسلمين من أهل الكتاب عند الأولين وغير الأقربين من الأجانب عند الآخرين. واختار الأول جماعة من المتأخرين حتى قال الجصاص: إن التفسير الثاني لا وجه له لأن الخطاب توجه أولا إلى أهل الإيمان فالمغايرة تعتبر فيه ولم يجر للقرابة ذكر، ويدل لذلك أيضا سبب النزول وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ أي سافرتم، وارتفاع أَنْتُمْ بفعل مضمر ويفسره ما بعده، والتقدير إن ضربتم فلما حذف الفعل وجب أن يفصل الضمير ليقوم بنفسه، وهذا رأي جمهور البصريين، وذهب الأخفش والكوفيون إلى أنه مبتدأ بناء على جواز وقوع المبتدأ بعد إن الشرطية كجواز وقوعه بعد إذا فجملة ضَرَبْتُمْ لا موضع لها على الأول للتفسير وموضعها الرفع على الخبرية على الثاني. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 وقوله تعالى: فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ أي قاربتم الأجل عطف على الشرط وجوابه محذوف، فإن كان الشرط قيدا في أصل الشهادة فالتقدير إن ضربتم في الأرض إلخ فليشهد اثنان منكم أو من غيركم، وإن كان شرطا في العدول إلى آخرين بالمعنى الذي نقل عن الأولين فالتقدير فاشهدوا آخرين من غيركم أو فالشاهدان آخران من غيركم، وحينئذ تفيد الآية أنه لا يعدل في الشهادة إلى غير المسلمين إلا بشرط الضرب في الأرض، وروي ذلك عن شريح رضي الله تعالى عنه. وقوله سبحانه: تَحْبِسُونَهُما أي تلزمونهما وتصبرونهما استئناف كأنه قيل كيف نعمل إذا ارتبنا بالشاهدين فقال سبحانه: تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ أي صلاة العصر كما روي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه، وقتادة، وابن جبير وغيرهم، والتقييد بذلك لأنه وقت اجتماع الناس وتكاثرهم ولأن جميع أهل الأديان يعظمونه ويجتنبون الحلف الكاذب فيه ولأنه وقت تصادم ملائكة الليل والنهار وتلاقيهم، وفي ذلك تكثير للشهود منهم على صدق الحالف وكذبه فيكون أخوف، وعد ذلك بعضهم من باب التغليظ على المستحلف بالزمان. وعندنا لا يلزم التغليظ به ولا بالمكان بل يجوز للحاكم فعله. وعن الحسن أن المراد بها صلاة العصر أو الظهر لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما، وجوز أن تكون اللام للجنس أي بعد أي صلاة كانت. والتقييد بذلك لأن الصلاة داعية إلى النطق بالصدق ناهية عن التفوه بالكذب والزور وارتكاب الفحشاء والمنكر. وجعل الحسن التقييد بذلك دليلا على ما تقدم من تفسيره. وجوز أن تكون الجملة صفة أخرى لآخران وجملة الشرط معترضة فلا يضر الفصل بها. وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وتعقب بأنه يقتضي اختصاص الحبس بالآخرين مع شموله للأولين أيضا قطعا على أن اعتبار اتصافهما بذلك يأباه مقام الأمر بإشهادهما إذ مآله فآخران شأنهما الحبس والتحليف وإن أمكن إتمام التقريب باعتبار قيد الارتياب بهما كما يفيده الاعتراض الآتي. ولا يخفى ما فيه. والخطاب للموصى لهم. وقيل: للورثة. وقيل: للحكام والقضاة. وقوله عز وجل: فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ عطف على تَحْبِسُونَهُما إِنِ ارْتَبْتُمْ أي شككتم في صدقهما وعدم استبدادهما بشيء من التركة. والجملة شرطية حذف جوابها لدلالة ما سبق من الحبس والاقسام عليه، والشرط مع جوابه المحذوف معترض بين القسم وجوابه أعني قوله تعالى: لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وقد سيق من جهته تعالى للتنبيه على اختصاص الحبس والتحليف بحال الارتياب وليس هذا من قبيل ما اجتمع فيه قسم وشرط فاكتفى بذكر جواب سابقهما عن جواب الآخر كما هو الواقع غالبا لأن ذلك إنما يكون عند سد جواب السابق مسد جواب اللاحق لاتحاد مضمونهما كما في قولك: والله إن أتيتني لأكرمنك، ولا ريب في استحالته هاهنا لأن القسم وجوابه كلام الشاهدين والشرطية كما علمت من جهته سبحانه وتعالى، ولا يتوهم أن إن هنا وصلية لأنها مع أن الواو لازمة لها ليس المعنى عليها كما لا يخفى. وزعم بعضهم جواز كونها شرطية ولا نَشْتَرِي دليل الجواب، والمعنى إن ارتبتم فلا ينبغي ذلك أو فقد أخطأتم لأنا لسنا ممن يشتري به ثمنا قليلا وهو بعيد جدا وتخلو الآية عليه ظاهرا من شرط التحليف، وضمير بِهِ عائد إلى الله تعالى، والمعنى لا نأخذ لأنفسنا بدلا من الله سبحانه أي من حرمته تعالى عرضا من الدنيا بأن نزيلها بالحلف الكاذب وحاصله لا نحلف بالله تعالى حلفا كاذبا لأجل المال، وقيل: إنه عائد إلى القسم على تقدير مضاف أي لا نستبدل بصحة القسم بالله تعالى عرضا من الدنيا بأن نزيل عنه وصف الصدق ونصفه بالكذب، وقيل: إلى الشهادة باعتبار أنها قول ولا بد من تقدير مضاف أيضا، وتقدير مضاف في ثَمَناً أي ذا ثمن مما لم يدع إليه إلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 قلة التأمل وَلَوْ كانَ المقسم له المدلول عليه بفحوى الكلام ذا قُرْبى أي قريبا منا. وهذا تأكيد لتبريهما من الحلف الكاذب ومبالغة في التنزه عنه كأنهما قالا: لا نأخذ لأنفسنا بدلا من ذلك مالا ولو انضم إليه رعاية جانب الأقرباء فكيف إذا لم يكن كذلك، وصيانة أنفسهما وإن كانت أهم من رعاية جانب الأقرباء لكنها- كما قال شيخ الإسلام- ليست ضميمة المال بل هي راجعة إليه، وقيل: الضمير للمشهود له على معنى لا نحابي أحدا بشهادتنا ولو كان قريبا منا، وجواب لو محذوف اعتمادا على ما سبق عليه أي لا نشتري به ثمنا، والجملة معطوفة على جملة أخرى محذوفة أي لو لم يكن ذا قربى ولو كان إلخ، وجعل السمين الواو للحال، وقد تقدم لك ما ينفعك هنا. وجوز بعضهم إرجاع الضمير للشاهد وقدر جوابا للو غير ما قدرنا أي ولو كان الشاهد قريبا يقسمان، وجعل فائدة ذلك دفع توهم اختصاص الاقسام بالأجنبي، ولا يخفى ما في التركيب حينئذ من الركاكة التي لا ينبغي أن تكون في كلام هذا البعض فضلا عن كلام رب الكل، ونشهد بالله سبحانه وتعالى أن حمل كلامه عز وجل على مثل ذلك مما لا يليق وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ أي الشهادة التي أمرنا سبحانه وتعالى بإقامتها وألزمنا أداءها فالإضافة للاختصاص أو لأدنى ملابسة، والجملة معطوفة على لا نَشْتَرِي بِهِ داخل معه في حيز القسم. وروي عن الشعبي أنه وقف على «شهادة» بالهاء ثم ابتدأ آلله بالمد والجر على حذف حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه وليس هذا من حذف حرف الجر وإبقاء عمله وهو شاذ كقوله: أشارت كليب بالأكف الأصابع. لأن ذلك حيث لا تعويض، وفي الجلالة الكريمة تعويض همزة الاستفهام عن المحذوف، وهل الجر به أو بالعوض قولان. وروي عنه وكذا عن الحسن رضي الله تعالى عنه ويحيى بن عمر، وابن جرير، وآخرين «الله» بدون مد. وفي ذلك احتمالان. الأول أن الحذف من غير عوض فيكون على خلاف القياس، الثاني أن الهمزة المذكورة همزة الاستفهام وهي همزة قطع عوضت عن الحرف ولكنها لم تمد وهذا أولى من دعوى الشذوذ. ولذا اختاره في الدر المصون، وقرىء بتنوين الشهادة ووصل الهمزة ونصب اسم الله تعالى من غير مد. وخرجه أبو البقاء على أنه منصوب بفعل القسم محذوفا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ أي إذا فعلنا ذلك وكتمنا، والعدول عن آثمون إلى ما ذكر للمبالغة. وقرىء «لملاثمين» بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وإدغام النون فيها فَإِنْ عُثِرَ أي اطلع يقال عثر الرجل على الشيء عثورا إذا اطلع عليه. وقال الغوري: تقول عثرت إذا اطلعت على ما كان خفيا وهو مجاز بحسب الأصل من قولهم: عثر إذا كبا. وذلك أن العاثر ينظر إلى موضع عثاره فيعرفه ويطلع عليه، وقال الليث: إن مصدر عثر بمعنى اطلع العثور وبمعنى كبا العثار وحينئذ يخفى القول بالمجاز لأن اختلاف المصدر ينافيه فلا تتأتى تلك الدعوى إلا على ما قاله الراغب من اتحاد المصدرين، وفي القاموس عثر كضرب، ونصر، وعلم وكرم عثر أو عثير أو عثارا كبا. والعثور الاطلاع كالعثر. وظاهر هذا أن لا مجاز. ويفهم منه أيضا الاتحاد في بعض المصادر فافهم، والمراد فإن عثر بعد التحليف عَلى أَنَّهُمَا أي الشاهدين الحالفين اسْتَحَقَّا إِثْماً أي فعلا ما يوجبه من تحريف وكتم بأن ظهر بأيديهما شيء من التركة وادعيا استحقاقهما له بوجه من الوجوه، وقال الجبائي: الكلام على حذف مضاف أي استحقا عقوبة إثم فَآخَرانِ أي فرجلان آخران. وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: يَقُومانِ مَقامَهُما والفاء جزائية وهي إحدى مصوغات الابتداء بالنكرة. ولا محذور في الفصل بالخبر بين المبتدأ وصفته وهو قوله سبحانه: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ، وقيل: هو خبر مبتدأ محذوف أي فالشاهدان آخران، وجملة يَقُومانِ صفته والجار والمجرور صفة أخرى وجوز أبو البقاء أن يكون حالا من ضمير يَقُومانِ، وقيل: هو فاعل فعل محذوف أي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 فليشهد آخران وما بعده صفة له، وقيل: مبتدأ خبره الجار والمجرور، والجملة الفعلية صفته وضمير مَقامَهُما في جميع هذه الأوجه مستحق للذين استحقا. وليس المراد بمقامهما مقام أداء الشهادة التي تولياها ولم يؤدياها كما هي بل هو مقام الحبس. والتحليف واسْتَحَقَّ بالبناء للفاعل على قراءة عاصم في رواية حفص عنه وبها قرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وأبي رضي الله تعالى عنهم وفاعله الْأَوْلَيانِ، والمراد من الموصول أهل الميت ومن الأوليين الأقربان إليه الوارثان له الأحقان بالشهادة لقربهما واطلاعهما وهما في الحقيقة الآخران القائمان مقام اللذين استحقا إثما إلا أنه أقيم المظهر مقام ضميرهما للتنبيه على وصفهما بهذا الوصف. ومفعول اسْتَحَقَّ محذوف واختلفوا في تقديره فقدره الزمخشري أن يجردوهما للقيام بالشهادة ليظهروا بهما كذب الكاذبين، وقدره أبو البقاء وصيتهما، وقدره ابن عطية ما لهم وتركتهم. وقال الإمام: إن المراد بالأوليان الوصيان اللذان ظهرت خيانتهما. وسبب أولويتهما أن الميت عينهما للوصية فمعنى اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ خان في مالهم وجنى عليهم الوصيان اللذان عثر على خيانتهما. وعلى هذا لا ضرورة إلى القول بحذف المفعول، وقرأ الجمهور «استحقّ عليهم الأوليان» ببناء استحق للمفعول. واختلفوا في مرجع ضميره والأكثرون أنه الإثم، والمراد من الموصول الورثة لأن استحقاق الإثم عليهم كناية عن الجناية عليهم ولا شك أن الذين جنى عليهم وارتكب الذنب بالقياس إليهم هم الورثة، وقيل: إنه الإيصاء، وقيل: الوصية لتأويلها بما ذكر، وقيل: المال، وقيل: إن الفعل مسند إلى الجار والمجرور. وكذا اختلفوا في توجيه رفع الْأَوْلَيانِ فقيل: إنه مبتدأ خبره آخران أي الأوليان بأمر الميت آخران، وقيل: بالعكس، واعترض بأن فيه الإخبار عن النكرة بالمعرفة وهو مما اتفق على منعه في مثله، وقيل: خبر مبتدأ مقدر أي هما الآخران على الاستئناف البياني، وقيل: بدل من آخران، وقيل. عطف بيان عليه، ويلزمه عدم اتفاق البيان والمبين في التعريف والتنكير مع أنهم شرطوه فيه حتى من جوز تنكيره، نعم نقل عن نزر عدم الاشتراط، وقيل: هو بدل من فاعل يَقُومانِ. وكون المبدل منه في حكم الطرح ليس من كل الوجوه حتى يلزم خلو تلك الجملة الواقعة خبرا أو صفة عن الضمير، على أنه لو طرح وقام هذا مقامه كان من وضع الظاهر موضع الضمير فيكون رابطا. وقيل: هو صفة آخران، وفيه وصف النكرة بالمعرفة. والأخفش أجازه هنا لأن النكرة بالوصف قربت من المعرفة قيل وهذا على عكس: ولقد أمر على اللئيم يسبني فإنه يؤول فيه المعرفة بالنكرة وهذا أول فيه النكرة بالمعرفة أو جعلت في حكمها للوصف، ويمكن- كما قال بعض المحققين- أن يكون منه بأن يجعل الأوليان لعدم تعينهما كالنكرة. وعن أبي علي الفارسي أنه نائب فاعل اسْتَحَقَّ والمراد على هذا استحق عليهم انتداب الأولين منهم للشهادة كما قال الزمخشري أو إثم الأولين كما قيل. وهو تثنية الأولى قلبت ألفه ياء عندها، وفي- على- في عَلَيْهِمُ أوجه الأول أنها على بابها. والثاني أنها بمعنى في. والثالث أنها بمعنى من. وفسر اسْتَحَقَّ بطلب الحق وبحق وغلب. وقرأ يعقوب، وخلفت، وحمزة، وعاصم في رواية أبي بكر عنه «استحقّ عليهم الأولين» ببناء استحق للمفعول، والأولين جمع أول المقابل للآخر وهو مجرور على أنه صفة الَّذِينَ أو بدل منه أو من ضمير عَلَيْهِمُ أو منصوب على المدح، ومعنى الأولية التقدم على الأجانب في الشهادة. وقيل: التقدم في الذكر لدخولهم في يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 وقرأ الحسن «الأولان» بالرفع وهو كما قدمنا في الأوليان وقرىء «الأولين» بالتثنية والنصب، وقرأ ابن سيرين «الأوليين» بباءين تثنية أولى منصوبا، وقرىء «الأولين» بسكون الواو وفتح اللام جمع أولى كأعلين وإعراب ذلك ظاهر. فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ عطف على يَقُومانِ والسببية ظاهرة. وقوله سبحانه لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما جواب القسم. والمراد بالشهادة عند الكثير ومنهم ابن عباس رضي الله تعالى عنهما اليمين كما في قوله عز وجل فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ [النور: 6] وسميت اليمين شهادة على ما قال الطبرسي لأن اليمين كالشهادة على ما يحلف عليه أنه كذلك أي ليميننا على أنهما كاذبان فيما ادعيا من الاستحقاق مع كونها حقة صادقة في نفسها أولى بالقبول من يمينها مع كونها كاذبة في نفسها لما أنه قد ظهر للناس استحقاقهما للإثم ويميننا منزهة عن الريب والريبة وصيغة التفضيل إنما هي لإمكان قبول يمينهما في الجملة باعتبار صدقهما في ادعاء تملكهما لما ظهر في أيديهما، وقيل: إن الشهادة على معناها المتبادر عند الإطلاق، وسيأتي إن شاء الله تعالى عن بعض المحققين غير ذلك. وقوله عز شأنه وَمَا اعْتَدَيْنا عطف على الجواب أي ما تجاوزنا في شهادتنا الحق وما اعتدينا عليهما بإبطال حقهما. وقوله تعالى: إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ استئناف مقرر لما قبله أي أنا إذا اعتدينا فيما ذكر لمن الظالمين أنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وعذابه أو لمن الواضعين الحق في غير موضعه، ومعنى الآيتين عند غير واحد من المفسرين أن المحتضر إذا أراد الوصية ينبغي أن يشهد عدلين من ذوي دينه أو نسبه فإن لم يجدهما بأن كان في سفر فآخران من غيرهم، ثم إن وقع ارتياب في صدقهما أقسما على صدق ما يقولان بالتغليظ في الوقت فإن اطلع على كذبهما بأمارة حلف آخران من أهل الميت. وادعى أن الحكم منسوخ إذا كان الاثنان شاهدين فإنه لا يحلف الشاهد ولا يعارض يمينه بيمين الوارث، وقيل: إن التحليف لم ينسخ لكنه مشروط بالريبة. وقد روي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان يحلف الشاهد والراوي إذا اتهمهما، وفي بعض كتب الحنفية أن الشاهد إن لم يجد من يزكيه يجوز تحليفه احتياطا وهذا خلاف المفتى به كما بسط في محله. وكذا ادعى البعض النسخ أيضا على تقدير أن يكون المراد بالشاهدين في السفر غير مسلمين لأن شهادة الكافر على المسلم لا تقبل مطلقا، وروى حديث النسخ ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقال بعضهم: لا نسخ وأجاز شهادة الذمي على المسلم في هذه الصورة. وروي عن أبي موسى الأشعري أنه حكم لما كان واليا على الكوفة بمحضر من الصحابة بشهادة ذميين بعد تحليفهما في وصية مسلم في السفر وإلى ذلك ذهب الإمام أحمد بن حنبل، وقال آخرون: الاثنان وصيان وحكم تحليفهما إذا ارتاب الورثة غير منسوخ، وما أفادته الآية من رد اليمين على الورثة ليس من حيث إنهم مدعون وقد ظهرت خيانة الوصيين فردت اليمين عليهما خلافا للشافعي بل من حيث إنهم صاروا مدعى عليهم لانقلاب الدعوى فإن الوصي المدعى عليه أولا صار مدعيا للملك والورثة ينكرون ذلك، ويدل عليه ما أخرجه البخاري في التاريخ، والترمذي وحسنه، وابن جرير، وابن المنذر، وخلق آخرون عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري، وعدي بن بداء، وقيل: نداء بالنون فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم فلما قدما بتركته فقدوا جاما من فضة مخوصا بالذهب فأحلفهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالله تعالى ما كتمتما ولا اطلعتما ثم وجدا لجام بمكة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 فقيل اشتريناه من تميم وعدي فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله سبحانه لشهادتهما أحق من شهادتهما وأن الجام لصاحبهم وأخذ الجام وفيهم نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ، هذا وادعى بعض المحققين أن الشهادة هاهنا لا يمكن أن تكون بمعناها المتبادر بوجه ولا تتصور لأن شهادتهما إما على الميت ولا وجه لها بعد موته وانتقال الحق إلى الورثة وحضورهم أو على الوارث المخاصم وكيف يشهد الخصم على خصمه فلا بد من التأويل، وذكر أن الظاهر أن تحمل في قوله سبحانه شَهادَةُ بَيْنِكُمْ على الحضور أو الإحضار أي إذا حضر الموت المسافر فليحضر من يوصي إليه بإيصال ماله لوارثه مسلما فإن لم يجد فكافرا، والاحتياط أن يكونا اثنين فإذا جاءا بما عندهما وحصل ريبة في كتم بعضه فليحلفا لأنهما مودعان مصدقان بيمينهما فإن وجد ما خانا فيه وادعيا أنهما تملكاه منه بشراء ونحوه ولا بينة لهما على ذلك يحلف المدعى عليه على عدم العلم بما ادعياه من التملك وأنه ملك لمورثهما لا نعلم انتقاله عن ملكه، والشهادة الثانية بمعنى العلم المشاهد أو ما هو بمنزلته لأن الشهادة المعاينة فالتجوز بها عن العلم صحيح قريب، والشهادة الثالثة إما بهذا المعنى أو بمعنى اليمين، وعلى هذا وهو مما أفاضه الله تعالى علي ببركة كلامه سبحانه فلا نسخ في الآية ولا إشكال، وما ذكروه كله تكلف لم يصف من الكدر لذوق ذائق، وسبب النزول وفعل الرسول صلّى الله عليه وسلّم مبين لما ذكر انتهى. ولعل تخصيص الاثنين اللذين يحلفان بأحقية شهادتهما على ما قبل لخصوص الواقعة وإلا فإن كان الوارث واحدا حلف وإن تعدد حلف المتعدد كما بين في الكتب الفقهية، وما ذكر من أن سبب النزول إلخ مبين لما قرره فيه بعض خفاء إذ ليس في الخبر أن الوارثين حلفا على عدم العلم، وفي غيره ما هو نص في الحلف على الثبات، فقد روي في خبر أطول مما تقدم أن عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة السهميين قاما فحلفا بالله سبحانه بعد العصر أنهما أي تميما وعديا كذبا وخانا، نعم قال الترمذي في الجامع بعد روايته لذلك الخبر: إنه حديث غريب. وليس إسناده بصحيح، وأيضا في حمل الشهادة على شيء مما ذكره في قوله سبحانه وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ خفاء، وادعى هو نفسه أن حمل الشهادة على اليمين بعيد لأنها إذا أطلقت فهي المتعارفة فتأمل، فقد قال الزجاج: إن هذه الآية من أشكل ما في القرآن، وقال الواحدي: روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام، وقال الإمام: اتفق المفسرون على أن هذه الآية في غاية الصعوبة إعرابا ونظما وحكما. وقال المحقق التفتازاني: اتفقوا على أن هذه الآية أصعب ما في القرآن حكما وإعرابا ونظما. وقال الشهاب: اعلم أنهم قالوا: ليس في القرآن أعظم إشكالا وحكما وإعرابا وتفسيرا من هذه الآية والتي بعدها يعني يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ وقوله تعالى فَإِنْ عُثِرَ إلخ حتى صنفوا فيها تصانيف مفردة قالوا: ومع ذلك لم يخرج أحد من عهدتها. وذكر الطبرسي أن الآيتين من أعوص القرآن حكما ومعنى وإعرابا وافتخر بما أتى فيهما ولم يأت بشيء إلى غير ذلك من أقوالهم وسبحان الخبير بحقائق كلامه ذلِكَ كلام مستأنف سيق لبيان أن ما ذكر مستتبع للمنافع وارد على مقتضى الحكمة والإشارة إلى الحكم السابق تفصيله، وقيل: إلى تحليف الشاهدين، وقيل: إلى الحبس بعد الصلاة أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أي أقرب إلى أن يؤدي الشهود الشهادة على حقيقتها من غير تغيير لها خوفا من العذاب الأخروي، وهذه حكمة التحليف الذي تقدم أولا، والجار الأول متعلق بيأتوا والثاني بمحذوف وقع حالا من الشهادة، وقوله تعالى: أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ أي إلى الورثة فيحلفوا بَعْدَ أَيْمانِهِمْ التي حلفوها عطف على مقدر ينبىء عنه المقام كأنه قيل: ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة محققة ويخافوا عذاب الآخرة بسبب اليمين الكاذبة المحرمة في سائر الأديان أو يخافوا أن ترد الايمان إلى الورثة فيحلفوا ويأخذوا ما في أيديهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 فيخجلوا من ذلك على رؤوس الاشهاد فينزجروا عن الخيانة، وهو بيان لحكمة شرعية قيام الآخرين فأي هذين الخوفين وقع حصل المقصد الذي هو الإتيان بالشهادة على وجهها، وقيل: إنه عطف على يَأْتُوا أي ذلك الحكم الذي ذكرناه أقرب أن يأتوا بالشهادة على وجهها مما كنتم تفعلونه وأقرب إلى خوف الفضيحة، وجعل الشهاب هذا العطف على حد قوله: علفتها تبنا وماء باردا. وجوز السمين كون أو بمعنى الواو كما جوز جعلها لأحد الشيئين على ما هو الأصل فيها فتدبر وجمع ضمير «يأتوا ويخافوا» على ما قيل لأن المراد ما يعم الشاهدين المذكورين وغيرهما من بقية الناس، والظرف بعد متعلق بترد كما هو الظاهر. وجوز السمين- وهو ضعيف- أن يكون متعلقا بمحذوف وقع صفة لأيمان. وَاتَّقُوا اللَّهَ في مخالفة أحكامه التي من جملتها ما ذكر، والجملة على ما قيل عطف على مقدر أي احفظوا أحكام الله سبحانه واتقوا وَاسْمَعُوا سمع إجابة وقبول جميع ما تؤمرون به وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ تذييل لما تقدم، والمراد فإن لم تتقوا وتسمعوا كنتم فاسقين خارجين عن الطاعة والله تعالى لا يهدي القوم الخارجين عن طاعته إلى ما ينفعهم أو إلى طريق الجنة، وقوله سبحانه: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ قيل ظرف لقوله عز وجل: لا يَهْدِي، ونظر فيه الحلبي من حيث إنه سبحانه لا يهديهم مطلقا لا في ذلك اليوم ولا في الدنيا وهذا احتمال ذكره الزمخشري، ونقل عن المغربي أيضا وهو ظاهر على تقدير أن يكون المراد لا يهديهم إلى طريق الجنة، وفيه مراعاة لمذهب الاعتزال من أن نفي الهداية المطلقة لا يجوز على الله جل وعلا ولذلك خصص المهدى إليه، وقيل: إنه بدل من مفعول وَاتَّقُوا فهو حينئذ مفعول لا ظرف. وتعقبه أبو حيان بأن فيه بعدا لطول الفصل بالجملتين، وقال الحلبي: لا بعد فإن هاتين الجملتين من تمام معنى الجملة الأولى وهو عند القائلين بالبدلية بدل اشتمال. وتعقب ذلك العلم العراقي بأن الإنصاف أن بدل الاشتمال هاهنا ممتنع لأنه لا بد فيه من اشتمال البدل على المبدل منه أو بالعكس وهنا يستحيل ذلك ولهذا قال الحلبي: لا بد في هذا الوجه من تقدير مضاف ليصح، والمراد اتقوا عقاب الله يوم وحينئذ يصح انتصاب اليوم على الظرفية، وقال المحقق التفتازاني: وجه بدل الاشتمال ما بينهما من الملابسة بغير الكلية والبعضية بطريق اشتمال المبدل منه على البدل لا كاشتمال الظرف على المظروف بل بمعنى أن ينتقل الذهن إليه في الجملة ويقتضيه بوجه إجمالي مثلا إذا قيل اتقوا الله يتبادر الذهن منه إلى أنه من أي أمر من أموره وأي يوم من أيام أفعاله يجب الاتقاء أيوم جمعه سبحانه للرسل أم غير ذلك، واعترض بأنه اشترط في ذلك أن لا يكون ظرفية وهذا ظرف زمان لو أبدل منه لأوهم ذلك، وقيل: إنه منصوب بمضمر معطوف على «اتقوا» إلخ أي واحذروا أو واذكروا يوم إلخ فإن تذكير ذلك اليوم الهائل مما يضطرهم إلى تقوى الله تعالى وتلقي أمره بسمع الإجابة، وقيل: منصوب بقوله سبحانه وَاسْمَعُوا بحذف مضاف أي واسمعوا خبر ذلك اليوم. وقيل: منصوب بفعل مؤخر قد حذف للدلالة على ضيق العبارة عن شرحه وبيانه لكمال فظاعة ما يقع فيه كأنه قيل: يوم يجمع الله الرسل إلخ يكون من الأحوال والأهوال ما لا يفي ببيانه نطاق المقال، وتخصيص الرسل بالذكر مع أن ذلك يوم مجموع له الناس لإبانة شرفهم وأصالتهم والإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بجمع غيرهم بناء على ظهور كونهم أتباعا لهم. وقيل ولا يخفى لطفه على بعض الاحتمالات الآتية في الآية: لأن المقام مقام ذكر الشهداء والرسل عليهم الصلاة والسلام هم الشهداء على أممهم كما يدل على ذلك قوله تعالى: وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً [القصص: 75] ففي بيان حالهم وما يقع لهم يوم القيامة وهم من وعظ الشهداء الذين البحث فيهم ما لا يخفى، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 وبهذا تتصل الآية بما قبلها أتم اتصال، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتربية المهابة وتشديد التهويل فَيَقُولُ لهم ماذا أُجِبْتُمْ أي في الدنيا حين بلغتم الرسالة وخرجتم عن العهدة كما ينبىء عن ذلك العدول عن تصدير الخطاب بهل بلغتم، وفي العدول عن ماذا أجاب أممكم ما لا يخفى من الأنباء عن كمال تحقير شأنهم وشدة السخط والغيظ عليهم، والسؤال لتوبيخ أولئك أيضا وإلا فهو سبحانه علام الغيوب. وماذا متعلق بأجبتم على أنه مفعول مطلق له أي أي إجابة أجبتم من قبل أممكم إجابة قبول أو إجابة رد. وقيل: التقدير بماذا أجبتم أي بأي شيء أجبتم على أن يكون السؤال عن الجواب لا الإجابة فحذف حرف الجر وانتصب المجرور. وضعف بأن حذف حرف الجر وانتصاب مجروره لا يجوز إلا في الضرورة كقوله: تمرون الديار ولم تعوجوا. وكذا تقديره مجرورا. وقال العوفي: إن ما اسم استفهام مبتدأ وذا بمعنى الذي خبره وأُجِبْتُمْ صلته والعائد محذوف أي ما الذي أجبتم به. واعترض بأنه لا يجوز حذف العائد المجرور إلا إذا جر الموصول بمثل ذلك الحرف الجار واتحد متعلقاهما، وغاية ما أجابوا به عن ذلك أن الحذف وقع على التدريج وهو كما ترى قالُوا استئناف مبني على سؤال نشأ من سوق الكلام كأنه قيل: فماذا يقول الرسل عليهم الصلاة والسلام حينئذ؟ فقيل: يقولون لا عِلْمَ لَنا والتعبير بالماضي للدلالة على التقرر والتحقق كنفخ في الصور وغيره، ونفي العلم عن أنفسهم مع علمهم بماذا أجيبوا كما تدل عليه شهادتهم عليهم الصلاة والسلام على أممهم هنالك حسبما نطقت به بعض الآيات ليس على حقيقته بل هو كناية عن إظهار التشكي والالتجاء إلى الله تعالى بتفويض الأمر كله إليه عز شأنه. وقال ابن الأنباري: إنه على حقيقته لكنه ليس لنفي العلم بماذا أجيبوا عند التبليغ ومدة حياتهم عليهم الصلاة والسلام بل بما كان في عاقبة الأمر وآخره الذي به الاعتبار. واعترض بأنهم يرون آثار سوء الخاتمة عليهم فلا يصح أيضا نفي العلم بحالهم وبما كان منهم بعد مفارقتهم لهم. وأجيب بأن ذلك إنما يدل على سوء الخاتمة وظهور الشقاوة في العاقبة لا على حقيقة الجواب بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فلعلهم أجابوا إجابة قبول ثم غلبت عليهم الشقوة. وتعقب بأنه من المعلوم أن ليس المراد بماذا أجبتم نفس الجواب الذي يقولونه أو الإجابة التي تحدث منهم بل ما كانوا عليه في أمر الشريعة من الامتثال والانقياد أو عكس ذلك. وفي رواية عن الحسن أن المراد لا علم لنا كعلمك لأنك تعلم باطنهم ولسنا نعلم ذلك وعليه مدار فلك الجزاء، وقيل: المراد من ذلك النفي تحقيق فضيحة أممهم أي أنت أعلم بحالهم منا ولا يحتاج إلى شهادتنا. وأخرج الخطيب في تاريخه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد نفي العلم نظرا إلى خصوص الزمان وهو أول الأمر حين تزفر جهنم فتجثو الخلائق على الركب وتنهمل الدموع وتبلغ القلوب الحناجر وتطيش الأحلام وتذهل العقول ثم إنهم يجيبون في ثاني الحال وبعد سكون الروع واجتماع الحواس وذلك وقت شهادتهم على الأمم، وبهذا أجاب رضي الله تعالى عنه نافع بن الأزرق حين سأله عن المنافاة بين هذه الآية وما أثبت الله تعالى لهم من الشهادة على أممهم في آية أخرى. وروي أيضا عن السدي، والكلبي، ومجاهد وهو اختيار الفراء وأنكره الجبائي، وقال: كيف يجوز القول بذهولهم من هول يوم القيامة مع قوله سبحانه: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء: 103] وقوله عز وجل: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 38، الأنعام: 48، الأعراف: 35، الأحقاف: 13] وقد نقل ذلك عنه الطبرسي ثم قال: ويمكن أن يجاب عنه بأن الفزع الأكبر دخول النار. وقوله سبحانه: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ إنما هو كالبشارة بالنجاة من أهوال ذلك اليوم مثل ما يقال للمريض لا بأس عليك ولا خوف. وقيل: إن ذلك الذهول لم يكن لخوف ولا حزن وإنما هو من باب العوم في بحار الإجلال لظهور آثار تجلي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 الجلال. واعترض شيخ الإسلام على ما تقدم بأن قوله تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ في موضع التعليل ولا يلائم ما ذكر. وعَلَّامُ صيغة مبالغة والمراد الكامل في العلم. والْغُيُوبِ جمع غيب وجمع وإن كان مصدرا على ما قال السمين لاختلاف أنواعه وإن أريد به الشيء الغائب أو قلنا: إنه مخفف غيب فالأمر واضح. وقرىء «علام» بالنصب على أن الكلام قد تم عند إِنَّكَ أَنْتَ ونصب الوصف على المدح أو النداء أو على أنه بدل من اسم إن، ومعنى إِنَّكَ أَنْتَ إنك الموصوف بصفاتك المعروفة، والكلام على طريقه: أنا أبو النجم. وشعري شعري. وقرأ أبو بكر وحمزة «الغيوب» بكسر الغين حيث وقع وقد سمع في كل جمع على وزن فعول كبيوت كسر أوله لئلا يتوالى ضمتان وواو إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ بدل من يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ وقد نصب بإضمار اذكر، وقيل: في محل رفع على معنى ذاك إذ وليس بشيء، وصيغة الماضي لما مر آنفا من الدلالة على تحقق الوقوع، والمراد بيان ما جرى بينه تعالى وبين فرد من الرسل المجموعين على التفصيل إثر بيان ما جرى بينه عز وجل وبين الكل على وجه الإجمال ليكون ذلك كالأنموذج على تفاصيل أحوال الباقين، وتخصيص عيسى عليه السلام بالذكر لما أن شأنه عليه الصلاة والسلام متعلق بكلا فريقي أهل الكتاب المفرطين والمفرطين الذين نعت هذه السورة الكريمة جناياتهم فتصيله أعظم عليهم وأجلب لحسراتهم، وإظهار الاسم الجليل لما مر. وعِيسَى مبني عند الفراء ومتابعيه إما على ضمة مقدرة أو على فتحة كذلك إجراء له مجرى يا زيد بن عمرو في جواز ضم المنادي وفتحه عند الجمهور، وهذا إذا أعرب ابن صفة لعيسى، أما إذا أعرب بدلا أو بيانا فلا يجوز تقدير الفتحة إجماعا كما بين في كتب النحو، و «على» في قوله تعالى: اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ متعلقة بنعمتي جعل مصدرا أي اذكر إنعامي أو بمحذوف وقع حالا من نعمة أن جعل اسما أي اذكر نعمتي كائنة عليك إلخ، وعلى التقديرين يراد بالنعمة ما هو في ضمن المتعدد وليس المراد كما قال شيخ الإسلام بأمره عليه السلام يومئذ بذكر النعمة المنتظمة في سلك التعديد تكليفه عليه السلام بشكرها والقيام بمواجبها ولات حين تكليف مع خروجه عليه السلام عن عهدة الشكر في أوانه أي خروج بل إظهار أمره عليه السلام بتعداد تلك النعم حسبما بينه الله تعالى اعتدادا بها وتلذذا بذكرها على رؤوس الأشهاد وليكون حكاية ذلك على ما أنبأ عنه النظم الكريم توبيخا للكفرة من الفريقين المختلفين في شأنه عليه السلام إفراطا وتفريطا وإبطالا لقولهما جميعا إِذْ أَيَّدْتُكَ ظرف لنعمتي أي اذكر إنعامي عليكما وقت تأييدي لكما أو حال منها أي اذكرها كائنة وقت ذلك، وقيل: بدل اشتمال منها وهو في المعنى تفسير لها. وجوز أبو البقاء أن يكون مفعولا به على السعة، وقرىء «آيدتك» بالمد ووزنه عند الزمخشري أفعلتك وعند ابن عطية فاعلتك، قال أبو حيان: ويحتاج إلى نقل مضارعه من كلام العرب فإن كان يؤايد فهو فاعل وإن كان يؤيد فهو أفعل ومعناه ومعنى أيد واحد، وقيل: معناه بالمد القوة وبالتشديد النصر وهما- كما قيل- متقاربان لأن النصر قوة بِرُوحِ الْقُدُسِ أي جبريل عليه السلام أو الكلام الذي يحيى به الدين ويكون سببا للطهر عن أوضار الآثام أو تحيي بها الموتى أو النفوس حياة أبدية أو نفس روحه عليه السلام حيث أظهرها سبحانه وتعالى روحا مقدسة طاهرة مشرقة نورانية علوية، وكون هذا التأييد نعمة عليه عليه الصلاة والسلام مما لا خفاء فيه، وأما كونه نعمة على والدته فلما ترتب عليه من براءتها مما نسب إليها وحاشاها وغير ذلك. تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ أي طفلا صغيرا، وما في النظم الكريم أبلغ من التصريح بالطفولية وأولى لأن الصغير يسمى طفلا إلى أن يبلغ الحلم فلذا عدل عنه، والظرف في موضع الحال من ضمير «تكلم» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 وجوز أن يكون ظرفا للفعل. والجملة إما استئناف مبين لتأييده عليه الصلاة والسلام أو في موضع الحال من الضمير المنصوب في «أيدتك» كما قال أبو البقاء. والمهد معروف. وعن الحسن أن المراد به حجر أمه عليهما السلام، وأنكر النصارى كلامه عليه الصلاة والسلام في المهد وقالوا إنما تكلم عليه السلام أو أن ما يتكلم الصبيان وقد تقدم مع جوابه. وقوله تعالى: وَكَهْلًا للإيذان على ما قيل بعدم تفاوت كلامه عليه الصلاة والسلام طفولية وكهولة لا لأن كلّا منهما آية فإن التكلم في الكهولة معهود من كل أحد. وقال الإمام: إن الثاني أيضا معجزة مستقلة لأن المراد تكلم الناس في الطفولية وفي الكهولة حين تنزل من السماء لأنه عليه الصلاة والسلام حين رفع لم يكن كهلا. وهذا مبني على تفسير الكهل بمن وخطه الشيب ورأيت له بحالة أو من جاوز أربعا وثلاثين سنة إلى إحدى وخمسين وعيسى عليه الصلاة والسلام رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين قيل وثلاثة أشهر وثلاثة أيام. وقيل: رفع وهو ابن أربع وثلاثين وما صح أنه عليه الصلاة والسلام وخطه الشيب، وأما لو فسر بمن جاوز الثلاثين فلا يتأتى هذا القول كما لا يخفى. وقال بعض: الأولى أن يجعل «وكهلا» تشبيها بليغا أي تكلمهم كائنا في المهد وكائنا كالكهل. وأنت تعلم أن أخذ التشبيه من العطف لا وجه له وتقدير الكاف تكلف وَإِذْ عَلَّمْتُكَ عطف على «إذ أيدتك» أي واذكر نعمتي عليكما وقت تعليمي لك من غير معلم الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ أي جنسهما، وقيل: الكتاب الخط والحكمة الكلام المحكم الصواب وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ خصا بالذكر إظهارا لشرفهما على الأول. وَإِذْ تَخْلُقُ أي تصور مِنَ الطِّينِ أي جنسه كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ أي هيئة مثل هيئته بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها أي في تلك الهيئة المشبهة فَتَكُونُ بعد نفخك من غير تراخ طَيْراً بِإِذْنِي أي حيوانا يطير كسائر الطيور وقرأ نافع ويعقوب «طائرا» وهو إما اسم مفرد وإما اسم جمع كباقر وسامر. وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي عطف على «تخلق» وقوله سبحانه: وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي عطف على إِذْ تَخْلُقُ أعيدت فيه إِذْ كما قيل لكون إخراج الموتى من قبورهم لا سيما بعد ما صاروا رميما معجزة باهرة حرية بتذكير وقتها صريحا. وما في النظم الكريم أبلغ من تحيي الموتى فلذا عدل عنه إليه. وقد تقدم الكلام في بيان من أحياهم عليه الصلاة والسلام مع بيان ما ينفعك في هذه الآية في سورة آل عمران. وذكر بِإِذْنِي هنا أربع مرات وثمة مرتين قالوا: لأنه هنا للامتنان وهناك للأخبار فناسب هذا التكرار هنا وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ يعني اليهود حين هموا بقتله ولم يتمكنوا منه. إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي المعجزات الواضحة مما ذكر وما لم يذكر وهو ظرف لكففت مع اعتبار قوله تعالى: فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وهو مما يدل على أنهم قصدوا اغتياله عليه الصلاة والسلام المحوج إلى الكف أي كففتهم عنك حين قالوا ذلك عند مجيئك إياهم بالبينات، ووضع الموصول موضع ضميرهم لذمهم بما في حيز الصلة. فكلمة من بيانية وهذا إشارة إلى ما جاء به. وقرأ حمزة والكسائي «إلا ساحر» فالإشارة إلى عيسى عليه الصلاة والسلام، وجعل الإشارة إليه على القراءة الأولى وتأويل السحر بساحر لتتوافق القراءتان لا حاجة إليه وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أي أمرتهم في الإنجيل على لسانك أو أمرتهم على ألسنة رسلي. وجاء استعمال الوحي بمعنى الأمر في كلام العرب كما قال الزجاج وأنشد: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 الحمد لله الذي استقلت ... بإذنه السماء واطمأنت أوحى لها القرار فاستقرت أي أمرها أن تقر فامتثلت، وقيل: المراد بالوحي إليهم إلهامه تعالى إياهم كما في قوله تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى وروي ذلك عن السدي وقتادة وإنما لم يترك الوحي على ظاهره لأنه مخصوص بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام والحواريون ليسوا كذلك، وقد تقدم المراد بالحواريين. وأن قوله تعالى: أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي مفسرة لما في الإيحاء من معنى القول، وقيل: مصدرية أي بأن آمنوا إلخ. وتقدم الكلام في دخولها على الأمر. والتعرض لعنوان الرسالة للتنبيه على كيفية الإيمان به عليه الصلاة والسلام والرمز إلى عدم إخراجه عليه الصلاة والسلام عن حده حطا ورفعا قالُوا آمَنَّا طبق ما أمرنا به وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ مخلصون في إيماننا أو منقادون لما أمرنا به. إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ منصوب باذكر على أنه ابتداء كلام لبيان ما جرى بينه عليه الصلاة والسلام وبين قومه منقطع عما قبله كما يشير إليه الإظهار في مقام الإضمار. وجوز أن يكون ظرفا لقالوا وفيه- على ما قيل حينئذ- تنبيه على أن ادعاءهم الإخلاص مع قولهم هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ لم يكن عن تحقيق منهم ولا عن معرفة بالله تعالى وقدرته سبحانه لأنهم لو حققوا وعرفوا لم يقولوا ذلك إذ لا يليق مثله بالمؤمن بالله عز وجل. وتعقب هذا القول الحلبي بأنه خارق للإجماع. وقال ابن عطية: لا خلاف أحفظه في أنهم كانوا مؤمنين. وأيد ذلك بقوله تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ وبأن وصفهم بالحواريين ينافي أن يكونوا على الباطل وبأن الله تعالى أمر المؤمنين بالتشبه بهم والاقتداء بسنتهم في قوله عز من قائل: كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ [الصف: 14] الآية. وبأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مدح الزبير «إن لكل نبي حواريا وإن حواري الزبير» والتزام القول بأن الحواريين فرقتان مؤمنون وهم خالصة عيسى عليه الصلاة والسلام والمأمور بالتشبه بهم وكافرون وهم أصحاب المائدة، وسؤال عيسى عليه الصلاة والسلام نزول المائدة وإنزالها ليلزمهم الحجة يحتاج إلى نقل ولم يوجد. ومن ذلك أجيب عن الآية بأجوبة فقيل: إن معنى «هل يستطيع» هل يفعل كما تقول للقادر على القيام: هل تستطيع أن تقوم مبالغة في التقاضي. ونقل هذا القول عن الحسن. والتعبير عن الفعل بالاستطاعة من التعبير عن المسبب بالسبب إذ هي من أسباب الإيجاد. وعلى عكسه التعبير عن إرادة الفعل بالفعل تسمية للسبب الذي هو الإرادة باسم المسبب الذي هو الفعل في مثل قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة: 6] إلخ. وقيل: إن المعنى هل يطيع ربك فيستطيع بمعنى يطيع ويطيع بمعنى يجيب مجازا ونقل ذلك عن السدي وذكر أبو شامة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم عاد أبا طالب في مرض فقال له: يا ابن أخي ادع ربك أن يعافيني فقال: اللهم اشف عمي فقام كأنما نشط من عقال فقال: يا ابن أخي إن ربك الذي تعبده يطيعك فقال: يا عم وأنت لو أطعته لكان يطيعك أي يجيبك لمقصودك وحسن استعماله صلّى الله عليه وسلّم لذلك المشاكلة. وقيل: هذه الاستطاعة على ما تقتضيه الحكمة والإرادة فكأنهم قالوا: هل إرادة الله تعالى وحكمته تعلقت بذلك أولا؟ لأنه لا يقع شيء بدون تعلقهما به. واعترض بأن قوله تعالى الآتي: اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ لا يلائمه لأن السؤال عن مثله مما هو من علوم الغيب لا قصور فيه. وقيل: إن سؤالهم للاطمئنان والتثبت كما قال الخليل عليه الصلاة والسلام: أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [البقرة: 260] ومعنى إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إن كنتم كاملين في الإيمان والإخلاص. ومعنى «نعلم أن قد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 صدقتنا» نعلم علم مشاهدة وعيان بعد ما علمناه علم إيمان وإيقان. ومن هذا يعلم ما يندفع به الاعتراض. وقرأ الكسائي وعلي كرم الله تعالى وجهه، وعائشة، وابن عباس، ومعاذ، وجماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم «هل» تستطيع ربك بالتاء خطابا لعيسى عليه الصلاة والسلام ونصب «ربك» على المفعولية. والأكثرون على أن هناك مضافا محذوفا أي سؤال ربك أي هل تسأله ذلك من غير صارف. وعن الفارسي أنه لا حاجة إلى تقدير والمعنى هل تستطيع أن ينزل ربك بدعائك. وأنت تعلم أن اللفظ لا يؤدي ذلك فلا بد من التقدير، والمائدة في المشهور الخوان الذي عليه الطعام من ماد يميد إذا تحرك أو من ماده بمعنى أعطاه فهي فاعلة إما بمعنى مفعولة كعيشة راضية، واختاره الأزهري في تهذيب اللغة أو بجعلها للتمكن مما عليها كأنها بنفسها معطية كقولهم للشجرة المثمرة: مطعمة. وأجاز بعضهم أن يقال فيها ميدة واستشهد عليه بقول الراجز: وميدة كثيرة الألوان ... تصنع للجيران والإخوان واختار المناوي أن المائدة كل ما يمد ويبسط، والمراد بها السفرة، وأصلها طعام يتخذه المسافر ثم سمى بها الجلد المستدير الذي تحمل به غالبا كما سميت المزادة راوية. وجوز أن تكون تسمية الجلد المذكور سفرة لأن له معاليق متى حلت عنه انفرج فأسفر عما فيه. وهذا غير الخوان بضم الخاء وكسرها وهو أفصح ويقال له: إخوان بهمزة مكسورة لأنه اسم لشيء مرتفع يهيأ ليؤكل عليه الطعام، والأكل عليه بدعة لكنه جائز إن خلا عن قصد التكبر. وتطلق المائدة على نفس الطعام أيضا كما نص عليه بعض المحققين، ومِنَ السَّماءِ يجوز أن يتعلق بالفعل قبله وأن يتعلق بمحذوف وقع صفة لمائدة أي مائدة كائنة من السماء قالَ أي عيسى عليه الصلاة والسلام لهم حين قالوا ذلك: اتَّقُوا اللَّهَ من أمثال هذا السؤال واقتراح الآيات كما قال الزجاج. وعن الفارسي أنه أمر لهم بالتقوى مطلقا. ولعل ذلك لتصير ذريعة لحصول المأمول فقد قال سبحانه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2] وقال جل شأنه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة: 35] إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بكمال قدرته تعالى وبصحة نبوتي أو كاملين في الإيمان والإخلاص أو إن صدقتم في ادعاء الإيمان والإسلام قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها أكل تبرك. وقيل: أكل تمتع وحاجة. والإرادة إما بمعناها الظاهر أو بمعنى المحبة أي نحب ذلك والكلام كما قيل تمهيد عذر وبيان لما دعاهم إلى السؤال أي لسنا نريد من السؤال إزاحة شبهتنا في قدرته سبحانه على تنزيلها أو في صحة نبوتك حتى يقدح ذلك في الإيمان والتقوى ولكن نريد إلخ أو ليس مرادنا اقتراح الآيات لكن مرادنا ما ذكر. وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا بازدياد اليقين كما قال عطاء وَنَعْلَمَ علم مشاهدة وعيان على ما قدمناه أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا أي أنه قد صدقتنا في ادعاء النبوة، وقيل: في أن الله تعالى يجيب دعوتنا، وقيل: فيما ادعيت مطلقا. وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ عند من لم يحضرها من بني إسرائيل ليزداد المؤمنون منهم بشهادتنا طمأنينة ويقينا ويؤمن بسببها كفارهم أو من الشاهدين للعين دون السامعين للخبر، وقيل: من الشاهدين لله تعالى بالوحدانية ولك بالنبوة. وعَلَيْها متعلق بالشاهدين إن جعل اللام للتعريف أو بمحذوف يفسره من الشاهدين إن جعلت موصولة. وجوزنا تفسير ما لا يعمل للعامل، وقيل: متعلق به وفيه تقديم ما في حيز الصلة وحرف الجر وكلاهما ممنوع. ونقل عن بعض النحاة جواز التقديم في الظرف، وعن بعضهم جوازه مطلقا، وجوز أن يكون حالا من اسم كان أي عاكفين عليها. وقرىء «يعلم» بالبناء للمفعول و «تعلم» . «وتكون» بالتاء والضمير للقلوب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لما رأى أن لهم غرضا صحيحا في ذلك، وأخرج الترمذي في نوادر الأصول وغيره عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام لما رأى أن قد أبوا إلا أن يدعو لهم بها قام فألقى عنه الصوف ولبس الشعر الأسود ثم توضأ واغتسل ودخل مصلاه فصلى ما شاء الله تعالى فلما قضى صلاته قام قائما مستقبل القبلة وصف قدميه حتى استويا فألصق الكعب بالكعب وحاذى الأصابع بالأصابع ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره وغض بصره وطأطأ رأسه خشوعا ثم أرسل عينيه بالبكاء فما زالت دموعه تسيل على خديه وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض حيال وجهه فلما رأى ذلك دعا الله تعالى فقال: اللَّهُمَّ رَبَّنا ناداه سبحانه وتعالى مرتين على ما قيل مرة بوصف الألوهية الجامعة لجميع الكمالات وأخرى بوصف الربوبية المنبئة عن التربية إظهارا لغاية التضرع ومبالغة في الاستدعاء وإنما لم يجعل نداء واحدا بأن يعرب رَبَّنا بدلا أو صفة لأنهم قالوا: إن لفظ اللَّهُمَّ لا يتبع وفيه خلاف لبعض النحاة. وحذف حرف النداء في الأول وعوض عنه الميم وكذا في الثاني إلا أن التعويض من خواص الاسم الجليل أي يا الله يا ربنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً أي خوانا عليه طعام أو سفرة كذلك، وتقديم الظرف على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر. وقوله سبحانه وتعالى مِنَ السَّماءِ متعلق إما بإنزال أو بمحذوف وقع صفة لمائدة أي كائنة من السماء، والمراد بها إما المحل المعهود وهو المتبادر من اللفظ وإما جهة العلو، ويؤيد الأول ما أخرجه ابن حميد وابن أبي حاتم عن عمار بن ياسر أن المائدة التي نزلت كان عليها من ثمر الجنة وكذا روي عن وهب بن منبه. ويؤيد الثاني ما روي عن سلمان الفارسي من خبر طويل أن المائدة لما نزلت قال شمعون رأس الحواريين لعيسى عليه الصلاة والسلام: يا روح الله وكلمته أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الجنة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون من الآيات وتنتهوا عن تنقير المسائل ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا بسبب هذه الآية فقال شمعون: لا وإله إسرائيل ما أردت بها سوءا يا ابن الصديقة فقال عيسى عليه الصلاة والسلام: ليس شيء مما ترون عليها من طعام الجنة ولا من طعام الدنيا إنما هو شيء ابتدعه الله تعالى في الهواء بالقدرة الغالبة القاهرة فقال له كن فكان في أسرع من طرفة عين فكلوا مما سألتم باسم الله واحمدوا عليه ربكم يمدكم منه ويزدكم فإنه بديع قادر شاكر، وقوله تعالى تَكُونُ لَنا عِيداً صفة مائِدَةً ولَنا خبر كان وعِيداً حال من الضمير في الظرف أو في تَكُونُ على رأي من يجز إعمالها في الحال، وجوز أن يكون عِيداً الخبر ولَنا حينئذ إما حال من الضمير في «تكون» أو حال من عِيداً لأنه صفة له قدمت عليه، والعيد العائد مشتق من العود ويطلق على الزمان المعهود لعوده في كل عام بالفرح والسرور، وعليه فلا بد من تقدير مضاف، والمعنى يكون نزولها لنا عيدا، ويطلق على نفس السرور العائد وحينئذ لا يحتاج إلى التقدير، وفي الكلام لطافة لا تخفى، وذكر غير واحد أن العيد يقال لكل ما عاد عليك في وقت، ومنه قول الأعشى: فواكبدي من لاعج الحب والهوى ... إذا اعتاد قلبي من أميمة عيدها وهو واوي كما ينبىء عنه الاشتقاق ولكنهم قالوا في جمعه: أعياد وكان القياس أعواد لأن الجموع ترد الأشياء إلى أصولها كراهة الاشتباه- كما قال ابن هشام- بجمع عود، ونظر ذلك الحريري بقولهم. هو أليط بقلبي منك أي ألصق حبابه فإن أصله الواو لكن قالوا ذلك ليفرق بينه وبين قولهم. هو ألوط من فلان، ولا يخفى أن هذا مخالف لما ذكره محققو أهل اللغة، وعن الكسائي يقال لاط الشيء بقلبي يلوط ويليط وهو ألوط وأليط، ثم إنهم إنما لم يعكسوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 58 الأمر في جمع عود وعيد فيقولوا في جمع الأول أعياد وفي جمع الثاني أعواد مع حصول التفرقة أيضا اعتبارا على ما قيل للأخف في الأكثر استعمالا مع رعاية ظاهر المفرد، وقرأ عبد الله «تكن» بالجزم على جواب الأمر لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا أي لأهل زماننا ومن يجيء بعدنا. روي أنه نزلت يوم الأحد فلذلك اتخذه النصارى عيدا، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن المعنى يأكل منها أول الناس وآخرهم والجار والمجرور عند بعض بدل من الجار والمجرور أعني لَنا ، وقال أبو البقاء إذا جعل لَنا خبرا أو حالا فهو صفة لعيدا وإن جعل صفة له كان هو بدلا من الضمير المجرور بإعادة الجار، وظاهره أن المبدل منه الضمير لكن أعيد الجار لأن البدل في قوة تكرار العامل، وهو تحكم لأن الظاهر كما أشير إليه إبدال المجموع من المجموع، ثم إن ضمير الغائب يبدل منه وأما ضمير الحاضر فأجازه بعضهم مطلقا وأجازه آخرون كذلك، وفصل قوم فقالوا إن أفاد توكيدا وإحاطة وشمولا جاز وإلا امتنع. واستظهر بعضهم على قول الحبر أن يكون لَنا خبرا أي قوتا أو نافعة لنا. وقرأ زيد، وابن محيصن، والجحدري «لأولانا وأخرانا» بتأنيث الأول والآخر باعتبار الأمة والطائفة، وكون المراد بالأولى والأخرى الدار الأولى أي الدنيا والدار الأخرى أي الآخرة مما لا يكاد يصح وَآيَةً عطف على عِيداً وقوله سبحانه وتعالى: مِنْكَ متعلق بمحذوف وقع صفة له أي آية كائنة منك دالة على كمال قدرتك وصحة نبوتي وَارْزُقْنا أي الشكر عليها على ما حكي عن الجبائي أو المائدة على ما نقل عن غير واحد، والمراد بها حينئذ- كما قيل- ما على الخوان من الطعام أو الأعم من ذلك وهذه ولعله الأولى وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ تذييل جار مجرى التعليل أي خير من يرزق لأنه خالق الرزق ومعطيه بلا ملاحظة عوض. قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ مرات عديدة كما ينبىء عن ذلك صيغة التفعيل، وورود الإجابة منه تعالى كذلك مع كون الدعاء منه عليه الصلاة والسلام بصيغة الافعال لإظهار كمال اللطف والإحسان مع ما فيه من مراعاة ما وقع في عبارة السائلين، وفي تصدير الجملة بكلمة التحقيق وجعل خبرها اسما تحقيق للوعد وإيذان بأنه سبحانه وتعالى منجز له لا محالة وإشعار بالاستمرار، وهذه القراءة لأهل المدينة، والشام، وعاصم. وقرأ الباقون كما قال الطبرسي مُنَزِّلُها بالتخفيف، وجعل الإنزال والتنزيل بمعنى واحد فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ أي بعد تنزيلها حال كونه كائنا مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ بسبب كفره ذلك عَذاباً هو اسم مصدر بمعنى التعذيب كالمتاع بمعنى التمتيع، وقيل: مصدر محذوف الزوائد وانتصابه على المصدرية في التقديرين، وقيل: منصوب على التوسع، والتشبيه بالمفعول به مبالغة كما ينصب الظرف ومعمول الصفة المشبهة كذلك، وجوز أبو البقاء أن يكون نصبه على الحذف والإيصال، والمراد بعذاب وهو حينئذ اسم ما يعذب به، ولا يخفى أن حذف الجار لا يطرف في غير أن وإن عند عدم اللبس، والتنوين للتعظيم أي عذابا عظيما. وقوله سبحانه وتعالى: لا أُعَذِّبُهُ في موضع النصب على أنه صفة له. والهاء في موضع المفعول المطلق كما في ظننته زيدا قائما. ويقوم مقام العائد إلى الموصوف كما قيل. ووجه بأنه حينئذ يعود إلى المصدر المفهوم من الفعل فيكون في معنى النكرة الواقعة بعد النفي من حيث العموم فيشمل العذاب المتقدم، ويحصل الربط بالعموم ولو رد عليه أن الربط بالعموم إنما ذكره النحاة في الجملة الواقعة خبرا فلا يقاس عليه الصفة وجوز أن يكون من قبيل ضربته ضرب زيد أي عذابا لا أعذب تعذيبا مثله، وعلى هذا التقدير يكون الضمير راجعا على العذاب المقدم فالربط به. وقيل: الضمير راجع إلى مِنَ بتقدير مضافين أي لا أعذب مثل عذابه أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ أي عالمي زمانهم أو العالمين مطلقا، وهذا العذاب إما في الدنيا، وقد عذب من كفر منهم بمسخهم قردة وخنازير. وروي ذلك عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 قتادة وإما في الآخرة. وإليه يشير ما أخرجه أبو الشيخ وغيره عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: إن أشد الناس عذابا يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة، والمنافقون، وآل عمران، ويدل هذا على أن المائدة نزلت وكفر البعض بعد. وأخرج ابن جرير وغيره عن الحسن ومجاهد أن القوم لما قيل لهم: فَمَنْ يَكْفُرْ إلخ قالوا: لا حاجة لنا بها فلم تنزل. والجمهور على الأول وعليه المعول. فقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عمار بن ياسر موقوفا ومرفوعا. والوقف أصح قال: أنزلت المائدة من السماء خبزا ولحما وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا لغد فخانوا وادخروا فمسخوا قردة وخنازير وكان الخبز من أرز على ما روي عن عكرمة. وروي أن عيسى عليه الصلاة والسلام لما سأله قومه ذلك فدعا أنزل الله تعالى عليهم سفرة حمراء بين غمامتين غمامة فوقها وغمامة تحتها وهم ينظرون إليها في الهواء منقضة من السماء تهوي إليهم وعيسى عليه الصلاة والسلام يبكي خوفا من الشرط الذي اتخذ عليهم فيها فما زال يدعو حتى استقرت السفرة بين يديه والحواريون حوله يجدون رائحة طيبة لم يجدوا رائحة مثلها قط وخر عيسى عليه الصلاة والسلام والحواريون سجدا شكرا لله تعالى وأقبل اليهود ينظرون إليهم فرأوا ما يغمهم ثم انصرفوا فأقبل عيسى عليه الصلاة والسلام ومن معه ينظرونها. فإذا هي مغطاة بمنديل فقال عليه الصلاة والسلام: من أجرؤنا على كشفه وأوثقنا بنفسه وأحسننا بلاء عند ربه حتى نراها ونحمد ربنا سبحانه وتعالى ونأكل من رزقه الذي رزقنا؟ فقالوا: يا روح الله وكلمته أنت أولى بذلك فقام واستأنف وضوءا جديدا ثم دخل مصلاه فصلى ركعات ثم بكى طويلا ودعا الله تعالى أن يأذن له في الكشف عنها ويجعل له ولقومه فيها بركة ورزقا ثم انصرف وجلس حول السفرة وتناول المنديل وقلنا: بسم الله خير الرازقين وكشف عنها فإذا عليها سمكة ضخمة مشوية ليس عليها بواسير وليس في جوفها شوك يسيل السمن منها قد نضد حولها بقول من كل صنف غير الكراث وعند رأسها خل وعند ذنبها ملح وحول البقول خمسة أرغفة على واحد منها زيتون وعلى الآخر تمرات وعلى الآخر خمس رمانات وفي رواية على واحد منها زيتون وعلى الثاني عسل وعلى الثالث سمن وعلى الرابع جبن وعلى الخامس قديد فسأله شمعون عنها وأجابه بما تقدمت روايته. ثم قالوا له عليه الصلاة والسلام: إنما نحب أن ترينا آية في هذه الآية فقال عليه السلام: سبحان الله تعالى أما اكتفيتم ثم قال: يا سمكة عودي بإذن الله تعالى حية كما كنت فأحياها الله تعالى بقدرته فاضطربت وعادت حية طرية تلمظ كما يتلمظ الأسد تدور عيناها لها بصيص وعادت عليها بواسير ففزع القوم منها وانحاشوا فقال عليه الصلاة والسلام لهم: ما لكم تسألون الآية فإذا أراكموها ربكم كرهتموها ما أخوفني عليكم بما تصنعون يا سمكة عودي بإذن الله تعالى كما كنت مشوية ثم دعاهم إلى الأكل فقالوا: يا روح الله أنت الذي تبدأ بذلك فقال: معاذ الله تعالى يبدأ من طلبها فلما رأوا امتناع نبيهم عليه الصلاة والسلام خافوا أن يكون نزولها سخطة وفي أكلها مثلة فتحاموها فدعا عليه الصلاة والسلام لها الفقراء والزمنى، وقال: كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيكم واحمدوا الله تعالى الذي أنزلها لكم ليكون مهنؤها لكم وعقوبتها على غيركم وافتتحوا كلكم باسم الله واختتموه بحمد الله ففعلوا فأكل منها ألف وثلاثمائة إنسان بين رجل وامرأة وصدروا منها وكل واحد منهم شبعان يتجشى ونظر عيسى عليه السلام والحواريون ما عليها فإذا ما عليها كهيئته إذ نزلت من السماء لم ينتقص منه شيء ثم إنها رفعت إلى السماء وهو ينظرون فاستغنى كل فقير أكل منها وبرىء كل زمن منهم أكل منها فلم يزالوا أغنياء صحاحا حتى خرجوا من الدنيا وندم الحواريون وأصحابهم الذين أبوا أن يأكلوا منها ندامة سالت منها أشفارهم وبقيت حسرتها في قلوبهم، وكانت العائدة إذا نزلت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 بعد ذلك أقبلت بنو إسرائيل إليها من كل مكان يسعون فزاحم بعضهم بعضا الأغنياء والفقراء والنساء والصغار والكبار والأصحاء والمرضى يركب بعضهم بعضا فلما رأى عيسى عليه الصلاة والسلام ذلك جعلها نوبا بينهم فكانت تنزل يوما ولا تنزل يوما فلبثوا في ذلك أربعين يوما تنزل عليهم غبا عند ارتفاع الضحى فلا تزال موضوعة يؤكل منها حتى إذا قالوا ارتفعت عنهم بإذن الله تعالى إلى جو السماء وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض حتى توارى عنهم فأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام أن اجعل رزقي لليتامى والمساكين والزمنى دون الأغنياء من الناس فلما فعل الله تعالى ذلك ارتاب بها الأغنياء وغمصوا ذلك حتى شكوا فيها في أنفسهم وشككوا فيها الناس وأذاعوا في أمرها القبيح والمنكر وأدرك الشيطان منهم حاجته وقذف وسواسه في قلوب المرتابين فلما علم عيسى عليه السلام ذلك منهم قال: هلكتم وإله المسيح سألتم نبيكم أن يطلب المائدة لكم إلى ربكم فلما فعل وأنزلها عليكم رحمة ورزقا وأراكم فيها الآيات والعبر كذبتم بها وشككتم فيها فابشروا بالعذاب فإنه نازل بكم إلا أن يرحمكم الله تعالى وأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام إني آخذ المكذبين بشرطي وإني معذب منهم من كفر بالمائدة بعد نزولها عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين فلما أمسى المرتابون وأخذوا مضاجعهم في أحسن صورة مع نسائهم آمنين وكان آخر الليل مسخهم الله تعالى خنازير وأصبحوا يتبعون الأقذار في الكناسات. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن عيسى عليه الصلاة والسلام قال لبني إسرائيل: هل لكم أن تصوموا ثلاثين يوما ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم فإن أجر العامل على من عمل له ففعلوا ثم قالوا: يا معلم الخير قلت لنا: إن أجر العامل على من عمل له وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوما ففعلنا ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يوما إلا أطعمنا هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ إلى قوله تعالى: أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة حتى وضعتها بين أيديهم فأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم. وجاء عنه أن المائدة كانت تنزل عليهم حيث نزلوا، وعن وهب بن منبه أن المائدة كان يقعد عليها أربعة آلاف فإذا أكلوا شيئا أبدل الله تعالى مكانه مثله فلبثوا بذلك ما شاء الله عز وجل. وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عطف على إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ منصوب بما نصبه من الفعل المضمر أو بمضمر مستقل معطوف على ذلك. وصيغة الماضي لما مضى. والمراد يقول له عليه الصلاة والسلام: أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ يوم القيامة توبيخا للكفرة وتبكيتا لهم بإقراره عليه الصلاة والسلام على رؤوس الأشهاد بالعبودية وأمرهم بعبادته عز وجل. وقيل: قاله سبحانه عليه الصلاة والسلام في الدنيا وكان ذلك بعد الغروب فصلى عليه الصلاة والسلام المغرب ثلاث ركعات شكرا لله تعالى حين خاطبه بذلك، وكان الأولى لنفي الألوهية عن نفسه. والثانية لنفيها عن أمه. والثالثة لإثباتها لله عز وجل. فهو عليه الصلاة والسلام أول من صلى المغرب ولا يخفى أن ما سيأتي إن شاء الله تعالى في الآيات يأبى ذلك ولا يصح أيضا خبر فيه. ثم إنه ليس مدار أصل الكلام عند بعض المحققين أن القول متيقن والاستفهام لتعيين القائل كما هو المتبادر من إيلاء الهمزة المبتدأ على الاستعمال المشهور وعليه قوله تعالى: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا [الأنبياء: 62] ونحوه بل على أن المتيقن هو الاتخاذ. والاستفهام لتعيين أنه بأمره عليه الصلاة والسلام أو أمر من تلقاء أنفسهم كما في قوله تعالى. أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ [الفرقان: 17] وقال بعض: لما كان القول قد وقع من رؤسائهم في الضلال كان مقررا كالاتخاذ فالاستفهام لتعيين من صدر منه فلذا قدم المسند إليه، وقيل: التقديم لتقوية النسبة لأنها بعيدة عن القبول بحيث لا تتوجه نفس السامع إلى أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 المقصود ظاهرها حتى يجيب على طبقه فاحتاجت إلى التقوية حتى يتوجه إليها المستفهم عنها، وفيه كمال توبيخ الكفرة بنسبة هذا القول إليه، وفي قوله اتَّخِذُونِي وَأُمِّي دون واتخذوني ومريم توبيخ على توبيخ كأنه قيل: أأنت قلت ما قلت مع كونك مولودا وأمك والدة والإله لا يلد ولا يولد. وأنت تعلم أن في ندائه عليه الصلاة والسلام على الكيفية المذكورة إشارة إلى إبطال ذلك الاتخاذ. ولام لِلنَّاسِ للتبليغ، والاتخاذ إما متعد لاثنين فالياء مفعوله الأول وإِلهَيْنِ مفعوله الثاني وإما متعد لواحد فإلهين حال من المفعول ومِنْ دُونِ اللَّهِ حال من فاعل الاتخاذ أي متجاوزين الله تعالى أو صفة لإلهين أي كائنين من دون الله تعالى أي غيره منضما إليه سبحانه. فالله تعالى إله وهما بزعم الكفرة إلهان فالمراد اتخاذهما بطريق اشتراكهما معه عز وجل. وهذا كما في قوله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ إلى قوله سبحانه: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس: 18] وأيد ذلك بأن التوبيخ والتبكيت إنما يتأتى بذلك. وقال الراغب: إن ظاهر ذلك القول استقلالهما عليهما الصلاة والسلام بالألوهية وعدم اتخاذ الله سبحانه وتعالى معهما إلها ولا بد من تأويل ذلك لأن القوم ثلثوا والعياذ بالله تعالى فأما أن يقال: إن من أشرك مع الله سبحانه غيره فقد نفاه معنى لأنه جل شأنه وحده لا شريك له ويكون إقراره بالله تعالى كلا إقرار. وحينئذ يكون مِنْ دُونِ اللَّهِ مجازا عن مع الله تعالى أو يقال: إن المراد بمن دون الله التوسط بينهما وبينه عز شأنه فيكون الدون إشارة لقصور مرتبتهما عن مرتبته جل جلاله لأنهم قالوا: هو عز اسمه كالشمس وهما كشعاعها. وزعم بعضهم أن المراد اتخاذهما بطريق الاستقلال. ووجهه أن النصارى يعتقدون أن المعجزات التي ظهرت على يدي عيسى وأمه عليهما الصلاة والسلام لم يخلقها الله تعالى بل هما خلقاها فصح أنهم اتخذوهما في حق بعض الأشياء إلهين مستقلين ولم يتخذوه إلها في حق ذلك البعض، ولا يخفى أن الأول كالمتعين وإليه أشار العلامة ونص على اختياره شيخ الإسلام. واستشكلت الآية بأنه لا يعلم أن أحدا من النصارى اتخذ مريم عليها السلام إلها وأجيب عنه بأجوبة الأول أنهم لما جعلوا عيسى عليه الصلاة والسلام إلها لزمهم أن يجعلوا والدته أيضا كذلك لأن الولد من جنس من يلده فذكر إِلهَيْنِ على طريق الإلزام لهم. والثاني أنهم لما عظموها تعظيم الإله أطلق عليها اسم الإله كما أطلق اسم الرب على الأحبار والرهبان في قوله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة: 31] لما أنهم عظموهم تعظيم الرب. والتثنية حينئذ على حد- القلم أحد اللسانين- والثالث أنه يحتمل أن يكون فيهم من قال بذلك. ويعضد هذا القول ما حكاه أبو جعفر الإمامي عن بعض النصارى أنه قد كان فيما مضى قوم يقال لهم: المريمية يعتقدون في مريم أنها إله. وهذا كما كان في اليهود قوم يعتقدون أن عزيرا ابن الله عن اسمه وهو أولى الأوجه عندي. وما قرره الزاعم من أن النصارى يعتقدون إلخ غير مسلم في نصارى زماننا ولم ينقله أحد ممن يوثق به عنهم أصلا. وإظهار الاسم الجليل لكونه في حيز القول المسند إلى عيسى عليه الصلاة والسلام. قالَ استئناف مبني على سؤال نشأ من صدر الكلام وهو ظاهر. وفي بعض الآثار أنه عليه الصلاة والسلام حين يقول له الرب عز وجل ما يقول ترتعد مفاصله وينفجر من أصل كل شعرة من جسده عين من دم خيفة من ربه جلت عظمته، وفي بعضها أنه عليه الصلاة والسلام يرتعد خوفا ولا يفتح له باب الجواب خمسمائة عام ثم يلهمه الله تعالى الجواب بعد فيقول: سُبْحانَكَ أي تنزيها لك من أن أقول ذلك أو يقال في حقك كما قدره ابن عطية، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 وقدره بعضهم من أن يكون لك شريك فضلا من أن يتخذ إلهان دونك، وآخرون من أن تبعث رسولا يدعي ألوهية غيرك ويدعو إليها ويكفر بنعمتك، والأول أوفق بسياق النظم الكريم. وسبحان على سائر التقادير- على أحد الأقوال فيه وقد تقدمت- علم للتسبيح وانتصابه على المصدرية ولا يكاد يذكر ناصبه. وفيه من المبالغة في التنزيه من حيث الاشتقاق من السبح وهو الإبعاد في الأرض والذهاب، ومن جهة النقل إلى صيغة التفعيل والعدول عن المصدر إلى الاسم الموضوع له خاصة المشير إلى الحقيقة الحاضرة في الذهن وإقامته مقام المصدر مع الفعل ما لا يخفى. وقوله سبحانه: ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ استئناف مقرر للتنزيه ومبين للمنزه عنه. وما الثانية سواء كانت موصولة أو نكرة موصوفة مفعول أَقُولَ والمراد بها على التقديرين القول المذكور أو ما يعمه وغيره ويدخل فيه القول المذكور دخولا أوليا، ونصب القول للمفردات نحو الجملة والكلام والشعر مما لا شك في صحته كنصبه الجمل الصريحة فلا حاجة إلى تفسير أقول بأذكر كما يتوهم. واسم ليس ضمير عائد إلى ما وبِحَقٍّ خبره، والجار والمجرور فيما بينهما للتبيين فيتعلق بمحذوف كما في سقيا لك. وإيثار ليس على الفعل المنفي على ما يحق لي لظهور دلالته على استمرار انتفاء الحقية وإفادة التأكيد بما في خبره من الباء المطرد زيادتها في خبر ليس. ومعنى ما يَكُونُ لِي أي لا ينبغي ولا يليق وهو أبلغ من لم أقله فلذا أوثر عليه: والمراد لا ينبغي أن أقول قولا لا يحق لي قوله أصلا في وقت من الأوقات، وجوز أبو البقاء أن يكون لِي خبر ليس وبِحَقٍّ في موضع الحال من الضمير في الجار والعامل فيه ما فيه من معنى الاستقرار. وأن يكون متعلقا بفعل محذوف على أنه مفعول له والباء للسببية أي ما ليس يثبت لي بسبب حق. وأن يكون خبر ليس ولِي صفة حق قدم عليه فصار حالا، وهذا مخرج على رأي من أجاز تقديم المجرور عليه، وقيل: إن لِي متعلق بحق وهو الخبر. وهو أيضا مبني على قول بعض النحاة المجوز تقديم صلة المجرور على الجار. والجمهور على عدم الجواز ولا فرق عندهم في المنع بين أن يكون الجار زائدا أو غيره، وقوله عز وجل: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ استدلال على براءته من صدور القول المذكور عنه فإن صدوره عنه مستلزم لعلمه به تعالى قطعا والعلم به منتف فينتفي الصدور ضرورة أن انتفاء اللازم مستلزم لانتفاء الملزوم. واستشكلت هذه الجملة بأن المعنى على المضي هنا وأن تقلب الماضي مستقبلا. وأجاب عن ذلك المبرد بأن كان قوية الدلالة على المضي حتى قيل إنها موضوعة له فقط دون الحدث وجعلوه وجها لكونها ناقصة فلا تقدر إن على تحويلها إلى الاستقبال. وأجاب ابن السراج بأن التقدير إن أقل كنت قلته إلخ وكذا يقال فيما كان من أمثال ذلك، وقد نقل ذلك عثمان ابن يعيش وضعفه ابن هشام في تذكرته، والجمهور على أن المعنى إن صح قولي ودعواي ذلك فقد تبين علمك به تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي استئناف جار مجرى التعليل لما قبله فقوله جل شأنه: وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ بيان للواقع وإظهار لقصوره عليه السلام، وللنفس في كلامهم إطلاقات فتطلق على ذات الشيء وحقيقته وعلى الروح وعلى القلب وعلى الدم وعلى الإرادة، قيل: وعلى العين التي تصيب وعلى الغيب وعلى العقوبة. ويفهم من كلام البعض أنها حقيقة في الإطلاق الأولى مجاز فيما عداه، وفسر غير واحد النفس هنا بالقلب، والمراد تعلم معلومي الذي أخفيه في قلبي فكيف بما أعلنه ولا أعلم معلومك الذي تخفيه وسلك في ذلك مسلك المشاكلة كما في قوله: قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه ... قلت اطبخوا لي جبة وقميصا إلا أن ما في الآية كلا اللفظين وقع في كلام شخص واحد وما في البيت ليس كذلك. وفي الدر المصون أن هذا التفسير مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وحكاه عنه أيضا في مجمع البيان. وفسرها بعضهم بالذات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 وادعى أن نسبتها بهذا المعنى إلى الله تعالى لا تحتاج إلى القول بالمشاكلة، ومن ذلك قوله تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام: 54] وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه: 41] وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران 28، 30] وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أقسم ربي على نفسه أن لا يشرب عبد خمرا ولم يتب إلى الله تعالى منه إلا سقاه من طينة الخبال» وقوله عليه الصلاة والسلام: «ليس أحد أحب إليه المدح من الله عز وجل ولأجل ذلك مدح نفسه» وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «سبحان الله عدد خلقه ورضا نفسه» إلى غير ذلك من الأخبار. وقال المحقق الشريف في شرح المفتاح وغيره: إن لفظ النفس لا يطلق عليه تعالى وإن أريد به الذات إلا مشاكلة وليس بشيء لما علمت من الآيات والأحاديث، وادعاء أن ما فيها مشاكلة تقديرية كما قيل ذلك في قوله تعالى: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً [البقرة: 138] لا يخفى أنه من سقط المتاع فالصحيح المعول عليه جواز إطلاقها بمعنى الذات على الله تعالى من غير مشاكلة، نعم قيل: إن لفظ النفس في هذه الآية وإن كان بمعنى الذات لا بد معه من اعتبار المشاكلة لأن لا أعلم ما في ذاتك ليس بكلام مرضي فيحتاج إلى حمله على المشاكلة بأن يكون المراد لا أعلم معلوماتك فعبر عنه بلا أعلم ما في نفسك لوقوع التعبير عن تعلم معلومي بتعلم ما في نفسي. وعلى ذلك حمل العلامة الثاني كلام صاحب الكشاف ولا يخفى ما فيه، والتحقيق أن الآية من المشاكلة إلا أنها ليست في إطلاق النفس بل في لفظ فِي فإن مفادها بالنظر إلى ما في نفس عيسى عليه السلام والارتسام والانتقاش ولا يمكن ذلك نظرا إلى الله تعالى. وإلى هذا يشير كلام بعض المحققين ومنه يعلم ما في كتب الأصول من الخبط في هذا المقام، وقال الراغب: يجوز أن يكون القصد إلى نفي النفس عنه تعالى فكأنه قال: تعلم ما في نفسي ولا نفس لك فاعلم ما فيها كقول الشاعر: ولا ترى الضب بها ينجحر وهو على بعده مما لا يحتاج إليه. ومثله ما ذكره بعض الفضلاء من أن النفس الثانية هي نفس عيسى عليه السلام أيضا، وإنما أضافها إلى ضمير الله تعالى باعتبار كونها مخلوقة له سبحانه كأنه قال: تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما فيها إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ تقرير لمضمون الجملتين منطوقا ومفهوما لما فيه من الحصر ومدلوله الإثبات فيقرر تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي لأن ما انطوت عليه النفوس من جملة الغيوب ويلزمه النفي فيقرر لا أعلم ما في نفسك لأنه غيب أيضا، ومدلول النفي أنه لا يعلم الغيب غيره تعالى شأنه. وقوله تعالى: ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ استئناف- كما قال شيخ الإسلام- مسوق لبيان ما صدر عنه عليه السلام قد أدرج فيه عدم صدور القول المذكور عنه على أبلغ وجه وآكده حيث حكم بانتفاء صدور جميع الأقوال المغايرة للمأمور به فدخل فيه انتفاء صدور القول المذكور دخولا أوليا. والمراد عند البعض ما أمرتهم إلا بما أمرتني به إلا أنه قيل: ما قُلْتُ لَهُمْ نزولا على قضية حسن الأدب لئلا يجعل ربه سبحانه ونفسه معا آمرين ومراعاة لما ورد في الاستفهام. ودل على ذلك بإقحام أن المفسرة في قوله تعالى: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ. ولا يرد أن الأمر لا يتعدى بنفسه إلى المأمور به إلا قليلا كقوله: أمرتك الخير فافعل ما أمرت به فكذا ما أول به لأنه- كما قال ابن هشام- لا يلزم من تأويل شيء بشيء أن يتعدى تعديته كما صرحوا به لأن التعدية تنظر إلى اللفظ. نعم قيل في جعل أن مفسرة بفعل الأمر المذكور صلته نحو أمرتك بهذا أن قم نظر أما في طريق القياس فلأن أحدهما مغن عن الآخر. وأما في الاستعمال فلأنه لم يوجد. ونظر فيما ذكر في طريق القياس لأن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 الأول لا يغني عن الثاني والثاني لا يغني عن الأول وللتفسير بعد الإبهام شأن ظاهر. وادعى ابن المنير أن تأويل هذا القول بالأمر كلفة لا طائل وراءها وفيه نظر. وجوز إبقاء القول على معناه وأَنِ اعْبُدُوا إما خبر لمضمر أي هو أن اعبدوا أو منصوب بأعني مقدرا، قيل: عطف بيان للضمير في بِهِ، واعترض بأنه صرح في المغني بأن عطف البيان في الجوامد بمنزلة النعت في المشتقات فكما أن الضمير لا ينعت لا يعطف عليه عطف بيان، وأجيب بأن ذلك من المختلف فيه وكثير من النحاة جوزوه. وما في المغني قد أشار شراحه إلى رده، وقيل: بدل من الضمير بدل كل من كل. ورده الزمخشري في الكشاف بأن المبدل منه في حكم التنحية والطرح فيلزم خلو الصلة من العائد بطرحه، وأجيب عنه بأن المذهب المنصور أن المبدل منه ليس في حكم الطرح مطلقا بل قد يعتبر طرحه في بعض الأحكام كما إذا وقع مبتدأ فإن الخبر للبدل نحو زيد عينه حسنة ولا يقال حسن. وقد يقال أيضا: إنه ليس كل مبدل منه كذلك بل ذلك مخصوص فيما إذا كان البدل بدل غلط، وأجاب بعضهم بأنه وإن لزم خلو الصلة من العائد بالطرح لكن لا ضير فيه لأن الاسم الظاهر يقوم مقامه كما في قوله: وأنت الذي في رحمة الله أطمع. ولا يخفى أن في صحة قيام الظاهر هنا مقام الضمير خلافا لهم، وجوز أن يكون بدلا من ما أَمَرْتَنِي بِهِ، واعترض بأن ما مفعول القول ولا بد فيه أن يكون جملة محكية أو ما يؤدي مؤداها أو ما أريد لفظه وإذا كان العبادة بدلا كانت مفعول القول مع أنها ليست واحدا من هذه الأمور فلا يقال: ما قلت لهم إلا العبادة، وفي الانتصاف أن العبادة وإن لم تقل فالأمر بها يقال وأن الموصولة بفعل الأمر يقدر معها الأمر فيقال هنا ما قلت لهم: إلا الأمر بالعبادة ولا ريب في صحته لأن الأمر مقول بل قول على أن جعل العبادة مقولة غير بعيد على طريقة ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا [المجادلة: 3] أي الوطن الذي قالوا قولا يتعلق به وقوله تعالى: وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ [مريم: 80] ونحو ذلك، وفي الفوائد أن المراد ما قلت لهم إلا عبادته أي الزموا عبادته فيكون هو المراد من ما أَمَرْتَنِي بِهِ ويصح كون هذه الجملة بدلا من ما أمرتني به من حيث إنها في حكم المراد لأنها مقولة وما أَمَرْتَنِي بِهِ مفرد لفظا وجملة معنى ولا يخلو عن تعسف، وجوز إبقاء القول على معناه وأن مفسرة إما لفعل القول أو لفعل الأمر، واعترض بأن فعل القول لا يفسر بل يحكى به ما بعده من الجمل ونحوها وبأن فعل الأمر مسند إلى الله تعالى وهو لا يصح تفسيره باعبدوا الله ربي وربكم بل باعبدوني أو اعبدوا الله ونحوه، وأجيب عن هذا بأنه يجوز أن يكون حكاية بالمعنى كأنه عليه السلام حكى معنى قول الله عز وجل بعبارة أخرى وكأن الله تعالى قال له عليه السلام: مرهم بعبادتي أو قال لهم على لسان عيسى عليه السلام: اعبدوا الله رب عيسى وربكم فلما حكاه عيسى عليه السلام قال: اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ فكنى عن اسمه الظاهر بضميره كما قال الله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى [طه: 52، 53] فإن موسى عليه السلام لا يقول فأخرجنا بل فأخرج الله تعالى لكن لما حكاه الله تعالى عنه عليه السلام رد الكلام إليه عز شأنه وأضاف الإخراج إلى ذاته عز وجل على طريقة المتكلم لا الحاكي وإن كان أول الكلام حكاية. ومثله قوله تعالى: لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف: 9] إلى قوله سبحانه: فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً [الزخرف: 11] إلى غير ذلك. وقال أبو حيان: يجوز أن يكون المفسر اعْبُدُوا اللَّهَ ويكون رَبِّي وَرَبَّكُمْ من كلام عيسى عليه السلام على إضمار أعني لا على الصفة لله عز اسمه واعتمده ابن الصائغ وجعله نظير قوله تعالى: إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ [النساء: 157] على رأي. وفي أمالي ابن الحاجب إذا حكى حاك كلاما فله أن يصف م 5- روح المعاني مجلد 4 الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 المخبر عنه بما ليس في كلام المحكي عنه، واستبعد ذلك الحلبي والسفاقسي وهو الذي يقتضيه الإنصاف. وقيل على الأول: إن بعضهم أجاز وقوع أن المفسرة بعد لفظ القول ولم يقتصر بها على ما في معناه فيقع حينئذ مفسرا له لكن أنت تعلم أنه لا ينبغي الاختلاف في أنه لا يقترن المقول المحكي بحرف التفسير لأن مقول القول في محل نصب على المفعولية والجملة المفسرة لا محل لها فلعل مراد البعض مجرد الوقوع والتزام أن المقول محذوف وهو المحكي وهذا تفسير له أي ما قلت لهم مقولا فتدبر فقد انتشرت كلمات العلماء هنا. وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً أي رقيبا أراعي أحوالهم وأحملهم على العمل بموجب أمرك من غير واسطة ومشاهدا لأحوالهم من إيمان وكفر، وعَلَيْهِمْ كما قال أبو البقاء متعلق بشهيدا، ولعل التقديم لما مر غير مرة ما دُمْتُ فِيهِمْ أي مدة دوامي فيما بينهم فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي أي قبضتني بالرفع إلى السماء كما يقال توفيت المال إذا قبضته. وروي هذا عن الحسن وعليه الجمهور. وعن الجبائي أن المعنى أمتني وادعى أن رفعه عليه السلام إلى السماء كان بعد موته وإليه ذهب النصارى وقد مر الكلام في ذلك كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ أي الحفيظ المراقب فمنعت من أردت عصمته عن المخالفة بالإرشاد إلى الدلائل والتنبيه عليها بإرسال الرسول وإنزال الآيات وخذلت من خذلت من الضالين فقالوا ما قالوا، وقيل: المراد بالرقيب المطلع المشاهد، ومعنى الجملتين إني ما دمت فيهم كنت مشاهدا لأحوالهم فيمكن لي بيانها فلما توفيتني كنت أنت المشاهد لذلك لا غيرك فلا أعلم حالهم ولا يمكنني بيانها، ولا يخفى أن الأول أوفق بالمقام، وقد نص بعض المحققين أن الرقيب والشهيد هنا بمعنى واحد وهو ما فسر به الشهيد أولا ولكن تفنن في العبارة ليميز بين الشهيدين والرقيبين لأن كونه عليه الصلاة والسلام رقيبا ليس كالرقيب الذي يمنع ويلزم به كالشاهد على المشهود عليه ومنعه بمجرد القول وأنه تعالى شأنه هو الذي يمنع منع إلزام بالأدلة والبينات، وأَنْتَ ضمير فصل أو تأكيد والرَّقِيبَ خبر كان. وقرىء «الرقيب» بالرفع على أنه خبر أنت، والجملة خبر كان وعَلَيْهِمْ في القراءتين متعلق بالرقيب. وقوله سبحانه: وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ تذييل مقرر لمضمون ما قبله وفيه- على ما قيل- إيذان بأنه سبحانه كان هو الشهيد في الحقيقة على الكل حين كونه عليه السلام فيما بينهم، وعَلى متعلقة بشهيد والتقديم لمراعاة الفاصلة، وقوله تعالى: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ على معنى أن تعذبهم لم يلحقك بتعذيبهم اعتراض لأنك المالك المطلق لهم ولا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعله بملكه، وقيل: على معنى إِنْ تُعَذِّبْهُمْ لم يستطع أحد منهم على دفع ذلك عن نفسه لأنهم عبادك الأرقاء في أسر ملكك وماذا تبلغ قدرة العبد في جنب قدرة مالكه، وقيل: المعنى إن تعذبهم فإنهم يستحقون ذلك لأنهم عبادك وقد عبدوا غيرك وخالفوا أمرك وقالوا ما قالوا، ونسب ذلك إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو بعيد عن النظم، نعم لا يبعد أن يكون في النظم إشارة إليه. وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي فإن تغفر لهم ما كان منهم لا يلحقك عجز بذلك ولا استقباح فإنك القوي القادر على جميع المقدورات التي من جملتها الثواب والعقاب الحكيم الذي لا يريد ولا يفعل إلا ما فيه حكمة، والمغفرة للكافر لم يعدم فيها وجه حكمة لأن المغفرة حسنة لكل مجرم في المعقول بل متى كان المجرم أعظم جرما كان العفو عنه أحسن لأنه أدخل في الكرم وإن كانت العقوبة أحسن في حكم الشرع من جهات أخر، وعدم المغفرة للكافر بحكم النص والإجماع لا للامتناع الذاتي فيه ليمتنع الترديد والتعليق بإن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 وقد نقل الإمام أن غفران الشرك عندنا جائز. وعند جمهور البصريين من المعتزلة قالوا: لأن العقاب حق الله تعالى على المذنب وليس في إسقاطه على الله سبحانه مضرة. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن السدي أن معنى الآية إن تعذبهم فتميتهم بنصرانيتهم فيحق عليهم العذاب فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فتخرجهم من النصرانية وتهديهم إلى الإسلام فإنك أنت العزيز الحكيم، وهذا قول عيسى عليه السلام في الدنيا اه. ولا يخفى أنه مخالف لما يقتضيه السباق والسياق، وقيل: الترديد بالنسبة إلى فرقتين، والمعنى إن تعذبهم أي من كفر منهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم وتعف عمن آمن منهم فإنك إلخ وهو بعيد جدا، وظاهر ما قالوه أنه ليس في قوله سبحانه وإن تغفر إلخ تعريض بسؤال المغفرة وإنما هو لإظهار قدرته سبحانه وحكمته، ولذا قال سبحانه الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ دون الغفور الرحيم مع اقتضاء الظاهر لهما، وما جاء في الإخبار مما أخرجه أحمد في المصنف والنسائي والبيهقي في سننه عن أبي ذر قال: «صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ إلخ فلما أصبح قلت: يا رسول الله ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت قال: إني سألت ربي سبحانه الشفاعة فأعطانيها وهي نائلة إن شاء الله تعالى من لا يشرك بالله تعالى شيئا» وما أخرجه مسلم وابن أبي الدنيا في حسن الظن والبيهقي في الأسماء والصفات. وغيرهم عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم تلا قول الله سبحانه في إبراهيم عليه السلام رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي [إبراهيم: 36] الآية، وقوله عز وجل في عيسى ابن مريم: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ إلخ فرفع يديه فقال: اللهم أمتي أمتي وبكى فقال الله جلت رحمته: يا جبرائيل اذهب إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم فقل له: إنا سنقر عينك في أمتك ولا نسوءك» وما أخرجه ابن مردويه عن أبي ذر قال: «قلت للنبي صلّى الله عليه وسلّم بأبي أنت وأمي يا رسول الله قمت الليلة بآية من القرآن يعني بها هذه الآية ومعك قرآن أو فعل هذا بعضنا تال وجدنا عليه قال: دعوت الله سبحانه لأمتي قال: فماذا أجبت؟ قال: أجبت بالذي لو اطلع كثير منهم عليه تركوا الصلاة قلت: أفلا أبشر الناس؟ قال: بلى فقال عمر: يا رسول الله إنك إن تبعث إلى الناس بهذا يتكلوا ويدعوا العبادة فناداه أن ارجع فرجع» لا يقوم دليلا على أن في الآية تعريضا بطلب المغفرة للكافر إذ لا يبعد منه صلّى الله عليه وسلّم الدعاء لأمته وطلب الشفاعة لهم بهذا النظم لكن على الوجه الذي قصده عيسى عليه السلام منه، ويحتمل أنه صلّى الله عليه وسلّم اقتبس ذلك من القرآن مؤديا به مقصوده الذي أراده وليس ذلك أول اقتباس له عليه الصلاة والسلام فقد صرح بعض العلماء أن دعاء التوجه عند الشافعية من ذلك القبيل والصلاة لا تنافي الدعاء، وما أخرجه مسلم ومن معه ليس فيه أكثر من أن ما ذكر آثار كأمن (1) شفقته صلّى الله عليه وسلّم على أمته فدعا لهم بما دعا وذلك لا يتوقف على أن في الآية تعريضا لسؤال المغفرة للكافر، ثم إن للعلماء في بيان سر ذكر ذينك الاسمين الجليلين في الآية كلاما طويلا حيث أشكل وجه مناسبتهما لسياق ما قرنا به حتى حكي عن بعض القراء أنه غيرهما لسخافة عقله فكان يقرأ فإنك أنت الغفور الرحيم إلى أن حبس وضرب سبع درر، ووقع لبعض الطاعنين في القرآن من الملاحدة أن المناسب ما وقع في مصحف ابن مسعود فإنك أنت العزيز الغفور كما نقل ذلك ابن الأنباري، وقد علمت أحد توجيهاتهم لذلك. وقيل: إن ذكرهما من باب الاحتراس لأن ترك عقاب الجاني قد يكون لعجز في القدرة أو لإهمال ينافي الحكمة فدفع توهم ذلك بذكرهما، وفي أمالي العز بن عبد السلام أن الْعَزِيزُ معناه هنا الذي لا نظير له، والمعنى   (1) هكذا في الأصل تأمل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 وإن تغفر لهم فإنك أنت الذي لا نظير لك في غفرانك وسعة رحمتك، وأنت أولى من رحم وأجدر من غفر وستر الحكيم الذي لا يفعل شيئا إلا في مستحقه وهم مستحقون ذلك لفضلك وضعفهم، وهذا ظاهر في أن في الآية تعريضا بطلب المغفرة ولا أظنك تقول به، وادعى بعضهم أنهما متعلقان بالشرطين لا بالثاني فقط، وحينئذ وجه مناسبتهما لا سترة عليه فإن من له الفعل والترك عزيز حكيم، وذكر أن هذا أنسب وأدق وأليق بالمقام. قالَ اللَّهُ كلام مستأنف ختم به حكاية ما حكي مما يقع يوم يجمع الله الرسل عليهم الصلاة والسلام وأشير إلى نتيجته ومآله، وصيغة الماضي لما تحقق، والمراد بقول الله تعالى عقيب جواب عيسى عليه السلام مشيرا إلى صدقه ضمن بيان حال الصادقين الذين هو في زمرتهم وبذلك يزول أيضا عنه عليه السلام خوفه من صورة ذلك السؤال لا أن إزالته هي المقصودة من القول على ما قيل. هذا أي اليوم الحاضر يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ أي المستمرين على الصدق في الأمور المطلوبة منهم التي معظمها التوحيد الذي نحن بصدده والشرائع والأحكام المتعلقة به من الرسل الناطقين بالحق والصدق الداعين إلى ذلك وبه تحصل الشهادة بصدق عيسى عليه السلام ومن الأمم المصدقين لأولئك الكرام عليهم الصلاة والسلام المقتدين بهم عقدا وعملا وبه يتحقق ترغيب السامعين المقصود بالحكاية في الإيمان برسول الله صلّى الله عليه وسلّم صِدْقُهُمْ أي فيما ذكر في الدنيا إذ هو المستتبع للنفع والمجازاة يومئذ، وقيل: في الآخرة. والمراد من الصادقين الأمم ومن صِدْقُهُمْ صدقهم في الشهادة لأنبيائهم بالبلاغ وهو ينفعهم لقيامهم فيه بحق الله تعالى وهو كما ترى، وقيل: المراد صدقهم المستمر في دنياهم إلى آخرتهم ليتسنى كون ما ذكر شهادة بصدق عيسى عليه السلام فيما قاله جوابا عن السؤال على ما يقتضيه السوق، ويكون النفع باعتبار تحققه في الدنيا والمطابقة لما يقتضيه السوق باعتبار تقرره ووقوع بعض جزئياته في الآخرة، والمستمر هو الأمر الكلي الذي هو الاتصاف بالصدق، ولا يلزم من هذا محذور مدخلية الصدق الأخروي في الجزاء، ولا يحتاج إلى جعل الصدق الأخروي شرطا في نفع الصدق الدنيوي والمجازاة عليه، ولعل فيما تقدم غني عن هذا كما لا يخفى على الناظر، وقيل: المراد من الصادقين النبيون ومن صِدْقُهُمْ صدقهم في الدنيا بالتبليغ ويكون مساق الآية للشهادة بصدقه عليه السلام في قوله: ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ وأنت تعلم أن هذا الغرض حاصل على تقدير التعميم وزيادة. وقيل: المراد من الصدق الصدق في الدنيا إلا أن المراد من الصادقين الأمم، والكلام مسوق لرد عرض عيسى عليه السلام المغفرة عليه سبحانه وتعالى كأنه قيل: هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لا غير فلا مغفرة لهؤلاء، ولا يخفى أن التعميم لا ينافي كون الكلام مسوقا لما ذكر على تقدير تسليم ذلك. واسم الإشارة مبتدأ ويَوْمُ بالرفع وهي قراءة الجمهور خبره. وقرأ نافع وحده «يوم» بالنصب على أنه ظرف لقال و «هذا» مبتدأ خبره محذوف أي كلام عيسى عليه السلام أو حق أو نحو ذلك أو ظرف مستقر وقع خبرا والمعنى هذا الذي مر من جواب عيسى عليه السلام أو السؤال والجواب واقع يوم ينفع، وجوز أن يكون «هذا» مفعولا به للقول لأنه بمعنى الكلام والقصص أو مفعولا مطلقا لأنه بمعنى القول، وقيل: إن «هذا» مبتدأ و «يوم» خبره وهو مبني على الفتح بناء على أن الظرف يبنى عليه إذا أضيف إلى جملة فعلية وإن كانت معربة وهو مذهب الكوفيين واختاره ابن مالك وغيره والبصريون لا يجيزون البناء إلا إذا صدرت الجملة المضاف إليها بفعل ماض كقوله: على حين عاتبت المشيب على الصبا. وألحقوا بذلك الفعل المنفي، ويخرجون هذه القراءة على أحد الأوجه السابقة. وقرأ الأعمش «يوم» بالرفع والتنوين على أنه خبر هذا والجملة بعده صفته بحذف العائد، وقرأ «صدقهم» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 بالنصب على أن يكون فاعل يَنْفَعُ ضمير الله تعالى، وصِدْقُهُمْ كما قال أبو البقاء إما مفعول له أي لصدقهم أو منصوب بنزع الخافض أي بصدقهم أو مصدر مؤكد أو مفعول به على معنى يصدقون الصدق كقولك: صدقته القتال، والمراد يحققون الصدق. لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً تفسير للنفع ولذا لم يعطف عليه كأنه قيل: ما لهم من النفع؟ فقيل: لهم نعيم دائم وثواب خالد، وقوله سبحانه: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بيان لكونه تعالى أفاض عليهم غير ما ذكر وهو رضوانه عز وجل الذي لا غاية وراءه كما ينبىء عن ذلك قوله سبحانه: وَرَضُوا عَنْهُ إذ لا شيء أعز منه حتى تمد إليه أعناق الآمال ذلِكَ إشارة إلى نيل رضوانه جل شأنه كما اختاره بعض المحققين أو إلى جميع ما تقدم كما اختاره في البحر وإليه يشير ما روي عن الحسن الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الذي لا يحيط به نطاق الوصف ولا يوقف على مطلب يدانيه أصلا لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ تحقيق للحق وتنبيه بما فيه من تقديم الظرف المفيد للحصر على كذب النصارى وفساد ما زعموه في حق المسيح وأمه عليهما السلام. وقيل: استئناف مبني على سؤال نشأ من الكلام السابق كأنه قيل: من يملك ذلك ليعطيهم إياه؟ فقيل: لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ [آل عمران: 189، المائدة: 18، النور: 42، الشورى: 49] إلخ فهو المالك والقادر على الإعطاء ولا يخفى بعده. وفي إيثار «ما» على من المختصة بالعقلاء على تقدير تناولها للكل مراعاة- كما قيل للأصل وإشارة إلى تساوي الفريقين في استحالة الربوبية حسب تساويهما في تحقق المربوبية. وعلى تقدير اختصاصها بغير العقلاء كما يشير إليه خبر ابن الزبعرى رضي الله تعالى عنه تنبيه على كمال قصورهم من رتبة الألوهية، وفي تغليب غير العقلاء على العقلاء على خلاف المعروف ما لا يخفى من حط قدرهم وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الأشياء قَدِيرٌ أي مبالغ في القدرة. وفسرها الغزالي بالمعنى الذي به يوجد الشيء متقدرا بتقدير الإرادة. والعلم واقعا على وفقهما، وفسر الموصوف بها على الإطلاق بأنه الذي يخترع كل موجود اختراعا ينفرد به ويستغني به عن معاونة غيره وليس ذاك إلا الله تعالى الواحد القهار. والظرف متعلق بقدير. والتقديم لمراعاة الفاصلة، ولا يخفى ما في ذكر كبرياء الله تعالى وعزته وقهره وعلوه في آخر هذه السورة من حسن الاختتام، وأخرج أبو عبيد عن أبي الزاهرية أن عثمان رضي الله تعالى عنه كتب في آخر المائدة «ولله ملك السماوات والأرض والله سميع بصير» . ومن باب الإشارة في الآيات: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ هي عندهم حضرة الجمع المحرمة على الأغيار، وقيل: قلب المؤمن، وقيل: الكعبة المخصوصة لا باعتبار أنها جدران أربعة وسقف بل باعتبار أنها مظهر جلال الله تعالى. وقد ذكروا أنه سبحانه يتجلى منها لعيون العارفين كما يشير إليه قوله عز شأنه على ما في التوراة «جاء الله تعالى من سينا فاستعلن بساعير وظهر من فاران» قِياماً لِلنَّاسِ من موتهم الحقيقي لما يحصل لهم بواسطة ذلك وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وهو زمن الوصول أو مراعاة القلب أو الفوز بذلك التجلي الذي يحرم فيه ظهور صفات النفس أو الالتفات إلى مقتضيات القوى الطبيعية أو نحو ذلك وَالْهَدْيَ وهي النفس المذبوحة بفناء حضرة الجمع أو الواردات الإلهية التي ترد القلب أو ما يحصل للعبد من المنن عند ذلك التجلي وَالْقَلائِدَ وهي النفس الشريفة المنقادة أو هي نوع مما يحصل للعبد من قبل مولاه يقوده قسرا إلى ترك السوي ذلِكَ لِتَعْلَمُوا بما يحصل لكم أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي يعلم حقائق الأشياء في عالمي الغيب والشهادة وعلمه محيط بكل شيء قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ من النفوس والأعمال والأخلاق والأموال وَالطَّيِّبُ من ذلك وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ بسبب ملاءمته للنفس فإن الأول موجب للقربة دون الثاني الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الإيمان البرهاني لا تَسْئَلُوا من أرباب الإيمان العياني عَنْ أَشْياءَ غيبية وحقائق لا تعلم إلا بالكشف إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ تهلككم لقصوركم عن معرفتها فيكون ذلك سببا لإنكار كم والله سبحانه غيور وإنه ليغضب لأوليائه كما يغضب الليث للحرب. وفي هذا- كما قيل- تحذير لأهل البداية عن كثرة سؤالهم من الكاملين عن أسرار الغيب وإرشاد لهم إلى الصحبة مع التسليم وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ الجامع للظاهر والباطن والمتضمن لما سئلتم عنه تُبْدَ لَكُمْ بواسطته ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وهي النفس التي شقت أذنها لسماع المخالفات وَلا سائِبَةٍ وهي النفس المطلقة العنان السارحة في رياض الشهوات وَلا وَصِيلَةٍ وهي النفس التي وصلت حبال آمالها بعضا ببعض فسوفت التوبة والاستعداد للآخرة وَلا حامٍ وهو من اشتغل حينا بالطاعة ولم يفتح له باب الوصول فوسوس إليه الشيطان، وقال: يكفيك ما فعلت وليس وراء ما أنت فيه شيء فأرح نفسك فحمى نفسه عن تحمل مشاق المجاهدات. ونقل النيسابوري عن الشيخ نجم الدين المعروف بداية أن البحيرة إشارة إلى الحيدرية والقلندرية يثقبون آذانهم ويجعلون فيها حلق الحديد ويتركون الشريعة، والسائبة إشارة إلى الذين يضربون في الأرض خالعين العذار بلا لجام الشريعة وقيد الطريقة ويدعون أنهم أهل الحقيقة، والوصيلة إشارة إلى أهل الإباحة الذين يتصلون بالأجانب بطريق المؤاخاة والاتحاد ويرفضون صحبة الأقارب لأجل العصبية والعناد، والحام إشارة إلى المغرور بالله عز وجل يظن أنه بلغ مقام الحقيقة فلا يضره مخالفة الشريعة، وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ من الأحكام وَإِلَى الرَّسُولِ لمتابعته قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا من الأفعال التي عاشوا بها وماتوا عليها أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً من الشريعة والطريقة وَلا يَهْتَدُونَ إلى الحقيقة. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ فاشتغلوا بتزكيتها لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ عما أنتم فيه فأنكر عليكم إِذَا اهْتَدَيْتُمْ وزكيتم أنفسكم، وإنما ضرر ذلك على نفسه. وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ الآيتين لم يظهر للعبد فيه شيء يصلح للتحرير، وقد ذكر النيسابوري في تطبيقه على ما في الأنفس ما رأيت الترك له أنفس يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ وهو يوم القيامة الكبرى فَيَقُولُ لهم ماذا أُجِبْتُمْ حين دعوتم الخلق قالُوا لا عِلْمَ لَنا بذلك إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ فتعلم جواب ما سئلنا، وهذا على ما قيل عند تراكم سطوات الجلال وظهور رداء الكبرياء وإزار العظمة ولهذا بهتوا وتاهوا وتحيروا وتلاشوا ولله سبحانه تجليات على أهل قربه وذوي حبه فيفنيهم تارة بالجلال ويبقيهم ساعة بالجمال ويخاطبهم مرة باللطف ويعاملهم أخرى بالقهر وكل ما فعل المحبوب محبوب. وقال بعض أهل التأويل: يجمع الله تعالى الرسل في عين الجمع المطلق أو عين جمع الذات فيسألهم هل اطلعتم على مراتب الخلق في كمالاتهم حين دعوتموهم إلي؟ فينفوا العلم عن أنفسهم ويثبتوه لله تعالى لاقتضاء مقام الفناء ذلك إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ للأحباب والمريدين نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ لتزداد رغبتهم في واشكر ذلك لأزيدك مما عندي فخزائني مملوءة بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ وهو الروح الذي أشرق من صبح الأزل وهي روحه الطاهرة، وقيل: المراد أيدتك بجبرائيل حيث عرفك رسوم العبودية تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ أي مهد البدن أو في المهد المعلوم. والمعنى نطقت لهم صغيرا بتنزيه الله تعالى وإقرارك له بالعبودية وَكَهْلًا أي في حال كبرك، والمراد أنك لم يختلف حالك صغرا وكبرا بل استمر تنزيهك لربك ولم ترجع القهقرى وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وهو كتاب الحقائق والمعارف وَالْحِكْمَةَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 وهي حكمة السلوك في الله عز وجل بتحصيل الأخلاق والأحوال والمقامات والتجريد والتفريد وَالتَّوْراةَ أي العلوم الظاهرة والأحكام المتعلقة بالأفعال وأحوال النفس وصفاتها وَالْإِنْجِيلَ العلوم الباطنة ومنها تجليات الصفات والأحكام المتعلقة بأحوال القلب وصفاته وَإِذْ تَخْلُقُ بالتربية أو بالتصوير مِنَ الطِّينِ وهو الاستعداد المحض أو الطين المعلوم كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ أي كصورة طير القلب الطائر إلى حضرة القدس أو الطير المشهور فَتَنْفُخُ فِيها من الروح الظاهرة فيك فَتَكُونُ طَيْراً نفسا مجردة طائرة بجناح الصفاء والعشق أو طيرا حقيقة بِإِذْنِي حيث صرت مظهرا لي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ أي المحجوب عن نور الحق وَالْأَبْرَصَ أي الذي أفسد قلبه حب الدنيا وغلبة الهوى بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بداء الجهل من قبور الطبيعة بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ وهي القوى النفسانية أو المحجوبين عن نور تجليات الصفات عَنْكَ فلم ينقصك كيدهم شيئا إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ وهي الحجج الواضحة أو القوى الروحانية الغالبة وَإِذْ أَوْحَيْتُ بطريق الإلهام إِلَى الْحَوارِيِّينَ وهم الذين طهروا نفوسهم بماء العلم النافع ونقوا ثياب قلوبهم عن لوث الطبائع أَنْ آمِنُوا بِي إيمانا حقيقيا بتوحيد الصفات وَبِرَسُولِي برعاية حقوق تجلياتها على التفصيل. وذكر بعض السادة أن الوحي يكون خاصا ويكون عاما فالخاص ما كان بغير واسطة والعام ما كان بالواسطة من نحو الملك، والروح، والقلب، والعقل، والسر، وحركة الفطرة وللأولياء نصيب من هذا النوع. ولوحي الخاص مراتب وحي الفعل ووحي الذات. فوحي الذات يكون في مقام التوحيد عند رؤية العظمة والكبرياء. ووحي الفعل يكون في مقام العشق والمحبة وهناك منازل الأنس والانبساط إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أي المربي لك والمفيض عليك ما كملك أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً أي شريعة مشتملة على أنواع العلوم والحكم والمعارف والأحكام مِنَ السَّماءِ أي من جهة سماء الأرواح قالَ اتَّقُوا اللَّهَ أي اجعلوه سبحانه وقاية لكم فيما يصدر عنكم من الأفعال والأخلاق إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ولا تسألوا شريعة مجددة قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها بأن نعمل بها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا فإن العلم غذاء وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا في الاخبار عن ربك وعن نفسك وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ فنعلم بها الغائبين وندعوهم إليها قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بها منكم ويحتجب عن ذلك الدين بَعْدُ أي بعد الإنزال فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ وذلك بالحجاب عني لوجود الاستعداد ووضوح الطريق وسطوع الحجة والعذاب مع العلم أشد من العذاب مع الجهل. وقوله تعالى: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ إلخ كلام الشيخ الأكبر قدس سره. وكلام الشيخ عبد الكريم الجيلي فيه شهير منتشر على ألسنة المخلصين والمنكرين فيما بيننا. والله تعالى أعلم بمراده نسأل الله تعالى أن ينزل علينا موائد كرمه ولا يقطع عنا عوائد نعمه ويلطف بنا في كل مبدأ وختام بحرمة نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 سورة الأنعام بسم الله الرحمن الرحيم كما أخرج أبو عبيد والبيهقي وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وروى ابن مردويه، والطبراني عنه أنها نزلت بمكة ليلا جملة واحدة. وروى خبر الجملة أبو الشيخ عن أبي بن كعب مرفوعا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأخرج النحاس في ناسخه عن الحبر أنها مكية إلا ثلاث آيات منها فإنها نزلت بالمدينة قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ [الأنعام: 151] إلى تمام الآيات الثلاث. وأخرج ابن راهويه في مسنده وغيره عن شهر بن حوشب أنها مكية إلا آيتين أتل تَعالَوْا أَتْلُ [الأنعام: 151] والتي بعدها. وأخرج أبو الشيخ أيضا عن الكلبي وسفيان قالا: نزلت سورة الأنعام كلها بمكة إلا آيتين نزلتا بالمدينة في رجل من اليهود وهو الذي قال: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 91] الآية. وأخرج ابن المنذر عن أبي جحيفة نزلت سورة الأنعام كلها بمكة إلا وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ [الأنعام: 111] فإنها مدنية، وقال غير واحد: كلها مكية إلا ست آيات وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام: 91] إلى تمام ثلاث آيات قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ إلى آخر الثلاث. وعدة آياتها عند الكوفيين مائة وخمس وستون. وعند البصريين والشاميين ست وستون. وعند الحجازيين سبع وستون. وقد كثرت الأخبار بفضلها فقد أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الشعب والإسماعيلي في معجمه عن جابر قال: لما نزلت سورة الأنعام سبح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال عليه الصلاة والسلام: «لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق» وخبر تشييع الملائكة لها رواه جمع من المحدثين إلا أن منهم من روى أن المشيعين سبعون ألفا ومنهم من روى أنهم كانوا أقل ومنهم من روى أنهم كانوا أكثر. وأخرج الديلمي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من صلى الفجر بجماعة وقعد في مصلاه، وقرأ ثلاث آيات من أول سورة الأنعام وكل الله تعالى به سبعين ملكا يسبحون الله تعالى ويستغفرون له إلى يوم القيامة» . وأخرج أبو الشيخ عن حبيب بن محمد العابد قال: من قرأ ثلاث آيات من أول الأنعام إلى قوله تعالى تَكْسِبُونَ بعث الله تعالى له سبعين ألف ملك يدعون له إلى يوم القيامة وله مثل أعمالهم فإذا كان يوم القيامة أدخله الجنة وسقاه من السلسبيل وغسله من الكوثر وقال: أنا ربك حقا وأنت عبدي إلى غير ذلك من الأخبار، وغالبها في هذا المطلب ضعيف وبعضها موضوع كما لا يخفى على من نقر عنها. ولعل الأخبار بنزول هذه السورة جملة أيضا كذلك. وحكى الإمام اتفاق الناس على القول بنزولها جملة ثم استشكل ذلك بأنه كيف يمكن أن يقال حينئذ في كل واحدة من آياتها إن سبب نزولها الأمر الفلاني مع أنهم يقولونه. والقول بأن مراد القائل بذلك عدم تخلل نزول شيء من آيات سورة أخرى بين أوقات نزول آياتها مما لا تساعده الظواهر بل في الأخبار ما هو صريح فيما يأباه. والقول بأنها نزلت مرتين دفعة وتدريجا خلاف الظاهر ولا دليل عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 72 ويؤيد ما أشرنا إليه من ضعف الأخبار بالنزول جملة ما قاله ابن الصلاح في فتاويه الحديث الوارد في أنها نزلت جملة رويناه من طريق أبي بن كعب ولم نر له سندا صحيحا، وقد روي ما يخالفه انتهى. ومن هذا يعلم ما في دعوى الإمام اتفاق الناس على القول بنزولها جملة فتدبر. ووجه مناسبتها لآخر المائدة على- ما قال بعض الفضلاء- إنها افتتحت بالحمد وتلك اختتمت بفصل القضاء وهما متلازمان كما قال سبحانه: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الزمر: 75] . وقال الجلال السيوطي في وجه المناسبة: إنه تعالى لما ذكر في آخر المائدة لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ [المائدة: 120] على سبيل الإجمال افتتح جل شأنه هذه السورة بشرح ذلك وتفصيله فبدأ سبحانه بذكر خلق السماوات والأرض وضم تعالى إليه أنه جعل الظلمات والنور وهو بعض ما تضمنه ما فيهن ثم ذكر عز اسمه أنه خلق النوع الإنساني وقضى له أجلا وجعل له أجلا آخر للبعث وأنه جل جلاله منشىء القرون قرنا بعد قرن ثم قال تعالى: قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ [الأنعام: 12] إلخ فأثبت له ملك جميع المظروفات لظرف المكان. ثم قال عز من قائل: وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [الأنعام: 13] فأثبت أنه جل وعلا ملك جميع المظروفات لظرف الزمان. ثم ذكر سبحانه خلق سائر الحيوان من الدواب والطير ثم خلق النوم واليقظة والموت. ثم أكثر عز وجل في أثناء السورة من الإنشاء والخلق لما فيهن من النيرين والنجوم وفلق الإصباح وفلق الحب والنوى وإنزال الماء وإخراج النبات والثمار بأنواعها وإنشاء جنات معروشات وغير معروشات إلى غير ذلك مما فيه تفصيل ما فيهن، وذكر عليه الرحمة وجها آخر في المناسبة أيضا وهو أنه سبحانه لما ذكر في سورة المائدة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة: 87] إلخ، وذكر جل شأنه بعده ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ [المائدة: 103] إلخ فأخبر عن الكفار أنهم حرموا أشياء مما رزقهم الله تعالى افتراء على الله عز شأنه وكان القصد بذلك تحذير المؤمنين أن يحرموا شيئا من ذلك فيشابهوا الكفار في صنعهم وكان ذكر ذلك على سبيل الإيجاز ساق جل جلاله هذه السورة لبيان حال الكفار في صنعهم فأتى به على الوجه الأبين والنمط الأكمل ثم جادلهم فيه وأقام الدلائل على بطلانه وعارضهم وناقضهم إلى غير ذلك مما اشتملت عليه القصة فكانت هذه السورة شرحا لما تضمنته تلك السورة من ذلك على سبيل الإجمال وتفصيلا وبسطا وإتماما وإطنابا، وافتتحت بذكر الخلق والملك لأن الخالق المالك هو الذي له التصرف في ملكه ومخلوقاته إباحة ومنعا وتحريما وتحليلا فيجب أن لا يعترض عليه سبحانه بالتصرف في ملكه، ولهذه السورة أيضا اعتلاق من وجه بالفاتحة لشرحها إجمال قوله تعالى: رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة: 2] وبالبقرة لشرحها إجمال قوله سبحانه: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: 21] وقوله عز اسمه الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة: 29] وبآل عمران من جهة تفصيلها لقوله جل وعلا: وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ [آل عمران: 14] وقوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: 185، الأنبياء: 35، العنكبوت: 57] إلخ وبالنساء من جهة ما فيها من بدء الخلق والتقبيح لما حرموه على أزواجهم وقتل البنات وبالمائدة من حيث اشتمالها على الأطعمة بأنواعها. وقد يقال: إنه لما كان قطب هذه السورة دائرا على إثبات الصانع ودلائل التوحيد حتى قال أبو إسحاق الأسفراييني: إن في سورة الأنعام كل قواعد التوحيد ناسبت تلك السورة من حيث إن فيها إبطال ألوهية عيسى عليه الصلاة والسلام وتوبيخ الكفرة على اعتقادهم الفاسد وافترائهم الباطل هذا، ثم إنه لما كانت نعمه سبحانه وتعالى مما تفوت الحصر ولا يحيط بها نطاق العد إلا أنها ترجع إجمالا إلى إيجاد وإبقاء في النشأة الأولى وإيجاد وإبقاء في النشأة الآخرة وأشير في الفاتحة التي هي أم الكتاب إلى الجميع، وفي الأنعام إلى الإيجاد الأول، وفي الكهف إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 الإبقاء الأول وفي سبأ إلى الإيجاد الثاني وفي فاطر إلى الإبقاء الثاني ابتدئت هذه الخمس بالتحميد. ومن اللطائف أنه سبحانه وتعالى جعل في كل ربع من كتابه الكريم المجيد سورة مفتتحة بالتحميد فقال عز وجل من قائل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ جملة خبرية أو إنشائية. وعين بعضهم الأول لما في حملها على الإنشاء من إخراج الكلام عن معناه الوضعي من غير ضرورة بل لما يلزم على كونها إنشائية من انتفاء الاتصاف بالجميل قبل حمد الحامد ضرورة أن الإنشاء يقارن معناه لفظه في الوجود. وآخرون الثاني لأنه لو كانت جملة الحمد أخبارا يلزم أن لا يقال لقائل الحمد لله حامد إذ لا يصاغ للمخبر عن غيره لغة من متعلق اخباره اسم قطعا فلا يقال لقائل زيد له القيام قائم واللازم باطل فيبطل الملزوم. ولا يلزم هذا على تقدير كونها إنشائية فإن الإنشاء يشتق منه اسم فاعل صفة للمتكلم به فيقال لمن قال: بعت بائع. واعترض بأنه لا يلزم من كل إنشاء في ذلك وإلا لقيل لقائل: ضرب ضارب والله تعالى شأنه القائل: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ [البقرة: 233] مرضع بل إنما يكون ذلك إذا كان إنشاء الحال من أحوال المتكلم كما في صيغ العقود ولا فرق حينئذ بينه وبين الخبر فيما ذكر، والذي عليه المحققون جواز الاعتبارين في هذه الجملة. وأجابوا عما يلزم كلّا من المحذور. نعم رجح هنا اعتبار الخبرية لما أن السورة نزلت لبيان التوحيد وردع الكفرة والإعلام بمضمونها على وجه الخبرية يناسب المقام وجعلها لإنشاء الثناء لا يناسبه، وقيل: إن اعتبار خبريتها هنا ليصح عطف ما بعد ثم الآتي عليها. ومن اعتبر الإنشائية ولم يجوز عطف الإنشاء على الإخبار جعل العطف على صلة الموصول أو على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 الجملة الإنشائية بجعل المعطوف لإنشاء الاستبعاد والتعجب ولا يخفى ما في ذلك من التكلف والخروج عن الظاهر وفي تعليق الحمد أولا باسم الذات ووصفه تعالى ثانيا بما وصف به سبحانه تنبيه على تحقق الاستحقاقين تحقق استحقاقه عز وجل الحمد باعتبار ذاته جل شأنه وتحقق استحقاقه سبحانه وتعالى باعتبار الانعام المؤذن به ما في حيز الموصول الواقع صفة. ومعنى استحقاقه سبحانه وتعالى الذاتي عند بعض استحقاقه جل وعلا الحمد بجميع أوصافه وأفعاله وهو معنى قولهم إنه تعالى يستحق العبادة لذاته وأنكر هذا صحة توجه التعظيم والعبادة إلى الذات من حيث هي. وقد صرح الإمام في شرح الإشارة عند ذكر مقامات العارفين أن الناس في العبادة ثلاث طبقات فالأولى في الكمال والشرف الذين يعبدونه سبحانه وتعالى لذاته لا لشيء آخر. والثانية وهي التي تلي الأولى في الكمال الذين يعبدونه لصفة من صفاته وهي كونه تعالى مستحقا للعبادة. والثالثة وهي آخر درجات المحققين الذين يعبدونه لتكمل نفوسهم في الانتساب إليه. ولا يشكل تصور تعظيم الذات من حيث هي لأنه- كما قال الشهاب- لو وقع ذلك ابتداء قبل التعقل بوجوه الكمال كان مشكلا أما بعد معرفة المحمود جل جلاله بسمات الجمال وتصوره بأقصى صفات الكمال فلا بدع أن يتوجه إلى تمجيده تعالى وتحميده عز شأنه مرة أخرى بقطع النظر عما سوى الذات بعد الصعود بدرجات المشاهدات. ولذا قال أهل الظاهر: صفاته لم تزد معرفة ... لكنها لذة ذكرناها فما بالك بالعارفين الغارقين في بحار العرفان وهم القوم كل القوم. والذي حققه السالكوتي وجرينا عليه في الفاتحة أن الاستحقاق الذاتي ما لا يلاحظ معه خصوصية صفة حتى الجميع لا ما يكون الذات البحت مستحقا له فإن استحقاق الحمد ليس إلا على الجميل. وسمي ذاتيا لملاحظة الذات فيه من غير اعتبار خصوصية صفة أو لدلالة اسم الذات عليه أو لأنه لما لم يكن مسندا إلى صفة من الصفات المخصوصة كان مسندا إلى الذات. وذكر بعض محققي المتأخرين كلاما في هذا المقام رد به فيما عنده على كثير من العلماء الأعلام. وحاصله أن اللام الجارة في «لله» لمطلق الاختصاص دون الاختصاص القصري على التعيين بدليل أنهم قالوا في مثل له الحمد: إن التقديم للاختصاص القصري فلو أن اللام الجارة تفيده أيضا لما بقي فرق بين «الحمد لله» وله الحمد غير كون الثاني أوكد من الأول في إفادة القصر والمصرح به التفرقة بإفادة أحدهما القصر دون الآخر وإن الاختصاصات على أنحاء وتعيين بعضها موكول إلى العلة التي يترتب عليها الحكم وتجعل محمودا عليه غالبا وغيرها من القرائن فإذا رأيت الحكم على أوصافه تعالى المختصة به سبحانه وتعالى وجب كون الحمد مقصورا عليه تعالى فيحمل الحكم المعلل على القصر ليطابق المعلول علته ومع ذلك إذا كانت الأوصاف المختصة به عز وجل مما يدل على كونه عز شأنه منعما على عباده وجب كون الحمد حقا لله تعالى واجبا على عباده سبحانه فيحمل الحكم المعلل على الاستيجاب للتطابق أيضا وإذا لم يعلل الحكم بشيء أو قطع النظر عن العلة التي رتب عليها الحكم فإنما يثبت في الحكم أدنى مراتب الاختصاص الذي هو كونه تعالى حقيقا بالحمد مجردا عن القصر والاستيجاب. ويعضد ما أشير إليه اختلاف عبارات العلامة البيضاوي في بيان مدلولات جمل الحمد وأن المراد من الاستيجاب الذي جعله بعض النحاة من معاني اللام ما هو بمنزلة مطلق الاختصاص الذي قرره لا المعنى الذي رمز إليه فعلى هذا يكون مفهوم جملة الْحَمْدُ لِلَّهِ فيما نحن فيه أنه تعالى حقيق بالحمد ولا دلالة فيها من حيث هي هي مع قطع النظر عن المحمود عليه الذي هو علة الحكم على قصر الحقيقية بالحمد عليه سبحانه وتعالى ولا على بلوغها حد الاستيجاب، نعم في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 ترتب الحكم على ما في حيز الصفة تنبيه على كون الحمد حقا لله تعالى واجبا على عباده مختصا به عز شأنه مقصورا عليه سبحانه حيث إن ترتب الحكم كما قالوا على الوصف يشعر بمنطوقه بعلية الوصف للحكم وبمفهومه بانتفاء الحكم عمن ينتفي عنه الوصف. ثم قال: وبالجملة إن جملة الْحَمْدُ لِلَّهِ مدعى ومدلول. وقوله سبحانه وتعالى: الَّذِي خَلَقَ إلخ دليل وعلة وليس هناك إلا حمد واحد معلل بما في حيز الوصف لا حمد معلل بالذات المستجمع لجميع الصفات أو بالذات البحت أولا على ما قيل وبالوصف ثانيا حتى يكون بمثابة حمدين باعتبار العلتين لأن لفظ الجلالة علم شخصي ولا دلالة له على الأوصاف بإحدى الدلالات الثلاث فكيف يكون محمودا عليه وعلة لاستحقاق الحمد، ولذلك لا يكاد يقع الحكم باستحقاق الحمد إلا معللا بالأمور الواضحة الدالة على صفاته سبحانه وتعالى الجليلة وأفعاله الجميلة ولا يكتفي باسم الذات اللهم إلا في تسبيحات المؤمنين وتحميداتهم لا في محاجة المنكرين التي نحن بصدد بيانها، وأيضا اقتضاء الذات البحت من حيث هو الذات ماذا يفيد في الاحتجاج على القوم الذين عامتهم لا يبصرون ولا يسمعون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل. وأما ما يقال: إنما قيل الْحَمْدُ لِلَّهِ بذكر اسم الذات المستجمع لجميع الصفات ولم يقل للعالم أو للقادر إلى غير ذلك من الأسماء الدالة على الجلال أو الإكرام لئلا يتوهم اختصاص الحمد بوصف دون وصف فكلام مبني على ما ظهر لك فساده من كون الذات محمودا عليه. وقد يقال: إن ذكر اسم الذات ليس إلا لأن المشركين المحجوجين الجهال لا يعرفونه تعالى ولا يذكرونه فيما بينهم ولا عند المحاجة إلا باسمه سبحانه العليم لا بالصفات كما يدل على ذلك أنه تحكى أجوبتهم بذكر ذلك الاسم الشريف في عامة السؤالات إلا ما قل حيث كان جوابهم فيه بغير اسم الذات كقوله تعالى: لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف: 9] على أن البعض جعل هذا لازم مقولهم وما يدل عليه إجمالا أقيم مقامه فكأنهم قالوا: الله كما حكى عنهم في مواضع وحينئذ فكأنه قيل: الإله الذي يعرفونه ويذكرونه بهذا الاسم هو المستحق للحمد لكونه خالق السماوات والأرض ولكونه كذا وكذا. وإذا عرفت أن الذات لا يلائم أن يكون محمودا عليه وإنما الحقيق لأن يكون محمودا عليه هو الصفات وأن ما يترتب عليه الحمد في كل موضع بعض الصفات بحسب اقتضاء المقام لا جميع الصفات عرفت أن من ادعى أن ترتيب الحمد على بعض الصفات دون بعض يوهم اختصاص استحقاق الحمد بوصف دون وصف يلزم عليه أن يقع في الورطة التي فر منها كما لا يخفى. فالحق أن المحمود عليه هو الوصف الذي رتب عليه استحقاق الحمد وأن تخصيص بعض الأوصاف لأن يترتب عليه استحقاق الحمد في بعض المواقع إنما هو باقتضاء ذلك المقام إياه فإن قلت فما الرأي في الحمد باعتبار الذات البحت أو باعتبار استجماعه جميع الصفات- على ما قيل-: هل له وجه أم لا؟ قلت: أما كون الذات الصرف محمودا عليه، وكذا كون الذات محمودا عليه باستجماعه جميع الصفات في أمثال هذه المواضع التي نحن فيها فلا وجه له. وأما ما ذكروه في شرح خطب بعض الكتب من أن الحمد باعتبار الذات المستجمع لجميع الصفات فلعل منشأه هو أن الحمد لما اقتضى وصفا جميلا صالحا لأن يترتب عليه الحكم باستحقاق الحمد ويكون محمودا عليه فحيث لم يذكر معه وصف كذلك ولم يدل عليه قرينة بل اكتفى بذكر الذات المتصف بجميع الصفات الجميلة ثبت اعتبار الوصف الجميل هناك اقتضاء، ثم من أجل أن تعيين البعض بالاعتبار دون البعض الآخر لا يخلو عن لزوم الترجيح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 بلا مرجح يلزم اعتبار الصفات الجميلة برمتها فيكون الحمد باعتبار جميعها وحيث ذكر معه وصف جميل صالح لأن يكون محمودا عليه ودل عليه بعينه قرينة استغنى عن ذلك الاعتبار لأن المصير إليه كان عن ضرورة ولا ضرورة حينئذ كما لا يخفى، ومن لم يهتد إلى الفرق بين ما وقع في القرآن المجيد لمقاصد وما وقع في خطب الكتب لمجرد التيمن ولا إلى الفرق بين ما ذكر فيه المحمود عليه صريحا أو دلت عليه بعينه قرينة وبين ما لم يكن كذلك ركب متن عمياء وخبط خبط عشواء فخلط مقتضيات بعض المقامات ببعض ولم يدر أن كلام الله تعالى على أي شرف وكلام غيره في أي واد. وقصارى الكلام أن ترتب الحكم الذي تضمنته جملة الْحَمْدُ لِلَّهِ هنا على الوصف المختص به سبحانه من خلق السماوات والأرض وما عطف عليه يفيد الاختصاص القصري على الوجه الذي تقدم، ويشير إلى ذلك كلام العلامة البيضاوي في تفسيره الآية لمن أمعن النظر إلا أن ما ذكره عليه الرحمة في أول سبأ من الفرق بين الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [سبأ: 1] وبين وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ [سبأ: 1] مما محصله أن جملة لَهُ الْحَمْدُ جيء بها بتقديم الصلة ليفيد القصر لكون الانعام بنعم الآخرة مختصا به تعالى بخلاف جملة الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ إلخ فإنها لم يجىء بها بتقديم الصلة حتى لا يفيد القصر لعدم كون الانعام مختصا به تعالى مطلقا بحيث لا مدخل فيه للغير إذ يكون بتوسط الغير فيستحق ذلك لغير الحمد بنوع استحقاق بسبب وساطته آب عنه، إذ حاصل ما ذكره في تلك السورة هو أنه لا قصر في جملة الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ إلخ بخلاف جملة لَهُ الْحَمْدُ، وحاصل ما أشار إليه في هذه وكذا في الفاتحة هو أن جملة الْحَمْدُ لِلَّهِ إذا رتب على الأوصاف المختصة كالخلق والجعل المذكورين مفيد للقصر أيضا غاية ما في البال أن طريق إفادة القصر في البابين متغاير، ففي إحداهن تقديم الصلة وفي الأخرى مفهوم العلة فتدبر ذاك والله تعالى يتولى هداك. وجمع سبحانه السماوات وأفرد الأرض مع أنها على ما تقتضيه النصوص المتعددة متعددة أيضا والمؤاخاة بين الألفاظ من محسنات الكلام فإذا جمع أحد المتقابلين أو نحوهما ينبغي أن يجمع الآخر عندهم. ولذا عيب على أبي نواس قوله: ومالك فاعلمن فينا مقالا ... إذا استكملت آجالا ورزقا حيث جمع وأفرد إذ جمع لنكتة سوغت العدول عن ذلك الأصل، وهي الإشارة إلى تفاوتهما في الشرف فجمع الأشرف اعتناء بسائر أفراده وأفرد غير الأشرف. وأشرفية السماء لأنها محل الملائكة المقدسين على تفاوت مراتبهم وقبلة الدعاء ومعراج الأرواح الطاهرة ولعظمها وإحاطتها بالأرض على القول بكريتها الذاهب إليه بعض منا وعظم آيات الله فيها ولأنها لم يعص الله تعالى فيها أصلا وفيها الجنة التي هي مقر الأحباب ولغير ذلك. والأرض وإن كانت دار تكليف ومحل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فليس ذلك إلا للتبليغ وكسب ما يجعلهم متأهلين للإقامة في حضيرة القدس لأنها ليست بدار قرار، وخلق أبدان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام منها ودفنهم فيها مع كون أرواحهم التي هي منشأ الشرف ليست منها ولا تدفن فيها لا يدل على أكثر من شرفها، وأما أنه يدل على أشرفيتها فلا يكاد يسلم لأحد، وكذا كون الله تعالى وصف بقاعا منها بالبركة لا يدل على أكثر مما ذكرنا، ولهذا الشرف أيضا قدمت على الأرض في الذكر، وقيل: إن جمع السماوات وافراد الأرض لأن السماء جارية مجرى الفاعل والأرض جارية مجرى القابل فلو كانت السماء واحدة لتشابه الأثر وهو يخل بمصالح هذا العالم، وأما الأرض فهي قابلة والقابل الواحد كاف في القبول. وحاصله أن اختلاف الآثار دل على تعدد السماء دلالة عقلية والأرض وإن كانت متعددة لكن لا دليل عليه من جهة العقل فلذلك جمعها دون الأرض. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 واعترض بأنه على ما فيه ربما يقتضي العكس، وقال بعضهم: إنه لا تعدد حقيقيا في الأرض، ولهذا لم تجمع، وأما التعدد الوارد في بعض الأخبار نحو قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من غصب قيد شبر من أرض طوقه إلى سبع أرضين» فمحمول على التعدد باعتبار الأقاليم السبعة، وكذا يحمل ما أخرجه أبو الشيخ والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «هل تدرون ما هذه هذه أرض هل تدرون ما تحتها؟ قالوا: الله تعالى ورسوله أعلم قال: أرض أخرى وبينهما مسيرة خمسمائة عام حتى عد سبع أرضين بين كل أرضين خمسمائة عام» والتحتية لا تأبى ذلك فإن الأرض كالسماء كروية، وقد يقال للشيء إذا كان بعد آخر هو تحته، والمراد من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «بينهما خمسمائة عام أن القوس من إحدى السماوات المسامت لأول إقليم وأول الآخر خمسمائة عام» ولا شك أن ذلك قد يزيد على هذا المقدار وكثيرا ما يقصد من العدد التكثير لا الكم المعين. وقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق: 12] محمول على المماثلة في السبعة الموجودة في الأقاليم لا على التعدد الحقيقي، ولا يخفى أن هذا من التكلف الذي لم يدع إليه سوى اتهام قدرة الله تعالى وعجزه سبحانه عن أن يخلق سبع أرضين طبق ما نطق به ظاهر النص الوارد عن حضرة أفصح من نطق بالضاد وأزال بزلال كلامه الكريم أو أم كل صاد، وحمل المماثلة في الآية أيضا على المماثلة التي زعمها صاحب القيل خلاف الظاهر. ولعل النوبة تفضي إن شاء الله تعالى إلى تتمة الكلام في هذا المقام. وذكر بعض المحققين في وجه تقديم السماوات على الأرض تقدم خلقها على خلق الأرض ولا يخفى أنه قول لبعضهم. وعن الشيخ الأكبر قدس سره أن خلق المحدد سابق على خلق الأرض وخلق باقي الأفلاك بعد خلق الأرض، وقد تقدم بعض الكلام في هذا المقام، وتخصيص خلقهما بالذكر لاشتمالهما على جملة الآثار العلوية والسفلية وعامة الآلاء الجلية والخفية التي أجلها نعمة الوجود الكافية في إيجاب حمده تعالى على كل موجود فكيف بما يتفرع عليها من صنوف النعم الآفاقية والأنفسية المنوط بها مصالح العباد في المعاش والمعاد. والمراد بالخلق الإنشاء والإيجاد أي أوجد السماوات والأرض وأنشأهما على ما هما عليه مما فيه آيات للمتفكرين وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ عطف على خَلَقَ السَّماواتِ داخل معه في حكم الإشعار بعلة الحمد وإن كان مترتبا عليه لأن جعلهما مسبوق بخلق منشئهما ومحلهما كما قيل، والجعل- كما قال شيخ الإسلام- الإنشاء والإبداع كالخلق خلا أن ذلك مختص بالإنشاء التكويني، وفيه معنى التقدير والتسوية وهذا عام له كما في الآية وللتشريعي أيضا كما في قوله سبحانه: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ [المائدة: 103] وأيّا ما كان ففيه أنباء عن ملابسة مفعوله بشيء آخر بأن يكون فيه أو له أو منه أو نحو ذلك ملابسة مصححة لأن يتوسط بينهما شيء من الظروف لغوا كان أو مستقرا لكن لا على أن يكون عمدة في الكلام بل قيدا فيه، وقيل: الفرق بين الجعل والخلق أن الخلق فيه معنى التقدير والجعل فيه معنى التضمين أي كونه محصلا من آخر كأنه في ضمنه ولذلك عبر عن أحداث النور والظلمة بالجعل تنبيها على أنهما لا يقومان بأنفسهما كما زعمت الثنوية. واعترض بأن الثنوية يزعمون أن النور والظلمة جسمان قديمان سميعان بصيران أولهما خالق الخير والثاني خالق الشر فهما حينئذ ليسا بالمعنى الحقيقي المتعارف فمدعاهم الفساد يبطل بمجرد هذا، وأيضا أن الرد يحصل لكونهما محدثين بقطع النظر عما اعتبر في مفهوم الجعل ولو أتى بالخلق بدله حصل المقصود منه، وأيضا أن الجعل المتعدي لواحد كما فيما نحن فيه لا يقتضي كونه غير قائم بنفسه ألا ترى إلى قوله سبحانه: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 بُيُوتاً ، وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً [الفرقان: 52، 53] إلى غير ذلك. وأجيب بما لا يخلو عن نظر، وجمع الظلمات وأفرد النور ليحسن التقابل مع قوله سبحانه: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أو لما قدمناه في البقرة. وقيل. لأن المراد بالظلمة الضلال وهو متعدد وبالنور الهدى وهو واحد، ويدل على التعدد والوحدة قوله تعالى: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام: 153] واختار غير واحد حمل الظلمة والنور هنا على الأمرين المحسوسين وإن جاء في الكتاب الكريم بمعنى الهدى والضلال وكان له هنا وجه أيضا لأن الأصل حمل اللفظ على حقيقته وقد أمكن مع وجود ما يلائمه ويقتضيه اقتضاء ظاهرا حيث قرنا بالسماوات والأرض. وعن قتادة أن المراد بهما الجنة والنار ولا يخفى بعده، وللعلماء في النور والظلمة كلام طويل وبحث عريض حتى أنهم ألفوا في ذلك الرسائل ولم يتركوا بعد مقالا لقائل. وذكر الإمام أن النور كيفية هي كمال بذاتها للشفاف من حيث هو شفاف أو الكيفية التي لا يتوقف الإبصار بها على الإبصار بشيء آخر، وأن من الناس من زعم أنه أجسام صغار تنفصل عن المضيء وتتصل بالمستضيء وهو باطل، أما أولا فلأن كونها أنوارا إما أن يكون هو عين كونها أجساما وإما أن يكون مغايرا لها والأول باطل لأن المفهوم من النورية مغاير للمفهوم من الجسمية ولذلك يعقل جسم مظلم ولا يعقل نور مظلم، وأما إن قيل: إنها أجسام حاملة لتلك الكيفية تنفصل عن المضيء وتتصل بالمستضيء فهو أيضا باطل لأن تلك الأجسام الموصوفة بتلك الكيفيات إما أن تكون محسوسة أو لا فإن كان الأول لم يكن الضوء محسوسا وإن كان الثاني كانت ساترة لما تحتها ويجب أنها كلما ازدادت اجتماعا ازدادت سترا لكن الأمر بالعكس، وأما ثانيا فلأن الشعاع لو كان جسما لكانت حركته بالطبع إلى جهة واحدة لكن النور مما يقع على كل جسم في كل جهة، وأما ثالثا فلأن النور إذا دخل من كوة ثم سددناها دفعة فتلك الأجزاء النورانية إما أن تبقى أولا فإن بقيت فإما أن تبقى في البيت وإما أن تخرج فإن قيل: إنها خرجت عن الكوة قبل السد فهو محال وإن قيل: إنها عدمت فهو أيضا باطل فكيف يمكن أن يحكم أن جسما لما تخلل بين جسمين عدم أحدهما فإذن هي باقية في البيت ولا شك في زوال نوريتها عنها. وهذا هو الذي نقول من أن مقابلة المستضيء سبب لحدوث تلك الكيفية وإذا ثبت ذلك في بعض الأجسام ثبت في الكل. وأما رابعا فلأن الشمس إذا طلعت من الأفق يستبين وجه الأرض كله دفعة ومن البعيد أن تنتقل تلك الأجزاء من الفلك الرابع إلى وجه الأرض في تلك اللحظة اللطيفة سيما والخرق على الفلك محال عندهم، واحتج المخالف بأن الشعاع متحرك وكل متحرك جسم فالشعاع جسم «بيان الصغرى بثلاثة أوجه» ، الأول أن الشعاع منحدر من ذيه والمنحدر متحرك بالبديهة. والثاني أنه يتحرك وينتقل بحركة المضيء. والثالث أنه قد ينعكس عما يلقاه إلى غيره والانعكاس حركة «والجواب» أن قولهم: الشعاع منحدر فهو باطل وإلا لرأيناه في وسط المسافة بل الشعاع يحدث في المقابل القابل دفعة ولما كان حدوثه من شيء عال توهم أنه ينزل. وأما حديث الانتقال فيرد عليه أن الظل ينتقل مع أنه ليس بجسم فالحق أنه كيفية حادثة في المقابل، وعند زوال المحاذاة عنه إلى قابل آخر يبطل النور عنه ويحدث في ذلك الآخر وكذلك القول في الانعكاس فإن المتوسط شرط لأن يحدث الشعاع من المضيء في ذلك الجسم. ثم القائلون بأنه كيفية اختلفوا فمنهم من زعم أنه عبارة عن ظهور اللون فقط وزعموا أن الظهور المطلق هو الضوء، والخفاء المطلق هو الظلمة، والمتوسط بين الأمرين هو الظل وتختلف مراتبه بحسب مراتب القرب والبعد عن الطرفين وأطالوا الكلام في تقرير ذلك بما لا يجدي نفعا ولا يأبى أن يكون الضوء كيفية وجودية زائدة على ذات اللون كما يدل عليه أمور. الأول أن ظهور اللون إشارة إلى تجدد أمر فهو إما أن يكون اللون أو صفة غير نسبية أو صفة نسبية، والأول باطل لأنه لا يخلو إما أن يجعل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 النور عبارة عن تجدد اللون أو عن اللون المتجدد والأول يقتضي أن لا يكون الشيء مستنيرا إلا آن تجدده. والثاني يوجب أن يكون الضوء نفس اللون فلا يبقى لقولهم الضوء ظهور اللون معنى، وإن جعلوا الضوء كيفية ثبوتية زائدة على ذات اللون وسموه بالظهور عاد النزاع لفظيا. وإن زعموا أن ذلك الظهور تجدد حالة نسبية فذاك باطل لأن الضوء أمر غير نسبي فلا يمكن أن يفسر بالحالة النسبية. الثاني أن البياض قد يكون مضيئا ومشرقا وكذلك السواد فإن الضوء ثابت لهما جميعا فلو كان كون كل منهما مضيئا نفس ذاته لزم أن يكون الضوء بعضه مضادا للبعض وهو محال إذا الضوء لا يقابله إلا الظلمة. الثالث أن اللون يوجد من غير الضوء فإن السواد مثلا قد لا يكون مضيئا وكذلك الضوء قد يوجد بدون اللون مثل الماء والبلور إذا كانا في ظلمة ووقع الضوء عليه وحده فإنه حينئذ يرى ضوءه فذلك ضوء وليس بلون فإذا وجد كل منهما دون الآخر فلا بد من التغاير. الرابع أن المضيء للون تارة ينعكس منه الضوء وحده إلى غيره وتارة ينعكس منه الضوء واللون وذلك إذا كان قويا فيهما جميعا فلو كان الضوء ظهور اللون لاستحال أن يفيد غيره بريقا ساذجا، وكون هذا البريق عبارة عن إظهار لون ذلك القابل يرد عليه أنه لماذا إذا اشتد لون الجسم المنعكس منه وضوءه أخفى لون المنعكس إليه وأبطله وأعطاه لون نفسه إلى غير ذلك من الأدلة، وفرق الإمام بين النور، والضوء، والشعاع والبريق بأن الأجسام إذا صارت ظاهرة بالفعل مستنيرة فإن ذلك الظهور كيفية ثابتة فيها منبسطة عليها من غير أن يقال: إنها سواد أو بياض أو حمرة أو صفرة، والآخر اللمعان وهو الذي يترقرق على الأجسام ويستر لونها وكأنه شيء يفيض منها وكل واحد من القسمين إما أن يكون من ذاته أو من غيره فالظهور للشيء الذي من ذاته كما للشمس والنار يسمى ضوءا والظهور الذي للشيء من غيره يسمى نورا، والترقرق الذي للشيء من ذاته كما للشمس يسمى شعاعا. والذي يكون للشيء من غيره كما للمرأة يسمى بريقا. وقد تقدم لك الكلام في الفرق بين النور والضوء في سورة البقرة أيضا، وكذا الكلام في الظلمة والنسبة بينها وبين النور، والمشهور أن بينهما تقابل العدم والملكة، ولهذا قدمت الظلمات على النور في الآية الكريمة فقد صرحوا بأن الإعدام مقدمة على الملكات. وتحقيق ذلك على ما ذكره بعض المحققين أنه إذا تقابل شيئان أحدهما وجودي فقط فإن اعتبر التقابل بالنسبة إلى موضوع قابل للأمر الوجودي إما بحسب شخصه أو بحسب نوعه أو بحسب جنسه القريب أو البعيد فهما العدم والملكة الحقيقيان أو بحسب الوقت الذي يمكن حصوله فيه فيهما العدم والملكة المشهوران، وإن لم يعتبر فيهما ذلك فهما السلب والإيجاب، فالعدم المشهوري في العمى والبصر هو ارتفاع الشيء الوجودي كالقدرة على الإبصار مع ما ينشأ من المادة المهيأة قبوله في الوقت الذي من شأنها ذلك فيه كما حقق في حكمة العين وشرحها، فإذا تحقق أن كل قابل لأمر وجودي في ابتداء قابليته واستعداده متصف بذلك العدم قبل وجود ذلك الأمر بالفعل تبين أن كل ملكة مسبوقة بعدمها لأن وجود تلك الصفة بالقوة وهو متقدم على وجودها بالفعل. وقال المولى ميرزاجان: لا بد في تقابل العدم والملكة أن يؤخذ في مفهوم العدمي كون المحل قابلا للوجودي، ولا يكفى نسبة المحل القابل للوجودي من غير أن يعتبر في مفهوم العدمي كون المحل قابلا له، ولذا صرحوا بأن تقابل العدم والوجود تقابل الإيجاب والسلب. قال في الشفاء: العمى هو عدم البصر بالفعل مع وجوده بالقوة، وهذا مما لا بد منه في معناه المشهور انتهى، وبه يندفع بعض الشكوك التي عرضت لبعض الناظرين في هذا المقام، وقيل في تقدم عدم الملكة على الوجود: إن عدم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 الملكة عدم مخصوص والعدم المطلق في ضمنه وهو متقدم على الوجود في سائر المخلوقات. ولذا قال الإمام: إنما قدم الظلمات على النور لأن عدم المحدثات متقدم على وجودها كما جاء في حديث رواه أحمد والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن الله تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره، وفي أخرى ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه نوره اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك جف القلم بما هو كائن. وعليه الظلمة في الخبر بمعنى العدم والنور بمعنى الوجود ولا يلائمه سياق الحديث، والظاهر ما قيل الظلمة عدم الهداية وظلمة الطبيعة والنور الهداية، ومن المتكلمين من زعم أن الظلمة عرض يضاد النور واحتج لذلك بهذه الآية ولم يعلم أن عدم الملكة كالعمى ليس صرف العدم حتى لا يتعلق به الجعل، وتحقيقه- على ما قيل- إن الجعل هنا ليس بمعنى الخلق والإيجاد بل تضمين شيء شيئا وتصييره قائما به قيام المظروف بالظروف أو الصفة بالموصوف والعدم من الثاني فصح تعلق الجعل به وإن لم يكن موجودا عينيا، وفي الطوالع أن العدم المتجدد يجوز أن يكون بفعل الفاعل كالوجود الحادث فافهم ذاك والله تعالى يتولى هداك. ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ يحتمل أن يكون يَعْدِلُونَ فيه من العدل بمعنى العدول أو منه بمعنى التسوية، والكفر يحتمل أن يكون بمعنى الشرك المقابل للإيمان أو بمعنى كفران النعمة، والباء يحتمل أن تتعلق بكفروا وأن تتعلق بيعدلون، وعلى التقادير فالجملة إما إنشائية لإنشاء الاستبعاد أو إخبارية واردة للإخبار عن شناعة ما هم عليه، ثم هي إما معطوفة على جملة الْحَمْدُ لِلَّهِ إنشاء أو اخبارا أو على قوله سبحانه خَلَقَ صلة الذي أو على الظُّلُماتِ مفعول جعل فالاحتمالات ترتقي إلى أربعة وستين حاصلة من ضرب ستة عشر احتمالات المعطوف في أربعة أعني احتمالات المعطوف عليه وإذا لوحظ هناك أمور أخر مشهورة بلغت الاحتمالات أربعة آلاف وزيادة ولكن ليس لنا إلى هذه الملاحظة كبير داع، والذي اختاره كثير من المحققين من تلك الاحتمالات أن تكون الجملة معطوفة على جملة الحمد والعدل بمعنى العدول أي الانصراف والجار متعلق بكفروا وهو من الكفر بمعنى الشرك أو كفران النعمة ويقدر مضاف بعد الجار، والمعنى أن الله تعالى حقيق بالحمد على ما خلق من النعم الجسام التي أنعم بها على الخاص والعام ثم الذين أشركوا به أو كفروا بنعمه يعدلون فيكفرون نعمه، وأن تكون معطوفة على جملة الصلة والعدل بمعنى التسوية والجار متعلق به والكفر بأحد المعنيين. والمعنى أنه سبحانه خلق هذه النعم الجسام والمخلوقات العظام التي دخل فيها كل ما سواه، ثم إن هؤلاء الكفرة أو هؤلاء الجاحدين للنعم يسوون به غيره ممن لا يقدر عليها وهم في قبضة تصرفه ومهاد تربيته. وثُمَّ لاستبعاد ما وقع من الذين كفروا أو للتوبيخ عليه كما قال ابن عطية، وجعلها أبو حيان لمجرد التراخي في الزمان وهو وإن صح هنا باعتبار أن كل ممتد يصح فيه التراخي باعتبار أوله والفور باعتبار آخره كما حققه النحاة إلا أن ما ذكر أوفق بالمقام، ونكتة وضع الرب موضع ضميره تعالى على كل تقدير تأكيد أمر الاستبعاد، ووجه جعل الباء متعلقة بيعدلون على أحد احتماليه وبكفروا على الاحتمال الآخر أنه إذا كان من العدل بمعنى التسوية يقتضي التوصل بالباء بخلاف ما إذا كان منه بمعنى العدول، فالظاهر أنها حينئذ متعلقة بما قبلها، وما قاله المحقق التفتازاني مني إنه لا مخصص لكل من توجيهي بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ بواحد من العطفين يمكن دفعه بأن وجه تخصيص كل بما خصص به اتساق نظم الآية حينئذ وظهور شدة المناسبة بين ما عطف بثم الاستبعادية وبين ما عطف عليه، وذلك لأنه إذا قيل مثلا في الصورة الأولى إن الله تعالى استحق جميع المحامد من العباد فهم أن العدول عنه تعالى والإعراض عن حمده سبحانه في غاية الاستبعاد فيناسب أن يقال: ثم الذين كفروا بربهم يعدلون عنه فلا يحمدونه ولا يلتفتون لفتة، ولا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 يناسب أن يقال: إنهم يسوون به غيره إذا لم يسبق صريحا وبالقصد الأولي ما ينفي التسوية، وإذا قيل مثلا في الصورة الثانية: إنه جعل شأنه خلق هذه الأجسام العظام مما لا يقدر عليه أحد ناسب في الاستبعاد أن يقال: ثم الذين كفروا يسوون به ما لا يقدر على شيء لا أنهم لا يحمدونه ويعرضون عنه. وقال بعض المحققين: إذا كان المعنى على الأول الحمد والثناء مستحق للمنعم بهذه النعم الشاملة سائر الأمم فكيف يتأتى من الكفرة والمشركين المستغرقين في بحار إحسانه العدول عنه، وعلى الثاني المعروف بالقدرة على إيجاد هذه المخلوقات العظام التي دخل فيها كل ما سواه من الخاص والعام كيف يتسنى لهؤلاء الكفرة أو لهؤلاء الجاحدين للنعم أن يسووا به غيره وهم في قبضته، فوجه التخصيص في الأول أنه لا يخفى استبعاد انصراف العبد عن سيده وولي نعمته إلى سواه بخلاف التسوية فإن المنعم قد يساويه غيره ممن يحسن إلى غيره، وفي الثاني أن استبعاد التسوية عليه مما لا يكاد يتصور بخلاف العدول عنه فإنه قد يتصور لجهل العادل بحقه وما يليق بحقه فإن العدول لا ينافي عدم المعرفة بخلاف التسوية فإنه لا يسوى بين شيئين لا يعرفهما بوجه ما فتدبر. واعترض غير واحد على العطف على الصلة بأنه لا وجه لضم ما لا دخل له في استحقاق الحمد إلى ما له ذلك. ثم جعل المجموع صلة في مقام يقتضي كون الصلة محمودا عليه. وأجيب بأن في الكلام على ذلك التقدير إشارة إلى علو شأنه تعالى وعموم إحسانه للمستحق وغيره حيث ينعم بمثل تلك النعم الجليلة على من لا يحمده ويشرك به جل شأنه، وفي ذلك تعظيم منبىء عن كمال الاستحقاق، وقد يقال: وقوع هذا المعطوف موقع المحمود عليه باعتبار معنى التعظيم المستفاد من إنكار مضمونه فكأنه قيل الحمد لله جل جنابه عن أن يعدل به شيء لكن لا يخفى أن المحمود عليه يجب في المشهور أن يكون جميلا اختياريا، وما ذكر ليس كذلك فعليه لا بد من التأويل. وذكر شيخ الإسلام في الاعتراض على العطف المذكور أن ما ينتظم في سلك الصلة المنبئة عن موجبات حمده تعالى حقه أن يكون له دخل في ذلك الانباء في الجملة ولا ريب في أن كفرهم بمعزل عنه، وادعاء أن له دخلا فيه لدلالته على كمال الجود كأنه قيل: الحمد لله الذي أنعم بمثل هذه النعم العظام على من لا يحمده تعسف لا يساعده النظام وتعكيس يأباه المقام كيف لا وسياق النظم الكريم كما تفصح عنه الآيات لتوبيخ الكفرة ببيان غاية إساءتهم في حقه سبحانه وتعالى مع نهاية إحسانه تعالى إليهم لا بيان إحسانه تعالى إليهم مع غاية إساءتهم في حقه عز وجل كما يقتضيه الادعاء المذكور، وبهذا اتضح أنه لا سبيل إلى جعل المعطوف من روادف المعطوف عليه لما أن حق الصلة أن تكون غير مقصودة الإفادة فما ظنك بروادفها وقد عرفت أن المعطوف هو الذي سيق له الكلام انتهى. ورد بأنه لا شك في أنه على هذا الوجه يراد الحمد لله الذي أنعم بهذه النعم الجسام على من لا يحمده ولا تعسف فيه لبلاغته. وادعاء التعكيس ممنوع فإن المقام مقام الحمد كما تفيده الجملة المصدر بها وما بعده كلام آخر ولا يترك مقتضى مقام لأجل مقتضى مقام آخر إذ لكل مقام مقال. واعترض أيضا بأنه لا يصح من جهة العربية لأن الجملة خالية من رابط يربطها بالموصول اللهم إلا أن يخرج على نحو قولهم: أبو سعيد رويت عن الخدري حيث وضع الظاهر موضع الضمير وكأنه قيل: ثم الذين كفروا به يعدلون إلا أن هذا من الندور بحيث لا يقاس عليه فلا ينبغي حمل كتاب الله تعالى على مثله مع إمكان حمله على الوجه الصحيح الفصيح. وأجيب بأنه لا يلزم من ضعف ذلك في ربط الصلة ابتداء ضعفه فيما عطف عليها فكثيرا ما يغتفر في التابع ما لا يغتفر في غيره، والجواب بأن هذا العطف لا يحتاج إلى الرابط عجيب لأنه لم يقل أحد من النجاة: إن المعطوف على الصلة بثم يجوز خلوه عن الرابط وغاية ما ذكروه أنه نكتة للربط بالاسم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 واعترض شيخ الإسلام على احتمال أن يراد بالعدل العدول مع اعتبار التشنيع عليهم بعدم الحمد بأن كفرهم به تعالى لا سيما باعتبار ربوبيته أشد شناعة وأعظم جناية من عدولهم عن حمده سبحانه فجعل أهون الشرين عمدة في الكلام مقصودا بالإفادة وإخراج أعظمهما مخرج القيد المفروغ منه مما لا عهدة له في الكلام السديد فكيف بالنظم التنزيلي، وأجيب بأنه لما كان المقام مقام الحمد ناسب التشنيع عليهم بذلك فلا يرد اعتراض الشيخ وقد ذكر هو قدس سره توجيها للآية وادعى أنه الحقيق بجزالة التنزيل، وحط عليه الشهاب فيه ولعل الأمر أهون من ذلك، والذي تصدح به كلماتهم أن صلة يَعْدِلُونَ على تقدير أن يكون من العدل بمعنى العدول متروكة ليقع الإنكار على نفس الفعل، وإنما قدروا له مفعولا على تقدير أن يكون من العدل بمعنى التسوية فقالوا: غيره أو الأوثان لأنه لا يحسن إنكار العدل بخلاف إنكار العدول، ونظر في ذلك بأن مجرد العدول بدون اعتبار متعلقه غير منكر ألا ترى أن العدول عن الباطل لا ينكر فالظاهر اعتبار المتعلق إلا أنه حذف لأجل الفاصلة كما أن تقديم بِرَبِّهِمْ على احتمال تعلقه بما بعد لذلك، ويجوز أن يكون للاهتمام. وقال بعض المحققين: إن هذا وإن تراءى في بادىء النظر لكنه عند التحقيق ليس بوارد لأن العدول وإن كان له فردان أحدهما مذموم وهو العدول عن الحق إلى الباطل وممدوح وهو العدول عن الباطل إلى الحق لكن العدول الموصوف به الكفار لا يحتمل الثاني فلتعينه لا يحتاج إلى تقدير متعلق وتنزيله منزلة اللازم أبلغ عند التأمل بخلاف التسوية فإنها من النسب التي لا تتصور بدون المتعلق فلذا قدروه. ومن هذا يعلم أن تنزيل الفعل منزلة اللازم الشائع فيما بينهم إنما يكون أو يحسن فيما ليس من قبيل النسب. هذا وأخرج ابن الضريس في فضائل القرآن، وابن جرير، وابن المنذر، وغيرهم عن كعب قال: فتحت التوراة بالحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون وختمت بالحمد لله الذي لم يتخذ ولدا إلى قوله سبحانه وتعالى وكبره تكبيرا. هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ استئناف مسوق لبيان كفرهم بالبعث والخطاب وإن صح كونه عاما لكنه هنا خاص بالذين كفروا كما يدل عليه الخطاب الآتي ففيه التفات والنكتة فيه زيادة التشنيع والتوبيخ، وتخصيص خلقهم بالذكر من بين سائر أدلة صحة البعث مع أن ما تقدم من أظهر أدلته لما أن دليل الأنفس أقرب إلى الناظر من دليل الآفاق الذي في الآية السابقة، ومعنى خلق المخاطبين من طين أنه ابتدأ خلقهم منه فإنه المادة الأولى لما أنه أصل آدم عليه الصلاة والسلام وهو أصل سائر البشر، ولم ينسب سبحانه الخلق إليه عليه الصلاة والسلام مع أنه المخلوق منه حقيقة وكفاية ذلك في الغرض الذي سيق له الكلام توضيحا لمنهاج القياس ومبالغة في إزاحة الشبهة والالتباس، وقيل في توجيه خلقهم منه: إن الإنسان مخلوق من النطفة والطمث وهما من الأغذية الحاصلة من التراب بالذات أو بالواسطة. وقال المهدوي في ذلك: إن كل إنسان مخلوق ابتداء من طين لخبر «ما من مولود يولد إلا ويذر على نطفته من تراب حفرته» وفي القلب من هذا شيء، والحديث إن صح لا يخلو عن ضرب من التجوز، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي خلق آباءكم، وأيّا ما كان ففيه من وضوح الدلالة على كمال قدرته تعالى شأنه على البعث ما لا يخفى فإن من قدر على إحياء ما لم يشم رائحة الحياة قط كان على إحياء ما قارنها مدة أظهر قدرة. ثُمَّ قَضى أي قدر وكتب أَجَلًا أي حدا معينا من الزمان للموت. وثُمَّ للترتيب في الذكر دون الزمان لتقدم القضاء على الخلق، وقيل: الظاهر الترتيب في الزمان، ويراد بالتقدير والكتابة ما تعلم به اللائكة وتكتبه كما وقع في حديث الصحيحين «إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد» . وَأَجَلٌ مُسَمًّى أي حد معين للبعث من القبور، وهو مبتدأ وصح الابتداء به لتخصيصه بالوصف أو لوقوعه في موقع التفصيل وعِنْدَهُ هو الخبر، وتنوينه لتفخيم شأنه وتهويل أمره. وقدم على خبره الظرف مع أن الشائع في النكرة المخبر عنها به لزوم تقديمه عليها وفاء بحق التفخيم، فإن ما قصد به ذلك حقيق بالتقديم فالمعنى وأجل أي أجل مستقل بعلمه سبحانه وتعالى لا يقف على وقت حلوله سواه جل شأنه لا إجمالا ولا تفصيلا. وهذا بخلاف أجل الموت فإنه معلوم إجمالا بناء على ظهور أماراته أو على ما هو المعتاد في أعمال الإنسان. وقيل: وجه الاخبار عن هذا أو التقييد بكونه عنده سبحانه وتعالى أنه من نفس المغيبات الخمس التي لا يعلمها إلا الله تعالى، والأول أيضا وإن كان لا يعلمه إلا هو قبل وقوعه كما قال تعالى: وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان: 34] لكنا نعلمه للذين شاهدنا موتهم وضبطنا تواريخ ولادتهم ووفاتهم فنعلمه سواء أريد به آخر المدة أو جملتها متى كان وكم مدة كان. وذهب بعضهم إلى أن الأجل الأول ما بين الخلق والموت، والثاني ما بين الموت والبعث. وروي ذلك عن الحسن وابن المسيب، وقتادة، والضحاك، واختاره الزجاج ورواه عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه حيث قال: قضى أجلا من مولده إلى مماته وأجل مسمى عنده من الممات إلى البعث لا يعلم ميقاته أحد سواه سبحانه فإذا كان الرجل صالحا وأصلا لرحمه زاد الله تعالى له في أجل الحياة من أجل الممات إلى البعث وإذا كان غير صالح ولا واصل نقصه الله تعالى من أجل الحياة وزاد في أجل الممات، وذلك قوله تعالى: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ [فاطر: 11] وعليه فمعنى عدم تغير الأجل عدم تغير آخره، وقيل: الأجل الأول الزمن الذي يحيى به أهل الدنيا إلى أن يموتوا والأجل الثاني أجل الآخرة الذي لا آخر له، ونسب ذلك إلى مجاهد، وابن جبير، واختاره الجبائي. ولا يخفى بعد إطلاق الأجل على المدة الغير المتناهية، وعن أبي مسلم أن الأجل الأول أجل من مضى والثاني أجل من بقي ومن يأتي، وقيل: الأول النوم والثاني الموت. ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأيده الطبرسي بقوله تعالى: وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر: 42] ولا يخفى بعده لأن النوم وإن كان أخا الموت لكنه لم تعهد تسميته أجلا وإن سمي موتا، وقيل: إن كلا الأجلين للموت ولكل شخص أجلان أجل يكتبه الكتبة وهو يقبل الزيادة والنقص وهو المراد بالعمر في خبر «إن صلة الرحم تزيد في العمر» ونحوه وأجل مسمى عنده سبحانه وتعالى لا يقبل التغيير ولا يطلع عليه غيره عز شأنه وكثير من الناس قالوا: إن المراد بالزيادة الواردة في غير ما خبر الزيادة بالبركة والتوفيق للطاعة، وقيل: المراد طول العمر ببقاء الذكر الجميل كما قالوا: ذكر الفتى عمره الثاني وضعفه الشهاب، وقيل: الأجلان واحد والتقدير وهذا أجل مسمى فهو خبر مبتدأ محذوف وعِنْدَهُ خبر بعد خبر أو متعلق بمسمى وهو أبعد الوجوه. ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ أي تشكون في البعث كما أخرجه ابن أبي حاتم عن خالد بن معدان، وعن الراغب المرية التردد في المتقابلين وطلب الامارة مأخوذ من مرى الضرع إذا مسحه للدر. ووجه المناسبة في استعماله في الشك أن الشك سبب لاستخراج العلم الذي هو كاللبن الخالص من بين فرث ودم. قيل: الامتراء الجحد، وقيل: الجدال. وأيّا ما كان فالمراد استبعاد امترائهم في وقوع البعث وتحققه في نفسه مع مشاهدتهم في أنفسهم من الشواهد ما يقطع مادة ذلك بالكلية فإن من قدر على إفاضة الحياة وما يتفرع عليها على مادة غير مستعدة لشيء من ذلك كان أوضح اقتدارا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 84 على إفاضته على مادة قد استعدت له وقارنته مدة. ومن هذا يعلم أن شطرا من تلك الأوجه السابقة آنفا لا يلائم مساق النظم الكريم، وتوجيه الاستبعاد إلى الامتراء على التفسير الأول مع أن المخاطبين جازمون بانتفاء البعث مصرون على جحوده وإنكاره كما ينبىء عنه كثير من الآيات للدلالة على أن جزمهم ذلك في أقصى مراتب الاستبعاد والاستنكار. وذكر بعض المحققين أن الآية الأولى دليل التوحيد كما أن هذه دليل البعث، ووجه ذلك بأنها تدل على أنه لا يليق الثناء والتعظيم بشيء سواه عز وجل لأنه المنعم لا أحد غيره ويلزم منه أنه لا معبود ولا إله سواه بالطريق الأولى، وزعم بعضهم أنها لا تدل على ذلك إلا بملاحظة برهان التمانع إذ لو قطع النظر عنه لا تدل على أكثر من وجود الصانع، ومنشأ ذلك حمل الدليل على البرهان العقلي أو مقدماته التي يتألف منها أشكاله وليس ذلك باللازم. ومن الناس من جعل الآية الأولى أيضا دليلا على البعث على منوال قوله تعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها [النازعات: 27] ولا يخفى أنه خلاف الظاهر. وقوله سبحانه وتعالى: وَهُوَ اللَّهُ جملة من مبتدأ عائد إليه سبحانه كما قال الجمهور وخبر معطوفة على ما قبلها مسوقة لبيان شمول أحكام الهيئة لجميع المخلوقات وإحاطة علمه بتفاصيل أحوال العباد وأعمالهم المؤدية إلى الجزاء إثر الإشارة إلى تحقق المعاد في تضاعيف ما تقدم، والحمل ظاهر الفائدة إذا اعتبر ما يأتي وإلا فهو على حد- أنا أبو النجم وشعري شعري-، وقوله تعالى: فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ متعلق- على ما قيل- بالمعنى الوصفي الذي تضمنه الاسم الجليل كما في قولك: هو حاتم في طيىء على معنى الجواد. والمعنى الذي يعتبر هنا يجوز أن يكون هو المأخوذ من أصل اشتقاق الاسم الكريم أعني المعبود أو ما اشتهر به الاسم من صفات الكمال إلا أنه يلاحظ في هذا المقام ما يقتضيه منها أو ما يدل عليه التركيب الحصري لتعريف طرفي الإسناد فيه من التوحيد والتفرد بالألوهية أو ما تقرر عند الكل من إطلاق هذا الاسم عليه تعالى خاصة فكأنه قيل: وهو المعبود فيهما أو وهو المالك والمتصرف المدبر فيهما حسبما يقتضيه المشيئة المبنية على الحكم البالغة أو وهو المتوحد بالألوهية فيهما أو وهو الذي يقال له: الله فيهما لا يشرك به شيء في هذا الاسم، ومعنى ذلك مجرد ملاحظة أحد المعاني المذكورة في ضمن ذلك الاسم الجليل ويكفي مثل ذلك في تعلق الجار لا أنه يحمل لفظ الله على معناه اللغوي أو على نحو المالك والمتصرف أو المتوحد أو يقدر القول، وعلى كل تقدير يندفع ما يقال: إن الظرف لا يتعلق باسم الله تعالى لجموده ولا بكائن لأنه حينئذ يكون ظرفا لله تعالى وهو سبحانه وتعالى منزه عن المكان والزمان. ومن الناس من جوز تعلقه بكائن على أنه خبر بعد خبر والكلام حينئذ من التشبيه البليغ أو كناية على رأي من لم يشترط جواز المعنى الأصلي أو استعارة تمثيلية بأن شبهت الحالة التي حصلت من إحاطة علمه سبحانه وتعالى بالسماوات والأرض وبما فيهما بحالة بصير تمكن في مكان ينظره وما فيه والجامع بينهما حضور ذلك عنده. وجوز أن يكون مجازا مرسلا باستعماله في لازم معناه وهو ظاهر، وأن يكون استعارة بالكناية بأن شبه عز اسمه بمن تمكن في مكان وأثبت له من لوازمه وهو علمه به وبما فيه، وليس هذا من التشبيه المحظور في شيء وعليه يكون قوله تعالى: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ أي ما أسررتموه وما جهرتم به من الأقوال أو منها ومن الأفعال بيانا للمراد وتوكيدا لما يفهم من الكلام. وتعليق علمه سبحانه بما ذكر خاصة مع شموله لجميع من في السماوات وصاحبتها لانسياق النظم الكريم إلى بيان حال المخاطبين وكذا يعتبر بيانا على تقدير اعتبار ما اشتهر به الاسم الجليل من صفات الكمال عند تعلق الجار على ما علمت فإن ملاحظته من حيث المالكية الكاملة والتصرف الكامل حسبما تقدم مستتبعة لملاحظة علمه تعالى المحيط حتما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 85 وعلى التقادير الأخر لا مساغ كما قيل لجعله بيانا لأن ما ذكر من العلم غير معتبر في مفهوم شيء من المعبودية واختصاص إطلاق الاسم عليه تعالى، وكذا مفهوم المتوحد بالألوهية فكيف يكون هذا بيانا لذلك. واعتبار العلم فيما صدق عليه المتوحد غير كاف في البيانية، وقيل في بيانها على تقدير اعتبار المتوحد بالألوهية: إن حصر الألوهية بمعنى تدبير الخلق، ومن تفرد بتدبير جميع أمور أحد لزمه معرفة جميعها حتى يتم له تدبيرها فملاحظة المتوحد بالألوهية مستتبعة لملاحظة علمه تعالى المحيط على طرز ما تقرر في ملاحظة اسمه عز اسمه من حيث المالكية الكاملة والتصرف الكامل على الوجه المتقدم. ومن هذا يعلم اندفاع ما أورد على احتمال تعلق الجار السابق باعتبار ملاحظة المتوحد بالألوهية من أن التوحيد بها أمر لا تعلق له بمكان فلا معنى لجعله متعلقا بمكان فضلا عن جميع الأمكنة فإن تدبير الخلق مما يتعلق بما في حيز الجار من الحيز، وكذا بما فيه. وتعقب ذلك بمنع تفسير الألوهية بما ذكر ولعل الجملة على هاتيك التقادير خبر ثالث، وقد جوز غير واحد الاخبار بالجملة بعد الاخبار بالمفرد، وبعضهم جعلها كذلك مطلقا، والقرينة على إرادة المراد من الجملة الظرفية حينئذ عقلية، وهي أن كل أحد يعلم أنه تقدس وتعالى منزه عما يقتضيه الظاهر من المكان، وذلك كما في قوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [الحديد: 4] إذا لم يردف بما يبينه، وجوز أن تكون كلاما مبتدأ وهو استئناف نحوي. ورجحه غير واحد لخلوه عن التكلف أو استئناف بياني ويتكلف له تقدير سؤال، وقيل: إن الجملة هي خبر هُوَ والاسم الجليل بدل منه والظرف متعلق بيعلم. ويكفي في ذلك كون المعلوم فيما ذكر ولا يتوقف على كون العالم فيه ليلزم تحيزه سبحانه وتعالى المحال. وهذا- كما قيل- كقولك: رميت الصيد في الحرم فإنه صادق إذا كنت خارجه والصيد فيه. ونقل بعض المدققين عن الإمام التمرتاشي في الإيمان إذا ذكر ظرف بعد فعل له فاعل كما إذا قلت: إذا ضربت في الدار أو في المسجد فإن كانا معا فيه فالأمر ظاهر وإن كان الفاعل فيه دون المفعول أو بالعكس فإن كان الفعل مما يظهر أثره في المفعول كالضرب والقتل والجرح فالمعتبر كون المفعول فيه وإن كان مما لا يظهر أثره فيه كالشتم فالمعتبر كون الفاعل فيه فلذا قال بعض الفقهاء: لو قال إن شتمته في المسجد أو رميت إليه فكذا فشرط حنثه كون الفاعل فيه. وإن قال: إن ضربته في المسجد أو جرحته أو قتلته أو رميته فكذا فشرطه كون المفعول فيه. وفرق بين الرميين المتعدي بإلى والمتعدي بنفسه بأن الأول إرسال السهم من القوس بنية وذلك مما لا يظهر له أثر في المحل ولا يتوقف على وصول فعل الفاعل. والثاني إرسال السهم أو ما يضاهيه على وجه يصل إلى المرمى إليه فيؤثر فيه ولذا عد كل منهما في قبيل. وعلى هذا يشكل ما نحن فيه لأن العلم لا يظهر له أثر في المعلوم فيلزم أن يكون الكلام من قبيل شتمته في المسجد ويجيء المحال وكون العلم هنا مجازا عن المجازاة وهي مما يظهر أثرها في المفعول فيكون الكلام من قبيل إن ضربته في المسجد ويكفي كون المفعول فيه دون الفاعل في القلب منه شيء على أن كون المفعول هنا أعني سر المخاطبين وجهرهم في السماوات مما لا وجه له. والقول بأن المعنى حينئذ يعلم نفوسكم المفارقة الكائنة في السماوات ونفوسكم المقارنة لأبدانكم الكائنة في الأرض تعسف وخروج عن الظاهر على أن الخطاب حينئذ يكون للمؤمنين وقد كان فيما قبل للكافرين فتفوت المناسبة والارتباط، ومثله القول بتعميم الخطاب بحيث يشمل الملائكة وظاهر أن سرهم وجهرهم في السماوات. وأجيب بأنه يمكن أن يكون جعل سر المخاطبين وجهرهم فيها لتوسيع الدائرة وتصوير أنه سبحانه وتعالى لا يعزب عن علمه شيء في أي مكان كان لا أنهما يكونان في السماوات أيضا، وقيل: المراد بالسر ما كتم عنهم من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 86 عجائب الملك وأسرار الملكوت مما لم يطلعوا عليه وبالجهر وما ظهر لهم من السماوات والأرض. وإضافة السر والجهر إلى ضمير المخاطبين مجازية وليس بشيء كما لا يخفى. وجوز بعضهم أن يكون الجار متعلقا بالمصدر على سبيل التنازع، واعترض بأن معمول المصدر لا يتقدم عليه. ويلزم أيضا التنازع مع تقدم المعمول. وأجيب بأن منهم من يجوز التنازع مع تقدم المعمول ومن يقول: بجواز تقديم الظرف على المصدر لتوسعهم فيه ما لم يتوسع في غيره، ونقل عن ابن هشام أنه قال: إنما يمتنع تقدم متعلق المصدر إذا قدر بحرف مصدري وفعل وهذا ليس كذلك فليس مما منعوه، وقال مولانا صدر الدين: يرد على منع تعلق الجار بالمصدر المتأخر تعلقه بإله في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ [الزخرف: 84] مع أن إلها مصدر وصرح بتعلقه به غير واحد فإن أول بالصفة مثل المعبود فليؤول السر والجهر بالخفي والظاهر. وعن أبي علي الفارسي أنه جعل هُوَ ضمير الشأن واللَّهُ مبتدأ خبره ما بعده والجملة خبر عن ضمير الشأن أي الشأن والقصة ذلك وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ أي ما تفعلونه لجلب نفع أو دفع ضر من الأعمال المكتسبة بالقلوب والجوارح سرا وعلانية. وتخصيص ذلك بالذكر مع اندراجه فيما تقدم على تقدير تعميم السر والجهر لإظهار كمال الاعتناء به لأنه مدار فلك الجزاء وهو السر في إعادة يَعْلَمُ. ومن الناس من غير بين المتعاطفين بجعل العلم هنا عبارة عن جزائه وإبقائه على معناه المتبادر فيما تقدم. وتفسير المكتسب بجزاء الأعمال من المثوبات والعقوبات غير ظاهر. وكذا حمل السر والجهر على ما وقع والمكتسب على ما لم يقع بعد. وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ كلام مستأنف سيق لبيان كفرهم بآيات الله تعالى وإعراضهم عنها بالكلية بعد بيان كفرهم بالله تعالى وإعراضهم عن بعض آيات التوحيد وامترائهم في البعث وإعراضهم عن بعض أدلته. والإعراض عن خطابهم للإيذان بأن إعراضهم السابق قد بلغ مبلغا اقتضى أن لا يواجهوا بكلام بل يضرب عنهم صفحا وتعدد جناياتهم لغيرهم ذما لهم وتقبيحا لحالهم. فما نافية وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية كما أشار إليه العلامة البيضاوي ولله تعالى دره أو للدلالة على الاستمرار التجددي، ومن الأولى مزيدة للاستغراق أو لتأكيده، والثانية للتبعيض وهي متعلقة بمحذوف مجرور أو مرفوع وقع صفة لآية، وجعلها ابن الحاجب للتبيين لأن كونها للتبعيض ينافي كون الأولى للاستغراق إذ الآية المستغرقة لا تكون بعضا من الآيات. ورد بأن الاستغراق هاهنا لآية متصفة بالإتيان فهي وإن استغرقت بعض من جميع الآيات على أن كلامه بعد لا يخلو عن نظر. وإضافة الآيات إلى الرب المضاف إلى ضميرهم لتفخيم شأنها المستتبع لتهويل ما اجترءوا عليه في حقها. والمراد بها إما الآيات التنزيلية أو الآيات التكوينية الشاملة للمعجزات وغيرها من تعاجيب المصنوعات والإتيان على الأول بمعنى النزول، وعلى الثاني بمعنى الظهور على ما قيل، ويفهم من كلام بعض المحققين أنه مطلقا بمعنى الظهور استعمالاته في لازم معناه وهو المجيء الذي لا يوصف به إلا الأجسام مجازا لا كناية كما قيل. وحاصل المعنى على الأول ما تنزل إليهم آية من الآيات القرآنية الجليلة الشأن التي من جملتها هاتيك الآيات الناطقة بما فصل من بدائع صنع الله تعالى شأنه المنبئة عن جريان أحكام ألوهيته على كافة الكائنات وإحاطة علمه بجميع أحوال العباد وأعمالهم الموجبة للإقبال عليها والإيمان بها. إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ غير مقبلين عليها ولا معتنين بها، وعلى الثاني ما تظهر لهم آية من الآيات التكوينية التي من جملتها ما ذكر من جلائل شؤونه سبحانه وتعالى الشاهدة بوحدانيته عز وجل إلا كانوا تاركين للنظر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 87 الصحيح فيها المؤدي إلى الإيمان بمكونها، وأصل الإعراض صرف الوجه عن شيء من المحسوسات. واستعماله في عدم الاعتناء أو ترك النظر مجاز على ما حققه البعض. وفسر شيخ الإسلام الإعراض على الوجه الأول بما كان على وجه التكذيب والاستهزاء، و «عن» متعلقة بمعرضين. والتقديم لرعاية الفواصل. والجملة بعد إلا- كما قال الكرخي- في موضع النصب على أنها حال من مفعول تأتي أو من فاعله المخصص بالوصف كما قيل وهي مشتملة على ضمير كل منهما. وإيثارها على أعرضوا عنها كما وقع مثله في قوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا [القمر: 2] للدلالة على استمرارهم على الإعراض حسب استمرار إتيان الآيات. وفي الكلام إشارة إلى غاية انهماكهم في الضلال حيث آذن أن إعراضهم عما يأتيهم من الآيات أن الإتيان كما يفصح عنه كلمة لَمَّا في قوله تعالى: فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فإن الحق عبارة عن القرآن الذي أعرضوا عنه حين أعرضوا عن كل آية آية منه. وعبر عنه بذلك إظهارا لكمال فظاعة ما فعلوا به. والفاء على تقدير أن يراد بالآيات الآيات التنزيلية- كما هو الأظهر على ما قرره مولانا شيخ الإسلام- لترتيب ما بعدها على ما قبلها لا باعتبار أنه مغاير له حقيقة واقع عقيبه أو حاصل بسببه بل على أنه عينه في الحقيقة والترتيب بحسب التغاير الاعتباري حيث إن مفهوم التكذيب بالحق أشنع من الإعراض المذكور إذ هو مما لا يتصور صدوره من أحد. ولذلك أخرج مخرج اللازم البين البطلان وترتب عليه بالفاء إظهارا لغاية بطلانه. ثم قيد ذلك بكونه بلا تأمل بل آن المجيء تأكيدا لشناعة فعلهم الفظيع. وعلى تقدير أن يراد الآيات التكوينية داخلة على جواب شرط محذوف. والمعنى على الأول حيث أعرضوا عن تلك الآيات حين إتيانها فقد كذبوا بما لا يمكن لعاقل تكذيبه أصلا من غير أن يتدبروا في حاله ومآله ويقفوا على ما في تضاعيفه من الشواهد الموجبة لتصديقه. وعلى الثاني أنهم إن كانوا معرضين عن الآيات حال إتيانها فلا تعجب من ذلك فقد فعلوا بما هو أعظم منها ما هو أعظم من الإعراض حيث كذبوا بالحق الذي هو أعظم الآيات. واختار في البحر كون الفاء سببية وما بعدها مسبب عما قبلها. وجوز أيضا كونها سببية على معنى أن ما بعدها سبب لما قبلها. فقد قال الرضي: وقد تكون فاء السببية بمعنى لام السببية وذلك إذا كان ما بعدها سببا لما قبلها نحو قوله تعالى: فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [الحجر: 34] وأطلق عليها الكثير حينئذ الفاء التعليلية. وهل تفيد الترتيب حينئذ أم لا؟ لم يصرح الرضي بشيء من ذلك، ويفهم كلام البعض أنها للترتيب والتعقيب أيضا. واستشكل بأن السبب يتقدم على المسبب لا متعقب إياه. وتكلف صاحب التوضيح لتوجيه بأن ما بعد الفاء علة باعتبار معلول باعتبار دخول الفاء عليه باعتبار المعلولية لا باعتبار العلية. ورد بأنها لا تتأتى في كل محل، وفي التلويح الأقرب ما ذكره القوم من أنها إنما تدخل على العلل باعتبار أنها تدوم فتتراخى عن ابتداء الحكم، وفي شرح المفتاح الشريفي فإن قلت: كيف يتصور ترتب السبب على المسبب؟ قلت: من حيث إن ذكر المسبب يقتضي ذكر السبب انتهى. وعليه يظهر وجه الترتيب هنا مطلقا. لكن ظاهر كلام النحاة وغيرهم أن هذه الفاء تختص بالوقوع بعد الأمر كأكرم زيدا فإنه أبوك، واعبد الله فإن العبادة حق إلى غير ذلك فالوجه الأول أولى وليست الفاء فصيحة كما توهمه بعضهم من قول العلامة البيضاوي في بيان معنى الآية كأنه قيل: لما كانوا معرضين عن الآيات كلها كذبوا بالقرآن لأن الفاء الفصيحة لا تقدر جواب لما لأن جوابها الماضي لا يقترن بالفاء على الفصيح فكيف يقدر للفاء ما يقتضي عدمها فما مراد العلامة إلا بيان حاصل المعنى ولذا أسقط الفاء. نعم قيل: إن هذا المعنى مما ينبغي تنزيه التنزيل عنه وفيه تأمل. وقد صرح بعض المحققين أن أمر الترتيب يجري في الآية سواء كانت الآية بمعنى الدليل أو المعجزة أو الآية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 88 القرآنية لتغاير الإعراض والتكذيب فيها. والفاء في قوله تعالى: فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ للترتيب أيضا بناء على أن ما تقدم لكونه أمرا عظيما يقتضي ترتب الوعيد عليه، وقيل: يستهزئون إيذانا بأن ما تقدم كان مقرونا بالاستهزاء. واستدل به أبو حيان على أن في الكلام معطوفا محذوفا أي فكذبوا بالحق واستهزؤوا به. ولا يخفى أن ذلك مما لا ضرورة إليه. وما عبارة عن الحق المذكور. وعبر عنه بذلك تهويلا لأمره بإبهامه وتعليلا للحكم بما في حيز الصلة. والأنباء جمع نبأ وهو الخبر الذي يعظم وقعه. والمراد بأنباء القرآن التي تأتيهم ويتحقق مدلولها فيهم ويظهر لهم آيات وعيده بما يحصل بهم في الدنيا من القتل والسبي والجلاء ونحو ذلك من العقوبات العاجلة، وقيل: المراد ما يعم ذلك والعقوبات التي تحل بهم في الآخرة من عذاب النار ونحوه وقيل: المراد بأنباء ذلك ما تضمن عقوبات الآخرة أو ظهور الإسلام وعلو كلمته، وظاهر ما يأتي من الآيات يرجح الأول. وصرح بعض المحققين بأن إضافة أَنْباءُ بيانية وهو احتمال مقبول وادعاء أنه مقحم وأن المعنى سيظهر لهم ما استهزؤوا به من الوعيد الواقع فيه أو من نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم أو نحو ذلك لا وجه له إذ لا داعي لإقحامه. وفي البحر إنما قيد الكذب بالحق هنا وكان التنفيس بسوف وفي [الشعراء: 6] فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ بدون تقيد الكذب والتنفيس بالسين لأن الأنعام متقدمة في النزول على الشعراء فاستوفى فيها اللفظ وحذف من الشعراء وهو مراد إحالة على الأول وناسب الحذف الاختصار في حرف التنفيس فجيء بالسين. أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ استئناف مسوق لتعيين ما هو المراد بما تقدم، وقيل: شروع في توبيخهم ببذل النصح لهم والأول أظهر. والرؤية عرفانية، وقيل: بصرية، والمراد في أسفارهم وليس بشيء. وهي على التقديرين تستدعي مفعولا واحدا. وكَمْ استفهامية كانت أو خبرية معلقة لها عن العمل مفيدة للتكثير سادة مع ما في حيزها مسد مفعولها. وهي منصوبة بأهلكنا على المفعولية. وهي عبارة عن الأشخاص، وقيل: إن الرؤية علمية تستدعي مفعولين والجملة سادة مسدهما. ومِنْ قَرْنٍ مميز لكم على أنه عبارة عن أهل عصر من الأعصار سموا بذلك لاقترانهم مدة من الزمان فهو من قرنت. واختلف في مقدار تلك المدة فقيل: مائة وعشرون سنة، وقيل: مائة، وقيل: ثمانون، وقيل: سبعون، وقيل: ستون، وقيل: ثلاثون، وقيل: عشرون. وقيل: مقدار الأوسط في أعمار أهل كل زمان. ولما كان هذا لا ضابط له يضبط قال الزجاج: إنه عبارة عن أهل عصر فيهم نبي أو فائق في العلم على ما جرت به عادة الله تعالى. ويحتمل أن يعتبر ذلك مائة سنة لما ورد أن الله تعالى قيض لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها. وقيل: هو عبارة عن مدة من الزمان اختلف فيها على طرز ما تقدم. واختار بعضهم أنه حقيقة في الزمان المعين وفي أهله. والمراد به هنا الأهل من غير تجشم تقدير مضاف أو ارتكاب تجوز. وجوز بعضهم انتصاب كَمْ على المصدرية بأهلكنا بمعنى إهلاك أو على الظرفية بمعنى أزمنة وهو تكلف. ومن الأولى ابتدائية متعلقة بأهلكنا. وهمزة الإنكار لتقرير الرؤية. والمعنى ألم يعرف هؤلاء المكذبون المستهزءون بمعاينة الآثار وتواتر الأخبار كم أمة أهلكنا من قبل خلقهم أو من قبل زمانهم كقوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط وأضرابهم فالكلام على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه. وقوله تعالى: مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ استئناف بياني كأنه قيل ما كان حالهم؟، وقال أبو البقاء: إنه في موضع جر صفة قَرْنٍ لأن الجمل بعد النكرات صفات لاحتياجها إلى التخصيص. وجمع الضمير باعتبار معناه. وتعقبه مولانا شيخ الإسلام بأن تنوينه التفخيمي مغن له عن استدعاء الصفة. على أن ذلك مع اقتضائه أن يكون مضمونه ومضمون ما عطف عليه من الجمل الأربع مفروغا عنه غير مقصود الجزء: 4 ¦ الصفحة: 89 لسياق النظم مؤد إلى اختلال النظم الكريم. كيف لا والمعنى حينئذ ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن موصوفين بكذا وكذا وبإهلاكنا لهم بذنوبهم وأنه بين الفساد انتهى. ولا يخفى أن التنوين التفخيفي لا يأبى الوصف. وما ورد فيه ذلك من النكرات أكثر من أن يحصى، وأما ما ذكره بعد فقد قال الشهاب: إنه غفلة منه أو تغافل عن تفسيرهم فَأَهْلَكْناهُمْ إلخ الآتي بقولهم لم يغن ذلك عنهم شيئا. وتمكين الشيء في الأرض- على ما قيل- جعله قارا فيها. ولما لزم ذلك جعلها مقرا له ورد الاستعمال بكل منهما فقيل تارة مكنه في الأرض. ومنه قوله تعالى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ [الأحقاف: 26] وأخرى مكن له في الأرض. ومنه قوله تعالى: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ [الكهف: 84] حتى أجرى كل منهما مجرى الآخر. ومنه قوله تعالى: ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ بعد ما تقدم كأنه قيل في الأول: مكنا لهم وفي الثاني ما لم نمكنكم. وفي التاج أن مكنته ومكنت له مثل نصحته ونصحت له. وقال أبو علي: اللام زائدة مثل رَدِفَ لَكُمْ [النمل: 72] وكلام الراغب في مفرداته يؤيده. وذكر بعض المحققين أن مكنه أبلغ من مكن له. ولذلك خص المتقدم بالمتقدمين والمتأخر بالمتأخرين وما إما موصولة صفة لمحذوف تقديره التمكين الذي لم نمكنه لكم أو نكرة موصوفة أي تمكينا لم نمكنه. وعليهما فهي مفعول مطلق والعائد إليها من الصلة أو الصفة محذوف، وقيل: إنها مفعول به لأن المراد من التمكين الإعطاء كما يشير إليه ما روي عن قتادة أي أعطيناكم ما تمكنوا به من أنواع التصرف ما لم نعطكم. وقيل: إنها مصدرية ظرفية أي مدة تمكينكم ولا يخفى بعده والخطاب للكفرة. وقيل: لجميع الناس، وقيل: للمؤمنين. والظاهر الأول والالتفات لما في مواجهتهم بضعف حالهم من التبكيت ما لا يخفى. وقيل: ليتضح مرجع الضميرين ولا يشتبه من أول الأمر، وهي نكتة في الالتفات لم يعرج عليها أهل المعاني. وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ أي المطر كما روي عن هارون التيمي. ونسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا. وقيل: السحاب واستعمالها في ذلك مجاز مرسل. وقيل: هي على حقيقتها بمعنى المظلة والمجاز في إسناد الإرسال إليها لأن المرسل ماء المطر وهي مبدأ له. وفيه من المبالغة ما لا يخفى. والإرسال والإنزال- كما في البحر- متقاربان في المعنى لأن اشتقاقه من رسل اللبن وهو ما ينزل من الضرع متتابعا عَلَيْهِمْ مِدْراراً أي غزيرا كثير الصب، وهو صيغة مبالغة يستوي فيه المذكر والمؤنث، وهو حال من السماء والظرف متعلق بأرسلنا وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ أي صيرناها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ أي من تحت مساكنهم. والمراد أنهم عاشوا في الخصب والريف بين الأنهار والثمار. والجملة في موضع المفعول الثاني لجعلنا. ولم يقل سبحانه: أجرينا الأنهار كما قال عز شأنه: أَرْسَلْنَا السَّماءَ للإيذان بكونها مسخرة مستمرة الجريان لا لأن النهر لا يكون إلا جاريا فلا يفيد الكلام لأن النظم حينئذ ناظر إلى كونه من تحتهم فالفائدة ظاهرة، ولو كان ما ذكر صحيحا لما ورد في النظم الكريم كقوله تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [البقرة: 25 وغيرها] واستظهر كون الجعل بمعنى الإنشاء والإيجاد وهو مخصوص به تعالى فلذا غير الأسلوب. وعليه فالجملة في موضع الحال من المفعول. وليس المراد- على ما قيل- بتعداد هاتيك النعم العظام الفائضة عليهم بعد ذكر تمكينهم بيان عظم جنايتهم في كفرانها واستحقاقهم بذلك لأعظم العقوبات بل بيان حيازتهم لجميع أسباب نيل المآرب ومبادئ الأمن من المكاره والمعاطب وعدم إغناء ذلك عنهم شيئا. وينبىء عن عدم الإغناء عند جمهور المفسرين. قوله تعالى: فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ والفاء للتعقيب. وقيل: فصيحة. والمراد فكفروا فأهلكناهم. ورجح الأول، والباء للسببية أي أهلكنا كل قرن من تلك القرون بسبب ما يخصهم من الذنوب كتكذيب الرسل عليهم الصلاة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 والسلام وَأَنْشَأْنا أي أوجدنا مِنْ بَعْدِهِمْ أي بعد إهلاكهم بسبب ذلك قَرْناً آخَرِينَ بدلا من الهالكين. وهذا بيان لأنه تعالى لا يتعاظمه أن يهلك قرنا ويخلي بلاده منهم فإنه جل جلاله قادر على أن ينشىء مكانهم آخرين يعمر بهم البلاد فهو كالتتميم لما قبله نحو قوله تعالى: وَلا يَخافُ عُقْباها [الشمس: 15] وفيه إشارة إلى أنهم قلعوا من أصلهم ولم يبق أحد من نسلهم لجعلهم آخرين ويلونهم من بعدهم وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ استئناف سيق بطريق تلوين الخطاب لبيان شدة شكيمتهم في المكابرة وما يتفرع عليها من الأقاويل الباطلة إثر بيان ما هم فيه من غير ذلك. وعن الكلبي وغيره أنها نزلت في النضر بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية، ونوفل بن خويلد لما قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله تعالى ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله تعالى وأنك رسوله، والكتاب المكتوب، والجار بعده متعلق بمحذوف وقع صفة له أو متعلق به، وقيل: إن جعل اسما كالإمام فالجار في موضع الصفة له، وإن جعل مصدرا بمعنى المكتوب فهو متعلق به. وجوز أن يتعلق بنزلنا وفيه بعد، والقرطاس بكسر القاف وضمها، وقرىء بهما معرب كراسة كما قيل، وممن نص على أنه غير عربي الجواليقي، وقيل: إنه مشترك ومعناه الورق، وعن قتادة الصحيفة، وفي القاموس القرطاس مثلثة القاف وكجعفر ودرهم الكاغد، وقال الشهاب: هو مخصوص بالمكتوب أو أعم منه ومن غيره. فَلَمَسُوهُ أي الكتاب أو القرطاس، واللمس كما قال الجوهري المس باليد فقوله تعالى: بِأَيْدِيهِمْ لزيادة التعيين ودفع احتمال التجوز الواقع في قوله تعالى: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ [الجن: 8] أي تفحصنا، وقيل: إنه أعم من المس باليد، فعن الراغب المس إدراك بظاهر البشرة كاللمس، وبالتقييد به يندفع احتمال التجوز أيضا. وقيل: إنما قيد بذلك لأن الإحساس باللصوق يكون بجميع الأعضاء ولليد خصوصية في الإحساس ليست لسائرها. وأما التجوز باللمس عن الفحص فلا يندفع به إذ لا بعد في أن يكون ذلك لمباشرتهم للفحص بأنفسهم بل يندفع لكون المعنى الحقيقي أنسب بالمقام وليس بشيء كما لا يخفى، وقيل: إن ذكر الأيدي ليفيد أن اللمس كان بكلتا اليدين ولا يظهر وجه الإفادة. وتخصيص اللمس لأنه يتقدمه الإبصار حيث لا مانع ولأن التزوير لا يقع فيه فلا يمكنهم أن يقولوا إذا ترك العناد والتعنت: إنما سكرت أبصارنا. واعترض بأن اللمس هنا إنما يدفع احتمال كون المرئي مخيلا وأما نزوله من السماء فلا يثبت به. وأجيب بأنه إذا تأيد الإدراك البصري في النزول بالإدراك اللمسي في المنزل يجزم العقل بديهة بوقوع المبصر جزما لا يحتمل النقيض فلا يبقى بعده إلا مجرد العناد مع أن حدوثه هناك من غير مباشرة أحد يكفي في الإعجاز كما لا يخفى، وقال ابن المنير الظاهر أن فائدة زيادة لمسهم بأيديهم تحقيق القراءة على قرب أي فقرؤوه وهو بأيديهم لا بعيد عنهم لما آمنوا. وقوله تعالى: لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا جواب لَوْ على الأفصح من اقتران جوابها المثبت باللام. والمراد لقالوا تعنتا وعنادا للحق. وإنما وضع الموصول موضع الضمير للتنصيص على اتصافهم بما في حيز الصلة من الكفر الذي لا يكفر- كما قيل- حسن موقعه باعتبار معناه اللغوي أيضا، وجوز أن يكون المراد بهم قوم معهودون من الكفرة فحديث الوضع حينئذ موضوع وإِنْ في قوله سبحانه إِنْ هذا أي الكتاب نافية أي ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي ظاهر كونه سحرا وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ الظاهر أنه استئناف لبيان قدحهم بنبوته عليه الصلاة والسلام بما هو أصرح من الأول، وقيل: إنه معطوف على جواب لو ويغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل، واعترض بأن تلك المقالة الشنعاء ليست مما يقدر صدوره عنهم على تقدير تنزيل الكتاب المذكور بل هي من أباطيلهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 المحققة وخرافاتهم الملفقة التي يتعللون بها كلما ضاقت عليهم الحيل وعيت بهم العلل، وأجيب بأنه لا بعد في تقدير صدور هذه المقالة على تقدير ذلك التنزيل لأنه مما يوقع الكافر المعاند في حيص بيص فلا يدري بماذا يقابله وأي شيء يتشبث به. وكلمة لَوْلا هنا للتحضيض، والمقصود به التوبيخ على عدم الإتيان بملك يشاهد معه حتى تنتفي الشبهة بزعمهم. أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن إسحاق قال: «دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قومه إلى الإسلام وكلمهم فأبلغ إليهم فيما بلغني فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب والنضر بن الحارث بن كلدة وعبدة بن عبد يغوث وأبي بن خلف بن وهب والعاص بن وائل بن هشام: لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس ويرى معك فأنزل الله تعالى قوله سبحانه: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ إلخ أي هلا أنزل عليه ملك يكون معه يحدث الناس عنه ويخبرهم أنه رسول من ربه سبحانه إليهم، ولعل هذا نظير ما حكى الله تعالى عنهم بقوله جل شأنه: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [الفرقان: 7] . ولما كان مدار هذا الاقتراح على شيئين. إنزال الملك على صورته وجعله معه صلّى الله عليه وسلّم يحدث الناس عنه وينذرهم أجيب عنه بأن ذلك مما لا يكاد يوجد لاشتماله على المتباينين فإن إنزال الملك على صورته يقتضي انتفاء جعله محدثا ونذيرا وجعله محدثا ونذيرا يستدعي عدم إنزاله على صورته، وقد أشير إلى الأول بقوله تعالى: وَلَوْ أَنْزَلْنا عليه مَلَكاً على صورته الحقيقية فشاهدوه بأعينهم: لَقُضِيَ الْأَمْرُ أي لأتم أمر إهلاكهم بسبب مشاهدتهم له لمزيد هول المنظر مع ما هم فيه من ضعف القوى وعدم اللياقة. وقد قيل: إن جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهم هم إنما رأوا الملك في صورة البشر ولم يره أحد منهم على صورته غير النبي صلّى الله عليه وسلّم رآه كذلك مرتين مرة في الأرض بحياد ومرة في السماء، ولا يخفى أن هذا محتاج إلى نقل عن الأحاديث الصحيحة، والذي صح من رواية الترمذي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رأى جبريل عليه السلام مرتين كما ذكر على صورته الأصلية لكن ليس فيه أن أحدا من إخوانه الأنبياء غيره عليه الصلاة والسلام لم يره كذلك، ولم يرد هذا- كما قال ابن حجر وناهيك به حافظا في شيء- من كتب الآثار، وأما رؤية النبي صلّى الله عليه وسلّم وكذا رؤية غيره من الأنبياء غير جبريل عليه السلام على الصورة الأصلية فهي جائزة بلا ريب، وظاهر الأخبار وقوعها أيضا لنبينا عليه الصلاة والسلام، وأما وقوع رؤية سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فلم أقف فيها على شيء لا نفيا ولا إثباتا، وعدم وقوع رؤية جبريل عليه السلام لو صح لا يدل على عدم رؤية غيره إذ ليست صور الملائكة كلهم كصورته عليه الصلاة والسلام في العظم، وخبر الخصمين والأضياف لإبراهيم، ولوط وداود عليهم السلام ليس فيه دلالة على أكثر من رؤية هؤلاء الأنبياء للملائكة بصورة الآدميين وهي لا تستلزم أنهم لا يرونهم إلا كذلك وإلا لاستلزمت رؤية نبينا صلّى الله عليه وسلّم جبريل عليه السلام بصورة دحية بن خليفة الكلبي رضي الله تعالى عنه مثلا عدم رؤيته عليه الصلاة والسلام إياهم إلا بالصورة الآدمية وهو خلاف ما تفهمه الأخبار، وبناء الفعل الأول في الجواب للفاعل مسندا إلى نون العظمة مع كونه في السؤال مبنيا للمفعول لتهويل الأمر وتربية المهابة، وبناء الثاني للمفعول للجري على سنن الكبرياء وكلمة ثُمَّ في قوله تعالى: ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ أي لا يمهلون بعد إنزاله ومشاهدتهم له طرفة عين فضلا عن أن يحفظوا منه بكلمة أو يزيلوا به بزعمهم شبهة للتنبيه على بعد ما بين الأمرين قضاء الأمر وعدم الانظار فإن مفاجأة الشدة أشد من نفس الشدة، وقيل: إنها للإشارة إلى أن لهم مهلة قدر أن يتأملوا. واعترض بأن قوله سبحانه: ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ عطف على قوله عز وجل: لَقُضِيَ ولا يمهل للتأمل بعد قضاء الأمر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 وقيل في سبب إهلاكهم على تقدير إنزال الملك حسبما اقترحوه: إنهم إذا عاينوه قد نزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في صورته الأصلية وهي آية لا شيء أبين منها ثم لم يؤمنوا لم يكن بد من إهلاكهم فإن سنة الله تعالى قد جرت بذلك فيمن قبلهم ممن كفر بعد نزول ما اقترح. وروي هذا عن قتادة، وقيل: إنه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف عند نزوله لأن هذه آية ملجئة قال تعالى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [غافر: 85] فيجب إهلاكهم لئلا يبقى وجودهم عاريا عن الحكمة إذ ما خلقوا إلا للابتلاء بالتكليف وهو لا يبقى مع الإلجاء، وفيه أنه مخالف لقواعد أهل السنة ولا يتسنى إلا على قواعد المعتزلة وهي أوهن من بيت العنكبوت ومع هذا هو غير صاف عن الاشكال كما لا يخفى على المتتبع، وذكر بعض الفضلاء أن هذا الوجه ينافي ما قبله لدلالة ما قبل على بقاء الاختيار وأنهم لا يؤمنون إذا عاينوا الملك قد نزل ودلالة هذا على سلب الاختيار وزواله وأن الإيمان إيمان يأس. وقال ابن المنير: لا يحسن أن يجعل سبب مناجزتهم بالهلك وضوح الآية في نزول الملك فإنه ربما يفهم من ذلك أن الآيات التي لزمهم الإيمان بها دون نزول الملك في الوضوح وليس الأمر كذلك، فالوجه والله تعالى أعلم أن يكون سبب تعجيل عقوبتهم بتقدير نزول الملك وعدم إيمانهم أنهم اقترحوا ما لا يتوقف وجوب الإيمان عليه إذ الذي يتوقف الوجوب عليه المعجز من حيث كونه معجزا لا المعجز الخاص فإذا أجيبوا على وفق مقترحهم فلم ينجع فيهم كانوا حينئذ على غاية من الرسوخ في العناد المناسب لعدم النظرة، ولعل الوجه الذي عولنا عليه هو الأولى، وقد أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والاعتراض عليه بأن لا يُنْظَرُونَ يدل على إهلاكهم لا على هلاكهم برؤية الملك يندفع بما أشرنا إليه كما لا يخفى، وليس بتكلف يترك له كلام ترجمان القرآن، وقد أشير إلى الثاني بقوله سبحانه: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا على أن الضمير الأول للنذير المحدث للناس عنه عليه الصلاة والسلام المفهوم من فحوى الكلام بمعونة المقام والضمير الثاني للملك لا لما رجع إليه الأول أي ولو جعلنا النذير الذي اقترحتم إنزاله ملكا لمثلنا ذلك الملك رجلا لعدم استطاعتكم معاينة الملك على هيكله الأصلي، وفي إيثار رَجُلًا على بشرا إيذان على ما قيل بأن الجعل بطريق التمثيل لا بطريق قلب الحقيقة وتعيين لما يقع به التمثيل، وفيه إشعار كما قال عصام الدين وغيره بأن الرسول لا يكون امرأة وهو متفق عليه وإنما الاختلاف في نبوتها. والعدول عن ولو أنزلناه ملكا إلى ما في النظم الجليل يعلم سره مما تقدم في بيان المراد، وقيل: العدول لرعاية المشاكلة لما بعد ووجه شيخ الإسلام عدم جعل الضمير الأول للملك المذكور قبل بأن يعكس ترتيب المفعولين ويقال: ولو جعلناه نذيرا لجعلناه رجلا مع فهم المراد منه أيضا بأنه لتحقيق أن مناط إبراز الجعل الأول في معرض الفرض والتقدير ومدار استلزامه للثاني إنما هو ملكية النذير لا نذيرية الملك، وذلك لأن الجعل حقه أن يكون مفعوله الأول مبتدأ والثاني خبرا لكونه بمعنى التصيير المنقول من صار الداخل على المبتدأ والخبر، ولا ريب في أن مصب الفائدة ومدار اللزوم بين طرفي الشرطية هو محمول المقدم لا موضوعه فحيث كانت «لو» امتناعية أريد بيان انتفاء الجعل الأول لاستلزامه المحذور الذي هو الجعل الثاني وجب أن يجعل مدار الاستلزام في الأول مفعولا ثانيا لا محالة ولذلك جعل مقابله في الجعل الثاني كذلك إبرازا لكمال التنافي بينهما الموجب لانتفاء الملزوم ولا يخلو عن حسن. وجوز غير واحد كون قوله تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ إلخ جواب اقتراح ثان، وذلك أن للكفرة اقتراحين، أحدهما أن ينزل على الرسول صلّى الله عليه وسلّم ملك في صورته الأصلية بحيث يعاينه القوم والآخر أن ينزل إلى القوم ويرسل إليهم مكان الرسول البشر ملك فإنهم كما كانوا يقولون: لولا أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم ملك فيكون معه نذيرا كانوا يقولون: ما هذا إِلَّا بَشَرٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 مِثْلُكُمْ [المؤمنون: 24] وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [المؤمنون: 24] فأجيبوا عن قولهم الأول بقوله سبحانه وتعالى: وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً إلخ وعن قولهم الأخير بما ذكر فضمير جَعَلْناهُ للرسول المنزل إلى القوم، ولا يخفى أن جعله جوابا عن اقتراح آخر غير ظاهر من النظم الكريم ولا داعي إليه أصلا. وبعضهم جعله جوابا آخر وجعل الضمير للمطلوب واعترض بأن المطلوب أيضا ملك ولا معنى لقولنا لو جعلنا الملك ملكا إلا أن يقال: المراد لو جعلنا المطلوب ملكيته ملكا، وتعقب بأن المطلوب هو النازل المقارن للرسول صلّى الله عليه وسلّم وحينئذ لا غبار في الكلام خلا أن لزوم جعل الملك النازل رجلا لجعله ملكا كما هو مفهوم الآية الثانية ينافي لزوم هلاكهم له كما هو مفهوم الآية الأولى لتوقف الثاني على عدم الأول لأن مبناه على نزوله في صورته لا في صورة رجل. فحينئذ يجب أن تكون الآية جوابا عن اقتراح آخر لا جوابا آخر عن الاقتراح الأول حتى لا يلزم المنافاة. وأجيب بأنه على تقدير كونه جوابا آخر يكون جوابا على طريق التنزل، والمعنى ولو أنزلناه كما اقترحوا لهلكوا ولو فرضنا عدم هلاكهم فلا بد من تمثله بشرا لأنهم لا يطيقون رؤيته على صورته الحقيقية فيكون الإرسال لغوا لا فائدة فيه، وأنت تعلم أن ما عولنا عليه وهو المروي عن حبر الأمة سالم عن مثل هذه الاعتراضات. نعم ذكر بعض الفضلاء إشكالا وهو أن المقرر عند أهل الميزان أن صدق العكس لازم لصدق الأصل فعلى هذا يلزم من كذب اللازم كذب الملزوم فهاهنا عكس القضية الصادقة وهي لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا غير صادق إذ هو لو جعلناه رجلا لجعلناه ملكا ولا خفاء في عدم تحققه فإن الله تعالى قد جعله رجلا ولم يجعله ملكا «والجواب» بأن ما ذكره أهل الميزان اصطلاح طار فلا يجب موافقة قاعدتهم لقاعدة أهل اللسان غير مرضي فإنه قد تقرر أن تلك القاعدة غير مخالفة لقاعدة اللغة وأنها مما لا خلاف فيه. وأجيب عن ذلك بعد تمهيد مقدمة وهي أن للو الشرطية استعمالين لغويا وهي فيه لانتفاء الثاني لانتفاء الأول كما في لو جئتني أكرمتك ومفهوم القضية عليه الاخبار بأن شيئا لم يتحقق بسبب عدم تحقق شيء آخر، وعرفيا تعارفه الميزانيون فيما بينهم وذلك أنهم جعلوها من أدوات الاتصال لزوميا واتفاقيا وصدق القضية التي هي فيها بمطابقة الحكم باللزوم للواقع وكذبها بعدمها ويحكمون بكذبها وإن تحقق طرفاها إذا لم يكن بينهما لزوم وقد استعملها اللغويون أيضا في هذا المعنى إما بالاشتراك أو بالمجاز كما يقال: لو كان زيد في البلد لرآه أحد. وفي بعض الآثار لو كان الخضر حيا لزارني، ومن البين أن المقصود الاستدلال بالعدم على العدم لا الدلالة على أن انتفاء الثاني سبب انتفاء الأول، وجعلوا من هذا الاستعمال لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] . وقد اشتبه هذان الاستعمالان على ابن الحاجب حتى قال ما قال بأن قول المستشكل: إن عكس القضية الصادقة إلخ إن أراد به أن القضية الصادقة هي المأخوذة باعتبار الاستعمال الأول فلا نسلم أن عكسه ما ذكر فإن عكس لو جئتني أكرمتك ليس لو أكرمتك لجئتني وإنما يكون كذلك لو كان الحكم في هذا الاستعمال بين الشرط والجزاء بالاتصال وليس كذلك بل القضية هي الجملة الجزائية والشرط قيد لها كما صرح به السكاكي على أن بعض أئمة التفسير قالوا: المراد من الآية ولو جعلناه ملكا لجعلناه على صورة رجل وأن المقصود بيان انتقاض غرضهم من قولهم: لولا أنزل عليه ملك يعني أن نزول الملك لا يجديهم لأنهم وهم هم لا يقدرون على مشاهدة الملك على صورته التي هو عليها إلا أن يجعله متمثلا على صورة البشر في مرتبة من مراتب التنزل حتى تحصل لهم معه مناسبة فيروه فتكون الآية على هذا بمراحل عن أن يبحث فيها عن أن عكسها. ماذا أو كيف حالها في الصدق والكذب فإنها لم تسق لبيان لزوم الجعل الثاني للجعل الأول حتى يستدل بالعدم على العدم أو بالوجود على الوجود فنسبة هذا البحث إلى الآية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 كنسبة السمك إلى السماك وإن أراد به أن القضية الصادقة هي المأخوذة باعتبار الاستعمال العرفي المنطقي فمسلم أنه لا بد من صدق عكسها على تقدير صدق أصلها لكن لا نسلم كذب العكس هنا على ذلك التقدير فإنه إذا فرض لزوم الجعل رجلا للجعل الأول كليا على جميع التقادير يصدق لزوم الجعل ملكا للجعل رجلا على بعض الأوضاع والتقادير وهو اللازم المقرر في قواعدهم على أن قوله إن الله تعالى قد جعله رجلا ولم يجعله ملكا لا يليق أن يصدر مثله من مثله لأنه استدلال بعدم اللازم مع وجود الملزوم على بطلان اللزوم وهو كما لو قال: إذا قلنا إن زيد صاهلا كان حيوانا لا يصدق عكسه، وهو قد يكون إذا كان زيد حيوانا كان صاهلا لأنه ليس بصاهل في الواقع، ومنشأ هذا هو ظن أن عدم تحقق أحد الطرفين، أو كليهما ينافي اللزوم. وأنت خبير بأن صدق اللزوم لا يتوقف على تحقق الطرفين ولا تحقق المقدم اه. وبحث فيه المولى العلائي أما أولا فبأن كون القضية هي الجملة الجزائية والشرط قيد لها كلام ذكره بعض أهل العربية ورده السيد السند وحقق اتفاق الفريقين على كون الجملة هي المجموع وحينئذ كيف يصح بناء الجواب على ذلك. وأما ثانيا فبأن المستشكل لم يستدل بعدم اللازم مع وجود الملزوم على بطلان اللزوم كما لا يخفى على الناظر في عبارته، فالصواب أن يقال: أكثر استعمال لو عند أهل العربية لمعنيين. الأول ما ذكره المجيب من انتفاء الثاني لانتفاء الأول. والثاني الدلالة على أن الجزاء لازم الوجود في جميع الأزمنة في قصد المتكلم. وذلك إذا كان الشرط يستبعد استلزامه لذلك الجزاء ويكون نقيض ذلك الشرط أنسب وأليق باستلزام ذلك الجزاء فيلزم استمرار وجود الجزاء على تقدير وجود الشرط وعدمه كما في نعم العبد صهيب لو لم يخف الله تعالى لم يعصه. وقد صرح المحققون أن الآية إما من قبيل الأول أي لو جعلناه قرينا لك ملكا يعاينونه أو الرسول المرسل إليهم ملكا لجعلنا ذلك الملك في صورة رجل وما جعلنا ذلك الملك في صورة رجل لأنا لم نجعل القرين أو الرسول المرسل إليهم ملكا. وإما من قبيل الثاني أي ولو جعلنا الرسول ملكا لكان في صورة رجل فكيف إذا كان إنسانا وكل منهما لا يقبل العكس المذكور ولا ثالث فلا إشكال فتدبر. فالبحث بعد محتاج إلى بسط كلام ولو بسطناه لأمل الناظرين. وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ جعله بعضهم جواب محذوف أي ولو جعلناه رجلا للبسنا إلخ، وكأن الداعي إليه إعادة لام الجواب فإنه يقتضي استقلاله وأنه لا ملازمة بين إرسال الملك، واللبس عليهم فإنه ليس سببا له بل لعكسه، ويجوز أن يكون عطفا على جواب لو المذكور ولا ضير في عطف لازم الجواب عليه، ونكتة إعادة اللام أن لازم الشيء بمنزلته فكأنه جلباب، واللبس في الأصل الستر بالثوب ويطلق على منع النفس من إدراك الشيء بما هو كالستر له يقال: لبست الأمر على القوم ألبسه إذا شبهت عليهم وجعلته مشكلا. قال ابن السكيت: يقال لبست عليه الأمر إذا خلطته عليه حتى لا يعرف جهته أي لخلطنا عليهم بتمثيله رجلا ما يخلطون على أنفسهم حينئذ بأن يقولوا له: إنما أنت بشر ولست بملك، ولو استدل على ملكيته بالمعجز كالقرآن ونحوه كذبوه كما كذبوا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وإسناد اللبس إليه تعالى لأنه بخلقه سبحانه وتعالى أو للزومه لجعله رجلا. ويحتمل أن يكون المعنى للبسنا عليهم حينئذ ما يلبسون على أنفسهم الساعة في تكذيبهم النبي صلّى الله عليه وسلّم ونسبة آياته البينات إلى السحر، وما على ما اختاره في الكشف على الأول موصولة. وعلى الثاني يجوز أن تكون مصدرية وهو الأظهر لاستمرار حذف المثل في نحو ضربت ضرب الأمير، وأن تكون موصولة أي مثل الذي يلبسونه. ومتعلق يَلْبِسُونَ على الوجهين على أنفسهم. ويفهم من كلام الزجاج أنه على ضعفائهم حيث قال: كانوا يلبسون على ضعفائهم في أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم فيقولون: إنما هذا بشر مثلكم فأخبر سبحانه وتعالى أنه لو جعلنا المرسل إليهم ملكا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 لأريناهم إياه في صورة الرجل وحينئذ يلحقهم فيه من اللبس مثل ما لحق ضعفاءهم منه. وقرأ ابن محيصن «ولبسنا» بلام واحدة. والزهري «وللبسنا عليهم ما يلبسون» بالتشديد، هذا وقد ذكر الإمام الرازي في بيان وجه الحكمة في جعل الملك على تقدير إنزاله في صورة البشر أمورا. الأول أن الجنس إلى الجنس أميل. الثاني أن البشر لا يطيق رؤية الملك. الثالث أن طاعات الملك قوية فيستحقرون طاعات البشر وربما لا يعذرونهم في الإقدام على المعاصي. الرابع أن النبوة فضل من الله تعالى فيختص بها من يشاء من عباده سواء كان ملكا أو بشرا. ولا يخفى أنه يرد على الوجه الثالث أنه إنما يتم إذا تبدلت حقيقة الملك المقدر نزوله بحقيقة البشر وهو مع كونه من انقلاب الحقائق خلاف ما يفهم من كتب أئمة التفسير من أن التبدل صوري لا حقيقي، وأن الوجه الرابع لا يظهر وجه كونه حكمة لتصوير الملك بصورة البشر. وقول العلائي: لعل وجهه أن المصور الذي قدر كونه نبيا لما اشتمل على جهتين البشرية صورة والملكية حقيقة لم يبعد أن يكون دليلا على أن النبوة فضل من الله تعالى يختص بها من يشاء من عباده سواء كان ملكا كهذا المصور باعتبار حقيقته أو بشرا مثله باعتبار صورته مما لا يتبلج له وجه القبول. وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم عما يلقاه من قومه كالوليد بن المغيرة وأمية بن خلف، وأبي جهل، وأضرابهم أي أنك لست أول رسول استهزأ به قومه فكم وكم من رسول جليل الشأن فعل معه ذلك فالتنوين للتفخيم والتكثير ومن ابتداء متعلقة بمحذوف وقع صفة لرسل والكلام على حذف مضاف، وفي تصدير الجملة بالقسم وحرف التحقيق من الاعتناء ما لا يخفى. وكون التسلية بهذا المقدار مما خفي على بعض الفضلاء وهو ظاهر، ولك أن تقول: إن التسلية به وبما بعده من قوله تعالى: فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ لأنه متضمن أن من استهزأ بالرسل عوقب فكأنه سبحانه وتعالى وعده صلّى الله عليه وسلّم بعقوبة من استهزأ به عليه السلام إن أصر على ذلك. وحاق بمعنى أحاط كما روي عن الضحاك واختاره الزجاج، وفسره الفراء بعاد عليه وبال أمره، وقيل: حل واختاره الطبرسي، وقيل: نزل وهو قريب من سابقه ومعناه يدور على الإحاطة والشمول ولا يكاد يستعمل إلا في السر كما قال: فأوطأ جرد الخيل عقر ديارهم ... وحاق بهم من بأس ضربة حائق وقال الراغب: أصله حق فأبدل من أحد حرفي التضعيف حرف علة. كتظننت، وتظنيت أو هو مثل ذمة وذامة، والمعروف في اللغة ما اختاره الزجاج. وقال الأزهري: جعل أبو إسحاق حاق بمعنى أحاط وكأنه جعل مادته من الحوق بالضم وهو ما أحاط بالكمرة من حروفها. وقد يفتح كما في القاموس وجعل أحد معاني الحوق بالفتح الإحاطة، وفيه أيضا حاق به يحيق حيقا وحيوقا وحيقانا بفتح الياء أحاط به كأحاق وفيه السيف حاك وبهم الأمر لزمهم ووجب عليهم ونزل، وأحاق الله تعالى بهم مكرهم. والحيق ما يشتمل على الإنسان من مكروه فعله. وظاهره إن حاق يائي وعليه غالب أهل اللغة وهو مخالف لظاهر كلام الأزهري من أنه واوي. ومِنْهُمْ متعلق بسخروا والضمير المرسل. ويقال: سخر منه وبه كهزأ منه وبه فهما متحدان معنى واستعمالا. وقيل: السخرية والاستهزاء بمعنى لكن الأول قد يتعدى بمن والباء. وفي الدر المصون لا يقال إلا استهزأ به ولا يتعدى بمن. وجوز أبو البقاء أن يكون الضمير للمستهزئين والجار والمجرور حينئذ متعلق بمحذوف وقع حالا من ضمير الفاعل في «سخروا» ورد بأن المعنى حينئذ فحاق بالذين سخروا كائنين من المستهزئين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 96 ولا فائدة لهذه الحال لانفهامها من سخروا وأجيب بأن هذا مبني على أن الاستهزاء والسخرية بمعنى وليس بلازم فلعل من جعل الضمير للمستهزئين يجعل الاستهزاء بمعنى طلب الهزء فيصح بيانه ولا يكون في النظم تكرار. فعن الراغب الاستهزاء ارتياد الهزء وإن كان قد يعبر به عن تعاطي الهزء كالاستجابة في كونها ارتيادا للإجابة وإن كان قد يجري مجرى الإجابة. وجوز رجوع الضمير إلى أمم الرسل ونسب إلى الحوفي ورده أبو حيان بأنه يلزم إرجاع الضمير إلى غير مذكور. وأجيب عنه بأنه في قوة المذكور. وبِالَّذِينَ متعلق بحاق وتقديمه على فاعله وهو ما للمسارعة إلى بيان لحوق الشر بهم. وهي إما مصدرية وضمير به للرسول الذي في ضمن الرسل. وإما موصولة والضمير لها والكلام على حذف مضاف أي فأحاط بهم وبال استهزائهم أو وبال الذي كانوا يستهزئون به. وقد يقال: لا حاجة إلى تقدير مضاف، وفي الكلام إطلاق السبب على المسبب لأن المحيط بهم هو العذاب ونحوه لا الاستهزاء ولا المستهزأ به لكن وضع ذلك موضعه مبالغة. وقيل: إن المراد من الذي كانوا يستهزئون هو العذاب الذي كان الرسل يخوفونهم إياه فلا حاجة إلى ارتكاب التجوز السابق أو الحذف. وقد اختار ذلك الإمام الواحدي. والاعتراض عليه بأنه لا قرينة على أن المراد بالمستهزأ به هو العذاب بل السياق دليل على أن المستهزأ بهم الرسل عليهم الصلاة والسلام يدفعه أن الاستهزاء بالرسل عليهم الصلاة والسلام مستلزم لاستهزائهم بما جاؤوا به وتوعدوا قومهم بنزوله وإن مثله لظهوره لا يحتاج إلى قرينة. ومن الناس من زعم أن حاقَ بِهِمْ كناية عن إهلاكهم وإسناده إلى ما أسند إليه مجاز عقلي من قبيل أقدمني بلدك حق لي على فلان إذ من المعلوم من مذهب أهل الحق أن المهلك ليس إلا الله تعالى فإسناده إلى غيره لا يكون إلا مجازا. وأنت تعلم أن الحيق الإحاطة ونسبتها إلى العذاب لا شبهة في أنها حقيقة ولا داعي إلى تفسيره بالإهلاك وارتكاب المجاز العقلي، ولعل مراد من فسر بذلك بيان مؤدى الكلام ومجموع معناه. نعم إذا قلنا: إن الإحاطة إنما تكون للأجسام دون المعاني فلا بد من ارتكاب تجوز في الكلام على تقدير إسنادها إلى العذاب لكن لا على الوجه الذي ذكره هذا الزاعم كما لا يخفى. وفي جمع كانُوا ويَسْتَهْزِؤُنَ ما مر غير مرة في أمثاله. وبِهِ متعلق بما بعده. وتقديمه لرعاية الفواصل. قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ خطاب لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم بإنذار قومه وتذكيرهم بأحوال الأمم الخالية وما حاق بهم لسوء أفعالهم تحذيرا لهم عما هم عليه مما يحاكي تلك الأفعال. وفي ذلك أيضا تكملة لتسليته عليه الصلاة والسلام بما في ضمنه من العدة اللطيفة بأنه سيحيق بهم مثل ما حاق بأضرابهم الأولين، وقد أنجز سبحانه وتعالى ذلك إنجازا أظهر من الشمس يوم بدر، والمراد من النظر التفكر، وقيل: النظر بالإبصار، وجمع بينهما الطبرسي بناء على القول بجواز مثل ذلك. وكَيْفَ خبر مقدم لكان أو حال وهي تامة. والعاقبة مآل الشيء وهي مصدر كالعافية، والتعبير بالمكذبين دون المستهزئين قيل: للإشارة إلى أن مآل من كذب إذا كان كذلك فكيف الحال في مآل من جمع بينه وبين الاستهزاء. وأورد عليه أن تعريف المكذبين للعهد وهم الذين سخروا فيكونون جامعين بين الأمرين مع أن الاستهزاء بما جاؤوا به يستلزم تكذيبه. ولا يخفى أن مقصود القائل إن أولئك وإن جمعوا الأمرين لكن في الإشارة إليهم بهذا العنوان هنا ما لا يخفى من الإشارة إلى فظاعة ما نالهم، وقيل: إن وضع المكذبين موضع المستهزئين لتحقيق أنه مدار ما أصابهم هو التكذيب لينزجر السامعون عنه لا عن الاستهزاء فقط مع بقاء التكذيب بحاله بناء على توهم أنه المدار في ذلك، وعطف الأمر بالنظر على الأمر بالسير بثم قيل للإيذان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 97 بتفاوت ما بينهما وإن كان كل من الأمرين واجبا لأن الأول إنما يطلب للثاني كما في قولك: توضأ ثم صل، وقيل: للإيذان بالتفاوت لأن الأول لإباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع. والثاني لإيجاب النظر في آثار الهالكين، ولا ريب في تباعد ما بين الواجب والمباح. وأورد عليه- كما قال الشهاب- أنه يأباه سلامة الذوق لأن فيه إقحام أمر أجنبي وهو بيان إباحة السير للتجارة بين الأخبار عن حال المستهزئين وما يناسبه وما يتصل به من الأمر بالاعتبار بآثارهم وهو مما يخل بالبلاغة إخلالا ظاهرا. وتعقب بأن هذا وإن تراءى في بادىء النظر لكنه غير وارد إذ ذاك غير أجنبي لأن المراد خذلانهم وتخليتهم وشأنهم من الإعراض عن الحق بالتشاغل بأمر دنياهم كقوله تعالى: وَلِيَتَمَتَّعُوا [العنكبوت: 66] . وهذا حاصل ما قيل: إن الكلام مجاز عن الخذلان والتخلية وإن ذلك الأمر متسخط إلى الغاية كما تقول لمن عزم على أمر مؤد إلى ضرر عظيم فبالغت في نصحه ولم ينجع فيه أنت وشأنك وافعل ما شئت فإنك لا تريد بذلك حقيقة الأمر كيف والآمر بالشيء مريد له وأنت شديد الكراهة متحسر ولكنك كأنك قلت له: إذ قد أبيت النصح فأنت أهل لأن يقال لك: افعل ما شئت. ولا يخفى أن انفهام ذلك من الآية في غاية البعد. وفرق الزمخشري بين هذه الآية وقوله تعالى في سورة النمل: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا بحمل الأمر بالسير هنا على الإباحة المذكورة آنفا، وحمل الأمر به هناك على السير لأجل النظر. ولهذا كان العطف بالفاء في تلك الآية. ونظر فيه بعضهم بغير ما أشرنا إليه أيضا. وذكر أن التحقيق أنه سبحانه قال هنا: ثُمَّ انْظُرُوا وفي غير ما موضع فَانْظُروا [آل عمران: 137، النحل: 36، النمل: 69، العنكبوت: 20، الروم: 42] لأن المقام هنا يقتضي ثم دونه في هاتيك المواضع. وذلك لتقدم قوله تعالى فيما نحن فيه أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ [الأنعام: 6] مع قوله سبحانه وتعالى: وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ [الأنعام: 6] والأول يدل على أن الهالكين طوائف كثيرة. والثاني يدل على أن المنشأ بعدهم أيضا كثيرون فيكون أمرهم بالسير دعاء لهم إلى العلم بذلك فيكون المراد به استقراء البلاد ومنازل أهل الفساد على كثرتها ليروا الآثار في ديار بعد ديار وهذا مما يحتاج إلى زمان ومدة طويلة تمنع من التعقيب الذي تقتضيه الفاء ولا كذلك في المواضع الأخر اه، ولا يخلو عن دغدغة. واختار غير واحد أن السير متحد هناك وهنا ولكنه أمر ممتد يعطف النظر عليه بالفاء تارة نظرا إلى آخره، وتارة أخرى نظرا إلى أوله وكذا شأن كل ممتد قُلْ على سبيل التقريع لهم والتوبيخ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من العقلاء وغيرهم أي لمن الكائنات جميعا خلقا وملكا وتصرفا. وقوله سبحانه وتعالى: قُلْ لِلَّهِ تقرير للجواب نيابة عنهم أو إلجاء لهم إلى الإقرار بأن الكل له سبحانه وتعالى وفيه إشارة إلى أن الجواب قد بلغ من الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره منكر، ولا على دفعه دافع فإن أمر السائل بالجواب إنما يحسن- كما قال الإمام- في موضع يكون فيه الجواب كذلك، قيل: وفيه إشارة إلى أنهم تثاقلوا في الجواب مع تعينه لكونهم محجوجين، وذكر عصام الملة أن قوله سبحانه وتعالى: قُلْ لِمَنْ إلخ معناه الأمر بطلب هذا المطلب والتوجه إلى تحصيله. وقوله عز وجل: قُلْ لِلَّهِ معناه أنك إذا طلبت وأدى نظرك إلى الحق فاعترف به ولا تنكره. وهذا إرشاد إلى طريق التوحيد في الأفعال بعد الإرشاد إلى التوحيد في الألوهية وهو الاحتراز عن حال المكذبين. وفي هذا إشارة إلى وجه الربط وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا ما يعلم منه الوجه الوجيه لذلك، والجار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 98 والمجرور خبر مبتدأ محذوف أي لله تعالى ذلك أو ذلك لله تعالى شأنه كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ جملة مستقلة داخلة تحت الأمر صادحة بشمول رحمته عز وجل لجميع الخلق إثر بيان شمول ملكه وقدرته سبحانه وتعالى للكل المصحح لإنزال العقوبة بالمكذبين مسوقة لبيان أنه تعالى رؤوف بالعباد لا يعجل عليهم بالعقوبة ويقبل منهم التوبة وما سبق وما لحق من أحكام الغضب ليس إلا من سوء اختيار العباد لسوء استعدادهم الأزلي لا من مقتضيات ذاته جل وعلا وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، ومعنى كتب الرحمة على نفسه جل شأنه إيجابها بطريق التفضل والإحسان على ذاته المقدسة بالذات لا بتوسط شيء. وقيل: هو ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما قضى الله تعالى الخلق كتب كتابا فوضعه عنده فوق العرش أن رحمتي سبقت غضبي» ، وفي رواية الترمذي عنه مرفوعا «لما خلق الله تعالى الخلق كتب كتابا عنده بيده على نفسه أن رحمتي تغلب غضبي» ، وفي رواية ابن مردويه عنه «أن الله تعالى كتب كتابا بيده لنفسه قبل أن يخلق السماوات والأرض فوضعه تحت عرشه فيه رحمتي سبقت غضبي» إلى غير ذلك من الأخبار، ومعنى سبق الرحمة وغلبتها فيها أنها أقدم تعلقا بالخلق وأكثر وصولا إليهم مع أنها من مقتضيات الذات المفيضة للخير. وفي شرح مسلم للإمام النووي قال العلماء: غضب الله تعالى ورضاه يرجعان إلى معنى الإرادة فإرادته الثواب للمطيع والمنفعة للعبد تسمى رضا ورحمة وإرادته عقاب العاصي وخذلانه تسمى غضبا. وإرادته سبحانه وتعالى صفة له قديمة يريد بها، قالوا: والمراد بالسبق والغلبة هنا كثرة الرحمة وشمولها كما يقال غلب على فلان الكرم والشجاعة إذا كثرا منه انتهى، وهو يرجع إلى ما قلنا. وحاصل الكلام في ذلك أن السبق والغلبة في التعلقات في نفس الصفة الذاتية إذ لا يتصور تقدم صفة على صفة فيه تعالى لاستلزامه حدوث المسبوق، وكذا لا يتصور. الكثرة والقلة بين صفتين لاستلزام ذلك الحدوث وقد يراد بالرحمة ما يرحم به وهي بهذا المعنى تتصف بالتعدد والهبوط ونحو ذلك أيضا، وعليه يخرج ما أخرجه مسلم وابن مردويه عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن لله تعالى خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة كل رحمة طباق ما بين السماوات والأرض فجعل منها في الأرض رحمة فبها تعطف الوالدة على ولدها والوحش والطير بعضها على بعض فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة» . وأخرج عبد بن حميد وغيره عن عبد الله بن عمرو وقال: «إن لله تعالى مائة رحمة أهبط منها رحمة واحدة إلى أهل الدنيا يتراحم بها الجن والإنس وطائر السماء وحيتان الماء ودواب الأرض وهوامها وما بين الهواء واختزن عنده تسعا وتسعين رحمة حتى إذا كان يوم القيامة اختلج الرحمة التي كان أهبطها إلى أهل الدنيا فحواها إلى ما عنده فجعلها في قلوب أهل الجنة وعلى أهل الجنة» ، والمراد بالرحمة في الآية ما يعم الدارين مع عموم متعلقها، فما روي عن الكلبي من أن المعنى أوجب لنفسه الرحمة لأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم بأن لا يعذبهم عند التكذيب كما عذب من قبلهم من الأمم الخالية والقرون الماضية عند ذلك بل يؤخرهم إلى يوم القيامة لم يدع إليه إلا إظهار ما يناسب المقام من أفراد ذلك العام. وفي التعبير عن الذات بالنفس رد على من زعم أن لفظ النفس لا يطلق على الله تعالى وإن أريد به الذات إلا مشاكلة. واعتبار المشاكلة التقديرية غير ظاهر كما هو ظاهر، وقوله سبحانه: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ جواب قسم محذوف وقع- على ما قال أبو البقاء- كتب موقعه. والجملة استئناف نحوي مسوق للوعيد على إشراكهم وإغفالهم النظر، وقيل: بياني كأنه قيل: وما تلك الرحمة فقيل: إنه تعالى لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلخ وذلك لأنه لولا خوف القيامة والعذاب لحصل الهرج والمرج وارتفع الضبط وكثر الخبط. وأورد عليه أنه إنما يظهر ما ذكر لو كانوا معترفين بالبعث وليس فليس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 وقال بعض المحققين أيضا: إنه تكلف ولا يتوجه فيه الجواب إلا باعتبار ما يلزم التخويف من الامتناع عن المناهي المستلزم للرحمة، وقيل: صلاحية ما في الآية للجواب باعتبار أن المراد ليجمعنكم إلى يوم القيامة ولا يعاجلكم بالعقوبة الآن على تكذيبكم على ما أشار إليه الكلبي، وقيل: إن القسم وجوابه في محل نصب على أنه بدل من الرَّحْمَةَ بدل البعض، وقد ذكر النحاة أن الجملة تبدل من المفرد. نعم لم يتعرضوا لأنواع البدل في ذلك. والجار والمجرور قيل متعلق بمحذوف أي ليجمعنكم في القبور مبعوثين إلى يوم إلخ على أن البعث بمعنى الإرسال وهو مما يتعدى بإلى ولا يحتاج إلى ارتكاب التضمين، واعترض بأن البعث يكون إلى المكان لا إلى الزمان إلا أن يراد بيوم القيامة واقعتها في موقعها وقيل: هو متعلق بالفعل المذكور، والمراد جمع فيه معنى السوق والاضطرار كأنه قيل ليبعثنكم ويسوقنكم ويضطرنكم إلى يوم القيامة أي إلى حسابه، وقيل: إنه متعلق بالفعل وإلى بمعنى في كما في قوله: لا تتركني بالوعيد كأنني ... إلى الناس مطلي به القار أجرب ومنع بعضهم مجيء إلى بمعنى في في كلامهم ولو صح ذلك لجاز زيد إلى الكوفة بمعنى في الكوفة وتأول البيت بتضمين مضافا أو مبغضا أو مكرها، وأجيب بأن ذلك إنما يرد إذا قيل: إن استعمال إلى بمعنى في قياس مطرد ولعل القائل بالاستعمال لا يقول بما ذكر، وارتكاب التضمين خلاف الأصل، وارتكاب القول بأن إلى بمعنى في وإن لم يكن مطردا أهون منه، وقيل: إنها بمعنى اللام، وقيل: زائدة والخطاب للكافرين كما هو الظاهر من السياق، وقيل: عام لهم وللمؤمنين بعد أن كان خاصا بالكافرين أي ليجمعنكم أيها الناس إلى يوم القيامة لا رَيْبَ فِيهِ أي لا ينبغي لأحد أن يرتاب فيه لوضوح أدلته وسطوع براهينه التي تقدم بعض منها. والجملة حال من اليوم والضمير المجرور له، ويحتمل أن تكون صفة لمصدر محذوف والضمير له أي جمعا لا ريب فيه، وجوز أن تكون تأكيدا لما قبلها كما قالوا في قوله تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: 2] . الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بتضييع رأس مالهم وهو الفطرة الأصلية والعقل السليم والاستعداد القريب الحاصل من مشاهدة الرسول صلّى الله عليه وسلّم واستماع الوحي وغير ذلك من آثار الرحمة، وموضع الموصول قيل: نصب على الذم أو رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي أنتم الذين وهو نعت مقطوع ولا يلزم أن يكون كل نعت مقطوع يصح اتباعه نعتا بل يكفي فيه معنى الوصف ألا ترى إلى قوله تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مالًا [الهمزة: 1، 2] كيف قطع فيه الَّذِي مع عدم صحة اتباعه نعتا للنكرة فلا يرد أن القطع إنما يكون في النعت والضمير لا ينعت، وقيل: هو بدل من الضمير بدل بعض من كل بتقدير ضمير أو هو خبر مبتدأ على القطع على البدلية أيضا ولا اختصاص للقطع بالنعت، ولعلهم إنما لم يجعلوه منصوبا بفعل مقدر أو خبرا لمبتدأ محذوف من غير حاجة لما ذكر لدعواهم أن مجرد التقدير لا يفيد الذم أو المدح إلا مع القطع. واختار الأخفش البدلية، وتعقب ذلك أبو البقاء بأنه بعيد لأن ضمير المتكلم والمخاطب لا يبدل منهما لوضوحهما غاية الوضوح وغيرهما دونهما في ذلك، وقيل: هو مبتدأ خبره فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ والفاء للدلالة على أن عدم إيمانهم وإصرارهم على الكفر مسبب عن خسرانهم فإن إبطال العقل باتباع الحواس والوهم والانهماك في التقليد أدى بهم إلى الإصرار على الكفر والامتناع عن الإيمان، وفي الكشاف فإن قلت: كيف يكون عدم إيمانهم مسببا عن خسرانهم والأمر على العكس؟ قلت: معناه الذين خسروا أنفسهم في علم الله تعالى لاختيارهم الكفر فهم لا يؤمنون. وحاصل الكلام على هذا الذين حكم الله تعالى بخسرانهم لاختيارهم الكفر فهم لا يؤمنون، والحكم بالخسران سابق على عدم الإيمان لأنه مقارن للعلم باختيار الكفر لا لحصوله بالفعل فيصح ترتب عدم الإيمان عليه من هذا الوجه، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 وأنت تعلم أن هذا السؤال يندفع بحمل الخسران على ما ذكرناه، ولعله أولى مما في الكشاف لما فيه من الدغدغة، والجملة كما قال غير واحد تذييل مسوق من جهته تعالى لتقبيح حالهم غير داخلة تحت الأمر. وقيل: الظاهر على تقدير الابتداء عطف الجملة على لا رَيْبَ فِيهِ فيحتاج الفصل إلى تكلف تقدير سؤال كأنه قيل: فلم يرتاب الكافرون به؟ فأجيب بأن خسرانهم أنفسهم صار سببا لعدم الإيمان، وجوز على ذلك التقدير كون الجملة حالية وهو كما ترى. هذا ومن باب الإشارة في الآيات: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي سماوات عالم الأرواح وأرض عالم الجسم، ويقال: الروح سماء القلب لأن منها ينزل غيث الإلهام والقلب أرضها لأنه فيه ينبت زهر الحكمة ونور المعرفة وَجَعَلَ الظُّلُماتِ أي وأنشأ في عالم الجسم ظلمات المراتب التي هي حجب ظلمانية للذات المقدس وأنشأ في عالم الأرواح نور العلم والإدراك، ويقال: الظلمات الهواجس والخواطر الباطلة والنور الإلهام. وقال بعضهم: الظلمات أعمال البدن والنور أحوال القلب. ثم بعد ظهور ذلك الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ غيره ويثبتون معه سبحانه وتعالى من يساويه في الوجود وهو الله الذي لا نظير له في سائر صفاته هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ وهو طين المادة الهيولانية ثُمَّ قَضى أَجَلًا أي حدا معينا من الزمان إذا بلغه السالك إلى ربه سبحانه وتعالى فنى فيه عز شأنه وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ وهو البقاء بعد الفناء، وقيل: الأجل الأول هو الذي يقتضيه الاستعداد طبعا بحسب الهوية وهو المسمى أجلا طبيعيا للشخص بالنظر إلى مزاجه الخاص وتركيبه المخصوص بلا اعتبار عارض من العوارض الزمانية. ونكر لأنه من أحكام القضاء السابق الذي هو أم الكتاب وهي كلية منزهة عن التشخصات إذ محلها الروح الأول المقدس. والأجل الثاني هو الأجل المقدر الزماني الذي يقع عند اجتماع الشرائط وارتفاع الموانع وهو مثبت في كتاب النفس الفلكية التي هي لوح القدر ثُمَّ أَنْتُمْ بعد ما علمتم ذلك تَمْتَرُونَ وتشكون في تصرفه فيكم كما يشاء وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ أي سواء ألوهيته بالنسبة إلى العالم العلوي والسفلي يَعْلَمُ سِرَّكُمْ في عالم الأرواح وهو عالم الغيب وَجَهْرَكُمْ في عالم الأجسام وهو عالم الشهادة وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ فيهما من العلوم والحركات والسكنات وغيرها فيجازيكم بحسبها، وقيل: المعنى يعلم جولان أرواحكم في السماء لطلب معادن الأفراح وتقلب أشباحكم في الأرض لطلب الوسيلة إلى مشاهدته ويعلم ما تحصلونه بذلك وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ الأنفسية والآفاقية إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ لسوء اختيارهم وعمى أعينهم عن مشاهدة أنوار الله تعالى الساطعة على صفحات الوجود وَقالُوا لضعف يقينهم لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ فنراه لتزول شبهتنا وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ أي أمر هلاكهم لعدم قدرتهم على تحمل مشاهدته وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا ليمكنهم مشاهدته قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ما في العالمين قُلْ لِلَّهِ إيجادا وإفناء كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ. قال سيدي الشيخ الأكبر قدس الله تعالى سره: إن رحمة الله تعالى عامة وهي نعمة الامتنان التي تنال من غير استحقاق. وهي المرادة في قوله تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران: 159] وإليها الإشارة بالرحمن في البسملة. وخاصة وهي الواجبة المرادة بقوله تعالى: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأعراف: 156] وإليها الإشارة بالرحيم فيها. ويشير كلامه قدس الله تعالى سره في الفتوحات إلى أن ما في الآية هو الرحمة الخاصة، ومقتضى السياق أنها الرحمة العامة. وذكر قدس الله تعالى سره في أثناء الكلام على الرحمة وقول الله عز شأنه يوم القيامة «شفعت الملائكة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 وشفعت النبيون والمؤمنون وبقي أرحم الراحمين إن رحمة الله تعالى سبقت غضبه» كما في الخبر فهي امام الغضب فلا يزال غضب الله تعالى يجري في شأواه بالانتقام من العباد حتى ينتهي إلى آخر مداه فيجد الرحمة قد سبقته فتتناول منه العبد المغضوب عليه فتبسط عليه ويرجع الحكم لها فيه، والمدى الذي يقطعه الغضب ما بين الرحمن الرحيم الذي في البسملة وبين الرحمن الرحيم الذي بعد الحمد لله رب العالمين. فالحمد لله رب العالمين هو المدى وأوله وآخره ما قد علمت، وإنما كان ذلك عين المدى لأن فيه يظهر السراء والضراء، ولهذا كان فيه الحمد وهو الثناء ولم يقيد بسراء ولا ضراء فيعمهما، ويقول الشرع في حمد السراء: الحمد لله المنعم المتفضل، ويقول في حمد الضراء: الحمد لله على كل حال فالحمد لله قد جاء في السراء والضراء فلهذا كان عين المدى، وما من أحد في الدار الآخرة إلا وهو يحمد الله تعالى ويرجو رحمته ويخاف عذابه واستمراره عليه فجعل الله تعالى عقيب الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة: 2] الرحمن الرحيم فالعالم بينهما بما هو عليه من محمود ومذموم، وهذا شبيه بما جاء في سورة ألم نشرح وهو تنبيه عجيب منه سبحانه وتعالى لعباده ليتقوى عندهم الرجاء والطمع في رحمة الله تعالى. وأنت إذا التفت أدنى التفات تعلم أنه ما من أثر من آثار البطش إلا وهو مطرز برحمة الله تعالى بل ما من سعد ونحس إلا وقد خرج من مطالع أفلاك الرحمة التي أفاضت شآبيبها على القوابل حسب القابليات ومما يظهر سبق الرحمة أن كل شيء موجود مسبوق بتعلق الإرادة بإيجاده وإخراجه من حيز العدم الذي هو معدن كل نقص ولا ريب في أن ذلك رحمة كما أنه لا ريب في سبقه، نعم تنقسم الرحمة من بعض الحيثيات إلى قسمين، رحمة محضة لا يشوبها شيء من النقمة كنعيم الجنة وهي الطالعة من بروج اسمه سبحانه الرحيم ولكونه صلّى الله عليه وسلّم يحب دخول أمته الجنة ويكره لهم النار سماه الحق عز اسمه الرحيم في قوله سبحانه وتعالى: عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128] ، ورحمة قد يشوبها نقمة كتأديب الولد بالضرب رحمة به وكشرب الدواء المر البشع وهي المشرقة من مطالع آفاق اسمه عز اسمه الرحمن، ولعل هذه الرحمة العامة هي المرادة في قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] ثم اعلم أن سبق الرحمة الغضب يقتضي ظاهرا سبق تجليات الجمال على تجليات الجلال لأن الرحمة من الجمال والغضب من الجلال. وذكر مولانا الشيخ عبد الكريم الجيلي قدس سره أن الجلال أسبق من الجمال. فقد ورد في الحديث: «العظمة إزاري والكبرياء ردائي» ولا أقرب من ثوب الرداء والإزار إلى الشخص. ثم قال: ولا يناقض هذا قوله جل شأنه: «سبقت رحمتي غضبي» فإن الرحمة السابقة إنما هي بشرط العموم والعموم من الجلال. وادعى أن الصفة الواحدة الجمالية إذا استوفت كمالها في الظهور أو قاربت سميت جلالا لقوة ظهور سلطان الجمال فمفهوم الرحمة من الجمال وعمومها وانتهاؤها جلال، وأنت تعلم أنه إذا فسر السبق بالمعنى الذي نقله النووي عن العلماء سابقا وهو الكثرة والشمول فهو مما لا ريب في تحققه في الرحمة إذ في كل غضب رحمة وليس في كل رحمة غضب كما لا يخفى على من حقق النظر. وبالجملة في رحمته سبحانه مطمع أي مطمع حتى أن إبليس يرجوها يوم القيامة على ما يدل عليه بعض الآثار. وأحظى الناس بها إن شاء الله تعالى هذه الأمة. نسأل الله تعالى لنا ولكم الحظ الأوفر منها لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ الصغرى أو الكبرى لا رَيْبَ فِيهِ في نفس الأمر وإن لم يشعر به المحجوبون الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بإهلاكها في الشهوات واللذات الفانية فحجبوا عن الحقائق الباقية النورانية واستبدلوا بها المحسوسات الفانية الظلمانية فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ لذلك، نسأل الله سبحانه وتعالى العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 102 وَلَهُ عطف على لِلَّهِ فهو داخل تحت قُلْ على أنه احتجاج ثان على المشركين وإليه ذهب غير واحد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 103 وقال أبو حيان: الظاهر أنه استئناف اخبار وليس مندرجا تحت الأمر أي ولله سبحانه وتعالى خاصة ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي الوقتين المخصوصين. وما موصولة. وسَكَنَ إما من السكنى فيتناول الكلام المتحرك والساكن من غير تقدير، وتعديتها بفي إلى الزمان مع أن حق استعمالها في المكان لتشبيه الاستقرار بالزمان بالاستقرار بالمكان، وجوز أن يكون هناك مشاكلة تقديرية لأن معنى لله ما في السماوات والأرض ما سكن فيهما واستقر، والمراد وله ما اشتملا عليه، وإما من السكون ضد الحركة كما قيل، وفي الكلام الاكتفاء بأحد الضدين كما في قوله تعالى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] والتقدير ما سكن فيهما وتحرك وإنما اكتفى بالسكون عن ضده دون العكس لأن السكون أكثر وجودا وعاقبة كل متحرك السكون كما قيل: إذا هبت رياحك فاغتنمها ... فإن لكل خافقة سكون ولأن السكون في الغالب نعمة لكونه راحة ولا كذلك الحركة. ورد بأنه لا وجه للاكتفاء بالسكون عن التحرم في مقام البسط والتقرير وإظهار كمال الملك والتصرف. وأجيب بأن هذا المحذوف في قوة المذكور لسرعة انفهامه من ذكر ضده والمقام لا يستدعي الذكر وإنما يستدعي عموم التغيرات والتصرفات الواقعة في الليل والنهار، ومتى التزم كون السكون مع ضده السريع الانفهام كناية عن جميع ذلك ناسب المقام. وقيل: إن ما سكن يعم جميع المخلوقات إذ ليس شيء منها غير متصف بالسكون حتى المتحرك حال ما يرى متحركا بناء على ما حقق في موضعه من أن تفاوت الحركات بالسرعة والبطء لقلة السكنات المتخللة وكثرتها، وفي معنى الحركة والسكون وبيان أقسام الحركة المشهورة كلام طويل يطلب من محله وَهُوَ السَّمِيعُ أي المبالغ في سماع كل مسموع فيسمع هواجس كل ما يسكن في الملوين الْعَلِيمُ أي المبالغ في العلم بكل معلوم من الأجناس المختلفة والجملة مسوقة لبيان إحاطة سمعه وعلمه سبحانه وتعالى بعد بيان إحاطة قدرته جل شأنه أو للوعيد على أقوالهم وأفعالهم ولذا خص السمع والعلم بالذكر، وهي تحتمل أن تكون من مقول القول وأن تكون من مقول الله تعالى: قُلْ للمشركين بعد توبيخهم بما سبق أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا إنكار لاتخاذ غير الله تعالى وليا لا لاتخاذ الولي مطلقا ولذا قدم المفعول الأول وأولى الهمزة. ونحوه أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ [الزمر: 64] والمراد بالولي هنا المعبود لأنه رد لمن دعاه صلّى الله عليه وسلّم، فقد قيل: إن أهل مكة قالوا له عليه الصلاة والسلام: يا محمد تركت ملة قومك وقد علمنا أنه لا يحملك على ذلك إلا الفقر فارجع فإنا نجمع لك من أموالنا حتى تكون من أغنانا فنزلت. واعترض بأن المشرك لم يخص عبادته بغير الله تعالى فالرد عليه إنما يكون لو قيل: أأتخذ غير الله وليا. وأجيب بأن من أشرك بالله تعالى غيره لم يتخذ الله تعالى معبودا لأنه لا يجتمع عبادته سبحانه مع عبادة غيره كما قيل: إذا صافى صديقك من تعادي ... فقد عاداك وانقطع الكلام وقيل: الولي بمعنى الناصر كما هو أحد معانيه المشهورة، ويعلم من إنكار اتخاذ غير الله تعالى ناصرا أنه لا يتخذه معبودا من باب الأولى، ويحتمل الكلام- على ما قيل- أن يكون من الإخراج على خلاف مقتضى الظاهر قصدا إلى إمحاض النصح ليكون أعون على القبول كما في قوله تعالى: وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس: 22] . فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي مبدعهما كما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وأخرج أبو عبيدة وابن جرير، وابن الأنباري عنه رضي الله تعالى عنه قال: كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها يقول: أنا ابتدأتها، وهو نعت للجلالة مؤكد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 للإنكار، وصح وقوعه نعتا للمعرفة لأنه بمعنى الماضي سواء كان كلاما من الله تعالى ابتداء أو محكيا عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم إذ المعتبر زمان الحكم لا زمان التكلم، ويدل على إرادة المضي أنه قرأ الزهري «فطر» ولا يضر الفصل بينهما بالجملة لأنها ليست بأجنبية إذ هي عاملة في عامل الموصوف، وقيل: بدل من الاسم الجليل، ورجحه أبو حيان بأن الفصل فيه أسهل، وقرىء بالرفع والنصب على المدح أي هو فاطر أو أمدح فاطر، وجوز أن يكون النصب على البدلية من وَلِيًّا لا الوصفية لأنه معرفة، نعم يجوز على قراءة الزهري أن تكون الجملة صفة له. وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ أي يرزق ولا يرزق كما أخرجه ابن جرير وغيره عن السدي، فالمراد من الطعم الرزق بمعناه اللغوي وهو كل ما ينتفع به بدليل وقوعه مقابلا له في قوله تعالى: ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات: 57] وعبر بالخاص عن العام مجازا لأنه أعظمه وأكثره لشدة الحاجة إليه، ويحتمل أنه اكتفى بذكره عن ذكره لأنه يعلم من ذلك نفي ما سواه فهو حقيقة، والجملة في محل نصب على الحالية، وعن أبي عمرو والأعمش وعكرمة أنهم قرؤوا «ولا يطعم» بفتح الياء والعين أي ولا يأكل والضمير لله تعالى، ومثله قراءة أبي عبلة بفتح الياء وكسر العين، وقرأ يعقوب بعكس القراءة الأولى أعني بناء الأول للمفعول والثاني للفاعل، والضمير حينئذ في الفعلين لغير الله تعالى أي اتخذ من هو مرزوق غير رازق وليا، والكلام وإن كان مع عبدة الأصنام إلا أنه نظر إلى عموم غير الله تعالى وتغليب أولي العقول كعيسى عليه الصلاة والسلام لأن فيه إنكار أن يصلح الأصنام للألوهية من طريق الأولى، وقد يقال: الكلام كناية عن كونه مخلوقا غير خالق كقوله تعالى: لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ [النحل: 20] ويحمل الفعل على معنى النفع لا يرد شيء رأسا، وقرأ الأشهب وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ ببنائهما للفاعل، ووجهت إما بأن أفعل بمعنى استفعل كما ذكره الأزهري أي وهو يطعم ولا يستطعم أي لا يطلب طعاما ويأخذه من غيره أو بأن المعنى يطعم تارة ولا يطعم أخرى كقوله سبحانه وتعالى يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ [البقرة: 245] والضميران لله تعالى، ورجوع الضمير الثاني لغير الله تعالى تكلف يحتاج إلى التقدير قُلْ بعد بيان أن اتخاذ غيره تعالى وليا مما يقضي ببطلانه بديهة العقول إِنِّي أُمِرْتُ من جناب ولي جل شأنه أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وجهه لله سبحانه وتعالى مخلصا له لأن النبي عليه الصلاة والسلام مأمور بما شرعه إلا ما كان من خصائصه عليه الصلاة والسلام وهو إمام أمته ومقتداهم وينبغي لكل آمر أن يكون هو العامل أولا بما أمر به ليكون أدعى للامتثال، ومن ذلك ما حكى الله تعالى عن موسى عليه الصلاة والسلام سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف: 143] . وقيل: إن ما ذكر للتحريض كما يأمر الملك رعيته بأمر ثم يقول وأنا أول من يفعل ذلك ليحملهم على الامتثال وإلا فلم يصدر عنه صلّى الله عليه وسلّم امتناع عن ذلك حتى يؤمر به وفيه نظر وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي في أمر من أمور الدين، وفي الكلام قول مقدر أي وقيل لي: لا تكونن، فالواو من الحكاية عاطفة للقول المقدر على أُمِرْتُ، وحاصل المعنى إني أمرت بالإسلام ونهيت عن الشرك، وقيل: إنه معطوف على مقول قُلْ على المعنى إذ هو في معنى قل إني قيل لي كن أول مسلم ولا تكونن فالواو من المحكي، وقيل: إنه عطف على قُلْ على معنى أنه عليه الصلاة والسلام أمر بأن يقول كذا ونهى عن كذا، وتعقب بأن سلاسلة النظم تأبى عن فصل الخطابات التبليغية بعضها عن بعض بخطاب ليس منها، وجوز أن يعطفه على إِنِّي أُمِرْتُ داخلا في حيز قُلْ والخطاب لكل من المشركين، ولا يخفى تكلفه وتعسفه، وعدم صحة عطف على أَكُونَ ظاهر إذ لا وجه للالتفات ولا معنى لأن يقال أمرت أن لا تكونن: قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي أي بمخالفة أمره ونهيه أي عصيان كان فيدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا، وقوله سبحانه وتعالى عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي عذاب يوم القيامة. وعظمه لعظم ما يقع فيه مفعول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105 أَخافُ والشرطية معترضة بينهما وجواب الشرط محذوف وجوبا. وما تقدم على الأداة شبيه به فهو دليل عليه وليس إياه على الأصح خلافا للكوفيين. والمبرد، والتقدير إن عصيت أخف أو أخاف عذاب إلخ، وقيل: صرت مستحقا لعذاب ذلك اليوم. وفي الكلام مبالغة أخرى بالنظر إلى ما يفهم مما تقدم في قطع أطماعهم وتعريض بأنهم عصاة مستحقون للعذاب حيث أسند إلى ضمير المتكلم ما هو معلوم الانتفاء وقرن بأن التي تفيد الشك وجيء بالماضي إبرازا له في صورة الحاصل على سبيل الفرض. ويؤول المعنى في الآخرة إلى تخويفهم على صدور ذلك الفعل منهم فليس في الكلام دلالة على أنه عليه الصلاة والسلام يخاف على نفسه المقدسة الكفر والمعصية مع أنه ليس كذلك لعصمته صلّى الله عليه وسلّم. وأورد بعضهم دلالة الآية على ما ذكر بحثا ثم قال، وأجيب عنه بأن الخوف تعلق بالعصيان الممتنع الوقوع امتناعا عاديا فلا تدل إلا على أنه عليه الصلاة والسلام يخاف لو صدر عنه وحاشاه الكفر والمعصية وهذا لا يدل على حصول الخوف، وأنت تعلم أن فيما قدمنا غنى عن ذلك. ويفهم من كلام بعضهم أن خوف المعصوم من المعصية لا ينافي العصمة لعلمه أن الله سبحانه وتعالى فعال لما يريد وأنه لا يجب عليه شيء، وفي بعض الآثار أنه عز شأنه قال لموسى عليه السلام: يا موسى لا تأمن مكري حتى تجوز الصراط. وجاء في غير ما خبر أنه صلّى الله عليه وسلّم إذا عصفت الريح يصفر وجهه الشريف ويقول: أخاف أن تقوم الساعة مع أن الله تعالى أخبره أن بين يديها ظهور المهدي، وعيسى عليهما السلام، وخروج الدجال، وطلوع الشمس من مغربها إلى غير ذلك من الأمارات التي لم توجد إذ ذاك ولم تحقق بعد. وصح أنه صلّى الله عليه وسلّم اعتذر عن عدم خروجه عليه الصلاة والسلام لصلاة التراويح بعد أن صلاها أول رمضان وتكاثر الناس رغبة فيها بقوله «خشيت أن تفرض عليكم» مع أن ما كان ليلة الإسراء إذ فرضت الصلوات يشعر بأنه تعالى لا يفرض زيادة عن الخمس وكل ذلك يدل على أن لله تعالى أن يفعل ما شاء وقصارى ما يلزم في أمثال ذلك لو فعل تغير تعلق الصفة وهو لا يستلزم تغير الصفة ليلزم الحدوث وقيام الحوادث به تعالى شأنه وهذا بحث طويل الذيل ولعل النوبة تفضي إلى تحقيقه إن شاء الله تعالى. مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ أي من يصرف العذاب عنه فنائب الفاعل ضمير العذاب، وضمير عَنْهُ يعود على مَنْ وجوز العكس أي من يصرف عن العذاب. ومَنْ على الوجهين مبتدأ خبره الشرط أو الجواب أو هما على الخلاف، والظرف متعلق بالفعل أو بالعذاب أو بمحذوف وقع حالا من الضمير. وجوز أن يكون نائب الفاعل. وهل يحتاج حينئذ إلى تقدير مضاف أي عذاب يومئذ أم لا فيه خلاف فقيل: لا بد منه لأن الظرف غير التام أي المقطوع عن الإضافة كقبل وبعد لا يقام مقام الفاعل إلا بتقدير مضاف ويَوْمَئِذٍ له حكمه. وفي الدر المصون لا حاجة إليه لأن التنوين لكونه عوضا يجعل في قوة المذكور خلافا للأخفش. وذكر الأجهوري أن التنوين هنا عوض عن جملة محذوفة يتضمنها الكلام السابق والأصل يوم إذ يكون الجزاء ونحو ذلك، والجملة مستأنفة مؤكدة لتهويل العذاب وجوز أن تكون صفة عَذابَ. وقرأ حمزة، والكسائي، ويعقوب، وأبو بكر عن عاصم «من يصرف» على أن الضمير فيه لله تعالى. وقرأ أبي «من يصرف الله» بإظهار الفاعل والمفعول به محذوف أي العذاب أو «يومئذ» بحذف المضاف أو يجعل اليوم عبارة عما يقع فيه، ومَنْ في هذه القراءة أيضا مبتدأ. وجوز أبو البقاء أن تجعل في موضع نصب بفعل محذوف تقديره من يكرم يصرف الله العذاب عنه فجعل يصرف تفسيرا للمحذوف، وأن يجعل منصوبا بيصرف ويجعل ضمير عَنْهُ للعذاب أي أي إنسان يصرف الله تعالى عنه العذاب فَقَدْ رَحِمَهُ أي الرحمة العظمى وهي النجاة كقولك: إن أطعمت زيدا من جوعة فقد أحسنت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 106 إليه تريد فقد أتممت الإحسان إليه، وعلى هذا يكون الكلام من قبيل- من أدرك مرعى الصمان فقد أدرك- «ومن كانت هجرته إلى الله تعالى» الخبر، ومن قبيل صرف المطلق إلى الكامل، وقيل: المراد فقد أدخله الجنة فذكر الملزوم وأريد اللازم لأن إدخال الجنة من لوازم الرحمة إذ هي دار الثواب اللازم لترك العذاب. ونقض بأصحاب الأعراف. وأجيب بأن قوله تعالى: وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ حال مقيدة لما قبله، والفوز المبين إنما هو بدخول الجنة لقوله تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ [آل عمران: 185] وأنت تعلم أنه إذا قلنا: إن الأعراف جبل في الجنة عليه خواص المؤمنين كما هو أحد الأقوال لا يرد النقض، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك، وما ذكر من الجواب مبني على ما لا يخفى بعده، والداعي إلى التأويل اتحاد الشرط والجزاء الممتنع عندهم. وقال بعض الكاملين: إن ما في النظم الجليل نظير قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه» يعني بالشراء المذكور، وإن اختلاف العنوان يكفي في صحة الترتيب والتعقيب، ولك أن تقول: إن الرحمة سبب للصرف سابق عليه على ما تلوح إليه صيغة الماضي والمستقبل والترتيب باعتبار الأخبار. وتعقبه الشهاب بأنه تكلف لأن السبب والمسبب لا بد من تغايرهما معنى، والحديث المذكور منهم من أخذ بظاهره ومنهم من أوله بأن المراد لا يجزيه أصلا وهو دقيق لأنه تعليق بالمحال. وأما كون الجواب ماضيا لفظا ومعنى ففيه خلاف حتى منعه بعضهم في غير كان لعراقتها في المضي اه فليفهم. والإشارة إما إلى الصرف الذي في ضمن يُصْرَفْ وإما إلى الرحمة، وذكر لتأويل المصدر بأن والفعل. ومنهم من اعتبر الرحم بضم فسكون أو بضمتين وهو- على ما في القاموس- بمعنى الرحمة. ومعنى البعد للإيذان بعلو درجة ما أشير إليه، والفوز الظفر بالبغية، وآل لقصره على المسند إليه. وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ أي ببلية كمرض وحاجة فَلا كاشِفَ أي لا مزيل ولا مفرج لَهُ عنك إِلَّا هُوَ والمراد لا قادر على كشفه سواه سبحانه وتعالى من الأصنام وغيرها وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ من صحة وغنى فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ومن جملته ذلك فيقدر جل شأنه عليه فيمسك به ويحفظه عليك من غير أن يقدر على دفعه ورفعه أحد كقوله تعالى: فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ [يونس: 107] ويظهر من هذا ارتباط الجزاء بالشرط. وقيل: إن الجواب محذوف تقديره فلا راد له غيره تعالى، والمذكور تأكيد للجوابين لأن قدرته تعالى على كل شيء من الخير والشر تؤكد أنه سبحانه وتعالى كاشف الضر وحافظ النعم ومديمها، وزعم أنه لا تعلق له بالجواب الأول بل هو علة الجواب الثاني ظاهر البطلان إذ القدرة على كل شيء تؤكد كشف الضر بلا شبهة وإنكار ذلك مكابرة، وأصل المس- كما قال أبو حيان- تلاقي الجسمين، والمراد به هنا الإصابة. وجعل غير واحد الباء في بضر وفي بخير للتعدية (1) وإن كان الفعل متعديا كأنه قيل: وإن يمسسك الله الضر. وفسروا الضر بالضم بسوء الحال في الجسم وغيره وبالفتح بضد النفع، وعدل عن الشر المقابل للخير إلى الضر- على ما في البحر- لأن الشر أعم فأتى بلفظ الأخص مع الخير الذي هو عام رعاية لجهة الرحمة، وقال ابن عطية: إن مقابلة الخير بالضر مع أن مقابلة الشر وهو أخص منه من خفي الفصاحة للعدول عن قانون الضعة وطرح رداء التكلف وهو أن يقرن بأخص من ضده ونحوه لكونه أوفق بالمعنى وألصق بالمقام كقوله تعالى: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى [طه: 118]   (1) كان في الأصل تحريف وأصلحناه من تفسير البحر المحيط. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 107 فجيء بالجوع مع العري وبالظمأ مع الضحو وكان الظاهر خلافه. ومنه قول امرئ القيس: كأني لم أركب جوادا للذة ... ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال ولم أسأل الزق الروي ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال وإيضاحه أنه في الآية قرن الجوع الذي هو خلو الباطن بالعري الذي هو خلو الظاهر والظمأ الذي فيه حرارة الباطن بالضحى الذي فيه حرارة الظاهر. وكذلك قرن امرئ القيس علوه على الجواد بعلوه على الكاعب لأنهما لذتان في الاستعلاء وبذل المال في شراء الراح ببذل الأنفس في الكفاح لأن في الأول سرور الطرب وفي الثاني سرور الظفر. وكذا هنا أوثر الضر لمناسبته ما قبله من الترهيب فإن انتقام العظيم عظيم. ثم لما ذكر الإحسان أتى بما يعم أنواعه، والآية من قبيل اللف والنشر فإن مس الضر ناظر إلى قوله تعالى: إِنِّي أَخافُ إلخ ومس الخير ناظر إلى قوله سبحانه: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ إلخ. وهي على ما قيل داخلة في حيز قُلْ والخطاب عام لكل من يقف عليه أو لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم ولا نافية للجنس، وكاشِفَ اسمها ولَهُ خبرها والضمير المنفصل بدل من موضع فَلا كاشِفَ أو من الضمير في الظرف، ولا يجوز- على ما قال أبو البقاء- أن يكون مرفوعا بكاشف ولا بدلا من الضمير فيه لأنك في الحالين تعمل اسم لا ومتى أعملته في ظاهر نونته. وفي هذه الآية الكريمة رد على من رجا كشف الضر من غيره سبحانه وتعالى وأمل أحدا سواه. وفي فتوح الغيب للقطب الرباني سيدي عبد القادر الجيلاني قدس الله تعالى سره من كلام طويل إن من أراد السلامة في الدنيا والآخرة فعليه بالصبر والرضا وترك الشكوى إلى خلقه وإنزال حوائجه بربه عز وجل ولزوم طاعته وانتظار الفرج منه سبحانه وتعالى والانقطاع إليه فحرمانه عطاء وعقوبته نعماء وبلاؤه دواء ووعده حال، وقوله فعل وكل أفعاله حسنة وحكمة ومصلحة غير أنه عز وجل طوى علم المصالح عن عباده وتفرد به فليس إلا الاشتغال بالعبودية من أداء الأوامر واجتناب النواهي والتسليم في القدر وترك الاشتغال بالربوبية والسكون عن لم وكيف ومتى؟ وتستند هذه الجملة إلى حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «بينما أنا رديف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ قال: يا غلام احفظ الله تعالى يحفظك احفظ الله تعالى تجده أمامك وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله جف القلم بما هو كائن ولو جهد العباد أن ينفعوك بشيء لم يقضه الله سبحانه وتعالى لك لم يقدروا عليه ولو جهدوا أن يضروك بشيء لم يقضه الله تعالى عليك لم يقدروا عليه فإن استطعت أن تعمل لله تعالى بالصدق في اليقين فاعمل فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا» فينبغي لكل مؤمن أن يجعل هذا الحديث مرآة قلبه وشعاره ودثاره وحديثه فيعمل به من جهة حركاته وسكناته حتى يسلم في الدنيا والآخرة ويجد العزة برحمة الله عز وجل. وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ قيل هو استعارة تمثيلية وتصوير لقهره سبحانه وتعالى وعلوه عز شأنه بالغلبة والقدرة، وجوز أن تكون الاستعارة في الظرف بأن شبه الغلبة بمكان محسوس، وقيل: إنه كناية عن القهر والعلو بالغلبة والقدرة، وقيل: إن فَوْقَ زائدة. وصحح زيادتها وإن كانت اسما كونها بمعنى على وهو كما ترى، والداعي إلى التزام ذلك كله أن ظاهر الآية يقتضي القول بالجهة والله تعالى منزه عنها لأنها محدثة بإحداث العالم وإخراجه من العدم إلى الوجود، ويلزم أيضا من كونه سبحانه وتعالى في جهة مفاسد لا تخفى، وأنت تعلم أن مذهب السلف إثبات الفوقية لله تعالى كما نص عليه الإمام الطحاوي. وغيره واستدلوا لذلك بنحو ألف دليل، وقد روى الإمام أحمد في حديث الأوعال عن العباس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «والعرش فوق ذلك والله تعالى فوق ذلك كله» وروى أبو داود عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قوله صلّى الله عليه وسلّم للرجل الذي استشفع بالله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 تعالى عليه: «ويحك أتدري ما الله تعالى؟ إن الله تعالى فوق عرشه وعرشه فوق سماواته وقال بأصابعه مثل القبة وأنه ليئط به أطيط الرحل الجديد بالراكب» . وأخرج الأموي في مغازيه من حديث صحيح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لسعد يوم حكم في بني قريظة: «لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع سماوات» وروى ابن ماجة يرفعه قال: «بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا إليه رؤوسهم فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم وقال: يا أهل الجنة سلام عليكم ثم قرأ صلّى الله عليه وسلّم قوله تعالى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه» . وصح أن عبد الله بن رواحة أنشد بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبياته التي عرض بها عن القراءة لامرأته حين اتهمته بجاريته وهي: شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا وتحمله ملائكة شداد ... ملائكة الإله مسومينا فأقره عليه الصلاة والسلام على ما قال وضحك منه، وكذا أنشد حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه قوله: شهدت بإذن الله أن محمدا ... رسول الذي فوق السماوات من عل وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما ... له عمل من ربه متقبل وأن الذي عادى اليهود ابن مريم ... رسول أتى من عند ذي العرش مرسل وأن أخا الأحقاف إذ قام فيهم ... يقوم بذات الله فيهم ويعدل فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: وأنا أشهد. وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى حكاية عن إبليس: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ [الأعراف: 17] أنه قال: لم يستطع أن يقول ومن فوقهم لأنه قد علم أن الله تعالى سبحانه من فوقهم، والآيات والأخبار التي فيها التصريح بما يدل على الفوقية كقوله تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الزمر: 1، الجاثية: 2، الأحقاف: 2] . وإِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر: 10] . وبَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء: 158] . وتَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج: 4] . وقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه مسلم: «وأنت الظاهر فليس فوقك شيء» كثيرة جدا، وكذا كلام السلف في ذلك فمنه ما روى شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتابه الفاروق بسنده إلى أبي مطيع البلخي أنه سأل أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه عمن قال: لا أعرف ربي سبحانه في السماء أم في الأرض فقال: قد كفر لأن الله تعالى يقول: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] وعرشه فوق سبع سماوات فقال: قلت فإن قال إنه على العرش ولكن لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ فقال رضي الله تعالى عنه: هو كافر لأنه أنكر آية في السماء ومن أنكر آية في السماء فقد كفر، وزاد غيره لأن الله تعالى في أعلى عليين وهو يدعى من أعلى لا من أسفل اه. وأيد القول بالفوقية أيضا بأن الله تعالى لما خلق الخلق لم يخلقهم في ذاته المقدسة تعالى عن ذلك فإنه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد فتعين أنه خلقهم خارجا عن ذاته ولو لم يتصف سبحانه بفوقية الذات مع أنه قائم بنفسه غير مخالط للعالم لكان متصفا بضد ذلك لأن القابل للشيء لا يخلو منه أو من ضده وضد الفوقية السفول، وهو مذموم على الإطلاق، والقول بأنا لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها مدفوع بأنه سبحانه لو لم يكن قابلا للعلو والفوقية لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها فمتى سلم بأنه جل شأنه ذات قائم بنفسه غير مخالط للعالم وأنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 109 موجود في الخارج ليس وجوده ذهنيا فقط بل وجوده خارج الأذهان قطعا وقد علم كل العقلاء بالضرورة أن ما كان وجوده كذلك فهو إما داخل العالم وإما خارج عنه وإنكار ذلك إنكار ما هو أجلى البديهيات فلا يستدل بدليل على ذلك إلا كان العلم بالمباينة أظهر منه وأوضح، وإذا كان صفة الفوقية صفة كمال لا نقص فيها ولا يوجب القول بها مخالفة كتاب ولا سنة ولا إجماع كان نفيها عين الباطل لا سيما والطباع مفطورة على قصد جهة العلو عند التضرع إلى الله تعالى. وذكر محمد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمداني حضر مجلس إمام الحرمين وهو يتكلم في نفي صفة العلو ويقول: كان الله تعالى ولا عرش وهو الآن على ما كان فقال الشيخ أبو جعفر: أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا فإنه ما قال عارف قط يا الله إلا وجد في قلبه ضرورة بطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة فكيف تدفع هذه الضرورة عن أنفسنا قال: فلطم الإمام على رأسه ونزل وأظنه قال وبكى وقال حيرني الهمداني، وبعضهم تكلف الجواب عن هذا بأن هذا التوجه إلى فوق إنما هو لكون السماء قبلة الدعاء كما أن الكعبة قبلة الصلاة، ثم هو أيضا منقوض بوضع الجبهة على الأرض مع أنه سبحانه ليس في جهة الأرض، ولا يخفى أن هذا باطل، أما أولا فلأن السماء قبلة للدعاء لم يقله أحد من سلف الأمة ولا أنزل الله تعالى به من سلطان والذي صح أن قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة فقد صرحوا بأنه يستحب للداعي أن يستقبل القبلة. وقد استقبل النبي صلّى الله عليه وسلّم الكعبة في دعائه في مواطن كثيرة فمن قال: إن للدعاء قبلة غير قبلة الصلاة فقد ابتدع في الدين وخالف جماعة المسلمين. وأما ثانيا فلأن القبلة ما يستقبله الداعي بوجهه كما تستقبل الكعبة في الصلاة وما حاذاه الإنسان برأسه أو يديه مثلا لا يسمى قبلة أصلا فلو كانت السماء قبلة الدعاء لكان المشروع أن يوجه الداعي وجهه إليها ولم يثبت ذلك في شرع أصلا، وأما النقض بوضع الجبهة فما أفسده من نقض فإن واضع الجبهة إنما قصده الخضوع لمن فوقه بالذل لا أن يميل إليه إذ هو تحته بل هذا لا يخطر في قلب ساجد. ثم سمع عن بشر المريسي أنه يقول: سبحان ربي الأسفل تعالى الله سبحانه عما يقول الجاحدون والظالمون علوا كبيرا. وتأول بعضهم كل نص فيه نسبة الفوقية إليه تعالى بأن فوق فيه بمعنى خير وأفضل كما يقال: الأمير فوق الوزير والدينار فوق الدرهم. وأنت تعلم أن هذا مما تنفر منه العقول السليمة وتشمئز منه القلوب الصحيحة فإن قول القائد ابتداء: الله تعالى خير من عباده أو خير من عرشه من جنس قوله: الثلج بارد والنار حارة والشمس أضوأ من السراج والسماء أعلى من سقف الدار ونحو ذلك وليس في ذلك أيضا تمجيد ولا تعظيم لله تعالى بل هو من أرذل الكلام فكيف يليق حمل الكلام المجيد عليه وهو الذي لو اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، على أن في ذلك تنقيصا لله تعالى شأنه ففي المثل السائر: ألم تر ان السيف ينقص قدره ... إذا قيل إن السيف خير من العصا نعم إذا كان المقام يقتضي ذلك بأن كان احتجاجا على مبطل كما في قول يوسف الصديق عليه السلام أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف: 39] وقوله تعالى: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ [النمل: 59] وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى [طه: 73] فهو أمر لا اعتراض عليه ولا توجه سهام الطعن إليه، والفوقية بمعنى الفوقية في الفضل مما يثبتها السلف لله تعالى أيضا وهي متحققة في ضمن الفوقية المطلقة، وكذا يثبتون فوقية القهر والغلبة كما يثبتون فوقية الذات ويؤمنون بجميع ذلك على الوجه اللائق بجلال ذاته وكمال صفاته سبحانه وتعالى منزهين له سبحانه عما يلزم ذلك مما يستحيل عليه جل شأنه ولا يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ولا يعدلون عن الألفاظ الشرعية نفيا ولا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 110 إثباتا لئلا يثبتوا معنى فاسدا أو ينفوا معنى صحيحا فهم يثبتون الفوقية كما أثبتها الله تعالى لنفسه. وأما لفظ الجهة فقد يراد به ما هو موجود وقد يراد به ما هو معدوم ومن المعلوم أنه لا موجود إلا الخالق والمخلوق فإذا أريد بالجهة أمر موجود غير الله تعالى كان مخلوقا والله تعالى لا يحصره شيء ولا يحيط به شيء من المخلوقات تعالى عن ذلك وإن أريد بالجهة أمر عدمي وهو ما فوق العالم فليس هناك إلا الله تعالى وحده فإذا قيل: إنه تعالى في جهة بهذا الاعتبار فهو صحيح عندهم، ومعنى ذلك أنه فوق العالم حيث انتهت المخلوقات، ونفاه لفظ الجهة الذين يريدون بذلك نفي العلو يذكرون من أدلتهم أن الجهات كلها مخلوقة وأنه سبحانه كان قبل الجهات وأنه من قال: إنه تعالى في جهة يلزمه القول بقدم شيء من العالم وأنه جل شأنه كان مستغنيا عن الجهة ثم صار فيها. وهذه الألفاظ ونحوها تنزل على أنه عز اسمه ليس في شيء من المخلوقات سواء سمى جهة أم لم يسم وهو كلام حق ولكن الجهة ليست أمرا وجوديا بل هي أمر اعتباري ولا محذور في ذلك، وبالجملة يجب تنزيه الله تعالى عن مشابهة المخلوقين وتفويض علم ما جاء من المتشابهات إليه عز شأنه والإيمان بها على الوجه الذي جاءت عليه. والتأويل القريب إلى الذهن الشائع نظيره في كلام العرب مما لا بأس به عندي على أن بعض الآيات ما أجمع على تأويلها السلف والخلف والله تعالى أعلم بمراده وَهُوَ الْحَكِيمُ أي ذو الحكمة البالغة وهي العلم بالأشياء على ما هي عليه والإتيان بالأفعال على ما ينبغي أو المبالغ في الأحكام وهو إتقان التدبير وإحسان التقدير الْخَبِيرُ أي العالم بما دق من أحوال العباد وخفي من أمورهم. واللام هنا وفيما تقدم للقصر قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً روى الكلبي أن كفار مكة قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا محمد أما وجد الله تعالى رسولا غيرك ما نرى أحدا يصدقك فيما تقول ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر فأرنا من يشهد أنك رسول الله فنزلت. وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: جاء النحام بن زيد وقردم بن كعب وبحري ابن عمرو فقالوا: يا محمد ما تعلم مع الله إلها غيره؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا إله إلا الله تعالى بذلك بعثت وإلى ذلك أدعو فأنزل الله تعالى هذه الآية، والأول أوفق بأول الآية والثاني بآخرها. فأي مبتدأ وأَكْبَرُ خبره وشَهادَةً تمييز. والشيء في اللغة ما يصح أن يعلم ويخبر عنه، فقد ذكر سيبويه في الباب المترجم بباب مجاري أواخر الكلم وإنما يخرج التأنيث من التذكير ألا ترى أن الشيء يقع على كل ما أخبر عنه من قبل أن يعلم أذكر هو أم أنثى والشيء مذكر انتهى. وهل يطلق على الله تعالى أم لا؟ فيه خلاف فمذهب الجمهور أنه يطلق عليه سبحانه فقال: شيء لا كالأشياء واستدلوا على ذلك بالسؤال والجواب الواقعين في هذه الآية وبقوله سبحانه: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] حيث إنه استثنى من كل شيء الوجه وهو بمعنى الذات عندهم وبأنه أعم الألفاظ فيشمل الواجب والممكن. ونقل الإمام أن جهما أنكر صحة الإطلاق محتجا بقوله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الأعراف: 180] فقال: لا يطلق عليه سبحانه إلا ما يدل على صفة من صفات الكمال والشيء ليس كذلك، وفي المواقف وشرحه الشيء عند الأشاعرة يطلق على الموجود فقط فكل شيء عندهم موجود وكل موجود شيء، ثم سيق فيهما مذاهب الناس فيه ثم قيل: والنزاع لفظي متعلق بلفظ الشيء وأنه على ماذا يطلق، والحق ما ساعد عليه اللغة والنقل إذ لا مجال للعقل في إثبات اللغات. والظاهر معنا فأهل اللغة في كل عصر يطلقون لفظ الشيء على الموجود حتى لو قيل عندهم الموجود شيء تلقوه بالقبول، ولو قيل: ليس بشيء تلقوه بالإنكار. ونحو قوله سبحانه: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً [مريم: 9] ينفي إطلاقه بطريق الحقيقة على المعدوم لأن الحقيقة لا يصح فيها انتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 111 وفي شرح المقاصد أن البحث في أن المعدوم شيء حقيقة أم لا لغوي يرجع فيه إلى النقل والاستعمال وقد وقع فيه اختلافات نظر إلى الاستعمالات. فعندنا هو اسم للموجود لما نجده شائع الاستعمال في هذا المعنى ولا نزاع في استعماله في المعدوم مجازا ثم قال: وما نقل عن أبي العباس أنه اسم للقديم. وعن الجهمية أنه اسم للحادث، وعن هشام أنه اسم للجسم فبعيد جدا من جهة أنه لا يقبله أهل اللغة انتهى. وفي ذلك كله بحث فإن دعوى الأشاعرة التساوي بين الشيء والموجود لغة أو الترادف كما يفهم مما تقدم من الكليتين ليس لها دليل يعول عليه، وقوله: إن أهل اللغة في كل عصر إلخ إنما يدل على أن كل موجود شيء، وأما أن كل ما يطلق عليه لفظ الشيء حقيقة لغوية موجود فلا دلالة فيه عليه إذ لا يلزم من أن يطلق على الموجود لفظ شيء دون لا شيء أن يختص الشيء لغة بالموجود لجواز أن يطلق الشيء على المعدوم والموجود حقيقة لغوية مع اختصاص الموجود بإطلاق الشيء دون اللاشيء. وإنكار أهل اللغة على من يقول: الموجود ليس بشيء لكونه سلبا للأعم عن الأخص وهو لا يصح لا لكونهما مترادفين أو متساويين. وقد أطلق على المعدوم الخارجي كتابا وسنة فقد قال الله تعالى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الكهف: 23] وقال سبحانه: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: 40] وأخرج الطبراني عن أم سلمة أنها سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد سأله رجل فقال: «إني لأحدث نفسي بالشيء لو تكلمت به لأحبطت أجري يقول: لا يلقي ذلك الكلام إلا مؤمن» ونحوه عن معاذ بن جبل. والأصل في الإطلاق الحقيقة فلا يعدل عنها إلا إذا وجد صارف. وشيوع الاستعمال لا يصلح أن يكون صارفا بعد صحة النقل عن سيبويه. ولعل سبب ذلك الشيوع أن تعلق الغرض في المحاورات بأحوال الموجودات أكثر لا لاختصاص الشيء بالموجود لغة. وقوله تعالى: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً [مريم: 9] إنما يلزم منه نفي إطلاقه بطريق الحقيقة على المعدوم وهو يضرنا لو كان المدعى تخصيص إطلاق الشيء لغة بالمعدوم وليس كذلك. فإن التحقيق عندنا أن الشيء بمعنى المشيء العلم به والإخبار عنه وهو مفهوم كلي يصدق على الموجود والمعدوم الواجب والممكن وتخصيص إطلاقه ببعض أفراده عند قيام قرينة لا ينافي شموله لجميع أفراده حقيقة لغوية عند انتفاء قرينة مخصصة وإلا لكان شموله المعدوم والموجود معا في قوله تعالى: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة: 282، النساء: 176، النور: 35، 64، الحجرات: 16، التغابن: 11] جمعا بين الحقيقة والمجاز وهي مسألة خلافية. ولا خلاف في الاستدلال على عموم تعلق علمه تعالى بالأشياء مطلقا بهذه الآية فهو دليل على أن شموله للمعدوم والموجود معا حقيقة لغوية، وذكر بعض الأجلة بعد زعمه اختصاص الشيء بالموجود أنه في الأصل مصدر استعمل بمعنى شاء أو مشيء فإن كان بمعنى شاء صح إطلاقه عليه تعالى وإلا فلا. وأنت تعلم أنه على ما ذكرنا من التحقيق لا مانع من إطلاق الشيء عليه تعالى من غير حاجة إلى هذا التفصيل لأنه بمعنى المشيء العلم به والإخبار عنه فيكون إطلاق الشيء بهذا المعنى عليه عز وجل كإطلاق المعلوم مثلا، ومعنى أَكْبَرُ شَهادَةً أعظم وأصدق قُلِ اللَّهُ أمر له صلّى الله عليه وسلّم أن يتولى الجواب بنفسه بنفسي هو عليه الصلاة والسلام لما مر قريبا. والاسم الجليل مبتدأ محذوف الخبر أي الله أكبر شهادة، وجوز العكس. ومذهب سيبويه أنه إذا كانت النكرة اسم استفهام أو أفعل تفضيل تقع مبتدأ يخبر عنه بمعرفة، وقوله سبحانه: شَهِيدٌ خبر مبتدأ محذوف أي هو سبحانه شهيد بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فهو ابتداء كلام، وجوز أن يكون خبر اللَّهُ والمجموع على ما ذهب إليه الزمخشري هو الجواب لدلالته على أن الله عز وجل إذا كان هو الشهيد بينه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 112 وبينهم فأكبر شيء شهادة شهيد له، ونقل في الكشف أنه إن جعل تمام الجواب عند قوله سبحانه: اللَّهُ فهو للتسلق من إثبات التوحيد إلى إثبات النبوة بأن هذا الشاهد الذي لا أصدق منه شهد لي بإيحاء هذا القرآن. وإن جعل الكلام بمجموعه الجواب فهو من الأسلوب الحكيم لأن الوهم لا يذهب إلى أن هذا الشاهد يحتمل أن يكون غيره تعالى بل الكلام في أنه يشهد لنبوته أولا فليفهم وَأُوحِيَ إِلَيَّ من قبله تعالى: هذَا الْقُرْآنُ العظيم الشاهد بصحة رسالتي لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ بما فيه من الوعيد. واكتفى بذكر الإنذار عن ذكر البشارة لأنه المناسب للمقام، وقيل: إن الكلام مع الكفار وليس فيهم من يبشر، وفي الدر المصون أن الكلام على حد سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] وَمَنْ بَلَغَ عطف على ضمير المخاطبين أي لأنذركم به يا أهل مكة وسائر من بلغه القرآن ووصل إليه من الأسود والأحمر أو من الثقلين أو لأنذركم به أيها الموجودون ومن سيوجد إلى يوم القيامة. قال ابن جرير: من بلغه القرآن فكأنما رأى محمدا صلّى الله عليه وسلّم. وأخرج أبو نعيم وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من بلغه القرآن فكأنما شافهته» واستدل بالآية على أن أحكام القرآن تعم الموجودين يوم نزوله ومن سيوجد بعد إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها. واختلف في ذلك هو بطريق العبارة في الكل أو بالإجماع في غير الموجودين وفي غير المكلفين. فذهب الحنابلة إلى الأول والحنفية إلى الثاني وتحقيقه في الأصول. وعلى أن من لم يبلغه القرآن غير مؤاخذ بترك الأحكام الشرعية، ويؤيده ما أخرجه أبو الشيخ عن أبي بن كعب قال «أتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأسارى فقال لهم: هل دعيتم إلى الإسلام؟ فقالوا: لا فخلى سبيلهم ثم قرأ وَأُوحِيَ إِلَيَّ الآية» وهو مبني على القول بالمفهوم كما ذهب إليه الشافعية، واعترض بأنه لا دلالة للآية على ذلك بوجه من الوجوه لأن مفهومها انتفاء الإنذار بالقرآن عمن لم يبلغه وذلك ليس عين انتفاء المؤاخذة وهو ظاهر ولا مستلزما له خصوصا عند القائلين بالحسن والقبح العقليين إلا أن يلاحظ قوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] وفيه أن عدم استلزام انتفاء الإنذار بالقرآن لانتفاء المؤاخذة ممنوع، والحسن والقبح العقليان قد طوى بساط ردهما، وجوز أن يكون مَنْ عطفا على الفاعل المستتر في لِأُنْذِرَكُمْ للفصل بالمفعول أي لأنذركم أنا بالقرآن وينذركم به من بلغه القرآن أيضا، وروى الطبرسي ما يقتضيه عن العياشي عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما ولا يخفى أنه خلاف المنساق إلى الذهن. أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى جملة مستأنفة أو مندرجة في القول والاستفهام للتقرير أو للإنكار، وقيل: لهما، وفيه جمع بين المعاني المجازية وأُخْرى صفة لآلهة. وصفة جمع ما لا يعقل- كما قال أبو حيان- كصفة الواحدة المؤنثة نحو مَآرِبُ أُخْرى [طه: 18] ولله تعالى الأسماء الحسنى. ولما كانت الآلهة حجارة وخشبا مثلا أجريت هذا المجرى تحقيرا لها قُلْ لهم لا أَشْهَدُ بذلك وإن شهدتم به فإنه باطل صرف. قُلْ تكرير للأمر للتأكيد إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ أي بل إنما أشهد أنه تعالى لا إله إلا هو وما كافة. وجوز أبو البقاء- وزعم أنه الأليق بما قبله- كونها موصولة ويبعده كونها موصولة وعليه يكون واحِدٌ خبرا وهو خلاف الظاهر وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ من الأصنام أو من إشراككم الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ جواب عما سبق في الرواية الأولى من قولهم: سألنا اليهود والنصارى إلخ أخر عن تعيين الشهيد مسارعة إلى الجواب عن تحكمهم بقولهم: أرنا من يشهد لك فالمراد من الموصول ما يعم الصنفين اليهود والنصارى ومن الكتاب جنسه الصادق على التوراة والإنجيل، وإيرادهم بعنوان إيتاء الكتاب للإيذان بمدار ما أسند إليهم بقوله تعالى: يَعْرِفُونَهُ أي يعرفون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحليته ونعوته المذكورة فيهما، وفيه التفات، وقيل: الضمير للكتاب، واختاره أبو البقاء. والأول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 113 هو الذي تؤيده الأخبار كما ستعرفه كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ بحلاهم بحيث لا يشكون في ذلك أصلا. روى أبو حمزة وغيره أنه لما قدم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة قال عمر رضي الله تعالى عنه لعبد الله بن سلام: إن الله تعالى أنزل على نبيه عليه الصلاة والسلام أن أهل الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم فكيف هذه المعرفة؟ فقال ابن سلام: نعرف نبي الله صلّى الله عليه وسلّم بالنعت الذي نعته الله تعالى به إذا رأيناه فيكم عرفناه كما يعرف أحدنا ابنه إذا رآه بين الغلمان وايم الله الذي يحلف به ابن سلام لأنا بمحمد أشد معرفة مني بابني لأني لا أدري ما أحدثت أمه فقال عمر رضي الله تعالى عنه: وفقت وصدقت. وزعم بعضهم أن المراد بالمعرفة هنا ما هو بالنظر والاستدلال لأن ما يتعلق بتفاصيل حليته صلّى الله عليه وسلّم إما إن يكون باقيا وقت نزول الآية أولا بل محرفا مغيرا والأول باطل ولا يتأتى لهم إخفاء ذلك لأن إخفاء ما شاع في الآفاق محال وكذا الثاني لأنهم لم يكونوا حينئذ عارفين حليته الشريفة عليه الصلاة والسلام كما يعرفون حلية أبنائهم. وفيه أن الإخفاء مصرح به في القرآن كما في قوله تعالى: تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً [الأنعام: 91] وإخفاؤها ليس بإخفاء النصوص بل بتأويلها، وبقولهم: إنه رجل آخر سيخرج وهو معنى قوله سبحانه: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [النمل: 14] . الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ من أهل الكتابين والمشركين فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بما يجب الإيمان به، وقد تقدم الكلام في هذا التركيب آنفا وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بادعائه أن له جل شأنه شريكا وبقوله الملائكة بنات الله، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله. وعد من ذلك وصف النبي عليه الصلاة والسلام الموعود في الكتابين بخلاف أوصافه، والاستفهام للاستعظام الادعائي. والمشهور أن المراد إنكار أن يكون أحد أظلم ممن فعل ذلك أو مساويا له، والتركيب وإن لم يدل على إنكار المساواة وضعا كما قال العلامة الثاني في شرح المقاصد وحواشي الكشاف يدل عليه استعمالا فإذا قلت: لا أفضل في البلد من زيد فمعناه أنه أفضل من الكل بحسب العرف، والسر في ذلك أن النسبة بين الشيئين إنما تتصور غالبا لا سيما في باب المغالبة بالتفاوت زيادة ونقصانا فإذا لم يكن أحدهما أزيد يتحقق النقصان لا محالة. وادعى بعض المتأخرين أنه سنح له في توجيه ذلك نكتة حسنة ودقيقة مستحسنة وهي أن المتساويين بل المتقاربين في نفس الأمر لا يسلم كل واحد منهما أن يفضل عليه صاحبه فإن كل أحد لا يقدر على أن يقدر كل شيء حق قدره وكل إنسان لا يقوى على أن يعرف كل أمر على ما هو عليه فإن الافهام في مقابلة الأوهام متفاوتة والعقول في مدافعة الشكوك متباينة. فإذا حكم بعض الناس مثلا بالمساواة بين المتساويين في نفس الأمر فقد يحكم البعض الآخر برجحان ذلك على حسب منتهى أفهامهم ومبلغ عقولهم ومدرك إدراكهم فكل ما يوجد من يساويه في نفس الأمر يوجد من يفضل عليه بحسب اعتقاد الناس بل كلما يوجد من يقاربه فيه يوجد من يفوقه في ظنون العامة وينعكس بعكس النقيض إلى قولنا. كلما لا يوجد من يفضل عليه لا يوجد من يساويه بل من يقاربه أيضا وهو المطلوب، وبالجملة أن إثبات المساوي يستلزم إثبات الراجح الفاضل ففي الفاضل يستلزم نفي المساوي لأن نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم كما أن إثبات الملزوم يستلزم إثبات اللازم وفيه تأمل. وادعى بعض المحققين أن دلالة التركيب على نفي المساواة وضعية لأن غير الأفضل إما مساو أو أنقص فاستعمل في أحد فرديه. قال ابن الصائغ في مسألة الكحل: إن ما رأيت رجلا أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد وإن كان نصا في نفي الزيادة وهي تصدق بالزيادة والنقصان إلا أن المراد الأخير وهو من قصر الشيء على بعض أفراده الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 كالدابة انتهى. وأنت تعلم أن هذا مشعر باعتبار العرف أيضا أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ كأن كذب بالقرآن الذي من جملته الآية الناطقة بأن أهل الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم أو بسائر المعجزات التي أيد بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأن سماها سحرا، وعد من ذلك تحريف الكتاب وتغيير نعوته صلّى الله عليه وسلّم التي ذكرها الله تعالى فيه، وإنما ذكر أَوْ وهم جمعوا بين الأمرين إيذانا بأن كلّا منهما وحده بالغ غاية الإفراط في الظلم على النفس، وقيل: نبه بكلمة أَوْ على أنهم جمعوا بين أمرين متناقضين يعني أنهم أثبتوا المنفي ونفوا الثابت، والمراد بالمتناقضين أمران من شأنهما أن لا يجمع بينهما عرفا. أو يقال: إن من نفى الثابت بالبرهان يكون بنفي ما لم يثبت به أولى، كذلك في الطرف الآخر فالجمع بينهما جمع بين المتناقضين من هذا الوجه. وادعى بعضهم أن وجه التناقض المشعر به هذا العطف أن الافتراء على الله تعالى دعوى وجوب القبول بلا حجة ما ينسب إليه تعالى وتكذيب الآيات دعوى أنه يجب أن لا يقبل ما ينسب إليه تعالى ولو أقيم عليه بينة ويجب أن ينكر التنبيه ويرتكب المكابرة بناء على أن الرسول يجب أن يكون ملكا. ولا يخفى أن في دعوى التناقض خفاء، وهذه التوجيهات لا ترفعه إِنَّهُ أي الشأن، والمراد أن الشأن الخطير هذا وهو لا يُفْلِحُ أي لا يفوز بمطلوب ولا ينجو من مكروه الظَّالِمُونَ من حيث إنهم ظالمون فكيف يفلح الأظلم من حيث إنه أظلم وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً منصوب على الظرفية بمضمر يقدر مؤخرا وضمير نَحْشُرُهُمْ للكل أو للعابدين للآلهة الباطلة مع معبوداتهم وجَمِيعاً خال منه أي ويوم نحشر كل الخلق أو الكفار وآلهتهم جميعا ثم نقول لهم ما نقول كان كيت وكيت. وترك هذا الفعل من الكلام ليبقى على الإبهام الذي هو أدخل في التخويف والتهويل. وقدر ماضيا ليدل على التحقيق ويحسن عطف ثُمَّ لَمْ تَكُنْ إلخ عليه، وجوز نصبه على المفعولية بمضمر مقدر أي واذكر لهم للتخويف والتحذير يوم نحشرهم. واختاره أبو البقاء، وقيل: التقدير ليتقوا أو ليحذروا يوم نحشرهم إلخ ثُمَّ نَقُولُ للتوبيخ والتقريع على رؤوس الأشهاد لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا بالله تعالى ما لم ينزل به سلطانا: أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ أي آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله عز اسمه فالإضافة لأدنى ملابسة وأَيْنَ للسؤال عن غير الحاضر، وظاهر قوله تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ [الصافات: 22] وغيره من الآيات يقتضي حضورهم معهم في المحشر فأما أن يقال: إن هذا السؤال حين يحال بينهم بعد ما شاهدوهم ليشاهدوا خيبتهم كما قيل: كما أبرقت قوما عطاشا غمامة ... فلما رأوها أقشعت وتجلت وإما أن يقال: إنه حال مشاهدتهم لهم لكنهم لما لم ينفعوهم نزلوا منزلة الغيب كما تقول لمن جعل أحدا ظهيرا يعينه في الشدائد إذا لم يعنه وقد وقع في ورطة بحضرته أين زيد؟ فتجعله لعدم نفعه وإن كان حاضرا كالغائب أو الكلام على تقدير مضاف أي أين نفعهم وجدواهم؟، والتزم بعضهم القول بأنهم غيب لظاهر لسؤال، وقوله تعالى: وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ إلى قوله سبحانه: وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام: 94] . وأجيب أن يكون ذلك في موطن آخر جمعا بين الآيات أو المعنى وما نرى شفاعة شفعائكم. وقال شيخ الإسلام: إن هذا السؤال المنبئ عن غيبة الشركاء مع عموم الحشر لها للآيات الدالة على ذلك إنما يقع بعد ما جرى بينها وبينهم من التبري من الجانبين وتقطع ما بينهم من الأسباب حسبما يحكيه قوله سبحانه: فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ [يونس: 28] إلخ ونحوه إما لعدم حضورها حينئذ في الحقيقة بإبعادها من ذلك الموقف، وإما بتنزيل عدم حضورها بعنوان الشركة والشفاعة منزلة عدم حضورها في الحقيقة إذ ليس السؤال عنها من حيث هي شركاء كما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 يعرب عنه الوصف بالموصول، ولا ريب في أن عدم الوصف يوجب عدم الموصوف من حيث هو موصوف فهي من حيث هي شركاء غائبة لا محالة وإن كانت حاضرة من حيث ذواتها أصناما كانت أو لا. وأما ما يقال من أنه يحال بينها وبينهم وقت التوبيخ ليفقدوهم في الساعة التي علقوا بها الرجاء فيروا مكان حزنهم وحسرتهم فربما يشعر بعدم شعورهم بحقيقة الحال وعدم انقطاع حبال رجائهم عنها بعد. وقد عرفت أنهم شاهدوها قبل ذلك وانصرمت عروة أطماعهم عنها بالكلية على أنها معلومة لهم من حين الموت والابتلاء بالعذاب في البرزخ. وإنما الذي يحصل في الحشر الانكشاف الجلي واليقين القوي المترتب على المحاضرة والمحاورة اه. وتعقبه مولانا الشهاب بأنه تخيل لا أصل له لأن التوبيخ مراد في الوجوه كلها. ولا يتصور حينئذ التوبيخ إلا بعد تحقق خلافه. مع أن كون هذا واقعا بعد التبري في موقف آخر ليس في النظم ما يدل عليه ومثله لا يجزم به من غير نقل لاحتمال أن يكون هذا في موقف التبري والإشعار المذكور لا يتأتى مع أنه توبيخ. وأما العلاوة التي زيل بها كلامه فواردة عليه أيضا مع أنها غير مسلمة لأن عذاب البرزخ لا يقتضي أن يشفع لهم بعد ذلك فكم من معذب في قبره يشفع له اه. وأنت تعلم أن عذابهم البرزخي إن كان سبب اعتقادهم النفع فيهم ورجاء شفاعتهم وعلم أولئك المعذبون أن عذابهم لذلك فقوله: لأن عذاب البرزخ لا يقتضي إلخ ليس في محله، وكذا قوله: فكم من معذب في قبره يشفع له إن أراد به فكم من معذب لمعصية من المعاصي في قبره يشفع له من يشفع فمسلم لكن لا يفيد. وإن أراد فكم من معذب في قبره بسبب عبادة شيء يشفع له ذلك الشيء فمنعه ظاهر كما لا يخفى فتدبر. وقرأ يعقوب «يحشرهم ثم يقول» بالياء فيهما والضمير فيهما لله تعالى. وقوله سبحانه للمشركين: أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ إما بالواسطة أو بغير واسطة. والتكليم المنفي في قوله تعالى: وَلا يُكَلِّمُهُمُ إلخ تكليم تشريف ونفع لا مطلقا. فقد كلم إبليس عليه اللعنة بما كلم. والزعم يستعمل في الحق كما في قوله صلّى الله عليه وسلّم «زعم جبريل عليه السلام» وفي حديث ضمام بن ثعلبة رضي الله تعالى عنه «زعم رسولك» وقول سيبويه في أشياء يرتضيها: زعم الخليل، ويستعمل في الباطل والكذب كما في هذه الآية. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كل زعم في القرآن فهو بمعنى الكذب. وكثيرا ما يستعمل في الشيء الغريب الذي تبقى عهدته على قائله وهو هنا متعد لمفعولين وحذفا لانفهامهما من المقام أي تزعمونهم شركاء. ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا أصل معنى الفتنة على ما حققه الراغب من الفتن وهو إدخال الذهب النار لتعلم جودته من رداءته ثم استعمل في معان كالعذاب والاختبار والبلية والمصيبة والكفر والإثم والضلال والمعذرة، واختلف في المراد هنا فقيل: الشرك، واختار هذا القول الزجاج ورواه عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وكأن التعبير عن الشرك بالفتنة أنها ما تفتتن به ويعجبك وهم كانوا معجبين بكفرهم مفتخرين به. والكلام حينئذ إما على حذف مضاف كما يقتضيه ظاهر كلام البعض، وإما على جعل عاقبة الشيء عينه ادعاء وهو أحلى مذاقا وأبعد مغزى. والحصر إضافي بالنسبة إلى جنس الأقوال أو ادعائي. وقوله تعالى: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ كناية عن التبري عن الشرك وانتفاء التدين به أي ثم لو لم يكن عاقبة شركهم شيئا إلا تبرئهم منه، ونص الزجاج أن مثل ما في الآية أن ترى إنسانا يحب غاويا فإذا وقع في مهلكة تبرأ منه فيقال له: ما كان محبتك لفلان إلا أن تبرأت منه وليس ذلك من قبيل عتابك السيف ولا من تقدير المضاف وإن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 116 صح ذلك فيه وهو معنى حسن لطيف لا يعرفه إلا من عرف كلام العرب، وقيل: المراد بها العذر واستعملت فيه لأنها على ما تقدم التخليص من الغش والعذر يخلص من الذنب فاستعيرت له. وروي ذلك عن ابن عباس أيضا، وأبي عبد الله، وقتادة، ومحمد بن كعب رضي الله تعالى عنهم، وقيل: الجواب بما هو كذب. ووجه الإطلاق أنه سبب الفتنة فتجوز بها عنه إطلاقا للمسبب على السبب، ويحتمل أن يكون هناك استعارة لأن الجواب مخلص لهم أيضا كالمعذرة قيل: والحصر على هذين القولين حقيقي والجملة القسمية على ظاهرها، وتَكُنْ بالتاء الفوقانية، وفِتْنَتُهُمْ بالرفع قراءة ابن كثير، وابن عامر، وحفص عن عاصم، وقرأ حمزة، والكسائي «يكن» بالياء التحتانية و «فتنتهم» بالنصب، وكذا قرأ «ربنا» بالنصب على النداء أو المدح. وقرىء في الشواذ «ربنا» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف. وهو توطئة لنفي إشراكهم. وفائدته رفع توهم أن يكون نفي الإشراك بنفي الإلهية عنه تقدس وتعالى. وقرأ الباقون بالتاء من فوق ونصب «فتنتهم» أيضا، وخرجوا قراءة الأولين على أن «فتنتهم» اسم «تكن» وتأنيث الفعل لإسناده إلى مؤنث وأَنْ قالُوا خبره. وقرأ حمزة والكسائي على أن «قالوا» هو الاسم ولم يؤنث الفعل لإسناده إلى مذكر وفِتْنَتُهُمْ هو الخبر. وقراءة الباقين على نحو هذا خلا أن التأنيث فيها بناء على مذهب الكوفيين فإنهم يجيزون في سعة الكلام تأنيث اسم كان إذا كان مصدرا مذكرا وكان الخبر مؤنثا مقدما كقوله: وقد خاب من كانت سريرته العذر ويستشهدون على ذلك بهذه القراءة، وذهب البصريون إلى أن ذلك ضرورة، وقيل: إن التأنيث على معنى المقالة وهو من قبيل جاءته كتابي أي رسالتي. ولا يخفى أن هذا قليل في كلامهم، وقال الزمخشري ونقل بعينه عن أبي علي: إن ذلك من قبيل من كانت أمك؟ ونوقش بما لا طائل فيه، وزعم بعضهم أن القراءتين الأخيرتين أفصح من القراءة الأولى لأن فيها جعل الأعرف خبرا وغير الأعرف اسما لأن أَنْ قالُوا يشبه المضمر والمضمر أعرف المعارف وهو خلاف الشائع المعروف دونهما. وفيه نظر إذ لا يلزم من مشابهة شيء لشيء في حكم مشابهته له في جميع الأحكام، والجملة على سائر القراءات عطف على الفعل المقدر العامل في يوم نحشرهم إلخ على ما مرت الإشارة إليه. وجعلها غير واحد عطفا على الجملة قبلها وثُمَّ إما على ظاهرها بناء على القول الأول وإما للتراخي في الرتبة بناء على القولين الأخيرين لأن معذرتهم أو جوابهم هذا أعظم من التوبيخ السابق. وأنت تعلم أنه لا ضرورة للعدول عن الظاهر لجواز أن يكون هناك تراخ في الزمان بناء على أن الموقف عظيم. فيمكن أن يقال: إنهم لما عاينوا هول ذلك اليوم وتجلى الملك الجبار جل جلاله عليهم بصفة الجلال كما تنبىء عنه الجملة السابقة حاروا ودهشوا فلم يستطيعوا الجواب إلا بعد زمان. ومما ينبىء على دهشتهم وحيرتهم أنهم كذبوا وحلفوا في كلامهم هذا ولو لم يكونوا حيارى مدهوشين لما قالوا الذي قالوا لأن الحقائق تنكشف يوم القيامة فإذا اطلع أهلها عليها وعلى أنها لا تخفى عليه سبحانه وأنه لا منفعة لهم في مثل ذلك استحال صدوره عنهم. وللغفلة عن بناء الأمر عن الدهشة والحيرة منع الجبائي، والقاضي، ومن وافقهما جواز الكذب على أهل القيامة مستدلين بما ذكرنا. وأجابوا عن الآية بأن المعنى ما كنا مشركين في اعتقادنا وظنوننا وذلك لأنهم كانوا يعتقدون في أنفسهم أنهم موحدون متباعدون عن الشرك. واعترضوا على أنفسهم بأنهم على هذا التقدير يكونون صادقين فيما أخبروا فلم قال سبحانه: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا أي في قولهم ما كُنَّا مُشْرِكِينَ وأجابوا بأنه ليس المراد أنهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 كذبوا في الآخرة بل المراد انظر كيف كذبوا عَلى أَنْفُسِهِمْ في الدنيا. ورد بأن الآية لا تدل على هذا المعنى بوجه ولا تنطبق عليه لأنها في شأن خسرهم وأمرهم في الآخرة لا في الدنيا بل تنبو عنه أشد نبو لأن أول النظم الكريم وآخره في ذلك فتخلل بيان حالهم في الدنيا تفكيك له وتعسف جدا. ويؤيد ما ذهب إليه الجمهور أيضا قوله تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ [المجادلة: 18] بعد قوله سبحانه: وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [المجادلة: 14] حيث شبه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا، ويشير إلى هذا التشبيه أيضا الأمر بالنظر كما لا يخفى على من نظر. وذكر ابن المنير أن في الآية دليلا بينا على أن الإخبار بالشيء على خلاف ما هو به كذب وإن لم يعلم المخبر مخالفة خبره لمخبره ألا تراه سبحانه جعل أخبارهم وتبرؤهم كذبا مع أنه جل شأنه أخبر عنهم بقوله تعالى: وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي سلبوا علمه حينئذ دهشا وحيرة فلم يرفع ذلك إطلاق الكذب عليهم، وأنت تعلم أن تفسير هذه الجملة بما ذكر غير ظاهر. والمروي عن الحسن أن ما موصولة والمراد بها الأصنام التي كانوا يعبدونها ويقولون فيها: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: 18] أو نحو ذلك. وإيقاع الافتراء عليها مع أنه في الحقيقة واقع على أحوالها للمبالغة في أمرها كأنها نفس المفتري أي زالت وذهبت عنهم أوثانهم التي يفترون فيها ما يفترون فلم تغن عنهم من الله شيئا، وقيل: إن ما مصدرية أي ضل افتراءهم كقوله سبحانه: ضَلَّ سَعْيُهُمْ [الكهف: 104] أي لم ينفعهم ذلك. والجملة قيل: مستأنفة، وقيل: واختاره شيخ الإسلام أنها عطف على كَذَبُوا داخل معه في حكم التعجب إذ الاستفهام السابق المعلق لا نظر لذلك. وجعل المعنى على احتمال الموصول والمصدرية انظر كيف كذبوا باليمين الفاجرة المغلظة على أنفسهم بإنكار صدور ما صدر عنهم وكيف ضل عنهم أي زال وذهب افتراؤهم أو ما كانوا يفترونه من الإشراك حتى نفوا صدوره عنهم بالكلية وتبرؤوا بالمرة. وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ كلام مسوق لحكاية ما صدر في الدنيا عن بعض المشركين من أحكام الكفر ثم بيان ما سيصدر عنهم يوم الحشر تقريرا لما قبله وتحقيقا لمضمونه. وضمير مِنْهُمْ للذين أشركوا. والاستماع بمعنى الإصغاء وهو لازم يعدى باللام وإلى كما صرح به أهل اللغة، وقيل: إنه مضمن معنى الإصغاء ومفعوله مقدر وهو القرآن. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في رواية أبي صالح: إن أبا سفيان بن حرب والوليد بن المغيرة والنضر ابن الحارث، وعتبة، وشيبة ابنا ربيعة، وأمية وأبي بن خلف استمعوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يقرأ القرآن فقالوا للنضر: يا أبا قتيلة ما يقول محمد؟ فقال: والذي جعلها بيته ما أدري ما يقول إلا أني أرى تحرك شفتيه يتكلم بشيء فما يقول إلا أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية. وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى وكان يحدث قريشا فيستملحون حديثه فأنزل الله تعالى هذه الآية. وأفرد ضمير مَنْ في يستمع وجمعه في قوله سبحانه وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً نظرا إلى لفظه ومعناه وعن الكرخي إنما قيل: هنا يَسْتَمِعُ وفي يَسْتَمِعُونَ [يونس: 42] لأن ما هنا في قوم قليلين فنزلوا منزلة الواحد وما هناك في جميع الكفار فناسب الجمع، وإنما لم يجمع ثم في قوله سبحانه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ [يونس: 43] لأن المراد النظر المستتبع لمعاينة أدلة الصدق وأعلام النبوة والناظرون كذلك أقل من المستمعين للقرآن. والجعل بمعنى الإنشاء. والأكنة جمع كنان كغطاء وأغطية لفظا ومعنى لأن فعالا بفتح الفاء وكسرها يجمع في القلة على أفعلة كأحمرة وأقذلة وفي الكثرة على فعل كحمر إلا أن يكون مضاعفا أو معتل اللام فيلزم جمعه على أفعلة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 118 كأكنة وأخبية إلا نادرا. وفعل الكن ثلاثي ومزيد يقال: كنه وأكنه كما قال الطبرسي وغيره، وفرق بينهما الراغب فقال: أكننت يستعمل لما يستر في النفس والثلاثي لغيره. والتنوين للتفخيم والواو للعطف. والجملة معطوفة على الجملة قبلها عطف الفعلية على الاسمية، وقيل: الواو للحال أي وقد جعلنا. وعَلى قُلُوبِهِمْ متعلق بالفعل قبله. وزعم أبو حيان أنه إن كان بمعنى ألقي فالظرف متعلق به وإن كان بمعنى صير فمتعلق بمحذوف إذ هو في موضع المفعول الثاني. والمعنى على ما ذكرنا وأنشأنا على قلوبهم أغطية كثيرة لا يقادر قدرها أَنْ يَفْقَهُوهُ أي كراهة أن يفهموا ما يستمعونه من القرآن المدلول عليه بذكر الاستماع فالكلام على تقدير مضاف ومنهم من قدر لا دونه أي أن لا يفقهوه. وكذلك يفعلون في أمثاله، وجوز أن يكون مفعولا به لما دل عليه قوله تعالى: وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أي منعناهم أن يفقهوه أو لما دل عليه أَكِنَّةً وحده من ذلك وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً أي صمما وثقلا في السمع يمنع من استماعه على ما هو حقه. والكلام عند غير واحد تمثيل معرب عن كمال جهلهم بشؤون النبي صلّى الله عليه وسلّم وفرط نبو قلوبهم عن فهم القرآن الكريم ومج أسماعهم أصمها الله تعالى، وجوز أن يكون هناك استعارة تصريحية أو مكنية أو مشاكلة. وقد مر لك في البقرة ما ينفعك هنا فتذكره. وقرأ طلحة «وقرأ» بالكسر- وهو- على ما نص عليه الزجاج. حمل البغل ونحوه. ونصبه على القراءتين بالعطف على أَكِنَّةً كما قال أبو البقاء وَإِنْ يَرَوْا أي يشاهدوا ويبصروا كُلَّ آيَةٍ أي معجزة دالة على صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم على ما نقل عن الزجاج وهو الذي يقتضيه كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كانشقاق القمر ونبع الماء من بين أصابعه الشريفة. وتكثير القليل من الطعام وما أشبه ذلك لا يُؤْمِنُوا بِها لفرط عنادهم واستحكام التقليد فيهم. والكلام من باب عموم النفي ككل ذلك لم يكن لا من باب نفي العموم. والمراد ذمهم بعدم الانتفاع بحاسة البصر بعد أن ذكر سبحانه عدم انتفاعهم بعقولهم وأسماعهم، ونقل عن بعضهم أنه لا بد من تخصيص الآية في الآية بغير الملجئة دفعا للمخالفة بين هذا وقوله تعالى: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ [الشعراء: 4] . واكتفى بعضهم بحمل الإيمان على الإيمان بالاختيار وفرق بينه وبين خضوع الأعناق فليفهم. وخص شيخ الإسلام الآية بما كان من الآيات القرآنية أي وإن يروا شيئا من ذلك بأن يشاهدوه بسماعه لا يؤمنوا به، ولعل ما قدمناه أحلى لدى الذوق السليم. حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ أي يخاصمونك وينازعونك. وحَتَّى هي التي تقع بعدها الجمل ويقال لها: حتى الابتدائية. ولا محل للجملة الواقعة بعدها خلافا للزجاج وابن درستويه زعما أنها في محل جر بحتى. ويرده أن حروف الجر لا تعلق عن العمل وإنما تدخل على المفرد أو ما في تأويله. والجملة هنا قوله تعالى: إِذا جاؤُكَ مع جواب الشرط أعني قوله سبحانه وتعالى: يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا وما بينهما حال من فاعل جاؤوا. وإنما وضع الموصول موضع الضمير ذما لهم بما في حيز الصلة وإشعارا بعلة الحكم. وإِذا منصوبة المحل على الظرفية بالشرط أو الجواب على الخلاف الشهير في ذلك، واعترض بأن جعل يُجادِلُونَكَ في موضع الحال ويَقُولُ الَّذِينَ جوابا مفض إلى جعل الكلام لغوا لأن المجادلة نفس هذا القول إلا أن تؤول المجادلة بقصدها. ولا يخفى ما فيه فإن المجادلة مطلق المنازعة. وسميت بذلك لما فيها من الشدة أو لأن كل واحد من المتجادلين يريد أن يلقي صاحبه على الجدالة أي الأرض. والقول المذكور فرد منها فالكلام مفيد أبلغ فائدة كقولك إذا أهانك زيد شتمك، وذكر بعض النحويين أن حتى إذا وقع بعدها إذا يحتمل أن تكون بمعنى الفاء وأن تكون بمعنى إلى والغاية معتبرة في الوجهين أي بلغوا من التكذيب والمكابرة إلى أنهم إذا جاؤوك مجادلين لك لا يكتفون بمجرد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 عدم الإيمان بل يقولون إِنْ هذا أي ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي أحاديثهم المسطورة التي لا يعول عليها، وقال قتادة: كذبهم وباطلهم. وحاصل ما ذكر أن تكذيبهم بلغ النهاية بما ذكر لأنه الفرد الكامل منه. ونظير ذلك- مات الناس حتى الأنبياء- وجوز أن تكون حَتَّى هي الجارة وإِذا جاؤُكَ في موضع الجر وهو قول الأخفش وتبعه ابن مالك في التسهيل. ورده أبو حيان في شرحه. وعليه فإذا خارجة عن الظرفية كما صرحوا به وعن الشرطية أيضا فلا جواب لها فيقول حينئذ: تفسير «ليجادلونك» وهو في موضع الحال أيضا. والأساطير عند الأخفش جمع لا مفرد له كأبابيل ومذاكير، وقال بعضهم: له مفرد. وفي القاموس إنه جمع أسطار وأسطير بكسرهما وإسطور وبالهاء في الكل، وقيل: جمع أسطار بفتح الهمزة جمع سطر بفتحتين كسبب وأسباب فهو جمع جمع وأصل السطر بمعنى الخط وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ الضمير المرفوع للمشركين والمجرور للقرآن أي لا يقنعون بما ذكر من تكذيبه وعده حديث خرافة بل ينهون الناس عن استماعه لئلا يقفوا على حقيقته فيؤمنوا به وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ أي يتباعدون عنه بأنفسهم إظهارا لغاية نفورهم عنه وتأكيدا لنهيهم فإن اجتناب الناهي عن المنهي عنه من متممات النهي، ولعل ذلك- كما قال شيخ الإسلام- هو السر في تأخير النأي عن النهي. وهذا هو التفسير الذي أخرجه ابن أبي شيبة، وابن حميد، وابن جرير وابن المنذر، وغيرهم عن مجاهد رحمة الله تعالى عليه، وقيل: الضمير المجرور للرسول صلّى الله عليه وسلّم على معنى ينهون الناس عن الإيمان به عليه الصلاة والسلام ويتباعدون عنه، وهو التفسير الذي أخرجه أبناء جرير، والمنذر، وأبي حاتم، ومردويه من طريق علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخرج أيضا ابن جرير من طريق العوفي. وروي ذلك عن محمد ابن الحنفية، والسدي، والضحاك، وقيل: الضمير المرفوع لأبي طالب وأتباعه أو أضرابه والمجرور للنبي صلّى الله عليه وسلّم على معنى ينهون عن أذيته عليه الصلاة والسلام ولا يؤمنون به. أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن هلال أنه قال: إن الآية نزلت في عمومة النبي صلّى الله عليه وسلّم وكانوا عشرة وكانوا أشد الناس معه في العلانية وأشد الناس عليه عليه الصلاة والسلام في السر، وقيل: ضمير الجمع لأبي طالب وحده وجمع استعظاما لفعله حتى كأنه مما لا يستقل به واحد، وقيل: إنه نزل منزلة أفعال متعددة فيكون كقوله: قفا عند المازني، ولا يخفى بعده. وروى هذا القول جماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا. وروي عن مقاتل أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان عند أبي طالب يدعوه إلى الإسلام فاجتمعت قريش إليه يريدون سوءا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم فقال منشدا: والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسد في التراب دفينا فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة ... وابشر وقر بذاك منك عيونا ودعوتني وزعمت أنك ناصح ... ولقد صدقت وكنت ثم أمينا وعرضت دينا لا محالة أنه ... من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذاري سبة ... لوجدتني سمحا بذاك مبينا فنزلت هذه الآية. وفيها على هذا القول والذي قبله التفات، ورد الإمام القول الأخير بأن جميع الآيات المتقدمة في ذم فعل المشركين فلا يناسبه ذكر النهي عن أذيته عليه الصلاة والسلام وهو غير مذموم. ونظر فيه بأن الذم بالمجموع من حيث هو مجموع. وبهذه الآية على هذه الرواية استدل بعض من ادعى أن أبا طالب لم يؤمن برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق هذا المطلب في موضعه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 والنأي لازم يتعدى بعن كما في الآية. ونقل عن الواحدي أنه سمع تعديته بنفسه عن المبرد وأنشد: أعاذل إن يصبح صدى بقفرة ... بعيدة نآني زائري وقريبي وخرجه البعض على الحذف والإيصال ولا يخفى ما في «ينهون وينأون» من التجنيس البديع. وقرىء «وينون» عنه وَإِنْ يُهْلِكُونَ أي وما يهلكون بذلك إِلَّا أَنْفُسَهُمْ بتعريضها لأشد العذاب وأفظعه وهو عذاب الضلال والإضلال. وقوله تعالى: وَما يَشْعُرُونَ حال من ضمير يهلكون أي يقصرون الإهلاك على أنفسهم والحال أنهم غير شاعرين لا بإهلاكهم أنفسهم ولا باقتصار ذلك عليها من غير أن يضروا بذلك شيئا من القرآن أو النبي صلّى الله عليه وسلّم. وإنما عبر عنه بالإهلاك مع أن المنفي عن غيرهم مطلق الضرر للإيذان بأن ما يحيق بهم هو الهلاك لا الضرر المطلق. على أن مقصدهم لم يكن مطلق الممانعة فيما ذكروا بل كانوا يبغون الغوائل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي هو نظام عقد لآلىء الآيات القرآنية. وجوز أن يكون الإهلاك معتبرا بالنسبة إلى الذين يضلونهم بالنهي فقصره على أنفسهم حينئذ مع شموله للفريقين مبني على تنزيل عذاب الضلال عند عذاب الإضلال منزلة العدم. ونفي الشعور- على ما في البحر- أبلغ من نفي العلم كأنه قيل. وما يدركون ذلك أصلا وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ شروع في حكاية ما سيصدر عنهم يوم القيامة من القول المناقض لما صدر عنهم في الدنيا من القبائح المحكية مع كونه كاذبا في نفسه. والخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم أو لكل من له أهلية ذلك قصدا إلى بيان سوء حالهم وبلوغها من الشناعة إلى حيث لا يختص بها راء دون راء. ولَوْ شرطية على أصلها وجوابها محذوف لتذهب نفس السامع كل مذهب فيكون أدخل في التهويل. ونظير ذلك قول امرئ القيس: وجدك لو شيء أتانا رسوله ... سواك ولكن لم نجد لك مدفعا وقولهم لو ذات سوار لطمتني. وتَرى بصرية وحذف مفعولها لدلالة ما في حيز الظرف عليه. والإيقاف إما من الوقوف المعروف أو من الوقوف بمعنى المعرفة كما يقال: أوقفته على كذا إذا فهمته وعرفته. واختاره الزجاج أي ولو ترى حالهم حين يوقفون على النار حتى يعاينوها أو يرفعوا على جسرها وهي تحتهم فينظرونها أو يدخلونها فيعرفون مقدار عذابها لرأيت ما لا يحيط به نطاق التعبير. وصيغة الماضي للدلالة على التحقيق. وقيل: إن لو بمعنى إن وجوزوا أن تكون ترى علمية وهو كما ترى. وقرىء وُقِفُوا بالبناء للفاعل من وقف عليه اللازم ومصدره غالبا الوقوف. ويستعمل وقف متعديا أيضا ومصدره الوقف وسمع فيه أوقف لغة قليلة. وقيل: إنه بطريق القياس فَقالُوا لعظم أمر ما تحققوه يا لَيْتَنا نُرَدُّ أي إلى الدنيا. ويا للتنبيه أو للنداء والمنادى محذوف أي يا قومنا مثلا وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا أي القرآن كما كنا نكذب من قبل ونقول: أساطير الأولين. وفسر بعضهم الآيات بما يشمل ذلك والمعجزات، وقال شيخ الإسلام: يحتمل أن يراد بها الآيات الناطقة بأحوال النار وأهوالها الآمرة باتقائها بناء على أنها التي تخطر حينئذ ببالهم ويتحسرون على ما فرطوا في حقها. ويحتمل أن يراد بها جميع الآيات المنتظمة لتلك الآيات انتظاما أوليا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بها حتى لا نرى هذا الموقف الهائل كما لم ير ذلك المؤمنون. ونصب الفعلين- على ما قال الزمخشري وسبقه إليه كما قال الحلبي الزجاج- بإضمار أن على جواب التمني. والمعنى إن رددنا لم نكذب ونكن من المؤمنين. ورده أبو حيان بأن نصب الفعل بعد الواو ليس على الجوابية لأنها لا تقع في جواب الشرط فلا ينعقد مما قبلها وما بعدها شرط وجواب وإنما هي واو تعطف ما بعدها على المصدر المتوهم قبلها وهي عاطفة يتعين مع النصب أحد محاملها الثلاث وهي المعية ويميزها عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 الفاء صحة حلول مع محلها أو الحال. وشبهة من قال: إنها جواب أنها تنصب في المواضع التي تنصب فيها الفاء فتوهم أنها جواب. ويوضح لك أنها ليست به انفراد الفاء دونها بأنها إذا حذفت انجزم الفعل بعدها بما قبلها لما تضمنه من معنى الشرط، وأجيب بأن الواو أجريت هنا مجرى الفاء. وجعلها ابن الأنباري مبدلة منها. ويؤيد ذلك قراءة ابن مسعود وابن إسحاق «فلا نكذب» ، واعترض أيضا ما ذكره الزمخشري من معنى الجزائية بأن ردهم لا يكون سببا لعدم تكذيبهم. وأجيب بأن السببية يكفي فيها كونها في زعمهم. ورد بأن مجرد الرد لا يصلح لذلك فلا بد من العناية بأن يراد الرد الكائن بعد ما ألجأهم إلى ذلك إذ قد انكشفت لهم حقائق الأشياء. ولهذه الدغدغة اختار من اختار العطف على مصدر متوهم قبل كأنه قيل: ليت لنا ردا وانتفاء تكذيب وكونا من المؤمنين، وقرأ نافع، وابن كثير، والكسائي برفع الفعلين، وخرج على أن ذلك ابتداء كلام منهم غير معطوف على ما قبله والواو كالزائدة كقول المذنب لمن يؤذيه على ما صدر منه: دعني ولا أعود يريد لا أعود تركتني أو لم تركتني. ومن ذلك على ما قاله الإمام عبد القاهر قوله: اليوم يومان مذ غيبت عن نظري ... نفسي فداؤك ما ذنبي فاعتذر وكأن المقتضي لنظمه في هذا السلك إفادة المبالغة المناسبة لمقام المغازلة، واختار بعضهم كونه ابتداء كلام بمعنى كونه مقطوعا عما في حيز التمني معطوفا عليه عطف اخبار على إنشاء. ومن النحاة من جوزه مطلقا، ونقله أبو حيان عن سيبويه، وجوز أن يكون داخلا في حكم التمني على أنه عطف على نُرَدُّ أو حال من الضمير فيه، فالمعنى- كما قال الشهاب- على تمني مجموع الأمرين الرد وعدم التكذيب أي التصديق الحاصل بعد الرد إلى الدنيا لأن الرد ليس مقصودا بالذات هنا، وكونه متمنى ظاهر لعدم حصوله حال التمني وإن كان التمني منصبا على الإيمان والتصديق فتمنيه لأن الحاصل الآن لا ينفعهم لأنهم ليسوا في دار تكليف فتمنوا إيمانا ينفعهم وهو إنما يكون بعد الرد المحال والمتوقف على المحال محال. وقرأ ابن عامر برفع الأول ونصب الثاني على ما علمت آنفا، والجوابية إما بالنظر إلى المجموع أو بالنظر إلى الثاني وعدم التكذيب بالآيات مغاير للإيمان والتصديق فلا اتحاد. وقرىء شاذا بعكس هذه القراءة بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ إضراب عما يؤذن به تمنيهم من الوعد بتصديق الآيات والإيمان بها أي ليس ذلك عن عزم صحيح ناشىء عن رغبة في الإيمان وشوق إلى تحصيله والاتصاف به بل لأنه بدا وظهر لهم في وقوفهم ذلك ما كانوا يخفونه في الدنيا من ثالثة الأثافي والداهية الدهياء فلشدة هول ذلك ومزيد ضجرهم منه قالوا ما قالوا، فالمراد من الموصول النار على ما يقتضيه السوق ومن إخفائها ستر أمرها وذلك بإنكار تحققها وعدم الإيمان بثبوتها أصلا فكأنه قيل: بل بدا لهم ما كانوا يكذبون به في الدنيا وينكرون تحققه. وإنما لم يصرح سبحانه بالتكذيب كما في قوله عز شأنه: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ [الرحمن: 43] وقوله عز من قائل: هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ [الطور: 14] مع أن ذلك أنسب بما قبل من قولهم: «ولا نكذب بآيات ربنا» مراعاة لما في مقابله من البدو في الجملة مع ما في ذلك من الرمز الخفي إلى أن تكذيبهم هذا لم يكن في محله رأسا لقوة الدليل، وقيل: المراد بما كانا يخفونه قبائحهم من غير الشرك التي كانوا يكتمونها عن الناس فتظهر في صحفهم وبشهادة جوارحهم عليهم، وقيل: المراد به الشرك الذي أنكروه في بعض مواقف القيامة بقولهم: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ، وقيل: المراد به أمر البعث والنشور، والضمير المرفوع لرؤساء الكفار والمجرور لأتباعهم أي ظهر للتابعين ما كان الرؤساء المتبوعون يخفونه في الدنيا عنهم من أمر البعث والنشور، ونسب إلى الحسن واختاره الزجاج. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 122 وقيل: الآية في المنافقين، والضمير المرفوع لهم، والمجرور للمؤمنين، والمراد بالموصول الكفر أي بل ظهر للمؤمنين ما كان المنافقون يخفونه من الكفر ويكتمونه عنهم في الدنيا، وقيل: هي في أهل الكتاب مطلقا أو علمائهم، والذي أخفوه نبوة خاتم الرسل صلّى الله عليه وسلّم، والضميران المرفوع والمجرور لهم وللمؤمنين أو للخواص والعوام. وتعقب كل ذلك بأنه بعد الإغضاء عما فيه من الاعتساف لا سبيل إليه هنا لأن سوق النظم الجليل لتهويل أمر النار وتفظيع حال أهلها، وقد ذكر وقوفهم عليها وأشير إلى أنه اعتراهم عند ذلك من الخوف والخشية والحيرة والدهشة ما لا يحيط به الوصف، ورتب عليهم تمنيهم المذكور بالفاء القاضية بسببية ما قبلها لما بعدها فإسقاط النار بعد ذلك من السببية وهي في نفسها أدهى الدواهي وأزجر الزواجر إلى ما دونها في ذلك مع عدم جريان ذكره ثمة أمر ينبغي تنزيه ساحة التنزيل عن أمثاله، ونقل عن المبرد أن الكلام على حذف مضاف أي بدا لهم وبال ما كانوا يخفون ولا يخفى ما فيه أيضا فتدبر. وَلَوْ رُدُّوا من موقفهم ذلك إلى الدنيا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ من الكفر والتكذيب أو من الأعم من ذلك ويدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا ولا يخفى حسنه، ووجه اللزوم في هذه الشرطية سبق قضاء الله تعالى عليهم بذلك التابع لخبث طينتهم ونجاسة جبلتهم وسوء استعدادهم ولهذا لا ينفعهم مشاهدة ما شاهدوه، وقيل: إن المراد أنهم لو ردوا إلى حالهم الأولى من عدم العلم والمشاهدة لعادوا، ولا يخفى أنه لا يناسب مقام ذمهم بغلوهم في الكفر والإصرار وكون هذا جوابا لما مر من تمنيهم. وذكر بعض الناس في توجيه عدم نفع المشاهدة في الآخرة لأهوالها المترتبة على المعاصي بعد الرد إلى الدنيا أنها حينئذ كخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم المؤيد بالمعجزات الباهرة فحيث لم ينتفعوا به وصدهم ما صدهم لا ينتفعون بما هو مثله ويصدهم أيضا ما يصدهم. وأنت تعلم أن هذا بعد تسليم كون المشاهدة بعد الرد كخبر الصادق يرجع في الآخرة إلى ما أشرنا إليه من سبق القضاء وسوء الاستعداد، ومن خلق للشقاء والعياذ بالله سبحانه وتعالى للشقاء يكون وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أي لقوم كاذبون فيما تضمنه تمنيهم من الخبر بأن ذلك مراد لهم، ويحتمل أن يكون هذا ابتداء إخبار منه تعالى بأن ديدن هؤلاء وهجيراهم الكذب. وليس الكذب على الاحتمالين متوجها إلى التمني نفسه لأنه إنشاء والإنشاء لا يحتمل الصدق والكذب. وقال الربعي: لا بأس بتوجه الكذب إلى التمني لأنه يحتمل الصدق والكذب بنفسه. واحتج على ذلك بقوله: منى إن تكن حقا أحسن المنى ... وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا لأن الحق بمعنى الصدق وهو ضد الباطل والكذب، ولا يخفى ما فيه مع أنه لو سلّم فهو مجاز أيضا. وقيل: الخبر الضمني هنا هو الوعد بالإيمان وعدم التكذيب. واعترض بأن الوعد كالوعيد من قبيل الإنشاء كما حقق في موضعه فلا يتوجه إليه الكذب والصدق كما لا يتوجهان إلى الإنشاء وأجيب بأن ذلك أحد قولين في المسألة، ثانيهما أن الوعد والوعيد من قبيل الخبر لا الإنشاء، وهذا القيل مبني عليه على أنه يحتمل أن المراد بالكذب المتوجه إلى الوعد عدم الوفاء به لا عدم مطابقته للواقع كما ذكره الراغب وَقالُوا عطف على لَعادُوا كما عليه الجمهور. واعترضه ابن الكمال بأن حق وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ حينئذ أن يؤخر عن المعطوف أو يقدم على المعطوف عليه. وأجيب بأن توسيطه لأنه اعتراض مسوق لتقرير ما أفادته الشرطية من كذبهم المخصوص ولو أخر لأوهم أن المراد تكذيبهم في إنكارهم البعث. وجوز أن يكون عطفا على إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أو على خبر إن أو على نُهُوا والعائد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 محذوف أي قالوه، وأن يكون استئنافا بذكر ما قالوا في الدنيا إِنْ هِيَ أي ما هي إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا والضمير للحياة المذكورة بعده كما في قول المتنبي: هو الجد حتى تفضل العين أختها ... وحتى يكون اليوم لليوم سيدا وقد نصوا على صحة عود الضمير على متأخر لفظا ورتبة في مواضع، منها ما إذا كان خبر الضمير مفسرا له كما هنا. وجعله بعضهم ضمير الشأن. ولا يتأتى على مذهب الجمهور لأنهم اشترطوا في خبره أن يكون جملة. وخالفهم في ذلك الكوفيون فقد حكي عنهم جواز كون خبره مفردا إما مطلقا أو بشرط كون المفرد عاملا عمل الفعل كاسم الفاعل نحو إنه قائم زيد بناء على أنه حينئذ يسد مسد الجملة. وقيل- وفيه بعد-: يحتمل أن يكون الضمير المذكور عبارة عما في الذهن وهو الحياة. والمعنى أن الحياة إلا حياتنا التي نحن فيها. وهو المراد بقولهم: الدنيا لا القريبة الزوال أو الدنيئة أو المتقدمة على الآخرة كما يقول المؤمنون إذ كل ذلك خلاف الظاهر لا سيما الأخير. وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ أي إذا فارقتنا هذه الحياة أصلا وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ تمثيل لحبسهم للسؤال والتوبيخ أو كناية عنه عند من لم يشترط فيها إمكان الحقيقة وجوز اعتبار التجوز في المفرد إلا أن الأرجح عندهم اعتباره في الجملة، وقيل: الوقوف بمعنى الاطلاع المتعدي بعلى أيضا وفي الكلام مضاف مقدر أي وقفوا على قضاء ربهم أو جزائه، ولا حاجة إلى التضمين وجعله من القلب كما توهم، وقيل: هو بمعنى الاطلاع من غير حاجة إلى تقدير مضاف على معنى عرفوه سبحانه وتعالى حق التعريف ولا يلزم من حق التعريف حق المعرفة ليقال كيف هذا وقد قيل: ما عرفناك حق معرفتك، واستدل بعض الظاهرية بالآية على أن أهل القيامة يقفون بالقرب من الله تعالى في موقف الحساب ولا يخفى ما فيه. قالَ استئناف نشأ من الكلام السابق كأنه قيل: فماذا قال لهم ربهم سبحانه وتعالى إذ ذاك؟ فقيل: قال: إلخ. وجوز أن يكون في موضع الحال أي قائلا أَلَيْسَ هذا أي البعث وما يتبعه بِالْحَقِّ أي حقا لا باطلا كما زعمتم، وقيل: الإشارة إلى العقاب وحده وليس بشيء، ولا دلالة في فَذُوقُوا عند أرباب الذوق على ذلك، والهمزة للتقريع على التكذيب قالُوا استئناف كما سبق بَلى هو حق وَرَبِّنا أكدوا اعترافهم باليمين إظهارا لكمال تيقنهم بحقيقته وإيذانا بصدور ذلك عنهم برغبة ونشاط طمعا بأن ينفعهم وهيهات قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ الذي كفرتم به من قبل وأنكرتموه بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي بسبب كفركم المستمر أو ببدله أو بمقابلته أو بالذي كنتم تكفرون به، فما إما مصدرية أو موصولة والأول أولى، ولعل هذا التوبيخ والتقريع- كما قيل- إنما يقع بعد ما وقفوا على النار فقالوا ما قالوا إذ الظاهر أنه لا يبقى بعد هذا إلا العذاب، ويحتمل العكس وأمر سهل قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ هم الكفار الذين حكيت أحوالهم لكن وضع الموصول موضع الضمير للإيذان بتسبب خسرانهم عما في حيز الصلة من التكذيب بلقاء الله تعالى والاستمرار عليه، والمراد به لقاء ما وعد سبحانه وتعالى على ما روي عن ابن عباس والحسن رضي الله تعالى عنهم، وصرح بعضهم بتقدير المضاف أي لقاء جزاء بالله تعالى، وصرح آخرون بأن لقاء الله تعالى استعارة تمثيلية عن البعث وما يتبعه حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ أي الوقت المخصوص وهو يوم القيامة، وأصل الساعة القطعة من الزمان وغلبت على الوقت المعلوم كالنجم للثريا، وسمي ساعة لقلته بالنسبة لما بعده من الخلود أو بسرعة الحساب فيه على الباري عز اسمه. وفسرها بعضهم هنا بوقت الموت، والغاية المذكورة للتكذيب. وجوز أن تكون غاية للخسران لكن بالمعنى المتعارف والكلام حينئذ على حد قوله تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 إِلى يَوْمِ الدِّينِ [ص: ج 78] أي أنك مذموم مدعو عليك باللعنة إلى ذلك اليوم فإذا جاء اليوم لقيت ما تنسى اللعن معه فكأنه قيل: خسر المكذبون إلى قيام الساعة بأنواع المحن والبلاء فإذا قامت الساعة يقعون فيما ينسون معه هذا الخسران وذلك هو الخسران المبين بَغْتَةً أي فجأة وبغتة بالتحريك مثلها، وبغتة كمنعه فجأة أي هجم عليه من غير شعور، وانتصابها على أنها مصدر واقع موقع الحال من فاعل جاءَتْهُمُ أي مباغته أو من مفعوله أي مبغوتين، وجوز أن تكون منصوبة على أنها مفعول مطلق لجاءتهم على حد رجع القهقرى أو لفعل مقدر من اللفظ أو من غيره. وقوله سبحانه وتعالى: قالُوا جواب إذا يا حَسْرَتَنا نداء للحسرة وهي شدة الندم كأنه قيل: يا حسرتنا تعالى فهذا أوانك، قيل: وهذا التحسر وإن كان يعتريهم عند الموت لكن لما كان الموت من مقدمات الآخرة جعل من جنس الساعة وسمي باسمها، ولذا قال صلّى الله عليه وسلّم: «من مات فقد قامت قيامته» أو جعل مجيء الساعة بعد الموت لسرعته كالواقع بغير فترة، وقال أبو البقاء: التقدير يا حسرة احضري هذا أوانك، وهو نداء مجازي ومعناه تنبيه أنفسهم لتذكير أسباب الحسرة لأن الحسرة نفسها لا تطلب ولا يتأتى إقبالها وإنما المعنى على المبالغة في ذلك حتى كأنهم ذهلوا فنادوها، ومثل ذلك نداء الويل ونحوه ولا يخفى حسنه. عَلى ما فَرَّطْنا أي على تفريطنا، فما مصدرية فالتفريط التقصير فيما قدر على فعله، وقال أبو عبيدة: معناه التضييع، وقال ابن بحر: معناه السبق ومنه الفارط للسابق. ومعنى فرط خلا السبق لغيره فالتضعيف فيه للسلب كجلدت البعير أزلت جلده وسلبته فِيها أي الحياة الدنيا كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو في الساعة كما روي عن الحسن، والمراد من التفريط في الساعة التقصير في مراعاة حقها والاستعداد لها بالإيمان والأعمال الصالحة. وقيل: الضمير للجنة أي على ما فرطنا في طلبها ونسب إلى السدي ولا يخفى بعده، وقول الطبرسي ويدل عليه ما رواه الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال في هذه الآية: «يرى أهل النار منازلهم من الجنة فيقولون يا حَسْرَتَنا إلخ لا يخلو عن نظر لقيام الاحتمال بعد وهو يبطل الاستدلال، وعن محمد بن جرير أن الهاء يعود إلى الصفة لدلالة الخسران عليها وهو بعيد أيضا، ومثل ذلك ما قيل: إن ما موصولة بمعنى التي، والمراد بها الأعمال والضمير عائد إليها كأنه قيل يا حسرتنا على الأعمال الصالحة التي قصرنا فيها، نعم مرجع الضمير على هذا مذكور في كلامهم دونه على الأقوال السابقة فإنه غير مذكور فيه بل ولا في كلامه تعالى في قص حال هؤلاء القائلين على القول الأول عند بعض فتدبر وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ في موضع الحال من فاعل قالُوا وهي حال مقارنة أو مقدرة. والوزر في الأصل الثقل ويقال للذنب وهو المراد هنا أي يحملون ذنوبهم وخطاياهم كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وذكر الظهور لأن المعتاد الأغلب الحمل عليها كما في- كسبت أيديكم- فإن الكسب في الأكثر بالأيدي. وفي ذلك أيضا إشارة إلى مزيد ثقل المحمول، وجعل الذنوب والآثام محمولة على الظهر من باب الاستعارة التمثيلية، والمراد بيان سوء حالهم وشدة ما يجدونه من المشقة والآلام والعقوبات العظيمة بسبب الذنوب، وقيل: حملها على الظهر حقيقة وإنها تجسم، فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي أنه قال: ليس من رجل ظالم يموت فيدخل قبره إلا جاءه رجل قبيح الوجه أسود اللون منتن الريح عليه ثياب دنسة حتى يدخل معه قبره فإذا رآه قال: ما أقبح وجهك؟ قال كذلك كان عملك قبيحا قال: ما أنتن ريحك؟ قال: كذلك كان عملك منتنا قال: ما أدنس ثيابك؟ فيقول: إن عملك كان دنسا قال: من أنت؟ قال: أنا عملك فيكون معه في قبره فإذا بعث يوم القيامة قال له: إني كنت أحملك في الدنيا باللذات والشهوات فأنت اليوم تحملني فيركب على ظهره فيسوقه حتى يدخله النار، وأخرجا عن عمرو بن قيس قال: إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله عمله في أحسن شيء صوره وأطيبه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 125 ريحا فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: لا إلا أن الله تعالى قد طيب ريحك وحسن صورتك فيقول: كذلك كنت في الدنيا أنا عملك الصالح طالما ركبتك في الدنيا فاركبني أنت اليوم وتلا يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً [مريم: 85] وإن كان الكافر يستقبله أقبح شيء صورة وأنتنه ريحا فيقول: هل تعرفني؟ فيقول: لا إلا أن الله تعالى قد قبح صورتك ونتن ريحك فيقول: كذلك كنت في الدنيا أنا عملك السيّء طالما ركبتني في الدنيا فأنا اليوم أركبك وتلا وَهُمْ يَحْمِلُونَ الآية. وبعضهم يجعل كل ما ورد في هذا الباب مما ذكر تمثيلا أيضا. ولا مانع من الحمل على الحقيقة وإجراء الكلام على ظاهره، وقد قال كثير من أهل السنة بتجسيم الأعمال في تلك الدار وهو الذي يقتضيه ظاهر الوزن. أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ تذييل مقرر لما قبله وتكملة له، وساءَ تحتمل- كما قيل- هنا ثلاثة أوجه، أحدها أن تكون المتعدية المتصرفة وزنها فعل بفتح العين، والمعنى ألا ساءهم ما يزرون وما موصولة أو مصدرية أو نكره موصوفة فاعل لها والكلام خبر، وثانيها أنها حولت إلى فعل اللازم بضم العين وأشربت معنى التعجب، والمعنى ما أسوأ الذي يزرونه أو ما أسوأ وزرهم. وثالثها أنها حولت أيضا للمبالغة في الذم فتساوي بئس في المعنى والأحكام. وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ لما حقق سبحانه وتعالى فيما سبق أن وراء الحياة الدنيا حياة أخرى يلقون فيها من الخطوب ما يلقون بين جل شأنه حال تينك الحياتين في أنفسهما وجعله بعضهم جوابا لقولهم: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وفيه بعد، وكيفما كان فالمراد وما أعمال الحياة الدنيا المختصة بها إلا كاللعب واللهو في عدم النفع والثبات، وبهذا التقدير خرج- كما قال غير واحد- ما فيها من الأعمال الصالحة كالعبادة إنما كان لضرورة المعاش، والكلام من التشبيه البليغ ولو لم يقدر مضاف، وجعلت الدنيا نفسها لعبا ولهوا مبالغة كما في قوله: وإنما هي إقبال وإدبار صح، واللهو واللعب- على ما في درة التنزيل- يشتركان في أنهما الاشتغال بما لا يعني العاقل ويهمه من هوى وطرب سواء كان حراما أو لا وفرق بينهما بأن اللعب ما قصد به تعجيل المسرة والاسترواح به واللهو كل ما شغل من هوى وطرب وإن لم يقصد به ذلك، وإذا أطلق اللهو فهو- على ما قيل- اجتلاب المسرة بالنساء كما في قوله: ألا زعمت بسياسة اليوم أنني ... كبرت وأن لا يحسن اللهو أمثالي وقال قتادة: اللهو في لغة اليمن المرأة، وقيل: اللعب طلب المسرة والفرح بما لا يحسن أن يطلب به واللهو صرف الهم بما لا يصلح أن يصرف به، وقيل: إن كل شغل أقبل عليه لزم الإعراض عن كل ما سواه لأن من لا يشغله شأن عن شأن هو الله تعالى فإذا أقبل على الباطل لزم الإعراض عن الحق فالإقبال على الباطل لعب والإعراض عن الحق لهو، وقيل: العاقل المشتغل بشيء لا بد له من ترجيحه وتقديمه على غيره فإن قدمه من غير ترك للآخر فلعب وإن تركه ونسيه به فهو لهو، وقد بين صاحب الدرة بعد أن سرد هذه الأقوال سر تقديم اللعب على اللهو حيث جمعا كما هنا وتأخيره عنه كما في العنكبوت بأنه لما كان هذا الكلام مسوقا للرد على الكفرة فيما يزعمونه من إنكار الآخرة والحصر السابق وليس في اعتقادهم لجهلهم إلا ما عجل من المسرة بزخرف الدنيا الفانية قدم اللعب الدال على ذلك وتمم باللهو أو لما طلبوا الفرح بها وكان مطمح نظرهم وصرف الهم لازم وتابع له قدم ما قدم أو لما أقبلوا على الباطل في أكثر أقوالهم وأفعالهم قدم ما يدل على ذلك أو لما كان التقديم مقدما على الترك والنسيان قدم اللعب على اللهو رعاية للترتيب الخارجي، وأما في العنكبوت فالمقام لذكر قصر مدة الحياة الدنيا بالقياس إلى الآخرة وتحقيرها بالنسبة إليها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 126 ولذا ذكر اسم الإشارة المشعر بالتحقير وعقب ذلك بقوله سبحانه وتعالى: إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ [العنكبوت: 64] والاشتغال باللهو مما يقصر به الزمان وهو أدخل من اللعب فيه، وأيام السرور فصار كما قيل: وليلة إحدى الليالي الزهر ... لم تك غير شفق وفجر وينزل على هذا الوجوه في الفرق، وتفصيله في الدرة قاله مولانا شهاب الدين فليفهم وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ التي هي محل الحياة الأخرى خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الكفر والمعاصي لخلوص منافعها عن المضار والآلام وسلامة لذاتها عن الانصرام أَفَلا تَعْقِلُونَ ذلك حتى تتقوا ما أنتم عليه من الكفر والعصيان، والفاء للعطف على محذوف أي أتغفلون أو ألا تتفكرون فلا تعقلون، وكان الظاهر أن يقال- كما قال الطيبي- وما الدار الآخرة إلا جد وحق لمكان وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ إلا أنه وضع خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ. موضع ذلك إقامة للمسبب مقام السبب، وقال في الكشف: إن في ذلك دليلا على أن ما عدا أعمال المتقين لعب ولهو لأنه لما جعل الدار الآخرة في مقابلة الحياة الدنيا وحكم على الأعمال المقابل بأنها لعب ولهو علم تقابل العملين حسب تقابل ما أضيفا إليه أعني الدنيا والآخرة فإذا خص الخيرية بالمتقين لزم منه أن ما عدا أعمالهم ليس من أعمال الآخرة في شيء فهو لعب ولهو لا يعقب منفعة. وقرأ ابن عامر «ولدار الآخرة» بالإضافة وهي من إضافة الصفة إلى الموصوف وقد جوزها الكوفيون، ومن لم يجوز ذلك تأوله بتقدير ولدار النشأة الآخرة أو إجراء الصفة مجرى الاسم، وقرأ ابن كثير وغيره «يعقلون» بالياء والضمير للكفار القائلين إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا، وقيل: للمتقين والاستفهام للتنبيه والحث على التأمل. قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ استئناف مسوق لتسلية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الحزن الذي يعتريه عليه الصلاة والسلام مما حكي عن الكفرة من الإصرار على التكذيب والمبالغة، وكلمة قد للتكثير وهو- كما قال الحلبي رادا به اعتراض أبي حيان- راجع إلى متعلقات العلم لا العلم نفسه إذ صفة القديم لا تقبل الزيادة والتكثير وإلا لزم حدوثها المستلزم لحدوث من قامت به سبحانه وتعالى، وقال السفاقسي: قد تصح الكثرة باعتبار المعلومات وما في حيز العلم هنا كثير بناء على أن الفعل المذكور دال على الاستمرار التجددي، وأنشدوا على إفادتها ذلك بقول الهذلي: قد أترك القرن مصفرا أنامله ... كأن أثوابه مجت بفرصاد وادعى أبو حيان أن إفادتها للتكثير قول غير مشهور للنحاة وإن قال به بعضهم. وكلام سيبويه حيث قال: وتكون قد بمنزلة ربما ليس نصا في ذلك وما استشهدوا به على دعواهم إنما فهم التكثير فيه من سياق الكلام ومنه البيت فإن التكثير إنما فهم فيه لأن الفخر إنما يحصل بكثرة وقوع المفتخر به. وذكر بعض المحققين أن الحق ما قاله ابن مالك أن إطلاق سيبويه أنها بمنزلة ربما يوجب التسوية بينهما في التقليل والصرف إلى المضي والبيت دليل عليه فإن الفخر يقع بترك الشجاع قرنه وقد صبغت أثوابه بدمائه في بعض الأحيان. وقول أبي حيان: إن الفخر إنما يحصل بكثرة إلخ غير مسلم على إطلاقه بل هو فيما يكثر وقوعه وأما ما يندر فيفتخر بوقوعه نادرا لأن قرن الشجاع لو غلبه كثيرا لم يكن قرنا له لأن القرن بكسر القاف وسكون الراء المقاوم المساوي. وفي القاموس القرن كفؤك في الشجاعة أو أعم، فلفظه يقتضي بحسب دقيق النظر أنه لا يغلبه إلا قليلا وإلا لم يكن قرنا ويتناقض أول الكلام وآخره، وادعى الطيبي أن لفظ قد للتقليل، وقد يراد به في بعض المواضع ضده. وهو من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 باب استعارة أحد الضدين للآخر، والنكتة هاهنا تصبير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أذى قومه وتكذيبهم، يعني من حقك وأنت سيد أولي العزم أن لا تكثر الشكوى من أذى قومك وأن لا يعلم الله تعالى من إظهارك الشكوى إلا قليلا وأن يكون تهكما بالمكذبين وتوبيخا لهم. ونص بعضهم على أن قد هنا للتقليل على معنى أن ما هم فيه أقل معلوماته تعالى، وضمير إِنَّهُ للشأن وهو اسم إن وخبرها الجملة المفسرة له، والموصول فاعل يحزنك وعائده محذوف أي الذي يقوله، وهو ما حكي عنهم من قولهم إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الأنعام: 25، الأنفال: 31، المؤمنون: 83، النمل: 68] أو هو وما يعمه وغيره من هذيانهم وجملة إِنَّهُ إلخ سادة مسد مفعولي يعلم. وقرأ نافع «ليحزنك» من أحزن المنقول من حزن اللازم، وقوله سبحانه: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ تعليل لما يشعر به الكلام السابق من النهي عن الاعتداد بما قالوا بطريق التسلي بما يفيده من بلوغه صلّى الله عليه وسلّم في جلالة القدر ورفعة الشأن غاية ليس وراءها غاية حيث نفى تكذيبهم قاتلهم الله تعالى عنه صلّى الله عليه وسلّم وأثبته لآياته تعالى على طريقة قوله سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: 10] إيذانا بكمال القرب واضمحلال شؤونه صلّى الله عليه وسلّم في شأن الله عز وجل. وفيه أيضا استعظام لجنايتهم منبىء عن عظم عقوبتهم كأنه قيل: لا تعتد به وكله إلى الله تعالى فإنهم في تكذيبهم ذلك لا يكذبونك في الحقيقة وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أي ولكنهم بآياته تعالى يكذبون، فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلا عليهم بالرسوخ في الظلم الذي جحودهم هذا فن من فنونه، وقيل: إن كان المراد من الظلم مطلقه فالوضع للإشارة إلى أن ذلك دأبهم وديدنهم وأنه علة الجحود لأن التعليق بالمشتق يفيد علية المأخذ، وإن أريد به الظلم المخصوص فهو عين الجحد وواقع به نحو ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ [البقرة: 54] فيكون المبتدأ مشيرا إلى وجه بناء الخبر كقوله: إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتا دعائمه أعز وأطول وقيل: إن أل في الظَّالِمِينَ إن كانت موصولة واسم الفاعل بمعنى الحدوث أفاد الكلام سببية الجحد للظلم، وإن كانت حرف تعريف واسم الفاعل بمعنى الثبوت أفاد سببية الظلم للجحد، لا يخفى ما فيه، والالتفات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة واستعظاما لما قدموا عليه، وإيراد الجحود في مورد التكذيب للإيذان بأن آياته سبحانه من الوضوح بحيث يشاهد صدقها كل أحد وأن من ينكرها فإنما ينكرها بطريق الجحود وهو كالجحد نفى ما في القلب ثباته أو إثبات ما في القلب نفيه. والباء متعلق بيجحدون والجحد يتعدى بنفسه وبالباء فيقال جحده حقه وبحقه وهو الذي يقتضيه ظاهر كلام الجوهري والراغب، وقيل: إنه إنما يتعدى بنفسه والباء هاهنا لتضمينه معنى التكذيب، وأيا ما كان فتقديم الجار والمجرور مراعاة لرؤوس الآي أو للقصر. ونقل الطبرسي عن أبي علي أن الجار متعلق بالظالمين وفيه خفاء. وما ذكر من أن الفاء لتعليل ما يشعر به الكلام هو الذي قرره بعض المحققين، وقيل: إنها تعليل لقوله سبحانه: قَدْ نَعْلَمُ إلخ بناء على أن معناه لا تحزن كما يقال في مقام المنع والزجر: نعلم ما تفعل فكأنه قيل: لا تحزن مما يقولون فإن التكذيب في الحقيقة لي وأنا الحليم الصبور فتخلق بأخلاقي، ويحتمل أن يكون المعنى أنه يحزنك قولهم لأنه تكذيب لي فأنت لم تحزن لنفسك بل لما هو أهم وأعظم، ولا يخفى أن هذا خلاف المتبادر، وقيل معنى الآية فإنهم لا يكذبونك بقلوبهم ولكنهم يجحدون بألسنتهم وروي ذلك عن قتادة وغيره ويؤيده ما رواه السدي أنه التقى الأخنس بن شريق وأبو جهل فقال الأخنس لأبي جهل: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد صلّى الله عليه وسلّم أصادق هو أم كاذب فإنه ليس هاهنا أحد يسمع كلامك غيري؟ فقال أبو جهل: والله إن محمدا صلّى الله عليه وسلّم لصادق وما كذب محمد عليه الصلاة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 والسلام قط ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش فأنزل الله تعالى هذه الآية. وكذا ما أخرجه الواحدي عند مقاتل قال: كان الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف بن قصي بن كلاب يكذب النبي صلّى الله عليه وسلّم في العلانية فإذا خلا مع أهل بيته قال: ما محمد صلّى الله عليه وسلّم من أهل الكذب ولا أحسبه إلا صادقا فأنزل الله تعالى الآية، وقيل: المعنى أنهم ليس قصدهم تكذيبك لأنك عندهم موسوم بالصدق وإنما يقصدون تكذيبي والجحود بآياتي، ونسب هذا إلى الكسائي، وأيد بما أخرجه الترمذي والحاكم وصححاه عن علي كرم الله تعالى وجهه أن أبا جهل كان يقول للنبي صلّى الله عليه وسلّم ما نكذبك وإنك عندنا لصادق ولكنا نكذب ما جئتنا به فنزلت. وكذا أخرج الواحدي عن أبي ميسرة. واعترض الرضي هذا القول بأنه لا يجوز أن يصدقوه صلّى الله عليه وسلّم في نفسه ويكذبوا ما أتى به لأن من المعلوم أنه عليه الصلاة والسلام كان يشهد بصحة ما أتى به وصدقه وأنه الدين القيم والحق الذي لا يجوز العدول عنه فكيف يجوز أن يكون صادقا في خبره ويكون الذي أتى به فاسدا بل إن كان صادقا فالذي أتى به صحيح وإن كان الذي أتى به فاسدا فلا بد أن يكون كاذبا فيه، وقال مولانا سنان: إن حاصل المعنى أنهم لا يكذبونك في نفس الأمر لأنهم يقولون إنك صادق ولكن يتوهمون أنه اعترى عقلك وحاشاك نوع خلل فخيل إليك أنك نبي وليس الأمر بذاك وما جئت به ليس بحق وقال الطيبي: مرادهم أنك لا تكذب لأنك الصادق الأمين ولكن ما جئت به سحر، ويعلم من هذا الجواب عن اعتراض الرضي فتدبر، وقيل: معنى الآية أنهم لا يكذبونك فيما وافق كتبهم وإن كذبوك في غيره، وقيل: المعنى لا يكذبك جميعهم وإن كذبك بعضهم وهم الظالمون المذكورون في هذه الآية، وعلى هذا لا يكون ذكر الظَّالِمِينَ من وضع المظهر موضع المضمر، وقيل: غير ذلك ولا يخفى ما هو الأليق بجزالة التنزيل. وقرأ نافع، والكسائي والأعمش عن أبي بكر «لا يكذبونك» من الإكذاب وهي قراءة علي كرم الله تعالى وجهه، ورويت أيضا عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه، فقال الجمهور كلاهما بمعنى كأكثر وكثر وأنزل ونزل وقيل: معنى أكذبته وجدته كاذبا كأحمدته بمعنى وجدته محمودا، ونقل أحمد بن يحيى عن الكسائي أن العرب تقول: كذبت بالتشديد إذا نسبت الكذب إليه وأكذبته إذا نسبت الكذب إلى ما جاء به دونه، وقوله تعالى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ تسلية إثر تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإن عموم البلوى ربما يهونها بعض تهوين وفيه إرشاد له عليه الصلاة والسلام إلى الاقتداء بمن قبله من الرسل الكرام في الصبر على الأذى وعدة ضمنية بمثل ما منحوه من النصر، وتصدير الكلام بالقسم لتأكيد التسلية، وتنوين رُسُلٌ للتفخيم والتكثير، ومن متعلقة بكذبت وجوز أن تتعلق بمحذوف وقع صفة لرسل، ورده أبو البقاء بأن الجثة لا توصف بالزمان، وفيه منع ظاهر، والمعنى تالله لقد كذبت من قبل تكذيبك رسل أولو شأن خطير وعدد كثير أو كذبت رسل كانوا من زمان قبل زمانك فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا ما مصدرية وقوله: وَأُوذُوا عطف على كُذِّبُوا داخل في حكمه ومصدر كذب التكذيب، وآذى أذى وأذاة وأذية كما في القاموس وإيذاء كما أثبته الراغب وغيره، وقول صاحب القاموس: ولا تقل إيذاء خطأ، والذي غره ترك الجوهري وغيره له، وهو وسائر أهل اللغة لا يذكرون المصادر القياسية لعدم الاحتياج إلى ذكرها، والمصدران هنا من المبني للمفعول وهو ظاهر أي فصبروا على تكذيب قومهم لهم وإيذائهم إياهم فتأس بهم واصبر على ما نالك من قومك، والمراد بإيذائهم إما عين تكذيبهم أو ما يقارنه من فنون الإيذاء، واختاره الطبرسي ولم يصرح به ثقة باستلزام التكذيب إياه غالبا، وفيه تأكيد للتسلية، وجوز العطف على كُذِّبَتْ أو على فَصَبَرُوا، وجوز أبو البقاء أن يكون هذا استئنافا ثم رجح الأول. وقوله سبحانه: حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا غاية للصبر، وفيه إيماء إلى وعد النصر للصابرين، وجوز أن يكون غاية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 للإيذاء وهو مبني على احتمال الاستئناف، والالتفات إلى نون العظمة للإشارة إلى الاعتناء بشأن النصر. وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ تقرير لمضمون ما قبله من إتيان نصره سبحانه إياهم، والمراد بكلماته تعالى- كما قال الكلبي- وقتادة- الآيات التي وعد فيها نصر أنبيائه عليهم الصلاة والسلام الدالة على نصر النبي صلّى الله عليه وسلّم أيضا كقوله تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة: 21] وقوله عز شأنه: إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ [الصافات: 172] . وجوز أن يراد بها جميع كلماته سبحانه التي من جملتها الآيات المتضمنة للمواعيد الكريمة ويدخل فيها المواعيد الواردة في حقه صلّى الله عليه وسلّم دخولا أوليا، والالتفات إلى الاسم الجليل- كما قيل- للإشعار بعلة الحكم فإن الألوهية من موجبات أن لا يغالبه سبحانه أحد في فعل من الأفعال ولا يقع منه جل شأنه خلف في قول من الأقوال، وظاهر الآية أن أحدا غيره تعالى لا يستطيع أن يبدل كلمات الله عز وجل بمعنى أن يفعل خلاف ما دلت عليه ويحول بين الله عز اسمه وبين تحقيق ذلك وأما أنه تعالى لا يبدل فلا تدل عليه الآية، والذي دلت عليه النصوص أنه سبحانه ربما يبدل الوعيد ولا يبدل الوعد وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ تقرير أي تقرير لما منحوا من النصر وتأكيد لما أشعر به الكلام من الوعد لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو تقرير لجميع ما ذكر من تكذيب الرسل عليهم الصلاة والسلام وإيذائهم ونصرهم، والنبأ كالقصص لفظا ومعنى. وفي القاموس النبأ محركة الخبر جمعه أنباء وقيده بعضهم، وقد مرت الإشارة إليه بما له شأن، وهو عند الأخفش المجوز زيادة من في الإثبات وقبل المعرفة مخالفا في ذلك لسيبويه فاعل «جاء» ، وصحح أن الفاعل ضمير مستتر تقديره هو أي النبأ أو البيان، والجار متعلق بمحذوف وقع حالا منه، وقيل: وإليه يشير كلام الرماني- أنه محذوف والجار والمجرور صفته أي ولقد جاءك نبأ كائن من نبأ المرسلين، وفيه أن الفاعل لا يجوز حذفه هنا، وقال أبو حيان: الذي يظهر لي أن الفاعل ضمير عائد على ما دل عليه المعنى من الجملة السابقة أي ولقد جاءك هذا الخبر من التكذيب وما يتبعه. وقيل- وربما يشعر به كلام الكشاف-: أن من هي الفاعل، والمراد بعض أنبائهم وَإِنْ كانَ كَبُرَ أي شق وعظم وأتى بكان- على ما قيل- ليبقى الشرط على المضي ولا ينقلب مستقبلا لأن كانَ لقوة دلالته على المضي لا تقلبه إن للاستقبال بخلاف سائر الأفعال، وهو مذهب المبرد، والنحويون يؤولون ذلك بنحو وإن تبين وظهر أنه كبر عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ أي الكفار عن الإيمان بك وبما جئت به من القرآن المجيد حسبما يفصح عنه قولهم فيه أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ وينبىء عنه فعلهم من النأي والنهي، ولعل التعبير بالإعراض دون التكذيب مع أن التسلية على ما ينبىء عنه قوله تعالى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ كانت عنه لتهويل أمر التكذيب وهو فاعل كَبُرَ، وتقديم الجار والمجرور لما مر مرارا. والجملة خبر كانَ مفسرة لاسمها الذي هو ضمير الشأن. ولا حاجة إلى تقدير قد، وقيل: اسم كان إِعْراضُهُمْ، وكَبُرَ مع فاعله المستتر الراجع إلى الاسم خبر لها مقدم على اسمها، والكلام استئناف مسوق لتأكيد إيجاب الصبر المستفاد من التسلية ببيان أن ذلك أمر لا محيد عنه أصلا. وفي بعض الآثار أن الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في محضر من قريش فقالوا: يا محمد ائتنا بآية من عند الله تعالى كما كانت الأنبياء تفعل وإنا نصدقك فأبى الله تعالى أن يأتيهم بآية مما اقترحوا فأعرضوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فشق ذلك عليه عليه الصلاة والسلام لما أنه كان صلّى الله عليه وسلّم شديد الحرص على إيمان قومه فكان إذا سألوه آية يود أن ينزلها الله تعالى طمعا في إيمانهم فنزلت فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أي إن قدرت وتهيأ لك أَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 تَبْتَغِيَ أي تطلب نَفَقاً فِي الْأَرْضِ هو السرب فيها له مخلص إلى مكان كما في القاموس، وأصل معناه جحر اليربوع، ومنه النافقاء لأحد منافذه. ويقال لها النفقة كهمزة وهي التي يكتمها ويظهر غيرها فإذا أتى من القاصعاء ضربها برأسه فانتفق ومنه أخذ النفاق، والجار متعلق بمحذوف وقع صفة «نفقا» والكلام على التجريد في رأي، وجوز تعلقه بتبتغي وبمحذوف وقع حالا من ضميره المستتر أي نفقا كائنا في الأرض أو تبتغي في الأرض أو تبتغي أنت حال كونك في الأرض أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ أي مرقاة فيها أخذا من السلامة. قال الزجاج: لأنه الذي يسلمك إلى مصعدك. وهو كما قال الفراء: مذكر واستشهدوا لتذكيره بقوله تعالى: أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ [الطور: 38] ثم قال: وأنشدت في تأنيثه بيتا أنسيته انتهى. قال الغضائري: البيت الذي أنسيه الفراء بيت أوس وهو: لنا سلم في المجد لا يرتقونها ... وليس لهم في سورة المجد سلم وأنشدوا أيضا في تذكيره: الشعر صعب وطويل سلمه ... إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه يريد أن يعربه فيعجمه وفي السَّماءِ نظير ما في الجار قبله من الاحتمالات فَتَأْتِيَهُمْ أي منهما بِآيَةٍ مما اقترحوه من الآيات. والفاء في صدر هذه الشرطية جوابية وجواب الشرط فيه محذوف. ولك تقديره أتيت بصيغة الخبر أو فافعل فعل أمر والجملة جواب للشرط الأول، والمعنى إن شق عليك إعراضهم عن الإيمان وأحببت أن تجيبهم عما سألوه اقتراحا ليؤمنوا فإن استطعت كذا فتأتيهم بآية فافعل، وفيه إشارة إلى مزيد حرصه صلّى الله عليه وسلّم على إيمان قومه وتحصيل مطلوبهم واقتراحهم مع الإيماء إلى توبيخ القوم أو المعنى إن شق عليك إعراضهم فلو قدرت أن تأتي بالمحال أتيت به، والمقصود بيان أنه صلّى الله عليه وسلّم بلغ في الحرص على إيمانهم إلى هذه الغاية، وفيه إشعار ببعد إسلامهم عن دائرة الوجود كما لا يخفى على المتدبر، وإيثار الابتغاء على الاتخاذ ونحوه للإيذان بأن ما ذكر من النفق والسلم مما لا يستطيع ابتغاءه فكيف باتخاذه. وجوز أن يكون ابتغاء ذينك الأمرين أعني نفس النفوذ في الأرض والصعود إلى السماء آية، فالفاء في فَتَأْتِيَهُمْ حينئذ تفسيرية وتنوين «آية» للتفخيم، والمعنى عليه فإن استطعت ابتغاءهما فتجعل ذلك آية لهم فعلت. ورده أبو حيان بأن هذا لا يظهر من ظاهر اللفظ إذ لو كان كذلك لكان التركيب فتأتيهم بذلك آية أي آية، وأيضا فأي آية في دخول سرب في الأرض وإن صح أن يكون الرقي إلى السماء آية، وما ذكرناه من أن إيتاء الآية منهما هو الظاهر المتبادر إلى الأذهان. ورواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل: إن المراد فتأتيهم بآية من السماء وابتغاء النفق للهرب، وأيد بما أخرجه الطستي عن نافع بن الأزرق أنه قال لابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أخبرني عن قوله تعالى: فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ فقال رضي الله تعالى عنه سربا في الأرض فتذهب هربا وفيه بعد، وخبر ابن الأزرق قد قيل فيه ما قيل وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى أي لو شاء الله تعالى جمعهم على ما أنتم عليه من الهدى لجمعهم عليه بأن يوفقهم للإيمان فيؤمنوا معكم ولكن لم يشأ ذلك سبحانه لسوء اختيارهم حسبما علمه الله تعالى منهم في أزل الآزال، وقالت المعتزلة: المراد لو شاء سبحانه جمعهم على الهدى لفعل بأن يأتيهم بآية ملجئة إليه لكنه جل شأنه لم يفعل ذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 لخروجه عن الحكمة، والحق ما عليه أهل السنة فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ أي إذا عرفت أنه سبحانه لم يشأ هدايتهم وإيمانهم فلا تكن بالحرص الشديد على إسلامهم أو الميل إلى نزول مقترحاتهم من قوم ينسبون إلى الجهل بدقائق شؤونه تعالى، وجوز أن يراد بالجاهلين- على ما نقل عن المعتزلة- المقترحون، ويراد بالنهي منعه صلى الله تعالى عليه وسلّم من المساعدة على اقتراحهم، وإيرادهم بعنوان الجهل دون الكفر لتحقق مناط النهي. وقال الجبائي: المراد لا تجزع في مواطن الصبر فيقارب حالك حال الجاهلين بأن تسلك سبيلهم والأول أولى، وفي خطابه سبحانه لنبيه صلّى الله عليه وسلّم بهذا الخطاب دون خطابه بما خوطب به نوح عليه السلام من قوله سبحانه له: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [هود: 46] إشارة إلى مزيد شفقته صلّى الله عليه وسلّم واشتداد حرصه عليه الصلاة والسلام فافهم هذا. ومن باب الإشارة في الآيات: وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [الأنعام: 13] يحتمل أن يكون الليل والنهار إشارة إلى قلب الكافر وقلب المؤمن وما سكن فيهما الكفر والإيمان ومعنى كون ذلك له سبحانه أنه من آثار جلاله وجماله، ويحتمل أن يكون إشارة إلى قلب العارف في حالتي القبض والبسط فكأنه قيل: وله ما سكن في قلوب العارفين المنقبضة والمنبسطة من آثار التجليات فلا تلتفت في الحالتين إلى سواه عز شأنه وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فيسمع خواطرها السيئة والحسنة ويعلم شرها وخيرها أو فيسمع أنينها في شوقه ويعلم انسهابه أو نحو ذلك. قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا أي ناصرا ومعينا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي مبدعهما فهي ملكه سبحانه ونسبة المملوك إلى المالك نسبة اللاشيء إلى الشيء وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ فهو الغنى المطلق وغيره جل شأنه محتاج بحت وطلب المحتاج من المحتاج سفه في رأيه وضلة من عقله قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ نفسه لربه عز شأنه. والمراد بالأمر بذلك الأمر الكوني أي قل إني قيل لي: كن أول من أسلم فكنت، وذلك قبل ظهور هذه التعينات وإليه الإشارة بما شاع من قوله صلّى الله عليه وسلّم «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين» فأول روح ركضت في ميدان الخضوع والانقياد والمحبة روح نبينا صلّى الله عليه وسلّم وقد أسلم نفسه لمولاه بلا واسطة وكل إخوانه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما أسلموا نفوسهم بواسطته عليه الصلاة والسلام فهو صلّى الله عليه وسلّم المرسل إلى الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام في عالم الأرواح وكلهم أمته وهم نوابه في عالم الشهادة، ولا ينافي ذلك أمره عليه الصلاة والسلام باتباع بعضهم في النشأة الجسمانية لأن ذلك لمحض استجلاب المعتقدين بأولئك البعض على أحسن وجه وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي وقيل لي: لا تكونن ممن أشرك مع الله تعالى أحدا بشيء من الأشياء. وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ بإفنائهم والتصرف بهم كيف شاء وَهُوَ الْحَكِيمُ أي الذي يفعل ما يفعل في عباده بالحكمة الْخَبِيرُ الذي يطلع على خفايا الأحوال ومراتب الاستحقاق قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ بإظهار المعجزات، وأعظم من ذلك عند العارفين ظهور أنوار الله تعالى في مرآة وجهه الشريف صلّى الله عليه وسلّم الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ [البقرة: 146] وذلك بالصفات التي وجدوها في كتابهم لا بالنور المتلألئ على صفحات ذلك الوجه الكريم وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بإثبات وجود غيره تعالى أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ فأظهر صفات نفسه إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ لاحتجابهم بما وضعوه في موضع ذات الله تعالى وصفاته جل وعلا وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً وهو يوم القيامة الكبرى وعين الجمع ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا بإثبات الغير أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أنهم شركاء ولهم وجود ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ أي نهاية شركهم عند ظهور الأمر وبروز الكل لله الواحد القهار إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ لامتناع وجود شيء نشركه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 132 انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ بنفي الشرك عنها مع رسوخ ذلك الاعتقاد فيها وَضَلَّ أي ضاع عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ فلم يجدوه وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ من حيث أنت وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً حسبما اقتضاه استعدادهم أَنْ يَفْقَهُوهُ وهي ظلمات النفس الأمارة وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وهو وقر الضلالة وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها لأن على أبصارهم غشاوة العجب والجهل وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ وهي نار الحرمان فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا من تجليات صفاته وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي الموحدين بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ في أنفسهم من الملكات الرديئة والهيئات المظلمة والصفات المهلكة وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ لرسوخ ذلك فيهم وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في الدنيا والآخرة لأن الكذب عن ملكه فيهم وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ الآية قال بعض أهل التأويل: هذا تصوير لحالهم في الاحتجاب والبعد وإن كانوا في عين الجمع المطلق. والوقوف على الشيء غير الوقوف معه فإن الأول لا يكون إلا كرها والثاني يكون طوعا ورغبة، فالواقف مع الله سبحانه بالتوحيد لا يوقف للحساب، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الكهف: 28] ويثاب هذا بأنواع النعيم في الجنان كلها. ومن وقف مع الغير بالشرك وقف على الرب تعالى وعذب بأنواع العذاب لأن الشرك ظلم عظيم. ومن وقف مع الناسوت بمحبة الشهوات وقف على الملكوت وعذب بنيران الحرمان وسلط عليه زبانية الهيئات المظلمة وقرن بشياطين الأهواء المردية ومن وقف مع الأفعال وقف على الجبروت وعذب بنار الطمع والرجاء ورد إلى مقام الملكوت، ومن وقف مع الصفات. وقف على الذات وعذب بنار الشوق والهجران. وليس هذا هو الوقوف على الرب لأن فيه حجاب الآنية وفي الوقوف على الذات معرفة الرب الموصوف بصفات اللطف. والمشرك موقوف أولا على الرب فيحجب بالرد والطرد اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: 108] ثم على الجبروت فيطرد بالسخط واللعن وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [البقرة: 174، آل عمران: 77] ثم على الملكوت فيزجر بالغضب واللعن قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ [الزمر: 72] ثم على النار يسجرون فيعذب بأنواع النيران أبدا فيكون وقفه على النار متأخرا عن وقفه على الرب تعالى معلولا له كما قال تعالى: ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ [يونس: 70] وأما الواقف مع الناسوت فيوقف للحساب على الملكوت ثم على النار. وقد ينجو لعدم السخط وقد لا ينجو لوجوده. والواقف مع الأفعال لا يوقف على النار أصلا بل يحاسب ويدخل الجنة. وأما الواقف مع الصفات فهو من الذين رضي الله تعالى عنهم ورضوا عنه انتهى. فتأمل فيه قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وهي القيامة الصغرى أعني الموت. حكي عن بعض الكبار أنه قيل له: إن فلانا مات فجأة فقال: لا عجب إذ من لم يمت فجأة مرض فجأة فمات قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها أي في حق تلك الساعة بترك العمل النافع وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ تصوير لحالهم وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا أي الحياة الحسية فإن المحسوس أدنى وأقرب من المعقول إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ لا أصل له ولا حقيقة سريع الفناء والانقضاء وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ أي عالم الروحانيات خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وهم المتجردون عن ملابس الصفات البشرية واللذات البدنية قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ لمقتضى البشرية الَّذِي يَقُولُونَ ما يقولون فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ في الحقيقة وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ التي تجلى بها يَجْحَدُونَ فهو سبحانه ينتقم منهم وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نصرنا فتأس بهم وانتظر الغاية وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ التي يتجلى بها لعباده فليطمئن قلبك ولا تكونن من الجاهلين الذين لا يطلعون على حكمة تفاوت الاستعدادات فتتأسف على احتجاب من احتجب وتكذيب من كذب. والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 133 إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ تقرير لما يفهمه الكلام السابق من أنهم لا يؤمنون. والاستجابة بمعنى الإجابة، وكثيرا ما أجري استفعل مجرى أفعل كاستخلص بمعنى أخلص واستوقد بمعنى أوقد إلى غير ذلك. ومنه قول الغنوي: وداع دعا يا من يجيب إلى الندا ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب ويدل على ذلك أنه قال مجيب ولم يقل: مستجيب. ومنهم من فرق بين استجاب وأجاب بأن استجاب يدل على قبول، والمراد بالسماع الفرد الكامل وهو سماع الفهم والتدبر بجعل ما عداه كلا سماع أي إنما يجيب دعوتك إلى الإيمان الذين يسمعون ما يلقى إليهم سماع فهم وتدبر دون الموتى الذين هؤلاء منهم كقوله تعالى: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 134 فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى [الروم: 52] وَالْمَوْتى أي الكفار كما قال الحسن، ورواه عنه غير واحد يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ من قبورهم إلى المحشر، وقيل: بعثهم هدايتهم إلى الإيمان وليس بشيء ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ للجزاء فحينئذ يسمعون، وأما قبل ذلك فلا سبيل إلى سماعهم لما أن على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقرا، وفي إطلاق الموتى على الكفار استعارة تبعية مبنية على تشبيه كفرهم وجهلهم بالموت كما قيل: لا يعجبن الجهول بزيه ... فذاك ميت ثيابه كفن وقيل: الموتى على حقيقته، والكلام تمثيل لاختصاصه تعالى بالقدرة على توفيق أولئك الكفار للإيمان باختصاصه سبحانه بالقدرة على بعث الموتى الذين رمت عظامهم من القبور، وفيه إشارة إلى أنه صلّى الله عليه وسلّم لا يقدر على هدايتهم لأنها كبعث الموتى. وتعقب بأنه على هذا ليس لقوله سبحانه ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ كبير دخل في التمثيل إلا أن يراد أنه إشارة إلى ما يترتب على الإيمان من الآثار، وفي إعراب الْمَوْتى وجهان أحدهما أنه مرفوع على الابتداء، والثاني أنه منصوب بفعل محذوف يفسره ما بعده واختاره أبو البقاء، ويفهم من كلام مجاهد أنه مرفوع بالعطف على الموصول، والجملة بعده في موضع الحال والظاهر خلافه. وقرىء «يرجعون» على البناء للفاعل من رجع رجوعا. والمتواترة أوفى بحق المقام لانبائها عن كون مرجعهم إليه تعالى بطريق الاضطرار. وَقالُوا أي رؤساء قريش الذين بلغ بهم الجهل والضلال إلى حيث لم يقنعوا بما شاهدوه من الآيات التي تخر لها صم الجبال ولم يعتدوا به لَوْلا أي هلا نُزِّلَ أي أنزل عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ ملجئة للإيمان قُلْ يا محمد إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً من الآيات الملجئة وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ فلا يدرون أن عدم تنزيلها مع ظهور قدرته سبحانه وتعالى عليه لما أن في تنزيلها قلعا لأساس التكليف المبني على قاعدة الاختيار أو استئصالا لهم بالكلية إذ ذلك من لوازم جحد الآية الملجئة. وجوز أن لا يكونوا قد طلبوا الملجئ ولا يلزم من عدم الاعتداد بالمشاهد طلبه بل يجوز أن يكونوا قد طلبوا غير الحاصل مما لا يلجىء لجاجا وعنادا، ويكون الجواب بالملجئ حينئذ من أسلوب الحكيم أو يكون جوابا بما يستلزم مطلوبهم بطريق أقوى وهو أبلغ. ومن لابتداء الغاية. والجار والمجرور يجوز أن يكون متعلقا بنزل، وأن يكون متعلقا بمحذوف وقع صفة لآية. وما يفيده التعرض لعنوان ربوبيته تعالى له عليه الصلاة والسلام من الإشعار بالعلية إنما هو بطريق التعريض بالتهكم من جهتهم. والاقتصار في الجواب على بيان قدرته سبحانه وتعالى على التنزيل مع أنها ليست في حيز الإنكار للإيذان بأن عدم تنزيله تعالى للآية مع قدرته عليه بحكمة بالغة يجب معرفتها وهم عنها غافلون كما ينبىء عنه الاستدراك. وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة مع الإشعار بالعلية، ومفعول يَعْلَمُونَ إما مطروح بالكلية على معنى أنهم ليسوا من أهل العلم أو محذوف مدلول عليه بقرينة المقام أي لا يعلمون شيئا. وتخصيص عدم العلم بأكثرهم لما أن بعضهم واقفون على حقيقة الحال وإنما يفعلون ما يفعلون مكابرة وعنادا. وقرأ ابن كثير «ينزل» بالتخفيف، والمعنى هنا- كما قيل- واحد لأنه لم ينظر إلى التدريج وعدمه. وقوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ كلام مستأنف مسوق- كما قال الطبرسي. وغيره- لبيان كمال قدرته عز وجل وحسن تدبيره وحكمته وشمول علمه سبحانه وتعالى فهو كالدليل على أنه تعالى قادر على الإنزال وإنما لا ينزل محافظة على الحكم الباهرة، وقيل: إنه دليل على أنه سبحانه وتعالى قادر على البعث والحشر والأول أنسب، وزيدت مِنْ تنصيصا على الاستغراق. والدابة ما يدب من الحيوان، وأصله من دب يدب دبيبا إذا مشى مشيا فيه تقارب خطو، والجار والمجرور متعلق بمحذوف أو مجرور أو مرفوع وقع صفة لدابة، ووصفت بذلك لزيادة التعميم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 135 كأنه قيل: وما من فرد من أفراد الدواب يستقر في قطر من أقطار الأرض وجهها أو جوفها، وكذا الوصف في قوله سبحانه وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ لزيادة التعميم أيضا أي ولا فرد من أفراد الطير يطير في ناحية من نواحي الجو بجناحيه، وقيل: إنه لقطع مجاز السرعة فقد استعمل الطيران في ذلك كقوله: قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم ... طاروا إليه زرافات ووحدانا وكذا استعمل الطائر في العمل والنصيب مجازا كما في قوله تعالى: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [الإسراء: 13] . واحتمال التجوز مع ذلك بجعله ترشيحا للمجاز بعيد لا يلتفت إليه بدون قرينة، واختار بعض المتأخرين أن وجه الوصف تصوير تلك الهيئة الغريبة الدالة على كمال القوة والقدرة. وأورد على الوجهين السابقين أنه لو قيل: ولا طائر في السماء لكان أخضر وفي إفادة ذينك الأمرين أظهر مع ما فيه من رعاية المناسبة بين القرينتين بذكر جهة العلو في إحداهما وجهة السفل في الأخرى، ورد- كما قال الشهاب- بأنه لو قيل: في السماء يطير بجناحيه لم يشمل أكثر الطيور لعدم استقرارها في السماء، ثم إن قصد التصوير لا ينافي قطع المجاز إذ لا مانع من إرادتهما جميعا كما لا يخفى، ثم لما كان المقصود من ذكر هذين الأمرين الدلالة على كمال قدرته جل وعلا ببيان ما يعرفونه ويشاهدونه من هذين الجنسين وشمول قدرته وعلمه سبحانه لهما كان غيرهما غير مقصود بالبيان، فالاعتراض بأن أمثال حيتان البحر خارجة عنهما، والجواب بأنها داخلة في القسم الأول لأن الأرض فيه بمعنى جهة السفل مما لا يلتفت إليه، وقرأ ابن أبي عبلة وَلا طائِرٍ بالرفع عطف على محل الجار والمجرور كأنه قيل: وما دابة ولا طائر إِلَّا أُمَمٌ أي طوائف متخالفة أَمْثالُكُمْ في أن أحوالها محفوظة وأمورها معنية ومصالحها مرعية جارية على سنن السداد منتظمة في سلك التقديرات الإلهية والتدبيرات الربانية، وجمع الأمم باعتبار الحمل على معنى الجمعية المستفاد من العموم كما اختاره غير واحد، وهو يقتضي جواز أن يقال: لا رجل قائمون، والقياس- كما قيل- لا يأباه إلا أنه لم يرد إلا مع الفصل. وصرح السيد السند بأن النكرة هاهنا محمولة على المجموع من حيث هو مجموع، ولعل مراده أن النكرة المذكورة من حيث الإخبار عنها محمولة على المجموع لا أنه مراد منها، فلا يرد أن الحكم بقوله سبحانه وتعالى: إِلَّا أُمَمٌ يأبى أن يكون التنكير فيما سبق على ما أشير إليه للفردية لأن الفرد ليس بجماعة، وكذا يأبى أن يكون للنوعية أيضا لأن الفرد ليس بجماعات وهو ظاهر، وأما ما قيل: إن النوع يشتمل على أصناف وكل صنف أمة أو الأمة كل جماعة في زمان فيدفعه توصيف أمم «بأمثالكم» إذ الخطاب بكم لافراد نوع الإنسان فالمناسب تشبيه النوع بالنوع في كونهما محفوظي الأحوال لا تشبيه الصنف بالنوع أو تشبيه جماعة في وقت بالنوع، نعم قال السكاكي في المفتاح: إن ذكر فِي الْأَرْضِ مع دابة ويَطِيرُ بِجَناحَيْهِ مع طائر لبيان أن القصد من لفظ دابة ولفظ طائر إنما هو إلى الجنسين وإلى تقريرهما، وعليه لا إشكال في صحة الحمل لاشتمال كل من الجنسين على أنواع كثيرة كل منها أمة كالإنسان فكأنه قيل: ما من جنس من هذين الجنسين إلا أمم إلخ، وهذا كما يقال: ما من رجل من هذين الرجلين إلا كذا، ومراده أن لفظ دَابَّةٍ وطائِرٍ حامل لمعنى الجنس والواحدة فلبيان أن القصد من كل منهما إلى الجنس من حيث هو دون الوحدة والكثرة وصف بصفة لازمة للجنس من حيث هو أي بلا شرط شيء منهما والاستغراق المستفاد من كلمة من بالنظر إلى الجنسين، وبهذا يندفع القول بوجوب تأويل كلام السكاكي وإرجاعه إلى ما ذكره الزمخشري في هذا المقام، وعليه لا يتصور كون الوصف مفيدا لزيادة التعميم والإحاطة لأن الجنس من حيث هو أي لا بشرط شيء مفهوم واحد كما لا يخفى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 136 واعترض أيضا القول بالعموم بأنه كيف يصح مع وجوب خروج المشبه به عنه. وأجيب بأن القصد أولا إلى العام والمشبه به في حكم المستثنى بقرينة التشبيه كأنه قيل: ما من واحد من أفراد هذين الجنسين بعمومهما سواكم إلا أمم أمثالكم، ولك أن تدعي دخول كل فرد من أفراد المخاطبين بالتزام أن له اعتبارين اعتبار أنه مشبه واعتبار أنه مشبه به فتأمل جميع ذلك ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ التفريط التقصير، وأصله أن يتعدى بفي وقد ضمن هنا معنى أغفلنا وتركنا، فمن شيء في موضع المفعول به ومن زائدة للاستغراق، ويبعد جعلها تبعيضية أي ما فرطنا في الكتاب بعض شيء وإن جوزه بعضهم، والمراد من الكتاب القرآن واختاره البلخي وجماعة فإنه ذكر فيه جميع ما يحتاج إليه من أمر الدين والدنيا بل وغير ذلك إما مفصلا وإما مجملا، فعن الشافعي عليه الرحمة ليست تنزل بأحد في الدين نازلة إلا في كتاب الله تعالى الهدى فيها. وروى البخاري عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: «لعن الله تعالى الواشمات والمتوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله تعالى فقالت له امرأة في ذلك: فقال: ما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو في كتاب الله تعالى فقالت له: قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول قال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه أما قرأت وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] قالت: بلى قال: فإنه عليه الصلاة والسلام قد نهى عنه» وقال الشافعي رحمه الله تعالى مرة بمكة: سلوني عما شئتم أخبركم عنه من كتاب الله تعالى فقيل له: ما تقول في المحرم يقتل الزنبور؟ فأجاب بأنه يقتله واستدل عليه بنحو استدلال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أنه قال: أنزل في هذا القرآن كل علم وبين لنا فيه كل شيء ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن. وأخرج أبو الشيخ في كتاب العظمة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله سبحانه وتعالى لو أغفل شيئا لأغفل الذرة والخردلة والبعوضة» وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى، وقال المرسي: جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم به ثم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خلا ما استأثر الله تعالى به، وقد سمعت من بعضهم والعهدة عليه أن الشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي قدس الله تعالى سره وقع يوما عن حماره فرضت رجله فجاؤوا ليحملوه فقال: امهلوني فأمهلوه يسيرا ثم أذن لهم فحملوه فقيل له في ذلك فقال: راجعت كتاب الله تعالى فوجدت خبر هذه الحادثة قد ذكر في الفاتحة، وهذا أمر لا تصله عقولنا. ومثله استخراج بعضهم من الفاتحة أيضا أسماء سلاطين آل عثمان وأحوالهم ومدة سلطنتهم إلى ما شاء الله تعالى من الزمان، ولا بدع فهي أم الكتاب وتلد كل أمر عجيب، وعلى هذا لا حاجة إلى القول بتخصيص الشيء بما يحتاج إليه من دلائل التوحيد والتكاليف، وقال أبو البقاء: إن شيئا هنا واقع موقع المصدر أي تفريطا، ولا يجوز أن يكون مفعولا به لأن فَرَّطْنا لا تتعدى بنفسها بل بحرف الجر وقد عديت بفي إلى الكتاب فلا تتعدى بحرف آخر وتبعه في ذلك غير واحد، وجعلوا ما يفهم من القاموس من تعدي هذا الفعل بنفسه حيث قال: فرط الشيء وفرط فيه تفريطا ضيعه وقدم العجز فيه وقصر مما تفرد به في مقابلة من هو أطول باعا منه مع أنه يحتمل أن تعديته المذكورة فيه ليست وضيعة بل مجازية أو بطريق التضمين الذي أشير إليه سابقا، وعلى هذا لا يبقى- كما قال أبو البقاء- في الآية حجة لمن ظن أن الكتاب يحتوي على ذكر كل شيء، والكلام حينئذ نظير قوله تعالى: لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً [آل عمران: 120] أي ضيرا. وأورد عليه أنه ليس كما ذكر لأنه إذا تسلط النفي على المصدر كان منفيا على جهة العموم ويلزمه نفي أنواع المصدر وهو يستلزم نفي جميع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 أفراده وليس بشيء لأنه يريد أن المعنى حينئذ أن جميع أنواع التفريط منفية عن القرآن وهو مما لا شبهة فيه ولا يلزمه أن يذكر فيه كل شيء كما لزم على الوجه الآخر، وأيا ما كان فالجملة اعتراضية مقررة لمضمون ما قبلها فإن من جملة الأشياء أنه تعالى مراع لمصالح جميع مخلوقاته على ما ينبغي، وعن الحسن وقتادة أن المراد بالكتاب الكتاب الذي عند الله تعالى وهو مشتمل على ما كان ويكون وهو اللوح المحفوظ، والمراد بالاعتراض حينئذ الإشارة إلى أن أحوال الأمم مستقصاة هناك غير مقصورة على هذا القدر المجمل، وعن أبي مسلم أن المراد منه الأجل أي ما من شيء إلا وقد جعلنا له أجلا هو بالغه ولا يخفى بعده. وقرأ علقمة «ما فرطنا» بالتخفيف وهو والمشدد بمعنى. وقال أبو العباس: معنى فرطنا المخفف أخرنا كما قالوا فرط الله تعالى عنك المرض أي أزاله ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ الضمير للأمم المذكورة في الكريم، وصيغة جمع العقلاء لإجرائها مجراهم والتعبير عنها بالأمم، وقيل: هو للأمم مطلقا وتكون صيغة الجمع للتغليب أي إلى مالك أمورهم لا إلى غيره يحشرون يوم القيامة فيجازيهم وينصف بعضهم من بعض حتى أنه سبحانه وتعالى يبلغ من عدله أن يأخذ للجماء من القرناء كما جاء في حديث صحيح رواه الشيخان. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن حشر الحيوانات موتها، ومراده رضي الله تعالى عنه- على ما قيل- إن قوله سبحانه وتعالى إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ مجموعه مستعار على سبيل التمثيل للموت كما ورد في الحديث «من مات فقد قامت قيامته» فلا يرد عليه أن الحشر بعث من مكان إلى آخر، وتعديته بإلى تنصيص على أنه لم يرد به الموت مع أن في الموت أيضا نقلا من الدنيا إلى الآخرة، نعم ما ذكره الجماعة أوفق بمقام تهويل الخطب وتفظيع الحال، هذا وفي رسالة المعاد لأبي علي قال المعترفون بالشريعة من أهل التناسخ: إن هذه الآية دليل عليه لأنه سبحانه قال: وَما مِنْ دَابَّةٍ إلخ، وفيه الحكم بأن الحيوانات الغير الناطقة أمثالنا وليسوا أمثالنا بالفعل فيتعين كونهم أمثالنا بالقوة لضرورة صدق هذا الحكم وعدم الواسطة بين الفعل والقوة، وحينئذ لا بد من القول بحلول النفس الإنسانية في شيء من تلك الحيوانات وهو التناسخ المطلوب. ولا يخفى أنه دليل كاسد على مذهب فاسد، ومن الناس من جعلها دليلا على أن للحيوانات بأسرها نفوسا ناطقة كما لأفراد الإنسان، وإليه ذهب الصوفية وبعض الحكماء الإسلاميين. وأورد الشعراني في الجواهر والدرر لذلك أدلة غير ما ذكر، منها أنه صلّى الله عليه وسلّم لما هاجر وتعرض كل من الأنصار لزمام ناقته. قال عليه الصلاة والسلام: «دعوها فإنها مأمورة» ووجه الاستدلال بذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم أخبر أن الناقة مأمورة ولا يعقل الأمر إلا من له نفس ناطقة، وإذا ثبت أن للناقة نفسا كذلك ثبت للغير إذ لا قائل بالفرق، ومنها ما يشاهد في النحل وصنعتها أقراص الشمع والعناكب واحتيالها لصيد الذباب والنمل وادخاره لقوته على وجه لا يفسد معه ما ادخره. وأورد بعضهم دليلا لذلك أيضا النملة التي كلمت سليمان عليه الصلاة والسلام بما قص الله تعالى لنا عنها مما لا يهتدي إلى ما فيه إلا العالمون وخوف الشاة من ذئب لم تشاهد فعله قبل فإن ذلك لا يكون إلا عن استدلال وهو شأن ذوي النفوس الناطقة، وعدم افتراس الأسد المعلم مثلا صاحبه فإن ذلك دليل على اعتقاد النفع ومعرفة الحسن وهو من شأن ذوي النفوس. وأغرب من هذا دعوى الصوفية. ونقله الشعراني عن شيخه على الخواص قدس الله تعالى سره أن الحيوانات مخاطبة مكلفة من عند الله تعالى ومن حيث لا يشعر المحجوبون ثم قال: ويؤيده قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر: 24] حيث نكر سبحانه وتعالى الأمة والنذير وهم من جملة الأمم. ونقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يقول: جميع ما في الأمم فينا حتى أن فيهم ابن عباس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 مثلي. وذكر في الأجوبة المرضية أن فيهم أنبياء. وفي الجواهر أنه يجوز أن يكون النذير من أنفسهم وأن يكون خارجا عنهم من جنسهم. وحكى شيخه عن بعضهم أنه قال: إن تشبيه الله تعالى من ضل من عباده بالأنعام في قوله سبحانه وتعالى: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ [الفرقان: 44] ليس لنقص فيها وإنما هو لبيان كمال مرتبتها في العلم بالله تعالى حتى حارت فيه فالتشبيه في الحقيقة واقع في الحيرة لا في المحار فيه فلا أشد حيرة من العلماء بالله تعالى فأعلى ما يصل إليه العلماء بربهم سبحانه وتعالى هو مبتدأ البهائم الذي لم تنتقل عنه أي عن أصله وإن كانت منتقلة في شؤونه بتنقل الشؤون الإلهية لأنها لا تثبت على حال. ولذلك كان من وصفهم الله عز وجل من هؤلاء القوم أضل سبيلا من الأنعام لأنهم يريدون الخروج من الحيرة من طريق فكرهم ونظرهم ولا يمكن ذلك لهم والبهائم علمت ذلك ووقفت عنده ولم تطلب الخروج عنه وذلك لشدة علمها بالله تعالى اه. ونقل الشهاب عن ابن المنير أن من ذهب إلى أن البهائم والهوام مكلفة لها رسل من جنسها فهو من الملاحدة الذين لا يعول عليهم كالجاحظ وغيره، وعلى إكفار القائل بذلك نص كثير من الفقهاء والجزاء الذي يكون يوم القيامة للحيوانات عندهم ليس جزاء تكليف، على أن بعضهم ذهب إلى أن الحيوانات لا تحشر يوم القيامة وأول الظواهر الدالة على ذلك. وما نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا أصل له. والمثلية في الآية لا تدل على شيء مما ذكر. وأغرب الغريب عند أهل الظاهر أن الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم جعلوا كل شيء في الوجود حيا دراكا يفهم الخطاب ويتألم كما يتألم الحيوان وما يزيد الحيوان على الجماد إلا بالشهوة، ويستندون في ذلك إلى الشهود. وربما يستدلون بقوله سبحانه وتعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء: 44] ولكن لا تفقهون تسبيحهم وبنحو ذلك من الآيات والأخبار. والذي ذهب إليه الأكثرون من العلماء أن التسبيح حالي لا قالي، ونظير ذلك. شكى إلى جملي طول السرى و ... امتلأ الحوض وقال قطني وما يصدر عن بعض الجمادات من تسبيح قالي كتسبيح الحصى في كفه الشريف صلّى الله عليه وسلّم مثلا إنما هو عن خلق إدراك إذ ذاك، وما يشاهد من الصنائع العجيبة لبعض الحيوانات ليس كما قال الشيخ الرئيس مما يصدر عن استنباط وقياس بل عن إلهام وتسخير، ولذلك لا تختلف ولا تتنوع، والنقض بالحركة الفلكية لا يرد بناء على قواعدنا. وعدم افتراس الأسد المعلم مثلا صاحبه ليس عن اعتقاد بل هناك هيئة أخرى نفسانية وهي أن كل حيوان يحب بالطبع ما يلذه والشخص الذي يطعمه محبوب عنده فيصير ذلك مانعا عن افتراسه. وربما يقع هذا العارض عن إلهام إلهي مثل حب كل حيوان ولده. وعلى هذا الطرز يخرج الخوف مثلا الذي يعتري بعض الحيوانات. وقد أطالوا الكلام في هذا المقام، وأنا لا أرى مانعا من القول بأن للحيوانات نفوسا ناطقة وهي متفاوتة الإدراك حسب تفاوتها في أفراد الإنسان وهي مع ذلك كيفما كانت لا تصل في إدراكها وتصرفها إلى غاية يصلها الإنسان والشواهد على هذا كثيرة وليس في مقابلتها قطعي يجب تأويلها لأجله. وقد صرح غير واحد أنها عارفة بربها جل شأنه، وأما أن لها رسلا من جنسها فلا أقول به ولا أفتي بكفر من قال به. وأما أن الجمادات حية مدركة فأمر وراء طور عقلي، والله تعالى على كل شيء قدير وهو العليم الخبير وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي القرآن أو سائر الحجج ويدخل دخولا أوليا، والموصول عبارة عن المعهودين في قوله عز وجل وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ [الأنعام: 25] إلخ أو الأعم من أولئك، والكلام متعلق بقوله سبحانه ما فَرَّطْنا إلخ أو بقوله جل شأنه إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 139 والواو للاستئناف وما بعدها مبتدأ خبره صُمٌّ وَبُكْمٌ وجوز أن يكون هذا خبر مبتدأ محذوف أي بعضهم صم وبعضهم بكم. والجملة خبر المبتدأ والأول أولى. وهو من التشبيه البليغ على القول الأصح في أمثاله أي أنهم كالصم وكالبكم فلا يسمعون الآيات سماعا تتأثر منه نفوسهم ولا يقدرون على أن ينطقوا بالحق ولذلك لا يستجيبون ويقولون في الآيات ما يقولون. وقوله سبحانه: فِي الظُّلُماتِ أي في ظلمات الكفر وأنواعه أو في ظلمة الجهل وظلمة العناد وظلمة التقليد في الباطل إما خبر بعد خبر للموصول على أنه واقع موقع عُمْيٌ كما في قوله تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [البقرة: 18، 171] ووجه ترك العطف فيه دون ما تقدمه الإيماء إلى أنه وحده كاف في الذم والإعراض عن الحق، واختير العطف فيما تقدم للتلازم، وقد يترك رعاية لنكتة أخرى وإما متعلق بمحذوف وقع حالا من المستكن في الخبر كأنه قيل: ضالون خابطين أو كائنين في الظلمات. ورجحت الحالية بأنها أبلغ إذ يفهم حينئذ أن صممهم وبكمهم مقيد بحال كونهم في ظلمات الكفر أو الجهل وأخويه حتى لو أخرجوا منها لسمعوا ونطقوا، وعليها لا يحتاج إلى بيان وجه ترك العطف. وجوز أبو البقاء أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هم في الظلمات وأن يكون صفة لبكم أو ظرفا له أو لصم أو لما ينوب عنهما من الفعل، وعن أبي علي الجبائي أن المراد بالظلمات ظلمات الآخرة على الحقيقة أي أنهم كذلك يوم القيامة عقابا لهم على كفرهم في الدنيا والكلام عليه متعلق بقوله تعالى: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ على أن الضمير للأمم على الإطلاق وفيه بعد. وقوله سبحانه: مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ تحقيق للحق وتقرير لما سبق من حالهم ببيان أنهم من أهل الطبع لا يتأتى منهم الإيمان أصلا فمن مبتدأ خبره ما بعده ومفعول يشأ محذوف أي إضلاله. ولا يجوز أن يكون من مفعولا مقدما له لفساد المعنى، والمراد من يرد سبحانه أن يخلق فيه الضلال عن الحق يخلقه فيه حسب اختياره الناشئ عن استعداده، وجوز بعضهم أن يكون مَنْ في موضع نصب بفعل مقدر بعده يفسره ما بعده أي من يشق أو يعذب يشأ إضلاله وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ عطف على ما تقدم، والكلام فيه كالكلام فيه، والآية دليل لأهل السنة على أن الكفر والإيمان بإرادته سبحانه وأن الإرادة لا تتخلف عن المراد. والزمخشري لما رأى تخرق عقيدته الفاسدة رام رقعها كما هو دأبه فقال: معنى يُضْلِلْهُ يخذله ولم يلطف به ويَجْعَلْهُ إلخ بلطف به، وقال غيره: المراد من يشأ إضلاله يوم القيامة عن طريق الجنة يضلله ومن يشأ يجعله على الصراط الذي يسلكه المؤمنون إلى الجنة وهو كما ترى. وكان الظاهر على ما قيل: أن يقال ومن يشأ يهده إلا أنه عدل عنه لأن هدايته تعالى وهي إرشاده إلى الهدى غير مختصة ببعض دون بعض. ولهذا قيل في تفسير يَجْعَلْهُ إلخ أي يرشده إلى الهدى ويحمله عليه قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ أمر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأن يبكتهم ويلقمهم الحجر بما لا سبيل لهم إلى إنكاره. والتاء على ما قاله أبو البقاء ضمير الفاعل وما بعده حرف خطاب جيء به للتأكيد. وليس اسما لأنه لو كان كذلك لكان إما مجرورا ولا جار هنا. أو مرفوعا وليس من ضمائر الرفع. ولا مقتضي له أيضا أو منصوبا وهو باطل لثلاثة أوجه، الأول أن هذا الفعل قلبي بمعنى علم يتعدى إلى مفعولين كقولك: أرأيت زيدا ما فعل فلو جعل المذكور مفعولا لكان ثالثا. والثاني أنه لو جعل مفعولا لكان هو الفاعل في المعنى. وليس المعنى على ذلك إذ ليس الغرض أرأيت نفسك بل أرأيت غيرك. ولذلك قلت: أرأيتك زيدا وزيد غير المخاطب ولا هو بدل منه. والثالث أنه لو جعل كذلك لظهرت علامة التثنية. والجمع والتأنيث في التاء فكنت تقول: أرأيتما كما وأ رأيتموكم وأ رأيتكن وهذا مذهب البصريين. والمفعولان في هذه الآية قيل: الأول منهما محذوف تقديره أرأيتكم إياه أو إياها أي العذاب أو الساعة الواقعين في قوله سبحانه: إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أي الدنيوي حسبما أتى من قبلكم أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أي هو لها كما يدل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 140 عليه ما بعد لأن الكلام من باب التنازع حيث تنازع رأي وأتى في معمول واحد وهو عَذابُ اللَّهِ والساعة فاعمل الثاني وأضمر في الأول. والثاني منهما جملة الاستفهام وهي قوله تعالى أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ والرابط لها بالمفعول الأول محذوف أي أغير الله تدعون لكشف ذلك. وقيل: لا تنازع والتقدير أرأيتكم عبادتكم للأصنام أو الأصنام التي تعبدونها هل تنفعكم، وقيل: إن الجملة الاستفهامية سادة مسد المفعولين. وذهب الرضي تبعا لغيره أن رأى هنا بصرية. وقيل: قلبية بمعنى عرف. وهي على القولين متعدية لواحد وأصل اللفظ الاستفهام عن العلم أو العرفان أو الإبصار إلا أنه تجوز به عن معنى أخبرني ولا يستعمل إلا في الاستخبار عن حالة عجيبة لشيء. وفيه- على ما قال الكرماني-. وغيره تجوزان إطلاق الرؤية وإرادة الإخبار لأن الرؤية بأي معنى كانت سبب له. وجعل الاستفهام بمعنى الأمر بجامع الطلب. وقول بعضهم: إن الاستفهام للتعجيب لا ينافي كون ذلك بمعنى أخبرني لما قيل: إنه بالنظر إلى أصل الكلام. ونقل عن أبي حيان أن الأخفش قال: إن العرب أخرجت هذا اللفظ عن معناه بالكلية فقالوا: أرأيتك وأريتك بحذف الهمزة الثانية إذا كان بمعنى أخبرت. وإذا كان بمعنى أبصرت لم تحذف همزته وألزمته أيضا الخطاب على هذا المعنى فلا تقول أبدا أراني زيد عمرا ما صنع وتقول هذا على معنى أعلم، وأخرجته أيضا عن موضوعه بالكلية لمعنى إما بدليل دخول الفاء بعده كقوله تعالى: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ [الكهف: 63] الآية. فما دخلت الفاء إلا وقد خرجت لمعنى أما. والمعنى أما إذا أوينا إلى الصخرة فالأمر كذا وكذا. وقد أخرجته أيضا إلى معنى أخبرني كما قدمنا، وإذا كان بهذا المعنى فلا بد بعده من اسم المستخبر عنه وتلزم الجملة بعد الاستفهام. وقد يخرج لهذا المعنى وبعده الشرط وظرف الزمان اه ولم يوافق في جميع ذلك. وذهب شيخ أهل الكوفة الكسائي إلى أن التاء ضمير الفاعل وأداة الخطاب اللاحقة في موضع المفعول الأول. وذهب الفراء إلى أن التاء حرف خطاب واللواحق بعده في موضع الرفع على الفاعلية وهي ضمائر نصب استعملت استعمال ضمائر الرفع. والكلام على ذلك مبسوط في محله. والمختار عند كثير من المحققين ما ذهب إليه البصريون من جعل كم هنا وكذا سائر اللواحق حرف خطاب ومتعلق الاستخبار عندهم ومحط التبكيت قوله تعالى: أَغَيْرَ اللَّهِ إلخ. وقوله سبحانه: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ متعلق بأريتكم مؤكد للتبكيت كاشف عن كذبهم. وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة المذكور عليه، والتقدير- على ما قيل- إن كنتم صادقين في أن أصنامكم آلهة أو أن عبادتكم لها نافعة أو إن كنتم قوما من شأنكم الصدق فأخبروني أإلها غير الله تعالى تدعون إن أتاكم عذاب الله إلخ فإن صدقهم من موجبات أخبارهم بدعائهم غيره سبحانه. وقيل: إن الجواب ما يدل عليه قوله تعالى: أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ أعني فادعوه على أن الضمير لغير الله، واعترض بأنه يخل بجزالة النظم الكريم كيف لا والمطلوب منهم إنما هو الإخبار بدعائهم غيره جل شأنه عند إتيان ما يأتي لا نفس دعائهم إياه، وجوز آخرون كون متعلق الاستخبار محذوفا تقديره أخبروني إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة من تدعون، وجعلوا قوله سبحانه: أَغَيْرَ اللَّهِ إلخ استئنافا للتبكيت على معنى أتخصون آلهتكم بالدعوة كما هو عادتكم إذا أصابكم ضر أم تدعون الله تعالى دونها، وعليه فتقديم المفعول للتخصيص. وبعضهم جعل تقديمه لأن الإنكار متعلق به وأنكر تعلقه بالتخصيص، نعم التقديم في قوله تعالى: بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ للتخصيص أي بل تخصونه سبحانه بالدعاء وليس لرعاية الفواصل، والتخصيص مستفاد مما بعد وهو عطف على جملة منفية تفهم من الكلام السابق كأنه قيل: لا غير الله تدعون بل إياه تدعون، وجعله في الكشف عطفا على أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ وأورد الزمخشري على كون أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ متعلق الاستخبار أن قوله سبحانه: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 141 فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ أي ما تدعونه إلى كشفه مع قوله تعالى: أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ يأباه فإن قوارع الساعة لا تكشف عن المشركين. وأجاب بأنه قد اشترط في الكشف المشيئة بقوله جل شأنه: إِنْ شاءَ وهو عز وجل لا يشاء كشف هاتيك القوارع عنهم، وخص الإيراد بذلك الوجه- على ما في الكشف- لأن الشرطين فيه لما كانا متعلقين بقوله سبحانه: أَغَيْرَ إلخ وكان بَلْ إِيَّاهُ إلخ عطفا عليه إضرابا عنه والمعطوف في حكم المعطوف عليه وجب أن يكونا متعلقين به أيضا. ولما كان الكشف مستعقب الدعاء مستفادا عنه وجب أن يكونا متعلقين به أيضا فجاء سؤال أن قوارع الساعة لا تكشف. وأما في الوجه الآخر فلأن أَغَيْرَ إلخ لما كان كلاما مستقلا لم تتعلق به الشرطان لفظا بل جاز أن يقدرا أو هو الظاهران ساعد المعنى، وأن يقدر واحد منهما حسب استدعاء المقام وذلك أنه سبحانه بكتهم بما كانوا عليه من اختصاصهم إياه تعالى بالدعاء عند الكرب ألا ترى إلى قوله جل شأنه: ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ [النحل: 53] فلا مانع من ذكر أمرين والتقريع على أحدهما دون الآخر لا سيما عند اختصاصه بالتقريع انتهى. وربما يقال: إن كشف القوارع الدنيوية والأخروية بدعاء المؤمن أو المشرك بل قبول الدعاء مطلقا مشروط بالمشيئة وبذلك تقيد آية ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60] وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [البقرة: 186] لكن انتفاء المشيئة متحقق في بعض الصور كما في قبول دعاء الكفار بكشف قوارع الساعة وما يلقونه من سواء الجزاء على كفرهم وكشف بعض الأهوال عنهم ككرب طول الوقوف حين يشفع صلّى الله عليه وسلّم فيشفع في الفصل بين الخلائق يومئذ ليس من باب استجابة دعائهم في شيء. على أن كرب طول الوقوف الذي يفارقونه نعيم بالنسبة إلى ما يلاقونه بعد وإن لم يعلموا ذلك قبل فالقوارع محيطة بهم في ذلك اليوم لا تفارقهم أصلا وإنما ينتقلون فيها من شديد إلى أشد. فقول بعضهم إثر قول الزمخشري: فإن قوارع الساعة لا تكشف عن المشركين الأحسن عندي أن هول القيامة يكشف أيضا ككرب الموقف إذا طال كما ورد في حديث الشفاعة العظمى إلا أن الزمخشري لم يذكره لأن المعتزلة قائلون بنفي الشفاعة وقد غفل عن هذا من اتبعه كلام خال عن التحقيق، والمعتزلة على ما في مجمع البحار لا ينفون الشفاعة في فصل القضاء وإنما ينكرون الشفاعة لأهل الكبائر والكفار في النجاة من النار. هذا واختلف المفسرون في جواب الشرط الأول فقيل محذوف تقديره فمن تدعون، وقيل: وعليه أبو البقاء تقديره دعوتم الله تعالى، وقيل: إنه مذكور وهو أرأيتكم، وقيل: ونسب للرضي هو الجملة المتضمنة للاستفهام بعده وهو كالمتعين على بعض الأقوال، ورده الدماميني بأن الجملة كذلك لا تقع جوابا للشرط بدون فاء. وبحث في ذلك الشهاب في حواشيه على شرح الكافية للرضي وقال أبو حيان وتبعه غير واحد الذي أذهب إليه أن يكون الجواب محذوفا لدلالة أَرَأَيْتَكُمْ عليه تقديره إن أتاكم عذاب الله تعالى فأخبروني عنه أتدعون غير الله تعالى لكشفه كما تقول: أخبرني عن زيد إن جاءك ما تصنع به فإن التقدير إن جاءك فأخبرني فحذف الجواب لدلالة أخبرني عليه. ونظير ذلك أنت ظالم إن فعلت انتهى فافهم ولا تغفل. وقوله تعالى: وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ عطف على تَدْعُونَ والنسيان مجاز عن الترك كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أي تتركون ما تشركون به تعالى من الأصنام تركا كليا، وقيل: يحتمل أن يكون على حقيقته فإنهم لشدة الهول ينسون ذلك حقيقة، ولا يخطر لهم ببال ولا يلزم حينئذ أن ينسى الله تعالى لأن المعتاد في الشدائد أن يلهج بذكره تعالى وينسى ما سواه سبحانه، وقدم الكشف مع تأخره عن النسيان كتأخره عن الدعاء لإظهار كمال العناية بشأنه والإيذان بترتبه على الدعاء خاصة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 142 وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ كلام مستأنف سيق لبيان أن من المشركين من لا يدعو الله تعالى عند إتيان العذاب لتماديه في الغي والضلال ولا يتأثر بالزواجر التكوينية كما لا يتأثر بالزواجر التنزيلية، وقيل: مسوق لتسليته صلّى الله عليه وسلّم. وتصدير الجملة بالقسم لإظهار مزيد الاهتمام بمضمونها، والمفعول محذوف لأن مقتضى المقام بيان حال المرسل إليهم لا حال المرسلين وتنوين أُمَمٍ للتكثير ومِنْ ابتدائية أو بمعنى في أو زائدة بناء على جواز زيادتها في الإثبات وضعف أي تالله لقد أرسلنا رسلا إلى أمم كثيرة كائنة من زمان أو في زمان قبل زمانك فَأَخَذْناهُمْ أي فكذبوا فعاقبناهم بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ أي البؤس والضر. وأخرج أبو الشيخ عن ابن جبير أنه قال: خوف السلطان. وغلاء السعر. وقيل: البأساء القحط والجوع والضراء المرض ونقصان الأنفس والأموال وهما صيغتا تأنيث لا مذكر لهما على أفعل كأحمر حمراء كما هو القياس فإنه لم يقل أضر وأبأس صفة بل للتفضيل لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ أي لكي يتذللوا فيدعوا ويتوبوا من كفرهم فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا أي فلم يتضرعوا حينئذ مع وجود المقتضي وانتفاء المانع الذي يعذرون به، «ولولا» عند الهروي تكون نافية حقيقة وجعل من ذلك قوله تعالى: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ [يونس: 98] والجمهور حملوه على التوبيخ والتنديم وهو يفيد الترك وعدم الوقوع ولذا ظهر الاستدراك والعطف في قوله تعالى: وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وليست لولا هنا تحضيضية كما توهم لأنها تختص بالمضارع، واختار بعضهم ما ذهب إليه الهروي. ولما كان التضرع ناشئا من لين القلب كان نفيه نفيه فكأنه قيل: فما لانت قلوبهم ولكن قست، وقيل: كان الظاهر أن يقال لكن يجب عليهم التضرع إلا أنه عدل إلى ما ذكر لأن قساوة القلب التي هي المانع يشعر بأن عليهم ما ذكر، ومعنى قَسَتْ إلخ استمرت على ما هي عليه من القساوة أو ازدادت قساوة وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الكفر والمعاصي فلم يخطروا ببالهم أن ما اعتراهم من البأساء والضراء ما اعتراهم إلا لأجله. والتزيين له معان، أحدها إيجاد الشيء حسنا مزينا في نفس الأمر كقوله تعالى: زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا [الصافات: 6] والثاني جعله مزينا من غير إيجاد كتزيين الماشطة العروس. والثالث جعله محبوبا للنفس مشتهى للطبع وإن لم يكن في نفسه كذلك وهذا إما بمعنى خلق الميل في النفس والطبع وإما بمعنى تزويقه وترويجه بالقول وما يشبه كالوسوسة والإغواء، وعلى هذا يبنى أمر إسناده فإنه جاء في النظم الكريم تارة مسندا إلى الشيطان كما في هذه الآية وتارة إليه سبحانه كما في قوله سبحانه: وكَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [الأنعام: 108] وتارة إلى البشر كقوله عز وجل: زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ [الأنعام: 137] فإن كان بالمعنى الأول فإسناده إلى الله تعالى حقيقة، وكذا إذا كان بالمعنى الثالث بناء على المراد منه أولا، وإن كان بالمعنى الثاني أو الثالث بناء على المراد منه ثانيا فإسناده إلى الشيطان أو البشر حقيقة، ولا يمكن إسناد ما يكون بالإغواء والوسوسة إليه سبحانه كذلك. وجاء أيضا غير مذكور الفاعل كقوله سبحانه زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ [يونس: 12] وحينئذ يقدر في كل مكان ما يليق به، وقد مر لك ما يتعلق بهذا البحث فتذكر. فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أي تركوا ما دعاهم الرسل عليهم الصلاة والسلام إليه وردوه عليهم ولم يتعظوا به كما روي عن ابن جريج، وقيل: المراد أنهم انهمكوا في معاصيهم ولم يتعظوا بما نالهم من البأساء والضراء فلما لم يتعظوا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ من النعم الكثيرة كالرخاء وسعة الرزق مكرا بهم واستدراجا لهم. فقد روى أحمد، والطبراني، والبيهقي في شعب الإيمان من حديث عقبة بن عامر مرفوعا «إذا رأيت الله تعالى يعطي العبد في الدنيا وهو مقيم على معاصيه فإنما هو استدراج ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فَلَمَّا نَسُوا الآية وما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 143 بعدها» . وروي عن الحسن أنه لما سمع الآية قال: «مكر بالقوم ورب الكعبة أعطوا حاجتهم ثم أخذوا» وقيل: المراد فتحنا عليهم ذلك إلزاما للحجة وإزاحة للعلة، والظاهر أن فَتَحْنا جواب لما لأن فيها سواء قيل بحرفيتها أو اسميتها معنى الشرط. واستشكل ذلك بأنه لا يظهر وجه سببية النسيان لفتح أبواب الخير. وأجيب بأن النسيان سبب للاستدراج المتوقف على فتح أبواب الخير، وسببية شيء لآخر تستلزم سببيته لما يتوقف عليه. ويقال: إن الجواب ما ذكر باعتبار ماله ومحصله وهو ألزمناهم الحجة ونحوه وتسببه عنه ظاهر، وقيل: إنه مسبب عنه باعتبار غايته وهو أخذهم بغتة. وقرأ أبو جعفر وابن عامر «فتّحنا» بالتشديد للتكثير حَتَّى إِذا فَرِحُوا فرح بطر بِما أُوتُوا من النعم ولم يقوموا بحق المنعم جل شأنه أَخَذْناهُمْ عاقبناهم وأنزلنا بهم العذاب بَغْتَةً أي فجأة ليكون أشد عليهم وأفظع هولا، وهي نصب على الحالية من الفاعل أو المفعول أي مباغتين أو مبغوتين أو على المصدرية أي بغتناهم بغتة فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ أي آيسون من النجاة والرحمة كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وقال البلخي: أذلة خاضعون، وعن السدي الإبلاس تغير الوجه. ومنه سمي إبليس لأن الله تعالى نكس وجهه وغيره، وعن مجاهد هو بمعنى الاكتئاب. وفي الحواشي الشهابية للإبلاس ثلاثة معان في اللغة، الحزن، والحسرة، واليأس وهي معان متقاربة. وقال الراغب: هو الحزن المعترض من شدة اليأس، ولما كان المبلس كثيرا ما يلزم السكوت وينسى ما يعنيه قيل: أبلس فلان إذا سكت وإذا انقطعت حجته وإِذا هي الفجائية وهي ظرف مكان كما نص عليه أبو البقاء وعن جماعة أنها ظرف زمان، ومذهب الكوفيين أنها حرف وعلى القولين الأولين الناصب لها خبر المبتدأ أي أبلسوا في مكان إقامتهم أو في زمانها فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي آخرهم كما قال غير واحد، وهو من دبره إذا تبعه فكأنه في دبره أي خلفه، ومنه إن من الناس من لا يأتي الصلاة إلا دبرا أي في آخر الوقت. وقال الأصمعي: الدابر الأصل ومنه قطع الله دابره أي أصله وأيّا ما كان فالمراد أنهم استؤصلوا بالعذاب ولم يبق منهم أحد، ووضع الظاهر موضع الضمير للإشعار بعلة الحكم. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ على ما جرى عليهم من النكال والإهلاك فإن إهلاك الكفار والعصاة من حيث إنه تخليص لأهل الأرض من شؤم عقائدهم الفاسدة وأعمالهم الخبيثة نعمة جليلة يحق أن يحمد عليها فهذا منه تعالى تعليم للعباد أن يحمدوه على مثل ذلك، واختار الطبرسي أنه حمد منه عز اسمه لنفسه على ذلك الفعل قُلْ يا محمد على سبيل التبكيت والإلزام أيضا أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ أي أصمكم وأعماكم فأخذهما مجاز عما ذكر لأنه لازم له، والاستدلال بالآية على بقاء العرض زمانين محل نظر. وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ بأن غطى عليها بما لا يبقى لكم معه عقل وفهم أصلا. وقيل: يجوز أن يكون الختم عطفا تفسيريا للأخذ فإن البصر والسمع طريقان للقلب منهما يرد ما يرده من المدركات فأخذهما سد لبابه بالكلية وهو السر في تقديم أخذهما على الختم عليها. واعترض بأن من المدركات ما لا يتوقف على السمع والبصر، ولهذا قال غير واحد بوجوب الإيمان بالله تعالى على من ولد أعمى أصم وبلغ سن التكليف، وقيل في التقديم: إنه من باب تقديم ما يتعلق بالظاهر على ما يتعلق بالباطن. ووجه تقديم السمع وافراده قد تقدمت الإشارة إليه مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ أي بذلك على أن الضمير مستعار لاسم الإشارة المفرد لأنه الذي كثر في الاستعمال التعبير به عن أشياء عدة وأما الضمير المفرد فقد قيل فيه ذلك. ونقل عن الزجاج أن الضمير راجع إلى المأخوذ والمختوم عليه في ضمن ما مر أي المسلوب منكم أو راجع إلى السمع وما بعده داخل معه في القصد ولا يخفى بعده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 وجوز أن يكون راجعا إلى أحد هذه المذكورات، ومَنْ مبتدأ وإِلهٌ خبره وغَيْرُ صفة للخبر ويَأْتِيكُمْ صفة أخرى، والجملة- كما قال غير واحد- متعلق الرؤية ومناط الاستخبار أي أخبروني أن سلب الله تعالى مشاعركم من إله غيره سبحانه يأتيكم به وترك كاف الخطاب هنا قيل: لأن التخويف فيه أخف مما تقدم ومما يأتي. وقيل: اكتفاء بالسابق واللاحق لتوسط هذا الخطاب بينهما، وقيل: لما كان هذا العذاب مما لا يبقى القوم معه أهلا للخطاب حذفت كافه إيماء لذلك ورعاية لمناسبة خفية انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ أي نكررها على أنحاء مختلفة، ومنه تصريف الرياح. والمراد من الآيات- على ما روي عن الكلبي- الآيات القرآنية وهل هي على الإطلاق أو ما ذكر من أول السورة إلى هنا أو ما ذكر قبل هذا أقوال أقربها عندي الأقرب وفيها الدال على وجود الصانع وتوحيده وما فيه الترغيب والترهيب والتنبيه والتذكير. وهذا تعجيب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقيل: لمن يصلح للخطاب من عدم تأثرهم بما مر من الآيات الباهرات. ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ أي يعرضون عن ذلك: وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنشد لهذا المعنى قول أبي سفيان بن الحارث: عجبت لحكم الله فينا وقد بدا ... له صدفنا عن كل حق منزل وذكر بعضهم أنه يقال: صدف عن الشيء صدوفا إذا مال عنه. وأصله من الصدف الجانب والناحية ومثله الصدفة وتطلق على كل بناء مرتفع. وجاء في الخبر أنه صلّى الله عليه وسلّم مر بصدف مائل فأسرع. والجملة عطف على «نصرف» داخل معه في حكمه وهو العمدة في التعجيب. وثُمَّ للاستبعاد أي أنهم بعد ذلك التصريف الموجب للإقبال والإيمان يدبرون ويكفرون قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ تبكيت آخر لهم بإلجائهم إلى الاعتراف باختصاص العذاب بهم إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أي العاجل الخاص بكم كما أتى أضرابكم من الأمم قبلكم بَغْتَةً أي فجأة من غير ظهور أمارة وشعور. ولتضمنها بهذا الاعتبار ما في الخفية من عدم الشعور صح مقابلتها بقوله سبحانه: أَوْ جَهْرَةً وبدأ بها لأنها أردع من الجهرة. وإنما لم يقل: خفية لأن الإخفاء لا يناسب شأنه تعالى. وزعم بعضهم أن البغتة استعارة للخفية بقرينة مقابلتها بالجهرة وأنها مكنية من غير تخييلية. ولا يخفى أنه على ما فيه تعسف لا حاجة إليه فإن المقابلة بين الشيء والقريب من مقابله كثيرة في الفصيح. ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم «بشروا ولا تنفروا» . وعن الحسن أن البغتة أن يأتيهم ليلا. والجهرة أن يأتيهم نهارا. وقرىء «بغتة أو جهرة» بفتح الغين والهاء على أنهما مصدران كالغلبة أي إتيانا بغتة أو إتيانا جهرة. وفي المحتسب لابن جني أن مذهب أصحابنا في كل حرف حلق ساكن بعد فتح لا يحرك إلا على أنه لغة فيه كالنهر والنهر والشعر والشعر والحلب والحلب والطرد والطرد. ومذهب الكوفيين أنه يجوز تحريك الثاني لكونه حرفا حلقيا قياسا مطردا كالبحر والبحر، وما أرى الحق إلا معهم، وكذا سمعت من عامه عقيل. وسمعت الشجري يقول: أنا محموم بفتح الحاء. وليس في كلام العرب مفعول بفتح الفاء. وقالوا: اللحم يريد اللحم. وسمعته يقول تغدوا بمعنى تغدوا. وليس في كلامهم مفعل بفتح الفاء وقالوا: سار نحوه بفتح الحاء ولو كانت الحركة أصلية ما صحت اللام أصلا اه. وهي- كما قال الشهاب- فائدة ينبغي حفظها. وقرىء «بغتة وجهرة» بالواو الواصلة. هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ أي إلا أنتم. ووضع الظاهر موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بالظلم وإيذانا بأن مناط إهلاكهم ظلمهم ووضعهم الكفر موضع الإيمان والإعراض موضع الإقبال. وهذا- كما قال الجماعة- متعلق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 145 الاستخبار والاستفهام للتقرير أي قل تقريرا لهم باختصاص الهلاك بهم أخبروني إن أتاكم عذابه جل شأنه حسبما تستحقونه هل يهلك بذلك العذاب إلا أنتم أي هل يهلك غيركم ممن لا يستحقه، وقيل: المراد بالقوم الظالمين الجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا. واعترض بأنه يأباه تخصيص الإتيان بهم، وقيل: الاستفهام بمعنى النفي لأن الاستثناء مفرغ والأصل فيه النفي، ومتعلق الاستخبار حينئذ محذوف كأنه قيل: أخبروني إن أتاكم عذابه عز وجل بغتة أو جهرة ماذا يكون الحال. ثم قيل: بيانا لذلك ما يهلك إلا القوم الظالمون أي ما يهلك بذلك العذاب الخاص بكم إلا أنتم. وقيد الطبرسي وغيره الهلاك بهلاك التعذيب والسخط توجيها للحصر إذ قد يهلك غير الظالم لكن ذلك رحمة منه تعالى به ليجزيه الجزاء الأوفى على ابتلائه، ولعله اشتغال بما لا يعني. وقرىء «يهلك» بفتح الياء. وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إلى الأمم إِلَّا مُبَشِّرِينَ من أطاع منهم بالثواب وَمُنْذِرِينَ من عصى منهم بالعذاب، واقتصر بعضهم على الجنة والنار لأنهما أعظم ما يبشر به وينذر به، والمتعاطفان منصوبان على أنهما حالان مقدرتان مفيدتان للتعليل. وصيغة المضارع للإيذان بأن ذلك أمر مستمر جرت عليه العادة الإلهية، والآية مرتبطة بقوله سبحانه: وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [يونس: 20] أي ما نرسل المرسلين إلا لأجل أن يبشروا قومهم بالثواب على الطاعة وينذروهم بالعذاب على المعصية ولم نرسلهم ليقترح عليهم ويسخر بهم فَمَنْ آمَنَ بما يجب الإيمان به وَأَصْلَحَ ما يجب إصلاحه والإتيان به على وفق الشريعة، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ومن موصولة ولشبه الموصول بالشرط دخلت الفاء في قوله سبحانه: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من العذاب الذي أنذر الرسل به وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لفوات الثواب الذي بشروا به، وقد تقدم الكلام في هذه الآية غير مرة، وجمع الضمائر الثلاثة الراجعة إلى من باعتبار معناها كما أن إفراد الضميرين السابقين باعتبار لفظها. وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي التي بلغتها الرسل عليهم الصلاة والسلام عند التبشير والإنذار، وقيل: المراد بها نبينا صلّى الله عليه وسلّم ومعجزاته والأول هو الظاهر، والموصول مبتدأ وقوله تعالى: يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ خبره والجملة عطف على «من آمن» إلخ. والمراد بالعذاب العذاب الذي أنذروه عاجلا أو آجلا أو حقيقة العذاب وجنسه المنتظم لذلك انتظاما أوليا وفي جعله ماسا إيذان بتنزيله منزلة الحي الفاعل لما يريد ففيه استعارة مكنية على ما قيل. وجوز الطيبي أن يكون في المس استعارة تبعية من غير استعارة في العذاب، والظاهر أن ما ذكر مبني على أن المس من خواص الأحياء، وفي البحر أنه يشعر بالاختيار، ومنع ذلك بعضهم، وادعى عصام الملة أنه أشير بالمس إلى أن العذاب لا يأخذهم بحيث يعدمهم حتى يتخلصوا بالهلاك وله وجه بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي بسبب فسقهم. نعم أخرج ابن جرير عن ابن زيد أن كل فسق في القرآن معناه الكذب، ولعله في حيز المنع وخروجهم المستمر عن حظيرة الإيمان والطاعة، وقد يقال: الفاسق لمن خرج عن التزام بعض الأحكام لكنه غير مناسب هاهنا. قُلْ أيها الرسول البشير النذير للكفرة الذين يقترحون عليك ما يقترحون: لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ أي مقدوراته جمع خزينة أو خزانة وهي في الأصل ما يحفظ فيه الأشياء النفيسة تجوز فيها عما ذكر، وعلى ذلك الجبائي وغيره، ولم يقل: لا أقدر على ما يقدر عليه الله قيل: لأنه أبلغ لدلالته على أنه لقوة قدرته كأن مقدوراته مخزونة حاضرة عنده، وقيل: إن الخزائن مجاز عن المرزوقات من إطلاق المحل على الحال أو اللازم على الملزوم وقيل: الكلام على حذف مضاف أي خزائن رزق الله تعالى أو مقدوراته، والمعنى لا أدعي أن هاتيك الخزائن مفوضة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 146 إلي أتصرف فيها كيفما أشاء استقلالا أو استدعاء حتى تقترحوا علي تنزل الآيات أو إنزال العذاب أو قلب الجبال ذهبا أو غير ذلك مما لا يليق بشأني. وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ عطف على محل عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ فهو مقول أَقُولُ أيضا، ونظر فيه الحلبي من حيث إنه يؤدي إلى أن يصير التقدير ولا أقول لكم لا أعلم الغيب وليس بصحيح. وأجيب بأن التقدير ولا أقول لكم أعلم الغيب بإضمار القول بين لا وأعلم لا بين الواو وَلا، وقيل: لا في- لا أعلم- مزيدة مؤكدة للنفي. وقال أبو حيان: الظاهر أنه عطف على لا أَقُولُ لا معمول له فهو أمران يخبر عن نفسه بهذه الجمل فهي معمولة للأمر الذي هو قُلْ، وتعقب بأنه لا فائدة في الإخبار بأني لا أعلم الغيب وإنما الفائدة في الإخبار بأني لا أقول ذلك ليكون نفيا لادعاء الأمرين اللذين هما من خواص الإلهية ليكون المعنى إني لا أدعي الإلهية. وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ولا أدعي الملكية، ويكون تكرير لا أَقُولُ إشارة إلى هذا المعنى. وقال بعض المحققين: إن مفهومي عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ. وإِنِّي مَلَكٌ لما كان حالهما معلوما عند الناس لم يكن حاجة إلى نفيهما وإنما الحاجة إلى نفي ادعائهما تبريا عن دعوى الباطل، ومفهوم إني لا أعلم الغيب لما لم يكن معلوما احتيج هنا إلى نفيه فدعوى أنه لا فائدة في الاخبار بذلك منظور فيها. والذي اختاره مولانا شيخ الإسلام القول الأول وأن المعنى ولا أدعي أيضا أني أعلم الغيب من أفعاله عز وجل حتى تسألوني عن وقت الساعة أو وقت إنزال العذاب أو نحوهما. وخص ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الغيب بعاقبة ما يصيرون إليه أي لا أدعي ذلك ولا أدعي أيضا الملكية حتى تكلفوني من الأفاعيل الخارقة للعادات ما لا يطيقه البشر من الرقي في السماء ونحوه أو تعدوا عدم اتصافي بصفاتهم قادحا في أمري كما ينبىء عنه قولهم: مالِ هذَا الرَّسُولِ [الفرقان: 7] يأكل الطعام ويمشي في الأسواق وليس في الآية على هذا دليل على تفضيل الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيما هو محل النزاع كما زعم الجبائي لأنها إنما وردت ردا على الكفار في قولهم مالِ هذَا الرَّسُولِ إلخ وتكليفهم له عليهم الصلاة والسلام بنحو الرقي في السماء. ونحن لا ندعي تميز الأنبياء على الملائكة عليهم الصلاة والسلام في عدم الأكل مثلا والقدرة على الأفاعيل الخارقة كالرقي ونحوه ولا مساواتهم لهم في ذلك بل كون الملائكة متميزين عليهم عليهم الصلاة والسلام في ذلك مما أجمع عليه الموافق والمخالف ولا يوجب ذلك اتفاقا على أن الملائكة أفضل منهم بالمعنى المتنازع فيه وإلا لكان كثير من الحيوانات أفضل من الإنسان ولا يدعي ذلك إلا جماد. وهذا الجواب أظهر مما نقل عن القاضي زكريا من أن هذا القول منه صلّى الله عليه وسلّم من باب التواضع وإظهار العبودية نظير قوله عليه الصلاة والسلام: «لا تفضلوني على ابن متى» في رأي بل هو ليس بشيء كما لا يخفى. وقيل: إن الأفضلية مبنية على زعم المخاطبين وهو من ضيق العطن، وقيل: حيث كان معنى الآية لا أدعي الألوهية ولا الملكية لا يكون فيها ترق من الأدنى إلى الأعلى بل هي حينئذ ظاهرة في التدلي، وبذلك تهدم قاعدة استدلال الزمخشري في قوله تعالى: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [النساء: 172] على تفضيل الملك على البشر إذ لا يتصور الترقي من الألوهية إلى ما هو أعلا منها إذ لا أعلا ليترقى إليه. وتعقب بأنه لا هدم لها مع إعادة لا أَقُولُ الذي جعله أمرا مستقلا كالإضراب إذ المعنى لا أدعي الألوهية بل ولا الملكية، ولذا كرر لا أقول. وقال بعضهم في التفرقة بين المقامين: إن مقام نفي الاستنكاف ينبغي فيه أن يكون المتأخر أعلا لئلا يلغو ذكره، ومقام نفي الادعاء بالعكس فإن من لا يتجاسر على دعوى الملكية أولى أن لا يتجاسر على دعوى الألوهية الأشد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 استبعادا، نعم في كون المراد من الأول نفي دعوى الألوهية والتبري منها نظر وإلا لقيل لا أقول لكم إني إله كما قيل وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ وأيضا في الكناية عن الألوهية بعندي خزائن الله ما لا يخفى من البشاعة، وإضافة الخزائن إليه تعالى منافية لها. ودفع المنافاة بأن دعوى الألوهية ليس دعوى أن يكون هو الله تعالى بل أن يكون شريكا له عز اسمه في الألوهية فيه نظر لأن إضافة الخزائن إليه تعالى اختصاصية فتنافي الشركة اللهم إلا أن يكون خزائن مثل خزائن أو تنسب إليه وهو كما ترى. ومن هنا قال شيخ الإسلام: إن جعل ذلك تبريا عن دعوى الألوهية مما لا وجه له قطعا. إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ أي ما أفعل إلا اتباع ما يوحى إلي من غير أن يكون لي مدخل ما في الوحي أو في الموحى بطريق الاستدعاء أو بوجه آخر من الوجوه أصلا. وحاصله أني عبد يمتثل أمر مولاه ويتبع ما أوحاه ولا أدعي شيئا من تلك الأشياء حتى تقترحوا علي ما هو من آثارها وأحكامها وتجعلوا عدم إجابتي إلى ذلك دليلا على عدم صحة ما أدعيه من الرسالة. ولا يخفى أن هذا أبلغ من أني نبي أو رسول ولذا عدل إليه. ولا دلالة فيه لنفاة القياس ولا لمانعي جواز اجتهاده عليه الصلاة والسلام كما لا يخفى. وذهب البعض إلى أن المقصود من هذا الرد على الكفرة كأنه قيل: إن هذه دعوى وليست مما يستبعد إنما المستبعد ادعاء البشر الألوهية أو الملكية ولست أدعيهما. وقد علمت آنفا ما في دعوى أن المقصود مما تقدم نفي ادعاء الألوهية والملكية قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أي الضال والمهتدي على الإطلاق كما قال غير واحد. والاستفهام إنكاري، والمراد إنكار استواء من لا يعلم ما ذكر من الحقائق ومن يعلمها مع الإشعار بكمال ظهورها والتنفير عن الضلال والترغيب في الاهتداء، وتكرير الأمر لتثبيت التبكيت وتأكيد الإلزام أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ عطف على مقدر يقتضيه المقام أي ألا تسمعون هذا الكلام الحق فلا تتفكرون فيه أو أتسمعونه فلا تتفكرون. والاستفهام للتقرير والتوبيخ. والكلام داخل تحت الأمر. ومناط التوبيخ عدم الأمرين على الأول وعدم التفكر مع تحقق ما يوجبه على الثاني. وذكر بعضهم أن في الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ ثلاث احتمالات إما أن يكونا مثالا للضال والمهتدي أو مثالا للجاهل والعالم أو مثالا لمدعي المستحيل كالألوهية والملكية. ومدعي المستقيم كالنبوة. وإن المعنى لا يستوي هذان الصنفان أفلا تتفكرون في ذلك فتهتدوا أي فتميزوا بين ادعاء الحق والباطل أو فتعلموا أن اتباع الوحي مما لا محيص عنه. والجملة تذييل لما مضى إما من أول السورة إلى هنا أو لقوله سبحانه إِنْ أَتَّبِعُ إلخ أو لقوله عز شأنه لا أَقُولُ. ورجح في الكشف الأول ثم الثاني ولا يخفى بعد هذا الترجيح. واعترض القول بإحالة الملكية بأنها من الممكنات لأن الجواهر متماثلة والمعاني القائمة ببعضها يجوز أن تقوم بكلها. وأجيب بعد تسليم ما فيه أن البشر حال كونه بشرا محال أن يكون ملكا لتمايزهما بالعوارض المتنافية- بلا خلاف. وإقدام آدم عليه الصلاة والسلام بعد سماع ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ [الأعراف: 20] على الأكل ليس طمعا في الملكية حال البشرية على أنه يجوز أن يقال: إنه لم يطمع في الملكية أصلا وإنما طمع في الخلود فأكل وَأَنْذِرْ أي عظ وخوف يا محمد بِهِ أي بما يوحى أو بالقرآن كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والزجاج، وقيل: أي بالله تعالى. وروي ذلك عن الضحاك. وهذا أمر منه سبحانه وتعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم بعد ما حكى سبحانه وتعالى له أن من الكفرة من لا يتعظ ولا يتأثر قد التحق بالأموات وانتظم في سلك الجمادات فما ينجع فيه دواء الإنذار ولا يفيده العظة والتذكار إذ ينذر من يتوقع في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 148 الجملة منهم الانتفاع ويرجى منهم القبول والسماع وهم المشار إليهم بقوله سبحانه: الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ فالمراد من الموصول المجوزون للحشر على الوجه الآتي سواء كانوا جازمين بأصله كأهل الكتاب وبعض المشركين المعترفين بالبعث المترددين في شفاعة آبائهم الأنبياء كالأولين أو في شفاعة الأصنام كالآخرين أو المترددين فيهما معا كبعض الكفرة الذين يعلم من حالهم أنهم إذا سمعوا بحديثه يخافون أن يكون حقا، وأما المنكرون للحشر رأسا. والقائلون به القاطعون بشفاعة آبائهم أو بشفاعة الأصنام فهم خارجون ممن أمر بإنذارهم كذا قال شيخ الإسلام. وروي عن ابن عباس، والحسن رضي الله تعالى عنهم أن المراد بالموصول المؤمنون. وارتضاه غير واحد إلا أنهم قيدوا بالمفرطين لأنه المناسب للإنذار ورجاء التقوى. وتعقبه الشيخ بأنه مما لا يساعده السباق ولا السياق بل فيه ما يقضي بعدم صحته وبينه بما سيذكر قريبا إن شاء الله تعالى، وقيل: المراد المؤمنون والكافرون. وعلله الإمام الرازي بأنه لا عاقل إلا وهو يخاف الحشر سواء قطع بحصوله أو كان شاكا فيه لأنه بالاتفاق غير معلوم البطلان بالضرورة فكان هذا الخوف قائما في حق الكل وبأنه عليه الصلاة والسلام كان مبعوثا إلى الكل فكان مأمورا بالتبليغ إليه ولا يخفى ما فيه، والمفعول الثاني للإنذار إما العذاب الأخروي المدلول عليه بما في حيز الصلة، وإما مطلق العذاب الذي ورد به الوعيد. والتعرض لعنوان الربوبية بتحقيق المخافة إما باعتبار أن التربية المفهومة منها مقتضية خلاف ما خافوا لأجله الحشر. وإما باعتبار أنها منبئة عن المالكية المطلقة والتصرف الكلي كما قيل. والمراد من الحشر إليه سبحانه الحشر إلى المكان الذي جعله عز وجل محلا لاجتماعهم وللقضاء عليهم فلا تصلح الآية دليلا للمجسمة. وقوله سبحانه: لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ في حيز النصب على الحالية من ضمير يُحْشَرُوا والعامل فيه فعله. ونقل الإمام عن الزجاج أنه حال من ضمير يَخافُونَ والأول أولى. ومِنْ دُونِهِ متعلق بمحذوف وقع حالا من اسم ليس لأنه في الأصل صفة له فلما قدم عليه انتصب على الحالية، والحال الأولى لإخراج الحشر الذي لم يقيد بها عن حيز الخوف وتحقيق أن ما نيط به الخوف تلك الحالة لا الحشر كيفما كان ضرورة أن المعترفين به الجازمين بنصرة غيره تعالى بمنزلة المنكرين له في عدم الخوف الذي يدور عليه أمر الإنذار والحال الثانية لتحقيق مدار خوفهم وهو فقدان ما علقوا به رجاءهم وذلك إنما هو غيره سبحانه كما في قوله جل شأنه: وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ [الأحقاف: 32] وليست لإخراج الولي الذي لم يقيد بها عن حيز الانتفاء لاستلزامه ثبوت ولايته تعالى لهم كما في قوله سبحانه: وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [البقرة: 107] وذلك فاسد. والمعنى أنذر به الذين يخافون حشرهم غير منصورين من جهة أنصارهم بزعمهم قاله شيخ الإسلام، ثم قال: ومن هذا اتضح أن لا سبيل إلى كون المراد بالخائفين المفرطين من المؤمنين إذ ليس لهم ولي ولا شفيع سواه عز وجل ليخافوا الحشر بدون نصرته وإنما الذي يخافونه الحشر بدون نصرته سبحانه انتهى. وهو تحقيق لم أره لغيره ويصغر لديه ما في التفسير الكبير، ولعل ما روي عن ابن عباس والحسن رضي الله تعالى عنهم لم يثبت عنهما فتدبر. لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي لكي يخافوا في الدنيا وينتهوا عن الكفر والمعاصي كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو على هذا تعليل للأمر بالإنذار، وجوز أن يكون حالا عن ضمير الأمر أي أنذرهم راجيا تقواهم أو من الموصول أي أنذرهم مرجوا منهم التقوى وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ. لما أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بإنذار المذكورين لعلهم ينتظمون في سلك المتقين نهى عليه الصلاة والسلام عن كون ذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 149 بحيث يؤدي إلى طردهم ويفهم من بعض الروايات أن الآيتين نزلتا معا ولا يفهم ذلك من البعض الآخر، فقد أخرج أحمد والطبراني وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: «مر الملأ من قريش على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعنده صهيب، وعمار، وبلال، وخباب، ونحوهم من ضعفاء المسلمين فقالوا: يا محمد رضيت بهؤلاء من قومك أهؤلاء منّ الله تعالى عليهم من بيننا أنحن نكون تبعا لهؤلاء اطردهم عنك فلعلك إن طردتهم أن نتبعك فأنزل الله تعالى فيهم القرآن وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ إلى قوله سبحانه: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ. وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، والبيهقي في الدلائل، وغيرهم عن خباب رضي الله تعالى عنه قال: جاء الأقرع ابن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري فوجدا النبي صلّى الله عليه وسلّم قاعدا مع بلال، وصهيب، وعمار، وخباب في أناس ضعفاء من المؤمنين فلما رأوهم حوله حقروهم فأتوه فخلوا به فقالوا: نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا العرب له فضلنا فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا قعودا مع هؤلاء الأعبد فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت قال: نعم قالوا: فاكتب لنا عليك بذلك كتابا فدعا بالصحيفة ودعا عليا كرم الله تعالى وجهه ليكتب ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبرائيل بهذه الآية وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ إلخ ثم دعانا فأتيناه وهو يقول: «سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة» فكنا نقعد معه فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا فأنزل الله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [الكهف: 28] إلخ فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقعد معنا بعد فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم، وأخرج ابن المنذر وغيره عن عكرمة قال: مشى عتبة وشيبة ابنا ربيعة وقرظة بن عبد عمرو بن نوفل والحارث بن عامر بن نوفل ومطعم بن عدي في أشراف الكفار من عبد مناف إلى أبي طالب فقالوا: لو أن ابن أخيك طرد عنا هؤلاء الأعبد والحلفاء كان أعظم له في صدورنا وأطوع له عندنا وأدنى لاتباعنا إياه وتصديقه فذكر ذلك أبو طالب للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: لو فعلت يا رسول الله حتى ننظر ما يريدون بقولهم: وما يصيرون إليه من أمرهم فأنزل الله سبحانه: وَأَنْذِرْ بِهِ إلى قوله سبحانه: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ وكانوا بلالا، وعمار بن ياسر، وسالم مولى أبي حذيفة، وصبيحا مولى أسيد، والحلفاء ابن مسعود، والمقداد بن عمرو، وواقد بن عبد الله الحنظلي، وعمرو بن عبد عمرو، ومرثد بن أبي مرثد، وأشباههم، ونزل في أئمة الكفر من قريش، والموالي، والحلفاء وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ الآية فلما نزلت أقبل عمر رضي الله تعالى عنه فاعتذر من مقالته فأنزل الله تعالى: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا الآية. والغداة أصله غدوة قلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وأصل العشي عشوى قلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء وفاء بالقاعدة، والظاهر أنه مفرد كالعشية وجمعه عشايا وعشيات، وقيل: هو جمع عشية وفيه بعد، ومعنى الأول لغة البكرة أو ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس، ومعنى الثاني آخر النهار، والمراد بهما هاهنا الدوام كما يقال فعله مساء وصباحا إذا داوم عليه، والمراد بالدعاء حقيقته أو الصلاة أو الذكر أو قراءة القرآن أقوال. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد أنهما عبارة عن صلاتي الصبح والعصر لأن الزمان كثيرا ما يذكر ويراد به ما يقع فيه كما يقال صلى الصبح والمراد صلاته وقد يعكس فيراد بالصلاة زمانها نحو قربت الصلاة أي وقتها، وقد يراد بها مكانها كما قيل في قوله تعالى: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النساء: 43] أن المراد بالصلاة المساجد، وخصا بالذكر لشرفهما. والأقوال في الدعاء جارية على هذا القول خلا الثاني، وقرأ ابن عامر هنا وفي الكهف «الغدوة» بالواو وهي قراءة الحسن، ومالك بن دينار، وأبي رجاء العطاردي، وغيرهم، وزعم أبو عبيد أن من قرأ بالواو فقد أخطأ لأن غدوة علم جنس لا تدخله الألف واللام، ومنشأ خطئه أنه اتبع رسم الخط لأن الغداة تكتب بالواو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 150 كالصلاة والزكاة وقد أخطأ في هذه التخطئة لأن غدوة وإن كان المعروف فيها ما ذكره لكن قد سمع مجيئها اسم جنس أيضا منكرا مصروفا فتدخلها أل حينئذ، وقد نقل ذلك سيبويه عن الخليل، وتصديره بالزعم لا يدل على ضعفه كما يشير إليه كلام الإمام النووي في شرح مسلم وذكره جم غفير من أهل اللغة. وذكر المبرد أيضا عن العرب تنكير غدوة وصرفها وإدخال اللام عليها إذا لم يرد بها غدوة يوم بعينه والمثبت مقدم على النافي ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، وكفى بوروده في القراءة المتواترة حجة فلا حاجة- كما قيل- إلى التزام أنها علم لكنها نكرت فدخلتها أل لأن تنكير العلم وإدخال أل عليه أقل قليل في كلامهم بل إن تنكير علم الجنس لم يعهد ولا إلى التزام أنها معرفة ودخلتها اللام لمشاكلة العشي كما دخلت على يزيد لمشاكلة الوليد في قوله: رأيت الوليد بن اليزيد مباركا ... شديدا بأعباء الخلافة كاهله لأن هذا النوع من المشاكلة وهو المشاكلة الحقيقية قليل أيضا، والكثير في المشاكلة المجاز ولا دلالة في الآية على أنه صلّى الله عليه وسلّم وقع منه الطرد ليخدش وجه العصمة، والذي تحكيه الآثار أنه عليه الصلاة والسلام هم أن يجعل لأولئك الداعين المتقين وقتا خاصا ولأشراف قريش وقتا آخر ليتألفوا فيقودهم إلى الإيمان وأولئك رضي الله تعالى عنهم يعلمون ما قصد صلّى الله عليه وسلّم فلا يحصل لهم إهانة وانكسار قلب منه عليه الصلاة والسلام. يُرِيدُونَ وَجْهَهُ في موضع الحال من ضمير يَدْعُونَ. وفي المراد بالوجه عند المؤولين خلاف فقيل- وهو المشهور- إنه الذات أي مريدين ذاته تعالى، ومعنى إرادة الذات على ما قيل الإخلاص لها بناء على استحالة كون الله تعالى مرادا لذاته سبحانه وتعالى لأن الإرادة صفة لا تتعلق إلا بالممكنات لأنها تقتضي ترجيح أحد طرفي المراد على الآخر وذلك لا يعقل إلا فيها أي يدعون ربهم مخلصين له سبحانه فيه، وقيد بذلك لتأكيد عليته للنهي فإن الإخلاص من أقوى موجبات الإكرام المضاد للطرد، وقيل: المراد به الجهة والطريق، والمعنى مريدين الطريق الذي أمرهم جل شأنه بإرادته وهو الذي يقتضيه كلام الزجاج، وقيل: إنه كناية عن المحبة وطلب الرضا لأن من أحب ذاتا أحب أن يرى وجهه فرؤية الوجه من لوازم المحبة فلهذا جعل كناية عنها قاله الإمام وهو كما ترى. وجوز أيضا أن يكون ذكر الوجه للتعظيم كما يقال: هذا وجه الرأي وهذا وجهه الدليل، والمعنى يريدونه ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ضمير الجمع للموصول السابق كما روي عن عطاء وغالب المفسرين. وجوز في ما أن تكون تميمية وحجازية. وفي شَيْءٍ أن يكون فاعل الظرف المعتمد على النفي ومِنْ حِسابِهِمْ وصف له قدم فصار حالا، وأن يكون في موضع رفع بالابتداء والظرف متعلق بمحذوف وقع خبرا مقدما له و «من» زائدة للاستغراق، وكلام الزمخشري يشير إلى اختياره، والجملة اعتراض وسط بين النهي وجوابه تقريرا له ودفعا لما عسى أن يتوهم كونه مسوغا لطرد المتقين من أقاويل الطاعنين في دينهم كدأب قوم نوح عليه السلام حيث قالوا: ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ [هود: 27] ، والمعنى ما عليك شيء ما من حساب إيمانهم وأعمالهم الباطلة كما يقوله المشركون حتى تتصدى له وتبني على ذلك ما تراه من الأحكام وإنما وظيفتك حسبما هو شأن منصب الرسالة النظر إلى ظواهر الأمور وإجراء الأحكام على موجبها وتفويض البواطن وحسابها إلى اللطيف الخبير، وظواهر هؤلاء دعاء ربهم بالغداة والعشي وروي عن ابن زيد أن المعنى ما عليك شيء من حساب رزقهم أي من فقرهم، والمراد لا يضرك فقرهم شيئا ليصح لك الإقدام على ما أراده المشركون منك فيهم. وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ عطف على ما قبله، وجيء به مع أن الجواب قد تم بذلك مبالغة في بيان كون انتفاء حسابهم عليه عليه الصلاة والسلام بنظمه في سلك ما لا شبهة فيه أصلا وهو انتفاء كون حسابه صلّى الله عليه وسلّم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 151 عليهم فهو على طريقة قوله سبحانه: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف: 34] في رأي. وقال الزمخشري: إن الجملتين في معنى جملة واحدة تؤدي مؤدى وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: 164] كأنه قيل: لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه، وحينئذ لا بد من الجملتين، وتعقب بأنه غير حقيق بجلالة التنزيل وتقديم خطابه صلّى الله عليه وسلّم في الموضعين- قيل- للتشريف له عليه أشرف الصلاة وأفضل السلام وإلا كان الظاهر وما عليهم من حسابك من شيء بتقديم على ومجرورها كما في الأول، وقيل: إن تقديم عليك في الجملة الأولى للقصد إلى إيراد النفي على اختصاص حسابهم به صلّى الله عليه وسلّم إذ هو الداعي إلى تصديه عليه الصلاة والسلام لحسابهم. وذهب بعض المفسرين إلى أن ضمير الجمع للمشركين وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والمعنى أنك لا تؤاخذ بحسابهم حتى يهمك إيمانهم ويدعوك الحرص عليه إلى أن تطرد المؤمنين، والضمير في قوله سبحانه فَتَطْرُدَهُمْ للمؤمنين على كل حال، والفعل منصوب على أنه جواب النفي، والمراد انتفاء الطرد لا انتفاء كون حسابهم عليه عليه الصلاة والسلام ضرورة انتفاء المسبب لانتفاء سببه كأنه قيل: ما يكون منك ذلك فكيف يقع منك طرد وهو أحد معنيين في مثل هذا التركيب يمتنع ثانيهما هنا، وقوله تعالى: فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ جواب للنهي، وجوز الإمام والزمخشري أن يكون عطفا على فَتَطْرُدَهُمْ على وجه التسبب لأن الكون ظالما معلول طردهم وسبب له. واعترض بأن الاشتراك في النصب بالعطف يقتضي الاشتراك في سبب النصب وهو توقف الثاني على الأول بحيث يلزم من انتفاء الأول انتفاؤه والكون من الظالمين منتف سواء لوحظ ابتداء أو بعد ترتبه على الطرد وجعله مترتبا على الطرد بلا اعتبار كونه مترتبا على المنفي ومنتفيا بانتفائه يفوت وجود سببية العطف. وأجيب بأن الظلم بالطرد يتوقف انتفاؤه على انتفاء الطرد كما لا يتوقف وجوده على وجوده وانتفاء الطرد متوقف على انتفاء كون حسابهم عليه عليه الصلاة والسلام فانتفاء الظلم بالطرد يتوقف على ذلك أيضا فيلزم من الانتفاء الانتفاء ويتحقق الاشتراك في سبب النصب وهو ظاهر وإنكاره مكابرة. واعترض أيضا بأن العطف مؤذن بأن عدم الظلم لعدم تفويض الحساب إليه صلّى الله عليه وسلّم فيفهم منه أنه لو كان حسابهم عليه صلّى الله عليه وسلّم وطردهم لكان ظلما وليس كذلك لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه. وأجيب بأنه على حد- نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه-. وفي الكشف في بيان مراد صاحب الكشاف أنه أراد أن الطرد سبب للظلم فقيل: ما عليك من حسابهم لتطردهم فتظلم به ويفهم منه أنه لو كان عليه حسابهم لم يكن طرده إياهم ظلما وذلك لأن الطرد جعل سببا للظلم على تقدير أن لا يملك حسابهم وعليه لا حاجة إلى جعله على حد- نعم العبد- إلخ بل هو خروج عن الحد، وجوز بعضهم أن يكون الأول جوابا للنهي كما جاز أن يكون جوابا للنفي، ونقل عن الدر المصون وقال: الكلام عليه بحسب الظاهر ولا تطردهم فتطردهم وهو كما ترى، وجعل بعضهم اجتماع ذينك النفيين السابقين على هذا الجواب من قبيل التنازع خلا أنه لا يمكن كون الجواب للثاني بوجه أصلا إذ يلزم المعنى حينئذ أنه لو كان عليهم شيء من حسابه عليه الصلاة والسلام كان طرده إياهم حسنا وهو خلف لا يجوز حمل القرآن عليه وليس في هذا خروج عن مختار البصريين لأعمال الثاني لأن شرطه عندهم أن يكون المعنى مستقيما فيهما فإن لم يستقم أعمل الأول اتفاقا كما في قوله: ولو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال وأنت إذا علمت أن الجملة الثانية لماذا أتى بها علمت ما في هذا الكلام فافهم وأيّا ما كان فالمراد فتكون من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 الظالمين لأنفسهم أو لأولئك المؤمنين أو فتكون ممن اتصف بصفة الظلم وَكَذلِكَ فَتَنَّا أي ابتلينا واختبرنا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ والمراد عاملناهم معاملة المختبر وذلك إشارة إلى الفتن المذكور في النظم الكريم، وعبر عنه بذلك إيذانا بتفخيمه كقولك: ضربت ذلك الضرب. والكاف مقحمة بمعنى أن التشبيه غير مقصود منها بل المقصود لازمه الكنائي أو المجازي وهو التحقق والتقرر وهو إقحام مطرد وليست زائدة كما توهم. والمعنى مثل ذلك الفتن العظيم البديع فتنا بعض الناس ببعضهم حيث قدمنا الآخرين في أمر الدين على الأولين المتقدمين عليهم في أمر الدنيا، ويؤول إلى أن هذا الأمر العظيم متحقق منا. ومن ظن أن التشبيه هو المقصود لم يجوز أن يكون ذلك إشارة إلى المذكور لما يلزمه من تشبيه الشيء بنفسه. وتكلف لوجه التشبيه والمغايرة بجعل المشبه به الأمر المقرر في العقول والمشبه ما دل عليه الكلام من الأمر الخارجي، وقيل: المراد مثل ما فتنا الكفار بحسب غناهم وفقر المؤمنين حتى أهانوهم لاختلافهم في الأسباب الدنيوية فتناهم بحسب سبق المؤمنين إلى الإيمان وتخلفهم عنه حتى حسدوهم وقالوا ما قالوا لاختلاف أديانهم، ولا يخفى أن الأول أدق نظرا وأعلى كعبا وقد سلف بعض الكلام على ذلك لِيَقُولُوا أي البعض الأولون مشيرين إلى الآخرين محقرين لهم أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بأن وفقهم لإصابة الحق والفوز بما يسعدهم عنده سبحانه مِنْ بَيْنِنا أي من دوننا ونحن المقدمون والرؤساء وهم العبيد والفقراء وغرضهم بذلك إنكار المن رأسا على حد قولهم: لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ [الأحقاف: 11] لا تحقير الممنون عليهم مع الاعتراف بوقوعه بطريق الاعتراض عليه سبحانه، وذكر الإمام أنه سبحانه وتعالى بين في هذه الآية أن كلّا من الفريقين المؤمنين والكفار مبتلى بصاحبه فأولئك الكفار الرؤساء الأغنياء كانوا يحسدون فقراء الصحابة رضي الله تعالى عنهم على كونهم سابقين في الإسلام متسارعين إلى قبوله فقالوا: لو دخلنا في الإسلام لوجب علينا أن ننقاد لهؤلاء الفقراء وكان ذلك يشق عليهم. ونظيره قوله تعالى: أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا [القمر: 25] ولَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وأما فقراء الصحابة فكانوا يرون أولئك الكفار في الراحة والمسرة والخصب والسعة فكانوا يقولون: كيف حصلت هذه الأحوال لهؤلاء الكفار مع أنا في الشدة والضيق والقلة، وأما المحققون المحقون فهم الذين يعلمون أن كل ما فعله الله تعالى فهو حق وصدق وحكمة وصواب ولا اعتراض عليه إما بحكم المالكية كما نقول أو بحسب المصلحة كما يقول المعتزلة انتهى. وفيه نظر لأن صدر كلامه صريح في أن الكفار معترفون بوقوع المن للمشار إليهم حاسدون لهم على وقوعه وهو مناف لتنظيره بقولهم: لَوْ كانَ خَيْراً إلخ. وأيضا كلامه كالصريح في أن فقراء المؤمنين حسدوا الكفار على دنياهم واعترضوا على الله سبحانه بالترفيه على أعدائه والتضييق على أحبائه وذلك مما يجل عنه أدنى المؤمنين فكيف أولئك الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، وأيضا مقابلة فقراء الصحابة رضي الله تعالى عنهم بالمحققين المحقين يدل على أنهم وحاشاهم لم يكونوا كذلك وهو بديهي البطلان عند المحققين المحقين فتدبر. واللام ظاهرة في التعليل وهي متعلقة بفتنا وما بعدها علة له. والسلف- كما قال شيخنا إبراهيم الكوراني وقاضي القضاة تقي الدين محمد التنوخي. وغيرهما- على إثبات العلة لأفعاله تعالى استدلالا بنحو عشرة آلاف دليل على ذلك. واحتج النافون لذلك بوجوه ردها الثاني في المحتبر، وذكر الأول في مسلك السداد ما يعلم منه ردها، وهذا بحث قد فرغ منه وطوي بساطه، وقال غير واحد: هي لام العاقبة، ونقل عن شرح المقاصد ما يأبى ذلك وهو أن لام العاقبة إنما تكون فيما لا يكون للفاعل شعور بالترتب وقت الفعل أو قبله فيفعل لغرض ولا يحصل له ذلك بل ضده فيجعل كأنه فعل الفعل لذلك الغرض الفاسد تنبيها على خطئه ولا يتصور هذا في كلام علام الغيوب بالنظر إلى أفعاله وإن وقع فيه بالنظر إلى فعل غيره سبحانه كقوله عز وجل: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إذ ترتب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 153 فوائد أفعاله تعالى عليها مبنية على العلم التام، نعم إن ابن هشام وكثيرا من النحاة لم يعتبروا هذا القيد، وقالوا: إنها لام تدل على الصيرورة والمآل مطلقا فيجوز أن تقع في كلامه تعالى حينئذ على وجه لا فساد فيه. ومن الناس من قال: إنها للتعليل مقابلا به احتمال العاقبة على أن فَتَنَّا متضمن معنى خذلنا أو على أن الفتن مراد به الخذلان من إطلاق المسبب على السبب. واعترض بأن التعليل هنا ليس بمعناه الحقيقي بناء على أن أفعاله تعالى منزهة عن العلل فيكون مجازا عن مجرد الترتب وهو في الحقيقة معنى لام العاقبة فلا وجه للمقابلة. وأجيب بأنهما مختلفان بالاعتبار فإن اعتبر تشبيه الترتب بالتعليل كانت لام تعليل وإن لم يعتبر كانت لام عاقبة، واعترض بأن العاقبة أيضا استعارة فلا يتم هذا الفرق إلا على القول بأنه معنى حقيقي وعلى خلافه يحتاج إلى فرق آخر، وقد يقال: في الفرق أن في التعليل المقابل للعاقبة سببية واقتضاء وفي العاقبة مجرد ترتب وإفضاء وفي التعليل الحقيقي يعتبر البعث على الفعل وهذا هو مراد من قال: إن أفعال الله تعالى لا تعلل: وحينئذ يصح أن يقال: إن اللام على تقدير تضمين فَتَنَّا معنى خذلنا أو أن الفتن مراد به الخذلان للتعليل مجازا لأن هناك تسببا واقتضاء فقد من دون بعث، وعلى تقدير عدم القول بالتضمين وإبقاء اللفظ على المتبادر منه هي لام العاقبة وهو تعليل مجازي أيضا لكن ليس فيه إلا التأدي فإن ابتلاء بعضهم ببعض مؤد للحسد وهو مؤد إلى القول المذكور وليس هناك تسبب ولا بعث أصلا. والحاصل أن كلّا من العاقبة والتعليل المقابل لها مجاز عن التعليل الحقيقي إلا أن التعليل المقابل أقرب إليه من العاقبة ومنشأ الأقربية هو الفارق، والبحث بعد محتاج إلى تأمل فتأمل وإذا فتح لك فاشكر الله سبحانه. أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ رد لقولهم ذلك وإشارة إلى أن مدار استحقاق ذلك الأنعام معرفة شأن النعمة والاعتراف بحق المنعم. والاستفهام للتقرير بعلمه البالغ بذلك، والباء الأولى سيف خطيب والثانية متعلقة بأعلم ويكفي أفعل العمل في مثله. وفي الدر المصون العلم يتعدى بالباء لتضمنه معنى الإحاطة وهو كثير في كلام الناس نحو علم بكذا وله علم به، والمعنى أليس الله تعالى عالما على أتم وجه محيطا علمه بالشاكرين لنعمه حتى يستبعدوا أنعامه عز وجل عليهم، وفيه من الإشارة إلى أن أولئك الضعفاء عارفون بحق نعم الله تعالى عليهم من التوفيق للإيمان والسبق إليه وغير ذلك شاكرون عليه مع التعريض بأن القائلين في مهامه الضلال بمعزل عن ذلك كله ما لا يخفى. وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا هم كما روي عن عكرمة الذين نهى صلّى الله عليه وسلّم عن طردهم، والمراد بالآيات الآيات القرآنية أو الحجج مطلقا، وجوز في الباء أن تكون صلة الإيمان وأن تكون سببية أي يؤمنون بكل ما يجب الإيمان به بسبب نزول الآيات أو النظر فيها والاستدلال بها. وفي وصف أولئك الكرام بالإيمان بعد وصفهم بما وصفهم سبحانه به تنبيه على حيازتهم لفضيلتي العلم والعمل، وتأخير هذا الوصف مع أنه كالمنشأ للوصف السابق لما أن مدار الوعد بالرحمة هو الإيمان كما أن مناط النهي عن الطرد فما سبق هو المداومة على العبادة، وتقدم في رواية ابن المنذر عن عكرمة ما يشير إلى أنها نزلت في عمر رضي الله تعالى عنه، وروي ذلك أيضا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وأمر صيغة الجمع على هذا ظاهر. وأخرج عبد بن حميد، ومسدد في مسنده، وابن جرير، وآخرون عن ماهان قال: أتى قوم النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: إنا أصبنا ذنوبا عظاما فما رد عليه الصلاة والسلام عليهم شيئا فانصرفوا فأنزل الله تعالى الآية فدعاهم صلّى الله عليه وسلّم فقرأها عليهم. وروي عن أنس مثل ذلك، وقيل: لم تنزل في قوم بأعيانهم بل هي محمولة على إطلاقها واختاره الإمام. والمشهور الأول وسياق الآية يرجح ما روي عن ماهان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 154 فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ أمر منه تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يبدأهم بالسلام في محل لا ابتداء به فيه إكراما لهم بخصوصهم كما روي عن عكرمة، واختاره الجبائي، وقيل: أمره سبحانه أن يبلغهم تحيته عز شأنه وروي ذلك عن الحسن، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المعنى اقبل عذرهم واعترافهم وبشرهم بالسلامة مما اعتذروا منه. وعليه لا يكون السلام بمعنى التحية وهو أيضا مبني على سبب النزول عنده رضي الله تعالى عنه، واختار بعضهم أنه بهذا المعنى أيضا على تقدير أن يراد بالموصول ما روي عن عكرمة فيكون الكلام أمرا له عليه الصلاة والسلام أن يبشرهم بالسلام من كل مكروه بعد إنذار مقابليهم. وقوله تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أي أوجبها على ذاته المقدسة تفضلا وإحسانا بالذات لا بتوسط شيء. أصلا وفيه احتمال آخر تقدم تبشير لهم بسعة رحمة الله تعالى. ولم يعطف على جملة السلام مع أنه محكي بالقول أيضا قيل لأنها دعائية إنشائية، وقيل: إشارة إلى استقلال كل من مضموني الجملتين وهما السلامة من المكاره ونيل المطالب بالبشارة. وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم إظهار للطف بهم وإشعار بعلة الحكم. وتمام الكلام في الآية قد مر عن قريب. وقوله تعالى: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بفتح الهمزة كما قرأ بذلك نافع، وابن عامر، وعاصم، ويعقوب بدل من الرَّحْمَةَ كما قال أبو علي الفارسي وغيره. وقيل: إنه مفعول كَتَبَ والرحمة مفعول له، وقيل: إنه على تقدير اللام، وجوز أبو البقاء أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي عليه سبحانه أنه إلخ ودل على ذلك ما قبله. وقرأ الباقون «إنه» بالكسر على الاستئناف النحوي أو البياني كأنه قيل: وما هذه الرحمة؟ والضمير للشأن. ومن موصولة أو شرطية وموضعها مبتدأ ومِنْكُمْ في موضع الحال من ضمير الفاعل. وقوله سبحانه: بِجَهالَةٍ حال أيضا على الأظهر أي من عمل ذنبا وهو جاهل أي فاعل فعل الجهلة لأن من عمل ما يؤدي إلى الضرر في العاقبة وهو عالم بذلك أو ظان فهو من أهل الجهل والسفه لا من أهل الحكمة والتدبير أو جاهل بما يتعلق به من المكروه والمضرة. وعن الحسن كل من عمل معصية فهو جاهل ثُمَّ تابَ عن ذلك مِنْ بَعْدِهِ أي العمل أو السوء وَأَصْلَحَ أي في توبته بأن أتى بشروطها من التدارك والعزم على عدم العود أبدا فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي فشأنه سبحانه وأمره مبالغ في المغفرة والرحمة له. فإن وما بعدها خبر مبتدأ محذوف، والجملة خبر مَنْ أو جواب الشرط، والخبر حينئذ على الخلاف، وقدر بعضهم فله أنه إلخ أو فعلية إنه إلخ، وحينئذ يجوز الرفع على الابتداء والرفع على الفاعلية، وقيل: إن المنسبك في موضع نصب بفعل محذوف أي فليعلم أنه إلخ، وقيل: إن هذا تكرير لما تقدم لبعد العهد، وقيل: بدل منه، قال أبو البقاء: وكلاهما ضعيف لوجهين الأول أن البدل لا يصحبه حرف معنى إلا أن يجعل الفاء زائدة وهو ضعيف، والثاني أن ذلك يؤدي إلى أن لا يبقى لمن خبر ولا جواب على تقدير شرطيتها، والتزام الحذف بعيد، وفتح الهمزة هنا قراءة من فتح هناك سوى نافع فإنه كباقي القراء قرأ بالكسر. وأجاز الزجاج كسر الأولى وفتح الثانية، وهي قراءة الأعرج، والزهري، وأبي عمرو الداني، ولم يطلع- على ما قيل- أبو شامة عليه الرحمة على ذلك فقال: إنه محتمل أعرابي وإن لم يقرأ به، وليس كما قال: ومن الناس من قال: إن هذه الآية تقوي مذهب المعتزلة حيث ذكر سبحانه في بيان سعة رحمته أن عمل السوء إذ قارن الجهل والتوبة والإصلاح فإنه يغفر، ولذا قيل: إنها نزلت في عمر رضي الله تعالى عنه حيث قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لو أجبتهم لما قالوا لعل الله تعالى يأتي بهم ولم يكن يعلم المضرة ثم إنه تاب وأصلح حتى أنه بكى وقال معتذرا: ما أردت إلا خيرا. وأورد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 155 عليه أنه من المقرر أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فنزولها في حق عمر رضي الله تعالى عنه لا يدفع الإشكال. وتعقب بأن مراد المجيب أن اللفظ ليس عاما وخطاب مِنْكُمْ لمن كان في تلك المشاورة والعامل لذلك منهم عمر رضي الله تعالى عنه فلا إشكال. وأنت تعلم أن بناء الجواب على هذه الرواية ليس من المتانة بمكان إذ للخصم أن يقول: لا نسلم تلك الرواية. فلعل الأولى في الجواب أن ما ذكر في الآية إنما هو المغفرة الواجبة حسب وجوب الرحمة في صدر الآية. ولا يلزم من تقييد ذلك بما تقدم تقييد مطلق المغفرة به. فحينئذ يمكن أن يقال: إنه تعالى قد يغفر لمن لم يتب مثلا إلا أنه سبحانه لم يكتب ذلك على نفسه جل شأنه فافهمه فإنه دقيق. وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ أي دائما الْآياتِ أي القرآنية في صفة أهل الطاعة وأهل الإجرام المصرين منهم والأوابين. والتشبيه هنا مثله فيما تقدم آنفا وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ بتأنيث الفعل بناء على تأنيث الفاعل. وهي قراءة ابن كثير، وابن عامر، وأبي عمرو، ويعقوب، وحفص عن عاصم، وهو عطف على علة محذوفة للفعل المذكور لم يقصد تعليله بها بخصوصها، وإنما قصد الإشعار بأن له فوائد جمة من جملتها ما ذكر أو علة لفعل مقدر وهو عبارة عن المذكور كما يشير إليه أبو البقاء فيكون مستأنفا أي ولتتبين سبيلهم نفعل ما نفعل من التفصيل. وقرأ نافع بالتاء ونصب السبيل على أن الفعل متعد أي ولتستوضح أنت يا محمد سبيل المجرمين فتعاملهم بما يليق بهم. وقرأ الباقون بالياء التحتية ورفع السبيل على أن الفعل مسند للمذكر. وتأنيث السبيل وتذكيره لغتان مشهورتان. هذا ومن باب الإشارة في الآيات: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ قال ابن عطاء: أخبر سبحانه بهذه الآية أن أهل السماع هم الأحياء وهم أهل الخطاب والجواب. وأخبر أن الآخرين هم الأموات. وقال غيره: المعنى أنه لا يستجيب إلا من فتح الله سبحانه سمع قلبه بالهداية الأصلية ووهب له الحياة الحقيقية بصفاء الاستعداد ونور الفطرة لا موتى الجهل الذين ماتت غرائزهم بالجهل المركب أو بالحجب الجبلية أو لم يكن لهم استعداد بحسب الفطرة فإنهم قد صموا عن السماع ولا يمكنهم ذلك بل يبعثهم الله تعالى إليه بالنشأة الثانية ثم يرجعون إليه سبحانه في عين الجمع المطلق للجزاء والمكافأة مع احتجابهم، وقيل: الآية إشارة إلى أهل الصحو وأهل المحو وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ حيث فطروا على التوحيد وجبلوا على المعرفة ولهم مشارب من بحر خطاب الله تعالى وأفنان من أشجار رياض كلماته سبحانه وحنين إليه عز وجل وتغريد باسمه عز اسمه. قيل: إن سمنون المحب كان إذا تكلم في المحبة يسقط الطير من الهواء. وروي في بعض الآثار أن الضب بعد أن تكلم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشهد برسالته أنشأ يقول: ألا يا رسول الله إنك صادق ... فبوركت مهديا وبوركت هاديا وبوركت في الآزال حيا وميتا ... وبوركت مولودا وبوركت ناشيا وإن فيهم أيضا المحتجبين ومرتكبي الرذائل وغير ذلك. وقد تقدم الكلام في هذا المبحث مفصلا ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ أي كتاب أعمالهم مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ في عين الجمع وَالَّذِينَ كَذَّبُوا لاحتجابهم بغواشي صفات نفوسهم بِآياتِنا وهي تجليات الصفات صُمٌّ فلا يسمعون بآذان القلوب وَبُكْمٌ فلا ينطقون بألسنة العقول فِي الظُّلُماتِ وهي ظلمات الطبيعة وغياهب الجهل مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 156 بإسبال حجب جلاله وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ بإشراق سبحات جماله قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ من المرض وسائر أنواع الشدائد أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ الصغرى أو الكبرى أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ لكشف ما ينالكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ لكشف ذلك. قال بعض العارفين مرجع الخواص إلى الحق جل شأنه من أول البداية ومرجع العوام إليه سبحانه بعد اليأس من الخلق وكان هذا في وقت هذا العارف. وأما في وقتنا فنرى العامة إذا ضاق بهم الخناق تركوا دعاء الملك الخلاق ودعوا سكان الثرى ومن لا يسمع ولا يرى. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ أي ليطيعوا ويبرزوا من الحجاب وينقادوا متضرعين عند تجلي صفة القهر وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ أي ما تضرعوا لقساوة قلوبهم بكثافة الحجاب وغلبة غشي الهوى وحب الدنيا وأصل كل ذلك سوء الاستعداد قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ فلم تسمعوا خطابه وَأَبْصارَكُمْ فلم تشاهدوا عجائب قدرته وأسرار صنعته وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ فلم يدخلها شيء من معرفته سبحانه مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ أي هل يقدر أحد سواه جلت قدرته على فتح باب من هذه الأبواب كلا بل هو القادر الفعال لما يريد قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي أي من حيث أنا خَزائِنُ اللَّهِ أي مقدوراته وَلا أَعْلَمُ أي من حيث أنا أيضا الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ أي روح مجرد لا أحتاج إلى طعام ولا شراب إِنْ أَتَّبِعُ أي من تلك الحيثية إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ من الله تعالى. وله صلّى الله عليه وسلّم مقام وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى. وإِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الأنفال: 17] وليس لطير العقل طيران في ذلك الجو قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى عن نور الله تعالى وإحاطته بكل ذرة من العرش إلى الثرى وظهوره بما شاء حسب الحكمة وعدم تقيده سبحانه بشيء من المظاهر وَالْبَصِيرُ بذلك فيتكلم في كل مقام بمقال وَلا تَطْرُدِ أي لأجل التربية والتهذيب والامتحان الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ الذي أوصلهم حيث أوصلهم من معارج الكمال بِالْغَداةِ أي وقت تجلي الجمال وَالْعَشِيِّ أي وقت تجلي العظمة والجلال يُرِيدُونَ وَجْهَهُ أي يريدونه سبحانه بذاته وصفاته ويطلبون تجليه عز وجل لقلوبهم ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ أي حساب أعمالهم القلبية من شيء لأن الله تعالى قد تولى حفظ قلوبهم وأمطر عليها سحائب عنايته فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، وقول تعالى: وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ عطف على سابقه أتى به للمبالغة على ما مر في العبارة. ويحتمل أن يراد لا تطرد السالكين لأجل المحجوبين فما عليك من حساب السالكين أو المحجوبين شيء ومعنى ذلك يعرف بأدنى التفات فَتَطْرُدَهُمْ عن الجلوس معك فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ لهم بنقص حقوقهم وعدم القيام برعاية شأنهم. ومن المؤولين من قال: إن الآية في أهل الوحدة أي لا تزجر الواصلين الكاملين ولا تنذرهم فإن الإنذار كما لا ينجع في الذين قست قلوبهم لا ينجع في الذين طاشوا وتلاشوا في الله تعالى وهم الذين يخصونه سبحانه بالعبادة دائما بحضور القلب وعدم مشاهدة شيء سواه حتى ذواتهم ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ فيما يعملون مِنْ شَيْءٍ إذ لا واسطة بينهم وبين ربهم وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ أي لا يخوضون في أمور دعوتك بنصر وإعانة لاشتغالهم به سبحانه عمن سواه ودوام حضورهم معه فَتَطْرُدَهُمْ عما هم عليه من دوام الحضور بدعوتك لهم لشغل ديني فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ لتشويشك عليهم أوقاتهم. والله تعالى أعلم بحقيقة كلامه وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ أي الناس وهم المحجوبون بِبَعْضٍ وهم العارفون لِيَقُولُوا أي المحجوبون مشيرين إلى العارفين مستحقرين لهم حيث لم يروا منهم سوى حالهم في الظاهر وفقرهم ولم يروا قدرهم ومرتبتهم وحسن حالهم في الباطن وغرهم ما هم فيه من المال والجاه والتنعم وخفض العيش أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بالهداية والمعرفة مِنْ بَيْنِنا أرادوا أنه سبحانه لم يمن عليهم أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ أي الذين يشكرونه حق شكره فيمن عليهم بعظيم جوده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 157 وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا أي بواسطتها فَقُلْ لهم أنت أيها الوسيلة: سَلامٌ عَلَيْكُمْ وهذا لأنهم في مقام الوسائط ولو بلغوا إلى درجة أهل المشاهدة لمنحهم سبحانه بسلامه كما قال عز شأنه: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] وباقي الآية ظاهر. وقال الإمام الرازي: إن قوله سبحانه: وَإِذا جاءَكَ إلخ مشتمل على أسرار عالية وذلك لأن ما سوى الله تعالى فهو آيات وجود الله تعالى وآيات صفات جلاله وإكرامه وآيات وحدانيته وما سواه سبحانه لا نهاية له فلا سبيل للعقل إلى الوقوف عليه على التفصيل التام إلا أن الممكن هو أن يطلع على بعض الآيات ويتوسل بمعرفتها إلى معرفة الله تعالى ثم يؤمن بالبقية على سبيل الإجمال ثم إنه يكون مدة حياته كالسابح في تلك البحار وكالسائح في تلك القفار. ولما كان لا نهاية لها فكذلك لا نهاية لترقي العبد في معارج تلك الآيات. وهذا شرح إجمالي لا نهاية لتفاصيله. ثم إن العبد إذا صار موصوفا بهذه الصفة فعند هذا أمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم بأن يقول لهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ فيكون هذا التسليم بشارة بحصول السلامة: وقوله سبحانه: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ بشارة بحصول الكرامة عقيب تلك السلامة. أما السلامة فبالنجاة من بحر عالم الظلمات ومركز الجسمانيات ومعدن الآفات والمخافات وموضع التغيرات والتبدلات، وأما الكرامة فبالوصول إلى الباقيات الصالحات والمجردات القدسيات والوصول إلى فسحة عالم الأنوار والترقي إلى معارج سرادقات الجلال انتهى. وقال آخر: الإشارة إلى نوع من السالكين أي إذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا بمحو صفاتهم في صفاتنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لتنزهكم عن عيوب صفاتكم وتجردكم عن ملابسها كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أي ألزم ذاته المقدسة رحمة إبدال صفاتكم بصفاته لكم لأن في الله سبحانه خلفا عن كل ما فات أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ أي ظهر عليه في تلوينه صفة من صفاته بغيبة أو غفلة ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ أي بعد ظهور تلك الصفة بأن رجع عن تلوينه وفاء إلى الحضور وَأَصْلَحَ أي ما ظهر منه بالخضوع والتضرع بين يديه سبحانه والرياضة فَأَنَّهُ عز شأنه غَفُورٌ يسترها عنه رَحِيمٌ يرحمه بهبة التمكين ونعمة الاستقامة وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي مثل ذلك التبيين الذي بيناه لهؤلاء المؤمنين نبين لك صفاتنا وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ وهم المحجوبون بصفاتهم الذين يفعلون لذلك ما يفعلون. والله تعالى الموفق للصواب. قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أمر له صلّى الله عليه وسلّم بالرجوع إلى خطاب المصرين على الشرك إثر ما أمر بمعاملة من عداهم بما يليق بحالهم أي قل لهم قطعا لأطماعهم الفارغة عن ركونك إليهم وبيانا لكون ما هم عليه هوى محضا وضلالا صرفا إني صرفت ومنعت بالأدلة الحقانية والآيات القرآنية أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ أي عن عبادة الآلهة الذين تَدْعُونَ أي تعبدونهم أو تسمونهم آلهة مِنْ دُونِ اللَّهِ سواء كانوا ذوي عقول أم لا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 159 وقد يقال: إن المراد بهم الأصنام إلا أنه عبر بصيغة العقلاء جريا على زعمهم قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ تكرير الأمر مع قرب العهد اعتناء بشأن المأمور به وإيذانا باختلاف القولين من حيث إن الأول حكاية لما مر من جهته تعالى من النهي والثاني لما من جهته عليه الصلاة والسلام من الانتهاء عن عبادة ما يعبدون. وفي هذا القول استجهال لهم وتنصيص على أنهم فيما هم فيه من عبادة غير الله تعالى تابعون لأهواء باطلة وليسوا على شيء مما ينطلق عليه الدين أصلا وإشعار بما يوجب النهي والانتهاء. وفيه- كما قيل- إشارة إلى عدم كفاية التقليد الصرف في مثل هذه المطالب، وقيل وهو في غاية البعد: إن المراد لا أتبع أهواءكم في طرد المؤمنين قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً أي إن اتبعت أهواءكم فقد ضللت. وهو استئناف مؤكد لانتهائه عليه الصلاة والسلام عما نهي عنه مقرر لكونه في غاية الضلال. وقرأ يحيى بن وثاب «ضللت» بكسر اللام وهو لغة فيه، والفتح كما قال أبو عبيدة- هو الغالب-. وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ عطف على ما قبله، والعدول إلى الاسمية للدلالة على الدوام والاستمرار أي دوام النفي واستمراره لا نفي الدوام والاستمرار، والمراد- كما قيل-، وما أنا إذا في شيء من الهدى حتى أعد في عدادهم، وفيه تعريض بأن المقول لهم كذلك قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ تبيين للحق الذي عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبيان لاتباعه إياه إثر إبطال الباطل الذي فيه الكفرة وبيان عدم اتباعه عليه الصلاة والسلام له في وقت من الأوقات. والبينة- كما قال الراغب- الدلالة الواضحة من بان يبين إذا ظهر أو الحجة الفاصلة بين الحق والباطل على أنها من البينونة أي الانفصال، وأيا ما كان فالمراد بها القرآن- كما قال الجبائي- وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد أني على يقين. وعن الحسن أن المراد بها النبوة وهو غير ظاهر كتفسيرها بالحجج العقلية أو ما يعمها، والتنوين للتفخيم أن بينة جليلة الشأن مِنْ رَبِّي أي كائنة من جهته سبحانه. ووصفها بذلك لتأكيد ما أفاده التنوين. وجوز أن تكون مِنْ اتصالية، وفي الكلام مضاف أي بينة متصلة بمعرفة ربي، وقيل: هي أجلية متعلقة بما تعلق به الخبر ويقدر المضاف أيضا أي كائن على بينة لأجل معرفة ربي والأول أظهر، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم من التشريف ورفع المنزلة ما لا يخفى. وقوله سبحانه: وَكَذَّبْتُمْ بِهِ- كما قال أبو البقاء- جملة إما مستأنفة أو حالية بتقدير قد في المشهور جيء بها لاستقباح مضمونها واستبعاد وقوعه مع تحقق ما يقتضي عدمه أو للتفرقة بينه عليه الصلاة والسلام وبينهم، والضمير للبينة، والتذكير باعتبار المعنى المراد، وقال الزجاج: لأنها بمعنى البيان، وجوز أن يكون الضمير لربي على معنى إني صدقت به ووحدته وأنتم كذبتم به وأشركتم. وقوله تعالى: ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ استئناف مبين لخطئهم في شأن ما جعلوه منشأ لتكذيبهم بالقرآن وهو عدم مجيء ما وعد فيه من العذاب الذي كانوا يستعجلونه بقولهم بطريق الاستهزاء أو الإلزام زعمهم متى هذا الوعد إن كنتم صادقين، وقال الإمام: إنه عليه الصلاة والسلام كان يخوفهم بنزول العذاب عليهم بسبب هذا الشرك والقوم لإصرارهم على الكفر كانوا يستعجلون نزول ذلك فقال لهم: ما عِنْدِي إلخ وكأن الكلام مبين أيضا لخطئهم في شأن ما جعلوه منشأ لعدم الالتفات إلى نهي الرسول صلّى الله عليه وسلّم عنه والإخبار بنزول العذاب بسببه أي ليس عندي ما يستعجلونه من العذاب الموعود به وتجعلون تأخره ذريعة إلى تكذيب القرآن أو عدم الالتفات إلى النهي عنه والوعيد عليه في حكمي وقدرتي حتى أجيء به أي ليس أمره مفوضا إلي إِنِ الْحُكْمُ أي ما الحكم في تأخير ذلك إِلَّا لِلَّهِ وحده من غير أن يكون لغيره سبحانه خل ما فيه بوجه من الوجوه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 واختار بعضهم التعميم في متعلق الحكم أي ما الحكم في ذلك تأخيرا أو تعجيلا أو ما الحكم في جميع الأشياء فيدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا ورجح الأول بأن المقصود من قوله سبحانه: إِنِ الْحُكْمُ إلخ التأسف على وقوع خلاف المطلوب كما يشهد به موارد استعماله وهو على التأخير فقط يَقُصُّ أي يتبع الْحَقَّ والحكمة فيما يحكم به ويقدره كائنا ما كان أو يبينه بيانا شافيا من قص الأثر أو الخبر وهو من قبيل التكميل للخاص على ما اخترناه بإردافه بأمر عام كقوله تعالى: بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الملك: 1] . وقرأ الكسائي وغيره «يقضي» من القضاء وحذفت الياء في الخط تبعا لحذفها في اللفظ لالتقاء الساكنين، وأصله أن يتعدى بالباء لا بنفسه فنصب الْحَقَّ إما على المصدرية لأنه صفة مصدر محذوف قامت مقامه أي يقضي القضاء الحق أو على أنه مفعول به ويقضي متضمن معنى ينفذ أو هو متعد من قضى الدرع إذا صنعها أي يصنع الحق ويدبره كقول الهذلي. مسرودتان قضاهما داود. وفي الكلام على هذا استعارة تبعية، واحتج مجاهد للقراءة الأولى بعدم الباء المحتاج إليها في الثانية وقد علمت فساده. واحتج أبو عمرو للثانية بقوله سبحانه: وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ فإن الفصل إنما يكون في القضاء لا في القصص ولو كان ذلك في الآية لقيل خير القاصين. وأجاب أبو علي الفارسي بأن القصص هاهنا بمعنى القول وقد جاء الفصل فيه قال تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ [الطارق: 13] كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ [هود: 1] وَنُفَصِّلُ الْآياتِ [التوبة: 11] على أنك تعلم بأدنى التفات إلى أن القصص هنا قد يؤول بلا تكلف وبعد إلى معنى القضاء. وفي إرشاد العقل السليم أن أصل القضاء الفصل بتمام الأمر وأصل الحكم المنع فكأنه يمنع الباطل عن معارضة الحق أو الخصم عن التعدي إلى صاحبه، وجملة وَهُوَ خَيْرُ إلخ تذييل مقرر لمضمون ما قبله مشير إلى أن قص الحق هاهنا بطريق خاص هو الفصل بين الحق والباطل فافهم. واحتج بعض أهل السنة بقوله تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إلخ لإفادته الحصر على أنه لا يقدر العبد على شيء من الأشياء إلا إذا قضى الله تعالى به فيمتنع منه فعل الكفر إلا إذا قضى الله تعالى به وحكم، وكذلك في جميع الأفعال. وقالت المعتزلة: إن قوله سبحانه: «يقضي الحق» معناه أن كل ما يقضي به فهو الحق، وهذا يقتضي أن لا يريد الكفر من الكافر والمعصية من العاصي لأن ذلك ليس بحق ولا يخفى ما فيه قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي أي في قدرتي وإمكاني ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ من العذاب لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أي بأن ينزل عليكم إثر استعجالكم، وفي بناء الفعل للمفعول من الإيذان بتعين الفاعل الذي هو الله جلت عظمته وتهويل الأمر ومراعاة حسن الأدب ما لا يخفى. وقال الزمخشري ومن تبعه: المعنى لو كان ذلك في مكنتي لأهلكتكم عاجلا غضبا لربي عز وجل وامتعاضا من تكذيبكم به ولتخلصت منكم سريعا، ولا يساعده المقام، ومثله حمل ما يستعجلون به على الآيات المقترحة وقضاء الأمر على قيام الساعة وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ أي بحالهم وبأنهم مستحقون للإمهال بطريق الاستدراج لتشديد العذاب، ولذلك لم يفوض الأمر إلي ولم يقض بتعجيل العذاب، والجملة مقررة لما أفادته الجملة الامتناعية من انتفاء كون أمر العذاب مفوضا إليه عليه الصلاة والسلام والمستتبع لانتفاء قضاء الأمر وتعليل له. وقيل: هي في معنى الاستدراك كأنه قيل: لو قدرت أهلكتكم ولكن الله تعالى أعلم بمن يهلك عن غيره وله حكمة في عدم التمكين منه، وأيا ما كان فلا حاجة إلى حذف مضاف، وزعم بعضهم ذلك، والتقدير وقت عقوبة الظالمين وهو كما ترى والله تعالى أعلم. وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ أي مفاتيحه كما قرىء به فهو جمع مفتح بكسر الميم وهو كمفتاح آلة الفتح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 161 وقيل: إنه جمع مفتاح كما قيل في جمع محراب محارب، والكلام على الاستعارة حيث شبه الغيب بالأشياء المستوثق منها بالإقفال وأثبت له المفاتيح تخييلا وهي باقية على معناها الحقيقي، وجعلها بمعنى العلم قرينة المكنية بناء على أنه لا يلزم أن تكون حقيقة بعيد، وأبعد منه تكلف التمثيل. وقيل: الأقرب أن يعتبر هناك استعارة مصرحة تحقيقية بأن يستعار العلم للمفاتح وتجعل القرينة الإضافة إلى الغيب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي أن المراد من المفاتح الخزائن فهي حينئذ جمع مفتح بفتح الميم وهو المخزن. وجوز الواحدي أن يكون مصدرا بمعنى الفتح وليس بالمتبادر. وفي الكلام استعارة مكنية تخييلية، وتقديم الخبر لإفادة الحصر. والمراد بالغيب المغيبات على سبيل الاستغراق، والمقصود على كل تقدير أنه سبحانه هو العالم بالمغيبات جميعها كما هي ابتداء لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ في موضع الحال من مفاتح، والعامل فيها- كما قال أبو البقاء- ما تعلق به الظرف أو نفسه إن رفعت به، ويجوز أن يكون تأكيدا لمضمون ما قبله، والكلام إما مسوق لبيان اختصاص المقدورات الغيبية به سبحانه من حيث العلم إثر بيان اختصاص كلها به تعالى من حيث القدرة، والمعنى أن ما تستعجلون به من العذاب ليس مقدورا لي حتى ألزمكم بتعجيله ولا معلوما لدي حتى أخبركم بوقت نزوله بل هو مما يختص به جل شأنه قدرة وعلما فينزله حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم، وأما لإثبات العلم العام له سبحانه وهو علمه بكل شيء بعد إثبات العلم الخاص وهو علمه بالظالمين، وذكر الإمام أن معنى الآية على تقدير أن يراد بالمفاتح الخزائن أنه سبحانه القادر على جميع الممكنات كما في قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ [الحجر: 21] . وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: مفاتح الغيب خمس وتلا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان: 34] الآية، وروي نحوه عن ابن مسعود، وأخرج أحمد، والبخاري، وغيرهما عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعا نحو ذلك، ولعل الحمل على الاستغراق أولى، وما في الأخبار يحمل على بيان البعض المهم لا على دعوى الحصر إذ لا شبهة في أن ما عدا الخمس من المغيبات لا يعلمه أيضا إلا الله تعالى. وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ عطف على جملة وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ إلخ أو على الجملة قبله وهو ظاهر على تقدير حاليتها، وأما على تقدير كونها تأكيدا فقد منعه البعض لأن المعطوف لا يصلح للتأكيد ولو كان علمه سبحانه بالمغيبات عند المحقين على وجه التفصيل والاختصاص لأن علم الغيب والشهادة متغايران فلا يؤكد أحدهما الآخر. نعم قيل: من لم يجعلها مؤكدة جوز العطف عليها فيكون الجملتان مستأنفتين لتفصيل علمه سبحانه وشموله لا غير، وجوز أن يكون المجموع مؤكدا لاشتماله على مضمون ما قبله لأنه ليس توكيدا اصطلاحيا، والمراد من هذه الجملة- كما قال غير واحد- بيان تعلق علمه تعالى بالمشاهدات إثر بيان تعلقه بالمغيبات تكملة له وتنبيها على أن الكل بالنسبة إلى علمه المحيط سواء، والمراد من من البر الصحراء ومن البحر خلافه، وفي القاموس أنه الماء الكثير أو الملح فقط ويجمع وجمعه أبحر وبحوز وبحار وتصغيره أبيحر لا بحير. وعن مجاهد أن المراد بالبر القفار وبالبحر كل قرية فيها ماء وهو خلاف الظاهر، وأيا ما كان فالمعنى يعلم ما فيهما من الموجودات مفصلة على اختلاف أجناسها وأنواعها وتكثر أفرادها. وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها أي وما تسقط ورقة من أي شجرة كانت إلا عالما بها، فمن زائدة في الفاعل، والجملة بعد إلا في موضع الحال منه، وجاءت الحال من النكرة لاعتمادها على النفي، والتفريغ في الحال شائع سائغ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 162 وجوز أن تكون في موضع النعت للنكرة، والكلام مسوّق- كما قيل- لبيان تعلق علمه تعالى بأحوال المشاهدات المتغيرة بعد بيان تعلقه بذواتها فإن تخصيص حال السقوط بالذكر ليس إلا بطريق الاكتفاء بذكرها عن ذكر سائر الأحوال كما أن ذكر أحوال الورقة وما عطف عليها خاصة دون أحوال سائر ما في البر والبحر من الموجودات التي لا يحيط بها نطاق الحصر باعتبار أنها أنموذج لأحوال سائرها، قيل: ولعل الاكتفاء بحال السقوط دون الاكتفاء بغيرها من الأحوال لشدة ملاءمتها لما سيأتي إن شاء الله تعالى في آية التوفي، ولأن التغيير فيها أظهر فهو أوفق بما سيقت له الآية، وقيل: لأن العلم بالسقوط لكونه من الأحوال الساقطة التي يغفل عنها يستلزم العلم بغيره من الأحوال المعتنى بها فتدبر، فكأنه قيل: وما تتغير ورقة من حال إلى حال إلا يعلمها وَلا حَبَّةٍ عطف على وَرَقَةٍ. وقوله سبحانه: فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ متعلق بمحذوف وقع صفة لحبة مفيدة لكمال ظهور علمه تعالى. والمراد من ظلمات الأرض بطونها، وكني بالظلمة عن البطن لأنه لا يدرك فيه كما لا يدرك في الظلمة. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المراد ظلمات الأرض ما تحت الصخرة في أسفل الأرضين السبع أو تحت حجر أو شيء، وقوله تعالى: وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ عطف على «ورقة» أيضا داخل معها في حكمها، والمراد بالرطب واليابس رطب ويابس من شأنهما السقوط كالثمار مثلا لاقتضاء العطف ذلك وقوله سبحانه: إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ كالتكرير لقوله سبحانه إِلَّا يَعْلَمُها لأن معناهما واحد في المآل سواء أريد بالكتاب المبين علمه تعالى أو اللوح المحفوظ الذي هو محل معلوماته سبحانه، وإلى هذا ذهب الزمخشري وأراد كما قال السعد: إنه تكرير من جهة المعنى، وأما من جهة اللفظ فهو صفة للمذكورات كما أن إِلَّا يَعْلَمُها صفة لورقة. وأورد عليه بأن صفة شيء كيف تكون تكريرا لصفة شيء آخر معنى. وأجيب بأنه غير وارد لأن الورقة داخلة في الرطب واليابس فلا تغاير بحسب المعنى فيصح ما ذكر، وقيل: إنه بدل من الاستثناء الأول بدل الكل إن فسر الكتاب بالعلم وبدل الاشتمال إن فسر باللوح وفيه تأمل. وقرىء «ولا حبة» ، «ولا رطب ولا يابس» بالرفع على العطف على محل وَرَقَةٍ وخص بعضهم هذه القراءة بالأخيرين. وجوز أن يكون الرفع على الابتداء والخبر إِلَّا فِي كِتابٍ قيل وهو الأنسب بالمقام لشمول الرطب واليابس حينئذ لما ليس من شأنه السقوط. وقد جعلهما غير واحد شاملين لجميع الأشياء لأن الأجسام كلها لا تخلو من أن تكون رطبة أو يابسة ويدخل في ذلك الحار والبارد، والمراد من كل معناه اللغوي لا مصطلح الأطباء كما لا يخفى. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد بالرطب ما ينبت وباليابس ما لا ينبت. وفي رواية أخرى عنه أن الأول الماء والثاني الثرى. وروى أبو الشيخ عنه ما يفيد العموم، ولعله الأولى بالقبول، وقيل: الرطب الحي واليابس الميت. وروى الإمامية عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أنه قال: الورقة السقط والحبة الولد وظلمات الأرض الأرحام والرطب ما يحيا واليابس ما يغيض، وأنا أجل أبا عبد الله رضي الله تعالى عنه عن التفوه بهذا التفسير إذ هو خلاف الظاهر جدا، ومثله في عدم التبادر ما أخرجه أبو الشيخ عن محمد بن جحادة أنه قال: إن لله تعالى شجرة تحت العرش ليس مخلوق إلا له فيها ورقة فإذا سقطت ورقته خرجت روحه من جسده، وذلك قوله سبحانه: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ ثم إن تفسير الكتاب باللوح هو الذي مشى عليه جماعة من المفسرين منهم الزجاج فقد قال: إنه تعالى أثبت المعلومات في كتاب من قبل أن يخلق الخلق كما قال سبحانه: إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها [الحديد: 22] . وفي رواية لمسلم «أن الله تعالى كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السماء والأرض بخمسين ألف سنة» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 163 وفائدة ذلك أمور: أحدها اعتبار الملائكة عليهم السلام موافقات المحدثات للمعلومات الإلهية. وثانيها وعليه اقتصر الحسن تنبيه المكلفين على عدم إهمال أحوالهم المشتملة على الثواب والعقاب حيث ذكر أن الورقة والحبة في الكتاب. وثالثها عدم تغيير الموجودات عن الترتيب السابق في الكتاب، ولذا جاء «جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» ، وهذا الكتاب يسمى اللوح المحفوظ لحفظه عن التحريف ووصول الشياطين إليه أو من المحو والإثبات بناء على أنهما إنما يكونان في صحف الملائكة دونه. والبلخي اختار أن معنى قوله تعالى: فِي كِتابٍ مُبِينٍ أنه محفوظ غير منسي ولا مغفول عنه، كما يقول القائل لغيره ما تصنعه مسطور مكتوب عندي فإنه إنما يريد أنه حافظ له يريد مكافأته عليه. وأنشد ذلك: إن لسلمى عندنا ديوانا وذكر الإمام هاهنا ما سماه دقيقة، وهو أن القضايا العقلية المحضة يصعب تحصيل العلم بها على سبيل التمام والكمال إلا للعقلاء الكاملين الذين تعودوا الإعراض عن قضايا الحس والخيال وألفوا استحضار المعقولات المجردة وهم كالكبريت الأحمر وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ من تلك القضايا وحيث أريد إيصالها إلى كل عقل لأن القرآن إنما نزل لينتفع به جميع الخلق ذكر مثال من الأمور المحسوسة الداخلة تحت تلك القضية العقلية الكلية ليصير ذلك المعقول بمعاونة هذا المثال المحسوس مفهوما لكل واحد فذكر وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ليكشف به عن حقيقة عظمة ذلك المعقول. وقدم ذكر البر لأن الإنسان قد شاهد أحواله وكثرة ما فيه. وأما البحر فإحاطة العقل بأحواله أقل إلا أن الحس يدل على أن عجائب البحار في الجملة أكثر وطولها وعرضها أعظم وما فيها من الحيوانات وأجناس المخلوقات أعجب فإذا استحضر الخيال معلومات البر والبحر وعرف أن مجموعها حقير من جنب ما دخل في دائرة عموم، وعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ يصير ذلك مقويا ومكملا للعظمة الحاصلة تحت ذلك، ثم كشف سبحانه عن عظمة البر والبحر بقوله عز وجل: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها، وذلك لأن العقل يستحضر جميع ما في الأرض من المدن والقرى والمفاوز والمهالك ثم يستحضركم فيها من النجم والشجر. ثم يستحضر أنه لا يتغير حال ورقة إلا والحق يعلمها، ثم ذكر مثالا أشد هيبة وهو وَلا حَبَّةٍ إلخ. وذلك لأن الحبة تكون في غاية الصغر، وظُلُماتِ الْأَرْضِ يخفى فيها أكبر الأجسام وأعظمها فإذا سمع العاقل أن تلك الحبة الصغيرة الملقاة في ظلمات الأرض على اتساعها وعظمتها لا تخرج من علمه سبحانه انتبه غاية الانتباه وفاز من مجموع ذلك بالحظ الأوفر من المعنى المشار إليه في صدر الآية، ثم إنه تعالى لما قوى ذلك المعقول المحض المجرد بذكر هذه الجزئيات المحسوسة عاد إلى ذكر تلك القضية بعبارة أخرى وهي قوله عز اسمه وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ فإنه عين ما تقدم، وهذا مبني على أحد الوجوه في الآية فلا تغفل، وفيها دليل على أن الله تعالى عالم بالجزئيات. ونسبت المخالفة فيه للفلاسفة، والحق أنهم لا ينكرون ذلك. وإنما ينكرون علمه سبحانه بها بوجه جزئي وهو بحث طويل الذيل. وكذا بحث علمه تعالى من حيث هو. وقد ألفت فيه الرسائل وصار معترك أفهام الأواخر والأوائل وسبحان من لا يقدر قدره غيره. وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ أي ينيمكم فيه كما نقل عن الزجاج، والجبائي، ففيه استعارة تبعية حيث استعير التوفي من الموت للنوم لما بينهما من المشاركة في زوال إحساس الحواس الظاهرة والتمييز، قيل: والباطنة أيضا، وأصله قبض الشيء بتمامه، ويقال: توفيت الشيء واستوفيته بمعنى وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ أي ما كسبتم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 164 وعملتم فيه من الإثم كما أخرج ذلك ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقتادة وهو الذي يقتضيه سياق الآية فإنه للتهديد والتوبيخ، ولهذا أوثر يَتَوَفَّاكُمْ على ينيمكم ونحوه وجَرَحْتُمْ على كسبتم إدخالا للمخاطبين الكفرة في جنس جوارح الطير والسباع، وبعضهم يجعل الخطاب عاما والمراد من الليل والنهار الجنس المتحقق في كل فرد من أفرادهما إذ بالتوفي والبعث الموجودين فيهما متحقق قضاء الأجل المسمى المترتب عليهما، والباء في الموضعين بمعنى في كما أشرنا إليه. والمراد بعلمه سبحانه ذلك كما قيل: علمه قبل الجرح كما يلوح به تقديم ذكره على البعث أي يعلم ما تجرحون، وصيغة الماضي للدلالة على التحقق، وتخصيص التوفي بالليل والجرح بالنهار للجري على السنن المعتاد وإلا فقد يعكس ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ أي يوقظكم في النهار، وهل هي حقيقة في هذا المعنى أو مجاز فيه قولان. والمتبادر منه في عرف الشرع إحياء الموتى في الآخرة وجعلوه ترشيحا للتوفي وهو ظاهر جدا على المتبادر في عرف الشرع لاختصاصه بالمشبه به. ويقال على غيره: إنه لا يشترط في الترشيح اختصاصه بالمشبه به بل أن يكون أخص به بوجه كما قرروه في قوله: له لبد أظفاره لم تقلم والبعث في الموتى أقوى لأن عدم الإحساس فيه كذلك فإزالته أشد. وقد صرحوا أيضا أن الترشيح يجوز أن يكون باقيا على حقيقته تابعا للاستعارة لا يقصد به إلا تقويتها. ويجوز أن يكون مستعارا من ملائم المستعار منه لملائم المستعار له، والجملة عطف على يَتَوَفَّاكُمْ وتوسيط وَيَعْلَمُ إلخ بينهما لبيان ما في بعثهم من عظيم الإحسان إليهم بالتنبيه على أن ما يكسبونه من الإثم مع كونه مما يستأهلون به إبقاءهم على التوفي بل إهلاكهم بالمرة يفيض سبحانه عليهم الحياة ويمهلهم كما ينبىء عنه كلمة التراخي كأنه قيل: هو الذي يتوفاكم في جنس الليالي ثم يبعثكم في جنس الأنهار مع علمه جل شأنه بما يرتكبون فيها لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى معين لكل فرد وهو أجل بقائه في الدنيا، وتكلف الزمخشري في تفسير الآية فجعل ضمير «فيه» جاريا مجرى اسم الإشارة عائدا على مضمون كونهم متوفين وكاسبين و «في» بمعنى لام العلة كما في قولك: فيم دعوتني، والأجل المسمى هو الكون في القبور أي ثم يبعثكم من القبور في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكسب الآثام بالنهار ومن أجله ليقضي الأجل الذي سماه سبحانه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم، وما ذكرناه هو الذي ذهب إليه الزجاج، والجبائي، وغالب المفسرين وهو عري عن التكلف الذي لا حاجة إليه. وزعم بعضهم أن الداعي إليه هو أن قوله تعالى: وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ دال على حال اليقظة وكسبهم فيها، وكلمة- ثم- تقتضي تأخير البعث عنها فلهذا عدل الزمخشري إلى ما عدل إليه، وقال بعض المحققين: إن قوله سبحانه: وَيَعْلَمُ إلخ إشارة إلى ما كسب في النهار السابق على ذلك الليل والواو للحال ولا دلالة فيه على الإيقاظ من هذا التوفي وأن الإيقاظ متأخر عن التوفي وأن قولنا: يفعل ذلك التوفي لتقضي مدة الحياة المقدرة كلام منتظم غاية الانتظام، ولا يخفى أن فيه تكلفا أيضا مع أن واو الحال لا تدخل على المضارع إلا شذوذا أو ضرورة في المشهور» ووجه سنان التراخي المفاد بثم بأن حقيقة الإماتة في الليل تتحقق في أوله والإيقاظ متراخ عنه وإن لم يتراخ عن جملته. واعترض بأنه حينئذ لا وجه لتوسيط وَيَعْلَمُ إلخ بينهما وفيه نظر يعلم مما ذكرنا ثُمَّ إِلَيْهِ سبحانه لا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 165 إلى غيره أصلا مَرْجِعُكُمْ أي رجوعكم ومصيركم بالموت ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بالمجازاة بأعمالكم التي كنتم داومتم على عملها في الدنيا. وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ فلا يعجزه أحد منهم ولا يحول بينه سبحانه وبين ما يريده فيهم، وفَوْقَ نصب على الظرفية حال أو خبر بعد خبر، وقد تقدم الكلام مبسوطا فيما للعلماء في هذه الآية وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً من الملائكة وهم الكرام الكاتبون المذكورون في قوله تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ [الانفطار: 10، 11] أو المعقبات المذكورة في قوله سبحانه: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد: 11] ، وقيل: المراد ما يشمل الصنفين، ويقدر المحفوظ الأعمال والأنفس والأعم. وعن قتادة يحفظون العمل والرزق والأجل. والذي ذهب إليه أكثر المفسرين المعنى الأول في الحفظة، وهم عند بعض يكتبون الطاعات والمعاصي والمباحات بأسرها كما يشعر بذلك مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الكهف: 49] وجاء في الأثر تفسير الصغيرة بالتبسم والكبيرة بالضحك وما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 18] وقال آخرون: لا يكتبون المباحات إذ لا يترتب عليها شيء. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن مع كل إنسان ملكين أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره فإذا تكلم الإنسان بحسنة كتبها من على اليمين وإذا تكلم بسيئة قال من على اليمين لمن على اليسار: لتنتظره لعله يتوب منها فإن لم يتب كتب عليه والمشهور أنهما على الكتفين، وقيل: على الذقن، وقيل: في الفم يمينه ويساره. واللازم الإيمان بهما دون تعيين محلهما والبحث عن كيفية كتابتهما، وظواهر الآيات تدل على أن اطلاع هؤلاء الحفظة على الأقوال والأفعال كقوله تعالى: ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ، إلخ، وقوله سبحانه: يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ [الانفطار: 12] وأما على صفات القلوب كالإيمان والكفر مثلا فليس في الظواهر ما يدل على اطلاعهم عليها، والأخبار بعضها يدل على الاطلاع كخبر «إذا هم العبد بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة» فإن الهم من أعمال القلب كالإيمان والكفر، وبعضها يدل على عدم الاطلاع كخبر «إذا كان يوم القيامة يجاء بالأعمال في صحف محكمة فيقول الله تعالى اقبلوا هذا وردوا هذا فتقول الملائكة وعزتك ما كتبنا إلا ما عمل فيقول سبحانه: «إن عمله كان لغيري وإني لا أقبل اليوم إلا ما كان لوجهي» وفي رواية مرسلة لابن المبارك «إن الملائكة يرفعون أعمال العبد من عباد الله تعالى فيستكثرونه ويزكونه حتى يبلغوا به حيث شاء الله تعالى من سلطانه فيوحي الله تعالى إليهم إنكم حفظة عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه إن عبدي هذا لم يخلص في عمله فاجعلوه في سجين» الحديث. والقائل بأنهم لا يكتبون إلا الأعمال الظاهرة يقول: معنى- كتبت- في حديث الهم بالحسنة ثبتت عندنا وتحققت لا كتبت في صحف الملائكة. والقائل بأنهم يكتبون الأعمال القلبية يقول باستثناء الرياء فيكتبون العمل دونه ويخفيه الله تعالى عنهم ليبطل سبحانه به عمل المرائي بعد كتابته إما في الآخرة أو في الدنيا زيادة في تنكيله وتفظيع حاله، ولعل هذا كما يفعل به يوم القيامة من رده إلى النار بعد تقريبه من الجنة. فقد روى أبو نعيم، والبيهقي، وابن عساكر، وابن النجار أنه يؤمر بناس يوم القيامة إلى الجنة حتى إذا دنوا منها واستنشقوا ريحها ونظروا إلى قصورها وإلى ما أعد الله تعالى لأهلها نودوا أن اصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها فيرجعون بحسرة ما رجع الأولون والآخرون بمثلها فيقولون: ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا من ثوابك وما أعددت فيها لأوليائك كان أهون علينا قال: ذلك أردت بكم يا أشقياء كنتم إذا خلوتم بارزتموني بالعظائم وإذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين تراؤون الناس بأعمالكم خلاف ما تعطوني من قلوبكم هبتم الناس ولم تهابوني وأجللتم الناس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 166 ولم تجلوني وتركتم للناس ولم تتركوا لي فاليوم أذيقكم العذاب مع ما حرمتم من الثواب، والكل عندي محتمل ولا قطع فتدبر. واختلفوا في أن الحفظة هل يتجددون كل يوم وليلة أم لا؟ فقيل: إنهم يتجددون وملائكة الليل غير ملائكة النهار دائما إلى الموت، وقيل: إن ملائكة الليل يذهبون فتأتي ملائكة النهار ثم إذا جاء الليل ذهبوا ونزل ملائكة الليل الأولون لا غيرهم وهكذا، وقيل: إن ملائكة الحسنات يتجددون دون ملائكة السيئات وهو الذي يقتضيه حسن الظن بالله تعالى. واختلف في مقرهم بعد موت المكلف فقيل: يرجعون مطلقا إلى معابدهم في السماء، وقيل: يبقون حذاء قبر المؤمن يستغفرون له حتى يقوم من قبره. وصحح غير واحد أن كاتب الحسنات لا ينحصر في واحد لحديث رأيت كذا وكذا يبتدرونها أيهم يكتبها أول، والحكمة في هؤلاء الحفظة أن المكلف إذا علم أن أعماله تحفظ عليه وتعرض على رؤوس الأشهاد كان ذلك أزجر له عن تعاطي المعاصي والقبائح وأن العبد إذا وثق بلطف سيده واعتمد على ستره وعفوه لم يحتشم منه احتشامه من خدمه المطلعين عليه، وقول الإمام: يحتمل أن تكون الفائدة في الكتابة أن توزن تلك الصحائف يوم القيامة لأن وزن الأعمال غير ممكن بخلاف وزن الصحائف فإنه ممكن ليس بشيء كما لا يخفى، والقول بوزن الصحائف أنفسها قول لبعضهم، هذا وَيُرْسِلُ إما مستأنف أو عطف على في الْقاهِرُ لأنه بمعنى الذي يقهر، وعطفه كما زعم أبو البقاء على يَتَوَفَّاكُمْ وما بعده من الأفعال المضارعة ليس بشيء كاحتمال جعله حالا من الضمير في الْقاهِرُ أو في الظرف لأن الواو الحالية كما أشرنا إليه آنفا لا تدخل على المضارع، وتقدير المبتدأ لا يخرجه عن الشذوذ على الصحيح. وعَلَيْكُمْ متعلق بيرسل لما فيه من معنى الاستيلاء، وتقديمه على المفعول الصريح لما مر غير مرة من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر، وقيل: هو متعلق بمحذوف وقع حالا من حفظه إذ لو تأخر لكان صفة أي كائنين عليكم. وقيل: متعلق بحفظة وهو جمع حافظ ككتبة وكاتب، و «حتى» في قوله تعالى: حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ هي التي يبتدأ بها الكلام وهي مع ذلك تجعل ما بعدها من الجملة الشرطية غاية لما قبلها كأنه قيل: ويرسل عليكم حفظة يحفظون ما يحفظون منكم مدة حياتكم حتى إذا انتهت مدة أحدكم وجاء أسباب الموت ومباديه تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا الآخرون المفوض إليهم ذلك وانتهى هناك حفظ الحفظة والمراد بالرسل على ما أخرجه ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم أعوان ملك الموت، ونحوه ما أخرجاه عن قتادة قال: إن ملك الموت له رسل يباشرون قبض الأرواح ثم يدفعونها إلى ملك الملك. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن الكلبي أن ملك الموت هو الذي يلي ذلك ثم يدفع الروح إن كانت مؤمنة إلى ملائكة الرحمة وإن كانت كافرة إلى ملائكة العذاب. والأكثرون على أن المباشر ملك الموت وله أعوان من الملائكة، وإسناد الفعل إلى المباشر والمعاون معا مجاز كما يقال بنو فلان قتلوا قتيلا والقاتل واحد منهم، وقد جاء إسناد الفعل إلى ملك الموت فقط باعتبار أنه المباشر وإلى الله تعالى باعتبار أنه سبحانه الآمر الحقيقي. وقد أشرنا فيما تقدم أن بعض الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم قال: إن المتوفى تارة يكون هو الله تعالى بلا واسطة وتارة الملك وتارة الرسل وغيره وذلك حسب اختلاف أحوال المتوفى. وعن الزجاج وهو غريب أن المراد بالرسل هنا الحفظة فيكون المعنى يرسلهم للحفظ في الحياة والتوفي عند مجيء الممات. وقرأ حمزة «توفاه» بألف ممالة. وقرىء في الشواذ «تتوفاه» وَهُمْ أي الرسل لا يُفَرِّطُونَ بالتواني والتأخير. وقرأ الأعرج «يفرطون» بالتخفيف من الإفراط. وهو مجاوزة الحد وتكون بالزيادة والنقصان أي لا يجاوزون ما حد لهم بزيادة أو نقصان، والجملة حال من رُسُلُنا وقيل: مستأنفة سيقت لبيان اعتنائهم بما أمروا به ثُمَّ رُدُّوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 167 عطف على «توفته» والضمير- كما قيل- للكل المدلول عليه بأحد وهو السر في مجيئه بطريق الالتفات، والإفراد أولا والجمع آخرا لوقوع التوفي على الانفراد والرد على الاجتماع. وذهب بعض المحققين أن فيه التفاتا من الخطاب إلى الغيبة ومن التكلم إليها لأن الرد يناسبه الغيبة بلا شبهة وإن لم يكن الرد حقيقة لأنهم ما خرجوا من قبضة حكمه سبحانه طرفة عين. ونقل الإمام القول بعود الضمير على الرسل أي أنهم يموتون كما يموت بنو آدم، والأول هو الذي عليه غالب المفسرين. والمراد «ثم ردوا» بعد البعث والحشر أو من البرزخ إِلَى اللَّهِ أي إلى حكمه وجزائه أو إلى موضع العرض والسؤال مَوْلاهُمُ أي مالكهم الذي يلي أمورهم على الإطلاق ولا ينافي ذلك قوله تعالى: وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ [محمد: 11] لأن المولى فيه بمعنى الناصر الْحَقِّ أي العدل أو مظهر الحق أو الصادق الوعد. وذكر حجة الإسلام قدس سره أن الحق مقابل الباطل وكل ما يخبر عنه فإما باطل مطلقا وإما حق مطلقا وإما حق من وجه باطل من وجه، فالممتنع بذاته هو الباطل مطلقا والواجب بذاته هو الحق مطلقا والممكن بذاته الواجب بغيره حق من وجه باطل من وجه، فمن حيث ذاته لا وجود له فهو باطل ومن جهة غيره مستفيد للوجود فهو حق من الوجه الذي يلي مفيد الوجود، فمعنى الحق المطلق هو الموجود الحقيقي بذاته الذي منه يؤخذ كل حقيقة وليس ذلك إلا الله تعالى، وهذا هو مراد القائل إن الحق هو الثابت الباقي الذي لا فناء له، وفي التفسير الكبير أن لفظ المولى والولي مشتقان من القرب وهو سبحانه القريب ويطلق المولى أيضا على المعتق وذلك كالمشعر بأنه جل شأنه أعتقهم من العذاب وهو المراد من قوله سبحانه «سبقت رحمتي غضبي» وأيضا أضاف نفسه إلى العبيد وما أضافهم إلى نفسه وذلك نهاية الرحمة، وأيضا قال عز اسمه: مَوْلاهُمُ الْحَقِّ والمعنى أنهم كانوا في الدنيا تحت تصرفات الموالي الباطلة وهي النفس، والشهوة، والغضب كما قال سبحانه: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الجاثية: 23] فلما مات الإنسان تخلص من تصرفات الموالي الباطلة وانتقل إلى تصرف المولى الحق انتهى. وهو كما ترى. وادعى أن هذه الآية من أدل الدلائل على أن الإنسان ليس عبارة عن مجرد هذه البنية لأن صريحها يدل على حصول الموت للعبد ويدل على أنه بعد الموت يرد إلى الله تعالى والميت مع كونه ميتا لا يمكن أن يرد إلى الله تعالى لأن ذلك الرد ليس بالمكان والجهة لتعاليه سبحانه عنهما بل يجب أن يكون مفسرا بكونه منقادا لحكم الله تعالى مطيعا لقضائه وما لم يكن حيا لا يصح هذا المعنى فيه فثبت أنه حصل هاهنا موت وحياة أما الموت فنصيب البدن فتبقى الحياة نصيب الروح ولما قال سبحانه: رُدُّوا وثبت أن المردود هو الروح ثبت أن الإنسان ليس إلا هي وهو المطلوب، وكذا تشعر بكون الروح موجودة قبل التعلق بالبدن لأن الرد من هذا العالم إلى حضرة الجلال إنما يكون لو كانت موجودة كذلك، ونظيره قوله سبحانه: ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: 28] وقوله تعالى: ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ولا يخفى ما في ذلك فتدبر. وقرىء «الحق» بالنصب على المدح. وجوز أن يكون على أنه صفة للمفعول المطلق أي الرد الحق فلا يكون حينئذ المراد به الله عز وجل والأول أظهر أَلا لَهُ الْحُكْمُ يومئذ صورة ومعنى لا لغيره بوجه من الوجوه. واستدل بذلك على أن الطاعة لا توجب الثواب والمعصية لا توجب العقاب إذ لو ثبت ذلك لثبت للمطيع على الله تعالى حكم وهو أخذ الثواب وهو ينافي ما دلت عليه الآية من الحصر وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ يحاسب جميع الخلائق بنفسه في أسرع زمان وأقصره، ويلزم هذا أن لا يشغله حساب عن حساب ولا شأن عن شأن. وفي الحديث أنه تعالى يحاسب الكل في مقدار حلب شاة. وفي بعض الأخبار في مقدار نصف يوم. وذهب بعضهم إلى أنه تعالى لا يحاسب الخلق بنفسه بل يأمر سبحانه الملائكة عليهم السلام فيحاسب كل واحد منهم واحدا من العباد. وذهب آخرون إلى أنه عز وجل إنما يحاسب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 168 المؤمنين بنفسه وأما الكفار فتحاسبهم الملائكة لأنه تعالى لو حاسبهم لتكلم معهم وذلك باطل لقوله تعالى في صفتهم: وَلا يُكَلِّمُهُمُ وأجاب الأولون عن هذا بأن المراد أنه تعالى لا يكلمهم بما ينفعهم فإن ظواهر الآيات ومنها ما تقدم في هذه السورة من قوله تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام: 22] وقوله سبحانه وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [الأنعام: 30] تدل على تكليمه تعالى لهم في ذلك اليوم، ثم إن كيفية ذلك الحساب مما لا تحيط بتفصيلها عقول البشر من طريق الفكر أصلا وليس لنا إلا الإيمان به مع تفويض الكيفية وتفصيلها إلى عالم الغيب والشهادة. وادعى الفلاسفة أن كثرة الأفعال وتكررها يوجب حدوث الملكات الراسخة وأنه يجب أن يكون لكل واحد من تلك الأعمال أثر في حصول تلك الملكة بل يجب أن يكون لكل جزء من أجزاء العمل الواحد أثر بوجه ما في ذلك وحينئذ يقال: إن الأفعال الصادرة من اليد هي المؤثرة في حصول الملكة المخصوصة وكذلك الأفعال الصادرة من الرجل فتكون الأيدي والأرجل شاهدة على الإنسان بمعنى أن تلك الآثار النفسانية إنما حصلت في جواهر النفوس بواسطة هذه الأفعال الصادرة عن هذه الجوارح فكأن ذلك الصدور جاريا مجرى الشهادة بحصول تلك الآثار في جواهر النفس. وأما الحساب فالمقصود منه استعلام ما بقي من الدخل والخرج، ولما كان لكل ذرة من الأعمال أثر حسن أو قبيح حسب حسن العمل وقبحه ولا شك أن تلك الأعمال كانت مختلفة فلا جرم كان بعضها معارضا بالبعض وبعد حصول المعارضة يبقى في النفس قدر مخصوص من الخلق الحميد وقدر آخر من الذميم فإذا مات الجسد ظهر مقدار ذلك وهو إنما يحصل في الآن الذي لا ينقسم وهو الآن الذي فيه فيقطع فيه تعلق النفس من البدن فعبر عن هذه الحالة بسرعة الحساب، وزعم من نقل هذا عنهم أنه من تطبيق الحكمة النبوية على الحكمة الفلسفية، وأنا أقول: راحت مشرقة ورحت مغربا ... شتان بين مشرق ومغرب قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أي قل لهم تقريرا بانحطاط شركائهم عن رتبة الإلهية، والمراد من ظلمات البر والبحر كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما شدائدهما وأهوالهما التي تبطل الحواس وتدهش العقول. والعرب- كما قال الزجاج- تقول لليوم الذي يلقى فيه شدة: يوم مظلم حتى أنهم يقولون: يوم ذو كواكب أي أنه يوم قد اشتدت ظلمته حتى صار كالليل في ظلمته، وأنشد: بني أسد هل تعلمون بلاءنا ... إذا كان يوم ذو كواكب أشهب ومن الأمثال القديمة- رأى الكواكب ظهرا- أي أظلم عليه يومه لاشتداد الأمر فيه حتى كأنه أبصر النجم نهارا، ومن ذلك قول طرفة: أن تنوله فقد تمنعه ... وتريه النجم يجري بالظهر وقيل: المراد ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة البحر، وقيل: ظلمة البر بالخسف فيه وظلمة البحر بالغرق فيه، والظلمات على الأول- كما قيل- استعارة وعلى الأخيرين حقيقة. ومنهم من جعلها كناية عن الخسف والغرق والكلام في الكناية معلوم. ومن جوز جمع الحقيقة والمجاز فسر الظلمات بظلمة الليل، والغيم، والبحر، والتيه، والخوف، وقرأ يعقوب وسهل «ينجيكم» بالتخفيف من الإنجاء والمعنى واحد، وقوله تعالى: تَدْعُونَهُ في موضع الحال من مفعول يُنَجِّيكُمْ كما قال أبو البقاء، والضمير لمن أي من ينجيكم منها حال كونكم داعين له. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 169 وجوز أن يكون حالا من فاعله أي من ينجيكم منها حال كونه مدعوا من جهتكم تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً أي إعلانا وإسرارا كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والحسن فنصبهما على المصدرية، وقيل: بنزع الخافض، والإعلان والإسرار يحتمل أن يراد بهما ما باللسان، ويحتمل أن يراد بهما ما باللسان والقلب، وجوز أن يكونا منصوبين على الحال من فاعل «تدعون» أي معلنين ومسرين. وقرأ أبو بكر عن عاصم «خفية» بكسر الخاء وهو لغة فيه كالأسوة والأسوة، وقوله سبحانه لَئِنْ أَنْجانا في محل النصب على المفعولية لقول مقدر وقع حالا من فاعل تدعون أيضا أي قائلين: لئن أنجيتنا، والكوفيون يحكون بما يدل على معنى القول كتدعون من غير تقدير والصحيح التقدير، وقيل: إن الجملة القسمية تفسير للدعاء فلا محل لها. وقرأ أهل الكوفة «أنجانا» بلفظ الغيبة مراعاة لتدعونه دون حكاية خطابهم في حالة الدعاء غير أن عاصما قرأ بالتفخيم والباقون بالإمالة، وقوله سبحانه مِنْ هذِهِ إشارة إلى ما هم فيها المعبر عنها بالظلمات لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ أي الراسخين في الشكر المداومين عليه لأجل هذه النعمة الجليلة أو جميع النعم التي هذه من جملتها قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ أي غم يأخذ بالنفس، والمراد به إما ما يعم ما تقدم والتعميم بعد التخصيص كثير أو ما يعتري المرء من العوارض النفسية التي لا تتناهى كالأمراض والأسقام، وأمره صلّى الله عليه وسلّم بالجواب مع كونه من وظائفهم للإيذان بظهوره وتعينه أو للإهانة لهم مع بناء قوله سبحانه: ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ عليه أي الله تعالى وحده ينجيكم مما تدعونه إلى كشفه ومن غيره ثم أنتم بعد ما تشاهدون هذه النعم الجليلة تعودون إلى الشرك في عبادته سبحانه ولا توفون بالعهد. ووضع تُشْرِكُونَ موضع لا تشكرون الذي هو الظاهر المناسب لوعدهم السابق المشار إليه بقوله تعالى: لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ للتنبيه على أن من أشرك في عبادة الله تعالى فكأنه لم يعبده رأسا إذا التوحيد ملاك الأمر وأساس العبادة، وقيل: لعل المقصود التوبيخ بأنهم مع علمهم بأنه لم ينجهم إلا الله تعالى كما أفاده تقديم المسند إليه أشركوا ولم يخصوا الله تعالى بالعبادة فذكر الإشراك في موقعه، وكلمه- ثم- ليس للتراخي الزماني بل لكمال البعد بين إحسان الله تعالى عليهم وعصيانهم، ولم يذكر متعلق الشرك لتنزيله منزلة اللازم تنبيها على استبعاد الشرك في نفسه. وقرأ أهل الكوفة، وأبو جعفر، وهشام عن ابن عامر «ينجّيكم» بالتشديد والباقون بالتخفيف. قُلْ يا محمد لهؤلاء الكفار هُوَ الْقادِرُ لا غيره سبحانه عَلى أَنْ يَبْعَثَ أي يرسل عَلَيْكُمْ متعلق بيبعث. وتقديمه على المفعول الصريح وهو قوله سبحانه: عَذاباً للاعتناء به والمسارعة إلى بيان كون المبعوث مما يضرهم ولتهويل أمر المؤخر، والكلام استئناف مسوق لبيان أنه تعالى هو القادر على إلقائهم في المهالك إثر بيان أنه سبحانه هو المنجي لهم منها، وفيه وعيد ضمني بالعذاب لإشراكهم المذكور، والتنوين للتفخيم أي عذابا عظيما مِنْ فَوْقِكُمْ أي من جهة العلو كالصيحة، والحجارة، والريح، وإرسال السماء أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أي من جهة السفل كالرجفة، والخسف، والإغراق، وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: من فوقكم أي من قبل أمرائكم وأشرافكم ومن تحت أرجلكم أي من قبل سفلتكم وعبيدكم وفي رواية أخرى عنه تفسير الأول بأئمة السوء والثاني بخدم السوء والمتبادر ما قدمنا وهو المروي عن غير واحد من المفسرين. والجار والمجرور متعلق بيبعث أيضا، ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع صفة لعذاب. وأو لمنع الخلو دون الجمع فلا منع لما كان من الجهتين معا كما فعل بقوم نوح عليه الصلاة والسلام. أَوْ يَلْبِسَكُمْ أي يخلط أمركم عليكم ففي الكلام مقدر، وخلط أمرهم عليهم يجعلهم مختلفي الأهواء، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 170 وقيل: المراد اختلاط الناس في القتال بعضهم ببعض فلا تقدير، وعليه قول السلمي: وكتيبة لبستها بكتيبة ... حتى إذا التبست نفضت لها يدي وقرىء «يلبسكم» بضم الياء وهو عطف على يَبْعَثَ وقوله تعالى: شِيَعاً جمع شيعة كسدرة وسدر وهم كل قوم اجتمعوا على أمر نصب على الحال، وقيل: إنه مصدر منصوب بيلبسكم من غير لفظه، وجوز على هذا أن يكون حالا أيضا أي مختلفين، وقوله سبحانه: وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ عطف على «يبعث» كما نقل عن السمين، ويفهم من كلام البعض أنه عطف على يلبس وهو من قبيل عطف التفسير أو من عطف المسبب على السبب. وقرىء «نذيق» بنون العظمة على طريق الالتفات لتهويل الأمر والمبالغة في التحذير. والبعض الأول على- ما قيل- الكفار والثاني المؤمنون ففيه حينئذ وعد ووعيد، وقيل: كلا البعضين من الكفار أي نذيق كلّا بأس الآخر وقيل البعضان من المؤمنين فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن أنه قال في قوله سبحانه: عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ هذا للمشركين وفي قوله تعالى: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ إلخ هذا للمسلمين ولا يخفى أنه تفكيك للنظم الكريم، ولعل مراد الحسن أن هذا يكون للمسلمين ويقع فيهم دون الأول، وأخرج ابن جرير عنه أيضا أنه قال: «لما نزلت هذه الآية قام النبي صلّى الله عليه وسلّم فتوضأ فسأل ربه عز وجل أن لا يرسل عليهم عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم ولا يلبس أمته شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض كما أذاق بني إسرائيل فهبط إليه صلّى الله عليه وسلّم جبرائيل عليه السلام فقال: يا محمد إنك سألت ربك أربعا فأعطاك اثنتين ومنعك اثنتين لن يأتيهم عذاب من فوقهم ولا من تحت أرجلهم يستأصلهم فإنهما عذابان لكل أمة استجمعت على تكذيب نبيها ورد كتاب ربها ولكنهم يلبسون شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض، وهذان عذابان لأهل الإقرار بالكتب والتصديق بالأنبياء عليهم السلام» وأخرج أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة والحاكم وصححه واللفظ له عن ثوبان أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن ربي زوى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها وأعطاني الكنزين الأحمر والأبيض وإن أمتي سيبلغ ملكا ما زوى لي منها وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة فأعطانيها وسألته أن لا يسلط عليهم عدوا عن غيرهم فأعطانيها وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها وقال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء لم يرد إني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكها بسنة عامة ولا أظهر عليهم عدوا من غيرهم فيستبيحهم عامة ولو اجتمع من بين أقطارها حتى يكون بعضهم هو يهلك بعضا وبعضهم هو يسبي بعضا» الحديث. وأخرج أحمد، والطبراني وغيرهما عن أبي بصرة الغفاري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «سألت ربي أربعا فأعطاني ثلاثا ومنعني واحدة سألت الله تعالى أن لا يجمع أمتي على ضلالة فأعطانيها وسألت الله تعالى أن لا يظهر عليهم عدوا من غيرهم فأعطانيها وسألت الله تعالى أن لا يهلكهم بالسنين كما أهلكت الأمم فأعطانيها وسألت الله تعالى أن لا يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها» والأخبار في هذا المعنى كثيرة. وفي بعضها دلالة على عد اللبس والإذاقة أمرا واحدا وفي بعضها دلالة على عد ذلك أمرين، ومن هنا نشأ الاختلاف السابق في العطف، وأيد بعضهم العطف على يلبس لا على يَبْعَثَ بكونه بالواو دون أو. ولا يعارض ما روي عن الحسن من عدم وقوع الأولين في هذه الأمة ما أخرجه أحمد والترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال في هذه الآية: أما أنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد، وكذا ما أخرج الأول في مسنده من طريق أبي العالية عن ابن كعب أنه قال في الآية: هن أربع وكلهن واقع لا محالة لجواز أن يراد بالوقوع وقوع لا على وجه الاستئصال وبعدم الوقوع عدمه على وجه الاستئصال وكلام الحسن كالصريح في هذا فافهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 171 انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ أي نحولها من نوع إلى آخر من أنواع الكلام تقريرا للمعنى وتقريبا إلى الفهم أو نصرفها بالوعد والوعيد لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ أي كي يعلموا جلية الأمر فيرجعوا عما هم عليه من المكابرة والعناد، واستدل بعض أهل السنة بالآية على أن الله تعالى خالق للخير والشر، وقال بعض الحشوية والمقلدة: إنها من أدل الدلائل على المنع من النظر والاستدلال لما أن في ذلك فتح باب التفرق والاختلاف المذموم بحكم الآية وليس بشيء كما لا يخفى وَكَذَّبَ بِهِ أي القرآن كما قال الأزهري وروي ذلك عن الحسن وقيل: الضمير لتصريف الآيات، واختاره الجبائي، والبلخي، وقيل: هو للعذاب واختاره غالب المفسرين قَوْمُكَ أي قريش، وقيل: هم وسائر العرب، وأيا ما كان فالمراد المعاندون منهم، قيل: ولعل إيرادهم بهذا العنوان للإيذان بكمال سوء حالهم فإن تكذيبهم بذلك مع كونهم من قومه عليه الصلاة والسلام مما يقضي بغاية عتوهم ومكابرتهم، وتقديم الجار والمجرور على الفاعل لما مر مرارا. وَهُوَ الْحَقُّ أي الكتاب الصادق في كل ما نطق به لا ريب فيه أو المتحقق الدلالة أو الواقع لا محالة. والواو حالية والجملة بعدها في موضع الحال من الضمير المجرور، وقيل: الواو استئنافية (1) وبعدها مستأنفة. وأيّا ما كان ففيه دلالة على عظم جنايتهم ونهاية قبحها قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ أي بموكل فوض أمركم إلى أحفظ أعمالكم لأجازيكم بها إنما أنا منذر ولم آل جهدا في الإنذار والله سبحانه هو المجازي قاله الحسن. وقال الزجاج: المراد أني لم أؤمر بحربكم ومنعكم عن التكذيب. وفي معناه ما نقل عن الجبائي. والآية على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما منسوخة بآية القتال ولا بعد في ذلك على المعنى الثاني. لِكُلِّ نَبَإٍ أي لكل شيء ينبأ به من الأنباء التي من جملتها عذابكم أو لكل خبر من الأخبار التي من جملتها خبر مجيئه مُسْتَقَرٌّ أي وقت استقرار ووقوع البتة أو وقت استقراره بوقوع مدلوله وليس مصدرا ميميا. وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أي حال نبئكم في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معا، وسوف للتأكيد. وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا بالتكذيب والاستهزاء بها والطعن فيها كما هو دأب قريش وديدنهم في أنديتهم وهم المراد بالموصول. وعن مجاهد أهل الكتاب فإن ديدنهم ذلك أيضا، ولذا أتى بإذا الدالة على التحقيق، وهذا بخلاف النسيان الآتي، وأصل الخوض من خاض القوم في الحديث وتخاوضوا إذا تفاوضوا فيه، وقال الطبرسي: الخوض التخليط في المفاوضة على سبيل العبث واللعب وترك التفهم والتبيين، وقال بعض المحققين: أصل معنى الخوض عبور الماء استعير للتفاوض في الأمور، وأكثر ما ورد في القرآن للذم فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي اتركهم ولا تجالسهم حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ أي كلام غَيْرِهِ أي غير آياتنا. والتذكير باعتبار كونها حديثا فإن وصف الحديث بمغايرتها مشير إلى اعتبارها بعنوان الحديثية، وقيل: باعتبار كونها قرآنا، والمراد بالخوض هنا التفاوض لا بقيد التكذيب والاستهزاء. وادعى بعضهم أن المعنى حتى يشتغلوا بحديث غيره وأن ذكر يَخُوضُوا للمشاكلة، واستظهر عود الضمير إلى الخوض. واستدل بعض العلماء بالآية على أن إِذا تفيد التكرار لحرمة القعود مع الخائض كما خاض. ونظر فيه بأن التكرار ليس من إذا بل من ترتب الحكم على مأخذ الاشتقاق. واستدلال بعض الحشوية بها على النهي عن الاستدلال والمناظرة في ذات الله تعالى وصفاته زاعما أن ذلك   (1) قوله وبعدها مستأنفة كذا بخطه والأمر سهل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 172 خوض في آيات الله تعالى مما لا ينبغي أن يلتفت إليه وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ بأن يشغلك فتنسى الأمر بالإعراض عنهم فتجالسهم ابتداء أو بقاء، وهذا على سبيل الفرض إذ لم يقع وأنى للشيطان سبيل إلى إشغال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولذا عبر بأن الشرطية المزيدة ما بعدها. وذهب بعض المحققين أن الخطاب هنا وفيما قبل لسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام والمراد غيره، وقيل: «لغيره ابتداء أي إذا رأيت أيها السامع وإن أنساك أيها السامع» والمشهور عن الرافضة اختيار أن النبي صلّى الله عليه وسلّم منزه عن النسيان لقوله تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [الأعلى: 6] وإن غيرهم ذهب إلى جوازه. وعلى نسبة الأول إليهم نص صاحب الأحكام، والجبائي، وغيرهما، وقال الأخير: إن الآية دليل على بطلان قولهم ذلك. والذي وقفت عليه في معتبرات كتبهم أنهم لا يجوزون النسيان، وكذا السهو على النبي صلّى الله عليه وسلّم وكذا على سائر الأنبياء عليهم السلام فيما يؤديه عن الله تعالى من القرآن والوحي. وأما ما سوى ذلك فيجوزون عليه عليه الصلاة والسلام أن ينساه ما لم يؤد إلى إخلال بالدين. وأنا أرى أن محل الخلاف النسيان الذي لا يكون منشؤه اشتغال السر بالوساوس والخطرات الشيطانية فإن ذلك مما لا يرتاب مؤمن في استحالته على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتفصيل الكلام في ذلك على ما في معتبرات كتبنا أن مذهب جمهور العلماء جواز النسيان عليه صلّى الله عليه وسلّم في أحكام الشرع وهو ظاهر القرآن والأحاديث لكن اتفقوا على أنه عليه الصلاة والسلام لا يقر عليه بل يعلمه الله تعالى به، ثم قال الأكثرون: يشترط تنبهه عليه الصلاة والسلام على الفور متصلا بالحادثة ولا يقع فيه تأخير، وجوزت طائفة تأخيره مدة حياته صلّى الله عليه وسلّم واختاره إمام الحرمين، ومنعت ذلك طائفة من العلماء في الأفعال البلاغية والعبادات كما أجمعوا على منعه واستحالته عليه صلّى الله عليه وسلّم في الأقوال البلاغية، وأجابوا عن الظواهر الواردة في ذلك. وإليه مال الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني، وصحح النووي الأول فإن ذلك لا ينافي النبوة، وإذا لم يقر عليه لم يتحصل منه مفسدة ولا ينافي الأمر بالاتباع بل يحصل منه فائدة وهو بيان أحكام الناسي وتقرر الأحكام. وذكر القاضي أنهم اختلفوا في جواز السهو عليه صلّى الله عليه وسلّم في الأمور التي لا تتعلق بالبلاغ وبيان أحكام الشرع من أفعاله وعاداته وأذكار قلبه فجوزه الجمهور. وأما السهو في الأقوال البلاغية فأجمعوا على منعه كما أجمعوا على امتناع تعمده، وأما السهو في الأقوال الدنيوية وفيما ليس سبيله البلاغ من الكلام الذي لا يتعلق بالأحكام ولا أخبار القيامة وما يتعلق بها ولا يضاف إلى وحي فجوزه قوم إذ لا مفسدة فيه، ثم قال: والحق الذي لا شك فيه ترجيح قول من قال: يمتنع ذلك على الأنبياء عليهم السلام في كل خبر من الأخبار كما لا يجوز عليهم خلف في خبر لا عمدا ولا سهوا لا في صحة ولا مرض ولا رضى ولا غضب، وحسبك في ذلك أن سيره صلّى الله عليه وسلّم وكلامه وأفعاله مجموعة يعتني بها على مر الزمان ويتناولها الموافق والمخالف والمؤمن والمرتاب فلم يأت في شيء منها استدراك غلط في قول ولا اعتراف بوهم في كلمة ولو كان لنقل كما نقل سهوه في الصلاة ونومه عليه الصلاة والسلام عنها واستدراكه رأيه في تلقيح النخل وفي نزوله بأدنى مياه بدر إلى غير ذلك. وأما جواز السهو في الاعتقادات في أمور الدنيا فغير ممتنع. وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام على هذا المبحث عند تفسير قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج: 52] الآية. وقرأ ابن عامر «ينسّينّك» بتشديد السين ونسي بمعنى أنسى، وقال ابن عطية: نسي أبلغ من أنسى والنون في القراءتين مشددة وهي نون التوكيد، والمشهور أنها لازمة في الفعل الواقع بعد أن الشرطية المصحوبة بما الزائدة، وقيل: لا يلزم فيه ذلك، وعليه قول ابن دريد: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 173 أما ترى رأسي حاكى لونه ... طرة صبح تحت أذيال الدجى فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى أي بعد تذكر الأمر بالإعراض كما عليه جمهور المفسرين. وقال أبو مسلم: المعنى بعد أن تذكرهم بدعائك إياهم إلى الدين ونهيك لهم عن الخوض في الآيات وليس بشيء. وجوز الزمخشري أن تكون الذِّكْرى بمعنى تذكير الله تعالى إياه وأن المعنى وإن كان الشيطان ينسيك قبل النهي قبح مجالسة المستهزئين لأنها مما تنكره العقول فلا تقعد بعد أن ذكرناك قبحها ونبهناك عليه، ولا يخفى أنه وجه بعيد مبني على قاعدة القبح والحسن التي هدمتها معاول أفكار العلماء الراسخين، ثم إنا لا نسلم أن مجالسة المستهزئين مما ينكره العقول مطلقا، وذكر ابن المنير أن اللائق على ما قال- وإن أنساك- دون وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ على أن إنساء الشيطان إن صح فعن السمعي أيسر، وليس هذا أول خوض من الزمخشري في تأويل الآيات بل ذلك دأبه مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي معهم فوضع المظهر موضع المضمر نعيا عليهم أنهم بذلك الخوض ظالمون واضعون للتكذيب والاستهزاء موضع التصديق والتعظيم راسخون في ذلك، وفي الآية- كما قال غير واحد- إيذان بعدم تكليف الناسي، وهذه من المسائل المتنازع فيها بينهم وعنونوها بمسألة تكليف الغافل وعدوا منه الناسي. وللأشعري فيها قولان وصوب عدم التكليف لعدم الفائدة فيه أصلا بخلاف التكليف بالمحال. ونقل ابن برهان في الأوسط عن الفقهاء القول بصحة تكليفه على معنى ثبوت الفعل بالذمة، وعن المتكلمين المنع إذ لا يتصور ذلك عندهم، وقد يظن أن الشافعي لنصه على تكليف السكران يرى تكليف الغافل وهو من بعض الظن فإنه إنما كلف السكران عقوبة له لأنه تسبب بمحرم حصل باختياره ولهذا وجب عليه الحد بخلاف الغافل. وأورد على القول بالامتناع أن العبد مكلف بمعرفة الله تعالى بدون العلم بالأمر وذلك لأن الأمر بمعرفته سبحانه وارد فلا جائز أن يكون واردا بعد حصولها لامتناع تحصيل الحاصل فيكون واردا قبله فيستحيل الإطلاق على هذا الأمر لأن معرفة أمره تعالى بدون معرفته سبحانه مستحيل فقد كلف معرفة الله تعالى مع غفلته عن ذلك التكليف. وأجيب: بأن المعرفة الإجمالية كافية في انتفاء الغفلة والمكلف به هو المعرفة التفصيلية أو بأن شرط التكليف إنما هو فهم المكلف له بأن يفهم الخطاب قدر ما يتوقف عليه الامتثال لا بأن يصدق بتكليفه وإلا لزم الدور وعدم تكليف الكفار وهو هنا قد فهم ذلك وإن لم يصدق به. وصاحب المنهاج تبعا لصاحب الحاصل أجاب بأن التكليف بمعرفة الله تعالى خارج عن القاعدة بالإجماع، وتمام البحث يطلب من كتب الأصول. وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ قال أبو جعفر عليه الرحمة: لما نزلت فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى إلخ قال المسلمون: لئن كنا نقول كلما استهزأ المشركون بالقرآن لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام ولا نطوف بالبيت فنزلت: أي وما يلزم الذين يتقون قبائح إعمال الخائضين وأحوالهم. مِنْ حِسابِهِمْ أي مما يحاسب الخائضون الظالمون عليه من الجرائر مِنْ شَيْءٍ أي شيء ما على أن من زائدة للاستغراق و «شيء» في محل الرفع مبتدأ وما تميمية أو اسم لها وهي حجازية ومِنْ حِسابِهِمْ كما قال أبو البقاء حال منه لأن نعت النكرة إذا قدم عليها أعرب حالا. وليست مِنْ بمعنى الأجل خلافا لمن تكلفه. وعَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ متعلق بمحذوف مرفوع وقع خبرا للمبتدأ أو لما الحجازية على رأي من لا يجيز إعمالها في الخبر المقدم مطلقا أو منصوب وقع خبرا لما على رأي من يجوز إعمالها في الخبر المقدم عند كونه ظرفا أو حرف جر. وَلكِنْ ذِكْرى استدراك من النفي السابق أي ولكن عليهم أن يذكروهم ويمنعوهم عما هم فيه من القبائح بما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 174 أمكن من العظة والتذكير ويظهروا لهم الكراهة والنكير، ومحل ذِكْرى عند كثير من المحققين إما النصب على أنه مصدر مؤكد للفعل المحذوف أي عليهم أن يذكروهم تذكيرا أو الرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف أي ولكن عليهم ذكرى، وجوز أبو البقاء النصب والرفع أيضا لكن قدر في الأول نذكرهم ذكرى بنون العظمة، وفي الثاني، هذه ذكرى، وإلى ذلك يشير كلام البلخي، ولم يجوز الزمخشري عطفه على محل «من شيء» لأن من حسابهم يأباه إذ يصير المعنى «ولكن ذكرى» من حسابهم وهو كما ترى. واعترض بأنه لا يلزم من العطف على مقيد اعتبار ذلك القيد في المعطوف، والعلامة الثاني يقول: إنه إذا عطف مفرد على مفرد لا سيما بحرف الاستدراك فالقيود المعتبرة في المعطوف عليه السابقة في الذكر عليه معتبرة في المعطوف البتة بحكم الاستعمال تقول: ما جاءني يوم الجمعة أو في الدار أو راكبا أو من هؤلاء القوم رجل ولكن امرأة فيلزم مجيء المرأة في يوم الجمعة وفي الدار وبصفة الركوب وتكون من القوم البتة ولم يجىء الاستعمال بخلافه ولا يفهم من الكلام سواه بخلاف ما جاءني رجل من العرب ولكن امرأة فإنه لا يبعد كون المرأة من غير العرب، قالوا: والسر فيه أن تقدم القيود يدل على أنها أمر مسلم مفروغ عنه وأنها قيد للعامل منسحب على جميع معمولاته وأن هذه القاعدة مخصوصة بالمفرد لذلك، وأما في الجمل فالقيد إن جعل جزءا من المعطوف عليه وإن سبق لم يشاركه فيه المعطوف كما في قوله تعالى: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف: 34] على ما في شرح المفتاح، وهذا إذا لم تقم القرينة على خلافه كما في قولك: جاءني من تميم رجل وامرأة من قريش. وتخصيص هذه القاعدة بتقدم القيد وادعاء اطرادها كما ذكره بعض المحققين ما يقتضيه الذوق، ومنهم من عمها كما قال الحلبي: إن أهل اللسان والأصوليين يقولون: إن العطف للتشريك في الظاهر. فإذا كان في المعطوف عليه قيد فالظاهر تقييد المعطوف بذلك القيد إلا أن تجيء قرينة صارفة فيحال الأمر عليها فإذا قلت: ضربت زيدا يوم الجمعة وعمرا فالظاهر اشتراك زيد وعمرو في الضرب مقيدا بيوم الجمعة. وإذا قلت: وعمرا يوم السبت لم يشاركه في قيده. والآية من القبيل الأول. فالظاهر مشاركته في قيده ويكفي في المنع. وبحث فيه السفاقسي وغيره فتدبر. ومن منع العطف على محل مِنْ شَيْءٍ لما تقدم منع العطف على «شيء» لذلك أيضا ولأن من لا تقدر عاملة بعد الإثبات لأنها إذا عملت كانت في قوة المذكورة المزيدة وهي لا تزاد في الإثبات في غير الظروف أو مطلقا عند الجمهور لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي يجتنبون الخوض حياء أو كراهة لمساءتهم. وجوز أن يكون الضمير للذين يتقون أي لكن يذكر المتقون الخائضين ليثبت المتقون على تقواهم ولا يأثموا بترك ما وجب عليهم من النهي عن المنكر أو ليزدادوا تقوى بذلك. وهذه الآية- كما أخرج النحاس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وأبو الشيخ عن السدي وابن جبير- منسوخة بقوله تعالى النازل في المدينة وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها [النساء: 14] إلخ وإليه ذهب البلخي والجبائي وفي الطود الراسخ في المنسوخ والناسخ أنه لا نسخ عند أهل التحقيق في ذلك لأن قوله سبحانه: وَما عَلَى الَّذِينَ إلخ خبر ولا نسخ في الأخبار فافهم. وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ الذي فرض عليهم وكلفوه وأمروا بإقامة مواجبه وهو الإسلام لَعِباً وَلَهْواً حيث سخرا به واستهزؤوا، وجوز أن يكون المعنى اتخذوا الدين الواجب شيئا من جنس اللعب واللهو كعبادة الأصنام وتحريم البحائر والسوائب ونحو ذلك أو اتخذوا ما يتدينون به وينتحلونه بمنزلة الدين لأهل الأديان شيئا من اللعب واللهو. وحاصله أنهم اتخذوا اللعب واللهو دينا، وقيل: المراد بالدين العيد الذي يعاد إليه كل حين معهود بالوجه الذي شرعه الله تعالى كعيد المسلمين أو بالوجه الذي لم يشرع من اللعب واللهو كأعياد الكفرة لأن أصل معنى الدين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 175 العادة والعيد معتاد كل عام» ونسب ذلك لابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والمعنى على سائر الأقوال لا تبال بهؤلاء وامض لما أمرت به. وأخرج ابن جرير وغيره أن المعنى على التهديد كقوله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً [المدثر: 11] وذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا [الحجر: 3] ، وقيل: المراد الأمر بالكف عنهم وترك التعرض لهم. والآية عليه منسوخة بآية السيف، وهو مروي عن قتادة. ونصب لَعِباً على أنه مفعول ثان لاتخذوا وهو اختيار السفاقسي، ويفهم من ظاهر كلام البعض أنه مفعول أول و «دينهم» ثان، وفيه أخبار عن النكرة بالمعرفة. ويفهم من كلام الإمام أنه مفعول لأجله واتخذ متعد لواحد فإنه قال بعد سرد وجوه التفسير في الآية: والخامس وهو الأقرب أن المحق في الدين هو الذي ينصر الدين لأجل أن قام الدليل على أنه حق وصدق وصواب فأما الذين ينصرونه ليتوسلوا به إلى أخذ المناصب والرياسة وغلبة الخصم وجمع الأموال فهم نصروا الدين للدنيا، وقد حكم الله تعالى عليها في سائر الآيات بأنها لعب ولهو. فالمراد من قوله سبحانه: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا إلخ هو الإشارة إلى من يتوسل بدينه إلى دنياه. وإذا تأملت في حال أكثر الخلق وجدتهم موصوفين بهذه الصفة وداخلين تحت هذه الآية اه. ولا يفى أنه أبعد من العيوق فلا تغتر به وإن جل قائله وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا أي خدعتهم وأطمعتهم بالباطل حتى أنكروا البعث وزعموا أن لا حياة بعدها واستهزؤوا بآيات الله تعالى. وجعل بعضهم غر من الغر وهو ملء الفم أي أشبعتهم لذاتها حتى نسوا الآخرة. وعليه قوله: ولما التقينا بالعشية غرني ... بمعروفه حتى خرجت أفوق وَذَكِّرْ بِهِ أي بالقرآن. وقد جاء مصرحا به في قوله سبحانه: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [ق: 45] والقرآن يفسر بعضه بعضا. وقيل: الضمير لحسابهم، وقيل: للدين. وقيل: إنه ضمير يفسره قوله سبحانه: أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ فيكون بدلا منه واختاره أبو حيان. وعلى الأوجه الأخر هو مفعول لأجله أي لئلا تبسل أو مخافة أو كراهة أن تبسل. ومنهم من جعله مفعولا به لذكر. ومعنى «تبسل» تحبس كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وأنشد له قول زهير: وفارقتك برهن لا فكاك له ... يوم الوداع وقلبي مبسل علقا وفي رواية ابن أبي حاتم عنه تسلم. وروي ذلك أيضا عن الحسن، ومجاهد، والسدي واختاره الجبائي والفراء، وفي رواية ابن جرير وغيره تفضح. وقال الراغب: تُبْسَلَ هنا بمعنى تحرم الثواب. وذكر غير واحد أن الإبسال والبسل في الأصل المنع، ومنه أسد باسل لأن فريسته لا تفلت منه أو لأنه متمنع، والباسل الشجاع لامتناعه من قرنه، وجاء البسل بمعنى الحرام وفرق الراغب بينهما بأن الحرام عام لما منع منه بحكم أو قهر والبسل الممنوع بالقهر، ويكون بسل بمعنى أجل ونعم، واسم فعل بمعنى اكفف وتنكير نَفْسٌ للعموم مثله في قوله تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ [التكوير: 14] أي لئلا تحبس وترهن كل نفس في الهلاك أو في النار أو تسلم إلى ذلك أو تفضح أو تحرم الثواب بسبب عملها السوء أو ذكر بحبس أو حبس كل نفس بذلك، وحمل النكرة على العموم مع أنها في الإثبات لاقتضاء السياق له، وقيل: إنها هنا في النفي معنى، وفيما اختاره أبو حيان من التفخيم وزيادة التقرير ما لا يخفى. وقوله تعالى: لَيْسَ لَها أي النفس مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ إما استئناف للأخبار بذلك أو في محل رفع صفة نَفْسٌ أو في محل نصب على الحالية من ضمير كَسَبَتْ أو من نفس فإنه في قوة نفس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 176 كافرة أو نفوس كثيرة واستظهر بعض الحالية. ومن دون الله متعلق بمحذوف وقع حالا من «ولي» ، وقيل: خبرا لليس، ولَها حينئذ متعلق بمحذوف على البيان، ومن جعلها زائدة لم يعلقها بشيء، والمراد أنه لا يحول بينها وبين الله تعالى بأن يدفع عقابه سبحانه عنها ولي ولا شفيع وَإِنْ تَعْدِلْ أي إن تفد تلك النفس كُلَّ عَدْلٍ أي كل فداء. و «كل» نصب على المصدرية لأنه بحسب ما يضاف إليه لا مفعول به، وقيل: إنه صفة لمحذوف وهو بمعنى الكامل كقولك: هو رجل كل رجل أي كامل في الرجولية. والتقدير عدلا كل عدل. ورد بأن كلا بهذا المعنى يلزم التبعية والإضافة إلى مثل المتبوع نعتا لا توكيدا كما في التسهيل ولا يجوز حذف موصوفه. وقوله تعالى: لا يُؤْخَذْ مِنْها جواب الشرط، والفعل مسند إلى الجار والمجرور كسير من البلد لا إلى ضمير العدل لأن العدل كما علمت مصدر وليس بمأخوذ بخلافه في قوله تعالى: لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ [البقرة: 48] فإنه فيه بمعنى المفدى به، وجوز كون الإسناد إلى ضميره مرادا به الفدية على الاستخدام إلا أنه لا حاجة إليه مع صحة الإسناد إلى الجار والمجرور، وبذلك يستغنى أيضا عن القول بكونه راجعا إلى المعدول به المأخوذ من السياق. وقيل: معنى الآية وإن تقسط تلك النفس كل قسط في ذلك اليوم لا يقبل منها لأن التوبة هناك غير مقبولة وإنما تقبل في الدنيا أُولئِكَ أي المتخذون دينهم لعبا ولهوا المغترون بالحياة الدنيا الَّذِينَ أُبْسِلُوا أي حرموا الثواب وسلموا للعذاب أو بأحد المعاني الباقية للإبسال بِما كَسَبُوا أي بسبب أعمالهم القبيحة وعقائدهم الزائغة. واسم الإشارة مبتدأ، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجة المشار إليهم في سوء الحال، وخبره الموصول بعده، والجملة استئناف سيق إثر تحذير أولئك من الإبسال المذكور لبيان أنهم المبتلون بذلك. وقوله سبحانه لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ استئناف آخر مبين لكيفية الإبسال المذكور مبني على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل: ماذا لهم حين أبسلوا؟ فقيل: لهم شراب من حميم أي ماء حار يتجرجر ويتردد في بطونهم ويتقطع به أمعاؤهم وَعَذابٌ أَلِيمٌ بنار تشتعل بأبدانهم كما هو المتبادر من العذاب بِما كانُوا يَكْفُرُونَ أي بسبب كفرهم المستمر في الدنيا، ويطلق الحميم على الماء البارد فهو ضد كما في القاموس. وجوز أبو البقاء أن تكون جملة لَهُمْ شَرابٌ حالا من ضمير أُبْسِلُوا وأن تكون خبرا لاسم الإشارة ويكون الَّذِينَ نعتا له أو بدلا منه. وأن تكون خبرا ثانيا. واختار كما يشير إليه كلامه أن تكون الإشارة إلى النفس المدلول عليها بنفس وجعلت الجملة لبيان تبعة الإبسال. واختار كثير من المحققين ما أشرنا إليه. وترتيب ما ذكر من العذابين على كفرهم مع أنهم معذبون بسائر معاصيهم أيضا حسبما ينطق به قوله سبحانه بِما كَسَبُوا لأنه العمدة في أسباب العذاب والأهم في باب التحذير أو أريد- كما قيل-: بكفرهم ما هو أعم منه ومن مستتبعاته من المعاصي. قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن السدي أن المشركين قالوا للمؤمنين: اتبعوا سبيلنا واتركوا دين محمد صلّى الله عليه وسلّم فقال الله تعالى: قُلْ إلخ. وقيل: نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه حين دعاه ابنه عبد الرحمن إلى عبادة الأصنام. وفي توجيه الأمر إليه صلّى الله عليه وسلّم ما لا يخفى من تعظيم شأن المؤمنين أو أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أي أنعبد متجاوزين عبادة الله تعالى الجامع لجميع صفات الألوهية التي من جملتها القدرة على النفع والضر ما لا يقدر على نفعنا إن عبدناه ولا على ضرنا إذا تركناه، وأدنى مراتب المعبودية القدرة على ذلك. وفاعل «ندعو» وكذا ما عطف عليه من قوله سبحانه: وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا عام لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم ولغيره وليس مخصوصا بالصديق رضي الله تعالى عنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 177 بناء على أنه سبب النزول. وفي الآية تغليب إذ لا يتصور الرد على العقب المراد به الرجوع إلى الشرك منه صلّى الله عليه وسلّم. والمعنى أيليق بنا معشر المسلمين ذلك. والأعقاب جمع عقب وهو مؤخر الرجل يقال: رجع على عقبه إذا انثنى راجعا. ويكنى به- كما قيل- عن الذهاب من غير رؤية موضع القدم وهو ذهاب بلا علم بخلاف الذهاب مع الإقبال وقيل: الرد على الأعقاب بمعنى الرجوع إلى الضلال والجهل شركا أو غيره. والجمهور على الأول. والتعبير عن الرجوع إلى الشرك بالرد على الأعقاب- كما قال شيخ الإسلام- لزيادة تقبيحه بتصويره بصورة ما هو علم في القبح مع ما فيه من الإشارة إلى كون الشرك حالة قد تركت ونبذت وراء الظهر. وإيثار نُرَدُّ على نرتد لتوجيه الإنكار إلى الارتداد برد الغير تصريحا بمخالفة المضلين وقطعا لأطماعهم الفارغة وإيذانا بأن الارتداد من غير راد ليس في حيز الاحتمال ليحتاج إلى نفيه وإنكاره بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ أي إلى التوحيد والإسلام أو إلى سائر ما يترتب عليه الفوز في الآخرة على ما قيل. والظرف متعلق بنرد مسوق لتأكيد النكير لا لتحقيق معنى الرد وتصويره فقط وإلا لكفى أن يقال: بعد إذ اهتدينا كأنه قيل: أنرد إلى ذلك بإضلال المضل بعد إذ هدانا الله الذي لا هادي سواه. وليست الآية من باب التنازع فيما يظهر. ولا أن جملة «نرد» في موضع الحال من ضمير «ندعو» أي ونحن نرد وجوزه أبو البقاء. وقوله سبحانه: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ نعت لمصدر محذوف أي أنرد ردا مثل رد الذي استهوته إلخ. وقدر الطبرسي أندعو دعاء مثل دعاء الذي إلخ وليس بشيء كما لا يخفى، وقيل: إنه في موضع الحال من فاعل «نرد» أي أنرد على أعقابنا مشبهين بذلك. واعترضه صاحب الفرائد بأن حاصل الحالية أنرد في حال مشابهتنا كقولك: جاء زيدا راكبا أي في حال ركوبه والرد ليس في حال المشابهة كما أن المجيء في حال الركوب. وأجاب عنه الطيبي بأن الحال مؤكدة كقوله سبحانه: ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [التوبة: 25] فلا يلزم ذلك ولا يخفى أنه في حيز المنع. والاستهواء استفعال من هوى في الأرض يهوي إذا ذهب كما هو المعروف في اللغة كأنها طلبت هويه وحرصت عليه أي كالذي ذهبت به مردة الجن في المهامة والقفار. والكلام من المركب العقلي أو من التمثيل حيث شبه فيه من خلص من الشرك ثم نكص على عقبيه بحال من ذهبت به الشياطين في المهمة وأضلته بعد ما كان على الجادة المستقيمة. وليس هذا مبنيا على زعمات العرب كما زعم من استهوته الشياطين. وادعى بعضهم أن استهوى من هوى بمعنى سقط يقال: هوى يهوي هويا بفتح الهاء إذا سقط من أعلى إلى أسفل. والمقصود تشبيه حال هذا الضال بحال من سقط من الموضع العالي إلى الوهدة السافلة العميقة لأنه في غاية الاضطراب والضعف والدهشة. ونظير ذلك قوله تعالى: مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ [الحج: 31] وفيه بعد وإن قال الإمام: إنه أولى من المعنى الأول مع أنه يتوقف على ورود الاستفعال من هوى بهذا المعنى، وجوز أبو البقاء في «الذي» أن يكون مفردا أي كالرجل أو كالفريق الذي وأن يكون جنسا. والمراد الذين. وقرأ حمزة «استهواه» بألف ممالة مع التذكير فِي الْأَرْضِ أي جنسها. والجار متعلق باستهوته أو بمحذوف وقع حالا من مفعوله أي كائنا في الأرض. وكذا قوله سبحانه: حَيْرانَ حال منه أيضا على أنها بدل من الأولى أو حال ثانية عند من يجيزها أو من «الذي» أو من المستكن في الظرف. وجوز أبو البقاء أن يكون الجار حالا من حَيْرانَ وهو ممنوع من الصرف ومؤنثه حيرى أي تائها ضالا عن الجادة لا يدري ما يصنع. لَهُ أي للمستهوي أَصْحابٌ أرى رفقة يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى أي الطريق المستقيم أطلق عليه مبالغة على حد- زيد عدل- والجار الأول متعلق بمحذوف وقع خبرا مقدما وأَصْحابٌ مبتدأ، والجملة إما في محل نصب على أنها صفة لحيران أو حال من الضمير فيه أو من الضمير في الظرف أو بدل من الحال التي قبلها. وإما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 178 لا محل لها على أنها مستأنفة، وجملة يَدْعُونَهُ صفة لأصحاب. وقوله سبحانه: ائْتِنا يقدر فيه قول على أنه بدل من يَدْعُونَهُ أو حال من فاعله. وقيل: محكي بالدعاء لأنه بمعنى القول. وهذا مبني على الخلاف بين البصريين والكوفيين في أمثال ذلك. والمشهور التقدير أي يقول ائتنا. وفيه إشارة إلى أنهم مهتدون ثابتون على الطريق المستقيم وأن من يدعونه ليس ممن يعرف الطريق ليدعى إلى إتيانه وإنما يدرك سمت الداعي ومورد النعيق. وقرأ ابن مسعود كما رواه ابن جرير وابن الأنباري عن أبي إسحاق «بينا» على أنه حال من الهدى أي واضحا قُلْ لهؤلاء الكفار إِنَّ هُدَى اللَّهِ الذي هدانا إليه وهو الإسلام هُوَ الْهُدى أي وحده كما يدل عليه تعريف الطرفين أو ضمير الفصل وما عداه ضلال محض وغي صرف. وتكرير الأمر للاعتناء بشأن المأمور به أو لأن ما سبق للزجر عن الشرك وهذا حث على الإسلام وهو توطئة لما بعده فإن اختصاص الهدى بهداه تعالى مما يوجب امتثال الأوامر بعده وَأُمِرْنا عطف على إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى داخل معه تحت القول، واللام في قوله سبحانه: لِنُسْلِمَ للتعليل ومفعول أمرنا الثاني محذوف أي أمرنا بالإخلاص لكي ننقاد ونستسلم لِرَبِّ الْعالَمِينَ، وقيل: هي بمعنى الباء أي «أمرنا» بالإسلام. وتعقبه أبو حيان بأنه غريب لا تعرفه النحاة، وقيل: زائدة أي أمرنا أن نسلم على حذف الباء، وقال الخليل، وسيبويه، ومن تابعهما: الفعل في هذا وفي نحو يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [النساء: 26] مؤول بالمصدر وهو مبتدأ واللام وما بعدها خبره أي أمرنا للإسلام، وهو نظير- تسمع بالمعيدي خير من أن تراه- ولا يخفى بعده. وذهب الكسائي والفراء إلى أن اللام حرف مصدري بمعنى أن بعد أردت وأمرت خاصة فكأنه قيل: وأمرنا أن نسلم، والتعرض لوصف ربوبيته تعالى للعالمين لتعليل الأمر وتأكيد وجوب الامتثال به. وقوله تعالى: وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ أي الرب في مخالفة أمره سبحانه بتقدير حرف الجر وهو عطف على الجار والمجرور السابق، وقد صرح بدخول أن المصدرية على الأمر سيبويه وجماعة، وجوز أن يعطف أَنْ أَقِيمُوا على موضع لِنُسْلِمَ كأنه قيل: أمرنا أن نسلم وأن أقيموا. وقيل: العطف على مفعول الأمر المقدر أي أمرنا بالإيمان وإقامة الصلاة، وقيل: على قوله تعالى: إِنَّ هُدَى اللَّهِ إلخ. أي قل لهم إن هدى الله هو الهدى وأن أقيموا، وقيل: على ائْتِنا، وقيل: غير ذلك. وذكر الإمام أنه كان الظاهر أن يقال: أمرنا لنسلم ولأن نقيم إلا أنه عدل لما ذكر للإيذان بأن الكافر ما دام كافرا كان كالغائب الأجنبي فخوطب بما خوطب به الغيب وإذا أسلم ودخل في زمرة المؤمنين صار كالقريب الحاضر فخوطب بما يخاطب به الحاضرون. وقوله سبحانه: وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ جملة مستأنفة موجبة للامتثال بما أمر به سبحانه من الأمور الثلاثة، وتقديم المعمول لإفادة الحصر مع رعاية الفواصل أي إليه سبحانه لا إلى غيره تحشرون يوم القيامة. وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي هذين الأمرين العظيمين. ولعله أريد بخلقهما خلق ما فيهما أيضا، وعدم التصريح بذلك لظهور اشتمالهما على جميع العلويات والسفليات. وقوله سبحانه: بِالْحَقِّ متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل خَلَقَ أي قائما بالحق، ومعنى الآية حينئذ كما قيل كقوله تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا [ص: 27] وجوز أن يكون حالا من المفعول أي متلبسة بالحق، وأن يكون صفة لمصدر الفعل المؤكد أي خلقا متلبسا بالحق وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ تذييل لما تقدم والواو للاستئناف. واليوم بمعنى الحين متعلق بمحذوف وقع خبرا مقدما وقَوْلُهُ مبتدأ والْحَقُّ صفته. والمراد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 179 بالقول المعنى المصدري أي القضاء الصواب الجاري على وفق الحكمة فلذا صح الإخبار عنه بظرف الزمان أي وقضاؤه سبحانه المعروف بالحقية كائن حين يقول سبحانه لشيء من الأشياء كن فيكون ذلك الشيء وتقديم الخبر للاهتمام بعموم الوقت كما قيل، ونفي السعد كونه للحصر لعدم مناسبته وجعل التقديم لكونه الاستعمال الشائع. وتعقب بأن المعروف الشائع تقديم الخبر الظرفي إذا كان المبتدأ نكرة غير موصوفة أو نكرة موصوفة أما إذا كان معرفة فلم يقله أحد. وقيل: إن قَوْلُهُ الْحَقُّ مبتدأ وخبر ويَوْمَ ظرف لمضمون الجملة والواو بحسب المعنى داخلة عليها والتقديم للاعتناء به من حيث إنه مدار الحقية، وترك ذكر المقول له للثقة بغاية ظهوره. والمراد بالقول كلمة كُنْ تحقيقا أو تمثيلا والمعنى وأمره سبحانه المتعلق بكل شيء يريد خلقه من الأشياء حين تعلقه به لا قبله ولا بعده من أفراد الأحيان الحق أي المشهود له بالحقية، وقيل: إن الواو للعطف ويَوْمَ إما معطوف على السَّماواتِ فهو مفعول لخلق مثله، والمراد به يوم الحشر أي وهو الذي أوجد السماوات والأرض وما فيهما وأوجد يوم الحشر والمعاد، وإما على الهاء في «اتقوه» فهو مفعول به مثله أيضا، والكلام على حذف مضاف أي اتقوا الله تعالى واتقوا هول ذلك اليوم وعقابه وفزعه. وإما متعلق بمحذوف دل عليه «بالحق» أي يقوم بالحق يوم إلخ، وهو إعراب متكلف كما قال أبو حيان. وقيل: إنه معطوف على «بالحق» وهو ظرف لخلق أي خلق السماوات والأرض بعظمها حين قال كن فكان. والتعبير بصيغة الماضي إحضار للأمر البديع. وفيه أنه يتوقف على صحة عطف الظرف على الحال بناء على أن الحال ظرف في المعنى وهو تكلف. «وقوله الحق» مبتدأ وخبر أو فاعل يكون على معنى وحين يقول لقوله الحق أي لقضائه كن فيكون. والمراد به حين يكون الأشياء ويحدثها أو حين يقوم القيامة فيكون التكوين إحياء الأموات للحشر. وقيل غير ذلك فتدبر. وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ أي استقر الملك له في ذلك اليوم صورة ومعنى بانقطاع العلائق المجازية الكائنة في الدنيا المصححة للمالكية في الجملة فلا يدعيه غيره بوجه. والصور قرن ينفخ فيه كما ثبت في الأحاديث والله تعالى أعلم بحقيقته. وقد فصلت أحواله في كتب السنة. وصاحبه إسرافيل عليه السلام على المشهور. وأخرج البزار والحاكم عن أبي سعيد الخدري مرفوعا أن ملكين موكلين بالصور ينتظران متى يؤمران فينفخان. وقرأ قتادة «في الصّور» جمع صورة والمراد بها الأبدان التي تقوم بعد نفخ الروح فيها لرب العالمين عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي كل غيب وشهادة وَهُوَ الْحَكِيمُ في كل ما يفعله الْخَبِيرُ بجميع الأمور الخفية والجلية. والجملة تذييل لما تقدم وفيه لف ونشر مرتب هذا. ومن باب الإشارة في الآيات: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ. اعلم أن بعض ساداتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم ذكروا أن للغيب مراتب، أولاها غيب الغيوب وهو علم الله تعالى المسمى بالعناية الأولى. وثانيتها غيب عالم الأرواح وهو انتقاش صورة كل ما وجد وسيوجد من الأزل إلى الأبد في العالم الأول العقلي الذي هو روح العالم المسمى بأم الكتاب على وجه كلي وهو القضاء السابق. وثالثتها غيب عالم القلوب وهو ذلك الانتقاش بعينه مفصلا تفصيلا علميا كليا وجزئيا في عالم النفس الكلية التي هي قلب العالم المسمى باللوح المحفوظ. ورابعتها غيب عالم الخيال وهو انتقاش الكائنات بأسرها في النفوس الجزئية الفلكية منطبعة في أجرامها معينة مشخصة مقارنة لأوقاتها على ما يقع بعينه. وذلك العالم هو الذي يعبر عنه بالسماء الدنيا إذ هو أقرب مراتب الغيوب إلى عالم الشهادة ولوح القدر الإلهي الذي هو تفصيل قضائه سبحانه، وذكروا أن علم الله تعالى الذي هو العناية الأولى عبارة عن إحاطته سبحانه بالكل حضورا فالخزائن المشتملة على جميع الغيوب حاضرة لذاته وليس هناك شيء زائد ولا يعلمها إلا هو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 180 سبحانه. وكذا أبواب تلك الخزائن مغلقة ومفاتيحها بيده تعالى لا يطلع على ما فيها أحد غيره عز وجل وقد يفتح منها ما شاء لمن يشاء. هذا وقد يقال: حقق كثير من الراسخين في العلم أن حقائق الأشياء وماهياتها ثابتة في الأزل وهي في ثبوتها غير مجعولة وإنما المجعول الصور الوجودية وهي لا تتبدل ولا تتغير ولا تتصف بالهلاك أصلا كما يشير إليه قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] بناء على عود الضمير إلى الشيء وتفسير الوجه بالحقيقة وعلم الله تعالى بها حضوري وهي كالمرايا لصورها الحادثة فتكون تلك الصورة مشهودة لله تعالى أزلا مع عدمها في نفسها ذهنا وخارجا، وقد بينوا انطواء العلم بها في العلم بالذات بجميع اعتباراته التي منها كونه سبحانه مبدأ لإفاضة وجوداتها عليها بمقتضى الحكمة فيمكن أن يقال: إن المفاتح بمعنى الخزائن إشارة إلى تلك الماهيات الأزلية التي هي كالمرايا لما غاب عنا من الصور وتلك حاضرة عنده تعالى أزلا ولا يعلمها علما حضوريا غير محتاج إلى صورة ظلية إلا هو جل وعلا، وهذا ظاهر لمن أخذت العناية بيده. وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ أي بر النفوس من ألوان الشهوات ومراتبها وَالْبَحْرِ أي بحر القلوب من لآلىء الحكم ومرجان العرفان. وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ من أوراق أشجار اللطف والقهر في مهيع النفس وخصم القلب إِلَّا يَعْلَمُها في سائر أحوالها. وَلا حَبَّةٍ من بذر الجلال والجمال فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وهو عالم الطبائع والأشباح وَلا رَطْبٍ من الإلهامات التي ترد على القلب بلطف من غير انزعاج وَلا يابِسٍ من الوساوس والخطرات التي تفزغ منها النفس حين ترد عليها إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ وهو علمه سبحانه الجامع، وبعضهم لم يؤول شيئا من المذكورات وفسر الكتاب بسماء الدنيا لتعين هذه الجزئيات فيها، ويمكن أن يقال: إن الكتاب إشارة إلى ماهيات الأشياء وهي المسماة بالأعيان الثابتة، ومعنى كونها فيها ما أشرنا إليه أن تلك الأعيان كالمرايا لهذه الموجودات الخارجية وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ أي ينيمكم وقيل: يتوفاكم بطيران أرواحكم في الملكوت وسيرها في رياض حضرات اللاهوت. وقيل: يمكن أن يكون المعنى وهو الذي يضيق عليكم إلى حيث يكاد تزهق أرواحكم في ليل القهر وتجلي الجلال وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ أي كسبتم بِالنَّهارِ من الأعمال مطلقا، وقيل من الأعمال الشاقة على النفس المؤلمة لها كالطاعات. وقيل: يحتمل أن يكون المعنى ويعلم ما كسبتموه بنهار التجلي الجمالي من الأنس أو شوارد العرفان ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ أي فيما جرحتم من صور أعمالكم ومكاسبكم الحسنة والقبيحة، وقيل الحسنة، وقيل فيما كسبتموه في نهار التجلي، وأول الأقوال هنا وفيما تقدم أولى لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى أي معين عنده ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ في عين الجمع المطلق ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بإظهار صور أعمالكم عليكم وجزائكم بها وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ لأنه الوجود المطلق حتى عن قيد الإطلاق وله الظهور حسبما تقتضيه الحكمة ولا تقيده المظاهر وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ [البروج: 20] . وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً وهي للقوى التي ينطبع فيها الخير والشر ويصير هيئة أو ملكة ويظهر عند انسلاخ الروح ويتمثل بصور مناسبة أو القوى السماوية التي تنتقش فيها الصور الجزئية ولا تغادر صغيرة ولا كبيرة حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا قيل: هم نفس أولئك الحفظة وقد أودع الله تعالى فيهم القدرة على التوفي ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ في عين الجمع المطلق مَوْلاهُمُ أي مالكهم الذي يلي سائر أحوالهم إذ لا وجود لها إلا به الْحَقِّ وكل ما سواه باطل. وذكر بعض أهل الإشارة أن هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى بناء على أن الله تعالى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 181 أخبر برجوع العبد إليه سبحانه وخروجه من سجن الدنيا وأيدي الكاتبين واصفا نفسه له بأنه مولاه الحق المشعر بأن غيره سبحانه لا يعد مولى حقا، ولا شك أنه لا أعز للعبد من أن يكون مرده إلى مولاه أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ إذ ظهور الأعمال بالصور المناسبة آن مفارقة الروح للجسد. قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وهي الغواشي النفسانية وَالْبَحْرِ وهي حجب صفات القلب تَدْعُونَهُ إلى كشفها تَضَرُّعاً في نفوسكم وَخُفْيَةً في أسراركم لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ الغواشي والحجب لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ نعمة الإنجاء بالاستقامة والتمكين قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها بأنوار تجليات صفاته ومن كل كرب سوى ذلك بأن يمن عليكم بالفناء ثُمَّ أَنْتُمْ بعد علمكم بقدرته تعالى على ذلك تُشْرِكُونَ به أنفسكم وأهواءكم فتعبدونها قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ بأن يحجبكم عن النظر في الملكوت أو بأن يقهركم باحتجابكم بالمعقولات والحجب الروحانية أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ بأن لا يسهل عليكم القيام على باب الربوبية بنعت الخدمة وطلب الوصلة أو بأن يحجبكم بالحجب الطبيعية أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً فرقا مختلفة كل فرقة على دين قوة من القوى تقابل الفرقة الأخرى أو يجعل أنفسكم مختلفة العقائد كل فرقة على دين دجال وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ بالمنازعات والمجادلات حسبما يقتضيه الاختلاف لِكُلِّ نَبَإٍ أي ما ينبأ عنه مُسْتَقَرٌّ أي محل وقوع واستقرار وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ حين يكشف عنكم حجب أبدانكم وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا بإظهار صفات نفوسهم وإثبات العلم والقدرة لها فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ لأنهم محجوبون مشركون وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ وهم المتجردون عن صفاتهم مِنْ حِسابِهِمْ أي من حساب هؤلاء المحجوبين مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى أي فليذكروهم بالزجر والردع لعلهم يتقون يحترزون عن الخوض. وجوز أن يكون المعنى أن المتجردين لا يحتجبون بواسطة مخالطة المحجوبين ولكن ذكرناهم لعلهم يزيدون في التقوى وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً أي اترك الذين عادتهم اللعب واللهو إلخ فإنهم قد حجبوا بما رسخ فيهم عن سماع الإنذار وتأثيره فيهم وَذَكِّرْ بِهِ أي بالقرآن كراهة أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ أي تحجب بكسبها بأن يصير لها ملكة أي ذكر من لم يكن دينه اللعب واللهو لئلا يكون دينه ذلك وأما من وصل إلى ذلك الحد فلا ينفعه التذكير أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وهو شدة الشوق إلى الكمال وَعَذابٌ أَلِيمٌ وهو الحرمان عنه بسبب الاحتجاب بما كسبوا قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا أي أنعبد من ليس له قدرة على شيء أصلا إذ لا وجود له حقيقة وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بالشرك بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ إلى التوحيد الحقيقي كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ من الوهم والتخيل فِي الْأَرْضِ أي أرض الطبيعة ومهامه النفس حَيْرانَ لا يدري أين يذهب لَهُ أَصْحابٌ من الفكر والقوى النظرية يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى الحقيقي يقولون ائْتِنا فإن الطريق الحق عندنا وهو لا يسمع قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ وهو طريق التوحيد هُوَ الْهُدى وغيره غيره وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ بمحو صفاتنا وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ الحقيقية وهو الحضور القلبي. قال ابن عطاء: إقامة الصلاة حفظها مع الله تعالى بالأسرار وَاتَّقُوهُ أي اجعلوه سبحانه وقاية بالتخلص عن وجودكم وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ بالفناء فيه سبحانه وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ أي سماوات الأرواح وَالْأَرْضَ أي أرض الجسم بِالْحَقِّ أي قائما بالعدل الذي هو مقتضى ذاته وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 182 وهو وقت تعلق إرادته سبحانه القديمة بالظهور في التعينات قَوْلُهُ الْحَقُّ لاقتضائه ما اقتضاه على أحسن نظام وليس في الإمكان أبدع مما كان وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وهو وقت إفاضة الأرواح على صور المكنونات التي هي ميتة بأنفسها بل لا وجود لها ولا حياة. عالِمُ الْغَيْبِ أي حقائق عالم الأرواح ويقال له الملكوت وَالشَّهادَةِ أي صور عالم الأشباح ويقال له الملك وَهُوَ الْحَكِيمُ الذي أفاض على القوابل حسب القابليات الْخَبِيرُ بأحوالها ومقدار قابلياتها لا حكيم غيره ولا خبير سواه. وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ نصب- عند بعض المحققين- على أنه مفعول به لفعل مضمر خوطب به النبي صلّى الله عليه وسلّم معطوف على قُلْ أَنَدْعُوا لا على أَقِيمُوا لفساد المعنى أي واذكر يا محمد لهؤلاء الكفار بعد أن أنكرت عليهم عبادة ما لا يقدر على نفع ولا ضر وحققت أن الهدى هو هدى الله تعالى وما يتبعه من شؤونه تعالى وقت قول إبراهيم عليه السلام الذي يدعون أنهم على ملته موبخا لِأَبِيهِ آزَرَ على عبادة الأصنام فإن ذلك مما يبكتهم وينادي بفساد طريقتهم. وآزر بزنة آدم علم أعجمي لأبي إبراهيم عليه السلام وكان من قرية من سواد الكوفة، وهو بدل من «إبراهيم» أو عطف بيان عليه. وقال الزجاج: ليس بين النسابين اختلاف في أن اسم أبي إبراهيم عليه السلام تارح بتاء مثناة فوقية وألف بعدها راء مهملة مفتوحة وحاء مهملة ويروى بالخاء المعجمة. وأخرج ابن المنذر بسند صحيح عن ابن جريج أن اسمه تيرح أو تارح. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن اسم أبي إبراهيم عليه الصلاة والسلام يأزر واسم أمه مثلى. وإلى كون آزر ليس اسما له وهب مجاهد وسعيد بن المسيب وغيرهما. واختلف الذاهبون إلى ذلك فمنهم من قال: إن آزر لقب لأبيه عليه السلام. ومنهم من قال: اسم جده ومنهم من قال: اسم عمه والعم والجد يسميان أبا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 183 مجازا. ومنهم من قال: هو اسم صنم. وروي ذلك عن ابن عباس، والسدي، ومجاهد رضي الله تعالى عنهم. ومنهم من قال: هو وصف في لغتهم ومعناه المخطئ. وعن سلمان التيمي قال: بلغني أن معناه الأعوج. وعن بعضهم أنه الشيخ الهرم بالخوارزمية. وعلى القول بالوصفية يكون منع صرفه للحمل على موازنه وهو فاعل المفتوح العين فإنه يغلب منع صرفه لكثرته في الاعلام الأعجمية. وقيل: الأولى أن يقال: إنه غلب عليه فالحق بالعلم. وبعضهم يجعله نعتا مشتقا من الأزر بمعنى القوة أو الوزر بمعنى الإثم. ومنع صرفه حينئذ للوصفية ووزن الفعل لأنه على وزن أفعل. وعلى القول بأنه بمعنى الصنم يكون الكلام على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أي عابد آزر. وقرأ يعقوب «آزر» بالضم على النداء، واستدل بذلك على العلمية بناء على أنه لا يحذف حرف النداء إلا من الإعلام وحذفه من الصفات شاذ أي ياء آزر أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً أي أتجعلها لنفسك آلهة على توجيه الإنكار إلى اتخاذ الجنس من غير اعتبار الجمعية وإنما إيراد صيغة الجنس باعتبار الوقوع وقرىء «أأزرا» بهمزتين الأولى استفهامية مفتوحة والثانية مفتوحة ومكسورة وهي إما أصلية أو مبدلة من الواو. ومن قرأ بذلك قرأ «تتخذ» بإسقاط الهمزة وهو مفعول به لفعل محذوف أي أتعبد آزرا على أنه اسم صنم ويكون تَتَّخِذُ إلخ بيانا لذلك وتقريرا وهو داخل تحت الإنكار أو مفعول له على أنه بمعنى القوة أي الأجل القوة تتخذ أصناما آلهة. والكلام إنكار لتعززه بها على طريقة قوله تعالى: أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ [النساء: 139] وجوز أن يكون حالا أو مفعولا ثانيا لتتخذ. وأعرب بعضهم آزَرَ على قراءة الجمهور على أنه مفعول لمحذوف وهو بمعنى الصنم أيضا أي أتعبد آزر. وجعل قوله سبحانه أَتَتَّخِذُ إلخ تفسيرا وتقريرا بمعنى أنه قرينة على الحذف لا بمعنى التفسير المصطلح عليه في باب الاشتغال لأن ما بعد الهمزة لا يعمل فيما قبلها وما لا يعمل لا يفسر عاملا كما تقرر عندهم. والذي عول عليه الجم الغفير من أهل السنة أن آزر لم يكن والد إبراهيم عليه السلام وادعوا أنه ليس في آباء النبي صلّى الله عليه وسلّم كافر أصلا لقوله عليه الصلاة والسلام: «لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات والمشركون نجس» . وتخصيص الطهارة بالطهارة من السفاح لا دليل له يعول عليه. والعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب. وقد ألفوا في هذا المطلب الرسائل واستدلوا له بما استدلوا، والقول بأن ذلك قول الشيعة كما ادعاه الإمام الرازي ناشىء من قلة التتبع، وأكثر هؤلاء على أن آزر اسم لعم إبراهيم عليه السلام. وجاء إطلاق الأب على العم في قوله تعالى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ [البقرة: 133] وفيه إطلاق الأب على الجد أيضا. وعن محمد بن كعب القرظي أنه قال: الخال والد والعم والد وتلا هذه الآية. وفي الخبر «ردوا على أبي العباس» وأيد بعضهم دعوى أن أبا إبراهيم عليه السلام الحقيقي لم يكن كافرا وإنما الكافر عمه بما أخرجه ابن المنذر في تفسيره بسند صحيح عن سليمان بن صرد قال: لما أرادوا أن يلقوا إبراهيم عليه السلام في النار جعلوا يجمعون الحطب حتى إن كانت العجوز لتجمع الحطب فلما تحقق ذلك قال: حسبي الله تعالى ونعم الوكيل فلما ألقوه قال الله تعالى: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ [الأنبياء: 69] فكانت فقال عمه من أجلي دفع عنه فأرسل الله تعالى عليه شرارة من النار فوقعت على قدمه فأحرقته. وبما أخرج عن محمد بن كعب وقتادة، ومجاهد، والحسن، وغيرهم أن إبراهيم عليه السلام لم يزل يستغفر لأبيه حتى مات فلما مات تبين له أنه عدو الله فلم يستغفر له ثم هاجر بعد موته وواقعة النار إلى الشام ثم دخل مصر واتفق له مع الجبار ما اتفق ثم رجع إلى الشام ومعه هاجر ثم أمره الله تعالى أن ينقلها وولدها إسماعيل إلى مكة فنقلهما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 184 ودعا هناك فقال: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ إلى قوله رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ [إبراهيم: 37- 41] فإنه يستنبط من ذلك أن المذكور في القرآن بالكفر هو عمه حيث صرح في الأثر الأول أن الذي هلك قبل الهجرة هو عمه ودل الأثر الثاني على أن الاستغفار لوالديه كان بعد هلاك أبيه بمدة مديدة فلو كان الهالك هو أبوه الحقيقي لم يصح منه عليه السلام هذا الاستغفار له أصلا فالذي يظهر أن الهالك هو العم الكافر المعبر عنه بالأب مجازا وذلك لم يستغفر له بعد الموت وأن المستغفر له إنما هو الأب الحقيقي وليس بآزر، وكان في التعبير بالوالد في آية الاستغفار وبالأب في غيرها إشارة إلى المغايرة. ومن الناس من احتج على أن آزر ما كان والد إبراهيم عليه السلام بأن هذه دالة على أنه عليه السلام شافهة بالغلظة والجفاء لقوله تعالى فيها: إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ أي الذين يتبعونك في عباداتها فِي ضَلالٍ عظيم عن الحق مُبِينٍ أي ظاهر لا اشتباه فيه أصلا، ومشافهة الأب بالجفاء لا يجوز لما فيه من الإيذاء. وآية التأفيف بفحواها تعم سائر أنواع الإيذاءات كعمومها للأب الكافر والمسلم. وأيضا أن الله تعالى لما بعث موسى عليه السلام إلى فرعون أمره بالرفق معه. والقول اللين له رعاية لحق التربية وهي في الوالد أتم. وأيضا الدعوة بالرفق أكثر تأثيرا فإن الخشونة توجب النفرة فلا تليق من غير إبراهيم عليه السلام مع الأجانب فكيف تليق منه مع أبيه وهو الأواه الحليم. وأجيب بأن هذا ليس من الإيذاء المحرم في شيء وليس مقتضى المقام إلا ذاك ولا نسلم أن الداعي لأمر موسى عليه السلام باللين مع فرعون مجرد رعاية حق التربية وقد يقسو الإنسان أحيانا على شخص لمنفعته كما قال أبو تمام: فقسا ليزدجروا ومن يك حازما ... فليقس أحيانا على من يرحم وقال أبو العلاء المعري: اضرب وليدك وادلله على رشد ... ولا تقل هو طفل غير محتلم فرب شق برأس جر منفعة ... وقس على شق رأس السهم والقلم وقال ابن خفاجة الأندلسي: نبه وليدك من صباه بزجره ... فلربما أغفى هناك ذكاؤه وانهره حتى تستهل دموعه ... في وجنتيه وتلتظي أحشاؤه فالسيف لا يذكو بكفك ناره ... حتى يسيل بصفحتيه ماؤه وكون الرفق أكثر تأثيرا غير مسلم على الإطلاق فإن المقامات متفاوتة كما ينبىء عن ذلك قوله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام تارة: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125] وأخرى وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة: 73، التحريم: 9] نعم لو ادعى أن ما ذكر مؤيد لكون آزر ليس أبا حقيقيا لإبراهيم عليه السلام لربما قبل وحيث ادعى أنه حجة على ذلك فلا يقبل فتدبر. والرؤية إما علمية والظرف مفعولها الثاني وإما بصرية فهو حال من المفعول. والجملة تعليل للإنكار والتوبيخ ومنشأ ضلال عبدة الأصنام على ما يفهم من كلام أبي معشر جعفر بن محمد المنجم البلخي في بعض كتبه اعتقاد أن الله تعالى جسم. فقد نقل عنه الإمام أنه قال: إن كثيرا من أهل الصين والهند كانوا يثبتون الإله والملائكة إلا أنهم يعتقدون أنه سبحانه جسم ذو صورة كأحسن ما يكون من الصور وللملائكة أيضا صور حسنة إلا أنهم كلهم محتجبون بالسماوات عندهم فلا جرم اتخذوا صورا وتماثيل أنيقة المنظر حسنة الرواء والهيكل وجعلوا الأحسن هيكل الإله وما دونه هيكل الملك وواظبوا على عبادة ذلك قاصدين الزلفى من الله تعالى ومن الملائكة، وذكر الإمام نفسه في أصل عبادة الأصنام أن الناس رأوا تغيرات أحوال هذا العالم الأسفل مربوطة بتغيرات أحوال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 185 الكواكب فزعموا ارتباط السعادة والنحوسة بكيفية وقوعها في الطوالع ثم غلب على ظن أكثر الخلق أن مبدأ حدوث الحوادث في هذا العالم هو الاتصالات الفلكية والمناسبات الكوكبية فبالغوا في تعظيم الكواكب. ثم منهم من اعتقد أنها واجبة الوجود لذاتها. ومنهم من اعتقد حدوثها وكونها مخلوقة للإله الأكبر إلا أنهم قالوا: إنها مع ذلك هي المدبرة لأحوال العالم. وعلى كلا التقديرين اشتغلوا بعبادتها. ولما رأوها قد تغيب عن الأبصار اتخذوا لكل كوكب صنما من الجوهر المنسوب إليه بزعمهم وأقبلوا على عبادته وغرضهم من ذلك عبادة تلك الكواكب والتقرب إليها. ولهذا أقام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الأدلة على أن الكواكب لا تأثير لها البتة في أحوال هذا العالم كما قال سبحانه: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: 54] بعد أن بين أن الكواكب مسخرة. وعلى أنها لو قدر صدور فعل منها وتأثير في هذا العالم لا تخلو عن دلائل الحدوث وكونها مخلوقة فيكون الاشتغال بعبادة الفرع دون عبادة الأصل ضلالا محضا. ويرشد إلى أن حاصل دين عبدة الأصنام ما ذكر أنه سبحانه بعد أن حكى توبيخ إبراهيم عليه السلام لأبيه على اتخاذها أقام الدليل على أن الكواكب والقمر لا يصلح شيء منها للإلهية. وأنا أقول: لعل هذا سبب في عبادة الأصنام أولا وأما سبب عبادة العرب لها فغير ذلك. قال ابن هشام: حدثني بعض أهل العلم أن عمرو بن الحي وهو أول من غير دين إبراهيم عليه السلام خرج من مكة إلى الشام في بعض أسفاره فلما قدم من أرض البلقاء وبها يومئذ العمالقة أولاد عملاق ويقال عمليق بن لاود بن سام بن نوح عليه السلام رآهم يعبدون الأصنام فقال لهم: ما هذه التي أراكم تعبدون؟ فقالوا: هذه الأصنام نعبدها ونستمطر بها فتمطرنا ونستنصر بها فتنصرنا فقال لهم: ألا تعطوني منها صنما فأسير به إلى أرض العرب فيعبدونه؟ فأعطوه صنما يقال له هبل فقدم به مكة فنصبه وأمر الناس بعبادته. وقال ابن إسحاق: يزعمون أن أول ما كانت عبادة الحجارة في بني إسماعيل عليه السلام. وذلك أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن منهم حين ضاقت عليهم والتمسوا الفسح في البلاد إلا حمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم فحيث ما نزلوا وضعوه فطافوا به كطوافهم بالكعبة حتى خلفهم الخلف ونسوا ما كانوا عليه واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام غيره فعبدوا الأوثان فصاروا على ما كانت الأمم قبلهم من الضلالات، وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام على ذلك وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ هذه الإراءة من الرؤية البصرية المستعارة استعارة لغوية للمعرفة من إطلاق السبب على المسبب أي عرفناه وبصرناه، وكان الظاهر أرينا بصيغة الماضي إلا أنه عدل إلى صيغة المستقبل حكاية للحال الماضية استحضارا لصورتها حتى كأنها حاضرة مشاهدة، وقيل: إن التعبير بالمستقبل لأن متعلق الإراءة لا يتناهى وجه دلالته فلا يمكن الوقوف على ذلك إلا بالتدريج وليس بشيء. والإشارة إلى مصدر «نري» لا إلى إراءة أخرى مفهومة من قوله تعالى إِنِّي أَراكَ ولا إلى ما أنذر به أباه وضلل قومه من المعرفة والبصارة. وجوز كل، وقيل: يجوز أن يجعل المشبه التبصير من حيث إنه واقع والمشبه به التبصير من حيث إنه مدلول اللفظ، ونظيره وصف النسبة بالمطابقة للواقع وهي عين الواقع، وجوز كون الكاف بمعنى اللام والإشارة إلى القول السابق، وأنت تعلم ما هو الأجزل والأولى مما تقدم لك في نظائره وليس هو إلا الأول أي ذلك التبصير البديع نبصره عليه السلام مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ربوبيته تعالى ومالكيته لهما لا تبصيرا آخر أدنى منه، فالملكوت مصدر كالرغبوت والرحموت كما قاله ابن مالك. وغيره من أهل اللغة، وتاؤه زائدة للمبالغة ولهذا فسر بالملك العظيم والسلطان القاهر، وهو- كما قال الراغب- مختص به تعالى خلافا لبعضهم. وعن مجاهد أن المراد بالملكوت الآيات، وقيل: العجائب التي في السماوات والأرض فإنه عليه السلام فرجت له السماوات السبع فنظر إلى ما فيهن حتى انتهى بصره إلى العرش وفرجت له الأرضون السبع فنظر إلى ما فيهن. وأخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لما رأى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض أشرف على رجل على معصية من معاصي الله تعالى فدعا عليه فهلك ثم أشرف على آخر على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 186 معصية من معاصي الله تعالى فدعا عليه فهلك ثم أشرف على آخر فذهب يدعو عليه فأوحى الله تعالى إليه أن يا إبراهيم إنك رجل مستجاب الدعوة فلا تدع على عبادي فإنهم مني على ثلاث، إما أن يتوب العاصي فأتوب عليه، وإما أن أخرج من صلبه نسمة تملأ الأرض بالتسبيح. وإما أن أقبضه إليّ فإن شئت عفوت وإن شئت عاقبت» وروي نحوه موقوفا ومرفوعا من طرق شتى ولا خلاف فيها لدلائل المعقول خلافا لمن توهمه، وقيل: ملكوت السماوات الشمس، والقمر، والنجوم وملكوت الأرض، الجبال، والأشجار، والبحار. وهذه الأقوال- على ما قيل- لا تقتضي أن تكون الإراءة بصرية إذ ليس المراد بإراءة ما ذكر من الأمور الحسية مجرد تمكينه عليه السلام من إبصارها ومشاهدتها في أنفسها بلا اطلاعه عليه السلام على حقائقها وتعريفها من حيث دلالتها على شؤونه عز وجل، ولا ريب في أن ذلك ليس مما يدرك حسا كما ينبىء عنه التشبيه السابق. وقرىء «ترى» بالتاء وإسناد الفعل إلى الملكوت أي تبصره عليه السلام دلائل الربوبية وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ أي من زمرة الراسخين في الإيقان البالغين درجة عين اليقين من معرفة الله تعالى، وهذا لا يقتضي سبق الشك كما لا يخفى، واللام متعلقة بمحذوف مؤخر، والجملة اعتراض مقرر لما قبلها أي وليكون كذلك فعلنا ما فعلنا من التبصير البديع المذكور، والحصر باعتبار أن هذا الكون هو المقصود الأصلي من ذلك التبصير ونحو إرشاد الخلق وإلزام الكفار من مستتبعاته، وبعضهم لم يلاحظ ذلك فقدر الفعل مقدما لعدم انحصار العلة فيما ذكر. وقيل: هي متعلقة بالفعل السابق، والجملة معطوفة على علة مقدرة ينسحب عليها الكلام أي ليستدل وليكون. واعترض بأن الاستدلال مع قطع النظر عن كونه سببا للالتفات لا يكون علة للإراءة فكيف يعطف عليه بإعادة اللام وليس بشيء، وادعى بعضهم أنه ينبغي على ذلك أن يراد بملكوت السماوات والأرض بدائعهما وآياتهما لأن الاستدلال من غايات إراءتها لا من غاية إراءة نفس الربوبية، وأنت تعلم أن رؤية الربوبية إنما هي برؤية دلائلها وآثارها، ومن الناس من جوز كون الواو زائدة واللام متعلقة بما قبل وفيه بعد وإن ذكروه وجها كالأولين في كل ما جاء في القرآن من هذا القبيل. وقوله تعالى: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ يحتمل أن يكون عطفا على إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ وما بينهما اعتراض مقرر لما سبق ولحق، فإن تعريفه عليه السلام ربوبيته ومالكته تعالى للسماوات والأرض وما فيهن وكون الكل مقهورا تحت ملكوته مفتقرا إليه عز شأنه في جميع أحواله وكونه من الراسخين في المعرفة الواصلين إلى ذروة عين اليقين مما يقتضي بأن يحكم باستحالة ألوهية ما سواه سبحانه من الأصنام والكواكب التي كان يعبدها قومه، واختاره بعض المحققين، ويحتمل أن يكون تفصيلا لما ذكر من إراءة الملكوت وبيانا لكيفية استدلاله عليه السلام ووصوله إلى رتبة الإيقان، والترتيب ذكرى لتأخر التفصيل عن الإجمال في الذكر، ومعنى فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ سترة بظلامه، وهذه المادة بمتصرفاتها تدل على الستر، وعن الراغب أصل الجن الستر عن الحاسة يقال: جنه الليل وأجنه وجن عليه فجنه وجن عليه ستره وأجنه جعل له ما يستره. وقوله سبحانه: رَأى كَوْكَباً جواب لما فإن رؤيته إنما تتحقق عادة بزوال نور الشمس عن الحس وهذا- كما قال شيخ الإسلام- صريح في أنه لم يكن في ابتداء الطلوع بل كان بعد غيبته عن الحس بطريق الاضمحلال بنور الشمس، والتحقيق عنده أنه كان قريبا من الغروب وسيأتي إن شاء الله تعالى الإشارة إلى سبب ذلك، والمراد بالكوكب فيما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم المشتري. وأخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة أنه قال: ذكر لنا أنه الزهرة قالَ هذا رَبِّي استئناف مبني على سؤال نشأ من الكلام السابق، وهذا منه عليه السلام على سبيل الفرض وإرخاء العنان مجاراة مع أبيه وقومه الذين كانوا يعبدون الأصنام والكواكب فإن المستدل على فساد قول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 187 يحكيه ثم بكر عليه بالإبطال وهذا هو الحق الحقيق بالقبول. وقيل: إن في الكلام استفهاما إنكاريا محذوفا، وحذف أداة الاستفهام كثير في كلامهم، ومنه قوله: ثم قالوا تحبها قلت بهرا، وقوله: فقلت وأنكرت الوجوه: هم هم وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في قوله تعالى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ [البلد: 11] إن المعنى أفلا اقتحم وجعل من ذلك قوله تعالى: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ [الشعراء: 22] وقيل: إنه مقول على سبيل الاستهزاء كما يقال لذليل ساد قوما: هذا سيدكم على سبيل الاستهزاء، وقيل: إنه عليه السلام أراد أن يبطل قولهم بربوبية الكواكب إلا أنه عليه السلام كان قد عرف من تقليدهم لأسلافهم وبعد طباعهم عن قبول الدلائل أنه لو صرح بالدعوة إلى الله تعالى لم يقبلوا ولم يلتفتوا فمال إلى طريق يستدرجهم إلى استماع الحجة وذلك بأن ذكر كلاما يوهم كونه مساعدا لهم على مذهبهم مع أن قلبه كان مطمئنا بالإيمان، ومقصوده من ذلك أن يتمكن من ذكر الدليل على إبطاله وإن لم يقبلوا، وقرر الإمام هذا بأنه عليه السلام لما لم يجد إلى الدعوة طريقا سوى هذا الطريق وكان مأمورا بالدعوة إلى الله تعالى كان بمنزلة المكره على كلمة الكفر ومعلوم أنه عند الإكراه يجوز إجراء كلمة الكفر على اللسان، وإذا جاء ذلك لبقاء شخص واحد فبأن يجوز لتخليص عالم من العقلاء عن الكفر والعقاب المؤبد كان ذلك أولى، فكلام إبراهيم عليه السلام كان من باب الموافقة ظاهرا للقوم حتى إذا أورد عليهم الدليل المبطل لقولهم كان قبولهم له أتم وانتفاعهم باستماعه أكمل، ثم قال: ومما يقوي هذا القول أنه تعالى حكى عنه مثل هذا الطريق في موضع آخر وهو قوله تعالى: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات: 88، 89] وذلك لأن القوم كانوا يستدلون بعلم النجوم على حصول الحوادث المستقبلة فوافقهم في الظاهر مع أنه كان بريئا عنه في الباطن ليتوصل بذلك إلى كسر الأصنام، فمتى جازت الموافقة لهذا الغرض فلم لا تجوز في مسألتنا لمثل ذلك، وقيل: إن القوم بينما كانوا يدعونه عليه السلام إلى عبادة النجوم وكانت المناظرة بينهم قائمة على ساق إذ طلع النجم فقال: هذا رَبِّي على معنى هذا هو الرب الذي تدعونني إليه، وقيل وقيل والكل ليس بشيء عند المحققين لا سيما ما قرره الإمام، وتلك الأقوال كلها مبنية على أن هذا القول كان بعد البلوغ ودعوة القوم إلى التوحيد وسياق الآية وسباقها شاهدا عدل على ذلك. وزعم بعضهم أنه كان قبل البلوغ ولا يلزمه اختلاج شك مؤد إلى كفر لأنه لما آمن بالغيب أراد أن يؤيد ما جزم به بأنه لو لم يكن الله تعالى إلها وكان ما يعبده قومه لكان إما كذا وإما كذا والكل لا يصلح لذلك فيتعين كون الله تعالى إلها وهو خلاف الظاهر ويأباه السياق والسباق كما لا يخفى. وزعم أنه عليه السلام قال ما قال إذ لم يكن عارفا بربه سبحانه والجهل حال الطفولية قبل قيام الحجة لا يضر ولا يعد ذلك كفرا مما لا يلتفت إليه أصلا، فقد قال المحققون المحقون: إنه لا يجوز أن يكون لله تعالى رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله تعالى موحد وبه عارف ومن كل معبود سواه بريء، وقد قص الله تعالى من حال إبراهيم عليه السلام خصوصا في صغره ما لا يتوهم معه شائبة مما يناقض ذلك فالوجه الأول لا غير. ولعل سلوك تلك الطريقة في بيان استحالة ربوبية الكوكب دون بيان استحالة إلهية الأصنام- كما قيل- لما أن هذا أخفى بطلانا واستحالة من الأول فلو صدع بالحق من أول الأمر كما فعله في حق عبادة الأصنام لتمادوا في المكابرة والعناد ولجوا في طغيانهم يعمهون، وكان تقديم بطلان إلهية الأصنام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 188 على ما ذكر من باب الترقي من الخفي إلى الأخفى. وقيل: إن القوم كانوا يعبدون الكواكب فاتخذوا لكل كوكب صنما من المعادن المنسوبة إليه كالذهب للشمس والفضة للقمر ليتقربوا إليها فكان الصنم كالقبلة لهم فأنكر أولا عبادتهم للأصنام بحسب الظاهر ثم أبطل منشآتها وما نسبت إليه من الكواكب بعدم استحقاقها لذلك أيضا، ولعلهم كانوا يعتقدون تأثيرها استقلالا دون تأثير الأصنام ولهذا تعرض لبطلان الإلهية في الأصنام والربوبية فيها. وقرأ أبو عمرو وورش من طريق البخاري «رأي» بفتح الراء وكسر الهمزة حيث كان. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف، ويحيى عن أبي بكر «رأئي» بكسر الراء والهمزة فَلَمَّا أَفَلَ أي غرب: قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ أي الأرباب المنتقلين من مكان إلى مكان المتغيرين من حال إلى حال، ونفي المحبة قيل: إشارة إلى نفي اعتقاد الربوبية. وقيل كني بعدم المحبة عن عدم العبادة لأنه يلزم من نفيها نفيها بالطريق الأولى، وقدر بعضهم في الكلام مضافا أي لا أحب عبادة الآفلين، وأيّا ما كان فمبتدأ الاشتقاق علة للحكم لأن الأفول انتقال واحتجاب وكل منهما ينافي استحقاق الربوبية والألوهية التي هي من مقتضيات الربوبية لاقتضاء ذلك الحدوث والإمكان المستحيلين على الرب المعبود القديم فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً أي مبتدأ في الطلوع منتشر الضوء، ولعله- كما قال الأزهري- مأخوذ من البزغ وهو الشق كأنه بنوره يشق الظلمة شقا ويقال: بزغ الناب إذا ظهر وبزغ البيطار الدابة إذا أسال دمها، ويقال: بزغ الدم أي سال، وعلى هذا فيمكن أن يكون بزوغ القمر مشبها بما ذكر وكلام الراغب صريح فيه، وظاهر الآية أن هذه الرؤية بعد غروب الكوكب. وقوله سبحانه: قالَ هذا رَبِّي جواب لما وهو على طرز الكلام السابق فَلَمَّا أَفَلَ كما أفل الكوكب قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي إلى جنابه الحق الذي لا محيد عنه لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فإن شيئا مما رأيته لا يصلح للربوبية، وهذا مبالغة منه عليه السلام في النصفة، وفيه- كما قال الزمخشري- تنبيه لقومه على أن من اتخذ القمر إلها وهو نظير الكواكب في الأفول فهو ضال، والتعريض بضلالهم هنا- كما قال ابن المنير- أصرح وأقوى من قوله أولا لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ وإنما ترقى عليه السلام إلى ذلك لأن الخصوم قد قامت عليهم بالاستدلال الأول حجة فأنسوا بالقدح في معتقدهم ولو قيل هذا في الأول فلعلهم كانوا ينفرون ولا يصغون إلى الاستدلال، فما عرض لهم عليه السلام بأنهم على ضلالة إلا بعد أن وثق بإصغائهم إلى تمام المقصود واستماعهم له إلى آخره. والدليل على ذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم ترقى في النوبة الثالثة إلى التصريح بالبراءة منهم والتصريح بأنهم على شرك حين تم قيام الحجة عليهم وتبلج الحق وبلغ من الظهور غايته. وفي هذه الجملة دليل من غير وجه على أن استدلاله عليه السلام ليس لنفسه بل كان محاجة لقومه، وكذا ما سيأتي. وحمل هذا على أنه عليه الصلاة والسلام استعجز نفسه فاستعان بربه عز وجل في درك الحق وما سيأتي على أنه إشارة إلى حصول اليقين من الدليل خلاف الظاهر جدا، على أنه قيل: إن حصول اليقين من الدليل لا ينافي المحاجة مع القوم، ثم الظاهر- على ما قال شيخ الإسلام- إنه عليه السلام كان إذ ذاك في موضع كان في جانبه الغربي جبل شامخ يستتر به الكوكب والقمر وقت الظهر من النهار أو بعده بقليل وكان الكوكب قريبا منه وأفقه الشرقي مكشوف أولا وإلا فطلوع القمر بعد أفول الكوكب ثم أفوله قبل طلوع الشمس كما ينبىء عنه قوله تعالى: فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً أي مبتدأة في الطلوع مما لا يكاد يتصور، وقال آخر: إن القمر لم يكن حين رآه في ابتداء الطلوع. بل كان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 189 وراء جبل ثم طلع منه أو في جانب آخر لا يراه وإلا فلا احتمال لأن يطلع القمر من مطلعه بعد أفول الكوكب ثم يغرب قبل طلوع الشمس انتهى. وأنت تعلم أن القول بوجود جبل في المغرب أو المشرق خلاف الظاهر لا سيما على قول شيخ الإسلام لأن هذا الاحتجاج كان في نواحي بابل على ما يشير إليه كلام المؤرخين وأهل الأثر وليس هناك اليوم جبل مرتفع بحيث يستتر به الكوكب وقت الظهر من النهار أو بعده بقليل، واحتمال كونه كان إذ ذاك ولم يبق بتتالي الأعوام بعيد، وكذا يقال على القول المشهور عند الناس اليوم: إن واقعة إبراهيم عليه السلام كانت قريبا من حلب لأنه أيضا ليس هناك جبل شامخ كما يقوله الشيخ على أن المتبادر من البزوغ والأفول البزوع من الأفق الحقيقي لذلك الموضع والأفول عنه لا مطلق البزوغ والأفول. وقال الشهاب: إن الذي ألجأهم إلى ما ذكر التعقيب بالفاء ويمكن أن يكون تعقيبا عرفيا مثل تزوج فولد له إشارة إلى أنه لم تمض أيام وليال بين ذلك سواء كان استدلالا أو وضعا واستدراجا لا أنه مخصوص بالثاني كما توهم على أنا لا نسلم ما ذكر إذا كان كوكبا مخصوصا وإنما يرد لو أريد جملة الكواكب أو واحد لا على التعيين فتأمل انتهى. ولا يخفى أن القول بالتعقيب العرفي والتزام أن هذا الاستدلال لم يكن في ليلة واحدة وصبيحتها هو الذي يميل إليه القلب، ودعوى إمكان طلوع القمر بعد أفول الكوكب حقيقة وقبل طلوع الشمس وأفوله قبل طلوعها لا يدعيها عارف بالهيئة في هذه الآفاق التي نحن فيها لأن امتناع ذلك عادة ولو أريد كوكب مخصوص أمر ظاهر لا سيما على ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن رؤية القمر كانت في آخر الشهر. نعم قد يمكن ذلك في بعض البروج في عروض مخصوصة لكن بيننا وبينها مهامه فيح، ولعله لذلك أمر بالتأمل فتأمل قالَ أي على المنوال السابق هذا رَبِّي إشارة إلى الجرم المشاهد من حيث هو لا من حيث هو مسمى باسم من الأسامي فضلا عن حيثية تسميته بالشمس ولذا ذكر اسم الإشارة. وقال أبو حيان يمكن أن يقال: إن أكثر لغة العجم لا تفرق في الضمائر ولا في الإشارة بين المذكر والمؤنث ولا علامة عندهم للتأنيث بل المؤنث والمذكر عندهم سواء فأشير في الآية إلى المؤنث بما يشار به إلى المذكر حين حكي كلام إبراهيم عليه السلام وحين أخبر سبحانه عن المؤنث «ببازغة» . «وأفلت» أنث على مقتضى العربية إذ ليس ذلك بحكاية. وتعقب بأن هذا إنما يظهر لو حكي كلامهم بعينه في لغتهم أما إذا عبر عنه بلغة العرب فالمعتبر حكم لغة العرب، وقد صرح غير واحد بأن العبرة في التذكير والتأنيث بالحكاية لا المحكي ألا ترى أنه لو قال أحد: الكوكب النهاري طلع فحكيته بمعناه وقلت: الشمس طلعت لم يكن لك ترك التأنيث بغير تأويل لما وقع في عبارته، وإذا تتبعت ما وقع في النظم الكريم رأيته إنما يراعى فيه الحكاية على أن القول بأن محاورة إبراهيم عليه السلام كانت بالعجمية دون العربية مبني على أن إسماعيل عليه السلام أول من تكلم بالعربية والصحيح خلافه. وقيل: التذكير لتذكير الخبر وقد صرحوا في الضمير واسم الإشارة مثله أن رعاية الخبر فيه أولى من رعاية المرجع لأنه مناط الفائدة في الكلام وما مضى فات، وفي الكشاف بعد جعل التذكير لتذكير الخبر وكان اختيار هذه الطريقة واجبا لصيانة الرب عن شبهة التأنيث ألا تراهم قالوا في صفة الله تعالى: علام ولم يقولوا علامة وإن كان العلامة أبلغ احترازا من علامة التأنيث، واعترض عليه بأن هذا في الرب الحقيقي مسلم وما هنا ليس كذلك. وأجيب بأن ذلك على تقدير أن يكون مسترشدا ظاهر، والمراد على المسلك الآخر إظهار صون الرب ليستدرجهم إذ لو حقر بوجه ما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 190 كان سببا لعدم إصغائهم، وقوله تعالى: هذا أَكْبَرُ تأكيد لما رامه عليه الصلاة والسلام من إظهار النصفة مع إشارة خفية- كما قيل- إلى فساد دينهم من جهة أخرى ببيان أن الأكبر أحق بالربوبية من الأصغر، وكون الشمس أكبر مما قبلها مما لا خفاء فيه، والآثار في مقدار جرمها مختلفة. والذي عليه محققو أهل الهيئة أنها مائة وستة وستون مثلا وربع وثمن مثل الأرض وستة آلاف وستمائة وأربعة وأربعون مثلا وثلثا مثل للقمر، وذكروا أن الأرض تسعة وثلاثون مثلا وخمس وعشر مثل للقمر، وتحقيق ذلك في شرح مختصر الهيئة للبرجندي فَلَمَّا أَفَلَتْ كما أفل ما قبلها قالَ لقومه صادحا بالحق بين ظهرانيهم: يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ أي من إشراككم أو من الذي تشركونه من الاجرام المحدثة المتغيرة من حال إلى أخرى المسخرة لمحدثها، وإنما احتج عليه السلام بالأفول دون البزوغ مع أنه أيضا انتقال قيل لتعدد دلالته لأنه انتقال مع احتجاب والأول حركة وهي حادثة فيلزم حدوث محلها، والثاني اختفاء يستتبع إمكان موصوفه ولا كذلك البزوغ لأنه وإن كان انتقالا مع البروز لكن ليس للثاني مدخل في الاستدلال. واعترض بأن البزوغ أيضا انتقال مع احتجاب لأن الاحتجاب في الأول لا حق وفي الثاني سابق، وكونه عليه السلام رأى الكوكب الذي يعبدونه في وسط السماء- كما قيل- ولم يشاهد بزوغه فإنما يصير نكتة في الكوكب دون القمر والشمس إلا أن يقال بترجح الأفول بعمومه بخلاف البزوغ. والأولى ما قيل: إن ترتيب هذا الحكم ونظيريه على الأفول دون البزوغ والظهور من ضروريات سوق الاحتجاج على هذا المساق الحكيم فإن كلّا منهما وإن كان في نفسه انتقالا منافيا لاستحقاق معروضه للربوبية قطعا لكن لما كان الأول حالة موجبة لظهور الآثار والأحكام ملائمة لتوهم الاستحقاق في الجملة رتب عليه الحكم الأول أعني هذا ربي على الطريقة المذكورة، وحيث كان الثاني حالة مقتضية لانطماس الآثار وبطلان الأحكام المنافيين للاستحقاق المذكور منافاة بينة يكاد يعترف بها كل مكابر عنيد رتب عليها ما رتب انتهى. وبمعنى هذا ما قاله الإمام في وجه الاستدلال بالأفول من أن دلالته على المقصود ظاهرة يعرفها كل أحد، فإن الآفل يزول سلطانه وقت الأفول، ونقل عن بعض المحققين أن الهوي في حضيض الإمكان أفول وأحسن الكلام ما يحصل فيه حصة الخواص وحصة الأوساط وحصة العوام فالخواص يفهمون من الأفول الإمكان وكل ممكن محتاج والمحتاج لا يكون مقطعا للحاجة فلا بد من الانتهاء إلى ما يكون منزها عن الإمكان حتى تنقطع الحاجات بسبب وجوده كما قال سبحانه: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النجم: 42] وأما الأوساط فهم يفهمون من الأفول مطلق الحركة وكل متحرك محدث وكل محدث فهو محتاج إلى القديم القادر فلا يكون الآفل إلها بل الإله هو الذي احتاج إليه ذلك الآفل، وأما العوام فإنهم يفهمون من الأفول الغروب وهم يشاهدون أن كل كوكب يقرب من الأفول والغروب فإنه يزول نوره وينتقص ضوءه ويذهب سلطانه ويصير كالمعزول ومن كان كذلك لم يصلح للإلهية ثم قال: فكلمة لا أحب الآفلين مشتملة على نصيب المقربين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال فكانت أكمل الدلائل وأفضل البراهين، وهناك أيضا دقيقة أخرى وهو أنه عليه السلام إنما كان يناظرهم وهم كانوا منجمين ومذهب أهل النجوم أن الكوكب إذا كان في الربع الشرقي وكان صاعدا إلى وسط السماء كان قويا عظيم التأثير. أما إذا كان غريبا وقريبا من الأفول فإنه يكون ضعيف الأثر قليل القوة فنبه بهذه الدقيقة على أن الإله هو الذي لا تتغير قدرته إلى العجز وكماله إلى النقصان، ومذهبكم أن الكوكب حال كونه في الربع الغربي يكون ضعيف القوة ناقص التأثير عاجزا عن التدبير وذلك يدل على القدح في إلهيته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 191 ويظهر من هذا أن للأفول على قول المنجمين مزيد خاصية في كونه موجبا للقدح في إلهيته، ولا يخفى أن فهم الهوى في حضيض الإمكان من فَلَمَّا أَفَلَ في هذه الآية مما لا يكاد يسلم، وكون المراد فلما تحقق إمكانه لظهور أمارات ذلك من الجسمية والتحيز مثلا قال إلخ لا يخفى ما فيه، نعم فهم هذا المعنى من لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ربما يحتمل على بعد، ونقل عن حجة الإسلام الغزالي أنه حمل الكوكب على النفس الحيوانية التي لكل كوكب والقمر على النفس الناطقة التي لكل فلك، والشمس على العقل المجرد الذي لكل فلك، وعن بعضهم أنه حمل الكوكب على الحس، والقمر على الخيال والوهم والشمس على العقل، والمراد أن هذه القوى المدركة قاصرة متناهية القوة ومدبر العالم مستولي عليها قاهر لها وهو خلاف الظاهر أيضا، وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الإشارة نظير ذلك، وإنما لم يقتصر عليه السلام في الاحتجاج على قومه بأفول الشمس مع أنه يلزم من امتناع صفة الربوبية فيها لذلك امتناعها في غيرها من باب أولى. وفيه أيضا رعاية الإيجاز والاختصار ترقيا من الأدون إلى الأعلى مبالغة في التقرير والبيان على ما هو اللائق بذلك المقام ولم يحتج عليهم بالجسمية والتحيز ونحوهما مما يدركه الرائي عند الرؤية في أمارات الحدوث والإمكان اختيارا لما هو أوضح من ذلك في الدلالة وأتم، ثم إنه عليه السلام لما تبرأ منه توجه إلى مبدع هذه المصنوعات وموجدها فقال: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ أي أوجد وأنشأ السَّماواتِ التي هذه الأجرام من أجزائها وَالْأَرْضَ التي تلك الأصنام من أجزائها حَنِيفاً أي مائلا عن الأديان الباطلة والعقائد الزائغة كلها وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أصلا في شيء من الأقوال والأفعال، والمراد من توجيه الوجه للذي فطر إلخ قصده سبحانه بالعبادة. وقال الإمام: المراد وجهت عبادتي وطاعتي، وسبب جواز هذا الجواز أن من كان مطيعا لغيره منقادا لأمره فإنه يتوجه بوجهه إليه فجعل توجه الوجه إليه كناية عن الطاعة، والظاهر أن اللام صلة وجه. وفي الصحاح وجهت وجهي لله وتوجهت نحوك وإليك، وظاهره التفرقة بين وجه وتوجه باستعمال الأول باللام والثاني بإلى، وعليه وجه اللام هنا دون إلى ظاهر، وليس في القاموس تعرض لهذا الفرق. وادعى الإمام أنه حيث كان المعنى توجيه وجه القلب إلى خدمته تعالى وطاعته لأجل عبوديته لا توجه القلب إليه جل شأنه لأنه متعال عن الحيز والجهة تركت إلى واكتفى باللام فتركها. والاكتفاء باللام هاهنا دليل ظاهر على كون المعبود متعاليا عن الحيز والجهة وفي القلب من ذلك شيء. فإن قيل: إن قصارى ما يدل عليه الدليل أن الكوكب والشمس والقمر لا يصلح شيء منها للربوبية والألوهية ولا يلزم من هذا القدر نفي الشرك مطلقا وإثبات التوحيد فلم جزم عليه السلام بإثبات التوحيد ونفي الشرك بعد إقامة ذلك الدليل، فالجواب بأن القوم كانوا مساعدين على نفي سائر الشركاء وإنما نازعوا في هذه الصورة المعينة فلما ثبت بالدليل على أن هذه الأشياء ليست أربابا ولا آلهة وثبت بالاتفاق نفي غيرها لا جرم حصل الجزم بنفي الشركاء على الإطلاق. ثم إن المشهور أن هذا الاستدلال من أول ضروب الشكل الثاني. والشخصية عندهم في حكم الكلية كأنه قيل: هذا أو القمر أو هذه أفل أو أفلت ولا شيء من الإله بآفل أو ربي ليس بآفل ينتج هذا أو القمر أو هذه ليس بإله أو ليس بربي. أما الصغرى فهي كالمصرح بها في قوله تعالى: فَلَمَّا أَفَلَتْ في الموضعين، وقوله سبحانه: فَلَمَّا أَفَلَ في الأخير، وأما الكبرى فمأخوذة من قوله تعالى: لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ لأنه يشير إلى قياس. وهو كل آفل لا يستحق العبودية. وكل من لا يستحق العبودية فلبس بإله ينتج من الأول كل آفل ليس بإله، ويستلزم لا شيء من الآفل بإله لاستلزام الموجبة المعدولة السالبة المحصلة. ويصح جعل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 192 الكبرى ابتداء سالبة فينتج ما ذكر وينعكس إلى لا شيء من الإله بآفل، وهي إحدى الكبريين. ويعلم من هذا بأدنى التفات كيفية أخذ الكبرى الثانية. وقال الملوي: الأحسن أن يقال إن قوله تعالى: لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ يتضمن قضية وهي لا شيء من الآفل يستحق العبودية فتجعل كبرى لصغرى ضرورية وهي الإله المستحق للعبودية ينتج لا شيء من الإله بآفل القمر وإذا ضمت هذه النتيجة إلى القضية السابقة وهي هذا آفل ونحوه أنتج من الثاني هذا ليس بإله أو لا شيء من القمر بإله، وإن ضممت عكسها المستوي إليها أنتج من الأول المطلوب بعينه فلا يتعين الثاني في الآية بل الأول مأخوذ منها أيضا اهـ. فتأمل فيه ولا تغفل. وَحاجَّهُ قَوْمُهُ أي خاصموه- كما قال الربيع- أو شرعوا في مغالبته في أمر التوحيد تارة بإيراد أدلة فاسدة واقعة في حضيض التقليد وأخرى بالتخويف والتهديد قالَ منكرا عليهم محاجتهم له عليه السلام مع قصورهم عن تلك المرتبة وعزة المطلب وقوة الخصم ووضوح الحق أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ أي في شأنه تعالى ووحدانيته سبحانه. وقرأ نافع وابن عامر في رواية ابن ذكوان بتخفيف النون ففيه حذف إحدى النونين. واختلف في أيهما المحذوفة. فقيل: نون الرفع وهو مذهب سيبويه. ورجح بأن الحاجة دعت إلى نون مكسورة من أجل الياء ونون الرفع لا تكسر. وبأنه جاء حذفها كما في قوله: كل له نية في بغض صاحبه ... بنعمة الله نقليكم وتقلونا أراد تقلوننا والنون الثانية هنا ليست وقاية بل هي من الضمير وحذف بعض الضمير لا يجوز وبأنها نائبة عن الضمة وهي قد تحذف تخفيفا كما في قراءة أبي عمرو ينصركم ويشعركم ويأمركم. وقيل نون الوقاية وهو مذهب الأخفش، ورجح بأنها الزائدة التي حصل بها الثقل. وقوله تعالى: وَقَدْ هَدانِ في موضع الحال من ضمير المتكلم مؤكدة للإنكار. فإن كونه عليه الصلاة والسلام مهديا من جهة الله تعالى ومؤيدا من عنده سبحانه مما يوجب الكف عن محاجته صلّى الله عليه وسلّم وعدم المبالاة بها والالتفات إليها إذا وقعت. قيل: والمراد وقد هدان إلى إقامة الدليل عليكم بوحدانيته عز شأنه، وقيل هدان إلى الحق بعد ما سلكت طريقتكم بالفرض والتقدير وتبين بطلانها تبينا تاما كما شاهدتموه، وعلى القولين لا يقتضي سبق ضلال له عليه الصلاة والسلام وجهل بمعرفة ربه جل وعلا. وهَدانِ يرسم- كما قال الأجهوري- بلا ياء. وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ جواب كما روي عن ابن جريج عما خوفوه عليه السلام من إصابة مكروه من جهة معبودهم الباطل كما قال لهود عليه السلام قومه إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ [هود: 54] وهذا التخويف قيل: كان على ترك عبادة ما يعبدونه، وقيل: بل على الاستخفاف به واحتقاره بنحو الكسر والتنقيص. وقيل: ولعل ذلك حين فعل بآلهتهم ما فعل مما قص الله تعالى علينا، وفي بعض الآثار أنه عليه السلام لما شب وكبر جعل آزر يصنع الأصنام فيعطيها له ليبيعها فيذهب وينادي من يشتري ما يضره ولا ينفعه فلا يشتريها أحد فإذا بارت ذهب بها إلى نهر وضرب فيه رؤوسها وقال لها اشربي استهزاء بقومه حتى فشا فيهم استهزاؤه فجادلوه حينئذ وخوفوه. وما موصولة اسمية حذف عائدها، والضمير المجرور لله تعالى أي لا أخاف الذي تشركونه به سبحانه. وجوز أن يكون عائدا إلى الموصول والباء سببية. أي الذي تشركون بسببه، وأن تكون نكرة موصوفة وأن تكون مصدرية. وقوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً بتقدير الوقت عند غير واحد غير مستثنى من أعم الأوقات استثناء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 193 مفرغا. وقال بعضهم: إن المصدر منصوب على الظرفية من غير تقدير وقت، ومنع ذلك ابن الأنباري مفرقا بين المصدر الصريح فيجوز نصبه على الظرفية وغير الصريح فلا يجوز فيه ذلك. وابن جني لا يفرق بين الصريح وغيره ويجوز ذلك فيهما على السواء، والاستثناء متصل في رأي. وشَيْئاً مفعول به أو مفعول مطلق أي لا أخاف ما تشركون به في وقت من الأوقات إلا في وقت مشيئته تعالى شيئا من إصابة مكروه لي من جهتها أو شيئا من مشيئته تعالى إصابة مكروه لي من جهتها وذلك إنما هو من جهته تعالى من غير دخل لآلهتكم في إيجاده وإحداثه. وجوز بعضهم أن يكون الاستثناء منقطعا على معنى ولكن أخاف أن يشأ ربي خوفي ما أشركتم به، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام إشارة إلى أن مشيئته تلك إن وقعت غير خالية عن مصلحة تعود إليه بالتربية أو إظهار منه عليه الصلاة والسلام لانقياده لحكمه سبحانه وتعالى واستسلام لأمره واعتراف بكونه تحت ملكوته وربوبيته تعالى. وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً كأنه تعليل للاستثناء أي أحاط بكل شيء علما فلا يبعد أن يكون في علمه سبحانه إنزال المكروه بي من جهتها بسبب من الأسباب، ونصب عِلْماً على التمييز المحول عن الفاعل، وجوز أن يكون نصبا على المصدرية لوسع من غير لفظه، وفي الإظهار في موضع الإضمار تأكيد للمعنى المذكور واستلذاذ بذكره تعالى: أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ أي أتعرضون بعد ما أوضحته لكم عن التأمل في أن آلهتكم بمعزل عن القدرة على شيء ما من النفع أو الضر فلا تتذكرون أنها غير قادرة على إضراري. وفي إيراد التذكر دون التفكر ونحوه إشارة إلى أن أمر آلهتهم مركوز في العقول لا يتوقف إلا على التذكير. وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ استئناف- كما قال شيخ الإسلام- مسوق لنفي الخوف عنه عليه السلام بحسب زعم الكفرة بالطريق الإلزامي بعد نفيه عنه بحسب الواقع ونفس الأمر والاستفهام لإنكار الوقوع ونفيه بالكلية وفي توجيه الإنكار إلى كيفية الخوف من المبالغة ما ليس في توجيهه إلى نفسه بأن يقال: أأخاف لما أن كل موجود لا يخلو عن كيفية فإذا انتفى جميع كيفياته فقد انتفى وجوده من جميع الجهات بالطريق البرهاني، وكَيْفَ حال والعوامل فيها أَخافُ وما موصولة أو نكرة موصوفة والعائد محذوف، وجوز أن تكون مصدرية. وقوله تعالى: وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ في موضع الحال من ضمير أخاف بتقدير مبتدأ لمكان الواو. وقيل: لا حاجة إلى التقدير لأن المضارع المنفي قد يقرن بالفاء، ولا حاجة هنا إلى ضمير عائد إلى ذي الحال لأن الواو كافية في الربط وهو مقرر لإنكار الخوف ونفيه عنه عليه السلام ومفيد لاعترافهم بذلك فإنهم حيث لم يخافوا في محل الخوف فلأن لا يخاف عليه السلام في محل الأمن أولى وأحرى أي كيف أخاف أنا ما ليس في حيز الخوف أصلا وأنتم لا تخافون غائلة ما هو أعظم المخوفات وأهولها وهو إشراككم بالله تعالى الذي فطر السماوات والأرض ما هو من جملة مخلوقاته، وعبر عنه بقوله سبحانه: ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً أي حجة على طريق التهكم- قيل- مع الإيذان بأن الأمور الدينية لا يعول فيها إلا على الحجة المنزلة من عند الله تعالى. وضمير بِهِ عائد على الموصول والكلام على حذف مضاف أي بإشراكه. وجوز أن يكون راجعا إلى الإشراك المقيد بتعلقه بالموصول ولا حاجة إلى العائد، وهو- على ما قيل- مبني على مذهب الأخفش في الاكتفاء في الربط برجوع العائد إلى ما يتلبس بصاحبه. وذكر متعلق الإشراك وهو الاسم الجليل في الجملة الحالية دون الجملة الأولى- قيل- لأن المراد في الجملة الحالية تهويل الأمر وذكر المشرك به أدخل في ذلك. وقال بعض المحققين: الظاهر أن يقال في وجه الذكر في الثانية والترك في الأولى إنه لما قيل قبيل هذا وَلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 194 أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ به كان ما هنا كالتكرار له فناسب الاختصار وأنه عليه السلام حذفه إشارة إلى بعد وحدانيته تعالى عن الشرك فلا ينبغي عنده نسبته إلى الله تعالى ولا ذكر معه. ولما ذكر حال المشركين الذين لا ينزهونه سبحانه عن ذلك صرح به، وقيل: إن ذكر الاسم الجليل في الجملة الثانية ليعود إليه الضمير في «ما لم ينزل» وليس بشيء لأنه يكفي سبق ذكره في الجملة، وقيل: لأن المقصود إنكاره عليه السلام عدم خوفهم من إشراكهم بالله تعالى لأنه المنكر المستبعد عند العقل السليم لا مطلق الإنكار ولا كذلك في الجملة الأولى فإن المقصود فيها إنكار أن يخاف عليه السلام غير الله تعالى سواء كان مما يشركه الكفار أو لا وليس بشيء أيضا لأن الجملة الثانية ليست داخلة مع الأولى في حكم الإنكار إلا عند مدعي العطف وهو مما لا سبيل إليه أصلا لإفضائه إلى فساد المعنى قطعا لما تقدم أن الإنكار بمعنى النفي بالكلية فيؤول المعنى إلى نفي الخوف عنه عليه السلام ونفي نفيه عنهم وأنه بين الفساد، وأيضا أن ما أَشْرَكْتُمْ كيف يدل على ما سوى الله تعالى غير الشريك أن هذا لا شيء عجاب ثم إن الآية نص في أن الشرك مما لم ينزل به سلطان. وهل يمتنع عقلا حصول السلطان في ذلك أم لا؟ ظاهر كلام بعضهم. وفي أصول الفقه ما يؤيده في الجملة الثانية والذي اختاره الأول، وقول الإمام: إنه لا يمتنع عقلا أن يؤمر باتخاذ تلك التماثيل والصور قبلة للدعاء ليس من محل الخلاف كما لا يخفى على الناظر فانظر. فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ كلام مرتب على إنكار خوفه عليه السلام في محل الأمن مع تحقق عدم خوفهم في محل الخوف مسوق لإلجائهم إلى الاعتراف باستحقاقه عليه السلام لما هو عليه من الأمن وبعدم استحقاقهم لما هم عليه، وبهذا يعلم ما في دعوى أن الإنكار في الجملة الأولى لنفي الوقوع وفي الثانية لاستبعاد الواقع، وإنما جيء بصيغة التفضيل المشعرة باستحقاقهم له في الجملة لاستنزالهم عن رتبة المكابرة والاعتساف بسوق الكلام على سنن الإنصاف، والمراد بالفريقين الفريق الآمن في محل الأمن والآمن في محل الخوف، فإيثار ما في النظم الكريم- كما قيل- على أن يقال: فأينا أحق بالأمن أنا أم أنتم؟ لتأكيد الإلجاء إلى الجواب بالتنبيه على علة الحكم والتفادي عن التصريح بتخطئتهم التي ربما تدعو إلى اللجاج والعناد مع الإشارة بما في النظم إلى أن أحقية الأمن لا تخصه عليه السلام بل تشمل كل موحد ترغيبا لهم في التوحيد إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي من هو أحق بذلك أو شيء من الأشياء أو إن كنتم من أولي العلم فأخبروني بذلك. وقرىء «سلطانا» بضم اللام، وهي لغة اتبع فيها الضم الضم الَّذِينَ آمَنُوا استئناف يحتمل أن يكون من جهته تعالى مبين للجواب الحق الذي لا محيد عنه. وروي ذلك عن محمد بن إسحاق، وابن زيد، والجبائي، ويحتمل أن يكون من جهة إبراهيم عليه السلام. وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه، واستشكل كونه استئنافا بأنه لا يمكن جعله بيانيا لأنه ما كان جواب سؤال مقدر، وهذا جواب سؤال محقق ولا نحويا لما قال ابن هشام: إن الاستئناف النحوي ما كان في ابتداء الكلام ومنقطعا عما قبله وهذا مرتبط بما قبله لارتباط الجواب والسؤال ضرورة وليس عندنا غيرهما. وأجيب باختيار كونه نحويا. ومعنى كونه منقطعا عما قبله أن لا يعطف عليه ولا يتعلق به من جهة الإعراب وإن ارتبط بوجه آخر، وقيل: المراد بابتداء الكلام ابتداؤه تحقيقا أو تقديرا أي الفريق الذين آمنوا بما يجب الإيمان به وَلَمْ يَلْبِسُوا أي لم يخالطوا إِيمانَهُمْ ذلك بِظُلْمٍ أي شرك كما يفعله الفريق المشركون حيث يزعمون أنهم مؤمنون بالله تعالى وإن عبادتهم لغيره سبحانه معه من تتمات إيمانهم وأحكامه لكونها لأجل التقريب والشفاعة كما ينبىء عنه قوله: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: 3] وإلى تفسير الظلم بالشرك هنا ذهب ابن عباس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 195 رضي الله تعالى عنهما، وابن المسيب، وقتادة، ومجاهد، وأكثر المفسرين. ويؤيد ذلك أن الآية واردة مورد الجواب عن حال الفريقين. ويدل عليه ما أخرجه الشيخان، وأحمد، والترمذي، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن الآية لما نزلت شق ذلك على الصحابة رضي الله تعالى عنهم وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: ليس ما تظنون إنما هو ما قال لقمان عليه السلام لابنه يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] ولا يقال: إنه لا يلزم من قوله: إِنَّ الشِّرْكَ إلخ أن غير الشرك لا يكون ظلما لأنهم قالوا: إن التنوين في بِظُلْمٍ للتعظيم فكأنه قيل: لم يلبسوا إيمانهم بظلم عظيم، ولما تبين أن الشرك ظلم عظيم علم أن المراد لم يلبسوا إيمانهم بشرك أو أن المتبادر من المطلق أكمل افراده، وقيل: المراد به المعصية وحكي ذلك عن الجبائي، والبلخي، وارتضاه الزمخشري تبعا لجمهور المعتزلة. واستدلوا بالآية على أن صاحب الكبيرة لا أمن له ولا نجاة من العذاب حيث دلت بتقديم لهم الآتي على اختصاص الأمن بمن لم يخلط إيمانه بظلم أي بفسق وادعوا أن تفسيره بالشرك يأباه ذكر اللبس أي الخلط إذ هو لا يجامع الإيمان للضدية وإنما يجامع المعاصي، والحديث خبر واحد فلا يعمل به في مقابلة الدليل القطعي، والقول بأن الفسق أيضا لا يجامع الإيمان عندهم أيضا فلا يتم لهم الاستدلال لكونه اسما لفعل الطاعات واجتناب السيئات حتى أن الفاسق ليس بمؤمن كما أنه ليس بكافر مدفوع- كما قيل- بأنه كثيرا ما يطلق الإيمان على نفس التصديق بل لا يكاد يفهم منه بلفظ الفعل غير هذا حتى أنه يعطف عليه عمل الصالحات كما جاء في غير ما آية. وأجيب بأنه أريد بالإيمان تصديق القلب وهو قد يجامع الشرك كأن يصدق بوجود الصانع دون وحدانيته كما أشرنا إليه آنفا، ومن ذلك قوله تعالى: وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف: 106] وكذا إذا أريد به مطلق التصديق سواء كان باللسان أو غيره بل المجامعة على هذا أظهر كما في المنافق ولو أريد به التصديق بجميع ما يجب التصديق به بحيث يخرج عن الكفر يقال: إنه لا يلزم من لبس الإيمان بالشرك الجمع بينهما بحيث يصدق عليه أنه مؤمن ومشرك بل تغطيته بالكفر وجعله مغلوبا مضمحلا أو اتصافه بالإيمان ثم الكفر ثم الإيمان ثم الكفر مرارا، وبعد تسليم جميع ما ذكر نقول: إن قوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ إنما يدل على اختصاص الأمن بغير العصاة وهو لا يوجب كون العصاة معذبين البتة بل خائفين ذلك موقعين للاحتمال ورجحان جانب الوقوع. وقيل المراد من الأمن الأمن من خلود العذاب لا الأمن من العذاب مطلقا، والموصول مبتدأ واسم الإشارة مبتدأ ثان والإشارة إلى الموصول من حيث اتصافه بما في حيز الصلة وفي الإشارة إليه بما فيه معنى البعد بعد وصفه بما ذكر ما لا يخفى، وجملة لَهُمُ الْأَمْنُ من الخبر المقدم والمبتدأ المؤخر خبر المبتدأ الثاني والجملة خبر الأول، وجوز أن يكون «أولئك» بدلا من الموصول أو عطف بيان له ولَهُمُ هو الخبر والْأَمْنُ فاعلا للظرف لاعتماده على المبتدأ، وأن يكون «لهم» خبرا مقدما والْأَمْنُ مبتدأ مؤخرا والجملة خبر الموصول، وجوز أبو البقاء كون الموصول خبر مبتدأ محذوف وقال: التقدير هم الذين ولا يخلو عن بعد والأكثرون على الأول وَهُمْ مُهْتَدُونَ إلى الحق ومن عداهم في ضلال مبين، وقدر بعضهم إلى طريق توجب الأمن من خلود العذاب وَتِلْكَ إشارة إلى ما احتج به إبراهيم عليه السلام من قوله سبحانه: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ [الأنعام: 76] إلخ، وقيل من قوله سبحانه: أَتُحاجُّونِّي- إلى- وَهُمْ مُهْتَدُونَ وتركيب حجة اصطلاحية منه يحتاج إلى تأمل وما في اسم الإشارة من معنى البعد لتفخيم شأن المشار إليه، وهو مبتدأ وقوله عز شأنه: حُجَّتُنا خبره، وفي إضافته إلى نون العظمة من التفخيم ما لا يخفى، وقوله تعالى: آتَيْناها إِبْراهِيمَ أي أرشدناه إليها أو علمناه إياها في موضع الحال من حجة والعالم فيه معنى الإشارة أو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 196 في محل الرفع على أنه خبر ثان أو هو الخبر وحُجَّتُنا بدل أو بيان للمبتدأ، وجوز أن تكون جملة آتَيْناها إلخ معترضة أو تفسيرية ولا يخفى بعده، وإِبْراهِيمَ مفعول أول لآتينا قدم على الثاني لكونه ضميرا. وقوله سبحانه: عَلى قَوْمِهِ متعلق بحجتنا إن جعل خبرا لتلك أو بمحذوف إن جعل بدلا لئلا يلزم الفصل بين أجزاء البدل بأجنبي أي آتيناها إبراهيم حجة على قومه، ولم يجوز أبو البقاء تعلقه بحجتنا أصلا للمصدرية والفصل، ولعل المجوز لا يرى المصدرية مانعة عن تعلق الظرف ويجعل الفصل مغتفرا، وقيل: يصح تعلقه بآيتنا لتضمنه معنى الغلبة. وقوله عز شأنه: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ أي رتبا عظيمة عالية من العلم والحكمة مستأنف لا محل له من الإعراب مقرر لما قبله، وجوز أبو البقاء أن يكون في محل نصب على أنه حال من فاعل آتَيْناها أي حال كوننا رافعين، ونصب «درجات» إما على المصدرية بتأويل رفعات أو على الظرفية أو على نزع الخافض أي إلى درجات أو على التمييز ومفعول نرفع قوله تعالى: مَنْ نَشاءُ وتأخيره على الأوجه الثلاثة الأخيرة لما مر غير مرة من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر، ومفعول المشيئة محذوف أي من نشاء رفعه حسبما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة، وإيثار صيغة المضارع للدلالة على أن ذلك سنة مستمرة فيما بين المصطفين الأخيار غير مختصة بإبراهيم عليه السلام. وقرىء «يرفع» بالياء على طريقة الالتفات وكذا نَشاءُ وقرأ غير واحد من السبعة «درجات من» بالإضافة على أنه مفعول نَرْفَعُ ورفع درجات الإنسان رفع له، وجوز بعضهم جعله مفعولا أيضا على قراءة التنوين وجعل من بتقدير لمن وهو بعيد. وقوله سبحانه: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ أي في كل ما يفعل من رفع وخفض عَلِيمٌ أي بحال من يرفعه واستعداده له على مراتب متفاوتة، وإن شئت عممت ويدخل حينئذ ما ذكر دخولا أوليا تعليل لما قبله، وفي وضع الرب مضافا إلى ضميره عليه الصلاة والسلام موضع نون العظمة بطريق الالتفات في تضاعيف بيان حال إبراهيم عليه السلام ما لا يخفى من إظهار مزيد اللطف والعناية به صلّى الله عليه وسلّم. هذا وقد ذكر الإمام في هذه الآيات الإبراهيمية عدة أحكام، الأول أن قوله سبحانه: لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ يدل على أنه عز وجل ليس بجسم إذ لو كان جسما لكان غائبا عنا فيكون آفلا والأفول ينافي الربوبية، ولا يخفى أن عد تلك الغيبة المفروضة أفولا لا يخلو عن شيء لأن الأفول احتجاب مع انتقال وتلك الغيبة المفروضة لم تكن كذلك بل هي مجرد احتجاب فيما يظهر. نعم إنه ينافي الربوبية أيضا لكن الكلام في كونه أفولا ليتم الاحتجاج بالآية، لا يقال قد جاء في حديث الإسراء ذكر الحجاب فكيف يصح القول بأن الاحتجاب مناف للربوبية لأنا نقول: الحجاب الوارد- كما قال القاضي عياض- إنما هو في حق العباد لا في حقه تعالى فهم المحجوبون والباري جل اسمه منزه عما يحجبه إذ الحجاب إنما يحيط بمقدر محسوس، ونص غير واحد أن ذكر الحجاب له تعالى تمثيل لمنعه سبحانه الخلق عن رؤيته. وقال السيد النقيب في الدرر والغرر: العرب تستعمل الحجاب بمعنى الخفاء وعدم الظهور فيقول أحدهم لغيره إذا استبعد فهمه: بيني وبينك حجاب ويقولون لما يستصعب طريقه: بيني وبينه كذا حجب وموانع وسواتر وما جرى مجرى ذلك. والظاهر على هذا أن فيما ذكر مجاز في المفرد فتدبر. الثاني أن هذه الآية تدل على أنه يمتنع أن يكون تعالى بحيث ينزل من العرش إلى السماء تارة ويصعد من السماء إلى العرش أخرى وإلا لحصل معنى الأفول. وأنت تعلم أن الواصفين ربهم عز شأنه بصفة النزول حيث سمعوا حديثه الصحيح عن رسولهم صلّى الله عليه وسلّم لا يقولون: إنه حركة وانتقال كما هو كذلك في الأجسام بل يفوضون تعيين المراد منه إلى الله تعالى بعد تنزيهه سبحانه عن مشابهة المخلوقين وحينئذ لا يرد عليه أنه في معنى الأفول الممتنع على الرب جل جلاله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 197 الثالث: أنها تدل على أنه جل شأنه ليس محلا للصفات المحدثة كما تقول الكرامية وإلا لكان متغيرا وحينئذ يحصل معنى الأفول وهو ظاهر. الرابع أن ما ذكر يدل على أن الدين يجب أن يكون مبنيا على الدليل لا على التقليد وإلا لم يكن للاستدلال فائدة البتة. الخامس أنه يدل على أن معارف الأنبياء بربهم استدلالية لا ضرورية وإلا لما احتاج إبراهيم عليه السلام إلى الاستدلال. السادس أنه يدل على أنه لا طريق إلى تحصيل معرفة الله تعالى إلا بالنظر والاستدلال في أحوال مخلوقاته إذ لو أمكن تحصيلها بطريق آخر لما عدل عليه السلام إلى هذه الطريقة، ولا يخفى عليك ما في هذين الأخيرين. السابع أن قوله سبحانه: وَتِلْكَ حُجَّتُنا إلخ يدل على أن تلك الحجة إنما حصلت في عقل إبراهيم عليه السلام بإيتاء الله تعالى وإظهارها في عقله وذلك يدل على أن الإيمان والكفر لا يحصلان إلا بخلق الله تعالى ويتأكد ذلك بقوله سبحانه: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ إلخ الثامن أن قوله سبحانه نَرْفَعُ إلخ. يدل على فساد طعن الحشوية في النظر وتقرير الحجة وذكر الدليل، وفيها أحكام أخر لا تخفى على من يتدبر. ومن باب الإشارة فيها: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ حين رآه محتجبا بظواهر عالم الملك عن حقائق الملكوت وربوبيته تعالى للأشياء معتقدا تأثير الأكوان والأجرام ذاهلا عن الملكوت جل شأنه أَتَتَّخِذُ أَصْناماً أي أشباحا خالية بذواتها عن الحياة آلِهَةً فتعتقد تأثيرها إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ظاهر عند من كشف عن عينه الغين وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي نوقفه على القوى الروحانية التي ندبر بها أمر العالم العلوي والسفلي أو نوقفه على حقيقتها وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ أي أهل الإيقان العالمين أن لا تأثير إلا لله تعالى يدبر الأمر بأسمائه سبحانه فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ أي أظلم عليه ليل عالم الطبيعة الجسمانية، وذلك عند الصوفية في صباه وأول شبابه رَأى كَوْكَباً وهو كوكب النفس المسماة روحا حيوانية الظاهر في ملكوت الهيكل الإنساني- فقال- حين رأى فيضه وحياته وتربيته من ذلك بلسان الحال هذا رَبِّي وكان الله تعالى يريه في ذلك الحين باسمه المحيي فَلَمَّا أَفَلَ بطلوع نور القلب قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ أي قمر القلب بازِغاً من أفق النفس ووجد فيضه بمكاشفات الحقائق والمعارف وتربيته منه قالَ هذا رَبِّي وكان الله تعالى يريه إذ ذاك باسمه العالم والحكيم فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي إلى نور وجهه لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ المحتجبين بالبواطن عنه سبحانه فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ أي شمس الروح بازِغَةً متجلية عليه قالَ إذ وجد فيضه وشهوده وتربيته منها هذا رَبِّي وكان سبحانه يريه حينئذ باسمه الشهيد والعلي العظيم هذا أَكْبَرُ من الأولين فَلَمَّا أَفَلَتْ بتجلي أنوار الحق وتشعشع سبحات الوجه قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إذ لا وجود لغيره سبحانه إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ أي أسلمت ذاتي ووجودي لِلَّذِي فَطَرَ أوجد السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي سماوات الأرواح وأرض النفس حَنِيفاً مائلا عن كل ما سواه حتى عن وجودي وميلي بالفناء فيه جل جلاله وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ في شيء وَحاجَّهُ قَوْمُهُ في ترك السوي قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ إلى وجوده الحق وتوحيده الَّذِينَ آمَنُوا الإيمان الحقيقي وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ من ظهور نفس أو قلب أو وجود بقية أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ الحقيقي وَهُمْ مُهْتَدُونَ حقيقة إلى الحق. وقال النيسابوري: قد يدور في الخلد أن إبراهيم عليه السلام جن عليه ليل الشبهة وظلمتها فنظر أولا في عالم الأجسام فوجدها آفلة في أفق التغيير فلم يرها تصلح للإلهية فارتقى منها إلى عالم النفوس المدبرة للأجسام فرآها آفلة في أفق الاستكمال فكان حكمها حكم ما دونها فصعد منها إلى عالم العقول المجرد فصادفها آفلة في أفق الإمكان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 198 فلم يبق إلا الواجب، وقيل: غير ذلك، وما ذكره مبني على أن الاحتجاج كان مع نفسه عليه السلام وهو الذي ذهب إليه البعض من المفسرين ورووا في ذلك خبرا طويلا وهو مذكور في كثير من الكتب مشهور بين العامة، والمختار عندي ما علمت والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 199 وَوَهَبْنا لَهُ أي لإبراهيم عليه السلام إِسْحاقَ وهو ولده من سارة عاش مائة وثمانين سنة. وفي نديم الفريد أن معنى إسحاق بالعربية الضحاك وَيَعْقُوبَ وهو ابن إسحاق عاش مائة وسبعا وأربعين سنة، والجملة عطف على قوله تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا إلخ، وعطف الفعلية على الاسمية مما لا نزاع في جوازه، ويجوز على بعد أن تكون عطفا على جملة آتَيْناها بناء على أنها لا محل لها من الإعراب كما هو أحد الاحتمالات. وقوله تعالى: كُلًّا مفعول لما بعده وتقديمه عليه للقصر لا بالنسبة إلى غيرهما بل بالنسبة إلى أحدهما أي كل واحد منهما هَدَيْنا لا أحدهما دون الآخر، وقيل: المراد كلّا من الثلاثة، وعليه الطبرسي. واختار كثير من المحققين الأول أن هداية إبراهيم عليه السلام معلومة من الكلام قطعا وترك ذكر المهدي إليه لظهور أنه الذي أوتي إبراهيم عليه السلام فإنهما متعبدان به. وقال الجبائي: المراد هديناهم بنيل الثواب والكرامات وَنُوحاً قال شيخ الإسلام: منصوب بمضمر يفسره هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ ولعله إنما لم يجعله مفعولا مقدما للمذكور لئلا يفصل بين العاطف والمعطوف بشيء أو يخلو التقديم عن الفائدة السابقة أعني القصر ولا يخلو ذلك عن تأمل أي من قبل إبراهيم عليه السلام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 200 ونوح- كما قال الجواليقي- أعجمي معرب زاد الكرماني، ومعناه بالسريانية الساكن، وقال الحاكم في المستدرك: إنما سمي نوحا لكثرة بكائه على نفسه واسمه عبد الغفار، والأول أثبت عندي، وأكثر الصحابة رضي الله تعالى عنهم- كما قال الحاكم- أنه عليه السلام كان قبل إدريس عليه السلام- وذكر النسابون أنه ابن لمك بفتح اللام وسكون الميم بعدها كاف ابن متوشلخ بفتح الميم وتشديد المثناة المضمومة بعدها واو ساكنة وفتح الشين المعجمة واللام والخاء المعجمة ابن أخنوخ بفتح المعجمة وضم النون الخفيفة وبعدها واو ساكنة ثم معجمة وهو إدريس فيما يقال. وروى الطبراني عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: «قلت يا رسول الله من أول الأنبياء؟ قال: آدم عليه السلام قلت: ثم من؟ قال نوح عليه السلام: وبينهما عشرة قرون» وهذا ظاهر في أن إدريس عليه السلام لم يكن قبله. وذكر ابن جرير أن مولده عليه السلام كان بعد وفاة آدم عليه السلام بمائة وستة وعشرين عاما. وذكره سبحانه هنا قيل لأنه لما ذكر سبحانه إنعامه على خليله من جهة الفرع ثني بذكر إنعامه عليه من جهة الأصل فإن شرف الوالد سار إلى الولد، إنما ذكره سبحانه لأن قومه عبدوا الأصنام فذكره ليكون له به أسوة، وأما أنه ذكر لما مر فلا إذ لا دلالة على علاقة الأبوة ليقبل. ودلالة مِنْ قَبْلُ على ذلك غير ظاهرة. وقنع بعضهم بالشهرة عن ذلك وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ الضمير عند جمع لإبراهيم عليه السلام لأن مساق النظم الجليل لبيان شؤونه وما من الله تعالى به عليه من إيتاء الحجة ورفع الدرجات وهبة الأولاد الأنبياء وإبقاء هذه الكرامة في نسله كل ذلك لإلزام من ينتمي إلى ملته من المشركين واليهود، واختار آخرون كونه لنوح عليه السلام لأنه أقرب ولأنه ذكر في الجملة لوطا عليه السلام وليس من ذرية إبراهيم بل كان ابن أخيه كما سيأتي إن شاء الله تعالى آمن به وشخص معه مهاجرا إلى الشام فأرسله الله تعالى إلى أهل سدوم، وكذلك يونس عليه السلام لم يكن من ذريته فيما ذكر محيي السنة فلو كان الضمير له لاختص بالمعدودين في هذه الآية والتي بعدها، وأما المذكورون في الآية الثالثة فعطف على- نوحا- ولا يجب أن يعتبر في المعطوف ما هو قيد في المعطوف عليه، ولا يضر ذكر إسماعيل هناك وإن كان من ذرية إبراهيم عليهما السلام لأن السكوت عن إدراجه في الذرية لا يقتضي أنه ليس منهم وإنما لم يعد- كما قال بعض المحققين-: في موهبته كإسحاق لأن هبة إسحاق كانت في كبره وكبر زوجته فكانت في غاية الغرابة، وذكر يعقوب لأن إبقاء النبوة بطنا بعد بطن غاية النعمة، ولم يعطف «كلا هدينا» لأنه مؤكد لكونه نعمة. ومن الناس من ادعى أن يونس عليه السلام من ذرية إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم وصرح في جامع الأصول أنه كان من الأسباط في زمن شعيا، وحينئذ يبقى لوط فقط خارجا ولا يترك له إرجاع الضمير على إبراهيم وجعله مختصا بالمعدودين في الآيات الثلاث لأنه لما كان ابن أخيه آمن به وهاجر معه أمكن أن يجعل من ذريته على سبيل التغليب كما قال الطيبي. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هؤلاء الأنبياء عليهم السلام كلهم مضافون إلى ذرية إبراهيم وإن كان منهم من لم يلحقه بولادة من قبل أم ولا أب لأن لوطا ابن أخي إبراهيم والعرب تجعل العم أبا كما أخبر الله تعالى عن أبناء يعقوب أنهم قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ [البقرة: 133] مع أن إسماعيل عم يعقوب. والجار والمجرور متعلق بفعل مضمر مفهوم مما سبق، وقيل: بمحذوف وقع حالا من المذكورين في الآية واختير الأول أي وهدينا من ذريته داوُدَ هو- كما قال الجلال السيوطي- ابن ايشا بكسر الهمزة وسكون الياء المثناة التحتية وبالشين المعجمة ابن عوبر بمهملة وموحدة بوزن جعفر بن عابر بموحدة ومهملة مفتوحة ابن سلمون بن يخيثون ابن عمي بن يا رب- بتحتية وآخره باء موحدة- ابن رام بن حضرموت بمهملة ثم معجمة بن فارض بفاء وآخره مهملة بن يهوذا بن يعقوب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 201 قال كعب: كان أحمر الوجه سبط الرأس أبيض الجسم طويل اللحية فيها جعودة حسن الصوت والخلق وجمع له بين النبوة والملك ونقل النووي عن المؤرخين أنه عاش مائة سنة ومدة ملكه منها أربعون وله اثنا عشر ابنا. وَسُلَيْمانَ ولده، قال كعب: كان أبيض جسيما وسيما وضيئا جميلا خاشعا متواضعا وكان أبوه يشاوره في كثير من أموره في صغر سنه لوفور عقله وعلمه، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه ملك الأرض، وعن المؤرخين أنه ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة وابتدأ بناء بيت المقدس بعد ملكه بأربع سنين وتوفي وله ثلاث وخمسون سنة، وتقديم المفعول الصريح للاهتمام بشأنه مع ما في المفاعيل من نوع طول ربما يخل تأخيره بتجاوب النظم الكريم وَأَيُّوبَ قال ابن جرير: هو ابن موص بن روم بن عيص بن إسحاق. وقيل: ابن موص بن تارخ بن روم إلخ، وحكى ابن عساكر أن أمه بنت لوط عليه السلام وأن أباه ممن آمن بإبراهيم فهو قبل موسى عليه السلام وقال ابن جرير: إنه كان بعد شعيب، وقال ابن أبي خيثمة كان بعد سليمان، وروى الطبراني أن مدة عمره كانت ثلاثا وتسعين سنة وَيُوسُفَ وهو على الصحيح المشهور ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ويشهد له ما أخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة مرفوعا إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. عاش مائة وعشرين سنة وفيه ست لغات تثليث السين مع الياء والهمز والصواب أنه أعجمي لا اشتقاق له وَمُوسى وهو ابن عمران بن يصهر بن ماهيث بن لاوي بن يعقوب ولا خلاف في نسبه وهو اسم سرياني. وأخرج أبو الشيخ من طريق عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إنما سمي موسى لأنه ألقي بين شجر وماء فالماء بالقبطية مو والشجر شا، وفي الصحيح وصفه بأنه آدم طوال جعد كأنه من رجال شنوءة وعاش- كما قال الثعلبي- مائة وعشرين سنة وَهارُونَ أخوه شقيقه، وقيل: لأمه، وقيل: لأبيه فقط حكاهما الكرماني في عجائبه مات قبل موسى عليهما السلام وكان ولد قبله بسنة وفي بعض أحاديث الإسراء صعدت إلى السماء الخامسة فإذا أنا بهارون ونصف لحيته أبيض ونصفها أسود تكاد تضرب سرته من طولها فقلت: يا جبرائيل من هذا؟ قال: المحبب في قومه هارون بن عمران. وذكر بعضهم أن معنى هارون بالعبرانية المحبب وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ قيل: أي نجزيهم مثل ما جزينا إبراهيم عليه السلام برفع درجاته وكثرة أولاده والنبوة فيهم، والمراد مطلق المشابهة في مقابلة الإحسان بالإحسان والمكافآت بين الأعمال والأجزية من غير بخس لا المماثلة من كل وجه لأن اختصاص إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم بكثرة النبوة في عقبه أمر مشهور. واختار بعض المحققين كون التشبيه على حد ما تقدم في قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143] ونظائره، وال في الْمُحْسِنِينَ للعهد، والإظهار في موضع الإضمار للثناء عليهم بالإحسان الذي هو عبارة عن الإتيان بالأعمال على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفي المقارن لحسنها الذاتي، وقد فسره صلّى الله عليه وسلّم بقوله «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» والجملة اعتراض مقرر لما قبلها. وَزَكَرِيَّا هو ابن ازن بن بركيا كان من ذرية سليمان عليهما السلام وقتل بعد قتل ولده وكان له يوم بشر به اثنتان وتسعون، وقيل: تسع وتسعون، وقيل: مائة وعشرون سنة وهو اسم أعجمي وفيه خمس لغات أشهرها المد والثانية القصر وقرىء بهما في السبع وزكري بتشديد الياء وتخفيفها وزكر كقلم. وَيَحْيى ابنه وهو اسم أعجمي، وقيل: عربي، وعلى القولين- كما قال الواحدي- لا ينصرف، وسمي بذلك على القول الثاني لأنه حيي به رحم أمه، وقيل: غير ذلك وَعِيسى ابن مريم وهو اسم عبراني أو سرياني وفي الصحيح أنه ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس وفي ذكره عليه السلام دليل على أن الذرية يتناول أولاد البنات لأن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 202 انتسابه ليس إلا من جهة أمه وأورد عليه أنه ليس له أب يصرف إضافته إلى الأم إلى نفسه فلا يظهر قياس غيره عليه في كونه ذرية لجده من الأم. وتعقب بأن مقتضى كونه بلا أب أن يذكر في حيز الذرية وفيه منع ظاهر والمسألة خلافية، والذاهبون إلى دخول ابن البنت في الذرية يستدلون بهذه الآية وبها احتج موسى الكاظم رضي الله تعالى عنه على ما رواه البعض عن الرشيد. وفي التفسير الكبير أن أبا جعفر رضي الله تعالى عنه استدل بها عند الحجاج بن يوسف وبآية المباهلة حيث دعا صلّى الله عليه وسلّم الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما بعد ما نزل تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ [آل عمران: 61] . وادعى بعضهم أن هذا من خصائصه صلّى الله عليه وسلّم وقد اختلف إفتاء أصحابنا في هذه المسألة، والذي أميل إليه القول بالدخول وَإِلْياسَ قال ابن إسحاق في المبتدأ: هو ابن يس بن فنحاص بن العيزار بن هارون أخي موسى بن عمران عليهم السلام. وحكى القتبي أنه من سبط يوشع، وقيل: من ولد إسماعيل عليه السلام. وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه إدريس وهو- على ما قال ابن إسحاق- ابن يرد بن مهلاييل بن أنوش بن قينان بن شيث بن آدم وهو جد نوح كما أشرنا إليه وروي ذلك عن وهب بن منبه، وفي المستدرك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان بين نوح وإدريس ألف سنة وعلى القول بأنه قبل نوح يكون البيان مختصا بمن في الآية الأولى، ونص الشهاب أن قوله تعالى: وَزَكَرِيَّا وما بعده حينئذ معطوفا على مجموع الكلام السابق كُلٌّ أي كل واحد من أولئك المذكورين مِنَ الصَّالِحِينَ أي الكاملين في الصلاح الذي هو عبارة عن الإتيان بما ينبغي والتحرز عما لا ينبغي وهو مقول بالتشكيك فيوصف بما هو من أعلى مراتب الأنبياء عليهم السلام والجملة اعتراض جيء بها للثناء عليهم بمضمونها وَإِسْماعِيلَ هو- كما قال النووي- أكبر ولد إبراهيم عليه السلام ويقال- كما نقل عن الجواليقي- بالنون آخره قيل ومعناه: مطيع الله وَالْيَسَعَ قال ابن جرير: هو ابن أخطوب بن العجوز. وقرأ حمزة. والكسائي «الليسع» بوزن ضيغم وهو أعجمي دخلت عليه اللام على خلاف القياس وقارنت النقل فجعلت علامة التعريب كما قاله التبريزي ونص على أن استعماله بدونها خطأ يغفل عنه الناس فليس كاليزيد في قوله: رأيت الوليد بن اليزيد مباركا ... شديدا بأعباء الخلافة كاهله ومن جميع الوجوه، وهو على القراءة الأولى أعجمي أيضا، وقيل: إنه معرب يوشع وقيل: عربي منقول من يسع مضارع وسع وَيُونُسَ وهو ابن متى بفتح الميم وتشديد التاء الفوقية مقصور كحتى ويقال متتى بالفك وهو اسم أبيه كما قاله ابن حجر وغيره من الحفاظ، وقع في تفسير عبد الرزاق أنه اسم أمه وهو مردود ولم نقف كغيرنا على اتصال نسبه عليه السلام، وقد مر ما في جامع الأصول. وقيل: إنه كان في زمن ملوك الطوائف من الفرس وهو مثلث النون ويهمز. وقرأ أبو طلحة «يونس» بكسر النون قيل: أراد أن يجعله عربيا من أنس وهو شاذ وَلُوطاً قال ابن إسحاق: هو ابن هاران بن آزر، وفي المستدرك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه ابن أخي إبراهيم ولم يصرح باسم أبيه وَكلًّا أي كل واحد من هؤلاء المذكورين لا بعضهم دون بعض فَضَّلْنا بالنبوة عَلَى الْعالَمِينَ أي عالمي عصرهم، والجملة اعتراض كأختيها، وفيها دليل على أن الأنبياء أفضل من الملائكة وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ (1) وَإِخْوانِهِمْ يحتمل- كما قيل- أن يتعلق بما تعلق به من ذريته ومن ابتدائية والمفعول محذوف أي   (1) في اصل المصنف بدل وذرياتهم وأبنائهم وهو سبق قلم وجرينا على ما في المصحف العثماني تنبه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 203 وهدينا من آبائهم وأبنائهم وإخوانهم جماعات كثيرة أو معطوف على كلًّا فَضَّلْنا ومن تبعيضية أي فضلنا بعض آبائهم إلخ. وجعله بعضهم عطفا على نوحا، ومن واقعة موقع المفعول به مؤولا ببعض. واعتبار البعضية لما أن منهم من لم يكن نبيا ولا مهديا قيل: وهذا في غير الآباء لأن آباء الأنبياء كلهم مهديون موحدون، وأنت تعلم أن هذا مختلف فيه نظرا إلى آباء نبينا صلّى الله عليه وسلّم وكثير من الناس من وراء المنع فما ظنك بآباء غيره من الأنبياء عليهم السلام. ولا يخفى أن إضافة الآباء والأبناء والإخوان إلى ضمير هم لا يقتضي أن يكون لكل منهم أب أو ابن أو أخ فلا تغفل وَاجْتَبَيْناهُمْ عطف على فَضَّلْناهُمْ أي اصطفيناهم وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تكرير للتأكيد وتمهيد لبيان ما هدوا إليه ولم يظهر لي السر في ذكر هؤلاء الأنبياء العظام عليهم من الله تعالى أفضل الصلاة وأكمل السلام على هذا الأسلوب المشتمل على تقديم فاضل على أفضل ومتأخر بالزمان على متقدم به وكذا السر في التقرير أولا بقوله تعالى: وَكَذلِكَ نَجْزِي إلخ وثانيا بقوله سبحانه: وكُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ والله تعالى أعلم بأسرار كلامه. ذلِكَ أي الهدى إلى الطريق المستقيم أو ما يفهم من النظم الكريم من مصادر الأفعال المذكورة أو ما دانوا به، ما في ذلك من معنى البعد لما مر مرارا هُدَى اللَّهِ الإضافة للتشريف يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ هدايته مِنْ عِبادِهِ وهم المستعدون لذلك، وفي تعليق الهداية بالموصول إشارة إلى علية مضمون الصلة ويفيد ذلك أنه تعالى متفضل بالهداية وَلَوْ أَشْرَكُوا أي أولئك المذكورون لَحَبِطَ أي لبطل وسقط عَنْهُمْ مع فضلهم وعلو شأنهم ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي ثواب أعمالهم الصالحة فكيف بمن عداهم وهم هم وأعمالهم أعمالهم أُولئِكَ إشارة إلى المذكورين من الأنبياء الثمانية عشر والمعطوفين عليهم عليهم السلام باعتبار اتصافهم بما ذكر من الهداية وغيرها من النعوت الجليلة كما قيل. واقتصر الإمام على المذكورين من الأنبياء. وعن ابن بشير قال: سمعت رجلا سأل الحسن عن أولئك فقال له: من في صدر الآية وهو مبتدأ خبره قوله سبحانه: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ أي جنسه. والمراد بإيتائه التفهيم التام لما فيه من الحقائق والتمكين من الإحاطة بالجلائل والدقائق أعم من أن يكون ذلك بالإنزال ابتداء وبالإيراث بقاء فإن ممن ذكر من لم ينزل عليه كتاب معين. وَالْحُكْمَ أي فصل الأمر بين الناس بالحق أو الحكمة وهي معرفة حقائق الأشياء وَالنُّبُوَّةَ فسرها بعضهم بالرسالة. وعلل بأن المذكورين هنا رسل لكن في المحاكمات لمولانا أحمد بن حيدر الصفوي أن داود عليه السلام ليس برسول وإن كان له كتاب ولم أجد في ذلك نصا. وذهب بعضهم إلى أن يوسف بن يعقوب عليه السلام ليس برسول أيضا. ويوسف في قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ ليس هو يوسف بن يعقوب عليهما السلام وإنما هو يوسف بن إفرائيم بن يوسف ابن يعقوب وهو غريب. وأغرب منه القول بأنه كان من الجن رسولا إليهم. وقال الشهاب: قد يقال إنما ذكر الأعم في النظم الكريم لأن بعض من دخل في عموم آبائهم وذرياتهم ليسوا برسل فَإِنْ يَكْفُرْ بِها أي بهذه الثلاثة أو بالنبوة الجامعة للباقين هؤُلاءِ أي أهل مكة كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة مع دلالة الإشارة والمقام على ما قيل. وقيل: المراد بهم الكفار الذين جحدوا بنبوته صلّى الله عليه وسلّم مطلقا، وأيّا ما كان فكفرهم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وما أنزل عليه من القرآن يستلزم كفرهم مما يصدقه جميعا. وتقديم الجار والمجرور على الفاعل لما مر غيره مرة فَقَدْ وَكَّلْنا بِها أي أمرنا برعايتها ووفقنا للإيمان بها والقيام بحقوقها قَوْماً فخاما لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ في وقت من الأوقات بل مستمرون على الإيمان بها، والمراد بهم على ما أخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 204 عنهما وعبد بن حميد عن سعيد بن المسيب أهل المدينة من الأنصار. وقيل: أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم مطلقا، وقيل: كل مؤمن من بني آدم عليه السلام. وقيل: الفرس فإن كلا من هؤلاء الطوائف موفقون للإيمان بالأنبياء وبالكتب المنزلة إليهم عاملون بما فيها من أصول الشرائع وفروعها الباقية في شريعتنا. وعن قتادة أنهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام المذكورون وعليه يكون المراد بالتوكيل الأمر بما هو أعم من إجراء أحكامها كما هو شأنهم في حق كتابهم ومن اعتقاد حقيتها كما هو شأنهم في حق سائر الكتب التي نور فرقها القرآن، ورجح واختار هذا الزجاج. ورجحه الزمخشري بوجهين، الأول أن الآية التي بعد إشارة إلى الأنبياء المذكورين عليهم السلام فإن لم يكن الموكلون هم لزم الفصل بالأجنبي. الثاني أنه مرتب بالفاء على ما قبله فيقتضي ذلك، واستبعده بعضهم فإن الظاهر كون مصدق النبوة ومنكرها مغايرا لمن أوتيها. وأخرج ابن حميد وغيره عن أبي رجاء العطاري أنهم الملائكة فالتوكيل حينئذ هو الأمر بإنزالها وحفظها واعتقاد حقيتها، واستبعده الإمام لأن القوم قلما يقع على غير بني آدم، وأيّا ما كان فتنوين قَوْماً للتفخيم كما أشرنا إليه. وهو مفعول وَكَّلْنا وبِها قبله متعلق بما عنده، وتقديمه على المفعول الصريح لما مر ولأن فيه طولا ربما يؤدي تقديمه إلى الإخلال بتجاوب النظم الكريم أو إلى الفصل بين الصفة والموصوف. والباء التي بعد صلة لكافرين قدمت محافظة على الفواصل والتي بعدها لتأكيد النفي. وجواب الشرط محذوف يدل عليه جملة فَقَدْ وَكَّلْنا إلخ أي فإن يكفر بها هؤلاء فلا اعتداد به أصلا فقد وفقنا للإيمان قوما مستمرين على الإيمان بها والعمل بما فيها ففي إيمانهم مندوحة عن إيمان هؤلاء، ومن هذا يعلم أن الأرجح- كما قال شيخ الإسلام- تفسير القوم بإحدى الطوائف ممن عدا الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام إذ بإيمانهم بالقرآن والعمل بأحكامه يتحقق الغنية عن إيمان الكفرة به والعمل بأحكامه ولا كذلك إيمان الأنبياء والملائكة عليهم السلام أُولئِكَ أي الأنبياء المذكورون كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والسدي، وابن زيد، وقيل: الإشارة إلى المؤمنين الموكلين. وروي ذلك عن الحسن وقتادة ولا يخفى ما فيه، وهو مبتدأ خبره قوله سبحانه: الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ أي هديناهم إلى الحق والصراط المستقيم، والالتفات إلى الاسم الجليل للإشعار بعلة الهداية وحفظ المهدي إليه اعتمادا على غاية ظهوره فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ أي اجعل هداهم منفردا بالاقتداء واجعل الاقتداء مقصورا عليه، والمراد بهداهم عند جمع طريقهم في الإيمان بالله تعالى وتوحيده وأصول الدين دون الشرائع القابلة للنسخ فإنها بعد النسخ لا تبقى هدى وهم أيضا مختلفون فيها فلا يمكن التأسي بهم جميعا، ومعنى أمره صلّى الله عليه وسلّم بالاقتداء بذلك الأخذ به لا من حيث إنه طريق أولئك الفخام بل من حيث إنه طريق العقل والشرع ففي ذلك تعظيم لهم وتنبيه على أن طريقهم هو الحق الموافق لدليل العقل والسمع، وبهذا أجاب العلامة الثاني عما أورده سؤالا من أن الواجب في الاعتقادات وأصول الدين هو اتباع الدليل من العقل والسمع فلا يجوز سيما للنبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقلد غيره فما معنى أمره عليه الصلاة والسلام بالاقتداء. وأورد عليه أن اعتقاده عليه الصلاة والسلام حينئذ ليس لأجل اعتقادهم بل لأجل الدليل فلا معنى لأمره بالاقتداء بذلك. واعترض أيضا بأن الأخذ بأصول الدين حاصل له قبل نزول الآية فلا معنى للأمر بأخذ ما قد أخذ قبل، اللهم إلا أن يحمل على الأمر بالثبات عليه. وحقق القطب الرازي في حواشيه على الكشاف أنه يتعين أن الاقتداء المأمور به ليس إلا في الأخلاق الفاضلة والصفات الكاملة كالحلم، والصبر، والزهد، وكثرة الشكر، والتضرع ونحوها ويكون في الآية دليل على أنه صلّى الله عليه وسلّم أفضل منهم قطعا لتضمنها أن الله تعالى هدى أولئك الأنبياء عليهم السلام إلى فضائل الأخلاق وصفات الكمال وحيث أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقتدي بهداهم جميعا امتنع للعصمة أن يقال: إنه لم يمتثل فلا بد أن يقال: إنه عليه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 205 الصلاة والسلام قد امتثل وأتى بجميع ذلك وحصل تلك الأخلاق الفاضلة التي في جميعهم فاجتمع فيه من خصال الكمال ما كان متفرقا فيهم وحينئذ يكون أفضل من جميعهم قطعا كما أنه أفضل من كل واحد منهم وهو استنباط حسن. واستدل بعضهم بها على أنه صلّى الله عليه وسلّم متعبد بشرع من قبله وليس بشيء، وفي أمره عليه الصلاة والسلام بالاقتداء بهداهم دون الاقتداء بهم ما لا يخفى من الإشارة إلى علو مقامه صلّى الله عليه وسلّم عند أرباب الذوق، والهاء في اقْتَدِهْ هاء السكت التي تزاد في الوقف ساكنة، وقد تثبت في الدرج ساكنة أيضا إجراء للوصل مجرى الوقف، وبذلك قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم. ويحذف الهاء في الوصل خاصة حمزة، والكسائي، وقرأ ابن عامر «اقتده» بكسر الهاء من غير إشباع وهو الذي تسميه القراء اختلاسا وهي رواية هشام عنه. وروى غيره أشباعها وهو كسرها ووصلها بياء، وزعم أبو بكر بن مجاهد أن قراءة ابن عامر غلط معللا ذلك بأن الهاء هاء الوقف فلا تحرك في حال من الأحوال. وإنما تذكر ليظهر بها حركة ما قبلها. وتعقبه أبو علي الفارسي بأن الهاء ضمير المصدر وليست هاء السكت أي» اقتد الاقتداء» ومثله كما قال أبو البقاء قوله: هذا سراقة للقرآن يدرسه ... والمرء عند الوشا إن يلقها ذيب فإن الهاء فيه ضمير الدرس لا مفعول لأن يدرس قد تعدى إلى القرآن. وقال بعضهم: إن هاء السكت قد تحرك تشبيها لها بهاء الضمير، والعرب كثيرا ما تعطي الشيء حكم ما يشبهه وتحمله عليه، وقد روي قول أبي الطيب: وأحر قلباه مما قلبه شبم بضم الهاء وكسرها على أنها هاء السكت شبهت بهاء الضمير فحركت. واستحسن صاحب الدر المصون جعل الكسر لالتقاء الساكنين لا لشبه الضمير لأن هاءه لا تكسر بعد الألف فكيف ما يشبهها. وزعم الإمام أن إثبات الهاء في الوصل للاقتداء بالإمام ولا يقتدى به في ذلك لأنه يقتضي أن القراءة بغير نقل تقليدا للخط هو وهم قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ أي لا أطلب عَلَيْهِ أي على القرآن أو على التبليغ فإن مساق الكلام يدل عليهما وإن لم يجر ذكرهما أَجْراً أي جعلا قل أو أكثر كما لم يسأله من قبلي من الأنبياء عليهم السلام أممهم قيل: وهذا من جملة ما أمرنا بالاقتداء به من هداهم عليهم السلام، وهو ظاهر على ما قاله القطب لأن الكف عن أخذ أجر في مقابلة الإحسان من مكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال، وأما على قول من خص الهدى السابق بالأصول فقد قيل: إن بين القول به والقول بذلك الاختصاص تنافيا. وأجيب بأن استفادة الاقتداء بالأصول من الأمر الأول لا ينافي أن يؤمر عليه الصلاة والسلام بالاقتداء بأمر آخر كالتبليغ. وتقديم المتعلق هناك إنما هو لنفي اتباع طريقة غيرهم في شيء آخر. واستدل بالآية على أنه يحل أخذ الأجر للتعليم وتبليغ الأحكام. وفيه كلام للفقهاء على طوله مشهور غني عن البيان. إِنْ هُوَ أي القرآن إِلَّا ذِكْرى أي تذكير فهو مصدر، وحمله على ضمير القرآن للمبالغة ولا حاجة لتأويله بمذكر لِلْعالَمِينَ كافة فلا يختص به قوم دون آخرين واستدل بالآية على عموم بعثته صلّى الله عليه وسلّم. وَما قَدَرُوا اللَّهَ لما حكى سبحانه عن إبراهيم عليه السلام أنه ذكر دليل التوحيد وإبطال الشرك، وقرر جل شأنه ذلك الدليل بأوضح وجه شرع سبحانه بعد في تقرير أمر النبوة لأن مدار أمر القرآن على إثبات التوحيد، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 206 والنبوة، والمعاد. وبهذا ترتبط الآية بما قبلها- كما قال الإمام- وأولى منه ما قيل: إنه سبحانه (1) شأن القرآن العظيم وأنه نعمة جليلة منه تعالى على كافة الأمم حسبما نطق به قوله عز وجل: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] عقب ذلك ببيان غمطهم إياها وكفرهم بها على وجه سرى ذلك إلى الكفر بجميع الكتب الإلهية وأصل القدر معرفة المقدار بالسبر ثم استعمل في معرفة الشيء على أتم الوجوه حتى صار حقيقة فيه، وقال الواحدي: يقال قدر الشيء إذا سبره وأراد أن يعلم مقداره يقدره بالضم قدرا، وقال صلّى الله عليه وسلّم: «إن غم عليكم فاقدروا له» أي فاطلبوا أن تعرفوه، ثم قيل: لمن عرف شيئا هو يقدر قدره وإذا لم يعرفه بصفاته إنه لا يقدر قدره. واختلف التفسير هنا. فعن الأخفش أن المعنى ما عرفوا الله تعالى حَقَّ قَدْرِهِ أي حق معرفته. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما عظموا الله تعالى حق تعظيمه. وقال أبو العالية: ما وصفوه حق صفته والكل محتمل. واختار بعض المحققين ما عليه الأخفش لأنه الأوفق بالمقام أي ما عرفوه سبحانه معرفته الحق في اللطف بعباده والرحمة عليهم ولم يراعوا حقوقه تعالى في ذلك بل أخلوا بها إخلالا عظيما إِذْ قالُوا منكرين لبعثه الرسل عليهم الصلاة والسلام وإنزال الكتب كافرين بنعمه الجليلة فيهما أو ما عرفوه جل شأنه حق معرفته في السخط على الكفار وشدة بطشه بهم حين اجترءوا على إنكار ذلك بقولهم: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ أي شيئا من الأشياء فمن للتأكيد ونصب حَقَّ على المصدرية وهو- كما قال أبو البقاء- في الأصل صفة للمصدر أي قدره الحق فلما أضيف إلى موصوفه انتصب على ما كان ينتصب عليه. وإِذْ ظرف (2) للزمان الزمان وهل فيها معنى العلة هنا أم لا؟ احتمالان، وأبو البقاء يعلقها بقدروا وليس بالمتعين. وقرىء «قدره» بفتح الدال. واختلف في قائلي ذلك القول الشنيع، فأخرج أبو الشيخ عن مجاهد أنهم مشركو قريش. والجمهور على أنهم اليهود ومرادهم من ذلك الطعن في رسالته صلّى الله عليه وسلّم على سبيل المبالغة فقيل لهم على سبيل الإلزام: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى فإن المراد أنه تعالى قد أنزل التوراة على موسى عليه السلام ولا سبيل لكم إلى إنكار ذلك فلم لا تجوزون إنزال القرآن على محمد صلّى الله عليه وسلّم وبهذا ينحل استشكال ما عليه الجمهور بأن اليهود يقولون إن التوراة كتاب الله تعالى أنزله على موسى عليه السلام فكيف يقولون: «ما أنزل الله على بشر من شيء» وحاصل ذلك أنهم أبرزوا إنزال القرآن عليه عليه الصلاة والسلام في صورة الممتنعات حتى بالغوا في إنكاره فألزموا بتجويزه، وقيل: إن صدور هذا القول كان عن غضب وذهول عن حقيقته، فقد أخرج ابن جرير والطبراني عن سعيد بن جبير أن مالك ابن الصيف من أحبار اليهود (3) قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أنشدك الله تعالى الذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أن الله تعالى يبغض الحبر السمين فأنت الحبر السمين قد سمنت من مالك الذي يطعمك اليهود فضحك القوم فغضب فالتفت إلى عمر رضي الله تعالى عنه فقال: ما أنزل الله على بشر من شيء فقال له قومه: ما هذا الذي بلغنا عنك؟ قال: إنه أغضبني فنزعوه وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف فأنزل الله تعالى هذه الآية، واعترض بأن هذا لا يلائم الإلزام بإنزال التوراة على موسى عليه السلام فقد اعترف القائل بأنه إنما صدر ذلك عنه من الغضب فليفهم. ولا يرد أن هذه السورة مكية والمناظرات التي وقعت بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين اليهود كلها مدنية فلا يتأتى القول بأن الآية نزلت في اليهود   (1) قوله «سبحانه شأن القرآن كذا بخطه وتأمله. (2) قوله للزمان الزمان كذا يخطه ولعله للزمان الماضي. وجل من لا يسبق قلمه. (3) قوله قال لرسول إلخ كذا بخطه ولعل الاولى قال له رسول الله إلخ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 207 لما أخرج أبو الشيخ عن سفيان والكلبي أن هذه الآية مدنية، واستشكل أيضا قول مجاهد بأن مشركي قريش كما ينكرون رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم ينكرون رسالة سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فكيف يحسن إيراد هذا الإلزام عليهم. ودفع بأن ذلك لما أنه كان إنزال التوراة من المشاهير الذائعة ولذلك كانوا يقولون: لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ [الأنعام: 157] حسن إلزامهم بما ذكر، ومع هذا ما ذهب إليه الجمهور أحرى بالقبول. ومن الناس من ادعى أن في الآية حجة من الشكل الثالث وهي أن موسى بشر وموسى أنزل عليه كتاب ينتج أن بعض البشر أنزل عليه كتاب وتؤخذ الصغرى من قوة الآية والكبرى من صريحها والنتيجة موجبة جزئية تكذب السالبة الكلية التي ادعتها اليهود وهي لا شيء من البشر أنزل عليه كتاب المأخوذة من قولهم: وما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ وإنما نتجت هاتان الشخصيتان مع أن شرط الشكل الثالث كلية إحدى المقدمتين لأن الشخصية عندهم في حكم الكلية. وقال الإمام: تفلسف حجة الإسلام الغزالي عليه الرحمة فقال: إن هذه الآية مبنية على الشكل الثاني من الأشكال المنطقية، وذلك لأن حاصلها يرجع إلى أن موسى أنزل الله تعالى عليه شيئا وواحد من البشر ما أنزل الله تعالى عليه شيئا ينتج أن موسى ما كان من البشر وهذا خلف محال، وهذه الاستحالة ليست بحسب شكل القياس لا بحسب صحة المقدمة الأولى فلم يبق إلا أنه لزم من فرض صحة المقدمة الثانية وهي قولهم: ما أَنْزَلَ اللَّهُ إلخ فوجب القول بأنها كاذبة وفي ذلك تأمل فليتأمل. ثم إن وصف الكتاب بالوصول إليهم لزيادة التقرير وتشديد التبكيت، وكذا تقييده بقول سبحانه: نُوراً وَهُدىً فإن كونه بينا بنفسه ومبينا لغيره مما يؤكد الإلزام أي توكيد، وانتصابهما على الحالية من الكتاب والعامل أَنْزَلَ أو من ضمير بِهِ والعامل جاء، والظاهر تعلق الظرف بجاء، وجوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا من الفاعل، واللام في قوله سبحانه: لِلنَّاسِ إما متعلق بهدى أو بمحذوف وقع صفة له أي هدى كائنا للناس، والمراد بهم بنو إسرائيل، وقيل: هم ومن عداهم، ومعنى كونه هدى لهم أنه يرشد من وقف عليه بالواسطة أو بدونها إلى ما ينجيه من الإيمان بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم. وقوله تعالى: تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ استئناف لا موضع له من الإعراب مسوق لنعي ما فعلوه من التحريف والتغيير عليهم. وجوز أن يكون في موضع نصب على الحال كما تقدم أي تضعونه في قراطيس مقطعة وأوراق مفرقة بحذف الجار بناء على تشبيه القراطيس بالظرف المبهم كما قيل. وقال أبو علي الفارسي: المراد تجعلونه ذا قراطيس، وجوز غير واحد عدم التقدير على معنى تجعلونه نفس القراطيس، وفيه زيادة توبيخ لهم بسوء صنيعهم كأنهم أخرجوه من جنس الكتاب ونزلوه منزلة القراطيس الخالية عن الكتابة، وليس المراد على الأول توبيخهم بمجرد وضعهم له في قراطيس إذ كل كتاب لا بد وأن يودع في القراطيس بل المراد التوبيخ على الجعل في قراطيس موصوفة بقوله سبحانه: تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً فالجملة المعطوفة والمعطوف عليها في موضع الصفة لقراطيس، والعائد على الموصوف من المعطوفة محذوف أي كثيرا منها، والمراد من الكثير نعوت النبي صلّى الله عليه وسلّم وسائر ما كتموه من أحكام التوراة كرجم الزاني المحصن. وهذا خطاب لليهود بلا مرية وكانوا يفعلون ذلك مع عوامهم متواطئين عليه، وهو ظاهر على تقدير أن يكون الجواب السابق لهم لأن مشافهتهم به يقتضي خطابهم، ومن جعل ما تقدم للمشركين حمل هذا على الالتفات لخطاب اليهود حيث جرى ذكرهم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو الأفعال الثلاثة بياء الغيبة، وضمير الجمع لليهود أيضا إلا أنه التفت عن خطابهم تبعيدا لهم بسبب ارتكابهم القبيح عن ساحة الخطاب ولذا خاطبهم حيث نسب إليهم الحسن في قوله سبحانه: وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ وهذا أحسن- كما قيل- من الالتفات على القول الأول لأن فيه نقلا من الكلام مع جماعة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 208 هم المشركون إلى الكلام مع جماعة أخرى هم اليهود قبل إتمام الكلام الأول لأن إتمامه بقوله سبحانه: قُلِ اللَّهُ إلخ بخلاف الالتفات على القول الثاني، والجملة- على ما قال أبو البقاء- في موضع الحال من فاعل تَجْعَلُونَهُ بإضمار قد أو بدونه على اختلاف الرأيين، وعليه- كما قال شيخ الإسلام- فينبغي أن يجعل ما عبارة عما أخذوه من الكتاب من العلوم والشرائع ليكون التقييد بالحال مفيدا لتأكيد التوبيخ وتشديد التشنيع لا على ما تلقوه من جهة النبي صلّى الله عليه وسلّم زيادة على ما في التوراة وبيانا لما التبس عليهم وعلى آبائهم من مشكلاتها حسبما ينطق به قوله تعالى: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [النمل: 76] لأن تلقيهم ذلك ليس مما يزجرهم عما صنعوا بالتوراة فتكون الجملة حينئذ خالية عن تأكيد التوبيخ فلا تستحق أن تقع موقع الحال بل الوجه حينئذ أن يكون استئنافا مقررا لما قبله من مجيء الكتاب بطريق التكملة والاستطراد والتمهيد لما يعقبه من مجيء القرآن، ولا سبيل- كما قال- إلى جعل ما عبارة عما كتموه من أحكام التوراة كما يفصح عنه قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ [المائدة: 15] فإن ظهوره وإن كان مزجرة لهم عن الكتم مخافة الافتضاح ومصححا لوقوع الجملة في موقع الحال لكن ذلك مما يعلمه الكاتمون حتما. وجوز أن تكون الجملة معطوفة على مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ من حيث المعنى أي قل من أنزل الكتاب ومن علمكم ما لم تعلموا وفيه بعد. وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد أن هذا خطاب للمسلمين. وروي عنه أنه قرأ «وعلمتم معشر العرب ما لم» إلخ وهو عند قوم اعتراض للامتنان على النبي صلّى الله عليه وسلّم واتباعه بهدايتهم للمجادلة بالتي هي أحسن. وقال بعضهم: إن الناس فيما تقدم عام يدخل فيهم المسلمون واليهود، وعُلِّمْتُمْ عطف على تَجْعَلُونَهُ والخطاب فيه للناس باعتبار اليهود وفي عُلِّمْتُمْ لهم باعتبار المسلمين ولا يخفى أنه تكلف. وقوله سبحانه: قُلِ اللَّهُ أمر لرسوله صلّى الله عليه وسلّم بأن يجيب السؤال السابق عنهم إشارة إلى أنهم ينكرون الحق مكابرة منهم، وإشعارا بتعين الجواب وإيذانا بأنهم أفحموا، ولم يقدروا على التكلم أصلا، والاسم الجليل إما فاعل مقدر أو مبتدأ خبره جملة مقدرة أي أنزله الله أو الله تعالى أنزله، والخلاف في الأرجح من الوجهين مشهور ثُمَّ ذَرْهُمْ أي دعهم فِي خَوْضِهِمْ أي باطلهم فلا عليك بعد إلزام الحجة وإلقام الحجر يَلْعَبُونَ في موضع الحال من- هم- الأول، والظرف صلة ذَرْهُمْ أو يَلْعَبُونَ أو حال من مفعول ذَرْهُمْ أو من فاعل يَلْعَبُونَ. وجوز أن يكون في موضع الحال من- هم- الثاني. وهو في المعنى فاعل المصدر المضاف إليه، والظرف متصل بما قبله إما على أنه لغو أو حال من- هم- ولا يجوز حينئذ جعله متصلا بيلعبون على الحالية أو اللغوية لأنه يكون معمولا له متأخرا عنه رتبة ومعنى مع أنه متقدم عليه رتبة أيضا لأن العامل في الحال عامل في صاحبها فيكون فيه دور وفساد في المعنى. والآية عند بعض منسوخة بآية السيف، واختار الإمام عدم النسخ لأنها واردة مورد التهديد وهو لا ينافي حصول المقاتلة فلم يكن ورود الآية الدالة على وجوبها رافعا للمدلول فلم يحصل النسخ فيه وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ تحقيق لإنزال القرآن الكريم بعد تقرير إنزال ما يشير به من التوراة وتكذيب لكلمتهم الشنعاء إثر تكذيب، وتنكير كِتابٌ للتفخيم، وجملة أَنْزَلْناهُ في موضع الرفع صفة له. وقوله سبحانه: مُبارَكٌ أي كثير الفائدة والنفع لاشتماله على منافع الدارين وعلوم الأولين والآخرين صفة بعد صفة. قال الإمام: جرت سنة الله تعالى بأن الباحث عن هذا الكتاب المتمسك به يحصل به عز الدنيا وسعادة الآخرة، ولقد شاهدنا والحمد لله عز وجل ثمرة خدمتنا له في الدنيا فنسأله أن لا يحرمنا سعادة الآخرة إنه البر الرحيم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 209 وقوله جل وعلا: مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ صفة أخرى، والإضافة- على ما نص عليه أبو البقاء- غير محضة، والمراد بالموصول إما التوراة لأنها أعظم كتاب نزل قبل ولأن الخطاب مع اليهود، وأما ما يعمها وغيرها من الكتب السماوية. وروي ذلك عن الحسن، وتذكير الموصول باعتبار الكتاب أو المنزل أو نحو ذلك، ومعنى كونها بين يديه أنها متقدمة عليه. فإن كل ما كان بين اليدين كذلك وتصديقه للكل في إثبات التوحيد والأمر به ونفي الشرك والنهي عنه. وفي سائر أصول الشرائع التي لا تنسخ. وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى قيل: عطف على ما دل عليه صفة الكتاب كأنه قيل: أنزلناه للبركات وتصديق ما تقدمه والإنذار. واختار العلامة الثاني كونه عطفا على صريح الوصف أي كتاب مبارك وكائن للإنذار، وادعى أنه لا حاجة مع هذا إلى ذلك التكلف فإن عطف الظرف على المفرد في باب الخبر والصفة كثير، ودعوى أن الداعي إليه عرو تلك الصفات السابقة عن حرف العطف واقتران هذا به تستدعي القول بأن الصفات إذا تعددت ولم يعطف أولها يمتنع العطف أو يقبح والواقع خلافه، والأولى ما يقال: إن الداعي أن اللفظ والمعنى يقتضيانه، أما المعنى فلأن الإنذار علة لإنزاله كما يدل عليه وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ [الأنعام: 19] ولو عطف لكان على أول الصفات على الراجح في العطف عند التعدد، ولا يحسن عطف التعليل على المعلل به ولا الجار والمجرور على الجملة الفعلية. فإنه نظير هذا رجل قام عندي وليخدمني وهو كما ترى، ومنه يعلم الداعي اللفظي. وجوز أن يكون علة لمحذوف يقدر مؤخرا أو مقدما أي ولتنذر أنزلناه أو وأنزلنا لتنذر، وتقديم الجار للاهتمام أو للحصر الإضافي، وأن يكون عطفا على مقدر أي لتبشر ولتنذر، وأيّا ما كان ففي الكلام مضاف محذوف أي أهل أم القرى، والمراد بها مكة المكرمة، وسميت بذلك لأنها قبلة أهل القرى وحجهم وهم يتجمعون عندها تجمع الأولاد عند الأم المشفقة ويعظمونها أيضا تعظيم الأم، ونقل ذلك عن الزجاج والجبائي، ولأنها أعظم القرى شأنا فغيرها تبع لها كما يتبع الفرع الأصل. وقيل: لأن الأرض دحيت من تحتها فكأنها خرجت من تحتها كما تخرج الأولاد من تحت الأم أو لأنها مكان أول بيت وضع للناس. ونقل ذلك عن السدي. وقرأ أبو بكر عن عاصم «لينذر» بالياء التحتية على الإسناد المجازي للكتاب لأنه منذر به وَمَنْ حَوْلَها من أهل المدر والوبر في المشارق والمغارب لعموم بعثته صلّى الله عليه وسلّم الصادع بها القرآن في غير آية، واللفظ لا يأبى هذا الحمل فلا متمسك بالآية لطائفة من اليهود زعموا أنه صلّى الله عليه وسلّم مرسل للعرب خاصة، على أنه يمكن أن يقال: خص أولئك بالذكر لأنهم أحق بإنذاره عليه الصلاة والسلام كقوله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] ولذا أنزل كتاب كل رسول بلسان قومه وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وبما فيها من الثواب والعقاب، ومن اقتصر على الثاني في البيان لاحظ سبق الإنذار يُؤْمِنُونَ بِهِ أي بالكتاب، قيل: أو بمحمد صلّى الله عليه وسلّم لأنهم يرهبون من العذاب ويرغبون في الثواب ولا يزال ذلك يحملهم على النظر والتأمل حتى يؤمنوا به وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ يحتمل أن يراد بالصلاة مطلق الطاعة مجازا أو اكتفى ببعضها الذي هو عماد الدين وعلم الإيمان ولذا أطلق على ذلك الإيمان مجازا كقوله تعالى: ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة: 143] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً كالذين قالوا: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ من جهته تعالى: وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ أي والحال أنه لم يوح إليه شَيْءٌ كمسيلمة والأسود العنسي وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ أي أنا قادر على مثل ذلك النظم كالذين قالوا: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا [الأنفال: 31] وتفسير الأول بما ذكرناه لم نقف عليه لغيرنا، وتفسير الثاني ذهب إليه الزمخشري وغيره. وتفسير الثالث ذهب إليه الزجاج ومن وافقه. وأخرج عبد بن حميد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 210 وابن المنذر عن ابن جريج أن قوله سبحانه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ نزلت في مسيلمة الكذاب والأخير نزل في عبد الله بن سعد بن أبي سرح وجعل بعضهم على هذا عطف أَوْ قالَ الأول على افْتَرى إلخ من عطف التفسير. وتعقب بأنه لا يكون بأو، واستحسن أنه من عطف المغاير باعتبار العنوان وأو للتنويع يعني أنه تارة ادعى أن الله تعالى بعثه نبيا وأخرى أن الله تعالى أوحى إليه وإن كان يلزم النبوة في نفس الأمر الإيحاء ويلزم الإيحاء النبوة، ويفهم من صنيع بعضهم أن أو بمعنى الواو، وأما ابن أبي سرح فلم يدع صريحا القدرة ولكن قد يقتضيها كلامه على ما يفهم من بعض الروايات، وفسر بعضهم الثاني بعبد الله ودعواه ذلك على سبيل الترديد، فقد روي أن عبد الله بن سعد كان قد تكلم بالإسلام فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم فكتب له شيئا فلما نزلت الآية في المؤمنين وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون: 12] أملاها عليه فلما انتهى إلى قوله سبحانه: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [المؤمنون: 14] عجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان فقال: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون: 14] فقال رسول الله: هكذا أنزلت علي فشك حينئذ وقال: لئن كان محمد صادقا لقد أوحي إلي ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال، وجعل الشق الثاني في معنى دعوى القدرة على المثل فيصح تفسير الثاني والثالث به لا يصح إلا إذا اعتبر عنوان الصلة في الأخير من باب المماشاة مثلا كما لا يخفى. واعتبر الإمام عموم افتراء الكذب على الله تعالى وجعل المعطوف عليه نوعا من الأشياء التي وصفت بكونها افتراء ثم قال: والفرق بين هذا القول وما قبله أن في الأول كان يدعي أنه أوحي إليه فيما يكذب به ولم ينكر نزول الوحي على النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي الثاني أثبت الوحي لنفسه ونفاه عنه عليه الصلاة والسلام فكان جمعا بين أمرين عظيمين من الكذب إثبات ما ليس بموجود ونفي ما هو موجود انتهى. وفيه عدول عن الظاهر حيث جعل ضمير إِلَيْهِ راجعا للنبي صلّى الله عليه وسلّم والواو في وَلَمْ يُوحَ للعطف والمتعاطفان مقول القول والمنساق للذهن جعل الضمير لمن والواو للحال وما بعدها من كلامه سبحانه وتعالى، وربما يقال لو قطع النظر عن سبب النزول: إن المراد بمن افترى على الله كذبا من أشرك بالله تعالى أحدا بحمل افتراء الكذب على أعظم أفراده، وهو الشرك وكثير من الآيات يصدح بهذا المعنى وبمن قال: أُوحِيَ إِلَيَّ والحال لم يوح إليه مدعي النبوة كاذبا وبمن قال: سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ الطاعن في نبوة النبي عليه الصلاة والسلام فكأنه قيل: من أظلم ممن أشرك بالله عز وجل أو ادعى النبوة كاذبا أو طعن في نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد تقدم الكلام على مثل هذه الجملة الاستفهامية فتذكر وتدبر. وَلَوْ تَرى أي تبصر، ومفعوله محذوف لدلالة الظرف في قوله تعالى: إِذِ الظَّالِمُونَ عليه ثم لما حذف أقيم الظرف مقامه والأصل لو ترى الظالمين إذ هم، وإِذِ ظرف لترى والظَّالِمُونَ مبتدأ، وقوله تعالى: فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ خبره وإذا ظرف لترى، وتقييد الرؤية بهذا الوقت ليفيد أنه ليس المراد مجرد رؤيتهم بل رؤيتهم على حال فظيعة عند كل ناظر، وقيل: المفعول إِذِ والمقصود تهويل هذا الوقت لفظاعة ما فيه، وجواب الشرط محذوف أي لرأيت أمرا فظيعا هائلا، والمراد بالظالمين ما يشمل الأنواع الثلاثة من الافتراء والقولين الأخيرين، والغمرة كما قال الشهاب في الأصل: المرة من غمر الماء ثم استعير للشدة وشاع فيها حتى صار كالحقيقة. ومنه قول المتنبي: وتسعدني في غمرة بعد غمرة ... سبوح لها منها عليها شواهد والمراد هنا سكرات الموت كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وَالْمَلائِكَةُ الذين يقبضون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 211 أرواحهم وهم أعوان ملك الموت باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أي بالعذاب، وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم يضربون وجوههم وأدبارهم قائلين لهم أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ أي خلصوها مما أنتم فيه من العذاب، والأمر للتوبيخ والتعجيز، وذهب بعضهم أن هذا تمثيل لفعل الملائكة في قبض أرواح الظلمة بفعل الغريم الملح يبسط يده إلى من عليه الحق ويعنف عليه في المطالبة ولا يمهله ويقول له: أخرج ما لي عليك الساعة ولا أريم مكاني حتى أنزعه من أحداقك، وفي الكشف أنه كناية عن العنف في السياق والإلحاح والتشديد في الإزهاق من غير تنفيس وإمهال ولا بسط ولا قول حقيقة هناك، واستظهر ابن المنير أنهم يفعلون معهم هذه الأمور حقيقة على الصور المحكية، وإذا أمكن البقاء على الحقيقة فلا معدل عنها. الْيَوْمَ المراد به مطلق الزمان لا المتعارف، وهو إما حين الموت وما يشمله وما بعده تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ أي المشتمل على الهوان والشدة والإضافة كما في رجل سوء تفيد أنه متمكن في ذلك لأن الاختصاص الذي تفيده الإضافة أقوى من اختصاص التوصيف، وجوز أن تكون الإضافة على ظاهرها لأن العذاب قد يكون للتأديب لا للهوان والخزي. ومن الناس من فسر غمرات الموت بشدائد العذاب في النار فإنها وإن كانت أشد من سكرات الموت في الحقيقة إلا أنها استعملت فيها تقريبا للإفهام، وبسط الملائكة أيديهم بضربهم للظالمين في النار بمقامع من حديد والإخراج بالإخراج من النار وعذابها واليوم باليوم المعلوم بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ مفترين عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ من نفي إنزاله على بشر شيئا وادعاء الوحي أو من نسبة الشرك إليه ودعوى النبوة كذبا ونفيها عمن اتصف بها حقيقة أو نحو ذلك. وفي التعبير بغير الحق عن الباطل ما لا يخفى وهو مفعول تَقُولُونَ، وجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف أي قولا غير الحق وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ أي تعرضون فلا تتأملون فيها ولا تؤمنون وَلَقَدْ جِئْتُمُونا للحساب فُرادى أي منفردين عن الأعوان والأوثان التي زعمتم أنها شفعاؤكم أو عن الأموال والأولاد وسائر ما آثرتموه من الدنيا. أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وغيرهما عن عكرمة قال: قال النضر بن الحارث سوف تشفع لي اللات والعزى فنزلت، والجملة على ما ذهب إليه بعض المحققين مستأنفة من كلامه تعالى ولا ينافي قوله تعالى: وَلا يُكَلِّمُهُمُ [البقرة: 174] ، آل عمران: 77] لأن المراد نفي تكليمهم بما ينفعهم أو لأنه كناية عن الغضب، وقيل: معطوفة على قول: الملائكة أَخْرِجُوا إلخ وهي من جملة كلامهم وفيه بعد وإن ظنه الإمام أولى وأقوى. ونصب فُرادى على الحال من ضمير الفاعل وهو جمع فرد على خلاف القياس كأنه جمع فردان كسكران على ما في الصحاح، والألف للتأنيث ككسالى، والراء في فرده مفتوحة عند صاحب الدر المصون وحكي بصيغة التمريض سكونها، ونقل عن الراغب أنه جمع فريد كأسير وأسارى، وفي القاموس يقال: جاؤوا فرادا وفرادا وفرادى وفرادا وفردى كسكرى أي واحد وفراد بعد واحد والواحد فرد وفرد وفريد وفردان. ولا يجوز فرد في هذا المعنى، ولعل هذا بعيد الإرادة في الآية. وقرى «فرادا» كرخال المضموم الراء وفراد كآحاد ورباع في كونه صفة معدولة. ولا يرد أن مجيء هذا الوزن المعدول مخصوص بالعدد بل ببعض كلماته لما نص عليه الفراء وغيره من عدم الاختصاص، نعم هو شائع فيما ذكر. وفردى كسكرى تأنيث فردان والتأنيث لجمع ذي الحال كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بدل من فُرادى بدل كل لأن المراد المشابهة في الانفراد المذكور، والكاف اسم بمعنى مثل أي مثل الهيئة، التي ولدتم عليها في الانفراد ويجوز أن يكون حالا ثانية على رأي من يجوز تعدد الحال من غير عطف وهو الصحيح أو حالا من الضمير في فُرادى فهي حال مترادفة أو متداخلة والتشبيه أيضا في الانفراد، ويحتمل أن يكون باعتبار ابتداء الخلقة أي مشبهين ابتداء خلقكم بمعنى شبيهة حالكم حال ابتداء خلقكم حفاة عراة غرلا بهما، وجوز أن يكون صفة مصدر جِئْتُمُونا أي مجيئا كخلقنا لكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 212 أخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قرأت هذه الآية فقالت: يا رسول الله وا سوأتاه إن النساء والرجال سيحشرون جميعا ينظر بعضهم إلى سوءة بعض فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال شغل بعضهم عن بعض. وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ أي ما أعطيناكم في الدنيا من المال والخدم وهو متضمن للتوبيخ أي فشغلتم به عن الآخرة وَراءَ ظُهُورِكُمْ ما قدمتم منه شيئا لأنفسكم. أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن الحسن قال: يؤتى بابن آدم يوم القيامة كأنه بذخ فيقول له تبارك وتعالى: أين ما جمعت؟ فيقول: يا رب جمعته وتركته أوفر ما كان فيقول: أين ما قدمت لنفسك؟ فلا يراه قدم شيئا وتلا هذه الآية، والجملة قيل مستأنفة أو حال بتقدير قد وَما نَرى أي نبصر وهو- على ما نص عليه أبو البقاء- حكاية حال وبه يتعلق قوله تعالى: مَعَكُمْ وليس حالا من مفعول نَرى أعني قوله سبحانه: شُفَعاءَكُمُ ولا مفعول ثانيا، والرؤية علمية. وإضافة الشفعاء إلى ضمير المخاطبين باعتبار الزعم كما يفصح عنه وصفهم بقوله عز وجل: الَّذِينَ زَعَمْتُمْ في الدنيا أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ أي شركاء الله تعالى في ربوبيتكم واستحقاق عبادتكم، والزعم هنا نص في الباطل وجاء استعماله في الحق كما تقدمت الإشارة إليه، ومن ذلك قوله: تقول هلكنا إن هلكت وإنما ... على الله أرزاق العباد كما زعم لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ بنصب- بين- وهي قراءة عاصم، والكسائي، وحفص عن عاصم، واختلف في تخريج ذلك فقيل: الكلام على إضمار الفاعل لدلالة ما قبل عليه أي تقطع الأمر أو الوصل بينكم، وقيل: إن الفاعل ضمير المصدر، وتعقبه أبو حيان بأنه غير صحيح لأن شرط إفادة الإسناد مفقودة فيه وهو تغاير الحكم والمحكوم عليه ولذلك لا يجوز قام ولا جلس وأنت تريد قام هو أي القيام وجلس هو أي الجلوس. ورد بأنه سمع بدا بداء، وقد قدروا في قوله تعالى: ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ [يوسف: 35] بدا البداء. وقال السفاقسي: إن من جعل الفاعل ضمير المصدر قال: المراد وقع التقطع والتغاير حاصل بهذا الاعتبار ولو سلم فالتقطع المعتبر مرجعا معرف بلام الجنس وتَقَطَّعَ منكر فكيف يقال اتحد الحكم والمحكوم عليه. ولا يخفى أن القول بالتأويل متعين على هذا التقدير لأنه إذا تقطع التقطع حصل الوصل وهو ضد المقصود وقيل: إن- بين- هو الفاعل وبقي على حاله منصوبا حملا له على أغلب أحواله وهو مذهب الأخفش، وقيل: إنه بني لإضافته إلى مبني، وقيل غير ذلك. واختار أبو حيان أن الكلام من باب التنازع سلط على ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ تقطع وضل عنكم فأعمل الثاني وهو ضَلَّ وأضمر في تَقَطَّعَ ضميره. والمراد بذلك الأصنام، والمعنى لقد تقطع بينكم ما كنتم تزعمون وضلوا عنكم كما قال تعالى: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ [البقرة: 166] أي لم يبق اتصال بينكم وبين ما كنتم تزعمون أنهم شركاء فعبدتموهم. وقرأ باقي السبعة «بينكم» بالرفع على الفاعلية وهو من الأضداد كالقرء يستعمل في الوصل والفصل، والمراد به هنا الوصل أي تقطع وصلكم وتفرق جمعكم، وطعن ابن عطية في هذا بأنه لم يسمع من العرب أن البين بمعنى الوصل وإنما انتزع من هذه الآية. وأجيب بأنه معنى مجازي ولا يتوقف على السماع لأن- بين- يستعمل بين الشيئين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 213 المتلابسين نحو بيني وبينك رحم وصداقة وشركة فصار لذلك بمعنى الوصلة. على أنه لو قيل بأنه حقيقة في ذلك لم يبعد، فإن أبا عمرو، وأبا عبيدة، وابن جني، والزجاج، وغيرهم من أئمة اللغة نقلوه وكفى بهم سندا فيه، فكونه منتزعا من هذه الآية غير مسلم، وعليه فيكون مصدرا لا ظرفا. وقيل: إن- بين- هنا ظرف لكنه أسند إليه الفعل على سبيل الاتساع. وقرأ عبد الله «لقد تقطع ما بينكم» وما فيه موصوفة أو موصولة وَضَلَّ عَنْكُمْ ضاع وبطل ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أنها شفعاؤكم أو أنها شركاء لله تعالى فيكم أو أن لا بعث ولا جزاء. إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى شروع في تقرير بعض أفاعيله تعالى العجيبة الدالة على كمال علمه تعالى وقدرته ولطيف صنعه وحكمته إثر تقرير أدلة التوحيد، وفي ذلك تنبيه على أن المقصود من جميع المباحث العقلية والنقلية وكل المطالب الحكمية إنما هو معرفة الله تعالى بذاته وصفاته وأفعاله سبحانه. والفالق الموجد والمبدع كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والضحاك، والحب معلوم، والنوى جمع نواة التمر كما في القاموس وغيره يؤنث ويذكر ويجمع على أنواء ونوى بضم النون وكسرها. وفسره الإمام بالشيء الموجود في داخل الثمرة بالمثلثة أعم من التمر بالمثناة وغيره، والمشهور أن النوى إذا أطلق فالمراد منه ما في القاموس وإذا أريد غيره قيد فيقال: نوى الخوخ ونوى الإجاص ونحو ذلك. وأصل الفلق الشق. وكان إطلاق الفالق على الموجد باعتبار أن العقل يتصور من العدم ظلمة متصلة لا انفراج فيها ولا انفلاق فمتى أوجد الشيء تخيل الذهن أنه شق ذلك العدم وفلقه وأخرج ذلك المبدع منه، وعن الحسن، وقتادة، والسدي أن المعنى شاق الحبة اليابسة ومخرج النبات منها وشاق النواة ومخرج النخل والشجر منها وعليه أكثر المفسرين ولعله الأولى. وفي ذلك دلالة على كمال القدرة لما فيه من العجائب التي تصدح أطيارها على أفنان الحكم وتطفح أنهارها في رياض الكرم. وعن مجاهد وأبي مالك أن المراد بالفلق الشق الذي بالحبوب وبالنوى أي أنه سبحانه خالقهما كذلك كما في قولك: ضيق فم الركية ووسع أسفلها، وضعف بأنه لا دلالة على كمال القدرة كما في سابقه. يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ أي يخرج ما ينمو من الحيوان والنبات والشجر مما لا ينمو من النطفة، والحب، والنوى، والجملة مستأنفة مبينة لما قبلها على ما عليه الأكثر ولذلك ترك العطف وقيل: خبر ثان ولم يعطف للإيذان باستقلاله في الدلالة على عظمة الله تعالى: وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ كالنطفة وأخويها مِنَ الْحَيِّ كالحيوان وأخويه، وهذا عند بعض عطف على فالِقُ لا على يُخْرِجُ الْحَيَّ إلخ لأنه كما علمت بيان لما قبله وهذا لا يصلح للبيان وإن صح عطف الاسم المشتق على الفعل وعكسه. واختار ابن المنير كونه معطوفا على يُخْرِجُ قال: وقد وردا جميعا بصيغة المضارع كثيرا وهو دليل على أنهما توأمان مقترنان وهو يبعد القطع، فالوجه والله تعالى أعلم أن يقال: كان الأصل أن يؤتى بصيغة اسم الفاعل أسوة أمثاله في الآية إلا أنه عدل عن ذلك إلى المضارع في هذا الوصف وحده إرادة لتصور إخراج الحي من الميت واستحضاره في ذهن السامع وذلك إنما يتأتى بالمضارع دون اسم الفاعل والماضي أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً [الحج: 63] كيف عدل فيه عن الماضي المطابق لأنزل لذلك، وقوله: بأني قد لقيت الغول يسعى ... بسهب كالصحيفة صحصحان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 214 فآخذه وأضربه فخرت ... صريعا لليدين وللجران فإنه عدل فيه إلى المضارع إرادة لتصوير شجاعته واستحضارها لذهن السامع إلى ما لا يحصى كثرة، وهو إنما ينتحي فيما تكون العناية فيه أقوى، ولا شك أن إخراج الحي من الميت أظهر في القدرة من عكسه وهو أيضا أول الحالين والنظر أول ما يبدأ فيه ثم القسم الآخر ثان عنه فكان الأول جديرا بالتصوير والتأكيد في النفس ولذلك هو مقدم أبدا على القسم الآخر في الذكر حسب ترتبهما في الواقع، وسهل عطف الاسم على الفعل وحسنه أن اسم الفاعل في معنى المضارع وكل منهما يقدر بالآخر فلا جناح في عطفه عليه. وقال الإمام في وجه ذلك الاختلاف: إن لفظ الفعل يدل على أن الفاعل معتن بالفعل في كل حين وأوان، وأما لفظ الاسم فإنه لا يفيد التجدد والاعتناء به ساعة فساعة، ويرشد إلى هذا ما ذكره الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز من أن قوله سبحانه: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ [فاطر: 3] قد ذكر فيه الرزق بلفظ الفعل لأنه يفيد أنه تعالى يرزقهم حالا فحالا وساعة فساعة، وقوله عز شأنه وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ [الكهف: 18] قد ذكر فيه الاسم ليفيد البقاء على تلك الحالة، وإذا ثبت ذلك يقال: لما كان الحي أشرف من الميت وجب أن يكون الاعتناء بإخراج الحي من الميت أكثر من الاعتناء بإخراج الميت من الحي، فلذا وقع التعبير عن القسم الأول بصيغة الفعل وعن الثاني بصيغة الاسم تنبيها على أن الاعتناء بإيجاد الحي من الميت أكثر وأكمل من الاعتناء بإيجاد الميت من الحي. ثم العطف لاشتمال الكلام به على زيادة لا يضر بكون الجملة بيانا لما تقدم كما لا يضر شمول الحي والميت في الجملة المعطوف عليها للحيوان والنبات فيه. وأيّا ما كان فلا بد من القول بعموم المجاز أو الجمع بين المجاز والحقيقة على مذهب من يرى صحته إن قلنا: إن الحي حقيقة فيمن يكون موصوفا بالحياة وهي صفة توجب صحة الإدراك والقدرة والميت حقيقة فيمن فارقته تلك الصفة أو نحو ذلك. وإن إطلاقه على نحو النبات والشجر الغض والحب والنوى مجاز. وبهذا يشعر كلام الإمام فإنه جعل ما نقل عن الزجاج أن المعنى يخرج النبات الغض الطري من الحب اليابس ويخرج الحب اليابس من النبات الحي النامي من الوجوه المجازية كالمروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن المعنى يخرج المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن ذلِكُمُ القادر العظيم الشأن الساطع البرهان هو اللَّهَ الذات الواجب الوجود المستحق للعبادة وحده فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فكيف تصرفون عن عبادته وتشركون به من لا يقدر على شيء لا سبيل إلى ذلك أصلا. وتمسك الصاحب ابن عباد بهذا على أن فعل العبد ليس مخلوقا لله تعالى لأنه سبحانه لو خلق فيه الإفك لم يلق به عز شأنه أن يقول: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ وقد قدمنا الجواب على ذلك على أتم وجه فتذكر فالِقُ الْإِصْباحِ خبر لمبتدأ محذوف أي هو فالق أو خبر آخر لأن. والْإِصْباحِ بكسر الهمزة مصدر سمي به الصبح، قال امرؤ القيس: ألا أيها الليل الطويل ألا أنجلي ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل وقرأ الحسن بالفتح على أنه جمع صبح كقفل وأقفال. وأنشد قوله: أفني رياحا وبني رياح ... تناسخ الإمساء والإصباح بالكسر والفتح مصدرين وجمعي مسى وصبح والفالق الخالق على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقتادة، والضحاك، وقال غير واحد: الشاق. واستشكل بأن الظاهر أن الظلمة هي التي تفلق عن الصبح. وأجيب بأن الصبح صبحان، صادق وهو المنتشر ضوءه معترضا بالأفق. وكاذب وهو ما يبدو مستطيلا وأعلاه أضوأ من باقيه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 215 وتعقبه ظلمة. وعلى الأول يراد فلقه عن بياض النهار أو يقال: في الكلام مضاف مقدر أي فالق ظلمة الإصباح بالإصباح. وذلك لأن الأفق من الجانب الغربي والجنوبي مملوء من الظلمة والنور إنما ظهر في الجانب الشرقي فكأن الأفق كان بحرا مملوءا من الظلمة فشق سبحانه ذلك البحر المظلم بأن أجرى جدولا من النور فيه. وعلى الثاني فإيراد أنه سبحانه فالقه عن ظلمة آخر الليل وشاقه منه. وما ذكر من تقسيم الصبح إلى صادق وكاذب مما يشهد له العيان ولا يمتري فيه اثنان إلا أن في سبب ذلك كلاما لأهل الهيئة حاصله أن الصبح وكذا الشفق استنارة في كرة البخار لتقارب الشمس من أفق المشرق وتباعدها عن أفق المغرب. وقد تحقق أن كرة البخار عبارة عن هواء متكائف بما فيه من الأجزاء الأرضية والمائية المتصاعدة من كرتيهما بتسخين الشمس وغيرها إياها وأن شكل ذلك الهواء شكل كرة محيطة بالأرض على مركزها وسطح مواز لسطحها المتساوي غاية ارتفاعها عن مركز الأرض في جميع النواحي المستلزم لكرويتها وأنها مختلفة القوام لأن ما كان منها أقرب إلى الأرض فهو أكثف مما بعد لأن الألطف يتصاعد ويتباعد أكثر من الأكثف ولكن لا يبلغ في التكاثف إلى حيث يحجب ما وراءه. وأن هذه الكرة تنتهي إلى حد لا تتجاوزه وهو من سطح الأرض أحد وخمسون ميلا تقريبا وأن للأرض ظلا على هيئة مخروط قاعدته دائرة عليها تكاد تكون عظيمة وهي مواجهة للشمس ورأسه في مقابلها. وتنقسم الأرض بهذه القاعدة إلى قسمين. أحدهما أكبر مستضيء مواجه للشمس والآخر مظلم مقابل لها. ويتحرك الضياء والظلمة على سطح الأرض في يوم بليلته دورة واحدة كعلمين متقابلين أحدهما أبيض والآخر أسود. وأن شعاع الشمس محيط بمخروط الظل من جميع جوانبه ومنبث في جميع الأفلاك سوى مقدار يسير من فلك القمر وفلك عطارد وقع في مخروط ظل الأرض لكن الأفلاك لكونها مشعة في الغاية ينفذ فيها الشعاع ولا ينعكس عنها فلذلك لا نراها مضيئة. وكذا الهواء الصافي المحيط بكرة البخار لا يقبل ضوءا. وأما كرة البخار فهي مختلفة القوام لأن ما قرب منها إلى الأرض أكثف مما بعد والأكثف أقبل للاستضاءة فالكثيف الخشن باختلاط الهيئات الكثيرة من سطح مخروط الظل قابل للضوء وأن النهار مدة كون ذلك المخروط تحت الأفق والليل مدة كونه فوقه. وحيث تحقق كل ذلك يقال: إذا ازداد قرب الشمس من شرقي الأفق ازداد ميل المخروط إلى غربيه ولا يزال كذلك حتى يرى الشعاع المحيط به وأول ما يرى هو الأقرب إلى موضع الناظر وهو خط يخرج من بصره في سطح دائرة سمتية تمر بمركز الشمس عمودا على الخط المماس للشمس والأرض وهو الذي في سطح الفصل المشترك بين الشعاع والظل فيرى الضوء أولا مرتفعا عن الأفق عند موقع العمود مستطيلا كخط مستقيم وما بينه وبين الأفق يرى مظلما لبعده وإن كان مستنيرا في الواقع ولكثافة الهواء عند الأفق مدخل في ذلك أيضا وهو الصبح الكاذب، ثم إذا قربت من الأفق الشرقي رئي الضوء معترضا منبسطا يزداد لحظة فلحظة وينمحي الأول بهذا الضياء القوي كما ينمحي ضياء المشاعل والكواكب في ضوء الشمس فيخيل أن الأول قد عدم وهو الصبح الصادق. وتوضيح ما ذكر على ما في التذكرة وشرح سيد المحققين أنه يتوهم لبيان ذلك سطح يمر بمركز الشمس والأرض وبسهم المخروط ومركز قاعدته فيحدث مثلث حاد الزوايا قاعدته على الأفق وضلعاه على سطح المخروط. أما حدوث المثلث فلما تقرر أنه إذا مر سطح مستو بسهم المخروط ومركز قاعدته أحدث فيه مثلثا. وأما حدة الزوايا فلأن رأس المخروط في نصف الليل يكون على دائرة نصف النهار فوق الأرض. وحينئذ إما أن يكون المخروط قائما على سطح الأفق. وذلك إذا كانت الشمس على سمت القدم أو مائلا إلى الشمال أو الجنوب مع تساوي بعده عن جهة المشرق والمغرب. وذلك إذا لم تكن الشمس على سمت القدم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 216 وأيّا ما كان فذلك السطح المفروض ممتد فيما بين الخافقين أما على التقدير الأول فظاهر. وأما على التقدير الثاني فلتساوي بعد رأس المخروط عن جانبي المشرق والمغرب فيكون زاويتا قاعدة المثلث حادتين لوجوب تساويهما وامتناع وقوع قائمتين أو منفرجتين في مثلث. وإذا مال رأس المخروط عن نصف النهار المغرب فوق الأرض بسبب انتقال الشمس عنه إلى جانب المشرق تحت الأرض تضايقت الزاوية الشرقية من ذلك المثلث فتصير أحد مما كانت واتسعت الزاوية الغربية حتى تصير منفرجة لكن المقصود لا يختلف. ولا شك أن الأقرب من الضلع الذي يلي الشمس إلى الناظر يكون موقع العمود الخارج من النظر الواقع على ذلك الضلع لا موضع اتصال الضلع بالأفق، وذلك أنه إذا خرج من البصر إلى الضلع الشرقي عمود فلا يمكن أن يقع على موضع اتصال هذا الضلع بالأفق وإلا انطبقت القائمة على بعض الحادة ولا أن يقع تحت الأفق بأن يقطع العمود قاعدة المثلث ويصل إلى الضلع المذكور بعد إخراجه تحته وإلا لزم في المثلث الحادث تحت الأفق من القدر المخرج من بعض القاعدة وبعض العمود قائمة ومنفرجة ولا أن يقع في جهة رأس المثلث على موضع اتصال أحد ضلعيه بالآخر ولا خارجا عنه في تلك الجهة لما ذكرنا بعينه فوجب أن يقع داخل المثلث فيما بين طرفي الضلع الشرقي وقد تبين أن موضع أقرب إلى الناظر من موضع اتصاله بالأفق. ولا شك في أن ما وقع من هذا الضلع فيما كثف من كرة البخار يكون مستنيرا بتمامه حال قرب الشمس من أفق المشرق إلا أن ما كان أقرب منه إلى الناظر يكون أصدق رؤية. وهو موقع العمود. ومن هنا يتحقق الصادق والكاذب. انتهى كلامهم. والإمام الرازي أنكر كون الصبح الكاذب من أثر قرص الشمس وإنما هو بتخليق الله تعالى ابتداء قال: لأن مركز الشمس إذا وصل إلى دائرة نصف الليل فالموضع الذي يكون فلك الدائرة أفقا لهم قد طلعت الشمس من مشرقهم. وفي ذلك الموضع أضاء نصف كرة الأرض. وذلك يقتضي أنه حصل الضوء في الربع الشرقي من بلدنا وذلك الضوء يكون منتشرا مستطيرا في جميع أجزاء الجو ويجب أن يزداد لحظة فلحظة. وحينئذ يمتنع أن يكون الصبح الأول خطا مستطيلا فحيث كان كذلك علم أنه ليس من تأثير قرص الشمس ولا من جنس نوره. ويفهم من كلامه أيضا أن الصبح الثاني كالصبح الأول ليس إلا بتخليق الفاعل المختار ويمتنع أن يكون من تأثير قرص الشمس، وبين ذلك بأن من المقدمات المتفق عليها أن المضيء شمسا كان أو غيره لا يقع ضوءه إلا على الجرم المقابل له دون غير المقابل والشمس عند طلوع الصبح غير مرتفعة من الأفق فلا يكون جرم الشمس مقابلا لجزء من أجزاء وجه الأرض فيمتنع وقوع ضوء الشمس على وجه الأرض وإذا امتنع ذلك امتنع أن يكون ضوء الصبح من تأثير القرص، ثم قال فإن قالوا: لم لا يجوز أن يقال الشمس حين كونها تحت الأرض توجب إضاءة ذلك الهواء المقابل لها وذلك الهواء مقابل للهواء الواقف فوق الأرض فيصير ضوء الهواء الواقف تحت الأرض سببا لضوء الهواء الواقف فوق الأرض ثم لا يزال يسري ذلك الضوء من هواء آخر ملاصق له حتى يصل إلى الهواء المحيط بنا. وعلى هذا عول أبو علي بن الهيثم في المناظر فالجواب: أن هذا باطل من وجهين، الأول أن الهواء شفاف عديم اللون فلا يقبل النور واللون في ذاته. وما كان كذلك يمتنع أن ينعكس منه النور إلى غيره فيمتنع أن يصير ضوءه سببا لضوء هواء آخر مقابل له. فإن قالوا: فلم لا يجوز أن يقال: إنه حصل في الأفق أجزاء كثيفة من الأبخرة والأدخنة وهي لكثافتها تقبل النور عن قرص الشمس ثم يفيض على الهواء المقابل له؟ فنقول: لو كان كذلك لكان كلما كانت الأبخرة والأدخنة في الأفق أكثر وجب أن يكون ضوء الصباح أقوى وليس الأمر كذلك بل بالعكس، الثاني أن الدائرة التي هي دائرة الأفق لنا بعينها دائرة نصف النهار لقوم آخرين. وإذا كان كذلك فالدائرة التي هي نصف النهار في بلدنا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 217 وجب كونها دائرة الأفق لأولئك الأقوام، وإذا ثبت هذا فنقول: إذا وصل مركز الشمس إلى دائرة نصف الليل وتجاوز عنها فالشمس قد طلعت على أولئك الأقوام واستنار نصف العالم هناك، والربع من الفلك الذي هو ربع شرقي لأهل بلدنا فهو بعينه ربع غربي بالنسبة إلى تلك البلدة، وإذا كان كذلك فالشمس إذا تجاوز مركزها عن دائرة نصف الليل قد صار جرمها محازيا لهواء الربع الذي هو الربع الشرقي لأهل بلدنا فلو كان الهواء يقبل كيفية النور من الشمس لوجب أن يحصل النور في هذا الربع الشرقي من بلدنا بعد نصف الليل وأن يصير هواء هذا الربع في غاية الإنارة حينئذ وحيث لم يكن كذلك علمنا أن الهواء لا يقبل كيفية النور في ذاته وإذا بطل هذا بطل العذر الذي ذكره ابن الهيثم انتهى المراد منه. ولا أراه أتي بشيء يتبلج به صبح هذا المطلب كما لا يخفى على من أحاط خبرا بما قدمناه. وذكر أفضل المتأخرين العلامة أحمد بن حجر الهيثمي أن لأهل الهيئة في تحقيق الصبح الكاذب كلاما طويلا مبنيا على الحدس المبني على قاعدة الحكماء الباطلة كمنع الخرق والالتئام على أنه لا يفي ببيان سبب كون أعلاه أضوأ مع أنه أبعد من أسفله عن مستمده وهو الشمس ولا ببيان سبب انعدامه بالكلية حتى تعقبه ظلمة كما صرح به الأئمة وقدروها بساعة. والظاهر أن مرادهم مطلق الزمن لأنها تطول تارة وتقصر أخرى وهذا شأن الساعات الزمانية المسماة بالمعوجة ويقابلونها بالساعات المستوية المقدر كل منها دائما بخمس عشرة درجة. وزعم بعض أهل الهيئة عدم انعدامه وإنما يتناقص حتى ينغمر في الصادق وقد تقدم لك ذلك فيما نقلناه لك عنهم ولعله بحسب التقدير لا الحس، وفي خبر مسلم «لا يغرنكم أذان بلال ولا هذا العارض لعمود الصبح حتى يستطبر أي ينتشر ذلك العمود في نواحي الأفق» ويؤخذ من تسميته عارضا للثاني شيئان، أحدهما أنه يعرض للشعاع الناشئ عنه الصبح، الثاني انحباس قرب ظهوره كما يشعر به التنفس في قوله سبحانه: وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ [التكوير: 18] فعند ذلك الانحباس يتنفس منه شيء من شبه كوة، والمشاهد في المنحبس إذا خرج بعضه دفعة أن يكون أوله أكثر من آخره، وهذا لكون كلام الصادق قد يدل عليه ولإنبائه عن سبب طوله وإضاءة أعلاه واختلاف زمنه وانعدامه بالكلية الموافق للحس أولى مما ذكره أهل الهيئة القاصر عن كل ذلك. ثانيهما أنه صلّى الله عليه وسلّم أشار بالعارض إلى أن المقصود بالذات هو الصادق وأن الكاذب إنما قصد بطريق العرضية لينبه الناس به لقرب ذلك فينتبهوا ليدركوا فضيلة أول الوقت لاشتغالهم بالنوم الذي لولا هذه العلامة لمنعهم إدراك أول الوقت، فالحاصل أنه نور يبرزه الله تعالى من ذلك الشعاع أو يخلقه حينئذ علامة على قرب الصبح ومخالفا له في الشكل ليحصل التميز وتتضح العلامة العارضة من المعلم عليه المقصود فتأمل ذلك فإنه غريب مهم. وفي حديث عند أحمد «ليس الفجر الأبيض المستطيل في الأفق ولكن الفجر الأحمر المعترض» وفيه شاهد لما ذكر آخر. ومما يؤيد ما أشير إليه من الكوة ما أخرجه غير واحد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن للشمس ثلاثمائة كوة تطلع كل يوم من كوة فلا بدع أنها عند قربها من تلك الكوة ينحبس شعاعها ثم يتنفس كما مر. وللقرافي المالكي وغيره كالأصبحي من الشافعية فيه كلام يوضحه ويبين صحة ما ذكر من الكوات ويوافق الاستشكال لكونه يظهر ثم يغيب. وحاصله وإن كان فيه طول لمس الحاجة إليه أنه بياض يطلع قبل الفجر ثم يذهب عند أكثر الأبصار دون الراصد المجد القوي النظر. وذكر ابن بشير المالكي أنه من نور الشمس إذا قربت من الأفق فإذا ظهرت أنست به الأبصار فيظهر له أنه غاب وليس كذلك. ونقل الأصبحي أن بعضهم ذكر أنه يذهب بعد طلوعه ويعود مكانه ليلا وهو كثير من الشافعية، وإن أبا جعفر البصري بعد أن عرفه بأنه عند بقاء نحو ساعتين يطلع مستطيلا إلى نحو ربع السماء كأنه عمود وربما لم ير إذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 218 كان الجو نقيا شتاء وأبين ما يكون إذا كان الجو كدرا صيفا أعلاه دقيق وأسفله واسع ولا ينافي هذا ما تقدم من أن أعلاه أضوأ لأن ذلك عند أول الطلوع وهذا عند مزيد قربه من الصادق وتحته سواد ثم بياض ثم يظهر بياض يغشي ذلك كله ثم يعترض رده بأنه رصده نحو خمسين سنة فلم يره غاب وإنما ينحدر ليلتقي مع المعترض في السواد ويصيران فجرا واحدا. وزعم غيبته ثم عوده وهم أو رآه يختلف باختلاف الفصول فظنه يذهب، وبعض المؤقتين يقول: هو المجرة إذا كان الفجر بالسعود، ويلزمه أن لا يوجد إلا نحو شهرين في السنة قال القرافي: وقال آخرون هو شعاع يخرج من طباق بجبل قاف ثم أبطله بأن جبل قاف لا وجود له وبرهن عليه بما يرده ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من طرق خرجها الحفاظ وجماعة منهم ممن التزموا تخريج الصحيح، وقول الصحابي ذلك ونحوه مما لا مجال للرأي فيه حكمه حكم المرفوع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، منها أن وراء أرضنا بحرا محيطا ثم جبلا يقال له قاف ثم أرضا ثم بحرا ثم جبلا وهكذا حتى عد سبعا من كل، وأخرج بعض أولئك عن عبد الله بن بريدة أنه جبل من زمرد محيط بالدنيا عليه كتفا السماء، وعن مجاهد مثله، وكما اندفع بذلك قوله: لا وجود له اندفع قوله أثره: ولا يجوز اعتقاد ما لا دليل عليه لأنه إن أراد بالدليل مطلق الأمارة فهذا عليه أدلة أو الأمارة العقلية فهذا مما يكفي فيه الظن كما هو جلي، ثم نقل عن القرافي عن أهل الهيئة أنه يظهر ثم يخفى دائما، ثم استشكله وأطال في جوابه بما لا يتضح إلا لمن أتقن علمي الهندسة والمناظر فأولى منه أن يختلف باختلاف النظر لاختلافه باختلاف الفصول والكيفيات العارضة لمحله فقد يدق في بعض ذلك حتى لا يرى أصلا وحينئذ فهذا عذر من عبر بأنه يغيب ثم تعقبه ظلمة، هذا ولا يخفى أن القول بحدوث ضوء الصبح بمجرد خلق الله تعالى لا عن سبب عادي كما يشير إليه كلام الإمام أهون من القول بأنه من شعاع يخرج من طباق جبل قاف. والقول بخروج الشعاع من هذا الطباق أهون من القول بخروج الشمس التي هي على ما بين في الأجرام مائة وستة وستون مثلا للأرض مع كسر تقدم على ما هو المشهور أو ثلاثمائة وستة وعشرون مثلا لها على ما قاله غياث الدين جمشيد الكاشي في رسالته سلم السماء أو ما يقرب من ذلك على ما في بعض الروايات من كوة من جبل محيط بالأرض. والخبر في ذلك إن صح وقلنا: إن له حكم المرفوع مما ينبغي تأويله وباب التأويل أوسع من تلك الكوة فإن كثيرا من الناس قد قطعوا دائرة الأرض على مدار السرطان مرارا ولم يجدوا أثرا لهذا الجبل المحيط الشامخ. وإثبات سبعة جبال وسبعة أبحر على الوجه السابق مما لا يخفى ما فيه أيضا. وكون الله تعالى لا يعجزه شيء مما لا يشك فيه إلا ملحد لكن الكلام في وقوع ما ذكر في الخارج. والذي تميل إليه قلوب كثير من الناس في أمر الصبح ما ذكره أهل الهيئة. وقد بين أرسطوخس في الشكل الثاني من كتابه في جرم النيرين أن الكرة إذا اقتبست الضوء من كرة أعظم منها كان المضيء منها أعظم من نصفها. وقد بين أيضا في الشكل الأول من ذلك الكتاب أن كل كرتين مختلفتين أمكن أن يحيط بهما مخروط مستدير رأسه يلي أصغرهما ويكون المخروط مماسا لكل منهما على محيط دائرة، ولا شك أنه محيط بالشمس والأرض مخروط مؤلف من خطوط شعاعية رأسه يلي الأرض فيكون هذا المخروط مماسا للأرض على دائرة فاصلة بين المضيء والمظلم منها وهي دائرة صغيرة لأن الجزء المضيء من الأرض أصغر. وقد حققوا أن المستنير من الهواء كرة البخار سوى ما دخل في ظل مخروط الأرض وهي مستنيرة أبدا لكثافتها وإحاطة أشعة الشمس بها لكنها لا ترى في الليل لبعدها عن البصر وأن سهم المخروط أبدا في مقابلة جرم الشمس كما أشرنا إليه. ففي منتصف الليل يكون على دائرة نصف النهار وبعد ذلك يميل إلى جانب الغروب لحظة فلحظة إلى أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 219 يرى البياض في جانب المشرق على ما تقدم تفصيله وعلى هذا لا يلزم في الصورة التي ذكرها الإمام من مجاوزة مركز الشمس دائرة نصف الليل وطلوعها على أولئك الأقوام. واستنارة نصف العالم عندهم استنارة الربع الشرقي عندنا لاختلاف الوضع كما لا يخفى على المتأمل، والتزام القول بالكروية والمخروط ونحو ذلك مما ذكره أهل الهيئة لا بأس به، نعم اعتقاد صحة ما يقولونه مما علم خلافه من الدين بالضرورة أو علم بدليل قطعي كفر أو ضلال فتدبر. وقرىء «فالق» بالنصب على المدح. وقرأ النخعي «فلق الإصباح» وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً أي يسكن إليه من يتعب بالنهار ويستأنس به لاسترواحه فيه وكل ما يسكن إليه الرجل ويطمئن استئناسا به واسترواحا إليه من زوج أو حبيب يقال له: سكن، ومنه قيل للنار: سكن لأنه يستأنس بها ولذا سموها مؤنسة. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن المعنى يسكن فيه كل طير ودابة. وروي نحوه عن ابن عباس، ومجاهد، رضي الله تعالى عنهم، فالمراد حينئذ جعل الليل مسكونا فيه أخذا له من السكون أي الهدوء والاستقرار كما في قوله تعالى: لِتَسْكُنُوا فِيهِ [يونس: 67] وقرأ سائر السبعة إلا الكوفيين «جاعل» بالرفع. وقرىء شاذا بالنصب و «الليل» فيهما مجرور بالإضافة، ونصب سَكَناً عند كثير بفعل دل عليه هذا الوصف لا به لأنه يشترط في عمل اسم الفاعل كونه بمعنى الحال أو الاستقبال وهو هنا بمعنى الماضي كما يشهد به قراءة جَعَلَ. وجوز الكسائي وبعض الكوفيين عمله بمعنى الماضي مطلقا حملا له على الفعل الذي تضمن معناه. وبعضهم جوز عمله كذلك إذا دخلت عليه أل. وآخرون جوزوا عمله في الثاني إذا أضيف إلى الأول لشبهه بالمعروف باللام، وعلى هذا والأول لا يحتاج إلى تقدير فعل بل يكون الناصب هو الوصف، واختار بعضهم كونه الناصب أيضا لكن باعتبار أن المراد به الجعل المستمر في الأزمنة المختلفة لا الزمان الماضي فقط ولا يجري على هذا مجرى الصفة المشبهة لأن ذلك- كما قال بعض المحققين- فيما قصد به الاستمرار مشروط باشتهار الوصف بذلك الاستعمال وشيوعه فيه ونصبه في قراءتنا على أنه مفعول ثان لجعل. وجوز أن يكون جَعَلَ بمعنى أحدث المتعدي لواحد فيكون نصبا على الحال وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ معطوفان على اللَّيْلَ وعلى قراءة من جره يكون نصبهما بجعل المقدر الناصب لسكنا أو بآخر مثله، وقيل: بالعطف على محل اللَّيْلَ المجرور فإن إضافة الوصف إليه غير حقيقية إذا لم ينظر فيه إلى المضيء. وقرىء بالجر وهو ظاهر وبالرفع على الابتداء والخبر محذوف أي مجعولان حُسْباناً أي على أدوار مختلفة يحسب فيها الأوقات التي نيط بها العبادات والمعاملات أو محسوبان حسبانا. والحسبان بالضم مصدر حسب بالفتح كما أن الحسبان بالكسر مصدر حسب وهذا هو الأصل المسموع في نحو ذلك وما سواه وارد على خلاف القياس كما قيل. وعن أبي الهيثم أن حُسْباناً جمع حساب مثل ركبان وركاب وشهبان وشهاب وفي إرادته هنا بعد ذلِكَ إشارة إلى جعلهما كذلك. وقال الطبرسي: إلى ما تقدم من فلق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا، والجمهور على الأول وهو الظاهر، وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو منزلة المشار إليه وبعد منزلته أي ذلك التسيير البديع الشأن تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ أي الغالب القاهر الذي لا يتعاصاه شيء من الأشياء التي من جملتها تسييرهما على الوجه المخصوص الْعَلِيمِ المبالغ في العلم بجميع المعلومات التي من جملتها ما في ذلك التسيير من المصالح المعاشية والمعادية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 220 وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ أي أنشأ أو صير لَكُمُ أي لأجلكم النُّجُومَ قيل: المراد بها ما عدا النيرين لأنها التي بها الاهتداء الآتي ولأن النجم يخص في العرف بما عداهما. وجوز أن يدخلا فيها فيكون هذا بيانا لفائدتهما العامة إثر بيان فائدتهما الخاصة، والمنجمون يقسمون النجوم إلى ثوابت وسيارات والسيارات سبع بإجماع المتقدمين وثمان بزيادة هرشل عند المنجمين اليوم. والثوابت لا يعلم عدتها إلا الله تعالى. والمرصود منها كما قال عبد الرحمن الصوفي: ألف وخمسة وعشرون بإدخال الضفيرة. ومن أخرجها قال: هي ألف واثنان وعشرون، ورتبوا الثوابت على ست أقدار وسموها أقدارا متزايدة سدسا سدسا، وجعلوا كل قدر على ثلاث مراتب أعظم. وأوسط. وأصغر ولهم تقسيمات لها باعتبارات أخر بنوا عليها ما بنوا ولا يكاد يسلم لهم إلا ما لم يلزم منه محذور في الدين. لِتَهْتَدُوا بِها بدل من ضمير لَكُمُ بإعادة العامل بدل اشتمال كأنه قيل جعل النجوم لاهتدائكم فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أي في ظلمات الليل في البر والبحر، وإضافتها إليهما للملابسة أو في مشتبهات الطرق وسماها ظلمات على الاستعارة، وهذا افراد لبعض منافعها بالذكر حسبما يقتضيه المقام وإلا فهي أجدى من تفاريق العصا، وهي في جميع ما يترتب عليها كسائر الأسباب العادية لا تأثير لها بأنفسها ولا بأس في تعلم علم النجوم ومعرفة البروج والمنازل والأوضاع ونحو ذلك مما يتوصل به إلى مصلحة دينية. قال العلامة ابن حجر عليه الرحمة: والمنهي عنه من علم النجوم ما يدعيه أهلها من معرفة الحوادث الآتية في مستقبل الزمان كمجيء المطر ووقوع الثلج وهبوب الريح. وتغير الأسعار ونحو ذلك يزعمون أنهم يدركون ذلك بسير الكواكب لاقترانها وافتراقها، وهذا علم استأثر الله تعالى به لا يعلمه أحد غيره فمن ادعى علمه بذلك فهو فاسق بل ربما يؤدي به إلى الكفر، فأما من يقول: إن الاقتران أو الافتراق الذي هو كذا جعله الله تعالى علامة بمقتضى ما اطردت به عادته الإلهية على وقوع كذا وقد يتخلف فلا إثم عليه بذلك، وكذا الأخبار عما يدرك بطريق المشاهدة من علم النجوم الذي يعلم به الزوال وجهة القبلة وكم مضى وكم بقي من الوقت فإنه لا إثم فيه بل هو فرض كفاية، وأما ما في حديث الصحيحين عن زيد بن خالد الجهني قال: «صلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة الصبح في أثر ماء- أي مطر- كان من الليل فلما انصرف أقبل علينا فقال: أتدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم أعلم قال: أصبح من عبادي مؤمن وكافر فأما من قال: مطرنا بفضل الله تعالى فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب ومن قال: مطرنا بنوء كذا فذاك كافر بي مؤمن بالكواكب» . فقد قال العلماء: إنه محمول على ما إذا قال ذلك مريدا أن النوء هو المحدث أما لو قال ذلك على معنى أن النوء علامة على نزول المطر ومنزله هو الله تعالى وحده فلا يكفر لكن يكره له قول ذلك لأنه من ألفاظ الكفر انتهى. وأقول: قد كثرت الأخبار في النهي عن علم النجوم والنظر فيها، فقد أخرج ابن أبي شيبة وأبو داود وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد» وأخرج الخطيب عن ميمون بن مهران. قال: قلت لابن عباس رضي الله تعالى عنهما أوصني قال أوصيك بتقوى الله تعالى وإياك وعلم النجوم فإنه يدعو إلى الكهانة. وأخرج عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: نهاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن النظر في النجوم. وعن أبي هريرة، وعائشة رضي الله تعالى عنهما نحوه، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن متعلم حروف أبي جادوراء في النجوم ليس له عند الله تعالى خلاق يوم القيامة» . وأخرج هو والخطيب عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تعلموا من النجوم ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر ثم انتهوا» إلى غير ذلك من الأخبار، ولعل ما تفيده من النهي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 221 عن التعلم من باب سد الذرائع لأن ذلك العلم ربما يجر إلى محظور شرعا كما يشير إليه خبر ابن مهران. وكذا النهي عن النظر فيها محمول على النظر الذي كان تفعله الكهنة الزاعمون تأثير الكواكب بأنفسها والحاكمون بقطعية ما تدل عليه بتثليثها وتربيعها واقترانها ومقابلتها مثلا من الأحكام بحيث لا تتخلف قطعا على أن الوقوف على جميع ما أودع الله تعالى في كل كوكب مما يمتنع لغير علام الغيوب. والوقوف على البعض أو الكل في البعض لا يجدي نفعا ولا يفيد إلا ظنا المتمسك به كالمتمسك بحبال القمر والقابض عليه كالقابض على شعاع الشمس. نعم إن بعض الحوادث في عالم الكون والفساد قد جرت عادة الله تعالى بإحداثه في الغالب عند طلوع كوكب أو غروبه. أو مقارنته لكوكب آخر وفيما يشاهد عند غيبوبة الثريا وطلوعها وطلوع سهيل شاهد لما ذكرنا. ولا يبعد أن يكون ذلك من الأسباب العادية وهي قد تتخلف مسبباتها عنها سواء قلنا: إن التأثير عندها كما هو المشهور عن الأشاعرة أم قلنا: إنها المؤثرة بإذن الله تعالى كما هو المنصور عند السلف، ويشير إليه كلام حجة الإسلام الغزالي في العلة. فمتى أخبر المجرب عن شيء من ذلك على هذا الوجه لم يكن عليه بأس. وما أخرجه الخطيب عن عكرمة أنه سأل رجلا عن حساب النجوم وجعل الرجل يتحرج أن يخبره فقال عكرمة: سمعت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول: علم عجز الناس عنه وددت أني علمته. وما أخرجه الزبير بن بكار عن عبد الله بن حفص قال: خصت العرب بخصال بالكهانة، والقيافة، والعياقة، والنجوم، والحساب فهدم الإسلام الكهانة وثبت الباقي بعد ذلك، وقول الحسن بن صالح: سمعت عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في النجوم: ذلك علم ضيعه الناس فلعل ذلك إن صح محمول على نحو ما قلنا. وبعد هذا كله أقول: هو علم لا ينفع والجهل به لا يضر فما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ أي بينا الآيات المتلوة المذكورة لنعمه سبحانه التي هذه النعمة من جملتها أو الآيات التكوينية الدالة على شؤونه تعالى فصلا فصلا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ معاني الآيات المذكورة فيعملون بموجبها أو يتفكرون في الآيات التكوينية فيعلمون حقيقة الحال، وتخصيص التفصيل بهم مع عمومه للكل لأنهم المنتفعون به. وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ أي آدم عليه السلام وهو تذكير لنعمة أخرى فإن رجوع الكثرة إلى أصل واحد أقرب إلى التواد والتعاطف. وفيه أيضا دلالة على عظيم قدرته سبحانه وتعالى فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ أي فلكم استقرار في الأصلاب أو فوق الأرض واستيداع في الأرحام أو في القبر أو موضع استقرار واستيداع فيما ذكر، وجعل الصلب مقر النطفة والرحم مستودعها لأنها تحصل في الصلب لا من قبل شخص آخر وفي الرحم من قبل الأب فأشبهت الوديعة كأن الرجل أودعها ما كان عنده، وجعل وجه الأرض مستقرا وبطنها مستودعا لتوطنهم في الأول واتخاذهم المنازل والبيوت فيه وعدم شيء من ذلك في الثاني، وقيل: التعبير عن كونهم في الأصلاب أو فوق الأرض بالاستقرار لأنهما مقرهم الطبيعي كما أن التعبير عن كونهم في الأرحام أو في القبر بالاستيداع لما أن كلّا منهما ليس بمقرهم الطبيعي. وأخرج جماعة منهم الحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المستقر الرحم والمستودع الأصلاب، وجاء في رواية أن حبر تيماء كتب إليه يسأله رضي الله تعالى عنه عن ذلك فأجابه بما ذكر. ويؤيد تفسير المستقر بالرحم قوله تعالى: وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ [الحج: 5] وأما تفسير المستودع بالأصلاب فقال شيخ الإسلام: إنه ليس بواضح وليس كما قال، فقد ذكر الإمام بعد أن فرق بين المستقر والمستودع بأن المستقر أقرب إلى الثبات من المستودع، ومما يدل على قوة هذا القول يعني المروي- عن ابن عباس رضي الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 222 تعالى عنهما- أن النطفة الواحدة لا تبقى في صلب الأب زمانا طويلا والجنين يبقى زمانا طويلا، ولما كان المكث في الرحم أكثر مما في صلب الأب كان حمل الاستقرار على المكث في الرحم أولى. ويلزم ذلك أن حمل الاستيداع على المكث في الصلب أولى. وأنا أقول: لعل حمل المستودع على الصلب باعتبار أن الله تعالى بعد أن أخرج من بني آدم عليه السلام من ظهورهم ذريتهم يوم الميثاق وأشهدهم على أنفسهم وكان ما كان ردهم إلى ما أخرجهم منه فكأنهم وديعة هناك تخرج حين يشاء الله تعالى ذلك، وقد أطلق ابن عباس رضي الله تعالى عنهما اسم الوديعة على ما في الصلب صريحا. فقد أخرج عبد الرزاق عن سعيد بن جبير قال: قال لي ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أتزوجت؟ قلت: لا وما ذلك في نفسي اليوم قال: إن كان في صلبك وديعة فستخرج. وروي تفسير المستودع بالدنيا والمستقر بالقبر عن الحسن وكان يقول: يا ابن آدم أنت وديعة في أهلك ويوشك أن تلحق بصاحبك وينشد قول لبيد: وما المال والأهلون إلا وديعة ... ولا بد يوما أن ترد الودائع وقال سليمان بن زيد العدوي في هذا المعنى: فجع الأحبة بالأحبة قبلنا ... فالناس مفجوع به ومفجع مستودع أو مستقر مدخلا ... فالمستقر يزوره المستودع وعن أبي مسلم الأصفهاني أن المستقر الذكر لأن النطفة إنما تتولد في صلبه والمستودع الأنثى لأن رحمها شبيه بالمستودع لتلك النطفة فكأنه قيل: وهو الذي خلقكم من نفس واحدة فمنكم ذكر ومنكم أنثى. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «فمستقر» بكسر القاف وهو حينئذ اسم فاعل بمعنى قار ومستودع اسم مفعول والمراد فمنكم مستقر ومنكم مستودع. ووجه كون الأول معلوما والثاني مجهولا أن الاستقرار هنا بخلاف الاستيداع والمتعاطفان على القراءة الأولى مصدران أو اسما مكان ولا يجوز أن يكون الأول اسم مفعول لأن استقر لا يتعدى وكذا الثاني ليكون كالأول قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ المبينة لتفاصيل خلق البشر ومن جملتها هذه الآية لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ معاني ذلك، قيل: ذكر مع ذكر النجوم يَعْلَمُونَ ومع ذكر إنشاء بني آدم يَفْقَهُونَ لأن الإنشاء من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوالهم المختلفة ألطف وأدق صنعة وتدبيرا فكان ذكر الفقه الذي هو استعمال فطنة وتدقيق نظر مطابقا له، وهو مبني على أن الفقه أبلغ من العلم، وقيل: هما بمعنى إلا أنه لما أريد فصل كل آية بفاصلة تنبيها على استقلال كل منهما بالمقصود من الحجة وكره الفصل بفاصلتين متساويتين لفظا للتكرار عدل إلى فاصلة مخالفة تحسينا للنظم وافتنانا في البلاغة. وذكر ابن المنير وجها آخر في تخصيص الأولى بالعلم والثانية بالفقه وهو أنه لما كان المقصود التعريض بمن لا يتدبر آيات الله تعالى ولا يعتبر بمخلوقاته. وكانت الآيات المذكورة أولا خارجة عن أنفس النظار إذ النجوم والنظر فيها وعلم الحكمة الإلهية في تدبيره لها أمر خارج عن نفس الناظر ولا كذلك النظر في إنشائهم من نفس واحدة وتقليبهم في أطوار مختلفة وأحوال متغايرة فإنه نظر لا يعدو نفس الناظر ولا يتجاوزها فإذا تمهد هذا فجهل الإنسان بنفسه وأحواله وعدم النظر والتفكر فيها أبشع من جهله بالأمور الخارجة عنه كالنجوم والأفلاك ومقادير سيرها وتقلبها، فلما كان الفقه أدنى درجات العلم إذ هو عبارة عن الفهم نفي بطريق التعريض عن أبشع القبيلتين جهلا وهم الذين لا يتبصرون في أنفسهم ونفي الأدنى أبشع من نفي الأعلى فخص به أسوأ الفريقين حالا. ويَفْقَهُونَ هاهنا مضارع فقه الشيء بكسر القاف إذا فهمه ولو أدنى فهم، وليس من فقه بالضم لأن تلك درجة عالية ومعناه صار فقيها. ثم ذكر أنه إذا قيل: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 223 فلان لا يفقه شيئا كان أذم في العرف من قولك: فلان لا يعلم شيئا وكان معنى قولك: لا يفقه شيئا ليست له أهلية الفهم وإن فهم، وأما قولك: لا يعلم شيئا فغايته عدم حصول العلم له وقد يكون له أهلية الفهم والعلم لو تعلم. واستدل على أن التارك للتفكر في نفسه أجهل وأسوأ حالا من التارك للفكرة في غيره بقوله سبحانه: وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 20، 21] فخص التبصر في النفس بعد اندراجها فيما في الأرض من الآيات وأنكر على من لا يتبصر في نفسه إنكارا مستأنفا والله تعالى أعلم بأسرار كلامه. وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً تذكير لنعمة أخرى من نعمه سبحانه الجليلة المنبئة عن كمال قدرته عز وجل وسعة رحمته، والمراد من الماء المطر ومن السماء السحاب أو الكلام على تقدير مضاف أي من جانب السماء. وقيل: الكلام على ظاهره والإنزال من السماء حقيقة إلى السحاب ومنه إلى الأرض واختاره الجبائي، واحتج على فساد قول من يقول: إن البخارات الكثيرة تجتمع في باطن الأرض ثم تصعد وترتفع إلى الهواء وينعقد السحاب منها ويتقاطر ماء وذلك هو المطر المنزل بوجوه. أحدها أن البرد قد يوجد في وقت الحر بل في حميم الصيف ونجد المطر في أبرد وقت ينزل غير جامد. وذلك يبطل ما ذكر. ثانيها أن البخارات إذا ارتفعت وتصاعدت تفرقت وإذا تفرقت لم يتولد منها قطرات الماء بل البخار إنما يجتمع إذا اتصل بسقف أملس كما في بعض الحمامات أما إذا لم يكن كذلك لم يسل منه ماء كثير فإذا تصاعدت البخارات في الهواء وليس فوقها سطح أملس تتصل به وجب أن لا يحصل منها شيء من الماء. ثالثها أنه لو كان تولد المطر من صعود البخارات فهي دائمة الارتفاع من البحار فوجب أن يدوم هناك نزول المطر وحيث لم يكن كذلك علمنا فساد ذلك القول. ثم قال: والقوام إنما احتاجوا إلى هذا القول لأنهم اعتقدوا أن الأجسام قديمة فيمتنع دخول الزيادة والنقصان فيها. وحينئذ لا معنى لحدوث الحوادث إلا اتصاف تلك الذوات بصفة بعد أن كانت موصوفة بصفة أخرى. ولهذا السبب احتاجوا في تكوين كل شيء عن مادة معينة. وأما المسلمون فلما اعتقدوا أن الأجسام محدثة وأن خالق العالم فاعل مختار قادر على خلق الأجسام كيف شاء وأراد فعند هذا لا حاجة إلى استخراج هذه التكلفات وحيث دل ظاهر القرآن على أن الماء إنما ينزل من السماء ولا دليل على امتناع هذا الظاهر وجب القول بحمله عليه انتهى. ولا يخفى على من راجع كتب القوم أنهم أجابوا عن جميع تلك الوجوه. وأن الذي دعاهم إلى القول بذلك ليس مجرد ما ذكر بل القول بامتناع الخرق والالتئام أيضا ووجود كرة النار تحت السماء وانقطاع عالم العناصر عندها ومشاهدة من على جبل شامخ سحابا يمطر مع عدم مشاهدة ماء نازل من السماء إليه إلى غير ذلك. وهذا وإن كان بعضه مما قام الدليل الشرعي على بطلانه وبعضه مما لم يقم الدليل عليه ولم يشهد بصحته الشرع لكن مشاهدة من على الجبل ما ذكر ونحوها يستدعي صحة قولهم في الجملة ولا أرى فيه بأسا، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ما من قطرة تنزل إلا ومعها ملك، وهو عند الكثير محمول على ظاهره. والفلاسفة يحملون هذا الملك على الطبيعة الحالة في تلك الجسمية الموجبة لذلك النزول، وقيل: هو نور مجرد عن المادة قائم بنفسه مدبر للقطر حافظ إياه، ويثبت أفلاطون هذا النور المجرد لكل نوع من الأفلاك والكواكب والبسائط العنصرية ومركباتها على ما ذهب إليه صاحب الإشراق وهو أحد الأقوال في المثل الأفلاطونية، ويشير إلى نحو ذلك كلام الشيخ صدر الدين القونوي في تفسير الفاتحة، ونصب ماءً على المفعولية لأنزل، وتقديم المفعول غير الصريح عليه لما مر مرارا فَأَخْرَجْنا بِهِ أي بسبب الماء، والفاء للتعقيب وتعقيب كل شيء بحسبه. وأُخْرِجْنا عطف على أَنْزَلَ والالتفات إلى التكلم إظهارا لكمال العناية بشأن ما أنزل الماء لأجله، وذكر بعضهم نكتة خاصة لهذا الالتفات غير ما ذكر وهي أنه سبحانه لما ذكر فيما مضى ما ينبهك على أنه الخالق اقتضى ذلك التوجه إليه حتى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 224 يخاطب واختيار ضمير العظمة دون ضمير المتكلم وحده لإظهار كمال العناية أي فأخرجنا بعظمتنا بذلك الماء مع وحدته نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ أي كل صنف من أصناف النبات المختلفة في الكم، والكيف، والخواص، والآثار. اختلافا متفاوتا في مراتب الزيادة والنقصان حسبما يفصح عنه قوله سبحانه: يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ [الرعد: 4] والنبات كالنبت وهو- على ما قال الراغب- ما يخرج من الأرض من الناميات سواء كان له ساق كالشجر أو لم يكن له ساق كالنجم لكن اختص في التعارف بما لا ساق له بل قد اختص عند العامة بما تأكله الحيوانات، ومتى اعتبرت الحقائق فإنه يستعمل في كل نام نباتا كان أو حيوانا أو إنسانا. والمراد هنا عند بعض المعنى الأول. وجعل قوله تعالى: فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً شروعا في تفصيل ما أجمل من الإخراج وقد بدأ بتفصيل حال النجم وضمير مِنْهُ للنبات. والخضر بمعنى الأخضر كأعور وعور، وأكثر ما يستعمل الخضر فيما تكون خضرته خلقية، وأصل الخضرة لون بين البياض والسواد وهو إلى السواد أقرب ولذا يسمى الأخضر أسود وبالعكس، والمعنى فأخرجنا من النبات الذي لا ساق له شيئا غضا أخضر وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة. وجوز عود الضمير إلى الماء ومن سببية، وجعل أبو البقاء هذا الكلام حينئذ بدلا من فَأَخْرَجْنا الأول، وذكر بعض المحققين أن في الآية على تقدير عود الضمير إلى الماء معنى بديعا حيث تضمنت الإشارة إلى أنه تعالى أخرج من الماء الحلو الأبيض في رأي العين أصنافا من النبات والثمار مختلفة الطعوم والألوان وإلى ذلك نظر القائل يصف المطر: يمد على الآفاق بيض خيوطه ... فينسج منها للثرى حلة خضرا وقوله تعالى: نُخْرِجُ مِنْهُ صفة لخضر، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة بما فيها من الغرابة، وجوز أن يكون مستأنفا أي نخرج من ذلك الخضر حَبًّا مُتَراكِباً أي بعضه فوق بعض كما في السنبل وقرىء «يخرج منه حب متراكب» وَمِنَ النَّخْلِ (1) جمع نخل- كما قال الراغب- والنخل معروف ويستعمل في الواحد والجمع، وهذا شروع في تفصيل حال الشجر إثر بيان حال النجم عند البعض، فالجار والمجرور خبر مقدم وقوله سبحانه: مِنْ طَلْعِها بدل منه بدل بعض من كل بإعادة العامل. وقوله سبحانه: قِنْوانٌ مبتدأ وحاصله من طلع النخيل قنوان، وجوز أن يكون الخبر محذوفا لدلالة أخرجنا عليه وهو كون خاص وبه يتعلق الجار. والتقدير ومخرجه من طلع النخل قنوان. وعلى القراءة السابقة آنفا يكون قِنْوانٌ معطوفا على حب. وقيل: المعنى وأخرجنا من النخل نخلا من طلعها قنوان ومن النخل شيئا من طلعها قنوان، وهو جمع قنو بمعنى العذق وهو للتمر بمنزلة العنقود للعنب. وتثنيته أيضا قنوان ولا يفرق بين المثنى والجمع إلا الإعراب، ولم يأت مفرد يستوي مثناه وجمعه إلا ثلاثة أسماء هذا وصنو وصنوان. ورئد ورئدان بمعنى مثل قاله ابن خالويه. وحكى سيبويه شقد، وشقدان، وحش، وحشان للبستان نقله الجلال السيوطي في المزهر. وقرىء بضم القاف وبفتحها على أنه اسم جمع لأن فعلان ليس من زنات التكسير دانِيَةٌ أي قريبة من المتناول كما قال الزجاج. واقتصر على ذكرها عن مقابلها لدلالتها عليه وزيادة النعمة فيها وقيل: المراد دانية من الأرض بكثرة ثمرها وثقل حملها والدنو القولين حقيقة، ويحتمل أن يراد به سهولة الوصول إلى ثمارها مجازا. وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ عطف على نبات كل شيء أي وأخرجنا به جنات كائنة من أعناب، وجعله الواحدي عطفا على خَضِراً. وقال الطيبي: الأظهر أن يكون عطفا على «حبا» لأن قوله سبحانه: نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ   (1) أصل المصنف ومن النخيل كذا بخطه لذلك قال بعده جمع نخل والتلاوة كما في المصحف العثماني ومن النخل تنبه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 225 مفصل لاشتماله على كل صنف من أصناف النامي، والنامي الحب والنوى وشبههما. وقوله سبحانه: فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً إلخ تفصيل لذلك النبات، وهو بدل من فَأَخْرَجْنا الأول بدل اشتمال، وقيل: وهذا مبني على أن المراد بالنبات المعنى العام وحينئذ لا يحسن عطفه عليه لأنه داخل فيه وإن أريد ما لا ساق له تعين عطفه عليه لأنه غير داخل فيه وتعين أن يقدر لقوله سبحانه: وَمِنَ النَّخْلِ فعل آخر كما أشير إليه فتدبر. وقرأ أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه، وابن مسعود، والأعمش، ويحيى بن يعمر، وأبو بكر عن عاصم «وجنات» بالرفع على الابتداء أي ولكم أو ثم جنات أو نحو ذلك، وجوز الزمخشري أن يكون على العطف على قِنْوانٌ قال في التقريب: وفيه نظر لأنه إن عطف- على ذلك فمن أعناب- حينئذ إما صفة جَنَّاتٍ فيفسد المعنى إذ يصير المعنى وحاصلة من النخيل جنات حصلت من أعناب، وإما خبر لجنات فلا يصح لأنه يكون عطفا لها على مفرد ويكون المبتدأ نكرة فلا يصح، وفي الكشف أن الثاني بعيد الفهم من لفظ الزمخشري وإن أمكن الجواب بأن العطف على المخصص مخصص كما قال ابن مالك، واستشهد عليه بقوله: عندي اصطبار وشكوى عند قاتلتي ... فهل بأعجب من هذا امرؤ سمعا والظاهر الأول لكنه عطف جملة على جملة. ويقدر ومخرجة من الخضر أو من الكرم أو حاصلة جنات من أعناب دون صلته لأن التقييد لازم كما حقق في عطف المفرد وحده، ولا يخفى أن هذا تكلف مستغنى عنه، ولعل زيادة الجنات هنا- كما قيل- من غير اكتفاء بذكر اسم الجنس كما فيما تقدم وما تأخر لما أن الانتفاع بهذا الجنس لا يتأتى غالبا إلا عند اجتماع طائفة من أفراده وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ نصب على الاختصاص لعزة هذين الصنفين عندهم أو على العطف على نَباتَ. وقوله سبحانه: مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ إما حال من الزَّيْتُونَ لسبقه اكتفى به عن حال ما عطف عليه والتقدير والزيتون مشتبها وغير متشابه والرمان كذلك، وإما حال من الرُّمَّانَ لقربه ويقدر مثله في الأول. وأيّا ما كان ففي الكلام مضاف مقدر وهو بعض أي بعض ذلك مشتبها وبعضه غير متشابه في الهيئة والمقدار واللون والطعم وغير ذلك من الأوصاف الدالة على كمال قدرة صانعها وحكمة منشئها ومبدعها جل شأنه وإلا كان المعنى جميعه مشتبه وجميعه غير متشابه وهو غير صحيح. ومن الناس من جوز كونه حالا منهما مع التزام التأويل. وافتعل وتفاعل هنا بمعنى كاستوى وتساوى. وقرىء متشابها وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا نظر اعتبار واستبصار إِلى ثَمَرِهِ أي ثمر ذلك أي الزيتون والرمان والمراد شجرتهما وأريد بهما فيما سبق الثمرة ففي الكلام استخدام. وعن الفراء أن المراد في الأول شجر الزيتون وشجر الرمان وحينئذ لا استخدام، وأيّا ما كان فالضمير راجع إليهما بتأويله باسم الإشارة. ورجوعه إلى كل واحد منهما على سبيل البدل بعيد لا نظير له في عدم تعيين مرجع الضمير. وجوز رجوع الضمير إلى جميع ما تقدم بالتأويل المذكور ليشمل النخل وغيره مما يثمر إِذا أَثْمَرَ أي إذا أخرج ثمره كيف يخرجه ضئيلا لا يكاد ينتفع به. وقرأ حمزة والكسائي «ثمره» بضم الثاء وهو جمع ثمرة كخشبة وخشب أو ثمار ككتاب وكتب وَيَنْعِهِ أي وإلى حال نضجه أو إلى نضيجه كيف يعود ضخما ذا نفع عظيم ولذة كاملة. وهو في الأصل مصدر ينعت الثمرة إذا أدركت، وقيل: جمع يانع كتاجر وتجر. وقرىء بالضم وهي لغة فيه. وقرأ ابن محيصن «ويانعه» ، ولا يخفى أن في التقييد بقوله تعالى: إِذا أَثْمَرَ على ما أشرنا إليه إشعارا بأن المثمر حينئذ ضعيف غير منتفع به فيقابل حال الينع. ويدل كمال التفاوت على كمال القدرة. وعن الزمخشري أنه قال فإن قلت هلا قيل: إلى غض ثمره وينعه؟ قلت: في هذا الأسلوب فائدة وهي أن الينع وقع فيه معطوفا على الثمر على سنن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 226 الاختصاص نحو قوله سبحانه: وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة: 98] للدلالة على أن الينع أولى من الغض وله وجه وجيه وإن خفي على بعض الناظرين. إِنَّ فِي ذلِكُمْ إشارة إلى ما أمروا بالنظر إليه. وما في اسم الإشارة من معنى البعد لما مر غير مرة لَآياتٍ عظيمة أو كثيرة دالة على وجود القادر الحكيم ووحدته لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي يطلبون الإيمان بالله تعالى- كما قال القاضي- أو مؤمنون بالفعل، وتخصيصهم بالذكر لأنهم الذين انتفعوا بذلك دون غيرهم- كما قيل- ووجه دلالة ما ذكر على وجود القادر الحكيم ووحدته أن حدوث هاتيك الأجناس المختلفة والأنواع المتشعبة من أصل واحد وانتقالها من حال إلى حال على نمط بديع لا بد أن يكون بإحداث صانع يعلم تفاصيلها ويرجح ما تقتضيه حكمته من الوجوه الممكنة على غيره ولا يعوقه ضد يعانده أو ند يعارضه، ثم إنه سبحانه بعد أن ذكر هذه النعم الجليلة الدالة على توحيده وبخ من أشرك به سبحانه ورد عليه بقوله عز شأنه: وَجَعَلُوا في اعتقادهم لِلَّهِ الذي شأنه ما فصل في تضاعيف هذه الآيات شُرَكاءَ في الألوهية أو الربوبية الْجِنَّ أي الملائكة حيث عبدوهم وقالوا: إنهم بنات الله سبحانه وتسميتهم جنا مجاز لاجتنانهم واستتارهم عن الأعين كالجن. وفي التعبير عنهم بذلك حط لشأنهم بالنسبة إلى مقام الإلهية. وروي هذا عن قتادة، والسدي، ويفهم من كلام بعضهم أن الجن تشمل الملائكة حقيقة. وقيل: المراد بهم الشياطين وروي عن الحسن ومعنى جعلهم شركاء أنهم أطاعوهم كما يطاع الله تعالى أو عبدوا الأوثان بتسويلهم وتحريضهم. ويروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الآية نزلت في الزنادقة الذين قالوا: إن الله تعالى خالق الناس، والدواب، والأنعام، والحيوان، وإبليس خالق السباع، والحيات، والعقارب والشرور. فالمراد من الجن إبليس وأتباعه الذين يفعلون الشرور ويلقون الوساوس الخبيثة إلى الأرواح البشرية، وهؤلاء المجوس القائلون بالنور والظلمة ولهم في هذا الباب أقوال تمجها الأسماع وتشمئز عنها النفوس. وادعى الإمام أن هذا أحسن الوجوه المذكورة في الآية، ومفعولا- جعل- قيل: لله، وشركاء، والْجِنَّ إما منصوب بمحذوف وقع جوابا عن سؤال كأنه قيل: من جعلوه شركاء؟ فقيل: الجن، أو منصوب على البدلية من شُرَكاءَ والمبدل منه ليس في حكم الساقط بالكلية وتقديم المفعول الثاني لأنه محز الإنكار ولأن المفعول الأول منكر يستحق التأخير. وقيل: هما شُرَكاءَ والْجِنَّ، وتقديم ثانيهما على الأول لاستعظام أن يتخذ لله سبحانه شريك ما كائنا ما كان، ولِلَّهِ متعلق بشركاء وتقديمه عليه للنكتة المذكورة أيضا على ما اختاره الزمخشري. وقرىء «الجن» بالرفع كأنه قيل: من هم؟ فقيل: الجن وبالجر على الإضافة التي هي للتبيين: وَخَلَقَهُمْ حال من فاعل جَعَلُوا بتقدير قد أو بدونه على اختلاف الرأيين مؤكدة لما في جعلهم ذلك من الشناعة والبطلان باعتبار علمهم بمضمونها أي وقد علموا أن الله تعالى خالقهم خاصة، وقيل: الضمير للجن أي والحال أنه تعالى خلق الجن فكيف يجعلون مخلوقه شريكا له. ورجح الأول بخلوه عن تشتت الضمائر ورجح الإمام الثاني بأن عود الضمير إلى أقرب المذكورات واجب، وبأنه إذا رجع الضمير إلى هذا الأقرب صار اللفظ الواحد دليلا قاطعا تاما كاملا في إبطال المذهب الباطل. وقرأ يحيى بن يعمر «وخلقهم» على صيغة المصدر عطفا على الْجِنَّ أي وما يخلقونه من الأصنام أو على شُرَكاءَ أي وجعلوا له اختلاقهم للقبائح حيث نسبوها إليه سبحانه وقالوا: الله أمرنا بها وَخَرَقُوا لَهُ أي افتعلوا وافتروا له سبحانه، قال الفراء: يقال: خلق الإفك واختلقه وخرقه واخترقه بمعنى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 227 ونقل عن الحسن أنه سئل عن ذلك فقال: كلمة عربية كانت العرب تقولها كان الرجل إذا كذب كذبة في نادي القوم يقول له بعضهم: قد خرقها والله. وقال الراغب: أصل الخرق قطع الشيء على سبيل الفساد من غير تفكر ولا تدبر. ومنه قوله تعالى: أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها [الكهف: 71] وهو ضد الخلق فإنه فعل الشيء بتقدير ورفق والخرق بغير تقدير قال تعالى: وَخَرَقُوا لَهُ أي حكموا بذلك على سبيل الخرق وباعتبار القطع. وقرأ نافع «وخرّقوا» بتشديد الراء للتكثير. وقرأ ابن عمر وابن عباس رضي الله تعالى عنهم «وحرفوا» من التحريف أي وزوروا له بَنِينَ وَبَناتٍ فقالت اليهود. عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقالت العرب: الملائكة بنات الله والله سبحانه منزه عما قالو بِغَيْرِ عِلْمٍ بحقيقته من خطأ أو صواب ولا فكر ولا روية فيه بل قالوه عن عمى وجهالة أو بغير علم بمرتبة ما قالوه وأنه من الشناعة بالمحل البعيد. وأيّا ما كان فالجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من الواو أو نعت لمصدر مؤكد أي خرقوا ملتبسين بغير علم أو خرقا كائنا بغير علم والمقصود على الوجهين ذمهم بالجهل، وقيل: إن ذلك كناية عن نفي ما قالوا فإن ما لا أصل له لا يكون معلوما ولا يقام عليه دليل، ولا حاجة إليه إذ نفيه معلوم من جعله اختلاقا وافتراء ومن قوله عز وجل: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ من أن له جل شأنه شريكا أو ولدا، وقد تقدم الكلام في سبحانه وما يفيده من المبالغة في التنزيه، وتَعالى عطف على الفعل المضمر الناصب لسبحان. وفرق الإمام بين التسبيح والتعالي بأن الأول راجع إلى أقوال المسبحين والثاني إلى صفاته تعالى الذاتية التي حصلت لذاته سبحانه لا لغيره والمراد بالبنين فيما تقدم ما فوق الواحد أو أن من يجوز الواحد يجوز الجمع. بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي مبدعهما وموجدهما بغير آلة ولا مادة ولا زمان ولا مكان قاله الراغب، وهو كما يطلق على المبدع يطلق على المبدع اسم مفعول، ومنه قيل: ركي بديع وكذلك البدع بكسر الباء يقال لهما. وقيل: هو من إضافة الصفة المشبهة إلى الفاعل للتخفيف بعد نصبه تشبيها لها باسم الفاعل كما هو المشهور أي بديع سماواته وأرضه من بدع إذا كان على نمط عجيب وشكل فائق وحسن رائق أو إلى الظرف كما في قولهم فلان ثبت الغدر أي ثبت في الغدر وهو بغين معجمة ودال وراء مهملتين المكان ذو الحجارة والشقوق ويقولون ذلك إذا كان الرجل ثبتا في قتال أو كلام. والمراد من بديع في السماوات والأرض أنه سبحانه عديم النظير فيهما. ومعنى ذلك- على ما قال بعض المحققين- أن إبداعه لهما لا نظير له لأنهما أعظم المخلوقات الظاهرة فلا يرد أنه لا يلزم من نفي النظير فيهما نفيه مطلقا، ولا حاجة إلى تكلف أنه خارج مخرج الرد على المشركين بحسب زعمهم أنه لا موجود خارج عنهما. واختار غير واحد التفسير الأول، والمعنى عليه أنه تعالى مبدع لقطري العالم العلوي والسفلي بلا مادة فاعل على الإطلاق منزه عن الانفعال بالكلية، والوالد عنصر الولد منفعل بانتقال مادته عنه فكيف يمكن أن يكون له ولد؟. وقرىء «بديع» بالنصب على المدح والجر على أنه بدل من الاسم الجليل أو من الضمير المجرور في سُبْحانَهُ على رأي من يجوزه، وارتفاعه على القراءة المشهورة على ثلاثة أوجه- كما قال أبو البقاء-، الأول أنه خبر مبتدأ محذوف، الثاني أنه فاعل، تَعالى وإظهاره في موضع الإضمار لتعليل الحكم، وتوسيط الظرف بينه وبين الفعل للاهتمام ببيانه، والثالث أنه مبتدأ خبره قوله سبحانه: أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وهو على الأولين جملة مستقلة مسوقة كما قبلها لبيان استحالة ما نسبوه إليه تعالى وتقرير تنزيهه عنه جل شأنه. وقوله تعالى: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ حال مؤكدة للاستحالة المذكورة ضرورة أن الولد لا يكون بلا والده أصلا وإن أمكن وجوده بلا والد أي من أين أو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 228 كيف يكون له ولد والحال أنه ليس له صاحبة يكون الولد منها. وقرأ إبراهيم النخعي «لم يكن» بتذكير الفعل وجاز ذلك مع أن المرفوع مؤنث للفصل كما في قوله: لقد ولد الأخيطل أم سوء ... على قمع استها صلب وشام قال ابن جني: تؤنث الأفعال لتأنيث فاعلها لأنهما يجريان مجرى كلمة واحدة لعدم استغناء كل عن صاحبه فإذا فصل جاز تذكيره وهو في باب كان أسهل لأنك لو حذفتها استقل ما بعدها. قيل: إن اسم «يكن» ضميره تعالى. والخبر هو الظرف وصاحِبَةٌ مرتفع به على الفاعلية لاعتماده على المبتدأ والظرف خبره مقدم وصاحِبَةٌ مبتدأ والجملة خبر يَكُونُ وعلى هذا يجوز أن يكون الاسم ضمير الشأن لصلاحية الجملة حينئذ لأن تكون مفسرة للضمير لا على الأول لأنه كما بين في موضعه لا يفسر إلا بجملة صريحة، والاعتراض بأنه إذا كان العمدة في المفسرة مؤنثا فالمقدر ضمير القصة لا الشأن فيعود السؤال ليس بوارد كعدم اللزوم وإن توهمه بعضهم. وقوله تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ استئناف لتحقيق ما ذكر من الاستحالة أو حال أخرى مقررة لها أي أن يكون له ولد والحال أنه خلق كل شيء من الموجودات التي من جملتها ما سموه ولدا فكيف يتصور أن يكون المخلوق ولدا لخالقه. ويفهم من التفسير الكبير أن من زعم أن لله تعالى شأنه ولدا إن أراد أنه سبحانه أحدثه على سبيل الإبداع من غير تقدم نطفة مثلا رد بأن خلقه للسماوات والأرض كذلك فيلزم كونهما ولدا له تعالى وهو باطل بالاتفاق، وإن أراد ما هو المعروف من الولادة في الحيوانات رد أولا بأنه لا صاحبة له وهي أمر لازم في المعروف. وثانيا بأن تحصيل الولد بذلك الطريق إنما يصح في حق من لا يكون قادرا على الخلق والإيجاد والتكوين دفعة واحدة أما من كان خالقا لكل الممكنات وكان قادرا على كل المحدثات فإذا أراد شيئا قال له كن فيكون فيمتنع منه إحداث شخص بطريق الولادة. وإن أراد مفهوما ثالثا فهو غير متصور وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ من شأنه أن يعلم كائنا ما كان مخلوقا أو غير مخلوق كما ينبىء عنه ترك الإضمار إلى الإظهار عَلِيمٌ مبالغ في العلم أزلا وأبدا حسبما يعرب عنه العدول إلى الجملة الاسمية، وحينئذ فلا يخلو إما أن يكون الولد قديما أو محدثا لا جائز أن يكون قديما لأن القديم يجب كونه واجب الوجود لذاته وما كان كذلك كان غنيا عن غيره فامتنع كونه ولدا للغير فتعين كونه حادثا، ولا شك أنه تعالى عالم بكل شيء فأما أن يعلم أن له في تحصيل الولد كمالا أو نفعا أو يعلم أنه ليس كذلك، فإن كان الأول فلا وقت يفرض إلا والداعي إلى إيجاد هذا الولد كان حاصلا قبله وهو يوجب كونه أزليا وهو محال وإن كان الثاني وجب أن لا يحدث البتة في وقت من الأوقات. وقرر الإمام عليه الرحمة الرد بهذه الجملة بوجه آخر أيضا، وبعضهم جعل هذه الجملة مع ما قبلها متضمنة لوجه واحد من أوجه الرد، والجملة إما حالية أو مستأنفة، واقتصر بعضهم على الثاني فقال: إنها استئناف مقرر لمضمون ما قبلها من الدلائل القاطعة ببطلان مقالتهم الشنعاء التي اجترءوا عليها بغير علم. والظاهر من هذا أن ما في الآية أدلة قطعية على بطلان ما زعمه المختلفون، وكلام الإمام حيث قال بعد تقرير الوجوه: لو أن الأولين والآخرين اجتمعوا على أن يذكروا في هذه المسألة كلاما يساويه أي ما دلت عليه الآية في القوة والكمال لعجزوا عنه. وادعى الشهاب أن ما يفهم من ذلك أدلة إقناعية، ولعل الأولى القول بأن البعض قطعي والبعض الآخر إقناعي فتدبر ذلِكُمُ إشارة إلى المنعوت بما ذكر من جلائل النعوت، وما فيه من معنى البعد لما مر مرارا. والخطاب للمشركين المعهودين بطريق الالتفات. وذهب الطبرسي أنه لجميع الناس، وهو مبتدأ وقوله سبحانه: اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ أخبار أربعة مترادفة أي ذلك الموصوف بتلك الصفات العظيمة الشأن هو الله المستحق للعبادة خاصة مالك أمركم لا شريك له أصلا خالق كل شيء مما كان وسيكون، والمعتبر في عنوان الموضوع حسبما اقتضته الإشارة إنما هو خالقيته الجزء: 4 ¦ الصفحة: 229 سبحانه لما كان فقط كما ينبىء عنه صيغة الماضي، وجوز أن يكون الاسم الجليل بدلا من اسم الإشارة ورَبُّكُمْ صفته وما بعده خبر، وأن يكون الاسم الجليل هو الخبر وما بعده إبدال منه، وأن يكون بدلا والبواقي أخبار، وأن يقدر لكل خبر من الأخبار الثلاثة مبتدأ، وأن يجعل الكل بمنزلة اسم واحد، وأن يكون خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ بدلا من الضمير، وجوز غير ذلك. وقوله تعالى: فَاعْبُدُوهُ مسبب عن مضمون الجملة فإن من جمع هذه الصفات كما هو المستحق للعبادة خاصة، وادعى بعضهم أن العبادة المأمور بها في نهاية الخضوع وهي لا تتأتى مع التشريك فلذا استغني عن أن يقال: فلا تعبدوا إلا إياه، ويفهم منه أن مجرد مفهوم العبادة يفيد الاختصاص، ولا يأباه دعوى إفادة تقديم المفعول في إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة: 5] إياه (1) لأن إفادة الحصر بوجهين لا مانع منها كما في فَلِلَّهِ الْحَمْدُ [الجاثية: 36] ونحوه، وإنما قال سبحانه هنا: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وفي سورة المؤمن ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [غافر: 62] فقدم سبحانه هنا لا إِلهَ إِلَّا هُوَ على خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وعكس هناك قال بعض المحققين لأن هذه الآية جاءت بعد قوله تعالى جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ إلخ فلما قال جل شأنه. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ أتى بعده بما يدفع الشركة فقال عز قائلا: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ثم خالق كل شيء وتلك جاءت بعد قوله سبحانه: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر: 57] فكان الكلام على تثبيت خلق الناس وتقريره لا على نفي الشريك عنه جل شأنه كما كان في الآية الأولى فكان تقديم خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ هناك أولى والله تعالى أعلم بأسرار كلامه. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ عطف على الجملة السابقة أي وهو مع تلك الصفات الجليلة الشأن متولي جميع الأمور الدنيوية والأخروية، ويلزم من ذلك أن لا يوكل أمر إلى غيره ممن لا يتولى. وجوز أن تكون هذه الجملة في موضع الحال وقيدا للعبادة ويؤول المعنى إلى أنه سبحانه مع ما تقدم متولي أموركم فكلوها إليه وتوسلوا بعبادته إلى إنجاح مأربكم، وفسر بعضهم الوكيل بالرقيب أي أنه تعالى رقيب على أعمالكم فيجازيكم عليها. واستدل أصحابنا بعموم خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ على أنه تعالى هو الخالق لأعمال العباد. والمعتزلة قالوا: عندنا هنا أشياء تخرج أعمال العباد من البين. أحدها تعقيب ذلك العموم بقوله سبحانه: فَاعْبُدُوهُ فإنه لو دخلت أعمال العباد هناك لصار تقدير الآية إنا خلقنا أعمالكم فافعلوها بأعيانها مرة أخرى وفساده ظاهر. ثانيها أن خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ذكر في معرض المدح والثناء ولا تمدح بخلق الزنا واللواطة والسرقة والكفر مثلا. ثالثها أنه تعالى قال بعد: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وهو تصريح بكون العبد مستقلا بالفعل والترك وأنه لا مانع له. رابعها أن هذه الآية أتى بها بعد وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ والمراد منه على ما روي عن الحبر الرد على المجوس في إثبات الهين فيجب أن يكون خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ محمولا على إبطال ذلك وهو إنما يكون إذا قلنا: إنه تعالى هو الخالق لما في هذا العالم من السباع والآلام ونحوها وإذا حمل على ذلك لم تدخل أعمال العباد ولا يخفى ما في ذلك من النظر ومثله استدلالهم بالآية على نفي الصفات وكون القرآن مخلوقا فتدبر لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ جمع بصر يطلق كما قال الراغب على الجارحة الناظرة وعلى القوة التي فيها وعلى البصيرة. وهي قوة القلب المدركة وإدراك الشيء عبارة عن الوصول إلى غايته والإحاطة به، وأكثر المتكلمين على حمل البصر هنا على الجارحة من حيث إنها محل القوة. وقيل: هو إشارة إلى ذلك وإلى الأوهام والافهام كما قال أمير   (1) هو مفعول إفادة اه. منه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 230 المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه التوحيد أن لا تتوهمه وقال أيضا: كل ما أدركته فهو غيره. ونقل الراغب عن بعضهم أنه حمل ذلك على البصيرة، وذكر أنه قد نبه به على ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه في قوله: يا من غاية معرفته القصور عن معرفته إذا كان معرفته تعالى أن تعرف الأشياء فتعلم أنه ليس بمثل لشيء منها بل هو موجد كل ما أدركته. واستدل المعتزلة بهذه الآية على أنه تعالى لا يرى. وتقرير ذلك على ما في المواقف وشرحها أن الإدراك المضاف إلى الأبصار إنما هو الرؤية ولا فرق بين أدركته ببصري ورأيته إلا في اللفظ أو هما متلازمان لا يصح نفي أحدهما مع إثبات الآخر فلا يجوز رأيته وما أدركته ببصري ولا عكسه، فالآية نفت أن تراه الأبصار وذلك يتناول جميع الأبصار بواسطة اللام الجنسية في مقام المبالغة في جميع الأوقات. لأن قولك فلان تدركه الأبصار لا يفيد عموم الأوقات فلا بد أن يفيده ما يقابله فلا يراه شيء من الأبصار لا في الدنيا ولا في الآخرة لما ذكر ولأنه تعالى تمدح بكونه لا يرى حيث ذكره في أثناء المدائح وما كان من الصفات عدمه مدحا كان وجوده نقصا يجب تنزيه الله تعالى عنه فظهر أنه يمتنع رؤيته سبحانه، وإنما قيل: من الصفات احترازا عن الأفعال كالعفو والانتقام فإن الأول تفضل والثاني عدل وكلاهما كمال انتهى. وحاصله أن المراد بالإدراك الرؤية المطلقة لا الرؤية على وجه الإحاطة، وأن لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ سالبة كلية دائمة وهذا أقوى أدلتهم النقلية في هذا المطلب كما ذكره شيخ مشايخنا الكوراني قدس سره. والجواب عنه من وجوه، الأول أن الإدراك ليس هو الرؤية المطلقة وإن اختاره- على ما نقله الآمدي أبو الحسن الأشعري وإنما هو الرؤية على نعت الإحاطة بجوانب المرئي كما فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بها في أحد تفسيريه، ففي الدر المنثور وأخرج ابن جرير عن ابن عباس «لا تدركه الأبصار» لا يحيط بصر أحد بالله تعالى انتهى. وإليه ذهب الكثير من أئمة اللغة وغيرهم. والرؤية المكيفة بكيفية الإحاطة- أخص مطلقا من الرؤية المطلقة ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم، فظهر صحة أن يقال: رأيته وما أدركه بصري أي ما أحاط به من جوانبه وإن لم يصح عكسه. الثاني أن لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ كما يحتمل أن يلاحظ فيه أولا دخول النفي ثم ورود اللام فتكون سالبة كلية على طرز قوله تعالى: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ [غافر: 31] فيكون لعموم السلب كذلك يحتمل أن يعتبر فيه العموم أولا ثم ورود النفي عليه فتكون سالبة جزئية نحو ما قام العبيد كلهم ولم آخذ الدراهم كلها فتكون لسلب العموم وكل ما احتمل سلب العموم لم يكن نصا في عموم السلب وإن كان عموم السلب في مثل هذا هو الأكثر وكل ما كان كذلك لم يبق فيه حجة على امتناع الرؤية مطلقا وهو ظاهر، وهذا إذا كان أل في الْأَبْصارُ للاستغراق فإن كان للجنس كان لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ سالبة مهملة وهي في قوة الجزئية فيكون المعنى لا تدركه بعض الأبصار وهو متفق عليه. الثالث أنا لو سلمنا أن الإدراك هو الرؤية المطلقة وأن أل للاستغراق وأن الكلام لعموم السلب لكن لا نسلم عمومه في الأحوال والأوقات أي لا نسلم أنها دائمة لجواز أن يكون المراد نفي الرؤية في الدنيا كما يروى تقييده بذلك عن الحسن وغيره. ويدل عليه ما أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال: «تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف: 143] فقال: قال الله تعالى: يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده ولا رطب إلا تفرق وإنما يراني أهل الجنة الذين لا تموت أعينهم ولا تبلى أجسادهم» قولهم: بل هي دائمة لأن قولك: فلان تدركه الأبصار لا يفيد عموم الأوقات فلا بد أن يفيده ما يقابله، قلنا: هذا لا يتم إلا إذا وجب أن يكون التقابل من الله تعالى تدركه الأبصار ولا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ تقابل تناقض ولا موجب لذلك لا عقليا ولا لغويا ولا شرعيا: أما الأول فلأنا إذا وجدنا قضية موجبة مطلقة جاز أن يقابلها سالبة دائمة مطلقة وأن يقابلها سالبة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 231 دائمة ولا تتعين الدائمة الصادقة إلا إذا كانت المطلقة كاذبة قطعا لكن كذب المطلقة هاهنا أول البحث وعين المتنازع فيه فلا يجوز أن يبنى كون لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ دائمة على كذب هذه المطلقة أعني الله تعالى يدركه الأبصار مرادا بها أبصار المؤمنين في الجنة والموقف لأنه مصادرة على المطلوب المستلزم للدور، وأما الثاني فلأن الجملة ثبوتية كانت أو منفية تستعمل بحسب المقامات تارة في الإطلاق وتارة في الدوام وليس يجب في اللغة أنا إذا وجدنا جملة مثبتة استعملت في مقام ما في معنى الإطلاق أن تكون الجملة المقابلة لها مستعملة في معنى الدوام البتة بل يختلف باختلاف المقامات وقصد المستعملين لها وهو ظاهر جدا، وأما الثالث فلأن المطلقة المذكورة بالمعنى السابق عين المتنازع فيه بيننا وبين المعتزلة شرعا فنحن نقول: إنها صادقة شرعا ونحتج عليها بالعقل والنقل من الكتاب والسنة، وكل ما كان كذلك لزم أن لا يكون لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ دائمة دفعا للتناقض فتكون إما مطلقة عامة أو وقتية مطلقة، وعلى التقديرين لا تناقض لانتفاء اتحاد الزمان فيصدق الله تعالى تدركه الأبصار أي أبصار المؤمنين يوم القيامة مثلا أو وقت تجليه في نوره الذي لا يذهب بالأبصار الله تعالى لا تدركه الأبصار أي في الدنيا بالقيد الذي أشير إليه سابقا أو وقت تجليه بنوره الذي يذهب بالأبصار وهو النور الشعشعاني المشار إليه في الحديث الوارد في صحيح مسلم وغيره «لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره» . وإلى هذا التقييد يشير ثاني تفسيري ابن عباس المتقدم أولهما. فقد روي أنه قال: «رأى محمد صلّى الله عليه وسلّم ربه فقال له عكرمة: أليس الله تعالى يقول: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ فقال: لا أم لك ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء» الحديث. وبإثبات هذين النورين يجمع بين جوابيه عليه الصلاة والسلام لأبي ذر حيث سأله هل رأيت ربك؟ فقال في أحد جوابيه «نور أنى أراه» وفي الجواب «رأيت نورا» فيقال: النور الذي نفى رؤيته في الاستفهام الإنكاري المدلول عليه بأنى هو نوره أعني النور الذي يذهب بالأبصار ولا يقوم له بصر، والنور الذي أثبت رؤيته هو النور الذي لا يذهب بالأبصار. وكذا يمكن حمل قول عائشة رضي الله تعالى عنهما من زعم أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم رأى ربه سبحانه فقد أعظم على الله عز وجل الفرية، واستشهادها لذلك بهذه الآية على هذا بأن يقال: أرادت من زعم أن محمدا عليه الصلاة والسلام رأى ربه سبحانه في نوره الذي هو نوره الذي يذهب بالأبصار فقد أعظم على الله عز وجل الفرية ويكون الاستشهاد بالآية على ما روي عن ابن عباس من ثاني تفسيريه، وحينئذ لا يتم للمعتزلة دعوى كون لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ دائمة إلا إذا كانت هذه المطلقة كاذبة شرعا وهو عين المتنازع فيه كما عرفت فلم يبق لهم على دعوى الدوام دليل أصلا. وقد يقال أيضا: المراد نفي الرؤية وقت عدم إذن الله تعالى للأبصار بالإدراك، والدليل على صحة إرادة هذا القيد هو أن إرادة الأبصار فعل من أفعال العبيد وكسب من كسبهم وقد ثبت بغير ما دليل أن العباد لا يقدرون على شيء ما من المقدورات إلا بإذن الله تعالى ومشيئته وتمكينه فلا تدركه الأبصار إلا بإذنه وهو المطلوب. ويؤيد هذا البيان ويشيد أركانه أن لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وقع بعد قوله سبحانه: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ. ووجه التأييد أن الله تعالى أخبر بأنه على كل شيء وكيل أي متول لأموره، ومعلوم أن الأبصار من الأشياء وأن إدراكها من أمورها فهو سبحانه وتعالى متوليها ومتصرف فيها على حسب مشيئته فيفيض عليها الإدراك ويأذن لها إذا شاء كيف شاء وعلى الحد الذي شاء ويقبض عنها الإدراك قبضا كليا أو جزئيا في أي وقت شاء كيف شاء، ولا يخفى على هذا أنه غاية التمدح بالعزة والقهر والغلبة فإن من هو على كل شيء وكيل إذا لم تدركه الأبصار إلا بإذنه مع كونه يدرك الأبصار ولا تخفى عليه خافية كان ذلك غاية في عزته وقهره وكونه غالبا على أمره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 232 وذهب بعض المحققين أن الآية لم تسق للتمدح وإنما سيقت للتخويف بأنه سبحانه رقيب من حيث لا يرى فليحذر، وهو ظاهر على التفسير الثاني للوكيل. الرابع من الوجوه يجوز أن يكون المراد لا تدركه الأبصار على الوجه المعتاد في رؤية المحسوسات المشروطة بالشروط التسعة العادية على ما يشير إليه آخر الآية، ومعلوم أن نفي الخاص لا يستلزم نفي العام فلا يلزم على هذا من الآية نفي الرؤية مطلقا. الخامس ما قيل: إنا لو سلمنا للخصم ما أراد نقول: إن الآية إنما تدل على أن الأبصار لا تدركه ونحن نقول به وندعي أن ذوي الأبصار يدركونه، والاعتراض بأنه كما أن الأبصار لا تدركه فكذلك لا يدركه غيرها فلا فائدة للتخصيص مدفوع بأنه إنما يلزم انتفاء الفائدة أن لو انحصرت في نفي حكم المنطوق على المسكوت وهو غير مسلم ولعله كان بخصوص سؤال سائل عنه دون غيره أو لمعنى آخر. السادس أنا سلمنا أن المراد لا يدركه المبصرون بأبصارهم لكنه لا يفيد المطلوب أيضا لجواز حصول إدراك الله تعالى بحاسة سادسة مغايرة لهذه الحواس كما يدعيه ضرار بن عمرو الكوفي، فقد نقل عنه أنه كان يقول: إن الله تعالى لا يرى بالعين وإنما يرى بحاسة سادسة يخلقها سبحانه له يوم القيامة، واحتج عليه بهذه الآية فقال: إنها دلت على تخصيص نفي إدراك الله تعالى بالبصر وتخصيص الحكم بالشيء يدل على أن الحال في غيره بخلافه فوجب أن يكون إدراك الله تعالى بغير البصر جائزا في الجملة، ولما ثبت أن سائر الحواس الموجودة الآن لا يصلح لذلك ثبت أنه تعالى يخلق يوم القيامة حاسة سادسة بها تحصل رؤية الله تعالى وإدراكه اه. ومن الناس من استدل بالآية على أن الاطلاع على كنه ذات الله تعالى ممتنع بناء على أن الأبصار جمع بصر بمعنى البصيرة وقرره كما قرر المعتزلة استدلالهم على امتناع الرؤية. وفيه ما فيه. نعم احتمال حمل البصر على البصيرة مما يوهن استدلال المعتزلة كما لا يخفى، ولهم في هذا المطلب أدلة أخرى نقلية سيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على بعضها، وعقلية قد عقلها القوم في معاطن البطلان. ولعل النوبة تفضي إلى تسريح يعملات الأقلام في رياض تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى الملك العلام فمنه التوفيق لإدراك أبصار الافهام مخفيات الأسرار وفلق صباح الحق بسواطع الأنوار وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ أي يراها على وجه الإحاطة أو يحيط بها علما أو علما ورؤية كما قيل، وذكر الآمدي أن البصريين من المعتزلة ذهبوا إلى أن إدراك الله تعالى بمعنى الرؤية وأن البغداديين منهم ذهبوا إلى أنها بمعنى العلم لا بمعنى الرؤية، والمراد بالأبصار هنا على ما قرره بعض المحققين النور الذي تدرك به المبصرات فإنه لا يدركه مدرك بخلاف جرم العين فإنه يرى. ولعل هذا هو السر في الإظهار في مقام الإضمار، وجوز أن يقال المراد أن كل عين لا ترى نفسها: وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ فيدرك سبحانه ما لا يدركه الأبصار، فالجملة سيقت لوصفه تعالى بما يتضمن تعليل قوله سبحانه: وَهُوَ إلخ. وجوز غير واحد أن يكون ما ذكر من باب اللف فإن اللطيف يناسب كونه غير مدرك بالفتح والخبير يناسب كونه تعالى مدركا بالكسر. واللطيف مستعار من مقابل الكثيف لما لا يدرك بالحاسة من الشيء الخفي. ويفهم من ظاهر كلام البهائي- كما قال الشهاب- أنه لا استعارة في ذلك حيث قال في شرح أسماء الله تعالى الحسنى: اللطيف الذي يعامل عباده باللطف وألطافه جل شأنه لا تتناهى ظواهرها وبواطنها في الأولى والأخرى وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم: 34، النحل: 18] وقيل: اللطيف العليم بالغوامض والدقائق من المعاني والحقائق ولذا يقال للحاذق في صنعته لطيف. ويحتمل أن يكون من اللطافة المقابلة للكثافة وهو وإن كان في ظاهر الاستعمال من أوصاف الجسم لكن اللطافة المطلقة لا توجد في الجسم لأن الجسمية يلزمها الكثافة وإنما لطافتها بالإضافة، فاللطافة المطلقة لا يبعد أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 233 يوصف بها النور المطلق الذي يجل عن إدراك البصائر فضلا عن الأبصار ويعز عن شعور الأسرار فضلا عن الأفكار ويتعالى عن مشابهة الصور والأمثال وينزه عن حلول الألوان والأشكال، فإن كمال اللطافة إنما يكون لمن هذا شأنه ووصف الغير بها لا يكون على الإطلاق بل بالقياس إلى ما هو دونه في اللطافة ويوصف إليه بالكثافة انتهى. والمرجح أن إطلاق اللطيف بمعنى مقابل الكثيف على ما ينساق إلى الذهن على الله تعالى ليس بحقيقة أصلا كما لا يخفى. قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ استئناف وارد على لسان الرسول صلّى الله عليه وسلّم فقل مقدرة كما قاله بعض المحققين. والبصائر جمع بصيرة وهي للقلب كالبصر للعين، والمراد بها الآيات الواردة هاهنا أو جميع الآيات ويدخل ما ذكر دخولا أوليا، ومِنْ لابتداء الغاية مجازا وهي متعلقة بجاء أو بمحذوف وقع صفة لبصائر، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لإظهار كمال اللطف بهم أي قد جاءكم من جهة مالككم ومبلغكم إلى كمالكم اللائق بكم من الوحي الناطق بالحق والصواب ما هو كالبصائر للقلوب أو قد جاءكم بصائر كائنة من ربكم فَمَنْ أَبْصَرَ أي الحق بتلك البصائر وآمن به فَلِنَفْسِهِ أي فلنفسه أبصر كما نقل عن الكلبي وتبعه الزمخشري أو فإبصاره لنفسه كما اختاره أبو حيان لما ستعلم قريبا إن شاء الله تعالى. والمراد على القولين أن نفع ذلك يعود إليه وَمَنْ عَمِيَ أي ومن لم يبصر الحق بعد ما ظهر له بتلك البصائر ظهورا بينا وضل عنه، وإنما عبر عنه بالعمى تنفيرا عنه فَعَلَيْها عمى أو فعماه عليها أي وبال ذلك عليها، وهما قولان لمن تقدم. وذكر أبو حيان أن تقدير المصدر أولى لوجهين: أحدهما أن المحذوف يكون مفردا لا جملة ويكون الجار والمجرور عمدة لا فضلة. والثاني أنه لو كان المقدر فعلا لم تدخل الفاء سواء كانت «من» شرطية أو موصولة لامتناعها في الماضي. وتعقب بأن تقدير الفعل يترجح لتقدم فعل ملفوظ به وكان أقوى في الدلالة، وأيضا أن في تقديره تقديم المعمول المؤذن بالاختصاص، وأيضا ما ذكر في الوجه الثاني غير لازم لأنه لم يقدر الفعل موليا لفاء الجواب بل قدر معمول الفعل الماضي مقدما ولا بد فيه من الفاء فلو قلت: من أكرم زيدا فلنفسه أكرمه لم يكن بد من الفاء. نعم لم يعهد تعدية عَمِيَ بعلى وهو لازم التقدير السابق في الجملة الثانية وكأنه لذلك عدل عنه بعضهم بعد أن وافق في الأول إلى قوله: فعليها وباله وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ وإنما أنا منذر والله تعالى هو الذي يحفظ أعمالكم ويجازيكم عليها: وَكَذلِكَ أي مثل ذلك التصريف البديع نُصَرِّفُ الْآياتِ الدالة على المعاني الرائقة الكاشفة عن الحقائق الفائقة لا تصريفا أدنى منه. وقيل: المراد كما صرفنا الآيات قبل نصرف هذه الآيات. وقد تقدم لك ما هو الحري بالقبول. وأصل التصريف- كما قال علي بن عيسى- إجراء المعنى الدائر في المعاني المتعاقبة من الصرف وهو نقل الشيء من حال إلى حال. وقال الراغب التصريف كالصرف إلا في التكثير وأكثر ما يقال في صرف الشيء من حال إلى حال وأمر إلى أمر. وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ علة لفعل قد حذف تعويلا على دلالة السياق عليه أي وليقولوا درست نفعل ما نفعل من التصريف المذكور. وبعضهم قدر الفعل ماضيا والأمر في ذلك سهل، واللام لام العاقبة. وجوز أن تكون للتعليل على الحقيقة لأن نزول الآيات لإضلال الأشقياء وهداية السعداء قال تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً [البقرة: 26] . والواو اعتراضية. وقيل: هي عاطفة على علة محذوفة واللام متعلقة بنصرف أي مثل ذلك التصريف نصرف الآيات لتلزمهم الحجة وليقولوا إلخ. وهو أولى من تقدير لينكروا وليقولوا إلخ. وقيل: اللام لام الأمر، وينصره القراءة بسكون اللام كأنه قيل: وكذلك نصرف الآيات وليقولوا هم ما يقولون فإنهم لا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 234 احتفال بهم ولا اعتداد بقولهم، وهو أمر معناه الوعيد والتهديد وعدم الاكتراث. ورده في الدر المصون بأن ما بعده يأباه فإن الام فيه نص في أنها لام كي، وتسكين اللام في القراءة الشاذة لا دليل فيه لاحتمال أن يكون للتخفيف. ومعنى دَرَسْتَ قرأت وتعلمت، وأصله- على ما قال الأصمعي- من قولهم: درس الطعام يدرسه دراسا إذا داسه كأن التالي يدوس الكلام فيخف على لسانه. وقال أبو الهيثم: يقال درست الكتاب أي ذللته بكثرة القراءة حتى خف حفظه من قولهم: درست الثوب أدرسه درسا فهو مدروس ودريس أي أخلقته، ومنه قيل للثوب الخلق: دريس لأنه قد لان، والدرسة الرياضة ومنه درست السورة حتى حفظتها. وهذا كما قال الواحدي قريب مما قاله الأصمعي أو هو نفسه لأن المعنى يعود فيه إلى التذليل والتليين. وقال الراغب: يقال درس الدار أي بقي أثره وبقاء الأثر يقتضي انمحاءه في نفسه فلذلك فسر الدروس بالانمحاء، وكذا درس الكتاب ودرست العلم تناولت أثره بالحفظ، ولما كان تناول ذلك بمداومة القراءة عبر عن إدامة القراءة بالدرس وهو بعيد عما تقدم كما لا يخفى. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «دارست» بالألف وفتح التاء وهي قراءة ابن عباس، ومجاهد، أي دارست يا محمد غيرك ممن يعلم الأخبار الماضية وذكرته، وأرادوا بذلك نحو ما أرادوا بقولهم إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النحل: 103] . قال الإمام ويقوي هذه القراءة قوله تعالى حكاية عنهم: إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ [الفرقان: 4] وقرأ ابن عامر، ويعقوب، وسهل «درست» بفتح السين وسكون التاء، ورويت عن عبد الله بن الزبير، وأبيّ، وابن مسعود، والحسن رضي الله تعالى عنهم. والمعنى قدمت هذه الآيات وعفت وهو كقولهم: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الأنعام: 25، وغيرها] . وقرىء «درست» بضم الراء مبالغة في درست لأن فعل المضموم للطبائع والغرائز أي اشتد دروسها، و «درّست» على البناء للمفعول بمعنى قرئت أو عفيت وقد صح مجيء عفا متعديا كمجيئه لازما، و «دارست» بتاء التأنيث أيضا. والضمير إما لليهود لاشتهارهم بالدراسة أي دارست اليهود محمدا صلّى الله عليه وسلّم وإما للآيات وهو في الحقيقة لأهلها أي دارست أهل الآيات وحملتها محمدا عليه الصلاة والسلام وهم أهل الكتاب، و «دورست» على مجهول فاعل. و «درست» بالبناء للمفعول والإسناد إلى تاء الخطاب مع التشديد، ونسبت إلى ابن زيد. و «ادارست» مشددا معلوما ونسبت إلى ابن عباس، وفي رواية أخرى عن أبي «درس» على إسناده إلى ضمير النبي صلّى الله عليه وسلّم أو الكتاب إن كان بمعنى انمحى ونحوه و «درسن» بنون الإناث مخففا ومشددا. و «دارسات» بمعنى قديمات أو ذات درس أو دروس كعيشة راضية [القارعة: 7] وارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي دارسات وَلِنُبَيِّنَهُ عطف على لِيَقُولُوا واللام فيه للتعليل المفسر ببيان ما يدل على المصلحة المترتبة على الفعل عند الكثير من أهل السنة. ولا ريب في أن التبيين مصلحة مرتبة على التصريف. والخلاف في أن أفعال الله تعالى هل تعلل بالأغراض مشهور وقد أشرنا إليه فيما تقدم. والضمير للآيات باعتبار التأويل بالكتاب أو للقرآن وإن لم يذكر لكونه معلوما أو لمصدر نُصَرِّفُ كما قيل أو نبين أي ولنفعلن التبيين لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فإنهم المنتفعون به وهو الوجه في تخصيصهم بالذكر. وهم- على ما روي عن ابن عباس- أولياؤه الذين هداهم إلى سبيل الرشاد. ووصفهم بالعلم للإيذان بغاية جهل غيرهم وخلوهم عن العلم بالمرة اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أي دم على ما أنت عليه من التدين بما أوحي إليك من الشرائع والأحكام التي عمدتها التوحيد. والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام من إظهار اللطف به صلّى الله عليه وسلّم ما لا يخفى والجار والمجرور يجوز أن يكون متعلقا بأوحي. وأن يكون حالا من ضمير المفعول المرفوع فيه. وأن يكون حالا من مرجعه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 235 وقوله سبحانه: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يحتمل أن يكون اعتراضا بين المعطوف والمعطوف عليه أكد به إيجاب الاتباع لا سيما في أمر التوحيد. وجوز أبو البقاء وغيره أن يكون حالا مؤكدة مِنْ رَبِّكَ أي منفردا في الألوهية وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ أي لا تعتد بأقاويلهم الباطلة التي من جملتها ما حكي عنهم آنفا ولا تبال بها ولا تلتفت إلى أذاهم وعلى هذا فلا نسخ في الآية. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها منسوخة بآية السيف فيكون الإعراض محمولا على ما يعم الكف عنهم وَلَوْ شاءَ اللَّهُ عدم إشراكهم ما أَشْرَكُوا وهذا دليل لأهل السنة على أنه تعالى لا يريد إيمان الكافر لكن لا بمعنى أنه تعالى يمنعه عنه مع توجهه إليه بل بمعنى أنه تعالى لا يريده منه لسوء اختياره الناشئ من سوء استعداده. والجملة اعتراض مؤكد للإعراض. وكذا قوله تعالى: وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً أي رقيبا مهيمنا من قبلنا تحفظ عليهم أعمالهم. وكذا قوله سبحانه: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ من جهتهم تقوم بأمرهم وتدبر مصالحهم وقيل: المراد ما جعلناك عليهم حفيظا تصونهم عما يضرهم وما أنت عليهم بوكيل تجلب لهم ما ينفعهم. وعَلَيْهِمْ في الموضعين متعلق بما بعده قدم عليه للاهتمام به أو لرعاية الفواصل وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي لا تشتموهم ولا تذكروهم بالقبيح، والمراد من الموصول إما المشركون على معنى لا تسبوهم من حيث عبادتهم لآلهتهم كإن تقولوا تبا لكم ولما تعبدونه مثلا أو آلهتهم فالآية صريحة في النهي عن سبها. والعائد حينئذ مقدر أي الذين تدعونهم. والتعبير عنها بالذين مبني على زعمهم أنها من أهل العلم أو على تغليب العقلاء منها كالملائكة والمسيح وعزير عليهم الصلاة والسلام. وقيل: إن سب الآلهة سب لهم كما يقال ضرب الدابة صفع لراكبها فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً تجاوزا عن الحق إلى الباطل، ونصبه على أنه حال مؤكدة. وجوز أبو البقاء أن يكون على أنه مفعول له، وأن يكون على المصدرية من غير لفظ الفعل، وفَيَسُبُّوا منصوب على جواب النهي. وقيل: مجزوم على العطف كقولهم: لا تمددها فتشققها. ومعنى سبهم لله عز وجل إفضاء كلامهم إليه كشتمهم له صلّى الله عليه وسلّم ولمن يأمره، وقد فسر بِغَيْرِ عِلْمٍ بذلك أي فيسبوا الله تعالى بغير علم أنهم يسبونه وإلا فالقوم كانوا يقرون بالله تعالى وعظمته وأن آلهتهم إنما عبدوها لتكون شفعاء لهم عنده سبحانه فكيف يسبونه؟ ويحتمل أن يراد سبهم له عز اسمه صريحا ولا إشكال بناء على أن الغضب والغيظ قد يحملهم على ذلك ألا ترى أن المسلم قد تحمله شدة غيظه على التكلم بالكفر. ومما شاهدناه أن بعض جهلة العوام أكثر الرافضة سب الشيخين رضي الله تعالى عنهما عنده فغاظه ذلك جدا فسب عليا كرم الله تعالى وجهه فسئل عن ذلك فقال: ما أردت إلا إغاظتهم ولم أر شيئا يغيظهم مثل ذلك فاستتيب عن هذا الجهل العظيم، وقال الراغب: إن سبهم لله تعالى ليس أنهم يسبونه جل شأنه صريحا ولكن يخوضون في ذكره تعالى ويتمادون في ذلك بالمجادلة ويزدادون في وصفه سبحانه بما ينزه تقدس اسمه عنه، وقد يجعل الإصرار على الكفر والعناد سبا وهو سب فعلي، قال الشاعر: وما كان ذنب بني مالك ... بأن سب منهم غلام فسب بأبيض ذي شطب قاطع ... يقد العظام ويبري العصب ونبه به على ما قال الآخر: ونشتم بالأفعال لا بالتكلم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 236 وقيل: المراد بسب الله تعالى سب الرسول صلّى الله عليه وسلّم ونظير ذلك من وجه قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: 10] الآية. وقرأ يعقوب «عدوا» يقال: عدا فلان يعدو عدوا وعدوا وعدوانا. أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: لما حضر أبا طالب الموت قالت قريش: انطلقوا فلندخل على هذا الرجل فلنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه فإنا نستحي أن نقتله بعد موته فتقول العرب: كان يمنعه فلما مات قتلوه فانطلق أبو سفيان، وأبو جهل، والنضر بن الحارث، وأمية وأبي ابنا خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمرو بن العاص، والأسود بن البحتري إلى أبي طالب فقالوا أنت كبيرنا وسيدنا وإن محمدا قد آذانا وآذى آلهتنا فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ولندعنه وإلهه فدعاه فجاء النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال له أبو طالب: هؤلاء قومك وبنو عمك فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ماذا تريدون؟ قالوا: نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك فقال أبو طالب: قد أنصفك قومك فاقبل منهم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أرأيتكم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطي كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم بها العجم. قال أبو جهل: نعم لنعطينكها وأبيك وعشر أمثالها فما هي؟ قال قولوا لا إله إلا الله فأبوا واشمأزوا فقال أبو طالب: قل غيرها يا ابن أخي فإن قومك قد فزعوا منها فقال صلّى الله عليه وسلّم: يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها فقالوا: لتكفن عن شتمك آلهتنا أو لنشتمنك ولنشتمن من يأمرك فأنزل الله تعالى هذه الآية. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال: قالوا يا محمد لتنتهين عن سبك آلهتنا أو لنهجون ربك فنهاهم الله تعالى أن يسبوا أوثانهم، وفي رواية عنه أنهم قالوا ذلك عند نزول قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98] نزلت وَلا تَسُبُّوا إلخ، واستشكل ذلك بأن وصف آلهتهم بأنها حصب جهنم وبأنها لا تضر ولا تنفع سب لها فكيف نهى عنه بما هنا. وأجيب بأنهم إذا قصدوا بالتلاوة سبهم وغيظهم يستقيم النهي عنها ولا بدع في ذلك كما ينهى عن التلاوة في المواضع المكروهة. وقال في الكشف: المعنى على هذه الرواية لا يقع السب منكم بناء على ما ورد في الآية فيصير سبا لسبهم. وقيل: ما في الآية لا يعد سبا لأنه ذكر المساوي لمجرد التحقير والإهانة وما فيها إنما ورد للاستدلال على عدم صلوحها للألوهية والمعبودية وفيه تأمل، وقريب منه ما قيل إن النهي في الحقيقة إنما هو عن العدول عن الدعوة إلى السب كأنه قيل: لا تخرجوا من دعوة الكفار ومحاجتهم إلى أن تسبوا ما يعبدونه من دون الله تعالى فإن ذلك ليس من الحجاج في شيء ويجر إلى سب الله عز وجل. واستدل بالآية على أن الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة وجب تركها فإن ما يؤدي إلى الشر شر وهذا بخلاف الطاعة في موضع فيه معصية لا يمكن دفعها وكثيرا ما يشتبهان، ولذا لم يحضر ابن سيرين جنازة اجتمع فيها الرجال والنساء وخالفه الحسن قائلا: لو تركنا الطاعة لأجل المعصية لأسرع ذلك في ديننا للفرق بينهما. ونقل الشهاب عن المقدسي في الرمز أن الصحيح عند فقهائنا أنه لا يترك ما يطلب لمقارنة بدعة كترك إجابة دعوة لما فيها من الملاهي وصلاة جنازة لنائحة فإن قدر على المنع منع وإلا صبر، وهذا إذا لم يقتد به وإلا لا يقعد لأن فيه شين الدين. وما روي عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه ابتلي به كان قبل صيرورته إماما يقتدى به. ونقل عن أبي منصور أنه قال: كيف نهانا الله تعالى عن سب من يستحق السب لئلا يسب من لا يستحقه وقد أمرنا بقتالهم وإذا قاتلناهم قتلونا وقتل المؤمن بغير حق منكر، وكذا أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالتبليغ والتلاوة عليهم وإن كانوا يكذبونه، وأنه أجاب بأن سب الآلهة مباح غير مفروض وقتالهم فرض. وكذا التبليغ وما كان مباحا ينهى عما يتولد منه ويحدث وما كان فرضا لا ينهى عما يتولد منه وعلى هذا يقع الفرق لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه فيمن قطع يد قاطع قصاصا فمات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 237 منه فإنه يضمن الدية لأن استيفاء حقه مباح فأخذ المتولد منه، والإمام إذا قطع يد السارق فمات لا يضمن لأنه فرض عليه فلم يؤخذ بالمتولد منه اه. ومن هنا لا تحمل الطاعة فيما تقدم على إطلاقها كَذلِكَ أي مثل ذلك التزيين القوي زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ من الأمم عَمَلَهُمْ من الخير والشر بإحداث ما يمكنهم منه ويحملهم عليه توفيقا أو تخذيلا، وجوز أن يراد بكل أمة أمم الكفر إذ الكلام فيهم وبعملهم شرهم وفسادهم، والمشبه به تزيين سب الله تعالى شأنه لهم، واستدل بالآية على أنه تعالى هو الذي زين للكافر الكفر كما زين للمؤمن الإيمان. وأنكر ذلك المعتزلة وزين لهم الشيطان أعمالهم فتأولوا الآية بما لا يخفى ضعفه ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مالك أمرهم مَرْجِعُهُمْ أي رجوعهم ومصيرهم بالبعث بعد الموت فَيُنَبِّئُهُمْ من غير تأخير بِما كانُوا يَعْمَلُونَ في الدنيا على الاستمرار من خير أو شر، وذلك بالثواب على الأول والعقاب على الثاني، فالجملة للوعد والوعيد. وفسر بعضهم ما بالسيئات المزينة لهم وقال: إن هذا وعيد بالجزاء والعذاب كقول الرجل لمن يتوعده سأخبرك بما فعلت وَأَقْسَمُوا أي المشركون بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أي جاهدين فيها. فجهد مصدر في موضع الحال. وجوز أن يكون منصوبا بنزع الخافض أي أقسموا بجهد أيمانهم أي أوكدها وهو بفتح الجيم وضمها في الأصل بمعنى الطاقة والمشقة، وقيل: بالفتح المشقة وبالضم الوسع، وقيل: ما يجهد الإنسان، والمعنى هنا على ما قال الراغب: إنهم حلفوا واجتهدوا في الحلف أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ من مقترحاتهم أو من جنس الآيات. ورجحه بعض المحققين بأنه الأنسب بحالهم في المكابرة والعناد وترامي أمرهم في العتو والفساد حيث كانوا لا يعدون ما يشاهدونه من المعجزات القاهرة من جنس الآيات فاقترحوا غيرها لَيُؤْمِنُنَّ بِها وما كان مرمى غرضهم إلا التحكم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في طلب المعجزة وعدم الاعتداد بما شاهدوا منه عليه الصلاة والسلام من البينات. والباء صلة الإيمان، والمراد من الإيمان بها التصديق بالنبي صلّى الله عليه وسلّم. وجعلها للسببية على معنى ليؤمنن بك بسببها خلاف الظاهر. قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ أي كلها فيدخل ما اقترحوه فيها دخولا أوليا عِنْدَ اللَّهِ أي أمرها في حكمه وقضائه خاصة يتصرف فيها حسب مشيئته المبنية على الحكم البالغة لا تتعلق بها قدرة أحد ولا مشيئته استقلالا ولا اشتراكا بوجه من الوجوه حتى يمكنني أن أتصدى لإنزالها بالاستدعاء وهذا كما ترى سد لباب الاقتراح. وقيل: إن المعنى إنما الآيات عند الله لا عندي فكيف أجيبكم إليها أو آتيكم بها أو المعنى هو القادر عليها لا أنا حتى آتيكم بها. واعترض ذلك شيخ الإسلام بعد أن اختار ما قدمناه بأنه لا مناسبة له بالمقام كيف لا وليس مقترحهم مجيئها بغير قدرة الله تعالى فتدبر. روي أن قريشا اقترحوا بعض آيات فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فإن فعلت بعض ما تقولون أتصدقونني فقالوا: نعم وأقسموا لئن فعلته لنؤمنن جميعا فسأل المسلمون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن ينزلها طمعا في إيمانهم فهم عليه الصلاة والسلام بالدعاء فنزلت. وأخرج ابن جرير عن محمد القرظي قال: كلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قريشا فقالوا: يا محمد تخبرنا أن موسى عليه السلام كان معه عصا يضرب بها الحجر وأن عيسى عليه السلام كان يحيي الموتى وأن ثمود كانت لهم ناقة فائتنا ببعض تلك الآيات حتى نصدقك فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أي شيء تحبون أن آتيكم به؟ قالوا: تحول لنا الصفا ذهبا قال: فإن فعلت تصدقوني؟ قالوا: نعم والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعين فقام رسول الله عليه الصلاة والسلام يدعو فجاءه جبريل عليه السلام فقال: إن شئت أصبح الصفا ذهبا فإن لم يصدقوا عند ذلك لنعذبنهم وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم فقال صلّى الله عليه وسلّم: اتركهم حتى يتوب تائبهم فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى يَجْهَلُونَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 238 وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ كلام مستأنف غير داخل تحت الأمر مسوق من جهته تعالى لبيان الحكمة فيما أشعر به الجواب السابق من عدم مجيء الآيات خوطب به المؤمنون- كما قال الفراء وغيره- إما خاصة بطريق التلوين لما كانوا راغبين في نزولها طمعا في إسلامهم، وإما معه عليه الصلاة والسلام بطريق التعميم لما روي مما يدل على رغبته عليه الصلاة والسلام في ذلك أيضا كالهم بالدعاء، وفيه بيان لأن أيمانهم فاجرة وإيمانهم في زوايا العدم وإن أجيبوا إلى ما سألوه. وجوز بعضهم دخوله تحت الأمر. ولا وجه له إلا أن يقدر قل للكافرين: إنما الآيات عند الله وللمؤمنين وما يشعركم إلخ وهو تكلف لا داعي إليه. وعن مجاهد أن الخطاب للمشركين. وهو داخل تحت الأمر وفيه التفات وأَنَّها إلخ عنده إخبار ابتدائي كما يدل عليه ما رواه عنه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وما استفهامية إنكارية- على ما قاله غير واحد- لا نافية لما يلزم عليه من بقاء الفعل بلا فاعل، وجعله ضمير الله تعالى تكلف أو غير مستقيم إلا على بعد، واستشكل بأن المشركين لما اقترحوا آية وكان المؤمنون يتمنون نزولها طمعا في إسلامهم كان في ظنهم إيمانهم على تقدير النزول، فإذا أريد الإنكار عليهم فالمناسب إنكار الإيمان لا عدمه كأنهم قالوا: ربنا أنزل للمشركين آية فإنه لو نزلت يؤمنون، وحينئذ يقال في الإنكار: ما يدريكم أنها إذا جاءت يؤمنون. ويتضح هذا بمثال، وذلك أنه إذا قال لك القائل: أكرم فلانا فإنه يكافئك وكنت تعلم منه عدم المكافأة فإنك إذا أنكرت على المشير بإكرامه قلت: وما يدريك أني إذا أكرمته يكافئني فأنكرت عليه إثبات المكافأة وأنت تعلم نفيها فإن قال لك: لا تكرمه فإنه لا يكافئك وأنت تعلم منه المكافأة وأردت الإنكار على المشير بحرمانه قلت: وما يدريك أنه لا يكافئني فأنكرت عليه عدم المكافأة وأنت تعلم ثبوتها. والآية كما لا يخفى من قبيل المثال الأول فكان الظاهر حيث ظنوا ايمانهم ورغبوا فيه وعلم الله تعالى عدم وقوعه منهم ولو نزل عليهم الملائكة وكلمهم الموتى أن يقال: وما يشعركم أنهم إذا جاءت يؤمنون. وأجاب عنه بعضهم بأن هذا الاستفهام في معنى النفي وهو إخبار عنهم بعدم العلم لا إنكار عليهم، والمعنى أن الآيات عند الله تعالى ينزلها بحسب المصلحة، وقد علم سبحانه أنهم لا يؤمنون ولا تنجع فيهم الآيات وأنتم لا تدرون ما في الواقع وفي علم الله تعالى وهو أنهم لا يؤمنون فلذلك تتوقعون إيمانهم، والحاصل أن الاستفهام للإنكار وله معنيان لم ولا فإن كان بمعنى لم يقال ما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون بدون لا على معنى لم قلتم إنها إذا جاءت يؤمنون وتوقعتم ذلك؟ وإن كان بمعنى لا يقال ما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بإثبات لا على معنى لا تعلمون أنهم لا يؤمنون فلذا توقعتم إيمانهم ورغبتم في نزول آية لهم، وهذا الثاني هو المراد ويرجع إلى إقامة عذر المؤمنين في طلبهم ذلك ورغبتهم فيه. وأجاب آخرون بأن لا زائدة كما في قوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف: 12] وحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ [الأنبياء: 95] فإنه أريد تسجد ويرجعون بدون لا. وعن الخليل أن أن بمعنى لعل كما في قولهم ائت السوق أنك تشتري لحما وقول امرئ القيس: عرجوا على الطلل المحيل لأننا ... نبكي الديار كما بكى ابن خذام وقول الآخر: هل أنتم عائجون بنا لأنا ... نرى العرصات أو أثر الخيام ويؤيده أن يشعركم ويدريكم بمعنى. وكثيرا ما تأتي لعل بعد فعل الدراية نحو وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 239 [عبس: 3] وأن في مصحف أبي رضي الله تعالى عنه «وما أدراك لعلها» والكلام على هذا قد تم قبل أَنَّها والمفعول الثاني ليشعركم محذوف. والجملة استئناف لتعليل الإنكار وتقديره أي شيء يعلمكم حالهم وما سيكون عند مجيء ذلك لعلها إذا جاءت لا يؤمنون فما لكم تتمنون مجيئها فإن تمنيه إنما يليق بما إذا كان إيمانهم بها متحقق الوقوع عند مجيئها لا مرجو العدم. ومن الناس من زعم أن أَنَّها إلخ جواب قسم محذوف بناء على أن أن في جواب القسم يجوز فتحها ولا يخفى بعده. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم، ويعقوب «إنها» بالكسر على الاستئناف حسبما سيق مع زيادة تحقيق لعدم إيمانهم. قال في الكشف: وهو على جواب سؤال مقدر على ما ذكره الشيخ ابن الحاجب كأنه قيل لم وبخوا؟ فقيل لأنها إذا جاءت لا يؤمنون. ولك أن تبنيه على قوله تعالى: وَما يُشْعِرُكُمْ أي بما يكون منهم فإنه إبراز في معرض المحتمل كأنه قد سئل عنه سؤال شاك ثم علل بأنها إذا جاءت جزما بالطرف المحالف وبيانا لكون الاستفهام غير جار على الحقيقة. وفيه إنكار لتصديق المؤمنين على وجه يتضمن إنكار صدق المشركين في المقسم عليه. وهذا نوع من السحر البياني لطيف المسلك انتهى. وقرأ ابن عامر، وحمزة «لا تؤمنون» بالفوقانية. والخطاب حينئذ في الآية للمشركين بلا خلاف. وقرىء «وما يشعرهم أنها إذا جاءتهم لا يؤمنون» فمرجع الإنكار إقدام المشركين على الحلف المذكور مع جهلهم بحال قلوبهم عند مجيء ذلك وبكونها حينئذ كما هي الآن. وقرىء «وما يشعركم» بسكون خالص واختلاس. وضمير بِها على سائر القراءات راجع للآية لا للآيات لأن عدم إيمانهم عند مجيء ما اقترحوه أبلغ في الذم كما أن استعمال إذا مع الماضي دون أن مع المستقبل لزيادة التشنيع عليهم. وزعم بعضهم أن عوده للآيات أولى لقربه مع ما فيه من زيادة المبالغة في بعدهم عن الإيمان وبلوغهم في العناد غاية الإمكان وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ عطف على لا يُؤْمِنُونَ داخل معه في حكم وَما يُشْعِرُكُمْ مقيد بما قيد به أي وما يشعركم أنا نقلب أفئدتهم عن إدراك الحق. فلا يدركونه وأبصارهم عن اجتلائه فلا يبصرونه. وهذا على ما قال الإمام تقريرا لما في الآية الأولى من أنهم لا يؤمنون. وذكر شيخ الإسلام أن هذا التقليب ليس مع توجه الأفئدة والأبصار إلى الحق واستعدادها له بل لكمال نبوها عنه وإعراضها بالكلية ولذلك أخر ذكره عن ذكر عدم إيمانهم إشعارا بأصالتهم في الكفر وحسما لتوهم أن عدم إيمانهم ناشىء من تقليبه تعالى مشاعرهم بطريق الإجبار. وتحقيقه على ما ذكره شيخ مشايخنا الكوراني أنه سبحانه حيث علم في الأزل سوء استعدادهم المخبوء في ماهياتهم أفاض عليهم ما يقتضيه وفعل بهم ما سألوه بلسان الاستعداد بعد أن رغبهم ورهبهم وأقام الحجة وأوضح المحجة ولله تعالى الحجة البالغة وما ظلمهم الله سبحانه ولكن كانوا هم الظالمين كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أي بما جاء من الآيات بالله تعالى. وقيل: بالقرآن. وقيل: بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وإن لم يجر لذلك ذكر. وقيل: بالتقليب وهو كما ترى. أَوَّلَ مَرَّةٍ أي عند ورود الآيات السابقة. والكاف في موضع النعت لمصدر منصوب بلا يؤمنون وما مصدرية أي لا يؤمنون بل يكفرون كفرا كائنا ككفرهم أول مرة. وتوسيط تقليب الأفئدة والأبصار لأنه من متممات عدم إيمانهم. وقال أبو البقاء: إن الكاف نعت لمصدر محذوف أي تقليبا ككفرهم أي عقوبة مساوية لمعصيتهم أول مرة ولا يخفى ما فيه. والآية ظاهرة في أن الإيمان والكفر بقضاء الله تعالى وقدره. وأجاب الكعبي عنها بأن المراد من وَنُقَلِّبُ إلخ أنا لا نفعل بهم ما نفعله بالمؤمنين من الفوائد والألطاف من حيث أخرجوا أنفسهم عن هذا الحد بسبب كفرهم. والقاضي بأن المراد ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في الآيات التي ظهرت فلا نجدهم يؤمنون بها آخرا كما لم يؤمنوا بها أولا. والجبائي بأن المراد ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في جهنم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 240 على لهب النار وجمرها لنعذبهم كما لم يؤمنوا به أول مرة في الدنيا. والكل كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، وهكذا غالب كلام المعتزلة وَنَذَرُهُمْ أي ندعهم: فِي طُغْيانِهِمْ أي تجاوزهم الحد في العصيان يَعْمَهُونَ أي يترددون متحيرين وهذا عطف على «لا يؤمنون» مقيد بما قيد به أيضا مبين لما هو المراد بتقليب الأفئدة والأبصار معرب عن حقيقته بأنه ليس على ظاهره. والجار متعلق بما عنده. وجملة يَعْمَهُونَ في موضع الحال من الضمير المنصوب في نذرهم. وقرىء «يقلب. ويذر» على الغيبة والضمير لله عز وجل. وقرأ الأعمش «وتقلّب» على البناء للمفعول وإسناده إلى أفئدتهم. هذا ومن باب الإشارة في الآيات: وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ قال الجنيد قدس سره: أي أخلصناهم وآويناهم لحضرتنا ودللناهم للاكتفاء بنا عما سوانا ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وهم أهل السابقة الذين سألوه سبحانه الهداية بلسان الاستعداد الأزلي وَلَوْ أَشْرَكُوا بالميل إلى السوي وهو شرك الكاملين كما أشار إليه سيدي عمر بن الفارض قدس سره بقوله: ولو خطرت لي في سواك إرادة ... على خاطري سهوا حكمت بردتي لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ لعظم ما أتوا به إن الشرك لظلم عظيم فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ وهم المحجوبون فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ وهم العارفون بالله عز وجل الذين هم خزائن حقائق الإيمان. وفي الخبر «لا يزال طائفة من أمتي قائمين بأمر الله تعالى لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله سبحانه وهم على ذلك» أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ وهو آداب الشريعة والطريقة والحقيقة اقْتَدِهْ أمر له صلّى الله عليه وسلّم أن يتصف بجميع ما تفرق فيهم من ذلك الهدى وكان ذلك- على ما قيل- في منازل الوسائط، ولما كحل عيون أسراره بكحل الربوبية جعله مستقلا بذاته مستقيما بحاله وأخرجه من حد الإرادة إلى حد المعرفة والاستقامة ولذا أمره عليه الصلاة والسلام بإسقاط الوسائط كما يشير إليه قوله سبحانه: قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي [الأعراف: 203] مع قوله صلّى الله عليه وسلّم: لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي» . وقال بعض العارفين ليس في هذا توسيط الوسائط لأنه أمر بالاقتداء بهداهم لا بهم. ونظيره أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ [النحل: 123] حيث لم يقل سبحانه أن اتبع إبراهيم وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي ما عرفوه حق معرفته إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ أي لم يظهر من علمه وكلامه سبحانه على أحد شيئا وذلك لزعمهم البعد من عباده جل شأنه وعدم إمكان ظهور بعض صفاته على مظهر بشري ولو عرفوا لما أنكروا ولا اعتقدوا أنه لا مظهر لكمال علمه وحكمته إلا الإنسان الكامل بل لو ارتفع الحول عن العين لما رأوا الواحد اثنين وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ لما فيه من أسرار القرب والوصال والتشويق إلى الحسن والجمال بل منه تجلى الحق لخلقه لو يعلمون. مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من التوراة والإنجيل لجمعه الظاهر والباطن على أتم وجه وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وهي القلب وَمَنْ حَوْلَها من القوى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً كمن ادعى الكمال والوصول إلى التوحيد والخلاص عن كثرة صفات النفس وزعم أنه بالله عز وجل وأنه من أهل الإرشاد وهو ليس كذلك أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ كمن سمى مفتريات وهمه وخياله ومخترعات عقله وفكره وحيا وفيضا من الروح القدسي فتنبأ لذلك وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ كمن تفرعن وادعى الألوهية وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ وهم هؤلاء الأصناف الثلاثة فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ الطبيعي وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ بقبض أرواحهم كالمتقاضي الملظ يقولون أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ تغليظا وتعنيفا عليهم الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 241 والصغار لوجود صفات نفوسكم وهيئاتها المظلمة وتكاثف حجب أنانيتكم وتفرعنكم وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى أي منفردين مجردين عن كل شيء بالاستغراق في عين جمع الذات كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ عند أخذ الميثاق. إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ أي حبة القلب بنور الروح عن العلوم والمعارف وَالنَّوى أي نوى النفس بنور القلب عن الأخلاق والمكارم أو فالق حبة المحبة الأزلية في قلوب المحبين والصديقين ونوى شجر أنوار الأزل في فؤاد العارفين فتثمر بالأعمال الزكية والمقامات الشريفة والحالات الرفيعة يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ أي العالم به من الجاهل وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ أي الجاهل به من العالم أو يخرج حي القلب عن ميت النفس تارة باستيلاء نور الروح عليها ومخرج ميت النفس عن حي القلب أخرى بإقباله عليها واستيلاء الهوى وصفات النفس عليه فالِقُ الْإِصْباحِ أي مظهر أنوار صفاته على صفحات آفاق مخلوقاته أو شاق ظلمة الإصباح بنور الإصباح وذلك لأن بحر العدم كان مملوءا من الظلمة فشقه بأن أجرى فيه جدولا من نوره حتى بلغ السيل الربى وقال الإمام فالق ظلمة العدم بصباح التكوين والإيجاد وفالق ظلمة الجمادية بصباح الحياة والعقل والرشاد وفالق ظلمة الجهالة بصباح الإدراك وفالق ظلمة العالم الجسماني بتخليص النفس القدسية إلى فسحة عالم الأفلاك وفالق ظلمة الاشتغال بعالم الممكنات بصباح نور الاستغراق في معرفة مدبر المحدثات والمبدعات، وقال بعض العارفين المعنى فالق ظلمة صفات النفس عن القلب بإصباح نور شمس الروح وإشراقه عليها وجاعل الليل أي ليل الحيرة في الذات البحت سَكَناً تسكن إليه أرواح العاشقين كما قال قائلهم: زدني بفرط الحب فيك تحيرا ... وارحم حشا بلظى هواك تسعرا أو جاعل ظلمة النفس سكن القلب يسكن إليها أحيانا للارتفاق والاسترواح أو سكنا تسكن فيه القوى البدنية وتستقر عن الاضطراب كما قيل وَالشَّمْسَ أي شمس تجلي الصفات وَالْقَمَرَ أي قمر تجلي الأفعال «حسبانا» أي على حساب الأحوال حيث يعتبر بهما أو شمس الروح وقمر القلب محسوبين في عداد الموجودات الباقية الشريفة معتدا بهما. أو علمي حساب الأوقات والأحوال وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ أي المرشدين أو بحوم الحواس لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وهو علم الآداب وَالْبَحْرِ وهو علم الحقائق أو المعنى لتهتدوا بها في ظلمات بر الأجساد إلى مصالح المعاش وبحر العلوم باكتسابها بها وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ أي أظهركم مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وهي النفس الكلية فَمُسْتَقَرٌّ في أرض البدن حال الظهور وَمُسْتَوْدَعٌ في عين جمع الذات وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً أي من سماء الروح ماء العلم فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ أي كل صنف من الأخلاق والفضائل فَأَخْرَجْنا مِنْهُ أي النبات خَضِراً زينة النفس وبهجة لها نُخْرِجُ مِنْهُ أي الخضر حَبًّا مُتَراكِباً أي أعمالا مترتبة شريفة ونيات صادقة يتقوى القلب بها وَمِنَ النَّخْلِ أي نخل العقل مِنْ طَلْعِها أي من ظهور تعلقها قِنْوانٌ معارف وحقائق دانِيَةٌ قريبة التناول لظهورها بنور الروح كأنها بديهية وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وهي أعناب الأحوال والأذواق ومنها تعتصر سلافة المحبة وفي سكرة منها ولو عمر ساعة ... ترى الدهر عبدا طائعا ولك الحكم وَالزَّيْتُونَ أي زيتون التفكر وَالرُّمَّانَ أي رمان الهمم الشريفة والعزائم النفيسة مُشْتَبِهاً كما في أفراد نوع واحد وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كنوعين وفردين منهما مثلا انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ أي راعوه بالمراقبة عند السلوك وبدء الحال وَيَنْعِهِ وهو كماله عند الوصول بالحضور وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ أي جن الوهم والخيال حيث أطاعوهم وانقادوا لهم وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا افتروا لَهُ بَنِينَ من العقول وَبَناتٍ من النفوس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 242 يعتقدون أنها لتجردها مؤثرة مثله بِغَيْرِ عِلْمٍ منهم أنها أسماؤه وصفاته لا تؤثر إلا به جل شأنه سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ من تقيده بما قيدوه به جل شأنه لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ قال الشيخ الأكبر قدس سره في الباب الحادي والعشرين وأربعمائة: يعني من كل عين من أعين الوجوه وأعين القلوب فإن القلوب ما ترى إلا بالبصر وأعين الوجوه لا ترى إلا بالبصر فالبصر حيث كان به يقع الإدراك فيسمى البصر في العقل عين البصيرة ويسمى في الظاهر بصر العين والعين في الظاهر محل للبصر والبصيرة في الباطن محل للعين الذي هو بصر في عين الوجه فاختلف الاسم عليه وما اختلف هو في نفسه فكما لا تدركه العيون بأبصارها لا تدركه البصائر بأعينها، وورد في الخبر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن الله تعالى احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار وإن الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم» فاشتركنا في الطلب مع الملأ الأعلى واختلفنا في الكيفية فمنا من يطلبه بفكره والملأ الأعلى له العقل وما له الفكر، ومنا من يطلبه به وليس في الملأ الأعلى من يطلبه به لأن الكامل منا هو على الصورة الإلهية التي خلقه الله تعالى عليها فلهذا يصح ممن هذه صفته أن يطلب الله تعالى به ومن طلبه به وصل إليه فإنه لم يصل إليه غيره وأن الكامل منا له نافلة تزيد على فرائضه إذا تقرب العبد بها إلى ربه أحبه فإذا أحبه كان سمعه وبصره فإذا كان الحق بصر مثل هذا العبد رآه وأدركه ببصره لأن بصره الحق فما أدركه إلا به لا بنفسه وما ثم ملك يتقرب إلى الله تعالى بنافلة بل هم في الفرائض وفرائضهم قد استغرقت أنفاسهم فلا نفل عندهم فليس لهم مقام ينتج أن يكون الحق بصرهم حتى يدركوه به فهم عبيد اضطرار ونحن عبيد اضطرار من فرائضنا وعبيد اختيار من نوافلنا إلى آخر ما قال، وهو صريح في أن بعض الأبصار تدركه لكن من حيثية رفع الغيرية. وقال في الباب الرابع عشر وأربعمائة بعد أن أنشد: من رأى الحق كفاحا علنا ... إنما أبصره خلف حجاب وهو لا يعرفه وهو به ... إن هذا لهو الأمر العجاب كل راء لا يرى غير الذي ... هو فيه من نعيم وعذاب صورة الرائي تجلت عنده ... وهو عين الراء بل عين الحجاب فإذا رآه سبحانه الرائي كفاحا فما يراه إلا حتى يكون الحق جل جلاله بصره فيكون هو الرائي نفسه ببصره في صورة عبده فأعطته الصورة المكافحة إذا كانت الحاملة للبصر ولجميع القوى إلخ. وقال في الباب الحادي وأربعمائة بعد أن أنشد: قد استوى الميت والحي ... في كونهم ما عندهم شيء مني فلا نور ولا ظلمة ... فيهم ولا ظل ولا في رؤيتهم لي معدومة ... فنشرهم في كونهم طي وفهمهم إن كان معناهم ... عنه إذا حققته غي إن كل مرئي لا يرى الرائي إذا رآه منه إلا قدر منزلته ورتبته فما رآى إلا نفسه ولولا ذلك ما تفاضلت الرؤية في الرائين إذ لو كان هو المرئي ما اختلفوا لكن لما كان هو سبحانه مجلي رؤيتهم أنفسهم لذلك وصفوه بأنه جل شأنه يتجلى ولكن شغل الرائي برؤية نفسه في مجلي الحق حجبه عن رؤية الحق فلو لم تبد للرائي صورته أو صورة كون من الأكوان ربما كان يراه فما حجبنا عنه إلا رؤية نفوسنا فيه فلو زلنا عنا ما رأيناه لأنه ما كان يبقى بزوالنا من يراه وإن نحن لم نزل فما نرى إلا نفوسنا فيه وصورنا وقدرنا ومنزلتنا فعلى كل حال ما رأيناه وقد نتوسع فنقول: قد رأيناه ونصدق كما أنه لو قلنا رأينا الإنسان صدقنا في أن نقول: رأينا من مضي من الناس ومن بقي ومن في زماننا من كونهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 243 إنسانا لا من حيث شخصية كل إنسان ولما كان العالم أجمعه وآحاده على صورة حق ورأينا الحق فقد رأينا وصدقنا وإذا نظرنا في عين التمييز في عين عين لم نصدق إلى آخر ما قال. وفي ذلك تحقيق نفيس لهذا المطلب، ومنه يعلم ما في قول بعضهم لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ لغاية ظهوره سبحانه وَهُوَ اللَّطِيفُ إذ لا ألطف كما قال الشيخ الأكبر قدس سره من هوية تكون عين بصر العبد الْخَبِيرُ أي العليم خبرة أنه بصر العبد وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ [البروج: 20] . ولَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] وعن الجنيد قدس سره للطيف من نور قلبك بالهدى وربب جسمك بالغذاء وجعل لك الولاية بالبلوى. ويحرسك وأنت في لظى. ويدخلك جنة المأوى. وقال غيره: اللطيف إن دعوته لباك وإن قصدته أواك، وإن أحببته أدناك وإن أطعته كافأك. وإن أغضبته عافاك وإن أعرضت عنه دعاك. وإن أقبلت إليه هداك وإن عصيته راعاك. وهو كلام ما ألطفه قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وهي صور تجليات صفاته. وقال بعض العارفين: إنها كلماته التي تجلى منها لذوي الحقائق وبرزت من تحت سرادقاتها أنوار نعوته الأزلية فَمَنْ أَبْصَرَ واهتدى فَلِنَفْسِهِ ذلك الإبصار أي أن ثمرته تعود إليه وَمَنْ عَمِيَ واحتجب عن الهدى فَعَلَيْها عماه واحتجابه وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ بل الله تعالى حفيظ عليكم لأنكم وسائر شؤونكم به موجودون (1) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قال ابن عطاء أي حقيقة البيان وهو الوقوف معه حيث ما وقف والجري معه حيث ما جرى لا يتقدم بغلبته ولا يتخلف عنه لعجزه، وقال آخر: المعنى لقوم يعرفون قدري ويفهمون خطابي لا من لا يعرف مكان خطابي ومرادي من كلامي اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ قيل: وهو إشارة إلى وحي خاص به صلّى الله عليه وسلّم لا يتحمله غيره أو إشارة إلى الوحي بالتوحيد ولذا وصف سبحانه نفسه بقوله: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ثم قال جل شأنه وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ المحجوبين بالكثرة عن الوحدة وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا بل شاء سبحانه إشراكهم لأنه المعلوم له جل شأنه أزلا دون إيمانهم ولا يشاء إلا ما يعلمه دون ما لا يعلمه من النفي الصرف وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بل أرشدوهم إلى الحق بالتي هي أحسن فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ بأن يسبوكم وأنتم أعظم مظاهره كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ إذ هو الذي طلبوه منا بألسنة استعدادهم الأزلي من شأننا أن لا نرد طالبا وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها أي أنهم طلبوا خوارق العادات وأعرضوا عن الحجج البينات لاحتجابهم بالحس والمحسوس قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ فيأتي بها حسبما تقتضيه الحكمة وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ لسبق الشقاء عليهم وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ لاقتضاء استعدادهم ذلك كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ حين أعرضوا عن الحجج البينات أو في الأزل وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ الذي هو لهم بمقتضى استعدادهم يَعْمَهُونَ يترددون متحيرين لا يدرون وجه الرشاد وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الرعد: 33] تم طبع الجزء السابع من تفسير روح المعاني للعلامة الألوسي بحول الله وقوته ويتلوه إن شاء الله تعالى الجزء الثامن منه وأول قوله تعالى وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا الآية   (1) قوله وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ كذا بخطه وأسقط المصنف كلمات من هذه الآية كما أنه أسقط بعض ألفاظ- من هذه الصحيفة كما هو عادته في نظائر ما هنا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 244 روح المعاني الجزء الثامن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 245 بسم الله الرحمن الرحيم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 247 وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ تصريح بما أشعر به قوله عز وجل: وَما يُشْعِرُكُمْ إلخ من الحكمة الداعية إلى ترك الإجابة إلى ما اقترحوا وبيان لكذبهم في إيمانهم على أبلغ وجه وآكده أي ولو أنا لم نقتصر على ما اقترحوه هاهنا بل نزلنا إليهم الملائكة كما سألوه بقولهم: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ [الفرقان: 21] وقولهم: لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ [الحجر: 7] وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى بأن أحييناهم وشهدوا بحقية الإيمان حسبما اقترحوه بقولهم: فَأْتُوا بِآبائِنا [الدخان: 36] وَحَشَرْنا أي جمعنا وسوقنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا أي مقابلة ومعاينة حتى يواجهوهم كما روي عن ابن عباس وقتادة، وهو على هذا مصدر كما قاله غير واحد وإلى ذلك ذهب ابن زيد، وعنه: يقال لقيت فلانا قبلا ومقابلة وقبلا وقبلا وقبيلا كله بمعنى واحد وهو المواجهة. ونقل الراغب أنه جمع قابل بمعنى مقابل لحواسهم، وقيل: هو جمع قبيل بمعنى كفيل كرغيف ورغف وقضيب وقضب فهو من قولك: قبلت الرجل وتقبلت به إذا تكفلت به، ومنه القبالة لكتاب العهد والصك. وروي ذلك عن الفراء. وعن مجاهد تفسيره بالجماعة على أنه جمع قبيلة كما قال الراغب. ونقل تفسيره بالكفيل وبالجماعة وكذا بالمعاينة والمقابلة في قوله تعالى: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الإسراء: 92] أي لو أحضرنا لديهم كل شيء تتأتى منهم (1) الكفالة والشهادة بحقية الإيمان لا فرادى بل بطريق المعية أو لو حشرنا عليهم كل شيء جماعات في موقف واحد ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا أي ما صح ولا استقام لهم الإيمان، وانتصاب قُبُلًا على هذه الأقوال على أنه حال من «كل» وساغ ذلك على القول بجمعيته لأن كلا يجوز مراعاة معناه ومراعاة لفظه كما نص عليه النحاة واستشهدوا له بقول عنترة: جادت عليه كل عين ثرة ... فتركن كل حديقة كالدرهم إذ قال تركن دون تركت فلا حاجة إلى ما قيل: إن ذلك باعتبار لازمه وهو الكل المجموعي: وقرأ نافع وابن عامر «قبلا» بكسر القاف وفتح الباء وهو مصدر بمعنى مقابلة ومشاهدة، ونصبه على الحال كما قال الفراء، والزجاج، وكثير، وعن المبرد أنه بمعنى جهة وناحية فانتصابه على الظرفية كقولهم: لي قبل فلان كذا. وقرىء «قبلا» بضم فسكون. وما كانُوا إلخ جواب لو وهو إذا كان منفيا لا تدخله اللام خلافا لمن وهم فقدرها. وعلل هذا الحكم بسوء استعدادهم الثابت أزلا في علم الله تعالى المتعلق بالأشياء حسبما هي عليه في نفس   (1) قوله كل شيء تتأتى منهم كذا بخطه والأمر في دلك سهل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 248 الأمر وعلله البعض لسبق القضاء عليهم بالكفر. واعترض عليه بعض الأفاضل بأن فيه تعليل الحوادث بالتقدير الأزلي ولا يخفى فساده، وعلله ببطلان استعدادهم وتبدل فطرتهم القابلة بسوء اختيارهم، وتبعه في ذلك شيخ الإسلام وعلله بتماديهم في العصيان وغلوهم وتمردهم في الطغيان معترضا على ما ذكر بأنه من الأحكام المترتبة على التمادي المذكور حسبما ينبىء عنه قوله تعالى: وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ وتعقب ذلك الشهاب قائلا: إنه ليس بشيء لأن ما ذكر على مذهب الأشعري القائل بأنه لا تأثير لاختيار العبد وإن قارن الفعل عنده، ولا يلزم الجبر كما يتوهم على ما حققه أهل الأصول. ولا خفاء في كون القضاء الأزلي سببا لوقوع الحوادث ولا فساد فيه، وأما سوء اختيار العبد فسبب للقضاء الأزلي، وتحقيقه كما قيل: إن سوء الاختيار وإن كان كافيا في عدم وقوع الإيمان لكنه لا قطع فيه لجواز أن يحسن الاختيار بصرفه إلى الإيمان بدل صرفه إلى الكفر فكان سوء اختياره فيما لا يزال سببا للقضاء بكفره في الأزل فبعد القضاء يكون الواقع منه الكفر حتما كما قال سبحانه وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها [السجدة: 13] انتهى. وأنا أقول وإن أنكر على أرباب الفضول: إن المعلل بسوء الاستعداد هو السالك مسلك السداد، وتحقيق ذلك أنه قد حقق كثير من الراسخين وأهل الكشف الكاملين أن ماهيات الممكنات المعلومة لله تعالى أزلا معدومات متميزة في نفسها تمييزا ذاتيا غير مجعول لما حقق من توقف العلم بها على ذلك التميز وإنما المجعول صورها الوجودية الحادثة وأن لها استعدادات ذاتية غير مجعولة تختلف اقتضاءاتها، فمنها ما يقتضي اختيار الإيمان والطاعة. ومنها ما يقتضي اختيار الكفر والمعصية والعلم الإلهي متعلق بها كاشف لها على ما هي عليه في أنفسها من اختلاف استعداداتها التي هي من مفاتح الغيب التي لا يعلمها إلا هو واختلاف مقتضيات تلك الاستعدادات فإذا تعلق العلم الإلهي بها على ما هي عليه مما يقتضيه استعدادها من اختيار أحد الطرفين الممكنين أعني الإيمان والطاعة أو الكفر والمعصية تعلقت الإرادة الإلهية بهذا الذي اختاره العبد حال عدمه بمقتضى استعداده تفضلا ورحمة لا وجوبا لغناه الذاتي عن العالمين المصحح لصرف اختيار العبد إلى الطرف الآخر الممكن بالذات إن شاء فيصير مراد العباد بعد تعلق الإرادة الإلهية مراد الله تعالى، ومن هذا ظهر أن اختيارهم الأزلي بمقتضى استعدادهم متبوع للعلم المتبوع للإرادة مراعاة للحكمة تفضلا وإن اختيارهم فيما لا يزال تابع للإرادة الأزلية المتعلقة باختيارهم لما اختاروه فهم مجبورون فيما لا يزال في عين اختيارهم أي مساقون إلى أن يفعلوا ما يصدر عنهم باختيارهم لا بالإكراه والجبر. ومنه يتضح معنى قول أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه: إن الله تعالى لم يعص مغلوبا ولم يطع مكرها ولم يملك تفويضا ولم يكونوا مجبورين في اختيارهم الأزلي لأنه سابق الرتبة على العلم السابق على تعلق الإرادة والجبر تابع للإرادة التابع للعلم التابع للمعلوم الذي هو هنا اختيارهم الأزلي فيمتنع أن يكون تابعا لما هو متأخر عنه بمراتب فمن وجد خيرا فليحمد الله تعالى لأنه سبحانه متفضل بإيجاد ما اختاروه لا يجب عليه مراعاة الحكمة ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه لأن إرادته جل شأنه لم تتعلق بما صدر منهم من الأفعال إلا لكونهم اختاروها أزلا بمقتضى استعدادهم فاختارها تعالى مراعاة للحكمة تفضلا، والعباد كاسبون بالله تعالى إذ لا كسب إلا بقوة ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والله تعالى خالق أعمالهم بهم لأنه سبحانه أخبر بأنه خالق أعمالهم مع نسبة العمل إليهم المتبادر منها صدورها منهم باختيارهم وذلك يقتضي أن المخلوق لله تعالى بالعبد عين مكسوب العبد بالله تعالى، ولا منافاة بين كون الأعمال مخلوقة لله تعالى وبين كونها مكسوبة لهم بقدرتهم واختيارهم، وما شاع عن الأشعري من أنه لا تأثير لقدرة العبد أصلا وإنما هي مقارنة للفعل وهو بمحض قدرة الله تعالى فمما لا يكاد يقبل عند المحققين المحقين، وقدرة العبد عندهم مؤثرة بإذن الله تعالى لا استقلالا كما يزعمه المعتزلة ولا غير مؤثّرة كما نسب إلى الأشعري ولا هي منفية بالكلية. كما يقوله الجبرية، وهذا بحث مفروغ منه وقد أشرنا إليه في أوائل التفسير، وليس غرضنا هنا سوى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 249 تحقيق أن عدم إيمان الكفار إنما هو لسوء استعدادهم الأزلي الغير المجعول المتبوع للعلم المتبوع للإرادة ليعلم منه ما في كلام الشهاب وغيره وقد حصل ذلك بتوفيقه تعالى عند من تأمل وأنصف. إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ استثناء من أعم الأحوال فإن لوحظ أن جميع أحوالهم شاملة لحال تعلق المشيئة بهم فهو متصل وإن لم يلاحظ لأن حال المشيئة ليس من أحوالهم كان منقطعا أي لكن إن شاء الله تعالى آمنوا واستبعده أبو حيان، وقيل: هو استثناء من أعم الأزمان وهو خلاف الظاهر، والالتفات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة أي ما كانوا ليؤمنوا بعد اجتماع ما ذكر من الأمور الموجبة للإيمان في حال من الأحوال إلا في حال مشيئته تعالى إيمانهم، والمراد بيان استحالة وقوع إيمانهم بناء على استحالة وقوع المشيئة كما يدل عليه السباق واللحاق وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ استثناء من مضمون الشرطية بعد ورود الاستثناء، وضمير الجمع للمسلمين أو للمقسمين، والمعنى أن حالهم كما شرح ولكن أكثر المسلمين يجهلون عدم إيمانهم عند مجيء الآيات لجهلهم عدم مشيئته تعالى لإيمانهم فيتمنون مجيئها طمعا فيما لا يكون أو ولكن المشركين يجهلون عدم إيمانهم عند مجيء الآيات لجهلهم عدم مشيئته تعالى لإيمانهم حينئذ فيقسمون بالله تعالى جهد أيمانهم على ما لا يكاد يوجد أصلا. فالجملة على الأول- كما قال بعض المحققين- مقررة لمضمون قوله تعالى: وَما يُشْعِرُكُمْ إلخ على القراءة المشهورة، وعلى الثاني بيان لمنشأ خطأ المقسمين ومناط أقسامهم على تلك القراءة أيضا وتقرير له على قراءة «لا تؤمنون» بالفوقانية، وكذا على قراءة «وما يشعرهم أنها إذا جاءت لا يؤمنون» واستدل أهل السنة بالآية على أن الله تعالى يشاء من الكافر كفره وقرر ذلك بأنه سبحانه لما ذكر أنهم لا يؤمنون إلا أن يشاء الله تعالى إيمانهم دل على أنه جل شأنه ما شاء ايمانهم بل كفرهم. وأجاب عنه المعتزلة بأن المراد إلا أن يشاء مشيئة قسر وإكراه، وعدم إيمانهم يستلزم عدم المشيئة القسرية وهي لا تستلزم عدم المشيئة مطلقا. واستدل بها الجبائي على حدوث مشيئته تعالى وإلا يلزم قدم ما دل الحس على حدوثه. وأهل السنة تفصوا عن ذلك بدعوى أن تعلقها بإحداث ذلك المحدث في الحال إضافة حادثة فتأمل جميع ذلك: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا كلام مبتدأ مسوق لتسلية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عما يشاهده من عداوة قريش وما بنوا عليها من الأقاويل والأفاعيل، وذلك إشارة إلى ما يفهم مما تقدم، والكاف في موضع نصب على أنه نعت لمصدر مؤكد لما بعده، والتقديم للقصر المفيد للمبالغة، وعَدُوًّا بمعنى أعداء كما في قوله: إذا أنا لم أنفع صديقي بوده ... فإن عدوي لم يضرهم بغضي أي مثل ذلك الجعل في حقك حيث جعلنا لك أعداء أيضا دونك ولا يؤمنون ويبغونك الغوائل ويجهدون في إبطال أمرك جعلنا لكل نبي تقدمك فعلوا معهم نحو ما فعل معك أعداؤك لا جعلا أنقص منه. وجعله الإمام على هذا الوجه عطفا على معنى ما تقدم من الكلام، ولعله ليس المراد منه العطف الاصطلاحي، وجوز أن يكون مرتبطا بقوله سبحانه: وكَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ أي كما فعلنا ذلك جعلنا لكل نبي عدوا وفيه بعد. وأيا ما كان فالآية ظاهرة فيما ذهب إليه أهل السنة من أنه تعالى خالق الشر كما أنه خالق الخير، وحملها على أن المراد بها وكما خلينا بينك وبين أعدائك كذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأعدائهم لم نمنعهم من العداوة لما فيه من الامتحان الذي هو سبب ظهور الثبات والصبر وكثرة الثواب والأجر خلاف الظاهر. ومثله قول أبي بكر الأصم إن هذا الجعل بطريق التسبب حيث أرسل سبحانه الأنبياء عليهم السلام وخصهم بالمعجزات فحسدهم من حسدهم وصار ذلك سببا للعداوة القوية، ونظير ذلك قول المتنبي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 250 فأنت الذي صيرتهم حسدا وقيل: المراد كما أمرناك بعداوة قومك من المشركين كذلك أمرنا من قبلك من الأنبياء بمعاداة نحو أولئك أو كما أخبرناك بعداوة المشركين وحكمنا بذلك أخبرنا الأنبياء بعداوة أعدائهم وحكمنا بذلك والكل ليس بشيء، وهكذا غالب تأويلات المعتزلة. شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ أي مردة النوعين كما روي عن الحسن، وقتادة، ومجاهد على أن الإضافة يعني من البيانية وقيل: هي إضافة الصفة للموصوف والأصل الإنس والجن الشياطين، وقيل: هي بمعنى اللام أي الشياطين للإنس والجن. وفي تفسير الكلبي عن ابن عباس ما يؤيده فإنه روي عنه أنه قال: إن إبليس عليه اللعنة جعل جنده فريقين فبعث فريقا منهم إلى الإنس وفريقا آخر إلى الجن. وفي رواية أخرى عنه أن الجن هم الجان وليسوا بشياطين الشياطين ولد إبليس وهم لا يموتون إلا معه والجن يموتون ومنهم المؤمن والكافر، وهو نصب على البدلية من عَدُوًّا والجعل متعد إلى واحد أو إلى اثنين وهو أول مفعوليه قدم عليه الثاني مسارعة إلى بيان العداوة، واللام على التقديرين متعلقة بالجعل أو بمحذوف وقع حالا من عَدُوًّا قدم عليه لنكارته، وجوز أن يكون متعلقا به وقدم عليه للاهتمام، وأن يكون نصب شَياطِينَ بفعل مقدر. وقوله سبحانه: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ كلام مستأنف مسوق لبيان أحكام عداوتهم أو حال من شياطين أو صفة لعدو، وجمع الضمير باعتبار المعنى كما في البيت السابق، وأصل الوحي- كما قال الراغب- الإشارة السريعة ولتضمن السرعة قيل أمر وحي، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب وبإشارة بعض الجوارح وبالكتابة أيضا، والمعنى هنا يلقي ويوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس أو بعض كل من الفريقين إلى الآخر زُخْرُفَ الْقَوْلِ أي المزوق من الكلام الباطل منه. وأصل الزخرف الزينة المزوقة، ومنه قيل للذهب: زخرف، وقال بعضهم: أصل معنى الزخرف الذهب، ولما كان حسنا في الأعين قيل لكل زينة زخرفة، وقد يخص بالباطل غُرُوراً مفعول له أي ليغروهم، أو مصدر في موقع الحال أي غارين، أو مصدر لفعل مقدر هو حال من فاعل يُوحِي أي يغرون غرورا، وفسر الزمخشري الغرور بالخداع والأخذ على غرة، ونسب للراغب أنه قال: يقال غره غرورا كأنما طواه على غره- بكسر الغين المعجمة وتشديد الراء- وهو طيه الأول. وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ رجوع كما قيل إلى بيان الشؤون الجارية بينه عليه الصلاة والسلام وبين قومه المفهومة من حكاية ما جرى بين الأنبياء عليهم السلام وبين أممهم كما ينبىء عنه الالتفات، والتعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام المعربة عن كمال اللطف في التسلية، والضمير المنصوب في فَعَلُوهُ عائد إلى عداوتهم له صلّى الله عليه وسلّم وإيحاء بعضهم إلى بعض مزخرفات الأقاويل الباطلة المتعلقة بأمره عليه الصلاة والسلام باعتبار انفهام ذلك مما تقدم وأمر الإفراد سهل، وقيل: إنه عائد إلى ما ذكر من معاداة الأنبياء عليهم السلام، وإيحاء الزخرف أعم من أن تكون في أمره صلّى الله عليه وسلّم وأمور إخوانه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وفيه أن قوله تعالى: فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ كالصريح في أن المراد بهم الكفرة المعاصرون له عليه الصلاة والسلام، وقيل: هو عائد إلى الإيحاء أو الزخرف أو الغرور، وفي أخذ ذلك عاما أو خاصا احتمالان لا يخفى الأولى منهما، ومفعول المشيئة محذوف أي عدم ما ذكر ولا إشكال في جعل العدم الخاص متعلق المشيئة، وقدره بعضهم إيمانهم. واعترض بأن القاعدة المستمرة أن مفعول المشيئة عند وقوعها شرطا يكون مضمون الجزاء كما في علم المعاني وهو هنا ما فَعَلُوهُ وتعقب بأنه هاهنا المشيئة فيما تقدم متعلقا بشيء وهو الإيمان كما أشير إليه ثم ذكر في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 251 حيز الشرط بدون متعلق فالظاهر أنه يجوز أن يقدر متعلقه مضمون الجزاء وأن يقدر ما علق به فعل المشيئة سابقا، ولا بأس بمراعاة كل من الأمرين بحسب ما يقتضيه الحال. والمذكور في المعاني إنما هو فيما لم يتكرر فيه فعل المشيئة ولم يكن قرينة غير الجزاء فليعرف ذلك فإنه بديع، والأولى عندي اعتبار مضمون الجزاء مطلقا، وإنما قال سبحانه هنا وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ وفيما يأتي وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ [الأنعام: 137] فغاير بين الاسمين في المحلين لما ذكر بعضهم وهو أن ما قبل هذه الآية من عداوتهم له عليه الصلاة والسلام كسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام التي لو شاء منعهم عنها فلا يصلون إلى المضرة أصلا يقتضي ذكره جل شأنه بهذا العنوان إشارة إلى أنه مربيه صلّى الله عليه وسلّم في كنف حمايته وإنما لم يفعل سبحانه ذلك لأمر اقتضته حكمته، وأما الآية الأخرى فذكر قبلها إشراكهم فناسب ذكره عز اسمه بعنوان الألوهية التي تقتضي عدم الاشتراك فكأنه قيل هاهنا: إذا كان ما فعلوه من أحكام عداوتك من فنون المفاسد بمشيئة ربك جل شأنه الذي لم تزل في كنف حمايته وظل تربيته فاتركهم وافتراءهم أو وما يفترونه من أنواع المكائد ولا تبال به فإن لهم في ذلك عقوبات شديدة ولك عواقب حميدة لابتناء مشيئته سبحانه على الحكم البالغة البتة. وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أي إلى زخرف القول، وقيل: الضمير للوحي أو للغرور أو للعداوة لأنها بمعنى التعادي، والواو للعطف وما بعدها عطف على غُرُوراً بناء على أنه مفعول له فيكون علة أخرى للإيحاء وما في البين اعتراض، وإنما لم ينصب لفقد شرط النصب إذ الغرور فعل الموحي وصغو الأفئدة فعل الموحى إليه. وهو على الوجهين الأخيرين علة لفعل محذوف يدور عليه المقام أي وليكون ذلك جعلنا ما جعلنا. وأصل الصغو- كما قال الراغب- الميل يقال: صغت الشمس والنجوم صغوا مالت للغروب وصغت الإناء وأصغيته وأصغيت إلى فلان ملت بسمعي نحوه، وحكي صغوت إليه أصغو وأصغي صغوا وصغيا، وقيل: صغيت أصغي وأصغيت أصغي. وفي القاموس صغا يصغو ويصغي صغوا وصغى يصغي صغا وصغيا مال. وذكر بعض الفضلاء أن هذا الفعل مما جاء واويا ويائيا فقيل: يصغو ويصغي صغوا وصغى يصغي صغا وصغيا مال. وذكر بعض الفضلاء أن هذا الفعل مما جاء واويا ويائيا فقيل: يصغو ويصغي ويقال: في مصدره صغيا بالفتح والكسر. وزاد الفراء صغيا وصغوا بالياء والواو مشددتين، ويقال: إن أصغى مثله. والمراد هنا ولتميل إليه أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي على الوجه الواجب. وخص عدم إيمانهم بها دون ما عداها من الأمور التي يجب الإيمان بها وهم بها كافرون- قال مولانا شيخ الإسلام- إشعارا بما هو المدار في صغو أفئدتهم إلى ما يلقى إليهم فإن لذات الآخرة محفوفة في هذه النشأة بالمكاره وآلامها مزينة بالشهوات فالذين لا يؤمنون بها وبأحوال ما فيها لا يدرون أن وراء تلك المكاره لذات ودون هذه الشهوات آلاما وإنما ينظرون ما بدا لهم في الدنيا بادي الرأي فهم مضطرون إلى حب الشهوات التي من جملتها مزخرفات الأقاويل ومموهات الأباطيل، وأما المؤمنون بها فحيث كانوا واقفين على حقيقة الحال ناظرين إلى عواقب الأمور لم يتصور منهم الميل إلى تلك المزخرفات لعلمهم ببطلانها ووخامة عاقبتها اه. والآية حجة على المعتزلة في وجه. وأجاب الكعبي بأن الكلام للعاقبة وليست للتعليل بوجه وهو خلاف الظاهر. وقال غيره: إنها لام القسم كسرت لما لم يؤكد الفعل بالنون، واعترض بأن النون حذفت ولام القسم باقية على فتحهها كقوله: لئن تك قد ضاقت علي بيوتكم ... ليعلم ربي أن بيتي واسع بفتح لام ليعلم، نعم حكي عن بعض العرب كسر لام جواب القسم الداخلة على المضارع كقوله: لتغني عني ذا أنائك أجمعا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 252 وهو غير مجمع عليه أيضا فإن أناسا أنكروا ورود ذلك، وجعلوا اللام في البيت للتعليل والجواب محذوف أي لتشربن لتغني عني. واستشهد الأخفش بالبيت على إجابة القسم بلام كي. وقال الرضي: لا يجوز عند البصريين في جواب القسم الاكتفاء بلام الجواب عن نون التوكيد إلا في الضرورة. وعن الجبائي أن اللام هنا لام الأمر، والمراد منه التهديد أو التخلية واستعمال الأمر في ذلك كثير. واعترض بأنها لو كانت لام الأمر لحذف حرف العلة. وأجيب بأن حرف العلة قد يثبت في مثله كما خرج عليه قراءة أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ (1) إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ (2) فليكن هذا كذلك. ويؤيد أنها لام الأمر أنه قرىء بحذف حرف العلة. وقرأ الحسن بتسكين اللام في هذا وفي الفعلين بعده. فدعوى أن ضعف كونها للأمر أظهر من ضعف الوجهين الأولين غير ظاهرة. واستدل أصحابنا بإسناد الصغو إلى الأفئدة على أن البنية ليست شرطا للحياة فالحي عندهم هو الجزء الذي قامت به الحياة، والعالم هو الجزء الذي قام به العلم، وقالت المعتزلة: الحي والعالم هو الجملة لا ذلك الجزء، والإسناد هنا مجازي وَلِيَرْضَوْهُ لأنفسهم بعد ما مالت إليه أفئدتهم وَلِيَقْتَرِفُوا أي ليكتسبوا، قال الراغب: أصل القرف والاقتراف قشر اللحاء عن الشجرة والجليدة عن الجرح وما يؤخذ منه قرف، واستعير الاقتراف للاكتساب حسنى أو سوأى وفي الإساءة أكثر استعمالا، ولهذا يقال: الاعتراف يزيل الاقتراف، ويقال: قرفت فلانا بكذا إذا عبته به واتهمته وقد حمل على ذلك ما هنا وفيه بعد. ومثله ما نقل عن الزجاج أن المعنى فيه وليختلقوا وليكذبوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ أي الذي هم مقترفون من القبائح التي لا يليق ذكرها. وجوز أن تكون ما موصوفة، والعائد محذوف أيضا. وأن تكون مصدرية فلا حاجة إلى تقدير عائد. أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً كلام مستأنف على إرادة القول. والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي قل لهم يا محمد: أأميل إلى زخارف الشياطين أو أعدل عن الطريق المستقيم فأطلب حكما غير الله تعالى يحكم بيني وبينكم ويفصل المحق منا من المبطل. وقيل: إن مشركي قريش قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اجعل بيننا وبينك حكما من أحبار اليهود أو من أساقفة النصارى ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك فنزلت. وإسناد الابتغاء المنكر لنفسه الشريفة صلّى الله عليه وسلّم لا إلى المشركين كما في قوله سبحانه: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ [آل عمران: 83] مع أنهم الباغون لإظهار كمال النصفة أو لمراعاة قولهم اجعل بيننا وبينك حكما، و «غير» مفعول أَبْتَغِي وحَكَماً حال منه، وقيل: تمييز لما في «غير» من الإبهام كقولهم: إن لنا إبلا غيرها، وقيل: مفعول له، وأولى المفعول همزة الاستفهام دون الفعل لأن الإنكار إنما هو في ابتغاء غير الله تعالى حكما لا في مطلق الابتغاء فكان أولى بالتقديم وأهم، وقيل: تقديمه للتخصيص. وحمل على أن المراد تخصيص الإنكار لا إنكار التخصيص، وقيل: في تقديمه إيماء إلى وجوب تخصيصه تعالى بالابتغاء والرضى بكونه حكما. وجوز أن يكون «غير» حالا من حَكَماً وحكما مفعول أَبْتَغِي والتقديم لكونه مصب الإنكار، والحكم يقال للواحد والجمع كما قال الراغب، وصرح هو وغيره بأنه أبلغ من الحاكم لا مساو له كما نقل الواحدي عن أهل اللغة، وعلل بأنه صفة مشبهة تفيد ثبوت معناها ولذا لا يوصف به إلا العادل أو من تكرر منه الحكم.   (1) سورة: يوسف، الآية: 12. [ ..... ] (2) سورة: يوسف، الآية: 90. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 253 وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ جملة حالية مؤكدة للإنكار، ونسبة الإنزال إليه خاصة مع أن مقتضى المقام إظهار تساوي نسبته إلى المتحاكمين لاستمالتهم نحو المنزل واستنزالهم إلى قبول حكمه بإيهام قوة نسبته إليهم وقيل: لأن ذلك أوفق بصدر الآية بناء على أن المراد بها الإنكار عليهم وإن عبر بما عبر إظهارا للنصفة، ونظير ذلك قوله تعالى: وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس: 22] . ومعنى الآية عند بعض المحققين أغيره تعالى أبتغي حكما والحال أنه هو الذي أنزل إليكم الكتاب وأنتم أمة أمية لا تدرون ما تأتون وما تدرون القرآن الناطق بالحق والصواب الحقيق بأن يخص به اسم الكتاب. مُفَصَّلًا أي مبينا فيه الحق والباطل والحلال والحرام وغير ذلك من الأحكام بحيث لم يبق في أمر الدين شيء من التخليط والإبهام فأي حاجة بعد ذلك إلى الحكم، ثم قال: وهذا كما ترى صريح في أن القرآن الكريم كاف في أمر الدين مغن عن غيره ببيانه وتفصيله وأما أن يكون لإعجازه دخل في ذلك كما قيل فلا انتهى. ولا يخفى أن ملاحظة الإعجاز أمر مطلوب على تقدير كون الآية مرتبطة معنى بقوله سبحانه: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ الآية، وبيان ذلك على ما ذكره الإمام أنه سبحانه وتعالى لما حكى عن الكفار أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أتتهم آية ليؤمنن بها أجاب عنه جل شأنه بأنه لا فائدة في إظهار تلك الآيات لأنه تعالى لو أظهرها لبقوا مصرين على كفرهم، ثم إنه تعالى بين في هذه الآية أن الدليل الدال على نبوته عليه الصلاة والسلام قد حصل وكمل فكان ما يطلبونه طلبا للزيادة وذلك مما لا يجب الالتفات إليه، ثم نبه على حصول الدليل من هذه الآية بوجهين، الأول أنه تعالى أنزل إليه الكتاب المفصل المبين المشتمل على العلوم الكثيرة والفصاحة الكاملة وقد عجز الخلق عن معارضته فيكون ظهور هذا المعجز دليلا على أنه تعالى قد حكم بنبوته، فمعنى الآية قل يا محمد: إنكم تتحكمون في طلب سائر المعجزات فهل يجوز في العقل أن يطلب غير الله سبحانه حكما؟ فإن كل أحد يقول: إن ذلك غير جائز ثم قل: إنه تعالى حكم بصحة نبوتي حيث خصني بمثل هذا الكتاب المفصل الكامل البالغ إلى حد الإعجاز. الثاني اشتمال التوراة والإنجيل على الآيات الدالة على أنه صلّى الله عليه وسلّم رسول حق وعلى أن القرآن كتاب حق من عند الله تعالى وهذا هو المراد من الآية بعد انتهى. ووجه بعضهم مدخلية الإعجاز بأنه لا يتم الإلزام إلا بالعلم بكون المنزل من عند الله تعالى وهو يتوقف على الإعجاز بحيث يستغني عن آية أخرى دالة على صدق دعواه عليه الصلاة والسلام أنه من عند الله تعالى لكن قال: إن في دلالة النظم الكريم على ذلك خفاء إلا أن يقال: الجملة الاسمية الحالية تفيده لما فيها من الدلالة على ثبوته وتقرره في نفسه أو يجعل الكتاب بمعنى المعهود إعجازه، وذكر أن هذا من عدم تدبر الآية إذ المعنى لا أبتغي حكما في شأني وشأن غيري إلا الله سبحانه الذي نزل الكتاب لذلك، وهو إنما يحكم له صلّى الله عليه وسلّم بصدق مدعاه بالإعجاز، فإنهم لما طعنوا في نبوته عليه الصلاة والسلام وأقسموا إن جاءتهم آية آمنوا بين سبحانه أنهم مطبوع على قلوبهم وأمره أن يوبخهم وينكر عليهم بقوله تعالى: أَفَغَيْرَ اللَّهِ إلخ أي أأزيغ عن الطريق السوي فأخص غيره بالحكم وهو الذي أنزل هذا الكتاب المعجز الذي أفحكم وألزمكم الحجة فكفى به سبحانه حاكما بيني وبينكم بإنزال هذا الكتاب المفصل بالآيات البينات من التوحيد والنبوة وغيرهما الذي أعجزكم عن آخركم، ويؤول هذا إلى أنه صلّى الله عليه وسلّم أجابهم بالقول بالموجب لأنهم طعنوا في معجزاته فكبتهم على أحسن وجه وضم إليه علم أهل الكتاب، وعلى هذا فكونه معجزا مأخوذ من كونه مغنيا عما عداه في شأنه وشأن غيره على ما أشير إليه، وهذا له نوع قرب مما ذكره الإمام وما أشار إليه من ارتباط الآية معنى بما تقدم من قوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ إلخ لا يخلو عن حسن إلا أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 254 دعوى خفاء دلالة النظم الكريم على الإعجاز مما لا خفاء في صحتها عندي، ولم يظهر مما ذكر ما يزيل ذلك الخفاء، وكون سوق الآية دليلا على ملاحظة ذلك غير بعيد عن المأخذ الذي سمعته فتدبر. ومن الناس من قال: يحتمل أن يراد بالكتاب التوراة أي إنه تعالى حكم بيني وبينكم بما أنزل فيه مفصلا حيث أخبركم بنبوتي وفصل فيه علاماتي وهو كما ترى، والحق ما تقدم. وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ كلام مستأنف غير داخل تحت القول المقدر مسوق من جهته تعالى لتحقيق حقية الكتاب الذي نيط بإنزاله أمر الحكمية وتقرير كونه منزلا من عنده عز وجل، وليس المراد منه الاستدلال على ثبوت نبوته صلّى الله عليه وسلّم كما يلوح من كلام الإمام، والمراد بالكتاب التوراة والإنجيل، والتعبير عنهما بذلك للإيماء إلى ما بينهما وبين القرآن من المجانسة المقتضية للاشتراك في الحقية والنزول من عنده تعالى مع ما فيه من الإيجاز، والمراد بالموصول إما علماء اليهود والنصارى وإما الفريقان مطلقا والعلماء داخلون دخولا أوليا، والإيتاء على الأول التفهيم بالفعل وعلى الثاني أعم منه ومن التفهيم بالقوة، وإيراد الطائفتين بعنوان إيتاء الكتاب للإيذان بأنهم علموا ما علموا من جهة كتابهم، وقيل: المراد بالموصول مؤمنو أهل الكتاب. وعن عطاء أن المراد بالكتاب القرآن وبالموصول كبراء الصحابة وأهل بدر رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ولا يخفى أنه أبعد من الثريا. والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لتشريفه صلّى الله عليه وسلّم مع الإيذان بأن نزوله من آثار الربوبية. ومِنْ لابتداء الغاية مجازا وهي متعلقة بمنزل، والباء للملابسة وهي متعلقة بمحذوف وقع حالا من الضمير المستكن في مُنَزَّلٌ أي متلبسا بالحق. وقرأ غالب السبعة «منزل» بالتخفيف من الإنزال. والفرق بين أنزل ونزل قد أشرنا إليه فيما مر وأن الأول دفعي والثاني تدريجي وأنه أكثري، والقراءة بهما تدل على قطع النظر عن الفرق، وليس إشارة إلى المغنين باعتبار إنزاله إلى السماء الدنيا ثم إنزاله إلى الأرض لأن إنزاله دفعة إلى السماء على ما قيل لا يعلمه أهل الكتاب. فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ أي المترددين في أنهم يعملون ذلك لما لا يشاهد منهم آثار العلم وأحكام المعرفة، فالفاء لترتيب النهي على الاخبار بعلم أهل الكتاب أو في أنه منزل من ربك بالحق فليس المراد حقيقة النهي له صلّى الله عليه وسلّم عن الامتراء في ذلك بل تهييجه وتحريضه عليه الصلاة والسلام كقوله سبحانه. وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 14، يونس: 105، القصص: 87] ويحتمل أن يكون الخطاب في الحقيقة للأمة على طريق التعريض وإن كان له عليه الصلاة والسلام صورة، وأن يكون لكل أحد ممن يتصور منه الامتراء بناء على ما تقرر أن أصل الخطاب أن يكون مع معين وقد يترك لغيره كما في قوله سبحانه: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ [السجدة: 12] والفاء على هذه الأوجه لترتيب النهي على نفس علمهم بحال القرآن. وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ شروع في بيان كمال القرآن من حيث ذاته إثر بيان كماله من حيث إضافته إليه عز وجل بكونه منزلا منه سبحانه بالحق وتحقيق ذلك بعلم أهل الكتابين به، وتمام الشيء- كما قال الراغب- انتهاؤه إلى حد لا يحتاج إلى شيء خارج عنه. والمراد بالكلمة الكلام وأريد به- كما قال قتادة وغيره- القرآن، وإطلاقها عليه إما من باب المجاز المرسل أو الاستعارة وعلاقتها تأبى أن تطلق الكلمة على الجملة غير المفيدة وعلاقته لا لكن لم يوجد في كلامهم ذلك الإطلاق، واختير هذا التعبير لما فيه من اللطافة التي لا تخفى على من دقق النظر. وقال البعض لما أن الكلمة هي الأصل في الاتصاف بالصدق والعدل وبها تظهر الآثار من الحكم. وعن أبي مسلم أن المراد بالكلمة دين الله تعالى كما في قوله سبحانه: وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا [التوبة: 40] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 255 وقيل: المراد بها حجته عز وجل على خلقه والأول هو الظاهر وقرأ بالتوحيد عاصم، وحمزة، وعلي، وخلف، وسهل، ويعقوب، وقرأ الباقون «كلمات ربك» : صِدْقاً وَعَدْلًا مصدران نصبا على الحال من رَبِّكَ أو من كَلِمَةُ كما ذهب إليه أبو علي الفارسي. وجوز أبو البقاء نصبهما على التمييز وعلى العلة والصدق في الأخبار والمواعيد منها في المشهور والعدل في الأقضية والأحكام لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ استئناف مبين لفضلها على غيرها إثر بيان فضلها في نفسها. وقال بعض المحققين: إنه سبحانه لما أخبر بتمام كلمته وكان التمام يعقبه النقص غالبا كما قيل: إذا تم أمر بدا نقصه ... توقع زوالا إذا قيل تم ذكر هذا احتراسا وبيانا لأن تمامها ليس كتمام غيرها. وجوز أن يكون حالا من فاعل تَمَّتْ على أن الظاهر مغن عن الضمير الرابط. قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون حالا من ربك لئلا يفصل بين الحال وصاحبها بأجنبي وهو صِدْقاً وَعَدْلًا إلا أن يجعلا حالين منه أيضا. والمعنى لا أحد يبدل شيئا من كلماته بما هو أصدق وأعدل منه ولا بما هو مثله فكيف يتصور ابتغاء حكم غيره تعالى. والمراد بالأصدق الأبين والأظهر صدقا فلا يراد أن الصدق لا يقبل الزيادة والنقص لأن النسبة إن طابقت الواقع فصدق وإلا فكذب. وذكر الكرماني في حديث «أصدق الحديث» إلخ أنه جعل الحديث كمتكلم فوصف به كما يقال زيد أصدق من غيره والمتكلم يقبل الزيادة والنقص في ذلك، وقيل: المعنى لا يقدر أحد أن يحرفها شائعا كما فعل بالتوراة فيكون هذا ضمانا منه سبحانه بالحفظ كقوله جل وعلا: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] أو لا نبي ولا كتاب بعدها يبدلها وينسخ أحكامها. وعيسى عليه السلام يعمل بعد النزول بها لا ينسخ شيئا كما حقق في محله. وقيل: المراد أن أحكام الله تعالى لا تقبل التبدل والزوال لأنها أزلية والأزلي لا يزول. وزعم الإمام أن الآية على هذا أحد الأصول القوية في إثبات الجبر، لأنه تعالى لما حكم على زيد بالسعادة وعلى عمرو بالشقاوة ثم قال: لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ يلزم امتناع أن ينقلب السعيد شقيا والشقي سعيدا فالسعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه وأنا أقول: لا يخفى أن الشقي في العلم لا يكون سعيدا والسعيد فيه لا يكون شقيا أصلا لأن العلم لا يتعلق إلا بما المعلوم عليه في نفسه وحكمه سبحانه تابع لذلك العلم. وكذا إيجاده الأشياء على طبق ذلك العلم. ولا يتصور هناك جبر بوجه من الوجوه لأنه عز شأنه لم يفض على القوابل إلا ما طلبته منه جل وعلا بلسان استعدادها كما يشير إليه قوله سبحانه: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ [طه: 50] نعم يتصور الجبر لو طلبت القوابل شيئا وأفاض عليها عز شأنه ضده والله سبحانه أجل وأعلى من ذلك وَهُوَ السَّمِيعُ لكل ما يتعلق به السميع الْعَلِيمُ بكل ما يمكن أن يعلم فيدخل في ذلك أقوال المتحاكمين وأحوالهم الظاهرة والباطنة دخولا أوليا. ثم إنه تعالى- على ما ذكر الإمام- لما أجاب عن شبهات الكفار وبين بالدليل صحة النبوة أرشد إلى أنه بعد زوال الشبهة وظهور الحجة لا ينبغي أن يلتفت العاقل إلى كلمات الجهال فقال سبحانه: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وقال شيخ الإسلام: إنه لما تحقق اختصاصه تعالى بالحكمية لاستقلاله بما يوجب ذلك من إنزال الكتاب الفاصل بين الحق والباطل وتمام صدق كلامه وكمال عدله في أحكامه وامتناع وجود من يبدل شيئا منها واستبداده سبحانه بالإحاطة التامة بجميع المسموعات والمعلومات عقب ذلك ببيان أن الكفرة متصفون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 256 بنقائض تلك الكمالات من النقائض التي هي الضلال والإضلال واتباع الظنون الفاسدة الناشئ من الجهل والكذب على الله تعالى إبانة لكمال مباينة حالهم لما يرمونه وتحذيرا عن الركون إليهم والعمل بآرائهم فقال سبحانه ما قال. ويحتمل أن يكون هذا من باب الإرشاد إلى اتباع القرآن والتمسك به بعد بيان كماله على أكمل وجه خطاب له صلّى الله عليه وسلّم ولأمته. وقيل: خوطب عليه الصلاة والسلام وأريد غيره. والمراد بمن في الأرض: الناس، وبأكثرهم الكفار وقيل: ما يعمهم وغيرهم من الجهال واتباع الهوى. وقيل: أهل مكة والأرض أرضها وأكثر أهلها كانوا حينئذ كفارا. ومن الناس من زعم أن هذا نهي في المعنى عن متابعة غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذ هم والكرام قليل أقل الناس عددا. وقد قال سبحانه: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] وهو كما ترى. ومثله احتمال أنه نهى عن متابعة غير الله سبحانه لأنه لو أطيع أكثر من في الأرض لأضلوا فضلا عن إطاعة قليل أو واحد منهم. والمعنى إن تطع أحدا من الكفار بمخالفة ما شرع لك وأودعه كلماته المنزلة من عنده إليك يضلوك عن الحق أو إن تطع الكفار بأن جعلت منهم حكما يضلوك عن الطريق الموصل إليه أو عن الشريعة التي شرعها لعباده إِنْ يَتَّبِعُونَ أي ما يتبعون فيما هم عليه من الشرك والضلال إِلَّا الظَّنَّ وإن الظن فيما يتعلق بالله تعالى لا يغني من الحق شيئا ولا يكفي هناك إلا العلم وأنى لهم به. وهذا بخلاف سائر الأحكام وأسبابها مثلا فإنه لا يشترط فيها العلم وإلا لفات معظم المصالح الدنيوية والأخروية، والفرق بينهما على- ما قاله العز بن عبد السلام في قواعده الكبرى- أن الظان مجوز لخلاف مظنونه فإذا ظن صفة من صفات الإله عز شأنه فإنه يجوز نقيضها وهو نقص ولا يجوز النقص عليه سبحانه بخلاف الأحكام فإنه لو ظن الحلال حراما أو الحرام حلالا لم يكن في ذلك تجويز نقص على الرب جل شأنه لأنه سبحانه لو أحل الحرام وحرم الحلال لم يكن ذلك نقصا عليه عز وجل فدار تجويزه بين أمرين كل منهما كمال بخلاف الصفات. وقال غير واحد: المراد ما يتبعون إلا ظنهم أن آباءهم كانوا على الحق وجهالاتهم وآراءهم الباطلة، ويراد من الظن ما يقابل العلم أي الجهل فليس في الآية دليل على عدم جواز العمل بالظن مطلقا فلا متمسك لنفاة القياس بها، والإمام بعد أن قرر وجه استدلالهم قال: والجواب لم يجوز أن يقال: الظن عبارة عن الاعتقاد الراجح إذا لم يستند إلى أمارة وهو مثل ظن الكفار أما إذا كان الاعتقاد الراجح مستندا إليها فلا يسمى ظنا وهو كما ترى وَإِنْ هُمْ أي وما هم إِلَّا يَخْرُصُونَ أي يكذبون. وأصل الخرص القول بالظن وقول من لا يستيقن ويتحقق كما قال الأزهري، ومنه خرص النخل خرصا بفتح الخاء وهي خرص بالكسر أي مخروصة، والمراد أن شأن هؤلاء الكذب وهم مستمرون على تجدده منهم مرة بعد مرة مع ما هم عليه من اتباع الظن في شأن خالقهم عز شأنه. وقال الإمام: المراد أن هؤلاء الكفار الذين ينازعونك في دينك ومذهبك غير قاطعين بصحة مذاهبهم بل لا يتبعون إلا الظن وهم خراصون كاذبون في ادعاء القطع، ولا يخفى بعد تقييد الكذب بادعاء القطع. وقال غير واحد: المراد أنهم يكذبون على الله تعالى فيما ينسبون إليه جل شأنه كاتخاذ الولد وجعل عبادة الأوثان ذريعة إليه سبحانه وتحليل الميتة والبحائر ونظير ذلك. ولعل ما ذهبنا إليه أولى وأبلغ في الذم، ويحتمل أن يكون المراد أن هؤلاء الكفار يتبعون في أمور دينهم ظن أسلافهم وأن شأنهم أنفسهم الظن أيضا، وحاصل ذلك ذمهم بفسادهم وفساد أصولهم إلا أن ذلك بعيد جدا. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ تقرير- كما قال بعض المحققين- لمضمون الشرطية وما بعدها وتأكيد لما يفيده من التحذير أي هو أعلم بالفريقين فاحذر أن تكون من الأولين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 257 ومَنْ موصولة أو موصوفة في محل النصب على المفعولية بفعل دل عليه أَعْلَمُ- كما ذهب إليه الفارسي- أي يعلم لا به فإن أفعل لا ينصب الظاهر فيما إذا أريد به التفضيل على الصحيح خلافا لبعض الكوفيين لأنه ضعيف لا يعمل عمل فعله، وإذا جرد لمعنى اسم الفاعل، فمنهم من جوز نصبه كما صرح به في التسهيل، وحينئذ يؤتى بمفعوله مجرورا بالباء أو اللام. ومن الناس من ادعى أن الباء هنا مقدرة ليتطابق طرفا الآية. ولا يجوز أن يكون أفعل مضافا إلى من لفساد المعنى. وجوز أن تكون استفهامية مبتدأ والخبر يَضِلُّ والجملة معلق عنها الفعل المقدر، وإلى هذا ذهب الزجاج ولا يخفى ما في التعبير في جانب الفريق الأول بما عبر به وفي جانب الفريق الثاني بالمهتدين مع عدم بيان ما اهتدوا إليه من الاعتناء بشأن الآخرين ومزيد التفرقة بينهم وبين الأولين. وقرىء «من يضّل» بضم الياء على أن مَنْ مفعول لما أشير إليه من الفعل المقدر وفاعل يَضِلُّ ضمير راجع إليه ومفعوله محذوف أي يعلم من يضل الناس فيكون تأكيدا للتحذير عن طاعة الكفرة، وجوز أن تكون مجرورة بالإضافة أي أعلم المضلين من قوله تعالى: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ [النساء: 88 وغيرها] أو من قولك: أضللته إذا وجدته ضالا كأحمدته إذا وجدته محمودا، وأن تكون استفهامية معلقا عنها الفعل أيضا، وأن يكون فاعل يَضِلُّ ضمير الله تعالى، ومن منصوبة بما ذكر من الفعل المقدر أي يعلم من يضله الله تعالى، قيل: وكان الظاهر أن يقال: بالمهديين. وكأن وجه العدول عنه الإشارة إلى أن الهداية صفة سابقة ثابتة لهم في أنفسهم كأنها غير محتاجة إلى جعل لقوله «عليه الصلاة والسلام» كل مولود يولد على الفطرة: بخلاف الضلال فإنه أمر طار أوجده فيهم فتأمل. والتفضيل في العلم إما بالنظر إلى المعلومات فإنها غير متناهية أو إلى وجوه العلم التي يمكن تعلقه بها، وإما باعتبار الكيفية وهي لزوم العلم له سبحانه أو كونه بالذات لا بالغير. فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أمر مترتب على النهي عن اتباع المضلين الذين من جملة إضلالهم تحليل الحرام وتحريم الحلال، فقد ذكر الواحدي أن المشركين قالوا: يا محمد أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قبلها فقال عليه الصلاة والسلام: الله تعالى قتلها قالوا: فتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال وما قتل الصقر والكلب حلال وما قتله الله تعالى حرام فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال عكرمة: إن المجوس من أهل فارس لما أنزل الله تعالى تحريم الميتة كتبوا إلى مشركي قريش وكانوا أولياءهم في الجاهلية وكانت بينهم مكاتبة أن محمدا عليه الصلاة والسلام وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله تعالى ثم يزعمون أن ما ذبحوا فهو حلال وما ذبح الله تعالى فهو حرام فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء فأنزل سبحانه الآية. وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: جاءت اليهود إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: أنأكل مما قتلنا ولا نأكل مما يقتل الله تعالى فأنزل الله تعالى الآية، والمعنى على ما ذهب إليه غير واحد كلوا مما ذكر اسم الله تعالى على ذبحه لا مما ذكر عليه اسم غيره خاصة أو مع اسمه عز اسمه أو مات حتف أنفه، والحصر- كما قيل- مستفاد من عدم اتباع المضلين ومن الشرط ولولا ذلك لكان هذا الكلام متعرضا لما لا يحتاج إليه ساكتا عما يحتاج إليه، وادعى بعضهم أن لا حصر واستفادة عدم حل ما مات حتف أنفه من صريح النظم أعني قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا إلخ وهو مخالف لما عليه الجمهور إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ التي من جملتها الآيات الواردة في هذا الشأن مُؤْمِنِينَ فإن الإيمان بها يقتضي استباحة ما أحل الله تعالى واجتناب ما حرم، وقيل: المعنى إن صرتم عالمين حقائق الأمور التي هذا الأمر من جملتها بسبب إيمانكم، وقيل: المراد إن كنتم متصفين بالإيمان وعلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 258 يقين منه فإن التصديق يختلف ظنا وتقليدا وتحقيقا، والجار والمجرور متعلق بما بعده وقدم رعاية للفواصل وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إنكار لأن يكون لهم شيء يدعوهم إلى الاجتناب عن أكل ما ذكر اسم الله تعالى عليه، فما للاستفهام الإنكاري وليست نافية كما قيل وهي مبتدأ ولَكُمْ الخبر وأن تأكلوا بتقدير حرف الجر أي في أن تأكلوا، والخلاف في محل المنسبك بعد الحذف مشهور. وجوز أن يكون ذلك حالا، ورد بأن المصدر المؤول من أن والفعل لا يقع حالا كما صرح به سيبويه لأنه معرفة ولأنه مصدر بعلامة حرف الاستقبال المنافية للحالية إلا أن يؤول بنكرة أو يقدر مضاف أي ذوي أن لا تأكلوا ومفعول تَأْكُلُوا كما قال أبو البقاء: محذوف أي شيئا مما إلخ، قيل: وظاهر الآية مشعر بأنه يجوز الأكل مما ذكر اسم الله تعالى عليه وغيره معا وليست من التبعيضية لإخراجه بل لإخراج ما لم يؤكل كالروث والدم وهو خارج بالحصر السابق فلا تغفل، وسبب نزول الآية- على ما قاله الإمام أبو منصور- أن المسلمين كانوا يتحرجون من أكل الطيبات تقشفا وتزهدا فنزلت وقد فضّل لكم ما حرّم عليكم بقوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً [الأنعام: 145] الآية فبقي ما عدا ذلك على الحل، وقيل بقوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [المائدة: 3] واعترضه الإمام بأن سورة المائدة من أواخر ما نزل بالمدينة وهذه مكية كما علمت فلا يتأتى ذلك وأما التأخر في التلاوة فلا يوجب التأخر في النزول فلا يضر تأخر قُلْ لا أَجِدُ إلخ عن هذه الآية في هذه السورة، وقيل: التفصيل بوحي غير متلو، والجملة حالية مؤكدة للإنكار السابق. وقرأ أهل الكوفة غير حفص «فصل ما حرم» ببناء الأول للفاعل والثاني للمفعول. وقرأ أهل المدينة، وحفص، ويعقوب، وسهل «فصل وحرم» كليهما بالبناء للفاعل. وقرأهما الباقون بالبناء للمفعول. إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ أي دعتكم الضرورة إلى أكله بسبب شدة المجاعة، وظاهر تقرير الزمخشري- كما قال العلامة الثاني- يقتضي أن ما موصولة فلا يستقيم غير جعل الاستثناء منقطعا أي لكن الذي اضطررتم إلى أكله مما هو حرام عليكم حلال لكم حال الضرورة، وجوز عليه الرحمة جعله استثناء من ضمير حَرَّمَ وما مصدرية في معنى المدة أي فصّل لكم الأشياء التي حرمت عليكم إلا وقت الاضطرار إليها، واعترض بأنه لا يصح حينئذ الاستثناء من الضمير بل هو استثناء مفرغ من الظرف العام المقدر كأنه قيل: حرمت عليكم كل وقت إلا وقت إلخ، ومن الناس من أورد هنا شيئا لا أظنه مما يضطر إليه حيث قال بعد كلام: والمهم في هذا المقام بيان فائدة إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ وقد أعني عنه قوله سبحانه: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ لأن تفصيل ما حرم يتضمن قوله تعالى. إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وكأن الفائدة فيه والله تعالى أعلم المبالغة في النهي عن الامتناع عن الأكل بأن ما حرم يصير مما لا يؤكل بخلاف ما حل فإنه لا يصير مما لا يؤكل فكيف يجتنب عما يؤكل فتأمل وَإِنَّ كَثِيراً من الكفار لَيُضِلُّونَ الناس بتحريم الحلال وتحليل الحرام كعمرو بن لحي وأضرابه الذين اتخذوا البحائر والسوائب وأحلوا أكل الميتة، وعن الزجاج أن المراد بهذا الكثير الذين ناظروا في الميتة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب «ليضلّون» بفتح الياء بِأَهْوائِهِمْ الزائغة وشهواتهم الباطلة بِغَيْرِ عِلْمٍ مقتبس من الشريعة مستند إلى الوحي أو بغير علم أصلا- كما قيل- وذكر ذلك للإيذان بأن ما هم عليه محض هوى وشهوة، وجوز أن يكون من قبيل قوله تعالى: وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران: 112] . إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ المتجاوزين الحق إلى الباطل والحلال إلى الحرام فيجازيهم على ذلك، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 259 ولعل المراد بهم هذا الكثير، ووضع الظاهر موضع ضميرهم لوسمحهم بصفة الاعتداء وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ أي ما يعلن وما يسر كما قال مجاهد، وقتادة، والربيع بن أنس أو ما بالجوارح وما بالقلب- كما قاله الجبائي- أو نكاح ما نكح الآباء ونحوه والزنا بالأجنبيات كما روي عن ابن جبير أو الزنا من الحوانيت واتخاذ الأخدان كما روي عن الضحاك، والسدي، وقد روي أن أهل الجاهلية كانوا يرون أن الزنا إذا ظهر كان إثما وإذا استسر به صاحبه فلا إثم فيه. قال الطيبي: وهو على هذا الوجه مقصود بالعطف مسبب عن عدم الاتباع، وعلى الأول معترض توكيدا لقوله سبحانه: فَكُلُوا أولا وَلا تَأْكُلُوا ثانيا وهو الوجه، ولعل الأمر على الوجه الذي قبله مثله. إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ أي يعملون المعاصي التي فيها الإثم ويرتكبون القبائح الظاهرة أو الباطنة سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ أي يكسبون من الإثم كائنا ما كان فلا بد من اجتناب ذلك، والجملة تعليل للأمر وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أي من الحيوان كما هو المتبادر، والآية ظاهرة في تحريم متروك التسمية عمدا كان أو نسيانا وإليه ذهب داود. وعن أحمد، والحسن، وابن سيرين، والجبائي مثله، وقال الشافعي بخلافه لما رواه أبو داود وعبد بن حميد عن راشد بن سعد مرسلا ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله تعالى أو لم يذكر. وعن مالك وهي الرواية المعول عليها عند أئمة مذهبه أن متروك التسمية عمدا لا يؤكل سواء كان تهاونا أو غير تهاون، ولأشهب قول شاذ بجواز غير المتهاون في ترك التسمية عليه. وزعم بعضهم أن مذهب مالك كمذهب الشافعي، وآخرون أنه كمذهب داود ومن معه، وما ذكرناه هو الموجود في كتب المالكية وأهل مكة أدرى بشعابها. ومذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه التفرقة بين العمد والنسيان كالصحيح من مذهب مالك، قال العلامة الثاني: إن الناسي على مذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه ليس بتارك للتسمية بل هي في قلبه على ما روي أنه صلّى الله عليه وسلّم سئل عن متروك التسمية ناسيا فقال عليه الصلاة والسلام: كلوه فإن تسمية الله تعالى في قلب كل مسلم ولم يلحق به العامد إما لامتناع تخصيص الكتاب بالقياس وإن كان منصوص العلة، وإما لأنه ترك التسمية عمدا فكأنه نفي ما في قلبه، واعترض بأن تخصيص العام الذي خص منه البعض جائز بالقياس المنصوص العلة وفاقا وبأنا لا نسلم أن التارك عمدا بمنزلة النافي لما في قلبه بل ربما يكون لوثوقه بذلك وعدم افتقاره لذكره، ثم قال: فذهبوا إلى أن الناسي خارج بقوله تعالى: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ إذ الضمير عائد إلى المصدر المأخوذ من مضمون لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وهو الترك لكونه الأقرب، ومعلوم أن الترك نسيانا ليس بفسق لعدم تكليف الناسي والمؤاخذة عليه فيتعين العمد. واعترض ما ذكر بأن كون ذلك فسقا لا سيما على وجه التحقيق والتأكيد خلاف الظاهر ولم يذهب إليه أحد ولا يلائم قوله تعالى: أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [الأنعام: 145] مع أن القرآن يفسر بعضه بعضا سيما في حكم واحد وبأن ما لم يذكر اسم الله عليه يتناول الميتة مع القطع بأن ترك التسمية عليها ليس بفسق، وبعضهم أرجع الضمير إلى ما بمعنى الذبيحة وجعلها عين الفسق على سبيل المبالغة لكن لا بد من ملاحظة كونها متروكة التسمية عمدا إذ لا فسق في النسيان وحينئذ لا يصح الحمل أيضا ومما تقدم يعلم ما فيه. وذكر العلامة للشافعية في دعوى حل متروك التسمية عمدا أو نسيانا وحرمة ما ذبح على النصب أو مات حتف أنفه وجوها الأول أن التسمية على ذكر المؤمن وفي قلبه ما دام مؤمنا فلا يتحقق منه عدم الذكر فلا يحرم من ذبيحته إلا ما أهلّ به لغير الله تعالى. الثاني أن قوله سبحانه: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ على وجه التحقيق والتأكيد لا يصح في حق أكل ما لم يذكر اسم الله تعالى عليه عمدا كان أو سهوا إذ لا فسق بفعل ما هو محل الاجتهاد. الثالث أن هذه الجملة في موقع الحال إذ لا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 260 يحسن عطف الخبر على الإنشاء، وقد بين الفسق بقوله عز شأنه: أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فيكون النهي عن الأكل مقيدا بكون ما لم يذكر اسم الله تعالى عليه قد أهل به لغير الله تعالى فيحل ما ليس كذلك إما بطريق مفهوم المخالفة وإما بحكم الأصل، وإما بالعمومات الواردة في حل الأطعمة. وهذا خلاصة ما ذكره الإمام في مجلس تذكير عقده له سلطان خوارزم فيها بمحضر منه ومن جلة الأئمة الحنفية. وعليه لا حاجة للشافعية إلى دليل خارجي في تخصيص الآية. واعترض بأنه يقتضي أن لا يتناول النهي أكل الميتة مع أنه سبب النزول. وبأن التأكيد بأن واللام ينفي كون الجملة حالية لأنه إنما يحسن فيما قصده الإعلام بتحققه البتة والرد على منكر تحقيقا أو تقديرا على ما بين في علم المعاني والحال الواقع في الأمر والنهي مبناه على التقدير كأنه قيل: لا تأكلوا منه إن كان فسقا فلا يحسن وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ بل وهو فسق. ومن هنا ذهب كثير إلى أن الجملة مستأنفة. وأجيب عن الأول بأنه دخل في قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ما أهل لغير الله وبقوله جل شأنه: وَإِنَّ الشَّياطِينَ إلخ الميتة فيتحقق قولهم: إن النهي مخصوص بما أهل به لغير الله تعالى أو مات حتف أنفه. وأجاب العلامة عن الثاني بأنه لما كان المراد بالفسق هاهنا الإهلال لغير الله تعالى كان التأكيد مناسبا كأنه قيل: لا تأكلوا منه إذا كان هذا النوع من الفسق الذي الحكم به متحقق والمشركون ينكرونه، ومنهم من تأول الآية بالميتة لأن الجدال فيها كما ستعلم قريبا إن شاء الله تعالى. واستظهر رجوع الضمير إلى الأكل الذي دل عليه وَلا تَأْكُلُوا والذي يلوح من كلام بعض المحققين أن ما لم يذكر اسم الله عليه عاما لما أهل به لغير الله تعالى ولمتروك التسمية عمدا أو سهوا ولما مات حتف أنفه لأنه سبب نزول الآية. والتحقيق أن العام الظاهر متى ورد على سبب خاص كان نصا في السبب ظاهرا باقيا على ظهوره فيما عداه. وأنه لا بد لمبيح منسي التسمية من مخصص وهو الخبر المشتمل على السؤال والجواب وادعى أن هذا عند التحقيق ليس بتخصيص بل منع لاندراج المنسي في العموم مستند بالحديث المذكور. ويؤيد بأن العام الوارد على سبب خاص وإن قوي تناوله للسبب حتى ينتهض الظاهر فيه نصا إلا أنه ضعيف التناول لما عداه حتى ينحط من أعالي الظواهر فيه ويكتفي من معارضة ما لا يكتفى به منه لولا السبب انتهى. ولا يخفى ما فيه لمن أحاط خبرا بما ذكره العلامة قبل. وذكر كثير من أصحابنا أن قول الشافعي عليه الرحمة مخالف للإجماع إذ لا خلاف فيمن كان قبله في حرمة متروك التسمية عامدا وإنما الخلاف بينهم في متروكها ناسيا فمذهب ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه يحرم ومذهب علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه يحل ولم يختلفوا في حرمة متروك التسمية عامدا ولهذا قال أبو يوسف والمشايخ رحمهم الله تعالى: إن متروك التسمية عامدا لا يسع فيه الاجتهاد ولو قضي القاضي بجواز بيعه لا ينفّذ لكونه مخالفا للإجماع وأن ظاهر الآية يقتضي شمولها لمتروك التسمية نسيانا إلا أن الشرع جعل الناسي ذاكرا لعذر من جهته وفي ذلك رفع للحرج فإن الإنسان كثير النسيان. وقول بعض الشافعية عليهم الرحمة: إن التسمية لو كانت شرطا للحل لما سقط بعذر النسيان كالطهارة في باب الصلاة مفض إلى التسوية بين العمد والنسيان، وهي معهودة فيما إذا كان على الناسي هيئة مذكرة كالأكل في الصلاة والجماع في الإحرام لا فيما إذا لم يكن كالأكل في الصيام، وهنا إن لم تكن هيئة توجب النسيان وهي ما يحصل للذابح عند زهوق روح حيوان من تغير الحال فليس هيئة مذكرة بموجودة. والحق عندي أن المسألة اجتهادية وثبوت الإجماع غير مسلم ولو كان ما كان خرقه الإمام الشافعي رحمه الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 261 تعالى، واستدلاله على مدعاه على ما سمعت لا يخلو من متانة، وقول الأصفهاني- كما في المستصفى- أفحش الشافعي حيث خالف سبع آيات من القرآن ثلاث منها في سورة الأنعام، الأولى فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، والثانية وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، والثالثة وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وثلاث في سورة الحج، الأولى لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ [الحج: 28] ، والثانية وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ [الحج: 34] ، والثالثة وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ [الحج: 36] وآية فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ [المائدة: 4] من الفحش في حق هذا الإمام القرشي، ومثاره عدم الوقوف على فضله وسعة علمه ودقة نظره، وبالجملة، الكلام في الآية واسع المجال وبها استدل كل من أصحاب هاتيك الأقوال. وعن عطاء وطاوس أنهما استدلا بظاهرها على أن متروك التسمية حيوانا كان أو غيره حرام، وسبب النزول يؤيد خلاف ذلك كما علمت والاحتياط لا يخفى. وَإِنَّ الشَّياطِينَ أي إبليس وجنوده لَيُوحُونَ أي يوسوسون إِلى أَوْلِيائِهِمْ الذين اتبعوهم من المشركين قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل: المراد بالشياطين مردة المجوس فإيحاؤهم إلى أوليائهم ما أنهوا إلى قريش حسبما حكيناه عن عكرمة لِيُجادِلُوكُمْ أي بالوساوس الشيطانية أو بما نقل من أباطيل المجوس وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ في استحلال الحرام إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ضرورة أن من ترك طاعة الله تعالى إلى طاعة غيره واستحل الحرام واتبعه في دينه فقد أشركه به تعالى بل آثره عليه سبحانه. ونقل الإمام عن الكعبي أنه قال: الآية حجة على أن الإيمان اسم لجميع الطاعات وإن كان معناه في اللغة التصديق كما جعل تعالى الشرك اسما لكل ما كان مخالفة لله عز وجل وإن كان في اللغة مختصا بمن يعتقد أن لله تعالى شأنه شريكا بدليل أنه سبحانه سمى طاعة المؤمنين للمشركين في إباحة الميتة شركا، ثم قال: ولقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون المراد من الشرك هاهنا اعتقاد أن لله تعالى شريكا في الحكم والتكليف؟ وبهذا القدر يرجع معنى هذا الشرك إلى الاعتقاد فقط انتهى. والظاهر أن التعبير عن هذه الإطاعة بالشرك من باب التغليظ ونظائره كثيرة والكلام هنا كما قال أبو حيان وغيره على تقدير القسم وحذف لام التوطئة أي ولئن أطعتموهم والله إنكم لمشركون وحذف جواب الشرط لسد جواب القسم مسده. وجعل أبو البقاء وتبعه بعضهم المذكور جواب الشرط ولا قسم وادعى أن حذف الفاء منه حسن إذا كان الشرط بلفظ الماضي كما هنا واعترض بأن هذا لم يوجد في كتب العربية بل اتفق الكل على وجوب الفاء في الجملة الاسمية ولم يجوزوا تركها إلا في ضرورة الشعر وفيه أن المبرد أجاز ذلك في الاختيار كما ذكره المرادي في شرح التسهيل. أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ تمثيل مسوق لتنفير المسلمين عن طاعة المشركين إثر تحذيرهم عنها بالإشارة إلى أنهم مستضيئون بأنوار الوحي الإلهي والمشركون غارقون في ظلمات الكفر والطغيان فكيف يعقل طاعتهم له، فالآية- كما قال الطيبي- متصلة بقوله سبحانه، وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ والهمزة للإنكار. والواو- كما قال غير واحد- لعطف الجملة الاسمية على مثلها الذي يدل عليه الكلام أي أنتم مثلهم ومن كان ميتا فأعطيناه الحياة وَجَعَلْنا لَهُ مع ذلك من الخارج نُوراً عظيما يَمْشِي بِهِ أي بسببه فِي النَّاسِ أي فيما بينهم آمنا من جهتهم، والجملة إما استئناف مبني على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل: فماذا يصنع بذلك النور؟ فقيل: يمشي إلخ أو صفة له. ومن اسم موصول مبتدأ: وما بعده صلته والخبر متعلق الجار والمجرور في قوله تعالى: كَمَنْ مَثَلُهُ أي صفته الجزء: 4 ¦ الصفحة: 262 العجيبة. ومن فيه اسم موصول أيضا ومَثَلُهُ مبتدأ. وقوله سبحانه: فِي الظُّلُماتِ خبر هو محذوف. وقوله سبحانه: لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها في موضع الحال من المستكن في الظرف، وهذه الجملة خبر المبتدأ أعني مثله على سبيل الحكاية بمعنى إذا وصف يقال له ذلك، وجملة مَثَلُهُ مع خبره صلة الموصول. وإن شئت جعلت من في الموضعين نكرة موصوفة ولم يجوز أن يكون فِي الظُّلُماتِ خبرا عن مَثَلُهُ لأن الظلمات ليس ظرفا للمثل. وظاهر كلام بعضهم كأبي البقاء أن «في الظلمات» هو الخبر وليس هناك هو مقدرا، ولا يلزم- كما نص عليه بعض المحققين- حديث الظرفية لأن المراد أن مثله هو كونه في الظلمات والمقصود الحكاية نعم ما ذكر أولا أولى لأن خبر مَثَلُهُ لا يكون إلا جملة تامة والظرف بغير فاعل ظاهر لا يؤدي مؤدى ذلك. وجوز كون جملة لَيْسَ بِخارِجٍ حالا من الهاء في مَثَلُهُ ومنعه أبو البقاء للفصل، قيل: ولضعف مجيء الحال من المضاف إليه. وقرأ نافع ويعقوب «ميّتا» بالتشديد وهو أصل للمخفف والمحذوف من الياءين الثانية المنقلبة عن الواو أعلّت بالحذف كما أعلت بالقلب ولا فرق بينهما عند الجمهور. ثم إن هذا الأخير- كما قال شيخ الإسلام- مثل أريد به من بقي في الضلالة بحيث لا يفارقها أصلا كما أن الأول مثل أريد به من خلقه الله تعالى على فطرة الإسلام وهداه بالآيات البينات إلى طريق الحق يسلكه كيف شاء لكن لا على أن يدل على كل واحد من هذه المعاني بما يليق به من الألفاظ الواردة في المثلين بواسطة تشبيهه بما يناسبه من معانيها فإن ألفاظ المثل باقية على معانيها الأصلية بل على أنه قد انتزعت من الأمور المتعددة المعتبرة في كل واحد من جانب المثلين هيئة على حدة ومن الأمور المتعددة المذكورة في كل واحد من جانب المثلين هيئة على حدة فشبهت بهما الأولتان ونزلتا منزلتهما فاستعمل فيهما ما يدل على الأخيرتين بضرب من التجوز إلى آخر ما قال، ونص القطب الرازي على أنهما تمثيلان لا استعارتان، ورد- كما قال الشهاب- بأن الظاهر بأن من كان ميتا ومن مثله في الظلمات من قبيل الاستعارة التمثيلية إذ لا ذكر للمشبه صريحا ولا دلالة بحيث ينافي الاستعارة والاستعارة الأولى بجملتها مشبهة والثانية مشبه به وهذا كما تقول في الاستعارة الإفرادية أيكون الأسد كالثعلب؟ أي الشجاع كالجبان وهو من بديع المعاني الذي ينبغي أن يتنبه له ويحفظ والتفسير المأثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد بالميت الكافر الضال وبالأحياء الهداية وبالنور القرآن وبالظلمات الكفر والضلالة، والآية على ما أخرج أبو الشيخ عنه نزلت في عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وهو المراد بمن أحياه الله تعالى وهداه، وأبي جهل بن هشام لعنه الله تعالى وهو المراد بمن مثله في الظلمات ليس بخارج، وروي عن زيد بن أسلم مثل ذلك. وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها في حمزة وأبي جهل، وعن عكرمة أنها في عمار بن ياسر وأبي جهل، وأيّا ما كان فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فيدخل في ذلك كل من انقاد لأمر الله تعالى ومن بقي على ضلاله وعتوه كَذلِكَ إشارة إلى التزيين المذكور على طرز ما قرر في أمثاله أو إشارة إلى إيحاء الشياطين إلى أوليائهم أو إلى تزيين الإيمان للمؤمنين زُيِّنَ من جهته تعالى خلقا أو من جهة الشياطين وسوسة لِلْكافِرِينَ كأبي جهل وأضرابه ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي ما استمروا على عمله من فنون الكفر والمعاصي التي من جملتها ما حكي عنهم من القبائح: وَكَذلِكَ قيل أي كما جعلنا في مكة أكابر مجرميها ليمكروا فيها جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ من سائر القرى أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها أو كما جعلنا أعمال أهل مكة مزينة لهم جعلنا في كل قرية إلخ، وإلى الاحتمالين ذهب الإمام الرازي. وجعل غير واحد جعل بمعنى صير المتعدية لمفعولين واختلف في تعيينهما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 263 فقيل فِي كُلِّ قَرْيَةٍ مفعول ثان، وأَكابِرَ مُجْرِمِيها بالإضافة هو الأول، وقيل: أَكابِرَ مفعول أول ومُجْرِمِيها بدل منه، وقيل: أَكابِرَ مفعول ثان ومُجْرِمِيها مفعول أول لأنه معرفة فيتعين أنه المبتدأ بحسب الأصل، والتقدير جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر فيتعلق الجار والمجرور بالفعل. واعترض أبو حيان كون مُجْرِمِيها بدلا من أَكابِرَ أو مفعولا بأنه خطأ وذهول عن قاعدة نحوية وهي أن أفعل التفضيل يلزم إفراده وتذكيره إذا كان بمن ظاهرة أو مقدرة أو مضافا إلى نكرة سواء كان لمفرد مذكر أو لغيره فإن طابق ما هو له تأنيثا وجمعا وتثنية لزمه أحد الأمرين إما الألف واللام أو الإضافة إلى معرفة وأَكابِرَ في التخريجين باق على الجمعية وهو غير معرف بأل ولا مضاف لمعرفة وذلك لا يجوز. وتعقبه الشهاب فقال: إنه غير وارد لأن أكابر وأصاغر أجري مجرى الأسماء لكونه بمعنى الرؤساء- كما نص عليه الراغب- وما ذكره إنما هو إذا بقي على معناه الأصلي. ويؤيده قول ابن عطية: أنه يقال أكابرة كما يقال أحمر وأحامرة كما قال: إن الأحامرة الثلاث تعولت وإن رده أبو حيان بأنه لم يعلم أن أحدا من أهل اللغة والنحو أجاز في جمع أفضل أفاضلة وفيه نظر. وأما الجواب بأنه على حذف المضاف المعرفة للعلم به أي أكابر الناس أو أكابر أهل القرية فلا يخفى ضعفه اه. وظاهر كلام الزمخشري أن الظرف لغو و «أكابر» أول المفعولين مضاف لمجرميها و «ليمكروا» المفعول الثاني. وجوز بعضهم كون جعل متعديا لواحد على أن المراد بالجعل التمكين بمعنى الإقرار في المكان والإسكان فيه ومفعوله أَكابِرَ مُجْرِمِيها بالإضافة، ويفهم من كلام البعض أن احتمال الإضافة لا يجري إلا على تفسير جعلناهم بمكناهم ولا يخلو ذلك عن دغدغة. وقال العلامة الثاني بعد سرد عدة من الأقوال: والذي يقتضيه النظر الصائب أن فِي كُلِّ قَرْيَةٍ لغو وأَكابِرَ مُجْرِمِيها مفعول أول ولِيَمْكُرُوا هو الثاني ولا يخفى حسنه بيد أنه مبني على جعل الإشارة لأحد الأمرين اللذين أشير فيما سبق إليهما. وناقش في ذلك شيخ الإسلام وادعى أن الأقرب جعل المشار إليه الكفرة المعهودين باعتبار اتصافهم بصفاتهم والإفراد باعتبار الفريق أو المذكور، ومحل الكاف النصب على أنه المفعول الثاني لجعلنا قدم عليه لإفادة التخصيص كما في قوله سبحانه: وكَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ [النساء: 94] والأول أَكابِرَ مُجْرِمِيها، والظرف لغو أي ومثل أولئك الكفرة الذين هم صناديد مكة ومجرموها جعلنا في كل قرية أكابرها المجرمين أن جعلناهم متصفين بصفات المذكورين مزينا لهم أعمالهم مصرين على الباطل مجادلين به الحق ليمكروا فيها أي ليفعلوا المكر فيها اه. ولا يخفى بعده. وتخصيص الأكابر لأنهم أقوى على استتباع الناس والمكر بهم. وقرىء «أكابر مجرميها» وهذه تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقوله سبحانه: وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ اعتراض على سبيل الوعد له عليه الصلاة والسلام والوعيد للكفرة الماكرين أي وما يحيق غائلة مكرهم إلا بهم وَما يَشْعُرُونَ حال من ضمير يَمْكُرُونَ أي إنما يمكرون بأنفسهم والحال أنهم ما يشعرون بذلك أصلا بل يزعمون أنهم يمكرون بغيرهم وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ رجوع إلى بيان حال مجرمي أهل مكة بعد ما بين بطريق التسلية حال غيرهم فإن العظيمة المنقولة إنما صدرت عنهم لا عن سائر المجرمين أي وإذا جاءتهم آية بواسطة الرسول عليه الصلاة والسلام. قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ قال شيخ الإسلام: قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حتى يوحى إلينا ويأتينا جبريل عليه السلام فيخبرنا أن محمدا عليه الصلاة والسلام صادق كما قالوا أَوْ تَأْتِيَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 264 بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الإسراء: 92] . وعن الحسن البصري مثله، وهذا كما ترى صريح في أن ما علق بإيتاء ما أوتي الرسل عليهم السلام هو إيمانهم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبما أنزل إليه إيمانا حقيقيا كما هو المتبادر منه عند الإطلاق خلا أنه يستدعي أن يحمل ما أوتي رسل الله على مطلق الوحي ومخاطبة جبريل عليه السلام في الجملة وأن يصرف الرسالة في قوله سبحانه: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ عن ظاهرها وتحمل على رسالة جبريل عليه السلام بالوجه المذكور، ويراد بجعلها تبليغها إلى المرسل إليه لا وضعها في موضعها الذي هو الرسول ليتأتى كونه جوابا عن اقتراحهم وردا له بأن كون معنى الاقتراح لن نؤمن بكون تلك الآية نازلة من عند الله تعالى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام حتى يأتينا جبريل بالذات عيانا كما يأتي الرسل فيخبرنا بذلك، ومعنى الرد الله أعلم بمن يليق بإرسال جبريل عليه السلام إليه الأمر من الأمور إيذانا بأنهم بمعزل من استحقاق ذلك التشريف، وفيه من التمحل ما لا يخفى. وأنت تعلم أنه لا تمحل في حمل ما أوتي رسل الله على مطلق الوحي بل في العدول عن قول لن نؤمن حتى نجعل رسلا مثلا إلى ما في النظم الكريم نوع تأييد لهذا الحمل، نعم صرف الرسالة عن ظاهرها وحمل الجعل على التبليغ لا يخلو عن بعد، ولعل الأمر فيه سهل. ويفهم من كلام البعض أن مطلق الوحي ومخاطبة جبريل عليه السلام في الجملة وإن لم يستدع تلك الرسالة إلا أنه قريب من منصبها فيصلح ما ذكر جوابا بدون حاجة إلى الصرف والحمل المذكورين، وفيه ما فيه. وقال مقاتل: نزلت في أبي جهل حين قال: زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يوحى إليه والله لا نرضى به ولا نتبعه أبدا حتى يأتينا وحي كما يأتيه. وقال الضحاك: سأل كل واحد من القوم أن يخص بالرسالة والوحي كما أخبر الله تعالى عنهم في قوله سبحانه: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً [المدثر: 52] قال الشيخ: ولا يخفى أن كل واحد من هذين القولين وإن كان مناسبا للرد المذكور لكنه يقتضي أن يراد بالإيمان المعلق بإيتاء مثل ما أوتي الرسل مجرد تصديقهم برسالته صلّى الله عليه وسلّم في الجملة من غير شمول لكافة الناس، وأن يكون كلمة حتى في قول اللعين. حتى يأتينا وحي كما يأتيه إلخ غاية لعدم الرضى لا لعدم الاتباع فإنه مقرر على تقديري إتيان الوحي وعدمه، فالمعنى لن نؤمن رسالته أصلا حتى نؤتى نحن من النبوة مثل ما أوتي رسل الله أو إيتاء رسل الله، ولا يخفى أنه يجوز أن تكون حتى في كلام اللعين غاية للاتباع أيضا على أن المراد به مجرد الموافقة وفعل مثل ما يفعله صلّى الله عليه وسلّم من توحيد الله تعالى وترك عبادة الأصنام لاقفو الأثر بالائتمار، على أن اللعين إنما طلب إتيان وحي كما يأتي النبي صلّى الله عليه وسلّم وليس ذلك نصا في طلب الاستقلال المنافي للاتباع. ولعل مراده عليه اللعنة المشاركة في الشرف بحيث لا ينحط عنه عليه الصلاة والسلام بالكلية ويمكن أن يدعي أيضا أن هؤلاء الكفرة لكون كل منهم أبا جهل بما يقتضيه منصب الرسالة لا يأبون كون الرسولين يجوز أن يبعث أحدهما إلى الآخر ويلزم أحدهما امتثال أمر الآخر واتباعه وإن كان مشاركا له في أصل الرسالة فليفهم، وقيل: إن الوليد ابن المغيرة قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك لأني أكبر منك سنا وأكثر مالا وولدا فنزلت هذه الآية. وتعقبه الشيخ قدس سره أنه لا تعلق له بكلامهم المردود إلا أن يراد بالإيمان المعلق بما ذكر مجرد الإيمان بكون الآية النازلة وحيا صادقا لا الإيمان بكونها نازلة إليه عليه الصلاة والسلام فيكون المعنى وإذا جاءتهم آية نازلة إلى الرسول قالوا: لن نؤمن بنزولها من عند الله حتى يكون نزولها إلينا لا إليه لأنا نحن المستحقون دونه فإن ملخص معنى قوله: «لو كانت النبوة حقا» إلخ لو كان ما تدعيه من النبوة حقا لكنت أنا النبي لا أنت وإذا لم يكن الأمر كذلك فليست بحق، ومآله تعليق الإيمان بحقية النبوة بكون نفسه نبيا. وأنت تعلم أن إطلاق النبوة وقولهم رُسُلُ اللَّهِ ليس بينهما كمال الملاءمة بحسب الظاهر كما لا يخفى، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 265 فالحق سقوط هذا القول عن درجة الاعتبار وإن روي مثله عن ابن جريج لما في تطبيقه على ما في الآية من مزيد العناية. ومِثْلَ ما أُوتِيَ نصب على أنه نعت لمصدر محذوف وما مصدرية أي حتى نؤتاها إيتاء مثل إيتاء رسل الله، وإضافة الإيتاء إليهم لأنهم منكرون لإيتائه عليه الصلاة والسلام، و «حيث» مفعول لفعل مقدر أي يعلم وقد خرجت عن الظرفية بناء على القول بتصرفها ولا عبرة بمن أنكره. والجملة بعدها كما نص عليه أبو علي في كتاب الشعر صفة لها، وإضافتها إلى ما بعدها حيث استعملت ظرفا. وقال الرضي: الأولى أن حيث مضافة ولا مانع من إضافتها وهي اسم إلى الجملة، وبحث فيه، ولا يجوز فيها هنا عند الكثير أن تكون مجرورة بالإضافة لأن أفعل بعض ما يضاف إليه. ولا منصوبة بأفعل نصب الظرف لأن علمه تعالى غير مقيد بالظرف وممن نص على ذلك ابن الصائغ، وجوز بعضهم الثاني ورد ما علل به المنع منه بأن يجوز جعل تقييد علمه تعالى بالظرف مجازيا باعتبار ما تعلق به بل ذلك أولى من إخراج حيث عن الظرفية فإنه إما نادر أو ممتنع. وجملة اللَّهُ أَعْلَمُ إلخ استئناف بياني، والمعنى أن منصب الرسالة ليس مما ينال بما يزعمونه من كثرة المال والولد وتعاضد الأسباب والعدد وإنما ينال بفضائل نفسانية ونفس قدسية أفاضها الله تعالى بمحض الكرم والجود على من كمل استعداده، ونص بعضهم على أنه تابع للاستعداد الذاتي وهو لا يستلزم الإيجاب الذي يقوله الفلاسفة لأنه سبحانه إن شاء أعطى ذلك وإن شاء أمسك وإن استعد المحل، وما في المواقف من أنه لا يشترط في الإرسال الاستعداد الذاتي بل الله تعالى يختص برحمته من يشاء محمول على الاستعداد الذاتي الموجب، فقد جرت عادة الله تعالى أن يبعث من كل قوم أشرفهم وأطهرهم جبلة، وتمام البحث في موضعه. وقرأ أكثر السبعة «رسالاته» بالجمع، وعن بعضهم أنه يسن الوقف على رُسُلُ اللَّهِ وأنه يستجاب الدعاء بين الآيتين ولم أر في ذلك ما يعول عليه سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا استئناف آخر ناع عليهم ما سيلقونه من فنون الشر بعد ما نعي عليهم حرمانهم مما أملوه، والسين للتأكيد، ووضع الموصول موضع الضمير لمزيد التشنيع، وقيل: إشعارا بعلية مضمون الصلة أي يصيبهم البتة مكان ما تمنوه وعلقوا به أطماعهم الفارغة من عز النبوة وشرف الرسالة صَغارٌ أي ذل عظيم وهوان بعد كبرهم عِنْدَ اللَّهِ يوم القيامة. وقيل: من عند الله وعليه أكثر المفسرين كما قال الفراء، واعترضه بأنه لا يجوز في العربية أن تقول: جئت عند زيد وأنت تريد من عند زيد، وقيل: المراد أن ذلك في ضمانه سبحانه أو ذخيرة لهم عنده وهو جار مجرى التهكم كما لا يخفى وَعَذابٌ شَدِيدٌ في الآخرة أو في الدنيا بِما كانُوا يَمْكُرُونَ أي بسبب مكرهم المستمر أو بمقابلته، وحيث كان هذا من أعظم مواد إجرامهم صرح بسببه فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ أي يعرفه طريق الحق ويوفقه للإيمان، وقالت المعتزلة: المراد يهديه إلى الثواب أو إلى الجنة أو يثيبه على الهدى أو يزيده ذلك يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فيتسع له وينفسح وهو مجاز أو كناية عن جعل النفس مهيأة لحلول الحق فيها مصفاة عما يمنعه وينافيه كما أشار إليه صلّى الله عليه وسلّم حين قيل له: «كيف الشرح يا رسول الله؟ فقال: نور يقذف في الصدر فينشرح له وينفسح فقيل: هل لذلك من آية يعرف بها يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل لقاء الموت» . وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ أي يخلق فيه الضلالة لسوء اختياره، وقيل: المراد يضله عن الثواب أو عن الجنة أو عن زيادة الإيمان أو يخذله ويخلي بينه وبين ما يريده يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً بحيث ينبو عن قبول الحق فلا يكاد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 266 يكون فيه للخير منفذ وقرأ ابن كثير «ضيقا» بالتخفيف، ونافع وأبو بكر عن عاصم «حرجا» بكسر الراء أي شديد الضيق والباقون بفتحها وصفا بالمصدر للمبالغة، وأصل معنى الحرج- كما قال الراغب- مجتمع الشيء، ومنه قيل: للضيق حرج، وقال بعض المحققين: أصل معناه شدة الضيق فإن الحرجة غيضة أشجارها ملتفة بحيث يصعب دخولها. وأخرج ابن حميد، وابن جرير، وغيرهما عن أبي الصلت الثقفي أن عمر رضي الله تعالى عنه قرأ حَرَجاً بفتح الراء وقرأ بعض من عنده من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «حرجا» بكسرها فقال عمر: ابغوني رجلا من كنانة واجعلوه راعيا وليكن مدلجيا فأتوه به فقال له عمر: يا فتى ما الحرجة فيكم؟ قال: الحرجة فينا الشجرة تكون بين الأشجار التي لا تصل إليها راعية ولا وحشية ولا شيء فقال عمر رضي الله تعالى عنه: كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ استئناف أو حال من ضمير الوصف أو وصف آخر، والمراد المبالغة في ضيق صدره حيث شبه بمن يزاول ما لا يقدر عليه فإن صعود السماء مثل فيما هو خارج عن دائرة الاستطاعة، وفيه تنبيه على أن الإيمان يمتنع منه كما يمتنع منه الصعود، والامتناع في ذلك عادي. وعن الزجاج معناه كأنما يتصاعد إلى السماء نبوا عن الحق وتباعدا في الهرب منه، وأصل يَصَّعَّدُ يتصعد وقد قرىء به فأدغمت التاء في الصاد. وقرأ ابن كثير يَصَّعَّدُ وأبو بكر عن عاصم «يصاعد» وأصله أيضا يتصاعد ففعل به ما تقدم. كَذلِكَ إشارة إلى الجعل المذكور بعده على ما مر تحقيقه أو إشارة إلى الجعل السابق أي مثل ذلك الجعل أي جعل الصدر حرجا على الوجه المذكور يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ أي العذاب أو الخذلان. وأخرج ابن المنذر وغيره عن مجاهد أنه قال: الرِّجْسَ ما لا خير فيه. وقال الراغب: الرِّجْسَ الشيء القذر، وقال الزجاج: هو اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة. وأصله- على ما قيل- من الارتجاس وهو الاضطراب عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ أي عليهم. ووضع الظاهر موضع المضمر للتعليل وَهذا أي ما جاء به القرآن كما روي عن ابن مسعود أو الإسلام كما روي عن ابن عباس أو ما سبق من التوفيق والخذلان كما قيل صِراطُ رَبِّكَ أي طريقه الذي ارتضاه أو عادته وطريقته التي اقتضها حكمته. ولا يخفى ما في التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطب من اللطف مُسْتَقِيماً لا اعوجاج فيه ولا زيغ أو عادلا مطردا وهو إما حال مؤكدة لصاحبها وعاملها محذوف وجوبا مثل هذا أبوك عطوفا أو مؤسسة والعامل فيها معنى الإشارة أو ها التي للتنبيه قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ بيناها مفصلة لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ أي يتذكرون ما في تضاعيفها فيعلمون أن كل الحوادث بقضائه سبحانه وقدره وأنه جل شأنه حكيم عادل في جميع أفعاله، وتخصيص هؤلاء القوم بالذكر لأنهم المنتفعون بذلك التفصيل لَهُمْ أي لهؤلاء القوم دارُ السَّلامِ أي الجنة كما قال قتادة، والسلام هو الله تعالى كما قال الحسن، وابن زيد، والسدي، وإضافة الدار إليه سبحانه للتشريف. وقال الزجاج والجبائي: السَّلامِ بمعنى السلامة أي دار السلامة من الآفات والبلايا وسائر المكاره التي يلقاها أهل النار. وقيل: هو بمعنى التسليم أي دار تحيتهم فيها سلام عِنْدَ رَبِّهِمْ أي في ضمانه وتكفله التفضلي أو ذخيرة لهم عنده لا يعلم كنه ذلك غيره. والجملة مستأنفة، وقيل صفة لقوم وَهُوَ وَلِيُّهُمْ أي محبهم أو ناصرهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي بسبب أعمالهم الصالحة أو متوليهم متلبسا بجزائها بأن يتولى إيصال الثواب إليهم. هذا ومن باب الإشارة في الآيات: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا لتفاوت مراتب أرواحهم في الصفاء والكدورة والنور والظلمة والقرب والبعد. ومن هنا قيل: والجاهلون لأهل العلم أعداء. وكلما اشتد التفاوت اشتدت العداوة وزاد الإيذاء الناشئ منها. ولهذا ورد في بعض الآثار «ما أوذي نبي مثل ما أوذيت» . وتسبب هذه العداوة مزيد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 267 التوجه إلى الحق جل شأنه والإعراض عن الملاذ والحرص على الفضيلة التي يقهر بها العدو والاحتراز عما يوشك أن يكون سببا للطعن إلى غير ذلك وَلِتَصْغى أي تميل إليه أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ وهم المحجوبون لوجود المناسبة وَلِيَرْضَوْهُ بمحبتهم إياه وليقترفوا ما هم مقترفون من اسم التعاضد والتظاهر أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ المعجز الجامع مُفَصَّلًا فيه الحق والباطل بحيث لا يبقى معه مقال لقائل فطلب ما سواه مما لا يليق بعاقل ولا يميل إليه إلا جاهل وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي تم قضاؤه في الأزل بما قضى وقدر صِدْقاً مطابقا لما يقع وَعَدْلًا مناسبا للاستعداد، وقيل: صدقا فيما وعد وعدلا فيما أوعد لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ لأنها على طرز ما ثبت في علمه والانقلاب محال وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ أي من الجهة السفلية بالركون إلى الدنيا وعالم النفس والطبيعة يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لأنهم لا يدعون إلا للشهوات المبعدة عن الله تعالى إِنْ يَتَّبِعُونَ أي ما يتبعون لكونهم محجوبين في مقام النفس بالأوهام والخيالات إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ بقياس الغائب على الشاهد وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ من الأقوال والأفعال الظاهرة على الجوارح وَباطِنَهُ من العقائد الفاسدة والعزائم الباطلة. وقال سهل: ظاهر الإثم المعاصي كيف كانت وباطنه حبها، وقال الشبلي: ظاهر الإثم الغفلة وباطنه نسيان مطالعة السوابق، وقال بعضهم: ظاهر الإثم طلب الدنيا وباطنه طلب الجنة لأن الأمرين يشغلان عن الحق وكل ما يشغل عنه سبحانه فهو إثم، وقيل: ظاهر الإثم حظوظ النفس وباطنه حظوظ القلب، وقيل: ظاهر الإثم حب الدنيا وباطنه حب الجاه، وقيل: ظاهر الإثم رؤية الأعمال وباطنه سكون القلب إلى الأحوال. وَإِنَّ الشَّياطِينَ وهم المحجوبون بالظاهر عن الباطن لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ أي من يواليهم من المنكرين لِيُجادِلُوكُمْ بما يتلقونه من الشبه وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ وتركتم ما أنتم عليه من التوحيد إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ مثلهم أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً بالجهل وهو النفس أو الاحتجاب بصفاتها فأحييناه بالعلم ومحبة الحق أو كشف حجب صفاته وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً من هدايتنا وعلمنا أو نورا من صفاتنا أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً بالمجاهدات فَأَحْيَيْناهُ بروح المشاهدات أو ميتا بشهوات النفس فأحييناه بصفاء القلب أو ميتا برؤية الثواب فأحييناه برؤية المآب إلى الوهاب وجعلنا له نور الفراسة أو الإرشاد، وقال جعفر الصادق: المعنى أومن كان ميتا عنا فأحييناه بنا وجعلناه إماما يهدي بنور الإجابة ويرجع إليه الضلّال، وقال ابن عطاء: أومن كان ميتا بحياة نفسه وموت قلبه فأحييناه بإماتة نفسه وحياة قلبه وسهلنا عليه سبل التوفيق وكحلناه بأنوار القرب فلا يرى غيرنا ولا يلتفت إلى سوانا كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ أي ظلمات نفسه وصفاته وأفعاله لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها لسوء استعداده كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ المحجوبين ما كانُوا يَعْمَلُونَ فاحتجبوا به وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها ويكون ذلك سببا لمزيد كمال العارفين حسبما تقدم في جعل الأعداء للأنبياء عليهم السلام. ويمكن أن يكون إشارة إلى ما في الأنفس أي «وكذلك جعلنا في كل قرية» وجود الإنسان التي هي البدن أَكابِرَ مُجْرِمِيها من قوى النفس الأمارة «ليمكروا فيها» بإضلال القلب وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ لأن عاقبة مكرهم راجع إليهم آفاقا وأنفسا وَإِذا جاءَتْهُمْ على يد الرسول عليه الصلاة والسلام آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ من الرسالة إليهم اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ وذلك حيث خزينة الاستعداد عامرة والنفس قدسية سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا بالاحتجاب عن الحق صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ أي ذلك بذهاب قدرهم حين خراب أبدانهم وَعَذابٌ شَدِيدٌ بحرمانهم الملائم ووصول المنافي إليهم في المعاد الجسماني فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ إليه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 268 ويعرفه به يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ بأن يقذف فيه نورا من أنواره فيعرفه بذلك وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً لا يدخل فيه شيء من أنوار شمس العرفان كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ نبوا وهربا عن قبول ذلك لأنه خلاف استعداده، وقيل: المعنى فمن يرد الله أن يهديه للتوحيد يشرح صدره لقبول نور الحق وإسلام الوجود إلى الله سبحانه بكشف حجب صفات نفسه عن وجه قلبه الذي يلي النفس فينفسح لقبول نور الحق ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا باستيلاء النفس عليه وضغطها له كما يصعد في سماء روحه مع تلك الهيئات البدنية المظلمة وذلك أمر محال، وقيل غير ذلك كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ أي رجس التلوث بنتن الطبيعة عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ وهم المحجوبون عن الحق وهذا أي طريق التوحيد أو الجعل صِراطُ رَبِّكَ أي طريقه الذي ارتضاه أو عادته التي اقتضتها حكمته قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ المعارف والحقائق المركوزة في استعدادهم لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ هي ساحة جلاله وحضائر قدس صفاته ومساقط وقوع أنوار جماله المنزهة عن خطر الحجاب وعلة العتاب وطريان العذاب وهو وليهم بنعت رعايتهم وكشف جماله لهم أو وليهم يحفظهم عن رؤية الغير في البين. ويجوز أن يكون المعنى لهم دار السلامة من كل خوف وآفة حيث يكون العبد فيها في ظل الذات والصفات وريف البقاء بعد الفناء والكثير على أن السلام من أسمائه تعالى فما ظنك بدار تنسب إليه جل شأنه: إذا نزلت سلمى بواد فماؤه ... زلال وسلسال وأشجاره ورد نسأل الله تعالى أن يدخلنا هاتيك الدار بحرمة نبيه المختار صلّى الله عليه وسلّم وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً نصب على الظرفية والعامل فيه مقدر أي اذكر أو نقول أو كان ما لا يذكر لفظاعته، وجوز أن يكون مفعولا به لمقدر أيضا أي اذكر ذلك اليوم، والضمير المنصوب لمن يحشر من الثقلين، وقيل: للكفار. وقرأ حفص عن عاصم. وروح عن يعقوب «يحشر» بالياء والباقون بنون العظمة على الالتفات لتهويل الأمر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 269 وقوله سبحانه: امَعْشَرَ الْجِنِ على إضمار القول، والمعشر الجماعة أمرهم واحد، وقال الطبرسي: الجماعة التامة من القوم التي تشتمل على أصناف الطوائف ومنه العشرة لأنها تمام العقد، والمراد بالجن أو بمعشرهم على ما قيل الشياطين، وذكر بعض الفضلاء أن الجن يقال على وجهين، أحدهما للروحانيين المستترين عن الحواس كلها فيدخل فيهم الملائكة والشياطين، وثانيهما للروحانيين مما عدا الملائكة، وقال آخرون: إن الروحانيين ثلاثة: أخيار وهم الملائكة وأشرار وهم الشياطين. وأوساط فيهم أخيار وأشرار، وأيا ما كان فالمقصود بالنداء الأشرار الذين يغوون الناس فإنهم أهل للخطاب بقوله سبحانه: قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ أي أكثرتم من إغوائهم وإضلالهم كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ومجاهد، والزجاج، فالكلام على حذف مضاف أو منهم بأن جعلتموهم أتباعكم فحشروا معكم كما يقال: استكثر الأمير من الجنود وهذا بطريق التوبيخ والتقريع. قيل: وإنما ذكر المعشر في جانب الجن دون جانب الانس لما أن الإغواء كثيرا ما يقتضي التظاهر والتعاون، وفي المعشر نوع إيماء إليه ولا كذلك الغوى وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ أي الذين أطاعوهم واتبعوهم مِنَ الْإِنْسِ أي الذين هم من الإنس أو كائنين منهم، فمن إما لبيان الجنس أو متعلقة بمحذوف وقع حالا من أولياء رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ أي انتفع الإنس بالجن حيث دلوهم على الشهوات وما يتوصل به إليها والجن بالإنس حيث اتخذوهم قادة ورؤساء واتبعوا أمرهم فأدخلوا عليهم السرور بذلك. وعن الحسن، وابن جريج، والزجاج، وغيرهم أن استمتاع الإنس بهم أنهم كانوا إذا سافر أحدهم وخاف الجن قال: أعوذ بسيد هذا الوادي. واستمتاعهم بالإنس اعترافهم بأنهم قادرون على إعاذتهم وإجارتهم. وعن محمد بن كعب أن المراد باستمتاع بعضهم ببعض طاعة بعضهم بعضا وموافقته له. وقال البلخي: يحتمل أن يكون الاستمتاع مقصورا على الإنس فيكون الإنس قد استمتع بعضهم ببعض الجن دون الجن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 270 وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا وهو يوم القيامة على ما قاله غير واحد، وعن الحسن، والسدي، وابن جريج أنه الموت والأول أولى، وإنما قال الأولياء ما قالوا اعترافا بما فعلوا من طاعة الشياطين واتباع الهوى وتكذيب البعث وإظهار للندامة عليها وتحسرا على حالهم واستسلاما لربهم وإلا ففائدة الخبر ولازمها مما لا تحقق له. قيل: ولعل الاقتصار على حكاية كلام الضالين للإيذان بأن المضلين قد أفحموا بالمرة فلم يقدروا على التكلم أصلا. وقرىء «آجالنا» بالجمع والَّذِي بالتذكير والإفراد، قال أبو علي: هو جنس أو وقع الذي موقع التي. قالَ استئناف بياني كأنه قيل: فماذا قال الله تعالى حينئذ؟ فقيل قال: النَّارُ مَثْواكُمْ أي منزلكم ومحل إقامتكم أو ذات ثوائكم على أن المثوى اسم مكان أو مصدر خالِدِينَ فِيها حال من ضمير الجمع والعامل فيها «مثوى» إن كان مصدرا وقدروا عاملا أي يبؤون خالدين إن كان مثوى اسم مكان لأنه حينئذ لا يصلح للعمل. وقال أبو البقاء: إن العامل في الحال على هذا التقدير معنى الإضافة، وردوه بأن النسبة الإضافية لا تعمل ولا يصح أن تنصب الحال إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه تعالى استثنى قوما قد سبق في علمه أنهم يسلمون ويصدقون النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهذا مبني على أن الاستثناء ليس من المحكي وأن ما بمعنى من، ولا يخفى أن استعمال ما للعقلاء قليل فيبعد ذلك كما يبعد شمول ما نقدم للمستثنى، وقيل: إن ما مصدرية وقتية على ما هو الظاهر، المراد إلا الوقت الذين ينقلون فيه إلى الزمهرير، فقد روي أنهم يدخلون واديا من الزمهرير ما يمييز بعض أوصالهم من بعض فيتعاوون ويطلبون الرد إلى الجحيم، ورد بأن فيه صرف النار من معناها العلمي وهو دار العذاب إلى اللغوي، وأجيب عنه بأنه لا بأس به إذا دعت إليه الضرورة، وقيل عليه: إن المعترض لا يسلم الضرورة لإمكان غير هذا التأويل. مع أن قوله سبحانه: مَثْواكُمْ يقتضي ما ذهب إليه المعترض بحسب الظاهر، وقيل: إن لهم وقتا يخرجون فيه من دار العذاب، وذلك أنه روي أنهم تفتح لهم أبواب الجنة ويخرجون من النار فإذا توجهوا للدخول أغلقت في وجوههم استهزاء بهم، وإليه الإشارة بقوله تعالى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ [المطففين: 34] . وأنت تعلم أن ظواهر الآيات صادحة بعدم تخفيف العذاب عن الكفار بعد دخولهم النار وفي إخراجهم هذا تخفيف أي تخفيف وإن كان بعده ما تشيب منه النواصي، ولعل الخبر في ذلك غير صحيح، والمشهور أن المرائين يدنون من الجنة حتى إذا استنشقوا ريحها ورأوا ما أعد الله تعالى لعباده فيها نودوا أن اصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها الخبر بتمامه وقد قدمناه ويكون ذلك قبل إدخالهم النار كما لا يخفى على من راجع الحديث. وقيل: المستثنى زمان إمهالهم قبل الدخول كأنه قيل النار مثواكم أبدا إلا ما أمهلكم، ورده أبو حيان بأنه في الاستثناء يشترط اتحاد زمان المخرج والمخرج منه فإذا قلت قام القوم إلا زيدا فإن معناه إلا زيدا ما قام ولا يصح أن يكون المعنى إلا زيدا ما يقوم في المستقبل. وكذلك سأضرب القوم إلا زيدا معناه إلا زيدا فإني لا أضربه في المستقبل ولا يصح أن يكون المعنى إلا زيدا فإني ما ضربته وأجيب بأن هذا إذا لم يكن الاستثناء منقطعا أما إذا كان منقطعا فإنه يسوغ كقوله تعالى: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدخان: 56] أي لكن الموتة الأولى فإنهم ذاقوها فلعل القائل بأن المستثنى زمان إمهالهم يلتزم انقطاع الاستثناء كما في هذه الآية ولا محذور فيه مع ورود مثله في القرآن وفيه نظر ظاهر، وذهب الزجاج إلى وجه لطيف إنما يظهر بالبسط فقال: المراد والله تعالى أعلم إلا ما شاء الله من زيادة العذاب ولم يبين وجه استقامة الاستثناء والمستثنى على هذا التأويل، قال ابن المنير: ونحن نبينه فنقول: العذاب والعياذ بالله عز وجل على درجات متفاوتة فكأن المراد أنهم مخلدون في جنس العذاب إلا ما شاء ربك من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 271 زيادة تبلغ الغاية وتنتهي إلى أقصى النهاية حتى تكاد لبلوغها الغاية ومباينتها لأنواع العذاب في الشدة تعد خارجة عنه ليست من جنس العذاب والشيء إذا بلغ الغاية عندهم عبروا عنه بالضد كما عبروا عن كثرة الفعل برب وقد وهما موضوعان لضد الكثرة من القلة وذلك أمر يعتاد في لغة العرب. وقد حام أبو الطيب حوله فقال: ولجدت حتى كدت تبخل حائلا ... للمنتهى ومن السرور بكاء فكان هؤلاء إذا نقلوا إلى غاية العذاب ونهاية الشدة فقد وصلوا إلى الحد الذي يكاد أن يخرج عن اسم العذاب المطلق حتى تسوغ معاملته في التعبير بمعاملة المغاير وهو وجه حسن لا يكاد يفهم من كلام الزجاج إلا بعد هذا البسط، وفي تفسير ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما يؤيده انتهى. ونقل عن بعضهم أن هذا الاستثناء معذوق بمشيئة الله تعالى رفع العذاب أي يخلدون إلى أن يشاء الله تعالى لو شاء. وفائدته إظهار القدرة والإذعان بأن خلودهم إنما كان لأن الله تعالى شأنه قد شاءه وكان من الجائز العقلي في مشيئته أن لا يعذبهم ولو عذبهم لا يخلدهم وأن ذلك ليس بأمر واجب عليه وإنما هو مقتضى مشيئته وإرادته عز وجل، وفي الآية على هذا دفع في صدور المعتزلة الذين يزعمون أن تخليد الكفار واجب على الله تعالى بمقتضى الحكمة وأنه لا يجوز في العقل مقتضى ذلك، ولعل هذا هو الحق الذي لا محيص عنه، وفي معناه ما قيل: المراد المبالغة في الخلود بمعنى أنه لا ينتفي إلا وقت مشيئة الله تعالى وهو مما لا يكون مع إيراده في صورة الخروج وأطماعهم في ذلك تهكما وتشديدا للأمر عليهم ومن أفاضل العصريين الأكابر من ادعى ذلك الوجه له وأنه قد خلت عنه الدفاتر وهو مذكور في غير ما موضع فإن كان لا يدري فتلك مصيبة وإن كان يدري فالمصيبة أعظم، وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام في ذلك عند قوله سبحانه: إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ. إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ في التعذيب والإثابة أو في كل أفعاله عَلِيمٌ بأحوال الثقلين وأعمالهم وبما يليق بها من الجزاء أو بكل شيء ويدخل ما ذكر دخولا أوليا وَكَذلِكَ أي مثل ما سبق من تمكين الجن من إغواء الإنس وإضلالهم أو مثل ما سبق نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ من الإنس بَعْضاً آخر منهم أن نجعلهم بحيث يتولونهم ويتصرفون فيهم في الدنيا بالإغواء والإضلال وغير ذلك، واستدل به على أن الرعية إذا كانوا ظالمين فالله تعالى يسلط عليهم ظالما مثلهم، وفي الحديث «كما تكونوا يولىّ عليكم» أو المعنى نجعل بعضهم قرناء بعض في العذاب كما كانوا كذلك في الدنيا عند اقتراف ما يؤدي إليه من القبائح كما قيل، وروي مثله عن قتادة بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي بسبب ما كانوا مستمرين على كسبه من الكفر والمعاصي امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ شروع في حكاية ما سيكون من توبيخ المعشرين وتقريعهم بتفريطهم فيما يتعلق بخاصة أنفسهم لَمْ يَأْتِكُمْ في الدنياسُلٌ من عند الله عز وجل كائنةنْكُمْ أي من جملتكم لكن لا على أن يأتي كل رسول كل واحدة من الأمم ولا على أن أولئك الرسل عليهم السلام من جنس الفريقين معا بل على أن يأتي كل أمة رسول خاص بها وعلى أن تكون من الإنس خاصة إذ المشهور أنه ليس من الجن رسل وأنبياء، ونظيره في هذا قوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرحمن: 22] فإنهما إنما يخرجان من الملح فقط كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى. والفراء قدر هنا مضافا لذلك أي من أحدكم، وقال غير واحد: المراد بالرسل ما يعم رسل الرسل، وقد ثبت أن الجن استمعوا القرآن وأنذروا به قومهم فقد قال سبحانه: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ إلى قوله عز وجل: وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [الأحقاف: 29] . وعن الضحاك. وغيره أن الله تعالى أرسل للجن رسلا منهم وصرح بعضهم أن رسولا منهم يسمى يوسف، وظاهر الآية يقتضي إرسال الرسل إلى كل من المعشرين من جنسهم وادعى بعض قيام الإجماع على أنه لم يرسل إلى الجن رسول منهم وإنما أرسل إليهم من الإنس وهل كان ذلك قبل بعثة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 272 نبينا عليه الصلاة والسلام أم لا الذي نص عليه الكلبي الثاني قال: كان الرسل يرسلون إلى الانس حتى بعث محمد صلّى الله عليه وسلّم إلى الانس والجن قُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي التي أوحيتها إليهم، والحج ملة صفة أخرى لرسل محققة لما هو المراد من إرسالهم من التبليغ والإنذار وقد حصل ذلك بالنسبة إلى الثقلين يُنْذِرُونَكُمْ أي يخوفونكم بما في تضاعيفها من القوارع قاءَ يَوْمِكُمْ هذا أي يوم الحشر الذي قد عاينوا فيه ما عاينواالُوا استئناف بياني، والمقصود منه حكاية قولهم: كيف يقولون وكيف يعترفون هِدْنا عَلى أَنْفُسِنا أي بإيتاء الرسل وقصهم وإنذارهم وبمقابلتهم إياهم بالكفر والتكذيب، وقوله سبحانه: غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا مع ما عطف عليه اعتراض لبيان ما أداهم في الدنيا إلى ارتكاب القبائح التي ارتكبوها وألجأهم في الآخرة إلى الاعتراف بالكفر واستيجاب العذاب وذم لهم بذلك وتسفيه لرأيهم فلا تكرار في الشهادتين أي واغتروا في الدنيا بالحياة الدنيئة واللذات الخسيسة الفانية وأعرضوا عن النعيم المقيم الذي بشرت به الرسل عليهم السلام واجترءوا على ارتكاب ما يجرهم إلى العذاب المؤبد الذي أنذروهم إياه شَهِدُوا في الآخرةلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا في الدنياافِرِينَ بالآيات والنذر واضطروا إلى الاستسلام لأشد العذاب، وفي ذلك من تحسرهم وتحذير السامعين عن مثل صنيعهم ما لا مزيد عليه. ذلِكَ إشارة إلى إتيان الرسل أو السؤال المفهوم من لَمْ يَأْتِكُمْ أو ما قص من أمرهم أعني شهادتهم على أنفسهم بالكفر واستيجاب العذاب، وهو إما مرفوع على أنه خبر مبتدأ مقدر أي الأمر ذلك أو مبتدأ خبره مقدر أو خبره قوله سبحانه: أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بحذف اللام على أن أن مصدرية أو مخففة من أن وضمير الشأن الذي هو اسمها، وإما منصوب على أنه مفعول به لفعل مقدر كخذ وفعلنا ونحو ذلك، وجوز أن يكون أَنْ لَمْ إلخ بدلا من اسم الإشارة، وقوله تعالى: بِظُلْمٍ متعلق إما بمهلك أي بسبب ظلم أو بمحذوف وقع حالا من القرى أي متلبسة بظلم أو حالا من رَبُّكَ أو من ضميره في مُهْلِكَ، والمراد مهلك أهل القرى إلا أنه تجوز في النسبة أو حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، ولا يأباه قوله تعالى: وَأَهْلُها غافِلُونَ لأن أصله وهم غافلون فلما حذف المضاف أقيم الظاهر مقام ضميره. واعترض شيخ الإسلام على جعل بِظُلْمٍ حالا من رَبُّكَ أو من ضميره بأنه يأباه أن غفلة أهلها مأخوذة في معنى الظلم وحقيقته لا محالة فلا يحسن تقييده بالجملة بعد، وأورد عليه أنه قد يتصور الظلم مع عدم الغفلة بأن يكون حال التيقظ ومقارنة الانقياد، وإن كان المراد هاهنا هو الإهلاك حال الغفلة ففائدة التقييد تعيين المراد ولا يخفى حسنه ولا يخفى ما فيه، واختار قدس سره من احتمالات المشار إليه وأوجه إعراب اسم الإشارة الثالث من كل قال: والمعنى ذلك ثابت لانتفاء كون ربك أو لأن الشأن لم يكن ربك مهلك القرى بسبب أي ظلم فعلوه من أفراد الظلم قبل أن ينهوا عنه وينبهوا على بطلانه برسول وكتاب وإن قضى به بداهة العقول وينذروا عاقبة جناياتهم أي لولا انتفاء كونه تعالى معذبا لهم قبل إرسال الرسل وإنزال الكتب لما أمكن التوبيخ بما ذكر ولما شهدوا على أنفسهم بالكفر واستيجاب العذاب ولا اعتذروا بعدم إتيان الرسل إليهم كما في قوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى [طه: 134] وإنما علل ما ذكر بانتفاء التعذيب الدنيوي الذي هو إهلاك القرى قبل الإنذار مع أن التقريب في تعليله بانتفاء مطلق التعذيب من غير بعث الرسل أتم على ما نطق به قوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] على ما اختاره أهل السنة في معناه لبيان كمال نزاهته سبحانه على كلا التعذيبين من غير إنذار على أبلغ وجه وآكده. ولا يخفى أن لما اختاره وجها وجيها خلا أن قوله فيما بعد: إن جعل ذلك إشارة إلى إرسال الرسل عليهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 273 السلام وإنذارهم وخبر المبتدأ محذوفا كما أطبق عليه الجمهور بمعزل عن مقتضى المقام ممنوع، وعلى سائر الاحتمالات الخطاب للرسول صلّى الله عليه وسلّم بطريق تلوين الخطاب، والظاهر أن انتفاء الإهلاك قبل الإنذار لا يختص بالإنس بل الجن أيضا لا يهلكون قبل إنذارهم وإن لم يشع إطلاق أهل القرى عليهم، وهذا مبني على محض فضل الله تعالى عندنا. والمعتزلة يقولون: يجب على الله تعالى أن لا يعذب قبل الإنذار وقيام الحجة وبنوه على قاعدة الحسن والقبح العقليين، وأئمتنا يثبتون ذلك لكنهم لا يجعلونه مناط الحكم كما زعم المعتزلة وَلِكُلٍّ من المكلفين جنا كانوا أو إنسا دَرَجاتٌ أي مراتب فيتناول الدركات حقيقة أو تغليبا مِمَّا عَمِلُوا أي من أعمالهم صالحة كانت أو سيئة أو من أجل أعمالهم أو من جزائها، فمن إما ابتدائية أو تعليلية أو بيانية بتقدير مضاف وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ فلا يخفى عليه سبحانه عمل عامل أو قدر ما يستحق به من ثواب أو عقاب. وقرأ ابن عامر «تعملون» بالتاء على تغليب الخطاب على الغيبة ولو أريد شمول يَعْمَلُونَ بالتحتية للمخاطب بأن يراد جميع الخلق فلا مانع من اعتبار تغليب الغائب على المخاطب سوى أن ذلك لم يعهد مثله في كلامهم وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ أي لا غنى عن كل شيء كائنا ما كان إلا هو سبحانه فلا احتياج له عز شأنه إلى العباد ولا إلى عبادتهم، ولا يخفى ما في التعرض لعنوان الربوبية مع الإظهار في مقام الإضمار والإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام من اللطف الجزيل، والكلام مبتدأ وخبر. وقوله سبحانه: ذُو الرَّحْمَةِ خبر آخر، وجوز أن يكون هو الخبر والْغَنِيُّ صفة أي الموصوف بالرحمة العامة فيترحم على العباد بالتكليف تكميلا لهم ويمهلهم على المعاصي إلى ما شاء، وفي ذلك تنبيه على أن ما تقدم ذكره من الإرسال ليس لنفعه بل لترحمه على العباد وتوطئة لقوله سبحانه: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أي ما به حاجة إليكم أصلا إن يشأ يذهبكم أيها العصاة أو أيها الناس بالإهلاك، وفي تلوين الخطاب من تشديد الوعيد ما لا يخفى وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ أي وينشىء من بعد إذهابكم ما يَشاءُ من الخلق، وإيثار ما على من لإظهار كمال الكبرياء وإسقاطهم عن رتبة العقلاء كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ أي من نسل قوم آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم وهم أهل سفينة نوح عليه السلام لكنه سبحانه أبقاكم ترحما عليكم، وما في كَما مصدرية ومحل الكاف النصب على المصدرية أو الوصفية لمصدر الفعل السابق أي وينشىء إنشاء كإنشائكم أو يستخلف استخلافا كائنا كإنشائكم، ومِنْ لابتداء الغاية، وقيل: هي بمعنى البدل والشرطية استئناف مقرر لمضمون ما قبلها من الغنى والرحمة إِنَّ ما تُوعَدُونَ أي إن الذي توعدونه من القيامة، والحساب، والعقاب، والثواب، وتفاوت الدرجات والدركات، وصيغة الاستقبال للدلالة على الاستمرار التجددي، وما اسم أن ولا يجوز أن تكون الكافة لأن قوله سبحانه: لَآتٍ يمنع من ذلك كما قال أبو البقاء، وهو خبر أن، والمراد أن ذلك لواقع لا محالة، وإيثار آت على واقع لبيان كمال سرعة وقوعه بتصويره بصورة طالب حثيث لا يفوته هارب حسبما يعرب عنه قوله تعالى: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أي جاعلي من طلبكم عاجزا عنكم غير قادر على إدراككم. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المعنى وما أنتم بسابقين، وإيثار صيغة الفاعل على المستقبل للإيذان بقرب الإتيان والدوام الذي يفيده العدول عن الفعلية إلى الاسمية متوجه إلى النفي فالمراد دوام انتفاء الإعجاز لا بيان دوام انتفائه، وله نظائر في الكتاب الكريم. قُلْ يا قَوْمِ أمر له صلّى الله عليه وسلّم أن يواجه الكفار بتشديد التهديد وتكرير الوعيد ويظهر لهم ما هو عليه من غاية التصلب في الدين ونهاية الوثوق بأمره وعدم المبالاة بهم أصلا أثر ما بين لهم حالهم ومآلهم أي قل يا محمد لهؤلاء الكفار. اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي على غاية تمكنكم واستطاعتكم على أن المكانة مصدر مكن إذا تمكن أبلغ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 274 التمكن وجوز أن يكون ظرفا بمعنى المكان كالمقام والمقامة، ومن هنا فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما رواه ابن المنذر عنه بالناحية وتجوز به عن ذلك من فسره بالحالة أي اعملوا على حالتكم التي أنتم عليها. وقرأ أبو بكر عن عاصم «مكاناتكم» على الجمع في كل القرآن، وزعم الواحدي أن الوجه الإفراد وفيه نظر، والمعنى اثبتوا على كفركم ومعاداتكم لي إِنِّي عامِلٌ على مكانتي أي ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم. والأمر للتهديد وإيراده بصيغة الأمر كما قال غير واحد- مبالغة في الوعيد كأن المهدد يريد تعذيبه مجمعا عازما عليه فيحمله بالأمر على ما يؤدي إليه وتسجيل بأن المهدد لا يتأتى منه إلا الشر كالمأمور به الذي لا يقدر أن يتفصى عنه. وجعل العلامة الثاني ذلك من قبيل الاستعارة التمثيلية تشبيها لذلك المعنى بالمعنى المأمور به الواجب الذي لا بد أن يكون ممن ضربت عليه الشقوة فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ أي إنكم لتعلمون ذلك لا محالة. فسوف لتأكيد مضمون الجملة. والعلم عرفاني فيتعدى إلى واحد، ومن استفهامية معلقة لفعل العلم محلها الرفع على الابتداء. والجملة بعدها خبرها ومجموعهما ساد مسد مفعول العلم. والمراد بالدار الدنيا لا دار السلام كما قيل، وبالعاقبة العاقبة الحسنى أي عاقبة الخير لأنها الأصل فإنه تعالى جعل الدنيا مزرعة الآخرة وقنطرة المجاز إليها وأراد من عباده أعمال الخير لينالوا حسن الخاتمة. وأما عاقبة الشر فلا اعتداد بها لأنها من نتائج تحريف الفجار أي فسوف تعلمون أينا تكون له العاقبة الحسنى التي خلق الله تعالى هذه الدار لها ويجوز أن تكون ما موصولة فمحلها النصب على أنها مفعول تَعْلَمُونَ أي فسوف تعلمون الذي له عاقبة الدار، وفيه مع الإنذار المستفاد من التهديد إنصاف في المقال وتنبيه على كمال وثوق المنذر بأمره. وقرأ حمزة، والكسائي «يكون» بالتحتية لأن تأنيث العاقبة غير حقيقي إِنَّهُ أي الشأن لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ أي لا يظفروا بمطلوبهم، وإنما وضع الظلم موضع الكفر لأنه أعم منه وهو أكثر فائدة لأنه إذا لم يفلح الظالم فكيف الكافر المتصف بأعظم افراد الظلم وَجَعَلُوا أي مشركو العرب لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ أي خلق قال الراغب: الذرء، إظهار الله تعالى ما أبدعه يقال: ذرأ الله تعالى الخلق أي أوجد أشخاصهم، وقال الطبرسي: الذرء الخلق على وجه الاختراع وأصله الظهور ومنه ملح ذراني لظهور بياضه. ومن متعلقة بجعل وما موصولة وجملة ذَرَأَ صلته والعائد محذوف. وقوله سبحانه: مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ متعلق بذرأ. وجوز أبو البقاء أن يكون «مما» متعلقا بمحذوف وقع حالا من قوله تعالى: نَصِيباً وأن يكون مِنَ الْحَرْثِ حالا أيضا من ما أو من العائد المحذوف. ونَصِيباً على كل تقدير مفعول جعل وهو متعد لواحد، وجوز أن يكون متعديا لاثنين أولهما مِمَّا ذَرَأَ على أن من تبعيضية وثانيهما نَصِيباً، وقيل: الأمر بالعكس. واعترض بأنه لا يساعده سداد المعنى، وأيا ما كان فهذا شروع في تقبيح أحوالهم الفظيعة بحكاية أقوالهم وأفعالهم الشنيعة، أخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية: إنهم كانوا إذا احترثوا حرثا أو كانت لهم ثمرة جعلوا لله تعالى منه جزءا وجزءا للوثن فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه فإن سقط شيء مما سمي للصمد ردوه إلى ما جعلوه للوثن وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن فسقي شيئا مما جعلوه لله تعالى جعلوه للوثن وإن سقط شيء من الحرث والثمرة الذي جعلوه لله تعالى فاختلط بالذي جعلوه للوثن قالوا: هذا فقير ولم يردوه إلى ما جعلوا لله تعالى وإن سبقهم الماء الذي سموا لله تعالى فسقي ما سموا للوثن تركوه للوثن، وكانوا يحرمون من أنعامهم البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحامي فيجعلونه للأوثان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 275 ويزعمون أنهم يحرمون لله سبحانه. وروي أنهم كانوا يعينون شيئا من حرث ونتاج لله تعالى فيصرفونه إلى الضيفان والمساكين وأشياء منهما لآلهتهم فينفقون منها لسدنتها ويذبحون عندها فإذا رأوا ما جعلوه لله تعالى زاكيا ناميا يزيد في نفسه خيرا رجعوا فجعلوه لآلهتهم وإذا زكا ما جعلوه لآلهتهم تركوه معتلين بأن الله تعالى غني وما ذاك إلا لفرط جهلهم حيث أشركوا الخالق القادر جمادا لا يقدر على شيء ثم رجحوه عليه سبحانه بأن جعلوا الزاكي له، واختار هذه الرواية الزجاج وغيره. وأصل النظم الكريم وجعلوا لله إلخ ولشركائهم فطوى ذكر الشركاء لأنه- على ما قيل- أمر محقق عندهم وأشير إلى تقديره بالتصريح به في قوله تعالى: فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا أي الأوثان، وسموهم شركاءهم لأنهم جعلوا لهم نصيبا من أموالهم فهم شركاؤهم فيها ويحتمل أن الإضافة لأدنى ملابسة حيث إنهم زعموا كونهم شركاء لله تعالى. وقرأ الكسائي، ويحيى بن وثاب، والأعمش «بزعمهم» بضم الزاي وهو لغة فيه، وجاء الكسر أيضا فهو مثلث كالود وقد تقدم معناه، وإنما قيد به الأول للتنبيه على أنه في الحقيقة ليس بجعل لله سبحانه غير مستتبع لشيء من الثواب كالتطوعات التي يبتغى بها وجه الله تعالى، وقيل: للإيذان بأن ذلك مما اخترعوه لم يأمرهم الله تعالى به. ورد بأن ذلك مستفاد من الجعل ولذلك لم يقيد به الثاني. وجوز أن يكون ذلك تمهيدا لما بعده على أن معنى قولهم. هذا لِلَّهِ مجرد زعم منهم لا يعملون بمقتضاه الذي هو اختصاصه به تعالى فقوله سبحانه: فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ بيان وتفصيل له أي فما عينوه لشركائهم لا يصرف إلى الوجوه التي يصرف إليها ما عينوه لله تعالى وما عينوه لله تعالى يصرف إلى الوجوه التي يصرف إليها ما عينوه لآلهتهم ساءَ ما يَحْكُمُونَ فيما فعلوا من إيثار مخلوق عاجز عن كل شيء على خالق قادر على كل شيء وعملهم بما لم يشرع لهم، وساءَ يجري مجرى بئس، فما سواء كانت موصولة أو موصوفة فاعل، والمخصوص بالذم محذوف أي حكمهم هذا، وقيل: إن ساءَ هنا غير الجارية مجرى بئس فلا تحتاج إلى مخصوص بالذم بل إلى فاعل فقط فإن فاعل الجارية يجب أن يكون معرفا باللام أو مضافا في الأشهر، واختاره بعض المحققين. وَكَذلِكَ أي ومثل ذلك التزيين وهو تزيين الشرك في قسمة القربات من الحرث والإنعام بين الله تعالى وبين شركائهم أو مثل ذلك التزيين البليغ المعهود من الشياطين زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي مشركي العرب قَتْلَ أَوْلادِهِمْ فكانوا يئدون البنات الصغار بأن يدفنونهن أحياء، وكانوا في ذلك- على ما قيل فريقين. أحدهما يقول: إن الملائكة بنات الله سبحانه فألحقوا البنات بالله تعالى فهو أحق بها. والآخر يقتلهن خشية الإنفاق، وقيل: خشية ذلك والعار وهو المروي عن الحسن، وجماعة، وقيل: السبب في قتل البنات أن النعمان بن المنذر أغار على قوم فسبى نساءهم وكانت فيهن بنت قيس بن عاصم ثم اصطلحوا فأرادت كل امرأة منهن عشيرتها غير ابنة قيس فإنها أرادت من سباها فحلف قيس لا تولد له بنت إلا وأدها فصار ذلك سنة فيما بينهم، وقيل: إنهم كانوا ينذر أحدهم إذا بلغ بنوه، عشرة نحر واحد منهم كما فعله عبد المطلب في قصته المشهورة، وإليها أشار صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «أنا ابن الذبيحين» وقَتْلَ مفعول زَيَّنَ مضاف إلى أَوْلادِهِمْ من إضافة المصدر إلى مفعوله. وقوله سبحانه: شُرَكاؤُهُمْ فاعل له، والمراد بالشركاء إما الجن أو السدنة، ووسموا بذلك لأنهم شركاء في أموالهم كما مر آنفا أو لإطاعتهم له كما يطاع الشريك لله عز اسمه. ومعنى تزيينهم لهم ذلك تحسينه لهم وحثهم عليه. وقرأ ابن عامر «زيّن» بالبناء للمفعول الذي هو القتل، ونصب الأولاد وجر الشركاء بإضافة القتل إليه مفصولا بينهما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 276 بمفعوله. وعقب ذلك الزمخشري بأنه شيء لو كان في مكان الضرورات وهو الشعر لكان سمجا مردودا كما سمج. ورد زج القلوص أبي مزادة. فكيف به في الكلام المنثور فكيف به في الكلام المعجز، ثم قال: والذي حمله على ذلك أنه رأى في بعض المصاحف شُرَكاؤُهُمْ مكتوبا بالياء، ولو قرأ بجر الأولاد والشركاء لأن الأولاد شركاؤهم لوجد في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب اه. وقد ركب في هذا الكلام عمياء وتاه في تيهاء، فقد تخيل أن القراء أئمة الوجوه السبعة اختار كل منهم حرفا قرأ به اجتهادا لا نقلا وسماعا كما ذهب إليه بعض الجهلة فلذلك غلط ابن عامر في قراءته هذه وأخذ يبين منشأ غلطه، وهذا غلط صريح يخشى منه الكفر والعياذ بالله تعالى فإن القراءات السبعة متواترة جملة وتفصيلا عن أفصح من نطق بالضاد صلّى الله عليه وسلّم فتغليط شيء منها في معنى تغليط رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بل تغليط الله عز وجل نعوذ بالله سبحانه من ذلك. قال أبو حيان: عجب لعجمي ضعيف في النحو يرد على عربي صريح محض قراءة متواترة نظيرها في كلام العرب في غير ما بيت، وأعجب بسوء هذا الرجل بالقراء الأئمة الذين تخيرتهم هذه الأمة لنقل كتاب الله تعالى شرقا وغربا، وقد اعتمد المسلمون على نقلهم لضبطهم ومعرفتهم وديانتهم اه. وقد شنع عليه أيضا غير واحد من الأئمة، ولعل عذره في ذلك جهله بعلمي القراءة والأصول. وقد يقال: إنه لم يفرق بين المضاف الذي لم يعمل وبين غيره. ومحققو النحاة قد فرقوا بينهما بأن الثاني يفصل فيه بالظرف، والأول إذا كان مصدرا أو نحوه يفصل بمعموله مطلقا لأن إضافته في نية الانفصال ومعموله مؤخر رتبة ففصله كلا فصل فلذا ساغ ذلك فيه ولم يخص بالشعر كغيره. وممن صرح بذلك ابن مالك، وخطأ الزمخشري بعدم التفرقة وقال في كافيته: وظرف أو شبيهه قد يفصل ... جزأي إضافة وقد يستعمل فصلان في اضطرار بعض الشعرا ... وفي اختيار قد أضافوا المصدرا لفاعل من بعد مفعول حجز ... كقول بعض القائلين للرجز بفرك حب السنبل الكنافج ... بالقاع فرك القطن المحالج وعمدتي قراءة ابن عامر ... وكم لها من عاضد وناصر انتهى. وبعد هذا كله لو سلمنا أن قراءة ابن عامر منافية لقياس العربية لوجب قبولها أيضا بعد أن تحقق صحة نقلها كما قبلت أشياء نافت القياس مع أن صحة نقلها دون صحة القراءة المذكورة بكثير، وما ألطف قول الإمام على ما حكاه عنه الجلال السيوطي، وكثيرا ما أرى النحويين متحيرين في تقرير الألفاظ الواردة في القرآن، فإذا استشهد في تقريره ببيت مجهول فرحوا به وأنا شديد التعجب منهم لأنهم إذا جعلوا ورود ذلك البيت المجهول على وفقه دليلا على صحته فلأن يجعلوا ورود القرآن به دليلا على صحته كان أولى، ومما ذكرنا يعلم ما في قول السكاكي: لا يجوز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير الظرف، ونحو قوله: بين ذراعي وجبهة الأسد محمول على حذف المضاف إليه من الأول، ونحو قراءة من قرأ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لاستنادها إلى الثقات وكثرة نظائرها، ومن أرادها فعليه بخصائص ابن جني محمولة عندي على حذف المضاف إليه من الأول وإضمار المضاف في الثاني كما في قراءة من قرأ وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ [الأنفال: 67] بالجر أي عرض الآخرة، وما ذكر وإن كان فيه نوع بعد إلا أن تخطئة الثقات والفصحاء أبعد اه. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ببناء «زيّن» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 277 للمفعول ورفع «قتل» وجر «أولادهم» ورفع «شركائهم» بإضمار فعل دل عليه زَيَّنَ كما في قوله: ليبك يزيد ضارع لخصومة ... ومختبط مما تطيح الطوائح كأنه لما قيل: زين لهم قتل أولادهم قيل من زينه؟ فقيل: زينه شركاؤهم لِيُرْدُوهُمْ أي ليهلكوهم بالإغواء: وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ أي ليخلطوا عليهم ما كانوا عليه من دين إسماعيل عليه السلام حتى زلوا عنه إلى الشرك أو دينهم الذي وجب أن يكونوا عليه. وقيل: المعنى ليوقعوهم في دين ملتبس، واللام للتعليل إن كان التزيين من الشياطين لأن مقصودهم من إغوائهم ليس إلا ذلك، وللعاقبة إن كان من السدنة إذ ليس محط نظرهم ذلك لكنه عاقبته وَلَوْ شاءَ اللَّهُ أي عدم فعلهم ذلك ما فَعَلُوهُ أي ما فعل المشركون ما فعل المشركون ما زين لهم من القتل أو ما فعل الشركاء من التزيين أو الإرداء واللبس أو ما فعل الفريقان جميع ذلك على إجراء الضمير المفرد مجرى اسم الإشارة فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ الفاء فصيحة أي إذا كان ما كان بمشيئة الله تعالى فدعهم وافتراءهم أو ما يفترونه من الكذب ولا تبال بهم فإن في ما يشاء الله تعالى حكما بالغة وفيه من شدة الوعيد ما لا يخفى وَقالُوا حكاية لنوع آخر من أنواع كفر أولئك الكفار، وقيل: تتمة لما تقدم هذِهِ أي ما جعلوه لآلهتهم والتأنيث للخبر أَنْعامٌ وَحَرْثٌ أي زرع حِجْرٌ أي ممنوع منها وهو فعل بمعنى مفعول كالذبح يستوي فيه الواحد والكثير والذكر والأنثى لأن أصله المصدر ولذلك وقع صفة لأنعام وحرث. وقرأ الحسن وقتادة «حجر» بضم الحاء، وقرأ أيضا بفتح الحاء وسكون الجيم وبضم الحاء والجيم معا. ويحتمل في هذا أن يكون مصدرا كالحلم، وأن يكون جمعا كسقف ورهن. وعن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهما «حرج» بكسر الحاء وتقديم الراء على الجيم أي ضيق وأصله «حرج» بفتح الحاء وكسر الراء، وقيل: هو مقلوب من حجر كعميق ومعيق لا يَطْعَمُها أي يأكلها إِلَّا مَنْ نَشاءُ يعنون كما روي عن ابن زيد- الرجال دون النساء، وقيل: يعنون ذلك وخدم الأوثان، والجملة صفة أخرى لأنعام وحرث، وقوله سبحانه: بِزَعْمِهِمْ متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل قالُوا أي قالوا ذلك متلبسين بزعمهم الباطل من غير حجة وَأَنْعامٌ خبر مبتدأ محذوف والجملة معطوفة على قوله سبحانه: هذِهِ أَنْعامٌ أي قالوا مشيرين إلى طائفة من أنعامهم وهذه أنعام. وقيل: إن الإشارة أولا إلى ما جعل لآلهتهم السابق وما بينهما كالاعتراض وهذا عطف على أَنْعامٌ المتقدم إدخاله فيما تقدم لأن المراد به السوائب ونحوها وهي بزعمهم تعتق وتعفى لأجل الآلهة حُرِّمَتْ أي منعت ظُهُورُها فلا تركب ولا يحمل عليها وَأَنْعامٌ أي وهذه أنعام على ما مر. وقوله سبحانه: لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صفة لأنعام مسوق من قبله تعالى تعيينا للموصوف وتمييزا له عن غيره كما في قوله تعالى: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ [النساء: 157] في رأي لا أنه واقع في كلامهم المحكي كنظائره كأنه قيل: وأنعام ذبحت على الأصنام فإنها التي لا يذكر اسم الله تعالى عليها وإنما يذكر عليها اسم الأصنام. وأخرج ابن المنذر. وغيره عن أبي وائل أن المعنى لا يحجون عليها ولا يلبون. وعن مجاهد كانت لهم طائفة من أنعامهم لا يذكرون اسم الله تعالى عليها ولا في شيء من شأنها لا إن ركبوا ولا إن حلبوا ولا ولا افْتِراءً عَلَيْهِ أي على الله سبحانه وتعالى، ونصب افْتِراءً على المصدر إما على أن قولهم المحكي بمعنى الافتراء، وإما على تقدير عامل من لفظه أي افتروا افتراء أو على الحال من فاعل قالُوا أي مفترين أو على العلة أي للافتراء وهو بعيد معنى، وعَلَيْهِ قيل: متعلق بقالوا أو بافتروا المقدر على الاحتمالين الأولين وبافتراء على الاحتمالين الأخيرين. ولا يخفى بعد تعلقه بقالوا، والذي دعاهم إليه ومنعهم من تعلقه بالمصدر- على ما قيل- أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 278 المصدر إذا وقع مفعولا مطلقا لا يعمل لعدم تقديره بأن والفعل، وفيه نظر لأن تأويله بذلك ليس بلازم لتعلق الجار به فإنه مما يكفيه رائحة الفعل. وجوز أبو البقاء أن يكون الجار متعلقا بمحذوف وقع صفة لافتراء أي افتراء كائنا عليه سَيَجْزِيهِمْ ولا بد بِما كانُوا يَفْتَرُونَ أي بسببه أو بدله، وأبهم الجزاء للتهويل وَقالُوا حكاية لفن آخر من فنون كفرهم ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ يعنون به أجنة البحائر والسوائب كما روي عن مجاهد والسدي، وروى ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم يعنون به الألبان، وما مبتدأ خبره قوله سبحانه: خالِصَةٌ لِذُكُورِنا أي حلال لهم خاصة لا يشركهم فيه أحد من الإناث، والتاء للنقل إلى الاسمية أو للمبالغة كرواية الشعر أي كثير الرواية له أو لأن الخالصة مصدر- كما قال الفراء- كالعافية وقع موقع الخالص مبالغة أو بتقدير ذو وهذا مستفيض في كلام العرب تقول: فلان خالصتي أي ذو خلوصي، قال الشاعر: كنت أميني وكنت خالصتي ... وليس كل امرئ بمؤتمن نعم قيل: مجيء المصدر بوزن فاعل وفاعلة قليل، وقيل: إن التاء للتأنيث بناء على أن «ما» عبارة عن الأجنة. والتذكير في قوله تعالى: وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا أي على جنس أزواجنا وهن الإناث باعتبار اللفظ، واستبعد ذلك بأن فيه رعاية المعنى أولا واللفظ ثانيا وهو خلاف المعهود في الكتاب الكريم من العكس، وادعى بعض أن له نظائر فيه، منها قوله تعالى: كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً [الإسراء: 38] إذ أنث فيه ضمير كُلُّ أولا مراعاة للمعنى ثم ذكر حملا على اللفظ، وقيل: إن ما هنا جار على المعهود من رعاية اللفظ أولا لأن صلة «ما» جار ومجرور تقدير متعلقه استقر لا استقر لا استقرت ولا وجه لذلك لأن المتعلق والضمير المستتر فيه لا يعلم تذكيره وتأنيثه حتى يكون مراعاة لأحد الجانبين. والذي يقتضيه الإنصاف أن الحمل على اللفظ بعد المعنى قليل وغيره أولى ما وجد إليه سبيل، وذكر بعضهم أن ارتكاب خلاف المعهود هاهنا لا يخلو عن لطف معنوي ولفظي، أما الأول فموافقة القول الفعل حيث إن المعهود من ذوي المروءة جبر قلوب الإناث لضعفهن. ولذا يندب للرجل إذا أعطي شيئا لولده أن يبدأ بأنثاهم، وأما الثاني فمراعاة ما يشبه الطباق بوجه بين خالِصَةٌ ولِذُكُورِنا وبين مُحَرَّمٌ وأَزْواجِنا وهو كما ترى. وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً عطف على ما يفهم من الكلام أي ذلك حلال للذكور محرم على الإناث إن ولد حيا وإن ولدت ميتة فَهُمْ أي الذكور والإناث فِيهِ أي فيما في بطون الأنعام، وقيل: الضمير للميتة إلا أنه لما كان المراد بها ما يعم الذكر والأنثى غلب الذكر فذكر الضمير كما فعل ذلك فيما قبله شُرَكاءُ يأكلون منه جميعا، وهذا الذي ذكر في هذه الشرطية إنما يظهر على القول الأول في تفسير الموصول، وأما على القول الثاني فيه فلا. ولعل الذي يقول به يقرأ الآية بإحدى الأوجه الآتية أو يتأول الضمير، وقرأ الأعرج. وقتادة «خالصة» بالنصب وخرج ذلك على أنه مصدر مؤكد وخبر المبتدأ لِذُكُورِنا، وقال القطب الرازي: يجوز أن يكون حالا من الضمير في الظرف الواقع صلة أي في حال خلوصه من البطون أي خروجه حيا، والتزم جعلها حالا مقدرة ولعله ليس باللازم، ومنع غير واحد جعله حالا من الضمير فيما بعده أو من ذكورنا نفسه لأن الحال لا تتقدم على العامل المعنوي كالجار والمجرور واسم الإشارة وهاء التنبيه العاملة بما تضمنته من معنى الفعل ولا على صاحبها المجرور كما تقرر في محله، وقرأ ابن جبير «خالصا» بدون تاء مع النصب أيضا والكلام فيه نظير ما مر، وقرأ ابن عباس، وابن مسعود، والأعمش «خالصة» بالرفع والإضافة إلى الضمير على أنه بدل من ما أو مبتدأ ثان، وقرأ ابن عامر وأبو جعفر «وإن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 279 تكن» بالتاء «ميتة» بالرفع، وابن كثير «يكن» بالياء وميتة بالرفع. وأبو بكر عن عاصم «تكن» بالتاء كابن عامر «ميتة» بالنصب. قال الإمام: وجه قراءة ابن عامر أنه ألحق الفعل علامة التأنيث لما كان الفاعل مؤنثا في اللفظ، ووجه قراءة ابن كثير أن «ميتة» اسم «يكن» وخبره مضمر أي إن يكن لهم أو هناك ميتة، وذكر لأن الميتة في معنى الميت. وقال أبو علي: لم يلحق الفعل علامة التأنيث لأن تأنيث الفاعل المسند إليه غير حقيقي ولا تحتاج كان إلى خبر لأنها بمعنى وقع وحدث، ووجه القراءة الأخيرة أن المعنى وإن تكن الأجنة أو الأنعام ميتة سَيَجْزِيهِمْ ولا بد وَصْفَهُمْ الكذب على الله تعالى في أمر التحليل والتحريم من قوله تعالى: وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ [النحل: 62] وهو- كما قال بعض المحققين- من بليغ الكلام وبديعه فإنهم يقولون: وصف كلامه الكذب إذا كذب، وعينه تصف السحر أي ساحر، وقده يصف الرشاقة بمعنى رشيق مبالغة حتى كان من سمعه أو رآه وصف له ذلك بما يشرحه له، قال المعري: سرى برق المعرة بعد وهن ... فبات برامة يصف الملالا ونصب وَصْفَهُمْ على ما ذهب إليه الزجاج لوقوعه موقع مصدر «يجزيهم» فالكلام على تقدير المضاف أي جزاء وصفهم، وقيل: التقدير سيجزيهم العقاب بوصفهم أي بسببه فلما سقط الباء نصب وَصْفَهُمْ. إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ تعليل للوعد بالجزاء فإن الحكيم العليم بما صدر عنهم لا يكاد يترك جزاءهم الذي هو من مقتضيات الحكمة. واستدل بالآية على أنه لا يجوز الوقف على أولاده الذكور دون الإناث وأن ذلك الوقف يفسخ ولو بعد موت الواقف لأن ذلك من فعل الجاهلية، واستدل بذلك بعض المالكية على مثل ذلك في الهبة، وأخرج البخاري في التاريخ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: يعمد أحدكم إلى المال فيجعله للذكور من ولده إن هذا إلا كما قال الله تعالى: خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ وهم العرب الذين كانوا يقتلون أولادهم على ما مر، وأخرج ابن المنذر عن عكرمة أنها نزلت فيمن كان يئد البنات من ربيعة ومضر أي هلكت نفوسهم باستحقاقهم على ذلك العقاب أو ذهب دينهم ودنياهم. وقرأ ابن كثير وابن عامر «قتّلوا» بالتشديد لمعنى التكثير أي فعلوا ذلك كثيرا سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ أي لخفة عقلهم وجهلهم بصفات ربهم سبحانه، ونصب سَفَهاً على أنه علة لقتلوا أو على أنه حال من فاعله، ويؤيده أنه قرىء «سفهاء» أو على المصدرية لفعل محذوف دل عليه الكلام، والجار والمجرور إما صفة أو حال. وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ من البحائر والسوائب. ونحوهما افْتِراءً عَلَى اللَّهِ نصب على أحد الأوجه المذكورة، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لإظهار كمال عتوهم وطغيانهم قَدْ ضَلُّوا عن الطريق السوي وَما كانُوا مُهْتَدِينَ إليه وإن هدوا بفنون الهدايات أو ما كانوا مهتدين من الأصل، والمراد المبالغة في نفي الهداية عنهم لأن صيغة الفعل تقتضي حدوث الضلال بعد أن لم يكن فأردف ذلك بهذه الحال لبيان عراقتهم في الضلال وأن ضلالهم الحادث ظلمات بعضها فوق بعض، وصرح بعض المحققين بأن الجملة عطف على ضَلُّوا على الأول واعتراض على الثاني، وقرأ ابن رزين «قد ضلوا قبل ذلك وما كانوا مهتدين» . وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ تمهيد لما سيأتي من تفصيل أحوال الأنعام. وقال الإمام: إنه عود إلى ما هو المقصود الأصلي وهو إقامة الدلائل على تقرير التوحيد أي وهو الذي خلق وأظهر تلك الجنات من غير شركة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 280 لأحد في ذلك بوجه من الوجوه، والمعروشات من الكرم ما يحمل على العريش وهو عيدان تصنع كهيئة السقف ويوضع الكرم عليها وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وهي الملقيات على وجه الأرض من الكرم أيضا، وهذا قول من قال: إن المعروشات وغيرها كلاهما للكرم، وعن أبي مسلم أن المعروش ما يحتاج إلى أن يتخذ له عريش يحمل عليه فيمسكه من الكرم وما يجري مجراه، وغير المعروش هو القائم من الشجر المستغني باستوائه وقوة ساقه عن التعريش، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المعروش ما يحصل في البساتين والعمرانات مما يغرسه الناس وغير المعروش ما نبت في البراري والجبال، وقيل: المعروش العنب الذي يجعل له عريش وغير المعروش كل ما نبت منبسطا على وجه الأرض مثل القرع والبطيخ، وقال عصام الدين: ولا يبعد أن يراد بالمعروش المعروش بالطبع كالأشجار التي ترتفع وبغير المعروش ما ينبسط على وجه الأرض كالكرم ويكون قوله سبحانه: وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ تخصيصا بعد التعميم وهو عطف على جَنَّاتٍ أي أنشأهما مُخْتَلِفاً في الهيئة والكيفية أُكُلُهُ أي ثمره الذي يؤكل منه، وقرأ ابن كثير ونافع «أكله» بسكون الكاف وهو لغة فيه على ما يشير إليه كلام الراغب، والضمير إما أن يرجع إلى أحد المتعاطفين على التعيين ويعلم حكم الآخر بالمقايسة إليه أو إلى كل واحد على البدل أو إلى الجميع والضمير بمعنى اسم الإشارة، وعن أبي حيان أن الضمير لا يجوز إفراده مع العطف بالواو فالظاهر عوده على أقرب مذكور وهو الزَّرْعَ ويكون قد حذف حال النخل لدلالة هذه الحال عليها، والتقدير والنخل مختلفا أكله والزرع مختلفا أكله، وجوز وجها آخر وهو أن في الكلام مضافا مقدرا والضمير راجع إليه أي ثمر جنات، والحال المشار إليها على كل حال مقدرة إذ لا اختلاف وقت الإنشاء. وزعم أبو البقاء أنها كذلك إن لم يقدر مضاف أي ثمر النخل وحب الزرع وحال مقارنة إن قدر. وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ أي أنشأهما مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ أي يتشابه بعض أفرادهما في اللون أو الطعم أو الهيئة ولا يتشابه في بعضها، وأخرج ابن المنذر. وأبو الشيخ عن ابن جريح أنه قال: متشابها في المنظر وغير متشابه في المطعم، والنصب على الحالية كُلُوا أمر إباحة كما نص عليه غير واحد مِنْ ثَمَرِهِ الكلام في مرجع الضمير على طرز ما تقدم آنفا إِذا أَثْمَرَ وإن لم ينضج وينيع بعد ففائدة التقييد إباحة الأكل قبل الإدراك، وقيل: فائدته رخصة المالك في الأكل منه قبل أداء حق الله تعالى وهو اختيار الجبائي وغيره. وَآتُوا حَقَّهُ الذي أوجبه الله تعالى فيه يَوْمَ حَصادِهِ وهو على ما في رواية عطاء عن ابن عباس العشر ونصف العشر، وإليه ذهب الحسن، وسعيد بن المسيب، وقتادة، وطاوس، وغيرهم، والظرف قيد لما دل عليه الأمر بهيئته من الوجوب لا لما دل عليه بمادته من الحدث إذ ليس الأداء وقت الحصاد والحب في سنبله كما يفهم من الظاهر بل بعد التنقية والتصفية. وادعى علي بن عيسى أن الظرف متعلق بالحق فلا يحتاج إلى ما ذكر من التأويل. وفي رواية أخرى عن الحبر أنه ما كان يتصدق به يوم الحصاد بطريق الوجوب من غير تعيين المقدار ثم نسخ بالزكاة، وإلى ذلك ذهب سعيد بن جبير، والربيع بن أنس، وغيرهما. قيل: ولا يمكن أن يراد به الزكاة المفروضة لأنها فرضت بالمدينة والسورة مكية، وأجاب الإمام عن ذلك بأنا لا نسلم أن الزكاة ما كانت واجبة في مكة وكون آيتها مدنية لا يدل على ذلك، على أنه قد قيل: إن هذه الآية مدنية أيضا، وعن الشعبي أن هذا حق في المال سوى الزكاة، وأخرج ابن منصور، وابن المنذر، وغيرهما عن مجاهد أنه قال في الآية: إذا حصدت فحضرك المساكين فاطرح لهم من السنبل فإذا دسته فحضرك المساكين فاطرح لهم فإذا ذريته وجمعته وعرفت كيله فاعزل زكاته. وقرأ ابن كثير، ونافع، وحمزة، والكسائي حَصادِهِ بكسر الحاء وهي لغة فيه، وعدل عن حصده وهو المصدر المشهور لحصد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 281 إليه لدلالته على حصد خاص وهو حصد الزرع إذا انتهى وجاء زمانه كما صرح به سيبويه وأشار إليه الراغب وَلا تُسْرِفُوا أي لا تتجاوزا الحد فتبسطوا أيديكم كل البسط في الإعطاء. أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن جريج قال: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس جذّ نخلا فقال: لا يأتين اليوم أحد إلا أطعمته فأطعم حتى أمسى وليست له ثمرة فأنزل الله تعالى ذلك، وروي مثله عن أبي العالية. وعن أبي مسلم أن المراد ولا تسرفوا في الأكل قبل الحصاد كيلا يؤدي إلى بخس حق الفقراء. وأخرج عبد الرزاق عن ابن المسيب أن المعنى لا تمنعوا الصدقة فتعصوا، وقال الزهري: المعنى لا تنفقوا في معصية الله تعالى. ويروى نحوه عن مجاهد. فقد أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال: لو كان أبو قبيس ذهبا فأنفقه رجل في طاعة الله تعالى لم يكن مسرفا ولو أنفق درهما في معصية الله تعالى كان مسرفا. وقال مقاتل: المراد لا تشركوا الأصنام في الحرث والأنعام. والخطاب على جميع هذه الأقوال لأرباب الأموال، وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أن الخطاب للولاة أي لا تأخذوا ما ليس لكم بحق وتضروا أرباب الأموال. واختار الطبرسي أنه خطاب للجميع من أرباب الأموال والولاة أي لا يسرف رب المال في الإعطاء ولا الإمام في الأخذ والدفع إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ بل يبغضهم من حيث إسرافهم ويعذبهم عليه إن شاء جل شأنه وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً شروع في تفصيل حال الأنعام وإبطال ما تقولوا على الله تعالى في شأنها بالتحريم والتحليل، وهو عطف على جَنَّاتٍ والجهة الجامعة إباحة الانتفاع بهما. والجار والمجرور متعلق بأنشأ. والحمولة ما يحمل عليه لا واحد له كالركوبة. والمراد به ما يحمل الأثقال من الأنعام وبالفرش ما يفرش للذبح أو ما يفرش المنسوج من صوفه وشعره ووبره، وإلى الأول ذهب أبو مسلم وروي عن الربيع بن أنس. وإلى الثاني ذهب الجبائي، وقيل: الحمولة الكبار الصالحة للحمل والفرش الصغار الدانية من الأرض مثل الفرش المفروش عليها، وروي ذلك عن ابن مسعود لكنه رضي الله تعالى عنه خص ذلك بكبار الإبل وصغارها وهو إحدى الروايات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وفي رواية أخرى الحمولة الإبل والخيل والبغال والحمير وكل شيء يحمل عليه والفرش الغنم كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي كلوا بعض ما رزقكم الله تعالى وهو الحلال، فمن تبعيضية. والرزق شامل للحلال والحرام، والمعتزلة خصوه بالحلال كما تقدم أوائل الكتاب وادعوا أن هذه الآية أحد أدلتهم على ذلك وركبوا شكلا منطقيا أجزاؤه سهلة الحصول تقديره الحرام ليس بمأكول شرعا وهو ظاهر والرزق ما يؤكل شرعا لقوله تعالى: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ فالحرام ليس برزق. وأنت تعلم أن هذا إنما يفيد لو صدق كل رزق مأكول شرعا، والآية لا تدل عليه، أما إذا كانت تبعيضية فظاهر، وأما إن كانت ابتدائية فلأنه ليس فيها ما يدل على تناول الجميع، وقيل: معنى الآية استحلوا الأكل مما أعطاكم الله تعالى وَلا تَتَّبِعُوا في أمر التحليل والتحريم بتقليد أسلافكم المجازفين في ذلك من تلقاء أنفسهم المفترين على الله سبحانه خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي طرقه فإن ذلك منهم بإغوائه واستتباعه إياهم إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ أي ظاهر العداوة فقد أخرج آدم عليه السلام من الجنة وقال: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 62] أعاذنا الله تعالى والمسلمين من شره إنه الرحمن الرحيم. هذا ومن باب الإشارة في الآيات: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً في عين الجمع المطلق قائلا يا معشر الجن أي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 282 القوى النفسانية قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ أي من الحواس والأعضاء الظاهرة أو من الصور الإنسانية بأن جعلتموهم أتباعكم بإغوائكم إياهم وتزيين اللذائذ الجسمانية لهم: وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وانتفع كل منا في صورة الجمعية الإنسانية بالآخر وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا بالموت أو المعاد على أقبح الهيئات وأسوأ الأحوال قالَ النَّارُ أي نار الحرمان ووجدان الآلام مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ ولا يشاء إلا ما يعلم ولا يعلم سبحانه الشيء إلا على ما هو عليه في نفسه إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ لا يعذبكم إلا بهيئات نفوسكم على ما تقتضيه الحكمة عليم بهاتيك الهيئات فيعذب على حسبها وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً أي نجعل بعضهم ولي بعض أو وليه وقرينه في العذاب بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من المعاصي حسب استعدادهم. مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ وهي عند كثير من أرباب الإشارة العقول وهي رسل خاصة ذاتية إلى ذويها مصححة لإرسال الرسل الأخر وهي رسل خارجية. وبعض المعتزلة حمل الرسول في قوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا على العقل أيضا. وهذه الأسئلة عند بعض المؤولين والأجوبة والشهادات كلها بلسان الحال وإظهار الأوصاف ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى أي الأبدان أو القلوب بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ بل ينبههم بالعقل وإرشاده إقامة للحجة ولله تعالى الحجة البالغة وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مراتب في القرب والبعد وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ لذاته عن كل ما سواه ذُو الرَّحْمَةِ العامة الشاملة فخلق العباد ليربحوا عليه لا ليربح عليهم، والغني عند الكثير مشير إلى نعت الجلال وذو الرحمة إلى صفة الجمال إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ لغناه الذاتي عنكم وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ من أهل طاعته برحمته قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي جهتكم من الاستعداد إِنِّي عامِلٌ على مكانتي من ذلك وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ في قلوب عباده جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ ككرم العشق والمحبة وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وهي الصفات الروحانية التي جبلت القلوب عليها كالسخاء، والوفاء، والعفة، والحلم، والشجاعة. وَالنَّخْلَ أي نخل الإيمان وَالزَّرْعَ أي زرع إرادات الأعمال الصالحة وَالزَّيْتُونَ أي زيتون الإخلاص وَالرُّمَّانَ أي رمان شجر الإلهام، وقيل في كل غير ذلك وباب التأويل واسع كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وهو المشاهدات والمكاشفات إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا المريدين حَقَّهُ وهو الإرشاد والموعظة الحسنة يَوْمَ حَصادِهِ أوان وصولكم فيه إلى مقام التمكين والاستقامة وَلا تُسْرِفُوا بالكتمان عن المستحقين أو بالشروع في الكلام في غير وقته والدعوة قبل أوانها إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ لا يرتضي فعلهم وَمِنَ الْأَنْعامِ أي قوى الإنسان حَمُولَةً ما هو مستعد لحمل الأمانة وتكاليف الشرع وَفَرْشاً ما هو مستعد لإصلاح القالب وقيام البشرية كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وهو مختلف فرزق القلب هو التحقيق من حيث البرهان ورزق الروح هو المحبة بصدق التحرز عن الأكوان. ورزق السر هو شهود العرفان بلحظ العيان وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ بالميل إلى الشهوات الفانية والاحتجاب بالسوى إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ يريد أن يحجبكم عن مولاكم والله تعالى الموفق لسلوك الرشاد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 283 ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ الزوج يقال لكل واحد من القرينين من الذكر والأنثى في الحيوانات المتزاوجة ويطلق على مجموعهما، والمراد به هنا الأول، وإلا كانت أربعة. وإيرادها بهذا العنوان وهذا العدد أوفق لما سيق له الكلام وثَمانِيَةَ على ما قاله الفراء واختاره غير واحد من المحققين- بدل من حَمُولَةً وَفَرْشاً منصوب بما نصبهما وهو ظاهر على تفسير الحمولة والفرش بما يشمل الأزواج الثمانية أما لو خص ذلك بالإبل ففيه خفاء. وجوز أن يكون التقدير وأنشأ ثمانية وأنه معطوف على جَنَّاتٍ وحذف الفعل وحرف العطف، وضعفه أبو البقاء ووجهه لا يخفى. وأن يكون مفعولا لكلوا الذي قبله والتقدير كلوا لحم ثمانية أزواج وَلا تَتَّبِعُوا جملة معترضة. وأن يكون حالا من ما مرادا بها الأنعام ويؤول بنحو مختلفة أو متعددة ليكون بيانا للهيئة وهو عند من يشترط في الحال أن يكون مشتقا أو مؤولا به ظاهر. وتعقب ذلك شيخ الإسلام بأنه يأباه جزالة النظم الكريم لظهور أنه مسوق لتوضيح حال الأنعام بتفصيلها أولا إلى حمولة وفرش ثم تفصيلها إلى ثمانية أزواج حاصلة من تفصيل الأول إلى الإبل والبقر وتفصيل الثاني إلى الضأن والمعز ثم تفصيل كل من الأقسام الأربعة إلى الذكر والأنثى كل ذلك لتحرير المواد التي تقوّلوا فيها عليه سبحانه بالتحليل والتحريم ثم تبكيتهم بإظهار كذبهم وافترائهم في كل مادة مادة من تلك المواد بتوجيه الإنكار إليها مفصلة انتهى. وفيه منع ظاهر، وقوله سبحانه: مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ على معنى زوجين اثنين الكبش والنعجة. ونصب «اثنين» قيل: على أنه بدل من «ثمانية أزواج» بدل بعض من كل أو كل من كل أن لوحظ العطف عليه منصوب بناصبه والجار متعلق به. وقال العلامة الثاني: الظاهر أن مِنَ الضَّأْنِ بدل من الأنعام واثْنَيْنِ من حَمُولَةً وَفَرْشاً أو من ثمانية أزواج أن جوزنا أن يكون للبدل بدل، وجوز أن يكون البدل «اثنين» ومن الضأن حال من النكرة قدمت عليها. وقرىء «اثنان» على أنه مبتدأ خبره الجار والمجرور، والجملة بيانية لا محل لها من الإعراب، والضأن اسم جنس كالإبل جمع ضئين كأمير وكعبيد أو جمع ضائن كتاجر وتجر، وقرىء بفتح الهمزة وهو لغة فيه وَمِنَ الْمَعْزِ زوجين اثْنَيْنِ التيس والعنز. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب، وابن عامر بفتح العين وهو جمع ماعز كصاحب وصحب وحارس وحرس. وقرأ أبي «ومن المعزى» وهو اسم جمع معز، وهذه الأزواج الأربعة- على ما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 284 اختاره شيخ الإسلام- تفصيل للفرش قال: ولعل تقديمها في التفصيل مع تأخر أصلها في الإجمال لكون هذين النوعين عرضة للأكل الذي هو معظم ما يتعلق به الحل والحرمة وهو السر في الاقتصار على الأمر به في قوله تعالى: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من غير تعرض للانتفاع بالحمل والركوب وغير ذلك مما حرموه في السائبة وأخواتها ومن الناس من علل التقديم بأشرفية الغنم ولهذا رعاها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهو لا يناسب المقام كما لا يخفى قُلْ تبكيتا لهم وإظهارا لعجزهم عن الجواب آلذَّكَرَيْنِ ذكر الضار وذكر المعز حَرَّمَ الله تعالى أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أي أنثى ذينك الصنفين، ونصب آلذَّكَرَيْنِ والْأُنْثَيَيْنِ بحرم أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أي أم الذي حملته إناث النوعين ذكرا كان أو أنثى. نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ أي أخبروني بأمر معلوم من جهته تعالى جاءت به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يدل على أنه تعالى حرم شيئا ما ذكر أو نبئوني ببينة متلبسة بعلم صادرة عنه إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعوى التحريم عليه سبحانه وتعالى، والأمر تأكيد للتبكيت وإظهار الانقطاع وَمِنَ الْإِبِلِ زوجين اثْنَيْنِ الجمل والناقة، وهذا عطف على قوله سبحانه: ومِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ والإبل- كما قال الراغب- يقع على البعران الكثيرة ولا واحد له من لفظه ويجمع- كما في القاموس- على آبال والتصغير أبيلة. وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ هما الثور وأنثاه قُلْ إفحاما لهم في أمر هذين النوعين أيضا آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ الله تعالى منهما أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ من ذينك النوعين، والمعنى- كما قال كثير من أجلة العلماء- إنكار أن الله تعالى حرم عليهم شيئا من هذه الأنواع الأربعة وإظهار كذبهم في ذلك وتفصيل ما ذكر من الذكور والإناث وما في بطونها للمبالغة في الرد عليهم بإيراد الإنكار على كل مادة من مواد افترائهم فإنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارة وإناثها تارة وأولادها كيفما كانت تارة أخرى مسندين ذلك كله لله سبحانه، وإنما لم يل المنكر وهو التحريم الهمزة والجاري في الاستعمال أن ما نكر وليها لأن ما في النظم الكريم أبلغ. وبيانه- على ما قال الكسائي- أن إثبات التحريم يستلزم إثبات محله لا محالة فإذا انتفى محله وهو الموارد الثلاثة لزم انتفاء التحريم على وجه برهاني كأنه وضع الكلام موضع من سلم أن ذلك قد كان ثم طالبه ببيان محل كي يتبين كذبه ويفتضح عند المحاقة، وإنما لم يورد سبحانه الأمر عقيب تفصيل الأنواع الأربعة بأن يقال: قل الذكور حرم أم الإناث أما اشتملت عليه أرحام الإناث لما في التكرير من المبالغة أيضا في الإلزام والتبكيت. ونقل الإمام عن المفسرين أنهم قالوا: إن المشركين من أهل الجاهلية كانوا يحرمون بعض الأنعام فاحتج الله سبحانه على إبطال ذلك بأن للضأن والمعز والإبل والبقر ذكرا وأنثى فإن كان قد حرم سبحانه منها الذكر وجب أن يكون كل ذكورها حراما وإن كان حرم جل شأنه الأنثى وجب أن يكون كل إناثها حراما. وإن كان حرم الله تعالى شأنه ما اشتملت عليه أرحام الإناث وجب تحريم الأولاد كلها لأن الأرحام تشتمل على الذكر والإناث. وتعقبه بأنه بعيد جدا لأن لقائل أن يقول: هب أن هذه الأجناس الأربعة محصورة في الذكور والإناث إلا أنه لا يجب أن تكون علة تحريم ما حكموا بتحريمه محصورة في الذكورة والأنوثة بل علة تحريمها كونها بحيرة أو سائبة أو وصيلة أو غير ذلك من الاعتبارات كما إذا قلنا: إنه تعالى حرم ذبح بعض الحيوانات لأجل الأكل فإذا قيل: إن ذلك الحيوان إن كان قد حرم لكونه ذكرا وجب أن يحرم كل حيوان ذكر. وإن كان قد حرم لكونه أنثى وجب أن يحرم كل حيوان أنثى. ولما لم يكن هذا الكلام لازما عليه فكذا هو الوجه الذي ذكره المفسرون، ثم ذكر في الآية وجهين من عنده وفيما ذكرنا غني عن نقلهما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 285 ومن الناس من زعم أن المراد من الاثنين في الضأن والمعز والبقر الأهلي والوحشي وفي الإبل العربي والبختي وهو مما لا ينبغي أن يلتفت إليه. وما روي عن ليث بن سليم لا يدل عليه، وقول الطبرسي: إنه المروي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه كذب لا أصل له وهو شنشنة أعرفها من أخزم، وقوله سبحانه: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ تكرير للإفحام والتبكيت، وأم منقطعة، والمراد بل أكنتم حاضرين مشاهدين إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ أي أمركم وألزمكم بِهذا التحريم إذ العلم بذلك إما بأن يبعث سبحانه رسولا بخبركم به وإما بأن تشاهدوا الله تعالى وتسمعوا كلامه جل شأنه فيه. والأول مناف لما أنتم عليه لأنكم لا تؤمنون برسول فيتعين المشاهدة والسماع بالنسبة إليكم وذلك محال ففي هذا ما لا يخفى من التهكم بهم. فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فنسب إليه سبحانه تحريم ما لم يحرم، والمراد به- على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- عمرو بن لحي بن قمئة الذي بحر البحائر وسيب السوائب وتعمد الكذب على الله تعالى، وقيل: كبراؤهم المقررون لذلك، وقيل: الكل لاشتراكهم في الافتراء عليه سبحانه وتعالى، والمراد فأي فريق أظلم ممن إلخ، واعترض بأن قيد التعمد معتبر في معنى الافتراء. ومن تابع عمرا من الكبراء يحتمل أنه أخطأ في تقليده فلا يكون متعمدا للكذب فلا ينبغي تفسير الموصول به، والفاء لترتيب ما بعد على ما سبق من تبكيتهم وإظهار كذبهم وافترائهم، ونصب كَذِباً قيل على المفعولية، وقيل: على المصدرية من غير لفظ الفعل، وجعله حالا أي كاذبا جوزه بعض كمل المتأخرين وهو بعيد لا خطأ خلافا لمن زعمه. لِيُضِلَّ النَّاسَ متعلق بالافتراء بِغَيْرِ عِلْمٍ متعلق بمحذوف وقع حالا من ضمير افْتَرى أي افترى عليه سبحانه جاهلا بصدور التحريم عنه جل شأنه، وإنما وصف بعدم العلم مع أن المفتري عالم بعدم الصدور إيذانا بخروجه في الظلم عن الحدود والنهايات فإن من افترى عليه سبحانه بغير علم بصدور ذلك عنه جل جلاله مع احتمال صدوره إذا كان في تلك الغاية من الظلم فما الظن بمن افترى وهو يعلم عدم الصدور. وجوز كونه حالا من فاعل يضل على معنى متلبسا بغير علم بما يؤدي به إليه من العذاب العظيم. وقيل: معنى الآية عليه أنه عمل عمل القاصد إضلال الناس من أجل دعائهم إلى ما فيه الضلال وإن لم يقصد الإضلال وكان جاهلا بذلك غير عالم به، وهو ظاهر في أن اللام للعاقبة وله وجه. وجوز أن يكون الجار متعلقا بمحذوف وقع حالا من النَّاسَ وما تقدم أظهر وأبلغ في الذم. واستدل القاضي بالآية على أن الإضلال عن الدين مذموم لا يليق بالله تعالى لأنه سبحانه إذا ذم الإضلال الذي ليس فيه إلا تحريم المباح فالذي هو أعظم منه أولى بالذم، وفيه أنه ليس كل ما كان مذموما من الخلق كان مذموما من الخالق. إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ إلى طريق الحق، وقيل: إلى دار الثواب لاستحقاقهم العقاب واختاره الطبرسي، وإلى نحوه ذهب القاضي بناء على مذهبه وليس بالبعيد على أصولنا أيضا. وقيل: إلى ما فيه صلاحهم عاجلا وآجلا وهو أتم فائدة وأنسب بحذف المعمول، ونفي الهداية عن الظالم يستدعي نفيها عن الأظلم من باب أولى قُلْ أمر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد إلزام المشركين وتبكيتهم وبيان أن ما يتقولونه في أمر التحريم افتراء بحت بأن يبين لهم ما حرم عليهم. وقوله سبحانه: لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً إلخ كناية عن عدم الوجود، وفيه إيذان بأن طريق التحريم ليس إلا التنصيص من الله تعالى دون التشهي والهوى، وتنبيه- كما قيل- على أن الأصل في الأشياء الحل، و الجزء: 4 ¦ الصفحة: 286 مُحَرَّماً صفة لمحذوف دل عليه ما بعد وقد قام مقامه بعد حذفه فهو مفعول أول لأجد ومفعوله الثاني فِي ما أُوحِيَ قدم للاهتمام لا لأن المفعول الأول نكرة لأنه نكرة عامة بالنفي فلا يجب تقديم المسند الظرف، وليس المفعول الأول محذوفا أي لا أجد ريثما تصفحت ما أوحي إلي قرآنا وغيره على ما يشعر به العدول عن أنزل إلى «أوحي» أو ما أوحي إلي من القرآن طعاما محرما من المطاعم التي حرمتموها عَلى طاعِمٍ أي طاعم كان من ذكر أو أنثى ردا على قولهم: مُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وقوله تعالى: يَطْعَمُهُ في موضع الصفة لطاعم جيء به كما في قوله سبحانه: طائِرٍ يَطِيرُ [الأنعام: 38] قطعا للمجاز. وقرىء «يطعمه» بالتشديد وكسر العين، والأصل يطتعمه فأبدلت التاء طاء وأدغمت فيها الأولى، والمراد بالطعم تناول الغذاء، وقد يستعمل طعم في الشراب أيضا كما تقدم الكلام عليه، والمتبادر هنا الأول، وقد يراد به مطلق النفع، ومنه ما في حديث بدر ما قتلنا أحدا به طعم ما قتلنا إلا عجازا صلعا أي قتلنا من لا منفعة له ولا اعتداد به، وإرادة هذا المعنى هنا بعيد جدا ولم أر من قال به، نعم قيل: المراد سائر أنواع التناولات من الأكل والشرب وغير ذلك، ولعل إرادة غير الأكل فيه بطريق القياس، وكذا حمل الطاعم على الواجد من قولهم: رجل طاعم أي حسن الحال مرزوق وإبقاء يَطْعَمُهُ على ظاهره أي على واجد يأكله فلا يكون الوصف حينئذ لزيادة التقرير على ما أشرنا إليه. إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذلك الطعام أو الشيء المحرم مَيْتَةً المراد بها ما لم يذبح ذبحا شرعيا فيتناول المنخنقة ونحوها. وقرأ ابن كثير. وحمزة «تكون» بالتاء لتأنيث الخبر. وقرأ ابن عامر وأبو جعفر «يكون ميتة» بالياء ورفع «ميتة» . وأبو جعفر يشدد أيضا على أن كان هي التامة أَوْ دَماً عطف على مَيْتَةً أو على أن مع ما في حيزه. وقوله سبحانه: مَسْفُوحاً أي مصبوبا سائلا كالدم في العروق صفة له خرج به الدم الجامد كالكبد والطحال. وفي الحديث «أحلت لنا ميتتان السمك والجراد ودمان الكبد والطحال» وقد رخص في دم العروق بعد الذبح، وإلى ذلك ذهب كثير من الفقهاء. وعن عكرمة أنه قال: لولا هذا القيد لا تبع المسلمون من العروق ما اتبع اليهود. أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ أي اللحم- كما قيل- لأنه المحدث عنه أو الخنزير لأنه الأقرب ذكرا. وذكر اللحم لأنه أعظم ما ينتفع به منه فإذا حرم فغيره بطريق الأولى، وقيل- وهو خلاف الظاهر-: الضمير لكل من الميتة والدم ولحم الخنزير على معنى فإن المذكور رِجْسٌ أي قدر أو خبيث مخبث أَوْ فِسْقاً عطف على لَحْمَ خِنزِيرٍ على ما اختاره كثير من المعربين وما بينهما اعتراض مقرر للحرمة أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ صفة له موضحة. وأصل الإهلال رفع الصوت. والمراد الذبح على اسم الأصنام. إنما سمي ذلك فسقا لتوغله في الفسق. وجوز أن يكون فِسْقاً مفعولا له لأهلّ وهو عطف على يَكُونَ وبِهِ قائم مقام الفاعل. والضمير راجع إلى ما رجع إليه المستكن في يَكُونَ. قال أبو حيان: وهذا إعراب متكلف جدا والنظم عليه خارج عن الفصاحة وغير جائز على قراءة من قرأ «إلا أن يكون ميتة» بالرفع لأن ضمير بِهِ ليس له ما يعود عليه، ولا يجوز أن يتكلف له موصوف محذوف يعود عليه الضمير أي شيء أهل لغير الله به لأن مثل هذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر اه. وعنى بذلك- كما قال الحلبي- أنه لا يحذف الموصوف والصفة جملة إلا إذا كان في الكلام- من- التبعيضية نحو منا أقام ومنا ظعن أي فريق أقام وفريق ظعن فإن لم يكن فيه- من- كان ضرورة كقوله: ترمى بكفي كان من أرمى البشر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 287 أراد بكفي رجل كان إلخ. وهذا- كما حقق في موضعه- رأي بعض، وأما غيره فيقول: متى دل دليل على الموصوف حذف مطلقا فيجوز أن يرى المجوز هذا الرأي ومنعه من حيث رفع الميتة- كما قال السفاقسي- فيه نظر لأن الضمير يعود على ما يعود عليه بتقدير النصب والرفع لا يمنع من ذلك، نعم الإعراب الأول أولى كما لا يخفى فَمَنِ اضْطُرَّ أي أصابته الضرورة الداعية إلى تناول شيء من ذلك غَيْرَ باغٍ أي طالب ما ليس له طلبه بأن يأخذ ذلك من مضطر آخر مثله. وإلى هذا ذهب كثير من المفسرين. وقال الحسن: أي غير متناول للذة وقال مجاهد: غَيْرَ باغٍ على إمام وَلا عادٍ أي متجاوز قدر الضرورة فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ مبالغ في المغفرة والرحمة لا يؤاخذه بذلك. وهذا جزاء الشرط لكن باعتبار لازم معناه وهو عدم المؤاخذة. وبعضهم قال بتقدير جزاء يكون هذا تعليلا له ولا حاجة إليه. ونصب غَيْرَ على أنه حال. وكذا ما عطف عليه. وليس التقييد بالحال الأولى لبيان أنه لو لم يوجد القيد بالمعنى السابق لتحققت الحرمة المبحوث عنها بل للتحذير من حرام آخر وهو أخذه حق مضطر آخر فإن من أخذ لحم ميتة مثلا من مضطر آخر فأكله فإن حرمته ليست باعتبار كونه لحم الميتة بل باعتبار كونه حقا للمضطر الآخر. وأما الحال الثانية فلتحقيق زوال الحرمة المبحوث عنها قطعا فإن التجاوز عن القدر الذي يسد به الرمق حرام من حيث إنه لحم الميتة. وفي التعرض لوصفي المغفرة والرحمة إيذان بأن المعصية باقية لكن الله تعالى يغفر له ويرحمه. وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر ولا تغفل. واستشكلت هذه الآية بأنها حصرت المحرمات من المطعومات في أربعة: الميتة، والدم المسفوح، ولحم الخنزير، والفسق الذي أهلّ لغير الله تعالى به، ولا شك أنها أكثر من ذلك. وأجيب بأن المعنى لا أجد محرما مما كان أهل الجاهلية يحرمونه من البحائر والسوائب كما أشرنا إليه. وحينئذ يكون استثناء الأربعة منه منقطعا أي لا أجد ما حرموه لكن أجد الأربعة محرمة. وهذا لا دلالة فيه على الحصر. والاستثناء المنقطع ليس كالمتصل في الحصر كما نبهوا عليه وهو مما ينبغي التنبه له. فإن قلت: المستثنى ليس مَيْتَةً بل كونه ميتة وذلك ليس من جنس الطعام فيكون الاستثناء منقطعا لا محالة فلا حاجة إلى ذلك التقييد. قال القطب: نعم كذلك إلا أن المقصود إخراج الميتة من الطعام المحرم يعني لا أجد محرما إلا الميتة فلولا التقييد كان في الحقيقة استثناء متصلا وورد الأشكال. وضعف ذلك الجواب بأوجه. منها أنه تعالى قال في سورة البقرة وفي سورة [النحل: 115] : إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وإنما تفيد الحصر، وقال سبحانه في سورة [المائدة: 1] : أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ وأجمع المفسرون على أن المراد بقوله عز وجل: إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [المائدة: 3] وأما المنخنقة والموقوذة وغيرهما فهي أقسام الميتة. وإنما أعيدت بالذكر لأنهم كانوا يحكمون عليها بالتحليل فالآيتان تدلان على أن لا محرم إلا الأربعة وحينئذ يجب القول بدلالة الآية التي نحن بصددها على الحصر لتطابق ذلك وأن لا تقييد مع أن الأصل عدم التقييد. وأجيب عن الإشكال بأن الآية إنما تدل على أنه عليه الصلاة والسلام لم يجد فيما أوحي إليه إلى تلك الغاية محرما غير ما نص عليه فيها وذلك لا ينافي ورود التحريم في شيء آخر قيل: وحينئذ يكون الاستثناء من أعم الأوقات أو أعم الأحوال مفرغا بمعنى لا أجد شيئا من المطاعم محرما في وقت من الأوقات أو حال من الأحوال إلا في وقت أو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 288 حال كون الطعام أحد الأربعة فإني أجد حينئذ محرما فالمصدر (1) المتحصل من أن يكون للزمان أو الهيئة. واعترض الإمام هذا الجواب بأن ما يدل على الحصر من الآيات نزل بعد استقرار الشريعة فيدل على أن الحكم الثابت في الشريعة المحمدية من أولها إلى آخرها ليس إلا حصر المحرمات في هذه الأشياء وبأنه لما ثبت بمقتضى ذلك حصر المحرمات في الأربعة كان هذا اعترافا بحل ما سواها والقول بتحريم شيء خامس يكون نسخا. ولا شك أن مدار الشريعة على أن الأصل عدم النسخ لأنه لو كان احتمال طريان النسخ معادلا لاحتمال بقاء الحكم على ما كان فحينئذ لا يمكن التمسك بشيء من النصوص في إثبات شيء من الأحكام لاحتمال أن يقال: إنه وإن كان ثابتا إلا أنه زال. وما قيل في الاستثناء يرد عليه أن المصدر المؤول من أن والفعل لا ينصب على الظرفية ولا يقع حالا لأنه معرفة. وبعضهم قال لاتصال الاستثناء: إن التقدير إلا الموصوف بأن يكون أحد الأربعة على أنه بدل من مُحَرَّماً وفيه تكلف ظاهر، وقيل التقدير على قراءة الرفع إلا وجود ميتة. والإضافة فيه من إضافة الصفة إلى الموصوف أي ميتة موجودة. وأجيب أيضا عن الإشكال بأن الآية وإن دلت على الحصر إلا أنا نخصصها بالأخبار. وتعقبه الإمام أيضا بأن هذا ليس من باب التخصيص بل هو صريح النسخ لأنها لما كان معناها أن لا محرم سوى الأربعة فإثبات محرم آخر قول بأن الأمر ليس كذلك وهو رفع للحصر ونسخ القرآن بخبر الواحد غير جائز. وأجاب عن ذلك القطب الرازي بأنه لا معنى للحصر هاهنا إلا أن الأربعة محرمة وما عداها ليس بمحرم وهذا عام فإثبات محرم آخر تخصيص لهذا العام وتخصيص العام بخبر الواحد جائز. وقد احتج بظاهر الآية كثير من السلف فأباحوا ما عدا المذكور فيها فمن ذلك الحمر الأهلية. أخرج البخاري عن عمرو بن دينار قلت لجابر بن عبد الله: إنهم يزعمون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر فقال: قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولكن أبى ذلك البحر- يعني ابن عباس- وقرأ قل لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ الآية. وأخرج أبو داود عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سئل عن أكل القنفذ فقرأ الآية، وأخرج ابن أبي حاتم وغيره بسند صحيح عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت إذا سئلت عن كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير قالت: قُلْ لا أَجِدُ إلخ. وأخرج عن ابن عباس قال: ليس من الدواب شيء حرام إلا ما حرم الله تعالى في كتابه قُلْ لا أَجِدُ الآية. وقوى الإمام الرازي القول بالظاهر فإنه قال بعد كلام. فثبت بالتقرير الذي ذكرناه قوة هذا الكلام وصحة هذا المذهب وهو الذي كان يقول به مالك بن أنس ثم قال: ومن السؤالات الصعبة أن كثيرا من الفقهاء خصوا عموم هذه الآية بما نقل أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما استخبثته العرب فهو حرام» وقد علم أن الذي تستخبثه غير مضبوط فسيد العرب بل سيد العالمين عليه الصلاة والسلام لما رآهم يأكلون الضب قال: «يعافه طبعي» ولم يكن ذلك سببا لتحريمه. وأما سائر العرب ففيهم من لا يستقذر شيئا وقد يختلفون في بعض الأشياء فيستقذرها قوم ويستطيبها آخرون فعلم أن أمر الاستقذار غير مضبوط بل هو مختلف باختلاف الأشخاص والأحوال فكيف يجوز نسخ هذا النص القاطع بذلك الأمر الذي ليس له ضابط معين ولا قانون معلوم انتهى. ولا يخفى ما فيه. واستدل النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله سبحانه: عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ على أنه إنما حرم من الميتة أكلها وأن جلدها يطهر بالدبغ، أخرج أحمد وغيره عن ابن عباس قال: ماتت شاة لسودة بنت زمعة فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو أخذتم مسكها فقالت نأخذ مسك شاة قد ماتت؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إنما قال الله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما   (1) قوله فالمصدر المتحصل من ان يكون إلخ كذا بخطه ولعله من ان يكون إلخ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 289 على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة وإنكم لا تطعمونه إن تدبغوه تنتفعوا به» . واستدل الشافعية بقوله سبحانه: فَإِنَّهُ رِجْسٌ على نجاسة الخنزير بناء على عود الضمير على خنزير لأنه أقرب مذكور وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا أي اليهود خاصة لا على من عداهم من الأولين والآخرين حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ أي ما ليس منفرج الأصابع كالإبل، والنعام، والإوز، والبط قاله ابن عباس، وابن جبير وقتادة، ومجاهد، والسدي وعن ابن زيد أنه الإبل فقط. وقال الجبائي: يدخل فيه كل السباع والكلاب، والسنانير، وما يصطاد بظفره، وعن القتبي. والبلخي أنه ذو المخلب من الطير وذو الحافر من الدواب وسمي الحافر ظفرا مجازا. واستبعد ذلك الإمام، ولعل المسبب عن الظلم هو تعميم التحريم لأن البعض كان حراما قبله. ويحتمل أن يراد كل ذي ظفر حلال بقرينة حَرَّمْنا وهذا- كما قيل- تحقيق لما سلف من حصر المحرمات فيها فصل بإبطال ما يخلفه من فرية اليهود وتكذيبهم في ذلك فإنهم كانوا يقولون: لسنا أول من حرمت عليه وإنما كانت محرمة على نوح، وإبراهيم، ومن بعدهما عليهم السلام حتى انتهى التحريم إلينا، وقال بعض المحققين: إن ذلك تتميم لما قبله لأن فيه رفع أنه تعالى حرم على اليهود جميع هذه الأمور فكذلك حرم البحيرة والسائبة ونحوهما بأن ذلك كان على اليهود خاصة غضبا عليهم: وقرأ الحسن «ظفر» بكسر الظاء وسكون الفاء. وقرأ أبو السماك بكسرهما. وقرىء كما قال أبو البقاء «ظفر» بضم الظاء وسكون الفاء. وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما لا لحومهما فإنها باقية على الحل، والمراد بالشحوم ما يكون على الأمعاء والكرش من الشحم الرقيق وشحوم الكلى. وقيل: هو عام استثني منه ما سيأتي. ومِنَ الْبَقَرِ متعلق بحرمنا بعده. وكان يكفي حينئذ أن يقال: الشحوم لكنه أضيف لزيادة الربط والتأكيد كما يقال: أخذت من زيد ماله وهو متعارف في كلامهم، وجوز أبو البقاء- وظاهر صنيعه اختياره مع أنه خلاف الظاهر- أن مِنَ الْبَقَرِ عطف على كُلَّ ذِي ظُفُرٍ على معنى وبعض البقر وجعل حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما تبيينا للمحرم من ذلك وحينئذ الإضافة للربط المحتاج إليه. إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أي ما علق بظهورهما. والاستثناء منقطع أو متصل من الشحوم. وإلى الانقطاع ذهب الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه فقد نقل عنه لو حلف لا يأكل شحما يحنث بشحم البطن فقط وخالفه في ذلك صاحباه فقالا: يحنث بشحم الظهر أيضا لأنه شحم وفيه خاصية الذوب بالنار. وأيد ذلك بهذا الاستثناء بناء على أن الأصل فيه الاتصال. وللإمام رضي الله تعالى عنه أنه لحم حقيقة لأنه ينشأ من الدم ويستعمل كاللحم في اتخاذ الطعام والقلايا ويؤكل كاللحم ولا يفعل ذلك بالشحم ولهذا يحنث بأكله لو حلف لا يأكل لحما وبائعه يسمى لحاما لا شحاما. والاتصال وإن كان أصلا في الاستثناء إلا أن هنا ما يدل على الانقطاع وهو قوله تعالى: أَوِ الْحَوايا فإنه عطف على المستثنى وليس بشحم بل هو بمعنى المباعر كما روي عن ابن عباس، ومجاهد، وغيرهما أو المرابض وهي نبات اللبن كما روي عن ابن زيد أو المصارين والأمعاء كما قال غير واحد من أهل اللغة. وللقائل بالاتصال أن يقول: العطف على تقدير مضاف أي شحوم الحوايا أو يؤول ذلك بما حمله الحوايا من شحم على أنه يجوز أن يفسر الْحَوايا بما اشتملت عليه الأمعاء لأنه من حواه بمعنى اشتمل عليه فيطلق على الشحم الملتف على الأمعاء. وجوز غير واحد أن يكون العطف على ظُهُورُهُما وأن يكون على شُحُومَهُما وحينئذ يكون ما ذكر محرما وإليه ذهب بعض السلف. وهو يعطف قوله تعالى: أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ وهو شحم الألية لاتصالها بالعصعص، وقيل: هو المخ ولا يقول أحد إنه شحم عليه ويقول بتحريمه أيضا. والْحَوايا قيل جمع حاوية كزاوية وزوايا ووزنه فواعل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 290 وأصله حواوي فقلبت الواو التي هي عين الكلمة همزة لأنها ثاني حرفي لين اكتنفا مدة مفاعل ثم قلبت الهمزة المكسورة ياء ثم فتحت لثقل الكسرة على الياء فقلبت الياء الأخيرة ألفا لتحركها بعد فتحة فصارت حوايا أو قلبت الواو همزة مفتوحة ثم الياء الأخيرة إلفا ثم الهمزة ياء لوقوعها بين ألفين كما فعل بخطايا وقيل: جمع حاوياء كقاصعاء وقواصع ووزنه فواعل أيضا وإعلاله كما علمت، وقيل: جمع حوية كظريفة وظرائف ووزنه فعائل وأصله حوائي فقلبت الهمزة ياء مفتوحة والياء التي هي لام الفا فصار حوايا. وجوز الفارسي أن يكون جمعا لكل واحد من هذه الثلاثة وقد سمع في مفرده أيضا. وأَوِ بمعنى الواو. وقال أبو البقاء لتفصيل مذاهبهم نظيرها في قوله تعالى: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة: 135] وقال الزجاج: هي فيما إذا كان العطف على الشحوم للإباحة كما في قوله تعالى: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الإنسان: 24] أي كل هؤلاء أهل أن يعصى فاعص هذا أو اعص هذا. وأَوِ بليغة في هذا المعنى لأنك إذا قلت: لا تطع زيدا وعمرا فجائز أن تكون نهيت عن طاعتهما معا فإن أطيع زيد على حدته لم يكن معصية فإذا قلت: لا تطع زيدا أو عمرا أو خالدا كان المعنى هؤلاء كلهم أهل أن لا يطاع فلا تطع واحدا منهم ولا تطع الجماعة، ومنه جالس الحسن أو ابن سيرين أو الشعبي فليس المعنى الأمر بمجالسة واحد منهم كلهم أهل أن يجالس فإن جالست واحدا منهم فأنت مصيب وإن جالست الجماعة فأنت مصيب. واختاره العلامة الثاني وقال: الوجه أن يقال إن كلمة أَوِ في العطف على المستثنى من قبيل جالس الحسن أو ابن سيرين كما في العطف على المستثنى منه يعني أنها لإفادة التساوي في الكل فيحرم الكل. وتحقيقه أن مرجع التحريم إلى النهي كأنه قيل لا تأكلوا أحد الثلاثة وهو معنى العموم، وهذا مراد الزمخشري فيما نقل عنه من أن الجملة لما دخلت في حكم التحريم فوجه العطف بحرف التخيير أنها بليغة بهذا المعنى ثم قال: وبهذا يتبين فساد ما يتوهم أنه يريد أنه على تقدير العطف على المستثنى منه يكون المعنى حرمنا عليهم شحومهما أو حرمنا عليهم الحوايا أو حرمنا عليهم ما اختلط بعظم فيجوز لهم ترك أيها كان وأكل الآخرين وادعى أن الظاهر أن مثل هذا وإن كان جائزا فليس من الشرع أن يحرم أو يحلل واحد مبهم من أمور معينة وإنما ذلك في الواجب فقط. وهذه الدعوى من العجب فإن الحرام المخير والمباح المخير مما صرح به الفقهاء وأهل الأصول قاطبة ويحتاج الأمر إلى إمعان نظر فليمعن، وذكر الطيبي في حاصل كلام بعض المحققين في «أو» هنا أنك إذا عطفت على الشحوم دخلت الثلاثة تحت حكم النفي فيحرم الكل سوى ما استثني منه وإذا عطفت على المستثنى لم يحرم سوى الشحوم وأَوِ على الوجه الأول للإباحة وعلى الثاني للتنويع ذلِكَ إشارة إلى الجزاء أو التحريم: فهو على الأول نصب على أنه مصدر مؤكد لما بعده. وعلى الثاني على أنه مفعول ثان له أي ذلك التحريم جَزَيْناهُمْ وجزى يتعدى بالباء وبنفسه كما ذكره الراغب وغيره. وما نقل عن ابن مالك أن اسم الإشارة لا ينتصب مشارا به إلى المصدر إلا ويتبع بالمصدر نحو قمت هذا القيام وقعدت ذلك القعود ولا يجوز قمت هذا ولا قعدت ذاك رده أبو حيان والحلبي وصححا ورود اسم الإشارة مشارا به إلى المصدر غير متبوع به. وجوز كون ذلك خبر مبتدأ مقدر أي الأمر ذلك أو مبتدأ خبره ما بعده والعائد محذوف أي جزيناهم إياه بِبَغْيِهِمْ أي بسبب ظلمهم وهو قتلهم الأنبياء بغير حق وأكلهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل. وكانوا كلما أتوا بمعصية عوقبوا بتحريم شيء مما أحل لهم وهم ينكرون ذلك ويدعون أنها لم تزل محرمة على الأمم. وقيل: المراد ببغيهم على فقرائهم بناء على ما نقل علي بن ابراهيم في تفسيره أن ملوك بني إسرائيل كانوا يمنعون فقراءهم من أكل لحوم الطير والشحوم فحرم الله تعالى عليهم ذلك بسبب هذا المنع وهو تابع للمصلحة أيضا. ولا بعد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 291 في أن يكون المنع من الانتفاع لمزيد استحقاق الثواب وأن يكون لجرم متقدم وَإِنَّا لَصادِقُونَ في جميع أخبارنا التي من جملتها الأخبار بالتحريم وبالبغي. وعد منها- واقتصر عليهم بعضهم- الوعد والوعيد. وقوى الإمام بهذه الآية ما ذهب إليه الإمام مالك، وكثير من السلف وهو القول بما يقتضيه ظاهر الآية السابقة من حل ما عدا الأربعة المذكورة فيها. وذلك أنه أوجب حمل الظفر على المخلب لبعد حمله على الحافر لوجهين: الأول أن الحافر لا يكاد يسمى ظفرا. والثاني أن الأمر لو كان كذلك لوجب أن يقال: إنه تعالى حرم عليهم كل حيوان له حافر وهو باطل لأن الآية تدل على أن الغنم والبقر مباحان لهم مع حصول الحافر لهم وإذا وجب حمله على المخلب. والآية تفيد تخصيص هذه الحرمة باليهود كما أشرنا إليه من وجهين. الأول إفادة التركيب الحصر لغة، والثاني أنها لو كانت ثابتة في حق الكل لم يبق للاقتصار على ذكرهم فائدة ووجب أن لا تكون السباع. وذوات المخلب من الطير محرمة على المسلمين بل يكون تحريمها مختصا باليهود. وحينئذ فما روي أنه صلّى الله عليه وسلّم حرم كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير ضعيف لأنه خبر واحد على خلاف كتاب الله تعالى فلا يكون مقبولا فيتقرر قول الجماعة السابق وفيه نظر لا يخفى فتدبر فَإِنْ كَذَّبُوكَ أي اليهود كما قال مجاهد، والسدي، وغيرهما وهو الذي يقتضيه الظاهر لأنهم أقرب ذكرا ولذكر المشركين بعد بعنوان الإشراك، وقيل: الضمير للمشركين فالمعنى على الأول إن كذلك اليهود في الحكم المذكور وأصروا على ما كانوا عليه من ادعاء قدم التحريم فَقُلْ لهم رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ عظيمة واسِعَةٍ لا يؤاخذكم بكل ما تأتونه من المعاصي ويمهلكم على بعضها وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ أي لا يدفع عذابه بالكلية عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ فلا تنكروا ما وقع منه تعالى من تحريم بعض الطيبات عليكم عقوبة وتشديدا. وعلى الثاني فإن كذبك المشركون فيما فصل من أحكام التحليل والتحريم فقل لهم: ربكم ذو رحمة واسعة ولا يعاجلكم بالعقوبة على تكذيبكم فلا تغتروا بذلك فإنه إمهال لا إهمال. وقيل: يحتمل أن يكون المراد أنه تعالى ذو رحمة واسعة فهو يرحمني بتوفيق كثير لتصديقي فلا يضرني تكذيبكم ويضركم لأنه لا يرد بأسه عن المجرمين المكذبين أو سيرحمني بالانتقام منكم ولا يرد بأسه عنكم وفيه بعد، وقيل: المراد ذو رحمة للمطيعين وذو بأس شديد على المجرمين فأقيم مقامه قوله تعالى: وَلا يُرَدُّ إلخ لتضمنه التنبيه على إنزال البأس عليهم مع الدلالة أنه لاحق بهم البتة من غير صارف يصرفه عنهم أصلا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 292 سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا حكاية لفن آخر من أباطيلهم والأخبار قبل وقوعه ثم وقوعه حسبما أخبر كما يحكيه قوله تعالى عند وقوعه: وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [النحل: 35] صريح في أنه من عند الله تعالى، وقد نص غير واحد على أن وقوع ما أخبر الله تعالى به من المغيبات من وجوه الإعجاز لكلامه ولم يكن الإعجاز به فقط كما في قوله مضعف لَوْ شاءَ اللَّهُ عدم إشراكنا وعدم تحريمنا شيئا ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ لم يريدوا بهذا الكلام الاعتذار عن ارتكاب القبيح إذ لم يعتقدوا قبح أفعالهم وهي أفعى لهم بل هم كما نطقت به الآيات يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [الكهف: 104] وأنهم إنما يعبدون الأصنام ليقربوهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 293 إلى الله زلفى وأن التحريم إنما كان من الله عز وجل فما مرادهم بذلك إلا الاحتجاج على أن ما ارتكبوه حق ومشروع ومرضي عند الله تعالى بناء على أن المشيئة والإرادة تساوق الأمر وتستلزم الرضا كما زعمت المعتزلة فيكون حاصل كلامهم أن ما نرتكبه من الشرك والتحريم وغيرهما تعلقت به مشيئة الله تعالى وإرادته وكل ما تعلق به مشيئته سبحانه وإرادته فهو مشروع ومرضي عنده عز وجل فينتج أن ما نرتكبه من الشرك والتحريم مشروع ومرضي عند الله تعالى. وبعد أن حكى سبحانه ذلك عنهم رد عليهم بقوله عز من قائل: كَذلِكَ أي مثل ما كذب هؤلاء كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وهم أسلافهم المشركون. وحاصله أن كلامهم يتضمن تكذيب الرسل عليهم السلام وقد دلت المعجزة على صدقهم. ولا يخفى أن المقدمة الأولى لا تكذيب فيها نفسها بل هي متضمنة لتصديق ما تطابق فيه العقل والشرع من كون كل كائن بمشيئة الله تعالى وامتناع أن يجري في ملكه خلاف ما يشاء. فمنشأ التكذيب هو المقدمة الثانية لأن الرسل عليهم السلام يدعونهم إلى التوحيد ويقولون لهم: إن الله تعالى لا يرضى لعباده الكفر دينا ولا يأمر بالفحشاء فيكون قولهم: إن ما نرتكبه مشروع مرضي عنده تعالى تكذيب لهذا القول، وحيث كان فساد هذه الحجة باعتبار المقدمة الثانية تعين أنها ليست بصادقة وحينئذ يصدق نقيضها وهي أنه ليس كل ما تعلقت به المشيئة والإرادة بمشروع ومرضي عنده سبحانه بناء على أن الإرادة لا تساوق الأمر والرضا على ما هو مذهب أهل السنة إذ المشيئة ترجح بعض الممكنات على بعض مأمورا كان أو منهيا حسنا كان أو قبيحا. وعلى هذا فلا حجة في الآية للمعتزلة بل قد انقلب الأمر فصارت الآية حجة لنا عليهم لأنهم لم يفرقوا بين المأمور والمراد واعتقدوا كالمشركين بأن كل مراد مأمور ومرضي، ويجوز أيضا أن يقال مقصود المشركين من قولهم ذلك: رد دعوة الأنبياء عليهم السلام ورفع البعثة والتكليف وهو المذكور في كثير من الكتب الكلامية. وحاصله حينئذ أن ما شاء الله تعالى يجب وما لم يشأ يمتنع وكل ما هذا شأنه فلا يكلف به لكونه مشروطا بالاستطاعة فينتج أن ما نرتكبه من الشرك وغيره لم نكلف بتركه ولم يبعث له نبي فرد الله تعالى عليهم بأن هذه كلمة صدق أريد بها باطل لأنهم أرادوا بها أن الرسل عليهم السلام في دعواهم البعثة والتكليف كاذبون وقد ثبت صدقهم بالدلائل القطعية ولكون ذلك صدقا أريد به باطل ذمهم الله تعالى بالتكذيب، ووجوب وقوع متعلق المشيئة لا ينافي صدق دعوى البعثة والتكليف لأنها لإظهار المحجة وإبلاغ الحجة. وسيأتي توجيه آخر إن شاء الله تعالى قريبا للآية. وعطف آباؤُنا على الضمير المرفوع في أَشْرَكْنا وساغ ذلك عند البصريين وإن لم يؤكد الضمير لأنه يكفي عندهم أي فاصل كان، وقد فصل بلا هاهنا، والكوفيون لا يشترطون في ذلك شيئا ويستدلون بما هنا ولا يعتبرون هذا الفصل لأنه ينبغي أن يتقدم حرف العطف ليدفع الهجنة ولا يكفي عندهم الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، وتوقف أبو علي في كفاية الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه وإن لم يفصل حرف العطف. وادعى الإمام أن في الكلام تقديرا لأن النفي لا يصرف إلى ذوات الآباء بل يجب صرفه إلى فعل صدر منهم وذلك هو الإشراك فيكون التقدير ما أشركنا ولا أشرك آباؤنا وحينئذ فلا إشكال. حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا أي نالوا عذابنا الذي أنزلناه عليهم بتكذيبهم، وفيه- على ما قيل- إيماء إلى أن لهم عذابا مدخرا عند الله تعالى لأن الذوق أول إدراك الشيء. قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ أي من أمر معلوم يصح الاحتجاج به على زعمكم فَتُخْرِجُوهُ أي فتظهروه لَنا على أتم وجه وأوضح بيان، وقيل: المراد هل لكم من اعتقاد ثابت مطابق فيما ادعيتهم أن الإشراك وسائر ما أنتم عليه مرضي لله تعالى فتظهروه لنا بالبرهان، وجعل إمام الحرمين في الإرشاد هذا وما بعده دليلا على أن المشركين إنما استوجبوا التوبيخ على قولهم ذلك لأنهم كانوا يهزؤون بالدين ويبغون رد دعوة الأنبياء عليهم السلام حيث قرع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 294 مسامعهم من شرائع الرسل عليهم السلام تفويض الأمور إليه سبحانه فحين طالبوهم بالإسلام والتزام الأحكام احتجوا عليهم بما أخذوه من كلامهم مستهزئين بهم عليهم الصلاة والسلام ولم يكن غرضهم ذكر ما ينطوي عليه عقدهم كيف لا والإيمان بصفات الله تعالى فرع الإيمان به عز شأنه وهو عنهم مناط العيوق. إِنْ تَتَّبِعُونَ أي ما تتبعون في ذلك إِلَّا الظَّنَّ الباطل الذي لا يغني من الحق شيئا أو المراد إن عادتكم وجل أمركم أنكم لا تتبعون إلا الظن وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ تكذبون على الله تعالى، وقد تقدم الكلام في حكم اتباع الظن على التفصيل فتذكر قُلْ فَلِلَّهِ خاصة الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ أي البينة الواضحة التي بلغت غاية المتانة والقوة على الإثبات أو بلغ بها صاحبها صحة دعواه كعيشة راضية، والمراد بها في المشهور الكتاب والرسول والبيان، وقال شيخ مشايخنا الكوراني: الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ إشارة إلى أن العلم تابع للمعلوم وأن إرادة الله تعالى متعلقة بإظهار ما اقتضاه استعداد المعلوم في نفسه مراعاة للحكمة جودا ورحمة لا وجوبا. وهي من الحج بمعنى القصد كأنها يقصد به إثبات الحكم وتطلبه أو بمعنى الغلبة وهو المشهور، والفاء جواب شرط محذوف أي إذا ظهر أن لا حجة لكم قل فلله الحجة فَلَوْ شاءَ هدايتكم جميعا لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ بالتوفيق لها والحمل عليها ولكن شاء هداية البعض الصارفين اختيارهم إلى سلوك طريق الحق وضلال آخرين صرفوه إلى خلاف ذلك. وقال الكوراني: المراد لكنه لم يشأ إذ لم يعلم أن لكم هداية يقتضيها استعدادكم بل المعلوم له عدم هدايتكم وهو مقتضى استعدادكم الأزلي الغير المجعول. وهذا تحقيق للحق ولا ينافي ما في صدر الآية لما علمت من مرادهم به، وفائدة إرسال الرسل على القول بالاستعداد تحريك الدواعي للفعل والترك باختيار المكلف الناشئ من ذلك الاستعداد وقطع اعتذار الظالمين، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل فتذكر. وذكر ابن المنير وجها آخر في توجيه ما في الآية وهو أن الرد عليهم إنما كان لاعتقادهم أنهم مسلوبون اختيارهم وقدرتهم وأن إشراكهم إنما صدر منهم على وجه الاضطرار وزعموا أنهم يقيمون الحجة على الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام بذلك فرد الله تعالى قولهم في دعواهم عدم الاختيار لأنفسهم وشبهتهم بمن اغتر قبلهم بهذا الخيال فكذب الرسل وأشرك بالله عز وجل واعتمد على أنه إنما يفعل ذلك بمشيئة الله تعالى ورام إفحام الرسل بهذه الشبهة، ثم بين سبحانه أنهم لا حجة لهم في ذلك وأن الحجة البالغة له جل وعلا لا لهم، ثم أوضح سبحانه أن كل واقع، واقع بمشيئته وأنه لم يشأ منهم إلا ما صدر عنهم وأنه تعالى لو شاء منهم الهداية لاهتدوا أجمعون. المقصود من ذلك أن يتمحض وجه الرد عليهم ويتخلص عقيدة نفوذ المشيئة وعموم تعلقها بكل كائن عن الرد وينصرف الرد إلى دعواهم سلب الاختيار لأنفسهم وإن أقامتهم الحجة بذلك خاصة، وإذا تدبرت الآية وجدت صدرها دافعا بصدور الجبرية وعجزها معجزا للمعتزلة إذ الأول مثبت أن للعبد اختيارا وقدرة على وجه يقطع حجته وعذره في المخالفة والعصيان. والثاني مثبت نفوذ مشيئة الله تعالى في العبد وأن جميع أفعاله على وفق المشيئة الإلهية، وبذلك تقوم الحجة البالغة لأهل السنة على المعتزلة والحمد لله رب العالمين. ووجه القطب الآية بأن مرادهم رد دعوة الأنبياء عليهم السلام على معنى أن الله تعالى شاء شركنا وأراده منا وأنتم تخالفون إرادته حيث تدعونا إلى الإيمان فوبخهم سبحانه بوجوه عد منها قوله سبحانه: فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فإنه بتقدير الشرط أي إذا كان الأمر كما زعمتم فلله الحجة. وقوله سبحانه: فَلَوْ شاءَ إلخ بدل منه على سبيل البيان أي لو شاء لدل كلا منكم ومن مخالفيكم على دينه فلو كان الأمر كما تزعمون لكان الإسلام أيضا بالمشيئة فيجب أن لا تمنعوا المسلمين من الإسلام كما وجب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 295 بزعمكم أن لا يمنعكم الأنبياء عن الشرك فيلزمكم أن لا يكون بينكم وبين المسلمين مخالفة ومعاداة بل موافقة وموالاة، ثم قال: وربما يوجه هذا الاحتجاج بأن ما خالف مذهبكم من النخل يجب أن يكون عندكم حقا لأنه بمشيئة الله تعالى فيلزم تصحيح الأديان المتناقضة، وفيه منع لأن الصحة إنما تكون بالجريان على منهج الشرع ولا يلزم من تعليق مشيئته تعالى بشيء جريان ذلك عليه، ولا يخفى أن التوجيه الأول كهذا التوجيه لا يخلو عن دغدغة فتدبر قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ أي احضروهم للشهادة وهو اسم فعل لا يتصرف عند أهل الحجاز وفعل يؤنث ويثنى ويجمع عند بني تميم. وهو مبني على ما اشتهر من أن ما ذكر من خصائص الأفعال. وعن أبي علي الفارسي أن الضمائر قد تتصل بالكلمة وهي حرف كليس أو اسم فعل كهات لمناسبتها للأفعال. وعلى هذا تكون هَلُمَّ اسم فعل مطلقا كما في شرح التسهيل وعليه الرضي حيث قال: وبنو تميم يصرفونه فيذكرونه ويؤنثونه ويجمعونه نظرا إلى أصله. وأصله عند البصريين هالم من لم إذا قصد حذفت الألف لتقدير السكون في اللام لأن أصله المم وعند الكوفيين هل أم فنقلت ضمة الهمزة إلى اللام وحذفت كما هو القياس، واستبعد بأن هل لا تدخل الأمر. ودفع بما نقله الرضي عنهم من أن أصل هل أم هلا أم وهلا كلمة استعجال بمعنى أسرع فغير إلى هل لتخفيف التركيب ثم فعل به ما فعل. ويكون متعديا بمعنى احضر وائت ولازما بمعنى أقبل كما في قوله تعالى: هَلُمَّ إِلَيْنا [الأحزاب: 18] الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا وهم كبراؤهم الذين أسسوا ضلالهم. والمقصود من إحضارهم تفضيحهم وإلزامهم وإظهار أن لا متمسك لهم كمقلديهم ولذلك قيد الشهداء بالإضافة ووصفوا بما يدل على أنهم شهداء معرفون بالشهادة لهم وبنصر مذهبهم. وهذا إشارة إلى ما حرموه من الأنعام على ما حكته الآيات السابقة. وقال مجاهد: إشارة إلى البحائر والسوائب فَإِنْ شَهِدُوا أي أولئك الشهداء المعرفون بالباطل بعد ما حضروا بأن الله حرم هذا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ أي فلا تصدقهم فإنه كذب بحت وبين لهم فساده لأن تسليمه منهم موافقة لهم في الشهادة الباطلة والسكوت قد يشعر بالرضا، وإرادة هذا المعنى من «لا تشهد» إما على سبيل الاستعارة التبعية أو المجاز المرسل من ذكر اللازم وإرادة الملزوم لأن الشهادة من لوازم التسليم أو الكناية أو هو من باب المشاكلة، ومن الناس من زعم أن ضمير شَهِدُوا للمشركين أي فإن لم يجدوا شاهدا يشهد بذلك فشهدوا بأنفسهم لأنفسهم فلا تشهد وهو في غاية البعد، وأبعد منه بل هو للفساد أقرب قول من زعم أن المراد هلم شهداءكم من غيركم فإن لم يجدوا ذلك لأن غير العرب لا يحرمون ما ذكر وشهدوا بأنفسهم فلا تصدقهم وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا من وضع المظهر موضع المضمر للإيماء إلى أن مكذب الآيات متبع الهوى لا غير وأن متبع الحجة لا يكون إلا مصدقا بها، والخطاب- قيل- لكل من يصلح له. وقيل: لسيد المخاطبين والمراد أمته. وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ كعبدة الأوثان عطف على الموصول الأول بطريق عطف الصفة على الصفة مع اتحاد الموصوف فإن من يكذب بآياته تعالى لا يؤمن بالآخرة وبالعكس، وزعم بعضهم أن المراد بالموصول الأول المكذبون مع الإقرار بالآخرة كأهل الكتابين وبالموصول الثاني المكذبون مع إنكار الآخرة ولا يخفى ما فيه وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ أي يجعلون له عديلا أي شريكا فهو كقوله تعالى: هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل: 100] وقيل: يعدلون بأفعاله عنه سبحانه وينسبونها إلى غيره عز وجل، وقيل: يَعْدِلُونَ بعبادتهم عنه تعالى، والجملة عطف على لا يُؤْمِنُونَ والمعنى لا تتبع الذين يجمعون بين التكذيب بالآيات والكفر بالآخرة والإشراك بربهم عز وجل لكن لا على أن مدار النهي الجمع المذكور بل على أن أولئك جامعون لها متصفون بها، وقيل: الجملة في موضع الحال من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 296 ضمير لا يُؤْمِنُونَ قُلْ تَعالَوْا أمر له صلّى الله عليه وسلّم بعد ما ظهر بطلان ما ادعوا أن يبين لهم من المحرمات ما يقتضي الحال بيانه على الأسلوب الحكيم إيذانا بأن حقهم الاجتناب عن هذه المحرمات، وأما الأطعمة المحرمة فقد بينت فيما تقدم، وتعال أمر من التعالي والأصل فيه أن يقوله من هو في مكان عال لمن هو أسفل منه ثم اتسع فيه بالتعميم واستعمل استعمال المقيد في المطلق مجازا، ويحتمل هنا- كما قيل- أن يكون على الأصل تعريضا لهم بأنهم في حضيض الجهل ولو سمعوا ما يقال لهم تراقوا إلى ذروة العلم وقمة العز. وقوله سبحانه: أَتْلُ جواب الأمر أي إن تأتوني أتل، و «ما في» قوله تعالى: ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ إما موصولة والعائد محذوف أي أقرأ الذي حرمه ربكم أي الآيات المشتملة عليه أو مصدرية أي تحريمه، والمراد الآية الدالة عليه، وهي في الاحتمالين في موضع نصب على المفعولية لأتل، وجوز أن تكون استفهامية فهي في موضع نصب على المفعولية لحرم، والجملة مفعول «أتل» لأن التلاوة من باب القول فيصح أن تعمل في الجملة بناء على المذهب الكوفي من أنه تحكى الجملة بكل ما تضمن معنى القول وغيرهم يقدر في ذلك قائلا ونحوه. والمعنى هنا على الاستفهام تعالوا أقل لكم وأبين جواب أي شيء حرم ربكم، وقوله تعالى: عَلَيْكُمْ متعلق على كل حال بحرم، وجوز أن يتعلق بأتل ورجح الأول بأنه أنسب بمقام الاعتناء بإيجاب الانتهاء عن المحرمات المذكورة، وهو السر في التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم، ولا يضر في ذلك كون المتلو محرما على الكل كما لا يخفى أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً أي من الإشراك أو شيئا من الأشياء فشيئا يحتمل المصدرية والمفعولية وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في إعراب أَلَّا. وبدأ سبحانه بأمر الشرك لأنه أعظم المحرمات وأكبر الكبائر وَبِالْوالِدَيْنِ أي أحسنوا بهما إِحْساناً كاملا لا إساءة معه. وعن ابن عباس يريد البر بهما مع اللطف ولين الجانب فلا يغلظ لهما في الجواب ولا يحد النظر إليهما ولا يرفع صوته عليهما بل يكون بين يديهما مثل العبد بين يدي سيده تذللا لهما، وثنى الله تعالى بهذا التكليف لأن نعمة الوالدين أعظم النعم على العبد بعد نعمة الله تعالى لأن المؤثر الحقيقي في وجود الإنسان هو الله عز وجل والمؤثر في الظاهر هو الأبوان. وعقب سبحانه التكليف المتعلق بالوالدين بالتكليف المتعلق بالأولاد لكمال المناسبة فقال سبحانه: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ بالوأد مِنْ إِمْلاقٍ من أجل فقر أو من خشيته كما في قوله سبحانه: خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الإسراء: 31] وقيل: الخطاب في كل آية لصنف وليس خطابا واحدا فالمخاطب بقوله سبحانه: مِنْ إِمْلاقٍ من ابتلى بالفقر وبقوله تعالى: خَشْيَةَ إِمْلاقٍ من لا فقر له ولكن يخشى وقوعه في المستقبل، ولهذا قدم رزقهم هاهنا في قوله عز وجل نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وقدم رزق أولادهم في مقام الخشية فقيل: «نحن نرزقهم وإياكم» وهو كلام حسن. وأيا ما كان فجملة نَحْنُ إلخ استئناف مسوق لتعليل النهي وإبطال سببية ما اتخذوه سببا لمباشرة المنهي عنه وضمان منه تعالى لإرزاقهم أي نحن نرزق الفريقين لا أنتم فلا تقدموا على ما نهيتم عنه لذلك. وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ أي الزنا، والجمع إما للمبالغة أو باعتبار تعدد من يصدر عنه أو للقصد إلى النهي عن الأنواع ولذا أبدل منها قوله سبحانه: ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ أي ما يفعل منها علانية في الحوانيت كما هو دأب أراذلهم وما يفعل سرا باتخاذ الأخدان كما هو عادة أشرافهم، وروي ذلك عن ابن عباس، والضحاك، والسدي، وقيل: المراد بها المعاصي كلها. وفي المراد- بما ظهر منها وما بطن- على هذا أقول تقدمت الإشارة إليها واختار ذلك الإمام وجماعة. ورجح بعض المحققين الأول بأنه الأوفق بنظم المتعاطفات، ووجه توسيط هذا النهي بين النهي عن قتل الأولاد والنهي عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 297 القتل مطلقا عليه باعتبار أن الفواحش بهذا المعنى مع كونها في نفسها جناية عظيمة في حكم قتل الأولاد فإن أولاد الزنا في حكم الأموات. وقد روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال في حق العزل: «ذاك وأد خفي» وعلى القول الآخر لا يظهر وجه توسيط هذا العام بين أفراده ويكون توسيطه بين النهيين من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه، وتعليق النهي بقربانها إما للمبالغة في الزجر عنها لقوة الدواعي إليها. وإما لأن قربانها داع إلى مباشرتها. وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ أي حرم قتلها بأن عصمها بالإسلام أو بالعهد فيخرج الحربي ويدخل الذمي، فما روي عن ابن جبير من كون المراد بالنفس المذكورة النفس المؤمنة ليس في محله إِلَّا بِالْحَقِّ استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا تقتلوها في حال من الأحوال إلا حال ملابستكم بالحق الذي هو أمر الشرع بقتلها، وذلك كما ورد في الخبر بالكفر بعد الإيمان والزنا بعد الإحصان وقتل النفس المعصومة أو من أعم الأسباب أي لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق وهو ما في الخبر أو من أعم المصادر أي لا تقتلوها قتلا إلا قتلا كائنا وهو القتل بأحد المذكورات ذلِكُمْ أي ما ذكر من التكاليف الخمسة الجليلة الشأن من بين التكاليف الشرعية وَصَّاكُمْ بِهِ أي طلبه منكم طلبا مؤكدا، والجملة الاسمية استئناف جيء به تجديدا للعهد وتأكيدا لإيجاب المحافظة على ما كلفوه. وقال الإمام: جيء بها لتقريب القبول إلى القلب لما فيها من اللطف والرحمة لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي تستعملون عقولكم التي تعقل نفوسكم وتحبسها عن مباشرة القبائح المحرمة. وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ أي لا تتعرضوا له بوجه من الوجوه إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي بالفعلة التي هي أحسن ما يفعل بماله كحفظه وتثميره، وقيل: المراد لا تقربوا ماله إلا وأنتم متصفون بالخصلة التي هي أحسن الخصال في مصلحته فمن لم يجد نفسه على أحسن الخصال ينبغي أن لا يقربه وفيه بعد والخطاب للأولياء والأوصياء لقوله تعالى: حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ فإنه غاية لما يفهم من الاستثناء لا للنهي كأنه قيل: احفظوه حتى يبلغ فإذا بلغ فسلموه إليه كما في قوله سبحانه: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [النساء: 6] والأشد- على ما قال الفراء- جمع لا واحد له. وقال بعض البصريين: هو مفرد كآنك ولم يأت في المفردات على هذا الوزن غيرهما. وقيل: هو جمع شدة كنعمة وأنعم، وقدر فيه زيادة الهاء لكثرة جمع فعل على أفعل كقدح وأقدح. وقال ابن الأنباري: إنه جمع شد بضم الشين كود وأود. وقيل: جمع شد بفتحها. وأيا ما كان فهو من الشدة أي القوة أو الارتفاع من شد النهار إذا ارتفع. ومنه قول عنترة: عهدي به شد النهار كأنما ... خضب البنان ورأسه بالعظلم والمراد ببلوغ الأشد عند الشعبي. وجماعة بلوغ الحلم. وقيل: أن يبلغ ثماني عشرة سنة، وقال السدي: أن يبلغ ثلاثين إلا أن الآية منسوخة بقوله تعالى: حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ [النساء: 6] وقيل: غير ذلك. وقد تقدم الخلاف في زمن دفع مال اليتيم إليه وأشبعنا الكلام في تحقيق الحق في ذلك فتذكر وَأَوْفُوا أي أتموا الْكَيْلَ أي المكيل فهو مصدر بمعنى اسم المفعول وَالْمِيزانَ كذلك- كما قال أبو البقاء- وجوز أن يكون هناك مضاف محذوف أي مكيل الكيل وموزون الميزان بِالْقِسْطِ أي بالعدل وهو في موضع الحال من ضمير أَوْفُوا أي مقسطين. وقال أبو البقاء: يجوز أن يكون حالا من المفعول أي تاما. ولعل الإتيان بهذه الحال للتأكيد. وفي التفسير الكبير فإن قيل: إيفاء الكيل والميزان هو عين القسط فما الفائدة من التكرير؟ قلنا: أمر الله تعالى المعطى بإيفاء ذي الحق حقه من غير نقصان وأمر صاحب الحق بأخذ حقه من غير طلب الزيادة فتدبر. لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها إلا ما يسعها ولا يعسر عليها. والجملة مستأنفة جيء بها عقيب الأمر بإيفاء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 298 الكيل والميزان بالعدل للترخيص فيما خرج عن الطاقة لما أن في مراعاة ذلك كما هو حرجا مع كثرة وقوعه فكأنه قيل: عليكم بما في وسعكم في هذا الأمر وما وراءه معفو عنكم. وجوز أن يكون جيء بها لتهوين أمر ما تقدم من التكليفات ليقبلوا عليها كأنه قيل: جميع ما كلفناكم به ممكن غير شاق ونحن لا نكلف ما لا يطاق وَإِذا قُلْتُمْ قولا في حكومة أو شهادة أو نحوهما فَاعْدِلُوا فيه وقولوا الحق وَلَوْ كانَ المقول له أو عليه ذا قُرْبى أي صاحب قرابة منكم وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا أي ما عهد إليكم من الأمور المعدودة أو أي عهد كان فيدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا أو ما عاهدتم الله تعالى عليه من أيمانكم ونذوركم. والجار والمجرور متعلق بما بعده، وتقديمه للاعتناء بشأنه ذلِكُمْ أي ما فصل من التكاليف الجليلة وَصَّاكُمْ بِهِ أمركم به أمرا مؤكدا لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ما في تضاعيفه وتعملون بمقتضاه. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم «تذكرون» بتخفيف الذال. والباقون بالتشديد في كل القرآن وهما بمعنى واحد. وختمت الآية الأولى بقوله سبحانه: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وهذه بقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ لأن القوم كانوا مستمرين على الشرك. وقتل الأولاد. وقربان الزنا، وقتل النفس المحرمة بغير حق غير مستنكفين ولا عاقلين قبحها فنهاهم سبحانه لعلهم يعقلون قبحها فيستنكفوا عنها ويتركوها. وأما حفظ أموال اليتامى عليهم. وإيفاء الكيل. والعدل في القول. والوفاء بالعهد فكانوا يفعلونه ويفتخرون بالاتصاف به فأمرهم الله تعالى بذلك لعلهم يذكرون إن عرض لهم نسيان قاله القطب الرازي: ثم قال فإن قلت إحسان الوالدين من قبيل الثاني أيضا فكيف ذكر من الأول؟ قلت: أعظم النعم على الإنسان نعمة الله تعالى ويتلوها نعمة الوالدين لأنهما المؤثران في الظاهر ومنهما نعمة التربية والحفظ عن الهلاك في وقت الصغر فلما نهى عن الكفر بالله تعالى نهى بعده عن الكفران في نعمة الأبوين تنبيها على أن القوم لما لم يرتكبوا الكفران فبطريق الأولى أن لا يرتكبوا الكفر. وقال الإمام: السبب في ختم كل آية بما ختمت أن التكاليف الخمسة المذكورة في الآية الأولى ظاهرة جلية فوجب تعقلها وتفهمها والتكاليف الأربعة المذكورة في هذه الآية أمور خفية غامضة لا بد فيها من الاجتهاد والفكر الكثير حتى يقف على موضع الاعتدال وهو التذكر انتهى. ويمكن أن يقال: إن أكثر التكليفات الأول أدي بصيغة النهي وهو في معنى المنع والمرء حريص على ما منع فناسب أن يعلل الإيصاء بذلك بما فيه إيماء إلى معنى المنع والحبس وهذا بخلاف التكليفات الأخر فإن أكثرها قد أدي بصيغة الأمر وليس المنع فيه ظاهرا كما في النهي فيكون الطلب والمبالغة فيه ليستمر عليه ويتذكر إذا نسي فليتدبر. وَأَنَّ هذا صِراطِي إشارة إلى شرعه عليه الصلاة والسلام على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ويلائمه النهي الآتي، وعن مقاتل أنه إشارة إلى ما في الآيتين من الأمر والنهي، وقيل: إلى ما ذكر في السورة فإن أكثرها في إثبات التوحيد والنبوة وبيان الشريعة. وقرأ حمزة والكسائي «إن» بالكسر. وابن عامر. ويعقوب بالفتح والتخفيف، والباقون به مشددة. وقرأ ابن عامر «صراطي» بفتح الياء، وقرىء وهذا صِراطِي. «وهذا صراط ربكم» وَهذا صِراطُ رَبِّكَ [الأنعام: 126] وإضافة الصراط إلى الرب سبحانه من حيث الوضع وإليه عليه الصلاة والسلام من حيث السلوك والدعوة أي هذا الصراط الذي أسلكه وأدعو إليه مُسْتَقِيماً لا اعوجاج فيه، ونصبه على الحال فَاتَّبِعُوهُ أي اقتفوا أثره واعملوا به وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ أي الضلالات كما أخرجه ابن جرير. وابن أبي حاتم عن ابن عباس، وفي رواية عنه أنها الأديان المختلفة كاليهودية والنصرانية، وأخرج ابن المنذر، وعبد ابن حميد، وغيرهما عن مجاهد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 299 أنها البدع والشبهات فَتَفَرَّقَ بِكُمْ نصب في جواب النهي والأصل تتفرق فحذفت إحدى التاءين والباء للتعدية أي فتفرقكم حسب تفرقها أيادي سبأ فهو كما ترى أبلغ من تفرقكم كما قيل من أن ذهب به لما فيه من الدلالة على الاستصحاب أبلغ من أذهبه عَنْ سَبِيلِهِ أي سبيل الله تعالى الذي لا اعوجاج فيه ولا حرج لما هو دين الإسلام، وقيل: هو اتباع الوحي واقتفاء البرهان، وفيه تنبيه على أن صراطه عليه السلام عين سبيل الله تعالى، وقد أخرج أحمد. وجماعة عن ابن مسعود قال: خط رسول الله صلّى الله عليه وسلم خطا بيده ثم قال «هذا سبيل الله تعالى مستقيما ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال: وهذه السبيل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ثم قرأ وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ إلخ، وإنما أضيف إليه صلّى الله عليه وسلّم أولا لأن ذلك أدعى للاتباع إذ به يتضح كونه صراط الله عز وجل ذلِكُمْ إشارة إلى اتباع السبيل وترك اتباع السبل وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ عقاب الله تعالى بالمثابرة على فعل ما أمر به والاستمرار على الكف عما نهى عنه. قال أبو حيان: ولما كان الصراط المستقيم هو الجامع للتكاليف وأمر سبحانه باتباعه ونهى عن اتباع غيره من الطرق ختم ذلك بالتقوى التي هي اتقاء النار إذ من اتبع صراطه نجا النجاة الأبدية وحصل على السعادة السرمدية. وكرر سبحانه الوصية لمزيد التأكيد ويا لها من وصية ما أعظم شأنها، وأوضح برهانها. وأخرج الترمذي وحسنه. وابن المنذر. والبيهقي في الشعب وغيرهم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: من سره أن ينظر إلى وصية محمد عليه الصلاة والسلام بخاتمة فليقرأ هؤلاء الآيات قُلْ تَعالَوْا إلى تَتَّقُونَ وأخرج ابن حميد، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث» ثم تلاهنّ إلى آخرهن ثم قال «فمن وفى بهن فأجره على الله تعالى ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله تعالى في الدنيا كانت عقوبته ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله تعالى إن شاء أخذه وإن شاء عفا عنه» . وأخرج أبو الشيخ عن عبيد الله بن عبد الله بن عدي قال: سمع كعب رجلا يقرأ قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ إلخ فقال: والذي نفس كعب بيده إنها لأول آية في التوراة بسم الله الرحمن الرحيم قل تعالوا اتل ما حرم ربكم عليكم إلى آخر الآيات، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هذه آيات محكمات لم ينسخهن شيء من جميع الكتب وهن محرمات على بني آدم كلهم وهن أم الكتاب من عمل بهن دخل الجنة ومن تركهن دخل النار. هذا وأن في قوله سبحانه أَلَّا تُشْرِكُوا يحتمل أن تكون مفسرة وأن تكون مصدرية قال العلامة الثاني: وفي الاحتمالين إشكال فإنها إن جعلت مصدرية كانت بيانا للمحرم بدلا من ما أو عائده المحذوف. وظاهر أن المحرم هو الإشراك لا نفيه وأن الأوامر بعد معطوفة على لا تشركوا وفيه عطف الطلبي على الخبري وجعل الواجب المأمور به محرما فاحتيج إلى تكلف كجعل لا مزيدة وعطف الأوامر على المحرمات باعتبار حرمة أضدادها وتضمين الخبر معنى الطلب، وأما جعل لا ناهية واقعة موقع الصلة المصدرية كما جوزه سيبويه إذ عمل الجازم في الفعل والناصب في لا معه فمما لا سبيل إليه هنا لأن زيادة لا الناهية مما لم يقل به أحد ولم يرد في كلام وإن جعلت أن مفسرة ولا ناهية والنواهي بيان لتلاوة المحرمات توجه إشكالان، أحدهما عطف أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً على أَلَّا تُشْرِكُوا مع أنه لا معنى لعطفه على أن المفسرة مع الفعل. وثانيهما عطف الأوامر المذكورة فإنها لا تصلح بيانا لتلاوة المحرمات بل الواجبات، واختار الزمخشري كونها مفسرة وعطف الأوامر لأنها معنى نواه، ولا سبيل حينئذ لجعلها مصدرية موصولة بالنهي لما علمت. وأجاب عن الإشكال الأول بأن قوله سبحانه: وَأَنَّ هذا صِراطِي ليس عطفا على أَلَّا تُشْرِكُوا بل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 300 هو تعليل للاتباع متعلق باتبعوه على حذف اللام، وجاز عود ضمير اتبعوه إلى الصراط لتقدمه في اللفظ. فإن قيل: فعلى هذا يكون اتبعوه عطفا على لا تشركوا ويكون التقدير فاتبعوا صراطي لأنه مستقيم، وفيه جمع بين حرفي عطف الواو والفاء وليس بمستقيم، وإن جعلت الواو استئنافية اعتراضية قلنا: ورود الواو مع الفاء عند تقديم المعمول فصلا بينهما شائع في الكلام مثل وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً فإن أبيت الجمع البتة ومنعت زيادة الفاء فاجعل المعمول متعلقا بمحذوف والمذكور بالفاء عطفا عليه مثل عظم فكبر وادعوا الله فلا تدعوا مع الله وآثروه فاتبعوه. وعن الإشكال الثاني بأن عطف الأوامر على النواهي الواقعة بعد أن المفسرة لتلاوة المحرمات مع القطع بأن المأمور به لا يكون محرما دل على أن التحريم راجع إلى أضدادها بمعنى أن الأوامر كأنها ذكرت وقصد لوازمها التي هي النهي عن الأضداد حتى كأنه قيل: اتلوا ما حرم أن لا تسيؤوا إلى الوالدين ولا تبخسوا الكيل والميزان ولا تتركوا العدل ولا تنكثوا العهد، ومثل هذا وإن لم يجز بحسب الأصل لكن ربما يجوز بطريق العطف، وأما جعل الوقف على قوله تعالى: رَبُّكُمْ وانتصاب أَلَّا تُشْرِكُوا بعليكم يعني ألزموا ترك فيأباه عطف الأوامر إلا أن تجعل لا ناهية وأن المصدرية موصولة بالأوامر والنواهي. وقال أبو حيان: لا يتعين أن يكون جميع الأوامر معطوفة على جميع ما دخل عليه لا فإنه لا يصح عطف «وبالوالدين إحسانا» على «تعالوا» ويكون ما بعده عطف عليه. واعترض على القول بأن التحريم راجع إلى أضداد الأوامر بأنه بعيد جدا وألغاز في المعاني ولا ضرورة تدعو إلى ذلك، ثم قال: وأما عطف هذه الأوامر فيحتمل وجهين، أحدهما أنها معطوفة لا على المناهي قبلها فيلزم انسحاب التحريم عليها حيث كانت في حيز ان التفسيرية بل هي معطوفة على قوله سبحانه: أَتْلُ ما حَرَّمَ أمرهم أولا بأمر ترتب عليه ذكر مناه، ثم أمرهم ثانيا بأوامر وهذا معنى واضح، والثاني أن تكون الأوامر معطوفة على المناهي داخلة تحت حكم أن التفسيرية، ويصح ذلك على تقدير محذوف تكون أن مفسرة له وللمنطوق قبله الذي دل على حذفه، والتقدير وما أمركم به فحذف وما أمركم به لدلالة ما حرم عليه لأن معنى ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ما نهاكم ربكم عنه، فالمعنى قل تعالوا اتل ما نهاكم عنه ربكم وما أمركم به، وإذا كان التقدير هكذا صح أن تكون تفسيرية لفعل النهي الدال عليه التحريم وفعل الأمر المحذوف ألا ترى أنه يجوز أن تقول: أمرتك أن لا تكرم جاهلا وأكرم عالما، ويجوز عطف الأمر على النهي والنهي على الأمر لقول امرئ القيس: لا تهلك أسى وتجمل ولا نعلم في هذا خلافا بخلاف الجمل المتباينة بالخبر والاستفهام والإنشاء فإن في جواز العطف فيها خلافا مشهورا اه. وأنت تعلم أن العطف على تَعالَوْا في غاية البعد ولا ينبغي الالتفات إليه، وما ذكره من الحذف وجعل التفسير للمحذوف والمنطوق لا يخلو عن حسن، ونقل الطبرسي جواز كون أَلَّا تُشْرِكُوا بتقدير اللام على معنى أبين لكم الحرام لأن لا تشركوا لأنهم إذا حرموا ما أحل الله فقد جعلوا غير الله تعالى في القبول منه بمنزلة الله سبحانه وصاروا بذلك مشركين، ولا ينبغي تخريج كلام الله تعالى على مثل ذلك كما لا يخفى ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ كلام مسوق من جهته تعالى تقريرا للوصية وتحقيقا لها وتمهيدا لما تعقبه من ذكر إنزال القرآن المجيد كما ينبىء عنه تغيير الأسلوب بالالتفات إلى التكلم معطوف على مقدر يقتضيه المقام ويستدعيه النظام كأنه قيل بعد قوله سبحانه: ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ بطريق الاستئناف تصديقا له وتقريرا لمضمونه فعلنا ذلك ثُمَّ آتَيْنا إلخ. وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام قدس سره، وقيل: عطف على ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ. وعن الزجاج أنه عطف على معنى التلاوة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 301 كأنه قيل: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ثم اتل عليهم ما آتاه الله تعالى موسى عليه السلام، وقيل: عطف على قُلْ وفيه حذف أي قل تعالوا ثم قل آتينا موسى الكتاب. وعن أبي مسلم، واستحسنه المغربي، أنه متصل بقوله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وذلك أنه سبحانه عد نعمته عليه بما جعل في ذريته من الأنبياء عليهم السلام ثم عطف عليه بذكر ما أنعم عليه بما آتى موسى عليه السلام من الكتاب والنبوة وهو أيضا من ذريته، والكل كما ترى وإن اختلف مراتبه في الوهن. وثم- كما قال الفراء- للترتيب الإخباري كما في نحو بلغني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت اليوم أعجب. وتعقبه ابن عصفور بأنه ليس بشيء لأن ثم تقتضي تأخر الثاني عن الأول بمهلة ولا مهلة في الإخبارين فلا بد من الرجوع إلى أنها انسلخ عنها معنى الترتيب أو أنه ترتيب رتبي كما يشير إليه قوله: أعجب في المثال وهو هنا ظاهر لأن إيتاء التوراة المشتملة على الأحكام والمنافع الجمة أعظم من هذه الوصية المشهورة على الألسنة، وبعضهم وجه الترتيب الإخباري المستدعي لتأخر الثاني عن الأول بأن الألفاظ المنقضية تنزل منزلة البعيد. وقيل: إنه باعتبار توسط جملة لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ بين المتعاطفين. وقال بعضهم: إن ثُمَّ هنا بمعنى الواو، وقد جاء ذلك كثيرا في الكتاب تَماماً للكرامة والنعمة وهو في موقع المفعول له، وجاز حذف اللام لكونه في معنى إتماما، وجوز أبو البقاء أن يكون مصدرا لقول آتَيْنا من معناه لأن إيتاء الكتاب إتمام للنعمة كأنه قيل: أتممنا النعمة إتماما فهو كنباتا في قوله تعالى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17] وأن يكون حالا من الكتاب أي تاما عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ أي من أحسن القيام به كائنا من كان فالذي للجنس. ويؤيده قراءة عبد الله «على الذين أحسنوا» وقراءة الحسن «على المحسنين» . وعن الفراء أن الذي هنا مثلها في قوله: إن الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أم خالد وكلام مجاهد محتمل للوجهين أو على الذي أحسن تبليغه وهو موسى عليه السلام أو تماما على ما أحسنه موسى عليه السلام أي أجاده من العلم والشرائع أي زيادة على عمله على وجه التتميم. وعن ابن زيد أن المراد تماما على إحسان الله تعالى على أنبيائه عليهم السلام، وظاهره أن الَّذِي موصول حرفي، وقد قيل به في قوله تعالى: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا [التوبة: 69] وضمير أحسن حينئذ لله تعالى، ومثله في ذلك ما نقل عن الجبائي من أن المراد على الذي أحسن الله تعالى به على موسى عليه السلام من النبوة وغيرها، وكلاهما خلاف الظاهر. وعن أبي مسلم أن المراد بالموصول إبراهيم عليه السلام، وهو مبني على ما زعمه من اتصال الآية بقصة إبراهيم عليه السلام. وقرأ يحيى بن يعمر «أحسن» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف والَّذِي وصف للدين أو للوجه يكون عليه الكتب أي تماما على الدين الذي هو أحسن دين وأرضاه أو آتينا موسى الكتاب تاما كاملا على الوجه الذي هو أحسن ما يكون عليه الكتب، والأحسنية بالنسبة إلى غير دين الإسلام وغير ما عليه القرآن. وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ أي بيانا مفصلا لكل ما يحتاج إليه في الدين، ولا دلالة فيه على أنه لا اجتهاد في شريعة موسى عليه السلام خلافا لمن زعم ذلك، فقد ورد مثله في صفة القرآن كقوله تعالى في سورة [يوسف: 111] عليه السلام: وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ ولو صح ما ذكر لم يكن في شريعتنا اجتهاد أيضا وَهُدىً أي دلالة إلى الحق وَرَحْمَةً بالمكلفين. والكلام في هذه المعطوفات كالكلام في المعطوف عليه من احتمال العلية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 302 والمصدرية والحالية والظاهر اشتمال الكتاب على التفصيل حسبما أخبر الله تعالى إلى أن حرفه أهله. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: لما ألقى موسى عليه السلام الألواح بقي الهدى والرحمة وذهب التفصيل لَعَلَّهُمْ أي بني إسرائيل المدلول عليهم بذكر موسى عليه السلام وإيتاء الكتاب، ولا يجوز عود الضمير على الذي بناء على الجنسية أو على ما قال الفراء لأنه لا يناسب قوله سبحانه: بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ بل كان المناسب حينئذ أن يقال: لعلهم يرحمون مثلا، والجار والمجرور متعلق بما بعده قدم لرعاية الفواصل، والمراد من اللقاء قيل الجزاء، وقيل: الرجوع إلى ملك الرب سبحانه وسلطانه يوم لا يملك أحد سواه شيئا. وعن ابن عباس المعنى كي يؤمنوا بالبعث ويصدقوا بالثواب والعقاب. وَهذا الذي تليت عليكم أوامره ونواهيه أي القرآن كِتابٌ عظيم الشأن لا يقادر قدره أَنْزَلْناهُ بواسطة الروح الأمين مشتملا على فوائد الفنون الدينية والدنيوية التي فصلت عليكم طائفة منها، والجملة صفة كِتابٌ وقوله سبحانه: مُبارَكٌ أي كثير الخير دينا ودنيا صفة أخرى، وإنما قدمت الأولى عليها مع أنها غير صريحة لأن الكلام مع منكري الإنزال، وجوز أن يكون هذا وما قبله خبرين عن اسم الإشارة أيضا والفاء في قوله تعالى: فَاتَّبِعُوهُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن عظم شأن الكتاب في نفسه وصفته موجب لاتباعه أي فاعملوا بما فيه أو امتثلوا أوامره وَاتَّقُوا مخالفته أو نواهيه لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي لترحموا جزاء ذلك، وقيل: المراد اتقوا على رجاء الرحمة أو اتقوا ليكون الغرض بالتقوى رحمة الله تعالى. أَنْ تَقُولُوا علة لمقدر دل عليه أَنْزَلْناهُ المذكور وهو العامل فيه لا المذكور خلافا للكسائي لئلا يلزم الفصل بين العامل ومعموله بأجنبي وهو بتقدير لا عند الكوفيين أي لأن لا تقولوا وعلى حذف المضاف عند البصريين أي كراهة أن تقولوا. وقيل: يحتمل أن يكون مفعول اتَّقُوا وعليه الفراء، وأن تجعل اللام المقدرة للعاقبة أي ترتب على إنزالنا أحد القولين ترتب الغاية على الفعل فيكون توبيخا لهم على بعدهم عن السعادة، والمتبادر ما ذكر أولا أي أن تقولوا يوم القيامة لو لم ننزله إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ الناطق بالأحكام القاطع للحجة عَلى طائِفَتَيْنِ جماعتين كائنتين مِنْ قَبْلِنا وهما- كما قال ابن عباس، وغيره: اليهود، والنصارى. وتخصيص الإنزال بكتابيهما لأنهما اللذان اشتهرا فيما بين الكتب السماوية بالاشتمال على الأحكام. وَإِنْ كُنَّا إن هي المخففة من أن واللام الآتية فارقة بينها وبين النافية وهي مهملة لما حققه النحاة من أن أن المخففة إذا لزمت اللام في أحد جزأيها ووليها الناسخ فهي مهملة لا تعمل في ظاهر ولا مضمر، لا ثابت ولا محذوف أي وانه كنا عَنْ دِراسَتِهِمْ أي قراءتهم لَغافِلِينَ غير ملتفتين لا ندري ما هي لأنها ليست بلغتنا فلم يمكننا أن نتلقى منها ما فيه نجاتنا ولعلهم عنوا بذلك التوحيد، وقيل: تلك الأحكام المذكورة في قوله تعالى: قُلْ تَعالَوْا إلخ لأنها عامة لجميع بني آدم لا تختلف في عصر من الأعصار. وعلى هذا حمل الآية شيخ الإسلام ثم قال: وبهذا تبين أن معذرتهم هذه مع أنهم غير مأمورين بما في الكتابين لاشتمالهما على الأحكام المذكورة المتناولة لكافة الأمم كما أن قطع تلك المعذرة بإنزال القرآن لاشتماله أيضا عليها لا على سائر الشرائع والأحكام فقط. أَوْ تَقُولُوا عطف على تَقُولُوا. وقرىء كلاهما بالياء على الالتفات من خطاب «فاتبعوه واتقوا» ويكون الخطاب الآتي بعد التفاتا أيضا ولا يخفى موقعه. قال القطب: إنه تعالى خاطبهم أولا بما خاطبهم ثم لما وصل إلى حكاية أقوالهم الرديئة أعرض عنهم وجرى على الغيبة كأنهم غائبون ثم لما أراد سبحانه توبيخهم بعد خاطبهم فهو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 303 التفات في غاية الحسن لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ كما أنزل عليهم لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ إلى الحق الذي هو المقصد الأقصى أو إلى ما فيه من الأحكام والشرائع لأنا أجود أذهانا وأثقب فهما فَقَدْ جاءَكُمْ متعلق بمحذوف تنبىء عنه الفاء الفصيحة إما معلل به أو شرط له أي لا تعتذروا بذلك فقد جاءكم إلخ أو إن صدقتم فيما تعدون من أنفسكم على تقدير نزول الكتاب عليكم فقد حصل ما فرضتم وجاءكم بَيِّنَةٌ حجة جليلة الشأن واضحة تعرفونها لظهورها وكونها بلسانكم كائنة مِنْ رَبِّكُمْ على أن الجار متعلق بمحذوف وقع صفة بَيِّنَةٌ ويصح تعلقه بجاءكم. وأيّا ما كان ففيه دلالة على فضلها الإضافي مع الإشارة إلى شرفها الذاتي، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم ما لا يخفى من مزيد التأكيد لإيجاب الاتباع وَهُدىً وَرَحْمَةٌ عطف على بَيِّنَةٌ وتنوينهما كتنوينهما للتفخيم، والمراد بجميع ذلك القرآن، وعبر عنه بالبينة أولا إيذانا بكمال تمكنهم من دراسته وبالهدى والرحمة. ثانيا تنبيها على أنه مشتمل على ما اشتمل عليه التوراة من هداية الناس ورحمتهم بل هو عين الهداية والرحمة وفي التفسير الكبير فإن قيل البينة والهدى واحد فما الفائدة في التكرير؟ قلنا: القرآن بينة فيما يعلم سمعا وهو هدى فيما يعلم سمعا وعقلا فلما اختلفت الفائدة صح هذا العطف ولا يخفى ما فيه. فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن مجيء القرآن الموصوف بما تقدم موجب لغاية أظلمية من يكذبه، والمراد من الموصول أولئك المخاطبون، ووضع موضع ضميرهم بطريق الالتفات تنصيصا على اتصافهم بما في حيز الصلة وإشعارا بعلة الحكم وإسقاطا لهم عن رتبة الخطاب، وعبر عما جاءهم بآيات الله تعالى تهويلا للأمر. وقرىء «كذب» بالتخفيف، والجار الأول متعلق بما عنده، والثاني يحتمل ذلك وهو الظاهر. ويحتمل أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا، والمعنى كذب ومعه آيات الله تعالى وَصَدَفَ عَنْها أي أعرض غير مفكر فيها كما روي عن ابن عباس، ومجاهد، وغيرهما أو صرف الناس عنها فجمع بين الضلال والإضلال، والفعل على الأول لازم وعلى الثاني متعد وهو الأكثر استعمالا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا وعيد لهم ببيان جزاء إعراضهم أو صدهم بحيث يفهم منه جزاء تكذيبهم، ووضع الموصول موضع الضمير لتحقيق مناط الجزاء سُوءَ الْعَذابِ أي العذاب السيء الشديد بِما كانُوا يَصْدِفُونَ أي بسبب ما كانوا يفعلون الصدف على التجدد والاستمرار، وهذا تصريح بما أشعر به إجراء الحكم على الموصول من علية ما في حيز الصلة له هَلْ يَنْظُرُونَ استئناف مسوق لبيان أنه لا يتأتى منهم الإيمان بإنزال ما ذكر من البينات والهدى والإيذان بأن من الآيات ما لا فائدة للإيمان عنده مبالغة في التبليغ والإنذار وإزاحة العلل والأعذار، وهَلْ للاستفهام الإنكاري، وأنكر الرضي مجيئها لذلك وقال: إنها للتقرير في الإثبات، والجمهور على الأول، والضمير لكفار أهل مكة. وزعم الجبائي أنه للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم أي ما ينتظرون إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ لقبض أرواحهم أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ يوم القيامة في ظلل من الغمام حسبما أخبر وبالمعنى الذي أراد. وإلى هذا التفسير ذهب ابن مسعود: وقتادة، ومقاتل، وقيل: إتيان الملائكة لإنزال العذاب والخسف بهم. وعن الحسن إتيان الرب على معنى إتيان أمره بالعذاب. وعن ابن عباس المراد يأتي أمر ربك فيهم بالقتل، وقيل: المراد يأتي كل آياته يعني آيات القيامة والهلاك الكلي لقوله سبحانه: أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ وأنت تعلم أن المشهور من مذهب السلف عدم تأويل مثل ذلك بتقدير مضاف ونحوه بل تفويض المراد منه إلى اللطيف الخبير مع الجزم بعدم إرادة الظاهر. ومنهم من يبقيه على الظاهر إلا أنه يدعي أن الإتيان الذي ينسب إليه تعالى ليس الإتيان الذي يتصف به الحادث، وحاصل ذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 304 أنه يقول بالظواهر وينفي اللوازم ويدعي أنها لوازم في الشاهد، وأين التراب من رب الأرباب. وجوز بعض المحققين حمل الكلام على الظاهر المتعارف عند الناس، والمقصود منه حكاية مذهب الكفار واعتقادهم، وعلى ذلك اعتمد الإمام وهو بعيد أو باطل. والمراد بالآيات عند بعض أشراط الساعة، وهي على ما يستفاد من الأخبار كثيرة، وصح من طرق عن حذيفة بن أسيد قال: «أشرف علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من علية ونحن نتذاكر فقال: ما تذاكرون؟ قلنا: نتذاكر الساعة قال: إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات: الدخان، والدجال، وعيسى ابن مريم، ويأجوج وماجوج، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من قعر عدن أو اليمن تطرد الناس إلى المحشر تنزل معهم إذا نزلوا وتقيل معهم إذا قالوا» وببعضها على ما قيل: الدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها وهو المراد بالبعض أيضا في قوله سبحانه: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ وروى مسلم، وأحمد، والترمذي، وغيرهم عن أبي هريرة مرفوعا ما هو صريح في ذلك. واستشكل ذلك بأن خروج عيسى عليه السلام بعد الدجال عليه اللعنة وهو عليه السلام يدعو الناس إلى الإيمان ويقبله منهم وفي زمنه خير كثير دنيوي وأخروي، وأجيب عنه بما لا يخلو عن نظر. والحق أن المراد بهذا البعض الذي لا ينفع الإيمان عنده: طلوع الشمس من مغربها. فقد روى الشيخان «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها ثم قرأ الآية» بل قد روي هذا التعيين عنه صلّى الله عليه وسلّم في غير ما خبر صحيح، وإلى ذلك ذهب جلة المفسرين وما يروى من الأخبار التي ظاهرها المنافاة لذلك غير مناف له عند التحقيق كما لا يخفى على المتأمل، وسبب عدم نفع الإيمان عند ذلك أنه إذا شوهد تغير العالم العلوي يحصل العلم الضروري ويرتفع الإيمان بالغيب وهو المكلف به فيكون الإيمان حينئذ كالإيمان عند الغرغرة، ومقتضى الأخبار في هذا المطلب أنه لا يقبل الإيمان بعد ذلك أبدا لكن الظاهر على ما في الزواجر قبول ما وقع بعد ذلك من غير تقصير كمن جن وأفاق بعد أو أسلم بتبعية أبويه. وعن البلقيني أنه إذا تراخى الحال بعد طلوع الشمس من المغرب وطال العهد حتى نسي قبل الإيمان لزوال الآية الملجئة وله وجه وجيه. وقول العراقي: إن الظاهر أنه لا يطول العهد حتى ينسى غير متجه لما رواه القرطبي في تذكرته عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ونقله الحافظ ابن حجر في شرح البخاري أن الناس يبقون بعد طلوع الشمس من مغربها مائة وعشرين سنة، والكلام في كيفية طلوعها من المغرب مفصل في كتب الحديث، وفي سوق العروس لابن الجوزي أن الشمس تطلع من مغربها ثلاثة أيام بلياليها ثم يقال لها: ارجعي من مطلعك، والمشهور أنها تطلع يوما واحدا من المغرب فتسير إلى خط نصف النهار ثم ترجع إلى المغرب وتطلع بعد ذلك من المشرق كعادتها قبل. وخبر عبد الله بن أبي أوفى صريح في ذلك والكل أمر ممكن والله سبحانه على كل شيء قدير. وروى البخاري في تاريخه، وأبو الشيخ، وابن عساكر في كيفية ذلك عن كعب رضي الله تعالى عنه أنه قال: إذا أراد الله تعالى أن يطلع الشمس من مغربها أدارها بالقطب فجعل مشرقها مغربها ومغربها مشرقها، وأهل الهيئة ومن وافقهم يزعمون أن طلوع الشمس من المغرب محال ويقولون: إن الشمس وغيرها من الفلكيات بسيطة لا تختلف مقتضياتها جهة وحركة وغير ذلك ولا يتطرق إليها تغيير عما هي عليه، وقد بنوا ذلك على مثل شفا جرف هار. وقال الكرماني: إنه على تقدير تسليم قواعدهم لا امتناع في ذلك أيضا لقولهم بجواز انطباق منطقة فلك البروج المسمى بفلك الثوابت على المعدل وهي منطقة الفلك الأعظم المسمى بفلك الأطلس بحيث يصير المشرق مغربا والمغرب مشرقا انتهى. وفيه نظر يعلم بعد بيان كيفية الانطباق وما يتبعه ويلزم منه على ما في كتب محققيهم فأقول: قال في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 305 التذكرة وشرحها للسيد السند: الميل الكلي وهو غاية التباعد بين منطقتي المعدل وفلك البروج الموجود بالأرصاد القديمة والحديثة ليس شيئا واحدا بل كان مما وجده القدماء أكثر ما وجده المحدثون، وقد يظن أن ما وجده من هو أحدث زمانا كان أقل مما وجده من هو أقدم زمانا مع أن أكثر ما وجدوه لم يبلغ أربعة وعشرين جزءا وأقله لم ينقص عن ثلاثة وعشرين جزءا ونصف جزء. ثم الظاهر أن هذا الاختلاف إنما هو بسبب اختلال الآلات في استدارتها أو قسمتها أو نصبها في حقيقة نصف النهار لا بسبب تحرك إحدى المنطقتين إلى الأخرى وإلا لوجب أن يكون الاختلاف على نظام واحد ولم يوجد كذلك كما بين في محله لكنه يجوز أن يكون أصل الاختلاف بسبب التحرك وعدم الانتظام بسبب الاختلال ولما امتنع أن يكون هذا التقارب بحركة المعدل نحو منطقة البروج إذ يلزم منه أن تختلف عروض البلدان عما هي عليه وأن يكون خط الاستواء في كل زمان مكانا آخر ذهب بعضهم إلى أن منطقة البروج تتحرك في العرض فتقرب من معدل النهار فإن كان هذا حقا يجب أن يثبت فلكا آخر يحرك فلك البروج هذه الحركة ثم إن المنطقة إن تحركت في العرض أمكن أن تتم الدورة وأمكن أن لا تتمها بل تتحرك إلى غاية ما ثم تعود وتلك الغاية يمكن أن تكون بعد انطباقها على منطقة المعدل مرتين أو حال انطباقها الثاني أو فيما بين الانطباقين وذلك أما بعد قطع نصف دورتها أو حال قطع النصف أو قبله، وإن لم تصل إلى ما بين الانطباقين فإما أن تعود حال انطباقها الأول أو قبل ذلك ثمانية احتمالات عقلية لا مزيد عليها، وعلى التقديرات الخمس الأول يتبادل نصفا سطح البروج الشمالي والجنوبي فيصير نصف سطح فلك البروج الذي هو شمالي عن المعدل جنوبيا عنه وبالعكس مع ما يتبع النصفين من الأحكام فتثبت أحكام النصف الشمالي للنصف الجنوبي بعد صيرورته شماليا وأحكام الجنوبي للشمالي بعد صيرورته جنوبيا وفي الثلاثة الأولى منها ينطبق كل واحد من نصفي منطقة البروج على كل واحد من نصفي منطقة المعدل، وعلى التقديرات الباقية بعد الخمسة الأولى لا يتبادل غير البعض من السطح المذكور، وعلى التقديرات السبعة الأولى ينطبق النصف من منطقة فلك البروج على النصف المجاور له من منطقة المعدل وعند كل انطباق يتساوى الليل والنهار في جميع البقاع لأن مدار الشمس هو المعدل المنصف بالآفاق القاطعة له وتبطل فصول السنة لأن بعد الشمس عن سمت الرأس يكون شيئا واحدا هو مقدار عرض البلد ويستمر الحال على هذا إلى أن تفترق المنطقتان بمقدار يحس به ولا يكون ذلك إلا في مدة طويلة، وعلى التقدير الثاني لا يكون شيء من الانطباق وتساوي الملوين وبطلان الفصول إلا أن الارتفاعات ومقادير الأيام والليالي لا جزاء بعينها من فلك البروج تزيد وتنقص في بقعة بعينها انتهى ملخصا. ولا يخفى أنه من لوازم ما ذكروه من التبادل الناشئ عن الانطباق مرتين انطباق قطب البروج الجنوبي على قطب العالم الشمالي وعكسه وصيرورة بروج الخريف بروج الربيع وعكسه وبروج الصيف بروج الشتاء وعكسه وانعكاس توالي البروج إلى خلافه فيطلع الحوت ثم الدلو ثم الجدي وهكذا إلى الحمل وتوافق حركة ما حركته من المغرب إلى المشرق لحركة الفلك الأعظم إلى غير ذلك، وليس صيرورة المشرق مغربا والمغرب مشرقا من لوازم الانطباق المذكور بل لا يتصور أصلا، نعم لو كان المدعي انطباق منطقة المعدل على منطقة فلك البروج بحيث تكون الحركة للمعدل نحو المنطقة لتصور ما ذكر لكنه ممتنع على ما صرح به السيد السند فيما مر وقد فرض عدم الامتناع فتدبر. والانتظار في الآية محمول على التمثيل المبني على تشبيه حال هؤلاء الكفار في الإصرار على الكفر والتمادي على العناد إلى أن تأتيهم تلك الأمور الهائلة التي لا بد لهم من الإيمان عند مشاهدتها البتة بحال المنتظرين لها وهذا هو الذي يقتضيه التفسير المأثور ولا ينبغي العدول عن ذلك التفسير بعد أن صحت نسبة بعضه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والبعض الجزء: 4 ¦ الصفحة: 306 الآخر إلى بعض أصحابه رضي الله تعالى عنهم وليس في النظم الكريم ما يأباه ولا أن المقام إنما يساعد على ما سواه. وقيل: المراد بإتيان الملائكة وإتيان الرب سبحانه ما اقترحوه بقولهم: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا [الفرقان: 21] وبقولهم: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الإسراء: 92] وبإتيان بعض الآيات غير ما ذكر كما اقترحوا بقولهم: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً [الإسراء: 92] ونحو ذلك من عظائم الآيات التي علقوا بها إيمانهم، وجوز حمل بعض الآيات في قوله سبحانه: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ على ما يعم مقترحاتهم وغيرها من الدواهي العظام السالبة للاختيار الذي يدور عليه فلك التكليف وهو كلام في نفسه ليس بالدون ولكن إن صح الحديث فهو مذهبي، والتعبير بالبعض للتهويل والتفخيم كما أن إضافة الآيات إلى اسم الرب المنبئ عن المالكية الكلية لذلك، وإضافته إلى ضميره عليه الصلاة والسلام للتشريف. وتنكير نَفْساً للتعميم. وجملة «لم تكن آمنت» في موضع النصب صفة لنفسا فصل بينهما بالفاعل لاشتمالها على ضمير الموصوف ولا ضير فيه لأنه غير أجنبي منه لاشتراكهما في العامل، وجوز كونها استئنافية و «يوم» منصوب بلا ينفع. وامتناع عمل ما بعد لا فيما قبلها إنما هو عند وقوعها جواب القسم. وقرأ حمزة والكسائي «يأتيهم» بالياء لأن تأنيث الملائكة غير حقيقي. وقرىء «يوم» بالرفع على الابتداء. والخبر هو الجملة والعائد محذوف أي لا ينفع فيه. وقرأ أبو العالية. وابن سيرين «لا تنفع» بالتاء الفوقانية، وخرجها ابن جني على أنها من باب قطعت بعض أصابعه فالمضاف فيه قد اكتسب التأنيث من المضاف إليه لكونه شبيها بما يستغنى عنه، وقال أبو حيان: إن التأنيث لتأويل الإيمان بالعقيدة والمعرفة مثل جاءته كتابي فاحتقرها على معنى الصحيفة. وقوله سبحانه: أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً عطف على آمَنَتْ والكلام محمول على نفي الترديد المستلزم للعموم المفيد بمنطوقه لاشتراط عدم النفع بعدم الأمرين معا الإيمان المقدم والخير المكسوب فيه وبمفهومه لاشتراط النفع بتحقق أحدهما بطريق منع الخلو دون الانفصال الحقيقي. والمعنى أنه لا ينفع الإيمان حينئذ نفسا لم يصدر عنها من قبل أما الإيمان المجرد أو الخير المكسوب فيه فيتحقق الخير بأيهما كان حسبما تنطق به النصوص الكريمة من الآيات والأحاديث الصحيحة. والمعتزلة يقولون: إن الترديد بين النفيين، والمراد نفي العموم لا عموم النفي. والمعنى أنه لا ينفع الإيمان حينئذ نفسا غير مقدمة إيمانها أو مقدمة إيمانها غير كاسبة فيه خيرا. وهذا صريح فيما ذهبوا إليه من أن الإيمان المجرد عن العمل لا يعتبر ولا ينفع صاحبه. ولم يحملوا ذلك على عموم النفي كما قرروه في قوله تعالى: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الإنسان: 24] لأن ذلك حيث لم تقم قرينة حالية أو مقالية على خلافه وهنا قد قامت قرينة على خلافه فإنه لو اعتبر عموم النفي لغي ذكر اشتراط عدم النفع بالخلو عن كسب الخير في الإيمان ضرورة أنه إذا انتفى الإيمان قبل ذلك اليوم انتفى كسب الخير فيه قطعا على أن الموجب للخلود في النار هو عدم الإيمان من غير أن يكون لعدم كسب الخير دخل ما في ذلك أصلا فيكون ذكره بصدد بيان ما يوجب الخلود لغوا من الكلام أيضا. وأجاب شيخ الإسلام عن ذلك بأنه مبني على توهم أن المقصود بوصف النفس بالعدمين المذكورين مجرد بيان إيجابهما للخلود فيها وعدم نفع الإيمان الحادث في إنجائها عنه وليس كذلك وإلا لكفى في البيان أن يقال: لا ينفع نفسا إيمانها الحادث بل المقصود الأصلي من وصفها بذينك العدمين في أثناء عدم نفع الإيمان الحادث تحقيق أن موجب النفع إحدى ملكيتهما أعني الإيمان السابق والخير المكسوب فيه لما ذكر من الطريقة والترغيب في تحصيلهما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 307 في ضمن التحذير من تركهما ولا سبيل إلى أن يقال: كما أن عدم الأول مستقل في إيجاب الخلود في النار فيلغو ذكر عدم الثاني كذلك وجود مستقل في إيجاب الخلاص عنها فيكون ذكر الثاني لغوا لما أنه قياس مع الفارق كيف لا والخلود فيها أمر لا يتصور فيه تعدد العلل. وأما الخلاص منها مع دخول الجنة فله مراتب بعضها مترتب على نفس الإيمان وبعضها على فروعه المتفاوتة كما وكيفا. ولم يقتصر على إتيان ما يوجب أصل النفع وهو الإيمان السابق مع أنه المقابل بما لا يوجبه أصلا وهو الإيمان الحادث بل قرن به ما يوجب النفع الزائد أيضا إرشادا إلى تحري الأعلى وتنبيها على كفاية الأدنى وإقناطا للكفرة عما علقوا به أطماعهم الفارغة عن أعمال البر التي عملوها في الكفر مما هو من باب المكارم وأن الإيمان الحادث كما لا ينفعهم وحده لا ينفعهم بانضمام أعمالهم السابقة واللاحقة. ثم قال: ولك أن تقول: المقصود بوصف النفس بما ذكر من العدمين التعريض بحال الكفرة في تمردهم وتفريطهم في كل واحد من الأمرين الواجبين عليهم وإن كان وجوب أحدهما منوطا بالآخر كما في قوله سبحانه: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة: 30، 31] تسجيلا عليهم بكمال طغيانهم وإيذانا بتضاعف عقابهم لما تقرر من أن الكفار مخاطبون بالفروع في حق المؤاخذة كما ينبىء عنه قوله تعالى: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ [فصلت: 6، 7] انتهى. وقيل في دفع اللغوية غير ذلك، وأجاب بعضهم عن متمسك المعتزلة بأن الآية مشتملة على ما سمي في علم البلاغة باللف التقديري كأنه قيل: لا ينفع نفسا إيمانها ولا كسبها في إيمانها خيرا لم تكن آمنت من قبل أو لم تكن كسبت خيرا فاقتصر للعلم به وفيه خفاء لا يخفى، ومثله ما تفطن له بعض المحققين وإن تم الكلام به من غير لف ولا اعتبار اقتصار وهو أن معنى الآية أنه لا ينفع الإيمان باعتبار ذاته إذا لم يحصل قبل ولا باعتبار العمل إذا لم يعمل قبل، ونفع الإيمان باعتبار العمل أن يصير سببا لقبول العمل فإن العبارة لا تحتمله ولا يفهم منها من غير اعتبار تقدير في نظم الكلام، وقال مولانا ابن الكمال: إن المراد بالإيمان في الآية المعرفة كما يرشد إليه قراءة لا تنفع بالتاء وبكسب الخير الإذعان ونحن معاشر أهل السنة والجماعة نقول بما هو موجب النص من أن الإيمان النافع مجموع الأمرين ولا حجة فيه للمخالف لأن مبناها حمل الإيمان على المعنى الاصطلاحي المخترع بعد نزول القرآن وتخصيص الخير بما يكون بالجوارح وكل منهما خلاف الأصل والظاهر، ولو سلم فنقول: الإيمان النافع لا بد فيه من أمرين الاعتقاد بالقلب والإقرار باللسان وقد عبر عن الأول بقوله سبحانه: آمَنَتْ وعن الثاني بقوله تعالى: أَوْ كَسَبَتْ فالكسب يكون بالآلات البدنية ومنها اللسان فمنطوق الآية على مذهبنا انتهى. ولا يخفى عليك أن الألفاظ المستعملة في كلام الشارع حقائق شرعية يتبادر منها ما علم بلا قرينة، والإيمان وإن صح أنه لم ينقل عن معناه اللغوي الذي هو تصديق القلب مطلقا وإن استعمل في التصديق الخاص إلا أن المتبادر منه هذا التصديق وحينئذ فكلام هذا العلامة لا يخلو عن نظر، وأجاب القاضي البيضاوي بيض الله تعالى غرة أحواله بأن لمن اعتبر الإيمان المجرد عن العمل وقال بأنه ينفع صاحبه حيث يخلصه عن الخلود في النار تخصيص هذا الحكم بذلك أي إن هذا الحكم- أعني عدم نفع الإيمان المجرد صاحبه- مخصوص بذلك اليوم بمعنى أنه لا ينفعه فيه ولا يلزم منه أن لا ينفعه في الآخرة في شيء من الأوقات، وليس المراد أن المحكوم عليه بعدم النفع هو ما حدث في ذلك اليوم من الإيمان والعمل، ولا يلزم من عدم نفع ما حدث فيه عدم نفع الإيمان السابق عليه وإن كان مجردا عن العمل كما قيل لأن هذا ليس من تخصيص الحكم في شيء بل هو تخصيص للمحكوم عليه قد يرجع حاصله إلى اشتمال الآية على اللف التقديري كما أشرنا إليه. ويرد عليه أنه يلزم منه تخصيص الحكم بعدم نفع الإيمان الحادث في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 308 ذلك اليوم به أيضا ولا قائل به إذ هو لا ينفع صاحبه في شيء من الأوقات بالاتفاق. ويمكن دفعه بأن التخصيص في حكم عدم النفع إنما يلاحظ بالنظر إلى الإيمان المجرد وباعتباره فقط على أن يكون معنى الآية يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع الإيمان الغير السابق إليه صاحبه فيه ولا الإيمان الغير المكتسب فيه الخير وإن نفع هو بالآخرة إلا أن في هذا تخصيصا في الحكم والمحكوم به فتأمل، وبأن له أيضا صرف قوله سبحانه: كَسَبَتْ عن أن يكون معطوفا على آمَنَتْ إلى عطفه إلى لَمْ تَكُنْ لكن بعد جعل أو بمعنى الواو وحمل الإيمان في لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها على الإيمان الحادث في ذلك اليوم وإذا لم ينفع ذلك مع كسب الخير فيه يفهم منه عدم نفعه بدونه بالطريق الأولى وأنت تعلم أن مثل هذا الاحتمال يضر بالاستدلال ونحن بصدد الطعن باستدلالهم فلا يضرنا أن فيه نوع بعد، ومن عجيب ما وقفت عليه لبعض فضلاء الروم في الجواب أَنْ أو بمعنى إلا وبعدها مضارع مقدر مثلها في قول الحريري في المقامة التاسعة: فو الله ما تمضمضت مقلتي بنومها ولا تمخضت ليلتي عن يومها أو ألفيت أبا زيد السروجي- والأصل أو يكون كسبت أي إلا أن يكون، والمراد من هذا الاستثناء المبالغة في نفي النفي بتعليقه بالمحال كما في قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [النساء: 22] . وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [النساء: 23] في رأي. وقول الشاعر: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب وحاصل المعنى فيما نحن فيه إذا جاء ذلك إليهم لا ينفع الإيمان نفسا لم تكن آمنت من قبل ذلك اليوم إلا أن تكون تلك النفس التي لم تكن آمنت من قبل كسبت في الإيمان خيرا قبل ذلك اليوم وكسب الخير في الإيمان قبل ذلك اليوم للنفس التي لم تكن آمنت قبل ممتنع فالنفع المطلوب أولى بأن يكون ممتنعا، وقد أجيب عن الاستدلال بوجوه أخر، وحاصل جميع ذلك أن الآية لما فيها من الاحتمالات لا تكون معارضة للنصوص القطعية المتون القوية التي لا يشوبها مثل ذلك الصادحة بكفاية الإيمان المجرد عن العمل في الإنجاء من العذاب الخالد ولو بعد اللتيّا والتي، وبعد ذلك كله يرد على المعتزلة أن الخير نكرة في سياق النفي فيعم ويلزم أن يكون نفع الإيمان بمجرد الخير ولو واحدا وليس ذلك مذهبهم فإن جميع الأعمال الصالحة داخلة في الخير عندهم. قُلِ لهم بعد بيان حقيقة الحال على وجه التهديد انْتَظِرُوا ما تنتظرونه من إتيان أحد هذه الأمور إِنَّا مُنْتَظِرُونَ لذلك وحينئذ نفوز وتهلكون، وقيل: في هذا تأييد لكون المراد بما ينتظرونه إتيان ملائكة العذاب أو إتيان أمره تعالى به وعدة ضمنية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين بمعاينتهم بما يحيق بالكفرة من العقاب، ولعل ذلك هو الذي شاهدوه يوم بدر. إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ استئناف لسان أحوال أهل الكتابين إثر بيان حال المشركين بناء على ما روي عن ابن عباس وقتادة أن الآية نزلت في اليهود والنصارى أي بددوا دينهم وبعضوه فتمسك بكل بعض منه فرقة منهم. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه، وحمزة، والكسائي «فارقوا» بالألف أي باينوا فإن ترك بعضه وإن كان بأخذ بعض آخر منه ترك الكل أو مفارقة له وَكانُوا شِيَعاً أي فرقا تشيع كل فرقة إماما وتتبعه أو تقويه وتظهر أمره. أخرج أبو داود. والترمذي وصححه. وابن ماجة. وابن حبان وصححه الحاكم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلهم في الهاوية إلا واحدة وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة كلهم في الهاوية إلا واحدة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في الهاوية إلا واحدة» واستثناء الواحدة من فرق كل من أهل الكتابين إنما هو بالنظر إلى العصر الماضي قبل النسخ وأما بعده فالكل في الهاوية وإن اختلفت أسباب دخولهم. ومن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 309 غريب ما وقع أن بعض متعصبي الشيعة الإمامية من أهل زماننا واسمه حمد روى بدل إلا واحدة في هذا الخبر إلا فرقة وقال: إن فيه إشارة إلى نجاة الشيعة فإن عدد لفظ فرقة بالجمل وعدد لفظ شيعة سواء فكأنه قال عليه الصلاة والسلام: إلا شيعة، والمشهور بهذا العنوان هم الشيعة الإمامية فقلت له بعد عدة تزييفات لكلامه: يلزم هذا النوع من الإشارة أن تكون كلبا لأن عدد كلب وعدد حمد سواء فألقم الكلب حجرا. لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ أي من السؤال عنهم والبحث عن تفرقهم أو من عقابهم أو أنت بريء منهم، وقيل: يحتمل أن يكون هذا وعدا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالعصمة عنهم أي لست منهم في شيء من الضرر، وعن السدي أنه نهى عن التعرض لقتالهم ثم نسخ بما في سورة براءة، ومِنْهُمْ في موضع الحال لأنه صفة نكرة قدمت عليها إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ تعليل للنفي المذكور أي هو يتولى وحده أمر أولاهم وآخرتهم ويدبره حسبما تقتضيه الحكمة، وقيل: المفرقون أهل البدع من هذه الأمة، فقد أخرج الحكيم الترمذي، وابن جرير، والطبراني، والشيرازي في الألقاب، وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا إلخ «هم أهل البدع والأهواء من هذه الأمة» . وأخرج الترمذي، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والطبراني، وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الشعب وغيرهم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لعائشة رضي الله تعالى عنها: «يا عائشة إن الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعا هم أصحاب البدع وأصحاب الأهواء وأصحاب الضلالة من هذه الأمة ليس لهم توبة يا عائشة إن لكل صاحب ذنب توبة غير أصحاب البدع وأصحاب الأهواء فإنهم ليس لهم توبة وأنا منهم بريء وهم مني برآء» فيكون الكلام استئنافا لبيان حال المبتدعين إثر بيان حال المشركين إشارة إلى أنهم ليسوا منهم ببعيد، ولعل جملة إِنَّما أَمْرُهُمْ إلخ على هذا ليست للتعليل وإنما هي للوعيد على ما فعلوا أي إن رجوعهم إليه سبحانه ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ يوم القيامة بِما كانُوا يَفْعَلُونَ في الدنيا على الاستمرار بالعقاب عليه مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ استئناف مبين لمقادير أجزية العاملين وقد صدر ببيان أجزية المحسنين المدلول عليهم بذكر أضدادهم أي من جاء من المؤمنين بالخصلة الواحدة من خصال الطاعة أي خصلة كانت، وقيل: التوحيد ونسب إلى الحسن وليس بالحسن فَلَهُ عَشْرُ حسنات أَمْثالِها فضلا من الله تعالى. وقرأ يعقوب «عشر» بالتنوين «أمثالها» بالرفع على الوصف، وهذا أقل ما وعد من الأضعاف، وقد جاء الوعد بسبعين وسبعمائة وبغير حساب، ولذلك قيل: المراد بالعشر الكثرة لا الحصر في العدد الخاص. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة. وأبو الشيخ عن ابن عباس، وعبد بن حميد، وغيره عن ابن عمر أن الآية نزلت في الأعراب خاصة، وأما المهاجرون فالحسنة مضاعفة لهم بسبعمائة ضعف، والظاهر العموم. وتجريد عَشْرُ من التاء لكون المعدود مؤنثا كما أشرنا إليه لكنه حذف وأقيمت صفته مقامه، وقيل: إنه المذكور إلا أنه اكتسب التأنيث من المضاف إليه وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ كائنا من كان من العالمين فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها بحكم الوعد واحدة بواحدة، وإيجاب كفر ساعة عقاب الأبد لأن الكافر على عزم أنه لو عاش أبدا لبقي على ذلك الاعتقاد أبدا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ بنقص الثواب وزيادة العقاب. فإن ذلك منه تعالى لا يعد ظلما إذ له سبحانه أن يعذب المطيع ويثيب العاصي، وقيل: المعنى لا ينقصون في الحسنات من عشر أمثالها وفي السيئة من مثلها في مقام الجزاء. ومن المعتزلة من استدل بهذه الآية على إثبات الحسن والقبح العقليين، واختلف في تقريره فقيل: إنهم لما رأوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 310 أن أحد أدلة الأشاعرة على النفي أن العبد غير مستبد في إيجاد فعله كما بين في محله فلا يحكم العقل بالاستقلال على ترتب الثواب والعقاب عليه قالوا: إن قوله سبحانه: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ إلخ صريح في أن العبد مستبد مختار في فعله الحسن والقبيح، وإذا ثبت ذلك يثبت الحسن والقبح العقليان. وأجيب عنه بأن الآية لا تدل على استبداد العبد غاية ما فيها أنها تدل على المباشرة وهم لا ينكرونها، وقيل: إن الآية دلت على أن لله تعالى فعلا حسنا ولو كان حسن الأفعال لكونها مأمورة أو مأذونا فيها لما كان فعل الله تعالى حسنا إذ هو غير مأمور ولا مأذون، وأيضا لو تقوف معرفة الحسن والقبح على ورود الشرع لما كانت أفعاله تعالى حسنة قبل الورود وهو خروج عن الدين. وأجيب أما عن الأول فبأنا لا ندعي أنه لا حسن إلا ما أمر به أو أذن في فعله حتى يقال: يلزم أن تكون أفعال الله تعالى غير حسنة إذ يستحيل أن يكون مأمورا بها أو مأذونا فيها بل ما أمر الشارع بفعله أو أذن فيه فهو حسن ولا ينعكس كنفسه بل قد يكون الفعل حسنا باعتبار موافقة الغرض أو باعتبار أنه مأمور بالثناء على فاعله، وبهذا الاعتبار كان فعل الله تعالى حسنا سواء وافق الغرض أو خالف، وأما عن الثاني فبأن الحسن والقبح وإن فسرا بورود الشرع بالمنع والإطلاق لكن لا نسلم أنه لا حسن ولا قبح إلا بالشرع حتى يلزمنا ذلك بل الحسن والقبح أعم مما ذكر كما عرف في موضعه، ولا يلزم من تحقق معنى الحسن والقبح بغير ورود الشرع بالمنع والإطلاق أن يكون ذاتيا للأفعال، ولا يخفى على المطلع أن قولهم: لو كان حسن الأفعال إلخ. وقولهم: لو توقف معرفة الحسن والقبح إلخ شبهتان مستقلتان من شبه عشر إلزامية ذكرها الآمدي في إبكار الأفكار وأن كلا من التقريرين السابقين لا يخلو عن بعد نظر فتدبر. قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي أمر له صلّى الله عليه وسلّم بأن يبين ما هو عليه من الدين الحق الذي يدعي المفرقون أنهم عليه وقد فارقوه بالكلية، وتصدير الجملة بحرف التحقيق لإظهار كمال العناية بمضمونها، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لما مر غير مرة أي قل يا محمد لهؤلاء المفرقين أو للناس كافة: أرشدني ربي بالوحي وبما نصب في الآفاق والأنفس من الآيات إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل إلى الحق. وقوله سبحانه: دِيناً بدل من محل صِراطٍ إذ المعنى فهداني صراطا نظير قوله تعالى: «وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً» أو مفعول فعل مضمر دل عليه المذكور أي هداني أو أعطاني أو عرفني دينا، وجوز أن يكون مفعولا ثانيا للمذكور. وقوله سبحانه: قِيَماً مصدر كالصغر والكبر نعت به مبالغة. وجوز أن يكون التقدير ذا قيم، والقياس قوما كعوض وحول فاعل تبعا لإعلال فعله أعني قام كالقيام. وقرأ كثير «قيما» وهو فيعل من قام أيضا كسيد من ساد- وهو على ما قيل- أبلغ من المستقيم باعتبار الهيئة والمستقيم أبلغ منه باعتبار مجموع المادة والهيئة، وقيل: أبلغية المستقيم لأن السين للطلب فتفيد طلب القيام واقتضاءه، ولا فرق بين القيم والمستقيم في أصل المعنى عند الكثير، وفسروا القيم بالثابت المقوم لأمر المعاش والمعاد، وجعلوا المستقيم من استقام الأمر بمعنى ثبت وإلا لا يتأتى ما ذكر، وقيل: المستقيم مقابل المعوج والقيم الثابت الذي لا ينسخ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ نصب بتقدير أعني أو عطف بيان لدينا بناء على جواز تخالف البيان والمبين تعريفا وتنكيرا حَنِيفاً أي مائلا عن الأديان الباطلة أو مخلصا لله تعالى في العبادة وهو حال من إبراهيم، وقد أطبقوا على جواز مجيء الحال من المضاف إليه إذا كان المضاف جزءا منه أو بمنزلة الجزء حيث يصح قيامه مقامه. والعامل في هذه الحال هو العامل في المضاف. وقيل: معنى الإضافة لما فيه من معنى الفعل المشعر به حرف الجر، وقد تقوى هذا المعنى هنا بما بين المتضايفين من الجزئية أو شبهها. وجوز أن يكون مفعولا لفعل مقدر أي أعني حنيفا وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اعتراض مقرر لنزاهته عليه الصلاة والسلام عما عليه المبطلون، وقيل: عطف على ما تقدم. وفيه رد على الذين يدعون أنهم على ملته عليه الصلاة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 311 والسلام من أهل مكة القائلين: الملائكة بنات الله واليهود القائلين: عزير ابن الله والنصارى القائلين: عيسى ابن الله قُلْ إِنَّ صَلاتِي أي جنسها لتشمل المفروضة وغيرها. وأعيد الأمر لمزيد الاعتناء، وقيل: لأن المأمور به متعلق بفروع الشرائع وما سبق بأصولها وَنُسُكِي أي عبادتي كلها كما قال الزجاج، والجبائي، وهو من عطف العام على الخاص. وعن سعيد بن جبير، ومجاهد، والسدي أن المراد به الذبيحة للحج والعمرة. وعن قتادة الأضحية، وجمع بينه وبين الصلاة كما في قوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر: 2] على المشهور. وقيل: المراد به الحج أي إن صلاتي وحجي وَمَحْيايَ وَمَماتِي أي ما يقارن حياتي وموتي من الإيمان والعمل الصالح. وقيل: يحتمل أن يكون المراد بالمحيا والممات ظاهر والأول هو المناسب لقوله تعالى: لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ إذ المراد به الخلوص بحسب الظاهر. وقيل: المراد به نظرا لهذا الاحتمال أن ذلك له تعالى ملكا وقدرة لا شَرِيكَ لَهُ أي في عبادتي أو فيها وفي الإحياء والإماتة. وقرأ نافع «محياي» بإسكان الياء إجراء للوصل مجرى الوقف، وفي رواية أنه كسر الياء، وعلى الرواية الأولى إنما جاز التقاء الساكنين لنية الوقف وفيه يجوز ذلك فطعن بعضهم في ذلك بأن فيه الجمع بين الساكنين وهو لا يجوز ليس في محله، وقد روى هذه القراءة عن نافع جماعة، وما قيل: إنه رجع عنها وأنه لا يحل لأحد نقلها عنه ليس بشيء. وَبِذلِكَ أي القول أو الإخلاص أُمِرْتُ لا بشيء غيره وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ أو المنقادين إلى امتثال ما أمر الله تعالى به، وقيل: المستسلمين لقضاء الله تعالى وقدره، والمراد مسلمي أمته كما قيل، وهذا شأن كل نبي بالنسبة إلى أمته، وقيل: هذا إشارة إلى قوله عليه الصلاة والسلام «أول ما خلق الله تعالى نوري» قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا إنكار لبغية غيره تعالى ربا لا لبغية الرب ولهذا قدم المفعول، وليس التقديم للاختصاص إذ المقصود أغير الله أطلب ربا وأجعله شريكا له، وعلى تقدير الاختصاص لا يكون إشراكا للغير بل توحيد، وقال بعض المحققين: لا يبعد أن يقال التقديم للاختصاص. وذكر في رد دعوته إلى الغير رد الاختصاص تنبيها على أن إشراك الغير بغية غير الله تعالى إذ لا بغية له سبحانه إلا بتوحيده عز وجل، وما في النظم الكريم أبلغ من أغير الله أعبد ونحوه كما لا يخفى وَهُوَ سبحانه رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ جملة حالية مؤكدة للإنكار أي والحال أن كل ما سواه مربوب فكيف يتصور أن يكون شريكا له وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها يروى أنهم كانوا يقولون للمسلمين: «اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم» فرد عليهم بما ذكر أي إن ما كسبته كل نفس من الخطايا محمول عليها لا على غيرها حتى يصح قولكم، وعلى هذا يكون قوله سبحانه: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ أي نفس آثمة وِزْرَ أُخْرى تأكيدا لما قبله، وقيل: إن قولهم ذلك يحتمل معنيين: الأول، اتبعوا سبيلنا وليكتب علينا ما عملتم من الخطايا لا عليكم. والثاني اتبعوا لنحمل يوم القيامة ما كتب عليكم من الخطايا. وقوله تعالى: وَلا تَكْسِبُ إلخ رد له بالمعنى الأول، وقوله سبحانه: وَلا تَزِرُ إلخ رد له بالمعنى الثاني، وقيل: إن جواب قولهم هو الثاني، وأن الأول من جملة الجواب عن دعواهم إلى عبادة آلهتهم يعني لو أجبتكم إلى ما دعوتموني إليه لم أكن معذورا بأنكم سبقتموني إليه وقد فعلته متابعة لكم ومطاوعة فلا يفيدني ذلك شيئا ولا ينجيني من الله تعالى لأن كسب كل أحد وعمله عائد عليه، ورجحه بعضهم على الأول بأن التأسيس خير من التأكيد ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ تلوين للخطاب وتوجيه له إلى الكل لتأكيد الوعد وتشديد الوعيد أي إلى مالك أمركم رجوعكم يوم القيامة فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ببيان الرشد من الغي وتمييز الحي من اللي. وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ أي يخلف بعضكم بعضا كلما مضى قرن جاء قرن حتى تقوم الساعة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 312 ولا يكون ذلك إلا من عالم مدبر، وإلى هذا ذهب الحسن أو جعلكم خلفاء الله تعالى في أرضه تتصرفون فيها- كما قيل- والخطاب عليهما عام، وقيل: الخطاب لهذه الأمة، وروي ذلك عن السدي أي جعلكم خلفاء الأمم السالفة وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ في الفضل والغنى كما روي عن مقاتل دَرَجاتٍ كثيرة متفاوتة لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ أي ليعاملكم معاملة من يبتليكم لينظر ماذا تعملون مما يرضيه وما لا يرضيه إِنَّ رَبَّكَ تجريد الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع إضافة اسم الرب إليه عليه الصلاة والسلام لإبراز مزيد اللطف به صلّى الله عليه وسلّم سَرِيعُ الْعِقابِ أي عقابه سبحانه الأخروي سريع الإتيان لمن لم يراع حقوق ما آتاه لأن كل آت قريب أو سريع التمام عند إرادته لتعاليه سبحانه عن استعمال المبادئ والآلات. وجوز أن يراد بالعقاب عقاب الدنيا كالذي يعقب التقصير من البعد عن الفطرة وقساوة القلب وغشاوة الأبصار وصم الأسماع ونحو ذلك وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لمن راعى حقوق ما آتاه الله تعالى كما ينبغي. وفي جعل خبر هذه الجملة هذين الوصفين الواردين على بناء المبالغة مع التأكيد باللام مع جعل خبر الأولى صفة جارية على غير من هي له ما لا يخفى من التنبيه على أنه سبحانه غفور رحيم بالذات لا تتوقف مغفرته ورحمته على شيء كما يشير إليه قوله سبحانه في الحديث القدسي «سبقت رحمتي غضبي» مبالغ في ذلك فاعل للعقوبة بالعرض وبعد صدور ذنب من العبد يستحق به ذلك، وما ألطف افتتاح هذه السورة بالحمد وختمها بالمغفرة والرحمة نسأل الله تعالى أن يجعل لنا الحظ الأوفر منهما إنه ولي الإنعام وله الحمد في كل ابتداء وختام. ومن باب الإشارة في الآيات: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بالله تعالى وأثبتوا وجودا غير وجوده لَوْ شاءَ اللَّهُ تعالى ما أَشْرَكْنا به سبحانه شيئا وَلا أشرك آباؤُنا من قبلنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ قالوا ذلك تكذيبا للرسل عليهم السلام كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وقالوا مثل قولهم حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا الذي حل بهم لتكذيبهم وهو الحجاب قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فتخرجوه لنا بالبيان إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ لأنكم محجوبون في مقام النفس قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ أي إن كان الأمر كما قلتم فليس لكم حجة بل لله تعالى الحجة عليكم لأنه تعالى لا يشاء إلا ما يعلمه في الأزل ولا يعلم الشيء إلا على ما هو عليه في نفسه فلو لم تكونوا في أنفسكم مشركين سيئي الاستعداد لما شاء الله تعالى ذلك منكم فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ لكنه لم يشأ إذ ليس في استعدادكم الأزلي ذلك. وتحتمل الآية وجوها أخر لعلها غير خفية قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً فإن إثبات موجود غير الله تعالى ظلم عظيم وَبِالْوالِدَيْنِ أي الروح والقلب أحسنوا إِحْساناً برعاية حقوقهما وَلا تَقْتُلُوا أي تهلكوا أَوْلادَكُمْ قواكم باستعمالها في غير ما هي له مِنْ إِمْلاقٍ أي من أجل فقركم من الفيض الأقدس نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ بأن نفيض عليكم وعليهم ما تتغذون به من المعارف بمقدار إذا توجهتم إلينا وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ الأعمال الشنيعة ما ظَهَرَ مِنْها كأفعال الجوارح وَما بَطَنَ كأفعال القلب وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ تعالى قتلها إِلَّا بِالْحَقِّ أي إلا بسببه بأن تريدوا توجهها إليه أو إلا قتلا متلبسا به وهو قتلها إذا مالت إلى السوي وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ أي ما أعد ليتيم القلب المنقطع عن علائق الدنيا والآخرة من المعارف التي هي وراء طور العقل إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وهي التصديق بذلك إجمالا وعدم إنكاره حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ فيقوى على قبول أنواع التجليات، وحينئذ يصح لكم أن تقربوا ما أعد الله تعالى له من هاتيك المعارف لقوة قلوبكم وتقدس أرواحكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 313 ومن الناس من جعل اليتيم إشارة إلى حضرة الرسالة عليه الصلاة والسلام وهو كما ترى وَأَوْفُوا الْكَيْلَ أي كيل الشرع بمراعاة الحقوق الظاهرة وَالْمِيزانَ أي ميزان الحقيقة بمراعاة الحقوق الباطنة بِالْقِسْطِ بالعدل وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا أي لا تقولوا إلا الحق وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا وهو التوحيد وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً غير مائل إلى اليمين والشمال فَاتَّبِعُوهُ لتصلوا إلى الله تعالى ولا تتبعوا السبل التي وصفها أهل الاحتجاب «فتفرق بكم عن سبيله» فتضلوا ولا تصلوا إليه سبحانه هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ لتوفي أرواحهم أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ بالتجلي الصوري يوم القيامة كما صح في ذلك الحديث أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ وهو الكشف عن ساق يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ وهو الكشف المذكور لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها حينئذ لانقطاع التكليف. إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ أي جعلوا دينهم أهواء متفرقة كالذين غلبت عليهم صفات النفس وَكانُوا شِيَعاً فرقا مختلفة بحسب غلبة تلك الأهواء لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إذ هم أهل التفرقة والاحتجاب بالكثرة فلا تجتمع هممهم ولا تتحد مقاصدهم إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ في جزاء تفرقهم ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ عند ظهور هيئات أهوائهم المختلفة المتفرقة بِما كانُوا يَفْعَلُونَ من السيئات واتباع الهوى مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وذلك لأن السيئة من مقام النفس وهي مرتبة الآحاد والحسنة أول مقاماتها مقام القلب وهي مرتبة العشرات وأقل مراتبها عشرة، وقد يضاعف الحسنة بأكثر من ذلك إذ كانت من مقام الروح أو مقام السر وهذا هو السر في تفاوت جزاء الحسنات التي تشير إليه النصوص قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ هو طريق التوحيد الذاتي دِيناً قِيَماً ثابتا لا تنسخه الملل والنحل مِلَّةَ إِبْراهِيمَ التي أعرض بها عن السوي حَنِيفاً مائلا عن كل دين فيه شرك قُلْ إِنَّ صَلاتِي حضوري وشهودي بالروح وَنُسُكِي تقربي بالقلب وَمَحْيايَ بالحق وَمَماتِي بالنفس لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا نصيب لأحد مني في ذلك لا شَرِيكَ لَهُ في شيء أصلا إذ لا وجود سواه وَبِذلِكَ الإخلاص وعدم رؤية الغير أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ المنقادين للفناء فيه سبحانه قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا فاطلب مستحيلا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ أي وما سواه باعتبار تفاصيل صفاته سبحانه مربوب وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلا عليها إذ كسب النفس شرك في أفعاله تعالى وكل من أشرك فوباله عليه وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى لعدم تجاوز الملائكة إلى غير صاحبها وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ بأن جعلكم له مظهر أسمائه ورفع بعضكم فوق بعض درجات في تلك المظهرية لأنها حسب الاستعداد وهو متفاوت لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ ويظهر علمه بمن يقوم برعاية ما آتاه وبمن لا يقوم إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ لمن لم يراع وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لمن يراعي ذلك، نسأل الله تعالى أن يوفقنا لمراضيه ويجعل مستقبل حالنا خيرا من ماضيه. (1)   (1) في اصل المؤلف رحمه الله تعالى من الجزء الثاني من تقسيمه دعاء لسلطان وقته وزمانه فحذفناه لعدم الحاجة اليه الآن واسأل الله تعالى ان يقوي شوكة المسلمين وان يوفقهم للعمل بالشرع ويهديهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 314 سورة الأعراف أخرج أبو الشيخ، وابن حبان، عن قتادة قال: هي مكية إلا آية وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ [الأعراف: 163] ، وقال غيره: إن هذا إلى وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ [الأعراف: 172] مدني: وأخرج غير واحد عن ابن عباس. وابن الزبير أنها مكية ولم يستثنيا شيئا، وهي مائتان وخمس آيات في البصري والشامي وست في المدني والكوفي- فالمص. وبدأكم تعودون- كوفي ومُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [الأعراف: 29] بصري شامي وضِعْفاً مِنَ النَّارِ [الأعراف: 38] والْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ [الأعراف: 137] مدني وكلها محكم، وقيل: إلا موضعين، الأول وَأُمْلِي لَهُمْ [الأعراف: 183] فإنه نسخ بآية السيف والثاني خُذِ الْعَفْوَ [الأعراف: 199] فإنه نسخ بها أيضا عند ابن زيد، وادعى أيضا أن وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف: 199] كذلك وفيما ذكر نظر، وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى. ومناسبتها لما قبلها على ما قاله الجلال السيوطي عليه الرحمة أن سورة الأنعام لما كانت لبيان الخلق وفيها هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ [الأنعام: 2] وقال سبحانه في بيان القرون كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ [الأنعام: 6، ص: 3] وأشير إلى ذكر المرسلين وتعداد الكثير منهم وكان ما ذكر على وجه الإجمال جيء بهذه السورة بعدها مشتملة على شرحه وتفصيله فبسط فيها قصة آدم وفصلت قصص المرسلين وأممهم وكيفية هلاكهم أكمل تفصيل ويصلح هذا أن يكون تفصيلا لقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ [الأنعام: 165] ولهذا صدر السورة بخلق آدم الذي جعله في الأرض خليفة، وقال سبحانه في قصة عاد: جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الأعراف: 69] وفي قصة ثمود جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ [الأعراف: 74] وأيضا فقد قال سبحانه فيما تقدم كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام: 12] وهو كلام موجز وبسطه سبحانه هنا بقوله تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ [الأعراف: 156] إلخ، وأما وجه ارتباط أول هذه السورة بآخر الأولى فهو أنه قد تقدم وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام: 153] وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام: 155] وافتتح هذه بالأمر باتباع الكتاب، وأيضا لما تقدم ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [الأنعام: 108] قال جل شأنه في مفتتح هذه: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ [الأعراف: 6] إلخ وذلك من شرح التنبئة المذكورة. وأيضا لما قال سبحانه مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ [الأنعام: 160] الآية وذلك لا يظهر إلا في الميزان افتتح هذه بذكر الوزن فقال عز من قائل: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 315 [الأعراف: 8] ثم من ثقلت موازينه وهو من زادت حسناته على سيئاته ثم من خفت وهو على العكس ثم ذكر سبحانه بعد أصحاب الأعراف وهم في أحد الأقوال من استوت حسناتهم وسيئاته. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. المص سبق الكلام في مثله وبيان ما فيه فلا حاجة إلى الإعادة خلا أنه قيل هنا: إن معنى المصور وروي ذلك عن السدي، وأخرج البيهقي وغيره عن ابن عباس أن المعنى أنا الله أعلم وأفصل واختاره الزجاج وروي عن ابن جبير، وفي رواية أخرى عن الحبر أنه وكذا نظائره قسم أقسم الله تعالى به وهو من أسمائه سبحانه. وعن الضحاك أن معناه أنا الله الصادق، وعن محمد بن كعب القرظي أن الألف واللام من الله والميم من الرحمن والصاد من الصمد، وقيل: المراد به أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح: 1] . وذكر بعضهم أنه ما من سورة افتتحت- بالم- إلا وهي مشتملة على ثلاثة أمور: بدء الخلق. والنهاية التي هي المعاد والوسط الذي هو المعاش وإليها الإشارة بالاشتمال على المخارج الثلاثة الحلق واللسان والشفتين. وزيد في هذه الصورة على ذلك الصاد لما فيها مع ما ذكر من شرح القصص وهو كما ترى والله تعالى أعلم بمراده. وقوله سبحانه: كِتابٌ على بعض الاحتمالات خبر لمبتدأ محذوف أي هو أو ذلك كتاب، وقوله سبحانه: أُنْزِلَ إِلَيْكَ أي من عنده تعالى صفة له مشرّفة لقدره وقدر من أنزل إليه صلّى الله عليه وسلّم. وبني الفعل للمفعول جريا على سنن الكبرياء وإيذانا بالاستغناء عن التصريح بالفاعل لغاية ظهور تعينه وهو السر في ترك ذكر مبدأ الإنزال، والتوصيف بالماضي إن كان الكتاب عبارة كالقرآن عن القدر المشترك بين الكل والجزء ظاهر. وإن كان المجموع فلتحققه جعل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 316 كالماضي. واختار الزمخشري ومن وافقه أن المراد بالكتاب هنا السورة وفيه من المبالغة ما لا يخفى إن قلنا: إنه لم يطلق على البعض وإذا قلنا بإطلاقه على ذلك كما في قوله: ثبت هذا الحكم بالكتاب فالأمر واضح. ومن الناس من جوز جعل كِتابٌ مبتدأ والجملة بعده خبره على معنى كتاب أي كتاب أنزل إليك. ولا يخفى أن الأول أولى لأن هدا خلاف الأصل. وحذف المبتدأ أكثر من أن يحصى فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ أي شك كما قال ابن عباس وغيره. وأصله الضيق واستعماله في ذلك مجاز- كما في الأساس- علاقته اللزوم فإن الشاك يعتريه ضيق الصدر كما أن المتيقن يعتريه انشراحه وانفساحه. والقرينة المانعة هو امتناع حقيقة الحرج والضيق من الكتاب وإن جوزتها فهو كناية. وعلى التقديرين هو قد صار حقيقة عرفية في ذلك كما قاله بعض المحققين. وجوز أن يكون باقيا على حقيقته لكن في الكلام مضاف مقدر كخوف عدم القبول والتكذيب فإنه صلّى الله عليه وسلّم كان يخاف قومه وتكذيبهم وإعراضهم عنه وأذاهم له. ويشهد لهذا التأويل قوله تعالى: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ [هود: 12] الآية. وللأول قوله تعالى: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [البقرة: 147، الأنعام: 114، يونس: 94] وقد يقال: إنه كناية عن الخوف والخوف كما يقع على المكروه يقع على سببه. وتوجيه النهي إلى الحرج بمعنى الشرك مع أن المراد نهيه عليه الصلاة والسلام عن ذلك قيل: إما للمبالغة في تنزيه ساحة الرسول صلّى الله عليه وسلّم عن الشك فإن النهي عن الشيء مما يوهم إمكان صدور المنهي عنه عن المنهي وإما للمبالغة في النهي فإن وقوع الشك في صدره عليه الصلاة والسلام سبب لاتصافه وحاشاه به والنهي عن السبب نهي عن المسبب بالطريق البرهاني ونفي له بالمرة كما في قوله سبحانه: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ [المائدة: 2، 8] وليس هذا من قبيل- لا أرينك هاهنا- فإن النهي هناك وارد على المسبب مرادا به النهي عن السبب فيكون المآل نهيه عليه الصلاة والسلام عن تعاطي ما يورث الحرج فتأمل انتهى. والذي ذهب إليه بعض المحققين أن المراد نهي المخاطب عن التعرض للحرج بطريق الكناية وأنه من قبيل- لا أرينك هاهنا- في ذلك لما أن عدم كون الحرج في صدره من لوازم عدم كونه متعرضا للحرج كما أن عدم الرؤية من لوازم عدم الكون هاهنا فالنافي لكونه من قبيل ذلك إن أراد الفرق بينهما باعتبار أن المراد في أحدهما النهي عن السبب والمراد المسبب وفي الآخر بالعكس فلا ضير فيه. ولهذا عبر البعض باللزوم دون السببية. وإن أراد أنه ليس من الكناية أصلا فباطل. نعم جوز أن يكون من المجاز. والمشهور أن الداعي لهذا التأويل أن الظاهر يستدعي نهي الحرج عن الكون في الصدر والحرج مما لا ينهى وله وجه وجيه فليفهم. والجملة على تقدير كون الحرج حقيقة- كما يفهمه كلام الكشاف- كناية عن عدم المبالاة بالأعداء. وأيّا ما كان فالتنوين في حَرَجٌ للتحقير، ومن متعلقة بما عندها أو بمحذوف وقع صفة له أي حرج ما كائن منه. والفاء تحتمل العطف إما على مقدر أي بلغه فلا يكن في صدرك إلخ وإما على ما قبله بتأويل الخبر بالإنشاء أو عكسه أي تحقق إنزاله من الله تعالى إليك أولا ينبغي لك الحرج وتحتمل الجواب كأنه قيل: إذا أنزل إليك فلا يكن إلخ. وقال الفراء إنها اعتراضية، وقال بعض المشايخ هي لترتيب النهي أو الانتهاء على مضمون الجملة إن كان المراد لا يكن في صدرك شك ما في حقيته فإنه مما يوجب انتفاء الشك فيما ذكر بالكلية وحصول اليقين به قطعا، ولترتيب ما ذكر على الأخبار بذلك لا على نفسه إن كان المراد لا يكن فيه شك في كونه كتابا منزلا إليك. وللترتيب على مضمون الجملة أو على الإخبار به إذا كان المراد لا يكن فيك ضيق صدر من تبليغه مخافة أن يكذبوك أو أن تقصر في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 317 القيام بحقه فإن كلا منهما موجب للإقدام على التبليغ وزوال الخوف قطعا وإن كان إيجاب الثاني بواسطة الأول. ولا يخفى ما في أوسط هذه الشقوق من النظر فتدبر. لِتُنْذِرَ بِهِ أي بالكتاب المنزل. والفعل قيل إما منزل منزلة اللازم أو أنه حذف مفعوله لإفادة العموم، وقد يقال: إنه حذف المفعول لدلالة ما سيأتي عليه. واللام متعلقة بأنزل عند الفراء وجملة النهي معترضة بين العلة ومعلولها وهو المعنى بما نقل عنه أنه على التقديم والتأخير قيل: وهذا مما ينبغي التنبيه له فإن المتقدمين يجعلون الاعتراض على التقديم والتأخير لتخلله بين أجزاء كلام واحد وليس مرادهم أن في الكلام قلبا. ووجه التوسيط إما أن الترتيب على نفس الإنزال لا على الإنزال للإنذار وإما رعاية الاهتمام مع ما في ذلك- على ما قيل- من الإشارة إلى كفاية كل من الإنزال والإنذار في نفي الحرج. أما كفاية الثاني فظاهرة لأن المخوف لا ينبغي أن يخاف من يخوفه ليتمكن من الإنذار على ما يجب. وأما كفاية الأول فلأن كون الكتاب البالغ غاية الكمال منزلا عليه- عليه الصلاة والسلام- خاصة من بين سائر إخوانه الأنبياء عليهم السلام يقتضي كونه رحيب الصدر غير مبال بالباطل وأهله، وعن ابن الأنباري أن اللام متعلقة بمتعلق الخبر أي لا يكن الحرج مستقرا في صدرك لأجل الإنذار. وقيل: إنها متعلقة بفعل النهي وهو الكون بناء على جواز تعلق الجار بكان الناقصة لدلالتها على الحدث على الصحيح، وقيل: يجوز أن يتعلق بحرج على معنى أن الحرج للإنذار والضيق له لا ينبغي أن يكون. وقال العلامة الثاني: إنه معمول للطلب أو المطلوب أعني انتفاء الحرج وهذا أظهر لا للمنهي أي الفعل الداخل عليه النهي- كما قيل- لفساد المعنى. وأطلق الزمخشري تعلقه بالنهي، واعترض بأنه لا يتأتى على التفسير الأول للحرج لأن تعليل النهي عن الشك بما ذكر من الإنذار والتذكير مع إيهامه لإمكان صدوره عنه صلّى الله عليه وسلّم مشعر بأن المنهي عنه ليس بمحذور لذاته بل لإفضائه إلى فوات الإنذار والتذكير لا أقل من الإيذان بأن ذلك معظم غائلته ولا ريب في فساده، وأما على التفسير الثاني فإنما يتأتى التعليل بالإنذار لا بتذكير المؤمنين إذ ليس فيه شائبة خوف حتى يجعل غاية لانتفائه وأنت خبير بأن كون المنهي عنه محذورا لذاته ظاهر ظهور نار القرى ليلا على علم فلا يكاد يتوهم نقيضه. والقول بأنه لا أقل من الإيذان بأن ذلك معظم غائلته لا فساد فيه بناء على ما يقتضيه المقام وإن كان بعض غوائله في نفس الأمر أعظم من ذلك وأن الآية ليست نصا في تعليل النهي بالإنذار والتذكير كما سيتضح لك قريبا إن شاء الله تعالى حتى يتأتى الاعتراض نظرا للتفسير الثاني، سلمنا أنها نص لكنا نقول: لم لا يجوز أن يكون ذلك من قبيل قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ [الفتح: 1، 2] الآية وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ نصب بإضمار فعله عطفا على «تنذر» أي وتذكر المؤمنين تذكيرا. ومنع الزمخشري فيما نقل عنه العطف بالنصب على محل لِتُنْذِرَ معللا بأن المفعول له يجب أن يكون فاعله وفاعل المعلل واحد حتى يجوز حذف اللام منه. ويمكن- كما في الكشف- أن يقال: لا منع من أن يكون التذكير فعل المنزل الحق تعالى إلا أنه يفوت التقابل بين الإنذار والتذكير. نعم يحتمل الجر بالعطف على المحل أي للإنذار والتذكير. ويحتمل الرفع على أنه معطوف على «كتاب» أو خبر مبتدأ محذوف أي هو ذكرى، والفرق بين الوجهين- على ما في الكشف- أن الأول معناه أن هذا جامع بين الأمرين كونه كتابا كاملا في شأنه بالغا حد الإعجاز في حسن بيانه وكونه ذكرى للمؤمنين يذكرهم المبدأ والمعاد والثاني يفيد أن هذا المقيد بكونه كتابا من شأنه كيت وكيت هو ذكرى للمؤمنين ويكون من عطف الجملة على الجملة فيفيد استقلاله بكل من الأمرين وهذا أولى لفظا ومعنى وتخصيص التذكير بالمؤمنين لأنهم المنتفعون به أو للإيذان باختصاص الإنذار بالكافرين. وتقديم الإنذار لأنه أهم بحسب المقام اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 318 خطاب لكافة المكلفين، والمراد بالموصول الكتاب المنزل إليه صلّى الله عليه وسلّم كما روي عن قتادة إلا أنه وضع المظهر موضع المضمر وجعل منزلا إليهم لتأكيد وجوب الاتباع وقيل: المراد به ما يعم الكتاب والسنة فليس من وضع المظهر موضع المضمر. وإيثاره لفائدة التعميم وتشميم من أسلوب قول الأنمارية هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها وتتميم لشرح الصدر فإنه لما شجع أمر الجميع باتباع جميع ما يرسمه ليكون ادعى لانشراح صدره عليه الصلاة والسلام ورحب ذراعه. ولا يخفى أن هذا الحمل بعيد. نعم يعم السنة بأقسامها الحكم بطريق الدلالة لا بطريق العبارة، ومن متعلقة بأنزل على أنها لابتداء الغاية مجازا أو بمحذوف وقع حالا من الموصول أو من ضميره في الصلة، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين مزيد لطف بهم وترغيب لهم في الامتثال بما أمروا به وتأكيد لوجوبه إثر تأكيد وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ الضمير المجرور عائد إلى رَبِّكُمْ والجار متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل فعل النهي أي لا تتبعوا متجاوزين ربكم الذي أنزل إليكم ما يهديكم إلى الحق أولياء من الشياطين والكهان بأن تقبلوا منهم ما يلقونه إليكم من الأباطيل ليضلوكم عن الحق بعد إذ جاءكم ويحملوكم على البدع والأهواء الزائغة. ويجوز أن يكون الجار متعلقا بمحذوف وقع حالا من أَوْلِياءَ قدم عليه لكونه نكرة أي أولياء كائنة غيره تعالى، وأن يكون متعلقا بالفعل قبله أي تعدلوا عنه سبحانه إلى غيره. ولما كان اتباع ما أنزله سبحانه جل وعلا اتباعا له عز شأنه عقب الأمر السابق بهذا النهي، وقيل: الضمير لما أنزل على حذف مضاف في أَوْلِياءَ أي لا تتبعوا من دون ما أنزل أباطيل أولياء، وكأنه قيل: ولا تتبعوا من دون دين ربكم دين أولياء، وذلك التقدير لأنه لا يحسن وصف المنزل بكونه دونهم، وجوز كون الضمير للمصدر أي لا تتبعوا أولياء أتباعا من دون اتباعكم ما أنزل إليكم وفيه بعد. وقرأ مجاهد «تبتغوا» بالغين المعجمة من الابتغاء قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ أي تذكرا قليلا أو زمانا قليلا تذكرون لا كثيرا حيث لا تتأثرون بذلك ولا تعملون بموجبه وتتركون الحق وتتبعون غيره. فقليلا نعت مصدر أو زمان محذوف أقيم مقامه ونصبه بالفعل بعده وقدم عليه للقصر، و «ما» مزيد لتأكيد القلة لأنها تفيدها في نحو أكلت أكلا ما فهي هاهنا قلة على قلة، والظاهر من القلة معناها، وجوز أن يراد بها العدم كما في قوله تعالى: فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ [البقرة: 88] وأجيز أن يكون قَلِيلًا نعت مصدر لتتبعوا أي اتباعا قليلا، قيل: ويضعفه أنه لا معنى حينئذ لقوله سبحانه: تَذَكَّرُونَ وأما النهي عن الاتباع القليل فلا يضر لأنه يفهم منه غيره بالطريق البرهاني، وأن يكون حالا من فاعل لا تَتَّبِعُوا وما مصدريه أو موصولة فاعل له كما قيل ذلك في قوله تعالى: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ [الذاريات: 17] والنهي متوجه إلى القيد والمقيد جميعا واعترض بأنه لا طائل تحت معناه وأن وجه بما وجه، وأن يكون ما مصدرية أو موصولة مبتدأ، وقَلِيلًا على معنى زمانا قليلا خبره، وقيل: إن ما نافية وقَلِيلًا معمول لما بعده، والكوفيون يجوزون عمل ما بعد ما النافية فيما قبلها، والمعنى ما تذكرون قليلا فكيف تذكرون كثيرا وليس بشيء. وقرأ حمزة والكسائي وحفص «تذكرون» بحذف إحدى التاءين وذال مخففة. وقرأ ابن عامر «يتذكرون» بياء تحتية ومثناة فوقية وذال مخففة، وفي طريق شاذة عنه بتاءين فوقيتين. وقرأ الباقون بتاء فوقية وذال مشددة على إدغام التاء المهموسة في الذال المجهورة، والجملة- على ما قاله غير واحد- اعتراض تذييلي مسوق لتقبيح حال المخاطبين، والالتفات على القراءة المشهورة عن ابن عامر للإيذان باقتضاء سوء حالهم في عدم الامتثال بالأمر والنهي صرف الخطاب عنهم، وحكاية جناياتهم لغيرهم بطريق المباتة، ولا حجة في الآية لنفاة القياس كما لا يخفى وَكَمْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 319 مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها شروع في تذكيرهم وإنذارهم ما نزل بمن قبلهم من العذاب بسبب إعراضهم عن دين الله تعالى وإصرارهم على أباطيل أوليائهم، وكَمْ خبرية للتكثير في محل رفع على الابتداء والجملة بعدها خبرها ومِنْ سيف خطيب وقَرْيَةٍ تمييز. ويجوز أن يكون محل كَمْ نصبا على الاشتغال، وضمير أَهْلَكْناها راجع إلى معنى كم فإن المعنى قرى كثيرة أهلكناها، والمراد بإهلاكها إرادة إهلاكها مجازا كما في قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة: 6] الآية فلا إشكال في التعقيب الذي تفهمه الفاء في قوله سبحانه: فَجاءَها بَأْسُنا أي عذابنا، واعترض هذا الجواب بعض المدققين بأن فيه إشكالا أصوليا، وهو أن الإرادة إن كانت باعتبار تعلقها التنجيزي فمجيء البأس مقارن لها لا متعقب لها وبعدها، وإن لم يرد ذلك فهي قديمة فإن كان البأس يعقبها لزم قدم العالم وإن تأخر عنها لزم العطف بثم. وأجيب بأن المراد التعلق التنجيزي قبل الوقوع أي قصدنا إهلاكها فتدبر، وقيل: إن المراد بالإهلاك الخذلان وعدم التوفيق فهو استعارة أو من إطلاق المسبب على السبب، وإلى هذا يشير كلام ابن عطية. وتعقب بأنه اعتزالي وأن الصواب أن يقال: معناه خلقنا في أهلها الفسق والمخالفة فجاءها بأسنا، وقيل: المراد حكمنا بإهلاكها فجاءها، وقيل: الفاء تفسيرية نحو توضأ فغسل وجهه إلخ. وقيل: إن الفاء للترتيب الذكري. وقال ابن عصفور: إن المراد أهلكناها هلاكا من غير استئصال فجاءها هلاك الاستئصال، وقال الفراء: الفاء بمعنى الواو أو المراد فظهر مجيء بأسنا واشتهر، وقيل: الكلام على القلب وفيه تقديم وتأخير أي أهلكناها بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ فجاءها بأسنا فالإهلاك في الدنيا ومجيء البأس في الآخرة فيشمل الكلام عذاب الدارين، ويأباه ما بعد إباء ظاهرا فإنه يدل على أن العذاب في الدنيا، وقدر غير واحد في النظم الكريم مضافا أي فجاء أهلها. وجوز بعضهم الحمل على الاستخدام لأن القرية تطلق على أهلها مجازا، ومن الناس من قدر في الأول المضاف أيضا مع أن القرية تتصف بالهلاك وهو الخراب. والبيات في الأصل مصدر بات يبيت بيتا وبيته وبياتا وبيتوتة، وذكر الراغب: أن البينات وكذا التبييت قصد العدو ليلا. وقال الليث: البيتوتة الدخول في الليل، ونصبه على الحال بتأويله ببائتين. وجوز أن يكون على الظرفية وهو خلاف الظاهر، واحتمال النصب على المفعولية له- كما زعم أبو البقاء- مما لا يلتفت إليه. وأو للتنويع وما بعدها عطف على الحال وهو في موضع الحال أيضا وأضمرت فيه الواو- كما قال ابن الأنباري- لوضوح المعنى ومن أجل أن أو حرف عطف والواو كذلك فاستثقلوا الجمع بين حرفين من حروف العطف فحذفوا الثاني، ونقل ذلك عن الفراء أيضا. وتعقب بأن واو الحال مغايرة لواو العطف بكل حال وهي قسم من أقسام الواو كواو القسم بدليل أنها تقع حيث لا يمكن أن يكون ما قبلها حالا وكونها للعطف يقتضي أن لا تقع إلا حيث يكون ما قبلها حالا حتى تعطف حالا على حال. وقال ابن المنير: إن هذه الواو لا بد أن تمتاز عن واو العطف بمزية ألا تراها تصحب الجملة الاسمية بعد الفعلية ولو كانت عاطفة مجردة لاستقبح توسطها بين المتغايرين أو لكان الأفصح خلافه وحيث رأيناها تتوسط والكلام هو الأفصح أو المتعين علمنا امتيازها عن واو العطف وإذا ثبت ذلك فلا غرو في اجتماعهما. وإن كان فيها معنى العطف مضافا إلى تلك الخاصية فإما أن تسلبه حينئذ لغناء العاطفة عنها أو تستمر عليه وتجامع أو كما تجامع الواو لكن في الفصيح لما فيها من زيادة معنى الاستدراك وعلى هذا فالاجتماع ممكن بلا كراهية، فلو قلت: سبح الله تعالى وأنت راكع أو وأنت ساجد لكان فصيحا لا خبث فيه ولا كراهة خلافا لأبي حيان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 320 مدعيا أن النحويين نصوا على أن الجملة الحالية إذا دخل عليها حرف عطف امتنع دخول واو الحال عليها للمشابهة اللفظية فالمثال على هذا غير صحيح، وظاهر كلام الزمخشري أن هذه الواو واو العطف في الأصل ثم استعيرت للحال لما فيها من الربط فقد خرجت عن العطف واستعملت لمعنى آخر لكنها أعطيت حكم أصلها في امتناع مجامعتها لعاطف آخر، وعلى هذا ينبغي أن يحمل كلام ذينك الإمامين وهذا مذهب لهما ولمن اتبعهما. وقال بعض النحاة: إن الضمير هنا مغن عن إضمار الواو والاكتفاء به غير شاذ كما قيل بل هو أكثر من رمل يبرين ومها فلسطين، وقد نقل عن الزمخشري الرجوع إلى هذا القول والمسألة خلافية وفيها تفصيل. ففي البديع: الاسمية الحالية لا تخلو من أن تكون من سبب ذي الحال أو أجنبية فإن كانت من سببه لزمها العائد والواو تقول: جاء زيد وأبوه منطلق وخرج عمرو ويده على رأسه إلا ما شذ من قولهم: كلمته فوه إلى فيّ وإن كانت أجنبية لزمتها الواو ونابت عن العائد. وقد يجمع بينهما نحو قدم عمرو وبشر قام إليه وقد جاءت بلا واو ولا ضمير كما فيّ قوله: ثم انتصينا جبال الصفد معرضة ... عن اليسار وعن إيماننا جدد فإن جبال الصفد معرضة حال بلا واو ولا ضمير: وعن الشيخ عبد القاهر جعل ذلك على قسمين ما يلزمه الواو مطلقا وهو ما إذا صدر بضمير ذي الحال نحو جاء زيد وهو يسرع لأن إعادة ضميره تقتضي أن الجملة مستأنفة لئلا تلغو الإعادة فإذا لم يقصد الاستئناف فلا بد من الواو وما عداه تلزمه الواو في الفصيح إلا على طريق التشبيه بالمفرد والتأويل فإنه حينئذ قد تترك الواو وجوازا، وقيل- ولم يسلم-: إن الضابط في ذلك أنه إذا كان المبتدأ ضمير ذي الحال تجب الواو وإلا فإن كان الضمير فيما صدر به الجملة سواء كان مبتدأ نحو فوه إلى في و «بعضكم لبعض عدو» أو خبرا نحو وجدته حاضراه الجود والكرم فلا يحكم بضعفه لكونه الرابط في أول الجملة وإلا فضعيف قليل. وقال ابن مالك وتبعه ابن هشام ونقل عن السكاكي: إنه إذا كانت الجملة الاسمية مؤكدة لزم الضمير وترك الواو نحو هو الحق لا شبهة فيه وذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: 2] ، واختار ابن المنير أن المصحح لوقوع هذه الجملة هنا حالا من غير واو هو العاطف إذ يقتضي مشاركة الجملة الثانية لما عطفت عليه في الحالية فيستغنى عن واو الحال كما أنك تعطف على المقسم به فتدخله في حكم القسم من غير واو نحو وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى [الليل: 1، 2] وقوله سبحانه: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ [التكوير: 15- 17] ويستغني عن تكرار حرف القسم بنيابة العاطف منابه فليفهم. وأيّا ما كان فحاصل المعنى أتاهم عذابنا تارة ليلا كقوم لوط عليه السلام وتارة وقت القيلولة كقوم شعيب عليه السلام. والقيلولة من قال يقيل فهو قائل ويقال قيلا وقائلة ومقالا ومقيلا، وهي- كما في القاموس- نصف النهار أو هي الراحة والدعة نصف النهار وإن لم يكن معها نوم كما في النهاية، واستدل بقوله تعالى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان: 24] إذ الجنة لا نوم فيها. وقال الليث: هي نومة نصف النهار، ودفع الاستدلال بأن ذلك مجاز، وإنما خص إنزال العذاب عليهم في هذين الوقتين لما أن نزول المكروه عند الغفلة والدعة أفظع وحكايته للسامعين أزجر وأردع عن الاغترار بأسباب الأمن والراحة، وفي التعبير في الحال الأولى بالمصدر وجعلها عين البيات وفي الحال الثانية بالجملة الاسمية المفيدة في المشهور للثبوت مع تقديم المسند إليه المفيد للتقوى ما لا يخفى من المبالغة، وكذا في وصف الكل بوصف البيات والقيلولة مع أن بعض المهلكين بمعزل منهما إيذان بكمال الأمن والغفلة، وفي هذا ذم لهم بالغفلة عما هم بصدده، وإنما خولف بين العبارتين على ما قيل وبنيت الحال الثانية على تقوى الحكم والدلالة على قوة أمرهم فيما أسند إليهم لأن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 321 القيلولة أظهر في إرادة الدعة وخفض العيش فإنها من دأب المترفين والمتنعمين دون من اعتاد الكدح والتعب. وفيه إشارة إلى أنهم أرباب أشر وبطر. فَما كانَ دَعْواهُمْ أي دعاؤهم واستغاثتهم كما في قوله تعالى: وَآخِرُ دَعْواهُمْ [يونس: 10] وقول بعض العرب: فيما حكاه الخليل. وسيبويه: اللهم أشركنا في صالح دعوى المسلمين أو ادعاءهم كما هو المشهور في معنى الدعوى إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا عذابنا وشاهدوا أماراته إِلَّا أَنْ قالُوا جميعا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ أي إلا اعترافهم بظلمهم فيما كانوا عليه وشهادتهم ببطلانه تحسرا وندامة وطمعا في الخلاص وهيهات ولات حين نجاة. وفي جعل هذا الاعتراف عين ذلك مبالغة على حد قوله: تحية بينهم ضرب وجيع ودَعْواهُمْ يجوز فيه- كما قال أبو البقاء- أن يكون اسم كان والخبر إِلَّا أَنْ قالُوا وأن يكون هو الخبر وإِلَّا أَنْ قالُوا الاسم، ورجح الثاني بأن جعل الأعرف اسما هو المعروف في كلامهم. والمصدر هنا يشبه المضمر لأنه لا يوصف وهو أعرف من المضاف. وأورد عليه أن الاسم والخبر إذا كانا معرفتين وإعرابهما غير ظاهر لا يجوز تقديم أحدهما على الآخر فتعين الأول. وأجيب عنه بأن ذلك عند عدم القرينة والقرينة هنا كون الثاني أعرف وترك التأنيث، وأيضا ذاك إذا لم يكن حصر فإن كان يلاحظ ما يقتضيه. ورجح في الكشف الثاني بأنه الوجه المطابق لنظائره في القرآن. والمعنى عليه أشد ملاءمة لأن الفرض أن قولا آخر لم يقع هذا الموقع، فالمقصود الحكم على القول المخصوص بأنه هو الدعاء وزيد تأكيدا بإدخال أداة القصر، وليس من التقديم في شيء لأن حق المقصور عليه التأخير أبدا فتأمل وتذكر فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ- بيان- كما قال الطبرسي- لعذابهم الأخروي إثر بيان عذابهم الدنيوي خلا أنه تعرض كما قيل لبيان مبادئ أحوال المكلفين جميعا لكونه أدخل في التهويل. والفاء عند البعض لترتيب الأحوال الأخروية على الدنيوية ذكرا حسب ترتبها عليها وجودا. وذكر العلامة الطيبي أن الفاء فصيحة على معنى فما كان دعواهم في الدنيا إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا فقطعنا دابرهم ثم لنحشرنهم فلنسألنهم، ووضع على هذا الظاهر موضع الضمير لمزيد التقرير. وقال في الكشف: لعل الأوجه أن يجعل هذا متعلقا بقوله تعالى: اتَّبِعُوا وَلا تَتَّبِعُوا ويجعل قوله سبحانه: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ إلخ معترضا حثا على الاعتبار بحال السابقين ليتشمروا في الاتباع اه. والأمر عند من جعل الكلام السابق على التقديم والتأخير وادعى أن مجيء البأس في الآخرة سهل كما لا يخفى، أي لنسألن الأمم قاطبة أو هؤلاء قائلين: ماذا أجبتم المرسلين؟ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ماذا أجيبوا، والمراد من هذا السؤال توبيخ الكفرة وتقريعهم، والمنفي في قوله تعالى: يوم لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ سؤال الاستعلام فلا منافاة بين الآيتين، وجمع آخرون بينهما بأن للمثبت موقفا وللمنفي آخر. وقال الإمام: إنهم لا يسألون عن الأعمال أي ما فعلتم ولكن يسألون عن الدواعي التي دعتهم إلى الأعمال والصوارف التي صرفتم عنها أي لم كان كذا، وقيل: معنى لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن: 39] لا يعاقب بذنبه غيره، وقيل: المراد من الذين أرسل إليهم الأنبياء ومن المرسلين الملائكة الذين بلغوهم رسالات ربهم. وروي ذلك عن فرقد وهو كما ترى، وقيل: لا حاجة إلى التوفيق فإن المنفي هو السؤال عن الذنب لا مطلق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 322 السؤال. ورد بأن عدم قبول دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام ذنب وأي ذنب فسؤالهم عنه ينافيه وفيه نظر. وتخصيص سؤال المرسلين عليهم السلام بما ذكرنا هو الذي يشهد به الأخبار وتدل عليه الآثار، وفي القرآن ما يؤيد ذلك فقد قال سبحانه: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ [المائدة: 109] وتخصيص سؤال الذين أرسل إليهم بما تقدم هو الذي جرى عليه جماعة من المفسرين. وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان الثوري أنه يقال للذين أرسل إليهم: هل بلغكم الرسل؟ ويقال. للمرسلين: ماذا ردوا عليكم. وأخرج أيضا عن القاسم أبي عبد الرحمن أنه تلا هذه الآية فقال: يسئل العبد يوم القيامة عن أربع خصال يقول ربك ألم أجعل لك جسدا ففيم أبليته؟ ألم أجعل لك علما ففيم عملت بما عملت؟ ألم أجعل لك مالا ففيم أنفقته في طاعتي أم في معصيتي؟ ألم أجعل لك عمرا ففيم أفنيته؟. وأخرج هو وغيره عن طاوس أنه قرأ ذلك فقال الإمام: يسئل عن الناس والرجل يسئل عن أهله والمرأة تسئل عن بيت زوجها والعبد يسئل عن مال سيده، ولعل الظاهر أن سؤال كل من المرسل إليهم والمرسلين هنا عن أمر يتعلق بصاحبه، ولا يأبى هذا أن المكلفين يسألون عن أمور أخر والمواقف يوم القيامة شتى ويسأل السيد ذو الجلال عبادة فيها عن مقاصد عديدة فطوبى لمن أخذ بعضده السعد فأجاب بما ينجيه. فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ قيل أي على الرسل حين يكلون الأمر إلى علمه تعالى ويقولون لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة: 109] أو عليهم وعلى المرسل إليهم جميعا جميع أحوالهم. وعن ابن عباس أنه ينطق عليهم كتاب أعمالهم بِعِلْمٍ أي عالمين بظواهرهم وبواطنهم أو بمعلومنا منهم، والباء على الأول للملابسة والجار والمجرور حال من فاعل «نقص» ، وعلى الثاني الباء متعلق بنقص وَما كُنَّا غائِبِينَ عنهم في حال من الأحوال، والمراد الإحاطة التامة بأحوالهم وأفعالهم بحيث لا يشذ منها شيء عن علمه سبحانه، والجملة إما حال أو استئناف لتأكيد ما قبله. وَالْوَزْنُ أي وزن الأعمال والتمييز بين الراجح والتمييز بين الراجح منها والخفيف والجيد والرديء. وهو مبتدأ وقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ متعلق بمحذوف خبره، وقوله تعالى الْحَقُّ صفته أي والوزن الحق ثابت يوم إذ يكون السؤال والقص. واختار هذا بعض من المعربين، وقيل: الظاهر أن الْحَقُّ خبر ويَوْمَئِذٍ ظرف للوزن لئلا يقع الفصل بين الصفة والموصوف. ولعل وجه عدم اختيار هذا أن فيه أعمال المصدر المعرف وهو قليل. وفي الكشف ليس المعنى على أن الوزن هو الحق بل أن الوزن الحق يكون يومئذ ألا يرى إلى قوله سبحانه: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ [الأنبياء: 47] . وذكر الأصفهاني في شرح اللمع لابن جني أن الْحَقُّ بدل من الضمير المستتر في الظرف، وهو وجه حسن إلا أن الأول رجح جانب المعنى ولم يبال بالفصل بالخبر لاتحاده من وجه بالمبتدأ لا سيما والظرف يتوسع فيه. وجوز أبو البقاء أن يكون الْحَقُّ خبر مبتدأ محذوف كأنه قيل: ما ذلك الوزن؟ فقيل: هو الحق أي العدل السوي. وأن يكون الْوَزْنُ خبر مبتدأ محذوف أيضا أي هذا الوزن. وهو كما ترى. وقرىء الْقِسْطَ والوزن- كما قال الراغب- معرفة قدر الشيء يقال: وزنته وزنا وزنة، والمتعارف فيه عند العامة ما يقدر بالقسطاس والقبان. واختلف في كيفيته يوم القيامة. والجمهور- كما قال القاضي- على أن صحائف الأعمال هي التي توزن بميزان له لسان وكفتان لينظر إليه الخلائق إظهارا للمعدلة وقطعا للمعذرة كما يسألون من أعمالهم فتعترف بها ألسنتهم وجوارحهم. ولا تعرض لهم لماهية هاتيك الصحائف والله تعالى أعلم بحقيقتها. ويؤيد ذلك ما أخرجه أحمد، والترمذي، وابن ماجة، والحاكم وصححه، والبيهقي، وغيرهم عن عبد الله بن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 323 عمرو بن العاص: قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر فيقول سبحانه: أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمك كتبتي الحافظون لا يا رب فيقول: فيقول سبحانه أفلك عذرا أو حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول لا يا رب فيقول جل شأنه: بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم فتخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تظلم فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسم الله تعالى شيء» وهذه الشهادة- على ما قاله القرطبي نقلا عن الحكيم الترمذي- ليست شهادة التوحيد لأن من شأن الميزان أن يوضع في إحدى كفتيه شيء وفي الأخرى ضده فتوضع الحسنات في كفة والسيئات في كفة ومن المستحيل أن يؤتى لعبد واحد بكفر وإيمان معا فيستحيل أن توضع شهادة التوحيد في الميزان أما بعد الإيمان فإن النطق بهذه الكلمة الطيبة حسنة فتوضع في الميزان كسائر الحسنات. وأيد ذلك بقوله جل وعلا في الحديث: «إن لك عندنا حسنة» دون أن يقول سبحانه: إيمانا. وجوز أن يكون المراد هذه الكلمة إذا كانت آخر كلامه في الدنيا. وجوز غيره أن تكون كلمة التوحيد، ومنع لزوم وضع الضد في الكفة الأخرى ليلزم المحال فتدبر. وجاء في خبر آخر أخرجه ابن أبي الدنيا. والنميري في كتاب الإعلام عن عبد الله أيضا قال: إن لآدم عليه السلام من الله عز وجل موقفا في فسح من العرش عليه ثوبان أخضران كأنه نخلة سحوق ينظر إلى من ينطلق به من ولده إلى الجنة ومن ينطلق به إلى النار فبينا آدم على ذلك إذ نظر إلى رجل من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم ينطلق به إلى النار فينادي آدم عليه السلام يا أحمد يا أحمد فيقول عليه الصلاة والسلام: لبيك يا أبا البشر فيقول: هذا رجل من أمتك ينطلق به إلى النار قال صلّى الله عليه وسلّم: فأشد المئزر وأسرع في أثر الملائكة فأقول: يا رسل ربي قفوا فيقولون: نحن الغلاظ الشداد الذين لا نعصي الله تعالى ما أمرنا ونفعل ما نؤمر فإذا أيس النبي صلّى الله عليه وسلّم قبض على لحيته بيده اليسرى واستقبل العرش بوجهه فيقول: يا رب قد وعدتني أن لا تخزيني في أمتي فيأتي النداء من قبل العرش أطيعوا محمدا وردوا هذا العبد إلى المقام فيخرج صلّى الله عليه وسلّم بطاقة بيضاء كالأنملة فيلقيها في كفة الميزان اليمنى وهو يقول بسم الله فترجح الحسنات على السيئات فينادي المنادي سعد وسعد جده وثقلت موازينه انطلقوا به إلى الجنة فيقول يا رسل ربي. قفوا حتى أسأل هذا العبد الكريم على ربه فيقول: بأبي أنت وأمي ما أحسن وجهك وأحسن خلقك من أنت؟ فقد أقلتني عثرتي ورحمت عبرتي فيقول عليه الصلاة والسلام: أنا نبيك محمد وهذه صلاتك التي كنت تصلي علي وفيتكها أحوج ما تكون إليها انتهى. ولعل فعل مثل هذا- إذا صح الخبر- مبالغة في إظهار كرامة النبي صلّى الله عليه وسلّم على ربه عز وجل بين الأولين والآخرين. وقيل: توزن الأشخاص، واحتجوا له بما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «إنه ليؤتي العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله تعالى جناح بعوضة ولا أدري على هذا ما يوضع في الكفة الأخرى من الميزان إذا وضع المذنب في إحداهما، ووضع شخص في مقابلة شخص لا أراه إلا كما ترى، والخبر ليس نصا في الدعوى كما لا يخفى، وقيل: إن هذه الأعمال الظاهرة في هذه النشأة بصور عرضية تظهر في النشأة الآخرة بصور جوهرية مناسبة لها في الحسن والقبح، وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وصححه غير واحد وقال: إن عليه الاعتقاد، وفي الآثار ما يؤيده. فقد أخرج ابن عبد البر عن إبراهيم النخعي قال يجاء بعمل الرجل فيوضع بكفة ميزانه يوم القيامة فيخف فيجاء بشيء أمثال الغمام فيوضع في كفة ميزانه فيرجحه فيقال له: أتدري ما هذا؟ فيقول: لا فيقال له: هذا أفضل العلم الذي كنت تعلمه الناس، وأخرج ابن المبارك عن حماد بن أبي سليمان بمعناه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 324 وقيل: الوزن عبارة عن القضاء السوي والحكم العادل، واستعمال لفظ الوزن في هذا المعنى شائع في اللغة والعرف بطريق الكناية وبه قال مجاهد، والأعمش، والضحاك، وإليه ذهب المعتزلة إلا أن منهم من جوز الوزن بالمعنى المتعارف عقلا وإن لم يقض بثبوته كالعلاف. وبشر بن المعتمر، ومنهم من أحاله لأن الأعمال أعراض وهي مما لا تبقى ومما لا يمكن إعادتها، سلمنا بقاءها أو إمكان إعادتها لكنها إعراض والإعراض يمتنع وزنها إذ لا توصف بثقل ولا خفة، سلمنا إمكان وزنها لكن لا فائدة في ذلك إذ المقصود إنما هو العلم بتفاوت الأعمال والله تعالى عالم بذلك وما لا فائدة فيه ففعله قبيح والرب تعالى منزه عن فعل القبيح، وجوابه يعلم مما قدمنا. وفسر هؤلاء الميزان بالعدل والإنصاف. واعترض الآمدي على ذلك بأن الميزان موصوف بالثقل والخفة والعدل والإنصاف لا يوصفان بذلك، وفي الأخبار ما هو صريح في أن الميزان جسماني فقد أخرج الحاكم وصححه عن سلمان عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يوضع الميزان يوم القيامة فلو وزن فيه السماوات والأرض لوسع فتقول الملائكة: يا رب من يزن هذا؟ فيقول الله تعالى: من شئت من خلقي فتقول الملائكة سبحانك ما عبدناك حق عبادتك» وفي رواية ابن المبارك واللالكائي عنه قال: يوضع الميزان وله كفتان لو وضع في إحداهما السماوات والأرض ومن فيهن لوسعه فتقول الملائكة: من يزن هذا؟ الحديث. وأخرج ابن مردويه عن عائشة «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «خلق الله تعالى كفتي الميزان مثل السماوات والأرض فقالت الملائكة: يا ربنا من تزن بهذا؟ فقال: أزن به من شئت» وفي بعض الآثار «أن الله تعالى كشف عن بصر داود عليه السلام فرأى من الميزان ما هاله حتى أغمي عليه فلما أفاق قال: يا رب من يملأ كفة هذا حسنات فقال جل شأنه: يا داود إذا رضيت عن عبد ملأتها بشق تمرة تصدق بها» إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة. فالأولى- كما قال الزجاج- اتباع ما جاء في الأحاديث ولا مقتضى للعدول عن ذلك، فإن قيل: إن المكلف يوم القيامة إما مؤمن بأنه تعالى حكيم منزه عن الجور فيكفيه حكمه تعالى بكيفيات الأعمال وكمياتها وإما منكر له فلا يسلم حينئذ أن رجحان بعض الأعمال على بعض لخصوصيات راجعة إلى ذوات تلك الأعمال بل يسنده إلى إظهار الله تعالى إياه على ذلك الوجه فما الفائدة في الوزن؟ أجيب بأنه ينكشف الحال يومئذ وتظهر جميع الأشياء بحقائقها على ما هي عليه وبأوصافها وأحوالها في أنفسها من الحسن والقبح وغير ذلك وتنخلع عن الصور المستعارة التي بها ظهرت في الدنيا فلا يبقى لأحد ممن يشاهدها شبهة في أنها هي التي كانت في الدنيا بعينها وإن كل واحد منها قد ظهر في هذه النشأة بصورته الحقيقية المستتبعة لصفاته ولا يخطر بباله خلاف ذلك قاله بعض المحققين والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ تفصيل للأحكام المترتبة على الوزن. والموازين إما جمع ميزان، وجمعه- مع أن المشهور الصحيح أن الميزان مطلقا واحد- باعتبار تعدد الأوزان أو الموزونات، وكذا إذا قلنا بأن ميزان كل شخص واحد وفي الكلام مضاف مقدر أي كفة موازينه، وإما جمع موزون وإضافته للعهد لترتب الفلاح على ذلك فالمراد الحسنات، والجمع على هذا ظاهر، وكذا لو قلنا إن لكل عمل ميزانا فَأُولئِكَ إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة، والجمعية باعتبار معناه كما أن إفراد ضمير «موازينه» العائد إليه باعتبار لفظه، وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة، وهو مبتدأ وهُمُ إما ضمير فصل يفصل به بين الخبر والصفة ويؤكد النسبة ويفيد اختصاص المسند بالمسند إليه والْمُفْلِحُونَ أي الفائزون بالنجاة والثواب خبر، وإما مبتدأ ثان والْمُفْلِحُونَ خبره والجملة خبر المبتدأ الأول، وتعريف المفلحين للدلالة على أنهم الناس الذين بلغك أنهم مفلحون في الآخرة أو إشارة إلى ما يعرفه كل أحد من حقيقة المفلحين وخصائصهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 325 وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بتضييع فطرة الإسلام التي ما من مولود إلا يولد عليها أو فطرة الخير الذي هو أصل الجبلة. وقوله تعالى: بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ متعلق بخسروا، وإما مصدرية وبِآياتِنا متعلق بيظلمون وقدم عليه للفاصلة، وعدي الظلم بالباء لتضمنه معنى التكذيب أو الجحود، والجمع بين صيغتي الماضي والمضارع للدلالة على استمرار الظلم في الدنيا. وظاهر النظم الكريم أن الوزن ليس مختصا بالمسلمين بل الكفار أيضا توزن أعمالهم التي لا توقف لها على الإسلام وإلى ذلك ذهب البعض. وادعى القرطبي أن الصحيح أنه يخفف بها عذابهم وإن لم تكن راجحة كما ورد في حق أبي طالب. وذهب الكثير إلى أن الوزن مختص بالمسلمين. وأما الكفار فتحبط أعمالهم كيفما كانت، وهو أحد الوجهين في قوله تعالى: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً [الكهف: 105] ولا يخفف بها عنهم من العذاب شيء، وما ورد من التخفيف عن أبي طالب فقد قال السخاوي: إن المعتمد أنه مخصوص به، وعلى هذا فلا بد من ارتكاب خلاف الظاهر في الآية، وهي على كلا التقديرين ساكتة عن بيان حال من تساوت حسناته وسيئاته وهم أهل الأعراف على قول. ومن هنا استدل بعضهم على عدم وجود هذا القسم، ورد بأنه قد يدرج في القسم الأول لقوله سبحانه خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [التوبة: 102] وعسى من الله تعالى تحقيق كما صرحوا به وفيه نظر وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ ترغيب في قبول دعوة النبي عليه الصلاة والسلام بتذكير النعم إثر ترغيب. وذكر الطيبي أن هذا نوع آخر من الإنذار فإنه جملة قسمية معطوفة على قوله سبحانه: اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الأعراف: 3] على تقدير قل اتبعوا وقل والله لقد مكناكم، والمعنى جعلنا لكم في الأرض مكانا وقرارا. وقيل: أقدرناكم على التصرف فيها فهو حينئذ كناية ورجحت هنا الحقيقة وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ أي ما تعيشون به وتحيون من المطاعم والمشارب ونحوها أو ما تتوصلون به إلى ذلك، وهو في الأصل مصدر عاش يعيش عيشا وعيشة ومعاشا ومعيشة بوزن مفعلة، والجمهور على التصريح بالياء فيها، وروي عن نافع معائش بالهمز وغلّطه النحويون ومنهم سيبويه في ذلك لأنه لا يهمز عندهم بعد ألف الجمع إلا الياء الزائدة كصحيفة وصحائف وأما معايش فياؤه أصلية هي عين الكلمة لأنها من العيش وبالغ أبو عثمان فقال: إن نافعا لم يكن يدري بالعربية، وتعقب ذلك بأن هذه القراءة وإن كانت شاذة غير متواترة مأخوذة من الفصحاء الثقات والعرب قد تشبه الأصلي بالزائد لكونه على صورته، وقد سمع هذا عنهم فيما ذكر وفي مصائب ومنائر أيضا. وقول سيبويه: إنها غلط يمكن أن يراد به أنها خارجة عن الجادة والقياس، وكثيرا ما يستعمل الغلط في كتابه بهذا المعنى، والجعل بمعنى الإنشاء والإبداع وكل واحد من الظرفين متعلق به أو بمحذوف وقع حالا من مفعوله المنكر إذ لو تأخر لكان صفة له وتقديمهما على المفعول مع أن حقهما التأخير عنه- كما قال بعض المحققين- للاعتناء بشأن المقدم والتشويق إلى المؤخر فإن النفس عند تأخير ما حقه التقديم لا سيما عند كون المقدم منبئا عن منفعة السامع تبقى مترقبة لورود المؤخر فيتمكن فيها عند الورود فضل تمكن، وأما تقديم اللام على في فلما أنه المنبئ عما ذكر من المنفعة والاعتناء بشأنه أتم والمسارعة إلى ذكره أهم، وقيل: إن الجعل متعد إلى مفعولين ثانيهما أحد الظرفين على أنه مستقر قدم على الأول، والظرف الآخر إما لغو متعلق بالجعل أو بالمحذوف الواقع حالا من المفعول الأول كما مر، واعترض بأنه لا فائدة يعتد بها في الإخبار بجعل المعايش حاصلة لهم أو حاصلة في الأرض قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ تلك النعمة الجسمية، وهو تذييل مسوق لبيان سوء المخاطبين وتحذيرهم. قال الطيبي: والتذييل بذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 326 لأن الشكر مناسب لتمكينهم في البلاد والتصرف فيها كما أن التذكر في الجملة السابقة موافق للتمييز بين اتباع دين الحق ودين الباطل، وبقية الكلام في هذه الجملة على طرز ما مر في نظيرها فتذكر. وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ تذكير لنعمة أخرى، وتأخيره عن تذكير ما وقع بعده من نعمة التمكن في الأرض إما لأنها فائضة على المخاطبين بالذات وهذه بالواسطة. وإما للإيذان بأن كلا منهما نعمة مستقلة، والمراد خلق آدم عليه السلام وتصويره كما يقتضيه ظاهر العطف الآتي لكن لما كان مبدأ للمخاطبين جعل خلقه خلقا لهم ونزل منزلته فالتجوز على هذا في ضمير الجمع بجعل آدم عليه السلام كجميع الخلق لتفرعهم عنه أو في الإسناد إذ أسند ما لآدم الذي هو الأصل والسبب إلى ما تفرع عنه وتسبب. وجعل بعضهم الكلام على تقدير المضاف، وذهب الإمام إلى أنه كناية عن خلق آدم عليه السلام، والمعنى خلقنا أباكم آدم عليه السلام طينا غير مصور ثم صورناه أبدع تصوير وأحسن تقويم سار ذلك إليكم. وجوز أن يكون التجوز في الفعل، والمراد ابتدأنا خلقكم ثم تصويركم بأن خلقنا آدم ثم صورناه، ويعود هذا إلى ابتداء خلق الجنس وابتداء خلق كل جنس بإيجاد أول أفراده. فهو نظير قوله تعالى: خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ [السجن: 7] وعلى هذين الوجهين يظهر وجه العطف بثم في قوله تعالى: ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ وزعم الأخفش أن ثُمَّ هنا بمعنى الواو، وتعقبه الزجاج بأنه خطأ لا يجيزه الخليل وسيبويه ولا من يوثق بعلمه لأن ثم للشيء الذي يكون بعد المذكور قبله لا غيره، وإنما المعنى إنا ابتدأنا خلق آدم عليه السلام من تراب ثم صورناه أي هذا أصل خلقكم ثم بعد الفراغ من أصلكم قلنا إلخ، وقيل: إن ثُمَّ لترتيب الأخبار لا للترتيب الزماني حتى يحتاج إلى توجيه، والمعنى خلقناكم يا بني آدم مضغا غير مصورة ثم صورناكم بشق السمع والبصر وسائر الأعضاء كما روي عن يمان أو خلقناكم في أصلاب الرجال ثم صورناكم في أرحام النساء كما روي عن عكرمة ثم نخبركم أنا قلنا للملائكة إلخ وإلى هذا ذهب جماعة من النحويين منهم علي بن عيسى والقاضي أبو سعيد السيرافي. وغيرهما، وقال الطيبي: يمكن أن تحمل ثُمَّ على التراخي في الرتبة لأن مقام الامتنان يقتضي أن يقال: إن كون أبيهم مسجودا للملائكة أرفع درجة من خلقهم وتصويرهم، وفيه تلويح إلى شرف العلم وتنبيه للمخاطبين على تحصيل ما فاز به أبوهم من تلك الفضيلة. ومن ثم عقب في البقرة الأمر بالسجود مسألة التحدي بالعلم. وعن ابن عباس، ومجاهد، والربيع، وقتادة، والسدي أن المعنى خلقنا آدم عليه السلام ثم صورناكم في ظهره ثم قلنا إلخ. وقد تقدم الكلام في المراد بالملائكة المأمورين بالسجود، وكذا الكلام في المراد بالسجود. وذكر بعض المحققين أن الظاهر أن يقال: ثم أمرنا الملائكة بالسجود لآدم إلا أنه عدل عن ذلك لأن الآمر بالسجود كان قبل خلق آدم عليه السلام على ما نطق به قوله تعالى: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ [الحجر: 29] والواقع بعد تصويره إنما هو قوله سبحانه: اسْجُدُوا لِآدَمَ وذلك لتعيين وقت السجدة المأمور بها قبل، والحاصل أنه سبحانه أمرهم أولا أمرا معلقا ثم أمرهم ثانيا أمرا منجزا مطابقا للأمر السابق فلذا جعله حكاية له، وفي ذلك ما لا يخفى من الاعتناء بشأن آدم عليه السلام فَسَجَدُوا أي الملائكة عليهم السلام بعد القول من غير تلعثم كلهم أجمعون إِلَّا إِبْلِيسَ استثناء متصل سواء قلنا إن إبليس من الملائكة حقيقة أم لا، أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فلأنه لما كان جنيا مفردا مغمورا بألوف من الملائكة متصفا بغالب صفاتهم غلبوا عليه في «سجدوا» ثم استثنى استثناء واحد منهم. وقيل: منقطع بناء على أنه من الجن وأنهم ليسوا من جنس الملائكة ولا تغليب، والأول هو المختار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 327 وذكر قوله تعالى: لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ أي ممن سجد لآدم عليه السلام مع أنه علم من الاستثناء عدم السجود لأن المعلوم من الاستثناء عدم العموم لا عموم العدم، والمراد الثاني أي إنه لم يصدر منه السجود مطلقا لا معهم ولا منفردا. وهذا إنما يفيده التنصيص كذا قيل، ونظر فيه بأن التنصيص المذكور لا يفيد عموم الأحوال والأوقات فلا يتم ما ذكر، وتحقيق هذا المقام على ما ذكره المولى سري الدين أن يقال: إن القوم اختلفوا في أن الاستثناء من النفي إثبات أم لا، فقال الشافعي: نعم فيكون نقيض الحكم ثابتا للمستثنى بطريق العبارة، ويوافقه ظاهر عبارة الهداية. وذهب طائفة من الحنفية إلى أنه بطريق الإشارة. وذهب آخرون إلى أن المستثنى في حكم المسكوت عنه، وإنما يستفاد الحكم بطريق مفهوم المخالفة. واختار صاحب البحر أنه منطوق إشارة تارة وعبارة أخرى. وإذا تقرر هذا فيمكن أن يقال في الجواب: إن المقام لما كان مقام التسجيل على إبليس بعدم السجود والتشهير والتوبيخ بتلك القبيحة الهائلة كان خليقا بالتصريح جديرا بالاحتياط لضعف التعويل على القرينة لائقا بكمال الإيضاح والتقرير فعدل عن طريق الحذف وإن كان الكلام دالا على المحذوف إلى منهج الذكر والتصريح به، وهذا على رأي الشافعي ومن وافقه ظاهر وإليه أشار السراج الهندي في مباحث الاستثناء من شرح المغني، وأما على باقي المذاهب فالأمر أظهر لأن الحكم على المستثنى بنقيض حكم المستثنى منه إما بطريق الإشارة أو مفهوم المخالفة، وعلى كل فالمقام يا بني الاكتفاء بمثل ذلك ويقتضي التصريح بذكر الحكم. وادعى مولانا ابن الكمال أن هذه الجملة إنما جيء بها لانقطاع الاستثناء وأنه لو كان الاستثناء متصلا يكون الإتيان بها ضائعا لأن عدم كون إبليس من الساجدين يفهم من الاستثناء على تقدير اتصاله. ولا يخفى ما فيه على من أحاط علما بما ذكرنا. واعترضه البعض أيضا بأنه على تقدير الانقطاع يكون ذلك ضائعا أيضا بناء على ما ظنه فإن ثبوت نقيض حكم المستثنى منه للمستثنى غير مختص بالمتصل، ولذا لا نراهم يذكرون مع المستثنى المنقطع أيضا نقيض حكم المستثنى منه إلا قليلا، ولو تم ما ذكره لوجب ذكر الخبر مع كل منقطع فليفهم. قالَ استئناف مسوق للجواب عن سؤال نشأ من حكاية عدم سجوده كأنه قيل: فماذا قال الله تعالى حينئذ؟ وبه- كما قيل- يظهر وجه الالتفات إلى الغيبة إذ لا وجه لتقدير السؤال على وجه المخاطبة. وفيه فائدة أخرى هي الإشعار بعدم تعلق المحكي بالمخاطبين كما في حكاية الخلق والتصوير أي قال الله تعالى لإبليس حين لم يكن من الساجدين. ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ المشهور أن لا مزيدة بدليل قوله سبحانه في آية أخرى ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ [ص: 75] وقد جاءت كذلك في قوله سبحانه: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ [الحديد: 29] أي ليعلم، وهي في ذلك- كما قال غير واحد- لتأكيد معنى الفعل الذي تدخل عليه وتحقيقه. واستشكل بأنها كيف تؤكد ثبوت الفعل مع إيهام نفيه. قال الشهاب: والذي يظهر لي أنها لا تؤكده مطلقا بل إذا صحب نفيا مقدما أو مؤخرا صريحا أو غير صريح كما في «غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ» وكما هنا فإنها تؤكد تعلق المنع به. ومن هنا قالوا: إنها منبهة على أن الموبخ عليه ترك السجود. وقيل: إنها غير زائدة بأن يكون المنع مجازا عن الإلجاء والاضطرار. فالمعنى ما اضطرك إلى أن لا تسجد. وجعله السكاكي مجازا عن الحمل ولا قرينة للمجاز أي ما حملك ودعاك إلى أن لا تسجد؟ وليس بين الجعلين كثير فرق. وجوز أن يكون ذلك من باب التضمين، وقال الراغب: المنع يقال في ضد العطية كرجل مانع ومناع أي بخيل ويقال في الحماية، ومنه مكان منيع وقد منع وفلان ذو منعة أي عزيز ممتنع على من يرومه. والمنع في الآية من الثاني أي ما حماك عن عدم السجود إِذْ أَمَرْتُكَ بالسجود، وإِذْ ظرف لتسجد، وهذه الآية أحد أدلة القائلين بأن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 328 الأمر للفور لأنه ذم على ترك المبادرة ولولا أن الأمر للفور لم يتوجه الذم عليه وكان له أن يجيب بأنك ما أمرتني بالبدار وسوف أسجد. وأجيب بأن الفور إنما هو من قوله تعالى: فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ [الحجر: 29] وليس من صيغة الأمر إلا أن بعضهم منع دلالة الفاء الجزائية على التعقيب من غير تراخ، وقال آخرون: إن الاستدلال إنما هو بترتب اللوم على مخالفة الأمر المطلق حيث قال سبحانه: إِذْ أَمَرْتُكَ ولم يقل جل شأنه إذ قلت فقعوا له ساجدين فتدبر، وفي حكاية التوبيخ هاهنا بهذه العبارة وفي سورة الحجر بقوله تعالى: يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [الحجر: 32] وفي سورة ص بقوله سبحانه: ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75] إشارة إلى أن اللعين أدمج في معصية واحدة غير واحدة وقد وبخ على كل من ذلك لكن اقتصر عند الحكاية في كل موطن على ما ذكر فيه اكتفاء بما ذكر في موطن آخر وإشعارا بأن كل واحدة من هاتيك المعاصي كافية في التوبيخ وبطلان ما ارتكبه، وقد تركت حكاية التوبيخ رأسا في سورة البقرة وسورة بني إسرائيل وسورة الكهف وسورة طه والله تعالى أعلم بحكمة كل. قالَ استئناف كما تقدم مبني على سؤال نشأ من حكاية التوبيخ كأنه قيل: فماذا قال اللعين عند ذلك؟ فقيل: قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ هو من الأسلوب الأحمق فإن الجواب المطابق للسؤال منعني كذا وهذا جواب عن أيكما خير؟ وفيه دعوى شيء بين الاستلزام المقصود بزعمه ومشعر بأن من هذا شأنه لا يحسن أن يسجد لمن دونه فكيف يحسن أن يؤمر به؟ فاللعين أول من أسس بنيان التكبر واخترع القول بالحسن والقبح العقليين. وقوله تعالى: حكاية عنه خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ تعليل لما ادعاه عليه اللعنة من فضله عليه، عليه السلام، وحاصله أني مخلوق من عنصر أشرف من عنصره لأن عنصري علوي نير قوي التأثير مناسب لمادة الحياة وعنصره بضد ذلك والمخلوق من الأشراف أشرف لأن شرف الأصل يوجب شرف الفرع فأنا كذلك والأشرف لا يليق به الانقياد لمن هو دونه، وقد أخطأ اللعين فإن كون النار أشرف من التراب ممنوع فإن كل عنصر من العناصر الأربع يختص بفوائد ليست لغيره وكل منها ضروري في هذه النشأة ولكل فضيلة في مقامه وحاله فترجيح بعضها على بعض تطويل بلا طائل، على أن من نظر إلى أن الأرض أكثر منافع للخلق لأنها مستقرهم وفيها معايشهم وأنها متصفة بالرزانة التي هي من مقتضيات الحلم والوقار وإلى أن النار دونها في المنافع وأنها متصفة بالخفة التي هي من مقتضيات الطيش والاستكبار والترفع علم ما في كلام اللعين، وأيضا شرف الأصل لا يوجب شرف الفرع: إنما الورد من الشوك ولا ... ينبت النرجس إلا من بصل ويكفي في ذلك أنه قد يخرج الكافر من المؤمن، وأيضا قد خص الشرف بما هو من جهة المادة والعنصر مع أن الشيء كما يشرّف بمادته وعنصره يشرّف بفاعله وغايته وصورته، وهذا الشرف في آدم عليه السلام دونه فإن الله تعالى خلقه بيديه ونفخ فيه من روحه وجعله خليفة في الأرض كما قص سبحانه لما أودعه فيه، وأيضا أي قبح في خدمة الفاضل للمفضول تواضعا وإسقاط لحظ النفس على أن الخدمة في الحقيقة إنما كانت لله تعالى، وإلى هذا أشار ظافر الإسكندري بقوله: أنت المراد بنظم كل قصيدة ... بنيت على الافهام في تبجيله كسجود أملاك السماء لآدم ... وسجودهم لله في تأويله ثم الظاهر أن هذا الجواب من اللعين كان مع تسليم أنه مأمور بالسجود وحينئذ فخطؤه أظهر من نار على علم إذ يعود ذلك إلى الاعتراض على المالك الحكيم. وقال بعضهم: إنه لم يسلم أنه كان مأمورا بل أخرج نفسه من العموم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 329 بالقياس. واستدل أهل هذا القول بهذا التوبيخ على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس. وأجيب بأن هذا ليس من التخصيص بل هو إبطال للنص ورفع له بالكلية وفيه تأمل. وأخرج أبو نعيم في الحلية والديلمي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده رضي الله تعالى عنهم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أول من قاس أمر الدين برأيه إبليس قال الله تعالى له: اسجد لآدم فقال: أنا خير منه» إلخ. قال جعفر: فمن قاس أمر الدين برأيه قرنه الله تعالى يوم القيامة بإبليس لأنه اتبعه بالقياس واستدل بهذا ونحوه من منع القياس مطلقا. وأجيب عن ذلك بأن المذموم هو القياس والرأي في مقابلة النص أو الذي يعدم فيه شرط من الشروط المعتبرة وتحقيق ذلك في محله. وفي الآية دليل على الكون والفساد لدلالتها على خلق آدم عليه السلام وإبليس عليه اللعنة وإيجادهما، وعلى استحالة الطين والنار عما كانا عليه من الطينية والنارية لما تركب منهما ما تركب، وعلى أن إبليس. ونحوه أجسام حادثة لا أرواح قديمة، قيل: ولعل إضافة خلق آدم عليه السلام إلى الطين وخلقه إلى النار باعتبار الجزء الغالب، وإلا فقد تقرر أن الأجسام من العناصر الأربعة وبعض الناس من وراء المنع. قالَ استئناف كما سلف، والفاء في قوله تعالى: فَاهْبِطْ مِنْها لترتيب الأمر على ما ظهر منه من الباطل، وضمير مِنْها قيل للجنة، وكونه من سكانها مشهور، والمراد بها عند بعض الجنة التي يسكنها المؤمنون يوم القيامة. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها روضة بعدن وفيها خلق آدم عليه السلام وكانت على نشز من الأرض في قول. وأصل الهبوط الانحدار على سبيل القهر كما في هبوط الحجر. وإذا استعمل في الإنسان ونحوه فعلى سبيل الاستخفاف كما قال الراغب. ولم يشترط بعضهم فيه سوى الانتقال من شريف إلى ما دونه لقوله تعالى: اهْبِطُوا مِصْراً [البقرة: 61] والأمر عليه واضح وإن لم نقل: إن تلك الجنة كانت على نشز، وقيل: الضمير لزمرة الملائكة أي اخرج من زمرة الملائكة المعززين، فإن الخروج من زمرتهم هبوط وأي هبوط. وفي سورة فَاخْرُجْ مِنْها [الحجر: 34] وقيل: الضمير للسماء، وإليه ذهب جماعة. ورد بأن وسوسته لآدم عليه السلام كانت بعد هذا الطرد فلا بد أن يحمل على أحد الوجهين السابقين قطعا، ويكون وسوسته على الوجه الأول بطريق النداء من باب الجنة كما روي عن الحسن البصري. وأجيب بأنه يحتمل أن يكون المراد من ذلك الجنة أو زمرة الملائكة أيضا بناء على أن الأولى ومعظم الثانية في السماء أو يقال: إن القصة وقعت في الأرض وكانت الجنة فيها وبعد العصيان حجب اللعين من السماء التي هي مقره ومعبده، ومعنى أمره بالخروج منها أمره بقطع علائقه عنها واتخاذها مأوى له بعد. وهذا كما تقول لمن غصب دارك مثلا عند نحو القاضي: أخرج من داري مع أنه إذ ذاك ليس فيها تريد لا تدخلها واقطع علائقك عنها وقيل: الضمير للأرض. فقد روي أنه أخرج منها إلى الجزائر وأمر أن لا يدخلها إلا خفية، ويبعده أنه لا يظهر للتخصيص في قوله تعالى: فَما يَكُونُ لَكَ أي فما يصح ولا يستقيم ولا يليق بشأنك أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها على هذا وجه إلا على بعد. وأما على الأوجه السابقة فالوجه ظاهر وهو مزيد شرافة المخرج منه وعلو شأنه وتقدس ساحته. ومن هنا يعلم أنه لا دلالة في الآية على جواز التكبر في غير ذلك عند القائلين بالمفهوم، والجملة تعليل للأمر بالهبوط ولا يخفى لطافة التعبير به دون الخروج في مقابلة قوله: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ المشير إلى ارتفاع عنصره وعلو محله، والتكبر- على ما قيل- كالكبر وهو الحالة التي يختص بها الشخص من إعجابه بنفسه. وذلك أن يرى نفسه أكبر من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 330 غيره وأعظم، والمراد بالتكبر هاهنا إما التكبر على الله تعالى وهو أعظم التكبر. ويكون بالامتناع من قبول الحق والإذعان له بالعبادة. وفسره بعضهم بالمعصية. وإما التكبر على آدم عليه السلام بزعمه أنه خير منه وأكبر قدرا. وقيل: المراد ما هو أعم منه ومن التكبر على الملائكة حيث زعم أن له خصوصية ميزته عليهم وأخرجته من عمومهم وفيه تأمل. وزعم البعض أن في الآية تنبيها على أن التكبر لا يليق بأهل الجنة فكما يمنع من القرار فيها يمنع من دخولها بعد ذلك وأنه تعالى إنما طرده لتكبره لا لمجرد عصيانه، وهو ظاهر على أحد الاحتمالات كما لا يخفى. والظرف إما متعلق بما عنده أو بمحذوف وقع حالا. وقوله تعالى: فَاخْرُجْ تأكيد للأمر بالهبوط متفرع عليه. وقوله سبحانه: إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ تعليل للأمر بالخروج مشعر بأنه لتكبره أي إنك من أهل الصغار والهوان على الله تعالى وعلى أوليائه لتكبرك. أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من تواضع لله رفعه الله تعالى، ومن تكبر وضعه الله عز وجل» ومن حديثه رضي الله تعالى عنه «من تواضع لله تعالى رفع الله تعالى حكمته وقال: انتعش نعشك الله ومن تكبر وعد أطواره، وهصه الله تعالى إلى الأرض» وقيل: المراد من الأذلاء في الدنيا بالذم واللعن. وفي الآخرة بالعذاب بسبب ما ارتكبه من المعصية والتكبر، وإذلال الله تعالى المتكبرين يوم القيامة مما نطقت به الأخبار. أخرج الترمذي عن عمرو بن شعيب عن جده أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صورة الرجال يغشاهم الذل من كل مكان يساقون إلى سجن في جهنم يقال له: بولس يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار» وفسر بعضهم الصاغر بالراضي بالذل كما هو المشهور فيه. والمراد وصفه بأنه خسيس الطبع دنيء وأنه رأى نفسه أكبر من غيره وليس بالكبير. ولقد أبدع أبو نواس بقوله خطابا له: سوأة يا لعين أنت اختلست الن ... اس غيظا عليهم أجمعينا تهت لما أمرت في سالف الده ... ر وفارقت زمرة الساجدينا عند ما قلت لا أطيق سجودا ... لمثال خلقته رب طينا حسدا إذ خلقت من مارج الن ... ار لمن كان مبتدا العالمينا ثم صيرت في القيادة تسعى ... يا مجير الزناة واللائطينا وله أيضا من أبيات فيه: تاه على آدم في سجدة ... وصار قوادا لذريته قالَ استئناف كما مر مبني على سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل: فماذا قال اللعين بعد ما سمع ما سمع؟ فقيل: قال: أَنْظِرْنِي أي أمهلني ولا تمتني إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي آدم عليه السلام وذريته وهو وقت النفخة الثانية، وأراد بذلك أن يجد فسحة في الإغواء وأخذ الثأر ونجاة من الموت إذ لا موت بعد البعث قالَ استئناف كما مر إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ظاهره إلى يوم يبعثون حيث وقع في مقابلة كلامه لكن في سورة الحجر وص التقييد بيوم الوقت المعلوم، واختلف في المراد منه فالمشهور أنه يوم النفخة الأولى دون يوم البعث لأنه ليس بيوم موت، وجوز بعضهم أن يكون المراد منه يوم البعث ولا يلزم أن لا يموت فلعله يموت أول اليوم ويبعث مع الخلق في تضاعيفه: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 331 وفي كتاب العرائس عن كعب الأحبار أن إبليس إنما يذوق طعم الموت يوم الحشر وذكر في كيفية موته وقبض عزرائيل روحه ما يقتضي منه العجب، ولم يرتض ذلك الفاضل السفاريني وقال في كتابه البحور الزاخرة: أخرج نعيم بن حماد في الفتن والحاكم في المستدرك عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: لا يلبثون- يعني الناس- بعد يأجوج وماجوج حتى تطلع الشمس من مغربها فتجف الأقلام وتطوى الصحف فلا يقبل من أحد توبة ويخر إبليس ساجدا ينادي إلهي مرني أن أسجد لمن شئت وتجتمع إليه الشياطين فتقول يا سيدنا إلى من نفزع؟ فيقول: إنما سألت ربي أن ينظرني إلى يوم البعث فانظرني إلى يوم الوقت المعلوم وقد طلعت الشمس من مغربها وهذا يوم الوقت المعلوم وتصير الشياطين ظاهرة في الأرض حتى يقول الرجل: هذا قريني الذي كان فالحمد لله الذي أخزاه ولا يزال إبليس ساجدا باكيا حتى تخرج الدابة فتقتله وهو ساجد انتهى. ومنه يعلم أن المراد باليوم المعلوم ما صرح به اللعين وهو قبل يوم النفخة الأولى بكثير، وهذا قول لم نر أحدا من المفسرين ذكره وهو الذي ارتضاه هذا الفاضل وقال: إن الخبر في حكم المرفوع لأنه لا يقال من قبل الرأي وليس ابن مسعود ككعب الأحبار ممن يتلقى من كتب أهل الكتاب. وأنت تعلم أنه إن صحت نسبة هذا الخبر إلى ابن مسعود ينبغي أن لا يعدل إلى القول بما يخالفه ولكن في صحة نسبته إليه رضي الله تعالى عنه عندي تردد. وقيل: المراد به وقت يعلم الله تعالى انتهاء أجله فيه وقد أخفى عنا وكذا عن اللعين، وأوجب على هذا أن يكون قبل النفخة الثانية. واستدل له بعضهم بأن اللعين كان مكلفا والمكلف لا يجوز أن يعلم أجله لأنه يقدم على المعصية بقلب فارغ حتى إذا قرب أجله تاب فتقبل توبته وهذا كالإغراء على المعاصي فيكون قبيحا. وأجيب بأن من علم الله تعالى من حاله أنه يموت على الطهارة والعصمة كالأنبياء عليهم السلام أو على الكفر والمعاصي كإبليس وأشياعه فإن إعلامه بوقت أجله لا يكون إغراء على المعصية لأنه لا يتفاوت حاله بسبب ذلك التعريف والإعلام، وظاهر النظم الكريم عند غير واحد أن هذه إجابة لدعائه كلا أو بعضا، وفي ذلك دليل لمن قال: إن دعاء الكافر قد يستجاب وهو الذي ذهب إليه الدبوسي وغيره من الفقهاء خلافا لما نقله في البزازية عن البعض من أنه لا يجوز أن يقال: إن دعاء الكافر مستجاب لأنه لا يعرف الله تعالى ليدعوه، والفتوى على الأول للظاهر ولقوله صلّى الله عليه وسلّم: «دعوة المظلوم مستجابة وإن كان كافرا» . وحمل الكفر على كفران النعمة لا كفران الدين خلاف الظاهر، ولا يلزم من الاستجابة المحبة والإكرام فإنها قد تكون للاستدراج. وقال بعض المحققين: الجملة إخبار عن كونه من المنظرين في قضاء الله تعالى من غير ترتب على دعائه، وادعى أن ورودها اسمية مع التعرض لشمول ما سأله اللعين الآخرين على وجه يشعر بأن السائل تبع لهم في ذلك صريح في أن ذلك إخبار بأن الإنظار المذكور لهم أزلا لا إنشاء لإنظار خاص به إجابة لدعائه، ويعلم من ذلك أيضا أن استنظاره كان طلبا لتأخير الموت إذ به يتحقق كونه من جملتهم لا لتأخير العقوبة كما قيل ولا يخلو عن حسن، والحكمة في أنظاره ذلك الزمن الطويل مع ما هو عليه اللعنة من الإفساد مما ينبغي أن يفوض علمها إلى خالق العباد. وقد ذكر الشهرستاني عن شارح الأناجيل الأربعة صورة مناظرة جرت بين الملائكة وبين إبليس بعد هذه الحادثة وقد ذكرت في التوراة، وهي أن اللعين قال للملائكة: إني أسلم أن لي إلها هو خالقي وموجدي وهو خالق الخلق لكن لي على حكمه أسئلة، الأول: ما الحكمة في الخلق لا سيما وقد كان عالما أن الكافر لا يستوجب عند خلقه إلا النار. الثاني: ما الفائدة في التكليف مع أنه لا يعود إليه منه نفع ولا ضرر وكل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 332 لهم من غير واسطة التكليف. الثالث: هب أنه كلفني بمعرفته وطاعته فلماذا كلفني بالسجود لآدم. الرابع: لما عصيته في ترك السجود فلم لعنني وأوجب عقابي مع أنه لا فائدة له ولا لغيره فيه ولي فيه عظم الضرر. الخامس: أنه لما فعل ذلك لم سلطني على أولاده ومكنني من إغوائهم وإضلالهم. السادس: لما استمهلته المدة الطويلة في ذلك فلم أمهلني، ومعلوم أن العالم لو كان خاليا من الشر لكان ذلك خيرا، قال شارح الأناجيل: فأوحى الله تعالى إليه من سرادق العظمة والكبرياء يا إبليس أنت ما عرفتني ولو عرفتني لعلمت أنه لا اعتراض علي في شيء من أفعالي فإني أنا الله لا إله إلا أنا لا أسأل عما أفعل انتهى. وفي السؤال السادس ما يؤيد القول الأول في الجملة. ولا يخفى أن هذه الشبهات يصعب على القائلين بالحسن والقبح العقليين الجواب عنها بل قال الإمام: إنه لو اجتمع الأولون والآخرون من الخلائق وحكموا بتحسين العقل وتقبيحه لم يجدوا من هذه الشبهات مخلصا وكان الكل لازما. ويعجبني ما يحكى أن سيف الدولة بن حمدان خرج يوما على جماعته فقال: قد عملت بيتا ما أحسب أن أحدا يعمل له ثانيا إلا إن كان أبا فراس وكان أبو فراس جالسا فقيل له: ما هو؟ فقال قولي: لك جسمي تعله ... فدمي لم تطله فابتدر أبو فراس قائلا: قال إن كنت مالكا ... فلي الأمر كله وعلل الزمخشري إجابته إلى استنظاره بأن في ذلك ابتلاء العباد وفي مخالفته أعظم الثواب وحكمه حكم ما خلق الله تعالى في الدنيا من صنوف الزخارف وأنواع الملاهي والملاذ وما ركب في الأنفس من الشهوات ليمتحن بها عباده. وتعقبه العلامة الثاني كغيره بأنه مبني على تعليل أفعاله تعالى بالأغراض وعدم إسناد خلق القبائح والشرور إليه سبحانه مع أنه ليس بشيء لأن حقيقة الابتلاء في حقه تعالى محال ومجازه لا يدفع السؤال، ولأن ما في متابعته من أليم العقاب أضعاف ما في مخالفته من عظيم الثواب بل لو لم يكن له الإنظار والتمكين لم يكن من العباد إلا الطاعات وترك المعاصي فلم يكن إلا الثواب كالملائكة. ولا يخفى ما فيه إلا أن قوله بعد: والأولى أن لا يخوض العبد في أمثال هذه الأسرار ويفوض حقيقتها إلى الحكيم المختار مما نقول به لأن معرفة ذلك في غاية الصعوبة على أرباب القال وأهل الجدل. هذا وإنما ترك التوقيت في هذه الآية ثقة بما وقع في سورة الحجر وص كما ترك ذكر النداء والفاء في الاستنظار والإنظار تعويلا على ما ذكر فيهما. فإن قلت: لا ريب في أن الكلام المحكي له عند صدوره عن المتكلم حالة مخصوصة تقتضي وروده على وجه خاص من وجوه النظم بحيث لو أخل بشيء من ذلك سقط الكلام عن رتبة البلاغة البتة فالكلام الواحد المحكي على وجوه شتى إن اقتضى الحال وروده على وجه معين من تلك الوجوه الواردة عند تلك الحكاية فذلك الوجه هو المطابق لمقتضى الحال والبالغ إلى رتبة البلاغة دون ما عداه من الوجوه ونقول حينئذ: لا نخفي أن استنظار اللعين إنما صدر عنه مرة واحدة لا غير فمقامه إن اقتضى إظهار الضراعة وترتيب الاستنظار على ما حاق به من اللعن والطرد على نهج استدعاء الجبر في مقابلة الكسر كما هو المتبادر من قوله: رَبِّ فَأَنْظِرْنِي [الحجر: 36، ص: 79] حسبما حكي عنه في السورتين فما حكي عنه هاهنا يكون بمعزل من المطابقة لمقتضى الحال فضلا عن العروج إلى معارج الإعجاز. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 333 «قلت» : أجاب مولانا شيخ الإسلام عن هذا السؤال بعد أن ساقه بأن مقام استنظاره مقتض لما ذكر من إظهار الضراعة وترتيب الاستنظار على الحرمان المدلول عليه بالطرد والرجم وكذا مقام الإنظار مقتض لترتيب الأخبار بالإنظار على الاستنظار. وقد طبق الكلام عليه في تينك السورتين وفى كل من مقامي الحكاية والمحكي جميعا حظه، وأما هاهنا فحيث اقتضى مقام الحكاية مجرد الإخبار بالاستنظار والإنظار سيقت الحكاية على نهج الإيجاز والاختصار من غير تعرض لكيفية كل منهما عند المخاطبة والجواب. ولا يلزم أن لا يكون ذلك نقلا للكلام على ما هو عليه ولا مطابقا لمقتضى المقام. فالذي يجب اعتباره في نقل الكلام إنما هو أصل معناه ونفس مدلوله وأما كيفية الإفادة فقد تراعى وقد لا تراعى حسب الاقتضاء. ولا يقدح في أصل الكلام تجريده عنها بل قد تراعى عند نقله كيفيات لم يراعها المتكلم أصلا بل قد لا يقدر على مراعاتها. وجميع المقالات المحكية في الآيات من ذلك القبيل وإلا لما كان الكثير منها معجزا، وملاك الأمر في المطابقة مقام الحكاية وأما مقام المحكي فإن كان مقتضاه موافقا لذلك وفي كل منهما حقه كما في السورتين وإلا لا كما فيما هنا فليفهم. قالَ استئناف كنظائره فَبِما أَغْوَيْتَنِي الفاء لترتيب مضمون الجملة التي بعد على الأنظار. والباء أما للقسم أو للسببية. وما على التقديرين مصدرية، والجار والمجرور متعلق بأقسم وقيل: إنه على تقدير السببية متعلق بما بعد اللام، وفيه أن لها الصدد على الصحيح فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها، وجوز بعضهم كون ما استفهامية لم يحذف ألفها وأن الجار متعلق بأغويتني ولا يخفى ضعفه. والإغواء خلق الغي. وأصل الغي الفساد ومنه غوى الفصيل وغوى إذا بشم وفسدت معدته، وجاء بمعنى الجهل من اعتقاد فاسد كما في قوله سبحانه: ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى [النجم: 2] وبمعنى الخيبة كما في قوله: فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لائما ومنه قوله تعالى: «وعصى آدم ربه فغوى» واستعمل بمعنى العذاب مجازا بعلاقة السببية. ومنه قوله تعالى: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ولا مانع عند أهل السنة أن يراد بالإغواء هنا خلق الغي بمعنى الضلال أي بما أضللتني وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. ونسبة الإغواء بهذا المعنى إلى الله عز وجل مما يقتضيه عموم قوله سبحانه: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام: 102، الرعد: 16، الزمر: 62] والمعتزلة يأبون نسبة مثل ذلك إليه سبحانه وقالوا في هذا تارة: إنه قول الشيطان فليس بحجة، وأولوه أخرى بأن الإغواء النسبة إلى الغي كأكفره إذا نسبه إلى الكفر أو إنه بمعنى إحداث سبب الغي وإيقاعه وهو الآمر بالسجود. وقال بعضهم: إن الغي هنا بمعنى الخيبة أي بما خيبته من رحمتك أو الهلاك أي بما أهلكته بلعنك إياه وطردك له، والذي دعاهم إلى هذا كله عدم قولهم بأن الله تعالى خالق كل شيء وأنه سبحانه لا خالق غيره ولم يكفهم ذلك حتى طعنوا بأهل السنة القائلين بذلك. وما الظن بطائفة ترضى لنفسها من خفايا الشرك بما لم يسبق إبليس عليه اللعنة نعوذ بالله سبحانه وتعالى من التعرض لسخطه. نعم الإغواء بمعنى الترغيب بما فيه الغواية والأمر به كما هو مراد اللعين من قوله: لَأُغْوِيَنَّهُمْ مما لا يجوز من الله تعالى شأنه كما لا يخفى، ثم إن كانت الباء للقسم يكون المقسم به صفة من صفات الأفعال وهو مما يقسم به في العرف وإن لم تجر الفقهاء به أحكام اليمين. ولعل القسم وقع من اللعين بهما جميعا فحكى تارة قسمه بأحدهما وأخرى بالآخر، وإن كانت سببية فالقسم بالعزة أي فبسبب إغوائك إياي لأجلهم أقسم بعزتك لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ أي لآدم عليه السلام وذريته ترصدا بهم كما يقعد القطاع للسابلة صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ الموصل إلى الجنة وهو الحق الذي فيه رضاك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 334 أخرج أحمد، والنسائي، وابن حبان، والطبراني، والبيهقي في شعب الإيمان عن سبرة بن الفاكه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الشيطان قعد لابن آدم في طرقه فقعد له بطريق الإسلام فقال أتسلم وتذر دينك ودين آبائك؟ فعصاه فأسلم ثم قعد له بطريق الهجرة فقال: أتهاجر وتذر أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجر كالفرس في طوله؟ فعصاه فهاجر ثم قعد له بطريق الجهاد فقال: هو جهد النفس والمال فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال فعصاه فجاهد ثم قال صلّى الله عليه وسلّم: فمن فعل ذلك منهم فمات أو وقصته دابته فمات كان حقا على الله تعالى أن يدخله الجنة» ولعل الاقتصار منه صلّى الله عليه وسلّم على هذه المذكورات للاعتناء بشأنها والتنبيه على عظم قدرها لما أن المقام قد اقتضى ذلك لا للحصر. ونظير ذلك ما روي عن ابن عباس. وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما. وغيرهما من تفسير الصراط المستقيم بطريق مكة والكلام من باب الكناية أو التمثيل، ونصب الصراط إما على أنه مفعول به بتضمين «أقعدن» معنى ألزمن أو على نزع الخافض أي على صراطك كقولك ضرب زيد الظهر والبطن أو على الظرفية وجاء نصب ظرف المكان المختص عليها قليلا، ومن ذلك في المشهور قوله: لدن بهز الكف يعسل متنه ... فيه كما عسل الطريق الثعلب ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ أي من الجهات الأربع التي يعتاد هجوم العدو منها، والمراد لأسوّلن لهم ولأضلنهم بقدر الإمكان إلا أنه شبه حال تسويله ووسوسته لهم كذلك بحال إتيان العدو لمن يعاديه من أي جهة أمكنته ولذا لم يذكر الفوق والتحت إذ لا إتيان منهما فالكلام من باب الاستعارة التمثيلية ولَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ على ما قيل ترشيح لها، وبعضهم لم يخرج الكلام على التمثيل واعتذر عن ترك جهة الفوق بأن الرحمة تنزل منها وعن ترك جهة التحت بأن الإتيان منها يوحش، والاعتذار عن الأول بما ذكر أخرجه غير واحد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وروي أيضا عن عكرمة. والشعبي والاعتذار عن الثاني نسبه الطبرسي إلى الحبر أيضا، ولا يبعد على ذلك أن يكون الكلام تمثيلا أيضا ويكون الفرق بين التوجيهين بأن ترك هاتين الجهتين على الأول لعدمهما في الممثل به وعلى الثاني لعدمها في الممثل. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ من قبل الآخرة لأنها مستقبلة آتية وما هو كذلك كأنه بين الأيدي وَمِنْ خَلْفِهِمْ من قبل الدنيا لأنها ماضية بالنسبة إلى الآخرة ولأنها فانية متروكة مخلفة وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ من جهة حسناتهم وسيئاتهم، وتفسير الإيمان بالحسنات والشمائل بالسيئات لأنهم يجعلون المحبوب في جهة اليمين وغيره في جهة الشمال كما قال: بثين أفي يمنى يديك جعلتني ... فأفرح أم صيرتني في شمالك وقال الأصمعي: يقال هو عندنا باليمين أي بمنزلة حسنة وبالشمال على عكس ذلك، والكلام على هذا يجوز أن يكون فيه مجازات أو استعارات أو كنايات. ونظير هذا ما قيل: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ من حيث يعلمون ويقدرون على التحرز عنه وَمِنْ خَلْفِهِمْ من حيث لا يعلمون وعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ من حيث يتيسر لهم أن يعلموا ويتحرزوا ولكن لم يفعلوا لعدم تيقظهم واحتياطهم ومن حيث لا يتيسر لهم ذلك، وقال بعض حكماء الإسلام: إن في البدن قوى أربعا: القوة الخالية التي تجتمع فيها مثل المحسوسات وموضعها البطن المقدم من الدماغ وإليها الإشارة بقوله: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ. والقوة الوهمية التي تحكم في غير المحسوسات بالأحكام المناسبة للمحسوسات ومحلها البطن المؤخر من الدماغ وإليها الإشارة بقوله: وَمِنْ خَلْفِهِمْ. والقوة الشهوانية ومحلها الكبد وهو عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 335 يمين الإنسان وإليها الإشارة بقوله: وَعَنْ أَيْمانِهِمْ. والقوة الغضبية ومحلها القلب الذي هو في الشق الأيسر وإليها الإشارة بقوله: وَعَنْ شَمائِلِهِمْ والشيطان ما لم يستعن بشيء من هذه القوى لا يقدر على إلقاء الوسوسة، وهذا عندي نوع من الإشارة كما لا يخفى، وقيل: غير ذلك، وإنما عدي الفعل إلى الأولين بحرف الابتداء لأنه منهما متوجه إليهم وإلى الآخرين بحرف المجاوزة فإن الآتي منهما كالمنحرف عنهم المار على عرضهم، ونظيره قولهم: جلست عن يمينه، وذكر القطب في بيان وجه ذلك ما بناه على ما قاله بعض حكماء الإسلام وهو أن من للاتصال وعن الانفصال، وأثر الشيطان في قوتي الدماغ حصول العقائد الباطلة كالشرك والتشبيه والتعطيل، وهي مرتسمة في النفس الإنسانية متصلة بها، وفي الشهوة والغضب حصول الأعمال السيئة الشهوانية والغضبية وهي تنفصل عن النفس وتنعدم فلهذا أورد في الجهتين الأوليين مِنْ الاتصالية وفي الآخرين عَنْ الانفصالية، وقيل: خص اليمين والشمال بعن لأن ثمة ملكين يقتضيان التجاوز عن ذلك وفيه نظر لا يخفى، وادعى بعضهم أن الآية كالدليل على أن اللعين لا يمكنه أن يدخل في بدن ابن آدم ويخالطه إذ لو أمكنه ذلك لذكره في باب المبالغة وحديث «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» من باب التمثيل. وقد يجاب بأن التمثيل اقتضى عدم الذكر فتدبر وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ أي مطيعين، وإنما قال ذلك ظنا كما روي عن الحسن. وأبي مسلم لقوله تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ [سبأ: 20] لما رأى أن للنفس تسع عشرة قوة الحواس الظاهرة والباطنة والشهوة والغضب. والقوى السبع النباتية الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة وأنها بأسرها تدعو النفس إلى عالم الجسم وأن ليس هناك ما يدعو إلى عالم الأرواح إلا قوة واحدة وهي العقل وما يصنع واحد مع متعدد: أرى ألف بان لا يقوم بهادم ... فكيف يبان خلفه ألف هادم وعن الجبائي أنه سمع ذلك من الملائكة فقاله على سبيل القطع، وقيل: إنه رآه قبل في اللوح المحفوظ. ووجد إما بمعنى صادف فينصب مفعولا واحدا وهو أَكْثَرَهُمْ وشاكرين حال، وإما بمعنى علم فينصب مفعولين ثانيهما شاكِرِينَ والجملة إما معطوفة على المقسم عليه وإما مستأنفة، وإنما لم يفرعها على ما تقدم لأن مضمونها بمقتضى الجبلة أيضا لا بمجرد إغوائه، ووجه التعبير بالأكثر ظاهر قالَ استئناف كما مر غير مرة: اخْرُجْ مِنْها أي من الجنة أو من زمرة الملائكة أو من السماء الخلاف السابق مَذْؤُماً أي مذموما كما روي عن ابن زيد أو مهانا لعينا كما روي عن ابن عباس وقتادة، وفعله ذأم. وقرأ الزهري «مذوما» بذال مضمومة وواو ساكنة وفيه احتمالان الأول أن يكون مخففا من المهموز بنقل حركة الهمزة إلى الساكن ثم حذفها، والثاني أن يكون من ذام بالألف كباع وكان قياسه على هذا مذيم كمبيع إلا أنه أبدلت الواو من الياء على حد قولهم. مكول في مكيل مع أنه من الكيل، ونصبه على الحال وكذا قوله تعالى: مَدْحُوراً وهو من الدحر بمعنى الطرد والإبعاد، وجوز في هذا أن يكون صفة، واللام في قوله سبحانه: لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ على ما في الدر المصون موطئة للقسم ومن شرطية في محل رفع مبتدأ. وقوله عز اسمه: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ جواب القسم وهو سادّ مسد جواب الشرط، والخلاف في خبر المبتدأ في مثل ذلك مشهور، وجوز أن تكون اللام لام الابتداء ومن موصولة مبتدأ صلتها تَبِعَكَ والجملة القسمية خبر. وقرأ عصمة عن عاصم «لمن» بكسر اللام فقيل: إنها متعلقة بلأملأن. ورد بأن لام القسم لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، وقيل: إنها متعلقة بالذأم والدحر على التنازع وأعمال الثاني أي أخرج بهاتين الصفتين لأجل اتباعك، وقيل: إن الجار والمجرور خبر مبتدأ محذوف يقدر مؤخرا أي لمن اتبعك هذا الوعيد. ودل عليه قوله سبحانه: لَأَمْلَأَنَّ إلخ، ولعل ذلك مراد الزمخشري بقوله: أن لَأَمْلَأَنَّ في محل المبتدأ ولَمَنْ تَبِعَكَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 336 خبره كما يرشد إليه بيان المعنى. ومِنْكُمْ بمعنى منك ومنهم فغلب فيه المخاطب كما في قوله سبحانه: أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [النمل: 55] ثم إن الظاهر أن هذه المخاطبات لإبليس عليه اللعنة كانت منه عز وجل من غير واسطة وليس المقصود منها الإكرام والتشريف بل التعذيب والتعنيف، وذهب الجبائي إلى أنها كانت بواسطة بعض الملائكة لأن الله تعالى لا يكلم الكافر وفيه نظر. هذا ومن باب الإشارة في الآيات: المص الألف إشارة إلى الذات الأحدية واللام إلى الذات مع صفة العلم والميم إلى معنى محمد وهي حقيقته والصاد إلى صورته عليه الصلاة والسلام. وقد يقال: الألف إشارة إلى التوحيد والميم إلى الملك واللام بينهما واسطة لتكون بينهما رابطة والصاد لكونه حرفا كرى الشكل قابلا لجميع الأشكال كما قال الشيخ الأكبر قدس سره: فيه إشارة إلى أن الأمر وإن ظهر بالأشكال المختلفة والصورة المتعددة أوله وآخره سواء، ولا يخفى لطف افتتاح هذه السورة بهذه الأحرف بناء على ما ذكره الشيخ قدس سره في فتوحاته من أن لكل منها ما عدا الألف الأعراف وأما الألف فقد ذكر نفعنا الله تعالى ببركات علومه أنه ليس من الحروف عند من شم رائحة من الحقائق لكن قد سمته العامة حرفا فإذا قال المحقق ذلك فإنما هو على سبيل التجوز في العبادة والله تعالى أعلم بحقيقة الحال كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ أي ضيق من حمله فلا تسعه لعظمه فتتلاشى بالفناء والوحدة والاستغراق في عين الجمع لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ أي ليمكنك الإنذار والتذكير إذ بالاستغراق لا ترى إلا الحق فلا يتأتى منك ذلك وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ من قرى القلوب أَهْلَكْناها أفسدنا استعدادها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أي بائتين على فراش الغفلة في ليل الشباب أَوْ هُمْ قائِلُونَ تحت ظلال الأمل في نهار المشيب وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ هو عند كثير من الصوفية اعتبار الأعمال. وذكروا أن لسان ميزان الحق هو صفة العدل وإحدى كفتيه هو عالم الحس والكفة الأخرى هو عالم العقل فمن كانت مكاسبه من المعقولات الباقية والأخلاق الفاضلة والأعمال الخيرية المقرونة بالنية الصادقة ثقلت أي كانت ذا قدر وأفلح هو أي فاز بالنعيم الدائم ومن كانت مقتنياته من المحسوسات الفانية واللذات الزائلة والشهوات الفاسدة والأخلاق الرديئة خفت ولم يعتن بها وخسر هو نفسه لحرمانه النعيم وهلاكه وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ إذ جعلناكم خلفاء فيها وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ متعددة دون غيركم فإن له معيشة واحدة. وذلك لأن الإنسان فيه ملكية وحيوانية وشيطانية فمعيشة روحه معيشة الملك ومعيشة بدنه الحيوان ومعيشة نفسه الأمارة معيشة الشيطان. وله معايش غير ذلك وهي معيشة القلب بالشهود. ومعيشة السر بالكشوف. ومعيشة سر السر بالوصال قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ ولو شكرتم ما رضيتم بالدون. وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ أي ابتدأنا ذلك بخلق آدم عليه السلام وتصويره ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فإنه المظهر الأعظم، وفي الخبر خلق الله آدم على صورته وفي رواية على صورة الرحمن فَسَجَدُوا وانقادوا للحق إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ لنقصان بصيرته قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ أراد اللعين أنه من الحضرة الروحانية وأن آدم عليه السلام ليس كذلك قالَ فَاهْبِطْ مِنْها أي من تلك الحضرة فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها لأن الكبر ينافيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ الأذلاء بالميل إلى مقتضيات النفس قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي قسم بما هو من صفات الأفعال ولم يكن محجوبا عنها بل كان محجوبا عن الذات الأحدية لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ وهو طريق التوحيد ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ أي لأجتهدن في إضلالهم، وقد تقدم ما قاله بعض حكماء الإسلام في ذلك، وفي تأويلات النيسابوري كلام كثير فيه وما قاله البعض أحسنه في هذا الباب، وذكر بعضهم لعدم التعرض لجهتي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 337 الفوق والتحت وجها وهو أن الإتيان من الجهة الأولى غير ممكن له لأن الجهة العلوية هي التي تلي الروح ويرد منها الإلهامات الحقة والإلقاءات الملكية ونحو ذلك، والجهة السفلية يحصل منها الأحكام الحسية والتدابير الجزئية في باب المصالح الدنيوية وذلك غير موجب للضلالة بل قد ينتفع به في العلوم الطبيعية والرياضية وفيه نظر. وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (1) مستعملين ما خلق لهم لما خلق له. قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً حقيرا مَدْحُوراً مطرودا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ بالأنانية ورؤية غير الله تعالى وارتكاب المعاصي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ فتبقون محبوسين في سجن الطبيعة معذبين بنار الحرمان عن المراد وهو أشد العذاب وكل شيء دون فراق المحبوب سهل وهو سبحانه حسبنا ونعم الوكيل. وَيا آدَمُ اسْكُنْ اي وقلنا كما وقع في سورة البقرة فهذه القصة بتمامها معطوفة على مثلها وهو قوله سبحانه: قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا على ما ذهب إليه غير واحد من المحققين، وإنما لم يعطفوه على ما بعد   (1) الى هنا ربع القرآن ولله الحمد اه منه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 338 قالَ أي قال يا إبليس اخرج ويا آدم اسكن لأن ذلك في مقام الاستئناف والجزاء لما حلف عليه اللعين وهذا من تتمة الامتنان على بني آدم والكرامة لأبيهم، ولا على ما بعد قُلْنا لأنه يؤول إلى قلنا للملائكة يا آدم. وادعى بعضهم أن الذي يقتضيه الترتيب العطف على ما بعد قالَ وبينه بماله وجه إلا أنه خلاف الظاهر، وتصدير الكلام بالنداء للتنبيه على الاهتمام بالمأمور به، وتخصيص الخطاب بآدم عليه السلام للإيذان بأصالته بالتلقي وتعاطي المأمور به. واسْكُنْ من السكنى وهو اللبث والإقامة والاستقرار دون السكون الذي هو ضد الحركة، وقد تقدم الكلام في ذلك وفي قوله سبحانه: أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وتوجيه الخطاب إليهما في قوله تعالى: فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما لتعميم التشريف والإيذان بتساويهما في مباشرة المأمور به فإن حواء أسوة له عليه السلام في حق الأكل بخلاف السكنى فإنها تابعة له فيها ولتعليق النهي الآتي بهما صريحا، والمعنى: فكلا منها حيث شئتما كما في البقرة، ولم يذكر رَغَداً [البقرة: 35، 58] هنا ثقة بما ذكر هناك. وقوله سبحانه: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ مبالغة في النهي عن الأكل منها وقرىء «هذي» وهو الأصل إلا أنه حذفت الياء وعوض عنها الهاء فهي هاء عوض لا هاء سكت. قال ابن جني: ويدل على أن الأصل هو الياء قولهم في المذكر: ذا والألف بدل من الياء إذ الأصل ذي بالتشديد بدليل تصغيره على ذيا وإنما يصغر الثلاثي دون الثنائي كما ومن فحذفت إحدى اليائين تخفيفا ثم أبدلت الأخرى ألفا كراهة أن يشبه آخره آخر كي. فَتَكُونا أي فتصيرا مِنَ الظَّالِمِينَ أي الذين ظلموا أنفسهم، وتكونا يحتمل الجزم على العطف على تَقْرَبا والنصب على أنه جواب النهي فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ أي فعل الوسوسة لأجلهما أو ألقى إليهما الوسوسة وهي في الأصل الصوت الخفي المكرر، ومنه قيل لصوت الحلي: وسوسة، وقد كثرت فعللة في الأصوات كهينمة وهمهمة وخشخشة، وتطلق على حديث النفس أيضا وفعلها وسوس وهو لازم ويقال: رجل موسوس بكسر الواو ولا تفتح على ما قاله ابن الأعرابي. وقال غيره: يقال موسوس بالفتح وموسوس إليه فيكون الأول على الحذف والإيصال والكلام في كيفية وسوسة اللعين قد تقدمت الإشارة إليه في سورة البقرة. لِيُبْدِيَ لَهُما أي ليظهر لهما، واللام إما للعاقبة لأن الشيطان لم يقصد بوسوسته ذلك ولم يخطر له ببال وإنما آل الأمر إليه. وإما للتعليل على ما هو الأصل فيها، ولا يبعد أنه أراد بوسوسته أن يسوءهما بانكشاف عورتيهما ولذلك عبر عنهما بالسوأة، ويكون هذا مبينا على الحدس أو العلم بالسماع من الملائكة أو الاطلاع على اللوح. قيل: وفي ذلك دليل على أن كشف العورة في الخلوة وعند الزوج من غير حاجة قبيح مستهجن في الطباع. ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما أي ما غطي وستر عنهما من عوراتهما وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر وكانت مستورة بالنور على ما أخرجه الحكيم الترمذي وغيره عن وهب بن منبه أو بلباس كالظفر على ما أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي، وجمع السوءات على حد صَغَتْ قُلُوبُكُما [التحريم: 4] واعتبار الاجزاء بعيد، والمتبادر من هذا الكلام حقيقته: وقيل هو كناية عن إزالة الحرمة وإسقاط الجاه، ووُورِيَ بواوين ماضي وارى كضارب وضورب أبدلت ألفه واوا فالواو الأولى فاء الكلمة والثانية زائدة. وقرأ عبد الله «أورى» بالهمزة لأن القاعدة إذ اجتمع واوان في أول كلمة فإن تحركت الثانية أو كان لها نظيرا متحرك وجب إبدال الأولى همزة تخفيفا مثال الأول أو يصل وأواصل في تصغير واصل وتصغيره ومثال الثاني أولى أصله وولى فأبدلت الأولى لما تحركت الثانية في الجمع وهو أول فإن لم يتحرك بالفعل أو القوة جاز الإبدال وعدمه كما هنا قاله الشهاب نقلا عن النحاة. وقرىء «سوأتهما» بالإفراد والهمزة على الأصل و «سوتهما» بإبدال الهمزة واوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 339 وإدغام الواو في الواو، وقرىء «سواتهما» بالجمع وطرح حركة الهمزة على ما قبلها وحذفها و «سوأتهما» بالطرح وقلب الهمزة واوا الإدغام وَقالَ عطف على وسوس بطريق البيان ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ أي الأكل منها إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ استثناء مفرغ من المفعول لأجله بتقدير مضاف أو حذف حرف النفي ليكون علة أي كراهية أن تكونا أو لئلا تكونا ملكين أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ أي لا يموتون أصلا أو الذين يخلدون في الجنة. وقرأ ابن عباس ويحيى بن كثير مَلَكَيْنِ بكسر اللام. قال الزجاج: ويشهد لهذه القراءة قوله تعالى حكاية عن اللعين هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى [طه: 120] واستدل بالآية على أفضلية الملائكة حيث إن اللعين قال ذلك ولم ينكر عليه، وارتكب آدم عليه السلام المنهي عنه طمعا فيما أشار إليه الشيطان من الصيرورة ملكا فلولا أنه أفضل لم يرتكبه، وأجيب بأن رغبتهما إنما كانت في أن يحصل لهما أوصاف الملائكة من الكمالات الفطرية والاستغناء عن الأطعمة والأشربة ونحو ذلك ونحن لا نمنع أفضلية الملائكة من هذه الأوجه وإنما نمنع أفضليتهم من كل الوجوه والآية لا تدل عليه، وأيضا قد يقال: إن رغبتهما كانت في الخلود فقط وفي آية طه ما يشير إليه حيث عقب فيها الترغيب في الخلود بالأكل، واعترض بأن رغبتهما في الخلود تستلزم الكفر لما يلزم ذلك من إنكار البعث والقيامة، ومن ثم قال الحسن لعمرو بن عبيد لما قال له: إن آدم وحواء هل صدقا قول الشيطان: معاذ الله تعالى لو صدقا لكانا من الكافرين، وأجيب بأن المراد من الخلود طول المكث والتصديق به ليس بكفر ولو سلم أن المراد الدوام الأبدي فلا نسلم أن اعتقاد ذلك إذ ذاك كفر لأن العلم بالموت والبعث بعده يتوقف على الدليل السمعي ولعله لم يصل إليهما وقتئذ. وادعى بعضهم أن المراد بالخلود الخلود العارض بعد الموت بدخول الجنة وحينئذ لا إشكال إلا أنه خلاف الظاهر. وعن السيد المرتضى في معنى الآية أنه قال: إن اللعين أوهمهما أن المنهي عن تناول الشجرة الملائكة والخالدون خاصة دونهما كما يقول أحدنا لغيره: ما نهيت عن كذا إلا أن تكون فلانا يريد أن المنهي هو فلان دونك، وهو كما ترى وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ أقسم لهما، وإنما عبر بصيغة المفاعلة للمبالغة لأن من يباري أحدا في فعل يجد فيه فاستعمل في لازمه، وقيل: المفاعلة على بابها، والقسم وقع من الجانبين لكنه اختلف متعلقه فهو أقسم لهما على النصح وهما أقسما له على القبول. وتعقب بأن هذا إنما يتم لوجود المقاسمة عن ذكر المقسم عليه وهو النصيحة أما حيث ذكر فلا يتم إلا أن يقال: سمي قبول النصيحة نصيحة للمشاكلة والمقابلة كما قيل في قوله تعالى: وَواعَدْنا مُوسى [الأعراف: 142] أنه سمي التزام موسى عليه السلام الوفاء والحضور للميعاد ميعادا فأسند التعبير بالمفاعلة، وقيل: قالا له أتقسم بالله تعالى إنك لمن الناصحين؟ وأقسم لهما فجعل ذلك مقاسمة. وعلى هذا فيكون- كما قال ابن المنير- في الكلام لف لأن آدم وحواء عليهما السلام لا يقسمان بلفظ التكلم بل بلفظ الخطاب، وقيل: إنه إلى التغليب أقرب، وقيل: إنه لا حاجة إليه بأن يكون المعنى حلفا عليه بأن يقول لهما: إني لكما لمن الناصحين فَدَلَّاهُما أي حطهما عن درجتهما وأنزلهما عن رتبة الطاعة إلى رتبة المعصية فهو من دلى الدلو في البئر كما قاله أبو عبيدة وغيره. وعن الأزهري أن معناه أطمعهما. وأصله من تدلية العطشان شيئا في البئر فلا يجد ما يشفي غليله. وقيل: هو من الدالة وهي الجرأة في كما قال: أظن الحلم دل على قومي ... وقد يستجهل الرجل الحليم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 340 فأبدل أحد حرفي التضعيف ياء بِغُرُورٍ أي بما غرهما به من القسم أو متلبسين به، فالباء للمصاحبة أو الملابسة. والجار والمجرور حال من الفاعل أو المفعول. وجعل بعضهم الغرور مجازا عن القسم لأنه سبب له ولا حاجة إليه، وسبب غرورهما على ما قاله غير واحد أنهما ظنا أن أحدا لا يقسم بالله تعالى كاذبا ورووا في ذلك خبرا. وظاهر هذا أنهما صدقا ما قاله فأقدما على ما نهيا عنه. وذهب كثير من المحققين أن التصديق لم يوجد منهما لا قطعا ولا ظنا. وإنما أقدما على المنهي عنه لغلبة الشهوة كما نجد من أنفسنا أن نقدم على الفعل إذا زين لنا الغير ما نشتهيه وإن لم نعتقد أن الأمر كما قال: ولعل كلام اللعين على هذا من قبيل المقدمات الشعرية أثار الشهوة حتى غلبت ونسي معها النهي فوقع الإقدام من غير روية، وقال القطب: يمكن أن يقال إن اللعين لما وسوس لهما بقوله: ما نَهاكُما إلخ فلم يقبلا منه عدل إلى اليمين على ما قال سبحانه وَقاسَمَهُما فلم يصدقاه أيضا فعدل بعد ذلك إلى شيء آخر وكأنه أشار إليه سبحانه بقوله تعالى: فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ وهو أنه شغلهما باستيفاء اللذات حتى صارا مستغرقين بها فنسي النهي كما يشير إليه قوله تعالى: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: 115] وجعل العتاب الآتي عى ترك التحفظ فتدبر فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ أي أكلا منها أكلا يسيرا بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما قال الكلبي: تهافت عنهما لباسهما فأبصر كل منهما عورة صاحبه فاستحيا وَطَفِقا أخذا وجعلا فهو من أفعال الشروع وكسر الفاء فيه أفصح من فتحها وبه قرأ أبو السمال يَخْصِفانِ أي يرقعان ويلزقان ورقة فوق ورقة، وأصل معنى الخصف الخرز في طاقات النعال ونحوها بإلصاق بعضها ببعض. وقيل أصله الضم والجمع عَلَيْهِما أي على سوآتها أو على بدنهما ففي الكلام مضاف مقدر. وقيل: الضمير عائد على «سوءاتهما» . مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وكان ذلك بعض ورق التين على ما روي عن قتادة. وقيل: الموز وقرأ الزهري يَخْصِفانِ من أخصف، وأصله خصف إلا أنه- كما قال الجاربردي- نقل إلى أخصف للتعدية، وضمن الفعل لذلك معنى التصيير فصار الفاعل في المعنى مفعولا للتصيير علا لأصل الفعل فيكون التقدير يخصفان أنفسهما أي يجعلان أنفسهما خاصفين عليهما من ورق الجنة فحذف مفعول التصيير. وجوز بعضهم كون خصف واخصف بمعنى. وقرأ الحسن «يخصّفان» بفتح الياء وكسر الخاء وتشديد الصاد من الافتعال، وأصله يختصفان سكنت التاء وأدغمت ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين. وقرأ يعقوب بفتحها وقرىء «يخصّفان» من خصف المشدد بفتح الخاء وقد ضمت اتباعا للياء وهي قراءة عسرة النطق وَناداهُما رَبُّهُما بطريق العتاب والتوبيخ أَلَمْ أَنْهَكُما تفسير للنداء فلا محل له من الإعراب أو معمول لقول محذوف أي وقال أو قائلا: ألم أنهكما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ إشارة إلى الشجرة التي نهيا عن قربانها، والتثنية لتثنية المخاطب. وَأَقُلْ لَكُما عطف على «أنهكما» أي ألم أقل لكما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ أي ظاهر العداوة، وهذا- على ما قيل: عتاب وتوبيخ على الاغترار بقول العدو كما أن الأول عتاب على مخالفة النهي. ولم يحك هذا القول هاهنا، وقد حكي في سورة بقوله سبحانه: إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ [طه: 117] الآية ولَكُما متعلق بعدو لما فيه من معنى الفعل أو بمحذوف وقع حالا منه. واستدل بعضهم بالآية على أن مطلق النهي للتحريم لما فيها من اللوم الشديد مع الندم والاستغفار المفهوم مما يأتي. والأكثرون على أن النهي هنا للتنزيه وندمهما واستغفارهما على ترك الأولى وهو في نظرهما عظيم وقد يلام عليه أشد اللوم إذا كان فاعله من المقربين قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا أي ضررناها بالمعصية، وقيل: نقصناها حظها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 341 بالتعرض للإخراج من الجنة، وحذفا حرف النداء مبالغة في التعظيم لما أن فيه طرفا من معنى الأمر. وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا ذلك بعدم العقاب عليه وَتَرْحَمْنا بالرضا علينا، وقيل: المراد وإن لم تستر علينا بالحفظ عما يتسبب نقصان الحظ وترحمنا بالتفضل علينا بما يكون عوضا عما فاتنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ جواب قسم مقدر دل على جواب الشرط السابق على ما قبل. واستدل بالآية على أن الصغائر يعاقب عليها مع اجتناب الكبائر إن لم يغفر الله تعالى. وذهبت المعتزلة إلى أن اجتناب الكبائر يوجب تكفير الصغائر وإن لم يتب العبد منها، وجعلوا لذلك ما ذكر هنا جاريا على عادة الأولياء والصالحين في تعظيمهم الصغير من السيئات وتصغيرهم العظيم من الحسنات فلا ينافي كونهما مغفورا لهما، والكثير من أهل السنة جعلوه من باب هضم النفس بناء على أن ما وقع كان عن نسيان ولا كبيرة ولا صغيرة معه. وادعى الإمام أن ذلك الإقدام كان صغيرة، وكان قبل نبوة آدم عليه السلام إذ لا يجوز على الأنبياء عليهم السلام بعد النبوة كبيرة ولا صغيرة، والكلام في هذه المسألة مشهور قالَ استئناف كما مر مرارا اهْبِطُوا المأثور عن كثير من السلف أنه خطاب لآدم وحواء عليهما السلام وإبليس عليه اللعنة، وكرر الأمر له تبعا لهما إشارة إلى عدم انفكاكه عن جنسهما في الدنيا أو أن الأمر وقع مفرقا وهذا نقل له بالمعنى وإجمال له كما في قوله تعالى يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ [المؤمنون: 51] وقيل: إن الأمر بالنسبة إلى اللعين غير ما تقدم فإنه أمر له بالهبوط من حيث وسوس. واختار الفراء كونه خطابا لهما ولذريتهما وفيه خطاب المعدوم، وقيل: إنه لهما فقط لقوله سبحانه: قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً [طه: 123] والقصة واحدة، وضمير الجمع لكونهما أصل البشر فكأنهم هم ومن الناس من قال: إن مختار الفراء هو هذا، وقيل: إنه لهما ولإبليس والحية. واعترض وأجيب بما مر في سورة البقرة، والظاهر من النظم الكريم أن آدم عليه السلام عاجله ربه سبحانه بالعتاب والتوبيخ على فعله ولم يتخلل هناك شيء، ونقل الأجهوري عن حجة الإسلام الغزالي أنه عليه السلام لما أكل من الشجرة تحركت معدته لخروج الفضلة ولم يكن ذلك مجعولا في الجنة في شيء من أطعمتها إلا في تلك الشجرة فلذلك نهي عن أكلها فجعل يدور في الجنة فأمر الله تعالى ملكا يخاطبه فقال له: أي شيء تريد يا آدم؟ قال: أريد أن أضع ما في بطني من الأذى فقال له: في أي مكان تضعه أعلى الفرش أم على السرر أم في الأنهار أم تحت ظلال الأشجار هل ترى هاهنا مكانا يصلح لذلك ثم أمره بالهبوط وأنا لا أرى لهذا الخبر صحة، ومثله ما روي عن محمد بن قيس قال: إنه عليه السلام لما أكل من الشجرة ناداه ربه يا آدم لم أكلت منها وقد نهيتك قال: أطعمتني حواء فقال سبحانه: يا حواء لم أطعمتيه؟ قالت أمرتني الحية فقال للحية: لم أمرتها؟ قالت: أمرني إبليس فقال الله تعالى: أما أنت يا حواء فلأدمينّك كل شهر كما أدميت الشجرة. وأما أنت يا حية فأقطع رجليك فتمشين على وجهك وسيشدخ وجهك كل من لقيك. وأما أنت يا إبليس فملعون. بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ في موضع الحال من فاعل «اهبطوا» وهي حال مقارنة أو مقدرة، واختار بعض المعربين كون الجملة استئنافية كأنهم لما أمروا بالهبوط سألوا كيف يكون حالنا؟ فأجيبوا بأن بعضكم لبعض عدو، وأمر العداوة على تقدير دخول الشيطان في الخطاب ظاهر، وأما على تقدير التخصيص بآدم وحواء عليهما السلام فقد قيل: إنه باعتبار أن يراد بهما ذريتهما إما بالتجوز كإطلاق تميم على أولاده كلهم أو يكتفى بذكرهما عنهم، واختار بعضهم كون العداوة هنا بمعنى الظلم أي يظلم بعضكم بعضا بسبب تضليل الشيطان فليفهم. وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ أي استقرار أو موضع استقرار فهو إما مصدر ميمي أو اسم مكان. وجوز أن يكون اسم مفعول بمعنى ما استقر ملككم عليه وجاز تصرفكم فيه. ولا يخفى أنه خلاف الظاهر ومحتاج إلى الحذف الجزء: 4 ¦ الصفحة: 342 والإيصال، واللفظ في نفسه يحتمل أن يكون اسم زمان إلا أنه غير محتمل هنا لأنه يتكرر مع قوله سبحانه: وَمَتاعٌ أي بلغة إِلى حِينٍ يريد به وقت الموت، وقيل: القيامة وتجعل السكنى في القبر تمتعا في الأرض أو يقال: معنى «لكم» لجنسكم ولمجموعكم، والظرف قيل: متعلق بمتاع أو به وبمستقر على التنازع إن كان مصدرا، وقيل: إنه متعلق بمحذوف وقع صفة لمتاع. قالَ أعيد للاستئناف إما للإيذان بعدم اتصال ما بعده بما قبله. وإما لإظهار العناية بما بعده وهو قوله سبحانه: فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ عند البعث يوم القيامة. وقرأ أهل الكوفة غير عاصم تُخْرَجُونَ بفتح التاء وضم الراء على البناء للفاعل يا بَنِي آدَمَ خطاب للناس كافة. واستدل به على دخول أولاد الأولاد في الوقف على الأولاد. ولا يخفى سر هذا العنوان في هذا المقام. قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً أي خلقنا لكم ذلك بأسباب نازلة من السماء كالمطر الذي ينبت به القطن الذي يجعل لباسا قاله الحسن، وعن أبي مسلم أن المعنى أعطيناكم ذلك ووهبنا لكم وكل ما أعطاه الله تعالى لعبده فقد أنزله عليه من غير أن يكون هناك علو أو سفل بل هو جار مجرى التعظيم كما تقول: رفعت حاجتي إلى فلان وقصتي إلى الأمير وليس هناك نقل من سفل إلى علو، وقيل: المراد قضينا لكم ذلك وقسمناه وقضاياه تعالى وقسمه توصف بالنزول من السماء حيث كتب في اللوح المحفوظ. وعلى كل فالكلام لا يخلو عن مجاز. ويحتمل أن يكون في المسند وهو الظاهر. ويحتمل أن يكون في اللباس أو الإسناد. وقوله سبحانه: يُوارِي أي يستر ترشيح على بعض الاحتمالات. وعن الجبائي أن الكلام على حقيقة مدعيا نزول ذلك مع آدم وحواء من الجنة حين أمرا بالهبوط إلى الأرض ولم نقف في ذلك على خبر كسته الصحة لباسا. نعم أخرج ابن عساكر بسند ضعيف عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أهبط آدم وحواء عليهما السلام عريانين جميعا عليهما ورق الجنة فأصاب آدم الحر حتى قعد يبكي ويقول لها: يا حواء قد آذاني الحر فجاءه جبرائيل عليه السلام بقطن وأمرها أن تغزله وعلمها وعلم آدم وأمره بالحياكة وعلمه. وجاء في خبر آخر أنه عليه السلام أهبط ومعه البذور فوضع إبليس عليها يده فما أصاب يده ذهب منفعته. وفي آخر رواه ابن المنذر عن ابن جريج أنه عليه السلام أهبط معه ثمانية أزواج من الإبل والبقر والضأن والمعز وباسنة والعلاة والكلبتان وغريسة عنب وريحان. وكل ذلك على ما فيه لا يدل على المدعي وإن صلح بعض ما فيه لأن يكون مبدأ لما يواري سَوْآتِكُمْ أي التي قصد إبليس عليه اللعنة إبداءها من أبويكم حتى اضطر إلى خصف الأوراق وأنتم مستغنون عن ذلك. روي غير واحد أن العرب كانوا يطوفون بالبيت عرايا ويقولون: لا نطوف بثياب عصينا الله تعالى فيها فنزلت هذه الآية، وقيل: إنهم كانوا يطوفون كذلك تفاؤلا بالتعري عن الذنوب والآثام، ولعل ذكر قصة آدم عليه السلام حينئذ للإيذان بأن انكشاف العورة أول سوء أصاب الإنسان من قبل الشيطان وأنه أغواهم في ذلك كما فعل بأبويهم. وفي الكشاف أن هذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقيب ذكر بدء السوءات وخصف الورق عليها إظهارا للمنة فيما خلق من اللباس ولما في العري وكشف العورة من المهانة والفضيحة وإشعارا بأن التستر باب عظيم من أبواب التقوى وَرِيشاً أي زينة أخذا من ريش الطير لأنه زينة له. وعطفه على هذا من عطف الصفات فيكون اللباس موصوفا بشيئين مواراة السوأة والزينة. ويحتمل أن يكون من عطف الشيء على غيره. أنزلنا لباسين لباس مواراة ولباس زينة فيكون مما حذف فيه الموصوف أي لباسا ريشا أي ذا ريش. وتفسير الريش الجزء: 4 ¦ الصفحة: 343 بالزينة مروي عن ابن زيد. وذكر بعض المحققين أنه مشترك بين الاسم والمصدر. وعن ابن عباس، ومجاهد، والسدي أن المراد به المال ومنه تريش الرجل أي تمول، وعن الأخفش أنه الخصب والمعاش، وقال الطبرسي: إنه جميع ما ويحتاج إليه. وقرأ عثمان رضي الله تعالى عنه «ورياشا» وهو إما مصدر كاللباس أو جمع ريش كشعب وشعاب. وَلِباسُ التَّقْوى أي العمل الصالح كما روي عن ابن عباس أو خشية الله تعالى كما روي عن عروة بن الزبير. أو الحياء كما روي عن الحسن أو الإيمان كما روي عن قتادة. والسدي أو ما يستر العورة وهو اللباس الأول كما روي عن ابن زيد أو لباس الحرب الدرع والمغفر والآلات التي يتقى بها من العدو كما روي عن زيد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم، واختاره أبو مسلم أو ثياب النسك والتواضع كلباس الصوف والخشن من الثياب كما اختاره الجبائي. فاللفظ إما مشاكلة وإما مجاز وإما حقيقة، ورفعه بالابتداء وخبره جملة ذلِكَ خَيْرٌ والرابط اسم الإشارة لأنه يكون رابطا كالضمير. وجوز أن يكون الخبر خَيْرٌ وذلِكَ صفة لباس، وإليه ذهب الزجاج وابن الأنباري وغيرهما. واعترض بأن الأسماء المبهمة أعرف من المعرف باللام ومما أضيف إليه والنعت لا بد أن يساوي المنعوت في رتبة التعريف أو يكون أقل منه. ولا يجوز أن يكون أعرف منه فلذا قيل: إن «ذلك» بدل أو بيان لا نعت. وأجيب بأن ذلك غير متفق عليه فإن تعريف اسم الإشارة لكونه بالإشارة الحسية الخارجة عن الوضع قيل: إنه أنقص من ذي اللام، وقيل: إنهما في مرتبة واحدة، وعن أبي علي وهو غريب أن ذلك لا محل له من الإعراب وهو فصل كالضمير. وقرىء «ولباس» التقوى بالنصب عطفا على «لباسا» قال بعض المحققين: وحينئذ يكون اللباس المنزل ثلاثة أو يفسر لِباسُ التَّقْوى بلباس الحرب أو يجعل الإنزال مشاكلة، وذكر على القراءة المشهورة أن «ذلك» إن كان إشارة للباس المواري فلباس التقوى حقيقة والإضافة لأدنى ملابسة، وإن كان للباس التقوى فهو استعارة مكنية تخييلية أو من قبيل- لجين الماء- وعلى كل تكون الإشارة بالبعيد للعظيم بتنزيل البعد الرتبي منزلة البعد الحسي فتأمل ولا تغفل. ذلِكَ أي إنزال اللباس المتقدم كله أو الأخير مِنْ آياتِ اللَّهِ الدالة على عظيم فضله وعميم رحمته لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فيعرفون نعمته أو يتعظون فيتورعون عن القبائح يا بَنِي آدَمَ تكرير النداء للإيذان بكمال الاعتناء بمضمون ما صدر به لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ أي لا يوقعنكم في الفتنة والمحنة بأن يوسوس لكم بما يمنعكم به عن دخول الجنة فتطيعوه وقرىء «يفتننكم» بضم حرف المضارعة من أفتنه حمله على الفتنة، وقرىء «يفتنكم» بغير توكيد، وهذا نهي للشيطان في الصورة والمراد نهي المخاطبين عن متابعته وفعل ما يقود إلى الفتنة كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ أي كما فتن أبويكم ومحنهما بأن أخرجهما منها فوضع السبب موضع المسبب، وجوز أن يكون التقدير لا يفتننكم فتنة مثل فتنة إخراج أبويكم أو لا يخرجنكم بفتنته إخراجا مثل إخراجه أبويكم، ونسبة الإخراج إليه لأنه كان بسبب إغوائه وكذا نسبه النزع إليه في قوله سبحانه. يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما والجملة حال من أَبَوَيْكُمْ أو من فاعل أَخْرَجَ ولفظ المضارع- على ما قاله القطب لحكاية الحال الماضية لأن النزع السلب وهو ماض بالنسبة إلى الإخراج وإن كان العري باقيا. وقوله جل شأنه: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ تعليل للنهي كما هو معروف في الجملة المصدرة بأن في أمثاله وتأكيد للتحذير لأن العدو إذا أتى من حيث لا يرى كان أشد وأخوف، والضمير في إِنَّهُ للشيطان. وجوز أن يكون للشأن وهو تأكيد للضمير المستتر في يَراكُمْ وقبيله عطف عليه لا على البارز لأنه لا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 344 يصلح للتأكيد. وجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر ومِنَ لابتداء الغاية وحَيْثُ ظرف لمكان انتفاء الرؤية وجملة لا تَرَوْنَهُمْ في محل جر بالإضافة: وعن أبي إسحاق أن حَيْثُ موصولة وما بعد صلة لها. ولعل مراده أن ذلك كالموصول وإلا فلا قائل به غيره كما قال أبو علي الفارسي والقبيل الجماعة فإن كانوا من أب واحد فهم قبيلة. والمراد بهم هنا جنوده من الجن. وقرأ اليزيدي «وقبيله» بالنصب وهو عطف على اسم إن، ويتعين كون الضمير للشيطان، ولا يصح كونه للشأن خلافا لمن وهم فيه لأنه لا يصلح العطف عليه ولا يتبع بتابع. والقضية مطلقة لا دائمة فلا تدل على ما ذهب إليه المعتزلة من أن الجن لا يرون ولا يظهرون للإنس أصلا ولا يتمثلون. ويشهد لما قلنا ما صح من رؤية النبي صلّى الله عليه وسلّم لمقدّمهم حين رام أن يشغله عليه الصلاة والسلام عن صلاته فأمكنه الله تعالى منه وأراد أن يربطه إلى سارية من سواري المسجد يلعب به صبيان المدينة فذكر دعوة سليمان عليه السلام فتركه. ورؤية ابن مسعود لجن نصيبين وما نقل عن الشافعي رضي الله تعالى عنه من أن من زعم أنه رآهم ردت شهادته وعزر لمخالفته القرآن محمول- كما قال البعض- على زاعم رؤية صورهم التي خلقوا عليها إذ رؤيتهم بعد التشكل الذي أقدرهم الله تعالى عليه مذهب أهل السنة وهو رضي الله تعالى عنه من ساداتهم. وما نوزع به القول بقدرتهم على التشكل من استلزامه رفع الثقة بشيء فإن من رأى ولو ولده يحتمل أنه رأى جنيا تشكل به مردود بأن الله تعالى تكفل لهذه الأمة بعصمتها عن أن يقع فيها ما يؤدي لمثل ذلك المترتب عليه الريبة في الدين ورفع الثقة بعالم وغيره فاستحال شرعا الاستلزام المذكور. وقول العلامة البيضاوي بعد تعريف الجن في سورتهم بما عرف. وفيه دليل على أنه صلّى الله عليه وسلّم ما رآهم ولم يقرأ عليهم وإنما اتفق حضورهم في بعض أوقات قراءته فسمعوها فأخبر الله تعالى بذلك ناشىء من عدم الاطلاع على الأحاديث الصحيحة الكثيرة المصرحة برؤيته صلّى الله عليه وسلّم لهم وقراءته عليهم وسؤالهم منه الزاد لهم ولدوابهم على كيفيات مختلفة. وعندي أنه لا مانع من رؤيته صلّى الله عليه وسلّم للجن على صورهم التي خلقوا عليها فقد رأى جبرائيل عليه السلام بصورته الأصلية مرتين وليست رؤيتهم بأبعد من رؤيته. ورؤية كل موجود عندنا في حيز الإمكان. واللطافة المانعة من رؤيتهم عند المعتزلة لا توجب الاستحالة ولا تمنع الوقوع خرقا للعادة. وكذا تعليل الأشاعرة عدم الرؤية بأن الله تعالى لم يخلق في عيون الأنس قوة الإدراك لا يقتضي الاستحالة أيضا لجواز أن يخلق الله تعالى في عين رسوله عليه الصلاة والسلام الرائي له جل شأنه بعيني رأسه على الأصح ليلة المعراج تلك القوة فيراهم، بل لا يبعد القول برؤية الأولياء رضي الله تعالى عنهم لهم كذلك لكن لم أجد صريحا ما يدل على وقوع هذه الرؤية. وأما رؤية الأولياء بل سائر الناس لهم متشكلين فكتب القوم مشحونة بها ودفاتر المؤرخين والقصاص ملأى منها. وعلى هذا لا يفسق مدعي رؤيتهم في صورهم الأصلية إذا كان مظنة للكرامة. وليس في الآية أكثر من نفي رؤيتهم كذلك بحسب العادة. على أنه يمكن أن تكون الآية خارجة مخرج التمثيل لدقيق مكرهم وخفي حيلهم وليس المقصود منها نفي الرؤية حقيقة. ومن هذا يعلم أن القول بكفر مدعي تلك الرؤية خارج عن الإنصاف فتدبر. إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ أي قرناء لهم مسلطين عليهم متمكنين من إغوائهم بما أوجدنا بينهم من المناسبة أو بإرسالهم عليهم وتمكينهم منهم، والجملة إما تعليل آخر للنهي وتأكيد للتحذير إثر تأكيد وإما فذلكة لحكاية السابقة. وقوله سبحانه: وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً جملة مبتدأة لا محل لها من الإعراب. وجوز عطفها على الصلة. والفاحشة الفعلة القبيحة المتناهية في القبح. والتاء إما لأنها مجراة على الموصوف المؤنث أي فعلة فاحشة وإما للنقل من الوصفية إلى الاسمية. والمراد بها هنا عبادة الأصنام وكشف العورة في الطواف ونحو ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 345 وعن الفراء تخصيصها بكشف العورة. وفي الآية- على ما قاله الطبرسي- حذف، أي وإذا فعلوا فاحشة فنهوا عنها قالُوا جواب للناهين وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها محتجين بأمرين: تقليد الآباء والافتراء على الله سبحانه. وتقديم المقدم للإيذان بأنه المعول عليه عندهم أو للإشارة منهم إلى أن آباءهم إنما كانوا يفعلونها بأمر الله تعالى على أن ضمير أَمَرَنا كما قيل لهم ولآبائهم. وحينئذ يظهر وجه الإعراض عن الأول في رد مقالتهم بقوله تعالى: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ فإن عادته تعالى جرت على الأمر بمحاسن الأعمال والحث على مكارم الخصال وهو اللائق بالحكمة المقتضية أن لا يتخلف، وقال الإمام: لم يذكر سبحانه جوابا عن حجتهم الأولى لأنها إشارة إلى محض التقليد وقد تقرر في العقول أنه طريقة فاسدة لأن التقليد حاصل في الأديان المتناقضة فلو كان التقليد حقا لزم القول بحقية الأديان المتناقضة وأنه محال فلما كان فساد هذا الطريق ظاهرا لم يذكر الله تعالى الجواب عنه، وذكر بعض المحققين أن الاعراض إنما هو عن التصريح برده وإلا فقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ إلخ متضمن للرد لأنه سبحانه إذا أمر بمحاسن الأعمال كيف يترك أمره لمجرد اتباع الآباء فيما هو قبيح عقلا والمراد بالقبح العقلي هنا نفرة الطبع السليم واستنقاص العقل المستقيم لا كون الشيء متعلق الذم قبل ورود النهي عنه وهو المتنازع فيه بيننا وبين المعتزلة دون الأول كما حقق في الأصول فلا دلالة في الآية على ما زعموه، وقيل: إن المذكور جوابا سؤالين مترتبين كأنه قيل لهم لما فعلوها لم فعلتم؟ قالوا وجدنا آباءنا فقيل: ومن أين أخذ آباؤكم؟ فقالوا: الله أمرنا بها والكلام حينئذ على تقدير مضاف أي أمر آباءنا وقيل: لا تقدير والعدول عن أمرهم الظاهر حينئذ للإشارة إلى ادعاء أن أمر آبائهم أمر لهم. وعلى الوجهين يمتنع التقليد إذا قام الدليل على خلافه فلا دلالة في الآية على المنع من التقليد مطلقا. أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ من تمام القول المأمور به، والهمزة لإنكار الواقع واستقباحه والإشارة إلى أنه لا ينبغي أن يكون، وتوجيه الإنكار إلى قولهم عليه تعالى ما لا يعلمون صدوره منه عز شأنه مع أن منهم من يقول عليه سبحانه ما يعلم عدم صدوره مبالغة في إنكار تلك الصورة، ولا دليل في الآية لمن نفى القياس بناء على أن ما يثبت به مظنون لا معلوم لأن ذلك مخصوص من عمومها بإجماع الصحابة ومن يعتد به أو بدليل آخر، وقيل: المراد بالعلم ما يشمل الظن قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ بيان للمأمور به إثر نفي ما أسند أمره إليه تعالى من الأمور المنهي عنها والقسط على ما قال غير واحد العدل، وهو الوسط من كل شيء المتجافي عن طرفي الإفراط والتفريط. وقال الراغب: هو النصيب بالعدل كالنصف والنصفة. ويقال: القسط لأخذ قسط غيره وذلك جور والأقساط لإعطاء قسط غيره وذلك إنصاف ولذلك يقال: قسط الرجل إذا جار وأقسط إذا عدل. وهذا أولى مما قاله الطبرسي من أن أصله الميل فإن كان إلى جهة الحق فعدل. ومنه قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [المائدة: 42، الحجرات: 9، الممتحنة: 8] وإن كان إلى جهة الباطل فجور، ومنه قوله تعالى: أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً [الجن: 15] والمراد به هنا- على ما نقل عن أبي مسلم- جميع الطاعات والقرب. وروي عن ابن عباس، والضحاك أنه التوحيد وقول لا إله إلا الله، ومجاهد، والسدي، وأكثر المفسرين على أنه الاستقامة والعدل في الأمور وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ أي توجهوا إلى عبادته تعالى مستقيمين غير عادلين إلى غيرها عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أي في وقت كل سجود كما قال الجبائي أو مكانه كما قال غيره فعند بمعنى في والمسجد اسم زمان أو مكان بالمعنى اللغوي، وكان حقه فتح العين لضمها في المضارع إلا أنه مما شذ عن القاعدة، وزعم بعضهم أنه مصدر ميمي والوقت مقدر قبله، والسجود مجاز عن الصلاة. وقال غير واحد: المعنى توجهوا إلى الجهة التي أمركم الله تعالى بالتوجه إليها في صلاتكم وهي جهة الكعبة، والأمر على القولين للوجوب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 346 واختار المغربي أن المعنى إذا أدركتم الصلاة في أي مسجد فصلوا ولا تؤخروها حتى تعودوا إلى مساجدكم، والأمر على هذا للندب. والمسجد بالمعنى المصطلح ولا يخفى ما فيه من البعد. ومثله ما قيل: إن المعنى اقصد المسجد في وقت كل صلاة على أنه أمر بالجماعة ندبا عند بعض ووجوبا عند آخرين. والواو للعطف وما بعده قيل: معطوف على الأمر الذي ينحل إليه المصدر مع أن أي أن أقسطوا. والمصدر ينحل إلى الماضي والمضارع والأمر، وقال الجرجاني: إنه عطف على الخبر السابق المقول لقل وهو إنشاء معنى. وإن أبيت فالكلام من باب الحكاية. وجوز أن يكون هناك قل مقدرا معطوفا على نظيره. وأَقِيمُوا مقول له. وأن يكون معطوفا على محذوف تقديره قل أقبلوا وأقيموا وَادْعُوهُ أي اعبدوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي الطاعة فالدعاء بمعنى العبادة لتضمنها له. والدين بالمعنى اللغوي. وقيل: إن هذا أمر بالدعاء والتضرع إليه سبحانه على وجه الإخلاص أي ارغبوا إليه في الدعاء بعد إخلاصكم له في الدين كَما بَدَأَكُمْ أي أنشأكم ابتداء تَعُودُونَ إليه سبحانه فيجازيكم على أعمالكم فامتثلوا أوامره أو فأخلصوا له العبادة فهو متصل بالأمر قبله. وقال الزجاج: إنه متصل بقوله تعالى: فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ ولا يخفى بعده. ولم يقل سبحانه: يعيدكم كما هو الملائم لما قبله إشارة إلى أن الإعادة دون البدء من غير مادة بحيث لو تصور الاستغناء عن الفاعل لكان فيها دونه فهو كقوله تعالى: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم: 27] سواء كانت الإعادة الإيجاد بعد الإعدام بالكلية أو جمع متفرق الأجزاء. وإنما شبهها سبحانه بالإبداء تقريرا لإمكانها والقدرة عليها. وقال قتادة: المعنى كما بدأكم من التراب تعودون إليه كما قال سبحانه: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ [طه: 55] وقيل: المعنى كما بدأكم لا تملكون شيئا كذلك تبعثون يوم القيامة. وعن محمد بن كعب أن المراد أن من ابتدأ الله تعالى خلقه على الشقوة صار إليها وإن عمل بأعمال أهل السعادة ومن ابتدأ خلقه على السعادة صار إليها وإن عمل بعمل أهل الشقاوة. ويؤيد ذلك ما رواه الترمذي عن عمرو بن العاص قال: «خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفي يده كتابان فقال: أتدرون ما هذان الكتابان؟ قلنا: لا يا رسول الله فقال للذي في يده اليمنى هذا الكتاب (1) من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل (2) على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا ثم قال للذي في شماله هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا فقال أصحابه: ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه؟ فقال عليه الصلاة والسلام: سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل ثم قال أي أشار- رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيديه فنبذهما ثم قال: فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير» . وقريب من هذا ما روي عن ابن جبير من أن المعنى: كما كتب عليكم تكونون. وروي عن الحبر أن المعنى كما بدأكم مؤمنا وكافرا يعيدكم يوم القيامة فهو كقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [التغابن: 2] وعليه يكون قوله سبحانه: فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ بيانا وتفصيلا لذلك، ونظيره قوله تعالى: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 95] بعد قوله عز شأنه: «إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم» قيل وهو الأنسب بالسياق.   (1) الظاهر ان هذا صادر عن طريق التمثيل اه منه. (2) هو من قولهم: أجمل الحساب إذا تم ورد من التفصيل الى الجملة فاثبت في آخر الورقة مجموع ذلك وجملته وقوله: «فرغ ربكم» فذلكة الكلام ونتيجته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 347 وذكر الطيبي أن هاهنا نكتة سرية وهي أن يقال: إنه تعالى قدم في قوله سبحانه: «كما بدأكم تعودون» المشبه به على المشبه لينبه العاقل على أن قضاء الشؤون لا يخالف القدر والعلم الأزلي البتة وكما روعي هذه الدقيقة في المفسر روعيت في التفسير. وزيد أخرى عليها وهي أنه سبحانه قدم مفعول هَدى للدلالة على الاختصاص وأن فريقا آخر ما أراد هدايتهم. وقرر ذلك بأن عطف عليه وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ وأبرزه في صورة الإضمار على شريطة التفسير أي أضل فريقا حق عليهم الضلالة وفيه مع الاختصاص التوكيد كما قرره صاحب المفتاح لتنقطع ريبة المخالف ولا يقول: إن علم الله تعالى لا أثر له في ضلالتهم انتهى. وكأنه يشير بذلك إلى رد قول الزمخشري في قوله تعالى: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي تولوهم بالطاعة فيما أمروهم به، وهذا دليل على أن علم الله تعالى لا أثر له في ضلالهم وإنهم هم الضالون باختيارهم وتوليتهم الشياطين دون الله تعالى فجملة إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا على هذا تعليل لقوله سبحانه: «وفريقا حق عليهم الضلالة» ويؤيد ذلك أنه قرىء «أنهم» بالفتح. ويحتمل أن تكون تأكيدا لضلالهم وتحقيقا له وأنا- الحق أحق بالاتباع- مع القائل: إن علم الله تعالى لا يؤثر في المعلوم وأن من علل الجبر به مبطل كيف والمتكلمون عن آخرهم قائلون: إن العلم يتعلق بالشيء على ما هو عليه إنما الكلام في أن قدرة الله تعالى لا أثر لها على زعم الضلّال أصحاب الزمخشري ونحن مانعون لذلك أشد المنع، ولا منع من التعليل بالاتخاذ عند الأشاعرة لثبوت الكسب والاختيار ويكفي هذه المدخلية في التعليل. والزمخشري قدر الفعل في قوله سبحانه وَفَرِيقاً حَقَّ خذل ووافقه بعض الناس وما فعله الطيبي هو المختار عند بعض المحققين لظهور الملاءمة فيه وخلوه عن شبهة الاعتزال. واختير تقديره مؤخرا لتتناسق الجملتان، وهما عند الكثير في موضع الحال من ضمير تَعُودُونَ بتقدير قد أو مستأنفتان، وجوز نصب فَرِيقاً الأول وفَرِيقاً الثاني على الحال والجملتان بعدهما صفتان لهما، ويؤيد ذلك قراءة أبي «تعودون فريقين فريقا هدى وفريقا» إلخ، والمنصوب على هذه القراءة إما بدل أو مفعول به لأعني مقدرا. ولم تلحق تاء التأنيث- لحق- للفصل أو لأن التأنيث غير حقيقي، والكلام على تقدير مضاف عند بعض أي حق عليهم كلمة الضلالة وهي قوله سبحانه: «ضلوا» وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ عطف على ما قبله داخل معه في حيز التعليل أو التأكيد. ولعل الكلام من قبيل- بنو فلان قتلوا فلانا والأول لكونه في مقابلة من هداه الله تعالى شامل للمعاند والمخطئ والثاني مختص بالثاني وهو صادق على المقصر في النظر والباذل غاية الوسع فيه، واختلف في توجه الذم على الأخير وخلوده في النار. ومذهب البعض أنه معذور ولم يفرقوا بين من لا عقل له أصلا ومن له عقل لم يدرك به الحق بعد أن لم يدع في القوس منزعا في طلبه فحيث يعذر الأول لعدم قيام الحجة عليه يعذر الثاني لذلك، ولا يرون مجرد المالكية وإطلاق التصرف حجة ولله تعالى الحجة البالغة، والتزام أن كل كافر معاند بعد البعثة وظهور أمر الحق كنار على علم وأنه ليس في مشارق الأرض ومغاربها اليوم كافر مستدل، إلا يقدم عليه إلا مسلم معاند أو مسلم مستدل بما هو أوهن من بيت العنكبوت وإنه لأوهن البيوت. وادعى بعضهم أن المراد من المعطوف عليه المعاند ومن المعطوف المخطئ والظاهر ما قلنا. وجعل الجملة حالية على معنى اتخذوا الشياطين أولياء وهم يحسبون أنهم مهتدون في ذلك الاتخاذ لا يخفى ما فيه يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ أي ثيابكم لمواراة عوراتكم لأن المستفاد من الأمر الوجوب والواجب إنما هو ستر العورة عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أي طواف أو صلاة، وإلى ذلك ذهب مجاهد وأبو الشيخ وغيرهما، وسبب النزول على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان أناس من الأعراب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 348 يطوفون بالبيت عراة حتى كانت المرأة لتطوف بالبيت وهي عريانة فتعلق على سفلها سيورا مثل هذه السيور التي تكون على وجه الحمر من الذباب وهي تقول: اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا أحله فأنزل الله تعالى هذه الآية: وحمل بعضهم الزينة على لباس التجمل لأنه المتبادر منه ونسب للباقر رضي الله تعالى عنه، وروي عن الحسن السبط رضي الله تعالى عنه أنه كان إذا قام إلى الصلاة لبس أجود ثيابه فقيل له: يا ابن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم تلبس أجود ثيابك؟ فقال: إن الله تعالى جميل يحب الجمال فأتجمل لربي وهو يقول خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ فأحب أن ألبس أجمل ثيابي، ولا يخفى أن الأمر حينئذ لا يحمل على الوجوب لظهور أن هذا التزين مسنون لا واجب، وقيل: إن الآية على الاحتمال الأول تشير إلى سنية التجمل لأنها لما دلت على وجوب أخذ الزينة لستر العورة عند ذلك فهم منه في الجملة حسن التزين بلبس ما فيه حسن وجمال عنده، ونسب بيت الكذب إلى الصادق رضي الله عنه تعالى أن أخذ الزينة التمشط كأنه قيل: تمشطوا عند كل صلاة، ولعل ذلك من باب الاقتصار على بعض أنواع الزينة وليس المقصود حصرها فيما ذكر. ومثل ذلك ما أخرجه ابن عدي وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خذوا زينة الصلاة قالوا: وما زينة الصلاة؟ قال: البسوا نعالكم فصّلوا فيها» . وأخرج ابن عساكر. وغيره عن أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: في قوله سبحانه: خُذُوا زِينَتَكُمْ إلخ «صلوا في نعالكم» وَكُلُوا وَاشْرَبُوا مما طاب لكم. قال الكلبي: كان أهل الجاهلية لا يأكلون من الطعام إلا قوتا ولا يأكلون دسما في أيام حجهم يعظمون بذلك حجهم فقال المسلمون: يا رسول الله من أحق بذلك فأنزل الله تعالى الآية، ومنه يظهر وجه ذكر الأكل والشرب هنا وَلا تُسْرِفُوا بتحريم الحلال كما هو المناسب لسبب النزول أو بالتعدي إلى الحرام كما روي عن ابن زيد أو بالإفراط في الطعام والشره كما ذهب إليه كثير، وأخرج أبو نعيم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: إياكم والبطنة من الطعام والشراب فإنها مفسدة للجسد مورثة للسقم مكسلة عن الصلاة وعليكم بالقصد فيهما فإنه أصلح للجسد وأبعد من السرف وإن الله تعالى ليبغض الحبر السمين وإن الرجل لن يهلك حتى يؤثر شهوته على دينه. وقيل: المراد الإسراف ومجاوزة الحد بما هو أعم مما ذكر وعد منه أكل الشخص كلما اشتهى وأكله في اليوم مرتين، فقد أخرج ابن ماجة والبيهقي عن أنس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن من الإسراف أن تأكل كل ما اشتهيت» وأخرج الثاني وضعفه عن عائشة قالت: «رآني النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد أكلت في اليوم مرتين فقال يا عائشة أما تحبين أن يكون لك شغل إلا في جوفك الأكل في اليوم مرتين من الإسراف» . وعندي أن هذا مما يختلف باختلاف الأشخاص، ولا يبعد أن يكون ما ذكر من الإفراط في الطعام وعد منه طبخ الطعام بماء الورد وطرح نحو المسك فيه مثلا من غير داع إليه سوى الشهوة، وذهب بعضهم إلى أن الإسراف المنهي عنه يعم ما كان في اللباس أيضا، وروي ذلك عن عكرمة، وأخرج ابن أبي شيبة، وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة. ورواه البخاري عنه تعليقا وهو لا ينافي ما ذكره الثعالبي وغيره من الأدباء أنه ينبغي للإنسان أن يأكل ما يشتهي ويلبس ما يشتهيه الناس كما قيل: نصحته نصيحة قالت بها الأكياس ... كل ما اشتهيت والبس ما تشتهيه الناس فإنه لترك ما لم يعتد بين الناس وهذا لإباحة كل ما اعتادوه. وفي العجائب للكرماني قال طبيب نصراني لعلي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 349 ابن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطب شيء والعلم علمان علم الأبدان وعلم الأديان فقال له: قد جمع الله تعالى الطب كله في نصف آية من كتابه قال: وما هي؟ قال: كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا فقال النصراني: ولا يؤثر من رسولكم شيء في الطب فقال: قد جمع رسولنا صلّى الله عليه وسلّم الطب في ألفاظ يسيرة قال: وما هي؟ قوله صلّى الله عليه وسلّم: «المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء وأعط كل بدن ما عودته» فقال: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طلبا انتهى. وما نسبه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم هو من كلام الحارث بن كلدة طبيب العرب ولا يصح رفعه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفي الإحياء مرفوعا «البطنة أصل الداء والحمية أصل الدواء وعود وأكل جسد ما اعتاد» . وتعقبه العراقي قائلا: لم أجد له أصلا. وفي شعب الإيمان للبيهقي ولقط المنافع لابن الجوزي عن أبي هريرة مرفوعا أيضا «المعدة حوض البدن والعروق إليها واردة فإذا صحت المعدة صارت العروق بالصحة وإذا فسدت المعدة صارت العروق بالقسم» . وتعقبه الدارقطني قائلا: لا نعرف هذا من كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم وإنما هو من كلام عبد الملك بن سعيد بن أبجر. وفي الدر المنثور أخرج محمد الخلال عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل عليها وهي تشتكي فقال لها: «يا عائشة الأزم دواء والمعدة بيت الأدواء وعودوا البدن ما اعتاد» ولم أر من تعقبه، نعم رأيت في النهاية لابن الأثير سأل عمرو الحارث بن كلدة ما الدواء؟ قال: الأزم يعني الحمية وإمساك الأسنان بعضها على بعض، نعم الأحاديث الصحيحة متظافرة في ذم الشبع وكثرة الأكل، وفي ذلك إرشاد للأمة إلى كل الحكمة. إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ بل يبغضهم ولا يرضى أفعالهم. والجملة في موضع التعليل للنهي، وقد جمعت هذه الآية- كما قيل- أصول الأحكام الأمر والإباحة والنهي والخبر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 350 قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ من الثياب وكل ما يتجمل به الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ أي خلقها لنفعهم من النبات كالقطن، والكتان، والحيوان كالحرير، والصوف، والمعادن كالخواتم والدروع وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ أي المستلذات، وقيل: المحللات من المآكل والمشارب كلحم الشاة وشحمها ولبنها. واستدل بالآية على أن الأصل في المطاعم والملابس وأنواع التجملات الإباحة لأن الاستفهام في «من» لإنكار تحريمها على أبلغ وجه. ونقل عن ابن الفرس أنه قال: استدل بها من أجاز لبس الحرير والخز للرجال. وروي عن زين العابدين رضي الله تعالى عنه أنه كان يشتري كساء الخز بخمسين دينارا فإذا أصاف تصدق به لا يرى بذلك بأسا و «يقول» قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 351 وروي أن الحسين رضي الله تعالى عنه أصيب وعليه جبة خز. وأن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما بعثه علي كرم الله تعالى وجهه إلى الخوارج لبس أفضل ثيابه وتطيب بأطيب طيبه وركب أحسن مراكبه فخرج إليهم فوافقهم فقالوا: يا ابن عباس بينا أنت خير الناس إذ أتيتنا في لباس الجبابرة ومراكبهم فتلا هذه الآية لكن روي عن طاوس أنه قرأ هذه الآية وقال: لم يأمرهم سبحانه بالحرير ولا الديباج ولكنه كان إذا طاف أحدهم وعليه ثيابه ضرب وانتزعت منه فأنكر عليه ذلك، والحق أن كل ما لم يقم الدليل على حرمته داخل في هذه الزينة لا توقف في استعماله ما لم يكن فيه نحو مخيلة كما أشير إليه فيما تقدم. وقد روي أنه صلّى الله عليه وسلّم خرج وعليه رداء قيمته ألف درهم، وكان أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يرتدي برداء قيمته أربعمائة دينار وكان يأمر أصحابه بذلك، وكان محمد يلبس الثياب النفيسة ويقول: إن لي نساء وجوار فأزين نفسي كي لا ينظرن إلى غيري. وقد نص الفقهاء على أنه يستحب التجمل لقوله عليه الصلاة والسلام «إن الله تعالى إذا أنعم على عبد أحب أن يرى أثر نعمته عليه، وقيل لبعضهم: أليس عمر رضي الله تعالى عنه كان يلبس قميصا عليه كذا رقعة فقال: فعل ذلك لحكمة هي أنه كان أمير المؤمنين وعماله يقتدون به وربما لا يكون لهم مال فيأخذون من المسلمين. نعم كره بعض الأئمة لبس المعصفر والمزعفر وكرهوا أيضا أشياء أخر تطلب من محالها. قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي هي لهم بالأصالة لمزيد كرامتهم على الله تعالى والكفرة وإن شاركوهم فيها فبالتبع فلا إشكال في الاختصاص المستفاد من اللام خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ لا يشاركهم فيها غيرهم. وعن الجبائي أن المعنى: هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا غير خالصة من الهموم والأحزان والمشقة وهي خالصة يوم القيامة من ذلك وانتصاب خالِصَةً على الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور والعامل فيه متعلقه. وقرأ نافع بالرفع على أنه خبر بعد خبر أو هو الخبر ولِلَّذِينَ متعلق به قدم لتأكيد الخلوص والاختصاص كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي مثل تفصيلنا هذا الحكم نفصل سائر احكام لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ما في تضاعيفها من المعاني الرائقة. وجوز أن يكون هذا التشبيه على حد قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143] ونظائره مما تقدم تحقيقه. قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ أي ما تزايد قبحه من المعاصي وقيل: ما يتعلق بالفروج ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ بدل من الْفَواحِشَ أي جهرها وسرها. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما ظهر الزنا علانية وما بطن الزنا سرا وقد كانوا يكرهون الأول ويفعلون الثاني فنهوا عن ذلك مطلقا. وعن مجاهد ما ظهر التعري في الطواف وما بطن الزنا وقيل: الأول طواف الرجال بالنساء. والثاني طواف النساء بالليل عاريات وَالْإِثْمَ أي ما يوجب الإثم. وأصله الذم فأطلق على ما يوجبه من مطلق الذنب. وذكر للتعميم بعد التخصيص بناء على ما تقدم من معنى الفواحش. وقيل: إن الإثم هو الخمر كما نقل عن ابن عباس، والحسن البصري. وذكره أهل اللغة كالأصمعي وغيره وأنشدوا له قول الشاعر: نهانا رسول الله أن نقرب الزنا ... وأن نشرب الإثم الذي يوجب الوزرا وقول الآخر: شربت الإثم حتى ضل عقلي ... كذاك الإثم يذهب بالعقول وزعم ابن الأنباري أن العرب لا تسمي الخمر إثما في جاهلية ولا إسلام وأن الشعر موضوع. والمشهور أن ذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 352 من باب المجاز لأن الخمر سبب الإثم. وقال أبو حيان وغيره: إن هذا التفسير غير صحيح هنا لأن السورة مكية ولم تحرم الخمر إلا بالمدينة بعد أحد وأيضا يحتاج حينئذ إلى دعوى أن الحصر إضافي فتدبر. وَالْبَغْيَ الظلم والاستطالة على الناس. وأفرد بالذكر بناء على التعميم فيما قبله أو دخوله في الفواحش للمبالغة في الزجر عنه بِغَيْرِ الْحَقِّ متعلق بالبغي لأن البغي لا يكون إلا كذلك. وجوز أن يكون حالا مؤكدة وقيل: جيء به ليخرج البغي على الغير في مقابلة بغيه فإنه يسمى بغيا في الجملة لكنه بحق وهو كما ترى وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً أي حجة وبرهانا. والمعنى على نفي الإنزال والسلطان معا على أبلغ وجه كقوله: لا ترى الضب بها ينجحر وفيه من التهكم بالمشركين ما لا يخفى وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ بالإلحاد في صفاته والافتراء عليه كقولهم: وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها [الأعراف: 28] ولا يخفى ما في توجيه التحريم إلى قولهم عليه سبحانه ما لا يعلمون وقوعه دون ما يعلمون عدم وقوعه من السر الجليل وَلِكُلِّ أُمَّةٍ من الأمم المهلكة أَجَلٌ أي وقت معين مضروب لاستئصالهم- كما قال الحسن-: وروي ذلك عن ابن عباس ومقاتل، وهذا كما قيل وعيد لأهل مكة بالعذاب النازل في أجل معلوم عند الله تعالى كما نزل بالأمم قبلهم ورجوع إلى الحث على الاتباع بعد الاستطراد الذي قاله البعض. وقد روعي نكتة في تعقيبه تحريم الفواحش حيث ناسبه أيضا. وفسر بعضهم الأجل هنا بالمدة المعينة التي أمهلوها لنزول العذاب، وفسره آخرون بوقت الموت وقالوا: التقدير ولكل أحد من أمة، وعلى الأول لا حاجة إلى التقدير فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ الضمير- كما قال بعض المحققين- إما للأمم المدلول عليها بكل أمة وإما لكل أمة، وعلى الأول فإظهار الأجل مضافا إلى ذلك الضمير لإفادة المعنى المقصود الذي هو بلوغ كل أمة أجلها الخاص بها ومجيئه إياها بواسطة اكتساب الأجل بالإضافة عموما يفيده معنى الجمعية كأنه قيل: إذا جاء آجالهم بأن يجيء كل واحد من تلك الأمم أجلها الخاص بها. وعلى الثاني وهو الظاهر فالإظهار في موقع الإضمار لزيادة التقرير. والإضافة لإفادة أكمل التمييز. وقرأ ابن سيرين «آجالهم» بصيغة الجمع، واستظهرها ابن جني وجعل الأفراد لقصد الجنسية والجنس من قبيل المصدر وحسنه الإضافة إلى الجماعة والفاء قيل: فصيحة وسقطت في آية يونس لما سنذكره إن شاء الله تعالى هناك. والمراد من مجيء الأجل قربه أو تمامه أي إذا حان وقرب أو انقطع وتم لا يَسْتَأْخِرُونَ عنه ساعَةً قطعة من الزمن في غاية القلة. وليس المراد بها الساعة في مصطلح المنجمين المنقسمة إلى ساعة مستوية وتسمى فلكية هي زمان مقدار خمس عشرة درجة أبدا ومعوجة وتسمى زمانية هي زمان مقدار نصف سدس النهار أو الليل أبدا. ويستعمل الأول أهل الحساب غالبا. والثانية الفقهاء وأهل الطلاسم ونحوهم. وجملة الليل والنهار عندهم أربع وعشرون ساعة أبدا. سواء كانت الساعة مستوية أو معوجة إلا أن كلا من الليل والنهار لا يزيد على اثنتي عشرة ساعة معوجة أبدا. ولهذا تطول وتقصر وقد تساوي الساعة المستوية وذلك عند استواء الليل والنهار. والمراد لا يتأخرون أصلا. وصيغة الاستغفار للإشعار بعجزهم وحرمانهم عن ذلك مع طلبهم له وَلا يَسْتَقْدِمُونَ أي ولا يتقدمون عليه. والظاهر أنه عطف على «لا يستأخرون» كما أعربه الحوفي وغيره. واعترض بأنه لا يتصور الاستقدام عند مجيئه فلا فائدة في نفيه بل هو من باب الأخبار بالضروري كقولك: إذا قمت فيما يأتي لم يتقدم قيامك فما مضى، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 353 وقيل: إنه معطوف على الجملة الشرطية لا الجزائية فلا يتقيد بالشرط. فمعنى الآية لكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون عنه ولكل أمة أجل لا يستقدمون عليه. وتعقبه مولانا العلامة السالكوتي بأنه لا يخفى أن فائدة تقييد قوله تعالى: «لا يستأخرون» فقط بالشرط غير ظاهرة وإن صح بل المتبادر إلى الفهم السليم ما تقدم. وفيه تنبيه على أن الأجل كما يمتنع التقدم عليه بأقصر مدة هي الساعة كذلك يمتنع التأخر عنه وإن كان ممكنا عقلا فإن خلاف ما قدره الله تعالى وعلمه محال والجمع بين الأمرين فيما ذكر كالجمع بين من سوّف التوبة إلى حضور الموت ومن مات على الكفر في نفي التوبة عنه في قوله تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ [النساء: 18] الآية. ولعل هذا مراد من قال: إنه عطف على الجزاء بناء على أن يكون معنى قوله تعالى: لا يَسْتَأْخِرُونَ وَلا يَسْتَقْدِمُونَ لا يستطيعون تغييره على نمط قوله تعالى: وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ [الأنعام: 59] وقولهم: كلمته فما رد على سوداء ولا بيضاء فلا يرد ما قيل، أنت خبير بأن هذا المعنى حاصل بذكر الجزاء بدون ذكر وَلا يَسْتَقْدِمُونَ والحق العطف على الجملة الشرطية، وفي شرح المفتاح القيد إذا جعل جزءا من المعطوف عليه لم يشاركه المعطوف فيه ومثل بالآية، وعليه لا محذور في العطف على لا يَسْتَأْخِرُونَ لعدم المشاركة في القيد وأنت تعلم أنهم ذكروا في هذا الباب أنه إذا عطف شيء على شيء وسبقه قيد يشارك المعطوف المعطوف عليه في ذلك القيد لا محالة، وأما إذا عطف على ما لحقه قيد فالشركة محتملة فالعطف على المقيد له اعتباران: الأول أن يكون القيد سابقا في الاعتبار والعطف لاحقا فيه. والثاني أن يكون العطف سابقا والقيد لاحقا، فعلى الأول لا يلزم اشتراك المعطوفين في القيد المذكور إذ القيد جزء من أجزاء المعطوف عليه، وعلى الثاني يجب الاشتراك إذ هو حكم من أحكام الأول يجب فيه الاشتراك وبعضهم بني العطف هنا على أن المراد بالمجيء الدنو بحيث يمكن التقدم في الجملة كمجيء اليوم الذي ضرب لهلاكهم ساعة منه وليس بذاك، وتقديم بيان انتفاء الاستئخار- كما قيل- لما أن المقصود بالذات بيان عدم خلاصهم من العذاب، وأما في قوله تعالى: ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ [الحجر: 5، المؤمنون: 43] من سبق السبق في الذكر فلما أن المراد هناك بيان سر تأخير إهلاكهم مع استحقاقهم له حسبما ينبىء عنه قوله سبحانه: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر: 3] فالأهم هناك بيان انتفاء السبق يا بَنِي آدَمَ خطاب لكافة الناس. ولا يخفى ما فيه من الاهتمام بشأن ما في حيزه. وقد أخرج ابن جرير عن أبي يسار السلمي قال: إن الله تبارك وتعالى جعل آدم وذريته في كفه فقال: يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ- حتى بلغ. فاتقون ثم بثهم. والذي ذهب إليه بعض المحققين أن هذا حكاية لما وقع مع كل قوم. وقيل: المراد ببني آدم أمة نبينا صلّى الله عليه وسلّم وهو خلاف الظاهر. ويبعده جمع الرسل في قوله سبحانه: إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ أي من جنسكم. والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لرسل. و «أما» هي إن الشرطية ضمت إليها- ما- لتأكيد معنى الشرط فهي مزيدة للتأكيد فقط، وقيل: إنها تفيد العموم أيضا فمعنى إما تفعلن مثلا إن اتفق منك فعل بوجه من الوجوه. ولزمت الفعل بعد هذا الضم نون التأكيد فلا تحذف على ما ذهب إليه المبرد والزجاج ومن تبعهما إلا ضرورة. ومن ذلك قوله: فأما تريني ولي لمة ... فإن الحوادث أودى بها ورد بأن كثرة سماع الحذف تبعد القول بالضرورة. ووجه هذا اللزوم عند بعض حذار انحطاط رتبة فعل الشرط عن حرفه، وقيل: إن نون التوكيد لا تدخل الفعل المستقبل المحض إلا بعد أن يدخل على أول الفعل ما يدل على التأكيد كلام القسم أو ما المزيدة ليكون ذلك توطئة لدخول التأكيد. وعليه فأمر الاستتباع بعكس ما تقدم. وفي الإتيان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 354 بأن تنبيه على أن إرسال الرسل أمر جائز لا واجب وهو الذي ذهب إليه أهل السنة وقالت المعتزلة: إنه واجب على الله تعالى لأنه سبحانه بزعمهم يجب عليه فعل الأصلح. وقوله سبحانه: يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي صفة أخرى لرسل. وجوز أن يكون في موضع الحال منه أو من الضمير في الظرف أي يعرضون عليكم أحكامي وشرائعي ويخبرونكم بها ويبينونها لكم وقوله تعالى: فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ جواب الشرط. ومن إما شرطية أو موصولة ومنكم مقدر في نظم الكلام ليرتبط الجواب بالشرط. والمراد فمن اتقى منكم التكذيب وأصلح عمله فلا خوف إلخ. وتوحيد الضمير وجمعه لمراعاة لفظ من ومعناه وَالَّذِينَ كَذَّبُوا منكم بِآياتِنا التي تقص وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها ولم يقبلوها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ لتكذيبهم واستكبارهم. وهذه الجملة عطف على الجملة السابقة. وإيراد الاتقاء فيها للإيذان بأن مدار الفلاح ليس مجرد عدم التكذيب بل هو الاتقاء والاجتناب عنه. وإدخال الفاء في الوعد دون الوعيد للمبالغة في الأول والمسامحة في الثاني فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي تعمد الكذب عليه سبحانه ونسب إليه ما لم يقل أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أو كذب ما قاله جل شأنه. والاستفهام للإنكار وقد مر تحقيق ذلك أُولئِكَ إشارة إلى الموصول. والجمع باعتبار المعنى كما أن الإفراد في الضمير المستكن في الفعلين باعتبار اللفظ. وما فيه من معنى البعد للإيذان بتماديهم في سوء الحال أي أولئك الموصوفون بما ذكر من الافتراء والتكذيب يَنالُهُمْ أي يصيبهم نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ أي مما كتب لهم وقدر من الأرزاق والآجال مع ظلمهم وافترائهم لا يحرمون ما قدر لهم من ذلك إلى انقضاء أجلهم فالكتاب بمعنى المكتوب. وتخصيصه بما ذكر مروي عن جماعة من المفسرين. وعن ابن عباس أن المراد ما قدر لهم من خير أو شر ومثله عن مجاهد. وعن أبي صالح ما قدر من العذاب، وعن الحسن مثله. وبعضهم فسر الكتاب بالمكتوب فيه وهو اللوح المحفوظ ومن لابتداء الغاية. وجوز فيها التبيين والتبعيض والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من «نصيبهم» أي كائنا من الكتاب حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا أي ملك الموت وأعوانه يَتَوَفَّوْنَهُمْ أي حال كونهم متوفين لأزواجهم وحتى غاية نيلهم. وهي حرف ابتداء غير جارة بل داخلة على الجمل كما في قوله: وحتى الجياد ما يقدن بأرسان وقيل: إنها جارة. وقيل: لا دلالة لها على الغاية وليس بشيء. وعن الحسن أن المراد حتى إذا جاءتهم الملائكة يحشرونهم إلى النار يوم القيامة وهو خلاف الظاهر. وكان الذي دعاه إلى ذلك قوله تعالى: قالُوا أي الرسل لهم أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي أين الآلهة التي كنتم تعبدونها في الدنيا وتستعينون بها في المهمات قالُوا ضَلُّوا أي غابوا عَنَّا لا ندري أين مكانهم. فإن هذا السؤال والجواب وكذا ما يترتب عليهما مما سيأتي إنما يكون يوم القيامة لا محالة ولعله على الظاهر أريد بوقت مجيء الرسل وحال التوفي الزمان الممتد من ابتداء المجيء والتوفي إلى نهاية يوم الجزاء بناء على تحقيق المجيء والتوفي في ذلك الزمان بقاء وإن كان حدوثهما في أوله فقط أو قصد بيان غاية سرعة وقوع البعث والجزاء كأنهما حاصلان عند ابتداء التوفي وما وصلت بأين في المصحف العثماني وحقها الفصل لأنها موصولة ولو كانت صلاة لاتصلت. وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أي اعترفوا على أنفسهم. وليس في النظم ما يدل على أن اعترافهم كان بلفظ الشهادة فالشهادة مجاز عن الاعتراف أَنَّهُمْ كانُوا في الدنيا كافِرِينَ عابدين لما لا يستحق العبادة أصلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 355 حيث اتضح لهم حاله، والجملة يحتمل أن تكون استئناف إخبار من الله تعالى باعترافهم على أنفسهم بالكفر ويحتمل أن تكون عطفا على قالُوا وعطفها على المقول لا يخفى ما فيه والاستفهام- على ما ذهب إليه غير واحد- غير حقيقي بل للتوبيخ والتقريع وعليه فلا جواب. وما ذكر إنما هو للتحسر والاعتراف بما هم عليه من الخيبة والخسران ولا تعارض بين ما في الآية وقوله تعالى: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] لأن الطوائف مختلفة أو المواقف عديدة أو الأحوال شتى قالَ أي الله عز وجل لأولئك الكاذبين المكذبين يوم القيامة بالذات أو بواسطة الملك: ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ أي مع أمم، والجار والمجرور في موضع الحال أي مصاحبين لأمم قَدْ خَلَتْ أي مضت مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يعني كفار الأمم من النوعين، وقدم الجن لمزيد شرّهم فِي النَّارِ متعلق بادخلوا، وجوز أن يتعلق فِي أُمَمٍ به ويحمل فِي النَّارِ على البدلية أو على أنه صفة أُمَمٍ وجوز بعض المفسرين أن يكون هذا إخبارا عن جعله سبحانه إياهم في جملة أولئك من غير أن يكون هناك قول مطلقا أي إنه تعالى جعلهم كذلك وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ من الأمم تابعة أو متبوعة في النار لَعَنَتْ أُخْتَها أي دعت على نظيرها في الدين فتلعن التابعة المتبوعة التي أضلتها وتلعن المتبوعة التابعة التي زادت في ضلالها، وعن أبي مسلم يلعن الاتباع القادة يقولون: أنتم أوردتمونا هذه الموارد فلعنكم الله تعالى. حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً غاية لما قبله أي يدخلون فوجا فوجا لاعنا بعضهم بعضا إلى انتهاء تلاحقهم باجتماعهم في النار. وأصل ادَّارَكُوا تداركوا فأدغمت التاء في الدال بعد قلبها دالا وتسكينها ثم اجتلبت همزة الوصل. وعن أبي عمرو أنه قرأ «اداركوا» بقطع ألف الوصل وهو- كما قيل: مبني على أنه وقف مثل وقفة المستذكر ثم ابتدأ فقطع وإلا فلا مساغ لذلك في كلام الله تعالى الجليل، وقرأ «إذا أدركوا» بألف واحدة ساكنة ودال بعدها مشددة وفيه جمع بين ساكنين وجاز لما كان الثاني مدغما ولا فرق بين المتصل والمنفصل قالَتْ أُخْراهُمْ منزلة وهم الاتباع والسفلة لِأُولاهُمْ منزلة وهم القادة والرؤساء أو قالت أخراهم دخولا لأولاهم كذلك، وتقدم أحد الفريقين على الآخر في الدخول مروي عن مقاتل، واللام في لِأُولاهُمْ للتعليل لا للتبليغ كما في قولك: قلت لزيد افعل كذا لأن خطابهم مع الله تعالى لا معهم كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عنهم: رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا أي دعونا إلى الضلال وأمرونا به حيث سنوه فاقتدينا بهم فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً أي مضاعفا كما روي عن مجاهد مِنَ النَّارِ والضعف- على ما قال أبو عبيد ونص عليه الشافعي في الوصايا- مثل الشيء مرة واحدة، وعن الأزهري أن هذا معنى عرفي والضعف في كلام العرب وإليه يرد كلام الله تعالى المثل إلى ما زاد ولا يقتصر على مثلين بل هو غير محصور واختاره هنا غير واحد. وقال الراغب: الضعف بالفتح مصدر وبالكسر اسم كالثني والثني وضعف الشيء هو الذي يثنيه ومتى أضيف إلى عدد اقتضى ذلك العدد مثله نحو أن يقال ضعف عشرة وضعف مائة فذلك عشرون ومائتان بلا خلاف وعلى ذلك قول الشاعر: جزيتك ضعف الود لما اشتكيته ... وما إن جزاك الضعف من أحد قبلي وإذا قيل: أعطه ضعفي واحد اقتضى ذلك الواحد ومثليه وذلك ثلاثة لأن معناه الواحد واللذان يزاوجانه، هذا إذا كان الضعف مضافا فإذا لم يكن مضافا فقلت: الضعفين فقد قيل: يجري مجرى الزوجين في أن كل واحد منهما يزاوج الآخر فيقتضي ذلك اثنين لأن كل واحد منهما يضاعف الآخر فلا يخرجان منهما اه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 356 ونصب ضِعْفاً على أنه صفة لعذاب، وجوز أن يكون بدلا منه ومِنَ النَّارِ صفة العذاب أو الضعف قالَ سبحانه وتعالى: لِكُلٍّ منكم ومنهم عذاب ضِعْفٌ من النار، أما القادة فلضلالهم وإضلالهم وذلك سبب الدعاء السابق، وأما الاتباع فلذلك أيضا عند بعض، وكونهم ضالين ظاهر وأما كونهم مضلين فلأن اتخاذهم إياهم رؤساء يصدرون عن أمرهم يزيد في طغيانهم كما قال سبحانه وتعالى: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً [الجن: 6] ، واعترض بعدم اطراده فإن اتباع كثير من الاتباع غير معلوم للقادة إلا أن يقال: إنه مخصوص ببعضهم وقيل: الأحسن أن يقال: إن ضعف الاتباع لإعراضهم عن الحق الواضح وتولي الرؤساء لينالوا عرض الدنيا اتباعا للهوى، ويدل عليه قوله تعالى: وقالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ [سبأ: 32] وفيه ما فيه. والأولى أن يقال: إن ذلك في الاتباع لكفرهم وتقليدهم ولا شك أن التقليد في الهدى ضلال يستحق فاعله العذاب، ونقل الراغب عن بعضهم في الآية أن المعنى لكل منكم ومنهم ضعفت ما يرى الآخر فإن من العذاب ظاهرا وباطنا وكل يدرك من الآخر الظاهر دون الباطن فيقدر أن ليس له العذاب الباطن، واختار أن المعنى لكن منهم ضعف ما لكم من العذاب والظاهر ما عولنا عليه. وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ ما لكم أو ما لكل فريق فلذا تكلمتم بما يشعر باعتقادكم استحقاق الرؤساء الضعف دونكم فالخطاب على التقديرين للاتباع كما هو الظاهر. وقيل: إنه على الأول للاتباع، وعلى الثاني للفريقين بتغليب المخاطبين الذين هم الاتباع على الغيب الذين هم القادة وقرأ عاصم «لا يعلمون» بالياء التحتية على انفصال هذا الكلام عما قبله بأن يكون تذييلا لم يقصد به إدراجه في الجواب، ومن ادعى أن الخطاب للفريقين على سبيل التغليب قال: إن هذه القراءة على انفصال القادة من الاتباع إذ عليها لا يمكن القول بالتغليب إذ لا يغلب الغائب على المخاطب. وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ حين سمعوا جواب الله تعالى لهم، واللام هنا يجوز أن تكون للتبليغ لأن خطابهم لهم بدليل قوله سبحانه وتعالى: فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ أي إنا وإياكم متساوون في استحقاق العذاب وسببه، وهذا مرتب على كلام الله تعالى على وجه التسبب لأن إخباره سبحانه بقوله جل وعلا: لِكُلٍّ ضِعْفٌ سبب لعلمهم بالمساواة فالفاء جوابية لشرط مقدر أي إذا كان كذلك فقد ثبت أن لا فضل لكم علينا. وقيل: إنها عاطفة على مقدر أي دعوتم الله تعالى فسوى بيننا وبينكم «فما كان» إلخ وليس بشيء. وأيا ما كان فقد عنوا بالفضل تخفيف العذاب ووحدة السبب، وأما ما قيل من أن المعنى ما كان لكم علينا من فضل في الرأي والعقل وقد بلغكم ما نزل بنا من العذاب فلم اتبعتمونا فكما ترى. وقيل: المعنى ما كان لكم علينا في الدنيا فضل بسبب اتباعكم إيانا بل اتباعكم وعدم اتباعكم سواء عندنا فاتباعكم إيانا كان باختياركم دون حملنا لكم عليه، وعليه فليس مرتبا على كلام الله تعالى وجوابه كما في الوجه الأولى فَذُوقُوا الْعَذابَ والمضاعف بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ أي بسبب كسبكم أو الذي تكسبونه. والظاهر أن هذا من كلام القادة قالوه لهم على سبيل التشفي. وترتبه على ما قبله على القول الأخير في معنى الآية في غاية الظهور. وجوز أن يكون من كلام الله تعالى للفريقين على سبيل التوبيخ والوقف على فَضْلٍ: وقيل: هو من مقول الفريقين أي قالت كل فرقة للأخرى ذوقوا إلخ وهو خلاف الظاهر جدا. إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على أصول الدين وأحكام الشرع كالأدلة الدالة على وجود الصانع ووحدته والدالة على النبوة والمعاد ونحو ذلك وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أي بالغوا في احتقارها وعدم الاعتناء بها ولم يلتفتوا إليها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 357 وضموا أعينهم عنها ونبذوها وراء ظهورهم ولم يكتسوا بحلل مقتضاها ولم يعملوا به لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أي لأرواحهم إذا ماتوا أَبْوابُ السَّماءِ كما تفتح لأرواح المؤمنين. أخرج أحمد، والنسائي، والحاكم وصححه، والبيهقي، وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الميت تحضره الملائكة فإذا كان الرجل صالحا قال: اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب راض غير غضبان فلا تزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقولون: فلان بن فلان فيقال: مرحبا بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب ادخلي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب راض غير غضبان فلا تزال يقال لها ذلك حتى تنتهي إلى السماء السابعة وإذا كان الرجل سوأ قالت اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج فلا تزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال: من هذا؟ فيقولون: فلان بن فلان. فيقال: لا مرحبا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث ارجعي ذميمة لا تفتح لك أبواب السماء فترسل من السماء ثم تصير إلى القبر» والأخبار في ذلك كثيرة وقيل: لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم أبواب السماء. وروي ذلك عن الحسن، ومجاهد، وقيل: لا تفتح لأرواحهم ولا لأعمالهم. وروي ذلك عن ابن جريج. وقيل: المراد لا يصعد لهم عمل ولا تنزل عليهم البركة. وكون السماء لها أبواب تفتح للأعمال الصالحة والأرواح الطيبة قد تفتحت له أبواب القبول للنصوص الواردة فيه وهو أمر ممكن أخبر به الصادق فلا حاجة إلى تأويله. وكون السماء كروية لا تقبل الخرق والالتئام مما لا يتم له دليل عندنا. وظاهر كلام أهل الهيئة الجديد جواز الخرق والالتئام على الأفلاك. وزعم بعضهم أن القول بالأبواب لا ينافي القول بامتناع الخرق والالتئام وفيه نظر كما لا يخفى. والتاء في تُفَتَّحُ لتأنيث الأبواب والتشديد لكثرتها لا لكثرة الفعل لعدم مناسبة المقام. وقرأ أبو عمرو بالتخفيف، وحمزة، والكسائي به وبالياء التحتية، وروي ذلك عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأن التأنيث غير حقيقي والفعل مقدم مع وجود الفاصل. وقرىء على البناء للفاعل ونصب الأبواب بالتاء الفوقية على أن الفعل مسند إلى الآيات مجازا لأنها سبب لذلك. وبالياء على أنه مسند إلى الله تعالى: وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يوم القيامة حَتَّى يَلِجَ أي يدخل الْجَمَلُ هو البعير إذا بزل. وجمعه جمال وأجمال وجمالة ويجمع الأخير على جمالات. وعن ابن مسعود أنه سئل عن الجمل فقال: هو زوج الناقة. وعن الحسن أنه قال: ابن الناقة الذي يقوم في المربد على أربع قوائم. وفي ذلك استجهال للسائل وإشارة إلى أن طلب معنى آخر تكلف. والعرب تضرب به المثل في عظم الخلقة فكأنه قيل: حتى يدخل ما هو مثل في عظم الجرم فِي سَمِّ الْخِياطِ أي ثقبة الإبرة وهو مثل عندهم أيضا في ضيق المسلك وذلك مما لا يكون فكذا ما توقف عليه بل لا تتعلق به القدرة لعدم إمكانه ما دام العظيم على عظمه والضيق على ضيقه. وهي إنما تتعلق بالممكنات الصرفة. والممكن الولوج بتصغير العظيم أو توسيع الضيق. وقد كثر في كلامهم مثل هذه الغاية فيقولون: لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب وحتى يبيض القار وحتى يؤوب القارظان ومرادهم لا أفعل كذا أبدا. وقرأ ابن عباس وابن جبير، ومجاهد، وعكرمة، والشعبي الْجَمَلُ بضم الجيم وفتح الميم المشددة كالقمل. وقرأ عبد الكريم، وحنظلة، وابن عباس، وابن جبير في رواية أخرى الْجَمَلُ بالضم والفتح مع التخفيف كنغر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 358 وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قرأ الْجَمَلُ بضم الجيم وسكون الميم كالقفل والْجَمَلُ بضمتين كالنصب، وقرأ أبو السمال «الجمل» بفتح الجيم وسكون الميم كالحبل، وفسر في جميع ذلك بالحبل الغليظ من القنب. وقيل: هو حبل السفينة. وقرىء «في سم» بضم السين وكسرها وهما لغتان فيه والفتح أشهر، ومعناه الثقب الصغير مطلقا. وقيل: أصله ما كان في عضو كأنف وأذن، وقرأ عبد الله «في سم الخياط» بكسر الميم وفتحها وهو والخياط ما يخاط به كالحزام والمحزم والقناع والمقنع وَكَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء الفظيع نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ أي جنسهم وأولئك داخلون فيه دخولا أوليا، وأصل الجرم قطع الثمرة عن الشجرة، ويقال: أجرم صار ذا جرم كأتمر وأثمر، ويستعمل في كلامهم لاكتساب المكروه، ولا يكاد يقال للكسب المحمود. لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ أي فراش من تحتهم، وتنوينه للتفخيم وهو فاعل الظرف أو مبتدأ، والجملة إما مستأنفة أو حالية، ومن تجريدية، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من مِهادٌ لتقدمه وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ أي أغطية جمع غاشية، وعن ابن عباس، ومحمد بن كعب القرظي أنها اللحف. والآية- على ما قيل- مثل قوله تعالى لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر: 16] والمراد أن النار محيطة به من جميع الجوانب وأخرج ابن مردويه عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم تلا هذه الآية ثم قال: «هي طبقات من فوقه وطبقات من تحته لا يدري ما فوقه أكثر أو ما تحته غير أنه ترفعه الطبقات السفلى وتضعه الطبقات العليا ويضيق فيما بينهما حتى يكون بمنزلة الزج في القدح» وتنوين غَواشٍ عوض عن الحرف المحذوف أو حركته، والكسرة ليست للإعراب وهو غير منصرف لأنه على صيغة منتهى الجموع، وبعض العرب يعربه بالحركات الظاهرة على ما قبل الياء لجعلها محذوفة نسيا منسيا، ولذا قرىء «غواش» بالرفع كما في قوله تعالى: وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ [الرحمن: 24] في قراءة عبد الله. وَكَذلِكَ أي ومثل ذلك الجزاء الشديد نَجْزِي الظَّالِمِينَ عبر عنهم بالمجرمين تارة وبالظالمين أخرى للتنبيه على أنهم بتكذيبهم بالآيات واستكبارهم عنها جمعوا الصفتين. وذكر الجرم مع الحرمان من الجنة والظلم مع التعذيب بالنار تنبيها على أنه أعظم الإجرام. ولا يخفى على المتأمل في لطائف القرآن العظيم ما في إعداد المهاد والغواشي لهؤلاء المستكبرين عن الآيات ومنعهم من العروج إلى الملكوت وتقييد عدم دخولهم الجنة بدخول البعير بخرق الإبرة من اللطافة فليتأمل وَالَّذِينَ آمَنُوا أي بآياتنا ولم يكذبوا بها وَعَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ ولم يستكبروا عنها لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أي ما تقدر عليه بسهولة دون ما تضيق به ذرعا، والجملة اعتراض وسط بين المبتدأ وهو الموصول والخبر الذي هو جملة أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ للترغيب في اكتساب ما يؤدي إلى النعيم المقيم ببيان سهولة مناله وتيسر تحصيله. وقيل: المعنى لا نكلف نفسا إلا ما يثمر لها السعة أي جنة عرضها السماوات والأرض وهو خلاف الظاهر وإن كانت الآية عليه لا تخلو عن ترغيب أيضا. وجوز أن يكون اسم الإشارة بدلا من الموصول وما بعده خبر المبتدأ، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الفضل والشرف. وجوز أيضا أن تكون جملة لا نُكَلِّفُ إلخ خبر المبتدأ بتقدير العائد أي منهم وقوله سبحانه: هُمْ فِيها خالِدُونَ حال من أَصْحابُ الْجَنَّةِ، وجوز كونه حالا من الْجَنَّةِ لاشتماله على ضميرها أيضا. والعامل فيها معنى الإضافة أو اللام المقدرة، وقيل. خبر لأولئك على رأي من جوزه. وفِيها متعلق بخالدون قدم عليه رعاية للفاصلة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 359 وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ أي قلعنا ما في قلوبهم من حقد مخفي فيها وعداوة كانت بمقتضى الطبيعة لأمور جرت بينهم في الدنيا أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن السدي قال: إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة فبلغوها وجدوا عند بابها شجرة أصل ساقها عينان فيشربون من إحداهما فينزع ما في صدورهم من غل فهو الشراب الطهور ويغتسلون من الأخرى فتجري عليهم نضرة النعيم فلن يشعثوا ولن يشحبوا بعدها أبدا. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: بلغني أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يحبس أهل الجنة بعد ما يجوزون الصراط حتى يؤخذ لبعضهم من بعض ظلاماتهم في الدنيا فيدخلون الجنة وليس في قلوب بعض على بعض غل» وقيل: المراد طهرنا قلوبهم وحفظناها من التحاسد على درجات الجنة ومراتب القرب بحيث لا يحسد صاحب الدرجة النازلة صاحب الدرجة الرفيعة. وهذا في مقابلة ما ذكره سبحانه من لعن أهل النار بعضهم بعضا. وأيا ما كان فالمراد ننزع لأنه في الآخرة إلا أن صيغة الماضي للإيذان بتحققه. وقيل: إن هذا النزع إنما كان في الدنيا، والمراد عدم اتصافهم بذلك من أول الأمر إلا أنه عبر عن عدم الاتصاف به مع وجود ما يقتضيه حسب البشرية أحيانا بالنزع مجازا، ولعل هذا بالنظر إلى كمل المؤمنين كأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإنهم رحماء بينهم يحب بعضهم بعضا كمحبته لنفسه أو المراد إزالته بتوفيق الله تعالى قبل الموت بعد أن كان بمقتضى الطباع البشرية. ويحتمل أن يخرج على الوجهين ما أخرجه غير واحد عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في هذه الآية إني لأرجو أن أكون أنا، وعثمان، وطلحة، والزبير منهم، ويقال على الثاني فيما وقع مما ينبىء بظاهره عن الغل. إنه لم يكن إلا عن اجتهاد إعلاء لكلمة الله تعالى ولا يخفى بعد هذا المعنى وإن ساعدة ظاهر الصيغة ومِنْ غِلٍّ على سائر الاحتمالات حال من ما وقوله سبحانه: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ حال أيضا إما من الضمير في صُدُورِهِمْ لأن المضاف جزء من المضاف إليه والعامل معنى الإضافة أو العامل في المضاف، وإما من ضمير نَزَعْنا على ما قيل والعامل الفعل. واختار بعضهم أن الجملة مستأنفة للإخبار عن صفة أحوالهم. والمراد تجري من تحت غرفها مياه الأنهار زيادة في لذتهم وسرورهم وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا الفوز العظيم والنعيم المقيم. والمراد الهداية لما أدى إليه من الأعمال القلبية والقالبية مجازا وذلك بالتوفيق لها وصرف الموانع عن الاتصاف بها. وقيل: المراد من الهداية لما هم فيه من النعيم مجاوزة الصراط إلى أن وصلوا إليه. ومن الناس من جعل الإشارة إلى نزع الغل من الصدور ولا أراه شيئا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ أي لهذا أو لمطلب من المطالب التي هذا من جملتها لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ وفقنا له، واللام لتأكيد النفي وهي المسماة بلام الجحود وجواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه، وليس إياه لامتناع تقدم الجواب على الصحيح ومفعول لِنَهْتَدِيَ وهَدانا الثاني محذوف لظهور المراد أو لإرادة التعميم كما أشير إليه، والجملة حالية أو استئنافية، وفي مصاحف أهل الشام ما كُنَّا بدون واو وهي قراءة ابن عامر فالجملة كالتفسير للأولى، وهذا القول من أهل الجنة لإظهار السرور بما نالوا والتلذذ بالتكلم به لا للتقرب والتعبد فإن الدار ليست لذلك وهذا كما ترى من رزق خيرا في الدنيا يتكلم بنحو هذا ولا يتمالك أن لا يقوله للفرح لا للقرابة، وقوله سبحانه: لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ جملة قسمية لم يقصد بها التقرب أيضا وهي بيان لصدق وعد الرسل عليهم السلام إياهم بالجنة على ما نص عليه بعض الفضلاء، وقيل: تعليل لهدايتهم. والباء إما للتعدية فهي متعلقة بجاءت أو للملابسة فهي متعلقة بمقدر وقع حالا من الرسل، ولا يخفى ما في هذه الآية من الرد الواضح على القدرية الزاعمين أن كل مهتد خلق لنفسه الهدى ولم يخلق الله تعالى له ذلك، ودونك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 360 فأعرض قول المعتزلة في الدنيا المهتدي من اهتدى بنفسه على قول الله تعالى حكاية عن قول الموحدين في مقعد صدق وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ واختر لنفسك أي الفريقين تقتدي به ولا أراك أيها العاقل تعدل بما نوه الله تعالى به قول ضال يتذبذب مع هواه وتعصبه. ولما رأى الزمخشري هذه الآية كافحة في وجوه قومه فسر الهدى باللطف الذي بسببه يخلق العبد الاهتداء لنفسه، وهو لعمري كلام من حرم اللطف نسأل الله تعالى العفو والعافية وَنُودُوا أي نادتهم الملائكة، وجوز بعضهم احتمال أن المنادي هو الله، والآثار تؤيد الأول. أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أي أي تلكم على أن أَنْ مفسرة لما في النداء من معنى القول، ويجوز أن تكون مخففة من أن وحرف الجر مقدر واسمها ضمير شأن محذوف أي بأنها أو بأنه تلكم، وأوجب البعض الثاني بناء على أنه يجب أن يؤنث ضمير الشأن إذا كان المسند إليه في الجملة المفسرة مؤنثا، والصحيح عدم الوجوب على ما صرح به ابن الحاجب وابن مالك، ومعنى البعد في اسم الإشارة إما لرفع منزلتها وبعد مرتبتها، وإما لأنهم نودوا عند رؤيتهم إياها من مكان بعيد، وإما للإشعار بأنها تلك الجنة التي وعدوها في الدنيا وإليه يشير كلام الزجاج. والظاهر أن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ مبتدأ وخبر وقوله سبحانه: أُورِثْتُمُوها حال من الجنة والعامل فيها معنى الإشارة ويجوز أن تكون الْجَنَّةُ نعتا لتلكم أو بدلا وأُورِثْتُمُوها الخبر، ولا يجوز أن يكون حالا من المبتدأ ولا من- كم- كما قاله أبو البقاء وهو ظاهر والتزم بعضهم في توجيه البعد أن تِلْكُمُ خبر مبتدأ محذوف أي هذه تلكم الجنة الموعودة لكم قبل أو مبتدأ حذف خبره أي تلك الجنة التي أخبرتم عنها أو وعدتم بها في الدنيا هي هذه ولا حاجة إليه. والمنادى له أولا وبالذات كونها موروثة لهم وما قبله توطئة له، والميراث مجاز عن الإعطاء أي أعطيتموها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا من الأعمال الصالحة، والباء للسببية وتجوز بذلك عن الإعطاء إشارة إلى أن السبب فيه ليس موجبا وإن كان سببا بحسب الظاهر كما أن الإرث ملك بدون كسب وإن كان النسب مثلا سببا له، والباء في قوله صلّى الله عليه وسلّم على ما في بعض الكتب: «لن يدخل أحدكم الجنة بعمله» وكذا في قوله عليه الصلاة والسلام على ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة وجابر «لن ينجو أحد منكم بعمله» للسبب التام فلا تعارض، وجوز أن تكون الباء فيما نحن فيه للعوض أي بمقابلة أعمالكم، وقيل: تلك الإشارة إلى منازل في الجنة هي لأهل النار لو كانوا أطاعوا جعلها الله تعالى إرثا للمؤمنين، فقد أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن السدي قال: ما من مؤمن ولا كافر إلا وله في الجنة والنار منزل مبين فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ودخلوا منازلهم رفعت الجنة لأهل النار فنظروا إلى منازلهم فيها فقيل هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله تعالى ثم يقال: يا أهل الجنة رثوهم بما كنتم تعملون فيقتسم أهل الجنة منازلهم، وأنت تعلم أن القول بهذا الإرث الغريب لا يدفع الحاجة إلى المجاز. وزعم المعتزلة أن دخول الجنة بسبب الأعمال لا بالتفضل لهذه الآية، ولا يخفى أنه لا محيص لمؤمن عن فضل الله تعالى لأن اقتضاء الأعمال لذاتها دخول الجنة أو إدخال الله تعالى ذويها فيها مما لا يكاد يعقل، وقصارى ما يعقل أن الله تعالى تفضل فرتب عليها دخول الجنة فلولا فضله لم يكن ذلك، وأنا لا أرى أكثر جرأة من المعتزلة في هذا الباب ككثير من الأبواب فإن مآل كلامهم فيه أن الجنة ونعيمها الذي لا يتناهى إقطاعهم بحق مستحق على الله تعالى الذي لا ينتفع بشيء ولا يتضرر بشيء لا تفضل له عليهم في ذلك بل هو بمثابة دين أدي إلى صاحبه سبحانه هذا بهتان عظيم وتكذيب لغير ما خبر صحيح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 361 وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ بعد الاستقرار فيها كما هو الظاهر، وصيغة الماضي لتحقق الوقوع، والمعنى ينادي ولا بد كل فريق من أهل الجنة أَصْحابَ النَّارِ أي من كان يعرفه في الدنيا من أهلها تبجحا بحالهم وشماتة بأعدائهم وتحسيرا لهم لا لمجرد الإخبار والاستخبار أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا على ألسنة رسله عليهم السلام من النعيم والكرامة حَقًّا حيث نلنا ذلك فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ أي ما وعدكم من الخزي والهوان والعذاب حَقًّا وحذف المفعول تخفيفا وإيجازا واستغناء بالأول، وقيل: لأن ما ساءهم من الوعود لم يكن بأسره مخصوصا بهم وعده كالبعث، والحساب ونعيم أهل الجنة فإنهم قد وجدوا جميع ذلك حقا وإن لم يكن وعده مخصوصا بهم. وتعقب بأنه لا خفاء في كون أصحاب الجنة مصدقين بالكل والكل مما يسرهم فكان ينبغي أن يطلق وعدهم أيضا، فالوجه الحمل على ما تقدم، ونصب حَقًّا في الموضعين على الحالية، وجوز أن يكون على أنه مفعول ثان ويكون وجد بمعنى علم، والتعبير بالوعد قيل: للمشاكلة، وقيل: للتهكم. ومن الناس من جوز أن يكون مفعول وعد المحذوف- نا- وحينئذ فلا مشاكلة ولا تهكم. وأيا ما كان لا يستبعد هذا النداء هناك وأن بعد ما بين الجنة والنار من المسافة كما لا يخفى. قالُوا في جواب أصحاب الجنة نَعَمْ قد وجدنا ذلك حقا. قرأ الكسائي «نعم» بكسر العين وهي لغة فيه نسبت إلى كنانة وهذيل، ولا عبرة بمن أنكره مع القراءة به وإثبات أهل اللغة له بالنقل الصحيح. نعم ما روي من أن عمر رضي الله تعالى عنه سأل قوما عن شيء فقالوا: نعم فقال عمر: أما النعم فالإبل قولوا: نعم لا أراه صحيحا لما فيه من المخالفة لأصح الفصيح فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ هو على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه صاحب الصور عليه السلام، وقيل: مالك خازن النار. وقيل: ملك من الملائكة غيرهما يأمره الله تعالى بذلك. ورواية الإمامية عن الرضا وابن عباس أنه علي كرم الله تعالى وجهه مما لم يثبت من طريق أهل السنة وبعيد عن هذا الإمام أن يكون مؤذنا وهو إذ ذاك في حظائر القدس بَيْنَهُمْ أي الفريقين لا بين القائلين نعم كما قيل، ولا يراد أن الظاهر أن يقال: بينهما لأنه غير متعين أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ بأن المخففة أو المفسرة، والمراد الإعلام بلعنة الله تعالى لهم زيادة لسرور أصحاب الجنة وحزن أصحاب النار أو ابتداء لعن. وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وحمزة، والكسائي «أنّ لعنة الله» بالتشديد والنصب: وقرأ الأعمش بكسر الهمزة على إرادة القول بالتضمين أو التقدير أو على الحكاية بإذن لأنه في معنى القول فيجري مجراه. الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي يصدون بأنفسهم عن دينه سبحانه ويعرضون عنه، فالموصول صفة مقررة للظالمين لأن هذا الإعراض لازم لكل ظالم، وجوز القطع بالرفع أو النصب وكلاهما على الذم وأمر الوقف ظاهر، وفسر الإمام النسفي الصد هنا بمنع الغير وعليه فلا تقرير، والمعنى يمنعون الناس عن دين الله تعالى بالنهي عنه وإدخال الشبه في دلائله وَيَبْغُونَها عِوَجاً أي يطلبون اعوجاجها ويذمونها فلا يؤمنون بها أو يطلبون لها تأويلا وإمالة إلى الباطل، فالعوج إما على أصله وهو الميل وإما بمعنى التعويج والإمالة ونصبه قيل: على الحالية. وقيل: على المفعولية. وجوز الطبرسي أن يكون نصبا على المصدر كرجع القهقرى واشتمل الصماء، وذكر أن العوج بالكسر يكون في الدين والطريق وبالفتح في الخلقة فيقال في ساقه عوج بالفتح وفي دينه عوج بالكسر، وقال الراغب: العوج يقال فيما يدرك بالبصر كالخشب المنتصب ونحوه. والعوج يقال فيما يدرك بفكر وبصيرة كما يكون في أرض بسيط وكالدين والمعاش، وسيأتي لذلك تتمة إن شاء الله تعالى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 362 وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ أي غير معترفين بالقيامة وما فيها، والجار متعلق بما بعده، والتقديم لرعاية الفواصل، والعدول عن الجملة الفعلية إلى الاسمية للدلالة على الدوام والثبات إشارة إلى رسوخ الكفر فيهم. وَبَيْنَهُما حِجابٌ أي بين الفريقين كقوله تعالى: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ [الحديد: 13] أو بين الجنة والنار حجاب عظيم ليمنع وصول أثر إحداهما إلى الأخرى وإن لم يمنع وصول النداء وأمور الآخرة لا تقاس بأمور الدنيا. وَعَلَى الْأَعْرافِ أي أعراف الحجاب أي أعاليه، وهو السور المضروب بينهما أجمع عرف مستعار من عرف الدابة والديك. وقيل: العرف ما ارتفع من الشيء أي أعلى موضع منه لأنه أشرف وأعرف مما انخفض منه. وقيل: ذاك جبل أحد. فقد روي عنه صلّى الله عليه وسلّم «أحد يحبنا ونحبه- وأنه يوم القيامة يمثل بين الجنة والنار يحبس عليه أقوام يعرفون كلا بسيماهم وهم إن شاء الله تعالى من أهل الجنة» . وقيل: هو الصراط. وروي ذلك عن الحسن بن المفضل، وحكي عن بعضهم أنه لم يفسر الأعراف بمكان وأنه قال: المعنى وعلى معرفة أهل الجنة والنار رِجالٌ والحق أنه مكان والرجال طائفة من الموحدين قصرت بهم سيئاتهم عن الجنة وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار جعلوا هناك حتى يقضى بين الناس فبينما هم كذلك إذا اطلع عليهم ربهم فقال لهم: قوموا ادخلوا الجنة فإني غفرت لكم. أخرجه أبو الشيخ، والبيهقي، وغيرهما عن حذيفة، وفي رواية أخرى عنه «يجمع الله تعالى الناس ثم يقول لأصحاب الأعراف: ما تنتظرون؟ قالوا: ننتظر أمرك فيقال: إن حسناتكم تجاوزت بكم النار أن تدخلوها وحالت بينكم وبين الجنة خطاياكم فادخلوها بمغفرتي ورحمتي» . وإلى هذا ذهب جمع من الصحابة والتابعين. وقيل: هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أجلسهم الله تعالى على أعالي ذلك السور تمييزا لهم على سائر أهل القيامة وإظهارا لشرفهم وعلو مرتبتهم. وروى الضحاك عن ابن عباس أنهم العباس، وحمزة، وعلي، وجعفر ذو الجناحين رضي الله تعالى عنهم يجلسون على موضع من الصراط يعرفون محبيهم ببياض الوجوه ومبغضيهم بسوادها. وقيل: إنهم عدول القيامة الشاهدون على الناس بأعمالهم وهو من كل أمة حكاه الزهري، وأخرج البيهقي، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبو الشيخ، والطبراني، وغيرهم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل عن أصحاب الأعراف فقال: «هم أناس قتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم فمنعهم من دخول الجنة معصية آبائهم ومنعهم من دخول النار قتلهم في سبيل الله» . وقيل: هم أناس رضي عنهم أحد أبويهم دون الآخر. وقال الحسن البصري: إنهم قوم كان فيهم عجب. وقال مسلم بن يسار: هم قوم كان عليهم دين، وقيل: هم أهل الفترة، وقيل: أولاد المشركين، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم أولاد الزنا، وعنه أيضا أنهم مساكين أهل الجنة. وعن أبي مسلم أنهم ملائكة ويرون في صورة الرجال لا أنهم رجال حقيقة لأن الملائكة لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة. وقيل وقيل وأرجح الأقوال- كما قال القرطبي- الأول وجمع بعضهم بينها بأنه يجوز أن يجلس الجميع ممن ورد فيهم أنهم أصحاب الأعراف هناك مع تفاوت مراتبهم على أن من هذه الأقوال ما لا يخفى تداخله. ومن الناس من استظهر القول بأن أصحاب الأعراف قوم علت درجاتهم لأن المقالات الآتية وما تتفرغ هي عليه لا تليق بغيرهم يَعْرِفُونَ كُلًّا من أهل الجنة والنار بِسِيماهُمْ بعلامتهم التي أعلمهم الله تعالى بها كبياض الجزء: 4 ¦ الصفحة: 363 الوجوه بالنسبة إلى أهل الجنة وسوادها بالنسبة إلى أهل النار. ووزنه فعلى من سام إبله إذا أرسلها في المرعى معلمة أو من وسم على القلب كالجاه من الوجه فوزنه عفلى، ويقال: سيماء بالمد وسيمياء ككبرياء. وقال الشاعر: له سيمياء ما تشق على البصر ومعرفتهم أن كذا علامة الجنة وكذا علامة النار تكون بالإلهام أو بتعليم الملائكة. وهذا كما روي عن أبي مجلز رضي الله تعالى عنه قبل أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. واستظهره بعضهم إذ لا حاجة بعد الدخول للعلامة. ويشعر كلام آخرين أنه بعده والباء للملابسة وَنادَوْا أي رجال الأعراف أَصْحابَ الْجَنَّةِ حين رأوهم وعرفوهم أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بطريق الدعاء والتحية أو بطريق الإخبار بنجاتهم من المكاره لَمْ يَدْخُلُوها حال من فاعل نادَوْا أو من مفعوله. وقوله سبحانه: وَهُمْ يَطْمَعُونَ حال من فاعل يَدْخُلُوها أي نادوهم وهم لم يدخلوها حال كونهم طامعين في دخولها مترقبين له أي لم يدخلوها وهم في وقت عدم الدخول طامعون قاله بعضهم. وفسر الطمع باليقين الحسن وأبو علي وبه فسر في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي [الشعراء: 82] . وفي الكشاف أن جملة لَمْ يَدْخُلُوها إلخ لا محل لها لأنها استئناف كأن سائلا سأل عن حال أصحاب الأعراف فقيل: لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ. وجوز أن يكون في محل الرفع صفة لرجال وضعف بالفصل. وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ أي إلى جهتهم وهو في الأصل مصدر وليس في المصادر وما هو على وزن تفعال بكسر التاء غيره وغير تبيان وزلزال ثم استعمل ظرف مكان بمعنى جهة اللقاء والمقابلة ويجوز عند السبعة إثبات همزته وهمزة «أصحاب» وحذف الأولى وإثبات الثانية. وفي عدم التعرض لتعلق أنظارهم بأصحاب الجنة والتعبير عن تعلق أبصارهم بأصحاب النار بالصرف إشعار- كما قال غير واحد- بأن التعلق الأول بطريق الرغبة والميل والثاني بخلافه. فمن زعم أن في الكلام الأول شرطا محذوفا لم يأت بشيء قالُوا متعوذين بالله سبحانه من سوء ما رأوا من حالهم رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي لا تجمعنا وإياهم في النار. وفي وصفهم بالظلم دون ما هم عليه حينئذ من العذاب وسوء الحال الذي هو الموجب للدعاء إشعار بأن المحذور عندهم ليس نفس العذاب فقط بل ما يؤدي إليه من الظلم. وفي الآية- على ما قيل- إشارة إلى أنه سبحانه لا يجب عليه شيء. وزعم بعضهم أنه ليس المقصود فيها الدعاء بل مجرد استعظام حال الظالمين. وقرأ الأعمش «وإذا قلبت أبصارهم» . وعن ابن مسعود وسالم مثل ذلك. وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ كرر ذكرهم مع كفاية الإضمار لزيادة التقرير. وقيل: لم يكتف بالإضمار للفرق بين المراد منهم هنا. والمراد منهم فيما تقدم فإن المنادى هناك الكل وهنا البعض. وفي إطلاق أصحاب الأعراف على أولئك الرجال بناء على أن مآلهم إلى الجنة دليل على أن عنوان الصحبة للشيء لا يستدعي الملازمة له كما زعمه البعض رِجالًا من رؤساء الكفرة كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل حتى رأوهم فيما بين أصحاب النار يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ بعلامتهم التي أعلمهم الله تعالى بها من سواد الوجه وتشويه الخلق وزرقة العين كما قال الجبائي أو بصورهم التي كانوا يعرفونهم بها في الدنيا كما قال أبو مسلم أو بعلامتهم الدالة على سوء حالهم يومئذ وعلى رياستهم في الدنيا كما قيل ولعله الأولى. وأيا ما كان فالجار والمجرور متعلق بما عنده- ويفهم من كلام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 364 بعضهم، وفيه بعد، أنه متعلق بنادى. والمعنى نادوا رجالا يعرفونهم في الدنيا بأسمائهم وكناهم وما يدعون به من الصفات. قالُوا بيان لنادى أو بدل منه ما أَغْنى عَنْكُمْ استفهام للتقريع والتوبيخ ويجوز أن يراد النفي أي ما كفاكم ما أنتم فيه جَمْعُكُمْ أتباعكم وأشياعكم أو جمعكم المال فهو مصدر مفعوله مقدر وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أي واستكباركم المستمر عن قبول الحق أو على الخلق وهو الأنسب مما بعده. وقرىء «تستكثرون» من الكثرة. وما على هذه القراءة تحتمل أن تكون اسم موصول على معنى ما أغنى عنكم أتباعكم والذي كنتم تستكثرونه من الأموال. ويحتمل عندي أن تكون في القراءة السبعية كذلك. والمراد بها حينئذ الأصنام. ومعنى استكبارهم إياها اعتقادهم عظمها وكبرها أي ما أغنى عنكم جمعكم وأصنامكم التي كنتم تعتقدون كبرها وعظمها. أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ من تتمة قولهم للرجال فهو في محل نصب مفعول القول أيضا أي قالوا: ما أغنى وقالوا: أهؤلاء، والإشارة إلى ضعفاء أهل الجنة الذين كان الكفرة يحتقرونهم في الدنيا ويحلفون أنهم لا يصيبهم الله تعالى برحمة وخير ولا يدخلهم الجنة كسلمان، وصهيب، وبلال رضي الله تعالى عنهم أو يفعلون ما ينبىء عن ذلك كما قيل ذلك في قوله تعالى: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ [إبراهيم: 44] . ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ من كلام أصحاب الأعراف أيضا أي فالتفتوا إلى أولئك المشار إليهم من أهل الجنة وقالوا لهم: دوموا في الجنة غير خائفين ولا محزونين على أكمل سرور وأتم كرامة. وقيل: هو أمر بأصل الدخول بناء على أن يكون كونهم على الأعراف وقولهم هذا قبل دخول بعض أهل الجنة الجنة. وقال غير واحد: إن قوله سبحانه: أَهؤُلاءِ إلخ استئناف وليس من تتمة قول أصحاب الأعراف، والمشار إليهم أهل الجنة والقائل هو الله تعالى أو بعض الملائكة والمقول له أهل النار في قول، وقيل: المشار إليهم هم أهل الأعراف وهم القائلون أيضا والمقول لهم أهل النار، وادْخُلُوا الْجَنَّةَ من قول أهل الأعراف أيضا أي يرجعون فيخاطب بعضهم بعضا ويقول: ادخلوا الجنة، ولا يخفى بعده، وقيل: لما عير أصحاب الأعراف أصحاب النار أقسم أصحاب النار أن أصحاب الأعراف لا يدخلون الجنة فقال الله تعالى أو بعض الملائكة خطابا لأهل النار: أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة اليوم مشيرا إلى أصحاب الأعراف ثم وجه الخطاب إليهم فقيل: ادخلوا الجنة إلخ وقرىء «ادخلوا» . و «دخلوا» بالمزيد المجهول وبالمجرد المعلوم، وعليها فلا بد أن يكون لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ إلخ مقولا لقول محذوف وقع حالا ليتجه الخطاب ويرتبط الكلام أي ادخلوا أو دخلوا الجنة مقولا لهم لا خوف إلخ. وقرىء أيضا «ادخلوا» بأمر المزيد للملائكة. والظاهر أنها تحتاج إلى زيادة تقدير. وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ بعد أن استقر بكل من الفريقين القرار واطمأنت به الدار: أَنْ أَفِيضُوا أي صبوا عَلَيْنا شيئا مِنَ الْماءِ نستعين به على ما نحن فيه، وظاهر الآية يدل على أن الجنة فوق النار أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي أو من الذي رزقكموه الله تعالى من سائر الأشربة ليلائم الإفاضة أو من الأطعمة كما روي عن السدي، وابن زيد، ويقدر في المعطوف عامل يناسبه أو يؤول العامل الأول بما يلائم المتعاطفين أو يضمن ما يعمل في الثاني أو يجعل ذلك من المشاكلة ويكون في الآية دليل على نهاية عطشهم وشدة جوعهم وأن ما هم فيه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 365 من العذاب لا يمنعهم عن طلب أكل وشرب. وبهذا رد موسى الكاظم رضي الله تعالى عنه- فيما يروي- على هارون الرشيد إنكاره أكل أهل المحشر محتجا بأن ما هم فيه أقوى مانع لهم عن ذلك. واختلف العلماء في أن هذا السؤال هل كان مع رجاء الحصول أو مع اليأس منه حيث عرفوا دوام ما هم فيه وإلى كل ذهب بعض قالُوا استئناف مبني على السؤال كأنه قيل: فماذا قالوا؟ فقيل قالوا: في جوابهم: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ أي منع كلا منهما أو منعهما منع المحرم عن المكلف فلا سبيل إلى ذلك قطعا، ولا يحمل التحريم على معناه الشائع لأن الدار ليست بدار تكليف الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ الذي أمرهم الله تعالى به أو الذي يلزمهم التدين به لَهْواً وَلَعِباً فلم يتدينوا به أو فحرموا ما شاؤوا واستحلوا ما شاؤوا، واللهو- كما قيل- صرف الهم إلى ما لا يحسن أن يصرف إليه، واللعب طلب الفرح بما لا يحسن أن يطلب، وقد تقدم تفصيل الكلام فيهما فتذكر وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا شغلتهم بزخارفها العاجلة ومواعيدها الباطلة وهذا شأنها مع أهلها قاتلها الله تعالى تغر وتضر وتمر فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ نفعل بهم فعل الناسي بالمنسي من عدم الاعتداد بهم وتركهم في النار تركا كليا فالكلام خارج مخرج التمثيل، وقد جاء النسيان بمعنى الترك كثيرا ويصح أن يفسر به هنا فيكون استعارة أو مجازا مرسلا، وعن مجاهد أنه قال: المعنى نؤخرهم في النار، وعليه، فالظاهر أن ننساهم من النسء لا من النسيان. والفاء في قوله تعالى فَالْيَوْمَ فصيحة، وقوله عز وعلا. كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا قيل: في محل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي ننساهم نسيانا مثل نسيانهم لقاء هذا اليوم العظيم الذي لا ينبغي أن ينسى. وليس الكلام على حقيقته أيضا لأنهم لم يكونوا ذاكري ذلك حتى ينسوه بل شبه عدم إخطارهم يوم القيامة ببالهم وعدم استعدادهم له بحال من عرف شيئا ثم نسيه. وعن ابن عباس، ومجاهد، والحسن أن المعنى كما نسوا العمل للقاء يومهم هذا وليس هذا التقدير ضروريا كما لا يخفى، وذهب غير واحد إلى أن الكاف للتعليل متعلق بما عنده لا للتشبيه إذ يمنع منه قوله تعالى: وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ لأنه عطف على ما نسوا وهو يستدعي أن يكون مشبها به النسيان مثله. وتشبيه النسيان بالجحود غير ظاهر، ومن ادعاه قال: المراد نتركهم في النار تركا مستمرا كما كانوا منكرين أن الآيات من عند الله تعالى إنكارا مستمرا. وقال القطب: الجحود في معنى النسيان، وظاهر كلام كثير من المفسرين أن كلام أهل الجنة إلى وغرتهم الحياة الدنيا لا أن الله حرمهما على الكافرين فقط. وقال بعضهم: إنه ذلك لا غير، وعليه فيجوز أن يكون الَّذِينَ مبتدأ وجملة اليوم ننساهم خبره، والفاء فيه مثلها في قولك: الذي يأتيني فله درهم كما قيل. وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ بينا معانيه من العقائد، والأحكام، والمواعظ مفصلة والضمير للكفرة قاطبة، وقيل: لهم وللمؤمنين، والمراد بالكتاب الجنس، وقيل: للمعاصرين من الكفرة أو منهم ومن المؤمنين. والكتاب هو القرآن وتنوينه للتفخيم. وقد نظم بعضهم ما اشتمل عليه من الأنواع بقوله: حلال حرام محكم متشابه ... بشير نذير قصة عظة مثل والمراد منع الخلو كما لا يخفى عَلى عِلْمٍ منا بوجه تفصيله وهو في موضع الحال من فاعل فَصَّلْناهُ وتنكيره للتعظيم أي عالمين على أكمل وجه بذلك حتى جاء حكيما متقنا، وفي هذا- كما قيل- دليل على أنه سبحانه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 366 يعلم بصفة زائدة على الذات وهي صفة العلم وليس علمه سبحانه عين ذاته كما يقوله الفلاسفة ومن ضاهاهم وللمناقشة فيه مجال، ويجوز أن يكون موضع الحال من المفعول أي مشتملا على علم كثير. وقرأ ابن محيصن «فضلناه» بالضاد المعجمة، وظاهر كلام البعض أن الجار والمجرور على هذه القراءة في موضع الحال من الفاعل ولا يجعل حالا من المفعول أي فضلناه على سائر الكتب عالمين بأنه حقيق بذلك، وجوز بعضهم أن يجعل حالا من المفعول على نحو ما مر وقيل: إن عَلى للتعليل كما في قوله سبحانه: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ [البقرة: 185] وهي متعلقة بفضلناه أي فضلناه على سائر الكتب لأجل علم فيه أي لاشتماله على علم يشتمل عليه غيره منها، وقيل: إن عَلى في القراءتين متعلقة بمحذوف وقع حالا من مفعول جِئْناهُمْ أي جئناهم بذلك حال كونهم من ذوي العلم القابلين لفهم ما جئناهم به فتأمل. هُدىً وَرَحْمَةً حال من مفعول فَصَّلْناهُ وجوز أن يكون مفعولا لأجله وأن يكون حالا من الكتاب لتخصيصه بالوصف، والكلام في وقوع مثل ذلك حالا مشهور. وقرىء بالجر على البدلية من عِلْمٍ وبالرفع على إضمار المبتدأ أي هو هدى عظيم ورحمة كذلك لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لأنهم المقتبسون من أنواره المنتفعون بنواره هَلْ يَنْظُرُونَ أي ما ينتظر هؤلاء الكفرة بعدم إيمانهم به شيئا إِلَّا تَأْوِيلَهُ أي عاقبته وما يؤول إليه أمره من تبين صدقه بظهور ما أخبر به من الوعد والوعيد، والمراد أنهم بمنزلة المنتظرين وفي حكمهم من حيث إن ما ذكر يأتيهم لا محالة، وحينئذ فلا يقال: كيف ينتظرونه وهم جاحدون غير متوقعين له؟. وقيل: إن فيهم أقواما يشكون ويتوقعون فالكلام من قبيل- بنو فلان قتلوا زيدا يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ وهو يوم القيامة، وقيل: هو ويوم بدر يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ أي تركوه ترك المنسي فأعرضوا عنه ولم يعملوا به مِنْ قَبْلُ أي من قبل إتيان تأويله قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ أي قد تبين أنهم قد جاؤوا بالحق، وإنما فسر بذلك لأنه الواقع هناك ولأنه الذي يترتب عليه طلب الشفاعة المفهوم من قوله سبحانه: فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا اليوم ويدفعوا عنا ما نحن فيه أَوْ نُرَدُّ عطف على الجملة قبله داخل معه في حكم الاستفهام، ومِنْ مزيدة في المبتدأ. وجوز أن تكون مزيدة في الفاعل بالظرف كأنه قيل: هل لنا من شفعاء أو هل نرد إلى الدنيا، ورافعه وقوعه موقعا يصلح للاسم كما تقول. ابتداء: هل يضرب زيد، ولا يطلب له فعل آخر يعطف عليه فلا يقدر هل يشفع لنا شافع أو نرد قاله الزمخشري، وأراد- كما في الكشف- لفظا لأن الظرف مقدر بجملة، وهل مما له اختصاص بالفعل، والعدول للدلالة على أن تمني الشفيع أصل وتمني الرد فرع لأن ترك الفعل إلى الاسم مع استدعاء هل للفعل يفيد ذلك فلو قدر لفاتت نكتة العدول معنى مع الغنى عنه لفظا. وقرأ ابن أبي إسحاق أَوْ نُرَدُّ بالنصب عطفا على فَيَشْفَعُوا لَنا المنصوب في جواب الاستفهام أو لأن أَوْ بمعنى إلى أن أو حتى أن على ما اختاره الزمخشري إظهارا لمعنى السببية، قال القاضي: فعلى الرفع المسئول أحد الأمرين الشفاعة. والرد إلى الدنيا، وعلى النصب المسئول أن يكون لهم شفعاء إما لأحد الأمرين من الشفاعة في العفو عنهم والرد إن كانت أَوْ عاطفة وإما لأمر واحد إذا كانت بمعنى إلى أن إذ معناه حينئذ يشفعون إلى الرد، وكذا إذا كانت بمعنى حتى إن أي يشفعون حتى يحصل الرد فَنَعْمَلَ بالنصب جواب الاستفهام الثاني أو معطوف على نُرَدُّ مسبب عنه على قراءة ابن أبي إسحاق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 367 وقرأ الحسن بنصب «نرّد» ورفع «نعمل» أي فنحن نعمل غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أي في الدنيا من الشرك والمعصية قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بصرف أعمارهم التي هي رأس مالهم إلى الشرك والمعاصي وَضَلَّ عَنْهُمْ غاب وفقد ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي الذي كانوا يفترونه من الأصنام شركاء لله سبحانه وشفعاءهم يوم القيامة، والمراد أنه ظهر بطلانه ولم يفدهم شيئا. ومن باب الإشارة في الآيات: وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ أي النفس وسميت حواء لملازمتها الجسم الظلماني إذ الحوة اللون الذي يغلب عليه السواد. وبعضهم يجعل آدم إشارة إلى القلب لأنه من الآدمة وهي السمرة وهو لتعلقه بالجسم دون النفس سمي بذلك ولشرف آدم عليه السلام وجه النداء إليه وزوجه تبع له في السكنى الجنة هي عندهم إشارة إلى سماء عالم الأرواح التي هي روضة القدس فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما لا حجر عليكما في تلقي المعاني والمعارف والحكم التي هي الأقوات القلبية والفواكه الروحانية وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ أي شجرة الطبيعة والهوى التي بحضرتكما فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ الواضعين النور في محل الظلمة أو الناقصين من نور استعدادكما. وأول بعضهم الشجرة بشجرة المحبة المورقة بأنواع المحبة أي لا تقرباها فتظلما أنفسكما لما فيها من احتراق أنانية المحب وفناء هويته في هوية المحبوب ثم قال: إن هذه الشجرة غرسها الرحمن بيده لآدم عليه السلام كما خمر طينته بيده لها: فلم تك تصلح إلا له ... ولم يك يصلح إلا لها وأن المنع كان تحريضا على تناولها فالمرء حريص على ما منع، واختار هذا النيسابوري وتكلف في باقي الآية ما تكلف فإن أردته فارجع إليه فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما أي ليظهر لهما بالميل إلى شجرة الطبيعة ما حجب عنهما عند التجرد من الأمور الرذيلة التي هي عورات عند العقل قالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ أو همهما أن في الاتصاف بالطبيعة الجسمانية لذات ملكية وخلودا فيها أو ملكا ورياسة على القوى بغير زوال إن قرىء «ملكين» بكسر اللام. فَدَلَّاهُما فنزلهما من غرف القدس إلى التعلق بها والركون إليها بِغُرُورٍ بما غرهما من كأس القسم الترعة من حميا ذكر الحبيب فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما والقليل منهما بالنسبة إليهما كثير وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ أي يكتمان هاتيك السوءات والفواحش الطبيعية بالآداب الحسنة والعادات الجميلة التي هي من تفاريع الآراء العقلية ومستنبطات القوة العاقلة العلمية ويخفيانها بالحيل العملية وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما بما أودعت في عقولكما من الميل إلى التجرد وإدراك المعقولات عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ وذلك القول بما ألهم العقل من منافاة أحكام الوهم ومضادة مدركاته والوقوف على مخالفاته ومكابراته إياه قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا بالميل إلى جهة الطبيعة وانطفاء نورها وانكسار قوتها وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا بإلباسنا الأنوار الروحانية وإفاضتها عليها وَتَرْحَمْنا بإفاضة المعارف الحقيقية لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ الذين أتلفوا الاستعداد الذي هو مادة السعادة وحرموا عن الكمال التجردي بملازمة النقص الطبيعي قالَ اهْبِطُوا إلى الجهة السفلى التي هي العالم الجسماني بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ لأن مطالب الجهة السفلية جزئية لا تحتمل الشركة فكلما حظي بها أحد حرم منها غيره فيقع بينهما العداوة والبغضاء بخلاف المطالب الكلية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 368 وجمع الخطاب لأنه في قوة خطاب النوع يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً وهو لباس الشريعة يُوارِي سَوْآتِكُمْ يستر قبائح أوصافكم وفواحش أفعالكم بشعاره ودثاره وَرِيشاً زينة وجمالا في الظاهر والباطن تمتازون به عن سائر الحيوانات وَلِباسُ التَّقْوى أي صفة الورع والحذر من صفات النفس ذلِكَ خَيْرٌ من سائر أركان الشرائع والحمية رأس الدواء. ويقال: لباس التقوى هو لباس القلب والروح والسر والخفي ولباس الأول منها الصدق في طلب المولى ويتوارى به سوءة الطمع في الدنيا وما فيها. ولباس الثاني محبة ذي المجد الأسنى ويتوارى به سوءة التعلق بالسوي. ولباس الثالث رؤية العلي الأعلى ويتوارى به سورة رؤية غيره في الأولى والأخرى. ولباس الرابع بالبقاء بهوية ذي القدس الأسنى ويتوارى به سوءة هوية ما في السماوات وما في الأرض وما تحت الثرى قيل: وهذا إشارة إلى الحقيقة، وربما يقال: اللباس المواري للسوءات إشارة إلى الشريعة والريش إشارة إلى الطريقة لما أن مدارها على حسن الأخلاق وبذلك يتزين الإنسان ولباس التقوى إشارة إلى الحقيقة لما فيها من ترك السوي وهو أكمل أنواع التقوى ذلك أي لباس التقوى من آيات الله أي من أنوار صفاته سبحانه إذ التوقي من صفات النفس لا يتيسر إلا بظهور تجليات صفات الحق أو إنزال الشريعة والحقيقة مما يدل على الله سبحانه وتعالى لعلكم تذكرون (1) عند ظهور تلك الأنوار لباسكم الأصلي النوري أو تذكرون معرفتكم له عند أخذ العهد فتتمسكون بأذيالها اليوم يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ بنزع لباس الشريعة والتقوى فتحرموا من دخول الجنة كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما الفطري النوري إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ وذلك بمقتضى البشرية وقد يرون بواسطة النور الرباني. قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ بالعدل وهو الصراط المستقيم وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ أي ذواتكم بمنعها عن الميل إلى أحد طرفي الإفراط والتفريط عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أي مقام سجود أو وقته، والسجود عندهم كما قاله البعض أربعة أقسام سجود الانقياد والطاعة وإقامة الوجه عنده بالإخلاص وترك الالتفات إلى السوء ومراعاة موافقة الأمر وصدق النية والامتناع عن المخالفة في جميع الأمور، وسجود الفناء في الأفعال وإقامة الوجه عنده بأن لا يرى مؤثرا غير الله تعالى أصلا. وسجود الفناء في الصفات وإقامة الوجه عنده بأن لا يكره شيئا من غير أن يميل إلى الإفراط بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا التفريط بالتسخط على المخالف والتعبير له والاستخفاف به. وسجود الفناء في الذات وإقامة الوجه عنده بالغيبة عن البقية والانطماس بالكلية والامتناع عن إثبات الآنية فلا يطغى بحجاب الآنية ولا يتزندق بالإباحة وترك الإطاعة. وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ بتخصيص العمل لله سبحانه أو برؤية العمل منه أو به جل شأنه كَما بَدَأَكُمْ أظهركم بإفاضة هذه التعينات عليكم تَعُودُونَ إليه أو كما بدأكم لطفا أو قهرا تعودون إليه فيعاملكم حسبما بدأكم فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ كما ثبت ذلك في علمه إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ من القوى النفسانية الوهمية والتخيلية أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ للمناسبة التامة بين الفريقين وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ لقوة سلطان الوهم يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ فأخلصوا العمل لله تعالى وتوكلوا عليه وقوموا بحق الرضا وتمكنوا في التحقق بالحقيقة ومراعاة الاستقامة ولكل مقام مقال وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ولا تسرفوا بالإفراط والتفريط فإن العدالة صراط الله تعالى المستقيم.   (1) قوله لعلكم تذكرون كذا بخطه والتلاوة لعلهم يذكرون اه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 369 قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ أي منع عنها وقال: لا يمكن التزين بها وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ كعلوم الإخلاص. ومقام التوكل، والرضا، والتمكين قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ الكبرى عن التلون وظهور شيء من بقايا الأفعال والصفات والذات قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ رذائل القوة البهيمة ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ رذائل القوة السبعية وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ رذائل القوة النطقية وكل ذلك من موانع الزينة وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ينتهون عنده إلى مبدئهم فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ لأن وقوع ما يخالف العلم محال يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ من جنسكم، وقيل: هي العقول، وقال النيسابوري: التأويل إما يأتينكم إلهامات من طريق قلوبكم وأسراركم، وفيه أن بني آدم كلهم مستعدون لإشارات الحق وإلهاماته فَمَنِ اتَّقى في الفناء وَأَصْلَحَ بالاستقامة عند البقاء فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لوصولهم إلى مقام الولاية وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أخفوا صفاتنا بصفات أنفسهم وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها بالاتصاف بالرذائل أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ نار الحرمان وهُمْ فِيها خالِدُونَ لسوء ما طبعوا عليه فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن قال: أكرمني الله تعالى بالكرامات وهو الذي بالكرى مات أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ بأن أنكر على أولياء الله سبحانه الفائزين من الله تعالى بالحظ الأوفى أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ مما كتب لهم في لوح القضاء والقدر. وقيل: الكتاب الإنسان الكامل ونصيبهم منه نصيب الغرض من السهم إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة علينا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها ولم يلتفتوا إليها لوقوفهم مع أنفسهم لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ فلا تعرج أرواحهم إلى الملكوت وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ أي جنة المعرفة والمشاهدة والقربة حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ أي جمل أنفسهم المستكبرة فِي سَمِّ الْخِياطِ أي خياط أحكام الشريعة الذي به يخاط ما شقته يد الشقاق، وسمه آداب الطريقة لأنها دقيقة جدا، وقد يقال: الخياط إشارة إلى خياط الشريعة، والطريقة وسمه ما يلزمه العمل به من ذلك وولوج ذلك الجمل لا يمكن مع الاستكبار بل لا بد من الخضوع والانقياد وترك الحظوظ النفسانية وحينئذ يكون الجمل أقل من البعوضة بل أدق من الشعرة فحينئذ يلج في ذلك السم لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ الحرمان مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ أي إن الحرمان أحاط بهم، وقيل: لهم من جهنم المجاهدة والرياضة فراش ومن فوقهم من مخالفات النفس وقطع الهوى لحاف فتذيبهم وتحرق أنانيتهم. وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ المرحومون أَصْحابَ النَّارِ المحرمون أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا من القرب حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم من البعد حَقًّا فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ وهو مؤذن العزة والعظمة بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الواضعين الشيء في غير موضعه الذين يصدون السالكين عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي الطريق الموصلة إليه سبحانه، وقيل: يصدون القلب والروح عن ذلك وَيَبْغُونَها عِوَجاً بأن يصفوها بما ينفر السالك عنها من الزيغ والميل عن الحق، وقيل: يطلبون صرف وجوههم إلى الدنيا وما فيها وَهُمْ بِالْآخِرَةِ أي الفناء بالله تعالى أو بالقيامة الكبرى كافِرُونَ لمزيد احتجابهم بما هم فيه وَبَيْنَهُما أي بين أهل الجنة وهي جنة ثواب الأعمال من العباد والزهاد وبين أهل النار حجاب فكل منهم محجوب عن صاحبه وَعَلَى الْأَعْرافِ أي أعالي ذلك الحجاب الذي هو حجاب القلب رِجالٌ وأي رجال وهم العرفاء أهل الله سبحانه وخاصته. قيل: وإنما سموا رجالا لأنهم يتصرفون بإذن الله تعالى فيما سواه عز وجل تصرف الرجل بالنساء ولا يتصرف فيهم شيء من ذلك يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ لما أعطوا من نور الفراسة وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أي جنة ثواب الأعمال أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بما من الله تعالى عليكم به من الخلاص من النار، وقيل: إن سلامهم على أهل الجنة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 370 بإمدادهم بأسباب التزكية والتخلية والأنوار القلبية وإفاضة الخيرات والبركات عليهم لَمْ يَدْخُلُوها أي لم يدخل أولئك الرجال الجنة لعدم احتياجهم إليها وَهُمْ يَطْمَعُونَ في كل وقت بما هو أعلى وأغلى، وقيل: هم أي أهل الجنة يطمعون في دخول أولئك الرجال ليقتبسوا من نورهم ويستضيئوا بأشعة وجوههم ويستأنسوا بحضورهم وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ ليعتبروا قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ بأن تحفظ قلوبنا من الزيغ وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا من رؤساء أهل النار، وإطلاق الرجال عليهم وعلى أصحاب الأعراف كإطلاق المسيح على الدجال اللعين وعلى عيسى عليه السلام. أَهؤُلاءِ إشارة إلى أهل الجنة وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أي الحياة التي أنتم فيها أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي النعيم الذي من الله تعالى به عليكم أو أفيضوا علينا من العلم أو العمل لننال به ما نلتم قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما في الأزل عَلَى الْكافِرِينَ لسوء استعدادهم، وقيل: إن الكفار لما كانوا عبيد البطون حراصا على الطعام والشراب فماتوا على ما عاشوا وحشروا وأدخلوا النار على ما ماتوا طلبوا الماء أو الطعام وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ وهو النبي صلّى الله عليه وسلّم الجامع لكل شيء والمظهر الأعظم لنا فَصَّلْناهُ أي أظهرنا منه ما أظهرنا عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لأنهم المنتفعون منه وإن كان من جهة أخرى رحمة للعالمين هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ أي ما يؤول إليه عاقبة أمره، وقيل: الكتاب الذي فصل على علم إشارة إلى البدن الإنساني المفصل إلى أعضاء وجوارح وآلات وحواس تصلح للاستكمال على ما يقتضيه العلم الإلهي وتأويله ما يؤول إليه أمره في العاقبة من الانقلاب إلا ما لا يصلح لذلك عند البعث من هيئات وصور وأشكال تناسب صفاتهم وعقائدهم على مقتضى قوله سبحانه «سيجزيهم وصفهم» وكما قال سبحانه: «ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما» انتهى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 371 ويحتمل أن يكون الكتاب المذكور إشارة إلى الآفاق والأنفس وما يؤول إليه كل ظاهر والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ شروع في بيان مبدأ الفطرة إثر بيان معاد الكفرة، ويحتمل أنه سبحانه لما ذكر حال الكفار وأشار إلى عبادتهم غيره سبحانه احتج عليهم بمقدوراته ومصنوعاته جل شأنه ودلهم بذلك على أنه لا معبود سواه فقال مخاطبا بالخطاب العام إِنَّ رَبَّكُمُ أي خالقكم ومالككم الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ السبع وَالْأَرْضَ بما فيها كما يدل عليه ما في سورة السجدة على ما يأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه في ستة أوقات كقوله تعالى: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ [الأنفال: 16] أو في مقدار ستة أيام كقوله سبحانه لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا. فإن المتعارف أن اليوم من طلوع الشمس إلى غروبها ولم تكن هي حينئذ، نعم العرش وهو المحدد على المشهور موجود إذ ذاك على ما يدل عليه بعض الآيات، وليس بقديم كما يقوله من ضل عن الصراط المستقيم لكن ذاك ليس نافعا في تحقق اليوم العرفي، وإلى حمل اليوم على المتعارف وتقدير المضاف ذهب جمع من العلماء وادعوا- وهو قول عبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، والضحاك، ومجاهد، واختاره ابن جرير الطبري- أن ابتداء الخلق كان يوم الأحد ولم يكن في السبت خلق أخذا له من السبت بمعنى القطع لقطع الخلق فيه ولتمام الخلق في يوم الجمعة واجتماعه فيه سمي بذلك. وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن ابن عباس أنه سمي تلك الأيام بأبو جاد وهواز وحطى وكلمون وسعفص وقريشات. وقال محمد بن إسحاق وغيره: إن ابتداء الخلق في يوم السبت، وسمي سبتا لقطع بعض خلق الأرض فيه على ما قال ابن الأنباري أو لما أن الأمر كأنه قطع وشرع فيه على ما قيل، واستدل لهذا القول بما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة قال: «أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيدي فقال: خلق الله تعالى التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وخلق فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق وفي آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 372 العصر إلى الليل» ولا يخفى أن هذا الخبر مخالف للآية الكريمة فهو إما غير صحيح وإن رواه مسلم وأما مؤول، وأنا أرى أن أول يوم وقع فيه الخلق يقال له الأحد وثاني يوم الاثنين وهكذا ويوم جمع فيه الخلق فافهم، وإلى حمله على اللغوي وعدم التقدير ذهب آخرون وقالوا: كان مقدار كل يوم ألف سنة وروي ذلك عن زيد بن أرقم، وفي خلقه سبحانه الأشياء مدرجا على ما روي عن ابن جبير للخلق التثبت والتأني في الأمور كما في الحديث «التأني من الله تعالى والعجلة من الشيطان» وقال غير واحد: إن في خلقها مدرجا مع قدرته سبحانه على إبداعها دفعة دليل على الاختيار واعتبار للنظار. واعترض عليه بأنه يجوز أن يكون الفاعل موجبا ويكون وجود المعلول مشروطا بشرائط توجد وقتا فوقتا، وبأن ذلك يتوقف على ثبوت تقدم خلق الملائكة على خلق السماوات والأرض وليس ذلك بالمحقق. وأجيب بأن الأول مبني على الغفلة عن قوله مع القدرة على إبداعها دفعه وبيانه أن الفاعل إذا كان مختارا- كما يقوله أهل الحق- يتوقف وجود المعلول على تعلق الإرادة به فهو جزء العلة التامة حينئذ فيجوز أن يتخلف المعلول عن الفاعل لانتفاء تعلق الإرادة فلا يلزم من قدمه قدم المعلول، وأما إذا كان الفاعل موجبا مقتضيا لذاته فيضان الوجود على ما تم استعداده فإن كان المعلول تام الاستعداد في ذاته كالكبريت بالنسبة إلى النار يجب وجوده ويمتنع تخلفه وإلا لزم التخلف عن العلة التامة فيلزم من قدم الفاعل حينئذ قدمه، والأجرام الفلكية من هذا القبيل عند الفلاسفة وإن توقف تمام استعداده على أمر متجدد فما لم يحصل يمتنع إيجاده كالحطب الرطب فإنه ما لم ييبس لم تحرقه النار والحوادث اليومية من هذا القبيل عندهم، ولهذا أثبتوا برزخا بين عالمي القدم والحدوث ليتأتى ربط الحوادث بالمبادىء القديمة ففي صورة كون الفاعل موجبا مشروطا وجود معلوله بشرائط متعاقبة يمتنع الإبداع دفعه. فإمكان وجود هذه الأشياء المنبئ عن عدم التوقف على شيء آخر أصلا دفعة مع الخلق التدريجي المستلزم لتأخر وجود المعلول عن وجود الفاعل لا يجامع الوجوب المستلزم لامتناع التأخر حينئذ ويستلزم الاختيار المصحح لذلك التأخر كما علمت، بأن الإيداع التدريجي للأشياء عبارة عن إيجادات يتعلق كل منها بشيء فيدل على تعلق العلم والإرادة والقدرة بكل منها تفصيلا بخلاف الإيجاد الدفعي لها فإنه إيجاد واحد متعلق بالمجموع فيدل على تعلق ما ذكر بالمجموع من حيث هو مجموع إجمالا، واستوضح ذلك من الفرق بين ضرب الخاتم على نحو القرطاس وبين أن تكتب تلك الكلمات فإنك في الصورة الثانية تتخيلها كلمة فكلمة بل حرفا فحرفا وتريدها كذلك فتوقعها في الصحيفة بخلاف الصورة الأولى وهو ظاهر، فالنظار يعتبرون من الخلق التدريجي ويفهمون شمول علمه سبحانه وإرادته وقدرته للأشياء تفصيلا قائلين: سبحان من لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وأيضا قالوا: إنا إذا فعلنا شيئا تصورناه أولا ثم اعتقدنا له فائدة ثم تحصل لنا حال شوقية ثم ميلان نفساني هي الإرادة ثم تنبعث القوة الباعثة للقوة المحركة للأعضاء نحو إيجاده فيحصل لنا ذلك الشيء فلكل واحد من تلك الأمور دخل في وجود ذلك الشيء، ثم قالوا: فكما لا بد في صدور الأفعال الاختيارية فينا من هذه الأمور كذلك لا بد في صدور الأفعال الاختيارية للواجب من نحو ذلك مما لا يمتنع عليه سبحانه فأثبتوا له تعالى علما، وإرادة، وقدرة، وفائدة لأفعاله، واستدلوا على ذلك من كونه سبحانه مختارا فالخلق التدريجي لما كان دالا على الاختيار الدال على ما ذكر صدق أن فيه اعتبارا للنظار. وحاصل هذا أن المراد من النظار أصحاب النظر والبصيرة من العقلاء فلا يتوقف ما ذكر على تقدم خلق الملائكة على أن من قال بتقدم خلق العرش والكرسي على خلق الأرض والسماوات قائل بتقدم خلق الملائكة بل قيل: إن من الناس من قال بتقدم خلق نوع من الملائكة قبل العرش والكرسي وسماهم المهيمين. وأنت تعلم أن هذا لا يفيدنا لأن المهيمين عند هذا القائل لا يشعرون بسماء ولا أرض بل هم مستغرقون فيه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 373 سبحانه على أن ذلك ليس بالمحقق كما يقوله المعترض أيضا، وقيل: إن الشيء إذا حدث دفعة واحدة فلعله يخطر بالبال أن ذلك الشيء إنما وقع على سبيل الاتفاق فإذا أحدث شيئا فشيئا على سبيل المصلحة والحكمة كان ذلك أبلغ في القدرة وأقوى في الدلالة، وقيل: إن التعجيل في الخلق أبلغ في القدرة والتثبت أبلغ في الحكمة فأراد الله تعالى إظهار حكمته في خلق الأشياء بالتثبت كما أظهر قدرته في خلق الأشياء بكن. ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وهو في المشهور الجسم المحيط بسائر الأجسام وهو فلك الأفلاك سمي به إما لارتفاعه أو للتشبيه بسرير الملك فإنه يقال له عرش ومنه قوله تعالى: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ [يوسف: 100] لأن الأمور والتدبيرات تنزل منه، ويكنى به عن العز والسلطان والملك فيقال: فلان ثل عرشه أي ذهب عزه وملكه وأنشدوا قوله: إذا ما بنو مروان ثلث عروشهم ... وأودت كما أودت إياد وحمير وقوله: إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم ... بعيينة بن الحارث بن شهاب وذكر الراغب أن العرش مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم، وليس هو كما تذهب إليه أوهام العامة فإنه لو كان كذلك لكان حاملا له تعالى عن ذلك، وليس كما قال قوم. إنه الفلك الأعلى والكرسي فلك الكواكب وفيه نظر، والناس في الكلام على هذه الآية ونحوها مختلفون. فمنهم من فسر العرش بالمعنى المشهور، وفسر الاستواء بالاستقرار. وروي ذلك عن الكلبي، ومقاتل، ورواه البيهقي في كتابه: الأسماء والصفات بروايات كثيرة عن جماعة من السلف وضعفها كلها. وما روي عن مالك رضي الله تعالى عنه أنه سئل كيف استوى؟ فأطرق رأسه مليا حتى علته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال: الاستواء غير مجهول. والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة ثم قال للسائل: وما أظنك إلا ضالا ثم أمر به فأخرج ليس نصا في هذا المذهب لاحتمال أن يكون المراد من قوله: غير مجهول أنه ثابت معلوم الثبوت لا أن معناه وهو الاستقرار غير مجهول ومن قوله: والكيف غير معقول أن كل ما هو من صفة الله تعالى لا يدرك العقل له كيفية لتعاليه عن ذلك فكف الكيف عنه مشلولة. ويدل على هذا ما جاء في رواية أخرى عن عبد الله بن وهب أن مالكا سئل عن الاستواء فأطرق وأخذه الرحضاء ثم قال: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] كما وصف نفسه ولا يقال له: كيف وكيف عنه مرفوع إلى آخر ما قال، ثم إن هذا القول إن كان مع نفي اللوازم فالأمر فيه هين، وإن كان مع القول بها والعياذ بالله تعالى فهو ضلال وأي ضلال وجهل وأي جهل بالملك المتعال، وما أعرف ما قاله بعض العارفين الذين كانوا من تيار المعارف غارفين على لسان حال العرش موجها الخطاب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ليلة المعراج حين أشرقت شمسه عليه الصلاة والسلام في الملأ الأعلى فتضاءل معها كل نور وسراج كما نقله الإمام القسطلاني معرضا بضلال مثل أهل هذا المذهب الثاني ولفظه مع حذف، ولما انتهى صلّى الله عليه وسلّم إلى العرش تمسك بأذياله وناداه بلسان حاله يا محمد أنت ونصيبي يا حبيبي أن تشهد بالبراءة مما نسبه أهل الزور إلي وتقوله أهل الغرور علي زعموا أني أسمع من لا مثل له وأحيط بمن لا كيفية له يا محمد من لا حد لذاته ولا عد لصفاته كيف يكون مفتقرا إلي ومحمولا علي إذا كان الرحمن اسمه والاستواء صفته وصفته متصلة بذاته كيف يتصل بي أو ينفصل عني؟ يا محمد وعزته لست بالقريب منه وصلا ولا بالبعيد عنه فصلا ولا بالمطبق له حملا أوجدني منه رجمة وفضلا ولو محقني لكان حقا منه وعدلا يا محمد أنا محمول قدرته ومعمول حكمته اه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 374 وذهب المعتزلة وجماعة من المتكلمين إلى أن العرش على معناه واستوى بمعنى استولى. واحتجوا عليه بقوله: قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق وخص العرش بالأخبار عنه بالاستيلاء عليه لأنه أعظم المخلوقات، ورد هذا المذهب بأن العرب لا تعرف استوى بمعنى استولى وإنما يقال: استولى فلان على كذا إذا لم يكن في ملكه ثم ملكه واستولى عليه والله تعالى لم يزل مالكا للأشياء كلها ومستوليا عليها ونسب ذلك للأشعرية. وبالغ ابن القيم في ردهم ثم قال: إن لام الأشعرية كنون اليهودية وهو ليس من الدين القيم عندي. وذهب الفراء واختاره القاضي إلى أن المعنى ثم قصد إلى خلق العرش، ويبعده تعدى الاستواء بعلى، وفيه قول بأن خلق العرش بعد خلق السماوات والأرض وهو كما ترى. وذهب القفال إلى أن المراد نفاذ القدرة وجريان المشيئة واستقامة الملك لكنه أخرج ذلك على الوجه الذي ألفه الناس من ملوكهم واستقر في قلوبهم، قيل: ويدل على صحة ذلك قوله سبحانه في سورة [يونس: 3] ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فإن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ جرى مجرى التفسير لقوله: اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى، وذكر أن القفال يفسر العرش بالملك ويقول ما يقول، واعترض بأن الله تعالى لم يزل مستقيم الملك مستويا عليه قبل خلق السماوات والأرض وهذا يقتضي أنه سبحانه لم يكن كذلك تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وأجيب بأن الله تعالى كان قبل خلق السماوات والأرض مالكها لكن لا يصح أن يقال: شبع زيدا إلا بعد أكله الطعام فإذا فسر العرش بالملك صح أن يقال: إنه تعالى إنما استوى ملكه بعد خلق السماوات والأرض، ومنهم من يجعل الإسناد مجازيا ويقدر فاعلا في الكلام أي استوى أمره ولا يضر حذف الفاعل إذا قام ما أضيف إليه مقامه، وعلى هذا لا يكون الاستواء صفة له تعالى وليس بشيء. ومن فسره بالاستيلاء أرجعه إلى صفة القدرة. ونقل البيهقي عن أبي الحسن الأشعري أن الله تعالى فعل في العرش فعلا سماه استواء كما فعل في غيره فعلا سماه رزقا ونعمة وغيرهما من أفعاله سبحانه لأن ثم للتراخي وهو إنما يكون في الأفعال، وحكى الأستاذ أبو بكر بن فورك عن بعضهم أن اسْتَوى بمعنى علا ولا يراد بذلك العلو بالمسافة والتحيز والكون في المكان متمكنا فيه ولكن يراد معنى يصح نسبته إليه سبحانه. وهو على هذا من صفات الذات وكلمة ثُمَّ تعلقت بالمستوى عليه لا بالاستواء أو أنها للتفاوت في الرتبة وهو قول متين. وأنت تعلم أن المشهور من مذهب السلف في مثل ذلك تفويض المراد منه إلى الله تعالى فهم يقولون: استوى على العرش على الوجه الذي عناه سبحانه منزها عن الاستقرار والتمكن، وأن تفسير الاستواء بالاستيلاء تفسير مرذول إذ القائل به لا يسعه أن يقول كاستيلائنا بل لا بد أن يقول: هو استيلاء لائق به عز وجل فليقل من أول الأمر هو استواء لائق به جل وعلا. وقد اختار ذلك السادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم وهو أعلم وأسلم وأحكم خلافا لبعضهم. ولعل لنا عودة إلى هذا البحث إن شاء الله تعالى: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أي يغطي سبحانه النهار بالليل، ولما كان المغطى يجتمع مع المغطي وجودا وذلك لا يتصور هنا قالوا: المعنى يلبسه مكانه فيصير الجو مظلما بعد ما كان مضيئا فيكون التجوز في الإسناد بإسناد ما لمكان الشيء إليه ومكانه هو الجو على معنى أنه مكان للضوء الذي هو لازمه لا أنه مكان لنفس النهار لأن الزمان لا مكان له وجوز أن يكون هناك استعارة بأن يجعل غشيان مكان النهار وإظلامه بمنزلة غشيانه للنهار نفسه فكأنه لف عليه لف الغشاء أو يشبه تغييبه له بطريانه عليه بستر اللباس لملابسة. وجوز أن يكون المعنى يغطي سبحانه الليل بالنهار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 375 ورجح الوجه الأول بأن التغشية بمعنى الستر وهي أنسب بالليل من النهار. وبأنه يلزم على الثاني أن يكون الليل مفعولا ثانيا والنهار مفعولا أولا. وقد ذكر أبو حيان أن المفعولين إذا تعدى إليهما فعل وأحدهما فاعل من حيث المعنى يلزم أن يكون هو الأول منهما عندهم كما لزم ذلك في ملكت زيدا عمرا، ورتبة التقديم هي الموضحة لأنه الفاعل معنى كما لزم في ضرب موسى عيسى بخلاف أعطيت زيدا درهما فإن تعين المفعول الأول لا يتوقف على التقديم. ورجح الثاني بأن حميد بن قيس قرأ «يغشى الليل النهار» بفتح الياء ونصب «الليل» ورفع «النهار» ، ويلزم عليها أن يكون الطالب النهار والليل ملحق به. وتوافق القراءتين أولى من تخالفهما. وبأن قوله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: 37] يعلم منه- على ما قال المرزوقي- أن الليل قبل النهار لأن المسلوخ منه يكون قبل المسلوخ فالنهار بالإدراك أولي، وبأن قوله سبحانه: يَطْلُبُهُ حَثِيثاً أي محمولا على السرعة ففعيل بمعنى مفعول أوفق بهذا الوجه فإن هذا الطلب من النهار أظهر، وقد قالوا: إن ضوء النهار هو الهاجم على ظلمة الليل. وأنشد بعضهم: كأنا وضوء الصبح يستعجل الدجى ... نطير غرابا ذا قوادم جون ولبعض المتأخرين من أبيات: وكأن الشرق باب للدجى ... ماله خوف هجوم الصبح فتح وحديث أن التغشية أنسب بالليل قيل. مسلم لو كان المراد بالتغشية حقيقتها لكن ليس المراد ذلك بل المراد اللحوق والإدراك وهذا أنسب بالنهار كما علمت. والقاعدة المذكورة لا تخلو عن كلام. على أنه لا يبعد على ما نقرر أن يكون الكلام من قبيل أعطيت زيدا درهما. والقول بأن معنى الآية أنه سبحانه يجعل الليل أغشى بالنهار أي مبيضا بنور الفجر بناء على ما في الصحاح من أن الأغشى من الخيل وغيره ما ابيض رأسه كله من بين جسده كالأرخم مما لا يكاد يقدم عليه، وذكر سبحانه أحد الأمرين ولم يذكرهما معا كما في قوله تعالى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ [الحج: 61، لقمان: 29، فاطر: 13، الحديد: 6] للعلم بالآخر من المذكور لأنه يشير إليه أو لأن اللفظ يحتمله- على ما قيل، وقال بعض المحققين: إن الليل والنهار بمعنى كل ليل ونهار وهو بتعاقب الأمثال مستمر الاستبدال فيدل على تغيير كل منهما بالآخر بأخصر عبارة من غير تكلف ومخالفة لما اشتهر من قواعد العربية. وجملة يُغْشِي- على ما قاله ابن جني- على قراءة حميد حال من الضمير في قوله سبحانه: ثُمَّ اسْتَوى والعائد محذوف أي يغشى الليل النهار بأمره أو بإذنه، وقوله جل وعلا: يَطْلُبُهُ حَثِيثاً بدل من يُغْشِي إلخ للتوكيد. وعلى قراءة الجماعة حال من اللَّيْلَ أي يغشى الليل النهار طالبا له حثيثا، وحَثِيثاً حال من الضمير في يَطْلُبُهُ وجوز غيره أن تكون الجملة حالا من النَّهارَ على تقدير قراءة حميد أيضا. وجوز أبو البقاء الاستئناف في الجملة الأولى. وقال بعضهم: يجوز في حَثِيثاً أن يكون حالا من الفاعل بمعنى حاثا أو من المفعول أي محثوثا، وأن يكون صفة مصدر محذوف أي طلبا حثيثا، وإنما وصف الطلب بذلك لأن تعاقب الليل والنهار- على ما قال الإمام وغيره- إنما يحصل بحركة الفلك الأعظم وهي أشد الحركات سرعة فإن الإنسان إذا كان في أشد عدوة بمقدار رفع رجله ووضعها يتحرك الفلك ثلاثة آلاف ميل وهي ألف فرسخ. واعترض بأن الفلك الأعظم إن كان هو العرش كما قالوا فحركته غير مسلمة عند جمهور المحدثين بل هم لا يسلمون حركة شيء من سائر الأفلاك أيضا وهو الكرسي والسماوات السبع بل ادعوا أن النجوم بأيدي ملائكة تسير بها حيث شاء الله تعالى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 376 وكيف شاء، وقال الشيخ الأكبر قدس سره. إنها تجري في ثخن الأفلاك جري السمك في الماء كل في فلك يسبحون، وفسر- فيما نقل عنه- قوله سبحانه: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ بيجعله غاشيا له غشيان الرجل المرأة وقال: ذكر سبحانه الغشيان هنا والإيلاج في آية أخرى وهذا هو التناكح المعنوي وجعله ساريا في جميع الموجودات، وإن صح هذا فما أصح قولهم: الليلة حبلى وما ألطفه، وأمر الحث عليه ظاهر لمن ذاق عسيلة النكاح. والحاصل من هذا الغشيان عند من يقول به ما في هذا العالم من معدن وثبات وحيوان وهي المواليد الثلاث أو من الحوادث مطلقا، ويقرب من هذا قوله: أشاب الصغير وأفنى الكبير ... كر الغداة ومر العشى وأنت تعلم أن لا مؤثر في الوجود على الحقيقة إلا الله تعالى، ووجه ذكره سبحانه هذا بعد ذكره الاستواء- على ما نقل عن القفال- إنه جل شأنه لما أخبر العباد باستوائه أخبر عن استمرار أمور المخلوقات على وفق مشيئته وأراهم ذلك فيما يشاهدونه لينضم العيان إلى الخبر وتزول الشبهة من كل الجهات، ولا يخفى أن هذا قد يحسن وجها لذكر ذلك وما بعده بعد ذكر الاستواء وأما لذكره بخصوصه هناك دون تسخير الشمس والقمر فلا، وذكر صاحب الكشف في توجيه اختيار صاحب الكشاف هنا أن الغاشي هو النهار وفي الرعد هو الليل، وتفسيره التغشية هناك بالإلباس وهنا بالإلحاق نظرا إلى الخلاصة ما يفهم منه وجه تقديم التغشية على التسخير الآتي في هذه الآية وعكسه في آية الرعد حيث قال: والنكتة في ذلك أن تسخير الشمس والقمر ذكر هنالك من قبل في تعديد الآيات فلما فرغ ذكر إدخال الليل على النهار ليطابقه ولأنه أظهر في الآية وأن الشمس مسخرة مأمورة وهاهنا جاء به على أسلوب آخر تمهيدا لقوله سبحانه: ادْعُوا رَبَّكُمْ أي من هذه ألطافه وآياته في شأنكم فرجح جانب اللفظ على الأصل، وللجمع بين القراءتين أيضا اه فتدبر ولا تغفل. وقرىء «يغشّى» بالتشديد للدلالة على التكرار وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أي خلقهن حال كونهن مذللات تابعات لتصرفه سبحانه فيهن بما شاء غير ممتنعات عليه جل شأنه كأنهن مميزات أمرن فانقدن فتسمية ذلك أمرا على سبيل التشبيه والاستعارة، ويصح حمل الأمر على الإرادة كما قيل أي هذه الأجرام العظيمة والمخلوقات البديعة منقادة لإرادته. ومنهم من حمل الأمر على الأمر الكلامي وقال: إنه سبحانه أمر هذه الأجرام بالسير الدائم والحركة المستمرة على الوجه المخصص إلى حيث شاء. ولا مانع من أن يعطيها الله تعالى إدراكا وفهما لذلك بل ادعى بعضهم أنها مدركة مطلقا، وفي بعض الأخبار ما يدل على أن لبعضها إدراكا لغير ما ذكر، وإفراد الشمس والقمر بالذكر مع دخولهما في النجوم لإظهار شرفهما عليها لما فيهما من مزيد الإشراق والنور وبسيرهما في المنازل تعرف الأوقات. وقدم الشمس على القمر رعاية للمطابقة مع ما تقدم وهي من البديع ولأنها أسنى من القمر وأسمى مكانة ومكانا بناء على ما قيل من أنها في السماء الرابعة وأنه في السماء الأولى، وليس بمسلم عند المحدثين كالقول بأن نوره مستفاد من نورها لاختلاف تشكلاته على أنحاء متفاوتة بحسب وضعه من الشمس في القرب والبعد عنها مع ما يلحقه من الخسوف لا لاختلاف التشكلات وحده فإنه لا يوجب الحكم بأن نور القمر مستفاد من الشمس قطعا لجواز أن يكون نصفه مضيئا من ذاته ونصفه مظلما ويدور على نفسه بحركة مساوية لحركة فلكه فإذا تحرك بعد المحاق يسيرا رأيناه هلالا ويزداد فنراه بدرا ثم يميل نصفه المظلم شيئا فشيئا إلى أن يؤول إلى المحاق. وفي كونها مسخرات دلالة على أنها لا تأثير لها بنفسها في شيء أصلا. وقرأ جميعها ابن عامر بالرفع على الابتداء والخبر. والنصب بالعطف على السَّماواتِ والحالية كما أشرنا إليه، وجوز تقدير جعل وجعل الشَّمْسَ مفعولا أولا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 377 مُسَخَّراتٍ مفعولا ثانيا أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ كالتذييل للكلام السابق أي إنه تعالى هو الذي خلق الأشياء ويدخل في ذلك السماوات والأرض دخولا أوليا وهو الذي دبرها وصرفها على حسب إرادته ويدخل في ذلك ما أشير إليه بقوله سبحانه: مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ لا أحد غيره كما يؤذن به تقديم الظرف. وفسر بعضهم الأمر هنا بالإرادة أيضا، وفسر آخرون الأمر بما هو مقابل النهي والخلق بالمخلوق أي له تعالى المخلوقون لأنه خلقهم وله أن يأمرهم بما أراد واستخرج سفيان بن عيينة من هذا أن كلام الله تعالى شأنه ليس بمخلوق فقال: إن الله تعالى فرّق بين الخلق والأمر فمن جمع بينهما فقد كفر يعني من جعل الأمر الذي هو كلامه سبحانه من جملة من خلقه فقد كفر لأن المخلوق لا يقوم إلا بمخلوق مثله كذا في تفسير الخازن وليس بشيء كما لا يخفى. وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان أن الخلق ما دون العرش والأمر ما فوق ذلك، وشاع عند بعضهم إطلاق عالم الأمر على عالم المجردات تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ. ففي ذلك إشارة إلى أنهما طبق الحكمة وفي غاية الكمال ولا يقال ذلك في غيره تعالى بل هو صفة خاصة به سبحانه في القاموس. وقال الإمام: إن البركة لها تفسيران: أحدهما البقاء والثبات، والثاني كثرة الآثار الفاضلة. فإن حملته على الأول فالثابت الدائم هو الله تعالى، وإن حملته على الثاني فكل الخيرات والكمالات من الله تعالى فهذا الثناء لا يليق إلا بحضرته جل وعلا. واختار الزجاج أنه من البركة بمعنى الكثرة من كل خير ولم يجىء منه مضارع ولا أمر ولا اسم فاعل مثلا، وقال البيضاوي: المعنى تعالى بالوحدانية والألوهية وتعظم بالتفرد بالربوبية، وعلى هذا فهو ختام لوحظ فيه مطلعه ثم حقق الآية بما لا يخلو عن دغدغة ومخالفة لما عليه سلف الأمة. ثم إنه تعالى بعد أن بين التوحيد وأخبر أنه المتفرد بالخلق والأمر أمر عباده أن يدعوه مخلصين متذللين فقال عز من قائل: ادْعُوا رَبَّكُمْ الذي عرفتم شؤونه الجليلة والمراد من الدعاء- كما قال غير واحد- السؤال والطلب وهو مخ العبادة لأن الداعي لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف من نفسه الحاجة إلى غير ذلك المطلوب وأنه عاجز عن تحصيله وعرف أن ربه تبارك وتعالى يسمع الدعاء ويعلم الحاجة وهو قادر على إيصالها إليه. ولا شك أن معرفة العبد نفسه بالعجز والنقص ومعرفته ربه بالقدرة والكمال من أعظم العبادات. وقيل: المراد منه هنا العبادة لأنه عطف عليه ادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً والمعطوف يجب أن يكون مغاير للمعطوف عليه وفيه نظر. أما أولا فلأن المغايرة تكفي باعتبار المتعلقات كما تقول ضربت زيدا وضربت عمرا. وأما ثانيا فلأنها لا تستدعي حمل الدعاء هنا على العبادة بل حمله على ذلك إما هناك أو هنا وأما ثالثا فلأنه خلاف التفسير المأثور كما ستعلمه إن شاء الله تعالى تَضَرُّعاً أي ذوي تضرع أو متضرعين فنصبه على الحال من الفاعل بتقدير أو تأويل، وجوز نصبه على المصدرية. وكذا الكلام فيما بعد وهو من الضراعة وهي الذل والاستكانة يقال ضرع فلان لفلان إذا ذل له واستكان، وقال الزجاج: التضرع التملق وهو قريب مما قالوا أي ادعوه تذللا، وقيل: التضرع مقابل الخفية. واختاره أبو مسلم أي ادعوه علانية وَخُفْيَةً أي سرا. أخرج ابن المبارك، وابن جرير، وأبو الشيخ عن الحسن قال: لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم وذلك أنه تعالى يقول: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً وأنه سبحانه ذكر عبدا صالحا فرضي له فعله فقال تعالى: إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا [مريم: 3] وفي رواية عنه أنه قال: بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفا. وجاء من حديث أبي موسى الأشعري أنه صلّى الله عليه وسلّم قال لقوم يجهرون: «أيها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 378 الناس اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعون سميعا بصيرا وهو معكم وهو أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» والمعنى ارفقوا بأنفسكم واقصروا من الصياح في الدعاء. ومن هنا قال جمع بكراهة رفع الصوت به. وفي الانتصاف حسبك في تعين الاسرار فيه اقترانه في الآية بالتضرع فالإخلال به كالإخلال بالضراعة إلى الله تعالى وإن دعاء لا تضرع فيه ولا خشوع لقليل الجدوى فكذلك دعاء لا خفية فيه ولا وقار بصحبه، وترى كثيرا من أهل زمانك يعتمدون الصراخ في الدعاء خصوصا في الجوامع حتى يعظم اللغط ويشتد وتستك المسامع وتستد ولا يدرون أنهم جمعوا بين بدعتين رفع الصوت في الدعاء وكون ذلك في المسجد. وروى ابن جرير عن ابن جريج أن رفع الصوت بالدعاء من الاعتداء المشار إليه بقوله سبحانه: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وأخرج ابن أبي حاتم مثله عن زيد بن أسلم. وذهب بعضهم إلى أنه مما لا بأس به، ودعاء المعتدين الذي لا يحبه الله تعالى هو طلب ما لا يليق بالداعي كرتبة الأنبياء عليهم السلام والصعود إلى السماء. وإن منه ما ذهب جمع إلى أنه كفر كطلب دخول إبليس وأبي جهل وأضرابهما الجنة وطلب نزول الوحي والتبني ونحو ذلك من المستحيلات لما فيه من طلب إكذاب الله تعالى نفسه. وأخرج أحمد في مسنده وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «سيكون قوم يعتدون في الدعاء وحسب المرء أن يقول اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ثم قرأ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. وفصل آخرون فقالوا: الإخفاء أفضل عند خوف الرياء والإظهار أفضل عند عدم خوفه، وأولى منه القول بتقديم الإخفاء على الجهر فيما إذا خيف الرياء أو كان في الجهر تشويش على نحو مصل أو نائم أو قارئ أو مشتغل بعلم شرعي، وبتقديم الجهر على الإخفاء فيما إذا خلا عن ذلك وكان فيه قصد تعليم جاهل أو نحو إزالة وحشة عن مستوحش أو طرد نحو نعاس أو كسل عن الداعي نفسه أو إدخال سرور على قلب مؤمن أو تنفير مبتدع عن بدعة أو نحو ذلك، ومنه الجهر بالترضي عن الصحابة والدعاء لإمام المسلمين في الخطبة. وقد سن الشافعية الجهر بآمين بعد الفاتحة وهو دعاء ويجهر بها الإمام والمأمون عندهم. وفرق بعضهم بين رفع الصوت جدا كما يفعله المؤذنون في الدعاء بالفرج على المآذن وبين رفعه بحيث يسمعه من عنده فقال: لا بأس في الثاني غالبا ولا كذلك الأول. والظاهر أن المراد بالمعتدين المجاوزون ما أمروا به في كل شيء ويدخل فيها المعتدون في الدعاء دخولا أوليا. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أن المعنى في الآية ادعوا ربكم في كل حاجاتكم من أمر الدنيا والآخرة ولا تعتدوا فتدعوا على مؤمن ومؤمنة بشرّ كالخزي واللعن. وقد اختلف العلماء في كفر من دعا على آخر بسلب الإيمان أو الموت كافرا وهو من أعظم أنواع الاعتداء والمفتي به عدم الكفر. وذكروا للدعاء آدابا كثيرة، منها الكون على طهارة واستقبال القبلة وتخلية القلب من الشواغل وافتتاحه واختتامه بالتصلية على النبي صلّى الله عليه وسلّم. ورفع اليدين نحو السماء وإشراك المؤمنين فيه، وتحري ساعات الإجابة، ومنها يوم الجمعة عند كثير ساعة الخطبة ويدعو فيها بقلبه كما نص عليه أفضل متأخري مصره الفاضل الطحطاوي في حواشيه على الدر المختار فيما نقله عنه أفقه المعاصرين ابن عابدين الدمشقي. ووقت نزول الغيث والإفطار وثلث الليل الأخير وبعد ختم القرآن، وغير ذلك مما هو مبسوط في محله. وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ نهي عن سائر أنواع الإفساد كإفساد النفوس، والأموال، والأنساب، والعقول، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 379 والأديان بَعْدَ إِصْلاحِها أي إصلاح الله تعالى لها وخلقها على الوجه الملائم لمنافع الخلق ومصالح المكلفين وبعث فيها الأنبياء بما شرعه من الأحكام وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً أي ذوي خوف من الرد لقصوركم عن أهلية الإجابة وطمع في إجابته تفضلا منه، وقيل: خوفا من عقابه وطمعا في جزيل ثوابه. وقال ابن جريج: المعنى خوف العدل وطمع الفضل. وعن عطاء خوفا من الميزان وطمعا في الجنان. وأصل الخوف انزعاج القلب لعدم أمن الضرر، وقيل: توقع مكروه يحصل فيما بعد، والطمع توقع محبوب يحصل به، ونصبهما على الحالية كما أشير إليه. وجوز أن يكون على المفعولية لأجله. قيل: ولما كان الدعاء من الله تعالى بمكان كرره وقيده أولا بالأوصاف الظاهرة وآخرا بالأوصاف الباطنة، وقيل: الأمر السابق من قبيل بيان شرط الدعاء والثاني من قبيل بيان فائدته، وقيل: لا تكرار فما تقدم أمر بالدعاء بمعنى السؤال وهذا أمر بالدعاء بمعنى العبادة، والمعنى اعبدوه جامعين في أنفسكم الخوف والرجاء في عبادتكم القلبية والقالبية وهو كما ترى، ومن الناس من أبقى الدعاء على المعنى الظاهر وعمم في متعلق الخوف والطمع، والمعنى عنده ادعوه وأنتم جامعون في أنفسكم الخوف والرجاء في أعمالكم كلها، وليس بشيء والمختار عند جلة المفسرين ما تقدم. إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ أعمالهم، ومن الإحسان في الدعاء أن يكون مقرونا بالخوف والطمع، وقد كثر الكلام في توجيه تذكير قَرِيبٌ مع أنه صفة مخبر بها عن المؤنث، وقد نقل ابن هشام في ذلك وجوها ذاكرا ما لها وما عليها. الأول أن الرحمة في تقدير الزيادة والعرب قد تزيد المضاف قال سبحانه وتعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى: 1] أي سبح ربك ألا ترى أنه يقال في التسبيح سبحان ربي ولا يقال سبحان اسم ربي والتقدير إن الله تعالى قريب فالخبر في الحقيقة عن الاسم الأعظم، وتعقبه بأن هذا لا يصح عند علماء البصرة لأن الأسماء لا تزاد في رأيهم وإنما تزاد الحروف، ومعنى الآية عندهم نزه أسماء ربك عما لا يليق بها فلا تجر عليه سبحانه اسما لا يليق بكماله أو اسما غير مأذون فيه فلا زيادة، والثاني أن ذلك على حذف مضاف أي إن مكان رحمة الله تعالى قريب فالإخبار إنما هو عن المكان وهو مذكر، ونظير ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم مشيرا إلى الذهب والفضة «إن هذين حرام» فإن الإخبار بالمفرد لأن التقدير أن استعمال هذين. وقول حسان: يسقون من ورد البريص عليهم ... بردى يصفق بالرحيق السلسل فإنه بتقدير ماء بردى فلذا قال: يصفق بالتذكير مع أن بردى مؤنث. وتعقب بأن هذا المضاف بعيد جدا لا قريب والأصل عدم الحذف والمعنى مع تركه أحسن منه مع وجوده. والثالث أنه على حذف الموصوف أي شيء قريب كما قال الشاعر: قامت تبكيه على قبره ... من لي من بعدك يا عامر تركتني في الدار ذا غربة ... قد ذل من ليس له ناصر أي شخصا ذا غربة. وعلى ذلك يخرج قول سيبويه قولهم: امرأة حائض أي شخص ذو حيض. وقول الشاعر أيضا: فلو أنك في يوم الرخاء سألتني ... طلاقك لم أبخل وأنت صديق وتعقب بأنه أشد ضعفا من سابقه لأن تذكير صفة المؤنث باعتبار إجرائها على موصوف مذكر محذوف شاذ ينزع كلام الله تعالى عنه، على أنه لا فصاحة في قولك: رحمة الله شيء قريب ولا لطافة بل هو عند ذي الذوق كلام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 380 مستهجن، ونحو حائض من الصفات المختصة لا يحتاج إلى العلامة لأنها لدفع اللبس ولا لبس مع الاختصاص وسيبويه وإن كان جوادا في مثل هذا المضمار إلا أن الجواد قد يكبو. وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك. ألا تراه كيف جوز في باب الصفة المشبهة مررت برجل حسن وجهه بإضافة حسن إلى الوجه وإضافة الوجه إلى ضمير الرجل وخالفه في ذلك جميع البصريين والكوفيين لأنه قد أضاف الشيء إلى نفسه وقد علمت أيضا أن الأصل عدم الحذف. الرابع أن العرب تعطي المضاف حكم المضاف إليه في التذكير والتأنيث إذا صح الاستغناء عنه وهو أمر مشهور فالرحمة لإضافتها إلى الاسم الجليل قد اكتسبت ما صحح الأخبار عنها بالمذكر. وتعقبه أبو علي الفارسي في تعاليقه على الكتاب بأن هذا التقدير والتأويل في القرآن بعيد فاسد وإنما يجوز هذا في ضرورة الشعر. وقال الروذراوري: أن اكتساب التأنيث في المؤنث قد صح بكلام من يوثق به. وأما العكس فيحتاج إلى الشواهد. ومن ادعى الجواز فعليه البيان. الخامس أن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث كرجل جريح وامرأة جريح. وتعقب بأنه خطأ فاحش لأن فعيلا هنا بمعنى فاعل. واعترض أيضا بأن هذا لا ينقاس خصوصا من غير الثاني. السادس أن فعيلا بمعنى فاعل قد يشبه بفعيل بمعنى مفعول فيمنع من التاء في المؤنث كما قد يشبهون فعيلا بمعنى مفعول بفعيل بمعنى فاعل فيلحقونه التاء. فالأول كقوله تعالى: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس: 78] ومنه الآية الكريمة. والثاني كقولهم: خصلة ذميمة، وصفة حميدة حملا على قولهم: قبيحة وجميلة ولم يتعقب هذا بشيء. وتعقبه الروذراوري بأنه مجرد دعوى لا دليل عليه وإن قاله النحويون. ويرد عليه أن أحد الفعلين مشتق من لازم والآخر من متعد فلو أجري على أحدهما حكم الآخر لبطل الفرق بين المتعدي واللازم إن كان على وجه العموم وإن كان على وجه الخصوص فأين الدليل عليه. وفيه نظر. السابع أن العرب قد تخبر عن المضاف إليه وتترك المضاف كقوله تعالى: فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ [الشعراء: 4] فإن خاضِعِينَ خبر عن الضمير المضاف إليه الأعناق لا عن الأعناق. ألا ترى أنك إذا قلت: الأعناق خاضعون لا يجوز لأن الجمع المذكر السالم إنما يكون من صفات العقلاء فلا يقال أيد طويلون ولا كلاب نابحون. وتعقب بأنه لعل هذا راجع إلى القول بالزيادة وقد علمت ما فيه. وقد قيل: إن المراد بالأعناق الرؤساء والمعظمون. وقيل: الجماعة كما يقال: جاء زيد في عنق من الناس أي في جماعة. وقال الروذراوري: إنه لو ساغ الإعراض عن المضاف والحكم على المضاف إليه لساغ أن يقال: كان صاحب الدرع سابغة. ومالك الدار متسعة وليس فليس. الثامن أن الرحمة والرحم متقاربان لفظا وهو واضح المعنى بدليل النقل عن أئمة اللغة فأعطى أحدهما حكم الآخر. وتعقب بأنه ليس بشيء، لأن الوعظ والموعظة تتقارب أيضا فينبغي أن يجيز هذا القائل أن يقال: موعظة نافع، وعظة حسن. وكذلك الذكر والذكرى فينبغي أن يقال: ذكرى نافع كما يقال: ذكر نافع. التاسع أن فعيلا هنا بمعنى النسب فقريب معناه ذات قرب كما يقول الخليل في حائض: إنه بمعنى ذات حيض. وتعقب بأنه باطل لأن اشتمال الصفات على معنى النسب مقصور على أوزان خاصة. وهي فعال، وفعل، وفاعل. العاشر: ما قاله الروذراوري: أن فعيلا مطلقا يشترك فيه المؤنث والمذكر. وتعقب بأنه من أفسد ما قيل لأنه خلاف الواقع من كلام العرب فإنهم يقولون: امرأة ظريفة، وعليمة، وحليمة، ورحيمة. ولا يجوز التذكير في شيء من ذلك. ولهذا قال أبو عثمان المازني في قوله تعالى: وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [مريم: 28] أن بَغِيًّا فعول والأصل بغوي ثم قلبت الواو ياء والضمة كسرة وأدغمت الياء في الياء، وأما قوله: فتور القيام قطيع الكلام ... تفتر عن در عروب حصر فالجواب عنه من أوجه: أحدها أنه نادر. الثاني أن أصله قطيعة ثم حذف التاء للإضافة كقوله تعالى: وَأَقامَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 381 الصَّلاةَ [الأنبياء: 73، النور: 37] والإضافة مجوزة لحذف التاء كما توجب حذف النون والتنوين. وقد نص على ذلك غير واحد من القراء. الثالث أنه إنما جاز ذلك لمناسبة فتور لأنه فعول. وهو يستوي فيه المذكر والمؤنث. الحادي عشر أنهم يقولون في قرب النسب: قريب وإن أجري على مؤنث نحو فلانة قريب مني ويفرقون بينه وبين قرب المسافة. وتعقب بأنه مبني على أن يقال في القرب النسبي: فلان قرابتي. وقد نص جمع على أن ذلك خطأ وأن الصواب أن يقال فلان ذو قرابتي كما قال: يبكي الغريب عليه ليس يعرفه ... وذو قرابته في الحيّ مسرور الثاني عشر: من تأويل المؤنث بمذكر موافق له في المعنى. واختلف القائلون بذلك فمنهم من يقدر أن إحسان الله قريب، ومنهم من يقدر لطف الله قريب. ومن ذلك قوله: أرى رجلا منهم أسيفا كأنما ... يضم إلى كشحيه كفا مخضبا فأول الكف على معنى العضو. وتعقب بأنه باطل لأن ذلك إنما يقع في الشعر. وقد تقدم أنه لا يقال: موعظة حسن مع أن الموعظة بمنزلة الوعظ في المعنى ويقاربه في اللفظ أيضا. وأما البيت فنص النحاة على أنه ضرورة وما هذه سبيله لا يخرج عليه كلام الله سبحانه وتعالى، على أن بعضهم قال: إن الكف قد يذكّر. الثالث عشر: أن المراد بالرحمة هنا المطر- ونقل ذلك عن الأخفش- والمطر مذكر. وأيد بأن الرحمة فيما بعد بمعنى المطر. واعترض عليه من أوجه، أحدها أنه لو كانت الرحمة الثانية هي الرحمة الأولى لم تذكر ظاهرة على ما هو الظاهر إذ الموضع للضمير. ثانيها أنه إذا أمكن الحمل على العام لا يعدل إلى الخاص ولا ضرورة هنا إلى الحمل كما لا يخفى، ثالثها أن الرحمة التي هي المطر لا تختص بالمحسنين لأن الله سبحانه يرزق الطائع والعاصي. وإنما المختص في عرف الشرع هو الرحمة التي هي الغفران والتجاوز والثواب. والجواب عن هذا بأنه كما جاز تخصيص الخطاب بالرحمة بالمعنى الشرعي بالمحسنين على سبيل الترغيب كذلك يجوز تخصيص المطر الذي هو سبب الأرزاق بهم ترغيبا في الإحسان ليس بشيء عندي. رابعها أنك لو قلت: مطر الله قريب لوجدت هذه الإضافة مما تمجها الأسماع وتنبو عنها الطباع بخلاف إن رحمة الله فدل على أنه ليس بمنزلته في المعنى. وأجيب عنه بأن مجموع رَحْمَةِ اللَّهِ استعمل مرادا به المطر، وبأن الإضافة في مطر الله إنما لم تحسن للعلم بالاختصاص ولا كذلك رحمة الله تعالى، وهذا كما يحسن أن يقال: كلام الله تعالى ولا يحسن أن يقال: قرآن الله سبحانه، والإنصاف أن هذا القول ليس بشيء كما لا يخفى على ذي ذهن طري. وقال ابن هشام: لا بعد في أن يقال: إن التذكير في الآية الكريمة لمجموع أمور من الأمور المذكورة. واختار أنه لما كان المضاف يكتسب من المضاف إليه التذكير وكانت الرحمة مقاربة للرحم في اللفظ وكان قريب على صيغة فعيل وفعيل الذي بمعنى فاعل قد يحمل على فعيل بمعنى مفعول جاء التذكير. وادعى أنه لا يناقض ما قدمه من الاعتراضات لأنه لا يلزم من انتفاء اعتبار شيء من هذه الأمور مستقلا انتفاء اعتباره مع غيره اه. ولا يخلو عن حسن سوى أنه إذا أخذ في المجموع كون الرحمة بمعنى المطر يفسد الزرع، وقد جرى في هذه الآية بحث طويل بين ابن مالك والروذراوري وفي كلام كل حق وصواب، وفي نقل ذلك ما يورث السآمة. وأجاب الجوهري بأن الرحمة مصدر والمصادر لا تجمع ولا تؤنث وهو كما ترى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 382 وقيل: التذكير لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي ولا يخفى بعده لأن المتضمن لضمير المؤنث ولو كان غير حقيقي لم يحسن تذكيره على المشهور، وقيل: إن فعيلا هنا محمول على فعيل الوارد في المصادر فإنه للمؤنث والمذكر كفعيل بمعنى مفعول كالنقيض بالنون والقاف والضاد المعجمة وهو صوت الرجل ونحوه والضغيب بالضاد والغين المعجمة والياء المثناة من تحت والباء الموحدة صوت الأرنب. وأنت تعلم أن حمله على فعيل بمعنى مفعول أولى من هذا الحمل وهو الذي أميل إليه، نعم ربما يدعي أن في ذلك إشارة ما إلى مزيد قرب الرحمة لكنه بعيد جدا وقد لا يسلم. والذي اختاره أن فعيلا هنا بمعنى فاعل لا بمعنى مفعول كما زعم الكرماني لما مرت الإشارة إليه، ولأن الرحمة صفة ذات عند جمع وصفات الذات سواء قلنا بعينيتها أو بغيريتها أو بأنها لا ولا لا يحسن الإخبار عنها بأنها مقربة، وذلك على القولين الأخيرين ظاهر وعلى الأول أظهر، والقول بأن في ذلك ترغيبا في الإحسان حيث أشير إلى أنه كالفاعل وقد أثر فيما لا يقبل التأثر مما لا يكاد يسلم، وأنه قد حمل على فعيل بمعنى مفعول كما حمل على ذلك في خصوصية قريب في قول جرير: أتنفعك الحياة وأم عمرو ... قريب لا تزور ولا تزار وإنما لم يقل قريبة على الأصل للإشارة لأرباب الأذهان السليم إلى أنها قريبة جدا من المحسنين كما لا يخفى على المتأمل. واختار بعضهم تفسير الرحمة هنا بالإحسان لمكان المحسنين وهَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ [الرحمن: 60] ولعله يعتبر شاملا للإحسان الدنيوي والأخروي. ووجه القرب- على ما قيل- وجود الأهلية بحسب الحكمة مع ارتفاع الموانع بالكلية. وفسرها ابن جبير بالثواب، والمتبادر منه الإحسان الأخروي. ووجه القرب عليه بأن الإنسان في كل ساعة من الساعات في إدبار عن الدنيا وإقبال على الآخرة، وإذا كان كذلك كان الموت أقرب إليه من الحياة فلا يكون بين المحسن والثواب في الآخرة إلا الموت وكل آت قريب. وجعل الزمخشري الآية من قبيل قوله تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ [طه: 82] إلخ أي علق فيها الرحمة بإحسان الأعمال كما علق الغفران فيه بالتوبة والإيمان والعمل الصالح فكأن «من تاب وآمن» إلخ تفسير للمحسنين وهو إشارة إلى ما يزعمه قومه من أن الآية تدل على أن صاحب الكبيرة لا يخلص من النار لأنه ليس من المحسنين والتخليص من النار بعد الدخول فيها رحمة. وأجيب بأن صاحب الكبيرة مؤمن بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم ومن يكون كذلك فهو محسن بدليل أن الصبي إذا بلغ ضحى وآمن ومات قبل الظهر فقد اجتمعت الأمة على أنه داخل تحت قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى [يونس: 26] فهو محسن بمجرد الإيمان، والقول بأن المحسنين هم الذين أتوا بجميع أنواع الإحسان على ما يؤذن به الآية الممثل بها أول البحث أول المسألة. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس أنه فسر الْمُحْسِنِينَ بالمؤمنين. وعن بعضهم تفسيره بالداعين خوفا وطمعا لقرينة السباق على ذلك ونظر فيه وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ عطف على الجملة السابقة أو على حديث خلق السماوات والأرض. وقرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، «الريح» على الوحدة وهو متحمل لمعنى الجنسية فيطلق على الكثير. وخبر «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا» مخرج على قراءة الأكثرين بُشْراً بضم الموحدة وسكون الشين مخفف بُشْراً بضمتين جمع بشيء كنذر ونذير أي مبشرات وهي قراءة عاصم. وروي عنه أيضا «بشرا» على الأصل. وقرىء بفتح الباء على أنه مصدر بشره بالتخفيف بمعنى بشره المشدد. والمراد باشرات أو للبشارة. وقرىء «بشرى» كحبلى وهو مصدر أيضا من البشارة. وقرأ أهل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 383 المدينة والبصرة «نشرا» بضم النون والشين جمع نشور بفتح النون بمعنى ناشر، وفعول بمعنى فاعل يطرد جمعه كذلك كصبور وصبر، ولم يجعل جمع ناشر كبازل وبزل لأن جمع فاعل على فعل شاذ. واختلف في معنى ناشر ففي الحواشي الشهابية قيل: هو على النسب إما إلى النشر ضد الطي وإما إلى النشور بمعنى الإحياء لأن الريح توصف بالموت والحياة كقوله: إني لأرجو أن تموت الريح ... فأقعد اليوم وأستريح كما يصفها المتأخرون بالعلة والمرض. ومما يحكي النسيم من ذلك قول بعضهم في شدة الحر: أظن نسيم الروض مات لأنه ... له زمن في الروض وهو عليل وقيل: هو فاعل من نشر مطاوع أنشر الله تعالى الميت فنشر وهو ناشر كقوله: حتى يقول الناس مما رأوا ... يا عجبا للميت الناشر قيل: ناشر بمعنى أي محيي، وقيل: فعول هنا بمعنى مفعول كرسول ورسل وقد جوز ذلك أبو البقاء إلا أنه نادر مفرده وجمعه. وقرأ ابن عامر «نشرا» بضم النون وسكون الشين حيث وقع. والتخفيف في فعل مطرد، وقرأ حمزة، والكسائي «نشرا» بفتح النون حيث وقع على أنه مصدر في موقع الحال بمعنى ناشرات أو مفعول مطلق فإن الإرسال والنشر متقاربان بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي قدام رحمته وهو من المجاز كما نقل عن أبي بكر الأنباري، والمراد بالرحمة كما ذهب إليه غالب المفسرين المطر. وسمي رحمة لما يترتب عليه بحسب جري العادة من المنافع. ولا يخفى أن الرحمة في المشهور عامة فإطلاقها على ذلك إن كان من حيث خصوصه مجاز لكونه استعمال اللفظ في غير ما وضع له إذا اللفظ لم يوضع لذلك الخاص بخصوصه وإن كان إطلاقها عليه لا بخصوصه بل باعتبار عمومه. وكونه فردا من أفراد ذلك العام فهو حقيقة لأنه استعمال اللفظ فيما وضع له على ما بين في شرح التلخيص وغيره. وادعى الشهاب إثبات بعض أهل اللغة كون المطر من معاني الرحمة، وقول ابن هشام في رسالته التي ألفها في بيان وجه تذكير «قريب» المار عن قريب. إنا لا نجد أهل اللغة حيث يتكلمون على الرحمة يقولون: ومن معانيها المطر فلو كانت موضوعة له لذكروه قصارى ما فيه عدم الوجدان وهو لا يستدعي عدم الوجود، ومما اشتهر أن المثبت مقدم على النافي ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، والمقام ظاهر في إرادة هذا المعنى، وبيان كون الرياح مرسلة أمام ذلك ما قيل: إن الصبا تثير السحاب والشمال تجمعه والجنوب تدره والدبور تفرقه وهذه أحد أنواع الريح المشهورة عند العرب، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن الرياح ثمانية: أربع منها عذاب وهي القاصف، والعاصف، والصرصر، والعقيم وأربع منها رحمة وهي الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات. والريح من أعظم منن الله تعالى على عباده، وعن كعب الأحبار لو حبس الله تعالى الريح عن عباده ثلاثة أيام لأنتن أكثر أهل الأرض، وفي بعض الآثار أن الله تعالى خلق العالم وملأه هواء ولو أمسك الهواء ساعة لأنتن ما بين السماء والأرض، وذكر غير واحد من العلماء أنه يكره سب الريح، فقد روى الشافعي عن أبي هريرة قال: أخذت الناس ريح بطريق مكة وعمر رضي الله تعالى عنه حاج فاشتدت فقال عمر لمن حوله: ما بلغكم في الريح؟ فلم يرجعوا إليه شيئا وبلغني الذي سأل عمر عنه من أمر الريح فاستحثثت راحلتي حتى أدركت عمر وكنت مؤخر الناس فقلت: يا أمير المؤمنين أخبرت أنك سألت عن الريح فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «الريح من روح الله تعالى تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب فإذا رأيتموها فلا تسبوها واسألوا الله تعالى من خيرها واستعيذوا بالله سبحانه من شرها» ولا منافاة بين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 384 الآية وهذا الخبر إذ ليس فيها أنه سبحانه لا يرسلها إلا بين يدي الرحمة ولئن سلم فهو خارج مجرى الغالب فإن العذاب بالريح نادر، وقيل: ما في الخبر إنما هو الإيتاء بالرحمة والإيتاء بالعذاب لا الإرسال بين يدي كل حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ غاية لقوله سبحانه يُرْسِلُ والإقلال- كما في مجمع البيان- حمل الشيء بأسره واشتقاقه من القلة وحقيقة أقله- كما قال بعض المحققين- جعله قليلا أو وجده قليلا، والمراد ظنه كذلك كأكذبه إذا جعله كاذبا في زعمه ثم استعمل بمعنى حمله لأن الحامل يستقل ما يحمله أي يعده قليلا، ومن ذلك قولهم: جهد المقل أي الحامل سَحاباً أي غيما سمي بذلك لانسحابه في الهواء وهو اسم جنس جمعي يفرق بينه وبين واحدة بالتاء كتمر وتمرة وهو يذكر ويؤنث ويفرد وصفه ويجمع. وأهل اللغة كالجوهري وغيره تسميه جمعا فلذا روعي فيه الوجهان في وصفه وضميره، وجاء في الجمع سحب وسحائب ثِقالًا من الثقل كعنب ضد الخفة يقال: ثقل ككرم ثقلا وثقالة فهو ثقيل، وثقل السحاب بما فيه من الماء سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ أي لأجله ومنفعته أو لإحيائه أو لسقيه كما قيل. وفي البحر أن اللام للتبليغ كما في قلت لك، وفرق بين سقت لك مالا وسقت لأجلك مالا بأن الأول معناه أوصلت لك ذلك وأبلغتكه. والثاني لا يلزم منه وصوله إليه، والبلد- كما قال الليث- كل موضع من الأرض عامر أو غير عامر خال أو مسكون والطائفة منه بلدة والجمع بلاد، وتطلق البلدة على المفازة ومنه قول الأعشى: وبلدة مثل ظهر الترس موحشة ... للجن بالليل في حافاتها زجل فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ أي بالبلد أو السحاب كما قال الزجاج وابن الأنباري أو بالسوق أو الرياح كما قيل، والتذكير بتأويل المذكور. وكذلك قوله تعالى: فَأَخْرَجْنا بِهِ ويحتمل أن يعود الضمير إلى الماء وهو الظاهر لقربه لفظا ومعنى، ومطابقة النظائر وانفكاك الضمائر لا بأس به إذا قام الدليل عليه وحسن الملاءمة. وإذا كان للبلد فالباء للظرفية في الثاني وللإلصاق في الأول لأن الإنزال ليس في البلد بل المنزل، وجوز الظرفية أيضا كما في رميت الصيد في الحرم على ما علمت فيما مر، وإذا كان لغيره فهي للسببية وتشمل القريبة والبعيدة. مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي من كل أنواعها لأن الاستغراق غير مراد ولا واقع، وهذا أبلغ في إظهار القدرة المراد، وقيل: إن الاستغراق عرفي والظاهر أن المراد التكثير، وجوز بعضهم أن تكون مِنْ للتبعيض وأن تكون لتبيين الجنس كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى إشارة إلى إخراج الثمرات أو إلى إحياء البلد الميت أي كما نحييه بإحداث القوى النامية فيه وتطريتها بأنواع النبات والثمرات نخرج الموتى من الأرض ونحييها برد النفوس إلى مواد أبدانها بعد جمعها وتطريتها بالقوى والحواس كذا قالوا، وهو إشارة- كما قيل- إلى طريقي القائلين بالمعاد الجسماني وهما إيجاد البدن بعد عدمه ثم إحياؤه وضم بعض أجزائه إلى بعض على النمط السابق بعد تفرقها ثم إحياؤه. واستظهر الأول بأن المتبادر من الآية كون التشبيه بين الإخراجين من كتم العدم، والثاني يحتاج إلى تمحل تقدير الإحياء واعتبار جمع الأجزاء مع أنه غير معتبر في جانب المشبه به، وجوز أن يرجع ما في الشق الثاني من الإحياء برد النفوس إلخ إلى الأول، وأنت تعلم أنه لا مانع من الإخراج من كتم العدم، وأدلة استحالة ذلك مما لا تقوم على ساق وقدم إلا أن الأدلة النقلية على كل من الطريقين متجاذبة، وإذا صح القول بالمعاد الجسماني فلا بأس بالقول بأي كان منهما، وكون إخراج الثمرات من كتم العدم قد لا يسلم فإن لها أصلا في الجملة على أن إخراج الموتى عند القائلين بالطريق الأول إعادة وليس إخراج الثمرات كذلك إذ لم يكن لها وجود قبل، نعم كون الأظهر أن التشبيه بين الإخراجين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 385 مما لا مرية، فيه، وفي الخازن اختلفوا في وجه التشبيه فقيل: إن الله تعالى كما يخلق النبات بواسطة إنزال المطر كذلك يحي الموتى بواسطة إنزال المطر أيضا، فقد روي عن أبي هريرة وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أن الناس إذا ماتوا في النفخة الأولى أمطر عليهم ماء من تحت العرش يدعى ماء الحياة أربعين سنة فينبتون كما ينبت الزرع من الماء. وفي رواية أربعين يوما فينبتون في قبورهم نبات الزرع حتى إذا استكملت أجسادهم تنفخ فيهم الروح ثم يلقى عليهم النوم فينامون في قبورهم فإذا نفخ في الصور النفخة الثانية عاشوا ثم يحشرون في قبورهم ويجدون طعم النوم في رؤوسهم وأعينهم كما يجد النائم حين يستيقظ من نومه فعند ذلك يقولون: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا؟ فيناديهم المنادي: هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [يس: 52] . وأخرج غير واحد عن مجاهد أنه إذا أراد الله تعالى أن يخرج الموتى أمطر السماء حتى تشقق عنهم الأرض ثم يرسل سبحانه الأرواح فتعود كل روح إلى جسدها، فكذلك يحيي الله تعالى الموتى بالمطر كإحيائه الأرض. وقيل: إنما وقع التشبيه بأصل الإحياء من غير اعتبار كيفية فيجب الإيمان به ولا يلزمنا البحث عن الكيفية ويفعل الله سبحانه ما يشاء لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فتعلمون أن من قدر على ذلك فهو قادر على هذا من غير شبهة. والأصل «تتذكرون» فطرحت إحدى التاءين، والخطاب قيل: للنظار مطلقا، وقيل: لمنكري البعث. وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ أي الأرض الكريمة التربة التي لا سبخة ولا حرة، واستعمال البلد بمعنى القرية عرف طار، ومن قبيل ذلك إطلاقه على مكة المكرمة يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ بمشيئته وتيسيره، وهو في موضع الحال، والمراد بذلك أن يكون حسنا وافيا غزير النفع لكونه واقعا في مقابلة قوله: وَالَّذِي خَبُثَ من البلاد كالسبخة والحرة لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً أي قليلا لا خير فيه، ومن ذلك قوله: لا تنجز الوعد إن وعدت وإن ... أعطيت أعطيت تافها نكدا ونصبه على الحال أو على أنه صفة مصدر محذوف، وأصل الكلام لا يخرج نباته فحذف المضاف إليه وأقيم المضاف مقامه فصار مرفوعا مستترا، وجوز أن يكون الأصل ونبات الذي خبث، والتعبير أولا بالطيب وثانيا بالذي خبث دون الخبيث للإيذان بأن أصل الأرض أن تكون طيبة منبتة وخلافه طار عارض. وقرىء «يخرج نباته» ببناء «يخرج» لما لم يسم فاعله ورفع «نبات» على النيابة عن الفاعل، و «يخرج نباته» ببناء «يخرج» للفاعل من باب الإخراج، ونصب «نباته» على المفعولية، والفاعل ضمير البلد، وقيل ضمير الله تعالى أو الماء، وكذا قرىء في «يخرج» المنفي ونصب نَكِداً حينئذ على المفعولية. وقرأ أبو جعفر «نكدا» بفتحتين على زنة المصدر، وهو نصب على الحال أو على المصدرية أي ذا نكد أو خروجا نكدا. وقرأ «نكدا» بالإسكان للتخفيف كنزه في قوله: فقال لي قول ذي رأي ومقدرة ... مجرب عاقل نزه عن الريب كَذلِكَ مثل ذلك التصريف البديع نُصَرِّفُ الْآياتِ أي نردد الآيات الدالة على القدرة الباهرة ونكررها. وأصل التصريف تبديل حال بحال ومنه تصريف الرياح لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ نعم الله تعالى ومنها تصريف الآيات وشكر ذلك بالتفكر فيها والاعتبار بها، وخص الشاكرين لأنهم المنتفعون بذلك. وقال الطيبي: ذكر لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ بعد لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ من باب الترقي لأن من تذكر آلاء الله تعالى عرف حق النعمة فشكر، وهذا- كما قال غير واحد- مثل لمن ينجع فيه الوعظ والتنبيه من المكلفين ولمن لا يؤثر فيه شيء من ذلك. أخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس أن قوله سبحانه وتعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ إلخ مثل ضربه الله تعالى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 386 للمؤمنين يقول: هو طيب وعمله طيب والذي خبث إلخ مثل للكافر يقول: هو خبيث وعمله خبيث. وأخرج ابن جرير عن مجاهد أن هذا مثل ضربه الله تعالى لآدم عليه السلام وذريته كلهم إنما خلقوا من نفس واحدة فمنهم من آمن بالله تعالى وكتابه فطاب ومنهم من كفر بالله تعالى وكتابه فخبث. أخرج أحمد، والشيخان، والنسائي عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «مثل ما بعثني الله تعالى به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله تعالى بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا وأصاب منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله تعالى ونفعه ما بعثني الله تعالى به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله تعالى الذي أرسلت به» وإيثار خصوص التمثيل بالأرض الطيبة والخبيثة استطراد عقيب ذكر المطر وإنزاله بالبلد وموازنة بين الرحمتين كما في الكشف، ولقربه من الاعتراض جيء بالواو في قوله سبحانه وتعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ وفيه إشارة إلى معنى ما ورد في صحيح مسلم عن عياض المجاشعي رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال في خطبته عن الله عز وجل: «إني خلقت عبادي حنفاء كلهم وأنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم» . وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه» ووجه الإشارة قد مرت الإشارة إليه، ثم إنه سبحانه وتعالى عقب ذلك بما يحققه ويقرره من قصص الأمم الخالية والقرون الماضية. وفي ذلك أيضا تسلية لرسوله عليه الصلاة والسلام فقال جل شأنه: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ وهو جواب قسم محذوف أي والله لقد أرسلنا إلخ، واطّرد استعمال هذه اللام مع قد في الماضي- على ما قال الزمخشري- وقل الاكتفاء بها وحدها نحو قوله: حلفت لها بالله حلفة فاجر ... لناموا فما إن من حديث ولا صالي والسر في ذلك أن الجملة القسمية لا تساق إلا تأكيدا للجملة المقسم عليها التي هي جوابها فكانت مظنة لتوقع المخاطب حصول المقسم عليه لأن القسم دل على الاهتمام فناسب ذلك إدخال قد، ونقل عن النحاة أنهم قالوا: إذا كان جواب القسم ماضيا مثبتا متصرفا فإما أن يكون قريبا من الحال فيؤتى بقد وإلا أثبت باللام وحدها فجوزوا الوجهين باعتبارين، ولم يؤت هنا بعاطف وأتي به في هود والمؤمنين. على ما قال الكرماني. لتقدم ذكر نوح صريحا في هود وضمنا في المؤمنين حيث ذكر فيها قبل عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [المؤمنون: 22] وهو عليه السلام أول من صنعها بخلاف ما هنا. ونوح بن لمك بفتحتين. وقيل: بفتح فسكون، وقيل: ملكان بميم مفتوحة ولام ساكنة ونون آخره. قيل: لامك كمهاجر بن متوشلخ بضم الميم وفتح التاء الفوقية والواو وسكون الشين المعجمة على وزن المفعول كما ضبطه غير واحد. وقيل: بفتح الميم وضم المثناة الفوقية المشددة وسكون الواو ولام مفتوحة وخاء معجمة- ابن- أخنوخ بهمزة مفتوحة أوله وخاء معجمة ساكنة ونون مضمومة وواو ساكنة وخاء أيضا، ومعناه في تلك اللغة على ما قيل القراء. وقيل: خنوخ بإسقاط الهمزة. وهو إدريس عليه السلام. أخرج ابن إسحاق. وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: بعث نوح عليه السلام في الألف الثاني وإن آدم عليه السلام لم يمت حتى ولد له نوح في آخر الألف الأول. وأخرجا عن مقاتل وجوبير أن آدم عليه السلام حين كبر ودق عظمه قال: يا رب إلى متى أكد وأسعى؟ قال يا آدم حتى يولد لك ولد مختون فولد له نوح بعد عشر أبطن. وهو يومئذ ابن ألف سنة إلا ستين عاما. وبعث على ما روي عن ابن عباس على رأس أربعمائة سنة، وقال مقاتل: وهو ابن مائة سنة. وقيل: وهو ابن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 387 خمسين سنة. وقيل: وهو ابن مائتين وخمسين سنة ومكث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة. وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين فكان عمره ألفا وأربعمائة وخمسين سنة. وبعث- كما روى ابن أبي حاتم وابن عساكر عن قتادة- من الجزيرة. وهو أول نبي عذب الله تعالى قومه. وقد لقي منهم ما لم يلقه نبي من الأنبياء عليهم السلام. واختلف في عموم بعثته عليه السلام ابتداء مع الاتفاق على عمومها انتهاء حيث لم يبق بعد الطوفان سوى من كان معه في السفينة، ولا يقدح القول بالعموم في كون ذلك من خواص نبينا صلّى الله عليه وسلّم لأن ما هو من خواصه عليه الصلاة والسلام عموم البعثة لكافة الثقلين الجن والإنس. وذلك مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة فيكفر منكره بل وكذا الملائكة كما رجحه جمع محققون كالسبكي ومن تبعه وردوا على من خالف ذلك وصريح آية لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان: 1] إذ العالم ما سوى الله تعالى، وخبر مسلم وأرسلت إلى الخلق كافة يؤيد ذلك بل قال البارزي: إنه صلّى الله عليه وسلّم أرسل حتى للجمادات بعد جعلها مدركة. وفائدة الإرسال للمعصوم وغير المكلف طلب إذعانهما لشرفه ودخولهما تحت دعوته واتباعه تشريفا على سائر المرسلين ولا كذلك بعثة نوح عليه السلام: والفرق مثل الصبح ظاهر. وهو- كما في القاموس- اسم أعجمي صرف لخفته، وجاء عن ابن عباس، وعكرمة، وجوبير، ومقاتل أنه عليه السلام إنما سمي نوحا لكثرة ما ناح على نفسه. واختلف في سبب ذلك فقيل: هو دعوته على قومه بالهلاك. قيل مراجعته ربه في شأن ابنه كنعان: وقيل: إنه مر بكلب مجذوم فقال له: اخسأ يا قبيح. فأوحى الله إليه أعبتني أم عبت الكلب. وقيل: هو إصرار قومه على الكفر فكان كلما دعاهم وأعرضوا بكى وناح عليهم. قيل: وكان اسمه قبل السكن لسكون الناس إليه بعد آدم عليه السلام. وقيل: عبد الجبار، وأنا لا أعول على شيء من هذه الأخبار والمعول عليه عندي ما هو الظاهر من أنه اسم وضع له حين ولد، وليس مشتقا من النياحة. وأنه كما قال صاحب القاموس فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي وحده، وترك التقييد به للإيذان بأنها العبادة حقيقة وأما العبادة مع الإشراك فكلا عبادة ولدلالة قوله سبحانه وتعالى: ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ أي مستحق للعبادة غَيْرُهُ عليه، وهو استئناف مسوق لتعليل العبادة المذكورة أو الأمر بها ومِنْ صلة وغَيْرُهُ بالرفع- وهي قراءة الجمهور- صفة إِلهٍ أو بدل منه باعتبار محله الذي هو الرفع على الابتداء أو الفاعلية. وقرأ الكسائي بالجر باعتبار لفظه، وقرىء شاذا بالنصب على الاستثناء، وحكم غير- كما في المفصل- حكم الاسم الواقع بعد إلا وهو المشهور أي ما لكم إله إلا إياه كقوله: ما في الدار أحد إلا زيدا وغير زيدا، وإِلهٍ أن جعل مبتدأ- فلكم- خبره أو خبره محذوف ولَكُمْ للتخصيص والتبيين أي ما لكم في الوجود أو في العالم إله غير الله تعالى إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إن لم تعبدوا حسبما أمرت به. وتقدير إن لم تؤمنوا لما أن عبادته سبحانه وتعالى تستلزم الإيمان به وهو أهم أنواعها وإنما قال عليه السلام: أَخافُ ولم يقطع حنوا عليهم واستجلابا لهم بلطف. عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ هو يوم القيامة أو يوم الطوفان لأنه أعلم بوقوعه إن لم يمتثلوا، والجملة- كما قال شيخ الإسلام- تعليل للعبادة ببيان الصارف عن تركها أثر تعليلها ببيان الداعي إليها، ووصف اليوم بالعظم لبيان عظم ما يقع فيه وتكميل الإنذار قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ استئناف مبنى على سؤال نشأ من حكاية قوله عليه السلام ونصحه لقومه كأنه قيل: فماذا قالوا بعد ما قيل لهم ذلك؟ فقيل: قال إلخ. والملأ- على ما قال الفراء- الجماعة من الرجال خاصة. وفسره غير واحد بالإشراف الذين يملؤون القلوب بجلالهم والأبصار بجمالهم والمجالس بأتباعهم، وقيل: سموا ملأ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 388 لأنهم مليون قادرون على ما يراد منهم من كفاية الأمور إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ أي ذهاب عن طريق الحق، والرؤية قلبية ومفعولاها الضمير والظرف وقيل: بصرية فيكون الظرف في موضع الحال مُبِينٍ أي بين كونه ضلالا قالَ استئناف على طراز سابقه: يا قَوْمِ ناداهم بإضافتهم إليه استمالة لهم نحو الحق لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ نفي للضلال عن نفسه الكريمة على أبلغ وجه فإن التاء للمرة لأن مقام المبالغة في الجواب لقولهم الأحمق يقتضي ذلك والوحدة المستفادة منه باعتبار أقل ما ينطلق فيرجع حاصل المعنى ليس بي أقل قليل من الضلال فضلا عن الضلال المبين، وما يتخايل من أن نفي الماهية أبلغ فإن نفي الشيء مع قيد الوحدة قد يكون بانتفاء الوحدة إلى الكثرة مضمحل بما حقق أن الوحدة ليست صفة مقيدة بل اللفظ موضوع للجزء الأقل وهو الواحد المتحقق مع الكثرة ودونها على أن ملاحظة قيد الوحدة في العام في سياق النفي مدفوع، وكفاك لا رجل شاهدا فإنه موضوع للواحد من الجنس وبذلك فرق بينه وبين أسامة فإذا وقع عاما لا يلحظ ذلك. ولو سلم جواز أن يقال ليس به ضلالة أي ضلالة واحدة بل ضلالات متنوعة ابتداء لكن لا يجوز في مقام المقابلة كما نحن فيه قاله في الكشف وبه يندفع ما أورد على الكشاف في هذا المقام. وفي المثل السائر الأسماء المفردة الواقعة على الجنس التي تكون بينها وبين واحدها تاء التأنيث متى أريد النفي كان استعمال واحدها أبلغ ومتى أريد الإثبات كان استعمالها أبلغ كما في هذه الآية، ولا يظن أنه لما كان الضلال والضلالة مصدرين من قولك: ضل يضل ضلالا وضلالة كان القولان سواء لأن الضلالة هنا ليست عبارة عن المصدر بل عن المرة والنفي كما علمت، وإنما بالغ عليه السلام في النفي لمبالغتهم في الإثبات حيث جعلوه وحاشاه مستقرا في الضلال الواضع كونه ضلالا، وقوله سبحانه وتعالى: وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ استدراك على ما قبله رافع لما يتوهم منه، وذلك- على ما قيل- أن القوم لما أثبتوا له الضلال أرادوا به ترك دين الآباء ودعوى الرسالة فحين نفى الضلالة توهم منه أنه على دين آبائه وترك دعوى الرسالة فوقع الإخبار بأنه رسول وثابت على الصراط المستقيم استدراكا لذلك، وقيل: هو استدراك مما قبله باعتبار ما يستلزمه من كونه في أقصى مراتب الهداية فإن رسالته من رب العالمين مستلزمة له لا محالة كأنه قيل: ليس بي شيء من الضلالة لكني في الغاية القاصية من الهداية، وحاصل ذلك- على ما قرره الطيبي- أن لكن حقها أن تتوسط بين كلامين متغايرين نفيا وإثباتا والتغاير هنا حاصل من حيث المعنى كما في قولك: جاءني زيد لكن عمرا غاب، وفائدة العدول عن الظاهر إرادة المبالغة في إثبات الهداية على أقصى ما يمكن كما نفي الضلالة كذلك، وسلك طريق الإطناب لأن هذا الاستدراك زيادة على الجواب إذ قوله: لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ كان كافيا فيه فيكون من الأسلوب الحكيم الوارد على التخلص إلى الدعوة على وجه الترجيع المعنوي لأنه بدأ بالدعوة إلى إثبات التوحيد وإخلاص العبادة لله تعالى فلما أراد إثبات الرسالة لم يتمكن لما اعترضوا عليه من قولهم: إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ فانتهز الفرصة وأدمج مقصوده في الجواب على أحسن وجه حيث أخرجه مخرج الملاطفة والكلام المنصف يعني دعوا نسبة الضلال إلي وانظروا ما هو أهم لكم من متابعة ناصحكم وأمينكم ورسول رب العالمين ألا ترى أن صالحا عليه السلام لما لم يعترضوا عليه عقب بإثبات الرسالة إثبات التوحيد ففي هذه الآية خمسة من أنواع البديع فإذا اقتضى المقام هذا الإطناب كان الاقتصار على العبارة الموجزة تقصيرا انتهى. ولا يخفى أن هذا الاستدراك غير الاستدراك بالمعنى المشهور. وقد ذكر غير واحد من علماء العربية أن الاستدراك في لكن أن تنسب لما بعدها حكما مخالفا لما قبلها سواء تغاير إثباتا ونفيا أو لا، وفسره صاحب البسيط وجماعة برفع ما توهم ثبوته، وتمام الكلام فيه في المغني، واعتبار اللازم لتحصيل الاستدراك بالمعنى الثاني مما لا يكاد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 389 يقبل لأنه لا يذهب وهم واهم من نفي الضلالة إلى نفي الهداية حتى يحتاج إلى تداركه، ووجهه بعضهم من دون اعتبار اللازم بأنه عليه السلام لما نفى الضلالة عن نفسه فربما يتوهم الخاطب انتفاء الرسالة أيضا كما انتهى الضلالة فاستدركه بلكن كما في قولك: زيد ليس بفقيه لكنه طبيب، وأنت تعلم أن هذا إن لم يرجع إلى ما قرر أولا فليس بشيء، وقيل: إنه إذا انتفى أحد المتقابلين يسبق الوهم إلى انتفاء المقابل الآخر لا إلى انتفاء الأمور التي لا تعلق لها به، ولهذا يؤول ما وقع في معرض الاستدراك بما يقابل الضلال مثلا يقال: زيد ليس بقائم لكنه قاعد ولا يقال: لكنه شارب إلا بعد التأويل بأن الشارب يكون قاعدا، وقال بعض فضلاء الروم: النظر الصائب في هذا الاستدراك أن يكون مثل قوله: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب وقوله: هو البدر إلا أنه البحر زاخرا ... سوى أنه الضرغام لكنه الوبل كأنه قيل: ليس بي ضلالة وعيب سوى أني رسول من رب العالمين، وأنت تعلم أن هذا النوع يقال له عندهم: تأكيد المدح بما يشبه الذم وهو قسمان ما يستثنى فيه من صفة ذم منفية عن الشيء صفة مدح لذلك الشيء بتقدير دخولها في صفة الذم المنفية. وما يثبت فيه لشيء صفة مدح ويتعقب ذلك بأداة استثناء يليها صفة مدح أخرى لذلك، والظاهر أن ما في الآية من القسم الأول إلا أنه غير غني عن التأويل فتأمل. ومِنْ فيها لابتداء الغاية مجازا متعلقة بمحذوف وقع صفة لرسول مؤكدة ما يفيده التنوين من الفخامة الذاتية كأنه قيل: إني رسول وأي رسول كائن من رب العالمين أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي استئناف مسوق لتقرير رسالته وتفصيل أحكامها وأحوالها. وجوز أبو البقاء وغيرها أن يكون صفة أخرى لرسول على المعنى لأنه عبارة عن الضمير في إِنِّي وهذا كقول علي كرم الله تعالى وجهه حين بارز مرحبا اليهودي يوم خيبر: أنا الذي سمتني أمي حيدره ... كليث غابات كريه المنظرة أو فيهم بالصاع كيل السندره حيث لم يقل سمته حملا له على المعنى لا من اللبس، وأوجب بعضهم الحمل على الاستئناف زعما منه أن ما ذكر قبيح حتى قال المازني: لولا شهرته لرددته، وتعقب ذلك الشهاب بأن ما ذكره المازني في صلة الموصول لا في وصف النكرة فإنه وارد في القرآن مثل بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [النمل: 55] وقد صرح بحسنه في كتب النحو والمعاني، على أن ما ذكره في الصلة أيضا مردود عند المحققين وإن تبعه فيه ابن جني حتى استرذل قول المتنبي: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وفي الانتصاف أنه حسن في الاستعمال وكلام أبي الحسن أصدق شاهد على ما قال وعلى حسن كلام ابن الحسين، وهذا- كما قال الشهاب- إذا لم يكن الضمير مؤخرا نحو الذي قرى الضيوف أنا أو كان للتشبيه نحو أنا في الشجاعة الذي قتل مرحبا. وقرأ أبو عمرو «أبلغكم» بتسكين الباء وتخفيف اللام من الإبلاغ، وجمع الرسالات مع أن رسالة كل نبي واحدة وهو مصدر والأصل فيه أن لا يجمع رعاية لاختلاف أوقاتها أو تنوع معاني ما أرسل عليه السلام به أو أنه أراد رسالته ورسالة غيره ممن قبله من الأنبياء كإدريس عليه السلام وقد أنزل عليه ثلاثون صحيفة، وشيث عليه السلام وقد أنزل عليه خمسون صحيفة، ووضع الظاهر موضع الضمير وتخصيص ربوبيته تعالى له عليه السلام بعد بيان عمومها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 390 للعالمين للإشعار بعلة الحكم الذي هو تبليغ رسالته تعالى إليهم فإن ربوبيته تعالى له من موجبات امتثاله بأمره تعالى بتبليغ رسالته وَأَنْصَحُ لَكُمْ أي أتحرى ما فيه صلاحكم بناء على أن النصح تحري ذلك قولا أو فعلا، وقيل: هو تعريف وجه المصلحة مع خلوص النية من شوائب المكروه، والمعنى هنا أبلغكم أوامر الله تعالى ونواهيه وأرغبكم في قبولها وأحذركم عقابه إن عصيتموه، وأصل النصح في اللغة الخلوص يقال: نصحت العسل إذا خلصته من الشمع، ويقال: هو مأخوذ من نصح الرجل ثوبه إذا خاطه شبهوا فعل الناصح فيما يتحراه من صلاح المنصوص له بفعل الخياط فيما يسد من خلل الثوب، وقد يستعمل لخلوص المحبة للمصوح له والتحري فيما يستدعيه حقه، وعلى ذلك حمل ما أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي عن تميم الداري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الدين النصيحة قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله تعالى ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» ويقال: نصحته ونصحت له كما يقال: شكرته وشكرت له، قيل: وجيء باللام هنا ليدل الكلام على أن الغرض ليس غير النصح وليس النصح لغيرهم بمعنى أن نفعه يعود عليهم لا عليه عليه السلام كقوله: ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الفرقان: 57، وغيرها] وهذا مبني على أن اللام للاختصاص لا زائدة، وظاهر كلام البعض يشعر بأنها مع ذلك زائدة: وفيه خفاء. وصيغة المضارع للدلالة على تجدد نصحه عليه السلام لهم كما يفصح عنه قوله: رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً [نوح: 5] . وقوله تعالى: وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ عطف على ما قبله وتقرير لرسالته عليه السلام أي أعلم من قبله تعالى بالوحي أشياء لا علم لكم بها من الأمور الآتية. فمن لابتداء الغاية مجازا أو أعلم من شؤونه عز وجل وقدرته القاهرة وبطشه الشديد على من لم يؤمن به ويصدق برسله ما لا تعلمونه. فمن إما للتبعيض أو بيانية لما، ولا بد في الوجهين من تقدير المضاف، قيل: كانوا لم يسمعوا بقوم حل بهم العذاب قبلهم فكانوا آمنين غافلين لا يعلمون ما علمه نوح عليه السلام فهم أول قوم عذبوا على كفرهم أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ رد لما هو منشأ لقولهم: إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ والاستفهام للإنكار أي لم كان ذلك ولا داعي له. والواو للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام، ويقدر عند الزمخشري وأتباعه بين الهمزة وواو العطف كأنه قيل: استبعدتم وعجبتم. ومذهب سيبويه والجمهور أن الهمزة من جملة أجزاء المعطوف إلا أنها قدمت على العاطف تنبيها على أصالتها في التصدير. وضعف قول الأولين بما فيه من التكلف لدعوى حذف الجملة فإن قوبل بتقديم بعض المعطوف فقد يقال: إنه أسهل منه لأن المتجوز فيه أقل لفظا. وفيه تنبيه على أصالة شيء في شيء وبأنه غير مطرد في نحو «أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت» . وتحقيقه في محله و «أن جاءكم» بتقدير بأن لأن الفعل السابق يتعدى بها، والمراد بالذكر ما أرسل به كما قيل للقرآن ذكر ويفسر بالموعظة. ومن للابتداء والجار والمجرور متعلق بحاء أو بمحذوف وقع صفة لذكر أي ذكر كائن من مالك أموركم ومربيكم. عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ أي من جملتكم تعرفون مولده ومنشأه أو من جنسكم فمن تبعيضية أو بيانية كما قيل. و «على» متعلقة بجاء بتقدير مضاف أي على يد أو لسان رجل منكم أي بواسطته، وقيل: على بمعنى مع فلا حاجة إلى التقدير، وقيل: تعلقه به لأن معناه أنزل كما يشير إليه كلام أبي البقاء أو لأنه ضمن معناه. وجوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا من ذِكْرٌ أي نازلا على رجل منكم لِيُنْذِرَكُمْ علة للمجيء أي ليحذركم العذاب والعقاب على الكفر والمعاصي وَلِتَتَّقُوا عطف على «لينذركم» وكذا قوله تعالى: وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ على ما هو الظاهر فالمجيء معلل بثلاثة أشياء وليس من توارد العلل على معلول واحد الممنوع وبينها ترتب في نفس الأمر فإن الإنذار سبب للتقوى والتقوى سبب لتعلق الرحمة بهم، وليس في الكلام دلالة على سببية كل من الثلاثة لما بعده الجزء: 4 ¦ الصفحة: 391 ولو أريدت السببية لجيء بالفاء. وبعضهم اعتبر عطف لِتَتَّقُوا على لينذركم وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ على لتتقوا مع ملاحظة الترتيب أي لتتقوا بسبب الإنذار ولعلكم ترحمون بسبب التقوى والتأمل. وجيء بحرف الترجي على عادة العظماء في وعدهم أو للتنبيه على عزة المطلب وأن الرحمة منوطة بفضل الله تعالى فلا اعتماد إلا عليه فَكَذَّبُوهُ أي استمروا على تكذيبه وأصروا بعد أن قال لهم ما قال ودعاهم إلى الله تعالى ليلا ونهارا فَأَنْجَيْناهُ من الغرق، والإنجاء في الشعراء من قصد أعداء الله تعالى وشؤم ما أضمروه له عليه السلام وَالَّذِينَ مَعَهُ من المؤمنين. وكانوا على ما قيل: أربعين رجلا وأربعين امرأة. وقيل: كانوا عشرة أبناؤه الثلاثة وستة ممن آمن به عليه السلام، والفاء للسببية باعتبار الإغراق لا فصيحة، وقوله سبحانه وتعالى: فِي الْفُلْكِ أي السفينة متعلق بما تعلق به الظرف الواقع صلة أي استقروا معه في الفلك. وجوز أن يكون هو الصلة مَعَهُ متعلق بما تعلق به. وأن يكون متعلقا بأنجينا وفي ظرفية أو سببية. وأن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا من الَّذِينَ نفسه أو من ضميره وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي استمروا على تكذيبها، والمراد به ما يعم أولئك الملأ وغيرهم من المكذبين المصرّين. وتقديم الإنجاء على الإغراق للمسارعة إلى الإخبارية والإيذان بسبق الرحمة على الغضب إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ أي عمي القلوب عن معرفة التوحيد، والنبوة، والمعاد كما روي عن ابن عباس أو عن نزول العذاب بهم كما نقل عن مقاتل. وقرىء «عامين» والأول أبلغ لأنه صفة مشبهة فتدل على الثبوت وأصله عميين فخفف، وفرق بعضهم بين عم وعام بأن الأول لعمى البصيرة والثاني لعمى البصر. وأنشدوا قول زهير: واعلم علم اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما في غد عمي وقيل: هما سواء فيهما وَإِلى عادٍ متعلق بمضمر معطوف على أَرْسَلْنا فيما سبق وهو الناصب لقوله تعالى: أَخاهُمْ أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم، وقيل: لا إضمار والمجموع معطوف على المجموع السابق والعامل الفعل المتقدم. وغير الأسلوب لأجل ضمير أَخاهُمْ إذ لو أتى به على سنن الأول عاد الضمير على متأخر لفظا ورتبة. وعاد في الأصل اسم لأبي القبيلة ثم سميت به القبيلة أو الحي فيجوز فيه الصرف وعدمه كما ذكره سيبويه، وقوله تعالى: هُوداً بدل من أَخاهُمْ أو عطف بيان له. واشتهر أنه اسم عربي، وظاهر كلام سيبويه أنه أعجمي وأيد بما قيل. إن أول العرب يعرب. وهو هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح وعليه محمد بن إسحاق. وبعض القائلين بهذا قالوا: إن نوحا ابن عم أبي عاد، وقيل: ابن عوص بن ارم سام بن نوح، وقيل: ابن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن أرم به سام بن نوح عليه السلام. ومعنى كونه عليه السلام أخاهم أنه منهم نسبا وهو قول الكثير من النسابين. ومن لا يقول به يقول: إن المراد صاحبهم وواحد في جملتهم وهو كما يقال يا أخا العرب. وحكمة كون النبي يبعث إلى القوم منهم أنهم أفهم لقوله من قول غيره وأعرف بحاله في صدقه وأمانته وشرف أصله قالَ استئناف بياني كأنه قيل: فماذا قال لهم حين أرسل إليهم؟ فقيل: قال إلخ. ولم يؤت بالفاء كما أتي بها في قصة نوح لأن نوحا كان مواظبا على دعوة قومه غير مؤخر لجواب شبهتهم لحظة واحدة وهود عليه السلام لم يكن مبالغا إلى هذا الحد فلذا جاء التعقيب في كلام نوح ولم يجىء هنا. وذكر صاحب الفرائد في التفرقة بين القصتين أن قصة نوح عليه السلام ابتداء كلام فالسؤال غير مقتضى الحال وأما قصة هود فكانت معطوفة على قصة نوح فيمكن أن يقع في خاطر السامع أقال هود ما قال نوح أم قال غيره؟ فكان مظنة أن يسأل ماذا قال لقومه؟ فقيل: قال إلخ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 392 وقيل: اختير الفصل هنا لإرادة استقلال كل من الجمل في معناه حيث إن كفر هؤلاء أعظم من كفر قوم نوح من حيث إنهم علموا ما فعل الله تعالى بالكافرين وأصروا وقوم نوح لم يعلموا. ويدل على علمهم بذلك ما سيأتي في ضمن الآيات وفيه نظر. يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وجده كما يدل عليه قوله تعالى: ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ فإنه استئناف جار مجرى البيان للعبادة المأمور بها والتعليل لها أو للأمر كأنه قيل: خصوه بالعبادة ولا تشركوا به شيئا إذ ليس لكم إله سواه. وقرىء «غير» بالحركات الثلاث كالذي قبل أَفَلا تَتَّقُونَ إنكار واستبعاد لعدم اتقائهم عذاب الله تعالى بعد ما علموا ما حل بقوم نوح عليه السلام، وقيل: الاستفهام للتقرير والفاء للعطف، وقد تقدم الكلام فيه آنفا وفي سورة أَفَلا تَعْقِلُونَ [هود: 51] ولعله عليه السلام- كما قال شيخ الإسلام- خاطبهم بكل منهما واكتفى بحكاية كل منهما في موطن عن حكايته في موطن آخر كما لم يذكر هاهنا ما ذكر هناك من قوله إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ [هود: 50] وقس على ذلك حال بقية ما ذكروا ما لم يذكر من أجزاء القصة بل حال نظائره في سائر القصص لا سيما في المحاورات الجارية في الأوقات المتعددة. وقال غير واحد: إنما قيل هاهنا: أَفَلا تَتَّقُونَ وفيما تقدم من مخاطبة نوح عليه السلام قومه إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ لأن هؤلاء قد علموا بما حل بغيرهم من نظرائهم ولم يكن قبل واقعة قوم نوح عليه السلام واقعة، وقيل: لأن هؤلاء كانوا أقرب إلى الحق وإجابة الدعوة من قوم نوح عليه السلام وهذا دون إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إلخ في التخويف، ويرشد إلى ذلك ما تقدم مع قوله تعالى: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ حيث قيد هنا الملأ المعاند بمن كفر وأطلق هناك، وقد صرحوا بأن هذا الوصف لأنه لم يكن كلهم على الكفر بل من أشرافهم من آمن به عليه السلام كمرثد بن سعد الذي كان يكتم إيمانه ولا كذلك قوم نوح ومن آمن به عليه السلام منهم لم يكن من الأشراف كما هو الغالب في اتباع الرسل عليهم السلام، وقيل: إنه وقت مخاطبة نوح عليه السلام لقومه لم يكونوا آمنوا بخلاف قوم هود ومثله- كما قال الشهاب- يحتاج إلى نقل. واعترض المولى بهاء الدين على تلك التفرقة بين القومين بأنه قد جاء في سورة المؤمنين وصف قوم نوح بما وصف به قوم هود هنا فكيف تتأتى هذه التفرقة، وأجيب بأن الوصف هناك محمول على أنه للذم لا للتمييز وإنما لم يذم هاهنا للإشارة إلى التفرقة. وقال الطيبي: يمكن أن يقال: إن الوصف هنا للذم أيضا ومقتضى المقام يقتضي ذمهم لشدة عنادهم كما يدل عليه جوابهم بما حكاه الله تعالى من قولهم: إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ أي متمكنا في خفة عقل راسخا فيها حيث فارقت دين آبائك وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ حيث ادعيت الرسالة وهو أبلغ من كاذبا كما مرت الإشارة إليه. والظن إما على ظاهره كما قال الحسن والزجاج وإما بمعنى العلم كما قيل، وذلك لأنه قالوا ما قالوا ما قالوا مع كونه عليه السلام معروفا بينهم بضد ذلك ولا يقتضي ذم قوم نوح عليه السلام وحيث اقتضى في سورة المؤمنين ذمهم ذمهم لأنهم قالوا كما قصة سبحانه وتعالى هناك ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ [المؤمنون: 25] وقال بعضهم: إن الظاهر أن ما نقل هنا عن قوم نوح عليه السلام مقالتهم في مجلس أو مقالة بعضهم وما نقل في سورة المؤمنين مقالتهم في مجلس آخر أو مقالة آخرين فروعي في المقامين مقتضى كل من المقالتين قالَ عليه السلام مستعطفا لهم أو مستميلا لقلوبهم: يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ أي شيء منها فضلا عن تمكني فيها كما زعمتم وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ والرسالة من قبله تعالى تقتضي الاتصاف بغاية الرشد والصدق، ولم يصرح عليه السلام بنفي الكذب اكتفاء بما في حيز الاستدراك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 393 وقيل: الكذب نوع من السفاهة فيلزم من نفيها نفيه، ومِنْ لابتداء الغاية مجازا وهي متعلقة بمحذوف وقع صفة لرسول مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية. وقوله تعالى: أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي على طرز ما في قصة نوح عليه السلام. وقرأ أبو عمرو «أبلغكم» بالتخفيف من الأفعال وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ معروف بالنصح والأمانة مشهور بين الناس بذلك فما حقي أن أتهم بشيء مما ذكرتموه وعلى هذا لا يقدر للوصفين متعلق، ويحتمل تقديرهما أي ناصح لكم فيما أدعوكم إليه أمين على ما أقول لكم لا أكذب فيه، وعلى الأول- كما قال الطيبي- فالجملة مستأنفة وقعت معترضة، وعلى الثاني حالية، وفي العدول عن الفعلية إلى الاسمية ما لا يخفى. ولعل التعبير بها هنا وبالفعلية فيما تقدم لتجدد النصح من نوح دون هود عليهما السلام. أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ الكلام فيه الكلام في سابقه. وفي إجابة الأنبياء عليهم السلام من يشافههم من الكفرة بالكلمات الحمقاء بما حكي عنهم والإعراض عن مقابلتهم بمثل كلامهم كمال النصح والشفقة وهضم النفس وحسن المجادلة، وفي حكاية ذلك تعليم للعباد كيف يخاطبون السفهاء وكيف يغضون عنهم ويسلبون أذيالهم على ما يكون منهم، وفي الآية دلالة على جواز مدح الإنسان نفسه للحاجة إليه. وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ شروع في بيان ترتيب أحكام النصح والأمانة والإنذار وتفصيلها، وإذا على ما يفهم من كلام البعض وصرح به آخرون ظرف منصوب بآلاء المحذوف هنا بقرينة ما بعده لتضمنه معنى الفعل، واختار غير واحد تبعا للزمخشري أنه مفعول لا ذكروا أي اذكروا هذا الوقت المشتمل على هذا النعم الجسام، وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه مع أنه المقصود بالذات للمبالغة في إيجاب ذكره ولأنه إذا استحضر الوقت كان هو حاضرا بتفاصيله، وهذا مبني على الاتساع في الظرف أو أنه غير لازم للظرفية على خلاف المشهور عند النحويين، والواو للعطف وما بعده قيل: معطوف على قوله تعالى: اعْبُدُوا ولا يخفى بعده. وقال شيخ الإسلام: لعله معطوف على مقدر كأنه قيل: لا تعجبوا من ذلك أو تدبروا في أمركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ أي في مساكنهم أو في الأرض بأن جعلكم ملوكا فإن شداد بن عاد ممن ملك معمورة الأرض فالإسناد على هذا مجاز، وفي ذكر نوح على ما قيل إشارة إلى رفع التعجب يعني هذا الذي جئت به ليس ببدع فاذكروا نوحا وإرساله إلى قومه وإلى الوعيد والتهديد أي اذكروا إهلاك قومه لتكذيبهم رسول ربهم وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ أي الإبداع والتصوير أو في المخلوقين أي زادكم في الناس على أمثالكم بَصْطَةً قوة وزيادة جسم، قال الكلبي: كانت قامة الطويل منهم مائة ذراع وقامة القصير ستين ذراعا. وأخرج ابن عساكر عن وهب أنه قال: كانت هامة الرجل منهم مثل القبة العظيمة وعينه يفرخ فيها السباع، وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه قال: ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر ذراعا، وعن الباقر رضي الله تعالى عنه كانوا كأنهم النخل الطوال وكان الرجل منهم يأتي الجبل فيهدم منه بيده القطعة العظيمة. وأخرج عبد الله بن أحمد وابن أبي حاتم عن أبي هريرة إن كان الرجل منهم ليتخذ المصراع من الحجارة لو اجتمع عليه خمسمائة من هذه الأمة لم يستطيعوا أن يقلوه وإن كان أحدهم ليدخل قدمه في الأرض فتدخل فيها. وعن بعضهم أن أحدهم كان أطول من سائر الخلق بمقدار ما يمد الإنسان يده فوق رأسه باسطا لها فطول كل منهم قامة وبسطة وهذا أقرب عند ذوي العقول القصيرة عن إدراك يد القدرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 394 وأخرج إسحاق بن بشر وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هودا عليه السلام كان أصبحهم وجها وكان في مثل أجسامهم أبيض جعدا بادي العنفقة طويل اللحية صلّى الله عليه وسلّم، ونصب بَصْطَةً على أنه مفعول به للفعل قبله، وقيل: تمييز وفِي الْخَلْقِ متعلق بالفعل، وجوز أبو البقاء تعلقه بمحذوف وقع حالا من بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ أي نعمه سبحانه وتعالى وهي جمع- إلى- بكسر فسكون كحمل وإحمال أو- ألى- بضم فسكون كقفل وأقفال أو- إلى- بكسر ففتح مقصورا كمعى وأمعاء أو بفتحتين مقصورا كقفا وأقفاء وبهما ينشد قول الأعشى: أبيض لا يرهب الهزال ولا ... يقطع رحما ولا يخون إلا وقيل: إن ما في البيت إلا المشددة لكنها خففت ومعناها العهد وفيه بعد، وهذا تكرير للتذكير لزيادة التقرير وتعميم أثر تخصيص أي اذكروا الآلاء التي من جملتها ما تقدم لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لكي يفضي بكم ذكر النعم إلى شكرها الذي من جملته العمل بالأركان والطاعة المؤدي إلى النجاة من الكروب والفوز بالمطلوب وهذا لأن الفلاح لا يترتب على مجرد الذكر. ومن الناس من فسر ذكر الآلاء بشكرها وأمر الترتب عليه ظاهر. قالُوا مجيبين عن تلك النصائح العظيمة المتضمنة للإنذار على ما أشير إليه: أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ أي لنخصه بالعبادة وَنَذَرَ أي نترك ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا من الأوثان، وهذا إنكار واستبعاد لمجيئه عليه السلام بذلك ومنشؤه انهماكهم في التقليد والحب لما ألفوه ألفوا عليه أسلافهم، ومعنى المجيء إما مجيئه عليه السلام من مكان كان يتحنث فيه كما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يفعل بحراء قبل المبعث أو مجيئه من السماء أي أنزلت علينا من السماء ومرادهم التهكم والاستهزاء، وجاء ذلك من زعمهم أن المرسل من الله تعالى لا يكون إلا ملكا من السماء أو هو مجاز عن القصد إلى الشيء والشروع فيه فإن جاء، وقام، وقعد، وذهب- كما قال جماعة- تستعملها العرب لذلك تصويرا للحال فتقول قعد يفعل كذا وقام يشتمني وقعد يقرأ وذهب يسبني، ونصب وَحْدَهُ على الحالية، وهو عند جمهور النحويين ومنهم الخليل وسيبويه اسم موضوع موضع المصدر أعني إيحاد الموضوع موضع الحال أعني موحدا. واختلف هؤلاء فيما إذا قلت: رأيت زيدا وحده مثلا فالأكثرون يقدرون في حال إيجاد له بالرؤية فيجعلونه حالا من الفاعل، والمبرد يقدره في حال أنه مفرد بالرؤية فيجعله حالا من المفعول. ومنع أبو بكر بن طلحة جعله حالا من الفاعل وأوجب كونه حالا من المفعول لا غير لأنهم إذا أرادوا الحال من الفاعل قالوا رأيته وحدي ومررت به وحدي كما قال الشاعر: والذئب أخشاه إن مررت به ... وحدي وأخشى الرياح والمطرا وهذا الذي قاله في البيت صحيح ولا يمتنع من أجله أن يأتي الوجهان المتقدمان في رأيت زيدا وحده فإن المعنى يصح معهما، ومنهم من يقول: إنه مصدر موضوع موضع الحال ولم يوضع له فعل عند بعضهم. وحكى الأصمعي وحد يحد، وذهب يونس وهشام في أحد قوليه إلى أنه منتصب انتصاب الظروف فجاء زيد وحده في تقدير جاء على وحده ثم حذف الجار وانتصب على الظرف وقد صرح بعلى في كلام بعض العرب، وإذا قيل زيد وحده فالتقدير زيد موضع التفرد، ولعل القائل بما ذكر يقول: إنه مصدر وضع موضع الظرف. وعن البعض أنه في هذا منصوب بفعل مضمر كما يقال: زيد إقبالا وإدبارا هذا خلاصة كلامهم في هذا المقام، وإذا أحطت به خبرا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 395 فاعلم أن لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ في تقدير موحدين إياه بالعبادة عند سيبويه على أنه حال من الفاعل، والحاء في موحدين مكسورة وعلى رأي ابن طلحة موحدا هو والحاء مفتوحة وهو من أوحد الرباعي والتقدير على رأي هشام نعبد الله تعالى على انفراد وهو من وحد الثلاثي، والمعنى في التقادير الثلاثة لا يختلف إلا يسيرا، والكلام الذي هو فيه متضمن للإيجاب والسلب وله احتمالات نفيا وإثباتا وتفصيل ذلك في رسالة في مولانا تقي الدين السبكي المسماة بالرفدة في معنى وحده وفيها يقول الصفدي: خل عنك الرقدة وانتبه للرفدة ... تجن منها علما فاق طعم الشهدة وأراد- بما- في قوله تعالى: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا العذاب المدلول عليه بقوله تعالى: أَفَلا تَتَّقُونَ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ بالإخبار بنزوله، وقيل: بالإخبار بأنك رسول الله تعالى إلينا، وجواب «إن» محذوف لدلالة المذكور عليه أي فأت به قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ أي وجب وثبت. وأصل استعمال الوقوع في نزول الأجسام واستعماله هنا فيما ذكر مجاز من إطلاق السبب على المسبب. ويجوز أن يكون في الكلام استعارة تبعية والمعنى قد نزل عليكم، واختار بعضهم أن وَقَعَ بمعنى قضي وقدر لأن المقدرات تضاف إلى السماء وحرف الاستعلاء على ذلك ظاهر، وفي الكشف أن الوقوع بمعنى الثبوت وحرف الاستعلاء إما لأنه ثبوت قوي آكد ما يكون (1) واجبه أو لأنه ثبوت حسي لأمر نازل من علو وعذاب الله تعالى. موصوف بالنزول من السماء فتدبر. والتعبير بالماضي لتنزيل المتوقع منزلة الواقع كما في قوله تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النحل: 1] مِنْ رَبِّكُمْ أي من قبل مالك أمركم سبحانه وتعالى. والجار والمجرور قيل: متعلق بمحذوف وقع حالا مما بعد، والظاهر أنه متعلق بالفعل قبله، وتقديم الظرف الأول عليه مع أن المبدأ متقدم على المنتهى- كما قال شيخ الإسلام- للمسارعة إلى بيان إصابة المكروه لهم، وكذا تقديمهما على الفاعل وهو قوله تعالى: رِجْسٌ مع ما فيه من التشويق إلى المؤخر ولأن فيه نوع طول بما عطف عليه من قوله تعالى: وَغَضَبٌ فربما يخل تقديمهما بتجاوب النظم الكريم، والرجس العذاب وهو بهذا المعنى في كل القرآن عند ابن زيد من الارتجاس وهو الارتجاز بمعنى حتى قيل: إن أصله ذلك فأبدلت الزاي سينا كما أبدلت السين تاء في قوله: ألا لحى الله بني السعلات ... عمرو بن يربوع شرار النات ليسوا بإعفاف ولا أكيات فإنه أراد الناس وأكياس. وأصل معناه الاضطراب ثم شاع فيما ذكر لاضطراب من حل به، وعليه فالعطف في قوله: إذا سنة كانت بنجد محيطة ... وكان عليهم رجسها وعذابها للتفسير والغضب عند كثير بمعنى إرادة الانتقام. وعن ابن عباس أنه فسر الرجس باللعنة والغضب بالعذاب وأنشد له البيت السابق وفيه خفاء. والذاهبون إلى ما تقدم إنما لم يفسروه بالعذاب لئلا يتكرر مع ما قبله، ولا يبعد أن يفسر «الرجس» بالعذاب والغضب باللعن والطرد على عكس ما نسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ويكون في الكلام حينئذ إشارة إلى حالهم في الأولى والأخرى. ويمكن إرجاع ما ذكره الكثير من المفسرين إلى هذا وإلا فالظاهر أنه لا لطافة في قولك: وقع عليهم عذاب وإرادة انتقام على ظاهر كلامهم. وأيا ما كان فالتنوين للتفخيم والتهويل   (1) قوله واجبة كذا بخط المؤلف وتأمل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 396 أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ إنكار واستقباح لإنكارهم مجيئه عليه السلام داعيا لهم إلى عبادة الله تعالى وحده وترك ما كان يعبد آباؤهم من الأصنام. والأسماء عبارة عن تلك الأصنام الباطلة. وهذا كما يقال لما لا يليق ما هو إلا مجرد اسم. والمعنى أتخاصمونني في مسميات وضعتم لها أسماء لا تليق بها فسميتموها آلهة من غير أن يكون فيها من مصداق الإلهية شيء ما لأن المستحق للمعبودية ليس إلا من أوجد الكل وهي بمعزل عن إيجاد ذرة وأنها لو استحقت لكان ذلك بجعله تعالى إما بإنزال آية أو نصب حجة وكلاهما مستحيل وذلك قوله تعالى: ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أي حجة ودليل وحيث لم يكن ذلك في حيز الإمكان تحقق بطلان ما هم عليه. والذم الذي يفهمه الكلام متوجه إلى التسمية الخالية عن المعنى المشحونة بمزيد الضلالة والغواية والافتراء العظيم، وقيل: إنهم سموها خالقة ورازقة ومنزلة المطر ونحو ذلك. والضمير المنصوب في سَمَّيْتُمُوها راجع لأسماء وهو- على ما قيل- المفعول الأول والمفعول الثاني محذوف حسبما أشير إليه. وقيل: المفعول الأول محذوف والضمير هو المفعول الثاني والمراد سميتم أصنامكم بها. وقيل: المراد من سميتموها وصفتموها فلا حاجة له إلى مفعولين، وحمل الآية على ما ذكر أولا في تفسيرها هو الذي اختاره جمع وجوز بعضهم أن يكون الكلام على حذف مضاف أي أتجادلونني في ذوي أسماء. وادعى آخرون جواز أن يكون فيه صنعة الاستخدام. واستدل بالآية من قال إن الاسم عين المسمى. ومن قال: إن اللغات توقيفية إذ لو لم تكن كذلك لم يتوجه الإنكار والإبطال بأنها أسماء مخترعة لم ينزل الله تعالى بها سلطانا، ولا يخفى عليك ما في ذلك من الضعف. فَانْتَظِرُوا نزول العذاب الذي طلبتموه بقولكم: «فأتنا بما تعدنا» لما وضح الحق وأنت مصرون على العناد والجهالة إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ لنزوله بكم. والفاء في «فانتظروا» للترتيب على ما تقدم وفي قوله تعالى: فَأَنْجَيْناهُ فصيحة أي فوقع ما وقع فأنجيناه وَالَّذِينَ مَعَهُ أي متابعيه في الدين بِرَحْمَةٍ عظيمة لا يقادر قدرها مِنَّا أي من جهتنا والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع نعتا لرحمة مؤكدا لفخامتها على ما تقدم غير مرة وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا كناية عن الاستئصال. والدابر الآخر أي أهلكناهم بالكلية ودمرناهم عن آخرهم. واستدل به بعضهم على أنه لا عقب لهم. ما كانُوا مُؤْمِنِينَ عطف على كَذَّبُوا داخل معه في حكم الصلة أي أصروا على الكفر والتكذيب ولم يرعووا عن ذلك أصلا. وفائدة هذا النفي عند الزمخشري التعريض بمن آمن منهم. وبيانه- على ما قال الطيبي- إنه إذا سمع المؤمن أن الهلاك اختص بالمكذبين وعلم أن سبب النجاة هو الإيمان تزيد رغبته فيه ويعظم قدره عنده، ونظيره في اعتبار شرف الإيمان الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ [غافر: 7] الآية، وقال بعضهم: فائدة ذلك بيان أنه كان المعلوم من حالهم أنه سبحانه لو لم يهلكهم ما كانوا ليؤمنوا كما قال جل شأنه في آية أخرى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا [يونس: 13] فهو كالعذر عن عدم إمهالهم والصبر عليهم. وسر تقديم حكاية الإنجاء على حكاية الإهلاك يعلم مما تقدم. وقصتهم- على ما ذكره السدي ومحمد بن إسحاق. وغيرهما- أن عادا قوم كانوا بالأحقاف وهي رمال بين عمان وحضرموت وكانوا قد فشوا في الأرض كلها وقهروا أهلها وكانت لهم أصنام يعبدونها وهي: صداء، وصمود، والهباء فبعث الله تعالى إليهم هودا عليه السلام نبيا وهو من أوسطهم نسبا وأفضلهم حسبا فأمرهم بالتوحيد والكف عن الظلم فكذبوه وازدادوا عتوا وتجبرا وقالوا: من أشد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 397 منا قوة فأمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين حتى جهدهم ذلك وكان الناس إذ ذاك إذا نزل بهم بلاء طلبوا رفعه من الله تعالى عند بيته الحرام مسلمهم ومشركهم، وأهل مكة يومئذ العمالقة أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح وسيدهم معاوية بن بكر وكانت أمه كهلدة من عاد فجهزت عاد إلى الحرم من أماثلهم سبعين رجلا منهم قيل بن عنز ولقيم بن هزال، ولقمان بن عاد الأصغر، ومرثد بن سعد الذي كان يكتم إسلامه، وجلهمة خال معاوية بن بكر فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية وكان خارجا من الحرم فأنزلهم وأكرمهم إذ كانوا أحواله وأصهاره فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم قينتان لمعاوية اسم إحداهما وردة والأخرى جرادة ويقال لهما: الجرادتان على التغليب فلما رأى طول مقامهم وذهولهم باللهو عما قدموا له شق ذلك عليه وقال: هلك أصهاري وأخوالي وهؤلاء على ما هم عليه وكان يستحي أن يكلمهم خشية أن يظنوا به ثقل مقامهم عنده فشكا ذلك لقينتيه فقالتا: هل شعرا نغنيهم به ولا يدرون من قاله لعل ذلك أن يحركهم فقال: ألا يا قيل ويحك قم فهينم ... لعل الله يسقينا غماما فتسقى أرض عاد إن عادا ... قد أمسوا ما يبينون الكلاما من العطش الشديد فليس نرجو ... به الشيخ الكبير ولا الغلاما وقد كانت نساؤهم بخير ... فقد أمست نساؤهم عياما وإن الوحش تأتيهم جهارا ... ولا تخشى لعادي سهاما وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم ... نهاركم وليلكم التماما فقبح وفدكم من وفد قوم ... ولا لقوا التحية والسلاما فلما غنتا بذلك قال بعضهم لبعض: يا قوم إنما بعثكم قومكم يتغوثون بكم من البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم فادخلوا هذا الحرم واستسقوا لقومكم فقال مرثد بن سعد: والله لا تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم وأنبتم إلى ربكم سقيتم فأظهر إسلامه عند ذلك وقال: عصت عاد رسولهم فأمسوا ... عطاشا ما تبلهم السماء لهم صنم يقال له صمود ... يقابله صداء والهباء فبصرنا الرسول سبيل رشد ... فأبصرنا الهدى وخلا العماء وإن إله هود هو إلهي ... على الله التوكل والرجاء فقالوا لمعاوية: أحبسن عنا مرثدا فلا يقدمن معنا مكة فإنه قد اتبع دين هود وترك ديننا ثم دخلوا مكة يستسقون فخرج مرثد من منزل معاوية حتى أدركهم قبل أن يدعوا بشيء مما خرجوا له فلما انتهى إليهم قام يدعو الله تعالى ويقول: اللهم سؤلي وحدي فلا تدخلني في شيء مما يدعوك به وفد عاد وكان قيل رأس الوفد فدعا وقال: اللهم اسق عادا ما كنت تسقيهم وقال القوم: اللهم أعط قيلا ما سألك واجعل سؤلنا مع سؤله فأنشأ الله تعالى سحائب ثلاثا بيضاء، وحمراء، وسوداء ثم نادى مناد من السماء: يا قيل اختر لنفسك ولقومك من هذه السحائب ما شئت قيل وكذلك يفعل الله تعالى بمن دعاه إذ ذاك فقال قيل: اخترت السوداء فإنها أكثرهن ماء. فناداه مناد اخترت رمادا رمدا لا تبقي من آل عاد أحدا وساق الله تعالى تلك السحابة بما فيها من النقمة إلى عاد حتى خرجت عليهم من واد يقال له المغيث فلما رأوها استبشروا وقالوا: هذا عارض ممطرنا فجاءتهم منا ريح عقيم، وأول من رأى ذلك امرأة منهم يقال لها مهدر ولما رأته صفقت فلما أفاقت قالوا: ما رأيت قالت: رأيت ريحا فيها كشهب النار أمامها رجال يقودونها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 398 فسخرها الله تعالى عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فلم تدع منهم أحدا إلا أهلكته واعتزل هود عليه السلام ومن معه في حظيرة ما يصيبهم من الريح إلا ما تلين به الجلود وتلتذ به الأنفس، ثم إنه عليه السلام أتى هود ومن معه مكة فعبدوا الله تعالى فيها إلى أن ماتوا وقبره عليه السلام قيل هناك في البقعة التي بين الركن والمقام وزمزم، وفيها- كما أخرج ابن عساكر عن عبد الرحمن بن سابط- قبور تسعة وسبعين نبيا منهم أيضا نوح، وشعيب، وصالح، وإسماعيل عليهم السلام، وأخرج البخاري في تاريخه، وابن جرير وغيرهما عن علي كرم الله تعالى وجهه أن قبره عليه السلام بحضرموت في كثيب أحمر عند رأسه سدرة، وأخرج ابن عساكر عن ابن أبي العاتكة قال: قبلة مسجد دمشق قبر هود عليه السلام، وعمر كما أخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أربعمائة واثنتين وسبعين سنة والله تعالى أعلم. ومن باب الإشارة في الآيات: على ما قاله القوم رضي الله تعالى عنهم إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ أي سماوات الأرواح وَالْأَرْضَ أي أرض الأبدان فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وهي ستة آلاف سنة وإن يوما عند ربكم كألف سنة مما تعدون وهي من لدن خلق آدم عليه السلام إلى زمان النبي صلّى الله عليه وسلّم وهي في الحقيقة من ابتداء دور الخفاء إلى ابتداء الظهور الذي هو زمان ختم النبوة وظهور الولاية ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وهو القلب المحمدي بالتجلي التام وهو التجلي باسمه تعالى الجامع لجميع الصفات. وللصوفية عدة عروش نبهنا عليها في كتابنا- الطراز المذهب في شرح قصيدة الباز الأشهب-. وتمام الكلام عليها في شمس المعارف للإمام البوني قدس سره يُغْشِي اللَّيْلَ أي ليل البدن النَّهارَ أي نهار الروح يَطْلُبُهُ بالتهيؤ والاستعداد لقبوله باعتدال مزاجه حَثِيثاً أي سريعا وَالشَّمْسَ أي شمس الروح وَالْقَمَرَ أي قمر القلب وَالنُّجُومَ أي نجوم الحواس مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ الذي هو الشأن المذكور في قوله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ادْعُوا رَبَّكُمْ أي اعبدوه تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إشارة إلى طريق الجلوة والخلوة أو ادعوه بالجوارح والقلب أو بأداء حق العبودية ومطالب حق الربوبية إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ المتجاوزين عما أمروا به بترك الامتثال أو الذين يطلبون منه سواه وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ أي أرض البدن بَعْدَ إِصْلاحِها بالاستعداد وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً لئلا يلزم إهمال إحدى صفتي الجلال والجمال وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ أي رياح العناية بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي تجلياته حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ حملت سَحاباً ثِقالًا بأمطار المحبة سُقْناهُ لِبَلَدٍ قلب مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ ماء المحبة فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ من المشاهدات والمكاشفات كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى القلوب الميتة من قبور الصدور لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أيام حياتكم في عالم الأرواح حيث كنتم في رياض القدس وحياض الأنس وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ وهو ما طاب استعداده يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ حسنا غزيرا نفعه وَالَّذِي خَبُثَ وهو ما ساء استعداده لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً لأخير فيه لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً أي نوح الروح إِلى قَوْمِهِ من القلب وأعوانه والنفس وأعوانها فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ كالقلب وأعوانه فِي الْفُلْكِ وهو سفينة الاتباع وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا في بحار الدنيا ومياه الشهوات إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ عن طريق الوصول ورؤية الله تعالى، وعلى هذا المنوال ينسج الكلام في باقي الآيات. ولمولانا الشيخ الأكبر قدس سره في هؤلاء القوم ونحوهم كلام تقف الأفكار دونه حسرى فمن أراده فليرجع إلى الفصوص يرى العجب العجاب والله تعالى الهادي إلى سبيل الرشاد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 399 وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً عطف على ما سبق من قوله تعالى: «وإلى عاد أخاهم» موافق له في تقديم المجرور على المنصوب، وثَمُودَ قبيلة من العرب كانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وسميت باسم أبيهم الأكبر ثمود بن عامر بن إرم بن سام بن نوح، وقيل: ابن عاد بن عوص بن إرم إلخ وهو المنقول عن الثعلبي. وقال عمرو بن العلاء: إنما سموا بذلك لقلة مائهم فهو من ثمد الماء إذا قل، والثمد الماء القليل وورد فيه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 400 الصرف وعدمه، أما الأول فباعتبار الحي أو لأنه لما كان في الأصل اسما للجد أو للقليل من الماء كان مصروفا لأنه علم مذكر أو اسم جنس فبعد النقل حكى أصله، وأما الثاني فباعتبار أنه اسم القبيلة ففيه العلمية والتأنيث. وصالح عليه السلام من ثمود فالأخوة نسبية، وهو على ما قال محيي السنة البغوي بن عبيد بن أسف بن ماشح ابن عبيد بن حاذر بن ثمود وهو أخو طسم. وجديس فيما قيل، وقال وهب: هو ابن عبيد بن جابر بن ثمود بن جابر بن سام بن نوح بعث إلى قومه حين راهق الحلم وكان رجلا أحمر إلى البياض سبط الشعر فلبث فيهم أربعين عاما. وقال الشامي: إنه بعث شابا فدعا قومه حتى شمط وكبر، ونقل النووي أنه أقام فيهم عشرين سنة ومات بمكة وهو ابن ثمان وخمسين سنة. قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قد مر الكلام في نظائره قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ أي آية ومعجزة ظاهرة الدلالة شاهدة بنبوتي وهي من الألفاظ الجارية مجرى الأبطح والأبرق في الاستغناء عن ذكر موصوفاتها حالة الأفراد والجمع، والتنوين للتفخيم أي بينة عظيمة مِنْ رَبِّكُمْ متعلق بمحذوف وقع صفة لبينة على ما مر غير مرة أو بجاءتكم، ومِنْ لابتداء الغاية مجازا أو للتبعيض أن قدر من بينات ربكم، والمراد بهذه البينة الناقة وليس هذا الكلام منه عليه السلام أول ما خاطبهم به إثر الدعوة إلى التوحيد بل إنما قاله بعد ما نصحهم وذكرهم بنعم الله تعالى فلم يقبلوا كلامه وكذبوه كما ينبىء عن ذلك ما في سورة هود. وقوله تعالى: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً استئناف نحوي مسوق لبيان البينة والمعجزة وجوز أن يكون استئنافا بيانيا جوابا لسؤال مقدر تقديره أين هي؟ وعلى التقديرين لا محل للجملة من الإعراب. وجوز أن يكون بدلا من بَيِّنَةٌ بدل جملة من مفرد للتفسير. ولا يخفى بعده، وإضافة الناقة إلى الاسم الجليل لتعظيمها كما يقال: بيت الله للمسجد بيد أن الإضافة فيه لأدنى ملابسة ولا كذلك ما نحن فيه أو لأنها ليست بواسطة نتاج معتاد وأسباب معهودة كما سيتضح إن شاء الله تعالى لك ولذلك كانت آية وأي آية. وقيل: لأنها لم يملكها أحد سواه سبحانه. وقيل: لأنها كانت حجة الله على قوم صالح. وانتصاب آيَةً على الحالية من ناقَةُ والعامل فيها معنى الإشارة وسماه النحاة العامل المعنوي ولَكُمْ بيان لمن هي آية له كما في سقيا لك فيتعلق بمقدر. وجوز أن يكون ناقَةُ بدل من هذِهِ أو عطف بيان له أو مبتدأ ثانيا ولَكُمْ خبرا فآية حينئذ حال من الضمير المستتر فيه والعامل هو أو متعلقة فَذَرُوها تفريغ على كونها آية من آيات الله تعالى. وقيل: على كونها ناقة له سبحانه فإن ذلك مما يوجب عدم التعرض لها أي فاتركوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ العشب وحذف للعلم به والفعل مجزوم لأنه جواب الأمر. وقرأ أبو جعفر في رواية عنه تَأْكُلْ بالرفع فالجملة حالية أي أكلة. والجار والمجرور متعلق بما عنده أو بالأمر السابق فهما متنازعان. وأضيفت الأرض إلى الله سبحانه قطعا لعذرهم في التعرض كأنه قيل: الأرض أرض الله تعالى والناقة ناقة الله تعالى فذروا ناقة الله تأكل في أرضه فليست الأرض لكم ولا ما فيها من النبات من أنباتكم فأي عذر لكم في منعها. وعدم التعرض للشرب للاكتفاء عنه بذكر الأكل. وقيل: لتعميمه له أيضا كما في قوله: علفتها تبنا وماء باردا وقد ذكر ذلك بقوله سبحانه: لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الشعراء: 155] وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ نهي عن المس الذي هو مقدمة الإصابة بالشر الشامل لأنواع الأذى مبالغة في الزجر فهو كقوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ [الأنعام: 152، الإسراء: 34] . والجار والمجرور متعلق بالفعل. والتنكير للتعميم أي لا تتعرضوا لها بشيء مما يسوؤها أصلا كالطرد والعقر وغير ذلك. وقيل: الجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل الفعل. والمعنى لا تمسوها مع قصد السوء بها فضلا عن الإصابة فهو كقوله تعالى: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النساء: 43] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 401 فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ منصوب في جواب النهي. والمعنى لا تجمعوا بين المس وأخذ العذاب إياكم. والأخير وإن لم يكن من صنيعهم حقيقة لكن لتعاطيهم أسبابه كأنه من صنيعهم. وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ أي خلفاء في الأرض أو خلفاء لهم قيل: ولم يقل: خلفاء عاد مع أنه أخصر إشارة إلى أن بينهما زمانا طويلا وَبَوَّأَكُمْ أي أنزلكم وجعل لكم مباءة فِي الْأَرْضِ أي أرض الحجر بين الحجاز والشام تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً أي تبنون في سهولها مساكن رفيعة. فمن بمعنى في كما في قوله تعالى: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الجمعة: 9] ويجوز أن تكون ابتدائية أو تبعيضية أي تعملون القصور من مادة مأخوذة من السهل كاللبن والآجر المتخذين من الطين- والجار والمجرور- على ما قال أبو البقاء- يجوز أن يتعلق بمحذوف وقع حالا مما بعده. وأن يكون مفعولا ثانيا لتتخذون. وأن يكون متعلقا به وهو متعد لواحد. والسهل خلاف الحزن وهو موضع الحجارة والجبال. والجملة استئناف مبين لكيفية التبوئة فإن هذا الاتخاذ بأقداره سبحانه وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ أي تنجرونها، والنحت معروف في كل صلب ومضارعه مكسور الحاء. وقرأ الحسن بالفتح لحرف الحلق، وفي القاموس عنه أنه قرأ «تنحاتون» بالإشباع كينباع، وانتصاب الْجِبالَ على المفعولية، وقوله سبحانه: بُيُوتاً نصب على أنه حال مقدرة منها لأنها لم تكن حال النحت بيوتا كخطت الثوب جبة، والحالية- كما قال الشهاب- باعتبار أنها بمعنى مسكونة إن قيل بالاشتقاق فيها، وقيل: انتصاب الْجِبالَ ينزع الخافض أي من الجبال، ويرجحه أنه وقع في آية أخرى كذلك، ونصب بُيُوتاً على المفعولية، وجوز أن يضمن النحت معنى الاتخاذ فانتصابهما على المفعولية. روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم اتخذوا القصور في السهول ليصيفوا فيها ونحتوا من الجبال بيوتا ليشتّوا فيها، وقيل: إنهم نحتوا الجبال بيوتا لطول أعمارهم وكانت الأبنية تبلى قبل أن تبلى أعمارهم فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ أي نعمه التي أنعم بها عليكم مما ذكر أو جميع نعمه ويدخل فيها ما ذكر دخولا أوليا، وليس المراد مجرد الذكر باللسان كما علمت. وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ فإن حق آلائه تعالى أن تشكروا ولا يغفل عنها فكيف بالكفر، والعثي الإفساد فمفسدين حال مؤكدة كما في وَلَّوْا مُدْبِرِينَ قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ [النمل: 80، والروم: 52] أي الأشراف الذين عتوا وتكبروا، والجملة استئناف كما مر غيره مرة. وقرأ ابن عامر «وقال» بالواو عطفا على ما قبله من قوله تعالى: قالَ يا قَوْمِ إلخ، واللام في قوله سبحانه: لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أي عدوا ضعفاء أذلاء للتبليغ كما في أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ [البقرة: 33، يوسف: 96، القلم: 28] ، وقوله تعالى: لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل من الموصول بإعادة العامل بدل الكل من الكل كقولك مررت بزيد بأخيك. والضمير المجرور راجع إلى قومه. وجوز أن يكون بدل بعض من كل على أن الضمير للذين استضعفوا فيكون المستضعفون قسمين مؤمنين وكافرين، ولا يخفى بعده، والاستفهام في قوله جل شأنه. أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ للاستهزاء لأنهم يعلمون أنهم عالمون بذلك ولذلك لم يجيبوهم على مقتضى الظاهر كما حكى سبحانه عنهم بقوله: قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ فإن الجواب الموافق لسؤالهم نعم أو نعلم أنه مرسل منه تعالى. ومن هنا قال غير واحد إنه من الأسلوب الحكيم فكأنهم قالوا: العلم بإرساله وبما أرسل به ما لا كلام فيه ولا شبهة تدخله لوضوحه وإنارته وإنما الكلام في وجوب الإيمان به فنخبركم أنا به مؤمنون. واختار في الانتصاف أن ذلك ليس إخبارا عن وجوب الإيمان به بل عن امتثال الواجب فإنه أبلغ من ذلك فكأنهم قالوا: العلم بإرساله وبوجوب الإيمان به لا نسئل عنه وإنما الشأن في امتثال الواجب والعمل به ونحن قد امتثلنا قالَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 402 الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا استئناف كما تقدم، وأعيد الموصول مع صلته مع كفاية الضمير إيذانا بأنهم قالوا ما قالوه بطريق العتو والاستكبار إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ عدول عن مقتضى الظاهر أيضا وهو أنا بما أرسل به كافرون، وفائدته- كما قالوا- الرد جعله المؤمنون معلوما وأخذوه مسلما كأنهم قالوا: ليس ما جعلتموه معلوما مسلما من ذلك القبيل، وقال في الانتصاف: عدلوا عن ذلك حذرا مما في ظاهره من إثابتهم لرسالته وهم يجحدونها، وليس هذا موضع التهكم ليكون كقول فرعون إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون فإن الغرض إخبار كل واحد من المؤمنين والمكذبين عن حاله فلذا خلص الكافرون قولهم عن إشعار الإيمان بالرسالة احتياطا للكفر وغلوا في الإصرار فَعَقَرُوا النَّاقَةَ أن نحروها. قال الأزهري: أصل العقر عند العرب قطع عرقوب البعير ثم استعمل في النحر لأن ناحر البعير يعقره ثم ينحره وإسناده إلى الكل مع أن المباشر البعض مجاز لملابسة الكل لذلك الفعل لكونه بين أظهرهم وهم متفقون على الضلال والكفر أو لرضا الكل به أو لأمرهم كلهم به كما ينبىء عنه قوله تعالى: فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ [القمر: 29] ، وقيل: إن العقر مجاز لغوي عن الرضا بالنسبة إلى غير فاعله وليس بشيء. وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ أي استكبروا عن امتثاله وهو ما بلغهم صالح عليه السلام من الأمر السابق فالأمر واحد الأوامر، وجوز أن يكون واحد الأمور أي استكبروا عن شأن الله تعالى ودينه وهو بعيد. وأوجب بعضهم على الأول أن يضمن عَتَوْا معنى التولي أي تولوا عن امتثال أمره عاتين أو معنى الإصدار أي صدر عتوهم عن أمرهم ربهم وبسببه لأنه تعالى لما أمرهم بقوله: فَذَرُوها إلخ ابتلاهم فما امتثلوا فصاروا عاتين بسببه ولولا الأمر ما ترتب العقر والداعي للتأول بتولوا أو صدر أن عتا لا يتعدى بعن فتعديته به لذلك كما في قوله تعالى: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف: 82] وبعضهم لا يقول بالتضمين بناء على أن عتا بمعنى استكبر كما في القاموس وهو يتعدى بعن فافهم وَقالُوا مخاطبين له عليه السلام بطريق التعجيز والإفحام على زعمهم الفاسد: يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب وأطلق للعلم به إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فإن كونك منهم يقتضي صدق ما تقول من الوعد والوعيد فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قال الفراء والزجاج: أي الزلزلة الشديدة. وقال مجاهد والسدي: هي الصيحة، وجمع بين القولين بأنه يحتمل أنه أخذتهم الزلزلة من تحتهم والصيحة من فوقهم، وقال بعضهم: الرجفة خفقان القلب واضطرابه حتى ينقطع، وجاء في موضع آخر الصيحة وفي آخر بالطاغية ولا منافاة بين ذلك كما زعم بعض الملاحدة فإن الصيحة العظيمة الخارقة للعادة حصل منها الرجفة لقلوبهم ولعظمها وخروجها عن الحد المعتاد تسمى الطاغية لأن الطغيان مجاوزة الحد، ومنه قوله تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ أو يقال: إن الإهلاك بذلك بسبب طغيانهم وهو معنى بالطاغية وهذا الأخذ ليس أثر ما قالوا ما قالوا بل بعد ما جرى عليهم ما جرى من مبادئ العذاب في الأيام الثلاث كما ستعلمه إن شاء الله تعالى والفاء لا تأبى ذلك. فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ هامدين موتى لا حراك بهم، وأصل الجثوم البروك على الركب. وقال أبو عبيدة: الجثوم للناس والطير بمنزلة البروك للإبل فجثوم الطير هو وقوعه لاطئا بالأرض في حال سكونه بالليل، وأصبح يحتمل أن تكون تامة فجاثمين حال وأن تكون ناقصة فجاثمين خبر، والظرف على التقديرين متعلق به. وقيل: وهو خبر وجاثِمِينَ حال وليس بشيء لإفضائه إلى كون الإخبار بكونهم في دارهم مقصودا بالذات، والمراد من الدار البلد كما في قولك دار الحرب ودار الإسلام وقد جمع في آية آخري بإرادة منزل كل واحد الخاص به، وذكر النيسابوري أنه حيث ذكرت الرجفة وجدت الدار وحيث ذكرت الصيحة جمعت لأن الصيحة كانت من السماء كما في غالب الروايات لا من الأرض كما قبل فبلوغها أكثر وأبلغ من الزلزلة فقرن كل منهما بما هو أليق به فتدبر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 403 فَتَوَلَّى عَنْهُمْ بعد أن جرى عليهم ما جرى على ما هو الظاهر مغتما متحسرا على ما فاتهم من الإيمان متحزنا عليهم وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ بالترغيب والترهيب ولم آل جهدا فلم يجد نفعا ولم تقبلوا مني. وصيغة المضارع في قوله سبحانه: وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ حكاية حال ماضية أي شأنكم الاستمرار على بغض الناصحين وعداوتهم، وخطابه عليه السلام لهم كخطاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قتلى المشركين حين ألقوا في قليب بدر حين نادى يا فلان بأسمائهم إنا وجدنا ما عدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم وذلك مبني على أن الله تعالى برد أرواحهم إليهم فيسمعون وذلك مما خص به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ويحتمل أنه عليه السلام ذكر ذلك على سبيل التحزن والتحسر كما تخاطب الديار والأطلال، وجوز عطف فَتَوَلَّى على فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فيكون الخطاب لهم حين أشرفوا على الهلاك لكنه خلاف الظاهر، وأبعد من ذلك ما قيل إن الآية على التقديم والتأخير فتقديرها: فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين. وقصة ثمود على ما ذكر ابن إسحاق. وغيره أن عادا لما هلكوا عمرت ثمود بعدها واستخلفوا في الأرض وعمروا حتى جعل أحدهم يبني المسكن من المدر فينهدم والرجل حي فلما رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتا وكانوا في سعة من معاشهم فعتوا في الأرض وعبدوا غير الله تعالى فبعث الله تعالى إليهم صالحا وكانوا قوما عربا وكان صالح عليه السلام من أوسطهم نسبا وبعث إليهم وهو شاب فدعاهم إلى الله تعالى حتى شمط وكبر ولم يتبعه منهم إلا قليل مستضعفون فلما ألح عليهم بالدعاء والتخويف سألوه أن يريهم آية تصدق ما يقول فقال لهم: أية آية تريدون؟ فقالوا: تخرج غدا معنا إلى عيدنا وكان لهم عيد يخرجون فيه بأصنامهم فتدعو إلهك وندعوا آلهتنا فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا فقال لهم صالح: نعم فخرجوا وخرج معهم فدعوا أوثانهم وسألوها أن لا يستجاب لصالح في شيء مما يدعو به ثم قال جندع بن عمرو بن حراش وهو يومئذ سيد ثمود: يا صالح أخرج لنا من هذه الصخرة- الصخرة منفردة ناحية الحجر يقال لها الكاثبة- ناقة مخترجة أي تشاكل البخت أو مخرجة على خلقة الجمل جوفاء وبراء فإن فعلت صدقناك وآمنا بك فأخذ عليهم صالح مواثيقهم لئن فعلت لتصدقني ولتؤمنن بي قالوا: نعم فصلى ركعتين ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله تعالى عظما وهم ينظرون ثم نتجت ولدا مثلها في العظم فآمن به جندع ورهط من قومه وأراد أشرافهم أن يؤمنوا به فمنعهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد والحباب صاحب أوثانهم ورباب بن صعر كاهنهم فلما خرجت الناقة قال لهم: هذه ناقة الله لها شرب ولكم شرب يوم معلوم فمكثت الناقة ومعها سقبها في أرضهم ترعى الشجر وتشرب الماء وكانت ترده غبا فإذا كان يومها وضعت رأسها في بئر في الحجر يقال له الآن بئر الناقة فما ترفع رأسها حتى تشرب كل ما فيها ثم ترفع رأسها وتتفحج لهم فيحلبون ما شاؤوا من اللبن فيشربون ويدخرون ثم تصدر من غير الفج الذي وردت منه لا تقدر تصدر من حيث ترد لضيقه عنها حتى إذا كان الغد يومهم فيشربون ما شاؤوا ويدخرون ما شاؤوا ليوم الناقة ولم يزالوا في سعة ورغد وكانت الناقة تصيف إذا كان الحر بظهر الوادي فتهرب منها مواشيهم وتهبط إلى بطن الوادي في حره وجدبه وتشتو في بطن الوادي فتهرب مواشيهم إلى ظهره في برد وجدب فأضر ذلك بمواشيهم للأمر الذي يريده الله تعالى بهم والبلاء والاختبار فكبر ذلك عليهم فعتوا عن أمر ربهم فأجمعوا على عقرها وكانت امرأتان من ثمود يقال لأحداهما عنيزة بنت غنم بن مجلز وتكنى بأم غنم وكانت امرأة ذؤاب بن عمرو وكانت عجوزا مسنة ذات بنات حسان وذات مال من إبل، وبقر، وغنم ويقال للأخرى: صدوق بنت المختار وكانت جميلة غنية ذات مواش كثيرة وكانت من أشد الناس عداوة لصالح: عليه السلام وكانتا يحبان عقر الناقة لما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 404 أضرت من مواشيهما فدعت صدوق رجلا يقال له الحباب لعقر الناقة وعرضت عليه نفسها إن هو فعل فأبى فدعت ابن عم لها يقال له مصدع ابن مهرج وجعلت له نفسها إن هو فعل فأجابها إلى ذلك ودعت عنيزة أم غنم قدار بن سالف وكان رجلا أحمر أزرق قصيرا يزعمون إنه لزانية ولم يكن لسالف لكنه ولد على فراشه فقالت: أعطيك أي بناتي شئت على أن تعقر الناقة وكان عزيزا منيعا في قومه فرضي وانطلق وهو ومصدع فاستغويا غواة ثمود فاتبعهم سبعة فكانوا تسعة رهط فانطلقوا ورصدوا الناقة حتى صدرت عن الماء وقد كمن لها قدار في أصل صخرة على طريقها وكمن لها مصدع في أصل أخرى فمرت على مصدع فرماها بسهم فانتظم به عضلة ساقها وخرجت أم غنم فأمرت إحدى بناتها وكانت من أحسن الناس وجها فسفرت عن وجهها ليراها قدار ثم حثته على عقرها فشد على الناقة بالسيف فكشف عن عرقوبها فخرت ورغت رغاة واحدة فتحدر سقبها من الجبل ثم طعن قدار في لبتها فنحرها فخرج أهل البلدة فاقتسموا لحمها فلما رأى سقبها ذلك انطلق هاربا حتى أتى جبلا منيعا يقال له قارة فرغا ثلاثا وكان صالح عليه السلام قال لهم: أدركوا الفصيل عسى أن يدفع عنكم العذاب فخرجوا في طلبه فرأوا على الجبل وراموه فلم ينالوه وانفجت الصخرة بعد رغائه فدخلها فقال لهم صالح: لكل رغوة أجل يوم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب. وعن ابن إسحاق أنه تبع السقب من التسعة أربعة وفيهم مصدع فرماه بسهم فأصاب قلبه ثم جر برجله فأنزله وألقوا لحمه مع لحم أمه وقال لهم صالح: انتهكتم حرمة الله تعالى فأبشروا بعذابه ونقمته فكانوا يهزؤأون به ويقولون متى هو وما آيته؟ فقال: تصبحون غدا وكان يوم الخميس ووجوهكم مصفرة وبعد غد ووجوهكم محمرة واليوم الثالث ووجوهكم مسودة ثم يصبحكم العذاب فهم أولئك الرهط بقتله فأتوه ليلا فدمغتهم الملائكة بالحجارة فلما أبطؤوا على أصحابهم أتوا منزل صالح فوجدوهم قد رضخوا بالحجارة فقالوا لصالح: أنت قتلتهم ثم هموا به فمنع عنه عشيرته ثم لما رأوا العلامات طلبوه ليقتلوه فهرب ولحق بحي من ثمود يقال لهم: بنو غنم فنزل على سيدهم واسمه نفيل ويكنى بأبي هدب فطلبوه منه فقال: ليس لكم إليه سبيل فتركوه وشغلهم ما نزل بهم ثم خرج عليه السلام ومن معه إلى الشام فنزل رملة فلسطين ولما كان اليوم الرابع وارتفع الضحى تحنطوا بالصبر وتكفنوا بالأنطاع فأتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم وهلكوا جميعا إلا جارية مقعدة يقال لها ذريعة بنت سلف وكانت كافرة شديدة العداوة لصالح عليه السلام فأطلق الله تعالى رجليها بعد أن عاينت العذاب فخرجت مسرعة حتى أتت وادي القرى فأخبرتهم الخبر ثم استسقت ماء فسقيت فلما شربت ماتت وكان رجل منهم يقال له: أبو رغال وهو أبو ثقيف في حرم الله تعالى فمنعه الحرم من عذاب الله تعالى فلما خرج أصابه ما أصابهم فدفن ومعه غصن من ذهب. وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مر بقبره فأخبر بخبره فابتدره الصحابة رضي الله تعالى عنهم بأسيافهم فحفروا عنه واستخرجوا ذلك الغصن. وروي أنه عليه السلام خرج في مائة وعشرين من المسلمين وهو يبكي فالتفت فرأى الدخان ساطعا فعلم أنهم قد هلكوا وكانوا ألفا وخمسمائة دار. وروي أنه رجع بمن معه فسكنوا ديارهم. وأخرج أبو الشيخ عن وهب قال: إن صالحا لما نجا هو والذين معه قال: يا قوم إن هذه دار قد سخط الله تعالى عليها وعلى أهلها فأظعنوا وألحقوا بحرم الله تعالى وأمنه فأهلوا من ساعتهم بالحج وانطلقوا حتى وردوا مكة فلم يزالوا بها حتى ماتوا فتلك قبورهم في غربي الكعبة. وروى ابن الزبير عن جابر أن نبينا صلّى الله عليه وسلّم لما مر بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه: «لا يدخلن أحد منكم القرية ولا تشربوا من مائها ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل الذي أصابهم» وذكر محيي السنة البغوي أن المؤمنين الذين مع صالح كانوا أربعة آلاف وأنه خرج بهم إلى حضرموت فلما دخلها مات عليه السلام فسميت لذلك حضرموت ثم بني الأربعة آلاف مدينة يقال لها حاضوراء، ثم نقل عن قوم من أهل العلم أنه توفي بمكة وهو ابن ثمان وخمسين سنة ولعله المعول عليه، وجاء أن أشقى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 405 الأولين عاقر الناقة وأشقى الآخرين قاتل علي كرم الله تعالى وجهه وقد أخبر صلّى الله عليه وسلّم بذلك عليا رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه. وعندي أن أشقى الآخرين أشقى من أشقى الأولين. والفرق بينهما كالفرق بين علي كرم الله تعالى وجهه والناقة. وقد أشارت الأخبار بل نطقت بأن قاتل الأمير كان مستحلا قتله بل معتقدا الثواب عليه وقد مدحه أصحابه على ذلك فقال عمران بن حطان غضب الله تعالى عليه: يا ضربة من تقى ما أراد بها ... ألا ليبلغ من ذي العرش رضوانا إني لأذكره يوما فأحسبه ... أوفى البرية عند الله ميزانا ولله در من قال: يا ضربة من شقي أوردته لظى ... فسوف يلقى بها الرحمن غضبانا كأنه لم يرد شيئا بضربته ... إلا ليصلى غدا في الحشر نيرانا إني لأذكره يوما فألعنه ... كذاك ألعن عمران بن حطانا وكون فعله كان عن شبهة تنجيه مما لا شبهة في كونه ضربا من الهذيان ولو كان مثل تلك الشبهة منجيا من عذاب مثل هذا الذنب فليفعل الشخص ما شاء سبحانك هذا بهتان عظيم. وقد ضربت بقدار عاقر الناقة الأمثال، وما ألطف قول عمارة اليمني: لا تعجبا لقدار ناقة صالح ... فلكل عصر ناقة وقدار وفي هذه القصة روايات أخر تركناها اقتصارا على ما تقدم لأنه أشهر وَلُوطاً نصب بفعل مضمر أي أرسلنا معطوف على ما سبق أو به من غير حاجة إلى تقدير، وإنما لم يذكر المرسل إليهم على طرز ما سبق وما لحق لأن قومه- على ما قيل- لم يعهدوا باسم معروف يقتضي الحال ذكره عليه السلام مضافا إليهم كما في القصص من قبل ومن بعد وهو ابن هاران بن تارخ. وابن إسحاق ذكر بدل تاريخ آزر وأكثر النسابين على أنه عليه السلام ابن أخي إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم ورواه في المستدرك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وأخرج ابن عساكر عن سليمان بن صرد أن أبا لوط عليه السلام عم إبراهيم عليه السلام، وقيل: إن لوطا كان ابن خالة إبراهيم وكانت سارة زوجته أخت لوط وكان في أرض بابل من العراق مع إبراهيم فهاجر إلى الشام ونزل فلسطين وأنزل لوطا الأردن وهو كرة بالشام فأرسله الله تعالى إلى أهل سدوم وهي بلدة بحمص. وأخرج إسحاق بن بشر، وابن عساكر عن ابن عباس قال: أرسل لوط إلى المؤتفكات وكانت قرى لوط أربع مدائن سدوم، وأمورا، وعامورا، وصبوير وكان في كل قرية مائة ألف مقاتل وكانت أعظم مدائنهم سدوم وكان لوط يسكنها وهي من بلاد الشام ومن فلسطين مسيرة يوم وليلة، وهذا اللفظ- على ما قال الزجاج- اسم أعجمي غير مشتق ضرورة أن العجمي لا يشتق من العربي وإنما صرف لخفته بسكون وسطه، وقيل: إنه مشتق من لطت الحوض إذا ألزقت عليه الطين، ويقال: هذا لوط بقلبي من ذلك أي ألصق به ولاط الشيء أخفاه. وقوله تعالى: إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ ظرف لأرسلنا كما قال غير واحد. واعترض بأن الإرسال قبل وقت القول لا فيه كما تقتضيه هذه الظرفية، ودفع بأنه يعتبر الظرف ممتدا كما يقال زيد في أرض الروم فهو ظرف غير حقيقي يعتبر وقوع المظروف في بعض أجزائه كما قرره القطب، وجوز أن يكون لُوطاً منصوبا با ذكر محذوفا فيكون من عطف القصة على القصة، وإِذْ بدل من لوط بدل اشتمال بناء على أنها لا تلزم الظرفية، وقال أبو البقاء: إنه ظرف الرسالة محذوفا أي واذكر رسالة لوط إذ قال: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ استفهام على سبيل التوبيخ والتقريع أي أتفعلون تلك الفعلة التي بلغت أقصى القبح وغايته الجزء: 4 ¦ الصفحة: 406 ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ أي ما عملها أحد قبلكم في زمن من الأزمان فالباء للتعدية كما في الكشاف من قولك: سبقته بالكرة (1) إذا ضربتها قبله، ومنه ما صح من قوله صلّى الله عليه وسلّم «سبقك بها عكاشه» وتعقبه ابن حيان بأن معنى التعدية هنا قلق جدا لأن الباء المعدية في الفعل المعدي إلى واحد تجعل المفعول الأول يفعل ذلك الفعل بما دخلت عليه الباء فهي كالهمزة فإذا قلت: صككت الحجر بالحجر كان معناه أصككت الحجر الحجر أي جعلت الحجر يصك الحجر وكذلك دفعت زيدا بعمرو عن خالد معناه أدفعت زيدا عمرا عن خالد أي جعلت زيدا يدفع عمرا عن خالد فللمفعول الأول تأثير في الثاني ولا يصح هذا المعنى فيما ذكر إلا بتكلف فالظاهر أن الباء للمصاحبة أي ما سبقكم أحد مصاحبا وملتبسا بها، ودفع بأن المعنى على التعدية، ومعنى سبقته بالكرة أسبقت كرتي كرته لأن السبق بينهما لا بين الشخصين أو الضربين وكذا في الآية ومثله يفهم من غير تكلف، وقال القطب الرازي: إن المعنى سبقت ضربه الكرة بضربي الكرة أي جعلت ضربي الكرة سابقا على ضربه الكرة. ثم استظهر جعل الباء للظرفية لعدم احتياجه إلى ما يحتاجه جعلها للتعدية أي ما سبقكم في فعل الفاحشة أحد ولعل الأمر كما قال، ومِنْ الأولى صلة لتأكيد النفي وإفادة معنى الاستغراق والثانية للتبعيض، والجملة مستأنفة استئنافا نحويا مسوقة لتأكيد النكير وتشديد التقريع والتوبيخ، وجوز أن يكون بيانا كأنه قيل: لم لا نأتيها؟ فقال: ما سبقكم بها أحد فلا تفعلوا ما لم تسبقوا إليه من المنكرات لأنه أشد، ولا يتوهم أن سبب إنكار الفاحشة كونها مخترعة ولولاه لما أنكرت إذ لا مجال له بعد كونها فاحشة. ووجه كون هذه الجملة مؤكدة للنكير أنها مؤذنة باختراع السوء ولا شك أن اختراعه أسوأ إذ لا مجال للاعتذار عنه كما اعتذروا عن عبادتهم الأصنام مثلا بقولهم: إنا وجدنا آباءنا. وجوز أبو البقاء كون الجملة في موضع الحال من المفعول أو الفاعل، والنيسابوري جوز كونها صفة للفاحشة على حد: ولقد أمر على اللئيم يسبني ورد بأن الفاحشة هنا متعينة دون اللئيم، وكيفما كان فالمراد من نفي سبق أحد بها إياهم كونهم سابقين بها كل أحد ممن عداهم من العالمين لا مساواتهم الغير بها فقد أخرج البيهقي وغيره عن عمرو بن دينار قال ما نزا ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط، والذي حملهم على ذلك- كما أخرج ابن عساكر. وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- أنهم كانت لهم ثمار في منازلهم وحوائطهم وثمار خارجة على ظهر الطريق وأنهم أصابهم قحط وقلة من الثمار فقال بعضهم لبعض: إنكم إن منعتم ثماركم هذه الظاهرة من أبناء السبيل كان لكم فيها عيش قالوا: بأي شيء نمنعها؟ قالوا: اجعلوا سنتكم أن تنكحوا من وجدتم في بلادكم غريبا وتغرموه أربعة دراهم فإن الناس لا يظهرون ببلادكم إذا فعلتم ذلك ففعلوه واستحكم فيهم. وفي بعض الطرق أن إبليس عليه اللعنة جاءهم عند ذكرهم ما ذكروا في هيئة صبي أجمل صبي رآه الناس فدعاهم إلى نفسه فنكحوه ثم جرؤوا على ذلك. وجاء من رواية ابن أبي الدنيا عن طاوس أن قوم لوط إنما أتوا أولا النساء في أدبارهن ثم أتوا الرجال. وفي قوله: مِنَ الْعالَمِينَ دون من الناس مبالغة لا تخفى. وقوله سبحانه: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ يحتمل الاستئناف البياني والنحوي وهو مبين لتلك الفاحشة، والإتيان هنا بمعنى الجماع، وقرأ ابن عامر. وجماعة أإنكم بهمزتين صريحتين، ومنهم من قرأ بتليين الثانية بغير مد، ومنهم من مد وهو حينئذ تأكيدا للإنكار السابق وتشديد للتوبيخ، وفي الإتيان بأن واللام مزيد تقبيح وتقريع كأن ذلك أمر لا   (1) قوله كرة بخطه والصواب كورة وهي معروفة حاكمها الآن الأمير عبد الله بوساطة الانكليز. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 407 يتحقق صدوره عن أحد فيؤكد تأكيدا قويا، وفي إيراد لفظ الرِّجالَ دون الغلمان والمردان ونحوهما- كما قال شيخ الإسلام- مبالغة في التوبيخ كأنه قال: لتأتون أمثالكم شَهْوَةً نصب على أنه مفعول له أي لأجل الاشتهاء لا غير أو على الحالية بتأويل مشتهين، وجوز أن يكون منصوبا على المصدرية وناصبة تأتون لأنه بمعنى تشتهون، وفي تقييد الجماع الذي لا ينفك عن الشهوة بها إيذان بوصفهم بالبهيمية الصرفة وأن ليس غرضهم قضاء الشهوة، وفيه تنبيه على أنه ينبغي للعاقل أن يكون الداعي إلى المباشرة طلب الولد وبقاء النوع لإقضاء الشهوة، وجوز أن يكون المراد الإنكار عليهم وتقريعهم على اشتهائهم تلك الفعلة القذرة الخبيثة كما ينبىء عنه قوله تعالى: مِنْ دُونِ النِّساءِ أي متجاوزين النساء اللاتي هن محل الاشتهاء عند ذوي الطباع السليمة كما يؤذن به قوله سبحانه: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ فالجار والمجرور في موضع الحال من ضمير تأتون، وجوز أن يكون حالا من الرجال- على ما قاله أبو البقاء- أي تأتونهم منفردين عن النساء، وأن يكون في موضع الصفة لشهوة- على ما قيل- واستبعد تعلقه به، و «بل» للإضراب وهو إضراب انتقالي عن الإنكار المذكور إلى الإخبار بما أدى إلى ذلك وهو اعتياد الإسراف في كل شيء أو إلى بيان استجماعهم للعيوب كلها. ويحتمل أن يكون إضرابا عن غير مذكور وهو ما توهموه من العذر في ذلك أي لا عذر لكم فيه بل أنتم قوم عادتكم الإسراف والخروج عن الحدود، وهذا في معنى ذمهم بالجهل كما في سورة النمل إلا أنه عبر بالاسم هنا وبالفعل هناك لموافقة رؤوس الآي المتقدمة في كل والله تعالى أعلم بأسرار كلامه وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ أي المستكبرين منهم المتصدين للعقد والحل إِلَّا أَنْ قالُوا استثناء مفرغ من أعم الأشياء أي ما كان جوابهم شيء من الأشياء إلا قولهم أي لبعضهم الآخرين المباشرين للأمور أو ما كان جواب قومه الذين خاطبهم بما خاطبهم شيء من الأشياء إلا قول بعضهم لبعض معرضين عن مخاطبته عليه السلام أَخْرِجُوهُمْ أي لوطا ومن معه مِنْ قَرْيَتِكُمْ أي بلدتكم التي أجمعتم فيها وسكنتم بها. والنظم الكريم من قبيل: تحية بينهم ضرب وجيع والقصد منه نفي الجواب على أبلغ وجه لأن ما ذكر في حيز الاستثناء لا تعلق له بكلامه عليه السلام من إنكار الفاحشة وتعظيم أمرها ووسمهم بما هو أصل الشر كله. ولو قيل: وقالوا أخرجوهم لم يكن بهذه المثابة من الإفادة. وقوله سبحانه: إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ تعليل للأمر بالإخراج. ومقصود الأشقياء بهذا الوصف السخرية بلوط ومن معه وبتطهرهم من الفواحش وتباعدهم عنها وتنزههم عما في المحاش والافتخار بما كانوا فيه من القذارة كما يقول الشطار من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم: أخرجوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتزهد. وقرىء برفع «جواب» على أنه اسم كان، و «إلا أن قالوا» إلخ خبر قيل: وهو أظهر وإن كان الأول أقوى في الصناعة لأن الأعراف أحق بالاسمية. وقد تقدم ما ينفعك هنا فتذكر. وأيا ما كان فليس المراد أنهم لم يصدر عنهم في مقابلة كلام لوط عليه السلام ومواعظه إلا هذه المقالة الباطلة كما ينساق إلى الذهن بل إنه لم يصدر عنهم في المرة الأخيرة من مرات المحاورات الجارية بينه عليه السلام وبينهم إلا هذه الكلمة الشنيعة، وإلا فقد صدر عنهم قبل ذلك كثير من الترهات كما حكي عنهم في غير موضع من الكتاب الكريم وكذا يقال في نظائره، قيل: وإنما جيء بالواو في وَما كانَ إلخ دون الفاء كما في النمل. والعنكبوت لوقوع الاسم قبل هنا والفعل هناك والتعقيب بالفعل بعد الفعل حسن دون التعقيب به بعد الاسم وفيه تأمل. ولعل ذكر أَخْرِجُوهُمْ هنا وأَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ في [النمل: 56] إشارة إلى أنهم قالوا مرة هذا وأخرى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 408 ذاك أو أن بعضا قال كذا وآخر قال كذا. وقال النيسابوري: إنما جاء في النمل أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ ليكون تفسيرا لهذه الكناية، وقيل: إن تلك السورة نزلت قبل الأعراف. وقد صرح في الأولى، وكني في الثانية اه. ولعل ما ذكرناه أولى فتأمل فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ أي من اختص به واتبعه من المؤمنين سواء كانوا من ذوي قرابته عليه السلام أم لا؟. وقيل: ابنتاه ريثا ويغوثا. وللأهل معان ولكل مقام مقال. وهو عند الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه في باب الوصية الزوجة للعرف. ولقوله سبحانه: «قال لأهله امكثوا. وسار بأهله» فتدفع الوصية لها إن كانت كتابية أو مسلمة وأجازت الورثة. وعند الإمامين أهل الرجل كل من في عياله ونفقته غير مماليكه وورثته، وقولهما- كما في شرح التكملة- استحسان. وأيده ابن الكمال بهذه الآية لأنه لا يصح فيها أن يكون بمعنى الزوجة أصلا لقوله سبحانه: إِلَّا امْرَأَتَهُ فإنه استثناء من أهله وحينئذ لا يصح الاستثناء، وأنت تعلم أن الكلام في المطلق على القرينة لا في الأهل مطلقا واسم امرأته عليه السلام وأهله. وقيل: وآلهة كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ أي بعضا منهم فالتذكير للتغليب ولبيان استحقاقهما لما يستحقه المباشرون للفاحشة وكانت تسر الكفر وتوالي أهله فهلكت كما هلكوا. وجوز أن يكون المعنى كانت مع القوم الغابرين فلا تغليب والغابر بمعنى الباقي ومنه قول الهذلي: فغبرت بعدهم بعيش ناصب ويجيء بمعنى الماضي والذاهب ومنه قول الأعشى: في الزمن الغابر فهو من الأضداد كما في الصحاح. وغيره، ويكون بمعنى الهالك أيضا. وفي بقاء امرأته مع أولئك القوم روايتان ثانيتهما أنه عليه السلام أخرجها مع أهله ونهاهم عن الالتفات فالتفتت هي فأصابها حجر فهلكت. والآية هنا محتملة للأمرين. والحسن وقتادة يفسران الغبور هنا بالبقاء في عذاب الله تعالى. وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة لهذا الكلام. والجملة استئناف وقع جوابا نشأ عن الاستثناء كأنه قيل: فما كان حالها؟ فقيل: كانت من الغابرين. وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً أي نوعا من المطر عجيبا وقد بينه قوله سبحانه: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [الحجر: 74] . وفي الخازن أن تلك الحجارة كانت معجونة بالكبريت والنار. وظاهر الآية أنه أمطر عليهم كلهم. وجاء في بعض الآثار أنه خسف بالمقيمين منهم وأمطرت الحجارة على مسافريهم وشذاذهم حتى إن تاجرا منهم كان في الحرم فوقفت له حجر أربعين يوما حتى قضى تجارته وخرج من الحرم فوقع عليه. وفرق بين مطر وأمطر فعن أبي عبيدة أن الثلاثي في الرحمة والرباعي في العذاب ومثله عن الراغب، وفي الصحاح عن أناس أن مطرت السماء وأمطرت بمعنى، وفي القاموس لا يقال أمطرهم الله تعالى إلا في العذاب. وظاهر كلام الكشاف في الأنفال الترادف كما في الصحاح لكنه قال: وقد كثر الإمطار في معنى العذاب وذكر هنا أنه يقال: مطرتهم السماء وواد ممطور ويقال: أمطرت عليهم كذا أي أرسلته إرسال المطر. وحاصل الفرق- كما في الكشف- ملاحظة معنى الإصابة في الأول والإرسال في الثاني ولهذا عدّي بعلى، وذكر ابن المنير أن مقصود الزمخشري الرد على من يقول: إن مطرت في الخير وأمطرت في الشر ويتوهم أنها تفرقة وضعية فبين أن أمطرت معناه أرسلت شيئا على نحو المطر وإن لم يكن إياه حتى لو أرسل الله تعالى من السماء أنواعا من الخير لجاز أن يقال فيه: أمطرت السماء خيرا أي أرسلته إرسال المطر فليس للشر خصوصية في هذه الصيغة الرباعية ولكن اتفق أن السماء لم ترسل شيئا سوى المطر إلا وكان عذابا فظن أن الواقع اتفاقا مقصود في الوضع وليس به انتهى. ويعلم منه- كما قال الشهاب- أن كلام أبي عبيدة. وإضرابه مؤول وأن رد بقوله تعالى: عارِضٌ مُمْطِرُنا [الأحقاف: 24] فإنه عنى به الرحمة. ولا يخفى أنه لو قيل: إن التفرقة الاستعمالية إنما هي بين الفعلين دون متصرفاتهما لم يتأت هذا الرد إلا أن كلامهم غير صريح في ذلك، ولعل البعض صرح بما يخالفه ثم إن مطرا إما مفعول به أو مفعول مطلق فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ أي مآل أولئك الكافرين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 409 المقترفين لتلك الفعلة الشنعاء. وهذا خطاب لكل من يتأتى منه التأمل والنظر تعجيبا من حالهم وتحذيرا من أفعالهم. وقد مكث لوط عليه السلام فيهم- على ما في بعض الآثار- ثلاثين سنة يدعوهم إلى ما فيه صلاحهم فلم يجيبوه وكان إبراهيم عليه السلام يركب على حماره فيأتيهم وينصحهم فيأبون أن يقبلوا فكان يأتي بعد أن أيس منهم فينظر إلى سدوم ويقول: سدوم أي يوم لك من الله تعالى سدوم حتى بلغ الكتاب أجله فكان ما قص الله تعالى على نبيه صلّى الله عليه وسلّم. وسيأتي إن شاء الله تعالى تفصيل ذلك. ثم إن لوطا عليه السلام- كما أخرج إسحاق بن بشر. وابن عساكر عن الزهري- لما عذب قومه لحق بإبراهيم عليه السلام فلم يزل معه حتى قبضه الله تعالى إليه. وفي هذه الآيات دليل أن اللواطة من أعظم الفواحش. وجاء في خبر أخرجه البيهقي في الشعب عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وصححه الحاكم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لعن الله تعالى سبعة من خلقه فوق سبع سماوات فردد لعنة على واحد منها ثلاثا ولعن بعد كل واحد لعنة فقال: ملعون ملعون ملعون من عمل عمل قوم لوط» الحديث. وجاء أيضا أربعون يصبحون في غضب الله تعالى ويمسون في سخط الله تعالى وعد منهم من يأتي الرجل. وأخرج ابن أبي الدنيا. وغيره عن مجاهد رضي الله تعالى عنه إن الذي يعمل ذلك العمل لو اغتسل بكل قطرة من السماء وكل قطرة من الأرض لم يزل نجسا أي إن الماء لا يزيل عنه ذلك الإثم العظيم الذي بعده عن ربه. والمقصود تهويل أمر تلك الفاحشة. وألحق بها بعضهم السحاق وبدا أيضا في قوم لوط عليه السلام فكانت المرأة تأتي المرأة فعن حذيفة رضي الله تعالى عنه إنما حق القول على قوم لوط عليه السلام حين استغنى النساء بالنساء والرجال بالرجال. وعن أبي حمزة رضي الله تعالى عنه قلت لمحمد بن علي: عذب الله تعالى نساء قوم لوط بعمل رجالهم فقال: الله تعالى أعدل من ذلك استغنى الرجال بالرجال والنساء بالنساء. وآخرون إتيان المرأة في عجيزتها واستدل بما أخرج غير واحد عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال على المنبر: سلوني؟ فقال ابن الكواء: تؤتى النساء في أعجازهن؟ فقال كرم الله تعالى وجهه: سفلت سفل الله تعالى بك ألم تسمع قوله تعالى: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ الآية. ولا يخفى أن ذلك لا يتم إلا بطريق القياس وإلا فالفاحشة في الآية مبينة بما علمت. نعم جاء في آثار كثيرة ما يدل على حرمة إتيان الزوجة في عجيزتها والمسألة كما تقدم خلافية والمعتمد فيها الحرمة. ولا فرق في اللواطة بين أن تكون بمملوك أو تكون بغيره. واختلاف في كفر مستحل وطء الحائض ووطء الدبر. وفي التتار خانية نقلا عن السراجية اللواطة بمملوكة أو مملوكته أو امرأته حرام إلا أنه لو استحله لا يكفر وهذا بخلاف اللواطة بأجنبي فإنه يكفر مستحلها قولا واحدا. وما ذكر مما يعلم ولا يعلم كما في الشرنبلالية لئلا يتجرأ الفسقة عليهم بظنهم حله. واختلف في حد اللواطة فقال الإمام: لا حد بوطء الدبر مطلقا وفيه التعزير ويقتل من تكرر منه على المفتى به كما في الأشباه. والظاهر على ما قال البيري أنه يقتل في المرة الثانية لصدق التكرار عليه وقال الإمامان: إن فعل في الأجانب حد كحد الزنا وإن في عبده أو أمته أو زوجته بنكاح صحيح أو فاسد فلا حد إجماعا كما في الكافي وغيره بل يعزر في ذلك كله ويقتل من اعتاده. وفي الحاوي القدسي وتكلموا في هذا التعزير من الجلد ورميه من أعلى موضع وحبسه في أنتن بقعة وغير ذلك الإخصاء والجب والجلد أصح. وفي الفتح يعزر ويسجن حتى يموت أو يتوب، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حد اللواطة القتل للفاعل والمفعول ورواه مرفوعا، وفي رواية أخرى عنه أنه سئل ما حد اللوطي فقال: ينظر أعلى بناء في القرية فيلقى منه منكسا ثم يتبع بالحجارة. قال في الفتح: وكأن مأخذ هذا أن قوم لوط أهلكوا بذلك حيث حملت قراهم ونكست بهم ولا شك في اتباع الهدم بهم وهم نازلون. وعن علي كرم الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 410 تعالى وجهه أنه رجم لوطيا وهو أشبه شيء بما قص الله تعالى من إهلاك قوم لوط عليه السلام بإمطار الحجارة عليهم. وصححوا أنها لا تكون في الجنة لأنه سبحانه استقبحها وسماها فاحشة والجنة منزهة عن ذلك. وفي الأشباه أن حرمتها عقلية فلا وجود لها في الجنة، وقيل: سمعية فتوجد أي فيمكن أن توجد. وكأنه أراد بالحرمة هنا القبح إطلاقا لاسم السبب على المسبب أي إن قبحها عقلي بمعنى أنه يدرك بالعقل وإن لم يرد به الشرع. وليس هذا مذهب المعتزلة كما لا يخفى ونقل الجلال السيوطي عن ابن عقيل الحنبلي قال: جرت هذه المسألة بين أبي علي ابن الوليد المعتزلي وبين أبي يوسف القزويني فقال ابن الوليد: لا يمنع أن يجعل ذلك من جملة اللذات في الجنة لزوال المفسدة لأنه إنما منع في الدنيا لما فيه من قطع النسل وكونه محلا للأذى وليس في الجنة ذلك ولهذا أبيح شرب الخمر لما ليس فيه من السكر والعربدة وزوال العقل بل اللذة الصرفة فقال أبو يوسف رضي الله تعالى عنه. الميل إلى الذكور عاهة وهو قبيح في نفسه لأنه محل لم يخلق للوطء ولهذا لم يبح في شريعة بخلاف الخمر فقال ابن الوليد: هو قبيح وعاهة للتلويث بالأذى ولا أذى في الجنة فلم يبق إلا مجرد الالتذاذ انتهى. وأنا أرى أن إنكار قبح اللواطة عقلا مكابرة ولهذا كانت الجاهلية تعير بها ويقولون في الذم فلان مصفر استه ولا أدري هل يرضى ابن الوليد لنفسه أن يؤتى في الجنة أم لا فإن رضي اليوم أن يؤتى غدا فغالب الظن أن الرجل مأبون أو قد ألف ذلك وإن لم يرض لزمه الإقرار بالقبح العقلي. وإن ادعى أن عدم رضائه لأن الناس قد اعتادوا التعبير به وذلك مفقود في الجنة قلنا له: يلزمك الرضا به في الدنيا إذا لم تعيّر ولم يطلع عليك أحد فإن التزمه فهو كما ترى ولا ينفعه ادعاء الفرق بين الفاعل والمفعول كما لا يخفى على الأحرار. وصرحوا بأن حرمة اللواطة أشد من حرمة الزنا لقبحها عقلا وطبعا وشرعا والزنا ليس بحرام كذلك وتزول حرمته بتزويج وشراء بخلافها وعدم الحد عند الإمام لا لخفتها بل للتغليظ لأنه مطهر على قول كثير من العلماء وإن كان خلاف مذهبنا، وبعض الفسقة اليوم دمرهم الله تعالى يهونون أمرها ويتمنون بها ويفتخرون بالإكثار منها. ومنهم من يفعلها أخذا للثأر ولكن من أين، ومنهم يحمد الله سبحانه عليها مبنية للمفعول وذلك لأنهم نالوا الصدارة بإعجازهم نسأل الله تعالى العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة. واعلم أن للواطة أحكاما أخر فقد قالوا: إنه لا يجب بها المهر ولا العدة في النكاح الفاسد ولا في المأتي بها لشبهة ولا يحصل بها التحليل للزوج الأول ولا تثبت بها الرجعة ولا حرمة المصاهرة عند الأكثر ولا الكفارة في رمضان في رواية ولو قذف بها لا يحد ولا يلاعن خلافا لهما في المسألتين كما في البحر أخذا من المجتبي. وفي الشرنبلالية عن السراج يكفي في الشهادة عليها عدلان لا أربعة خلافا لهما أيضا. هذا ولم أقف للسادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم على ما هو من باب الإشارة في قصة قوم لوط عليه السلام، وذكر بعضهم في قصة قوم صالح عليه السلام بعد الإيمان بالظاهر أن الناقة هي مركب النفس الإنسانية لصالح عليه السلام ونسبتها إليه سبحانه لكونه مأمورة بأمره عز وجل مختصة به في طاعته وقربه. وما قيل: إن الماء قسم بينها وبينهم لها شرب يوم ولهم شرب يوم إشارة إلى أن مشربهم من القوة العاقلة النظرية. وما روي أنها يوم شربها كانت تتفحج فيحلب منها اللبن حتى تملأ الأواني إشارة إلى أن نفسه تستخرج بالفكر من علوم الكلية الفطرية العلوم النافعة للناقصين من علوم الأخلاق والشرائع. وخروجها من الجبل خروجها من بدن صالح عليه السلام. وقال آخرون: إن الناقة كانت معجزة صالح عليه السلام وذلك أنهم سألوه أن يخرج لهم من حجارة القلب ناقة السر فخرجت فسقيت سر السر فأعطت بلد القالب من القوى والحواس لبن الواردات الإلهية ثم قال لهم. ذروها ترتع في رياض القدس وحياض الإنس وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ من مخالفات الشريعة ومعارضات الطريقة فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وهو عذاب الانقطاع عن الوصول إلى الحقيقة وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ أي مستعدين للخلافة وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي أرض القلب تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها وهي المعاملات بالصدق قُصُوراً تسكنون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 411 فيها وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ وهي جبال أطوار القلب بُيُوتاً هي مقامات السائرين إلى الله. قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا وهي الأوصاف البشرية والأخلاق الذميمة لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا من أوصاف القلب والروح أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ ليدعو إلى الأوصاف النورانية فَعَقَرُوا النَّاقَةَ بسكاكين المخالفة فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ لضعف قلوبهم وعدم قوة علمه فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ موتى لا حراك بهم إلى حظيرة القدس. وذكر البعض أن الناقة والسقب صورتا الإيمان بالله تعالى والإيمان برسوله عليه الصلاة والسلام وقد ظهرا بالذات وبالواسطة من الحجر الذي تشبهه قلوب القوم وعقرهم للناقه من قبيل ذبح يحيى عليه السلام للموت الظاهر في صورة الكبش يوم القيامة. وفي ذلك دليل على أنهم من أسوأ الناس استعدادا وأتمهم حرمانا. ويدل على سوء حالهم. أن الشيخ الأكبر قدس سره لم ينظمهم في فصوص الحكم في سلك قوم نوح عليه السلام حيث حكم لهم بالنجاة على الوجه الذي ذكره. وكذا لم ينظم في ذلك السلك قوم لوط عليه السلام وكأن ذلك لمزيد جهلهم وبعدهم عن الحكمة وإتيانهم البيوت من غير أبوابها وقذارتهم ودناءة نفوسهم. والذي عليه المتشرعون أن أولئك الأقوام كلهم حصب جهنم لا ناجي فيهم والله تعالى أحكم الحاكمين. وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً عطف على ما مر. والمراد أرسلنا إلى مدين إلخ. ومدين وسمع مديان في الأصل علم لابن إبراهيم الخليل عليه السلام ومنع صرفه للعلمية والعجمة ثم سميت به القبيلة، وقيل: هو عربي اسم لماء كانوا عليه، وقيل: اسم بلد ومنع صرفه للعلمية والتأنيث فلا بد من تقدير مضاف حينئذ أي أهل مدين مثلا أو المجاز. والياء على هذا عند بعض زائدة. وعن ابن بري الميم زائدة إذ ليس في كلامهم فعيل وفيه مفعل. وقال آخرون: إنه شاذ كمريم إذ القياس إعلاله كمقام. عند المبرد ليس بشاذ قيل وهو الحق لجريانه على الفعل وشعيب قيل تصغير شعب بفتح فسكون اسم جبل أو شعب بكسر فسكون الطريق في الجبل. واختير أنه وضع مرتجلا هكذا. والقول بأن القول بالتصغير باطل لأن أسماء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يجوز تصغيرها فيه نظر لأن الممنوع التصغير بعد الوضع لا المقارن له ومدعي ذلك قد يدعي هذا وهو على ما وجد بخط النووي في تهذيبه ابن ميكيل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم عليه السلام، وقيل: ابن ميكيل بن يشجر بن لاوي بن يعقوب، وبعضهم يقول: ميكائيل بدل ميكيل، ونقل ذلك عن خط الذهبي في اختصار المستدرك. وآخر يقول ملكاني بدله. وذكر ابن أم ميكيل بنت لوط عليه السلام. وأخرج ابن عساكر من طريق إسحاق بن بشر عن الشرقي ابن القطامي- وكان نسابة- أن شعيبا هو يثروب بالعبرانية وهو ابن عيفاء بن يوبب- بمثناة تحتية أوله وواو وموحدتين بوزن جعفر- بن إبراهيم عليه السلام، وقيل في نسبه غير ذلك، وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم كما أخرج ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إذ ذكر شعيب يقول: «ذلك خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه» أي محاورته لهم، وكأنه- كما قيل- عنى عليه الصلاة والسلام ما ذكر في هذه السورة كما يعلم بالتأمل فيه. وبعث رسولا إلى أمتين مدين وأصحاب الأيكة، قال السدس: وعكرمة رضي الله تعالى عنهما. ما بعث الله تعالى نبيا مرتين إلا شعيبا مرة إلى مدين فأخذهم الله تعالى بالصيحة، ومرة إلى أصحاب الأيكة فأخذهم الله تعالى بعذاب يوم الظلة. وأخرج ابن عساكر في تاريخه من حديث عبد الله بن عمر مرفوعا أن قوم مدين. وأصحاب الأيكة آيتان بعث الله تعالى إليهما شعيبا. وهو- كما قال ابن كثير- غريب وفي رفعه نظر واختار أنهما أمة واحدة، واحتج له بأن كلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 412 منهما وعظ بوفاء الميزان والمكيال وهو يدل على أنهما واحدة وفيه ما لا يخفى. ومن الناس من زعم أنه عليه السلام بعث إلى ثلاث أمم، والثالثة أصحاب الرس. والقول بأنه عليه السلام كان أعمى لا عكاز له يعتمد عليه بل قد نص العلماء ذوو البصيرة على أن الرسول لا بد أن يكون سليما من منفر ومثلوه بالعمى، والبرص، والجذام، ولا يرد بلاء أيوب. وعمى يعقوب بناء على أنه حقيقي لطروئه بعد الأنباء والكلام فيما قارنه، والفرق أن هذا منفر بخلافه فيمن استقرت نبوته. وقد يقال: إن صح ذلك فهو من هذا القبيل. قالَ استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية إرساله إليهم كأنه قيل: فماذا قال لهم؟ فقيل قال: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ مر تفسيره قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي معجزة عظيمة ظاهرة من مالك أموركم. ولم تذكر معجزته عليه السلام في القرآن العظيم كما لم تذكر أكثر معجزات نبينا صلّى الله عليه وسلّم والأنبياء عليهم السلام فيه. والقول بأنه لم يكن له عليه السلام معجزة غلط لأن الفاء في قوله سبحانه: فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ لترتيب الأمر على مجيء البينة، واحتمال كونها عاطفة على اعْبُدُوا بعيد، وإن كانت عبادة الله تعالى موجبة للاجتناب عن المناهي التي معظمها بعد الكفر البخس فكأنه قيل: قد جاءتكم معجزة شاهدة بصحة نبوتي أوجبت عليكم الإيمان بها والأخذ بما أمرتكم به فأوفوا إلخ ولو ادعى مدع النبوة بغير معجزة لم تقبل منه لأنها دعوى أمر غير ظاهر وفيه إلزام للغير ومثل ذلك لا يقبل من غير بينة ومن الناس من زعم أن البينة نفس شعيب. ومنهم من زعم أن المراد بالبينة الموعظة وأنها نفس فَأَوْفُوا إلخ وليس بشيء كما لا يخفى. وقال الزمخشري: إن من معجزاته عليه السلام ما روي من محاربة عصا موسى عليه السلام التنين حين دفع إليه غنمه وولادة الغنم. الدرع خاصة حين وعده أن يكون له الدرع من أولادها ووقوع عصا آدم عليه السلام على يده في المرات السبع وغير ذلك من الآيات لأن هذه كلها كانت قبل أن يستنبأ موسى عليه السلام فكانت معجزات لشعيب اه. وفيه نظر لأن ذلك متأخر عن المقاولة فلا يصح تفريع الأمر عليه، ولأنه يحتمل أن يكون كرامة لموسى عليه السلام أو إرهاصا لنبوته بل في الكشف أن هذا متعين لأن موسى أدرك شعيبا عليه السلام بعد هلاك قومه ولأن ذلك لم يكن معرض التحدي. وزعم الإمام أن الإرهاص غير جائز عند المعتزلة، ولهذا جعل ذلك معجزة لشعيب عليه السلام نظر فيه الطيبي بأن الزمخشري قال في آل عمران في تكليم الملائكة عليهم السلام لمريم. إنه معجزة لزكريا أو إرهاص لنبوة عيسى عليهما السلام، والمراد بالكيل ما يكاد به مجازا كالعيش بمعنى ما يعاش به. ويؤيده أنه قد وقع في سورة الْمِكْيالَ [هود: 84، 85] ، وكذا عطف الْمِيزانَ عليه هنا، فإن المتبادر منه الآلة وإن جاز كونه مصدرا بمعنى الوزن كالميعاد بمعنى الوعد، وقيل: إن الكيل وما عطف عليه مصدران والكلام على الإضمار أي أوفوا آلة الكيل والوزن وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أي لا تنقصوهم يقال بخسه حقه إذا نقصه إياه ومنه قيل للمكس البخس. وفي أمثالهم تحسبها حمقاء وهي باخس أي ذات بخس. وتعدى إلى مفعولين أولهما النَّاسَ والثاني أَشْياءَهُمْ أي الكائنة في المبايعات من الثمن والمبيع، وفائدة التصريح بالنهي عن النقص بعد الأمر بالإيفاء تأكيد ذلك الأمر وبيان قبح ضده، وقد يراد بالأشياء الحقوق مطلقا فإنهم كانوا مكّاسين لا يدعون شيئا إلا مكسوه. وقد جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا قوما طغاة بغاة يجلسون على الطريق فيبخسون الناس أموالهم وكانوا إذا دخل عليهم الغريب يأخذون دراهمه الجياد ويقولون دارهمك هذه زيوف فيقطعونها ثم يشترونها منه بالبخس. وروي أنه يعطونه أيضا بدلها زيوفا فكأنه لما نهوا عن البخس في الكيل والوزن نهوا عن البخس والمكس في كل شيء قيل: ويدخل في ذلك بخس الرجل حقه من حسن المعاملة والتوقير اللائق به وبيان فضله على ما هو عليه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 413 للسائل عنه. وكثير ممن انتسب إلى أهل العلم اليوم مبتلون بهذا البخس وليتهم قنعوا به بل جمعوا حشفا وسوء كيلة فإنا لله وإنا إليه راجعون. وبدأ عليه السلام بذكر هذه الواقعة- على ما قال الإمام- لأن عادة الأنبياء عليهم السلام أنهم إذا رأوا قومهم مقبلين على نوع من أنواع المفاسد إقبالا أكثر من إقبالهم على سائر الأنواع بدؤوا بمنعهم عن ذلك النوع، وكان قومه عليه السلام مشغولين بالبخس والتطفيف أكثر من غيره، والمراد من الناس ما يعمهم وغيرهم أي لا تبخسوا غيركم ولا يبخس بعضكم بعضا وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بالجور أو به وبالكفر بَعْدَ إِصْلاحِها أي إصلاح أمرها أو أهلها بالشرائع، فالإضافة من إضافة المصدر إلى مفعوله بحذف المضاف، والفاعل الأنبياء وأتباعهم. وجوز أن لا يقدر مضاف ويعتبر التجوز في النسبة الإيقاعية لأن إصلاح من في الأرض إصلاح لها، وأن تكون الإضافة من إضافة المصدر إلى الفاعل على الإسناد المجازي للمكان، وأن تكون على معنى في أي بعد إصلاح الأنبياء فيها. ويأبى الحمل على الظاهر لأن الإصلاح يتعلق بالأرض نفسها كتعميرها وإصلاح طرقها لا تفسدوا في الأرض ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إشارة إلى ما ذكر من الوفاء بالكيل والميزان وترك البخس والإفساد أو إلى العمل بما أمرهم به ونهاهم عنه، وأيا ما كان فإفراد اسم الإشارة وتذكيره ظاهر. ومعنى الخيرية إما الزيادة مطلقا أو في الإنسانية وحسن الأحدوثة وما يطلبونه من التكسب والتربح لأن الناس إذا عرفوهم بالأمانة رغبوا في معاملتهم ومتاجرتهم، وقيل: ليس المراد من خَيْرٌ هنا معنى الزيادة لأنه ليس للتفضيل بل المعنى ذلكم نافع لكم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قيل: المراد بالإيمان معناه اللغوي، وتخص الخيرية بأمر الدينا أي إن كنتم مصدقين لي في قولي، ومثل هذا الشرط- على ما قال الطيبي- إنما يجاء به في آخر الكلام للتأكيد، ويعلم من هذا أن شعيبا عليه السلام كان مشهورا عندهم بالصدق والأمانة كما كان نبينا صلّى الله عليه وسلّم مشهورا عند قومه بالأمين، وقال بعض الذاهبين إلى ما ذكر: إن تعليق الخيرية على هذا التصديق بتأويل العلم بها وإلا فهو خير مطلقا. وقال القطب الرازي: إن ذلك ليس شرطا للخيرية نفسها بل لفعلهم كأنه قيل: فأتوا بهم إن كنتم مصدقين بي فلا يرد أنه لا توقف للخيرية في الإنسانية على تصديقهم به. قيل: المراد به مقابل الكفر وبالخيرية ما يشمل أمر الدنيا والآخرة أي ذلكم خير لكم في الدارين بشرط أن تؤمنوا، وشرط الإيمان لأنّ الفائدة من حصول الثواب مع النجاة من العقاب ظاهرة مع الإيمان خفية مع فقده للانغماس في غمرات الكفر، وبنى بعضهم نفع ترك البخس ونحوه في الآخرة على أن الكفار يعذبون على المعاصي كما يعذبون على الكفر فيكون الترك خيرا لهم بلا شبهة لكن لا يخفى أنه إذا فسر الإفساد في الأرض بالإفساد فيها بالكفر لا يكون لهذا التعليق على الإيمان معنى كما لا يخفى، وإخراجه من حيز الإشارة بعيد جدا. وزعم الخيالي أن الأظهر أن ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ معترضة والشرط متعلق بما سبق من الأوامر والنواهي، وكأنه التزم ذلك لخفاء أمر الشرطية عليه. وقد فر من هرة وقع في أسد وهرب من القطر ووقف تحت الميزاب فاعتبروا يا أولي الألباب. وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ أي طريق من الطرق الحسية تُوعِدُونَ أي تخوفون من آمن بالقتل كما نقل عن الحسن، وقتادة، ومجاهد، وروي عن ابن عباس أن بلادهم كانت يسيرة وكان الناس يمتارون منهم فكانوا يقعدون على الطريق ويخوفون الناس أن يأتوا شعيبا ويقولون لهم: إنه كذاب فلا يفتنكم عن دينكم. ويجوز أن يكون القعود على الصراط خارجا مخرج التمثيل كما فيما حكي عن قول الشيطان: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الأعراف: 16] أي ولا تقعدوا بكل طريق من طرق الدين كالشيطان، وإليه يشير ما روي عن مجاهد أيضا. والكلية مع أن دين الله الحق واحد باعتبار تشعبه إلى معارف وحدود. وأحكام وكانوا إذا رأوا أحدا يشرع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 414 في شيء منها منعوه بكل ما يمكن من الحيل. وقيل: كانوا يقطعون الطريق فنهوا عن ذلك. وروي عن أبي هريرة. وعبد الرحمن بن زيد. ولعل المراد به ما يرجع إلى أحد القولين الأولين وإلا ففيه خفاء وإن قيل: إن في الآية عليه مبالغة في الوعيد وتغليظ ما كانوا يرومونه من قطع السبيل. وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي الطريق الموصلة إليه وهي الإيمان أو السبيل الذي قعدوا عليه فوضع المظهر موضع المضمر بيانا لكل صراط دلالة على عظم ما تصدق عليه وتقبيحا لما كانوا عليه، وقوله سبحانه: مَنْ آمَنَ بِهِ مفعول تَصُدُّونَ على أعمال الأقرب لا تُوعِدُونَ خلافا لما يوهمه كلام الزمخشري إذ يجب عند الجمهور في مثل ذلك حينئذ إظهار ضمير الثاني. ولا يجوز حذفه إلا في ضرورة الشعر فيلزم أن يقال: تصدونهم وإذا جعل تَصُدُّونَ بمعنى تعرضون يصير لازما ولا يكون مما نحن فيه. وضمير بِهِ لله تعالى أو لكل صراط أو سبيل الله تعالى لأن السبيل يذكر ويؤنث كما قيل، وجملة تُوعِدُونَ وما عطف عليه في موضع الحال من ضمير تَقْعُدُوا أي موعدين وصادين: وقيل: هي على التفسير الأول استئناف بياني، والأظهر ما ذكرنا وَتَبْغُونَها عِوَجاً أي وتطلبون لسبيل الله تعالى عوجا بإلقاء الشبه أو بوصفها للناس بما ينقصها وهي أبعد من شائبة الاعوجاج: وهذا أخبار فيه معنى التوبيخ وقد يكون تهكما بهم حيث طلبوا ما هو محال إذ طريق الحق لا يعوج. وفي الكلام ترق كأنه قيل: ما كفاكم أنكم توعدون الناس على متابعة الحق وتصدونهم عن سبيل الله تعالى حتى تصفونه بالاعوجاج ليكون الصد بالبرهان والدليل. وعلى ما روي عن أبي هريرة. وابن زيد جاز أن يراد يبتغونها عوجا عيشهم في الأرض واعوجاج الطريق عبارة عن فوات أمنها. وذكر الطيبي أن معنى هذا الطلب حينئذ معنى اللام في قوله سبحانه: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص: 8] سائر الأوجه في الكلام الحذف والإيصال. وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا عددكم فَكَثَّرَكُمْ فوفر عددكم بالبركة في النسل كما روي عن ابن عباس. وحكي أن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط فولدت فرمى الله تعالى في نسلها البركة والنماء فكثروا وفشوا. وجوز الزجاج أن يكون المعنى إذ كنتم مقلين فقراء فجعلكم مكثرين موسرين، أو كنتم أقلة أذلة فأعزكم بكثرة العدد والعدد. وإِذْ مفعول اذْكُرُوا أو ظرف لمقدر كالحادث أو النعم أي اذكروا ذلك الوقت أو ما فيه وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أي آخر أمر من أفسد قبلكم من الأمم كقوم نوح، وعاد، وثمود واعتبروا بهم وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ من الشرائع والأحكام وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا به أو لم يفعلوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا خطاب للكفار ووعيد لهم أي تربصوا لترواحكم الله تعالى بيننا وبينكم فإنه سبحانه سينصر المحق على المبطل ويظهره عليه أو هو خطاب للمؤمنين وموعظة لهم وحث على الصبر واحتمال ما كان يلحقهم من أذى المشركين إلى أن يحكم الله تعالى بينهم وينتقم لهم منهم. ويجوز أن يكون خطابا للفريقين أي ليصبر المؤمنون على أذى الكفار وليصبر الكفار على ما يسوؤهم من إيمان من آمن منهم حتى يحكم فيميز الخبيث من الطيب، والظاهر الاحتمال الأول. وكان المقصود إن أيمان البعض لا ينفعكم في دفع بلاء الله تعالى وعذابه وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ إذ لا معقب لحكمه ولا حيف فيه فهو في غاية السداد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 415 بسم الله الرّحمن الرّحيم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3 قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ استئناف مبني على سؤال ينساق إليه المقال كأنه قيل له: فماذا قالوا له عليه السلام بعد ما سمعوا منه هذه المواعظ؟ فقيل: قال أشراف قومه المستكبرون متطاولين عليه عليه السلام غير مكتفين بمجرد الاستعصاء بل بالغين من العتو مبلغا عظيما لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا بغضا لكم ودفعا لفتنتكم المترتبة على المساكنة والجوار، والتأكيد القسمي للمبالغة والاعتناء بالحكم ومَعَكَ متعلق بالإخراج لا بالإيمان، ونسبة الإخراج إليه عليه السلام أولا وإلى المؤمنين ثانيا للتنبيه على أصالته عليه السلام في ذلك وتبعيتهم له فيه، وتوسيط النداء باسمه العلي بين المعطوفين لزيادة التقرير والتهديد الناشئة عن غاية الوقاحة والطغيان، وقوله تعالى: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا عطف على جواب القسم أي والله ليكونن أحد الأمرين البتة الإخراج أو العود على أن المقصد الأهم هو العود وإنما ذكر الأول لمجرد القسر والإلجاء كما يفصح عنه عدم تعرضه عليه السلام بجواب الإخراج، والمتبادر من العود الرجوع إلى الحالة الأولى وهذا مما لا يمكن في حق شعيب عليه السلام لأن الأنبياء عليهم السلام معصومون عما دون الكفر بمراتب. نعم هو ممكن في حق من آمن به فإسناده إليه عليه السلام من باب التغليب، قيل: وقد غلب عليه المؤمنون هنا كما غلب هو عليهم في الخطاب فيكون في الآية حينئذ تغليبان، وقال غير واحد: إن تعود بمعنى تصير كما أثبته بعض النحاة واللغويين فلا يستدعي العود إلى حالة سابقة وعلى ذلك قوله: فإن لم تك الأيام تحسن مرة ... اليّ فقد عادت لهنّ ذنوب فكأنهم قالوا: لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتصيرن مثلنا فحينئذ لا إشكال ولا تغليب، وكذا يقال فيما بعد وهو حسن ولا يأباه إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها لاحتمال أن يقال بالتغليب فيه أو يقال إن التنجية لا يلزم أن تكون بعد الوقوع في المكروه، ألا ترى إلى قوله سبحانه: فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ [الأعراف: 83] وأمثاله. وقال ابن المنير: على احتمال تسليم استعمال العود بمعنى الرجوع إلى أمر سابق يجاب بأنه على نهج قوله تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ [البقرة: 257] فإن الإخراج يستدعي دخولا سابقا فيما وقع الإخراج منه، وهو غير متحقق في المؤمن والكافر الأصليين، لكن لما كان الإيمان والكفر من الأفعال الاختيارية التي خلق الله تعالى العبد ميسرا لكل واحد منهما متمكنا منه لو أراده عبر عن تمكن المؤمن من الكفر، ثم عدوله عنه إلى الإيمان اختيارا بالإخراج من الظلمات إلى النور توفيقا من الله تعالى له ولطفا به وبالعكس في حق الكافر ويأتي نظير ذلك في قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى [البقرة: 16، 175] وهذا من المجاز المعبر فيه عن السبب بالمسبب. وفائدة اختياره في هذه المواضع تحقيق التمكن والاختيار لإقامة حجة الله تعالى على عباده. وقيل: إن هذا القول كان جاريا على ظنهم أنه عليه السلام كان في ملتهم لسكوته قبل البعثة عن الإنكار عليهم أو أنه صدر عن رؤسائهم تلبيسا على الناس وإيهاما لأنه كان على دينهم، وما صدر عنه عليه السلام في أثناء المحاورة وقع على طريق المشاكلة، وذكر الشهاب احتمالا آخر في الجواب وهو أن الظاهر أن العود هو المقابل للخروج إلى ما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 4 خرج منه وهو القرية، والجار والمجرور في موضع الحال أي ليكن منكم الخروج من قريتنا أو العود إليها كائنين في ملتنا فينحل الاشكال من غير حاجة إلى ما تقدم، ولا يخفى بعده. وإنما لم يقولوا أو لنعيدنكم على طريقة ما قبله لما أن مرادهم أن يعودوا بصورة الطواعية حذر الإخراج عن الوطن باختيار أهون الشرين لا إعادتهم بسائر وجوه الإكراه والتعذيب، ومن الناس من زعم أن تعودن لا يصلح أن يكون جوابا للقسم لأنه ليس فعل المقسم، وجعل ما أشرنا إليه أولى في بيان المعنى مخلصا من ذلك وهو باطل لأنه يقتضي أن القسم لا يكون على فعل الغير ولم يقل أحد به، وقد شاع نحو والله ليضربن زيد من غير نكير وعدي العود بفي إيماء إلى أن الملة لهم بمنزلة الوعاء المحيط بهم قالَ استئناف كنظائره أي قال شعيب عليه السلام ردا لمقالتهم الباطلة وتكذيبا لهم في أيمانهم الفاجرة: أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ على أن الهمزة لإنكار الوقوع ونفيه، والواو للعطف على محذوف، وقد يقال: لها في مثل هذا الموضع واو الحال أيضا ولَوْ هي التي يؤتى بها لبيان ما يفيده الكلام السابق بالذات أو بالواسطة من الحكم الموجب أو المنفي على كل حال مفروض من الأحوال المقارنة له على الإجمال بإدخالها على أبعدها منه وأشدها منافاة له ليظهر بثبوته أو انتفائه مع ثبوته أو انتفاؤه مع ما عداه من الأحوال بطريق الأولوية، والكلام هاهنا في تقدير أنعود فيها لو لم نكن كارهين ولو كنا كارهين غير مبالين بالإكراه، فالجملة في موضع الحال من ضمير الفعل المقدر والمآل أنعود فيها حال عدم الكراهة وحال الكراهة إنكارا لما تفيده كلمتهم الشنيعة بإطلاقها من العود على أي حالة غير أنه اكتفى بذكر الحالة التي هي أشد الأحوال منافاة للعود وأكثرها بعدا منه تنبيها على أنها هي الواقعة في نفس الأمر وثقة باغنائها عن ذكر الأولى إغناء واضحا لأن العود الذي تعلق به الإنكار حين تحقق مع الكراهة على ما يوجبه كلامهم فلأن يتحقق مع عدمها أولى، وهذا بعض مما ذكره شيخ الإسلام في هذا المقام، وقد أطنب فيه الكلام وأتى بالنقض والإبرام فارجع إليه، وقد جوز أن يكون الاستفهام باقيا على حاله، وجعل بعضهم الهمزة بمعنى كيف، ووجه التعجب إلى العود أي كيف نعود فيها ونحن كارهون لها وتقدير فعل العود لقوة دلالة الكلام عليه أولى من تقدير فعل الإعادة كما فعل الزمخشري، وفي التيسير تقدير فعل الإخراج أي تخرجوننا من غير ذنب ونحن كارهون لمفارقة الأوطان، وقد وجه بأن العود مفروغ عنه لا يتصور من عاقل فلا يكون إلا الإخراج، ولا يخفى ضعف هذا التقدير. وذكر أبو البقاء أن لَوْ هنا بمعنى إن لأنها للمستقبل، وجوز أن تكون على أصلها وما أشار إليه شيخ الإسلام في هذا المقام أبعد مغزى فليتأمل قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً عظيما لا يقادر قدره. إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ التي هي الشرك وزعمنا كما زعمتم أن لله سبحانه ندا تعالى عن ذلك علوا كبيرا. بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وعلمنا بطلانها وأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله أي إن عدنا في ملتكم فقد افترينا، واستشكل ذلك بأن الظاهر فيما إذا كان الجواب مثل ما ذكر أن يتعلق ظهوره والعلم به بالشرط نحو إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ [يوسف: 77] وإِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ [التوبة: 40] وإن أكرمتني اليوم فقد أكرمتك أمس، والمقصود هنا تقييد نفس الافتراء بالعود، ولفظ قد وصيغة الماضي يمنعانه، والجواب ما أشار إليه الزمخشري من أنه من باب الإخراج لا على مقتضى الظاهر وإيثار قد والماضي الدالين على التأكيد إما لأنه جواب قسم مقدر أو لأنه تعجب على معنى ما أكذبنا إن عدنا إلخ. ووجه التعجب أن المرتد أبلغ في الافتراء من الكافر لأن الكافر مفتر على الله تعالى الكذب حيث يزعم أن لله سبحانه ندا ولا ند له والمرتد مثله في ذلك وزائد عليه حيث يزعم أنه قد تبين له ما خفي عليه من التمييز بين الحق والباطل والحمل على التعجب على ما في الكشف أولى لأن حذف اللام ضعيف، وجوز أبو حيان تبعا لابن عطية أن يكون الفعل المذكور الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 قسما كما يقال: برئت من الله تعالى إن فعلت كذا، وكقول مالك بن الأشتر النخعي: أبقيت وفري وانحرفت عن العلا ... ولقيت أضيافي بوجه عبوس إن لم أشن على ابن هند غارة ... لم تخل يوما من ذهاب نفوس وهذا نوع من أنواع البديع وقد ذكره غير واحد من أصحاب البديعيات، ومثله عز الدين الموصلي بقوله: برئت من سلفي والشم من هممي ... إن لم أدن بتقى مبرورة القسم والباغونية بقولها: لا مكنتنى المعالي من سيادتها ... إن لم أكن لهم من جملة الخدم وَما يَكُونُ لَنا أي ما يصح لنا وما يقع فيكون تامة، وقد يأتي ذلك بمعنى ما ينبغي وما يليق. أَنْ نَعُودَ فِيها في حال من الأحوال أو وقت من الأوقات إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا أي إلا حال أو وقت مشيئة الله لعودنا، والتعرض لعنوان الربوبية للتصريح بأنه المالك الذي لا يسأل عما يفعل. وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً فهو سبحانه يعلم كل حكمة ومصلحة ومشيئته على موجب الحكمة فكل ما يقع مشتمل عليها، وهذا إشارة إلى عدم الأمن من مكر الله سبحانه فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الكافرون، وفيه من الانقطاع إلى الله تعالى ما لا يخفى، ويؤكد ذلك قوله تعالى: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا فإن التوكل عليه سبحانه إظهار العجز والاعتماد عليه جل شأنه، وإظهار الاسم الجليل للمبالغة، وتقديم المعمول لإفادة الحصر. وفي الآية دلالة على أن لله تعالى أن يشاء الكفر. وادعى شيخ الإسلام أن المراد استحالة وقوع ذلك كأنه قيل: وما كان لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله تعالى العود وهيهات ذلك، ولا يكاد يكون كما ينبىء عنه التعرض لعنوان الربوبية، وقولهم: بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ فإن تنجيته تعالى إياهم منها من دلائل عدم مشيئته سبحانه لعودهم فيها، وفرع على قوله تعالى: وَسِعَ إلخ بعد أن فسره بما فسره محالية مشيئته العود لكن لطفا وهو وجه في الآية، ولعل ما ذهبت إليه فيها أولى، ولا يرد على تقدير العود مفعولا للمشيئة أنه ليس لذكر سعة العلم بعد حينئذ كبير معنى، بل كان المناسب ذكر شمول الإرادة وأن الحوادث كلها بمشيئة الله تعالى لما لا يخفى، ولا يحتاج إلى القول بأن ذلك منه عليه السلام رد لدعوى الحصر باحتمال قسم ثالث، والزمخشري بنى تفسيره على عقيدته الفاسدة من وجوب رعاية الصلاح والأصلح وأن الله تعالى لا يمكن أن يشاء الكفر بوجه لخروجه عن الحكمة، واستدل بقوله سبحانه: وَسِعَ إلخ، ورده ابن المنير بأن موقع ما ذكر الاعتراف بالقصور عن علم العاقبة والاطلاع على الأمور الغائبة. ونظير ذلك قول إبراهيم عليه السلام: وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً [الأنعام: 80] فإنه عليه السلام لما رد الأمر إلى المشيئة وهي مغيبة مجد الله تعالى بالانفراد بعلم الغائبات انتهى، وإلى كون المراد من الاستثناء التأبيد ذهب جعفر بن الحارث والزجاج أيضا وجعلوا ذلك كقول الشاعر: إذا شاب الغراب أتيت أهلي ... وصار القار كاللبن الحليب وأنت خبير بأن ذلك مخالف للنصوص النقلية والعقلية وللعبارة والإشارة، وقال الجبائي، والقاضي: المراد بالملة الشريعة وفيها ما لا يرجع إلى الاعتقاد، ويجوز أن يتعبد الله تعالى عباده به ومفعول المشيئة العود إلى ذلك أي ليس لنا أن نعود إلى ملتكم إلا أن يشاء الله بأن يتعبدنا بها وينقلنا وينسخ ما نحن فيه من الشريعة، وقيل: المراد إلا أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 يشاء الله تعالى أن يمكنكم من إكراهنا ويخلي بينكم وبينه فنعود إلى اظهار ملتكم مكرهين، وقوي بسبق أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ. وقيل: إن الهاء في قوله سبحانه فِيها يعود إلى القرية لا الملة فيكون المعنى أنا سنخرج من قريتكم ولا نعود فيها إلا أن يشاء الله بما ينجزه لنا من الوعد في الإظهار عليكم والظفر بكم فنعود فيها وقيل: إن التقدير إلا أن يشاء الله أن يردكم إلى الحق فنكون جميعا على ملة واحدة، ولا يخفى أن كل ذلك مما يضحك الثكلى، وبالجملة الآية ظاهرة فيما ذهب إليه أهل السنة وسبحان من سد باب الرشد عن المعتزلة. رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ إعراض عن مفاوضتهم إثر ما ظهر من عتوهم وعنادهم وإقبال على الله تعالى بالدعاء والفتح بمعنى الحكم والقضاء لغة لحمير أو لمراد. والفتاح عندهم القاضي والفتاحة بالضم الحكومة. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال: الفتح القضاء لغة يمانية. وأخرج البيهقي وجماعة عن ابن عباس قال: ما كنت أدري ما قوله رَبَّنَا افْتَحْ حتى سمعت ابنة ذي يزن وقد جرى بيني وبينها كلام فقالت أفاتحك تريد أقاضيك وبَيْنَنا منصوب على الظرفية والتقييد بالحق لإظهار النصفة، وجوز أن يكون مجازا عن البيان والإظهار وإليه ذهب الزجاج، ومنه فتح المشكل لبيانه وحله تشبيها له بفتح الباب وإزالة الاغلاق حتى يوصل إلى ما خلفها وبيننا على ما قيل مفعول به بتقدير ما بيننا وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ أي الحاكمين لخلو حكمك عن الجور والحيف أو المظهرين لمزيد علمك وسعة قدرتك والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله. وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ عطف على قالَ الْمَلَأُ إلخ والمراد من هؤلاء الملأ يحتمل أن يكون أولئك المستكبرين وتغيير الصلة لما أن مناط قولهم السابق هو الاستكبار ويكون هذا حكاية لإضلالهم بعد حكاية ضلالهم على ما قيل، ويحتمل أن يكون غيرهم ودونهم في الرتبة شأنهم الوساطة بينهم وبين العامة والقيام بأمورهم حسبما يراه المستكبرون، أي قالوا لأهل ملتهم تنفيرا لهم وتثبيطا عن الإيمان بعد أن شاهدوا صلابة شعيب عليه السلام ومن معه من المؤمنين فيه وخافوا أن يفارقوهم لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً ودخلتم في ملته وفارقتم ملة آبائكم إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ أي مغبونون لاستبدالكم الضلالة بالهدى ولفوات ما يحصل لكم بالبخس والتطفيف فالخسران على الأول استعارة وعلى الثاني حقيقة وإلى تفسير الخاسرين بالمغبونين ذهب ابن عباس، وعن عطاء تفسيره بالجاهلين، وعن الضحاك تفسيره بالفجرة، وإذا حرف جواب وجزاء معترض كما قال غير واحد بين اسم إن وخبرها. وقيل: هي إذا الظرفية الاستقبالية وحذفت الجملة المضاف إليها وعوض عنها التنوين، ورده أبو حيان بأنه لم يقله أحد من النحاة، والجملة جواب للقسم الذي وطأته اللام بدليل عدم الاقتران بالفاء وسادة مسد جواب الشرط وليست جوابا لهما معا كما يوهمه كلام بعضهم لأنه كما قيل مع مخالفته للقواعد النحوية يلزم فيه أن يكون جملة واحدة لها محل من الاعراب ولا محل لها وان جاز باعتبارين فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي الزلزلة كما قال الكلبي وفي سورة [هود: 94] وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ أي صيحة جبريل عليه السلام، ولعلها كانت من مبادئ الرجفة فأسند إهلاكهم إلى السبب القريب تارة وإلى البعيد أخرى، وقال بعضهم: إن القصة غير واحدة فإن شعيبا عليه السلام بعث إلى أمتين أهل مدين وأهل الأيكة فأهلكت إحداهما بالرجفة والأخرى بالصيحة، وفيه أنه إنما يتم لو لم يكن هلاك أهل مدين بالصيحة، والمروي عن قتادة أنهم الذين أهلكوا بها وأن أهل الأيكة أهلكوا بالظلة. وجاء في بعض الآثار أن أهل مدين أهلكوا بالظلة والرجفة، فقد روي عن ابن عباس وغيره في هذه الآية أن الله تعالى فتح عليهم بابا من جهنم فأرسل عليهم حرا شديدا فأخذ بأنفاسهم ولم ينفعهم ظل ولا ماء فكانوا يدخلون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 الأسراب فيجدونها أشد حرا من الظاهر فخرجوا إلى البرية فبعث الله تعالى سحابة فيها ريح طيبة فأظلتهم فوجدوا لها بردا فنادى بعضهم بعضا حتى اجتمعوا تحتها رجالهم ونساؤهم وصبيانهم فألهبها عليهم نارا ورجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلي وصاروا رمادا. ويشكل على هلاكهم جميعا نساء ورجالا ما نقل عن عبد الله البجلي قال: كان أبو جاد وهوز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت ملوك مدين وكان ملكهم في زمن شعيب عليه السلام كلمن فلما هلك يوم الظلة رثته ابنته بقولها: كلمن قد هد ركني ... هلكه وسط المحلة سيد القوم أتاه الح ... تف نار تحت ظله جعلت نار عليهم ... دارهم كالمضمحله اللهم إلا أن يقال: إنها كانت مؤمنة فنجت، وقد يقال: إن هذا الخبر مما ليس له سند يعوّل عليه. فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ تقدم نظيره الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً استئناف لبيان ابتلائهم بشؤم قولهم: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا والموصول مبتدأ خبره قوله تعالى: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أي لم يقيموا في دارهم، وقال قتادة: المعنى كأن لم يعيشوا فيها مستغنين، وذكر غير واحد أنه يقال: غني بالمكان يغنى غنى وغنيانا إذا أقام به دهرا طويلا، وقيده بعضهم بالإقامة في عيش رغد، وقال ابن الأنباري كغيره: إنه من الغنى ضد الفقر كما في قول حاتم: غنينا زمانا بالتصعلك والغنى ... فكلّا سقاناه بكأسهما الدهر فما زادنا بغيا على ذي قرابة ... غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقر وعلى هذا تفسير قتادة، ورد الراغب غني بمعنى أقام إلى هذا المعنى فقال: غني بالمكان طال مقامه فيه مستغنيا به عن غيره، وقول بعضهم في بيان الآية: إنهم استؤصلوا بالمرة بيان لحاصل المعنى، وفي بناء الخبر على الموصول إيماء إلى أن علة الحكم هي الصلة فكأنه قيل: الذين كذبوا شعيبا هلكوا لتكذيبهم إياه هلاك الأبد، ويشعر ذلك هنا بأن مصدقيه عليه السلام نجوا نجاة الأبد، وهذا مراد من قال بالاختصاص في الآية، وقيل: إنه مبني على أن مثل هذا التركيب كما يفيد التقوى قد يفيد الاختصاص نحو اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ [الرعد: 26] والقرينة عليه هنا أنه سبحانه ذكر فيما سبق المؤمنين والكافرين ولم يذكر هنا إلا هلاك المكذبين، ويرجع حاصل المعنى بالآخرة إلى أنهم عوقبوا بتوعدهم السابق بالإخراج وصاروا هم المخرجين من القرية إخراجا لا دخول بعده دون شعيب عليه السلام ومن معه، وقوله تعالى: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ استئناف آخر لبيان ابتلائهم بعقوبة قولهم الأخير، واستفادة الحصر هنا أوضح من استفادته فيما تقدم، أي الذين كذبوه عليه السلام عوقبوا بقولهم لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ فصاروا هم الخاسرين للدنيا والدين لتكذيبهم لا المتبعون له عليه السلام المصدقون إياه عليه السلام، وبهذا القصر اكتفى عن التصريح بالانجاء كما وقع في سورة [هود: 94] من قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ إلخ، وفي الكشاف أن في هذا الاستئناف وتكرير الموصول والصلة مبالغة في رد مقالة الملأ لأشياعهم وتسفيه لرأيهم واستهزاء بنصحهم بقومهم واستعظام لما جرى عليهم. وأنت تعلم أن في استفادة ذلك كله من نفس هذه الآية خفاء، والظاهر أن مجموع الاستئنافين مؤذن به. وبين الطيبي ذلك بأنه تعالى لما رتب العقاب بأخذ الرجفة وتركهم هامدين لا حراك بهم علي التكذيب والعناد اتجه لسائل أن يسأل إلى ماذا صار مآل أمرهم بعد الجثوم؟ فقيل: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أي إنهم استؤصلوا وتلاشت جسومهم كأن لم يقيموا فيها. ثم سأل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 8 أخصص الدمار بهم أم تعدى إلى غيرهم؟ فقيل: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ أي اختص بهم الدمار فجعلت الصلة الأولى ذريعة إلى تحقيق الخبر كقوله: إن التي ضربت بيتا مهاجرة ... بكوفة الجند غالت ودها غول وكذلك بولغ في الإخبار عن دمار القوم وجيء بتقوى الحكم والتخصيص وجعلت الصلة الثانية علة لوجود الخبر، وجاء تسفيه الرأي من الرد عليهم بعين ما تلفظوا به في نصح قومهم، والاستهزاء من الإشارة إلى أن ما جعلوه نصيحة صار فضيحة وانعكس الحال الذي زعموه ويستفاد عظم الخسران من تعريف الخبر بلام الجنس. وأما استعظام ما جرى فمن قوله سبحانه: كَأَنْ لَمْ إلخ وكذا من مجموع الكلام، ولا يخفى أن القول بالاستئناف من غير عطف جار على عادة العرب في مثل هذا المقام فإن عادتهم الاستئناف كذلك في الذم والتوبيخ فيقولون: أخوك الذي نهب مالنا أخوك الذي هتك سترنا أخوك الذي ظلمنا، وجوز أبو البقاء أن يكون الموصول الثاني بدلا من الضمير في يَغْنَوْا وأن يكون في محل نصب بإضمار أعنى، وأن يكون الأول مبتدأ والخبر الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا وكَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا حال من ضمير كَذَّبُوا وأن يكون الأول صفة للذين كفروا أو بدلا منه وعلى الوجهين يكون كَأَنْ لَمْ إلخ حالا، وما اخترناه هو الأولى كما هو ظاهر فليتدبر وقوله سبحانه: فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ تقدم الكلام على نظيره، بيد أن هذا القول يحتمل أن يكون تأنيبا وتوبيخا لهم وقوله سبحانه: فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ إنكار لمضمونه، أي لقد أعذرت لكم في الإبلاغ والنصيحة والتحذير مما حل بكم فلم تسمعوا قولي ولم تصدقوني فَكَيْفَ آسى أي لا آسى عليكم لأنكم لستم أحقاء بالأسى وهو الحزن كما في الصحاح والقاموس أو شدة الحزن كما في الكشاف ومجمع البيان، ويحتمل أن يكون تأسفا بهم لشدة حزنه عليهم، وقوله سبحانه: فَكَيْفَ إلخ إنكار على نفسه لذلك، وفيه تجريد والتفات على ما قيل حيث جرد عليه السلام من نفسه شخصا وأنكر عليه حزنه على قوم لا يستحقونه والتفت من الخطاب إلى التكلم، وذكر بعض المحققين أن الظاهر أنه ليس من الالتفات والتجريد في شيء فإن قال يقتضي صيغة التكلم وهي تنافي التجريد، وإنما هو نوع من البديع يسمى الرجوع وهو العود على الكلام السابق بالنقض لأنه إذا كان قد أبلغتكم تأسفا ينافي ما بعده فكأنه بدا له ورجع عن التأسف منكرا لفعله الأول، وقد جاء ذلك كثيرا في كلامهم ومن ذلك قول زهير: قف بالديار التي لم يعفها القدم ... بلى وغيرها الأرواح والديم والنكتة فيه الاشعار بالتوله والذهول من شدة الحيرة لعظم الأمر بحيث لا يفرق بين ما هو كالمتناقض من الكلام وغيره، وابن حجة لا يفرق بين هذا النوع ونوع السلب والإيجاب وكأن منشأ ذلك اعتماده في النوع الأخير على تعريف أبي هلال العسكري له ولو اعتمد على تعريف إمام الصناعة ابن أبي الإصبع لما اشتبه عليه الفرق، وعلى الاحتمالين في قوله سبحانه: عَلى قَوْمٍ إلخ إقامة الظاهر مقام الضمير للاشعار بعدم استحقاقهم التأسف عليهم لكفرهم، وقرأ يحيى بن ثابت «فكيف إيسى» بكسر الهمزة وقلب الألف ياء على لغة من يكسر حرف المضارعة كقوله: قعيدك أن لا تسمعيني ملامة ... ولا تنكئي جرح الفؤاد فييجعا وإمالة الألف الثانية، هذا ثم إن شعيبا عليه السلام بعد هلاك من أرسل إليهم نزل مع المؤمنين به بمكة حتى ماتوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 9 هناك وقبورهم على ما روي عن وهب بن منبه في غربي الكعبة بين دار الندوة وباب سهم. وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما قبر إسماعيل وقبر شعيب عليهما السلام أما قبر إسماعيل ففي الحجر وأما قبر شعيب فمقابل الحجر الأسود، وروي عنه أيضا أنه عليه السلام كان يقرأ الكتب التي كان الله تعالى أنزلها على إبراهيم عليه السلام، ومن الغريب ما نقل الشهاب أن شعيبا اثنان وأن صهر موسى عليهما الصلاة والسلام من قبيلة من العرب تسمى عنزة وعنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان وبينه وبين من تقدم دهر طويل فتبصر والله تعالى أعلم. وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إشارة إجمالية إلى بيان أحوال سائر الأمم المذكورة تفصيلا، وفيه تخويف لقريش وتحذير، و «من» جيء بها لتأكيد النفي، وفي الكلام حذف صفة نبي أي كذب أو كذبه أهلها إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها استثناء مفرغ من أعم الأحوال وأَخَذْنا في موضع نصب على الحال من فاعل أَرْسَلْنا وفي الرضى أن الماضي الواقع حالا إذا كان بعد إلا فاكتفاؤه بالضمير من دون الواو، وقد كثر نحو ما لقيته إلا وأكرمني لأن دخول إلا في الأغلب الأكثر على الاسم فهو بتأويل إلا مكرما لي فصار كالمضارع المثبت وما في هذه الآية من هذا القبيل، وقد يجيء مع الواو وقد نحو ما لقيته إلا وقد أكرمني، ومع الواو وحدها نحو ما لقيته إلا وأكرمني لأن الواو مع إلا تدخل في خبر المبتدأ فكيف بالحال ولم يسمع فيه قد من دون الواو، وقال المرادي في شرح الألفية: إن الحال المصدرة بالماضي المثبت إذا كان تاليا ل إلا يلزمها الضمير والخلو من الواو ويمتنع دخول قد وقوله: متى يأت هذا الموت لم تلف حاجة ... لنفسي إلا قد قضيت قضاءها نادر، وقد نص على ذلك الأشموني وغيره أيضا، والظاهر أن امتناع قد بعد إلا فيما ذكر إذا كان الماضي حالا لا مطلقا، وإلا فقد ذكر الشهاب أن الفعل الماضي لا يقع بعد إلا إلا بأحد شرطين إما تقدم فعل كما هنا. وإما مع قد نحو ما زيد إلا قد قام، ولا يجوز ما زيد إلا ضرب، ويعلم مما ذكرنا أن ما وقع في غالب نسخ تفسير مولانا شيخ الإسلام من أن الفعل الماضي لا يقع بعد إلا إلا بأحد شرطين إما تقدير قد كما في هذه الآية أو مقارنة قد كما في قولك: ما زيد إلا قد قام ليس على ما ينبغي بل هو غلط ظاهر كما لا يخفى، والمعنى فيما نحن فيه وما أرسلنا في قرية من القرى المهلكة نبيا من الأنبياء عليهم السلام في حال من الأحوال إلا حال كوننا آخذين أهلها بِالْبَأْساءِ أي بالبؤس والفقر وَالضَّرَّاءِ بالضر والمرض، وبذلك فسرهما ابن مسعود وهو معنى قول من قال: البأساء في المال والضراء في النفس وليس المراد أن ابتداء الإرسال مقارن للأخذ المذكور بل إنه مستتبع له غير منفك عنه لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ أي كي يتضرعوا ويخضعوا ويتوبوا من ذنوبهم وينقادوا لأمر الله تعالى ثُمَّ بَدَّلْنا عطف على أخذنا داخل في حكمه مَكانَ السَّيِّئَةِ التي أصابتهم لما تقدم الْحَسَنَةَ وهي السعة والسلامة، ونصب مَكانَ كما قيل على الظرفية بدل متضمن معنى أعطى الناصب لمفعولين وهما هنا الضمير المحذوف والحسنة أي أعطيناهم الحسنة في مكان السيئة، ومعنى كونها في مكانها أنها بدل منها. وقال بعض المحققين: الأظهر أن مكان مفعول به لبدلنا لا ظرف، والمعنى بدلنا مكان الحال السيئة الحال الحسنة فالحسنة هي المأخوذة الحاصلة في مكان السيئة المتروكة والمتروك هو الذي تصحبه الباء في نحو بدلت زيدا بعمرو حَتَّى عَفَوْا أي كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم، وبذلك فسره ابن عباس وغيره من عفا النبات وعفا الشحم والوبر إذا كثرت، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم «أحفوا الشوارب واعفوا اللحى» وقول الحطيئة: بمستأسد القريان عاف نباته ... تساقطني والرحل من صوت هدهد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 10 وقوله ولكنا نعض السيف منها ... بأسوق عافيات الشحم كوم وتفسير أبي مسلم له بالاعراض عن الشكر ليس بيانا للمعنى اللغوي كما لا يخفى، وحَتَّى هذه الداخلة على الماضي ابتدائية لا غائية عند الجمهور، ولا محل للجملة بعدها كما نقل ذلك الجلال السيوطي في شرح جمع الجوامع له عن بعض مشايخه، وأما زعم ابن مالك أنها جارة غائية وأن مضمرة بعدها على تأويل المصدر فغلطه فيه أبو حيان وتبعه ابن هشام فقال: لا أعرف له في ذلك سلفا، وفيه تكلف إضمار من غير ضرورة، ولا يشكل عليه ولا على من يقول: إن معنى الغاية لازم لحتى ولو كانت ابتدائية أن الماضي لمضيه لا يصلح أن يكون غاية لما قبل لتأخر الغاية عن ذي الغاية لأن الفعل وإن كان ماضيا لكنه بالنسبة إلى ما صار غاية له مستقبل فافهم. وَقالُوا غير واقفين على أن ما أصابهم من الأمرين ابتلاء منه سبحانه قَدْ مَسَّ آباءَنَا كما مسنا. الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ وما ذلك إلا من عادة الدهر يعاقب في الناس بين الضراء والسراء ويداولهما بينهم من غير أن يكون هناك داعية إليهما أو تبعة تترتب عليهما وليس هذا كقول القائل: ثمانية عمت بأسبابها الورى ... فكل امرئ لا بد يلقى الثمانية سرور وحزن واجتماع وفرقة ... وعسر ويسر ثم سقم وعافية كما لا يخفى ولعل تأخير السراء للإشعار بأنها تعقب الضراء فلا ضير فيها فَأَخَذْناهُمْ عطف على مجموع عفوا وقالوا أو على قالوا لأنه المسبب عنه أي فأخذناهم إثر ذلك بَغْتَةً أي فجأة. وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بشيء من ذلك ولا يخطرون ببالهم شيئا من المكاره، والجملة حال مؤكدة لمعنى لبغتة، وهذا أشد أنواع الأخذ كما قيل: وأنكأ شيء يفجؤك البغت، وقيل: المراد بعدم الشعور عدم تصديقهم بأخبار الرسل عليهم السلام بذلك لا خلو أذهانهم عنه ولا عن وقته لقوله تعالى: ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ [الأنعام: 131] ولا يخفى ما فيه من الغفلة عن معنى الغفلة وعن محل الجملة. وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى أي القرى المهلكة المدلول عليها بقوله سبحانه: فِي قَرْيَةٍ فاللام للعهد الذكري والقرية وإن كانت مفردة لكنها في سياق النفي فتساوي الجمع، وجوز أن تكون اللام للعهد الخارجي إشارة إلى مكة وما حولها. وتعقب ذلك بأنه غير ظاهر من السياق، ووجه بأنه تعالى لما أخبر عن القرى الهالكة بتكذيب الرسل وأنهم لو آمنوا سلموا وغنموا انتقل إلى إنذار أهل مكة وما حولها مما وقع بالأمم والقرى السابقة. وجوز في الكشاف أن تكون للجنس، والظاهر أن المراد حينئذ ما يتناول القرى المرسل إلى أهلها من المذكورة وغيرها لا ما لا يتناول قرى أرسل إليها نبي وأخذ أهلها بما أخذ وغيرها كما قيل لإباء ظاهر ما في حيز الاستدراك الآتي عنه آمَنُوا أي بما أنزل على أنبيائهم وَاتَّقَوْا أي ما حرم الله تعالى عليهم كما قال قتادة ويدخل في ذلك ما أرادوه من كلمتهم السابقة. لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي ليسرنا عليهم الخير من كل جانب، وقيل: المراد بالبركات السماوية المطر وبالبركات الأرضية النبات. وأيا ما كان ففي فتحنا استعارة تبعية. ووجه الشبه بين المستعار منه والمستعار له الذي أشرنا إليه سهولة التناول، ويجوز أن يكون هناك مجاز مرسل والعلاقة اللزوم ويمكن أن يتكلف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 11 لتحصيل الاستعارة التمثيلية، وفي الآية على ما قيل إشكال وهو أنه يفهم بحسب الظاهر منها أنه لم يفتح عليهم بركات من السماء والأرض، وفي [الأنعام: 44] فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ وهو يدل على أنه فتح عليهم بركات من السماء والأرض وهو معنى قوله سبحانه: أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ لأن المراد منها الخصب والرخاء والصحة والعافية لمقابلة أخذناهم بالبأساء والضراء، وحمل فتح البركات على ادامته أو زيادته عدول عن الظاهر وغير ملائم لتفسيرهم الفتح بتيسير الخير ولا المطر والنبات. وأجاب عنه الخيالي بأنه ينبغي أن يراد بالبركات غير الحسنة أو يراد آمنوا من أول الأمر فنجوا من البأساء والضراء كما هو الظاهر، والمراد في سورة الأنعام بالفتح ما أريد بالحسنة هاهنا فلا يتوهم الاشكال انتهى. وأنت خبير بأن إرادة آمنوا من أول الأمر إلى آخره غير ظاهرة بل الظاهر أنهم لو أنهم آمنوا بعد أن ابتلوا ليسرنا عليهم ما يسرنا مكان ما أصابهم من فنون العقوبات التي بعضها من السماء كإمطار الحجارة وبعضها من الأرض كالرجفة وبهذا ينحل الاشكال لأن آية الأنعام لا تدل على أنه فتح لهم هذا الفتح كما هو ظاهر لتاليها، وما ذكر من أن المراد بالفتح هناك ما أريد بالحسنة هاهنا إن كان المراد به أن الفتح هناك واقع. وقع إعطاء الحسنة بدل السيئة هنا حيث كان ذكر كل منهما بعد ذكر الأخذ بالبأساء والضراء وبعده الأخذ بغتة فربما يكون له وجه لكنه وحده لا يجدي نفعا، وإن كان المراد به أن مدلول ذلك العام المراد به التكثير هو مدلول الحسنة فلا يخفى ما فيه فتدبر، وقيل: المراد بالبركات السماوية والأرضية الأشياء التي تحمد عواقبها ويسعد في الدارين صاحبها وقد جاءت البركة بمعنى السعادة في كلامهم فلتحمل هنا على الكامل من ذلك الجنس ولا يفتح ذلك إلا للمؤمن بخلاف نحو المطر والنبات والصحة والعافية فإنه يفتح له وللكافر أيضا استدراجا ومكرا، ويتعين هذا الحمل على ما قيل إذا أريد من القرى ما يتناول قرى أرسل إليها نبي وأخذ أهلها بما أخذ وغيرها، وقيل: البركات السماوية إجابة الدعاء والأرضية قضاء الحوائج فليفهم. وقرأ ابن عامر «لفتّحنا» بالتشديد وَلكِنْ كَذَّبُوا أي ولكن لم يؤمنوا ولم يتقوا، وقد اكتفى بذكر الأول لاستلزامه الثاني للإشارة إلى أنه أعظم الأمرين فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من أنواع الكفر والمعاصي التي من جملتها قولهم السابق، والظاهر أن هذا الأخذ والمتقدم في قوله سبحانه: فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ واحد وليس عبارة عن الجدب والقحط كما قيل: لأنهما قد زالا بتبديل الحسنة مكان السيئة، وحمل أحد الأخذين على الأخذ الأخروي والآخر على الدنيوي بعيد، ومن ذهب إلى حمل أل على الجنس على الوجه الأخير فيه يلزمه أن يحمل كذبوا فأخذناهم على وقوع التكذيب والأخذ فيما بينهم ولا يخفى بعده أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى الهمزة لانكار الواقع واستقباحه، وقيل: لانكار الوقوع ونفيه، وتعقب بأن فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلخ يأباه، والفاء للتعقيب مع السبب، والمراد بأهل القرى قيل: أهل القرى المذكورة على وضع المظهر موضع المضمر للايذان بأن مدار التوبيخ أمن كل طائفة ما أتاهم من البأس لا أمن مجموع الأمم، وقيل: المراد بهم أهل مكة وما حواليها ممن بعث إليه نبينا صلّى الله عليه وسلّم وهو الأولى عندي وإلى ذلك ذهب محيي السنة، والعطف على القولين على فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً لا على محذوف ويقدر بما يناسب المقام كما وقع نحو ذلك في القرآن كثيرا، وأمر صدارة الاستفهام سهل، وقوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا إلخ اعتراض توسط بينهما للمسارعة إلى بيان أن الأخذ المذكور مما كسبته أيديهم نظرا للأول ولأنه يؤيد ما ذكر من أن الأخذ بغتة ترتب على الإيمان والتقوى، ولو عكس لانعكس الأمر نظرا للثاني، ولو جعلت اللام فيما تقدم للجنس أكد كذا هذا الاعتراض المعطوف والمعطوف عليها وشملهما شمولا سواء على ما في الكشف ولم يجعل العطف على فأخذناهم الأقرب لأنه لم يسق لبيان القرى وقصة هلاكها قصدا كالذي قبله فكان العطف عليه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 12 دونه أنسب وهذا إذا أريد بالقرى القرى المدلول عليها بما سبق، وأما إذا أريد بها مكة وما حولها فوجه ذلك أظهر لأن منشأ الإنكار ما أصاب الأمم السالفة لا ما أصاب أهل مكة ومن حولها من القحط وضيق الحال، وربما يقال: إذا كان المراد بأهل القرى في الموضعين أهل مكة وما حولها يكون العطف على الأقرب أنسب، والمعنى أبعد ذلك الأخذ لمن استكبر وتعزز وخالف الرسل عليهم السلام وشيوعه والعلم به يأمن أهل القرى المشاركون لهم في ذلك أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا أي عذابنا بَياتاً أي وقت بيات وهو مراد من قال ليلا، وهو مصدر بات ونصبه على الظرفية بتقدير مضاف، ويجوز أن يكون حالا من المفعول أي بائتين، وجوز أن يكون مصدر بيت ونصبه على أنه مفعول مطلق ليأتيهم من غير لفظه أي تبييتا أو حال من الفاعل بمعنى مبيتا بالكسر أو من المفعول بمعنى مبيتين بالفتح، واختار غير واحد الظرفية ليناسب ما سيأتي وَهُمْ نائِمُونَ حال من ضميرهم البارز أو المستتر في بياتا لتأويله بالصفة كما سمعت وهو حال متداخلة حينئذ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى انكار بعد إنكار للمبالغة في التوبيخ والتشديد، ولم يقصد الترتيب بينهما فلذا لم يؤت بالفاء. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر. أَوَبسكون الواو وهي لأحد الشيئين والمراد الترديد بين أن يأتيهم العذاب بياتا وما دل عليه قوله سبحانه: أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى أي ضحوة النهار وهو في الأصل ارتفاع الشمس أو شروقها وقت ارتفاعها ثم استعمل للوقت الواقع فيه ذلك وهو أحد ساعات النهار عندهم وهي الذرور والبزوغ والضحى والغزالة والهاجرة والزوال والدلوك والعصر والأصيل والصنوت والحدور والغروب وبعضهم يسميها البكور والشروق والإشراق والراد والضحى والمنوع والهاجرة والأصيل والعصر والطفل والحدور والغروب، ويكون كما قال الشهاب متصرفا إن لم يرد به وقت من يوم بعينه وغير متصرف إن أريد به ضحوة يوم معين فيلزم النصب على الظرفية وهو مقصور فإن فتح مد، وقد عدوا لفظ الضحى مما يذكر ويؤنث. وَهُمْ يَلْعَبُونَ أي يلهون من فرط الغفلة وهو مجاز مرسل في ذلك، ويحتمل أن يكون هناك استعارة أي يشتغلون بما لا نفع فيه كأنهم يلعبون أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ تكرير لمجموع الانكارين السابقين جمعا بين التفريق قصدا إلى زيادة التحذير والإنذار، وذكر جمع من جلة المحققين أنه لو جعل تكرير له ولما سلف من غرة أهل القرى السابقة أيضا على معنى أن الكل نتيجة الأمن من مكر الله تعالى لجاز إلا أنه لما جعل تهديدا للموجودين كان الأنسب التخصيص، وفيه تأمل. والمكر في الأصل الخداع ويطلق على الستر يقال: مكر الليل أي ستر بظلمته ما هو فيه، وإذا نسب إليه سبحانه فالمراد به استدراجه العبد العاصي حتى يهلكه في غفلته تشبيها لذلك بالخداع، وتجوز هذه النسبة إليه سبحانه من غير مشاكلة خلافا لبعضهم، وهو هنا إتيان البأس في الوقتين والحالين المذكورين، وهل كان تبديل مكان السيئة الحسنة المذكور قبل مكرا واستدراجا أو ملاطفة ومراوحة؟ فيه خلاف والكل محتمل فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ أي الذين خسروا أنفسهم فأضاعوا فطرة الله التي فطر الناس عليها والاستعداد القريب المستفاد من النظر في الآيات والفاء هنا متعلق كما قال القطب الرازي وغيره بمقدر كأنه قيل فلما آمنوا خسروا فلا يأمن إلخ. وقال أبو البقاء إنها للتنبيه على تعقيب العذاب أمن مكر الله تعالى، وقد يقال: إنها لتعليل ما يفهمه الكلام من ذم الأمن واستقباحه أو يقال إنها فصيحة، ويقدر ما يستفاد من الكلام شرطا أي إذا كان الأمن في غاية القبح فلا يرتكبه إلا من خسر نفسه، واستدلت الحنفية بالآية على أن الأمن من مكر الله تعالى وهو كما في جميع الجوامع الاسترسال في المعاصي اتكالا على عفو الله تعالى كفر، ومثله اليأس من رحمة الله تعالى لقوله تعالى: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ [يوسف: 87] وذهبت الشافعية إلى أنهما من الكبائر لتصريح ابن مسعود رضي الله تعالى عنه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 13 بذلك (1) وروى ابن أبي حاتم. والبزار عن ابن عباس أنه صلّى الله عليه وسلّم سئل ما الكبائر؟ فقال: الشرك بالله تعالى واليأس من روح الله والأمن من مكر الله وهذا أكبر الكبائر قالوا: وما ورد من أن ذلك كفر محمول على التغليظ وآية لا ييأس إلخ كقوله تعالى الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ [النور: 3] ولا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ [المجادلة: 22] في قوله. وقال بعض المحققين: إن كان في الأمن اعتقاد أن الله تعالى لا يقدر على الانتقام منه وكذا إذا كان في اليأس اعتقاد عدم القدرة على الرحمة والإحسان أو نحو ذلك فذلك مما لا ريب في أنه كفر وإن خلا عن نحو هذا الاعتقاد ولم يكن فيه تهاون وعدم مبالاة بالله تعالى فذلك كبيرة وهو كالمحاكمة بين القولين أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أي يخلفون من خلا قبلهم من الأمم، والمراد بهم كما روي عن السدي المشركون وفسروا بأهل مكة ومن حولها، وعليه لا يبعد أن يكون في الآية إقامة الظاهر مقام الضمير إذا كان المراد بأهل القرى سابقا أهل مكة وما حولها، وتعدية فعل الهداية باللام لأنها كما روي عن ابن عباس. ومجاهد بمعنى التبيين وهو على ما قيل: إما بطريق المجاز أو التضمين أو لتنزيله منزلة اللازم كأنه قيل: أغفلوا ولم يفعل الهداية لهم أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ أي بجزاء ذنوبهم كما أصبنا من قبلهم، وإذا ضمن أصبنا معنى أهلكنا لا يحتاج إلى تقدير مضاف. وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن مقدر وخبره الجملة الشرطية والمصدر المؤول فاعل يَهْدِ ومفعوله على احتمال التضمين محذوف أي أو لم يتبين لهم مآل أمرهم أو نحو ذلك. وجوز أن يكون الفاعل ضمير الله تعالى وأن يكون ضميرا عائدا على ما يفهم مما قبل، أي أو لم يهد لهم ما جرى على الأمم السابقة. وقرأ عبد الرحمن السلمي وقتادة، وروي عن مجاهد. ويعقوب «نهد» بالنون فالمصدر حينئذ مفعول، ومن الناس من خص اعتبار التضمين أو المجاز بهذه القراءة واعتبار التنزيل منزلة اللازم بقراءة الياء، وفيه بحث، وقوله تعالى: وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ جملة معترضة تذييلية أي ونحن من شأننا وسنتنا أن نطبع على قلب من لم نرد منه الايمان حتى لا يتعظ بأحوال من قبله ولا يلتفت إلى الأدلة، ومن أراد من أهل القرى فيما تقدم أهل مكة جعله تأكيدا لما نعى عليهم من الغرة والأمن والخسران أي ونحن نطبع على قلوبهم فلذلك اقتفوا آثار من قبلهم ولم يعتبروا بالآيات وأمنوا من البيات لمستخلفيهم حذو النعل بالنعل. وجوز عطفه على مقدر دل عليه قوله تعالى أَوَلَمْ يَهْدِ وعطفه عليه أيضا وهو وإن كان إنشاء إلا أن المقصود منه الإخبار بغفلتهم وعدم اهتدائهم أي لا يهتدون أو يغفلون عن الهداية أو عن التأمل والتفكر ونطبع إلخ. وجوز أن يكون عطفا على يرثون، واعترض بأنه صلة والمعطوف على الصلة صلة ففيه الفصل بين أبعاض الصلة بأجنبي وهو أَنْ لَوْ نَشاءُ سواء كانت فاعلا أو مفعولا، ونقل أبو حيان عن الأنباري أنه قال: يجوز أن يكون معطوفا على أَصَبْناهُمْ إذ كان بمعنى نصيب فوضع الماضي موضع المستقبل عند وضوح معنى الاستقبال كما في قوله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ [الفرقان: 10] أي إن يشأ، يدل عليه وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً [الفرقان: 10] فجعل لو شرطية بمعنى إن ولم يجعلها التي هي لما كان سيقع لوقوع غيره وجعل أصبنا بمعنى نصيب، وقد يرتكب التأويل في جانب المعطوف فيؤول «نطبع» بطبعنا، ورد الزمخشري هذا العطف بأنه لا يساعد عليه المعنى لأن القوم كانوا مطبوعا على قلوبهم موصوفين بصفة من قبلهم من اقتراف الذنوب والإصابة بها وذلك يؤدي إلى خلوهم عن هذه الصفة وأن الله تعالى لو شاء لا تصفوا بها، وتعقبه ابن المنير بأنه لا يلزم أن يكون المخاطبون موصوفين بالطبع ولا بد وهم وإن كانوا كفارا ومقترفين للذنوب فليس الطبع من لوازم الاقتراف البتة إذ هو التمادي على الكفر   (1) قيل الأشبه أن يكون الخبر مرفوعا اهـ منه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 14 والإصرار والغلو في التصميم حتى يكون الموصوف به مأيوسا من قبوله للحق ولا يلزم أن يكون كل كافر بهذه المثابة بلى إن الكافر يهدد لتماديه على الكفر بأن يطبع الله تعالى على قلبه فلا يؤمن أبدا وهو مقتضى العطف على أَصَبْناهُمْ فتكون الآية قد هددتهم بأمرين الإصابة بذنوبهم والطبع على قلوبهم والثاني أشد من الأول وهو أيضا نوع من الإصابة بالذنوب والعقوبة عليها ولكنه أنكى أنواع العذاب وأبلغ صنوف العقاب، وكثيرا ما يعاقب الله تعالى على الذنوب بالإيقاع في ذنب أكبر منه، وعلى الكفر بزيادة التصميم عليه والغلو فيه كما قال سبحانه: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التوبة: 125] كما زادت المؤمنين إيمانا إلى إيمانهم وهذا النوع من الثواب والعقاب مناسب لما كان سببا فيه وجزاء عليه فثواب الإيمان إيمان وثواب الكفر كفر، وإنما الزمخشري يحاذر من هذا الوجه دخول الطبع في مشيئة الله تعالى وذلك عنده محال لأنه بزعمه قبيح والله سبحانه عنه متعال، وفي التقريب نحو ذلك فإنه نظر فيما ذكره الزمخشري بأن المذكور كونهم مذنبين دون الطبع وأيضا جاز أن يراد لو شئنا زدنا في طبعهم أو لأمناه، والحق كما قال غير واحد من المحققين أن منعه من هذا العطف ليس بناء على أنه لا يوافق رأيه فقط بل لأن النظم لا يقتضيه فإن قوله سبحانه: فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ أي سماع تفهم واعتبار يدل على أنهم مطبوع على قلوبهم لأن المراد استمرار هذه الحال لا أنه داخل في حكم المشيئة لأن عدم السماع كان حاصلا ولو كان كذلك لوجب أن يكون منفيا، وأيضا التحقيق لا يناسب الغرض، وكَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ ظاهر الدلالة على أن الوارثين والموروثين كل من أهل الطبع وكذا قوله سبحانه: فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا يدل على أن حالهم منافية للإيمان وأنه لا يجيء منه البتة وأيضا إدامة الطبع أو زيادته لا يصلح عقوبة للكافرين بل قد يكون عقوبة ذنب المؤمن كما ورد في الصحيح وما يورد من الدغدغة على هذا مما لا يلتفت إليه تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها جملة مستأنفة جارية مجرى الفذلكة مما قبلها منبئة عن غاية غواية الأمم المذكورة وتلك إشارة إلى قرى الأمم المحكية من قوم نوح وعاد وثمود وأضرابهم، واللام للعهد وجوز أن تكون للجنس، وهو مبتدأ والقرى صفته والجملة بعده خبر. وجوز الزمخشري أن تكون تلك مبتدأ، والقرى خبر، والجملة خبر بعد خبر على رأي من يرى جواز كون الخبر الثاني جملة، وأن تكون الجملة حالا، وإفادة الكلام بالتقييد بها، واعترضه في التقريب بأنه جعل شرط الإفادة التقييد بالحال وعلى تقدير كون ذلك خبرا بعد خبر ينتفي الشرط إلا أن يريد تلك القرى المعلومة حالها أو صفتها على أن اللام للعهد لكنه يوجب الاستغناء عن اشتراط إفادته بالحال انتهى، وفيه أن حديث الاستغناء ممنوع فإن المعنى كما في الكشف على التقديرين مختلف لأنه إذا جعل حالا يكون المقصود تقييده بالحال كما ذكره الزجاج في نحو هذا زيد قائما إذا جعل قيدا للخبر إن الكلام إنما يكون مع من يعلم أنه زيد وإلا جاء الاحالة لأنه يكون زيد قائما كان أو لا، وإذا جعل خبرا بعد خبر فتلك القرى على أسلوب ذلك الكتاب على أحد الوجوه ونَقُصُّ خبر ثان تفخيما على تفخيم حيث نبه على أن لها قصصا وأحوالا أخرى مطوية. وقال الطيبي: إن الحال لما كانت فضلة كان الاشكال قائما في عدم إفادة الخبر فأجيب بأنها ليست فضلة من كل وجه وأما الخبر فلا عجب من كونه كالجزء من الأول كما في قولك هذا حلو حامض، وهو بمنزلته، وفيه أن عد ما نحن فيه من ذلك القبيل حامض ومستغنى عنه بالحلو، ومثله، بل أدهى وأمر. الجواب بأنه لما اشترك الحلوان في ذات المبتدأ كفى إفادة أحدهما وصيغة المضارع للإيذان بعدم انقضاء القصة بعد ومِنْ للتبعيض أي بعض أخبارها التي فيها عظة وتذكير، وتصدير الكلام بذكر القرى وإضافة الأنباء أي الأخبار العظيمة الشأن إليها مع أن المقصود أنباء أهلها وبيان أحوالهم حسبما يؤذن به قوله سبحانه: وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ لما ذكره شيخ الإسلام من أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 15 حكاية هلاكهم بالمرة على وجه الاستئصال بحيث يشمل أماكنهم أيضا بالخسف والرجفة وبقائها خاوية معطلة أهول وأفظع، والباء في قوله تعالى: بِالْبَيِّناتِ متعلقة إما بالفعل المذكور على أنها للتعدية، وإما بمحذوف وقع حالا من فاعله أي متلبسين بالبينات على معنى أن رسول كل أمة من الأمم المهلكة الخاص بهم جاءهم بالمعجزات البينة الجمة لا أن كل رسول جاء بينة واحدة، وما ذكروه من أن مقابلة الجمع بالجمع تقتضي انقسام الآحاد على الآحاد لا يقتضي كما قال المولى المدقق أبو القاسم السمرقندي في تعليقاته على المطول أن يلزم في كل مقابلة مقارنة الواحد للواحد لأن انقسام الآحاد على الآحاد كما يجوز أن يكون على السواء يجوز أن يكون على التفاوت، مثلا إذا قيل: باع القوم دوابهم يفهم أن كلّا منهم باع ما له من دابة، ويجوز أن تتعدد دابة البعض، ولهذا قيل في قوله سبحانه: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ [المائدة: 6] إن غسل يدي كل شخص ثابت بالكتاب والمقام هنا يقتضي ما ذكرناه فإن الجملة مستأنفة مبينة لكمال عتوهم وعنادهم، وقوله عز شأنه: فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بيان لاستمرار عدم إيمانهم في الزمان الماضي لا لعدم استمرار إيمانهم، ونظير ذلك فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [المائدة: 69] ، وترتيب حالهم هذه على مجيء الرسل بالبينات بالفاء لما أن الاستمرار على فعل بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه يعد بحسب العنوان فعلا جديدا وصنعا حادثا كما في وعظته فلم ينزجر ودعوته فلم يجب، واللام لتأكيد النفي أي فما صح وما استقام لقوم من أولئك الأقوام في وقت من الأوقات ليؤمنوا بل كان ذلك ممتنعا منهم إلى أن لقوا ما لقوا لغاية عتوهم وشدة شكيمتهم في الكفر والطغيان ثم إن كان المحكيّ آخر حال كل قوم منهم فالمراد بعدم إيمانهم هو إصرارهم على ذلك بعد اللتيا والتي وبما أشير إليه بقوله تعالى: بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ تكذيبهم من لدن مجيء الرسل عليهم السلام إلى وقت الإصرار والعناد، وهذا معنى كلام الزجاج فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤية تلك المعجزات بما كذبوا قبل رؤيتها، يعني أول ما جاؤوهم فاجاؤهم بالتكذيب فأتوا بالمعجزات فأصروا على التكذيب وإلى هذا ذهب الحسن أيضا، وإنما لم يجعل ذلك مقصودا بالذات كالأول بل جعل صلة للموصول المحذوف عائده أي الذي كذبوه إيذانا بأنه بين في نفسه، وإنما المحتاج إلى البيان عدم إيمانهم بعد تواتر البينات الباهرة وتظاهر المعجزات الظاهرة التي كانت تضطرهم إلى القبول لو كانوا من ذوي العقول، والموصول الذي تعلق به الإيمان والتكذيب إيجابا وسلبا عبارة عن جميع الشرائع التي جاء بها كل رسول أصولها وفروعها وإن كان المحكي أحوال كل قوم منهم فالمراد على ما قيل بما ذكر أولا كفرهم المستمر من حين مجيء الرسل عليهم السلام إلى آخر أمرهم وبما أشير إليه آخرا تكذيبهم قبل مجيئهم فلا بد من جعل الموصول عبارة عن أصول الشرائع التي لا تقبل التبدل والتغير واجتمعت الرسل قاطبة عليها ودعوا الأمم إليها كلمة التوحيد ولوازمها ومعنى تكذيبهم بها قبل مجيء الرسل أنهم كانوا يسمعونها من بقايا من قبلهم فيكذبونها لا أن العقل يرشد إليها ويحكم بها ويخالفونه ثم كانت حالهم بعد مجيء الرسل إليهم كحالهم قبل كأن لم يبعث إليهم أحد وتخصيص التكذيب وعدم الإيمان بما ذكر من الأصول لظهور حال الباقي بدلالة النص فانهم حين لم يؤمنوا بما اجتمعت عليه كافة الرسل فلأن لا يؤمنوا بما تفرد به بعضهم أولى، وعدم جعل هذا التكذيب مقصودا بالذات لما أنه ليس مدار العذاب بل مداره التكذيب بعد البعثة كما يفصح عنه قوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] وإنما ذكر ما وقع قبلها بيانا لعراقتهم في الكفر والتكذيب، وقيل: المراد بما أشير إليه آخرا تكذيبهم الذي أسروه يوم الميثاق، وروي ذلك عن أبي بن كعب والربيع والسدي ومقاتل واختاره الطبري. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما عن مجاهد أن الآية على حد قوله تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الأنعام: 28] فالمعنى ما كانوا لو أهلكناهم ثم أحييناهم ليؤمنوا بما كذبوا قبل إهلاكهم، وعلى هذا فالمراد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 16 بالموصول جميع الشرائع أصولها وفروعها وفيه من المبالغة في إصرارهم وعتوهم ما لا يخفى إلا أنه في غاية الخفاء، وأيّا ما كان فالضمائر الثلاثة متوافقة في المرجع، وقيل ضمير كَذَّبُوا راجع إلى أسلافهم، والمعنى فما كان الأبناء ليؤمنوا بما كذب به الآباء، ولا يخفى ما فيه من التعسف، وذهب الأخفش إلى أن الياء سببية وما مصدرية والمعنى عليه كما قيل: فما كانوا ليؤمنوا الآن أي عند مجيء الرسل لما سبق منهم من التكذيب الذي ألفوه وتمرنوا عليه قبل مجيئهم أو لم يؤمنوا قط واستمروا على تكذيبهم لما حصل منهم من التكذيب حين مجيء الرسل. كَذلِكَ أي مثل ذلك الطبع الشديد المحكم يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ أي قلوبهم فوضع المظهر موضع المضمر ليدل على أن الطبع بسبب الكفر وإلى هذا يشير كلام الزجاج وصرح به بعضهم، ويجوز ولعله الأولى أن يراد بالكافرين ما يشمل المذكورين وغيرهم وفي ذلك من تحذير السامعين ما لا يخفى، وإظهار الاسم الجليل بطريق الالتفات لتربية المهابة وإدخال الروعة وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ أي أكثر الأمم المذكورين، ووجد متعدية لواحد واللام متعلقة بها كما في قولك: ما وجدت لزيد مالا أي ما صادفت له مالا ولا لقيته أو بمحذوف كما قال أبو البقاء وقع حالا من قوله تعالى: مِنْ عَهْدٍ لأنه في الأصل صفة للنكرة فلما قدمت عليها انتصبت حالا ومن مزيدة للاستغراق وجوز أن تكون وجد علمية والأول أظهر، والكلام على تقدير مضاف أي ما وجدنا وفاء عهد كائن لأكثرهم فانهم نقضوا ما عاهدوا عليه الله تعالى عند مساس البأساء والضراء قائلين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين، وإلى هذا ذهب قتادة، وتخصيص هذا الشأن بأكثرهم ليس لأن بعضهم كانوا يوفون بالعهد بل لأن بعضهم كانوا لا يعهدون ولا يوفون، وقيل: المراد بالعهد ما وقع يوم أخذ الميثاق، وروي ذلك عن أبي بن كعب. وأبي العالية، وقيل: المراد به ما عهد الله تعالى إليهم من الإيمان والتقوى بنصب الدلائل والحجج وإنزال الآيات، وفسره ابن مسعود بالإيمان كما في قوله تعالى: اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً [مريم: 78] ، وقيل: هو بمعنى البقاء أي ما وجدنا لهم بقاء على فطرتهم، والمراد بالأكثر في الكل الكل، وذهب كثير من الناس إلى أن ضمير أكثرهم للناس وهو معلوم لشهرته، والجملة إلى فاسقين اعتراض لأنه لا اختصاص له بما قبله لكن لعمومه يؤكده. وعلى الأول تتميم على ما نص عليه الطيبي وغيره وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ أي أكثر الأمم أو أكثر الناس أي علمناهم كقولك: وجدت زيدا فاضلا وبين وجد هذه ووجد السابق على المعنى الأول فيه الجناس التام المماثل وإِنْ مخففة من الثقيلة وضمير الشأن محذوف ولا عمل لها فيه لأنها ملغاة على المشهور، وتعين تفسير وجد بعلم الناصبة للمبتدأ والخبر لدخولها عليهما، فقد صرح الجمهور أنها لا تدخل إلا على المبتدأ أو على الأفعال الناسخة وخالف في ذلك الأخفش فلا يرى ذلك. وجوز دخولها على غيرهما، وذهب الكوفيون إلى أن إن نافية، واللام في قوله سبحانه: لَفاسِقِينَ اللام الفارقة وعند الكوفيين أن إن نافية واللام بمعنى إلا أي ما وجدنا أكثرهم الا خارجين عن الطاعة ويدخل في ذلك نقض العهد، وذكر الطيبي أنه إذا فسر الفاسقون بالناكثين يكون في الآية الطرد والعكس، وهو أن يؤتى بكلامين يقرر الأول بمنطوقه مفهوم الثاني وبالعكس، وهو كقوله تعالى: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النور: 58] إلى قوله سبحانه: لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ [النور: 58] فمنطوق الأمر بالاستئذان في الأوقات الثلاثة خاصة مقرر لمفهوم رفع الجناح فيما عداها وبالعكس، وكذا قوله تعالى: لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6] وهذا النوع من الإطناب يقابله في الإيجاز نوع الاحتباك ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى أي أرسلناه عليه السلام بعد الرسل أو بعد الأمم والأول متقدم في قوله سبحانه: وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ والثاني مدلول عليه بتلك القرى والاحتمال الأول أولى، والتصريح بالبعدية مع ثم الدالة عليها قيل للتنصيص على أنها للتراخي الزماني الجزء: 5 ¦ الصفحة: 17 فانها كثيرا ما تستعمل في غيره، وقيل: للايذان بأن بعثه عليه السلام جرى على سنن السنة الإلهية من إرسال الرسل تترى، ومِنْ لابتداء الغاية، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر، وقوله سبحانه: بِآياتِنا متعلق بمحذوف وقع حالا من مفعول بعثنا أو صفة لمصدره أي بعثناه عليه السلام ملتبسا بها أو بعثناه بعثا ملتبسا بها وأريد بها الآيات التسع المفصلة إِلى فِرْعَوْنَ هو علم شخص ثم صار لقبا لكل من ملك مصر من العمالقة، كما أن كسرى لقب من ملك فارس، وقيصر لقب من ملك الروم، والنجاشي لقب من ملك الحبشة، وتبع لقب من ملك اليمن، وقيل: إنه من أول الأمر لقب لمن ذكر، واسمه الوليد بن مصعب بن الريان، وقيل: قابوس وكنيته أبو العباس، وقيل: أبو مرة، وقيل: أبو الوليد، وعن جماعة أن قابوسا والوليد اسمان لشخصين أحدهما فرعون موسى والآخر فرعون يوسف عليهما السلام، وعن النقاش. وتاج القراء أن فرعون موسى هو والد الخضر عليه السلام، وقيل: ابنه وذلك من الغرابة بمكان، ويلقب به كل عات ويقال فيه فرعون كزنبور، وحكى ابن خالويه عن الفراء ضم فائه وفتح عينه وهي لغة نادرة، ويقال فيه: فريع كزبير وعليه قول أمية بن الصلت: حي داود بن عاد وموسى ... وفريع بنيانه بالثقال وقيل: هو فيه ضرورة شعر ومنع من الصرف لأنه أعجمي، وحكى أبو الخطاب بن دحية في مروج البحرين عن أبي النصر القشيري في التيسير أنه بلغة القبط اسم للتمساح، والقول بأنه لم ينصرف لأنه لا سميّ له كإبليس عند من أخذه من أبلس ليس بشيء، وقيل: هو وأضرابه السابقة أعلام أشخاص وليست من علم الجنس لجمعها على فراعنة وقياصرة وأكاسرة، وعلم الجنس لا يجمع فلا بد من القول بوضع خاص لكل من تطلق عليه. وتعقب بأنه ليس بشيء لأن الذي غره قول الرضي إن علم الجنس لا يجمع لأنه كالنكرة شامل للقليل والكثير لوضعه للماهية فلا حاجة لجمعه، وقد صرح النحاة بخلافه وممن ذكر جمعه السهيلي في الروض الأنف فكأن مراد الرضي أنه لا يطرد جمعه وما ذكره تعسف نحن في غنى عنه وَمَلَائِهِ أي أشراف قومه وتخصيصهم بالذكر مع عموم بعثته عليه السلام لقومه كافة لأصالتهم في تدبير الأمور واتباع غيرهم لهم في الورود والصدور فَظَلَمُوا بِها أي بالآيات، وأصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه وهو يتعدى بنفسه لا بالباء إلا أنه لما كان هو والكفر من واد واحد عدّي تعديته أو هو بمعنى الكفر مجازا أو تضمينا أو هو مضمن معنى التكذيب أي ظلموا كافرين بها أو مكذبين بها، وقول بعضهم: إن المعنى كفروا بها مكان الإيمان الذي هو من حقها لوضوحها ظاهر في التضمين كأنه قيل كفروا بها واضعين الكفر في غير موضعه حيث كان اللائق بهم الإيمان. وقيل: الباء للسببية ومفعول ظلموا محذوف أي ظلموا الناس بصدهم عن الإيمان أو أنفسهم كما قال الحسن. والجبائي بسببها، والمراد به الاستمرار على الكفر بها إلى أن لقوا من العذاب ما لقوا. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أي آخر أمرهم، ووضع المفسدين موضع ضميرهم للايذان بأن الظلم مستلزم للافساد، والفاء لأنه كما أن ظلمهم بالآيات مستتبع لتلك العاقبة الهائلة كذلك حكايته مستتبع للأمر بالنظر إليها، والخطاب إما للنبي صلّى الله عليه وسلّم أو لكل من يتأتى منه النظر، وكَيْفَ كما قال أبو البقاء وغيره خبر كان قدم على اسمها لاقتضائه الصدارة، والجملة في حيز النصب بإسقاط الخافض كما، قيل: أي فانظر بعين عقلك إلى كيفية ما فعلنا بهم وَقالَ مُوسى كلام مبتدأ مسوق لتفصيل ما أجمل فيما قبله. يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ أي إليكم كما يشعر به قد جئتكم أو إليك كما يشعر به فأرسل مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 18 أي سيدهم ومالك أمرهم حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ جواب لتكذيبه عليه السلام المدلول عليه بقوله سبحانه: فَظَلَمُوا بِها، وحقيق صفة رسول أو خبر بعد خبر. وقيل: خبر مبتدأ محذوف أي أنا حقيق وهو بمعنى جدير وعَلى بمعنى الباء كما قال الفراء أو بمعنى حريص (1) وعَلى على ظاهرها، قال أبو عبيدة: أو بمعنى واجب، واستشكل بأن قول الحق هو الواجب على موسى عليه السلام لا العكس والكلام ظاهر فيه، وأجيب بأن أصله «حقيق عليّ» بتشديد الياء كما في قراءة نافع. ومجاهد أَنْ لا أَقُولَ إلخ فقلب لأمن الالتباس كما في قول خراش بن زهير: كذبتم وبيت الله حتى تعالجوا ... قوادم حرب لا تلين ولا تمري هي وطن آبائهم، وكان عدو الله تعالى والقبط قد استبعدوهم بعد انقراض الأسباط يستعملونهم ويكلفونهم الأفاعيل الشاقة كالبناء وحمل الماء فأنقذهم الله تعالى بموسى عليه السلام، وكان بين اليوم الذي دخل فيه يوسف عليه السلام مصر واليوم الذي دخل فيه موسى عليه السلام على ما روي عن وهب أربعمائة سنة، واستعمال الإرسال بما أشير إليه على ما يظهر من كلام الراغب حقيقة، وقيل: إنه استعارة من إرسال الطير من القفص تمثيلية أو تبعية، ولا يخفى أنه ساقط عن وكر القبول، والفاء لترتيب الإرسال أو الأمر به على ما قبله من رسالته عليه السلام ومجيئه بالبينة قالَ استئناف بياني كأنه قيل: فما قال فرعون؟ فقيل: قال: إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ من عند من أرسلك كما تدعيه فَأْتِ بِها أي فأحضرها عندي ليثبت بها صدقك في دعواك، فالمغايرة بين الشرط والجزاء مما لا غبار عليه، ولعل الأمر غني عن التزام ذلك لحصوله بما لا أظنه يخفى عليك إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك فإن كونك من جملة المعروفين بالصدق يقتضي إظهار الآية لا محالة فَأَلْقى عَصاهُ وكانت كما روى ابن المنذر. وابن أبي حاتم من عوسج. وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنها كانت من لوز. وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة أنه قال: ذكر لنا أنها عصا آدم عليه السلام أعطاها لموسى ملك حين توجه إلى مدين فكانت تضيء له بالليل ويضرب بها الأرض بالنهار فيخرج له رزقه ويهش بها على غنمه، والمشهور أنها كانت من آس الجنة وكانت لآدم عليه السلام ثم وصلت إلى شعيب فأعطاه إياها، وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن اسمها مأشا فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ أي حية ضخمة طويلة. وعن الفراء أن الثعبان هو الذكر العظيم من الحيات. وقال آخرون: إنه الحية مطلقا. وفي مجمع البيان أنه مشتق من ثعب الماء إذا انفجر، فكأنه سمي بذلك لأنه يجري كعنق الماء إذا انفجر مُبِينٌ أي ظاهر أمره لا يشك في كونه ثعبانا فهو إشارة إلى أن الصيرورة حقيقية لا تخييلية، وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على كمال سرعة الانقلاب وثبات وصف الثعبانية فيها كأنها في الأصل كذلك، وروي عن ابن عباس. والسدي أنه عليه السلام لما ألقاها صارت حية صفراء شعراء فاغرة فاها بين لحييها ثمانون ذراعا وارتفعت من الأرض بقدر ميل وقامت على ذنبها واضعة لحيها الأسفل في الأرض ولحيها الأعلى على سور القصر وتوجهت نحو فرعون لتأخذه فوثب عن سريره هاربا وأحدث، وفي بعض الروايات أنه أحدث في ذلك اليوم أربعمائة مرة، وفي أخرى أنه   (1) أي تضمينا اهـ منه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 19 استمر معه داء البطن حتى غرق، وقيل: إنها أخذت قبة فرعون بين أنيابها وأنها حملت على الناس فانهزموا مزدحمين فمات منهم خمسة وعشرون ألفا، فصاح فرعون يا موسى أنشدك بالذي أرسلك أن تأخذها وأنا أؤمن بك وأرسل معك بني إسرائيل، فأخذها فعادت عصا كما كانت، وعن معمر أنها كانت في العظم كالمدينة، وقيل: كان طولها ثمانين ذراعا، وعن وهب بن منبه أن بين لحييها اثني عشر ذراعا، وعلى جميع الروايات لا تعارض بين ما هنا وقوله سبحانه: كَأَنَّها جَانٌّ [النمل: 10، القصص: 31] بناء على أن الجان هي الحية الصغيرة لما قالوا: إن القصة غير واحدة، أو أن المقصود من ذلك تشبيهها في خفة الحركة بالجان لا بيان جثتها، أو لما قيل: إنها انقلبت جانا وصارت ثعبانا فحكيت الحالتان في آيتين، وسيأتي إن شاء الله تعالى. وتلحق خيل لا هوادة بينها ... وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر وضعف بأن القلب سواء كان قلب الألفاظ بالتقديم والتأخير كخرق الثوب المسمار أم قلب المعنى فقط كما هنا إنما يفصح إذا تضمن نكنة كما في البيت، وهي فيه الإشارة إلى كثرة الطعن حتى شقيت الرماح بهم لتكسرها بسبب ذلك، وقد أفصح عن هذا المتنبي بقوله: والسيف يشقى كما تشقى الضلوع به ... وللسيوف كما للناس آجال وبأن بين الواجب ومن يجب عليه ملازمة فعبر عن لزومه للواجب بوجوبه على الواجب كما استفاض العكس، وليس هو من الكناية الإيمائية كقول البحتري: أو ما رأيت الجود ألقى رحله ... في آل طلحة ثم لم يتحول وقول ابن هانىء: فما جازه جود ولا حل دونه ... ولكن يسير الجود حيث يسير بل هو تجوز فيه مبالغة حسنة، وبان ذلك من الإغراق في الوصف بالصدق بأن يكون قد جعل قول الحق بمنزلة رجل يجب عليه شيء ثم جعل نفسه أي قابليته لقول الحق وقيامه به بمنزلة الواجب على قول الحق فيكون استعارة مكنية وتخييلية، والمعنى أنا واجب على الحق أن يسعى في أن أكون قائله والناطق به فكيف يتصور مني الكذب، واعترضه القطب الرازي وغيره بأنه إنما يتم لو كان هو حقيقا على قول الحق وليس كذلك بل على قوله الحق، وجعل قوله الحق بحيث يجب عليه أن يسعى في أن يكون قائله لا معنى له. وأجيب بأن مبنى ذلك على أن المصدر المؤول لا بد من إضافته إلى ما كان مرفوعا به وليس بمسلم فإنه قد يقطع النظر عن ذلك. وقد صرح بعض النحاة بأنه قد يكون نكرة نحو وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى [يونس: 37] أي افتراء، وهاهنا قد قطع النظر فيه عن الفاعل إذ المعنى حقيق على قول الحق وهو محصل مجموع الكلام فلا إشكال، وذكر ابن مقسم في توجيه الآية على قراءة الجمهور وادعى أنه الأولى أن عَلى أَنْ لا أَقُولَ متعلق برسول إن قلنا بجواز إعمال الصفة إذا وصفت وإن لم نقل به وهو المشهور فهو متعلق بفعل يدل عليه أي أرسلت على أن لا أقول إلخ، والأولى عندي كون على بمعنى الباء، ويؤيده قراءة أبي بأن لا أقول. وقرأ عبد الله «أن لا أقول» بتقدير الجار وهو على أو الباء، وقد تقدم يقدر على بياء مشددة، وقوله سبحانه: قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ استئناف مقرر لما قبله، ولم يكن هذا وما بعده من جواب فرعون إثر ما ذكر هاهنا بل بعد ما جرى بينهما من المحاورات التي قصها الله تعالى في غير ما موضع، وقد طوى ذكرها هنا للايجاز ومِنْ متعلقة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 20 إما بجئتكم على أنها لابتداء الغاية مجازا وإما بمحذوف وقع صفة لبينة مفيدة لفخامتها الإضافية مؤكدة لفخامتها الذاتية المستفادة من التنوين التفخيمي كما مر غير مرة، وإضافة اسم الرب إلى ضمير المخاطبين بعد إضافته فيما قبل إلى العالمين لتأكيد وجوب الإيمان بها، وذكر الاسم الجليل الجامع في بيان كونه جديرا بقول الحق عليه سبحانه تهويلا لأمر الافتراء عليه تعالى شأنه مع الإشارة إلى التعليل بما ليس وراءه غاية فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي خلهم حتى يذهبوا معي إلى الأرض المقدسة التي تحقيق ذلك. والآية من أقوى أدلة جواز انقلاب الشيء عن حقيقته كالنحاس إلى الذهب، إذ لو كان ذلك تخييلا لبطل الاعجاز، ولم يكن لذكر مبين معنى مبين، وارتكاب غير الظاهر غير ظاهر، ويدل لذلك أيضا أنه لا مانع في القدرة من توجه الأمر التكويني إلى ما ذكر وتخصيص الإرادة له، والقول بأن قلب الحقائق محال والقدرة لا تتعلق به فلا يكون النحاس ذهبا رصاص مموه، والحق جواز الانقلاب إما بمعنى أنه تعالى يخلق بدل النحاس ذهبا على ما هو رأي المحققين، أو بأن يسلب عن أجزاء النحاس الوصف الذي صار به نحاسا ويخلق فيه الوصف الذي يصير به ذهبا على ما هو رأي بعض المتكلمين من تجانس الجواهر واستوائها في قبول الصفات، والمحال إنما هو انقلابه ذهبا مع كونه نحاسا لامتناع كون الشيء في الزمن الواحد نحاسا وذهبا، وعلى أحد هذين الاعتبارين توكأ أئمة التفسير في أمر العصا وَنَزَعَ يَدَهُ أي أخرجها من جيبه لقوله تعالى: أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ [النمل: 12] أو من تحت أبطه لقوله سبحانه: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ [طه: 22] والجمع بينهما ممكن في زمان واحد، وكانت اليد اليمنى كما صرح به في بعض الآثار فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ أي بيضاء بياضا نورانيا خارجا عن العادة يجتمع عليه النظار. فقد روي أنه أضار له ما بين السماء والأرض، وجاء في رواية أنه أرى فرعون يده، وقال عليه السلام: ما هذه؟ فقال: يدك. ثم أدخلها جيبه وعليه مدرعة صوف ونزعها فإذا هي بيضاء بياضا نورانيا غلب شعاعه شعاع الشمس، وقيل: المعنى بيضاء لأجل النظار لا أنها بيضاء في أصل خلقتها لأنه عليه السلام كان آدم شديد الأدمة، فقد أخرج البخاري عن ابن عمر قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأما موسى فآدم جثيم سبط كأنه من رجال الزط» وعنى عليه الصلاة والسلام بالزط جنسا من السودان والهنود، ونص البعض على أن ذلك البياض إنما كان في الكف وإطلاق اليد عليها حقيقة. وفي القاموس اليد الكف أو من أطراف الأصابع إلى الكف، وأصلها يدي بدليل جمعها على أيدي ولم ترد اليد عند الإضافة إلى الضمير لما تقرر في محله، وجاء في كلامهم يد بالتشديد وهو لغة فيه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 21 قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أي الأشراف منهم وهم أهل مشورته ورؤساء دولته. إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ أي مبالغ في علم السحر ماهر فيه يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ أي من أرض مصر فَماذا تَأْمُرُونَ أي تشيرون في أمره كما فسره بذلك ابن عباس، فهو من الأمر بمعنى المشاورة، يقال: آمرته فآمرني أي شاورته فأشار علي، وقيل من الأمر المعهود، وماذا في محل نصب على أنه مفعول لتأمرون بحذف الجار، أي بأي شيء تأمرون، وقيل: فَما خبر مقدم وذا اسم موصول مبتدأ مؤخر، أي ما الذي تأمرون به قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ أي أخر أمرهما وأصدرهما عنك ولا تعجل في أمرهما حتى ترى رأيك فيهما، وقيل: احبسهما، واعترض بأنه لم يثبت منه الحبس. وأجيب بأن الأمر به لا يوجب وقوعه، وقيل عليه أيضا: إنه لم يكن قادرا على الحبس بعد أن رأى ما رأى، وقوله: لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ في الشعراء [29] كان قبل هذا، وأجيب بأن القائلين لعلهم لم يعلموا ذلك منه، وقال أبو منصور: الأمر بالتأخير دل على أنه تقدم منه أمر آخر وهم الهم بقتله، فقالوا: أخره ليتبين حاله للناس، وليس بلازم كما لا يخفى وأصل أرجه أرجئه بهمزة ساكنة وهاء مضمومة دون واو ثم حذفت الهمزة وسكنت الهاء لتشبيه المنفصل بالمتصل، وجعل أرجه كإبل في إسكان وسطه، وبذلك قرأ أبو عمرو. وأبو بكر. ويعقوب على أنه من أرجات، وكذلك قراءة ابن كثير وهشام وابن عامر «أرجئهو» بهمزة ساكنة وهاء متصلة بواو الإشباع. وقرأ نافع في رواية ورش وإسماعيل والكسائي «أرجهي» بهاء مكسورة بعدها ياء من أرجيت، وفي رواية قالون «أن أرجه» بحذف الياء للاكتفاء عنها بالكسرة، وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان «أرجئه» بالهمزة وكسر الهاء، وقد ذكر بعضهم أن ضم الهاء وكسرها والهمز وعدمه لغتان مشهورتان، وهل هما مادتان أو الياء بدل من الهمزة كتوضأت وتوضيت؟ قولان، وطعن في القراءة على رواية ابن ذكوان، فقال الحوفي: إنها ليست بجيدة، وقال الفارسي: إن ضم الهاء مع الهمزة لا يجوز غيره وكسرها غلط لأن الهاء لا تكسر إلا بعد ياء ساكنة أو كسرة، وأجيب كما قال الشهاب عنه بوجهين: أحدهما أن الهمزة ساكنة والحرف الساكن حاجز غير حصين فكأن الهاء وليت الجيم المكسورة فلذا كسرت، والثاني أن الهمزة عرضة للتغيير كثيرا بالحذف وإبدالها ياء إذا سكنت بعد كسرة فكأنها وليت ياء ساكنة فلذا كسرت. وأورد على ذلك أبو شامة أن الهمزة تعد حاجزا وأن الهمزة لو كانت ياء كان المختار الضم نظرا لأصلها وليس بشيء بعد أن قالوا: إن القراءة متواترة وما ذكر لغة ثابتة عن العرب، هذا واستشكل الجمع بين ما هنا وما في الشعراء فإن فيها قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ وهو صريح في أن إِنَّ هذا لَساحِرٌ إلى فَماذا تَأْمُرُونَ كلام فرعون وما هنا صريح في نسبة قول ذلك للملأ والقصة واحدة فكيف يختلف القائل في الموضعين وهل هذا إلا منافاة؟ وأجيب بأنه لا منافاة لاحتمالين. الأول أن هذا الكلام قال فرعون والملأ من قومه فهو كوقع الحافر على الحافر فنقل في الشعراء كلامه وهنا كلامهم، والثاني أن هذا الكلام قاله فرعون ابتداء ثم قاله الملأ إما بطريق الحكاية لأولادهم وغيرهم وإما بطريق التبليغ لسائر الناس فما في الشعراء كلام فرعون ابتداء وما هنا كلام الملأ نقلا عنه. واختار الزمخشري أن ما هنا هو قال الملأ نقلا عن فرعون بطريق التبليغ لا غير لأن القوم لما سمعوه خاطبوا فرعون بقولهم: أرجه إلخ، ولو كان ذلك كلام الملأ ابتداء لكان المطابق أن يجيبوهم بأرجئوا، ولا سبيل إلى أنه كان نقلا بطريق الحكاية لأنه حينئذ لم يكن مؤامرة ومشاورة مع القوم فلم يتجه جوابهم أصلا، فتعين أن يكون بطريق التبليغ فلذا خاطبوه بالجواب. بقي أن يقال هذا الجواب بالتأخير في الشعراء كلام الملأ لفرعون وهاهنا كلام سائر القوم. لكن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 23 لا منافاة لجواز تطابق الجوابين. وقول شيخ الإسلام: إن كون ذلك جواب العامة يأباه أن الخطاب لفرعون وأن المشاورة ليست من وظائفهم ليس بشيء، لأن الأمر العظيم الذي تصيب تبعته أهل البلد يشاور فيه الملك الحازم عوامهم وخواصهم، وقد يجمعهم لذلك ويقول لهم: ماذا ترون فهذا أمر لا يصيبني وحدي ورب رأي حسن عند من لم يظن به على أن في ذلك جمعا لقلوبهم عليه وعلى الاحتفال بشأنه، وقد شاهدنا أن الحوادث العظام يلتفت فيها إلى العوام، وأمر موسى عليه السلام كان من أعظم الحوادث عند فرعون بعد أن شاهد منه ما شاهده ثم أنهم اختلفوا في قوله تعالى: فَماذا تَأْمُرُونَ فقيل: إنه من تتمة كلام الملأ، واستظهره غير واحد لأنه مسوق مع كلامهم من غير فاصل، فالأنسب أن يكون من بقية كلامهم، وقال الفراء. والجبائي: إن كلام الملأ قد تم عند قوله سبحانه: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ ثم قال فرعون: فماذا تأمرون قالوا: أرجه، وحينئذ يحتمل كما قال القطب أن يكون كلام الملأ مع فرعون وخطاب الجمع في يخرجكم إما لتفخيم شأنه أو لاعتباره مع خدمه وأعوانه. ويحتمل أن يكون مع قوم فرعون والمشاورة منه. ثم قال: وإنما التزموا هذا التعسف ليكون مطابقا لما في الشعراء في أن قوله: فَماذا تَأْمُرُونَ من كلام فرعون وقوله: أَرْجِهْ وَأَخاهُ كلام الملأ. لكن ما ارتفعت المخالفة بالمرة لأن قوله: إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ كلام فرعون للملأ. وفي هذه السورة على ما وجهوه كلام الملأ لفرعون، ولعلهم يحملون على أنه قاله لهم مرة وقالوه له أخرى انتهى. ويمكن أن يقال: إن الملأ لما رأوا من موسى عليه السلام ما رأوا قال بعضهم لبعض: إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تشيرون وما تستحسنون في أمره؟ ولما رآهم فرعون أنهم مهتمون من ذلك قال لهم تنشيطا لهم وتصويبا لما هم عليه قبل أن يجيب بعضهم بعضا بما عنده مثل ما قالوه فيما بينهم فالتفتوا إليه وقالوا: أرجه وأخاه، فحكى سبحانه هنا مشاورة بعضهم لبعض وعرض ما عندهم على فرعون أول وهلة قبل ذكره فيما بينهم، وحكى في الشعراء كلامه لهم ومشاورته إياهم التي هي طبق مشاورة بعضهم بعضا المحكية هنا وجوابهم له بعد تلك المشاورة، وعلى هذا لا يدخل العوام في الشورى، ويكون هاهنا أبلغ في ذم الملأ فليتدبر والله تعالى أعلم بأسرار كلامه وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ أي البلاد جمع مدينة، وهي من مدن بالمكان كنصر إذا أقام به، ولكون الياء زائدة كما قال غير واحد تقلب همزة في الجمع، وأريد بها مطلق المدائن، وقيل: مدائن صعيد مصر حاشِرِينَ أي رجالا يجمعون السحرة، وفسره بعضهم بالشرط وهم أعوان الولاة لأنهم يجعلون لهم علامة، ويقال للواحد شرطي بسكون الراء نسبة للشرطة، وحكى في القاموس فتحها أيضا، وفي الأساس أنه خطأ لأنه نسبة إلى الشرط الذي هو جمع، ونصب الوصف على أنه صفة المحذوف ومفعوله محذوف أيضا كما أشير إليه، وقد نص على ذلك الاجهوري يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ أي ماهر في السحر والفعل مجزوم في جواب الطلب. وقرأ حمزة والكسائي «سحار» وجاء فيه الإمالة وعدمها وهو صيغة مبالغة، وفسره بعضهم بأنه الذي يديم السحر والساحر من أن يكون قد سحر في وقت دون وقت، وقيل: الساحر هو المبتدئ في صناعة السحر والسحار هو المنتهي الذي يتعلم منه ذلك وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ بعد ما أرسل إليهم الحاشرين وإنما لم يصرح به للايذان بمسارعة فرعون بالإرسال ومبادرة الحاشرين والسحرة إلى الامتثال. واختلف في عدتهم. فعن كعب أنهم اثنا عشر ألفا، وعن ابن إسحاق خمسة عشر ألفا، وعن أبي ثمامة سبعة عشر ألفا، وفي رواية تسعة عشر ألفا وعن السدي بضعة وثلاثون ألفا، وعن أبي بزة أنهم سبعون ألفا، وعن محمد بن كعب ثمانون ألفا. وأخرج أبو الشيخ عن ابن جرير قال: السحرة ثلاثمائة من قومه وثلاثمائة من العريش ويشكون في ثلاثمائة من الاسكندرية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 24 وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا سبعين ساحرا وقد أخذوا السحر من رجلين مجوسيين من أهل نينوى مدينة يونس عليه السلام، وروي نحو ذلك عن الكلبي، والظاهر عدم صحته لأن المجوسية ظهرت زمن زرادشت على المشهور، وهو إنما جاء بعد موسى عليه السلام، واسم رئيسهم كما قال مقاتل: شمعون وقال ابن جريج: هو يوحنا، وقال ابن الجوزي نقلا عن علماء السير: إن رؤساءهم سابور وعازور وحطحط ومصفى قالُوا استئناف بياني ولذا لم يعطف كأنه قيل: فماذا قالوا له عند مجيئهم إياه؟ فقيل: قالوا إلخ، وهذا أولى مما قيل إنه حال من فاعل جاؤوا أي جاؤوا قائلين إِنَّ لَنا لَأَجْراً أي عوضا وجزاء عظيما. إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ والمقصود من الإخبار إيجاب الأجر واشتراطه كأنهم قالوا: بشرط أن تجعل لنا أجرا إن غلبنا، ويحتمل أن يكون الكلام على حذف أداة الاستفهام وهو مطرد ويؤيد ذلك أنه قرأ ابن عامر وغيره «أئن» بإثبات الهمزة وتوافق القراءتين أولى من تخالفهما ومن هنا رجح الواحدي هذا الاحتمال، وذكر الشرط لمجرد تعيين مناط ثبوت الأجر لا لترددهم في الغلبة، وقيل: له، وتوسيط الضمير وتحلية الخبر باللام للقصر، أي كنا نحن الغالبين لا موسى عليه السلام قالَ نَعَمْ إن لكم لأجرا. وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ عطف على مقدر هو عين الكلام السابق الدال عليه حرف الإيجاب، ويسمى مثل هذا عطف التلقين، ومن قال إنه معطوف على السابق أراد ما ذكرنا، والمعنى إن لكم لأجرا وإنكم مع ذلك لمن المقربين، أي إني لا أقتصر لكم على العطاء وحده وإن لكم معه ما هو أعظم منه وهو التقريب والتعظيم لأن من أعطى شيئا إنما يتهنأ به، ويغتبط إذا نال معه الكرامة والرفعة، وفي ذلك من المبالغة في الترغيب والتحريض ما لا يخفى، وروي عن الكلبي أنه قال لهم: تكونون أول من يدخل مجلسي وآخر من يخرج عنه قالُوا استئناف كنظيره السابق يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ ما تلقي أولا وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ لما نلقي أولا أو الفاعلين للإلقاء أو لا خيروه عليه السلام بالبدء بالإلقاء مراعاة للأدب ولذلك كما قيل منّ الله تعالى عليهم بما منّ، أو إظهارا للجلادة وأنه لا يختلف عليهم الحال بالتقديم والتأخير، ولكن كانت رغبتهم في التقديم كما ينبىء عنه تغييرهم للنظم بتعريف الخبر وتوسيط ضمير الفصل وتوكيد الضمير المستتر، والظاهر أنه وقع في المحكي كذلك بما يرادفه، وقول الجلال السيوطي: إن الضمير المنفصل إما أن يكون فصلا أو تأكيدا ولا يمكن الجمع بينهما لأنه على الأول لا محل له من الإعراب وعلى الثاني له محل كالمؤكد وهم كما لا يخفى. وفرق الطيبي بين كون الضمير فصلا وبين كونه توكيدا بأن التوكيد يرفع التجوز عن المسند إليه فيلزم التخصيص من تعريف الخبر، أي نحن نلقي البتة لا غيرنا، والفصل يخصص الإلقاء بهم لتخصيص المسند بالمسند إليه فيعرى عن التوكيد، وتحقيق ذلك يطلب من محله قالَ أي موسى عليه السلام وثوقا بشأنه وتحقيرا لهم وعدم مبالاة بهم أَلْقُوا أنتم ما تلقون أولا، وبما ذكرنا يعلم جواب ما يقال: إن القاءهم معارضة للمعجزة بالسحر وهي كفر والأمر به مثله فكيف أمرهم وهو هو؟ وحاصل الجواب أنه عليه السلام علم أنهم لا بد وأن يفعلوا ذلك، وإنما وقع التخيير في التقديم والتأخير كما صرح به في قوله سبحانه في آية أخرى: أَوَّلَ مَنْ أَلْقى [طه: 65] فجوز لهم التقديم لا لإباحة فعلهم بل لتحقيرهم، وليس هناك دلالة على الرضا بتلك المعارضة، وقد يقال أيضا: إنه عليه السلام إنما أذن لهم ليبطل سحرهم فهو إبطال للكفر بالآخرة وتحقيق لمعجزته عليه السلام، وعلى هذا يحمل ما جاء في بعض الآثار من أنهم لما قالوا سمع موسى عليه السلام مناديا يقول: بل ألقوا أنتم يا أولياء الله تعالى فأوجس في نفسه خيفة من ذلك حتى أمر عليه السلام، وسيجيء إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك فَلَمَّا أَلْقَوْا ما ألقوا وكان مع كل واحد منهم حبل وعصا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ بأن خيلوا إليها ما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 25 الحقيقة بخلافه، ولذا لم يقل سبحانه سحروا فالآية على حد قوله جل شأنه: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى [طه: 66] وَاسْتَرْهَبُوهُمْ أي أرهبوهم إرهابا شديدا كأنهم طلبوا إرهابهم وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ في بابه، يروى أنهم ألقوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا فإذا حيات كأمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا. وفي بعض الآثار أن الأرض كان سعتها ميلا في ميل وقد امتلأت من الحيات والأفاعي، ويقال: إنهم طلوا تلك الحبال بالزئبق ولونوها وجعلوا داخل العصيّ زئبقا أيضا وألقوها على الأرض فلما أثر حر الشمس فيها تحركت والتوى بعضها على بعض حتى تخيل للناس أنها حيات. واستدل بالآية من قال كالمعتزلة إن السحر لا حقيقة له وإنما هو مجرد تخييل، وفيه أنهم إن أرادوا أن ما وقع في القصة من السحر كان كذلك فمسلم والآية تدل عليه وإن أرادوا أن كل سحر تخييل فممنوع والآية لا تدل عليه، والذي ذهب إليه جمهور أهل السنة أن السحر أقسام وأن منه ما لا حقيقة له ومنه ما له حقيقة كما يشهد بذلك سحر اللعين لبيد بن الأعصم اليهودي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وسحر يهود خيبر ابن عمر رضي الله تعالى عنهما حين ذهب ليخرص تمرهم. وذكروا أنه قد يصل السحر إلى حد المشي على الماء والطيران في الهواء ونحو ذلك، وترتب ذلك عليه كترتب الشبع على الأكل والري على الشرب والإحراق على النار، والفاعل الحقيقي في كل ذلك هو الله تعالى. نعم قال القرطبي: أجمع المسلمون على أنه ليس من السحر ما يفعل الله تعالى عنده إنزال الجراد والقمل والضفادع وفلق الحجر وقلب العصا وإحياء الموتى وإنطاق العجماء وأمثال ذلك من آيات الرسل عليهم الصلاة والسلام. ومن أنكر حقيقته استدل بلزوم الالتباس بالمعجزة، وتعقب بأن الفرق مثل الصبح ظاهر وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى بواسطة الملك كما هو الظاهر أَنْ أَلْقِ عَصاكَ التي علمت من أمرها ما علمت وأَنْ تفسيرية لتقدم ما فيه معنى القول دون حروفه، وجوز أن تكون مصدرية فالمصدر مفعول الإيحاء، والفاء في قوله سبحانه: فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ فصيحة أي فألقاها فصارت حية فإذا هي إلخ، وإنما حذف للإيذان بمسارعة موسى عليه السلام إلى الإلقاء وبغاية سرعة الانقلاب كأن لقفها لما يأفكون قد حصل متصلا بالأمر بالإلقاء، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة الغريبة، واللقف كاللقفان التناول بسرعة، وفسره الحسن هنا بالسرط والبلع، والافك صرف الشيء وقلبه عن الوجه المعتاد ويطلق على الكذب وبذلك فسره ابن عباس. ومجاهد لكونه مقلوبا عن وجهه واشتهر ذلك فيه حتى صار حقيقة، وما موصولة أو موصوفة والعائد محذوف أي ما يأفكونه ويكذبونه أو مصدرية وهي مع الفعل بمعنى المفعول أي المأفوك لأنه المتلقف، وقرأ الجمهور «تلّقف» بالتشديد وحذف إحدى التاءين فَوَقَعَ أي ظهر وتبين كما قال الحسن ومجاهد والفراء الْحَقُّ وهو أمر موسى عليه السلام، وفسر بعضهم وقع بثبت على أنه قد استعير الوقع للثبوت والحصول أو للثبات والدوام لأنه في مقابل بطل والباطل زائل، وفائدة الاستعارة كما قيل: الدلالة على التأثير لأن الوقع يستعمل في الأجسام، وقيل: المراد من وقع الحق صيرورة العصا حية في الحقيقة وليس بشيء وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي ظهر بطلان ما كانوا مستمرين على عمله فَغُلِبُوا أي فرعون وقومه هُنالِكَ أي في ذلك المجمع العظيم وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ أي صاروا أذلاء أو رجعوا إلى المدينة كذلك فالانقلاب إما مجاز عن الصيرورة والمناسبة ظاهرة أو بمعنى الرجوع فصاغرين حال ورجح الأول بقوله سبحانه: وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ لأن ذلك كان بمحضر من فرعون قطعا، وجوز رجوع ضمير غلبوا وانقلبوا على الاحتمال الأول إلى السحرة أيضا، وتعقب بأنهم لا ذلة لهم والحمل على الخوف من فرعون أو على ما قبل الإيمان لا يخفى ما فيه، والمراد من أُلْقِيَ السَّحَرَةُ إلخ أنهم خروا ساجدين، وعبر بذلك دونه تنبيها على أن الحق بهرهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 26 واضطرهم إلى السجود بحيث لم يبق لهم تمالك فكأن أحدا دفعهم وألقاهم أو أن الله تعالى ألهمهم ذلك وحملهم عليه فالملقي هو الله تعالى بإلهامه لهم حتى ينكسر فرعون بالذين أراد بهم كسر موسى عليه السلام وينقلب الأمر عليه، ويحتمل أن يكون الكلام جاريا مجرى التمثيل مبالغة في سرعة خرورهم وشدته وإليه يشير كلام الأخفش، وجوز أن يكون التعبير بذلك مشاكلة لما معه من الإلقاء إلا أنه دون ما تقدم، يروى أن اجتماع القوم كان بالاسكندرية وأنه بلغ ذنب الحية من وراء البحر وأنها فتحت فاها ثمانين ذراعا فابتلعت ما صنعوا واحدا بعد واحد وقصدت الناس ففزعوا ووقع الزحام فمات منهم لذلك خمسة وعشرون ألفا ثم أخذها موسى عليه السلام فعادت في يده عصا كما كانت وأعدم الله تعالى بقدرته تلك الأجرام العظام، ويحتمل أنه سبحانه فرقها أجزاء لطيفة فلما رأى السحرة ذلك عرفوا أنه من أمر السماء وليس من السحر في شيء فعند ذلك خروا سجدا، والمتبادر من السجود حقيقته ولا يبعد أنهم كانوا عالمين بكيفيته، وقيل: إن موسى وهارون عليهما السلام سجدا شكرا الله تعالى على ظهور الحق فاقتدوا بهما وسجدوا معهما، وحمل السجود على الخضوع أي أنهم خضعوا لما رأوا ما رأوا خلاف الظاهر الذي نطقت به الآثار من غير داع إلى ارتكابه قالُوا استئناف. وجوز أبو البقاء كونه حالا من ضمير انقلبوا وليس بشيء، وقيل: هو حال من السحرة أو من ضميرهم المستتر في ساجدين أي أنهم ألقوا ساجدين حال كونهم قائلين آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ أي مالك أمرهم والمتصرف فيهم رَبِّ مُوسى وَهارُونَ بدل مما قبل وإنما أبدلوا لئلا يتوهم أنهم أرادوا فرعون ولم يقتصروا على موسى عليه السلام إذ ربما يبقى للتوهم رائحة لأنه كان ربّى موسى عليه السلام في صغره، ولذا قدم هارون في محل آخر لأنه أدخل في دفع التوهم أو لأجل الفاصلة أو لأنه أكبر سنا منه، وقدم موسى هنا لشرفه أو للفاصلة، وأما كون الفواصل في كلام الله تعالى لا في كلامهم فقد قيل: إنه لا يضر، وروي أنهم لما قالوا: آمنا برب العالمين قال فرعون: أنا رب العالمين فقالوا ردا عليه: رب موسى وهارون، وإضافة الرب إليهما كإضافته إلى العالمين، وقيل: إن تلك الإضافة على معنى الاعتقاد أي الرب الذي يعتقد ربوبيته موسى وهارون ويكون عدم صدقه على فرعون بزعمه أيضا ظاهرا جدا إلا أن ذلك خلاف الظاهر من الإضافة، ويعلم مما قدمنا سر تقديم السجود على هذا القول. وقال الخازن في ذلك: إن الله تعالى لما قذف في قلوبهم الإيمان خروا سجدا لله تعالى على ما هداهم إليه وألهمهم من الإيمان ثم أظهروا بذلك إيمانهم، وقيل: إنهم بادروا إلى السجود تعظيما لشأنه تعالى لما رأوا من عظيم قدرته ثم إنهم أظهروا الإيمان، ومن جعل الجملة حالا قال بالمقارنة فافهم، وأول من بادر بالإيمان كما روي عن ابن إسحاق الرؤساء الأربعة الذين ذكرهم ابن الجوزي ثم اتبعتهم السحرة جميعا قالَ فِرْعَوْنُ منكرا على السحرة موبخا لهم على ما فعلوه آمَنْتُمْ بِهِ أي برب موسى وهارون أو بالله تعالى لدلالة ذلك عليه أو بموسى عليه السلام قيل لقوله تعالى في آية أخرى: آمَنْتُمْ لَهُ [الشعراء: 49] فإن الضمير فيها له عليه السلام لقوله سبحانه: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ [الشعراء: 49] إلخ، والمقصود من الجملة الخبرية التوبيخ لأن الخبر إذا لم يقصد به فائدته ولا لازمها تولد منه بحسب المقام ما يناسبه، وهنا لما خاطبهم الجبار بما فعلوا مخبرا لهم بذلك مع ظهور عدم قصد إفادة أحد الأمرين والمقام هو المقام أفاد التوبيخ والتقريع، ويجوز أن تقدر فيه الهمزة بناء على اطراد ذلك والاستفهام للإنكار بمعنى أنه لا ينبغي ذلك، ويؤيد ذلك قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر عن عاصم: وروح عن يعقوب «أآمنتم» بهمزتين محققتين وتحقيق الأولى وتسهيل الثانية بين بين مما قرىء به أيضا. قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ أي قبل أن آمركم أنا بذلك وهو على حد قوله تعالى: لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 27 رَبِّي [الكهف: 109] لا أن الإذن منه ممكن في ذلك وأصل آذن أأذن بهمزتين الأولى للتكلم، والثانية من صلب الكلمة قلبت ألفا لوقوعها ساكنة بعد همزة إِنَّ هذا الصنيع لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ لحيلة احتلتموها أنتم وموسى وليس مما اقتضى الحال صدوره عنكم لقوة الدليل وظهور المعجزة، وهذا تمويه منه على القبط يريهم أنهم ما غلبوا ولا انقطعت حجتهم، قيل: وكذا قوله: قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ فِي الْمَدِينَةِ أي في مصر قبل أن تخرجوا إلى الميعاد. أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن مسعود وناس من الصحابة قال: التقى موسى عليه السلام وأمير السحرة فقال له موسى: أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بي وتشهد أن ما جئت به حق فقال الساحر: لآتين غدا بسحر لا يغلبه سحر فو الله لئن غلبتني لأؤمنن بك ولأشهدن أنك حق وفرعون ينظر إليهم وهو الذي نشأ عنه هذا القول لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها أي القبط وتخلص لكم ولبني إسرائيل فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة ما فعلتم، وهذا وعيد ساقه بطريق الإجمال للتهويل ثم عقبه بالتفصيل فقال: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ أي من كل جانب عضوا مغايرا للآخر كاليد من جانب والرجل من آخر، والجار في موضع الحال أي مختلفة، والقول بأن مِنْ تعليلية متعلقة بالفعل أي لأجل خلافكم بعيد ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ تفضيحا لكم وتنكيلا لأمثالكم، والتصليب مأخوذ من الصلب وهو الشد على خشبة أو غيرها وشاع في تعليق الشخص بنحو حبل في عنقه ليموت وهو المتعارف اليوم، ورأيت في بعض الكتب أن الصلب الذي عناه الجبار هو شد الشخص من تحت الإبطين وتعليقه حتى يهلك، وهو كقطع الأيدي والأرجل أول من سنه فرعون على ما أخرجه ابن المنذر وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وشرعه الله تعالى لقطاع الطريق تعظيما لجرمهم، ولهذا سماه سبحانه محاربة لله ولرسوله قالُوا استئناف بياني إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ أي إلى رحمته سبحانه وثوابه عائدون إن فعلت بنا ذلك فيا حبذاه. أخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أن السحرة حين خروا سجدا رأوا منازلهم تبنى لهم، وأخرج عن الأوزاعي أنهم رفعت لهم الجنة حتى نظروا إليها، ويحتمل أنهم أرادوا أنا ولا بد ميتون فلا ضير فيما تتوعدنا به والأجل محتوم لا يتأخر عن وقته: ومن لم يمت بالسيف مات بغيره ... تعددت الأسباب والموت واحد ويحتمل أيضا أن المعنى أنا جميعا ننقلب إلى الله تعالى فيحكم بيننا: إلى ديان يوم الدين نمضي ... وعند الله تجتمع الخصوم وضمير الجمع على الأول للسحرة فقط، وعلى الثاني لهم ولفرعون، وعلى الثاني يحتمل الأمرين وَما تَنْقِمُ أي ما تكره، وجاء في الماضي نقم ونقم على وزن ضرب وعلم مِنَّا معشر من آمن: إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا وذلك أصل المفاخر وأعظم المحاسن، والاستثناء مفرغ، والمصدر في موضع المفعول به، والكلام على حد قوله: ولا عيب فيهم غير أن ضيوفهم ... تعاب بنسيان الأحبة والوطن وقيل: إن تَنْقِمُ مضارع نقم بمعنى عاقب، يقال: نقم منه نقما وتنقاما وانتقم إذا عاقبه، وإلى هذا يشير ما روي عن عطاء، وعليه فيكون أَنْ آمَنَّا في موضع المفعول له، والمراد على التقديرين حسم طمع فرعون في نجع تهديده إياهم، ويحتمل أن يكون على الثاني تحقيقا لما أشاروا إليه أولا من الرحمة والثواب. ثم أعرضوا عن مخاطبته وفزعوا والتجئوا إليه سبحانه وقالوا: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أي أفض علينا صبرا يغمرنا كما يفرغ الماء، أو صب علينا ما يطهرنا من الآثام وهو الصبر على وعيد فرعون، «فأفرغ» على الأول استعارة تبعية تصريحية وصَبْراً قرينتها، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 28 والمراد هب لنا صبرا تاما كثيرا، وعلى الثاني يكون صَبْراً استعارة أصلية مكنية وأَفْرِغْ تخييلية، وقيل: الكلام على الأول كالكلام على الثاني إلا أن الجامع هناك الغمر وهاهنا التطهير، وليس بذاك وإن جل قائله وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ أي ثابتين على ما رزقتنا من الإسلام غير مفتونين من الوعيد. عن ابن عباس والكلبي والسدي أنه فعل بهم ما أوعدهم به، وقيل: لم يقدر عليه لقوله تعالى: فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ [القصص: 35] . وأجاب الأولون عن ذلك بأن المراد الغلبة بالحجة أو في عاقبة الأمر ونهايته وهذا لا ينافي قتل البعض وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ مخاطبين له بعد ما شاهدوا من أمر موسى عليه السلام ما شاهدوا أَتَذَرُ مُوسى أي أتتركه وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ أي في أرض مصر. والمراد بالإفساد ما يشمل الديني والدنيوي، ومفعول الفعل محذوف للتعميم أو أنه منزل منزلة اللازم أو يقدر يفسدوا الناس بدعوتهم إلى دينهم والخروج عليك. أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: لما آمنت السحرة أتبع موسى عليه السلام ستمائة ألف من بني إسرائيل وَيَذَرَكَ عطف على يفسدوا المنصوب بأن، أو منصوب على جواب الاستفهام كما ينصب بعد الفاء، وعلى ذلك قول الحطيئة: ألم أك جاركم ويكون بيني ... وبينكم المودة والإخاء والمعنى كيف يكون الجمع بين تركك موسى عليه السلام وقومه مفسدين في الأرض وتركهم إياك إلخ أي لا يمكن وقوع ذلك. وقرأ الحسن. ونعيم بن ميسرة بالرفع على أنه عطف على تَذَرُ أو استئناف أو حال بحذف المبتدأ، أي وهو يذرك لأن الجملة المضارعية لا تقترن بالواو على الفصيح، والجملة على تقدير الاستئناف معترضة مؤكدة لمعنى ما سبق، أي تذره وعادته تركك، ولا بد من تقدير هو على ما قال الطيبي كما في احتمال الحال ليدل على الدوام، وعلى تقدير الحالية تكون مقررة لجهة الاشكال. وعن الأشهب أنه قرأ بسكون الراء، وخرج ذلك ابن جني على أنه تركت الضمة للتخفيف كما في قراءة أبي عمرو يَأْمُرُكُمْ بإسكان الراء استقلالا للضمة عند توالي الحركات، واختاره أبو البقاء، وقيل: إنه عطف على ما تقدم بحسب المعنى، ويقال له في غير القرآن عطف التوهم، كأنه، قيل: يفسدوا ويذرك كقوله تعالى: فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المنافقين: 10] وَآلِهَتَكَ أي معبوداتك. يروى أنه كان يعبد الكواكب فهي آلهته وكان يعتقد أنها المربية للعالم السفلي مطلقا وهو رب النوع الإنساني، وعن السدي أن فرعون كان قد اتخذ لقومه أصناما وأمرهم بأن يعبدوها تقربا إليه، ولذلك قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات: 24] وقيل: إنه كانت له بقرة يعبدها وكان إذا رأى بقرة حسنة أمر قومه بعبادتها، ولذلك أخرج السامري لبني إسرائيل عجلا وهو رواية ضعيفة عن ابن عباس، وقال سليمان التيمي: بلغني أنه كان يجعل في عنقه شيئا يعبده، وأمر الجمع عليه يحتاج إلى عناية وقرأ ابن مسعود والضحاك ومجاهد والشعبي و «إلهتك» كعبادتك لفظا ومعنى فهو مصدر. وأخرج غير واحد عن ابن عباس أنه كان ينكر قراءة الجمع بالجمع ويقرأ بالمصدر ويقول: إن فرعون كان يعبد ولا يعبد، ألا ترى قوله: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص: 38] ومن هنا قال بعضهم: الأقرب أنه كان دهريا منكرا للصانع، وقيل: الإلهة اسم للشمس وكان يعبدها وأنشد أبو علي: وأعجلنا الإلهة أن تؤبا قالَ مجيبا لهم سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ كما كنا نفعل بهم ذلك من قبل ليعلم أنا على ما كنا عليه من القهر والغلبة، ولا يتوهم أنه المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملكنا على يده. وقرأ ابن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 29 كثير. ونافع سَنُقَتِّلُ بالتخفيف والتضعيف كما في موتت الإبل. وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ أي غالبون كما كنا لم يتغير حالنا وهم مقهورون تحت أيدينا، وكان فرعون قد انقطع طمعه عن قتل موسى عليه السلام فلم يعد الملأ بقتله لما رأى من علو أمره وعظم شأنه وكأنه لذلك لم يعد بقتل قومه أيضا، والظاهر على ما قيل: إن هذا من فرعون بيان لأنهم لا يقدرون على أن يفسدوا في الأرض وإيذان بعدم المبالاة بهم وأن أمرهم فيما بعد كأمرهم فيما قبل وأن قتلهم عبث لا ثمرة فيه، وذكر الطيبي أنه من الأسلوب الحكيم وإن صدر من الأحمق، وأن الجملة الاسمية كالتذييل لما قبلها فافهم. قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ تسلية لهم حين تضجروا مما سمعوا بأسلوب حكيم اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا على ما سمعتم من الأقاويل الباطلة إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ أي أرض مصر أو الأرض مطلقا وهي داخلة فيها دخولا أوليا يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ الذين أنتم منهم، وحاصله أنه ليس الأمر كما قال فرعون: إِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ فإن القهر والغلبة لمن صبر واستعان بالله ولمن وعده الله تعالى توريث الأرض وأنا ذلكم الموعود الذي وعدكم الله تعالى النصرة به وقهر الأعداء وتوريث أرضهم، وقوله: «والعاقبة» إلخ تقرير لما سبق. وقرأ أبيّ وابن مسعود «والعاقبة» بالنصب عطفا على اسم أن قالُوا أي قوم موسى له عليه السلام أُوذِينا من جهة فرعون مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا بالرسالة يعنون بذلك قتل الجبار أولادهم قبل مولده وبعده إذ قيل له: يولد لبني إسرائيل غلام يسلبك ملكك ويكون هلاكك على يديه وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا أي رسولا يعنون به ما توعدهم به من إعادة قتل الأبناء وسائر ما كان يفعل بهم لعداوة موسى عليه السلام من فنون الجور والعذاب، وقيل: إن نفس ذلك الإيعاد إيذاء، وقيل: جعل إيعاده بمنزلة فعله لكونه جبارا. وقيل: أرادوا الإيذاء بقتل الأبناء قبل مولد موسى عليه السلام وبعد مولده، وقيل: المراد ما كانوا يستعبدون به ويمتهنون فيه من أنواع الخدم والمهن، وتعقب بأن ذلك ليس مما يلحقهم بواسطة موسى عليه السلام فليس لذكره كثير ملاءمة بالمقام، والظاهر أنه لا فرق بين الإتيان والمجيء وأن الجمع بينهما للتفنن والبعد عن التكرار اللفظي فإن الطباع مجبولة على معاداة المعادات، ولذلك جيء بأن المصدرية أولا وبما أختها ثانيا. وذكر الجلال السيوطي في الفرق بينهما أن الإتيان يستعمل في المعاني والأزمان والمجيء في الجواهر والأعيان وهو غير ظاهر هنا إلا أن يتكلف، ونقل عن الراغب في الفرق بينهما أن الإتيان هو المجيء بسهولة فهو أخص من مطلق المجيء وهو كسابقه هنا أيضا، وهذا منهم جار مجرى التحزن لعدم الاكتفاء بما كنى لهم عليه السلام لفرط ما عراهم وفظاعة ما اعتراهم، والمقام يقتضي الإطناب فإن شأن الحزين الشاكي إطالة الكلام رجاء أن يطفىء بذلك بعض الأوام، وقيل: هو استبطاء منهم لما وعدهم عليه السلام من النجاة والظفر والأول أولى فقوله تعالى: قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ الذي فعل بكم ما فعل وتوعدكم بما توعد. وَيَسْتَخْلِفَكُمْ أي يجعلكم خلفاء فِي الْأَرْضِ أي أرض مصر تصريح بما كنى عنه وتوكيد للتسلية على أبلغ وجه، وفيه ادماج معنى من عادى أولياء الله تعالى فقد بارزه بالمحاربة وحق له الدمار والخسار. وعسى في مثله قطع في إنجاز الموعود والفوز بالمطلوب، ونص غير واحد على أن التعبير به للجري على سنن الكرماء. وقيل: تأدبا مع الله تعالى وإن كان الأمر مجزوما به بوحي وإعلام منه سبحانه وتعالى، وقيل: إن ذلك لعدم الجزم منه عليه السلام بأنهم المستخلفون بأعيانهم أو أولادهم، فقد روي أن مصر إنما فتحت في زمن داود عليه السلام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 30 وتعقب بأنه لا يساعده قوله تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا [الأعراف: 137] فإن المتبادر استخلاف المستضعفين أنفسهم لا استخلاف أولادهم، والمجاز خلاف الأصل. نعم المشهور أن بني إسرائيل بعد أن خرجوا مع موسى عليه السلام من مصر لم يرجعوا إليها في حياته، وفي قوله سبحانه: فَيَنْظُرَ أي يرى أو يعلم كَيْفَ تَعْمَلُونَ أحسنا أم قبيحا فيجازيكم حسبما يظهر منكم من الأعمال إرشاد لهم إلى الشكر وتحذير لهم عن الوقوع في مهاوي الكفر، وقيل: فيه إشارة إلى ما وقع منهم بعد ذلك. وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ شروع في تفصيل مبادئ الهلاك الموعود به وإيذان بأنهم لم يمهلوا حتى تحولوا من حال إلى حال إلى أن حل بهم عذاب الاستئصال، وتصدير الجملة بالقسم لإظهار الاعتناء بمضمونها، والمراد بآل فرعون أتباعه من القبط، وإضافة الآل إليه وهو لا يضاف إلا إلى الأشراف لما فيه من الشرف الدنيوي الظاهر وإن كان في نفس الأمر خسيسا، وعن الخطيب أن المراد فرعون وآله، والسنين جمع سنة والمراد بها عام القحط وقد غلبت في ذلك حتى صارت كالعلم له لكثرة ما يذكر ويؤرخ به ولا كذلك العام الخصب، ولامها واو أو هاء، وقد اشتقوا منها فقالوا: أسنت القوم إذا قحطوا، وقلبوا اللام تاء ليفرقوا بين ذلك وقولهم أسنى القوم إذا لبثوا في موضع سنة، قال المازني: وهو شاذ لا يقاس عليه، وقال الفراء: توهموا أن الهاء أصلية إذ وجدوها أصلية فقلبوها تاء وجاء أصابتنا سنية حمراء أي جدب شديد فالتصغير للتعظيم وإجراء الجمع مجرى سائر الجموع السالمة المعربة بالحروف هو اللغة المشهورة واللغة الأخرى إجراء الاعراب على النون لكن مع الياء خاصة فيسلك فيه مسلك حين في الاعراب بالحركات الثلاث مع التنوين عند بني عامر وبنو تميم لا ينونون تخفيفا وحينئذ لا تحذف النون للإضافة وعلى ذلك جاء قول الشاعر: دعاني من نجد فإن سنينه ... لعبن بنا شيبا وشيبننا مردا ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم «اللهم اجعلها عليهم سنينا كسنين يوسف عليه السلام» وجاء في رواية أخرى «اللهم أعني عليهم بسنين كسني يوسف عليه السلام» وهو على اللغة المشهورة وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ بكثرة عاهات الثمار وخروج اليسير منها حتى لا تحمل النخلة كما روي عن رجاء بن حيوة إلا بسرة واحدة وكان القحط على ما أخرج عبد بن حميد وغيره عن قتادة في باديتهم وأهل ماشيتهم والنقص في أمصارهم وقراهم، وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما أخذ الله تعالى آل فرعون بالسنين يبس كل شيء لهم وذهبت مواشيهم حتى يبس نيل مصر فاجتمعوا إلى فرعون وقالوا له: إن كنت كما تزعم فائتنا في نيل مصر بماء فقال: غدوة يصبحكم الماء فلما خرجوا من عنده قال أي شيء صنعت؟ أنا لا أقدر على ذلك فغدا يكذبونني، فلما كان جوف الليل قام واغتسل ولبس مدرعة صوف ثم خرج حافيا حتى أتى النيل فقام في بطنه فقال: اللهم إنك تعلم أني أعلم أنك تقدر على أن تملأ نيل مصر ماء فاملأه ماء فما علم إلا بخرير الماء يقبل فخرج وأقبل النيل مترعا بالماء لما أراد الله تعالى بهم من الهلكة، وهذا إن صح يدل على أن الرجل لم يكن دهريا نافيا للصانع كما قال البعض لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أي لكي يتعظوا فيتركوا ما هم عليه أو لكي يذكروا الله تعالى فيتضرعوا له ويلتجئوا إليه رغبة فيما عنده، وقيل: لكي يتذكروا أن فرعون لو كان إلها لدفع ذلك الضر. وعن الزجاج أنهم إنما أخذوا بالضراء لأن أحوال الشدة ترقق القلوب وترغب فيما عند الله تعالى ألا ترى قوله تعالى وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ [فصلت: 51] فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ إلخ بيان لعدم تذكرهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 31 وتماديهم في الغي، والمراد بالحسنة كما يفهمه ظاهر كلام البعض الخصب والرخاء، وفسرها مجاهد بالرخاء والعافية وبعضهم بأعم من ذلك أي إذا جاءهم ما يستحسنونه قالُوا لَنا هذِهِ أي إنا مستحقوها بيمن الذات وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أي ضيقة وجدب أو جدب ومرض أو عقوبة وبلاء يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أي يتشاءموا بهم ويقولوا: ما أصابنا ذلك إلا بشؤمهم، وأصل إطلاق التطير على التشاؤم على ما قال الأزهري إن العرب كانت تزجر الطير فتتشاءم بالبارح وتتيمن بالسانح. وفي المثل من لي بالسانح بعد البارح، قال أبو عبيدة: سأل يونس رؤبة وأنا شاهد عن السانح والبارح فقال: السانح ما ولاك ميامنه والبارح ما ولاك مياسره، وقيل: البارح ما يأتي من جهة الشمال والسانح ما يأتي من جهة اليمين وانشدوا: زجرت لها طير الشمال فإن يكن ... هواك الذي تهوى يصبك اجتنابها ثم إنهم سموا الشؤم طيرا وطائرا والتشاؤم تطيرا، وقد يطلقون الطائر على الحظ والنصيب خيرا أو شرا حتى قيل: إن أصل التطير تفريق المال وتطييره بين القوم فيطير لكل أحد نصيبه من خير أو شر ثم غلب في الشر. وفي الآية إغراق في وصفهم بالغباوة والقساوة فإن الشدائد ترقق القلوب وتذلل العرائك وتزيل التماسك لا سيما بعد مشاهدة الآيات وقد كانوا بحيث لم يؤثر فيهم شيء منها بل ازدادوا عتوا وعنادا، وتعريف الحسنة وذكرها بأداة التحقيق كما قال غير واحد لكثرة وقوعها وتعلق الإرادة بأحداثها بالذات لأن العناية الإلهية اقتضت سبق الرحمة وعموم النعمة قبل حصول الأعمال، وتنكير السيئة وذكرها بأداة الشك لندورها وعدم تعلق الإرادة بأحداثها إلا بالتبع فإن النقمة بمقتضى تلك العناية إنما تستحق بالأعمال. والزمخشري بين الحسنة بالخصب والرخاء ثم قال في تعليل ما ذكر: لأن جنس الحسنة وقوعه كالواجب لكثرته واتساعه وأما السيئة فلا تقع إلا في الندرة ولا يقع إلا شيء منها. وقال صاحب الكشف: ذلك إشارة إلى أن التعريف للعهد الخارجي التقريري بدليل أنه ذكر في مقابلة قوله سبحانه: وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وقوله: لأن الجنس إلخ أي جنس الخصب والرخاء وفيه مبالغة أي أنه لكثرة الوقوع كأن الجنس كله واجب الوقوع، ولهذا لا يزال يتكاثر حتى يستغرق الجنس. وقوله: وأما السيئة إلخ في مقابلة ذلك دليل بين على إرادة هذا المعنى فلا تخالف بين كلاميه ولم يرد بالجنس العهد الذهني وهذا مراد صاحب المفتاح وبه يندفع ما توهمه صاحب الإيضاح انتهى. وفيه تعريض بشيخه الطيبي حيث حمل الجنس على العهد الذهني وقال ما قال والبحث طويل الذيل فليطلب من شروح المفتاح وشرح التلخيص للعلامة الثاني وحواشيه، وقوله سبحانه وتعالى: أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ استئناف مسوق من قبله تعالى لرد مقالتهم الباطلة وتحقيق للحق في ذلك وتصديره بكلمة التنبيه لإبراز كمال العناية بمضمونه أي ليس شؤمهم إلا عند الله أي من قبله وحكمه كما قال ابن عباس، وقال الزجاج: المعنى ليس الشؤم الذي يلحقهم إلا الذي وعدوا به من العقاب عنده لا ما ينالهم في الدنيا، وقال الحسن: المعنى الا أن ما تشاءموا محفوظ عليهم حتى يجازيهم الله تعالى به يوم القيامة، وفسر بعضهم الطائر هنا بالحظ أي إنما حظهم وما طار إليهم من القضاء والقدر بسبب شؤمهم عند الله، وقرأ الحسن «إنما طيرهم» وهو اسم جمع طائر على الصحيح لأنه على أوزان المفردات، وقال الأخفش هو جمع له، وروي عن قطرب أن الطير يكون واحدا وجمعا وكذا الطائر، وأنشد ابن الأعرابي: كأنه تهتان يوم ماطر ... على رؤوس كرؤوس الطائر وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ذلك فيقولون ما يقولون، وإسناد عدم العلم إلى أكثرهم للإشعار بأن بعضهم يعلم ولكن لا يعمل بمقتضى علمه وَقالُوا شروع في بيان بعض آخر مما أخذوا به من فنون العذاب التي هي في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 32 أنفسها آيات بينات وعدم ارعوائهم عما هم عليه من الكفر والعناد أي قالوا بعد ما رأوا ما رأوا من العصا والسنين ونقص الثمرات مَهْما تَأْتِنا بِهِ كلمة مهما مما اختلف فيها فقيل هي كلمة برأسها موضوعة لزيادة التعميم. وقيل: هي مركبة من مه اسم فعل للكف إما باق على معناه أو مجرد عنه وما الشرطية. وقال الخليل: أصلها ما ما على أن الأولى شرطية والثانية إبهامية متصلة بها لزيادة التعميم فقلبت ألف ما الأولى هاء فرارا من بشاعة التكرار، وأسلم الأقوال كما قال غير واحد القول بالبساطة. وفي حاشية التسهيل لابن هشام ينبغي لمن قال بالبساطة أن يكتب مهما بالياء ولمن قال أصلها ما ما أن يكتبها بالألف، وفي الشرح وكذا إذا قيل أصلها مه ما. وتعقب ذلك الشمني بأن القائلين بالأصلين المذكورين متفقون على أن مهما أصل آخر فما ينبغي في كتب آخرها على القول الأول ينبغي على القول الثاني، وفيه نظر. وهي اسم شرط لا حرف على الصحيح، ومحلها الرفع هنا على الابتداء وخبرها إما الشرط أو الجزاء أو هما على الخلاف أو النصب على أنها مفعول به لفعل يفسره ما بعد أي أي شيء تحضره لدينا تأتنا به، ومن الناس من جوز مجيئها في محل نصب على الظرفية، وشدد الزمخشري الإنكار عليه في الكشاف، وذكر ابن المنير أنه غر القائل بظرفيتها كلام الخليل أو شبهها بمتى ما، وخالف ابن مالك في ذلك وقال: إنه مسموع عن العرب كقوله: وإنك مهما تعط بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا ويوافقه كما قال الشهاب استعمال المنطقيين لها بمعنى كلما وجعلها سور الكلية فإنها تفيد العموم كما صرحوا به وليس من مخترعاتهم كما توهم، وأنت تعلم أن كونها هنا ظرفا مما لا ينبغي الاقدام عليه بوجه لإباء قوله تعالى: مِنْ آيَةٍ عنه لأنه بيان لمهما وليس بزمان، وتسميتهم إياها آية من باب المجاراة لموسى عليه السلام والاستهزاء بها مع الاشعار بأن هذا العنوان لا يؤثر فيهم وإلا فهم ينكرون كونها آية في نفس الأمر ويزعمون أنها سحر كما ينبىء قولهم لِتَسْحَرَنا بِها والضميران المجروران راجعان إلى مهما، وتذكير الأول لرعاية جانب اللفظ لإبهامه، وتأنيث الثاني للمحافظة على جانب المعنى لأنه إنما رجع إليه بعد ما بين بآية، وادعى ابن هشام أن الأولى عود الضمير الثاني إلى آية، ولعله راعى القرب والذاهب إلى الأول راعى أن آيَةٍ مسوقة للبيان فالأولى رجوع الضمير على المفسر المقصود بالذات وإن كان المآل واحدا أي لتسحر بتلك الآية أعيننا وتشبه علينا فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ أي بمصدقين لك ومؤمنين بنبوتك أصلا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ عقوبة لجرائمهم لا سيما قولهم هذا الطُّوفانَ أي ما طاف بهم وغشى أماكنهم وحروثهم من مطر أو سيل فهو اسم جنس من الطواف، وقيل: إنه في الأصل مصدر كنقصان، وهو اسم لكل شيء حادث يحيط بالجهات ويعم كالماء الكثير والقتل الذريع والموت الجارف، وقد اشتهر في طوفان الماء وجاء تفسيره هنا بذلك في عدة روايات عن ابن عباس، وجاء عن عطاء ومجاهد تفسيره بالموت، وأخرج ذلك ابن جرير وغيره عن عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعا، وعن وهب بن منبه أنه الطاعون بلغة اليمن وعن أبي قلابة أنه الجدري، وهم أول من عذبوا به، وهذان القولان ينجران إلى الخبر المرفوع وَالْجَرادَ هو المعروف واحده جرادة سمي به لجرده ما على الأرض، وهو جند من جنود الله تعالى يسلطه على من يشاء من عباده، وأخرج أبو داود وابن ماجه والطبراني وغيرهم عن أبي زهير النميري مرفوعا النهي عن مقاتلته معللا بما ذكر، وذكر البيهقي أن ذلك إن صح مراد به إذا لم يتعرض لإفساد المزارع فإذا تعرض له جاز دفعه بما يقع به الدفع من القتال والقتل أو أريد به الإشارة إلى تعذر مقاومته بذلك، وأخرج أبو داود ومن معه عن سلمان قال: «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الجراد فقال: أكثر جنود الله تعالى لا آكله ولا أحرمه» وزعم أنه مخلوق من ذنوب ابن آدم مؤول وَالْقُمَّلَ بضم القاف وتشديد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 33 الميم قيل: هو الدبى وهو الصغار من الجراد ولا يسمى جرادا إلا بعد نبات أجنحته، وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي، وقيل: هو القردان جمع القراد المعروف، وقيل: صغار الذر، وعن حبيب بن أبي ثابت أنها الجعلان، وعن ابن زيد قال: زعم بعض الناس أنها البراغيث، وعن سعيد بن جبير أنها السوس وهي الدابة التي تكون في الحنطة وغيرها، ويسمى قملا بفتح فسكون وبذلك قرأ الحسن وَالضَّفادِعَ جمع ضفدع كزبرج وجعفر وجندب ودرهم وهذا أقل أو مردود الدابة المائية المعروفة وَالدَّمَ معروف وتشديد (1) داله لغة. وروي أن موسى عليه السلام لما رأى من فرعون وقومه العناد والإصرار دعا وقال: يا رب إن فرعون علا في الأرض وإن قومه قد نقضوا العهد رب فخذهم بعقوبة تجعلها عليهم نقمة ولقومي عظة ولمن بعدهم آية وعبرة فأرسل الله تعالى عليهم المطر ثمانية أيام في ظلمة شديدة لم يستطع أحد لها أن يخرج من بيته فدخل الماء بيوتهم حتى قاموا فيه إلى تراقيهم ولم يدخل بيوت بني إسرائيل منه قطرة وكانت مشتبكة في بيوتهم وفاض الماء على أرضهم وركد فمنعهم من الحرث والتصرف ودام ذلك الماء عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت فقالوا: يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا ذلك ونحن نؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا ربه فكشف عنهم فنبت من العشب والكلأ ما لم يعهد مثله قبله، فقالوا: ما كان هذا الماء إلا نعمة علينا فلم يؤمنوا. فبعث الله تعالى عليهم الجراد فأكل زروعهم وثمارهم وأبوابهم وسقوفهم وثيابهم وأمتعتهم حتى أكل مسامير الحديد التي في الأبواب ولم يصب بني إسرائيل من ذلك شيء فعجوا وضجوا إلى موسى عليه السلام، وقالوا له كما قالوا أولا فخرج عليه السلام إلى الصحراء فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجع إلى النواحي التي جاء منها، وقيل: جاءت ريح فألقته في البحر فلم يؤمنوا، فسلط الله تعالى عليهم القمل فأكل ما أبقى الجراد وكان يدخل بين ثوب أحدهم وجلدهم فيمصه وإذا أراد أن يأكل طعاما امتلأ قملا، وقال ابن المسيب: ابتلوا بالسوس فكان الرجل منهم يخرج بعشرة أجربة إلى الرحى فلا يرد إلا بثلاثة أقفزة منها وأخذ حواجبهم وأشفار عيونهم وسائر شعورهم وفعل في جلودهم ما يفعله الجدري ومنعهم النوم والقرار ففزعوا إلى موسى عليه السلام فرفع عنهم، فقالوا: قد تحققنا الآن أنك ساحر، فأرسل الله تعالى عليهم الضفادع فامتلأت بيوتهم وأفنيتهم وأمتعتهم وآنيتهم منها فلا يكشف أحد إناء إلا وجدها فيه، وكان الرجل يجلس في الضفادع فتبلغ إلى حلقه فإذا أراد أن يتكلم يشب الضفدع فيدخل في فيه وكانت تشب في قدورهم فتفسد عليهم طعامهم وتطفئ نيرانهم، وإذا اضطجع أحدهم ركبته حتى تكون عليه ركاما فلا يستطيع أن ينقلب وإذا أراد أن يأكل سبقته إلى فيه ولا يعجن عجينا إلا امتلأ منها ففزعوا إليه عليه السلام وتضرعوا فأخذ عليهم العهود والمواثيق ودعا فكشف الله تعالى عنهم ذلك فنقضوا العهد، فأرسل الله تعالى عليهم الدم فسال النيل عليهم دما عبيطا وصارت مياههم دماء فكان فرعون يجمع بين القبطي والإسرائيلي في إناء واحد فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء وما يلي القبطي دما ويقومان إلى الجرة فيها الماء فيخرج للقبطي دم وللإسرائيلي ماء حتى إن المرأة من آل فرعون تأتي المرأة من بني إسرائيل فتقول لها اسقيني ماء فتصب لها من قربتها فيصير في الإناء دما حتى كانت تقول: اجعليه في فيك ثم مجيه في فيّ فتفعل ذلك فيصير دما. وقال ابن أسلم: إن الدم الذي سلط عليهم كان الرعاف آياتٍ حال من الأشياء المتقدمة. مُفَصَّلاتٍ مبينات لا يشك عاقل أنها آيات إلهية لا سحر كما يزعمون، أو مميزا بعضها من بعض منفصلة بالزمان لامتحان أحوالهم وكان بين كل اثنين منها شهر وكان امتداد كل واحدة منها شهرا كما أخرج ذلك ابن المنذر   (1) قوله وتشديد داله لغة كذا بخطه اه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 34 عن ابن عباس، وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال: كانت الآيات التسع في تسع سنين في كل سنة آية، وأخرج أحمد في الزهد وغيره عن نوف الشامي قال: مكث موسى عليه السلام في آل فرعون بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم الآيات الجراد والقمل إلخ ... فأبوا أن يسلموا. وفي رواية أبي الشيخ عن ابن عباس أنه مكث عليه السلام بعد أن غلب أربعين سنة يريهم ما ذكر، ورأيت في مسامرات الشيخ ابن العربي قدس سره أن موسى عليه السلام مكث ينذر آل فرعون ستة عشر شهرا إلى أن أغرقوا فأدخلوا نارا ولم ينتفعوا بما رأوا من الآيات فَاسْتَكْبَرُوا عن الإيمان بها. وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ جملة معترضة مقررة لمضمون ما قبلها وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ أي العذاب المذكور على التفصيل كما روي عن الحسن وقتادة ومجاهد ولَمَّا لا تنافي التفصيل والتكرير كما لا يخفى. وعن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أنه أصابهم ثلج أحمر لم يروه قبل فهلك منهم كثير، وعن ابن جبير أنه الطاعون، وقد ورد إطلاقه عليه في حديث أسامة بن زيد المرفوع «وهو الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل أو على من كان قبلكم فإذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه» وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: أمر موسى عليه السلام بني إسرائيل فقال: ليذبح كل منكم كبشا ثم ليخضب كفه في دمه ثم ليضرب على بابه ففعلوا، فقال القبط لهم: لم تجعلون هذا الدم على أبوابكم؟ قالوا: إن الله تعالى يريد أن يرسل عليكم عذابا فنسلم وتهلكون، قال القبط: فما يعرفكم الله تعالى إلا بهذه العلامة؟ قالوا: هكذا أمرنا نبينا، فأصبحوا وقد طعن من قوم فرعون سبعون ألفا فأمسوا وهم لا يتدافنون، والمعنى على الأول أنهم كلما وقع عليهم عقوبة من العقوبات المذكورة. قالُوا يا مُوسَى في كل مرة على القول بأن المراد بالرجز غير ما تقدم أنه لما وقع عليهم الثلج المهلك أو الطاعون الجارف قالوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أي بعهده سبحانه عندك وهو النبوة كما قال أبو مسلم «فما» مصدرية، وسميت النبوة عهدا كما قال العلامة الثاني: لأن الله تعالى عهد إكرام الأنبياء عليهم السلام بها وعهدوا إليه تحمل أعبائها، أو لأن لها حقوقا تحفظ كما تحفظ العهود، أو لأنها بمنزلة عهد ومنشور منه جل وعلا أو بالذي عهد إليك أن تدعوه به فيجيبك كما أجابك في آياتك، «فما» موصولة والجار والمجرور صلة- لادع- أو حال من الضمير فيه، يعني ادع الله تعالى متوسلا بما عهد عندك، ويحتمل أن تكون الباء للقسم الاستعطافي كما يقال: بحياتك افعل كذا، فالمراد استعطافه عليه السلام لأن يدعو، وأن تكون للقسم الحقيقي وجوابه لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ الذي وقع علينا لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي أقسمنا بعهد الله تعالى عندك لَئِنْ كَشَفْتَ إلخ، وخلاصة ما ذكروه في الباء هنا أنها إما للالصاق أو للسببية أو للقسم بقسميه فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ أي إلى حد من الزمان هم واصلون إليه ولا بد فمعذبون فيه أو مهلكون، وهو وقت الغرق كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو الموت كما روي عن الحسن، والمراد أنجيناهم من العذاب إلى ذلك الوقت، ومن هنا صح تعلق الغاية بالكشف، ولا حاجة إلى جعل الجار والمجرور متعلقا بمحذوف وقع حالا من الرجز خلافا لزاعمه. وقيل: المراد بالأجل ما عينوه لإيمانهم إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ أي ينقضون العهد، وأصل النكث فل طاقات الصوف المغزول ليغزل ثانيا فاستعير لنقض العهد بعد إبرامه، وجواب فَلَمَّا فعل مقدر يؤذن به إذا الفجائية لا الجملة المقترنة بها، وإن قيل به فتساهل، أي فلما كشفنا عنهم ذلك فاجؤوا بالنكث من غير توقف وتأمل كذا قيل، وعليه فكلا الاسمين أعني لما وإذا معمول لذلك الفعل على أن الأول ظرفه، والثاني مفعوله قاله العلامة، والداعي لذلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 35 المحافظة على ما ذهبوا إليه من أن ما يلي كلمة لما من الفعلين يجب أن يكون ماضيا لفظا أو معنى، إلا أن مقتضى ما ذكروا من أن إذا وإذا المفاجأة في موقع المفعول به للفعل المتضمنين هما إياه أن يكون التقدير فاجؤوا زمان النكث أو مكانه. وقد يقال أيضا: تقدير الفعل تكلف مستغنى عنه إذ قد صرحوا بأن لما تجاب بإذا المفاجأة الداخلة على الجملة الاسمية، نعم هم يذكرون ما يوهم التقدير وليس به بل هو بيان حاصل المعنى وتفسير له فتدبر. فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ أي فأردنا الانتقام منهم، وأول بذلك ليتفرع عليه قوله سبحانه: فَأَغْرَقْناهُمْ وإلا فالاغراق عين الانتقام فلا يصح تفريعه عليه. وجوز أن تكون الفاء تفسيرية وقد أثبتها البعض كما في قوله تعالى: وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ [هود: 45] إلخ وحينئذ لا حاجة إلى التأويل فِي الْيَمِّ أي البحر كما روي عن ابن عباس. والسدي رضي الله تعالى عنهم، ويقع على ما كان ملحا زعافا وعلى النهر الكبير العذب الماء ولا يكسر ولا يجمع جمع السلامة، وقال الليث: هو البحر الذي لا يدرك قعره، وقيل: هو لجة البحر وهو عربي في المشهور. وقال ابن قتيبة: إنه سرياني وأصله كما قيل يما فعرب إلى ما ترى والقول بأنه اسم للبحر الذي غرق فيه فرعون غريق في يم الضعف بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا تعليل للإغراق يعني أن سبب الإغراق وما استوجبوا به ذلك العقاب هو التكذيب بالآيات العظام وهو الذي اقتضى تعلق إرادة الله تعالى به تعلقا تنجيزيا وهذا لا ينافي تفريع الإرادة على النكث لأن التكذيب هو العلة الأخيرة والسبب القريب ولا مانع من تعدد الأسباب وترتب بعضها على بعض قاله الشهاب ونور الحق ساطع منه، وقال شيخ الإسلام: الفاء وإن دلت على ترتب الإغراق على ما قبله من النكث لكنه صرح بالتعليل إيذانا بأن مدار جميع ذلك تكذيب آيات الله تعالى وما عطف عليه ليكون مزجرة للسامعين عن تكذيب الآيات الظاهرة على يد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انتهى، وفيه مناقشة لا تخفى. وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ الضمير المجرور للآيات، والغفلة مجاز عن عدم الذكر والمبالاة أي بسبب تكذيبهم بالآيات وعدم مبالاتهم بها وتفكرهم فيها بحيث صاروا كالغافلين عنها بالكلية وإلا فالمكذب بأمر لا يكون غافلا عنه للتنافي بين الأمرين، وفي ذلك إشارة إلى أن من شاهد مثلها لا ينبغي له أن يكذب بها مع علمه بها، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الضمير للنقمة وأريد بها الغرق كما يدل عليه ما قبله، وعليه فيجوز أن تكون الجملة حالية بتقدير قد، ولا مجاز في الغفلة حينئذ والأول أولى كما لا يخفى. وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ بالاستعباد وذبح الأبناء، والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على استمرار الاستضعاف وتجدده، والمراد بهم بنو إسرائيل، وذكروا بهذا العنوان إظهارا لكمال اللطف بهم وعظم الإحسان إليهم حيث رفعوا من حضيض المذلة إلى أوج العزة، ولعل فيه إشارة إلى أن الله سبحانه عند القلوب المنكسرة. ونصب القوم على أنه مفعول أول لأورثنا والمفعول الثاني قوله سبحانه: مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا أي جميع جهاتها ونواحيها، والمراد بها على ما روي عن الحسن وقتادة وزيد ابن أسلم أرض الشام، وذكر محيي السنة البغوي أنها أرض الشام ومصر، وفي رواية أنها أرض مصر التي كانت بأيدي المستضعفين، وإلى ذلك ذهب الجبائي، ورواه أبو الشيخ عن الليث بن سعد، أي أورثنا المستضعفين أرض مستضعفيهم وملكهم، ومعنى توريثهم إياها على القول بأنهم لم يدخلوها بعد أن خرجوا منها مع موسى عليه السلام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 36 إدخالها تحت ملكهم وعدم وجود مانع لهم عن التصرف فيها أو تمكين أولادهم فيها وذلك في زمن داود وسليمان عليهما السلام، ولا يخفى أنه خلاف المتبادر كما مرت الإشارة إليه. على أن أرض مصر بعد أن فتحت في زمن داود عليه السلام لم يكن لبني إسرائيل تمكن فيها واستقرار وإنما كان ملك وتصرف وكان التمكن في الأرض المقدسة، والسوق على ما قيل يقتضي ذكر ما تمكنوا فيه لا ما ملكوه، وأقول قد يقال المراد بالأرض هنا وفيما تقدم من قوله سبحانه: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ الأرض المقدسة التي طلب موسى عليه السلام من فرعون بني إسرائيل ليذهب بهم إليها فإنها موطن آبائهم فيكون موسى عليه السلام قد وعدهم هلاك عدوهم المانع لهم من الذهاب إليها وجعل الله تعالى إياهم خلفاء فيها بعد آبائهم وأسلافهم أو بعد من هي في يده إذ ذاك من العمالقة ثم أخبر سبحانه هنا أن الوعد قد نجز وقد أهلكنا أعداء أولئك الموعودين وأورثناهم الأرض التي منعوهم عنها ومكناهم فيها وفي حصول بغية موسى عليه السلام وما ألطف توريث الأبناء مساكن الآباء الَّتِي بارَكْنا فِيها بالخصب وسعة الأرزاق أو بذلك وبكونها مساكن الأنبياء عليهم السلام والصالحين وذلك ظاهر على تقدير أن يراد بمشارق الأرض ومغاربها الشام ونواحيها. فقد أخرج ابن أبي شيبة عن أبي أيوب الأنصاري قال ليهاجرن الرعد والبرق والبركات إلى الشام. وأخرج ابن عساكر عن ضمرة بن ربيعة قال: سمعت أنه لم يبعث نبي إلا من الشام فإن لم يكن منها أسري به إليها، وأخرج أحمد عن عبد الله بن حوالة الأزدي أنه قال: «يا رسول الله خر لي بلدا أكون فيه قال عليك بالشام فإنه خيرة الله تعالى من أرضه يجتبي إليه خيرته من عباده» ، وأخرج ابن عساكر عن واثلة بن الأسقع قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول عليكم بالشام فإنها صفوة بلاد الله تعالى يسكنها خيرته من عباده» ، وأخرج الحاكم وصححه عن عبد الله ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «يأتي على الناس زمان لا يبقى فيه مؤمن إلا لحق بالشام» وجاء من حديث أحمد والترمذي والطبراني وابن حبان والحاكم أيضا وصححه عن زيد بن ثابت. أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: طوبى للشام فقيل له: ولم؟ قال: «إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليها» والأحاديث في فضل الشام كثيرة وقد جمعها غير واحد إلا أن في الكثير منها مقالا وسبب الوضع كان قويا، وهو اسم لأحد الأقاليم العرفية، وفي القاموس أنها بلاد عن مشأمة القبلة وسميت بذلك لأن قوما من بني كنعان تشاءموا إليها أي تياسروا أو سمي بسام بن نوح فإنه بالشين بالسريانية أو لأن أرضها شامات بيض وحمر وسود وعلى هذا لا تهمز. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي الأغبش وكان قد أدرك أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه سئل عما بورك من الشام أين مبلغ حده؟ فقال: أول حدوده عريش مصر والحد الآخر طرف الثنية والحد الآخر الفرات والحد الآخر جعل فيه قبر هود النبي عليه السلام، وليس المراد بها ما هو متعارف الناس اليوم أعني دمشق نعم هي داخلة فيها، وقد تكلمنا على حدودها بأبسط من هذا في حواشينا على شرح مختصر السمرقندية لابن عصام، وقد ولع الناس في دمشق مدحا وذما فقال بعضهم: تجنب دمشق ولا تأتها ... وإن شاقك الجامع الجامع فسوق الفسوق بها نافق ... وفجر الفجور بها طالع وقال آخر: دمشق غدت جنة للورى ... زها وصفا العيش في ظلها وفيها لدى النفس ما تشتهي ... ولا عيب فيها سوى أهلها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 37 وقال آخر في الشام ولعله عنى متعارف الناس: قيل لي ما يقول في الشام حبر ... شام من بارق الهنا ما شامه قلت ماذا أقول في وصف أرض ... هي في وجنة المحاسن شامه وأنا أقول إذا صح الحديث فهو مذهبي ونعوذ بالله تعالى من اتباع الهوى، والموصول صفة المشارق والمغارب، وقيل: صفة الأرض وضعفه أبو البقاء بأن فيه العطف على الموصوف قبل الصفة وهو نظير قولك: قام أم هند وأبوها العاقلة، وجوز أن يكون المفعول الثاني لأورثنا أي الأرض التي فعلى هذا يكون نصب المشارق وما عطف عليه بيستضعفون على معنى يستضعفون فيها وأن يكون المشارق منصوبة بيستضعفون والتي صفة كما في الوجه الأول والمفعول الثاني لأورثنا محذوف أي الأرض أو الملك، ولا يخفى بعده وأن المتبادر هو الأول. وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أي مضت عليهم واستمرت من قولهم: مضى على الأمر إذا استمر، والمراد من الكلمة وعده تعالى لهم بالنصر والتمكين على لسان نبيهم عليه السلام وهو قوله السابق عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ إلخ، وذهب غير واحد إلى أنه الوعد الذي يؤذن به قوله سبحانه: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ [القصص: 5] ، وقيل: المراد بها علمه تعالى الأزلي، والمعنى مضى واستمر عليهم ما كان مقدرا من إهلاك عدوهم وتوريثهم الأرض، والْحُسْنى تأنيث الأحسن صفة للكلمة ووصفت بذلك لما فيها من الوعد بما يحبون ويستحسنون، وعن الحسن أنه أريد بالكلمة عدته سبحانه وتعالى لهم بالجنة ولا يخفى أنه يأباه السباق والسياق، والتفت من التكلم إلى الخطاب في قوله سبحانه: رَبِّكَ على ما قال الطيبي لأن ما قبله من القصص كان غير معلوم له صلّى الله عليه وسلّم. وأما كونه جل شأنه منجزا لما وعد ومجريا لما قضى وقدر فهو معلوم له عليه الصلاة والسلام، وذكر في الكشف أنه ادمج في هذا الالتفات أنه ستتم كلمة ربك في شأنك أيضا. وقرأ عاصم في رواية «كلمات» بالجمع لأنها مواعيد، والوصف بالحسنى لتأويله بالجماعة، وقد ذكروا أنه يجوز وصف كل جمع بمفرد مؤنث إلا أن الشائع في مثله التأنيث بالتاء وقد يؤنث بالألف كما في قوله سبحانه: مَآرِبُ أُخْرى [طه: 18] بِما صَبَرُوا أي بسبب صبرهم على الشدائد التي كابدوها من فرعون وقومه وحسبك بهذا حاثا على الصبر ودالا على أن من قابل البلاء بالجزع وكله الله تعالى إليه ومن قابله بالصبر ضمن الله تعالى له الفرج. وأخرج ابن المنذر وغيره عن الحسن قال: لو أن الناس إذا ابتلوا من قبل سلطانهم بشيء صبروا ودعوا الله تعالى لم يلبثوا أن يرفع الله تعالى ذلك عنهم ولكنهم يفزعون إلى السيف فيوكلون إليه ثم تلا هذه الآية، وفي رواية أخرى عنه قال: ما أوتيت بنو إسرائيل ما أوتيت إلا بصبرهم وما فزعت هذه الأمة إلى السيف قط فجاءت بخير، وأقول قد شاهدنا الناس سنة الألف والمائتين والثمان والأربعين قد فزعوا إلى السيف فما أغناهم شيئا ولا تم لهم مراد ولا حمد منهم أمر، بل وقعوا في حرة رحيلة، ووادي خدبات، وأم حبوكر، ورموا لعمر الله بثالثة الاثافي، وقص من جناح عزهم القدامى والخوافي ولم يعلموا أن عيش المضر حلوه مر مقر وأن الفرج إنما يصطاد بشباك الصبر. وما أحسن قول الحسن: عجبت ممن خف كيف خف وقد سمع قوله سبحانه: وتلا الآية، ويعلم منها أن التحزن لا ينافي الصبر لأن الله سبحانه وصف بني إسرائيل به مع قولهم السابق لموسى عليه السلام أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا وَدَمَّرْنا أي خربنا وأهلكنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ في أرض مصر من العمارات والقصور أي دمرنا الذي كان هو يصنعه فرعون على أن ما موصولة واسم كان ضمير راجع إليها وجملة يصنع فرعون من الفعل والفاعل خبر كان والجملة صلة الموصول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 38 والعائد إليه محذوف، وجوز أن يكون فرعون اسم كان ويصنع خبر مقدم والجملة الكونية صلة ما والعائد محذوف أيضا. وتعقبه أبو البقاء بأن يصنع يصلح أن يعمل في فرعون فلا يقدر تأخيره كما لا يقدر تأخير الفعل في قولك: قام زيد وفيه غفلة عن الفرق بين المثال وما نحن فيه وهو مثل الصبح ظاهر وقيل: ما مصدرية وكان سيف خطيب والتقدير ما يصنع فرعون إلخ، وقيل: كان كما ذكر وما موصولة اسمية والعائد محذوف والتقدير ودمرنا الذي يصنعه فرعون إلخ أي صنعه، والعدول إلى صيغة المضارع على هذين القولين لاستحضار الصورة وَما كانُوا يَعْرِشُونَ من الجنات أو ما كانوا يرضونه من البنيان كصرح هامان، وإلى الأول يشير كلام الحسن وإلى الثاني كلام مجاهد. وقرأ ابن عامر وأبو بكر هنا وفي [النحل: 68] «يعرشون» بضم الراء والباقون بالكسر وهما لغتان فصيحتان والكسر على ما ذكر اليزيدي وأبو عبيدة أفصح، وقرىء في الشواذ «يغرسون» من غرس الأشجار. وفي الكشاف أنها تصحيف وليس به. «وهذا ومن باب الإشارة في الآيات» ما وجدته لبعض أرباب التأويل من العارفين أن العصا إشارة إلى نفسه التي يتوكأ عليها أي يعتمد في الحركات والأفعال الحيوانية ويهش بها على غنم القوة البهيمية السليمة ورق الملكات الفاضلة والعادات الحميدة من شجرة الفكر وكانت لتقدسها منقادة لأوامره مرتدعة عن أفعالها الحيوانية إلا بإذنه كالعصا وإذا أرسلها عند الاحتجاج على الخصوم صارت كالثعبان تلقف ما يأفكون من الأكاذيب ويظهرون من حبال الشبهات وعصا المغالطات فيغلبهم ويقهرهم. وأن نزع اليد إشارة إلى إظهار القدرة الباهرة الساطعة منها أنوار الحق. وجعل بعضهم فرعون إشارة إلى النفس الأمّارة وقومه إشارة إلى صفاتها وكذا السحرة وموسى إشارة إلى الروح وقومه بنو إسرائيل العقل والقلب والسر وعلى هذا القياس. وأوّل النيسابوري الطوفان بالعلم الكثير والجراد بالواردات والقمل بالإلهامات والضفادع بالخواطر والدم بأصناف المجاهدات والرياضات وهو كما ترى. وقد ذكر غير واحد أن السحر كان غالبا في زمن موسى عليه السلام فلهذا كانت معجزته ما كانت، والطب ما كان غالبا في زمن عيسى عليه السلام فلهذا كانت معجزته من جنس الطب والفصاحة كانت غالبا في زمن نبينا صلّى الله عليه وسلّم والتفاخر بها أشهر من «قفا نبك» فلهذا كانت معجزته القرآن، وإنما كانت معجزة كل نبي من جنس ما غلب على زمانه ليكون ذلك ادعى إلى إجابة دعواه. وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ شروع بعد انتهاء قصة فرعون في قصة بني إسرائيل وشرح ما أحدثوه بعد أن منّ الله تعالى عليهم بما منّ وأراهم من الآيات ما أراهم تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم عما رآه من اليهود بالمدينة فانهم جروا معه على دأب أسلافهم مع أخيه موسى عليه السلام وإيقاظا للمؤمنين أن لا يغفلوا عن محاسبة أنفسهم ومراقبة نعم الله تعالى عليهم فإن بني إسرائيل وقعوا فيما وقعوا لغفلتهم عما منّ الله تعالى به عليهم، وجاوز بمعنى جاز وقرىء «جوزنا» بالتشديد وهو أيضا بمعنى جاز فعدى بالباء أي قطعنا البحر بهم، والمراد بالبحر بحر القلزم. وفي مجمع البيان أنه نيل مصر وهو كما في البحر خطأ، وعن الكلبي أن موسى عليه السلام عبر بهم يوم عاشوراء بعد مهلك فرعون وقومه فصاموه شكرا لله تعالى فَأَتَوْا أي مروا بعد المجاوزة. عَلى قَوْمٍ قال قتادة: كانوا من لخم اسم قبيلة ينسبون كما صححه ابن عبد البر إلى لخم بن عدي بن عمرو بن سبأ، وقيل: كانوا من العمالقة الكنعانيين الذين أمر موسى عليه السلام بقتالهم. يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ أي يواظبون على عبادتها ويلازمونها، وكانت كما أخرج ابن المنذر. وغيره عن ابن جريج تماثيل بقر من نحاس، وهو أول شأن العجل، وقيل: كانت من حجارة، وقيل: كانت بقرا حقيقة وقرأ حمزة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 39 والكسائي يَعْكُفُونَ بكسر الكاف قالُوا عند ما شاهدوا ذلك يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً مثالا نعبده كَما لَهُمْ آلِهَةٌ الكاف متعلقة بمحذوف وقع صفة لإلها وما موصولة ولَهُمْ صلتها وآلِهَةٌ بدل من الضمير المستتر فيه، والتقدير اجعل لنا إلها كائنا كالذي استقر هو لهم. وجوز أبو البقاء أن تكون ما كافة للكاف، ولذا وقع بعدها الجملة الاسمية وأن تكون مصدرية، ولهم متعلق بفعل أي كما ثبت لهم قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ تعجب عليه السلام من قولهم هذا بعد ما شاهدوه من الآية الكبرى والبينة العظمى فوصفهم بالجهل على أتم وجه حيث لم يذكر له متعلقا ومفعولا لتنزيله منزلة اللازم أو لأن حذفه يدل على عمومه أي تجهلون كل شيء فيدخل فيه الجهل بالربوبية بالطريق الأولى، وأكد ذلك بأن، وتوسيط قوم وجعل ما هو المقصود بالأخبار وصفا له ليكون كما قال العلامة كالمتحقق المعلوم وهذه كما ذكر الشهاب نكتة سرية في الخبر الموطئ لادعاء أن الخبر لظهور أمره وقيام الدليل عليه كأنه معلوم متحقق فيفيد تأكيده وتقريره ولولاه لم يكن لتوسيط الموصوف وجه من البلاغة إِنَّ هؤُلاءِ أي القوم الذين يعكفون على هذه الأصنام مُتَبَّرٌ أي مدمر مهلك كما قال ابن عباس ما هُمْ فِيهِ من الدين يعني يدمر الله تعالى دينهم الذي هم عليه على يدي ويهلك أصنامهم ويجعلها فتاتا وَباطِلٌ أي مضمحل بالكلية، وهو أبلغ من حمله على خلاف الحق ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي ما استمروا على عمله من عبادتها وإن قصدوا بذلك التقرب إلى الله تعالى وأن المراد أن ذلك لا ينفعهم أصلا، وحمل ما كانُوا يَعْمَلُونَ على الأصنام لأنها معمولة لهم خلاف الظاهر جدا، والجملة تعليل لإثبات الجهل المؤكد للقوم، وفي إيقاع اسم الإشارة كما في الكشاف اسما لأن وتقديم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبرا لها وسم لعبدة الأصنام بأنهم هم المعرضون للتبار وأنه لا يعدوهم البتة وأنه لهم ضربة لازب ليحذرهم عاقبة ما طلبوا ويبغض إليهم ما أحبوا، ووجه ذلك على ما في الكشف أن اسم الإشارة بعد إفادة الإحضار وأكمل التمييز يفيد أنهم أحقاء بما أخبر عنه به بواسطة ما تقدم من العكوف، والتقديم يؤذن بأن حال ما هم فيه ليست غير التبار وحال عملهم ليست إلا البطلان فهم لا يعدونهما فهما لهم ضربة لازب. وجوز أبو البقاء أن يكون ما هُمْ فِيهِ فاعل متبر لاعتماده على المسند إليه وهو في نفسه مساو لاحتمال أن يكون ما هم فيه مبتدأ ومتبر خبر له أو أرجح منه إلا أن المقام كما قال القطب وغيره اقتضى ذلك فليفهم. قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً قيل: هذا هو الجواب وما تقدم مقدمة وتمهيد له، ولعله لذلك أعيد لفظ قال: وقال شيخ الإسلام: هو شروع في بيان شؤون الله تعالى الموجبة لتخصيص العبادة به سبحانه بعد بيان أن ما طلبوا عبادته مما لا يمكن طلبه أصلا لكونه هالكا باطلا أصلا ولذلك وسط بينهما قال مع كون كل منهما كلام موسى عليه السلام، وقال الشهاب: أعيد لفظ قال مع اتحاد ما بين القائلين لأن هذا دليل خطابي بتفضيلهم على العالمين، ولم يستدل بالتمانع العقلي لأنهم عوام انتهى، وفي إقامة برهان التمانع على الوثنية القائلين إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى والمجيبين إذا سئلوا من خلق السموات والأرض بخلقهن الله خفاء، والظاهر إقامته على التنويه كما لا يخفى، والاستفهام للإنكار وانتصاب (غير) على أنه مفعول أبغيكم وهو على الحذف والإيصال، والأصل أبغي لكم، وعلى ذلك يخرج كلام الجوهري وإن كان ظاهره أن الفعل متعد لمفعولين والهاء تمييز، وجوز أن البقاء أن يكون مفعولا به لأبغي وغير صفة له قدمت فصارت حالا، وأيا ما كان فالمقصود هنا اختصاص الإنكار بغيره تعالى دون إنكار الاختصاص، والمعنى أغير المستحق للعبادة أطلب لكم معبودا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ أي عالمي زمانكم أو جميع العالمين، وعليه يكون المراد تفضيلهم بتلك الآيات لا مطلقا حتى يلزم تفضيلهم على أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 40 الأنبياء والملائكة عليهم السلام فلا يدخلون في المفضل عليهم بوجه بل هم خارجون عن ذلك بقرينة عقلية، والجملة حالية مقررة لوجه الإنكار، أي والحال أنه تعالى خص التفضيل بكم فأعطاكم نعما لم يعطها غيركم، وفيه تنبيه على ما صنعوا من سوء المعاملة حيث قابلوا التفضل بالتفضيل والاختصاص بأن قصدوا أن يشركوا به أخس مخلوقاته وهذا الاختصاص مأخوذ من معنى الكلام وإلا فليس فيه ما يفيد ذلك، وتقديم الضمير على الخبر لا يفيده وإن كان اختصاصا آخر على ما قيل، أي هو المخصوص بأنه فضلكم على من سواكم، وجوز أبو البقاء كون الجملة مستأنفة وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ بإهلاكهم وتخليصكم منهم، وإذا إما مفعول به لاذكروا محذوفا بناء على القول بأنها تخرج عن الظرفية أي اذكروا ذلك الوقت ويكون ذلك كناية عن ذكر ما فيه وإما ظرف لمفعول اذكروا المحذوف أي اذكروا صنيعنا معكم في ذلك الوقت، وهو تذكير من جهته تعالى بنعمته العظيمة وقرىء «نجيناكم» من التنجية، وقرأ ابن عامر «أنجاكم» فيكون من مقول موسى عليه السلام، وقال بعضهم: إنه على قراءة الجمهور أيضا كذلك على أن ضمير أنجينا لموسى وأخيه عليهما السلام أو لهما ولمن معهما أوله وحده عليه السلام مشيرا بالتعظيم إلى تعظيم أمر الإنجاء وهو خلاف الظاهر، وقيل: إنه من كلام الله تعالى تتميما لكلام موسى عليه السلام كما في قوله تعالى: فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً [طه: 53] بعد قوله سبحانه: هو الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً [طه: 53] وهو كالتفسير لقوله سبحانه: وَهُوَ فَضَّلَكُمْ. وقوله تعالى: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ أي يولونكم ذلك ويكلفونكم إياه إما استئناف بياني، كأنه قيل: ما فعل بهم أو مم أنجوا؟ فأجيب بما ذكر، وإما حال من ضمير المخاطبين أو من آل فرعون أو منهما معا لاشتماله على ضميرهما. وقوله عزّ اسمه: يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ بدل من يسومونكم مبين له، ويحتمل الاستئناف أيضا وَفِي ذلِكُمْ الإنجاء أو سوء العذاب بَلاءٌ نعمة أو محنة، وقيل: المراد به ما يشملهما مِنْ رَبِّكُمْ أي مالك أموركم عَظِيمٌ لا يقادر قدره. وفي الآية التفات على بعض ما تقدم، ثم إن هذا الطلب لم يكن كما قال محيي السنة البغوي عن شك منهم بوحدانية الله تعالى وإنما كان غرضهم إلها يعظمونه ويتقربون بتعظيمه إلى الله تعالى وظنوا أن ذلك لا يضر بالديانة وكان ذلك لشدة جهلهم كما أذنت به الآيات، وقيل: إن غرضهم عبادة الصنم حقيقة فيكون ذلك ردة منهم، وأيا ما كان فالقائل بعضهم لا كلهم، وقد اتفق في هذه الأمة نجو ذلك فقد أخرج الترمذي وغيره عن أبي واقد الليثي «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج في غزوة حنين فمر بشجرة للمشركين كانوا يعلقون عليها أسلحتهم ويعكفون حولها يقال لها ذات أنواط فقالوا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «سبحان الله» وفي رواية «الله أكبر» هذا كما قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام «اجعل لنا إلها كما لهم آلهة والذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم» وأخرج الطبراني وغيره من طريق كثير بن عبد الله بن عوف عن أبيه عن جده «قال غزونا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام الفتح ونحن ألف ونيف ففتح الله تعالى مكة وحنينا حتى إذا كنا بين حنين والطائف في أرض فيها سدرة عظيمة كان يناط بها السلاح فسميت ذات أنواط فكانت تعبد من دون الله فلما رآها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صرف عنها في يوم صائف إلى ظل هو أدنى منها فقال له رجل: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنها السنن قلتم- والذي نفس محمد بيده- كما قالت بنو إسرائيل اجعل لنا إلها كما لهم آلهة» وفي هذا الخبر تصريح بأن القائل رجل واحد، ولعل ذلك كان عن جهل يعذر به ولا يكون به كافرا وإلا لأمره صلّى الله عليه وسلّم بتجديد الإسلام ولم ينقل ذلك فيما وقفت عليه، والناس اليوم قد اتخذوا من قبيل ذات الأنواط شيئا كثيرا لا يحيط به نطاق الحصر، والآمر بالمعروف أعز من بيض الأنوق والامتثال بفرض الأمر منوط بالعيوق والأمر لله الواحد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 41 القهار وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً روي أن موسى عليه السلام وعد بني إسرائيل وهم بمصر إن أهلك الله عدوهم أتاهم بكتاب فيه بيان ما يأتون وما يذرون فلما هلك فرعون سأل موسى عليه السلام ربه الكتاب فأمره أن يصوم ثلاثين وهو شهر ذي القعدة فلما أتم الثلاثين أنكر خلوف فمه فتسوك فقالت الملائكة كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك فأمره الله تعالى أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة. وأخرج الديلمي عن ابن عباس يرفعه لما أتى موسى عليه السلام ربه عزّ وجلّ وأراد أن يكلمه بعد الثلاثين وقد صام ليلهن ونهارهن كره أن يكلم ربه سبحانه وريح فمه ريح فم الصائم فتناول من نبات الأرض فمضغه فقال له ربه: لم أفطرت؟ وهو أعلم بالذي كان، قال: أي رب كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيّب الريح، قال: أو ما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم عندي أطيب من ريح المسك؟ ارجع فصم عشرة أيام ائتني ففعل موسى عليه السلام الذي أمره ربه وذلك قوله سبحانه: وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ والتعبير عنها بالليالي كما قيل لأنها غرر الشهور. وقيل: إنه عليه السلام أمره الله تعالى أن يصوم ثلاثين يوما وأن يعمل فيها بما يقربه من الله تعالى ثم أنزلت عليه التوراة وكلم فيها، وقد أجمل ذكر الأربعين في البقرة وفصل هنا، وَواعَدْنا بمعنى وعدنا، وبذلك قرأ أبو عمرو ويعقوب، ويجوز أن تكون الصيغة على بابها بناء على تنزيل قبول موسى عليه السلام منزلة الوعد، وقد تقدم تحقيقه. وثَلاثِينَ كما قال أبو البقاء مفعول ثان لواعدنا بحذف المضاف أي إتمام ثلاثين ليلة أو إتيانها فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً من قبيل الفذلكة لما تقدم، وكأن النكتة في ذلك أن إتمام الثلاثين بعشر يحتمل المعنى المتبادر وهو ضم عشرة إلى ثلاثين لتصير بذلك أربعين، ويحتمل أنها كانت عشرين فتمت بعشرة ثلاثين كما يقال أتممت العشرة بدر همين على معنى أنها لولا الدرهمان لم تصر عشرة فلدفع توهم الاحتمال الثاني جيء بذلك، وقيل: إن الإتمام بعشر مطلق يحتمل أن يكون تعيينها بتعيين الله تعالى أو بإرادة موسى عليه السلام فجيء بما ذكر ليفيد أن المراد الأول، وقيل: جيء به رمزا إلى أنه لم يقع في تلك العشر ما يوجب الجبر، والميقات بمعنى الوقت، وفرق جمع بينهما بأن الوقت مطلق والميقات وقت قدر فيه عمل من الأعمال ومنه مواقيت الحج، ونصب أَرْبَعِينَ قيل: على الحالية أي بالغا أربعين، ورده أبو حيان بأنه على هذا يكون معمولا للحال المحذوف لا حالا، وأجيب بأن النحويين يطلقون الحكم الذي للعامل لمعموله القائم مقامه فيقولون في زيد في الدار إن الجار والمجرور خبر مع أن الخبر إنما هو متعلقه. وتعقب بأن الذي ذكره النحاة في الظرف دون غيره فالأحسن أنه حال بتقدير معدودا، وفيه أن دعوى تخصيص الذكر في الظرف خلاف الواقع كما لا يخفى على المتتبع، وأن ما زعمه أحسن مما تقدم يرد عليه ما يرد عليه، وقيل: إنه تمييز، وقيل: إنه مفعول به بتضمين تم معنى بلغ، وقيل: إن تم من الأفعال الناقصة وهذا خبره وهو خبر غريب، وقيل: إنه منصوب على الظرفية. وأورد عليه أنه كيف تكون الأربعين ظرفا للتمام والتمام إنما هو بآخرها إلا أن يتجوز فيه. وَقالَ مُوسى حين توجه إلى المناجاة حسبما أمر به لِأَخِيهِ هارُونَ اسم أعجمي عبراني لم يقع في كلام العرب بطريق الأصالة، ويكتب بدون ألف، وهو هنا بفتح النون على أنه مجرور بدلا من أخيه أو بيانا له، أو منصوب مفعولا به لمقدر أعني أعني وقرىء شاذا بالضم على أنه خبر مبتدأ محذوف هو هو أو منادى حذف منه حرف النداء أي يا هارون اخْلُفْنِي أي كن خليفتي فِي قَوْمِي وراقبهم فيما يأتون وما يذرون، واستخلافه عليه السلام لأخيه مع أنه عليه السلام كان نبيا مرسلا مثله قيل: لأن الرياسة كانت له دونه، واجتماع الرياسة مع الرسالة والنبوة ليس أمر لازما كما يرشد إلى ذلك سير قصص أنبياء بني إسرائيل، وذكر الشيخ الأكبر قدس سره في فتوحاته أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 42 هارون ذكر له أنه نبي بحكم الأصالة ورسول بحكم التبعية فلعل هذا الاستخلاف من آثار تلك التبعية، وقيل: إن هذا كما يقول أحد المأمورين بمصلحة للآخر إذا أراد الذهاب لأمر: كن عوضا عني على معنى ابذل غاية وسعك ونهاية جهدك بحيث يكون فعلك فعل شخصين وَأَصْلِحْ ما يحتاج إلى الإصلاح من أمور دينهم، أو كن مصلحا على أنه منزل منزلة اللازم من غير تقدير مفعول. وعن ابن عباس أنه يريد الرفق بهم والإحسان إليهم، وقيل: المراد احملهم على الطاعة والصلاح وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ أي ولا تتبع سبيل من سلك الإفساد بدعوة وبدونها، وهذا من باب التوكيد كما لا يخفى. وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا أي لوقتنا الذي وقتناه أي لتمام الأربعين، واللام للاختصاص كما في قوله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 43 سبحانه: لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء: 78] وهي بمعنى عند عند بعض النحويين وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ من غير واسطة بحرف وصوت ومع هذا لا يشبه كلام المخلوقين ولا محذور في ذلك كما أوضحناه في الفائدة الرابعة، وإلى ما ذكره ذهب السلف الصالح، وقد أخرج البزار وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية. والبيهقي في الأسماء والصفات عن جابر قال: قال «رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لما كلم الله تعالى موسى يوم الطور كلمه بغير الكلام الذي كلمه يوم ناداه فقال له موسى: يا رب أهذا كلامك الذي كلمتني به؟ قال يا موسى: أنا كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان ولي قوة الألسن كلها وأقوى من ذلك فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا: يا موسى صف لنا كلام الرحمن، فقال: لا تستطيعونه ألم تروا إلى صوت الصواعق الذي يقبل في أحلى حلاوة سمعتوه فذاك قريب منه وليس به» . وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن أبي الحويرث عبد الرحمن بن معاوية قال: «إنما كلم الله تعالى موسى بقدر ما يطيق من كلامه ولو تكلم بكلامه كله لم يطقه شيء» وأخرج جماعة عن كعب قال: «لما كلم الله تعالى موسى كلمه بالألسنة كلها فجعل يقول: يا رب لا أفهم حتى كلمه آخر الألسنة بلسانه بمثل صوته» الخبر، وأخرجوا عن ابن كعب القرظي أنه قال: قيل لموسى عليه السلام ما شبهت كلام ربك مما خلق؟ فقال عليه السلام: بالرعد الساكن، وأخرج الديلمي عن أبي هريرة مرفوعا لما خرج أخي موسى إلى مناجاة ربه كلمه ألف كلمة ومائتي كلمة فأول ما كلمه بالبربرية، ونقل عن الأشعري أن موسى عليه السلام إنما سمع الكلام النفسي القائم بذات الله تعالى ولم يكن ما سمعه مختصا بجهة من الجهات، وحمله الى سماع بالفعل مشكل مع الأخبار الدالة على خلافه والظاهر أن ذلك إن صح نقله فهو قول رجع عنه إلى مذهب السلف الذي أبان عن اعتقاده له في الإبانة قالَ رَبِّ أَرِنِي أي ذاتك أو نفسك فالمفعول الثاني محذوف لأنه معلوم، ولم يصرح به تأدبا أَنْظُرْ إِلَيْكَ مجزوم في جواب الدعاء، واستشكل بأن الرؤية مسببة عن النظر متأخرة عنه كما يريك ذلك النظر إلى قولهم: نظرت إليه فرأيته، ووجهه أن النظر تقليب الحدقة نحو الشيء التماسا لرؤيته والرؤية الإدراك بالباصرة بعد التقليب وحينئذ كيف يجعل النظر جوابا لطلب الرؤية مسببا عنه وهو عكس القضية. وأجيب بأن المراد بالإراءة ليس إيجاد الرؤية بل التمكن منها مطلقا أو بالتجلي والظهور وهو مقدم على النظر وسبب له، ففي الكلام ذكر الملزوم وإرادة اللازم أي مكنى من رؤيتك أو تجل لي فأنظر إليك وأراك قالَ استئناف بياني كأنه قيل: فماذا قال رب العزة حين قال موسى عليه السلام ذلك، فقيل: قال: لَنْ تَرانِي أي لا قابلية لك لرؤيتي وأنت على ما أنت عليه، وهو نفي للإراءة المطلوبة على أتم وجه وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ استدراك لبيان أنه عليه السلام لا يطيق الرؤية، والمراد من الجبل طور سيناء كما ورد في غير ما خبر، وفي تفسير الخازن وغيره أن اسمه زبير بزاي مفتوحة وباء موحدة مكسورة وراء مهملة بوزن أمير فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ ولم يفتته التجلي فَسَوْفَ تَرانِي إذا تجليت لك فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ أي ظهر له على الوجه اللائق بجنابه تعالى بعد جعله مدركا لذلك جَعَلَهُ دَكًّا أي مدكوكا متفتتا، والدك والدق اخوان كالشك والشق. وقال شيخنا الكوراني: إن الجبل مندرج في الأشياء التي تسبح بحمد الله بنص وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء: 44] المحمول على ظاهره عند التحقيق المستلزم لكونه حيا مدركا حياة وإدراكا لائقين بعالمه ونشأته، وقيل: هذا مثل لظهور اقتداره سبحانه وتعلق إرادته بما فعل بالجبل لا أن ثم تجليا وهو نظير ما قرر في قوله تعالى: أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] من أن المراد أن ما قضاه سبحانه وأراد كونه يدخل تحت الوجود من غير توقف لا أن ثمة قولا. وتعقبه صاحب الفرائد بأن هذا المعنى غير مفهوم من الآية لأن تجلى مطاوع جليته أي أظهرته يقال: جليته فتجلى أي أظهرته فظهر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 44 ولا يقدر تجلي اقتداره لأنه خلاف الأصل، على أن هذا الحمل بعيد عن المقصود بمراحل. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي والحاكم وصححاه. والبيهقي وغيرهم من طرق عن أنس بن مالك «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأ هذه الآية فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ إلخ قال هكذا وأشار بإصبعيه ووضع طرف إبهامه على أنملة الخنصر- وفي لفظ- على المفصل الأعلى من الخنصر فساخ الجبل» وعن ابن عباس أنه قال ما تجلى منه سبحانه للجبل إلا قدر الخنصر فجعله ترابا، وهذا كما لا يخفى من المتشابهات التي يسلك فيها طريق التسليم وهو أسلم وأحكم أو التأويل بما يليق بجلال ذاته تعالى. وقرأ حمزة والكسائي «دكاء» بالمد أي أرضا مستوية، ومنه قولهم ناقة دكاء للتي لم يرتفع سنامها. وقرأ يحيى بن وثاب «دكا» بضم الدار والتنوين جمع دكاء كحمر وحمراء أي قطعا دكا فهو صفة جمع، وفي شرح التسهيل لأبي حيان أنه أجري مجرى الأسماء فأجري على المذكر وَخَرَّ مُوسى أي سقط من هول ما رأى، وفرق بعضهم بين السقوط والخرور بأن الأول مطلق والثاني سقوط له صوت كالخرير صَعِقاً أي صاعقا وصائحا من الصعقة، والمراد أنه سقط مغشيا عليه عند ابن عباس والحسن رضي الله تعالى عنهم وميتا عند قتادة. روي أنه بقي كذلك مقدار جمعة، وعن ابن عباس أنه عليه السلام أخذته الغشية عشية يوم الخميس يوم عرفة إلى عشية يوم الجمعة، ونقل بعض القصاصين أن الملائكة كانت تمر عليه حينئذ فيلكزونه بأرجلهم ويقولون يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزة وهو كلام ساقط لا يعول عليه بوجه، فإن الملائكة عليهم السلام مما يجب تبرئتهم من إهانة الكليم بالوكز بالرجل والغض في الخطاب فَلَمَّا أَفاقَ بأن عاد إلى ما كان عليه قبل وذلك بعود الروح إليه على ما قال قتادة أو بعود الفهم والحس على ما قال غيره، والمشهور أن الافاقة رجوع العقل والفهم إلى الإنسان بعد ذهابهما عنه بسبب من الأسباب، ولا يقال للميت إذا عادت إليه روحه أفاق وإنما يقال ذلك للمغشي عليه ولهذا اختار الأكثرون ما قاله الحبر قالَ تعظيما لأمر الله سبحانه سُبْحانَكَ أي تنزيها لك من مشابهة خلقك في شيء، أو من أن يثبت أحد لرؤيتك على ما كان عليه قبلها، أو من أن أسألك شيئا بغير إذن منك تُبْتُ إِلَيْكَ من الإقدام على السؤال بغير إذن، وقيل: من رؤية وجودي والميل مع إرادتي وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بعظمتك وجلالك أو بأنه لا يراك أحد في هذه النشأة فيثبت على ما قيل، وأراد كما قال الكوراني أنه أول المؤمنين بذلك عن ذوق مسبوق بعين اليقين في نظره، وقيل: أراد أول المؤمنين بأنه لا يجوز السؤال بغير إذن منك. واستدل أهل السنة المجوزون لرؤيته سبحانه بهذه الآية على جوازها في الجملة، واستدل بها المعتزلة النفاة على خلاف ذلك وقامت الحرب بينهما على ساق، وخلاصة الكلام في ذلك أن أهل السنة قالوا: إن الآية تدل على إمكان الرؤية من وجهين. الأول أن موسى عليه السلام سألها بقوله: رَبِّ أَرِنِي إلخ، ولو كانت مستحيلة فإن كان موسى عليه السلام عالما بالاستحالة فالعاقل فضلا عن النبي مطلقا فضلا عمن هو من أولي العزم لا يسأل المحال ولا يطلبه، وإن لم يكن عالما لزم أن يكون آحاد المعتزلة ومن حصل طرفا من علومهم أعلم بالله تعالى وما يجوز عليه وما لا يجوز من النبي الصفي، والقول بذلك غاية الجهل والرعونة، وحيث بطل القول بالاستحالة تعين القول بالجواز، والثاني أن فيها تعليق الرؤية على استقرار الجبل وهو ممكن في نفسه وما علق على الممكن ممكن. واعترض الخصوم الوجه الأول بوجوه. الأول أنا لا نسلم أن موسى عليه السلام سأل الرؤية وإنما سأل العلم الضروري به تعالى إلا أنه عبر عنه بالرؤية مجازا لما بينهما من التلازم. والتعبير بأحد المتلازمين عن الآخر شائع في كلامهم، وإلى هذا ذهب أبو الهذيل بن العلاف وتابعه عليه الجبائي وأكثر البصريين. الثاني أنا سلمنا أنه لم يسأل العلم بل سأل الرؤية حقيقة لكنا نقول: إنه سأل رؤية علم من أعلام الساعة بطريق حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه فمعنى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 45 أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ أرني أنظر إلى علم من أعلامك الدالة على الساعة، وإلى هذا ذهب الكعبي والبغداديون، الثالث أنا سلمنا أنه سأل رؤية الله تعالى نفسه حقيقة ولكن لم يكن ذلك لنفسه عليه السلام بل لدفع قومه لقائلي أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء: 153] وإنما أضاف الرؤية إليه دونهم ليكون منعه أبلغ في دفعهم وردعهم عما سألوه تنبيها بالأعلى على الأدنى، وإلى هذا ذهب الجاحظ ومتبعوه، الرابع أنا سلمنا أنه سأل لنفسه لكن لا نسلم أن ذلك ينافي العلم بالإحالة إذ المقصود من سؤالها إنما هو أن يعلم الإحالة بطريق سمعي مضاف إلى ما عنده من الدليل العقلي لقصد التأكيد، وذلك جائز كما يدل عليه طلب إبراهيم عليه السلام اراءة كيفية إحياء الموتى، وقوله: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260] وإلى ذلك ذهب أبو بكر الأصم، الخامس أنا سلمنا أن سؤال الرؤية ينافي العلم بالإحالة لكنا نلتزم القول بعدم العلم وهو غير قادح في نبوته عليه السلام فإن النبوة لا تتوقف على العلم بجميع العقائد الحقة أو جميع ما يجوز عليه تعالى وما لا يجوز بل على ما يتوقف عليه الغرض من البعثة والدعوة إلى الله تعالى وهو وحدانيته وتكليف عباده بالأوامر والنواهي تحريضا لهم على النعيم المقيم، وليس امتناع الرؤية من هذا القبيل، ويؤيد ذلك أنه سأل وقوع الرؤية في الدنيا وهي غير واقعة عندنا وعندكم، ونسب هذا القول إلى الحسن منا وهو غريب منه. السادس أنا سلمنا العلم بالإحالة لكن لا نسلم امتناع السؤال وإنما يمتنع أن لو كان محرما في شرعه لم لا يجوز أن لا يكون محرما؟، السابع أنا سلمنا الحرمة لكن لا نسلم أن ذلك كبيرة لم لا يجوز أن يكون صغيرة وهي غير ممتنعة على الأنبياء عليهم السلام؟. وتكلموا على الوجه الثاني من وجهين: الأول أنا لا نسلم أنه علق الرؤية على أمر ممكن لأن التعليق لم يكن على استقرار الجبل حال سكونه وإلا لوجدت الرؤية ضرورة وجود الشرط لأن الجبل حال سكونه كان مستقرا بل على استقراره حال حركته وهو محال لذاته، والثالث أنا وإن سلمنا أن استقرار الجبل ممكن لكن لا نسلم أن المعلق بالممكن ممكن فإنه يصح أن يقال: إن انعدم المعلول انعدمت العلة، والعلة قد تكون ممتنعة العدم مع إمكان المعلول في نفسه كالصفات بالنسبة إلى الذات عند المتكلمين، والعقل الأول بالنسبة إليه تعالى عند الحكماء، فيجوز أن تكون الرؤية الممتنعة متعلقة بالاستقرار الممكن، والسر في جواز ذلك أن الارتباط بين المعلق والمعلق عليه إنما هو بحسب الوقوع بمعنى أنه إن وقع عدم المعلول وقع عدم العلة، والممكن الذاتي قد يكون ممتنع الوقوع الذاتي فيجوز التعليق بينهما وليس الارتباط بينهما بحسب الإمكان حتى يلزم إمكان المعلق عليه إمكان المعلق، ثم إنا وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه من الوجهين على جواز الرؤية فهو معارض بما يدل على عدم الجواز فإن لَنْ في الآية لتأبيد النفي وتأكيده وأيضا قول موسى عليه السلام: تُبْتُ إِلَيْكَ دليل كونه مخطئا في سؤاله ولو كانت الرؤية جائزة لما كان مخطئا، والزمخشري عامله الله تعالى بعدله زعم أن الآية أبلغ دليل على عدم إمكان الرؤية، وذكر في كشافه ما ذكر وقال: ثم أعجب من المتسمين بالإسلام المسمين بأهل السنة والجماعة كيف اتخذوا هذه العظيمة مذهبا ولا يغرنك تسترهم بالبلكفة فإنه من منصوبات أشياخهم، والقول ما قال بعض العدلية فيهم: وجماعة سموا هواهم سنة ... لجماعة حمر لعمري موكفه قد شبهوه بخلقه وتخوفوا ... شنع الورى فتستروا بالبلكفه وأجيب عن قولهم: إنه عليه السلام إنما سأل العلم الضروري بأنه لو كانت الرؤية بمعنى العلم الضروري لكان النظر المذكور بعد أيضا بمعناه وليس كذلك، فإن النظر الموصول بإلى نص في الرؤية لا يحتمل سواه فلا يترك للاحتمال. وفي شرح المواقف أن طلب العلم الضروري لمن يخاطبه ويناجيه غير معقول، وأورد عليه أن المراد هو العلم بهويته الخاصة، والخطاب لا يقتضي إلا العلم بوجه كمن يخاطبنا من وراء الجدار، والمراد بالعلم بالهوية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 46 الخاصة انكشاف هويته تعالى على وجه جزئي بحيث لا يمكن عند العقل صدقه على كثيرين كما في المرئي بحاسة البصر، ولا شك في كونه ممكنا في حقه تعالى لأنه قادر على أن يخلق في العبد علما ضروريا بهويته الخاصة على الوجه الجزئي بدون استعمال الباصرة كما يخلق بعده، وفي عدم لزومه الخطاب فإنه إنما يقتضي العلم بالمخاطب بأمور كلية يمكن صدقها على كثيرين عند العقل وإن كانت في الخارج منحصرة في شخص واحد فهو من قبيل التعقل، وبهذا التحرير يعلم رصانة الإيراد ودفع ما أورد عليه، ويظهر منه ركاكة ما قاله الآمدي. من أن حمل الرؤية على العلم يلزم منه أن يكون موسى عليه السلام غير عالم بربه لئلا يلزم تحصيل الحاصل، ونسبة ذلك إلى الكليم من أعظم الجهالات لأنا نقول العلم بالهوية الخاصة على ما ذكرنا ليس من ضروريات النبوة ولا المكالمة كما لا يخفى. نعم يأبى هذا الحمل التعدية كما علمت ويبعده الجواب بلن تراني ولكن انظر إلخ كما هو ظاهر وإن تكلف له الزمخشري بما تمجه الأسماع. وقيل: إنه لو ساغ هذا التأويل لساغ مثله في أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء: 153] لتساوي الدلالة وهو ممتنع بالإجماع وجهرة لا يزيد على كون النظر موصولا بإلى. وأجيب عن قولهم: إنما سأله أن يريه علما من أعلام الساعة بأنه لا يستقيم لثلاثة أوجه. أحدها أنه خلاف الظاهر من غير دليل. ثانيها أنه أجيب بلن تراني وهو إن كان محمولا على نفي ما وقع السؤال عنه من رؤية بعض الآيات فهو خلف فإنه قد أراه سبحانه أعظم الآيات وهو تدكدك الجبل، وإن كان محمولا على نفي الرؤية لزم أن لا يكون الجواب مطابقا للسؤال. ثالثها أن قوله سبحانه: فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي إن كان محمولا على رؤية الآية فهو محال لأن الآية ليس في استقرار الجبل بل في تدكدكه، وإن كان محمولا على الرؤية لا يكون مرتبطا بالسؤال، فإذن لا ينبغي حمل ما في الآية على رؤية الآية، وعن قولهم: إن الرؤية وقعت لدفع قومه بأن ذلك خلاف الظاهر من غير دليل، وكون الدليل أخذ الصعقة ليس بشيء. وأيضا كان يجب عليه عليه السلام أن يبادر إلى ردعهم وزجرهم عن طلب ما لا يليق بجلال الله تعالى كما قال إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ عند قولهم: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ وقولهم: إن المقصود ضم الدليل السمعي إلى العقلي ليس بشيء إذ ذلك كان يمكن بطلب إظهار الدليل السمعي له من غير أن يطلب الرؤية مع إحالتها، وقصته تقدم الكلام فيها، وما ذكروه في الوجه الخامس ظاهر رده من تقرير الوجه الأول من الوجهين اللذين ذكرهما أهل السنة، وحاصله أنه يلزمهم أن يكون الكليم عليه السلام دون آحاد المعتزلة علما ودون من حصل طرفا من الكلام في معرفة ما يجوز عليه تعالى وما لا يجوز، وهذه كلمة حمقاء وطريقة عوجاء لا يسلكها أحد من العقلاء، فإن كون الأنبياء عليهم السلام أعلم ممن عداهم بذاته تعالى وصفاته العلا مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان، وكون الرؤية في الدنيا غير واقعة عند الفريقين إن أريد به أنها غير ممكنة الوقوع فهو أول المسألة وإن أريد أنها ممكنة لكنها لا تقع لأحد فلا نسلم أنه أجمع على ذلك الفريقان، أما المعتزلة فلأنهم لا يقولون بإمكانها، وأما أهل السنة فلأن كثيرا منهم ذهب إلى أنها وقعت لنبينا صلّى الله عليه وسلّم ليلة الإسراء، وهو قول ابن عباس. وأنس وغيرهما، وقول عائشة رضي الله تعالى عنها: من زعم أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم ليلة الإسراء، وهو قول ابن عباس. وأنس وغيرهما، وقول عائشة رضي الله تعالى عنها: من زعم أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم رأى ربه فقد أعظم على الله سبحانه الفرية مدفوع أو مؤول بأن المراد من زعم أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم في نوره الذي هو نوره أعني النور الشعشعاني الذي يذهب بالأبصار، وهو المشار إليه في حديث «لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره» فقد أعظم الفرية، ومن هذا يعلم ما في احتمال إرادة عدم الوقوع مع قطع النظر عن الإمكان وعدمه. وقولهم: إنه يجوز أن لا يكون ذلك الطلب محرما في شرعه فلا يمتنع يرد عليه أن دليل الحرمة ظاهر، فإن طلب المحال لو لم يكن حراما في شرعه عليه السلام لما بلغ في التشنيع على قومه حين طلبوا ما طلبوا على أنا لو سلمنا أنه ليس بحرام يقال: إنه لا فائدة فيه وما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 47 كان كذلك فمنصب النبوة منزه عنه، ومن هذا يعلم ما في قولهم الأخير. وأجيب عن قولهم: إن المعلق عليه هو استقرار الجبل حال حركته بأنهم إن أرادوا أن الشرط هو الاستقرار حال وجود الحركة مع الحركة فهو زيادة إضمار وترك لظاهر اللفظ من غير دليل فلا يصح، وإن أرادوا أن الشرط هو الاستقرار في الحالة التي وجدت فيها الحركة بدلا عن الحركة فلا يخفى جوازه، فكيف يدعى أنه محال لذاته؟، وبعضهم قال في الرد: إن المعلق عليه استقرار الجبل بعد النظر بدليل الفاء، وحين تعلقت إرادة الله تعالى بعدم استقراره عقيب النظر استحال استقراره وإن كان بالغير فعدل عن القول بالمحال بالذات إلى القول بالمحال بالغير لأن الغرض يتم به أيضا، وتعقبه السالكوتي وغيره بأنه ليس بشيء لأن استقرار الجبل حين تعلق إرادته تعالى بعدم استقراره أيضا ممكن بأن يقع بدله الاستقرار إنما المحال استقراره مع تعلق إرادته سبحانه بعدم الاستقرار، ولبعض فضلاء الروم هاهنا كلام نقله الشهاب لا تغرنك قعقعته فإن الظواهر لا تترك لمجرد الاحتمال المرجوح، وأجيب عن قولهم لا نسلم أن المعلق بالممكن ممكن إلخ بأن المراد بالممكن المعلق عليه الممكن الصرف والخالي عن الامتناع مطلقا، ولا شك أن إمكان المعلول فيما امتنع عدم علته ليس كذلك بل التعليق بينهما إنما هو بحسب الامتناع بالغير فإن استلزام عدم الصفات وعدم العقل الأول عدم الواجب من حيث إن وجود كل منهما واجب وعدمه ممتنع بوجود الواجب، وأما بالنظر إلى ذاته مع قطع النظر عن الأمور الخارجة فلا استلزام بخلاف استقرار الجبل فإنه ممكن صرف غير ممتنع لا بالذات ولا بالعرض كما لا يخفى، على أن بعضهم نظر في صحة المثال لغة وإن كان فيه ما فيه، وما قيل: إنه ليس المقصود في الآية بيان جواز الرؤية وعدم جوازها إذ هو غير مسؤول عنه بل المقصود إنما هو بيان عدم وقوعها وعدم الشرط متكفل بذلك كلام لا طائل تحته، إذ الجواز وعدم الجواز من مستتبعات التعليق بإجماع جهابذة الفريقين، وما ذكروه في المعارضة من أن «لن» تفيد تأبيد النفي غير مسلم، ولو سلّم فيحتمل أن ذلك بالنسبة إلى الدنيا كما في قوله تعالى: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً [البقرة: 95] فإن إفادة التأبيد فيه أظهر، وقد حملوه على ذلك أيضا لأنهم يتمنونه في الآخرة للتخلص من العقوبة، ومما يهدي إلى هذا أن الرؤية المطلوبة إنما هي الرؤية في الدنيا وحق الجواب أن يطابق السؤال، وقد ورد عنه صلّى الله عليه وسلّم ما يدل على أن نفي الرؤية مقيد لا مطلق فليتبع بيانه عليه الصلاة والسلام، فقد أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول. وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال «تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية رَبِّ أَرِنِي إلخ فقال: قال الله تعالى يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده ولا رطب إلا تفرق وإنما يراني أهل الجنة الذين لا تموت أعينهم ولا تبلى أجسادهم» وهذا ظاهر في أن مطلوب موسى عليه السلام كان الرؤية في الدنيا مع بقائه على حالته التي هو عليها حين السؤال من غير أن يعقبها صعق لأن قوله عزّ وجلّ: إنه لن يراني حي إلخ لا ينفي إلا الرؤية في الدنيا مع الحياة لا الرؤية مطلقا، فمعنى لَنْ تَرانِي في الآية لن تراني وأنت باق على هذه الحالة لا لن تراني في الدنيا مطلقا فضلا عن أن يكون المعنى لن تراني مطلقا لا في الدنيا ولا في الآخرة. نعم إن هذا الحديث مخصص بما صح مرفوعا وموقوفا أنه صلّى الله عليه وسلّم رأى ربه ليلة الإسراء مع عدم الصعق، ولعل الحكمة في اختصاصه صلّى الله عليه وسلّم بذلك أن نشأته عليه الصلاة والسلام أكمل نشأة وأعدلها صورة ومعنى لجامعيته صلّى الله عليه وسلّم للحقائق على وجه الاعتدال وهي فيه متجاذبة ومقتضى ذلك الثبات بإذن الله تعالى ومع ذلك فلم يقع له التجلي إلا في دار البقاء فاجتمع مقتضى الموطن مع مقتضى كمال اعتدال النشأة، وقد يقال أيضا على سبيل التنزيل: لو سلمنا دلالة لن على التأبيد مطلقا لكان غاية ذلك انتفاء وقوع الرؤية ولا يلزم منه انتفاء الجواز، والمعتزلة يزعمون ذلك وقولهم: قوله عليه السلام تُبْتُ إِلَيْكَ يدل على كونه مخطئا ليس بشيء لأن التوبة قد تطلق بمعنى الرجوع وإن لم يتقدمها ذنب، وعلى هذا فلا يبعد أن يكون المراد من تبت إليك أي رجعت إليك عن طلب الرؤية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 48 وذكر ابن المنير أن تسبيح موسى عليه السلام لما تبين له من أن العلم قد سبق بعدم وقوع الرؤية في الدنيا والله تعالى مقدس عن وقوع خلاف معلومه، وأما التوبة في حق الأنبياء عليهم السلام فلا يلزم أن تكون عن ذنب لأن منزلتهم العلية تصان عن كل ما يحط عن مرتبة الكمال، وكان عليه عليه السلام نظرا إلى علو شأنه أن يتوقف في سؤال الرؤية على الإذن فحيث سأل من غير إذن كان تاركا الأولى بالنسبة إليه، وقد ورد «حسنات الأبرار سيئات المقربين» ، وذكر الإمام الرازي نحو ذلك. وقال الآمدي: إن التوبة وإن كانت تستدعي سابقية الذنب إلا أنه ليس هناك ما يدل قطعا على أن الذنب في سؤاله بل جاز أن تكون التوبة عما تقدم قبل السؤال مما يعده هو عليه السلام ذنبا والداعي لذلك ما رأى من الأهوال العظيمة من تدكدك الجبل على ما هو عادة المؤمنين الصلحاء من تجديد التوبة عما سلف إذا رأوا آية وأمرا مهولا، وذكر أن قوله عليه السلام: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ليس المراد منه ابتداء الإيمان في تلك الحالة بل المراد به إضافة الأولية إليه لا إلى الإيمان، ولعل المراد من ذلك الإخبار الاستعطاف لقبول توبته عليه السلام عما هو ذنب عنده، وأراد بالمؤمنين قومه على ما روي عن مجاهد، وما يشير إليه كلام الزمخشري من أن الآية أبلغ دليل على عدم إمكان الرؤية لا يخفى ما فيه على من أحاط خبرا بما ذكرناه، ومن المحققين من استند في دلالة الآية على إمكانها بغير ما تقدم أيضا، وهو أنه تعالى أحال انتفاء الرؤية على عجز الرائي وضعفه عنها حيث قال له: لَنْ تَرانِي ولو كانت رؤيته تعالى غير جائزة لكان الجواب لست بمرئي، ألا ترى لو قال: أرني أنظر إلى صورتك ومكانك لم يحسن في الجواب أن يقال لن ترى صورتي ولا مكاني بل الحسن لست بذي صورة ولا مكان. وقال بعضهم بعد أن بين كون الآية دليلا على أن الرؤية جائزة في الجملة ببعض ما تقدم: ولذلك رده سبحانه بقوله: لَنْ تَرانِي دون لن أرى ولن أريك ولن تنظر إلي تنبيها على أنه عليه السلام قاصر عن رؤيته تعالى لتوقفها على معد في الرائي ولم يوجد فيه بعد، وذلك لأن لن أرى يدل على امتناع الرؤية مطلقا ولن أريك يقتضي أن المانع من جهته تعالى، وليس في لن تنظر تنبيه على المقصود لأن النظر لا يتوقف على معد وإنما المتوقف عليه الرؤية والإدراك، وعلل النيسابوري عدم كون الجواب لن تنظر إلى المناسب لأنظر إليك بأن موسى عليه السلام لم يطلب النظر المطلق وإنما طلب النظر الذي معه الإدراك بدليل أرني. وانتصر بعضهم للمعتزلة بأن لهم أن يقولوا: إن طلب الاراءة متضمن لطلب رفع الموانع من الرؤية وإيجاد ما تتوقف هي عليه لأن معنى ذلك مكني من الرؤية والتمكين إنما يتم بما ذكر من الرفع والإيجاد، وكان الظاهر في رد هذا الطلب لن أمكنك من رؤيتي لكن عدل عنه إلى لن تراني إشارة إلى استحالة الرؤية وعدم وقوعها بوجه من الوجوه، كأنه قيل: إن رؤيتك لي أمر محال في نفسه وتمكيني إنما يكون من الممكن، ولو لم يكن المراد ذلك بل كان المراد أنك لا قابلية لك لرؤيتي لكان لموسى عليه السلام أن يقول يا رب أنا أعلم عدم القابلية لكني سألتك التمكين وهو متضمن لسؤال إيجادها لأنها مما تتوقف الرؤية عليه، فعلى هذا لا يكون الجواب مفيدا لموسى عليه السلام ولا مقنعا له بخلافه على الأول، فيكون حينئذ هو المتعين. فإن قيل: القابلية وعدم القابلية من توابع الاستعداد وعدم الاستعداد وهما غير مجعولين، قلنا: هذا على ما فيه من الكلام العريض والنزاع الطويل مستلزم لمطلوبنا من امتناع الرؤية كما لا يخفى على من له أدنى استعداد لفهم الحقائق. وأجيب بأن طلب التمكين من شيء إنما يتضمن طلب رفع الموانع التي في جانب المطلوب منه فقط على ما هو الظاهر لا مطلقا بحيث يشمل ما كان في جانب المطلوب منه وما كان في جانب الطالب، ويرشد إلى ذلك أن قولك: لم يمكنّي زيد من قتل عمرو مثلا ظاهر في أنه حال بينك وبين قتله مع تهيئك له وارتفاع الموانع التي من قبلك عنه، فكأن موسى عليه السلام لما كلمه ربه هاج به الشوق إلى الرؤية كما قال الحسن: لأن عدو الله إبليس غاص في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 49 الأرض حتى خرج من بين قدميه فوسوس إليه أنّ مكلمك شيطان فعند ذلك سألها كما قال السدي: وأعوذ بالله من اعتقاده فذهل عن نفسه وما فيها من الموانع فلم يخطر بباله إلا طلب رفع الموانع عنها من قبل الرب سبحانه فنبهه جل شأنه بقوله: لَنْ تَرانِي على وجود المانع فيه عن الرؤية وهو الضعف عن تحملها وأراه ضعف من هو أقوى منه عن ذلك بدك الجبل عند تجليه له، ففائدة الاستدراك على هذا أن يتحقق عنده عليه السلام أنه أضعف من أن يقوم لتجلي الرؤية، وهو على ما هو عليه، ويمكن أن تكون التوبة منه عليه السلام بعد أن أفاق من هذه الغفلة، وحينئذ لا شك أن الجواب ب لَنْ تَرانِي إلخ مفيد مقنع. هذا وذكر بعض المحققين أن حاصل الكلام في هذا المقام أن موسى عليه السلام كان عالما بإمكان الرؤية ووقوعها في الدنيا لمن شاء الله تعالى من عباده عقلا والشروط التي تذكر لها ليست شروطا عقلية وإنما هي شروط عادية ولم يكن عالما بعدم الوقوع مع عدم تغير الحال حتى سمع ذلك من الرب المتعال، وليس في عدم العلم بما ذكر نقص في مرتبته عليه السلام لأنه من الأمور الموقوفة على السمع، والجهل بالأمور السمعية لا يعد نقصا، فقد صح أن أعلم الخلق على الإطلاق نبينا صلّى الله عليه وسلّم سئل عن أشياء فقال: سأسأل جبريل عليه السلام، وأن جبريل عليه السلام سئل فقال: سأسأل رب العزة، وقد قالت الملائكة: سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا [البقرة: 32] وأن الآية لا تصلح دليلا على امتناع الرؤية على ما يقوله المعتزلة بل دلالتها على إمكانها في الجملة أظهر وأظهر، بل هي ظاهرة في ذلك دون ما يقوله الخصوم وما رواه أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في تفسير لَنْ تَرانِي: إنه لا يكون ذلك أبدا لا حجة لهم فيه لأنه غير واف بمطلوبهم، مع أن التأبيد فيه بالنسبة إلى عدم تغير الحال كما يدل عليه الخبر المروي عنه سابقا، وكذا ما رواه عنه أبو الشيخ إذ فيه: يا موسى إنه لا يراني أحد فيحيا قال موسى: رب إن أراك ثم أموت أحب إلي من أن لا أراك ثم أحيا، وما ذكره الزمخشري عن الأشياخ أنهم قالوا: إنه تعالى يرى بلا كيف هو المشهور. ونقل المناوي أن الكمال بن الهمام سئل عما رواه الدارقطني وغيره عن أنس من قوله صلّى الله عليه وسلّم «رأيت ربي في أحسن صورة» بناء على حمل الرؤية في اليقظة فأجاب بأن هذا حجاب الصورة انتهى، وهو التجلي الصوري الشائع عند الصوفية، ومنه عندهم تجلي الله تعالى في الشجرة لموسى عليه السلام، وتجليه جل وعلا للخلق يوم يكشف عن ساق، وهو سبحانه وإن تجلى بالصورة لكنه غير متقيد بها والله من ورائهم محيط، والرؤية التي طلبها موسى عليه السلام غير هذه الرؤية، وذكر بعضهم أن موسى كان يرى الله تعالى إلا أنه لم يعلم أن ما رآه هو- هو- وعلى هذا الطرز يحمل ما جاء في بعض الروايات المطعون بها، رأيت ربي في صورة شاب، وفي بعضها زيادة له نعلان من ذهب، ومن الناس من حمل الرؤية في رواية الدارقطني على الرؤية المنامية، وظاهر كلام السيوطي أن الكيفية فيها لا تضر وهو الذي سمعته من المشايخ قدس الله تعالى أسرارهم، والمسألة خلافية، وإذا صح ما قاله المشايخ وأفهمه كلام السيوطي فأنا، ولله تعالى الحمد، قد رأيت ربي مناما ثلاث مرات وكانت المرة الثالثة في السنة السادسة والأربعين والمائتين والألف بعد الهجرة، رأيته جل شأنه وله من النور ما له متوجها جهة المشرق فكلمني بكلمات أنسيتها حين استيقظت، ورأيت مرة في منام طويل كأني في الجنة بين يديه تعالى وبيني وبينه ستر حبيك بلؤلؤ مختلف ألوانه فأمر سبحانه أن يذهب بي إلى مقام عيسى عليه السلام ثم مقام محمد صلّى الله عليه وسلّم فذهب بي إليهما فرأيت ما رأيت ولله تعالى الفضل والمنة. ومنهم من حمل الصورة على ما به التميز والمراد بها ذاته تعالى المخصوصة المنزهة عن مماثلة ما عداه من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 50 الأشياء البالغة إلى أقصى مراتب الكمال، وما ذكره من البيتين لبعض العدلية فهو في ذلك عثيثة تقرم جلدا أملسا والقول ما قاله تاج الدين السبكي فيهم: عجبا لقوم ظالمين تلقبوا ... بالعدل ما فيهم لعمري معرفه قد جاءهم من حيث لا يدرونه ... تعطيل ذات الله مع نفي الصفة وتلقبوا عدلية قلنا نعم ... عدلوا بربهم فحسبهم سفه وقال ابن المنير: وجماعة كفروا برؤية ربهم ... هذا ووعد الله ما لن يخلفه وتلقبوا عدلية قلنا أجل ... عدلوا بربهم فحسبوهم سفه وتنعتوا الناجين كلا إنهم ... إن لم يكونوا في لظى فعلى شفه وبعد هذا كله نقول: إن الناس قد اختلفوا في أن موسى عليه السلام هل رأى ربه بعد هذا الطلب أم لا، فذهب أكثر الجماعة إلى أنه عليه السلام لم يره لا قبل الصعق ولا بعده. وقال الشيخ الأكبر قدس سره: إنه رآه بعد الصعق وكان الصعق موتا، وذكر قدس سره أنه سأل موسى عن ذلك فأجابه بما ذكر، والآية عندي غير ظاهرة في ذلك، وإلى الرؤية بعد الصعق ذهب القطب الرازي في تقرير كلام للزمخشري، إلا أن ذلك على احتمال أن تفسر بالانكشاف التام الذي لا يحصل إلا إذا كانت النفس فانية مقطوعة النظر عن وجودها فضلا عن وجود الغير فانه قال: إن موسى عليه السلام لما طلب هذه المرتبة من الانكشاف وعبر عن نفسه بأنا دل على أن نظره كان باقيا على نفسه وهي لا تكون كذلك إلا متعلقة بالعلائق الجسمانية مشوبة بالشوائب المادية لا جرم منع عنه هذه المرتبة وأشير إلى أن منعها إنما كان لأجل بقاء أنا وأنت في قوله: أرني ولن تراني، ثم لما لم يرد حرمانه عن حصول هذه المرتبة مع استعداده وتأهله لها علم طريق المعرفة بقوله سبحانه: وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فإن الجبل مع عدم تعلقه لما لم يطق نظرة من نظرات التجلي فموسى عليه السلام مع تعلقه كيف يطيق ذلك فلما أدرك الرمز خر صعقا مغشيا عليه متجردا عن العلائق فانيا عن نفسه فحصل له المطلوب فلما أفاق علم أن طلبه الرؤية في تلك الحالة التي كان عليها كان سوء أدب فتاب عنه. وذهب الشيخ إبراهيم الكوراني إلى أنه عليه السلام رأى ربه سبحانه حقيقة قبل الصعق فصعق لذلك كما دك الجبل للتجلي، وأيده بما أخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لما تجلى الله تعالى لموسى عليه السلام كان يبصر دبيب النملة على الصفا في الليلة الظلماء من مسيرة عشرة فراسخ، وبما أخرجه عن أبي معشر أنه قال: مكث موسى عليه السلام أربعين ليلة لا ينظر إليه أحد إلا مات من نور رب العالمين» وجمع بين هذا وبين قوله صلّى الله عليه وسلّم «إن الله تعالى أعطى موسى الكلام وأعطاني الرؤية وفضلني بالمقام المحمود والحوض المورود» بأن الرؤية التي أعطاها لنبينا صلّى الله عليه وسلّم هي الرؤية مع الثبات والبقاء من غير صعق كما أن الكلام الذي أعطاه موسى كذلك بخلاف رؤية موسى عليه السلام فإنها لم تجمع له مع البقاء. وعلى هذا فمعنى قوله عليه الصلاة والسلام في حديث الدجال «إنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت هو أن أحدا لا يراه في الدنيا مع البقاء ولا يجمع له في الدنيا بينهما» وفسر الآية بما لا يخلو عن خفاء. والذاهبون إلى عدم الرؤية مطلقا يجيبون عما ذكره من حديث أبي هريرة وخبر أبي معشر بأن الثاني ليس فيه أكثر من إثبات سطوع نور الله تعالى على وجه موسى عليه السلام وليس في ذلك إثبات الرؤية لجواز أن يشرق نور منه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 51 تعالى على وجهه عليه السلام من غير رؤية فإنه لا تلازم بين الرؤية وإشراق النور وبأن الأول ليس نصا في ثبوت الرؤية المطلوبة له عليه السلام لأنها كما قال غير واحد عبارة عن التجلي الذاتي ولله تعالى تجليات شتى غير ذلك فلعل التجلي الذي أشار إليه الحديث على تقدير صحة واحد منها، وقد يقطع بذلك فإنه سبحانه تجلى عليه عليه السلام بكلامه واصطفائه وقربه منه على الوجه الخاص اللائق به تعالى، ولا يبعد أن يكون هذا سببا لذلك الإبصار، وهذا أولى مما قيل: إن اللام في لموسى للتعليل ومتعلق تجلى محذوف أي لما تجلى الله تعالى للجبل لأجل إرشاد موسى كان عليه السلام يبصر بسبب إشراق بعض أنواره تعالى عليه حين التجلي للجبل ما يبصر. تضوع مسكا بطن نعمان إذ مشت ... به زينب في نسوة خفرات فالحق الذي لا ينبغي المحيص عنه أن موسى عليه السلام لم يحصل له ما سأل في هذا الميقات، والذي أقطع به أنه نال مقام قرب النوافل والفرائض الذي يذكره الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم بالمعنى الذي يذكرونه كيفما كان، وحاشا لله من أن أفضل أحدا من أولياء هذه الأمة وإن كانوا هم- هم- على أحد من أنبياء بني إسرائيل فضلا عن رسلهم مطلقا فضلا عن أولي العزم منهم «وقد ذكر بعض العارفين من باب الإشارة في هذه الآيات» أن الله تعالى واعد موسى عليه السلام ثلاثين ليلة للتخلص من حجاب الأفعال والصفات والذات كل عشرة للتخلص من حجاب، واختيرت العشرة لأنها عدد كامل كما تقدم الكلام عليه عند قوله سبحانه: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ، لكن بقيت منه بقية ما خلص عنها، واستعمال السواك في الثلاثين الذي نطقت به بعض الآثار إشارة إلى ذلك فضم إلى الثلاثين عشرة أخرى للتخلص من تلك البقية، وجاء أنه عليه السلام أمر بأن يتقرب إليه سبحانه بما يتقرب به في ثلاثين، وأنزلت عليه التوراة في العشرة التي ضمت إليها لتكمل أربعين، وهو إشارة إلى أنه بلغ الشهود الذاتي التام في الثلاثين بالسلوك إلى الله تعالى ولم يبق منه شيء بل فني بالكلية وفي العشرة الرابعة كان سلوكه في الله تعالى حتى رزق البقاء بعد الفناء بالإفاقة، قالوا: وعلى هذا ينبغي أن يكون سؤال الرؤية في الثلاثين والإفاقة بعدها، وكان التكليم في مقام تجلي الصفات وكان السؤال عن افراط شوق منه عليه السلام إلى شهود الذات في مقام فناء الصفات مع وجود البقية، ولَنْ تَرانِي إشارة إلى استحالة الاثنينية وبقاء الإنية في مقام المشاهدة، وهذا معنى قول من قال: رأيت ربي بعين ربي، وقوله سبحانه: وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ إشارة إلى جبل الوجود، أي انظر إلى جبل وجودك فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي وهو من باب التعليق بالمحال عنده فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا أي متلاشيا لا وجود له وَخَرَّ مُوسى عن درجة الوجد صَعِقاً أي فانيا فَلَمَّا أَفاقَ بالوجود الموهوب الحقاني قالَ سُبْحانَكَ أن تكون مرئيا لغيرك تُبْتُ إِلَيْكَ عن ذنب البقية، أو رجعت إليك بحسب العلم والمشاهدة إذ ليس في الوجود سواك وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بحسب الرتبة، أي أنا في الصف الأول من صفوف مراتب الأرواح الذي هو مقام أهل الوحدة، وقد يقال: إن موسى إشارة إلى موسى الروح ارتاض أربعين ليلة لتظهر منه ينابيع الحكمة وقال لأخيه هارون القلب اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي من الأوصاف البشرية وَأَصْلَحَ ذات بينهم على وفق الشريعة وقانون الطريقة وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ من القوى الطبيعية، ولما حصل الروح على بساط القرب بعد هاتيك الرياضة وتتابعت عليه في روضات الأنس كاسات المحبة غرد بلبل لسانه في قفص فم وجوده فقال: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ فقال له: هيهات ذاك وأين الثريا من يد المتناول؟ أنت بعد في بعد الاثنينية وحجاب جبل الأنانية فإن أردت ذلك فخل نفسك وائتني. وجانب جناب الوصل هيهات لم يكن ... وها أنت حي ان تكن صادقا مت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 52 هو الحب إن لم تقض لم تقض مأربا ... من الحب فاختر ذاك أو خل خلتي فهان عليه الفناء في جانب رؤية المحبوب ولم يعز لديه كل شيء إذ رأى عزة المطلوب. ونادي: فقلت لها: روحي لديك وقبضها ... إليك ومن لي أن تكون بقبضتي وما أنا بالشاني الوفاء على الهوى ... وشأني الوفا تأبى سواه سجيتي فبذل وجوده وأعطى موجوده فتجلى ربه لجبل أنانيته ثم منّ عليه برؤيته وكان ما كان وأشرقت الأرض بنور ربها وطفىء المصباح إذ طلع الصباح وصدح هزار الأنس في رياض القدس بنغم. ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا ... سر أرقّ من النسيم إذا سرى وأباح طرفي نظرة أملتها ... فغدوت معروفا وكنت منكرا فدهشت بين جماله وجلاله ... وغدا لسان الحال عني مخبرا هذا والكلام في الرؤية طويل، وقد تكفل علم الكلام بتحقيق ذلك على الوجه الأكمل، والذي علينا إنما هو كشف القناع عما يتعلق بالآية، والذي نظنه أنا قد أدينا الواجب، ويكفي من القلادة ما أحاط بالجيد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل قالَ يا مُوسى استئناف مسوق لتسليته عليه السلام من عدم الإجابة إلى سؤاله على ما اقتضته الحكمة كأنه قيل: إن منعتك الرؤية فقد أعطيتك من النعم العظام ما أعطيتك فاغتنمه وثابر على شكره إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ أي اخترتك وهو افتعال من الصفوة بمعنى الخيار والتأكيد للاعتناء بشأن الخبر عَلَى النَّاسِ الموجودين في زمانك وهذا كما فضل قومه على عالمي زمانهم في قوله سبحانه: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [البقرة: 47، 122] بِرِسالاتِي أي بأسفار التوراة. وقرأ أهل الحجاز وروح برسالتي وَبِكَلامِي أي بتكليمي إياك بغير واسطة. أو الكلام على حذف مضاف أي بإسماع كلامي والمراد فضلتك بمجموع هذين الأمرين فلا يرد هارون عليه السلام لأنه لم يكن كليما على أن رسالته كانت تبعية أيضا وكان مأمورا باتباع موسى عليه السلام وكذلك لا يرد السبعون الذين كانوا معه عليه السلام في هذا الميقات في قول لأنهم وإن سمعوا الخطاب إلا أنهم ليس لهم من الرسالة شيء على أن المقصود بالتكليم الموجه إليه الخطاب هو موسى عليه السلام دونهم وبتخصيص الناس بما علمت خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم فلا يرد أن مجموع الرسالة والتكليم بغير واسطة وجد له عليه الصلاة والسلام أيضا على الصحيح، على أنا لو قلنا بأن التكليم بغير واسطة مخصوص به عليه السلام من بين الأنبياء صلّى الله عليه وسلّم لا يلزم منه تفضيله من كل الوجوه على غيره كنبينا عليه الصلاة والسلام فقد يوجد في الفاضل ما لا يوجد في الأفضل وإنما كان الكلام بلا واسطة سببا للشرف بناء على العرف الظاهر وقد قالوا شتان بين من اتخذه الملك لنفسه حبيبا وقربه إليه بلطفه تقريبا وبين من ضرب له الحجاب والحجاب وحال بينه وبين المقصود بواب ونواب، على أن من ذاق طعم المحبة ولو بطرف اللسان يعلم ما في تكليم المحبوب بغير واسطة من اللطف العظيم والبر الجسيم، وكلامه جل شأنه لموسى عليه السلام في ذلك الميقات كثير على ما دلت عليه الآثار، وقد سبق لك ما يدل على كميته من حديث أبي هريرة. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، والبيهقي من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله تعالى شأنه ناجى موسى عليه السلام بمائة ألف وأربعين ألف كلمة في ثلاثة أيام فلما سمع كلام الآدميين مقتهم لما وقع في مسامعه من كلام الرب عزّ وجلّ فكان فيما ناجاه أن قال: يا موسى إنه لم يتصنع المتصنعون بمثل الزهد في الدنيا ولم يتقرب إلي المتقربون بمثل الورع عما حرمت عليهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 53 ولم يتعبد المتعبدون بمثل البكاء من خشيتي فقال موسى: يا رب وإله البرية كلها ويا مالك يوم الدين ويا ذا الجلال والإكرام ماذا أعددت لهم وماذا جزيتهم؟ قال: أما الزاهدون في الدنيا فإني أبيحهم جنتي حتى يتبؤوا فيها حيث شاؤوا وأما الورعون عما حرمت عليهم فإذا كان يوم القيامة لم يبق عبد إلا ناقشته الحساب وفتشت عما في يديه إلا الورعون فإني أجلّهم وأكرمهم وأدخلهم الجنة بغير حساب، وأما الباكون من خشيتي فأولئك لهم الرفيق الأعلى لا يشاركهم فيه أحد» . وأخرج آدم بن أبي إياس في كتاب العلم عن ابن مسعود قال: لما قرب الله تعالى موسى نجيا أبصر في ظل العرش رجلا فغبطه بمكانه فسأله عنه فلم يخبره باسمه وأخبره بعلمه فقال له: هذا رجل كان لا يحسد الناس على ما أتاهم الله تعالى من فضله، برا بالوالدين، لا يمشي بالنميمة ثم قال الله تعالى: يا موسى ما جئت تطلب؟ قال: جئت أطلب الهدى يا رب. قال: قد وجدت يا موسى. فقال: رب اغفر لي ما مضى من ذنوبي وما غبر وما بين ذلك وما أنت أعلم به مني وأعوذ بك من وسوسة نفسي وسوء عملي فقيل له: قد كفيت يا موسى. قال: يا رب أي العمل أحب إليك أن أعمله؟ قال: اذكرني يا موسى. قال: رب أي عبادك أتقى؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني. قال: رب أي عبادك أغنى؟ قال: الذي يقنع بما يؤتى. قال: رب أي عبادك أفضل؟ قال: الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى. قال: رب أي عبادك أعلم؟ قال: الذي يطلب علم الناس إلى علمه لعله يسمع كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردى. قال: رب أي عبادك أحب إليك عملا؟ قال: الذي لا يكذب لسانه، ولا يزني فرجه، ولا يفجر قلبه. قال: رب ثم أي على أثر هذا؟ قال: قلب مؤمن في خلق حسن. قال: رب أي عبادك أبغض إليك؟ قال: قلب كافر في خلق سيء. قال: رب ثم أي على أثر هذا؟ قال: جيفة بالليل بطال بالنهار، وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات. وأبو يعلى وابن حبان والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: قال موسى: يا رب علمني شيئا أذكرك به وأدعوك به؟ قال: قل يا موسى لا إله إلا الله. قال: يا رب كل عبادك يقول هذا. قال: قل لا إله إلا الله. قال: لا إله إلا أنت يا رب. إنما أريد شيئا تخصني به. قال: يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي هريرة قال: لما ارتقى موسى طور سينا رأى الجبار في أصبعه خاتما فقال: هل مكتوب عليه شيء من أسمائي أو كلامي؟ قال: لا. قال فاكتب عليه لكل أجل كتاب. وأخرج ابن أبي حاتم عن العلاء بن كثير قال: إن الله تعالى قال: يا موسى أتدري لم كلمتك؟ قال: لا يا رب قال: لأني لم أخلق خلقا تواضع لي تواضعك. وللقصاص أخبار كثيرة موضوعة في أسئلة موسى عليه السلام ربه وأجوبته جل شأنه له لا ينبغي لمسلم التصديق بها فَخُذْ ما آتَيْتُكَ أي أعطيتك من شرف الاصطفاء وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ أي معدودا في عدادهم بأن يكون لك مساهمة كاملة فيهم، وحاصله كن بليغ الشكر فإن ما أنعمت به عليك من أجلّ النعم. أخرج ابن أبي شيبة عن كعب أنه قال: قال موسى عليه السلام: يا رب دلني على عمل إذا عملته كان شكرا لك فيما اصطنعت إلي، قال: يا موسى قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. قال: فكأن موسى أراد من العمل ما هو أنهك لجسمه مما أمر به فقال له: يا موسى لو أن السموات السبع الخبر وهو في معنى ما في خبر أبي سعيد. وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يحتاجون إليه من الحلال والحرام والمحاسن والقبائح على ما قال الرازي وغيره وما أخرجه الطبراني والبيهقي في الدلائل عن محمد بن يزيد الثقفي قال: اصطحب قيس بن خرشة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 54 وكعب الأحبار حتى إذا بلغا صفين وقف كعب ثم نظر ساعة ثم قال: ليهراقن بهذه البقعة من دماء المسلمين شيء لا يهراق ببقعة من الأرض مثله فقال قيس: ما يدريك فإن هذا من الغيب الذي استأثر الله تعالى به؟ فقال كعب: ما من الأرض شبر إلا مكتوب في التوراة التي أنزل الله تعالى على موسى ما يكون عليه وما يخرج منه إلى يوم القيامة ظاهر في أن كل شيء أعم مما ذكر، ولعل ذكر ذلك من باب الرمز كما ندعيه في القرآن مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ بدل من الجار والمجرور، أي كتبنا له كل شيء من المواعظ وتفصيل الأحكام، وإلى هذا ذهب غير واحد من المعربين، وهو مشعر بأن مِنْ مزيدة لا تبعيضية، وفي زيادتها في الإثبات كلام، قيل: ولم تجعل ابتدائية حالا من موعظة وموعظة مفعول به لأنه ليس له كبير معنى، ولم تجعل موعظة مفعول له وإن استوفى شرائطه لأن الظاهر عطف تفصيلا عن موعظة، وظاهر أنه لا معنى لقولك كتبنا له من كل شيء لتفصيل كل شيء، وأما جعله عطفا على محل الجار والمجرور فبعيد من جهة اللفظ والمعنى. والطيبي اختار هذا العطف وأن مِنْ تبعيضية وموعظة وحدها بدل، والمعنى كتبنا بعض كل شيء في الألواح من نحو السور والآيات وغيرهما موعظة وكتبنا فيها تفصيل كل شيء يحتاجون إليه من الحلال والحرام ونحو ذلك، وفي ذلك اختصاص الإجمال والتفصيل بالموعظة للإيذان بأن الاهتمام بهذا أشد والعناية بها أتم، ولكونها كذلك كثر مدح النبي صلّى الله عليه وسلّم بالبشير النذير، وإشعار بأن الموعظة مما يجب أن يرجع إليه في كل أمر يذكر به، ألا يرى إلى أن أكثر الفواصل التنزيلية والردود على هذا النمط نحو أَفَلا تَتَّقُونَ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ وإلى سورة الرحمن كيف أعيد فيها ما أعيد وذلك ليستأنف السامع به ادكارا واتعاظا ويجدد تنبيها واستيقاظا، وأنت تعلم أن البعد الذي أشرنا إليه باق على حاله، وقوله سبحانه: لِكُلِّ شَيْءٍ إما متعلق بما عنده أو بمحذوف كما قال السمين وقع صفة له، واختلف في عدد الألواح وفي جوهرها ومقدارها وكاتبها فقيل كانت عشرة ألواح، وقيل: لوحين، قال الزجاج: ويجوز أن يقال في اللغة للوحين ألواح وأنها كانت من زمرد أخضر، أمر الرب تعالى جبريل عليه السلام فجاء بها من عدن، وروي ذلك عن مجاهد، وأخرج أبو الشيخ عن ابن جريج قال: أخبرت أن الألواح كانت من زبرجد، وعن سعيد بن جبير قال: كانوا يقولون إنها كانت من ياقوتة وأنا أقول: إنها كانت من زمرد، وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الألواح التي أنزلت على موسى كانت من سدر الجنة كان طول اللوح اثني عشر ذراعا» وعن الحسن أنها كانت من خشب نزلت من السماء، وأن طول كل عشرة أذرع، وقيل: أمر الله تعالى موسى عليه السلام بقطعها من صخرة صماء لينهاله فقطعها بيده وسقفها بأصابعه ولا يخفى أن أمثال هذا يحتاج إلى النقل الصحيح وإلا فالسكوت أولى إذ ليس في الآية ما يدل عليه، والمختار عندي أنها من خشب السدر إن صح السند إلى سلسلة الذهب، والمشهور عن ابن جريج أن كاتبها جبريل عليه السلام كتبها بالقلم الذي كتب به الذكر، والمروي عن علي كرم الله تعالى وجهه ومجاهد وعطاء وعكرمة وخلق كثير أن الله تعالى كتبها بيده وجاء أنها كتبت وموسى عليه السلام يسمع صريف الأقلام التي كتبت بها وهو المأثور عن الأمير كرم الله تعالى وجهه. وجاء عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: خلق الله تعالى آدم بيده وخلق جنة عدن بيده وكتب التوراة بيده، ثم قال لأشياء كوني فكانت، وأخرج عبد بن حميد عن وردان بن خالد قال: خلق الله تعالى آدم بيده وخلق جبريل بيده وخلق القلم بيده وخلق عرشه بيده وكتب الكتاب الذي عنده لا يطلع عليه غيره بيده وكتب التوراة بيده وهذا كله من قبيل المتشابه، وفي بعض الآثار أنها كتبت قبل الميقات وأنزلت على ما قيل وهي سبعون وقر بعير يقرأ الجزء منه في سنة لم يقرأها إلا أربعة نفر موسى ويوشع وعزير وعيسى عليهم السلام. ومما كتب فيها كما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 55 ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم وذكر أمته وما ادخر لهم عنده وما يسر عليهم في دينهم وما وسع عليهم فيما أحل لهم حتى إنه جاء أن موسى عليه السلام عجب من الخير الذي أعطاه الله تعالى محمدا صلّى الله عليه وسلّم وأمته وتمنى أن يكون منهم. وأخرج ابن مردويه. وأبو نعيم في الحلية وغيرهما عن جابر بن عبد الله قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: كان فيما أعطى الله تعالى موسى في الألواح يا موسى لا تشرك بي شيئا فقد حق القول مني لتلفحن وجوه المشركين النار، واشكر لي ولوالديك أقك المتالف وأنسئك في عمرك وأحيك حياة طيبة وأقلبك إلى خير منها، ولا تقتل النفس التي حرم الله تعالى إلا بالحق فتضيق عليك الأرض برحبها والسماء بأقطارها وتبوء بسخطي والنار، ولا تحلف باسمي كاذبا ولا آثما فإني لا أطهر ولا أزكى من لم ينزهني ويعظم أسمائي، ولا تحسد الناس على ما أعطيتهم من فضلي ولا تنفس عليه نعمتي ورزقي فإن الحاسد عدو نعمتي راد لقضائي ساخط لقسمتي التي أقسم بين عبادي ومن يكون كذلك فلست منه وليس مني، ولا تشهد بما لم يع سمعك ويحفظ عقلك ويعقد عليه قلبك فإني واقف أهل الشهادات على شهاداتهم يوم القيامة ثم سائلهم عنها سؤالا حثيثا، ولا تزن ولا تسرق، ولا تزن بحليلة جارك فأحجب عنك وجهي وتغلق عنك أبواب السماء، وأحب للناس ما تحب لنفسك، ولا تذبحن لغيري فإني لا أقبل من القربان إلا ما ذكر عليه اسمي وكان خالصا لوجهي، وتفرغ لي يوم السبت وفرغ لي نفسك وجميع أهل بيتك ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن الله تعالى جعل السبت لموسى عليه السلام عيدا، واختار لنا الجمعة فجعلها عيدا» فَخُذْها بِقُوَّةٍ أي بجد وحزم قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والجملة على إضمار القول عطفا على كتبنا وحذف القول كثير مطرد، والداعي لهذا التقدير كما قال العلامة الثاني رعاية المناسبة لكتبنا له لأنه جاء على الغيبة، ولو كان بدله كتبنا لك لم يحتج إلى تقدير، وأما حديث عطف الإنشاء على الأخبار فلا ضير فيه لأنه يجوز إذا كان بالفاء. وقيل: هو بدل من قوله سبحانه: فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وضعف بأن فيه الفصل بأجنبي وهو جملة كتبنا المعطوفة على جملة قالَ وهو تفكيك للنظم والضمير المنصوب للألواح أو لكل شيء فإنه بمعنى الأشياء والعموم لا يكفي في عود ضمير الجماعة بدون تأويله بالجمع، وجوز عوده للتوراة بقرينة السياق، والقائل بالبدلية جعله عائدا إلى الرسالات والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من الفاعل أي ملتبسا بقوة، وجوز أن يكون حالا من المفعول أي ملتبسة بقوة براهينها، والأول أوضح، وأن يكون صفة مفعول مطلق أي أخذا بقوة. وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها أي أحسنها فالباء زائدة كما في قوله: سود المحاجر لا يقرأن بالسور ويحتمل أن تكون بالباء أصلية وهو الظاهر، وحينئذ فهي إما متعلقة بيأخذوا بتضمينه معنى يعملوا أو هو من الأخذ بمعنى السيرة، ومنه أخذ أخذهم أي سار سيرهم وتخلق بخلائقهم كما نقول وإما متعلقة بمحذوف وقع حالا ومفعول يأخذوا محذوف أي أنفسهم كما قيل، والظاهر أنه مجزوم في جواب الأمر فيحتاج إلى تأويل لأنه لا يلزم من أمرهم أخذهم، أي إن تأمرهم ويوفقهم الله تعالى يأخذوا، وقيل: بتقدير لام الأمر فيه بناء على جواز ذلك بعد أمر من القول أو ما هو بمعناه كما هنا، وإضافة أفعل التفضيل هنا عند غير واحد كإضافته في زيد أحسن الناس وهي على المشهور محضة على معنى اللام، وقيل: إنها لفظية ويوهم صنيع بعضهم أنها على معنى في وليس به، والمعنى بأحسن الأجزاء التي فيها، ومعنى أحسنيتها اشتمالها على الأحسن كالصبر فإنه أحسن بالإضافة إلى الانتصار، أي مرهم يأخذوا بذلك على طريقة الندب والحث على الأفضل كقوله تعالى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ [الزمر: 55] أو المعنى بأحسن أحكامها والمراد به الواجبات فانها أحسن من المندوبات والمباحات أو هي والمندوبات على ما قيل فإنها أحسن من المباحات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 56 وقيل: إن الأحسن بمعنى البالغ في الحسن مطلقا لا بالإضافة وهو المأمور به ومقابله المنهي عنه، وإلى هذا يشير كلام الزجاج حيث قال: أمروا بالخير ونهوا عن الشر وعرفوا ما لهم وما عليهم فقيل: وَأْمُرْ قَوْمَكَ إلخ فافعل نظيره في قولهم: الصيف أحر من الشتاء فانه بمعنى الصيف في حره أبلغ من الشتاء في برده إذ تفضيل حرارة الصيف على حرارة الشتاء غير مرادة بلا شبهة ويقال هنا: المأمور به أبلغ في الحسن من المنهي عنه في القبح. وتفصيل ما في المقام على ما ذكره الدماميني في تعليقه على المصابيح ونقله عنه الشهاب أن لأفعل أربع حالات. إحداها وهي الحالة الأصلية أن يدل على ثلاثة أمور: الأول اتصاف من هو له بالحدث الذي اشتق منه وبهذا كان وصفا، الثاني مشاركة مصحوبة في تلك الصفة، الثالث مزية مرصوفة على مصحوبة فيها، وبكل من هذين الأمرين فارق غيره من الصفات، وثانيتها أن يخلع عنه ما امتاز به من الصفات ويتجرد للمعنى الوصفي، وثالثتها أن تبقى عليه معانيه الثلاثة ولكن يخلع عنه قيد المعنى الثاني ويخلفه قيد آخر، وذلك أن المعنى الثاني وهو الاشتراك كان مقيدا بتلك الصفة التي هي المعنى الأول فيصير مقيدا بالزيادة التي هي المعنى الثالث، ألا ترى أن المعنى في قولهم العسل أحلى من الخل أن للعسل حلاوة وأن تلك الحلاوة ذات زيادة وأن زيادة حلاوة العسل أكثر من زيادة حموضة الخل، وقد قال ذلك ابن هشام في حواشي التسهيل وهو بديع جدا، ورابعتها أن يخلع عنه المعنى الثاني وهو المشاركة وقيد المعنى الثالث وهو كون الزيادة على مصاحبه فيكون للدلالة على الاتصاف بالحدث وعلى زيادة مطلقة لا مقيدة وذلك في نحو يوسف أحسن إخوته انتهى. وعدم اشتراك المأمور به والمنهي عنه في الحسن المراد مما لا شبهة فيه وإن كان الحسن مطلقا كما في البحر مشتركا فإن المأمور به أحسن من حيث الامتثال وترتب الثواب عليه والمنهي عنه حسن باعتبار الملاذ والشهوة. وقال قطرب كما نقله عنه محيي السنة: المعنى يأخذوا بحسنها وكلها حسن، وهو ظاهر في حمل أفعل على الحالة الثانية، وقيل: المعنى يأخذوا بها وأحسن صلة وليس له من القبول عائد. وقال الجبائي: المراد يأخذوا بالناسخ دون المنسوخ، وقيل: الأخذ بالأحسن هو أن تحمل الكلمة المحتملة لمعنيين أو لمعان على أشبه محتملاتها بالحق وأقربها للصواب، ولا ينبغي أن يحمل الأخذ على الشروع كما في قولك أخذ زيد يتكلم أي شرع في الكلام، والأحسن على العقائد فيكون المراد أمرهم ليشرعوا بالتحلي بالعقائد الحقة وهي لكونها أصول الدين وموقوفة عليها صحة الأعمال أحسن من غيرها من الفروع وهو متضمن لأمرهم بجميع ما فيها كما لا يخفى فإن أخذ بالمعنى المعنى من أفعال الشروع ليس هذا استعمالها المعهود في كلامهم على أن فيه بعد ما فيه، ومثل هذا كون ضمير أحسنها عائدا إلى قوة على معنى مرهم يأخذوها بأحسن قوة وعزيمة فيكون أمرا منه سبحانه أن يأمرهم بأخذها كما أمره به ربه سبحانه إلا أنه تعالى اكتفى في أمره عن ذكر الأحسن بما أشار إليه التنوين فإن ذلك خلاف المأثور المنساق إلى الفهم مع أنا لم نجد في كلامهم أحسن قوة ومفعول يأخذوا عليه محذوف كما في بعض الاحتمالات السابقة غير أنه فرق ظاهر بين ما هنا وما هناك. سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ توكيد لأمر القوم بالأخذ بالأحسن وبعث عليه على نهج الوعيد والترهيب بناء على ما روي عن قتادة وعطية العوفي من أن المراد بدار الفاسقين دار فرعون وقومه بمصر ورأى بصرية، وجوز أن تكون علمية والمفعول الثالث محذوف أي سأريكم إياها خاوية على عروشها لتعتبروا وتجدوا ولا تهاونوا في امتثال الأمر ولا تعملوا أعمال أهلها ليحل بكم ما حل بهم، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، وحسن موقعه قصد المبالغة في الحث وفي وضع الاراءة موضع الاعتبار إقامة السبب مقام المسبب مبالغة أيضا كقوله تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ [النمل: 69] وفي وضع دار الفاسقين موضع أرض مصر الاشعار بالعلية والتنبيه على أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 57 يحترزوا ولا يستنوا بسنتهم من الفسق، والسين للاستقبال لأن ذلك قبل الرجوع إلى مصر كما في الكشف. وقال الكلبي: المراد بدار الفاسقين منازل عاد وثمود والقرون الذين هلكوا، وعن الحسن وعطاء أن المراد بها جهنم، وأيا ما كان فالكلام على النهج الأول أيضا، ويجوز أن يكون على نهج الوعد والترغيب بناء على ما روي عن قتادة أيضا من أن المراد بدار الفاسقين أرض الجبابرة والعمالقة بالشام فإنها مما أبيح لبني إسرائيل وكتب لهم حسبما ينطق به قوله عزّ وجلّ: يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة: 21] ومعنى الإراءة الإدخال بطريق الايراث، ويؤيده قراءة بعضهم «سأورثكم» وجوز على هذا أن يراد بالدار مصر، وفي الكلام على هذه القراءة وإرادة أرض مصر من الدار تغليب لأن المعنى سأورثك وقومك أرض مصر، ولا يصح ذلك عليها إذا أريد من الدار أرض الجبابرة بناء على أن موسى عليه السلام لم يدخلها وإنما دخلها مع القوم بعد وفاته عليه السلام، ويصح بناء على القول بأن موسى عليه السلام دخلها ويوشع على مقدمته، وجوز اعتبار التغليب على القراءة المشهورة أيضا، وقرأ الحسن «سأوريكم» بضم الهمزة وواو ساكنة وراء خفيفة مكسورة وهي لغة فاشية في الحجاز، والمعنى سأبين لكم ذلك وأنوره على أنه من أوريت الزند، واختار ابن جني في تخريج هذه القراءة ولعله الأظهر أنها على الإشباع كقوله: من حيثما سلكوا ادنو فانظروا سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ استئناف مسوق على ما قال شيخ الإسلام لتحذيرهم عن التكبر الموجب لعدم التفكر في الآيات التي كتبت في ألواح التوراة المتضمنة للمواعظ والأحكام أو ما يعمها وغيرها من الآيات التكوينية التي من جملتها ما وعدوا إراءته من دار الفاسقين، ومعنى صرفهم عنها منعهم بالطبع على قلوبهم فلا يكادون يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها لإصرارهم على ما هم عليه من التكبر والتجبر كقوله سبحانه: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5] أي سأطبع على قلوب الذين يعدون أنفسهم كبراء ويرون أن لهم ارتفاعا في العالم السفلي ومزية على الخلق فلا ينتفعون بآياتي ولا يغتنمون مغانم آثارها فلا تسلكوا مسلكهم فتكونوا أمثالهم. وقيل: هو جواب سؤال مقدر ناشىء من الوعد بإدخال أرض الجبابرة والعمالقة على أن المراد بالآيات ما تلي آنفا ونظائره وبالصرف عنها إزالة المتكبرين عن مقام معارضتها وممانعتها لوقوع أخبارها وظهور أحكامها وظهور أحكامها وآثارها بإهلاكهم على يد موسى أو يوشع عليهما السلام، كأنه قيل: كيف ترى دارهم وهم فيها؟ فقيل لهم: سأهلكهم، وإنما عدل إلى الصرف ليزدادوا ثقة بالآيات واطمئنانا بها وعلى هذين القولين يكون الكلام مع موسى عليه السلام، والآية متعلقة إما بقوله سبحانه: سَأُرِيكُمْ وإما بما تقدمه على الوجه الذي أشير إليه آنفا، وجوز الطيبي كونها متصلة بقوله تعالى: وَأْمُرْ إلخ على معنى الأمر كذلك وأما الإرادة فإني سأصرف عن الأخذ بآياتي أهل الطبع والشقاوة، وقيل: الكلام مع كافري مكة والآية متصلة بقوله عن شأنه: أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها [الأعراف: 100] الآية، وإيراد قصة موسى عليه السلام وفرعون للاعتبار أي سأصرف المتكبرين عن إبطال الآيات وإن اجتهدوا كما فعل فرعون فعاد عليه فعله بعكس ما أراد، وقيل: إن الآية على تقدير كون الكلام مع قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اعتراض في خلال ما سيق للاعتبار ومن حق من ساق قصة له أن ينبه على مكانه كلما وجد فرصة التمكن منه، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لإظهار الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر مع أن في المؤخر نوع طول يخل تقديمه بتجاوب أطراف النظم الجليل، واحتج بالآية بعض أصحابنا على أن الله تعالى قد يمنع عن الإيمان ويصد عنه وهو ظاهر على تقدير أن يراد بالصرف المنع عن الإيمان وليس بمتعين كما علمت، وقد خاض المعتزلة في تأويلها فأولوها بوجوه ذكرها الطبرسي بِغَيْرِ الْحَقِّ إما صلة للتكبر على معنى يتكبرون ويتعززون بما ليس بحق وهو دينهم الباطل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 58 وظلمهم المفرط أو متعلق بمحذوف هو حال من فاعله أي يتكبرون ملتبسين بغير الحق وما له يتكبرون غير محقين لأن التكبر بحق ليس إلا لله تعالى كما في الحديث القدسي الذي أخرجه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني في واحد منهما قذفته في النار» . وقيل: المراد أنهم يتكبرون على من لا يتكبر كالأنبياء عليهم السلام لأنه الذي يكون بغير حق، وأما التكبر على المتكبر صدقة، وأنت تعلم أن هذا صورة تكبر لا تكبر حقيقة فلعل مراد هذا القائل: إن التقييد بما ذكر لاظهار أنهم يتكبرون حقيقة. وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها عطف على يتكبرون داخل معه في حكم الصلة، والمراد بالآية إما المنزلة فالمراد برؤيتها مشاهدتها والإحساس بها بسماعها أو ما يعمها وغيرها من المعجزات، فالمراد برؤيتها مطلق المشاهدة المنتظمة للسماع والإبصار، وفسر بعضهم الآيات فيما تقدم بالمنصوبة في الآفاق والأنفس، والآية هنا بالمنزلة أو المعجزة لئلا يتوهم الدور على ما قيل فليفهم، وجوز أن يكون عطفا على سأصرف للتعليل على منوال قوله سبحانه: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ [النمل: 15] على رأي صاحب المفتاح، وأيا ما كان فالمراد عموم النفي لا نفي العموم أي كفروا بكلّ أية آية وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ أي طريق الهدى والسداد لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا أي لا يتوجهون إليه ولا يسلكونه أصلا لاستيلاء الشيطنة عليهم. وقرأ حمزة والكسائي «الرّشد» بفتحتين، وقرىء «الرشاد» وثلاثها لغات كالقسم والسقم والسقام، وفرق أبو عمرو كما قال الجبائي بين الرشد والرشد بأن الرشد بالضم الصلاح في الأمر والرشد بالفتح الاستقامة في الدين، والمشهور عدم الفرق وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ أي طريق الضلال يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا أي يختارونه لأنفسهم مسلكا مستمرا لا يكادون يعدلون عنه لموافقته لأهوائهم وإفضائه بهم إلى شهواتهم ذلِكَ أي المذكور من التكبر وعدم الإيمان بشيء من الآيات وإعراضهم عن سبيل الهدى وإقبالهم التام إلى سبيل الضلال حاصل بِأَنَّهُمْ أي بسبب أنهم كَذَّبُوا بِآياتِنا الدالة على بطلان ما اتصفوا به من القبائح وعلى حقية أضدادها وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ غير معتدين بها فلا يتكفرون فيها وإلا لما فعلوا ما فعلوا من الأباطيل، وجوز غير واحد أن يكون ذلك إشارة إلى الصرف، وما فيه البحث يدفع بأدنى عناية كما لا يخفى على من مدت إليه العناية أسبابها، وأيا ما كان فاسم الإشارة مبتدأ والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبرا عنه كما أشرنا إليه. وقيل: محل اسم الإشارة النصب على المصدر أي سأصرفهم ذلك الصرف بسبب تكذيبهم بآياتنا وغفلتهم عنها، ولا مانع من كون العامل أصرف المقدم لأن الفاصل ليس بأجنبي وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ أي لقائهم الدار الآخرة على أنه من إضافة المصدر إلى المفعول وحذف الفاعل أو لقائهم ما وعده الله تعالى في الآخرة من الجزاء على أن الإضافة إلى الظرف على التوسع. والمفعول مقدر كالفاعل ومحل الموصول في الاحتمالين الرفع على الابتداء، وقوله تعالى: حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ خبره أي ظهر بطلان أعمالهم التي كانوا عملوها من صلة الأرحام وإغاثة الملهوفين بعد ما كانت مرجوة النفع على تقدير إيمانهم بها، وحاصله أنهم لا ينتفعون بأعمالهم وإلا فهي أعراض لا تحبط حقيقة هَلْ يُجْزَوْنَ أي لا يجزون يوم القيامة. إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي إلا جزاء ما استمروا على عمله من الكفر والمعاصي وتقدير هذا المضاف لظهور أن المجزى ليس نفس العمل، وقيل: إن أعمالهم تظهر في صور ما يجزون به فلا حاجة إلى التقدير، وهذه الجملة مستأنفة، وقيل: هي الخبر والجملة السابقة في موضع الحال بإضمار قد، واحتجت الأشاعرة على ما قيل بهذه الآية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 59 على فساد قول أبي هاشم أن تارك الواجب يستحق العقاب وإن لم يصدر عنه فعل الضد لأنها دلت على أنه لا جزاء إلا على عمل وترك الواجب ليس به. وأجاب أبو هاشم بأني لا أسمي ذلك العقاب جزاء، ورد بأن الجزاء ما يجزي أي يكفي في المنع عن المنهي عنه والحث على المأمور به والعقاب على ترك الواجب كاف في الزجر عن ذلك الترك فكان جزاء. وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد ذهابه إلى الجبل لمناجاة ربه سبحانه مِنْ حُلِيِّهِمْ جمع حلي كثدي وثدي وهو ما يتخذ للزينة ويتحلى به من الذهب والفضة، والجار والمجرور متعلق باتخذ كمن بعده من قبله ولا ضير في ذلك لاختلاف معنى الجارين فإن الأول للابتداء والثاني للتبعيض، وقيل: للابتداء أيضا، وتعلقه بالفعل بعد تعلق الأول به واعتباره معه، وقيل: الجار الثاني متعلق بمحذوف وقع حالا مما بعده إذ لو تأخر لكان صفة له، وإضافة الحلي إلى ضمير القوم لأدنى ملابسة لأنها كانت للقبط فاستعاروها منهم قبيل الغرق فبقيت في أيديهم وقيل: إنها على ما يتبادر منها بناء على أن القوم ملكوها بعد أن ألقاها البحر على الساحل بعد غرق القبط أو بعد أن استعاروها منهم وهلكوا. قال الإمام: روي أنه تعالى لما أراد إغراق فرعون وقومه لعلمه أنه لا يؤمن أحد منهم أمر موسى عليه السلام بني إسرائيل أن يستعيروا حلي القبط ليخرجوا خلفهم لأجل المال أو لتبقى أموالهم في أيديهم. واستشكل ذلك بكونه أمرا بأخذ مال الغير بغير حق، وإنما يكون غنيمة بعد الهلاك مع أن الغنائم لم تكن حلالا لهم لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي أحلت لي الغنائم» الحديث على أن ما نقل عن القوم في سورة [طه: 87] من قولهم: حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ يقتضي عدم الحل أيضا. وأجيب بأن ذلك أن تقول: إنهم لما استعبدوهم بغير حق واستخدموهم وأخذوا أموالهم وقتلوا أولادهم ملكهم الله تعالى أرضهم وما فيها، فالأرض لله تعالى يورثها من يشاء من عباده، وكان ذلك بوحي من الله تعالى لا على طريق الغنيمة، ويكون ذلك على خلاف القياس وكم في الشرائع مثله، والقول المحكي سيأتي إن شاء الله تعالى ما فيه، وهذه الجملة كما قال الطيبي عطف على قوله سبحانه: وَواعَدْنا مُوسى عطف قصة على قصة. وقرأ حمزة والكسائي «حليهم» بكسر الحاء اتباعا لكسر اللام كدلي وبعض «حليهم» على الافراد وقوله سبحانه: عِجْلًا مفعول اتخذ بمعنى صاغ وعمل، أخر عن المجرور لما مر آنفا، وقيل: إن اتخذ متعد إلى اثنين وهو بمعنى صير والمفعول الثاني محذوف أي إلها، والعجل ولد البقر خاصة وهذا كما يقال لولد الناقة حوار ولولد الفرس مهر ولولد الحمار جحش ولولد الشاة حمل ولولد العنز جدي ولولد الأسد شبل ولولد الفيل دغفل ولولد الكلب جرو ولولد الظبي خشف ولولد الاروية غفر ولولد الضبع فرغل ولولد الدب ديسم ولولد الخنزير خنوص ولولد الحية حربش ولولد النعام رأل ولولد الدجاجة فروج ولولد الفأر درص ولولد الضب حسل إلى غير، والمراد هنا ما هو على صورة العجل. وقوله تعالى: جَسَداً بدل من عجلا أو عطف بيان أو نعت له بتأويل متجسدا، وفسر ببدن ذي لحم ودم، قال الراغب: الجسد كالجسم لكنه أخص منه، وقيل: إنه يقال لغير الإنسان من خلق الأرض ونحوه، ويقال أيضا لما له لون والجسم لما لا يبين له لون كالهواء، ومن هنا على ما قيل قيل للزعفران الجساد ولما أشبع صبغه من الثياب مجسد، وجاء المجسد أيضا بمعنى الأحمر، وبعض فسر الجسد به هنا فقال: أي أحمر من ذهب لَهُ خُوارٌ هو صوت البقر خاصة كالثغاء للغنم واليعار للمعز والنبيب للتيس والنباح للكلب والزئير للأسد والعواء والوعوعة للذئب والضباح للثعلب والقباع للخنزير والمواء للهرة، والنهيق والسحيل للحمار والصهيل والضبح والقنع والحمحمة للفرس والرغاء للناقة والصنى للفيل والبتغم للظبي والضغيب للأرنب والعرار للظليم والصرصرة للبازي والعقعقة للصقر والصفير الجزء: 5 ¦ الصفحة: 60 للنسر والهدير للحمام والسجع للقمري والسقسقة للعصفور والنعيق والنعيب للغراب والصقاء والزقاء للديك والقوقاء والنقيقة للدجاجة والفحيح للحية والنقيق للضفدع والصئي للعقرب والفأرة والصرير للجراد إلى غير ذلك. وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قرأ «جؤار» بجيم مضمومة وهمزة، وهو الصوت الشديد، ومثله الصياح والصراخ. والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبرا مقدما وخوار مبتدأ، والجملة في موضع النعت لعجلا. روي أن السامري لما صاغ العجل ألقى في فمه من تراب أثر فرس جبريل عليه السلام فصار حيا، وذكر بعضهم في سر ذلك أن جبريل عليه السلام لكونه الروح الأعظم سرت قوة منه إلى ذلك التراب أثرت ذلك الأثر بإذن الله تعالى لأمر يريده عزّ وجلّ، ولا يلزم من ذلك أن يحيا ما يطؤه بنفسه عليه السلام لأن الأمر مربوط بالإذن وهو إنما يكون بحسب الحكم التي لا يعلمها إلا الحكيم الخبير فتدبر. وإلى القول بالحياة ذهب كثير من المفسرين، وأيد بأن الخوار إنما يكون للبقر لا لصورته، وبأن ما سيأتي إن شاء الله تعالى في سورة طه كالصريح فيما دل عليه الخبر. وقال جمع من مفسري المعتزلة: إن العجل كان بلا روح وكان السامري قد صاغه مجوفا ووضع في جوفه أنابيب على شكل مخصوص وجعله في مهب الريح فكانت تدخل في تلك الأنابيب فيسمع لها صوت يشبه خوار العجل ولذلك سمي خوارا. وما في طه سيأتي إن شاء الله تعالى الكلام فيه. واختلف في هذا الخوار فقيل: كان مرة واحدة، وقيل: كان مرات كثيرة، وكانوا كلما خار سجدوا له وإذا سكت رفعوا رؤوسهم. وعن السدي أنه كان يخور ويمشي. وعن وهب نفى الحركة، والآية ساكتة عن إثباتها، وليس في الأخبار ما يعول عليه فالتوقف عن إثبات المشي أولى، وليست هذه المسألة من المهمات، وإنما نسب الاتخاذ إلى قوم موسى عليه السلام وهو فعل السامري لأنهم رضوا به وكثيرا ما ينسب الفعل إلى قوم مع وقوعه من واحد منهم فيقال: قتل بنو فلان قتيلا والقاتل واحد منهم، وقيل: لأن المراد اتخاذهم إياه إلها، فالمعنى صيروه إلها وعبدوه، وحينئذ لا تجوز في الكلام لأن العبادة له وقعت منهم جميعا. قال الحسن: كلهم عبدوا العجل إلا هارون عليه السلام، واستثنى آخرون غيره معه، وعلى القول قيل: لا بد من تقدير فعبدوه ليكون ذلك مصب الإنكار لأن حرمة التصوير حدثت في شرعنا على المشهور ولأن المقصود إنكار عبادته أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا تقريع لهم وتشنيع على فرط ضلالهم وإخلالهم بالنظر، أي ألم يروا أنه لا يقدر على ما يقدر عليه آحاد البشر من الكلام وإرشاد السبيل بوجه من الوجوه فكيف عدلوه بخالق الأجسام والقوى والقدر، وجعله بعضهم تعريضا بالإله الحق وكلامه الذي لا ينفد وهدايته الواضحة التي لا تجحد، وقيل: إنه تعريض بالله تعالى وبكلامه مع موسى عليه السلام وهدايته لقومه اتَّخَذُوهُ تكرار لجميع ما سلف من الاتخاذ على الوجه المخصوص المشتمل على الذم، وهو من باب الكناية على أسلوب. أن يرى مبصر ويسمع واع أي أقدموا على ما أقدموا عليه من الأمر المنكر. وَكانُوا ظالِمِينَ اعتراض تذييلي أي إن دأبهم قبل ذلك الظلم ووضع الأشياء في غير موضعها فليس ببدع منهم هذا المنكر العظيم، وكرر الفعل ليبني عليه ذلك، وقيل: الجملة في موضع الحال أي اتخذوه في هذه الحالة المستمرة لهم وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ أي ندموا كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وجعله غير واحد كناية عن شدة الندم وغايته لأن النادم إذا اشتد نومه عض يده غما فتصير يده مسقوطا فيها، وأصله سقط فوه أو عضه في يده أي وقع ثم حذف الفاعل وبني الفعل للمفعول به فصار سقط في يده كقولك: مر بزيد، وقرأ ابن السميفع سقط بالبناء للفاعل على الأصل، واليد على ما ذكر حقيقة، وقال الزجاج: معناه سقط الندم في أنفسهم وجعل القطب ذلك من باب الاستعارة التمثيلية حيث شبه حال الندم في النفس بحال الشيء في اليد في التحقيق والظهور ثم عبر عنه بالسقوط في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 61 اليد ولا لطف للاستعارة التصريحية فيه، وقال الواحدي: إنه يقال لما يحصل وإن لم يكن في اليد وقع في يده وحصل في يده مكروه فيشبه ما يحصل في النفس وفي القلب بما يرى بالعين، وخصت اليد لأن مباشرة الأمور بها كقوله تعالى: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ [الحج: 10] أو لأن الندم يظهر أثره بعد حصوله في القلب في اليد لعضها والضرب بها على أختها ونحو ذلك فقد قال سبحانه في النادم: فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ [الكهف: 42] وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ [الفرقان: 27] ، وقيل: من عادة النادم أن يطأطىء رأسه ويضع ذقنه على يده بحيث لو أزالها سقط على وجهه فكأن اليد مسقوط فيها، وفِي بمعنى على، وقيل: هو من السقاط وهو كثرة الخطأ، وقيل: من السقيط وهو ما يغشى الأرض بالغدوات شبه الثلج لا ثبات له، فهو مثل لمن خسر في عاقبته ولم يحصل على طائل من سعيه، وعد بعضهم سقط من الأفعال التي لا تتصرف كنعم وبئس. وقرأ ابن أبي عبلة «أسقط» على أنه رباعي مجهول وهي لغة نقلها الفراء والزجاج، وذكر بعضهم أن هذا التركيب لم يسمع قبل نزول القرآن، ولم تعرفه العرب، ولم يوجد في أشعارهم وكلامهم فلذا خفي على الكثير وأخطؤوا في استعماله كأبي حاتم وأبي نواس، وهو العالم النحرير ولم يعلموا ذلك ولو علموه لسقط في أيديهم وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا أي تبينوا ضلالهم باتخاذ العجل وعبادته تبينا كأنهم قد أبصروه بعيونهم قيل: وتقديم ذكر ندمهم على هذه الرؤية مع كونه متأخرا عنها للمسارعة إلى بيانه والإشعار بغاية سرعته كأنه سابق على الرؤية. وقال القطب في بيان تأخر تبين الضلال عن الندم مع كونه سابقا عليه: إن الانتقال من الجزم بالشيء إلى تبين الجزم بالنقيض لا يكون دفعيا في الأغلب بل إلى الشك ثم الظن بالنقيض ثم الجزم به ثم تبينه، والقوم كانوا جازمين بأن ما هم عليه صواب والندم عليه ربما وقع لهم في حال الشك فيه فقد تأخر تبين الضلال عنه انتهى، فافهم ولا تغفل قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا بإنزال التوبة المكفرة وَيَغْفِرْ لَنا بالتجاوز عن خطيئتنا، وتقديم الرحمة على المغفرة مع أن التخلية حقها أن تقدم على التحلية قيل: إما للمسارعة إلى ما هو المقصود الأصلي وإما لأن المراد بالرحمة مطلق إرادة الخير بهم وهو مبدأ لإنزال التوبة المكفرة لذنوبهم، واللام في لَئِنْ موطئة للقسم أي والله لئن إلخ، وفي قوله سبحانه: لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ لجواب القسم كما هو المشهور. وقرأ حمزة والكسائي «ترحمنا وتغفر لنا» بالتاء الفوقية و «ربنا» بالنصب على النداء، وما حكي عنهم من الندامة والرؤية والقول كان بعد رجوع موسى عليه السلام من الميقات كما ينطق به ما سيأتي إن شاء الله تعالى في طه، وقدم ليتصل ما قالوه بما فعلوه وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ مما حدث منهم أَسِفاً أي شديد الغضب كما قال أبو الدرداء ومحمد القرظي وعطاء والزجاج أو حزينا على ما روي عن ابن عباس والحسن وقتادة رضي الله تعالى عنهم، وقال أبو مسلم: الغضب والأسف بمعنى والتكرير للتأكيد. وقال الواحدي: هما متقاربان فإذا جاءك ما تكره ممن هو دونك غضبت وإذا جاءك ممن فوقك حزنت، فعلى هذا كان موسى عليه السلام غضبان على قومه باتخاذهم العجل حزينا لأن الله تعالى فتنهم، وقد أخبره سبحانه بذلك قبل رجوعه، ونصب الوصفين على أنهما حالان مترادفان أو متداخلان بأن يكون الثاني حالا من الضمير المستتر في الأول، وجوّز أبو البقاء أن يكون بدلا من الحال الأولى وهو بدل كل لا بعض كما توهم. قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي خطاب إما لعبدة العجل وإما لهارون عليه السلام ومن معه من المؤمنين أي بئسما فعلتم بعد غيبتي حيث عبدتم العجل بعد ما رأيتم مني من توحيد الله تعالى ونفي الشركاء عنه سبحانه واخلاص العبادة له جل جلاله، أو بئسما قمتم مقامي حيث لم تراعوا عهدي ولم تكفوا العبدة عما فعلوا بعد ما رأيتم مني من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 62 حملهم على التوحيد وكفهم عما طمحت نحوه أبصارهم من عبادة البقر حين قالوا اجعل لنا إلها كما لهم آلهة. وجوز أن يكون على الخطاب للفريقين على أن المراد بالخلافة الخلافة فيما يعم الأمرين اللذين أشير إليهما ولا تكرار في ذكر مِنْ بَعْدِي بعد خَلَفْتُمُونِي لأن المراد من بعد ولايتي وقيامي بما كنت أقوم إذ بعديته على الحقيقة إنما تكون على ما قيل بعد فراقه الدنيا، وقيل: إن مِنْ بَعْدِي تأكيد من باب رأيته بعيني وفائدته تصوير نيابة المستخلف ومزاولة سيرته كما أن هنالك تصوير الرؤية وما يتصل به، وما نكرة موصوفة مفسرة لفاعل بئس المستكن فيه والمخصوص بالذم محذوف أي بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم، والذم فيما إذا كان الخطاب لهارون عليه السلام ومن معه من المؤمنين ليس للخلافة نفسها بل لعدم الجري على مقتضاها، وأما إذا كان للسامري وأشياعه فالأمر ظاهر أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ أي أعجلتم عما أمركم به ربكم وهو انتظار موسى عليه السلام حال كونهم حافظين لعهده وما وصاهم به فبنيتم الأمر على أن الميعاد قد بلغ آخره ولم أرجع إليكم فحدثتم أنفسكم بموتي فغيرتم. روي أن السامري قال لهم حين أخرج لهم العجل، وقال: إن هذا إلهكم وإله موسى إن موسى لن يرجع وإنه قد مات. وروي أنهم عدوا عشرين يوما بلياليها فجعلوها أربعين ثم أحدثوا ما أحدثوا. والمعروف تعدي «عجل» بعن لا بنفسه فيقال: عجل عن الأمر إذا تركه غير تام ونقيضه تم عليه وأعجله عنه غير وضمنوه هنا معنى السبق وهو كناية عن الترك فتعدى تعديته ولم يضمن ابتداء. معنى الترك لخفاء المناسبة بينهما وعدم حسنها. وذهب يعقوب إلى أن السبق معنى حقيقي له من غير تضمين، والأمر واحد الأوامر. وعن الحسن أن المعنى أعجلتم وعد ربكم الذي وعدكم من الأربعين فالأمر عليه واحد الأمور والمراد بهذه الأربعين على ما ذكره الطيبي غير الأربعين التي أشار الله إليها بقوله سبحانه: فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الأعراف: 142] وسيأتي تتمة الكلام في ذلك قريبا إن شاء الله تعالى. وَأَلْقَى الْأَلْواحَ أي وضعها على الأرض كالطارح لها ليأخذ برأس أخيه مما عراه من فرط الغيرة الدينية وكان عليه السلام شديد الغضب لله سبحانه. فقد أخرج أبو الشيخ عن زيد بن أسلم أنه عليه السلام كان إذا غضب اشتعلت قلنسوته نارا. وقال القاضي ناصر الدين: أي طرحها من شدة الغضب وفرط الضجرة حمية للدين، ثم نقل أنه انكسر بعضها حين ألقاها، واعترض عليه أفضل المتأخرين شيخ مشايخنا صبغة الله أفندي الحيدري بأن الحمية للدين إنما تقتضي احترام كتاب الله تعالى وحمايته أن يلحق به نقص أو هوان بحيث تنكسر ألواحه ثم قال: والصواب أن يقال: إنه عليه السلام لفرط حميته الدينية وشدة غضبه لله تعالى لم يتمالك ولم يتماسك إن وقعت الألواح من يده بدون اختيار فنزل ترك التحفظ منزلة الإلقاء الاختياري فعبر به تغليظا عليه عليه السلام فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين انتهى. وتعقبه العلامة صالح أفندي الموصلي عليه الرحمة بأنه لا يخفى أن هذا الإيراد إنما نشأ من جعل قول القاضي حمية للدين مفعولا له لطراحها وهو غير صحيح، فقد صرح في أوائل تفسيره لسورة طه بأن الفعل الواحد لا يتعدى لعلتين وإنما هو مفعول له لشدة الغضب وفرط الضجرة على سبيل التنازع، والتوجيه الذي ذكر للآية هو ما أراده القاضي وتفسيره الإلقاء بالطرح لا ينافي ذلك على ما لا يخفى اهـ، وأقول أنت تعلم أن كون هذا التوجيه هو ما أراده القاضي غير بيّن ولا مبين على أن حديث كون التعبير بالإلقاء تغليظا عليه السلام منحط عن درجة القبول جدا إذ ليس في السباق ولا في السياق ما يقضي بكون المقام عتاب موسى عليه السلام ليفتي بهذا التغليظ نظرا إلى مقامه صلّى الله عليه وسلّم بل المقام ظاهر في الحط على قومه كما لا يخفى على من له أدنى حظ من رفيع النظر، والذي يراه هذا الفقير ما أشرنا إليه أولا. وحاصله أن موسى عليه السلام لما رأى من قومه ما رأى غضب غضبا شديدا حمية للدين وغيرة من الشرك برب العالمين فعجل في وضع الألواح لتفرغ يده فيأخذ برأس أخيه فعبر عن ذلك الوضع بالإلقاء تفظيعا لفعل قومه حيث كانت معاينته سببا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 63 لذلك وداعيا إليه مع ما فيه من الإشارة إلى شدة غيرته وفرط حميته وليس في ذلك ما يتوهم منه نوع إهانة لكتاب الله تعالى بوجه من الوجوه، وانكسار بعض الألواح حصل من فعل مأذون فيه ولم يكن غرض موسى عليه السلام ولا مر بباله ولا ظن ترتبه على ما فعل، وليس هناك إلا العجلة في الوضع الناشئة من الغيرة لله تعالى، ولعل ذلك من باب وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى [طه: 84] واختلفت الروايات في مقدار ما تكسر ورفع، وبعضهم أنكر ذلك حيث إن ظاهر القرآن خلافه. نعم أخرج أحمد وغيره وعبد بن حميد والبزار وابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني وغيرهم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يرحم الله تعالى موسى ليس المعاين كالمخبر أخبره ربه تبارك وتعالى أن قومه فتنوا بعده فلم يلق الألواح فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح فتكسر منها ما تكسر» فتأمل ولا تغفل، وما روي عن ابن عباس أن موسى عليه السلام لما ألقى الألواح رفع منها ستة أسباع وبقي سبع، وكذا ما روي عن غيره نحوه مناف لما روي فيما تقدم من أن التوراة نزلت سبعين وقرأ يقرأ الجزء منه في سنة لم يقرأها إلا أربعة نفر: موسى ويوشع وعزير وعيسى عليهم السلام. وكذا لما يذكر بعد من قوله تعالى: أَخَذَ الْأَلْواحَ فإن الظاهر منه العهد. والجواب بأن الرفع لما فيها من الخط دون الألواح خلاف الظاهر والله تعالى أعلم بحقيقة الحال وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ أي بشعر رأس هارون عليه السلام لأنه الذي يؤخذ ويمسك عادة ولا ينافي أخذه بلحيته كما وقع في سورة طه أو أدخل فيه تغليبا يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ظنا منه عليه السلام أنه قصر في كفهم ولم يتمالك لشدة غضبه وفرط غيظه أن فعل ذلك وكان هارون أكبر من موسى عليهما السلام بثلاث سنين إلا أن موسى أكبر منه مرتبة وله الرسالة والرياسة استقلالا وكان هارون وزيرا له وكان عليه السلام حمولا لينا جدا ولم يقصد موسى بهذا الأخذ إهانته والاستخفاف به بل اللوم الفعلي على التقصير المظنون بحكم الرياسة وفرط الحمية، والقول بأنه عليه السلام إنما أخذ رأس أخيه ليسارّه ويستشكف منه كيفية الواقعة مما يأباه الذوق كما لا يخفى على ذويه، ومثله القول بأن إنما كان لتسكين هارون لما رأى به من الجزع والقلق، وقال أبو علي الجبائي: إن موسى عليه السلام أجرى أخاه مجرى نفسه فصنع به ما يصنع الإنسان به عند شدة الغضب، وقال الشيخ المفيد من الشيعة: إن ذلك للتألم من ضلال قومه وإعلامهم على أبلغ وجه عظم ما فعلوه لينزجروا عن مثله ولا يخفى أن الأمر على هذا من قبيل: غيري جنى وأنا المعاقب فيكم ... فكأنني سبابة المتندم ولعل ما أشرنا إليه هو الأولى. وجملة يَجُرُّهُ في موضع الحال من ضمير موسى أو من رأس أو من أخيه لأن المضاف جزء منه وهو أحد ما يجوز فيه ذلك، وضعفه أبو البقاء قالَ أي هارون مخاطبا لموسى عليه السلام إزاحة لظنه ابْنَ أُمَّ بحذف حرف النداء لضيق المقام وتخصيص الأم بالذكر مع كونهما شقيقين على الأصح للترقيق، وقيل: لأنها قامت بتربيته وقاست في تخليصه المخاوف والشدائد، وقيل: إن هارون عليه السلام كانت آثار الجمال والرحمة فيه ظاهرة كما ينبىء عنه قوله تعالى: وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا [مريم: 53] وكان مورده ومصدره ذلك، ولذا كان يلهج بذكر ما يدل على الرحمة، ألا ترى كيف تلطف بالقوم لما قدموا على ما قدموا فقال: يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ [طه: 90] ومن هنا ذكر الأم ونسب إليها لأن الرحمة فيها أتم ولولاها ما قدرت على تربية الولد وتحمل المشاق فيها وهو منزع صوفي كما لا يخفى، واختلف في اسم أمهما عليهما السلام فقيل: محيانة بنت يصهر بن لاوى، وقيل: يوحانذ، وقيل: يارخا، وقيل: يازخت، وقيل: غير ذلك، ومن الناس من زعم أن لاسمها رضي الله تعالى عنها خاصية في فتح الأقفال وله رياضة مخصوصة عند أرباب الطلاسم والحروف وما هي إلا رهبانية ابتدعوها ما أنزل الله تعالى بها من كتاب. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبوبكر عن عاصم هنا وفي [طه: 94] ابْنَ أُمَّ بالكسر وأصله ابن أمي فحذفت الياء اكتفاء بالكسرة تخفيفا كالمنادى المضاف إلى الياء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 64 وقرأ الباقون بالفتح زيادة في التخفيف أو تشبيها بخمسة عشر إِنَّ الْقَوْمَ الذين فعلوا ما فعلوا اسْتَضْعَفُونِي أي استذلوني وقهروني ولم يبالوا بي لقلة أنصاري وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي وقاربوا قتلي حين نهيتهم عن ذلك والمراد أني بذلت وسعي في كفهم ولم آل جهدا في منعهم فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ أي فلا تفعل ما يشمتون بي لأجله فإنهم لا يعلمون سر فعلك، والشماتة سرور العدو بما يصيب المرء من مكروه. وقرىء «فلا تشمت بي الأعداء» بفتح حرف المضارعة وضم الميم ورفع الأعداء- حطهم الله تعالى- وهو كناية عن ذلك المعنى أيضا على حد لا أرينك هاهنا. والمراد من الأعداء القوم المذكورون إلا أنه أقيم الظاهر مقام ضميرهم ولا يخفى سره وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي لا تجعلني معدودا في عدادهم ولا تسلك بي سلوكهم بهم في المعاتبة، أو لا تعتقدني واحدا من الظالمين مع براءتي منهم ومن ظلمهم، فالجعل مثله في قوله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف: 19] قالَ استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية الاعتذار كأنه قيل فماذا قال موسى عليه السلام عند اعتذار أخيه؟ فقيل: قال رَبِّ اغْفِرْ لِي ما فعلت بأخي قبل جلية الحال وحسنات الأبرار سيئات المقربين وَلِأَخِي إن كان اتصف بما يعد ذنبا بالنسبة إليه في أمر أولئك الظالمين، وفي هذا الضم ترضية له عليه السلام ورفع للشماتة عنه، والقول بأنه عليه السلام استغفر لنفسه ليرضى أخاه ويظهر للشامتين رضاه لئلا تتم شماتتهم به ولأخيه للايذان بأنه محتاج إلى الاستغفار حيث كان يجب عليه أن يقاتلهم لي فيه توقف لا يخفى وجهه. وَأَدْخِلْنا جميعا. فِي رَحْمَتِكَ الواسعة بمزيد الإنعام علينا، وهذا ما يقتضيه المقابلة بالمغفرة، والعدول عن ارحمنا إلى ما ذكر وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فلا غرو في انتظامنا في سلك رحمتك الواسعة في الدنيا والآخرة، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله، وادعى بعضهم أن فيه إشارة إلى أنه سبحانه استجاب دعاءه وفيه خفاء إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ أي بقوا على اتخاذه واستمروا عليه كالسامري وأشياعه كما يفصح عنه كون الموصول الثاني عبارة عن التائبين فإن ذلك صريح في أن الموصول الأول عبارة عن المصرين سَيَنالُهُمْ أي سيلحقهم ويصيبهم في الآخرة جزاء ذلك غَضَبٌ عظيم لا يقادر قدره مستتبع لفنون العقوبات لعظم جريمتهم وقبح جريرتهم مِنْ رَبِّهِمْ أي مالكهم، والجار والمجرور متعلق بينالهم، أو بمحذوف وقع نعتا لغضب مؤكدا لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أي كائن من ربهم وَذِلَّةٌ عظيمة فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وهي على ما أقول: الذلة التي عرتهم عند تحريق إلههم ونسفه في اليم نسفا مع عدم القدرة على دفع ذلك عنه، وقيل: هي ذلة الاغتراب التي تضرب بها الأمثال والمسكنة المنتظمة لهم ولأولادهم جميعا، والذلة التي اختص بها السامري من الانفراد عن الناس والابتلاء بلا مساس، وروي أن بقاياهم اليوم يقولون ذلك وإذا مس أحدهم أحد غيرهم حمّا جميعا في الوقت، ولعل ما ذكرناه أولى والرواية لم نر لها أثرا، وإيراد ما نالهم بالسين للتغليب، وقيل: وإليه يشير كلام أبي العالية المراد بهم التائبون، وبالغضب ما أمروا به من قتل أنفسهم، وبالذلة إسلامهم أنفسهم لذلك واعترافهم بالضلال، واعتذر عن السين بأن ذلك حكاية عما أخبر الله تعالى به موسى عليه السلام حين أخبره بافتتان قومه واتخاذهم العجل فإنه قال له: سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ إلخ فيكون سابقا على الغضب، وجعل الكلام جواب سؤال مقدر وذلك أنه تعالى لما بين أن القوم ندموا على عبادتهم العجل بقوله سبحانه: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا والندم توبة ولذلك عقبوه بقولهم: لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا وذكر عتاب موسى لأخيه عليهما السلام ثم استغفاره اتجه لسائل أن يقول: يا رب إلى ماذا يصير أمر القوم وتوبتهم واستغفار نبي الله تعالى وهل قبل الله تعالى توبتهم؟ فأجاب إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 65 أي نقم قبل توبة موسى وأخيه وغفر لهما خاصة وكان من تمام توبة القوم أن الله سبحانه أمرهم بقتل أنفسهم فسلموها للقتل، فوضع الذين اتخذوا العجل موضع القوم اشعارا بالعلية. وتعقب بأن سياق النظم الكريم وكذا سباقه ناب عن ذلك نبوا ظاهرا كيف لا وقوله تعالى: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ينادي على خلافه فإنهم شهداء تائبون فكيف يمكن وصفهم بعد ذلك بالافتراء وأيضا ليس يجزي الله تعالى كل المفترين بهذا الجزاء الذي ظاهره قهر وباطنه لطف ورحمة إلا أن يقال: يكفي في صحة التشبيه وجود وجه الشبه في الجملة ولا بد من التزام ذلك على الوجه الذي ذكرناه أيضا وما ذكر في تحرير السؤال والجواب مما تمجه أسماع ذوي الألباب. وقال عطية العوفي: المراد سينال أولاد الذين تعبدوا العجل وهم الذين كانوا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأريد بالغضب والذلة ما أصاب بني النضير وقريظة من القتل والجلاء، أو ما أصابهم من ذلك ومن ضرب الجزية عليهم، وفي الكلام على هذا حذف مضاف وهو الأولاد، ويحتمل أن يكون هناك وهو من تعيير الأبناء بما فعل الآباء، ومثله في القرآن كثيرة. وقيل: المراد بالموصول المتخذون حقيقة وبالضمير في ينالهم أخلافهم وبالغضب الغضب الأخروي وبالذلة الجزية التي وضعها الإسلام عليهم أو الأعم منها ليشمل ما ضربه بختنصر عليهم. وتعقب ذلك أيضا بأنه لا ريب في أن توسيط حال هؤلاء في تضاعيف بيان حال المتخذين من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه، والمراد بالمفترين المفترون على الله تعالى، وافتراء أولئك عليه سبحانه قول السامري في العجل هذا إلهكم وإله موسى ورضاهم به ولا أعظم من هذه الفرية ولعله لم يفتر مثلها أحد قبلهم ولا بعدهم. وعن سفيان بن عيينة أنه قال: كل صاحب بدعة ذليل وتلا هذه الآية. وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ أي سيئة كانت لعموم المغفرة ولأنه لا داعي للتخصيص ثُمَّ تابُوا عنها مِنْ بَعْدِها أي من بعد عملها وهو تصريح بما تقتضيه ثم وَآمَنُوا أي واشتغلوا بالإيمان وما هو مقتضاه وبه تمامه من الأعمال الصالحة ولم يصروا على ما فعلوا كالطائفة الأولى، وهو عطف على تابوا، ويحتمل أن يكون حالا بتقدير قد، وأيّا ما كان فهو على ما قيل: من ذكر الخاص بعدم العام للاعتناء به لأن التوبة عن الكفر هي الإيمان فلا يقال: التوبة بعد الإيمان كيف جاءت قبله. قيل: حيث كان المراد بالإيمان ما تدخل فيه الأعمال يكون بعد التوبة. وقيل: المراد به هنا التصديق بأن الله تعالى يغفر للتائب أي ثم تابوا وصدقوا بأن الله تعالى يغفر لمن تاب إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها أي من بعد التوبة المقرونة بما لا تقبل بدونه وهو الإيمان، ولم يجعل الضمير للسيئات لأنه كما قال بعض المحققين لا حاجة له بعد قوله سبحانه: ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها لا لأنه يحتاج إلى حذف مضاف ومعطوف من عملها والتوبة عنها لأنه لا معنى لكونه بعدها إلا ذلك لَغَفُورٌ لذنوبهم وإن عظمت وكثرت رَحِيمٌ مبالغ في إفاضة فنون الرحمة عليهم، والموصول مبتدأ وجملة إِنَّ رَبَّكَ إلخ خبر والعائد محذوف، والتقدير- عند أبي البقاء- لغفور لهم رحيم بهم، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة لضميره عليه الصلاة والسلام للتشريف، وقيل: الخطاب للتائب، ولا يخفى لطف ذلك أيضا، وفي الآية إعلام بأن الذنوب وإن جلّت وعظمت فإن عفو الله تعالى وكرمه أعظم وأجل، وما ألطف قول أبي نواس غفر الله تعالى له: يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة ... فلقد علمت بأن عفوك أعظم إن كان لا يرجوك إلا محسن ... فبمن يلوذ ويستجير المجرم ومما ينسب للإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه: ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي ... جعلت الرجا ربي لعفوك سلما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 66 تعاظمني ذنبي فلما قرنته ... بعفوك ربي كان عفوك أعظما ويعجبني قول بعضهم: وما أولى هذا المذنب به: أنا مذنب أنا مخطئ أنا عاصي ... هو غافر هو راحم هو عافي قابلتهن ثلاثة بثلاثة ... وستغلبن أوصافه أوصافي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 67 وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ شروع في بيان بقية الحكاية أثر ما بين تحزب القوم إلى مصر وتائب، والإشارة إلى ما لكل منهما إجمالا، أي ولما سكت عنه الغضب باعتذار أخيه وتوبة القوم، وهذا صريح في أن ما حكي عنه من الندم وما يتفرع عليه كان بعد مجيء موسى عليه السلام، وقيل: المراد ولما كسرت سورة غضبه عليه السلام وقل غيظه باعتذار أخيه فقط لأنه زال غضبه بالكلية لأن توبة القوم ما كانت خالصة بعد، وأصل السكوت قطع الكلام، وفي الكلام استعارة مكنية حيث شبه الغضب بشخص ناه آمر وأثبت له السكوت على طريق التخييل، وقال السكاني: إن فيه استعارة تبعية حيث شبه سكون الغضب وذهاب حدته بسكون الآمر الناهي والغضب قرينتها، وقيل: الغضب استعارة بالكناية عن الشخص الناطق والسكوت استعارة تصريحية لسكون هيجانه وغليانه فيكون في الكلام مكنية قرينتها تصريحية لا تخييلية، وأيا ما كان ففي الكلام مبالغة وبلاغة لا يخفى علو شأنهما، وقال الزجاج: مصدر سكت الغضب السكتة ومصدر سكت الرجل السكوت وهو يقتضي أن يكون سكت الغضب فعلا على حدة وقيل ونسب إلى عكرمة: إن هذا من القلب وتقديره ولما سكت موسى عن الغضب، ولا يخفى أن السكوت كان أجمل بهذا القائل إذ لا وجه لما ذكره. وقرأ معاوية بن قرة «سكن» والمعنى على ذلك ظاهر إلا أنه على قراءة الجمهور أعلى كعبا عند كل ذي طبع سليم وذوق صحيح، وقرىء «سكت» بالبناء لما لم يسم فاعله والتشديد للتعدية. و «أسكت» بالبناء لذلك أيضا على أن المسكت هو الله تعالى أو أخوه أو التائبون أَخَذَ الْأَلْواحَ التي ألقاها وَفِي نُسْخَتِها أي فيما نسخ فيها وكتب، ففعلة بمعنى مفعول كالخطبة، والنسخ الكتابة، والإضافة بيانية أو بمعنى في، وإلى هذا ذهب الجبائي وأبو مسلم وغيرهما، وقيل: معنى منسوخة ما نسخ فيها من اللوح المحفوظ، وقيل: النسخ هنا بمعنى النقل، والمعنى فيما نقل من الألواح المنكسرة. وروي عن ابن عباس وعمرو بن دينار أن موسى عليه السلام لما ألقى الألواح فتكسر منها ما تكسر صام أربعين يوما فرد عليه ما ذهب في لوحين وفيهما ما في الأول بعينه فكأنه نسخ من الأول هُدىً أي بيان للحق عظيم وَرَحْمَةٌ جليلة بالإرشاد إلى ما فيه الخير والصلاح لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ أي يخافون أشد الخوف، واللام الأولى متعلقة بمحذوف وقع صفة لما قبله أو هي لام الأجل أي هدى ورحمة لأجلهم، والثانية لتقوية عمل الفعل المؤخر كما في قوله سبحانه: إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ [يوسف: 43] أو هي لام العلة والمفعول محذوف أي يرهبون المعاصي لأجل ربهم لا للرياء والسمعة، واحتمال تعلقها بمحذوف أي يخشون لربهم كما ذهب إليه أبو البقاء بعيد وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ تتمة لشرح أحوال بني إسرائيل، وقال البعض: إنه شروع في بيان كيفية استدعاء التوبة وكيفية وقوعها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 68 وَاخْتارَ يتعدى إلى اثنين ثانيهما مجرور بمن وقد حذفت هنا وأوصل الفعل والأصل من قومه، ونحوه قول الفرزدق: منا الذي اختير الرجال سماحة ... وجودا إذا هب الرياح الزعازع وقوله الآخر: فقلت له: اخترها قلوصا سمينة ... ونابا علا بأمثل نابك في الحيا قوله سبحانه: سَبْعِينَ رَجُلًا مفعول أول لاختار على المختار وأخر عن الثاني لما مر مرارا، وقيل: بدل بعض من كل، ومنعه الأكثرون بناء على أن البدل منه في نية الطرح والاختيار لا بد له من مختار ومختار منه وبالطرح يسقط الثاني، وجوزه أبو البقاء على ضعف ويكون التقدير سبعين منهم، وقيل: هو عطف بيان لِمِيقاتِنا ذهب أبو علي. وأبو مسلم وغيرهما من مفسري السنة والشيعة إلى أنه الميقات الأول وهو الميقات الكلامي قالوا: إنه عليه السلام اختار لذلك من اثني عشر سبطا من كل سبط ستة حتى تتاموا اثنين وسبعين فقال عليه السلام: ليتخلف منكم رجلان فتشاحوا فقال: لمن قعد منكم مثل أجر من خرج فقعد كالب ويوشع، وروي أنه لم يصب إلا ستين شيخا فأوحى الله تعالى أن يختار من الشبان عشرة فاختارهم فأصبحوا شيوخا، وقيل: كانوا أبناء ما عدا العشرين ولم يتجاوزوا الأربعين فذهب عنهم الجهل والصبا فأمرهم موسى عليه السلام أن يصوموا ويتطهروا ويطهروا ثيابهم ثم خرج بهم إلى طور سيناء فلما دنا من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله ودنا موسى ودخل فيه، وقال للقوم: ادنوا فدنوا حتى إذا دخلوا الغمام وقعوا سجدا فسمعوه وهو سبحانه يكلم موسى يأمره وينهاه افعل ولا تفعل ثم انكشف الغمام فأقبلوا إليه فطلبوا الرؤية فوعظهم وكان ما كان، وذهب آخرون وهو المروي عن الحسن إلى أنه غير الميقات الأول قالوا: إن الله سبحانه أمر موسى عليه السلام أن يأتيه في أناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل فاختار من اختاره فلما أتوا الطور قالوا ما قالوا، وروي ذلك عن السدي، وعن ابن إسحاق أنه عليه السلام إنما اختارهم ليتوبوا إلى الله تعالى ويسألوه التوبة على من تركوا وراءهم من قومهم. ورجح ذلك الطيبي مدعيا أن الأول خلاف نظم الآيات وأقوال المفسرين. أما الأول فلما قال الإمام: إنه تعالى ذكر قصة ميقات الكلام وطلب الرؤية ثم أتبعها بقصة العجل وما يتصل بها فظاهر الحال أن تكون هذه القصة مغايرة للمتقدمة إذ لا يليق بالفصاحة ذكر بعض القصة ثم النقل إلى أخرى ثم الرجوع إلى الأولى وإنه اضطراب يصان عنه كلامه تعالى، وأيضا ذكر في الأولى خرور موسى عليه السلام صعقا، وفي الثانية قوله بعد أخذ الرجفة: لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ، وأيضا لو كانت الرجفة بسبب طلب الرؤية لقيل: أتهلكنا بما قال السفهاء وضم إليه الطيبي أنه تعالى حيث ذكر صاعقتهم لم يذكر صعق موسى عليه السلام وبالعكس فدل على التغاير، وأما الثاني فلما نقل عن السدي مما ذكرناه آنفا، وتعقب ما ذكر في الترجيح أولا صاحب الكشف بأن الانصاف أن المجموع قصة واحدة في شأن ما من على بني إسرائيل بعد إنجائهم من تحقيق وعد إيتاء الكتاب وضرب ميقاته وعبادة العجل وطلب الرؤية كان في تلك الأيام، وفي ذلك الشأن فالبعض مربوط بالبعض بقي إيثار هذا الأسلوب وهو بين لأن الأول في شأن الامتنان عليهم وتفضيلهم كيف وقد عطف واعَدْنا على أَنْجَيْناكُمْ وقد بين أنه تبيين للتفضيل، وتعقيب حديث الرؤية مستطرد للفرق بين الطلبين عندنا وليلقمهم الحجر عند المعتزلي. والثاني في شأن جنايتهم بعد ذلك الإحسان البالغ باتخاذ العجل والملاحة والافتراق من لوازم النظم، وتعقب ما ذكر فيه ثانيا بأن قول السدي وحده لا يصلح ردا كيف وهذا يخالف ما نقله محيي السنة في قوله سبحانه: لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ إنهم كانوا له وزراء مطيعين فاشتد عليه عليه السلام فقدهم فرحمهم وخاف عليهم الفوت وأين لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ من الطاعة وحسن الاستئزار قال: ثم الظاهر من قوله تعالى: فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ [النساء: 153] إن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 69 اتخاذ العجل متأخر عن مقالتهم تلك خلاف ما نقل عن السدي والحمل على تراخي الرتبة لا بد له من سند كيف ولا ينافي التراخي الزماني فلا بد من دليل يخصه به، هذا وقد اعترف المفسرون في سورة طه بأنه اختار سبعين لميقات الكلام ذكروه في قوله تعالى: وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى [طه: 83] وما اعتذر عنه الطيبي بأنه اختيار السبعين كان مرتين وليس في النقل أنهم كانوا معه عند المكالمة وطلب الرؤية فظاهر للمنصف سقوطه انتهى. وذكر القطب في توهين ما نقل عن السدي بأن الخروج للاعتذار إن كان بعد قتل أنفسهم ونزول التوبة فلا معنى للاعتذار، وإن كان قبل قتلهم فالعجب من اعتذار ثمرته قتل الأنفس، ثم قال: ولا ريب أن قصة واحدة تتكرر في القرآن يذكر في سورة بعضها، وفي أخرى بعض أخر وليس ذلك إلا لتكرار اعتبار المعتبرين بشيء من تلك القصة فإذا جاز ذكر قصة في سور متعددة في كل سورة شيء منها فلم لا يجوز ذلك في مواضع من سورة واحدة لتكرر الاعتبار اهـ، وهو ظاهر في ترجيح ما ذهب إليه الأولون، وأنا أقول: إن القول بأن هذا الميقات هو الميقات الأول ليس بعاطل من القول وبه قال جمع كما أشرنا إليه، وكلامنا في البقرة ظاهر فيه إلا أن الانصاف أن ظاهر النظم هنا يقتضي أنه غيره وما ذكره صاحب الكشف لا يقتضي أنه ظاهر في خلافه، وإلى القول بالغيرية ذهب جل من المفسرين. فقد أخرج عبد بن حميد من طريق أبي سعد عن مجاهد أن موسى عليه السلام خرج بالسبعين من قومه يدعون الله تعالى ويسألونه أن يكشف عنهم البلاء فلم يستجب لهم فعل موسى أنهم أصابوا من المعصية ما أصاب قومهم، قال أبو سعد: فحدثني محمد بن كعب القرظي أنه لم يستجب لهم من أجل أنهم لم ينهوهم عن المنكر ولم يأمروهم بالمعروف. وأخرج عبد بن حميد عن الفضل بن عيسى ابن أخي الرقاشي أن بني إسرائيل قالوا ذات يوم لموسى عليه السلام ألست ابن عمنا ومنا وتزعم أنك كلمت رب العزة؟ فإنا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة: 55] فلما أبوا إلا ذلك أوحى الله تعالى إلى موسى أن اختر من قومك سبعين رجلا فاختار سبعين خيرة ثم قال لهم: اخرجوا فلما برزوا جاءهم ما لا قبل لهم به الخبر. وهو ظاهر في أن هذا الميقات ليس هو الأول. نعم إنه مخالف لما روي عن السدي لكنهما متفقان على القول بالغيرية ويوافق السدي في ذلك الحسن أيضا فليس هو متفردا بذلك كما ظنه صاحب الكشف، وما ذكره من مخالفة كلام السدي لما نقله محيي السنة في حيز المنع، وقوله فإنا لن نؤمن لك إلخ يظهر جوابه مما ذكرناه في البقرة عند هذه الآية من الاحتمالات، والقول بأن الاختيار كان مرتين غير بعيد وبه قال بعضهم، وما ذكره القطب من الترديد في الخروج للاعتذار ظاهر بعض الروايات عن السدي يقتضي تعين الشق الأول منه. فقد أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال: انطلق موسى إلى ربه فكلمه فلما كلمه قال: ما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى فأجابه موسى بما أجابه فقال سبحانه: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ [طه: 85] الآية فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا فأبى الله تعالى أن يقبل توبتهم إلا بالحال التي كرهوا ففعلوا ثم إن الله تعالى أمر موسى عليه السلام أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل يعتذرون من عبادة العجل فوعدهم موعدا فاختار موسى سبعين رجلا إلخ وهو كما ترى ظاهر فيما قلناه، والقول بأنه لا معنى للاعتذار بعد قتل أنفسهم ونزول التوبة أجيب عنه بأن المعنى يحتمل أن يكون طلبا لزيادة الرضى واستنزال مزيد الرحمة، ويحتمل أن يكونوا أمروا بذلك تأكيدا للايذان بعظم الجناية وزيادة فيه وإشارة إلى أنه بلغ مبلغا في السوء لا يكفي في العفو عنه قتل الأنفس بل لا بد فيه مع ذلك الاعتذار، ويمكن أن يقال إنه كان قبل قتلهم أنفسهم: والسر في أنهم أمروا به أن يعلموا أيضا عظم الجناية على أتم وجه بعدم قبوله والله تعالى أعلم فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي الصاعقة أو رجفة الجبل فصعقوا منها والكثير على أنهم ماتوا جميعا ثم أحياهم الله تعالى، وقيل: غشي عليهم ثم أفاقوا وذلك لأنهم قالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة على ما في بعض الروايات أو ليتحقق عند القائلين ذلك من قومهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 70 مزيد عظمته سبحانه على ما في البعض الآخر منها، أو لمجرد التأديب على ما في خبر القرظي، والظاهر أن قولهم: لن نؤمن إلخ صدر منهم في ذلك المكان لا بعد الرجوع كما قيل: ونقلناه في البقرة وحينئذ يبعد على ما قيل القول بأن هذا الميقات هو الميقات الأول لأن فيه طلب موسى عليه السلام الرؤية بعد كلام الله تعالى له من غير فصل على ما هو الظاهر فيكون هذا الطلب بعده، وبعيد أن يطلبوا ذلك بعد أن رأوا ما وقع لموسى عليه السلام. وما أخرجه ابن أبي الدنيا وابن جرير وغيرهما عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: لما حضر أجل هارون أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن انطلق أنت وهارون وابنه إلى غار في الجبل فإنا قابضو روحه فانطلقوا جميعا فدخلوا الغار فإذا سرير فاضطجع عليه موسى ثم قام عنه فقال: ما أحسن هذا المكان يا هارون فاضطجع عليه هارون فقبض روحه فرجع موسى وابن أخيه إلى بني إسرائيل حزينين فقالوا له: أين هارون قال: مات؟ قالوا: بل قتلته كنت تعلم أنّا نحبه فقال لهم ويلكم أقتل أخي وقد سألته الله تعالى وزيرا ولو أني أردت قتله أكان ابنه يدعني. قالوا: بلى قتلته حسدا، قال: فاختاروا سبعين رجلا فانطلق بهم فمرض رجلان في الطريق فخط عليهما خطا فانطلق هو وابن هارون وبنو إسرائيل حتى انتهوا إلى هارون فقال: يا هارون من قتلك؟ قال: لم يقتلني أحد ولكني مت قالوا: ما تعصى يا موسى ادع لنا ربك يجعلنا أنبياء فأخذتهم الرجفة فصعقوا وصعق الرجلان اللذان خلفوا وقام موسى عليه السلام يدعو ربه فأحياهم الله تعالى فرجعوا إلى قومهم أنبياء لا يكاد يصح فيما أرى لتظافر الآثار بخلافه وإباء ظواهر الآيات عنه. قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ عرض للعفو السابق لاستجلاب العفو اللاحق يعني أنك قدرت على إهلاكهم قبل ذلك بحمل فرعون على إهلاكهم وبإغراقهم في البحر وغيرهما فترحمت عليهم ولم تهلكهم فارحمهم الآن كما رحمتهم من قبل جريا على مقتضى كرمك وإنما قال: وَإِيَّايَ تسليما منه وتواضعا، وقيل: أراد بقوله مِنْ قَبْلُ حين فرطوا في النهي عن عبادة العجل وما فارقوا عبدته حين شاهدوا إصرارهم عليها أي لو شئت إهلاكهم بذنوبهم إذ ذاك وإياي أيضا حين طلبت منك الرؤية، وقيل: حين قتل القبطي لأهلكتنا، وقيل: هو تمن منه عليه السلام للاهلاك جميعا بسبب محبته أن لا يرى ما يرى من مخالفتهم له مثلا أو بسبب آخر وفيه دغدغة أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا من العناد وسوء الأدب أو من عبادة العجل، والهمزة إما لإنكار وقوع الإهلاك ثقة بلطف الله عزّ وجلّ كما قال ابن الأنباري أو للاستعطاف كما قال المبرد أي لا تهلكنا، وأيا ما كان فهو من مقول موسى عليه السلام كالذي قبله، وقول بعضهم: كان ذلك قاله بعضهم غير ظاهر ولا داعي إليه، والقول بأن الداعي ما فيه من التضجر الذي لا يليق بمقام النبوة لا يخفى ما فيه، ولعل مراد القائل بذلك أن هذا القول من موسى عليه السلام يشبه قول أحد السبعين فكأنه قاله على لسانهم لأنهم الذين أصيبوا بما أصيبوا به دونه فافهم إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ استئناف مقرر لما قبله واعتذار عما وقع منهم وإن نافية وهي للفتنة المعلومة للسياق أي ما الفتنة إلا فتنتك أي محنتك وابتلاؤك حيث أسمعتهم كلامك فطمعوا في رؤيتك واتبعوا القياس في غير محله أو أوجدت في العجل خوارا فزاغوا به. أخرج ابن أبي حاتم عن راشد بن سعد أن الله تعالى لما قال لموسى عليه السلام: إن قومك اتخذوا عجلا جسدا له خوار قال: يا رب فمن جعل فيه الروح؟ قال: أنا قال: فأنت أضللتهم يا رب قال: يا رأس النبيين يا أبا الحكماء إني رأيت ذلك في قلوبهم فيسرته لهم، ولعل هذا إشارة إلى الاستعداد الأزلي الغير المجعول. وقيل: الضمير راجع على الرجفة أي ما هي إلا تشديدك التعبد والتكلف علينا بالصبر على ما أنزلته بنا، وروي هذا عن الربيع وابن جبير وأبي العالية، وقيل: الضمير لمسألة الإراءة وإن لم تذكر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 71 تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ استئناف مبين لحكم الفتنة، وقيل: حال من المضاف إليه أو المضاف أي تضل بسببها من تشاء إضلاله بالتجاوز عن الحد أو باتباع المخايل أو بنحو ذلك وتهدي من تشاء هداه فيقوى بها إيمانه، وقيل: المعنى تصيب بهذه الرجفة من تشاء وتصرفها عمن تشاء، وقيل: تضل بترك الصبر على فتنتك وترك الرضا بها من تشاء عن نيل ثوابك ودخول جنتك وتهدي بالرضا لها والصبر عليها من تشاء وهو كما ترى أَنْتَ وَلِيُّنا أي أنت القائم بأمورنا الدنيوية والأخروية لا غيرك فَاغْفِرْ لَنا ما يترتب عليه مؤاخذتك وَارْحَمْنا بإفاضة آثار الرحمة الدنيوية والأخروية علينا. والفاء لترتيب الدعاء على ما قبله من الولاية لأن من شأن من يلي الأمور ويقوم بها دفع الضر وجلب النفع، وقدم طلب المغفرة على طلب الرحمة لأن التخلية أهم من التحلية، وسؤال المغفرة لنفسه عليه السلام في ضمن سؤالها لمن سألها له مما لا ضير فيه وإن لم يصدر منه نحو ما صدر منه كما لا يخفى، والقول بأن إقدامه عليه السلام على أن يقول: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ جرأة عظيمة فطلب من الله تعالى غفرانها والتجاوز عنها مما يأباه السوق عند أرباب الذوق، ولا أظن أن الله تعالى عدد ذلك ذنبا منه ليستغفره عنه، وفي ندائه السابق ما يؤيد ذلك وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ إذ كل غافر سواك إنما يغفر لغرض نفساني كحب الثناء ودفع الضرر وأنت تغفر لا لطلب عوض ولا غرض بل لمحض الفضل والكرم، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبل، وتخصيص المغفرة بالذكر لأنها الأهم. وفسر بعضهم ما ذكر بغفران السيئة وتبديلها بالحسنة ليكون تذييلا لاغفر وارحم معا وَاكْتُبْ لَنا أي أثبت واقسم لنا فِي هذِهِ الدُّنْيا التي عرانا فيها ما عرانا حَسَنَةً حياة طيبة وتوفيقا للطاعة. وقيل: ثناء جميلا وليس بجميل، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد اقبل وفادتنا وردنا بالمغفرة والرحمة وَفِي الْآخِرَةِ أي واكتب لنا أيضا في الآخرة حسنة وهي المثوبة الحسنى والجنة. قيل: إن هذا كالتأكيد لقوله: اغفر وارحم إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ أي تبنا إليك من هاد يهود إذا رجع وتاب كما قال: إني امرؤ مما جنيت هائد ومن كلام بعضهم: يا راكب الذنب هدهد ... واسجد كأنك هدهد وقيل: معناه مال، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «هدنا» بكسر الهاء من هاد يهيد إذا حرك، وأخرج ابن المنذر. وغيره عن أبي وجرة السعدي أنه أنكر الضم وقال: والله لا أعلمه في كلام أحد من العرب وإنما هو هدنا بالكسر أي ملنا وهو محجوج بالتواتر، وجوز على هذه القراءة أن يكون الفعل مبنيا للفاعل والمفعول بمعنى حركنا أنفسنا أو حركنا غيرنا، وكذا على قراءة الجماعة، والبناء للمفعول عليها على لغة من يقول: عود المريض، ولا بأس بذلك إذا كان الهود بمعنى الميل سوى أن تلك لغة ضعيفة، وممن جوز الأمرين على القراءتين الزمخشري. وتعقبه السمين بأنه متى حصل الالتباس وجب أن يؤتى بحركة تزيله فيقال: عقت إذا عاقك غيرك بالكسر فقط أو الإشمام إلا أن سيبويه جوز في نحو قيل الأوجه الثلاثة من غير احتراز، والجملة تعليل لطلب المغفرة والرحمة، وتصديرها بحرف التحقيق لإظهار كمال النشاط والرغبة في مضمونها قالَ استئناف بياني كأنه قيل: فماذا قال الله تعالى له بعد دعائه؟ فقيل: قال عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ أي شأني أصيب بعذابي من أشاء تعذيبه من غير دخل لغيري فيه. وقرأ الحسن وعمرو الأسود «من أساء» بالسين المهملة ونسبت إلى زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وأنكر بعضهم صحتها وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ أي شأنها أنها واسعة تبلغ كل شيء ما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلا وهو متقلب في الدنيا بنعمتي، وفي نسبة الإصابة إلى العذاب بصيغة المضارع ونسبة السعة إلى الرحمة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 72 بصيغة الماضي إيذان بأن الرحمة مقتضى الذات وأما العذاب فمقتضى معاصي العباد، والمشيئة معتبرة في جانب الرحمة أيضا، وعدم التصريح بها قيل: تعظيما لأمر الرحمة، وقيل: للاشعار بغاية الظهور، ألا ترى إلى قوله تعالى: فَسَأَكْتُبُها فإنه متفرع على اعتبار المشيئة كما لا يخفى، كأنه قيل: فإذا كان الأمر كذلك أي كما ذكر من إصابة عذابي وسعة رحمتي لكل من أشاء فسأثبتها إثباتا خاصا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أي الكفر والمعاصي إما ابتداء أو بعد الملابسة وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ المفروضة عليهم في أموالهم وقيل المعنى يطيعون الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم والظاهر خلافه، وتخصيص إيتاء الزكاة بالذكر مع اقتضاء التقوى له للتعريض بقوم موسى عليه السلام لأن ذلك كان شاقا عليهم لمزيد حبهم للدنيا، ولعل الصلاة إنما لم تذكر مع إنافتها على سائر العبادات وكونها عماد الدين اكتفاء منها بالاتقاء الذي هو عبارة عن فعل الواجبات بأسرها وترك المنهيات عن آخرها وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا كلها كما يفيده الجمع المضاف يُؤْمِنُونَ إيمانا مستمرا من غير إخلال بشيء منها، وتكرير الموصول مع أن المراد به عين ما أريد بالموصول الأول دون أن يقال ويؤمنون بآياتنا عطفا على ما قبله كما سلك في سابقه قيل: لما أشير إليه من القصر بتقديم الجار والمجرور أي هم بجميع آياتنا يؤمنون لا ببعضها دون بعض، وفيه تعريض بمن آمن ببعض وكفر ببعض كقوم موسى عليه السلام. واختلف في توجيه هذا الجواب فقال شيخ الإسلام: لعل الله تعالى حين جعل توبة عبدة العجل بقتلهم أنفسهم وكان الكلام الذي أطمع السبعين في الرؤية في ذلك ضمن موسى عليه السلام دعاءه التخفيف والتيسير حيث قال: وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً أي خصلة حسنة عارية عن المشقة والشدة فإن في القتل من العذاب الشديد ما لا يخفى فأجابه سبحانه بأن عذابي أصيب به من أشاء وقومك ممن تناولته مشيئتي ولذلك جعلت توبتهم مشوبة بالعذاب الدنيوي ورحمتي وسعت كل شيء وقد نال قومك نصيب منها في ضمن العذاب الدنيوي وسأكتب الرحمة خالصة غير مشوبة بالعذاب الدنيوي كما دعوت لمن صفتهم كيت وكيت لا لقومك لأنهم ليسوا كذلك فيكفيهم ما قدر لهم من الرحمة وإن كانت مقارنة العذاب، وعلى هذا فموسى عليه السلام لم يستجب له سؤاله في قومه ومن الله تعالى بما سأله على من آمن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم. وفي بعض الآثار أنه عليه السلام لما أجيب بما ذكر قال: أتيتك يا رب بوفد من بني إسرائيل فكانت وفادتنا لغيرنا. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما دعاء موسى ربه سبحانه فجعل دعاءه لمن آمن بمحمد عليه الصلاة والسلام واتبعه، وفي رواية أخرى رواها جمع عنه سأل موسى ربه مسألة فأعطاه محمدا صلّى الله عليه وسلّم وتلا الآية، لكن لا يخفى أن ما قرره هذا الشيخ بعيد. وقال صاحب الكشف في ذلك: كأنه لما سأل موسى عليه السلام لنفسه ولقومه خير الدارين أجيب بأن عذابي لغير التائبين إن شئت ورحمتي الدنيوية تعم التائب وغيره وأما الجمع بين الرحمتين فهو للمستعدين فإن تاب من دعوت لهم وثبتوا كأعقابهم نالتهم الرحمة الخاصة الجامعة وأثر فيهم دعاؤك وإن داوموا على ما هم فيه بعدوا عن القبول، والغرض ترغيبهم على الثبات على التوبة والعمل الصالح وتحذيرهم عن المعاودة عما فرط منهم مع التخلص إلى ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم والحث على اتباعه أحسن تخلص وحث يحير الألباب ويبدي للمتأمل فيه العجب العجاب، وإلى بعض هذا يشير كلام الزمخشري. وقال العلامة الطيبي في توجيهه: إن هذا الجواب وارد على الأسلوب الحكيم، وقوله سبحانه: عَذابِي إلخ كالتمهيد للجواب، والجواب فَسَأَكْتُبُها إلخ، وذلك أن موسى عليه السلام طلب الغفران والرحمة والحسنة في الدارين لنفسه ولأمته خاصة بقوله: وَاكْتُبْ لَنا وعلله بقوله: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ فأجابه الرب سبحانه بأن تقييدك المطلق ليس من الحكمة فإن عذابي من شأنه أنه تابع لمشيئتي فأمتك لو تعرضوا لما اقتضت الحكمة تعذيب من باشره لا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 73 ينفعهم دعاؤك لهم وان رحمتي من شأنها أن تعم في الدنيا الخلق صالحهم وطالحهم مؤمنهم وكافرهم فالحسنة الدنيوية عامة فلا تختص بأمتك فتخصيصها تحجير للواسع وأما الحسنة الأخروية فهي للموصوفين بكذا وكذا، وجعل فَسَأَكْتُبُها كالقول بالموجب لأنه عليه السلام طلب ما طلب وجعل العلة ما جعل فضم الله تعالى ما ضم، يعني أن الذي يوجب اختصاص الحسنتين معا هذه الصفات المتعددة لا التوبة المجردة، ثم ذكر أن ترتيب هذا على ما قبله بالفاء على منوال قوله تعالى جوابا عن قول إبراهيم عليه السلام: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة: 124] وأيد هذا التقرير بما روي عن الحسن وقتادة وسعت رحمته في الدنيا البر والفاجر وهي يوم القيامة للمتقين خاصة اهـ ما أريد منه، وما ذكره من حديث التحجر في القلب منه شيء فإن الظاهر أن ما في دعاء موسى عليه السلام ليس منه وإنما التحجر في مثل ما أخرجه أحمد. وأبو داود عن جندب عن عبد الله البجلي قال: «جاء أعرابي فأناخ راحلته ثم عقلها وصلى خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم نادى اللهم ارحمني ومحمدا ولا تشرك في رحمتنا أحدا فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: لقد حظرت رحمة واسعة إن الله خلق مائة رحمة فأنزل رحمة يتعاطف بها الخلق جنها وأنسها وبهائمها وعنده تسعة وتسعون» . وأنا أقول: قد يقال: إن موسى عليه السلام إنما طلب على أبلغ وجه المغفرة والرحمة الدنيوية والأخروية له ولقومه وتعليل ذلك بالتوبة مما لا شك في صحته، ولا يفهم من كلامه عليه السلام أنه طلب للقوم كيف كانوا وفي أي حالة وجدوا وعلى أي طريقة سلكوا فإن ذلك مما لا يكاد يقع ممن له أدنى معرفة بربه فضلا عن مثله عليه السلام، وإنما هذا الطلب لهم من حيث إنهم تائبون راجعون إليه عز شأنه، ولا يبعد أن يقال باستجابة دعائه بذلك بل هي أمر مقطوع به بالنسبة إليه صلّى الله عليه وسلّم وكيف يشك في أنه غفر له ورحم وأوتي خير الدارين وهو- هو- وأما بالنسبة إلى قومه فالظاهر أن التائب منهم أوتي خير الآخرة لأن هذه التوبة إن كانت هي التوبة بالقتل فقد جاء عن الزهري أن الله تعالى أوحى إلى موسى بعد أن كان ما كان ما يحزنك؟ أما من قتل منكم فحي يرزق عندي وأما من بقي فقد قبلت توبته فسر بذلك موسى وبنو إسرائيل، وإن كانت غيرها فمن المعلوم أن التوبة تقبل بمقتضى الوعد المحتوم، وخير من قبلت توبته في الآخرة كثير، وأما خير الدنيا فقد نطقت الآيات بأن القوم غرقى فيه، ويكفي في ذلك قوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [البقرة: 47، 122] . وحينئذ فيمكن أن يقال في توجيه الجواب: أنه سبحانه لما رأى من موسى عليه السلام شدة القلق والاضطراب ولهذا بالغ في الدعاء خشية من طول غضبه تعالى على من يشفق عليه من ذلك سكن جل شأنه روعته وأجاب طلبته بأسلوب عجيب، وطريق بديع غريب فقال سبحانه له: عَذابِي أي الذي تخشى أن تصيب بعض نباله التي أرميها بيد جلالي عن قسي إرادتي من دعوت له أصيب به من أشاء فلا يتعين قومك الذين تخشى عليهم ما تخشى لأن يكون غرضا له بعد أن تابوا من الذنب وتركوا فعله وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ إنسانا كان أو غيره مطيعا كان أو غيره فما من شيء إلا وهو داخل فيها سابح في تيارها أو سايح في فيافيها بل ما من معذب إلا ويرشح عليه ما يرشح منها ولا أقل من أدنى لم أعذبه بأشد مما هو فيه مع قدرتي عليه فطب نفسا وقرّ عينا فدخول قومك في رحمة وسعت كل شيء ولم تضق عن شيء أمر لا شك فيه ولا شبهة تعتريه كيف وقد هادوا إلي ووفدوا عليّ أفترى أني أضيق الواسع عليهم وأوجه نبال الخيبة إليهم وأردهم بخفّي حنين فيرجع كل منهم صفر الكفين؟ لا أراني أفعل بل إني سأرحمهم وأذهب عنهم ما أهمهم وأكتب الحظ الأوفر من رحمتي لأخلافهم الذين يأتون آخر الزمان ويتصفون بما يرضيني ويقومون بأعباء ما يراد منهم، وإلى ذلك الإشارة بقوله سبحانه: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ إلخ، ولعل تقديم وصف العذاب دون وصف الرحمة ليفرغ ذهنه عليه السلام مما يخاف منه مع أن في عكس هذا الترتيب ما يوجب انتشار الجزء: 5 ¦ الصفحة: 74 النظم الكريم ووصف أخلاقهم بما وصفوا به لاستنهاض همهم إلى الاتصاف بما يمكن اتصافهم به منه أو إلى الثبات عليه، ولم يصرح في الجواب بحصول السؤال بأن يقال: قد أوتيت سؤلك يا موسى مثلا اختيارا لما هو أبلغ فيه، وهذا الذي ذكرناه وإن كان لا يخلو عن شيء إلا أنه أولى من كثير مما وقفنا عليه من كلام المفسرين وقد تقدم بعضه، وأقول بعد هذا كله: خير الاحتمالات ما تشهد له الآثار وإذا صح الحديث فهو مذهبي فتأمل. والسين في فَسَأَكْتُبُها يحتمل أن تكون للتأكيد، ويحتمل أن تكون للاستقبال كما لا يخفى وجهه على ذوي الكمال الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ الذي أرسله الله تعالى لتبليغ الأحكام النَّبِيَّ أي الذي أنبأ الخلق عن الله تعالى فالأول تعتبر فيه الإضافة إلى الله تعالى والثاني تعتبر فيه الإضافة إلى الخلق، وقدم الأول عليه لشرفه وتقدم إرسال الله تعالى له على تبليغه، وإلى هذا ذهب بعضهم، وجعلوا إشارة إلى أن الرسول والنبي هنا مراد بهما معناهما اللغوي لإجرائهما على ذات واحدة كما أنهما كذلك في قوله تعالى: وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مريم: 51، 54] ، وفسر في الكشاف الرسول بالذي يوحى إليه كتاب والنبي بالذي له معجزة، ويشير إلى الفرق بين الرسول والنبي بأن الرسول من له كتاب خاص والنبي أعم. وتعقبه في الكشف بأن أكثر الرسل لم يكونوا أصحاب كتاب مستقل كإسماعيل ولوط والياس عليهم السلام وكم وكم وكم ثم قال: والتحقيق أن النبي هو الذي ينبىء عن ذاته تعالى وصفاته وما لا تستقل العقول بدرايته ابتداء بلا واسطة بشر، والرسول هو المأمور مع ذلك بإصلاح النوع، فالنبوة نظر فيها إلى الإنباء عن الله تعالى والرسالة إلى المبعوث إليهم، والثاني وإن كان أخص وجودا إلا أنهما مفهومان مفترقان ولهذا لم يكن رسولا نبيا مثل إنسان حيوان اهـ. وفيه مخالفة بينة لما ذكر أولا، ولا حجر في الاعتبار. نعم ما ذكروه مدفوع بأن الفرق المذكور مع تغاير المفهومين على كل حال من عرف الشرع والاستعمال، وأما في الوضع والحقيقة اللغوية فهما عامان. وقد ورد في القرآن بالاستعمالين فلا تعارض بينهما. ولا يرد أن ذكر النبي العام بعد الخاص لا يفيد والمعروف في مثل ذلك العكس، ولا يخفى أن المراد بهذا الرسول النبي نبينا صلّى الله عليه وسلّم الْأُمِّيَّ أي الذي لا يكتب ولا يقرأ، وهو على ما قال الزجاج نسبة إلى أمة العرب لأن الغالب عليهم ذلك. وروى الشيخان وغيرهما عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب» أو إلى أم القرى لأن أهلها كانوا كذلك، ونسب ذلك إلى الباقر رضي الله تعالى عنه أو إلى أمه كأنه على الحالة التي ولدته أمه عليها، ووصف عليه الصلاة والسلام بذلك تنبيها على أن كمال علمه مع حاله إحدى معجزاته صلّى الله عليه وسلّم فهو بالنسبة إليه- بأبي هو وأمي- عليه الصلاة والسلام صفة مدح، وأما بالنسبة إلى غيره فلا، وذلك كصفة التكبر فإنها صفة مدح لله عزّ وجلّ وصفة ذم لغيره. واختلف في أنه عليه الصلاة والسلام هل صدر عنه الكتابة في وقت أم لا؟ فقيل: نعم صدرت عنه عام الحديبية فكتب الصلح وهي معجزة أيضا له صلّى الله عليه وسلّم وظاهر الحديث يقتضيه، وقيل: لم يصدر عنه أصلا وإنما أسندت إليه في الحديث مجازا. وجاء عن بعض أهل البيت رضي الله عنهم أنه صلّى الله عليه وسلّم كان تنطق له الحروف المكتوبة إذا نظر فيها، ولم أر لذلك سندا يعول عليه، وهو صلّى الله عليه وسلّم فوق ذلك. نعم أخرج أبو الشيخ من طريق مجاهد قال حدثني عون بن عبد الله بن عتبة عن أبيه قال: «ما مات النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى قرأ وكتب فذكرت هذا الحديث للشعبي فقال: صدق سمعت أصحابنا يقولون ذلك» وقيل: الأمي نسبة إلى الأم بفتح الهمزة بمعنى القصد لأنه المقصود وضم الهمزة من تغيير النسب، ويؤيده قراءة يعقوب «الأمّي» بالفتح وإن احتملت أن تكون من تغيير النسب أيضا، والموصول في محل جر بدل من الموصول الأول، هو إما بدل كل على أن المراد منه هؤلاء المعهودين أو بعض على أنه عام ويقدر حينئذ منهم، وجوز أن يكون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 75 نعتا له، ويحتمل أن يكون في محل نصب على القطع وإضمار ناصب له، وأن يكون في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وقيل: على أنه مبتدأ خبره جملة يَأْمُرُهُمْ أو أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وكلاهما خلاف المتبادر من النظم الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً باسمه ونعوته الشريفة بحيث لا يشكون أنه هو، ولذلك عدل عن أن يقال: يجدون اسمه أو وصفه مكتوبا عِنْدَهُمْ ظرف لمكتوبا الواقع حالا أو ليجدون، وذكر لزيادة التقرير وأن شأنه عليه الصلاة والسلام حاضرة عندهم لا يغيب عنهم أصلا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ اللذين يعتد بهما بنو إسرائيل سابقا ولا حقا، وكأنه لهذا المعنى اقتصر عليهما وإلا فهو صلّى الله عليه وسلّم مكتوب في الزبور أيضا، أخرج ابن سعد. والدارمي في مسنده. والبيهقي في الدلائل. وابن عساكر عن عبد الله بن سلام قال: «صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في التوراة يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة ولكن يعفو ويصفح ولن يقبضه الله تعالى حتى يقيم به الملة العوجاء حتى يقولوا لا إله إلا الله ويفتح أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا» ، ومثله من رواية البخاري وغيره عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وجاء من حديث أخرجه ابن سعد. وابن عساكر من طريق موسى بن يعقوب الربعي عن سهل مولى خيثمة قال: «قرأت في الإنجيل نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم أنه لا قصير ولا طويل أبيض ذو ضفيرتين بين كتفيه خاتم لا يقبل الصدقة ويركب الحمار. والبعير ويحلب الشاة ويلبس قميصا مرقوعا ومن فعل ذلك فقد برىء من الكبر وهو يفعل ذلك وهو من ذرية إسماعيل اسمه أحمد» . وجاء من خبر أخرجه البيهقي في الدلائل عن وهب بن منبه قال: «إن الله تعالى أوحى في الزبور يا داود إنه سيأتي من بعدك نبي اسمه أحمد ومحمد لا أغضب عليه أبدا ولا يعصيني أبدا وقد غفرت له قبل أن يعصيني ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأمته مرحومة أعطيتهم من النوافل مثل ما أعطيت الأنبياء وافترضت عليهم الفرائض التي افترضت على الأنبياء والرسل حتى يأتوني يوم القيامة ونورهم مثل نور الأنبياء وذلك أني افترضت عليهم أن يتطهروا إلى كل صلاة كما افترضت على الأنبياء قبلهم وأمرتهم بالغسل من الجنابة كما أمرت الأنبياء قبلهم وأمرتهم بالحج كما أمرت الأنبياء قبلهم وأمرتهم بالجهاد كما أمرت الرسل قبلهم يا داود إني فضلت محمدا وأمته على الأمم كلهم، أعطيتهم ست خصال لم أعطها غيرهم من الأمم، لا أؤاخذهم بالخطأ والنسيان وكل ذنب ركبوه على غيره عمد إذا استغفروني منه غفرته وما قدموا لآخرتهم من شيء طيبة به أنفسهم عجلته لهم أضعافا مضاعفة ولهم عندي أضعاف مضاعفة وأفضل من ذلك، وأعطيتهم على المصائب إذا صبروا وقالوا: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [البقرة: 156] الصلاة والرحمة والهدى إلى جنات النعيم، فإن دعوتي استجبت لهم فإما أن يروه عاجلا وإما أن أصرف عنهم سوءا وإما أن أدخره لهم في الآخرة، يا داود من لقيني من أمة محمد يشهد أن لا إله إلا الله وحدي لا شريك لي صادقا بها فهو معي في جنتي وكرامتي ومن لقيني وقد كذب محمدا وكذب بما جاء به واستهزأ بكتابي صببت عليه من قبره العذاب صبا وضربت الملائكة وجهه ودبره عند منشره في قبره ثم أدخله في الدرك الأسفل من النار» إلى غير ذلك من الأخبار الناطقة بأنه صلّى الله عليه وسلّم مكتوب في الكتب الإلهية. والظرفان متعلقان بيجدونه أو بمكتوبا. وذكر الإنجيل قبل نزوله من قبيل ما نحن فيه من ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم والقرآن الكريم قبل مجيئهما. يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ كلام مستأنف، وهو على ما قيل متضمن لتفصيل بعض أحكام الرحمة التي وعد فيما سبق بكتبها إجمالا إذ ما أشارت إليه المتعاطفات من آثار الرحمة الواسعة وجوز كونه في محل نصب على أنه حال مقدرة من مفعول يجدونه أو من المستكن في مكتوبا، وقيل: هو مفسر لمكتوبا أي لما كتب، والمراد بالمعروف قيل الإيمان، وقيل: ما عرف في الشريعة. والمراد بالمنكر ضد ذلك وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 76 عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ فسر الأول بالأشياء التي يستطيبها الطبع كالشحوم، والثاني بالأشياء التي يستخبثها كالدم، فتكون الآية دالة على أن الأصل في كل ما تستطيبه النفس ويستلذه الطبع الحل وفي كل ما تستخبثه النفس ويكرهه الطبع الحرمة إلا لدليل منفصل، وفسر بعضهم الطيب بما طاب في حكم الشرع والخبيث بما خبث فيه كالربا والرشوة. وتعقب بأن الكلام حينئذ يحل ما يحكم بحله ويحرم ما يحكم بحرمته ولا فائدة فيه. وردوه بأنه يفيد فائدة وأي فائدة لأن معناه أن الحل والحرمة بحكم الشرع لا بالعقل والرأي، وجوز بعضهم كون الخبيث بمعنى ما يستخبث طبعا أو ما خبث شرعا وقال كالدم أو الربا ومثل للطيب بالشحم وجعل ذلك مبنيا على اقتضاء التحليل سبق التحريم والشحم كان محرما عند بني إسرائيل، وعلى اقتضاء التحريم سبق التحليل وجعل الدم وأخيه مما حرم على هذا لأن الأصل في الأشياء الحل، ولا يرد أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا [البقرة: 275] لأنه لرد قولهم إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا [البقرة: 275] أو لأن المراد ابقاؤه على حله لمقابلته بتحريم الربا. ودفع بهذا ما توهم من عدم الفائدة وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ أي يخفف عنهم ما كلفوه من التكاليف الشاقة كقطع موضع النجاسة من الثوب أو منه ومن البدن، وإحراق الغنائم، وتحريم السبت، وقطع الأعضاء الخاطئة، وتعين القصاص في العمد والخطأ من غير شرع الدية فإنه وإن لم يكن مأمورا به في الألواح إلا أنه شرع بعد تشديدا عليهم على ما قيل، وأصل الأصر الثقل الذي يأصر صاحبه عن الحراك، والاغلال جمع غل بضم الغين وهي في الأصل كما قال ابن الأثير الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى عنقه ويقال لها جامعة أيضا، ولعل غير الحديد إذا جمع به يد إلى عنق يقال له ذلك أيضا، والمراد منهما هنا ما علمت وهو المأثور عن كثير من السلف، ولا يخفى ما في الآية من الاستعارة. وجوز أن يكون هناك تمثيل، وعن عطاء كانت بنو إسرائيل إذا قامت تصلي لبسوا المسوح وغلوا أيديهم إلى أعناقهم وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها على السارية يحبس نفسه على العبادة وعلى هذا فالأغلال يمكن أن يراد حقيقته، وقرأ ابن عامر «آصارهم» على الجمع وقرأ «آصرهم» بالفتح على المصدر وبالضم على الجمع أيضا فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ أي صدقوا برسالته ونبوته وَعَزَّرُوهُ أي عظموه ووقروه كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقال الراغب: التعزير النصرة مع التعظيم، والتعزير الذي هو دون الحد يرجع إليه لأنه تأديب والتأديب نصرة لأن أخلاق السوء أعداء ولذا قال في الحديث: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما فقيل كيف أنصره ظالما؟ فقال عليه الصلاة والسلام: تكفه عن الظلم» وأصله عند غير واحد المنع والمراد منعه حتى لا يقوى عليه عدو، وقرىء «عزروه» بالتخفيف وَنَصَرُوهُ على أعدائه في الدين وعطف هذا على ما قبله ظاهر على ما روي عن الحبر وكذا على ما قاله الجمع إذ الأول عليه من قبيل درء المفاسد وهذا من قبيل جلب المصالح، ومن فسر الأول بالتعظيم مع التقوية أخذا من كلام الراغب قال هنا نصروه لي أي قصدوا بنصره وجه الله تعالى وإعلاء كلمته فلا تكرار خلافا لمن توهمه وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ وهو القرآن وعبر عنه بالنور لظهوره في نفسه بإعجازه وإظهاره لغيره من الأحكام وصدق الدعوى فهو أشبه شيء بالنور الظاهر بنفسه والمظهر لغيره بل هو نور على نور، والظرف اما متعلق بأنزل والكلام على حذف مضاف أي مع نبوته أو إرساله عليه السلام لأنه لم ينزل معه وإنما نزل مع جبريل عليه السلام. نعم استباؤه أو إرساله كان مصحوبا بالقرآن مشفوعا به وإما متعلق باتبعوا على معنى شاركوه في اتباعه وحينئذ لم يحتج إلى تقدير، وقد يعلق به على معنى اتبعوا القرآن مع اتباعهم النبي صلّى الله عليه وسلّم إشارة إلى العمل بالكتاب والسنة، وجوز أن يكون في موضع الحال من ضمير اتبعوا أي اتبعوا النور مصاحبين له في اتباعه وحاصله ما ذكر في الاحتمال الثاني، وأن يكون حالا مقدرة من نائب فاعل أنزل. وفي مجمع البيان أن مع بمعنى على وهو متعلق بأنزل ولم يشتهر وروي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 77 ذلك، وقال بعضهم: هي هنا مرادفة لعند وهو أحد معانيها المشهورة إلا أنه لا يخفى بعده وإن قيل حاصل المعنى حينئذ أنزل عليه أُولئِكَ أي المنعوتون بتلك النعوت الجليلة هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي هم الفائزون بالمطلوب لا المتصفون بأضداد صفاتهم، وفي الإشارة إشارة إلى علية تلك الصفات للحكم، وكاف البعد للإيذان ببعد المنزلة وعلو الدرجة في الفضل والشرف، والمراد من الموصول المخبر عنه بهذه الجملة عند ابن عباس رضي الله تعالى عنه اليهود الذين آمنوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: ما يعمهم وغيرهم من أمته عليه الصلاة والسلام المتصفين بعنوان الصلة إلى يوم القيامة والاتصاف بذلك لا يتوقف على إدراكه صلّى الله عليه وسلّم كما لا يخفى وهو الأولى عندي. وادعى بعضهم أن المراد من الموصول في قوله تعالى: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ المعنى الأعم أيضا وجعله ابن الخازن قول جمهور المفسرين، وفيه ما فيه ومما يقضي منه العجب كون المراد منه اليهود الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام، والجملة متفرعة على ما تقدم من نعوته صلّى الله عليه وسلّم الجليلة الشأن، وقيل: على كتب الرحمة لمن مر، وذكر شيخ الإسلام أنها تعليم لكيفية اتباعه عليه السلام وبيان علو رتبة متبعيه واغتنامهم مغانم الرحمة الواسعة في الدارين إثر بيان نعوته الجليلة والإشارة إلى إرشاده عليه الصلاة والسلام وإياهم بما في ضمن يَأْمُرُهُمْ إلخ، وجعل الحصر المدلول عليه بقوله سبحانه: أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ بالنسبة إلى غيرهم من الأمم ثم قال: فيدخل فيهم قوم موسى عليه السلام دخولا أوليا حيث لم ينجوا عما في توبتهم من المشقة الهائلة، وهو مبني على ما سلكه في تفسير الآيات من أول الأمر ولا يصفو عن كدر قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً لما حكى ما في الكتابين من نعوته صلّى الله عليه وسلّم وشرف من يتبعه على ما عرفت، أمر عليه الصلاة والسلام بأن يصدع بما فيه تبكيت لليهود الذين حرموا أتباعه وتنبيه لسائر الناس على افتراء من زعم منهم أنه صلّى الله عليه وسلّم مرسل إلى العرب خاصة، وقيل: إنه أمر له عليه الصلاة والسلام ببيان أن سعادة الدارين المشار إليهما فيما تقدم غير مختصة بمن اتبعه من أهل الكتابين بل شاملة لكل من يتبعه كائنا من كان وذلك ببيان عموم رسالته صلّى الله عليه وسلّم وهي عامة للثقلين كما نطقت به النصوص حتى صرحوا بكفر منكره وما هنا لا يأبى ذلك، والمفهوم فيه غير معتبر عند القائل به لفقد شرطه وهو ظاهر الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ في موضع نصب بإضمار أعني أو نحوه أو رفع على إضمار هو. وجوز أن يكون في موضع جر على أنه صفة للاسم الجليل أو بدل منه، واستبعد ذلك أبو البقاء لما فيه من الفصل بينهما، وأجيب بأنه مما ليس بأجنبي وفي حكم ما لا يكون فيه فصل ورجح الأول بالفخامة إذ يكون عليه جملة مستقلة مؤذنة بأن المذكور علم في ذلك أي اذكر من لا يخفى شأنه عند الموافق والمخالف، وقيل: هو مبتدأ خبره لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وهو على الوجوه الأول بيان لما قبله وجعله الزمخشري مع ذلك بدلا من الصلة وقد نص على جواز هذا النحو سيبويه وذكر العلامة أن سوق كلامه يشعر بأنه بدل استعمال، ووجه البيان أن من ملك العالم علويه وسفليه هو الإله فبينهما تلازم يصحح جعل الثاني مبينا للأول وليس المراد بالبيان الإثبات بالدليل حتى يقال الظاهر العكس لأن الدليل على تفرده سبحانه بالألوهية ملكه للعالم بأسره مع أنه يصح أن يجعل دليلا عليه أيضا فيقال الدليل على أنه جل شأنه المالك المتصرف في ذلك انحصار الألوهية فيه إذ لو كان إله غيره لكان له ذلك، واعترض أبو حيان القول بالبدلية بأن إبدال الجمل من الجمل غير المشتركة في عامل لا يعرف، وتعقب بأن أهل المعاني ذكروه وتعريف التابع بكل ثان أعرب بإعراب سابقه ليس بكلي، وقوله سبحانه: يُحيِي وَيُمِيتُ لزيادة تقرير إلهيته سبحانه، وقيل: لزيادة اختصاصه تعالى بذلك وله وجه وجيه والفاء في قوله عز شأنه: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ لتفريع الأمر على ما تقرر من رسالته صلّى الله عليه وسلّم وإيراد نفسه الكريمة عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة على طريق الالتفات إلى الغيبة للمبالغة في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 78 إيجاب الامتثال ووصف الرسول بقوله تعالى: النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ لمدحه ولزيادة تقرير أمره وتحقيق أنه المكتوب في الكتابين الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ ما أنزل عليه وعلى سائر الرسل عليهم السلام من كتبه ووحيه، وقرىء «وكلمته» على إرادة الجنس أو القرآن أو عيسى عليه السلام كما روي ذلك عن مجاهد تعريضا لليهود تنبيها على أن من لم يؤمن به عليه السلام لم يعتبر إيمانه، والإتيان بهذا الوصف بحمل أهل الكتابين على الامتثال بما أمروا به والتصريح بالإيمان بالله تعالى للتنبيه على أن الإيمان به سبحانه لا ينفك عن الإيمان بكلماته ولا يتحقق إلا به ولا يخفى ما في هذه الآية من إظهار النصفة والتفادي عن العصبية للنفس وجعلوا ذلك نكتة للالتفات وإجراء هاتيك الصفات وَاتَّبِعُوهُ أي في كل ما يأتي وما يذر من أمور الدين. لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ علة للفعلين أو حال من فاعليهما أي رجاء لاهتدائكم إلى المطلوب أو راجين له. وفي تعليقه بهما إيذان بأن من صدقه ولم يتبعه بالتزام شرعه فهو بعد في مهامه الضلال وَمِنْ قَوْمِ مُوسى يعني بني إسرائيل أُمَّةٌ جماعة عظيمة يَهْدُونَ الناس بِالْحَقِّ أي محقين على أن الباء للملابسة، والجار والمجرور في موضع الحال أو بكلمة الحق على أن الباء للآلة والجار لغو وَبِهِ أي بالحق يَعْدِلُونَ في الأحكام الجارية فيما بينهم، وصيغة المضارع في الفعلين للايذان بالاستمرار التجددي، واختلف في المراد منهم فقيل أناس كانوا كذلك على عهد موسى صلّى الله عليه وسلّم والكلام مسوق لدفع ما عسى يوهمه تخصيص كتب الرحمة والتقوى والإيمان بالآيات بمتبعي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حرمان أسلاف قوم موسى عليه السلام من كل خير وبيان أن كلهم ليسوا كما حكيت أحوالهم بل منهم الموصوفون بكيت وكيت، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية. واختار هذا شيخ الإسلام ولا يبعد عندي أن يكون ذلك بيانا لقسم آخر من القوم مقابل لما ذكره موسى عليه السلام في قوله: أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا فيه تنصيص على أن من القوم من لم يفعل، وقيل: أناس وجدوا على عهد نبينا صلّى الله عليه وسلّم موصوفون بذلك كعبد الله بن سلام وأضرابه ورجحه الطيبي بأنه أقرب الوجوه، وذلك أنه تعالى لما أجاب عن دعاء موسى عليه السلام بقوله تعالى: فَسَأَكْتُبُها إلى قوله سبحانه: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ إلخ ثم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يصدع بما فيه تبكيت لليهود وتنبيه على افترائهم فيما يزعمونه في شأنه عليه السلام مع إظهار النصفة وذلك بقوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إلخ وقوله سبحانه: فَآمِنُوا إلخ عقب ذلك بقوله عزّ شأنه: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى إلخ، والمعنى أن بعض هؤلاء الذين حكينا عنهم ما حكينا آمنوا وأنصفوا من أنفسهم يهدون الناس إلى أنه عليه الصلاة والسلام الرسول الموعود ويقولون لهم: هذا الرسول النبي الأمي الذي نجده مكتوبا عندنا في التوراة والإنجيل ويعدلون في الحكم لا يجورون ولكن أكثرهم ما أنصفوا ولبسوا الحق بالباطل وكتموه وجاروا في الأحكام فيكون ذكر هذه الفرقة تعريضا بالأكثر. واعترض بأن الذين آمنوا من قوم موسى على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانوا قليلين ولفظ أمته يدل على الكثرة، وأيضا إن هؤلاء قد مر ذكرهم فيما سلف، وأجيب بأن لفظ الأمة قد يطلق على القليل لا سيما إذا كان له شأن بل قد يطلق على الواحد إذا كان كذلك كما في قوله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النحل: 120] وبأن ذكرهم هنا لما أشير إليه من النكتة لا يأبى ذكرهم فيما سلف لغير تلك النكتة وتكرار الشيء الواحد لاختلاف الأغراض سنة مشهورة في الكتاب على أنه قد قيل: إنهم فيما تقدم قد وصفوا بما هو ظاهر في أنهم مهتدون وهنا قد وصفوا بما هو ظاهر في أنهم هادون فيحصل من الذكرين أنهم موصوفون بالوصفين. نعم يبقى الكلام في نكتة الفصل ولعلها لا تخفى على المتدبر، وقيل هم قوم من بني إسرائيل وجدوا بين موسى ونبينا محمد عليهما الصلاة والسلام وهم الآن موجودون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 79 أيضا، فقد أخرج ابن جرير وغيره عن ابن جريج أنه قال: بلغني أن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا وكانوا اثني عشر سبطا تبرأ سبط منهم مما صنعوا واعتذروا وسألوا الله أن يفرق بينهم وبينهم ففتح الله تعالى لهم نفقا في الأرض فساروا فيه حتى خرجوا من وراء الصين فهم هنالك حنفاء يستقبلون قبلتنا، وإليهم الإشارة كما قال ابن عباس بقوله تعالى: وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً [الإسراء: 104] وفسر وعد الآخرة بنزول عيسى عليه السلام وقال: إنهم ساروا في السرب سنة ونصفا. وذكر مقاتل كما روى أبو الشيخ أن الله تعالى أجرى معهم نهرا وجعل لهم مصباحا من نور بين أيديهم وأن أرضهم التي خرجوا إليها تجتمع فيها الهوام والبهائم والسباع مختلطين وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أتاهم ليلة المعراج ومعه جبرئيل عليه السلام فآمنوا به وعلمهم الصلاة، وعن الكلبي والضحاك والربيع أنه عليه الصلاة والسلام علمهم الزكاة وعشر سور من القرآن نزلت بمكة وأمرهم أن يجمعوا ويتركوا السبت وأقرأه سلام موسى عليه السلام فرد النبي عليه الصلاة والسلام، السلام. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال بينكم وبينهم نهر من رمل يجري، وضعف هذه الحكاية ابن الخازن وأنا لا أراها شيئا ولا أظنك تجد لها سندا يعول عليه ولو ابتغيت نفقا في الأرض أو سلما في السماء. هذا ومن باب الإشارة في الآيات قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي دون رؤيتي على ما يقوله نفاة الرؤية فَخُذْ ما آتَيْتُكَ بالتمكين وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ بالاستقامة في القيام بحق العبودية التي لا مقام أعلى منها لا تدعني إلا بيا عبدها. فإنه أشرف أسمائي، وبالشكر تزداد النعم كما نطق بذلك الكتاب وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ أي أظهرنا نقوش استعداده في ألواح تفاصيل وجوده من الروح والقلب والعقل والفكر والخيال فظهر فيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ أي بعزم لتكون من ذويه وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها أي أكثرها نفعا وهي العزائم سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ أي عاقبة الذين لا يأخذون بذلك سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وهم الذين في مقام النفس فيكون تكبرهم حجابا لهم عن آيات الله تعالى وأما المتكبرون بالحق وهم الذين فنيت صفاتهم وظهرت عليهم صفات مولاهم فليسوا بمحجوبين ولا يعد تكبرهم مذموما لأنه ليس تكبرهم حقيقة وإنما حظهم منه كونهم مظهرا له الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حيث حجبوا بصفاتهم وأفعالهم حبطت أعمالهم فلا تقربهم شيئا وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا صنعه لهم السامري وكان من قوم يعبدون العجل أو ممن رآهم فوقع في قلبه لسوء استعداده حبه وأضمر عبادته واختار صياغته من حليهم ليكون ميلهم إليه أتم لأن قلب الإنسان يميل حيث ماله سيّما إذا كان ذهبا أو فضة، وكثير من الناس اليوم عبيد الدرهم والدينار وهما العجل المعنوي لهم وإن لم يسجدوا له وأكثر الأقوال أن ذلك العجل صار ذا لحم ودم إليه الإشارة بقوله تعالى: جَسَداً لَهُ خُوارٌ وفي كلام الشيخ الأكبر قدس سره أنه صار ذا روح بواسطة الترب الذي وطئه الروح الأمين ولم يصرح بكونه ذا لحم ودم وَأَلْقَى الْأَلْواحَ أي ذهل من شدة الغضب عنها وتجافى عن حكم ما فيها ونسيان ما يستحسن من الحلم مثلا عند الغضب مما يجده كل أحد من نفسه وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يجره إليه ظنا أنه قصر في كفهم. قالَ ابْنَ أُمَّ ناداه بذلك لغلبة الرحمة عليه، وتأويل ذلك في الأنفس على ما قاله بعض المؤولين أن سامري الهوى بعد توجه موسى عليه السلام الروح لميقات مكالمة الحق اتخذ من حلي زينة الدنيا ورعونات البشرية التي استعارها بنو إسرائيل صفات القلب من قبط صفات النفس معبودا يتعجلون إليه له خوار يدعون الخلق به إلى نفسه أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ بما ينفعهم ولا يهديهم سبيلا إلى الحق اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ حيث عدلوا عن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 80 عبادة الحق إلى عبادة غيره في نظرهم وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ أي ندموا عند رجوع موسى الروح قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا بجذبات العناية وَيَغْفِرْ لَنا بأن يستر صفاتنا بصفاته سبحانه وتعالى لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ رأس مال هذه النشأة وهو الاستعداد وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ وهم الأوصاف الإنسانية غَضْبانَ مما عبدت صفات القلب عجل الدنيا أَسِفاً على ما فات لها من عبادة الحق قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي حيث لم تسيروا سيري أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ بالرجوع إلى الفاني من غير أمره تعالى وَأَلْقَى الْأَلْواحَ أي ما لاح له من اللوائح الربانية عند استيلاء الغضب الطبيعي وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ وهو القلب يجره إليه قسرا، قالَ ابْنَ أُمَّ ناداه بذلك مع أنه أخوه من أبيه وهو عالم الأمر وأمه وهو عالم الخالق لأنهما في عالم الخلق إِنَّ الْقَوْمَ أي أوصاف البشرية اسْتَضْعَفُونِي عند غيبتك وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي يزيلون مني حياة استعدادي بالكلية فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وهم- هم.، وهذا ما يقتضيه مقام الفرق، قال: رب اغفر لي ولأخي استر صفاتنا وأدخلنا في رحمتك بإفاضة الصفات الحقة علينا وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ لأن كل رحمة فهو شعاع نور ورحمتك إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ أي عجل الدنيا إلها سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وهو عذاب الحجاب وذلة في الحياة الدنيا باستعباد هذا الفاني المدني لهم وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ الذين يفترون على الله تعالى فيثبتون وجود لما سواه، وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا رجعوا إليه سبحانه وتعالى بمجاهدة نفوسهم وإفنائهم إن ربك من بعدها لغفور فيستر صفاتهم رحيم فيفيض عليهم من صفاتهم ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح الربانية، وفي نسختها هدى إرشاد إلى الحق وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ يخافون لحسن استعدادهم، ويقال في قوله سبحانه وتعالى: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا إن موسى عليه السلام اختار سبعين رجلا من أشراف قومه ونجبائهم أهل الاستعداد والصفاء والإرادة والطلب والسلوك فلما أخذتهم الرجفة أي رجفة البدن التي هي من مبادي صعقة الفناء عند طريان بوارق الأنوار وظهور طوالع تجليات الصفات من اقشعرار الجسد وارتعاده وكثيرا ما تعرض هذه الحركة للسالكين عند الذكر أو سماع القرآن أو ما يتأثرون به حتى تكاد تتفرق أعضاؤهم، وقد شاهدنا ذلك في الخالدين من أهل الطريقة النقشبندية، وربما يعتريهم في صلاتهم صياح معه فمنهم من يستأنف صلاته لذلك ومنهم من لا يستأنف، وقد كثر الإنكار عليهم وسمعت بعض المنكرين يقولون: إن كانت هذه الحالة مع الشعور والعقل فهي سوء أدب ومبطلة للصلاة قطعا وإن كانت مع عدم شعور وزوال عقل فهي ناقضة للوضوء ونراهم لا يتوضؤون، وأجيب بأنها غير اختيارية مع وجود العقل والشعور، وهي كالعطاس والسعال ومن هنا لا ينتقض الوضوء بل ولا تبطل الصلاة، وقد نص بعض الشافعية أن المصلي لو غلبه الضحك في الصلاة لا تبطل صلاته ويعذر بذلك فلا يبعد أن يلحق ما يحصل من آثار التجليات الغير الاختيارية بما ذكر ولا يلزم من كونه غير اختياري كونه صادرا من غير شعور فإن حركة المرتعش غير اختيارية مع الشعور بها، وهو ظاهر فلا معنى للإنكار. نعم كان حضرة مولانا الشيخ خالد قدس سره يأمره من يعتريه ذلك من المريدين بالوضوء واستئناف الصلاة سدا لباب الإنكار، والحق أن ما يعتري هذه الطائفة غير ناقض الوضوء لعدم زوال العقل معه لكنه مبطل للصلاة لما فيه من الصياح الذي يظهر به حرفان مع أمور تأباها الصلاة ولا عذر لمن يعتريه ذلك إلا إذا ابتلي به بحيث لم يخل زمن من الوقت يسع الصلاة بدونه فإنه يعذر حينئذ ولا قضاء عليه إذا ذهب منه ذلك الحال كمن به حكّة لا يصبر معها على عدم الحك. وقد نص الجد عليه الرحمة في حواشيه على شرح الحضرمية للعلامة ابن حجر في صورة ابتلي بسعال مزمن على نحو ذلك، ثم قال: فرع لو ابتلي بذلك وعلم من عادته أن الحمام يسكنه عنه مدة تسع الصلاة وجب عليه دخوله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 81 حيث وجد أجرة الحمام فاضلة عما يعتبر في الفطرة وإن فاتته الجماعة وفضيلة أول الوقت انتهى. نعم ذكر عليه رحمة الله تعالى في الفعل الكثير المبطل للصلاة وهو ثلاثة أفعال أنه لو ابتلي بحركة اضطرارية نشأ عنها عمل كثير فمعذور، وقال أيضا: إنه لا يضر الصوت الغير المشتمل على النطق بحرفين متواليين من أنف أو فم وإن اقترنت به همهمة شفتي الأخرس ولو لغير حاجة وإن فهم الفطن كلاما أو قصد محاكاة بعض أصوات الحيوانات إن لم يقصد التلاعب وإلا بطلت، وينبغي التحري في هؤلاء القوم فإن حالهم في ذلك متفاوت لكن أكثر ما شاهدناه على الطرز الذي ذكرناه، وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من الكتب الفقهية. قال موسى: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ وذلك من شدة غلبة الشوق، ولَوْ هذه للتمني، أتهلكنا بعذاب الحجاب والحرمان بما فعل السفهاء من عبادة العجل إن هي إلا فتنتك لا مدخل فيها لغيرك، وهذا مقتضى مقام تجلي الأفعال، فاغفر لنا ذنوب صفاتنا وذواتنا كما غفرت ذنوب أفعالنا، وارحمنا بإفاضة أنوار شهودك ورفع حجاب الآنية بوجودك، واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وهي حسنة الاستقامة بالبقاء بعد الفناء، وفي الآخرة حسنة المشاهدة، والكلام في بقية الكلام لا يخفى على من له أدنى ذوق. خلا أن بعضهم أول العذاب في قوله سبحانه وتعالى: عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ بعذاب الشوق المخصوص الذي يصيب أهل العناية من الخواص وهو الرحمة التي لا يكتنه كنهها ولا يقدر قدرها وإنها لأعز من الكبريت الأحمر، وأهل الظاهر يرونه بعيدا والقوم يقولون نراه قريبا، وقالوا: الأمي نسبة إلى الأم لكن على حد أحمري، وقيل: للنبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك لأنه أم الموجودات وأصل المكنونات، واختبر هذا اللفظ لما فيه من الإشارة إلى الرحمة والشفقة وهو الذي جاء رحمة للعالمين وإنه عليه الصلاة والسلام لأشفق على الخلق من الأم بولدها إذ له صلّى الله عليه وسلّم الحظ الأوفر من التخلق بأخلاق الله تعالى وهو سبحانه أرحم الراحمين، وذكروا أن أتباعه من حيث النبوة الخواص ومن حيث الأمية خواص الخواص ومن حيث الرسالة هؤلاء المذكورون كلهم والعوام نسأل الله تعالى أن يوفقنا لاتباعه صلّى الله عليه وسلّم في سائر شؤونه. وَقَطَّعْناهُمُ أي قوم موسى عليه السلام لا الأمة المذكورة كما يوهمه القرب «وقطع» يقرأ مشددا ومخففا والأول هو المتواتر ويتعدى لواحد وقد يضمن معنى صير فيتعدى لاثنين فقوله تعالى: اثْنَتَيْ عَشْرَةَ حال أو مفعول ثاني، أي فرقناهم معدودين بهذا العدد أو صيرناهم اثنتي عشرة أمة يتميز بعضها عن بعض، وقوله سبحانه وتعالى: أَسْباطاً كما قال ابن الحاجب في شرح المفصل بدل من العدد لا تمييز له وإلا لكانوا ستة وثلاثين، وعليه فالتمييز محذوف أي فرقة أو نحوه، قال الحوفي: إن صفة التمييز أقيمت مقامه والأصل فرقة أسباطا، وجوز أن يكون تمييزا لأنه مفرد تأويلا، فقد ذكروا أن السبط مفردا ولد الولد أو ولد البنت أو الولد أو القطعة من الشيء أقوال ذكرها ابن الأثير، ثم استعمل في كل جماعة من بني إسرائيل كالقبيلة في العرب، ولعله تسمية لهم باسم أصلهم كتميم، وقد يطلق على كل قبيلة منهم أسباط أيضا كما غلب الأنصار على جمع مخصوص فهو حينئذ بمعنى الحي والقبيلة فلهذا وقع موقع المفرد في التمييز وهذا كما ثنى الجمع في قول أبي النجم يصف رمكة تعودت الحرب: تبقلت في أول التبقل ... بين رماحي مالك ونهشل وتأنيث اثنتي مع أن المعدود مذكر وما قبل الثلاثة يجري على أصل التأنيث والتذكير لتأويل ذلك بمؤنث وهو ظاهر مما قررنا، وقرأ الأعمش وغيره «عشرة» بكسر الشين وروي عنه فتحها أيضا والكسر لغة تميم والسكون لغة الحجاز، وقوله سبحانه: أُمَماً بدل بعد بدل من اثنتي عشرة لا من أسباط على تقدير أن يكون بدلا لأنه لا يبدل من البدل، وجوز كونه بدلا منه إذا لم يكن بدلا ونعتا إن كان كذلك أو لم يكن وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ حين استولى عليه العطش في التيه أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ تفسير لفعل الإيحاء «فإن» بمعنى أي، وجوز الجزء: 5 ¦ الصفحة: 82 أبو البقاء كونها مصدرية فَانْبَجَسَتْ أي انفجرت كما قال ابن عباس وزعم الطبرسي أن الانبجاس خروج الماء بقلة والانفجار خروجه بكثرة، والتعبير بهذا تارة وبالأخرى أخرى باعتبار أول الخروج وما انتهى إليه، والعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي فضرب فانبجست وحذف المعطوف عليه لعدم الإلباس وللإشارة إلى سرعة الامتثال حتى كأن الإيحاء وضربه أمر واحد وأن الانبجاس بأمر الله تعالى حتى كأن فعل موسى عليه السلام لا دخل فيه. وذكر بعض المحققين أن هذه الفاء على ما قرر فصيحة وبعضهم يقدر شرطا في الكلام فإذا ضربت فقد انبجست مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً وهو غير لائق بالنظم الجليل قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ أي سبط، والتعبير عنهم بذلك للإيذان بكثرة كل واحد من الأسباط، وأناس إما جمع أو اسم جمع، وذكر السعد أن أهل اللغة يسمون اسم الجمع جمعا، وعَلِمَ بمعنى عرف الناصب مفعولا واحد أي قد عرف مَشْرَبَهُمْ أي عينهم الخاصة بهم، ووجه الجمع ظاهر وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ أي جعلنا ذلك بحيث يلقي عليهم ظله ليقيهم من حر الشمس وكان يسير بسيرهم ويسكن بإقامتهم وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى أي الترنجبين والسماني فكان الواحد منهم يأخذ ما يكفيه من ذلك كُلُوا أي قلنا أو قائلين لهم كلوا. مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ أي مستلذاته، وما موصولة كانت أو موصوفة عبارة عن المن والسلوى وَما ظَلَمُونا عطف على محذوف للايجاز والإشعار بأنه أمر محقق غني عن التصريح أي فظلموا بأن كفروا بهذه النعم الجليلة وما ظلمونا بذلك وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالكفر إذ لا يتخطاهم ضرره، وتقديم المفعول لإفادة القصر الذي يقتضيه النفي السابق، وفي الكلام من التهكم والإشارة إلى تماديهم على ما فيهم ما لا يخفى وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ معمول لا ذكر، وإيراد الفعل هنا مبنيا للمفعول جريا على سنن الكبرياء مع الإيذان بأن الفاعل غني عن التصريح أي اذكر لهم وقت قولنا لأسلافهم اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ القريبة منكم وهي بيت المقدس أو أريحا، والنصب مبني على المفعولية كسكنت الدار أو على الظرفية اتساعا والتعبير بالسكنى هنا للايذان بأن المأمور به في البقرة الدخول بقصد الإقامة أي أقيموا في هذه القرية وَكُلُوا مِنْها أي مطاعمها وثمارها أو منها نفسها على أن من تبعيضية أو ابتدائية حَيْثُ شِئْتُمْ أي من نواحيها من غير أن يزاحمكم أحد وجيء بالواو هنا وبالفاء في البقرة لأنه قيل هناك ادخلوا فحسن ذكر التعقيب معه وهنا اسكنوا والسكنى أمر ممتد والأكل معه لا بعده، وقيل: إنه إذا تفرع المسبب عن السبب اجتمعا في الوجود فيصح الإتيان بالواو والفاء، وفيه أن هذا إنما يدل على صحة العبارتين وليس السؤال عن ذلك، وذكر رَغَداً [البقرة: 35، 58] هناك لأن الأكل في أول الدخول يكون ألذ وبعد السكنى واعتباره لا يكون كذلك وقيل: إنه اكتفى بالتعبير باسكنوا عن ذكره لأن الأكل المستمر من غير مزاحم لا يكون إلا رغدا واسعا، وإلى الأول ذهب صاحب اللباب، ويرد على القولين أنه ذكر رَغَداً مع الأمر بالسكنى في قصة آدم عليه السلام، ولعل الأمر في ذلك سهل وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً مر الكلام فيه في البقرة غير أن ما فيها عكس ما هنا في التقديم والتأخير ولا ضير في ذلك لأن المأمور به هو الجمع بين الأمرين من غير اعتبار الترتيب بينهما، وقال القطب: فائدة الاختلاف التنبيه على حسن تقديم كل من المذكورين على الآخر لأنه لما كان المقصود منهما تعظيم الله تعالى وإظهار الخشوع والخضوع لم يتفاوت الحال في التقديم والتأخير نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ جزم في جواب الأمر. وقرأ نافع وابن عامر ويعقوب «تغفر» بالتاء والبناء للمفعول وخَطِيئاتِكُمْ بالرفع والجمع غير ابن عامر فإنه وحد، وقرأ أبو عمرو «خطاياكم» كما في سورة البقرة، وبين القطب فائدة الاختلاف بين ما هناك وبين ما هنا على القراءة المشهورة بأنها الإشارة إلى أن هذه الذنوب سواء كانت قليلة أو كثيرة فهي مغفورة بعد الإتيان بالمأمور به، وطرح الواو هنا من قوله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 83 سبحانه وتعالى: سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ إشارة إلى أن هذه الزيادة تفضل محض ليس في مقابلة ما أمروا به كما قيل. والمراد أن امتثالهم جازاه الله تعالى بالغفران وزاد عليه وتلك الزيادة فضل محض منه تعالى فقد يدخل في الجزاء صورة لترتبته على فعلهم وقد يخرج عنه لأنه زيادة على ما استحقوه، ولذا قرن بالسين الدالة على أنه وعد وتفضل، ومفعول نزيد محذوف أي ثوابا وزيادة منهم في قوله تعالى شأنه: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ لزيادة البيان أي بدل الذي ظلموا من هؤلاء بما أمروا به من التوبة والاستغفار حيث أعرضوا عنه ووضعوا موضعه قَوْلًا آخر مما لا خير فيه غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ وأمروا بقوله وغَيْرَ نعت للقول وصرح بالمغايرة مع دلالة التبديل عليها تحقيقا للمخالفة وتنصيصا على المغايرة من كل وجه فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ أثر ما فعلوا ما فعلوا من غير تأخير رِجْزاً مِنَ السَّماءِ عذابا كائنا منها وهو الطاعون في رواية. بِما كانُوا يَظْلِمُونَ أي بسبب ظلمهم المستمر السابق واللاحق، وهذا بمعنى ما في البقرة لأن ضمير عليهم للذين ظلموا والإرسال من فوق إنزال، والتصريح بهذا التعليل لما أن الحكم هاهنا مرتب على المضمر دون الموصول بالظلم كما في البقرة، وأما التعليل بالفسق بعد الإشعار بعلية الظلم هناك فللإيذان بأن ذلك فسق وخروج عن الطاعة وغلو في الظلم وأن تعذيبهم بجميع ما ارتكبوا من القبائح كما قيل. وقال القطب في وجه المغايرة: إن الإرسال مشعر بالكثرة بخلاف الإنزال فكأنه أنزل العذاب القليل ثم جعل كثيرا وإن الفائدة في ذكر الظلم والفسق في الموضعين الدلالة على حصولهما فيهم معا، وقد تقدم لك في وجوه المغايرة بين آية البقرة وهذه الآية ما ينفعك تذكره فتذكر وَسْئَلْهُمْ عطف على اذكر المشار إليه فيما تقدم آنفا، والخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وضمير الغيبة لمن بحضرته عليه الصلاة والسلام من نسل اليهود أي واسأل اليهود المعاصرين لك سؤال تقريع وتقرير بتقدم تجاوزهم لحدود الله تعالى، والمراد اعلامهم بذلك لأنهم كانوا يخفونه، وفي الاطلاع عليه مع كونه عليه الصلاة والسلام ليس ممن مارس كتبهم أو تعلمه من علمائهم ما يقضي بأن ذلك عن وحي فيكون معجزة شاهدة عليهم عَنِ الْقَرْيَةِ أي عن خبرها وحالها وما وقع بأهلها من ثالثة الأثافي، والمراد بالسؤال عن ذلك ما يعم السؤال عن النفس وعن الأهل أو الكلام على تقدير مضاف، والمراد عن حال أهل القرية، وجوز التجوز فيها، وهي عند ابن عباس وابن جبير- أيلة- قرية بين مدين والطور. وعن ابن شهاب هي طبرية، وقيل: مدين وهي رواية عن الحبر، وعن ابن زيد أنها مقتا بين مدين وعينونا الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ أي قريبة منه مشرفة على شاطئه إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ أي يظلمون ويتجاوزون حدود الله تعالى بالصيد يوم السبت أو بتعظيمه، وإذ بدل من المسئول عنه بدل اشتمال أو ظرف للمضاف المصدر، قيل: واحتمال كونه ظرفا لكانت أو حاضرة ليس بشيء إذ لا فائدة بتقييد الركون أو الحضور بوقت العدوان وضمير يعدون للأهل المقدر أو المعلوم من الكلام، وقيل: إلى القرية على سبيل الاستخدام، وقرىء «يعدون» بمعنى يعتدون أدغمت التاء في الداء ونقلت حركتها إلى العين ويَعْدُونَ من الإعداد حيث كانوا يعدون آلات الصيد يوم السبت وهم منهيون عن الاشتغال فيه بغير العبادة إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ ظرف ليعدون أو بدل بعد بدل، وإلى الأول ذهب أكثر المعربين، وهو الأولى لأن السؤال عن عدوانهم أبلغ في التقريع، وحيتان جمع حوت أبدلت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها كنون ونينات لفظا ومعنى وإضافتها إليهم باعتبار أن المراد الحيتان الكائنة في تلك الناحية التي هم فيها، وقيل: للإشعار باختصاصها بهم لاستقلالها بما لا يكاد يوجد في سائر أفراد الجنس من الخواص الخارقة للعادة، ولا يخفى بعده يَوْمَ سَبْتِهِمْ ظرف لتأتيهم أي تأتيهم يوم تعظيمهم لأمر السبت، وهو مصدر سبتت اليهود إذا عظمت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 84 يوم السبت بترك العمل والتفرغ للعبادة فيه، وقيل: اسم لليوم والإضافة لاختصاصهم بأحكام فيه، ويؤيد الأول قراءة عمرو بن عبد العزيز «يوم اسباتهم» ، وكذا النفي الآتي شُرَّعاً أي ظاهرة على وجه الماء كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قريبة من الساحل، وهو جمع شارع من شرع عليه إذا دنا وأشرف، وفي الشرع معنى الإظهار والتبيين، وقيل: حيتان شرع رافعة رؤوسها كأنه جعل ذلك إظهارا وتبيينا، وقيل: المعنى متتابعة ونسب إلى الضحاك، والظاهر أنها ظاهرة وهو نصب على الحال من الحيتان ووَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ أي لا يراعون أمر السبت وهو على حد قوله: «على لاحب لا يهتدى بمناره» إذ المقصود انتفاء السبت والمراعاة وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه لا يَسْبِتُونَ بضم حرف المضارعة من أسبت إذا دخل في السبت كأصبح إذا دخل في الصباح، وعن الحسن أنه قرأ لا يسبتون على البناء للمفعول بمعنى لا يدخلون في السبت ولا يؤمرون فيه بما أمروا به يوم السبت، وقرىء «لا يسبتون» بضم الباء والظرف متعلق بقوله سبحانه: لا تَأْتِيهِمْ أي لا تأتيهم يوم لا يسبتون كما كانت تأتيهم يوم السبت حذرا من صيدهم لاعتيادها أحوالهم وأن ذلك لمحض تقدير العزيز العليم، وتغيير السبك حيث قدم الظرف على الفعل ولم يعكس لما أن الإتيان يوم سبتهم مظنة كما قيل: لأن يقال فماذا حالها يوم لا يسبتون؟ فقيل: يوم لا يسبتون لا تأتيهم كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ أي نعاملهم معاملة المختبرين لهم ليظهر منهم ما يظهر فنؤاخذهم به، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية لاستحضار صورتها والتعجيب منها، والإشارة اما إلى الابتلاء السابق أو إلى الابتلاء المذكور بعد كما مر غير مرة وقيل: الإشارة إلى الإتيان يوم السبت وهي متصلة بما قبل أي لا تأتيهم كذلك الإتيان يوم السبت، والكاف في موضع نصب على الحال عند الطبرسي، وجوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع صفة لمصدر مقدر أي اتيانا كائنا كذلك، وجملة نبلوهم استئناف مبني على السؤال عن حكمة اختلاف حال الحيتان بالإتيان تارة وعدمه أخرى بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي بسبب فسقهم المستمر في كل ما يأتون ويذرون، وهو متعلق بما عنده، وتعلق إذ يعدون بنبلوهم وبما يبعدون على معنى نبلوهم وقت العدوان بالفسق مما لا ينبغي تخريج كتاب الله تعالى الجليل عليه وَإِذْ قالَتْ عطف على إذ يعدون مسوق لبيان تماديهم في العدوان وعدم انزجارهم عنه بعد العظات والإنذارات. قال العلامتان الطيبي والتفتازاني: ولا يجوز أن يكون معطوفا على إذ تأتيهم وإن كان أقرب لفظا لأنه إما بدل أو ظرف فيلزم أن يدخل هؤلاء القائلون في حكم أهل العدوان وليس كذلك، وهذا على ما قيل على تقدير الظرفية ظاهر، وأما على تقدير الإبدال فلأن البدل أقرب إلى الاستقلال، واستظهر في بيان وجه ذلك أن زمان القول بعد زمان العدوان ومغاير له واعتبار كونه ممتدا كسنة مثلا يقع فيه ذلك كله تكلف من غير مقتض، والقول بأن العطف على ذاك يشعر أو يوهم أن القائلين من العادين في السبت لا من مطلق أهل القرية فيه ما فيه أُمَّةٌ مِنْهُمْ أي جماعة من صلحائهم الذين لم يألوا جهدا في عظتهم حين يئسوا من احتمال القبول لآخرين لم يقلعوا عن التذكير رجاء النفع والتأثير لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أي مستأصلهم بالكلية ومطهر وجه الأرض منهم أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً دون الاستئصال بالمرة، وقيل مهلكهم في الدنيا أو معذبهم في الآخرة لعدم إقلاعهم عما هم عليه من الفسق والترديد لمنع الخلو على هذا، وإيثار صيغة اسم الفاعل في الشقين للدلالة على تحقق كل من الإهلاك والتعذيب وتقررهما البتة كأنهما واقعان، وإنما قالوا ذلك مبالغة في أن الوعظ لا ينجع فيهم إذ المقصود لا تعظوا أو أتعظون فعدل عنه إلى السؤال عن السبب لاستغرابه لأن الأمر العجيب لا يدرى سببه أو سؤالا عن حكمة الوعظ ونفعه، وقيل: إن هذا تقاول وقع بين الصلحاء الواعظين كأنه قال بعضهم لبعض: لم نشتغل بما لا يفيد، ويحتمل على كلا القولين أن ذلك صدر من القائل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 85 بمحصر من القوم فيكون متضمنا لحثهم على الاتعاظ فإن بت القول بهلاكهم أو عذابهم مما يلقي في قلوبهم الخوف والخشية، وقيل قائلو ذلك المعتدون في السبت قالوا: تهكما بالناصحين المخوفين لهم بالهلاك والعذاب، وفيه بعد كما ستقف عليه قريبا إن شاء الله تعالى قالُوا أي المقول لهم ذلك مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ أي نعظهم معذرة إليه تعالى على أنه مفعول وهو الأنسب بظاهر قولهم: لم تعظون أو نعتذر معذرة على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف، وقيل: هو مفعول به للقول وهو إن كان مفردا في معنى الجملة لأنه الكلام الذي يعتذر به. والمعذرة في الأصل بمعنى العذر وهو التنصل من الذنب، وقال الأزهري: إنه بمعنى الاعتذار، وعداه بإلى لتضمنه معنى الإنهاء والإبلاغ، وفي إضافة الرب إلى ضمير المخاطبين نوع تعريض بالسائلين، وهذا الجواب على القولين الأولين ظاهر وعلى الأخير قيل إنه من تلقى السائل بغير ما يترقب فهو من الأسلوب الحكيم، وقرأ من عدا حفص. والمفضل «معذرة» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي موعظتنا معذرة إليه تعالى حتى لا ننسب إلى نوع تفريط في النهي عن المنكر وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ عطف على معذرة أي ورجاء أن يتقوا بعض التقاة فإن اليأس المحقق لا يحصل إلا بالهلاك، قال شيخ الإسلام: وهذا صريح في أن القائلين لم تعظون إلخ ليسوا من الفرقة الهالكة وإلا لوجب الخطاب اهـ. وقد يوجه ذلك على ذلك القول بأنه التفات أو مشاكلة لتعبيرهم عن أنفسهم في السؤال بقوم وإما لجعله باعتبار غير الطائفة القائلين إلا أن كل ذلك خلاف الظاهر فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أي تركوا ما ذكرهم به صلحاؤهم ترك الناسي للشيء وأعرضوا عنه إعراضا كليا، فما موصولة وجوز أن تكون مصدرية، وهو خلاف الظاهر. والنسيان مجاز عن الترك، واستظهر أنه استعارة حيث شبه الترك بالنسيان بجامع عدم المبالاة، وجوز أن يكون مجازا مرسلا لعلاقة السببية، ولم يحمل على ظاهره كما قال بعض المحققين لأنه غير واقع ولأنه لا يؤاخذ بالنسيان ولأن الترك عن عمد هو الذي يترتب عليه إنجاء الناهين في قوله سبحانه وتعالى: أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ إذ لم يمتثلوا أمرهم بخلاف ما لو نسوه فإنه كان يلزمهم تذكيرهم وظاهر الآية ترتب الإنجاء على النسيان وهو في الحقيقة مرتب على النسيان والتذكير، وما في حيز الشرط مشير إليهما فكأنه قيل: فلما ذكر المذكرون ولم يتذكر المعتدون وأعرضوا عما ذكروا به أنجينا الأولين وأخذنا الآخرين، وعنوان النهي عن السوء شامل للذين قالوا لم تعظون إلخ وللمقول لهم ذلك، أما شموله للمقول لهم فواضح وأما شموله للقائلين فلأنهم نهوا أيضا إلا أنهم رأوا عدم النفع فكفوا وذلك لا يضرهم فقد نصوا على أنه إذا علم الناهي حال المنهي وأن النهي لا يؤثر فيه سقط عنه النهي وربما وجب الترك على ما قال الزمخشري لدخوله في باب العبث، ألا ترى أنك لو ذهبت إلى المكاسين القاعدين على الطريق لأخذ أموال الفقراء وغيرهم بغير حق لتعظهم وتكفهم عما هم عليه كان ذلك عبثا منك ولم يكن إلا سببا للتلهي بك، ولم يعرض أولئك كما أعرض هؤلاء لعدم بلوغهم في اليأس كما بلغ إخوانهم أو لفرط حرصهم وجدهم في أمرهم كما وصف الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم بقوله تعالى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ [الكهف: 6] . وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: لا أدري ما فعلت الفرقة الساكتة وعنى بهم القائلين ومنشأ قوله هذا كما نطقت به بعض الروايات أنه سمع قوله سبحانه: أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وقوله جلّ وعلا: وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا أي بالاعتداء ومخالفة الأمر ولم يغص رضي الله تعالى عنه مع أنه الغواص فقال له عكرمة: جعلني الله فداك ألا تراهم كيف أنكروا وكرهوا ما القوم عليه وقالوا ما قالوا وإن لم يقل الله سبحانه أنجيتهم لم يقل أهلكتهم فأعجبه قوله وأمر له ببردين وقال: نجت الساكتة، ونسب الطبرسي إليه رضي الله تعالى عنه قولين آخرين في الساكتة أحدهما القول بالتوقف وثانيهما القول بالهلاك وبه قال ابن زيد، وروي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 86 فالمأخوذ حينئذ الساكتون والظالمون بِعَذابٍ بَئِيسٍ أي شديد وفسره الحبر بما لا رحمة فيه ويرجع إلى ما ذكره، وهو فعيل إما وصف أو مصدر كالنكير وصف به مبالغة، والأكثرون على كونه وصفا من بؤس يبؤس بأسا إذا اشتد. وقال الراغب: البؤس والبأس والبأساء الشدة والمكروه إلا أن البؤس في الفقر والحرب أكثر والبأس والبأساء في النكاية، وقرأ أبوبكر «بيئس» على فيعل كضيغم وهو من الأوزان التي تكون في الصفات والأسماء، والياء إذا زيدت في المصدر هكذا تصيره اسما أو صفة كصقل وصيقل وعينه مفتوحة في الصحيح مكسورة في المعتل كسيد، ومن هنا قيل في قراءة عاصم في رواية عنه «بيئس» بكسر الهمزة إنها ضعيفة رواية ودراية ويخففها أن المهموز أخو المعتل، وقرأ ابن عامر «بئس» بكسر الباء وسكون الهمزة على أن أصله بئس بباء مفتوحة وهمزة مكسورة كحذر فسكن للتخفيف كما قالوا في كبد كبد وفي كلمة كلمة، وقرأ نافع «بيس» على قلب الهمزة ياء كما قلبت في ذيب لسكونها وانكسار ما قبلها، وقيل: إن هاتين القراءتين مخرجتان على أن أصل الكلمة بئس التي هي فعل ذم جعلت اسما كما في قيل وقال، والمعنى بعذاب مذموم مكروه، وقرىء «بيس» كريس وكيس على قلب الهمزة ياء ثم ادغامها في الياء، وقيل: على أنه من البؤس بالواو وأصله بيوس كميوت فأعل إعلاله و «بيس» على التخفيف كهين و «بائس» بزنة اسم الفاعل أي ذو بأس وشدة، وقرىء غير ذلك، وأوصل بعضهم ما فيه من القراءات إلى ست وعشرين، وتنكير العذاب للتفخيم والتهويل بِما كانُوا يَفْسُقُونَ متعلق بأخذنا كالباء الأولى ولا ضير فيه لاختلافهما معنى أي أخذناهم بما ذكر من العذاب بسبب فسقهم المستمر، ولا مانع من أن يكون ذلك سببا للأخذ كما كان سببا للابتداء وكذا لا مانع من تعليله بما ذكر بعد تعليله بالظلم الذي في حيز الصلة لأن ذلك ظلم أيضا، ولم يكتف بالأول لما لا يخفى فَلَمَّا عَتَوْا أي تكبروا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ أي عن ترك ذلك ففي الكلام تقدير مضاف إذ التكبر والإباء عن المنهي عنه لا يذم قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ صاغرين أذلاء مبعدين عن كل خير والأمر تكويني لا تكليفي لأنه ليس في وسعهم حتى يكلفوا به، وهذا كقوله تعالى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: 40] في أنه يحتمل أن يكون هناك قول وأن يكون الغرض مجرد التمثيل، والظاهر أن الله تعالى أوقع بهم نكالا في الدنيا غير المسخ فلم يقلعوا عما كانوا عليه فمسخهم قردة. وجوز أن يكون المراد بالعذاب البئيس هو المسخ وتكون هذه الآية تفصيلا لما قبلها. روي عن ابن عباس أن اليهود إنما افترض عليهم اليوم الذي افترض عليكم وهو يوم الجمعة فخالفوا إلى يوم السبت واختاروه فحرم عليهم الصيد فيه وابتلوا به فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شرعا بيضا سمانا حتى لا يرى الماء من كثرتها فمكثوا ما شاء تعالى لا يصيدون ثم أتاهم الشيطان فقال: إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت فاتخذوا الحياض والشبكات فكانوا يسوقون الحيتان إليها فيه ثم يأخذونها يوم الأحد، وفي رواية أن رجلا منهم أخذ حوتا فحزمه بخيط ثم ضرب له وتدا في الساحل وربطه فيه وتركه في الماء فلما كان الغد جاء فأخذه وأكله فلاموه على ذلك فلما لم يأته العذاب أخذ في السبت القابل حوتين وفعل ما فعل ولم يصبه شيء فلما رأوا أن العذاب لا يعاجلهم تجاسروا فأخذوا وملحوا وباعوا وكانوا نحوا من اثني عشر ألفا أو من سبعين ألفا فصار أهل القرية أثلاثا كما قص الله تعالى فقال المسلمون للمعتدين نحن لا نساكنكم فقسموا القرية بجدار للمسلمين باب وللمعتدين باب وكانت القصة في زمن داود عليه السلام فلعنهم فأصبح المسلمون ذات يوم ولم يخرج من المعتدين أحد فقالوا: إن لهؤلاء لشأنا لعل الخمر غلبتهم فعلوا على الجدار فإذا القوم قردة ففتحوا الباب ودخلوا عليهم فعرفت القردة أنسابها من الإنس ولم تعرف الإنس أنسابهم منها فجعلت تأتي إلى نسيبها فتشم ثيابه وتبكي فيقول: ألم ننهكم فتقول القردة برأسها نعم ثم ماتوا بعد ثلاثة. وعن قتادة أن الشبان صاروا قردة والشيوخ خنازير، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 87 وعن مجاهد أنه مسخت قلوبهم فلم يوفقوا لفهم الحق. وأخرج ابن جرير وغيره عن الحسن قال: كان حوتا حرمه الله عليهم في يوم وأحله لهم فيما سوى ذلك فكان يأتيهم في اليوم الذي حرمه الله تعالى عليهم كأنه المخاض ما يمتنع من أحد فجعلوا يهمون ويمسكون وقلما رأيت أحدا أكثر الاهتمام بالذنب إلا واقعه حتى أخذوه فأكلوا والله أوخم أكلة أكلها قوم أثقلها خزيا في الدنيا وأطولها عذابا في الآخرة وايم الله تعالى ما حوت أخذه قوم فأكلوه أعظم عند الله تعالى من قتل رجل مؤمن وللمؤمن أعظم حرمة عند الله سبحانه من حوت ولكن الله عزّ وجلّ جعل موعد قوم الساعة والساعة أدهى وأمر. وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة أنه كان على شاطىء البحر الذي هم عنده صنمان من حجارة مستقبلان الماء يقال لأحدهما لقيم وللآخر لقمانة فأوحى الله تعالى إلى السمك أن حج يوم السبت إلى الصنمين وأوحى إلى أهل القرية إني قد أمرت السمك أن يحجوا إلى الصنمين يوم السبت فلا تتعرضوا فيه فإذا ذهب فشأنكم به فصيدوه فابتلي القوم ووقع منهم ما مسخوا به قردة وفي القلب من صحة هذا الأثر شيء ولعله لا صحة له كما لا يخفى على من يعرف معنى الحج من المصلين، ويشبه هذين الصنمين عين حق لان (1) قرب جزيرة الحديثة من العراق وهي قريبة من شاطىء الفرات فإن السمك يزورها في أيام مخصوصة من السنة حتى يخيل أنه لم يبق في بطن الفرات حوت إلا قذف إليها فيصيد أهل ذلك الصقع منه ما شاء الله تعالى وينقلونه إلى الجزائر والقرى القريبة منهم كألوس وحبة وعانات وهيت ثم ينقطع فلا ترى سمكة في العين بعد تلك الأيام إلى مثلها من قابل وسبحان الفعال لما يريد، واستدل بعض أهل العلم بقصة هؤلاء المعتدين على حرمة الحيل في الدين، وأيد ذلك بما أخرجه ابن بطة عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «قال لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلوا محارم الله تعالى بأدنى الحيل» وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ منصوب بمضمر معطوف على قوله سبحانه: وَسْئَلْهُمْ وتأذن تفعل من الإذن وهو بمعنى آذن أي اعلم والتفعل يجيء بمعنى الأفعال كالتوعد والإيعاد، وإلى هذا يؤول ما روي عن ابن عباس من أن المعنى قال ربك، وفسره بعضهم بعزم وهو كناية عنه أو مجاز لأن العازم على الأمر يشاور نفسه في الفعل والترك ثم يجزم فهو يطلب من النفس الإذن فيه، وفي الكشف لو جعل بمعنى الاستئذان دون الإيذان كأنه يطلب الإذن من نفسه لكان وجها، وحيث جعل بمعنى عزم وكان العازم جازما فسر عزم بجزم وقضى فأفاد التأكيد فلذا أجري مجرى القسم، وأجيب بما يجاب به وهو هنا لَيَبْعَثَنَّ وجاء عزمت عليك لتفعلن، ولا يرد على هذا أنه مقتضى لجواز نسبة العزم إليه تعالى وقد صرح بمنع ذلك لأن المنع مدفوع فقد ورد عزمة من عزمات الله تعالى عَلَيْهِمْ أي اليهود لا المعتدين الذين مسخوا قردة إذ لم يبقوا كما علمت، ويحتمل عود الضمير عليهم بناء على ما روي عن الحسن. والمراد حينئذهم وأخلاقهم، وعوده إلى اليهود والنصارى ليس بشيء وإن روي عن مجاهد، والجار متعلق بيبعثن على معنى يسلط عليهم البتة إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي إلى انتهاء الدنيا وهو متعلق بيبعث، وقيل: بتأذن وليس بالوجه ولا يصح كما لا يخفى تعلقه بالصلة في قوله سبحانه: مَنْ يَسُومُهُمْ يذيقهم ويوليهم سُوءَ الْعَذابِ كالإذلال. وضرب الجزية. وعدم وجود منعة لهم. وجعلهم تحت الأيدي وغير ذلك من فنون العذاب، وقد بعث الله تعالى عليهم بعد سليمان عليه الصلاة والسلام بخت نصرّ فخرب ديارهم وقتل مقاتلتهم وسبى نساءهم وذراريهم وضرب الجزية على من بقي منهم وكانوا يؤدونها إلى المجوس حتى بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم ففعل ما فعل ثم ضرب الجزية عليهم فلا تزال مضروبة إلى آخر الدهر.   (1) قوله عين حق لان إلخ كذا بالأصل والنص في مسودة المؤلف مطموسة لا يعلم هل هي حقلان أو عفلان أو لا فحرر اهـ.. [ ..... ] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 88 ولا ينافي ذلك رفعها عند نزول عيسى عليه الصلاة والسلام لأن ذلك الوقت ملحق بالآخرة لقربه منها أو لأن معنى رفعه عليه السلام إياها عنهم أنه لا يقبل منهم إلا الإسلام ويخيرهم بينه وبين السيف فالقوم حينئذ إما مسلمون أو طعمة لسيوفهم فلا إشكال، وما يحصل لهم زمن الدجال مع كونه ذلا في نفسه غمامة صيف على أنهم ليسوا يهود حين التبعية إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ لما شاء سبحانه أن يعاقبه في الدنيا ومنهم هؤلاء، وقيل: في الآخرة، وقيل: فيهما وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لمن تاب وآمن وَقَطَّعْناهُمْ أي فرقنا بني إسرائيل أو صيرناهم فِي الْأَرْضِ وجعلنا كل فرقة منهم في قطر من أقطارها بحيث لا يكاد يخلو قطر منهم تكملة لأدبارهم حتى لا يكون لهم شوكة وهذا من مغيبات القرآن كالذي تضمنته الآية قبل، وقوله سبحانه: أُمَماً إما مفعول ثان لقطعنا وإما حال من مفعوله مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وهم كما قال الطبري من آمن بالله تعالى ورسوله وثبت على دينه قبل بعث عيسى عليه الصلاة والسلام وقيل هم الذي أدركوا النبي صلّى الله عليه وسلّم وآمنوا به ونسب ذلك إلى ابن عباس. ومجاهد، وقيل: هم الذي وراء الصين وهو عندي وراء الصين، والجار متعلق بمحذوف خبر مقدم والصالحون مبتدأ، وجوز أن يكون فاعلا للظرف والجملة في موضع النصب صفة لأمم على الاحتمالين، وجوز أن تكون في موضع الحال وهي بدل من أمم على الاحتمال الثاني وأن تكون صفة موصوف مقدر هو البدل على الأول أي قوما منهم الصالحون وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ أي منحطون عن أولئك الصالحين غير بالغين منزلتهم في الصلاح وهم الذين امتثلوا بعض الأوامر وخالفوا بعضا مع كونهم مؤمنين، وقيل: هم الكفرة منهم بناء على أن المراد بالصلاح الإيمان، وقيل: المراد بهم ما يشمل الكفرة والفسقة، والجار متعلق بمحذوف خبر مقدم ودُونَ على ما ذكره الطبرسي مبتدأ إلا أنه بقي مفتوحا لتمكنه في الظرفية مع إضافته إلى المبني ومثله على قول أبي الحسن بَيْنَكُمْ في قوله سبحانه: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الأنعام: 94] أو المبتدأ محذوف والظرف صفته أي ومنهم أناس أو فرقة دون ذلك، ومن المشهور عند النحاة أن الموصوف بظرف أو جملة يطرد حذفه إذا كان بعض اسم مجرور بمن أو في مقدم عليه كما في منا أقام ومنا ظعن، ومحط الفائدة الانقسام إلى أن هؤلاء منقسمون إلى قسمين، ومن الناس من تكلف في مثل هذا التركيب لجعل الظرف الأول صفة مبتدأ محذوف، وجعل الظرف الثاني خبرا لما ظنه داعيا لذلك، وليس بشيء، والإشارة للصالحين، وقد ذكروا أن اسم الإشارة المفرد قد يستعمل للمثنى والمجموع وقد مرت الإشارة إليه، وقيل: أشير به إلى الصلاح كما يقتضيه ظاهر الأفراد ويقدر حينئذ مضاف وهو أهل مثلا وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ الخصب والعافية وَالسَّيِّئاتِ الجدب والشدة لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي يتوبون عما كانوا عليه مما نهوا عنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 89 فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي المذكورين، وقيل: الصالحين فَخَلَفَ أي بدل سوء مصدر نعت به ولذلك يقع على الواحد والجمع، وقيل: هو اسم جمع وهو مراد من قال: إنه جمع وهو شائع في الشر، ومنه سكت ألفا ونطق خلفا والخلف بفتح اللام في الخير وادعى بعضهم الوضع لذلك، وقيل: هما بمعنى وهو من يخلف غيره صالحا كان أو طالحا، ومن مجيء الساكن في المدح قول حسان: لنا القدم الأولى إليك وخلفنا ... لا ولنا في طاعة الله تابع ومن مجيء المتحرك في الذم قول لبيد: ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب وعن البصريين أنه يجوز التحريك والسكون في الردي وأما الجيد فبالتحريك فقط ووافقهم أهل اللغة إلا الفراء وأبا عبيدة واشتقاقه إما من الخلافة أو من الخلوف وهو الفساد والتغير ومنه خلوف فم الصائم، وقال أبو حاتم: الخلف بالسكون الأولاد الواحد والجمع فيه سواء والخلف بالفتح البدل ولدا كان أو غريبا والأكثرون على أن المراد بهؤلاء الخلف الذين كانوا في عصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحينئذ لا يصح تفسير الصالحين بمن آمن به عليه الصلاة والسلام، والظاهر أنهم من اليهود وعن مجاهد أنهم النصارى وليس بذاك وَرِثُوا الْكِتابَ أي التوراة والوراثة مجاز عن كونها في أيديهم وكونهم واقفين على ما فيها بعد أسلافهم. وقرأ الحسن «ورّثوا» بالضم والتشديد مبنيا لما لم يسم فاعله والجملة على القراءتين في موضع الصفة لخلف وقوله سبحانه: يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى استئناف مسوق لبيان ما يصنعون بالكتاب بعد وراثتهم إياه. وقال أبو البقاء: حال من الضمير في ورثوا واستظهره بعضهم ويكفي مقارنته لبعض زمان الوراثة لامتداده، والعرض ما لا ثبات له ومنه استعار المتكلمون العرض لمقابل الجوهر. وفي النهاية العرض بالفتح متاع الدنيا وحطامها، وقال أبو عبيدة: هو غير النقدين من متاعها وبالسكون المال والقيم، والْأَدْنى صفة لمحذوف أي الشيء الأدنى والمراد به الدنيا وهو من الدنو للقرب بالنسبة إلى الآخرة، وكونها من الدناءة خلاف الظاهر وإن كان ذلك ظاهرا فيها لأنه مهموز، والمراد بهذا العرض ما يأخذونه من الرشا في الحكومات وعلى تحريف الكلام وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا ولا يؤاخذنا الله تعالى بذلك ويتجاوز عنا، والجملة عطف على ما قبلها واحتمال الحالية يحتاج إلى تقدير مبتدأ من غير حاجة ظاهرة والفعل مسند إلى الجار والمجرور وجوز أن يكون مسندا إلى ضمير يأخذون: وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ في موضع الحال قيل من ضمير يقولون، والقول بمعنى الاعتقاد أي يرجون المغفرة وهم مصرون على الذنب عائدون إلى مثله غير تائبين عنه، وقيل: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 90 من ضمير لنا والمعنى على ذلك والأول أظهر، والقول بأن تقييد القول بذلك لا يستلزم تقييد المغفرة به والمطلوب الثاني والثاني متكفل به لا يخلو عن نظر. واختار الحلبي والسفاقسي أن الجملة مستأنفة لا لأن الجملة الشرطية لا تقع حالا إذ وقوعها مما لا شك في صحته بل لأن في القول بالحالية نزغة اعتزالية ولا يخفى أن الأمر وإن كان كذلك إلا أن الحالية أبلغ لأن رجاءهم المغفرة في حال يضادها أوفق بالإنكار عليهم فافهم أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أي الميثاق المذكور في التوراة فالإضافة على معنى في. ويجوز أن تكون اختصاصية على معنى اللام ويؤول المعنى إلى ما ذكره، وال في الكتاب للعهد، وقوله سبحانه: أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ عطف بيان للميثاق، وقيل: بدل منه، وقيل: إنه مفعول لأجله، وقيل: إنه متعلق بميثاق بتقدير حرف الجر أي بأن لا يقولوا، وجوز في إِنْ أن تكون مصدرية وأن تكون مفسرة لميثاق لأنه بمعنى القول، وفي لا أن تكون ناهية وأن تكون نافية واعتبار كل مع ما يصح معه مفوض إلى ذهنك، والمراد من الآية توبيخ أولئك الورثة على بتّهم القول بالمغفرة مع إصرارهم على ما هم عليه. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم وبخوا على إيجابهم على الله تعالى غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون إليها ولا يتوبون منها، وجاء البت من السين فإنها للتأكيد كما نص عليه المحققون، وقد عرض الزمخشري عامله الله تعالى بعدله في تفسير هذه الآية بأهل السنة، وزعم أن مذهبهم هو مذهب اليهود بعينه حيث جوزوا غفران الذنب من غير توبة، ونقل عن التوراة من ارتكب ذنبا عظيما فإنه لا يغفر له بالتوبة، وأنت تعلم أن اليهود أكدوا القول بالغفران وأهل السنة لا يجزمون في المطيع بالغفران فضلا عن العاصي بما هو حق الله تعالى فضلا عمن عصاه سبحانه فيما هو من حقوق العباد فالموجبون على الله تعالى وإن كان بالنسبة إلى التائب أقرب إليهم فهل ما ادعاه إلا من قبيل ما جاء في المثل- رمتني بدائها وانسلت- وما نقله عن التوراة إن كان استنباطا من الآية فلا تدل على ما في الكشف إلا على تحريفهم ما في التوراة من نعت النبي صلّى الله عليه وسلّم وآية الرجم ونحو ذلك من تسهيلاتهم على الخاصة وتخفيفاتهم على العامة يأخذون الرشا بذلك والتقول على الله عظيمة وإن كان قد قرأ التوراة التي لم تحرف وأنها هي تعين الحمل على الشرك بقواطع من كتاب الله تعالى الكريم أو يكون ذلك لهم وهذا لهذه الأمة المرحومة خاصة، وقد سلم هو نحوا منه في قوله سبحانه: يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ [الأحقاف: 31] وقد أطبق أهل السنة على ذم المتمني على الله، ورووا عن شداد ابن أوس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله سبحانه» ، ومن هنا قيل: إن القوم ذموا بأكلهم أموال الناس بالباطل واتباع أنفسهم هواها وتمنيهم على الله سبحانه ووبخوا على افترائهم على الله في الأحكام التي غيروها وأخذوا عرض هذا الأدنى على تغييرها فكأنه قيل: ألم يؤخذ عليهم الميثاق المذكور في كتابهم أن لا يقولوا على الله تعالى في وقت من الأوقات إلا الحق الذي تضمنه الكتاب فلم حكموا بخلافه وقالوا: هو من عند الله وما هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا؟ وفيه مع مخالفته لما روي عن الحبر مخالفة للظاهر. وقرأ الجحدري «أن لا تقولوا» بالخطاب على الالتفات وَدَرَسُوا ما فِيهِ أي قرؤوه فهم ذاكرون لذلك، وهو عطف على أَلَمْ يُؤْخَذْ من حيث المعنى وان اختلفا خبرا وإنشاء إذ المعنى أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا إلخ، وجوز كونه عطفا على لَمْ يُؤْخَذْ والاستفهام التقريري داخل عليهما وهو خلاف الظاهر أو على ورثوا وتكون جملة أَلَمْ يُؤْخَذْ معترضة وما قبلها حالية أو يكون المجموع اعتراضا كما قيل ولا مانع منه خلا أن الطبرسي نقل عن بعضهم تفسير درسوا على هذا الوجه من العطف بتركوا وضيعوا وفيه بعد. وقيل: إن الجملة في موضع الحال من ضمير يقولوا بإضمار قد أي أخذ عليهم الميثاق بأن لا يقولوا على الله إلا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 91 الحق الذي تضمنه كتابهم في حال دراستهم ما فيه وتذكرهم له وهو كما ترى. وقرأ السلمي ادّارسوا بتشديد الدال وألف بعدها وأصله تدارسوا فادغمت التاء في الدال واجتلبت لها همزة الوصل. وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الله تعالى ويخافون عقابه فلا يفعلون ما فعل هؤلاء أَفَلا تَعْقِلُونَ فتعلموا ذلك ولا تستبدلوا الأدنى المؤدي إلى العذاب بالنعيم المقيم، وهو خطاب لأولئك المأخوذ عليهم الميثاق الآخذين لعرض هذا الأدنى وفي الالتفات تشديد للتوبيخ، وقيل: هو خطاب للمؤمنين ولا التفات فيه. وقرأ جمع بالياء على الغيبة وبالتاء وقرأ نافع وابن عامر وابن ذكوان وأبو جعفر وسهل ويعقوب وحفص. وهذه الآية ظاهرة في التوبيخ على الأخذ، وجعل بعضهم قوله سبحانه: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ إلخ توبيخا على ذلك القول في الآية ما هو من قبيل ما فيه اللف والنشر وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ أي يتمسكون به في أمور دينهم يقال: مسك بالشيء وتمسك به بمعنى، قال مجاهد. وابن زيد: هم الذين آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه تمسكوا بالكتاب الذي جاء به موسى عليه السلام فلم يحرفوه ولم يكتموه ولم يتخذوه مأكلة وقال عطاء: هم أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم والمراد من الكتاب القرآن الجليل الشأن، وقرأ أبو بكر. وحماد «يمسكون» بالتخفيف من الإمساك، وابن مسعود «استمسكوا» ، وأبي «مسكوا» وفي ذلك موافقة لقوله تعالى: وَأَقامُوا الصَّلاةَ ولعل التغيير في المشهور للدلالة على أن التمسك أمر مستمر في جميع الأزمنة بخلاف الإقامة فإنها مختصة بالأوقات المخصوصة، وتخصيصها بالذكر من بين سائر العبادات مع دخولها بالتمسك بالكتاب لا ناقتها عليها لأنها عماد الدين، ومحل الموصول إما الجر عطفا على الذين يتقون، وقوله تعالى: أَفَلا تَعْقِلُونَ اعتراض مقرر لما قبله، والاعتراض قد يقرن بالفاء كقوله: فاعلم فعلم المرء ينفعه ... أن سوف يأتي كل ما قدرا وإما الرفع على الابتداء والخبر قوله سبحانه: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ والرابط إما الضمير المحذوف كما هو رأي جمهور البصريين أي أجر المصلحين منهم وإما الألف واللام كما هو رأي الكوفيين فإنها كالعوض عن الضمير فكأنه قيل مصلحيهم، وأما العموم في المصلحين فإنه على المشهور من الروابط ومنه نعم الرجل زيد على أحد الأوجه أو وضع الظاهر موضع المضمر بناء على أن الأصل لا نضيع أجرهم إلا أنه غير لما ذكر تنبيها على أن الصلاح كالمانع من التضييع لأن التعليق بالمشتق يفيد علية مأخذ الاشتقاق فكأنه قيل: لا نضيع أجرهم لصلاحهم. وقيل: الخبر محذوف والتقدير والذين يمسكون بالكتاب مأجورون أو مثابون، وقوله سبحانه: إِنَّا لا نُضِيعُ إلخ حينئذ اعتراض مقرر لما قبله وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ عطف على ما قبل بتقدير اذكر والنتق الرفع كما روي عن ابن عباس. وإليه ذهب ابن الأعرابي، وعن مسلم أنه الجذب، ومنه نتقت الغرب من البئر، وعن أبي عبيدة أنه القلع وما روي عن الحبر أوفق بقوله سبحانه: وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ [النساء: 154] وعلى القولين الأخيرين يضمن معنى الرفع ليتطابق الآيتان، والمراد بالجبل الطور أو جبل غيره وكان فرسخا في فرسخ كمعسكر القوم فأمر الله تعالى جبريل عليه السلام لما توقفوا عن أخذ التوراة وقبولها إذ جاءتهم جملة مشتملة على ما يستثقلونه فقلعه من أصله ورفعه عليهم كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ أي غمامة أو سقيفة وفسرت بذلك مع أنها كل ما علا وأظل لأجل حرف التشبيه إذ لولاه لم يكن لدخوله وجه و «فوق» ظرف لنتقنا أو حال من الجبل مخصصة على ما قيل للرفع ببعض جهات العلو، والجملة الاسمية بعد في موضع الحال أيضا أي مشابها ذلك وَظَنُّوا أي تيقنوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ أي ساقط عليهم إن لم يقبلوا فانهم كانوا يوعدون بذلك بهذا الشرط والصادق لا يتخلف ما أخبر به لكن لما لم يكن المفعول واقعا لعدم شرطه أشبه المظنون الذي قد يتخلف فلهذا سمي ذلك ظنا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 92 وقيل: تيقنوا ذلك لأن الجبل لا يثبت في الجو، واعترض بأن عدم ثبوته فيه لا يقتضي التيقن لأنه على جري العادة وأما على خرقها فالثابت الثبوت والواقع عدم الوقوع ويكون ذلك كرفعه فوقهم ووقوفه هناك حتى كان ما كان منهم، والحق أن المتيقن لهم الوقوع إن لم يقبلوا لكونه المعلق عليه، ففي الأثر أن بني إسرائيل أبوا أن يقبلوا التوراة فرفع الجبل فوقهم، وقيل: إن قبلتم وإلا ليقعن عليكم فوقع كل منهم ساجدا على حاجبه الأيسر وهو ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقا من سقوطه فلذلك لا ترى يهوديا يسجد إلا على حاجبه الأيسر ويقولون: هي السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة وامتثلوا ما أمروا به ولا يقدح في ذلك احتمال الثبوت على خرق العادة كما لا يقدح فيه عدم الوقوع إذا قبلوا، ألا ترى إلى أنه يتيقن احتراق ما وقع في النار مع إمكان عدمه كما في قصة الخليل عليه الصلاة والسلام، وذهب الرماني. والجبائي إلى أن الظن على بابه، والمراد قوي في نفوسهم أنه واقع، واختاره بعض المحققين، والجملة مستأنفة، وجوز أن تكون معطوفة على نتقنا أو حالا بتقدير قد كما قال أبو البقاء خُذُوا أي وقلنا خذوا أو قائلين خذوا ما آتَيْناكُمْ من الكتاب بِقُوَّةٍ أي بجد وعزم على تحمل مشاقه، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من الواو، والمراد خذوا ذلك مجدين وَاذْكُرُوا ما فِيهِ أي اعملوا به ولا تتركوه كالمنسي وهو كناية عن ذلك أو مجاز. وقرأ ابن مسعود «وتذكروا» وقرىء واذكروا بمعنى وتذكروا لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ بذلك قبائح الأعمال ورذائل الأخلاق أو راجين أن تنتظموا في سلك المتقين. وجوز أن يراد بما آتيناكم الآية العظيمة أعني نتق الجبل أي خذوا ذلك إن كنتم تطيفونه كقوله تعالى: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا [الرحمن: 33] واذكروا ما فيه من القدرة الباهرة والإنذار، وعلى هذا فالمراد من نتق الجبل إظهار العجز لا غير، والكلام نظير قولك لمن يدعي الصرعة والقوة بعد ما غلبته: خذه مني، وحاصله إن كنتم تطلبون آية قاهرة وتقترحونها فخذوا ما آتيناكم إن كنتم تطيقونه، ولا يخفى أن ذلك خلاف الظاهر والآثار على خلافه وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ منصوب بمضمر على طرز ما سلف في نظائره وهو معطوف على ما قبل مسوق لإلزام اليهود بمقتضى الميثاق العام فإن منهم من أشرك فقال: عزير ابن الله عز اسمه بعد إلزامهم بالميثاق المخصوص بهم والاحتجاج عليهم بالحجج السمعية والعقلية ومنعهم عن التقليد، وبعضهم جوز أن يكون تذييلا تعميما بعد التخصيص وإظهارا لتمادي هؤلاء اليهود في الغي بعد أخذ الميثاق الخاص المدلول عليه بقوله سبحانه: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ لقوله جل وعلا: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ في سورة [البقرة: 63، 93] ، وعليه فلا عطف وهو أظهر من التذييل نظرا إلى ظاهر اللفظ وأولى منه إذا خص العام بالمشركين كما قيل، وقد يقال: إن الآية مسوقة لبيان أخذ ميثاق سابق من جميع الخلق مؤمنهم وكافرهم قبل هذه النشأة بما هو أهم الأمور والأصل الأصيل لجميع التكليفات على وجه خال مما يشبه الإكراه متضمن لالزام المشركين المعاصرين له صلّى الله عليه وسلّم ورفع احتجاجهم ما كانوا بعد الإشارة إلى أخذ ميثاق من قوم مخصوصين في هذه النشأة على وجه هو أشبه الأشياء بالإكراه بما الظاهر فيه أنه من الأعمال لأن القوم إذ ذاك كانوا مقرين بالربوبية بل بها وبرسالة موسى عليه السلام فلم يكن حاجة إلى نتق الجبل فوقهم لذلك ولو قال قائل: إن ذكر ذلك خلال الآيات المتعلقة باليهود من باب الاستطراد والمناسبة فيه ظاهرة لم يبعد لكن الأول وهو الذي جرى عليه أكثر متأخري المفسرين أي واذكر لهم أو للناس إذ أخذ ربك مِنْ بَنِي آدَمَ المراد بهم الذين ولد لهم مؤمنين كانوا أو كفارا نسلا بعد نسل سوى من لم يولد له بسبب من الأسباب وتخصيصهم بأسلاف اليهود الذين أشركوا بالله تعالى حيث قالوا مما لا يكاد يلتفت إليه. وإيثار الأخذ على الإخراج للإيذان بشأن المأخوذ إذ ذاك لما فيه من الإنباء عن الاجتباء والاصطفاء وهو السبب في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 93 إسناده إلى اسم الرب بطريق الالتفات مع ما فيه من التمهيد للاستفهام الآتي، وإضافته إلى ضميره عليه الصلاة والسلام للتشريف، وقيل: إن إيثار الأخذ على الإخراج لمناسبة ما تضمنته الآية من الميثاق فإن الذي يناسبه هو الأخذ دون الإخراج، والتعير بالرب لما أن ذلك الأخذ باعتبار ما يتبعه من آثار الربوبية، واستأنس بعضهم بمغايرة أسلوب هذا الكلام بما فيه من الالتفات لما قبله من قوله سبحانه وتعالى: وَإِذْ نَتَقْنَا ولما بعده من قوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا لكونه استطراديا، وقوله تعالى: مِنْ ظُهُورِهِمْ بدل من بني آدم بدل البعض من الكل بتكرير الجار كما في قوله سبحانه وتعالى: لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ وقيل: بدل اشتمال وإليه ذهب أبو البقاء، وبينه بعضهم بأن بدل الاشتمال ما يكون بينه وبين المبدل منه ملابسة بحيث توجب النسبة إلى المتبوع إلى التابع اجمالا نحو أعجبني زيد علمه فإنه يعلم ابتداء أن زيدا معجب باعتبار صفاته لا باعتبار ذاته وتتضمن نسبة الاعجاب إليه نسبته إلى صفة من صفاته إجمالا، ونسبة الأخذ الذي هو بمعنى الإخراج هنا إلى بني آدم نسبة إلى ظهورهم اجمالا لأنه يعلم ابتداء أن بني آدم ليسوا مأخوذين باعتبار ذواتهم بل باعتبار أجسادهم وأعضائهم وتتضمن الأخذ إليهم نسبته إلى أعضائهم اجمالا، وادعى أن القول به أولى من القول ببدل البعض لأن النسبة إلى المبدل منه الكل تكون تامة وتحصل بها الفائدة بدون ذكر البدل نحو أكلت الرغيف نصفه فإن النسبة تامة لو لم يذكر النصف ولا شك أن النسبة هنا ليست تامة بدون ذكر البدل. وأيضا أن الظهور ليس بعض بني آدم حقيقة بل بعض أعضائهم ولا يخفى ما في ذلك من النظر. ومِنْ في الموضعين ابتدائية، وفيه مزيد تقرير لابتنائه على البيان بعد الإبهام والتفصيل غب الإجمال، قيل: وتنبيه على أن الميثاق قد أخذ منهم وهم في أصلاب الآباء ولم يستودعوا في أرحام الأمهات وقوله تعالى: ذُرِّيَّتَهُمْ مفعول أَخَذَ أخر عن المفعول بواسطة الجار لاشتماله على ضمير راجع إليه فيلزم بالتقديم رجوع الضمير إلى متأخر لفظا ورتبة وهو لا يجوز إلا في مواضع ليس هذا منها ولمراعاة أصالته ومنشئيته ولما مر غير مرة من التشويق إلى المؤخر. وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب «ذرياتهم» والمراد أولادهم على العموم، ومن خص بني آدم بأسلاف اليهود على ما مر خص هذا بأخلافهم وفيه ما فيه، والاشكال المشهور وهو أن كل الناس يصدق عليه بنو آدم وذريته فيتحد المخرج والمخزج منه مدفوع بظهور أن المراد إخراج الفروع من الأصول حسب ترتب الولادة ولا يتوقف التخلص عنه على القول بذلك التخصيص. وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أي أشهد كل واحد من أولئك الذرية المأخوذين من ظهور آبائهم على أنفسهم لا على غيرهم تقريرا لهم بربوبيته سبحانه وتعالى التامة قائلا لهم: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ أي مالك أمركم ومربيكم على الإطلاق من غير أن يكون لأحد مدخل في شأن من شؤونكم قالُوا في جوابه سبحانه وتعالى بَلى شَهِدْنا أي على أنفسنا بأنك ربنا لا رب لنا غيرك والمراد أقررنا بذلك. وجاء أن القاضي شريح قال لمقر عنده شهد عليك ابن أخت خالتك، ومن هناك قال الجلال السيوطي: إن هذه الآية أصل في الإقرار وبَلى حرف جواب وألفها أصلية عند الجمهور، وقال جمع: الأصل بل والألف زائدة وبعض أولئك يقول: إنها لتأنيث الكلمة كالتاء في ثمت وربت لأنها أميلت ولو لم تكن للتأنيث لكانت زائدة لمجرد التكثير كألف قبعثرى وتلك لا تمال، وتختص بالنفي فلا تقع إلا في جوابه فتفيد ابطاله سواء كان مجردا أو مقرونا بالاستفهام حقيقيا كان أو تقريريا، وقد أجروا النفي مع التقرير مجرى النفي المجرد في رده ببلى كما في هذه الآية، ولذلك قال ابن عباس وغيره لو قالوا نعم لكفروا. ووجهه أن نعم تصديق للمخبر بنفي أو إيجاب، ولذلك قال جماعة من الفقهاء: لو قال أليس لي عليك ألف؟ فقال: بلى لزمته ونعم لا. وقال آخرون: تلزمه فيهما وجروا فيه على مقتضى العرف لا اللغة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 94 ونازع السهيلي وجماعة في المحكي عن الحبر وغيره متمسكين بأن الاستفهام التقريري موجب ولذلك امتنع سيبويه من جعل أَمْ متصلة على ما قيل في قوله تعالى: أَفَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ [الزخرف: 51، 52] فإنها لا تقع بعد الإيجاب وإذا ثبت أنه إيجاب فنعم بعد الإيجاب تصديق له، قال ابن هشام: ويشكل عليهم أن بلى لا يجاب بها الإيجاب وذلك متفق عليه وبَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي [الزمر: 59] متقدم فيه ما يدل على النفي لكن وقع في الحديث ما يقتضي أنها يجاب بها الاستفهام المجرد ففي صحيح البخاري أنه صلّى الله عليه وسلّم قال لأصحابه: «أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قالوا: بلى» وفي صحيح مسلم أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «أنت الذي لقيتني بمكة فقال له المجيب: بلى» وليس لهؤلاء أن يحتجوا بذلك لأنه قليل فلا يتخرج عليه التنزيل انتهى. وأجاب البدر الدماميني بأنه لا إشكال في الحقيقة فإن هؤلاء راعوا صورة النفي المنطوق به فيجاب ببلى حيث يراد إبطال النفي الواقع بعد الهمزة وجوزوا الجواب بنعم على أنه تصديق لمضمون الكلام جميعه الهمزة ومدخولها وهو إيجاب كما سلف ودعواه الاتفاق مناقش فيها أما إن أراد الإيجاب المجرد من النفي بالمرة فقد حكى الرضى الخلاف فيه، وذكر أن بعضهم أجاز استعمالها بعده تمسكا بقوله: وقد بعدت بالوصل بيني وبينها ... بل ان من زار القبور ليبعدا وإن أراد ما هو الأعم حتى يشمل التقرير المصاحب للنفي فالخلاف فيه موجود مشهور ذكره هو في حرف النون انتهى، ولا يخفى أن البيت شاذ كما صرح به الرضى، والمذكور في بحث النون أن جماعة من المتقدمين والمتأخرين منهم الشلوبين قالوا: إنه إذا كان قبل النفي استفهام فإن كان على حقيقته فجوابه كجواب النفي المجرد وإن كان مرادا به التقرير فالأكثر أن يجاب بما يجاب به النفي رعيا للفظه، ويجوز عند أمن اللبس أن يجاب بما يجاب به الإيجاب رعيا لمعناه وعلى ذلك قول الأنصار للنبي صلّى الله عليه وسلّم نعم وقد قال لهم: ألستم ترون لهم ذلك وقول جحدر: أليس الليل يجمع أم عمرو ... وإيانا فذاك بنا تداني نعم وأرى الهلال كما تراه ... ويعلوها النهار كما علاني وعلى ذلك جرى كلام سيبويه، وقال ابن عصفور: أجرت العرب التقرير في الجواب مجرى النفي المحض وإن كان إيجابا في المعنى فإذا قيل: ألم أعطك درهما قيل في تصديقه: نعم وفي تكذيبه بلى، وذلك لأن المقرر قد يوافقك فيما تدعيه وقد يخالفك فإذا قال: نعم لم يعلم هل أراد نعم لم تعطني على اللفظ أو نعم أعطيتني على المعنى فلذلك أجابوه على اللفظ ولم يلتفتوا إلى المعنى. وأما نعم في بيت جحدر فجواب لغير مذكور وهو ما قدره اعتقاده من أن الليل يجمعه وأم عمرو وجاز ذلك لأمن اللبس لعلمه أن كل أحد يعلم أن الليل يجمعه مع أم عمرو، أو هو جواب لقوله: وأرى الهلال قدم عليه وأما قول الأنصار: فجاز لأمن اللبس لأنه قد علم أنهم يريدون نعم يعرف لهم ذلك، وعلى هذا يحمل استعمال سيبويه لها بعد التقرير انتهى. والأحسن أن تكون نعم في البيت جوابا لقوله: فذاك بنا تدانى، ثم قال ابن هشام: ويتحرر على هذا أنه لو أجيب أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ بنعم لم يكف في الإقرار لأنه سبحانه وتعالى أوجب في الإقرار بما يتعلق بالربوبية ما لا يحتمل غير المعنى المراد من المقر، ولهذا لا يدخل في الإسلام بقوله لا إله إلا الله برفع إله لاحتماله لنفي الوحدة، ولعل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إنما قال: إنهم لو قالوا: نعم لم يكن إقرارا وافيا، وجوز الشلوبين أن يكون مراده رضي الله تعالى عنه أنهم لو قالوا نعم جوابا للملفوظ على ما هو الأفصح لكان كفرا إذ الأصل تطابق السؤال والجواب لفظا، وفيه نظر لأن التكفير لا يكون بالاحتمال، والكلام عند جمع تمثيل لخلقه تعالى الخلق جميعا في مبدأ الفطرة مستعدين للاستدلال بالأدلة الآفاقية والأنفسية المؤدية إلى التوحيد كما نطق به قوله صلّى الله عليه وسلّم: «كل مولود يولد على الفطرة» الجزء: 5 ¦ الصفحة: 95 الحديث مبني على تشبيه الهيئة المنتزعة من تعريضه سبحانه وتعالى إياهم لمعرفة ربويته ووحدانيته بعد تمكينهم منها بما ركز فيهم من العقول والبصائر ونصب لهم في الآفاق والأنفس من الدلائل تمكينا تاما ومن تمكنهم منها تمكنا كاملا وتعرضهم لها تعرضا قويا بهيئة منتزعة من حمله تعالى إياهم على الاعتراف بها بطريق الأمر ومن مسارعتهم إلى ذلك من غير تلعثم أصلا من غير أن يكون هناك أخذ وإشهاد وسؤال وجواب، ونظير ذلك في قول ما في قوله سبحانه وتعالى: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ومن ذلك سائر ما يحكى عن الحيوان والجماد كقوله: شكا إليّ جملي طول السرى ... مهلا رويدا فكلانا مبتلى (وقوله) امتلأ الحوض وقال قطني ... مهلا رويدا قد ملأت بطني وجعلوا قوله سبحانه وتعالى: أَنْ تَقُولُوا من تلوين الخطاب وصرفه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى معاصريه من اليهود تشديدا في الإلزام أو إليهم وإلى متقدميهم بطريق التغليب وهو مفعول له لما قبله من الأخذ والاشهاد أو لمقدر يدل عليه ذلك، والمعنى على ما يقول البصريون: فعلنا ما فعلنا كراهة أن تقولوا وعلى ما يقول الكوفيون: لئلا تقولوا يَوْمَ الْقِيامَةِ عند ظهور الأمر وإحاطة العذاب بمن أشرك إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا أي وحدانية الربوبية غافِلِينَ لم ننبه عليه، وإنما لم يسعهم هذا الاعتذار حينئذ على ما قيل لأنهم نبهوا بنصب الأدلة وجعلوا متهيئين تهيؤا تاما لتحقيق الحق وإنكار ذلك مكابرة فكيف يمكنهم أن يقولوا ذلك أَوْ تَقُولُوا في ذلك اليوم إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ أي إن آباءنا هم اخترعوا الإشراك وهم سنّوه من قبل زماننا وَكُنَّا نحن ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ لا نهتدي إلى سبيل التوحيد أَفَتُهْلِكُنا أي أتؤاخذنا فتهلكنا اليوم بالعذاب بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ من آبائنا المضلين لا نراك تفعل. وأَوْ لمنع الخلو دون الجمع، وفعل القول عطف على نظيره وقرأهما أبو عمرو بالياء على الغيبة لأن صدر الكلام عليها، ووجه قراءة الخطاب ما علمت. وقال البعض: إن ذاك لقول الرب تعالى ربكم وإنما لم يسع القوم هذا القول لأن ما ذكر من استعدادهم يضيق عليهم المسالك إليه إذ التقليد عند قيام الدلائل والقدرة على الاستدلال بها مما لا مساغ إليه أصلا. هذا والذي عليه المحدثون والصوفية قاطبة أن الله تعالى أخذ من العباد بأسرهم ميثاقا قاليا قبل أن يظهروا بهذه البنية المخصوصة وأن الإخراج من الظهور كان قبل أيضا. فقد أخرج أحمد والنسائي وابن جرير وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله تعالى أخذ الميثاق من ظهر آدم بنعمان يوم عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذراها فنشرها بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلا ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا» . وأخرج مالك في الموطأ وأحمد وعبد بن حميد والبخاري في التاريخ وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن جرير وخلق كثير عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه سئل عن هذه الآية وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ إلخ فقال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل عنها فقال: إن الله تعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال الرجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال: إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله الله الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله حديث عمر رضي الله تعالى عنه لا يساعد ذلك ولا ظاهر الآية لأنه سبحانه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 96 وتعالى لو أراد أن يذكر أنه استخرج الذرية من صلب آدم دفعة واحدة لا على توليد بعضهم من بعض على مر الزمان لقال: وإذا أخذ ربك من ظهر آدم ذريته، والتوفيق بينهما أن يقال: المراد من بني آدم في الآية آدم وأولاده وكأنه صار اسما للنوع كالإنسان والبشر، والمراد بالإخراج توليد بعضهم من بعض على مر الزمان واقتصر في الحديث على ذكر آدم اكتفاء بذكر الأصل عن ذكر الفرع، وقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث «مسح ظهر آدم» يحتمل أن يكون الماسح الملك الموكل على تصوير الأجنة وتخليقها وجمع موادها وأسند إلى الله تعالى لأنه الآمر كما أسند التوفي إليه في قوله تعالى: يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها [الزمر: 42] والمتوفى لها هو الملك لقوله تعالى: تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ [النحل: 28، 32] ويحتمل أن يكون الماسح هو الله تعالى ويكون المسح من باب التمثيل، وقيل: هو من المساحة بمعنى التقدير كأنه قال: قدر ما في ظهره من الذرية انتهى كلامه. وقال بعضهم: ليس المعنى في الحديث أنه تعالى أخرج الكل من ظهر آدم عليه السلام بالذات بل أخرج من ظهره أبناءه الصلبية ومن ظهورهم أبناءهم الصلبية وهكذا إلى آخر السلسلة لكن لما كان المظهر الأصلي ظهره عليه الصلاة والسلام وكان مساق الحديث بيان حال الفريقين إجمالا من غير أن يتعلق بذكر الوسائط غرض على نسب إخراج الكل إليه، وأما الآية الكريمة فحيث كانت مسوقة للاحتجاج على الكفرة المعاصرين لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبيان عدم إفادة الاعتذار بإسناد الإشراك إلى آبائهم اقتضى الحال نسبة إخراج كل واحد منهم إلى ظهر أبيه من غير تعرض لاخراج الأبناء الصلبية لآدم عليه السلام من ظهره قطعا، وعدم بيان الميثاق في الخبر العمري ليس بيانا لعدمه ولا مستلزما له اهـ. وأنت تعلم أن التأويل الذي ذكره البيضاوي يأبى عنه كل الإباء حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأن ما ذكره البعض من أن مساق الحديث بيان حال الفريقين إجمالا يأباه ظهور عدم كون السؤال عن حالهما ليساق الحديث لبيانه فإن الظاهر أن الصحابي إنما سأله عليه الصلاة والسلام عما أشكل عليه من معنى الآية أن الإشهاد هل هو حقيقة أم على الاستعارة؟ فلما أجابه صلّى الله عليه وسلّم بما عرف منه ما أراده لأنه كان بليغا ولو أشكل عليه من جهة أخرى لكان الواجب بيان تلك الجهة وكذا فهم الفاروق رضي الله تعالى عنه. ومن هنا يعلم أن قول الإمام ان ظاهر الآية يدل على إخراج الذرية من ظهر بني آدم، وليس فيها ما يدل على أنهم أخرجوا من صلب آدم ولا ما يدل عليه نفيه إلا أن الخبر دل عليه فيثبت خروجهم من آدم بالحديث ومن بنيه بالآية لا يطابق سباق الحديث كما لا يخفى، وقال الشيخ شهاب الدين التوربشتي: إنما جد كثير من أهل العلم في الهرب عن القول في معنى الآية بما يقتضيه ظاهر خبر الحبر لمكان قوله سبحانه: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ فقالوا: إن كان هذا الإقرار عن اضطرار حيث كوشفوا بحقيقة الأمر وشاهدوه عين اليقين فلهم ذلك اليوم أن يقولوا: شهدنا يومئذ فلما زال عنا علم الضرورة ووكلنا إلى آرائنا كان منا من أصاب ومنا من أخطأ وإن كان عن استدلال ولكنهم عصموا عنده من الخطأ فلهم أيضا أن يقولوا: أيدنا يوم الإقرار بتوفيق وعصمة وحرناهما من بعد ولو امددنا بهما أبدا لكانت شهادتنا في كل حين كشهادتنا في اليوم الأول فيتعين حينئذ أن يراد بالميثاق ما ركب الله تعالى فيهم من العقول وآتاهم من البصائر لأنها هي الحجة البالغة والمانعة عن قولهم إنا كنا إلخ لأن الله تعالى جعل الإقرار والتمكن من معرفة ربوبيته ووحدانيته سبحانه حجة عليهم في الإشراك كما جعل بعث الرسول حجة عليهم في الإيمان بما أخبر عنه من الغيوب انتهى. وحاصله أن لو لم تؤول الآية بما ذكر يلزم أن لا يكونوا محجوجين يوم القيامة، وقد أجيب عنه باختيار كل من الشقين ورفع محذوره. أما الأول فبأن يقال: إذا قالوا شهدنا يومئذ فلما زال علم الضرورة ووكلنا إلى آرائنا كان كذا أيها الكذابون متى وكلتم إلى آرائكم ألم نرسل رسلنا تترى ليوقظوكم عن سنة الغفلة؟ وأما الثاني فبأن يقال: إن هذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 97 مشترك الإلزام فإنه إذا قيل لهم: ألم نمنحكم العقول والبصائر: فلهم أن يقولوا؟ فإذا حرمنا اللطف والتوفيق فأي منفعة لنا في العقل والبصيرة؟ وذكر محيي السنة في جواب أنه كيف تلزم الحجة ولا أحد يذكر ذلك الميثاق أن الله تعالى قد أوضح الدلائل على وحدانيته وصدق رسله فيما أخبروا به فمن أنكره كان معاندا ناقضا للعهد ولزمته الحجة ونسيانه وعدم حفظه لا يسقط الاحتجاج بعد أخبار المخبر الصادق. ولا يخفى ما فيه، ولهذا أجاب بعضهم بأن قوله تعالى: أَنْ تَقُولُوا ليس مفعولا لا لقوله تعالى: وَأَشْهَدَهُمْ وما يتفرع عليه من قولهم بَلى شَهِدْنا حتى يجب كون ذلك الإشهاد والشهادة محفوظا لهم في إلزامهم بل لفعل مضمر ينسحب عليه الكلام، والمعنى فعلنا ما فعلنا من الأمر الميثاق وبيانه كراهة أن تقولوا أو لئلا تقولوا أيها الكفرة يوم القيامة إنا كنا غافلين عن ذلك الميثاق لم ننبه عليه في دار التكليف وإلا لعملنا بموجبه، هذا على قراءة الجمهور، أما على القراءة الأخرى فهو مفعول له لنفس الأمر المضمر العامل في إِذْ أَخَذَ والمعنى اذكر لهم الميثاق المأخوذ منهم فيما مضى لئلا يعتذروا يوم القيامة بالغفلة عنه أو بتقليد الآباء، ثم قال: هذا على تقدير كون شهدنا من كلام الذرية وهو الظاهر فأما على تقدير كونه من كلام الله تعالى فهو العامل في أَنْ تَقُولُوا ولا محذور أصلا والمعنى شهدنا قولكم هذا لئلا تقولوا يوم القيامة إلخ لأنا نردكم ونكذبكم حينئذ انتهى. ولا يخفى أن ما ذكره أولا من تعلق أَنْ وما بعدها بفعل مضمر ينسحب عليه الكلام أو بنفس الفعل المضمر العامل في إِذْ واضح في دفع السؤال الذي أشرنا إليه، وإنه لعمري في غاية الحسن إلا أن الظاهر تعلقه بالإشهاد وما يتفرع عليه، وأرى الجواب مع عدم العدول عنه لا يخلو عن العدول عنه، ويؤيد ما ذكره ثانيا من كون شَهِدْنا من كلام الله تعالى وكونه العامل ما أخرجه ابن عبد البر في التمهيد من طريق السدي عن أبي مالك. وعن أبي طالب عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وناس من الصحابة أنهم قالوا في الآية: لما أخرج الله تعالى آدم من الجنة قبل تهبيطه من السماء مسح صفحة ظهره اليمنى فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذر فقال لهم: ادخلوا الجنة برحمتي ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر فقال: ادخلوا النار ولا أبالي فذلك قوله تعالى: أَصْحابُ الْيَمِينِ [الواقعة: 27] وَأَصْحابُ الشِّمالِ [الواقعة: 41] ثم أخذ منهم الميثاق فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. فأعطاه طائفة طائعين وطائفة كارهين على وجه التقية فقال: هو والملائكة شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ الحديث، وفيه مخالفة لما روي عن الحبر أولا من أن الأخذ كان بنعمان إذ هو ظاهر في كون ذلك بعد الهبوط وهذا ظاهر في كونه كان قبل، وفي بعض الأخبار ما يقتضي أنه كان إذ كان عرشه سبحانه على الماء، فقد أخرج عبد بن حميد. والحكيم الترمذي في نوادر الأصول والطبراني وأبو الشيخ في العظمة. وابن مردويه عن أبي أمامة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «خلق الله تعالى الخلق وقضى القضية وأخذ ميثاق النبيين وعرشه على الماء فأخذ أهل اليمين بيمينه وأخذ أهل الشمال بيده الأخرى وكلتا يدي الرحمن يمين فقال: يا أصحاب اليمين فاستجابوا له فقالوا له: لبيك ربنا وسعديك قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى. قال: يا أصحاب الشمال فاستجابوا له فقالوا له: لبيك ربنا وسعديك قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى» فخلط بعضهم ببعض الخبر، وذكر بعضهم أنه كان بالهند حيث هبط آدم عليه السلام، وآخرون أنه كان في موضع الكعبة وأن الذرية المخرجة من ظهر آدم عليه السلام كالذر أحاطت به، وجعل المحل الذي شغلته إذ ذاك حرما، وليس لهذا سند يعول عليه، والتوفيق بين هذه الروايات مشكل إلا أن يقال بتعدد أخذ الميثاق، وإليه ذهب السادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم، لكن يشعر كلامهم باختلاف النوع، فقد قال بعضهم: رأيت من يستحضر قبل ميثاق أَلَسْتُ ستة مواطن أخرى ميثاقية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 98 فذكرت ذلك لشيخنا رضي الله تعالى عنه فقال: إن قصد القائل بالحضرات الستة التي عرفها قبل ميثاق أَلَسْتُ الكليات فمسلم، وأما إن أراد جملة الحضرات الميثاقية التي قبل أَلَسْتُ فهي أكثر من ذلك، ويعلم من هذا ما في قولهم: لا أحد يذكر ذلك الميثاق على وجه السلب الكلي من المنع، وقد روي عن ذي النون أيضا وقد سئل عن ذلك هل تذكره أنه قال: كأنه الآن في أذني. وقال بعضهم مستقربا له: إن هذا الميثاق بالأمس كان وأشار فيه أيضا إلى مواثيق أخر كانت قبل، ويمكن أن يقال مرادهم من تلك السالبة لا أحد من المشركين يذكر ذلك الميثاق لا لا أحد مطلقا. وذكر قطب الحق والدين العلامة الشيرازي في التوفيق بين الآية والخبر العمري كلاما ارتضاه الفحول وتلقوه بالقبول وحاصله: أن جواب النبي صلّى الله عليه وسلّم إذ سئل عن الآية من قبيل أسلوب الحكيم وذلك أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن بيان الميثاق الحالي فأجاب ببيان الميثاق المقالي على ألطف وجه. وبيانه أن سبحانه كان له ميثاقان مع بني آدم. أحدهما تهتدي إليه العقول من نصب الأدلة الباعثة على الاعتراف الحالي. وثانيهما المقالي الذي لا يهتدي إليه العقل بل يتوقف على توقيف واقف على أحوال العباد من الأزل إلى الأبد كالأنبياء عليهم السلام فأراد النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يعلم الأمة ويخبرهم عن أن وراء الميثاق الذي يهتدون إليه بعقولهم ميثاقا آخر أزليا فقال ما قال من مسح ظهر آدم عليه السلام في الأزل وإخراج الذرية ليعرف منه أن هذا النسل الذي يخرج في لا يزال من أصلاب بني آدم هو الذر الذي أخرج في الأزل من صلب آدم وأخذ منه الميثاق المقالي الأزلي كما أخذ منهم في لا يزال بالتدريج حين أخرجوا الميثاق الحالي اللايزالي اهـ وهو حسن كما قالوا، لكن ينبغي أن يحمل الأزل فيه ولا يزال على المجاز لأن خروج النسل محدود بيوم القيامة وعلى القول بعدم انقطاعه بعده هو خاص بالسعداء على وجه خاص كما علم في محله والأمر حادث لا أزلي وإلا لزم خرق إجماع المسلمين والتدافع بين الآية وكان الله تعالى ولم يكن معه شيء، ونقل عن الخلخالي أنه شمر عن ساقه في دفع ذلك فقال: المخاطبون هم الصور العلمية القديمة التي هي ماهيات الأشياء وحقائقها ويسمونها الأعيان الثابتة وليست تلك الصور موجودة في الخارج فلا يتعلق بها بحسب ذلك الثبوت جعل بل هي في ذواتها غير محتاجة إلى ما يجعلها تلك الصور وهي صادرة عنه تعالى بالفيض الأقدس وقد صرحوا بأنها شؤونات واعتبارات للذات الاحدي وجوابهم بقولهم: بل إنما هو بألسنة استعدادتهم الأزلية لا بالألسنة التي هي بعد تحققها في الخارج انتهى. وهو مبني على الفرق بين الثبوت والوجود وفيه نزاع طويل لكنا ممن يقول به والله لا يستحي من الحق، ومن هنا انقدح لبعض الأفاضل وجه آخر في التوفيق بين الآية والحديث وهو أن المراد بالذرية المستخرجة من صلب آدم عليه السلام وبنيه هو الصور العلمية والأعيان الثابتة وأن المراد باستخراجها هو تجلي الذات الاحدي وظهوره فيها وأن نسبة الإخراج إلى ظهورهم باعتبار أن تلك الصور إذا وجدت في الأعيان كانت عينهم وأن تلك المقاولة حالية استعدادية أزلية لا قالية لا يزالية حادثة وهذا هو المراد بما نقل الشيخ العارف أبو عبد الرحمن السلمي في الحقائق عن بنان حيث قال: أوجدهم لديه في كون الأزل ثم دعاهم (1) فأجابهم سراعا وعرفهم نفسه حين لم يكونوا في الصورة الانسية ثم أخرجهم بمشيئته خلقا وأودعهم في صلب آدم فقال سبحانه: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ إلخ ... فاخبر أنه خاطبهم وهم غير موجودين إلا بوجوده لهم إذ كانوا واجدين للحق في غير وجودهم لأنفسهم وكان الحق بالحق في ذلك موجودا ثم أنشد السلمي لبعضهم:   (1) قوله فأجابهم سراعا كذا بخطه والأولى فأجابوا إلخ اهـ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 99 لو يسمعون كما سمعت كلامها ... خروا لعزة ركعا وسجودا ولا يخفى أن هذا التوفيق بعيد بمراحل عن ذوق أرباب الظاهر لمخالفته لظواهر الأخبار والمتبادر من الآثار، وما نقل عن بنان فيه وهو أول كلامه انتخبهم للولاية واستخلصهم للكرامة، وجعل لهم فسوحا في غوامض غيب الملكوت وبعده ما ذكره، وشموله لسائر الخلق سعيدهم وشقيهم لا يخلو عن بعد، وذكر الشيخ الأكبر قدس سره أن الله تعالى أبدع المبدعات وتجلى بلسان الأحدية في الربوبية فقال: ألست بربكم؟ والمخاطب في غاية الصغاء فقالوا: بلى. فكان كمثل الصدى فإنهم أجابوه به فإن الوجود المحدث خيال منصوب وهذا الاشهاد كان إشهاد رحمة لأنه سبحانه ما قال لهم وحدي إبقاء عليهم لما علم أنهم يشركون به تعالى عن ذلك علوا كبيرا بما فيهم من الحظ الطبيعي وبما فيهم من قبول الاقتدار الإلهي وما يعلمه إلا قليل وأنت تعلم أن محققي المفسرين اعتبروا الوحدانية في الإشهاد وكذا في الشهادة كما مرت الإشارة إليه ونطقت الآثار به، ومن ذلك ما أخرجه عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند والبيهقي وابن عساكر وجماعة عن أبي بن كعب أنه قال في الآية: جمعهم جميعا فجعلهم أرواحا في صورهم ثم استنطقهم فتكلموا ثم أخذ عليهم العهد والميثاق وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى. قال: فإني أشهد عليكم السموات السبع وأشهد عليكم إياكم آدم أن تقولوا يوم القيامة إنا لم نعلم بهذا اعلموا أنه لا إله غيري ولا رب غيري ولا تشركوا بي شيئا إني سأرسل إليكم رسلي يذكرونكم عهدي وميثاقي وأنزل عليكم كتبي قالوا: شهدنا بأنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك ولا إله لنا غيرك فأقروا ورفع عليهم آدم ينظر إليهم فرأى الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك فقال: يا رب لولا سويت بين عبادك قال: إني أحببت أن أشكر. وبهذا يندفع ما يقال: إن إقرار الذراري بربوبيته سبحانه لا ينافي الشرك لأن المشركين قائلون بربوبيته سبحانه كما يدل عليه قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف: 87] والمعتزلة ينكرون أخذ الميثاق القالي المشار إليه في الأخبار ويقولون: إنها من جملة الآحاد فلا يلزمنا أن نترك لها ظاهر الكتاب وطعنوا في صحتها بمقدمات عقلية مبنية على قواعد فلسفية على ما هو دأبهم في أمثال هذه المطالب، قالوا أولا: إن أخذ الميثاق لا يمكن إلا من العاقل فوجب أن يتذكر الإنسان في هذا العالم ذلك الميثاق إذ لا يجوز للعاقل أن ينسى مثل هذه الواقعة العظيمة نسيا كليا فحيث نسي كذلك دل على عدم وقوعها، وبنحو هذا الدليل بطل التناسخ. وأجيب بأن العلم إنما هو بخلق الله تعالى فجاز أن لا يخلقه لحكمة علمها، ودليل بطلان التناسخ ليس منحصرا بما ذكر، فقد استدلوا أيضا على بطلانه بلزوم أن يكون للبدن نفسان كما بينه الإمام في المباحث الشرقية وأن يكون عدد الهالكين مساويا لعدد الكائنين والطوفات العامة تأبى هذا التساوي، على أنه يمكن أن يجاب بالفرق بين التناسخ وبين ما نحن فيه، وذلك أنا إذا كنا في أبدان أخرى وبقينا فيها سنين امتنع في مجرى العادة نسيان أحوالها، وأما أخذ الميثاق فإنما حصل في أسرع زمان فلم يبعد حصول النسيان فيه. وبعضهم أجاب بأن النسيان وعدم التذكر هنا لبعد الزمان. واعترض بأن أهل الآخرة يعرفون كثيرا من أحوال الدنيا كما نطقت بذلك الآيات والأخبار اللهم إلا أن يقال: إن ذلك خصوصية الدار، وقالوا ثانيا: إن تلك الذرية المأخوذة من ظهر آدم عليه السلام لا بد أن يكون لكل واحد منها قدر من البنية حتى يحصل فيه العلم والفهم فمجموعها لا تحويه عرصة الدنيا فيمتنع حصوله في ظهر آدم ليؤخذ ثم يرد، وأجيب بأنه مبني على كون الحياة مشروطة بالبنية المخصوصة كما هو مذهب الخصوم، والبرهان قائم على بطلانه كما تقرر في الكلام، فيجوز أن يخلق الله تعالى الحياة في جوهر فرد، وتلك الذرية المخرجة كانت كالذر وهو قريب من الجوهر، وكون المجموع لا تحويه عرصة الدنيا غير مسلم، وإن كان الأخذ في السماء قبل هبوط آدم عليه السلام فالدائرة واسعة، وإن كان إذ كان العرش على الماء فالدائرة أوسع، ولا مانع إذا كان في الأرض أن يكون اجتماع الذر متراكما بينها وبين السماء وإنه لفضاء عظيم وإن صغرت قاعدته، وإن اعتبر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 100 أن الإنسان عبارة عن النفس الناطقة وأنها جوهر غير متحيز ولا حال فيه لم يحتج إلى الفضاء إلا أن فيه ما فيه، وقالوا ثالثا: إنه لا فائدة في أخذ الميثاق لأنهم لا يصيرون بسببه مستحقين للثواب والعقاب على أنهم أدون حالا من الأطفال والطفل لا يتوجه عليه التكليف فكيف يتوجه على الذر. وأجيب بأن فائدة الأخذ غير منحصرة في الاستحقاق المذكور بل يجوز أن تكون إظهار كمال القدرة لمن حضر من الملائكة وإقامة الحجة يوم القيامة كما يقتضيه قول البعض في الآية، وكونهم إذ ذاك أدون حالا من الأطفال في حيز البطلان كما لا يخفى على من هو أدون حالا من الأطفال، وقالوا رابعا: إنه سبحانه وتعالى قال: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون: 12] : وقال جل وعلا: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ [الطارق: 5، 6] وكون أولئك الذر أناسي ينافي كون الإنسان مخلوقا مما ذكر. وأجيب بأن الإنسان في هذه النشأة مخلوق من ذلك ولا يلزم منه أن يكون في تلك النشأة كذلك على أن الله تعالى لا يعجزه شيء، وبالجملة ينبغي للمؤمن أن يصدق بذلك الأخذ فقد نطقت به الأخبار الصادرة من منبع الرسالة، ولا يلتفت إلى قول من قال: إنها متروكة العمل لكونها من الآحاد فإن ذلك يؤدي إلى سد باب كبير من الفتوحات الغيبية ويحرم قائله من عظيم المنح الإلهية. وقد روى البيهقي في المدخل عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال: الذين لقيناهم كلهم يثبتون خبر واحد عن واحد عن واحد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ويجعلونه سنة حمد من تبعها وعيب من خالفها، وقال: من خالف هذا المذهب كان عندنا مفارقا لسبيل أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأهل العلم بعدهم وكان من أهل الجهالة، وفي جامع الأصول عن رزين عن أبي رافع أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لأعرفن الرجل منكم يأتيه الأمر من أمري أنا أمرت به أو نهيت عنه وهو متكىء في أريكته فيقول: ما ندري ما هذا عندنا كتاب الله تعالى وليس هذا فيه» الحديث، ولا ينبغي البحث عن كيفية ذلك فإنه من العلوم المسكوت عنها المحتاجة إلى كشف الغطاء وفيض العطاء. ومن ذلك ما أخرجه الجندي في فضائل مكة وأبو الحسن القطان والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان وضعفه عن أبي سعيد الخدري قال: حججنا مع عمر رضي الله تعالى عنه فلما دخل الطواف استقبل الحجر فقال: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبلك ما قبلتك ثم قبله فقال له علي كرم الله تعالى وجهه: يا أمير المؤمنين إنه يضر وينفع قال: بم؟ قال: بكتاب الله عزّ وجلّ قال: وأين ذلك من كتاب الله تعالى قال: قال الله تعالى وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ الآية إلى قوله سبحانه: بَلى وذلك أن الله عزّ شأنه خلق آدم عليه السلام ومسح على ظهره فأخرج ذريته فقررهم بأنه الرب وأنهم العبيد وأخذ عهودهم ومواثيقهم وكتب ذلك في رق وكان لهذا الحجر عينان ولسان فقال له: افتح فاك ففتح فاه فألقمه ذلك الرق فقال: اشهد لمن وأفاك بالموافاة يوم القيامة وإني أشهد لسمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يؤتى يوم القيامة بالحجر الأسود وله لسان ذلق ليشهد لمن يستلمه بالتوحيد» فهو يا أمير المؤمنين يضر وينفع. فقال عمر رضي الله تعالى عنه أعوذ بالله تعالى أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن. قيل: ومن هنا يعلم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الحجر يمين الله تعالى في أرضه» والكلام في ذلك شهير، هذا ومن الناس من ذكر أن الناس بعد أن قالوا: بلى منهم من سجد سجدتين ومنهم من لم يسجد أصلا ومنهم من سجد مع الأولين السجدة الأولى ولم يسجد الثانية ومنهم من عكس، فالصنف الأول هم الذين يعيشون مؤمنين ويموتون كذلك، والثاني هم الذين يعيشون كفارا أو يموتون كذلك. والثالث هم الذين يعيشون مؤمنين ويموتون كفارا والرابع هم الذين يعيشون كفارا أو يموتون مؤمنين انتهى. وهو كلام لم يشهد له كتاب ولا سنة فلا يعول عليه، ومثله القول بأن بعضا من القائلين بلى قد مكر منهم إذ ذاك حيث أظهر لهم إبليس في ذلك الجمع وظنوا أنه القائل: ألست بربكم؟ فعنوه بالجواب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 101 وأولئك هم الأشقياء، وبعضا تجلى لهم الرب سبحانه فعرفوه وأجابوه وأولئك هم السعداء، وهذا عندي من البطلان بمكان، والذي ينبغي اعتقاده أنهم كلهم وجهلوا الجواب لرب الأرباب. نعم ذهب البعض إلى أن البعض أجاب كرها واستدلوا له ببعض الآثار السالفة، وذهب أهل هذا القول إلى أن أطفال المشركين في النار، ومن قال: إنهم في الجنة ذهب إلى أنهم أقروا عند أخذ الميثاق اختيارا فيدخلون الجنة بذلك الإقرار والله سبحانه أرحم الراحمين وإسناد القول في الآية على بعض الأقوال إلى ضمير الجمع إنما هو باعتبار وقوعه من البعض فإن وقوعه من الكل باطل بداهة، ومثل هذا واقع في الآيات كثيرا وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي ذلك التفصيل البليغ المستتبع للمنافع الجليلة نفصلها لا غير ذلك. وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عما هم عليه من الإصرار على الباطل نفعل التفصيل المذكور، وقيل: المعنى ولعلهم يرجعون إلى الميثاق الأول فيذكرونه ويعملون بمقتضاه نفعل ذلك، وأيّا ما كان فالواو ابتدائية كالتي قبلها، وجوز أن تكون عاطفة على مقدر أي ليقفوا على ما فيها من المرغبات والزواجر، أو ليظهر الحق ولعلهم يرجعون، وقيل: إنها سيف خطيب. هذا ومن باب الإشارة قالوا: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ أي عن أهل قرية الجسد وهم الروح والقلب والنفس الأمارة وتوابعها الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ أي مشرفة على شاطىء بحر البشرية إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ يتجاوزون حدود الله تعالى يوم يحرم عليهم تناول بعض الملاذ النفسانية والعادي من أولئك الأهل إنما هو النفس الأمارة فإنها في مواسم الطاعات والكف عن الشهوات كشهر رمضان مثلا حريصة على تناول ما نهيت عنه والمرء. حريص على ما منع إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ وهي الأمور التي نهوا عن تناولها يَوْمَ سَبْتِهِمْ الذي أمروا بتعظيمه شرعا قريبة المأخذ وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ بأن لا يتهيأ لهم ما يريدونه كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ نعاملهم معاملة من يختبرهم بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي بسبب فسقهم المستمر طبعا. قال بعضهم: ما كان ما قص الله تعالى إلا كحال الإسلاميين من أهل زماننا في اجتماع أنواع الحظوظ النفسانية من المطاعم والمشارب والملاهي والمناكح ظاهرة في الأسواق والمحافل في الأيام المعظمة كالأعياد والأوقات المباركة كأوقات زيارة مشاهد الصالحين المعلومة المشهورة بين الناس وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ وهي القلب وأتباعه للأمة الواعظة وهي الروح وأتباعها لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً وهم النفس الأمارة وقواها اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً على فعلهم قالُوا مَعْذِرَةً إلى ربكم أي نعظهم معذرة إليه تعالى وذلك أنا خلقنا آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر فنريد أن نقضي ما علينا ليظهر أنا ما تغيرنا عن أوصافنا ولعلهم يتقون لأنهم قابلون لذلك بحسب الفطرة فلا نيأس من تقواهم فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ لغلبة الشقوة عليهم أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وهم الروح والقلب وأتباعهما فإنهم كلهم نهوا عن ذلك إلا أن بعضهم مل وبعضهم لم يمل وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ أي شديد وهو عذاب حرمان قبول الفيض بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي بسبب تماديهم على الخروج عن الطاعة فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ أي أبوا أن يتركوا ذلك قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ أي جعلنا طباعهم كطباعهم وذلك فوق حرمان قبول الفيض وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ أي اقسم لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي قيامتهم مَنْ يَسُومُهُمْ وهو التجلي الجلالي سُوءَ الْعَذابِ وهو عذاب القهر وذل اتباع الشهوات وَقَطَّعْناهُمْ أي فرقنا بني إسرائيل الروح فِي الْأَرْضِ أي أرض البدن أُمَماً جماعات مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ أي الكاملون في الصلاح كالعقل وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ فيه كالقلب ومن جعل القلب أكمل من العقل عكس الأمر وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 102 تجليات الجمال والجلال لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ بالفناء إلينا فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وهي النفس وقواها وَرِثُوا الْكِتابَ وهو ما ألهم الله تعالى العقل والقلب يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وهي الشهوات الدنية واللذات الفانية ويجعلون ما ورثوه ذريعة إلى أخذ ذلك وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا ولا بد لأنا واصلون كاملون وهذا حال كثير من متصوفة زماننا فانهم يتهافتون على الشهوات تهافت الفراش على النار ويقولون: إن ذلك لا يضرنا لأنا واصلون. وحكي عن بعضهم أنه يأكل الحرام الصرف ويقول: إن النفي والإثبات يدفع ضرره وهو خطأ فاحش وضلال بيّن أعاذنا الله تعالى وإياكم من ذلك. وأعظم منه اعتقاد حل أكل مثل الميتة من غير عذر شرعي لأحدهم ويقول: كل منا بحر والبحر لا ينجس ولا يدري هذا الضال أن من يعتقد ذلك أنجس من الكلب والخنزير. ومنهم يحكي عن بعض الكاملين المكملين من أهل الله تعالى ما يؤيد به دعواه وهو كذا لا أصل له وحاشا ذلك الكامل مما نسب إليه حاشا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أي إنهم مصرون على هذا الفعل القبيح أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ الوارد فيما ألهمه الله تعالى العقل والقلب أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ فكيف عدلوا عنه وَدَرَسُوا ما فِيهِ مما فيه رشادهم وَالدَّارُ الْآخِرَةُ المشتملة على اللذات الروحانية خير للذين يتقون عرض هذا الأدنى وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ أي يتمسكون بما ألهمه الله تعالى العقل والقلب من الحكم والمعارف وَأَقامُوا الصَّلاةَ ولم يألوا جهدا في الطاعة إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ منهم وأجرهم متفاوت حسب تفاوت الصلاح حتى إنه ليصل إلى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ وهو جبل الأمر الرباني والقهر الإلهي كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ غمامة عظيمة وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ إن لم يقبلوا أحكام الله سبحانه خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ بجد وعزيمة وَاذْكُرُوا ما فِيهِ من الأسرار لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ تنتظمون في سلك المتقين على اختلاف مراتب تقواهم. والكلام على قوله سبحانه: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ إلخ من هذا الباب يغني عنه ما ذكرناه خلال تفسيره من كلام أهل الله تعالى قدس الله تعالى أسرارهم خلا أنه ذكر بعضهم أن أول ذرة أجابت ببلى ذرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وكذا هي أول مجيب من الأرض لما خاطب الله سبحانه السموات والأرض بقوله جل وعلا: ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: 11] وكانت من تربة الكعبة وهي أول ما خلق من الأرض ومنها دحيت كما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وكان يقتضي ذلك أن يكون مدفنه صلّى الله عليه وسلّم بمكة حيث كانت تربته الشريفة منها، وقد رووا أن المرء يدفن حيث كانت تربته، ولكن قيل: إن الماء لما تموج رمى الزبد إلى النواحي فوقعت ذرة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى ما يحاذي مدفنه الكريم بالمدينة، ويستفاد من هذا الكلام أنه عليه الصلاة والسلام هو الأصل في التكوين والكائنات تبع له صلّى الله عليه وسلّم قيل: ولكون ذرته أم الخليقة سمي أميا، وذكر بعضهم أن الباء لكونه أول حرف فتحت الذرة به فمها حين تكلمت لم تزل الأطفال في هذه النشأة ينطقون به في أول أمرهم ولا بدع فكل مولود يولد على الفطرة، قيل: ولعظم ما أودع الله سبحانه وتعالى في الباء من الأسرار افتتح الله تعالى به كتابه بل افتتح كل سورة به لتقدم البسملة المفتتحة به على كل سورة ما عدا التوبة وافتتاحها ببراءة وأول هذه اللفظة الباء أيضا، ولكون الهمزة وتسمى ألفا أول حرف قرع أسماعهم في ذلك المشهد كان أول الحروف لكنه لم يظهر في البسملة لسر أشرنا إليه أول الكتاب والله تعالى الهادي إلى صوب الصواب وَاتْلُ عَلَيْهِمْ عطف على المضمر العامل في إِذْ أَخَذَ وارد على نمط الإنباء عن الحور بعد الكور، أي واقرأ على اليهود أو على قومك كما في الخازن نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا أي خبره الذي له شأن وخطر، وهو كما روى ابن مردويه وغيره من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بلعم بن باعوراء وفي لفظ بلعام بن باعر وكان من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 103 الكنعانيين، وفي رواية عنه. وعن أبي طلحة أنه من بني إسرائيل، وأخرج ابن عساكر عن ابن شهاب أنه أمية بن أبي الصلت. وأخرج أبو الشيخ عن الحبر أنه رجل من بني إسرائيل له زوجة تدعى البسوس، وفي رواية أخرى أخرجها ابن حاتم عنه أنه النعمان بن صيفي الراهب، وكونه إسرائيليا أنسب بالمقام كما لا يخفى، والأشهر أنه بلعام أو بلعم وكان قد أوتي علما ببعض كتب الله تعالى، ودون ذلك في الشهرة أنه أمية وكان قد قرأ بعض الكتب فَانْسَلَخَ مِنْها أي من تلك الآيات انسلاخ الجلد من الشاة، والمراد أنه خرج منها بالكلية بأن كفر بها ونبذها وراء ظهره، وحقيقة السلخ كشط الجلد وإزالته بالكلية عن المسلوخ عنه، ويقال لكل شيء فارق شيئا على أتم وجه انسلخ منه، وفي التعبير به ما لا يخفى من المبالغة، واستأنس بعضهم بهذه الآية لأن العلم لا ينزع من الرجال حيث قال سبحانه وتعالى: فَانْسَلَخَ مِنْها ولم يقل عز شأنه فانسلخت منه فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ أي لحقه وأدركه كما قال الراغب بعد أن لم يكن مدركا له لسبقه بالإيمان والطاعة، وقال الجوهري يقال: أتبعت القوم إذا سبقوك فلحقتهم وكأن المعنى جعلتهم تابعين لي بعد ما كنت تابعا لهم، وفيه حينئذ مبالغة في اللحوق إذ جعل كأنه إمام للشيطان والشيطان يتبعه وهو من الذم بمكان، ونظيره في ذلك قوله: وكان فتى من جند إبليس فارتقى ... به الحال حتى صار إبليس من جنده وصرح بعضهم بأن معناه استتبعه أي جعله تابعا له، وهو على ما قيل متعد لمفعولين حذف ثانيهما أي أتبعه خطواته. وقرىء «فاتبعه» من الافتعال فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ فصار من زمرة الضالين الراسخين في الغواية بعد أن كان مهتديا، وكيفية ذلك على القول بأنه بلعام أن موسى عليه السلام لما قصد حرب الجبارين أتى قوم بلعام إليه وكان عنده اسم الله تعالى الأعظم فقالوا له: إن موسى عليه والسلام رجل حديد وإن معه جنودا كثيرة وإنه قد جاء ليخرجنا من أرضنا فادع الله تعالى أن يرده عنا، فقال: ويلكم نبي الله تعالى ومعه الملائكة والمؤمنون فكيف أدعو عليهم وأنا أعلم من الله تعالى ما أعلم وإني إن فعلت ذهبت دنياي وآخرتي فألحوا عليه، فقال: حتى أؤامر ربي فأتى في المنام وقيل له: لا تفعل فأخبر قومه فأهدوا له هدية فقبلها ولم يزالوا يتضرعون إليه حتى فتنوه فجعل يدعو موسى عليه الصلاة والسلام وقومه أن الله تعالى جعل يصرف لسانه إلى الدعاء على قومه نفسه، فقالوا يا بلعام أتدري ما تصنع إنك تدعو علينا، فقال: هذا أمر غلب الله تعالى عليه فاندلع لسانه ووقع على صدره، فقال: يا قوم قد ذهبت مني الدنيا والآخرة ولم يبق إلا المكر والحيلة جملوا النساء وأرسلوهن وأمروهن أن لا يمنعن أنفسهن فإن القوم سفر وإن الله سبحانه وتعالى يبغض الزنا وإن هم وقعوا فيه هلكوا ففعلوا ذلك فافتتن زمرى بن شلوم رأس سبط شمعون ابن يعقون بامرأة منهن تسمى كستى بنت صور فنهاه موسى عليه السلام عن الفاحشة فأبى وأدخلها قبته وزنا بها فوقع فيهم الطاعون حتى هلك منهم سبعون ألفا ولم يرتفع حتى قتلهما فنحاص بن العيزار بن هارون وكان غائبا أول الأمر وعن مقاتل أن ملك البلقاء قال له: ادع الله تعالى على موسى عليه السلام، فقال: إنه من أهل ديني ولا أدعو عليه فنصب له خشبة ليصلبه عليها فدعا بالاسم الأعظم أن لا يدخل الله تعالى موسى عليه السلام المدينة فاستجيب له ووقع بنو إسرائيل في التيه، فقال موسى: يا رب بأي ذنب هذا؟ فقال سبحانه وتعالى: بدعاء بلعام، فقال: رب كما سمعت دعاؤه عليّ فاسمع دعائي عليه فدعا الله جل شأنه أن ينزع عنه الاسم الأعظم والإيمان فنزع الله تعالى عنه المعرفة وسلخه منها فخرجت من صدره كحمامة بيضاء ورد هذا بأن التيه كان روحا وراحة لموسى عليه السلام وإنما عذب به بنو إسرائيل وقد كان ذلك بدعائه عليه السلام، على أن في الدعاء بسلب الإيمان مقالا، وأنا أعجب لم لم يدع هذا الشقي بالاسم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 104 الأعظم الذي كان يعلمه على ملك البلقاء ليخلص من شره؟ ودعا على موسى عليه السلام ما هي إلا جهالة سوداء، وجاء في كلام أبي المعتمر أنه كان قد أوتي النبوة، ويرده أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يجوز عليهم الكفر عند أحد من العقلاء وكأن مراده من النبوة ما أوتيه من الآيات، وذلك كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من حفظ القرآن فقد طوى النبوة بين جنبيه» . وأخرج ابن المنذر عن مالك بن دينار أنه كان من علماء بني إسرائيل وكان موسى عليه السلام يقدمه في الشدائد ويكرهه وينعم عليه فبعثه إلى ملك مدين يدعوهم إلى الله تعالى وكان مجاب الدعوة فترك دين موسى عليه السلام واتبع دين الملك، وهذه الرواية عندي أولى مما تقدم بالقبول، وأما على القول بأنه أمية فهو أنه كان قد قرأ الكتب القديمة وعلم أن الله تعالى مرسل رسولا فرجا أن يكون هو ذلك الرسول، فاتفق أن خرج إلى البحرين وتنبأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأقام هناك ثماني سنين ثم قدم فلقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في جماعة من أصحابه فدعاه إلى الإسلام، وقرأ عليه سورة يس حتى إذا فرغ منها وثب أمية يجر رجليه فتبعته قريش تقول: ما تقول يا أمية؟ فقال: أشهد أنه على الحق قالوا: فهل نتبعه؟ حتى أنظر في أمره فخرج إلى الشام وقدم بعد وقعة بدر يريد أن يسلم فلما أخبر بها ترك الإسلام وقال: لو كان نبيا ما قتل ذوي قرابته فذهب إلى الطائف ومات به فأتت أخته الفارعة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسألها عن وفاته فذكرت له أنه أنشد عند موته: كل عيش وإن تطاول دهرا ... صائر مرة إلى أن يزولا ليتني كنت قبل ما قد بدا لي ... في قلال الجبال أرعى الوعولا إن يوم الحساب يوم عظيم ... شاب فيه الصغير يوما ثقيلا ثم قال لها عليه الصلاة والسلام: أنشديني من شعر أخيك فأنشدته: لك الحمد والنعماء والفضل ربنا ... ولا شيء أعلى منك جدا وأمجد مليك على عرش السماء مهيمن ... لعزته تعنو الوجوه وتسجد من قصيدة طويلة أتت على آخرها، ثم أنشدته قصيدته التي يقول فيها: وقف الناس للحساب جميعا ... فشقيّ معذب وسعيد والتي فيها عند ذي العرش يعرضون عليه ... يعلم الجهر والسرار الخفيا يوم يأتي الرحمن وهو رحيم ... إنه كان وعده مأتيا رب إن تعف فالمعافاة ظني ... أو تعاقب فلم تعاقب بريا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن أخاك آمن شعره وكفر قلبه، وأنزل الله تعالى الآية. وأما على القول بأنه النعمان فهو أنه كان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح فقدم المدينة فقال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ما هذا الذي جئت به؟ فقال عليه الصلاة والسلام: الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام. قال: فأنا عليها. فقال عليه الصلاة والسلام: لست عليها ولكنك أدخلت فيها ما ليس منها. فقال: أمات الله تعالى الكاذب منا طريدا وحيدا، ثم خرج إلى الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا السلاح، ثم أتى قيصر وطلب منه جندا ليخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم من المدينة فمات بالشام طريدا وحيدا. وأما على القول بأنه زوج البسوس، فقد أخرج ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه رجل أعطي ثلاث دعوات مستجابات، وكانت له امرأة تدعى البسوس له منها ولد فقالت: اجعل لي منها واحدة. قال: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 105 فما الذي تريدين؟ قالت ادع الله تعالى أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل فدعا الله تعالى فجعلها أجمل امرأة فيهم، فلما علمت أن ليس فيهم مثلها رغبت عنه وأرادت شيئا آخر فدعا الله تعالى أن يجعلها كلبة فصارت كلبة فذهبت دعوتان، فجاء بنوها فقالوا: ليس بنا على هذا قرار قد صارت أمنا كلبة يعيرنا الناس بها فادع الله أن يردها إلى الحال التي كانت عليها فدعا فعادت كما كانت فذهبت الدعوات الثلاث فيها، ومن هنا يقال: أشأم من البسوس اسم لذلك الرجل، وليس بشيء، وهذه الرواية لا يساعد عليها نظام القرآن الكريم كما لا يخفى، والذي نعرفه أن البسوس التي يضرب بها المثل هي بنت منقذ التميمية خالة جساس بن مرة بن ذهل الشيباني قاتل كليب، وفي قصتها طول وقد ذكرها الميداني وغيره. وعن الحسن وابن كيسان أن المراد بهذا الذي أوتي الآيات فانسلخ منها منافقو أهل الكتاب الذين كانوا يعرفون النبي صلّى الله عليه وسلّم كما يعرفون أبناءهم ولم يؤمنوا به صلّى الله عليه وسلّم إيمانا صحيحا، ويبعد ذلك إفراد الموصول وعن قتادة أن هذا مثل لمن عرض عليه الهدى واستعد له فأعرض عنه وأبى أن يقبله، وفيه مخالفات للروايات المشهورة، وأوهن الأقوال عندي قول أبي مسلم: إن المراد به فرعون والمراد بالآيات الحجج والمعجزات الدالة على صدق موسى عليه السلام، وكأنه قيل: واتل عليهم نبأ فرعون إذ آتيناه الحجج الدالة على صدق موسى عليه السلام فلم يقبلها وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها كلام مستأنف مسوق لبيان ما ذكر من الانسلاخ وما يتبعه، وضمير لَرَفَعْناهُ للذي وضمير بِها للآيات، والباء سببيه، ومفعول المشيئة محذوف هو مضمون الجزاء كما هو القاعدة المستمرة، أي لو شئنا رفعه لرفعناه إلى منازل الأبرار بسبب تلك الآيات والعمل بما فيها، وقيل: الضمير المنصوب للكفر المفهوم من الكلام السابق، أي لو شئنا لأزلنا الكفر بالآيات، فالرفع من قولهم: رفع الظلم عنا وهو خلاف الظاهر جدا وإن روي عن مجاهد، ومثله بل أبعد وأبعد ما نقل عن البلخي. والزجاج من إرجاع ضمير بها للمعصية. وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ أي ركن إلى الدنيا ومال إليها، وبذلك فسره السدي وابن جبير وأصل الإخلاد اللزوم للمكان من الخلود، ولما في ذلك من الميل فسر به، وتفسير الأرض بالدنيا لأنها حاوية لملاذها وما يطلب منها. وقال الراغب: المعنى ركن إلى الأرض ظانا أنه مخلد فيها، وفسر غير واحد الأرض بالسفالة وَاتَّبَعَ هَواهُ في إيثار الدنيا وأعرض عن مقتضى تلك الآيات الجليلة، وفي تعليق الرفع بالمشيئة ثم الاستدراك عنه بفعل العبد تنبيه كما قال ناصر الدين: على أن المشيئة سبب لفعله المؤدي إلى رفعه وأن عدمه دليل عدمها دلالة انتفاء المسبب على انتفاء سببه، وأن السبب الحقيقي هو المشيئة، وأن ما نشاهده من الأسباب وسائط معتبرة في حصول المسبب من حيث إن المشيئة تعلقت به كذلك، وكان من حقه كما قال أن يقول: ولكنه أعرض عنها، فأوقع موقعه ما ذكر مبالغة لأنه كناية أبلغ من التصريح، وتنبيها على ما حمله عليه وأن حب الدنيا رأس كل خطيئة، وما ألطف نسبة إتيان الآيات والرفع إليه تعالى ونسبة الانسلاخ والإخلاد إلى العبد مع أن الكل من الله تعالى إذ فيه من تعليم العباد حسن الأدب ما فيه، ومن هنا قال صلّى الله عليه وسلّم: اللهم إن الخير بيديك والشر ليس إليك. والزمخشري لما رأى أن ظاهر الآية مخالف لمذهبه دال على وقوع الكائنات بمشيئة الله تعالى إلى التأويل، فجعل المشيئة مجازا عن سببها وهو لزوم العمل بالآيات بقرينة الاستدراك بما هو فعل العبد المقابل للزوم الآيات وهو الإخلاد إلى الأرض، أي ولو لزمها لرفعناه وهو من قبيل نزع الخف قبل الوصول إلى الماء والمصير إلى المجاز قبل أوانه لجواز أن يكون لَوْ شِئْنا باقيا على حقيقته وأَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ مجازا عن سببه الذي هو عدم مشيئة الرفع بل الإخلاد، ولم يعتمد على عكازته لفوت المقابلة حينئذ، وفي الكشف أن حمل المشيئة على ما هي مسببة عنه في زعمه ليس أولى من حمل الإخلاد على ما هو مسبب عنه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 106 في زعمنا كيف وقوله سبحانه وتعالى: وَلَوْ شِئْنا استدراك لقوله: فَانْسَلَخَ مِنْها على أن الإخلاد هو الميل، والإرادة والميل ونحوهما من المعاني ليست من أفعال العباد بالاتفاق نعم الجزم المقارن من فعل القلب فعل القلب عندهم، ثم قوله سبحانه وتعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ وقوله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا يؤكدان ما عليه أهل السنة أبلغ تأكيد ولكن الزمخشري لا يعبأ بذلك (1) فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ وهو الحيوان المعروف وجمعه أكلب وكلاب وكلابات كما قال ابن سيده وكليب كعبيد وهو قليل ويجمع أكلب على أكالب، وبه يضرب المثل في الخساسة لأنه يأكل العذرة ويرجع في قيئة والجيفة أحب إليه من اللحم الغريض (2) نعم وهو أحسن من الرجل السوء، ومما ينسب إلى الشافعي رضي الله تعالى عنه: ليت الكلاب لنا كانت مجاورة ... وليتنا ما نرى ممن نرى أحدا إن الكلاب لتهدا في مرابضها ... والناس ليس بهاد شرهم أبدا وفي شعب الإيمان للبيهقي عن الفقيه منصور أنه كان ينشد لنفسه: الكلب أحسن عشرة ... وهو النهاية في الخساسة ممن ينازع في الريا ... سة قبل أوقات الرياسة والمثل بمعنى الصفة كما قال غير واحد فصفته كصفة الكلب، وقيل المراد أنه كالكلب في الخسة إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ أي شددت عليه وطردته يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ على حاله يَلْهَثْ أي إنه دائم اللهث على كل حال، واللهث إدلاع اللسان بالنفس الشديد وذلك طبع في الكلب لا يقدر على نغص الهواء المتسخن وجلب الهواء البارد بسهولة لضعف قلبه وانقطاع فؤاده بخلاف سائر الحيوانات فإنها لا تحتاج إلى النفس الشديد ولا يلحقها الكرب والمضايقة إلا عند التعب والإعياء، وإيثار الجملة الاسمية على الفعلية بأن يقال: فصار مثله كمثل إلخ للإيذان بدوام اتصافه بتلك الحالة الخسيسة وكمال استمراره عليها، والخطاب في فعلي الشرط لكل أحد ممن له حظ من الخطاب فإنه أدخل في إشاعة فظاعة حاله، والجملتان الشرطيتان قيل لا محل لهما من الإعراب لأنهما تفصيل لما أجمل في المثال وتفسير لما أبهم فيه بيان وجه الشبه على منهاج قوله تعالى: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 59] أثر قوله سبحانه وتعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [آل عمران: 59] وقيل: إنهما في محل النصب على الحالية من الكلب بناء على تحولهما إلى معنى التسوية كما تحول الاستفهام إلى ذلك في قوله تعالى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ [البقرة: 6] كأنه قيل لاهثا في الحالين، والجملة الشرطية كما قدمنا تقع حالا مطلقا، وقال صاحب الضوء: إنها لا تكاد تقع كذلك بتمامها بل إذا أريد وقوعها حالا جعلت خبرا عن ذي الحال نحو جاءني زيد وهو إن تسأله يعطك فتجعل جملة اسمية مع الواو لأن الشرط لصدارته لا يكاد يرتبط بما قبله إلا أن يكون هناك فضل قوة. نعم يجوز إذا أخرجتها عن حقيقتها سواء عطف عليها النقيض وحينئذ يجب ترك الواو كما فيما نحن فيه أو لم يعطف وحينئذ يجب الواو لئلا يحصل الالتباس بالشرط الحقيقي نحو آتيك وإن لم تأتني، والتشبيه قيل من تشبيه المفرد بالمفرد، وقيل وعليه كثير من المحققين إنه تشبيه للهيئة المنتزعة مما عراه بعد الانسلاخ من سوء الحال واضطرام القلب ودوام القلق والاضطراب وعدم الاستراحة بحال من الأحوال بالهيئة المنتزعة مما ذكر في   (1) لطافته لا تخفى على إنسان اهـ منه (2) هو بالغين المعجمة مالان من اللحم أي الطري الجزء: 5 ¦ الصفحة: 107 حال الكلب، وجاء وقد أشرنا إليه سابقا أن بلعام لما دعا موسى عليه السلام خرج لسانه فتدلى على صدره وجعل يلهث كالكلب إلى أن هلك فوجه الشبه إما عقلي أو حسي ذلِكَ إشارة إلى وصف الكلب أو المنسلخ من الآيات وما فيه من الإيذان بالبعد لما مر غير مرة. مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يريد كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أهل مكة كانوا يتمنون هاديا يهديهم وداعيا يدعوهم إلى طاعة الله تعالى ثم لما جاءهم من لا يشكون في صدقه وأمانته كذبوه وأعرضوا عن الآيات ولم يؤمنوا بها أو اليهود كما قال غير واحد حيث قرؤوا نعت النبي صلّى الله عليه وسلّم في التوراة وذكر القرآن المعجز وما فيه فصدقوه وبشروا الناس باقتراب مبعثه وكانوا يستفتحون به فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فانسلخوا من حكم التوراة أو الأعم من هؤلاء وهؤلاء من كل من اتصف بهذا العنوان كما في الخازن وبه أقول، ويدخل اليهود، في ذلك أوليا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ القصص مصدر سمي به المفعول كالسلب، واللام فيه للعهد، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي إذا تحقق أن المثل المذكور مثل هؤلاء المكذبين فاقصص ذلك عليهم لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فينزجرون عما هم عليه من الكفر والضلال، والجملة في موضع الحال من ضمير المخاطب أو في موضع المفعول له أي فاقصص راجيا لتفكرهم أو رجاء لتفكرهم ساءَ مَثَلًا استئناف مسوق لبيان كمال قبح المكذبين بعد البيان السابق، وساء بمعنى بئس وفاعلها مضمر ومثلا تمييز مفسر له، ويستغنى بتذكير التمييز وجمعه وغيرهما عن فعل ذلك بالضمير، وأصلها التعدي لواحد، والمخصوص بالذم قوله سبحانه وتعالى: الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وحيث وجب صدق الفاعل والتمييز والمخصوص على شيء واحد والمثل مغاير للقوم لزم تقدير محذوف من المخصوص وهو الظاهر أو التمييز أي ساء مثلا مثل القوم أو ساء أهل مثل القوم. وفي الحواشي الشهابية أنه قرىء بإضافة «مثل» بفتحتين و «مثل» بكسر فسكون للقوم ورفعه فساء للتعجب وتقديرها على فعل بالضم كقضو الرجل و «مثل القوم» فاعل أي ما أسوأهم، والموصول في محل جر صفة للقوم أو هي بمعنى بئس «ومثل» فاعل والموصول هو المخصوص في محل رفع بتقدير مضاف أي مثل الذين إلخ. وقدر أبو حيان في هذه القراءة تمييزا، ورده السمين بأنه لا يحتاج إلى التمييز إذا كان الفاعل ظاهرا حتى جعلوا الجمع بينهما ضرورة، وفيه ثلاثة مذاهب المنع مطلقا والجواز كذلك والتفصيل فإن كان مغايرا جاز نحو نعم الرجل شجاعا زيد وإلا امتنع، وبعضهم يجعل المخصوص محذوفا وفي كونه ما هو خلاف وإعادة القوم موصوفا بالموصول مع كفاية الضمير بأن يقال ساء مثلا مثلهم للإيذان بأن مدار السوء ما في حيز الصلة وليربط قوله سبحانه وتعالى: وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ به فإنه إما معطوف على كذبوا داخل معه في حكم الصلة بمعنى جمعوا بين أمرين قبيحين التكذيب وظلمهم أنفسهم خاصة أو منقطع عنه بمعنى وما ظلموا إلا أنفسهم فإن وبالها لا يتخطاها، وأيا ما كان ففي ذلك لمح إلى أن تكذيبهم بالآيات متضمن للظلم بها وأن ذلك أيضا معتبر في القصر المستفاد من التقديم، وصرح الطيبي والقطب وغيرهما أن الجملة على تقدير الانقطاع تذييل وتأكيد للجملة التي قبلها، ويشعر كلام بعضهم أن تقديم المفعول على الوجه الأول لرعاية الفاصلة وعلى الوجه الثاني للإشارة إلى التخصيص وأن سبب ظلمهم أنفسهم هو التكذيب، وفيه خفاء كما لا يخفى، هذا ثم إن هذه الآيات مما ترمي علماء السوء بثالثة الأثافي، وقد ذكر مولانا الطيبي طيب الله ثراه أن من تفكر في هذا المثل وسائر الأمثال المضروبة في التنزيل في حق المشركين والأصنام من بيت العنكبوت والذباب تحقق له أن علماء السوء أسوأ وأقبح من ذلك فما أنعاه من مثل عليهم وما هم فيه من التهالك في الدنيا مالها وجاهها والركون إلى لذاتها وشهواتها من متابعة النفس الأمارة وإرخاء زمامها في مرامها عافانا الله تعالى والمسلمين من ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 108 ونقل عن مولانا شيخ الإسلام شهاب الدين السهروردي أنه كتب إلى الإمام فخر الدين الرازي تغمدهما الله تعالى برضوانه من تعين في الزمان لنشر العلم عظمت نعمة الله تعالى عليه فينبغي للمتيقظين الحذاق من أرباب الديانات أن يمدوه بالدعاء الصالح ليصفي الله تعالى مورد علمه بحقائق التقوى ومصدره من شوائب الهوى إذ قطرة من الهوى تكدر بحرا من العلم ونوازع الهوى المركوز في النفوس المستصحبة إياه من محتدها من العالم السفلي إذا شابت العلم حطته من أوجه وإذا صفت مصادر العلم وموارده من الهوى أمدته كلمات الله تعالى التي ينفد البحر دون نفادها ويبقى العلم على كمال قوته، وهذه رتبة الراسخين في العلم لا المترسمين به وهم ورثة الأنبياء عليهم السلام كر عملهم على علمهم وتناوب العلم والعمل فيهم حتى صفت أعمالهم ولطفت وصارت مسامرات سرية ومحاورات روحية وتشكلت الأعمال بالعلوم لمكان لطافتها وتشكلت العلوم بالأعمال لقوة فعلها وسرايتها إلى الاستعدادات، وفي اتباع الهوى إخلاد إلى الأرض قال تعالى: وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فتطهير نور الفكرة عن رذائل التخيلات والارتهان بالموهومات التي أورثت العقول الصغار والمداهنة للنفوس القاصرة هو من شأن البالغين من الرجال فتصحب نفوسهم الطاهرة الملأ الأعلى فتسرح في ميادين القدس، فالنزاهة من محنة حطام الدنيا والفرار من استحلاء نظر الخلق وعقائدهم فتلك مصارع الأدوان، وطالب الرفيق الأعلى مكلم محدث، والتعريفات الإلهية واردة عليه لمكان علمه بصورة الابتلاء واستئصاله شأفة الابتلاء بصدق الالتجاء وكثرة ولوجه في حريم القرب الإلهي وانغماسه مع الأنفاس في بحار عين اليقين وغسله نفث دلائل البرهان بنور العيان فالبرهان للأفكار لا للأسرار إلى آخر ما قال، ويا لها من موعظة حكيم ونصيحة حميم نسأل الله تعالى أن يهدينا لما أشارت إليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 109 مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ تذييل وتأكيد لما تضمنته القصة السابقة على ما يشير إليه كلام بعضهم. وقال آخر: إنه تعالى لما أمر نبيه صلّى الله عليه وسلّم بأن يقص على أولئك الضالين قصص أخيهم ليتفكروا ويتركوا ما هم عليه عقب ذلك بتحقيق أن الهداية والضلالة من جهته سبحانه وتعالى وإنما العظة والتذكير من قبيل الوسائط العادية في حصول الاهتداء لكونها دواعي إلى صرف المكلف اختياره نحو تحصيله حسبما نيط به خلق الله تعالى إياه، والمراد بهذه الهداية ما يوجب الاهتداء قطعا لا لأن حقيقتها الدلالة الموصلة إلى البغية كما يوهمه كلام بعض الأصحاب بل لأنها الفرد الكامل من حقيقة الهداية التي هي الدلالة إلى ما يوصل لإسنادها إلى الله تعالى وتفريع الاهتداء عليها ومقابلتها بالضلال وما معه ولا يخفى أن الهداية بهذا المعنى يلزمها الاهتداء فيكون الإخبار باهتداء من هداه الله تعالى على ما قيل على حد الأخبار في- شعري شعري- وهو يفيد تعظيم شأن الاهتداء وأنه في نفسه كمال جسيم ونفع عظيم وأنه كاف في نيل كل شرف في الأولى والعقبى. واختار بعض المحققين أنه ليس المقصود مجرد الإخبار بما ذكر ليتوهم عدم الإفادة بحسب الظاهر ويصار إلى توجيهه بذلك بل هو قصر الاهتداء على من هداه الله تعالى حسبما يقضي به تعريف الخبر، فالمعنى من يخلق فيه الاهتداء فهو المهتدي لا غير كائنا من كان ولا يخلو عن حسن إلا أنه قد يقال: إن الأول أوفق بالمقابل، وإفراد المهتدي رعاية للفظ «من» ، وجمع الخاسرين رعاية لمعناها للإيذان بأن الحق واحد وطرق الضلال متشعبة، وفي الآية تصريح بأن الهدى والضلال من الله تعالى فسبحان من أضل المعتزلة وَلَقَدْ ذَرَأْنا كلام مستأنف مقرر لمضمون ما قبله بطريق التذييل، والذرأ بالهمزة الخلق وبذلك فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره أي والله تعالى لقد خلقنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وهم المصرون على الكفر في علمه سبحانه وتعالى، واللام للعاقبة عند الكثير كما في قوله تعالى: رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ [يونس: 88] وقول الشاعر: له الملك ينادي كل يوم ... لدوا للموت وابنوا للخراب وفي الكشاف أنهم جعلوا لإغراقهم في الكفر وشدة شكائمهم فيه وأنه لا يتأتى منهم إلا أفعال أهل النار مخلوقين للنار دلالة على توغلهم في الموجبات وتمكنهم فيما يؤهلهم لدخولها، وأشار إلى أن ذلك تذييل لقصة اليهود بعد ما عد من قبائحهم تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم كأنه قيل: من الذين لا ينجع فيهم الإنذار فدعهم واشتغل بأمر نفسك ومن هو على دينك في لزوم التوحيد، والآية على ما قال من باب الكناية الإيمائية عند القطب قدس سره ويفهم كلامه أن الذي دعا الزمخشري إلى ذلك لزوم كون الكفر مراد الله تعالى إذا أريد الظاهر وهو خلاف مذهبه، وأنت تعلم أن الكثير من أهل السنة تأولوا الآية بحمل اللام على ما عملت لقوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] فإن تعليل الخلق بالعباد يأبى تعليله بجهنم ودخولها، نعم ذهب ابن عطية منا إلى الحمل على الظاهر وكون اللام للتعليل، وادعى أناس أن التأويل مخالف للأحاديث الواردة في الباب كبعض الأحاديث السابقة في آية أخذ الميثاق، وما أخرجه الإمام أحمد في مسنده عن عبد الرحمن بن قتادة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله تعالى خلق آدم عليه السلام ثم أخذ الخلق من ظهره فقال هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي قال قائل: فعلى ماذا العمل؟ قال: على موافقة القدر» وما أخرجه محيي السنة عن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها قالت: أدرك النبي صلّى الله عليه وسلّم جنازة صبي من صبيان الأنصار فقلت: يا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طوبى له عصفور من عصافير الجنة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 110 فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وما يدريك إن الله تعالى خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم وخلق النار وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم» إلى غير ذلك. وإلى هذا ذهب الطيبي وأيده بما أيده وادعى أن فائدة القسم التنبيه على قلع شبه من عسى أن يتصدى لتأويل الآية وتحريف النص القاطع، ونقل عن الإمام أن الآية حجة لصحة مذهب أهل السنة في مسألة خلق الأعمال وإرادة الكائنات لأنه سبحانه وتعالى صرح بأنه جل وعلا خلق كثيرا من الجن والإنس لجهنم ولا مزيد لبيان الله تعالى، ولا يخفى أن الحمل على الظاهر مخالف لظاهر الآية التي ذكرناها، وفي الكتاب الكريم كثير مما يوافقها على أن التعليل الحقيقي لأفعاله تعالى يمنع عنه في المشهور الإمام الأشعري وأصحابه. وقال بعض الجلة: المراد بالكثير الذين حقت عليهم الكلمة الأزلية بالشقاوة ولكن لا بطريق الجبر من غير أن يكون من قبلهم ما يؤدي إلى ذلك بل لعله سبحانه وتعالى: بأنهم لا يصرفون اختيارهم نحو الحق أبدا بل يصرون على الباطل من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم من الآيات والنذر، فبهذا الاعتبار جعل خلقهم مغيا بجهنم كما أن جمع الفريقين باعتبار استعدادهم الكامل الفطري للعبادة وتمكنهم التام منها جعل خلقهم مغيا بها كما نطق به قوله سبحانه وتعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] انتهى، وعندي أنه لا محيص من التأويل في هذا المقام فتدبر ولا تغفل، ثم إن الجار الأول متعلق بما عنده وتقديمه على المفعول الصريح لما في توابعه من نوع طول يؤدي توسيطه بما بينهما وتأخيره عنهما إلى الإخلال بجزالة النظم الجليل، والجار الثاني متعلق بمحذوف وقع صفة لكثير، وتقديم الجن لأنهم أعرف من الإنس في الاتصاف بما ذكر من الصفات وأكثر عددا وأقدم خلقا ولا يشكل أنهم خلقوا من النار فلا يشق عليهم دخولها ولا يضرهم شيئا لأنا نقول في دفع ذلك على علاته خلقهم من النار بمعنى أن الغالب عليهم الجزء الناري لا يأبى تضررهم بها فإن الإنس خلقوا من الطين ويتضررون به، ويوضح ذلك أن حقيقة النار لم تبق فيهم على ما هي عليه قبل خلقهم منها كما أن حقيقة الطين لم تبق في الإنس على ما هي عليه قبل خلقهم منها على أن المخلوق من نار هو البدن والمعذب هو الروح وليست مخلوقة منها وعذاب الروح في قالب ناري معقول كعذابها في قالب طيني، وقوله تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ في محل النصب على أنه صفة أخرى لكثير، وقوله سبحانه وتعالى: لا يَفْقَهُونَ بِها في محل الرفع على أنه صفة لقلوب مبينة لكونها غير معهودة مخالفة لسائر أفراد الجنس فاقدة لما ينبغي أن يكون أو هي مؤكدة لما يفيده تنكيرها وإبهامها من كونها كذلك، وأريد بالقلب اللطيفة الإنسانية، وبالفقه الفهم وهو المعنى اللغوي له، يقال: فقه بالكسر أي فهم وفقه بالضم إذا صار فقيها أي فهما أو عالما بالفقه بالمعنى العرفي المبين في كتب الأصول، والفعل هنا متعد إلا أنه حذف مفعوله للتعميم أي لهم قلوب ليس من شأنها أن يفهموا بها شيئا مما شأنه أن يفهم فيدخل فيه ما يليق بالمقام من الحق ودلائله دخولا أوليا، وكذا الكلام في قوله جل وعلا: وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها فيقال: المراد لا يبصرون بها شيئا من المبصرات فيندرج فيه الشواهد التكوينية الدالة على الحق اندراجا أوليا، وكذا يقال في قوله تبارك وتعالى: وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها حيث يراد لا يسمعون بها شيئا من المسموعات فيتناول الآيات التنزيلية على طرز ما سلف، وأمر الوصيفة في الأخيرين مثله في الأول، والمراد بالإبصار والسماع المنفيين ما يختص بالعقلاء من الإدراك على ما هو وظيفة الثقلين لا ما يتناول مجرد الإحساس بالشبح والصوت كما هو وظيفة الأنعام، وجاء في كلامهم نحو فلان لا يسمع الخنا أي لا يعتني به ولا يصرف سمعه إليه ولا يقبله، ومن ذلك قول الشاعر: وعوراء الكلام صممت عنها ... وإني لو أشاء لها سميع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 111 وفي إعادة الخبر في الجملتين المعطوفتين مع انتظام الكلام بدون ذلك بأن يقال: وأعين لا يبصرون بها وآذان لا يسمعون بها ما لا يخفى من تقرير سوء حالهم، وكذا في إثبات المشاعر الثلاثة لهم ثم وصف كل بما وصف به دون سلبها عنهم ابتداء بأن يقال: ليس لهم في قلوب يفقهون بها ولا أعين يبصرون بها ولا آذان يسمعون بها ما لا يخفى على ما قيل من الشهادة بكمال رسوخهم في الجهل والغواية، وتفسير الآية على هذا الوجه واعتبار حذف المفعول لما ذكرنا من الأفعال الثلاثة هو الذي اختاره بعض المحققين لما فيه من الإفصاح بكنه حالهم على ما أشار إليه، واختار بعضهم التخصيص أي لا يفقهون الحق ودلائله ولا يبصرون ما خلق الله تعالى إبصار اعتبار ولا يسمعون الآيات والمواعظ سماع تأمل وتفكر، وأيّا ما كان فالمراد أنهم لم يصرفوا ما خلق لهم لما له فكأنهم خلقوا كذلك، ولو أريدت الحقيقة لم يتوجه الذم ولم تقم الحجة، ومن ادعاها قال: إن ذلك بسبب إفاضة الحكيم حسب الاستعداد الأزلي الغير المجعول فالذم بذلك لدلالته على سوء الاستعداد لأنه كالأثر له، وبالجملة لا تقوم الآية دليلا للجبر الصرف ولو ضم إليها ما قبل، والجبر المتوسط مما قال به أهل الحق وهو لبن خالص أخرج من بين فرث ودم، وحاصله عند بعض المشايخ أن العبد مختار مجبور باختياره، ولعل كلام حجة الإسلام الغزالي حيث قال من كلام طويل: فان قلت: إني أجد في نفسي أني إن شئت الفعل فعلت وإن شئت الترك تركت فيكون فعلي حاصلا بي لا بغيري، أجبنا وقلنا: هب أنك وجدت من نفسك ذلك إلا أنا نقول: وهل تجد من نفسك أنك إن شئت أن تشاء شئت وإن شئت أن لا تشأ لم تشأ؟ ما أظنك تقول ذلك وإلا لذهب الأمر فيه إلى ما لا نهاية له فلا مشيئتك بك ولا حصول فعلك بعد حصول مشيئتك بك وإنما أنت مضطر في صورة مختار انتهى. يرجع إلى ما ذكرنا، وقد استوفينا الكلام في هذا البحث في كتابنا الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية وهو لعمري من مشكلات المباحث التي سأل عنها الإيرانيون. أُولئِكَ أي الموصوفون بالأوصاف المذكورة كَالْأَنْعامِ أي في انتفاء الشعور على الوجه المذكور، وقيل في أن مشاعرهم متوجهة إلى أسباب التعيش مقصورة عليها وكأن وجه الشبه مدرك مما قبل فتكون الجملة كالتأكيد له فلذا فصلت عنه بَلْ هُمْ أَضَلُّ من الأنعام لأنها تدرك ما من شأنها أن تدركه من المنافع والمضار فتجهد في جلبها وسلبها غاية ما يمكنها وهؤلاء ليسوا كذلك حيث لم يميزوا بين المنافع والمضار بل يعكسون الأمر فيتركون النعيم ويقدمون على العذاب الأليم، وقيل: لأنها إذا زجزت انزجرت وإذا أرشدت إلى طريق اهتدت وهؤلاء لا يهتدون إلى شيء من الخيرات. وقيل: لأنها لم تعط قدرة على تحصيل الفضائل وهؤلاء أعطوا ولم ينتفعوا بما أعطوا، ولأنها وإن لم تكن مطيعة لم تكن عاصية وهؤلاء لا يعرفون ربهم ولا يذكرونه ولا يطيعونه، وبالجملة كون هؤلاء أضل مما لا شك فيه ووجوه ذلك كثيرة ولا تنافي بين الخبرين كما لا يخفى. أُولئِكَ أي المنعوتون بما ذكر من مثلية الأنعام والشرية منها هُمُ الْغافِلُونَ أي الكاملون في الغفلة عما فيه صلاحهم. وقال عطاء: عما أعد الله تعالى لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب، وجعل بعضهم هذه الجملة كالبيان للجملة قبلها فلذا فصلت عنها وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى قيل: تنبيه للمؤمنين على كيفية ذكره تعالى وكيفية المعاملة مع المخلين بذلك الغافلين عنه سبحانه وتعالى وعما يليق بشأنه عز شأنه أثر بيان غفلتهم التامة وضلالتهم التامة، وسيأتي إن شاء الله تعالى وجه آخر لذكر ذلك. والمراد بالأسماء كما قال حجة الإسلام الغزالي وغيره الألفاظ المصوغة الدالة على المعاني المختلفة، والحسنى تأنيث الأحسن أفعل تفضيل، ومعنى ذلك أنها أحسن الأسماء وأجلها لإنبائها عن أحسن المعاني وأشرفها: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 112 وقيل: المراد بالأسماء الصفات ويكون من قولهم طار اسمه في البلاد أي صيته ونعته، والجمهور على الأول لقوله عزّ اسمه: فَادْعُوهُ بِها لأنه اما من الدعوة بمعنى التسمية كقولهم: دعوته زيدا أو بزيد أي سميته أو من الدعاء بمعنى النداء كقولهم: دعوت زيدا أي ناديته، وعلى التقديرين إنما يلائم ظاهر المعنى الأول على ما قيل. وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ أي يميلون وينحرفون فيها عن الحق إلى الباطل يقال: ألحد إذا مال عن القصد والاستقامة، ومنه لحد القبر لكونه في جانبه بخلاف الضريح فإنه في وسطه، وقرأ حمزة هنا وفي [فصلت: 40] «يلحدون» بالفتح من الثلاثي والمعنى واحد، وروى أبو عبيدة عن الأحمر أن ألحد بمعنى مارى وجادل، ولحد بمعنى مال وانحرف، واختار الواحدي قراءة الجمهور قال: ولا يكاد يسمع لأحد بمعنى ملحد، والإلحاد في أسمائه سبحانه أن يسمى بما لا توقيف فيه أو بما يوهم معنى فاسدا كما في قول أهل البدو يا أبا المكارم، يا أبيض الوجه يا سخي ونحو ذلك، فالمراد بالترك المأمور به الاجتناب عن ذلك، وبأسمائه ما أطلقوه عليه تعالى وسموه به على زعمهم لا أسماؤه تعالى حقيقة، وعلى ذلك يحمل ترك الإضمار بأن يقال: يلحدون بها، وما قيل: إنه أريد بالأسماء التسميات فلذا ترك الإضمار ليس بشيء، ومن فسر الإلحاد في الأسماء بما ذكر ذهب إلى أن أسماء الله تعالى توقيفية يراعى فيها الكتاب والسنة والإجماع فكل اسم ورد في هذه الأصول جاز إطلاقه عليه جل شأنه وما لم يرد فيها لا يجوز إطلاقه وإن صح معناه، وبهذا صرح أبو القاسم القشيري في مفاتيح الحجج ومصابيح النهج، وفي أبكار الأفكار للآمدي ليس مأخذ جواز تسميات الأسماء الحسنى دليلا عقليا ولا قياسا لفظيا وإلا لكان تسمية الرب تعالى فقيها عاقلا مع صحة معاني هذه التسميات في حقه وهي العلم والفقه أولى من تسميته سبحانه وتعالى بكثير مما يشكل ظاهره بل مأخذ ذلك إنما هو الإطلاق والإذن من الشارع فكل ما ورد الإذن به منه جوزناه وما ورد المنع منه منعناه وما لم يوجد فيه إطلاق ولا منع فقد قال بعض أصحابنا بالمنع منه وليس القول بالمنع مع عدم وروده أولى من القول بالجواز مع عدم وروده إذ المنع والجواز حكمان، وليس إثبات أحدهما مع عدم الدليل أولى من الآخر بل الحق في ذلك هو الوقف وهو أنا لا نحكم بجواز ولا منع والمتبع في ذلك كله الظواهر الشرعية كما هو المتبع في سائر الأحكام وهو أن يكون ظاهرا في دلالته وفي صحته ولا يشترط فيه القطع كما ذهب إليه بعض الأصحاب لكون المنع والجواز من الأحكام الشرعية، والتفرقة بين حكم وحكم في اشتراط القطع في أحدهما دون الآخر تحكم لا دليل عليه انتهى، وأنت تعلم أن المشهور التفرقة بين الأحكام الأصولية الاعتقادية والأحكام الفرعية العملية كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى قريبا، وخلاصة الكلام في هذا المقام أن علماء الإسلام اتفقوا على جواز إطلاق الأسماء والصفات على الباري تعالى إذا ورد بها الإذن من الشارع وعلى امتناعه إذا ورد المنع عنه، واختلفوا حيث لا إذن ولا منع في جواز إطلاق ما كان سبحانه وتعالى متصفا بمعناه ولم يكن من الأسماء الاعلام الموضوعة في سائر اللغات إذ ليس جواز إطلاقها عليه تعالى محل نزاع لأحد، ولم يكن إطلاقه موهما نقصا بل كان مشعرا بالمدح فمنعه جمهور أهل الحق مطلقا للخطر، وجوزه المعتزلة مطلقا، ومال إليه القاضي أبو بكر لشيوع إطلاق نحو خدا وتكرى من غير نكير فكان إجماعا، وردّ بأن الإجماع كاف في الإذن الشرعي إذا ثبت. واعترضه أيضا إمام الحرمين بأنه قول بالقياس وهو حجة في العمليات والأسماء والصفات من العمليات، وروى بعضهم عنه التوقف، وذكر في شرح المواقف أن القاضي أبا بكر ذهب إلى أن كل لفظ دل على معنى ثابت لله تعالى جاز إطلاقه عليه إذا لم يكن موهما لما لا يليق بذاته تعالى، ثم قال: وقد يقال: لا بد مع نفي ذلك الإيهام من الإشعار بالتعظيم حتى يصح الإطلاق بلا توقف وجعل مذهب المعتزلة غير مذهبه والمشهور ما ذكرناه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 113 وفصل الغزالي قدس سره فجوز إطلاق الصفة وهو ما دل على معنى زائد على الذات ومنع إطلاق الاسم وهو ما يدل على نفس الذات محتجا بإباحة الصدق واستحبابه والصفة لتضمنها النسبة الخبرية راجعة إليه وهي لا تتوقف إلا على تحقق معناها بخلاف الاسم فإنه لا يتضمن النسبة الخبرية وأنه ليس إلا للأبوين أو من يجري مجراهما. وأجيب بأن ذلك حيث مانع من استعمال اللفظ الدال على تلك النسبة والخطر قائم، وأين التراب من رب الأرباب؟. واختار جمع من المتأخرين مذهب الجمهور قالوا: فيطلق ما سمع على الوجه الذي سمع ولا يتجاوز ذلك إلا في التعريف والتنكير سواء أوهم كالصبور والشكور والجبار والرحيم أو لم يوهم كالقادر والعالم، والمراد بالسمعي ما ورد به كتاب أو سنة صحيحة أو إجماع لأنه غير خارج عنهما في التحقيق بخلاف الضعيفة والقياس أيضا إن قلنا: إن المسألة من العمليات أما إن قلنا: إنها من العمليات فالسنة الضعيفة كالحسنة الواهية جدا، والقياس كالإجماع، وأطلق بعضهم المنع في القياس وهو الظاهر لاحتمال إيهام أحد المترادفين دون الآخر. وجعل بعضهم من الثابت بالقياس المترادفات من لغة أو لغات، وليس بذاك، ومن الثابت بالإجماع الصانع والموجود والواجب القديم، قيل: والعلة، وقيل: الصانع والقديم مسموعان كالحنان والمنان، ونص بعض المحققين على أنه يمنع إطلاق غير المضاف إذا كان مرادفا للمضاف المسموع قياسا كما يمنع إطلاق ما ورد على وجه المشاكلة والمجاز، وأنه لا يكفي ورود الفعل والمصدر ونحوهما في صحة إطلاق الوصف فلا يطلق الحارث والزارع والرامي والمستهزئ والمنزل والماكر عليه سبحانه وتعالى وإن جاءت آيات تشعر بذلك. هذا ومن الناس من قال: إن الألفاظ على الصفات ثلاثة أقسام: الأول ما يدل على صفات واجبة وهو أصناف: منها ما يصح إطلاقه مفردا لا مضافا نحو الموجود والأزلي والقديم وغيرها، ومنها ما يصح إطلاقه مفردا ومضافا إلى ما لا هجنة فيه نحو الملك والمولى والرب والخالق. ومنها ما يصح مضافا غير مفرد نحو يا منشىء الرفات ومقيل العثرات، والثاني ما يدل على صفات ممتنعة نحو اليد والوجه والنزول والمجيء فلا يصح إطلاقه البتة، وإن ورد به السمع كان التأويل من اللوازم. والثالث ما لا يدل على صفات واجبة ولا ممتنعة بل يدل على معان ثابتة نحو المكر والخداع وأمثالهما فلا يصح إطلاقه إلا إذا ورد التوقيف، ولا يقال: يا مكار يا خداع البتة وإن كان مذكورا ما يدل عليه كقوله تعالى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آل عمران: 54] انتهى، ولا يخفى ما فيه. وذكر الطيبي أن الحق الاعتماد في الإطلاق على الإطلاق على التوقيف، وأن كل ما أذن الشارع أن يدعى به الله عزّ وجلّ سواء كان مشتقا أو غير مشتق فهو اسم، وكل ما نسب إليه سبحانه وتعالى من غير ذلك الوجه سواء كان مؤولا أو غير مؤول فهو وصف وجعل الحي وصفا والكريم اسما وادعى أنه يقال يا كريم ولا يقال يا حي مع ورود اللفظين فيه سبحانه وتعالى فيما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث سلمان رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الله تعالى حيي كريم يستحيي إذا رفع العبد يده أن يردها صفرا حتى يضع فيها خيرا» ، وذكر أن التعريف في الأسماء للعهد وأنه لا بد من المعهود لأنه سبحانه وتعالى أمر بالدعاء بها ونهى عن الدعاء بغيرها وأوعد على ذلك. وروى الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما من حفظها دخل الجنة» وفي رواية أحصاها، وفي أخرى «إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا» » وأوتي فيه بالفذلكة والتأكيد لئلا يزاد على ما ورد. وجاءت معدودة في بعض الروايات بقوله عليه الصلاة والسلام «هو الله لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلي الكبير الحفيظ المقيت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 114 الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القوي المتين الولي الحميد المحصي المبدئ المعيد المحيي المميت الحي القيوم الواجد الماجد الواحد الصمد القادر المقتدر المقدم المؤخر الأول الآخر الظاهر الباطن الوالي المتعال البر التواب المنتقم العفو الرؤوف مالك الملك ذو الجلال والإكرام المقسط الجامع الغني المغني المانع الضار النافع النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور» . ونقل عن أهل البيت رضي الله تعالى عنهم غير ذلك وأخذوها من القرآن وجاء أيضا عندنا ما يخالف هذه الرواية في بعض الأسماء. وذكر غير واحد من العلماء أن هذه الأسماء منها ما يرجع إلى صفة فعلية ومنها ما يرجع إلى صفة نفسية ومنها ما يرجع إلى صفة سلبية. ومنها ما اختلف في رجوعه إلى شيء مما ذكر وعدم رجوعه وهو الله والحق أنه اسم للذات وهو الذي إليه يرجع الأمر كله، ومن هنا ذهب الجل إلى أنه الاسم الأعظم، وتنقسم قسمة أخرى إلى ما لا يجوز إطلاقه على غيره سبحانه وتعالى كالله والرحمن وما يجوز كالرحيم والكريم وإلى ما يباح ذكره وحده كأكثرها وإلى ما لا يباح ذكره كذلك كالمميت والضار فإنه لا يقال: يا مميت يا ضار بل يقال: يا محيي يا مميت ويا نافع يا ضار، والذي أراه أنه لا حصر لأسمائه عزت أسماؤه في التسعة والتسعين، ويدل على ذلك ما أخرجه البيهقي عن ابن مسعود قال: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من أصابه هم أو حزن فليقل: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي في يدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت له نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وذهاب همي وجلاء حزني» الحديث، وهو صريح في عدم الحصر لمكان أو وأو. وحكى محيي الدين النووي اتفاق العلماء على ذلك وأن المقصود من الحديث الإخبار بأن هذه التسعة والتسعين من أحصاها دخل الجنة وهو لا ينافي أن له تعالى أسماء غيرها غير موصوفة بذلك. ونقل أبو بكر بن العربي عن بعضهم أن له سبحانه وتعالى ألف اسم ثم قال: وهذا قليل وهو كما قال. وعن بعضهم أنها أربعة آلاف، وعن بعض الصوفية أنها لا تكاد تحصى، والمختار عندي عدم توقف إطلاق الأسماء المشتقة الراجعة إلى نوع من الصفات النفسية والفعلية وكذا الصفات السلبية عليه تعالى على التوقيف الخاص بل يصح الإطلاق بدونه لكن بعد التحري التام وبذلك الوسع فيما هو نص في التعظيم والتحفظ إلى الغاية عما يوهم أدنى أدنى نقص معاذ الله تعالى في حقه سبحانه لأنا مأذونون بتعظيم الله تبارك وتعالى بالأقوال والأفعال ولم يحد لنا حد فيه، فمتى كان في الإطلاق تعظيم له عزّ وجلّ كان مأذونا به، والتكليف منوط بالوسع لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها فبعد بذل الوسع في التعظيم يرتفع الحرج. وحديث الخطر الذي يذكرونه يستدعي أن لا يصح إلا إطلاق ما ثبت تواترا إطلاقه عليه جل وعلا أو اجتمعت الأمة على إطلاقه لأن الثبوت فيما عدا ذلك ظني والخطر فيه يقيني، والأسماء المتقدمة آنفا لم يوجد في كثير من الروايات ذكرها وهي مشهورة من حديث الترمذي، وقد قال: إنه حدثنا به غير واحد عن صفوان بن صالح ولا نعرفه إلا من حديثه وهو ثقة عند أهل الحديث، وأنت تعلم أن هذا القدر لا يثبت به اليقين بل ولا بمثله ومثله، على أن عد بعض أهل البيت كما في الدر المنثور للتسعة والتسعين وكذا غيرهم كما لا يخفى على المتتبع يخالف هذا العد، وسند ذلك الخبر وإن لم يكن في المتانة كسند هذا إلا أنه لا أقل يورث الشبهة اللهم إلا أن يقال: حصل الإجماع على ما في حديث الترمذي دون ما في حديث غيره المخالف له لكن لم أقف على من حكى ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 115 ثم إن هذه الأسماء المأخوذة مما ذكرنا لا مانع من الدعاء بها ومن إجرائها اخبارا عنه سبحانه وتعالى أو أوصافا له جل وعز وكلها حسنى، وتسميتها بذلك من جهة أنها بالمعنى المراد منها بالنسبة إليه تعالى مختصة به جل وعلا اختصاص الاسم ولا تطلق على غيره بالمعنى المراد منها حال إطلاقها على الله تعالى وإنما تطلق على الغير بمعنى آخر ليس بينه وبين ذلك المعنى إلا كما بين السواد والبياض فإن بينهما غاية البعد الذي لا يتصور أن يكون بعد فوقه لكنهما متشاركان في العرضية واللونية والمدركية بالبصر وأمور أخر سوى ذلك، وبهذا لا يعد البياض مماثلا للسواد أو بالعكس لأن المماثلة عبارة عن المشاركة في النوع والماهية وهي مفقودة هنا وكذا هي مفقودة بين العلم مثلا الذي يوصف الله تعالى به والعلم الذي يوصف غيره سبحانه وتعالى به ولا يعلم حقيقة ذلك وماهيته إلا الله تعالى كما لا يعرف حقيقة الله تعالى إلا الله تعالى في الدنيا والآخرة. نعم لو قال قائل: لا أعرف إلا الله تعالى صدق ولكن من جهة أخرى، ونهاية معرفة العارفين العجز عن المعرفة ومعرفتهم بالحقيقة أنهم لا يعرفونه فإذا انكشف لهم ذلك فقد عرفوا وبلغوا المنتهى الذي يمكن في حق الخلق من معرفته سبحانه وتعالى. وهذا الذي أشار إليه الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه حيث قال: العجز عن درك الإدراك إدراك بل هو الذي عناه سيد البشر صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» فإنه عليه الصلاة والسلام أراد إني لا أحيط بمحامدك وصفات إلهيتك وإنما أنت المحيط به وحدك لا أني أعرف منك ما لا أستطيع التعبير عنه بلساني، وتفاوت درجات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والملائكة والأولياء في المعرفة إنما هو بالوقوف على عجائب آياته في ملكوت السموات والأرض وخلق الأرواح والأجساد وحينئذ يتفاوتون في معرفة الأسماء والصفات، ومعرفة أن زيدا عالم مثلا ليس كمعرفة تفاصيل علومه كما لا يخفى، ولا يرد على ما ذكرنا من الاختصار أنه يأباه تقسيمهم أسماءه تعالى إلى مختص كالرحمن وغير مختص كالرحيم لأن مرادهم بالمختص ما اعتبر في مفهومه المطابقي ما يمنع من الإطلاق على الغير، وقد نص البيضاوي على أن معنى الرحمن المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها وذلك لا يصدق على غيره تعالى فلذا لا يوصف به، وبغير المختص ما لم يعتبر في مفهومه ذلك بل اعتبر فيه معنى عام فيطلق لذلك على الله تعالى وعلى غيره، لكن حال إطلاقه عليه تعالى يراد الفرد الكامل من ذلك المفهوم الذي لا يليق ولا يمكن أن يثبت إلا لله عزّ وجلّ، وقد يقال: لا فرق بين الأسماء المشتقة التي يوجد في الغير مبدأ اشتقاقها في الجملة من حيث إن اعتبار ذلك الوجود يقتضي عدم الاختصاص، واعتبار الوجود على أتم وجه وأكمله يقتضي الاختصاص من غير تفرقة بين اسم واسم إلا انا حكمنا بالاختصاص في بعض وبعدمه في آخر لأمر آخر كالاستعمال وعدم الاستعمال وإذن الشارع وعدم إذنه فلا يأبى ما قلناه أيضا نعم اعتبار الاختصاص بالله تعالى في الأسماء المذكورة في الآية لا يتأتى فيها بناء على أن تقديم الخبر يفيد الاختصاص أيضا فيكون المعنى لله لا لغيره الأسماء التي تختص به تعالى ولا تطلق على غيره، ويؤول ذلك إلى أن الأسماء المختصة به سبحانه وتعالى مختصة به جل وعلا وهو مما لا فائدة فيه، وحينئذ لا بد اما من حمل الأسماء على الصفات كما قال البعض، ومعنى الحسنى الكاملة من كل وجه أي لله تعالى لا لغيره الصفات الكاملة لأن صفات غيره سبحانه وتعالى كيفما كانت ناقصة لا أقل من أن العدم محيط بطرفيها، ومعنى فادعوه بها إلخ سموه بما يشتق منها أو نادوه بذلك وذروا الذين يميلون عن الحق في صفاته فيسمون بها غيره أو يدعون معتقدين الشركة ودعوهم وإلحادهم، واما من ارتكاب ضرب من التجوز، وما ذكره الطيبي من أن التعريف في الأسماء للعهد إلى آخر ما قاله مما لا أظنك في مرية من ركاكته فتأمل. وجوز أن يراد بالإلحاد العدول عن تسميته تعالى ببعض أسمائه الكريمة كما قالوا: وما الرحمن؟ انا لا نعرف إلا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 116 رحمن اليمامة، وعليه فالمراد بالترك الاجتناب كما أريد أولا بالأسماء أسماؤه تعالى حقيقة، فالمعنى سموه تعالى بجميع أسمائه واجتنبوا إخراج بعضها من البين، وأن يراد به إطلاقها على الأصنام واشتقاق أسمائها منها كاللات من الله تعالى والعزى من العزيز، فالمراد من الأسماء أسماؤه تعالى حقيقة، والإظهار في موضع الإضمار مع التجريد عن الوصف في الكل للإيذان بأن إلحادهم في نفس الأسماء من غير اعتبار الوصف. والمراد بالترك الاعراض وعدم المبالاة بما فعلوا ترقبا لنزول العقوبة فيهم عن قريب كما يشير إليه قوله تعالى: سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ فإنه استئناف وقع جوابا عن سؤال مقدر كأنه قيل: لم لا نبالي؟ فقيل: لأنه سينزل بهم عقوبة وتشتفون عن قريب، والمعنى على الأمر بالاجتناب اجتنبوا إلحادهم كيلا يصيبكم ما يصيبهم فإنه سينزل بهم عقوبة ذلك وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ قيل بيان إجمالي لحال من عدا المذكورين من الثقلين الموصوفين بما ذكر من الضلال على أتم وجه، وهو عند جمع من المحققين على ما ظهر للعلامة الطيبي عطف على جملة وَلَقَدْ ذَرَأْنا وقوله سبحانه وتعالى: يَهْدُونَ إلخ إذا أخذ بجملته وزبدته كان كالمقابل لقوله تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ إلى هُمُ الْغافِلُونَ وكلتا الآيتين كالنشر لقوله عزّ شأنه: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وهو كالتذييل لحديث الذي أوتي آيات الله تعالى والأسماء العظام فانسلخ منها وقوله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى اعتراض لمناسبة حديث الأسماء حديث أسماء الله تعالى العظام التي أوتيها ذلك المنسلخ كما في بعض الروايات وقد تعلق بقوله عز شأنه: أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ باعتبار أنه كالتنبيه على أن الموجب لدخول جهنم هو الغفلة عن ذكر الله تعالى وعن أسمائه الحسنى، وأرباب الذوق والمشاهدة يجدون ذلك من أرواحهم لأن القلب إذا غفل عن ذكر الله تبارك وتعالى واقبل على الدنيا وشهواتها وقع في نار الحرص ولا يزال يهوي من ظلمة إلى ظلمة حتى ينتهي إلى دركات الحرمان، وبخلاف ذلك إذا انفتح على القلب باب الذكر فإنه يقع في جنة القناعة ولا يزال يترقى من نور إلى نور حتى ينتهي إلى أعلى درجات الإحسان، ومن إما نكرة موصوفة أو بمعنى الذي، والمراد بعض من خلقنا أو بعض ممن خلقنا طائفة جليلة كثيرة يهدون الناس ملتبسين بالحق أو يهدونهم بكلمة الحق ويدلونهم على الاستقامة وبالحق يحكمون في الحكومات الجارية فيما بينهم ولا يجورون فيها. أخرج ابن جرير وغيره عن ابن جريج أنه قال: ذكر لنا «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: هذه أمتي» . وأخرج عن قتادة أنه قال: بلغنا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقول إذا قرأ هذه الآية: «هذه لكم وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون» . وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن من أمتي قوما على الحق حتى ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام» . وروى الشيخان عن معاوية والمغيرة بن شعبة قالا: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله تعالى لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تعالى وهم على ذلك» . واستدل الجبائي بالآية على صحة الإجماع في كل عصر سواء في ذلك عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم والصحابة رضي الله تعالى عنهم وغيره إذ لو اختص لم يكن لذكره فائدة لأنه معلوم، وعلى أنه لا يخلو عصر عن مجتهد إلى قيام الساعة لأن المجتهدين هم أرباب الإجماع، قيل: وهو مخالف لما روي من أنه لا تقوم الساعة إلا على أشرار الخلق ولا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله، وأجيب بأن ذلك الزمان ملحق بيوم القيامة لمعانقته له، والمراد عدم خلو العصر عن مجتهد فيما عداه، وقيل: المراد من الخبرين الإشارة إلى غلبة الشر فلا ينافي وجود النزر من أهل ذلك العنوان، والواحد منهم كاف وهو حينئذ الأمة، والاقتصار على نعتهم بهداية الناس للايذان بأن اهتداءهم في أنفسهم أمر محقق غني عن التصريح وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا ولم تنفعهم هداية الهادين كأهل مكة وغيرهم، واقتصر بعضهم على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 117 الأولين والعموم أولى، وإضافة الآيات إلى ضمير العظمة لتشريفها واستعظام الاقدام على تكذيبها، والموصول في محل الرفع على أنه مبتدأ خبره جملة سَنَسْتَدْرِجُهُمْ أي سنستدنيهم البتة إلى الهلاك شيئا فشيئا، وجوز أن يكون في محل النصب بفعل محذوف يفسره المذكور، والاستدراج استفعال من الدرجة بمعنى النقل درجة بعد درجة من سفل إلى علو فيكون استصعادا أو بالعكس فيكون استنزالا وقد استعمله الأعشى في قوله: فلو كنت في جب ثمانين قامة ... ورقيت أسباب السماء بسلم ليستدرجنك القول حتى تهره ... وتعلم أني عنكم غير مفحم في مطلق معناه، وقال بعضهم: هو استفعال من درج إما بمعنى صعد ثم اتسع فيه فاستعمل في كل نقل تدريجي سواء كان بطريق الصعود أو الهبوط أو الاستقامة، وإما بمعنى مشى مشيا ضعيفا ومنه درج الصبي وإما بمعنى طوى ومنه أدرج الكتاب ثم استعير لطلب كل نقل تدريجي من حال إلى حال من الأحوال الملائمة للمنتقل الموافقة لهواه، واستدراجه تعالى إياهم بادرار النعم عليهم مع انهماكهم في الغي، ولذا قيل: إذا رأيت الله تعالى أنعم على عبد وهو مقيم على معصيته فاعلم أنه مستدرج، وهذا يمكن حمله على الاستصعاد باعتبار نظرهم وزعمهم أن متواترة النعم اثرة من الله تعالى وهو الظاهر، وعلى الاستنزال باعتبار الحقيقة فإن الجبلة الإنسانية في أصل الفطرة سليمة متهيئة لقبول الحق لقضية كل مولود يولد على الفطرة فهو في بقاع التمكن على الهدى والدين فإذا أخلد إلى الأرض واتبع الشهوات وارتكب المعاصي والسيئات ينزل درجة درجة إلى أن يصير أسفل السافلين، وأيّا ما كان فليس المطلوب إلا تدرجهم في مدراج المعاصي إلى أن يحق عليهم كلمة العذاب الأخروي أو الدنيوي على ما قيل على أفظع حال وأشنعها وإدرار النعم وسيلة إلى ذلك مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ أنه كذلك بل يحسبون أنه أثرة من الله تعالى، وقيل: لا يعلمون ما يراد بهم، والجار والمجرور متعلق بمضمر وقع صفة لمصدر الفعل المذكور أي سنستدرجهم كائنا من حيث لا يعلمون وَأُمْلِي لَهُمْ أي أمهلهم والواو للعطف وما بعده معطوف على سنستدرجهم غير داخل في حكم السين لما أن الامهال ليس من الأمور التدريجية كالاستدراك الحاصل في نفسه شيئا فشيئا بل هو مما يحصل دفعة والحاصل بطريق التدريج آثاره وأحكامه ليس إلا، ويلوح بذلك تغيير التعبير بتوحيد الضمير مع ما فيه من الافتنان المنبئ عن مزيد الاعتناء بمضمون الكلام لابتنائه على تجديد القصة والعزيمة، وجعله غير واحد داخلا في حكمها، ولا يخفى التوحيد حينئذ، وقيل: إنه كلام مستأنف أي وأنا أملي لهم، والخروج من ذلك الضمير إلى ضمير المتكلم المفرد شبيه الالتفات واستظهر أنه من التلوين. وما قيل: إن هذا للإشعار بأن الامهال بمحض التقدير الإلهي وذاك للإشارة إلى أن الاستدراج بتوسط المدبرات ليس بشيء لمكان لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ [آل عمران: 178] إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ تقرير للوعيد وتأكيد له، والمتين من المتانة بمعنى الشدة والقوة، ومنه المتن للظهر أو اللحم الغليظ في جانبي الصلب، وفسر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الكيد بالمكر. وفسره بعضهم بالاستدراج والاملاء مع نتيجتهما، وتسميته كيدا لما أن ظاهره لطف وباطنه قهر، وبعضهم بنفس الأخذ فقط فتسميته حينئذ بذلك قيل: لكون مقدماته كذلك، وقيل: لنزوله بهم من حيث لا يشعرون، وأيا ما كان فالمعنى أن كيدي قوي لا يدافع بقوة ولا بحيلة، والآية حجة لأهل السنة في مسألة القضاء والقدر. وادعى بعض المفسرين أنها نزلت في المستهزئين من قريش أمهلهم الله تعالى ثم أخذهم في يوم بدر، ثم إنه سبحانه وتعالى لما بالغ في تهديد الملحدين المعرضين الغافلين عن آياته والإيمان برسوله عليه الصلاة والسلام عقب ذلك على ما قيل بالجواب عن شبهتهم وإنكار عدم تفكرهم فقال عز من قائل: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 118 بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ فالهمزة للإنكار والتوبيخ، والواو للعطف على مقدر يستدعيه السياق والسباق، والخلاف في مثل هذا التركيب مشهور وقد تقدمت الإشارة إليه. وما قال أبو البقاء: تحتمل أن تكون استفهامية إنكارية في محل الرفع بالابتداء والخبر بِصاحِبِهِمْ وأن تكون نافية اسمها جِنَّةٍ وخبرها بِصاحِبِهِمْ. وجوز أن تكون موصولة، وفيه بعد. والجنة مصدر كالجلسة بمعنى الجنون، وليس المراد به الجن كما في قوله تعالى: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [الناس: 6] لأنه يحتاج إلى تقدير مضاف أي مس جنة أو تخبطها، والتنكير للتقليل والتحقير، والتفكر التأمل وإعمال الخاطر في الأمر، وهو من أفعال القلوب فحكمه حكمها في أمر التعليق، ومحل الجملة على الوجهين النصب على نزع الخافض، ومحل الموصول نصب على ذلك في الوجه الأخير، أي أكذبوا ولم يتفكروا في أي شيء من جنون ما كائن بصاحبهم الذي هو أعظم الهادين الحق وعليه أنزلت الآيات، أو في أنه ليس بصاحبهم شيء من جنة حتى يؤديهم التفكر في ذلك إلى الوقوف على صدقه وصحة نبوته فيؤمنوا به وبما أنزل عليه من الآيات أو في الذي بصاحبهم من جنة بزعمهم ليعلموا أن ذلك ليس من الجنة في شيء فيؤمنوا، واختار الطبرسي أن الكلام قد تم عند قوله تعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا أي أكذبوا ولم يتفكروا في أقواله وأفعاله أو أو لم يفعلوا التفكر، ثم ابتدئ فقيل: أي شيء بصاحبهم من جنة ما على طريقة الإنكار والتعجيب والتبكيت، أو قيل: ليس بصاحبهم شيء منها. والمراد بصاحبهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والتعبير عنه عليه الصلاة والسلام بذلك لتأكيد النكير وتشديده لأن الصحبة مما يطلعهم على نزاهته صلّى الله عليه وسلّم عن شائبة مما ذكر، والتعرض لنفي الجنون عنه عليه الصلاة والسلام مع وضوح استحالة ثبوته له لما أن التكلم بما هو خارق لا يصدر إلا عمن به مس من الجنة كيفما اتفق من غير أن يكون له أصل أو عمن له تأييد إلهي يخبر به عن الغيوب، وإذ ليس به عليه الصلاة والسلام شيء من الأول تعين الثاني. وأخرج ابن جرير وغيره عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم قام على الصفا فدعا قريشا فخذا فخذا يا بني فلان يحذرهم بأس الله تعالى ووقائعه إلى الصباح حتى قال قائلهم: إن صاحبكم هذا المجنون بات يهوت حتى أصبح فأنزل الله تعالى الآية، وعليه فالتصريح بنفي الجنون للرد على عظيمتهم الشنعاء عند من له أدنى عقل، والعبير بصاحبهم وارد على مشاكلة كلامهم مع ما فيه من النكتة السالفة. وذكر بعضهم في سبب النزول أنهم كانوا إذا رأوا ما يعرض له صلّى الله عليه وسلّم من برحاء الوحي قالوا: جن فنزلت إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ تقرير لما قبله وتكذيب لهم فيما يزعمونه حيث تبين فيه حقيقة حاله صلّى الله عليه وسلّم أي ما هو عليه الصلاة والسلام إلا مبالغ في الانذار مظهر له غاية الإظهار، ثم لما كان أمر النبوة مفرعا على التوحيد ذكر سبحانه ما يدل عليه فقال جل شأنه: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فهو مسوق للإنكار والتوبيخ بإخلالهم بالتأمل بالآيات التكوينية إثر ما نعي عليهم ما نعي، والهمزة هنا كالهمزة فيما قبل، والواو للعطف على مقدر كما تقدم أو على الجملة المنفية بلم، والملكوت الملك العظيم، أي أكذبوا أو لم يتفكروا فيما ذكر ولم ينظروا نظر تأمل واستدلال فيما يدل على كما قدرة الصانع ووحدة المبدع وعظيم شأن المالك ليظهر لهم صحة ما يدعوهم إليه ذاك الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم، وكأن التعبير بالنظر هنا دون التفكر الذي عبر به فيما قبل للإشارة إلى أن الدليل هنا أوضح منه فيما تقدم. وقوله سبحانه وتعالى: وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يحتمل أن يكون عطفا على ملكوت وتخصيصه بالسماوات والأرض لكمال ظهور عظم الملك فيهما، وأن يكون عطفا على المضاف هو إليه فيكون منسحبا على الجميع، والتعميم لاشتراك الكل في عظم الملك في الحقيقة، ومِنْ شَيْءٍ بيان «لما» ، وفي ذلك تنبيه على أن الدلالة على التوحيد غير مقصورة على السموات والأرض بل كان ذرة من ذرات العالم دليل على توحيده: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 119 وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد وهذا أمر متفق عليه عند العقلاء. نعم منهم من جعل وجه الدلالة الحدوث وهو الذي عليه معظم المتكلمين، ومنهم من جعل وجهها الإمكان وهو الذي عليه الفلاسفة واختاره بعض المتكلمين، ورجح الأول قطب عصره الشيخ خالد المجددي قدس سره في تعليقاته على حواشي عبد الحكيم على الخيالي فارجع إليها، وقوله تعالى: وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ عطف على ملكوت فهو معمول لينظروا لكن لا يعتبر فيه بالنظر إليه أنه للاستدلال بناء على ما قالوا: إن قيد المعطوف عليه لا يلزم ملاحظته في المعطوف، وقد تقدم الكلام في ذلك، وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وخبرها عسى مع فاعلها الذي هو أَنْ يَكُونَ، وخبر ضمير الشأن لا يشترط فيه الخبرية ولا يحتاج إلى التأويل كما نص عليه المحققون فلا معنى معنى للمناقشة في ذلك، واسم يكون أيضا ضمير الشأن والخبر قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ، ولم يجعلوا هذا من باب التنازع لأن تنازع كان وخبرها مما لم يعهد لا لأن ذلك خلاف الأصل لما فيه من الإضمار قبل الذكر لأن ذلك لازم على جعل الاسم ضمير الشأن ولا ضير في كل، وأمر التكرار فيما ذكرنا سهل فلا يرتكب له خلاف المعهود خلافا للقطب الرازي، وجوز أبو البقاء أن تكون مصدرية، وتعقب بأنها لا توصل إلا بالفعل المتصرف وعسى ليست كذلك، والمعنى أولم ينظروا في اقتراب آجالهم وتوقع حلولها فيسارعوا إلى طلب الحق والتوجه إلى ما ينجيهم قبل مغافصة الموت ومفاجأته ونزول العذاب، فالمراد بأجلهم أجل موتهم، وجوز أن يكون عبارة عن الساعة، والإضافة إلى ضميرهم لملابستهم لها من جهة انكارهم إياها وبحثهم عنها، وقوله جل وعلا: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ قطع لاحتمال إيمانهم رأسا ونفي له بالكلية بعد الزام الحجة والإرشاد إلى النظر، والباء متعلقة بيؤمنون، وضمير بعده للقرآن على ما ذهب إليه غالب المفسرين وهو معلوم من السياق، والحديث بمعنى الكلام فلا دليل في الآية لمن يزعم حدوث القرآن، وقيل: ولئن سلمنا كونه دليلا يراد من القرآن الألفاظ وهي محدثة على المشهور، والمعنى إذا لم يؤمنوا بالقرآن وهو النهاية في البيان فبأي كلام يؤمنون بعده، وقيل: الضمير للآيات على حذف المضاف المفهوم من كذبوا، والتذكير باعتبار كونها قرآنا أو بتأويلها بالمذكور أو إجراء الضمير مجرى اسم الإشارة. والمعنى أكذبوا بالآيات ولم يتفكروا فيما يوجب تصديقها من أحواله عليه الصلاة والسلام وأحوال المصنوعات فبأي حديث بعد تكذيبها يؤمنون، وفيه بعد، وقيل: إنه يعود على الرسول صلّى الله عليه وسلّم بتقدير مضاف أيضا أي بعد حديثه يؤمنون وهو أصدق الناس، وقيل: المراد بعد هذا الحديث، وقيل: بعد الأجل أي كيف يؤمنون بعد انقضاء أجلهم؟، وجعل الزمخشري ذلك مرتبطا بقوله تعالى: وَأَنْ عَسى إلخ ارتباط التسبب عنه، والضمير للقرآن كأنه قيل: لعل أجلهم قد اقترب فما بالهم لا يبادرون الايمان بالقرآن قبل الموت وماذا ينظرون بعد وضوح الحق وبأي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا، وتقدير ما قدر عند صاحب الكشف ليس لأنه لا بد من تقديره ليستقيم الكلام بل للتنبيه على معنى الاستبطاء الذي في ضمن أي، وأنه ليس بعد هذا البيان الواضح أمر منتظر، وقوله عز شأنه: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ استئناف مقرر لما قبله مبني على الطبع على قلوبهم، والمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار، وقوله سبحانه وتعالى: وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ بالياء والرفع على الاستئناف أي وهو يذرهم، وقرأ غير واحد بنون العظمة على طريقة الالتفات أي ونحن نذرهم، وقرأ حمزة. والكسائي بالياء والجزم عطفا على محل الجملة الاسمية الواقعة جواب الشرط كأنه قيل: من يضلل الله لا يهده أحد ويذرهم، ويحتمل أن يكون ذلك تسكينا للتخفيف كما قرىء يشعركم وينصركم، وقد روي الجزم مع النون عن نافع وأبي عمرو في الشواذ، وتخريجه على أحد الاحتمالين، وقوله تبارك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 120 وتعالى: يَعْمَهُونَ حال من مفعول يذرهم، والعمه التردد في الضلال والتحير أو أن لا يعرف حجة، وإفراد الضمير في حيز النفي رعاية للفظ مَنْ وجمعه في حيز الإثبات رعاية لمعناها للتنصيص على شمول النفي والإثبات للكل كما قيل هذا. «ومن باب الإشارة في الآيات» وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها إشارة إلى من ابتلي بالحور بعد الكور بأن سلك حتى ظهر له ما ظهر ثم رجع من الطريق لسوء استعداده وغلبة الشقاوة والعياذ بالله تعالى عليه، وفي التعبير بانسلخ ما لا يخفى وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها إلى حظيرة القدس وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ أي مال إلى أرض الطبيعة السفلية وَاتَّبَعَ هَواهُ في إيثار السوي فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ في أخس أحواله إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ بالزجر يَلْهَثْ يدلع لسانه مع التنفس الشديد أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ أيضا. والمراد أنه يلهث دائما وكأنه إشارة إلى أن هذا المنسلخ لا يزال يطلق لسانه في أهل الكمال سواء زجر عن ذلك أو لم يزجر وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وهم مظاهر القهر لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها الأسرار وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها الحجج الكونية وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها الآيات التنزيلية فهم صم بكم عمي أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ ليس لهم هم إلا الأكل والشرب بَلْ هُمْ أَضَلُّ منها لأنهم لا ينزجرون إذا زجروا ولا يهتدون إذا أرشدوا. ومما يستبعد من طريق العقل ما نقله الإمام الشعراني عن شيخه علي الخواص قدس سره أن البهائم مكلفون محتجا بقوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ [الأنعام: 38] مع قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ وبما ورد عنه صلّى الله عليه وسلّم «إنه ليؤخذ للشاة الجماء من الشاة القرناء» وهذا وإن كان في الشاة لكن لا قائل بالفرق، ونقل عنه القول بأن كل ما في الوجود من حيوان ونبات وجماد حي دراك، ثم قال: فقلت له فهل تشبيه الحق تعالى من ضل من عباده بالأنعام بيان لنقص الأنعام عن الإنسان أم لكمالها في العلم بالله تعالى؟ فقال رضي الله تعالى عنه: لا أعلم، ولكني سمعت بعضهم يقول: ليس تشبيههم بالأنعام نقصا وإنما هو لبيان كمال مرتبتها في العلم بالله عزّ وجلّ حتى حارت فيه فالتشبيه في الحقيقة واقع في الحيرة لا في المحار فيه فلا أشد حيرة من العلماء بالله تعالى، فأعلى ما يصل إليه العلماء في العلم بربهم سبحانه وتعالى مبتدأ البهائم الذي لم تنتقل عن أصله وإن كانت منتقلة في شؤونه بتنقل الشؤون الإلهية لأنها لا تثبت على حال، ولذلك كان من وصفهم سبحانه وتعالى من هؤلاء القوم أضل سبيلا من الأنعام لأنهم يريدون الخروج من الحيرة من طريق فكرهم ونظرهم ولا يمكن لهم ذلك، والبهائم علمت ذلك ووقفت عنده ولم تطلب الخروج عنه لشدة علمها بالله تعالى، وذكر أنها ما سميت بهائم إلا لأن أمرها قد أبهم على غالب الخلق فلم يعرفوه كما عرفه أهل الكشف انتهى. وهو كلام يورث المؤمن به حسدا للبهائم نفعنا الله تعالى بها وأعاذنا من الحسد وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى التي يدبر كل أمر باسم منها فَادْعُوهُ بِها حسب المراتب وأعلاها الدعاء بلسان الفعل وهو التحلي بمعانيها بقدر ما يتصور في حق العبد وذلك حظ المقربين منها، وذكر حجة الإسلام الغزالي قدس سره أن حظوظهم من معاني أسمائه تعالى ثلاثة. الأول معرفتها على سبيل المكاشفة والمشاهدة حتى يتضح لهم حقائقها بالبرهان الذي لا يجوز فيه الخطأ وينكشف لهم اتصاف الله تعالى بها انكشافا يجري الوضوح والبيان مجرى اليقين الحاصل للإنسان بصفاته الباطنة التي يدركها بمشاهدة باطنة لا بإحساس ظاهره، وكم بين هذا وبين الاعتقاد المأخوذ من الآباء والمعلمين تقليدا، والتصميم عليه وإن كان مقرونا بأدلة جدلية كلامية. الثاني استعظامهم ما يكشف لهم من صفات الجلال والكمال على وجه ينبعث منه شوقهم إلى الاتصاف بما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 121 يمكنهم من تلك الصفات ليقربوا بها من الحق قربا بالصفة لا بالمكان فيأخذوا من الاتصاف بها شبها بالملائكة المقربين عند الله تعالى، والخلو من هذا الشوق لا يكون إلا لأحد أمرين إما لضعف المعرفة، وإما لكون القلب ممتلئا بشوق آخر مستغرقا به. والثالث السعي في اكتساب الممكن من تلك الصفات والتخلق بها والتحلي بمحاسنها، وبذلك يصير العبد ربانيا رفيقا للملأ الأعلى من الملائكة شبيها بهم، وحينئذ لا يؤثر القرب والبعد في إدراكه بل لا يقتصر إدراكه على ما يتصور فيه ذلك ويكون مقدسا عن الشهوة والغضب فلا تكون أفعاله بمقتضاها بل الداعي إليها حينئذ طلب التقرب إلى الله تعالى ولا يلزم من هذا إثبات المماثلة بين الله سبحانه وتعالى وبين العبد، وقد قال جل وعلا: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] لأن المماثلة هي المشاركة في النوع والماهية لا مطلق المشاركة فالفرس الكيس وإن كان بالغا في الكياسة ما بلغ لا يكون مماثلا للإنسان لمخالفته له بالنوع وإن شابهه بالكياسة التي هي عارضة خارجة عن المقومات الإنسانية وأنت تعلم بأدنى التفات أنه لا يتصور الشركة بين الله تعالى الحي العليم المريد القادر المتكلم السميع البصير وبين العبد المتصف بالحياة والعلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر إلا في إطلاق الاسم لا غير، والكلام في خبر «لا زال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل» إلخ يستدعي الخوض في بحر لا ساحل له فخذ ما آتيناك وذر الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ يطلبون معانيها من غيره سبحانه وتعالى ويضيفونها إليه وهؤلاء مما ذرأهم سبحانه وتعالى لجهنم سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الإلحاد وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ وهم المرشدون الكاملون وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا كالمنكرين على هؤلاء الأمة سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ انا سنستدرجهم وَأُمْلِي لَهُمْ أمهلهم إِنَّ كَيْدِي أخذي مَتِينٌ شديد، وقد جرت عادة الله تعالى في المنكرين على أوليائه أن يأخذهم أشد أخذ وقد شاهدنا ذلك كثيرا نعوذ بالله تعالى من مكره، أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وهي الآيات التكوينية، وقد تقدم معنى الملكوت وهو في مصطلح الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم عبارة عن عالم الغيب المختص بالأرواح والنفوس وفسروا الملك بعالم الشهادة من المحسوسات الطبيعية كالعرش والكرسي وغيرهما وكل جسم يتركب من الاستقصاءات مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ إذ لا هادي سواه سبحانه: إلى الماء يسعى من يغص بلقمة ... إلى أين يسعى من يغص بماء وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ يترددون لأن استعدادهم يقتضي ذلك، والله تعالى الموفق، ثم لما تقدم ذكر اقتراب أجلهم عقبه سبحانه بذكر سؤالهم عن الساعة فقال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ وقيل هو استئناف مسوق لبيان بعض طغيانهم وضلالهم، والساعة في الأصل اسم لمقدار قليل من الزمان غير معين، وهي عند المنجمين جزء من أربعة وعشرين جزءا من الليل والنهار، وتنقسم إلى معوجة ومستوية، وتطلق في عرف الشرع على يوم موت الخلق وعلى يوم قيام الناس لرب العالمين، وفسروها بيوم القيامة، ولعل المراد منه أحد ذينك اليومين وإن كان المشهور فيه اليوم الآخر، والظاهر أن المسئول عنه اليوم الأول، وإليه ذهب الزجاج، والساعة في ذلك من الأسماء الغالبة، ووجه إطلاقها عليه وكذا على وقت القيام ظاهر إن أريد زمان الموت أو زمان القيام بدون ملاحظة الامتداد لظهور أنه قدر يسير في نفسه، وإن أريد الزمان الممتد فإطلاقها عليه إما لمجيئه بغتة كما قيل، أو لأنه يدهش من يأتيهم فيقل عندهم أو يقلل ما قبله، أو لأنه على طوله قدر يسير عند الله تعالى، أو لسرعة حسابه، وجوز أن يكون تسميته بذلك من باب التسمية بالضد تمليحا كما يسمى الأسود كافورا، والسائل عن ذلك أناس من اليهود، فقد أخرج ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال قال: حمل بن أبي قشير وسمول بن زيد لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أخبرنا متى الساعة إن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 122 كنت نبيا كما تقول فإنا نعلم متى هي؟ وكان ذلك امتحانا منهم مع علمهم أنه تعالى قد استأثر بعلمها فأنزل الله تعالى الآية. وذهب بعض إلى أن السائل قريش، فقد أخرج عبد بن حميد. وابن جرير عن قتادة أن قريشا قالوا: يا محمد أسر إلينا متى الساعة لما بيننا وبينك من القرابة؟ فنزلت. وقوله سبحانه: أَيَّانَ مُرْساها بفتح همزة أيان. وقرأ السلمي بكسرها وهو لغة فيها، وهي ظرف زمان متضمن لمعنى الاستفهام ويليها المبتدأ أو الفعل المضارع دون الماضي بخلاف متى حيث يليها كلاهما، والتحقيق أنها بسيطة مرتجلة، وقيل: اشتقاقها من أي وهي فعلان منه لأن معناه أي وقت، وأي فعل، وأي من أويت بمعنى رجعت لأن باب طويت وشويت أضعاف باب حييت ووعيت ولقربه منه معنى لأن البعض آو إلى الكل ومستند إليه. وأصله على هذا أوي فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء فصار أيا وإنما لم تجعل أيان فعلا لا من أين لأنها ظرف زمان وأين ظرف مكان، ومن الناس من زعم أن أصلها أي أوان أو أي آن وليس بشيء. وتعقب في الكشف حديث الاشتقاق من أي بأنه مخالف لما ذكره الزمخشري في سورة النمل ولو سمي به لكان فعالا من آن يئين ولا تصرف، ثم قال: والوجه ما ذكره هناك لأن الاشتقاق في غير المتصرفة لا وجه له. ثم إنه ليس اشتقاقه من أي أولى من اشتقاقه من الأين بمعنى الحينونة لأن أيان زمان وكأنه غيره الاستفهام وليس بشيء لأنه بالتضمين كما في متى ونحوه وكذلك اشتقاق أي من أويت لا وجه له إلا أن الأظهر أنه يجوز الصرف وعدمه كما في حمار قبان اهـ. وأجيب بأن ما ذكر أمر قدروه للامتحان وليعلم حكمها إذا سمي بها فلا ينافي ما ذكره الزمخشري وكذا لا ينافي لتحقيق فتأمل، وأيا ما كان فهي في محل الرفع على أنها خبر مقدم ومرساها مبتدأ مؤخر وهو مصدر ميمي من أرساه إذا أثبته وأقره أي متى إثباتها وتقريرها، ولا يكاد يستعمل الإرساء إلا في الشيء الثقيل كما في قوله تعالى: وَالْجِبالَ أَرْساها [النازعات: 32] ومنه مرساة السفن، ونسبته هنا إلى الساعة باعتبار تشبيه المعاني بالأجسام. وجوز بعضهم أن يكون اسم زمان، ولا يرد عليه أنه يلزم أن يكون للزمان زمان، وفي جوازه خلاف الفلاسفة لأنه يؤول بمتى وقوع ذلك، والجملة قيل في محل النصب على المفعولية به لقول محذوف وقع حالا من ضمير يسألونك أي يسألونك قائلين أيان مرساها، وقيل في محل الجر على البدلية عن الساعة. والتحقيق عند بعض جلة المحققين أن محلها النصب بنزع الخافض لأنها بدل من الجار والمجرور لا من المجرور فقط، وفي تعليق السؤال بنفس الساعة أولا وبوقت وقوعها ثانيا تنبيه على أن المقصد الأصلي من السؤال نفسها باعتبار حلولها في وقتها المعين باعتبار كونه محلا لها، وما في الجواب أعني قوله سبحانه: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي مخرج على ذلك أيضا أي إن علمها بالاعتبار المذكور عنده سبحانه لا غير فلا حاجة إلى أن يقال: إنما علم وقت إرسائها عنده عزّ وجلّ، وبعضهم حيث غفل عن النكتة المشار إليها حمل النظم الجليل على حذف المضاف، وإليه يشير كلام أبي البقاء، ومعنى كون ذلك عنده عزّ وجلّ خاصة أنه استأثر به حيث لم يخبرا أحدا به من ملك مقرب أو نبي مرسل، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم قيل للإيذان بأن توفيقه عليه الصلاة والسلام للجواب على الوجه المذكور من باب التربية والإرشاد وهو أولى مما سنشير إليه إن شاء الله تعالى، وقوله سبحانه: لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ بيان لاستمرار خفائها إلى حين قيامها واقناط كلي عن إظهار أمرها بطريق الإخبار، والتجلية الكشف والإظهار، واللام لام التوقيت واختلف فيها فقيل هي بمعنى في، وقال ابن جني: بمعنى عند، وقال الرضي: هي اللام المفيدة للاختصاص، وهو على ثلاثة أضرب اما أن يختص الفعل بالزمان لوقوعه فيه ككتبت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 123 لغرة كذا أو لوقوعه بعده نحو لخمس خلون أو قبله نحو لليلة بقيت، ومع الإطلاق يكون الاختصاص لوقوعه فيه وإلا فحسب القرينة، وفسرها هنا غير واحد بفي. والمعنى لا يكشف عنها ولا يظهر للناس أمرها الذي تسألون عنه إلا الرب سبحانه بالذات من غير أن يشعر به أحد من المخلوقين فيتوسط في إظهاره لهم لكن لا بأن لا يخبرهم بوقتها كما هو المسئول بل بأن يقيمها فيعلموها على أتم وجه، والجار والمجرور متعلق بالتجلية وهو قيد لها بعد ورود الاستثناء كأنه قيل: لا يجليها إلا هو في وقتها إلا أنه قدم للتنبيه من أول الأمر على أن تجليها ليس بطريق الاخبار بوقتها بل بإظهار عينها في وقتها الذي يسألون عنه، وقوله تعالى: ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ استئناف كما قبله مقرر لما سبق، والمراد كبرت وعظمت على أهلهما حيث لم يعلموا وقت وقوعها. وعن السدي أن من خفي عليه علم شيء كان ثقيلا عليه، وعن قتادة أن المعنى عظمت على أهل السموات والأرض حيث يشفقون منها ويخافون شدائدها، وفي رواية أخرى عنه أن المراد ثقل علمها عليهم فلا يعلمونها، ويرجع إلى ما ذكر أولا، وقيل: المعنى ثقلت عند الوقوع على نفس السموات حتى انشقت وانتثرت نجومها وكورت شمسها وعلى نفس الأرض حتى سيرت جبالها وسجرت بحارها وكان ما كان فيها، وإلى ذلك يشير ما روي عن ابن جريج وعليه فلا يحتاج إلى تقدير مضاف، وكلمة في على سائر إلا وجه استعارة منبهة على تمكن الفعل كما لا يخفى لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً أي إلا فجأة على حين غفلة، أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لتقومن الساعة وقد نشر رجلان ثوبهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقى فيه ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها» يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها أي عالم بها كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيما أخرجه عنه ابن المنذر وغيره «فحفي» فعيل من حفى عن الشيء إذا بحث عن تعرف حاله، وذكر بعضهم أن الحفاوة في الأصل الاستقصاء في الأمر للاعتناء به قال الأعشى: فإن تسألوا عني فيا رب سائل ... حفيّ عن الأعشى به حيث أصعدا ومنه إحفاء الشارب، وتطلق أيضا على البر واللطف كما قال تعالى: إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا [مريم: 47] ، والمعنى المراد هنا متفرع على المعنى الأول لأن من بحث عن شيء وسأل منه استحكم علمه به فأريد به لازم معناه مجازا أو كناية وعدي الوصف بعن اعتبار الأصل معناه وهو السؤال والبحث، وقيل: لأنه ضمن معنى الكشف ولولا ذلك لعدي بالباء، وجوز أن البقاء أن تكونن بمعنى الباء، وروي عن الحبر. وابن مسعود أنهما قرآ بها. والجملة التشبيهية في محل نصب على أنها حال من مفعول يسألونك أي مشبها حالك عندهم بحال من هو حفي، وقيل: إن عنها متعلق بيسألونك، والجملة التشبيهية معترضة وصلة حفي محذوفة أي بها أو بهم بناء على ما قيل إن حفي من الحفاوة بمعنى الشفقة فإن قريشا قالوا له عليه الصلاة والسلام: إن بيننا وبينك قرابة فقل لنا متى الساعة؟ وروي ذلك عن قتادة وترجمان القرآن أيضا، والمعنى عليه أنهم يظنون أن عندك علمها لكن تكتمه فلشفقتك عليهم طلبوا منك أن تخصهم به وتعلق عَنِ على هذا الوجه بمحذوف كتخبرهم وتكشف لهم عنها بعيد، وقيل: هو من حفي بالشيء إذا فرح به، وروي ذلك عن مجاهد والضحاك وغيرهما، والمعنى كأنك فرح بالسؤال عنها تحبه، وعَنِ على هذا متعلقة- بحفي- كما قيل: لتضمنه معنى السؤال، والكلام على ما قال شيخ الإسلام استئناف مسوق لبيان خطئهم في توجيه السؤال إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بناء على زعمهم أنه عليه الصلاة والسلام عالم بالمسئول عنه أو أن العلم بذلك من مقتضيات الرسالة أثر بيان خطئهم في أصل السؤال بإعلام بيان المسئول عنه، وفي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 124 الانتصاف في توجيه تكرير يسألونك أن المعهود في أمثال ذلك أن الكلام إذا بني على مقصد وعرض في أثنائه عارض فأريد الرجوع لتتمة المقصد الأول وقد بعد عهده وطوي ذكره لتتصل النهاية بالبداية، وهنا لما ابتدأ الكلام بقوله سبحانه: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها ثم اعترض ذكر الجواب بقل إلى بغتة أريد تتمة سؤالهم عنها بوجه من الإنكار عليهم وهو المضمن في قوله سبحانه: كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها وهو شديد التعلق بالسؤال وقد بعد عهده فطري ذكره ليليه تمامه، ولا تراه أبدا يطري إلا بنوع من الإجمال، ومن ثم لم يذكر المسئول عنه وهو الساعة اكتفاء بما تقدم، ثم لما كرر جل وعلا السؤال لهذه الفائدة كرر الجواب أيضا مجملا فقال عزّ من قائل: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ ومنه يعلم وجه ذكر الاسم الجليل هنا، وذكر المحقق الأول أنه عليه الصلاة والسلام أمر بإعادة الجواب الأول تأكيدا للحكم وتقريرا له وإشعارا بعلته على الطريقة البرهانية بإيراد اسم الذات المنبئ عن استتباعها لصفات الكمال التي من جملتها العلم وتمهيدا للتعريض بجهلهم بقوله تعالى: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ وزعم الجبائي أن السؤال الأول كان عن وقت قيام الساعة وهذا السؤال كان عن كيفيتها وتفصيل ما فيها من الشدائد والأحوال قيل: ولذلك خص جوابه باسم الذات إذ هو أعظم الأسماء مهابة، وإلى ذلك ذهب النيسابوري ونقل عن الإمام وغيره، ولا أرى لهم مسندا في ذلك، ومفعول العلم على ما يشير إليه كلام بعضهم محذوف أي لا يعلمون ما ذكر من اختصاص علمها به تعالى فبعضهم ينكرها رأسا فلا يسأل عنها إلا متلاعبا، وبعضهم يعلم أنها واقعة البتة ويزعم أنك واقف على وقت وقوعها فيسأل جهلا، وبعضهم يزعم أن العلم بذلك من مقتضيات الرسالة فيتخذ السؤال ذريعة إلى القدح فيها، والواقف على جلية الحال ويسأل امتحانا ملحق بالجاهلين لعدم عمله بعمله هذا، وإنما أخفى سبحانه أمر الساعة لاقتصاء الحكمة التشريعية ذلك فإنه ادعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية كما أن إخفاء الأجل الخاص للإنسان كذلك، ولو قيل بأن الحكمة التكوينية تقتضي ذلك أيضا لم يبعد، وظاهر الآيات أنه عليه الصلاة والسلام لم يعلم وقت قيامها. نعم علم عليه الصلاة والسلام قربها على الإجمال وأخبر صلّى الله عليه وسلّم به. فقد أخرج الترمذي وصححه عن أنس مرفوعا «بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بالسبابة والوسطى» ، وفي الصحيحين عن ابن عمر مرفوعا أيضا «إنما أجلكم فيمن مضى قبلكم من الأمم من صلاة العصر إلى غروب الشمس» وجاء في غير ما أثر أن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة وأنه عليه الصلاة والسلام بعث في أواخر الألف السادسة ومعظم الملة في الألف السابعة. وأخرج الجلال السيوطي عدة أحاديث في أن عمر الدنيا سبعة آلاف سنة وذكر أن مدة هذه الأمة تزيد على ألف سنة ولا تبلغ الزيادة عليها خمسمائة سنة، واستدل على ذلك بأخبار وآثار ذكرها في رسالته المسماة- بالكشف عن مجاوزة هذه الأمة الألف- وسمى بعضهم لذلك هذه الألف الثانية بالمخضرمة لأن نصفها دنيا ونصفها الآخر أخرى، وإذا لم يظهر المهدي على رأس المائة التي نحن فيها ينهدم جميع ما بناه كما لا يخفى على من راجعه، وكأني بك تراه منهدما، ونقل السفاريني عن الفلاسفة أنهم زعموا أن تدبير العالم الذي نحن فيه للسنبلة فإذا تم دورها وقع الفساد والدثور في العالم فإذا عاد الأمر إلى الميزان تجتمع المواد ويقدر النشور عودا، وقال البكري: إن سلطان الحمل عندهم اثنا عشر ألف سنة وسلطان الثور دونه بألف وهكذا ينقص ألف ألف إلى الحوت فيكون سلطانه ألف سنة ومجموع ذلك ثمانية وسبعون ألف سنة فإذا كملت انقضى عالم الكون والفساد، ونقل ذلك عن هرمس وادعى أنه قال: إنه لم يكن في حكم الحمل والثور والجوزاء على الأرض حيوان فلما كان حكم السرطان تكونت دواب الماء وهو أم الأرض ولما كان حكم الأسد تكونت الدواب ذوات الأربع ولما كان حكم السنبلة تولد الإنسانان الأولان آدم نوس وحوا نوس وزعم بعضهم أن مدة العالم مقدار قطع الكواكب الثابتة لدرج الفلك، والكوكب منها يقطع البرج بزعمه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 125 في ثلاثة آلاف سنة فذلك ست وثلاثون ألف سنة انتهى. ولا يخفى على من اطلع على كتب الأرصاد والزيجات أن الأدوار عندهم ثلاثة أكبر وأوسط وأصغر ويسمونها التسييرات، وهي على السوية في جميع البروج فالدور الأكبر ما يكون فيه قطع كل درجة بمائة سنة والأوسط ما يكون فيه قطع كل درجة بعشر سنين والأصغر ما يكون فيه قطع كل درجة بسنة، وعندهم دور أعظم ويسمونه أيضا التسيير الأعظم وهو ما يكون فيه قطع كل درجة بألف سنة والتسيير اليوم في الميزان وقد مضى منه أربع درجات وست وخمسون دقيقة وإحدى وثلاثون ثانية واثنتا عشرة ثالثة، وإذا اعتبرت مدة ذلك من نقطة رأس الحمل إلى هنا بلغت مائة ألف سنة وأربعا وثمانين ألف سنة وتسعمائة وثلاثا وأربعين سنة، وأن مدة حركة الثوابت على ما نقل عن بطليموس في كل برج ألفان ومائة واثنتان وستون سنة وثمانية أشهر وستة عشر يوما وتسع عشرة ساعة، وإذا ضرب ذلك في اثني عشر عدّة البروج خرج مدة قطعها الفلك كله وهو أقل مما ذكره بكثير، ولعل المراد بدور البرج ما أريد بسلطانه من حكم تأثيره والتأثر العادي على ما يفهم من بعض كتب القوم بحكم الأصالة للبرج وهو الذي يفيض على الكواكب النازل فيه، وكل ذلك مما لم ينزل الله تعالى به سلطانا، والحق الذي لا ينبغي المحيص عنه القول بحدوث العالم حدوثا زمانيا ولا يعلم أوله إلا الله تعالى، وكذلك عمر الدنيا وأول النشأة الإنسانية ومدة بقائها في هذا العالم وقدر زمان لبثها في البرزخ كل ذلك لا يعلمه إلا الله تعالى، وجميع ما ورد في هذا الباب أمور ظنية لا سند يعول عليه لأكثرها، ووراء هذا أقوال لأهل الصين وغيرهم هي أدهى وأمر مما تقدم، وبالجملة الباقي من عمر الدنيا عند من يقول بفنائها أقل قليل بالنسبة إلى الماضي من ذلك والله تعالى أعلم بحقيقة ما هناك قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا أي لا أملك لأجل نفسي جلب نفع ما ولا دفع ضرر ما. والجار والمجرور كما قال أبو البقاء إما متعلق بأملك أو بمحذوف وقع حالا من نفعا. والمراد لا أملك ذلك في وقت من الأوقات إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أي إلا وقت مشيئته سبحانه بأن يمكنني من ذلك فإنني حينئذ أملكه بمشيئته، فالاستثناء متصل وفيه دليل كما قال الشيخ إبراهيم الكوراني على أن قدرة العبد مؤثرة بإذن الله تعالى ومشيئته، وقيل: الاستثناء منقطع أي لكن ما شاء الله تعالى من ذلك كائن، وفيه على هذا من إظهار العجز ما لا يخفى، والكلام مسوق لإثبات عجزه عن العلم بالساعة على أتم وجه، وإعادة الأمر لإظهار العناية بشأن الجواب والتنبيه على استقلاله ومغايرته للأول وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ أي الذي من جملته ما بين الأشياء من المناسبات المصححة عادة للسببية والمسببية ومن المباينات المستتبعة للمدافعة والممانعة لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ أي لحصلت كثيرا من الخير الذي نيط بترتيب الأسباب ورفع الموانع وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ أي السوء الذي يمكن التفصي عنه بالتوقي عن موجباته والمدافعة بموانعه وإن كان منه ما لا مدفع له وكأن عدم مس السوء من توابع استكثار الخير في الجملة، ولذا لم يسلك في الجملة الثانية نحو مسلك الجملة الأولى، والاستلزام في الشرطية لا يلزم أن يكون عقليا وكليا بل يكفي أن يكون عاديا في البعض. وقد حكم غير واحد أنه في الآية من العادي، وبذلك دفع الشهاب ما قيل: إن العلم بالشيء لا يلزم منه القدرة عليه ومنشؤه الغفلة عن المراد. وحمل الخير والسوء على ما ذكر هو الذي ذهب إليه جلة المحققين. وفسر بعض الأول بالربح في التجارة والفوز بالخصب. والثاني بضد ذلك بناء على ما روي عن الكلبي أن أهل مكة قالوا: يا محمد ألا تخبرنا بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فنشتري فنربح، وبالأرض التي تريد أن تجدب فنرتحل منها إلى ما قد أخصب فنزلت. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير الأول بالربح في التجارة والثاني بالفقر، وقيل: الأول الجواب عن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 126 السؤال والثاني التكذيب، وقيل: الأول الاشتغال بدعوة من سبقت له السعادة، والثاني النصب الحاصل من دعوة من حقت عليه كلمة العذاب. وقيل: ونسب إلى مجاهد وابن جريج المراد من الغيب الموت، ومن الخير الإكثار من الأعمال الصالحة، ومن السوء ما لم يكن كذلك، وقيل: غير ذلك، والكل كما ترى ومنها ما لا ينبغي أن يخرج عليه التنزيل، وقدم ذكر الخير على ذكر السوء لمناسبة ما قبل حيث قدم فيه ذكر النفع على ذكر الضر وسلك في ذكرهما هناك كذلك مسلك الترقي على ما قيل: فإن دفع المضار أهم من جلب المنافع، وذكر النيسابوري أن أكثر ما جاء في القرآن إذ يؤتى بالضر والنفع معا تقديم لفظ الضر على النفع وهو الأصل لأن العابد إنما يعبد معبوده خوفا من عقابه أولا ثم يعبده طمعا في ثوابه ثانيا كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً [السجدة: 16] وحيث تقدم النفع على الضر كان ذلك لسبق لفظ تضمن معنى نفع كما في هذه السورة حيث تقدم آنفا لفظ الهداية على الضلال في قوله تعالى: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ إلخ وفي الرعد تقدم ذكر الطوع في قوله سبحانه: طَوْعاً وَكَرْهاً [آل عمران: 83، الرعد: 15] وهو نفع، وفي الفرقان تقدم العذب في قوله جل وعلا: هذا عَذْبٌ فُراتٌ [الفرقان: 53، فاطر: 12] وهو نفع، وفي سبأ تقدم البسط في قوله تبارك اسمه: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ [الرعد: 26] وليقس على هذا غيره، وابن جريج يفسر النفع هنا بالهدى والضر بالضلال، وبه تقوى نكتة التقديم التي اعتبرها هذا الفاضل فيما نحن فيه كما لا يخفى. واستشكلت هذه الآية مع ما صح أنه صلّى الله عليه وسلّم أخبر بالمغيبات الجمة وكان الأمر كما أخبر، وعد ذلك من أعظم معجزاته عليه الصلاة والسلام، واختلف في الجواب فقيل: المفهوم من الآية نفي علمه عليه الصلاة والسلام إذ ذاك بالغيب المفيد لجلب المنافع ودفع المضار التي لا علاقة بينها وبين الأحكام والشرائع وما يعلمه صلّى الله عليه وسلّم من الغيوب ليس من ذلك النوع وعدم العلم مما لا يطعن في منصبه الجليل عليه الصلاة والسلام. وقد أخرج مسلم عن أنس وعائشة رضي الله تعالى عنهما أنه صلّى الله عليه وسلّم مر بقوم يلقحون فقال: عليه الصلاة والسلام «لو لم تفعلوا لصلح فلم يفعلوا فخرج شيصا فمر بهم صلّى الله عليه وسلّم فقال: ما لقحتم؟ قالوا: قلت كذا وكذا قال: أنتم أعلم بأمر دنياكم» وفي رواية أخرى له أنه عليه الصلاة والسلام قال حين ذكر له أنه صار شيصا: «إن كان شيء من أمر دنياكم فشأنكم، وإن كان من أمر دينكم فإلي» وقد عد عدم علمه صلّى الله عليه وسلّم بأمر الدنيا كمالا في منصبه إذ الدنيا بأسرها لا شيء عند ربه. وقيل: المراد نفي استمرار علمه عليه الصلاة والسلام الغيب، ومجيء كان للاستمرار شائع، ويلاحظ الاستمرار أيضا في الاستكثار وعدم المس. وقيل: المراد بالغيب وقت قيام الساعة لأن السؤال عنه وهو عليه الصلاة والسلام لم يعلمه ولم يخبر به أصلا، وحينئذ يفسر الخير والسوء بما يلائم ذلك كتعليم السائلين وعدم الطعن في أمر الرسالة من الكافرين، وقيل: أل في الغيب للاستغراق وهو صلّى الله عليه وسلّم لم يعلم كل غيب فإن من الغيب ما تفرد الله تعالى به كمعرفة كنه ذاته تبارك وتعالى وكمعرفة وقت قيام الساعة على ما تدل عليه الآية. وفي لباب التأويل للخازن في الجواب عن ذلك أنه يحتمل أن يكون هذا القول منه عليه الصلاة والسلام على سبيل التواضع والأدب، والمعنى لا أعلم الغيب إلا أن يطلعني الله تعالى عليه ويقدره لي، ويحتمل أن يكون قال ذلك قبل أن يطلعه الله تعالى على الغيب فلما اطلعه أخبر به، أو يكون خرج هذا الكلام فخرج الجواب عن سؤالهم ثم بعد ذلك أظهره الله تعالى على أشياء من المغيبات ليكون ذلك معجزة له ودلالة على صحة نبوته صلّى الله عليه وسلّم انتهى، وفيه تأمل وكلام بعض المحققين يشير إلى ترجيح الأول. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 127 ومعنى قوله سبحانه: إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ على ذلك ما أنا إلا عبد مرسل للانذار والبشارة وشأني حيازة ما يتعلق بهما من العلوم لا الوقوف على الغيوب التي لا علاقة بينها وبينهما وقد كشفت من أمر الساعة ما يتعلق به الإنذار من مجيئها لا محالة واقترابها وأما تعيين وقتها فليس مما يستدعيه الانذار بل هو مما يقدح فيه لما مر من أن إبهامه ادعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية، وتقديم النذير لأن المقام مقام إنذار لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي يصدقون بما جئت به، والجار إما متعلق بالوصفين جميعا والمؤمنون ينتفعون بالإنذار كما ينتفعون بالتبشير واما متعلق بالأخير ومتعلق الأول محذوف أي نذير للكافرين، وحذف ليطهر اللسان منهم. وأراد بعضهم من الكافرين المستمرين على الكفر ومن مقابلهم الذين يؤمنون في أي وقت كان وحينئذ في الآية ترغيب للكفرة في احداث الإيمان وتحذير عن الإصرار على الكفر والطغيان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 128 هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ استئناف لبيان ما يقتضي التوحيد الذي هو المقصد الأعظم، وإيقاع الموصول خبرا لتفخيم شأن المبتدأ أي هو سبحانه ذلك العظيم الشأن الذي خلقكم جميعا وحده من غير أن يكون لغيره مدخل في ذلك أصلا مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وهو آدم عليه السلام على ما نص عليه الجمهور وَجَعَلَ مِنْها أي من جنسها كما في قوله سبحانه: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً [النحل: 72، الشورى: 11] فمن ابتدائية والمشهور أنها تبعيضية أي من جسدها لما يروى أنه سبحانه خلق حواء من ضلع آدم عليه السلام اليسرى، والكيفية مجهولة لنا ولا يعجز الله تعالى شيء، والفعل معطوف على صلة الموصول داخل في حكمها ولا ضير في تقدم مضمونه على مضمون الأول وجودا لما أن الواو لا تستدعي الترتيب فيه، وهو إما بمعنى صير فقوله سبحانه: زَوْجَها مفعوله الأول والثاني هو الظرف المقدم واما بمعنى أنشأ والظرف متعلق به قدم على المفعول الصريح لما مر مرارا أو بمحذوف وقع حالا من المفعول لِيَسْكُنَ إِلَيْها علة غائية للجعل أي ليستأنس بها ويطمئن إليها، والضمير المستكن للنفس، وكان الظاهر التأنيث لأن النفس من المؤنثات السماعية ولذا أنثت صفتها إلا أنه ذكر باعتبار أن المراد منها آدم ولو أنث على الظاهر لتوهم نسبة السكون إلى الأنثى والمقصود خلافه، وذكر الزمخشري أن التذكير أحسن طباقا للمعنى وبينه في الكشف بأنه لما كان السكون مفسرا بالميل وهو متناول للميل الشهواني الذي هو مقدمة التغشي لا سيما وقد أكد بالفاء في قوله تعالى: فَلَمَّا تَغَشَّاها والتغشي منسوب إلى الذكر لا محالة كان الطباق في نسبته أيضا إليه وإن كان من الجانبين، وفيه إيماء إلى أن تكثير النوع علة المؤانسة كما أن الوحدة علة الوحشة، وأيضا لما جعل المخلوق أولا الأصل كان المناسب أن يكون جعل الزوج لسكونه بعد الاستيحاش لا العكس فإنه غير ملائم لفظا ومعنى، لكن ذكر ابن الشحنة أن النفس إذا أريد به الإنسان بعينه فمذكر وإن كان لفظه لفظ مؤنث، وجاء ثلاثة أنفس على معنى ثلاثة أشخاص وإذا أريد بها الروح فهي مؤنثة لا غير وتصغيرها نفسية فليفهم. والضمير المنصوب من تغشاها للزوج وهو بمعنى الزوجة مؤنث، والتغشي كناية عن الجماع أي فلما جامعها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً أي محمولا خفيفا وهو الجنين عند كونه نطفة أو علقة أو مضغة فإنه لا ثقل فيه بالنسبة إلى ما بعد ذلك من الأطوار، فنصب حملا على أنه مفعول به وهو بفتح الحاء ما كان في بطن أو على شجر وبالكسر خلافه. وقد حكى في كل منهما الكسر والفتح وجوز أن يكون هنا مصدرا منصوبا على أنه مفعول مطلق، وأن يراد بالخفة عدم التأذي أي حملت حملا خف عليها ولم تلق منه ما تلقى بعض الحوامل من حملهن من الكرب والأذية فَمَرَّتْ بِهِ أي استمرت به كما قرأ به ابن عباس والضحاك والمراد بقيت به كما كانت قبل حيث قامت وقعدت وأخذت وتركت وهو معنى لا غبار فيه. والقول بأنه من القلب أي فاستمر بها حملها من القلب عند النقاد، وقرأ أبو العالية وغيره «مرت» بالتخفيف فقيل: إنه مخفف مرت كما يقال: ظلت في ظللت، وقيل: هو من المرية أي الشك أي شكت في أمر حملها. وقرأ ابن عمر والجحدري «فمارت» من مار يمور إذا جاء وذهب فهي بمعنى قراءة الجمهور أو هي من المرية كقراءة أبي العالية ووزنه فاعلت وحذفت لامه للساكنين فَلَمَّا أَثْقَلَتْ أي صارت ذات ثقل بكبر الحمل في بطنها فالهمزة فيه للصيرورة كقولهم أتمر وألبن أي صار ذا تمر ولبن، وقيل: إنها للدخول في زمان الفعل أي دخلت في زمان الثقل كأصبح دخل في الصباح والأول أظهر، والمتبادر من الثقل معناه الحقيقي، والتقابل بينه وبين المعنى الأول للخفة ظاهر، وقد يراد به الكرب ليقابل الخفة بالمعنى الثاني لكن المتبادر في الموضعين المعنى الحقيقي، وقرىء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 129 «أثقلت» بالبناء للمفعول والهمزة للتعدية أي أثقلها حملها دَعَوَا اللَّهَ أي آدم وحواء عليهما السلام لما خافا عاقبة الأمر فاهتما به وتضرعا إليه عز وجل رَبَّهُما أي مالك أمرهما الحقيق بأن يخص به الدعاء. وفي هذا إشارة إلى أنهما قد صدرا به دعاءهما وهو المعهود منهما في الدعاء، ومتعلق الدعاء محذوف لإيذان الجملة القسمية به، أي دعواه تعالى أن يؤتيهما صالحا ووعدا بمقابلته الشكر على سبيل التوكيد القسمي وقالا أو قائلين لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً أي نسلا من جنسنا سويا، وقيل: ولدا سليما من فساد الخلقة كنقص بعض الأعضاء ونحو ذلك وعليه جماعة. وعن الحسن غلاما ذكرا وهو خلاف الظاهر لَنَكُونَنَّ نحن أو نحن ونسلنا مِنَ الشَّاكِرِينَ الراسخين في الشكر لك على إيتائك. وقيل: على نعائمك التي من جملتها هذه النعمة. وجوز أن يكون ضمير آتيتنا لهما ولكل من يتناسل من ذريتهما وليس بذلك فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً وهو ما سألاه أصالة من النسل أو ما طلباه أصالة واستتباعا من الولد وولد الولد ما تناسلوا جَعَلا أي النسل الصالح السوي، وثني الضمير باعتبار أن ذلك النسل صنفان ذكر وأنثى وقد جاء أن حواء كانت تلد في كل بطن كذلك لَهُ أي لله سبحانه وتعالى شُرَكاءَ من الأصنام والأوثان فِيما آتاهُما من الأولاد حيث أضافوا ذلك إليهم، والتعبير «بما» لأن هذه الإضافة عند الولادة والأولاد إذ ذاك ملحقون بما لا يعقل. وقيل: المراد بالموصول ما يعم سائر النعم فإن المشركين ينسبون ذلك إلى آلهتهم، ووجه العدول عن الإضمار حيث لم يقل شركاء فيه على الوجهين ظاهر، وإسناد الجعل للنسل على حد بنو تميم قتلوا فلانا فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ تنزيه فيه معنى التعجب، والفاء لترتيبه على ما فصل من قدرته سبحانه عز وجل وآثار نعمته الزاجرة عن الشرك الداعية إلى التوحيد، وضمير الجمع لأولئك النسل الذين جعلوا لله شركاء وفيه تغليب المذكر على المؤنث وإيذان بعظم شركهم، والمراد بذلك إما التسمية أو مطلق الإشراك، و «ما» إما مصدرية أي عن إشراكهم أو موصولة أو موصوفة أي عما يشركون به تعالى، وهذه الآية عندي من المشكلات، وللعلماء فيها كلام طويل ونزاع عريض وما ذكرناه هو الذي يشير إليه كلام الجبائي وهو مما لا بأس به بعد أعضاء العين عن مخالفته للمرويات سوى تثنية الضمير تارة وجمعه أخرى مع كون المرجع مفردا لفظا ولم نجد ذلك في الفصيح. واختار غير واحد أن في جعلا وآتاهما بعد مضافا محذوفا وضمير التثنية فيهما لآدم وحواء على طرز ما قبل أي جعل أولادهما فيما آتى أولادهما من الأولاد وإنما قدروه في موضعين ولم يكتفوا بتقديره في الأول وإعادة الضمير من الثاني على المقدر أولا لأن الحذف لم تقم عليه قرينة ظاهرة فهو كالمعدوم فلا يحسن عود الضمير عليه، والمراد بالشرك فيما آتى الأولاد تسمية كل واحد من أولادهم بنحو عبد العزى وعبد شمس. واعترض أولا بأن ما ذكر من حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه إنما يصار إليه فيما يكون للفعل ملابسة ما بالمضاف إليه أيضا بسرايته إليه حقيقة أو حكما ويتضمن نسبته إليه صورة مزية يقتضيها المقام كما في قوله تعالى: وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [الأعراف: 141] الآية فإن الإنجاء منهم مع أن تعلقه حقيقة ليس إلا بأسلاف اليهود وقد نسب إلى أخلاقهم بحكم سرايته إليهم توفية لمقام الامتنان حقه وكذا يقال في نظائره وهنا ليس كذلك إذ لا ريب في أن آدم وحواء عليهما السلام بريئان من سراية الجعل المذكور إليهما بوجه من الوجوه فلا وجه لإسناده إليهما صورة، وثانيا بأن اشراكهم بإضافة أولادهم بالعبودية إلى أصنامهم من لازم اتخاذ تلك الأصنام آلهة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 130 ومتفرع له لا أمر حدث عنهم لم يكن قبل فينبغي أن يكون التوبيخ على هذا دون ذلك، وثالثا بأن اشراك أولادهما لم يكن حين آتاهما الله تعالى صالحا بل بعده بأزمنة متطاولة، ورابعا بأن اجراء جعلا على غير ما أجري عليه الأول والتعقيب بالفاء يوجب اختلال النظم الكريم. وأجيب عن الأول بأن وجه ذلك الإسناد الإيذان بتركهما الأولى حيث أقدما على نظم أولادهما في سلك أنفسهما والتزما شكرهم في ضمن شكرهما وأقسما على ذلك قبل تعرف أحوالهم ببيان أن إخلالهم بالشكر الذي وعداه وعدا مؤكدا باليمين بمنزلة إخلالهما بالذات في استيجاب الحنث والخلف مع ما فيه من الإشعار بتضاعف جنايتهم ببيان أنهم بجعلهم المذكور أوقعوهما في ورطة الحنث والخلف وجعلوهما كأنهما باشراه بالذات فجمعوا بين الجناية مع الله تعالى والجناية عليهما عليهما السلام، وعن الثاني بأن المقام يقتضي التوبيخ على هذا لأنه لما ذكر ما أنعم سبحانه وتعالى به وعليهم من الخلق من نفس واحدة وتناسلهم وبخهم على جهلهم وإضافتهم تلك النعم إلى غير معطيها وإسنادها إلى من لا قدرة له على شيء ولم يذكر أولا أمرا من أمور الألوهية قصدا حتى يوبخوا على اتخاذ الآلهة، وعن الثالث بأن كلمة لما ليست للزمان المتضايق بل الممتد فلا يلزم أن يقع الشرط والجزاء في يوم واحد أو شهر أو سنة بل يختلف ذلك باختلاف الأمور كما يقال: لما ظهر الإسلام طهرت البلاد من الكفر والإلحاد، وعن الرابع بما حرره صاحب الكشف في اختيار هذا القول وإيثار على القول بأن الشرك راجع لآدم وحواء عليهما السلام وليس المتعارف بل ما نقل من تسمية الولد عبد الحارث وهو أن الظاهر أن قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ خطاب لأهل مكة وأنه بعد ما ختمت قصة اليهود بما ختمت تسلية وتشجيعا للنبي صلّى الله عليه وسلّم وحملا له على التثبت والصبر اقتداء بإخوته من أولي العزم عليه وعليهم الصلاة والسلام لا سيما مصطفاه وكليمه موسى عليه السلام فإن ما قاساه من بني إسرائيل كان شديد الشبه بما كان يقاسيه صلّى الله عليه وسلّم من قريش وذيلت بما يقتضي العطف على المعنى الذي سيق له الكلام أولا أعني قوله سبحانه وتعالى: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ [الأعراف: 181] وقع التخلص إلى ذكر أهل مكة في حاق موقعه فقيل: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ [الأعراف: 182] وذكر سؤالهم عما لا يعنيهم فلما أريد بيان أن ذلك مما لا يهمكم وإنما المهم إزالة ما أنتم عليه منغمسون فيه من أوضار الشرك والآثام مهد له هو الذي خلقكم مضمنا معنى الامتنان والمالكية المقتضيين للتوحيد والعبودية ثم قيل: فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ أي جعلتم يا أولادهما ولقد كان في أبويكم أسوة حسنة في قولها: لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ وكأن المعنى والله تعالى أعلم فلما آتاهما صالحا ووفيا بما وعدا به ربهما من القيام بموجب الشكر خالفتم أنتم يا أولادهما فأشركتم وكفرتم النعمة، وفي هذا الالتفات ثم إضافة فعلهم إلى الأبوين على عكس ما جعل من خلق الأب وتصويره في معرض الامتنان متعلقا بهم إيماء إلى غاية كفرانهم وتماديهم في الغي، وعليه ينطبق قوله سبحانه: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ثم قال: فظهر أن إجراء جعلا له على غير ما أجري عليه الأول، والتعقيب بالفاء لا يوجب اختلال النظم بل يوجب التئامه، والانصاف أن الأسئلة والآية على هذا الوجه من قبيل اللغز، وعن الحسن وقتادة أن ضمير جعلا وآتاهما يعود على النفس وزوجها من ولد آدم لا إلى آدم وحواء عليهما السلام، وهو قول الأصم قال: ويكون المعنى في قوله سبحانه وتعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ خلق كل واحد منكم من نفس واحدة وخلق لكل نفس زوجا من جنسها فلما تغشى كل نفس زوجها حملت حملا خفيفا وهو ماء الفحل فلما أثقلت بمصير ذلك الماء لحما ودما وعظما دعا الرجل والمرأة ربهما لئن آتيتنا صالحا أي ذكرا سويا لنكونن من الشاكرين وكانت عادتهم أن يئدوا البنات فلما آتاهما أي فلما أعطى الله تعالى الأب والأم ما سألاه جعلا له شركاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 131 فسميا عبد اللات وعبد العزى وغير ذلك ثم رجعت الكناية في قوله سبحانه وتعالى: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ إلى الجميع ولا تعلق للآية بآدم وحواء عليهما السلام أصلا، ولا يخفى أن المتبادر من صدرها آدم وحواء ولا يكاد يفهم غيرهما رأسا. نعم اختار ابن المنير ما مآله هذا في الانتصاف وادعى أنه أقرب وأسلم مما تقدم وهو أن يكون المراد جنسي الذكر والأنثى ولا يقصد معين من ذلك ثم قال: وكأن المعنى والله تعالى أعلم هو الذي خلقكم جنسا واحدا وجعل أزواجكم منكم أيضا لتسكنوا إليهن فلما تغشى الجنس الذي هو الذكر الجنس الذي هو الأنثى جرى من هذين الجنسين كيت وكيت، وإنما نسب هذه المقالة إلى الجنس وإن كان فيهم الموحدون لأن المشركين منهم فجاز أن يضاف الكلام إلى الجنس على طريقة قتل بنو تميم فلانا وإنما قتله بعضهم، ومثله قوله تعالى: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا [مريم: 66] وقُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ [عبس: 17] إلى غير ذلك وتعقب بأن فيه اجراء جميع ألفاظ الآية على الأوجه البعيدة. وعن أبي مسلم أن صدر الآية لآدم وحواء كما هو الظاهر إلا أن حديثهما ما تضمنه قوله سبحانه وتعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها وانقطع الحديث ثم خص المشركين من أولاد آدم بالذكر، ويجوز أن يذكر العموم ثم يخص البعض بالذكر، وهو كما ترى. وقيل: يجوز أن يكون ضمير جعلا لآدم وحواء كما هو الظاهر والكلام خارج مخرج الاستفهام الإنكاري والكناية في فَتَعالَى إلخ للمشركين، وذلك أنهم كانوا يقولون: إن آدم عليه السلام كان يعبد الأصنام ويشرك كما نشرك فرد عليهم بذلك ونظير هذا أن ينعم رجل على آخر بوجوه كثيرة من الانعام ثم يقال لذلك المنعم: إن الذي أنعمت عليه يقصد إيذاءك وإيصال الشر إليك فيقول: فعلت في حقه كذا وكذا وأحسنت إليه بكذا وكذا ثم أنه يقابلني بالشر والإساءة ومراده أنه بريء من ذلك ومنفي عنه. وقيل: يحتمل أن يكون الخطاب في خَلَقَكُمْ لقريش وهم آل قصي فإنهم خلقوا من نفس قصي وكان له زوج من جنسه عربية قريشية وطلبا من الله تعالى الولد فأعطاهما أربعة بنين فسمياهم عبد مناف وعبد شمس وعبد العزى وعبد الدار يعني بها دار الندوة ويكون الضمير في يُشْرِكُونَ لهما ولأعقابهما المقتدين بهما وأيد ذلك بقوله في قصة أم معبد: فيا لقصيّ ما زوى الله عنكم ... به من فخار لا يبارى وسودد واستبعد ذلك في الكشف بأن المخاطبين لم يخلقوا من نفس قصي لا كلهم ولا جلهم وإنما هو مجتمع قريش وبأن القول بأن زوجه قرشية خطأ لأنها إنما كانت بنت سيد مكة من خزاعة وقريش إذ ذاك متفرقون ليسوا في مكة، وأيضا من أين العلم أنهما وعدا عند الحمل أن يكونا شاكرين لله تبارك وتعالى ولا كفران أشد من الكفر الذي كانا فيه. وما مثل من فسر بذلك إلا كمن عمر قصرا فهدم مصرا، وأما البيت فإنما خص فيه بنو قصي بالذكر لأنهم ألصق برسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو لأنه لما كان سيدهم وأميرهم شمل ذكره الكل شمول فرعون لقومه ومعلوم أن الكل ليسوا من نسل فرعون وأجيب عن قوله: من أين العلم إلخ بأنه من إعلام الله تعالى إن كان ذلك هو معنى النظم، ومنه يعلم أن كون زوجته غير قرشية في حيز المنع. نعم في كون قصي هو أحد أجداد النبي صلّى الله عليه وسلّم كان مشركا مخالفة لما ذهب إليه جمع من أن أجداده عليه الصلاة والسلام كلهم غير مشركين، وقيل: إن ضمير له للولد، والمعنى أنهما طلبا من الله تعالى أمثالا للولد الصالح الذي آتاهما، وقيل: هو لإبليس، والمعنى جعلا لابليس شركاء في اسمه حيث سميا ولدهما بعبد الحرث، وكلا القولين ردهما الآمدي في أبكار الأفكار، وهما لعمري أوهن من بيت العنكبوت لكني ذكرتهما استيفاء للأقوال، وذهب جماعة من السلف كابن عباس. ومجاهد. وسعيد بن المسيب وغيرهم إلى أن ضمير جَعَلا يعود الجزء: 5 ¦ الصفحة: 132 لآدم وحواء عليهما السلام، والمراد بالشرك بالنسبة إليهما غير المتبادل بل ما أشرنا إليه آنفا إلى قوله سبحانه وتعالى: فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ تخلص إلى قصة العرب وإشراكهم الأصنام فهو كما قال السدي من الموصول لفظا المفصول معنى، ويوضح ذلك كما قيل تغيير الضمير إلى الجمع بعد التثنية ولو كانت القصة واحدة لقيل يشركان، وكذلك الضمائر بعد، وأيد ذلك بما أخرجه أحمد. والترمذي وحسنه. والحاكم وصححه عن سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال لها: سميه عبد الحرث فإنه يعيش فسمته بذلك فعاش فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره وأراد بالحرث نفسه فإنه كان يسمي به بين الملائكة» ولا يعد هذا شركا بالحقيقة على ما قال القطب لأن اسماء الأعلام لا تفيد مفهوماتها اللغوية لكن أطلق عليه الشرك تغليظا وإيذانا بأن ما عليه أولئك السائلون عما لا يعنيهم أمر عظيم لا يكاد يحيط بفظاعته عبارة. وفي لباب التأويل أن إضافة عبد إلى الحارث على معنى أنه كان سببا لسلامته وقد يطلق اسم العبد على ما لا يراد به الملوك كقوله: وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا ولعل نسبة الجعل إليهما مع أن الحديث ناطق بأن الجاعل حواء لا هي وآدم لكونه عليه السلام أقرها على ذلك، وجاء في بعض الروايات التصريح بأنهما سمياه بذلك. وتعقب هذا القول بعض المدققين بأن الحديث لا يصلح تأييدا له لأنه لم يرد مفسرا للآية ولا إنكارا لصدور ذلك منهما عليهما السلام فإنه ليس بشرك. نعم كان الأولى بهما التنزه عن ذلك إنما المنكر حمل الآية على ذلك مع ما فيه من العدول عن الظاهر لا سيما على قراءة الأكثرين شُرَكاءَ بلفظ الجمع، ومن حمل فَتَعالَى إلخ على أنه ابتداء كلام وهو راجع إلى المشركين من الكفار، والفاء فصيحة، وكونه منقولا عن السلف معارض بأن غيره منقول أيضا عن جمع منهم انتهى. وقد يقال: أخرج ابن جرير عن الحبر أنّ الآية نزلت في تسمية آدم وحواء ولديهما بعبد الحرث، ومثل ذلك لا يكاد يقال من قبل الرأي، وهو ظاهر في كون الخبر تفسيرا للآية، وارتكاب خلاف الظاهر في تفسيرها مما لا مخلص عنه كما لا يخفى على المنصف. ووجه جمع الشركاء زيادة في التغليظ لأن من جوز الشرك جوز الشركاء فلما جعلا شريكا فكأنهما جعلا شركاء، وحمل فَتَعالَى اللَّهُ إلخ على الابتداء مما يستدعيه السباق والسياق وبه وصرح كثير من أساطين الإسلام والذاهبون إلى غير هذا الوجه نزر قليل بالنسبة إلى الذاهبين إليه وهم دونهم أيضا في العلم والفضل وشتان ما بين دندنة النحل وألحان معبد، ومن هنا قال العلامة الطيبي: إن هذا القول أحسن الأقوال بل لا قول غيره ولا معول إلا عليه لأنه مقتبس من مشكاة النبوة وحضرة الرسالة صلّى الله عليه وسلّم، وأنت قد علمت مني أنه إذا صح الحديث فهو مذهبي وأراه قد صح ولذلك أحجم كميت قلمي عن الجري في ميدان التأويل كما جرى غيره والله تعالى الموفق للصواب وقرأ نافع وأبو بكر «شركا» بصيغة المصدر أي شركة أو ذوي شركة وهم الشركاء أَيُشْرِكُونَ به تعالى ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً أي ما لا يقدر على أن يخلق شيئا من الأشياء أصلا ومن حق المعبود أن يكون خالقا لعابده لا محالة وعنى «بما» الأصنام، وإرجاع الضمير إليها مفردا لرعاية لفظها كما أن إرجاع ضمير الجمع إليها من قوله سبحانه وتعالى: وَهُمْ يُخْلَقُونَ لرعاية معناها وإيراد ضمير العقلاء مع أن الأصنام مما لا يعقل إنما هو بحسب اعتقادهم فيها واجرائهم لها مجرى العقلاء وتسميتهم لها آلهة. والجملة عطف على لا يَخْلُقُ، والجمع بين الأمرين لإبانة كمال منافاة حال ما أشركوه لما اعتقدوا فيه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 133 واظهار غاية جهلهم، وعدم التعرض للخالق للإيذان بتعينه والاستغناء عن ذكره تعالى وَلا يَسْتَطِيعُونَ أي الأصنام لَهُمْ أي للمشركين الذين عبدوهم نَصْراً أي نصرا ما إذا أحزنهم أمرهم وخطب ملم وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ إذا اعتراهم حادثة من الحوادث أي لا يدفعونها عن أنفسهم، وإيراد النصر للمشاكلة وهو مجاز في لازم معناه وهذا لتأكيد العجز والاحتياج المنافيين لاستحقاق الألوهية، ووصفوا فيما تقدم بالمخلوقية لكونهم أهلا لها ولم يوصفوا هنا بالمنصورية لأنهم ليسوا أهلا لها. وقوله سبحانه وتعالى: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ بيان لعجزهم عما هو أدنى من النصر المنفي عنهم وأيسر وهو مجرد الدلالة على البغية والإرشاد إلى طريق حصولها من غير أن تحصل للطالب. والخطاب للمشركين بطريق الالتفات بدلالة ما بعد، وفيه إيذان بمزيد الاعتناء بأمر التوبيخ والتبكيت، أي وإن تدعوا الأصنام أيها المشركون إلى أن يرشدوكم إلى ما تحصلون به المطالب أو تنجون به عن المكاره لا يتبعوكم إلى مرادكم ولا يجيبوكم ولا يقدرون على ذلك. وقرأ نافع «يتبعوكم» بالتخفيف وقوله تعالى: سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ استئناف مقرر لمضمون ما قبله ومبين لكيفية عدم الاتباع، أي مستو عليكم في عدم الافادة دعاؤكم لهم وسكوتكم فإنه لا يتغير حالكم في الحالين كما لا يتغير حالهم بحكم الجمادية، وكان الظاهر الإتيان بالفعل فيما بعد أَمْ لأن ما في حيز همزة التسوية مؤول بالمصدر، لكنه عدل عن ذلك للايذان بأن احداث الدعوة مقابل باستمرار الصمات، وفيه من المبالغة ما لا يخفى، وقيل: إن الاسمية بمعنى الفعلية وإنما عدل عنها لأنها رأس فاصلة وفيه أنه لو قيل تصمتون تم المراد. وقيل: إن ضمير «تدعوا» للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين أو له عليه الصلاة والسلام وجمع للتعظيم، وضمير المفعولين للمشركين، والمراد بالهدى دين الحق أي إن تدعوا المشركين إلى الإسلام لا يتبعوكم أي لم يحصلوا ذلك منكم ولم يتصفوا به، وتعقب بأنه مما لا يساعده سباق النظم الكريم وسياقه أصلا على أنه لو كان كذلك لقيل عليهم مكان عليكم كما في قوله تعالى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة: 6] فإن استواء الدعاء وعدمه إنما هو بالنسبة للمشركين لا بالنسبة إلى الداعين فإنهم فائزون بفضل الدعوة، ولعل رواية ذلك عن الحسن غير ثابتة، والطبرسي حاطب ليل إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ تقرير لما قبله من عدم اتباعهم لهم، والدعاء إما بمعنى العبادة تسمية لها بجزئها، أو بمعنى التسمية كدعوته زيدا ومفعولان محذوفان أي إن الذين تعبدونهم مِنْ دُونِ اللَّهِ أو تسمونهم آلهة من دونه سبحانه وتعالى: عِبادٌ أَمْثالُكُمْ أي مماثلة لكم من حيث إنها مملوكة لله تعالى مسخرة لأمره عاجزة عن النفع والضر كما قال الأخفش، وتشبيهها بهم في ذلك مع كون عجزها عنهما أظهر وأقوى من عجزهم إنما هو لاعترافهم بعجز أنفسهم وزعمهم قدرتها عليهما إذ هو الذي يدعوهم إلى عبادتها والاستعانة بها، وقيل: يحتمل أنهم لما نحتوا الأصنام بصور الأناسي قال سبحانه لهم: إن قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء أمثالكم فلا يستحقون عبادتكم كما لا يستحق بعضكم عبادة بعض فتكون المثلية في الحيوانية والعقل على الفرض والتقدير لكونهم بصورة الأحياء العقلاء، وقرأ سعيد بن جبير إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ بتخفيف إن ونصب عبادا أمثالكم، وخرجها ابن جني على أن إن نافية عملت عمل ما الحجازية وهو مذهب الكسائي وبعض الكوفيين. واعترض أولا بأنه لم يثبت مثل ذلك، وثانيا بأنه يقتضي نفي كونهم عبادا أمثالهم، والقراءة المشهورة تثبته فتتناقض القراءتان، وأجيب عن الأول بأن القائل به يقول: إنه ثابت في كلام العرب كقوله: إن هو مستوليا على أحد ... إلا على أضعف المجانين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 134 وعن الثاني أنه لا تناقض لأن المشهورة تثبت المثلية من بعض الوجوه وهذه تنفيها من كل الوجوه أو من وجه آخر فإن الأصنام جمادات مثلا والداعين ليسوا بها، وقيل: إنها إن المخففة من المثقلة وإنها على لغة من نصب بها الجزئين كقوله: إذا اسود جنح الليل فلتأت ولتكن ... خطاك خفافا إن حراسنا أسدا في رأى ولا يخفى، أن إعمال المخففة ونصب جزئيها كلاهما قليل ضعيف، ومن هنا إنهما مهملة وخبر المبتدأ محذوف وهو الناصب لعبادا و «أمثالكم» على القراءتين نعت لعباد عليهما أيضا، وقرىء «إنّ» بالتشديد و «عبادا» بالنصب على أنه حال من العائد المحذوف وأَمْثالُكُمْ بالرفع على أنه خبر أن، وقرىء به مرفوعا في قراءة التخفيف ونصب عِبادٌ وخرج ذلك على الحالية والخبرية أيضا فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ تحقيق لمضمون ما قبله بتعجيزهم وتبكيتهم أي فادعوهم في رفع ضر أو جلب نفع إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في زعمكم أنهم قادرون على ما أنتم عاجزون عنه، وقوله تعالى: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها إلخ تبكيت أثر مؤكد لما يفيده الأمر التعجيزي من عدم الاستجابة ببيان فقدان آلاتها بالكلية، وقيل: إنه على الاحتمال الأول في المماثلة كر على المثلية بالنقض لأنهم أدون منهم، وعبادة الشخص من هو مثله لا تليق فكيف من هو دونه، وعلى الاحتمال الثاني فيها عود على الفرض المبني عليه المثلية بالابطال، وعلى قراءة التخفيف وإرادة النفي تقرير لنفي المماثلة بإثبات القصور والنقصان، ووجه الإنكار إلى كل واحد من تلك الآلات الأربع على حدة تكريرا للتبكيت وتثنية للتقريع واشعارا بأن انتقاء كل واحدة منها بحيالها كاف في الدلالة على استحالة الاستجابة وليس المراد أن من لم يكن له هذه لا يستحق الألوهية وإنما يستحقها من كانت له ليلزم اما نفي استحقاق الله تبارك وتعالى لها أو اثبات ذلك له كما ذهب إليه بعض المجسمة واستبدل بالآية عليه بل مجرد اثبات العجز، ومن ذلك يعلم نفي الاستحقاق ووصفه الأرجل بالمشي بها للايذان بأن مدار الإنكار هو الوصف وإنما وجه إلى الأرجل لا إلى الوصف بأن يقال: أيمشون بأرجلهم لتحقيق أنها حيث لم يظهر منها ما يظهر من سائر الأرجل فهي ليست بأرجل في الحقيقة، وكذا الكلام فيما بعد من الجوارح الثلاثة الباقية، وكلمة أَمْ في قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها منقطعة وما فيها من الهمزة لما مر من التبكيت، وبل للاضراب المفيد للانتقال من فن منه بعد تمامه إلى آخر منه مما تقدم، والبطش الأخذ بقوة. وقرأ أبو جعفر «يبطشون» بضم الطاء وهو لغة فيه، والمعنى بل ألهم أيد يأخذون بها ما يريدون أو يدفعون بها عنكم، وتأخير هذا عما قبله كما قال شيخ الإسلام لما أن المشي حالهم في أنفسهم والبطش حالهم بالنسبة إلى الغير، وأما تقديم ذلك على قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها مع أن الكل سواء في أنها من أحوالهم بالنسبة إلى الغير فلمراعاة المقابلة بين الأيدي والأرجل ولأن انتفاء المشي والبطش أظهر والتبكيت به أقوى، وأما تقديم الأعين على الآذان فلأنها أشهر منها وأظهر عينا وأثرا، وكون الإبصار بالعين والسماع بالأذن جار على الظاهر المتعارف. واستدل بالآية من قال: إن الله تعالى أودع في بعض الأشياء قوة بها تؤثر إذا أذن الله تعالى لها خلافا لمن قال: إن التأثير عندها لابها. وزعم أن ذلك القول قريب إلى الكفر وليس كما زعم بل هو الحق الحقيق بالقبول قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ أمر له صلّى الله عليه وسلّم بأن يناصبهم المحاجة ويكرر عليهم التبكيت بعد أن بين شركاءهم لا يقدرون على شيء أصلا، أي ادعوا شركاءكم واستعينوا بهم علي ثُمَّ كِيدُونِ جميعا أنتم وشركاؤكم وبالغوا في ترتيب ما تقدرون عليه من المكر والكيد فَلا تُنْظِرُونِ فلا تمهلوني ساعة بعد ترتيب مقدمات الكيد فإني لا أبالي بكم أصلا، وياء المتكلم في الفعلين مما لم يثبتوها خطا، وقرأ أبو عمرو وبإثبات ياء كيدون وصلا وحذفها وقفا، وهشام بإثباتها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 135 في الحالين والباقون بحذفها فيهما. وفي [هود: 55] فَكِيدُونِي جَمِيعاً بإثبات الياء مطلقا عند الجميع، وأما ياء فَلا تُنْظِرُونِ فقد قال الأجهوري: إنهم حذفوها لا غير إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ تعليل لعدم المبالاة المنفهم من السوق انفهاما جليا، وأل في الكتاب للعهد والمراد منه القرآن، ووصفه سبحانه بتنزيل الكتاب للإشعار بدليل الولاية، وكأنه وضع نزل الكتاب موضع أرسلني رسولا ولا شك أن الإرسال يقتضي الولاية والنصرة، وقيل: إن في ذلك إشارة إلى علة أخرى لعدم المبالاة كأنه قيل: لا أبالي بكم وبشركائكم لأن وليي هو الله تعالى الذي نزل الكتاب الناطق بأنه وليي وناصري وبأن شركاءكم لا يستطيعون نصر أنفسهم فضلا عن نصركم، وقوله سبحانه وتعالى: وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ تذييل مقرر لمضمون ما قبله، أي ومن عادته جل شأنه أن ينصر الصالحين من عباده ولا يخذلهم وقال الطيبي: إنما خص اسم الذات بتنزيل الكتاب وجعلت الآية تعليلا للدلالة على تفخيم أمر المنزل وأنه الفارق بين الحق والباطل وأنه المجلي لظلمات الشرك والمفحم لألسن أرباب البيان والمعجز الباقي في كل أوان وهو النور المبين والحبل المتين وبه أصلح الله تعالى شؤون رسوله صلّى الله عليه وسلّم حيث كمل به خلقه وأقام به أوده وأفسد به الأباطيل المعطلة، ومن ثم جيء بقوله سبحانه وتعالى: وَهُوَ إلخ كالتذييل والتقرير لما سبق والتعريض بمن فقد الصلاح بالخذلان والمحق. والمعنى إن وليي الذي نزل الكتاب المشهور الذي تعرفون حقيقته ومثله يتولى الصالحين ويخذل غيرهم، ولا يخفى أن ما ذكر أولا في أمر الوصفية أنسب بالمقام وأمر التذييل مما لامرية فيه، وهذه الآية مما جربت المداومة عليها للحفظ من الأعداء وكانت ورد الوالد عليه الرحمة في الاسحار وقد أمره بذلك بعض الأكابر في المنام، والجمهور على تشديد الياء الأولى من وَلِيِّيَ وفتح الثانية ويقرأ بحذفها في اللفظ لسكونها وسكون ما بعدها، وبفتح الأولى ولا ياء بعدها وحذف الثانية من اللفظ تخفيفا. وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ أي تعبدونهم أو تدعونهم من دونه سبحانه وتعالى للاستعانة بهم على حسبما أمرتكم به لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ في أمر من الأمور ويدخل في ذلك الأمر المذكور دخولا أوليا، وجوز الاقتصار عليه وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ إذا أصيبوا بحادثة وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى أي إلى أن يهدوكم إلى ما تحصلون به مقاصدكم مطلقا أو في خصوص الكيد المعهود لا يَسْمَعُوا أي دعاءكم فضلا عن المساعدة والإمداد، وهذا أبلغ من نفي الإتباع، وحمل السماع على القبول كما في سمع الله لمن حمده كما زعمه بعضهم ليس بشيء، وقوله سبحانه وتعالى: وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ بيان لعجزهم عن الإبصار بعد بيان عجزهم عن السمع، وبهذا على ما قيل تم التعليل لعدم المبالاة فلا تكرار أصلا، وقال الواحدي: إن ما مر للفرق بين من تجوز عبادته وغيره، وهذا جواب ورد لتخويفهم له صلّى الله عليه وسلّم بآلهتهم، والرؤية بصرية، وجملة ينظرون في موضع الحال من المفعول الراجع للأصنام، والجملة الاسمية حال من فاعل ينظرون، والخطاب لكل واحد من المشركين، والمعنى وترى الأصنام رأي العين يشبهون الناظر إليك لك أنهم يبصرون لما أنهم صنع لهم أعين مركبة بالجواهر المتلألئة وصورت بصورة من قلب حدقته إلى الشيء ينظر إليه والحال أنهم غير قادرين على الإبصار، وتوجيه الخطاب إلى كل واحد من المشركين دون الكل من حيث هو كل كالخطابات السابقة للإيذان بأن رؤية الأصنام على الهيئة المذكورة لا يتسنى للكل معا بل لكل من يواجهها. وذهب غير واحد إلى أن الخطاب في تَراهُمْ لكل واقف عليه، وقيل للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وضمير الغيبة على حاله أو للمشركين على أن التعليل قد تم عند قوله تعالى: لا يَسْمَعُوا أي وترى المشركين ناظرين إليك والحال أنهم لا يبصرونك كما أنت عليه أو لا يبصرون الحجة كما قال السدي، ومجاهد. ونقل عن الحسن أن الخطاب في وَإِنْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 136 تَدْعُوهُمْ للمؤمنين على أن التعليل قد تم عند قوله سبحانه وتعالى: يَنْصُرُونَ أي وإن تدعوا أيها المؤمنون المشركين إلى الإسلام لا يلتفتوا إليكم ولا يقبلوا منكم، وعلى هذا يحسن تفسير السماع بالقبول، وجعل وَتَراهُمْ خطابا لسيد المخاطبين بطريق التجريد، وفي الكلام تنبيه على أن ما فيه عليه الصلاة والسلام من شواهد النبوة ودلائل الرسالة من الجلاء بحيث لا يكاد يخفى على الناظرين. وجوز بعضهم أن تكون الرؤية علمية وما كان في موضع الحال يكون في موضع المفعول الثاني والأول أولى. خُذِ الْعَفْوَ أي ما عفا وسهل وتيسر من أخلاق الناس، وإلى هذا ذهب ابن عمر وابن الزبير وعائشة ومجاهد رضي الله تعالى عنهم وغيرهم، وأخرجه ابن أبي الدنيا عن إبراهيم بن آدم مرفوعا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والأخذ مجاز عن القبول والرضا، أي ارض من الناس بما تيسر من أعمالهم وما أتى منهم وتسهل من غير كلفة ولا تطلب منهم الجهد وما يشق عليهم حتى لا ينفروا، ومن ذلك قوله: خذي العفو مني تستديمي مودتي ... ولا تنطقي في سورتي حين أغضب وجوز أن يراد بالعفو ظاهره أي خذ العفو عن المذنبين والمراد اعف عنهم، وفيه استعارة مكنية إذ شبه العفو بأمر محسوس يطلب فيؤخذ، وإلى هذا جمع من السلف، ويشهد له ما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن الشعبي قال: لما أنزل الله تعالى خُذِ الْعَفْوَ إلى آخره قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما هذا يا جبريل؟ قال: لا أدري حتى أسأل العالم فذهب ثم رجع فقال: إن الله تعالى أمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك. وأخرج ابن مردويه عن جابر نحو ذلك، ولعل زبدة الحديث مفسرة لزبدة الآية وإلا فالتطبيق مشكل كما لا يخفى. وتكلف القطب لتطبيق ألفاظه على ألفاظها وفيه خفاء. وعن ابن عباس المراد بالعفو ما عفي من أموال الناس، أي خذ أي شيء أتوك به وكان هذا قبل فرض الزكاة، وقيل: العفو ما فضل عن النفقة من المال وبذلك فسره الجوهري وإليه ذهب السدي. فقد أخرج أبو الشيخ عنه أنه قال: نزلت هذه الآية فكان الرجل يمسك من ماله ما يكفيه ويتصدق بالفضل فنسخها الله تعالى بالزكاة وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ أي بالمعروف المستحسن من الأفعال فإن ذلك أقرب إلى قبول الناس من غير نكير، وفي لباب التأويل أن المراد وأمر بكل ما أمرك الله تعالى به وعرفته بالوحي. وقال عطاء: المراد بالعرف كلمة لا إله إلا الله وهو تخصيص من غير داع وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ أي ولا تكافئ السفهاء بمثل سفههم ولا تمارهم واحلم عليهم وأغض بما يسوءك منهم. وعن السدي أن هذا أمر بالكف عن القتال ثم نسخ بآيته، ولا ضرورة إلى دعوى النسخ في الآية كما لا يخفى على المتدبر، وقد ذكر غير واحد أنه ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية. وزبدتها كما قالوا تحري حسن المعاشرة مع الناس وتوخي بذل المجهود في الإحسان إليهم والمداراة منهم والإغضاء عن مساويهم وجعلوا نحو ذلك زبدة الخبر إلا أن القرآن مادته عامة ومادته خاصة وقد علم كل أناس مشربهم، ولا يخفى حسن موقع هذا الأمر بعد ما عد من أباطيل المشركين وقبائحهم ما لا يطاق حمله، وإذا قيل: بأن الجاهلين موضوع موضع ضمير أولئك المشركين حيث إن الكلام فيهم تسجيلا عليهم بعدم الارعواء وإقناطا كليا منهم التأمت أطراف الكلام غاية الالتئام، هذا وعن ابن زيد أنه لما نزل قوله تعالى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كيف يا رب والغضب؟ فنزل قوله سبحانه وتعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ النزغ والنسغ والنخس بمعنى وهو إدخال الإبرة أو طرف العصا أو ما يشبه ذلك في الجلد، وعن ابن زيد أنه يقال: نزغت ما بين القوم إذا أفسدت ما بينهم، وقال الزجاج، هو أدنى حركة تكون، ومن الشيطان وسوسته، والمعنى الأول هو المشهور، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 137 وإطلاقه على وسوسة الشيطان مجاز حيث شبه وسوسته إغراء للناس على المعاصي وإزعاجا بغرز السائق ما يسوقه، وإسناد الفعل إلى المصدر مجازي كما في جد جده، وقيل: النزغ بمعنى النازغ فالتجوز في الطرف، والأول أبلغ وأولى، أي إما يحملنك من جهة الشيطان وسوسة ما على خلاف ما أمرت به من اعتراء غضب أو نحوه فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ فاستجربه والتجئ إليه سبحانه وتعالى في دفعه عنك إِنَّهُ سَمِيعٌ يسمع على أكمل وجه استعاذتك قولا عَلِيمٌ يعلم كذلك تضرعك إليه قلبا في ضمن القول أو بدونه فيعصمك من شره، أو سميع أي مجيب دعاءك بالاستعاذة عليم بما فيه صلاح أمرك فيحملك عليه، أو سميع بأقوال من آذاك عليم بأفعاله فيجازيه عليها. والآية على ما نص عليه بعض المحققين من باب لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] فلا حجة فيها لمن زعم عدم عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من وسوسة الشيطان وارتكاب المعاصي. وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة قالوا: وإياك يا رسول الله قال: وإياي إلا أن الله تعالى أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير» ، وقال آخرون: إن نزغ الشيطان بالنسبة إليه صلّى الله عليه وسلّم مجاز عن اعتراء الغضب المقلق للنفس، وفي الآية حينئذ زيادة تنفير عن الغضب وفرط تحذير عن العمل بموجبه، ولذا كرر صلّى الله عليه وسلّم النهي عنه كما جاء في الحديث، وفي الأمر بالاستعاذة بالله تعالى تهويل لذلك وتنبيه على أنه من الغوائل التي لا يتخلص من مضرتها إلا بالالتجاء إلى حرم عصمته عز وجل إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا استئناف مقرر لما قبله من الأمر ببيان أن الاستعاذة سنة مسلوكة للمتقين والإخلال بها شنشنة الغاوين، أي إن الذين اتصفوا بتقوى الله تعالى إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ أي لمة منه كما روي عن ابن عباس، وتنوينه للتحقير، والمراد وسوسة ما، وهو اسم فاعل من طاف بالشيء إذا دار حوله، وجعل الوسوسة طائفا للايذان بأنها وإن مست لا تؤثر فيهم فكأنها طافت حولهم ولم تصل إليهم. وجوز أن يكون من طاف طيف الخيال إذا ألم في المنام فالمراد به الخاطر. وذهب غير واحد إلى أن المراد بالطائف الغضب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والمراد بالشيطان الجنس لا إبليس فقط ولذا جمع ضميره فيما سيأتي تَذَكَّرُوا أي ما أمر الله تعالى به ونهى عنه، أو الاستعاذة به تعالى والالتجاء إليه سبحانه وتعالى، أو عداوة الشيطان وكيده فَإِذا هُمْ بسبب ذلك التذكر مُبْصِرُونَ مواقع الخطأ ومناهج الرشد فيحترزون عما يخالف أمر الله تعالى وينجون عما لا يرضيه سبحانه وتعالى، الظاهر أن المراد من الموصول من اتصف بعنوان الصلة مطلقا، وقال بعض المحققين: إن الخطاب في قوله سبحانه وتعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ إلخ إما أن يكون مختصا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما هو الظاهر فالمناسب أن يراد بالمتقين المرسلون من أولي العزم، أو يكون عاما على طريقة «بشر المشائين إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة» ، أو خاصا يراد به العام نحو يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطلاق: 1] فالمتقون حينئذ الصالحون من عباد الله تعالى انتهى. ولا يخفى أن الملازمة في الشرطية الأولى في حيز المنع والعموم هو المتبادر على كل حال، وزعم بعضهم أن المراد بالمتقين المنسوب إليهم المس غير الأنبياء عليهم السلام، وجعل الخطاب فيما سبق خاصا بالسيد الأعظم صلّى الله عليه وسلّم وادعى أن النزغ أول الوسوسة والمس لا يكون إلا بعد التمكن، ثم قال: ولذا فصل الله سبحانه وتعالى بين النبي عليه الصلاة والسلام وغيره من سائر المتقين فعبر في حقه عليه الصلاة والسلام بالنزغ وفي حقهم بالمس، وقد يقال: إن اهتمام الشيطان في الوسوسة للكامل أكمل من اهتمامه في الوسوسة لمن دونه فلذا عبر أولا بالنزغ وثانيا بالمس وَإِخْوانُهُمْ أي إخوان الشياطين الذين لم يتقوا وذلك معنى الأخوة بينهم، وهو مبتدأ وقوله سبحانه وتعالى: يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ خبره، والضمير المرفوع للشياطين والمنصوب للمبتدأ، أي تعاونهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 138 الشياطين في الضلال وذلك بأن يزينوه لهم ويحملوهم عليه، والخبر على هذا جار على غير من هو له وفي أنه هل يجب إبراز الضمير أولا يجب في مثل ذلك خلاف بين أهل القريتين كالصفة المختلف فيها بينهم، وقيل: إن الضمير الأول للإخوان والثاني للشياطين، والمعنى وأخوان الشياطين يمدون الشياطين بالاتباع والامتثال، وعلى هذا يكون الخبر جاريا على من هو له، والجار والمجرور متعلق بما عنده، وجوز أن يكون في موضع الحال من الفاعل أو من المفعول. وقرأ نافع «يمدّونهم» بضم الياء وكسر الميم من الامداد والجمهور على فتح الياء وضم الميم. قال أبو علي في الحجة بعد نقل ذكر ذلك: وعامة ما جاء في التنزيل مما يحمد ويستحب أمددت على أفعلت كقوله تعالى: أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ [المؤمنون: 55] وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ [الطور: 22] وأَ تُمِدُّونَنِ بِمالٍ [النمل: 36] وما كان بخلافه على مددت قال تعالى: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة: 15] وهكذا يتكلمون بما يدل على أن الوجه فتح الياء كما ذهب إليه الأكثر، ووجه قراءة نافع أنه مثل فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الانشقاق: 24] وفَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى [الليل: 10] وقرأ الجحدري «يمادونهم» من باب المفاعلة وهي هنا مجازية كأنهم كان الشياطين يعينونهم بالإغراء وتهوين المعاصي عليهم وهؤلاء يعينون الشياطين بالاتباع والامتثال ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ أي لا يمسكون ولا يكفون عن إغوائهم حتى يردوهم بالكلية فهو من أقصر إذا أقلع وأمسك كما في قوله: سما لك شوق بعد ما كان أقصرا وجوز أن يكون الضمير للإخوان وروي ذلك عن ابن عباس والسدي وإليه ذهب الجبائي، أي ثم لا يكف هؤلاء عن الغي ولا يقصرون كالمتقين، وجوز أيضا أن يراد بالإخوان الشياطين وضمير الجمع المضاف إليه أولا والمفعول ثانيا والفاعل ثالثا يعود إلى الجاهلين في قوله سبحانه وتعالى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ أي وإخوان الجاهلين وهم الشياطين يمدون الجاهلين في الغي ثم لا يقصر الجاهلون عن ذلك، والخبر على هذا أيضا جار على ما هو له كما في بعض الأوجه السابقة والأول أولى رعاية للمقابلة. وقرأ عيسى بن عمر «يقصرون» بفتح الياء وضم الصاد من قصر وهو مجاز عن الإمساك أيضا وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ من القرآن عند تراخي الوحي كما روي عن مجاهد وقتادة والزجاج، أو بآية مقترحة كما روي عن ابن عباس والجبائي وأبي مسلم قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها أي هلا جمعتها ولفقتها من عند نفسك افتراء، أو هلا أخذتها من الله تعالى بطلب منه، وهو تهكم منهم لعنهم الله تعالى، ومما ذكرنا يعلم أن لا جتبى معنيين جمع وأخذ ويختلف المراد حسب الاختلاف في تفسير الآية، وعن علي بن عيسى أن الاجتباء في الأصل الاستخراج ومنه جباية الخراج، وقيل: أصله الجمع من جبيت الماء في الحوض جمعته، ومنه قيل للحوض جابية لجمعه الماء، وإلى هذا ذهب الراغب، وفي الدار المصون جبي الشيء جمعه مختارا ولذا غلب اجتبيته بمعنى اخترته. وقال الفراء يقال اجتبيت الكلام واختلقته وارتجلته إذا افتعلته من قبل نفسك وكذا اخترعته عند أبي عبيدة، وقال ابن زيد: هذه الأحرف تقولها العرب للكلام يبتديه الرجل لم يكن أعده قبل ذلك في نفسه، ومن جعل الأصل شيئا لا ينكر الاستعمال في الآخر مجارا لا يخفى قُلْ ردا عليهم إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي من غير أن يكون لي دخل ما في ذلك أصلا على معنى تخصيص حاله عليه الصلاة والسلام باتباع ما يوحى إليه بتوجيه القصر إلى نفس الفعل بالنسبة إلى مقابله الذي كلفوه إياه عليه الصلاة والسلام لا على معنى تخصيص اتباعه صلّى الله عليه وسلّم بما يوحى إليه بتوجيه القصر بالقياس إلى مفعول آخر كما هو الشائع في موارد الاستعمال كأنه قيل: ما أفعل إلا اتباع ما يوحى إلي منه تعالى دون الاختلاف والاقتراح، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام ما لا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 139 يخفى هذا إشارة إلى القرآن الجليل المدلول عليه بما يوحى إليّ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ أي بمنزلة البصائر للقلوب بها تبصر الحق وتدرك الصواب، أو حجج بينة وبراهين نيرة تغني عن غيرها فالكلام خارج مخرج التشبيه البليغ، وقد حققت ما فيه على الوجه الأتم في الطراز المذهب، أو فيه مجاز مرسل حيث أطلق المسبب على السبب، وجوز أن تكون البصائر مستعارة لإرشاد القرآن الخلق إلى إدراك الحقائق، وهذا مبتدأ وبصائر خبره، وجمع خبر المفرد لاشتماله على آيات وسور جعل كل منها بصيرة، ومِنْ متعلقة بمحذوف وقع صفة لبصائر مفيدة لفخامتها أي بصائر كائنة منه تعالى، والتعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم لتأكيد وجوب الإيمان بها، وقوله سبحانه وتعالى: وَهُدىً وَرَحْمَةٌ عطف على بصائر، وتنوينهما للتفخيم، وتقديم الظرف عليهما وتعقيبهما بقوله تعالى: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ كما قال شيخ الإسلام للإيذان بأن كون القرآن بصائر متحقق بالنسبة إلى الكل وبه تقوم الحجة على الجميع، وأما كونه هدى ورحمة فمختص بالمؤمنين إذ هم المقتبسون من أنواره والمقتطفون من نواره، وهذا مخالف لما يفهمه كلام البعض من أن الثلاثة للمؤمنين، فقد قال النيسابوري في التفسير: إن البصائر لأصحاب عين اليقين والهدى لأرباب علم اليقين والرحمة لغيرهم من الصالحين المقلدين على أتم وجه والجميع لقوم يؤمنون، وذكر نحو ذلك الخازن وادعى أنه من اللطائف وهو خلاف الظاهر بل لا يكاد يسلم، وهذه الجملة على ما يظهر من تمام القول المأمور به. واحتج بالآية من لم يجوز الاجتهاد للنبي صلّى الله عليه وسلّم وفيه نظر وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا إرشاد إلى طريق الفوز بما أشير إليه من المنافع الجليلة التي ينطوي عليها القرآن، والاستماع معروف، واللام جوز أن تكون أجلية وأن تكون بمعنى إلى وأن تكون صلة، أي فاستمعوه، والإنصات السكوت يقال: نصت ينصت وأنصت وانتصت إذا سكت والاسم النصتة بالضم، ويقال كما قال الأزهري: أنصته وأنصت له إذا سكت له واستمع لحديثه، وجاء أنصته إذا أسكته، والعطف للاهتمام بأمر القرآن، وعلل الأمر بقوله سبحانه وتعالى: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي لكي تفوزوا بالرحمة التي هي أقصى ثمراته، والآية دليل لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه في أن المأموم لا يقرأ في سرية ولا جهرية لأنها تقتضي وجوب الاستماع عند قراءة القرآن في الصلاة وغيرها، وقد قام الدليل في غيرها على جواز الاستماع وتركه فبقي فيها على حاله في الإنصات للجهر وكذا في الإخفاء لعلمنا بأنه يقرأ، ويؤيد ذلك أخبار جمة، فقد أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن مجاهد قال: قرأ رجل من الأنصار خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الصلاة فنزلت وإذا قرىء القرآن إلخ. وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن مسعود أنه صلى بأصحابه فسمع أناسا يقرؤون خلفه فلما انصرف قال: أما آن لكم أن تفهموا أما آن لكم أن تعقلوا وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا كما أمركم الله تعالى وأخرج ابن أبي شيبة عن زيد بن ثابت قال: لا قراءة خلف الإمام. وأخرج أيضا عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا» وأخرج أيضا عن جابر «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: من كان له إمام فقراءته له قراءة» وهذا الحديث إذا صح وجب أن يخص عموم قوله تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ [المزمل: 20] وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا صلاة إلا بقراءة» على طريقة الخصم مطلقا فيخرج المقتدي وعلى طريقتنا أيضا لأن ذلك العموم قد خص منه البعض وهو المدرك في الركوع إجماعا فجاز التخصيص بعده بالمقتدي بالحديث المذكور، وكذا يحمل قوله عليه الصلاة والسلام للمسيء صلاته: «فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن» على غير حالة الاقتداء جمعا بين الأدلة، بل قد يقال: إن القراءة ثابتة من المقتدي شرعا فإن قراءة الإمام له فلو قرأ لكان له قراءتان في صلاة واحدة وهو غير مشروع. بقي الكلام في تصحيح الخبر، وقد روي من طرق عديدة مرفوعا عن جابر رضي الله تعالى عنه عليه الصلاة والسلام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 140 وقد ضعف. واعترف المضعفون لرفعه كالدارقطني والبيهقي وابن عدي بأن الصحيح أنه مرسل لأن الحفّاظ كالسفيانين وأبي الأحوص وشعبة وإسرائيل وشريك وجرير وأبي الزبير وعبد بن حميد وخلق آخرين رووه عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فأرسلوه، وقد أرسله مرة أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه، وحينئذ لنا أن نقول المرسل حجة عند أكثر أهل العلم فيكفينا فيما يرجع إلى العمل على رأينا وعلى طريق الإلزام أيضا بإقامة الدليل على حجية المرسل أيضا، وعلى تقدير التنزل عن حجيته فقد رفعه الإمام بسند صحيح. وروى محمد بن الحسن في موطئه قال: أنبأنا أبو حنيفة أبو الحسن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن جابر بن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من صلى خلف إمام فإن قراءة الإمام له قراءة» وقولهم: إن الحفاظ الذين عدوهم لم يرفعوه غير صحيح. فقد قال أحمد بن منيع في مسنده: أخبرنا إسحاق الأزرق حدثنا سفيان. وشريك عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن جابر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة» . ثم قال وحدثنا جرير عن موسى عن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم- فذكره ولم يذكر جابرا- ورواه عبد بن حميد قال: حدثنا أبو نعيم حدثنا الحسن بن صالح عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فذكره، وإسناد حديث جابر الأول على شرط الشيخين والثاني على شرط مسلم، فهؤلاء سفيان وشريك وجرير وأبو الزبير رفعوه بالطرق الصحيحة فبطل عدهم فيمن لم يرفعه، ولو تفرد الثقة وجب قبوله لأن الرفع زيادة وزيادة الثقة مقبولة فكيف ولم ينفرد، والثقة قد يسند الحديث تارة ويرسله أخرى. وأخرجه ابن عدي عن الإمام رضي الله تعالى عنه في ترجمته وذكر فيها قصة وبها أخرجه أبو عبد الله الحاكم قال: حدثنا أبو محمد بن بكر بن محمد بن حمدان الصيرفي حدثنا عبد الصمد بن الفضل البلخي حدثنا مكي بن إبراهيم عن أبي حنيفة عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد بن الهاد عن جابر بن عبد الله «إن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلى ورجل خلفه يقرأ فجعل رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم ينهاه عن القراءة في الصلاة فلما انصرف أقبل عليه الرجل قال: أتنهاني عن القراءة خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتنازعا حتى ذكرا ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم صلّى الله عليه وسلّم فقال صلّى الله عليه وسلّم: «من صلى خلف إمام فإن قراءة الإمام له قراءة» . وفي رواية لأبي حنيفة «إن ذلك كان في الظهر أو العصر» وهي أن رجلا قرأ خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الظهر أو العصر فأومأ إليه فنهاه فلما انصرف قال: أتنهاني الحديث. نعم إن جابرا روى منه محل الحكم فقط تارة والمجموع تارة ويتضمن رد القراءة خلف الإمام لأنه خرج تأييدا لنهي ذلك الصحابي عنها مطلقا في السرية والجهرية خصوصا في رواية أبي حنيفة أن القصة كانت في السرية لا إباحة فعلها وتركها فيعارض ما روي في بعض روايات حديث «ما لي أنازع في القرآن» أنه قال: إنه لا بد (1) ففي الفاتحة، وكذا ما رواه أبو داود والترمذي عن عبادة بن الصامت قال: كنا خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في صلاة الفجر فقرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فثقلت عليه القراءة، فلما فرغ قال: لعلكم تقرءون خلف إمامكم، قلنا: نعم هذا، قال: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة لمن لا يقرأ بها ويقدم لتقدم المنع على الإطلاق عند التعارض ولقوة السند فإن حديث المنع أصح فبطل رد المتعصبين، وتضعيف بعضهم لمثل الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه مع تضييقه في الرواية إلى الغاية حتى إنه شرط التذكر لجوازها بعد علم الراوي أن ذلك المروي خطه، ولم يشترط الحفاظ هذا ولم يوافقه صاحباه على أن الخبر قد عضد بروايات كثيرة عن جابر غير هذه وإن ضعفت وبمذاهب الصحابة أيضا كابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت وابن مسعود.   (1) قوله إنه لا بد إلخ كذا بخطه وحرر اهـ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 141 وأخرج محمد عن داود بن قيس بن عجلان أن عمر رضي الله تعالى عنه قال: ليت في فم الذي يقرأ خلف الإمام حجرا، وروي مثل ذلك عن سعد بن أبي وقاص، وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه إلا أن فيه مقالا أنه قال: من قرأ خلف الإمام فقد أخطأ الفطرة، وقال الشعبي: أدركت سبعين بدريا كلهم يمنعون المقتدي عن القراءة خلف الإمام، وقد ادعى بعض أصحابنا اجماع الصحابة رضي الله عنهم على ذلك، ولعل مراده بذلك إجماع كثير من كبارهم، وإلا ففيه نظر، وكون مراده الإجماع السكوتي ليس بشيء أيضا، وذهب قوم إلى أن المأموم يقرأ إذا أسر الإمام القراءة ولا يقرأ إذا جهر وهو قول عروة بن الزبير والقاسم بن محمد والزهري ومالك وابن المبارك وأحمد وإسحاق، وروي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه وحجتهم فيما قيل: إن الآية تدل على الأمر بالاستماع لقراءة القرآن والسنة تدل على وجوب القراءة خلف الإمام فحملنا مدلول الآية على صلاة الجهر ومدلول السنة على صلاة السر جمعا بين الدلائل، وقال آخرون: إنما يقرأ في السرية لأنه لا يقال له مستمع، واعترض بأنه وإن سلمنا أنه لا يقال له ذلك لكن لا نسلم أنه لا يقال له منصت مع علمه بالقراءة وبأنا لا نسلم دلالة السنة على وجوب القراءة خلف الإمام ودون إثبات ذلك خرط القتاد، على أن الجزم العمل بأقوى الدليلين، وليس مقتضى أقواهما إلا المنع، ومن هنا ضعف ما يروى عن محمد بن الحسن رحمه الله تعالى أنه يستحسن قراءة الفاتحة على سبيل الاحتياط مخالفا لما ذهب إليه الإمام وأبو يوسف من كراهة القراءة لما في ذلك من الوعيد، والحق أن قوله كقولهما، فقد قال في كتاب الآثار بعد ما أسند إلى علقمة بن قيس: إنه ما قرأ قط فيما يجهر به ولا فيما لا يجهر به، وبه نأخذ فلا نرى القراءة خلف الإمام في شيء من الصلاة يجهر فيه أو لا يجهر فيه، ولا ينبغي أن يقرأ خلفه في شيء منها، وذكر في موطئه نحو ذلك، وقال السرخسي تفسد صلاة القارئ خلف الإمام في قول عدة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومنهم فيما قيل سعد بن أبي وقاص، وفي رواية المزني عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه يقرأ في الجهرية والسرية، وفي رواية البويطي أنه يقرأ في السرية أم القرآن ويضم السورة في الأوليين ويقرأ في الجهرية أم القرآن فقط. والمشهور عند الشافعية أنه لا سورة للمأموم الذي يسمع الإمام في جهرية بل يستمع فإن بعد بأن لم يسمع أو سمع صوتا لا يميز حروفه أو كانت سرية قرأ في الأصح، وسبب النزول لم يكن القراءة في الصلاة بل أمر آخر. فقد روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة فنزلت، وحاصلها النهي عن التكلم لا عن القراءة، ومن الناس من فسر القرآن بالخطبة، والأمر بالاستماع إما للوجوب أو الندب، وعندنا الإنصات في الخطبة فرض على تفصيل في المسألة، وأخرج غير واحد عن مجاهد رضي الله تعالى عنه أن الآية في الصلاة والخطبة يوم الجمعة، وفي كلام أصحابنا ما يدل على وجوب الاستماع في الجهر بالقرآن مطلقا. قال في الخلاصة: رجل يكتب الفقه وبجنبه رجل يقرأ القرآن فلا يمكنه استماع القرآن فالاثم على القارئ، وعلى هذا لو قرأ على السطح في الليل جهرا والناس نيام يأثم، وهذا صريح في إطلاق الوجوب، وعلل ذلك بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإِذا هنا للكلية وغالب الشرطيات القرآنية المؤداة بها كلية، وهذا والمراد من الاستماع في الآية المعنى المتبادر منه، وقال الزجاج: المراد منه القبول والإجابة، وهو بهذا المعنى مجاز كما نص عليه في الأساس، ومنه سمع الله تعالى لمن حمده وسمع الأمير كلام فلان، ورجح ذلك العلامة الطيبي قال: وهذا أوفق لتأليف النظم الكريم سابقا ولا حقا وأجمع للمعاني والأقوال فإنه تعالى لما ذكر تعريضا أن المشركين إنما استهزؤوا بالقرآن ونبذوه وراءهم ظهريا لأنهم فقدوا البصائر وعدموا الهداية والرحمة وأن حالهم على خلاف المؤمنين أمر المؤمنين بما هو أزيد من مجرد الاستماع وهو قبوله والعمل بما فيه والتمسك به وأن لا يجاوزوه مرتبا للحكم على تلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 142 الأوصاف، ولذلك قيل: إذا قرىء القرآن وضعا للمظهر موضع المضمر لمزيد الدلالة على العلية، يعني إذا ظهر أيها المؤمنون أنكم لستم مثل هؤلاء المعاندين فعليكم بهذا الكتاب الجامع لصفات الكمال الهادي إلى الصراط المستقيم الموصل إلى مقام الرحمة والزلفى فاستمعوه وبالغوا في الأخذ منه والعمل بما فيه ليحصل المطلوب ولعلكم ترحمون، ويدخل في هذا وجوب الإنصات في الصلاة بطريق الأولى لأنها مقام المناجاة والاستماع من المتكلم، وعلى هذا الإنصات عند تلاوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم اهـ، ويعلم منه أن الخطاب في الآية للمؤمنين بل هو نص في ذلك. وقال بعضهم: إن الخطاب فيها للكفار، وذلك أن كون القرآن بصائر وهدى ورحمة لا يظهر إلا بشرط مخصوص وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا قرأ عليهم القرآن عند نزوله استمعوا له وأنصتوا ليقفوا على معانيه ومزاياه فيعترفوا بإعجازه ويستغنوا بذلك عن طلب سائر المعجزات، وأيد هذا بقوله سبحانه وتعالى: في آخر الآية لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بناء على أن ذلك للترجي وهو إنما يناسب حال الكفار لا حال المؤمنين الذين حصل لهم الرحمة جزما في قوله تعالى: وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. وأجيب بأن هذه الرحمة المرجوة غير تلك الرحمة، ولئن سلم كونها إياها فالاطماع من الكريم واجب فلم يبق فرق، وفي بناء الفعل للمفعول إشارة إلى أن مدار الأمر القراءة من أي قارئ كان. وفي الآية من الدلالة على تعظيم شأن القرآن ما لا يخفى. ومن هنا قال بعض الأصحاب: يستحب لمريد قراءته خارج الصلاة أن يلبس أحسن ثيابه ويتعمم ويستقبل القبلة تعظيما له، ومثله في ذلك العلم، ولو قرأ مضطجعا فلا بأس إذ هو نوع من الذكر. وقد مدح سبحانه ذاكريه قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويضم رجليه عند القراءة ولا يمدها لأنه سوء أدب ولو قرأ ماشيا أو عند النسج ونحوه من الأعمال فإن كان القلب حاضرا غير مشتغل لم يكره وإلا كره، ولا يقرأ وهو مكشوف العورة أو كان بحضرته من هو كذلك. وإن كانت زوجته، وكره بعضهم القراءة في الحمام والطريق. قال النووي: ومذهبنا لا تكره فيهما، وتكره في الحش وبيت الرحى وهي تدور عند الشعبي وهو مقتضى مذهبنا، والكلام في آداب القراءة وما ينبغي للقارىء طويل. وفي الإتقان قدر له قدر من ذلك فإن كان عندك فارجع إليه. والجملة على ما يدل عليه كلامهم يحتمل أن تكون من القول المأمور به ويحتمل أن تكون استئنافا من جهته تعالى، قيل: وعلى الأول فقوله سبحانه وتعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ عطف على قل، وعلى الثاني فيه تجريد الخطاب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو عام لكل ذكر فإن الإخفاء أدخل في الإخلاص وأقرب من القبول، وفي بعض الأخبار يقول الله تعالى: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه وقال الإمام: المراد بالذكر في نفسه أن يكون عارفا بمعاني الأذكار التي يقولها بلسانه مستحضرا لصفات الكمال والعز والعظمة والجلال، وذلك لأن الذكر باللسان عاريا عن الذكر بالقلب كأنه عديم الفائدة، بل ذكر جمع أن الذكر اللساني الساذج لا ثواب فيه أصلا، ومن أتى بالكلمة الطيبة غير ملاحظ معناها أو جاهلا به لا يعد مؤمنا عند الله تعالى، وقيل: الخطاب لمستمع القرآن والذكر القرآن، والمراد أمر المأموم بالقراءة سرا بعد فراغ الإمام عن قراءته وفيه بعد ولو التزم قول الإمام، وقوله سبحانه وتعالى: تَضَرُّعاً وَخِيفَةً في موضع الحال بتأويل اسم الفاعل أي متضرعا وخائفا، أو بتقدير مضاف أي ذا تضرع وخيفة، وكونه مفعولا لأجله غير مناسب. وجوز بعضهم كون ذلك مصدرا لفعل من غير المذكور وليس بشيء، وأصل خيفة خوفة، ودون في قوله تعالى: وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ صفة لمعمول حال محذوفة أي ومتكلما كلاما دون الجهر لأن دون لا تتصرف على المشهور، والعطف على تضرعا، وقيل: لا حاجة إلى ما ذكر والعطف على حاله، والمراد اذكره متضرعا ومقتصدا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 143 وقيل: إن العطف على قوله تعالى: فِي نَفْسِكَ لكن على معنى اذكره ذكرا في نفسك وذكرا بلسانك دون الجهر، والمراد بالجهر رفع الصوت المفرط وبمادونه نوع آخر من الجهر. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هو أن يسمع نفسه وقال الامام: المراد أن يقع الذكر متوسطا بين الجهر والمخافتة كما قال تعالى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها [الإسراء: 11] ويشعر كلام ابن زيد أن المراد بالجهر مقابل الذكر في النفس، والآية عنده خطاب للمأموم المأمور بالإنصات أي اذكر ربك أيها المنصت في نفسك ولا تجهر بالذكر بِالْغُدُوِّ جمع غدوة كما في القاموس، وفي الصحاح الغدو نقيض الرواح وقد غدا يغدو غدوا. وقوله تعالى: بِالْغُدُوِّ أي بالغدوات جمع غدوة وهي ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس، فعبر بالفعل عن الوقت كما يقال: أتيتك طلوع الشمس أي وقت طلوعها، وهو نص في أن الغدو مصدر لا جمع، وعليه فقد معه مضاف مجموع أي أوقات الغدو ليطابق قوله سبحانه وتعالى: وَالْآصالِ وهو كما قال الأزهري جمع أصل، وأصل جمع أصيل أعني ما بين العصر إلى غروب الشمس- فهو جمع الجمع وليس للقلة وليس جمعا لأصيل لأن فعيلا لا يجمع على أفعال، وقيل: إنه جمع له لأنه قد يجمع عليه كيمين وإيمان، وقيل: إنه جمع لأصل مفردا كعنق ويجمع على أصلان أيضا، والجار متعلق باذكر، وخص هذان الوقتان بالذكر قيل لأن الغدوة عندها ينقلب الحيوان من النوم الذي هو كالموت إلى اليقظة التي هي كالحياة، والعالم يتحول من الظلمة التي هي طبيعة عدمية إلى النور الذي هو طبيعة وجودية، وفي الأصيل الأمر بالعكس، أو لأنهما وقتا فراغ فيكون الذكر فيهما ألصق بالقلب، وقيل: لأنهما وقتان يتعاقب فيهما الملائكة على ابن آدم، وقيل: ليس المراد التخصيص بل دوام الذكر واتصاله أي اذكر كل وقت. وقرأ أبو مجلز لاحق بن حميد السدوسي «والإيصال» ، وهو مصدر آصل إذا أدخل في الأصيل وهو مطابق لغدو بناء على القول بافراده ومصدريته فتذكر وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ عن ذكر الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ وهم ملائكة الملأ الأعلى، فالمراد من العندية القرب من الله تعالى بالزلفى والرضا لا المكانية لتنزه الله تعالى عن ذلك، وقيل: المراد عند عرش ربك لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ بل يؤدونها حسبما أمروا به وَيُسَبِّحُونَهُ أي ينزهونه عما لا يليق بحضرة كبريائه على أبلغ وجه وَلَهُ يَسْجُدُونَ أي ويخصونه بغاية العبودية والتذلل لا يشركون به غيره جل شأنه، وهو تعريض بمن عداهم من المكلفين كما يدل عليه تقديم لَهُ وجاز أن يؤخذ من مجموع الكلام كما آثره العلامة الطيبي لأنه تعليل للسابق على معنى ائتوا بالعبادة على وجه الإخلاص كما أمرتم فإن لم تأتوا بها كذلك فإنّا مغنون عنكم وعن عبادتكم إن لنا عبادا مكرمين من شأنهم كذا وكذا فالتقديم على هذا للفاصلة، ولما في الآية من التعريض شرع السجود عند هذه الآية إرغاما لمن أبى ممن عرض به. قيل: وقد جاء الأمر بالسجدة لآية أمر فيها بالسجود امتثالا للأمر، أو حكى فيها استنكاف الكفرة عنه مخالفة لهم، أو حكى فيها سجود نحو الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تأسيا بهم، وهذا من القسم الثاني باعتبار التعريض أو من القسم الأخير باعتبار التصريح، وكان صلّى الله عليه وسلّم يقول في سجوده لذلك كما روى ابن أبي شيبة عن ابن عمر «اللهم لك سجد سوادي وبك آمن فؤادي اللهم ارزقني علما ينفعني وعملا يرفعني» وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وصححه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يقول في سجود القرآن بالليل مرارا «سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره بحوله وقوته فتبارك الله أحسن الخالقين» وجاء عنها أيضا «ما من مسلم سجد لله تعالى سجدة إلا رفعه الله تعالى بها درجة أو حط عنه بها خطيئة أو جمعها له كلتيهما» وأخرج مسلم. وابن ماجه والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 144 النار» واستدل بالآية على أن إخفاء الذكر أفضل، ويوافق ذلك ما أخرجه أحمد من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «خير الذكر الخفي» وهي ناعية على جهلة زماننا من المتصوفة ما يفعلونه مما يستقبح شرعا وعقلا وعرفا فإنا الله وإنا إليه راجعون. هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» وهُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وهي الروح وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وهي القلب لِيَسْكُنَ إِلَيْها أي ليميل إليها ويطمئن فكانت الروح تشم من القلب نسائم نفحات الألطاف فَلَمَّا تَغَشَّاها أي جامعها وهو إشارة إلى النكاح الروحاني والصوفية يقولون: إنه سائر في جميع الموجودات ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً في البداية بظهور أدنى أثر من آثار الصفات البشرية في القلب الروحاني فَلَمَّا أَثْقَلَتْ كبرت وكثرت آثار الصفات دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لأنهما خافا من تبدل الصفات الروحانية النورانية بالصفات النفسانية الظلمانية لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً للعبودية لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً بحسب الفطرة من القوى جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما أي جعل أولادهما لله تعالى شركاء فيما آتى أولادهما فمنهم عبد البطن ومنهم عبد الخميصة ومنهم من عبد الدرهم والدينار إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كائنا ما كان عِبادٌ أَمْثالُكُمْ في العجز وعدم التأثير فَادْعُوهُمْ إلى أي أمر كان فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في نسبة التأثير إليهم أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها استفهام على سبيل الإنكار أي ليس لهم أرجل يمشون بها بل بالله عزّ وجلّ إذ هو الذي يمشيهم وكذا يقال فيما بعد قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ إن استطعتم إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ حافظي ومتولي أمري الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ أي من قام به في حال الاستقامة وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ الحق ولا حقيقتك لأنهم عمي القلوب في الحقيقة، والضمير للكفار خُذِ الْعَفْوَ أي السهل الذي يتيسر لهم ولا تكلفهم ما يشق عليهم وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ أي بالوجه الجميل، وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ فلا تكافئهم بجهلهم. عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية قيل وذلك لقوة دلالتها على التوحيد فإن من شاهد مالك النواصي وتصرفه في عباده وكونهم فيما يأتون ويذرون به سبحانه وتعالى لا بأنفسهم لا يشاقهم ولا يداقهم في تكاليفهم ولا يغضب في الأمر والنهي ولا يتشدد ويحلم عنهم، وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ بالشهود والحضور فإنك ترى حينئذ أن لا فعل لغيره سبحانه، وهذا إشارة إلى ما يعتري الإنسان أحيانا من الغضب وإيماء إلى علاجه بالاستعاذة قال بعضهم: إن الغضب إنما يهيج بالإنسان إذا استقبح من المغضوب عليه عملا من الأعمال ثم اعتقد في نفسه كونه قادرا وفي المغضوب عليه كونه عاجزا، وإذا انكشف له نور من عالم العقل عرف أن المغضوب عليه إنما أقدم على ذلك العمل لأن الله تعالى خلق فيه داعية وقد سبقت عليه الكلمة الأزلية فلا سبيل له إلى تركه وحينئذ يتغير غضبه. وقد ورد من عرف سر الله تعالى في القدر هانت عليه المصائب، فالاستعاذة بالله تعالى في المعنى طلب الالتجاء إليه باستكشاف ذلك النور، إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ لمة منه بنسبة الفعل إلى غيره سبحانه وتعالى تَذَكَّرُوا مقام التوحيد ومشاهدة الأفعال من الله تعالى فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ فعالية الله تعالى لا شيطان ولا فاعل غيره سبحانه في نظرهم وَإِخْوانُهُمْ أي اخوان الشياطين من المحجوبين يَمُدُّونَهُمْ الشياطين في الغي وهو نسبة الفعل إلى السوي ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ عن العناد والمراء والجدل، وقالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها أي جمعتها من تلقاء نفسك قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي لأني قائم به لا بنفسي وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ أي للقرآن بآذانكم الظاهرة وَأَنْصِتُوا بحواسكم الباطنة، وجوز أن يكون ضمير له للرب سبحانه، أي إذا قرىء القرآن فاستمعوا للرب جل شأنه فإنه المتكلم والمخاطب لكم به لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بالسمع الحقيقي أو برحمة تجلي المتكلم في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 145 كلامه بصفاته وأفعاله وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ بأن تتحلى بما يمكن التحلي به من صفات الله تعالى، وقيل: هو على حد لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21] تَضَرُّعاً وَخِيفَةً حسب اختلاف المقام وَدُونَ الْجَهْرِ أي دون أن يظهر ذلك منك بل يكون ذاكرا به له بِالْغُدُوِّ أي وقت ظهور نور الروح وَالْآصالِ أي وقت غلبات صفات النفس وَلا تَكُنْ في وقت من الأوقات مِنَ الْغافِلِينَ عن شهود الوحدة الذاتية، وقال بعض الأكابر: إن قوله سبحانه: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً إشارة إلى أعلى المراتب وهو حصة الواصلين المشاهدين، وقوله سبحانه وتعالى: وَدُونَ الْجَهْرِ إشارة إلى المرتبة الوسطى وهي نصيب السائرين إلى مقام المشاهدة، وقوله جل شأنه: وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ إيماء إلى مرتبة النازلين من السالكين، وفي ذكر الخوف اشعار باستشعار هيبة الجلال كما قال: أشتاقه فإذا بدا ... أطرقت من إجلاله لا خيفة بل هيبة ... وصيانة لجماله وذكروا أن حال المبتدي والسالك منوطة برأي الشيخ فإنه الطبيب لأمراض القلوب فهو أعرف بالعلاج، فقد يرى له رفع الصوت بالذكر علاجا حيث توقف قطع الخواطر وحديث النفس عليه، وفي عوارف المعارف للسهروردي قدس سره لا يزال العبد يردد هذه الكلمة على لسانه مع مواطأة القلب حتى تصير متأصلة فيه مزيلة لحديث النفس وينوب معناها في القلب عنه فإذا استولت الكلمة وسهلت على اللسان تشربها القلب ويصير الذكر حينئذ ذكر الذات، وهذا الذكر هو المشاهدة والمكاشفة والمعاينة، وذاك هو المقصد الأقصى من الخلوة، وقد يحصل ما ذكر بتلاوة القرآن أيضا إذا أكثر التلاوة واجتهد في مواطأة القلب مع اللسان حتى تجري التلاوة على اللسان وتقوم مقام حديث النفس فيدخل على العبد سهولة في التلاوة والصلاة اهـ. ونقل عنه أيضا ما حاصله أن بنية العبد تحكي مدينة جامعة، وأعضاؤه وجوارحه بمثابة سكان المدينة، والعبد في إقباله على الذكر كمؤذن صعد منارة على باب المدينة يقصد اسماع أهل المدينة الأذان، فالذاكر المحقق يقصد إيقاظ قلبه وإنباء أجزائه وأبعاضه بذكر لسانه فهو يقول ببعضه ويسمع بكله إلى أن تنتقل الكلمة من اللسان إلى القلب فيتنور بها ويظفر بجدوى الأحوال ثم ينعكس نور القلب على القالب فيتزين بمحاسن الأعمال اهـ. إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ وهم الفانون الباقون به سبحانه وتعالى أرباب الاستقامة لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ لعدم احتجابهم بالأنانية وَيُسَبِّحُونَهُ بنفيها وَلَهُ يَسْجُدُونَ بالفناء التام وطمس البقية والله تعالى هو الباقي ليس في الوجود سواه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 146 سورة الأنفال بسم الله الرحمن الرحيم مدنية كما روي عن زيد بن ثابت. وعبد الله بن الزبير، وجاء ذلك في رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير أنه سئل الحبر عنها فقال: تلك سورة بدر، وفي رواية أخرى أنه قال: نزلت في بدر، وقيل: هي مدنية إلا قوله سبحانه وتعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال: 30] الآية فإنها نزلت بمكة على ما قاله مقاتل، ورد بأنه صح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هذه الآية بعينها نزلت بالمدينة، وجمع بعضهم بين القولين بما لا يخلو عن نظر. واستثنى آخرون قوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ [الأنفال: 64] الآية وصححه ابن العربي وغيره، ويؤيده ما أخرجه البزار عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت لما أسلم عمر رضي الله تعالى عنه وهي في الشامي سبع وسبعون آية، وفي البصري والحجازي ست وسبعون. وفي الكوفي خمس وسبعون. ووجه مناسبتها لسورة [الأعراف: 199] أن فيها وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وفي هذه كثير من أفراد المأمور به. وفي تلك ذكر قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم وفي هذه ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم وذكر ما جرى بينه وبين قومه، وقد فصل سبحانه وتعالى في تلك قصص آل فرعون وأضرابهم وما حل بهم وأجمل في هذه ذلك فقال سبحانه وتعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ [الأنفال: 52] وأشار هناك إلى سوء زعم الكفرة في القرآن بقوله تعالى: وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها [الأعراف: 203] وصرح سبحانه وتعالى بذلك هنا بقوله جل وعلا: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الأنفال: 21] وبين جل شأنه فيما تقدم أن القرآن هدى ورحمة لقوم يؤمنون وأردف سبحانه وتعالى ذلك بالأمر بالاستماع له والأمر بذكره تعالى وهنا بين جل وعلا حال المؤمنين عند تلاوته وحالهم إذا ذكر الله تبارك اسمه بقوله عز من قائل: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: 2] إلى غير ذلك من المناسبات، والظاهر أن وضعها هنا توقيفي وكذا وضع براءة بعدها وهما من هذه الحيثية كسائر السور وإلى ذلك ذهب غير واحد كما مر في المقدمات. وذكر الجلال السيوطي أن ذكر هذه السورة هنا ليس بتوقيف من الرسول صلّى الله عليه وسلّم للصحابة رضي الله تعالى عنهم كما هو المرجح في سائر السور بل باجتهاد من عثمان رضي الله تعالى عنه، وقد كان يظهر في بادي الرأي أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 147 المناسب إيلاء الأعراف بيونس وهود لاشتراك في كل في اشتمالها على قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأنها مكية النزول خصوصا أن الحديث ورد في فضل السبع الطول وعدوا السابعة يونس وكانت تسمى بذلك كما أخرجه البيهقي في الدلائل ففي فصلها من الأعراف بسورتين فصل للنظير من سائر نظائره هذا مع قصر سورة الأنفال بالنسبة إلى الأعراف وبراءة، وقد استشكل ذلك قديما حبر الأمة رضي الله تعالى عنه فقال لعثمان رضي الله تعالى عنه: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا البسملة بينهما ووضعتموهما في السبع الطول؟ ثم ذكر جواب عثمان رضي الله تعالى عنه، وقد أسلفنا الخبر بطوله سؤالا وجوابا، ثم قال: وأقول: يتم مقصد عثمان رضي الله تعالى عنه في ذلك بأمور فتح الله تعالى بها. الأول أنه جعل الأنفال قبل براءة مع قصرها لكونها مشتملة على البسملة فقدمها لتكون كقطعة منها ومفتتحها وتكون براءة لخلوها من البسملة كتتمتها وبقيتها. ولهذا قال جماعة من السلف: إنهما سورة واحدة. الثاني أنه وضع براءة هنا لمناسبة الطول فانه ليس بعد الست السابقة سورة أطول منها وذلك كاف في المناسبة. الثالث أنه خلل بالسورتين أثناء السبع الطول المعلوم ترتيبها في العصر الأول للإشارة إلى أن ذلك أمر صادر لا عن توقيف وإلى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبض قبل أن يبين كلتيهما فوضعا هنا كالوضع المستعار بخلاف ما لو وضعا بعد السبع الطول فإنه كان يوهم أن ذلك محلهما بتوقيف ولا يتوهم هذا على هذا الوضع للعلم بترتب السبع. فانظر إلى هذه الدقيقة التي فتح الله تعالى بها ولا يغوص عليها الأغواص. الرابع أنه لو أخرهما وقدم يونس وأتى بعد براءة بهود كما في مصحف أبي لمراعاة مناسبة السبع وإيلاء بعضها بعضا لفات مع ما أشرنا إليه أمر آخر آكد في المناسبة فإن الأولى بسورة يونس أن يؤتى بالسور الخمسة التي بعدها لما اشتركت فيه من المناسبات من القصص والافتتاح ب (الر) وبذكر الكتاب ومن كونها مكيات ومن تناسب ما عدا الحجر في المقدار ومن التسمية باسم نبي والرعد اسم ملك وهو مناسب لأسماء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهذه عدة مناسبات للاتصال بين يونس وما بعدها وهي آكد من هذا الوجه الواحد في تقديم يونس بعد الأعراف، ولبعض هذه الأمور قدمت سورة الحجر على النحل مع كونها أقصر منها، ولو أخرت براءة عن هذه السورة الست لبعدت المناسبة جدا لطولها بعد عدة سور أقصر منها بخلاف وضع سورة النحل بعد الحجر فانها ليست كبراءة في الطول. ويشهد لمراعاة الفواتح في مناسبة الوضع ما ذكرناه من تقديم الحجر على النحل لمناسبة (الر) قبلها، وما تقدم من تقديم آل عمران على النساء وإن كانت أقصر منها لمناسبتها البقرة في الافتتاح (بالم) وتوالى الطواسين والحواميم وتوالى العنكبوت والروم ولقمان والسجدة لافتتاح كل (بألم) ، ولهذا قدمت السجدة على الأحزاب التي هي أطول منها، هذا ما فتح الله تعالى به عليّ، ثم ذكر أن ابن مسعود رضي الله تعالى قدم في مصحفه البقرة والنساء وآل عمران والأعراف والأنعام والمائدة ويونس راعى السبع الطول فقدم الأطول فالأطول منها فالأطول ثم ثنى بالمئين فقدم براءة ثم النحل ثم هود ثم يوسف ثم الكهف وهكذا الأطول وجعل الأنفال بعد النور. ووجه المناسبة أن كلّا مدنية ومشتملة على أحكام وأن في [النور: 55] وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ الآية. وفي [الأنفال: 26] وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ إلخ. ولا يخفى ما بين الآيتين من المناسبة فإن الأولى مشتملة على الوعد بما حصل وذكر به في الثانية فتأمل اهـ. وأقول: قد من الله تعالى على هذا العبد الحقير بما لم يمن به على هذا المولى الجليل والحمد لله تعالى على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 148 ذلك حيث أوقفني سبحانه على وجه مناسبة هذه السورة لما قبلها وهو لم يبين ذلك. ثم ما ذكره من عدم التوقيف في هذا الوضع في غاية البعد كما يفهم مما قدمناه في المقدمات، وسؤال الحبر وجواب عثمان رضي الله تعالى عنهما ليسا نصا في ذلك، وما ذكره عليه الرحمة في أول الأمور التي فتح الله تعالى بها عليه غير ملائم بظاهره ظاهر سؤال الحبر رضي الله تعالى عنه حيث أفاد أن إسقاط البسملة من براءة اجتهادي أيضا ويستفاد مما ذكره خلافه، وما ادعاه من أن يونس سابعة السبع الطول ليس أمرا مجمعا عليه بل هو قول مجاهد وابن جبير ورواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وفي رواية عند الحاكم أنها الكهف، وذهب جماعة كما قال في إتقانه: إلى أن السبع الطول أولها البقرة وآخرها براءة، واقتصر ابن الأثير في النهاية على هذا، وعن بعضهم أن السابعة الأنفال وبراءة بناء على القول بأنهما سورة واحدة، وقد ذكر ذلك الفيروزآبادىّ في قاموسه، وما ذكره في الأمر الثاني يغني عنه ما علل به عثمان رضي الله تعالى عنه. فقد أخرج النحاس في ناسخه عنه أنه قال: كانت الأنفال وبراءة يدعيان في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القرينتين فلذلك جعلتهما في السبع الطول، وما ذكره من مراعاة الفواتح في المناسبة غير مطرد فإن الجن والكافرون والإخلاص مفتتحات بقل مع الفصل بعدة سور بين الأولى والثانية والفصل بسورتين بين الثانية والثالثة، وبعد هذا كله لا يخلو ما ذكره عن نظر كما لا يخفى على المتأمل فتأمل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 149 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ جمع نفل بالفتح وهو الزيادة ولذا قيل للتطوع نافلة وكذا لولد الولد، ثم صار حقيقة في العطية ومنه قول لبيد: ان تقوى ربنا خير نفل ... وبإذن الله ريثي وعجل لأنها لكونها تبرعا غير لازم كأنها زيادة ويسمى به الغنيمة أيضا وما يشترطه الإمام للغازي زيادة على سهمه لرأي يراه سواء كان لشخص معين أو لغير معين كمن قتل قتيلا فله سلبه، وجعلوا من ذلك ما يزيده الإمام لمن صدر منه أثر محمود في الحرب كبراز وحسن أقدام وغيرهما، وإطلاقه على الغنيمة باعتبار أنها منحة من الله تعالى من غير وجوب، وقال الإمام عليه الرحمة: لأن المسلمين فضلوا بها على سائر الأمم التي لم تحل لهم، ووجه التسمية لا يلزم اطراده، وفي الخبر أن المغانم كانت محرمة على الأمم فنفلها الله تعالى هذه الأمة، وقيل: لأنها زيادة على ما شرع الجهاد له وهو إعلاء كلمة الله تعالى وحماية حوزة الإسلام فإن اعتبر كون ذلك مظفورا به سمي غنيمة، ومن الناس من فرق بين الغنيمة والنفل بالعموم والخصوص، فقيل: الغنيمة ما حصل مستغنما سواء كان ببعث أو لا باستحقاق أو لا قبل الظفر أو بعده، والنفل ما قبل الظفر أو ما كان بغير قتال وهو الفيء وقيل: ما يفضل عن القسمة ثم إن السؤال كما قال الطيبي ونقل عن الفارسي إما لاستدعاء معرفة أو ما يؤدي إليها وإما لاستدعاء جدال أو ما يؤدي إليه، وجواب الأول باللسان وينوب عنه اليد بالكتابة أو الإشارة ويتعدى بنفسه وبعن والباء، وجواب الثاني باليد وينوب عنها اللسان موعدا وردا ويتعدى بنفسه أو بمن وقد يتعدى لمفعولين كأعطى واختار، وقد يكون الثاني جملة استفهامية نحو سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ [البقرة: 211] والمراد بالأنفال هنا الغنائم كما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد وطائفة من الصحابة وغيرهم، وبالسؤال السؤال لاستدعاء المعرفة كما اختاره جمع من المفسرين لتعديه بعن والأصل عدم ارتكاب التأويل، ويؤيد ذلك ما أخرجه أحمد. وابن حبان. والحاكم من حديث عبادة بن الصامت رضي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 150 الله تعالى عنه وهو سبب النزول أن المسلمين اختلفوا في غنائم بدر وفي قسمتها فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كيف تقسم ولمن الحكم فيها أهو للمهاجرين أم للأنصار أم لهم جميعا؟ فنزلت هذه الآية. وقال بعضهم: إن السؤال استعطاء. والمراد بالنفل ما شرط للغازي زائدا على سهمه، وسبب النزول غير ما ذكر. فقد أخرج عبد الرزاق في المصنف وعبد بن حميد وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من قتل قتيلا فله كذا ومن جاء بأسير فله كذا فجاء أبو اليسر بن عمرو الأنصاري بأسيرين فقال: يا رسول الله إنك قد وعدتنا. فقام سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله إنك إن أعطيت هؤلاء لم يبق لأصحابك شيء وإنه لم يمنعنا من هذا زهادة في الأجر ولا جبن عن العدو وإنما قمنا هذا المقام محافظة عليك أن يأتوك من ورائك فتشاجروا فنزل القرآن، وادعوا زيادة عَنِ واستدلوا لذلك بقراءة ابن مسعود، وسعد بن أبي وقاص وعلي بن الحسين وزيد ومحمد الباقر وجعفر الصادق وطلحة بن مصرف «يسألونك الأنفال» وتعقب بأن هذه القراءة من باب الحذف والإيصال وليست دعوى زيادة عَنِ في القراءة المتواترة لسقوطها في القراءة الأخرى أولى من دعوى تقديرها في تلك القراءة لثبوتها في القراءة المتواترة بل قد ادعى بعض أنه ينبغي حمل قراءة إسقاط عَنِ على إرادتها لأن حذف الحرف وهو مراد معنى أسهل من زيادته للتأكيد، على أنه يبعد القول بالزيادة هنا الجواب بقوله تعالى: قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فإنه المراد به اختصاص أمرها وحكمها بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فيقسمها النبي عليه الصلاة والسلام كما يأمره الله تعالى من غير أن يدخل فيه رأي أحد، فإن مبني ذلك القول القول بأن السؤال استعطاء ولو كان كذلك لما كان هذا جوابا له فإن اختصاص حكم ما شرط لهم بالله تعالى والرسول صلّى الله عليه وسلّم لا ينافي إعطاءه إياهم بل يحققه لأنهم إنما يسألونه بموجب شرط الرسول عليه الصلاة والسلام الصادر عنه بإذن الله تعالى لا بحكم سبق أيديهم إليه أو نحو ذلك مما يخل بالاختصاص المذكور. وحمل الجواب على معنى أن الأنفال بذلك المعنى مختصة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا حق فيها للمنفل كائنا من كان لا سبيل إليه قطعا ضرورة ثبوت الاستحقاق بالتنفيل، وادعاء أن ثبوته بدليل متأخر التزم لتكرر النسخ من غير علم بالناسخ الأخير، ولا مساغ للمصير إلى ما ذهب إليه مجاهد وعكرمة والسدي من أن الأنفال كانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاصة ليس لأحد فيها شيء بهذه الآية فنسخت بقوله تعالى: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الأنفال: 41] لما أن المراد بالأنفال فيما قالوا هو المعنى الأول حسبما نطق به قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ [الأنفال: 41] الآية، على أن الحق أنه لا نسخ حينئذ حسبما قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، بل بين هنا إجمالا أن الأمر مفوض لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشرح فيما بعد مصارفها وكيفية قسمتها، وادعاء اقتصار الاختصاص بالرسول صلّى الله عليه وسلّم على الأنفال المشروطة يوم بدر بجعل اللام للعهد مع بقاء استحقاق المنفل في سائر الأنفال المشروطة يأباه مقام بيان الأحكام كما ينبىء عنه إظهار الأنفال في مقام الإضمار، على أن الجواب عن سؤال الموعود ببيان كونه له عليه الصلاة والسلام خاصة مما يليق بشأنه الكريم أصلا. وقد روي عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: قتل أخي عمير يوم بدر فقتلت به سعيد بن العاص وأخذت سيفه فأعجبني فجئت به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: إن الله قد شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف فقال عليه الصلاة والسلام: ليس هذا لي ولا لك اطرحه في القبض فطرحته وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي فما جاوزت إلا قليلا حتى نزلت سورة الأنفال فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا سعد إنك سألتني السيف وليس لي وقد صار لي فاذهب فخذه، وهذا كما ترى يقتضي عدم وقوع التنفيل يومئذ وإلا لكان سؤال السيف من سعد بموجب شرطه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 151 عليه الصلاة والسلام ووعده لا بطريق الهبة المبتدأة وحمل ذلك من سعد على مراعاة الأدب مع كون سؤاله بموجب الشرط يرده ورده صلّى الله عليه وسلّم قبل النزول وتعليله بقوله: ليس هذا لي لاستحالة أن يعد صلّى الله عليه وسلّم لي ضرورة أن مناط صيرورته له صلّى الله عليه وسلّم قوله تعالى: الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ والفرض أنه المانع من إعطاء المسئول، ومما هو نص في الباب قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ فإنه لو كان السؤال طلبا للمشروط لما كان فيه محذور يجب اتقاؤه قاله شيخ الإسلام عليه الرحمة، وحاصله إنكار وقوع التنفيل حينئذ، وعدم صحة حمل السؤال على الاستعطاء والأنفال على المعنى الثاني من معنييها، وأنا أقول: قد جاء خبر التنفيل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من الطريق الذي ذكرناه ومن طريق آخر أيضا، فقد أخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن حبان وأبو الشيخ والبيهقي في الدلائل والحاكم وصححه عنه رضي الله تعالى عنه قال: «لما كان يوم بدر قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: من قتل قتيلا فله كذا وكذا ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا فأما المشيخة فثبتوا تحت الرايات وأما الشبان فتسارعوا إلى القتل والغنائم فقالت المشيخة للشبان: أشركونا معكم فإنا كنا لكم رداء ولو كان منكم شيء للجأتم إلينا فاختصموا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ الآية فقسم الغنائم بينهم بالسوية» ويشير إلى وقوعه أيضا ما أخرجه أحمد وعبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم والبيهقي في سنن عن أبي أمامة قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال: فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل فساءت فيه أخلاقنا فانتزعه الله تعالى من أيدينا وجعله إلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم فقسمه عليه الصلاة والسلام بين المسلمين عن بواء، ولعل في الباب غير هذه الروايات فكان على الشيخ حيث أنكر وقوع التنفيل أن يطعن فيها بضعف ونحوه ليتم له الغرض. وما ذكره من حديث سعد بن أبي وقاص فقد أخرجه أحمد وابن أبي شيبة عنه وهو مع أنه وقع فيه سعيد بن العاص والمحفوظ كما قال: أبو عبيد العاصي بن سعيد مضطرب المتن، فقد أخرج عبد بن حميد والنحاس وأبو الشيخ وابن مردويه عن سعد أنه قال: «أصاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غنيمة عظيمة فإذا فيها سيف فأخذته فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: نفلني هذا السيف فأنا من علمت فقال: رده من حيث أخذته فرجعت به حتى إذا أردت أن ألقيه في القبض لامتني نفسي فرجعت إليه عليه الصلاة والسلام فقلت: أعطنيه فشد لي صوته وقال رده من حيث أخذته فأنزل الله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ» . فإن هذه الرواية ظاهرة في أن السيف لم يكن سلبا كما هو ظاهر الرواية الأولى بل إن سعدا رضي الله تعالى عنه وجده في الغنيمة وطلبه نفلا على سهمه الشائع فيها. وأخرج النحاس في ناسخه عن سعيد بن جبير أن سعدا ورجلا من الأنصار خرجا يتنفلان فوجدا سيفا ملقى فخرا عليه جميعا فقال سعد: هو لي وقال الأنصاري: هو لي لا أسلمه حتى آتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأتياه فقصا عليه القصة فقال عليه الصلاة والسلام: ليس لك يا سعد ولا للأنصاري ولكنه لي فنزلت يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ الآية، ومخالفة هذه الرواية للروايتين السابقتين المختلفتين كما علمت في غاية الظهور فلا يكاد يعول على إحداهما إلا بإثبات أنها الأصح. ولم تقف على أنهم نصوا على تصحيح الرواية التي ذكرها الشيخ فضلا عن النص على الأصحية. نعم أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مروديه والحاكم وصححه والبيهقي في السنن عن سعد المذكور رضي الله تعالى عنه قال: «قلت يا رسول قد شفاني الله تعالى اليوم من المشركين فهب لي هذا السيف قال: إن هذا السيف لا لك ولا لي ضعه فوضعته ثم رجعت فقلت: عسى يعطى هذا السيف اليوم من لا يبلي بلائي إذا رجل يدعوني من ورائي فقلت: قد أنزل في شيء قال عليه الصلاة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 152 والسلام: كنت سألتني هذا السيف وليس هو لي واني قد وهب لي فهو لك وأنزل الله تعالى هذه الآية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ» إلخ، فهذه الرواية وإن نص فيها على التصحيح إلا أنه ليست ظاهرة في أن السيف كان سلبا له من عمير كما هو نص الرواية الأولى، وإن قلنا: إن هذه الرواية وإن لم تكن موافقة للأولى حذو القذة بالقذة لكنها ليست مخالفة لها، وزيادة الثقة مقبولة سواء كانت في الأول أم في الآخر أم في الوسط، فلا بد من القول بالنسخ كما هو احدى الروايات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما أنها ظاهرة في كون الأنفال صارت ملكا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليس لأحد فيها حق أصلا إلا أن يجود عليه عليه الصلاة والسلام كما يجود من سائر أمواله، والمولى المذكور ذهب إلى القول بعدم النسخ ولم يعلم أن هذا الخبر الذي استند إليه في إنكار وقوع التنفيل يعكر عليه، وادعاء أن معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم: فيه «وقد صار لي» أنه صار حكمه لي لكن عبر بذلك مشاكلة لما في الآية يرده ما في الرواية الأخرى المنصوص على صحتها من الترمذي والحاكم «واني قد وهب لي» ، وحمل ذلك أيضا على مثل ما حمل عليه الأول مما لا يكاد يقدم عليه عارف بكلام العرب لا سيما كلام أفصح من نطق بالضاد صلّى الله عليه وسلّم، وما ذكره قدس سره من أن قوله تعالى: قُلِ الْأَنْفالُ إلخ لا يكون جوابا لسؤال الاستعطاء فإن اختصاص حكم ما شرط لهم بالرسول عليه الصلاة والسلام لا ينافي الإعطاء بل يحققه، وقد يجاب عنه بالتزام الحمل الذي ادعى أن لا سبيل إليه قطعا ويقال بالنسخ. وهو من نسخ السنة قبل تقررها بالكتاب، وأن المنسوخ إنما هو ذلك التنفيل، والتنفيل الذي يقول به العلماء اليوم هو أن يقول الإمام من قتل قتيلا فله سلبه أو يقول للسرية جعلت لكم الربع بعد الخمس أي بعد ما يرفع الخمس للفقراء، وقد يكون بغير ذلك كالدراهم والدنانير. وذكر في السير الكبير أنه لو قال: ما أصبتم فهو لكم ولم يقل بعد الخمس لم يجز لأن فيه ابطال الخمس الثابت بالنص، وبعين ذلك يبطل ما لو قال: من أصاب شيئا فهو له لاتحاد اللازم فيهما بل هو أولى بالبطلان، وبه أيضا ينتفى ما قالوا: لو نفل بجميع المأخوذ جاز إذا رأى مصلحة، وفيه زيادة إيحاش الباقين وإيقاع الفتنة. وذكر السادة الشافعية أن الأصح أن النفل يكون من خمس الخمس المرصد للمصالح أن نفل مما سيغنم في هذا القتال لأنه المأثور عندهم كما جاء عن ابن المسيب. ويحتمل أن التنفيل المنسوخ الواقع يوم بدر عند القائل به لم يكن كهذا الذي ذكرناه عن أئمتنا وكذا عن الشافعية الثابت عندهم بالأدلة المذكورة في كتب الفريقين. والأخبار التي وقفنا عليها في ذلك التنفيل غير ظاهرة في اتحاده مع هذا التنفيل. وحينئذ فما نسخ لم يثبت وإنما ثبت غيره، وربما يقال: على فرض تسليم أن ما ثبت هو ما نسخ أن دليل ثبوته هو قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ [الأنفال: 65] فإن في ذلك من التحريض ما لا يخفى، ودعوى أن حمل أل في الأنفال على العهد يأباه المقام في حيز المنع، ومما يستأنس به للعهد أنه يقال لسورة الأنفال سورة بدر فلا بدع أن يراد من الأنفال أنفال بدر، وإنباء الإظهار في مقام الإضمار على ما ادعاه في غاية الخفاء، وكون الجواب عن سؤال الموعود ببيان اختصاصه به عليه الصلاة والسلام مما لا يليق بشأنه الكريم أصلا مما لا يكاد يسلم، كيف والحكم إلهي والنبي صلّى الله عليه وسلّم مأمور بالابلاغ، وقد يقال: حاصل الجواب يا قوم ان ما وعدتكم به بإذن الله تعالى قد ملكنيه سبحانه وتعالى دونكم وهو أعلم بالحكمة فيما فعل أولا وآخرا فاتقوا الله من سوء الظن أو عدم الرضا بذلك. ومن هنا يعلم حسن الأمر بالتقوى بعد ذلك الجواب وبطلان ما ادعاه المولى المدقق من أن هذا الأمر نص في الباب، وقد يقال أيضا: لا مانع من أن يحمل السؤال على الاستعلام، والاختصاص على اختصاص الحكم مع كون المراد بالأنفال المعنى الثاني، والمعنى يسألونك عن حال ما وعدتهم إياه هل يستحقونه وان حرم غيرهم ممن كان ردا وملجأ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 153 حيث إنك وعدتهم وأطلقت لهم الأمر قل إن ذلك الموعود قد نسخ استحقاقكم له بالوعد المأذون فيه من قبل وفوض أمره إلي ولم يحجز علي بإعطائه لكم دون غيركم بل رخصت أن أساوي أصحابكم الذين كانوا ردا لكم معكم لئلا يرجع أحد من أهل بدر بخفي حنين ويستوحشوا من ذلك وتفسد ذات البيت، فاتقوا الله تعالى من الاستقلال بما أخذتموه أو إخفاء شيء منه بناء على أنكم كنتم موعودين به وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ بالرد والمواساة فيما حل بأديكم وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ في كل ما يأمر به وينهى عنه فإن في ذلك مصالح لا تعلمونها وإنما يعلمها الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وتقرير السؤال والجواب على هذا الأسلوب وإن لم يكن ظاهرا إلا أنه ليس بالبعيد جدا، ثم ما ذكره قدس سره من أن حديث النسخ الواقع في كلام مجاهد. وعكرمة. والسدي إنما هو للأنفال بالمعنى الأول لدلالة الناسخ على ذلك مسلم، لكن جاء في آخر رواية النحاس عن ابن جبير السابقة في قصة سعد وصاحبه الأنصاري رضي الله تعالى عنهما ما يوهم كون النسخ للآية مع حمل الأنفال على غير ذلك المعنى وليس كذلك، هذا ثم إني أعود فأقول: إن هذا التكلف الذي تكلفناه إنما هو لصيانة الروايات الناطقة بكون سبب النزول ما استند إليه القائل بأن الأنفال بالمعنى الثاني عن الإلغاء قبل الوقوف على ضعفها، ومجرد ما ذكره المولى قدس سره لا يدل على ذلك، ألا تراهم كيف يعدلون عن ظواهر الآيات إذا صح حديث يقتضي ذلك، وإلا فأنا لا أنكر أن كون حمل الأنفال على المعنى الأول والذهاب إلى أن الآية غير منسوخة والسؤال للاستعلام أقل مؤنة من غيره فتأمل ذاك والله سبحانه وتعالى يتولى هداك، والمراد بقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ إلخ على هذا أنه إذا كان أمر الغنائم لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فاتقوه سبحانه وتعالى واجتنبوا ما أنتم فيه من المشاجرة فيها والاختلاف الموجب لشق العصا وسخطه تعالى، أو فاتقوه في كل ما تأتون وتذرون فيدخل ما هم فيه دخولا أوليا، وأصلحوا ما بينكم من الأحوال بترك الغلول ونحوه، وعن السدي بعدم التساب. وعن عطاء كان الإصلاح بينهم «أن دعاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: اقسموا غنائمكم بالعدل: فقالوا: قد أكلنا وأنفقنا. فقال عليه الصلاة والسلام: ليرد بعضكم على بعض» وذاتَ كما قيل بمعنى صاحبة صفة لمفعول محذوف. و «بين» اما بمعنى الفراق أو الوصل أو ظرف أي أحوالا ذات افتراقكم أو ذات وصلكم أو ذات الكمال المتصل بكم. وقال الزجاج وغيره: إن ذاتَ هنا بمنزلة حقيقة الشيء ونفسه كما بينه ابن عطية وعليه استعمال المتكلمين، ولما كانت الأحوال ملابسة للبين أضيفت إليه كما تقول: اسقني ذا انائك أي ما فيه جعل كأنه صاحبه، وذكر الاسم الجليل في الأمرين لتربية المهابة وتعليل الحكم. وذكر الرسول صلّى الله عليه وسلّم مع الله تعالى أولا وآخرا لتعظيم شأنه وإظهار شرفه والإيذان بأن طاعته عليه الصلاة والسلام طاعة الله تعالى، وقال غير واحد: إن الجمع بين الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم أولا لأن اختصاص الله تعالى بالأمر والرسول صلّى الله عليه وسلّم بالامتثال، وتوسيط الأمر بإصلاح ذات البين بين الأمر بالتقوى والأمر بالطاعة لإظهار كمال العناية بالإصلاح بحسب المقام وليندرج الأمر به بعينه تحت الأمر بالطاعة. وقرأ ابن محيصن «يسألونك علنفال» بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وادغام نون عن فيها ولا اعتداد بالحركة العارضة إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ متعلق بالأوامر الثلاثة، والجواب محذوف ثقة بدلالة المذكور عليه أو هو الجواب على الخلاف المشهور، وأيا ما كان فالمراد بيان ترتب ما ذكر عليه لا التشكيك في إيمانهم، وهو يكفي في التعليق بالشرط، والمراد بالإيمان التصديق، ولا خفاء في اقتضائه ما ذكر على معنى أنه من شأنه ذلك لا أنه لازم له حقيقة. وقد يراد بالإيمان الكامل والأعمال شرط فيه أو شطر، فالمعنى إن كنتم كاملي الإيمان فإن كمال الإيمان يدور على تلك الخصال الثلاثة الاتقاء والإصلاح وإطاعة الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، ويؤيد إرادة الكمال قوله سبحانه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 154 وتعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إلخ إذ المراد به قطعا الكاملون في الإيمان وإلا لم يصح الحصر، وهو حينئذ جار على ما هو الأصل المشهور في النكرة إذا أعيدت معرفة، وعلى الوجه الأول لا يكون هذا عين النكرة السابقة، ويلتزم القول بأن القاعدة أغلبية كما قد صرحوا به في غير ما موضع، أي إنما المؤمنون الكاملون في الإيمان المخلصون فيه الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أي فزعت استعظاما لشأنه الجليل وتهيبا منه جل وعلا والاطمئنان المذكور في قوله سبحانه وتعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28] لا ينافي الوجل والخوف لأنه عبارة عن ثلج الفؤاد وشرح الصدر بنور المعرفة والتوحيد وهو يجامع الخوف، وإلى هذا ذهب ابن الخازن، ووفق بعضهم بين الآيتين بأن الذكر في إحداهما ذكر رحمة وفي الأخرى ذكر عقوبة فلا منافاة بينهما. وأخرج البيهقي وجماعة عن السدي أنه قال في الآية: هو الرجل يريد أن يظلم أو يهم بمعصية فيقال له: اتق الله تعالى فيجل قلبه، وحمل الوجل فيها على الخوف منه تعالى كلما ذكر أبلغ في المدح من حمله على الخوف وقت الهم بمعصية أو إرادة ظلم. وهذا الوجل في قلب المؤمن كضرمة السعفة كما جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها. وأخرج ابن جرير وغيره عن أم الدرداء أن الدعاء عند ذلك مستجاب، وعلامته حصول القشعريرة. وقرىء «وجلت» بفتح الجيم ومضارعه يحل، وأما وجل بالكسر فمضارعه يوجل وجاء ييجل ويأجل وهي لغات أربع حكاها سيبويه، وقرأ عبد الله «فرقت» أي خافت وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ أي القرآن كما روي عن ابن عباس زادَتْهُمْ إِيماناً أي تصديقا كما هو المتبادر فإن تظاهر الأدلة وتعاضد الحجج مما لا ريب في كونه موجبا لذلك، وهذا أحد أدلة من ذهب إلى أن الإيمان يقبل الزيادة والنقص، وهو مذهب الجم الغفير من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين وبه أقول لكثرة الظواهر الدالة على ذلك من الكتاب والسنة من غير معارض لها عقلا، بل قد احتج عليه بعضهم بالعقل أيضا، وذلك أنه لو لم تتفاوت حقيقة الإيمان لكان إيمان آحاد الأمة بل المنهمكين في الفسق والمعاصي مساويا لإيمان الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام، واللازم باطل فكذا الملزوم، وقال محيي الدين النووي في معرض بيان ذلك: إن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى يكون في بعض الأحيان أعظم يقينا وإخلاصا منه في بعضها، فكذلك التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها، وأجابوا عما اعترض به عليه من أنه متى قبل ذلك كان شكا وهو خروج عن حقيقته بأن مراتب اليقين متفاوتة إلى علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين مع أنه لا شك معها، وذهب الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وكثير من المتكلمين إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، واختاره إمام الحرمين محتجين بأنه اسم للتصديق البالغ حد الجزم والإذعان وذلك لا يتصور فيه زيادة ولا نقصان، فالمصدق إذا أتى بالطاعات أو ارتكب المعاصي فتصديقه بحاله لم يتغير أصلا، وإنما يتفاوت إذا كان اسما للطاعات المتفاوتة قلة وكثرة على ما ذهب إليه القلانسي وجماعة من السلف، وبما رواه الفقيه أبو الليث السمرقندي في تفسيره عن محمد ابن الفضل وأبي القاسم الساباذي عن فارس بن مردويه عن محمد بن الفضل بن العابد عن يحيى بن عيسى عن أبي مطيع عن حماد بن سلمة عن أبي المهزم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «جاء وفد ثقيف إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله الإيمان يزيد وينقص؟ فقال: لا. الإيمان مكمل في القلب زيادته ونقصانه كفر» . وأجابوا عما تمسك به الأولون من الآيات والأحاديث بأن الزيادة بحسب الدوام والثبات وكثرة الزمان والساعات. وإيضاحه ما قاله إمام الحرمين: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم يفضل من عداه باستمرار تصديقه وعصمة الله تعالى إياه من مخامرة الشكوك والتصديق عرض لا يبقى بشخصه زمانين بل بتجدد أمثاله فتقع للنبي صلّى الله عليه وسلّم دون غيره متوالية فيثبت له صلّى الله عليه وسلّم أعداد من الإيمان لا يثبت لغيره إلا بعضها فيكون إيمانه أكثر. واعترض هذا بأن حصول المثل بعد انعدام الشيء لا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 155 يكون زيادة فيه ودفع بأن المراد زيادة اعداد حصلت وعدم البقاء لا ينافي ذلك، وأجابوا أيضا بأن المراد الزيادة بحسب زيادة ما يؤمن به، والصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا آمنوا في الجملة وكانوا الشريعة غير تامة والأحكام تتنزل شيئا فشيئا فكانوا يؤمنون بكل ما يتجدد منها ولا شك في تفاوت إيمان الناس بملاحظة التفاصيل كثرة وقلة ولا يختص ذلك بعصر النبوة لامكان الاطلاع عليها في غيره من العصور وبأن المراد زيادة ثمرته واشراق نوره في القلب فان نوره يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، ولا يخفى أن الحجة الأولى يعلم جوابها مما ذكرناه أولا، وأما الحجة الثانية التي ذكرها أبو الليث فيما لا يعول عليها عند الحفاظ أصلا لأن رجال السند إلى أبي مطيع كلهم مجهولون لا يعرفون في شيء من كتب التواريخ المشهورة، وأما أبو مطيع وهو الحكم بن عبد الله بن مسلمة البلخي فقد ضعفه أحمد بن حنبل. ويحيى بن معين. وعمرو بن علي الفلاس. والبخاري. وأبو داود. والنسائي. وحاتم الرازي. وأبو حاتم محمد بن حبان البستي. والعقيلي. وابن عدي. والدارقطني وغيرهم. وأما أبو المهزم وقد تصحف على الكتاب، واسمه يزيد بن سفيان فقد ضعفه أيضا غير واحد وتركه شعبة بن الحجاج، وقال النسائي: متروك، وقد اتهمه شعبة بالوضع حيث قال: لو أعطوه فلسين لحدثهم سبعين حديثا، ومن مارس الأحاديث النبوية لا يشك في أن ذلك اللفظ ليس منها في شيء، وما ذكره إمام الحرمين على ما فيه مبني على تجدد الأعراض وعدم بقائها زمانين، والمسألة خلافية، ودون إثبات ذلك خرط القتاد. وما أجابوا به أولا من أن زيادة الإيمان بحسب زيادة المؤمن به مع كونه خلاف الظاهر ولا داعي إليه عند المنصف لا يكاد يتأتى في قوله تعالى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً [آل عمران: 172] وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ [الفتح: 4] إذ ليس هناك زيادة مشروع يحصل الإيمان به ليقال: إن زيادة الإيمان بحسب زيادة المؤمن به، وحال الجواب الثاني لا يخفى عليك. وذهب جماعة منهم الإمام الرازي وإمام الحرمين في قول إلى أن الخلاف في زيادة الإيمان ونقصانه وعدمهما لفظي وهو فرع تفسير الإيمان، فمن فسره بالتصديق قال: إنه لا يزيد ولا ينقص، ومن فسره بالأعمال مع التصديق قال: إنه يزيد وينقص، وعلى هذا قول البخاري: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحدا منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص، وهو المعنى بما روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «قلنا يا رسول الله إن الإيمان يزيد وينقص قال: نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار» . واعترض على هذا بأن عدم قبول الإيمان الزيادة والنقص على تقدير كون الطاعات داخلة في مسماه أولى وأحق من عدم قبوله ذلك إذا كان مسماه التصديق وحده، أما أولا فلأنه لا مرتبة فوق كل الأعمال لتكون زيادة ولا إيمان دونه ليكون نقصا، وأما ثانيا فلأن أحدا لا يستكمل الإيمان حينئذ والزيادة على ما لم يكمل بعد محال. وأجيب بأن هذا إنما يتوجه على المعتزلة والخوارج القائلين بانتفاء الإيمان بانتفاء شيء من الأعمال ونحن إنما نقول: إنها شرط كمال فيه واللازم عند الانتفاء انتفاء الكمال وهو غير قادح في أصل الإيمان والحق أن الخلاف حقيقي وأن التصديق يقبل التفاوت بحسب مراتبه فما المانع من تفاوته قوة وضعفا كما في التصديق بطلوع الشمس والصديق بحدوث العالم وقلة وكثرة كما في التصديق الإجمالي والتصديق التفصيلي المتعلق بالكثير وما علي إذا خالفت في بعض المسائل مذهب الإمام الأعظم أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه للأدلة التي لا تكاد تحصى فالحق أحق بالاتباع والتقليد في مقل هذه المسائل من سنن العوام. نعم أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الربيع بن أنس أنه فسر الإيمان في هذه الآية بالخشية وعبر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 156 عنها بذلك بناء على أنها من آثاره وهو خلاف الظاهر أيضا، وكأن المعنى عليه أن المؤمنين الكاملين هم الذين إذا ذكر الله من غير أن يذكر هناك ما يوجب الفزع من صفاته وأفعاله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته المتضمنة ذلك زادتهم وجلا على وجل وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي يفوضون أمورهم كلها إلى مالكهم ومدبرهم خاصة لا إلى أحد سواه كما يدل عليه تقديم المتعلق على عامله والجملة معطوفة على الصلة. وجوز أبو البقاء كونها حالا من ضمير المفعول وكونها استئنافية. وقوله سبحانه وتعالى: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ مرفوع على أنه نعت للموصول الأول أو بدل منه أو بيان له أو منصوب على القطع المنبئ عن المدح، وقد مدحهم سبحانه وتعالى أولا بمكارم الأعمال القلبية من الخشية والإخلاص والتوكل وهذا مدح لهم بمحاسن الأعمال القالبية من الصلاة والصدقة أُولئِكَ أي المتصفون بما ذكر من الصفات الحميدة من حيث إنهم كذلك هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لأنهم حققوا إيمانهم بأن ضموا إليه ما فضل من أفاضل الأعمال. وأخرج الطبراني عن الحرث بن مالك الأنصاري أنه مر برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال له: «كيف أصبحت يا حارث قال: أصبحت مؤمنا حقا فقال صلّى الله عليه وسلّم: انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ فقال: عزفت نفسي عن الدنيا فاسهرت ليلي واظمأت نهاري وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وكأني انظر إلى أهل النار يتصارخون فيها قال عليه الصلاة والسلام: يا حارث عرفت فالزم ثلاثا» ونصب حَقًّا على أنه صفة مصدر محذوف فالعامل فيه المؤمنون أي إيمانا حقا أو هو مؤكد لمضمون الجملة فالعامل فيه حق مقدر، وقيل: إنه يجوز أن يكون مؤكدا لمضمون الجملة التي بعده فهو ابتداء كلام، وهو مع أنه خلاف الظاهر إنما يتجه على القول بجواز تقديم المصدر المؤكد لمضمون الجملة عليها والظاهر منعه كالتأكيد، واستدل بعضهم بالآية على أنه لا يجوز أن يصف أحد نفسه بكونه مؤمنا حقا لأنه سبحانه وتعالى: إنما وصف بذلك أقواما على أوصاف مخصوصة وكل أحد لا يتحقق وجود تلك الأوصاف فيه بل يلزمه أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله تعالى. وقرر بعضهم وجه الاستدلال بما يشير إليه ما روي عن الثوري أنه قال: من زعم أنه مؤمن بالله تعالى حقّا ثم لم يشهد أنه من أهل الجنة فقد آمن بنصف الآية ولم يؤمن بالنصف الآخر، وهذا ظاهر في أن مذهبه الاستثناء، وهو كما قال الإمام مذهب ابن مسعود تبعه جمع عظيم من الصحابة والتابعين، وبه قال الشافعي ونسب إلى مالك وأحمد، ومنعه الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه وروي عنه أنه قال لقتادة: لم تستثني في إيمانك؟ قال: اتباعا لإبراهيم عليه السلام في قوله تعالى: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء: 82] فقال له: هلا اقتديت به في قوله بلى حين قيل له أو لم تؤمن؟ فانقطع قتادة قال الرازي كان لقتادة أن يجيب أبا حنيفة عليهما الرحمة ويقول: قول إبراهيم عليه السلام وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 26] بعد قوله بلى طلب لمزيد الطمأنينة وذلك يدل على جواز الاستثناء. وفي الكشف أن الحق أن من جوز الاستثناء إنما جوز إذا سئل عن الإيمان مطلقا أما إذا قيل: هل أنت مؤمن بالقدر مثلا فقال: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى لا يجوز لا لأن التبرك لا معنى له بل للابهام فيما ليس له فائدة، وأما في الأول فلما كان الإطلاق يدل على الكمال وهو الإيمان المنتفع به في الآخرة علق بالمشيئة تفاؤلا وتيمنا، وذلك لأن هذه الكلمة خرجت عن موضوعها الأصلي إلى المعنى الذي ذكر في عرف الاستعمال تراهم يستعملونها في كل ما لهم اهتمام بحصوله شائعا بين العرب والعجم فلا وجه لقول من قال: إن معنى التبرك أنا أشك في إيماني تبركا وذلك لأن المشيئة عنده غير مشكوكة عنده بل هو تعليق بما لا بد منه نظرا إلى أنه السبب الأصلي وأنه تفويض من العبد إلى الله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 157 تعالى ومن فوض كفى لا نظرا إلى أن المشيئة غيب غير معلوم فيكون شكا في الإيمان، وقد جاء «من شك في إيمانه فقد كفر» ، وما أحسن ما نقل عن الحسن أن رجلا سأله أمؤمن أنت؟ فقال: الإيمان إيمانان فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب فأنا مؤمن وإن كنت تسألني عن قوله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إلخ فو الله لا أدري أمنهم أنا أم لا؟ وهذا ونحوه مما يجعل الخلاف لفظيا، وقد صرح بذلك جمع من المحققين عليهم الرحمة. لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي كرامة وعلو مكانة على أن يراد بالدرجات العلو المعنوي وقد يراد بها العلو الحسي، وفي الخبر عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «في الجنة مائة درجة لو أن العالمين اجتمعوا في إحداهن لوسعتهم» وعن الربيع بن أنس «سبعون درجة ما بين كل درجتين حضر الفرس المضمر السبعين سنة» ووجه الجمع على الوجهين ظاهر، والتنوين للتفخيم والظرف، إما متعلق بمحذوف وقع صفة لها مؤكدة لما أفاده التنوين أو بما تعلق به الخبر أعنى لهم من الاستقرار. وجوز أبو البقاء أن يكون العامل فيه دَرَجاتٌ لأن المراد بها الأجور، وفي إضافته إلى الرب المضاف إلى ضميرهم مزيد تشريف لهم ولطف بهم وإيذان بأن ما وعدهم متيقن الثبوت مأمون الفوات، والجملة جوز أن تكون خبرا ثانيا لأولئك وأن تكون مبتدأ مبنية على سؤال نشأ من تعدد مناقبهم كأنه قيل: ما لهم بمقابلة هذه الخصال؟ فقيل: لهم درجات وَمَغْفِرَةٌ عظيمة لما فرط منهم وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وهو ما أعد لهم من نعيم الجنة. وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد القرظي قال: إذا سمعت الله تعالى يقول رزق كريم فهو الجنة. والكرم كما نقل الواحدي اسم جامع لكل ما يحمد ويستحسن في بابه فلعل وصف الرزق به هنا حقيقة. وقال بعض المحققين: معنى كون الرزق كريما أن رازقه كريم، ومن هنا وصفوه بالكثرة وعدم الانقطاع إذ من عادة الكريم أن يجزل العطاء ولا يقطعه فكيف بأكرم الأكرمين تبارك وتعالى، وجعله نفسه كريما على الإسناد المجازي للمبالغة، ولم يذكروا لتوسيط المغفرة، والظاهر كما قيل تقديمها هنا نكتة، وربما يقال في وجه ذكر هذه الأشياء الثلاثة على هذا الوجه أن الدرجات في مقابلة الأوصاف الثلاثة أعني الوجل والإخلاص والتوكل، ويستأنس له بالجمع والمغفرة في مقابلة إقامة الصلاة ويستأنس له بما ورد في غير ما خبر أن الصلوات مكفرات لما بينها من الخطايا وأنها تنقي الشخص من الذنوب كما ينقى الماء من الدنس، والرزق الكريم بمقابلة الانفاق، والمناسبة في ذلك ظاهرة، وإلى هذا يشير كلام أبي حيان أو يقال: قدم سبحانه الدرجات لأنها بمحض الفضل، وذكر بعدها المغفرة لأنها أهم عندهم من الرزق مع اشتراكهما في كونهما في مقابلة شيء، ويؤيد هذا ما أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد أنه قال في الآية: المغفرة بترك الذنوب والرزق الكريم بالأعمال الصالحة فتدبر والله تعالى أعلم بأسرار كلامه كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ أي إخراجا متلبسا به فالباء للملابسة، وقيل: هي سببية أي بسبب الحق الذي وجب عليك وهو الجهاد. والمراد بالبيت مسكنه صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة أو المدينة نفسها لأنها مثواه عليه الصلاة والسلام، وزعم بعضهم أن المراد به مكة وليس بذاك، وإضافة الإخراج إلى الرب سبحانه وتعالى إشارة إلى أنه كان بوحي منه عز وجل، ولا يخفى لطف ذكر الرب وإضافته إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم، والكاف يستدعى مشبها وهو غير مصرح به في الآية وفيه خفاء، ومن هنا اختلفوا في بيانه وكذا في إعرابه على وجوه فاختار بعضهم أنه خبر مبتدأ محذوف هو المشبه أي حالهم هذه في كراهة ما وقع في أمر الأنفال كحال إخراجك من بيتك في كراهتهم له، وإلى هذا يشير كلام الفراء حيث قال: الكاف شبهت هذه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 158 القصة التي هي إخراجه صلّى الله عليه وسلّم من بيته بالقصة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال وكراهتهم لما وقع فيها مع أنه أولى بحالهم أو أنه صفة مصدر الفعل المقدر في لله وللرسول أي الأنفال ثبتت لله تعالى وللرسول عليه الصلاة والسلام مع كراهتهم ثباتا كثبات اخراجك وضعف هذا ابن الشجري، وادعى أن الوجه هو الأولى لتباعد ما بين ذلك الفعل وهذا بعشر جمل، وأيضا جعله في حيز قل ليس بحسن في الانتظام، وقال أبو حيان: إنه ليس فيه كبير معنى ولا يظهر للتشبيه فيه وجه، وأيضا لم يعهد مثل هذا المصدر، وادعى العلامة الطيبي أن هذا الوجه أدق التئاما من الأول والتشبيه فيه أكثر تفصيلا لأنه حينئذ من تتمة الجملة السابقة داخل في حيز المقول مع مراعاة الالتفات وأطال الكلام في بيان ذلك واعتذر عن الفصل بأن الفاصل جار مجرى الاعتراض ولا أراه سالما من الاعتراض، وقيل: تقديره وأصلحوا ذات بينكم كما أخرجك وقد التفت من خطاب جماعة إلى خطاب واحد، وقيل: المراد وأطيعوا الله والرسول كما أخرجك إخراجا لا مرية فيه، وقيل: التقدير يتوكلون توكلا كما أخرجك، وقيل: إنهم لكارهون كراهة ثابتة كاخراجك، وقيل: هو صفة لحقا أي أولئك هم المؤمنون حقا مثل ما أخرجك، وقيل: صفة لمصدر يجادلون أي يجادلونك جدالا كاخراجك ونسب ذلك إلى الكسائي، وقيل: الكاف بمعنى إذ أي واذكر إذ أخرجك وهو مع بعده لم يثبت وقيل: الكاف للقسم ولم يثبت أيضا وإن نقل عن أبي عبيد وجعل «يجادلونك» الجواب مع خلوه عن اللام والتأكيد و «ما» حينئذ موصولة أي والذي أخرجك، وقيل: إنها بمعنى على وما موصولة أيضا أي امض على الذي أخرجك ربك له من بيتك فإنه حق ولا يخفى ما فيه، وقيل: هي مبتدأ خبره مقدر وهو ركيك جدا، وقيل: في محل رفع خبر مبتدأ محذوف أي وعده حق كما أخرجك، وقيل: تقديره قسمتك حق كإخراجك، وقيل: ذلكم خير لكم كاخراجك، وقيل: تقديره اخراجك من مكة لحكم كاخراجك هذا، وقيل: هو متعلق باضربوا وهو كما تقول لعبدك ربيتك افعل كذا. وقال أبو حيان: خطر لي في المنام أن هنا محذوفا وهو نصرك والكاف فيها معنى التعليل أي لأجل أن خرجت لاعزاز دين الله تعالى نصرك وأمدك بالملائكة، ودل على هذا المحذوف قوله سبحانه بعد: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ [الأنفال: 9] الآيات، ولو قيل: إن هذا مرتبط بقوله سبحانه: رِزْقٌ كَرِيمٌ على معنى رزق حسن كحسن إخراجك من بيتك لم يكن بأبعد من كثير من هذه الوجوه وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ للخروج اما لعدم الاستعداد للقتال أو للميل للغنيمة أو للنفرة الطبيعية عنه، وهذا مما لا يدخل تحت القدرة والاختيار فلا يرد أنه لا يليق بمنصب الصحابة رضي الله تعالى عنهم، والجملة في موضع الحال وهي حال مقدرة لأن الكراهة وقعت بعد الخروج كما ستراه إن شاء الله تعالى، أو يعتبر ذلك ممتدا، والقصة على ما رواه جماعة وقد تداخلت رواياتهم أن عير قريش أقبلت من الشام وفيها تجارة عظيمة ومعها أربعون راكبا منهم أبو سفيان. وعمرو بن العاص. ومخرمة بن نوفل فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبر المسلمين فأعجبهم تلقيها لكثرة المال وقلة الرجال فلما خرجوا بلغ الخبر أهل مكة فنادى أبو جهل فرق الكفر النجاء النجاء على كل صعب وذلول عيركم أموالكم إن أصابها محمد لم تفلحوا بعدها أبدا، وقد رأت عاتكة بنت عبد المطلب في المنام أن راكبا أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح ثم صرخ بأعلى صوته ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث فأرى الناس قد اجتمعوا إليه ثم دخل المسجد والناس يتبعونه فبينما هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة فصرخ مثلها ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس فصرخ مثلها ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار من دورها إلا ودخل فيها فلقة فحدثت بها أخاها العباس فحدث بها الوليد بن عتبة وكان صديقا له فحدث بها أباه عتبة ففشا الحديث وبلغ أبا جهل فقال للعباس: يا بني عبد المطلب أما رضيتم أن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم فأنكر عليه الرؤية. ثم إنه خرج الجزء: 5 ¦ الصفحة: 159 بجميع مكة ومضى بهم إلى بدر وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بوادي دفران فنزل عليه جبريل عليه السلام بالوعد بإحدى الطائفتين إما: العير وإما قريش فاستشار أصحابه فقال بعضهم: هلا ذكرت لنا القتال حتى نتأهب له إنا خرجنا للعير فقال صلّى الله عليه وسلّم: إن العير مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل فقالوا: يا رسول الله عليك بالعير ودع العدو فغضب عليه الصلاة والسلام فقام أبو بكر. وعمر رضي الله تعالى عنهما فأحسنا الكلام في اتباع أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله تعالى فنحن معك حيث أحببت لا نقول كما قال بنو إسرائيل لموسى فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [المائدة: 24] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: أشيروا عليّ أيها الناس- وهو يريد الأنصار- لأنهم كانوا عدوهم وقد شرطوا حين بايعوه بالعقبة أنهم براء من ذمامه حتى يصل إلى ديارهم فتخوف أن لا يروا نصرته إلا على عدوهم بالمدينة فقام سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنهما فقال: يا رسول الله إيانا تريد؟ قال: أجل. قال: قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ولا نكره أن تلقى بنا عدونا وإنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء، ولعل الله تعالى يريك منا ما يقر به عينيك فسر بنا على بركات الله تعالى فنشطه قوله ثم قال عليه الصلاة والسلام: سيروا على بركة الله تعالى فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني انظر إلى مصارع القوم اهـ، وبهذا تبين أن بعض المؤمنين كانوا كارهين وبعضهم لم يكونوا كذلك وهم الأكثر كما تشير إليه الآية، وجاء في بعض الأخبار أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما فرغ من بدر قيل له: عليك بالعير فليس دونها شيء فناداه العباس وهو في وثاقه لا يصلح فقال له: لم؟ فقال: لأن الله تعالى وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ الذي هو تلقي النفير المعلى للدين لايثارهم عليه تلقي العير، والجملة اما مستأنفة أو حال ثانية، وجوز أن تكون حالا من الضمير في لَكارِهُونَ، وقوله سبحانه: بَعْدَ ما تَبَيَّنَ متعلق بيجادلون، وما مصدرية، وضمير تبين للحق أي يجادلون بعد تبين الحق لهم باعلامك أنهم ينصرون ويقولون: ما كان خروجنا إلا للعير وهلا ذكرت لنا القتال حتى نستعد له ونتأهب كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ أي مشبهين بالذين يساقون بالعنف والصغار إلى القتل، فالجملة في محل نصب على الحالية من ضمير لكارهون، وجوز أن تكون صفة مصدر لكارهون بتقدير مضاف أي لكارهون كراهة ككراهة من سبق للموت وَهُمْ يَنْظُرُونَ حال من ضمير يساقون وقد شاهدوا أسبابه وعلاماته، وفي قوله سبحانه وتعالى: كَأَنَّما إلخ إيماء إلى أن مجادلتهم كانت لفرط فزعهم ورعبهم لأنهم كانوا ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا في قول فيهم فارسان المقداد بن الأسود. والزبير بن العوام، وعن علي كرم الله تعالى وجهه ما كان منا فارس يوم بدر إلا المقداد وكان المشركون ألفا قد استعدوا للقتال وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ كلام مستأنف مسوق لبيان جميل صنع الله تعالى بالمؤمنين مع ما بهم من الجزع وقلة الحزم، فإذ نصب على المفعولية بمضمر إن كانت متصرفة أو ظرف لمفعول ذلك الفعل، وهو خطاب للمؤمنين بطريق التلوين والالتفات وإِحْدَى مفعول ثان ليعد وهو يتعدى إلى المفعول الثاني بنفسه وبالباء، أي اذكروا وقت أو الحادث وقت وعد الله تعالى إياكم إحدى الطائفتين. وقرىء «يعدكم» بسكون الدال تخفيفا، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية لاستحضار صورتها، وقوله سبحانه وتعالى: أَنَّها لَكُمْ بدل اشتمال من إحدى مبين لكيفية الوعد، أي يعدكم أن إحدى الطائفتين كائنة لكم مختصة بكم تتسلطون عليها تسلط الملائك وتتصرفون فيها كيفما شئتم وَتَوَدُّونَ عطف على يعدكم داخل معه حيث دخل أي تحبون أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ من الطائفتين، وذات الشوكة هي النفير ورئيسهم أبو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 160 جهل، وغيرها العير ورئيسهم أبو سفيان، والتعبير عنهم بهذا العنوان للتنبيه على سبب ودادتهم لملاقاتهم وموجب كراهتهم ونفرتهم عن موافاة النفير، والشوكة في الأصل واحدة الشوك المعروف ثم استعيرت للشدة والحدة وتطلق على السلاح أيضا وفسرها بعضهم به هنا وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ أي يظهر كونه حقا بِكَلِماتِهِ الموحى بها في هذه القصة أو أوامره للملائكة بالامداد أو بما قضي من أسر الكفار وقتلهم وطرحهم في قليب بدر، وقرىء «بكلمته» بالإفراد لجعل المتعدد كالشيء الواحد أو على أن المراد بها كلمة كن التي هي عند الكثير عبارة عن القضاء والتكوين وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ أي آخرهم والمراد يهلكهم جملة من أصلهم لأنه لا يفنى الآخر إلا بعد فناء الأول، ومنه سمي الهلاك دبارا. والمعنى أنتم تريدون سفساف الأمور والله عزّ وجلّ يريد معاليها وما يرجع إلى علو كلمة الحق وسمو رتبة الدين وشتان بين المرادين، وكأنه للإشارة إلى ذلك عبر أولا بالودادة وثانيا بالإرادة، وقوله تعالى: لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ جملة مستأنفة سيقت لبيان الحكمة الداعية إلى اختيار ذات الشوكة ونصرهم عليها مع إرادتهم لغيرها، واللام متعلقة بفعل مقدر مؤخر عنها، أي لهذه الحكمة الباهرة فعل ما فعل لا لشيء آخر، وليس فيه مع ما تقدم تكرار إذ الأول لبيان تفاوت ما بين الإرادتين وهذا لبيان الحكمة الداعية إلى ما ذكر. وأشار الزمخشري إلى أن هذا نظير قولك: أردت أن تفعل الباطل وأردت أن أفعل الحق ففعلت ما أردته لكذا لا لمقتضى إرادتك وليس نظير قولك: أردت أن أكرم زيدا لا كرامه ليكون فيه ما يكون، ومعنى ابطال الباطل على طرز ما أشرنا إليه في احقاق الحق وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ذلك أعني إحقاق الحق وإبطال الباطل، والمراد بهم المشركون لا من كره الذهاب إلى النفير لأنه جرم منهم كما قيل. إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ بدل من إِذْ يَعِدُكُمُ وإن كان زمان الوعد غير زمان الاستغاثة لأنه بتأويل أن الوعد والاستغاثة وقعا في زمن واسع كما قال الطيبي، قيل: وهو يحتمل بدل الكل إن جعلا متسعين وبدل البعض إن جعل الأول متسعا والثاني معيارا، وجوز أن يكون متعلقا بقوله سبحانه: لِيُحِقَّ. واعترض بأنه مستقبل لنصبه بأن، وإِذْ للزمان الماضي فكيف يعمل بها. وأجيب بأن ذلك مبني على ما ذهب إليه بعض النحاة كابن مالك من أن إِذْ قد تكون بمعنى إذا للمستقبل كما في قوله تعالى: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ [غافر: 71] . وقد يجعل من التعبير عن المستقبل بالماضي لتحققه. وقال بعض المحققين في الجواب: إن كون الاحقاق مستقبلا إنما هو بالنسبة إلي زمان ما هو غاية له من الفعل المقدر لا بالنسبة إلى زمان الاستغاثة حتى لا يعمل فيه بل هما في وقت واحد، وإنما عبر عن زمانها بإذ نظرا إلى زمن النزول، وصيغة الاستقبال في تَسْتَغِيثُونَ لحكاية الحال الماضية لاستحضار صورتها العجيبة، وقيل: هو متعلق بمضمر مستأنف أي اذكروا، وقيل: ب تَوَدُّونَ وليس بشيء، والاستغاثة كما قال غير واحد: طلب الغوث وهو التخليص من الشدة والنقمة والعون، وهو متعد بنفسه ولم يقع في القرآن الكريم إلا كذلك، وقد يتعدى بالحرف كقوله: حتى استغاث بماء لا رشاد له ... من الأباطح في حافاته البرك وكذا استعمله سيبويه وزعم أنه خطأ، والظاهر أن المستغيث هم المؤمنون، قيل: إنهم لما علموا أن لا محيص من القتال أخذوا يقولون: أي رب انصرنا على عدوك أغثنا يا غياث المستغيثين، وقال الزهري: إنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون معه، وظاهر بعض الأخبار يدل على أنه الرسول عليه الصلاة والسلام. فقد أخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: حدثني عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: لما كان يوم بدر نظر النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة فاستقبل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 161 نبي الله صلّى الله عليه وسلّم القبلة ثم مد يده وجعل يهتف بربه اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه فأتاه أبو بكر رضي الله تعالى عنه فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فنزلت الآية في ذلك، وعليه فالجمع للتعظيم فَاسْتَجابَ لَكُمْ أي فأجاب دعاءكم عقيب استغاثتكم إياه سبحانه على أتم وجه أَنِّي مُمِدُّكُمْ أي بأني فحذف الجار، وفي كون المنسبك بعد الحذف منصوبا أو مجرورا خلاف. وقرأ أبو عمر بالكسر على تقدير القول أو إجراء استجاب مجرى قال لأن الاستجابة من جنس القول، والتأكيد للاعتناء بشأن الخبر، وحمله على تنزيل غير المنكر بمنزلة المنكر بمنزلة المنكر عندي، والمراد بممدكم معينكم وناصركم بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ أي وراء كل ملك ملك كما أخرجه ابن جرير وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وردف وأردف بمعنى كتبع وأتبع في قول. وعن الزجاج أن بينهما فرقا فردفت الرجل بمعنى ركبت خلفه وأردفته بمعنى أركبته خلفي، وقال بعضهم: ردفت وأردفت إذا فعلت ذلك فإذا فعلته بغيرك فأردفت لا غير، وجاء أردف بمعنى اتبع مشددا وهو يتعدى لواحد وبمعنى اتبع مخففا وهو يتعدى لاثنين على ما هو المشهور، وبكل فسر هنا، وقدروا المفعول والمفعولين حسبما يصح به المعنى ويقتضيه، وجعلوا الاحتمالات خمسة، احتمالان على المعنى الأول. أحدهما أن يكون الموصوف جملة الملائكة والمفعول المقدر المؤمنين، والمعنى متبعين المؤمنين أي جائين خلفهم، وثانيهما أن يكون الموصوف بعض الملائكة والمفعول بعض آخر، والمعنى متبعا بعضهم بعضا آخر منهم كرسلهم عليهم السلام، وثلاثة احتمالات على المعنى الثاني. الأول أن يكون الموصوف كل الملائكة والمفعولان بعضهم على معنى أنهم جعلوا بعضهم يتبع بعضا. الثاني كذلك إلا أن المفعول الأول بعضهم والثاني المؤمنين على معنى أنهم اتبعوا بعضهم المؤمنين فجعلوا بعضا منهم خلفهم. والثالث كذلك أيضا إلا أن المفعولين أنفسهم والمؤمنين على معنى أنهم اتبعوا أنفسهم وجملتهم المؤمنين فجعلوا أنفسهم خلفهم. وقرأ نافع ويعقوب «مردفين» بفتح الدال، وفيه احتمالان أن يكون بمعنى متبعين بالتشديد أي اتبعهم غيرهم، وأن يكون بمعنى متبعين بالتخفيف أي جعلوا أنفسهم تابعة لغيرهم، وأريد بالغير في الاحتمالين المؤمنون، فتكون الملائكة على الأول مقدمة الجيش وعلى الثاني ساقتهم، وقد يقال: المراد بالغير آخرون من الملائكة وفي الآثار ما يؤيده، أخرج ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: «نزل جبريل عليه السلام في ألف من الملائكة عن ميمنة النبي صلّى الله عليه وسلّم وفيها أبو بكر رضي الله تعالى عنه ونزل ميكائيل عليه السلام في ألف من الملائكة عن ميسرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنا فيها» لكن في الكشاف بدل الألف في الموضعين خمسمائة، وقرىء «مردفين» بكسر الراء وضمها، وأصله على هذه القراءة مرتدفين بمعنى مترادفين فأبدلت التاء دالا لقرب مخرجهما وأدغمت في مثلها فالتقى الساكنان فحركت الراء بالكسر على الأصل، أو لاتباع الدال أو بالضم لاتباع الميم، وعن الزجاج أنه يجوز في الراء الفتح أيضا للتخفيف أو لنقل حركة التاء وهي القراءة التي حكاها الخليل عن بعض المكيين، وذكر أبو البقاء أنه قرئ بكسر الميم والراء، ونقل عن بعضهم أن مردفا بفتح الراء وتشديد الدال من ردف بتضعيف العين أو أن التشديد بدل من الهمزة كأفرحته وفرحته. ومن الناس من فسر الارتداف بركوب الشخص خلف الآخر وأنكره أبو عبيدة وأيده بعضهم، وعن السدي أنه قرىء «بآلاف» على الجمع فيوافق ما وقع في سورة أخرى بِثَلاثَةِ آلافٍ [آل عمران: 124] وبِخَمْسَةِ آلافٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 162 [آل عمران: 125] قيل: ووجه التوفيق بينه وبين المشهور أن المراد بالألف الذين كانوا على المقدمة أو الساقة أو وجوههم أو من قاتل منهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن الشعبي أنه قال: كان ألف مردفين وثلاثة آلاف منزلين وهو جمع ليس بالجيد. وأخرج ابن جرير وعبد بن حميد عن قتادة أنهم أمدوا أولا بألف ثم آلاف ثم أكملهم الله تعالى خمسة آلاف، وأنت تعلم أن ظاهر ما روي عن الحبر يقتضي أن ما في الآية ألفان في الحقيقة، وصرح بعضهم أن ما فيها بيان اجمالي لما في تلك السورة بناء على أن معنى مردفين جاعلين غيرهم من الملائكة رديفا لأنفسهم، وهو ظاهر في أن المراد بالألف الرؤساء المستتبعون لغيرهم، والأكثرون على أن الملائكة قاتلت يوم بدر، وفي الأخبار ما يدل عليه، وذكروا أنها لم تقاتل يوم الأحزاب ويوم حنين، وتفصيل ذلك في السير، وقد تقدم بعض الكلام فيما يتعلق بهذا المقام فتذكر وَما جَعَلَهُ اللَّهُ كلام مستأنف لبيان أن المؤثر الحقيقي هو الله تعالى ليثق به المؤمنون ولا يقنطوا من النصر عند فقدان أسبابه، والجعل متعد إلى واحد وهو الضمير العائد إلى المصدر المنسبك في أَنِّي مُمِدُّكُمْ على قراءة الفتح والمصدر المفهوم من ذلك على الكسر، واعتبار القول ورجوع الضمير إليه ليس بمعتبر من القول، أي وما جعل امدادكم بهم لشيء من الأشياء إِلَّا بُشْرى أي بشارة لكم بأنكم تنصرون وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ أي بالامداد قُلُوبُكُمْ وتسكن إليه نفوسكم وتزول عنكم الوسوسة ونصب بُشْرى على أنه مفعول له ولتطمئن معطوف عليه، وأظهرت اللام لفقد شرط النصب، وقيل: للإشارة إلى أصالته في العلية وأهميته في نفسه كما قيل في قوله سبحانه: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً [النحل: 8] . وقيل: إن الجعل متعد إلى اثنين ثانيهما بُشْرى على أنه استثناء من أعم المفاعيل، واللام متعلقة بمحذوف مؤخر أي وما جعله الله تعالى شيئا من الأشياء إلا بشارة لكم ولتطمئن به قلوبكم فعل ما فعل لا لشيء آخر والأول هو الظاهر، وفي الآية اشعار بأن الملائكة لم يباشروا قتالا وهو مذهب لبعضهم، ويشعر ظاهرها بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبرهم بذلك الامداد وفي الأخبار ما يؤيده، بل جاء في غير ما خبر أن الصحابة أو الملائكة عليهم السلام. وروي عن أبي أسيد وكان قد شهد بدرا أنه قال بعد ما ذهب بصره: لو كنت معكم اليوم ببدر ومعي بصري لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي وما النصر بالملائكة وغيرهم من الأسباب إلا كائن من عنده عزّ وجلّ، فالمنصور هو من نصره الله سبحانه والأسباب ليست بمستقلة، أو المعنى لا تحسبوا النصر من الملائكة عليهم السلام فإن الناصر هو الله تعالى لكم والملائكة، وعليه فلا دخل الملائكة في النصر أصلا، وجعل بعضهم القصر على الأول افرادي وعلى الثاني قلبي إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يغالب في حكمه ولا ينازع في قضيته حَكِيمٌ يفعل كل ما يفعل حسبما تقتضيه الحكمة الباهرة، والجملة تعليل لما قبلها وفيها اشعار بأن النصر الواقع على الوجه المذكور من مقتضيات الحكم البالغة. إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أي يجعله غاشيا عليكم ومحيطا بكم. والنعاس أول النوم قبل أن يثقل. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن النعاس في الرأس والنوم في القلب ولعل مراده الثقل والخفة وإلا فلا معنى له، والفعل نعس كمنع والوصف ناعس ونعسان قليل. وإِذْ يُغَشِّيكُمُ بدل ثان من إِذْ يَعِدُكُمُ على القول بجواز تعدد البدل، وفيه اظهار نعمة أخرى فإن الخوف أطار كراهم من أو كاره فلما طامن الله تعالى قلوبهم رفرف بجناحه عليها فنعسوا، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية أو هو منصوب باذكروا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 163 وجوز تعلقه بالنصر، وضعف بأن فيه أعمال المصدر المعرف بأل وفيه خلاف الكوفيين، والفصل بين المصدر ومعموله، وعمل ما قبل إلا فيما بعدها من غير أن يكون ذلك المعمول مستثنى أو مستثنى منه أو صفة له، والجمهور لا يجوزون ذلك خلافا للكسائي والأخفش، وتعلقه بما في عند الله من معنى الفعل وقيل عليه: إذ يلزم تقييد استقرار النصر من الله تعالى بهذا الوقت ولا تقييد له به، وأجاب الحلبي بأن المراد به نصر خاص فلا محذور في تقييده، وبالجعل، وفيه الفصل وعمل ما قبل إلا فيما ليس أحد الثلاثة وبما دل عليه عَزِيزٌ حَكِيمٌ وفيه لزوم التقييد ولا تقييد، وأجيب بما أجيب، والانصاف بعد الاحتمالات الأربع. وقرأ نافع «يغشيكم» بالتخفيف من الاغشاء بمعنى التغشية والفاعل في القراءتين هو الله تعالى. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «يغشاكم» على إسناد الفعل إلى النعاس. وقوله سبحانه وتعالى: أَمَنَةً مِنْهُ نصب على أنه مفعول له وهو مصدر بمعنى الأمن كالمنعة وإن كان قد يكون جمعا وصفة بمعنى آمنين كما ذكره الراغب، واستشكل بأن شرط النصب الذي هو اتحاد فاعله وفاعل الفعل العامل فيه مفقود إذ فاعله هم الصحابة الآمنون رضي الله تعالى عنهم وفاعل الآخر هو الله على القراءتين الأوليين والنعاس على الأخرى. وأجيب بأنه مفعول له باعتبار المعنى الكنائي فإن يغشاكم النعاس يلزمه تنعسون ويغشيكم بمعناه فيتحد الفاعلان إذ فاعل كل حينئذ الصحابة، وقال بعض المدققين: إنه على القراءتين الأوليين يجوز أن يكون منصوبا على العلية لفعل مترتب على الفعل المذكور أي يغشيكم النعاس فتنعسون أمنا أو على أنه مصدر لفعل آخر كذلك أي فتأمنون أمنا، وعلى القراءة الأخيرة منصوب على العلية بيغشاكم باعتبار المعنى فإنه في حكم تنعسون أو على أنه مصدر لفعل مترتب عليه كما علمت، وما تقدم أقل انتشارا. وجوز أن يراد بالأمنة الإيمان بمعناه اللغوي وهو جعل الغير آمنا فيكون مصدر آمنه، وهو على بعد إنما يتمشى في القراءتين الأوليين لأن فاعل التغشية والأمان هو الله تعالى، وأما على القراءة الأخرى فلا ويحتاج إلى ما مر، ومن الناس من جوز فيها أن يجعل الأمن فعل النعاس على الإسناد المجازي لكونه من ملابسات أصحاب الأمن، والإسناد في ذلك مقدر وليس المراد به النسبة التي بين الفعل والمفعول له أي يغشاكم النعاس لأمنه، أو على تشبيه حاله بحال إنسان شأنه الأمن والخوف وأنه حصل له من الله تعالى الأمان من الكفار في مثل ذلك الوقت المخوف فلذلك غشاكم وأنامكم فيكون الكلام تمثيلا وتخييلا للمقصود بإبراز المعقول في صورة المحسوس. والقطب جعل في الكلام استعارة بالكناية حيث ذكر أنه شبه النعاس بشخص من شأنه أن يأتيهم لكنه لا يأتيهم في وقت الخوف وإذا أمن أتاهم، ثم ذكر النعاس وأراد ذلك الشخص، والقرينة ذكر الأمنة لأنها من لوازم المشبه به، وقد وصف الزمخشري النوم بنحو ذلك في قوله: يهاب النوم أن يغشى عيونا ... تهابك فهو نفار شرود وما يقال: إن مثل هذا إنما يليق بالشعر لا بالقرآن الكريم فغير مسلم، وذكر ابن المنير في توجيه اتحاد الفاعل على القراءتين أن لقائل أن يقول: فاعل تغشية النعاس إياهم هو الله تعالى وهو فاعل الأمنة أيضا لأنه خالقها فحينئذ يتحد فاعل الفعل والعلة فيرتفع السؤال ويزول الاشكال على قواعد أهل السنة التي تقتضي نسبة فعال الخلق إلى الله تعالى على أنه خالقها ومبدعها وتعقبه بأن للمورد أن يقول: المعتبر الفاعل اللغوي وهو المتصف بالفعل وهو هنا ليس إلا العبد إذ لا يقال لله سبحانه وتعالى آمن وإن كان هو الخالق وحينئذ يحتاج إلى الجواب بما سلف والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لأمنة، أي أمنة كائنة منه تعالى لكم، ولعل مغايرة ما هنا لما في سورة آل عمران لاختلاف المقام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 164 فقد قالوا: إن ذلك المقام اقتضي الاهتمام بشأن الأمن ولذلك قدمه سبحانه وتعالى وبسط الكلام فيه كما لا يخفى على من تأمل في السياق والسباق بخلافه هنا لأنه في مقام تعداد النعم فلذا جيء بالقصة مختصرة للرمز وقرىء «أمنة» بالسكون وهو لغة فيه. وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً عطف على يُغَشِّيكُمُ وكان هذا قبل النعاس كما روي عن مجاهد وتقديم الجار والمجرور على المفعول به للاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر كما مر غير مرة، وتقديم عليكم لما أن بيان كون التنزيل عليهم أهم من بيان كونه من السماء: وقرأ ابن كثير وسهل ويعقوب وأبو عمر وَيُنَزِّلُ بالتخفيف من الانزال وقرأ الشعبي ما لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ أي من الحدث الأصغر والأكبر ووجهها كما قال ابن جني أن ما موصولة واللام متعلقة بمحذوف وقع صلة لها أي وينزل عليكم الذي ثبت لتطهيركم، ونظير هذا اللام اللام في قولك: أعطيت الثوب الذي لدفع البرد وهي في قراءة الجماعة نظير اللام في قولك: زرتك لتكرمني ومرجع القراءتين واحد والمشهور أفصح بالمراد وانظر لم لا يجوز أن تخرج هذه القراءة على ما سمع من قولهم اسقني ما بالقصر، وقد حكي ذلك في القاموس وأرى أن العدول عن ذلك إن جاز كالتيمم مع وجود الماء. وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ أي وسوسته وتخويفه إياكم من العطش. أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ من طريق ابن جريج عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المشركين غلبوا المسلمين فى أول أمرهم على الماء فظمىء المسلمون وصلوا مجنبين محدثين وكانت بينهم رمال فألقى الشيطان في قلوبهم الحزن وقال: أتزعمون أن فيكم نبيا وأنكم أولياء الله تعالى وتصلون مجنبين محدثين؟ فانزل الله تعالى من السماء ماء فسال عليهم الوادي فشربوا وتطهروا وثبتت أقدامهم وذهبت وسوسة الشيطان، وفسر بعضهم الرجز هنا بالجنابة مع اعتبار كون التطهير منها واعترض بلزوم التكرار ودفع بأن الجملة الثانية تعليل للأولى والمعنى طهركم من الجنابة لأنها كانت من رجز الشيطان وتخييله. وقرىء «رجس» وهو بمعنى الرجز وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ أي يقويها بالثقة بلطف الله تعالى فيما بعد بمشاهدة طلائعه، وأصل الربط الشد ويقال لمن صبر على الشيء: ربط نفسه عليه. قال الواحدي: ويشبه أن تكون عَلى صلة أي وليربط قلوبكم. وقيل الأصل ذلك إلا أنه أتى بعلى قصدا للاستعلاء. وفيه إيماء إلى أن قلوبهم قد امتلأت من ذلك حتى كأنه علا عليها، وفي ذلك من إفادة التمكن ما لا يخفى وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ ولا تسوخ في الرمل فالضمير للماء كالأول. وجوز أن يكون للربط، والمراد بتثبيت الأقدام كما قال أبو عبيدة جعلهم صابرين غير فارين ولا متزلزلين إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ متعلق بمضمر مستأنف أي اذكر خوطب به النبي صلّى الله عليه وسلّم بطريق التجريد حسبما ينطق به الكاف، وقيل: منصوب بيثبت ويتعين حينئذ عود الضمير المجرور في به إلى الربط ليكون المعنى ونثبت الأقدام بتقوية قلوبكم وقت الإيحاء إلى الملائكة والأمر بتثبيتهم إياكم وهو وقت القتال، ولا يصح أن يعود إلى الماء لتقدم زمانه على ذلك، وقال بعضهم: يجوز ذلك لأن التثبيت بالمطر باق إلى زمانه أو يعتبر الزمان متسعا قد وقع جميع المذكور فيه وفائدة التقييد التذكير بنعمة أخرى والإيماء إلى اقتران تثبيت الأقدام بتثبيت القلوب المأمور به الملائكة الذي لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، أو الرمز إلى أن التقوية وقعت على أتم وجه، وقيل: هو بدل ثالث من إِذْ يَعِدُكُمُ ويبعده تخصيص الخطاب بسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام. واختار بعض المحققين الأول مدعيا أن في الثاني تقييد التثبيت بوقت مبهم وليس فيه مزيد فائدة. وفي الثالث إباء التخصيص عنه مع أن المأمور به ليس من الوظائف العامة للكل كسائر أخواته ولا يستطيعه غيره عليه الصلاة والسلام لأن الوحي المذكور قبل ظهوره بالوحي المذكور، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 165 ولا يخفى على المتأمل أن ما ذكر لا يقتضي تعين الأول نعم يقتضي أولويته. والمراد بالملائكة الملائكة الذين وقع بهم الإمداد، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة، والمعنى إذ أوحى أَنِّي مَعَكُمْ أي معينكم على تثبيت المؤمنين، ولا يمكن حمله على إزالة الخوف كما في قوله سبحانه وتعالى: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة: 40] لأن الملائكة لا يخافون من الكفرة أصلا، وما تشعر به كلمة مع من متبوعية الملائكة لا يضر في مثل هذه المقامات، وهو نظير إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: 153، الأنفال: 46] ونحوه، والمنسبك، مفعول يوحى، وقرىء إني بالكسر على تقدير القول أي قائلا إني معكم، أو إجراء الوحي مجراه لكونه متضمنا معناه، والفاء في قوله سبحانه: فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا لترتيب ما بعدها على ما قبلها، والمراد بالتثبيت الحمل على الثبات في موطن الحرب والجد في مقاساة شدائد القتال قالا أو حالا، وكان ذلك هنا في قول بظهورهم لهم في صورة بشرية يعرفونها ووعدهم إياهم النصر على أعدائهم، فقد أخرج البيهقي في الدلائل أن الملك كان يأتي الرجل في صورة الرجل يعرفه فيقول: أبشروا فانهم ليسوا بشيء والله معكم كروا عليهم، وجاء في رواية كان الملك يتشبه بالرجل فيأتي ويقول: إني سمعت المشركين يقولون: والله لئن حملوا علينا لنكشفن ويمشي بين الصفين ويقول: أبشروا فإن الله تعالى ناصركم. وقال الزجاج: كان بأشياء يلقونها في قلوبهم تصح بها عزائمهم ويتأكد جدهم، وللملك قوة إلقاء الخير في القلب ويقال له الهام كما أن للشيطان قولة إلقاء الشر ويقال له وسوسة وقيل: كان ذلك بمجرد تكثير السواد. وعن الحسن أنه كان بمحاربة أعدائهم وذهب إلى ذلك جماعة وجعلوا قوله تعالى سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ تفسير القول تعالى: أَنِّي مَعَكُمْ كأنه قيل: إني معكم في إعانتهم بإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم، والرعب بضم فسكون وقد يقال بضمتين وبه قرأ ابن عامر والكسائي الخوف وانزعاج النفس بتوقع المكروه، وأصله التقطيع من قولهم: رعبت السنام ترعيبا إذا قطعته مستطيلا كأن الخوف يقطع الفؤاد أو يقطع السرور بضده، وجاء رعب السيل الوادي إذا ملأه كان السيل قطع السلوك فيه أو لأنه انقطع إليه من كل الجهات، وجعلوا قوله سبحانه وتعالى: فَاضْرِبُوا إلخ تفسيرا لقوله تبارك وتعالى: فَثَبِّتُوا مبين لكيفية التثبيت. وقد أخرج عبد بن حميد وابن مردويه على أبي داود المازني قال: بينا أنا أتبع رجلا من المشركين يوم بدر فأهويت بسيفي إليه فوقع رأسه قبل أن يصل سيفي إليه فعرفت أنه قد قتله غيري. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بينما رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وقائلا يقول: أقدم حيزوم فخر المشرك مستلقيا فنظر إليه فإذا هو قد حطم وشق وجهه فجاء فحدث بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة. وجوز بعضهم أن يكون التثبيت بما يلقون إليهم من وعد النصر وما يتقوى به قلوبهم في الجملة، وقوله سبحانه وتعالى: سَأُلْقِي إلخ جملة استئنافية جارية مجرى التعليل لإفادة التثبيت لأنه مصدقه ومبينه لإعانته إياهم على التثبيت، وقوله سبحانه وتعالى: فَاضْرِبُوا إلخ جملة مستعقبة للتثبيت بمعنى لا تقتصروا على تثبيتهم وأمدوهم بالقتال عقيبه من غير تراخ، وكأن المعنى أني معكم فيما آمركم به فثبتوا واضربوا. وجيء بالفاء للنكتة المذكورة، ووسط سَأُلْقِي تصديقا للتثبيت وتمهيدا للأمر بعده، وعلى الاحتمالين تكون الآية دليلا لمن قال: إن الملائكة قاتلت يوم بدر، وقال آخرون: التثبيت بغير المقاتلة، وقوله عزّ وجلّ: سَأُلْقِي تلقين منه تعالى للملائكة على إضمار القول على أنه تفسير للتثبيت أو استئناف بياني، والخطاب في فَاضْرِبُوا للمؤمنين صادرا من الملائكة حكاه الله تعالى لنا، وجوز أن يكون ذلك الكلام من جملة الملقن داخلا تحت القول، كأنه قيل: قولوا لهم قولي سَأُلْقِي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 166 إلخ، أو كأنه قيل: كيف نثبتهم؟ فقيل: قولوا لهم قولي سَأُلْقِي إلخ، ولا يخفى أن هذا القول أضعف الأقوال معنى ولفظا. وأما القول بأن فَاضْرِبُوا إلخ خطاب منه تعالى للمؤمنين بالذات على طريق التلوين فمبناه توهم وروده قبل القتال، وأني ذلك؟ والسورة الكريمة إنما نزلت بعد تمام الواقعة، وبالجملة الآية ظاهرة فما يدعيه الجماعة من وقوع القتال من الملائكة فَوْقَ الْأَعْناقِ أي الرؤوس كما روي عن عطاء وعكرمة، وكونها فوق الأعناق ظاهر. وأما المذابح كما قال البعض فإنها في أعالي الأعناق وفَوْقَ باقية على ظرفيتها لأنها لا تتصرف، وقيل: إنها مفعول به وهي بمعنى الأعلى إذا كان بمعنى الرأس، وقيل: هي هنا بمعنى على والمفعول محذوف أي فاضربوهم على الأعناق، وقيل: زائدة أي فاضربوا الأعناق وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ. قال ابن الأنباري: البنان أطراف الأصابع من اليدين والرجلين والواحدة بنانة وخصها بعضهم باليد. وقال الراغب: هي الأصابع وسميت بذلك لأن بها إصلاح الأحوال التي بها يمكن للإنسان أن بين أي يقيم من أبن بالمكان وبن إذا أقام، ولذلك خص في قوله سبحانه وتعالى: بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ [القيامة: 4] وما نحن فيه لأجل أنهم يقاتلون ويدافعون، والظاهر أنها حقيقة في ذلك، وبعضهم يقول: إنها مجاز فيه من تسمية الكل باسم الجزء. وقيل: المراد بها هنا مطلق الأطراف لوقوعها في مقابلة الأعناق والمقاتل. والمراد اضربوهم كيفما اتفق من المقاتل وغيرها وآثره في الكشاف. وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها الجسد كله في لغة هذيل، ويقال فيها بنام بالميم وتكرير الأمر بالضرب لمزيد التشديد والاعتناء بأمره ومِنْهُمْ متعلق به أو بمحذوف وقع حالا من كُلَّ بَنانٍ وضعف كونه حالاف من بنان بأن فيه تقديم حال المضاف إليه على المضاف لِكَ إشارة إلى الضرب والأمر به أو إلى جميع ما مر. والخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو لكل من ذكر قبل من الملائكة والمؤمنين على البدل أو لكل أحد ممن يليق بالخطاب. وجوز أن يكون خطابا للجمع، والكاف تفرد مع تعدد من خوطب بها، وليست كالضمير على ما صرحوا به، ومحل الاسم الرفع على الابتداء وخبره قوله سبحانه وتعالى: أَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وقال أبو البقاء: إن ذلك خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك وليس الأمر ذلك، والباء للسببية والمشاقة العداوة سميت بذلك أخذا من شق العصا وهي المخالفة أو لأن كلا من المتعاديين يكون في شق غير شق الآخر كما أن العداوة سميت عداوة لأن كلا منهما في عدوة أي جانب وكما أن المخاصمة من الخصم بمعنى الجانب أيضا، والمراد بها هنا المخالفة أي ذلك ثابت لهم أو واقع عليهم بسبب مخالفتهم لمن لا ينبغي لهم مخالفته بوجه من الوجوه مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي يخالف أمر الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام والإظهار في مقام الإضمار لتربية المهابة وإظهار كمال شناعة ما اجترءوا عليه والاشعار بعلية الحكم، وبئس خطيب القوم أنت اقتضاه الجمع على وجه لا يبين منه الفرق ممن هو في ربقة التكليف وأين هذا من ذاك لو وقع ممن لا حجر عليه، وإنما لم يدغم المثلان لأن الثاني ساكن في الأصل والحركة لالتقاء الساكنين فلا يعتد به، وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ إما نفس الجزاء قد حذف منه العائد عند من يلتزمه ولا يكتفي بالفاء في الربط أي شديد العقاب له، أو تعليق للجزاء المحذوف أي يعاقبه الله تعالى فإن الله شديد العقاب، وأيا ما كان فالشرطية بيان للسببية السابقة بطريق برهاني، كأنه قيل: ذلك العقاب الشديد بسبب المشاقة لله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام وكل من يشاقق الله ورسوله كائنا من كان فله بسبب ذلك عقاب شديد فاذن لهم بسبب مشاقة الله ورسوله عقاب شديد، وقيل: هو وعيد بما أعد لهم في الآخر بعد ما حلق بهم في الدنيا، قال بعض المحققين: ويرده قوله سبحانه وتعالى: ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 167 عَذابَ النَّارِ فإنه مع كونه هو المسوق للوعيد بما ذكر ناطق بكون المراد بالعقاب المذكور ما أصابهم عاجلا سواء جعل ذلِكُمْ إشارة إلى نفيس العقاب أو إلى ما تفيده الشرطية من ثبوته لهم، أما على الأول فلأن الأظهر أن محله النصب بمضمر يستدعيه فَذُوقُوهُ والواو في وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ إلخ بمعنى مع، فالمعنى باشروا ذلكم العقاب الذي أصابكم فذوقوه عاجلا مع أن لكم عذاب النار آجلا، فوقع الظاهر موضع الضمير لتوبيخهم بالكفر وتعليل الحكم به، وأما على الثاني فلأن الأقرب أن محله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وقوله سبحانه وتعالى: وأَنَّ إلخ معطوف عليه، والمعنى حكم الله تعالى ذلكم أي ثبوت هذا العقاب لكم عاجلا وثبوت عذاب النار آجلا، وقوله تعالى: فَذُوقُوهُ اعتراض وسط بين المعطوفين للتهديد، والضمير على الأول لنفس المشار إليه وعلى الثاني لما في ضمنه اهـ. واعترض على الاحتمال الأول بأن الكلام عليه من باب الاشتغال وهو إنما يصح لو جوزنا صحة الابتداء في ذلِكُمْ وظاهر أنه لا يجوز لأن ما بعد الفاء لا يكون خبرا إلا إذا كان المبتدأ موصولا أو نكرة موصوفة. ورد بأنه ليس متفقا عليه فإن الأخفش جوزه مطلقا، وتقدير باشروا مما استحسنه أبو البقاء وغيره قالوا: لتكون الفاء عاطفة لا زائدة أو جزائية كما في نحو زيدا فاضربه على كلام فيه، وبعضهم يقدر عليكم اسم فعل. واعترضه أبو حيان بأن أسماء الأفعال لا تضمر. واعتذر عن ذلك الحلبي بأن من قدر لعله نحا نحو الكوفيين فإنهم يجرون اسم الفعل مجرى الفعل مطلقا ولذلك يعملونه متأخرا نحو كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النساء: 24] ، وما أشار إليه كلامه من أن قوله سبحانه وتعالى: وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ إلخ منصوب على أنه مفعول معه على التقدير الأول لا يخلو عن شيء، فإن في نصب المصدر المؤول على أنه مفعول معه نظرا. ومن هنا اختار بعضهم العطف على ذلكم كما في التقدير الثاني، وآخرون اختاروا عطفه على قوله تعالى: أَنِّي مَعَكُمْ داخل معه تحت الإيحاء أو على المصدر في قوله سبحانه وتعالى: َنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ولا يخفى أن العطف على ذلِكُمْ يستدعي أن يكون المعنى باشروا أو عليكم أو ذوقوا أن للكافرين عذاب النار وهو مما يأباه الذوق، ولذا قال العلامة الثاني: إنه لا معنى له، والعطفان الآخران لا أدري أيهما أمر من الآخر، ولذلك ذهب بعض المحققين إلى اختيار كون المصدر خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف، وقيل: هو منصوب باعلموا ولعل أهون الوجوه في الآية الوجه الأخير. والانصاف أنها ظاهرة في كون المراد بالعقاب ما أصابهم عاجلا، والخطاب فيها مع الكفرة على طريق الالتفات من الغيبة في اقُّوا إليه، ولا يشترط في الخطاب المعتبر في الالتفات أن يكون بالاسم كما هو المشهور بل يكون بنحو ذلك أيضا بشرط أن يكون خطابا لمن وقع الغائب عبارة عنه كذا قيل وفيه كلام، وقرأ الحسن وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ بالكسر، وعليه فالجملة تذييلية واللام للجنس والواو للاستئناف يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خطاب للمؤمنين بحكم كلي جار فيما سيقع من الوقائع والحروب جيء به في تضاعيف القصة إظهارا للاعتناء به وحثا على المحافظة عليه إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً الزحف كما قال الراغب انبعاث مع جر الرجل كانبعاث الصبي قبل أن يمشي والبعير المعيي والعسكر إذا كثر فتعثر انبعاثه، وقال غير واحد: هو الدبيب يقال: زحف الصبي إذا دب على استه قليلا قليلا ثم سمي به الجيش الدهم المتوجه إلى العدو لأنه لكثرته وتكاثفه يرى كأنه يزحف لأن الكل يرى كجسم واحد متصل فتحس حركته بالقياس في غاية البطء وإن كانت في نفس الأمر في غاية السرعة كما قال سبحانه وتعالى: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ [النمل: 88] وقال قائلهم: وأرعن مثل الطود تحسب أنه ... وقوف لجاج والركاب تهملج الجزء: 5 ¦ الصفحة: 168 ويجمع على زحوف لأنه خرج عن المصدرية، ونصبه إما على أنه حال من مفعول لَقِيتُمُ أي زاحفين نحوكم أو على مصدر مؤكد لفعل مضمر هو الحال منه أي يزحفون زحفا. وجوز كونه حالا من فاعله أو منه ومن مفعوله معا، واعترض بأنه يأباه قوله تعالى: فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ إذ لا معنى لتقييد النهي عن الأدبار بتوجههم السابق إلى العدو وبكثرتهم بل توجه العدو إليهم وكثرتهم هو الداعي إلى الأدبار عادة والمحوج إلى النهي، وحمله على الإشعار بما سيكون منهم يوم حنين حين تولوا وهم إثنا عشر ألفا بعيد انتهى. وأجيب بأن المراد بالزحف ليس إلا المشي للقتال من دون اعتبار كثرة أو قلة وسمي المشي لذلك به لأن الغالب عند ملاقاة الطائفتين مشي أحداهما نحو الأخرى مشيا رويدا والمعنى إذا لقيتم الكفار ماشين لقتالهم متوجهين لمحاربتهم أو ماشيا كل واحد منكم إلى صاحبه فلا تدبروا، وتقييد النهي بذلك لايضاح المراد بالملاقاة ولتفظيع أمر الإدبار لما أنه مناف لتلك الحال، كأنه قيل حيث أقبلتم فلا تدبروا وفيه تأمل والمراد من تولية الأدبار الانهزام فإن المنهزم يولي ظهره من انهزم منه، وعدل عن لفظ الظهور إلى الأدبار تقبيحا للانهزام وتنفيرا عنه. وقد يقال: الآية على حد وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى [الإسراء: 32] والمعنى على تقدير الحالية من المفعول كما هو الظاهر واعتبار الكثرة في الزحف وكونها بالنسبة إليهم يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم أعداءكم الكفرة للقتال وهم جمع جم وأنتم عدد نزر فلا تولوهم أدباركم فضلا عن الفرار بل قابلوهم وقاتلوهم مع قلتكم فضلا عن أن تدانوهم في العدد أو تساووهم وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ أي يوم اللقاء ووقته دُبُرَهُ فضلا عن الفرار. وقرأ الحسن بسكون الباء إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أي تاركا موقفه إلى موقف أصلح للقتال منه، أو متوجها إلى قتال طائفة أخرى أهم من هؤلاء، أو مستطردا يريد الكر كما روي عن ابن جبير رضي الله تعالى عنه. ومن كلامهم: نفر ثم نكر ... والحرب كر وفر وقد يصير ذلك من خدع الحرب ومكايدها، وجاء «الحرب خدعة» وأصل التحرف على ما في مجمع البيان الزوال عن جهة الاستواء إلى جهة الحرف، ومنه الاحتراف وهو أن يقصد جهة من الأسباب طالبا فيها رزقه أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ أي منحازا إلى جماعة أخرى من المؤمنين ومنضما إليهم وملحقا بهم ليقاتل معهم العدو، والفئة القطعة من الناس، ويقال: فأوت رأسه بالسيف إذا قطعته وما ألطف التعبير بالفئة هنا، واعتبر بعضهم كون الفئة قريبة للمتحيز ليستعين بهم، وكأنه مبني على المتعارف وكم يعتبر ذلك آخرون اعتبار للمفهوم اللغوي. ويؤيده ما أخرجه أحمد وابن ماجه وأبو داود والترمذي وحسنه والبخاري في الأدب المفرد واللفظ له عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: كنا في غزاة فحاص الناس حيصة قلنا: كيف نلقى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب؟ فأتينا النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل صلاة الفجر فخرج فقال: من القوم؟ فقلنا. نحن الفارون فقال: لا بل أنتم العكارون فقبلنا يده فقال عيه الصلاة والسلام: أنا فئتكم وأنا فئة المسلمين ثم قرأ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ والعكارون الكرارون إلى الحرب والعطافون نحوها. وبما روي أنه انهزم من القادسية فأتى المدينة إلى عمر رضي الله تعالى عنه فقال: يا أمير المؤمنين هلكت فررت من الزحف فقال عمر رضي الله تعالى عنه: أنا فئتك، وبعضهم يحمل قوله عليه الصلاة والسلام: «أنتم العكارون» على تسليتهم وتطييب قلوبهم، وحمل الكلام كله في الخبرين على ذلك بعيد. نعم إن ظاهرهما يستدعي أن لا يكاد يوجد فار من الزحف، ووزن- متحيز- مفتعل لا مفتعل وإلا لكان متحوز لأنه من حاز يجوز وإلى هذا ذهب الزمخشري ومن تبعه، وتعقب بأن الإمام المرزوقي ذكر أن تدير تفعل مع أنه واوي نظر إلى شيوع ديار، وعليه فيجوز أن يكون تحيز الجزء: 5 ¦ الصفحة: 169 تفعل نظرا إلى شيوع الحيز بالياء، فلهذا لم يجىء تدور وتحوز، وذكر ابن جني أن ما قاله هذا الإمام هو الحق وأنهم قد يعدون المنقلب كالأصلي ويجرون عليه أحكامه كثيرا. لكن في دعواه نفي تحوز نظر، فإن أهل اللغة قالوا: تحوز وتحيز كما يدل عليه ما في القاموس، وقال ابن قتيبة: تحوز تفعل وتحيز تفعيل، وهذه المادة في كلامهم تتضمن العدول من جهة إلى أخرى من الحيز بفتح الحاء وتشديد الياء، وقد وهم فيه من وهم، وهو فناء الدار ومرافقها، ثم قيل لكل ناحية فالمستقر في موضعه كالجبل لا يقال له متحيز وقد يطلق عندهم على ما يحيط به حيز موجود، والمتكلمون يريدون به الأعم وهو كل ما أشير إليه فالعالم كله متحيز ونصب الوصفين على الحالية وإلا ليست عاملة ولا واسطة في العمل وهو معنى قولهم: وكانت كذلك لأنه استثناء مفرغ من أعم الأحوال ولولا التفريغ لكانت عاملة أو واسطة في العمل على الخلاف المشهور وشرط الاستثناء المفرغ أن يكون في النفي أو صحة عموم المستثنى منه نحو قرأت إلا يوم كذا ومنه ما نحن فيه ويصح أن يكون من الأول باعتبار أن يولى بمعنى لا يقبل على القتال، ونظير ذلك ما قالوا في قوله عليه الصلاة والسلام «العالم هلكى إلا العالمون» الحديث. وجوز أن يكون على الاستثناء من المولين، أي من يولهم دبره إلا رجلا منهم متحرفا لقتال أو متحيزا فَقَدْ باءَ أي رجع بِغَضَبٍ عظيم لا يقادر قدره، وحاصله المولون إلا المتحرفين والمتحيزين لهم ما ذكر مِنَ اللَّهِ صفة غضب مؤكدة لفخامته أي بغضب كائن منه تعالى شأنه وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ أي بدل ما أراد بفراره أن يأوي إليه ينجيه من القتل وَبِئْسَ الْمَصِيرُ جهنم ولا يخفى ما في إيقاع البوء في موقع جواب الشرط الذي هو التولية مقرونا بذكر المأوى والمصير من الجزالة التي لا مزيد عليها، وفي الآية دلالة على تحريم الفرار من الزحف على غير المتحرف أو المتحيز، وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله تعالى والسحر وقتل النفس التي حرم الله تعالى إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف» وجاء عده في الكبائر في غير ما حديث قالوا: وهذا إذا لم يكن العدو أكثر من الضعف لقوله تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ [الأنفال: 66] الآية أما إذا كان أكثر فيجوز الفرار فالآية ليست باقية على عمومها وإلى هذا ذهب أكثر أهل العلم. وأخرج الشافعي وابن أبي شيبة: عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال من فر من ثلاثة فلم يفر ومن فر من اثنين فقد فر، وسمي هذا التخصيص نسخا وهو المروي عن أبي رباح وعن محمد بن الحسن أن المسلمين إذا كانوا اثني عشر ألفا لم يجز الفرار، والظاهر أنه لا يجوز أصلا لأنهم لا يغلبون عن قلة كما في الحديث، وروي عن عمر وأبي سعيد الخدري وأبي نضرة والحسن رضي الله تعالى عنهما وهي رواية عن الحبر أيضا أن الحكم مخصوص بأهل بدر، وقال آخرون: إن ذلك مخصوص بما ذكر وبجيش فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم وعللوا ذلك بأن وقعة بدر أول جهاد وقع في الإسلام ولذا تهيبوه ولو لم يثبتوا فيه لزم مفاسد عظيمة ولا ينافيه أنه لم يكن لهم فئة ينحازون إليها لأن النظم لا يوجب وجودها وأما إذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم معهم فلأن الله تعالى ناصره، وأنت تعلم أنه كان في المدينة خلق كثير من الأنصار لم يخرجوا لأنهم لم يعلموا بالنفير وظنوها العير فقط وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث إن الله تعالى ناصره كان فئة لهم، وقال بعضهم: إن الإشارة بيومئذ إلى يوم بدر لا تكاد تصح لأنه في سياق الشرط وهو مستقبل فالآية وإن كانت نزلت يوم بدر قبل انقضاء القتال فذلك اليوم فرد من أفراد يوم اللقاء فيكون عاما فيه لا خاصا به وإن نزلت بعده فلا يدخل يوم بدر فيه بل يكون ذلك استئناف حكم بعده وَيَوْمَئِذٍ إشارة إلى يوم اللقاء ودفع بأن مراد أولئك القائلين: إنها نزلت يوم بدر وقد قامت قرينة على تخصيصها ولا بعد فيه اهـ، وعندي أن السورة إنما نزلت بعد تمام القتال ولا دليل على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 170 نزول هذه الآية قبله والتخصيص المذكور مما لا يقوم دليله على سياق ويد الله مع الجماعة والله تعالى أعلم. هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ إذ لم يرتفع عنهم إذ ذاك حجاب الأفعال قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ أي حكمها مختص بالله تعالى وبالرسول مظهرية فَاتَّقُوا اللَّهَ بالاجتناب عن رؤية الأفيال رؤية فعل الله تعالى وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ بمحو صفحات نفوسكم التي هي منشأ صدور ما يوجب التنازع والتخالف وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ بفنائها ليتيسر لكم قبول الأمر بالإرادة القلبية الصادقة إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ الإيمان الحقيقي إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ كذلك الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ بملاحظة عظمته تعالى وكبريائه وسائر صفاته وهو ذكر القلب وذكره سبحانه وتعالى بالأفعال ذكر النفس وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أي خافت لإشراق أنوار تجليات تلك الصفات عليها وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إيمانا بالترقي من مقام العلم إلى العين. وقد جاء أن الله تجلى لعباده في كلامه لو يعلمون وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إذ لا يرون فعلا لغيره تعالى، وذكر بعض أهل العلم أنه سبحانه وتعالى نبه أولا بقوله عز قائلا: وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ على بدء حال المريد لأن قلبه لم يقو على تحمل التجليات في المبدأ فيحصل له الوجل كضربة السعفة ويقشعر لذلك جلده وترتعد فرائصه، وأما المنتهي فقلما يعرض له ذلك لما أنه قد قوي قلبه على تحمل التجليات وألفها فلا يتزلزل لها ولا يتغير، وعلى هذا حمل السهروردي قدس سره ما روي عن الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه أنه رأى رجلا يبكي عند قراءة القرآن فقال: هكذا حتى قست القلوب حيث أراد حتى قويت القلوب إذ أدمنت سماع القرآن وألفت أنواره فما تستغربه حتى تتغير، ونبه ثانيا سبحانه وتعالى بقوله جل وعلا: زادَتْهُمْ إِيماناً على أخذ المريد في السلوك والتجلي وعروجه في الأحوال، وثالثا بقوله عز شأنه: وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ على صعوده في الدرجات والمقامات، وفي تقديم المعمول إيذان بالتبري عن الحول والقوة والتفويض الكامل وقطع النظر عما سواه تعالى، وفي صيغة المضارع تلويح إلى استيعاب مراتب التوكل كلها، وهو كما قال العارف أبو إسماعيل الأنصاري أن يفوض الأمر كله إلى مالكه ويعول على وكالته، وهو من أصعب المنازل، وهو دليل العبودية التي هي تاج الفخر عند الأحرار، والظاهر أن الخوف الذي هو خوف الجلال والعظمة يتصف به الكاملون أيضا ولا يزول عنهم أصلا وهذا بخلاف خوف العقاب فإنه يزول، وإلى ذلك الإشارة بما شاع في الأثر «نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه» الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ أي صلاة الحضور القلبي وهي المعراج المعنوي إلى مقام القرب وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ من العلوم التي حصلت لهم بالسير يُنْفِقُونَ أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لأنهم الذين ظهرت فيهم الصفات الحقة وغدوا مرايا لها ومن هنا قيل: المؤمن مرآة المؤمن لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ من مراتب الصفات وروضات جنات القلب وَمَغْفِرَةٌ لذنوب الأفعال وَرِزْقٌ كَرِيمٌ من ثمرات أشعار التجليات الصفاتية، وقال بعض العارفين: المغفرة إزالة الظلمات الحاصلة من الاشتغال بغير الله تعالى والرزق الكريم الأنوار الحاصلة بسبب الاستغراق في معرفته ومحبته وهو قريب مما ذكرنا كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ متلبسا بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وهم المحتجبون برؤية الأفعال لَكارِهُونَ أي حالهم في تلك الحال كحالهم في هذه الحال يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ لك أولهم بالمعجزات إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ بالبراءة عن الحول والقوة والانسلاخ عن ملابس الأفعال والصفات النفسية فَاسْتَجابَ لَكُمْ عند ذلك أَنِّي مُمِدُّكُمْ من عالم الملكوت لمشابهة قلوبكم إياه حينئذ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ أي القوة السماوية وروحانياتها مُرْدِفِينَ لملائكة أخرى وهو إجمال ما في آل عمران وَما جَعَلَهُ اللَّهُ أي ما جعل الله تعالى الامداد إِلَّا بُشْرى أي بشارة لكم بالنصر وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ لما فيها من اتصالها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 171 بما يناسبها وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ والأسباب في الحقيقة ملغاة إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ قوي على النصر من غير سبب حَكِيمٌ يفعله على مقتضى الحكمة وقد اقتضت فعله على الوجه المذكور إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ وهو هدو القوى البدنية والصفات النفسانية بنزول السكينة أَمَنَةً مِنْهُ أي أمنا من عنده سبحانه وتعالى وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ أي سماء الروح ماءً وهو ماء علم اليقين لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ عن حدث هواجس الوهم وجنابة حديث النفس وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وسوسته وتخويفه وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ أي يقويها بقوة اليقين ويسكن جأشكم وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ إذ الشجاعة وثبات الأقدام في المخاوف من ثمرات قوة اليقين إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ أي يمد الملكوت بالجبروت فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ لانقطاع المدد عنهم واستيلاء قتام الوهم عليهم فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ لئلا يرفعوا رأسا وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ لئلا يقدروا على المدافعة، وبعضهم جعل الإشارة في الآيات نفسية والخطاب فيها حسبما يليق له الخطاب من المرشد والسالك مثلا، ولكل مقام مقال، وفي تأويل النيسابوري نبذة من ذلك فارجع إليه إن أردته وما ذكرناه يكفي لغرضنا وهو عدم إخلاء كتابنا من كلمات القوم ولا نتقيد بآفاقية أو أنفسية والله تعالى الموفق للرشاد، ثم إنه تعالى عاد كلامه إلى بيان بقية أحكام الواقعة وأحوالها وتقرير ما سبق حيث قال سبحانه: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ الخطاب للمؤمنين، والفاء قيل واقعة في جواب شرط مقدر يستدعيه ما مر من ذكر إمداده تعالى وأمره بالتثبيت وغير ذلك، كأنه قيل: إذا كان الأمر كذلك فلم تقتلوهم أنتم بقوتكم وقدرتكم وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ بنصركم وتسليطكم عليهم وإلقاء الرعب في قلوبهم. وجوز أن يكون التقدير إذا علمتم ذلك فلم تقتلوهم على معنى فاعلموا أو فاخبركم أنكم لم تقتلوهم، وقيل: التقدير إن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم لما روي أنهم لما انصرفوا من المعركة غالبين غائمين أقبلوا يتفاخرون يقولون: قتلت وأسرت وفعلت وتركت فنزلت. وقال أبو حيان ليست هذه الفاء جواب شرط محذوف كما زعموا وإنما هي للربط بين الجمل لأنه قال سبحانه: «فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ» وكان امتثال ما أمر به سببا للقتل فقيل فلم تقتلوهم أي لستم مستبدين بالقتل لأن الأقدار عليه والخلق له إنما هو لله تعالى، قال السفاقسي: وهذا أولى من دعوى الحذف. وقال ابن هشام: إن الجواب المنفي لا تدخل عليه الفاء. ومن هنا مع كون الكلام على نفي الفاعل دون الفعل كما قيل ذهب الزمخشري إلى اسمية الجملة حيث قدر المبتدأ أي فأنتم لم تقتلوهم، وجعل بعضهم المذكور علة الجزاء أقيمت مقامه وقال: إن الأصل إن افتخرتم بقتلهم فلا تفتخروا به لأنكم لم تقتلوهم ونظائره كثيرة، ولعل كلام أبي حيان كما قال السفاقسي أولى، والخطاب في قوله سبحانه: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى خطاب لنبيه عليه الصلاة والسلام بطريق التلوين وهو إشارة إلى رميه صلّى الله عليه وسلّم بالحصى. يوم بدر وما كان منه. فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام قال لما طلعت قريش من العقنقل: هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها اللهم إني أسألك ما وعدتني فأتاه جبريل عليه السلام فقال له: خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فلما التقى الجمعان قال لعلي كرم الله تعالى وجهه: أعطني قبضة من حصباء الوادي فرمى بها وجوههم فقال: فلم يبق مشرك إلا شغل بعينه فانهزموا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم وجاء من عدة طرق ذكرها الحافظ ابن حجر أن هذا الرمي كان يوم بدر، وزعم الطيبي أنه لم يكن إلا يوم حنين وأن أئمة الحديث لم يذكر أحد منهم أنه كان يوم بدر وهو كما قال الحافظ السيوطي ناشىء من قلة الاطلاع فإنه عليه الرحمة لم يبلغ درجة الحفاظ ومنتهى نظره الكتب الست ومسند أحمد ومسند الدارمي وإلا فقد ذكر المحدثون أن الرمي قد وقع في اليومين فنفي وقوعه في يوم بدر مما لا ينبغي، وذكر ما في حنين في هذه القصة من غير قرينة بعيد جدا، وما ذكره في تقريب ذلك ليس بشيء كما لا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 172 يخفى على من راجعه وأنصف. ويرد نحو هذا على ما روي عن الزهري. وسعيد بن المسيب من أن الآية إشارة إلى رميه عليه الصلاة والسلام يوم أحد فإن اللعين أبي بن خلف قصده عليه الصلاة والسلام فاعترض رجال من المسلمين له ليقتلوه فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: استأخروا فاستأخروا فأخذ عليه الصلاة والسلام حربته بيده فرماه بها فكسر ضلعا من أضلاعه، وفي رواية خدش ترقوته فرجع إلى أصحابه ثقيلا وهو يقول: قتلني محمد فطفقوا يقولون: لا بأس عليك فقال: والله لو كانت بالناس لقتلتهم فجعل يخور حتى مات ببعض الطريق. وما أخرج ابن جرير عن عبد الرحمن بن جبير أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم ابن أبي الحقيق وذلك في خيبر دعا بقوس فأتي بقوس طويلة فقال عليه الصلاة والسلام: جيئوني بقوس غيرها فجاؤوه بقوس كبداء فرمى صلّى الله عليه وسلّم الحصن فأقبل السهم يهوي حتى قتل ابن أبي الحقيق في فراشه فأنزل الله تعالى الآية، والحق المعول عليه هو الأول، وتجريد الفعل عن المفعول به لما أن المقصود بيان حال الرمي نفيا وإثباتا إذ هو الذي ظهر منه ما ظهر وهو المنشأ لتغير المرمي به في نفسه وتكثره إلى حيث أصاب عيني كل واحد من أولئك الجم الغفير شيء من ذلك، والمعنى على ما قيل: وما فعلت أنت يا محمد تلك الرمية المستتبعة لتلك الآثار العظيمة حقيقة حين فعلتها صورة ولكن الله تعالى فعلها أي خلقها حين باشرتها على أكمل وجه حيث أوصل بها الحصباء إلى أعينهم جميعا، واستدل بالآية على أن أفعال العباد بخلقه تعالى وإنما لهم كسبها ومباشرتها قال الإمام: أثبت سبحانه كونه صلّى الله عليه وسلّم راميا ونفى كونه راميا فوجب حمله على أنه عليه الصلاة والسلام رمى كسبا والله تعالى رمى خلقا، وقال ابن المنير: إن علامة المجاز أن يصدق نفيه حيث يصدق ثبوته ألا تراك تقول للبليد حمار ثم تقول ليس بحمار فلما أثبت سبحانه الفعل للخلق ونفاه عنهم دل على أن نفيه على الحقيقة وثبوته على المجاز بلا شبهة، فالآية تكفح بل تلفح وجوه القدرية بالرد، فإن قلت: إن أهل المعاني جعلوا ذلك من تنزيل الشيء منزلة عدمه وفسروه بما رميت حقيقة إذ رميت صورة والرمي الصوري موجود والحقيقي لم يوجد فلا تنزيل «أجيب» بأن الصوري مع وجود الحقيقي كالعدم وما هو إلا كنور الشمع مع شعشعة الشمس ولذا أتي بنفيه مطلقا كاثباته، وما ذكروه بيان لتصحيح المعنى في نفس الأمر وهو لا ينافي النكتة المبنية على الظاهر، ولذا قال في شرح المفتاح: النفي والإثبات واردان على شيء واحد باعتبارين فالمنفي هو الرمي باعتبار الحقيقة كما أن المثبت هو الرمي باعتبار الصورة، والمشهور حمل الرمي في حيز الاستدراك على الكامل وهو الرمي المؤثر ذلك التأثير العظيم، واعترض بأن المطلق ينصرف إلى الفرد الكامل لتبادره منه وأما ما جرى على خلاف العادة وخرج عن طريق البشر فلا يتبادر حتى ينصرف إليه بل ذلك ليس من افراده «وأجيب» بأنا لا ندعى إلا الفرد الكامل من ذاك المطلق حسبما تقتضيه القاعدة، وكون ذلك الفرد جاريا على خلاف العادة وخارجا عن طوق البشر إنما جاء من خارج، ووصف الرمي بما ذكر بيان لكماله، ولا يستدعي ذلك أن لا يكون من أفراد المطلق ومن ادعاه فقد كابر. واعترض على التفسير الأول بأنه مشعر بتفسير رَمى في حيز الاستدراك بخلق الرمي وتفسير رَمَيْتَ في حيز النفي بخلقت الرمي، فحاصل المعنى حينئذ وما خلقت الرمي إذ صدر عنك صورة ولكن الله سبحانه خلقه، ويلزم منه صحة أن يقال مثلا: ما قمت ولكن الله سبحانه قام على معنى ما خلقت القيام إذ صدر عنك صورة ولكن الله تبارك وتعالى خلقه ولا أظنك في مرية من عدم صحة ذلك «وأجيب» بأن القياس يقتضي صحة ذلك إلا أن مدار الأمر على التوقيف. واعترض على ما يستدعيه كلام ابن المنير من أن المعنى وما رميت حقيقة إذ رميت مجازا ولكن الله تعالى رمى حقيقة بأن نفي الرمي حقيقة حين إثباته مجازا من أجلى البديهيات فأي فائدة في الاخبار بذلك، قيل: ومثل ذلك يرد على كلام الإمام لأن كسب العبد للفعل عندهم على المشهور عبارة عن محلية العبد للفعل من غير تأثير لقدرته في إيجاده ويؤول ذلك إلى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 173 مباشرة له من غير خلق، فيكون المعنى وما خلقت الرمي إذ باشرت ولم تخلق وهو كما ترى وهو كما ترى، وبالجملة كلام أكثر أهل الحق في تفسير الآية والاستدلال بها وكذا بالآية قبلها على مذهبهم لا يخلو عن مناقشة ما، ولعل الجواب عنها متيسر لأهله. وقال بعض المحققين: إنه أثبت له صلّى الله عليه وسلّم الرمي لصدوره عنه عليه الصلاة والسلام ونفي عنه لأن أثره ليس في طاقة البشر، ولذا عد ذلك معجزة حتى كأنه صلّى الله عليه وسلّم لا مدخل له فيه، فمبنى الكلام على المبالغة ولا يلزم منه عدم مطابقته للواقع لأن معناه الحقيقي غير مقصود، ولا يصح أن تخرج الآية على الخلق والمباشرة لأن جميع أفعال العباد بمباشرتهم وخلق الله تعالى فلا يكون للتخصيص بهذا الرمي معنى وله وجه وإن قيل عليه ما قيل وأنا أقول: إن للعبد قدرة خلقها الله تعالى له مؤثرة بإذنه فما شاء الله سبحانه كان وما لم يشأ لم يكن لا أنه لا قدرة له أصلا كما يقول الجبرية، ولا أن له قدرة غير مؤثرة كما هو المشهور من مذهب الأشاعرة، ولا أن له قدرة مؤثرة بها يفعل ما لا يشاء الله تعالى فعله كما يقول المعتزلة، وأدلة ذلك قد بسطت في محلها وألفت فيها رسائل تلقم المخالف حجرا، وليس إثبات صحة هذا القول وكذا القول المشهور عند الأشاعرة عند من يراه موقوفا على الاستدلال بهذه الآية حتى إذا لم تقم الآية دليلا يبقى المطلب بلا دليل. فإذا كان الأمر كذلك فأنا لا أرى بأسا في أن يكون الرمي المثبت له صلّى الله عليه وسلّم هو الرمي المخصوص الذي ترتب عليه ما ترتب مما أبهر العقول وحير الألباب، وإثبات ذلك له عليه الصلاة والسلام حقيقة على معنى أنه فعله بقدرة أعطيت له صلّى الله عليه وسلّم مؤثرة بإذن الله تعالى إلا أنه لما كان ما ذكر خارجا عن العادة إذ المعروف في القدر الموهوبة للبشر أن لا تؤثر مثل هذا الأثر نفى ذلك عنه وأثبت لله سبحانه مبالغة، كأنه قيل: إن ذلك الرمي وإن صدر منك حقيقة بالقدرة المؤثرة بإذن الله سبحانه لكنه لعظم أمره وعدم مشابهته لأفعال البشر كأنه لم يصدر منك بل صدر من الله جل شأنه بلا واسطة، وكذا يجوز أن يكون المعنى وما رميت بالرعب إذ رميت بالحصباء ولكن الله تعالى رمى بالرعب، فالرمي المنفي أولا والمثبت أخيرا غير المثبت في الأثناء وعلى الوجهين يظهر بأدنى تأمل وجه تخالف أسلوبي الآيتين حيث لم يقل: وما رميت ولكن الله رمى ليكون على أسلوب فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ولا فلم تقتلوهم إذ قتلتموهم ولكن الله قتلهم ليكون على أسلوب وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى ولا يظهر لي نكتة في هذا التخالف على الوجوه التي ذكرها المعظم، وكونها الإشارة إلى أن الرمي لم يكن في تلك الوقعة كالقتل بل كان في حنين دونه على ما فيه مخالف لما صح من أن كلا الأمرين كان في تلك الوقعة كما علمت فتأمل فلمسلك الذهن اتساع: وقرىء «ولكن الله» بالتخفيف ورفع الاسم الجليل في المحلين وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً أي ليعطيهم سبحانه من عنده إعطاء جميلا غير مشوب بالشدائد والمكاره على أن البلاء بمعنى العطاء كما في قول زهير: جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم ... فأبلاهما خير البلاء الذي يبلي واختار بعضهم تفسيره بالابلاء في الحرب بدليل ما بعده يقال: أبلى فلان بلاء حسنا أي قاتل قتالا شديدا وصبر صبرا عظيما، سمي به ذلك الفعل لأنه ما يخبر به المرء فتظهر جلادته وحسن أثره، واللام إما للتعليل متعلق بمحذوف متأخر فالواو اعتراضية أي وللإحسان إليهم بالنصر والغنيمة فعل ما فعل لا لشيء آخر غير ذلك مما لا يجديهم نفعا، وإما برمي فالواو للعطف على علة محذوفة أي ولكن الله رمى ليمحق الكافرين وليبلي إلخ. وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ أي لدعائهم واستغاثتهم أو لكل مسموع ويدخل فيه ما ذكر عَلِيمٌ أي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 174 بنياتهم وأحوالهم الداعية للإجابة أو لكل معلوم ويدخل فيه ما ذكر أيضا تعليل للحكم ذلِكُمْ إشارة إلى البلاء الحسن، ومحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وقوله سبحانه وتعالى: وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ معطوف عليه أي المقصد إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين وإبطال حيلهم، وقيل: المشار إليه القتل أو الرمي والمبتدأ الأمر أي الأمر ذلكم أي القتل أو الرمي فيكون قوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ إلخ من قبيل عطف البيان، وقيل: المشار إليه الجميع بتأويل ما ذكر. وجوز جعل اسم الإشارة مبتدأ محذوف الخبر وجعله منصوبا بفعل مقدر. وقرأ ابن كثير ونافع وأبوبكر «موهّن» بالتشديد ونصب كيد. وقرأ حفص عن عاصم بالتخفيف والإضافة وقرأ الباقون بالتخفيف والنصب إِنْ تَسْتَفْتِحُوا خطاب للمشركين على سبيل التهكم فقد روي أنهم حين أرادوا الخروج تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين واهد الفئتين وأكرم الحزبين. وفي رواية أن أبا جهل قال حين التقى الجمعان: اللهم ربنا ديننا القديم ودين محمد الحديث فأي الدينين كان أحب إليك وأرضى عندك فانصر أهله اليوم. والأول مروي عن الكلبي والسدي، والمعنى إن تستنصروا لأعلى الجندين وأهداهما فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ حيث نصر أعلاهما وأهداهما وقد زعمتم أنكم الأعلى والأهدى فالتهكم في المجيء أو فقد جاءكم الهلاك والذلة فالتهكم في نفس الفتح حيث وضع موضع ما يقابله وَإِنْ تَنْتَهُوا عن حراب الرسول عليه الصلاة والسلام ومعاداته فَهُوَ أي الإنهاء خَيْرٌ لَكُمْ من الحراب الذي ذقتم بسببه من القتل والأسر، ومبنى اعتبار أصل الخيرية في المفضل عليه هو التهكم وَإِنْ تَعُودُوا أي إلى حرابه عليه الصلاة والسلام نَعُدْ لما شاهدتموه من الفتح وَلَنْ تُغْنِيَ أي لن تدفع عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ جماعتكم التي تجمعونها وتستغيثون بها شَيْئاً من الإغناء أو المضار وَلَوْ كَثُرَتْ تلك الفئة، وقرىء «ولن يغني» بالياء التحتانية لأن تأنيث الفئة غير حقيقي وللفصل ونصب شيئا على أنه مفعول مطلق أو مفعول به، وجملة ولو كثرت في موضع الحال وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ أي ولأن الله تعالى معين المؤمنين كان ذلك أو والأمر أن الله سبحانه معهم، وقرأ الأكثر «وإن» بالكسر على الاستئناف، قيل: وهي أوجه من قراءة الفتح لأن الجملة حينئذ تذييل، كأنه قيل: القصد إعلاء أمر المؤمنين وتوهين كيد الكافرين وكيت وكيت، وإن سنة الله تعالى جارية في نصر المؤمنين وخذلان الكافرين، وهذا وإن أمكن اجراؤه على قراءة الفتح لكن قراءة الكسر نص فيه، ويؤيدها قراءة ابن مسعود «والله مع المؤمنين» ، وروي عن عطاء. وأبي بن كعب، وإليه ذهب أبو علي الجبائي أن الخطاب للمؤمنين، والمعنى إن تستنصروا فقد جاءكم النصر وإن تنتهوا عن التكاسل والرغبة عما يرغب فيه الرسول صلّى الله عليه وسلّم فهو خير لكم من كل شيء لما أنه مدار لسعادة الدارين وإن تعودوا إليه نعد عليكم بالإنكار وتهييج العدو ولن تغني عنكم حينئذ كثرتكم إذ لم يكن الله تعالى معكم بالنصر والأمر أن الله سبحانه مع الكاملين في الإيمان، ويفهم كلام بعضهم أن الخطاب في تَسْتَفْتِحُوا وجاءَكُمُ للمؤمنين، وفيما بعده للمشركين ولا يخفى أنه خلاف الظاهر جدا، وأيد كون الخطاب في الجميع للمؤمنين بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا أي تتولوا، وقرىء بتشديد التاء عَنْهُ أي عن الرسول وأعيد الضمير إليه عليه الصلاة والسلام لأن المقصود طاعته صلّى الله عليه وسلّم، وذكر طاعة الله تعالى توطئة لطاعته وهي مستلزمة لطاعة الله تعالى لأنه مبلغ عنه فكان الراجع إليه كالراجع إلى الله تعالى ورسوله (1) وقيل: الضمير للجهاد، وقيل: للأمر الذي دل عليه الطاعة، والتولي مجاز، وقوله تعالى: وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ جمل حالية واردة لتأكيد وجوب الانتهاء عن التولي   (1) قوله «ورسوله» كذا بخطه والأولى إسقاطها اهـ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 175 مطلقا لا لتقييد النهي عنه بحال السماع: أي لا تتولوا عنه والحال أنكم تسمعون القرآن الناطق بوجوب طاعته والمواعظ الزاجرة عن مخالفته سماع تفهم وإذعان، وقد يراد بالسماع التصديق، وقد يبقى الكلام على ظاهره من غير ارتكاب تجوز أصلا، وقوله سبحانه وَلا تَكُونُوا تقريرا لما قبله أي لا تكونوا بمخالفة الأمر والنهي كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا كالكفرة والمنافقين الذين يدّعون السماع وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ أي سماعا ينتفعون به لأنهم لا يصدقون ما سمعوه ولا يفهمونه حق فهمه والجملة في موضع الحال من ضمير قالوا، والمنفي سماع خاص لكنه أتى به مطلقا للإشارة إلى أنهم نزلوا منزلة من لم يسمع أصلا بجعل سماعهم كالعدم إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ استئناف مسوق لبيان كمال سوء حال المشبه بهم مبالغة في التحذير وتقريرا للنهي أثر تقرير، والدواب جمع دابة، والمراد بها إما المعنى اللغوي أو العرفي أي إن شر من يدب على الأرض أو شر البهائم عِنْدَ اللَّهِ أي في حكمه وقضائه الصُّمُّ الذين لا يسمعون الحق الْبُكْمُ الذين لا ينطقون به، والجمع على المعنى، ووصفوا بذلك لأن ما خلق له الحاستان سماع الحق والنطق به وحيث لم يوجد فيهم شيء من ذلك صاروا كأنهم فاقدون لهما رأسا. وتقديم الصم على البكم لما أن صممهم متقدم على بكمهم فإن السكوت عن النطق بالحق من فروع عدم سماعهم له كما أن النطق به من فروع سماعه، وقيل: التقديم لأن وصفهم بالصم أهم نظر إلى السابق واللاحق، ثم وصفوا بعدم التعقل في قوله تعالى: الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ تحقيقا لكمال سوء حالهم فإن الأصم الأبكم إذا كان له عقل ربما يفهم بعض الأمور ويفهمه غيره ويهتدي إلى بعض مطالبه. أما إذا كان فاقدا للعقل أيضا فقد بلغ الغاية في الشرية وسوء الحال، وبذلك يظهر كونهم شر الدواب حيث أبطلوا ما به يمتازون عنها وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ أي في هؤلاء الصم البكم خَيْراً أي شيئا من جنس الخير الذي من جملته صرف قواهم إلى تحري الحق واتباع الهدى لَأَسْمَعَهُمْ سماع تدبر وتفهم ولوقفوا على الحق وآمنوا بالرسول عليه الصلاة والسلام وأطاعوه وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ سماع تفهم وتدبر وقد علم أن لا خير فيهم لَتَوَلَّوْا ولم ينتفعوا به وارتدوا بعد التصديق والقبول وَهُمْ مُعْرِضُونَ لعنادهم، والجملة حال مؤكدة مع اقترانها بالواو، ومما ذكر يعلم الجواب عما قيل: إن الآية قياس اقتراني من شرطيتين ونتيجته غير صحيحة لما أنه أشير فيه أولا إلى منع القصد إلى القياس لفقد الكلية الكبرى، وثانيا إلى منع فساد النتيجة إذ اللازم لو علم الله تعالى فيهم خيرا في وقت لتولوا بعده قاله بعض المحققين، وفي المعنى والجواب من ثلاثة أوجه اثنان يرجعان إلى منع كون المذكور قياسا وذلك لاختلاف الوسط. أحدهما أن التقدير لأسمعهم سماعا نافعا ولو أسمعهم سماعا غير نافع لتولوا. والثاني أن يقدر ولو أسمعتهم على تقدير علم عدم الخير فيهم كما أشير إليه. والثالث إلى منع استحالة النتيجة بتقدير كونه قياسيا متحد الوسط، إذ التقدير ولو علم الله تعالى فيهم خيرا في وقت ما لتولوا بعد ذلك، ولا يخفى ضعف الجواب الأول لأنه لا قرينة على تقييد لو أسمعهم بالسماع الغير النافع ولأنه يحقق فيهم الاسماع الغير النافع إلا أن يقيد بالأسماع بعد نزول هذه الآية، وكذا ضعف الثالث لأن علمه تعالى بالخير ولو في وقت لا يستلزم التولي بل عدمه. وأما الجواب الثاني فهو قوي لأن الشرطية الأولى قرينة على تقييد الاسماع في الشرطية الثانية بتقدير علم عدم الخير فيهم، وذكر بعضهم في الجواب أن الشرطيتين مهملتان وكبرى الشكل الأول يجب أن تكون كلية ولو سلم فإنما ينتجان أي اللزومية لو كانتا لزوميتين وهو ممنوع ولو سلم فاستحالة النتيجة ممنوعة، أي لا نسلم استحالة الحكم باللزوم بين المقدم والتالي وإن كان الطرفان محالين لأن علم الله تعالى فيهم خيرا محال والمحال جاز أن يستلزم المحال وإن لم يوجد بينهما علاقة عقلية على ما هو التحقيق من عدم اشتراط العلاقة في استلزام المحال للمحال. واعترض على أصل السؤال بأن لفظ لَوْ لم يستعمل في فصيح الكلام في القياس الاقتراني وإنما يستعمل في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 176 القياس الاستثنائي المستثنى فيه نقيض التالي لأنها لامتناع الشيء غيره، ولهذا لا يصرح باستثناء نقيص التالي، وعلى الجواب بأن فيه تسليم كون ما ذكر قياسا ومنع كونه منتجا لانتفاء شرائط الانتاج وكيف يصح اعتقاد وقوع قياس في كلام الحكيم تعالى أهملت فيه شرائط الانتاج وإن لم يكن مراده تعالى قياسيته وذكر أن الحق قوله سبحانه: لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً وارد على قاعدة اللغة يعني أن سبب عدم الإسماع عدم العلم بالخير فيهم ثم ابتداء قوله تعالى: لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا كلاما آخر على طريقة- لو لم يخف الله تعالى لم يعصه- وحاصل ذلك أنه كلام منقطع عما قبله والمقصود منه تقرير قولهم في جميع الأزمنة حيث ادعى لزومه لما هو مناف له ليفيد ثبوته على تقدير الشرط وعدمه، فمعنى الآية حينئذ أنه انتفى الإسماع لانتفاء علم الخير وأنهم ثابتون على التولي في الشرطية الأولى اللزوم في نفس الأمر وفي الثانية ادعائي فلا يكون على هيئة القياس. وقال العلامة الثاني: يجوز أن يكون التولي منفيا بسبب انتفاء الإسماع كما هو مقتضى أصل لَوْ لأن التولي بمعنى الاعراض عن الشيء كما هو أصل معناه لا بمعنى مطلق التكذيب والإنكار، فعلى تقدير عدم إسماعهم ذلك الشيء لم يتحقق التولي والاعراض عن الشيء فرع تحققه ولم يلزم من هذا تحقق الانقياد له لأن الانقياد للشيء وعدم الانقياد له ليسا على طرفي النقيض بل العدول والتحصيل لجواز ارتفاعهما بعدم ذلك الشيء وحاصله كما قيل: إنه إذا كان التولي بمعنى الاعراض يجوز أن يكون لَوْ بمعناه المشهور، ويكون المقصود الاخبار بأن انتفاء الثاني في الخارج لانتفاء الأول فيه كالشرطية الأولى ولا ينتظم منهما القياس إذ ليس المقصود منهما بيان استلزام الأول للثاني في نفس الأمر ليستدل بل اعتبار السببية واللزوم بينهما ليعلم السببية بين الانتفائين المعلومين في الخارج، وما يقال: من أن انتفاء التولي خير وقد ذكر أن لا خير فيهم مجاب عنه بأن لا نسلم أن انتفاء التولي بسبب انتفاء الاسماع خير لأنه يجوز أن يكون ذلك بسبب عدم الأهلية للاسماع وهو داء عضال وشر عظيم، وإنما يكون خيرا لو كانوا من أهله بأن أسمعوا شيئا ثم انقادوا له ولم يعرضوا وهذا كما يقال: لا خير في فلان لو كانت به قوة لقتل المسلمين، فإن عدم قتل المسلمين بناء على عدم القوة والقدرة ليس خيرا فيه وإن كان خيرا له اهـ. ورده الشريف قدس سره بما تعقبه السالكوتي عليه الرحمة. نعم قال مولانا محمد أمين بن صدر الدين: إن حمل التولي هاهنا على معنى الاعراض غير ممكن لمكان قوله سبحانه: وَهُمْ مُعْرِضُونَ وأوجب أن يحمل إما على لازم معناه وهو عدم الانتقاء لأنه يلزم الاعراض أو على ملزومه وهو الارتداد لأنه يلزمه الاعراض فليفهم، وعن الجبائي أنهم كانوا يقولون لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أحي لنا قصيا فإنه كان شيخا مباركا حتى يشهد لك ونؤمن بك، فالمعنى ولو أسمعهم كلام قصي إلخ، وقيل: هم بنو عبد الدار بن قصي لم يسلم منهم إلا مصعب بن عمير وسويد بن حرملة كانوا يقولون: نحن صم بكم عمي عما جاء به محمد لا نسمعه ولا نجيبه قاتلهم الله تعالى فقتلوا جميعا بأحد وكانوا أصحاب اللواء، وعن ابن جريج أنهم المنافقون وعن الحسن أنهم أهل الكتاب، والجملة الاسمية في موضع الحال من ضمير لَتَوَلَّوْا، وجوز أن تكون اعتراضا تذييلا أي وهم قوم عادتهم الاعراض يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تكرير النداء مع وصفهم بنعت الإيمان لتنشيطهم إلى الإقبال على الامتثال بما يريد بعده من الأوامر وتنبيههم على أن فيهم ما يوجب ذلك اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ بحسن الطاعة إِذا دَعاكُمْ أي الرسول إذ هو المباشر لدعوة الله تعالى مع ما أشرنا إليه آنفا لِما يُحْيِيكُمْ أي لما يورثكم الحياة الأبدية في النعيم الدائم من العقائد والأعمال أو من الجهاد الذي أعزكم الله تعالى به بعد الذل وقواكم به بعد الضعف ومنعكم به من عدوكم بعد القهر كما روي ذلك عن عروة بن الزبير، وإطلاق ما ذكر على العقائد والأعمال وكذا على الجهاد إما استعارة أو مجاز مرسل بإطلاق السبب على المسبب، وقال القتبي: المراد به الجزء: 5 ¦ الصفحة: 177 الشهادة وهو مجاز أيضا، وقال قتادة: القرآن، وقال أبو مسلم: الجنة، وقال غير واحد: هو العلوم الدينية التي هي مناط الحياة الأبدية كما أن الجهل مدار الموت الحقيقي، وهو استعارة مشهورة ذكرها الأدباء وعلماء المعاني. وللزمخشري: لا تعجبن لجهول حلته ... فذاك ميت وثوبه كفن واستدل بالآية على وجوب إجابته صلّى الله عليه وسلّم إذا نادى أحدا وهو في الصلاة، وعن الشافعي أن ذلك لا يبطلها لأنها أيضا إجابة، وحكى الروياني أنها لا تجب الصلاة بها، وقيل: إنه يقطع الصلاة إذا كان الدعاء لأمر يفوت بالتأخير كما إذا رأى أعمى وصل إلى بئر ولو لم يحذره لهلك، وأيد القول بالوجوب بما أخرجه الترمذي. والنسائي عن أبي هريرة «أنه صلّى الله عليه وسلّم مر على أبي بن كعب وهو يصلي فدعاه فعجل في صلاته ثم جاء فقال: ما منعك من إجابتي؟ قال: كنت أصلي. قال: ألم تخبر فيما أوحي اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ قال: بلى ولا أعود إن شاء الله تعالى، ثم إنه صلّى الله عليه وسلّم قال له: لأعلمنك سورة أعظم سورة في القرآن الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة: 2] هي السبع المثاني، وأنت تعلم أنه لا دلالة فيه على أن إجابته صلّى الله عليه وسلّم لا تقطع الصلاة، وقال بعضهم: إن ذلك الدعاء كان لأمر مهم لا يحتمل التأخير وللمصلي أن يقطع الصلاة لمثله، وفيه نظر وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ عطف على استجيبوا، وأصل الحول كما قال الراغب تغير الشيء وانفصاله عن غيره، وباعتبار التغير قيل حال الشيء يحول وباعتبار الانفصال قيل حال بينهما كذا، وهذا غير متصور في حق الله تعالى فهو مجاز عن غاية القرب من العبد لأن من فصل بين شيئين كان أقرب إلى كل منهما من الآخر لاتصاله بهما وانفصال أحدهما عن الآخر، وظاهر كلام كثير أن الكلام من باب الاستعارة التمثيلية، ويجوز أن يكون هناك استعارة تبعية، فمعنى يحول يقرب، ولا بعد في أن يكون من باب المجاز المرسل المركب لاستعماله في لازم معناه وهو القرب، بل ادعي أنه الأنسب، وإرادة هذا المعنى هو المروي عن الحسن وقتادة، فالآية نظير قوله سبحانه: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] . وفيها تنبيه على أنه تعالى مطلع من مكنونات القلوب على ما قد يغفل عنه أصحابها، وجوز أن يكون المراد من ذلك الحث على المبادرة إلى إخلاص القلوب وتصفيتها، فمعنى يحول بينه وبين قلبه يميته فيفوته الفرصة التي هو واجدها وهي التمكن من إخلاص القلب ومعالجة أدوائه وعلله ورده سليما كما يريد الله تعالى، فكأنه سبحانه بعد أن أمرهم بإجابة الرسول عليه الصلاة والسلام أشار لهم إلى اغتنام الفرصة من إخلاص القلوب للطاعة وشبه الموت بالحيلولة بين المرء وقلبه الذي به يعقل في عدم التمكن من علم ما ينفعه علمه، وإلى هذا ذهب الجبائي. وقال غير واحد: إنه استعارة تمثيلية لتمكنه تعالى من قلوب العباد فيصرفها كيف يشاء بما لا يقدر عليه صاحبها فيفسخ عزائمه ويغير مقاصده ويلهمه رشده ويزيغ عن الصراط السوي قلبه ويبدله بالأمن خوفا وبالذكر نسيانا، وذلك كمن حال بين شخص ومتاعه فإنه القادر على التصرف فيه دونه وهذا كما في حديث شهر بن حوشب عن أم سلمة وقد سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن إكثاره الدعاء يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فقال لها: يا أم سلمة إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله تعالى فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ، ويؤيد هذا التفسير ما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن هذه الآية فقال عليه الصلاة والسلام: يحول بين المؤمن والكفر ويحول بين الكافر والهدى. ولعل ذلك منه عليه الصلاة والسلام اقتصار على الأمرين اللذين هما أعظم مدار للسعادة والشقاوة وإلا فهذا من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 178 فروع التمكن الذي أشرنا إليه ولا يختص أمره بما ذكر، وقد حال سبحانه بين العدلية وبين اعتقاد هذا فعدلوا عن سواء السبيل، وبين بعض الأفاضل ربط الآيات على ذلك بأنه تعالى لما نص بقوله عز من قائل: لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ إلخ، على أن الإسماع لا ينفع فيهم تسجيلا على أولئك الصم البكم من على المؤمنين بما منحهم من الإيمان ويسر لهم من الطاعة، كأنه قيل: إنكم لستم مثل أولئك المطبوعين على قلوبهم فإنهم إنما امتنعوا عن الطاعة لأنهم ما خلقوا إلا للكفر فما تيسر لهم الاستجابة، وكلّ ميسر لما خلق له، فأنتم لما منحتم الإيمان ووفقتم للطاعة فاستجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما فيه حياتكم من مجاهدة الكفار وطلب الحياة الأبدية واغتنموا تلك الفرصة واعلموا أن الله تعالى قد يحول بين المرء وقلبه بأن يحول بينه وبين الإيمان وبينه وبين الطاعة ثم يجازيه في الآخرة بالنار، وتلخيصه أوليتكم النعمة فاشكروها ولا تكفروها لئلا أزيلها عنكم اهـ. ولا يخفى ما فيه من التكليف، وقيل: إن القوم لما دعوا إلى القتال والجهاد وكانوا في غاية الضعف والقلة خافت قلوبهم وضاقت صدورهم فقيل لهم: قاتلوا في سبيل الله تعالى إذا دعيتم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه فيبدل الأمن خوفا والجبن جرأة. وقرىء «بين المرّ» بتشديد الراء على حذف الهمزة ونقل حركتها إليها وإجراء الوصل مجرى الوقف وَأَنَّهُ أي الله عز وجل أو الشأن إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ لا إلى غيره فيجازيكم بحسب مراتب أعمالكم التي لم يخف عليه شيء منها فسارعوا إلى طاعته وطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وبالغوا في الاستجابة، وقيل: المعنى أنه تحشرون إليه تعالى دون غيره فيجازيكم فلا تألوا جهدا في انتهاز الفرصة، أو المعنى أنه المتصرف في قلوبكم في الدنيا ولا مهرب لكم عنه في الآخرة فسلوا الأمر إليه عز شأنه ولا تحدثوا أنفسكم بمخالفته. وزعم بعضهم أنه سبحانه لما أشار في صدر الآية إلى أن السعيد من أسعده والشقي من أضله وأن القلوب بيده يقلبها كيفما يشاء ويخلق فيها الدواعي والعقائد حسبما يريد ختمها بما يفيد أن الحشر إليه ليعلم أنه مع كون العباد مجبورين خلقوا مثابين معاقبين إما للجنة وإما للنار لا يتركون مهملين معطلين، وأنت تعلم أن الآية لا دلالة فيها على الجبر بالمعنى المشهور وليس فيها عند من أنصف بعد التأمل أكثر من انتهاء الأمور بالآخرة إليه عز شأنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 179 وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً أي لا تختص إصابتها لمن يباشر الظلم منكم بل تعمّه وغيره والمراد بالفتنة الذنب وفسر بنحو إقرار المنكر والمداهنة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وافتراق الكلمة وظهور البدع والتكاسل في الجهاد حسبما يقتضيه المعنى، والمصيب على هذا هو الأثر كالشآمة والوبال، وحينئذ إما أن يقدر أو يتجوز في إصابته، وجوز أن يراد به العذاب فلا حاجة إلى التقدير أو التجوز فيما ذكر لأن إصابته بنفسه، وكذا لا حاجة إلى ارتكاب تقدير في جانب الأمر ولا التزام استخدام ولا نافية، والجملة المنفية قيل جواب الأمر على معنى إن إصابتكم لا تصيب الظالمين منكم، واعترض بأن جواب الأمر إنما يقدر فعله من جنس الأمر المظهر لا من جنس الجواب ولو قدر ذلك وفاء بالقاعدة فسد المعنى، إذ يكون إن تتقوا الفتنة تعمكم إصابتها ولا تختص بالظالمين منكم وهو كما ترى، وأجيب بأن أصل الكلام واتقوا فتنة لا تصيبكم فإن أصابتكم لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة بل عمتكم فأقيم جواب الشرط الثاني مقام جواب الشرط المقدر في جواب الأمر لتسببه منه، وسمي الأمر لأن المعاملة معه لفظا وفيه أن من البين أن عموم الإصابة ليس مسببا عن عدم الإصابة ولا عن الأمر وظاهر التعبير يقتضيه، وقال بعض المحققين: إن ذلك على رأي الكوفيين من تقدير ما يناسب الكلام وعدم التزام كون المقدر من جنس الملفوظ نفيا أو إثباتا فيقدرون في نحو لا تدن من الأسد يأكلك الإثبات أي إن تدن يأكلك وفي نحو اتقوا فتنة النفي أي إن لم تتقوا تصبكم. واعترض عليه بأن ذلك القائل لم يقدر لا هذا ولا ذاك وإنما قدر ما يستقيم به المعنى من غير نظر إلي مضمون الأمر أو نقيضه، وأجيب بأن مراده أن التقدير إن لم تتقوا تصبكم وإن أصابتكم لا تختص بالظالمين فأقيم جواب الشرط الثاني مقام جواب الشرط المقدر الذي هو نقيض الأمر لتسببه عنه، وما أورد على هذا من أنه لا حاجة إلى اعتبار الواسطة حينئذ إذ يكفي أن يقال: إن لم تتقوا لا تصب الظالمين خاصة فمع كونه مناقشة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 180 لفظية مدفوع بأدنى تأمل لأن عدم اختصاص إصابة الفتنة بالظالمين كما يكون بعموم الإصابة لهم ولغيرهم كذلك يكون بعدم إصابتها لهم رأسا فلا بد من اعتبار الواسطة قطعا. وقال بعض المتأخرين: مراد من قدر إن أصابتكم، إن لم تتقوا على مذهب من يرى تقدير النفي، لكنه عبر عنه بأصابت لتلازمها فلا يرد حديث الواسطة، نعم قيل: إن جواب الشرط متردد تأكيده بالنون إذ التأكيد يقتضي دفع التردد، وأجيب بأنه هنا (1) طلبي معنى فيؤكد كما يؤكد الطلبي وهو لا ينافيه التردد في وقوعه لأنه لا تردد في طلبه على أنه قيل: إنه وإن كان مترددا في نفسه لكونه معلقا بما هو متردد وهو الشرط لكنه ليس بمتردد بحسب الشرط، وعلى تقدير وقوعه فيليق به التأكيد بذلك الاعتبار، وأنت تعلم أن ابن جني رجح أن المنفي- بلا- يؤكد في السعة لشبهه بالنهي كما في قوله سبحانه: ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ [النمل: 18] وقال ناصر الدين: إن هذا الجواب لما تضمن معنى النهي ساغ توكيده، ووجهه أن النفي إذا كان مطلوبا كان في معنى النهي وفي حكمه فيجوز فيه التأكيد كالنهي الصريح، ولا خفاء في أن عدم كونهم بحيث تصيبهم الفتنة مطلوب كما أن عدم كونهم يحطمهم سليمان وجنوده كذلك، وجوز أن تكون الجملة المنفية في موضع النصب صفة لفتنة، واعترض بأن فيه شذوذا لأن النون لا تدخل المنفي في غير القسم، وقد يجاب بأنك قد عرفت أن ابن جني وكذا بعض النحاة جوز ذلك، وقد ارتضاه ابن مالك في التسهيل، نعم ما ذكر كلام الجمهور. وقال أبو البقاء وغيره: يحتمل أن تكون لا ناهية والجملة في موضع الصفة أيضا لكن على إرادة القول كقوله: حتى إذا جن الظلام واختلط ... جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط لأن المشهور أن الجملة الإنشائية نهيا كانت أو غيرها لا تقع صفة ونحوها إلا بتقدير القول، وقد صرحوا بأن قولك: مررت برجل أضربه بتقدير مقول فيه أضربه، وليس المقصود بالمقولية الحكاية بل استحقاقه لذلك حتى كأنه مقول فيه، ومن الناس من جوز الوصف بذلك باعتبار تأويله بمطلوب ضربه فلا يتعين تقدير القول، وأن تكون الجملة جواب قسم محذوف أي والله لا تصيبن خاصة بل تعم، وحينئذ يظهر أمر التأكيد، وأيد ذلك بقراءة عليّ كرم الله تعالى وجهه. وزيد بن ثابت وأبيّ وابن مسعود والباقر والربيع وأبو العالية «لتصيبن» فإن الظاهر فيها القسمية، وقيل: إن الأصل- لا- الا أن الألف حذفت تخفيفا كما قالوا: أم والله، وقال بعضهم: أن «لا» في القراءة المتواترة هي اللام والألف تولدت من إشباع الفتحة كما في قوله: فأنت من العواتك حين ترمى ... ومن ذم الرجال بمنتزاح وكلا القولين لا يعول عليه، ويحتمل أن تكون نهيا مستأنفا لتقرير الأمر وتأكيده، وهو من باب الكناية لأن الفتنة لا تنهى عن الإصابة إذ لا يتصور الامتثال منها بحال، والمعنى حينئذ لا تتعرضوا للظلم فتصيبكم الفتنة خاصة ومن على تقدير كون لا ناهية سواء جعلت الجملة صفة أو مؤكدة للأمر بيانية لا تبعيضية لأنها لو اعتبرت كذلك لكان النهي عن التعريض للظلم مخصوصا بالظالمين منهم دون غيرهم فغير الظلم لا يكون منهيا عن التعرض له بمنطوق الآية وذلك شيء لا يراد. وأما على الوجوه الأخر من كون لا نافية لا ناهية سواء كان قوله سبحانه وتعالى: لا تُصِيبَنَّ صفة لفتنة كما هو الظاهر أو جواب الأمر أو جواب قسم فهي تبعيضية قطعا، إذ الآية على هذه التقادير جميعا   (1) وزعم بعضهم أن لا دعائية اهـ منه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 181 مخبرة بأن إصابة الفتنة لا تخص بالظالمين بل تعم غيرهم أيضا، فلو بين الذين ظلموا بالمخاطبين لأفهمت أن الأصحاب رضي الله تعالى عنهم كلهم ظالمون وحاشاهم، ثم لا يخفى أن الخطاب إذا كان عاملا للأمة وفسرت الفتنة بإقرار المنكر لا يجيء الإشكال على عموم الإصابة بقوله سبحانه: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: 164، الإسراء: 15، فاطر: 18، الزمر: 7] لأنه كما يجب على مرتكب الذنب الانتهاء عنه يجب على الباقين رفعه وإذ لم يفعلوا كانوا آثمين فيصيبهم ما يصيبهم لإثمهم. وبدل للوجوب ما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أمر الله تعالى المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله تعالى بعذاب يصيب الظالم وغير الظالم، وأخرج الترمذي. وأبو داود عن قيس بن حازم عن أبي بكر رضي الله عنه قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يده أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقاب» وروى الترمذي أيضا عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهاهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم وواكلوهم وشاربوهم فضرب الله تعالى قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. ومن ذهب إلى أن الخطاب خاص فسر الفتنة بافتراق الكلمة، وجعل ذلك إشارة إلى ما حدث بين أصحاب بدر يوم الجمل. وممن ذهب إلى أنهم المعنيون السدي وغيره، وأخرج غير واحد عن الزبير قال: قرأنا هذه الآية زمانا وما نرى أنا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها، وقد أخرج نهيهم عن ذلك على أبلغ وجه وأقيم الظالمون مقام ضميرهم تنبيها على أن تعرض الفتنة وهي افتراق الكلمة من أشد الظلم لا سيما من هؤلاء الأجلاء، ثم فسر بضميرهم دلالة على الاختصاص وأكد بخاصة وكثيرا ما يشدد الأمر على الخاصة وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن خالف أمره وكذا من أقر من انتهك محارمه وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ أي في العدد، والجملة الاسمية للايذان باستمرار ما كانوا فيه من القلة وما يتبعها، وقوله سبحانه: مُسْتَضْعَفُونَ خبر ثان، وجوز أن يكون صفة لقليل، وقوله تعالى: فِي الْأَرْضِ أي في أرض مكة تحت أيدي كفار قريش والخطاب للمهاجرين، أو تحت أيدي فارس والروم والخطاب للعرب كافة مسلمهم وكافرهم على ما نقل عن وهب. واعترض بأنه بعيد لا يناسب المقام مع أن فارس لم تحكم على جميع العرب، وقوله تعالى: تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ خبر ثالث أو صفة ثانية لقليل وصف بالجملة بعد ما وصف بغيرها، وجوز أبو البقاء أن تكون حالا من المستكن في مستضعفون والمراد بالناس على الأول وهو الأظهر أما كفار قريش أو كفار العرب كما قاله عكرمة لقربهم منهم وشدة عداوتهم لهم، وعلى الثاني فارس والروم. وأخرج الديلمي وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قيل: يا رسول الله ومن الناس؟ قال: أهل فارس، والتخطف كالخطف الأخذ بسرعة، وفسر هنا بالاستلاب أي واذكروا حالكم وقت قلتكم وذلتكم وهوانكم على الناس وخوفكم من اختطافكم، أو اذكروا ذلك الوقت فَآواكُمْ أي إلى المدينة أو جعل لكم مأوى تتحصنون به من أعدائكم وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ بمظاهرة الأنصار أو بإمداد الملائكة يوم بدر أو بأن قوى شوكتكم إذ بعث منكم من تضطرب قلوب أعدائكم من اسمه وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ من الغنائم ولم تطب إلا لهذه الأمة، وقيل: هي عامة في جميع ما أعطاهم من الأطعمة اللذيذة، والأول أنسب بالمقام والامتنان به هنا أظهر. والثاني متعين عند من يجعل الخطاب للعرب لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ هذه النعم الجليلة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ أصل الخون النقص كما أن أصل الوفاء الإتمام، واستعماله في ضد الأمانة لتضمنه إياه فإن الخائن ينقص المخون شيئا مما خانه فيه، اعتبر الراغب في الخيانة أن تكون سرا، والمراد بها هنا عدم العمل بما أمر الله تعالى به ورسوله عليه الصلاة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 182 والسلام. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن خيانة الله سبحانه بترك فرائضه والرسول صلّى الله عليه وسلّم بترك سنته وارتكاب معصيته. وقيل: المراد النهي عن الخيانة بأن يضمروا خلاف ما يظهرون أو يغلوا في الغنائم وأخرج أبو الشيخ عن يزيد بن أبي حبيب رضي الله تعالى عنه أن المراد بها الإخلال بالسلاح في المغازي. وذكر الزهري والكلبي «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حاصر يهود قريظة إحدى وعشرين ليلة- وفي رواية البيهقي- خمسا وعشرين. فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصلح. كما صالح إخوانهم بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم بأذرعات من أرض الشام فأبى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يعطيهم ذلك إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فأبوا وقالوا: أرسل لنا أبا لبابة رفاعة بن عبد المنذر وكان مناصحا لهم لأن ماله وولده وعياله كان عندهم. فبعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأتاهم فقالوا: يا أبا لبابة ما ترى أننزل على حكم سعد بن معاذ فأشار بيده إلى حلقه يعني أنه الذبح فلا تفعلوا. قال أبو لبابة: والله ما زالت قدماي عن مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام ثم انطلق على وجهه ولم يأت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشد نفسه (1) على سارية من سواري المسجد وقال: والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله تعالى علي، فلما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبره قال: أما لو جاءني لاستغفرت له أما إذا فعل ما فعل فإني لا أطلقه حتى يتوب الله تعالى عليه فمكث سبعة أيام لا يذوق طعاما ولا شرابا حتى خر مغشيا عيه ثم تاب الله تعالى عليه فقيل له: يا أبا لبابة قد تيب عليك. فقال: والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو الذي يحلني فجاءه عليه الصلاة والسلام فحله بيده ثم قال أبو لبابة: إن تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي. فقال صلّى الله عليه وسلّم: يجزيك الثلث أن تصدق به ونزلت فيه الآية» وقال السدي: كانوا يسمعون الشيء من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيفشونه حتى يبلغ المشركين فنهوا عن ذلك، وأخرج أبو الشيخ وغيره عن جابر بن عبد الله أن أبا سفيان خرج من مكة فأتى جبريل عليه السلام النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن أبا سفيان بمكان كذا وكذا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن أبا سفيان بمكان كذا وكذا فاخرجوا إليه واكتموا فكتب رجل من المنافقين إلى أبي سفيان أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم مريدكم فخذوا حذركم فنزلت وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ عطف على المجزوم أولا والمراد النهي عن خيانة الله تعالى والرسول وخيانة بعضهم بعضا، والكلام عند بعض على حذف مضاف أي أصحاب أماناتكم، ويجوز أن تجعل الأمانة نفسها مخونة، وجوز أبو البقاء أن يكون الفعل منصوبا بإضمار أن بعد الواو في جواب النهي كما في قوله: لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم والمعنى لا تجمعوا بين الخيانتين والأول أولى لأن فيه النهي عن كل واحد على حدته بخلاف هذا فإنه نهي عن الجمع ولا يلزمه النهي عن كل واحد على حدته، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير الأمانات بالأعمال التي ائتمن الله تعالى عليها عباده، وقرأ مجاهد «أمانتكم» بالتوحيد وهي رواية عن أبي عمرو ولا منافاة بينها وبين القراءة الأخرى وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي تبعة ذلك ووباله أو أنكم تخونون أو أنتم علماء تميزون الحسن من القبيح، فالفعل إما متعد له مفعول مقدر بقرينة المقام أو منزل منزلة اللازم، قيل: وليس المراد بذلك التقييد على كل حال وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ لأنها سبب الوقوع في الاسم والعقاب، أو محنة من الله عز وجل يختبركم   (1) المشهور ان أبا لبابة ربط نفسه لتخلفه عن تبوك وحسنه ابن عبد البر اهـ منه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 183 بها فلا يحملنكم حبها على الخيانة كأبي لبابة، ولعل الفتنة في المال أكثر منها في الولد ولذا قدمت الأموال على الأولاد، ولا يخفى ما في الأخبار من المبالغة. وجاء عن ابن مسعود ما منكم من أحد إلا وهو مشتمل على فتنة لأن الله سبحانه يقول: وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ إلخ فمن استعاذ منكم فليستعذ بالله تعالى من مضلات الفتن، ومثله عن علي كرم الله تعالى وجهه وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ لمن مال إليه سبحانه وآثر رضاه عليهما وراعى حدوده فيهما فأنيطوا هممكم بما يؤديكم إليه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ في كل ما تأتون وما تذرون يَجْعَلْ لَكُمْ بسبب ذلك الاتقاء فُرْقاناً أي هداية ونورا في قلوبكم تفرقون به بين الحق والباطل كما روي عن ابن جريج وابن زيد، أو نصرا يفرق بين المحق والمبطل بإعزاز المؤمنين وإذلال الكافرين كما قال الفراء، أو نجاة في الدارين كما هو ظاهر كلام السدي، أم مخرجا من الشبهات كما جاء عن مقاتل، أو ظهورا يشهر أمركم وينشر صيتكم كما يشعر به كلام محمد بن إسحاق- من بت أفعل كذا حتى سطع الفرقان- أي الصبح، وكل المعاني ترجع إلى الفرق بين أمرين، وجوز بعض المحققين الجمع بينها وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ أي يسترها في الدنيا وَيَغْفِرْ لَكُمْ بالتجاوز عنها في الأخرى فلا تكرار، وقد يقال: مفعول يغفر الذنوب وتفسر بالكبائر وتفسر السيئات بالصغائر، أو يقال: المراد ما تقدم وما تأخر لأن الآية في أهل بدر وقد غفر لهم. ففي الخبر لعل الله تعالى اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ تعليل لما قبله وتنبيه على أن ما وعد لهم على التقوى تفضل منه سبحانه وإحسان وأنها بمعزل عن أن توجب عليه جل شأنه شيئا، قيل: ومن عظيم فضله تعالى أنه يتفضل من غير واسطة وبدون التماس عوض ولا غيره سبحانه، ثم إنه عز وجل لما ذكر من ذكر نعمته بقوله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ إلخ ذكر نبيه عليه الصلاة والسلام النعمة الخاصة به بقوله عز من قائل: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا فهو متعلق بمحذوف وقع مفعولا لفعل محذوف معطوف على ما تقدم أو منصوب بالفعل المضمر المعطوف على ذلك، أي واذكر نعمته تعالى عليك إذ أو اذكر وقت مكرهم بك لِيُثْبِتُوكَ بالوثاق ويعضده قراءة ابن عباس «ليقيدوك» وإليه ذهب الحسن ومجاهد وقتادة أو بالاثخان بالجرح من قولهم: ضربه حتى أثبته لا حراك به ولا براح، وهو المروي عن ابن أبان وأبي حاتم والجبائي، وأنشد: فقلت ويحكم ما في صحيفتكم ... قالوا الخليفة أمسى مثبتا وجعا أو بالحبس في بيت كما روي عن عطاء والسدي وكل الأقوال ترجع إلى أصل واحد هو جعله صلّى الله عليه وسلّم ثابتا في مكانه أعم من أن يكون ذلك بالربط أو الحبس أو الإثخان بالجراح حتى لا يقدر على الحركة، ولا يرد أن الإثخان إن كان بدون قتل ذكر له فيما اشتهر من القصة وإن كان بالقتل يتكرر مع قوله تعالى: أَوْ يَقْتُلُوكَ لأنا نختار الأول، ولا يلزم أن يذكر في القصة لأنه قد يكون رأى من لا يعتد برأيه فلم يذكروا المراد على ما تقتضيه أو يقتلوك بسيوفهم أَوْ يُخْرِجُوكَ أي من مكة، وذلك على ما ذكر ابن إسحاق أن قريشا لما رأت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد كانت له شيعة وأصحاب من غيرهم من غير بلدهم ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم عرفوا أنهم قد نزلوا دارا وأصابوا منهم منعة فحذروا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم فاجتمعوا في دار الندوة وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمرا إلا فيها يتشاورون فيها ما يصنعون في أمره عليه الصلاة والسلام فلما اجتمعوا كما قال ابن عباس لذلك واتعدوا أن يدخلوا الدار ليتشاوروا فيها غدوا في اليوم الذي اتعدوا فيه وكان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمة فاعترضهم إبليس عليه اللعنة في هيئة شيخ جليل عليه بدلة فوقف على باب الدار فلما رأوه واقفا على بابها قالوا: من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 184 الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون وعسى أن لا يعدمكم منه رأيا ونصحا قالوا: أجل فادخل فدخل معهم وقد اجتمع أشراف قريش فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما رأيتم وإنا والله ما نأمنه قال: فتشاوروا ثم قال قائل (1) منهم: احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله زهيرا والنابغة ومن مضى منهم من هذا الموت حتى يصيبه ما أصابهم. فقال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا برأي والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتموه دونه إلى أصحابه فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينزعوه من أيديكم ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم ما هذا لكم برأي فانظروا في غيره فتشاوروا ثم قال قائل (2) منهم: نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا فإذا خرج عنا فو الله ما نبالي أين ذهب ولا حيث وقع إذا غاب عنا وفرغنا منه فأصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت. قال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا برأي ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به؟ والله لو فعلتم ذلك ما أمنت أن يحل على حي من العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يبايعوه ثم يسير بهم إليكم فيطؤكم بهم في بلادكم فيأخذ أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم ما أراد، دبروا فيه رأيا غيره. فقال أبو جهل: والله إن فيه لرأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد. قالوا وما هو يا أبا الحكم؟ قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جليدا نسيبا فينا ثم نعطي كل فتى منهم سيفا صارما ثم يعمدون إليه فيضربونه بها ضربة رجل واحد فيقتلونه فنستريح منه فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا فرضوا منا بالعقل فعقلناه لهم قال فقال الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل هو هذا الرأي لا أرى غيره فتفرقوا على ذلك، فأتى جبريل عليه السلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متى ينام فيثبون عليه فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكانهم قال لعلي كرم الله وجهه نم على فراشي وتسبح بردي هذا الحضرمي الأخضر فنم فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينام في برده ذلك إذا نام، وأذن له عليه الصلاة والسلام في الهجرة فخرج مع صاحبه أبي بكر رضي الله تعالى عنه إلى الغار، وأنشد علي كرم الله تعالى وجهه مشيرا لما من الله تعالى به عليه: وقيت بنفسي خير من وطئ الحصى ... ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر رسول إله خاف أن يمكروا به ... فنجاه ذو الطول الإله من المكر وبات رسول الله في الغار آمنا ... وقد صار في حفظ الإله وفي ستر وبت أراعيهم وما يتهمونني ... وقد وطنت نفسي على القتل والأسر وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ أي يرد مكرهم ويجعل وخامته عليهم أو يجازيهم عليه أو يعاملهم معاملة الماكرين وذلك بأن أخرجهم إلى بدر وقلل المسلمين في أعينهم حتى حملوا عليهم فلقوا منهم ما يشيب منه الوليد، ففي الكلام استعارة تبعية أو مجاز مرسل أو استعارة تمثيلية، وقد يكتفى بالمشاكلة الصرفة وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ إذ لا يعتد بمكرهم عند مكره سبحانه. قال بعض المحققين: إطلاق هذا المركب الإضافي عليه تعالى إن كان باعتبار أن مكره جل شأنه أنفذ وأبلغ تأثيرا فالإضافة للتفضيل لأن لمكر الغير أيضا نفوذا وتأثيرا في الجملة، وهذا معنى أصل فعل الخير فتحصل المشاركة   (1) هو ابو البختري بن هشام اهـ منه. (2) هو أبو الأسود ربيعة بن عمير اهـ منه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 185 فيه، وإذا كان باعتبار أنه سبحانه لا ينزل إلا الحق ولا يصيب إلا بما يستوجبه الممكور به فلا شركة لمكر الغير فيه فالإضافة حينئذ للاختصاص كما في- أعدلا بني مروان- لانتفاء المشاركة. وقيل: هو من قبيل- الصيف أحر من الشتاء- بمعنى أن مكره تعالى في خيريته أبلغ من مكر الغير في شرّيته. وادعى غير واحد أن المكر لا يطلق عليه سبحانه دون مشاكلة لأنه حيلة يجلب بها مضرة إلى الغير وذلك مما لا يجوز في حقه سبحانه. واعترض بوروده من دون مشاكلة في قوله تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ. وأجيب بأن المشاكلة فيما ذكر تقديرية وهي كافية في الغرض، وفيه نظر، فقد جاء عن علي كرم الله تعالى وجهه «من وسع عليه في دنياه ولم يعلم أنه مكر به فهو مخدوع في عقله» والمشاكلة التقديرية فيه بعيدة جد بل لا يكاد يدعيها منصف وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا التي لو أنزلناها على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا قائله النضر بن الحرث من بني عبد الدار على ما عليه جمهور المفسرين وكان يختلف إلى أرض فارس والحيرة فيسمع أخبارهم عن رستم، وإسفنديار وكبار العجم وكان يمر باليهود والنصارى فيسمع منهم التوراة والإنجيل، وإسناد القول إلى ضمير الجمع من إسناد فعل البعض إلى الكل لما أن اللعين كان رئيسهم وقاضيهم الذي يقولون بقوله ويعملون برأيه. وقيل: قاله الذين ائتمروا في أمره عليه الصلاة والسلام في دار الندوة، وأيا ما كان فهو غاية المكابرة ونهاية العناد، إذ لو استطاعوا شيئا من ذلك فما منعهم من المشيئة؟ وقد تحداهم عليه الصلاة والسلام وقرّعهم بالعجز عشر سنين ثم قارعهم بالسيف فلم يعارضوا بما سواه مع أنفتهم واستنكافهم أن يغلبوا لا سيما في ميدان البيان فانهم كانوا فرسانه المالكين لأزمته الحائزين قصب السبق به. واشتهر أنهم علقوا القصائد السبعة المشهورة على باب الكعبة متحدين بها، لكن تعقب (1) أن ذلك مما لا أصل له وإن اشتهر، وزعم بعضهم أن هذا القول كان منهم قبل أن ينقطع طمعهم عن القدرة على الإتيان بمثله، وليس بشيء إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ جمع أسطورة على ما قاله المبرد كأحدوثة وأحاديث ومعناه ما سطر وكتب. وفي القاموس الأساطير الأحاديث لا نظام لها جمع اسطار وإسطير وأسطور وبالهاء في الكل. وأصل السطر الصف من الشيء كالكتاب والشجر وغيره وجمعه أسطر وسطور وأسطار وجمع الجمع أساطير ويحرك في الكل، وقال بعضهم: إن جمع سطر بالسكون أسطر وسطور وجمع سطر أسطار وأساطير، وهو مخالف لما في القاموس، والكلام على التشبيه، وأرادوا ما هذا إلا كقصص الأولين وحكاياتهم التي سطروها وليس كلام الله تعالى، وكأنه بيان لوجه قدرتهم على قول مثله لو شاؤوا. وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ قائل هذا النضر أيضا على ما روي عن مجاهد وسعيد بن جبير، وجاء في رواية أنه لما قال أولا ما قال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: ويلك إنه كلام الله تعالى فقال ذلك. وأخرج البخاري. والبيهقي في الدلائل عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنهما أنه أبو جهل بن هشام. وأخرج ابن جرير عن يزيد بن رومان ومحمد بن قيس أن قريشا قال بعضها لبعض أكرم الله تعالى   (1) المتعقب الشهاب اهـ منه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 186 محمدا صلّى الله عليه وسلّم من بيننا اللهم إن كان هذا هو الحق إلخ وهو أبلغ في الجحود من القول الأول لأنهم عدوا حقيته محالا فلذا علقوا عليها طلب العذاب الذي لا يطلبه عاقل ولو كانت ممكنة لفرّوا من تعليقه عليها، وما يقال إن إن للخلو عن الجزم فكيف استعملت في صورة الجزم؟ أجاب عنه القطب بأنها لعدم الجزم بوقوع الشرط ومتى جزم بعدم وقوعه عدم الجزم بوقوعه، وهذا كقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ [البقرة: 23] وفيه بحث ذكره العلامة الثاني. واللام في الْحَقَّ قيل للعهد، ومعنى العهد في أنه الحق الذي ادعاه النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو أنه كلام الله تعالى المنزل عليه الصلاة والسلام على النمط المخصوص ومِنْ عِنْدِكَ ان سلم دلالته عليه فهو للتأكيد وحينئذ فالمعلق به كونه حقا بالوجه الذي يدعيه النبي صلّى الله عليه وسلّم لا الحق مطلقا لتجوزيهم أن يكون مطابقا للواقع غير منزل «كأساطير الأولين» وفي الكشاف أن قولهم: هو الحق تهكم بمن يقول على سبيل التخصيص والتعيين، هذا هو الحق، وزعم بعضهم أن هذا قول بأن اللام للجنس وأشار إلى أن الأولى حملها على العهد الخارجي على معنى الحق المعهود المنزل من عند الله تعالى هذا لا أساطير الأولين فالتركيب مفيد لتخصيص المسند إليه بالمسند على آكد وجه، وحمل كلام البيضاوي على ذلك وطعن في مسلك الكشاف بعدم ثبوت قائل أولا على وجه التخصيص يتهكم به. ولا يخفى ما فيه من المنع والتعسف وأمطر استعارة أو مجاز لأنزل، وقد تقدم الكلام في المطر والأمطار، وقوله سبحانه: مِنَ السَّماءِ صفة حجارة وذكره للإشارة إلى أن المراد بها السجيل والحجارة المسومة للعذاب، يروى أنها حجارة من طين طبخت بنار جهنم مكتوب فيها أسماء القوم، وجوز أن يكون الجار متعلقا بالفعل قبله، والمراد بالعذاب الأليم غير أمطار الحجارة بقرينة المقابلة، ويصح أن يكون من عطف العام على الخاص، وتعلق مِنْ عِنْدِكَ بمحذوف قيل: هو حال مما عنده أو صفة له، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما والأعمش الْحَقَّ بالرفع على أن هو مبتدأ لا فصل، وقول الطبرسي: إنه لم يقرأ بذلك، ليس بذاك، ولا أرى فرقا بين القراءتين من جهة المراد بالتعريف خلافا لمن زعمه وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ جواب لكلمتهم الشنعاء وبيان لما كان الموجب لامهالهم وعدم إجابة دعائهم الذي قصدوا به ما قصدوا، واللام هي التي تسمى لام الجحود ولام النفي لاختصاصها بمنفي كان الماضية لفظا أو معنى، وهي اما زائدة أو غير زائدة والخبر محذوف، أي ما كان الله مريدا لتعذيبهم، وأيا ما كان فالمراد تأكيد النفي إما على زيادتها فظاهر وإما على عدم زيادتها وجعل الخبر ما علمت فلأن نفي إرادة الفعل أبلغ من نفيه، وقيل: في وجه إفادة اللام تأكيد النفي هنا أنها هي التي في قولهم: أنت لهذه الخطة أي مناسب لها وهي تليق بك، ونفي اللياقة أبلغ من نفي أصل الفعل ولا يخلو عن حسن وإن قيل: إنه تكلف لا حاجة إليه بعد ما بينه النحاة في وجه ذلك، وحمل غير واحد العذاب على عذاب الاستئصال، واعترض بأنه لا دليل على هذا التقييد مع أنه لا يلائمه المقام وأجيب بمنع عدم الملاءمة، بل من أمعن النظر في كلامهم رآه مشعرا بطلب ذلك، والدليل على التقييد أنه وقع عليهم العذاب والنبي صلّى الله عليه وسلّم فيهم كالقحط فعلم أن المراد به عذاب الاستئصال والقرينة عليه تأكيد النفي الذي يصرفه إلى أعظمه، فالمراد من الآية الإخبار بأن تعذيبهم عذاب استئصال، والنبي صلّى الله عليه وسلّم بين أظهرهم خارج عن عادته تعالى غير مستقيم في حكمه وقضائه، والمراد بالاستغفار في قوله سبحانه: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ اما استغفار من بقي بينهم من المؤمنين المستضعفين حين هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وروي هذا عن الضحاك واختاره الجبائي، وقال الطيبي: إنه أبلغ لدلالته على استغفار الغير مما يدفع به العذاب عن أمثال هؤلاء الكفرة، وإسناد الاستغفار إلى ضمير الجميع لوقوعه فيما بينهم ولجعل ما صدر عن البعض كما قيل بمنزلة الصادر عن الكل فليس هناك تفكيك للضمائر كما يوهمه كلام ابن عطية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 187 وأما دعاء الكفرة بالمغفرة وقولهم غفرانك فيكون مجرد طلب المغفرة منه تعالى مانعا من عذابه جل شأنه ولو من الكفرة، وروي هذا عن يزيد بن رومان ومحمد بن قيس قالا: إن قريشا لما قالوا ما قالوا ندموا حين أمسوا فقالوا: غفرانك اللهم، وأما التوبة والرجوع عن جميع ما هم عليه من الكفر وغيره على معنى لو استغفروا لم يعذبوا كقوله تعالى: وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ [هود: 117] وروي هذا عن السدي وقتادة وابن زيد، وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كل من الأقوال الثلاثة، وأيا ما كان فالجملة الاسمية في موضع الحال إلا أن القيد مثبت على الوجهين الأولين منفي على الوجه الأخير، ومبني الاختلاف في ذلك ما نقل عن السلف من الاختلاف في تفسيره، والقاعدة المقررة بين القوم في القيد الواقع بعد الفعل المنفي، وحاصلها على ما قيل: إن القيد في الكلام المنفي قد يكون لتقييد النفي وقد يكون لنفي التقييد بمعنى انتفاء كل من الفعل والقيد أو القيد فقط أو الفعل فقط، وقيل (1) : إن الدال على انتفاء الاستغفار هنا على الوجه الأخير القرينة والمقام لا نفس الكلام وإلا لكان معنى وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ نفى كونه فيهم لأن أمر الحالية مشترك بين الجملتين. وأطال الكلام في نفي تساوي الجملتين سؤالا وجوابا، ثم تكلف للتفرقة بما تكلف، واعترض عليه بما اعترض، والظاهر عندي عدم الفرق في احتمال كل من حيث إنه كلام فيه قيد توجه النفي إلى القيد. ومن هنا قال بعضهم: إن المعنى الأولى لو كنت فيهم لم يعذبوا كما قيل في معنى الثانية: لو استغفروا لم يعذبوا، ويكون ذلك إشارة إلى أنهم عذبوا بما وقع لهم في بدر لأنهم اخرجوا النبي صلّى الله عليه وسلّم من مكة ولم يبق فيهم فيها إلا أن هذا خلاف الظاهر ولا يظهر عليه كون الآية جوابا لكلمتهم الشنعاء، وعن ابن عباس أن المراد بهذا الاستغفار استغفار من يؤمن منهم بعد، أي وما كان الله معذبهم وفيهم من سبق له من الله تعالى العناية أنه يؤمن ويستغفر كصفوان ابن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو وأضرابهم، وعند مجاهد أن المراد به استغفار من في أصلابهم ممن علم الله تعالى أنه يؤمن، أي ما كان الله معذبهم وفي أصلابهم من يستغفر وهو كما ترى، ويظهر لي من تأكيد النفي في الجملة الأولى وعدم تأكيده في الجملة الثانية أن كون النبي صلّى الله عليه وسلّم فيهم ادعى حكمة لعدم التعذيب من الاستغفار، وحمل بعضهم التعذيب المنفي في الجملة الثانية بناء على الوجه الأخير على ما عدا تعذيب الاستئصال، وحمل الأول على التعذيب الدنيوي والثاني على الأخروي ليس بشيء وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ أي أي شيء لهم في انتفاء العذاب عنهم أي لاحظ لهم في ذلك وهم معذبون لا محالة إذا زال المانع وكيف لا يعذبون وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي وحالهم الصد عن ذلك حقيقة كما فعلوا عام الحديبية وحكما كما فعلوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه حتى ألجئوهم للهجرة، ولما كانت الآيتان يتراءى منهما التناقض زادوا في التفسير إذا زال ليزول كما ذكرنا، وأنت تعلم أنه إذا حمل التعذيب في كل على تعذيب الاستئصال احتيج إلى القول بوقوعه بعد زوال المانع وهو خلاف الواقع، وقال بعضهم في دفع ذلك: إن التعذيب فيما مر تعذيب الاستئصال وهنا التعذيب بقتل بعضهم، ونقل الشهاب عن الحسن والعهدة عليه أن هذه نسخت ما قبلها، والظاهر أنه أراد النفيين السابقين، والذي في الدر المنثور أنه وكذا عكرمة. والسدي قالوا: إن قوله سبحانه: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ منسوخ بهذه الآية، وأيا ما كان يرد عليه أنه لا نسخ في الأخبار إلا إذا تضمنت حكما شرعيا، وفي تضمن المنسوخ هنا ذلك خفاء، وقال محمد بن إسحاق: إن الآية الأولى متصلة بما قبلها على أنها حكاية عن المشركين فانهم كانوا يقولون: إن الله تعالى لا يعذبنا   (1) القائل السعد اهـ منه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 188 ونحن نستغفر ولا يعذب سبحانه أمة ونبيها معها فقص الله تعالى ذلك على نبيه صلّى الله عليه وسلّم مع قولهم الآخر فكأنه قيل: وإذا قالوا اللهم إلخ وقالوا أيضا: كيت وكيت ثم رد عليهم بقوله سبحانه وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ على معنى أنهم يعذبون وإن كنت بين أظهرهم وإن كانوا يستغفرون، وفيه أن وقوع ذلك القول منهم في غاية البعد مع أن الظاهر حينئذ أن يقال: ليعذبنا ومعذبنا ونحن نسنغفر ليكون على طرز قولهم السابق، وأيضا الأخبار الكثيرة تأبى ذلك، فقد أخرج أبو الشيخ والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الأيمان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان فيكم إمامان مضى أحدهما وبقي الآخر وتلا وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ إلخ. وجاء مثل ذلك عن ابن عباس وأبي موسى الأشعري، وأخرج أبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقام عليه الصلاة والسلام فلم يكد يركع ثم ركع فلم يكد يرفع ثم رفع فلم يكد يسجد ثم سجد فلم يكد يرفع ثم رفع فلم يكد يسجد ثم سجد فلم يكد يرفع ثم رفع وفعل في الركعة الأخرى مثل ذلك ثم نفخ في آخر سجوده ثم قال: رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم؟ رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون؟ ونحن نستغفرك ففرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من صلاته وقد انمحصت الشمس» وذهب الجبائي إلى أن المنفي فيما مر عذاب الدنيا وهذا العذاب عذاب الآخرة أي إنه يعذبهم في الآخرة لا محالة وهو خلاف سياق الآية، وَما على ما عليه الجمهور وهو الظاهر استفهامية، وقيل: إنها نافية أي ليس ينفي عنهم العذاب مع تلبسهم بالصد عن المسجد الحرام وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ أي وما كانوا مستحقين ولاية المسجد الحرام مع شركهم، والجملة في موضع الحال من ضمير يصدون مبينة لكمال قبح ما صنعوا من الصدفان مباشرتهم للصد عنه مع عدم استحقاقهم لولاية أمره في غاية القبح، وهذا رد لما كانوا يقولون: نحن ولاة البيت والحرم فنصد من نشاء وندخل من نشاء إِنْ أَوْلِياؤُهُ أي ما أولياء المسجد الحرام إِلَّا الْمُتَّقُونَ من الشرك الذي لا يعبدون فيه غيره تعالى، والمراد بهم المسلمون وهذه المرتبة الأولى من التقوى، وما أشرنا إليه من رجوع الضميرين إلى المسجد هو المتبادر المروي عن أبي جعفر والحسن، وقيل: هما راجعان إليه تعالى، وعليه فلا حاجة إلى اعتبار الاستحقاق فيما تقدم آنفا إذ لم تثبت لهم ولاية الله تعالى أصلا بخلاف ولاية المسجد فإنهم كانوا متولين له وقت النزول فاحتيج إلى التأويل بنفي الاستحقاق، ويفسر المتقون حينئذ بما هو أخص من المسلمين لأن ولاية الله تعالى لا يكفي فيها الإسلام بل لا بد فيها أيضا من المرتبة الثانية من التقوى وإن وجدت المرتبة الثالثة منها فالولاية ولاية كبرى، وهذا ما نعرفه من نصوص الشريعة المطهرة والمحجة البيضاء التي ليلها كنهارها، وغالب الجهلة اليوم على أن الولي هو المجنون ويعبرون عنه بالمجذوب، صدقوا ولكن عن الهدى، وكلما أطبق جنونه وكثر هذيانه واستقذرت النفوس السلمة أحواله كانت ولايته أكمل وتصرفه في ملك الله تعالى أتم، وبعضهم يطلق الولي عليه وعلى من ترك الأحكام الشرعية ومرق من الدين المحمدي وتكلم بكلمات القوم وتزيا بزيهم، وليس منهم في عير ولا نفير، وزعم أن من أجهد نفسه في العبادة محجوبا ومن تمسك بالشريعة مغبونا، وإن هناك باطن يخالف الظاهر إذا هو عرف انحل القيد ورفع التكليف وكملت النفس: وألقت عصاها واستقر بها النوى ... كما قرّ عينا بالإياب المسافر ويسمون هذا المرشد، صدقوا ولكن إلى النار، والشيخ صدقوا ولكن النجدي، والعارف صدقوا ولكن بسباسب الضلال، والموحد صدقوا ولكن للكفر والإيمان، وقد ذكر مولانا حجة الإسلام الغزالي هذا النوع من الكفرة الفجرة وقال: إن قتل واحد منهم أفضل عند الله تعالى من قتل مائة كافر، وكذا تكلم فيهم الشيخ الأكبر قدس سره في الفتوحات بنحو ذلك: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 189 إلى الماء يسعى من يغص بلقمة ... إلى أين يسعى من يغص بماء والزمخشري جعل الْمُتَّقُونَ أخص من المسلمين على الوجه الأول أيضا وهو أبلغ في نفي الولاية عن المذكورين أي لا يصلح لأن يلي أمر المسجد من ليس بمسلم وإنما يستأهل ولايته من كان برا تقيا فكيف بالكفرة عبدة الأوثان وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن لا ولاية لهم عليه، وكأنه نبه سبحانه بذكر الأكثر على أن منهم من يعلم ذلك ولكن يجحده عنادا، وقد يراد بالأكثر الكل لأن له حكمه في كثير من الأحكام كما أن الأقل قد لا يعتبر فينزل منزلة العدم وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ أي المسجد الحرام الذي صدوا المسلمين عنه، والتعبير عنه بالبيت للاختصار مع الإشارة إلى أنه بيت الله تعالى فينبغي أن يعظم بالعبادة وهم لم يفعلوا إِلَّا مُكاءً أي صفيرا، وهو فعال بضم أوله كسائر أسماء الأصوات تجيء على فعال إلا ما شذ كالنداء من مكا يمكو إذا صفر، وقرىء مكا بالقصر كبكا وَتَصْدِيَةً أي تصفيقا، وهو ضرب اليد باليد بحيث يسمع له صوت، ووزنه تفعلة من الصد كما قال أبو عبيدة فحول إحدى الدالين ياء كما في تقضى البازي لتقضضه، ومن ذلك قوله تعالى: إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ [الزخرف: 57] أي يضجون لمزيد تعجبهم، وأنكر عليه، وقيل: هو من الصدأ وهو ما يسمع من رجع الصوت عند جبل ونحوه، والمراد بالصلاة اما الدعاء أو أفعال أخر كانوا يفعلونها ويسمونها صلاة، وحمل المكاء والتصدية عليها على ما يشير إليه كلام الراغب بتأويل ذلك بأنها لا فائدة فيها ولا معنى لها كصفير الطيور وتصفيق اللعب. وقد يقال: المراد أنهم وضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة التي تليق أن تقع عند البيت على حد: تحية بينهم ضرب وجيع يروى أنهم كانوا إذا أرادوا النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يصلي يخلطون عليه بالصفير والتصفيق ويرون أنهم يصلون أيضا. وروي أنهم كانوا يطوفون عراة الرجال والنساء مشبكين بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون. وقال بعض القائلين: إن التصدية بمعنى الصد، والمراد صدهم عن القراءة أو عن الدين أو الصد بمعنى الضجة كما نقل عن ابن يعيش في قوله تعالى: إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ والمأثور عن ابن عباس وجمع من السلف ما ذكرناه. نعم روي عن ابن جبير: تفسير التصدية بصد الناس عن المسجد الحرام، وفيه بعد، وأبعد من ذلك تفسير عكرمة لها بالطواف على الشمال بل لا يكاد يسلم، والجملة معطوفة إما على وَهُمْ يَصُدُّونَ فتكون لتقرير استحقاقهم للعذاب ببيان أنهم صدوا ولم يقوموا مقام من صدوه في تعظيم البيت، أو على وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ فتكون تقرير لعدم استحقاقهم لولايته. وقرأ الأعمش. «صلاتهم» بالنصب وهي رواية عن عاصم. وأبان، وهو حينئذ خبر كان ومكاء بالرفع اسمها، وفي ذلك الإخبار عن النكرة بالمعرفة وهو من القلب عند السكاكي، وقال ابن جني: لا قلب ثم قال: لسنا ندفع أن جعل اسم كان نكرة وخبرها معرفة قبيح وإنما جاءت منه أبيات شاذة لكن من وراء ذلك ما أذكره، وهو أن نكرة الجنس تفيد مفاد معرفته. ألا تراك تقول: خرجت فإذا أسد بالباب، فتجد معناه فإذا الأسد بالباب ولا فرق بينهما، وذلك أنك في الموضعين لا تريد أسدا واحدا معينا وإنّما تريد، واحدا من هذا الجنس، وإذا كان كذلك جاز هنا النصب والرفع جوازا قريبا كأنه قيل: وما كان صلاتهم إلا هذا الجنس من الفعل ولا يكون مثل قولك: كان قائم أخاك، لأنه ليس في قائم معنى الجنسية. وأيضا فإنه يجوز مع النفي ما لا يجوز مع الإيجاب. ألا تراك تقول: ما كان إنسان خيرا منك ولا تجيز كان إنسان خيرا منك، وتمام الكلام عليه في موضعه فَذُوقُوا الْعَذابَ يعني القتل والأسر يوم بدر كما روي عن الحسن. والضحاك، وقيل: عذاب الآخرة، وقيل: العذاب المعهود في قوله سبحانه: أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ [الأنفال: 32] ولا تعيين، والباء في قوله تعالى: بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ للسببية، والفاء على تقدير أن لا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 190 يراد من العذاب عذاب الآخرة للتعقيب، وعلى تقدير أن يراد ذلك للسببية كالباء وأمر اجتماعهما ظاهر، والمتبادر من الكفر ما يرجع الاعتقاد، وقد يراد به ما يشمل الاعتقاد والعمل كما يراد من الإيمان في العرف ذلك أيضا إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ نزلت على ما روي عن الكلبي والضحاك ومقاتل في المطعمين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلا: أبو جهل وعتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وأبو البختري بن هشام والنضر بن الحارث وحكيم بن حزام وأبي بن خلف وزمعة بن الأسود والحارث بن عامر بن نوفل والعباس ابن عبد المطلب وكلهم من قريش، وكان كل يوم يطعم كل واحد عشر جزر وكانت النوبة يوم الهزيمة للعباس، وروى ابن إسحاق أنها نزلت في أصحاب العير. وذلك أنه لما أصيبت قريش يوم بدر ورجعوا إلى مكة مشى صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل في رجال من قريش أصيب آباؤهم وإخوانهم ببدر فكلموا أبا سفيان ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل رجالكم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا أن ندرك منه ثأرنا بمن أصيب منا ففعلوا، وعن سعيد بن جبير ومجاهد أنها نزلت في أبي سفيان استأجر ليوم أحد ألفين من أحد الأحابيش ليقاتل بهم النبي صلّى الله عليه وسلّم سوى من استجاشهم من العرب وأنفق عليهم أربعين أوقية من الذهب وكانت الأوقية يومئذ اثنين وأربعين مثقالا من الذهب، وفيهم يقول كعب بن مالك من قصيدة طويلة أجاب بها هبيرة بن أبي وهب: فجئنا إلى موج من البحر وسطهم ... أحابيش منهم حاسر ومقنع ثلاثة آلاف ونحن عصابة ... ثلاث مئين إن كثرنا فأربع وسبيل الله طريقه، والمراد به دينه واتباع رسوله صلّى الله عليه وسلّم، واللام في لِيَصُدُّوا لام الصيرورة ويصح أن تكون للتعليل لأن غرضهم الصد عن السبيل بحسب الواقع وإن لم يكن كذلك في اعتقادهم، وكأن هذا بيان لعبادتهم المالية بعد عبادتهم البدنية، والموصول اسم إن وخبرها على ما قال العلامة الطيبي في قوله تعالى: فَسَيُنْفِقُونَها وينفقون إما حال أو بدل من كفروا أو عطف بيان، واقترن الخبر بالفاء لتضمن المبتدي الموصول مع صلته معنى الشرط كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ فهو جزاء بحسب المعنى، وفي تكرير الانفاق في الشرط والجزاء الدلالة على كمال سوء الانفاق كما في قوله تعالى: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران: 192] وقولهم: من أدرك الصمان فقد أدرك المرعى، والكلام مشعر بالتوبيخ على الانفاق والإنكار عليه، قيل: وإلى هذا يرجع قول بعضهم إن مساق ما تقدم لبيان غرض الانفاق ومساق هذا لبيان عاقبته وأنه لم يقع بعد فليس ذلك من التكرار المحظور، وقيل: في دفعه أيضا: المراد من الأول الانفاق في بدر. ويُنْفِقُونَ لحكاية الحال الماضية وهو خبر أن، ومن الثاني الانفاق في أحد، والاستقبال على حاله، والجملة عطف على الخبر لكن لما كان إنفاق الطائفة الأولى سببا لانفاق الثانية، أتى بالفاء لابتنائه عليه، وذهب القطب إلى هذا الاعراب أيضا على تقدير دفع التكرار باختلاف الغرضين، وذكر أن الحاصل أنا لو حملنا يُنْفِقُونَ على الحال فلا بد من تغاير الإنفاقين وإن حملناه على الاستقبال اتحدا، كأنه قيل: إن الذين كفروا يريدون أن ينفقوا أموالهم فسينفقونها، وحمل المنفق في الأول على البعض وفي الثاني على الكل لا أراه إلا كما ترى، وقوله سبحانه: ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً عطف على ما قبله، والتراخي زماني، والحسرة الندم والتأسف، وفعله حسر كفرح أي ثم تكون عليهم ندما وتأسفا لفواتها من غير حصول المطلوب، وهذا في بدر ظاهر. وأما في أحد فلأن المقصود لهم لم ينتج الجزء: 5 ¦ الصفحة: 191 بعد ذلك فكان كالفائت، وضمير تكون للأموال على معنى تكون عاقبتها عليهم حسرة، فالكلام على تقدير مضافين أو ارتكاب تجوز في الإسناد. وقال العلامة الثاني: إنه من قبيل الاستعارة في المركب حيث شبه كون عاقبة انفاقهم حسرة بكون ذات الأموال كذلك وأطلق المشبه به على المشبه وفيه خفاء، ومن الناس من قال: إن إطلاق الحسرة بطريق التجوز على الانفاق مبالغة فافهم ثُمَّ يُغْلَبُونَ أي في مواطن أخر بعد ذلك وَالَّذِينَ كَفَرُوا أي الذين أصروا على الكفر من هؤلاء ولم يسلموا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ أي يساقون لا إلى غيرها لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ أي الكافر من المؤمن أو الفساد من الصلاح، واللام على الوجهين متعلقة بيحضرون وقد يراد من الخبيث ما أنفقه المشركون لعداوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومِنَ الطَّيِّبِ ما أنفقه المسلمون لنصرته عليه الصلاة والسلام، فاللام متعلقة بتكون عليهم حسرة دون يحشرون، إذ لا معنى لتعليل حشرهم بتمييز المال الخبيث من الطيب، ولم تتعلق بتكون على الوجهين الأولين إذ لا معنى لتعليل كون أموالهم عليهم حسرة بتمييز الكفار من المؤمنين أو الفساد من الصلاح. وقرأ حمزة. والكسائي. ويعقوب «ليميّز» من التمييز وهو أبلغ من الميز لزيادة حروفه. وجاء من هذا ميزته فتميز ومن الأول مزته فانمازوا. وقرىء شاذا فانمازوا اليوم أيها المجرمون [سورة ص: 59] وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً أي يضم بعضه إلى بعض ويجمعه من قولهم: سحاب مركوم ويوصف به الرمل والجيش أيضا، والمراد بالخبيث إما الكافر فيكون المراد بذلك فرط ازدحامهم في الحشر، وإما الفساد فالمراد أنه سبحانه يضم كل صنف بعضه إلى بعض فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ كله، وجعل الفساد فيها بجعل أصحابه فيها، وأما المال المنفق في عداوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وجعله في جهنم لتكوى به جباههم وجنوبهم. وقد يراد به هنا ما يعم الكافر وذلك المال على معنى أنه يضم إلى الكافر الخبيث ماله الخبيث ليزيد به عذابه ويضم إلى حسرة الدنيا حسرة الآخرة أُولئِكَ إشارة إلى الخبيث، والجمع لأنه مقدر بالفريق الخبيث أو إلى المنفقين الذين بقوا على الكفر فوجه الجمع ظاهر، وما فيه من معنى البعد على الوجهين للايذان ببعد درجتهم في الخبث. هُمُ الْخاسِرُونَ أي الكاملون في الخسران لأنهم خسروا أنفسهم وأموالهم قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي المعهودين وهم أبو سفيان وأصحابه، واللام عند جمع للتعليل أي قل لأجلهم إِنْ يَنْتَهُوا عما هم فيه من معاداة الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالدخول في الإسلام يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ منهم من الذنوب التي من جملتها المعاداة والانفاق في الضلال، وقال أبو حيان: الظاهر أن اللام للتبليغ وأنه عليه الصلاة والسلام أمر أن يقول هذا المعنى الذي تضمنته ألفاظ هذه الجملة المحكية بالقول سواء قاله بهذه العبارة أم غيرها، وهذا الخلاف إنما هو على قراءة الجماعة وأما على قراءة ابن مسعود «ان تنتهوا يغفر لكم» بالخطاب فلا خلاف في أنها للتبليغ على معنى خاطبهم بذلك، وقرىء «نغفر لهم» على أن الضمير لله عزّ وجلّ وَإِنْ يَعُودُوا إلى قتاله صلّى الله عليه وسلّم أو إلى المعاداة على معنى إن داوموا عليها فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ أي عادة الله تعالى الجارية في الذين تحزبوا على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من نصر المؤمنين عليهم وخذلانهم وتدميرهم. وأضيفت السنة إليهم لما بينهما من الملابسة الظاهرة، ونظير ذلك قوله سبحانه: سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا [الإسراء: 77] فأضاف السنة إلى المرسلين مع أنها سنته تعالى لقوله سبحانه: وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا [الإسراء: 77] باعتبار جريانها على أيديهم، ويدخل في الأولين الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر، وبعضهم فسره بذلك ولعل الأول أولى لعمومه ولأن السنة تقتضي التكرر في العرف وإن قالوا: العادة تثبت بمرة، والجملة على ما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 192 في البحر دليل الجواب، والتقدير إن يعودوا انتقمنا منهم أو نصرنا المؤمنين عليهم فقد مضت سنة الأولين، وذهب غير واحد إلى أن المراد بالذين كفروا الكفار مطلقا، والآية حث على الإيمان وترغيب فيه، والمعنى أن الكفار ان انتهوا عن الكفر وأسلموا غفر لهم ما سلف منهم من الكفر والمعاصي وخرجوا منها كما تنسل الشعرة من العجين وإن عادوا إلى الكفر بالارتداد فقد رجع التسليط والقهر عليهم، واستدل بالآية على أن الإسلام يجب ما قبله، وأن الكافر إذا أسلم لا يخاطب بقضاء ما فاته من صلاة أو زكاة أو صوم أو إتلاف مال أو نفس، وأجرى المالكية ذلك كله في المرتد إذا تاب لعموم الآية، واستدلوا بها على إسقاط ما على الذمي من جزية وجبت عليه قبل إسلامه، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن وهب عن مالك قال: لا يؤاخذ الكافر بشيء صنعه في كفره إذا أسلم وذلك لأن الله تعالى قال: إِنْ يَنْتَهُوا إلخ. وقال بعض: إن الحربي إذا أسلم لم تبق عليه تبعة أصلا وأما الذمي فلا يلزمه قضاء حقوق الله تعالى وتلزمه حقوق العباد، ونسب إلى الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أن مذهبه في المرتد كمذهب المالكية في أنه إذا رجع إلى الإسلام لم تبق عليه تبعة وهو كالصريح في أن من عصى طول العمر ثم ارتد ثم أسلم لم يبق عليه ذنب. ونسب بعضهم قول ذلك إليه رضي الله تعالى عنه صريحا وادعى أنه احتج عليه بالآية وأنه في غاية الضعف إذ المراد بالكفر المشار إليه في الآية هو الكفر الأصلي وبما سلف ما مضى في حال الكفر، وتعقب ذلك بأن أبا حنيفة ومالكا أبقيا الآية على عمومها لحديث «الإسلام يهدم ما كان قبله» وإنهما قالا: إن المرتد يلزمه حقوق الآدميين دون حقوق الله تعالى كما في كتاب أحكام القرآن لابن عبد الحق، وخالفهما الشافعي رضي الله تعالى عنه وقال: يلزمه جميع الحقوق، وأنا أقول ما ذكره ذلك البعض عن أبي حنيفة في العاصي المذكور في غاية الغرابة، وفي كتب الأصحاب ما يخالفه، ففي الخافية إذا كان على المرتد قضاء صلوات أو صيامات تركها في الإسلام ثم أسلم قال شمس الأئمة الحلواني: عليه قضاء ما ترك في الإسلام لأن ترك الصلاة والصيام معصية تبقى بعد الردة. نعم ذكر قاضيخان فيها ما يدل على أن بعض الأشياء يسقط عن هذا المرتد إذا عاد إلى الإسلام وأطال الكلام في المرتد ولا بأس بنقل شيء مما له تعلق في هذا المبحث إذ لا يخلو عن فائدة، وذلك أنه قال: مسلم أصاب مالا أو شيئا يجب به القصاص أو حد قذف ثم ارتد أو أصاب ذلك، وهو مرتد في دار الإسلام ثم لحق بدار الحرب وحارب المسلمين زمانا ثم جاء مسلما فهو مأخوذ بجميع ذلك ولو أصاب ذلك بعد ما لحق بدار الحرب مرتد أو أسلم فذلك كله موضوع عنه، وما أصاب المسلم من حدود الله تعالى كالزنا والسرقة وقطع الطريق ثم ارتد أو أصاب ذلك بعد الردة ثم لحق بدار الحرب ثم جاء مسلما فكل ذلك يكون موضوعا عنه إلا أنه يضمن المال في السرقة، وإذا أصاب دما في الطريق كان عليه القصاص، وما أصاب في قطع الطريق من القتل خطأ ففيه الدية على عاقلته إن أصابه قبل الردة وفي ماله أصابه بعدها، وإن وجب على المسلم حد الشرب ثم ارتد ثم أسلم قبل اللحوق بدار الحرب فانه لا يؤاخذ بذلك لأن الكفر يمنع وجوب الحد ابتداء فإذا اعترض منع البقاء وإن أصاب المرتد ذلك وهو محبوس لا يؤاخذ بحد الخمر والسكر ويؤاخذ بما سوى ذلك من حدود الله تعالى، ويتمكن الإمام من إقامة هذا الحد إذا كان في يده فإن لم يكن في يده حين أصاب ذلك ثم أسلم قبل اللحوق بدار الحرب فهو موضوع عنه أيضا انتهى، ومنه يعلم أن قولهم المرتد يلزمه حقوق العباد دون حقوق الله تعالى ليس على إطلاقه وتمام الكلام في الفروع، وأنت تعلم أن الوجه في الآية هو المطابق لمقتضى المقام وأن المتبادر من الكفر الكفر الأصلي. و «الإسلام يهدم ما كان قبله» بعض من حديث أخرجه مسلم عن عمرو بن العاص قال: «أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقلت: ابسط يمينك لأبايعك فبسط يمينه الشريفة قال: فقبضت يدي فقال: عليه الصلاة والسلام ما لك يا عمرو؟ قلت: أردت أن أشترط قال: تشترط ماذا؟ قلت: أشترط أن يغفر لي قال: أما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 193 علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله» الحديث. والظاهر أن ما لا يمكن حملها في الكل على العموم كما لا يخفى فلا تغفل. وذكر بعضهم أن الكافر إذا أسلم يلزمه التوبة والندم على ما سلف مع الإيمان حتى يغفر له وفيه تأمل فتأمل وَقاتِلُوهُمْ عطف على قُلْ وعم الخطاب لزيادة ترغيب المؤمنين في القتال لتحقيق ما يتضمنه قوله سبحانه: فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ من الوعيد حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي لا يوجد منهم شرك كما روي عن ابن عباس. والحسن، وقيل: المراد حتى لا يفتتن مؤمن عن دينه وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وتضمحل الأديان الباطلة كلها إما بهلاك أهلها جميعا أو برجوعهم عنها خشية القتل، قيل: لم يجىء تأويل هذه الآية بعد وسيتحقق مضمونها إذا ظهر المهدي فإنه لا يبقى على ظهر الأرض مشرك أصلا على ما روي عن أبي عبد الله رضي الله عنه فَإِنِ انْتَهَوْا عن الكفر بقتالكم فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ الجملة قائمة مقام الجزاء أي فيجازيهم على انتهائهم وإسلامهم، أو جعلت مجازا عن الجزاء أو كناية أو فكونه تعالى بصيرا أمر ثابت قبل الانتهاء وبعده ليس معلقا على شيء. وعن يعقوب أنه قرأ «تعملون» بالتاء على أنه خطاب للمسلمين المجاهدين أي بما تعملون من الجهاد المخرج لهم إلى الإسلام، وتعليق الجزاء بانتهائهم للدلالة على أنهم يثابون بالسببية كما يثاب المباشرون بالمباشرة وَإِنْ تَوَلَّوْا ولم ينتهوا عن كفرهم فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ أي ناصركم فثقوا به ولا تبالوا بمعاداتهم نِعْمَ الْمَوْلى لا يضيع من تولاه وَنِعْمَ النَّصِيرُ لا يغلب من نصره: هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ تأديب منه سبحانه لأهل بدر وهداية لهم إلى فناء الأفعال حيث سلب الفعل عنهم بالكلية، ويشبه هذا من وجه قوله سبحانه: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى والفرق أنه لما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم في مقام البقاء بالحق سبحانه إليه الفعل بقوله تعالى: إِذْ رَمَيْتَ مع سلبه عنه ب ما رَمَيْتَ وإثباته لله تعالى في حيز الاستدراك ليفيد معنى التفصيل في عين الجمع فيكون الرامي محمدا عليه الصلاة بالله تعالى لا بنفسه ولعلو مقامه صلّى الله عليه وسلّم وعدم كونهم في ذلك المقام الأرفع نسب سبحانه إليه صلّى الله عليه وسلّم ما نسب ولم ينسب إليهم رضي الله تعالى عنهم من الفعل شيئا، وهذا أحد أسرار تغيير الأسلوب في الجملتين حيث لم ينسب في الأولى ونسب في الثانية، بقي سر التعبير بالمضارع المنفي «بلم» في إحداهما والماضي المنفي «بما» في الأخرى فارجع إلى فكرك. فلعل الله تعالى يفتحه عليك: وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً أي ليعطيهم عطاء جميلا وهو توحيد الأفعال، والمراد لهذا فعل ذلك إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بخطرات نفوسكم بنسبة القتل إليكم عَلِيمٌ بأنه القاتل حقيقة وكونكم مظهرا لفعله وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ لاحتجابهم بأنفسهم إِنْ تَسْتَفْتِحُوا الآية، قيل فيها: أي تفتحوا أبواب قلوبكم بمفاتيح الصدق والإخلاص وترك السوي في طلب التجلي فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ بالتجلي فإنه سبحانه لم يزل متجليا ولا يزال لكن لا يدرك ذلك إلا من فتح قلبه وَإِنْ تَنْتَهُوا عن طلب السوي فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لما فيه من الفوز بالمولى وَإِنْ تَعُودُوا إلى طلب الدنيا وزخارفها نَعُدْ إلى خذلانكم ونكلكم إلى أنفسكم وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ الدنيوية شَيْئاً مما لخاصته سبحانه وَلَوْ كَثُرَتْ لأنها كسراب بقيعة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ لأن ثمرة السماع الفهم والتصديق وثمرتهما الإرادة وثمرتها الطاعة فلا تصح دعوى السماع مع الاعراض وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ لكونهم محجوبين عن الفهم إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ عن السماع الْبُكْمُ عن القبول الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ لماذا خلقوا وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً استعدادا صالحا لَأَسْمَعَهُمْ سماع تفهم وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ مع عدم علم الخير فيهم لَتَوَلَّوْا ولم ينتفعوا به وارتدوا سريعا إذ شأن العارض الزوال وهم معرضون بالذات يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 194 اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ بالتصفية إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وهو العلم بالله تعالى، وقد يقال: استجيبوا لله تعالى بالباطن والأعمال القلبية وللرسول بالظاهر والأعمال النفسية، أو استجيبوا لله تعالى بالفناء في الجمع وللرسول عليه الصلاة والسلام بمراعاة حقوق التفصيل إذا دعاكم لما يحييكم من البقاء وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ فيزول الاستعداد فانتهزوا الفرصة وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فيجازيكم على حسب مراتبكم وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً بل تشملهم وغيرهم بشؤم الصحبة وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ من حيث القدر لجهلكم مُسْتَضْعَفُونَ في أرض النفس تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ أي ناس القوى الحسية لضعف نفوسكم فَآواكُمْ إلى مدينة العلم، وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ في مقام توحيد الأفعال وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي علوم تجليات الصفات لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ذلك، وقد يقال: واذكروا أيها الأرواح والقلوب إذ كنتم قليلا ليس معكم غيركم إذ لم ينشأ لكم بعد الصفات والأخلاق والروحانية مُسْتَضْعَفُونَ في أرض البدن تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ من النفس وأعوانها فَآواكُمْ إلى حظائر قدسه وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ بالواردات الربانية وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وهي تجلياته سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ بترك الإيمان وَالرَّسُولَ بترك التخلق بأخلاقه عليه الصلاة والسلام وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وهي ما رزقكم الله تعالى من القدرة وسلامة الآلات بترك الأعمال الحسنة أو لا تخونوا الله تعالى بنقض ميثاق التوحيد الفطري السابق والرسول عليه الصلاة والسلام بنقض العزيمة ونبذ العقد اللاحق وتخونوا أماناتكم من المعارف والحقائق التي استودع الله تعالى فيكم حسب استعدادكم بإخفائها بصفات النفس وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ قبح ذلك أو تعلمون أنكم حاملوها وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ يختبركم الله تعالى بها ليرى أتحتجبون بمحبتها عن محبته أو لا تحتجبون وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ لمن لا يفتتن بذلك ولا يشغله عن محبته يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ بالاجتناب عن الخيانة والاحتجاب بمحبة الأموال والأولاد يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً نورا تفرقون به بين الحق والباطل، وربما يقال: إن ذلك إشارة إلى نور يفرقون به بين الأشياء بأن يعرفوها بواسطته معرفة يمتاز بها بعضها عن بعض وهو المسمى عندهم بالفراسة. وفي بعض الآثار «اتقوا فراسة المؤمن فانه ينظر بنور من نور الله تعالى» وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وهي صفات نفوسكم وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذنوب ذواتكم وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ فيجعل لكم الفرقان ويفعل ويفعل وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية جعلها بعضهم خطابا للنبي صلّى الله عليه وسلّم ومعناها ما ذكرناه سابقا، وجعلها بعضهم خطابا للروح وهو تأويل أنفسي، أي وإذ يمكر بك أيها الروح الذين كفروا وهي النفس وقواها لِيُثْبِتُوكَ ليقيدوك في أسر الطبيعة أَوْ يَقْتُلُوكَ بانعدام آثارك أَوْ يُخْرِجُوكَ من عالم الأرواح وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ لأنك الرحمة للعالمين وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ إذ لا ذنب مع الاستغفار ولا عذاب من غير ذنب وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ أي إنهم مستحقون لذلك كيف لا وهم يصدون المستعدين عن المسجد الحرام الذي هو القلب باغرائهم على الأمور النفسانية واللذات الطبيعية وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ لغلبة صفات أنفسهم عليهم إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ تلك الصفات وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ذلك الحكم، وقال النيسابوري: ولكن أكثرهم أي المتقين لا يعلمون أنهم أولياؤه لأن الولي قد لا يعرف أنه ولي وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ وهو ذلك المسجد إِلَّا مُكاءً إلا وساوس وخطرات شيطانية «تم والحمد لله طبع الجزء التاسع من تفسير روح المعاني للعلامة الألوسي ويتلوه إن شاء الله الجزء العاشر مفتتحا بقوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ وأسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى إتمامه إنه على ما يشاء قدير» الجزء: 5 ¦ الصفحة: 195 وَتَصْدِيَةً وعزما على الأفعال الشنيعة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ من الاستعداد الفطري في غير مرضاة الله تعالى لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ طريقه الموصل إليه فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً لزوال لذاتهم حتى يتكون نسيا منسيا ثُمَّ يُغْلَبُونَ لتمكن الأخلاق الذميمة فيهم فلا يستطيعون العدول عنها وَالَّذِينَ كَفَرُوا أي وهم، إلا أنه أقيم الظاهر مقام المضمر تعليلا للحكم الذي تضمنه قوله سبحانه: إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ وهم جهنم القطيعة قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا عما هم عليه يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ لمزيد الفضل وَقاتِلُوهُمْ أي قاتلوا أيها المؤمنون كفار النفوس فإن جهادها هو الجهاد الأكبر حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ مانعة عن الموصول إلى الحق وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ويضمحل دين النفس الذي شرعته فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيهم على ذلك والله تعالى الموفق لأوضح المسالك لا رب غيره ولا يرجى إلا خيره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 196 الجزء العاشر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 197 بسم الله الرحمن الرحيم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 199 وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ روي عن الكلبي أنها نزلت في بدر وهو الذي يقتضيه كلام الجمهور، وقال الواقدي: كان الخمس في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة. و «ما» موصولة والعائد محذوف، وكان حقها أن تكون مفصولة وجعلها شرطية خلاف الظاهر وكذا جعلها مصدرية، وغنم في الأصل من الغنم بمعنى الربح، وجاء غنم غنما بالضم وبالفتح وبالتحريك وغنيمة وغنما بالضم وفي القاموس المغنم والغنيم والغنيمة بالضم الفيء، والمشهور تغاير الغنيمة والفيء، وقيل: اسم الفيء يشملهما لأنها راجعة إلينا ولا عكس فهي أخص، وقيل: هما كالفقير والمسكين، وفسروها بما أخذ من الكفار قهرا بقتال أو إيجاف فما أخذ اختلاسا لا يسمى غنيمة وليس له حكمها، فإذا دخل الواحد أو الاثنان دار الحرب مغيرين بغير إذن الإمام فأخذوا شيئا لم يخمس، وفي الدخول بإذنه روايتان والمشهور أنه يخمس لأنه لما أذن لهم فقد التزم نصرتهم بالامداد فصاروا كالمنعة، وحكي عن الشافعي رضي الله تعالى عنه في المسألة الأولى التخميس وإن لم يسم ذلك غنيمة عنده لإلحاقه بها، وقوله سبحانه: مِنْ شَيْءٍ بيان للموصول محله النصب على أنه حال من عائده المحذوف قصد به الاعتناء بشأن الغنيمة وأن لا يشذ عنها شيء، أي ما غنمتموه كائنا مما يقع عليه اسم الشيء حتى الخيط والمخيط خلا أن سلب المقتول لقاتله إذا نفله الإمام، وقال الشافعية: السلب للقاتل ولو نحو صبي وقن وإن لم يشترط له وإن كان المقتول نحو قريبه وإن لم يقاتل أو نحو امرأة أو صبي إن قاتلا ولو أعرض عنه للخبر المتفق عليه «ومن قتل قتيلا فله سلبه» نعم القاتل المسلم القن لذمي لا يستحقه عندهم وإن خرج بإذن الإمام. وأجاب أصحابنا بأن السلب مأخوذ بقوة الجيش فيكون غنيمة فيقسم قسمتها، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم لحبيب بن أبي سلمة: «ليس لك من سلب قتيلك إلا ما طابت به نفس إمامك» وما رووه يحتمل نصب الشرع ويحتمل التنفيل فيحمل على الثاني لما رويناه، والأسارى يخير فيهم الإمام وكذا الأرض المغنومة عندنا وتفصيله في الفقه، والمصدر المؤول من أن المفتوحة مع ما في حيزها في قوله تعالى: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ مبتدأ خبره محذوف أي فحق أو واجب أن لله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 200 خمسه، وقدر مقدما لأن المطرد في خبرها إذا ذكر تقديمه لئلا يتوهم أنها مكسورة فأجري على المعتاد فيه، ومنهم من أعربه خبر مبتدأ محذوف أي فالحكم أن إلخ، والجملة خبر لأن الأولى، والفاء لما في الموصول من معنى المجازاة، وقيل: إنها صلة وأن بدل من أن الأولى، وروى الجعفي عن أبي عمرو «فإن» بالكسر وتقويه قراءة النخعي فلله خمسه ورجحت المشهورة بأنها آكد لدلالتها على إثبات الخمس وأنه لا سبيل لتركه مع احتمال الخبر لتقديرات كلازم وحق وواجب ونحوه، وتعقبه صاحب التقريب بأنه معارض بلزوم الإجمال. وأجيب بأنه ان أريد بالإجمال ما يحتمل الوجوب والندب والإباحة فالمقام يأبى إلا الوجوب وإن أريد ما ذكر من لازم وحق وواجب فالتعميم يوجب التفخيم والتهويل. وقرىء «خمسه» بسكون الميم والجمهور على أن ذكر الله تعالى لتعظيم الرسول عليه الصلاة والسلام كما في قوله تعالى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة: 62] أو لبيان أنه لا بد في الخمسية من إخلاصها له سبحانه وأن المراد قسمة الخمس على ما ذكر في قوله تعالى: وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ قيل ويكون قوله تعالى: لِلرَّسُولِ معطوفا على لِلَّهِ على التعليل الأول وبتقدير مبتدأ أي وهو أي الخمس للرسول إلخ على التعليل الثاني، وإعادة اللام في ذي القربى دون غيرهم من الأصناف الباقية لدفع توهم اشتراكهم في سهم النبي صلّى الله عليه وسلّم لمزيد اتصالهم به عليه الصلاة والسلام، وأريد بهم بنو هاشم وبنو المطلب المسلمون لأنه صلّى الله عليه وسلّم وضع سهم ذوي القربى فيهم دون بني أخيهما شقيقهما عبد شمس، وأخيهما لأبيهما نوفل مجيبا عن ذلك حين قال له عثمان، وجبير بن مطعم: هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ينكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله تعالى منهم أرأيت إخواننا من بني عبد المطلب أعطيتهم وحرمتنا وإنما نحن وهم بمنزلة: نحن وبنو المطلب شيء واحد، وشبك بين أصابعه، رواه البخاري، أي لم يفارقوا بني هاشم في نصرته صلّى الله عليه وسلّم جاهلية ولا إسلاما. وكيفية القسمة عند الأصحاب أنها كانت على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على خمسة أسهم. سهم له عليه الصلاة والسلام. وسهم للمذكورين من ذوي القربى. وثلاثة أسهم للأصناف الثلاثة الباقية، وأما بعد وفاته عليه الصلاة والصلام فسقط سهمه صلّى الله عليه وسلّم كما سقط الصفيّ وهو ما كان يصطفيه لنفسه من الغنيمة مثل درع وسيف وجارية بموته صلّى الله عليه وسلّم لأنه كان يستحقه برسالته ولا رسول بعده صلّى الله عليه وسلّم وكذا سقط سهم ذوي القربى وإنما يعطون بالفقر وتقدم فقراؤهم على فقراء غيرهم ولا حق لأغنيائهم لأن الخلفاء الأربعة الراشدين قسموه كذلك وكفى بهم قدوة، وروي عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه منع بني هاشم الخمس وقال: إنما لكم أن يعطى فقيركم ويزوج أيمكم ويخدم ما لا خادم له منكم فأما الغني منكم فهو بمنزلة ابن السبيل غني لا يعطى من الصدقة شيئا ولا يتيم موسر. وعن زيد بن علي كذلك قال: ليس لنا أن نبني منه القصور ولا أن نركب منه البراذين، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما أعطاهم للنصرة لا للقرابة كما يشير إليه جوابه لعثمان وجبير رضي الله تعالى عنهما وهو يدل على أن المراد بالقربى في النص قرب النصرة لا قرب القرابة، وحيث انتهت النصرة انتهى الإعطاء لأن الحكم ينتهي بانتهاء علته واليتيم صغير لا أب له فيدخل فقراء اليتامى من ذوي القربى في سهم اليتامى المذكورين دون أغنيائهم والمسكين منهم في سهم المساكين، وفائدة ذكر اليتيم مع كون استحقاقه بالفقر والمسكنة لا باليتيم دفع توهم أن اليتيم لا يستحق من الغنيمة شيئا لأن استحقاقها بالجهاد واليتيم صغير فلا يستحقها. وفي التأويلات لعلم الهدى الشيخ أبي منصور أن ذوي القربى إنما يستحقون بالفقر أيضا، وفائدة ذكرهم دفع ما يتوهم أن الفقير منهم لا يستحق لأنه من قبيل الصدقة ولا تحل لهم، وفي الحاوي القدسي وعن أبي يوسف أن الخمس يصرف لذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل وبه نأخذ انتهى، وهو يقتضي أن الفتوى على الصرف إلى ذوي القربى الأغنياء فليحفظ، وفي التحفة أن هذه الثلاثة مصارف الخمس عندنا لا على سبيل الاستحقاق حتى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 201 لو صرف إلى صنف واحد منهم جاز كما في الصدقات كذا في فتح القدير، ومذهب الإمام مالك رضي الله تعالى عنه أن الخمس لا يلزم تخميسه وأنه مفوض إلى رأي الإمام كما يشعر به كلام خليل وبه صرح ابن الحاجب فقال: ولا يخمس لزوما بل يصرف منه لآله عليه الصلاة والسلام بالاجتهاد ومصالح المسلمين ويبدؤون استحبابا كما نقل التتائي عن السنباطي بالصرف على غيرهم، وذكر أنهم بنو هاشم وأنهم يوفر نصيبهم لمنعهم من الزكاة حسبما يرى من قلة المال وكثرته، وكان عمر بن عبد العزيز يخص ولد فاطمة رضي الله تعالى عنها كل عام باثني عشر ألف دينار سوى ما يعطي غيرهم من ذوي القربى، وقيل: يساوي بين الغني والفقير وهو فعل أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وكان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يعطي حسب ما يراه، وقيل: يخير لأن فعل كل من الشيخين حجة. وقال عبد الوهاب: إن الإمام يبدأ بنفقته ونفقته عياله بغير تقدير، وظاهر كلام الجمهور أنه لا يبدأ بذلك وبه قال ابن عبد الحكم، والمراد بذكر الله سبحانه عند هذا الإمام أن الخمس يصرف في وجوه القربات لله تعالى والمذكور بعد ليس للتخصيص بل لتفضيله على غيره ولا يرفع حكم العموم الأول بل هو قار على حاله وذلك كالعموم الثابت للملائكة وإن خص جبريل وميكائيل عليهما السلام بعد. ومذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه في قسمة الغنيمة أن يقدم من أصل المال السلب ثم يخرج منه حيث لا متطوع مؤنة الحفظ والنقل وغيرهما من المؤن اللازمة للحاجة إليها ثم يخمس الباقي فيجعل خمسة أقسام متساوية ويكتب على رقعة لله تعالى أو للمصالح وعلى رقعة للغانمين وتدرج في بنادق فما خرج لله تعالى قسم على خمس مصالح المسلمين كالثغور والمشتغلين بعلوم الشرع وآلاتها ولو مبتدين والأئمة والمؤذنين ولو أغنياء وسائر من يشتغل عن نحو كسبه بمصالح المسلمين لعموم نفعهم وألحق بهم العاجزون عن الكسب والعطاء إلى رأي الإمام معتبرا سعة المال وضيقه، وهذا هو السهم الذي كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حياته وكان ينفق منه على نفسه وعياله ويدخر منه مؤنة سنة ويصرف الباقي في المصالح، وهل كان عليه الصلاة والسلام مع هذا التصرف مالكا لذلك أو غير مالك؟ قولان ذهب إلى الثاني الإمام الرافعي وسبقه إليه جمع متقدمون قال: إنه عليه الصلاة والسلام مع تصرفه في الخمس المذكور لم يكن يملكه ولا ينتقل منه إلى غيره إرثا. ورد بأن الصواب المنصوص أنه كان يملكه. وقد غلط الشيخ أبو حامد من قال: لم يكن صلّى الله عليه وسلّم يملك شيئا وإن أبيح له ما يحتاج إليه، وقد يؤول كلام الرافعي بأنه لم ينف الملك المطلق بل الملك المقتضي للإرث عنه. ويؤيد ذلك اقتضاء كلامه في الخصائص أنه يملك. وبنو هاشم. والمطلب، والعبرة بالانتساب للآباء دون الأمهات ويشترك فيه الغني والفقير لإطلاق الآية، وإعطائه عليه الصلاة والسلام العباس وكان غنيا والنساء، ويفضل الذكر كالإرث واليتامى، ولا يمنع وجود جد، ويدخل فيهم ولد الزنا والمنفي اللقيط على الأوجه ويشترط فقره على المشهور ولا بد في ثبوت اليتم والإسلام والفقر هنا من البينة، وكذا في الهاشمي، والمطلبي، واشترط جمع فيهما معها استفاضة النسبة والمساكين وابن السبيل ولو بقولهم بلا يمين. نعم يظهر في مدعي تلف مال له عرف أو عيال أنه يكلف بينة. ويشترط الإسلام في الكل والفقر في ابن السبيل أيضا وتمامه في كتبهم. وتعلق أبو العالية بظاهر الآية الكريمة فقال: يقسم ستة أسهم ويصرف سهم الله تعالى لمصالح الكعبة أي إن كانت قريبة وإلا فإلى مسجد كل بلدة وقع فيها الخمس كما قاله ابن الهمام: وقد روى أبو داود في المراسيل وابن جرير عنه أنه عليه الصلاة والسلام كان يأخذ منه قبضة فيجعلها لمصالح الكعبة ثم يقسم ما بقي خمسة أسهم، ومذهب الإمامية أنه ينقسم إلى ستة أسهم أيضا كمذهب أبي العالية إلا أنهم قالوا: إن سهم الله تعالى وسهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم وسهم ذوي القربى للإمام القائم مقام الرسول عليه الصلاة والسلام. وسهم ليتامى آل محمد صلّى الله عليه وسلّم. وسهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 202 لمساكينهم، وسهم لأبناء سبيلهم لا يشركهم في ذلك غيرهم ورووا ذلك عن زين العابدين. ومحمد بن علي الباقر رضي الله تعالى عنهم، والظاهر أن الأسهم الثلاثة الأول التي ذكروها تخبأ في السرداب إذ القائم مقام الرسول قد غاب عندهم فتخبأ له حتى يرجع من غيبته، وقيل: سهم الله تعالى لبيت المال، وقيل: هو مضموم لسهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم. هذا ولم يبين سبحانه حال الأخماس الأربعة الباقية وحيث بين جل شأنه حكم الخمس ولم يبينها دل على أنها ملك الغانمين. وقسمتها عند أبي حنيفة للفارس سهمان وللراجل سهم واحد. لما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم فعل كذلك، والفارس في السفينة يستحق سهمين أيضا وإن لم يمكنه القتال عليها فيها للتأهب، والمتأهب للشيء كالمباشر في المحيط، ولا فرق بين الفرس المملوك والمستأجر والمستعار وكذا المغصوب على تفصيل فيه، وذهب الشافعي ومالك إلى أن للفارس ثلاثة أسهم لما روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أسهم للفارس ذلك وهو قول الإمامين. وأجيب بأنه قد روي عن ابن عمر أيضا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قسم للفارس سهمين فإذا تعارضت روايتاه ترجح رواية غيره بسلامتها عن المعارضة فيعمل بها، وهذه الرواية رواية ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وفي الهداية أنه عليه الصلاة والسلام تعارض فعلاه في الفارس فنرجع إلى قوله عليه الصلاة والسلام وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «للفارس سهمان وللراجل سهم» وتعقبه في العناية بأن طريقة استدلاله مخالفة لقواعد الأصول فإن الأصل أن الدليلين إذا تعارضا وتعذر التوفيق والترجيح يصار إلى ما بعده لا إلى ما قبله وهو قال: فتعارض فعلاه فنرجع إلى قوله، والمسلك المعهود في مثله أن نستدل بقوله ونقول فعله لا يعارض قوله لأن القول أقوى بالاتفاق، وذهب الإمام إلى أنه لا سهم إلا لفرس واحد وعند أبي يوسف يسهم لفرسين، وما يستدل به على ذلك محمول على التنفيل عند الإمام كما أعطى عليه الصلاة والسلام سلمة بن الأكوع سهمين وهو راجل ولا يسهم لثلاثة اتفاقا إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ شرط جزاؤه محذوف أي إن كنتم آمنتم بالله تعالى فاعلموا أنه تعالى جعل الخمس لمن جعل فسلموه إليهم واقنعوا بالأخماس الأربعة الباقية، وليس المراد مجرد العلم بذلك بل العلم المشفوع بالعمل والطاعة لأمره تعالى، ولم يجعل الجزاء ما قبل لأنه لا يصح تقدم الجزاء على الشرط على الصحيح عند أهل العربية، وإنما لم يقدر العمل قصرا للمسافة كما فعله النسفي لأن المطرد في أمثال ذلك أن يقدر ما يدل ما قبله عليه فيقدر من جنسه، وقوله سبحانه: وَما أَنْزَلْنا عطف على الاسم الجليل وما موصولة والعائد محذوف أي الذي أنزلناه عَلى عَبْدِنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وفي التعبير عنه بذلك ما لا يخفى من التشريف والتعظيم، وقرىء «عبدنا» بضمتين جمع عبد، وقيل: اسم جمع له وأريد به النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون فإن بعض ما نزل نازل عليهم يَوْمَ الْفُرْقانِ هو يوم بدر فالإضافة للعهد، والفرقان بالمعنى اللغوي فإن ذلك اليوم قد فرق فيه بين الحق والباطل، والظرف منصوب بأنزلنا، وجوز أبو البقاء تعلقه بآمنتم، وقوله سبحانه: يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ بدل منه أو متعلق بالفرقان، وتعريف الجمعان للعهد، والمراد بهم الفريقان من المؤمنين والكافرين، والمراد بما أنزل عليه الصلاة والسلام من الآيات والملائكة والنصر على أن المراد بالانزال مجرد الإيصال والتيسير فيشمل الكل شمولا حقيقيا فالموصول عام ولا جمع بين الحقيقة والمجاز خلافا لمن توهم فيه، وجعل الإيمان بهذه الأشياء من موجبات العلم بكون الخمس لله تعالى على الوجه المذكور من حيث إن الوحي ناطق بذلك وإن الملائكة والنصر لما كانا منه تعالى وجب أن يكون ما حصل بسببهما من الغنيمة مصروفا إلى الجهات التي عينها الله سبحانه وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ومن آثار قدرته جل شأنه ما شاهدتموه يوم التقى الجمعان إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا بدل من يوم أو معمول لا ذكروا مقدرا، وجوز أبو البقاء أن يكون ظرفا لقدير وليس بشيء، والعدوة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 203 بالحركات الثلاث شط الوادي وأصله من العدو التجاوز والقراءة المشهورة الضم والكسر وهو قراءة ابن كثير وأبي عمرو ويعقوب. وقرأ الحسن وزيد بن علي وغيرهما بالفتح وكلها لغات بمعنى ولا عبرة بإنكار بعضها والدُّنْيا تأنيث الأدنى أي إذ أنتم نازلون بشفير الوادي الأقرب إلى المدينة وَهُمْ أي المشركون بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى أي البعدى من المدينة وهو تأنيث الأقصى، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «القصيا» ومن قواعدهم أن فعلى من ذوات الواو إذا كان اسما تبدل لامه ياء كدنيا فإنه من دنا يدنو إذا قرب، ولم يبدل من قصوى على المشهور لأنه بحسب الأصل صفة ولم يبدل فيها للفرق بين الصفة والاسم، وإذا اعتبر غلبته وأنه جرى مجرى الأسماء الجامدة قيل قصيا وهي لغة تميم والأولى لغة أهل الحجاز، ومن أهل التصريف من قال: إن اللغة الغالبة العكس فإن كانت صفة أبدلت اللام نحو العليا وإن كانت اسما أقرت نحو حزوى قيل: فعلى هذا القصوى شاذة والقياس قصيا، وعنوا بالشذوذ مخالفة القياس لا الاستعمال فلا تنافي الفصاحة، وذكروا في تعليل عدم الابدال بالفرق أنه إنما لم يعكس الأمر وإن حصل به الفرق أيضا لأن الصفة أثقل فأبقيت على الأصل الأخف لثقل الانتقال من الضمة إلى الياء، ومن عكس أعطى الأصل للأصل وهو الاسم وغير في الفرق للفرع وَالرَّكْبُ أي العير أو أصحابها أبو سفيان وأصحابه وهم اسم جمع راكب لا جمع على الصحيح أَسْفَلَ مِنْكُمْ أي في مكان أسفل من مكانكم يعني ساحل البحر، وهو نصب على الظرفية وفي الأصل صفة للظرف كما أشرنا إليه ولهذا انتصب انتصابه وقام مقامه ولم ينسلخ عن الوصفية خلافا لبعضهم وهو واقع موقع الخبر، وأجاز الفراء. والأخفش رفعه على الاتساع أو بتقدير موضع الركب أسفل، والجملة عطف على مدخول إذ، أي إذ أنتم إلخ وإذ الركب إلخ. واختار الجمهور أنها في موضع الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور قبل، ووجه الاطناب في الآية مع حصول المقصود بأن يقال: يوم الفرقان يوم النصر والظفر على الأعداء مثلا تصوير ما دبر سبحانه من أمر وقعة بدر والامتنان والدلالة على أنه من الآيات الغر المحجلة وغير ذلك وهذا مراد الزمخشري بقوله: فائدة هذا التوقيت، وذكر مراكز الفريقين وأن العير كان أسفل منهم الإخبار عن الحال الدالة على قوة شأن العدو وشوكته وتكامل عدته وتمهد أسباب العدة له وضعف شأن المسلمين والتياث أمرهم وأن غلبتهم في مثل هذه الحال ليست إلا صنعا من الله تعالى ودليلا على أن ذلك أمر لم يتيسر إلا بحوله سبحانه وقوته وباهر قدرته، وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء وكانت أرضا لا بأس بها ولا ماء بالعدوة الدنيا وهي خبار تسوخ فيها الأرجل وكانت العير وراء ظهر العدو مع كثرة عددهم فكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم وتوطن نفوسهم على أن لا يبرحوا مواطنهم ولا يخلوا مراكزهم ويبذلوا منتهى نجدتهم وقصارى شدتهم وفيه تصوير ما دبر سبحانه من أمر تلك الوقعة، وليس السؤال عن فائدة الإخبار بما هو معلوم للمخاطب ليكون الجواب بأن فائدته لازمة كما ظنه غير واحد لما لا يخفى، وعلى هذا الطرز ذكر قوله تعالى: وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ أي لو تواعدتم أنتم وهم القتال وعلمتم حالهم وحالكم لاختلفتم أنتم في الميعاد هيبة منهم ويأسا من الظفر عليهم، وجعل الضمير الأول شاملا للجمعين تغليبا والثاني للمسلمين خاصة هو المناسب للمقام إذ القصد فيه إلى بيان ضعف المسلمين ونصرة الله تعالى لهم مع ذلك، والزمخشري جعله فيهما شاملا للفريقين لتكون الضمائر على وتيرة واحدة من غير تفكيك على معنى لو تواعدتم أنتم وأهل مكة لخالف بعضكم بعضا فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد وثبطهم ما في قلوبهم من تهيب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين فلم يتفق لكم من التلاقي ما وفقه الله تعالى من التلاقي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 204 وسبب له ولا يخفى عدم مناسبته، وأمر التفكيك سهل وَلكِنْ تلاقيتم على غير موعد لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً وهو نصر المؤمنين وقهر أعدائهم كانَ مَفْعُولًا أي كان واجبا أن يفعل بسبب الوعد المشار إليه بقوله سبحانه: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم: 47] أو كان مقدرا في الأزل. وقيل: كان بمعنى صار الدالة على التحول أي صار مفعولا بعد أن لم يكن، وقوله سبحانه: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ بدل من لِيَقْضِيَ بإعادة الحرف أو متعلق بمفعولا. وجوز أبو البقاء أيضا تعلقه بيقضي، واستطيب الطيبي الأول، والمراد بالبينة الحجة الظاهرة، أي ليموت من يموت عن حجة عاينها ويعيش من يعيش عن حجة شاهدها فلا يبقى محل للتعلل بالأعذار، فإن وقعة بدر من الآيات الواضحة والحجج الغر المحجلة، ويجوز أن يراد بالحياة الإيمان وبالموت الكفر استعارة أو مجازا مرسلا، وبالبينة إظهار كمال القدرة الدالة على الحجة الدافعة أي ليصدر كفر من كفر وإيمان من آمن عن وضوح بينة، وإلى هذا ذهب قتادة. ومحمد بن إسحاق، قيل: والمراد بمن هلك ومن حي المشارف للهلاك والحياة أو من هذا حاله في علم الله تعالى وقضائه، والمشارفة في الهلاك ظاهرة، وأما مشارفة الحياة فقيل: المراد بها الاستمرار على الحياة بعد الوقعة، وإنّما قيل ذلك: لأن من حي مقابل لمن هلك، والظاهر أن عَنْ بمعنى بعد كقوله تعالى: عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ [المؤمنون: 40] ، وقيل: لما لم يتصور أن يهلك في الاستقبال من هلك في الماضي حمل من هلك على المشارفة ليرجع إلى الاستقبال، وكذا لما لم يتصور أن يتصف بالحياة المستقبلة من اتصف بها في الماضي حمل على ذلك لذلك أيضا، لكن يلزم منه أن يختص بمن لم يكن حيا إذ ذاك فيحمل على دوام الحياة دون الاتصاف بأصلها، فيكون المعنى لتدوم حياة من أشرف لدوامها، ولا يجوز أن يكون المعنى لتدوم حياة من حي في الماضي لأن ذلك صادق على من هلك فلا تحصل المقابلة إلا أن يخصص باعتبارها. وتكلف بعضهم لتوجيه المضي والاستقبال بغير ما ذكر مما لا يخلو عن تأمل، واعتبار المضي بالنظر إلى علم الله تعالى وقضائه والاستقبال بالنظر إلى الوجود الخارجي مما لا غبار عليه، وعَنْ لا يتعين كونها بمعنى بعد بل يمكن أن تبقى على معنى المجاوزة الذي لم يذكر البصريون سواه. ونظير ذلك قوله تعالى: وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ [هود: 53] بناء على أن المراد ما نتركها صادرين عن قولك كما هو رأي البعض، ويمكن أن تكون بمعنى على كما في قوله تعالى: فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ [محمد: 38] وقول ذي الإصبع: لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب ... عني ولا أنت دياني فتخزوني وقرأ الأعمش «ليهلك» بفتح العين، وروي ذلك عن عاصم وهي على ما قال ابن جني في المحتسب شاذة مرغوب عنها لأن الماضي هلك بالفتح ولا يأتي فعل يفعل إلا إذا كان حرف الحلق في العين أو اللام فهو من اللغة المتداخلة. وفي القاموس أن هلك كضرب ومنع وعلم وهو ظاهر في جواز الكسر والفتح في الماضي والمضارع. نعم المشهور في الماضي الفتح وفي المضارع الكسر، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر ويعقوب «حيي» بفك الإدغام قال أبو البقاء: وفيه وجهان أحدهما الحمل على المستقبل وهي يحيى فكما لم يدغم فيه في الماضي. والثاني أن حركة الحرفين مختلفة فالأول مكسور والثاني مفتوح واختلاف الحركتين كاختلاف الحرفين، ولذلك أجازوا في الاختيار ضبب البلد إذا كثر ضبه، ويقوي ذلك أن الحركة الثانية عارضة فكأن الياء الثانية ساكنة ولو سكنت لم يلزم الإدغام فكذلك إذا كانت في تقدير الساكن، والياء ان أصل وليست الثانية بدلا من واو، وأمام الحيوان فالواو فيه بدل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 205 من الياء، وأما الحواء فليس من لفظ الحية بل من حوى يحوي إذا جمع وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ أي بكفر من كفر وعقابه وإيمان من آمن وثوابه، ولعل الجمع بين الوصفين لاشتمال الكفر والإيمان على الاعتقاد والقول، أما اشتمال الايمان على القول فظاهر لاشتراط إجراء الأحكام بكلمتي الشهادة، وأما اشتمال الكفر عليه فبناء على المعتاد فيه أيضا إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا مقدر باذكر أو بدل من يوم الفرقان، وجوز أن يتعلق بعليم وليس بشيء، ونصب قليلا على أنه مفعول ثالث عند الاجهوري أو حال على ما يفهمه كلام غيره. والجمهور على أنه صلّى الله عليه وسلّم أري ما أري في النوم وهو الظاهر المتبادر، وحكمة إراءتهم إياه صلّى الله عليه وسلّم قليلين أن يخبر أصحابه رضي الله تعالى عنهم فيكون ذلك تثبيتا لهم، وعن الحسن أنه فسر المنام بالعين لأنها مكان النوم كما يقال للقطيفة المنامة لأنها ينام فيها فلم تكن عنده هناك رؤيا أصلا بل كانت رؤية، وإليه ذهب البلخي ولا يخفى ما فيه لأن المنام شائع بمعنى النوم مصدر ميمي على ما قال بعض المحققين أو في موضع الشخص النائم على ما في الكشف ففي الحمل على خلاف ذلك تعقيد ولا نكتة فيه، وما قيل: إن فائدة العدول الدلالة على الأمن الوافر فليس بشيء لأنه لا يفيد ذلك فالنوم في تلك الحال دليل الأمن لا أن يريهم في عينه التي هي محل النوم، على أن الروايات الجمة برؤيته صلّى الله عليه وسلّم إياهم مناما وقص ذلك على أصحابه مشهورة لا يعارضها كون العين مكان النوم نظرا إلى الظاهر، ولعل الرواية عن الحسن غير صحيحة فإنه الفصيح العالم بكلام العرب، وتخريج كلامه على أن في الكلام مضافا محذوفا أقيم المضاف إليه مقامه أي في موضع منامك مما يرتضيه اليقظان أيضا، والتعبير بالمضارع لاستحضاره الصورة الغريبة، والمراد إذ أراكهم الله قليلا وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ أي لجبنتم وهبتم الإقدام، وجمع ضمير الخطاب في الجزاء مع افراده في الشرط إشارة كما قيل: إلى أن الجبن يعرض لهم لا له صلّى الله عليه وسلّم إن كان الخطاب للأصحاب فقط وإن كان للكل يكون من إسناد ما للأكثر للكل وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ أي أمر القتال وتفرقت آراؤكم في الثبات والفرار وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ أي أنعم بالسلامة من الفشل والتنازع. إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي الخواطر التي جعلت كأنها مالكة للصدور، والمراد أنه يعلم ما سيكون فيها من الجراءة والجبن والصبر والجزع ولذلك دبر ما دبر وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا مقدر بمضمر خوطب به الكل بطريق التلوين والتعميم معطوف على ما قبل، والضميران مفعولا يرى وقليلا حال من الثاني، وإنما قللهم سبحانه في أعين المسلمين حتى قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه إلى من بجنبه: أتراهم سبعين؟ فقال: أراهم مائة تثبيتا وتصديقا لرسوله عليه الصلاة والسلام وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ حتى قال أبو جهل: إنما أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم أكلة جزور، وكان هذا التقليل في ابتداء الأمر قبل التحام القتال ليجترئوا عليهم ويتركوا الاستعداد والاستمداد ثم كثرهم سبحانه حتى رأوهم مثليهم لتفاجئهم الكثرة فيبهتوا ويهابوا. لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ كرر لاختلاف الفعل المعلل به إذ هو في الأول اجتماعهم بلا ميعاد وهنا تقليلهم ثم تكثيرهم، أو لأن المراد بالأمر ثم الالتقاء على الوجه المحكي، وهاهنا إعزاز الإسلام وأهله وإذلال الشرك وحزبه، هذا وذكر غير واحد أن ما وقع في هذه الواقعة من عظائم الآيات فإن البصر وإن كان قد يرى الكثير قليلا والقليل كثيرا لكن لا على ذلك الوجه ولا إلى ذلك الحد وإنما يتصور ذلك بصد الأبصار عن إبصار بعض دون بعض مع التساوي في الشرائط. واعترض بأن ما ذكر من التعليل مناسب لتقليل الكثير لا لتكثير القليل، وأجيب بأن تكثير القليل من جانب المؤمنين بكون الملائكة عليهم السلام ومن جانب الكفرة حقيقة فلا يحتاج إلى توجيه فيهما وإنما المحتاج إليه تقليل الكثير، وذكر في الكشاف طريقين لإبصار الكثير قليلا أن يستر الله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 206 تعالى بعضه بساتر أو يحدث في عيونهم ما يستقلون به الكثير كما خلق في عيون الحول ما يستكثرون به القليل فيرون الواحد اثنين، وعليه فيمكن أن يقال: إن رؤيتهم المؤمنين مثليهم من قبيل رؤية الأحول بل هي أعظم على تقدير أن يراد مثلي أنفسهم وحينئذ لا يحتاج إلى حديث رؤية الملائكة مع المؤمنين، وفي الانتصاف أن في ذلك دليلا بينا على أنه تعالى هو الذي يخلق الإدراك في الحاسة غير موقوف على سبب من مقابلة أو قرب أو ارتفاع حجب أو غير ذلك، إذ لو كانت هذه الأسباب موجبة للرؤية عقلا لما أمكن أن يستتر عنهم البعض وقد أدركوا البعض، والسبب الموجب مشترك فعلى هذا يجوز أن يخلق الله تعالى الإدراك مع انتفاء هذه الأسباب ويجوز أن لا يخلقه مع اجتماعها فلا ربط إذن بين الرؤية وبينها في مقدور الله تعالى، وهي رادة على القدرية المنكرين لرؤيته تعالى لفقد شرطها وهو التجسم ونحوه، وحسبهم هذه الآية في بطلان زعمهم لكنهم يمرون عليها وهم عنها معرضون، ثم إن رؤياه عليه الصلاة والسلام كانت في قول على طرز رؤية أصحابه رضي الله تعالى عنهم المشركين، وذكر بعض المحققين أنها كانت في مقام التعبير فلا يلزم أن تكون على خلاف الواقع، والقلة معبرة بالمغلوبية، والواقعة من الرؤيا منها ما يقع بعينه ومنها ما يعبر ويؤول، وتحقيق الكلام فيها يقتضي بسطا فتيقظ واستمع لما يتلى فنقول: اعلم أن النفس الناطقة الإنسانية سلطان القوى البدنية وهي آلات لها وظاهر أن القوة الجسمانية تكل بكثرة العمر كالسيف الذي يكل بكثرة القطع فالنفس إذا استعملت القوى الظاهرة استعمالا كثيرا بحيث يعرض لها الكلال تعطلها لتستريح وتقوى كما أن الفارس إذا أكثر ركوب فرسه يرسله ليستريح ويرعى. وهذا التعطل الحاصل باسترخاء الأعصاب الدماغية المتصلة بآلات الإدراك هو النوم وما يتراءى هناك هو الرؤيا إلا أن المتكلمين والحكماء المشائين والمتألهين من الإشراقيين والصوفية اختلفوا في حقيقتها إلى مذاهب، فذهب المعتزلة وجمهور أهل السنة من المتكلمين إلى أن الرؤيا خيالات باطلة، ووجه ذلك عند المعتزلة فقد شرائط الإدراك حالة النوم من المقابلة وانبثاث الشعاع وتوسط الشغاف والبنية المخصوصة إلى غير ذلك من الشرائط المعتبرة في الإدراك عندهم وعند الجماعة، وهم لم يشترطوا شيئا من ذلك أن الإدراك حالة النوم خلاف العادة وأن النوم ضد الإدراك فلا يجامعه فلا تكون الرؤيا إدراكا حقيقة، وقال الأستاذ أبو إسحاق: إن الرؤيا إدراك حق إذ لا فرق بين ما يجده النائم من نفسه من إبصار وسمع وذوق وغيرها من الإدراكات وما يجده اليقظان من إدراكاته فلو جاز التشكيك فيما يجده النائم لجاز التشكيك فيما يجده اليقظان ولزم السفسطة والقدح في الأمور المعلومة حقيقتها بالبديهة، ولم يخالف في كون النوم ضدا للادراك لكنه زعم أن الإدراكات تقوم بجزء من أجزاء الإنسان غير ما يقوم به النوم من أجزائه فلا يلزم اجتماع الضدين في محل. وذهب المشاءون إلى أن المدرك في النوم يوجد في الحس المشترك الذي هو لوح المحسوسات ومجمعها فإن الحواس الظاهرة إذا أخذت صور المحسوسات الخارجية وأدتها إلى الحس المشترك صارت تلك الصور مشاهدة هناك ثم إن القوة المتخيلة التي من شأنها تركيب الصور إذا ركبت صورة فربما انطبعت تلك الصورة في الحس المشترك وصارت مشاهدة على حسب مشاهدة الصورة الخارجية فإن مدار المشاهدة الانطباع في الحس المشترك سواء انحدرت إليه من الخارج أو من الداخل، ثم إن القوة المتخيلة من شأنها التصوير دائما لا تسكن نوما ولا يقظة فلو خليت وطباعها لما فترت عن رسم الصور في الحس المشترك إلا أنه يصرفها عن ذلك أمران. أحدهما توارد الصور من الخارج على الحس المشترك إذ بعد انتقاشه بهذه الصورة لا يسمع أن ينتقش بالصورة التي تركبها المتخيلة. وثانيهما تسلط العقل أو الوهم عليها بالضبط عند ما يستعملانها في مدركاتهما، ولا شك في انقطاع هذين الصارفين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 207 عند النوم فيتسع لانتقاش الصور من الداخل فيكون ما يدركه النائم صورا مرتسمة في الحس المشترك وموجودة فيه وهو الرؤيا إلا أن منها ما هو صادق ومنها ما هو كاذب. أما الأولى فهي التي ترد تلك الصور فيها على الحس المشترك من النفس الناطقة، وبيانه أن صور جميع الحوادث ما كان وما يكون مرتسمة في المبادئ العالية التي يعبر عنها أرباب الشرع بالملائكة ومنطبعة بالنفوس المجردة الفلكية واتصال النفس المجردة بالمجرد لعلة الجنسية أشد من اتصالها بالقوى الجسمانية فمن شأنها أن تتصل بذلك وتنتقش بما فيه إلا أن اشتغالها بالحواس الظاهرة والباطنة واستغراقها بتدبير بدنها يمنعانها عن ذلك الاتصال والانتقاش لأن اشتغال النفس ببعض أفاعيلها يمنعها من الاشتغال بغيره، فإن الذي لا يشغله شأن عن شأن هو الله تعالى الواحد القهار، ولا يمكن إزالة العائق بالكلية إلا أنه يسكن اشتغالها بالإدراكات الحسية حالة النوم إذ في اليقظة ينتشر الروح إلى ظاهر البدن بواسطة الشرايين وينصب إلى الحواس حالة الانتشار ويحصل بها الإدراك فتشتغل النفس بتلك الإدراكات، وأما في النوم الذي هو أخ الموت فينحبس الروح إلى الباطن ويرجع عن الحواس الظاهرة بعد انصبابه إليها فتتعطل فيحصل للنفس أدنى فراغ فتتصل بتلك المبادئ اتصالا روحانيا معنويا وتنتقش ببعض ما فيها مما استعدت هي له كالمرايا إذا حوذي بعضها ببعض فانتقش في بعضها ما يتسع له مما انتقش في البعض الآخر فتدرك النفس مما ارتسم في تلك المبادئ ما يناسبها من أحوالها وأحوال ما يقارنها من الأقارب والأهل والولد والإقليم والبلد ماضيه وآتيه إلا أن هذا الإدراك لعدم تأديه من طرف الحس كلي فتحاكيه القوة المتخيلة التي جبلت محاكية لما يرد عليها بصورة جزئية مثالية خيالية مناسبة إياه فتحاكي ما هو خير بالنسبة إليها في صورة جميلة وما هو شر كذلك في صورة قبيحة هائلة على مراتب مختلفة ووجوه متعددة ومن ثمة قد ترى ذاتها بصفة جميلة صورية ومعنوية من الجمال والعلم والكرم والشجاعة وغير ذلك من الصفات المحمودة، وقد ترى ذاتها متصفة بأضداد ما ذكر، وقد ترى تلك الصفات في صورة ما غلبت الصفات عليه، بل قد ترى أنها نفسها صارت نوعا آخر لغلبة صفاته عليها، ومتى غلبت عليها الصفات الجميلة والأخلاق الحميدة ترى صورا جميلة وأشخاصا حميدة كذوي الجمال والعلماء والأولياء والملائكة، بل قد ترى أنها صارت عالما أو ملكا مثلا، ومتى غلبت عليها الصفات الذميمة ترى صورا هائلة كصورة غولية أو سبعية، وكذا رؤية حال من يقاربه من الأهل والولد والإقليم مثلا انها تراها باعتبار اختلاف المراتب والمناسبات على ما هي عليه في المضي أو الحال أو الاستقبال حتى لو اهتمت بمصالح الناس رأتها ولو كانت منجذبة الهمة إلى المعقولات لاحت لها أشياء منها، فمتى لم يكن اختلاف بين تلك الصورة وبين ما هي مأخوذة منه إلا بالكلية والجزئية كانت الرؤيا غير محتاجة إلى التعبير، والتجاوز عنها إلى ما يناسبها بوجه من المماثلة أو الضدية التي يقتضيها نحو الإلف والخلق والأسباب السماوية وغير ذلك من وجوه خفية لا يطلع عليها إلا الأفراد من أئمة التعبير، وإن كانت مخالفة لها لقصور يقع في المتخيلة إما لذاتها أو لعروض دهشة وحيرة لها مما ترى أو لغير ذلك كانت محتاجة إلى التعبير، وهو أن يرجع المعبر القهقرى مجردا لما يراه النائم عن تلك الصورة التي صورتها المتخيلة إلى أن ينتهي بمرتبة أو مراتب إلى ما تلقته النفس من تلك المبادئ فيكون الواقع، وقد يتفق سيما إذا كانه الرائي كثير الاهتمام بالرؤيا أن يعبر رؤياه في النوم الذي رآها فيه أو غيره، فهو إما بتذكره لما كانت الرؤيا حكاية عنه، وإما بتصوير المتخيلة حكاية رؤياه بحكاية أخرى، وحينئذ يحتاج إلى تعبيرين. وأما الثانية فهي تكون لأشياء اما لأن النفس إذا أحست في حال اليقظة بتوسط الآلات الجسمانية بصور جزئية محسوسة أو خيالية وبقيت مخزونة في قوة الخيال فعند النوم الذي يخلص فيه الحس المشترك عما يرد عليه من الحواس الظاهرة ترسم في الحس المشترك ارتسام المحسوسات إما على ما كانت عليها وإما بصور مناسبة لها، أو لأن النفس أتقنت بواسطة المتخيلة صورة ألفتها فعند النوم تتمثل في الحس المشترك، أو لأن مزاج الدماغ يتغير فيتغير الجزء: 5 ¦ الصفحة: 208 مزاج الروح الحاملة للقوة المتخيلة فتتغير أفعال المتخيلة بحسب تلك التغيرات، ولذلك يرى الدموي الأشياء الحمر والصفراوي النيران والأشعة والسوداوي الجبال والأدخنة والبلغمي المياه والألوان البيض، ومن هذا القبيل رؤية كون بدنه أو بعض أعضائه في الثلج أو الماء أو النار عند غلبة السخونة أو البرودة عليه، ورؤية أنه يأكل أو يشرب أو يبول عند عروض الاحتياج إلى أحدها. ومن العجائب في هذا الباب أنه إذا غلب المنى واحتاجت الطبيعة إلى دفعه تحتال باستعانة القوة المتخيلة إلى تصوير ما يندفع به من الصور الحسية وفي إرسال الريح الناشرة لآلة الجماع وإرادة حركاتها حتى يندفع بذلك ما أرادت اندفاعه، وقد يكون ذلك التوجه والاعتياد لا لغلبة المنيّ، فلهذا قد لا يندفع به شيء، وقد يعرض للروح اضطراب وتحريك من الأسباب الخارجة والداخلة فترى أمورا متغيرة متفرقة غير منضبطة فربما يتركب من المجموع صورة غير معهودة قلما يتصورها أحد أو يقع مثلها في الخارج، وقد يكون ذلك لاتصالات فلكية وأوضاع سماوية، فإذا كانت الرؤيا لأحد هذه الأمور تسمى أضغاث أحلام ولا تعبير لها ولا تقع. وقد ذكروا أن أصدق الناس رؤيا أعدلهم مزاجا ومن كان مع ذلك منقطعا عن العلائق الشاغلة والخيالات الفاسدة معتادا للصدق متوجها إلى الرؤيا واستثباتها وكيفيتها كانت رؤياه أصح وأصدق وأكثر أحلام الكذاب والسكران والمغموم ومن غلب عليه سوء مزاج أو فكر أو خيالات فاسدة ومقتضيات قوى غضبية وشهوية كاذبة لا يعتمد عليها، ومن هنا قالوا: لا اعتماد على رؤيا الشاعر لتعوده الأكاذيب الباطلة والتخيلات الفاسدة. وذهب بعض أصحاب المكاشفات وأرباب المشاهدات من الحكماء المتألهين والصوفية المنكرين لارتسام الصور في الخيال إلى أن الرؤيا مشاهدة النفس صورا خيالية موجودة في عالم المثال الذي هو برزخ بين عالم المجردات اللطيفة المسمى عندهم بعالم الملكوت، وبين عالم الموجودات العينية الكثيفة المسمى بعالم الملك، وقالوا: فيه موجودات متشخصة مطابقة لما في الخارج من الجزئيات مثل لها قائمة بنفسها مناسبة لما في العالمين المذكورين، أما لعالم الملك فلأنها صور جسمانية شبحية، وأما لعالم الملكوت فلأنها معلقة غير متعلقة بمكان وجهة كالمجردات حتى أنه يرى صورا مثالية لشخص واحد في مرايا متعددة بل في مواضع متكثرة كما يرى بعض الأولياء في زمان واحد في أماكن متعددة شرقية وغربية، ثم ان لتلك الصور مجالي مختلفة كالمرايا والماء الصافي، والقوى الجسمانية سيما الباطنة إذا انقطعت عن الاشتغال بالأمور الخارجية العائقة إذ بذلك يحصل لها زيادة مناسبة لذلك العالم كما للمتجردين عن العلائق البشرية، وإذا قويت تلك المناسبة كما للأنبياء عليهم السلام والأولياء الكمل قدس الله تعالى أسرارهم تظهر في القوى الظاهرة أيضا، ولهذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يشاهد جبريل عليه السلام حينما ينزل بالوحي والصحابة رضي الله تعالى عنهم حوله كانوا لا يشاهدونه. هذا واستشكل قول المتكلمين: إن الرؤيا خيالات باطلة بأنه قد شهد الكتاب والسنة بصحتها بل لم يكن أحد من الناس إلا وقد جربها من نفسه تجربة توجب التصديق بها. وأجيب بأن مرادهم أن كون ما يتخيله النائم إدراكا بالبصر رؤية وكون ما يتخيله إدراكا بالسمع سمعا باطل فلا ينافي كونها أمارة لبعض الأشياء. وذكر حجة الإسلام الغزالي عليه الرحمة في شرح قوله عليه الصلاة والسلام: «من رآني في المنام فقد رآني» الحديث أنه ليس المراد بقوله عليه الصلاة والسلام فقد رآني رؤية الجسم بل رؤية المثال الذي صار آلة يتأدى بها المعنى الذي في نفسه إليه، ثم ذكر أن النفس غير المثال المتخيل، فالشكل المرئي ليس روحه صلّى الله عليه وسلّم ولا شخصه بل مثاله على التحقيق، وكذا رؤيته سبحانه نوما فإن ذاته تعالى منزهة عن الشكل والصورة لكن تنتهي تعريفاته الجزء: 5 ¦ الصفحة: 209 تعالى إلى العبد بواسطة مثال محسوس من نور أو غيره وهو آلة حقا في كونه واسطة في التعريف، فقول الرائي: رأيت الله تعالى نوما لا يعني به أنه رأى ذاته تعالى. وقال أيضا: من رآه صلّى الله عليه وسلّم مناما لم يرد رؤيته حقيقة بشخصه المودع روضة المدينة بل رؤية مثاله وهو مثال روحه المقدسة عليه الصلاة والسلام. قيل: ومن هنا يعلم جواب آخر للاشكال وهو أن مرادهم أن ما يرى في المنام ليس له حقيقة ثابتة في نفس الأمر كما أن المرئي في اليقظة كذلك بل هو مثال متخيل يظهره الله تعالى للنفس في المنام كما يظهر لها الأمور الغيبية بعد الموت والنوم والموت اخوان، ووصف ما ذكر بالباطل لعله من قبيل وصف العالم به في قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل وأنت تعلم أن ما ذكره حجة الإسلام ليس مما اتفق عليه علماؤه فقد ذهب جمع إلى أن رؤيته صلّى الله عليه وسلّم بصفته المعلومة إدراك على الحقيقة وبغيرها إدراك للمثال، على أن كلام المتكلمين ظاهر المخالفة للكتاب والسنة ولا يكاد يسلم تأويله عن شيء فتأمل. ولعل النوبة تفضي إلى ذكر زيادة كلام في هذا المقام. وبالجملة إنكار الرؤيا على الإطلاق ليس في محله كيف وقد جاء في مدحها ما جاء. ففي صحيح مسلم: أيها الناس لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها مسلم أو ترى له. وجاء في أكثر الروايات أنها جزء من ست وأربعين. ووجه ذلك بأنه عليه الصلاة والسلام عمل بها ستة أشهر في مبدأ الوحي وقد استقام ينزل عليه الوحي ثلاثا وعشرين سنة، ولا يتأتى هذا على رواية خمس وأربعين، وكذا على رواية سبعين جزءا أو رواية ست وسبعين وهي ضعيفة ورواية ست وعشرين وقد ذكرها ابن عبد البر ورواية النووي من أربعة وعشرين والله تعالى أعلم. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً أي حاربتم جماعة من الكفرة ولم يصفها سبحانه لظهور أن المؤمنين لا يحاربون إلا الكفار، وقيل: ليشمل بإطلاقه البغاة ولا ينافيه خصوص سبب النزول، ومنهم من زعم أن الانقطاع معتبر في معنى الفئة لأنها من فأوت أي قطعت والمنقطع عن المؤمنين إما كفار أو بغاة، وبني على ذلك أنه لا ينبغي أن يقال: لم توصف لظهور إلخ وليس بشيء كما لا يخفى، واللقاء قد غلب في القتال كالنزال. وتصدير الخطاب بحرفي النداء والتنبيه إظهارا لكمال الاعتناء بمضمون ما بعده فَاثْبُتُوا للقائهم فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ [الأنفال: 15] والظاهر أن المراد إلا وأو على ما مر وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً أي في تضاعيف القتال، وفسر بعضهم هذا الذكر بالتكبير، وبعضهم بالدعاء ورووا أدعية كثيرة في القتال منها: اللهم أنت ربنا وربهم نواصينا ونواصيهم بيدك فاقتلهم واهزمهم، وقيل: المراد بذكره سبحانه اخطاره بالقلب وتوقع نصره، وقيل: المراد اذكروا ما وعدكم الله تعالى من النصر على الأعداء في الدنيا والثواب في الآخرة ليدعوكم ذلك إلى الثبات في القتال لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي تفوزون بمرامكم من النصر والمثوبة، والأولى حمل الذكر على ما يعم التكبير والدعاء وغير ذلك من أنواع الذكر، وفي الآية تنبيه على أن العبد ينبغي أن لا يشغله شيء عن ذكر مولاه سبحانه، وذكره جل شأنه في مثل ذلك الموطن من أقوى أدلة محبته جل شأنه، ألا ترى من أحب مخلوقا مثله كيف يقول: ولقد ذكرتك والرماح نواهل ... مني وبيض الهند تشرب من دمي فوددت تقبيل السيوف لأنها ... برقت كبارق ثغرك المتبسم وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ في كل ما تأتون وما تذرون ويندرج في ذلك ما أمروا به هنا وَلا تَنازَعُوا باختلاف الآراء كما فعلتم ببدر وأحد. وقرىء «ولا تنازعوا» بتشديد التاء فَتَفْشَلُوا أي فتجبنوا عن عدوكم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 210 وتضعفوا عن قتالهم. والفعل منصوب بأن مقدرة في جواب النهي، ويحتمل أن يكون مجزوما عطفا عليه، وقوله تعالى: وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ بالنصب معطوف على فَتَفْشَلُوا على الاحتمال الأول. وقرأ عيسى بن عمر «ويذهب» بياء الغيبة والجزم وهو عطف عليه أيضا على الاحتمال الثاني. والريح كما قال الأخفش مستعارة للدولة لشبهها بها في نفوذ أمرها وتمشيه. ومن كلامهم هبت رياح فلان إذ دالت له الدولة وجرى أمره على ما يريد وركدت رياحه إذا ولت عنه وأدبر أمره وقال: إذا هبت رياحك فاغتنمها ... فإن لكل خافقة سكون ولا تغفل عن الإحسان فيها ... فما تدري السكون متى يكون وعن قتادة وابن زيد أن المراد بها ريح النصر وقالا: لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله تعالى تضرب وجوه العدو. وعن النعمان بن مقرن قال: شهدت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تميل الشمس وتهب الرياح، وعلى هذا تكون الريح على حقيقتها، وجوز أن تكون كناية عن النصر وبذلك فسرها مجاهد وَاصْبِرُوا على شدائد الحرب إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ بالإمداد والإعانة وما يفهم من كلمة مع من أصالتهم بناء على المشهور من حيث إنهم المباشرون للصبر فهم متبوعون من تلك الحيثية. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بعد أن أمروا بما أمروا من أحاسن الأعمال ونهوا عما يقابلها، والمراد بهم أهل مكة أبو جهل وأصحابه حين خرجوا لحماية العير بَطَراً أي فخرا وأشرا وَرِئاءَ النَّاسِ ليثنوا عليهم بالشجاعة والسماحة. روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما رأى أبو سفيان أنه أحرز عيره أرسل إلى قريش أن ارجعوا فقد سلمت العير فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدرا ونشرب الخمور وتعزف علينا القينات ونطعم بها من حضرنا من العرب فوافوها ولكن سقوا كأس المنايا بدل الخمور وناحت عليهم النوائح، بدل القينات وكانت أموالهم غنائم بدلا عن بذلها، ونصب المصدرين على التعليل، ويجوز أن يكونا في موضع الحال، أي بطرين مرائين، وعلى التقديرين المقصود نهي المؤمنين أن يكونوا أمثالهم في البطر والرياء وأمرهم بأن يكونوا أهل تقوى وإخلاص إذا قلنا: إن النهي عن الشيء أمر بضده. وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عطف على بَطَراً وهو ظاهر على تقدير أنه حال بتأويل اسم الفاعل لأن الجملة تقع حالا من غير تكلف وأما على تقدير كونه مفعولا له فيحتاج إلى تكلف لأن الجملة لا تقع مفعولا له، ومن هنا قيل: الأصل أن يصدوا فلما حذفت أن المصدرية ارتفع الفعل مع القصد إلى معنى المصدرية بدون سابك كقوله: ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى ... أي عن أن أحضر، وهو شاذ واختير جعله على هذا استئنافا، ونكتة التعبير بالاسم أولا والفعل أخيرا أن البطر والرياء دأبهم بخلاف الصد فإنه تجدد لهم في زمن النبوة وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ فيجازيهم عليه وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ مقدر بمضمر خوطب به النبي صلّى الله عليه وسلّم بطريق التلوين على ما قيل، ويجوز أن يكون المضمر مخاطبا به المؤمنون والعطف على لا تكونوا، أي واذكروا إذ زين لهم الشيطان أعمالهم في معاداة المؤمنين وغيرها بأن وسوس إليهم وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ أي ألقى في روعهم وخيل لهم أنهم يغلبون لكثرة عددهم وعددهم وأوهمهم ان اتباعهم إياه فيما يظنون أنها قربات مجير لهم وحافظ عن السوء حتى قالوا: اللهم انصر أهدى الفئتين وأفضل الدينين، فالقول مجاز عن الوسوسة، والإسناد في إِنِّي جارٌ من قبيل الإسناد إلى السبب الداعي ولَكُمُ خبر لا أو صفة غالِبَ والخبر محذوف، أي لا غالب كائنا لكم موجود والْيَوْمَ معمول الخبر ولا يجوز الجزء: 5 ¦ الصفحة: 211 تعلق الجار بغالب وإلا لانتصب لشبهه بالمضاف حينئذ، وأجاز البغداديون الفتح وعليه يصح تعلقه به، ومِنَ النَّاسِ حال من ضمير الخبر لا من المستتر في غالِبَ لما ذكرنا، وجملة اني جار تحتمل العطف والحالية فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ أي تلاقى الفريقان وكثيرا ما يكنى بالترائي عن التلاقي وإنما أول بذلك لمكان قوله تعالى: نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ أي رجع القهقري فإن النكوص كان عند التلاقي لا عند الترائي، والتزام كونه عنده فيه خفاء. والجار والمجرور في موضع الحال المؤكدة أو المؤسسة إن فسر النكوص بمطلق الرجوع، وأيا ما كان ففي الكلام استعارة تمثيلية، شبه بطلان كيده بعد تزيينه بمن رجع القهقهرى عما يخافه كأنه قيل: لما تلاقتا بطل كيده وعاد ما خيل إليهم أنه مجيرهم سبب هلاكهم. وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ تبرأ منهم إما بتركهم أو بترك الوسوسة لهم التي كان يفعلها أولا وخاف عليهم وأيس من حالهم لما رأى امداد الله تعالى المسلمين بالملائكة عليهم السلام، وإنما لم نقل خاف على نفسه لأن الوسوسة بخوفه عليهم أقرب إلى القبول بل يبعد وسوسته إليهم بخوفه على نفسه، وقيل: إنه لا يخاف على نفسه لأنه من المنظرين وليس بشيء. وقد يقال: المقصود من هذا الكلام أنه عظم عليهم الأمر وأخذ يخوفهم بعد أن كان يحرضهم ويشجعهم كأنه قال: يا قوم الأمر عظيم والخطب جسيم وإني تارككم لذلك وخائف على نفسي الوقوع في مهاوي المهالك مع أني أقدر منكم على القرار وعلى مراحل هذه القفار، وحينئذ لا يبعد أن يراد من الخوف الخوف على نفسه حيث لم يكن هناك قول حقيقة، وقال غير واحد من المفسرين: إنه لما اجتمعت قريش على المسير ذكرت ما بينها وبين كنانة من الإحنة والحرب فكاد ذلك يثبطهم فتمثل لهم إبليس بصورة سراقة بن مالك الكناني وكان من أشراف كنانة فقال لهم لا غالب لكم اليوم وإني جار لكم من بني كنانة وحافظكم ومانع عنكم فلا يصل إليكم مكروه منهم فلما رأى الملائكة تنزل من السماء نكص وكانت يده في يد الحارث بن هشام فقال له: إلى أين؟ أتخذلنا في هذه الحالة؟ فقال له: إني أرى ما لا ترون فقال: والله ما نرى إلا جعاسيس يثرب فدفع في صدر الحارث وانطلق وانهزم الناس فلما قدموا مكة قالوا: هزم الناس سراقة فبلغه الخبر فقال: والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم فلما أسلموا علموا أنه الشيطان، وروي هذا عن ابن عباس والكلبي والسدي وغيرهم، وعليه يحتمل أن يكون معنى قوله: إني أخاف الله إني أخاف أن يصيبني بمكروه من الملائكة أو يهلكني، ويكون الوقت هو الوقت الموعود إذ رأى فيه ما لم ير قبله، وفي الموطأ: ما رئي الشيطان يوما هو أصغر فيه ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله تعالى عن الذنوب العظام إلا ما رئي يوم بدر فإنه قد رأى جبريل عليه السلام يزع الملائكة عليهم السلام، وما في كتاب التيجان من أن إبليس قتل ذلك اليوم مخرج على هذا وإلا فهو تاج سلطان الكذب، وروى الأول عن الحسن واختاره البلخي والجاحظ، وقوله سبحانه: وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ يحتمل أن يكون من كلام اللعين وأن يكون مستأنفا من جهته سبحانه وتعالى، وادعى بعضهم أن الأول هو الظاهر إذ على احتمال كونه مستأنفا يكون تقريرا لمعذرته ولا يقتضيه المقام فيكون فضلة من الكلام، وتعقب بأنه بيان لسبب خوفه حيث إنه يعلم ذلك فافهم إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ ظرف لزين أو نكص أو شديد العقاب، وجوز أبو البقاء أيضا أن يقدر اذكروا وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي الذين لم تطمئن قلوبهم بالإيمان بعد وبقي فيها شبهة، قيل: وهم فتية من قريش أسلموا بمكة وحبسهم آباؤهم حتى خرجوا معهم إلى بدر. منهم قيس بن الوليد بن المغيرة. والعاص بن منبه بن الحجاج. والحارث بن زمعة. وأبو قيس بن الفاكه، فالمرض على هذا مجاز عن الشبهة. وقيل: المراد بهم المنافقون سواء جعل العطف تفسيريا أو فسر مرض القلوب بالإحن والعداوات والشك مما هو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 212 غير النفاق، والمعنى إذ يقول الجامعون بين النفاق ومرض القلوب، وقيل: يجوز أن يكون الموصول صفة المنافقين، وتوسطت الواو لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف لأن هذه صفة للمنافقين لا تنفك عنهم، أو تكون الواو داخلة بين المفسر والمفسر نحو أعجبني زيد وكرمه، وزعم بعضهم أن ذلك وهم وهو من التحامل بمكان إذ لا مانع من ذلك صناعة ولا معنى، والقول بأن وجه الوهم فيه أن المنافقين جار على موصوف مقدر أي القوم المنافقون فلا يوصف ليس بوجيه إذ للقائل أن يقول: إنه أجرى المنافقون هنا مجرى الأسماء مع أن الصفة لا مانع من أن توصف وقيام العرض بالعرض دون إثبات امتناعه خرط القتاد، ومن فسر الذين في قلوبهم مرض بأولئك الفئة الذين أسلموا بمكة قال: إنهم لما رأوا قلة المسلمين قالوا: غَرَّ هؤُلاءِ يعنون المؤمنين الذين مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دِينُهُمْ حتى تعرضوا لمن لا يدي لهم به فخرجوا وهم ثلاثمائة وبضعة عشر إلى زهاء الألف، وعلى احتمال جعله صفة للمنافقين يشعر كلام البعض أن القول لم يكن عند التلاقي، فقد روي عن الحسن أن هؤلاء المنافقين لم يشهدوا القتال يوم بدر. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: هم يومئذ في المسلمين، وفي القلب من هذا شيء، فإن الذي تشهد له الآثار أن أهل بدر كانوا خلاصة المؤمنين وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ جواب لهم ورد لمقالتهم فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب لا يذل من توكل عليه ولا يخذل من استجار به وإن قل حَكِيمٌ يفعل بحكمته البالغة ما تستبعده العقول، وتحار في فهمه ألباب الفحول. وجواب الشرط محذوف لدلالة المذكور عليه أو أنه قائم مقامه وَلَوْ تَرى خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم أو لكل أحد ممن له حظ من الخطاب، والمضارع هنا بمعنى الماضي لأن لَوْ الامتناعية ترد المضارع ماضيا كما أن ترد الماضي مضارعا، أي ولو رأيت إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ إلخ لرأيت أمرا فظيعا، ولا بد عند العلامة من حمل معنى المضي هنا على الفرض والتقدير، وليس المعنى على حقيقة المضي، قيل: والقصد إلى استمرار امتناع الرؤية وتجدده وفيه بحث، وإذ ظرف لترى والمفعول محذوف، أي ولو ترى الكفرة أو حالهم حينئذ، والْمَلائِكَةُ فاعل يتوفى، وتقديم المفعول للاهتمام به، ولم يؤنث الفعل لأن الفاعل غير حقيقي التأنيث، وحسن ذلك الفصل بينهما، ويؤيد هذا الوجه قراءة ابن عامر «تتوفى» بالتاء. وجوز أبو البقاء أن يكون الفاعل ضمير الله تعالى، والملائكة على هذا مبتدأ خبره جملة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ والجملة الاسمية مستأنفة، وعند أبي البقاء في موضع الحال، ولم يحتج إلى الواو لأجل الضمير، ومن يرى أنه لا بد فيها من الواو وتركها ضعيف يلتزم الأول، وعلى الأول يحتمل أن يكون جملة يضربون مستأنفة وأن تكون حالا من الفاعل أو المفعول أو منهما لاشتمالها على ضميريهما وهي مضارعية يكتفى فيها بالضمير كما لا يخفى. والمراد من وجوههم ما أقبل منهم، ومن قوله سبحانه: وَأَدْبارَهُمْ ما أدبر وهو كل الظهر. وعن مجاهد أن المراد منه أستاههم ولكن الله تعالى كريم يكني والأول أولى، وذكرهما يحتمل أن يكون للتخصيص بهما لأن الخزي والنكال في ضربهما أشد ويحتمل أن يراد التعميم على حد قوله تعالى: بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ [الأعراف: 205، الرعد: 15، النور: 36] لأنه أقوى ألما، والمراد من الذين كفروا قتلى بدر كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره. وروي عن الحسن أن رجلا قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشراك فقال عليه الصلاة والسلام: ذلك ضرب الملائكة. وفي رواية عن ابن عباس ما يشعر بالعموم. فقد أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال: آيتان يبشر بهما الكافر عند موته وقرأ وَلَوْ تَرى إلخ، ولعل الرواية عنه رضي الله تعالى عنه لم تصح وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ عطف على يَضْرِبُونَ بإضمار القول، أي ويقولون ذوقوا، أو حال من ضميره كذلك أي ضاربين وجوههم وقائلين ذوقوا، وهو على الوجهين من قول الملائكة، والمراد بعذاب الحريق عذاب النار في الآخرة، فهو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 213 بشارة لهم من الملائكة بما هو أدهى وأمرّ مما هم فيه، وقيل كان مع الملائكة يوم بدر مقامع من حديد كلما ضربوا المشركين بها التهبت النار في جراحاتهم، وعليه فالقول للتوبيخ، والتعبير بذوقوا قيل: للتهكم لأن الذوق يكون في المطعومات المستلذة غالبا، وفيه نكتة أخرى وهو أنه قليل من كثير وأنه مقدمة كأنموذج الذائق. وبهذا الاعتبار يكون فيه المبالغة، وإن أشعر الذوق بقلته. وذكر بعضهم: وهو خلاف الظاهر أنه يحتمل أن يكون هذا القول من كلام الله كما في [آل عمران: 181] وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ وجواب لَوْ محذوف لتفظيع الأمر وتهويله وتقديره ما أشرنا إليه سابقا، وقدره الطيبي لرأيت قوة أوليائه ونصرهم على أعدائه ذلِكَ أي الضرب والعذاب اللذان هما هما وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ والباء للسببية، وتقديم الأيدي مجاز عن الكسب والفعل، أي ذلك واقع بسبب ما كسبتم من الكفر والمعاصي، وقوله سبحانه: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ قيل خبر مبتدأ محذوف، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبلها، أي والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده من غير ذنب من قبلهم، والتعبير عن ذلك بنفي الظلم مع أن تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم قطعا على ما تقرر من قاعدة أهل السنة فضلا عن كونه ظلما بالغا لبيان كمال نزاهته تعالى بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه تعالى من الظلم. وقال البيضاوي بيض الله غرة أحواله: هو عطف على ما للدلالة على أن سببيته مقيدة بانضمامه إليه إذ لولاه لأمكن أن يعذبهم بغير ذنوبهم. لا أن لا يعذبهم بذنوبهم، فإن ترك التعذيب من مستحقه ليس بظلم شرعا ولا عقلا حتى ينتهض نفي الظلم سببا للتعذيب وأراد بذلك الرد على الزمخشري عامله الله تعالى بعدله حيث جعل كلّا من الأمرين سببا بناء على مذهبه في وجوب الأصلح، فقوله: لا أن لا يعذبهم عطف على أن يعذبهم والمعنى أن سبب هذا القيد دفع احتمال أن يعذبهم بغير ذنوبهم لا احتمال أن لا يعذبهم بذنوبهم فإنه أمر حسن، وقوله للدلالة إلخ على معنى أن تعينه للسببية إنما يحصل بهذا القيد إذ بإمكان تعذيبهم بغير ذنب يحتمل أن يكون سبب التعذيب إرادة العذاب بلا ذنب، فحاصل معنى الآية أن عذابكم هذا إنما نشأ من ذنوبكم لا من شيء آخر. فلا يرد عليه ما قيل: كون تعذيب الله تعالى للعباد بغير ذنب ظلما لا يوافق مذهب الجماعة، وما قيل: إن هذا يخالف ما في آل عمران من أن سببيته للعذاب من حيث إن نفي الظلم يستلزم العدل المقتضي إثابة المحسن ومعاقبة المسيء مدفوع بأن لنفي الظلم معنيين: أحدهما ما ذكر من إثابة المحسن إلخ، والآخر عدم التعذيب بلا ذنب وكل منهما يؤول إلى معنى العدل فلا تدافع بين كلاميه. وأما جعله هناك سببا وهنا قيدا للسبب فلا يوجب التدافع أيضا فإن المراد كما ذكرنا فيما قبل بالسبب الوسيلة المحضة وهو وسيلة سواء اعتبر سببا مستقلا أو قيدا للسبب. ولمولانا شيخ الإسلام في هذا المقام كلام لا يخفى عليك رده بعد الوقوف على ما ذكرنا. وقد تقدم لك بسط الكلام فيه، ومن الناس من بين قول القاضي: للدلالة إلخ بقوله يريد أن سببية الذنوب للعذاب تتوقف على انتفاء الظلم منه تعالى فإنه لو جاز صدوره عنه سبحانه لأمكن أن يعذب عبيده بغير ذنوبهم. فلا يصلح أن يكون الذنب سببا للعذاب لا في هذا الصورة ولا في غيرها ثم قال: فإن قلت: لا يلزم من هذا إلا نفي انحصار السبب للعذاب في الذنوب لا نفي سببيتها له والكلام فيه إذ يجوز أن يقع العذاب في الصورة المفروضة بسبب غير الذنوب، ولا ينافي هذا كونها سببا له في غير هذه الصورة كما في أهل بدر. فلا يتم التقريب. قلت: السبب المفروض في الصورة المذكورة إن أوجب استحقاق العذاب يكون ذنبا لا محالة. والمفروض خلافه وإن لم يوجب فلا يتصور أن يكون سببا إذ لا معنى لكون شيء سببا إلا كونه مقتضيا لاستحقاقه له فإذا انتفى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 214 هذا ينتفي ذلك، وبالجملة فمأل كون التعذيب من غير ذنب إلى كونه بدون السبب لانحصار السبب فيه انتهى. ورد بأن قوله: وإن لم يوجب فلا يتصور أن يكون سببا ممنوع فإن السبب الموجب ما يكون مؤثرا في حصول شيء سواء كان عن استحقاقه أو لم يكن، ألا يرى أن الضرب بظلم والقتل كذلك سببان للإيلام والموت مع أنهما ليسا عن استحقاق، فاعتراض السائل واقع موقعه ولا يمكن التفصي عنه إلا بما قرر سابقا من معنى الآية، فإن المقام مقام تعيين السببية وتخصيصها للذنوب وذلك لا يحصل إلا بنفي صدور العذاب بلا ذنب منه سبحانه وتعالى، ومن هنا علم أن قوله: وبالجملة إلخ ليس بسديد فإن مبناه كون الاستحقاق شرطا للسببية وقد مر ما فيه مع ما فيه من المخالفة لكلام الأجلة من كون نفي الظلم سببا آخر للتعذيب لأن سببية نفي الظلم موقوفة على إمكان إرادة التعذيب بلا ذنب وكونها سببا للعذاب فكيف يكون مآل كون التعذيب بلا ذنب إلى كونه بدون السبب فتأمل فالمقام معترك الافهام، ثم أن المراد في نفي الآية نفس الظلم وإنما كثر توزيعا على الآحاد كأنه قيل: ليس بظالم لفلان ولا بظالم لفلان وهكذا فلما جمع هؤلاء عدل إلى ظلام لذلك، وجوز أن يكون إشارة إلى عظم العذاب على سبيل الكناية وذلك لأن الفعل يدل بظاهره على غاية الظلم إذا لم يتعلق بمستحقه فإذا صدر ممن هو أعدل العادلين دل على أنه استحق أشد العذاب لأنه أشد المسيئين. قال في الكشف: وهذا أوفق للطائف كلام الله تعالى المجيد، وفيه وجوه أخر مر لك بعضها، وقوله تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ خبر مبتدأ محذوف أي دأب هؤلاء كائن كدأب إلخ والجملة استئناف مسوق لبيان أن ما حل بهم من العذاب بسبب كفرهم لا بشيء آخر حيث شبه حالهم بحال المعروفين بالإهلاك لذلك لزيادة تقبيح حالهم وللتنبيه على أن ذلك سنة مطردة فيما بين الأمم المهلكة، والدأب العادة المستمرة ومنه قوله: وما زال ذاك الدأب حتى تجادلت ... هوازن وارفضت سليم وعامر والمراد شأنهم الذي استمروا عليه مما فعلوا وفعل بهم من الأخذ كدأب آل فرعون المشهورين بقباحة الأعمال وفظاعة العذاب والنكال وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من قبل آل فرعون وأصحابه من الأمم الذين فعلوا ما فعلوا ولقوا من العذاب ما لقوا كقوم نوح. وعاد. وأضرابهم، وقوله تعالى: كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ تفسير لدأبهم لكن بملاحظة أنه الذي فعلوه لا لدأب آل فرعون ومن بعدهم فإن ذلك معلوم منه بقضية التشبيه. والجملة لا محل لها من الاعراب لما أشير إليه، وكذا على ما قيل: من أنها مستأنفة استئنافا نحويا أو بيانيا، وقيل: إنها حالية بتقدير قد فهي في محل نصب، وقوله سبحانه: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ معطوفة عليها وحكمه في التفسير حكمها لكن بملاحظة الدأب الذي فعل بهم، والفاء لبيان كونه من لوازم جناياتهم وتبعاتها المتفرعة عليها. وذكر الذنوب لتأكيد ما أفادته الفاء من السببية مع الإشارة إلى أن لهم مع كفرهم ذنوبا أخر لها دخل في استتباع العقاب، وجوز أن يراد بذنوبهم معاصيهم المتفرعة على كفرهم فيكون الباء للملابسة أي فأخذهم متلبسين بذنوبهم غير تائبين عنها، وجعل العذاب من جملة دأبهم مع أنه ليس مما يتصور مداومتهم عليه واعتيادهم إياه كما هو المعتبر في مدلول الدأب كما عرفت إما لتغليب ما فعلوه على ما فعل بهم أو لتنزيل مداومتهم على ما يوجبه من الكفر والمعاصي بمنزلة مداومتهم عليه لما بينهما من الملابسة التامة، وإلى كون المراد بدأبهم مجموع ما فعلوه وما فعل بهم يشير ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إن آل فرعون أيقنوا بأن موسى عليه السلام نبي الله تعالى فكذبوه كذلك هؤلاء جاءهم محمد صلّى الله عليه وسلّم بالصدق فكذبوه فأنزل الله تعالى لهم عقوبة كما أنزل بآل فرعون، وإلى ذلك ذهب ابن الخازن وغيره، وقيل: المراد بدأبهم ما فعلوا فقط، وقيل: ما فعل بهم فقط، وليس بشيء. وقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ اعتراض مقرر لمضمون ما قبله من الأخذ أي أنه سبحانه لا يغلبه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 215 غالب فيدفع عقابه عمن أراد معاقبته ذلِكَ إشارة إلى ما يفيده النظم الكريم من كون ما حل بهم من العذاب منوطا بأعمالهم السيئة غير واقع بلا سابقة ما يقتضيه، وهو مبتدأ خبره قوله سبحانه: بِأَنَّ اللَّهَ إلى آخره، والباء للسببية، والجملة مسوقة لتعليل ما أشير إليه أي ذلك كائن بسبب أن الله سبحانه لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها أي لم ينبغ له سبحانه ولم يصح في حكمته أن يكون بحيث يغير نعمة أي نعمة كانت جلت أو هانت أنعم بها عَلى قَوْمٍ من الأقوام حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ أي ذواتهم من الأعمال والأحوال التي كانوا عليها وقت ملابستهم للنعمة ويتصفوا بما ينافيها سواء كانت أحوالهم السابقة مرضية صالحة أو أهون من الحالة الحادثة كدأب كفرة قريش المذكورين حيث كانوا قبل البعثة كفرة عبدة أصنام مستمرين على حال مصححة لإفاضة نعم الامهال وسائر النعم الدنيوية عليهم كصلة الرحم والكف عن تعرض الآيات والرسل عليهم السلام فلما بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم غيروها على أسوأ حال منها وأسخط حيث كذبوه عليه الصلاة والسلام وعادوه ومن تبعه من المؤمنين وتحزبوا عليهم وقطعوا أرحامهم فغير الله تعالى ما أنعم به عليهم من نعمة الامهال ووجه إليهم نبال العقاب والنكال، وقيل: إنهم لما كانوا متمكنين من الإيمان ثم لم يؤمنوا كان ذلك كأنه حاصل لهم فغيروه كما قيل في قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى [البقرة: 16، 175] ولا يخلو عن حسن. وجعل بعضهم الإشارة إلى ما حل بهم ثم إنه لما رأى أن انتفاء تغيير الله تعالى حتى يغيروا لا يقتضي تحقق تغييره إذا غيروا وأن العدم ليس سببا للوجود هنا وأيضا عدم التغيير صارف عما حل بهم لا موجب له بحسب الظاهر قال: إن السبب ليس منطوق الآية بل مفهومها، وهو جري عادته سبحانه على التغيير حين غيروا حالهم فالسبب ليس انتفاء التغيير، بل التغيير: قيل: وإنما أوثر التعبير بذلك لأن الأصل عدم التغيير من الله تعالى لسبق إنعامه ورحمته ولأن الأصل فيهم الفطرة وأما جعله عادة جارية فبيان لما استقر عليه الحال من ذلك لا أن كونه عادة له دخل في السببية، ولا يخفى أن ما ذكرناه أسلم من القيل والقال على أن ما فعله البعض لا يخلو بعد عن مقال فتدبر، وأصل يَكُ يكن فحذفت النون تخفيفا لشبهها بأحرف العلة أنها من الزوائد وهي تحذف من أحرف المجزوم فلذا حذفت هذه وهو مختص بهذا الفعل لكثرة استعماله وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ عطف على أَنَّ اللَّهَ إلخ داخل معه في حيز التعليل، أي وسبب أنه تعالى سميع عليم يسمع ويعلم جميع ما يأتون ويذرون من الأقوال والأفعال السابقة واللاحقة فيرتب على كل منها ما يليق من ابقاء النعمة وتغييرها. وقرىء «وإن الله» بكسر الهمزة فالجملة حينئذ استئناف مقرر لمضمون ما قبله كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ استئناف آخر على ما ذكره بعض المحققين مسوق لتقرير ما سيق له الاستئناف الأول بتشبيه دأبهم بدأب المذكورين لكن لا بطريق التكرير المحض بل بتغيير العنوان وجعل الدأب في الجانبين عبارة عما يلازم معناه الأول من تغيير الحال وتغيير النعمة أخذا مما نطق به قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً إلخ على دأب هؤلاء وشأنهم الذي هو عبارة عن التغييرين المذكورين كدأب أولئك حيث غيروا حالهم فغير الله تعالى نعمته عليهم فقول سبحانه: كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ تفسير لدأبهم الذي فعلوه من تغييرهم لحالهم، وأشير بلفظ الرب إلى أن ذلك التغيير كان بكفران نعمه تعالى لما فيه من الدلالة على أنه مربيهم بالمنعم عليهم، وقوله سبحانه: فَأَهْلَكْناهُمْ تفسير لدأبهم الذي فعل بهم من تغييره تعالى ما بهم من نعمته جل شأنه. وفي الإهلاك رمز إلى التغيير ولذا عبر به دون الأخذ المعبر به أولا وليس الأخذ مثله في ذلك، ألا ترى أنه كثيرا ما يطلق الإهلاك على إخراج الشيء عن نظامه الذي هو عليه ولم نر إطلاق الأخذ على ذلك، وقيل: إنما عبر أولا بالأخذ وهنا بالإهلاك لأن جنايتهم هنا الكفران وهو يقتضي أعظم النكال والإهلاك مشير إليه ولا كذلك ما تقدم وفيه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 216 نظر، وأما دأب قريش فمستفاد مما ذكر بحكم التشبيه فلله تعالى در التنزيل حيث اكتفى في كل من التشبيهين بتفسير أحد الطرفين، وفي الفرائد أن هذا ليس بتكرير لأن معنى الأول حال هؤلاء كحال آل فرعون في الكفر فأخذهم وأتاهم العذاب، ومعنى الثاني حال هؤلاء كحال آل فرعون في تغييرهم النعم وتغيير الله تعالى حالهم بسبب ذلك التغيير وهو أنه سبحانه أغرقهم بدليل ما قبله وما ذكرناه أتم تحريرا، واعترضه العلامة الطيبي بأن النظم الكريم يأباه لأن وجه التشبيه في الأول كفرهم المترتب عليه العقاب فكذلك ينبغي أن يكون وجهه في الثاني ما يفهم من قوله سبحانه: كَذَّبُوا إلخ لأنه مثله لأن كلا منهما جملة مبتدأة بعد تشبيه صالحة لأن تكون وجه الشبه فتحمل عليه كما في قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ [آل عمران: 59] وأما قوله سبحانه ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ إلخ فكالتعليل لحلول النكال معترض بين التشبيهين غير مختص بقوم بل هو متناول لجميع من يغير نعمة الله تعالى من الأمم السابقة واللاحقة فاختصاصه بالوجه الثاني دون الأول وإيقاعه وجها للتشبيه مع وجوده صريحا كما علمت بعيد عمن ذاق معرفة الفصاحتين ووقف على ترتيب النظم من الآيتين انتهى. ولا يخفى أن هذا غير وارد على ما قدمناه عند التأمل. والقول في التفرقة بين الآيتين أن الأولى لبيان حالهم في استحقاقهم عذاب الآخرة والثانية لبيان استحقاقهم عذاب الدنيا، أو أن المقصود أولا تشبيه حالهم بحال المذكورين في التكذيب والمقصود ثانيا تشبيه حالهم بحالهم في الاستئصال، أو أن المراد فيما تقدم بيان أخذهم بالعذاب وهنا بيان كيفيته مما لا ينبغي أن يعول عليه. وقال بعض الأكابر: إن قوله سبحانه: كَدَأْبِ في محل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف، أي حتى يغيروا ما بأنفسهم تغييرا كائنا كدأب آل فرعون أي كتغييرهم على أن دأبهم عبارة عما فعلوه كما هو الأنسب بمفهوم الدأب، وقوله تعالى: كَذَّبُوا إلخ تفسير له بتمامه، وقوله سبحانه: فَأَهْلَكْناهُمْ إلخ إخبار بترتب العقوبة عليه لا أنه من تمام تفسيره ولا ضير في توسط قوله عز شأنه: وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ بينهما سواء عطفا أو استئنافا، وفيه خروج الآية عن نمط أختها بالكلية. وأيضا لا وجه لتقييد التغيير الذي يترتب عليه تغيير الله تعالى بكونه كتغيير آل فرعون على أن كون الجار في محل النصب على أنه نعت بعيد مع وجود ذلك الفاصل وإن قلنا بجواز الفصل، ومن أنصف علم أن بلاغه التنزيل تقتضي الوجه الأول، والالتفات إلى نون العظمة في أهلكنا جريا على سنن الكبرياء لتهويل الخطب، وهذا لا ينافي النكتة التي أشرنا إليها سابقا كما لا يخفى، والكلام في الفاء وذكر الذنوب على طرز ما ذكرنا في نظيره، وقوله سبحانه: وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ عطف على فَأَهْلَكْناهُمْ وفي عطفه عليه مع اندراج مضمونه تحت مضمونه إيذان بكمال هول الإغراق وفظاعته وَكُلٌّ أي كل من الفرق المذكورين أو كل من هؤلاء وأولئك أو كل من آل فرعون وكفار قريش على ما قيل بناء على أن ما قبله في تشبيه دأب كفرة قريش بدأب آل فرعون صريحا وتعيينا وأن مثله يكفي قرينة للتخصيص كانُوا ظالِمِينَ أي أنفسهم بالكفر والمعاصي ولو عمم لكان له وجه أو واضعين للكفر والتكذيب مكان الإيمان والتصديق ولذلك أصابهم ما أصابهم إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ أي في حكمه وقضائه الَّذِينَ كَفَرُوا أي أصروا على الكفر ورسخوا فيه، وهذا شروع في بيان أحوال سائر الكفرة بعد بيان أحوال المهلكين منهم ولم يقل سبحانه شر الناس إيماء إلى أنهم بمعزل عن مجانستهم بل هم من جنس الدوابّ وأشرّ أفراده فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ حكم مترتب على تماديهم في الكفر ورسوخهم فيه وتسجيل عليهم بكونهم من أهل الطبع لا يلويهم صارف ولا يثنيهم عاطف جيء به على وجه الاعتراض، وقيل: عطف على الصلة مفهم معنى الحال كأنه قيل: إن شر الدواب الذين كفروا مصرّين على عدم الإيمان، وقيل: الفاء فصيحة أي إذا علمت أن أولئك شر الدواب فاعلم أنهم لا يؤمنون أصلا فلا تتعب نفسك، وقيل: هي للعطف وفي ذلك تنبيه على أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 217 تحقق المعطوف عليه يستدعي تحقق العطف حيث جعل ذلك مترتبا عليه ترتب المسبب على سببه والكل كما ترى الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ بدل من الموصول الأول أو عطف بيان أو نعت أو خبر مبتدأ محذوف أو نصب على الذم، وعائد الموصول قيل: ضمير الجمع المجرور، والمراد عاهدتهم ومن للايذان بأن المعاهدة التي هي عبارة عن إعطاء العهد وأخذه من الجانبين معتبرة هاهنا من حيث أخذه صلّى الله عليه وسلّم إذ هو المناط لما نعى عليهم من النقض لا إعطاؤه عليه الصلاة والسلام إياهم عهده كأنه قيل: الذين أخذت منهم عهدهم، وإلى هذا يرجع قولهم: إن من لتضمين العهد معنى الأخذ أي عاهدت آخذا منهم. وقال أبو حيان: إنها تبعيضية لأن المباشر بعضهم لا كلهم، وذكر أبو البقاء أن الجار والمجرور في موضع الحال من العائد المحذوف، أي الذين عاهدتهم كائنين منهم، وقيل: هي زائدة وليس بذاك، وقوله سبحانه: ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ عطف على الصلة، وصيغة الاستقبال للدلالة على تعدد النقض وتجدده وكونهم على نيته في كل حال، أي ينقضون عهدهم الذي أخذ منهم فِي كُلِّ مَرَّةٍ أي من مرات المعاهدة كما هو الظاهر واختاره غير واحد، وجوز أن يراد في كل مرة من مرات المحاربة وفيه بحث وَهُمْ لا يَتَّقُونَ في موضع الحال من فاعل ينقضون، أي يستمرون على النقض والحال أنهم لا يتقون سبة الغدر ومغبته، أو لا يتقون الله فيه، وقيل: لا يتقون نصرة المسلمين وتسلطهم عليهم، والآية على ما قال جمع: نزلت في يهود قريظة عاهدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن لا يمالئوا عليه فأعانوا المشركين بالسلاح فقالوا نسينا ثم عاهدهم عليه الصلاة والسلام فنكثوا ومالؤوهم عليه عليه الصلاة والسلام يوم الخندق وركب كعب إلى مكة فحالفهم على حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير أنها نزلت في ستة رهط من يهود منهم ابن تابوت، ولعله أراد بهم الرؤساء المباشرين للعهد فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ شروع في بيان أحكامهم بعد تفصيل أحوالهم، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، والثقف يطلق على المصادفة وعلى الظفر، والمراد به هنا المترتب على المصادفة والملاقاة، أي إذا كان حالهم كما ذكر فإما تصادفنهم وتظفرن بهم فِي الْحَرْبِ أي في تضاعيفها فَشَرِّدْ بِهِمْ أي فرق بهم مَنْ خَلْفَهُمْ أي من وراءهم من الكفرة، يعني افعل بهؤلاء الذين نقضوا عهدك فعلا من القتل والتنكيل العظيم يفرق عنك ويخافك بسببه من خلفهم ويعتبر به من سمعه من أهل مكة وغيرهم، وإلى هذا يرجع ما قيل: من أن المعنى نكل به ليتعظ من سواهم. وقيل: إن معنى شرد بهم سمع بهم في لغة قريش قال الشاعر: أطوّف بالأباطح كل يوم ... مخافة أن يشرّد بي حكيم وقرأ ابن مسعود. والأعمش «فشرذ» بالذال المعجمة وهو بمعنى شرد بالمهملة، وعن ابن جني أنه لم يمر بنا في اللغة تركيب شرذ والأوجه أن تكون الذال بدلا من الدال، والجامع بينهما أنهما مجهوران ومتقاربان، وقيل: إنه قلب من شذر، ومنه شذر مذر للمتفرق. وذهب بعض أهل اللغة إلى أنها موجودة ومعناها التنكيل ومعنى المهمل التفريق كما قاله قطرب لكنها نادرة، وقرأ أبو حيوة «من خلفهم» بمن الجارة، والفعل عليها منزل منزلة اللازم كما في قوله: يجرح في عراقيبها نصلي فالمعنى افعل التشريد من ورائهم، وهو في معنى جعل الوراء ظرفا للتشريد لتقارب معنى من وفِي تقول: اضرب زيدا من وراء عمرو وورائه أي في ورائه، وذلك يدل على تشريد من في تلك الجهة على سبيل الكناية فإن إيقاع التشريد في الوراء لا يتحقق إلا بتشريد من وراءهم فلا فرق بين القراءتين الفتح والكسر إلا في المبالغة لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أي لعل المشردين يتعظون بما يعلمونه مما نزل بالناقضين فيرتدعون عن النقض قيل: أو عن الكفر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 218 وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً بيان لأحكام المشرفين إلى نقض العهد أثر بيان أحكام الناقضين له بالفعل، والخوف مستعار للعلم، أي وإما تعلمن من قوم معاهدين لك نقض عهد فيما سيأتي بما يلوح لك منهم من الدلائل فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ أي فاطرح إليهم عهدهم، وفيه استعارة مكنية تخييلية عَلى سَواءٍ أي على طريق مستو وحال قصد بأن تظهر لهم النقض وتخبرهم إخبارا مكشوفا بأنك قد قطعت ما بينك وبينهم من الوصلة ولا تناجزهم الحرب وهم على توهم بقاء العهد كيلا يكون من قبلك شائبة خيانة أصلا، فالجار والمجرور متعلق وقع حالا من المستكن في «انبذ» أي فانبذ إليهم ثابتا على سواء، وجوز أن يكون حالا من ضمير إليهم أو من الضميرين معا، أي حال كونهم كائنين على استواء في العلم بنقض العهد بحيث يستوي فيه أقصاهم وأدناهم، أو حال كونك أنت وهم على استواء في ذلك، ولزوم الإعلام عند أكثر العلماء الأعلام إذا لم تنقض مدة العهد أو لم يستفض نقضهم له ويظهر ظهورا مقطوعا به أما إذا انقضت المدة أو استفاض النقض وعلمه الناس فلا حاجة إلى ما ذكر، ولهذا غزا النبي صلّى الله عليه وسلّم أهل مكة من غير نبذ ولم يعلمهم بأنهم كانوا نقضوا العهد علانية بمعاونتهم بني كنانة على قتل خزاعة حلفاء النبي صلّى الله عليه وسلّم إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ تعليل للأمر بالنبذ باعتبار استلزامه للنهي عن المناجزة التي هي خيانة فيكون تحذيرا للنبي صلّى الله عليه وسلّم منها» . وجوز أن يكون تعليلا لذلك باعتبار استتباعه للقتال بالآخرة فتكون حثّا له صلّى الله عليه وسلّم على النبذ أولا وعلى قتالهم ثانيا، كأنه قيل: وإما تعلمن من قوم خيانة فانبذ إليهم ثم قاتلهم إن الله لا يحب الخائنين وهم من جملتهم لما علمت حالهم، والأول هو المتبادر، وعلى كلا التقديرين المراد من نفي الحب إثبات البغض إذ لا واسطة بين الحب والبغض بالنسبة إليه تعالى وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا بياء الغيبة وهي قراءة حفص. وابن عامر وأبي جعفر. وحمزة، وزعم تفرد الأخير بها وهم كزعم إنها غير نيرة، فقد نص في التيسير على أنه قرأ بها الأولان أيضا، وفي المجمع على أنه قرأ بها الأربعة، وقال المحققون: أنها أنور من الشمس في رابعة النهار لأن فاعل يحسبن الموصول بعده ومفعوله الأول محذوف أي أنفسهم وحذف للتكرار والثاني جملة سبقوا، أي لا يحسبن أولئك الكافرون أنفسهم سابقين أي مفلتين من أن يظفر بهم. والمراد من هذا إقناطهم من الخلاص وقطع أطماعهم الفارغة من الانتفاع بالنبذ، والاقتصار على دفع هذا التوهم وعدم دفع توهم سائر ما تتعلق به أمانيهم الباطلة من مقاومة المؤمنين أو الغلبة عليهم للتنبيه على أن ذلك مما لا يحوم عليه عقاب وهمهم وحسبانهم وإنما الذي يمكن أن يدور في خلدهم حسبان المناص فقط، ويحتمل أن يكون الفاعل ضميرا مستترا، والحذف لا يخطر بالبال كما توهم، أي لا يحسبن هو أي قبيل المؤمنين أو الرسول أو الحاسب أو من خلفهم أو أحد، وهو معلوم من الكلام فلا يرد عليه أنه لم يسبق له ذكر، ومفعولا الفعل الذين كفروا وسبقوا، وحكي عن الفراء أن الفاعل الذين كفروا وأن سبقوا بتقدير أن سبقوا فتكون أن وما بعدها سادة مسد المفعولين، وأيد بقراءة ابن مسعود أنهم سبقوا. واعترضه أبو البقاء وغيره بأن أن المصدرية موصول وحذف الموصول ضعيف في القياس شاذ في الاستعمال لم يرد منه إلا شيء يسير- كتسمع بالمعيدي خير من أن تراه- ونحوه فلا ينبغي أن يخرج كلام الله تعالى عليه. وقرأ من عدا من ذكر تحسبن بالتاء الفوقية على أن الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم أو لكل من له حظ في الخطاب والَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا مفعولاه ولا كلام في ذلك. وقرأ الأعمش «ولا تحسب الذين» بكسر الباء وفتحها على حذف النون الخفيفة، وقوله تعالى: إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ أي لا يفوتون الله تعالى أو لا يجدون طالبهم عاجزا عن إدراكهم تعليل للنهي على طريق الاستئناف. وقرأ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 219 ابن عامر «أنهم» بفتح الهمزة وهو تعليل أيضا بتقدير اللام المطرد حذفها في مثله. وقيل: الفعل واقع عليه، ولا صلة ويؤيده أنه قرىء بحذفها وسَبَقُوا حال بمعنى سابقين أي مفلتين هاربين. وضعف بأن لا لا تكون صلة في موضع يجوز أن لا تكون كذلك وبأن المعهود كما قال أبو البقاء في المفعول الثاني لحسب في مثل ذلك أن تكون أن فيه مكسورة، وهذا على قراءة الخطاب لإزاحة ما عسى أن يحذر من عاقبة النبذ لما أنه إيقاظ للعدو وتمكين لهم من الهرب والخلاص من أيدي المؤمنين، وفيه نفي لقدرتهم على المقاومة والمقابلة على أبلغ وجه وآكده كما يشير إليه. وذكر الجبائي أن لا يُعْجِزُونَ على معنى لا يعجزونك على أنه خطاب أيضا للنبي عليه الصلاة والسلام ولا يخلو عن حسن، والظاهر أن عدم الإعجاز كيفما قدر المفعول إشارة إلى أنه سبحانه سيمكن منهم في الدنيا، فما روي عن الحسن أن المعنى لا يفوتون الله تعالى حتى لا يبعثهم في الآخرة غريب منه إن صح. وادعى الخازن أن المعنى على العموم على معنى لا يعجزون الله تعالى مطلقا اما في الدنيا بالقتل وإما في الآخرة بعذاب النار. وذكر أن فيه تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم فيمن فاته من المشركين ولم ينتقم منه، وهو ظاهر على القول بأن الآية نزلت فيمن أفلت من فل المشركين، وروي ذلك عن الزهري. وقرىء «يعجزّون» بالتشديد. وقرأ ابن محيصن «يعجزون» بكسر النون بتقدير يعجزونني فحذفت إحدى النونين للتخفيف والياء اكتفاء بالكسرة، ومثله كثير في الكتاب وَأَعِدُّوا لَهُمْ خطاب لكافة المؤمنين لما أن المأمور به من وظائف الكل أي أعدوا لقتال الذين نبذ إليهم العهد وهيئوا لحربهم كما يقتضيه السياق أو لقتال الكفار على الإطلاق وهو الأولى كما يقتضيه ما بعده مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ أي من كل ما يتقوى به في الحرب كائنا ما كان، وأطلق عليه القوة مبالغة، وإنما ذكر هذا لأنه لم يكن لهم في بدر استعداد تام فنبهوا على أن النصر من غير استعداد لا يتأتى في كل زمان، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير القوة بأنواع الأسلحة، وقال عكرمة: هي الحصون والمعاقل. وفي رواية أخرى عنه أنها ذكور الخيل. وأخرج أحمد ومسلم وخلق كثير عن عقبة بن عامر الجهني قال: «سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول وهو على المنبر: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إن القوة الرمي قالها ثلاثا» والظاهر العموم إلا أنه عليه الصلاة والسلام خص الرمي بالذكر لأنه أقوى ما يتقوى به فهو من قبيل قوله صلّى الله عليه وسلّم «الحج عرفة» . وقد مدح عليه الصلاة والسلام الرمي وأمر بتعلمه في غير ما حديث، وجاء عنه الصلاة والسلام «كل شيء من لهو الدنيا باطل إلا ثلاثة: انتضالك بقوسك وتأديبك فرسك وملاعبتك أهلك فإنها من الحق» وجاء في رواية أخرجها النسائي وغيره «كل شيء ليس من ذكر الله تعالى فهو لغو وسهو إلا أربع خصال مشى الرجل بين الغرضين وتأديب فرسه وملاعبته أهله وتعليم السباحة» وجاء أيضا «انتضلوا واركبوا وأن تنتضلوا أحب إليّ إن الله تعالى ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة: صانعه محتسبا والمعين به والرامي به في سبيل الله تعالى» . وأنت تعلم أن الرمي بالنبال اليوم لا يصيب هدف القصد من العدو لأنهم استعملوا الرمي بالبندق والمدافع ولا يكاد ينفع معهما نبل وإذا لم يقابلوا بالمثل عم الداء العضال واشتد الوبال والنكال وملك البسيطة أهل الكفر والضلال فالذي أراه والعلم عند الله تعالى تعين تلك المقابلة على أئمة المسلمين وحماة الدين، ولعل فضل ذلك الرمي يثبت لهذا الرمي لقيامه مقامه في الذب عن بيضة الإسلام ولا أرى ما فيه من النار للضرورة الداعية إليه إلا سببا للفوز بالجنة إن شاء الله تعالى، ولا يبعد دخول مثل هذا الرمي في عموم قوله سبحانه: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 220 الرباط قيل: اسم للخيل التي تربط في سبيل الله تعالى على أن فعال بمعنى مفعول أو مصدر سميت به يقال: ربط ربطا ورباطا ورابط مرابطة ورباطا. واعترض بأنه يلزم على ذلك إضافة الشيء لنفسه. ورد بأن المراد أن الرباط بمعنى المربوط مطلقا إلا أنه استعمل في الخيل وخص بها فالإضافة باعتبار المفهوم الأصلي. وأجاب القطب بأن الرباط لفظ مشترك بين معاني الخيل وانتظار الصلاة بعد الصلاة والإقامة على جهاد العدو بالحرب، ومصدر رابطت أي لازمت فأضيف إلى أحد معانيه للبيان كما يقال: عين الشمس وعين الميزان، قيل: ومنه يعلم أنه يجوز إضافة الشيء لنفسه إذا كان مشتركا، وإذا كانت الإضافة من إضافة المطلق إلى المقيد فهي على معنى من التبعيضية، وجوز أن يكون جمع ربيط كفصيل وفصال أو جمع ربط ككعب وكعاب وكلب وكلاب. وعن عكرمة تفسيره بإناث الخيل وهو كتفسيره القوة بما سبق قريبا بعيد، وذكر ابن المنير أن المطابق للرمي أن يكون الرباط على بابه مصدرا، وعلى تفسير القوة بالحصون يتم التناسب بينه وبين رباط الخيل لأن العرب سمت الخيل حصونا وهي الحصون التي لا تحاصر كما في قوله: ولقد علمت على تجنبي الردا ... أن الحصون الخيل لا مدر القرى وقال: وحصني من الأحداث ظهر حصاني وقد جاء مدحها فيما لا يحصى من الأخبار وصح «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» . وأخرج أحمد عن معقل بن يسار، والنسائي عن أنس: لم يكن شيء أحب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد النساء من الخيل. وميز صلّى الله عليه وسلّم بعض أصنافها على بعض. فقد أخرج أبو عبيدة عن الشعبي في حديث رفعه «التمسوا الحوائج على الفرس الكميت الأرثم المحجل الثلاث المطلق اليد اليمنى» . وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «يمن الخيل في شقرها» وأخرج مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكره الشكال من الخيل» واختلف في تفسيره ففي النهاية الشكال في الخيل أن تكون ثلاث قوائم محجلة وواحدة مطلقة تشبيها بالشكال الذي يشكل به الخيل لأنه يكون في ثلاث قوائم غالبا وقيل: هو أن تكون الواحدة محجلة والثلاث مطلقة، وقيل: هو أن تكون إحدى يديه وإحدى رجليه من خلاف محجلتين، وإنما كرهه عليه الصلاة والسلام تفاؤلا لأنه كالمشكول صورة، ويمكن أن يكون جرب ذلك الجنس فلم يكن فيه نجابة، وقيل: إذا كان مع ذلك أغر زالت الكراهة لزوال شبه الشكال انتهى. ولا يخفى عليك أن حديث الشعبي يشكل على القول الأول إلا أن يقال: إنه يخصص عمومه وأن حديث التفاؤل غير ظاهر، والظاهر التشاؤم وقد جاء «إنما الشؤم في ثلاث في الفرس والمرأة والدار» وحمله الطيبي على الكراهة التي سببها ما في هذه الأشياء من مخالفة الشرع أو الطبع كما قيل: شؤم الدار ضيقها وسوء جيرانها وشؤم المرأة عقمها وسلاطة لسانها وشؤم الفرس أن لا يغزى عليها، لكن قال الجلال السيوطي في فتح المطلب المبرور: إن حديث التشاؤم بالمرأة والدار والفرس قد اختلف العلماء فيه هل هو على ظاهره أو مؤول؟ والمختار أنه على ظاهره وهو ظاهر قول مالك انتهى. ولا يعارضه ما صح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: ذكر الشؤم عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال عليه الصلاة والسلام: «إن كان الشؤم في شيء ففي الدار والمرأة والفرس» فإنه ليس نصا في استثناء نقيض المقدم وإن حمله عياض على ذلك لاحتمال أن يكون على حد قوله صلّى الله عليه وسلّم: «قد كان فيمن قبلكم من الأمم محدثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فإنه عمر بن الخطاب» وقد ذكروا هناك أن التعليق للدلالة على التأكيد والاختصاص ونظيره في ذلك: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 221 إن كان لي صديق فهو زيد فإن قائله لا يريد به الشك في صداقة زيد بل المبالغة في أن الصداقة مختصة به لا تتخطاه إلى غيره ولا محظور في اعتقاد ذلك بعد اعتقاد أن المذكورات أمارات وأن الفاعل هو الله تبارك وتعالى. وقرأ الحسن «ومن ربط الخيل» بضم الباء وسكونها جمع رباط، وعطف ما ذكر على القوة بناء على المعنى الأول لها للايذان بفضلها على سائر أفرادها كعطف جبريل وميكال على الملائكة عليهم السلام تُرْهِبُونَ بِهِ أي تخوفون به، وعن الراغب أن الرهبة والرهب مخافة مع تحرز واضطراب وعن يعقوب أنه قرأ تُرْهِبُونَ بالتشديد. وقرأ ابن عباس. ومجاهد «تخزون» والضمير المجرور لما استطعتم أو للاعداد وهو الأنسب، والجملة في محل النصب على الحالية من فاعل أعدوا أي أعدوا مرهبين به، أو من الموصول كما قال أبو البقاء، أو من عائده المحذوف أي أعدوا ما استطعتموه مرهبا به، وفي الآية إشارة إلى عدم تعين القتال لأنه قد يكون لضرب الجزية ونحوه مما يترتب على إرهاب المسلمين بذلك عَدُوَّ اللَّهِ المخالفين لأمره سبحانه وَعَدُوَّكُمْ المتربصين بكم الدوائر، والمراد بهم على ما ذكره جمع أهل مكة وهم في الغاية القصوى من العداوة، وقيل: المراد هم وسائر كفار العرب وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ أي من غيرهم من الكفرة، وقال مجاهد: هم بنو قريظة، وقال مقاتل وابن زيد: هم المنافقون، وقال السدي: هم أهل فارس. وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن المنذر وابن مردويه وابن عساكر وجماعة عن يزيد بن عبد الله بن غريب عن أبيه عن جده عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «هم الجن ولا يخبل الشيطان إنسانا في داره فرس عتيق» وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا، واختاره الطبري وإذا صح الحديث لا ينبغي العدول عنه، وقوله سبحانه: لا تَعْلَمُونَهُمُ أي لا تعرفونهم بأعيانهم اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ لا غير في غاية الظهور وله وجه على غير ذلك وإطلاق العلم على المعرفة شائع وهم المراد هنا كما عرفت ولذا تعدى إلى مفعول واحد، وإطلاق العلم بمعنى المعرفة على الله تعالى لا يضر. نعم منع الأكثر إطلاق المعرفة عليه سبحانه وجوزه البعض بناء على إطلاق العارف عليه تعالى في نهج البلاغة وفيه بحث، وبالجملة لا حاجة إلى القول بأن الإطلاق هنا للمشاكلة لما قبله، وجوز أن يكون العلم على أصله ومفعوله الثاني محذوف أي لا تعلمونهم معادين أو محاربين لكم بل الله تعالى يعلمهم كذلك وهو تكلف، واختار بعضهم أن المعنى لا تعلمونهم كما عليه من العداوة وقال: إنه الأنسب بما تفيده الجملة الثانية من الحصر نظرا إلى تعليق المعرفة بالأعيان لأن أعيانهم معلومة لغيره تعالى أيضا وهو مسلم نظرا إلى تفسيره، وأما الاحتياج إليه في تفسير النبي صلّى الله عليه وسلّم ففيه تردد. وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ جل أو قل فِي سَبِيلِ اللَّهِ وهي وجوه الخير والطاعة ويدخل في ذلك النفقة في الاعداد السابق والجهاد دخولا أوليا، وبعضهم خصص اعتبار للمقام يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أي يؤدى بتمامه والمراد يؤدى إليكم جزاؤه فالكلام على تقدير المضاف أو التجوز في الإسناد وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ بترك الاثابة أو بنقص الثواب، وفي التعبير عن ذلك بالظلم مع أن له سبحانه أن يفعل ما يشاء للمبالغة كما مر. وَإِنْ جَنَحُوا الجنوح الميل ومنه جناح الطائر لأنه يتحرك ويميل ويعدى باللام وبإلى أي وإن مالوا لِلسَّلْمِ أي الاستسلام والصلح وقرأ ابن عباس وأبو بكر بكسر السين وهو لغة فَاجْنَحْ لَها أي للسلم، والتأنيث لحمله على ضده وهو الحرب فإنه مؤنث سماعي. وقال أبو البقاء: إن السلم مؤنث ولم يذكر حديث الحمل وأنشدوا. السلم تأخذ منها ما رضيت به ... والحرب تكفيك من أنفاسها جرع وقرأ الأشهب العقيلي «فاجنح» بضم النون على أنه من جنح يجنح كقعد يقعد وهي لغة قيس والفتح لغة تميم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 222 وهي الفصحى، والآية قيل مخصوصة بأهل الكتاب فانها كما قال مجاهد والسدي نزلت في بني قريظة وهي متصلة بقصتهم بناء على أنهم المعنيون بقوله تعالى: الَّذِينَ عاهَدْتَ إلخ، والضمير في وَأَعِدُّوا لَهُمْ بهم، وقيل هي عامة للكفار لكنها منسوخة بآية السيف لأن مشركي العرب ليس لهم إلا الإسلام أو السيف بخلاف غيرهم فانه تقبل منهم الجزية، وروي القول بالنسخ عن ابن عباس ومجاهد وقتادة، وصحح أن الأمر فيمن تقبل منهم الجزية على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وأهله من حرب أو سلم وليس بحتم أن يقاتلوا أبدا أو يجابوا إلى الهدنة أبدا، وادعى بعضهم أنه لا يجوز للإمام أن يهادن أكثر من عشر سنين اقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإنه صالح أهل مكة هذه المدة ثم إنهم نقضوا قبل انقضائها كما مر فذكر، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي فوض أمرك إليه سبحانه ولا تخف أن يظهروا لك السلم وجوانحهم مطوية على المكر والكيد إِنَّهُ جل شأنه هُوَ السَّمِيعُ فيسمع ما يقولون في خلواتهم من مقالات الخداع الْعَلِيمُ فيعلم نياتهم فيؤاخذهم بما يستحقونه ويرد كيدهم في نحرهم وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ بإظهار السلم فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ أي محسبك الله وكافيك وناصرك عليهم فلا تبال بهم، فحسب صفة مشبهة بمعنى اسم الفاعل والكاف في محل جر كما نص عليه غير واحد وأنشدوا لجرير: إني وجدت من المكارم حسبكم ... أن تلبسوا حر الثياب وتشبعوا وقال الزجاج: إنه اسم فعل بمعنى كفاك والكاف في محل نصب، وخطأه فيه أبو حيان لدخول العوامل عليه وإعرابه في نحو بحسبك درهم ولا يكون اسم فعل هكذا هُوَ عزّ وجلّ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ استئناف مسوق لتعليل كفايته تعالى إياه صلّى الله عليه وسلّم فإن تأييده عليه الصلاة والسلام فيما سلف على الوجه الذي سلف من دلائل تأييده صلّى الله عليه وسلّم فيما سيأتي، أي هو الذي أيدك بإمداده من عنده بلا واسطة، أو بالملائكة مع خرقه للعادات وَبِالْمُؤْمِنِينَ من المهاجرين والأنصار على ما هو المتبادر. وعن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه والنعمان بن بشير وابن عباس والسدي أنهم الأنصار رضي الله تعالى عنهم وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ مع ما جبلوا عليه كسائر العرب من الحمية والعصبية والانطواء على الضغينة والتهالك على الانتقام بحيث لا يكاد يأتلف فيهم قلبان حتى صاروا بتوفيقه تعالى كنفس واحدة. وقيل: إن الأنصار وهم الأوس والخزرج كان بينهم من الحروب ما أهلك ساداتهم ودق جماجمهم ولم يكن لبغضائهم أمد وبينهم التجاور الذي يهيج الضغائن ويديم التحاسد والتنافس فأنساهم الله تعالى ما كان بينهم فاتفقوا على الطاعة وتصافوا وصاروا أنصارا وعادوا أعوانا وما ذاك إلا بلطيف صنعه تعالى وبليغ قدرته جل وعلا. واعترض هذا القول بأنه ليس في السياق قرينة عليه. وأجيب بأن كون المؤمنين مؤيدا بهم يشعر بكونهم أنصارا ولا يخفى ضعفه ولا تجد له أنصارا، وبالجملة ما وقع من التأليف من أبهر معجزاته عليه الصلاة والسلام لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً أي لتأليف ما بينهم ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لتناهي عداوتهم وقوة أسبابها، والجملة استئناف مقرر لما قبله ومبين لعزة المطلب وصعوبة المأخذ، والخطاب لكل واقف عليه لأنه لا مبالغة في انتفاء ذلك من منفق معين، وذكر القلوب للاشعار بأن التأليف بينها لا يتسنى وإن أمكن التأليف ظاهرا وَلكِنَّ اللَّهَ جلت قدرته أَلَّفَ بَيْنَهُمْ قلبا وقالبا بقدرته البالغة إِنَّهُ عَزِيزٌ كامل القدرة والغلبة لا يستعصي عليه سبحانه شيء مما يريد حَكِيمٌ يعلم ما يليق تعلق الإرادة به فيوجده بمقتضى حكمته عزّ وجلّ، ومن آثار عزته سبحانه تصرفه بالقلوب الأبية المملوءة من الحمية الجاهلية، ومن آثار حكمته تدبير أمورهم على وجه أحدث فيهم التواد والتحاب فاجتمعت كلمتهم، وصاروا جميعا كنانة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذابين عنه بقوس واحدة، والجملة على ما قال الطيبي كالتعليل للتأليف هذا «ومن باب الإشارة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 223 إلى الآيات» وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ إلى قوله سبحانه: وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ طبقه بعض العارفين على ما في الأنفس فقال: وَاعْلَمُوا أي أيها القوى الروحانية أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ من العلوم النافعة فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وهي كلمة التوحيد التي هي الأساس الأعظم للدين وَلِلرَّسُولِ الخاص وهو القلب وَلِذِي الْقُرْبى الذي هو السر وَالْيَتامى من القوة النظرية والعملية وَالْمَساكِينِ من القوى النفسانية وَابْنِ السَّبِيلِ الذي هو النفس السالكة الداخلة في الغربة السائحة في منازل السلوك النائية عن مقرها الأصلي باعتبار التوحيد التفصيلي والأخماس الأربعة الباقية بعد هذا الخمس من الغنيمة تقسم على الجوارح والأركان والقوى الطبيعية إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ تعالى الإيمان الحقيقي جمعا وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ وقت التفرقة بعد الجمع تفصيلا يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ من فريقي القوى الروحانية والنفسانية عند الرجوع إلى مشاهدة التفصيل في الجمع وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيتصرف فيه حسب مشيئته وحكمته إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا أي القريبة من مدينة العلم ومحل العقل الفرقاني وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى أي البعيدة من الحق وَالرَّكْبُ أي ركب القوى الطبيعية الممتازة أَسْفَلَ مِنْكُمْ معشر الفريقين وَلَوْ تَواعَدْتُمْ اللقاء لمحاربة من طريق العقل دون طريق الرياضة لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ لكون ذلك أصعب من خرط القتاد وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا مقدرا محققا فعل ذلك لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وهي النفس الملازمة للبدن الواجب الفناء وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وهي الروح المجردة المتصلة بعالم القدس الذي هو معدن الحياة الحقيقية الدائم البقاء، وبينة الأول تلك الملازمة وبينة الثاني ذلك التجرد والاتصال إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ أيها القلب فِي مَنامِكَ وهو وقت تعطل الحواس الظاهرة وهدو القوى البدنية قَلِيلًا أي قليلي القدر ضعاف الحال وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً في حال غلبة صفات النفس لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ أمر كسرها وقهرها لانجذاب كل منكم إلى جهة وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ من الفشل والتنازع بتأييده وعصمته إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بحقيقتها فيثبت علمه بما فيها من باب الأولى وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وهم القوى النفسانية خرجوا من مقارهّم وحدودهم بَطَراً فخرا وأشرا وَرِئاءَ النَّاسِ وإظهارا للجلادة. وقال بعضهم: حذر الله بهذه الآية أولياءه عن مشابهة أعدائه في رؤية غيره سبحانه وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وهو التوحيد والمعرفة وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أي شيطان الوهم أَعْمالَهُمْ في التغلب على مملكة القلب وقواه وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ أو همهم تحقيق أمنيتهم بأن لا غالب لكم من ناس الحواس وكذا سائر القوى وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ أمدكم وأقويكم وأمنعكم من ناس القوى الروحانية فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ لشعوره بحال القوى الروحانية وغلبتها لمناسبته إياها من حيثية إدراك المعاني وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ لأني لست من جنسكم إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ من المعاني ووصول المدد إليهم من سماء الروح وملكوت عالم القدس إِنِّي أَخافُ اللَّهَ سبحانه لشعور ببعض أنواره وقهره، وذكر الواسطي بناء على أن المراد من الشيطان الظاهر، أن اللعين ترك ذنب الوسوسة إذ ذاك لكن ترك الذنب إنما يكون حسنا إذا كان إجلالا وحياء من الله تعالى لا خوفا من البطش فقط وهو لم يخف إلا كذلك وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ إذ صفاته الذاتية والفعلية في غاية الكمال اهـ بأدنى تغيير وزيادة. وذكر أن الفائدة في مثل هذا التأويل تصوير طريق السلوك للتنشيط في الترقي والعروج وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا وهم الذين غلبت عليهم صفات النفس الْمَلائِكَةُ أي ملائكة لميلهم إلى عالم الطبيعة ومضاعف الشهوة والحرص ويقولون لهم ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ وهو عذاب الحرمان وفوات المقصود ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 224 يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ أي حتى يفسدوا استعدادهم فلا تبقى لهم مناسبة للخير وحينئذ يغير سبحانه النعمة إلى النقمة لطلبهم إياها بلسان الاستعداد وإلا فالله تعالى أكرم من أن يسلب نعمة شخص مع بقاء استحقاقها فيه إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا لجهلهم بربهم وعصيانهم له دون سائر الدواب فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ لغلبة شقاوتهم ومزيد عتوهم وغيهم الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ من مرات المعاهدة لأن ذلك شنشنة فيهم مع مولاهم، ألا ترى كيف نقضوا عهد التوحيد الذي أخذ منهم في منزل أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ العار ولا النار وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ قال أبو علي الروذباري: القوة هي الثقة بالله تعالى، وقال بعضهم: هي الرمي بسهام التوجه إلى الله تعالى عن قسيّ الخضوع والاستكانة هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ الذي لم يعهد مثله وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ يجذبها إليه تعالى وتخليصها مما يوجب العداوة والبغضاء، أو لكشفه سبحانه لها عن حجب الغيب حتى تعارفوا فيه والأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لصعوبة الأمر وكثافة الحجاب وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ والتأليف من آثار ذلك والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 225 يا أَيُّهَا النَّبِيُّ شروع في بيان كفايته تعالى إياه عليه الصلاة والسلام في جميع أموره وحده أو مع أمور المؤمنين أو في الأمور المتعلقة بالكفار كافة إثر بيان الكفاية في مادة خاصة وتصدير الجملة بحرفي النداء والتنبيه للنداء والتنبيه على الاعتناء بمضمونها، وإيراده عليه الصلاة والسلام بعنوان النبوة للاشعار بعلية الحكم كأنه قيل: يا أيها النبي حَسْبُكَ اللَّهُ أي كافيك في جميع أمورك أو فيما بينك وبين الكفرة من الحرب لنبوتك. وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قال الزجاج: في محل النصب على المفعول معه كقوله على بعض الروايات: فحسبك والضحاك سيف مهند ... إذا كانت الهيجاء واشتجر القنا وتعقبه أبو حيان بأنه مخالف لكلام سيبويه فانه جعل زيدا في قولهم: حسبك وزيدا درهم منصوبا بفعل مقدر أي وكفى زيدا درهم، وهو من عطف الجمل عنده انتهى، وأنت تعلم أن سيبويه كما قال ابن تيمية لأبي حيان لما احتج عليه بكلامه حين أنشد له قصيدة فغلطه فيها ليس نبي النحو فيجب اتباعه، وقال الفراء: إنه يقدر نصبه على موضع الكاف، واختاره ابن عطية، ورده السفاقسي بأن إضافته حقيقية لا لفظية فلا محل له اللهم إلا أن يكون من عطف التوهم وفيه ما فيه. وجوز أن يكون في محل الجر عطفا على الضمير المجرور وهو جائز عند الكوفيين بدون إعادة الجار ومنعه البصريون بدون ذلك لأنه كجزء الكلمة فلا يعطف عليه، وأن يكون في محل رفع إما على أنه مبتدأ والخبر محذوف أي ومن اتبعك من المؤمنين كذلك أي حسبهم الله تعالى، وإما على أنه خبر مبتدأ محذوف أي وحسبك من اتبعك، وإما على أنه عطف على الاسم الجليل واختاره الكسائي وغيره. وضعف بأن الواو للجمع ولا يحسن هاهنا كما لم يحسن في ما شاء الله تعالى وشئت والحسن فيه ثم وفي الأخبار ما يدل عليه اللهم إلا أن يقال بالفرق بين وقوع ذلك منه تعالى وبين وقوعه منا. والآية على ما روي عن الكلبي نزلت في البيداء في غزوة بدر قبل القتال، والظاهر شمولها للمهاجرين والأنصار. وعن الزهري أنها نزلت في الأنصار. وأخرج الطبراني وغيره عن ابن عباس وابن المنذر عن ابن جبير وأبو الشيخ عن ابن المسيب أنها نزلت يوم أسلم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه مكملا أربعين مسلما ذكورا وإناثا هن ست وحينئذ تكون مكية. ومَنِ يحتمل أن تكون بيانية وأن تكون تبعيضية وذلك للاختلاف في المراد بالموصول. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ بعد أن بين سبحانه الكفاية أمر جل شأنه نبيه صلّى الله عليه وسلّم بترتيب بعض مباديها، وتكرير الخطاب على الوجه المذكور لاظهار كمال الاعتناء بشأن المأمور به، والتحريض الحث على الشيء. وقال الزجاج: هو في اللغة أن يحث الإنسان على شيء حتى يعلم منه أنه حارض أي مقارب للهلاك، وعلى هذا فهو للمبالغة في الحث، وزعم في الدر المصون أن ذلك مستبعد من الزجاج، والحق معه، ويؤيده ما قاله الراغب من أن الحرض يقال لما أشرف على الهلاك والتحريض الحث على الشيء بكثرة التزيين وتسهيل الخطب فيه كأنه في الأصل إزالة الحرض نحو قذيته أزلت عنه القذى ويقال: أحرضته إذا أفسدته نحو أقذيته إذا جعلت فيه القذى، فالمعنى هنا يا أيها النبي بالغ في حث المؤمنين على قتال الكفار. وجوز أن يكون من تحريض الشخص وهو أن يسميه حرضا ويقال له: ما أراك إلا حرضا في هذا الأمر ومحرضا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 226 فيه، ونحوه فسقته أي سميته فاسقا، فالمعنى سمهم حرضا وهو من باب التهييج والالهاب، والمعنى الأول هو الظاهر. وقرىء «حرص» بالصاد المهملة من الحرص وهو واضح. إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً شرط في معنى الأمر بمصابرة الواحد العشرة والوعد بأنهم إن صبروا غلبوا بعون الله تعالى وتأييده، فالجملة خبرية لفظا إنشائية معنى، والمراد ليصبرن الواحد لعشرة وليست بخبر محض، وجعلها الزمخشري عدة من الله تعالى وبشارة وهو ظاهر في كونها خبرية، والآية كما ستعلم قريبا إن شاء الله تعالى منسوخة، والنسخ في الخبر فيه كلام في الأصول، على أنه قد ذكر الإمام أنه لو كان الكلام خبرا لزم أن لا يغلب قط مائتان من الكفار عشرين من المؤمنين ومعلوم أنه ليس كذلك، والاعتراض عليه بأن التعليق الشرطي يكفي فيه ترتب الجزاء على الشرط في بعض الأزمان لا في كلها ليس بشيء كما بينه الشهاب، وذكر الشرطية الثانية مع انفهام مضمونها مما قبلها للدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة لا تتفاوت لأن الحال قد تتفاوت بين مقاومة العشرين المائتين والمائة الألف وكذا يقال فيما يأتي. ويَكُنْ يحتمل أن يكون تاما والمرفوع فاعله ومِنْكُمْ حال منه أو متعلق بالفعل ويحتمل أن يكون ناقصا والمرفوع اسمه ومِنْكُمْ خبره، وقوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بيان للألف، وقوله سبحانه: بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ متعلق بيغلبوا أي بسبب أنهم قوم جهلة بالله تعالى وباليوم الآخر لا يقاتلون احتسابا وامتثالا لأمر الله تعالى وإعلاء لكلمته وابتغاء لرضوانه كما يفعل المؤمنون وإنما يقاتلون للحمية الجاهلية واتباع خطوات الشيطان وإثارة ثائرة البغي والعدوان فلا يستحقون إلا القهر والخذلان، وقال بعضهم: وجه التعليل بما ذكر أن من لا يؤمن بالله تعالى واليوم الآخر لا يؤمن بالمعاد والسعادة عنده ليست إلا هذه الحياة الدنيا فيشح بها ولا يعرضها للزوال بمزاولة الحروب واقتحام موارد الخطوب فيميل إلى ما فيه السلامة فيفر فيغلب، وأما من اعتقد أن لا سعادة في هذه الحياة الفانية وإنما السعادة هي الحياة الباقية فلا يبالي بهذه الحياة الدنيا ولا يلتفت إليها فيقدم على الجهاد بقلب قوي وعزم صحيح فيقوم الواحد من مثله مقام الكثير انتهى. وتعقب بأنه كلام حق لكنه لا يلائم المقام الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما نزلت إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ إلخ شق ذلك على المسلمين إذ فرض عليهم أن لا يفر واحد من عشرة فجاء التخفيف، وكان ذلك كما قيل بعد مدة، وقيل: كان فيهم قلة في الابتداء ثم لما كثروا بعد نزول التخفيف وهل يعد ذلك نسخا أم لا؟ قولان اختار مكي الثاني منهما وقال: إن الآية مخففة، ونظير ذلك التخفيف على المسافر بالفطر، وذهب الجمهور إلى الأول وقالوا: إن الآية ناسخة وثمرة الخلاف قيل تظهر فيما إذا قاتل واحد عشرة فقتل هل يأثم أم لا، فعلى الأول لا يأثم وعلى الثاني يأثم، والضعف الطارئ بعد عدم القوة البدنية على الحرب لأنه قد صار فيهم الشيخ والعاجز ونحوهما وكانوا قبل ذلك طائفة منحصرة معلومة قوتهم وجلادتهم أو ضعف البصيرة والاستقامة وتفويض النصر إلى الله تعالى إذ حدث فيهم قوم حديثو عهد بالإسلام ليس لهم ما للمتقدمين من ذلك، وذكر بعضهم في بيان كون الكثرة سببا للضعف أن بها يضعف الاعتماد على الله تعالى والتوكل عليه سبحانه ويقوى جانب الاعتماد على الكثرة كما في حنين والأول هو الموجب للقوة كما يرشد إليه وقعة بدر، ومن هنا قال النصراباذي: إن هذا التخفيف كان للأمة دون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإنه الذي يقول بك أصول وبك أجول، وتقييد التخفيف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 227 بالآن ظاهر وأما تقييد علم الله تعالى به فباعتبار تعلقه، وقد قالوا: إن له تعلقا بالشيء قبل الوقوع وحال الوقوع وبعده وقال الطيبي: المعنى الآن خفف الله تعالى عنكم لما ظهر متعلق علمه أي كثرتكم التي هي موجب ضعفكم بعد ظهور قلتكم وقوتكم. وقرأ أكثر القراء «ضعفا» بضم الضاد وهي لغة فيه كالفقر والمكث. ونقل عن الخليل أن الضعف بالفتح ما في الرأي والعقل وبالضم ما في البدن. وقرأ أبو جعفر «ضعفاء» جمع ضعيف، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر يكن المسند إلى المائة في الآيتين بالتاء اعتبار للتأنيث اللفظي، ووافقهم أبو عمرو ويعقوب في يكن في الآية الثانية لقوة التأنيث بالوصف بصابرة المؤنث وأما إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ فالجميع على التذكير فيه. نعم روي عن الأعرج أنه قرأ بالتأنيث وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ تذييل مقرر لمضمون ما قبله، وفي النظم الكريم صنعة الاحتباك قال في البحر: انظر إلى فصاحة هذا الكلام حيث أثبت قيدا في الجملة الأولى وهو صابرون وحذف نظيره من الثانية وأثبت قيدا في الثانية وهو مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وحذفه من الأولى ولما كان الصبر شديد المطلوبية أثبت في جملتي التخفيف وحذف من الثانية لدلالة السابقة عليه ثم ختم الآية بقوله سبحانه: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ مبالغة في شدة المطلوبية ولم يأت في جملتي التخفيف بقيد الكفر اكتفاء بما قبله، انتهى. وذكر الشهاب أنه بقي عليه أنه سبحانه ذكر في التخفيف بإذن الله وهو قيد لهما وأن قوله تعالى: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ إشارة إلى تأييدهم وأنهم منصورون حتما لأن من كان الله تعالى معه لا يغلب، وأنا أقول: لا يبعد أن يكون في قوله تعالى: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ تحريض لهم على الصبر بالإشارة إلى أن أعداءهم إن صبروا كان الله تعالى معهم فأمدهم ونصرهم، وبقي في هذا الكلام الجليل لطائف غير ما ذكر فالله تعالى در التنزيل ما أعذب ماء فصاحته وأنضر رونق بلاغته ما كانَ لِنَبِيٍّ قرأ أبو الدرداء. وأبو حيوة «للنبي» بالتعريف والمراد به نبينا صلّى الله عليه وسلّم وهو عليه الصلاة والسلام المراد أيضا على قراءة الجمهور عند البعض، وإنما عبر بذلك تلطفا به صلّى الله عليه وسلّم حتى لا يواجه بالعتاب، ولذا قيل: إن ذاك على تقدير مضاف أي لأصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم بدليل قوله تعالى الآتي: تُرِيدُونَ ولو قصد بخصوصه عليه الصلاة والسلام لقيل: تريد، ولأن الأمور الواقعة في القصة صدرت منهم لا منه صلّى الله عليه وسلّم وفيه نظر ظاهر، والظاهر أن المراد على قراءة الجمهور العموم ولا يبعد اعتباره على القراءة الأخرى أيضا وهو أبلغ لما فيه من بيان أن ما يذكر سنة مطردة فيما بين الأنبياء عليهم السلام، أي ما صح وما استقام لنبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى. قرأ أبو عمرو ويعقوب «تكون» بالتاء الفوقية اعتبارا لتأنيث الجمع، وعن أبي جعفر أنه قرأ أيضا «أسارى» قال أبو علي: وقراءة الجماعة أقيس لأن أسيرا فعيل بمعنى مفعول، والمطرد فيه جمعه على فعلى كجريح وجرحى وقتيل وقتلى، ولذا قالوا في جمعه على أسارى: إنه على تشبيه فعيل بفعلان ككسلان وكسالى، وهذا كما قالوا كسلى تشبيها لفعلان بفعيل ونسب ذلك إلى الخليل، وقال الأزهري: إنه جمع أسرى فيكون جمع الجمع، واختار ذلك الزجاج وقال: إن فعلى جمع لكل من أصيب في بدنه أو في عقله كمريض ومرضى وأحمق وحمقى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ أي يبالغ في القتل ويكثر منه حتى يذل الكفر ويقل حزبه ويعز الإسلام ويستولي أهله، وأصل معنى الثخانة الغلظ والكثافة في الأجسام ثم استعير للمبالغة في القتل والجراحة لأنها لمنعها من الحركة صيرته كالثخين الذي لا يسيل، وقيل: إن الاستعارة مبنية على تشبيه المبالغة المذكورة بالثخانة في أن في كل منهما شدة في الجملة، وذكر في الأرض للتعميم، وقرىء «يثّخّن» بالتشديد للمبالغة في المبالغة تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا استئناف مسوق للعتاب، والعرض ما لا ثبات له ولو جسما. وفي الحديث «الدنيا عرض حاضر» أي لا ثبات لها، ومنه استعاروا العرض الجزء: 5 ¦ الصفحة: 228 المقابل للجوهر، أي تريدون حطام الدنيا بأخذكم الفدية، وقرىء «يريدون» بالياء، والظاهر أن ضمير الجمع لأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ أي يريد لكم ثواب الآخرة أو سبب نيل الآخرة من الطاعة بإعزاز دينه وقمع أعدائه، فالكلام على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وذكر نيل في الاحتمال الثاني قيل: للتوضيح لا لتقدير مضافين، والإرادة هنا بمعنى الرضا، وعبر بذلك للمشاكلة فلا حجة في الآية على عدم وقوع مراد الله تعالى كما يزعمه المعتزلة، وزيادة لكم لأنه المراد، وقرأ سليمان بن جماز المدني «الآخرة» بالجر وخرجت على حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه على جره، وقدره أبو البقاء عرض الآخرة وهو من باب المشاكلة وإلا فلا يحسن لأن أمور الآخرة مستمرة، ولو قيل: إن المضاف المحذوف على القراءة الأولى ذلك لذلك أيضا لم يبعد، وقدر بعضهم هنا كما قدرنا هناك من الثواب أو السبب، ونظير ما ذكره قوله: أكل امرئ تحسبين أمرأ ... ونار توقّد في الليل نارا وفي رواية من جر نار الأولى، وأبو الحسن يحمله على العطف على معمولي عاملين مختلفين وَاللَّهُ عَزِيزٌ يغلب أولياءه على أعدائه حَكِيمٌ يعلم ما يليق بكل حال ويخصه بها كما أمر بالإثخان ونهى عن أخذ الفدية حيث كان الإسلام غضّا وشوكة أعدائه قوية، وخير بينه وبين المن بقوله تعالى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً [محمد: 4] لما تحولت الحال واستغلظ زرع الإسلام واستقام على سوقه. أخرج أحمد والترمذي وحسنه. والطبراني. والحاكم وصححه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: «لما كان يوم بدر جيء بالأسارى وفيهم العباس فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله قومك وأهلك استبقهم لعل الله تعالى أن يتوب عليهم، وقال عمر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله كذبوك وأخرجوك وقاتلوك قدمهم فاضرب أعناقهم، وقال عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله انظر واديا كثير الحطب فأضرمه عليهم نارا. فقال العباس وهو يسمع ما يقول: قطعت رحمك، فدخل النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يردّ عليهم شيئا، فقال أناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال أناس: يأخذ بقول عمر، وقال أناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن الله تعالى ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله سبحانه ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم عليه السلام قال: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم: 36] ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى عليه السلام قال: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة: 118] ومثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام إذ قال: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ [يونس: 88] فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس: 88] ومثلك يا عمر نوح إذ قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً أنتم عالة فلا يفلتن أحد إلا بفداء أو ضرب عنق، فقال عبد الله رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام، فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع عليّ الحجارة من السماء مني في ذلك اليوم حتى قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: إلا سهيل بن بيضاء» . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «قال عمر رضي الله تعالى عنه: فهوى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قالت وأخذ منهم الفداء، فلما كان الغد جئت فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر قاعدان يبكيان قلت: يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد تباكيت لبكائكما؟ فقال رسول الله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 229 عليه الصلاة والسلام: أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء ولقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة منه صلّى الله عليه وسلّم» . واستدل بالآية على أن الأنبياء عليهم السلام قد يجتهدون وأنه قد يكون الوحي على خلافه ولا يقرون على الخطأ، وتعقب بأنها إنما تدل على ذلك لو لم يقدر في ما كانَ لِنَبِيٍّ لأصحاب نبي ولا يخفى أن ذلك خلاف الظاهر مع أن الإذن لهم فيما اجتهدوا فيه اجتهاد منه عليه الصلاة والسلام إذ لا يمكن أن يكون تقليدا لأنه لا يجوز له التقليد، وأما أنها إنما تدل على اجتهاد النبي صلّى الله عليه وسلّم لا اجتهاد غيره من الأنبياء عليهم السلام فغير وارد لأنه إذا جاز له عليه الصلاة والسلام جاز لغيره بالطريق الأولى، وتمام البحث في كتب الأصول، لكن بقي هاهنا شيء وهو أنه قد جاء من اجتهد وأخطأ فله أجر ومن اجتهد وأصاب فله أجران إلى عشرة أجور فهل بين ما يقتضيه الخبر من ثبوت الأجر الواحد للمجتهد المخطئ وبين عتابه على ما يقع منه منافاة أم لا؟ لم أر من تعرض لتحقيق ذلك، وإذا قيل: بالأول لا يتم الاستدلال بالآية كما لا يخفى لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ قيل: أي لولا حكم منه تعالى سبق إثباته في اللوح المحفوظ وهو أن لا يعذب قوما قبل تقديم ما يبين لهم أمرا أو نهيا، وروى ذلك الطبراني في الأوسط. وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ورواه أبو الشيخ عن مجاهد أو المخطئ في مثل هذا الاجتهاد، وقيل: هو أن لا يعذبهم ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيهم أو أن لا يعذب أهل بدر رضي الله تعالى عنهم، فقد روى الشيخان وغيرهما «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لعمر رضي الله تعالى عنه في قصة حاطب وكان قد شهد بدرا: وما يدريك لعل الله تعالى اطلع على أهل بدر، وقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» وقريب من هذا ما روي عن مجاهد أيضا، وابن جبير وزعم أن هذا قول بسقوط التكليف لا يصدر إلا عمن سقط عنه التكليف، والعجب من الإمام الرازي كيف تفوه به لأن المراد أن من حضر بدرا من المؤمنين يوفقه الله تعالى لطاعته، ويغفر له الذنب لو صدر منه ويثبته على الإيمان الذي ملأ به صدره إلى الموافاة لعظم شأن تلك الوقعة إذ هي أول وقعة أعز الله تعالى بها الإسلام وفاتحة للفتوح والنصر من الله عزّ وجلّ، وليس الأمر في الحديث على حقيقته كما لا يخفى، وقيل: هو أن الفدية التي أخذوها ستصير حلالا لهم. واعترض بأن هذا لا يصلح أن يعد من موانع مساس العذاب فإن الحل اللاحق لا يرفع حكم الحرمة السابقة كما أن الحرمة اللاحقة كما في الخمر مثلا لا ترفع حكم الإباحة السابقة، على أنه قادح في تهويل ما نعي عليهم من أخذ الفداء كما يدل عليه قوله سبحانه: لَمَسَّكُمْ أي لأصابكم فِيما أَخَذْتُمْ أي لأجل أخذكم أو الذي أخذتموه من الفداء عَذابٌ عَظِيمٌ لا يقادر قدره. وأجيب بأنه لا مانع من اعتبار كونها ستحل سببا للعفو ومانعا عن وقوع العذاب الدنيوي المراد بما في الآية وإن لم يعتبر في وقت من الأوقات كون المباح سيحرم سببا للانتقام ومانعا من العفو تغليبا لجانب الرحمة على الجانب الآخر، وحاصل المعنى أن ما فعلتم أمر عظيم في نفسه مستوجب للعذاب العظيم لكن الذي تسبب العفو عنه ومنع ترتب العذاب عليه إني سأحله قريبا لكم، ومثل ذلك نظرا إلى رحمتي التي سبقت غضبي يصير سببا للعفو ومانعا عن العذاب، وكأن الداعي لتكلف هذا الجواب أن ما ذكر أخرجه ابن أبي حاتم وابن مروديه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وأخرجاهما والبيهقي وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا، ولا يبعد عندي أن يكون المانع من مساس العذاب كل ما تقدم، وفي ذلك تهويل لما نعي عليهم حيث منع من ترتب مساس العذاب عليه موانع جمة ولولا تلك الموانع الجمة لترتب، وتعدد موانع شيء واحد جائز وليس كتعدد العلل واجتماعها على معلول واحد شخصي كما بين في موضعه، وبهذا يجمع بين الروايات المختلفة عن الخبر في بيان هذا الكتاب، وذلك بأن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 230 يكون في كل مرة ذكر أمرا واحدا من تلك الأمور، والتنصيص على الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه وليس في شيء من الروايات ما يدل على الحصر فافهم، وقال بعضهم: إن المعنى لولا حكم الله تعالى بغلبتكم ونصركم لمسكم عذاب عظيم من أعدائكم بغلبتهم لكم وتسليطهم عليكم يقتلون ويأسرون وينبهون وفيه نظر، لأنه ان أريد بهذه الغلبة المفروضة الغلبة في بدر فالأخذ الذي هو سببها إنما وقع بعد انقضاء الحرب، وحينئذ يكون مآل المعنى لولا حكم الله تعالى بغلبتكم لغلبكم الكفار قبل بسبب ما فعلتم بعد وهو كما ترى، وإن أريد الغلبة بعد ذلك فهي قد مست القوم في أحد فإن أعداءهم قد قتلوا منهم سبعين عدد الأسرى وكان ما كان فلا يصح نفي المس حينئذ. نعم أخرج ابن جرير عن محمد بن إسحاق أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال عند نزول هذه الآية: «لو أنزل من السماء عذاب لما نجا منه غير عمر بن الخطاب وسعد بن معاذ لقوله: كان الإثخان في القتل أحب إلي» وأخرجه ابن مردويه عن ابن عمر لكن لم يذكر فيه سعد بن معاذ وذلك يدل على أن المراد بالعذاب عذاب الدنيا غير القتل مما لم يعهد لمكان نزل من السماء، وحينئذ لا يرد أنه استشهد منهم بعدتهم لأن الشهادة لا تعد عذابا، لكن هذا لا ينفع ذلك القائل لأنه لم يفسر العذاب إلا بالغلبة وهي صادقة في مادة الشهادة فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ قال محيي السنة: روي أنه لما نزلت الآية الأولى كف أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيديهم عما أخذوا من الفداء فنزلت هذه الآية، فالمراد مما غنمتم إما الفدية وإما مطلق الغنائم، والمراد بيان حكم ما اندرج فيها من الفدية وإلا فحل الغنيمة مما عداها قد علم سابقا من قوله سبحانه: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ إلخ بل قال بعضهم: إن الحل معلوم قبل ذلك بناء على ما في كتاب الأحكام أن أول غنيمة في الإسلام حين أرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنه لبدر الأولى ومعه ثمانية رهط من المهاجرين رضي الله تعالى عنهم فأخذوا عيرا لقريش وقدموا بها على النبي صلّى الله عليه وسلّم فاقتسموها وأقرهم على ذلك. ويؤيد القول بأن هذه الآية محللة للفدية ما أخرجه ابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مما هو نص في ذلك، وقيل: المراد بما غنمتم من غير اندراج فيها لأن القوم لما نزلت الآية الأولى امتنعوا عن الأكل والتصرف فيها تزهدا منهم لا ظنا لحرمتها إذ يبعده أن الحل معلوم لهم مما مر وليس بالبعيد والقول بأن القول الأول مما يأباه سياق النظم الكريم وسياقه ممنوع ودون إثباته الموت الأحمر. والفاء للعطف على سبب مقدر، أي قد أبحت لكم الغنائم فكلوا مثلا، وقيل: قد يستغنى عن العطف على السبب المقدر بعطفه على ما قبله لأنه بمعناه، أي لا أؤاخذكم بما أخذتم من الفداء فكلوه، وزعم بعضهم أن الأظهر تقدير دعوا والعطف عليه، أي دعوا ما أخذتم فكلوا مما غنمتم وهو مبني على ما ذهب إليه من الآباء، وبنحو هذه الآية تشبث من زعم أن الأمر الوارد بعد الحظر للإباحة، وضعف بأن الإباحة ثبتت هنا بقرينة أن الأكل إنما أمر به لمنفعتهم فلا ينبغي أن تثبت على وجه المضرة والمشقة، وقوله تعالى: حَلالًا حال من ما الموصولة أو من عائدها المحذوف أو صفة للمصدر أي أكلا حلالا، وفائدة ذكره وكذا ذكره قوله تعالى: طَيِّباً تأكيد الإباحة لما في العتاب من الشدة وَاتَّقُوا اللَّهَ في مخالفته إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ولذا غفر لكم ذنبكم وأباح لكم ما أخذتموه، وقيل: فيغفر لكم ما فرط منكم من استباحة الفداء قبل ورود الإذن ويرحمكم ويتوب عليكم إذا اتقيتموه يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ أي في ملكتكم واستيلائكم كأن أيديكم قابضة عليهم مِنَ الْأَسْرى الذين أخذتم منهم الفداء، وقرأ أبو عمرو وأبو جعفر من «الأسارى» إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً إيمانا وتصديقا كما قال ابن عباس يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ من الفداء. والآية على ما في رواية ابن سعد وابن عساكر نزلت في جميع أسارى بدر وكان فداء العباس منهم أربعين أوقية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 231 وفداء سائرهم عشرين أوقية، وعن محمد بن سيرين أنه كان فداؤهم مائة أوقية والأوقية أربعون درهما وستة دنانير. وجاء في رواية أنها نزلت في العباس رضي الله تعالى عنه، وقد روي عنه أنه قال: كنت مسلما لكن استكرهوني فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن يكن ما تذكر حقا فالله تعالى يجزيك فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا فاد نفسك وابني أخويك نوفل بن الحارث وعقيل بن أبي طالب وحليفك عتبة بن عمرو فقلت: ما ذاك عندي يا رسول الله، قال عليه الصلاة: فأين الذي دفنت أنت وأم الفضل؟ فقلت لها: إني لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حدث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله وقثم فقلت: ما يدريك فقال صلّى الله عليه وسلّم: أخبرني ربي فعند ذلك قال العباس: أشهد أنك صادق وأن لا إله إلا الله وأنك رسول الله إنه لم يطلع على ذلك أحد إلا الله تعالى ولقد دفعته إليها في سواد الليل» ، وروي عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال بعد حين: أبدلني الله خيرا من ذلك لي الآن عشرون عبدا إن أدناهم ليضرب في عشرين ألفا وأعطاني زمزم وما أحب أن لي بها جميع أموال مكة وأنا أنتظر المغفرة من ربكم بتأويل ما في قوله تعالى: وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فإنه وعد بالمغفرة مؤكد بالاعتراض التذييلي، وروي أنه قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مال البحرين ثمانون ألفا فتوضأ صلّى الله عليه وسلّم وما صلى حتى فرقه وأمر العباس أن يأخذ منه فأخذ ما قدر على حمله، وكان رضي الله تعالى عنه يقول: هذا خير مما أخذ مني وأرجو المغفرة، والظاهر أن الآية عامة لسائر الأسارى على ما يقتضيه صيغة الجمع، ولا يأبى ذلك رواية أنها نزلت في العباس لما قالوا من أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقرأ الأعمش «يثبكم خيرا» والحسن وشيبة «مما أخذ منكم» على البناء للفاعل وَإِنْ يُرِيدُوا أي الأسرى خِيانَتَكَ أي نقض ما عاهدوك عليه من إعطاء الفدية أو أن لا يعودوا لمحاربتك ولا إلى معاضدة المشركين، ويجوز أن يكون المراد وأن يريدوا نكث ما بايعوك عليه من الإسلام والردة واستحباب دين آبائهم فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ بالكفر ونقض ميثاقه المأخوذ على كل عاقل بل ادعى بعضهم أنه الأقرب فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ أي أقدرك عليهم حسبما رأيت في بدر فإن أعادوا الخيانة فاعلم أنه سيمكنك الله تعالى منهم أيضا فالمفعول محذوف، وقوله سبحانه: فَقَدْ خانُوا قائم مقام الجواب، والجملة كلام مسوق من جهته تعالى لتسليته عليه الصلاة والسلام بطريق الوعد له صلّى الله عليه وسلّم والوعيد لهم، وَاللَّهُ عَلِيمٌ فيعلم ما في نياتهم وما يستحقونه من العقاب حَكِيمٌ يفعل كل ما يفعله حسبما تقتضيه حكمته البالغة إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا هم المهاجرون الذين هجروا أوطانهم وتركوها لأعدائهم في الله لله عزّ وجل وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ فصرفوها للكراع والسلاح وأنفقوها على المحاويج من المسلمين وَأَنْفُسِهِمْ بمباشرة القتال واقتحام المعارك والخوض في لجج المهالك فِي سَبِيلِ اللَّهِ قيل: هو متعلق بجاهدوا قيد لنوعي الجهاد، ويجوز أن يكون من باب التنازع في العمل بين هاجروا وجاهدوا ولعل تقديم الأموال على الأنفس لما أن المجاهدة بالأموال أكثر وقوعا وأتم دفعا للحاجة حيث لا يتصور المجاهدة بالنفس بلا مجاهدة بالمال، وقيل: ترتيب هذه المتعاطفات في الآية على حسب الوقوع فإن الأول الإيمان ثم الهجرة ثم الجهاد بالمال لنحو التأهب للحرب ثم الجهاد بالنفس وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا هم الأنصار آووا المهاجرين وأنزلوهم منازلهم وآثروهم على أنفسهم ونصروهم على أعدائهم أُولئِكَ أي المذكورون الموصوفون بالصفات الفاضلة، وهو مبتدأ وقوله تعالى: بَعْضُهُمْ إما بدل منهم، وقوله سبحانه: أَوْلِياءُ بَعْضٍ خبر وإما مبتدأ ثان وأَوْلِياءُ خبره والجملة خبر للمبتدأ الأول أي بعضهم أولياء بعض في الميراث على ما هو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. والحسن ومجاهد والسدي وقتادة فإنهم قالوا: آخى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين المهاجرين والأنصار رضي الله تعالى عنهم فكان المهاجري يرثه أخوه الأنصاري إذا لم يكن له بالمدينة ولي مهاجري ولا توارث بينه وبين قريبه المسلم غير الجزء: 5 ¦ الصفحة: 232 المهاجري واستمر أمرهم على ذلك إلى فتح مكة ثم توارثوا بالنسبة بعد إذ لم تكن هجرة، فالولاية على هذا الوراثة المسببة عن القرابة الحكمية. والآية منسوخة، وقال الأصم: هي محكمة، والمراد الولاية بالنصرة والمظاهرة وكأنه لم يسمع قوله تعالى: فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ بعد نفي موالاتهم في الآية الآتية وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا كسائر المؤمنين ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ أي توليهم في الميراث وإن كانوا أقرب ذوي قرابتكم حَتَّى يُهاجِرُوا وحينئذ يثبت لهم الحكم السابق. وقرأ حمزة والأعمش ويحيى بن وثاب «ولايتهم» بالكسر، وزعم الأصمعي أنه خطأ وهو المخطئ فقد تواترات القراءة بذلك، وجاء في اللغة الولاية مصدرا بالفتح والكسر وهما لغتان فيه بمعنى واحد وهو القرب الحسي والمعنوي كما قيل، وقيل: بينهما فرق فالفتح ولاية مولى النسب ونحوه والكسر ولاية السلطان ونسب ذلك إلى أبي عبيدة وأبي الحسن، وقال الزجاج: هي بالفتح النصرة والنسب وبالكسر للامارة، ونقل عنه أنه ذهب إلى أن الولاية لاحتياجها إلى تمرن وتدرب شبهت بالصناعات ولذا جاء فيها الكسر كالامارة، وذلك لما ذهب إليه المحققون من أهل اللغة من أن فعالة بالكسر في الأسماء لما يحيط بشيء ويجعل فيه كاللفافة والعمامة وفي المصادر يكون في الصناعات وما يزاول بالأعمال كالكتابة والخياطة والزراعة والحراثة، وما ذكره من حديث التشبيه بالصناعات يحتمل أن يكون من الواضع بمعنى أن الواضع حين وضعها شبهها بذلك فتكون حقيقة ويحتمل أن يكون من غيره على طرز تشبيه زيد بالأسد فحينئذ يكون هناك استعارة، وهي كما قال بعض الجلة: استعارة أصلية لوقوعها في المصدر دون المشتق وإن كان التصرف في الهيئة لا في المادة، ومنه أن الاستعارة الأصلية قسمان ما يكون التجوز في مادته وما يكون في هيئته وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ أي فواجب عليكم أن تنصروهم على المشركين أعداء الله تعالى وأعدائكم إِلَّا عَلى قَوْمٍ منهم بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فلا تنصروهم عليه لما في ذلك من نقض عهدهم وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فلا تخالفوا أمره ولا تتجاوزوا ما حده لكم كي لا يحل عليكم عقابه وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ آخر منهم أي في الميراث كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقال قتادة وابن إسحاق: في المؤازرة، وهذا بمفهومه مفيد لنفي الموارثة والمؤازرة بينهم وبين المسلمين وإيجاب ضد ذلك وان كانوا أقارب، ومن هنا ذهب الجمهور إلى أنه لا يرث مسلم كافرا ولا كافر مسلما، وأخرج ذلك ابن مروديه والحاكم وصححه عن أسامة رضي الله عنه أنه صلّى الله عليه وسلّم قال ذلك وقرأ الآية، ومن الناس من قال: إن المسلم يرث الكافر دون العكس وليس مما يعول عليه والفتوى على الأول كما تحقق في محله إِلَّا تَفْعَلُوهُ أي إلا تفعلوا ما أمرتم به في الآيتين، وقيل: الضمير المنصوب للميثاق أو حفظه أو الإرث أو النصر أو الاستنصار المفهوم من الفعل والأولى ما ذكرنا، وفي الأخير ما لا يخفى من التكلف. تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ أي تحصل فتنة عظيمة فيها، وهي اختلاف الكلمة وضعف الإيمان وظهور الكفر وَفَسادٌ كَبِيرٌ وهو سفك الدماء على ما روي عن الحسن فالمراد فساد كبير فيها، وقيل: المراد في الدارين وهو خلاف الظاهر، وعن الكسائي أنه قرأ «كثير» بالمثلثة. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا كلام مسوق للثناء على القسمين الأولين من الأقسام الثلاثة للمؤمنين وهم المهاجرون والأنصار بأنهم الفائزون بالقدح المعلى من الإيمان مع الوعد الكريم بقوله سبحانه: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لا يقادر قدرها وَرِزْقٌ كَرِيمٌ أي لا تبعة له ولا منة فيه، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 233 وقيل: هو الذي لا يستحيل نجوا في الأجواف وهو رزق الجنة. وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ أي في بعض أسفاركم، والمراد بهم قيل: المؤمنون المهاجرون من بعد صلح الحديبية وهي الهجرة الثانية، وقيل: من بعد نزول الآية، وقيل: من بعد غزوة بدر، والأصح أن المراد بهم الذين هاجروا بعد الهجرة الأولى فَأُولئِكَ مِنْكُمْ أي من جملتكم أيها المهاجرون والأنصار، وفيه إشارة إلى أن السابقين هم السابقون في الشرف وأن هؤلاء دونهم فيه، ويؤيد أمر شرفهم توجيه الخطاب إليهم بطريق الالتفات، وبهذا القسم صارت أقسام المؤمنين أربعة، والتوارث إنما هو في القسمين الأولين على ما علمت، وزعم الطبرسي أن ذلك الحكم يثبت لهؤلاء أيضا فيكون التوارث بين ثلاثة أقسام، وجعل معنى مِنْكُمْ من جملتكم وحكمهم حكمكم في وجوب الموالاة والموارثة والنصرة ولم أره لأصحابنا. وَأُولُوا الْأَرْحامِ أي ذوو القرابة بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ آخر منهم في التوريث من الأجانب فِي كِتابِ اللَّهِ أي في حكمه أو في اللوح المحفوظ، أخرج الطيالسي والطبراني وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «آخى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين أصحابه وورث بعضهم من بعض حتى نزلت هذه الآية فتركوا ذلك وتوارثوا بالنسب، وأخرج ابن مروديه عنه رضي الله تعالى عنه قال: توارث المسلمون لما قدموا المدينة بالهجرة ثم نسخ ذلك بهذه الآية، واستدل بها على توريث ذوي الأرحام الذين ذكرهم الفرضيون، وذلك لأنها نسخ بها التوارث بالهجرة ولم يفرق بين العصبات وغيرهم فيدخل من لا تسمية لهم ولا تعصيب وهم- هم- وبها أيضا احتج ابن مسعود كما أخرجه ابن أبي حاتم. والحاكم على أن ذوي الأرحام أولى من مولى العتاقة، ولما سمع الحبر قال: هيهات هيهات أين ذهب؟ إنما كان المهاجرون يتوارثون دون الأعراب فنزلت، وخالفه سائر الصحابة رضي الله تعالى عنهم أيضا على ما قيل. وأنت تعلم أنه إذا أريد بكتاب الله تعالى آيات المواريث السابقة في سورة النساء أو حكمه سبحانه المعلوم هناك لا يبقى للاستدلال على توريث ذوي الأرحام بالآية وجه، وكذا ما قاله ابن الفرس من أنه قد يستدل بها لمن قال: إن القريب أولى بالصلاة على الميت من الوالي إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ومن جملته ما في تعليق التوارث بالقرابة الدينية أولا على الوجه السابق وبالقرابة النسبية آخرا من الحكم البالغة. هذا «ومن باب الإشارة» وَالَّذِينَ آمَنُوا الإيمان العلمي وَهاجَرُوا من أوطان نفوسهم وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ بإنفاقها حتى تخللوا بعباء التجرد والانقطاع إلى الله عزّ وجلّ وَأَنْفُسِهِمْ بإتعابها بالرياضة ومحاربة الشيطان وبذلها في سبيل الله تعالى وطريق الوصول إليه وَالَّذِينَ آوَوْا إخوانهم في الطريق ونصروهم على عدوهم بالامداد أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ بميراث الحقائق والعلوم النافعة وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا عن وطن النفس ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ فلا توارث بينكم وبينهم إذ ما عندكم لا يصلح لهم ما لم يستعدوا له وما عندهم يأباه استعدادكم حَتَّى يُهاجِرُوا كما هاجرتم فحينئذ يثبت التوارث بينكم وبينهم وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ فإن الدين مشترك، وعلى هذا الطرز يقال في باقي الآيات والله تعالى ولي التوفيق وبيده أزمة التحقيق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 234 سورة التّوبة بسم الله الرحمن الرحيم مدنية كما روى ابن عباس وعبد الله بن الزبير وقتادة وخلق كثير، وحكى بعضهم الاتفاق عليه. وقال ابن الفرس: هي كذلك الا آيتين منها لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة: 128] إلخ، وهو مشكل بناء على ما في المستدرك عن أبي بن كعب. وأخرجه أبو الشيخ في تفسيره عن علي بن زيد عن يوسف المكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن آخر آية نزلت لَقَدْ جاءَكُمْ إلخ، ولا يتأتى هنا ما قالوه في وجه الجمع بين الأقوال المختلفة في آخر ما نزل، واستثنى آخرون ما كانَ لِلنَّبِيِّ [التوبة: 113] الآية بناء على ما ورد أنها نزلت في قوله صلّى الله عليه وسلّم لأبي طالب: «لأستغفرن لك ما لم أنه عنك» . وقد نزلت كما قال ابن كيسان على تسع من الهجرة ولها عدة أسماء، التوبة لقوله تعالى فيها: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ [التوبة: 117] إلى قوله سبحانه: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا [التوبة: 118] ، والفاضحة. أخرج أبو عبيد وابن المنذر وغيرهما عن ابن جبير قال: قلت لابن عباس رضي الله تعالى عنهما سورة التوبة قال: التوبة هي الفاضحة ما زالت تنزل ومنهم ومنهم حتى ظننا أنه لا يبقى أحد منا إلا ذكر فيها، وسورة العذاب. أخرج الحاكم في مستدركه عن حذيفة قال: التي يسمون سورة التوبة هي سورة العذاب. وأخرج أبو الشيخ عن ابن جبير قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إذا ذكر له سورة براءة وقيل سورة التوبة قال: هي إلى العذاب أقرب ما أقلعت عن الناس حتى ما كادت تدع منهم أحدا، والمقشقشة. أخرج ابن مردويه وغيره عن زيد بن أسلم أن رجلا قال لعبد الله: سورة التوبة فقال ابن عمر: وأيتهن سورة التوبة فقال براءة فقال رضي الله تعالى عنه: وهل فعل بالناس الأفاعيل إلا هي ما كنا ندعوها إلا المقشقشة أي المبرئة ولعله أراد عن النفاق، والمنقرة. أخرج أبو الشيخ عن عبيد بن عمير قال: كانت براءة تسمى المنقرة نقرت عما في قلوب المشركين، والبحوث بفتح الباء صيغة مبالغة من البحث بمعنى اسم الفاعل كما روى ذلك الحاكم عن المقداد، والمبعثرة. أخرج ابن المنذر عن محمد بن إسحاق قال: كانت براءة تسمى في زمان النبي صلّى الله عليه وسلّم وبعده المبعثرة لما كشفت من سرائر الناس، وظن أنه تصحيف المنقرة من بعد الظن. وذكر ابن الفرس أنها تسمى الحافرة أيضا لأنها حفرت عن قلوب المنافقين وروي ذلك عن الحسن، والمثيرة كما روي عن قتادة لأنها أثارت المخازي والقبائح، والمدمدمة كما روي عن سفيان عن عيينة، والمخزية والمنكلة والمشردة كما ذكر ذلك السخاوي وغيره، وسورة براءة. فقد أخرج سعيد بن منصور والبيهقي في الشعب، وغيرهما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 235 عن أبي عطية الهمذاني قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: تعلموا سورة براءة وعلموا نساءكم سورة النور، وهي مائة وتسع وعشرون عند الكوفيين ومائة وثلاثون عند الباقين. ووجه مناسبتها للأنفال أن في الأولى قسمة الغنائم وجعل خمسها لخمسة أصناف على ما علمت وفي هذه قيمة الصدقات وجعلها لثمانية أصناف على ما ستعلم إن شاء الله تعالى، وفي الأولى أيضا ذكر العهود وهنا نبذها وأنه تعالى أمر في الأولى بالاعداد فقال سبحانه: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال: 60] ونعى هنا على المنافقين عدم الاعداد بقوله عز وجل: وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً [التوبة: 46] وأنه سبحانه ختم الأولى بإيجاب أن يوالي المؤمنين بعضهم بعضا وأن يكونوا منقطعين عن الكفار بالكلية وصرح جل شأنه في هذه بهذا المعنى بقوله تبارك وتعالى: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [التوبة: 1] إلخ إلى غير ذلك من وجوه المناسبة. وعن قتادة، وغيره أنها مع الأنفال سورة واحدة ولهذا لم تكتب بينهما البسملة، وقيل: وفي وجه عدم كتابتها أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم اختلفوا في كونها سورة أو بعض سورة ففصلوا بينها وبين الأنفال رعاية لمن يقول هما سورتان ولم يكتبوا البسملة رعاية لمن يقول هما سورة واحدة، والحق أنهما سورتان إلا أنهم لم يكتبوا البسملة بينهما لما رواه أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن علي كرم الله تعالى وجهه من أن البسملة أمان، وبراءة نزلت بالسيف، ومثله عن محمد بن الحنفية. وسفيان بن عيينة، ومرجع ذلك إلى أنها لم تنزل في هذه السورة كأخواتها لما ذكر، ويؤيد القول بالاستقلال تسميتها بما مر. واختار الشيخ الأكبر قدس سره في فتوحاته أنهما سورة واحدة وأن الترك لذلك قال في الباب الحادي والثلاثمائة بعد كلام: وأما سورة التوبة فاختلف الناس فيها هل هي سورة مستقلة كسائر السور أو هل هي وسورة الأنفال سورة واحدة فإنه لا يعرف كمال السورة إلا بالفصل بالبسملة ولم تجىء هنا فدل على أنها من سورة الأنفال وهو الأوجه وإن كان لتركها وجه وهو عدم المناسبة بين الرحمة والتبري ولكن ما له تلك القوة بل هو وجه ضعيف. وسبب ضعفه أنه في الاسم الله من البسملة ما يطلبه والبراءة إنما هي من الشريك لا من المشرك فإن الخالق كيف يتبرأ من المخلوق ولو تبرأ منه من كان يحفظ وجوده عليه والشريك معدوم فتصح البراءة منه في صفة تنزيه، وتنزيه الله تعالى من الشريك والرسول صلّى الله عليه وسلّم من اعتقاد الجهل، ووجه آخر من ضعف هذا التأويل الذي ذكرناه وهو أن البسملة موجودة في أول سورة وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ [الهمزة: 1] ووَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [المطففين: 1] وأين الرحمة من الويل انتهى، وقد يقال: كون البراءة من الشريك غير ظاهر من آيتها أصلا وستعلم إن شاء الله تعالى المراد منها، وما ذكره قدس سره في الوجه الآخر من الضعف قد يجاب عنه بأن هذه السورة لا تشبهها سورة فإنها ما تركت أحدا كما قال حذيفة إلا نالت منه وهضمته وبالغت في شأنه، أما المنافقون والكافرون فظاهر، وأما المؤمنون ففي قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ إلى الْفاسِقِينَ [التوبة: 23- 24] وهو من أشد ما يخاطب به المخالف فكيف بالموافق، وليس في سورة- ويل- ولا في تبت- ولا ولا، ولو سلّم اشتمال سورة على نوع ما اشتملت عليه لكن الامتياز بالكمية والكيفية مما لا سبيل لإنكاره ولذلك تركت فيها البسملة على ما أقول، والاسم الجليل وإن تضمن القهر الذي يناسب ما تضمنته السورة لكنه متضمن غير ذلك أيضا مع اقترانه صريحا بما لم يتضمنا سوى الرحمة، وليس المقصود إلا إظهار صفة القهر ولا يتأتى ذلك مع الافتتاح بالبسملة، ولو سلّم خلوص الاسم الجليل له. نعم إنه سبحانه لم يترك عادته في افتتاح السور هنا بالكلية حيث افتتح هذه السورة بالباء كما، افتتح غيرها بها في ضمن البسملة وإن كانت باء البسملة كلمة وباء هذه السورة جزء كلمة وذلك لسر دقيق يعرفه أهله، هذا ونقل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 236 عن السخاوي أنه قال في جمال القراء: اشتهر ترك التسمية في أول براءة، وروي عن عاصم التسمية أولها وهو القياس لأن إسقاطها إما لأنها نزلت بالسيف أو لأنهم لم يقطعوا بأنها سورة مستقلة بل من الأنفال، ولا يتم الأول لأنه مخصوص بمن نزلت فيه ونحن إنما نسمي للتبرك، ألا ترى أنه يجوز بالاتفاق بسم الله الرحمن الرحيم وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: 36] الآية ونحوها، وإن كان الترك لأنها ليست مستقلة فالتسمية في أول الأجزاء جائزة، وروي ثبوتها في مصحف ابن مسعود رضي الله تعالى عنه. وذهب ابن مناذر إلى قراءتها، وفي الاقناع جوازها، والحق استحباب تركها حيث إنها لم تكتب في الامام ولا يقتدى بغيره. وأما القول بحرمتها ووجوب تركها كما قاله بعض المشايخ الشافعية فالظاهر خلافه، ولا أرى في الإتيان بها بأسا لمن شرع في القراءة من أثناء السورة والله تعالى أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 237 بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي هذه براءة والتنوين للتفخيم و «من» ابتدائية كما يؤذن به مقابلتها بإلى متعلقة بمحذوف وقع صفة للخبر لفساد تعلقه به أي واصلة من الله، وقدروه بذلك دون حاصلة لتقليل التقدير لأنه يتعلق به إِلَى الآتي أيضا، وجوز أن تكون مبتدأ لتخصيصها بصفتها وخبره قوله تعالى: إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وقرأ عيسى بن عمر «براءة» بالنصب وهي منصوبة باسمعوا أو الزموا على الإغرار، وقرأ أهل نجران «من الله» بكسر النون على أن الأصل في تحريك الساكن الكسر، لكن الوجه الفتح مع لام التعريف هربا من توالي الكسرتين، وإنما لم يذكر ما تعلق به البراءة حسبما ذكر في قوله تعالى: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اكتفاء بما في حيز الصلة فإنه منبىء عنه إنباء ظاهرا واحترازا عن تكرار لفظ من، والعهد العقد الموثق باليمين، والخطاب في عاهَدْتُمْ للمسلمين وقد كانوا عاهدوا مشركي العرب من أهل مكة وغيرهم بإذن الله تعالى واتفاق الرسول صلّى الله عليه وسلّم فنكثوا الا بني ضمرة وبني كنانة، وأمر المسلمون بنبذ العهد إلى الناكثين وأمهلوا أربعة أشهر ليسيروا حيث شاؤوا. وإنما نسبت البراءة إلى الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم مع شمولها للمسلمين في اشتراكهم في حكمها ووجوب العمل بموجبها وعلقت المعاهدة بالمسلمين خاصة مع كونها بإذن الله تعالى واتفاق الرسول عليه الصلاة والسلام للإنباء عن تنجزها وتحتمها من غير توقف على رأي المخاطبين لأنها عبارة عن إنهاء حكم الأمان ورفع الخطر المترتب على العهد السابق عن التعرض للكفرة وذلك منوط بجانب الله تعالى من غير توقف على شيء أصلا، واشتراك المسلمين إنما هو على طريقة الامتثال لا غير، وأما المعاهدة فحيث كانت عقدا كسائر العقود الشرعية لا تتحصل ولا تترتب عليها الأحكام إلا بمباشرة المتعاقدين على وجه لا يتصور صدوره منه تعالى وإنما الصادر عنه سبحانه الإذن في ذلك وإنما المباشر له المسلمون، ولا يخفى أن البراءة إنما تتعلق بالعهد لا بالإذن فيه فنسبت كل واحدة منهما إلى من هو أصل فيها، على أن في ذلك تفخيما لشأن البراءة وتهويلا لأمرها وتسجيلا على الكفرة بغاية الذل والهوان ونهاية الخزي والخذلان، وتنزيها لساحة الكبرياء عما يوهم شائبة النقص والبداء تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وادراجه صلّى الله عليه وسلّم في النسبة الأولى وإخراجه عن الثانية لتنويه شأنه الرفيع صلّى الله عليه وسلّم في كلا المقامين كذا حرره بعض المحققين وهو توجيه وجيه. وزعم بعضهم أن المعاهدة لما لم تكن واجبة بل مباحة مأذونة نسبت إليه بخلاف البراءة فإنها واجبة بإيجابه تعالى فلذا نسبت للشارع وهو كما ترى. وذكر ابن المنير في سر ذلك أن نسبة العهد إلى الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم في مقام نسب فيه النبذ من المشركين لا يحسن أدبا. ألا ترى إلى وصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأمراء السرايا حيث يقول لهم: «إذا نزلتم بحصن فطلبوا النزول على حكم الله تعالى فأنزلوهم على حكمكم فإنكم لا تدرون أصادفتم حكم الله تعالى فيهم أم لا، وإن طلبوا ذمة الله تعالى فأنزلوهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 238 على ذمتكم فلأن تخفر ذمتكم خير من أن تخفر ذمة الله تعالى» فانظر إلى أمره صلّى الله عليه وسلّم بتوقير ذمة الله تعالى مخافة أن تخفر وإن كان لم يحصل بعد ذلك الأمر المتوقع، فتوقير عهد الله تعالى وقد تحقق من المشركين النكث وقد تبرأ منه تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام بأن لا ينسب العهد المنبوذ إليه سبحانه أحرى وأجدر فلذلك نسب العهد للمسلمين دون البراءة منه ولا يخلو عن حسن إلا أنه غير واف وفاء ما قد سبق، وقيل: إن ذكر الله تعالى للتمهيد كقوله سبحانه: لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات: 1] تعظيما لشأنه صلّى الله عليه وسلّم ولولا قصد التمهيد لأعيدت مِنَ كما في قوله عز وجل: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ [التوبة: 7] وإنما نسبت البراءة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام والمعاهدة إليهم لشركتهم في الثانية دون الأولى. وتعقب بأنه لا يخفى ما فيه فإن من برأ الرسول عليه الصلاة والسلام منه تبرأ منه المؤمنون، وما ذكر من إعادة الجار ليس بلازم، وما ذكره من التمهيد لا يناسب المقام لضعف التهويل حينئذ، وقيل: ولك أن تقول: إنه أضاف العهد إلى المسلمين لأن الله تعالى علم أن لا عهد لهم وأعلم به رسوله عليه الصلاة والسلام فلذا لم يضف العهد إليه لبراءته منهم ومن عهدهم في الأزل، وهذه نكتة الإتيان بالجملة اسمية خبرية وإن قيل: إنها إنشائية للبراءة منهم ولذا دلت على التجدد. وفيه أن حديث الأزل لا يتأتى في حق الرسول عليه الصلاة والسلام ظاهرا وبالتأويل لا يبعد اعتبار المسلمين أيضا، ونكتة الإتيان بالجملة الاسمية وهي الدلالة على الدوام والاستمرار لا تتوقف على ذلك على الحديث فقد ذكرها مع ضم نكتة التوسل إلى التهويل بالتنكير التفخيمي من لم يذكره فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أي سيروا فيها حيث شئتم، وأصل السياحة جريان الماء وانبساطه ثم استعملت في السير على مقتضى المشيئة، ومنه قوله: لو خفت هذا منك ما نلتني ... حتى ترى خيلا أمامي تسيح ففي هذا الأمر من الدلالة على كمال التوسعة والتوفية ما ليس في سيروا ونظائره وزيادة فِي الْأَرْضِ زيادة في التعميم، والكلام بتقدير القول أي فقولوا لهم سيحوا، أو بدونه وهو الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، والمقصود الإباحة والاعلام بحصول الأمان من القتل والقتال في المدة المضروبة، وذلك ليتفكروا ويحتاطوا ويستعدوا بما شاؤوا ويعلموا أن ليس لهم بعد إلا الإسلام أو السيف ولعل ذلك يحملهم على الإسلام، ولأن المسلمين لو قاتلوهم عقيب إظهار النقض فربما نسبوا إلى الخيانة فأمهلوا سدّا لباب الظن وإظهارا لقوة شوكتهم وعدم اكتراثهم بهم وباستعدادهم، وللمبالغة في ذلك اختيرت صيغة الأمر دون فلكم أن تسيحوا، والفاء لترتيب الأمر بالسياحة وما يعقبه على ما يؤذن به البراءة من الحرب على أن الأول مترتب على نفسه والثاني بكلا متعلقيه على عنوان كونه من الله العزيز جل شأنه، كأنه قيل: هذه براءة موجبة لقتالكم فاسعوا في تحصيل ما ينجيكم وإعداد ما يجديكم أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم عند الزهري لأن الآية نزلت في الشهر الأول، وقيل: إنها وإن نزلت فيه إلا أن قراءتها على الكفار وتبليغها إليهم كان يوم الحج الأكبر فإبتداء المدة عاشر ذي الحجة إلى انقضاء عشر شهر ربيع الآخر، وروي ذلك عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه ومجاهد ومحمد بن كعب القرظي. وقيل: ابتداء تلك المدة يوم النحر لعشر من ذي القعدة إلى انقضاء عشر من شهر ربيع الأول، لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت بسبب النسيء الذي كان فيهم ثم صار في السنة الثانية في ذي الحجة وهي حجة الوداع التي قال فيها صلّى الله عليه وسلّم: «ألا إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق السموات والأرض» وإلى ذلك ذهب الجبائي، واستصوب بعض الأفاضل الثاني وادعى أن الأكثر عليه، روي من عدة أخبار متداخلة بعضها في الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عاهد قريشا عام الحديبية على أن يضعوا الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ودخلت خزاعة في عهد النبي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 239 صلّى الله عليه وسلّم فدخل بنو بكر في عهد قريش ثم عدت بنو بكر على خزاعة فنالت منها وأعانتهم قريش بالسلاح فلما تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة ونقضوا عهدهم خرج عمرو الخزاعي حتى وقف على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنشد: لا همّ إني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا قد كنتم ولدا وكنا والدا ... ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا فانصر هداك الله نصرا أعتدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا فيهم رسول الله قد تجردا ... إن سيم خسفا وجهه تربدا في فيلق كالبحر يجري مزبدا ... إن قريشا أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك المؤكدا ... وجعلوا لي من كداء رصدا وزعموا أن لست أدعوا أحدا ... وهم أذل وأقل عددا هم بيتونا بالحطيم جهدا ... وقتلونا ركعا وسجدا فقال عليه الصلاة والسلام: «لا نصرت إن لم أنصرك» ثم تجهز إلى مكة ففتحها سنة ثمان من الهجرة فلما كانت سنة تسع أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يحج فقال: إنه يحضر المشركون فيطوفون عراة فبعث عليه الصلاة والسلام تلك السنة أبابكر رضي الله تعالى عنه أميرا على الناس ليقيم لهم الحج وكتب له سننه ثم بعث بعده عليا كرم الله تعالى وجهه على ناقته العضباء ليقرأ على أهل الموسم صدر براءة فلما دناه علي كرم الله تعالى وجهه سمع أبو بكر الرغاء فوقف وقال: هذا رغاء ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما لحقه قال: أمير أو مأمور؟ قال: مأمور فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر وحدثهم عن مناسكهم وقام علي كرم الله تعالى وجهه يوم النحر عند جمرة العقبة فقال: أيها الناس إني رسول رسول الله تعالى إليكم فقالوا: بماذا؟ فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية من السورة ثم قال: أمرت بأربع أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده، واختلفت الروايات في أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه هل كان مأمورا أولا بالقراءة أم لا والأكثر على أنه كان مأمورا وأن عليا كرم الله تعالى وجهه لما لحقه رضي الله تعالى عنه أخذ منه ما أمر بقراءته، وجاء في رواية ابن حبان وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه حين أخذ منه ذلك أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد دخله من ذلك مخافة أن يكون قد أنزل فيه شيء فلما أتاه قال: ما لي يا رسول الله؟ قال: خير أنت أخي وصاحبي في الغار وأنت معي على الحوض غير أنه لا يبلغ عني غيري أو رجل مني وجاء من رواية أحمد والترمذي وحسنه وأبو الشيخ، وغيرهم عن أنس قال: «بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم ببراءة مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه ثم دعاه فقال: لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي فدعا عليّا كرم الله تعالى وجهه فأعطاه إياه» وهذا ظاهر في أن عليّا لم يأخذ ذلك من أبي بكر في الطريق وأكثر الروايات على خلافه، وجاء في بعضها ما هو ظاهر في عدم عزل أبي بكر رضي الله تعالى عنه عن الأمر بل ضم إليه علي كرم الله تعالى وجهه. فقد أخرج الترمذي وحسنه، والبيهقي في الدلائل، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن ابن عباس «أن رسول صلّى الله عليه وسلّم بعث أبا بكر وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات ثم أتبعه عليّا وأمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات فحجا فقام علي رضي الله تعالى عنه في أيام التشريق فنادى أن الله بريء من المشركين ورسوله فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ولا يحجنّ بعد العام مشرك ولا يطوفنّ بالبيت عريان ولا يدخل الجنة إلا مؤمن فكان علي كرم الله تعالى وجهه ينادي فإذا أعيا قام أبو بكر رضي الله تعالى عنه فنادى بها» وأيّا ما كان ليس في شيء من الروايات ما يدل على أن عليّا رضي الله تعالى عنه هو الخليفة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دون أبي بكر رضي الله تعالى عنه، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 240 وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يبلغ عني غيري أو رجل مني سواء كان بوحي أم لا» جار على عادة العرب أن لا يتولى تقرير العهد ونقضه إلا رجل من الأقارب لتنقطع الحجة بالكلية، فالتبليغ المنفي ليس عامّا كما يرشد إلى ذلك حديث أحمد والترمذي. وكيف يمكن إرادة العموم وقد بلغ عنه صلّى الله عليه وسلّم كثيرا من الأحكام الشرعية في حياته وبعد وفاته كثير ممن لم يكن من أقاربه صلّى الله عليه وسلّم كعلي كرم الله تعالى وجهه ومنهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه فإنه في تلك السنة حج بالناس وعلمهم بأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سنن الحج وما يلزم فيه وهو أحد الأمور الخمسة التي بني الإسلام عليها، على أن من أنصف من نفسه علم أن في نصب أبي بكر رضي الله تعالى عنه لإقامة مثل هذا الركن العظيم من الدين على ما يشعر به قوله سبحانه: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران: 97] الآية إشارة إلى أنه الخليفة بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في إقامة شعائر دينه لا سيما وقد أيد ذلك بإقامته مقامه عليه الصلاة والسلام في الصلاة بالناس في آخر أمره عليه الصلاة والسلام وهي العماد الأعظم والركن الأقوم لدينه عليه الصلاة والسلام في الصلاة بالناس، والقول بأنه رضي الله تعالى عنه عزل في المسألتين كما يزعمه بعض الشيعة لا أصل له وعلى المدعي البيان ودونه الشمّ الراسيات. وبالجملة دلالة «لا ينبغي» إلخ على الخلافة مما لا ينبغي القول بها، وقصارى ما في الخبر الدلالة على فضل الأمير كرم الله تعالى وجهه وقربه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمن لا ينكر ذلك لكنه بمعزل عن اقتضائه التقدم بالخلافة على الصديق رضي الله تعالى عنه. وقد ذكر بعض أهل السنة نكتة في نصب أبي بكر أميرا للناس في حجهم ونصب الأمير كرم الله تعالى وجهه مبلغا نقض العهد في ذلك المحفل وهي أن الصديق رضي الله تعالى عنه لما كان مظهرا لصفة الرحمة والجمال كما يرشد إليه ما تقدم في حديث الإسراء وما جاء من قوله صلّى الله عليه وسلّم أرحم أمتي بأمتي أبو بكر أحال إليه عليه الصلاة والسلام أمر المسلمين الذين هم مورد الرحمة ولما كان علي كرم الله تعالى وجهه الذي هو أسد الله مظهر جلاله فوض إليه نقض عهد الكافرين الذي هو من آثار الجلال وصفات القهر فكانا كعينين فوارتين يفور من إحداهما صفة الجمال ومن الأخرى صفة الجلال في ذلك المجمع العظيم الذي كان نموذجا للحشر وموردا للمسلم والكافر انتهى. ولا يخفى حسنه لو لم يكن في البين تعليل النبي صلّى الله عليه وسلّم. وجعل المدة أربعة أشهر قيل لأنها ثلث السنة والثلث كثير، ونصب العدد على الظرفية لسيحوا أي فسيحوا في أقطار الأرض في أربعة أشهر وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ لسياحتكم تلك غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ لا تفوتونه سبحانه بالهرب والتحصن وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ في الدنيا بالقتل والأسر وفي الآخرة بالعذاب المهين، وأظهر الاسم الجليل لتربية المهابة وتهويل أمر الاخزاء وهو الإذلال بما فيه فضيحة وعار، والمراد من الكافرين إما المشركون المخاطبون فيما تقدم والعدول عن فخزيكم إلى ذلك لذمهم بالكفر بعد وصفهم بالإشراك وللاشعار بأن علة الاخزاء هي كفرهم وإما الجنس الشامل لهم ولغيرهم ويدخل فيه المخاطبون دخولا أوليا. وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي إعلام وهو فعال بمعنى الإفعال أي إيذان كالأمان والعطاء. ونقل الطبرسي أن أصله من النداء الذي يسمع بالأذن بمعنى أذنته أوصلته إلى أذنه، ورفعه كرفع براءة والجملة معطوفة على مثلها. وزعم الزجاج أنه عطف على براءة، وتعقب بأنه لا وجه لذلك فإنه لا يقال: إن عمرا معطوف على زيد في قولك: زيد قائم وعمرو قاعد. وذكر العلامة الطيبي أن لقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يعطف على براءة على أن يكون من عطف الخبر على الخبر كأنه قيل: هذه السورة براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم خاصة وأذان من الله ورسوله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 241 إِلَى النَّاسِ عامة. نعم الأوجه أن يكون من عطف الجمل لئلا يتخلل بين الخبرين جمل أجنبية ولئلا تفوت المطابقة بين المبتدأ والخبر تذكيرا وتأنيثا، ونظر فيه بعضهم أيضا بأنهم جوزوا في الدار زيد والحجرة عمرو وعدوا ذلك من العطف على معمولي عاملين، وصرحوا بأن نحو زيد قائم وعمرو يحتمل الأمرين. وأجيب بأنه أريد عطف أذان وحده على براءة من غير تعرض لعطف الخبر على الخبر كما في نحو أريد أن يضرب زيد عمرا ويهين بكر خالدا فليس العطف إلا في الفعلين دون معموليهما هذا الذي منعه من منع، وإرادة العموم من النَّاسِ هو الذي ذهب إليه أكثر الناس لأن هذا الأذان ليس كالبراءة المختصة بالناكثين بل هو شامل للكفرة وسائر المؤمنين أيضا، وقال قوم: المراد بهم أهل العهد، وقوله سبحانه: يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ منصوب بما تعلق به إِلَى النَّاسِ لا بأذان لأن المصدر الموصوف لا يعمل على المشهور، والمراد به يوم العيد لأن فيه تمام الحج ومعظم أفعاله ولأن الإعلام كان فيه. ولما أخرج البخاري تعليقا، وأبو داود، وابن ماجه، وجماعة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فقال: أي يوم هذا؟ قالوا: يوم النحر، قال: هذا يوم الحج الأكبر، وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وابن جبير وابن زيد ومجاهد وغيرهم، وقيل: يوم عرفة لقوله صلّى الله عليه وسلّم «الحج عرفة» ونسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا، وأخرجه ابن أبي حاتم عن المسور عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وأخرج ابن جرير عن أبي الصهباء أنه سأل عليا كرم الله تعالى وجهه عن هذا اليوم فقال: هو يوم عرفة، وعن مجاهد، وسفيان أنه جميع أيام الحج كما يقال: يوم الجمل. ويوم صفين ويراد باليوم الحين والزمان والأول أقوى رواية ودراية، ووصف بالحج بالأكبر لأن العمرة تسمى الحج الأصغر أو لأن المراد بالحج ما وقع في ذلك اليوم من أعماله فإنه أكبر من باقي الأعمال فالتفضيل نسبي وغير مخصوص بحج تلك السنة. وعن الحسن أنه وصف بذلك لأنه اجتمع فيه المسلمون والمشركون ووافق عيده أعياد أهل الكتاب، وقيل: لأنه ظهر فيه عز المسلمين وذل المشركين فالتفضيل مخصوص بتلك السنة وأما تسمية الحج الموافق يوم عرفة فيه ليوم الجمعة بالأكبر فلم يذكروها وإن كان ثواب ذلك الحج زيادة على غيره كما نقله الجلال السيوطي في بعض رسائله أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي من عهودهم. وقرأ الحسن والأعرج «إن» بالكسر لما أن الأذان فيه معنى القول، وقيل: يقدر القول، وعلى قراءة الفتح يكون بتقدير حرف جر وهو مطرد في إن وأن، والجار والمجرور جوز أن يكون عن أذان وأن يكون متعلقا به وأن يكون متعلقا بمحذوف وقع صفة له، وقوله سبحانه: وَرَسُولِهِ عطف على المستكن في بريء، وجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف وأن يكون عطفا على محل اسم إن لكن على قراءة الكسر، لأن المكسورة لما لم تغير المعنى جاز أن تقدر كالعدم فيعطف على محل ما عملت فيه أي على محل كان له قبل دخولها فإنه كان إذ ذاك مبتدأ، ووقع في كلامهم محل أن مع اسمها والأمر فيه هين. ولم يجيزوا ذلك على المشهور مع المفتوحة لأن لها موضعا غير الابتداء، وأجاز ابن الحاجب هاهنا العطف على المحل في قراءة الجماعة أيضا بناء على ما ذكر من أن المفتوحة على قسمين ما يجوز فيه العطف على المحل وما لا يجوز، فإن كان بمعنى إن المكسورة كالتي بعد أفعال القلوب نحو علمت أن زيدا قائم وعمرو جاز العطف لأنها لاختصاصها بالدخول على الجمل يكون المعنى معها أن زيدا قائم وعمرو في علمي، ولذا وجب الكسر في علمت إن زيدا لقائم، وإن لم تكن كذلك لا يجوز نحو أعجبني أن زيدا كريم وعمرو ويتعين النصب فيه لأنها حينئذ ليست مكسورة ولا في حكمها، ووجه الجواز بناء على هذا أن الاذن بمعنى العلم فيدخل على الجمل أيضا كعلم. وقرأ يعقوب برواية روح وزيد «ورسوله» بالنصب وهي قراءة الحسن وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر، وعليها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 242 فالعطف على اسم أن وهو الظاهر، وجوز أن تكون الواو بمعنى مع ونصب رَسُولِهِ على أنه مفعول معه أي بريء معه منهم. وعن الحسن أنه قرأ بالجر على أن الواو للقسم وهو كالقسم بعمره صلّى الله عليه وسلّم في قوله سبحانه: لَعَمْرُكَ [الحجر: 72] وقيل: يجوز كون الجر على الجوار وليس بشيء، وهذه القراءة لعمري موهمة جدا وهي في غاية الشذوذ والظاهر أنها لم تصح. يحكى أن أعرابيا سمع رجلا يقرؤها فقال: إن كان الله تعالى بريئا من رسوله فأنا منه بريء فلببه الرجل إلى عمر رضي الله تعالى عنه فحكى الاعرابي قراءته فعندها أمر عمر بتعليم العربية. ونقل أن أبا الأسود الدؤلي سمع ذلك فرفع الأمر إلى علي كرم الله تعالى وجهه فكان ذلك سبب وضع النحو، والله تعالى أعلم. وفرق الزمخشري بين معنى الجملة الأولى وهذه الجملة بأن تلك إخبار بثبوت البراءة وهذه إخبار بوجوب الاعلام بما ثبت. وفي الكشف أن هذا على تقدير رفعهما بالخبرية ظاهر الا أن في قوله إخبار بوجوب الاعلام تجوزا وأراد أن يبين أن المقصود ليس الاخبار بالاعلام بل أعلم سبحانه أنه بريء ليعلموا الناس به، وعلى التقدير الثاني وجهه أن المعنى في الجملة الأولى البراءة الكائنة من الله تعالى حاصلة منتهية إلى المعاهدين من المشركين فهو إخبار بثبوت البراءة كما تقول في زيد موجود مثلا: إنه إخبار بثبوت زيد، وفي الثانية إعلام المخاطبين الكائن من الله تعالى بتلك البراءة ثابت واصل إلى الناس فهو إخبار بثبوت الاعلام الخاص صريحا ووجوب أن يعلم المخاطبون الناس ضمنا، ولما كان المقصود هو المعنى المضمن ذكر أنها إخبار بوجوب الاعلام، وزعم بعضهم لدفع التكرار أن البراءة الأولى لنقض العهد والبراءة الثانية لقطع الموالاة والإحسان وليس بذلك فَإِنْ تُبْتُمْ من الكفر والغدر بنقض العهد فَهُوَ أي التوب خَيْرٌ لَكُمْ في الدارين والالتفات من الغيبة إلى الخطاب لزيادة التهديد والتشديد، والفاء الأولى لترتيب مقدم الشرطية على الاذان المذيل بالوعيد الشديد المؤذن بلين عريكتهم ونكسار شدة شكيمتهم وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ عن التوبة أو ثبتم على التولي عن الإسلام والوفاء فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ غير سابقيه سبحانه ولا فائتيه وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي في الآخرة على ما هو الظاهر. ومن هنا قيد بعضهم غير معجزي الله بقوله في الدنيا، والتعبير بالبشارة للتهكم، وصرف الخطاب عنهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قيل: لأن البشارة إنما تليق بمن يقف على الأسرار الالهية، وقد يقال: لا يبعد كون الخطاب لكل من له حظ فيه وفيه من المبالغة ما لا يخفى إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ استثناء على ما في الكشاف من المقدر في قوله: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ إلخ لأن الكلام خطاب مع المسلمين على أن المعنى براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فقولوا لهم سيحوا إلا الذين عاهدتم منهم ثم لم ينقصوكم فأتموا إليهم عهدهم، وهو بمعنى الاستدراك كأنه قيل: فلا تمهلوا الناكثين غير أربعة أشهر ولكن الذين لم ينكثوا فأتموا إليهم عهدهم ولا تجروهم مجرى الناكثين، واعترض بأنه كيف يصح الاستثناء وقد تخلل بين المستثنى والمستثنى منه جملة أجنبية أعني قوله سبحانه: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ فإنه كما قرر عطف على براءة، وأجيب بأن تلك الجملة ليست أجنبية من كل وجه لأنها في معنى الأمر بالاعلام كأنه قيل: فقولوا لهم سيحوا واعلموا أن الله تعالى بريء منهم لكن الذين عاهدتهم إلخ، وجعله بعضهم استدراكا من النبذ السابق الذي أخر فيه القتال أربعة أشهر والمآل واحد، وقيل استثناء من المشركين الأول وإليه ذهب الفراء، ورد بأن بقاء التعميم في قوله تعالى: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ينافيه، وقيل: هو استثناء من المشركين الثاني. ورد بأن بقاء التعميم في الأول ينافيه، والقول بالرجوع إليهما والمستثنى منهما في الجملتين ليستا على نسق واحد لا يحسن، وجعل الثاني معهودا وهم المشركون المستثنى منهم هؤلاء فقيل مجيء الاستثناء يبعد ارتكابه في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 243 النظم المعجز، وقوله سبحانه: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ حينئذ لا بد من أن يجعل جزاء شرط محذوف وهو أيضا خلاف الظاهر والظاهر الخبرية، والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، وكون المراد به أناسا بأعيانهم فلا يكون عاما فيشبه الشرط فتدخل الفاء في خبره على تقدير تسليمه غير مضر فقد ذهب الأخفش إلى زيادة الفاء في خبر الموصول من غير اشتراط العموم، واستدل القطب لما في الكشاف بأن هاهنا جملتين يمكن أن يعلق بهما الاستثناء جملة البراءة وجملة الامهال، لكن تعليق الاستثناء بجملة البراءة يستلزم أن لا براءة عن بعض المشركين فتعين تعلقه بجملة الامهال أربعة أشهر، وفيه غفلة عن أن المراد البراءة عن عهود المشركين لا عن أنفسهم، ولا كلام في أن المعاهدين الغير الناكثين ليس الله عالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم بريئين من عهودهم وإن برئا عن أنفسهم بضرب من التأويل فافهم، وقال ابن المنير: يجوز أن قوله سبحانه: فَسِيحُوا خطابا للمشركين غير مضمر قبله القول ويكون الاستثناء على هذا من قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ كأنه قيل: براءة من الله تعالى ورسوله إلى المعاهدين إلا الباقين على العهد فأتموا إليهم أيها المسلمون عهدهم، ويكون فيه خروج من خطاب المسلمين في إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ إلى خطاب المشركين في فَسِيحُوا ثم التفات من التكلم إلى الغيبة في فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ والأصل غير معجزيّ وأني، وفي هذا الالتفات بعد الالتفات الأول افتنان في أساليب البلاغة وتفخيم للشأن وتعظيم للأمر، ثم يتلو هذا الالتفات العود إلى الخطاب في قوله سبحانه: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ إلخ وكل هذا من حسنات الفصاحة انتهى، ولا يخفى ما فيه من كثرة التعسف ومِنَ قيل بيانية، وقيل: تبعيضية، وثم في قوله تعالى: ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً للدلالة على ثباتهم على عهدهم مع تمادي المدة وينقصوا بالصاد المهملة كما قرأ الجمهور يجوز أن يتعدى إلى واحد فيكون شيئا منصوبا على المصدرية أي لم ينقصوكم شيئا من النقصان لا قليلا ولا كثيرا، ويجوز أن يتعدى إلى اثنين فيكون شَيْئاً مفعوله الثاني أي لم ينقصوكم شيئا من شروط العهد وأدوها لكم بتمامها، وقرأ عكرمة وعطاء ينقضوكم بالضاد المعجمة، والكلام حينئذ على حذف مضاف أي لم ينقضوا عهودكم شيئا من النقض وهي قراءة مناسبة للعهد إلا أن قراءة الجمهور أوقع لمقابلة التمام مع استغنائها عن ارتكاب الحذف وَلَمْ يُظاهِرُوا أي لم يعاونوا عَلَيْكُمْ أَحَداً من أعدائكم كما عدت بنو بكر على خزاعة فظاهرتهم قريش بالسلاح كما تقدم فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ أي أدوه إليهم كملا إِلى مُدَّتِهِمْ أي إلى انقضائها ولا تجروهم مجرى الناكثين قيل: بقي لبني ضمرة، وبني مدلج حيين من كنانة من عهدهم تسعة أشهر فأتم إليهم عهدهم، وأخرج ابن أبي حاتم أنه قال: هؤلاء قريش عاهدوا نبي الله صلّى الله عليه وسلّم زمن الحديبية وكان بقي من مدتهم أربعة أشهر بعد يوم النحر فأمر الله تعالى شأنه نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يوفي لهم بعهدهم ذلك إلى مدتهم وهو خلاف ما تظافرت به الروايات من أن قريشا نقضوا العهد على ما علمت والمعتمد هو الأول إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ تعليل لوجوب الامتثال وتنبيه على أن مراعاة العهد من باب التقوى وأن التسوية بين الغادر والوفي منافية لذلك وإن كان المعاهد مشركا فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ أي انقضت، وأصله من السلخ بمعنى الكشط يقال: سلخت الإهاب عن الشاة أي كشطته ونزعته عنها، ويجيء بمعنى الإخراج كما يقال: سلخت الشاة عن الإهاب إذا أخرجتها منه، وذكر أبو الهيثم أنه يقال: أهللنا شهر كذا أي دخلنا فيه فنحن نزداد كل ليلة لباسا إلى نصفه ثم نسلخه عن أنفسنا جزءا فجزءا حتى ينقضي وأنشد: إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله ... كفى قاتلا سلخي الشهور وإهلالي والانسلاخ فيما نحن فيه استعارة حسنة وتحقيق ذلك أن الزمان محيط بما فيه من الزمانيات مشتمل عليه اشتمال الجلد على الحيوان وكذا كل جزء من أجزائه الممتدة كالأيام والشهور والسنين، فإذا مضى فكأنه انسلخ عما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 244 فيه، وفي ذلك مزيد لطف لما فيه من التلويح بأن تلك الأشهر كانت حرزا لأولئك المعاهدين عن غوائل أيدي المسلمين فنيط قتالهم بزوالها، ومن هنا يعلم أن جعله استعارة من المعنى الأولى للسلخ أولى من جعله من المعنى الثاني باعتبار أنه لما انقضى كأنه أخرج من الأشياء الموجودة إذ لا يظهر هذا التلويح عليه ظهوره على الأول «وأل» في الأشهر للعهد فالمراد بها الأشهر الأربعة المتقدمة في قوله سبحانه: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وهو المروي عن مجاهد وغيره. وفي الدر المصون أن العرب إذا ذكرت نكرة ثم أرادت ذكرها ثانيا أتت بالضمير أو باللفظ معرفا بأل ولا يجوز أن تصفه حينئذ بصفة تشعر بالمغايرة فلو قيل رأيت رجلا وأكرمت الرجل الطويل لم ترد بالثاني الأول وإن وصفته بما لا يقتضي المغايرة جاز كقولك فأكرمت الرجل المذكور والآية من هذا القبيل، فإن الْحُرُمُ صفة مفهومة من فحوى الكلام فلا تقتضي المغايرة، وكأن النكتة في العدول عن الضمير ووضع الظاهر وضعه الإتيان بهذه الصفة لتكون تأكيدا لما ينبىء عنه إباحة السياحة من حرمة التعرض لهم مع ما في ذلك من مزيد الاعتناء بشأن الموصوف. وعلى هذا فالمراد بالمشركين في قوله سبحانه: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ الناكثون فيكون المقصود بيان حكمهم بعد التنبيه على إتمام مدة من لم ينكث ولا يكون حكم الباقين مفهوما من عبارة النص بل من دلالته، وجوز أن يكون المراد بها تلك الأربعة مع ما فهم من قوله سبحانه: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ من تتمة مدة بقيت لغير الناكثين. وعليه يكون حكم الباقين مفهوما من العبارة حيث إن المراد بالمشركين حينئذ ما يعمهم والناكثين إلا أنه يكون الانسلاخ وما نيط به من القتال شيئا فشيئا لا دفعة واحدة، فكأنه قيل: فإذا تم ميقات كل طائفة فاقتلوهم، وقيل: المراد بها الأشهر المعهودة الدائرة في كل سنة وهي رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم. وهو مخل بالنظم الكريم لأنه يأباه الترتيب بالفاء وهو مخالف للسياق الذي يقتضي توالي هذه الأشهر، وقيل: إنه مخالف للاجماع أيضا لأنه قام على أن هذه الأشهر يحل فيها القتال وأن حرمتها نسخت وعلى تفسيره بها يقتضي بقاء حرمتها ولم ينزل بعد ما ينسخها. ورد بأنه لا يلزم أن ينسخ الكتاب بالكتاب بل قد ينسخ بالسنة كما تقرر في الأصول، وعلى تقدير لزومه كما هو رأي البعض يحتمل أن يكون ناسخه من الكتاب منسوخ التلاوة. وتعقب هذا بأنه احتمال لا يفيد ولا يسمع لأنه لو كان كذلك لنقل والنسخ لا يكفي فيه الاحتمال، وقيل: إن الإجماع إذا قام على أنها منسوخة كفى ذلك من غير حاجة إلى نقل سند إلينا، وقد صح أنه صلّى الله عليه وسلّم حاصر الطائف لعشر بقين من المحرم، وكما أن ذلك كاف لنسخها يكفي لنسخ ما وقع في الحديث الصحيح وهو «إن الزمان استدار كهيئته يوم خلق الله تعالى السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب» فلا يقال: إنه يشكل علينا لعدم العلم بما ينسخه كما توهم، وإلى نسخ الكتاب بالإجماع ذهب البعض منا. ففي النهاية شرح الهداية تجوز الزيادة على الكتاب بالإجماع صرح به الإمام السرخسي. وقال فخر الإسلام: إن النسخ بالإجماع جوزه بعض أصحابنا بطريق أن الإجماع يوجب العلم اليقيني كالنص فيجوز أن يثبت به النسخ، والإجماع في كونه حجة أقوى من الخبر المشهور والنسخ به جائز فبالاجماع أولى. وأما اشتراط حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم في جواز النسخ فغير مشروط على قول ذلك البعض من الأصحاب اهـ. وأنت تعلم أن المسألة خلافية عندنا، على أن في الإجماع كلاما، فقد قيل ببقاء حرمة قتال المسلمين فيها إلا أن يقاتلوا ونقل ذلك عن عطاء لكنه قول لا يعتد به، والقول بأن منع القتال في الأشهر الحرم كان في تلك السنة وهو لا يقتضي منعه في كل ما شابهها بل هو مسكوت عنه فلا يخالف الإجماع، ويكون حله معلوما من دليل آخر ليس بشيء، لأن الظاهر أن من يدعي الإجماع يدعيه في الحل في تلك السنة أيضا، وبالجملة لا معول على هذا التفسير، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 245 وهذه على ما قال الجلال السيوطي هي آية السيف التي نسخت آيات العفو والصفح، والإعراض والمسألة. وقال العلامة ابن حجر: آية السيف وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التوبة: 36] وقيل هما، واستدل الجمهور بعمومها على قتال الترك والحبشة كأنه قيل: فاقتلوا الكفار مطلقا حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ من حل وحرم وَخُذُوهُمْ قيل: أي ائتسروهم والأخيذ الأسير، وفسر الأسر بالربط لا لاسترقاق، فإن مشركي العرب لا يسترقون. وقيل: المراد إمهالهم للتخيير بين القتل والإسلام. وقيل: هو عبارة عن أذيتهم بكل طريق ممكن، وقد شاع في العرف الأخذ على الاستيلاء على مال العدو، فيقال: إن بني فلان أخذوا بني فلان أي استولوا على أموالهم بعد أن غلبوهم وَاحْصُرُوهُمْ قيل أي احبسوهم. ونقل الخازن عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد امنعوهم عن الخروج إذا تحصنوا منكم بحصن. ونقل غيره عنه أن المعنى حيلوا بينهم وبين المسجد الحرام وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ أي كل ممر ومجتاز يجتازون منه في أسفارهم، وانتصابه عند الزجاج ومن تبعه على الظرفية. ورده أبو علي بأن المرصد المكان الذي يرصد فيه العدو فهو مكان مخصوص لا يجوز حذف- في- منه ونصبه على الظرفية إلا سماعا. وتعقبه أبو حيان بأنه لا مانع من انتصابه على الظرفية لأن قوله تعالى: وَاقْعُدُوا لَهُمْ ليس معناه حقيقة القعود بل المراد ترقبهم وترصدهم، فالمعنى ارصدوهم كل مرصد يرصد فيه، والظرف مطلقا ينصبه بإسقاط- في- فعل من لفظه أو معناه نحو جلست وقعدت مجلس الأمير، والمقصور على السماع ما لم يكن كذلك، وكُلَّ وإن لم يكن ظرفا لكن له حكم ما يضاف إليه لأنه عبارة عنه. وجوز ابن المنير أن يكون مرصدا مصدرا ميميا فهو مفعول مطلق والعامل فيه الفعل الذي بمعناه، كأنه قيل: وارصدوهم كل مرصد ولا يخفى بعده. وعن الأخفش أنه منصوب بنزع الخافض والأصل على كل مرصد فلما حذف على انتصب، وأنت تعلم أن النصب بنزع الخافض غير مقيس خصوصا إذا كان الخافض علي فإنه يقل حذفها حتى قيل: إنه مخصوص بالشعر فَإِنْ تابُوا عن الشرك بالإيمان بسبب ما ينالهم منكم وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ تصديقا لتوبتهم وإيمانهم، واكتفى بذكرهما لكونهما رئيسي العبادات البدنية والمالية فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ أي فاتركوهم وشأنهم ولا تتعرضوا لهم بشيء مما ذكر. وقيل: المراد خلوا بينهم وبين البيت ولا تمنعوهم عنه والأول أولى، وقد جاءت تخلية السبيل في كلام العرب كناية عن الترك كما في قوله: خل السبيل لمن يبنى المنار به ... وابرز ببرزة حيث اضطرك القدر ثم يراد منها في كل مقام ما يليق به، ونقل عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه استدل بالآية على قتل تارك الصلاة وقتال مانع الزكاة، وذلك لأنه تعالى أباح دماء الكفار بجميع الطرق والأحوال ثم حرمها عند التوبة عن الكفر وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة فلما لم يوجد هذا المجموع تبقى إباحة الدم على الأصل، ولعل أبا بكر رضي الله عنه استدل بها على قتال مانعي الزكاة. وفي الحواشي الشهابية أن المزني من جلة الشافعية رضي الله تعالى عنهم أورد على قتل تارك الصلاة تشكيكا تحيروا في دفعه كما قاله السبكي في طبقاته فقال إنه لا يتصور لأنه إما أن يكون على ترك صلاة قد مضت أو لم تأت والأول باطل لأن المقضية لا يقتل بتركها والثاني كذلك لأنه ما لم يخرج الوقت فله التأخير فعلام يقتل؟ وسلكوا في الجواب مسالك. الأول أن هذا وارد أيضا على القول بالتعزير والضرب والحبس كما هو مذهب الحنفية فالجواب- الجواب- الجزء: 5 ¦ الصفحة: 246 وهو جدلي. والثاني أنه على الماضية لأنه تركها بلا عذر، ورد بأن القضاء لا يجب على الفور وبأن الشافعي رضي الله تعالى عنه قد نص على أنه لا يقتل بالمقضية مطلقا. والثالث أنه يقتل للمؤداة في آخر وقتها. ويلزمه أن المبادرة إلى قتل تارك الصلاة تكون أحق منها إلى المرتد إذ هو يستتاب وهذا لا يستتاب ولا يمهل إذ لو أمهل صارت مقضية وهو محل كلام فلا حاجة إلى أن يجاب من طرف أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه كما قيل: بأن استدلال الشافعية مبني على القول بمفهوم الشرط وهو لا يعول به، ولو سلمه فالتخلية الإطلاق عن جميع ما مر، وحينئذ يقال: تارك الصلاة لا يخلى ويكفي لعدم التخلية أن يحبس، على أن ذلك منقوض بمانع الزكاة عنده، وأيضا يجوز أن يراد بإقامتهما التزامهما وإذا لم يلتزمهما كان كافرا إلا أنه خلاف المتبادر وإن قاله بعض المفسرين. وأنت تعلم أن مذهب الشافعية أن من ترك صلاة واحدة كسلا بشرط إخراجها عن وقت الضرورة بأن لا يصلي الظهر مثلا حتى تغرب الشمس قتل حدّا، واستدل بعض أجلة متأخريهم بهذه الآية، وقوله صلّى الله عليه وسلّم «أمرت أن أقاتل الناس» الحديث وبين ذلك بأنهما شرطا في الكف عن القتل والمقاتلة الإسلام وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة لكن الزكاة يمكن الإمام أخذها ولو بالمقاتلة ممن امتنعوا منها وقاتلونا فكانت فيها على حقيقتها بخلافها في الصلاة فإنه لا يمكن فعلها بالمقاتلة فكانت فيها بمعنى القتل، ثم قال: فعلم وضوح الفرق بين الصلاة والزكاة وكذا الصوم فإنه إذا علم أنه يحبس طول النهار نواه فأجدى الحبس فيه ولا كذلك الصلاة فتعين القتل في حدها ولا يخفى أن ظاهر هذا قول بالجمع بين الحقيقة والمجاز في الآية والحديث لأن الصلاة والزكاة في كل منهما، وفي الآية القتل وحقيقته لا تجري في مانع الزكاة وفي الحديث المقاتلة وحقيقتها لا تجري في تارك الصلاة فلا بد أن يراد مع القتل المقاتلة في الآية ومع المقاتلة القتل في الحديث ليتأتى جريان ذلك في تارك الصلاة ومانع الزكاة، والجمع بين الحقيقة والمجاز لا يجوز عندنا، على أن حمل الآية والحديث على ذلك مما لا يكاد يتبادر إلى الذهن فالنقض بمانع الزكاة في غاية القوة. وأشار إلى ما نقل عن المزني مع جوابه بقوله: لا يقال: لا قتل بالحاضرة لأنه لم يخرجها عن وقتها ولا بالخارجة عنه لأنه لا قتل بالقضاء وإن وجب فورا لأنا نقول: بل يقتل بالحاضرة إذا أمر بها من جهة الإمام أو نائبه دون غيرهما فيما يظهر في الوقت عند ضيقه وتوعد على إخراجها عنه فامتنع حتى خرج وقتها لأنه حينئذ معاند للشرع عنادا يقتضي مثله القتل فهو ليس لحاضرة فقط ولا لفائتة فقط بل لمجموع الأمرين الأمر والإخراج مع التصميم ثم إنهم قالوا: يستتاب تارك الصلاة فورا ندبا، وفارق الوجوب في المرتد بأن ترك استتابته توجب تخليده في النار إجماعا بخلاف هذا، ولا يضمن عندهم من قتله قبل التوبة مطلقا لكنه يأثم من جهة الافتئات على الإمام، وتمام الكلام في ذلك يطلب من محله. واستدل بالآية أيضا- كما قال الجلال السيوطي- من ذهب إلى كفر تارك الصلاة ومانع الزكاة، وليس ذلك بشيء والصحيح أنهما مؤمنان عاصيان وما يشعر بالكفر خارج مخرج التغليظ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يغفر لهم ما قد سلف منهم ويثيبهم بإيمانهم وطاعتهم وهو تعليل للأمر بتخلية السبيل وَإِنْ أَحَدٌ شروع في بيان حكم المتصدين لمبادىء التوبة من سماع كلام الله تعالى والوقوف على شعائر الدين إثر بيان حكم التائبين عن الكفر والمصرين عليه، وفيه إزاحة ما عسى يتوهم من قوله سبحانه: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ إذ الحجة قد قامت عليهم وأن ما ذكره عليه الصلاة والسلام قبل من الدلائل والبينات كاف في إزالة عذرهم بطلبهم للدليل لا يلتفت إليه بعد وإِنْ شرطية والاسم مرفوع بشرط مضمر يفسره الظاهر لا بالابتداء ومن زعم ذلك فقد أخطأ كما قال الزجاج لأن إن لكونها تعمل العمل المختص بالفعل لفظا أو محلا مختصة به فلا يصح دخولها على الأسماء أي وإن استجارك أحد مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ أي استأمنك وطلب مجاورتك بعد انقضاء الأجل المضروب فَأَجِرْهُ أي فآمنه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 247 حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ويتدبره ويطلع على حقيقة ما تدعو إليه والاقتصار على ذكر السماع لعدم الحاجة إلى شيء آخر في الفهم لكونهم من أهل اللسن والفصاحة، والمراد بكلام الله تعالى الآيات المشتملة على ما يدل على التوحيد، ونفي الشبه والشبيه، وقيل: سورة براءة، وقيل: جميع القرآن لأن تمام الدلائل والبينات فيه، وحَتَّى للتعليل متعلقة بما عندها، وليست الآية من التنازع على ما صرح به الفاضل ابن العادل حيث قال: ولا يجوز ذلك عند الجمهور لأمر لفظي صناعي لأنا لو جعلناها من ذلك الباب وأعملنا الأول أعني استجارك لزم إثبات الممتنع عندهم وهو إعمال حتى في الضمير فإنهم قالوا: لا يرتكب ذلك إلا في الضرورة كما في قوله: فلا والله لا يلفى أناس ... فتى حتاك يا ابن أبي زياد ضرورة أن القائلين بإعمال الثاني يجوزون إعمال الأول المستدعي لما ذكر سيما على مذهب الكوفيين المبني على رجحان أعماله ومن جوز إعماله في الضمير يصح ذلك عنده لعدم المحذور حينئذ، ويفهم ظاهر كلام بعض الأفاضل جواز التعلق باستجارك حيث قال: لا داعي لتعلقه بأجره سوى الظن أنه يلزم أن يكون التقدير على تقدير التعلق بالأول وإن أحد من المشركين استجارك حتى يسمع كلام الله فأجره حتاه أي حتى السمع وهل يقول عاقل بتوقف تمام قولك إن استأمنك زيد لأمر كذا فآمنه على أن تقول لذلك الأمر كلا فرضنا الاحتياج ولزوم التقدير ولكن ما الموجب لتقدير حتاه الممتنع في غير الضرورة ولم لا يجوز أن يقدر لذلك أوله أو حتى يسمعه أو غير ذلك مما في معناه، وقال آخر: إن لزوم الإضمار الممتنع على تقدير إعمال الأول لا يعين إعمال الثاني فلا يخرج التركيب من باب التنازع بل يعدل حينئذ إلى الحذف فإن تعذر أيضا ذكر مظهرا كما يستفاد من كلام نجم الأئمة وغيره من المحققين. وقد يقال: إن المانع من كونه من باب التنازع أنه ليس المقصود تعليل الاستجارة بما ذكر كما أن المقصود تعليل الإجارة به. نعم قال شيخ الإسلام إن تعلق الإجارة بسماع كلام الله تعالى يستلزم تعلق الاستجارة أيضا بذلك أو ما في معناه من أمور الدين، وما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه أتاه رجل من المشركين فقال: إن أراد الرجل منا أن يأتي محمدا صلّى الله عليه وسلّم بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله تعالى أو لحاجة قتل قال: لا. لأن الله تعالى يقول: وإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ إلخ فالمراد بما فيه من الحاجة هي الحاجة المتعلقة بالدين لا ما يعمها وغيرها من الحاجات الدنيوية كما ينبىء عنه قوله أن يأتي محمدا صلّى الله عليه وسلّم فإن من يأتيه عليه الصلاة والسلام إنما يأتيه للأمور المتعلقة بالدين انتهى، لكنه ليس بشيء لأن الظاهر من كلام ذلك القائل العموم فيكون جواب الأمير كرم الله تعالى وجهه مؤيدا لما قلناه. ويرد على قوله قدس سره أن يأتيه عليه الصلاة والسلام إنما يأتيه للأمور المتعلقة بالدين منع ظاهر فلا يتم بناء الانباء، وجوز غير واحد كون حتى للغاية والخبر المذكور وجزالة المعنى يشهدان بكونها للتعليل بل قال المولى سري الدين المصري: إن جعلها للغاية يأباه قوله تعالى: ثُمَّ أَبْلِغْهُ بعد سماعه وكلام الله تعالى إن لم يؤمن مَأْمَنَهُ أي مسكنه الذي يأمن فيه أو موضع أمنه وهو ديار قومه على أن المأمن اسم مكان أو مصدر بتقدير مضاف والأول أولى لسلامته من مؤنة التقدير، والجملة الشرطية على ما بينه في الكشف عطف على قوله سبحانه: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ولا حجة في الآية للمعتزلة على نفي الكلام النفسي لأن السماع قد ينسب إليه باعتبار الدال عليه أو يقال: إن الكلام مقول بالاشتراك أو بالحقيقة والمجاز على الكلام النفسي والكلام اللفظي ولا يلزم من تعين أحدهما في مقام نفي ثبوت الآخر في نفس الأمر، وقد تقدم في المقدمات من الكلام ما يتعلق بهذا المقام فتذكر ذلِكَ أي الأمن أو الأمر بِأَنَّهُمْ أي بسبب أنهم قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ ما الإسلام وما حقيقة ما تدعوهم إليه أو قوم جهلة فلا بد من إعطاء الأمان حتى يفهموا ذلك ولا يبقى لهم معذرة أصلا، والآية كما قال الحسن محكمة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 248 وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن أبي عروبة أنها منسوخة بقوله تعالى: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة: 36] وروي ذلك عن السدي. والضحاك أيضا وما قاله الحسن أحسن، واختلف في مقدار مدة الإمهال فقيل: أربعة أشهر وذكر النيسابوري أنه الصحيح من مذهب الشافعي، وقيل: مفوض إلى رأي الإمام ولعله الأشبه. كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ تبيين للحكمة الداعية لما سبق من البراءة ولواحقها والمراد من المشركين الناكثون لأن البراءة إنما هي في شأنهم، والاستفهام لانكار الوقوع، ويكون تامة وكيف في محل النصب على التشبيه بالحال أو الظرف. وقال غير واحد: ناقصة وكَيْفَ خبرها وهو واجب التقديم لأن الاستفهام له صدر الكلام ولِلْمُشْرِكِينَ متعلق بيكون عند من يجوز عمل الأفعال الناقصة بالظروف أو صفة لعهد قدمت فصارت حالا وعِنْدَ اما متعلق بيكون على ما مر أو بعهد لأنه مصدر أو بمحذوف وقع صفة له، وجوز أن يكون الخبر لِلْمُشْرِكِينَ وعِنْدَ فيها الأوجه المتقدمة، ويجوز أيضا تعلقها بالاستقرار الذي تعلق به لِلْمُشْرِكِينَ أو الخبر عِنْدَ اللَّهِ وللمشركين إما تبيين كما في- سقيا لك- فيتعلق بمقدر مثل أقول هذا الإنكار لهم أو متعلق بيكون وإما حال من عهد أو متعلق بالاستقرار الذي تعلق به الخبر، ويغتفر تقدم معمول الخبر لكونه جارا ومجرورا، وكَيْفَ على الوجهين الأخيرين شبيهة بالظرف أو بالحال كما في احتمال كون الفعل تاما وهو على ما قاله شيخ الإسلام الأولى لأن في إنكار ثبوت العهد في نفسه من المبالغة ما ليس في إنكار ثبوته للمشركين لأن ثبوته الرابطي فرع ثبوته العيني فانتفاء الأصل يوجب انتفاء الفرع رأسا، وتعقب بأنه غير صحيح لما تقرر أن انتفاء مبدأ المحمول في الخارج لا يوجب انتفاء الحمل الخارجي لاتصاف الأعيان بالاعتبارات والعدميات حتى صرحوا بأن زيدا عمي قضية خارجية مع أنه لا ثبوت عينا للعمى وصرحوا بأن ثبوت الشيء للشيء وإن لم يقتض ثبوت الشيء الثابت في ظرف الاتصاف لكنه يقتضي ثبوته في نفسه ولو في محل انتزاعه، وتحقيق ذلك في محله. نعم في توجيه الإنكار إلى كيفية ثبوت العهد من المبالغة ما ليس في توجيهه إلى ثبوته لأنه إذا انتفى جميع أحوال وجود الشيء وكل موجود يجب أن يكون وجوده على حال فقد انتفى وجوده على الطريق البرهاني أي في أي حال يوجد لهم عهد معتد به عند الله تعالى وعند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يستحق أن يراعي حقوقه ويحافظ عليه إلى تمام المدة ولا يتعرض لهم بحسبه قتلا وأخذا. وتكرير كلمة عند للايذان بعدم الاعتداد عند كل من الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام على حدة إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ وهم المستثنون فيما سلف والخلاف هو الخلاف والمعتمد هو المعتمد، والتعرض لكون المعاهدة عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ لزيادة بيان أصحابها والاشعار بسبب وكادتها، والاستثناء منقطع وهو بمعنى الاستدراك من النفي المفهوم من الاستفهام الانكاري المتبادر شموله بجميع المعاهدين ومحل الموصول الرفع على الابتداء وخبره مقدر أو هو فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ والفاء لتضمنه معنى الشرط على ما مر وما كما قال غير واحد إما مصدرية منصوبة المحل على الظرفية بتقدير مضاف أي فاستقيموا لهم مدة استقامتهم لكم وإما شرطية منصوبة المحل على الظرفية الزمانية أي أي زمان استقاموا لكم فاستقيموا لهم وهو أسلم من القيل صناعة من الاحتمال الأول على التقدير الثاني، ويحتمل أن تكون مرفوعة المحل على الابتداء وفي خبرها الخلاف المشهور واستقيموا جواب الشرط والفاء واقعة في الجواب، وعلى احتمال المصدرية مزيدة للتأكيد. وجوز أن يكون الاستثناء متصلا ومحل الموصول النصب أو الجر على أنه بدل من المشركين لأن الاستفهام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 249 بمعنى النفي، والمراد بهم الجنس لا المعهودون، وأيّا ما كان فحكم الأمر بالاستقامة ينتهي بانتهاء مدة العهد فيرجع هذا إلى الأمر بالإتمام المار خلا أنه قد صرح هاهنا بما لم يصرح به هناك مع كونه معتبرا فيه قطعا وهو تقييد الإتمام المأمور به ببقائهم على ما كانوا عليه من الوفاء، وعلل سبحانه بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ على طرز ما تقدم حذو القذة بالقذة كَيْفَ تكرير لاستنكار ما مر من أن يكون للمشركين عهد حقيق بالمراعاة عند الله تعالى وعند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: لاستبعاد ثباتهم على العهد وفائدة التكرار التأكيد والتمهيد لتعداد العلل الموجبة لما ذكر لاخلال تخلل ما في البين بالارتباط والتقريب، وحذف الفعل المستنكر للايذان بأن النفس مستحضرة له مترقبة لورود ما يوجب استنكاره، وقد كثر حذف الفعل المستفهم عنه مع كيف ويدل عليه بجملة حالية بعده، ومن ذلك قول كعب الغنوي يرثي أخاه أبا المغوار: وخبر تماني أنما الموت في القرى ... فكيف وهاتا هضبة وقليب يريد فكيف مات والحال ما ذكر، والمراد هنا كيف يكون لهم عهد معتدّ به عند الله وعند رسوله عليه الصلاة والسلام وَحالهم أنهم إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ أي يظفروا بكم لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً أي لم يراعوا في شأنكم ذلك، وأصل الرقوب النظر بطريق الحفظ والرعاية ومنه الرقيب ثم استعمل في مطلق الرعاية، والمراقبة أبلغ منه كالمراعاة، وفي نفي الرقوب من المبالغة ما ليس في نفيهما، وما ألطف ذكر الرقوب مع الظهور و «الإل» بكسر الهمزة وقد يفتح على ما روي عن ابن عباس الرحم والقرابة وأنشد قول حسان: لعمرك إن إلّك من قريش ... كإلّ السقب من رأل النعام وإلى ذلك ذهب الضحاك، وروي عن السدي أنه الحلف والعهد، قيل: ولعله بهذا المعنى مشتق من الأل وهو الجوار لأنهم كانوا إذا تحالفوا رفعوا أصواتهم ثم استعير للقرابة لأن بين القريبين عقد أشد من عقد التحالف، وكونه أشد لا ينافي كونه مشبها لأن الحلف يصرح به ويلفظ فهو أقوى من وجه آخر وليس التشبيه من المقلوب كما توهم، وقيل: مشتق من ألل الشيء إذا حدده أو من أل البرق إذا لمع وظهر ووجه المناسبة ظاهر. وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن عكرمة. ومجاهد أن الإل بمعنى الله عزّ وجلّ، ومنه ما روي أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه قرىء عليه كلام مسيلمة فقال لم يخرج هذا من إل فأين تذهب بكم؟ قيل: ومنه اشتق الإلّ بمعنى القرابة كما اشتقت الرحم من الرحمن، والظاهر أنه ليس بعربي إذ لم يسمع في كلام العرب إل بمعنى اله. ومن هنا قال بعضهم إنه عبري ومنه جبرال: وأيده بأنه قرىء إيلا وهو عندهم بمعنى الله أو الإله أي لا يخافون الله ولا يراعونه فيكم. والذمة الحق الذي يعاب ويذم على إغفاله أو العهد، وسمي به لأن نقضه يوجب الذم، وهي في قولهم في ذمتي كذا محل الالتزام ومن الفقهاء من قال: هو معنى يصير به الآدمي على الخصوص أهلا لوجوب الحقوق عليه، وقد تفسر بالأمان والضمان وهي متقاربة. وزعم بعضهم أن الإلّ والذمة كلاهما هنا بمعنى العهد والعطف للتفسير، ويأباه إعادة لا ظاهرا فليس هو نظير. فألفي قولها كذبا ومينا فالحق المغايرة بينهما، والمراد من الآية قيل: بيان أنهم أسراء الفرصة فلا عهد لهم، وقيل: الإرشاد إلى أن وجوب مراعاة حقوق العهد على كل من المتعاهدين مشروط بمراعاة الآخر لها فإذا لم يراعها المشركون فكيف تراعونها فهو على منوال قوله: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 250 علام تقبل منهم فدية وهم ... لا فضة قبلوا منّا ولا ذهبا ولم أجد لهؤلاء مثلا من هذه الحيثية المشار إليها بقوله سبحانه: وَإِنْ يَظْهَرُوا إلخ إلا أناسا متزينين بزي العلماء وليسوا منهم ولا قلامة ظفر فانهم معي وحسبي الله وكفى على هذا الطرز فرفعهم الله تعالى لا قدرا وحطهم ولا حط عنهم وزرا، وقوله سبحانه: يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ استئناف للكشف عن حقيقة شؤونهم الجلية والخفية دافع لما يتوهم من تعليق عدم رعاية العهد بالظفر أنهم يراعونه عند عدم ذلك حيث بين فيه أنهم في حالة العجز أيضا ليسوا من الوفاء في شيء وأن ما يظهرونه أخفاهم الله تعالى مداهنة لا مهادنة، وكيفية ارضائهم المؤمنين أنهم يبدون لهم الوفاء والمصافاة ويعدونهم بالإيمان والطاعة ويؤكدون ذلك بالأيمان الفاجرة والمؤمن غرّ كريم إذا قال صدّق وإذا قيل له صدّق ويتعللون لهم عند ظهور خلاف ذلك بالمعاذير الكاذبة. (1) وتقييد الإرضاء بالأفواه للايذان بأن كلامهم مجرد ألفاظ يتفوهون بها من غير أن يكون لها مصداق في قلوبهم، وأكد هذا بمضمون الجملة الثانية وزعم بعضهم أن الجملة حالية من فاعل يَرْقُبُوا لا استئنافية، ورد بأن الحال تقتضي المقارنة والإرضاء قبل الظهور الذي هو قبل عدم الرقوب الواقع جزاء فأين المقارنة، وأيضا إن بين الحالتين منافاة ظاهرة فإن الإرضاء بالأفواه حالة إخفاء الكفر والبغض مداراة للمؤمنين وحالة عدم المراعاة والوقوف حالة مجاهرة بالعداوة لهم وحيث تنافيا لا معنى لتقييد إحداهما بالأخرى وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن الطاعة متمردون لا عقيدة تزعهم ولا مروءة تردهم وتخصيص الأكثر لما في بعض الكفرة من التحامي عن العذر والتعفف عما يجر أحدوثة السوء، ووصف الكفرة بالفسق في غاية الذم اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ أي المتضمنة للأمر بإيفاء العهود والاستقامة في كل أمر أو جميع آياته فيدخل فيها ما ذكر دخولا أوليا، والمراد بالاشتراء الاستبدال، وفي الكلام استعارة تبعية تصريحية ويتبعها مكنية حيث شبهت الآيات بالشيء المبتاع، وقد يكون هناك مجاز مرسل باستعمال المقيد وهو الاشتراء في المطلق وهو الاستبدال على حد ما قالوا في المرسن أي استبدلوا بذلك ثَمَناً قَلِيلًا أي شيئا حقيرا من حطام الدنيا وهو أهواؤهم وشهواتهم التي اتبعوها والجملة كما- قال العلامة الطيبي- مستأنفة كالتعليل لقوله تعالى: وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ فيه أن من فسق وتمرد كان سببه مجرد اتباع الشهوات والركون إلى اللذات، وفسر بعضهم الثمن القليل بما أنفقه أبو سفيان من الطعام وصرفه إلى الاعراب فَصَدُّوا أي عدلوا وأعرضوا على أنه لازم من صد صدودا أو صرفوا ومنعوا غيرهم على أنه متعدّ من صده عن الأمر صدا، والفاء للدلالة على أن اشتراءهم أداهم إلى الصدود أو الصد عَنْ سَبِيلِهِ أي الدين الحق الموصل إليه تعالى، والإضافة للتشريف، أو سبيل بيته الحرام حيث كانوا يصدون الحجاج والعمار عنه، فالسبيل إما مجاز وإما حقيقة، وحينئذ إما أن يقدر في الكلام مضاف أو تجعل النسبة الإضافية متجوزا فيها إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي بئس ما كانوا يعملونه أو عملهم المستمر، والمخصوص بالذم محذوف. وقد جوز أن يكون كلمة ساء على بابها من التصرف لازمة بمعنى قبح أو معتدية والمفعول محذوف أي ساءهم الذي يعملونه أو عملهم، وإذا كان جارية مجرى بئس تحول إلى فعل بالضم ويمتنع تصرفها كما قرر في محله، وقوله سبحانه: لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً نعى عليهم عدم مراعاة حقوق عهد المؤمنين على الإطلاق بخلاف الأول لمكان فِيكُمْ فيه. وفي مُؤْمِنٍ في هذا فلا تكرار كما في المدارك، وقيل: إنه تفسير لما يعملون، وهو مشعر باختصاص الذم والسوء لعملهم هذا دون غيره، وقيل: إن الأول عام في الناقضين وهذا خاص بالذين اشتروا وهم   (1) قوله لأنه إسلام كذا بخطه والظاهر أن لا ساقطة والأصل لأنه لا إسلام إلخ تأمل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 251 فيه وَأُولئِكَ أي الموصوفون بما عدد من الصفات السيئة هُمُ الْمُعْتَدُونَ المجاوزون الغاية القصوى من الظلم والشرارة فَإِنْ تابُوا عما هم عليه من الكفر وسائر العظائم كنقض العهد وغيره، والفاء للايذان بأن تقريعهم بما نعى عليهم من فظائع الأعمال مزجرة عنها ومظنة للتوبة وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ على الوجه المأمور به فَإِخْوانُكُمْ أي فهم إخوانكم فِي الدِّينِ لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، والجار والمجرور متعلق بإخوانكم- كما قال أبو البقاء- لما فيه من معنى الفعل، قيل: والاختلاف بين جواب هذه الشرطية وجواب الشرطية السابقة مع اتحاد الشرط فيهما لما أن الأولى سيقت إثر الأمر بالقتل ونظائره فوجب أن يكون جوابها أمرا بخلاف هذه، وهذه سيقت بعد الحكم عليهم بالاعتداء وأشباهه فلا بد من كون جوابها حكما البتة، وهذه الآية أجلب لقلوبهم من تلك الآية إذ فرق ظاهر بين تخلية سبيلهم وبين إثبات الأخوة الدينية لهم، وبها استدل على تحريم دماء أهل القبلة، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وجاء في رواية ابن جرير وأبي الشيخ عنه أنها حرمت قتال أو دماء أهل الصلاة والمآل واحد، واستدل بها بعضهم على كفر تارك الصلاة إذ مفهومها نفي الاخوة الدينية عنه، وما بعد الحق إلا الضلال، ويلزمه القول بكفر مانع الزكاة أيضا بعين ما ذكره، وبعض من لا يقول بإكفارهما التزم تفسير إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بالتزامهما والعزم على إقامتهما ولا شك في كفر من لم يلتزمهما بالاتفاق. وذكر بعض جلة الأفاضل أنه تعالى علق حصول الأخوة في الدين على مجموع الأمور الثلاثة التوبة وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والمعلق على الشيء بكلمة إن ينعدم عند عدم ذلك الشيء فيلزم أنه متى لم توجد هذه الثلاثة لا تحصل الأخوة في الدين وهو مشكل، لأن المكلف المسلم لو كان فقيرا أو كان غنيا لكن لم ينقض عليه الحول لا يلزمه إيتاء الزكاة فإذا لم يؤتها فقد انعدم عنه ما توقف عليه حصول أخوة الدين فيلزم أن لا يكون مؤمنا، إلا أن يقال: التعليق بكلمة إن إنما يدل على مجرد كون المعلق عليه مستلزما ما علق عليه ولا يدل على انعدام المعلق عليه بانعدامه بل يستفاد ذلك من دليل خارجي لجواز أن يكون المعلق لازما أعم فيتحقق بدون تحقق ما جعل ملزوما له، ولو سلّم أن نفس التعليق يدل على انعدام المعلق عند انعدام المعلق عليه، لكن لا نسلم أنه يلزم من ذلك أن لا يكون المسلم الفقير مؤمنا بعدم إيتاء الزكاة وإنما يلزم ذلك أن لو كان المعلق عليه ايتاؤها على جميع التقادير وليس كذلك، بل المعلق عليه هو الإيتاء عند تحقق شرائط مخصوصة مبينة بدلائل شرعية انتهى. وأنت تعلم ما في القول بمفهوم الشرط من الخلاف والحنفية يقولون به، والظاهر أن هذا البحث كما يجري في إيتاء الزكاة يجري في إقامة الصلاة. واستدل ابن زيد باقترانهما على أنه لا تقبل الصلاة إلا بالزكاة. وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: أمرتم بالصلاة والزكاة فمن لم يزكّ فلا صلاة له وَنُفَصِّلُ الْآياتِ أي نبينها، والمراد بها إما ما مر من الآيات المتعلقة بأحوال المشركين من الناكثين وغيرهم وأحكامهم حالتي الكفر والإيمان وإما جميع الآيات فيندرج فيها تلك الآيات اندراجا أوليا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ما فصلنا أو من ذوي العلم على أن الفعل متعدّ ومفعوله مقدر أو منزل منزلة اللازم، والعلم كما قيل كناية عن التأمل والتفكر أو مجاز مرسل عن ذلك بعلاقة السببية، والجملة معترضة للحث على التأمل في الآيات، وتدبرها، وقوله تعالى: وَإِنْ نَكَثُوا عطف على قوله سبحانه: فَإِنْ تابُوا أي وإن لم يفعلوا ذلك بل نقضوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ الموثق بها وأظهروا ما في ضمائرهم من الشر وأخرجوه من القوة إلى الفعل، وجوز أن يكون المراد وإن ثبتوا واستمروا على ما هم عليه من النكث، وفسر بعضهم النكث بالارتداد بقرينة ذكره في مقابلة فَإِنْ تابُوا والأول أولى بالمقام وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ قدحوا فيه بأن أعابوه وقبحوا أحكامه علانية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 252 وجعل ابن المنير طعن الذمي في ديننا بين أهل دينه إذا بلغنا كذلك، وعد هذا كثير ومنهم الفاضل المذكور نقضا للعهد، فالعطف من عطف الخاص على العام وبه ينحل ما يقال: كان الظاهر أو طعنوا لأن كلّا من الطعن وما قبله كاف في استحقاق القتل والقتال، وكون الواو بمعنى أو بعيد، وقيل: العطف للتفسير كما في قولك: استخف فلان بي وفعل معي كذا، على معني وإن نكثوا أيمانهم بطعنهم في دينكم والأول أولى، ولا فرق بين توجيه الطعن إلى الدين نفسه اجمالا وبين توجيهه إلى بعض تفاصيله كالصلاة والحج مثلا، ومن ذلك الطعن بالقرآن وذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم وحاشاه بسوء فيقتل الذمي به عند جمع مستدلين بالآية سواء شرط انتقاض العهد به أم لا. وبمن قال بقتله إذا أظهر الشتم والعياذ بالله مالك والشافعي وهو قول الليث وأفتى به ابن الهمام، والقول بأن أهل الذمة يقرون على كفرهم الأصلي بالجزية وذا ليس بأعظم منه فيقرون عليه بذلك أيضا وليس هو من الطعن المذكور في شيء ليس من الانصاف في شيء، ويلزم عليه أن لا يعزروا أيضا كما لا يعزرون بعد الجزية على الكفر الأصلي، وفيه لعمري بيع يتيمة الوجود صلّى الله عليه وسلّم بثمن بخس والدنيا بحذافيرها بل والآخرة بأسرها في جنب جنابه الرفيع جناح بعوضة أو أدنى وقال بعضهم: إن الآية لا تدل على ما ادعاه الجمع بفرد من الدلالات وإنها صريحة في أن اجتماع النكث والطعن يترتب عليه ما يترتب فكيف تدل على القتل بمجرد الطعن وفيه ما فيه، ولا يخفى حسن موقع الطعن مع القتال المدلول عليه بقوله تعالى: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ أي فقاتلوهم، ووضع فيه الظاهر موضع الضمير وسموا أئمة لأنهم صاروا بذلك رؤساء متقدمين على غيرهم بزعمهم فهم أحقاء بالقتال والقتل وروي ذلك عن الحسن، وقيل: المراد بأئمتهم رؤساؤهم وصناديدهم مثل أبي سفيان. والحارث بن هشام، وتخصيصهم بالذكر لأن قتلهم أهم لا لأنه لا يقتل غيرهم، وقيل: للمنع من مراقبتهم لكونهم مظنة لها أو للدلالة على استئصالهم فإن قتلهم غالبا يكون بعد قتل من دونهم، وعن مجاهد أنهم فارس والروم وفيه بعد. وأخرج ابن أبي شيبة، وغيره عن حذيفة رضي الله تعالى عنه أنه قال: ما قوتل أهل هذه الآية بعد وما أدري ما مراده والله تعالى أعلم بمراده، وقرأ نافع وابن كثير. وأبو عمرو «أئمة» بهمزتين ثانيتهما بين بين أي بين مخرج الهمزة والياء والألف بينهما، والكوفيون وابن ذكوان عن ابن عامر بتحقيقهما من غير إدخال ألف، وهشام كذلك إلا أنه أدخل بينهما الألف هذا هو المشهور عن القراء السبعة. ونقل أبو حيان عن نافع المد بين الهمزتين والياء. وضعف كما قال بعض المحققين قراءة التحقيق وبين بين جماعة من النحويين كالفارسي، ومنهم من أنكر التسهيل بين بين وقرأ بياء خفيفة الكسرة، وأما القراءة بالياء فارتضاها أبو علي وجماعة، والزمخشري جعلها لحنا، وخطأه أبو حيان في ذلك لأنها قراءة رأس القراء والنحاة أبي عمرو، وقراءة ابن كثير. ونافع وهي صحيحة رواية، وعدم ثبوتها من طريق التيسير يوجب التضييق وكذا دراية فقد ذكر هو في المفصل وسائر الأئمة في كتبهم أنه إذا اجتمعت همزتان في كلمة فالوجه قلب الثانية حرف لين كما في آدم وأئمة فما اعتذر به عنه غير مقبول. والحاصل أن القراءات هنا تحقيق الهمزتين وجعل الثانية بين بين بلا إدخال ألف وبه والخامسة بياء صريحة وكلها صحيحة لا وجه لانكارها، ووزن أئمة أفعلة كحمار وأحمرة، وأصله أئممة فنقلت حركة الميم إلى الهمزة وأدغمت ولما ثقل اجتماع الهمزتين فروا منه ففعلوا ما فعلوا إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ أي على الحقيقة حيث لا يراعونها ولا يفون بها ولا يرون نقضها نقصا وإن أجروها على ألسنتهم، وإنما علق النفي بها كالنكث فيما سلف لا بالعهد المؤكد بها لأنها العمدة في المواثيق، والجملة في موضع التعليل إما لمضمون الشرط كأنه قيل: وإن نكثوا وطعنوا كما هو المتوقع منهم إذ لا أيمان لهم حقيقة حتى ينكثوها فقاتلوا أو لاستمرار القتال المأمور به المستفاد من السياق فكأنه قيل: فقاتلوهم إلى أن يؤمنوا إنهم لا أيمان لهم حتى يعقد معهم عقد آخر، وجعلها تعليلا للأمر بالقتال لا يساعده تعليقه بالنكث والطعن لأن حالهم في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 253 أن لا أيمان لهم حقيقة بعد ذلك كحالهم قبله، والحمل على معنى عدم بقاء أيمانهم بعد النكث والطعن مع أنه لا حاجة إلى بيانه خلاف الظاهر، وقيل: هو تعليل لما يستفاد من الكلام من الحكم عليهم بأنهم أئمة الكفر أي إنهم رؤساء الكفرة وأعظمهم شرا حيث ضموا إلى كفرهم عدم مراعاة الأيمان وهو كما ترى، والنفي في الآية عند الإمام أبي حنيفة عليه الرحمة على ما هو المتبادر، فيمين الكافر ليست يمينا عنده معتدا بها شرعا، وعند الشافعي عليه الرحمة هي يمين لأن الله تعالى وصفها بالنكث في صدر الآية وهو لا يكون حيث لا يمين ولا أيمان لهم بما علمت. وأجيب بأن ذلك باعتبار اعتقادهم أنه يمين، ويبعده أن الاخبار من الله تعالى والخطاب للمؤمنين، وقال آخرون: إن الاستدلال بالنكث على اليمين إشارة أو اقتضاء ولا أيمان لهم عبارة فتترجح، والقول بأنها تؤول جمعا بين الأدلة فيه نظر لأنه إذا كان لا بد من التأويل في أحد الجانبين فتأويل غير الصريح أولى، ولعله لا يعتبر في ذلك التقدم والتأخر، وثمرة الخلاف أنه لو أسلم الكافر بعد يمين انعقدت في كفره ثم حنث هل تلزمه الكفارة فعند أبي حنيفة عليه الرحمة لا وعند الشافعي رحمه الله تعالى نعم. وقرأ ابن عامر «إيمان» بكسر الهمزة على أنه مصدر آمنه إيمانا بمعنى أعطاه الأمان، ويستعمل بمعنى الحاصل بالمصدر وهو الأمان، والمراد أنه لا سبيل إلى أن تعطوهم أمانا بعد ذلك أبدا، قيل: وهذا النفي بناء على أن الآية في مشركي العرب وليس لهم إلا الإسلام أو السيف، ومن الناس من زعم أن المراد لا سبيل إلى أن يعطوكم الأمان بعد، وفيه أنه مشعر بأن معاهدتهم معنا على طريقة أن يكون إعطاء الأمان من قبلهم وهو بين البطلان، أو على أن الايمان بمعنى الإسلام، والجملة على هذا تعليل لمضمون الشرط لا غير على ما بينه شيخ الإسلام كأنه قيل، إن نكثوا وطعنوا كما هو الظاهر من حالهم لأنه إسلام (1) لهم حتى يرتدعوا عن نقض جنس إيمانهم وعن الطعن في دينكم، وتشبث بهذه الآية على هذه القراءة من قال: إن المرتد لا تقبل توبته بناء على أن الناكث هو المرتد وقد نفى الإيمان عنه، ونفيه مع أنه قد يقع منه نفي لصحته والاعتداد به ولا يخفى ضعفه لما علمت من معنى الآية، وقد قالوا: الاحتمال يسقط الاستدلال، وقال القاضي بيض الله تعالى غرة أحواله في بيان ضعفه: إنه يجوز أن يكون المراد نفي الإيمان عن قوم معينين والإخبار عنهم بأنه طبع على قلوبهم فلا يصدر منهم إيمان أصلا، أو يكون المراد أن المشركين لا إيمان لهم حتى يراقبوا ويمهلوا لأجله، ويفهم من هذا أنه لم يجعل الجملة تعليلا لمضمون الشرط كما ذكرنا والظاهر أنه جعلها تعليلا لقوله سبحانه: فَقاتِلُوا يعني أن المانع من قتلهم أحد أمرين إما العهد وقد نقضوه أو الإيمان وقد حرموه، وربما يؤول ذلك إلى جعلها علة لما يفهم من الكلام كأنه قيل: إن نكثوا وطعنوا فقاتلوهم ولا تتوقفوا لأنه لا مانع أصلا بعد ذلك لأنهم لا إيمان لهم ليكون مانعا ولا يخفى ما فيه. وإن قيل: إنه سقط به ما قيل: إن وصف أئمة الكفر بأنهم لا إسلام لهم تكرار مستغنى عنه، وجعل الجملة تعليلا لما يستفاد من الكلام من الحكم عليهم بأنهم أئمة الكفر أي رؤساؤه على احتمال أن يراد الإخبار عن قوم مخصوصين بالطبع أظهر من جعلها تعليلا لها على القراءة السابقة. نعم يأبى حديث الإخبار بالطبع قوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ إذ مع الطبع لا يتصور الانتهاء وهو متعلق بقوله سبحانه: فَقاتِلُوا أي قاتلوهم إرادة أن ينتهوا، أي ليكن غرضكم من القتال انتهاؤهم عما هم عليه من الكفر وسائر العظائم لا مجرد إيصال الأذية بهم كما هم شنشنة المؤذين، ومما قرر يعلم أن الترجي من المخاطبين لا من الله عزّ شأنه أَلا تُقاتِلُونَ تحريض على القتال لأن الاستفهام فيه للانكار   (1) قوله لأنه إسلام كذا بخطه والظاهر أن لا ساقطة والأصل لأنه لا إسلام إلخ تأمل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 254 والاستفهام الانكاري في معنى النفي وقد دخل النفي ونفي النفي إثبات، وحيث كان الترك مستقبحا منكرا أفاد بطريق برهاني أن إيجاده أمر مطلوب مرغوب فيه فيفيد الحث والتحريض عليه، وقد يقال: وجه التحريض على القتال أنهم حملوا على الإقرار بانتفائه كأنه أمر لا يمكن أن يعترف به طائعا لكمال شناعته فيلجؤون إلى ذلك ولا يقدرون على الإقرار به فيختارون القتال فيقاتلون قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ التي حلفوها عند المعاهدة لكم على أن لا يعاونوا عليكم فعاونوا حلفاءهم بني بكر على حلفاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خزاعة، والمراد بهم قريش وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ من مكة مسقط رأسه عليه الصلاة والسلام حين تشاوروا بدار الندوة حسبما ذكر في قوله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال: 30] وقال الجبائي: هم اليهود الذين نقضوا العهد وخرجوا مع الأحزاب وهموا بإخراج الرسول صلّى الله عليه وسلّم من المدينة، ولا يخفى أنه يأباه السياق وعدم القرينة عليه، والأول هو المروي عن مجاهد والسدي وغيرهما، واعترض بأن ما وقع في دار الندوة هو الهم بالإخراج أو الحبس أو القتل والذي استقر رأيهم عليه هو القتل لا الإخراج فما وجه التخصيص، وأجيب بأن التخصيص لأنه الذي وقع في الخارج ما يضاهيه مما ترتب على همهم وإن لم يكن بفعل منهم بل من الله تعالى لحكمة وما عداه لغو فخص بالذكر لأنه المقتضى للتحريض لا غيره مما لم يظهر له أثر. وقيل: إنه سبحانه اقتصر على الأدنى ليعلم غيره بطريق أولى، ولا يرد عليه أنه ليس بأدنى من الحبس كما توهم لأن بقاءه عليه الصلاة والسلام في يد عدوه المقتضي للتبريح بالتهديد ونحوه أشد منه بلا شبهة وَهُمْ بَدَؤُكُمْ بالمقاتلة أَوَّلَ مَرَّةٍ وذلك يوم بدر وقد قالوا بعد أن بلغهم سلامة العير: لا ننصرف حتى نستأصل محمدا صلّى الله عليه وسلّم ومن معه، وقال الزجاج: بدؤوا بقتال خزاعة حلفاء النبي صلّى الله عليه وسلّم وإليه ذهب الأكثرون، واختار جمع الأول لسلامته من التكرار، وقد ذكر سبحانه ثلاثة أمور كل منها يوجب مقاتلتهم لو انفرد فكيف بها حال الاجتماع ففي ذلك من الحث على القتال ما فيه ثم زاد ذلك بقوله سبحانه: أَتَخْشَوْنَهُمْ وقد أقيم فيه السبب والعلة مقام المسبب والمعلول، والمراد أتتركون قتالهم خشية أن ينالكم مكروه منهم فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ بمخالفة أمره وترك قتال عدوه، والاسم الجليل مبتدأ وأَحَقُّ خبره وأَنْ تَخْشَوْهُ بدل من الجلالة بدل اشتمال أو بتقدير حرف جر أي بأن تخشوه فمحله النصب أو الجر بعد الحذف على الخلاف، وقيل: إن أَنْ تَخْشَوْهُ مبتدأ خبره أَحَقُّ والجملة خبر الاسم الجليل، أي خشية الله تعالى أحق أو الله أحق من غيره بالخشية والله خشيته أحق، وخير الأمور عندي أوسطها إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإن مقتضى إيمان المؤمن الذي يتحقق أنه لا ضار ولا نافع إلا الله تعالى ولا يقدر أحد على مضرة ونفع إلا بمشيئته أن لا يخاف إلا من الله تعالى، ومن خاف الله تعالى منه كل شيء، وفي هذا من التشديد ما لا يخفى قاتِلُوهُمْ تجريد للأمر بالقتال بعد بيان موجبه على أتم وجه والتوبيخ على تركه ووعد بنصرهم وبتعذيب أعدائهم وإخزائهم وتشجيع لهم يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ بالقتل وَيُخْزِهِمْ ويذلهم بالأسر، وقد يقال: يعذبهم قتلا وأسرا ويذلهم بذلك وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ أي يجعلكم جميعا غالبين أجمعين ولذلك أخر- كما قال بعض المحققين- عن التعذيب والإخزاء وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ قد تألموا من جهتهم، والمراد بهم أناس من خزاعة حلفائه عليه الصلاة والسلام كما قال عكرمة. وغيره، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم بطون من اليمن وسبأ قدموا مكة وأسلموا فلقوا من أهلها أذى كثيرا فبعثوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشكون إليه فقال عليه الصلاة والسلام: «أبشروا فإن الفرج قريب» . وروي عنه رضي الله تعالى عنه أن قوله سبحانه: أَلا تُقاتِلُونَ إلخ ترغيب في فتح مكة وأورد عليه أن هذه السورة نزلت بعد الفتح فكيف يتأتى ما ذكر. وأجيب بأن أولها نزل بعد الفتح وهذا قبله، وفائدة عرض البراءة من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 255 عهدهم مع أنه معلوم من قتال الفتح وما وقع فيه من الدلالة على عمومه لكل المشركين ومنعهم من البيت فتذكر ولا تغفل، قيل: ولا يبعد حمل المؤمنين على العموم لأن كل مؤمن يسر بقتل الكفار وهوانهم وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ بما نالهم منهم من الأذى ولم يكونوا قادرين على دفعه، وقيل: المراد يذهب غيظهم لانتهاك محارم الله تعالى والكفر به عزّ وجلّ وتكذيب رسوله عليه الصلاة والسلام. وظاهر العطف أن إذهاب الغيظ غير شفاء الصدور. ووجه بأن الشفاء بقتل الأعداء وخزيهم واذهاب الغيظ بالنصرة عليهم أجمعين. ولكون النصرة مثير؟ القصد كان أثرها اذهاب الغيظ من القلب الذي هو أخص من الصدر. وقيل: اذهاب الغيظ كالتأكيد لشفاء الصدر وفائدته المبالغة في جعلهم مسرورين بما يمن الله تعالى عليهم من تعذيبه أعداءهم وإخزائهم ونصرته سبحانه لهم عليهم، ولعل اذهاب الغيظ من القلب أبلغ مما عطف عليه فيكون ذكره من باب الترقي ولا يخلو عن حسن. وقيل: إن شفاء الصدور بمجرد الوعد بالفتح واذهاب الغيظ بوقوع الفتح نفسه وليس بشيء، وقد أنجز الله تعالى جميع ما وعدهم به على أجمل ما يكون فالآية من المعجزات لما فيها من الإخبار بالغيب ووقع ما أخبر عنه. واستدل بها على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، وقيل: إن إسناد التعذيب إليه سبحانه مجاز باعتبار أنه جل وعلا مكنهم منه وأقدرهم عليه. وفي الحواشي الشهابية قيل: إن قوله سبحانه: بِأَيْدِيكُمْ كالصريح بأن مثل هذه الأفعال التي تصلح للباري فعل له تعالى وإنما للعبد الكسب بصرف القوى والآلات، وليس الحمل على الإسناد المجازي بمرضيّ عند العارف بأساليب الكلام، ولا الإلزام بالاتفاق على امتناع كتب الله تعالى بأيديكم وامتناع كذب الله تعالى شأنه بألسنة الكفار بوارد لأن مجرد خلق الفعل لا يصحح إسناده إلى الخالق ما لم يصلح محلا له، وامتناع ما ذكر للاحتراز عن شناعة العبارة إذ لا يقال: يا خالق القاذورات ولا المقدر للزنا والممكن منه، ثم قال: ولا يخفى ما فيه فإنه تعالى لا يصلح محلا للقتل ولا للضرب ونحوه مما قصد بالاذلال وإنما هو خالق له، والفعل لا يسند حقيقة إلى خالقه وإن كان هو الفاعل الحقيقي للفرق بينه وبين الفاعل اللغوي إذ لا يقال: كتب الله تعالى بيد زيد على أنه حقيقة بلا شبهة مع أنه لا شناعة فيه لقوله سبحانه: كَتَبَ اللَّهُ فما ذكره غير مسلم اهـ. وأنا أقول: إن مسألة خلق الأفعال قد قضى العلماء المحققون الوطر منها فلا حاجة إلى بسط الكلام فيها، وقد تكلموا في الآية بما تكلموا ولكن بقي فيها شيء وهو السر في نسبة التعذيب إليه تعالى وذكر الأيدي ولم يذكروه، ولعل ذلك في النسبة إرادة المبالغة فإنه تعذيب الله تعالى القوي العزيز وإن كان بأيدي العباد وفي ذكر الأيدي إما التنصيص على أن ذلك في الدنيا لا في الآخرة وإما لتكون البشارة بالتعذيب على الوجه الأتم الذي يترتب عليه شفاء الصدور ونحوه على الوجه الأكمل إذ فرق بين تعذيب العدو بيد عدوه وتعذيبه لا بيده، ولعمري إن الأول أحلى وأوقع في النفس فافهم. ولا يخفى ما في الآية من الانسجام حيث يخرج منها بيت كامل من الشعر وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ ابتداء إخباء بأن بعض هؤلاء الذين أمروا بمقاتلتهم يتوب من كفره فيتوب الله تعالى عليه وقد كان كذلك حيث أسلم منهم أناس وحسن إسلامهم. وقرأ الأعرج وابن أبي إسحاق وعيسى الثقفي وعمرو بن عبيد «ويتوب» بالنصب ورويت عن أبي عمرو. ويعقوب أيضا، واستشكلها الزجاج بأن توبة الله تعالى على من يشاء واقعة قاتلوا أو لم يقاتلوا والمنصوب في جواب الأمر مسبب عنه فلا وجه لإدخال التوبة في جوابه، وقال ابن جني: إن ذلك كقولك: إن تزرني أحسن إليك وأعط زيدا كذا على أن المسبب عن الزيارة جميع الأمرين لا أن كل واحد مسبب بالاستقلال، وقد قالوا بنظير ذلك في قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 1، 2] إلخ وفيه تعسف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 256 وقال بعضهم: إنه تعالى لما أمرهم بالمقاتلة شق ذلك على البعض فإذا قاتلوا جرى قتالهم مجرى التوبة من تلك الكراهية فيصير المعنى إن تقاتلوهم يعذبهم الله ويتب عليكم من كراهة قتالهم، ولا يخفى أن الظاهر أن التوبة للكفار، وذكر بعض المدققين أن دخول التوبة في جملة ما أجيب به الأمر من طريق المعنى لأنه يكون منصوبا بالفاء فهو على عكس فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ [المنافقين: 10] وهو المسمى بعطف التوهم، ووجهه أن القتال سبب لغل شوكتهم وإزالة نخوتهم فيتسبب لذلك لتأملهم ورجوعهم عن الكفر كما كان من أبي سفيان. وعكرمة. وغيرهما، والتقييد بالمشيئة للإشارة إلى أنها السبب الأصلي وأن الأول سبب عادي وللتنبيه إلى أن إفضاء القتال إلى التوبة ليس كافضائه إلى البواقي، وزعم بعض الأجلة أن قراءة الرفع على مراعاة المعنى حيث ذكر مضارع مرفوع بعد مجزوم هو جواب الأمر ففهم منه أن المعنى ويتوب الله على من يشاء على تقدير المقابلة لما يرون من ثباتكم وضعف حالهم. وأما قراءة النصب فمراعاة اللفظ إذ عطف على المجزوم منصوب بتقدير نصبه وليس بشيء، والحق أنه على الرفع مستأنف كما قدمنا وَاللَّهُ عَلِيمٌ لا تخفى عليه خافية حَكِيمٌ لا يفعل ولا يأمر إلا بما فيه حكمة ومصلحة فامتثلوا أمره عزّ وجلّ، وإيثار إظهار الاسم الجليل على الإضمار لتربية المهابة وإدخاله الروعة. أَمْ حَسِبْتُمْ خطاب لمن شق عليه القتال من المؤمنين أو المنافقين وأَمْ منقطعة جيء بها للانتقال عن أمرهم بالقتال إلى توبيخهم أو من التوبيخ السابق إلى توبيخ آخر، والهمزة المقدرة مع بل للتوبيخ على الحسبان المذكور أي بل أحسبتم وظننتم أَنْ تُتْرَكُوا على ما أنتم عليه ولا تؤمروا بالجهاد ولا تبتلوا بما يمحصكم وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ الواو حالية ولَمَّا للنفي مع التوقع ونفي العلم، والمراد نفي المعلوم وهو الجهاد على أبلغ وجه إذ هو بطريق البرهان إذ لو وقع جهادهم علمه الله تعالى لا محالة فإن وقوع ما لا يعلمه عزّ وجلّ محال كما أن عدم وقوع ما يعلمه كذلك وإلا لم يطابق علمه سبحانه الواقع فيكون جهلا وهو من أعظم المحالات، فالكلام من باب الكناية، وقيل: إن العلم مجاز عن التبيين مجازا مرسلا باستعماله في لازم معناه. وفي الكشاف ما يشعر أولا بأن العلم مجاز عما ذكر وثانيا ما يشعر بأنه من باب الكناية. وأجيب عنه بأنه أشار بذلك إلى أنه استعمل لنفي الوجود مبالغة في نفي التبيين، وما ذكره أولا من قوله: إنكم لا تتركون على ما أنتم عليه حتى يتبين المخلصين منكم وهم الذين جاهدوا في سبيل الله تعالى لوجهه جل شأنه حاصل المعنى، وذلك لأنه خطاب للمؤمنين إلهابا لهم وحثا على ما حضهم عليه بقوله سبحانه: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ فإذا وبخوا على حسبان أن يتركوا ولم يوجد فيما بينهم مجاهد مخلص دل على أنهم إن لم يقاتلوا لم يكونوا مخلصين وأن الإخلاص إذا لم يظهر أثره بالجهاد في سبيل الله تعالى ومضادة الكفار كلا إخلاص، ولو فسر العلم بالتبين لم يفد هذه المبالغة فتدبر، وقوله تعالى: وَلَمْ يَتَّخِذُوا عطف على جاهدوا وداخل في حيز الصلة أو حال من فاعله، أي جاهدوا حال كونهم غير متخذين مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً أي بطانة وصاحب سر كما قال ابن عباس، وهي من الولوج وهو الدخول وكل شيء أدخلته في شيء وليس منه فهو وليجة، ويكون للمفرد وغيره بلفظ واحد وقد يجمع على ولائج، ومِنْ دُونِ متعلق بالاتخاذ إن أبقي على حاله أو مفعول ثان له إن جعل بمعنى التصيير وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي بجميع أعمالكم فيجازيكم عليها إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وقرىء على الغيبة وفي هذا إزاحة لما يتوهم من ظاهر قوله سبحانه: وَلَمَّا يَعْلَمِ إلخ من أنه تعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها كما ذهب إليه هشام مستدلا بذلك. ووجه الازاحة أن تَعْمَلُونَ مستقبل فيدل على خلاف ما ذكره ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أي لا ينبغي لهم ولا يليق وإن وقع أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ الظاهر أن المراد شيئا من المساجد لأنه جمع مضاف فيعم ويدخل فيه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 257 المسجد الحرام دخولا أوليا، وتعميره مناط افتخارهم، ونفي الجمع يدل على النفي عن كل فرد فيلزم نفيه عن الفرد المعين بطريق الكناية، وعن عكرمة. وغيره أن المراد به المسجد الحرام واختاره بعض المحققين، وعبر عنه بالجمع لأنه قبلة المساجد وإمامها المتوجهة إليه محاريبها فعامره كعامرها، أو لأن كل مسجد ناحية من نواحيه المختلفة مسجد على حياله بخلاف سائر المساجد، ويؤيد ذلك قراءة أبي عمرو ويعقوب وابن كثير وكثير (1) «مسجد» بالتوحيد، وحمل بعضهم ما كانَ على نفي الوجود والتحقق، وقدر بأن يعمروا بحق لأنهم عمروها بدونه ولا حاجة إلى ذلك على ما ذكرنا شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ بإظهارهم ما يدل عليه وإن لم يقولوا نحن كفار، وقيل: بقولهم لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك، وقيل: بقولهم كفرنا بما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهو حال من الضمير في يَعْمُرُوا قيل: أي ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين عمارة البيت والكفر بربه سبحانه، وقال بعضهم: إن المراد محال أن يكون ما سموه عمارة بيت الله تعالى مع ملابستهم لما ينافيها ويحبطها من عبادة غيره سبحانه فانها ليست من العمارة في شيء، واعترض على قولهم: إن المعنى ما استقام لهم أن يجمعوا بين متنافين بأنه ليس بمعرب عن كنه المرام، فإن عدم استقامة الجمع بين المتنافيين إنما يستدعى انتفاء أحدهما لا بعينه لا انتفاء العمارة الذي هو المقصود، وظاهره أن النفي في الكلام راجع إلى المقيد، وحينئذ لا مانع من أن يكون المراد من ما كانَ نفي اللياقة على ما ذكرنا، والغرض ابطال افتخار المشركين بذلك لاقترانه بما ينافيه وهو الشرك. وجوز أن يوجه النفي إلى القيد كما هو الشائع وتكلف له بما لا يخلو عن نظر. ولعل من قال في بيان المعنى: ما استقام لهم أن يجمعوا إلخ جعل محط النظر المقارنة التي أشعر بها الحال، ومع هذا لا يأبى أن يكون المقصود نظرا للمقام نفي صحة الافتخار بالعمارة والسقاية فتدبر جدا. ومما يدل على أن المقام لنفي الافتخار وما أخرجه أبو الشيخ وابن جرير عن الضحاك لما أسر العباس عيره المسلمون بالشرك وقطيعة الرحم وأغلظ عليه عليّ كرم الله تعالى وجهه في القول، فقال: تذكرون مساوينا وتكتمون محاسننا إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونقري الحجيج ونفك العاني فنزلت: وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نحو أُولئِكَ أي المشركون المذكورون حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ التي يفتخرون بها بما قارنها من الكفر فصارت كلا شيء وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ لعظم ما ارتكبوه، وإيراد الجملة اسمية للمبالغة في الخلود، والظرف متعلق بالخبر قدم عليه للاهتمام به ومراعاة للفاصلة. وهذه الجملة قيل: عطف على جملة حَبِطَتْ على أنها خبر آخر لأولئك، وقيل: هي مستأنفة كجملة أُولئِكَ حَبِطَتْ وفائدتهما تقرير النفي السابق الأولى من جهة نفي استتباع الثواب والثانية من جهة نفي استدفاع العذاب.   (1) كابن عباس، ومجاهد. وابن جبير اه منه. [ ..... ] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 258 إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ اختلف في المراد بالمساجد هنا كما اختلف في المراد بها هناك، خلا أن من قال هناك بأن المراد المسجد الحرام لا غير جوز هنا إرادة جميع المساجد قائلا: إنها غير مخالفة لمقتضى الحال فإن الإيجاب ليس كالسلب وادعى أن المقصود قصر تحقق العمارة على المؤمنين لا قصر لياقتها وجوازها وأنا أرى قصر اللياقة لائقا بلا قصور، وقرىء بالتوحيد أي إنما يليق أن يعمرها مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ على الوجه الذي نطق به الوحي وَأَقامَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 259 الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ التي أتى بهما الرسول صلّى الله عليه وسلّم فيندرج في ذلك الإيمان به عليه الصلاة والسلام حتما إذ لا يتلقى ذلك إلا منه صلّى الله عليه وسلّم. وجوز أن يكون ذكر الإيمان به عليه الصلاة والسلام قد طوى تحت ذكر الإيمان بالله تعالى دلالة على أنهما كشيء واحد إذا ذكر أحدهما فهم الآخر، على أنه أشير بذكر المبدأ والمعاد إلى ما يجب الإيمان به أجمع ومن جملته رسالته صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: إنما لم يذكر عليه الصلاة والسلام لأن المراد «بمن» هو صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه أي المستحق لعمارة المساجد من هذه صفته كائنا من كان، وليس الكلام في إثبات نبوته عليه الصلاة والسلام والإيمان به بل فيه نفسه وعمارته المسجد واستحقاقه لها، فالآية على حد قوله سبحانه: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً إلى قوله تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ [الأعراف: 158] والوجه الثاني أولى. والمراد بالعمارة ما يعم مرمة ما استرم منها وقمها وتنظيفها وتزيينها بالفرش لا على وجه يشغل قلب المصلى عن الحضور، ولعل ما هو من جنس ما يخرج من الأرض كالقطن والحصر السامانية أولى من نحو الصوف إذ قيل: بكراهة الصلاة عليه، وتنويرها بالسرج ولو لم يكن هناك من يستضيء بها على ما نص عليه جمع، وإدامة العبادة والذكر ودراسة العلوم الشرعية فيها ونحو ذلك، وصيانتها مما لم تبن له في نظر الشارع كحديث الدنيا، ومن ذلك الغناء على مآذنها كما هو معتاد الناس لا سيما بالأبيات التي غالبها هجر من القول. وقد روي عنه عليه الصلاة والسلام «الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش» وهذا الحديث في الحديث المباح فما ظنك بالمحرم مطلقا أو المرفوع فوق المآذن. وأخرج الطبراني بسند صحيح عن سلمان رضي الله تعالى عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من توضأ في بيته ثم أتى المسجد فهو زائر الله تعالى وحق على المزور أن يكرم الزائر» وأخرج سليم الرازي في الترغيب عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش يستغفرون له ما دام في ذلك المسجد ضوءه» وأخرج أبو بكر الشافعي. وغيره عن أبي قرصافة قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إخراج القمامة من المسجد مهور الحور العين» وسمعته عليه الصلاة والسلام يقول «من بنى لله تعالى مسجدا بنى الله تعالى له بيتا في الجنة فقالوا: يا رسول الله وهذه المساجد التي تبنى في الطرق. فقال عليه الصلاة والسلام: وهذه المساجد التي تبنى في الطرق» وأخرج الطبراني عن أبي أمامة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الغدو والرواح إلى المسجد من الجهاد في سبيل الله تعالى» وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجة والحاكم وصححه وجماعة عن أبي سعيد الخدري قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان وتلا صلّى الله عليه وسلّم إنما يعمر» الآية. واستشكل ذكر إيتاء الزكاة في الآية بأنه لا تظهر مدخليته في العمارة، وتكلف لذلك بأن الفقراء يحضرون المساجد للزكاة فتعمر بهم وأن من لا يبذل المال للزكاة الواجبة لا يبذله لعمارتها وهو كما ترى. والحق أن المقصود بيان أن من يعمر المساجد هو المؤمن الظاهر إيمانه وهو إنما يظهر بإقامة واجباته، فعطف الإقامة والإيتاء على الإيمان للإشارة إلى ذلك وَلَمْ يَخْشَ أحدا إِلَّا اللَّهَ فعمل بموجب أمره ونهيه غير آخذ له في الله تعالى لومة لائم ولا مانع له خوف ظالم فيندرج فيه عدم الخشية عند القتال الموبخ عليها في قوله سبحانه: أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ وأما الخوف الجبليّ من الأمور المخوفة فليس من هذا الباب ولا هو مما يدخل تحت التكليف، والخطاب والنهي في قوله تعالى: خُذْها وَلا تَخَفْ [طه: 21] ليس على حقيقته. وقيل: كانوا يخشون الأصنام ويرجونها فأريد نفي تلك الخشية عنهم فَعَسى أُولئِكَ المنعوتون بأكمل النعوت أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ أي إلى الجنة وما أعد الله تعالى فيها لعباده كما روي عن ابن عباس والحسن، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 260 وإبراز اهتدائهم لذلك مع ما بهم من تلك الصفات الجليلة في معرض التوقع لحسم أطماع الكافرين عن الوصول إلى مواقف الاهتداء لأن هؤلاء المؤمنين وهم- هم- إذا كان أمرهم دائرا بين لعل وعسى فما بال الكفرة بيت المخازي والقبائح، وفيه قطع اتكال المؤمنين على أعمالهم وما هم عليه وإرشادهم إلى ترجيح جانب الخوف على جانب الرجاء، وهذا هو المناسب للمقام لا الاطماع وسلوك سنن الملوك مع كون القصد إلى الوجوب، وكون الكفرة يزعمون أنهم محقون وأن غيرهم على الباطل فلا يتأتى حسم أطماعهم لا يلتفت إليه بعد ظهور الحق وهذا لا ريب فيه. وقيل: إن الأوصاف المذكورة، وإن أوجبت الاهتداء، ولكن الثبات عليها مما لا يعلمه إلا الله تعالى وقد يطرأ ما يوجب ضد ذلك والعبرة للعاقبة، فكلمة التوقع يجوز أن تكون لهذا ولا يخفى ما فيه فإن النظر إلى العاقبة هنا لا يناسب المقام الذي يقتضي تفضيل المؤمنين عليهم في الحال. أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ السقاية والعمارة مصدرا سقي وعمر بالتخفيف إذ عمر المشدد يقال في عمر الإنسان لا في العمارة كما يتوهمه العوام، وصحت الياء في سقاية لأن بعدها هاء التأنيث، وظاهر الآية تشبيه الفعل بالفاعل والصفة بالذات وأنه لا يحسن هنا فلا بد من التقدير، إما في جانب الصفة أي أجعلتم أهل السقاية والعمارة كمن آمن، ويؤيده قراءة محمد بن علي الباقر رضي الله تعالى عنه وابن الزبير وأبي جعفر وأبي وجزة السعدي وهو من القراء وإن اشتهر بالشعر «أجعلتم سقاة الحاج» بضم السين جمع ساق «وعمرة المسجد» بفتحتين جمع عامر، وكذا قراءة الضحاك «سقاية» بالضم أيضا مع الياء والتاء «وعمرة» في القراءة السابقة، ووجه سقاية فيها أن يكون جمعا جاء على فعال ثم أنث كما أنث من الجموع نحو حجارة فإن في كلا القراءتين تشبيه ذات بذات، وإما في جانب الذات أي أجعلتموهما كإيمان من آمن وجهاد من جاهد، وقيل: لا حاجة إلى التقدير في شيء وإنما المصدر بمعنى اسم الفاعل، والمعنى عليه كما في الأول، وأيّا ما كان فالخطاب إما للمشركين على طريقة الالتفات واختاره أكثر المحققين وهو المتبادر من النظم، وتخصيص ذكر الإيمان في جانب المشبه به واستدل له بما أخرجه ابن أبي حاتم. وابن مروديه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المشركين قالوا. عمارة بيت الله تعالى والقيام على السقاية خير من الإيمان والجهاد فذكر الله تعالى خير الإيمان به سبحانه والجهاد مع نبيه صلّى الله عليه وسلّم على عمران المشركين البيت وقيامهم على السقاية، وبما أخرجه ابن جرير وأبو الشيخ عن الضحاك قال: أقبل المسلمون على العباس وأصحابه الذين أسروا يوم بدر يعيرونهم بالشرك، فقال العباس: أما والله لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونفكّ الحاني ونحجب البيت ونسقي الحاج فانزل الله تعالى أَجَعَلْتُمْ الآية، وهذا ظاهر في أن الخطاب لهم وهم مشركون. وإما لبعض المؤمنين المؤثرين للسقاية والعمارة على الهجرة والجهاد، واستدل له بما أخرجه مسلم وأبو داود وابن جرير وابن المنذر وجماعة عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه قال: كنت عند منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في نفر من أصحابه فقال رجل منهم: ما أبالي أن لا أعمل عملا لله بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر: بل الجهاد في سبيل الله تعالى خير مما قلتم فزجرهم عمر رضي الله تعالى عنه وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليتم الجمعة دخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاستفتيته فيما اختلفتم فيه فأنزل الله تعالى الآية إلى قوله سبحانه: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ وبما روي من طرق أن الآية نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه والعباس، وذلك أن الأمير كرم الله تعالى وجهه قال له: يا عم لو هاجرت إلى المدينة فقال له: أو لست في أفضل من الهجرة وأ لست أسقي الحاج وأعمر البيت، وهذا ظاهر في أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 261 العباس رضي الله تعالى عنه كان إذ ذاك مسلما على خلاف ما يقتضيه غيره من الأخبار المتقدم بعضها، وأيد هذا القول بأنه المناسب للاكتفاء في الرد عليهم ببيان عدم مساواتهم عند الله تعالى للفريق الثاني وبيان أعظمية درجتهم عند الله تعالى الظاهر دخوله في الرد على وجه يشعر بعدم حرمان الأولين بالكلية لمكان أفعل التفضيل، وجعل المشتمل على ذلك استطرادا لتفضيل من اتصف بتلك الصفات على غيره من المسلمين خلاف الظاهر، وكذا القول بأنه سيق لتفضيلهم على أهل السقاية والعمارة من الكفرة وهم وإن لم يكن لهم درجة عند الله تعالى جاء على زعمهم ومدعاهم، على أنه قيل عليه: إنه ليس فيه كثير نفع لأنه إن لم يشعر بعدم الحرمان فليس بمشعر بالحرمان، والكلام على الأول توبيخ للمشركين ومداره إنكار تشبيه أنفسهم من حيث اتصافهم بوصفيهم المذكورين مع قطع النظر عما هم عليه من الشرك بالمؤمنين من حيث اتصافهم بالإيمان والجهاد، أو على إنكار تشبيه وصفيهم المذكورين في حد ذاتهما مع الإغماض عن مقارنتهما للشرك بالإيمان والجهاد. والقول باعتبار المقارنة مما أغمض عنه المحققون لإباء المقام إياه، كيف لا وقد بين حبوط أعمالهم بذلك الاعتبار وكونها بمنزلة العدم، فتوبيخهم بعد على تشبيهها بالإيمان والجهاد، ثم رد ذلك بما يشعر بعدم حرمانهم عن أصل الفضيلة بالكلية مما لا يساعده النظم الكريم، ولو اعتبر لما احتيج إلى تقرير إنكار التشبيه وتأكيده بشيء آخر إذ لا شيء أظهر بطلانا من نسبة المعدوم إلى الموجود، وقيل: لا مانع من اعتبارها ويقطع النظر عما تقدم من بيان الحبوط، وعدم الحرمان المشعور به مبني على ذلك وفيه ما فيه، والمعنى أجعلتم أهل السقاية والعمارة في الفضيلة وعلو الدرجة كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيله أو أجعلتموهما في ذلك كالإيمان والجهاد وشتان ما بينهما فإن السقاية والعمارة وان كانتا في أنفسهما من أعمال البر والخير لكنهما وإن خلتا عن القوادح بمعزل أن يشبه أهلهما بأهل الإيمان والجهاد أو يشبه نفسهما بنفس الإيمان والجهاد وذلك قوله سبحانه: لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ أي لا يساوي الفريق الأول الثاني وبظاهره يترجح التقدير الأول، وإذا كان المراد لا يستوون بأوصافهم يرجع إلى نفي المساواة في الأوصاف فيوافق الإنكار على التقدير الثاني، وإسناد عدم الاستواء إلى الموصوفين لأن الأهم بيان تفاوتهم، وتوجيه النفي هاهنا والإنكار فيما سلف إلى الاستواء والتشبيه مع أن دعوى المفتخرين بالسقاية والعمارة من المشركين أو المؤمنين إنما هي الأفضلية دون التساوي والتشابه للمبالغة في الرد عليهم فإن نفي التساوي والتشابه نفي للأفضلية بالطريق الأولى، لكن ينبغي أن يعلم أن الأفضلية التي يدعيها المشركون تشعر بثبوت أصل الفضلية للمفضل عليه وهم بمعزل عن اعتقاد ذلك، وكيف يتصور منهم أن في جهادهم وقتلهم فضيلة أو أن في الإيمان المستلزم لتسفيه رأيهم فيما هم عليه فضيلة، فلا بد أن يكون ذلك من باب المجاراة فلا تغفل. والجملة استئناف لتقرير الإنكار المذكور وتأكيده، وجوز أبو البقاء أن تكون حالا من مفعولي الجعل والرابط ضمير الجمع كأنه قيل: سويتم بينهم حال كونهم متفاوتين عند الله وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أريد بهم المشركون وبالظلم الشرك أو وضع الشيء في غير موضعه شركا كان أو غيره فيدخل فيه ظلمهم في ذلك الجعل وهو أبلغ في الذم، والمراد من الهداية الدلالة الموصلة لا مطلق الدلالة لأنه لا يناسب المقام، وهذا حكم منه تعالى أنه سبحانه لا يوفق هؤلاء الظالمين إلى معرفة الحق وتمييز الراجح من المرجوح ولعله سيق لزيادة تقرير عدم التساوي. وقوله سبحانه: الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ استئناف لبيان مراتب فضلهم زيادة في الرد وتكميلا له، وزيادة الهجرة وتفصيل نوعي الجهاد للايذان بأن ذلك من لوازم الجهاد لا أنه اعتبر بطريق التدارك أمر لم يعتبر فيما سلف، والظاهر من السياق أن المفضل عليه أهل السقاية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 262 والعمارة من المشركين، وقد أشرنا إلى ما له وما عليه حسبما ذكره بعض الفضلاء. وأنا أقول: إذا أريد من- أفعل- المبالغة في الفضل وعلو المرتبة والمنزلة فالأمر هين وإذا أريد به حقيقته فهناك احتمالان الأول أن يقال: حذف المفضل عليه إيذانا بالعموم، أي إن هؤلاء المتصفين بهذه الصفات أعلى رتبة وأكثر كرامة ممن لم يتصف بها كائنا من كان ويدخل فيه أهل السقاية والعمارة، ويكفي في تحقيق حقيقة أفعل وجود أصل الفعل في بعض الأفراد المندرجة تحت العموم كما يقال: فلان أعلم الخلق مع أن منهم من لا يتصف بشيء من العلم بل لا يمكن أن يتصف به أصلا، وهذا مما لا ينبغي أن يشك فيه سوى أنه يعكر علينا أن المقصود بالمفضل عليه في المثال من له مشاركة في أصل الفعل ولا كذلك ما نحن فيه، فإن لم يضر هذا فالأمر ذاك وإلا فهو كما ترى. الثاني أن يقال: ما أفهمته الصيغة من أن للسقاة والعمار من المشركين درجة جاء على زعم المشركين وحسن ذلك وقوع مثله في كلامهم مع المؤمنين فانهم قالوا كما دل عليه بعض الأخبار السابقة: السقاية والعمارة خير من الإيمان والجهاد ولا شك أن ما يشعر به- خير- من أن في الإيمان والجهاد خيرا إنما جاء على زعم المؤمنين فما في الآية خارج مخرج المشاكلة مع ما في كلامهم وإن اختلف اللفظ. وما قيل: من أن جعل معنى التفضيل بالنسبة إلى زعم الكفرة ليس فيه كثير نفع ليس فيه كثير ضرر كما لا يخفى على من ذاق طعم البلاغة ولو بطرف اللسان، ويشعر كلام بعضهم أن التفضيل مبني على ما تقدم من قطع النظر وإغماض العين أي المتصفون بهذه الأوصاف الجليلة أعلى رتبة ممن خلا منها وإن حاز جميع ما عداها مما هو كمال في حد ذاته كالسقاية والعمارة، والمراد بسبيل الله هنا الإخلاص أو نحوه لا الجهاد فالمعنى جاهدوا مخلصين وَأُولئِكَ الموصوفون بما ذكر هُمُ الْفائِزُونَ أي المختصون بالفوز العظيم أو بالفوز المطلق كأن فوز من عداهم ليس بفوز بالنسبة إلى فوزهم. والكلام على الثاني توبيخ لمن يؤثر السقاية والعمارة من المؤمنين على الهجرة والجهاد، أي أجعلتم أهلهما من المؤمنين في الفضيلة والكرامة كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيله أو أجعلتموهما كالإيمان والجهاد، قالوا: وإنما لم يذكر الإيمان في جانب المشبه مع كونه معتبرا فيه قطعا تعويلا على ظهور الأمر وإشعارا بأن مدار إنكار التشبيه هو السقاية والعمارة دون الإيمان، وإنما لم يترك ذكره في جانب المشبه به أيضا تقوية للانكار وتذكيرا لأسباب الرجحان ومبادئ الأفضلية وإيذانا بكمال التلازم بين الإيمان وما تلاه. ومعنى عدم الاستواء عند الله تعالى وأعظمية درجة الفريق الثاني على هذا التقرير ظاهر. والمراد بالظلم الظلم بوضع كل من الراجح والمرجوح في موضع الآخر لا الظلم الأعم، وبعدم الهداية عدم هدايته تعالى للمؤثرين إلى معرفة ذلك لا عدم الهداية مطلقا، والقصر في قوله سبحانه: أُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ بالنسبة إلى درجة الفريق الثاني أو إلى الفوز المطلق ادعاء كما مر اهـ. وأنت تعلم أن عدم ذكر الإيمان في جانب المشبه ظاهر لأن المؤمنين ما تنازعوا كما يدل عليه حديث مسلم السابق إلا فيما هو الأفضل بعده فمن قائل السقاية ومن قائل العمارة ومن قائل الجهاد، نعم يحتاج ذكره في جانب المشبه به إلى نكتة، والتوبيخ في الآية على هذا التقدير أبلغ منه على التقدير الأول فتأمل يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ أي في الدنيا على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام. وقرأ حمزة يُبَشِّرُهُمْ بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين والتخفيف على أنه من بشر الثلاثي وأخرجها أبو الشيخ عن طلحة ابن مصرف، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم وكونه سبحانه هو المبشر ما لا يخفى من اللطافة واللطف بِرَحْمَةٍ مِنْهُ واسعة وَرِضْوانٍ كبير وَجَنَّاتٍ عالية قطوفها دانية لَهُمْ فِيها أي الجنات وقيل: الرحمة نَعِيمٌ مُقِيمٌ لا يرتحل ولا يسافر عنهم، وهو استعارة للدائم خالِدِينَ فِيها أي الجنات أَبَداً تأكيد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 263 لما يدل عليه الخلود ودفع احتمال أن يراد منه المكث الطويل إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ لا قدر بالنسبة إليه لأجور الدنيا أو للأعمال التي في مقابلته والجملة استئناف وقع تعليلا لما سبق. وذكر أبو حيان أنه تعالى لما وصف المؤمنين بثلاث صفات الإيمان والهجرة والجهاد بالنفس والمال قابلهم على ذلك بالتبشير بثلاثة: الرحمة، والرضوان، والجنة. وبدأ سبحانه بالرحمة في مقابلة الإيمان لتوقفها عليه ولأنها أعم النعم وأسبقها كما أن الإيمان هو السابق، وثنى تعالى بالرضوان الذي هو نهاية الإحسان في مقابلة الجهاد الذي فيه بذل الأنفس والأموال، وثلث عزّ وجلّ بالجنان في مقابلة الهجرة وترك الأوطان إشارة إلى أنهم لما آثروا تركها بدلهم بدار الكفر الجنان الدار التي هي في جواره. وفي الحديث الصحيح يقول الله سبحانه: «يا أهل الجنة هل رضيتم فيقولون كيف لا نرضى وقد باعدتنا عن نارك وأدخلتنا جنتك فيقول سبحانه: لكم عندي أفضل من ذلك فيقولون: وما أفضل من ذلك؟ فيقول جل شأنه: أحل لكم رضائي فلا أسخط عليكم بعده أبدا» ولا يخفى أن وصف الجنات بأن لهم فيها نعيم مقيم على هذا التوزيع في غاية اللطافة لما أن في الهجرة السفر الذي هو قطعة من العذاب. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ نهي لكل فرد من أفراد المخاطبين عن موالاة فرد من المشركين لا عن موالاة طائفة منهم فإن ذلك مفهوم من النظم الكريم دلالة لا عبارة، والآية على ما روى الثعلبي عن ابن عباس نزلت في المهاجرين فإنهم لما أمروا بالهجرة قالوا: إن هاجرنا قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشيرتنا وذهبت تجاراتنا وهلكت أموالنا وخربت ديارنا وبقينا ضائعين فنزلت فهاجروا فجعل الرجل يأتيه ابنه أو أبوه أو أخوه أو بعض أقاربه فلا يلتفت إليه ولا ينزله ولا ينفق عليه ثم رخص لهم في ذلك. وروي عن مقاتل أنها نزلت في التسعة الذين ارتدوا ولحقوا مكة نهيا عن موالاتهم. وروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى قريش يخبرهم بخبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما عزم على فتح مكة، وهذا ونحوه يقتضي أن هذه الآية نزلت قبل الفتح. واستشكل ذلك الإمام الرازي بأن الصحيح أن هذه السورة إنما نزلت بعد فتح مكة فكيف يمكن أن يكون سبب النزول ما ذكر. وأجيب بأن نزولها قبل الفتح لا ينافي كون نزول السورة بعده لأن المراد معظمها وصدرها، وعلى القول بأنها نزلت في حاطب فالمعتبر عموم اللفظ لا خصوص السبب ويدخل حاطب في النهي عن الاتخاذ بلا شبهة إِنِ اسْتَحَبُّوا أي اختاروا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وأصروا عليه اصرارا لا يرجى معه إقلاع أصلا، ولتضمن استحب معنى ما ذكر تعدى بعلى، وتعليق النهي عن الاتخاذ بذلك لما أنه قبل ذلك ربما يؤدي بهم إلى الإسلام بسبب شعورهم بمحاسن الدين وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ أي واحدا منهم، والضمير في الفعل لمراعاة لفظ الموصول وللايذان باستقلال كل واحد منهم بالاتصاف بالظلم الآتي لأن المراد تولي فرد واحد منهم ومَنْ في قوله سبحانه: مِنْكُمْ للجنس لا للتبعيض فَأُولئِكَ أي المتولون هُمُ الظَّالِمُونَ بوضعهم الموالاة في غير موضعها فالظلم بمعناه اللغوي، وقد يراد به التجاوز والتعدي عما حد الله تعالى إن كان المراد ومن يتولهم بعد النهي، والحصر ادعائي كأن ظلم غيرهم كلا ظلم عند ظلمهم وفي ذلك من الزجر عن الموالاة ما فيه قُلْ تلوين للخطاب وأمر له صلّى الله عليه وسلّم بأن يثبت المؤمنين ويقوى عزائمهم على الانتهاء عما نهوا عنه من موالاة الآباء والاخوان ويزهدهم فيهم وفيمن يجري مجراهم ويقطع علائقهم عن زخارف الدنيا الدنية على وجه التوبيخ والترهيب أي قل يا محمد للمؤمنين إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ لم يذكر الأبناء والأزواج فيما سلف وذكرهم هنا لأن ما تقدم في الأولياء وهم أهل الرأي والمشورة والأبناء والأزواج تبع ليسوا كذلك وما هنا في المحبة وهم أحب إلى كل أحد وَعَشِيرَتُكُمْ أي ذووا قرابتكم، وقيل: عشيرة الرجل أهله الأدنون، وأيّا ما كان فذكره للتعميم والشمول وهو من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 264 العشرة أي الصحبة لأنها من شأن القربى، وقيل من العشرة العدد المعروف وسميت العشيرة بذلك على هذا لكمالهم لأن العشيرة كما علمت عدد كامل أو لأن بينهم عقد نسب كعد العشرة فانه عقد من العقود وهو معنى بعيد. وقرأ أبو بكر عن عاصم «عشيراتكم» ، والحسن «عشائركم» وأنكر أبو الحسن وقوع الجمع الأول في كلامهم وإنما الواقع الجمع الثاني وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها أي اكتسبتموهما، وأصل الاقتراف اقتطاع الشيء من مكانه إلى غيره من قرفت القرحة إذا قشرتها. والقرف القشر، ووصفت الأموال بذلك إيماء إلى عزتها عندهم لحصولها بكد اليمين وعرق الجبين وَتِجارَةٌ أي أمتعة اشتريتموها للتجارة والربح تَخْشَوْنَ كَسادَها بفوات وقت رواجها بغيبتكم عن مكة المعظمة في أيام المواسم وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها منازل تعجبكم الإقامة فيها، والتعرض للصفات المذكورة للايذان بأن اللوم على محبة ما ذكر من زينة الحياة الدنيا لا ينافي ما فيها من مبادئ المحبة وموجبات الرغبة فيها وأنها مع ما لها من فنون المحاسن بمعزل عن أن تكون كما ذكر سبحانه بقوله: أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بالحب الاختياري المستتبع لأثره الذي هو الملازمة وتقديم الطاعة لا ميل الطبع فإنه أمر جبلي لا يمكن تركه ولا يؤاخذ عليه ولا يكلف الإنسان بالامتناع عنه وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ أي طريق ثوابه ورضاه سبحانه، ولعل المراد به هنا أيضا الإخلاص ونحوه لا الجهاد وإن أطلق عليه أيضا أنه سبيل الله تعالى، ونظم حب هذا في سلك حب الله تعالى شأنه وحب رسوله عليه الصلاة والسلام تنويها بشأنه وتنبيها على أنه مما يجب أن يحب فضلا عن أن يكره وإيذانا بأن محبته راجعة إلى محبة الله عزّ وجلّ ومحبة حبيبه صلّى الله عليه وسلّم فإن الجهاد عبارة عن قتال أعدائهما لأجل عداوتهم فمن يحبهما يجب أن يحب قتال من لا يحبهما فَتَرَبَّصُوا أي انتظروا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ أي بعقوبته سبحانه لكم عاجلا أو آجلا على ما روي عن الحسن واختاره الجبائي، وروي عن ابن عباس ومجاهد ومقاتل أنه فتح مكة. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ أي الخارجين عن الطاعة في موالاة المشركين وتقديم محبة من ذكر على محبة الله عزّ وجلّ ورسوله صلّى الله عليه وسلّم أو القوم الفاسقين كافة ويدخل المذكورون دخولا أوليا، أي لا يهديهم إلى ما هو خير لهم، والآية أشد آية نعت على الناس ما لا يكاد يتخلص منه إلا من تداركه الله سبحانه بلطفه، وفي الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «لا يطعم أحدكم طعم الإيمان حتى يحب في الله تعالى ويبغض في الله تعالى حتى يحب في الله سبحانه أبعد الناس ويبغض في الله عزّ وجلّ أقرب الناس» والله تعالى الموفق لأحسن الأعمال. «ومن باب الإشارة» أنه سبحانه أشار إلى تمكن رسوله عليه الصلاة والسلام ووصول أصحابه رضي الله تعالى عنهم إلى مقام الوحدة الذاتية بعد أن كانوا محتجبين بالأفعال تارة وبالصفات أخرى وبذلك تحققت الضدية على أكمل وجه بينهم وبين المشركين فنزلت البراءة وأمروا بنبذ العهد ليقع التوافق بين الباطن والظاهر وأمر المشركون بالسياحة في الأرض أربعة أشهر على عدد مواقفهم في الدنيا والآخرة تنبيها لهم فانهم لما وقفوا في الدنيا مع الغير بالشرك حجبوا عن الدين والأفعال والصفات والذات في برزخ الناسوت فلزمهم أن يوقفوا في الآخرة على الله عزّ وجلّ ثم على الجبروت ثم على الملكوت ثم على النار في جحيم الآثار فيعذبوا بأنواع العذاب. ومن طبق الآيات على ما في الأنفس ذكر أن هذه المدة هي مدة كمال الأوصاف الأربعة النباتية والحيوانية والشيطانية والإنسانية ثم قال سبحانه لهم: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ إذ لا بد من حبسكم في تلك المواقف بسبب وقوفكم مع الغير بالشرك وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ المحجوبين عن الحق بافتضاحهم عند ظهور رتبة ما عبدوه من دونه ووقوفهم معه على النار وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أي وقت ظهور الجمع الذاتي في صورة التفصيل أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ المراد بذلك كمال المخالفة والتضاد وانقطاع المدد الروحاني، والمراد من قوله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 265 سبحانه: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً الذين بقيت فيهم مسكة من الاستعداد وأثر من سلامة الفطرة وبقايا من المروءة أمر المؤمنون أن يتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم وهي مدة تراكم الدين وتحقق الحجاب إن لم يرجعوا ويتوبوا ثم قال سبحانه بعد أن ذكر ما ذكر: الَّذِينَ آمَنُوا أي علما وَهاجَرُوا أي هجروا الرغائب الحسية والأوطان النفسية وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وهي أموال معلوماتهم ومراداتهم ومقدوراتهم، والجهاد بهذه إشارة إلى محو صفاتهم، والجهاد بالأنفس إشارة إلى فنائهم في الله تعالى أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً في التوحيد عِنْدَ اللَّهِ تعالى يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وهو ثواب الأعمال وَرِضْوانٍ وهو ثواب الصفات وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ وهو مشاهدة المحبوب الذي لا يزول وذلك جزاء الأنفس، ووجه الترتيب على هذا ظاهر وإنما تولى الله تعالى بشارتهم بنفسه عزّ وجلّ ليزدادوا حبّا له تبارك وتعالى لأن القلوب مجبولة على حب من يبشرها بالخير. ثم إنه سبحانه بين أن القرابة المعنوية والتناسب المعنوي والوصلة الحقيقية أحق بالمراعاة من الاتصال الصوري مع فقد الاتصال المعنوي واختلاف الوجهة وذم سبحانه التقيد بالمألوفات الحسية وتقديمها على المحبوب الحقيقي والتعين الأول له والسبب الأقوى للوصول إلى الحضرة وتوعد عليه بما توعد نسأل الله تعالى التوفيق إلى ما يقربنا منه إنه ولي ذلك. لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ خطاب للمؤمنين خاصة وامتنان عليهم بالنصرة على الأعداء التي يترك لها الغيور أحب الأشياء إليه، والمواطن جمع موطن وهو الموضع الذي يقيم فيه صاحبه، وأريد بها مواطن الحرب أي مقاماتها ومواقفها ومن ذلك قوله: كم موطن لولاي طحت كما هوى ... بأجرامه من قلة النيق منهوي والمنع من الصرف لصيغة منتهى الجموع، واللام موطئة للقسم أي أقسم والله لقد نصركم الله في مواقف ووقائع كَثِيرَةٍ منها وقعة بدر التي ظهرت بها شمس الإسلام، ووقعة قريظة والنضير والحديبية وأنهاها بعضهم إلى ثمانين. وروي أن المتوكل اشتكى شكاية شديدة فنذر أن يتصدق- إن شفاه الله تعالى- بمال كثير فلما شفي سأل العلماء عن حد الكثير فاختلفت أقوالهم فأشير إليه أن يسأل أبا الحسن علي بن محمد بن علي بن موسى الكاظم رضي الله تعالى عنهم وقد كان حبسه في داره فأمر أن يكتب إليه فكتب رضي الله تعالى عنه يتصدق بثمانين درهما ثم سألوه عن العلة فقرأ هذه الآية وقال: عددنا تلك المواطن فبلغت ثمانين وَيَوْمَ حُنَيْنٍ عطف على محل مواطن وعطف ظرف الزمان على المكان وعكسه جائز على ما يقتضيه كلام أبي علي ومن تبعه. نعم ظاهر كلام البعض المنع لأن كلا من الظرفين يتعلق بالفعل بلا توسط العاطف، ومتعلقات الفعل إنما يعطف بعضها على بعض إذا كانت من جنس واحد، وقال آخرون: لا منع من نسق زمان على مكان وبالعكس إلا أن الأحسن ترك العاطف في مثله. ومن منع العطف أو استحسن تركه قال: إنه معطوف بحذف المضاف أي وموطن يوم حنين، ولعل التغيير للإيماء إلى ما وقع فيه من قلة الثبات من أول الأمر. وقد يعتبر الحذف في جانب المعطوف عليه، أي في أيام مواطن، والعطف حينئذ من عطف الخاص على العام، ومزية هذا الخاص التي أشار إليها العطف هي كون شأنه عجيبا وما وقع فيه غريبا للظفر بعد اليأس والفرج بعد الشدة إلى غير ذلك، وليس المراد بها كثرة الثواب وعظم النفع ليرد أن يوم حنين ليس بأفضل من يوم بدر الذي نالوا به القدح المعلى وفازوا فيه بالدرجات العلا فلا تتأتى فيه نكتة العطف وقيل: إن موطن اسم زمان كمقتل الحسين فالمعطوفان متجانسان وهو بعيد عن الفهم. وأوجب الزمخشري كون يَوْمَ منصوبا بمضمر والعطف من عطف جملة على جملة أي ونصركم يوم حنين، ولا يصح أن يكون ناصبه نَصَرَكُمُ المذكور لأن قوله سبحانه: إِذْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 266 أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ بدل من يوم حنين فيلزم كون زمان الاعجاب بالكثرة ظرف النصرة الواقعة في المواطن الكثيرة لاتحاد الفعل ولتقييد المعطوف بما يقيد به المعطوف عليه وبالعكس. واليوم مقيد بالاعجاب بالكثرة والعامل منسحب على البدل والمبدل منه جميعا، ويلزم من ذلك أن يكون زمان الاعجاب ظرفا وقيدا للنصرة الواقعة في المواطن الكثيرة وهو باطل إذ لا إعجاب في تلك المواطن. وأجيب بأن الفعل في المتعاطفين لا يلزم أن يكون واحدا بحيث لا يكون له تعدد أفراد كضربت زيدا اليوم وعمرا قبله وأضربه حين يقوم وحين يقعد إلى غير ذلك بل لا بد في نحو قولك: زيد وعمرو من اعتبار الأفراد وإلا لزم قيام العرض الواحد بالشخص بمحلين مختلفين وهو لا يجوز ضرورة فلا يلزم من تقييده في حق المعطوف بقيد تقييده في حق المعطوف عليه بذلك، ولا نسلم أن هذا هو الأصل حتى يفتقر غيره إلى دليل، وقال بعضهم: إن ذلك إنما يلزم لو كان المبدل منه في حكم التنحية مع حرف العطف ليؤول إلى نصركم الله في مواطن كثيرة إذا أعجبتكم وليس كذلك بل يؤول إلى نصركم الله في مواطن كثيرة وإذ أعجبتكم ولا محذور فيه، وفي كون البدل قيدا للمبدل منه نظر، وحنين واد بين مكة والطائف على ثلاثة أميال من مكة حارب فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون هوازن. وثقيفا. وحشما وفيهم دريد بن الصمة يتيمنون برأيه وأناسا من بني هلال وغيرهم وكانوا أربعة آلاف وكان المسلمون على ما روى الكلبي عشرة آلاف وعلى ما روي عن عطاء ستة عشر ألفا، وقيل: ثمانية آلاف، وصحح أنهم كانوا اثني عشر ألفا العشر الذين حضروا مكة وألفان انضموا إليهم من الطلقاء فلما التقوا قال سلمة بن سلامة أو أبو بكر رضي الله تعالى عنهما: لن نغلب اليوم من قلة إعجابا بكثرتهم، وقيل: إن قائل ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واستبعد ذلك الإمام لانقطاعه صلّى الله عليه وسلّم عن كل شيء سوى الله عزّ وجلّ. ويؤيد ذلك ما أخرجه البيهقي في الدلائل عن الربيع أن رجلا قال يوم حنين: لن نغلب من قلة فشق ذلك على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والظاهر أن هذه الكلمة إذا لم ينضم إليها أمر آخر لا تنافي التوكل على الله تعالى ولا تستلزم الاعتماد على الأسباب، وإنما شقت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما انضم إليها من قرائن الأحوال مما يدل على الاعجاب، ولعل القائل أخذها من قوله عليه الصلاة والسلام: «خير الأصحاب أربعة وخير السرايا أربعمائة وخير الجيوش أربعة آلاف ولا يغلب اثنا عشر ألفا من قلة كلمتهم واحدة» لكن صحبها ما صحبها من الاعجاب، ثم إن القوم اقتتلوا قتالا شديدا فأدرك المسلمون إعجابهم، والجمع قد يؤخذ بفعل بعضهم فولوا مدبرين وكان أول من انهزم الطلقاء مكرا منهم وكان ذلك سببا لوقوع الخلل وهزيمة غيرهم، وقيل: إنهم حملوا أولا على المشركين فهزموهم فأقبلوا على الغنائم فتراجعوا عليهم فكان ما كان والنبي صلّى الله عليه وسلّم على بغلته الشهباء تزول الجبال ولا يزول ومعه العباس وابن عمه أبو سفيان بن الحارث وابنه جعفر وعلي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه وربيعة بن الحارث والفضل بن العباس وأسامة بن زيد وأيمن بن عبيد وقتل رضي الله تعالى عنه بين يديه عليه الصلاة والسلام وهؤلاء من أهل بيته. وثبت معه أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فكانوا عشرة رجال، ولذا قال العباس رضي الله تعالى عنه. نصرنا رسول الله في الحرب تسعة ... وقد فر من قد فر منهم وأقشعوا وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه ... بما مسه في الله لا يتوجع وقد ظهر منه صلّى الله عليه وسلّم من الشجاعة في تلك الوقعة ما أبهر العقول وقطع لأجله أصحابه رضي الله تعالى عنهم بأنه عليه الصلاة والسلام أشجع الناس، وكان يقول إذ ذاك غير مكترث بأعداء الله تعالى: أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب واختار ركوب البغلة إظهارا لثباته الذي لا ينكره إلا الحمار وإنه عليه الصلاة والسلام لم يخطر بباله مفارقة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 267 القتال فقال للعباس وكان صيّتا: «صح بالناس» فناد يا عباد الله، يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة، فكروا عنقا واحدا لهم حنين يقولون: لبيك لبيك، ونزلت الملائكة فالتقوا مع المشركين، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «هذا حين حمي الوطيس» ثم أخذ كفّا من تراب فرماهم ثم قال صلّى الله عليه وسلّم: «انهزموا ورب الكعبة» فانهزموا، وتفصيل القصة على أتم وجه في كتب السير فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ أي لم تنفعكم تلك الكثرة شَيْئاً من النفع في أمر العدو أو لم تعطكم شيئا يدفع حاجتكم وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ أي برحبها وسعتها على أن «ما» مصدرية والباء للملابسة والمصاحبة أي ضاقت مع سعتها عليكم. وفيه استعارة تبعية إما لعدم وجدان مكان يقرون به مطمئنين أو أنهم لا يجلسون في مكان كما لا يجلس في المكان الضيق ثُمَّ وَلَّيْتُمْ أي الكفار ظهوركم على أن ولى متعدية إلى مفعولين كما في قوله سبحانه: فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ [الأنفال: 15] ويدل عليه كلام الراغب، وزعم بعضهم أنه لا حاجة إلى تقدير مفعولين لما في القاموس ولى تولية أدبر بل لا وجه له عند بعض وليس بشيء، والاعتماد على كلام الراغب في مثل ذلك أرغب عند المحققين بل قيل: إن كلام القاموس ليس بعمدة في مثله، وقوله تعالى: مُدْبِرِينَ حال مؤكدة وهو من الإدبار بمعنى الذهاب إلى خلف والمراد منهزمين. ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ أي رحمته التي تسكن بها القلوب وتطمئن اطمئنانا كليا مستتبعا للنصر القريب، وأما مطلق السكينة فقد كانت حاصلة له صلّى الله عليه وسلّم وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ عطف على رسوله وإعادة الجار للايذان بالتفاوت، والمراد بهم الذين انهزموا، وفيه دلالة على أن الكبيرة لا تنافي الإيمان. وعن الحسن أنهم الذين ثبتوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: المراد ما يعم الطائفتين ولا يخلو عن حسن، ولا ضير في تحقق أصل السكينة في الثابتين من قبل، وفسر بعضهم السكينة بالأمان وهو له صلّى الله عليه وسلّم بمعاينة الملائكة عليهم السلام ولمن معه بظهور علامات ذلك وللمنهزمين بزوال قلقهم واضطرابهم باستحضار إن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن أو نحو ذلك، والظاهر أن ثُمَّ في محلها للتراخي بين الانهزام وإنزال السكينة على هذا الوجه. وقيل: إذا أريد من المؤمنين المنهزمون فهي على محلها، وإن أريد الثابتون يكون التراخي في الاخبار أو باعتبار مجموع هذا الانزال وما عطف عليه، وجعلها للتراخي الرتبي بعيد وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها بأبصاركم كما يرى بعضكم بعضا وهم الملائكة عليهم السلام على خيول بلق عليهم البياض، وكون المراد لم تروا مثلها قبل ذلك خلاف الظاهر ولم نر في الآثار ما يساعده، واختلف في عددهم فقيل: ثمانية آلاف لقوله تعالى: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ [آل عمران: 124] مع قوله سبحانه بعد: يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ [آل عمران: 125] وقيل: خمسة آلاف للآية الثانية والثلاثة الأولى داخلة في هذه الخمسة، وقيل: ستة عشر ألفا بعدد العسكرين اثنا عشر ألفا عسكر المسلمين وأربعة آلاف عسكر المشركين، وكذا اختلفوا في أنهم قاتلوا في هذه الوقعة أم لا، والجمهور على أن الملائكة لم يقاتلوا إلا يوم بدر. وإنما نزلوا لتقوية قلوب المؤمنين بإلقاء الخواطر الحسنة وتأييدهم بذلك وإلقاء الرعب في قلوب المشركين. فعن سعيد بن المسيب قال حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال: لما كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم فلما انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء تلقانا رجال بيض الوجوه فقالوا: شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا فركبوا أكتافنا. واحتج من قال: إنهم قاتلوا بما روي أن رجلا من المشركين قال لبعض المؤمنين بعد القتال: أين الخيل البلق والرجال عليهم ثياب بيض؟ ما كنا نراهم فيكم إلا كهيئة الشامة وما كان قتلنا إلا بأيديهم فأخبر بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 268 فقال عليه الصلاة والسلام: «تلك الملائكة» وليس له سند يعول عليه وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالقتل والأسر والسبي وَذلِكَ أي ما فعل بهم مما ذكر جَزاءُ الْكافِرِينَ لكفرهم في الدنيا ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ التعذيب عَلى مَنْ يَشاءُ أن يتوب عليه منهم لحكمة تقتضيه والمراد يوفقه للإسلام وَاللَّهُ غَفُورٌ يتجاوز عما سلف منهم من الكفر والمعاصي رَحِيمٌ يتفضل عليهم ويثيبهم بلا وجوب عليه سبحانه. روى البخاري عن المسور بن مخرمة أن أناسا منهم جاؤوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبايعوه على الإسلام وقالوا: يا رسول الله أنت خير الناس وأبر الناس وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا، وقد سبي يومئذ ستة آلاف نفس وأخذ من الإبل والغنم ما لا يحصى فقال عليه الصلاة والسلام: إن عندي ما ترون إن خير القول أصدقه اختاروا إما ذراريكم ونساءكم وإما أموالكم قالوا: ما كنا نعدل بالاحساب شيئا فقام النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن هؤلاء جاؤونا مسلمين وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالاحساب شيئا فمن كان بيده شيء وطابت به نفسه أن يرده فشأنه ومن لا فليعطنا وليكن قرضا علينا حتى نصيب شيئا فنعطيه مكانه قالوا: قد رضينا وسلمنا، فقال عليه الصلاة والسلام: إنا لا ندري لعل فيكم من لا يرضى فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا فرفعت إليه صلّى الله عليه وسلّم العرفاء أنهم قد رضوا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ أخبر عنهم بالمصدر للمبالغة كأنهم عين النجاسة، أو المراد ذوو نجس لخبث بواطنهم وفساد عقائدهم أو لأن معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس أو لأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات فهي ملابسة لهم، وجوز أن يكون نَجَسٌ صفة مشبهة وإليه ذهب الجوهري، ولا بد حينئذ من تقدير موصوف مفرد لفظا مجموع معنى ليصح الاخبار به عن الجمع أي جنس نجس ونحوه، وتخريج الآية على أحد الأوجه المذكورة هو الذي يقتضيه كلام أكثر الفقهاء حيث ذهبوا إلى أن أعيان المشركين طاهرة ولا فرق بين عبدة الأصنام وغيرهم من أصناف الكفار في ذلك. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من صافح مشركا فليتوضأ أو ليغسل كفيه» . وأخرج ابن مردويه عن هشام بن عروة عن أبيه عن جده قال: «استقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جبريل عليه السلام فناوله يده فأبى أن يتناولها فقال: يا جبريل ما منعك أن تأخذ بيدي؟ فقال: إنك أخذت بيد يهودي فكرهت أن تمس يدي يدا قد مستها يد كافر فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بماء فتوضأ فناوله يده فتناولها» وإلى ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مال الإمام الرازي وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية ولا يعدل عنه إلا بدليل منفصل. قيل: وعلى ذلك فلا يحل الشرب من أوانيهم ولا مؤاكلتهم ولا لبس ثيابهم لكن صح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم والسلف خلافه، واحتمال كونه قبل نزول الآية فهو منسوخ بعيد، والاحتياط لا يخفى. والاستدلال على طهارتهم بأن أعيانهم لو كانت نجسة ما أمكن بالإيمان طهارتها إذ لا يعقل كون الإيمان مطهرا، ألا ترى أن الخنزير لو قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله لا يطهر، وإنما يطهر نجس العين بالاستحالة على قول من يرى ذلك وعين الكافر لم تستحل بالإيمان عينا أخرى ليس بشيء وإن ظنه من تهوله القعقعة شيئا، لأن الطهارة والنجاسة أمران تابعان لما يفهم من كلام الشارع عليه الصلاة والسلام وليستا مربوطتين بالاستحالة وعدمها فإذا فهم منه نجاسة شيء في وقت وطهارته في وقت آخر أو ما بالعكس كما في الخمر اتبع وإن لم يكن هناك استحالة وذلك ظاهر. وقرأ ابن السميفع «أنجاس» على صيغة الجمع. وقرأ أبو حيوة «نجس» بكسر النون وسكون الجيم وهو تخفيف نجس ككبد في كبد، ويقدر حينئذ موصوف كما قررناه آنفا فيما قاله الجوهري، وأكثر ما جاء هذا اللفظ تابعا لرجس، وقول الفراء وتبعه الحريري في درته إنه لا يجوز ذلك بغير إتباع ترده هذه القراءة إذ لا إتباع فيها فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ تفريع على نجاستهم والمراد النهي عن الدخول إلا أنه نهى عن القرب للمبالغة. وأخرج عبد الرزاق والنحاس عن عطاء أنهم نهوا عن دخول الحرم كله فيكون المنع من قرب نفس المسجد على ظاهره، وبالظاهر أخذ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 269 أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه إذ صرف المنع عن دخول الحرم إلى المنع من الحج والعمرة، ويؤيده قوله تعالى: بَعْدَ عامِهِمْ هذا فإن تقييد النهي بذلك يدل على اختصاص المنهي عنه بوقت من أوقات العام أي لا يحجوا ولا يعتمروا بعد حج عامهم هذا وهو عام تسعة من الهجرة حين أمر أبو بكر رضي الله تعالى عنه على الموسم ويدل عليه نداء علي كرم الله تعالى وجهه يوم نادى ببراءة ألا لا يحج بعد عامنا هذا مشرك وكذا قوله سبحانه: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً أي فقرا بسبب منعهم لما أنهم كانوا يأتون في الموسم بالمتاجر فإنه إنما يكون إذا منعوا من دخول الحرم كما لا يخفى. والحاصل أن الإمام الأعظم يقول بالمنع عن الحج والعمرة ويحمل النهي عليه ولا يمنعون من دخول المسجد الحرام وسائر المساجد عنده، ومذهب الشافعي وأحمد ومالك رضي الله تعالى عنه- كما قال الخازن- أنه لا يجوز للكافر ذميا كان أو مستأمنا أن يدخل المسجد الحرام بحال من الأحوال فلو جاء رسول من دار الكفر والإمام فيه لم يأذن له في دخوله بل يخرج إليه بنفسه أو يبعث إليه من يسمع رسالته خارجه، ويجوز دخوله سائر المساجد عند الشافعي عليه الرحمة، وعن مالك كل المساجد سواء في منع الكافر عن دخولها وزعم بعضهم أن المنع في الآية إنما هو عن تولي المسجد الحرام والقيام بمصالحه وهو خلاف الظاهر جدا والظاهر النهي على ما علمت، وكون العلة فيه نجاستهم إن لم نقل بأنها ذاتية لا يقتضي جواز الفعل ممن اغتسل ولبس ثيابا طاهرة لأن خصوص العلة لا يخصص الحكم كما في الاستبراء، والكلام على حد- لا أرينك هنا- فهو كناية عن نهي المؤمنين عن تمكينهم مما ذكر بدليل أن ما قبل وما بعد خطاب للمؤمنين، ومن حمله على ظاهره استدل به على أن الكفار مخاطبون بالفروع حيث إنهم نهوا فيه والنهي من الأحكام وكونهم لا ينزجرون به لا يضر بعد معرفة معنى مخاطبتهم بها. يروى أنه لما جاء النهي شق ذلك على المؤمنين وقالوا: من يأتينا بطعامنا وبالمتاع فأنزل الله سبحانه وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أي عطائه أو تفضيله بوجه آخر فمن على الأول ابتدائية أو تبعيضية وعلى الثاني سببية، وقد أنجز الله تعالى وعده بأن أرسل السماء عليهم مدرارا ووفق أهل نجد وتبالة وجرش فأسلموا وحملوا إليهم الطعام وما يحتاجون إليه في معاشهم ثم فتح عليهم البلاد والغنائم وتوجه إليهم الناس من كل فج عميق، وعن ابن جبير أنه فسر الفضل بالجزية، ويؤيد بأن الأمر الآتي شاهد له وما ذكرناه أولى وأمر الشهادة هين وقرىء «عائلة» على أنه إما مصدر كالعاقبة والعافية أو اسم فاعل صفة لموصوف مؤنث مقدرا أي حالا عائلة أي مفتقرة وتقييد الإغناء بقوله سبحانه: إِنْ شاءَ ليس للتردد ليشكل بأنه لا يناسب المقام وسبب النزول بل لبيان أن ذلك بإرادته لا سبب له غيرها حتى ينقطعوا إليه سبحانه ويقطعوا النظر عن غيره، وفيه تنبيه على أنه سبحانه متفضل بذلك الإغناء لا واجب عليه عزّ وجلّ لأنه لو كان بالإيجاب لم يوكل إلى المشيئة، وجوز أن يكون التقييد لأن الإغناء ليس مطردا بحسب الافراد والأحوال والأوقات إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بأحوالكم ومصالحكم حَكِيمٌ فيما يعطى ويمنع قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ أمر بقتال أهل الكتابين إثر أمرهم بقتال المشركين ومنعهم من أن يحوموا حول المسجد الحرام، وفي تضاعيفه تنبيه لهم على بعض طرق الإغناء الموعود، والتعبير عنهم بالموصول للايذان بعلية ما في حيز الصلة للأمر بالقتال وبانتظامهم بسبب ذلك في سلك المشركين وإيمانهم الذي يزعمونه ليس على ما ينبغي فهو كلا إيمان وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أي ما ثبت تحريمه بالوحي متلو وغير متلو، فالمراد بالرسول نبينا صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: المراد به رسولهم الذي يزعمون اتباعه فانهم بدلوا شريعته وأحلوا وحرموا من عند أنفسهم اتباعا لأهوائهم فيكون المراد لا يتبعون شريعتنا ولا شريعتهم، ومجموع الأمرين سبب لقتالهم وإن كان التحريف بعد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 270 النسخ ليس علة مستقلة وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ أي الدين الثابت فالإضافة من إضافة الصفة إلى الموصوف. والمراد به دين الإسلام الذي لا ينسخ بدين كما نسخ كل دين به، وعن قتادة أن المراد بالحق هو الله تعالى وبدينه الإسلام، وقيل: ما يعمه وغيره أي لا يدينون بدين من الأديان التي أنزلها سبحانه على أنبيائه وشرعها لعباده والإضافة على هذا على ظاهرها مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي جنسه الشامل للتوراة والإنجيل ومِنَ بيانية لا تبعيضية حتى يكون بعضهم على خلاف ما نعت حَتَّى يُعْطُوا أي يقبلوا أن يعطوا الْجِزْيَةَ أي ما تقرر عليهم أن يعطوه، وهي مشتقة من جزى دينه أي قضاه أو من جزيته بما فعل أي جازيته لأنهم يجزون بها من عليهم بالعفو عن القتل. وفي الهداية أنها جزاء الكفر فهي من المجازاة، وقيل: أصلها الهمز من الجزء والتجزئة لأنها طائفة من المال يعطى، وقال الخوارزمي: إنها معرب- كزيت- وهو الخراج بالفارسية وجمعها جزى كلحية ولحى عَنْ يَدٍ يحتمل أن يكون حالا من الضمير في يُعْطُوا وأن يكون حالا من الجزية، واليد تحتمل أن تكون اليد المعطية وأن تكون اليد الآخذة وعَنْ تحتمل السببية وغيرها أي يعطوا الجزية عن يد مؤاتية أي منقادين أو مقرونة بالانقياد أو عن يدهم أي مسلمين أو مسلمة بأيديهم لا بأيدي غيرهم من وكيل أو رسول لأن القصد فيها التحقير وهذا ينافيه ولذا منع من التوكيل شرعا أو عن غنى أي أغنياء أو صادرة عنه ولذلك لا تؤخذ من الفقير العاجز أو عن قهر وقوة أي أذلاء عاجزين. أو مقرونة بالذل أو عن إنعام عليهم فإن إبقاء مهجهم بما بذلوا من الجزية نعمة عظيمة أي منعما عليهم أو كائنة عن إنعام عليهم أو نقدا أي مسلمة عن يد إلى يد أو مسلمين نقدا، واستعمال اليد بمعنى الانقياد إما حقيقة أو كناية، ومنه قول عثمان رضي الله تعالى عنه، هذي يدي لعمار أي أنا منقاد مطيع له، واستعمالها بمعنى الغنى لأنها تكون مجازا عن القدرة المستلزمة له، واستعمالها بمعنى الانعام وكذا النعمة شائع ذائع، وأما معنى النقدية فلشهرة يدا بيد في ذلك، ومنه حديث أبي سعيد الخدري في الربا، وما في الآية يؤول إليه كما لا يخفى على من له اليد الطولى في المعاني والبيان. وتفسير اليد هنا بالقهر والقوة أخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة، وأخرج عن سفيان بن عيينة ما يدل على أنه حملها على ما يتبادر منها طرز ما ذكرناه في الوجه الثاني، وسائر الأوجه ذكرها غير واحد من المفسرين، وغاية القتال ليس نفس هذا الإعطاء بل قبوله كما أشير إليه وبذلك صرح جمع من الفقهاء حيث قالوا: إنهم يقاتلون إلى أن يقبلوا الجزية، وإنما عبروا بالإعطاء لأنه المقصود من القبول وَهُمْ صاغِرُونَ أي أذلاء وذلك بأن يعطوها قائمين والقابض منهم قاعد قاله عكرمة، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تؤخذ الجزية من الذمي ويوجأ عنقه، وفي رواية أنه يؤخذ بتلبيبه ويهز هزا ويقال: أعط الجزية يا ذمي، وقيل: هو أن يؤخذ بلحيته وتضرب لهزمته، ويقال: أد حق الله تعالى يا عدو الله. ونقل عن الشافعي أن الصغار هو جريان أحكام المسلمين عليهم، وكل الأقوال لم نر اليوم لها أثرا لأن أهل الذمة فيه قد امتازوا على المسلمين والأمر لله عزّ وجلّ بكثير حتى إنه قبل منهم إرسال الجزية على يد نائب منهم، وأصح الروايات أنه لا يقبل ذلك منهم بل يكلفون أن يأتوا بها بأنفسهم مشاة غير راكبين وكل ذلك من ضعف الإسلام عامل الله تعالى من كان سببا له بعدله، وهي تؤخذ عند أبي حنيفة من أهل الكتاب مطلقا ومن مشركي العجم والمجوس لا من مشركي العرب لأن كفرهم قد تغلظ لما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نشأ بين أظهرهم وأرسل إليهم وهو عليه الصلاة والسلام من أنفسهم ونزل القرآن بلغتهم وذلك من أقوى البواعث على إيمانهم فلا يقبل منهم إلا السيف أو الإسلام زيادة في العقوبة عليهم مع اتباع الوارد في ذلك، فلا يرد أن أهل الكتاب قد تغلظ كفرهم أيضا لأنهم عرفوا النبي صلّى الله عليه وسلّم معرفة تامة ومع ذلك أنكروه وغيروا اسمه ونعته من الكتاب، وعند أبي يوسف لا تؤخذ من العربي كتابيا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 271 كان أو مشركا وتؤخذ من العجمي كتابيا كان أو مشركا. وأخذها من المجوس إنما ثبت بالسنة، فقد صح أن عمر رضي الله تعالى عنه لم يأخذها منهم حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخذها من مجوس هجر، وقال الشافعي: رضي الله تعالى عنه إنها تؤخذ من أهل الكتاب عربيا كان أو عجميا ولا تؤخذ من أهل الأوثان مطلقا لثبوتها في أهل الكتاب بالكتاب وفي المجوس بالخبر فبقي من وراءهم على الأصل. ولنا أنه يجوز استرقاقهم وكل من يجوز استرقاقه يجوز ضرب الجزية عليه إذا كان من أهل النصرة لأن كل واحد منهما يشتمل على سلب النفس أما الاسترقاق فظاهر لأن نفع الرقيق يعود إلينا جملة. وأما الجزية فلأن الكافر يؤديها من كسبه والحال أن نفقته في كسبه فكان أداء كسبه الذي هو سبب حياته إلى المسلمين راتبة في معنى أخذ النفس منه حكما، وذهب مالك والأوزاعي إلى أنها تؤخذ من جميع الكفار ولا تؤخذ عندنا من امرأة ولا صبي ولا زمن ولا أعمى، وكذلك المفلوج والشيخ، وعن أبي يوسف أنها تؤخذ منه إذا كان له مال ولا من فقير غير معتمل خلافا للشافعي ولا من مملوك ومكاتب ومدبر، ولا تؤخذ من الراهبين الذين لا يخالطون الناس كما ذكره بعض أصحابنا، وذكر محمد عن أبي حنيفة أنها تؤخذ منهم إذا كانوا يقدرون على العمل وهو قول أبي يوسف. ثم إنها على ضربين جزية توضع بالتراضي والصلح فتقدر بحسب ما يقع عليه الاتفاق كما صالح صلّى الله عليه وسلّم بني نجران على ألف ومائتي حلة ولأن الموجب التراضي فلا يجوز التعدي إلى غير ما وقع عليه. وجزية يبتدىء الإمام بوضعها إذا غلب على الكفار وأقرهم على أملاكهم فيضع على الغني الظاهر الغنى في كل سنة ثمانية وأربعين درهما يؤخذ في كل شهر منه أربعة دراهم، وعلى الوسط الحال أربعة وعشرين في كل شهر درهمين وعلى الفقير المعتمل وهو الذي يقدر على العمل وإن لم يحسن حرفة اثني عشر درهما في كل شهر درهما، والظاهر أن مرجع الغنى وغيره إلى عرف البلد. وبذلك صرح به الفقيه أبو جعفر، وإلى ما ذهبنا إليه من اختلافها غنى وفقرا وتوسطا ذهب عمر وعلي وعثمان رضي الله تعالى عنهم. ونقل عن الشافعي أن الإمام يضع على كل حالم دينارا أو ما يعدله والغني والفقير في ذلك سواء، لما أخرجه ابن أبي شيبة عن مسروق أنه صلّى الله عليه وسلّم لما بعث معاذا إلى اليمن قال له: خذ من كل حالم دينارا أو عدله معافر ولم يفصل عليه الصلاة والسلام، وأجيب عنه بأنه محمول على أنه كان صلحا. ويؤيده ما في بعض الروايات من كل حالم وحالمة لأن الجزية لا تجب على النساء، والأصح عندنا أن الوجوب أول الحول لأن ما وجب بدلا عنه لا يتحقق إلا في المستقبل فتعذر إيجابه بعد مضي الحول فأوجبناها في أوله، وعن الشافعي أنها تجب في آخره اعتبارا بالزكاة. وتعقبه الزيلعي بأنه لا يلزمنا الزكاة لأنها وجبت في آخر الحول ليتحقق النماء فهي لا تجب إلا في المال النامي ولا كذلك الجزية فالقياس غير صحيح، واقتضى- كما قال الجصاص- في أحكام القرآن وجوب قتل من ذكر في الآية إلى أن تؤخذ منهم الجزية على وجه الصغار والذلة أنه لا يكون لهم ذمة إذا تسلطوا على المسلمين بالولاية ونفاذ الأمر والنهي لأن الله سبحانه إنما جعل لهم الذمة بإعطاء الجزية وكونهم صاغرين فواجب على هذا قتل من تسلط على المسلمين بالغضب وأخذ الضرائب بالظلم وإن كان السلطان ولاه ذلك وإن فعله بغير إذنه وأمره فهو أولى وهذا يدل على أن هؤلاء اليهود والنصارى الذين يتولون أعمال السلطان وأمرائه ويظهر منهم الظلم والاستعلاء وأخذ الضرائب لا ذمة لهم وأن دماءهم مباحة ولو قصد مسلم مسلما لأخذ ماله أبيح قتله في بعض الوجوه فما بالك بهؤلاء الكفرة أعداء الدين. وقد أفتى فقهاؤنا بحرمة توليتهم الأعمال لثبوت ذلك بالنص، وقد ابتلي الحكام بذلك حتى احتاج الناس إلى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 272 مراجعتهم بل تقبيل أيديهم كما شاهدناه مرارا، وما كل ما يعلم يقال فإنا لله وإنا إليه راجعون. هذا وقد استشكل أخذ الجزية من هؤلاء الكفرة بأن كفرهم من أعظم الكفر فكيف يقرون عليه بأخذ دراهم معدودات. وأجاب القطب بأن المقصود من أخذ الجزية ليس تقريرهم على الكفر بل امهال الكافر مدة ربما يقف فيها على محاسن الإسلام وقوة دلائله فيسلم، وقال الاتقاني: إن الجزية ليست بدلا عن تقرير الكفر وإنما هي عوض عن القتل والاسترقاق الواجبين فجازت كإسقاط القصاص بعوض، أو هي عقوبة على الكفر كالاسترقاق، والشق الأول أظهر حيث يوهم الثاني جواز وضع الجزية على النساء ونحوهن. وقد يجاب بأنها بدل عن النصرة للمقاتلة منا، ولهذا تفاوتت لأن كل من كان من أهل دار الإسلام يجب عليه النصرة للدار بالنفس والمال، وحيث إن الكافر لا يصلح لها لميله إلى دار الحرب اعتقادا أقيمت الجزية المأخوذة المصروفة إلى الغزاة مقامها، ولا يرد أن النصرة طاعة وهذه عقوبة فكيف تكون العقوبة خلفا عن الطاعة لما في النهاية من أن الخليفة عن النصرة في حق المسلمين لما في ذلك من زيادة القوة لهم وهم يثابون على تلك الزيادة الحاصلة بسبب أموالهم، وهذا بمنزلة ما لو أعاروا دوابهم للغزاة. ومن هنا تعلم أن من قال: إنها بدل عن الإقرار على الكفر فقد توهم وهما عظيما وَقالَتِ الْيَهُودُ استئناف سيق لتقرير ما مر من عدم إيمان أهل الكتابين بالله سبحانه وانتظامهم بذلك في المشركين، والقائل عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ متقدمو اليهود ونسبة الشيء القبيح إذا صدر من بعض القوم إلى الكل مما شاع، وسبب ذلك على ما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن عزيرا كان في أهل الكتاب وكانت التوراة عندهم يعملون بها ما شاء الله تعالى أن يعملوا ثم أضاعوها وعملوا بغير الحق وكان التابوت عندهم. فلما رأى الله سبحانه وتعالى أنهم قد أضاعوا التوراة وعملوا بالأهواء رفع عنهم التابوت وأنساهم التوراة ونسخها من صدورهم فدعا عزير ربه عزّ وجلّ وابتهل أن يرد إليه ما نسخ من صدره. فبينما هو يصلي مبتهلا إلى الله عزّ وجلّ نزل نور من الله تعالى فدخل جوفه فعاد الذي كان ذهب من جوفه من التوراة فأذن في قومه فقال: يا قوم قد آتاني الله تعالى التوراة وردها إلي فطفق يعلمهم فمكثوا ما شاء الله تعالى أن يمكثوا وهو يعلمهم. ثم إن التابوت نزل عليهم بعد ذهابه منهم فعرضوا ما كان فيه على الذي كان عزير يعلمهم فوجدوه مثله فقالوا: والله ما أوتي عزير هذا إلا لأنه ابن الله سبحانه. وقال الكلبي في سبب ذلك: إن بختنصر غزا بيت المقدس وظهر على بني إسرائيل وقتل من قرأ التوراة وكان عزير إذ ذاك صغيرا فلم يقتله لصغره فلما رجع بنو إسرائيل إلى بيت المقدس وليس فيهم من يقرأ التوراة بعث الله تعالى عزيرا ليجدد لهم التوراة وليكون آية لهم بعد ما أماته الله تعالى مائة سنة فأتاه ملك بإناء فيه ماء فشرب منه فمثلت له التوراة في صدره فلما أتاهم قال: أنا عزير فكذبوه وقالوا: إن كنت كما تزعم فأمل علينا التوراة فكتبها لهم من صدره. فقال رجل منهم: إن أبي حدثني عن جدي أنه وضعت التوراة في خابية ودفنت في كرم فانطلقوا معه حتى أخرجوها فعارضوها بما كتب لهم عزير فلم يجدوه غادر حرفا فقالوا: إن الله تعالى لم يقذف التوراة في قلب عزير إلا لأنه ابنه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وروي غير ذلك ومرجع الروايات إلى أن السبب حفظه عليه السلام للتوراة، وقيل: قائل ذلك جماعة من يهود المدينة منهم سلام بن مشكم، ونعمان بن أبي أوفى، وشاس بن قيس، ومالك بن الصيف. أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ، وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أن عزيرا ابن الله؟. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أن قائل ذلك فنحاص بن عازوراء وهو على ما جاء في بعض الروايات القائل: «إن الله فقير ونحن أغنياء» . وبالجملة إن هذا القول كان شائعا فيهم ولا عبرة بإنكارهم له أصلا وبقول بعضهم: إن الواقع قولنا عزير أبان الله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 273 أي أوضح أحكامه وبين دينه أو نحو ذلك بعد أن أخبر الله سبحانه وتعالى بما أخبر. وقرأ عاصم والكسائي ويعقوب وسهل «عزير» بالتنوين والباقون بتركه أما التنوين فعلى أنه اسم عربي مخبر عنه بابن وقال أبو عبيدة: إنه أعجمي لكنه صرف لخفته بالتصغير كنوح ولوط وإلى هذا ذهب الصغاني وهو مصغر عزار تصغير ترخيم، والقول بأنه أعجمي جاء على هيئة المصغر وليس به فيه نظر. وأما حذف التنوين فقيل لالتقاء الساكنين فإن نون التنوين ساكنة والباء في ابن ساكنة أيضا فالتقى الساكنان فحذفت النون له كما يحذف حروف العلة لذلك، وهو مبني على تشبيه النون بحرف اللين وإلا فكان القياس تحريكها، وهو مبتدأ وابن خبره أيضا ولذا رسم في جميع المصاحف بالألف وقيل: لأنه ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة، وقيل: لأن الابن وصف والخبر محذوف مثل معبودنا. وتعقب بأنه تمحل عنه مندوحة ورده الشيخ في دلائل الاعجاز بأن الاسم إذا وصف بصفة ثم أخبر عنه فمن كذبه انصرف تكذيبه إلى الخبر وصار ذلك الوصف مسلما، فلو كان المقصود بالإنكار قولهم عزير ابن الله معبودنا لتوجه الإنكار إلى كونه معبودا لهم وحصل تسليم كونه ابنا لله سبحانه وذلك كفر. واعترض عليه الإمام قائلا: إن قوله يتوجه الإنكار إلى الخبر مسلم لكن قوله: يكون ذلك تسليما للوصف ممنوع لأنه لا يلزم من كونه مكذبا لذلك الخبر كونه مصدقا لذلك الوصف إلا أن يقال: ذلك بالخبر يدل على أن ما سواه لا يكذبه وهو مبني على دليل الخطاب وهو ضعيف. وأجاب بعضهم بأن الوصف للعلية فإنكار الحكم يتضمن إنكار علته. وفيه أن إنكار الحكم قد يحتمل أن يكون بواسطة عدم الإفضاء لا لأن الوصف كالأبنية مثلا منتف. وفي الإيضاح أن القول بمعنى الوصف وأراد أنه لا يحتاج إلى تقدير الخبر كما أن أحدا إذا قال مقالة ينكر منها البعض فحكيت منها المنكر فقط، وهو كما في الكشف وجه حسن في رفع التمحل لكنه خلاف الظاهر كما يشهد له آخر الآية. وقال بعض المحققين: إنه يحتمل أن يكون عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ خبر مبتدأ محذوف أي صاحبنا عزير ابن الله مثلا، والخبر إذا وصف توجه الإنكار إلى وصفه نحو هذا الرجل العاقل وهذا موافق للبلاغة وجاء على وفق العربية من غير تكلف ولا غبار، ولم يظهر لي وجه تركه مع ظهوره، والظاهر أن التركيب خبر ولا حذف هناك، واختلف في عزير هل هو نبي أم لا والأكثرون على الثاني وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ هو أيضا قول بعضهم، ولعلهم إنما قالوه لاستحالة أن يكون ولد من غير أب أو لأنهم رأوا من أفعاله ما رأوا. ويحتمل- وهو الظاهر عندي- أنهم وجدوا إطلاق الابن عليه عليه السلام وكذا إطلاق الأب على الله تعالى فيما عندهم من الإنجيل فقالوا ما قالوا وأخطأوا في فهم المراد من ذلك. وقد قدمنا من الكلام ما فيه كفاية في هذا المقام. ومن الغريب- ولا يكاد يصح- ما قيل: إن السبب في قولهم هذا أنهم كانوا على الدين الحق بعد رفع عيسى عليه السلام إحدى وثمانين سنة يصلون ويصومون ويوحدون حتى وقع بينهم وبين اليهود حرب وكان في اليهود رجل شجاع يقال له بولص قتل جماعة منهم ثم قال لليهود: إن كان الحق مع عيسى عليه السلام فقد كفرنا والنار مصيرنا ونحن مغبونون إن دخلنا النار ودخلوا الجنة وإني سأحتال عليهم وأضلهم حتى يدخلوا النار معنا ثم إنه عمد إلى فرس يقاتل عليه فعقره وأظهر الندامة والتوبة ووضع التراب على رأسه وأتى النصارى فقالوا له من أنت فقال: عدوكم بولص قد نوديت من السماء أنه ليست لك توبة حتى تتنصر وقد تبت وأتيتكم فأدخلوه الكنيسة ونصروه ودخل بيتا فيها فلم يخرج منه سنة حتى تعلم الإنجيل ثم خرج وقال: قد نوديت أن الله تعالى قد قبل توبتك فصدقوه وأحبوه وعلا شأنه فيهم، ثم إنه عمد إلى ثلاثة رجال منهم نسطور، ويعقوب، وملكا فعلم نسطور أن الإله ثلاثة: الله، وعيسى، ومريم تعالى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 274 الله عن ذلك، وعلم يعقوب أن عيسى ليس بإنسان ولكنه ابن الله سبحانه، وعلم ملكا أن عيسى هو الله تعالى لم يزل ولا يزال فلما استمكن ذلك منهم دعا كل واحد منهم في الخلوة وقال له: أنت خالصتي فادع الناس إلى ما علمتك وأمره أن يذهب إلى ناحية من البلاد، ثم قال لهم: إني رأيت عيسى عليه السلام في المنام، وقد رضي عني وأنا ذابح نفسي تقربا إليه ثم ذهب إلى المذبح فذبح نفسه، وتفرق أولئك الثلاثة فذهب واحد منهم إلى الروم. وواحد إلى بيت المقدس. والآخر إلى ناحية أخرى وأظهر كل مقالته ودعا الناس إليها فتبعه من تبعه وكان ما كان من الاختلال والضلال ذلِكَ أي ما صدر عنهم من العظيمتين قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ أي أنه قول لا يعضده برهان مماثل للألفاظ المهملة التي لا وجود لها إلا في الأفواه من غير أن يكون لها مصداق في الخارج، وقيل: هو تأكيد لنسبة القول المذكور إليهم ونفي التجوز عنها وهو الشائع في مثل ذلك، وقيل: أريد بالقول الرأي والمذهب، وذكر الأفواه إما للإشارة إلى أنه لا أثر له في قلوبهم وإنما يتكلمون به جهلا وعنادا وإما للاشعار بأنه مختار لهم غير متحاشين عن التصريح به فإن الإنسان ربما ينبه على مذهبه بالكتابة أو بالكناية مثلا فإذا صرح به وذكره بلسانه كان ذلك الغاية في اختياره، وادعى غير واحد أن جعل ذلك من باب التأكيد كما في قولك: رأيته بعيني وسمعته بأذني مثلا مما يأباه المقام، ولو كان المراد به التأكيد مع التعجيب من تصريحهم بتلك المقالة الفاسدة لا ينافيه المقام ولا تزاحم في النكات يُضاهِؤُنَ أي يضاهي قولهم في الكفر والشناعة قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وصير مرفوعا، ويحتمل أن يكون من باب التجوز كما قيل في قوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ [يوسف: 52] لا يهديهم في كيدهم، فالمراد يضاهئون في قولهم قول الذين كفروا مِنْ قَبْلُ أي من قبلهم وهم كما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة واختاره الفراء: المشركون الذين قالوا: الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى عما يقولون، وقيل: المراد بهم قدماؤهم فالمضاهي من كان في زمنه عليه الصلاة والسلام منهم لقدمائهم وأسلافهم، والمراد الإخبار بعراقتهم في الكفر. وأنت تعلم أنه لا تعدد في القول حتى يتأتى التشبيه، وجعله بين قولي الفريقين ليس فيه مزيد مزية، وقيل: المراد بهم اليهود على أن الضمير للنصارى، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر وإن أخرجه ابن المنذر وغيره عن قتادة مع أن مضاهاتهم قد علمت من صدر الآية، ويستدعي أيضا اختصاص الرد والابطال بقوله تعالى: ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ بقول النصارى، وقرأ الأكثر «يضاهون» بهاء مضمومة بعدها واو، وقد جاء ضاهيت وضاهأت بمعنى من المضاهاة وهي المشابهة وبذلك فسرها ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وعن الحسن تفسيرها بالموافقة وهما لغتان، وقيل: الياء فرع عن الهمزة كما قالوا قريت وتوضيت، وقيل: الهمزة بدل من الياء لضمها. ورد بأن الياء لا تثبت في مثله حتى تقلب بل تحذف كرامون من الرمي، وقيل: إنه مأخوذ من قولهم: امرأة ضهيا بالقصر وهي لا ثدي لها أو لا تحيض أو لا تحمل لمشابهتها الرجال، ويقال: ضهياء بالمد كحمراء وضهياءة بالمد وتاء التأنيث وشذ فيه الجمع بين علامتي التأنيث، وتعقب بأنه خطأ لاختلاف المادتين فإن الهمزة في ضهياء على لغاتها الثلاث زائدة وفي المضاهاة أصلية ولم يقولوا: إن همزة ضهياء أصلية وياءها زائدة لأن فعيلاء لم يثبت في أبنيتهم، ولم يقولوا وزنها فعلل كجعفر لأنه ثبت زيادة الهمزة في ضهياء بالمد فتتعين في اللغة الأخرى، وفي هذا المقام كلام مفصل في محله. ومن الناس من جوز الوقف على قَوْلُهُمْ وجعل بِأَفْواهِهِمْ متعلقا بيضاهئون ولا توقف في أنه ليس بشيء، وفي الجملة ذم للذين كفروا على أبلغ وجه وإن لم تسق لذمهم قاتَلَهُمُ اللَّهُ دعاء عليهم بالإهلاك فإن من قاتل الله تعالى فمقتول ومن غالبه فمغلوب. وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أن المعنى لعنهم الله وهو معنى مجازي لقاتلهم، ويجوز أن يكون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 275 المراد من هذه الكلمة التعجب من شناعة قولهم فقد شاعت في ذلك حتى صارت تستعمل في المدح فيقال: قاتله الله تعالى ما أفصحه. وقيل: هي للدعاء والتعجب يفهم من السياق لأنها كلمة لا تقال إلا في موضع التعجب من شناعة فعل قوم أو قولهم ولا يخفى ما فيه مع أن تخصيصها بالشناعة شناعة أيضا أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل بعد وضوح الدليل وسطوح البرهان اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ زيادة تقرير لما سلف من كفرهم بالله تعالى، والأحبار علماء اليهود، واختلف في واحدة فقال الأصمعي: لا أدري أهو حبر أو حبر، وقال أبو الهيثم: هو بالفتح لا غير، وذكر ابن الأثير أنه بالفتح والكسر وعليه أكثر أهل اللغة، والصحيح إطلاقه على العالم ذميا كان أو مسلما فقد كان يقال لابن عباس رضي الله تعالى عنهما الحبر ويجمع كما في القاموس على حبور أيضا وكأنه مأخوذ من تحبير المعاني بحسن البيان عنها وَرُهْبانَهُمْ وهم علماء النصارى من أصحاب الصوامع، وهو جمع راهب وقد يقع على الواحد ويجمع على رهابين ورهابنة وفي مجمع البيان أو الراهب هو الخاشي الذي تظهر عليه الخشية وكثر إطلاقه على متنسكي النصارى وهو مأخوذ من الرهبة أي الخوف، وكانوا لذلك يتخلون من أشغال الدنيا وترك ملاذها والزهد فيها والعزلة عن أهلها وتعمد مشاقها حتى أن منهم من كان يخصي نفسه ويضع السلسلة في عنقه وغير ذلك من أنواع التعذيب، ومن هنا قال صلّى الله عليه وسلّم: «لا رهبانية في الإسلام» والمراد في الآية اتخذ كل من الفريقين علماءهم لا الكل الكل أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ بأن أطاعوهم في تحريم ما أحل الله تعالى وتحليل ما حرمه سبحانه وهو التفسير المأثور عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقد روى الثعلبي وغيره عن عدي بن حاتم قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفي عنقي صليب من ذهب فقال: يا عدي اطرح عنك هذا الوثن وسمعته يقرأ في سورة براءة اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله فقلت له: يا رسول الله لم يكونوا يعبدونهم فقال عليه الصلاة والسلام. أليس يحرمون ما أحل الله تعالى فيحرمونه ويحلون ما حرم الله فيستحلون؟ فقلت: بلى. قال: ذلك عبادتهم. وسئل حذيفة رضي الله تعالى عنه عن الآية فأجاب بمثل ما ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ونظير ذلك قولهم: فلان يعبد فلانا إذا أفرط في طاعته فهو استعارة بتشبيه الإطاعة بالعبادة أو مجاز مرسل بإطلاق العبادة وهي طاعة مخصوصة على مطلقها والأول أبلغ، وقيل: اتخاذهم أربابا بالسجود لهم لا يصلح إلا للرب عز وجل وحينئذ فلا مجاز إلا أنه لا مقال لأحد بعد صحة الخبر عن الرسول الله صلّى الله عليه وسلّم. والآية ناعية على كثير من الفرق الضالة الذين تركوا كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام لكلام علمائهم ورؤسائهم والحق أحق بالاتباع فمتى ظهر وجب على المسلم اتباعه وإن أخطأه اجتهاد مقلده وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ عطف على رُهْبانَهُمْ بأن اتخذوه ربا معبودا أو بأن جعلوه ابنا لله كما يقتضيه سياق الآية على ما قيل وفيه نظر. وتخصيص الاتخاذ به عليه السلام يشير إلى أن اليهود ما فعلوا ذلك بعزير، وتأخيره في الذكر مع أن اتخاذهم له كذلك أقوى من مجرد الإطاعة في أمر التحليل والتحريم لأنه مختص بالنصارى، ونسبته عليه السلام إلى أمه للإيذان بكمال ركاكة رأيهم والقضاء عليهم بنهاية الجهل والحماقة. وَما أُمِرُوا أي والحال أن أولئك الكفرة ما أمروا في الكتب الإلهية وعلى ألسنة الأنبياء عليهم السلام إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً جليل الشأن وهو الله سبحانه ويطيعوا أمره ولا يطيعوا أمر غيره بخلافه فإن ذلك مناف لعبادته جل شأنه، وأما إطاعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وسائر من أمر الله بطاعته فهي في الحقيقة إطاعة لله عز وجل، وما أمر الذين اتخذهم الكفرة أربابا من المسيح عليه السلام والأحبار والرهبان إلا ليطيعوا أو ليوحدوا الله تعالى فكيف يصح أن يكونوا أربابا وهم مأمورون مستعبدون مثلهم، ولا يخفى أن تخصيص العبادة به تعالى لا يتحقق إلا بتخصيص الطاعة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 276 أيضا به تعالى ومتى لم يخص به جل شأنه لم تخص العبادة به سبحانه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ صفة ثانية لإلها أو استئناف، وهو على الوجهين مقرر للتوحيد وفيه على ما قيل فائدة زائدة وهو أن ما سبق يحتمل غير التوحيد بأن يؤمروا بعبادة إله واحد من بين الآلهة فإذا وصف المأمور بعبادته بأنه هو المنفرد بالألوهية تعين المراد، وجوز أن يكون صفة مفسرة لواحدا سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ تنزيه له أي تنزيه عن الإشراك به في العبادة والطاعة يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ إطفاء النار على ما في القاموس إذهاب لهبها الموجب لاذهاب نورها لا إذهاب نورها على ما قيل، لكن ما كان الغرض من إطفاء نار لا يراد بها إلا النور كالمصباح إذهاب نورها جعل إطفاءها عبارة عنه ثم شاع ذلك حتى كان عبارة عن مطلق إذهاب النور وإن كان لغير النار، والمراد بنور الله حجته تعالى النيرة المشرقة الدالة على وحدانيته وتنزهه سبحانه عن الشركاء والأولاد أو القرآن العظيم الصادع الصادح بذلك، وقيل: نبوته عليه الصلاة والسلام التي ظهرت بعد أن استطال دجا الكفر صبحا منيرا، وأيا ما كان فالنور استعارة أصلية تصريحية لما ذكر، وإضافته إلى الله تعالى قرينة، والمراد من الإطفاء الرد والتكذيب أي يريد أهل الكتابين أن يردوا ما دل على توحيد الله تعالى وتنزيهه عما نسبوه إليه سبحانه بِأَفْواهِهِمْ أي بأقاويلهم الباطلة الخارجة عنها من غير أن يكون لها مصداق تنطبق عليه أو أصل تستند إليه بل كانت أشبه شيء بالمهملات، قيل: ويجوز أن يكون في الكلام استعارة تمثيلية بأن يشبه حالهم في محاولة إبطال نبوته صلّى الله عليه وسلّم بالتكذيب بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق ويكون قوله تعالى: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ ترشيحا للاستعارة لأن إتمام النور زيادة في استنارته وفشو ضوئه فهو تفريع على المشبه به وما بعد من قوله سبحانه: هُوَ الَّذِي إلخ تجريد وتفريع على الفرع، وروعي في كل من المشبه والمشبه به معنى الافراط والتفريط حيث شبه الابطال بالاطفاء بالفم، ونسب النور إلى الله تعالى العظيم الشأن ومن شأن النور المضاف إليه سبحانه أن يكون عظيما فكيف يطفأ بنفخ الفم، وتمم كلا من الترشيح والتجريد بما تمم لما بين الكفر الذي هو ستر وإزالة للظهور والإطفاء من المناسبة وبين دين الحق الذي هو التوحيد والشرك من المقابلة انتهى. ولا يخلو عن حسن. والظاهر أن المراد بالنور هنا هو الأول إلا أنه أقيم الظاهر مقام الضمير وأضيف إلى ضميره سبحانه لمزيد الاعتناء بشأنه وللاشعار بعلة الحكم، والاستثناء مفرغ فالمصدر منصوب على أنه مفعول به والمصحح للتفريغ عند جمع كون يَأْبَى في معنى النفي، والمراد به إما لا يريد لوقوعه في مقابلة يريدون كما قيل أو لا يرضى كما ارتضاه بعض المحققين بناء على أن المراد بإرادة إتمام نوره سبحانه إرادة خاصة وهي الإرادة على وجه الرضا بقرينة وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ لا الإرادة المجامعة لعدم الرضا كما هو مذهب أهل الحق خلافا لمن يسوي بينهما. وقال الزجاج: إن مصحح التفريغ عموم المستثنى منه وهو محذوف ولا يضركون ذلك نسبيا إذ غالب العمومات كذلك بل قد قيل: ما من عام إلا وقد خص منه البعض، أي يكره كل شيء يتعلق بنوره إلا إتمامه، وقرينة التخصيص السياق. ولا يجوز تأويل الجماعة عنده إذ ما من إثبات إلا ويمكن تأويله بالنفي فيلزم جريان التفريغ في كل شيء وهو كما ترى، والحق أنه لا مانع من التأويل إذا اقتضاه المقام، وإتمام النور بإعلاء كلمة التوحيد وإعزاز دين الإسلام وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ جواب لَوْ محذوف لدلالة ما قبله عليه أي يتم نوره. والجملة معطوفة على جملة قبلها مقدرة أي لو لم يكره الكافرون ولو كره وكلتاهما في موضع الحال، والمراد أنه سبحانه يتم نوره ولا بد هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ محمدا صلّى الله عليه وسلّم متلبسا بِالْهُدى أي القرآن الذي هو هدى للمتقين وَدِينِ الْحَقِّ أي الثابت، وقيل: دينه تعالى وهو دين الإسلام لِيُظْهِرَهُ أي الرسول عليه الصلاة والسلام عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أي على أهل الأديان كلها فيخذلهم أو ليظهر دين الحق علي سائر الأديان بنسخه إياها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 277 حسبما تقتضيه الحكمة. فأل في الدين سواء كان الضمير للرسول صلّى الله عليه وسلّم أم للدين الحق للاستغراق. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الضمير للرسول عليه الصلاة والسلام وأل للعهد أي ليعلمه شرائع الدين كلها ويظهره عليها حتى لا يخفى عليه عليه الصلاة والسلام شيء منها، وأكثر المفسرين على الاحتمال الثاني قالوا: وذلك عند نزول عيسى عليه السلام فإنه حينئذ لا يبقى دين سوى دين الإسلام، والجملة بيان وتقرير لمضمون الجملة السابقة لأن مآل الإتمام هو الإظهار وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ على طرز ما قبله خلا أن وصفهم بالشرك بعد وصفهم بالكفر قيل: للدلالة على أنهم ضموا الكفر بالرسول إلى الشرك بالله تعالى، وظاهر هذا أن المراد بالكفر فيما تقدم الكفر بالرسول صلّى الله عليه وسلّم وتكذيبه وبالشرك الكفر بالله سبحانه بقرينة التقابل ولا مانع منه. وقد علمت ما في هذين المتممين من المناسبة التي يليق أن يكون فلك البلاغة حاويا لها فتدبر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 278 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شروع في بيان حال الأحبار والرهبان في إغوائهم لأراذلهم إثر بيان سوء حال الأتباع في اتخاذهم لهم أربابا، وفي ذلك تنبيه للمؤمنين حتى لا يحوموا حول ذلك الحمى ولذا وجه الخطاب إليهم إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ يأخذونها بالارتشاء لتغيير الأحكام والشرائع والتخفيف والمسامحة فيها، والتعبير عن الأخذ بالأكل مجاز مرسل والعلامة العلية والمعلولية أو اللازمية والملزومية فإن الأكل ملزوم للأخذ كما قيل. وجوز أن يكون المراد من الأموال الأطعمة التي تؤكل بها مجازا مرسلا ومن ذلك قوله: يأكلن كل ليلة إكافا فإنه يريد علفا يشتري بثمن إكاف. واختار هذا العلامة الطيبي وهو أحد وجهين ذكرهما الزمخشري، وثانيهما أن يستعار الأكل للأخذ وذلك على ما قرره العلامة أن يشبه حالة أخذهم أموال الناس من غير تمييز بين الحق والباطل وتفرقة بين الحلال والحرام للتهالك على جمع حطامها بحالة منهمك جائع لا يميز بين طعام وطعام في التناول، ثم ادعى أنه لا طائل تحت هذه الاستعارة وأن استشهاده بأخذ الطعام وتناوله سمج، وأجيب بأن الاستشهاد به على أن بين الأخذ والتناول شبها وإلا فذاك عكس المقصود، وفائدة الاستعارة المبالغة في أنه أخذ بالباطل لأن الأكل غاية الاستيلاء على الشيء ويصير قوله تعالى: بِالْباطِلِ على هذا زيادة مبالغة ولا كذلك لو قيل يأخذون وَيَصُدُّونَ الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي دين الإسلام أو عن المسلك المقرر في كتبهم إلى ما افتروه بأخذ الرشا. ويجوز أن يكون يَصُدُّونَ من الصدود على معنى أنهم يعرضون عن سبيل الله فيحرفون ويفترون بأكلهم أموال الناس بالباطل وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ أي يجمعونهما ومنه ناقة كناز اللحم أي مجتمعته، ولا يشترط في الكنز الدفن بل يكفي مطلق الجمع والحفظ، والمراد من الموصول إما الكثير من الأحبار والرهبان لأن الكلام في ذمهم ويكون ذلك مبالغة فيه حيث وصفوا بالحرص بعد وصفهم بما سبق من أخذ البراطيل في الأباطيل وإما المسلمون لجري ذكرهم أيضا وهو الأنسب بقوله تعالى: وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ لأنه يشعر بأنهم ممن ينفق في سبيله سبحانه لأنه المتبادر من النفي عرفا فيكون نظمهم في قرن المرتشين من أهل الكتاب تغليظا ودلالة على كونهم أسوة لهم في استحقاقه البشارة بالعذاب، واختار بعض المحققين حمله على العموم ويدخل فيه الأحبار والرهبان دخولا أوليا، وفسر غير واحد الانفاق في سبيل الله بالزكاة لما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى أنه لما نزلت هذه الآية كبر ذلك على المسلمين فقال عمر رضي الله تعالى عنه: أنا أفرج عنكم فانطلق فقال: يا نبي الله إنه كبر على أصحابك هذه الآية فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله تعالى لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم. وأخرج الطبراني. والبيهقي في سننه. وغيرهما عن ابن عمر قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما أدي زكاته فليس بكنز» أي بكنز أوعد عليه فإن الوعيد عليه مع عدم الانفاق فيما أمر الله تعالى أن ينفق فيه، ولا يعارض ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها» لأن المراد بذلك ما لم يؤد حقه كما يرشد إليه ما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة «ما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 279 من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فيكوى بها جنبه وجبينه» وقيل: إنه كان قبل أن تفرض الزكاة وعليه حمل ما رواه الطبراني عن أبي امامة قال توفي رجل من أهل الصفة فوجد في مئزره دينار فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم كية ثم توفي آخر فوجد في مئزره ديناران فقال عليه الصلاة والسلام كيتان، وقيل: بل هذا لأن الرجلين أظهرا الفقر ومزيد الحاجة بانتظامهما في سلك أهل الصفة الذين هم بتلك الصفة مع أن عندهما فكان جزاؤهما الكية والكيتين لذلك، وأخذ بظاهر الآية فأوجب انفاق جميع المال الفاضل عن الحاجة أبو ذر رضي الله تعالى عنه وجرى بينه لذلك وبين معاوية رضي الله عنه في الشام ما شكاه له إلى عثمان رضي الله تعالى عنه في المدينة فاستدعاه إليها فرآه مصرا على ذلك حتى أن كعب الأحبار رضي الله عنه قال له: يا أبا ذر إن الملة الحنيفية أسهل الملل وأعدلها وحيث لم يجب انفاق كل المال في الملة اليهودية وهي أضيق الملل وأشدها كيف يجب فيها فغضب رضي الله تعالى عنه وكانت فيه حدة وهي التي دعته إلى تعيير بلال رضي الله عنه بأمه وشكايته إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقوله فيه «إنك امرؤ فيك جاهلية» فرفع عصاه ليضربه وقال له: يا يهودي ما ذاك من هذه المسائل فهرب كعب فتبعه حتى استعاذ بظهر عثمان رضي الله تعالى عنه فلم يرجع حتى ضربه. وفي رواية أن الضربة وقعت على عثمان، وكثر المعترضون على أبي ذر في دعواه تلك، وكان الناس يقرؤون له آية المواريث ويقولون: لو وجب انفاق كل المال لم يكن للآية وجه، وكانوا يجتمعون عليه مزدحمين حيث حل مستغربين منه ذلك فاختار العزلة فاستشار عثمان فيها فأشار إليه بالذهاب إلى الربذة فسكن فيها حسبما ورد، وهذا ما يعول عليه في هذه القصة، ورواها الشيعة على وجه جعلوه من مطاعن ذي النورين وغرضهم بذلك إطفاء نوره ويأبى الله إلا أن يتم نوره فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ خبر الموصول، والفاء لما مر غير مرة. وجوز أن يكون الموصول في محل نصب بفعل يفسره فَبَشِّرْهُمْ والتعبير بالبشارة للتهكم، وقوله تعالى: يَوْمَ منصوب بعذاب أليم أو بمضمر يدل عليه ذلك أي يعذبون يوم أو باذكر. وقيل: التقدير عذاب يوم والمقدر بدل من المذكور فلما حذف المضاف أقيم المضاف إليه مقامه يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ أي توقد النار ذات حمى وحر شديد عليها، وأصله تحمى بالنار من قولك حميت الميسم وأحميته فجعل الاحماء للنار مبالغة لأن النار في نفسها ذات حمى فإذا وصفت بأنها تحمى دل على شدة توقدها ثم حذفت النار وحول الاسناد إلى الجار والمجرور تنبيها على المقصود بأتم وجه فانتقل من صيغة التأنيث إلى التذكير كما تقول: رفعت القصة إلى الأمير فإذا طرحت القصة وأسند الفعل إلى الجار والمجرور قلت رفع إلى الأمير. وعن ابن عامر أنه قرأ «تحمى» بالتاء الفوقانية بإسناده إلى النار كأصله وإنما قيل عَلَيْها والمذكور شيئان لأنه ليس المراد بهما مقدارا معينا منهما ولا الجنس الصادق بالقليل والكثير بل المراد الكثير من الدنانير والدراهم لأنه الذي يكون كنزا فأتى بضمير الجمع للدلالة على الكثرة ولو أتى بضمير التثنية احتمل خلافه، وكذا يقال في قوله سبحانه: وَلا يُنْفِقُونَها وقيل: الضمير لكنوز الأموال المفهومة من الكلام فيكون الحكم عاما ولذا عدل فيه عن الظاهر، وتخصيص الذهب والفضة بالذكر لأنهما الأصل الغالب في الأموال لا للتخصيص أو للفضة، واكتفى بها لأنها أكثر، والناس إليها أحوج، ولأن الذهب يعلم منها بالطريق الأولى مع قربها لفظا فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ خصت بالذكر لأن غرض الكانزين من الكنز والجمع أن يكونوا عند الناس ذوي وجاهة ورياسة بسبب الغنى وأن يتنعموا بالمطاعم الشهية والملابس البهية فلوجاهتهم كان الكي بجباههم ولامتلاء جنوبهم بالطعام كووا عليها ولما لبسوه على ظهورهم كويت، أو لأنهم إذا رأوا الفقير السائل زووا ما بين أعينهم وازوروا عنه وأعرضوا وطووا كشحا وولوه ظهورهم واستقبلوا جهة أخرى، أو لأنها أشرف الأعضاء الظاهرة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 280 فإنها المشتملة على الأعضاء الرئيسية التي هي الدماغ والقلب والكبد، وقيل: لأنها أصول الجهات الأربع التي هي مقاديم البدن ومآخيره وجنبتاه فيكون ما ذكر كناية عن جميع البدن، ويبقى عليه نكتة الاقتصار على هذه الأربع من بين الجهات الست وتكلف لها بعضهم بأن الكانز وقت الكنز لحذره من أن يطلع عليه أحد يلتفت يمينا وشمالا وأماما ووراء ولا يكاد ينظر إلى فوق أو يتخيل أن أحدا يطلع عليه من تحت، فلما كانت تلك الجهات الأربع مطمح نظره ومظنة حذره دون الجهتين الأخريين اقتصر عليها دونهما، وهو مع ابتنائه على اعتبار الدفن في الكنز في حيز المنع كما لا يخفى. وقيل: إنما خصت هذه المواضع لأن داخلها جوف بخلاف اليد والرجل، وفيه أن البطن كذلك، وفي جمعه مع الظاهر لطافة أيضا، وقيل: لأن الجهة محل الوسم لظهورها والجنب محل الألم والظهر محل الحدود لأن الداعي للكانز على الكنز وعدم الإنفاق خوف الفقر الذي هو الموت الأحمر حيث إنه سبب للكد وعرق الجبين والاضطراب يمينا وشمالا وعدم استقرار الجنب لتحصيل المعاش مع خلو المتصف به عما يستند إليه ويعول في المهمات عليه فلملاحظة الأمن من الكد وعرق الجبين تكوى جبهته ولملاحظة الأمن من الاضطراب والطمع في استقرار الجنب يكوى جنبه لملاحظة استناد الظهر والاتكال على ما يزعم أنه الركن الأقوى والوزر الأوقى يكوى ظهره، وقيل غير ذلك وهي أقوال يشبه بعضها بعضا والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. وأيا ما كان فليس المراد أنه يوضع دينار على دينار أو درهم على درهم فيكوى بها ولا أنه يكون بكل بأن يرفع واحد ويوضع بدله آخر حتى يؤتى على آخرها بل إنه يوسع جلد الكانز فيوضع كل دينار ودرهم على حدته كما نطقت بذلك الآثار وتظافرت به الأخبار هذا ما كَنَزْتُمْ على إرادة القول وبه يتعلق الظرف السابق في قول أي يقال لهم يوم يحمى عليها هذا ما كنزتم لِأَنْفُسِكُمْ أي لمنفعتها فكان عين مضرتها وسبب تعذيبها، فاللام للتعليل، وأنت في تقرير المضاف في النظم بالخيار، ولم تجعل اللام للملك لعدم جدواه وما في قوله سبحانه فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ يحتمل أن تكون مصدرية أي وبال كنزكم أو وبال كونكم كانزين ورجح الأول بأن في كون كان الناقصة لها مصدر كلاما وبأن المقصود الخبر وكان إنما ذكرت لاستحضار الصورة الماضية، ويحتمل أن تكون موصولة أي وبال الذي تكنزونه، وفي الكلام استعارة مكنية وتخييلية أو تبعية. وقرىء «تكنزون» بضم النون فالماضي كنز كضرب وقعد إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ أي مبلغ عدد شهور السنة عِنْدَ اللَّهِ أي في حكمه اثْنا عَشَرَ شَهْراً وهي الشهور القمرية المعلومة إذ عليها يدور فلك الأحكام الشرعية فِي كِتابِ اللَّهِ أي في اللوح المحفوظ. وقيل: فيما أثبته وأوجب على عباده الأخذ به، وقيل: القرآن فيه آيات تدل على الحساب ومنازل القمر وليس بشيء يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي في ابتداء إيجاد هذا العالم، وهذا الظرف متعلق بما في كتاب الله من معنى الثبوت الدال عليه بمنطوقه أو بمتعلقه أو بالكتاب إن كان مصدرا بمعنى الكتابة، والمراد أنه في ابتداء ذلك كانت عدتها ما ذكر وهي الآن على ما كانت عليه، وفِي كِتابِ اللَّهِ صفة اثْنا عَشَرَ وهي خبر إِنَّ وعِنْدَ معمول عِدَّةَ لأنها مصدر كالشركة وشَهْراً تمييز مؤكد كما في قولك: عندي من الدنانير عشرون دينارا، وما يقال: إنه لرفع الإبهام إذ لو قيل عدة الشهور عند الله اثنا عشر سنة لكان كلاما مستقيما ليس بمستقيم على ما قيل. وانتصر له بأن مراد القائل إنه يحتمل أن تكون تلك الشهور في ابتداء الدنيا كذلك كما في قوله سبحانه: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ [الحج: 47] ونحوه لا مانع منه فإنه أحسن من الزيادة المحضة، ولم يجوزوا تعلق فِي كِتابِ بعدة لأن المصدر إذا أخبر عنه لا يعمل فيما بعد الخبر. ومن الناس من جعله بدلا من عِنْدَ اللَّهِ وضعفه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 281 أبو البقاء بأن فيه الفصل بين البدل والمبدل منه بخبر العامل في المبدل، وجوز بعض أن يجعل اثْنا عَشَرَ مبتدأ وعِنْدَ خبر مقدم والجملة خبر إن أو إن الظرف لاعتماده عمل الرفع اثْنا عَشَرَ، وقوله سبحانه: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ يجوز أن يكون صفة لاثنا عشر وأن يكون حالا من الضمير في الظرف وأن يكون جملة مستأنفة وضمير مِنْها على كل تقدير لاثنا عشر، وهذه الأربعة ذو القعدة، وذو الحجة. والمحرم. ورجب مضر. واختلف في ترتيبها فقيل: أولها المحرم وآخرها ذو الحجة فهي من شهور عام، وظاهر ما أخرجه سعيد بن منصور وابن مردويه عن ابن عباس يقتضيه. وقيل: أولها رجب فهي من عامين واستدل له بما أخرجه ابن جرير. وغيره عن ابن عمر قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع بمعنى في أوسط أيام التشريق فقال: «يا أيها الناس إن الزمان قد استدار فهو اليوم كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم أولهن رجب مضر بين جمادى وشعبان. وذو القعدة. وذو الحجة. والمحرم» . وقيل: أولها ذو القعدة وصححه النووي لتواليها. وأخرج الشيخان «ألا إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ورجب مضر» الحديث، وأضيف رجب إليهم لأن ربيعة كانوا يحرمون رمضان ويسمونه رجب ولهذا بين في الحديث بما بين. وقيل: إن ما ذكر من أنها على الترتيب الأول من شهور عام وعلى الثاني من شهور عامين مما يتمشى على أن أول السنة المحرم وهو إنما حدث في زمن عمر رضي الله تعالى عنه وكان يؤرخ قبله بعام الفيل وكذا بموت هشام بن المغيرة ثم أرخ بصدر الإسلام بربيع الأول وعلى هذا التاريخ يكون الأمر على عكس ما ذكر ولم يبين هذا القائل ما أول شهور السنة عند العرب قبل الفيل، والذي يفهم من كلام بعضهم أن أول الشهور المحرم عندهم من قبل أيضا إلا أن عندهم في اليمن والحجاز تواريخ كثيرة يتعارفونها خلفا عن سلف ولعلها كانت باعتبار حوادث وقعت في الأيام الخالية، وأنه لما هاجر النبي صلّى الله عليه وسلّم اتخذ المسلمون هجرته مبدأ التاريخ وتناسوا ما قبله وسموا كل سنة أتت عليهم باسم حادثة وقعت فيها كسنة الاذن. وسنة الأمر. وسنة الابتلاء وعلى هذا المنوال إلى خلافة عمر رضي الله تعالى عنه فسأله بعض الصحابة في ذلك وقال: هذا يطول وربما يقع في بعض السنين اختلاف وغلط فاختار رضي الله تعالى عنه عام الهجرة مبدأ من غير تسمية السنين بما وقع فيها فاستحسنت الصحابة رأيه في ذلك. وفي بعض شروح البخاري أن أبا موسى الأشعري كتب إليه إنه يأتينا من أمير المؤمنين كتب لا ندري بأيها نعمل، وقد قرأنا صكا محله شعبان فلم ندر أي الشعبانين الماضي أم الآتي. وقيل: إنه هو رضي الله تعالى عنه رفع صك محله شعبان فقال: أي شعبان هو؟ ثم قال: إن الأموال قد كثرت فينا وما قسمناه غير مؤقت فكيف التوصل إلى ضبطه فقال له ملك الأهواز وكان قد أسر وأسلم على يده: إن للعجم حسابا يسمونه- ماهروز- يسندونه إلى من غلب من الأكاسرة ثم شرحه له وبين كيفيته فقال رضي الله تعالى عنه: ضعوا للناس تاريخا يتعاملون عليه وتضبط أوقاتهم فذكروا له تاريخ اليهود فما ارتضاه والفرس فما ارتضاه فاستحسنوا الهجرة تاريخا انتهى. وما ذكر من أنهم كانوا يؤرخون في صدر الإسلام بربيع الأول فيه إجمال ويتضح المراد منه بما في النبراس من أنهم كانوا يؤرخون على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم بسنة القدوم وبأول شهر منها وهو ربيع الأول على الأصح فليفهم، والشهر عندهم ينقسم إلى شرعي. وحقيقي. واصطلاحي، فالشرعي معتبر برؤية الهلال بالشرط المعروف في الفقه، وكان أول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 282 هلال المحرم في التاريخ الهجري ليلة الخميس كما اعتمده يونس الحاكمي المصري وذكر أن ذلك بالنظر إلى الحساب، وأما باعتبار الرؤية فقد حرر ابن الشاطر أن هلاله رئي بمكة ليلة الجمعة. والحقيقي معتبر من اجتماع القمر مع الشمس في نقطة وعوده بعد المفارقة إلى ذلك ولا دخل للخروج من تحت الشعاع إلا في إمكان الرؤية بحسب العادة الشائعة، قيل: ومدة ما ذكر تسعة وعشرون يوما ومائة وأحد وتسعون جزءا من ثلاثمائة وستين جزءا لليوم بليلته، وتكون السنة القمرية ثلاثمائة وأربعة وخمسين يوما وخمس يوم وسدسه وثانية وذلك أحد عشر جزءا من ثلاثين جزءا من اليوم بليلته، وإذا اجتمع من هذه الأجزاء أكثر من نصف عدوه يوما كاملا وزادوه في الأيام وتكون تلك السنة حينئذ كبيسة وتكون أيامها ثلاثمائة وخمسين يوما، ولما كانت الأجزاء السابقة أكثر من نصف جبروها بيوم كامل، واصطلحوا على جعل الأشهر شهرا كاملا وشهرا ناقصا فهذا هو الشهر الاصطلاحي، فالمحرم في اصطلاحهم ثلاثون يوما وصفر تسعة وعشرون وهكذا إلى آخر السنة القمرية الأفراد منها ثلاثون وأولها المحرم والأزواج تسعة وعشرون وأولها صفر إلا ذا الحجة من السنة الكبيسة فإنّه يكون ثلاثين يوما لاصطلاحهم على جعل ما زادوه في أيام السنة الكبيسة في ذي الحجة آخر السنة. وحيث كان مدار الشهر الشرعي على الروية اختلفت الأشهر فكان بعضها ثلاثين وبعضها تسعة وعشرين ولا يتعين شهر للكمال وشهر للنقصان بل قد يكون الشهر ثلاثين في بعض السنين وتسعا وعشرين في بعض آخر منها. وما أخرجه الشيخان وغيرهما عن أبي بكرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شهرا عيد لا ينقصان رمضان وذو الحجة» محمول على معنى لا ينقص أجرهما والثواب المرتب عليهما وإن نقص عددهما، وقيل: معناه لا ينقصان جميعا في سنة واحدة غالبا، وقيل: لا ينقص ثواب ذي الحجة عن ثواب رمضان حكاه الخطابي وهو ضعيف، والأول كما قال النووي هو الصواب المعتمد ذلِكَ أي تحريم الأشهر الأربعة وما فيه من معنى البعد لتفخيم المشار إليه، وقيل: هو إشارة لكون العدة كذلك ورجحه الإمام بأنه كونها أربعة محرمة مسلم عند الكفار وإنما القصد الرد عليهم في النسيء والزيادة على العدة، ورجح الأول بأن التفريع الآتي يقتضيه، ولا يبعد أن تكون الإشارة إلى مجموع ما دل عليه الكلام السابق والتفريع لا يأبى ذلك الدِّينُ الْقَيِّمُ أي المستقيم دين إبراهيم: وإسماعيل عليهما السلام، وكانت العرب قد تمسكت به وراثة منهما. وكانوا يعظمون الأشهر الحرم حتى ان الرجل يلقى فيها قاتل أبيه وأخيه فلا يهيجه ويسمون رجب الأصم ومنصل الأسنة حتى أحدثوا النسيء فغيروا، وقيل: المراد من الدِّينُ الحكم والقضاء ومن الْقَيِّمُ الدائم الذي لا يزول أي ذلك الحكم الذي لا يبدل ولا يغير ونسب ذلك إلى الكلبي، وقيل: الدين هنا بمعنى الحساب ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم. «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت» أي ذلك الحساب المستقيم والعدد الصحيح المستوي لا ما تفعله العرب من النسيء واختار ذلك الطبرسي، وعليه فتكون الإشارة لما رجحه الإمام فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ بهتك حرمتهن وارتكاب ما حرم فيهن، والضمير راجع إلى الأشهر الحرم وهو المروي عن قتادة واختاره الفراء وأكثر المفسرين، وقيل: هو راجع إلى الشهور كلها أي فلا تظلموا أنفسكم في جميع شهور السنة بفعل المعاصي وترك الطاعات أو لا تجعلوا حلالها حراما وحرامها حلالا كما فعل أهل الشرك ونسب هذا القول لابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والعدول عن فيها الأوفق بمنها إلى فِيهِنَّ مؤيد لما عليه الأكثر، والجمهور على أن حرمة المقاتلة فيهن منسوخة وأن الظلم مؤول بارتكاب المعاصي، وتخصيصها بالنهي عن ارتكاب ذلك فيها مع أن الارتكاب منهى عنه مطلقا لتعظيمها ولله سبحانه أن يميز الأوقات على بعض فارتكاب المعصية فيهن أعظم وزرا كارتكابها في الحرم وحال الإحرام. وعن عطاء بن أبي رباح أنه لا يحل للناس أن يغزوا في الحرم والأشهر الحرم إلا أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 283 يقاتلوا، واستثنى هذا لأنه للدفع فلا يمنع منه بالاتفاق أو لأن هتك الحرمة في ذلك ليس منهم بل من البادي. ويؤيد القول بالنسخ أنه عليه الصلاة والسلام حاصر الطائف وغزا هوازن بحنين في شوال وذي القعدة سنة ثمان وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً جميعا، واشتهر أنه لا بد من تنكيره ونصبه على الحال وكون ذي الحال من العقلاء، وخطأوا الزمخشري في قوله في خطبة المفصل: محيطا بكافة الأبواب ومخطئه هو المخطئ لأنا إذا علمنا وضع لفظ لمعنى عام بنقل من السلف وتتبع لموارد استعماله في كلام من يعتد به ورأيناهم استعملوه على حالة مخصوصة من الاعراب والتعريف والتنكير ونحو ذلك جاز لنا على ما هو الظاهر أن نخرجه عن تلك الحالة لأنا لو اقتصرنا في الألفاظ على ما استعملته العرب العاربة والمستعربة نكون قد حجرنا الواسع وعسر التكلم بالعربية على من بعدهم ولما لم يخرج بذلك عما وضع له فهو حقيقة، فكافة- وإن استعملته العرب منكرا منصوبا في الناس خاصة- يجوز أن يستعمل معرفا ومنكرا بوجوه الإعراب في الناس وغيرهم وهو في كل ذلك حقيقة حيث لم يخرج عن معناه الذي وضعوه له وهو معنى الجميع، ومقتضى الوضع أنه لا يلزمه ما ذكر ولا ينكر ذلك إلا جاهل أو مكابر، على أنه ورد في كلام البلغاء على ما ادعوه، ففي كتاب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لآل بني كاكلة قد جعلت لآل بني كاكلة على كافة بيت مال المسلمين لكل عام مائتي مثقال عينا ذهبا إبريزا، وهذا كما في شرح المقاصد مما صح، والخط كان موجودا في آل بني كاكلة إلى قريب هذا الزمان بديار العراق، ولما آلت الخلافة إلى أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه عرض عليه فنفذ ما فيه لهم وكتب عليه بخطه لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون أنا أول من اتبع أمر من الإسلام (1) ونصر الدين والأحكام عمر بن الخطاب ورسمت بمثل ما رسم لآل بني كاكلة في كل عام مائتي دينار ذهبا إبريزا واتبعت أثره وجعلت لهم مثل ما رسم عمر إذ وجب علي وعلى جميع المسلمين اتباع ذلك كتبه علي بن أبي طالب، فانظر كيف استعمله عمر بن الخطاب معرفة غير منصوبة لغير العقلاء وهو من هو في الفصاحة وقد سمعه مثل علي كرم الله تعالى وجهه ولم ينكره وهو واحد الأحدين، فأي إنكار واستهجان يقبل بعد. فقوله في المغني- كافة مختص بمن يعقل ووهم الزمخشري في تفسير قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ: 28] إذ قدر كافة نعتا لمصدر محذوف أي رسالة كافة لأنه أضاف إلى استعماله فيما لا يعقل إخراجه عما التزم فيه من الحال كوهمه في خطبة المفصل مما لا يلتفت إليه، وإذا جاز تعريفه بالإضافة جاز بالألف واللام أيضا ولا عبرة بمن خطأ فيه كصاحب القاموس وابن الخشاب، وهو عند الأزهري مصدر على فاعلة كالعافية والعاقبة ولا يثنى ولا يجمع، وقيل: هو اسم فاعل والتاء فيه للمبالغة كتاء راوية وعلامة وإليه ذهب الراغب، ونقل أن المعنى هنا قاتلوهم كافين لهم كما يقاتلونكم كافين لكم، وقيل: معناه جماعة، وقيل للجماعة الكافة كما يقال لهم الوزعة لقوتهم باجتماعهم، وتاؤه كتاء جماعة. والحاصل أنهم رواية ودراية لم يصيبوا فيما التزموه من تنكيره ونصبه واختصاصه بالعقلاء، وأنهم اختلفوا في أصله هل هو مصدر أو اسم فاعل من الكف وأن تاءه هل هي للمبالغة أو للتأنيث، ثم إنهم تصرفوا فيه واستعملوه للتعميم بمعنى جميعا وعلى ذلك حمل الأكثرون ما في الآية قالوا: وهو مصدر كف عن الشيء، وإطلاقه على الجميع باعتبار أنه مكفوف عن الزيادة أو باعتبار أنه يكف عن التعرض له أو التخلف عنه، وهو حال إما من الفاعل أو من المفعول، فمعنى قاتلوا المشركين كافة لا يتخلف أحد منكم عن قتالهم أو لا تتركوا قتال واحد منهم، وكذا في جانب المشبه به، واستدل بالآية على الاحتمال الأول على أن القتال فرض عين.   (1) قوله من اتبع أمر من الإسلام كذا بخطه وتأمله اهـ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 284 وقيل: وهو كذلك في صدر الإسلام ثم نسخ وأنكره ابن عطية وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ بالولاية والنصر فاتقوا لتفوزوا بولايته ونصره سبحانه فهو إرشاد لهم إلى ما ينفعهم في قتالهم بعد أمرهم به، وقيل: المراد إن الله معكم بالنصر والامداد فيما تباشرونه من القتال، وإنما وضع المظهر موضع المضمر مدحا لهم بالتقوى وحثا للقاصرين على ذلك وإيذانا بأنه المدار في النصر، وقيل: هي بشارة وضمان لهم بالنصرة بسبب تقواهم كما يشعر بذلك التعليق بالمشتق، وما ذكرناه نحن لا يخلو عن حسن إلا أن الأمر بالتقوى فيه أعم من الأحداث والدوام ومثله كثير في الكلام إِنَّمَا النَّسِيءُ هو مصدر نسأه إذا أخره وجاء النسي كالنهي والنسء كالبدء والنساء كالنداء وثلاثتها مصادر نسأه كالنسيء، وقيل: هو وصف كقتيل وجريح، واختير الأول لأنه لا يحتاج معه إلى تقدير بخلاف ما إذا كان صفة فإنه لا يخبر عنه بزيادة إلا بتأويل ذو زيادة أو إنساء النسيء زيادة، وقد قرىء بجميع ذلك. وقرأ نافع «النسي» بإبدال الهمزة ياء وادغامها في الياء، والمراد به تأخير حرمة شهر إلى آخر، وذلك أن العرب كانوا إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرموا مكانه شهرا آخر فيستحلون المحرم ويحرمون صفرا فإن احتاجوا أيضا أحلوه وحرموا ربيعا الأول وهكذا كانوا يفعلون حتى استدار التحريم على شهور السنة كلها، وكانوا يعتبرون في التحريم مجرد العدد لا خصوصية الأشهر المعلومة، وربما زادوا في عدد الشهور بأن يجعلوها ثلاثة عشر أو أربعة عشر ليتسع لهم الوقت ويجعلوا أربعة أشهر من السنة حراما أيضا، ولذلك نص على العدد المعين في الكتاب والسنة، وكان يختلف وقت حجهم لذلك، وكان في السنة التاسعة من الهجرة التي حج بها أبو بكر رضي الله تعالى عنه بالناس في ذي القعدة وفي حجة الوداع في ذي الحجة وهو الذي كان على عهد إبراهيم عليه السلام ومن قبله من الأنبياء عليهم السلام. ولذا قال صلّى الله عليه وسلّم: «ألا إن الزمان قد استدار» الحديث، وفي رواية أنهم كانوا يحجون في كل شهر عامين فحجوا في ذي الحجة عامين وفي المحرم عامين وهكذا، ووافقت حجة الصديق في ذي القعدة من سنتهم الثانية، وكانت حجة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الوقت الذي كان من قبل ولذا قال ما قال، أي إنما ذلك التأخير زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ الذي هم عليه لأنه تحريم ما أحل الله تعالى وقد استحلوه واتخذوه شريعة وذلك كفر ضموه إلى كفرهم. وقيل: إنه معصية ضمت إلى الكفر وكما يزداد الإيمان بالطاعة يزداد الكفر بالمعصية. وأورد عليه بأن المعصية ليست من الكفر بخلاف الطاعة فانها من الإيمان على رأي. وأجيب عنه بما لا يصفو عن الكدر يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا إضلالا على إضلالهم القديم، وقرىء «يضل» على البناء للفاعل من الأفعال على أن الفاعل هو الله تعالى، أي يخلق فيهم الضلال عند مباشرتهم لمباديه وأسبابه وهو المعنى على قراءة الأولى أيضا، وقيل الفاعل في القراءتين الشيطان، وجوز على القراءة الثانية أن يكون الموصول فاعلا والمفعول محذوف أي أتباعهم، وقيل: الفاعل الرؤساء والمفعول الموصول. وقرىء «يضلّ» بفتح الياء والضاد من ضلل يضلل، و «نضل» بنون العظمة يُحِلُّونَهُ أي الشهر المؤخر، وقيل: الضمير للنسيء على أنه فعيل بمعنى مفعول عاماً من الأعوام ويحرمون مكانه شهرا آخر مما ليس بحرام وَيُحَرِّمُونَهُ أي يحافظون على حرمته كما كانت، والتعبير عن ذلك بالتحريم باعتبار إحلالهم في العام الماضي أو لإسنادهم له إلى آلهتهم كما سيجيء إن شاء الله تعالى عاماً آخر إذا لم يتعلق بتغييره غرض من أغراضهم، قال الكلبي: أول من فعل ذلك رجل من كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة وكان إذا هم الناس بالصدور من الموسم يقوم فيخطب ويقول لا مردّ لما قضيت أنا الذي لا أعاب ولا أخاب فيقول له المشركون: لبيك ثم يسألونه أن ينسئهم شهرا يغزون فيه فيقول: إن صفر العام حرام فإذا قال ذلك حلوا الأوتار ونزعوا الأسنة والأزجة وإن قال حلال عقدوا الأوتار وركبوا الأزجة وأغاروا. وعن الضحاك أنه جنادة بن عوف الكناني وكان مطاعا في الجاهلية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 285 وكان يقوم على جمل في الموسم فينادي بأعلى صوته إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه ثم يقوم في العام القابل فيقول: إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كانت النساءة حيّ من بني مالك بن كنانة وكان آخرهم رجلا يقال له القلمس وهو الذي أنسأ المحرم وكان ملكا في قومه وأنشد شاعرهم: ومنا ناسىء الشهر القلمس وقال الكميت: ونحن الناسئون على معد ... شهور الحل نجعلها حراما وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن أول من سن النسيء عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف. والجملتان تفسير للضلال فلا محل لهما من الاعراب، وجوز أن تكونا في محل نصب على أنهما حال من الموصول والعامل عامله لِيُواطِؤُا أي ليوافقوا، وقرأ الزهري «ليوطّئوا» بالتشديد عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ من الأشهر الأربعة، واللام متعلقة بيحرمونه أي يحرمونه لأجل موافقة ذلك أو بما دل عليه مجموع الفعلين أي فعلوا ما فعلوا لأجل الموافقة، وجعله بعضهم من التنازع فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ بخصوصه من الأشهر المعينة، والحاصل أنه كان الواجب عليهم العدة والتخصيص فحيث تركوا التخصيص فقد استحلوا ما حرم الله تعالى زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وقرىء على البناء للفاعل وهو الله تعالى أي جعل أعمالهم مشتهاة للطبع محبوبة للنفس، وقيل: خذلهم حتى رأوا حسنا ما ليس بالحسن، وقيل: المزين هو الشيطان وذلك بالوسوسة والإغواء بالمقدمات الشعرية وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ هداية موصلة للمطلوب البتة وإنما يهديهم إلى ما يوصل إليه عند سلوكه وهم قد صدوا عنه بسوء اختيارهم فتاهوا في تيه الضلال، والمراد من الكافرين إما المتقدمون ففيه وضع الظاهر موضع الضمير أو الأعم ويدخلون فيه دخولا أوليا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عود إلى ترغيب المؤمنين وحثهم على المقاتلة بعد ذكر طرف من فضائح أعدائهم ما لَكُمْ استفهام فيه معنى الإنكار والتوبيخ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي اخرجوا للجهاد، وأصل النفر على ما قيل الخروج لأمر أوجب ذلك اثَّاقَلْتُمْ أي تباطأتم ولم تسرعوا وأصله تثاقلتم وبه قرأ الأعمش فادغمت التاء في الثاء واجتلبت همزة الوصل للتوصل إلى الابتداء بالساكن ونظيره قول الشاعر: تؤتي الضجيع إذا ما اشتاقها خفرا ... عذب المذاق إذا ما أتابع القبل وبه تتعلق إِذا والجملة في موضع الحال، والفعل ماض لفظا مضارع معنى أي ما لكم متثاقلين حين قال لكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انفروا، وجوز أن يكون العامل في إِذا الاستقرار المقدر في لَكُمْ أو معنى الفعل المدلول عليه بذلك أي أي شيء حاصل أو حصل لكم أو ما تصنعون حين قيل لكم انفروا، وقرىء «أثاقلتم» بفتح الهمزة على أنها للاستفهام الانكاري التوبيخي وهمزة الوصل سقطت في الدرج، وعلى هذه القراءة لا يصلح تعلق إِذا بهذا الفعل لأن الاستفهام له الصدارة فلا يتقدم معموله عليه، ولعل من يقول يتوسع في الظرف ما لا يتوسع في غيره يجوز ذلك، وقوله سبحانه: إِلَى الْأَرْضِ متعلق باثاقلتم على تضمينه معنى الميل والإخلاد ولولاه لم يعدّ بإلى، أي اثاقلتم مائلين إلى الدنيا وشهواتها الفانية عما قليل وكرهتم مشاق الجهاد ومتاعبه المستتبعة للراحة الخالدة والحياة الباقية أو إلى الإقامة بأرضكم ودياركم والأول أبلغ في الإنكار والتوبيخ ورجح الثاني بأنه أبعد عن توهم شائبة التكرار في الآية، وكان هذا التثاقل في غزوة تبوك وكانت في رجب سنة تسع فإنه صلّى الله عليه وسلّم بعد أن رجع من الطائف أقام بالمدينة قليلا ثم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 286 استنفر الناس في وقت عسرة وشدة من الحر وجدب من البلاد وقد أدركت ثمار المدينة وطابت ظلالها مع بعد الشقة وكثرة العدو فشق عليه الشخوص لذلك. وذكر ابن هشام أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان قلما يخرج في غزوة إلا كنى عنها وأخبر أنه يريد غير الوجه الذي يصمد له إلا ما كان من غزوة تبوك فإنه عليه الصلاة والسلام بينها للناس ليتأهبوا لذلك أهبته أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا وغرورها مِنَ الْآخِرَةِ أي بدل الآخرة ونعيمها الدائم فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي فما فوائدها ومقاصدها أو فما التمتع بها وبلذائذها فِي الْآخِرَةِ أي في جنب الآخرة إِلَّا قَلِيلٌ مستحقر لا يعبأ به، والإظهار في مقام الإضمار لزيادة التقرير، وفِي هذه تسمى القياسية لأن المقيس يوضع في جنب ما يقاس به، وفي ترشح الحياة الدنيا بما يؤذن بنفاستها ويستدعي الرغبة فيها وتجريد الآخرة عن مثل ذلك مبالغة في بيان حقارة الدنيا ودناءتها وعظم شأن الآخرة ورفعتها. وقد أخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن المسور قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه في اليم ثم يرفعها فلينظر بم ترجع» . وأخرج الحاكم وصححه عن سهل قال: مر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذي الحليفة فرأى شاة شائلة برجلها فقال: أترون هذه الشاة هينة على صاحبها؟ قالوا: نعم. قال عليه الصلاة والسلام «والذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله تعالى من هذه على صاحبها ولو كانت تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء» ولا أرى الاستدلال على رداءة الدنيا إلا استدلالا في مقام الضرورة. نعم هي نعمت الدار لمن تزود منها لآخرته. إِلَّا تَنْفِرُوا أي الا تخرجوا إلى ما دعاكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للخروج له يُعَذِّبْكُمْ أي الله عزّ وجلّ عَذاباً أَلِيماً بالإهلاك بسبب فظيع لقحط. وظهور عدو، وخص بعضهم التعذيب بالآخرة وليس بشيء، وعممه آخرون واعتبروا فيه الإهلاك ليصح عطف قوله سبحانه: وَيَسْتَبْدِلْ عليه أي ويستبدل بكم بعد إهلاككم قَوْماً غَيْرَكُمْ وصفهم بالمغايرة لهم لتأكيد الوعيد والتشديد في التهديد بالدلالة على المغايرة الوصفية والذاتية المستلزمة للاستئصال، أي قوما مطيعين مؤثرين للآخرة على الدنيا ليسوا من أولادكم ولا أرحامكم وهم أبناء فارس كما قال سعيد بن جبير أو أهل اليمن كما روي عن أبي روق أو ما يعم الفريقين كما اختاره بعض المحققين وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً من الأشياء من الضرر، والضمير لله عزّ وجلّ أي لا يقدح تثاقلكم في نصرة دينه أصلا فانه سبحانه الغني عن كل شيء وفي كل أمر، وقيل: الضمير للرسول صلّى الله عليه وسلّم فإن الله عزّ وجلّ وعده العصمة والنصر وكان وعده سبحانه مفعولا لا محالة، والأول هو المروي عن الحسن واختاره أبو علي الجبائي وغيره، ويقرب الثاني رجوع الضمير الآتي إليه عليه الصلاة والسلام اتفاقا وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيقدر على إهلاكهم والإتيان بقوم آخرين، وقيل: على التبديل وتغيير الأسباب والنصرة بلا مدد فتكون الجملة تتميما لما قبل وتوطئة لما بعد. إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا من مكة، وإسناد الإخراج إليهم إسناد إلى السبب البعيد فإن الله تعالى أذن له عليه الصلاة والسلام بالخروج حين كان منهم ما كان فخرج صلّى الله عليه وسلّم بنفسه ثانِيَ اثْنَيْنِ حال من ضميره عليه الصلاة والسلام. أي أحد اثنين من غير اعتبار كونه صلّى الله عليه وسلّم ثانيا، فإن معنى قولهم ثالث ثلاثة ورابع أربعة ونحو ذلك أحد هذه الاعداد مطلقا لا الثالث والرابع خاصة، ولذا منع الجمهور أن ينصب ما بعد بأن يقال ثالث ثلاثة ورابع أربعة، فلا حاجة إلى تكلف توجيه كونه عليه الصلاة والسلام ثانيهما كما فعله بعضهم. وقرىء «ثاني» بسكون الياء على لغة من يجري الناقص مجرى المقصور في الاعراب، وليس بضرورة خلافا لمن زعمه وقال: إنه من أحسن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 287 الضرورة في الشعر. واستشكلت الشرطية بأن الجواب فيها ماض ويشترط فيه أن يكون مستقبلا حتى إذا كان ماضيا قلب مستقبلا وهنا لم ينقلب، وأجيب بأن الجواب محذوف أقيم سببه مقامه وهو مستقبل أي إن لم تنصروه فسينصره الله تعالى الذي قد نصره في وقت ضرورة أشد من هذه المرة وإلى هذا يشير كلام مجاهد، وجوز أن يكون المراد إن لم تنصروه فقد أوجب له النصرة حين نصره في مثل ذلك الوقت فلن يخذله في غيره، وفرق بين الوجهين بعد اشتراكهما في أن جواب الشرط محذوف بأن الدال عليه على الوجه الأول النصرة المقيدة بزمان الضعف والقلة في السالف وعلى الوجه الثاني معرفتهم بأنه صلّى الله عليه وسلّم من المنصورين، وقال القطب: الوجهان متقاربان إلا أن الأول مبني على القياس والثاني على الاستصحاب فإن النصرة ثابتة في تلك الحالة فتكون ثابتة في الاستقبال إذ الأصل بقاء ما كان على ما كان، وقيل: إنه على الوجه الأول يقدر الجواب وعلى الثاني هو نصر مستمر فيصح ترتيبه على المستقبل لشموله له إِذْ هُما فِي الْغارِ بدل من إِذْ أَخْرَجَهُ بدل البعض إذ المراد به زمان متسع فلا يتوهم التغاير المانع من البدلية، وقيل: إنه ظرف لثاني اثنين والمراد بالغار ثقب في أعلى ثور وهو جبل في الجهة اليمنى لمكة على مسير ساعة، مكثا فيه كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ثلاثة أيام يختلف إليهما بالطعام عامر بن فهيرة وعلي كرم الله تعالى وجهه يجهزهما فاشترى ثلاثة أباعر من إبل البحرين واستأجر لهما دليلا، فلما كانا في بعض الليل من الليلة الثالثة أتاهم علي كرم الله وجهه بالإبل والدليل فركبوا وتوجهوا نحو المدينة، ولاختفائه عليه الصلاة والسلام في الغار ثلاثة اختفى الإمام أحمد فيما يروى زمن فتنة القرآن كذلك لكن لا في الغار، واختفى هذا العبد الحقير زمن فتح بغداد بعد المحاصرة سنة سبع وأربعين بعد الألف والمائتين خوفا من العامة وبعض الخاصة لأمور نسبت إليّ وافتراها بعض المنافقين علي في سرداب عند بعض الأحبة ثلاثة أيام أيضا لذلك ثم أخرجني منه بالعز أمين وأيدني الله تعالى بعد ذلك بالغر الميامين إِذْ يَقُولُ بدل ثان، وقيل: أول لِصاحِبِهِ وهو أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه. وقد أخرج الدارقطني وابن شاهين وابن مردويه وغيرهم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر رضي الله تعالى عنه: أنت صاحبي في الغار، وأنت معي على الحوض» وأخرج ابن عساكر من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وأبي هريرة مثله، وأخرج هو. وابن عدي من طريق الزهري عن أنس «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لحسان: هل قلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه شيئا؟ قال: نعم. قال: قل وأنا أسمع. فقال حسان رضي الله تعالى عنه. وثاني اثنين في الغار المنيف وقد ... طاف العدو به إذ صاعد الجبلا وكان حب رسول الله قد علموا ... من البرية لم يعدل به رجلا فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى بدت نواجذه ثم قال: «صدقت يا حسان هو كما قلت» ، ولم يخالف في ذلك أحد حتى الشيعة فيما أعلم لكنهم يقولون ما استعمله ورده إن شاء الله تعالى لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا بالعصمة والمعونة فهي معية مخصوصة وإلا فهو تعالى مع كل واحد من خلقه. روى الشيخان وغيرهما عن أنس قال: حدثني أبو بكر قال: «كنت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في الغار فرأيت آثار المشركين فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم رفع قدمه لأبصرنا تحت قدمه. فقال عليه الصلاة والسلام: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله تعالى ثالثهما» . وروى البيهقي وغيره. «أنه لما دخلا الغار أمر الله تعالى العنكبوت فنسجت على فم الغار وبعث حمامتين وحشيتين فباضتا فيه وأقبل فتيان قريش من كل بطن رجلا بعصيهم وسيوفهم حتى إذا كانوا قدر أربعين ذراعا تعجل بعضهم فنظر في الغار ليرى أحدا فرأى حمامتين فرجع إلى أصحابه فقال: ليس في الغار أحد ولو كان قد دخله أحد ما بقيت هاتان الحمامتان» . وجاء في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 288 رواية قال بعضهم (1) : إن عليه لعنكبوتا قبل ميلاد محمد صلّى الله عليه وسلّم فانصرفوا، وأول من دخل الغار أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فقد أخرج ابن مردويه عن جندب بن سفيان قال: لما انطلق أبو بكر رضي الله تعالى عنه مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الغار قال أبو بكر: لا تدخل يا رسول الله حتى أستبرئه فدخل الغار فأصاب يده شيء فجعل يمسح الدم عن أصبعه وهو يقول: ما أنت إلا أصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت . روى البيهقي في الدلائل، وابن عساكر «أنه لما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مهاجرا تبعه أبو بكر فجعل يمشي مرة أمامه ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن يساره. فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما هذا يا أبا بكر؟ فقال: يا رسول الله أذكر الرصد فأكون أمامك واذكر الطلب فأكون خلفك ومرة عن يمينك ومرة عن يسارك لا آمن عليك فمشى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلته على أطراف أصابعه حتى حفيت رجلاه فلما رأى ذلك أبو بكر حمله على كاهله وجعل يشتد به حتى أتى فم الغار فأنزله ثم قال: والذي بعثك بالحق لا تدخل حتى أدخله فإن كان فيه شيء نزل بي قبلك فدخل فلم ير شيئا فحمله فأدخله وكان في الغار خرق فيه حيات وأفاعي فخشى أبو بكر أن يخرج منهن شيء يؤذي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فألقمه قدمه فجعلن يضربنه ويلسعنه وجعلت دموعه تتحدر وهو لا يرفع قدمه حبا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم» . وفي رواية «أنه سد كل خرق في الغار بثوبه قطعه لذلك قطعا وبقي خرق سده بعقبه» رضي الله تعالى عنه فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ وهي الطمأنينة التي تسكن عندها القلوب عَلَيْهِ أي على النبي صلّى الله عليه وسلّم. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل. وابن عساكر في تاريخه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الضمير للصاحب. وأخرج الخطيب في تاريخه عن حبيب بن أبي ثابت نحوه، وقيل: وهو الأظهر لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم ينزعج حتى يسكن ولا ينافيه تعين ضمير وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها له عليه الصلاة والسلام لعطفه على نَصَرَهُ اللَّهُ لا على أنزل حتى تتفكك الضمائر على أنه إذا كان العطف عليه كما قيل به يجوز أن يكون الضمير للصاحب أيضا كما يدل عليه ما أخرجه ابن مروديه من حديث أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لأبي بكر رضي الله تعالى عنه: «يا أبا بكر إن الله تعالى أنزل سكينته عليك وأيدك» إلخ وأن أبيت فأي ضرر في التفكيك إذا كان الأمر ظاهرا» . واستظهر بعضهم الأول وادعى أنه المناسب للمقام، وإنزال السكينة لا يلزم أن يكون لدفع الانزعاج بل قد يكون لرفعته ونصره صلّى الله عليه وسلّم، والفاء للتعقيب الذكري وفيه بعد، وفسرها بعضهم على ذلك الاحتمال بما لا يحوم حوله شائبة خوف أصلا، والمراد بالجنود الملائكة النازلون يوم بدر، والأحزاب، وحنين، وقيل: هم ملائكة أنزلهم الله تبارك وتعالى ليحرسوه في الغار. ويؤيده ما أخرجه أبو نعيم عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنه «أن أبا بكر رأى رجلا يواجه الغار فقال: يا رسول الله إنه لرآنا قال: كلا إن الملائكة تستره الآن بأجنحتها فلم ينشب الرجل أن قعد يبول مستقبلهما فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا أبا بكر لو كان يرانا ما فعل هذا» ، والظاهر أنهما على هذا كانا في الغار بحيث يمكن رؤيتهما عادة ممن هو خارج الغار، واعترض هذا القول بأنه يأباه وصف الجنود بعد رؤية المخاطبين لهم إلا أن يقال: المراد من هذا الوصف مجرد تعظيم أمر الجنود، ومن جعل العطف على أنزل التزم القول المذكور لاقتضائه لظاهر حال الفاء أن يكون ذلك الانزال متعقبا على ما قبله وذلك مما لا يتأتى على القول الأول في الجنود وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ   (1) هو كما في بعض الروايات أمية بن خلف اهـ منه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 289 كَفَرُوا السُّفْلى أي كلمتهم التي اجتمعوا عليها في أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في دار الندوة حيث نجاه ربه سبحانه على رغم أنوفهم وحفظه من كيدهم مع أنهم لم يدعوا في القوس منزعا في إيصال الشر إليه، وجعلوا الدية لمن يقتله أو يأسره عليه الصلاة والسلام، وخرجوا في طلبه عليه الصلاة والسلام رجالا وركبانا فرجعوا صفر الأكف سود الوجوه، وصار له بعض من كان عليه عليه الصلاة والسلام. فقد أخرج ابن سعد وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: «لما خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر التفت أبو بكر فإذا هو بفارس قد لحقهم فقال: يا نبي الله هذا فارس قد لحق بنا فقال صلّى الله عليه وسلّم: اللهم اصرعه فصرع عن فرسه فقال: يا نبي الله مرني بما شئت قال: فقف مكانك لا تتركن أحدا يلحق بنا فكان أول النهار جاهدا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وآخر النهار مسلحة» وكان هذا الفارس سراقة، وفي ذلك يقول لأبي جهل: أبا حكم والله لو كنت شاهدا ... لأمر جوادي إذ تسيخ قوائمه علمت ولم تشكك بأن محمدا ... رسول ببرهان فمن ذا يقاومه وصح من حديث الشيخين وغيرهما «أن القوم طلبوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبابكر، وقال أبو بكر: ولم يدركنا منهم إلا سراقة على فرس له فقلت: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا فقال: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا حتى إذا دنا فكان بيننا وبينه قدر رمح أو رمحين أو ثلاثة قلت: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا وبكيت قال: لم تبكي؟ قلت: أما والله ما أبكي على نفسي ولكن أبكي عليك فدعا عليه الصلاة والسلام وقال: اللهم اكفناه بما شئت فساخت فرسه إلى بطنها في أرض صلدة ووثب عنها وقال: يا محمد إن هذا عملك فادع الله تعالى أن ينجيني مما أنا فيه فو الله لأعمين على من ورائي من الطلب وهذه كنانتي فخذ منها سهما فانك ستمر بإبلي وغنمي في موضع كذا وكذا فخذ منها حاجتك فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا حاجة لي فيها ودعا له فانطلق ورجع إلى أصحابه ومضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا معه حتى قدمنا المدينة» الحديث، ويجوز تفسير الكلمة بالشرك وهو الذي أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فهي مجاز عن معتقدهم الذي من شأنهم التكلم به، وفسرها بعضهم بدعوة الكفر فهي بمعنى الكلام مطلقا، وزعم شيخ الإسلام بأن الجعل المذكور على التفسيرين آب عن حمل الجنود على الملائكة الحارسين لأنه ولا يتحقق بمجرد الانجاء بل بالقتل والأسر ونحو ذلك، وأنت تعلم أنه لا إباء على التفسير الذي ذكرناه نحن على أن كون الانجاء مبدأ للجعل بتفسيريه كاف في دفع الإباء بلا امتراء وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا يحتمل أن يراد بها وعده سبحانه لنبيه صلّى الله عليه وسلّم المشار إليه بقوله تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [الأنفال: 30] وإما كلمة التوحيد كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وإما دعوة الإسلام كما قيل، ولا يخفى ما في تغيير الأسلوب من المبالغة لأن الجملة الاسمية تدل على الدوام والثبوت مع الإيذان بأن الجعل لم يتطرق لتلك الكلمة وأنها في نفسها عالية بخلاف علو غيرها فإنه غير ذاتي بل بجعل وتكلف فهو عرض زائل وأمر غير قار ولذلك وسط ضمير الفصل. وقرأ يعقوب «كلمة الله» بالنصب عطفا على كَلِمَةَ الَّذِينَ وهو دون الرفع في البلاغة، وليس الكلام عليه كأعتق زيد غلام زيد كما لا يخفى وَاللَّهُ عَزِيزٌ لا يغالب في أمره حَكِيمٌ لا قصور في تدبيره هذا. واستدل بالآية على فضل أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وهو لعمري مما يدع الرافضي في جحر ضب أو مهامه قفر فانها خرجت مخرج العتاب للمؤمنين ما عدا أبا بكر رضي الله تعالى عنه. فقد أخرج ابن عساكر عن سفيان بن عيينة قال: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 290 عاتب الله سبحانه المسلمين جميعا في نبيه صلّى الله عليه وسلّم غير أبي بكر وحده فانه خرج من المعاتبة ثم قرأ إِلَّا تَنْصُرُوهُ الآية. بل أخرج الحكيم الترمذي عن الحسن قال: عاتب الله تعالى جميع أهل الأرض غير أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال: إِلَّا تَنْصُرُوهُ إلخ. وأخرج ابن عساكر عن علي كرم الله تعالى وجهه بلفظ إن الله تعالى ذم الناس كلهم ومدح أبا بكر رضي الله تعالى عنه قال: إِلَّا تَنْصُرُوهُ إلخ، وفيها النص على صحبته رضي الله تعالى عنه لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يثبت ذلك لأحد من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام سواه، وكونه المراد من الصاحب مما وقع عليه الإجماع ككون المراد من العبد في قوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الإسراء: 1] رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومن هنا قالوا: إن انكار صحبته كفر، مع ما تضمنته من تسلية النبي عليه الصلاة والسلام له بقوله: لا تَحْزَنْ وتعليل ذلك بمعية الله سبحانه الخاصة المفادة بقوله: إِنَّ اللَّهَ مَعَنا ولم يثبت مثل ذلك في غيره بل لم يثبت نبي معية الله سبحانه له ولآخر من أصحابه وكأن في ذلك إشارة إلى أنه ليس فيهم كأبي بكر الصديق رضي الله عنه. وفي إنزال السكينة عليه بناء على عود الضمير إليه ما يفيد السكينة في أنه هو- هو- رضي الله تعالى عنه ولعن باغضيه، وكذا في انزالها على الرسول عليه الصلاة والسلام مع أن المنزعج صاحبه ما يرشد المنصف إلى أنهما كالشخص الواحد، وأظهر من ذلك إشارة ما ذكر إلى أن الحزن كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويشهد لذلك ما مر في حديث الشيخين. وأنكر الرافضة دلالة الآية على شيء من الفضل في حق الصديق رضي الله تعالى عنه قالوا: إن الدال على الفضل إن كان ثانِيَ اثْنَيْنِ فليس فيه أكثر من كون أبي بكر متما للعدد، وإن كان إِذْ هُما فِي الْغارِ فلا يدل على أكثر من اجتماع شخصين في مكان وكثيرا ما يجتمع فيه الصالح والطالح، وإن كان لِصاحِبِهِ فالصحبة تكون بين المؤمن والكافر كما في قوله تعالى: قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ [الكهف: 34] وقوله سبحانه: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [التكوير: 22] ويا صاحِبَيِ السِّجْنِ [يوسف: 39] بل قد تكون بين من يعقل وغيره كقوله: إن الحمار مع الحمير مطية ... وإذا خلوت به فبئس الصاحب وإن كان لا تَحْزَنْ فيقال: لا يخلو إما أن يكون الحزن طاعة أو معصية لا جائز أن يكون طاعة وإلا لما نهى عنه صلّى الله عليه وسلّم فتعين أن يكون معصية لمكان النهي وذلك مثبت خلاف مقصودكم على أن فيه من الدلالة على الجبن ما فيه، وإن كان إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فيحتمل أن يكون المراد إثبات معية الله تعالى الخاصة له صلّى الله عليه وسلّم وحده لكن أتى- بنا- سدّا لباب الإيحاش، ونظير ذلك الإتيان بأو في قوله: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: 24] وإن كان فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ فالضمير فيه للنبي صلّى الله عليه وسلّم لئلا يلزم تفكيك الضمائر، وحينئذ يكون في تخصيصه عليه الصلاة والسلام بالسكينة هنا مع عدم التخصيص في قوله سبحانه: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ [التوبة: 26] إشارة إلى ضد ما ادعيتموه، وإن كان ما دلت عليه الآية من خروجه مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك الوقت فهو عليه الصلاة والسلام لم يخرجه معه إلا حذرا من كيده لو بقي مع المشركين بمكة، وفي كون المجهز لهم بشراء الإبل عليا كرم الله تعالى وجهه إشارة لذلك، وإن كان شيئا وراء ذلك فبينوه لنتكلم عليه انتهى كلامهم. ولعمري إنه أشبه شيء بهذيان المحموم أو عربدة السكران ولولا أن الله سبحانه حكى في كتابه الجليل عن إخوانهم اليهود والنصارى ما هو مثل ذلك ورده رحمة بضعفاء المؤمنين ما كنا نفتح في رده فما أو نجري في ميدان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 291 تزييفه قلما لكني لذلك أقول: لا يخفى أن ثانِيَ اثْنَيْنِ وكذا إِذْ هُما فِي الْغارِ إنما يدلان بمعونة المقام على فضل الصديق رضي الله تعالى عنه ولا ندعي دلالتهما مطلقا ومعونة المقام أظهر من نار على علم ولا يكاد ينتطح كبشان في أن الرجل لا يكون ثانيا باختياره لآخر ولا معه في مكان إذا فر من عدو ما لم يكن معولا عليه متحققا صدقه لديه لا سيما وقد ترك الآخر لأجله أرضا حلت فيها قوابله وحلت عنه بها تمائمه وفارق أحبابه وجفا أترابه وامتطى غارب سبسب يضل به القطا وتقصر فيه الخطا. ومما يدل على فضل تلك الاثنينية قوله صلّى الله عليه وسلّم مسكنا جأش أبي بكر: «ما ظنك باثنين الله تعالى ثالثهما» ، والصحبة اللغوية وإن لم تدل بنفسها على المدعى لكنها تدل عليه بمعونة المقام أيضا فإضافة صاحب إلى الضمير للعهد أي صاحبه الذي كان معه في وقت يجفو فيه الخليل خليله ورفيقه الذي فارق لمرافقته أهله وقبيله، وأن لا تَحْزَنْ ليس المقصود منه حقيقة النهي عن الحزن فانه من الأمور التي لا تدخل تحت التكليف بل المقصود منه التسلية للصديق رضي الله تعالى عنه أو نحوها. وما ذكروه من الترديد يجري مثله في قوله تعالى خطابا لموسى وهارون عليهما السلام: لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما [طه: 46] وكذا في قوله سبحانه للنبي صلّى الله عليه وسلّم: وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً [يونس: 65] إلى غير ذلك، افترى أن الله سبحانه نهى عن طاعته؟ أو أن أحدا من أولئك المعصومين عليهم الصلاة والسلام ارتكب معصية سبحانك هذا بهتان عظيم، ولا ينافي كون الحزن من الأمور التي لا تدخل تحت التكليف بالنظر إلى نفسه أنه قد يكون موردا للمدح والذم كالحزن على فوات طاعة فانه ممدوح والحزن على فوات معصية فانه مذموم لأن ذلك باعتبار آخر كما لا يخفى، وما ذكر في حيز العلاوة من أن فيه من الدلالة على الجبن ما فيه فيه من ارتكاب الباطل ما فيه فإنا لا نسلم أن الخوف يدل على الجبن وإلا لزم جبن موسى وأخيه عليهما السلام فما ظنك بالحزن؟ وليس حزن الصديق رضي الله تعالى عنه بأعظم من الاختفاء بالغار، ولا يظن مسلم أنه كان عن جبن أو يتصف بالجبن أشجع الخلق على الإطلاق صلّى الله عليه وسلّم، ومن أنصف رأى أن تسليته عليه الصلاة والسلام لأبي بكر بقوله: لا تَحْزَنْ كما سلاه ربه سبحانه بقوله: لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ مشيرة إلى أن الصديق رضي الله تعالى عنه عنده عليه الصلاة والسلام بمنزلته عند ربه جل شأنه فهو حبيب حبيب الله تعالى بل لو قطع النظر عن وقوع مثل هذه التسلية من الله تعالى لنبيه النبيه صلّى الله عليه وسلّم كان نفس الخطاب ب لا- تحزن- كافيا في الدلالة على أنه رضي الله تعالى عنه حبيب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإلا فكيف تكون محاورة الأحباء وهذا ظاهر إلا عند الأعداء. وما ذكر من أن المعية الخاصة كانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحده والإتيان- بنا- لسد باب الايحاش من باب المكابرة الصرفة كما يدل الخبر المار آنفا، على أنه إذا كان ذلك الحزن إشفاقا على رسول الله عليه الصلاة والسلام لا غير فأي إيحاش في قوله لا تحزن على أن الله معي، وإن كان إشفاقا على الرسول صلّى الله عليه وسلّم وعلى نفسه رضي الله تعالى عنه لم يقع التعليل موقعه والجملة مسوقة له ولو سلمنا الايحاش على الأول ووقوع التعليل موقعه على الثاني يكون ذلك الحزن دليلا واضحا على مدح الصديق، وإن كان على نفسه فقط كما يزعمه ذو النفس الخبيثة لم يكن للتعليل معنى أصلا، وأي معنى في لا تحزن على نفسك إن الله معي لا معك» . على أنه يقال للرافضي هل فهم الصديق رضي الله تعالى عنه من الآية ما فهمت من التخصيص وأن التعبير بنا كان سدا لباب الايحاش أم لا؟ فإن كان الأول يحصل الايحاش ولا بد فنكون قد وقعنا فيما فررنا عنه، وإن كان الثاني فقد زعمت لنفسك رتبة لم تكن بالغها ولو زهقت روحك، ولو زعمت المساواة في فهم عبارات القرآن الجليل وإشاراته لمصاقع أولئك العرب المشاهدين للوحي ما سلم لك أو تموت فكيف يسلم لك الامتياز على الصديق وهو- هو- وقد فهم من إشارته صلّى الله عليه وسلّم في حديث التخيير ما خفي على سائر الصحابة حتى علي كرم الله وجهه فاستغربوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 292 بكاءه رضي الله تعالى يومئذ، وما ذكر من التنظير في الآية مشير إلى التقية التي اتخذها الرافضة دينا وحرفوا لها الكلم عن مواضعها، وقد أسلفنا لك الكلام في ذلك على أتم وجه فتذكره، وما ذكر في أمر السكينة فجوابه يعلم مما ذكرناه، وكون التخصيص مشيرا إلى إخراج الصديق رضي الله تعالى عنه عن زمرة المؤمنين كما رمز إليه الكلب عدو الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم- لو كان- ما خفي على أولئك المشاهدين للوحي الذين من جملتهم الأمير كرم الله تعالى وجهه فكيف مكنوه من الخلافة التي هي أخت النبوة عند الشيعة وهم الذين لا تأخذهم في الله تعالى لومة لائم، وكون الصحابة قد اجتمعوا في ذلك على ضلالة، والأمير كان مستضعفا فيما بينهم أو أو مأمورا وغمد السيف إذ ذاك كما زعمه المخالف قد طوى بساط رده وعاد شذر مذر فلا حاجة إلى إتعاب القلم في تسويد وجه زاعمه، وما ذكر من أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يخرجه إلا حذرا من كيده فيه أن الآية ليس فيها شائبة دلالة على إخراجه له أصلا فضلا عن كون ذلك حذرا من الكيد، على أن الحذر- لو كان- في معيته له عليه الصلاة والسلام وأي فرصة تكون مثل الفرصة التي حصلت حين جاء الطلب لباب الغار؟ فلو كان عند أبي بكر رضي الله تعالى عنه وحاشاه أدنى ما يقال لقال: هلموا فههنا الغرض، ولا يقال: إنه خاف على نفسه أيضا لأنه يمكن أن يخلصها منهم بأمور ولا أقل من أن يقول لهم: خرجت لهذه المكيدة، وأيضا لو كان الصديق كما يزعم الزنديق فأي شيء منعه من أن يقول لابنه عبد الرحمن أو ابنته أسماء أو مولاه عامر بن فهيرة فقد كانوا يترددون إليه في الغار كما أخرج ابن مردويه عن عائشة فيخبر أحدهم الكفار بمكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، على أنه على هذا الزعم يجيء حديث التمكين وهو أقوى شاهد على أنه هو- هو- وأيضا إذا انفتح باب هذا الهذيان أمكن للناصبي أن يقول والعياذ بالله تعالى في علي كرم الله تعالى وجهه: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يأمره بالبيتوتة على فراشه الشريف ليلة هاجر إلا ليقتله المشركون ظنا منهم أنه النبي صلّى الله عليه وسلّم فيستريح منه، وليس هذا القول بأعجب ولا أبطل من قول الشيعي: إن إخراج الصديق إنما كان حذرا من شره فليتق الله سبحانه من فتح هذا الباب المستهجن عند ذوي الألباب، وزعم أن تجهيز الأمير كرم الله تعالى وجهه لهم بشراء الأباعر إشارة إلى ذلك لا يشير بوجه من الوجوه، على أن ذلك وإن ذكرناه فيما قبل إنما جاء في بعض الروايات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والمعول عليه عند المحدثين غير ذلك، ولا بأس بايرادة تكميلا للفائدة وتنويرا لفضل الصديق رضي الله تعالى عنه فنقول: أخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد والبخاري وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق الزهري عن عروة عن عائشة قالت: لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين ولم يمرر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طرفي النهار بكرة وعشية ولما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا قبل أرض الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة فقال ابن الدغنة: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي. قال ابن الدغنة: مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج إنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق فأنا لك جار فارجع فاعبد ربك ببلدك فارتحل ابن الدغنة فرجع مع أبي بكر فطاف ابن الدغنة في كفار قريش فقال: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكل ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة وأمنوا أبا بكر وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره وليصلّ فيه ما شاء وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا ولا يستعلن بالصلاة والقراءة في غير داره ففعل ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره فكان يصلي فيه ويقرأ فيتقصف (1) عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه   (1) أي يزدحم اهـ منه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 293 وينظرون إليه وكان رجلا بكاء لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن فأفزع ذلك اشراف قريش فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا: إنما أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره وأنه جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره وأعلن بالصلاة والقراءة وإنا خشينا أن يفتتن نساؤنا وأبناؤنا فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل وإن أبى إلا أن يعلن ذلك فسله أن يرد إليك ذمتك فإنا قد كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان فأتى ابن الدغنة أبا بكر فقال: يا أبا بكر قد علمت الذي عقدت لك عليه فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترد إليّ ذمتي فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في عقد رجل عقدت له فقال أبو بكر: فإني أرد إليك جوارك وأرضى بجوار الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام ورسوله صلّى الله عليه وسلّم بمكة يومئذ قال للمسلمين: قد أريت دار هجرتكم أريت سبخة ذات نخل بين لابتين وهما حرمان فهاجر من هاجر قبل المدينة إلى أرض الحبشة من المسلمين وتجهز أبو بكر مهاجرا فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي. فقال أبو بكر: وترجو ذلك بأبي أنت؟ قال: نعم. فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لصحبته وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر أربعة أشهر فبينما نحن جلوس في بيتنا في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر. هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقبلا في ساعة لم يكن يأتينا فيها فقال أبو بكر: فداه أبي وأمي إن جاء به في هذه الساعة إلا أمر فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاستأذن من عندك؟ فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فإنه قد أذن لي بالخروج. فقال أبو بكر: فالصحابة بأبي أنت يا رسول الله فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: نعم. فقال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: بالثمن قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز فصنعنا لهما سفرة في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر من نطاقها فأوكت به الجراب فلذلك كانت تسمى ذات النطاق. ولحق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر بغار في جبل يقال له ثور فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف لقن فيخرج من عندهما سحرا فيصبح مع قريش بمكة كبائت فلا يسمع أمرا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حتى يختلط الظلام ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى لأبي بكر منيحة من غنم فيريحها عليهما حين يذهب بغلس ساعة من الليل فيبيتان في رسلها حتى ينعق بها عامر بغلس يفعل ذلك كل ليلة من تلك الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا من الدئل من بني عبد بن عدي هاديا خريتا قد غمس يمين حلف في آل العاص بن وائل وهو على دين كفار قريش فأمناه فدفعها لهما راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث فأتاهما براحلتيهما صبيحة ثلاث ليال فأخذ بهم طريق إذاخر وهو طريق الساحل» الحديث بطوله، وفيه من الدلالة على فضل الصديق رضي الله تعالى عنه ما فيه، وهو نص في أن تجهيزهما كان في بيت أبي بكر وأن الراحلتين كانتا له، وذكر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يقبل إحداهما إلا بالثمن يرد على الرافضي زعم تهمة الصديقة وحاشاها في الحديث. هذا ومن أحاط خبرا بأطراف ما ذكرناه من الكلام في هذا المقام علم أن قوله: وإن كان شيئا وراء ذلك فبينوه لنا حتى نتكلم عليه ناشىء عن محض الجهل أو العناد وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الرعد: 33] وبالجملة إن الشيعة قد اجتمعت كلمتهم على الكفر بدلالة الآية على فضل الصديق رضي الله تعالى عنه ويأبى الله تعالى إلا أن يكون كلمة الذين كفروا السفلى وكلمته هي العليا انْفِرُوا تجريد للأمر بالنفور بعد التوبيخ على تركه والإنكار على المساهلة فيه، وقوله سبحانه: خِفافاً وَثِقالًا حالان من ضمير المخاطبين أي على كل حال من يسر أو عسر حاصلين بأي سبب كان من الصحة والمرض أو الغنى والفقر أو قلة العيال وكثرتهم أو الكبر والحداثة أو السمن والهزال أو غير ذلك مما ينتظم في مساعدة الأسباب وعدمها بعد الإمكان والقدرة في الجملة. أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي يزيد المديني قال: كان أبو أيوب الأنصاري والمقداد بن الأسود يقولان: أمرنا أن ننفر على كل حال ويتأولان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 294 الآية. وأخرجا عن مجاهد قال: قالوا إن فينا الثقيل وذا الحاجة والصنعة والشغل والمنتشر به أمره فأنزل الله تعالى انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وأبى أن يعذرهم دون أن ينفروا خفافا وثقالا وعلى ما كان منهم، فما روي في تفسيرهما من قولهم: خفافا من السلاح وثقالا منه أو ركبانا ومشاة أو شبانا وشيوخا أو أصحاء ومراضا إلى غير ذلك ليس تخصيصا للأمرين المتقابلين بالإرادة من غير مقارنة للباقي. وعن ابن أم مكتوم أنه قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أعليّ أن أنفر؟ قال: نعم. حتى نزل لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ [الفتح: 17] وأخرج ابن أبي حاتم. وغيره عن السدي قال: لما نزلت هذه الآية اشتد على الناس شأنها فنسخها الله تعالى فقال: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى [التوبة: 91] الآية. وقيل: إنها منسوخة بقوله تعالى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التوبة: 122] وهو خلاف الظاهر، ويفهم من بعض الروايات أن لا نسخ فقد أخرج ابن جرير والطبراني والحاكم وصححه عن أبي راشد قال: رأيت المقداد فارس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحمص يريد الغزو فقلت: لقد أعذر الله تعالى إليك قال: أبت علينا سورة البحوث يعني هذه الآية منها. وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي بما أمكن لكم منهما كليهما أو أحدهما والجهاد بالمال إنفاقه على السلاح وتزويد الغزاة ونحو ذلك ذلِكُمْ أي ما ذكر من النفير والجهاد، وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة خَيْرٌ عظيم في نفسه لَكُمْ في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما، ويجوز أن يكون المراد خير لكم مما يبتغى بتركه من الراحة والدعة وسعة العيش والتمتع بالأموال والأولاد. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي إن كنتم تعلمون الخير علمتم أنه خير أو إن كنتم تعلمون أنه خير إذ لا احتمال لغير الصدق في إخباره تعالى فبادروا إليه، فجواب إن مقدر. وعلم اما متعدية لواحد بمعنى عرف تقليلا للتقدير أو متعدية لاثنين على بابها هذا. «ومن باب الإشارة في الآيات» أن قوله سبحانه لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ إلخ إشارة إلى أنه لا ينبغي للعبد أن يحتجب بشيء عن مشاهدة الله تعالى والتوكل عليه ومن احتجب بشيء وكل إليه، ومن هنا قالوا: استجلاب النصر في الذلة والافتقار والعجز، ولما رأى سبحانه ندم القوم على عجبهم بكثرتهم ردهم إلى ساعة جوده وألبسهم أنوار قربه وأمدهم بجنوده وإليه الإشارة بقوله تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ الآية، وكانت سكينته عليه الصلاة والسلام- كما قال بعض العارفين- من مشاهدة الذات وسكينة المؤمنين من معاينة الصفات، ولهم في تعريف السكينة عبارات كثيرة متقاربة المعنى فقيل: هي استحكام القلب عند جريان حكم الرب بنعت الطمأنينة بخمود آثار البشرية بالكلية والرضا بالبادي من الغيب من غير معارضة واختيار، وقيل: هي القرار على بساط الشهود وبشواهد الصحو والتأدب بإقامة صفاء العبودية من غير لحوق مشقة ولا تحرك عرق بمعارضة حكم، وقيل: هي المقام مع الله تعالى بفناء الحظوظ. والجنود روادف آثار قوة تجلي الحق سبحانه، ويقال: هي وفود اليقين وزوائد الاستبصار. والإشارة في قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ إلخ إلى أن من تدنس بالميل إلى السوي وأشرك بعبادة الهوى لا يصلح للحضرة وهل يصلح لبساط القدس إلا المقدس. وذكر أبو صالح حمدون أن المشرك في عمله من يحسن ظاهره لملاقاة الناس ومخالطتهم ويظهر للخلق أحسن ما عنده وينظر إلى نفسه بعين الرضا عنه وينجس باطنه بنحو الرياء والسمعة والعجب والحقد ونحو ذلك فالحرم الإلهي حرام على هذا وهيهات هيهات أن يلج الملكوت أو يلج الجمل في سم الخياط، وقال بعض العارفين: من فقد طهارة الاسرار بماء التوحيد وبقي في قاذورات الظنون والأوهام فذلك هو المشرك وهو ممنوع عن قربان المساجد التي هي مشاهد القرب. وفي الآية إشارة إلى منع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 295 الاختلاط مع المشركين، وقاس الصوفية أهل الدنيا بهم، ومن هنا قال الجنيد: الصوفية أهل غيب لا يدخل فيهم غيرهم. وقال بعضهم: من بقي في قلبه نظر إلى غير خالقه لا يجوز أن يجوز أن يدنو إلى مجالس الأولياء غير مستشف بهم فإن صحبته تشوش خواطرهم وينجس بنفسه أنفاسهم، وصحبة المنكر على أولياء الله تعالى تورث فتقا يصعب على الخياط رتقه وتؤثر خرقا يعيي الواعظ رقعه، ومن الغريب ما يحكى أن الجنيد قدس سره جلس يوما مع خاصة أصحابه وقد أغلق باب المجلس حذرا من الأغيار وشرعوا يذكرون الله تعالى فلم يتم لهم الحضور ولا فتح لهم باب التجلي الذي يعهدونه عند الذكر فتعجبوا من ذلك فقال الجنيد. هل معكم منكر حرمنا بسببه؟ فقالوا: لا. ثم اجتهدوا في معرفة المانع فلم يجدوا إلا نعلا لمنكر فقال الجنيد: من هنا أوتينا، فانظر يرحمك الله تعالى إذا كان هذا حال نعل المنكر فما ظنك به إذا حضر بلحيته؟. ثم إنه سبحانه ذم أهل الكتابين بالاحتجاب عن رؤية الحق سبحانه حيث قال جل شأنه: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وفيه إشارة إلى ذم التقليد الصرف وذم البخلاء بقوله سبحانه: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ الآية، ولعمري إنهم أحقاء بالذم، وقد قال بعضهم: من بخل بالقليل من ملكه فقد سد على نفسه باب نجاته وفتح عليها طريق هلاكه. ولا يخفى أن جمع المال وكنزه وعدم الانفاق لا يكون إلا لاستحكام رذيلة الشح وكل رذيلة كية يعذب بها صاحبها في الآخرة ويخزى بها في الدنيا. ولما كانت مادة رسوخ تلك الرذيلة واستحكامها هي ذلك المال كان هو الذي يحمى عليه في نار جهنم الطبيعة وهاوية الهوى فيكوى صاحبه به، وخصت هذه الأعضاء لأن الشح مركوز في النفس والنفس تغلب القلب من هذه الجهات لا من جهة العلو التي هي جهة استيلاء الروح وممد الحقائق والأنوار ولا من جهة السفلى التي هي جهة الطبيعة الجسمانية لعدم تمكن الطبيعة من ذلك فبقيت سائر الجهات فيؤذى بذلك من الجهات الأربع ويعذب، وهذا كما تراه يعاب في الدنيا ويخزى من هذه الجهات فيواجه بالذم جهرا فيفضح أو يسار في جنبه أو يغتاب من وراء ظهره قاله بعض العارفين. ولهم في قوله سبحانه: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً تأويل بعيد يطل من محله، وقوله سبحانه: إِلَّا تَنْصُرُوهُ إلخ عتاب للمتثاقلين أو لأهل الأرض كافة وارشاد إلى أنه عليه الصلاة والسلام مستغن بنصرة الله عن نصرة المخلوقين. وفيه إشارة إلى رتبة الصديق رضي الله تعالى عنه فقد انفرد برسول الله صلّى الله عليه وسلّم انفراده عليه الصلاة والسلام بربه سبحانه في مقام قاب قوسين، ومعنى إِنَّ اللَّهَ مَعَنا على ما قال ابن عطاء إنه معنا في الأزل حيث وصل بيننا بوصلة الصحبة وأثر هذه المعية قد ظهر في الدنيا والآخر فلم يفارقه حيا ولا ميتا، وقيل: معنا بظهور عنايته ومشاهدته وقربه الذي لا يكيف، ولله تعالى در من قال: يا طالب الله في العرش الرفيع به ... لا تطلب العرش إن المجد للغار ولا يخفى ما بين قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: إِنَّ اللَّهَ مَعَنا وقول موسى عليه السلام: إِنَّ مَعِي رَبِّي [الشعراء: 62] من الفرق الظاهر لأرباب الأذواق حيث قدم نبينا صلّى الله عليه وسلّم اسمه تعالى عليه وعكس موسى عليه السلام، وأتى صلّى الله عليه وسلّم بالاسم الجامع وأتى الكليم باسم الرب، وأتى عليه الصلاة والسلام- بنا- في مَعَنا وأتى موسى عليه السلام بياء المتكلم لأن نبينا صلّى الله عليه وسلّم على خلق لم يكن عليه موسى عليه الصلاة والسلام. والضمير في قوله تعالى: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ إن كان للصاحب فالأمر ظاهر وإن كان للنبي عليه الصلاة والسلام فيقال: في ذلك إشارة إلى مقام الفناء في الشيخ إذ ذاك. وقال بعض الأكابر: أنزلت السكينة عليه عليه الصلاة والسلام لتسكين قلب الصديق رضي الله تعالى عنه وإذهاب الحزن عنه بطريق الانعكاس والاشراق ولو أنزلت على الصديق بغير واسطة لذاب لها ولعظمها فكأنه قيل: أنزل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 296 سكينة صاحبه عليه. انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا أي انفروا إلى طاعة مولاكم خفافا بالأرواح ثقالا بالقلوب، أو خفافا بالقلوب وثقالا بالأجسام بأن يطيعوه بالأعمال القلبية والقالبية، أو خفافا بأنوار المودة وثقالا بأمانات المعرفة، أو خفافا بالبسط وثقالا بالقبض، وقيل: خفافا بالطاعة وثقالا عن المخالفة. وقيل غير ذلك وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ بأن تنفقوها للفقراء وَأَنْفُسِكُمْ بأن تجودوا بها لله تعالى ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ في الدارين إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ذلك والله تعالى الموفق للرشاد. لَوْ كانَ أي ما دعوا إليه كما يدل عليه ما تقدم عَرَضاً قَرِيباً أي غنما سهل المأخذ قريب المنال، وأصل العرض ما عرض لك من منافع الدنيا ومتاعها. وفي الحديث «الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر» وَسَفَراً قاصِداً أي متوسطا بين القرب والبعد وهو من باب تامر ولابن لَاتَّبَعُوكَ أي لوافقوك في النفير طمعا في الفوز بالغنيمة، وهذا شروع في تعديد ما صدر عنهم من الهنات قولا وفعلا وبيان قصور همهم وما هم عليه من غير ذلك، وقيل: هو تقرير لكونهم متثاقلين مائلين إلى الإقامة بأرضهم، وتعليق الاتباع بكلا الأمرين يدل على عدم تحققه عند توسط السفر فقط وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ أي المسافة التي تقطع بمشقة. وقرأ عيسى بن عمر «بعدت» بكسر العين «والشّقة» بكسر الشين، وبعد يبعد كعلم يعلم لغة واختص ببعد الموت غالبا، وجاء لا تبعد للتفجع والتحسر في المصائب كما قال: لا يبعد الله إخوانا لنا ذهبوا ... أفناهم حدثان الدهر والأبد وَسَيَحْلِفُونَ أي المتخلفون عن الغزو بِاللَّهِ متعلق بسيحلفون، وجور أن يكون من جملة كلامهم ولا بد من تقدير القول في الوجهين أي سيحلفون عند رجوعك من غزوة تبوك بالله قائلين لَوِ اسْتَطَعْنا أو سيحلفون قائلين بالله لو استطعنا إلخ، وقيل: لا حاجة إلى تقدير القول لأن الحلف من جنس القول وهو أحد المذهبين المشهورين، والمعنى لو كان لنا استطاعة من جهة العدة أو من جهة الصحة أو من جهتيهما معا حسبما عنّ لهم من التعلل والكذب لَخَرَجْنا مَعَكُمْ لما دعوتمونا إليه وهذا جواب القسم وجواب لو محذوف على قاعدة اجتماع القسم والشرط إذا تقدم القسم وهو اختيار ابن عصفور، واختار ابن مالك أنه جواب لَوْ ولو جوابها جواب القسم، وقيل: إنه ساد مسد جوابي القسم والشرط جميعا، والقسم على الاحتمال الأول ظاهر وأما على الثاني فلأن لَوِ اسْتَطَعْنا في قوة بالله لو استطعنا لأنه بيان لسيحلفون بالله وتصديق له كما قيل. واعترض القول الأخير بأنه لم يذهب إليه أحد من أهل العربية. وأجيب بأن مراد القائل أنه لما حذف جواب لَوْ دل عليه جواب القسم جعل كأنه ساد مسد الجوابين. وقرأ الحسن والأعمش «لو استطعنا» بضم الواو تشبيها لها بواو الجمع كما في قوله تعالى: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ [البقرة: 94، الجمعة: 6] واشْتَرَوُا الضَّلالَةَ [البقرة: 16، 175] وقرىء بالفتح أيضا يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بايقاعها في العذاب، قيل: وهو بدل من سَيَحْلِفُونَ واعترض بأن الهلاك ليس مرادفا للحلف ولا هو نوع منه، ولا يجوز أن يبدل فعل من فعل إلا أن يكون مرادفا له أو نوعا منه. وأجيب بأن الحلف الكاذب إهلاك للنفس ولذلك قال صلّى الله عليه وسلّم: «اليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع» وحاصله أنهما ترادفان ادعاء فيكون بدل كل من كل، وقيل إنه بدل اشتمال إذ الحلف سبب للاهلاك والمسبب يبدل من السبب لاشتماله عليه، وجوز أن يكون حالا من فاعله أي سيحلفون مهلكين أنفسهم، وأن يكون حالا من فاعل لَخَرَجْنا جيء به على طريقة الاخبار عنهم كأنه قيل: نهلك أنفسنا أي لخرجنا مهلكين أنفسنا كما في قولك: حلف ليفعلن مكان لأفعلن ولكن فيه بعد. وجوز أبو البقاء الاستئناف وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في مضمون الشرطية وفيما ادعوا ضمنا من انتفاء تحقق المقدم حيث كانوا مستطيعين للخروج ولم يخرجوا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 297 واستدل بالآية على أن القدرة قبل الفعل عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ أي لأن سبب أذنت لهؤلاء الحالفين المتخلفين في التخلف حين استأذنوا فيه معتذرين بعدم الاستطاعة، وهذا عتاب لطيف من اللطيف الخبير سبحانه لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم على ترك الأولى وهو التوقف عن الاذن إلى انجلاء الأمر وانكشاف الحال المشار إليه بقوله سبحانه: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا أي فيما أخبروا به عند الاعتذار من عدم الاستطاعة وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ أي في ذلك، فحتى سواء كانت بمعنى اللام أو إلى متعلقة بما يدل عليه لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ كأنه قيل: لم سارعت إلى الإذن لهم ولم تتوقف حتى ينجلي الأمر كما هو قضية الحزم اللائق بشأنك الرفيع يا سيد أولي العزم. ولا يجوز أن تتعلق بالمذكور نفسه مطلقا لاستلزامه أن يكون إذنه عليه الصلاة والسلام لهم معللا أو مغيّا بالتبين والعلم ويكون توجه الاستفهام إليه من تلك الحيثية وهو بين الفساد، وكلتا اللامين متعلقة بالاذن وهما مختلفتان معنى فإن الأولى للتعليل والثانية للتبليغ والضمير المجرور لجميع من أشير إليه. وتوجيه الإنكار إلى الإذن باعتبار شموله للكل لا باعتبار تعلقه بكل فرد فرد لتحقق عدم استطاعة البعض على ما ينبىء عنه ما في حيز حَتَّى والتعبير عن الفريق الأول بالموصول الذي صلته فعل دال على الحدوث وعن الفريق الثاني باسم الفاعل المفيد للدوام للايذان بأن ما ظهر من الأولين صدق حادث في أمر خاص غير مصحح لنظمهم في سلك الصادقين وأن ما صدر من الآخرين وإن كان كذبا حادثا متعلقا بأمر خاص لكنه جار على عادتهم المستمرة ناشىء عن رسوخهم في الكذب، والتعبير عن ظهور الصدق بالتبين وعما يتعلق بالكذب بالعلم لما اشتهر من أن مدلول الخبر هو الصدق والكذب احتمال عقلي وإسناد العلم له صلّى الله عليه وسلّم دون المعلومين بأن يبنى الفعل للمفعول مع إسناد التبين للأولين أن المقصود هاهنا علمه عليه الصلاة والسلام بهم ومؤاخذتهم بموجبه بخلاف الأولين حيث لا مؤاخذة عليهم وإسناد التبين إليهم وتعليق العلم بالآخرين مع أن مدار الاستناد والتعلق أولا وبالذات هو وصف الصدق والكذب كما أشير إليه لما أن القصد هو العلم بكلا الفريقين باعتبار اتصافهما بوصفيهما المذكورين ومعاملتهما بحسب استحقاقهما لا العلم بالوصفين بذاتيهما أو باعتبار قيامهما بموصوفيهما قاله شيخ الإسلام ولا يخفى حسنه. وفي تصدير الخطاب بما صدر به تعظيم لقدر النبي صلّى الله عليه وسلّم وتوقير له وتوفير لحرمته عليه الصلاة والسلام، وكثيرا ما يصدر الخطاب بنحو ما ذكر لتعظيم المخاطب فيقال: عفا الله تعالى عنك ما صنعت في أمري؟، ورضي الله سبحانه عنك ما جوابك عن كلامي؟ والغرض التعظيم، ومن ذلك قول علي بن الجهم يخاطب المتوكل وقد أمر بنفيه: عفا الله عنك ألا حرمة ... تجود بفضلك يا ابن العلا ألم تر عبدا عدا طوره ... ومولى عفا ورشدا هدى أقلني أقالك من لم يزل ... يقيك ويصرف عنك الردى ومما ينظم في هذا السلك ما روي من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد عجبت من يوسف عليه السلام وكرمه وصبره والله تعالى يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى أشترط أن يخرجوني» . وأخرج ابن المنذر. وغيره عن عون بن عبد الله قال: سمعتم بمعاتبة أحسن من هذا بدأ بالعفو قبل المعاتبة. وقال السجاوندي: إن فيه تعليم تعظيم النبي صلوات الله سبحانه عليه وسلامه ولولا تصدير العفو في العتاب لما قام بصولة الخطاب. وعن سفيان بن عيينة أنه قال: انظروا إلى هذا اللطف بدأ بالعفو قبل ذكر المعفو. ولقد أخطأ وأساء الأدب وبئسما فعل فيما قال وكتب صاحب الكشاف كشف الله تعالى عنه ستره ولا أذن له ليذكر عذره حيث زعم أن الكلام كناية عن الجناية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 298 وأن معناه أخطأت وبئسما فعلت. وفي الانتصاف ليس له أن يفسر هذه الآية بهذا التفسير وهو بين أحد الأمرين إما أن لا يكون هو المراد أو يكون ولكن قد أجل الله تعالى نبيه الكريم عن مخاطبته بذلك ولطف به في الكناية عنه أفلا يتأدب بآداب الله خصوصا في حق المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، فعلى التقديرين هو ذاهل عما يجب من حقه عليه الصلاة والسلام. ويا سبحان الله من أين أخذ عامله الله تعالى بعدله ما عبر عنه ببئسما، والعفو لو سلم مستلزم للخطأ فهو غير مستلزم لكونه من القبح واستتباع اللائمة بحيث يصحح هذه المرتبة من المشافهة بالسوء ويسوغ إنشاء الاستقباح بكلمة بئسما المنبئة عن بلوغ القبح إلى رتبة يتعجب منها، واعتذر عنه صاحب الكشف حيث قال: أراد أن الأصل ذلك وأبدل بالعفو تعظيما لشأنه صلّى الله عليه وسلّم وتنبيها على لطف مكانه ولذلك قدم العفو على ذكر ما يوجب الجناية، وليس تفسيره هذا بناء على أن العدول إلى عفا الله لا للتعظيم حتى يخطأ. وأما المستعمل لمجرد التعظيم فهو إذا كان دعاء لا خبرا، على أن الدعاء قد يستعمل للتعريض بالاستقصاء كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «رحم الله تعالى أخي لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد» وتحقيقه أنه لا يخلو عن حقارة بشأن المخاطب أو الغائب حسب اختلاف الصيغة، وأما التعظيم أو التعريض فقد وقد انتهى، ولا يخفى ما فيه فهو اعتذار غير مقبول عند ذوي العقول. وكم لهذه السقطة في الكشاف نظائر، ولذلك امتنع من إقرائه بعض الأكابر كالإمام السبكي عليه الرحمة، وليت العلامة البيضاوي لم يتابعه في شيء من ذلك، وهذا، واستدل بالآية من زعم صدور الذنب منه عليه الصلاة والسلام، وذلك من وجهين: الأول: أن العفو يستدعي سابقة الذنب، الثاني: أن الاستفهام الإنكاري بقوله سبحانه: لِمَ أَذِنْتَ يدل على أن ذلك الإذن كان معصية، والمحققون على أنها خارجة مخرج العتاب كما علمت على ترك الأولى والأكمل قالوا: لا يخفى أنه لم يكن كما في خروجهم مصلحة للدين أو منفعة للمسلمين بل كان فيه فساد وخبال حسبما نطق به قوله تعالى: لَوْ خَرَجُوا إلخ، وقد كرهه سبحانه وتعالى كما يفصح عنه قوله جل وعلا: وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ الآية، نعم كان الأولى تأخير الإذن حتى يظهر كذبهم ويفتضحوا على رؤوس الأشهاد، ولا يتمكنوا من التمتع بالعيش على الأمن والدعة ولا يتسنى لهم الابتهاج فيما بينهم بأنهم غروه صلّى الله عليه وسلّم وأرضوه بالأكاذيب على أنهم لم ينهأ لهم عيش ولا قرت لهم عين إذ لم يكونوا على أمن واطمئنان بل كانوا على خوف من ظهور أمرهم وقد كان. ومن الناس من ضعف الاستدلال بالآية على ما ذكر بأنا لو نسلم أن عَفَا اللَّهُ يستدعي سابقة الذنب والسند ما أشرنا إليه فيما مر سلمنا لكن لا نسلم أن قوله سبحانه: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ مقول على سبيل الإنكار عليه عليه الصلاة والسلام لأنه لا يخلو إما أن يكون صدر منه صلّى الله عليه وسلّم ذنب في هذه الواقعة أو لم يصدر وعلى التقديرين يمتنع أن يكون ما ذكر إنكارا، أما على الأول فلأنه إذا لم يصدر عنه ذنب فكيف يتأتى الإنكار عليه، وأما على الثاني فلأن صدر الآية يدل على حصول العفو وبعد حصوله يستحيل توجه الإنكار فافهم. واستدل بها جمع على أن له صلّى الله عليه وسلّم اجتهادا وأنه قد يناله منه أجر واحد والوجه فيه ظاهر، وما فعله صلّى الله عليه وسلّم في هذه الواقعة أحد أمرين فعلهما ولم يؤمر يفعلهما كما أخرج ابن جرير وغيره عن عمرو بن ميمون، ثانيهما أخذه صلّى الله عليه وسلّم الفداء من الأسارى وقد تقدم. وادعى بعضهم الحصر في هذين الأمرين، واعترض بأنه غير صحيح فإن لهما ثالثا وهو المذكور في سورة التحريم وغير ذلك كالمذكور في سورة عبس، وأجيب بأنه يمكن تقييد الأمرين بما يتعلق بأمر الجهاد والله تعالى ولي الرشاد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 299 لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تنبيه على أنه ينبغي أن يستدل عليه الصلاة والسلام باستئذانهم على حالهم ولا يأذن لهم أي ليس من شأن المؤمنين وعادتهم أن يستأذنوك في أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فإن الخلص منهم يبادرون إليه من غير توقف على الإذن فضلا عن أن يستأذنوك في التخلف عنه، أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من خير معاش الناس رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه كلما سمع هيعة أو فزعا طار على متنه يبتغي القتل أو الموت مظانه» ونفي العادة مستفاد من نفي الفعل المستقبل الدال على الاستمرار نحو فلان يقري الضيف ويحمي الحريم، فالكلام محمول على الاستمرار، ولو حمل على استمرار النفي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فيكون المعنى عادتهم عدم الاستئذان لم يبعد، ومثل هذا قول الحماسي: لا يسألون أخاهم بين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا قيل: وهذا الأدب يجب أن يقتفى مطلقا فلا يليق بالمرء أن يستأذن أخاه في أن يسدي إليه معروفا ولا بالمضيف أن يستأذن ضيفه في أن يقدم إليه طعاما فإن الاستئذان في مثل هذه المواطن أمارة التكلف والتكره، ولقد بلغ من كرم الخليل صلوات الله تعالى وسلامه عليه وأدبه مع ضيوفه أنه لا يتعاطى شيئا من أسباب التهيؤ للضيافة بمرأى منهم فلذلك مدحه الله تعالى على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام بهذه الخلة الجميلة والآداب الجليلة فقال سبحانه: فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات: 26] أي ذهب على خفاء منهم كيلا يشعروا به، وجوز أن يكون متعلق الاستئذان محذوفا وأَنْ يُجاهِدُوا بتقدير كراهة أن يجاهدوا، والمحذوف قيل: التخلف عليه، والمعنى لا يستأذنك المؤمنون في التخلف كراهة الجهاد، والنفي متوجه للاستئذان والكراهة معا، وقال بعض: إنه متوجه إلى القيد وبه ويمتاز المؤمن من المنافق وهو وإن كان في نفسه أمرا خفيا لا يوقف عليه بادىء الأمر لكن عامة أحوالهم لما كانت منبئة عن ذلك جعل أمرا ظاهرا مقررا. وقيل: الجهاد أي لا يستأذنك المؤمنون في الجهاد كراهة أن يجاهدوا، وتعقب بأنه مبني على أن الاستئذان في الجهاد ربما يكون لكراهة، ولا يخفى أن الاستئذان في الشيء لكراهته مما لا يقع بل لا يعقل، ولو سلم وقوعه فالاستئذان لعلة الكراهة مما لا يمتاز بحسب الظاهر من الاستئذان لعلة الرغبة، لو سلم فالذي نفي عن المؤمنين يجب أن يثبت للمنافقين وظاهر أنهم لم يستأذنوا في الجهاد لكراهتهم له بل إنما استأذنوا في التخلف فتدبر وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ شهادة لهم بالتقوى لوضع المظهر فيه موضع المضمر أو إرادة جنس المتقين ودخولهم فيه دخولا أوليا وعدة لهم بالثواب الجزيل، فإن قولنا: أحسنت إلي فأنا أعلم بالمحسن وعد بأجزل الثواب وأسأت إلي فأنا أعلم بالمسيء وعيد بأشد العقاب، قيل: وفي ذلك تقرير لمضمون ما سبق كأنه قيل: والله عليم بأنهم كذلك وإشعار بأن ما صدر عنهم معلل بالتقوى إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ أي في التخلف الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تخصيص الإيمان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 301 بهما في الموضعين للايذان بأن الباعث على الجهاد والمانع عنه الإيمان بهما وعدم الإيمان بهما فمن آمن بهما قاتل في سبيل دينه وتوحيده وهان عليه القتل فيه لما يرجوه في اليوم الآخر من النعيم المقيم ومن لم يؤمن بمعزل عن ذلك، على أن الإيمان بهما مستلزم للإيمان بسائر ما يجب الإيمان به وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ عطف على الصلة، وإيثار صيغة الماضي للدلالة على تحقق الريب وتقرره فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ وشكهم المستمر في قلوبهم يَتَرَدَّدُونَ أي يتحيرون، وأصل معنى التردد الذهاب والمجيء وأريد به هنا التحير مجازا أو كناية لأن المتحير لا يقر في مكان. والآية نزلت كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في المنافقين حين استأذنوا في القعود عن الجهاد بغير عذر وكانوا على ما في بعض الروايات تسعة وثلاثين رجلا. وأخرج أبو عبيد وابن المنذر وغيرهما عنه أن قوله تعالى: لا يَسْتَأْذِنُكَ إلخ نسخته الآية التي في [النور: 62] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فجعل الله النبي صلّى الله عليه وسلّم بأعلى النظرين في ذلك من غزا غزا في فضيلة ومن قعد قعد في غير حرج إن شاء. وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً أي أهبة من الزاد والراحلة وسائر ما يحتاج إليه المسافر في السفر الذي يريده. وقرىء «عدّة» بضم العين وتشديد الدال والإضافة إلى ضمير الخروج، قال ابن جني: سمع محمد بن عبد الملك يقرأ بها، وخرجت على أن الأصل عدته إلا أن التاء سقطت كما في اقام الصلاة وهو سماعي وإلى هذا ذهب الفراء، والضمير على ما صرح به غير واحد عوض عن التاء المحذوفة، قيل: ولا تحذف بغير عوض وقد فعلوا مثل ذلك في عدة بالتخفيف بمعنى الوعد كما في قول زهير: إن الخليط أجدوا البين فانجردوا ... وأخلفوك عدى الأمر الذي وعدوا وقرىء «عده» بكسر العين بإضافة وغيرها وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ أي خروجهم كما روي عن الضحاك أو نهوضهم للخروج كما قال غير واحد فَثَبَّطَهُمْ أي حبسهم وعوقهم عن ذلك: والاستدراك قيل عما يفهم من مقدم الشرطية فإن انتفاء إرادة الخروج يستلزم انتفاء خروجهم وكراهة الله تعالى انبعاثهم يستلزم تثبطهم عن الخروج فكأنه قيل: ما خرجوا لكن تثبطوا عن الخروج، فهو استدراك نفي الشيء بإثبات ضده كما يستدرك نفي الإحسان بإثبات الإساءة في قولك: ما أحسن إليّ لكن أساء، والاتفاق في المعنى لا يمنع الوقوع بين طرفي لكن بعد تحقق الاختلاف نفيا وإثباتا في اللفظ، وبحث فيه بعضهم بأن لكِنْ تقع بين ضدين أو نقيضين أو مختلفين على قول ووقعت فيما نحن فيه بين متفقين على هذا التقرير فالظاهر أنها للتأكيد كما أثبتوا مجيئها لذلك وفيه نظر: واستظهر بعض المحققين كون الاستدراك من نفس المقدم على نهج ما في الاقيسة الاستثنائية، والمعنى لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن ما أرادوه لما أنه تعالى كره انبعاثهم من المفاسد فحبسهم بالجبن والكسل فتثبطوا عنه ولم يستعدوا له. وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ تمثيل لخلق الله تعالى داعية القعود فيهم وإلقائه سبحانه كراهة الخروج في قلوبهم بالأمر بالقعود أو تمثيل لوسوسة الشيطان بذلك فليس هناك قول حقيقة، ونظير ذلك قوله سبحانه: فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ [البقرة: 243] أي أماتهم، ويجوز أن يكون حكاية قول بعضهم لبعض أو اذن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لهم في القعود فالقول على حقيقته، والمراد بالقاعدين الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت كالنساء والصبيان والزمنى أو الرجال الذين يكون لهم عذر يمنعهم عن الخروج، وفيه على بعض الاحتمالات من الذم ما لا يخفى فتدبر لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ بيان لكراهة الله تعالى انبعاثهم أي لو خرجوا مخالطين لكم ما زادُوكُمْ شيئا من الأشياء إِلَّا خَبالًا أي شرا وفسادا. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عجزا وجبنا. وعن الضحاك غدرا ومكرا، وأصل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 302 الخبال كما قال الخازن: اضطراب ومرض يؤثر في العقل كالجنون، وفي مجمع البيان أنه الاضطراب في الرأي، والاستثناء مفرغ متصل والمستثنى منه ما علمت ولا يستلزم أن يكون لهم خبال حتى لو خرجوا زادوه لأن الزيادة باعتبار أعم العام الذي وقع منه الاستثناء. وقال بعضهم: توهما منه لزوم ما ذكر هو مفرغ منقطع والتقدير ما زادوكم قوة وخيرا لكن شرا وخبالا. واعترض بأن المنقطع لا يكون مفرغا وفيه بحث لأنه مانع منه إذا دلت القرينة عليه كما إذا قيل: ما أنيسك في البادية فقلت: ما لي بها إلا اليعافير أي ما لي بها أنيس إلا ذلك، وأنت تعلم أن في وجود القرينة هاهنا مقالا. وقال أبو حيان: إنه كان في تلك الغزوة منافقون لهم خبال فلو خرج هؤلاء أيضا واجتمعوا بهم زاد الخبال فلا فساد في ذلك الاستلزام لو ترتب وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ الإيضاع سير الإبل يقال: أوضعت الناقة تضع إذا أسرعت وأوضعتها أنا إذا حملتها على الاسراع، والخلال جمع خلل وهو الفرجة استعمل ظرفا بمعنى بين ومفعول الإيضاع مقدر أي النمائم بقرينة السياق، وفي الكلام استعارة مكنية حيث شبهت النمائم بالركائب في جريانها وانتقالها وأثبت لها الإيضاع على سبيل التخييل، والمعنى ولسعوا بينكم بالنميمة وإفساد ذات البين. وقال العلامة الطيبي: فيه استعارة تبعية حيث شبه سرعة افسادهم ذات البين بالنمائم بسرعة سير الراكب ثم استعير لها الإيضاع وهو للإبل والأصل ولأوضعوا ركائب نمائمهم خلالكم ثم حذف النمائم وأقيم المضاف إليه مقامه فقيل لأوضعوا ركائبهم ثم حذفت الركائب. ومنع الأخفش في كتاب الغايات أن يقال: أوضعت الركائب ووضع البعير بمعنى أسرع وإنما يستعمل ذلك بدون قيد، وجوز ذلك غيره واستدل له بقوله: فلم أر سعدى بعد يوم لقيتها ... غداة بها أجمالها صاح توضع وقرىء «ولأرقصوا» من رقصت الناقة إذا أسرعت وأرقصتها ومنه قوله: يا عام لو قدرت عليك رماحنا ... والراقصات إلى منى فالغبغب وقرىء «لأوفضوا» والمراد لأسرعوا أيضا يقال: أوفض واستوفض إذا استعجل وأسرع والوفض العجلة، وكتب قوله تعالى: لَأَوْضَعُوا في الامام بألفين الثانية منهما هي فتحة الهمزة والفتحة ترسم لها ألف كما ذكره الداني، وفي الكشاف كانت الفتحة تكتب ألفا قبل الخط العربي والخط العربي اخترع قريبا من نزول القرآن وقد بقي من ذلك الألف أثر في الطباع فكتبوا صورة الهمزة ألفا وفتحتها ألفا أخرى ومثل ذلك أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ [النمل: 21] يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ أي يطلبون أن يفتنوكم بايقاع الخلاف فيما بينكم وتهويل أمر العدو عليكم وإلقاء الرعب في قلوبكم وهذا هو المروي عن الضحاك. وعن الحسن أن الفتنة بمعنى الشرك أي يريدون أن تكونوا مشركين، والجملة في موضع الحال من ضمير أوضعوا أي باغين لكم الفتنة، ويجوز أن تكون استئنافا وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ أي نمامون يسمعون حديثكم لأجل نقله إليهم كما روي عن مجاهد وابن زيد أو فيكم أناس من المسلمين ضعفة يسمعون قولهم ويطيعونهم كما روي عن قتادة وابن إسحاق وجماعة، واللام على التفسير الأول للتعليل وعلى الثاني للتقوية كما في قوله تعالى: فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ [هود: 107، البروج: 16] ، والجملة حال من مفعول يَبْغُونَكُمُ أو من فاعله لاشتمالها على ضميرهما أو مستأنفة. قال بعض المحققين: ولعل هؤلاء لم يكونوا في كمية العدد وكيفية الفساد بحيث يخل مكانهم فيما بين المؤمنين بأمر الجهاد إخلالا عظيما ولم يكن فساد خروجهم معادلا لمنفعته ولذلك لم تقتض الحكمة عدم خروجهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 303 فخرجوا مع المؤمنين، ولكن حيث كان انضمام المنافقين القاعدين إليهم مستتبعا لخلل كليّ كره الله تعالى انبعاثهم فلم يتسن اجتماعهم فاندفع فسادهم انتهى، والاحتياج إليه على التفسير الأول أظهر منه على التفسير الثاني لأن الظاهر عليه أن القوم لم يكونوا منافقين، ووجه العتاب على الإذن في قعودهم مع ما قص الله تعالى فيهم أنهم لو قعدوا بغير إذن منه عليه الصلاة والسلام لظهر نفاقهم فيما بين المسلمين من أول الأمر ولم يقدروا على مخالطتهم والسعي فيما بينهم بالأراجيف ولم يتسنّ لهم التمتع بالعيش إلى أن يظهر حالهم بقوارع الآيات النازلة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ علما محيطا بظواهرهم وبواطنهم وأفعالهم الماضية والمستقبلة فيجازيهم على ذلك، ووضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالظلم والتشديد في الوعيد والاشعار بترتبه على الظلم، ويجوز أن يراد بالظالمين الجنس ويدخل المذكورون دخولا أوليا، والمراد منهم إما القاعدون أو هم والسماعون لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ تشتيت شملك وتفرق أصحابك مِنْ قَبْلُ أي من قبل هذه الغزوة، وذلك كما روي عن الحسن يوم أحد حين انصرف عبد الله بن أبي ابن سلول بأصحابه المنافقين، وقد تخلف بهم عن هذه الغزوة أيضا بعد أن خرج مع النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى قريب من ثنية الوداع، وروي عن سعيد بن جبير وابن جريج أن المراد بالفتنة الفتك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة العقبة، وذلك أنه اجتمع اثنا عشر رجلا من المنافقين ووقفوا على الثنية ليفتكوا به عليه الصلاة والسلام فردهم الله تعالى خاسئين وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ أي المكايد وتقليبها مجاز عن تدبيرها أو الآراء وهو مجاز عن تفتيشها، أي دبروا لك المكايد والحيل أو دوروا الآراء في إبطال أمرك. وقرىء «وقلبوا» بالتخفيف حَتَّى جاءَ الْحَقُّ أي النظر والظفر الذي وعده الله تعالى وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ أي غلب دينه وعلا شرعه سبحانه وَهُمْ كارِهُونَ أي في حال كراهتهم لذلك أي على رغم منهم، والإتيان كما قالوا لتسلية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين عن تخلف المتخلفين وبيان ما ثبطهم الله تعالى لأجله وهتك أستارهم وإزاحة أعذارهم تداركا لما عسى يفوت بالمبادرة إلى الاذن وإيذانا بأن ما فات بها ليس مما لا يمكن تلافيه تهويلا للخطب وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي في القعود عن الجهاد وَلا تَفْتِنِّي أي لا توقعني في الفتنة بنساء الروم. أخرج ابن المنذر والطبراني وابن مروديه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «لما أراد النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يخرج إلى غزوة تبوك قال لجد بن قيس: يا جد بن قيس ما تقول في مجاهدة بني الأصفر؟ فقال: يا رسول الله إن امرؤ صاحب نساء ومتى أرى نساء بني الأصفر أفتتن فائذن لي ولا تفتني فنزلت، وروي نحوه عن عائشة وجابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما، أو لا توقعني في المعصية والإثم بمخالفة أمرك في الخروج إلى الجهاد، وروي هذا عن الحسن وقتادة. واختاره الجبائي، وفي الكلام على هذا اشعار بأنه لا محالة متخلف أذن له أو لم يأذن. وفسر بعضهم الفتنة بالضرر أي لا توقعني في ذلك فإني إن خرجت معك هلك مالي وعيالي لعدم من يقوم بمصالحهم، وقال أبو مسلم: أي لا تعذبني بتكليف الخروج في شدة الحر، وقرىء «ولا تفتني» من أفتنه بمعنى فتنه أَلا فِي الْفِتْنَةِ أي في نفسها وعينها وأكمل أفرادها الغنيّ عن الوصف بالكمال الحقيق باختصاص اسم الجنس به سَقَطُوا لا في شيء مغاير لها فضلا عن أن يكون مهربا ومخلصا عنها، وذلك بما فعلوا من العزيمة على التخلف والجراءة على هذا الاستئذان والقعود بالإذن المبني عليه وعلى الاعتذارات الكاذبة، وفي مصحف أبيّ «سقط» بالإفراد مراعاة للفظ مَنْ ولا يخفى ما في تصدير الجملة بأداة التنبيه من التحقيق، وفي التعبير عن الافتتان بالسقوط في الفتنة تنزيل لها منزلة المهواة المهلكة المفصحة عن ترديهم في دركات الردى أسفل سافلين، وتقديم الجار والمجرور لا يخفى وجهه وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ وعيد لهم على ما فعلوا وهو عطف على الجملة السابقة داخل تحت التنبيه، أي جامعة لهم من كل جانب لا محالة وذلك يوم القيامة، فالمجاز في اسم الفاعل حيث استعمل في الاستقبال بناء على أنه حقيقة في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 304 الحال، ويحتمل أن يكون المراد أنها محيطة بهم الآن بأن يراد من جهنم أسبابها من الكفر والفتنة التي سقطوا فيها ونحو ذلك مجازا. وقد يجعل الكلام تمثيلا بأن تشبه حالهم في إحاطة الأسباب بحالهم عند إحاطة النار، وكون الأعمال التي هم فيها هي النار بعينها لكنها ظهرت بصورة الأعمال في هذه النشأة وتظهر بالصورة النارية في النشأة الأخرى كما قيل نظيره في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً [النساء: 10] منزع صوفي، والمراد بالكافرين إما المنافقون المبحوث عنهم، وإيثار وضع الظاهر موضع الضمير للتسجيل عليهم بالكفر والإشعار بأنه معظم أسباب الإحاطة المذكورة وإما جميع الكافرين ويدخل هؤلاء دخولا أوليا إِنْ تُصِبْكَ في بعض مغازيك حَسَنَةٌ من الظفر والغنيمة تَسُؤْهُمْ تلك الحسنة أي تورثهم مساءة وحزنا لفرط حسدهم لعنهم الله تعالى وعداوتهم وَإِنْ تُصِبْكَ في بعضها مُصِيبَةٌ كانكسار جيش وشدة يَقُولُوا متبجحين بما صنعوا حامدين لآرائهم قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا أي تلافينا ما يهمنا من الأمر يعنون به التخلف والقعود عن الحرب والمداراة مع الكفرة وغير ذلك من أمور الكفر والنفاق قولا وفعلا مِنْ قَبْلُ أي من قبل إصابة المصيبة حيث ينفع التدارك، يشيرون بذلك إلى أن نحو ما صنعوه إنما يروج عند الكفرة بوقوعه حال قوة الإسلام لا بعد إصابة المصيبة وَيَتَوَلَّوْا أي وينصرفوا عن متحدثهم ومحل اجتماعهم إلى أهليهم وخاصتهم أو يتفرقوا وينصرفوا عنك يا رسول الله وَهُمْ فَرِحُونَ بما صنعوا وبما أصابك من السيئة، والجملة في موضع الحال من الضمير في «يقولوا ويتولوا» فإن الفرح مقارن للأمرين معا، وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على دوام السرور، وإنما لم يؤت بالشرطية الثانية على طرز الأولى بأن يقال: وإن تصبك مصيبة تسرهم بل أقيم ما يدل على ذلك مقامه مبالغة في فرط سرورهم مع الإيذان بأنهم في معزل عن إدراك سوء صنيعهم لاقتضاء المقام ذلك، وقيل: إن إسناد المساءة إلى الحسنة والمسرة إلى أنفسهم للايذان باختلاف حالهم حالتي عروض المساءة والمسرة بأنهم في الأولى مضطرون وفي الثانية مختارون، وقوبل هنا الحسنة بالمصيبة ولم تقابل بالسيئة كما قال سبحانه في سورة [آل عمران: 120] وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها لأن الخطاب هنا للنبي صلّى الله عليه وسلّم وهو هناك للمؤمنين وفرق بين المخاطبين فإن الشدة لا تزيده صلّى الله عليه وسلّم إلا ثوابا فإنه المعصوم في جميع أحواله عليه الصلاة والسلام، وتقييد الإصابة في بعض الغزوات لدلالة السياق عليه، وليس المراد به بعضا معينا هو هذه الغزوة التي استأذنوا في التخلف عنها وهو ظاهر. نعم سبب النزول يوهم ذلك، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله قال: جعل المنافقون الذين تخلفوا في المدينة يخبرون عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبار السوء يقولون: إن محمدا صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه قد جهدوا في سفرهم وهلكوا فبلغهم تكذيب حديثهم وعافية النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه فأنزل الله تعالى الآية فتأمل. قُلْ تبكيتا لهم لَنْ يُصِيبَنا أبدا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا أي ما اختصنا بإثباته وإيجابه من المصلحة الدنيوية أو الأخروية كالنصرة أو الشهادة المؤدية للنعيم الدائم، فالكتب بمعنى التقدير، واللام للاختصاص، وجوز أن يكون المراد بالكتب الخط في اللوح واللام للتعليل والأجل، أي لن يصيبنا إلا ما خط الله تعالى لأجلنا في اللوح ولا يتغير بموافقتكم ومخالفتكم، فتدل الآية على أن الحوادث كلها بقضاء الله تعالى وروي هذا عن الحسن. وادعى بعضهم أنه غير مناسب للمقام وأن قوله تعالى: هُوَ مَوْلانا أي ناصرنا ومتولي أمورنا يعين الأول لأنه يبين أن معنى اللام الاختصاص ويخصص الموصول بالنصر والشهادة أي لن يصيبنا إلا ذلك دون الخذلان والشقاوة كما هو مصير حالكم لأنا مؤمنون وأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم، وقد يقال: هو تعليل لما يستفاد من القول الجزء: 5 ¦ الصفحة: 305 السابق من الرضا أي لن يصيبنا إلا ما كتب من خير أو شر فلا يضرنا ما أنتم عليه ونحن بما فعل الله تعالى راضون لأنه سبحانه مالكنا ونحن عبيده. وقرأ ابن مسعود «هل يصيبنا» وطلحة «هل يصيبنا» بتشديد الياء من صيب الذي وزنه فيعل لا فعل بالتضعيف لأن قياسه صوب لأنه من الواوي فلا وجه لقلبها ياء بخلاف ما إذا كان صيوب على وزن فيعل لأنه إذا اجتمعت الواو والياء والأول منهما ساكن قلبت الواو ياء وهو قياس مطرد، وجوز الزمخشري كونه من التفعيل على لغة من قال صاب يصيب، ومنه قول الكميت: وأستبي الكاعب العقيلة إذ ... أسهمي الصائبات والصيب وَعَلَى اللَّهِ وحده فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ بأن يفوضوا الأمر إليه سبحانه، ولا ينافي ذلك التشبث بالأسباب العادية إذا لم يعتمد عليها، وظاهر كلام جمع أن الجملة من تمام الكلام المأمور به، وتقديم المعمول لإفادة التخصيص كما أشرنا إليه، وإظهار الاسم الجليل في مقام الإضمار لإظهار التبرك والاستلذاذ به. ووضع المؤمنين موضع ضمير المتكلم ليؤذن بأن شأن المؤمنين اختصاص التوكل بالله تعالى، وجيء بالفاء الجزائية لتشعر بالترتب أي إذا كان لن يصيبنا إلا ما كتب الله أي خصنا الله سبحانه به من النصر أو الشهادة وأنه متولي أمرنا فلنفعل ما هو حقنا من اختصاصه جل شأنه بالتوكل، قال الطيبي: وكأنه قوبل قول المنافقين قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا بهذه الفاصلة، والمعنى دأب المؤمنين أن لا يتكلوا على حزمهم وتيقظ أنفسهم كما أن دأب المنافقين ذلك بل أن يتكلوا على الله تعالى وحده ويفوضوا أمورهم إليه، ولا يبعد تفرع الكلام على قوله سبحانه: هُوَ مَوْلانا كما لا يخفى، ويجوز أن تكون هذه الجملة مسوقة من قبله تعالى أمرا للمؤمنين بالتوكل إثر أمره صلّى الله عليه وسلّم بما ذكر، وأمر وضع الظاهر موضع الضمير في الموضعين حينئذ ظاهر وكذا إعادة الأمر في قوله تعالى: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا لانقطاع حكم الأمر الأول بالثاني وإن كان أمرا لغائب، وأما على كلام الجماعة فالإعادة لابراز كمال العناية بشأن المأمور به، والتربص الانتظار والتمهل وإحدى التاءين محذوفة، والباء للتعدية أي ما تنتظرون بنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ أي إحدى العاقبتين اللتين كل منهما أحسن من جميع العواقب غير الأخرى أو أحسن من جميع عواقب الكفرة أو كل منهما أحسن مما عداه من جهة، والمراد بهما النصرة والشهادة، والحاصل أن ما تنتظرونه لا يخلو من أحد هذين الأمرين وكل منهما عاقبته حسنى لا كما تزعمون من أن ما يصنيبنا من القتل في الغزو سوء ولذلك سررتم به. وصح من حديث أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «تكفل الله تعالى لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلمته أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر وغنيمة» وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ إحدى السوأيين من العواقب إما أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ فيهلككم كما فعل بالأمم الخالية قبلكم، والظرف صفة «عذاب» وكونه من عنده تعالى كناية عن كونه منه جل شأنه بلا مباشرة البشر، ويظهر ذلك المقابلة بقوله سبحانه: أَوْ بِأَيْدِينا أي أو بعذاب كائن بأيدينا كالقتل على الكفر، والعطف على صفة عذاب فهو صفة أيضا لا أن هناك عذابا مقدرا، وتقييد القتل بكونه على الكفر لأنه بدونه شهادة، وفيه إشارة إلى أنهم لا يقتلون حتى يظهروا الكفر ويصروا عليه لأنهم منافقون والمنافق لا يقتل ابتداء فَتَرَبَّصُوا الفاء فصيحة أي إذا كان الأمر كذلك فتربصوا بنا ما هو عاقبتنا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ما هو عاقبتكم فإذا لقي كل منا ومنكم ما يتربصه لا نشاهد إلا ما يسوءكم ولا تشاهدون إلا ما يسرنا، وما ذكرناه من مفعول التربص هو الظاهر، ولعله يرجع إليه ما روي عن الحسن أي فتربصوا مواعيد الشيطان إنا متربصون مواعد الله تعالى من إظهار دينه واستئصال من خالفه، والمراد من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 306 الأمر التهديد قُلْ أَنْفِقُوا أموالكم في مصالح الغزاة طَوْعاً أَوْ كَرْهاً أي طائعين أو كارهين، فهما مصدران وقعا موقع الحال وصيغة أَنْفِقُوا وإن كانت للأمر إلا أن المراد به الخبر، وكثيرا ما يستعمل الأمر بمعنى الخبر كعكسه، ومنه قول كثير عزة: أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقلية إن تقلت وهو كما قال الفراء والزجاج في معنى الشرط أي إن أنفقتم على أي حال ف لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ. وأخرج الكلام مخرج الأمر للمبالغة في تساوي الأمرين في عدم القبول، كأنهم أمروا أن يجربوا فينفقوا في الحالين فينظروا هل يتقبل منهم فيشاهدوا عدم القبول، وفيه كما قال بعض المحققين: استعارة تمثيلية شبهت حالهم في النفقة وعدم قبولها بوجه من الوجوه بحال من يؤمر بفعل ليجربه فيظهر له عدم جدواه، فلا يتوهم أنه إذا أمر بالإنفاق كيف لا يقبل. والآية نزلت كما أخرج ابن جرير عن عباس رضي الله تعالى عنهما جوابا عما في قول الجد بن قيس حين قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هل لك في جلاد بني الأصفر؟ إني إذا رأيت النساء لم أصبر حتى أفتتن لكن أعينك بمالي» ، ونفي التقبل يحتمل أن يكون بمعنى عدم الأخذ منهم، ويحتمل أن يكون بمعنى عدم الاثابة عليه، وكل من المعنيين واقع في الاستعمال، فقبول الناس له أخذه وقبول الله تعالى ثوابه عليه ويجوز الجمع بينهما، وقوله سبحانه: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ تعليل لرد إنفاقهم، والمراد بالفسق العتو والتمرد فلا يقال: كيف علل مع الكفر بالفسق الذي هو دونه وكيف صح ذلك مع التصريح بتعليله بالكفر في قوله تعالى: وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وقد يراد به ما هو الكامل وهو الكفر ويكون هذا منه تعالى بيانا وتقريرا لذلك، والاستثناء من أعم الأشياء أي ما منعهم أن تقبل نفقاتهم شيء من الأشياء إلا كفرهم، ومنع يتعدى إلى مفعولين بنفسه وقد يتعدى إلى الثاني بحرف الجر وهو- من- أو- عن.، وإذا عدي بحرف صح أن يقال: منعه من حقه ومنع حقه منه لأنه يكون بمعنى الحيلولة بينهما والحماية، ولا قلب فيه كما يتوهم، وجاز فيما نحن فيه أن يكون متعديا للثاني بنفسه وأن يقدر حرف وحذف حرف الجر مع إن وأن مقيس مطرد. وجوز أبو البقاء أن يكون أَنْ تُقْبَلَ بدل اشتمال من- هم- في مَنَعَهُمْ وهو خلاف الظاهر، وفاعل منع ما في حيز الاستثناء، وجوز أن يكون ضمير الله تعالى وأَنَّهُمْ كَفَرُوا بتقدير لأنهم كفروا. وقرأ حمزة والكسائي «يقبل» بالتحتانية لأن تأنيث النفقات غير حقيقي مع كونه مفصولا عن الفعل بالجار والمجرور. وقرىء «نفقتهم» على التوحيد. وقرأ السلمي «أن يقبل منهم نفقاتهم» ببناء «يقبل» للفاعل ونصب النفقات، والفاعل إما ضمير الله تعالى أو ضمير الرسول عليه الصلاة والسلام بناء على أن القبول بمعنى الأخذ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ المفروضة في حال من الأحوال إِلَّا وَهُمْ كُسالى أي إلا حال كونهم متثاقلين وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ الإنفاق لأنهم لا يرجون بهما ثوابا ولا يخافون على تركهما عقابا، وهاتان الجملتان داخلتان في حيز التعليل. واستشكل بأن الكفر سبب مستقل لعدم القبول فما وجه التعليل بمجموع الأمور الثلاثة وعند حصول السبب المستقل لا يبقى لغيره أثر. وأجاب الإمام بأنه إنما يتوجه على المعتزلة القائلين بأن الكفر لكونه كفرا يؤثر في هذا الحكم وأما على أهل السنة فلا لأنهم يقولون: هذه الأسباب معرفات غير موجبة للثواب ولا للعقاب واجتماع المعرفات الكثيرة على الشيء الواحد جائز، والقول بأنه إنما جيء بهما لمجرد الذم وليستا داخلتين في حيز التعليل وإن كان يندفع به الإشكال على رأي المعتزلة خلاف الظاهر كما لا يخفى فإن قيل: الكراهية خلاف الطواعية وقد جعل هؤلاء المنافقون فيما تقدم طائعين ووصفوا هاهنا بأنهم لا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 307 ينفقون إلا وهم كارهون وظاهر ذلك المنافاة. أجيب بأن المراد بطوعهم أنهم يبذلون من غير الزام من رسول الله لا أنهم يبذلون رغبة فلا منافاة. وقال بعض المحققين في ذلك: إن قوله سبحانه: أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لا يدل على أنهم ينفقون طائعين بل غايته أنه ردد حالهم بين الأمرين وكون الترديد ينافي القطع محل نظر، كما إذا قلت: إن أحسنت أو أسأت لا أزورك مع أنه لا يحسن قطعا، ويكون الترديد لتوسع الدائرة وهو متسع الدائرة. فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ أي لا يروقك شيء من ذلك فإنه استدراج لهم وبال عليهم حسبما ينبىء عنه قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا والخطاب يحتمل أن يكون للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأن يكون لكل من يصلح له على حد ما قيل في نحو قوله تعالى: لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ [لقمان: 13] ومفعول الإرادة قيل: التعذيب واللام زائدة وقيل: محذوف واللام تعليلية. أي يريد إعطاءهم لتعذيبهم، وتعذيبهم بالأموال والأولاد في الدنيا لما أنهم يكابدون بجمعها وحفظها المتاعب ويقاسون فيها الشدائد والمصائب وليس عندهم من الاعتقاد بثواب الله تعالى ما يهون عليهم ما يجدونه، وقيل: تعذيبهم في الدنيا بالأموال لأخذ الزكاة منهم والنفقة في سبيل الله تعالى مع عدم اعتقادهم الثواب على ذلك، وتعذيبهم فيها بالأولاد أنهم قد يقتلون في الغزو فيجزعون لذلك أشد الجزع حيث لا يعتقدون شهادتهم وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون وأن الاجتماع بهم قريب ولا كذلك المؤمنون فيما ذكر، وقيل: تعذيبهم بالأموال بأن تكون غنيمة للمسلمين وبالأولاد بأن يكونوا سببا لهم إذا أظهروا الكفر وتمكنوا منهم. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة أن في الآية تقديما وتأخيرا أي لا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ أي يموتون وأصل الزهوق الخروج بصعوبة وَهُمْ كافِرُونَ في موضع الحال أي حال كونهم كافرين، والفعل عطف على ما قبله داخل معه في حيز الإرادة. واستدل بتعليق الموت على الكفر بإرادته تعالى على أن كفر الكافر بإرادته سبحانه وفي ذلك رد على المعتزلة. وأجاب الزمخشري بأن المراد إنما هو إمهالهم وإدامة النعم عليهم إلى أن يموتوا على الكفر مشتغلين بما هم فيه عن النظر في العاقبة، والإمهال والإدامة المذكورة مما يصح أن يكون مرادا له تعالى. واعترضه الطيبي بأن ذلك لا يجديه شيئا لأن سبب السبب سبب في الحقيقة، وحاصله أن ما يؤدي إلى القبح ويكون سببا له حكمه حكمه في القبح وهو في حيز المنع، وأجاب الجبائي بأن معنى الآية أن الله تعالى أراد زهوق أنفسهم في حال الكفر وهو لا يقتضي كونه سبحانه مريدا للكفر فإن المريض يريد المعالجة في وقت المرض ولا يريد المرض والسلطان يقول لعسكره: اقتلوا البغاة حال هجومهم ولا يريد هجومهم. ورده الإمام بأنه لا معنى لما ذكر من المثال إلا إرادة إزالة المرض وطلب إزالة هجوم البغاة وإذا كان المراد إعدام الشيء امتنع أن يكون وجوده مرادا بخلاف إرادة زهوق نفس الكافر فإنها ليست عبارة عن إرادة إزالة الكفر فلما أراد الله تعالى زهوق أنفسهم حال كونهم كافرين وجب أن يكون مريدا لكفرهم، وكيف لا يكون كذلك والزهوق حال الكفر يمتنع حصوله إلا حال حصول الكفر، وإرادة الشيء تقتضي إرادة ما هو من ضرورياته فيلزم كونه تعالى مريدا للكفر. وفيه أن الظاهر أن إرادة المعالجة شيء غير إرادة إزالة المرض وكذا إرادة القتل غير إرادة إزالة الهجوم ولهذا يعلل إحدى الإرادتين بالأخرى فكيف تكون نفسها، وأما أن كون إرادة ضروريات الشيء من لوازم إرادته فغير مسلم، فكم من ضروري لشيء لا يخطر بالبال عند إرادته فضلا عما ادعاه. فالاستدلال بالآية على ما ذكر غير تام وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ أي في الدين والمراد أنهم يحلفون أنهم مؤمنون مثلكم وَما هُمْ مِنْكُمْ في ذلك لكفر قلوبهم وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ أي يخافون منكم أن تفعلوا بهم ما تفعلوا بالمشركين فيظهرون الإسلام تقية ويؤيدونه بالأيمان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 308 الفاجرة، وأصل الفرق انزعاج النفس بتوقع الضرر، قيل: وهو من مفارقة الأمن إلى حال الخوف لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أي حصنا يلجؤون إليه كما قال قتادة أَوْ مَغاراتٍ أي غيران يخفون فيها أنفسهم وهو جمع مغارة بمعنى الغار، ومنهم من فرق بينهما بأن الغار في الجبل والمغارة في الأرض. وقرىء «مغارات» بضم الميم من أغار الرجل إذا دخل الغور، وقيل: هو تعدية غار الشيء وأغرته أنا أي أمكنة يغيرون فيها أشخاصهم، ويجوز أن تكون من أغار الثعلب إذا أسرع بمعنى مهارب ومغار أَوْ مُدَّخَلًا أي نفقا كنفق اليربوع ينجحرون فيه، وهو مفتعل من الدخول فأدغم بعد قلب تائه دالا. وقرأ يعقوب وسهل «مدخلا» بفتح الميم اسم مكان من دخل الثلاثي وهي قراءة ابن أبي إسحاق والحسن، وقرأ سلمة بن محارب «مدخلا» بضم الميم وفتح الخاء من أدخل المزيد أي مكانا يدخلون فيه أنفسهم أو يدخلهم الخوف فيه، وقرأ أبي بن كعب «متدخلا» اسم مكان من تدخل تفعل من الدخول، وقرىء «مندخلا» من اندخل، وقد ورد في شعر الكميت: ولا يدي في حميت السمن تندخل (1) وأنكر أبو حاتم هذه القراءة وقال: إنما هي بالتاء بناء على إنكار هذه اللغة وليس بذاك لَوَلَّوْا أي لصرفوا وجوههم وأقبلوا. وقرىء «لوالوا» أي لالتجؤوا إِلَيْهِ أي إلى أحد ما ذكر وَهُمْ يَجْمَحُونَ أي يسرعون في الذهاب إليه بحيث لا يردهم شيء كالفرس الجموح وهو النفور الذي لا يرده لجام، وروى الأعمش عن أنس بن مالك أنه قرأ «يجمزون» بالزاي وهو بمعنى يجمحون ويشتدون، ومنه الجمازة الناقة الشديدة العدو، وأنكر بعضهم كون ما ذكر قراءة وزعم أنه تفسير وهو مردود. والجملة الشرطية استئناف مقرر لمضمون ما سبق من أنهم ليسوا من المسلمين وأن التجاءهم إلى الانتماء إليهم إنما هو للتقية اضطرارا، وإيثار صيغة الاستقبال في الشرط وإن كان المعنى على المضي لإفادة استمرار عدم الوجدان حسبما يقتضيه المقام، ونظير ذلك- لو تحسن إلي لشكرتك- نعم كثيرا ما يكون المضارع المنفي الواقع موقع الماضي لإفادة انتفاء استمرار الفعل لكن ذلك غير مراد هاهنا وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ أي يعيبك في شأنها. وقرأ يعقوب «يلمزك» بضم الميم وهي قراءة الحسن والأعرج، وقرأ ابن كثير «يلامزك» هو من الملامزة بمعنى اللمز، والمشهور أنه مطلق العيب كالهمز، ومنهم من فرق بينهما بأن اللمز في الوجه والهمز في الغيب وهو المحكي عن الليث وقد عكس أيضا وأصل معناه الدفع فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها بيان لفساد لمزهم وأنه لا منشأ له إلا حرصهم على حطام الدنيا أي إن أعطيتهم من تلك الصدقات قدر ما يريدون رَضُوا بما وقع في القسمة واستحسنوا فعلك وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها ذلك المقدار إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ أي يفاجئون السخط، وإِذا نابت مناب فاء الجزاء وشرط لنيابتها عنه كون الجزاء جملة اسمية، ووجه دلالتها على التعقيب كالفاء، وغاير سبحانه بين جوابي الجملتين إشارة إلى أن سخطهم ثابت لا يزول ولا يفنى بخلاف رضاهم. وقرأ إياد بن لقيط «إذا هم ساخطون» والآية نزلت في ذي الخويصرة واسمه حرقوص بن زهير التميمي جاء ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقسم غنائم هوازن يوم حنين فقال: يا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اعدل. فقال عليه الصلاة والسلام: «ومن يعدل إذا لم أعدل» فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ائذن لي أضرب عنقه فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» الحديث. وأخرج ابن مروديه عن ابن مسعود قال: لما قسم النبي صلّى الله عليه وسلّم غنائم حنين سمعت رجلا   (1) هو ظرف الدهن الذي له شعر اهـ منه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 309 يقول: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله تعالى فأتيت النبي عليه الصلاة والسلام فذكرت ذلك له فقال: «رحمة الله تعالى على موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» ونزلت الآية. وأخرج ابن جرير وغيره عن داود بن أبي عاصم قال: «أوتي النبي صلّى الله عليه وسلّم بصدقة فقسمها هاهنا وهاهنا حتى ذهبت ووراءه رجل من الأنصار فقال: ما هذا بالعدل فنزلت» ، وعن الكلبي أنها نزلت في أبي الجواظ المنافق قال: ألا ترون إلى صاحبكم إنما يقسم صدقاتكم في رعاء الغنم ويزعم أنه يعدل. وتعقب هذا ولي الدين العراقي بأنه ليس في شيء من كتب الحديث، وأنت تعلم أن أصح الروايات الأولى إلا أن كون سبب النزول قسمته صلّى الله عليه وسلّم للصدقة على الوجه الذي فعله أوفق بالآية من كون ذلك قسمته للغنيمة فتأمل وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أي ما أعطاهم الرسول الله من الصدقات طيبي النفوس به وإن قل- فما- وإن كانت من صيغ العموم إلا أن ما قبل وما بعد قرينة على التخصيص، وبعض أبقاها على العموم أي ما أعطاهم من الصدقة أو الغنيمة قيل لأنه الأنسب، وذكر الله عزّ وجلّ للتعظيم وللتنبيه على أن ما فعله الرسول عليه الصلاة والسلام كان بأمره سبحانه وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ أي كفانا فضله وما قسمه لنا كما يقتضيه المعنى سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ بعد هذا حسبما نرجو ونأمل إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ في أن يخولنا فضله جل شأنه، والآية بأسرها في حيز الشرط والجواب محذوف بناء على ظهوره أي لكان خيرا لهم وأعود عليهم، وقيل: إن جواب الشرط قالُوا والواو زائدة وليس بذاك، ثم إنه سبحانه لما ذكر المنافقين وطعنهم وسخطهم بين أن فعله عليه الصلاة والسلام لإصلاح الدين وأهله لا لأغراض نفسانية كأغراضهم فقال جل وعلا: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ إلخ يعني أن الذي ينبغي أن يقسم مال الله عليه من اتصف بإحدى هذه الصفات دون غيره إذ القصد الصلاح والمنافقون ليس فيهم سوى الفساد فلا يستحقونه وفي ذلك حسم لأطماعهم الفارغة ورد لمقالتهم الباطلة، والمراد من الصدقات الزكوات فيخرج غيرها من التطوع، والفقير على ما روي عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه من له أدنى شيء وهو ما دون النصاب أو قدر نصاب غير نام وهو مستغرق في الحاجة، والمسكين من لا شيء له فيحتاج للمسألة لقوته وما يواري بدنه ويحل له ذلك بخلاف الأول حيث لا تحل له المسألة فإنها لا تحل لمن يملك قوت يومه بعد ستر بدنه، وعند بعضهم لا تحل لمن كان كسوبا أو يملك خمسين درهما. فقد أخرج أبو داود والترمذي والنسائي عن ابن مسعود قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من سألنا وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح قيل: يا رسول الله وما يغنيه؟ قال: خمسون درهما أو قيمتها من الذهب» وإلى هذا ذهب الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق، وقيل: من ملك أربعين درهما حرم عليه السؤال لما أخرج أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف» وكان الأوقية في ذلك الزمان أربعين درهما. ويجوز صرف الزكاة لمن لا تحل له المسألة بعد كونه فقيرا، ولا يخرجه عن الفقر ملك نصب كثيرة غير نامية إذا كانت مستغرقة للحاجة، ولذا قالوا: يجوز للعالم وإن كانت له كتب تساوي نصبا كثيرة إذا كان محتاجا إليها للتدريس ونحوه أخذ الزكاة بخلاف العامي وعلى هذا جميع آلات المحترفين. وعلى ما نقل عن الإمام يكون المسكين أسوأ حالا من الفقير، واستدل بقوله تعالى: أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ [البلد: 16] أي ألصق جلده بالتراب في حفرة استتر بها مكان الإزار وألصق بطنه به لفرط الجوع فإنه يدل على غاية الضرر والشدة ولم يوصف الفقير بذلك، وبأن الأصمعي وأبا عمرو بن العلاء وغيرهما من أهل اللغة فسروا المسكين بمن لا شيء له، والفقير بمن له بلغة من العيش. وأجيب بأن تمام الاستدلال بالآية موقوف على أن الصفة كاشفة وهو خلاف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 310 الظاهر، وأن النقل عن بعض أهل اللغة معارض بالنقل عن البعض الآخر. وقال الشافعي عليه الرحمة: الفقير من لا مال له ولا كسب يقع موقعا من حاجته، والمسكين من له مال أو كسب لا يكفيه، فالفقير عنده أسوأ حالا من المسكين، واستدل له بقوله تعالى: وأَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ [الكهف: 79] فأثبت للمسكين سفينة، وبما رواه الترمذي عن أنس وابن ماجة والحاكم عن أبي سعيد قالا: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين» مع ما رواه أبو داود عن أبي بكرة أنه عليه الصلاة والسلام كان يدعو بقوله: «اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر» وخبر «الفقر فخري» كذب لا أصل له. وبأن الله تعالى قدم الفقير في الآية ولو لم تكن حاجته أشد لما بدأ به، وبأن الفقير بمعنى المفقور أي مكسور الفقار أي عظام الصلب فكان أسوأ. وأجيب عن الأول بأن السفينة لم تكن ملكا لهم بل هم أجراء فيها أو كانت عارية معهم أو قيل لهم مساكين ترحما كما في الحديث «مساكين أهل النار» وقوله: مساكين أهل الحب حتى قبورهم ... عليها تراب الذل بين المقابر وهذا أولى، وعن الثاني بأن الفقر المتعوذ منه ليس إلا فقر النفس لما روي أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يسأل العفاف والغنى والمراد به غنى النفس لا كثرة الدنيا، وعن الثالث بأن التقديم لا دليل فيه إذ له اعتبارات كثيرة في كلامهم، وعن الرابع بأنا لا نسلم أن الفقير مأخوذ من الفقار لجواز كونه من فقرت له فقرة من مالي إذا قطعتها فيكون له شيء، وأيا ما كان فهما صنفان، وقال الجبائي: إنهما صنف واحد والعطف للاختلاف في المفهوم، وروي ذلك عن محمد وأبي يوسف، وفائدة الخلاف تظهر فيهما إذا أوصى بثلث ماله مثلا لفلان وللفقراء والمساكين فمن قال: إنهما صنف واحد جعل لفلان النصف ومن قال: إنهما صنفان جعل له الثلث من ذلك وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وهم الذين يبعثهم الإمام لجبايتها، وفي البحر أن العامل يشمل العاشر والساعي. والأول من نصبه الإمام على الطريق ليأخذ الصدقات من التجار المارين بأموالهم عليه. والثاني هو الذي يسعى في القبائل ليأخذ صدقة المواشي في أماكنها، ويعطى العامل ما يكفيه وأعوانه بالوسط مدة ذهابهم وإيابهم ما دام المال باقيا إلا إذا استغرقت كفايته الزكاة فلا يزاد على النصف لأن التنصيف عين الانصاف. وعن الشافعي أنه يعطى الثمن لأن القسمة تقتضيه وفيه نظر، وقيد بالوسط لأنه لا يجوز أن يتبع شهوته في المأكل والمشرب والملبس لكونه إسرافا محضا، وعلى الإمام أن يبعث من يرضى بالوسط من غير إسراف ولا تقتير، وببقاء المال لأنه لو أخذ الصدقة وضاعت من يده بطلت عمالته ولا يعطى من بيت المال شيئا وما يأخذه صدقة، ومن هنا قالوا: لا تحل العمالة لهاشمي لشرفه، وإنما حلت للغني مع حرمة الصدقة عليه لأنه فرغ نفسه لهذا العمل فيحتاج إلى الكفاية، والغنى لا يمنع من تناولها عند الحاجة كابن السبيل كذا في البدائع، والتحقيق أن في ذلك شبها بالأجرة وشبها بالصدقة، فبالاعتبار الأول حلت للغني ولذا لا يعطى لو أداها صاحب المال إلى الإمام، وبالاعتبار الثاني لا تحل للهاشمي. وفي النهاية رجل من بني هاشم استعمل على الصدقة فأجري له منها رزق فإنه لا ينبغي له أن يأخذ من ذلك، وإن عمل فيها ورزق من غيرها فلا بأس به، وهو يفيد صحة توليته وأن أخذه منها مكروه لا حرام، وصرح في الغاية بعدم صحة كون العامل هاشميا أو عبدا أو كافرا، ومنه يعلم حرمة تولية اليهود على بعض الأعمال وقد تقدمت نبذة من الكلام على ذلك وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وهم كانوا ثلاثة أصناف. صنف كان يؤلفهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليسلموا. وصنف أسلموا لكن على ضعف كعيينة بن حصن والأقرع بن حابس والعباس بن مرداس السلمي فكان عليه الصلاة والسلام يعطيهم لتقوى نيتهم في الإسلام. وصنف كانوا يعطون لدفع شرهم عن المؤمنين، وعد منهم من يؤلف قلبه بإعطاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 311 شيء من الصدقات على قتال الكفار ومانعي الزكاة. وفي الهداية أن هذا الصنف من الأصناف الثمانية قد سقط وانعقد إجماع الصحابة على ذلك في خلافة الصديق رضي الله تعالى عنه. روي أن عيينة والأقرع جاءا يطلبان أرضا من أبي بكر فكتب بذلك خطأ فمزقه عمر رضي الله تعالى عنه وقال: هذا شيء يعطيكموه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تأليفا لكم فأما اليوم فقد أعز الله تعالى الإسلام وأغنى عنكم فإن ثبتم على الإسلام وإلا فبيننا وبينكم السيف. فرجعوا إلى أبي بكر فقالوا: أنت الخليفة أم عمر؟ بذلت لنا الخط ومزقه عمر، فقال رضي الله تعالى عنه: هو إن شاء ووافقه، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم مع احتمال أن فيه مفسدة كارتداد بعض منهم وإثارة ثائرة. واختلف كلام القوم في وجه سقوطه بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد ثبوته بالكتاب إلى حين وفاته- بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام- فمنهم من ارتكب جواز نسخ ما ثبت بالكتاب بالإجماع بناء على أن الإجماع حجة قطعية كالكتاب وليس بصحيح من المذهب ومنهم من قال: هو من قبيل انتهاء الحكم بانتهاء علته كانتهاء جواز الصوم بانتهاء وقته وهو النهار. ورد بأن الحكم في البقاء لا يحتاج إلى علة كما في الرمل والاضطباع في الطواف فانتهاؤها لا يستلزم انتهاءه وفيه بحث. وقال علاء الدين عبد العزيز: والأحسن أن يقال: هذا تقرير لما كان في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم من حيث المعنى، وذلك أن المقصود بالدفع إليهم كان إعزاز الإسلام لضعفه في ذلك الوقت لغلبة أهل الكفر وكان الإعزاز بالدفع، ولما تبدلت الحال بغلبة أهل الإسلام صار الإعزاز في المنع، وكان الإعطاء في ذلك الزمان والمنع في هذا الزمان بمنزلة الآلة لإعزاز الدين والإعزاز هو المقصود وهو باق على حاله فلم يكن ذلك نسخا، كالمتيمم وجب عليه استعمال التراب للتطهير لأنه آلة متعينة لحصول التطهير عند عدم الماء فإذا تبدلت حاله فوجد الماء سقط الأول ووجب استعمال الماء لأنه صار متعينا لحصول المقصود ولا يكون هذا نسخا للأول فكذا هذا وهو نظير إيجاب الدية على العاقلة فإنها كانت واجبة على العشيرة في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وبعده على أهل الديوان لأن الإيجاب على العاقلة بسبب النصرة والاستنصار في زمنه صلّى الله عليه وسلّم كان بالعشيرة وبعده عليه الصلاة والسلام بأهل الديوان، فإيجابها عليهم لم يكن نسخا بل كان تقريرا للمعنى الذي وجبت الدية لأجله وهو الاستنصار اهـ. واستحسنه في النهاية. وتعقبه ابن الهمام بأن هذا لا ينفي النسخ لأن إباحة الدفع إليهم حكم شرعي كان ثابتا وقد ارتفع، وقال بعض المحققين: إن ذلك نسخ ولا يقال: نسخ الكتاب بالإجماع لا يجوز على الصحيح لأن الناسخ دليل الإجماع لا هو بناء على أنه لا إجماع إلا عن مستند فإن ظهر وإلا وجب الحكم بأنه ثابت، على أن الآية التي أشار إليها عمر رضي الله تعالى عنه وهي قوله سبحانه: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف: 29] يصلح لذلك وفيه نظر، فإنه إنما يتم لو ثبت نزول هذه الآية بعد هذه ولم يثبت، وقال قوم: لم يسقط سهم هذا الصنف، وهو قول الزهري وأبي جعفر محمد بن علي وأبي ثور، وروي ذلك عن الحسن، وقال أحمد: يعطون ان احتاج المسلمون إلى ذلك. وقال البعض: إن المؤلفة قلوبهم مسلمون وكفار والساقط سهم الكفار فقط. وصحح أنه عليه الصلاة والسلام كان يعطيهم من خمس الخمس الذي كان خاص ماله صلّى الله عليه وسلّم وَفِي الرِّقابِ أي للصرف في فك الرقاب بأن يعان المكاتبون بشيء منها على أداء نجومهم، وقيل: بأن يبتاع منها الرقاب فتعتق، وقيل: بأن يفدي الأسارى، وإلى الأول ذهب النخعي والليث والزهري والشافعي، وهو المروي عن سعيد بن جبير وعليه أكثر الفقهاء، وإلى الثاني ذهب مالك وأحمد وإسحاق، وعزاه الطيبي إلى الحسن، وفي تفسير الطبري أن الأول هو المنقول عنه وَالْغارِمِينَ أي الذين عليهم دين، والدفع إليهم كما في الظهيرية أولى من الدفع إلى الفقير وقيدوا الدين بكونه في غير معصية كالخمر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 312 والإسراف فيما لا يعنيه، لكن قال النووي في المنهاج قلت: والأصح أن من استدان للمعصية يعطى إذا تاب وصححه في الروضة، والمانع مطلقا قال: إنه قد يظهر التوبة للأخذ، واشترط أن لا يكون لهم ما يوفون به دينهم فاضلا عن حوائجهم ومن يعولونه، وإلا فمجرد الوفاء لا يمنع من الاستحقاق، وهو أحد قولين عند الشافعية وهو الأظهر. وقيل: لا يشترط لعموم الآية. وأطلق القدوري وصاحب الكنز من أصحابنا المديون في باب المصرف، وقيده في الكافي بأن لا يملك نصابا فضلا عن دينه وذكر في البحر أنه المراد بالغارم في الآية إذ هو في اللغة من عليه دين ولا يجد قضاء كما ذكره العتبي. واعتذر عن عدم التقييد بأن الفقر شرط في الأصناف كلها إلا العامل وابن السبيل إذا كان له في وطنه مال فهو بمنزلة الفقير، وهل يشترط حلول الدين أو لا قولان للشافعية. ويعطى عندهم من استدان لإصلاح ذات البين كأن يخاف فتنة بين قبيلتين تنازعتا في قتيل لم يظهر قاتله أو ظهر فأعطى الدية تسكينا للفتنة، ويعطى مع الغنى مطلقا، وقيل: إن كان غنيا بنقد لا يعطى وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ. أريد بذلك عند أبي يوسف منقطعو الغزاة، وعند محمد منقطعو الحجيج. وقيل: المراد طلبة العلم واقتصر عليه في الفتاوى الظهيرية، وفسره في البدائع بجميع القرب فيدخل فيه كل من سعى في طاعة الله تعالى وسبل الخيرات. قال في البحر: ولا يخفى أن قيد الفقر لا بد منه على الوجوه كلها فحينئذ لا تظهر ثمرته في الزكاة. وإنما تظهر في الوصايا والأوقاف انتهى. وفي النهاية فإن قيل: إن قوله سبحانه وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مكرر سواء أريد منقطع الغزاة أو غيره لأنه إما أن يكون له في وطنه مال أم لا فإن كان فهو ابن السبيل وإن لم يكن فهو فقير، فمن أين يكون العدد سبعة على ما يقول الأصحاب أو ثمانية على ما يقول غيرهم. أجيب بأنه فقير إلا أنه ازداد فيه شيء آخر سوى الفقر وهو الانقطاع في عبادة الله تعالى من جهاد أو حج فلذا غاير الفقير المطلق فإن المقيد يغاير المطلق لا محالة، ويظهر أثر التغاير في حكم آخر أيضا وهو زيادة التحريض والترغيب في رعاية جانبه وإذا كان كذلك لم تنقص المصارف عن سبعة وفيه تأمل انتهى، ولا يخفى وجهه. وذكر بعضهم أن التحقيق ما ذكره الجصاص في الأحكام أن من كان غنيا في بلده بداره وخدمه وفرسه وله فضل دراهم حتى لا تحل له الصدقة فإذا عزم على سفر جهاد احتاج لعدة وسلاح لم يكن محتاجا له في إقامته فيجوز أن يعطى من الصدقة وإن كان غنيا في مصره وهذا معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الصدقة تحل للغازي الغني» فافهم ولا تغفل وَابْنِ السَّبِيلِ وهو المسافر المنقطع عن ماله. والاستقراض له خير من قبول الصدقة على ما في الظهيرية. وفي فتح القدير أنه لا يحل له أن يأخذ أكثر من حاجته، وألحق به كل من هو غائب عن ماله وإن كان في بلده. وفي المحيط وإن كان تاجرا له دين على الناس لا يقدر على أخذه ولا يجد شيئا يحل له أخذ الزكاة لأنه فقير يدا كابن السبيل. وفي الخانية تفصيل في هذا المقام قال: والذي له دين مؤجل على إنسان إذا احتاج إلى النفقة يجوز له أن يأخذ من الزكاة قدر كفايته إلى حلول الأجل، وإن كان الدين غير مؤجل فإن كان من عليه الدين معسرا يجوز له أن يأخذ الزكاة في أصح الأقاويل لأنه بمنزلة ابن السبيل، وإن كان المديون موسرا معترفا لا يحل له أخذ الزكاة وكذا إذا كان جاحدا وله عليه بينة عادلة، وإن لم تكن عادلة لا يحل له الأخذ أيضا ما لم يرفع الأمر إلى القاضي فيحلفه فإذا حلفه يحل له الأخذ بعد ذلك اهـ، والمراد من الدين ما يبلغ نصابا كما لا يخفى. وفي فتح القدير ولو دفع إلى فقيرة لها مهر دين على زوجها يبلغ نصابا وهو موسر بحيث لو طلبت أعطاها لا يجوز، وإن كان بحيث لا يعطي لو طلبت جاز اهـ. وهو مقيد لعموم ما في الخانية، والمراد من المهر ما تعورف تعجيله لأن ما تعورف تأجيله فهو دين مؤجل لا يمنع أخذ الزكاة، ويكون في الأول عدم إعطائه بمنزلة إعساره، ويفرق بينه وبين سائر الديون بأن رفع الزوج للقاضي مما ينبغي للمرأة بخلاف غيره، لكن في البزازية دفع الزكاة إلى أخته وهي تحت زوج إن كان مهرها المعجل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 313 أقل من النصاب أو أكثر لكن الزوج معسر له أن يدفع إليها الزكاة وإن كان موسرا والمعجل قدر النصاب لا يجوز عندهما وبه يفتى للاحتياط، وعند الإمام يجوز مطلقا هذا، والعدول عن اللام إلى فِي في الأربعة الأخيرة على ما قاله الزمخشري للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق الصدقة ممن سبق ذكره لما أن فِي للظرفية المنبئة عن إحاطتهم بها وكونهم محلها ومركزها وعليه فاللام لمجرد الاختصاص، وفي الانتصاف أن ثم سرا آخر هو أظهر وأقرب وذلك أن الأصناف الأوائل ملاك لما عساه أن يدفع إليهم وإنما يأخذونه تملكا فكان دخول اللام لائقا بهم، وأما الأربعة الأواخر فلا يملكون لما يصرف نحوهم بل ولا يصرف إليهم ولكن يصرف في مصالح تتعلق بهم، فالمال الذي يصرف في الرقاب إنما يتناوله السادة المكاتبون أو البائعون فليس نصيبهم مصروفا إلى أيديهم حتى يعبر عن ذلك باللام المشعرة بملكهم لما يصرف نحوهم وإنما هم محال لهذا الصرف ولمصالحه المتعلقة به، وكذلك الغارمون إنما يصرف نصيبهم لأرباب ديونهم تخليصا لذممهم لا لهم، وأما في سبيل الله فواضح فيه ذلك، وأما ابن السبيل فكأنه كان مندرجا في سبيل الله، وإنما أفرد بالذكر تنبيها على خصوصيته مع أنه مجرد من الحرفين جميعا. وعطفه على المجرور باللام ممكن ولكن عطفه على القريب أقرب، وما أشار إليه من أن المكاتب لا يملك وإنما يملك المكاتب هو الذي أشار إليه بعض أصحابنا. ففي المحيط قالوا: إنه لا يجوز إعطاء الزكاة لمكاتب هاشمي لأن الملك يقع للمولى من وجه والشبهة ملحقة بالحقيقة في حقهم وفي البدائع ما هو ظاهر في أن الملك يقع للمكاتب وحينئذ فبقية الأربعة بالطريق الأولى. والمشهور أن اللام للملك عند الشافعية وهو الذي يقتضيه مذهبهم حيث قالوا: لا بد من صرف الزكاة إلى جميع الأصناف إذا وجدت ولا تصرف إلى صنف مثلا ولا إلى أقل من ثلاثة من كل صنف بل إلى ثلاثة أو أكثر إذا وجد ذلك، وعندنا يجوز للمالك أن يدفع الزكاة إلى كل واحد منهم وله أن يقتصر على صنف واحد لأن المراد بالآية بيان الأصناف التي يجوز الدفع إليهم لا تعيين الدفع لهم، ويدل له قوله تعالى: وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة: 271] وأنه صلّى الله عليه وسلّم أتاه مال من الصدقة فجعله في صنف واحد وهو المؤلفة قلوبهم ثم أتاه مال آخر فجعله في الغارمين فدل ذلك على أنه يجوز الاقتصار على صنف واحد، ودليل جواز الاقتصار على شخص واحد منه أن الجمع المعرف بأل مجاز عن الجنس، فلو حلف لا يتزوج النساء ولا يشتري العبيد يحنث بالواحد فالمعنى في الآية أن جنس الصدقة لجنس الفقير، فيجوز الصرف إلى واحد لأن الاستغراق ليس بمستقيم، إذ يصير المعنى أن كل صدقة لكل فقير وهو ظاهر الفساد، وليس هناك معهود ليرتكب العهد، ولا يرد- خالعني على ما في يدي من الدراهم ولا شيء في يدها- فإنه يلزمها ثلاثة، ولو حلف لا يكلمه الأيام أو الشهور فإنه يقع على العشرة عند الإمام وعلى الأسبوع والسنة عند الإمامين لأنه أمكن العهد فلا يحمل على الجنس. فالحاصل أن حمل الجمع على الجنس مجاز وعلى العهد أو الاستغراق حقيقة، ولا مساغ للخلف إلا عند تعذر الأصل، وعلى هذا ينصف الموصى به لزيد والفقراء كالوصية لزيد وفقير. وما ذهبنا إليه هو المروي عن عمر وابن عباس رضي الله تعالى عنهم، وبه قال سعيد بن جبير وعطاء وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل ومالك عليهم الرحمة وذكر ابن المنير أن جده أبا العباس أحمد بن فارس كان يستنبط من تغاير الحرفين المذكورين دليلا على أن الغرض بيان المصرف واللام لذلك فيقول: متعلق الجار الواقع خبرا عن الصدقات محذوف فإما أن يكون التقدير إنما الصدقات مصروفة للفقراء كما يقول مالك ومن معه أو مملوكة للفقراء كما يقول الشافعي لكن الأول متعين لأنه تقدير يكتفى به في الحرفين جميعا ويصح تعلق اللام وَفِي معا به فيصح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 314 أن يقال: هذا الشيء مصروف في كذا ولكذا بخلاف تقدير مملوكة فإنه إنما يلتئم مع اللام وعند الانتهاء إلى فِي يحتاج إلى تقدير مصروفة ليلتئم بها فتقديره من الأول عام التعلق شامل الصحة متعين اهـ. وبالجملة لا يخفى قوة منزع الأئمة الثلاثة في الأخذ. ولذا اختار بعض الشافعية ما ذهبوا إليه، وكان والد العلامة البيضاوي عمر بن محمد- وهو مفتي الشافعية في عصره- يفتي به فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ مصدر مؤكد لمقدر مأخوذ من معنى الكلام أي فرض لهم الصدقات فريضة، ونقل عن سيبويه أنه منصوب بفعله مقدرا أي فرض الله تعالى ذلك فريضة، واختار أبو البقاء كونه حالا من الضمير المستكن في قوله تعالى لِلْفُقَراءِ أي إنما الصدقات كائنة لهم حال كونها فريضة أي مفروضة، قيل: ودخلته التاء لإلحاقه بالأسماء كنطيحة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوال الناس ومراتب استحقاقهم حَكِيمٌ لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة من الأمور الحسنة التي من جملتها سوق الحقوق إلى مستحقيها وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ أخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنها نزلت في جماعة من المنافقين منهم الجلاس بن سويد بن صامت ورفاعة بن عبد المنذر ووديعة بن ثابت وغيرهم قالوا ما لا ينبغي في حقه عليه الصلاة والسلام فقال رجل منهم: لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغ محمدا صلّى الله عليه وسلّم ما تقولون فيقع بنا. فقال الجلاس: بل نقول ما شئنا ثم نأتيه فيصدقنا بما نقول فإن محمدا صلّى الله عليه وسلّم أذن، وفي رواية أذن سامعة، وعن محمد بن إسحاق أنها نزلت في رجل من المنافقين يقال له نبتل بن الحارث، وكان رجلا آدم أحمر العينين أسفع الخدين مشوه الخلقة وكان ينم حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المنافقين فقيل له: لا تفعل. فقال: إنما محمد صلّى الله عليه وسلّم أذن من حدثه شيئا صدقه نقول شيئا ثم نأتيه ونحلف له فيصدقنا، وهو الذي قال فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث» وأرادوا سوّد الله وجوههم وأصمهم وأعمى أبصارهم بقولهم أذن أنه عليه الصلاة والسلام يسمع ما يقال له ويصدقه فيكون وصف أُذُنٌ بما يفيد ذلك في كلامهم كشفا له، وهي في الأصل اسم للجارحة، وإطلاقها على الشخص بالمعنى المذكور- كما يؤيده بعض الروايات- من باب المجاز المرسل على ما في المفتاح كإطلاق العين على ربيئة القوم حيث كانت العين هي المقصودة منه، وصرح غير واحد أن ذلك من إطلاق الجزء على الكل للمبالغة كقوله: إذا ما بدت ليلى فكلي أعين ... وإن هي ناجتني فكلي مسامع وقيل: إنه مجاز عقلي كرجل عدل وفيه نظر، والمبالغة هنا على ما قيل في أنه يسمع كل قول باعتبار أنه يصدقه لا في مجرد السماع، وما قيل: إن مرادهم بكونه عليه الصلاة والسلام أذنا تصديقه بكل ما يسمع من غير فرق بين ما يليق بالقبول لمساعدة أمارات الصدق له وبين ما لا يليق به فليس من قبيل إطلاق العين على الربيئة. ولذا جعله بعضهم من قبيل التشبيه بالأذن في أنه ليس فيه وراء الاستماع تمييز حق عن باطل ليس بشيء يعتد به وقيل: إنه على تقدير مضاف أي ذو أذن ولا يخفى أنه مذهب لرونقه، وجوز أن يكون أُذُنٌ صفة مشبهة من أذن يأذن إذنا إذا استمع وأنشد الجوهري لقعنب: إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا ... مني وما سمعوا من صالح دفنوا صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به ... وإن ذكرت بشر عندهم أذنوا وعلى هذا هو صفة بمعنى سميع ولا تجوز فيه وما تأذى به النبي صلّى الله عليه وسلّم يحتمل أن يكون ما قالوه في حقه عليه الصلاة والسلام من سائر الأقوال الباطلة فيكون قوله سبحانه: وَيَقُولُونَ إلخ غير ما تأذى به. ويحتمل أن يكون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 315 نفس قولهم «هو أذن» فيكون عطف تفسير ويُؤْذُونَ مضارع آذاه والمشهور في مصدره أذى وأذاة وأذية وجاء أيضا الإيذاء كما أثبته الراغب وقول صاحب القاموس ولا تقل إيذاء خطأ منه. قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ من قبيل رجل صدق فهو من إضافة الموصوف إلى الصفة للمبالغة في الجودة والصلاح كأنه قيل: نعم هو أذن ولكن نعم الأذن، ويجوز أن تكون الإضافة على معنى في أي هو أذن في الخير والحق وفيما يجب سماعه وقبوله وليس بأذن في غير ذلك، ويدل عليه قراءة حمزة «ورحمة» فيما يأتي بالجر عطفا على خير فإنه لا يحسن وصف الأذن بالرحمة ويحسن أن يقال أذن في الخير والرحمة، وهذا كما قال ابن المنير أبلغ أسلوب في الرد عليهم لأن فيه أطماعا لهم بالموافقة على مدعاهم ثم كر عليهم بحسم طمعهم وبت أمنيتهم وهو كالقول الموجب. وقرأ نافع «أذن» بالتخفيف في الموضعين وقرأ «أذن» بالتنوين- فخير- صفة له بمعنى خير المشدد أو أفعل تفضيل أو مصدر وصف به للمبالغة أو بالتأويل المشهور، وقوله سبحانه: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ تفسير لكونه عليه الصلاة والسلام أذن خير لهم، أي يصدق بالله تعالى لما قام عنده من الأدلة والآيات الموجبة لذلك، وكون ذلك صفة خير للمخاطبين كما أنه خير للعالمين مما لا يخفى وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ أي يصدقهم لما علم فيهم من الخلوص، والظاهر أن هذا مندرج في حيز التفسير لكن الغالب من المفسرين لم يبينوا وجهه كونه صفة خير للمخاطبين، نعم قال مولانا الشهاب: إن المعنى هو أذن خير يسمع آيات الله تعالى ودلائله فيصدقها ويسمع قول المؤمنين فيسلمه لهم ويصدقهم به، وهو تعريض بأن المنافقين أذن شر يسمعون آيات الله تعالى ولا ينتفعون بها ويسمعون قول المؤمنين ولا يقبلونه، وأنه صلّى الله عليه وسلّم لا يسمع قولهم إلا شفقة عليهم لا أنه يقبله لعدم تمييزه عليه الصلاة والسلام كما زعموا، وبهذا يصح وجه التفسير فتدبر انتهى، ولا يخفى أن في إرادة هذا المعنى من هذا المقدار من الآية بعدا، وربما يقال: إن المراد أنه عليه الصلاة والسلام يسمع قول المؤمنين الخلص ويصدقهم ولا يصدق المنافقين وإن سمع قولهم، وكون ذلك صفة خير للمخاطبين إما باعتبار أنه قد ينجر إلى إخلاصهم لما أن فيه انحطاط مرتبتهم عن مرتبة المخلصين وإما باعتبار أن تصديقه صلّى الله عليه وسلّم للمؤمنين الخلص فيما يقولونه من الحق من متممات تصديقه آيات الله تعالى ولا شك في خيرية ذلك للمخاطبين بل ولغيرهم أيضا فليفهم. والإيمان في قوله تعالى: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ بمعنى الاعتراف والتصديق كما أشرنا إليه ولذا عدي بالباء، وأما في قوله سبحانه: وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ فهو بمعنى جعلهم في أمان من التكذيب فاللام فيه مزيدة للتقوية لأنه بذلك المعنى متعد بنفسه كذا قيل، وفيه أن الزيادة لتقوية الفعل المتقدم على معموله قليلة. وقال الزمخشري: إنه قصد من الإيمان في الأول التصديق بالله تعالى الذي هو نقيض الكفر فعدي بالباء الذي يتعدى بها الكفر حملا للنقيض على النقيض، وقصد من الإيمان في الثاني السماع من المؤمنين وأن يسلم لهم ما يقولونه ويصدقهم لكونهم صادقين عنده فعدي باللام ألا ترى إلى قوله سبحانه: وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ [يوسف: 17] حيث عدي الإيمان فيه باللام لأنه بمعنى التسليم لهم، وظاهر هذا أن اللام ليست مزيدة للتقوية كما في الأول، وكلام بعضهم يشعر ظاهره بزيادتها، وقوله سبحانه: وَرَحْمَةٌ عطف على أُذُنُ خَيْرٍ أي وهو رحمة، وفيه الاخبار بالمصدر والكلام في ذلك معلوم لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ أي للذين أظهروا الإيمان حيث يقبله منهم لكن لا تصديقا لهم في ذلك بل رفقا بهم وترحما عليهم ولا يكشف أسرارهم ولا يهتك أستارهم. وظاهر كلام الخازن أن المراد من الذين آمنوا المخلصون وذكر مِنْكُمْ باعتبار أن المنافقين كانوا يزعمون أنهم مؤمنون والحق حمل ذلك على المنافقين وإسناد الإيمان إليهم بصيغة الفعل بعد نسبته إلى المؤمنين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 316 المخلصين بصيغة الفاعل المنبئة عن الرسوخ والاستمرار للإيذان بأن إيمانهم أمر حادث ما له من قرار ولعل العدول عن- رحمة- لكم إلى ما ذكر للإشارة إلى ذلك. وقرأ ابن أبي عبلة «رحمة» بالنصب على أنه مفعول له لفعل مقدر دل عليه أُذُنُ خَيْرٍ أي يأذن لكم ويسمع رحمة وجوز عطفه على آخر مقدر أي تصديقا لهم ورحمة لكم وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ أي بأي نوع من الإيذاء كان وفي صيغة الاستقبال المشعرة بترتب الوعيد على الاستمرار على ما هم عليه إشعار بقبول توبتهم لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي بسبب ذلك كما ينبىء عنه بناء الحكم على الموصول وجملة الموصول وخبره مسوق من قبله عزّ وجلّ على نهج الوعيد غير داخل تحت الخطاب وفي تكرير الإسناد بإثبات العذاب الأليم لهم ثم جعل الجملة خبرا ما لا يخفى من المبالغة وإيراده عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة مع الإضافة إلى الاسم الجليل لغاية التعظيم والتنبيه على أن أذيته عليه الصلاة والسلام راجعة إلى جنابه عزّ وجلّ موجبة لكمال السخط والغضب منه سبحانه. وذكر بعضهم أن الإيذاء لا يختص بحال حياته صلّى الله عليه وسلّم بل يكون بعد وفاته صلّى الله عليه وسلّم أيضا وعدوا من ذلك التكلم في أبويه صلّى الله عليه وسلّم بما لا يليق وكذا إيذاء أهل بيته رضي الله تعالى عنهم كإيذاء يزيد عليه ما يستحق لهم وليس بالبعيد يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ الخطاب للمؤمنين وكان المنافقون يتكلمون بما لا يليق ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم ويؤكدون معاذيرهم بالأيمان ليعذروهم ويرضوا عنهم. أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلا من المنافقين قال: والله إن هؤلاء لخيارنا وأشرافنا ولئن كان ما يقول محمد صلّى الله عليه وسلّم حقا لهم شر من الحمر، فسمعها رجل من المسلمين فقال: والله إن ما يقول محمد صلّى الله عليه وسلّم لحق ولأنت شر من الحمار، فسعى بها الرجل إلى نبي الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال: ما حملك على الذي قلت؟ فجعل يلتعن ويحلف بالله تعالى ما قال ذلك وجعل الرجل المسلم يقول: اللهم صدق الصادق وكذب الكاذب فأنزل سبحانه في ذلك: يَحْلِفُونَ إلخ أي يحلفون لكم أنهم ما قالوا ما نقل عنهم مما يورث أذاة النبي صلّى الله عليه وسلّم ليرضوكم بذلك. وعن مقاتل والكلبي أنها نزلت في رهط من المنافقين تخلفوا عن غزوة تبوك فلما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منها أتوا المؤمنين يعتذرون إليهم من تخلفهم ويعتلون ويحلفون. وأنكر بعضهم هذا مقتصرا على الأول ولعله رأى ذلك أوفق بالمقام، وإنما أفرد إرضاءهم بالتعليل مع أن عمدة أغراضهم إرضاء الرسول لله للإيذان بأن ذلك بمعزل عن أن يكون وسيلة لإرضائه عليه الصلاة والسلام وأنه صلّى الله عليه وسلّم إنما لم يكذبهم رفقا بهم وسترا لعيوبهم لا عن رضى بما فعلوا وقبول قلبي لما قالوا وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ أي أحق بالإرضاء من غيره ولا يكون ذلك إلا بالطاعة والموافقة لأمره وإيفاء حقوقه عليه الصلاة والسلام في باب الإجلال والإعظام حضورا وغيبة، وأما الأيمان فإنما يرضى بها من انحصر طريق علمه في الأخبار إلى أن يجيء الحق ويزهق الباطل، والجملة في موضع الحال من ضمير يَحْلِفُونَ والمراد ذمهم بالاشتغال فيما لا يعنيهم والإعراض عما يهمهم ويجديهم. وتوحيد الضمير في يُرْضُوهُ مع أن الظاهر بعد العطف بالواو التثنية لأن إرضاء الرسول عليه الصلاة والسلام لا ينفك عن إرضاء الله تعالى ومَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء: 89] فلتلازمهما جعلا كشيء واحد فعاد إليهما الضمير المفرد، أو لأن الضمير مستعار لاسم الإشارة الذي يشار به إلى الواحد والمتعدد بتأويل المذكور، وإنما لم يثن تأدبا لئلا يجمع بين الله تعالى وغيره في ضمير تثنية: وقد نهي عنه على كلام فيه، أو لأنه عائد إلى رسوله والكلام جملتان حذف خبر الأولى لدلالة خبر الثانية عليه كما في قوله: نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 317 أو إلى الله تعالى على أن المذكور خبر الجملة الأولى وخبر الجملة الثانية محذوف، واختار الأول في مثل ذلك التركيب سيبويه لقرب ما جعل المذكور خبرا له مع السلامة من الفصل بين المبتدأ والخبر، واختار الثاني المبرد للسبق، وقيل: إن الضمير للرسول عليه الصلاة والسلام والخبر له لا غير ولا حذف في الكلام لأن الكلام في إيذاء الرسول عليه الصلاة والسلام وإرضائه فيكون ذكر الله تعالى تعظيما له عليه الصلاة والسلام وتمهيدا فلذا لم يخبر عنه وخص الخبر بالرسول صلّى الله عليه وسلّم، ونظيره قوله تعالى: وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ [النور: 51] ولا يخفى أن اعتبار الأخبار عن المعطوف وعدم اعتبار خبر للمبتدأ المعطوف عليه أصلا مع أنه المستقل في الابتداء في غاية الغرابة، والفرق بين الآيتين مثل الشمس ظاهر إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ جواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله أي إن كانوا مؤمنين إيمانا صادقا في الظاهر والباطن فليرضوا الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام بما ذكر فإنهما أحق بالإرضاء أَلَمْ يَعْلَمُوا أي أولئك المنافقون، والاستفهام للتوبيخ على ما أقدموا عليه من العظيمة مع علمهم بما سمعوا من الرسول صلّى الله عليه وسلّم بوخامة عاقبتها. وقرىء «تعلموا» بالتاء على الالتفات لزيادة التقريع والتوبيخ إذا كان الخطاب للمنافقين لا للمؤمنين كما قيل به. وفي قراءة «ألم تعلم» والخطاب إما للنبي صلّى الله عليه وسلّم أو لكل واقف عليه، والعلم يحتمل أن يكون المتعدي لمفعولين وأن يكون المتعدي لواحد أَنَّهُ أي الشأن مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي يخالف أمر الله وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام، وأصل المحادة مفاعلة من الحد بمعنى الجهة والجانب كالمشاقة من الشق والمعاداة من العدوة بمعناه أيضا فإن كل واحد من مباشري كل من الأفعال المذكورة في حد وشق وعدوة غير ما عليه صاحبه، ويحتمل أن تكون من الحد بمعنى المنع، ومَنْ شرطية جوابها قوله سبحانه: فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ على أن خبره محذوف أي فحق أن له نار جهنم، وقدر ذلك لأن جواب الشرط لا يكون إلا جملة وأن المفتوحة مع ما في حيزها مفرد تأويلا. وقدر مقدما لأنها لا تقع في ابتداء الكلام كالمكسورة، وجوز أن يكون المقدر خبرا أي الأمر أن له إلخ، وقيل: المراد فله نار جهنم وأن تكرير أن في قوله سبحانه: أَنَّهُ توكيدا قيل: وفيه بحث (1) لأنه لو كان المراد فله وأن توكيدا لكان نار جهنم مرفوعا ولم يعمل أن فيه، ولما فصل بين المؤكد والمؤكد بجملة الشرط، ولما وقع أجنبي بين فاء الجزاء وما في حيزه. وأجيب بأنه ليس من باب التوكيد اللفظي بل التكرير لبعد العهد وهو من باب التطرية ومثل ذلك لا يمنع العمل ودخول الفاء. ونظيره قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وقوله: لقد علم الحي اليمانون أنني ... إذا قلت أما بعد أني خطيبها وكم وكم وجعل الآية من هذا الباب نقله سيبويه في الكتاب عن الخليل وهو- هو- وليس «زعم» في كلامه تمريضا له لأنه عادته في كل ما نقله كما بينه شراحه وجوز أن يكون معطوفا على أَنَّهُ وجواب الشرط محذوف أي ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله يهلك فإن له إلخ. وحاصله ألم يعلموا هذا وهذا عقيبه ولا يخفى بعده مع أن أبا حيان قال: إنه لا يصح لأنهم نصوا على أن حذف الجواب إنما يكون إذا كان فعل الشرط ماضيا أو مضارعا مجزوما بلم وما هنا ليس كذلك. وتعقبه بعضهم بأن ما ذكره ليس متفقا عليه فقد نص ابن هشام على خلافه فكأنه شرط للأكثرية، والقول بأن حق العطف فيما ذكر أن يكون بالواو قال فيه الشهاب ليس بشيء إلا أن استحقاقه النار بسبب المحادة بلا شبهة، وقرىء «فإن» بالكسر ولا يحتاج إلى توجيه لظهوره، وقوله سبحانه: خالِداً فِيها حال مقدرة   (1) هو لصاحب التقريب اهـ منه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 318 من الضمير المجرور إن اعتبر في الظرف ابتداء الاستقرار وحدوثه وأنه اعتبر مطلق الاستقرار فالأمر واضح ذلِكَ أي ما ذكر من العذاب الْخِزْيُ الْعَظِيمُ أي الذل والهوان المقارن للفضيحة، ولا يخفى ما في الحمل من المبالغة، والجملة تذييل لما سبق يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ أي من أن تنزل. ويجوز أن يكون يحذر متعديا بنفسه كما يدل عليه ما أنشد سيبويه من قوله: حذر أمورا لا تضير وآمن ... ما ليس ينجيه من الأقدار وأنكر المبرد كونه متعديا لأن الحذر من هيئات النفس كالفزع، والبيت قيل: إنه مصنوع، ورد ما قاله المبرد بأن من الهيئات ما يتعدى كخاف وخشي فما ذكره غير لازم عَلَيْهِمْ أي في شأنهم فإن ما نزل في حقهم نازل عليهم، وهذا إنما يحتاج إليه إذا كان الجار والمجرور متعلقا بتنزل، وأما إذا كان متعلقا بمقدور وقع صفة لقوله سبحانه: سُورَةٌ كما قيل أي تنزل سورة كائنة عليهم من قولهم: هذا لك وهذا عليك فلا كما لا يخفى إلا أنه خلاف الظاهر جدا. والظاهر تعلق الجار بما عنده، وصفة سورة بقوله تعالى شأنه: تُنَبِّئُهُمْ أي المنافقين بِما فِي قُلُوبِهِمْ من الأسرار الخفية فضلا عما كانوا يظهرونه فيما بينهم خاصة من أقاويل الكفر والنفاق، والمراد أنها تذيع ما كانوا يخفونه من أسرارهم فينتشر فيما بين الناس فيسمعونها من أفواه الرجال مذاعة فكأنها تخبرهم بها وإلا فما في قلوبهم معلوم لهم والمحذور عندهم إطلاع المؤمنين عليه لهم، وقيل: المراد تخبرهم بما في قلوبهم على وجه يكون المقصود منه لازم فائدة الخبر وهو علم الرسول عليه الصلاة والسلام به، وقيل: المراد بالتنبئة المبالغة في كون السورة مشتملة على أسرارهم كأنها تعلم من أحوالهم الباطنة ما لا يعلمونه فتنبئهم بها وتنعى عليهم قبائحهم، وجوز أن يكون الضميران الأولان للمؤمنين والثالث للمنافقين، وتفكيك الضمائر ليس بممنوع مطلقا بل هو جائز عند قوة القرينة وظهور الدلالة عليه كما هنا، أي يحذر المنافقون أن تنزل على المؤمنين سورة تخبرهم بما في قلوب المنافقين وتهتك عليهم أستارهم وتفشي أسرارهم، وفي الأخبار عنهم بأنهم يحذرون ذلك إشعار بأنهم لم يكونوا على بت في أمر الرسول عليه الصلاة والسلام. وقال أبو مسلم: كان إظهار الحذر بطريق الاستهزاء فإنهم كانوا إذا سمعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يذكر كل شيء ويقول: إنه بطريق الوحي يكذبونه ويستهزئون به لقوله سبحانه: قُلِ اسْتَهْزِؤُا فإنه يدل على أنه وقع منهم استهزاء بهذه المقالة. والأمر للتهديد والقائلون بما تقدم قالوا: المراد نافقوا لأن المنافق مستهزىء وكما جعل قولهم: آمنا وما هم بمؤمنين مخادعة في البقرة جعل هنا استهزاء، وقيل: إن يَحْذَرُ خبر في معنى الأمر أي ليحذر. وتعقب بأن قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ ينبو عنه نبوة إلا أن يراد ما يحذرون بموجب هذا الأمر وهو خلاف الظاهر، وكان الظاهر أن يقول: إن الله منزل سورة كذلك أو منزل ما تحذرون لكن عدل منه إلى ما في النظم الكريم للمبالغة إذ معناه مبرز ما تحذرونه من إنزال السورة، أو لأنه أعم إذ المراد مظهر كل ما تحذرون ظهوره من القبائح، وإسناد الإخراج إلى الله تعالى للإشارة إلى أنه سبحانه يخرجه إخراجا لا مزيد عليه، والتأكيد لدفع التردد أو رد الإنكار وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ عما قالوه لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: «بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غزوته إلى تبوك إذ نظر إلى أناس بين يديه من المنافقين يقولون: أيرجو هذا الرجل أن تفتح له قصور الشام وحصونها هيهات هيهات، فأطلع الله نبيه عليه الصلاة والسلام على ذلك فقال: احبسوا على هؤلاء الركب فأتاهم فقال صلّى الله عليه وسلّم: قلتم كذا وكذا قالوا: يا نبي الله إنما كنا نخوض ونلعب. فنزلت» وأخرج ابن جرير وابن مردويه وغيرهما عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رجل في غزوة تبوك ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء لا أرغب بطونا ولا أكذب ألسنة ولا أجبن عند اللقاء، فقال رجل: كذبت ولكنك منافق لأخبرن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونزل القرآن، قال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 319 عبد الله: فأنا رأيت الرجل متعلقا بحقب ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والحجارة تنكيه وهو يقول: يا رسول الله إنا كنا نخوض ونلعب ورسول الله عليه الصلاة والسلام يقول ما أمره الله تعالى به في قوله سبحانه: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ وجاء في بعض الروايات أن هذا المتعلق عبد الله بن أبي رأس المنافقين وهل أنكروا ما قالوه واعتذروا بهذا العذر الباطل أو لم ينكروه وقالوا ما قالوا فيه خلاف والإمام على الثاني وهو أوفق بظاهر النظم الجليل. وأصل الخوض الدخول في مائع مثل الماء والطين ثم كثر حتى صار اسما لكل دخول فيه تلويث وإذاء وأرادوا إنما نلعب ونتلهى لتقصر مسافة السفر بالحديث والمداعبة كما يفعل الركب ذلك لقطع الطريق ولم يكن ذلك منا على طريق الجد، والاستفهام للتوبيخ، وأولى المتعلق إيذانا بأن الاستهزاء واقع لا محالة لكن الخطاب في المستهزأ به، أي قل لهم غير ملتفت إلى اعتذارهم ناعيا عليهم جناياتهم قد استهزأتم بمن لا يصح الاستهزاء به وأخطأتم مواقع فعلكم الشنيع الذي طالما ارتكبتموه، ومن تأمل علم أن قولهم السابق في سبب النزول متضمن للاستهزاء المذكور لا تَعْتَذِرُوا أي لا تشتغلوا بالاعتذار وتستمروا عليه فليس النهي عن أصله لأنه قد وقع، وإنما نهوا عن ذلك لأن ما يزعمونه معلوم الكذب بين البطلان، والاعتذار قيل: إنه عبارة عن محو أثر الذنب من قولهم: اعتذرت المنازل إذا درست لأن المعتذر يحاول إزالة أثر ذنبه واندراسه. وقيل: هو القطع ومنه يقال للقلفة عذرة لأنها تعذر أي تقطع وللبكارة عذرة لأنها تقطع بالافتراع، ويقال: اعتذرت المياه إذا انقطعت فالعذر لما كان سببا لقطع اللوم سمي عذرا، والقولان منقولان عن أهل اللغة وهما على ما قال الواحدي متقاربان قَدْ كَفَرْتُمْ أي أظهرتم الكفر بإيذاء الرسول عليه الصلاة والسلام والطعن فيه بَعْدَ إِيمانِكُمْ أي إظهاركم الإيمان وهذا وما قبله لأن القوم منافقون فأصل الكفر في باطنهم ولا إيمان في نفس الأمر لهم. واستدل بعضهم بالآية على أن الجد واللعب في إظهار كلمة الكفر سواء ولا خلاف بين الأئمة في ذلك إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ لتوبتهم وإخلاصهم على أن الخطاب لجميع المنافقين أو لتجنبهم عن الإيذاء والاستهزاء على أن الخطاب للمؤذين والمستهزئين منهم، والعفو في ذلك عن عقوبة الدنيا العاجلة نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ أي مصرين على النفاق وهم غير التائبين أو مباشرين له وهم غير المجتنبين. أخرج ابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن كعب بن مالك قال من خبر فيه طول: كان الذي عفي عنه مخشي بن حمير الأشجعي فتسمى عبد الرحمن وسأل الله تعالى أن يقتل شهيدا لا يعلم مقتله فقتل يوم اليمامة فلم يعلم مقتله ولا قاتله ولم ير له عين ولا أثر. وفي بعض الروايات أنه لما نزلت هذه الآية تاب عن نفاقه وقال: اللهم إني لا أزال أسمع آية تقشعر منها الجلود وتجب منها القلوب اللهم اجعل وفاتي قتلا في سبيلك لا يقول أحد أنا غسلت أنا كفنت أنا دفنت فأصيب يوم اليمامة واستجيب دعاؤه رضي الله تعالى عنه. ومن هنا قال مجاهد: إن الطائفة تطلق على الواحد إلى الألف، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الطائفة الواحد والنفر، وقرىء «يعف» و «يعذب» بالياء وبناء الفاعل فيهما وهو الله تعالى. وقرىء «إن تعف» و «تعذب» بالتاء والبناء للمفعول. واستشكلت هذه القراءة بأن الفعل الأول مسند فيها إلى الجار والمجرور ومثله يلزم تذكيره ولا يجوز تأنيثه إذا كان المجرور مؤنثا فيقال سير على الدابة ولا يقال سيرت عليها. وأجيب بأن ذلك من الميل مع المعنى والرعاية له فلذا أنث لتأنيث المجرور إذ معنى نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ ترحم طائفة وهو من غرائب العربية، وقيل: لو قيل بالمشاكلة لم يبعد، وقيل: إن نائب الفاعل ضمير الذنوب والتقدير إن تعف هي أي الذنوب، ومن الناس من استشكل الشرطية من حيث هي بأنه كيف يصح أن يكون نُعَذِّبْ طائِفَةً جوابا للشرط الجزء: 5 ¦ الصفحة: 320 السابق ومن شرط الشرط والجزاء الاتصال بطريق السببية أو اللزوم في الجملة وكلاهما مفقود في الجملة، وقد ذكر ذلك العز بن عبد السلام في أماليه ونقله عنه العلامة ابن حجر في ذيل الفتاوي وذكر أنه لم ير أحدا نبه على الجواب عنه لكنه يعلم من سبب النزول، وتكلم بعد أن ساق الخبر بما لا يخلو عن غموض، ولقد ذكرت السؤال وأنا في عنفوان الشباب مع جوابه للعلامة المذكور لدى شيخ من أهل العلم قد حلب الدهر أشطره وطلبت منه حل ذلك فأعرض عن تقرير الجواب الذي في الذيل وأظن أن ذلك لجهله به وشمر الذيل وكشف عن ساق الجواب من تلقاء نفسه فقال: إن الشرطية اتفاقية نحو قولك: إن كان الإنسان ناطقا فالحمار ناهق وشرع في تقرير ذلك بما تضحك منه الثكلى ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وأجاب مولانا سري الدين: بأن الجزاء محذوف مسبب عن المذكور أي فلا ينبغي أن يفتروا أو فلا يفتروا فلا بد من تعذيب طائفة، ثم قال: فإن قيل هذا التقدير لا يفيد سببية مضمون الشرط لمضمون الجزاء. قلت: يحمل على سببيته للاخبار بمضمون الجزاء أو سببيته للأمر بعدم الاغترار قياسا على الاخبار، وقد حقق الكلام في ذلك العلامة التفتازاني عند قوله تعالى: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ من سورة [البقرة: 97] في حاشية الكشاف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 321 الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أي متشابهون في النفاق كتشابه أبعاض الشيء الواحد والمراد الاتحاد في الحقيقة والصورة كالماء والتراب، والآية متصلة بجميع ما ذكر من قبائحهم، وقيل: هي متصلة بقوله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 322 تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ [التوبة: 56] والمراد منها تكذيب قولهم المذكور وإبطال له وتقرير لقوله سبحانه: وَما هُمْ مِنْكُمْ وما بعد من تغاير صفاتهم وصفات المؤمنين كالدليل على ذلك، ومن على التقريرين اتصالية كما في قوله عليه الصلاة والسلام: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» ، والتعرض لأحوال الإناث للإيذان بكمال عراقتهم في الكفر والنفاق يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ أي بالتكذيب بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ أي شهادة أن لا إله إلا الله والإقرار بما أنزل الله تعالى كما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وأخرج عن أبي العالية أنه قال: كل منكر ذكر في القرآن المراد منه عبادة الأوثان والشيطان، ولا يبعد أن يراد بالمنكر والمعروف ما يعم ما ذكر وغيره ويدخل فيه المذكور دخولا أوليا، والجملة استئناف مقرر لمضمون ما سبق مفصح عن مضادة حالهم لحال المؤمنين أو خبر ثان وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ عن الإنفاق في طاعة الله ومرضاته كما روي عن قتادة والحسن، وقبض اليد كناية عن الشح والبخل كما أن بسطها كناية عن الجود لأن من يعطي يمد يده بخلاف من يمنع، وعن الجبائي أن المراد يمسكون أيديهم عن الجهاد في سبيل الله تعالى وهو خلاف الشائع في هذه الكلمة نَسُوا اللَّهَ النسيان مجاز عن الترك وهو كناية عن ترك الطاعة فالمراد لم يطيعوه سبحانه فَنَسِيَهُمْ منع لطفه وفضله عنهم، والتعبير بالنسيان للمشاكلة إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ أي الكاملون في التمرد والفسق الذي هو الخروج عن الطاعة والانسلاخ عن كل حتى كأنهم الجنس كله، ومن هنا صح الحصر المستفاد من الفصل وتعريف الخبر وإلا فكم فاسق سواهم. والإظهار في مقام الإضمار لزيادة التقرير، ولعله لم يذكر المنافقات اكتفاء بقرب العهد، ومثله في نكتة الإظهار قوله سبحانه: وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ أي المجاهرين فهو من عطف المغاير، وقد يكون من عطف العام على الخاص نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها حال مقدرة من مفعول وَعَدَ أي مقدرين الخلود، قيل: والمراد دخولهم وتعذيبهم بنار جهنم في تلك الحال لما يلوح لهم يقدرون الخلود في أنفسهم فلا حاجة لما قاله بعضهم من أن التقدير مقدري الخلود بصيغة المفعول. والإضافة إلى الخلود لأنهم لم يقدروه وإنما قدره الله تعالى لهم، وقيل: إذا كان المراد يعذبهم الله سبحانه بنار جهنم خالدين لا يحتاج إلى التقدير، والتعبير بالوعد للتهكم نحو قول سبحانه: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: 21، التوبة: 34، الانشقاق: 24] هِيَ حَسْبُهُمْ عقابا وجزاء أي فيها ما يكفي من ذلك، وفيه ما يدل على عظم عقابها وعذابها فإنه إذا قيل للمعذب كفى هذا دل على أنه بلغ غاية النكاية وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ أي أبعدهم من رحمته وخيره وأهانهم وفي إظهار الاسم الجليل من الإيذان بشدة السخط ما لا يخفى وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ أي نوع من العذاب غير عذاب النار دائم لا ينقطع أبدا فلا تكرار مع ما تقدم، ولا ينافي ذلك هِيَ حَسْبُهُمْ لأنه بالنظر إلى تعذيبهم بالنار، وقيل في دفع التكرار إن ما تقدم وعيد وهذا بيان لوقوع ما وعدوا به على أنه لا مانع من التأكيد، وقيل: إن الأول عذاب الآخرة وهذا عذاب ما يقاسونه في الدنيا من التعب والخوف من الفضيحة والقتل ونحوه، وفسرت الإقامة بعدم الانقطاع لأنها من صفات العقلاء فلا يوصف بها العذاب فهي مجاز عما ذكر. وجوز أن يكون وصف العذاب بها كما في قوله تعالى: عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة: 21، القارعة: 7] فالمجاز حينئذ عقلي كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ التفات من الغيبة إلى الخطاب للتشديد، والكاف في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف أي أنتم مثل الذين من قبلكم من الأمم المهلكة أو في حيز النصب بفعل مقدر أي فعلتم مثل الذين من قبلكم، ونحوه قول النمر يصف ثور وحش وكلابا: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 323 حتى إذا الكلاب قال لها ... كاليوم مطلوبا ولا طالبا فإن أصله لم أر مطلوبا كمطلوب رأيته اليوم ولا طلبة كطلبة رأيتها اليوم فاختصر الكلام فقيل لم أر مطلوبا كمطلوب اليوم لملابسته له ثم حذف المضاف اتساعا وعدم البأس، وقيل: كاليوم وقدم على الموصوف فصار حالا للاعتناء والمبالغة وحذف الفعل للقرينة الحالية ووجه الشبه المعمولية لفعل محذوف، وقوله سبحانه: كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً إلخ تفسير للتشبيه وبيان لوجه الشبه بين المخاطبين ومن قبلهم فلا محل لها من الإعراب، وفيه إيذان بأن المخاطبين أولى وأحق بأن يصيبهم ما أصابهم فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ أي تمتعوا بنصيبهم من ملاذ الدنيا، وفي صيغة الاستفعال ما ليس في التفعل من الاستفادة والاستدامة في التمتع، واشتقاق الخلاق من الخلق بمعنى التقدير وهو أصل معناه لغة فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ ذم الأولين باستمتاعهم بحظوظهم الخسيسة من الشهوات الفانية والتهائهم فيها عن النظر في العاقبة والسعي في تحصيل اللذائذ الحقيقية تمهيدا لذم المخاطبين بمشابهتهم واقتفاء أثرهم، ولذلك اختير الإطناب بزيادة فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ وهذا كما تريد أن تنبه بعض الظلمة على سماجة فعله فتقول أنت مثل فرعون كان يقتل بغير جرم ويعذب ويعسف وأنت تفعل مثله، ومحل الكاف النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي استمتعتم استمتاعا كاستمتاع الذين وَخُضْتُمْ أي دخلتم في الباطل كَالَّذِي خاضُوا أي كالذين فحذفت نونه تخفيفا كما في قوله: إن الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أم خالد ويجوز أن يكون الذي صفة لمفرد اللفظ مجموع المعنى كالفوج والفريق فلوحظ في الصفة اللفظ وفي الضمير المعنى أو هو صفة مصدر محذوف أي كالخوض الذي خاضوه ورجح بعدم التكلف فيه، وقال الفراء: إن الذي تكون مصدرية وخرج هذا عليه أي كخوضهم وهو كما قال أبو البقاء نادر، وهذه الجملة عطف على ما قبلها وحينئذ إما أن يقدر فيها ما يجعلها على طرزه لعطفها عليه أولا يقدر إشارة إلى الاعتناء بالأول أُولئِكَ إشارة إلى المتصفين بالصفات المعدودة من المشبهين والمشبه بهم، وكونه إشارة إلى الأخير يقتضي أن يكون حكم المشبهين مفهوما ضمنا ويؤدي إلى خلو تلوين الخطاب عن الفائدة إذ الظاهر حينئذ أولئكم والخطاب لسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام أو لكل من يصلح له أي أولئك المتصفون بما ذكر من القبائح حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أي التي كانوا يستحقون بها أجورا حسنة لو قارنت الإيمان، والحبط السقوط والبطلان والاضمحلال والمراد لم يستحقوا عليها ثوابا وكرامة فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أما في الآخرة فظاهر وأما في الدنيا فلأن ما حصل لهم من الصحة والسعة ونحوهما ليس إلا بطريق الاستدراج كما نطقت به الآيات دون الكرامة وَأُولئِكَ الموصوفون بحبط الأعمال في الدارين هُمُ الْخاسِرُونَ أي الكاملون في الخسران الجامعون لمباديه وأسبابه طرا. وإيراد اسم الإشارة في الموضعين للإشعار بعلية الأوصاف المشار إليها للحبط والخسران أَلَمْ يَأْتِهِمْ أي المنافقين نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي خبرهم الذي له شأن والاستفهام للتقرير والتحذير قَوْمِ نُوحٍ أغرقوا بالطوفان وَعادٍ أهلكوا بالريح وَثَمُودَ أهلكوا بالرجفة، وغير الأسلوب في القومين لأنهم لم يشتهروا بنبيهم، وقيل: لأن الكثير منهم آمن وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ أهلك نمروذ رئيسهم ببعوض وأبيدوا بعده لكن لا بسبب سماوي كغيرهم ووَ أَصْحابِ مَدْيَنَ أي أهلها وهم قوم شعيب عليه السلام أهلكوا بالنار يوم الظلة أو بالصيحة والرجفة أو بالنار والرجفة على اختلاف الروايات وَالْمُؤْتَفِكاتِ مؤتفكة من الائتفاك وهو الانقلاب بجعل أعلى الشيء أسفل بالخسف، والمراد بها إما قريات قوم لوط عليه السلام فالائتفاك على حقيقته فإنها انقلبت بهم وصار عاليها سافلها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 324 وأمطر على من فيها حجارة من سجيل وإما قريات المكذبين المتمردين مطلقا فالائتفاك مجاز عن انقلاب حالها من الخير إلى الشر على طريق الاستعارة كقول ابن الرومي: وما الخسف أن تلقى أسافل بلدة ... أعاليها بل أن تسود الأراذل لأنها لم يصبها كلها الائتفاك الحقيقي أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ استئناف لبيان نبئهم، وضمير الجمع للجميع لا للمؤتفكات فقط فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ أي فكذبوهم فأهلكهم الله تعالى فما كان إلخ، فالفاء للعطف على ذلك المقدر الذي ينسحب عليه الكلام ويستدعيه النظام، أي لم يكن من عادته سبحانه ما يشبه ظلم الناس كالعقوبة بلا جرم، وقد يحمل على استمرار النفي أي لا يصدر منه سبحانه ذلك أصلا بل هو أبلغ كما لا يخفى. وقول الزمخشري: أي فما صح منه أن يظلمهم وهو حكيم لا يجوز عليه القبيح مبني على الاعتزال. وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث عرضوها بمقتضى استعدادهم للعقاب بالكفر والتكذيب، والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار، وتقديم المفعول على ما قرره بعض الأفاضل لمجرد الاهتمام به مع مراعاة الفاصلة من غير قصد إلى قصر المظلومية عليهم على رأي من لا يرى التقديم موجبا للقصر كابن الأثير فيما قيل وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بيان لحسن حال المؤمنين والمؤمنات حالا ومالا بعد بيان حال أضدادهم عاجلا وآجلا، وقوله سبحانه: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يقابل قوله تعالى فيما مر: بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وتغيير الأسلوب للإشارة إلى تناصرهم وتعاضدهم بخلاف أولئك وقوله عزّ وجلّ: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ظاهر المقابلة «ليأمرون بالمنكر» إلخ الكلام في المنكر والمعروف معروف، وقوله جل وعلا: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ في مقابلة نَسُوا اللَّهَ وقوله تعالى جده: وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ في مقابلة يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ وقوله تبارك وتعالى: وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي في سائر الأمور في مقابلة وصف المنافقين بكمال الفسق والخروج عن الطاعة، وقيل: هو في مقابلة نَسُوا اللَّهَ، وقوله سبحانه: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ زيادة مدح، وقوله تعالى شأنه: أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ في مقابلة فَنَسِيَهُمْ المفسر بمنع لطفه ورحمته سبحانه، وقيل: في مقابلة أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ لأنه بمعنى المتقين المرحومين، والإشارة إلى المؤمنين والمؤمنات باعتبار اتصافهم بما سلف من الصفات الجليلة، والإتيان بما يدل على البعد لما مر غير مرة. والسين على ما قال الزمخشري وتبعه غير واحد لتأكيد الوعد وهي كما تفيد ذلك تفيد تأكيد الوعيد، ونظر فيه صاحب التقريب ووجه ذلك بأن السين في الإثبات في مقابلة لن في النفي فتكون بهذا الاعتبار تأكيدا لما دخلت عليه ولا فرق في ذلك بين أن يكون وعدا أو وعيدا أو غيرهما. وقال العلامة ابن حجر: ما زعمه الزمخشري من أن السين تفيد القطع بمدخولها مردود بأن القطع إنما فهم من المقام لا من الوضع وهو توطئة لمذهبه الفاسد في تحتم الجزاء ومن غفل عن هذه الدسيسة وجهه، وتعقبه الفهامة ابن قاسم بأن هذا لا وجه له لأنه أمر نقلي لا يدفعه ما ذكر ونسبه الغفلة للأئمة إنما أوجبه حب الاعتراض، وحينئذ فالمعنى أولئك المنعوتون بما فصل من النعوت الجليلة يرحمهم الله تعالى لا محالة إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ قوي قادر على كل شيء لا يمتنع عليه ما يريده حَكِيمٌ يضع الأشياء مواضعها ومن ذلك النعمة والنقمة والجملة تعليل للوعد، وقوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها في مقابلة الوعيد السابق للمنافقين المعبر عنه بالوعد تهكما كما مر، ويفهم من كلام البعض أن قوله سبحانه: سَيَرْحَمُهُمُ بيان لإفاضة آثار الرحمة الدنيوية من التأييد والنصر وهذا تفصيل لآثار رحمته سبحانه الأخروية، والإظهار في مقام الإضمار لزيادة التقرير الجزء: 5 ¦ الصفحة: 325 والاشعار بعلية الإيمان لما تعلق به الوعد، ولم يضم إليه باقي الأوصاف للإيذان بأنه من لوازمه ومستتبعاته، والكلام في- خالدين- هنا كالكلام فيما مر وَمَساكِنَ طَيِّبَةً أي تستطيبها النفوس أو يطيب فيها العيش فالإسناد إما حقيقي أو مجازي. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن الحسن قال: سألت عمران بن حصين وأبا هريرة عن تفسير وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فقالا: على الخبير سقطت سألنا عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «قصر من لؤلؤة في الجنة في ذلك القصر سبعون دارا من ياقوتة حمراء في كل دار سبعون بيتا من زمردة خضراء في كل بيت سبعون سريرا على كل سرير سبعون فراشا من كل لون على كل فراش امرأة من الحور العين في كل بيت سبعون مائدة في كل مائدة سبعون لونا من كل طعام في كل بيت سبعون وصيفا ووصيفة فيعطى المؤمن من القوة في كل غداة ما يأتي على ذلك كله» فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ قيل: هو علم لمكان مخصوص بدليل قوله تعالى: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ [مريم: 61] حيث وصف فيه بالمعرفة، ولما أخرجه البزار والدارقطني في المختلف والمؤتلف. وابن مردويه من حديث أبي الدرداء قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «عدن دار الله تعالى لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر لا يسكنها غير ثلاثة: النبيون والصديقون والشهداء يقول الله سبحانه طوبى لمن دخلك» وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن في الجنة قصرا يقال له عدن حوله البروج والمروج له خمسة آلاف باب لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد. وعن ابن مسعود أنها بطنان الجنة وسرتها. وقال عطاء بن السائب: عدن نهر في الجنة جناته على حافاته. وقيل: العدن في الأصل الاستقرار والثبات ويقال: عدن بالمكان إذا أقام. والمراد به هنا الإقامة على وجه الخلود لأنه الفرد الكامل المناسب لمقام المدح أي في جنات إقامة وخلود، وعلى هذا الجنات كلها جنات عدن لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا [الكهف: 108] والتغاير بين المساكن والجنات المشعر به العطف إما ذاتي بناء على أن يراد بالجنات غير عدن وهي لعامة المؤمنين وعدن للنبيين عليهم الصلاة والسلام والصديقين والشهداء أو يراد بها البساتين أنفسها وهي غير المساكن كما هو ظاهر، فالوعد حينئذ صريحا بشيئين البساتين والمساكن فلكل أحد جنة ومسكن وإما تغاير وصفي فيكون كل منهما عاما ولكن الأول باعتبار اشتمالها على الأنهار والبساتين والثاني لا بهذا الاعتبار، وكأنه وصف ما وعدوا به أولا بأنه من جنس ما هو أشرف الأماكن المعروف عندهم من الجنات ذات الأنهار الجارية لتميل إليه طباعهم أول ما يقرع أسماعهم ثم وصفه بأنه محفوف بطيب العيش معرى عن شوائب الكدورات التي لا تكاد تخلو عنها أماكن الدنيا وأهلها وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ثم وصف بأنه دار إقامة بلا ارتحال وثبات بلا زوال ولا يعد هذا تكرارا لقوله سبحانه: خالِدِينَ فِيها كما لا يخفى ثم وعدهم جل شأنه كما يفهم من الكلام هو ما أجل وأعلى من ذلك كله بقوله تبارك وتعالى: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أي وقدر يسير من رضوانه سبحانه أَكْبَرُ ولقصد إفادة ذلك عدل عن رضوان الله الأخصر إلى ما في النظم الجليل، وقيل: إفادة العدول كون ما ذكر أظهر في توجه الرضوان إليهم، ولعله إنما لم يعبر بالرضا تعظيما لشأن الله تعالى في نفسه لأن في الرضوان من المبالغة ما لا يخفى ولذلك لم يستعمل في القرآن إلا في رضاء الله سبحانه، وإنما كان ذلك أكبر لأنه مبدأ لحلول دار الإقامة ووصول كل سعادة وكرامة وهو غاية أرب المحبين ومنتهى أمنية الراغبين. وقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن الله تعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة. فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: ربنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك. فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك يا ربنا؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 326 فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا» ولعل عدم عدم نظم هذا الرضوان في سلك الوعد على طرز ما تقدم مع عزته في نفسه لأنه متحقق في ضمن كل موجود ولأنه مستمر في الدارين ذلِكَ أي جميع ما ذكر هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ دون ما يعده الناس فوزا من حظوظ الدنيا فإنها مع قطع النظر عن فنائها وتغيرها وتنغصها بالآلام ليست بالنسبة إلى أدنى شيء من نعيم الآخرة إلا بمثابة جناح البعوض، وفي الحديث «لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء» ولله در من قال: تالله لو كانت الدنيا بأجمعها ... تبقى علينا وما من رزقها رغدا ما كان من حق حر أن يذل بها ... فكيف وهي متاع يضحمل غدا وجوز أن تكون الإشارة إلى الرضوان فهو فوز عظيم يستحقر عنده نعيم الدنيا وحظوظها أيضا أو الدنيا ونعيمها والجنة وما فيها، وعلى الاحتمالين لا ينافي قوله سبحانه: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 89] فقد فسر فيه- العظيم- بما يستحقر عنده نعيم الدنيا فتدبر. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ ظاهره يقتضي مقاتلة المنافقين وهم غير مظهرين للكفر ولا نحكم بالظاهر لأنا نحكم بالظاهر كما في الخبر ولذا فسر ابن عباس والسدي ومجاهد جهاد الأولين بالسيف والآخرين باللسان وذلك بنحو الوعظ وإلزام الحجة بناء على أن الجهاد بذل الجهد في دفع ما لا يرضى وهو أعم من أن يكون بالقتال أو بغيره فإن كان حقيقة فظاهر وإلا حمل على عموم المجاز. وروي عن الحسن وقتادة أن جهاد المنافقين بإقامة الحدود عليهم. واستشكل بأن إقامتها واجبة على غيرهم أيضا فلا يختص ذلك بهم. وأشار في الأحكام إلى دفعه بأن أسباب الحد في زمنه صلّى الله عليه وسلّم أكثر ما صدرت عنهم، وأما القول بأن المنافق بمعنى الفاسق عند الحسن فغير حسن. وروي- والعهدة على الراوي- أن قراءة أهل البيت رضي الله تعالى عنهم «جاهد الكفار بالمنافقين» والظاهر أنها لم تثبت ولم يروها إلا الشيعة وهم بيت الكذب وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ أي على الفريقين في الجهاد بقسميه ولا ترفق بهم. عن عطاء نسخت هذه الآية كل شيء من العفو والصفح وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ استئناف لبيان آجل أمرهم إثر بيان عاجله. وذكر أبو البقاء في هذه ثلاثة أوجه: أحدها أنها واو الحال والتقدير افعل ذلك في حال استحقاقهم جهنم وتلك الحال حال كفرهم ونفاقهم، والثاني أنها جيء بها تنبيها على إرادة فعل محذوف أي واعلم أن مأواهم جهنم، والثالث أن الكلام محمول على المعنى وهو أنه قد اجتمع لهم عذاب الدنيا بالجهاد والغلظة وعذاب الآخرة بجعل جهنم مأواهم وَبِئْسَ الْمَصِيرُ تذييل لما قبله والمخصوص بالذم محذوف أي مصيره يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا استئناف لبيان ما صدر منهم من الجرائم الموجبة لما مر. أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلين اقتتلا أحدهما من جهينة والآخر من غفار وكانت جهينة حلفاء الأنصار فظهر الغفاري على الجهيني فقال عبد الله بن أبي للأوس انصروا أخاكم والله ما مثلنا ومثل محمد صلّى الله عليه وسلّم وحاشاه مما يقول هذا المنافق إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فسعى بها رجل من المسلمين إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأرسل إليه فجعل يحلف بالله تعالى ما قاله فنزلت. وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن كعب بن مالك قال: لما نزل القرآن فيه ذكر المنافقين قال الجلاس (1) بن سويد: والله لئن كان هذا الرجل صادقا لنحن شر من الحمير فسمعهما عمير بن سعد فقال: والله يا   (1) بوزن غراب اهـ منه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 327 جلاس إنك لأحب الناس إلي وأحسنهم عندي أثرا ولقد قلت مقالة لئن ذكرتها لتفضحنك ولئن سكت عنها لتهلكني ولإحداهما أشد علي من الأخرى فمشى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكر له ما قال الجلاس فحلف بالله تعالى ما قال ولقد كذب عليّ عمير فنزلت. وأخرج عبد الرزاق عن ابن سيرين أنها لما نزلت أخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم بأذن عمير فقال: وفت أذنك يا غلام وصدقك ربك وكان يدعو حين حلف الجلاس اللهم أنزل على عبدك ونبيك تصديق الصادق وتكذيب الكاذب. وأخرج عن عروة أن الجلاس تاب بعد نزولها وقبل منه. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالسا في ظل شجرة فقال: إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان فإذا جاء فلا تكلموه فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق العينين فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله تعالى ما قالوا حتى تجاوز عنهم وأنزل الله تعالى الآية، وإسناد الحلف إلى ضمير الجمع على هذه الرواية ظاهر وأما على الروايتين الأوليين فقيل: لأنهم رضوا بذلك واتفقوا عليه فهو من إسناد الفعل إلى سببه أو لأنه جعل الكلام لرضاهم به كأنهم فعلوه ولا حاجة إلى عموم المجاز لأن الجمع بين الحقيقة والمجاز جائز في المجاز العقلي وليس محلا للخلاف، وإيثار صيغة الاستقبال في يَحْلِفُونَ على سائر الروايات لاستحضار الصورة أو للدلالة على تكرير الفعل وهو قائم مقام القسم، وما قالُوا جوابه وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ هي ما حكي من قولهم والله ما مثلنا إلخ أو والله لئن كان هذا الرجل صادقا إلخ أو الشتم الذي وبخ عليه عليه الصلاة والسلام، والجملة مع ما عطف عليها اعتراض وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ أظهروا ما في قلوبهم من الكفر بعد إظهار الإسلام وإلا فكفرهم الباطن كان ثابتا قبل والإسلام الحقيقي لا وجود له وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا من الفتك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين رجع من غزوة تبوك. أخرج البيهقي في الدلائل عن حذيفة بن اليمان قال كنت آخذا بخطام ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أقود به وعمار يسوق أو أنا أسوق وعمار يقود حتى إذا كنا بالعقبة فإذا أنا باثني عشر راكبا قد اعترضوا فيها فأنبهت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصرخ بهم فولوا مدبرين فقال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هل عرفتم القوم؟ قلنا: لا يا رسول الله كانوا متلثمين ولكن قد عرفنا الركاب قال: هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة. هل تدرون ما أرادوا؟ قلنا: لا. قال: أرادوا أن يزلوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في العقبة فيلقوه منها قلنا: يا رسول الله أو لا تبعث إلى عشائرهم حتى يبعث لك كل قوم برأس صاحبهم قال: أكره أن يتحدث العرب عنا أن محمدا عليه الصلاة والسلام قاتل بقوم حتى إذا أظهره الله تعالى بهم أقبل عليهم يقتلهم، ثم قال: اللهم ارمهم بالدبيلة، قلنا: يا رسول الله وما الدبيلة؟ قال: شهاب من نار يقع على نياط قلب أحدهم فيهلك وكانوا كلهم كما أخرج ابن سعد عن نافع بن جبير من الأنصار أو من حلفائهم ليس فيهم قرشي، ونقل الطبرسي عن الباقر رضي الله تعالى عنه أن ثمانية منهم من قريش وأربعة من العرب لا يعول عليه. وقد ذكر البيهقي من رواية ابن إسحاق أسماءهم وعد منهم الجلاس بن سويد، ويشكل عليه رواية أنه تاب وحسنت توبته مع قوله عليه الصلاة والسلام في الخبر «هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة» إلا أن يقال: إن ذلك باعتبار الغالب، وقيل: المراد بالموصول إخراج المؤمنين من المدينة على ما تضمنه الخبر المار عن قتادة، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي وأبو الشيخ عنه وعن أبي صالح أنهم أرادوا أن يتوجوا عبد الله بن أبي بتاج ويجعلوه حكما ورئيسا بينهم وإن لم يرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: أرادوا أن يقتلوا عميرا لرده على الجلاس كما مر. وَما نَقَمُوا أي ما كرهوا وعابوا شيئا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فالاستثناء مفرغ من أعم المفاعيل أي وما نقموا الإيمان لأجل شيء إلا لإغناء الله تعالى إياهم فيكون الاستثناء مفرغا من أعم العلل وهو على حد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 328 قولهم: ما لي عندك ذنب إلا أني أحسنت إليك، وقوله: ما نقم الناس من أمية إلا ... أنهم يحلمون إن غضبوا (1) وهو متصل على ادعاء دخوله بناء على القول بأن الاستثناء المفرغ لا يكون منقطعا، وفيه تهكم وتأكيد الشيء بخلافه كقوله: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم البيت، وأصل النقمة كما قال الراغب الإنكار باللسان والعقوبة والأمر على الأول ظاهر وأما على الثاني فيحتاج إلى ارتكاب المجاز بأن يراد وجدان ما يورث النقمة ويقتضيه، وضمير أَغْناهُمُ للمنافقين على ما هو الظاهر، وكان إغناؤهم بأخذ الدية، فقد روي أنه كان للجلاس مولى قتل وقد غلب على ديته فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بها اثني عشر ألفا فأخذها واستغنى، وعن قتادة أن الدية كانت لعبد الله بن أبي وزيادة الألفين كانت على عادتهم في الزيادة على الدية تكرما وكانوا يسمونها شنقا كما في الصحاح. وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة قال: كان جلاس تحمل حمالة أو كان عليه دين فأدى عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذلك قوله سبحانه: وَما نَقَمُوا الآية، ولا يخفى أن الإغناء على الأول أظهر، وقيل: كان إغناؤهم بما من الله تعالى به من الغنائم فقد كانوا كما قال الكلبي قبل قدوم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة محاويج في ضنك من العيش فلما قدم عليه الصلاة والسلام أثروا بها، والضمير على هذا يجوز أن يكون للمؤمنين فيكون الكلام متضمنا ذم المنافقين بالحسد كما أنه على الأول متضمن لذمهم بالكفر وترك الشكر، وتوحيد ضمير فضله لا يخفى وجهه فَإِنْ يَتُوبُوا عمّا هم عليه من القبائح يَكُ أي التوب، وقيل: أي التوبة ويغتفر مثل ذلك في المصادر. وقد يقال: التذكير باعتبار الخبر أعني قوله سبحانه: خَيْراً لَهُمْ أي في الدارين، وهذه الآية على ما في بعض الروايات كانت سببا لتوبته وحسن إسلامه لطفا من الله تعالى به وكرما وَإِنْ يَتَوَلَّوْا أي استمروا على ما كانوا عليه من التولي والإعراض عن إخلاص الإيمان أو أعرضوا عن التوبة. يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا بمتاعب النفاق وسوء الذكر ونحو ذلك، وقيل: المراد بعذاب الدنيا عذاب القبر أو ما يشاهدونه عند الموت، وقيل: المراد به القتل ونحوه على معنى أنهم يقتلون إن أظهروا الكفر بناء على أن التولي مظنة الإظهار فلا ينافي ما تقدم من أنهم لا يقتلون وأن الجهاد في حقهم غير ما هو المتبادر. وَالْآخِرَةِ وعذابهم فيها بالنار وغيرها من أفانين العقاب وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أي في الدنيا، والتعبير بذلك للتعميم أي ما لهم في جميع بقاعها وسائر أقطارها مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ينقذهم من العذاب بالشفاعة أو المدافعة، وخص ذلك في الدنيا لأنه لا ولي ولا نصير لهم في الآخرة قطعا فلا حاجة لنفيه. هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ إلخ فيه إشارة إلى علو مقامه صلّى الله عليه وسلّم ورفعة شأنه على سائر الأحباب حيث آذنه بالعفو قبل العتاب، ولو قال له: لم أذنت لهم عفى الله عنك لذاب، وعبر سبحانه بالماضي المشير إلى سبق الاصطفاء لئلا يوحشه عليه الصلاة والسلام الانتظار ويشتغل قلبه الشريف باستمطار العفو من سحاب ذلك الوعد المدرار، وانظر كم بين عتابه جل شأنه لحبيبه عليه الصلاة والسلام على الإذن لأولئك المنافقين وبين رده تعالى على نوح عليه السلام قوله: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي [هود: 45] بقوله سبحانه: يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود: 46] إلى قوله تبارك وتعالى: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [هود: 46] ومن ذلك يعلم   (1) نسخة ما نقموا من بني أمية إلخ اهـ منه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 329 الفرق- وهو لعمري غير خفي- بين مقام الحبيب ورتبة الصفي، وقد قيل: إن المحب يعتذر عن حبيبه ولا ينقصه عنده كلام معيبه، وأنشد: ما حطك الواشون عن رتبة ... كلا وما ضرك مغتاب كأنهم أثنوا ولم يعلموا ... عليك عندي بالذي عابوا وقال الآخر: في وجهه شافع يمحو إساءته ... عن القلوب ويأتي بالمعاذير وقال: وإذا الحبيب أتى بذنب واحد ... جاءت محاسنه بألف شفيع وقوله سبحانه: لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فيه إشارة إلى أن المؤمن إذا سمع بخبر خير طار إليه وأتاه ولو مشيا على رأسه ويديه ولا يفتح فيه فاه بالاستئذان، وهل يستأذن في شرب الماء ظمآن؟. وقال الواسطي: إن المؤمن الكامل مأذون في سائر أحواله إن قام قام بإذن وإن قعد قعد بإذن وإن لله سبحانه عبادا به يقومون وبه يقعدون، ومن شأن المحبة امتثال أمر المحبوب كيفما كان: لو قال تيها قف على جمر الغضى ... لوقفت ممتثلا ولم أتوقف إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إلخ أي إنما يستأذنك المنافقون رجاء أن لا تأذن لهم بالخروج فيستريحوا من نصب الجهاد وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً فقد قيل: لو صح منك الهوى أرشدت للحيل وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ إشارة إلى خذلانهم لسوء استعدادهم وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ لأن الأخلاق السيئة والأعمال القبيحة محيطة بهم وهي النار بعينها غاية الأمر أنها ظهرت في هذه النشأة بصورة الأخلاق والأعمال وستظهر في النشأة الأخرى بالصورة الأخرى، وقوله تعالى: وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى فيه إشارة إلى حرمانهم لذة طعم العبودية واحتجابهم عن مشاهدة جمال معبودهم وأنهم لم يعلموا أن المصلي يناجي ربه وأن الصلاة معراج العبد إلى مولاه، ومن هنا قال صلّى الله عليه وسلّم «وجعلت قرة عيني في الصلاة» . وقال محمد بن الفضل: من لم يعرف الآمر قام إلى الأمر على حد الكسل ومن عرف الآمر قام إلى الأمر على حد الاستغنام والاسترواح، ولذا كان عليه الصلاة والسلام يقول لبلال: «أرحنا يا بلال» وقوله تعالى: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ فيه تحذير للمؤمنين أن يستحسنوا ما مع أهل الدنيا من الأموال والزينة فيحتجبوا بذلك عن عمل الآخرة ورؤيتها، وقد ذكروا أن الناظر إلى الدنيا بعين الاستحسان من حيث الشهوة والنفس والهوى يسقط في ساعته عن مشاهدة أسرار الملكوت وأنوار الجبروت، وقوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلخ فيه ارشاد إلى آداب الصادقين والعارفين والمريدين، وعلامة الراضي النشاط بما استقبله من الله تعالى والتلذذ بالبلاء، فكل ما فعل المحبوب محبوب. رئي أعمى أقطع مطروح على التراب يحمد الله تعالى ويشكره، فقيل له في ذلك فقال: وعزته وجلاله لو قطعني إربا إربا ما ازددت له إلا حبا، ولله تعالى در من قال: أنا راض بالذي ترضونه ... لكم المنة عفوا وانتقاما ثم إنه سبحانه قسم جوائز فضله على ثمانية أصناف من عباده فقال سبحانه: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ إلخ، والفقراء في قول المتجردون بقلوبهم وأبدانهم عن الكونين وَالْمَساكِينِ هم الذين سكنوا إلى جمال الأنس ونور الجزء: 5 ¦ الصفحة: 330 القدس حاضرين في العبودية بنفوسهم غائبين في أنوار الربوبية بقلوبهم فمن رآهم ظنهم بلا قلوب ولم يدر أنها تسرح في رياض جمال المحبوب، وأنشد: مساكين أهل العشق ضاعت قلوبهم ... فهم أنفس عاشوا بغير قلوب والْعامِلِينَ هم أهل التمكين من العارفين وأهل الاستقامة من الموحدين الذين وقعوا في نور البقاء فأورثهم البسط والانبساط، فيأخذون منه سبحانه ويعطون له، وهم خزان خزائن جوده المنفقون على أوليائه، قلوبهم معلقة بالله سبحانه لا بغيره من العرش إلى الثرى وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ هم المريدون السالكون طريق محبته تعالى برقة قلوبهم وصفاء نياتهم وبذلوا مهجهم في سوق شوقه وهم عند الأقوياء ضعفاء الأحوال وَفِي الرِّقابِ هم الذين رهنت قلوبهم بلذة محبة الله تعالى وبقيت نفوسهم في المجاهدة في طريقه سبحانه لم يبلغوا بالكلية إلى الشهود فتارة تراهم في لجج بحر الإرادة، وأخرى في سواحل بحر القرب، وطورا هدف سهام القهر، ومرة مشرق أنوار اللطف ولا يصلون إلى الحقيقة ما دام عليهم بقية من المجاهدة والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم والأحرار ما وراء ذلك وقليل ما هم. أتمنى على الزمان محالا ... أن ترى مقلتاي طلعة حر وَالْغارِمِينَ هم الذين ما قضوا حقوق معارفهم في العبودية وما أدركوا في إيقانهم حقائق الربوبية والمعرفة غريم لا يقضي دينه وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ هم المحاربون نفوسهم بالمجاهدات والمرابطون بقلوبهم في شهود الغيب لكشف المشاهدات وَابْنِ السَّبِيلِ هم المسافرون بقلوبهم في بوادي الأزل وبأرواحهم في قفار الأبد وبعقولهم في طرق الآيات وبنفوسهم في طلب أهل الولاية فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ على أهل الإيمان أن يعطوا هؤلاء الأصناف من مال الله سبحانه لدفع احتياجهم الطبيعي وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوال هؤلاء وغيبتهم عن الدنيا حَكِيمٌ حيث أوجب لهم ما أوجب، ومن الناس من فسر هذه الأصناف بغير ما ذكر ولا أرى التفاسير بأسرها متكلفة بالجمع والمنع وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ عابوه عليه الصلاة والسلام وحاشاه من العيب بسلامة القلب وسرعة القبول والتصديق لما يسمع، فصدقهم جل شأنه ورد عليهم بقوله سبحانه: قُلْ هو أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ أي هو كذلك لكن بالنسبة إلى الخير، وهذا من غاية المدح فإن النفس القدسية الخيرية تتأثر بما يناسبها، أي إنه عليه الصلاة والسلام يسمع ما ينفعكم وما فيه صلاحكم دون غيره، ثم بين ذلك بقوله تعالى: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ إلخ، وقد غرهم- قاتلهم الله تعالى حتى قالوا ما قالوا- كرم النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث لم يشافههم برد ما يقولون رحمة منه بهم، وهو عليه الصلاة والسلام الرحمة الواسعة، وعن بعضهم أنه سئل عن العاقل فقال: الفطن المتغافل وأنشد: وإذا الكريم أتيته بخديعة ... فرأيته فيما تروم يسارع فاعلم بأنك لم تخادع جاهلا ... إن الكريم لفضله متخادع الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أي هم متشابهون في القبح والرداءة وسوء الاستعداد يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ أي يبخلون أو يبغضون المؤمنين فهو إشارة إلى معنى قوله سبحانه: وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ [آل عمران: 119] أو لا ينصرون المؤمنين أو لا يخشون لربهم ويرفعون أيديهم في الدعوات نَسُوا اللَّهَ لاحتجابهم بما هم فيه فَنَسِيَهُمْ من رحمته وفضله وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ وهو عذاب الاحتجاب بالسوى وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ هي جنات النفوس وَمَساكِنَ طَيِّبَةً مقامات أرباب التوكل في جنات الأفعال وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ إشارة إلى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 331 جنات الصفات ذلِكَ أي الرضوان هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لكرامة أهله عند الله تعالى وشدة قربهم ولا بأس بإبقاء الكلام على ظاهره ويكون في قوله سبحانه: وَمَساكِنَ طَيِّبَةً إشارة إلى الرؤية فإن المحب لا تطيب له الدار من غير رؤية محبوبه: أجيراننا ما أوحش الدار بعدكم ... إذا غبتم عنها ونحن حضور ولكون الرضوان هو المدار لكل خير وسعادة والمناط لكل شرف وسيادة كان أكبر من هاتيك الجنات والمساكن. إذا كنت عني يا منى القلب راضيا ... أرى كل من في الكون لي يتبسم نسأل الله رضوانه وأن يسكننا جنانه وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ بيان لقبائح بعض آخر من المنافقين، والآية نزلت في ثعلبة بن حاطب ويقال له ابن أبي حاطب وهو من بني أمية بن زيد، وليس هو البدري لأنه قد استشهد بأحد رضي الله تعالى عنه. أخرج الطبراني والبيهقي في الدلائل وابن المنذر وغيرهم عن أبي أمامة الباهلي قال: جاء ثعلبة بن حاطب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: يا رسول الله ادع الله تعالى أن يرزقني مالا. فقال عليه الصلاة والسلام: ويحك يا ثعلبة أما تحب أن تكون مثلي فلو شئت أن يسير الله تعالى ربي هذه الجبال معي ذهبا لسارت. قال: يا رسول الله ادع الله تعالى أن يرزقني مالا فو الذي بعثك بالحق إن آتاني الله سبحانه مالا لأعطين كل ذي حق حقه، فقال: ويحك يا ثعلبة قليل تطيق شكره خير من كثير لا تطيقه. قال: يا رسول الله ادع الله تعالى فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اللهم ارزقه مالا فاتخذ غنما فبورك له فيها ونمت كما ينمو الدود حتى ضاقت به المدينة فتنحى بها فكان يشهد الصلاة بالنهار مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا يشهدها بالليل ثم نمت كما ينمو الدود فضاق به مكانه فتنحى بها فكان يشهد الصلاة بالنهار مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا يشهدها بالليل ثم نمت كما ينمو الدود فتنحى وكان لا يشهد الصلاة بالليل ولا بالنهار إلا من جمعة إلى جمعة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم نمت كما ينمو الدود فضاق به مكانه فتنحى بها فكان لا يشهد جمعة ولا جنازة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجعل يتلقى الركبان ويسألهم عن الاخبار وفقده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسأل عنه فأخبروه أنه اشترى غنما وأن المدينة ضاقت به فقال عليه الصلاة والسلام: ويح ثعلبة بن حاطب ويح ثعلبة بن حاطب. ثم إن الله تعالى أمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يأخذ الصدقات وأنزل خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ [التوبة: 103] الآية فبعث رجلين رجلا من جهينة ورجلا من بني سلمة يأخذان الصدقات وكتب لهما أسنان الإبل والغنم وكيف يأخذانها وأمرهما أن يمرا على ثعلبة ورجل من بني سليم فخرجا فمرا بثعلبة فسألاه الصدقة فقال: أرياني كتابكما؟ فنظر فيه فقال: ما هذا إلا جزية انطلقا حتى تفرغا ثم مرا بي فانطلقا وسمع بهما السليمي فاستقبلهما بخيار إبله فقالا: إنما عليك دون هذا فقال: ما كنت أتقرب إلى الله تعالى إلا بخير مالي فقبلا فلما فرغا مرا بثعلبة فقال: أرياني كتابكما؟ فنظر فيه فقال: ما هذا إلا جزية انطلقا حتى أرى رأيي فانطلقا حتى قدما المدينة فلما رآهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال قبل أن يكلمهما: ويح ثعلبة بن حاطب ودعا للسليمي بالبركة وأنزل الله تعالى وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ الآيات الثلاث فسمع بعض من أقاربه فأتاه فقال: ويحك يا ثعلبة أنزل فيك كذا وكذا فقدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله هذه صدقة مالي. فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله قد منعني أن أقبل منك فجعل يبكي ويحثو التراب على رأسه فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هذا عملك بنفسك أمرتك فلم تطعني فلم يقبل منه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى مضى، ثم أتى أبا بكر رضي الله تعالى عنه فقال: يا أبا بكر اقبل مني صدقتي فقد عرفت منزلتي من الأنصار. فقال أبو بكر: لم يقبلها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأقبلها فلم يقبلها أبو بكر، ثم ولي عمر رضي الله تعالى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 332 عنه فأتاه فقال: يا أبا حفص يا أمير المؤمنين اقبل من صدقتي فقال: لم يقبلها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا أبو بكر أقبلها أنا فأبى أن يقبلها، ثم ولي عثمان رضي الله تعالى عنه فلم يقبلها منه وهلك في خلافته. وفي بعض الروايات أن ثعلبة هذا كان قبل ذلك ملازما لمسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى لقب حمامة المسجد ثم رآه النبي صلّى الله عليه وسلّم يسرع الخروج منه عقيب الصلاة فقال عليه الصلاة والسلام له: ما لك تعمل عمل المنافقين؟ فقال: إني افتقرت ولي ولامرأتي ثوب واحد أجيء به للصلاة ثم أذهب فأنزعه لتلبسه وتصلي به فادع الله تعالى أن يوسع علي رزقي إلى آخر ما في الخبر. والظاهر أن منع الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام عن القبول منه كان بوحي منه تعالى له بأنه منافق والصدقة لا تؤخذ منهم وإن لم يقتلوا لعدم الإظهار، وحثوه للتراب ليس للتوبة من نفاقه بل للعار من عدم قبول زكاته مع المسلمين. ومعنى هذا عملك هذا جزاء عملك وما قلته، وقيل: المراد بعمله طلبه زيادة رزقه وهذا إشارة إلى المنع أي هو عاقبة عملك، وقيل: المراد بالعمل عدم إعطائه للمصدقين. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن ثعلبة أتى مجلسا من مجالس الأنصار فأشهدهم لئن آتاني الله تعالى من فضله تصدقت منه وآتيت كل ذي حق حقه فمات ابن عم له فورث منه مالا فلم يف بما عاهد الله تعالى عليه فأنزل الله تعالى فيه هذه الآيات. وقال الحسن: إنها نزلت في ثعلبة ومعتب بن قشير خرجا على ملأ قعود فحلفا بالله تعالى لئن آتانا من فضله لنصدقن فلما آتاهما بخلا. وقال السائب: إن حاطب بن أبي بلتعة كان له مال بالشام فأبطأ عليه فجهد لذلك جهدا شديدا فحلف بالله لئن آتانا الله من فضله- يعني ذلك المال- لأصدقن ولأصلن فلما آتاه ذلك لم يف بما عاهد الله تعالى عليه وحكي ذلك عن الكلبي، والأول أشهر وهو الصحيح في سبب النزول، والمراد بالتصديق قيل: إعطاء الزكاة الواجبة وما بعده إشارة إلى فعل سائر أعمال البر من صلة الأرحام ونحوها. وقيل: المراد بالتصديق إعطاء الزكاة وغيرها من الصدقات وما بعده إشارة إلى الحج على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو إلى ما يعمه والنفقة في الغزو كما قيل. وقرىء «لنصدقن ولنكونن» بالنون الخفيفة فيهما. فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ أي منعوا حق الله تعالى منه وَتَوَلَّوْا أي أعرضوا عن طاعة الله سبحانه وَهُمْ مُعْرِضُونَ أي وهم قوم عادتهم الإعراض عن الطاعات فلا ينكر منهم هذا، والجملة مستأنفة أو حالية والاستمرار المقتضي للتقدم لا ينافي ذلك، والمراد على ما قيل: تولوا بإجرامهم وهم معرضون بقلوبهم فَأَعْقَبَهُمْ أي جعل الله تعالى عاقبة فعلهم ذلك نِفاقاً أي سوء عقيدة وكفرا مضمرا. فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ أي الله تعالى، والمراد بذلك اليوم وقت الموت، فالضمير المستتر في أعقب لله تعالى وكذا الضمير المنصوب في يَلْقَوْنَهُ، والكلام على حذف مضاف، والمراد بالنفاق بعض معناه وتمامه إظهار الإسلام وإضمار الكفر، وليس بمراد كما أشرنا إلى ذلك كله، ونقل الزمخشري عن الحسن وقتادة أن الضمير الأول للبخل وهو خلاف الظاهر بل قال بعض المحققين: إنه يأباه قوله تعالى: بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ إذ ليس لقولنا أعقبهم البخل نفاقا بسبب إخلافهم إلخ كثير معنى، ولا يتصور على ما قيل أن يعلل النفاق بالبخل أولا ثم يعلل بأمرين غيره بغير عطف، ألا ترى لو قلت: حملني على إكرام زيد علمه لأجل أنه شجاع وجواد كان خلفا حتى تقول حملني على إكرام زيد علمه وشجاعته وجوده. وقال الإمام: ولأن غاية البخل ترك بعض الواجبات وهو لا يوجب حصول النفاق الذي هو كفر وجهل في القلب كما في حق كثير من الفساق، وكون هذا البخل بخصوصه يعقب النفاق والكفر لما فيه من عدم إطاعة الله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 333 تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم وخلف وعده كما قيل لا يقتضي الأرجحية بل الصحة ولعلها لا تنكر، واختيار الزمخشري كان لنزعة اعتزالية هي أنه تعالى لا يقضي بالنفاق ولا يخلقه لقاعدة التحسين والتقبيح، وجوز أن يكون الضمير المنصوب للبخل أيضا، والمراد باليوم يوم القيامة، وهناك مضاف محذوف أي يلقون جزاءه وما مصدرية. والجمع بين صيغتي الماضي والمضارع للإيذان بالاستمرار أي بسبب اخلافهم ما وعدوه تعالى من التصدق والصلاح وبسبب كونهم مستمرين على الكذب في جميع المقالات التي من جملتها وعدهم المذكور، وقيل: المراد كذبهم فيما تضمنه خلف الوعد فإن الوعد وإن كان إنشاء لكنه متضمن للخبر فإذا تخلف كان قبيحا من وجهين الخلف والكذب الضمني، وفيه نظر لأن تخصيص الكذب بذلك يؤدي إلى تخلية الجمع بين الصيغتين عن المزية، وقد اشتملت الآية على خصلتين من خصال المنافقين، فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان» ويستفاد من الصحاح آية أخرى له «إذا خاصم فجر» . واستشكل ذلك بأن الخصال قد توجد في المسلم الذي لا شك فيه ولا شبهة تعتريه بل كثير من علمائنا اليوم متصفون بأكثرها أو بها كلها، وأجيب بأن المعنى أن هذه الخصال خصال نفاق وصاحبها يشبه المنافقين في التخلق بها، والمراد بقوله عليه الصلاة والسلام على ما في بعض الروايات الصحيحة «أربع من كن فيه منافقا خالصا» أنه كان شديد الشبه بالمنافقين لا أنه كان منافقا حقيقة. وقيل: إن الأخبار الواردة في هذا الباب إنما هي فيمن كانت تلك الخصال غالبة عليه غير مكترث بها ولا نادم على ارتكابها ومثله لا يبعد أن يكون منافقا حقيقة، وقيل: هي في المنافقين الذين كانوا في زمنه عليه الصلاة والسلام فإنهم حدثوا في أيمانهم فكذبوا واؤتمنوا على دينهم فخانوا ووعدوا في النصرة للحق فأخلفوا أو خاصموا ففجروا، وروي هذا عن ابن عباس وابن عمر، وهو قول سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح، وإليه رجع الحسن بعد أن كان على خلافه، قال القاضي عياض: وإليه مال أكثر أئمتنا، وقيل: كان ذلك في رجل بعينه وهو خارج مخرج قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما بال أقوام يفعلون كذا» لأناس مخصوصين منعه كرمه عليه الصلاة والسلام أن يواجههم بصريح القول، وحكى الخطابي عن بعضهم أن المقصود من الإخبار تحذير المسلم أن يعتاد هذه الخصال ولعله راجع إلى ما أجيب به أولا، وبالجملة يجب على المؤمن اجتناب هذه الخصال فإنها في غاية القبح عند ذوي الكمال. مساو لو قسمن على الغواني ... لما أمهرن إلا بالطلاق وقرىء «يكذّبون» بتشديد الذال أَلَمْ يَعْلَمُوا أي المنافقون أو من عاهد الله تعالى، وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قرأ بالتاء على أنه خطاب للمؤمنين، وقيل: للأولين على الالتفات ويأباه قوله تعالى: أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وجعله التفاتا آخر تكلف، والمراد من السر على تقدير أن يكون الضمير للمنافقين ما أسروه في أنفسهم من النفاق ومن النجوى ما يتناجون به من المطاعن، وعلى التقدير الآخر المراد من الأول العزم على الإخلاف ومن الثاني تسمية الزكاة جزية، وتقديم السر على النجوى لأن العلم به أعظم في الشاهد من العلم بها مع ما في تقديمه وتعليق العلم به من تعجيل إدخال الروعة أو السرور على اختلاف القراءتين وسيأتي إن شاء الله تعالى ما ينفعك هنا أيضا وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ فلا يخفى عليه سبحانه شيء من الأشياء. والهمزة إما للإنكار والتوبيخ والتهديد أي ألم يعلموا ذلك حتى اجترءوا على ما اجترءوا عليه من العظائم أو للتقرير والتنبيه على أن الله سبحانه مؤاخذهم ومجازيهم بما علم من أعمالهم، وإظهار الاسم الجليل لإلقاء الروعة وتربية المهابة أو لتعظيم أمر المؤاخذة والمجازاة، وفي إيراد العلم المتعلق بسرهم ونجواهم الحادثين شيئا فشيئا بصيغة الفعل الدال على الحدوث والتجدد والعلم المتعلق بالغيوب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 334 الكثيرة بصيغة الاسم الدال على الدوام والمبالغة من الفخامة والجزالة ما لا يخفى الَّذِينَ يَلْمِزُونَ مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين وقيل: أي منهم الذين، وقيل: مبتدأ خبره فَيَسْخَرُونَ والفاء لما في الموصول من شبه الشرط أو سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ أو منصوب بفعل محذوف أعني- أعني- أو أذم أو مجرور على البدلية من ضمير سِرَّهُمْ على أنه للمنافقين مطلقا. وقرىء بضم الميم وهو لغة كما علمت أي يعيبون الْمُطَّوِّعِينَ أي المتطوعين، والمراد بهم من يعطي تطوعا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ حال من الضمير، وقوله سبحانه: فِي الصَّدَقاتِ متعلق بيلمزون، ولا يجوز كما قال أبو البقاء تعلقه بالمطوعين للفصل، أخرج البغوي في معجمه وأبو الشيخ عن الحسن قال «قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقاما للناس فقال: يا أيها الناس تصدقوا يا أيها الناس تصدقوا أشهد لكم بها يوم القيامة ألا لعل أحدكم أن يبيت فصاله رواء وابن له طاو إلى جنبه ألا لعل أحدكم أن يثمر ماله وجاره مسكين لا يقدر على شيء ألا رجل منح ناقة من إبله يغدو برفد ويروح برفد يغدو بصبوح أهل بيته ويروح بغبوقهم ألا إن أجرها لعظيم فقام رجل فقال: يا رسول الله عندي أبعرة عندي أربعة ذود فقام آخر قصير القامة قبيح الشبه يقود ناقة له حسناء جملاء فقال له رجل من المنافقين كلمة خفية لا يرى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سمعها ناقته خير منه فسمعها عليه الصلاة والسلام فقال: كذبت هو خير منك ومنها، ثم قام عبد الرحمن بن عوف فقال: يا رسول الله عندي ثمانية آلاف تركت منها أربعة لعيالي وجئت بأربعة أقدمها إلى الله تعالى فتكاثر المنافقون ما جاء به ثم قام عاصم بن عدي الأنصاري فقال: يا رسول الله عندي سبعون وسقا من تمر فتكاثر المنافقون ما جاء به وقالوا: جاء هذا بأربعة آلاف وجاء هذا بسبعين وسقا للرياء والسمعة فهلا أخفياها فهلا فرقاها، ثم قام رجل من الأنصار اسمه الحبحاب يكنى أبا عقيل فقال: يا رسول الله ما لي من مال غير أني آجرت نفسي البارحة من بني فلان أجر الجرير في عنقي على صاعين من تمر فتركت صاعا لعيالي وجئت بصاع أقربه إلى الله تعالى فلمزه المنافقون وقالوا: جاء أهل الإبل بالإبل وجاء أهل الفضة بالفضة وجاء هذا بتميرات يحملها فأنزل الله تعالى الآية، ولم يبين الآلاف التي ذكرها عبد الرحمن في هذه الرواية وكانت على ما أخرجه ابن المنذر عن مجاهد- دنانير- وفي رواية أنها دراهم، وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس أن عبد الرحمن جاء بأربعمائة أوقية من ذهب وهي نصف ما كان عنده وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: اللهم بارك له فيما أعطى وبارك له فيما أمسك، وجاء في رواية الطبراني أن الله بارك حتى صولحت إحدى امرأتيه عن نصف الثمن على ثمانين ألف درهم، وفي الكشاف وعزاه الطيبي للاستيعاب أن زوجته تماضر صولحت عن ربع الثمن على ثمانين ألفا، فعلى الأول يكون له زوجتان وعلى الثاني يكون له أربع زوجات، ويختلف مجموع المالين على الروايتين اختلافا كثيرا، وفي رواية ابن أبي حاتم عن ابن زيد أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان أحد المطوعين وأنه جاء بمال كثير يحمله فقال له رجل من المنافقين: أترائي يا عمر؟ فقال: نعم أرائي الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فأما غيرهما فلا. وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ عطف على الْمُطَّوِّعِينَ وهو من عطف الخاص على العام، وقيل: عطف على المؤمنين. وتعقبه الأجهوري بأن فيه إيهام أن المعطوف ليس من المؤمنين. وقال أبو البقاء: هو عطف على الَّذِينَ يَلْمِزُونَ وأراه خطأ صرفا. والجهد بالضم الطاقة أي ويلمزون الذين لا يجدون إلا طاقتهم وما تبلغه قوتهم وهم الفقراء كأبي عقيل واسمه مر آنفا، وعن ابن إسحاق أن اسمه سهل بن رافع، وعن مجاهد أنه فسر الموصول برفاعة بن سعد، ولعل الجمع حينئذ للتعظيم، ويحتمل أن يكون على ظاهره والمذكور سبب النزول، وقرأ ابن هرمز جُهْدَهُمْ بالفتح وهو إحدى لغتين في الجهد فمعنى المضموم والمفتوح واحد، وقيل: المفتوح بمعنى المشقة والمضموم بمعنى الطاقة قاله القتبي، وقيل: المضموم شيء قليل يعاش به والمفتوح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 335 العمل، وقوله تعالى: فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ عطف على يَلْمِزُونَ أو خبر على ما علمت أي يستهزئون بهم، والمراد بهم على ما قيل الفريق الأخير سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ أي جازاهم على سخريتهم، فالجملة خبرية والتعبير بذلك للمشاكلة وليست انشائية للدعاء عليهم لأن يصيروا ضحكة لأن قوله تعالى جده: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ جملة خبرية معطوفة عليها فلو كانت دعاء لزم عطف الاخبارية على الإنشائية في ذلك كلام، وإنما اختلفتا فعلية واسمية لأن السخرية في الدنيا وهي متجددة والعذاب في الآخرة وهو دائم ثابت، والتنوين في العذاب للتهويل والتفخيم اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ الظاهر أن المراد به وبمثله التخيير، ويؤيد إرادته هنا فهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما ستعلم إن شاء الله تعالى ذلك منه فكأنه قال سبحانه له عليه الصلاة والسلام: إن شئت فاستغفر لهم وإن شئت فلا، وكلام النسفي تنسفه صحة الأخبار نسفا. واختار غير واحد أن المراد التسوية بين الأمرين كما في قوله تعالى: أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً [التوبة: 53] والبيت المار: أسيئي بنا أو أحسني إلخ، والمقصود الإخبار بعدم الفائدة في ذلك وفيه من المبالغة ما فيه، وقال بعض المحققين بعد اختياره للتسوية في مثل ذلك: إنها لا تنافي التخيير فإن ثبت فهو بطريق الاقتضاء لوقوعها بين ضدين لا يجوز تركهما ولا فعلهما فلا بد من أحدهما ويختلف الحال فتارة يكون الإثبات كما في قوله تعالى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة: 6، يس: 10] وأخرى النفي كما هنا وفي قوله سبحانه: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ [المنافقون: 6] إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ بيان لعدم المغفرة وإن استغفر لهم حسبما أريد إثر التخيير أو بيان لاستحالة المغفرة بعد المبالغة في الاستغفار إثر بيان الاستواء بين الاستغفار وعدمه. وسبب النزول على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه لما نزل قوله سبحانه: سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ إلخ سأله عليه الصلاة والسلام اللامزون الاستغفار لهم فهم أن يفعل فنزلت فلم يفعل. وقيل: نزلت بعد أن فعل، واختار الإمام عدمه وقال: إنه لا يجوز الاستغفار للكافر فكيف يصدر عنه صلّى الله عليه وسلّم. ورد بأنه يجوز لأحيائهم بمعنى طلب سبب الغفران، والقول بأن الاستغفار للمصر لا ينفع لا ينفع لأنه لا قطع بعدم نفعه إلا أن يوحى إليه عليه الصلاة والسلام بأنه لا يؤمن كأبي لهب، والقول بأن الاستغفار للمنافق إغراء له على النفاق لا نفاق له أصلا وإلا لامتناع الاستغفار لعصاة المؤمنين ولا قائل به، وقال بعضهم: إنه على تقدير وقوع الاستغفار منه عليه الصلاة والسلام والقول بتقديم النهي المفاد بقوله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة: 113] لا إشكال فيه إذ النهي ليس للتحريم بل لبيان عدم الفائدة وهو كلام واه لأن قصارى ما تدل عليه الآية المنع من الاستغفار للكفار وهو لا يقتضي المنع عن الاستغفار لمن ظاهر حاله الإسلام، والقول بأنه حيث لم يستجب يكون نقصا في منصب النبوة ممنوع لأنه عليه الصلاة والسلام قد لا يجاب دعاؤه لحكمة كما لم يجب دعاء بعض إخوانه الأنبياء عليهم السلام ولا يعد ذلك نقصا كما لا يخفى، ومناسبة الآية لما قبلها على هذه الرواية في غاية الوضوح إلا أنه قيل: إن الصحيح المعول عليه في ذلك أن عبد الله وكان اسمه الحباب وكان من المخلصين ابن عبد الله بن أبي سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مرض أبيه أن يستغفر له ففعل فنزلت فقال عليه الصلاة والسلام: لأزيدن على السبعين فنزلت سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ [المنافقون: 6] إلخ، وفيه رد على الإمام أيضا في اختياره عدم الاستغفار وكذا في إنكاره كون مفهوم العدد حجة كما نقله عنه الأسنوي في التمهيد مخالفا في ذلك الشافعي رضي الله تعالى عنه فإنه قائل بحجيته كما نقله الغزالي عنه في المنخول وشيخه إمام الحرمين في البرهان وصرح بأن ذلك قول الجمهور. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 336 وفي المطلب لابن الرفعة أن مفهوم العدد هو العمدة عندنا في عدم تنقيص الحجارة في الاستنجاء على الثلاثة والزيادة على ثلاثة أيام في الخيار، وما نقل عن النووي من أن مفهوم العدد باطل عند الأصوليين محمول على أن المراد باطل عند جمع من الأصوليين كما يدل عليه كلامه في شرح مسلم في باب الجنائز وإلا فهو عجيب منه. وكلام العلامة البيضاوي مضطرب، ففي المنهاج التخصيص بالعدد لا يدل على الزائد والناقص أي إنه نص في مدلوله لا يحتمل الزيادة والنقصان، وفي التفسير عند هذه الآية بعد سوق خبر سبب النزول أنه عليه الصلاة والسلام فهم من السبعين العدد المخصوص لأنه الأصل فجاز أن يكون ذلك حدا يخالفه حكم ما وراءه فبين له عليه الصلاة والسلام أن المراد به التكثير لا التحديد، وذكر في تفسير سورة البقرة عند قوله سبحانه: فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [البقرة: 29] أنه ليس في الآية نفي الزائد، وإرادة التكثير من السبعين شائع في كلامهم وكذا إرادته من السبعة والسبعمائة، وعلل في شرح المصابيح ذلك بأن السبعة مشتملة على جملة أقسام العدد فإنه ينقسم إلى فرد وزوج وكل منهما إلى أول ومركب فالفرد الأول ثلاثة والمركب من خمسة والزوج الأول اثنان والمركب أربعة، وينقسم أيضا إلى منطق كالأربعة وأصم كالستة والسبعة تشتمل على جميع هذه الأقسام، ثم إن أريد المبالغة جعلت آحادها أعشارا وأعشارها مئات، وأريد بالفرد الأول الذي لا يكون مسبوقا بفرد آخر عددي كالثلاثة إذ الواحد ليس بعدد بناء على أنه ما ساوى نصف مجموع حاشيتيه الصحيحتين، وبالفرد المركب الذي يكون مسبوقا بفرد آخر فإن الخمسة مسبوقة بثلاثة، وأريد بالزوج الأول الغير مسبوق بزوج آخر كالاثنين وبالمركب ما يكون مسبوقا به كالأربعة المسبوقة بالاثنين، وقد يقسم العدد ابتداء إلى أول ومركب ويراد بالأول ما لا يعده إلا الواحد كالثلاثة والخمسة والسبعة وبالمركب ما يعده غير الواحد كالأربعة فإنه يعدها الاثنان والتسعة فإنه يعدها الثلاثة، وللمنطق إطلاقان فيطلق ويراد به ما له كسر صحيح من الكسور التسعة، والأصم الذي يقابله ما لا يكون كذلك كأحد عشر، ويطلق ويراد به المجذور وهو ما يكون حاصلا من ضرب عدد في نفسه كالأربعة الحاصلة من ضرب الاثنين في نفسها والتسعة الحاصلة من ضرب الثلاثة في نفسها والأصم الذي يقابله ما لا يكون كذلك كالاثنين والثلاثة وهذا مراد شارح المصابيح حيث مثل الأصم بالستة مع أن لها كسرا صحيحا بل كسران النصف والسدس لكنها ليست حاصلة من ضرب عدد في نفسه، ومعنى اشتمال السبعة على هذه الأقسام أنه إذا جمع الفرد الأول مع الزوج المركب أو الفرد المركب مع الزوج الأول كان سبعة، وكذا إذا جمع المنطق كالأربعة مع الأصم كالثلاثة كان الحاصل سبعة وهذه الخاصة لا توجد في العدد قبل السبعة، فمن ظن أن الأنسب بالاعتبار بحسب هذا الاشتمال هو الستة لا السبعة لأنها المشتملة على ما ذكر فهو لم يحصل معنى الاشتمال أو لم يعرف هذه الاصطلاحات لكونها من وظيفة علم الارتماطيقي. ومما ذكرنا من معنى الاشتمال يندفع أيضا ما يتوهم من أن التحقيق أن كل عدد مركب من الوحدات لا من الأعداد التي تحته إذ ليس المراد من الاشتمال التركيب على أن في هذا التحقيق مقالا مذكورا في محله. وقال ابن عيسى الربعي: إن السبعة أكمل الأعداد لأن الستة أول عدد تام وهي مع الواحد سبعة فكانت كاملة إذ ليس بعد التمام إلا الكمال، ولذا سمي الأسد سبعا لكمال قوته، وفسر العدد التام بما يساوي مجموع كسوره وكون الستة كذلك ظاهر فإن كسورها سدس وهو واحد وثلث وهو اثنان ونصف وهو ثلاثة ومجموعها ستة، لكن استبعد عدم فهم من هو أفصح الناس وأعرفهم باللسان صلّى الله عليه وسلّم إرادة التكثير من السبعين هنا، ولذا قال البعض: إنه عليه الصلاة والسلام لم يخف عليه ذلك لكنه خيل بما قال إظهارا لغاية رأفته ورحمته لمن بعث إليه كقول إبراهيم عليه السلام: وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم: 36] يعني أنه صلّى الله عليه وسلّم أوقع في خيال السامع أنه فهم العدد المخصوص الجزء: 5 ¦ الصفحة: 337 دون التكثير فجوز الإجابة بالزيادة قصدا إلى إظهار الرأفة والرحمة كما جعل إبراهيم عليه السلام جزاء من عصاني أي لم يمتثل أمر ترك عبادة الأصنام قوله: فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ دون إنك شديد العقاب مثلا فخيل أنه سبحانه يرحمهم ويغفر لهم رأفة بهم وحثا على الاتباع، وتعقب بأن ذكره للتمويه والتخييل بعد ما فهم عليه الصلاة والسلام منه التكثير لا يليق بمقامه الرفيع، وفهم المعنى الحقيقي من لفظ اشتهر مجازه لا ينافي الفصاحة والمعرفة باللسان فإنه لا خطأ فيه ولا بعد إذ هو الأصل، ورجحه عنده عليه الصلاة والسلام شغفه بهدايتهم ورأفته بهم واستعطاف من عداهم، ولعل هذا أولى من القول بالتمويه بلا تمويه، وأنكر إمام الحرمين صحة ما يدل على أنه عليه الصلاة والسلام فهم على أن حكم ما زاد على السبعين بخلافه وهو غريب منه، فقد جاء ذلك من رواية البخاري ومسلم وابن ماجة والنسائي وكفى بهم، وقول الطبرسي: «إن خبر «لأزيدن» إلخ خبر واحد لا يعول عليه» لا يعول عليه، وتمسك في ذلك بما هو كحبل الشمس وهو عند القائلين بالمفهوم كجبال القمر، وأجاب المنكرون له بمنع فهم ذلك لأن ذكر السبعين للمبالغة وما زاد عليه مثله في الحكم وهو مبادرة عدم المغفرة فكيف يفهم منه المخالفة، ولعله علم صلّى الله عليه وسلّم أنه غير مراد هاهنا بخصوصه سلمناه لكن لا نسلم فهمه منه، ولعله باق على أصله في الجواز إذ لم يتعرض له بنفي ولا إثبات والأصل جواز الاستغفار للرسول عليه الصلاة والسلام وكونه مظنة الإجابة ففهم من حيث إنه الأصل لا من التخصيص بالذكر، وحاصل الأول منع فهمه منه مطلقا بل إنما فهم من الخارج، وحاصل الثاني تسليم فهمه منه في الجملة لكن لا بطريق المفهوم بل من جهة الأصل. وأنت تعلم أن ظاهر الخبر مع القائلين بالمفهوم غاية الأمر أن الله سبحانه أعلم نبيه عليه الصلاة والسلام بآية المنافقين أن المراد بالعدد هنا التكثير دون التحديد ليكون حكم الزائد مخالفا لحكم المذكور فيكون المراد بالآيتين عند الله تعالى واحدا وهو عدم المغفرة لهم مطلقا، لكن في دعوى نزول آية المنافقين بعد هذه الآية إشكال، أما على القول بأن براءة آخر ما نزل فظاهر وأما على القول بأن أكثرها أو صدرها كذلك وحينئذ لا مانع من تأخر نزول بعض الآيات منها عن نزول بعض من غيرها فلأن صدر ما في سورة المنافقين يقتضي أنها نزلت في غير قصة هذه التي سلفت آنفا، وظاهر الأخبار كما ستعلم إن شاء الله تعالى يقتضي أنها نزلت في ابن أبي ولم يكن مريضا، وما تقدم في سبب نزول ما هنا نص في أنه نزل وهو مريض، والقول بأن تلك نزلت مرتين يحتاج إلى النقل ولا يكتفي في مثله بالرأي وأنى به، على أنه يشكل حينئذ قوله عليه الصلاة والسلام «لأزيدن على السبعين» مع تقدم نزول المبين للمراد منه، والقول بالغفلة لا أراه إلّا ناشئا من الغفلة عن قوله تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى بل الجهل بمقامه الرفيع عليه الصلاة والسلام ومزيد اعتنائه بكلام ربه سبحانه، ولم أر من تعرض لدفع هذا الإشكال، ولا سبيل إلى دفعه إلا بمنع نزول ما في سورة المنافقين في قصة أخرى ومنع دلالة الصدر على ذلك. نعم ذكروا أن الصدر نزل في ابن أبي ولم يكن مريضا إذ ذاك ولم نقف على نص في أن العجز نزل فيه كذلك، والظاهر نزوله بعد قوله سبحانه: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ إلخ وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يؤيد ذلك عند تفسير الآية فافهم ذلِكَ أي امتناع المغفرة لهم ولو بعد ذلك الاستغفار بِأَنَّهُمْ أي بسبب أنهم كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ يعني ليس الامتناع لعدم الاعتداد باستغفارك بل بسبب عدم قابليتهم لأنهم كفروا كفرا متجاوزا للحد كما يشير إليه وصفهم بالفسق في قوله سبحانه: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ فإن الفسق في كل شيء عبارة عن التمرد والتجاوز عن حدوده، والمراد بالهداية الدلالة الموصلة لا الدلالة على ما يوصل لأنها واقعة لكن لم يقبلوها لسوء اختيارهم، والجملة تذييل مؤكد لما قبله من الحكم فإن مغفرة الكفار بالإقلاع عن الكفر والإقبال إلى الحق والمنهمك فيه المطبوع عليه بمعزل من ذلك، وفيه تنبيه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 338 على عذر النبي صلّى الله عليه وسلّم في الاستغفار لهم وهو عدم يأسه من إيمانهم حيث لم يعلم إذ ذاك أنهم مطبوعون على الغي لا ينجع فيهم العلاج ولا يفيدهم الإرشاد، والممنوع هو الاستغفار بعد العلم بموتهم كفارا كما يشهد له قوله سبحانه: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ [التوبة: 113] ولعل نزول قوله سبحانه: بِأَنَّهُمْ إلخ متراخ عن نزول قوله سبحانه: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ إلخ كما قيل وإلا لم يكن له صلّى الله عليه وسلّم عذر في الاستغفار بعد النزول. والقول بأن هذا العذر إنما يصح لو كان الاستغفار للحي كما مر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيه نظر فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ أي الذين خلفهم النبي صلّى الله عليه وسلّم وأذن لهم في التخلف أو خلفهم الله تعالى بتثبيطه إياهم لحكمة علمها أو خلفهم الشيطان بإغرائه أو خلفهم الكسل والنفاق بِمَقْعَدِهِمْ متعلق بفرح وهو مصدر ميمي بمعنى القعود. وقيل: اسم مكان، والمراد منه المدينة، والأكثرون على الأول أي فرحوا بقعودهم عن الغزو خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ أي خلفه عليه الصلاة والسلام وبعد خروجه حيث خرج ولم يخرجوا فهو نصب على الظرفية بمعنى بعد وخلف وقد استعملته العرب في ذلك، والعامل فيه كما قال أبو البقاء «مقعد» وجوز أن يكون فَرِحَ. وقيل: هو بمعنى المخالفة فيكون مصدر خالف كالقتال وحينئذ يصح أن يكون حالا بمعنى مخالفين لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأن يكون مفعولا له والعامل إما فَرِحَ أي فرحوا لأجل مخالفته صلّى الله عليه وسلّم بالقعود وإما «مقعدهم» أي فرحوا بقعودهم لأجل المخالفة، وجعل المخالفة علة باعتبار أن قصدهم ذلك لنفاقهم ولا حاجة إلى أن يقال قصدهم الاستراحة ولكن لما آل أمرهم إلى ذلك جعل علة كما قالوا في لام العاقبة وجوز أن يكون نصبا على المصدر بفعل دل عليه الكلام. وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إيثارا للراحة والتنعم بالمآكل والمشارب مع ما في قلوبهم من الكفر والنفاق، وبين الفرح والكراهة مقابلة معنوية لأن الفرح بما يحب. وإيثار ما في النظم على أن يقال وكرهوا أن يخرجوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إيذان بأن الجهاد في سبيل الله تعالى مع كونه من أجل الرغائب التي ينبغي أن يتنافس فيها المتنافسون قد كرهوه كما فرحوا بأقبح القبائح وهو القعود خلاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفي الكلام تعريض بالمؤمنين الذين آثروا ذلك وأحبوه ابتغاء لرضا الله تعالى ورسوله وَقالُوا أي لإخوانهم تثبيتا لهم على القعود وتواصيا بينهم بالفساد أو للمؤمنين تثبيتا لهم على الجهاد ونهيا عن المعروف وإظهارا لبعض العلل الداعية لهم إلى ما فرحوا به، والقائل رجال من المنافقين كما روي عن جابر بن عبد الله وهو الذي يقتضيه الظاهر. وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي أن القائل رجل من بني سلمة، ووجه ضمير الجمع على هذا يعلم بما مر غير مرة لا تَنْفِرُوا لا تخرجوا إلى الغزو فِي الْحَرِّ فإنه لا يستطاع شدته قُلْ يا محمد ردا عليهم وتجهيلا لهم نارُ جَهَنَّمَ التي هي مصيركم بما فعلتم أَشَدُّ حَرًّا من هذا الحر الذي ترونه مانعا من النفير فما لكم لا تحذرونها وتعرضون أنفسكم لها بإيثار القعود والمخالفة لله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ تذييل من جهته تعالى غير داخل على القول المأمور به مؤكد لمضمونه، وجواب لَوْ مقدر وكذا مفعول يَفْقَهُونَ أي لو كانوا يعلمون أنها كذلك أو أحوالها وأهوالها أو أن مرجعهم إليها لما آثروا راحة زمن قليل على عذاب الأبد، وأجهل الناس من صان نفسه عن أمر يسير يوقعه في ورطة عظيمة، وأنشد الزمخشري لابن أخت خالته: مسرة أحقاب تلقيت بعدها ... مساءة يوم أريها شبه الصاب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 339 فكيف بأن تلقى مسرة ساعة ... وراء تقضيها مساءة أحقاب (1) وقدر بعضهم الجواب لتأثروا بهذا الإلزام وهو خلاف الظاهر، وجوز أن تكون لَوْ لمجرد التمني المنبئ عن امتناع تحقق مدخولها، وينزل الفعل المتعدي منزلة اللازم فلا جواب ولا مفعول ويؤول المعنى إلى أنهم ما كانوا من أهل الفطانة والفقه، ويكون الكلام نظير قوله تعالى: قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يونس: 101] وهو خلاف الظاهر أيضا. فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً اخبار عن عاجل أمرهم وآجله من الضحك القليل في الدنيا والبكاء الكثير في الأخرى، وإخراجه في صورة الأمر للدلالة على تحتم وقوع المخبر به وذلك لأن صيغة الأمر للوجوب في الأصل والأكثر فاستعمل في لازم معناه أو لأنه لا يحتمل الصدق والكذب بخلاف الخبر كذا قرره الشهاب ثم قال: فإن قلت: الوجوب لا يقتضي الوجود وقد قالوا: إنه يعبر عن الأمر بالخبر للمبالغة لاقتضائه تحقق المأمور به فالخبر آكد وقد مر مثله فما باله عكس. قلت: لا منافاة بينهما كما قيل لأن لكل مقام مقالا والنكت لا تتزاحم فإذا عبر عن الأمر بالخبر لإفادة أن المأمور لشدة امتثاله كأنه وقع منه ذلك وتحقق قبل الأمر كان أبلغ، وإذا عبر عن الخبر بالأمر لإفادة لزومه ووجوبه كأنه مأمور به أفاد ذلك مبالغة من جهة أخرى، وقيل: الأمر هنا تكويني كما في قوله تعالى: إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] ولا يخفى ما فيه. والفاء لسببية ما سبق للإخبار بما ذكر من الضحك والبكاء لا لنفسهما إذ لا يتصور في الأول أصلا، وجعل ذلك سببا لاجتماع الأمرين بعيد، ونصب قَلِيلًا وكَثِيراً على المصدرية أو الظرفية أي ضحكا أو زمانا قليلا وبكاء أو زمانا كثيرا، والمقصود بإفادته في الأول على ما قيل هو وصف القلة فقط وفي الثاني هو وصف الكثرة مع الموصوف، فيروى أن أهل النفاق يبكون في النار عمر الدنيا لا يرقأ لهم دمع ولا يكتحلون بنوم. وجوز أن يكون الضحك كناية عن الفرح والبكاء كناية عن الغم والأول في الدنيا والثاني في الأخرى أيضا، والقلة على ما يتبادر منها، ولا حاجة إلى حملها على العدم كما حملت الكثرة على الدوام. نعم إذا اعتبر كل من الأمرين في الآخرة احتجنا إلى ذلك إذ لا سرور فيها لهم أصلا، ويفهم من كلام ابن عطية أن البكاء والضحك في الدنيا كما في حديث الشيخين وغيرهما «لو تعلمون لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» أي إنهم بلغوا في سوء الحال والخطر مع الله تعالى إلى حيث ينبغي أن يكون ضحكهم قليلا وبكاؤهم من أجل ذلك كثيرا. جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي من فنون المعاصي، والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار التجددي، وجَزاءً مفعول له للفعل الثاني ولك أن تجعله مفعولا له للفعلين أو مصدر من المبني للمفعول حذف ناصبه أي يجزون مما ذكر من البكاء الكثير أو منه ومن الضحك القليل جزاء بما استمروا عليه من المعاصي فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ أي من سفرك، والفاء لتفريع الأمر الآتي على ما بين من أمرهم ورجع هنا متعد بمعنى رد ومصدره الرجع وقد يكون لازما ومصدره الرجوع، وأوثر استعمال المتعدي وإن كان استعمال اللازم كثيرا إشارة إلى أن ذلك السفر لما فيه من الخطر يحتاج الرجوع منه لتأييد إلهي ولذا أوثرت كلمة إن على إذا أي فإن ردك الله سبحانه إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ أي إلى المنافقين من المتخلفين بناء على أن منهم من لم يكن منافقا أو إلى من   (1) «مسرة أحقاب» مبتدأ خبره أريها شبه الصاب، والأحقاب الأزمان الكثيرة واحدها حقب، والأري العسل. والشبه المثل، والصاب نبت مر وقيل الحنظل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 340 بقي من المنافقين المتخلفين بأن ذهب بعضهم بالموت أو بالغيبة عن البلد أو بأن لم يستأذنك البعض، وقيل: المراد بتلك الطائفة من بقي من المنافقين على نفاقه ولم يتب وليس بذاك. أخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة أنه قال في الآية: ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر رجلا من المنافقين وفيهم قيل ما قيل. فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ معك إلى غزوة أخرى بعد غزوتك هذه التي ردك الله منها بتأييده فَقُلْ لهم إهانة لهم على أتم وجه لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً ما دمت ودمتم وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا من الأعداء، وهو اخبار في معنى النهي للمبالغة. وذكر القتال كما قال بعض المحققين لأنه المقصود من الخروج فلو اقتصر على أحدهما لكفى إسقاطا لهم عن مقام الصحبة ومقام الجهاد أو عن ديوان الغزاة وديوان المجاهدين وإظهارا لكراهة صحبتهم وعدم الحاجة إلى عدهم من الجند أو ذكر الثاني للتأكيد لأنه أصرح في المراد والأول لمطابقته للسؤال، ونظير ذلك: أقول له ارحل لا تقيمن عندنا فإن الثاني أدل على الكراهة إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ عن الخروج معي وفرحتم به أَوَّلَ مَرَّةٍ أي من الخروج فنصب أفعل المضاف على المصدرية، وقيل: على الظرفية الزمانية واستبعده أبو حيان، والظاهر أن هذا الاختلاف للاختلاف في مَرَّةٍ ونقل عن أبي البقاء أنها في الأصل مصدر مر يمر ثم استعملت ظرفا، واختار القاضي البيضاوي بيض الله غرة أحواله النصب على المصدرية وأشار إلى تأنيث الموصوف حيث قال: وأول مرة هي الخرجة إلى غزوة تبوك وذكر أفعل لأن التذكير هو الأكثر في مثل ذلك. وفي الكشاف أن مَرَّةٍ نكرة وضعت موضع المرات للتفضيل، وذكر اسم التفضيل المضاف إليها وهو دال على واحدة من المرات لأن أكثر اللغتين- هند أكبر النساء وهي أكبرهن، وهي كبرى مرأة لا تكاد تعثر عليه ولكن هي أكبر امرأة وأول مرة وآخر مرة، وعلل في الكشف عدم العثور على نحو هي كبرى امرأة بأن أفعل فيه مضاف إلى غير المفضل عليه بل إلى العدد المتلبس هو به بيانا له فكأنه قيل: هي امرأة أكبر من كل واحدة من النساء، وفي مثله لا يختلف أفعل التفضيل، فالتحقيق أنه لا يشبه ما فيه اللام وإنما المطابقة بين موصوفه وما أضيف إليه ولا مدخل لطباقه في اللفظ والمعنى فتدبر، والجملة في موضع التعليل لما سلف فهي مستأنفة استئنافا بيانيا أي لأنكم رضيتم فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ أي المتخلفين لعدم لياقتهم كالنساء والصبيان والرجال العاجزين، وجمع المذكر للتغليب، واقتصر ابن عباس على الأخير، وتفسير الخالف بالمتخلف هو المأثور عن أكثر المفسرين السلف، وقيل: إنه من خلف بمعنى فسد. ومنه خلوف فم الصائم لتغير رائحته، والظرف متعلق بما عنده أو بمحذوف وقع حالا من ضمير الجمع، والفاء لتفريع الأمر بالقعود بطريق العقوبة على ما صدر منهم من الرضا بالقعود أي إذا رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا من بعد. وقرأ عكرمة «الخلفين» بوزن حذرين ولعله صفة مشبهة مثله، وقيل: هو مقصور من الخالفين إذا لم يثبت استعماله كذلك على أنه صفة مشبهة وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً إشارة إلى إهانتهم بعد الموت. أخرج البخاري عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: لما توفي عبد الله بن أبي ابن سلول جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليصلي فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنما خيرني الله فقال: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً [المنافقين: 6] وسأزيده الجزء: 5 ¦ الصفحة: 341 على السبعين قال: إنه منافق قال فصلى عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله سبحانه: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ الآية. وفي رواية أخرى له عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب أنه لما مات عبد الله بن أبي ابن سلول دعي له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليصلي عليه فلما قام وثبت إليه فقلت: يا رسول الله أتصلي على ابن أبي وقد قال يوم كذا كذا وكذا أعدد عليه قوله فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: «أخر عني يا عمر» فلما أكثرت عليه قال: «أخر عني لو أعلم أني لو زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها» قال فصلى عليه عليه الصلاة والسلام ثم انصرف فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ إلى قوله: وَهُمْ فاسِقُونَ فعجبت من جراءتي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وظاهر هذين الخبرين أنه لم ينزل بين اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، وقوله تعالى: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ شيء ينفع عمر رضي الله تعالى عنه وإلا لذكر، والظاهر أن مراده بالنهي في الخبر الأول ما فهمه من الآية الأولى لا ما يفهم كما قيل من قوله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة: 113] لعدم مطابقة الجواب حينئذ كما لا يخفى، وأخرج أبو يعلي وغيره عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أراد أن يصلي على ابن أبي فأخذ جبريل عليه السلام بثوبه فقال: وَلا تُصَلِّ الآية، وأكثر الروايات أنه صلّى الله عليه وسلّم صلى عليه وأن عمر رضي الله تعالى عنه أحب عدم الصلاة عليه وعد ذلك أحد موافقاته للوحي وإنما لم ينه صلّى الله عليه وسلّم عن التكفين بقميصه ونهى عن الصلاة عليه لأن الضنة بالقميص كانت مظنة الإخلال بالكرم على أنه كان مكافأة لقميصه الذي ألبسه العباس رضي الله تعالى عنه حين أسر ببدر فإنه جيء به رضي الله تعالى عنه ولا ثوب عليه وكان طويلا جسيما فلم يكن ثوب بقدر قامته غير ثوب ابن أبي فكساه إياه، وأخرج أبو الشيخ عن قتادة أنهم ذكروا القميص بعد نزول الآية فقال عليه الصلاة والسلام: «وما يغني عنه قميصي والله إني لأرجو أن يسلم به أكثر من ألف من بني الخزرج» وقد حقق الله تعالى رجاء نبيه كما في بعض الآثار والاخبار فيما كان منه عليه الصلاة والسلام مع ابن أبي من الصلاة عليه وغيرها لا تخلو عن التعارض، وقد جمع بينهما حسبما أمكن علماء الحديث، وفي لباب التأويل نبذة من ذلك فليراجع. والمراد من الصلاة المنهي عنها صلاة الميت المعروفة وهي متضمنة للدعاء والاستغفار والاستشفاع له قيل: والمنع عنها لمنعه عليه الصلاة والسلام من الدعاء للمنافقين المفهوم من الآية السابقة أو من قوله سبحانه: ما كانَ لِلنَّبِيِّ إلخ، وقيل: هي هنا بمعنى الدعاء، وليس بذاك، وأَبَداً ظرف متعلق بالنهي، وقيل: متعلق بمات، والموت الأبدي كناية عن الموت على الكفر لأن المسلم يبعث ويحيا حياة طيبة، والكافر وإن بعث لكنه للتعذيب فكأنه لم يحي، وزعم بعضهم أنه لو تعلق بالنهي لزم أن لا تجوز الصلاة على من تاب منهم ومات على الإيمان مع أنه لا حاجة للنهي عن الصلاة عليهم إلى قيد التأييد، ولا يخفى أنه أخطأ ولم يشعر أن مِنْهُمْ حال من الضمير في مات أي مات حال كونه منهم أي متصفا بصفتهم وهي النفاق كقولهم: أنت مني يعني على طريقتي وصفتي كما صرحوا به على أنه لو جعل الجار والمجرور صفة لأحد لا يكاد يتوهم ما ذكر وكيف يتوهم مع قوله تعالى الآتي إِنَّهُمْ كَفَرُوا إلخ، وقوله: مع أنه لا حاجة إلى النهي إلخ لظهور ما فيه لا حاجة إلى ذكره، وماتَ ماض باعتبار سبب النزول وزمان النهي ولا ينافي عمومه وشموله لمن سيموت، وقيل: إنه بمعنى المستقبل وعبر به لتحققه، والجملة في موضع الصفة لأحد وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ أي لا تقف عليه ولا تتول دفنه من قولهم: قام فلان بأمر فلان إذا كفاه إياه وناب عنه فيه، ويفهم من كلام بعضهم أن عَلى بمعنى عند، والمراد لا تقف عند قبره للدفن أو للزيارة، والقبر في المشهور مدفن الميت ويكون بمعنى الدفن وجوزوا إرادته هنا أيضا. وفي فتاوى الجلال السيوطي هل يفسر القيام هنا بزيارة القبور وهل يستدل بذلك على أن الحكمة في زيارته الجزء: 5 ¦ الصفحة: 342 صلّى الله عليه وسلّم قبر أمه أنه لإحيائها لتؤمن به بدليل أن تاريخ الزيارة كان بعد النهي؟ الجواب المراد بالقيام على القبر الوقوف عليه حالة الدفن وبعده ساعة، ويحتمل أن يعم الزيارة أيضا أخذا من الإطلاق وتاريخ الزيارة كان قبل النهي لا بعده فإن الذي صح في الأحاديث أنه صلّى الله عليه وسلّم زارها عام الحديبية والآية نازلة بعد غزوة تبوك، ثم الضمير في مِنْهُمْ خاص بالمنافقين وإن كان بقية المشركين يلحقون بهم قياسا، وقد صح في حديث الزيارة أنه استأذن ربه في ذلك فأذن له وهذا الإذن عندي يستدل به على أنها من الموحدين لا من المشركين كما هو اختياري، ووجه الاستدلال به أنه نهاه عن القيام على قبور الكفار وأذن له في القيام على قبر أمه فدل على أنها ليست منهم وإلا لما كان يأذن له فيه، واحتمال التخصيص خلاف الظاهر ويحتاج إلى دليل صريح، ولعله عليه الصلاة والسلام كان عنده وقفة في صحة توحيد من كان في الجاهلية حتى أوحي إليه صلّى الله عليه وسلّم بصحة ذلك، فلا يرد أن استئذانه يدل على خلاف ذلك وإلا لزارها من غير استئذان اهـ وفي كون المراد بالقيام على القبر الوقوف عليه حالة الدفن وبعده ساعة خفاء إذ المتبادر من القيام على القبر ما هو أعم من ذلك. نعم كان الوقوف بعد الدفن قدر نحر جزور مندوبا ولعله لشيوع ذلك إذ ذاك أخذ في مفهوم القيام على القبر ما أخذ. وفي جواز زيارة قبر الكفار خلاف وكثير من القائلين بعدم الجواز حمل القيام على ما يعم الزيارة ومن أجاز استدل بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة» فإنه عليه الصلاة والسلام علل الزيارة بتذكير الآخرة ولا فرق في ذلك بين زيارة قبور المسلمين وقبور غيرهم، وتمام البحث في موضعه والاحتياط عندي عدم زيارة قبور الكفار إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ جملة مستأنفة سيقت لتعليل النهي على معنى أن الصلاة على الميت والاحتفال به إنما يكون لحرمته وهم بمعزل عن ذلك لأنهم استمروا على الكفر بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم مدة حياتهم وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ أي متمردون في الكفر خارجون عن حدوده. وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ تأكيد لما تقدم من نظيره والأمر حقيق بذلك لعموم البلوى بمحبة ما ذكر والاعجاب به، وقال الفارسي: إن ما تقدم في قوم وهذا في آخرين فلا تأكيد، وجيء بالواو هنا لمناسبة عطف نهي على نهي قبله أعني قوله سبحانه: وَلا تُصَلِّ إلخ، وبالفاء هناك لمناسبة التعقيب لقوله تعالى: قبل وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ [التوبة: 54] فإن حاصله لا ينفقون إلا وهم كارهون للإنفاق فهم معجبون بكثرة الأموال والأولاد فنهى عن الإعجاب المتعقب له. وقيل: هنا وَأَوْلادُهُمْ دون- لا- لأنه نهي عن الإعجاب بهما مجتمعين وهناك بزيادة لا لأنه نهي عن كل واحد واحد فدل مجموع الآيتين على النهي عن الاعجاب بهما مجتمعين ومنفردين وهنا أَنْ يُعَذِّبَهُمْ وهناك «ليعذبهم» للإشارة إلى أن إرادة شيء لشيء راجعة إلى إرادة ذلك الشيء بناء على أن متعلق الإرادة هناك الإعطاء واللام للتعليل أي إنما يريد اعطاءهم للتعذيب، وأما إذا قلنا: إن اللام فيما تقدم زائدة فالتغاير يحتمل أن يكون لأن التأكيد هناك لتقدم ما يصلح سببا للتعذيب بالأموال أوقع منه هنا لعدم تقدم ذلك وجاء هناك فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وهنا فِي الدُّنْيا تنبيها على أن حياتهم كلا حياة فيها ويشير ذلك هنا إلى أنهم بمنزلة الأموات. وبين ابن الخازن سر تغاير النظمين الكريمين بما لا يخفى ما فيه، وتقديم الأموال على الأولاد مع أنهم أعز منها لعموم مساس الحاجة إليها دون الأولاد، وقيل: لأنها أقدم في الوجود منهم وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ من القرآن والمراد بها على ما قيل: سورة معينة وهي براءة، وقيل المراد كل سورة ذكر فيها الإيمان والجهاد وهو أولى وأفيد لأن استئذانهم عند نزول آيات براءة علم مما مر، وإِذا تفيد التكرار بقرينة المقام وإن لم تفده بالوضع كما نص عليه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 343 بعض المحققين، وجوز أن يراد بالسورة بعضها مجازا من باب إطلاق الجزء على الكل، ويوهم كلام الكشاف أن إطلاق السورة على بعضها بطريق الاشتراك كإطلاق القرآن على بعضه وليس بذاك، والتنوين للتفخيم أي سورة جليلة الشأن أَنْ آمِنُوا أي بأن آمنوا ف «أن» مصدرية حذف عنها الجار وجوز أن تكون مفسرة لتقدم الانزال وفيه معنى القول دون حروفه، والخطاب للمنافقين، والمراد أخلصوا الايمان بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ لإعزاز دينه وإعلاء كلمته، وأما التعميم أو إرادة المؤمنين بمعنى دوموا على الايمان بالله إلخ كما ذهب إليه الطبرسي وغيره فلا يناسب المقام ويحتاج فيه ارتباط الشرط والجزاء إلى تكلف ما لا حاجة إليه كاعتبار ما هو من حال المؤمنين الخلص في النظم الجليل اسْتَأْذَنَكَ أي طلب الإذن منك وفيه التفات أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ أي أصحاب الفضل والسعة من المنافقين وهم من له قدرة مالية ويعلم من ذلك البدنية بالقياس وخصوا بالذكر لأنهم الملومون وَقالُوا ذَرْنا أي دعنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ أي الذين لم يجاهدوا لعذر من الرجال والنساء ففيه تغليب، والعطف على استأذنك للتفسير مغن عن ذكر ما استأذنوا فيه وهو القعود. رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ أي النساء كما روي عن ابن عباس وقتادة وهو جمع خالفة وأطلق على المرأة لتخلفها عن أعمال الرجال كالجهاد وغيره، والمراد ذمهم وإلحاقهم بالنساء في التخلف عن الجهاد، ويطلق الخالفة على من لا خير فيه، والتاء فيه للنقل للاسمية، وحمل بعضهم الآية على ذلك فالمقصود حينئذ من لا فائدة فيه للجهاد وجمعه على فواعل على الأول ظاهر وأما على الثاني فلتأنيث لفظه لأن فاعلا لا يجمع على فواعل في العقلاء الذكور إلا شذوذا وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ بسبب ذلك لا يَفْقَهُونَ ما ينفعهم وما يضرهم في الدارين لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ استدراك لما فهم من الكلام، والمعنى إن تخلف هؤلاء ولم يجاهدوا فلا ضير لأنه قد نهض على أتم وجه من هو خير منهم فهو على حد قوله تعالى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ [الأنعام: 89] وفي الآية تعريض بأن القوم ليسوا من الايمان بالله تعالى في شيء وإن لم يعرضوا عنه صريحا اعراضهم عن الجهاد باستئذانهم في القعود وَأُولئِكَ أي المنعوتون بالنعوت الجليلة لَهُمُ بواسطة ذلك الْخَيْراتُ أي المنافع التي تسكن النفس إليها وترتاح لها، وظاهر اللفظ عمومها هنا لمنافع الدارين كالنصر والغنيمة في الدنيا والجنة ونعيمها في الأخرى، وقيل. المراد بها الحور لقوله تعالى: فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ [الرحمن: 7] فإنها فيه بمعنى الحور فتحمل عليه هنا أيضا. ونص المبرد على أن الخيرات تطلق على الجواري الفاضلات وهي جمع خيرة بسكون الياء مخفف خيرة المشددة تأنيث خير وهو الفاضل من كل شيء المستحسن منه وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي الفائزون بالمطالب دون من حاز بعضا بفني عما قليل، وكرر اسم الإشارة تنويها بشأنهم أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ استئناف لبيان كونهم مفلحين، وقيل: يجوز أن يكون بيانا لما لهم من المنافع الأخروية ويخص ما قبل بمنافع الدنيا بقرينة المقابلة، والاعداد التهيئة أي هيأ لهم جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها حال مقدرة من الضمير في لَهُمْ والعامل أَعَدَّ ذلِكَ إشارة إلى ما فهم من الكلام من نيل الكرامة العظمى الْفَوْزُ أي الظفر الْعَظِيمُ الذي لا فوز وراءه وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ شروع في بيان أحوال منافقي الاعراب إثر بيان أحوال منافقي أهل المدينة، والمعذرون من عذر في الأمر إذا قصر فيه وتوانى ولم يجد، وحقيقته أن يوهم أن له عذرا فيما يفعل ولا عذر له، ويحتمل أن يكون من اعتذر والأصل المعتذرون فأدغمت التاء في الذال بعد نقل حركتها إلى العين، ويجوز كسرها لالتقاء الساكنين وضمها اتباعا للميم لكن لم يقرأ بهما، وقرأ يعقوب «المعذرون» بالتخفيف وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فهو من أعذر إذا كان له الجزء: 5 ¦ الصفحة: 344 عذر. وعن مسلمة أنه قرأ «المعذرون» بتشديد العين والذال من تعذر بمعنى اعتذر. وتعقب ذلك أبو حيان فقال: هذه القراءة إما غلط من القارئ أو عليه لأن التاء لا يجوز إدغامها في العين لتضادهما، وأما تنزيل التضاد منزلة التناسب فلم يقله أحد من النحاة ولا القراء فالاشتغال بمثله عيب، ثم إن هؤلاء الجائين كاذبون على أول احتمالي القراءة الأولى، ويحتمل أن يكونوا كاذبين وأن يكونوا صادقين على الثاني منهما وكذا على القراءة الأخيرة، وصادقون على القراءة الثانية. واختلفوا في المراد بهم فعن الضحاك أنهم رهط عامر بن الطفيل جاؤوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا نبي الله إنا غزونا معك أغارت طيىء على أهالينا ومواشينا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فقد أنبأني الله من أخباركم وسيغني الله سبحانه عنكم. وقيل: هم أسد وغطفان استأذنوا في التخلف معتذرين بالجهد وكثرة العيال. وأخرج أبو الشيخ عن ابن إسحاق أنه قال: ذكر لي أنهم نفر من بني غفار. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم أهل العذر ولم يبين من هم ومما ذكرنا يعلم وقوع الاختلاف في أن هؤلاء الجائين هل كانوا صادقين في الاعتذار أم لا، وعلى القول بصدقهم يكون المراد بالموصول في قوله سبحانه: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ غيرهم وهم أناس من الأعراب أيضا منافقون والأولون لانفاق فيهم، وعلى القول بكذبهم يكون المراد به الأولين، والعدول عن الإضمار إلى الإظهار لذمهم بعنوان الصلة والكذب على الأول بادعاء الايمان وعلى الثاني بالاعتذار، ولعل القعود مختلف أيضا. وقرأ أبي «كذّبوا» بالتشديد سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ أي من الاعراب مطلقا وهم منافقوهم أو من المعتذرين، ووجه التبعيض أن منهم من اعتذر لكسله لا لكفره أي سيصيب المعتذرين لكفرهم عَذابٌ أَلِيمٌ وهو عذاب النار في الآخرة ولا ينافي استحقاق من تخلف لكسل، ذلك عندنا لعدم قولنا بالمفهوم ومن قال به فسر العذاب الأليم بمجموع القتل والنار والأول منتف في المؤمن المتخلف للكسل فينتفي المجموع، وقيل: المراد بالموصول المصرون على الكفر. لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ كالشيوخ ومن فيه نحافة خلقية لا يقوى على الخروج معها وهو جمع ضعيف ويقال: ضعوف وضعفان وجاء في الجمع ضعاف وضعفة وضعفي وضعافي وَلا عَلَى الْمَرْضى جمع مريض ويجمع أيضا على مراض ومراضى وهو من عراة سقم واضطراب طبيعة سواء كان مما يزول بسرعة ككثير من الأمراض أولا كالزمانة وعدوا منه ما لا يزول كالعمى والعرج الخلقيين فالأعمى والأعرج داخلان في المرضى وإن أبيت فلا يبعد دخولهما في الضعفاء، ويدل لدخول الأعمى في أحد المتعاطفين ما أخرجه ابن أبي حاتم والدارقطني في الأفراد عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت براءة فإني لواضع القلم على أذني إذ أمرنا بالقتال فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينظر ما عليه إذ جاءه أعمى فقال: كيف بي يا رسول الله وأنا أعمى؟ فنزلت لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى. وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ أي الفقراء العاجزين عن أهبة السفر والجهاد قيل هم مزينة وجهينة وبنو عذرة حَرَجٌ أي ذنب في التخلف وأصله الضيق وقد تقدم الكلام فيه إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بالايمان والطاعة ظاهرا وباطنا كما يفعل الموالي الناصح فالنصح مستعار لذلك، وقد يراد بنصحهم المذكور بذل جهدهم لنفع الإسلام والمسلمين بأن يتعهدوا أمورهم وأهلهم وإيصال خبرهم إليهم ولا يكونوا كالمنافقين الذين يشيعون الأراجيف إذا تخلفوا، وأصل النصح في اللغة الخلوص يقال: نصحته ونصحت له، وفي النهاية النصيحة يعبر بها عن جملة هي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 345 إرادة الخير للمنصوح له وليس يمكن أن يعبر عن هذا المعنى بكلمة واحدة يجمعه غيرها، والعامل في الظرف على ما قال أبو البقاء معنى الكلام أي لا يخرجون حينئذ. ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ أي ما عليهم سبيل فالإحسان النصح لله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، ووضع الظاهر موضع ضميرهم اعتناء بشأنهم ووصفا لهم بهذا العنوان الجليل، وزيدت «من» للتأكيد، والجملة استئناف مقرر لمضمون ما سبق على أبلغ وجه وألطف سبك وهو من بليغ الكلام لأن معناه لا سبيل لعاتب عليهم أي لا يمر بهم العاتب ولا يجوز في أرضهم فما أبعد العتاب عنهم وهو جار مجرى المثل، ويحتمل أن يكون تعليلا لنفي الحرج عنهم والْمُحْسِنِينَ على عمومه أي ليس عليهم حرج لأنه ما على جنس المحسنين سبيل وهم من جملتهم، قال ابن الفرس: ويستدل بالآية على أن قاتل البهيمة الصائلة لا يضمنها وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ تذييل مؤيد لمضمون ما ذكر وفيه إشارة إلى أن كل أحد عاجز محتاج للمغفرة والرحمة إذ الإنسان لا يخلو من تفريط ما فلا يقال: إنه نفى عنهم الإثم أولا فما الاحتياج إلى المغفرة المقتضية للذنب فإن أريد ما تقدم من ذنوبهم دخلوا بذلك الاعتبار في المسيء وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ عطف على المحسنين كما يؤذن به قوله تعالى الآتي إن شاء الله تعالى إِنَّمَا السَّبِيلُ إلخ، وهو من عطف الخاص على العام اعتناء بشأنهم وجعلهم كأنهم لتميزهم جنس آخر. وقيل: عطف على الضعفاء وهم- كما قال ابن إسحاق وغيره- البكاءون وكانوا سبعة نفر من الأنصار وغيرهم من بني عمرو بن عوف: سالم بن عمير وعلية بن زيد أخو بني حارث وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب أخو بني مازن بن النجار. وعمرو بن الحمام بن الجموح أخو بني سلمة وعبد الله بن معقل المزني وهرمي بن عبد الله أخو بني واقف. وعرباض بن سارية الفزاري أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاستحملوه وكانوا أهل حاجة فقال لهم عليه الصلاة والسلام ما قصه الله تعالى بقوله سبحانه: قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ فتولوا وهم يبكون كما أخبر سبحانه، والظاهر أنه لم يخرج منهم أحد للغزو مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لكن قال ابن إسحاق: أن ابن يامين بن عمير بن كعب النضري لقي أبا ليلى وابن معقل وهم يبكيان فقال: ما يبكيكما؟ قالا: جئنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه فأعطاهما ناضحا له فارتحلا وزودهما شيئا من تمر فخرجا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفي بعض الروايات أن الباقين أعينوا على الخروج فخرجوا. وعن مجاهد انهم بنو مقرن: معقل وسويد والنعمان، وقيل: هم أبو موسى الأشعري وأصحابه من أهل اليمن وقيل وقيل: وظاهر الآية يقتضي أنهم طلبوا ما يركبون من الدواب وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وأخرج ابن المنذر عن علي بن صالح قال: حدثني مشيخة من جهينة قالول: أدركنا الذين سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الحملان فقالوا: ما سألناه إلا الحملان على النعال، ومثل هذا ما أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن إبراهيم بن أدهم عمن حدثه أنه قال: ما سألوه الدواب ما سألوه إلا النعال، وجاء في بعض الروايات أنهم قالوا: احملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغزو معك فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما قال، ومن مال إلى الظاهر المؤيد بما روي عن الحبر قال: تجوز بالجفاف المرقوعة والنعال المخصوفة عن ذي الخف والحافر فكأنهم قالوا: احملنا على ما يتيسر أو المراد احملنا ولو على نعالنا وأخفافنا مبالغة في القناعة ومحبة للذهاب معه عليه الصلاة والسلام. وأنت تعلم أن ظاهر الخبرين السابقين يبعد ذلك على أنه في نفسه خلاف الظاهر نعم الاخبار المخالفة لظاهر الآية لا يخفى ما فيها من له اطلاع على مصطلح الحديث ومغايرة هذا الصنف بناء على ما يقتضيه الظاهر من أنهم واجدون لما عدا المركب للذين لا يجدون ما ينفقون إذا كان المراد بهم الفقراء الفاقدين للزاد والمركب وغيره ظاهرة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 346 وبينهما عموم وخصوص إذا أريد بمن لا يجد النفقة من عدم شيئا لا يطيق السفر لفقده وإلى الأول ذهب الإمام واختاره كثير من المحققين، واختلف في جواب إِذا فاختار بعض المحققين أنه قُلْتَ إلخ فيكون قوله سبحانه: تَوَلَّوْا إلخ مستأنفا استئنافا بيانيا، وقيل: هو الجواب وقُلْتَ مستأنف أو على حذف حرف العطف أي وقلت أو فقلت وهو معطوف على أَتَوْكَ أو في موضع الحال من الكاف في أَتَوْكَ- وقد- مضمرة كما في جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [النساء: 90] وزمان الإتيان يعتبر واسعا كيومه وشهره فيكون مع التولي في زمان واحد ويكفي تسببه له وإن اختلف زمانهما كما ذكره الرضي في قولك: إذا جئتني اليوم أكرمتك غدا أي كان مجيئك سببا لإكرامك غدا، وفي إيثار «لا أجد» على ليس عندي من تلطيف الكلام وتطييب قول السائلين ما لا يخفى كأنه عليه الصلاة والسلام يطلب ما يسألونه على الاستمرار فلا يجده وذلك هو اللائق بمن هو بالمؤمنين رؤوف رحيم صلّى الله عليه وسلّم وقوله سبحانه: وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ في موضع الحال من ضمير تَوَلَّوْا والفيض انصباب عن امتلاء وهو هنا مجاز عن الامتلاء بعلاقة السببية، والدمع الماء المخصوص ويجوز إبقاء الفيض على حقيقته ويكون إسناده إلى العين مجازا كجري النهر والدمع مصدر دمعت العين دمعا ومِنَ للأجل والسبب، وقيل: إنها للبيان وهي مع المجرور في محل نصب على التمييز وهو محول عن الفاعل. وتعقبه أبو حيان بأن التمييز الذي أصله فاعل لا يجوز جره بمن وأيضا لا يجيز تعريف التمييز إلا الكوفيون. وأجيب عن الأول بأنه منقوض بنحو قوله: عز من قائل وعن الثاني بأنه كفى إجازة الكوفيين، وذكر القطب أن أصل الكلام أعينهم يفيض دمعها ثم أعينهم تفيض دمعا وهو أبلغ لإسناد الفعل إلى غير الفاعل وجعله تمييزا سلوكا لطريق التبيين بعد الإبهام ولأن العين جعلت كأنها دمع فائض ثم أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ أبلغ مما قبله بواسطة- من- التجريدية فإنه جعل أعينهم فائضة ثم جرد الأعين الفائضة من الدمع باعتبار الفيض. وتعقب بأن مِنَ هنا للبيان لما قد أبهم مما قد يبين بمجرد التمييز لأن معنى تفيض العين يفيض شيء من أشياء العين كما أن معنى قولك: طاب زيد طاب شيء من أشياء زيد والتمييز رفع إبهام ذلك الشيء فكذا من الدمع فهو في محل نصب على التمييز وحديث التجريد لا ينبغي أن يصدر ممن له معرفة بأساليب الكلام وقد مر بعض الكلام في المائدة على هذه الجملة فتذكر. وقوله تعالى: حَزَناً نصب على العلية والحزن يستند إلى العين كالفيض فلا يقال: كيف ذاك وفاعل الفيض مغاير لفاعل الحزن ومع مغايرة الفاعل لا نصب، وقيل: جاز ذلك نظرا إلى المعنى إذ حاصله تولوا وهم يبكون حزنا وجوز نصبه على الحال من ضمير تَفِيضُ أي حزينة وعلى المصدرية لفعل دال عليه ما قبله أي لا تحزن حزنا والجملة حال أيضا من الضمير المشار إليه وقد يكون تعلق ذلك على احتمالات بتولوا أي تولوا للحزن أو حزنين أو يحزنون حزنا أَلَّا يَجِدُوا على حذف اللام وحذف الجار في مثل ذلك مطرد وهو متعلق بحزنا كيفما كان، وقيل: لا يجوز تعلقه به إذا كان نصبا على المصدرية لأن المصدر المؤكد لا يعمل ولعل من قال بالأول يمنع ذلك ويقول: يتوسع في الظرف ما لا يتوسع في غيره وجوز تعلقه بتفيض وقيل: وهذا إذا لم يكن حَزَناً علة له وإلا فلا يجوز لأنه لا يكون لفعل واحد مفعولان لأجله والإبدال خلاف الظاهر أي لئلا يجدوا ما يُنْفِقُونَ في شراء ما يحتاجون إليه في الخروج معك إذا لم يجدوه عندك وهذا بحسب الظاهر يؤيد كون هذا الصنف مندرجا تحت قوله سبحانه: وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 347 بسم الله الرحمن الرحيم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3 إِنَّمَا السَّبِيلُ أي بالمعاتبة والمعاقبة عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ في التخلف وَهُمْ أَغْنِياءُ واجدون للأهبة قادرون على الخروج معك رَضُوا استئناف بياني كأنه قيل: لم استأذنوا أو لم استحقوا ما استحقوا؟ فأجيب بأنهم رضوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ تقدم معناه وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ خذلهم فغفلوا عن سوء العاقبة فَهُمْ بسبب ذلك لا يَعْلَمُونَ أبدا وخامة ما رضوا به وما يستتبعه عاجلا كما لم يعلموا نجاسة شأنه آجلا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ بيان لما يتصدون له عند الرجوع إليهم، والخطاب قيل للنبي صلّى الله عليه وسلم، والجمع للتعظيم، والأولى أن يكون له عليه الصلاة والسلام ولأصحابه لأنهم كانوا يعتذرون للجميع أي يعتذرون إليكم في التخلف إِذا رَجَعْتُمْ من الغزو منتهين إِلَيْهِمْ وإنما لم يقل سبحانه إلى المدينة إيذانا بأن مدار الاعتذار هو الرجوع إليهم لا الرجوع إلى المدينة فلعل منهم من بادر إلى الاعتذار قبل الرجوع إليها قُلْ خطاب له صلّى الله عليه وسلم، وخص بذلك لما أن الجواب وظيفته عليه الصلاة والسلام لا تَعْتَذِرُوا أي لا تفعلوا الاعتذار أو لا تعتذروا بما عندكم من المعاذير لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ استئناف لبيان موجب النهي، وقوله: قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ استئناف لبيان موجب النفي كأنه قيل: لم نهيتمونا عن الاعتذار؟ فقيل: لأنا لم نصدقكم في عذركم فيكون عبثا فقيل: لم لن تصدقونا؟ فقيل: لأن الله تعالى قد أنبأنا بالوحي بما في ضمائركم من الشر والفساد. ونبأ عند جمع متعدية إلى مفعولين الأول الضمير والثاني مِنْ أَخْبارِكُمْ إما لأنه صفة المفعول الثاني، والتقدير جملة من أخباركم أو لأنه بمعنى بعض أخباركم، وليست مِنْ زائدة على مذهب الأخفش من زيادتها في الإيجاب. وقال بعضهم: إنها متعدية لثلاثة ومِنْ أَخْبارِكُمْ ساد مسد مفعولين لأنه بمعنى إنكم كذا وكذا أو المفعول الثالث محذوف أي واقعا مثلا، وتعقب بأن السد المذكور بعيد، وحذف المفعول الثالث إذا ذكر المفعول الثاني في هذا الباب خطأ أو ضعيف، ومعنى نَبَّأَنَا على الأول عرفنا كما قيل وعلى الثاني أعلمنا، وقيل: معناه خبرنا، ومِنْ بمعنى عن وليس بشيء، وجمع ضمير المتكلم في الموضعين للمبالغة في حسم أطماع المنافقين المعتذرين رأسا ببيان عدم رواح اعتذارهم عند أحد من المؤمنين أصلا فإن تصديق البعض لهم ربما يطمعهم في تصديق الرسول عليه الصلاة والسلام أيضا وللإيذان بافتضاحهم بين المؤمنين كافة وتعدية نُؤْمِنَ باللام مر بيانها: وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ. أي سيعلمه سبحانه علما يتعلق به الجزاء فالرؤية علمية، والمفعول الثاني محذوف أي أتنيبون عما أنتم فيه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 4 من النفاق أم تثبتون عليه، وكأنه لمكان السين المفيدة للتنفيس استتابة وإمهال للتوبة، وتقديم مفعول الرؤية على الفاعل من قوله سبحانه: وَرَسُولُهُ. للإيذان باختلاف حال الرؤيتين وتفاوتهما وللإشعار بأن مدار الوعيد هو علمه عز وجل بأعمالهم: ثُمَّ تُرَدُّونَ يوم القيامة إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ للجزاء بما ظهر منكم من الأعمال، ووضع الوصف موضع الضمير لتشديد الوعيد فإن علمه سبحانه بجميع أعمالهم الظاهرة والباطنة وإحاطته بأحوالهم البارزة والكامنة مما يوجب الزجر العظيم، وتقديم الغيب على الشهادة قيل: لتحقيق أن نسبة علمه تعالى المحيط إلى سائر الأشياء السر والعلن واحدة على أبلغ وجه وآكده، كيف لا وعلمه تعالى بمعلوماته منزه عن أن يكون بطريق حصول الصورة بل وجود كل شيء وتحققه في نفسه علم بالنسبة إليه تعالى، وفي هذا المعنى لا يختلف الحال بين الأمور البارزة والكامنة انتهى. ولا يخفى عليك أن هذا قول يكون علمه سبحانه بالأشياء حضوريا لا حصوليا. وقد اعترضوا عليه بشمول علمه جل وعلا الممتنعات والمعدومات الممكنة والعلم الحضوري يختص بالموجودات العينية لأنه حضور المعلوم بصورته العينية عند العالم في كيف لا يختلف الحال فيه بين الأمور البارزة والكامنة مع أن الكامنة تشمل المعدومات الممكنة والممتنعة، ولا يتصور فيها التحقق في نفسها حتى يكون علما له تعالى كذا قيل وفيه نظر، وتحقيق علم الواجب سبحانه بالأشياء من المباحث المشكلة والمسائل المعضلة التي كم تحيرت فيها أفهام وزلت من العلماء الأعلام أقدام، ولعل النوبة إن شاء الله تعالى تفضي إلى تحقيق ذلك فَيُنَبِّئُكُمْ عند ردكم إليه سبحانه ووقوفكم بين يديه بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي بما تعملونه على الاستمرار في الدنيا من الأعمال السيئة السابقة واللاحقة على أن «ما» موصولة أو بعملكم المستمر على أن «ما» مصدرية، والمراد من التنبئة بذلك المجازاة عليه، وإيثارها عليها لمراعاة ما سبق من قوله تعالى: قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ إلخ وللإيذان بأنهم ما كانوا عالمين في الدنيا بحقيقة أعمالهم وإنما يعلمونها يومئذ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ تأكيدا لمعاذيرهم الكاذبة وترويجا لها. والسين للتأكيد على ما مر، والمحلوف عليه ما يفهم من الكلام وهو ما اعتذر به من الأكاذيب، والجملة بدل من يعتذرون أو بيان له إِذَا انْقَلَبْتُمْ من سفركم إِلَيْهِمْ والانقلاب هو الرجوع والانصراف مع زيادة معنى الوصول والاستيلاء، وفائدة تقييد حلفهم كما قال بعض المحققين به الإيذان بأنه ليس لرفع ما خاطبهم النبي صلّى الله عليه وسلم به من قوله تعالى: لا تَعْتَذِرُوا إلخ بل هو أمر مبتدأ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فلا تعاتبوهم وتصفحوا عما فرط منهم صفح رضا كما يفصح عنه قوله تعالى: لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ لكن لا إعراض رضا كما طلبوا بل إعراض اجتناب ومقت كما ينبىء عنه التعليل بقوله سبحانه: إِنَّهُمْ رِجْسٌ فإنه صريح في أن المراد بالإعراض إما الاجتناب عنهم لما يفهم من القذارة الروحانية وإما ترك استصلاحهم بترك المعاملة المقصود منها التطهير بالحمل على التوبة وهؤلاء أرجاس لا تقبل التطهير، وقيل: إن لِتُعْرِضُوا بتقدير للحذر عن أن تعرضوا على أن الإعراض فيه إعراض مقت أيضا ولا يخفى أنه تكلف لا يحتاج إليه، وقوله تعالى: وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ إما من تمام التعليل فإن كونهم من أهل النار من دواعي الاجتناب عنهم وموجبات ترك استصلاحهم باللوم والعتاب وإما تعليل مستقل أي وكفتهم النار عتابا على حد- عتابه السيف ووعظه الصفع- فلا تتكلفوا أنتم بذلك جَزاءً نصب على أنه مفعول مطلق مؤكد لفعل مقدر من لفظه وقع حالا أي يجزون جزاء أو لمضمون ما قبله فإنه مفيد لمعنى المجازاة كأنه قيل: مجزيون جزاء بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي بما يكسبونه على سبيل الاستمرار من فنون السيئات في الدنيا أو بكسبهم المستمر لذلك. وجوز أن يكون مفعولا له وحالا من الخبر عند من يرى ذلك: يَحْلِفُونَ لَكُمْ بدل مما سبق، والمحلوف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 5 عليه محذوف لظهوره كما تقدم أي يحلفون به تعالى على ما اعتذروا لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ بحلفهم وتستديموا عليهم ما كنتم تفعلون بهم فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ حسبما طلبوا فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ أي فرضاكم لا ينتج لهم نفعا لأن الله تعالى ساخط عليهم ولا أثر لرضا أحد مع سخطه تعالى، وجوز بعضهم كون الرضا كناية عن التلبيس أي إن أمكنهم أن يلبسوا عليكم بالأيمان الكاذبة حتى يرضوكم لا يمكنهم أن يلبسوا على الله تعالى بذلك حتى يرضى عنهم فلا يهتك أستارهم ولا يهينهم وهو خلاف الظاهر، ووضع الفاسقين موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بالخروج عن الطاعة المستوجبة لما حل بهم، والمراد من الآية نهي المخاطبين عن الرضا عنهم والاغترار بمعاذيرهم الكاذبة على أبلغ وجه وآكده فإن الرضا عمن لا يرضى عنه الله تعالى مما لا يكاد يصدر عن المؤمن، والآية نزلت على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في جد بن قيس، ومعتب بن قشير، وأصحابهما من المنافقين وكانوا ثمانين رجلا أمر النبي صلّى الله عليه وسلم المؤمنين لما رجعوا إلى المدينة أن لا يجالسوهم ولا يكلموهم فامتثلوا، وعن مقاتل أنها نزلت في عبد الله ابن أبي حلف للنبي صلّى الله عليه وسلم أن لا يتخلف عنه أبدا وطلب أن يرضى فلم يفعل صلّى الله عليه وسلم: الْأَعْرابُ هي صيغة جمع وليست بجمع للعرب على ما روي عن سيبويه لئلا يلزم كون الجمع أخص من الواحد، فإن العرب هذا الجيل المعروف مطلقا والأعراب سكان البادية منهم، ولذا نسب إلى الأعراب على لفظه فقيل أعرابي، وقيل: العرب سكان المدن والقرى والأعراب سكان البادية من هذا الجيل أو مواليهم فهما متباينان، ويفرق بين الجمع والواحد بالياء فيهما فيقال للواحد عربي وأعرابي وللجماعة عرب وأعراب وكذا أعاريب وذلك كما يقال الواحد: مجوسي ويهودي ثم تحذف الياء في الجمع فيقال المجوس واليهود، أي أصحاب البدو أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً من أهل الحضر الكفار والمنافقين لتوحشهم وقساوة قلوبهم وعدم مخالطتهم أهل الحكمة وحرمانهم استماع الكتاب والسنة وهم أشبه شيء بالبهائم، وفي الحديث عن الحسن عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «من سكن البادية جفا ومن اتبع الصيد غفل ومن أتى السلطان افتتن» وجاء «ثلاثة من الكبائر» وعد منها التعرب بعد الهجرة وهو أن يعود إلى البادية ويقيم مع الأعراب بعد أن كان مهاجرا، وكان من رجع بعد الهجرة إلى موضعه من غير عذر يعدونه كالمرتد، وكان ذلك لغلبة الشر في أهل البادية والطبع سراق أو للبعد عن مجالس العلم وأهل الخير وإنه ليفضي إلى شر كثير، والحكم على الأعراب بما ذكر من باب وصف الجنس بوصف بعض أفراده كما في قوله تعالى: وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً [الإسراء: 67] إذ ليس كلهم كما ذكر، ويدل عليه قوله تعالى الآتي: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ إلخ، وكان ابن سيرين كما أخرج أبو الشيخ عنه يقول: إذا تلا أحدكم هذه الآية فليتل الآية الأخرى يعني بها ما أشرنا إليه، والآية المذكورة كما روي عن الكلبي نزلت في أسد، وغطفان، والعبرة بعموم اللفظ لا لخصوص السبب وَأَجْدَرُ أي أحق وأخلق، وهو على ما قال الطبرسي مأخوذ من جدر الحائط بسكون الدال وهو أصله وأساسه ويتعدى بالباء فقوله تعالى: أَلَّا يَعْلَمُوا بتقدير بأن لا يعلموا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وهي كما أخرج أبو الشيخ عن الضحاك الفرائض وما أمروا به من الجهاد، وأدرج بعضهم السنن في الحدود، والمشهور أنها تخص الفرائض، أو الأوامر والنواهي لقوله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها [البقرة: 229] وتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها [البقرة: 187] ، ولعل ذلك من باب التغليب ولا بعد فيه فإن الأعراب أجدر أن لا يعلموا كل ذلك لبعدهم عمن يقتبس منه، وقيل: المراد منها بقرينة المقام وعيده تعالى على مخالفة الرسول صلّى الله عليه وسلم في الجهاد، وقيل: مقادير التكاليف وَاللَّهُ عَلِيمٌ يعلم أحوال كل من أهل الوبر والمدر حَكِيمٌ بما سيصيب به مسيئهم ومحسنهم من العقاب والثواب. وَمِنَ الْأَعْرابِ أي من جنسهم الذي نعت بنعت بعض أفراده. وقيل: من الفريق المذكور مَنْ يَتَّخِذُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 6 أي بعد ما يُنْفِقُ أي يصرفه في سبيل الله تعالى ويتصدق به كما يقتضيه المقام مَغْرَماً أي غرامة وخسرانا من الغرام بمعنى الهلاك، وقيل: من الغرم وهو نزول نائبة بالمال من غير جناية، وأصله من الملازمة ومنه قيل لكل من المتداينين غريم، وإنما أعدوه كذلك لأنهم لا ينفقونه احتسابا ورجاء لثواب الله تعالى ليكون لهم مغنما وإنما ينفقونه تقية ورئاء الناس فيكون غرامة محضة، وما في صيغة اتخاذ من معنى الاختيار والانتفاع بما يتخذ إنما هو باعتبار غرض المنفق من الرياء والتقية لا باعتبار ذات النفقة أعني كونها غرامة وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ أي ينتظر بكم نوب الدهر ومصائبه التي تحيط بالمرء لينقلب بها أمركم ويتبدل بها حالكم فيتخلص مما ابتلي به عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ دعاء عليهم بنحو ما يتربصون به، وهو اعتراض بين كلامين كما في قوله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا [المائدة: 64] إلخ، وجوز أن تكون الجملة إخبارا عن وقوع ما يتربصون به عليهم، والدائرة اسم للنائبة وهي في الأصل مصدر كالعافية والكاذبة أو اسم فاعل من دار يدور وقد تقدم تمام الكلام عليها، والسَّوْءِ في الأصل مصدر أيضا ثم أطلق على كل ضرر وشر وقد كان وصفا للدائرة ثم أضيفت إليه فالإضافة من باب إضافة الموصوف إلى صفته كما في قولك: رجل صدق وفيه من المبالغة ما فيه، وعلى ذلك قوله تعالى: ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ [مريم: 28] وقيل: معنى الدائرة يقتضي معنى السوء فالإضافة للبيان والتأكيد كما قالوا: شمس النهار ولحيا رأسه. وقرأ ابن كثير. وأبو عمرو «السّوء» هنا وفي ثانية الفتح بالضم وهو حينئذ اسم بمعنى العذاب وليس بمصدر كالمفتوح وبذلك فرق الفراء بينهما: وقال أبو البقاء: السوء بالضم الضرر وهو مصدر في الحقيقة يقال: سؤته سوءا وسماءة ومسائية وبالفتح الفساد والرداءة، وكأنه يقول بمصدرية كل منهما في الحقيقة كما فهمه الشهاب من كلامه، وقال مكي: المفتوح معناه الفساد والمضموم معناه الهزيمة والضرر وظاهره كما قيل إنهما اسمان وَاللَّهُ سَمِيعٌ بمقالاتهم الشنيعة عند الانفاق عَلِيمٌ بنياتهم الفاسدة التي من جملتها أن يتربصوا بكم الدوائر، وفيه من شدة الوعيد ما لا يخفى وَمِنَ الْأَعْرابِ أي من جنسهم على الإطلاق مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ على الوجه المأمور به وَيَتَّخِذُ على وجه الاصطفاء والاختيار ما يُنْفِقُ في سبيل الله تعالى قُرُباتٍ جمع قربة بمعنى التقرب، وهو مفعول ثان ليتخذ، والمراد اتخاذ ذلك سببا للتقرب على التجوز في النسبة أو التقدير، وقد تطلق القربة على ما يتقرب به والأول اختيار الجمهور، والجمع باعتبار الأنواع والأفراد، وقوله سبحانه: عِنْدَ اللَّهِ صفة قُرُباتٍ أو ظرف ليتخذ. وجوز أبو البقاء كونه ظرفا لقربات على معنى مقربات عند الله تعالى، وقوله تعالى: وَصَلَواتِ الرَّسُولِ عطف على قُرُباتٍ أي وسببا لدعائه عليه الصلاة والسلام فإنه صلّى الله عليه وسلم كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم، ولذلك يسن للمتصدق عليه أن يدعو للمتصدق عنه أخذ صدقته لكن ليس له أن يصلي عليه، فقد قالوا: لا يصلى على غير الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام إلا بالتبع لأن في الصلاة من التعظيم ما ليس في غيرها من الدعوات وهي لزيادة الرحمة والقرب من الله تعالى فلا تليق بمن يتصور منه الخطايا والذنوب ولاقت عليه تبعا لما في ذلك من تعظيم المتبوع، واختلف هل هي مكروهة تحريما أو تنزيها أو خلاف الأولى؟ صحح النووي في الأذكار الثاني، لكن في خطبة شرح الأشباه للبيري من صلى على غيرهم أثم وكره وهو الصحيح. وما رواه الستة غير الترمذي من قوله صلّى الله عليه وسلم: «اللهم صل على آل أبي أوفى» لا يقوم حجة على المانع لأن ذلك كما في المستصفى حقه عليه الصلاة والسلام فله أن يتفضل به على من يشاء ابتداء وليس الغير كذلك. وأما السلام فنقل اللقاني في شرح جوهرة التوحيد عن الإمام الجويني أنه في معنى الصلاة فلا يستعمل في الغائب، ولا يفرد به غير الأنبياء والملائكة عليهم السلام فلا يقال: عليّ عليه السلام بل يقال: رضي الله تعالى عنه، وسواء في هذا الأحياء والأموات إلا في الحاضر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 7 فيقال: السلام أو سلام عليك أو عليكم، وهذا مجمع عليه انتهى. أقول: ولعل من الحاضر «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» و «سلام عليكم دار قوم مؤمنين» وإلا فهو مشكل، والظاهر أن العلة في منع السلام ما قاله النووي في علة منع الصلاة من أن ذلك شعار أهل البدع وأنه مخصوص في لسان السلف بالأنبياء والملائكة عليهم السلام كما أن قولنا: عز وجل مخصوص بالله سبحانه فلا يقال محمد عز وجل وإن كان عزيزا جليلا صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم قال اللقاني: وقال القاضي عياض: الذي ذهب إليه المحققون وأميل إليه ما قاله مالك، وسفيان، واختاره غير واحد من الفقهاء والمتكلمين أنه يجب تخصيص النبي صلّى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالصلاة والتسليم كما يختص الله سبحانه عند ذكره بالتقديس والتنزيه ويذكر من سواهم بالغفران والرضا كما قال تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [المائدة: 119، التوبة: 100، المجادلة: 22، البينة: 8] يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ [الحشر: 10] وأيضا أن ذلك في غير من ذكر لم يكن في الصدر الأول وإنما أحدثه الرافضة في بعض الأئمة والتشبيه بأهل البدع منهي عنه فتجب مخالفتهم انتهى، ولا يخفى أن مذهب الحنابلة جواز ذلك في غير الأنبياء والملائكة عليهم السلام استقلالا عملا بظاهر الحديث السابق، وكراهة التشبيه بأهل البدع مقررة عندنا أيضا لكن لا مطلقا بل في المذموم وفيما قصد به التشبه بهم كما ذكره الحصكفي في الدر المختار فافهم. ثم التعرض لوصف الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر في هذا الفريق مع أن مساق الكلام لبيان الفرق بين الفريقين في بيان شأن اتخاذ ما ينفقانه حالا ومآلا وأن ذكر اتخاذه سببا للقربات والصلوات مغن عن التصريح بذلك لكمال العناية بأيمانهم وبيان اتصافهم به وزيادة الاعتناء بتحقق الفرق من أول الأمر، وأما الفريق الأول فاتصافهم بالكفر والنفاق معلوم من سياق النظم الكريم صريحا. وجوز عطف وَصَلَواتِ على ما يُنْفِقُ وعليه اقتصر أبو البقاء أي يتخذ ما ينفق وصلوات الرسول عليه الصلاة والسلام قربات أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ شهادة لهم من جناب الله تعالى بصحة ما اعتقدوه وتصديق لرجائهم، والضمير إما للنفقة المعلومة مما تقدم أو- لما- التي هي بمعناها فهو راجع لذلك باعتبار المعنى فلذا أنث أو لمراعاة الخبر. وجوز ابن الخازن رجوعه للصلوات والأكثرون على الأول، وتنوين قُرْبَةٌ للتفخيم المغني عن الجمع أي قربة لا يكتنه كنهها، وفي إيراد الجملة اسمية بحرفي التنبيه والتحقيق من الجزالة ما لا يخفى. والاقتصار على بيان كونها قربة لهم لأنها الغاية القصوى وصلوات الرسول عليه الصلاة والسلام من ذرائعها وقرىء «قربة» بضم الراء للاتباع سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ وعد لهم بإحاطة رحمته سبحانه بهم كما يشعر بذلك «في» الدالة على الظرفية وهو في مقابلة الوعيد للفرقة السابقة المشار إليه بقوله تعالى: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وفيه تفسير للقربة أيضا، والسين للتحقيق والتأكيد لما تقدم أنها في الإثبات في مقابلة لن في النفي، وقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تقرير لما تقدم كالدليل عليه، والآية كما أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، وغيرهم عن مجاهد نزلت في بني مقرن من مزينة. وقال الكلبي: في أسلم، وغفار، وجهينة وقيل: نزلت التي قبلها في أسد، وغطفان، وبني تميم وهذه في عبد الله ذي البجادين بن نهم المزني رضي الله تعالى عنه. وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ بيان لفضائل أشراف المسلمين إثر بيان طائفة منهم، والمراد بهم كما روي عن سعيد، وقتادة، وابن سيرين، وجماعة الذين صلوا إلى القبلتين، وقال عطاء بن رباح: هم أهل بدر، وقال الشعبي: هم أهل بيعة الرضوان وكانت بالحديبية، وقيل: هم الذين أسلموا قبل الهجرة وَالْأَنْصارِ أهل بيعة العقبة الأولى وكانت في سنة إحدى عشرة من البيعة وكانوا على ما في بعض الروايات سبعة نفر وأهل بيعة العقبة الثانية الجزء: 6 ¦ الصفحة: 8 وكانت في سنة اثنتي عشرة وكانوا سبعين رجلا وامرأتين. والذين أسلموا حين جاءهم من قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلم أبو زرارة مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف وكان قد أرسله عليه الصلاة والسلام مع أهل العقبة الثانية يقرئهم القرآن ويفقههم في الدين وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ أي متلبسين به، والمراد كل خصلة حسنة، وهم اللاحقون بالسابقين من الفريقين على أن مِنَ تبعيضية أو الذين اتبعوهم بالإيمان والطاعة إلى يوم القيامة فالمراد بالسابقين جميع المهاجرين والأنصار رضي الله تعالى عنهم، ومعنى كونهم سابقين أنهم أولون بالنسبة إلى سائر المسلمين وكثير من الناس ذهب إلى هذا. روي عن حميد بن زياد أنه قال: قلت يوما لمحمد بن كعب القرظي ألا تخبرني عن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما كان بينهم من الفتن فقال لي: إن الله تعالى قد غفر لجميعهم وأوجب لهم الجنة في كتابه محسنهم ومسيئهم فقلت له: في أي موضع أوجب لهم الجنة؟ فقال: سبحان الله ألا تقرأ قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ الآية فتعلم أنه تعالى أوجب لجميع أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم الجنة والرضوان وشرط على التابعين شرطا قلت: وما ذلك الشرط؟ قال: شرط عليهم أن يتبعوهم بإحسان وهو أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة ولا يقتدوا بهم في غير ذلك أو يقال: هو أن يتبعوهم بإحسان في القول وأن لا يقولوا فيهم سوءا وأن لا يوجهوا الطعن فيما أقدموا عليه، قال حميد بن زياد: فكأني ما قرأت هذه الآية قط، وعلى هذا تكون الآية متضمنة من فضل الصحابة رضي الله تعالى عنهم ما لم تتضمنه على التقدير الأول. واعترض القطب على التفاسير للسابقين من المهاجرين بأن الصلاة إلى القبلتين وشهود بدر وبيعة الرضوان مشتركة بين المهاجرين والأنصار. وأجيب بأن مراد من فسر تعيين سبقهم لصحبتهم ومهاجرتهم له صلّى الله عليه وسلم على من عداهم من ذلك القبيل. واختار الإمام أن المراد بالسابقين من المهاجرين السابقون في الهجرة ومن السابقين من الأنصار السابقون في النصرة وادعى أن ذلك هو الصحيح عنده، واستدل عليه بأنه سبحانه ذكر كونهم سابقين ولم يبين أنهم سابقون في ماذا فبقي اللفظ مجملا إلا أنه تعالى لما وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصارا علم أن المراد من السبق في الهجرة والنصرة إزالة للإجمال عن اللفظ، وأيضا كل واحدة من الهجرة والنصرة لكونه فعلا شاقا على النفس طاعة عظيمة فمن أقدم عليه أولا صار قدوة لغيره في هذه الطاعة وكان ذلك مقويا لقلب الرسول صلّى الله عليه وسلم وسببا لزوال الوحشة عن خاطره الشريف عليه الصلاة والسلام فلذلك أثنى الله تعالى على كل من كان سابقا إليهما وأثبت لهما ما أثبت، وكيف لا وهم آمنوا وفي عدد المسلمين في مكة والمدينة قلة وضعف فقوي الإسلام بسببهم وكثر عدد المسلمين بإسلامهم وقوي قلبه صلّى الله عليه وسلم بسبب دخولهم في الإسلام واقتداء غيرهم بهم فكان حالهم في ذلك كحال من سن سنة حسنة وفي الخبر «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» ولا يخفى أنه حسن. ويجوز عندي أن يراد بالسابقين الذين سبقوا إلى الإيمان بالله واليوم الآخر واتخاذ ما ينفقون قربات والقرينة على ذلك ظاهرة، وأيا ما كان فالسابقون مبتدأ خبره قوله تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أي بقبول طاعتهم وارتضاء أعمالهم وَرَضُوا عَنْهُ بما نالوه من النعم الجليلة الشأن. وجوز أبو البقاء أن يكون الخبر الْأَوَّلُونَ أو مِنَ الْمُهاجِرِينَ وأن يكون السَّابِقُونَ معطوفا على مَنْ يُؤْمِنُ أي ومنهم السابقون وما ذكرناه أظهر الوجوه. وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قرأ وَالْأَنْصارِ بالرفع على أنه معطوف على السابقون. وأخرج أبو عبيدة، وابن جرير، وابن المنذر، وغيرهم عن عمرو بن عامر الأنصاري أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يقرأ بإسقاط الواو من «والذين اتبعوهم» فيكون الموصول صفة الأنصار حتى قال له زيد: إنه بالواو فقال: ائتوني بأبيّ بن كعب فأتاه فسأله عن ذلك فقال: هي بالواو فتابعه. وأخرج أبو الشيخ عن أبي أسامة ومحمد بن إبراهيم التيمي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 9 قالا: مر عمر بن الخطاب برجل يقرأ «والذين» بالواو فقال: من أقرأك هذه؟ فقال: أبي فأخذ به إليه فقال: يا أبا المنذر أخبرني هذا أنك أقرأته هكذا قال أبي: صدق وقد تلقنتها كذلك من في رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال عمر: أنت تلقنتها كذلك من رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ فقال: نعم فأعاد عليه فقال في الثالثة وهو غضبان: نعم والله لقد أنزلها الله على جبريل عليه السلام وأنزلها جبريل على قلب محمد صلّى الله عليه وسلم ولم يستأمر فيها الخطاب ولا ابنه فخرج عمر رافعا يديه وهو يقول الله أكبر الله أكبر. وفي رواية أخرجها أبو الشيخ أيضا عن محمد بن كعب أن أبيّا رضي الله تعالى عنه: تصديق هذه الآية في أول وَآخَرِينَ مِنْهُمْ [الجمعة: 30] وفي أوسط وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ [الحشر: 10] وفي آخر وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ [الأنفال: 75] إلخ، ومراده رضي الله تعالى عنه أن هذه الآيات تدل على أن التابعين غير الأنصار، وفيها أن عمر رضي الله تعالى عنه قال: لقد كنت أرى أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا وأراد اختصاص السبق بالمهاجرين، وظاهر تقديم المهاجرين على الأنصار مشعر بأنهم أفضل منهم وهو الذي تدل عليه قصة السقيفة، وقد جاء في فضل الأنصار ما لا يحصى من الأخبار. ومن ذلك ما أخرجه الشيخان. وغيرهما عن أنس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:» آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار» . وأخرج الطبراني عن السائب بن يزيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قسم الفيء الذي أفاء الله تعالى بحنين في أهل مكة من قريش وغيرهم فغضب الأنصار فأتاهم فقال: «يا معشر الأنصار قد بلغني من حديثكم في هذه المغانم التي آثرت بها أناسا أتألفهم على الإسلام لعلهم أن يشهدوا بعد اليوم وقد أدخل الله تعالى قلوبهم الإسلام ثم قال: يا معشر الإسلام ألم يمن الله تعالى عليكم بالإيمان وخصكم بالكرامة وسماكم بأحسن الأسماء أنصار الله تعالى وأنصار رسوله عليه الصلاة والسلام ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ولو سلك الناس واديا وسلكتم واديا لسلكت واديكم أفلا ترضون أن يذهب الناس بهذه الغنائم البعير والشاء وتذهبون برسول الله؟ فقالوا: رضينا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أجيبوني فيما قلت. قالوا: يا رسول الله وجدتنا في ظلمة فأخرجنا الله بك إلى النور، وجدتنا على شفا حفرة من النار فأنقذنا الله بك، وجدتنا ضلالا فهدانا الله تعالى بك فرضينا بالله تعالى ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلّى الله عليه وسلم نبيا، فقال عليه الصلاة والسلام: لو أجبتموني بغير هذا القول لقلت: صدقتم لو قلتم ألم تأتنا طريدا فآويناك؟ ومكذبا فصدقناك؟ ومخذولا فنصرناك وقبلنا ما رد الناس عليك لصدقتم، قالوا: بل لله تعالى ولرسوله المن والفضل علينا وعلى غيرنا» فانظر كيف قال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وكيف أجابوه رضي الله تعالى عنهم وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ أي هيأ لهم ذلك في الآخرة. وقرأ ابن كثير من تحتها وأكثر ما جاء في القرآن موافق لهذه القراءة خالِدِينَ فِيها أَبَداً من غير انتهاء ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي الذي لا فوز وراءه، وما في ذلك من معنى البعد قيل لبيان بعد منزلتهم في الفضل وعظم الدرجة من مؤمني الأعراب، ولا يخفى أن هذا لا يكاد يصح إلا بتكلف ما إذا أريد من الذين اتبعوهم صنف آخر غير الصحابة لأن الظاهر أن مؤمني الأعراب صحابة ولا يفضل غير صحابي صحابيا كما يدل عليه قوله صلّى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» ، وقوله صلّى الله عليه وسلم: «أمتي كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره» من باب المبالغة. وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ شروع في بيان منافقي أهل المدينة ومن حولها من الأعراب بعد بيان حال أهل البادية منهم أي وممن حول بلدكم مُنافِقُونَ والمراد بالموصول كما أخرج ابن المنذر عن عكرمة: جهينة، ومزينة، وأشجع، وأسلم، وغفار، وكانت منازلهم حول المدينة، وإلى هذا ذهب جماعة من المفسرين كالبغوي، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 10 والواحدي، وابن الجوزي، وغيرهم. واستشكل ذلك بأن النبي صلّى الله عليه وسلم مدح هذه القبائل ودعا لبعضها. فقد أخرج الشيخان، وغيرهما عن أبي هريرة عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «قريش، والأنصار، وجهينة، ومزينة، وأشجع، وأسلم، وغفار موالي الله تعالى ورسوله لا موالي لهم غيره» وجاء عنه أيضا أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «أسلم سالمها الله تعالى وغفار غفر الله لها أما إني لم أقلها لكن قالها الله تعالى» . وأجيب بأن ذلك باعتبار الأغلب منهم وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عطف على مِمَّنْ حَوْلَكُمْ فيكون كالمعطوف عليه خبرا عن- المنافقون- كأنه قيل: المنافقون من قوم حولكم ومن أهل المدينة، وهو من عطف مفرد على مفرد ويكون قوله سبحانه: مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب مسوقة لبيان غلوهم في النفاق إثر بيان اتصافهم به أو صفة لمنافقون، واستبعده أبو حيان بأن فيه الفصل بين الصفة وموصوفها، وجوز أن يكون مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ خبر مقدم والمبتدأ بعده محذوف قامت صفته مقامه والتقدير ومن أهل المدينة قوم مردوا، وحذف الموصوف وإقامة صفته مقامه إذا كان بعض اسم مجرور بمن أوفى مقدم عليه مقيس شائع نحو- منا أقام ومنا ظعن. وفي غير ذلك ضرورة أو نادر، ومنه قول سحيم: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني على أحد التأويلات فيه، وأصل المرود على ما ذكره علي بن عيسى الملاسة ومنه صرح ممرد، والأمرد الذي لا شعر على وجهه، والمرداء الرملة التي لا تنبت شيئا، وقال ابن عرفة: أصله الظهور ومنه قولهم: شجرة مرداء إذا تساقط ورقها وأظهرت عيدانها، وفي القاموس مرد كنصر وكرم مرودا ومرودة ومرادة فهو مارد ومريد ومتمرد أقدم وعتا أو هو أن يبلغ الغاية التي يخرج بها من جملة ما عليه ذلك الصنف، وفسروه بالاعتياد والتدرب في الأمر حتى يصير ماهرا فيه وهو قريب مما ذكره في القاموس من بلوغ الغاية، ولا يكاد يستعمل إلا في الشر. وهو على الوجهين الأولين شامل للفريقين حسب شمول النفاق وعلى الوجه الأخير خاص بمنافقي أهل المدينة واستظهر ذلك، وقيل: إنه الأنسب بذكر منافقي أهل البادية أولا ثم ذكر منافقي الأعراب المجاورين ثم ذكر منافقي أهل المدينة ويبقى على هذا أنه لم يبين مرتبة المجاورين في النفاق بخلافه على تقدير شموله للفريقين ثم لا يخفى أن التمرد على النفاق إذا اقتضى الأشدية فيه أشكل عليه تفسيرهم المفضل في قوله سبحانه: الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً بأهل الحضر، ولعل المراد تفضيل المجموع على المجموع أو يلتزم عدم الاقتضاء. وقوله تعالى: لا تَعْلَمُهُمْ بيان لتمردهم أي لا تعرفهم أنت بعنوان نفاقهم يعني أنهم بلغوا من المهارة في النفاق والتنوق في مراعاة التقية والتحامي عن مواقع التهم إلى حيث يخفى عليك مع كمال فطنتك وصدق فراستك حالهم، وفي تعليق نفي العلم بهم مع أنه متعلق بحالهم مبالغة في ذلك وإيماء إلى أن ما هم عليه من صفة النفاق لعراقتهم ورسوخهم فيها صارت بمنزلة ذاتياتهم أو مشخصاتهم بحيث لا يعد من لا يعرفهم بتلك الصفة عالما بهم، ولا حاجة في هذا المعنى إلى حمل العلم على المتعدي لمفعولين وتقدير المفعول الثاني أي لا تعلمهم منافقين، وقيل: المراد لا تعرفهم بأعيانهم وإن عرفتهم إجمالا، وما ذكرناه لما فيه من المبالغة ما فيه أولى وحاصله لا تعرف نفاقهم نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ أي نعرفهم بذلك العنوان وإسناد العلم بمعنى المعرفة إليه تعالى مما لا ينبغي أن يتوقف فيه وإن وهم فيه من وهم لا سيما إذا خرج ذلك مخرج المشاكلة، وقد فسر العلم هنا بالمعرفة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما أخرجه عنه أبو الشيخ. نعم لا يمتنع حمله على معناه المتبادر كما لا يمتنع حمله على ذلك فيما تقدم لكنه محوج إلى التقدير وعدم التقدير أولى من التقدير. والجملة تقرير لما سبق من مهارتهم في النفاق أي لا يقف على سرائرهم المركوزة فيهم إلا ما لا تخفى عليه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 11 خافية لما هم عليه من شدة الاهتمام بإبطال الكفر وإظهار الإخلاص، وأمر تعليق العلم هنا كأمر تعليق نفيه فيما مر. واستدل بالآية على أنه لا ينبغي الإقدام على دعوى الأمور الخفية من أعمال القلب ونحوها. وقد أخرج عبد الرزاق وابن المنذر وغيرهما عن قتادة أنه قال: ما بال أقوام يتكلفون على الناس يقولون: فلان في الجنة وفلان في النار فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال: لا أدري لعمري أنت بنفسك أعلم منك بأعمال الناس ولقد تكلفت شيئا ما تكلفه نبي، قال نوح عليه السلام: وما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [الشعراء: 112] وقال شعيب عليه السلام: وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [الأنعام: 104، هود: 86] وقال الله تعالى لمحمد صلّى الله عليه وسلم: لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ وهذه الآيات ونحوها أقوى دليل على الرد على من يزعم الكشف والاطلاع على المغيبات بمجرد صفاء القلب وتجرد النفس عن الشواغل وبعضهم يتساهلون في هذا الباب جدا سَنُعَذِّبُهُمْ ولا بد لتحقيق المقتضى فيهم عادة مَرَّتَيْنِ أخرج ابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم جمعة خطيبا فقال قم يا فلان فاخرج فإنك منافق اخرج يا فلان فإنك منافق فأخرجهم بأسمائهم ففضحهم ولم يك عمر بن الخطاب شهد تلك الجمعة لحاجة كانت له فلقيهم وهم يخرجون من المسجد فاختبأ منهم استحياء أنه لم يشهد الجمعة وظن أن الناس قد انصرفوا واختبؤوا هم منه وظنوا أنه قد علم بأمرهم فدخل المسجد فإذا الناس لم ينصرف فقال له رجل: أبشر يا عمر فقد فضح الله تعالى المنافقين اليوم فهذا العذاب الأول والعذاب الثاني عذاب القبر» . وفي رواية ابن مردويه عن ابن مسعود الأنصاري أنه صلّى الله عليه وسلم أقام في ذلك اليوم وهو على المنبر ستة وثلاثين رجلا. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه فسر العذاب مرتين بالجوع والقتل، ولعل المراد به خوفه وتوقعه، وقيل: هو فرضي إذا أظهروا النفاق وفي رواية أخرى عنهم أنهم عذبوا بالجوع مرتين، وعن الحسن أن العذاب الأول أخذ الزكاة والثاني عذاب القبر، وعن ابن إسحاق أن الأول غيظهم من أهل الإسلام والثاني عذاب القبر. وعن ابن إسحاق أن الأول غيظهم من أهل الإسلام والثاني عذاب القبر، ولعل تكرير عذابهم لما فيهم من الكفر المشفوع بالنفاق المؤكد بالتمرد فيه. وجوز أن يراد بالمرتين التكثير كما في قوله تعالى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الملك: 4] لقوله سبحانه: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ [التوبة: 126] ثُمَّ يُرَدُّونَ يوم القيامة الكبرى إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ وهو عذاب النار، وتغيير الأسلوب على ما قيل بإسناد عذابهم السابق إلى نون العظمة حسب إسناد ما قبله من العلم وإسناد ردهم إلى العذاب اللاحق إلى أنفسهم إيذان باختلافهما حالا وأن الأول خاص بهم وقوعا وزمانا يتولاه الله سبحانه وتعالى والثاني شامل لعامة الكفرة وقوعا وزمانا وإن اختلفت طبقات عذابهم، ولا يخفى أنه إذا فسر العذاب العظيم بعذاب الدرك الأسفل من النار لم يكن شاملا لعامة الكفرة نعم هو شامل لعامة المنافقين فقط. وقد يقال: إن في بناء «يردون» لما لم يسم فاعله من التعظيم ما فيه فيناسب العذاب العظيم فلذا غير السبك إليه والله تعالى أعلم وَآخَرُونَ بيان لحال طائفة من المسلمين ضعيفة الهمم في أمر الدين ولم يكونوا منافقين على الصحيح. وقيل: هم طائفة من المنافقين إلا أنهم وفقوا للتوبة فتاب الله عليهم. قيل: وهو مبتدأ خبره جملة خَلَطُوا وهي حال بتقدير- قد- والخبر جملة عَسَى اللَّهُ إلخ، والمحققون على أنه معطوف على مُنافِقُونَ أي ومنهم يعني ممن حولكم أو من أهل المدينة قوم آخرون اعْتَرَفُوا أي أقروا عن معرفة بِذُنُوبِهِمْ التي هي تخلفهم عن الغزو وإيثار الدعة عليه والرضا بسوء جوار المنافقين ولم يعتذروا بالمعاذير الكاذبة المؤكدة بالإيمان الفاجرة وكانوا على ما أخرج البيهقي في الدلائل. وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عشرة تخلفوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في غزوة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 12 تبوك فلما حضر رجوع رسول الله صلّى الله عليه وسلم أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد وكان ممر النبي عليه الصلاة والسلام إذا رجع في المسجد عليهم فلما رآهم قال: من هؤلاء الموثقون أنفسهم؟ قالوا: هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك يا رسول الله وقد أقسموا أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: وأنا أقسم بالله تعالى لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله تعالى هو الذي يطلقهم فأنزل الله تعالى الآية فأرسل عليه الصلاة والسلام إليهم فأطلقهم وعذرهم. وفي رواية أخرى عنه أنهم كانوا ثلاثة، وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد أنهم كانوا ثمانية، وروي أنهم كانوا خمسة، والروايات متفقة على أن أبا لبابة بن عبد المنذر منهم خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً خروجا إلى الجهاد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم وَآخَرَ سَيِّئاً تخلفا عنه عليه الصلاة والسلام روي هذا عن الحسن، والسدي، وعن الكلبي أن الأول التوبة والثاني الإثم، وقيل: العمل الصالح يعم جميع البر والطاعة والسيّء ما كان ضده، والخلط المزج وهو يستدعي مخلوطا به والأول هنا هو الأول والثاني هو الثاني عند بعض، والواو بمعنى الباء كما نقل عن سيبويه في قولهم: بعت الشاء شاة ودرهما، وهو من باب الاستعارة لأن الباء للإلصاق والواو للجمع وهما من واد واحد، ونقل شارح اللباب عن ابن الحاجب أن أصل المثال بعت الشاء شاة بدرهم أي مع درهم ثم كثر ذلك فأبدلوا من باء المصاحبة واوا فوجب أن يعرب ما بعدها بإعراب ما قبلها كما في قولهم: كل رجل وضيعته، ولا يخفى ما فيه من التكلف. وذكر الزمخشري أن كل واحد من المتعاطفين مخلوط ومخلوط به لأن المعنى خلط كل واحد منهما بالآخر كقولك: خلطت الماء واللبن تريد خلطت كل واحد منهما بصاحبه، وفيه ما ليس في قولك: خلطت الماء باللبن لأنك جعلت الماء مخلوطا واللبن مخلوطا به وإذا قلته بالواو جعلت الماء واللبن مخلوطين ومخلوطا بهما كأنك قلت خلطت الماء واللبن بالماء، وحاصله أن المخلوط به في كل واحد من الخلطين هو المخلوط في الآخر لأن الخلط لما اقتضى مخلوطا به فهو أما الآخر أو غيره والثاني منتف بالأصل والقرينة لدلالة سياق الكلام إذا قيل: خلطت هذا وذاك على أن كلّا منهما مخلوط ومخلوط به وهو أبلغ من أن يقال خلطت أحدهما بالآخر إذ فيه خلط واحد وفي الواو خلطان. واعترض بأن خلط أحدهما بالآخر يستلزم خلط الآخر به ففي كل من الواو والباء خلطان فلا فرق، وأجيب بأن الواو تفيد الخلطين صريحا بخلاف الباء فالفرق متحقق، وفيه تسليم حديث الاستلزام ولا يخفى أن فيه خلطا حيث لم يفرق فيه بين الخلط والاختلاط، والحق أن اختلاط أحد الشيئين بالآخر مستلزم لاختلاط الآخر به وأما خلط أحدهما بالآخر فلا يستلزم خلط الآخر به لأن خلط الماء باللبن مثلا معناه أن يقصد الماء أولا أو يجعل مخلوطا باللبن وظاهر أنه لا يستلزم أن يقصد اللبن أولا بل ينافيه، فعلى هذا معنى خلط العمل الصالح بالسيىء أنهم أتوا أولا بالصالح ثم استعقبوه سيئا ومعنى خلط السيّء بالصالح أنهم أتوا أولا بالسيىء ثم أردفوه بالصالح، وإلى هذا يشير كلام السكاكي حيث جعل تقدير الآية خلطوا عملا صالحا بسيىء وآخر سيئا بصالح أي تارة أطاعوا وأحبطوا الطاعة بكبيرة وأخرى عصوا وتداركوا المعصية بالتوبة وهو ظاهر في أن العمل الصالح والسيّء في أحد الخلطين غيرهما في الخلط الآخر، وكلام الزمخشري ظاهر في اتحادهما وفيه ما فيه، ولذلك رجح ما ذهب إليه السكاكي لكن ما ذكره من الإحباط ميل إلى مذهب المعتزلة، وادعى بعضهم أن ما في الآية نوع من البديع يسمى الاحتباك والأصل خلطوا عملا صالحا بآخر سيىء وخلطوا آخر سيئا بعمل صالح هو خلاف الظاهر. واستظهر ابن المنير كون الخلط مضمنا معنى العمل والعدول عن الباء لذلك كأنه قيل: عملوا عملا صالحا وآخر سيئا، وأنا أختار أن الخلط بمعنى الجمع هنا وإذا اعتبر السياق وسبب النزول يكون المراد من العمل الصالح الجزء: 6 ¦ الصفحة: 13 الاعتراف بالذنوب من التخلف عن الغزو وما معه ومن السيّء تلك الذنوب أنفسها ويكون المقصود بالجمع المتوجه إليه أولا بالضم هو الاعتراف، والتعبير عن ذلك بالخلط للإشارة إلى وقوع ذلك الاعتراف على الوجه الكامل حتى كأنه تخلل الذنوب وغير صفتها، وإذا لم يعتبر سبب النزول يجوز أن يراد من العمل الصالح الاعتراف بالذنوب مطلقا ومن السيّء الذنوب كذلك وتمام الكلام بحاله، ويجوز أن يراد من العمل الصالح والسيّء ما صدر من الأعمال الحسنة والسيئة مطلقا، ولعل المتوجه إليه أولى على هذا أيضا ليجمع العمل الصالح إذ بضمه يفتح باب الخير ففي الخبر «أتبع السيئة بالحسنة تمحها» ، وقد حمل بعضهم الحسنة فيه على مطلقها، وأخرج ابن سعد عن الأسود بن قيس قال: لقي الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما يوما حبيب ابن مسلمة فقال: يا حبيب رب مسير لك في غير طاعة الله تعالى فقال: أما مسيري إلى أبيك فليس من ذلك قال: بلى ولكنك أطعت معاوية على دنيا قليلة زائدة فلئن قام بك في دنياك فلقد قعد بك في دينك ولو كنت إذ فعلت شرا فعلت خيرا كان ذلك كما قال الله تعالى: خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً ولكنك كما قال الله تعالى: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين: 14] والتعبير بالخلط حينئذ يمكن أن يكون لما في ذلك من التغيير أيضا، وربما يراد بالخلط مطلق الجمع من غير اعتبار أولية في البين والتعبير بالخلط لعله لمجرد الإيذان بالتخلل فإن الجمع لا يقتضيه، ويشعر بهذا الحمل ما أخرجه أبو الشيخ والبيهقي عن مطرف قال: إني لأستلقي من الليل على فراشي وأتدبر القرآن فأعرض أعمالي على أعمال أهل الجنة فإذا أعمالهم شديدة كانوا قليلا من الليل ما يهجعون يبيتون لربهم سجّدا وقياما أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما فلا أراني منهم فأعرض نفسي على هذه الآية ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [المدثر: 42، 43] إلى قوله سبحانه: نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [المدثر: 46] فأرى القوم مكذبين فلا أراني فيهم فأمر بهذه الآية وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ إلخ وأرجو أن أكون أنا وأنتم يا إخوتاه منهم، وكذا ما أخرجاه وغيرهما عن أبي عثمان النهدي قال: ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من قوله سبحانه: وَآخَرُونَ إلخ والظاهر أنه لم يفهم منها صدور التوبة من هؤلاء الآخرين بل ثبت لهم الحكم المفهوم من قوله سبحانه: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ مطلقا وإلا فهي وكثير من الآيات التي في هذا الباب سواء وأرجى منها عندي قوله تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر: 53] والمشهور أن الآية يفهم منها ذلك لأن التوبة من الله سبحانه بمعنى قبول التوبة وهو يقتضي صدورها عنهم فكأنه قيل: وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فتابوا عسى إلخ. وجعل غير واحد الاعتراف دالا على التوبة ولعل ذلك لما بينهما من اللزوم عرفا، وقال الشهاب: لأنه توبة إذا اقترن بالندم والعزم على عدم العود، وفيه أن هذا قول بالعموم والخصوص وقد ذكروا أن العام لا يدل على الخاص بإحدى الدلالات الثلاث، وكلمة عَسَى للأطماع وهو من أكرم الأكرمين إيجاب وأي إيجاب، وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تعليل لما أفادته من وجوب القبول، وليس هو الوجوب الذي يقوله المعتزلة كما لا يخفى أي إنه تعالى كثير المغفرة والرحمة يتجاوز عن التائب ويتفضل عليه خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً أخرج غير واحد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم لما انطلقوا أطلقوا فجاؤوا بأموالهم فقالوا: يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا واستغفر لنا فقال عليه الصلاة والسلام: ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا فنزلت الآية فأخذ صلّى الله عليه وسلم منها الثلث كما جاء في بعض الروايات، فليس المراد من الصدقة الصدقة المفروضة أعني الزكاة لكونها مأمورا بها وإنما هي على ما قيل كفارة لذنوبهم حسبما ينبىء عنه قوله عز وجل: تُطَهِّرُهُمْ أي عما تلطخوا به من أوضار التخلف. وعن الجبائي أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 14 المراد بها الزكاة وأمر صلّى الله عليه وسلم بأخذها هنا دفعا لتوهم إلحاقهم ببعض المنافقين فإنها لم تكن تقبل منه كما علمت وأمر التطهير سهل، وأيا ما كان فضمير أموالهم لهؤلاء المعترفين، وقيل: إنه على الثاني راجع لأرباب الأموال مطلقا، وجمع الأموال للإشارة إلى أن الأخذ من سائر أجناس المال، والجار والمجرور متعلق بخذ ويجوز أن يتعلق بمحذوف وقع حالا من صَدَقَةً والتاء في تُطَهِّرُهُمْ للخطاب. وقرىء بالجزم على أنه جواب الأمر والرفع على أن الجملة حال من فاعل خُذْ أو صفة لصدقة بتقدير بها لدلالة ما بعده عليه أو مستأنفة كما قال أبو البقاء، وجوز على احتمال الوصفية أن تكون التاء للغيبة وضمير المؤنث للصدقة فلا حاجة بنا إلى بها. وقرىء تطهرهم من أطهره بمعنى طهره وَتُزَكِّيهِمْ بِها بإثبات الياء وهو خبر مبتدأ محذوف والجملة حال من الضمير في الأمر أو في جوابه وقيل استئناف أي وأنت تزكيهم بها أي تنمي بتلك الصدقة حسناتهم وأموالهم أو تبالغ في تطهيرهم، وكون المراد ترفع منازلهم من منازل المنافقين إلى منازل الأبرار المخلصين ظاهر في أن القوم كانوا منافقين والمصحح خلافه، هذا على قراءة الجزم في تُطَهِّرُهُمْ وأما على قراءة الرفع فتزكيهم عطف عليه، وظاهر ما في الكشاف يدل على أن التاء هنا للخطاب لا غير لقوله سبحانه: بِها والحمل على أن الصدقة تزكيهم بنفسها بعيد عن فصاحة التنزيل. وقرأ مسلمة ابن محارب «تزكهم» بدون الياء وَصَلِّ عَلَيْهِمْ أي ادع لهم واستغفر، وعدي الفعل بعلى لما فيه من معنى العطف لأنه من الصلوين، وإرادة المعنى اللغوي هنا هو المتبادر، والحمل على صلاة الميت بعيد وإن روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ولذا استدل بالآية على استحباب الدعاء لمن يتصدق، واستحب الشافعي في صفته أن يقول للمتصدق آجرك الله فيما أعطيت وجعله لك طهورا وبارك لك فيما أبقيت. وقال بعضهم: يجب على الإمام الدعاء إذا أخذ، وقيل: يجب في صدقة الفرض ويستجب في صدقة التطوع، وقيل: يجب على الإمام ويستحب للفقير وألحق الاستحباب مطلقا إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ تعليل للأمر بالصلاة، والسكن السكون وما تسكن النفس إليه من الأهل والوطن مثلا وعلى الأول جعل الصلاة نفس السكن، والاطمئنان مبالغة وعلى الثاني يكون المراد تشبيه صلاته عليه الصلاة والسلام في الالتجاء إليها بالسكن والأول أولى أي إن دعاءك تسكن نفوسهم إليه وتطمئن قلوبهم به إلى الغاية ويثقون بأنه سبحانه قبلهم. وقرأ غير واحد من السبعة «صلواتك» بالجمع مراعاة لتعدد المدعو لهم وَاللَّهُ سَمِيعٌ يسمع الاعتراف بالذنب والتوبة والدعاء عَلِيمٌ بما في الضمائر من الندم والغم لما فرط وبالإخلاص في التوبة والدعاء أو سميع يجيب دعاءك لهم عليم بما تقتضيه الحكمة، والجملة حينئذ تذييل للتعليل مقرر لمضمونه وعلى الأول تذييل لما سبق من الآيتين وحقق لما فيهما أَلَمْ يَعْلَمُوا الضمير إما للمتوب عليهم والمراد تمكين قبول توبتهم في قلوبهم والاعتداد بصدقاتهم وإما لغيرهم والمراد التحضيض على التوبة والصدقة والترغيب فيهما. وقرىء تعلموا بالتاء وهو على الأول التفات وعلى الثاني بتقدير قل، وجوز أن يكون الضمير للتائبين وغيرهم على أن يكون المقصود التمكين والتحضيض لا غير، واختار بعضهم كونه للغير لا غير لما روي أنه لما نزلت توبة هؤلاء التائبين قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين هؤلاء كانوا معنا بالأمس لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم اليوم فنزلت، ويشعر صنيع الجمهور باختيار الأول وهو الذي يقتضيه سياق الآية، والخبر لم نقف على سند له يعول عليه أي ألم يعلم هؤلاء التائبون أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ الصحيحة الخالصة عَنْ عِبادِهِ المخلصين فيها، وتعدية القبول بعن لتضمنه معنى التجاوز والعفو أي يقبل ذلك متجاوزا عن ذنوبهم التي تابوا عنها، وقيل: عن بمعنى من والضمير إما للتأكيد أوله مع التخصيص بمعنى أن الله سبحانه يقبل التوبة لا غيره أي أنه تعالى يفعل ذلك البتة لما قرر أن ضمير الجزء: 6 ¦ الصفحة: 15 الفصل يفيد ذلك والخبر المضارع من مواقعه، وجعل بعضهم التخصيص بالنسبة إلى الرسول صلّى الله عليه وسلم أي إنه جل وعلا يقبل التوبة لا رسوله عليه الصلاة والسلام لأن كثرة رجوعهم إليه مظنة لتوهم ذلك، والمراد بالعباد إما أولئك التائبون ووضع الظاهر موضع الضمير للإشعار بعلية ما يشير إليه القبول وإما كافة العباد وهم داخلون في ذلك دخولا أوليا وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ أي يقبلها قبول من يأخذ شيئا ليؤدي بدله فالأخذ هنا استعارة للقبول، وجوز أن يكون إسناد الأخذ إلى الله تعالى مجازا مرسلا، وقيل: نسبة الأخذ إلى الرسول في قوله سبحانه: خُذْ ثم نسبته إلى ذاته تعالى إشارة إلى أن أخذ الرسول عليه الصلاة والسلام قائم مقام أخذ الله تعالى تعظيما لشأن نبيه صلّى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: 10] فهو على حقيقته وهو معنى حسن إلا أن في دعوى الحقيقة ما لا يخفى، والمختار عندي أن المراد بأخذ الصدقات الاعتناء بأمرها ووقوعها عنده سبحانه موقعا حسنا، وفي التعبير به ما لا يخفى من الترغيب. وقد أخرج عبد الرزاق عن أبي هريرة أن الله تعالى يقبل الصدقة إذا كانت من طيب ويأخذها بيمينه وأن الرجل ليتصدق بمثل اللقمة فيربيها له كما يربي أحدكم فصيله أو مهره فتربو في كف الله تعالى حتى تكون مثل أحد. وأخرج الدارقطني في الافراد عن ابن عباس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم تصدقوا فإن أحدكم يعطي اللقمة أو الشيء فيقع في يد الله عز وجل قبل أن يقع في يد السائل ثم تلا هذه الآية» . وفي بعض الروايات ما يدل على أنه ليس هناك أخذ حقيقة، فقد أخرج ابن المنذر وغيره عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده ما من عبد يتصدق بصدقة طيبة من كسب طيب ولا يقبل الله تعالى إلا طيبا ولا يصعد إلى السماء إلا طيب فيضعها في حق إلا كانت كأنما يضعها في يد الرحمن فيربيها له كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى إن اللقمة أو التمرة لتأتي يوم القيامة مثل الجبل العظيم» . وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى ألم يعلموا أن الله يقبل التوبة الآية. و «أل» في الصدقات يحتمل أن تكون عوضا عن المضاف إليه أي صدقاتهم وأن تكون للجنس أي جنس الصدقات المندرج فيه صدقاتهم اندراجا أوليا وهو الذي يقتضيه ظاهر الأخبار وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ تأكيد لما عطف عليه وزيادة تقرير لما يقرره مع زيادة معنى ليس فيه أي ألم يعلموا أنه سبحانه المختص المتأثر ببلوغ الغاية القصوى من قبول التوبة والرحمة وذلك شأن من شؤونه وعادة من عوائده المستمرة، وقيل غير ذلك، والجملتان في حيز النصب بيعلموا يسد كل واحدة منهما مسد مفعولية وَقُلِ اعْمَلُوا ما تشاؤون من الأعمال فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ خيرا كان أو شرا، والجملة تعليل لما قبله أو تأكيد لما يستفاد منه من الترغيب والترهيب والسين للتأكيد كما قررنا أي يرى الله تعالى البتة وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ عطف على الاسم الجليل، والتأخير عن المفعول للإشعار بما بين الرؤيتين من التفاوت، والمراد من رؤية العمل عند جمع الاطلاع عليه وعلمه علما جليا، ونسبة ذلك للرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين باعتبار أن الله تعالى لا يخفى ذلك عنهم ويطلعهم عليه إما بالوحي أو بغيره. وأخرج أحمد وابن أبي الدنيا في الإخلاص عن أبي سعيد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لأخرج الله تعالى عمله للناس كائنا ما كان» وتخصيص الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين بالذكر على هذا لأنهم الذين يعبأ المخاطبون باطلاعهم، وفسر بعضهم المؤمنين بالملائكة الذين يكتبون الأعمال وليس بشيء، ومثله بل أدهى وأمرّ ما زعمه بعض الإمامية أنهم الأئمة الطاهرون ورووا أن الأعمال تعرض عليهم في كل اثنين وخميس بعد أن تعرض على النبي صلّى الله عليه وسلم. وجوز بعض المحققين أن يكون العلم هنا كناية عن المجازاة ويكون ذلك خاصا بالدنيوي من إظهار المدح الجزء: 6 ¦ الصفحة: 16 والإعزاز مثلا وليس بالرديء، وقيل: يجوز إبقاء الرؤية على ما يتبادر منها، وتعقب بأن فيه التزام القول برؤية المعاني وهو تكلف وإن كان بالنسبة إليه تعالى غير بعيد، وأنت تعلم أن من الأعمال ما يرى عادة كالحركات ولا حاجة فيه إلى حديث الالتزام المذكور على أن ذلك الالتزام في جانب المعطوف لا يخفى ما فيه. وأخرج ابن أبي شيبة، وغيره عن سلمة بن الأكوع أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قرأ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ أي فسيظهره وَسَتُرَدُّونَ أي بعد الموت إِلى عالِمِ الْغَيْبِ ومنه ما سترونه من الأعمال وَالشَّهادَةِ ومنها ما تظهرونه، وفي ذكر هذا العنوان من تهويل الأمر وتربية المهابة ما لا يخفى. فَيُنَبِّئُكُمْ بعد الرد الذي هو عبارة عن الأمر الممتد بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ قبل ذلك في الدنيا والإنباء مجاز عن المجازاة أو كناية أي يجازيكم حسب ذلك إن خيرا فخير وإن شرا فشر ففي الآية وعد ووعيد. وَآخَرُونَ عطف على آخرون قبله أي ومنهم قوم آخرون غير المعترفين المذكورين مُرْجَوْنَ أي مؤخرون وموقوف أمرهم لِأَمْرِ اللَّهِ أي إلى أن يظهر أمر الله تعالى في شأنهم. وقرأ أهل المدينة والكوفة غير أبي مُرْجَوْنَ بغير همز والباقون «مرجئون» بالهمز وهما لغتان يقال: أرجأته وأرجيته كأعطيته، ويحتمل أن تكون الياء بدلا من الهمزة كقولهم: قرأت وقريت وتوضأت وتوضيت وهو في كلامهم كثير، وعلى كونه لغة أصلية هو يائي، وقيل: إنه واوي، ومن هذه المادة المرجئة إحدى فرق أهل القبلة وقد جاء فيه الهمز وتركه، وسموا بذلك لتأخيرهم المعصية عن الاعتبار في استحقاق العذاب حيث قالوا: لا عذاب مع الإيمان فلم يبق للمعصية عندهم أثر، وفي المواقف سموا مرجئة لأنهم يرجون العمل عن النية أي يؤخرونه في الرتبة عنها وعن الاعتقاد، أو لأنهم يعطون الرجاء في قولهم: لا يضر مع الإيمان معصية انتهى. وعلى التفسيرين الأولين يحتمل أن يكون بالهمز وتركه، وأما على الثالث فينبغي أن يقال مرجئة بفتح الراء وتشديد الجيم، والمراد بهؤلاء المرجون كما في الصحيحين هلال بن أمية وكعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهو المروي عن ابن عباس وكبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وكانوا قد تخلفوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأمر ما مع الهم باللحاق به عليه الصلاة والسلام فلم يتيسر لهم ولم يكن تخلفهم عن نفاق وحاشاهم فقد كانوا من المخلصين فلما قدم النبي صلّى الله عليه وسلم وكان ما كان من المتخلفين قالوا: لا عذر لنا إلا الخطيئة ولم يعتذروا له صلّى الله عليه وسلم ولم يفعلوا كما فعل أهل السواري وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم باجتنابهم وشدد الأمر عليهم كما ستعلمه إن شاء الله تعالى إلى أن نزل قوله سبحانه: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ [التوبة: 117] إلخ، وقد وقف أمرهم خمسين ليلة لا يدرون ما الله تعالى فاعل بهم إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ في موضع الحال أي منهم هؤلاء إما معذبين وأما متوبا عليهم. وقيل: خبر آخَرُونَ على أنه مبتدأ ومُرْجَوْنَ صفته، والأول أظهر، وإما للتنويع على معنى أن أمرهم دائر بين هذين الأمرين، وقيل: للترديد بالنظر للفساد والمعنى ليكن أمرهم عندكم بين الرجاء والخوف، والمقصود تفويض ذلك إلى إرادة الله تعالى ومشيئته إذ لا يجب عليه سبحانه تعذيب العاصي ولا مغفرة التائب وإنما شدد عليهم مع إخلاصهم، والجهاد فرض كفاية لما نقل عن ابن بطال في الروض الآنف وارتضاه أن الجهاد كان على الأنصار خاصة فرض عين لأنهم بايعوا النبي صلّى الله عليه وسلم، ألا ترى قول راجزهم في الخندق: نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا وهؤلاء من أجلّتهم فكان تخلفهم كبيرة، وروي عن الحسن أن هذه الآية في المنافقين وحينئذ لا يراد بالآخرين من ذكرنا لأنهم من علمت بل يراد به آخرون منافقون، وعلى هذا ينبغي أن يكون قول من قال في إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ أي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 17 إن أصروا على النفاق. وقد علمت أن ذلك خلاف ما في الصحيحين. وحمل النفاق في كلام القائل على ما يشبهه بعيد ودعوى بلا دليل وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوالهم حَكِيمٌ فيما فعل بهم من الإرجاء وفي قراءة عبد الله «غفور رحيم» وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً عطف على ما سبق أي ومنهم الذين، وجوز أن يكون مبتدأ خبره أَفَمَنْ أَسَّسَ والعائد محذوف للعلم به أي منهم أو الخبر محذوف أي فيمن وصفنا، وأن يكون منصوبا بمقدار كأذم وأعني. وقرأ نافع وابن عامر بغير واو، وفيه الاحتمالات السابقة إلا العطف، وأن يكون بدلا من «آخرون» على التفسير المرجوح، وقوله سبحانه: ضِراراً مفعول له وكذا ما بعده وقيل: مصدر في موضع الحال أو مفعول ثان لاتخذوا على أنه بمعنى صيروا أو مفعول مطلق لفعل مقدر أي يضارون بذلك المؤمنين ضرارا، والضرار طلب الضرر ومحاولته، أخرج ابن جرير. وغيره عن ابن عباس أن جماعة من الأنصار قال لهم أبو عامر: ابنوا مسجدا واستمدوا ما استطعتم من قوة وسلاح فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم فأخرج محمدا عليه الصلاة والسلام وأصحابه فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلّى الله عليه وسلم فقالوا: قد فرغنا من بناء مسجدنا فنحب أن تصلي فيه وتدعو بالبركة فنزلت. وأخرج ابن إسحاق وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال أتى أصحاب مسجد الضرار رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا: يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه فقال صلّى الله عليه وسلم: إني على جناح سفر وحال شغل أو كما قال عليه الصلاة والسلام ولو قدمنا إن شاء الله تعالى لآتيناكم فصلينا لكم فيه فلما رجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم من سفره ونزل بذي أوان بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار أتاه خبر المسجد فدعا مالك بن الدخشم أخا بني سالم بن عوف ومعن بن عدي وأخاه عاصم ابن عدي أحد بلعجان فقال: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وأحرقاه فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم ابن عوف وهم رهط مالك فقال مالك لصاحبه: أنظرني حتى أخرج لك بنار من أهلي فدخل إلى أهله فأخذ سعفا من النخل فأشعل فيه نارا ثم خرجا يشتدان حتى دخلاه وفيه أهله فأحرقاه وهدماه وتفرقوا عنه ونزل فيهم من القرآن ما نزل وكان البانون له اثني عشر رجلا: خذام بن خالد من بني عبيد بن زيد أحد بني عمرو بن عوف ومن داره أخرج المسجد. وعباد بن حنيف من بني عمرو بن عوف أيضا وثعلبة بن حاطب، ووديعة بن ثابت وهما من بني أمية بن زيد رهط أبي لبابة بن عبد المنذر، ومعتب بن قشير، وأبو حبيبة بن الأزعر، وحارثة بن عامر، وابناه مجمع، وزيد، ونبيل بن الحارث، ونجاد بن عثمان، وبجدح من بني ضبيعة. وذكر البغوي من حديث ذكره الثعلبي- كما قال العراقي- بدون سند «أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر بعد حرق المسجد وهدمه أن يتخذ كناسة يلقي فيها الجيف والنتن والقمامة إهانة لأهله لما أنهم اتخذوه ضرارا وَكُفْراً أي وليكفروا فيه، وقدر بعضهم التقوية أي وتقوية الكفر الذي يضمرونه، وقيل عليه: إن الكفر يصلح علة فما الحاجة إلى التقدير. واعتذر بأنه يحتمل أن يكون ذلك لما أن اتخاذه ليس بكفر بل مقولة لما اشتمل عليه فتأمل وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وهم كما قال السدي أهل قباء فإنهم كانوا يصلون في مسجدهم جميعا فأراد هؤلاء حسدا أن يتفرقوا وتختلف كلمتهم وَإِرْصاداً أي ترقبا وانتظارا لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وهو أبو عامر والد حنظلة غسيل الملائكة رضي الله تعالى عنه، وكان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح وتنصر فلما قدم النبي صلّى الله عليه وسلم: المدينة قال له أبو عامر: ما هذا الدين الذي جئت به؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: الحنيفية البيضاء دين إبراهيم عليه السلام قال: فأنا عليها فقال له عليه الصلاة والسلام: إنك لست عليها فقال: بلى ولكنك أنت أدخلت فيها ما ليس منها فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: ما فعلت ولكن جئت بها بيضاء نقية فقال أبو عامر: أمات الله تعالى الكاذب منا طريدا وحيدا فأمن النبي صلّى الله عليه وسلم فسماه الناس أبا عامر الكذاب وسماه النبي صلّى الله عليه وسلم الفاسق فلما كان يوم أحد قال للنبي صلّى الله عليه وسلم: لا أجد قوما يقاتلونك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 18 إلا قاتلتك معهم فلم يزل كذلك إلى يوم حنين فلما انهزمت هوازن يومئذ ولى هاربا إلى الشام وأرسل إلى المنافقين يحثهم على بناء مسجد كما ذكرنا آنفا عن الحبر فبنوه وبقوا منتظرين قدومه ليصلي فيه ويظهر على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فهدم كما مر ومات أبو عامر وحيدا بقنسرين وبقي ما أضمروه حسرة في قلوبهم. مِنْ قَبْلُ متعلق بحارب أي حارب الله ورسوله عليه الصلاة والسلام قبل هذا الاتخاذ أو متعلق باتخذوا أي اتخذوه من قبل أن ينافقوا بالتخلف حيث كانوا بنوه قبل غزوة تبوك كما سمعت، والمراد المبالغة في الذم وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا أي ما أردنا ببناء هذا المسجد إِلَّا الْحُسْنى أي إلا الخصلة الحسنى وهي الصلاة وذكر الله تعالى والتوسعة على المصلين، فالحسنى تأنيث الأحسن وهو في الأصل صفة الخصلة وقد وقع مفعولا به لأردنا، وجوز أن يكون قائما مقام مصدر محذوف أي الإرادة الحسنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فيما حلفوا عليه لا تَقُمْ أي للصلاة فِيهِ أي في ذلك المسجد أَبَداً وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير لا تَقُمْ بلا تصل على أن القيام مجاز عن الصلاة كما في قولهم: فلان يقوم الليل، وفي الحديث «من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له» لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ أي بني أساسه عَلَى التَّقْوى أي تقوى الله تعالى وطاعته، وعَلَى على ما يتبادر منها، ولا يخفى ما في جعل التقوى وهي- هي- أساسا من المبالغة، وقيل: إنها بمعنى مع، وقيل: للتعليل لاعتباره فيما تقدم من الاتخاذ، واللام إما للابتداء أو للقسم أي والله لمسجد. وعلى التقديرين فمسجد مبتدأ والجملة بعده صفته، وقوله تعالى: مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ متعلق بأسس ومِنْ لابتداء الزمان على ما هو الظاهر، وفي ذلك دليل للكوفيين في أنها تكون للابتداء مطلقا ولا تتقيد بالمكان، وخالف في ذلك البصريون ومنعوا دخولها على الزمان وخصوه بمذ ومنذ وتأولوا الآية بأنها على حذف مضاف أي من تأسيس أول يوم. وتعقبه الزجاج وتبعه أبو البقاء بأن ذلك ضعيف لأن التأسيس المقدر ليس بمكان حتى تكون- من- لابتداء الغاية فيه. وأجيب بأن مرادهم من التأويل الفرار من كونها لابتداء الغاية في الزمان وقد حصل بذلك التقدير، وليس في كلامهم ما يدل على أنها لا تكون لابتداء الغاية إلا في المكان، وقال الرضي: لا أرى في الآية ونظائرها معنى الابتداء إذ المقصود منه أن يكون الفعل شيئا ممتدا كالسير والمشي ومجرور- من- منه الابتداء نحو سرت من البصرة أو يكون أصلا لشيء ممتد نحو خرجت من الدار إذ الخروج ليس ممتدا وليس التأسيس ممتدا ولا أصلا لممتد بل هما حدثان واقعان فيما بعد مِنْ وهذا معنى في، ومِنْ في الظروف كثيرا ما تقع بمعنى في انتهى. وفي كون التأسيس ليس أصلا لممتد منع ظاهر. نعم ذهب إلى احتمال الظرفية العلامة الثاني وله وجه وحينئذ يبطل الاستدلال ولا يكون في الآية شاهد للكوفيين، والحق أن كثيرا من الآيات، وكلام العرب يشهد لهم والتزام تأويل كل ذلك تكلف لا داعي إليه، وقوله تعالى: أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ خبر المبتدأ وأَحَقُّ أفعل تفضيل والمفضل عليه كل مسجد أو مسجد الضرار على الفرض والتقدير أو هو على زعمهم، وقيل: إنه بمعنى حقيق أي حقيق ذلك المسجد بأن تصلي فيه، واختلف في المراد منه. فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والضحاك أنه مسجد قباء وقد جاءت أخبار في فضل الصلاة فيه. فأخرج ابن أبي شيبة والترمذي. والحاكم وصححه وابن ماجة عن أسيد بن ظهير عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «صلاة في مسجد قباء كعمرة» قال الترمذي: لا نعرف لأسيد هذا شيئا يصح غير هذا الحديث، وفي معناه ما أخرجه أحمد والنسائي عن سهل بن حنيف. وأخرج ابن سعد عن ظهير بن رافع الحارثي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «من صلى في مسجد قباء يوم الاثنين والخميس انقلب بأجر عمرة» وذهب جماعة إلى أنه مسجد المدينة مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، واستدلوا بما أخرجه مسلم، والترمذي، وابن جرير، والنسائي وغيرهم عن أبي سعيد الخدري قال: اختلف رجلان في المسجد الذي أسس الجزء: 6 ¦ الصفحة: 19 على التقوى. فقال أحدهما: هو مسجد قباء، وقال الآخر: هو مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فسألاه عن ذلك فقال: هو هذا المسجد لمسجده صلّى الله عليه وسلم وقال: في ذلك خير كثير يعني مسجد قباء. وجاء في عدة روايات أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن ذلك فقال: هو مسجدي هذا، وأيد القول الأول بأنه الأوفق بالسباق واللحاق وبأنه بني قبل مسجد المدينة، وجمع الشريف السمهودي بين الأخبار وسبقه إلى ذلك السهيلي وقال: كل من المسجدين مراد لأن كلا منهما أسس على التقوى من أول يوم تأسيسه، والسر في إجابته صلّى الله عليه وسلم السؤال عن ذلك بما في الحديث دفع ما توهمه السائل من اختصاص ذلك بمسجد قباء والتنويه بمزية هذا على ذلك، ولا يخفى بعد هذا الجمع فإن ظاهر الحديث الذي أخرجه الجماعة عن أبي سعيد الخدري بمراحل عنه، ولهذا اختار بعض المحققين القول الثاني وأيده بأن مسجد النبي صلّى الله عليه وسلم أحق بالوصف بالتأسيس على التقوى من أول يوم وبأن التعبير بالقيام عن الصلاة في قوله سبحانه: أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ يستدعي المداومة، ويعضده توكيد النهي بقوله تعالى: أَبَداً ومداومة الرسول عليه الصلاة والسلام لم توجد إلا في مسجده الشريف عليه الصلاة والسلام. وأما ما رواه الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة من أن قوله جل وعلا: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا نزلت في أهل قباء وكانوا يستنجون بالماء فهو لا يعارض نص رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وأما ما رواه ابن ماجه عن أبي أيوب، وجابر، وأنس من أن هذه الآية لما نزلت قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يا معشر الأنصار إن الله تعالى قد أثنى عليكم خيرا في الطهور فما طهوركم هذا؟ قالوا: نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة قال: فهل مع ذلك غير؟ قالوا: لا غير إن أحدنا إذا خرج إلى الغائط أحب أن يستنجي بالماء. قال عليه الصلاة والسلام: هو ذاك فعليكموه» فلا يدل على اختصاص أهل قباء ولا ينافي الحمل على أهل مسجده صلّى الله عليه وسلم من الأنصار، وأنا أقول: قد كثرت الأخبار في نزول هذه الآية في أهل قباء. فقد أخرج أحمد، وابن خزيمة، والطبراني، وابن مردويه. والحاكم عن عويم بن ساعدة الأنصاري أن النبي صلّى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال: «إن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم فما هذا الطهور الذي تطهرون به؟ فذكروا أنهم كانوا يغسلون أدبارهم من الغائط» . وأخرج أحمد، وابن أبي شيبة، والبخاري في تاريخه، والبغوي في معجمه وابن جرير والطبراني عن محمد بن عبد الله بن سلام عن أبيه نحو ذلك، وأخرج عبد الرزاق والطبراني عن أبي أمامة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأهل قباء: ما هذا الطهور الذي خصصتم به في هذه الآية فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا؟ قالوا: يا رسول الله ما منا أحد يخرج من الغائط إلا غسل مقعدته» . وأخرج عبد الرزاق وابن مردويه عن عبد الله بن الحارث بن نوفل نحوه إلى غير ذلك، وروي القول بنزولها في أهل قباء عن جماعة من الصحابة وغيرهم كابن عمر، وسهل الأنصاري، وعطاء، وغيرهم وأما الأخبار الدالة على كون المراد بالمسجد المذكور في الآية مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم فكثيرة أيضا وكذا الذاهبون إلى ذلك كثيرون أيضا، والجمع فيما أرى بين الأخبار والأقوال متعذر، وليس عندي أحسن من التنقير عن حال تلك الروايات صحة وضعفا فمتى ظهر قوة إحداهما على الأخرى عول على الأقوى. وظاهر كلام البعض يشعر بأن الأقوى رواية ما يدل على أن المراد من المسجد مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام، ومعنى تأسيسه على التقوى من أول يوم أن تأسيسه على ذلك كان مبتدأ من أول يوم من أيام وجوده لا حادثا بعده ولا يمكن أن يراد من أول الأيام مطلقا ضرورة. نعم قال الذاهبون إلى أن المراد بالمسجد مسجد قباء: إن المراد من أول أيام الهجرة ودخول المدينة. قال السهيلي: ويستفاد من الآية صحة ما اتفق عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين مع عمر رضي الله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 20 تعالى عنه حين شاورهم في التاريخ فاتفق رأيهم على أن يكون من عام الهجرة لأنه الوقت الذي أعز الله فيه الإسلام والحين الذي أمن فيه النبي صلّى الله عليه وسلم، وبنيت المساجد وعبد الله تعالى كما يجب فوافق رأيهم هذا ظاهر التنزيل، وفهمنا الآن بنقلهم أن قوله تعالى: مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أن ذلك اليوم هو أول أيام التاريخ الذي نؤرخ به الآن، فإن كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم أخذوه من هذه الآية فهو الظن بهم لأنهم أعلم الناس بتأويل كتاب الله تعالى وأفهمهم بما فيه من الإشارات، وإن كان ذلك عن رأي واجتهاد فقد علمه تعالى وأشار إلى صحته قبل أن يفعل إذ لا يعقل قول القائل فعلته أول يوم إلا بالإضافة إلى عام معلوم أو شهر معلوم أو تاريخ كذلك وليس هاهنا إضافة في المعنى إلا إلى هذا التاريخ المعلوم لعدم القرائن الدالة على غيره من قرينة لفظ أو حال فتدبره ففيه معتبر لمن اذكر وعلم لمن رأى بعين فؤاده واستبصر انتهى. ولا يخفى على المطلع على التاريخ أن ما وقع كان عن اجتهاد وأن قوله: وليس هاهنا إضافة إلخ محل نظر، ويستفاد من الآية أيضا على ما قيل النهي عن الصلاة في مساجد بنيت مباهاة أو رياء أو سمعة أو لغرض سوى ابتغاء وجه الله تعالى، وألحق بذلك كل مسجد بني بمال غير طيب. وروي عن شقيق ما يؤيد ذلك. وروي عن عطاء لما فتح الله الأمصار على عمر رضي الله تعالى عنه أمر المسلمين أن يبنوا المساجد وأن لا يتخذوا في مدينة مسجدين يضار أحدهما صاحبه، ومن حمل التطهير فيها على ما نطقت به الأخبار السابقة قال: يستفاد منها سنية الاستنجاء بالماء، وجاء من حديث البزار تفسيره بالجمع بين الماء والحجر وهو أفضل من الاقتصار على أحدهما، وفسره بعضهم بالتخلص عن المعاصي والخصال المذمومة وهو معنى مجازي له، وإذا فسر بما يشمل التطهير من الحدث الأكبر والخبث والتنزه من المعاصي ونحوها كان فيه من المدح ما فيه، وجوز في جملة فِيهِ رِجالٌ ثلاثة أوجه أن تكون مستأنفة مبينة لأحقية القيام في ذلك المسجد من جهة الحال بعد بيان الأحقية من جهة المحل، وأن تكون صفة للمبتدأ جاءت بعد خبره، وأن تكون حالا من الضمير في فِيهِ وعلى كل حال ففيها تحقيق وتقرير لاستحقاق القيام فيه، وقرىء «أن يطهروا» بالإدغام. وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ أي يرضى عنهم ويكرمهم ويعظّم ثوابهم وهو المراد بمحبة الله تعالى عند الأشاعرة وأشياعهم وذكروا أن المحبة الحقيقية لا يوصف بها سبحانه، وحمل بعضهم التعبير بها هنا على المشاكلة، والمراد من المطهرين إما أولئك الرجال أو الجنس ويدخلون فيه أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ أي مبنيه فهو مصدر كالغفران واستعمل بمعنى المفعول، وعن أبي علي أن البنيان جمع واحده بنيانة ولعل مراده أنه اسم جنس جمعي واحده ما ذكر وإلا فليس بشيء، والتأسيس وضع الأساس وهو أصل البناء وأوله، ويستعمل بمعنى الإحكام وبه فسره بعضهم هنا، واختار آخرون التفسير الأول لتعديه بعلى في قوله سبحانه: عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ فإن المتبادر تعلقه به، وجوز تعلقه بمحذوف وقع حالا من الضمير المستكن في أسس وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى، والمراد من الرضوان طلبه بالطاعة مجازا وإن شئت قدرت المضاف ليكون المتعاطفان من أعمال العبد، والهمزة للإنكار، والفاء للعطف على مقدر كما قالوا في نظائره أي أبعد ما علم حالهم فمن أسس بنيانه على تقوى وخوف من الله تعالى وطلب مرضاته بالطاعة خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ أي طرفه، ومنه أشفى على الهلاك أي صار على شفاء وشفي المريض لأنه صار على شفا البرء والسلامة ويثنى على شفوان والجرف بضمتين البئر التي لم تطو، وقيل: هو الهوة وما يجرفه السيل من الأودية لجرف الماء له أي أكله وإذهابه. وقرأ أبو بكر وابن عامر وحمزة «جرف» بالتخفيف وهو لغة فيه هارٍ أي متصدع مشرف على السقوط وقيل ساقط، وهو نعت لجرف وأصله هاور أو هاير فهو مقلوب ووزنه فالع، وقيل: إنه حذفت عينه اعتباطا فوزنه فال، والإعراب على رائه كباب، وقيل: إنه لا قلب فيه ولا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 21 حذف وأصله هور أو هير على وزن فعل بكسر العين ككتف فلما تحرك حرف العلة وانفتح ما قبله قلب ألفا، والظاهر أنه وضع شفا الجرف في مقابلة التقوى فيما سبق، وفيه استعارة تصريحية تحقيقية حيث شبه الباطل والنفاق بشفا جرف هار في قلة الثبات ثم استعير لذلك والقرينة المقابلة، وقوله تعالى: فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ ترشيح، وباؤه إما للتعدية أو للمصاحبة، ووضع في مقابلة الرضوان تنبيها على أن تأسيس ذلك على أمر يحفظه مما يخاف ويوصله إلى ما أدنى مقتضياته الجنة، وتأسيس هذا على ما هو بصدد الوقوع في النار ساعة فساعة ثم المصير إليها لا محالة، والاستعارة فيما تقدم مكنية حيث شبهت فيه التقوى بقواعد البناء تشبيها مضمرا في النفس ودل عليه ما هو من روادفه ولوازمه وهو التأسيس والبنيان، واختار غير واحد أن معنى الآية أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة محكمة هي التقوى وطلب الرضا بالطاعة خير أم من أسس على قاعدة هي أضعف القواعد وأرخاها فأدى به ذلك لخوره وقلة استمساكه إلى السقوط في النار، وإنما اختير ذلك على ما قيل لما أنه أنسب بتوصيف أهل مسجد الضرار بمضارة المسلمين والكفر والتفريق والإرصاد وتوصيف أهل مسجد التقوى بأنهم يحبون أن يتطهروا بناء على أن المراد التطهير عن المعاصي والخصال المذمومة لأنه المقتضي بزعم البعض لمحبة الله تعالى لا التطهير المذكور في الأخبار، وأمر الاستعارة على هذا التوجيه على طرز ما تقدم في التوجيه الأول، وجوز أن يكون في الجملة الأولى تمثيل لحال من أخلص لله تعالى وعمل الأعمال الصالحة بحال من بنى بناء محكما يستوطنه ويتحصن به، وأن يكون البنيان استعارة أصلية والتأسيس ترشيحا أو تبعية وكذا جوز التمثيل في الجملة الثانية وإجراء ذلك فيها ظاهر بعد اعتبار إجرائه في مقابلة، وفاعل «أنهار» إما ضمير البنيان وضمير بِهِ للمؤسس وإما للشفا وضمير- به- للبنيان وإليه يميل ظاهر التفسير المار آنفا. وظاهر الأخبار أن ذلك المسجد إذا وقع في النار فقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة أنه قال في الآية: والله ما تناهى أن وقع في النار. وذكر لنا أنه حفرت فيه بقعة فرئي منه الدخان. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال فيها: مضى حين خسف به إلى النار. وعن سفيان بن عيينة يقال: إنه بقعة من نار جهنم. وأنت تعلم أني والحمد لله تعالى مؤمن بقدرته سبحانه على أتم وجه وأنه جل جلاله فعال لما يريد لكني لا أؤمن بمثل هذه الظواهر ما لم يرد فيها خبر صحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقرأ نافع وابن عامر «أسّس» بالبناء للمفعول في الموضعين، وقرىء «أساس بنيانه وأس بنيانه» على الإضافة ونسب ذلك إلى علي بن نصر «وأسّس» بفتحات ونسبت إلى عاصم «وإساس» بالكسر، قيل: وثلاثتها جمع أس وفيه نظر، ففي الصحاح الأس أصل البناء وكذلك الأساس والأسس مقصور منه وجمع الأس مثل أساس عس وعساس وجمع الأساس أسس مثل قذال وقذل وجمع الأسس أساس مثل سبب وأسباب انتهى. وجوز في أسس أن يكون مصدرا. وقرأ عيسى بن عمرو «وتقوى» بالتنوين، وخرج ذلك ابن جني على أن الألف للإلحاق كما في أرطى ألحق بجعفر لا للتأنيث كألف تترى في رأى والألم يجوز تنوينه. وقرأ ابن مسعود «فانهار به قواعده في نار جهنم» وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي لأنفسهم أو الواضعين للأشياء في غير مواضعها أي لا يرشدهم إلى ما فيه صلاحهم إرشادا موجبا له لا محالة. لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا أي بناؤهم الذي بنوه، فالبنيان مصدر أريد به المفعول كما مر، ووصفه بالمفرد مما يرد على مدعي الجمعية وكذا الإخبار عنه بقوله سبحانه: رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ واحتمال تقدير مضاف وجعل الصفة وكذا الخبر له خلاف الظاهر. نعم قيل: الإخبار بريبة لا دليل فيه على عدم الجمعية لأنه يقال: الحيطان منهدمة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 22 والجبال راسية وجوز بعضهم كون البنيان باقيا على المصدرية والَّذِي مفعوله، والريبة اسم من الريب بمعنى الشك وبذلك فسرها ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والمراد به شكهم في نبوته صلّى الله عليه وسلم المضمر في قلوبهم وهو عين النفاق، وجعل بنيانهم نفس الريبة للمبالغة في كونه سببا لها. قال الإمام: وفي ذلك وجوه. أحدها: أن المنافقين عظم فرحهم ببنيانه فلما أمر بتخريبه ثقل عليهم وازداد غيظهم وارتيابهم في نبوته صلّى الله عليه وسلم. وثانيها: أنه لما أمر بتخريبه ظنوا أن ذلك للحسد فارتفع أمانهم عنه صلّى الله عليه وسلم وعظم خوفهم فارتابوا في أنهم هل يتركون على حالهم أو يؤمر بقتلهم ونهب أموالهم. وثالثها: أنهم اعتقدوا أنهم كانوا محسنين في البناء فلما أمر بتخريبه بقوا شاكين مرتابين في أنه لأي سبب أمر ذلك والصحيح هو الأول. ويمكن كما قال العلامة الطيبي أن يرجح الثاني بأن تحمل الريبة على أصل موضوعها ويراد منها قلق النفس واضطرابها. وحاصل المعنى لا يزال هدم بنيانهم الذي بنوا سببا للقلق والاضطراب والوجل في القلوب ووصف بنيانهم بما وصف للإيذان بكيفية بنائهم له وتأسيسه على ما عليه تأسيسه مما علمت وللإشعار بعلة الحكم، وقيل: وصف بذلك للدلالة على أن المراد بالبنيان ما هو المبنى حقيقة لا ما دبروه من الأمور فإن البناء قد يطلق على تدبير الأمر وتقديره كما في قولهم كم أبني وتهدم وعليه قوله: متى يبلغ البنيان يوما تمامه ... إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم وحاصله أن الوصف للتأكيد وفائدته دفع المجاز، وهذا نظير ما قالوا في قوله سبحانه: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النساء: 164] وفيه بحث. والاستثناء في قوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ من أعم الأوقات أو أعم الأحوال وما بعد إلا في محل النصب على الظرفية أي لا يزال بنيانهم ريبة في كل وقت إلا وقت تقطع قلوبهم أو في كل حال إلا حال تقطعها أي تفرقها وخروجها عن قابلية الإدراك وهذا كناية عن تمكن الريبة في قلوبهم التي هي محل الإدراك وإضمار الشرك بحيث لا يزول منها ما داموا أحياء إلا إذا تقطعت وفرقت وحينئذ تخرج منها الريبة وتزول، وهو خارج مخرج التصوير والفرض، وقيل: المراد بالتقطع ما هو كائن بالموت من تفرق أجزاء البدن حقيقة وروي ذلك عن بعض السلف. وأخرج ابن المنذر وغيره عن أيوب قال: كان عكرمة يقرأ «إلا أن تقطع قلوبهم في القبور» وقيل: المراد إلا أن يتوبوا ويندموا ندامة عظيمة تفتت قلوبهم وأكبادهم فالتقطع كناية أو مجاز عن شدة الأسف. وروي ذلك عن ابن أبي حاتم عن سفيان، وتقطع من التفعل بإحدى التاءين والبناء للفاعل أي تتقطع. وقرىء «تقطّع» على بناء المجهول من التفعيل وعلى البناء للفاعل منه على أن الخطاب للرسول صلّى الله عليه وسلم أي إلا أن تقطع أنت قلوبهم بالقتل، وقرىء على البناء للمفعول من الثلاثي مذكرا ومؤنثا. وقرأ الحسن «إلى أن تقطع» على الخطاب، وفي قراءة عبد الله «ولو قطعت قلوبهم» على إسناد الفعل مجهولا إلى قلوبهم. وعن طلحة ولو قطعت قلوبهم على خطاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، ويصح أن يعني بالخطاب كل مخاطب، وكذا يصح أن يجعل ضمير تقطع مع نصب قلوبهم للريبة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بجميع الأشياء التي من جملتها ما ذكر من أحوالهم حَكِيمٌ وفي جميع أفعاله التي من جملتها أمره سبحانه الوارد في حقهم. هذا ومن باب الإشارة في الآيات: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ إشارة إلى وصف المغرورين الذين ما ذاقوا طعم المحبة ولا هب عليهم نسيم العرفان، ومن هنا صححوا لأنفسهم أفعالا فقالوا: لنصدقن فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ أي إنهم نقضوا العهد لما ظهر لهم ما سألوه، والبخل كما قال أبو حفص: ترك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 23 الإيثار عند الحاجة إليه أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وهو ما لا يعلمونه من أنفسهم وَنَجْواهُمْ أي ما يعلمونه منها دون الناس، وقيل: السر ما لا يطلع عليه إلا عالم الأسرار والنجوى ما يطلع عليه الحفظة وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا أرادوا التثبيط على المؤمنين ببيان بعض شدائد الغزو وما دروا أن المحب يستعذب المر في طلب وصال محبوبه ويرى الحزن سهلا والشدائد لذائذ في ذلك، ولا خير فيمن عاقه الحر والبرد، ورد عليهم بأنهم آثروا بمخالفتهم النار التي هي أشد حرا ويشبه هؤلاء المنافقين في هذا التثبيط أهل البطالة الذين يثبطون السالكين عن السلوك ببيان شدائد السلوك وفوات اللذائذ الدنيوية لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فأفنوا كل ذلك في طلب مولاهم جل جلاله وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ المشاهدات والمكاشفات والقربات وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالبغية. لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ أي الذين أضعفهم حمل المحبة وَلا عَلَى الْمَرْضى بداء الصبابة حتى ذابت أجسامهم بحرارة الفكر وشدائد الرياضة وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ وهم المتجردون من الأكوان حَرَجٌ إثم في التخلف عن الجهاد الأصغر إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بأن أرشدوا الخلق إلى الحق وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً غرامة وخسرانا، قيل: كل من يرى الملك لنفسه يكون ما ينفق غرامة عنده وكل من يرى الأشياء لله تعالى وهي عارية عنده يكون ما ينفق غنما عنده وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ أي الذين سبقوا إلى الوحدة من أهل الصنف الأول مِنَ الْمُهاجِرِينَ وهم الذين هجروا مواطن النفس وَالْأَنْصارِ وهم الذين نصروا القلب بالعلوم الحقيقية على النفس وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ في الاتصاف بصفات الحق بِإِحْسانٍ أي بمشاهدة من مشاهدات الجمال والجلال رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بما أعطاهم من عنايته وتوفيقه وَرَضُوا عَنْهُ بقبول ما أمر به سبحانه وبذل أموالهم ومهجهم في سبيله عز شأنه وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ من جنات الأفعال والصفات تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ وهي أنهار علوم التوكل والرضا ونحوهما ووراء هذه الجنات المشتركة بين المتعاطفات جنة الذات وهي مختصة بالسابقين وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ وهم الذين لم ترسخ فيهم ملكة الذنب وبقي منهم فيهم نور الاستعداد ولهذا لانت شكيمتهم واعترفوا بذنوبهم ورأوا قبحها وأما من رسخت فيه ملكة الذنب واستولت عليه الظلمة فلا يرى ما يفعل من القبائح إلا حسنا خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً حيث كانوا في رتبة النفس اللوامة التي لم يصر اتصالها بالقلب وتنورها بنوره ملكة لها ولهذا تنقاد له تارة وتعمل أعمالا صالحة وذلك إذا استولى القلب عليها وتنفر عنه أخرى وتفعل أفعالا سيئة إذا احتجبت عنه بظلمتها وهي دائما بين هذا وذاك حتى يقوى اتصالها بالقلب ويصير ذلك ملكة لها وحينئذ يصلح أمرها وتنجو من المخالفات، ولعل قوله سبحانه: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إشارة إلى ذلك وقد تتراكم عليها الهيئات المظلمة فترجع القهقرى ويزول استعدادها وتحجب عن أنوار القلب وتهوي إلى سجين الطبيعة فتهلك مع الهالكين، وترجح أحد الجانبين على الآخر يكون بالصحبة فإن أدركها التوفيق صحبت الصالحين فتحلت بأخلاقهم وعملت أعمالهم فكانت منهم، وإن لحقها الخذلان صحبت المفسدين واختلطت بهم فتدنست بخلالهم وفعلت أفاعيلهم فصارت من الخاسرين أعاذنا الله تعالى من ذلك، ولله در من قال: عليك بأرباب الصدور فمن غدا ... مضافا لأرباب الصدور تصدرا وإياك أن ترضى صحابة ناقص ... فتنحط قدرا عن علاك وتحقرا فرفع أبو من ثم خفض مزمل ... يبين قولي مغريا ومحذرا وقد يكون ترجح جانب الاتصال بأسباب أخر كما يشير إليه قوله سبحانه وتعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً الجزء: 6 ¦ الصفحة: 24 تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها لأن المادة مادة الشهوات فأمر النبي صلّى الله عليه وسلم بالأخذ من ذلك ليكون أول حالهم التجرد لتنكسر قوى النفس وتضعف أهواؤها وصفاتها فتتزكى من الهيئات المظلمة وتتطهر من خبث الذنوب ورجس دواعي الشيطان وَصَلِّ عَلَيْهِمْ بإمداد الهمة وإفاضة أنوار الصحبة إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ أي سبب لنزول السكينة فيهم، وفسروا السكينة بنور يستقر في القلب وبه يثبت على التوجه إلى الحق ويتخلص عن الطيش لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ لأن النفس تتأثر فيه بصفاء الوقت وطيب الحال وذوق الوجدان بخلاف ما إذا كان مبنيا على ضد ذلك فإنها تتأثر فيه بالكدورة والتفرقة والقبض. وأصل ذلك أن عالم الملك تحت قهر عالم الملكوت وتسخيره فيلزم أن يكون لنيات النفوس وهيئاتها تأثير فيما تباشره من الأعمال، ألا ترى الكعبة كيف شرفت وعظمت وجعلت محلا للتبرك لما أنها كانت مبنية بيد خليل الله تعالى عليه الصلاة والسلام بنية صادقة ونفس شريفة، ونحن نجد أيضا أثر الصفاء والجمعية في بعض المواضع والبقاع وضد ذلك في بعضها، ولست أعني إلا وجود ذوي النفوس الحساسة الصافية لذلك وإلا فالنفوس الخبيثة تجد الأمر على عكس ما تجده أرباب تلك النفوس، والصفراوي يجد السكر مرا، والجعل يستخبث رائحة الورد: ومن هنا كان المنافق في المسجد كالسمك في اليبس والمخلص فيه كالسمكة في الماء فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا أي أهل إرادة وسعي في التطهر عن الذنوب، وهو إشارة إلى أن صحبة الصالحين لها أثر عظيم، ويتحصل من هذا وما قبله الإشارة إلى أنه ينبغي رعاية المكان والإخوان في حصول الجمعية، وجاء عن القوم أنه يجب مراعاة ذلك مع مراعاة الزمان في حصول ما ذكر وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ولولا محبته إياهم لما أحبوا ذلك. وعن سهل: الطهارة على ثلاثة أوجه: طهارة العلم من الجهل، وطهارة الذكر من النسيان، وطهارة الطاعة من المعصية. وقال بعضهم: الطهارة على أقسام كثيرة: فطهارة الأسرار من الخطرات، وطهارة الأرواح من الغفلات، وطهارة القلوب من الشهوات وطهارة العقول من الجهالات، وطهارة النفوس من الكفريات، وطهارة الأبدان من الزلات. وقال آخر: الطهارة الكاملة طهارة الأسرار من دنس الأغيار والله تعالى هو الهادي إلى سواء السبيل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 25 إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ إلخ ترغيب للمؤمنين في الجهاد ببيان حال المتخلفين عنه، ولا ترى كما نقل الشهاب ترغيبا في الجهاد أحسن ولا أبلغ مما في هذه الآية لأنه أبرز في صورة عقد عاقده رب العزة جل جلاله، وثمنه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولم يجعل المعقود عليه كونهم مقتولين فقط بل كونهم قاتلين أيضا لإعلاء كلمة الله تعالى ونصرة دينه سبحانه، وجعله مسجلا في الكتب السماوية وناهيك به من صك، وجعل وعده حقا ولا أحد أوفى من واعده فنسيئته أقوى من نقد غيره، وأشار الجزء: 6 ¦ الصفحة: 26 إلى ما فيه من الرحب والفوز العظيم وهو استعارة تمثيلة. صور جهاد المؤمنين وبذل أموالهم وأنفسهم فيه وإثابة الله تعالى لهم على ذلك الجنة بالبيع والشراء، وأتى بقوله سبحانه: يُقاتِلُونَ إلخ بيانا لمكان التسليم وهو المعركة، وإليه الإشارة بقوله صلّى الله عليه وسلم: «الجنة تحت ظلال السيوف» ثم أمضاه جل شأنه بقوله ذلك الفوز العظيم، ومن هنا أعظم الصحابة رضي الله تعالى عنهم أمر هذه الآية. فقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: نزلت هذه الآية على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو في المسجد إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى إلخ فكثر الناس في المسجد فأقبل رجل من الأنصار ثانيا طرفي ردائه على عاتقه فقال: يا رسول الله أنزلت هذه الآية؟ قال: نعم. فقال الأنصاري: بيع ربيح لا نقيل ولا نستقيل. ومن الناس من قرر وجه المبالغة بأنه سبحانه عبر عن قبوله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم التي بذلوها في سبيله تعالى وإثابته إياهم بمقابلتها الجنة بالشراء على طريقة الاستعارة التبعية ثم جعل المبيع الذي هو العمدة والمقصد في العقد أنفس المؤمنين وأموالهم والثمن الذي هو الوسيلة في الصفقة الجنة، ولم يعكس بأن يقال: إن الله باع الجنة من المؤمنين بأنفسهم وأموالهم ليدل على أن المقصد بالعقد هو الجنة وما بذله المؤمنون في مقابلتها وسيلة إليها بكمال العناية بهم وبأموالهم ثم إنه تعالى لم يقل بالجنة بل قال عز شأنه: بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ مبالغة في تقرير وصول الثمن إليهم واختصاصه بهم كأنه قيل: بالجنة الثابتة لهم المختصة بهم، ومن هنا يعلم أن هذه القراءة أبلغ من قراءة الأعمش ونسبت أيضا إلى عبد الله رضي الله تعالى عنه بالجنة على أنها أوفق بسبب النزول. فقد أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي وغيره أنهم قالوا: «قال عبد الله بن رواحة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: اشترط لربك ولنفسك ما شئت. قال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم قالوا: فما لنا؟ قال: الجنة قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل فنزلت إن الله اشترى الآية» . وقيل: عبر بذلك مدحا للمؤمنين بأنهم بذلوا أنفسهم وأموالهم بمجرد الوعد لكمال ثقتهم بوعده تعالى مع أن تمام الاستعارة موقوف على ذلك إذ لو قيل بالجنة لاحتمل كون الشراء على حقيقته لأنها صالحة للعوضية بخلاف الوعد بها، واعترض بأن مناط دلالة ما عليه النظم الجليل على الوعد ليس كونه جملة ظرفية مصدرة بأن فإن ذلك بمعزل من الدلالة على الاستقبال بل هو الجنة التي يستحيل وجودها في عالم الدنيا ولو سلم ذلك بكون العوض الجنة الموعود بها لأنفس الوعد بها، على أن حديث احتمال كون الشراء حقيقة لو قيل بالجنة لا يخلو عن نظر كما قيل لأن حقيقة الشراء مما لا يصح منه تعالى لأنه جل شأنه مالك الكل والشراء إنما يكون ممن لا يملك، ولهذا قال الفقهاء: طلب الشراء يبطل دعوى الملكية، نعم قد لا يبطل في بعض الصور كما إذا اشترى الأب دارا لطفله من نفسه فكبر الطفل ولم يعلم ثم باعها الأب وسلمها للمشتري ثم طلب الابن شراءها منه ثم علم بما صنع أبوه فادعى الدار فإنه تقبل دعواه ولا يبطلها ذلك الطلب كما يقتضيه كلام الأستروشني لكن هذا لا يضرنا فيما نحن فيه، ومن المحققين من وجه دلالة ما في النظم الكريم على الوعد بأنه يقتضي بصريحه عدم التسليم وهو عين الوعد لأنك إذا قلت: اشتريت منك كذا بكذا احتمل النقد بخلاف ما إذا قلت: بأن لك كذا فإنه في معنى لك على كذا وفي ذمتي، واللام هنا ليست للملك إذ لا يناسب شراء ملكه بملكه كالممهورة إحدى خدمتيها فهي للاستحقاق وفيه إشعار بعدم القبض، وأما كون تمام الاستعارة موقوفا على ذلك فله وجه أيضا حيث كان المراد بالاستعارة الاستعارة التمثيلية إذ لولاه لصح جعل الشراء مجازا عن الاستبدال مثلا وهو مما لا ينبغي الالتفات إليه مع تأتّي التمثيل المشتمل من البلاغة واللطائف على ما لا يخفى، لكن أنت خبير بأن الكلام بعد لا يخلو عن بحث، ومما أشرنا إليه من فضيلة التمثيل يعلم انحطاط الجزء: 6 ¦ الصفحة: 27 القول باعتبار الاستعارة أو المجاز المرسل في اشْتَرى وحده كما ذهب إليه البعض، وقوله تعالى: يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قيل بيان لمكان التسليم كما أشير إليه فيما تقدم، وذلك لأن البيع سلم كما قال الطيبي، وغيره، وقيل: بيان لما لأجله الشراء كأنه لما قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى إلخ، قيل: لماذا فعل ذلك؟ فقيل: ليقاتلوا في سبيله تعالى وقيل: بيان للبيع الذي يستدعيه الاشتراء المذكور كأنه قيل: كيف يبيعون أنفسهم وأموالهم بالجنة، فقيل: يقاتلون في سبيله عز شأنه وذلك بذل منهم لأنفسهم وأموالهم إلى جهته تعالى وتعريض لهما للهلاك، وقيل: بيان لنفس الاشتراء وقيل: ذكر لبعض ما شمله الكلام السابق اهتماما به على أن معنى ذلك أنه تعالى اشترى من المؤمنين أنفسهم بصرفها في العمل الصالح وأموالهم ببذلها فيما يرضيه وهو في جميع ذلك خبر لفظا ومعنى ولا محل له من الإعراب، وقيل: إنه في معنى الأمر كقوله سبحانه: تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [الصف: 11] ووجه ذلك بأنه أتى بالمضارع بعد الماضي لإفادة الاستمرار كأنه قيل: اشتريت منكم أنفسكم في الأزل وأعطيت ثمنها الجنة فسلموا المبيع واستمروا على القتال، ولا يخفى ما في بعض هذه الأقوال من النظر. وانظر هل ثم مانع من جعل الجملة في موضع الحال كأنه قيل: اشترى منهم ذلك حال كونهم مقاتلين في سبيله فإني لم أقف على من صرح بذلك مع أنه أوفق الأوجه بالاستعارة التمثيلية تأمل. وقوله سبحانه: فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ بيان لكون القتال في سبيل الله تعالى بذلا للنفس وأن المقاتل في سبيله تعالى باذل لها وإن كانت سالمة غانمة، فإن الإسناد في الفعلين ليس بطريق اشتراط الجمع بينهما ولا اشتراط الاتصاف بأحدهما البتة بل بطريق وصف الكل بحال البعض، فإنه يتحقق القتال من الكل سواء وجد الفعلان أو أحدهما منهم أو من بعضهم بل يتحقق ذلك وإن لم يصدر منهم أحدهما أيضا كما إذا وجد المضاربة ولم يوجد القتل في أحد الجانبين، ويفهم كلام بعضهم أنه يتحقق الجهاد بمجرد العزيمة والنفير وتكثير السواد وإن لم توجد مضاربة وليس بالبعيد لما أن في ذلك تعريض النفس للهلاك أيضا، والظاهر أن أجور المجاهدين مختلفة قلة وكثرة وإن كان هناك قدر مشترك بينهم. ففي صحيح مسلم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة ألا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم» . وفي رواية أخرى «ما من غازية أو سرية تغزو فتغنم وتسلم إلا كانوا قد تعجلوا ثلثي أجورهم وما من غازية أو سرية تحنق وتصاب إلا أتم أجورهم» . وزعم بعضهم أنهم في الأجر سواء ولا ينقص أجرهم بالغنيمة، واستدلوا عليه بما في الصحيحين من أن المجاهد يرجع بما نال من أجر وغنيمة، وبأن أهل بدر غنموا وهم- هم- ويرد عليه أن خبر الصحيحين مطلق وخبر مسلم مقيد فيجب حمله عليه، وبأنه لم يجىء نص في أهل بدر أنهم لو لم يغنموا لكان أجرهم على قدر أجرهم وقد غنموا فقط، وكونهم هم- هم- لا يلزم منه أن لا يكون وراء مرتبتهم مرتبة أفضل منها، والقول بأن في السند أبا هانىء وهو مجهول فلا يعول على خبره غلط فاحش فإنه ثقة مشهور روى عنه الليث بن سعد، وحيوة، وابن وهب. وخلائق من الأئمة، ويكفي في توثيقه احتجاج مسلم به في صحيحه، ومثل هذا ما حكاه القاضي عن بعضهم من أن تعجل ثلثي الأجر إنما هو في غنيمة أخذت على غير وجهها إذ لو كانت كذلك لم يكن ثلث الأجر، وكذا ما قيل: من أن الحديث محمول على من خرج بنية الغزو والغنيمة معا فإن ذلك ينقص ثوابه لا محالة، فالصواب أن أجر من لم يغنم أكثر من أجر من غنم لصريح ما ذكرناه الموافق لصرائح الأحاديث الصحيحة المشهورة عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم. ويعلم من ذلك أن أجر من قتل أكثر من أجر من قتل لكون الأول من الشهداء دون الثاني، وظاهر ما أخرجه مسلم من رواية أبي هريرة «من قتل في سبيل الله تعالى فهو شهيد ومن مات في سبيل الله تعالى فهو شهيد» أن القتل في سبيل الله تعالى والموت فيها سواء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 28 في الأجر وهو الموافق لمعنى قوله تعالى: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء: 100] واستدل له أيضا بعض العلماء بغير ذلك مما لا دلالة فيه عليه كما نص عليه النووي رحمه الله تعالى، وتقديم حالة القاتلية في الآية على حالة المقتولية للإيذان بعدم الفرق بينهما في كونهما مصداقا لكون القتال بذلا للنفس، وقرأ حمزة. والكسائي بتقديم المبني للمفعول رعاية لكون الشهادة عريقة في هذا الباب إيذانا بعدم مبالاتهم بالموت في سبيل الله تعالى بل بكونه أحب إليهم من السلامة كما قال كعب بن زهير في حقهم: لا يفرحون إذا نالت رماحهم ... قوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا لا يقع الطعن إلا في نحورهم ... وما لهم عن حياض الموت تهليل وفيه على ما قيل دلالة على جراءتهم حيث لم ينكسروا لأن قتل بعضهم، ومن الناس من دفع السؤال بعدم مراعاة الترتيب في هذه القراءة بأن الواو لا تقتضيه، وتعقب بأن ذلك لا يجدي لأن تقديم ما حقه التأخير في أبلغ الكلام لا يكون بسلامة الأمير كما لا يخفى وَعْداً عَلَيْهِ مصدر مؤكد لمضمون الجملة لأن معنى الشراء بأن لهم الجنة وعد لهم بها على الجهاد في سبيله سبحانه، وقوله تعالى: حَقًّا نعت له وعَلَيْهِ في موضع الحال من حَقًّا لتقدمه عليه، وقوله سبحانه: فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ متعلق بمحذوف وقع نعتا لوعدا أيضا أي وعدا مثبتا في التوراة والإنجيل كما هو مثبت في القرآن فالمراد إلحاق ما لا يعرف مما يعرف إذ من المعلوم ثبوت هذا الحكم في القرآن، ثم إن ما في الكتابين إما أن يكون أن أمة محمد صلّى الله عليه وسلم اشترى الله تعالى منهم أنفسهم وأموالهم بذلك أو أن من جاهد بنفسه وماله له ذلك، وفي كلا الأمرين ثبوت موافق لما في القرآن، وجوز تعلق الجار باشترى ووعدا وحقا وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ اعتراض مقرر لمضمون ما قبله من حقية الوعد، والمقصود من مثل هذا التركيب عرفا نفي المساواة أي لا أحد مثله تعالى في الوفاء بعهده، وهذا كما يقال: ليس في المدينة أفقه من فلان فإنه يفيد عرفا أنه أفقه أهلها، ولا يخفى ما في جعل الوعد عهدا وميثاقا من الاعتناء بشأنه فَاسْتَبْشِرُوا التفات إلى خطابهم لزيادة التشريف والاستبشار إظهارا لسرورهم، وليست السين فيه للطلب، والفاء لترتيبه أو ترتيب الأمر به على ما قبله أي فإذا كان كذلك فاظهروا السرور بما فزتم من الجنة، وإنما قال سبحانه: بِبَيْعِكُمُ مع أن الابتهاج به باعتبار أدائه إلى الجنة لأن المراد ترغيبهم في الجهاد الذي عبر عنه بالبيع، ولم يذكر العقد بعنوان الشراء لأن ذلك من قبله سبحانه لا من قبلهم والترغيب على ما قيل إنما يتم فيما هو من قبلهم، وقوله تعالى: الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ لزيادة تقرير بيعهم وللإشعار بتميزه على غيره فإنه بيع الفاني بالباقي ولأن كلا البدلين له سبحانه وتعالى، ومن هنا كان الحسن إذا قرأ الآية يقول: أنفس هو خلقها وأموال هو رزقها وَذلِكَ أي البيع الذي أمرتم به هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الذي لا فوز أعظم منه، وما في ذلك من البعد إشارة إلى بعد منزلة المشار إليه وسمو رتبته في الكمال والجملة تذييل مقرر لمضمون الأمر السابق، ويجوز أن يكون تذييلا للآية الكريمة والإشارة إلى الجنة التي جعلت ثمنا بمقابلة ما بذلوا من أنفسهم وأموالهم، وفي ذلك إعظام للثمن ومنه يعلم حال المثمن، ونقل عن الأصمعي أنه أنشد للصادق رضي الله تعالى عنه: أثامن بالنفس النفيسة ربها ... فليس لها في الخلق كلهم ثمن بها أشتري الجنات إن أنا بعتها ... بشيء سواها إن ذلكم غبن إذا ذهبت نفسي بدنيا أصبتها ... فقد ذهبت مني وقد ذهب الثمن والمشهور عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: ليس لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها، وهو ظاهر في أن المبيع هو الأبدان، وبذلك صرح بعض الفضلاء في حواشيه على تفسير البيضاوي حيث قال: إن الله تعالى اشترى من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 29 المؤمن الذي هو عبارة عن الجوهر الباقي بدنه الذي هو مركبه وآلته، والظاهر أنه أراد بالجوهر الباقي الجوهر المجرد المخصوص وهو النفس الناطقة، ولا يخفى أن جمهور المتكلمين على نفي المجردات وإنكار النفس الناطقة وأن الإنسان هو هذا الهيكل المحسوس، وبذلك أبطل بعض أجلّة المتأخرين من أفاضل المعاصرين القول بخلق الأفعال لما يلزم عليه من كون الفاعل والقابل واحدا، وقد قالوا: بامتناع اتحادهما، والإنصاف إثبات شيء مغاير للبدن والهيكل المحسوس في الإنسان، والمبيع أما ذاك ومعنى بيعه تعريضه للمهالك والخروج عن التعلق الخاص بالبدن وإما البدن ومعنى بيعه ظاهر إلا أنه ربما يدعي أن المتبادر من النفس غير ذلك كما لا يخفى على ذوي النفوس الزكية النبيون نعت للمؤمنين، وقطع لأجل المدح أي هم التائبون ويدل على ذلك قراءة عبد الله. وأبي «التائبين» بالياء على أنه منصوب على المدح أو مجرور على أنه صفة للمؤمنين. وجوز أن يكون التَّائِبُونَ مبتدأ والخبر محذوف أي من أهل الجنة أيضا وإن لم يجاهدوا لقوله تعالى: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى فإن كلا فيه عام، والحسنى بمعنى الجنة. وقيل: الخبر قوله تعالى: الْعابِدُونَ وما بعده خبر بعد خبر، وقيل: خبره الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وقيل: إنه بدل من ضمير يُقاتِلُونَ والأول أظهر إلا أن يكون الموعود بالجنة عليه هو المجاهد المتصف بهذه الصفات لا كل مجاهد وبذلك يشعر ما أخرجه ابن أبي شيبة. وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: الشهيد من كان فيه الخصال التسع وتلا هذه الآية. وأورد عليه أنه ينافي ذلك ما صح من حديث مسلم من أن من قتل في سبيل الله تعالى وهو صابر محتسب مقبل غير مدبر كفرت خطاياه إلا الدين فإنه ظاهر في أن المجاهد قد لا يكون متصفا بجميع ما في الآية من الصفات وإلا لا يبقى لتكفير الخطايا وجه، وكأنه من هنا اختار الزجاج كونه مبتدأ والخبر محذوف كما سمعت إذ في الآية عليه تبشير مطلق المجاهدين بما ذكر وهو المفهوم من ظواهر الأخبار. نعم دل كثير منها على أن الفضل الوارد في المجاهدين مختص بمن قاتل لتكون كلمة الله تعالى هي العليا وأن من قاتل للدنيا والسمعة استحق النار. وفي صحيح مسلم ما يقتضي ذلك فليفهم، والمراد من التائبين على ما أخرجه ابن جرير، وابن المنذر، وغيرهما عن الحسن وقتادة الذين تابوا عن الشرك ولم ينافقوا. وأخرج ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن الضحاك أنهم الذين تابوا عن الشرك والذنوب، وأيد ذلك بأن التائبين في تقدير الذين تابوا وهو من ألفاظ العموم يتناول كل تائب فتخصيصه بالتائب عن بعض المعاصي تحكم. وأجيب بأن ذكرهم بعد ذكر المنافقين ظاهر في حمل التوبة على التوبة عن الكفر والنفاق، وأيضا لو حملت التوبة على التوبة عن المعاصي يكون ما ذكر بعد من الصفات غير تام الفائدة مع أن من اتصف بهذه الصفات الظاهر اجتنابه للمعاصي، والمراد من العابدين الذين أتوا بالعبادة على وجهها، وقال الحسن: هم الذين عبدوا الله تعالى في أحايينهم كلها أما والله ما هو بشهر ولا شهرين ولا سنة ولا سنتين ولكن كما قال العبد الصالح: وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا [مريم: 31] وقال قتادة: هم قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم، الْحامِدُونَ أي الذين يحمدون الله تعالى على كل حال كما روي عن غير واحد من السلف، فالحمد بمعنى الوصف بالجميل مطلقا، وقيل: هو بمعنى الشكر فيكون في مقابلة النعمة أي الحامدون لنعمائه تعالى وأنت تعلم أن الحمد في كل حال أولى وفيه تأس برسول الله صلّى الله عليه وسلم: فقد أخرج ابن مردويه وأبو الشيخ والبيهقي في الشعب عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم أول من يدعى إلى الجنة الحمادون الذين يحمدون على السراء والضراء» وجاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا أتاه الأمر يسره قال: الحمد لله الذي بنعمته الجزء: 6 ¦ الصفحة: 30 تتم الصالحات وإذا أتاه الأمر يكرهه قال: الحمد لله على كل حال» السَّائِحُونَ أي الصائمون، فقد أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم «أن النبي صلّى الله عليه وسلم سئل عن ذلك فأجاب بما ذكر» وإليه ذهب جلة من الصحابة والتابعين. وجاء عن عائشة «سياحة هذه الأمة الصيام» ، وهو من باب الاستعارة لأن الصوم يعوق عن الشهوات كما إن السياحة تمنع منها في الأكثر، أو لأنه رياضة روحانية ينكشف بها كثير من أحوال الملك والملكوت فشبه الاطلاع عليها بالاطلاع على البلدان والأماكن النائية إذ لا يزال المرتاض يتوصل من مقام إلى مقام ويدخل من مدائن المعارف إلى مدينة بعد أخرى على مطايا الفكر. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أن السائحين هم المهاجرون وليس في أمة محمد صلّى الله عليه وسلم سياحة إلا الهجرة. وأخرج هو وأبو الشيخ عن عكرمة أنهم طلبة العلم لأنهم يسيحون في الأرض لطلبه، وقيل: هم المجاهدون لما أخرج الحاكم وصححه والطبراني وغيرهما «عن أبي أمامة أن رجلا استأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في السياحة فقال: إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله تعالى» والمختار ما تقدم كما أشرنا إليه، وإنما لم تحمل السياحة على المعنى المشهور لأنها نوع من الرهبانية، وقد نهى عنها وكانت كما أخرج ابن جرير عن وهب بن منبه في بني إسرائيل الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ أي في الصلوات المفروضات كما روي عن الحسن، فالركوع والسجود على معناهما الحقيقي، وجعلهما بعضهم عبارة عن الصلاة لأنهما أعظم أركانها فكأنه قيل: المصلون الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ أي الإيمان وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ أي الشرك كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في الأمرين، ولو أبقى لفظ النظم الجليل على عمومه لكان له وجه بل قيل إنه الأولى، والعطف هنا على ما في المغني إنما كان من جهة إن الأمر والنهي من حيث هما أمر ونهي متقابلان بخلاف بقية الصفات لأن الآمر بالمعروف ناه عن المنكر وهو ترك المعروف والناهي عن المنكر آمر بالمعروف فأشير إلى الاعتداد بكل من الوصفين وأنه لا يكفي فيه ما يحصل في ضمن الآخر، وحاصله على ما قيل: إن العطف لما بينهما من التقابل أو لدفع الإيهام. ووجه بعض المحققين ذلك بأن بينهما تلازما في الذهن والخارج لأن الأوامر تتضمن النواهي ومنافاة بحسب الظاهر لأن أحدهما طلب فعل والآخر طلب ترك فكانا بين كمال الاتصال والانقطاع المقتضي للعطف بخلاف ما قبلهما، وقيل: إن العطف للدلالة على أنهما في حكم خصلة واحدة كأنه قيل: الجامعون بين الوصفين، ويرد على ظاهره أن الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ في حكم خصلة واحدة أيضا فكان ينبغي فيهما العطف على ما ذكر إذ معناه الجامعون بين الركوع والسجود ويدفع بأدنى التفات، وأما العطف في قوله سبحانه: وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ أي فيما بينه وعينه من الحقائق والشرائع فقيل للإيذان بأن العدد قد تم بالسابع من حيث إن السبعة هو العدد التام والثامن ابتداء تعداد آخر معطوف عليه ولذلك يسمى واو الثمانية، وإليه مال أبو البقاء وغيره ممن أثبت واو الثمانية وهو قول ضعيف لم يرضه النحاة كما فصله ابن هشام وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه، وقيل: إنه للتنبيه على أن ما قبله مفصل الفضائل وهذا مجملها، يعني أنه من ذكر أمر عام شامل لما قبله وغيره، ومثله يؤتى به معطوفا نحو زيد وعمرو وسائر قبيلته كرماء فلمغايرته بالإجمال والتفصيل والعموم والخصوص عطف عليه، وقيل: هو عطف عليه، وقيل: هو عطف على ما قبله من الأمر والنهي لأن من لم يصدق فعله قوله لا يجدي أمره نفعا ولا يفيد نهيه منعا. وقال بعض المحققين: إن المراد بحفظ الحدود ظاهره وهي إقامة الحد كالقصاص على من استحقه والصفات الأول إلى قوله سبحانه: والْآمِرُونَ صفات محمودة للشخص في نفسه وهذه له باعتبار غيره فلذا تغاير الجزء: 6 ¦ الصفحة: 31 تعبير الصنفين فترك العاطف في القسم الأول وعطف في الثاني، ولما كان لا بد من اجتماع الأول في شيء واحد ترك فيها العطف لشدة الاتصال بخلاف هذه فإنه يجوز اختلاف فاعلها ومن تعلقت به، وهذا هو الداعي لإعراب التَّائِبُونَ مبتدأ موصوفا بما بعده والْآمِرُونَ خبره فكأنه قيل: الكاملون في أنفسهم المكملون لغيرهم وقدم الأول لأن المكمل لا يكون مكملا حتى يكون كاملا في نفسه، وبهذا يتسق النظم أحسن اتساق من غير تكلف وهو وجه وجيه للعطف في البعض وترك العطف في الآخر، خلا أن المأثور عن السلف كابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وغيره تفسير الحافظين لحدود الله بالقائمين على طاعته سبحانه وهو مخالف لما في هذا التوجيه لعل الأمر فيه سهل والله تعالى أعلم بمراده وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ أي هؤلاء الموصوفين بتلك الصفات الجليلة، ووضع المؤمنين موضع ضمير هم للتنبيه على أن ملاك الأمر هو الإيمان وأن المؤمن الكامل من كان كذلك، وحذف المبشر به إشارة إلى أنه أمر جليل لا يحيط به نطاق البيان ما كانَ أي ما صح في حكم الله عز وجل وحكمته وما استقام لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا بالله تعالى على الوجه المأمور به أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ به سبحانه وَلَوْ كانُوا أي المشركون أُولِي قُرْبى أي ذوي قرابة لهم، وجواب لَوْ محذوف لدلالة ما قبله عليه، والجملة معطوفة على جملة أخرى قبلها محذوفة حذفا مطردا أي لو لم يكونوا أولى قربى ولو كانوا كذلك مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أي للنبي صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين أَنَّهُمْ أي المشركين أَصْحابُ الْجَحِيمِ بأن ماتوا على الكفر أو نزل الوحي بأنهم مطبوع على قلوبهم لا يؤمنون أصلا، وفيه دليل على صحة الاستغفار لأحيائهم الذين لا قطع بالطبع على قلوبهم، والمراد منه في حقهم طلب توفيقهم للإيمان، وقيل: إنه يستلزم ذلك بطريق الاقتضاء فلا يقال: إنه لا فائدة في طلب المغفرة للكافر، والآية على الصحيح نزلت في أبي طالب، فقد أخرج أحمد، وابن أبي شيبة، والبخاري، ومسلم، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في الدلائل. وآخرون عن المسيب بن حزن قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلّى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أي عم قل: لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعرضها عليه وأبو جهل وعبد الله يعاودانه بتلك المقالة فقال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول: لا إله إلا الله فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فنزلت ما كانَ لِلنَّبِيِّ الآية. واستبعد ذلك الحسين بن الفضل بأن موت أبي طالب قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين وهذه السورة من أواخر ما نزل بالمدينة. قال الواحدي: وهذا الاستبعاد مستبعد فأي بأس أن يقال: كان عليه الصلاة والسلام يستغفر لأبي طالب من ذلك الوقت إلى وقت نزول الآية فإن التشديد مع الكفار إنما ظهر في هذه السورة، وذكر نحوا من هذا صاحب التقريب، وعليه لا يراد بقوله: فنزلت في الخبر أن النزول كان عقيب القول بل يراد أن ذلك سبب النزول، فالفاء فيه للسببية لا للتعقيب. واعتمد على هذا التوجيه كثير من جلة العلماء وهو توجيه وجيه، خلا أنه يعكر عليه ما أخرجه ابن سعد وابن عساكر عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: أخبرت رسول الله صلّى الله عليه وسلم بموت أبي طالب فبكى فقال: «اذهب فغسله وكفنه وواره غفر الله له ورحمه ففعلت وجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم يستغفر له أياما ولا يخرج من بيته حتى نزل عليه جبريل عليه الصلاة والسلام بهذه الآية ما كانَ لِلنَّبِيِّ إلخ» فإنه ظاهر في أن النزول قبل الهجرة لأن عدم الخروج من البيت فيه مغيا به، اللهم إلا أن يقال بضعف الحديث لكن لم نر من تعرض له، والأولى في الجواب عن أصل الاستبعاد أن يقال: إن كون هذه السورة من أواخر ما نزل باعتبار الغالب كما تقدم فلا ينافي نزول شيء منها في المدينة. والآية على هذا دليل على أن أبا طالب مات كافرا وهو المعروف من مذهب أهل السنة والجماعة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 32 وروى ابن إسحاق في سيرته عن العباس بن عبد الله بن معبد عن بعض أهله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من خبر طويل «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لأبي طالب في مرض موته وقد طمع فيه: أي عم فأنت فقلها يعني لا إله إلا الله أستحل بها لك الشفاعة يوم القيامة- وحرض عليه عليه الصلاة والسلام بذلك- فقال: والله يا ابن أخي لولا مخافة السبة عليك وعلى بني أبيك من بعدي وأن تظن قريش أني إنما قلتها جزعا من الموت لقلتها ولا أقولها إلا لأسرك بها فلما تقارب من أبي طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه فأصغى إليه بإذنه فقال: يا ابن أخي لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها فقال له صلّى الله عليه وسلم لم أسمع» واحتج بهذا ونحوه من أبياته المتضمنة للإقرار بحقية ما جاء به صلّى الله عليه وسلم وشدة حنوه عليه ونصرته له صلّى الله عليه وسلم الشيعة الذاهبون إلى موته مؤمنا وقالوا: إنه المروي عن أهل البيت وأهل البيت أدرى، وأنت تعلم قوة دليل الجماعة فالاعتماد على ما روي عن العباس دونه مما تضحك منه الثكلى، والأبيات على انقطاع أسانيدها ليس فيها النطق بالشهادتين وهو مدار فلك الإيمان، وشدة الحنو والنصرة مما لا ينكره أحد إلا أنها بمعزل عما نحن فيه، وأخبار الشيعة عن أهل البيت أوهن من بيت العنكبوت وإنه لأوهن البيوت. نعم لا ينبغي للمؤمن الخوض فيه كالخوض في سائر كفار قريش من أبي جهل وأضرابه فإن له مزية عليهم بما كان يصنعه مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم من محاسن الأفعال، وقد روي نفع ذلك له في الآخرة أفلا ينفعه في الدنيا في الكف عنه وعدم معاملته معاملة غيره من الكفار. فعن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال وقد ذكر عنده عمه: «لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من نار» وجاء في رواية أنه قيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن عمك أبا طالب كان يحوطك وينصرك فهل ينفعه ذلك؟ فقال: نعم وجدته في غمرات النار فأخرجته إلى ضحضاح من نار. وسبه عندي مذموم جدا ولا سيما إذا كان فيه إيذاء لبعض العلويين إذ قد ورد «لا تؤذوا الأحياء بسب الأموات- ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» . وزعم بعضهم أن الآية نزلت في غير ذلك. فقد أخرج البيهقي في الدلائل وغيره عن ابن مسعود قال: «خرج النبي صلّى الله عليه وسلم يوما إلى المقابر فجاء حتى جلس إلى قبر منها فناجاه طويلا ثم بكى فبكينا لبكائه ثم قام فصلى ركعتين فقام إليه عمر فدعاه ثم دعانا فقال: ما أبكاكم؟ قلنا: بكينا لبكائك قال: إن القبر الذي جلست عنده قبر آمنة وإني استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي وأنزل على ما كانَ لِلنَّبِيِّ إلخ فأخذني ما يأخذ الولد للوالدة من الرقة فذاك الذي أبكاني» ولا يخفى أن الصحيح في سبب النزول هو الأول. نعم خبر الاستئذان في الاستغفار لأمه عليه الصلاة والسلام وعدم الإذن جاء في رواية صحيحة لكن ليس فيها أن ذلك سبب النزول. فقد أخرج مسلم، وأحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي عن أبي هريرة قال: «أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال عليه الصلاة والسلام: استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي واستأذنت أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكركم الموت» واستدل بعضهم بهذا الخبر ونحوه على أن أمه عليه الصلاة والسلام ممن لا يستغفر له، وفي ذلك نزاع شهير بين العلماء، ولعل النوبة تفضي إلى تحقيق الحق فيه إن شاء الله تعالى: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ آزر بقوله وَاغْفِرْ لِأَبِي [الشعراء: 86] أي بأن توفقه للإيمان وتهديه إليه كما يلوح به تعليله بقوله: إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ [الشعراء: 86] والجملة استئناف لتقرير ما سبق ودفع ما يتراءى بحسب الظاهر من المخالفة، وأخرج أبو الشيخ وابن عساكر من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال: لما مات أبو طالب قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: رحمك الله وغفر لك لا أزال أستغفر لك حتى ينهاني الله تعالى فأخذ المسلمون يستغفرون لموتاهم الذين ماتوا وهم مشركون فأنزل الله تعالى ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ الآية فقالوا: قد استغفر إبراهيم لأبيه فأنزل سبحانه وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وقرأ طلحة «وما استغفر» الجزء: 6 ¦ الصفحة: 33 وعنه «وما يستغفر» على حكاية الحال الماضية لا أن الاستغفار سوف يقع بعد يوم القيامة كما يتوهم مما سيأتي إن شاء الله تعالى، والاستثناء مفرغ من أعم العلل أي لم يكن استغفاره عليه السلام لأبيه ناشئا عن شيء من الأشياء إلا عن موعدة وَعَدَها أي إبراهيم عليه السلام إِيَّاهُ أي أباه بقوله: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [الممتحنة: 4] ، وقوله: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [مريم: 47] فالوعد كان من إبراهيم عليه السلام. ويدل على ذلك ما روي عن الحسن، وحماد الراوية، وابن السميفع، وابن نهيك، ومعاذ القارئ أنهم قرؤوا «وعدها أباه» بالموحدة، وعد ذلك أحد الأحرف الثلاث (1) التي صحفها ابن المقفع في القرآن مما لا يلتفت إليه بعد قراءة غير واحد من السلف به وإن كانت شاذة. وحاصل معنى الآية ما كان لكم الاستغفار بعد التبين واستغفار إبراهيم عليه الصلاة والسلام إنما كان عن موعدة قبل التبين، ومآله أن استغفار إبراهيم عليه السلام كان قبل التبين وينبىء عن ذلك قوله تعالى: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أي لإبراهيم عليه السلام أَنَّهُ أي إن أباه عَدُوٌّ لِلَّهِ أي مستمر على عداوته تعالى وعدم الإيمان به وذلك بأن أوحى إليه عليه السلام أنه مصرّ على الكفر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن ذلك التبين كان بموته كافرا وإليه ذهب قتادة، وقيل: والأنسب بوصف العداوة هو الأول والأمر فيه هين. تَبَرَّأَ مِنْهُ أي قطع الوصلة بينه وبينه، والمراد تنزه عن الاستغفار له وتجانب كل التجانب، وفيه من المبالغة ما ليس في تركه ونظائره إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ أي لكثير التأوه، وهو عند جماعة كناية عن كمال الرأفة ورقة القلب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، وغيرهما عن عبد الله بن شداد قال: قال رجل: يا رسول الله ما الأوّاه؟ قال: الخاشع المتضرع الدعاء. وأخرج أبو الشيخ عن زيد بن أسلم أنه الدعاء المستكن إلى الله تعالى كهيئة المريض المتأوه من مرضه وهو قريب مما قبله: وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد، وقتادة، وعطاء، والضحاك، وعكرمة إنه الموقن بلغة الحبشة، وعن عمرو بن شرحبيل أنه الرحيم بتلك اللغة وأطلق ابن مسعود تفسيره بذلك، وعن الشعبي أنه المسبح. وأخرج البخاري في تاريخه أنه الذي قلبه معلق عند الله تعالى. وأخرج البيهقي في شعب الإيمان وغيره عن كعب أن إبراهيم وصف بالأواه لأنه كان إذا ذكر النار قال أوه من النار أوه. وأخرج أبو الشيخ عن أبي الجوزاء مثله، وإذا صح تفسير رسول الله صلّى الله عليه وسلم له لا ينبغي العدول عنه. نعم ما ذهب إليه الجماعة غير مناف له ومناسبته لما نحن فيه ظاهرة كما لا يخفى، وقد صرح غير واحد أنه فعال للمبالغة من التأوه، وقياس فعله أن يكون ثلاثيا لأن أمثلة المبالغة إنما يطرد أخذها منه، وحكى قطرب له فعلا ثلاثيا فقال: يقال آه يؤوه كقام يقوم أوها وأنكره عليه غيره وقال: لا يقال إلا أوه وتأوه قال المثقب العبدي: إذا ما قمت أرحلها بليل ... تأوه آهة الرجل الحزين وأصل التأوه قوله آه ونحوه مما يقوله الحزين. وفي الدرة للحريري أن الأفصح أن يقال في التأوه أوه بكسر الهاء وضمها وفتحها والكسر أغلب، وعليه قول الشاعر: فأوه لذكراها إذا ما ذكرتها ... ومن بعد أرض بيننا وسماء وقد شدد بعضهم الواو وأسكن الهاء فقال أوه، وقلب بعضهم الواو ألفا فقال آه، ومنهم من حذف الهاء وكسر الواو فقال أو ثم ذكر أن تصريف الفعل من ذلك أوه وتأوه وأن المصدر الآهة والأهة وإن من ذلك قول المثقب السابق   (1) ثانيها في عزة وشقاق حيث قرأ غرة بالمعجمة وثالثها شان يغنيه حيث قرأ يعنيه بالياء المفتوحة والعين المهملة اهـ منه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 34 حَلِيمٌ أي صبور على الأذى صفوح عن الجناية، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان من حلمه عليه السلام أنه إذا آذاه الرجل من قومه قال له: هداك الله تعالى، ولعل تفسيره بالسيد على ما روي عن الحبر مجاز، والجملة استئناف لبيان ما جملة عليه الصلاة والسلام على الموعدة بالاستغفار لأبيه مع شكاسته عليه وسوء خلقه معه كما يؤذن بذلك قوله عليه الصلاة والسلام: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [مريم: 64] ، وقيل: استئناف لبيان ما حمله على الاستغفار. وأورد عليه أنه يشعر بظاهره أن استغفار إبراهيم عليه السلام لأبيه كان عن وفور الرحمة وزيادة الحلم وهو يخالف صدر الآية حيث دل على أنه كان عن موعدة ليس إلا، ولعل المراد أن سبب الاستغفار ليس إلا الموعدة الناشئة عما ذكر فلا إشكال. وفيها تأكيد لوجوب الاجتناب بعد التبين كأنه قيل: إنه عليه الصلاة والسلام تبرأ منه بعد التبين وهو في كمال رقة القلب والحلم فلا بد أن يكون غيره أكثر منه اجتنابا وتبرؤا، وجوز بعضهم أن يكون فاعل وعد ضمير الأب وإِيَّاهُ ضمير إبراهيم عليه الصلاة والسلام أي إلا عن موعدة وعدها إبراهيم أبوه وهي الوعد بالإيمان. قال شيخ مشايخنا صبغة الله أفندي الحيدري: لعل هذا هو الأظهر في التفسير فإن ظاهر هذا السياق أن هذه الآية دفع لما يرد على الآية الأولى من النقض باستغفار إبراهيم لأبيه الكافر ويكفي فيه مجرد كونه في حياة أبيه حيث يحمل ذلك على طلب المغفرة له بالتوفيق للإيمان كما قرر سابقا من غير حاجة إلى حديث الموعدة فيصير إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ كالحشو على التوجيه الأول للضميرين بخلاف هذا التوجيه فإن محصله عليه هو أنه لا يرد استغفار إبراهيم لأبيه نقضا على ما ذكرنا إذ هو إنما صدر عن ظن منه عليه الصلاة والسلام بإيمانه حيث سبق وعده به معه عليه الصلاة والسلام فظن أنه وفى بالوعد وجرى على مقتضى العهد فاستغفر له فلما تبين له أنه لن يفي ولن يؤمن قط أو لم يف ولم يؤمن تبرأ منه. ويمكن أن يوجه ذكر الموعدة على التوجيه الأول أيضا بأن يقال: أراد سبحانه وتعالى تضمين الجواب بكون ذلك الاستغفار في حال حياة المستغفر له وحمله على الطلب المذكور فائدة أخرى هي أنه صلّى الله عليه وسلم لغاية تصلبه في الدين وفرط تعصبه على اليقين ما كان يستغفر له وإن كان جائزا لكن تأوه وتحلم فاستغفر له وفاء بالموعدة التي وعدها إياه فتفطن انتهى، وأنت تعلم أنه على التوجيه الثاني لا يستقيم ما قالوه في استئناف الجملة من أنه لبيان الحامل وكان عليه أن يذكر وجه ذلك عليه، وأيضا قوله رحمه الله تعالى في بيان الفائدة: لكنه تأوه وتحلم حيث نسب فيه الحلم إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام بصيغة التفعل مع وصفه تعالى له عليه الصلاة والسلام بالحليم عثرة لا يقال لصاحبها لعا، وحمل ذلك على المشاكلة مع إرادة فعل مما لا يوافق غرضه وسوق كلامه، فالحق الذي ينبغي أن يعول عليه التفسير الأول للآية وهو الذي يقتضيه ما روي عن الحسن، وغيره من سلف الأمة رضي الله تعالى عنهم. وذكر حديث الموعدة لبيان الواقع في نفس الأمر مع ما فيه من الإشارة إلى تأكيد الاجتناب وتقوية الفرق كأنه قيل: فرق بين بين الاستغفار الذي نهيتم عنه واستغفار إبراهيم عليه السلام فإن استغفاره كان قبل التبين وكان عن موعدة دعاه إليها فرط رأفته وحلمه وما نهيت عنه ليس كذلك. بقي أن هذه الآية يخالفها ظاهر ما رواه البخاري في الصحيح عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: يلقى إبراهيم عليه السلام أباه يوم القيامة وعلى وجهه قترة وغبرة فيقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام: ألم أقل لك لا تعصني فيقول أبوه: اليوم لا أعصيك فيقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام: يا رب إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون فأي خزي أخزى من أبي الأبعد فيقول الله تعالى إني حرمت الجنة على الكافرين ثم يقال: يا إبراهيم ما تحت رجليك؟ فينظر فإذا هو بذيخ متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار. ورواه غيره بزيادة فيتبرأ منه فإن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 35 الآية ظاهرة في انقطاع رجاء إبراهيم عليه السلام اتصاف أبيه بالإيمان وجزمه بأنه لا يغفر له ولذلك تبرأ منه وترك الاستغفار له فإن الاستغفار له مع الجزم بأنه لا يغفر له مما لا يتصور وقوعه من العارف لا سيما مثل الخليل عليه الصلاة والسلام، وقد صرحوا بأن طلب المغفرة للمشرك طلب للتكذيب الله سبحانه نفسه، والحديث ظاهر في أنه عليه الصلاة والسلام يطلب ذلك له يوم القيامة ولا ييأس من نجاته إلا بعد المسخ فإذا مسخ يئس منه وتبرأ. وأجاب الحافظ ابن حجر عن المخالفة بجوابين بحث فيهما بعض فضلاء الروم، ومن الغريب قوله في الجواب الثاني: إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يتيقن موت أبيه على الكفر لجواز أن يكون آمن في نفسه ولم يطلع عليه الصلاة والسلام على ذلك ويكون وقت تبريه منه بعد الحالة التي وقعت في الحديث فإنه مخالف مخالفة ظاهرة لما يفهم من الآية من أن التبين والتبري كان كل منهما في الدنيا، وأجاب ذلك البعض بأنا لا نسلم التخالف بين الآية والحديث، وإنما يكون بينهما ذلك لو كان في الحديث دلالة على وقوع الاستغفار من إبراهيم لأبيه وطلب الشفاعة له وليس فليس، وقوله: يا رب إنك وعدتني إلخ أراد به عليه الصلاة والسلام محض الاستفسار عن حقيقة الحال فإنه اختلج في صدره الشريف أن هذه الحال الواقعة على أبيه خزي له وأن خزي الأب خزي الابن فيؤدي ذلك إلى خلف الوعد المشار إليه بقوله: إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، وأنت خبير بأن الخبر ظاهر في الشفاعة، وهي استغفار كما يدل عليه كلام المتكلمين في ذلك المقام. ويزيد ذلك وضوحا أن الحاكم أخرج عن أبي هريرة أيضا وصححه، وقال على شرط مسلم: إن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «يلقى رجل أباه يوم القيامة فيقول: يا أبت أي ابن كنت لك؟ فيقول: خير ابن. فيقول: هل أنت مطيعي اليوم؟ فيقول: نعم. فيقول خذ بإزرتي فيأخذ بإزرته ثم ينطلق حتى يأتي الله تعالى وهو يفصل بين الخلق فيقول: يا عبدي ادخل من أي أبواب الجنة شئت فيقول: أي رب وأبي معي فإنك وعدتني أن لا تخزيني قال فيمسخ أباه ضبعا فيهوى في النار فيأخذ بأنفه فيقول سبحانه: يا عبدي هذا أبوك فيقول: لا وعزتك» ، وقال الحافظ المنذري: إنه في صحيح البخاري إلا أنه قال: «يلقى إبراهيم أباه» وذكر القصة إذ يفهم من ذلك أن الرجل في حديث الحاكم هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام وطلبه المغفرة لأبيه فيه وإدخاله الجنة أظهر منهما في حديث البخاري وما ذكره الزمخشري مخالفا على ما قيل: لما شاع عن المعتزلة أن امتناع جواز الاستغفار للكافر إنما علم بالوحي لا بالعقل لأن العقل يجوز أن يغفر الله تعالى للكافر، ألا ترى إلى قوله صلّى الله عليه وسلم لأبي طالب: لأستغفرن لك ما لم أنه لا ينفع في هذا الغرض إلا إذا ضم إليه عدم علم إبراهيم عليه الصلاة والسلام ذلك بالوحي إلى يوم القيامة وهو مما لا يكاد يقدم عليه عاقل فضلا عن فاضل. وأجاب بعض المعاصرين أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان عالما بكفر أبيه ومتيقنا بأن الله تعالى لا يغفر أن يشرك به إلا أن الشفقة والرأفة الطبيعية غلبت عليه حين رأى أباه في عرصات يوم القيامة وعلى وجهه قترة فلم يملك نفسه أن طلب ما طلب، ونظير ذلك من وجه قول نوح عليه الصلاة والسلام لربه سبحانه: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ [هود: 45] ولا يخفى أنه من الفساد بمكان ومثله ما قيل: إنه ظن استثناء أبيه من عموم إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: 48، 116] لأن الله وعده أن لا يخزيه فقدم على الشفاعة له، ولعمري لا يقدم عليه إلا جاهل بجهله. أما الأول فلأن الأنبياء عليهم السلام أجل قدرا من أن تغلبهم أنفسهم على الإقدام على ما فيه تكذيب الله تعالى نفسه، وأما الثاني فلأنه لو كان لذلك الظن أصل ما كان يتبرأ منه عليه السلام في الدنيا بعد أن تبين له أنه عدو لله وهو الأواه الحليم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 36 وقيل: إن الأحسن في الجواب التزام أن ما في الخبرين ليس من الشفاعة في شيء ويقال: إن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ظن أن خزي أبيه في معنى الخزي له فطلب بحكم وعد الله سبحانه إياه أن لا يخزيه تخليصه من ذلك حسبما يمكن فخلصه منه بمسخ ذيخا، ولعل ذلك مما يعده إبراهيم عليه السلام تخليصا له من الخزي لاختلاف النوع وعدم معرفة العارفين لأبيه بعد أنه أبوه فكأن الأبوة انقطعت من البين ويؤذن بذلك أنه بعد المسخ يأخذ سبحانه بأنفه فيقول له عليه السلام: يا عبدي هذا أبوك؟ فيقول: لا وعزتك، ولعل المراد من التبري في الرواية السابقة في الخبر الأول هو هذا القول، وتوسيط حديث تحريم الجنة على الكافرين ليس لأن إبراهيم عليه السلام كان طالبا إدخال أبيه فيها بل لإظهار عدم إمكان هذا الوجه من التخليص إقناطا لأبيه وإعلاما له بعظم ما أتى به، ويحمل قوله عليه السلام في خبر الحاكم حين يقال له: يا عبدي ادخل من أي أبواب الجنة شئت أي رب وأبي معي على معنى أأدخل وأبي واقف معي، والمراد لا أدخل وأبي في هذه الحال وإنما أدخل إذا تغيرت، ويكون قوله عليه السلام: فإنك وعدتني أن لا تخزيني تعليلا للنفي المدلول عليه بالاستفهام المقدر وحينئذ يرجع الأمر إلى طلب التخليص عما ظنه خزيا له أيضا فيمسخ ضبعا لذلك. ولا يرد أن التخليص ممكن بغير المسخ المذكور لأنا نقول: لعل اختيار ذلك المسخ دون غيره من الأمور الممكنة ما عدا دخول الجنة لحكمة لا يعلمها إلا هو سبحانه، وقد ذكروا أن حكمة مسخه ضبعا دون غيره من الحيوانات أن الضبع أحمق الحيوانات ومن حمقه أنه يغفل عما يجب له التيقظ ولذلك قال علي كرم الله تعالى وجهه: لا أكون كالضبع يسمع الكدم فيخرج له حتى يصاد وآزر لما لم يقبل النصيحة من أشفق الناس عليه زمان إمكان نفعها له وأخذ بإزرته حين لا ينفعه ذلك شيئا كان أشبه الخلق بالضبع فمسخ ضبعا دون غيره لذلك، ولم يذكروا حكمة اختيار المسخ دون غيره وهو لا يخلو عن حكمة والجهل بها لا يضر انتهى. ولا يخفى ما في هذا الجواب من التكلف، وأولى منه التزام كون فاعل وعد ضمير الأب وضمير إِيَّاهُ راجعا إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام وكون التبين والتبري واقعين في الآخرة حسبما تضمنه الخبران السابقان، فحينئذ لا يبعد أن يكون إبراهيم مستغفرا لأبيه بعد وعده إياه بالإيمان طالبا له الجنة لظن أنه وفى بوعده حتى يمسخ ذيخا، لكن لا يساعد عليه ظاهر الآية ولا المأثور عن سلف الأمة وإن صح كون الآية عليه دفعا لما يرد على الآية الأولى من النقض أيضا بالعناية، ولعل أخف الأجوبة مؤنة كون مراد إبراهيم عليه الصلاة والسلام من تلك المحاورة التي تصدر منه في ذلك الموقف إظهار العذر فيه لأبيه وغيره على أتم وجه لا طلب المغفرة حقيقة، وهذا كما قال المعتزلة في سؤال موسى عليه السلام رؤية الله تعالى مع العلم بامتناعها في زعمهم، والقول بأن أهل الموقف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وغيرهم من سائر المؤمنين والكفار سواء في العلم بامتناع المغفرة للمشرك مثلا في حيز المنع، وربما يدعى عدم المساواة لظاهر طلب الكفار العفو والإخراج من النار ونحو ذلك بل في الخبرين السابقين ما يدل على عدم علم الأب بحقيقة الحال وأنه لا يغفر له فتأمل ذاك والله سبحانه يتولى هداك «وبقي أيضا» أنه استشكل القول بأن استغفار إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأبيه حتى تبين له أنه عدو لله كان في حياته بما في سورة الممتحنة من قوله سبحانه: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ [الممتحنة: 4] إلى قوله سبحانه: إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [الممتحنة: 4] حيث منع من الاقتداء به فيه ولو كان في حياته لم يمنع منه لأنه يجوز الاستغفار بمعنى طلب الإيمان لأحياء المشركين. وأجيب بأنه إنما منع من الاقتداء بظاهره وظن أنه جائز مطلقا كما وقع لبعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك بإذن الله تعالى الهادي. وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً أي ما يستقيم من لطف الله تعالى وأفضاله أن يصف قوما بالضلال عن طريق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 37 الحق ويذمهم ويجري عليهم أحكامه بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ للإسلام حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ بالوحي صريحا أو دلالة ما يَتَّقُونَ أي ما يجب اتقاؤه من محذورات الدين فلا ينزجروا عما نهوا عنه، وكأنه تسلية للذين استغفروا للمشركين قبل البيان حيث أفاد أنه ليس من لطفه تعالى أن يذم المؤمنين ويؤاخذهم في الاستغفار قبل أن يبين أنه غير جائز لمن تحقق شركه لكنه سبحانه يذم ويؤاخذ من استغفر لهم بعد ذلك. والآية على ما روي عن الحسن نزلت حين مات بعض المسلمين قبل أن تنزل الفرائض فقال إخوانهم: يا رسول الله إخواننا الذين ماتوا قبل نزول الفرائض ما منزلتهم وكيف حالهم؟ وعن مقاتل والكلبي أن قوما قدموا على النبي صلّى الله عليه وسلم قبل تحريم الخمر وصرف القبلة إلى الكعبة ثم رجعوا إلى قومهم فحرمت الخمر وصرفت القبلة ولم يعلموا ذلك حتى قدموا بعد زمان إلى المدينة فعلموا ذلك فقالوا: يا رسول الله قد كنت على دين ونحن على غيره فنحن في ضلال فأنزل الله تعالى الآية، وحمل الإضلال فيها على ما ذكرنا هو الظاهر وليس من الاعتزال في شيء كما توهم وكأنه لذلك عدل عنه الواحدي حيث زعم أن المعنى ما كان الله لوقع في قلوبهم الضلالة: واستدل بها على أن الغافل وهو من لم يسمع النص والدليل السمعي غير مكلف، وخص ذلك المعتزلة بما لم يعلم بالعقل كالصدق في الخبر ورد الوديعة فإنه غير موقوف على التوقيف عندهم وهو تفريع على قاعدة الحسن والقبح العقليين ولأهل السنة فيها مقال إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تعليل لما سبق أي إن الله تعالى عليم بجميع الأشياء التي من جملتها حاجتهم إلى البيان فيبين لهم، وقيل: إنه استئناف لتأكيد الوعيد المفهوم مما قبله، وكذا قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من غير شريك له فيه. يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ وقال غير واحد: إنه سبحانه لما منعهم عن الاستغفار للمشركين وإن كانوا أولي قربى وتضمن ذلك وجوب التبري عنهم رأسا بين لهم أن الله سبحانه مالك كل موجود ومتولي أمره والغالب عليه ولا يتأتى لهم ولاية ولا نصر إلا منه تعالى ليتوجهوا إليه جل شأنه بشراشرهم متبرئين عما سواه غير قاصدين إلا إياه لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ قال أصحاب المعاني المراد ذكر التوبة على المهاجرين والأنصار إلا أنه جيء في ذلك بالنبي صلّى الله عليه وسلم تشريفا لهم وتعظيما لقدرهم، وهذا كما قالوا في ذكره تعالى في قوله سبحانه: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الأنفال: 41] إلخ أي عفا سبحانه عن زلات سبقت منهم يوم أحد ويوم حنين، وقيل: المراد ذكر التوبة عليه عليه الصلاة والسلام وعليهم، والذنب بالنسبة إليه صلّى الله عليه وسلم من باب خلاف الأولى نظرا إلى مقامه الجليل، وفسر هنا على ما روي عن ابن عباس بالإذن للمنافقين في التخلف، وبالنسبة إليهم رضي الله تعالى عنهم لا مانع من أن يكون حقيقيا إذ لا عصمة عندنا لغير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ويفسر بما فسر أولا. وجوز أيضا أن يكون من باب خلاف الأولى بناء على ما قيل: إن ذنبهم كان الميل إلى القعود عن غزوة تبوك حيث وقعت في وقت شديد، وقد تفسر التوبة بالبراءة عن الذنب والصون عنه مجازا حيث إنه لا مؤاخذة في كل وظاهر الإطلاق الحقيقة، وفي الآية ما لا يخفى من التحريض والبعث على التوبة للناس كلهم الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ولم يتخلفوا عنه صلّى الله عليه وسلم فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ أي في وقت الشدة والضيق، والتعبير عنه بالساعة لزيادة تعيينه وكانت تلك الشدة حالهم في غزوة تبوك فإنهم كانوا في شدة من الظهر يعتقب العشرة على بعير واحد وفي شدة من الزاد تزودوا التمر المدود والشعير المسوس والإهالة الزنخة وبلغت بهم الشدة أن قسم التمرة اثنان، وربما مصها الجماعة ليشربوا عليها الماء كما روي عن قتادة، وفي شدة من الماء حتى نحروا الإبل واعتصروا فروثها كما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وفي شدة زمان من حمارة القيظ ومن الجدب والقحط، ومن هنا قيل لتلك الغزوة غزوة العسرة ولجيشها جيش العسرة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 38 ووصف المهاجرين والأنصار بالاتباع في هذه الساعة للإشارة إلى أنهم حريون بأن يتوب الله عليهم لذلك وفيه أيضا تأكيد لأمر التحريض السابق مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ بيان لتناهي الشدة وبلوغها الغاية القصوى وهو إشراف بعضهم إلى أن يميلوا إلى التخلف عن النبي صلّى الله عليه وسلم، وقيل: هو إشراف بعضهم إلى أن يميلوا عن الثبات على الإيمان وحمل ذلك على مجرد الهم والوسوسة، وقيل: كان ميلا من ضعفائهم وحديثي عهدهم بالإسلام. وفي كادَ ضمير الشأن وقُلُوبُ فاعل يَزِيغُ والجملة في موضع الخبر لكاد ولا تحتاج إلى رابط لكونها خبرا عن ضمير الشأن وهو المنقول عن سيبويه وإضمار الشأن على ما نقل عن الرضى ليس بمشهور في أفعال المقاربة إلا في كاد وفي الناقصة إلا في كان وليس، وجوز أن يكون اسم كاد ضمير القوم والجملة في موضع الخبر أيضا والرابط عليه الضمير في مِنْهُمْ وهذا على قراءة يَزِيغُ بالياء التحتانية وهي قراءة حمزة، وحفص، والأعمش وأما على قراءة «تزيغ» بالتاء الفوقانية وهي قراءة الباقين فيحتمل أن يكون قُلُوبُ اسم كاد و «تزيغ» خبرها وفيه ضمير يعود على اسمها ولا يصح هذا على القراءة الأولى لتذكير ضمير يزيغ، وتأنيث ما يعود إليه وقد ذكر هذا الوجه منتخب الدين الهمداني وأبو طالب المكي وغيرهما. وتعقبه في الكشف بأن في جعل القلوب اسم كاد خلاف وضعه من وجوب تقديم اسمه على خبره كما ذكره الشيخ ابن الحاجب في شرح المفصل. وفي البحر أن تقديم خبر كاد على اسمها مبني على جواز تركيب كان يقوم زيد وفيه خلاف والأصح المنع، وأجاب بعض فضلاء الروح بأن أبا علي جوز ذلك وكفى به حجة، وبأن عليه كلام ابن مالك في التسهيل وكذا كلام شراحه ومنهم أبو حيان وجرى عليه في ارتشافه أيضا، ولا يعبأ بمخالفته في البحر إذ مبني ذلك القياس على باب كان وهو لا يصادم النص عن أي علي، على أن في كون أبي حيان من أهل القياس منعا ظاهرا فألحق الجواز، ويحتمل أن يكون اسم كاد ضميرا يعود على جمع المهاجرين والأنصار أي من بعد ما كاد الجمع، وقدر ابن عطية مرجع الضمير القوم أي من بعد ما كاد القوم. وضعف بأنه أضمر في كاد ضمير لا يعود إلا على متوهم، وبأن خبرها يكون قد رفع سببيا وقد قالوا: إنه لا يرفع إلا ضميرا عائدا على اسمها وكذا خبر سائر أخواتها ما عدا عسى في رأى، ولا يخفى ورود هذا أيضا على توجيهي القراءة الأولى لكن الأمر على التوجيه الأول سهل. وجوز الرضى تخريج الآية على التنازع وهو ظاهر على القراءة الثانية ويتعين حينئذ إعمال الأول إذ لو أعمل الثاني لوجب أن يقال في الأول «كادت» كما قرأ به أبي رضي الله تعالى عنه. ولا يجوز كاد إلا عند الكسائي فإنه يحذف الفاعل، وكأن الرضي لم يبال بما لزم على هذا التخريج من تقديم خبر كاد على اسمه لما عرفت من أنه ليس بمحذور على ما هو الحق. وذهب أبو حيان إلى أن كادَ زائدة ومعناها مراد ككان ولا عمل لها في اسم ولا خبر ليخلص من القيل والقال، ويؤيده قراءة ابن مسعود «من بعد ما زاغت» بإسقاط كاد، وقد ذهب الكوفيون إلى زيادتها في نحو لم يكد مع أنها عاملة معمولة فهذا أولى. وقرأ الأعمش «تزيغ» بضم التاء، وجعلوا الضمير على قراءة ابن مسعود للمتخلفين سواء كانوا من المنافقين أم لا كأبي لبابة ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ تكرير للتأكيد بناء على أن الضمير للنبي صلّى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار رضي الله تعالى عنهم، والتأكيد يجوز عطفه بثم كما صرح به النحاة وإن كان كلام أهل المعاني يخالفه ظاهرا، وفيه تنبيه على أن توبته سبحانه في مقابلة ما قاسوه من الشدائد كما دل عليه التعليق بالموصول، ويحتمل أن يكون الضمير للفريق، والمراد أنه تاب عليهم لكيدودتهم وقربهم من الزيغ لأنه جرم محتاج إلى التوبة عليه فلا تكرار لما سبق، وقوله: إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ استئناف تعليلي فإن صفة الرأفة والرحمة من دواعي التوبة والعفو، وجوز كون الأول عبارة عن إزالة الضرر والثاني عن إيصال النفع، وأن يكون أحدهما للسوابق والآخر للواحق وَعَلَى الثَّلاثَةِ عطف على النَّبِيِّ، وقيل: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 39 إن تابَ مقدر في نظم الكلام لتغاير هذه التوبة والتوبة السابقة وفيه نظر، أي وتاب على الثلاثة الَّذِينَ خُلِّفُوا أي خلف أمرهم وأخر عن أمر أبي لبابة وأصحابه حيث لم يقبل منهم معذرة مثل أولئك ولا ردت ولم يقطع في شأنهم بشيء إلى أن نزل الوحي بهم، فالإسناد إليهم إما مجاز أو بتقدير مضاف في النظم الجليل، وقد يفسر المتعدي باللازم أي الذين تخلفوا عن الغزو وهم: كعب بن مالك من بني سلمة، وهلال بن أمية من بني واقف، ومرارة بن الربيع من بني عمرو بن عوف، ويقال فيه ابن ربيعة، وفي مسلم، وغيره وصفه بالعامري وصوب كثير من المحدثين العمري بدله. وقرأ عكرمة، وزر بن حبيش وعمرو بن عبيد «خلفوا» بفتح الخاء واللام خفيفة أي خلفوا الغازين بالمدينة أو فسدوا من الخالفة وخلوف الفم، وقرأ علي بن الحسين ومحمد الباقر وجعفر الصادق رضي الله تعالى عنهم وأبو عبد الرحمن السلمي «خالفوا» ، وقرأ الأعمش: «وعلى المخلفين» وظاهر قوله تعالى: حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ أنه غاية للتخليف بمعنى تأخير الأمر أي أخر أمرهم إلى أن ضاقت عليهم الأرض بِما رَحُبَتْ أي برحبها وسعتها لإعراض الناس عنهم وعدم مجالستهم ومحادثتهم لهم لأمر النبي صلّى الله عليه وسلم لهم بذلك وهو مثل لشدة الحيرة، والمراد أنهم لم يقروا في الدنيا مع سعتها وهو كما قيل: كأن بلاد الله وهي فسيحة ... على الخائف المطلوب كفة حابل وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ أي قلوبهم وعبر عنها بذلك مجازا لأن قيام الذوات بها، ومعنى ضيقها غمها وحزنها كأنها لا تسع السرور لضيقها، وفي هذا ترق من ضيق الأرض عليهم إلى ضيقهم في أنفسهم وهو في غاية البلاغة وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ أي علموا أن لا ملجأ من سخطه إلا إلى استغفاره والتوبة إليه سبحانه، وحمل الظن على العلم لأنه المناسب لهم ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ أي وفقهم للتوبة لِيَتُوبُوا أو أنزل قبول توبتهم في القرآن وأعلمهم بها ليعدهم المؤمنون في جملة التائبين أو رجع عليهم بالقبول والرحمة مرة بعد أخرى ليستقيموا على التوبة ويستمروا عليها، وقيل: التوبة ليست هي المقبولة، والمعنى قبل توبتهم من التخلف ليتوبوا في المستقبل إذ صدرت منهم هفوة ولا يقنطوا من كرمه سبحانه إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ المبالغ في قبول التوبة لمن تاب ولو عاد في اليوم مائة مرة الرَّحِيمُ المتفضل عليهم بفنون الآلاء مع استحقاقهم لأفانين العقاب. أخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وأحمد، والبخاري، ومسلم، والبيهقي من طريق الزهري قال: أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب بن مالك وكان قائد كعب من بنيه حين عمي قال: «سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في غزاة تبوك قال كعب: لم أتخلف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في غزاة غزاها قط إلا في غزوة تبوك غير أني كنت تخلفت في غزاة بدر ولم يعاتب أحدا تخلف عنها إنما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم يريد عير قريش حتى جمع الله تعالى بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد ولقد شهدت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وأشهر، وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزاة، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزاة، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قلما يريد غزاة إلا ورى بغيرها حتى كانت الغزوة فغزاها رسول الله صلّى الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفرا بعيدا ومفاوز، واستقبل عدوا كثيرا فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم وأخبرهم بوجهه الذي يريد والمسلمون مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم كثير لا يجمعهم كتاب حافظ- يريد الديوان- قال كعب فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى له ما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 40 لم ينزل فيه وحي من الله عز وجل وغزا رسول الله صلّى الله عليه وسلم تلك الغزاة حين طابت الثمار والظل وأنا إليها أصغرهم فتجهز إليها رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمؤمنون معه وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم فأرجع ولا أقضي شيئا فأقول لنفسي أنا قادر على ذلك إذا أردت فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجد فأصبح رسول الله صلّى الله عليه وسلم غاديا والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا وقلت أتجهز بعد يوم أو يومين ثم ألحقه فغدوت يوم ما فصلوا لا تجهز فرجعت ولم أقض من جهازي شيئا ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى انتهوا وتفارط الغزو فهممت أن أرتحل فأدركهم وليت أني فعلت ثم لم يقدر ذلك لي وطفقت إذا خرجت في الناس بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحزنني أن لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق أو رجلا ممن عذره الله تعالى ولم يذكرني رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك: ما فعل كعب بن مالك قال رجل من بني سلمة: حبسه يا رسول الله برداه والنظر في عطفيه فقال له معاذ بن جبل: بئسما قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلما بلغني أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد توجه قافلا من تبوك حضرني شيء فطفقت أتفكر الكذب، وأقول: بماذا أخرج من سخطه غدا أستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي فلما قيل: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل وعرفت أني لم أنج منه بشيء أبدا فأجمعت صدقة فأصبح رسول الله صلّى الله عليه وسلم قادما، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع ركعتين ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاء المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلم علانيتهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله تعالى حتى جئت فلما سلمت عليه عليه الصلاة والسلام تبسم تبسم المغضب ثم قال لي: تعال فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي: ما خلفك ألم تكن قد اشتريت ظهرك؟ فقلت: يا رسول الله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر لقد أعطيت جدلا ولكن والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم بحديث كذب ترضى عني به ليوشكن الله تعالى بسخطك علي ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه أني لأرجو فيه عقبى من الله تعالى، والله ما كان لي عذر والله ما كنت قط أفرغ ولا أيسر مني حين تخلفت عنك فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله تعالى فيك فقمت وبادرني رجال من بني سلمة واتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون ولقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: فو الله ما زالوا يرايبوني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي، ثم قلت: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم لقيه معك رجلان قالا ما قلت وقيل لهما مثل ما قيل لك فقلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع وهلال بن أمية فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا لي فيهما أسوة فمضيت حين ذكروهما لي قال: ونهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي كنت أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم فكنت أشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف بالأسواق فلا يكلمني أحد وآتي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة فأسلم وأقول في نفسي هل حرك شفتيه برد السلام أم لا ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إلي فإذا التفت نحوه أعرض حتى إذا طال عليّ ذلك من هجر المسلمين مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة- وهو ابن عمي وأحب الناس إلي- فسلمت عليه فو الله ما رد السلام علي فقلت له: أبا قتادة أنشدك الله تعالى هل تعلم أني أحب الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم؟ فسكت فعدت فنشدته فسكت فعدت فنشدته فقال: الله تعالى ورسوله أعلم ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار، فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له إلي حتى جاء فدفع إلي كتابا من ملك غسان وكنت كاتبا فإذا فيه: أما بعد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 41 فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك ولم يجعلك الله تعالى بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسيك. فقلت حين قرأتها: وهذه أيضا من البلاء فتيممت بها التنور فسجرته فيها حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا برسول رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك قلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: بل اعتزلها ولا تقربها وأرسل إلي صاحبي مثل ذلك فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك لتكوني عندهم حتى يقضي الله تعالى في هذا الأمر، فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن هلالا شيخ ضائع، وليس له خادم فهل تكره أن أخدمه؟ فقال: لا ولكن لا يقربنك قالت: وإنه والله ما به حركة إلى شيء والله ما زال يبكي من لدن أن كان من أمره ما كان إلى يومه هذا. فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم وما أدري ماذا يقول إذا استأذنته وأنا رجل شاب قال: فلبثت عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى عنا قد ضاقت عليّ الأرض بما رحبت سمعت صارخا أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء فرج فآذن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بتوبة الله تعالى علينا حين صلى الفجر فذهب الناس يبشروننا وذهب قبل صاحبي مبشرون وركض إليّ رجل فرسا وسعى ساع من أسلم وأوفى على الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي وكسوتهما إياه ببشارته والله ما أملك غيرهما يومئذ فاستعرت ثوبين فلبستهما فانطلقت أؤم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فتلقاني الناس فوجا بعد فوج يهنئونني بالتوبة يقولون: ليهنك توبة الله تعالى عليك حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلم جالس في المسجد حوله الناس فقام إلى طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني والله ما قام إلى رجل من المهاجرين غيره قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور: ابشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: لا بل من عند الله تعالى، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم قال: أمسك بعض مالك فهو خير لك قلت: إني أمسك سهمي الذي بخيبر وقلت: يا رسول الله إنما نجاني الله تعالى بالصدق وإن من توبتي أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت، فو الله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله تعالى في الصدق بالحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني الله تعالى، والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك إلى يومي هذا وإني لأرجو أن يحفظني الله تعالى فيما بقي قال: وأنزل الله تعالى لَقَدْ تابَ الآية فو الله ما أنعم الله تعالى عليّ من نعمة قط بعد أن هداني الله سبحانه للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله عليه الصلاة والسلام يومئذ أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوه فإن الله تعالى قال للذين كذبوه حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد فقال: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إلى قوله سبحانه: الْفاسِقِينَ [التوبة: 95، 96] » . وجاء في رواية عن كعب رضي الله تعالى عنه قال: «نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن كلامي وكلام صاحبي فلبثت كذلك حتى طال علي الأمر وما من شيء أهم إلي من أن أموت فلا يصلي علي رسول الله صلّى الله عليه وسلم أو يموت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأكون من الناس بتلك المنزلة فلا يكلمني أحد منهم ولا يصلى علي فأنزل الله تعالى توبتنا على نبيه صلّى الله عليه وسلم حين بقي الثلث الأخير من الليل ورسول الله صلّى الله عليه وسلم عند أم سلمة، وكانت محسنة في شأني معينة في أمري، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يا أم سلمة تيب على كعب بن مالك قالت: أفلا أرسل إليه أبشره؟ قال إذا تحطمكم الناس فيمنعونكم النوم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 42 سائر الليل حتى إذا صلى صلّى الله عليه وسلم صلاة الفجر آذن بتوبة الله تعالى علينا» . هذا وفي وصفه سبحانه هؤلاء بما وصفهم به دلالة وأية دلالة على قوة إيمانهم وصدق توبتهم، وعن أبي بكر الوراق أنه سئل عن التوبة النصوح فقال: أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت وتضيق عليه نفسه كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ فيما لا يرضاه وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ أي مثلهم في صدقهم: وأخرج ابن الأنباري عن ابن عباس أنه كان يقرأ «وكونوا من الصادقين» وكذا روى البيهقي وغيره عن ابن مسعود أنه كان يقرأ كذلك، والخطاب قيل: لمن آمن من أهل الكتاب وروي ذلك عن ابن عباس فيكون المراد بالصادقين الذين صدقوا في إيمانهم ومعاهدتهم الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم على الطاعة: وجوز أن يكون عاما لهم ولغيرهم فيكون المراد بالصادقين الذين صدقوا في الدين نية وقولا وعملا، وأن يكون خاصا بمن تخلف وربط نفسه بالسواري، فالمناسب أن يراد بالصادقين الثلاثة أي كونوا مثلهم في الصدق وخلوص النية. وأخرج ابن المنذر وابن جرير عن نافع أن الآية نزلت في الثلاثة الذين خلفوا، والمراد بالصادقين محمد صلّى الله عليه وسلم وأصحابه، وبذلك فسره ابن عمر كما أخرجه ابن أبي حاتم وغيره، وعن سعيد بن جبير أن المراد كونوا مع أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما. وأخرج ابن عساكر وآخرون عن الضحاك أنه قال: أمروا أن يكونوا مع أبي بكر، وعمر، وأصحابهما. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن عساكر عن أبي جعفر أن المراد كونوا مع علي كرم الله تعالى وجهه. وبهذا استدل بعض الشيعة على أحقيته كرم الله تعالى وجهه بالخلافة، وفساده على فرض صحة الرواية ظاهر. وعن السدي أنه فسر ذلك بالثلاثة ولم يتعرض للخطاب، والظاهر عموم الخطاب ويندرج فيه التائبون اندراجا أوليا، وكذا عموم مفعول اتَّقُوا ويدخل فيه المعاملة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أمر المغازي دخولا أوليا أيضا، وكذا عموم الصَّادِقِينَ ويراد بهم ما تقدم على احتمال عموم الخطاب. وفي الآية ما لا يخفى من مدح الصدق، واستدل بها كما قال الجلال السيوطي من لم يبح الكذب في موضع من المواضع لا تصريحا ولا تعريضا. وأخرج غير واحد عن ابن مسعود أنه قال: لا يصلح الكذب في جد ولا هزل ولا أن يعد أحدكم صبيته شيئا ثم لا ينجزه وتلا الآية، والأحاديث في ذمه أكثر من أن تحصى، والحق إباحته في مواضع، فقد أخرج ابن أبي شيبه وأحمد عن أسماء بنت يزيد عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا رجل كذب في خديعة حرب أو إصلاح بين اثنين أو رجل يحدث امرأته ليرضيها» ، وكذا إباحة المعاريض. فقد أخرج ابن عدي عن عمران بن حصين قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب» ما كانَ أي ما صح ولا استقام لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ كمزينة، وجهينة، وأشجع، وغفار، وأسلم. وإضرابهم أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ عند توجهه عليه الصلاة والسلام إلى الغزو وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ أي لا يصرفوها عن نفسه الكريمة ولا يصونوها عما لم يصنها عنه بل يكابدون ما يكابده من الشدائد، وأصله لا يترفعوا بأنفسهم عن نفسه بأن يكرهوا لأنفسهم المكاره ولا يكرهوها له عليه الصلاة والسلام بل عليهم أن يعكسوا القضية، وإلى هذا يشير كلام الواحدي حيث قال: يقال رغبت بنفسي عن هذا الأمر أي ترفعت عنه. وفي النهاية يقال: رغبت بفلان عن هذا الأمر أي كرهت له ذلك. وجوز في يَرْغَبُوا النصب بعطفه على يَتَخَلَّفُوا المنصوب بأن وإعادة لا لتذكير النفي وتأكيده وهو الظاهر والجزم على النهي وهو المراد من الكلام إلا أنه عبر عنه بصيغة النفي للمبالغة، وخص أهل المدينة بالذكر لقربهم منه عليه عليه الصلاة والسلام وعلمهم بخروجه، وظاهر الآية وجوب النفير إذا خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى الغزو بنفسه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 43 وذكر بعضهم أنه استدل بها على أن الجهاد كان فرض عين في عهده عليه الصلاة والسلام وبه قال ابن بطال: وعلله بأنهم بايعوه عليه عليه الصلاة والسلام فلا يجب النفير مع أحد من الخلفاء ما لم يلم العدو ولم يمكن دفعه بدونه، وقدر بعضهم في الآية مضافا إلى رسول الله أي أن يتخلفوا عن حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو خلاف الظاهر وعليه يكون الحكم عاما وفيه بحث. وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن زيد أن حكم الآية حين كان الإسلام قليلا فلما كثر وفشا قال الله تعالى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً، وأنت تعلم أن الإسلام كان فاشيا عند نزول هذه السورة، ولا يخفى ما في الآية من التعريض بالمتخلفين رغبة باللذائذ وسكونا إلى الشهوات غير مكثرين بما يكابد عليه الصلاة والسلام، وقد كان تخلف جماعة عنه صلّى الله عليه وسلم كما علمت لذلك، وجاء أن أناسا من المسلمين تخلفوا ثم إن منهم من ندم وكره مكانه فلحق برسول الله صلّى الله عليه وسلم غير مبال بالشدائد كأبي خيثمة فقد روي «أنه رضي الله تعالى عنه بلغ بستانه وكانت له امرأة حسناء فرشت له في الظل وبسطت له الحصير وقربت إليه الرطب والماء البارد فنظر فقال: ظل ظليل ورطب يانع وماء بارد وامرأة حسناء ورسول الله صلّى الله عليه وسلم في الضح والريح ما هذا بخير مقام فرحل ناقته وأخذ سيفه ورمحه ومر كالريح فمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم طرفه إلى الطريق فإذا براكب يزهاه السراب فقال عليه الصلاة والسلام: كن أبا خيثمة فكانه ففرح به رسول الله صلّى الله عليه وسلم واستغفر له» ذلِكَ إشارة إلى ما دل عليه الكلام من وجوب المشايعة بِأَنَّهُمْ أي بسبب أنهم لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ أي شيء من العطش. وقرىء بالمد والقصر وَلا نَصَبٌ ولا تعب ما وَلا مَخْمَصَةٌ ولا مجاعة ما فِي سَبِيلِ اللَّهِ في جهاد أعدائه أو في طاعته سبحانه مطلقا وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ أي يغضبهم ويضيق صدورهم والوطء والدوس بالأقدام ونحوها كحوافر الخيل وقد يفسر بالإيقاع والمحاربة. ومنه قوله صلّى الله عليه وسلم «آخر وطأة وطأها الله تعالى بوج» والموطئ اسم مكان على الأشهر الأظهر، وفاعل يَغِيظُ ضميره بتقدير مضاف أي يغيظ وطؤه لأن المكان نفسه لا يغيظ، ويحتمل أن يكون ضميرا عائدا إلى الوطء الذي في ضمنه، وإذا جعل الموطئ مصدرا كالمورد فالأمر ظاهر وَلا يَنالُونَ أي ولا يأخذون مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا أي شيئا من الأخذ فهو مصدر كالقتل والأسر والفعل نال ينيل. وقيل: نال ينول فأصل نيلا نولا فأبدلت الواو ياء على غير القياس، ويجوز أن يكون بمعنى المأخوذ فهو مفعول به لينالون أي لا ينالون شيئا من الأشياء إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ أي بالمذكور وهو جميع ما تقدم ولذا وحد الضمير، ويجوز أن يكون عائدا على كل واحد من ذلك على البدل: قال النسفي: وحد الضمير لأنه لما تكررت لا صار كل واحد منها على البدل مفردا بالذكر مقصودا بالوعد، ولذا قال فقهاؤنا: لو حلف لا يأكل خبزا ولا لحما حنث بواحد منهما ولو حلف لا يأكل لحما وخبزا لم يحنث إلا بالجمع بينهما، والجملة في محل نصب على الحال من ظَمَأٌ وما عطف عليه أي لا يصيبهم ظمأ ولا كذا إلا مكتوبا لهم به عَمَلٌ صالِحٌ أي ثواب ذلك فالكلام بتقدير مضاف، وقد يجعل كناية عن الثواب وأول به لأنه المقصود من كتابة الأعمال، والتنوين للتفخيم، والمراد أنهم يستحقون ذلك استحقاقا لازما بمقتضى وعده تعالى لا بالوجوب عليه سبحانه. واستدل بالآية على أن من قصد خيرا كان سعيه فيه مشكورا من قيام وقعود ومشي وكلام وغير ذلك، وعلى أن المدد يشارك الجيش في الغنيمة بعد انقضاء الحرب لأن وطء ديارهم مما يغيظهم. ولقد أسهم النبي صلّى الله عليه وسلم لا بني عامر وقد قدما بعض تقضي الحرب، واستدل بها- على ما نقل الجلال السيوطي- أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه على جواز الزنا بنساء أهل الحرب في دار الحرب إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ على إحسانهم، والجملة في موضع التعليل للكتب، والمراد بالمحسنين إما المبحوث عنهم ووضع المظهر موضع المضمر لمدحهم والشهادة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 44 لهم بالانتظام في سلك المحسنين وأن أعمالهم من قبيل الإحسان وللإشعار بعلية المأخذ للحكم وإما الجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً ولو تمرة أو علاقة سوط وَلا كَبِيرَةً كما أنفق عثمان رضي الله تعالى عنه في جيش العسرة، وذكر الكبيرة بعد الصغيرة وإن علم من الثواب على الأولى الثواب على الثانية لأن المقصود التعميم لا خصوص المذكور إذ المعنى ولا ينفقون شيئا ما فلا يتوهم أن الظاهر العكس، وفي إرشاد العقل السليم أن الترتيب باعتبار كثرة الوقوع وقلته، وتوسيط لا للتنصيص على استبداد كل منهما بالكتب والجزاء لا لتأكيد النفي كما في قوله تعالى شأنه: وَلا يَقْطَعُونَ أي ولا يتجاوزون في سيرهم لغزو وادِياً وهو في الأصل اسم فاعل من ودى إذا سال فهو بمعنى السيل نفسه ثم شاع في محله وهو المنعرج من الجبال والآكام التي يسيل فيها الماء ثم صار حقيقة في مطلق الأرض ويجمع على أودية كناد على أندية وناج على أنجية ولا رابع لهذه على ما قيل في كلام العرب إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ أي أثبت لهم أو كتب في الصحف أو اللوح ولا يفسر الكتب بالاستحقاق لمكان التعليل بعد، وضمير كُتِبَ على طرز ما سبق أي المذكور أو كل واحد، وقيل: هو للعمل وليس بذاك، وفصل هذا وآخر لأنه أهون مما قبله لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ بذلك أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي أحسن جزاء أعمالهم على معنى أن لأعمالهم جزاء حسنا وأحسن وهو سبحانه اختار لهم أحسن جزاء فانتصاب أَحْسَنَ على المصدرية لإضافته إلى مصدر محذوف. وقال الإمام: فيه وجهان: الأول أن الأحسن صفة عملهم وفيه الواجب، والمندوب، والمباح فهو يجزيهم على الأولين دون الأخير، والظاهر أن نصب أَحْسَنَ حينئذ على أنه بدل اشتمال من ضمير يجزيهم كما قيل. وأورد عليه أنه ناء عن المقام مع قلة فائدته لأن حاصله أنه تعالى يجزيهم على الواجب والمندوب وأن ما ذكر منه ولا يخفى ركاكته وأنه غير خفي على أحد وكونه كناية عن العفو عما فرط منهم في خلاله أن وقع لأن تخصيص الجزاء به يشعر بأنه لا يجازى على غيره خلاف الظاهر، ثم قال: الثاني أن الأحسن صفة للجزاء أي ليجزيهم جزاء هو أحسن من أعمالهم وأفضل وهو الثواب. واعترضه أبو حيان بأنه إذا كان الأحسن صفة الجزاء كيف يضاف إلى الأعمال وليس بعضا منها وكيف يفضل عليهم بدون من، ولا وجه لدفعه بأن أصله مما كانوا إلخ فحذف من مع بقاء المعنى على حاله كما قيل لأنه لا محصل له. هذا ووصف النفقة بالصغيرة والكبيرة دون القليلة والكثيرة مع أن المراد ذلك قيل حملا للطاعة على المعصية فإنها إنما توصف بالصغيرة والكبيرة في كلامهم دون القليلة والكثيرة فتأمل وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً أي ما استقام لهم أن يخرجوا إلى الغزو جميعا. روى الكلبي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه تعالى لما شدد على المتخلفين قالوا: لا يتخلف منا أحد عن جيش أو سرية أبدا ففعلوا ذلك وبقي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وحده فنزل وَما كانَ إلخ والمراد نهيهم عن النفير جميعا لما فيه من الإخلال بالتعلم فَلَوْلا نَفَرَ لولا هنا تحضيضية، وهي مع الماضي تفيد التوبيخ على ترك الفعل ومع المضارع تفيد طلبه والأمر به لكن اللوم على الترك فيما يمكن تلافيه قد يفيد الأمر به في المستقبل أي فهلا نفر مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ أي جماعة كثيرة مِنْهُمْ كأهل بلدة أو قبيلة عظيمة طائِفَةٌ أي جماعة قليلة، وحمل الفرقة والطائفة على ذلك مأخوذ من السياق ومن التبعيضية لأن البعض في الغالب أقل من الباقي وإلا فالجوهري لم يفرق بينهما، وذكر بعضهم أن الطائفة قد تقع على الواحد، وآخرون أنها لا تقع وأن أقلها اثنان، وقيل: ثلاثة لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ أي ليتكلفوا الفقاهة فيه فصيغة التفعل للتكلف، وليس المراد به معناه المتبادر بل مقاساة الشدة في طلب ذلك لصعوبته فهو لا يحصل بدون جد وجهد وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ أي عما ينذرون منه وضمير يتفقوا وينذروا عائد إلى الفرقة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 45 الباقية المفهومة من الكلام، وقيل: لا بد من إضمار وتقدير، أي فلولا نفر من كل فرقة طائفة وأقام طائفة ليتفقهوا إلخ. وكان الظاهر أن يقال: ليعلموا بدل لِيُنْذِرُوا ويفقهون بدل يَحْذَرُونَ لكنه اختير ما في النظم الجليل للإشارة إلى أنه ينبغي أن يكون غرض المعلم الإرشاد والإنذار وغرض المتعلم اكتساب الخشية لا التبسط والاستكبار. قال حجة الإسلام الغزالي عليه الرحمة: كان اسم الفقه في العصر الأول اسما لعلم الآخرة ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الأعمال وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة واستيلاء الخوف على القلب وتدل عليه هذه الآية فما به الإنذار والتخويف هو الفقه دون تعريفات الطلاق واللعان والسلم والإجارات، وسأل فرقد السنجي الحسن عن شيء فأجابه فقال: إن الفقهاء يخالفونك فقال الحسن: ثكلتك أمك هل رأيت فقيها بعينك؟ إنما الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة البصير بدينه المداوم على عبادة ربه الورع الكاف عن أعراض المسلمين العفيف عن أموالهم الناصح لجماعتهم، ولم يقل في جميع ذلك الحافظ لفروع الفتاوى اه وهو من الحسن بمكان، لكن الشائع إطلاق الفقيه على من يحفظ الفروع مطلقا سواء كانت بدلائلها أم لا كما في التحرير. وفي البحر عن المنتقى ما يوافقه، واعتبر في القنية الحفظ مع الأدلة فلا يدخل في الوصية للفقهاء من حفظ بلا دليل. وعن أبي جعفر أنه قال: الفقيه عندنا من بلغ في الفقه الغاية القصوى، وليس المتفقه بفقيه وليس له من الوصية نصيب، والظاهر أن المعتبر في الوصية ونحوها العرف وهو الذي يقتضيه كلام كثير من أصحابنا، وذكر غير واحد أن تخصيص الإنذار بالذكر لأنه الأهم وإلا فالمقصود والإرشاد الشامل لتعليم السنن والآداب والواجبات والمباحات والإنذار أخص منه، ودعوى أنهما متلازمان وذكر أحدهما مغن عن الآخر غفلة أو تغافل، وذهب كثير من الناس إلى أن المراد من النفر النفر والخروج لطلب العلم فالآية ليست متعلقة بما قبلها من أمر الجهاد بل لما بين سبحانه وجوب الهجرة والجهاد وكل منهما سفر لعبادة فبعد ما فضل الجهاد ذكر السفر الآخر وهو الهجرة لطلب العلم فضمير يتفقهوا وينذروا للطائفة المذكورة وهي النافرة وهو الذي يقتضيه كلام مجاهد. فقد أخرج عنه ابن جرير. وابن المنذر. وغيرهما أنه قال: إن ناسا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم خرجوا في البوادي فأصابوا من الناس معروفا ومن الخصب ما ينتفعون به ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى فقال لهم الناس: ما نراكم إلا قد تركتم أصحابكم وجئتمونا فوجدوا في أنفسهم من ذلك تحرجا وأقبلوا من البادية كلهم حتى دخلوا على النبي صلّى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ إلخ أي لولا خرج بعض وقعد بعض يبتغون الخير ليتفقهوا في الدين وليسمعوا ما أنزل ولينذروا الناس إذا رجعوا إليهم. واستدل بذلك على أن التفقه في الدين من فروض الكفاية. وما في كشف الحجاب عن أبي سعيد «طلب العلم فريضة على كل مسلم» على تضعيف الصغاني له ليس المراد من العلم فيه إلا ما يتوقف عليه أداء الفرائض ولا شك في أن تعلمه فرض على كل مسلم. وذكر بعضهم أن في الآية دلالة على أن خبر الآحاد حجة لأن عموم كل فرقة يقتضي أن ينفر من كل ثلاثة تفردوا بقرية طائفة إلى التفقه لتنذر قومها كي يتذكروا ويحذروا فلو لم يعتبر الأخبار ما لم تتواتر لم يفد ذلك، وقرر بعضهم وجه الدلالة بأمرين: الأول أنه تعالى أمر الطائفة بالإنذار وهو يقتضي فعل المأمور به وإلا لم يكن إنذارا. والثاني أمره سبحانه القوم بالحذر عند الإنذار لأن معنى قوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ليحذروا وذلك أيضا يتضمن لزوم العمل بخبر الواحد، وهذه الدلالة قائمة على أي تفسير شئت من التفسيرين، ولا يتوقف الاستدلال بالآية على ما ذكر على صدق الطائفة على الواحد الذي هو مبدأ الإعداد بل يكفي فيه صدقها على ما لم يبلغ حد التواتر وإن كان ثلاثة فأكثر، وكذا لا يتوقف على أن لا يكون الترجي من المنذرين بل يكون من الله سبحانه ويراد منه الطلب مجازا كما لا يخفى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 46 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ أي الذين يقربون منكم قربا مكانيا وخص الأمر به مع قوله سبحانه في أول السورة: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] ونحوه قيل: لأنه من المعلوم أنه لا يمكن قتال جميع الكفار وغزو جميع البلاد في زمان واحد فكان من قرب أولى ممن بعد، ولأن ترك الأقرب والاشتغال بقتال الأبعد لا يؤمن معه من الهجوم على الذراري والضعفاء، وأيضا الأبعد لا حد له بخلاف الأقرب فلا يؤمر به، وقد لا يمكن قتال الأبعد قبل قتال الأقرب، وقال بعضهم: المراد قاتلوا الأقرب فالأقرب حتى تصلوا إلى الأبعد فالأبعد وذلك يحصل الغرض من قتال المشركين كافة، فهذا إرشاد إلى طريق تحصيله على الوجه الأصلح. ومن هنا قاتل صلّى الله عليه وسلم أولا قومه ثم انتقل إلى قتال سائر العرب ثم إلى قتال قريظة، والنضير، وخيبر. وأضرابهم ثم إلى قتال الروم فبدأ عليه الصلاة والسلام بقتال الأقرب فالأقرب وجرى أصحابه على سننه صلّى الله عليه وسلم إلى أن وصلت سراياهم وجيوشهم إلى ما شاء الله تعالى وعلى هذا فلا نسخ، وروي عن الحسن أن الآية منسوخة بما تقدم والمحققون على أنه لا وجه له، وزعم الخازن تبعا لغيره أن المراد من الولي ما يعم القرب المكاني والنسبي وهو خلاف الظاهر، وقيل: إنه خاص بالنسبي لأنها نزلت لما تحرج الناس من قتل أقربائهم، ولا يخفى ضعفه. وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً أي شدة كما قال ابن عباس وهي مثلثة الغين، وقرىء بذلك لكن السبعة على الكسر، والمراد من الشدة ما يشمل الجزاءة والصبر على القتال والعنف في القتل والأسر ونحو ذلك، ومن هنا قالوا: إنها كلمة جامعة والأمر على حد- لا أرينك هاهنا- فليس المقصود أمر الكفار بأن يجدوا في المؤمنين ذلك بل أمر المؤمنين بالاتصاف بما ذكر حتى يجدهم الكفار متصفين به وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ بالعصمة والنصرة، والمراد بهم إما المخاطبون والإظهار للتنصيص على أن الإيمان والقتال على الوجه المذكور من باب التقوى والشهادة بكونهم من زمرة المتقين، وإما الجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا، وأيا ما كان فالكلام تعليل وتأكيد لما قبله وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ من سور القرآن فَمِنْهُمْ أي من المنافقين كما روي عن قتادة وغيره مَنْ يَقُولُ على سبيل الإنكار والاستهزاء لإخوانه ليثبتهم على النفاق أو لضعفة المؤمنين ليصدهم عن الإيمان أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ السورة إِيماناً وقرأ عبيد بن عمير «أيكم» بالنصب على تقدير فعل يفسره المذكور ويقدر مؤخرا لأن الاستفهام له الصدر أي أيكم زادت زادته إلخ. واعتبار الزيادة على أول الاحتمالين في المخاطبين باعتبار اعتقاد المؤمنين فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا جواب من جهته تعالى شأنه وتحقيق للحق وتعيين لحالهم عاجلا وآجلا. وقال بعض المدققين: إن الآية دلت على أنهم مستهزئون وأن استهزاءهم منكر فجاء قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ إلخ تفصيلا لهذين القسمين، وجعل ذلك الطيبي تفصيلا لمحذوف وبينه بما لا يميل القلب إليه، وأيا ما كان فجواب إِذا جملة فَمِنْهُمْ إلخ، وليس هذا وما بعده عطفا عليه أي فأما الذين آمنوا بالله سبحانه وبما جاء من عنده فَزادَتْهُمْ إِيماناً أي تصديقا لأن ذلك هو المتبادر من الإيمان كما قرر في محله. وقبول التصديق نفسه الزيادة والنقص والشدة والضعف مما قال به جمع من المحققين وبه أقول لظواهر الآيات والأخبار ولو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا، ومن لم يقبل قبوله للزيادة ولم يدخل الأعمال في الإيمان قال: إن زيادته بزيادة متعلقة والمؤمن به، وإليه يشير كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قيل: ويلزمه أن لا زيادته بزيادة متعلقة والمؤمن به، وإليه يشير كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قيل: ويلزمه أن لا يزيد اليوم لإكمال الدين وعدم تجدد متعلق وفيه نظر وإن قاله من تعقد عليه الخناصر وتعتقد بكلامه الضمائر، ومن لم يقبل وأدخل الأعمال فالزيادة وكذا مقابلها ظاهرة عنده وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ بنزولها لأنه سبب لزيادة كما لهم ورفع درجاتهم بل هو لعمري أجدى من تفاريق العصا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 47 وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي نفاق فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ أي نفاقا مضموما إلى نفاقهم فالزيادة متضمنة معنى الضم ولذا عديت بإلى، وقيل: إلى بمعنى مع ولا حاجة إليه وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ واستحكم ذلك فيهم إلى أن يموتوا عليه أَوَلا يَرَوْنَ يعني المنافقين، والهمزة للإنكار والتوبيخ، والكلام في العطف شهير. وقرأ حمزة، ويعقوب، وأبي بن كعب بالتاء الفوقانية على أن الخطاب للمؤمنين والهمزة للتعجيب أي أو لا يعلمون وقيل أو لا يبصرون أَنَّهُمْ أي المنافقين يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ من الأعوام مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ بأفانين البليات من المرض والشدة مما يذكر الذنوب والوقوف بين يدي علام الغيوب فيؤدي إلى الإيمان به تعالى والكف عما هم عليه، وفي الخبر «إذا مرض العبد ثم عوفي ولم يزدد خيرا قالت الملائكة: هو الذي داويناه فلم ينفعه الدواء» فالفتنة هنا بمعنى البلية والعذاب، وقيل: هي بمعنى الاختبار، والمعنى أولا يرون أنهم يختبرون بالجهاد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيعاينون ما ينزل عليه من الآيات لا سيما الآيات الناعية عليهم قبائحهم ثُمَّ لا يَتُوبُونَ عما هم فيه وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ولا يعتبرون. والجملة على قراءة الجمهور عطف على يَرَوْنَ داخل تحت الإنكار والتوبيخ، وعلى القراءة الأخرى عطف على يُفْتَنُونَ والمراد من المرة والمرتين على ما صرح به بعضهم مجرد التكثير لا بيان الوقوع على حسب العدد المزبور. وقرأ عبد الله «أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين وما يتذكرون» . وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ بيان لأحوالهم عند نزولها وهم في محفل تبليغ الوحي كما أن الأول بيان لمقالاتهم وهم غائبون عنه نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ ليتواطؤوا على الهرب كراهة سماعها قائلين إشارة: هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ أي هل يراكم أحد من المسلمين إذا قمتم من المجلس أو تغامزوا بالعيون إنكارا وسخرية بها قائلين هل يراكم أحد لننصرف مظهرين أنهم لا يصطبرون على استماعها ويغلب عليهم الضحك فيفتضحون، والسورة على هذا مطلقة، وقيل: إن نظر بعضهم إلى بعض وتغامزهم كان غيظا لما في السورة من مخازيهم وبيان قبائحهم، فالمراد بالسورة سورة مشتملة على ذلك، والإطلاق هو الظاهر، وأيا ما كان فلا بد من تقدير القول قبل الاستفهام ليرتبط الكلام، فإن قدر اسما كان نصبا على الحال كما أشرنا إليه، وإن قدر فعلا كانت الجملة في موضع الحال أيضا، ويجوز جعلها مستأنفة، وإيراد ضمير الخطاب لبعض المخاطبين على الجزم فإن المرء بشأنه أكثر اهتماما منه في شأن أصحابه كما في قوله تعالى: وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً [الكهف: 19] ثُمَّ انْصَرَفُوا عطف على نَظَرَ بَعْضُهُمْ والتراخي باعتبار وجود الفرصة والوقوف على عدم رؤية أحد من المؤمنين، أي ثم انصرفوا جميعا عن محفل الوحي لعدم تحملهم سماع ذلك لشدة كراهتهم أو مخافة الفضيحة بغلبة الضحك أو الاطلاع على تغامزهم. أو انصرفوا عن المجلس بسبب الغيظ، وقيل: المراد انصرافهم عن الهداية والأول أظهر. صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عن الإيمان حسب انصرافهم عن ذلك المجلس، والجملة تحتمل الأخبار والدعاء، واختار الثاني أبو مسلم وغيره من المعتزلة، ودعاؤه تعالى على عباده وعيد لهم وإعلام بلحوق العذاب بهم وقوله سبحانه: بِأَنَّهُمْ قيل متعلق بصرف على الاحتمال الأول وبانصرفوا على الثاني، والباء للسببية أي بسبب أنهم قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ لسوء فهمهم أو لعدم تدبرهم فهم إما حمقى أو غافلون لَقَدْ جاءَكُمْ الخطاب للعرب رَسُولٌ أي رسول عظيم القدر مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من جنسكم ومن نسبكم عربي مثلكم، أخرج عبد بن حميد وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ليس من العرب قبيلة إلا وقد ولدت النبي صلّى الله عليه وسلم مضريها وربيعتها ويمانيها، وقيل: الخطاب للبشر على الإطلاق ومعنى كونه عليه الصلاة والسلام من أنفسهم أنه من جنس البشر، وقرأ ابن عباس رضي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 48 الله تعالى عنهما وابن محيصن والزهري «أنفسكم» أفعل تفضيل من النفاسة، والمراد الشرف فهو صلّى الله عليه وسلم من أشرف العرب، أخرج الترمذي وصححه والنسائي عن المطلب بن ربيعة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقد بلغه بعض ما يقول الناس فصعد المنبر فحمد الله تعالى وأثنى عليه وقال: «من أنا» ؟ قالوا: أنت رسول الله قال: «أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب إن الله تعالى خلق الخلق فجعلني في خير خلقه، وجعلهم فرقتين فجعلني في خير فرقة، وجعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة، وجعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا فأنا خيركم بيتا وخيركم نفسا» وأخرج البخاري والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا حتى كنت من القرن الذي كنت فيه» وأخرج مسلم وغيره عن واثلة بن الأسقع قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن الله تعالى اصطفى من ولد إبراهيم- إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» . وروى البيهقي عن أنس «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ما افترق الناس فرقتين إلا جعلني الله تعالى في خيرهما فأخرجت من بين أبوي فلم يصبني شيء من عهر الجاهلية وخرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم حتى انتهيت إلى أبي وأمي فأنا خيركم نفسا وخيركم أبا» عَزِيزٌ عَلَيْهِ أي شديد شاق من عز عليه بمعنى صعب وشق ما عَنِتُّمْ أي عنتكم، وهو بالتحريك ما يكره، أي شديد عليه ما يلحقكم من المكروه كسوء العاقبة والوقوع في العذاب، ورفع عَزِيزٌ على أنه صفة سببية لرسول وبه يتعلق عَلَيْهِ، وفاعله المصدر وهو الذي يقتضيه ظاهر النظم الجليل، وقيل: إن عَزِيزٌ عَلَيْهِ خبر مقدم وما عَنِتُّمْ مبتدأ مؤخر والجملة في موضع الصفة، وقيل: إن عَزِيزٌ نعت حقيقي لرسول وعنده تم الكلام وعَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ ابتداء كلام أي يهمه ويشق عليه عنتكم حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ أي على إيمانكم وصلاح شأنكم لأن الحرص لا يتعلق بذواتهم بِالْمُؤْمِنِينَ منكم ومن غيركم رَؤُفٌ رَحِيمٌ قيل: قدم الأبلغ منهما وهو الرأفة التي هي عبارة عن شدة الرحمة رعاية للفواصل وهو أمر مرعي في القرآن، وهو مبني على ما فسر به الرأفة، وصحح أن الرأفة الشفقة، والرحمة الإحسان، وقد يقال: تقديم الرأفة باعتبار أن آثارها دفع المضار وتأخير الرحمة باعتبار أن آثارها جلب المنافع والأول أهم من الثاني ولهذا قدمت في قوله سبحانه: رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها [الحديد: 27] ولا يجري هنا أمر الرعاية كما لا يخفى، وكأن الرأفة على هذا مأخوذة من رفو الثوب لإصلاح شقه، فيكون في وصفه صلّى الله عليه وسلم بما ذكر وصف له بدفع الضرر عنهم وجلب المصلحة لهم، ولم يجمع هذان الاسمان لغيره عليه الصلاة والسلام، وزعم بعضهم أن المراد رؤوف بالمطيعين منهم رحيم بالمذنبين، وقيل: رؤوف بأقربائه رحيم بأوليائه، وقيل: رؤوف بمن يراه رحيم بمن لم يره ولا مستند لشيء من ذلك فَإِنْ تَوَلَّوْا تلوين للخطاب وتوجيه له إليه صلّى الله عليه وسلم تسلية له، أي فإن أعرضوا عن الإيمان بك فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ فإنه يكفيك معرتهم ويعينك عليهم لا إِلهَ إِلَّا هُوَ استئناف كالدليل لما قبله لأن المتوحد بالألوهية هو الكافي المعين عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ فلا أرجو ولا أخاف إلا منه سبحانه وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ أي الجسم المحيط بسائر الأجسام ويسمى بفلك الأفلاك وهو محدد الجهات الْعَظِيمِ الذي لا يعلم مقدار عظمته إلا الله تعالى. وفي الخبر «أن الأرض بالنسبة إلى السماء الدنيا كحلقة في فلاة وكذا السماء الدنيا بالنسبة إلى السماء التي فوقها وهكذا إلى السماء السابعة وهي بالنسبة إلى الكرسي كحلقة في فلاة وهو بالنسبة إلى العرش كذلك» وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه لا يقدر قدره أحد، وذكر أهل الأرصاد أن بعد مقعر الفلك الأعظم من مركز العالم ثلاثة وثلاثون ألف ألف وخمسمائة وأربعة وعشرون ألفا وستمائة وتسعة فراسخ، وأن بعد محدبه منه قد بلغ مرتبة لا يعلمها إلا الله الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء وهو بكل شيء عليم، وقد يفسر العرش هنا بالملك وهو أحد معانيه كما في القاموس، وقرىء «العظيم» بالرفع على أنه صفة الرب، وختم سبحانه هذه السورة بما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 49 ذكر لأنه تعالى ذكر فيها التكاليف الشاقة والزواجر الصعبة فأراد جل شأنه أن يسهل عليهم ذلك ويشجع النبي صلّى الله عليه وسلم على تبليغه، وقد تضمن من أوصافه صلّى الله عليه وسلم الكريمة ما تضمن، وقد بدأ سبحانه من ذلك بكونه من أنفسهم لأنه كالأم في هذا الباب، ولا ينافي وصفه صلّى الله عليه وسلم بالرأفة والرحمة بالمؤمنين تكليفه إياهم في هذه السورة بأنواع من التكاليف الشاقة لأن هذا التكليف أيضا من كمال ذلك الوصف من حيث إنه سبب للتخلص من العقاب المؤبد والفوز بالثواب المخلد، ومن هذا القبيل معاملته صلّى الله عليه وسلم للثلاثة الذين خلفوا كما علمت، وما أحسن ما قيل: فقسا ليزدجروا ومن يك حازما ... فليقس أحيانا على من يرحم وهاتان الآيتان على ما روي عن أبي بن كعب آخر ما نزل من القرآن. لكن روى الشيخان عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه أنه قال: آخر آية نزلت يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النساء: 176] وآخر سورة نزلت براءة. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما آخر آية نزلت: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة: 281] وكان بين نزولها وموته صلّى الله عليه وسلم ثمانون يوما، وقيل: تسع ليال، وحاول بعضهم التوفيق بين الروايات في هذا الشأن بما لا يخلو عن كدر. ويبعد ما روي عن أبي ما أخرجه ابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص قال: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة جاءته جهينة فقالوا له: إنك قد نزلت بين أظهرنا فأوثق لنا نأمنك وتأمنا قال: ولم سألتم هذا؟ قالوا: نطلب الأمن فأنزل الله تعالى هذه الآية لَقَدْ جاءَكُمْ إلخ والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. وقد ذكروا لقوله سبحانه: فَإِنْ تَوَلَّوْا الآية ما ذكروا من الخواص، وقد أخرج أبو داود عن أبي الدرداء موقوفا وابن السني عنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: من قال حين يصبح وحين يمسي حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات كفاه الله تعالى ما أهمه من أمر الدنيا والآخرة، وأخرج ابن النجار في تاريخه عن الحسين رضي الله تعالى عنه قال: من قال حين يصبح سبع مرات حسبي الله لا إله إلا هو إلخ لم يصبه في ذلك اليوم ولا تلك الليلة كرب ولا نكب ولا غرق، وأخرج أبو الشيخ عن محمد بن كعب قال: خرجت سرية إلى أرض الروم فسقط رجل منهم فانكسرت فخذه فلم يستطيعوا أن يحملوه فربطوا فرسه عنده ووضعوا عنده شيئا من ماء وزاد فلما ولوا أتاه آت فقال: ما لك هاهنا؟ قال: انكسرت فخذي فتركني أصحابي فقال: ضع يدك حيث تجد الألم وقل: فَإِنْ تَوَلَّوْا الآية فوضع يده فقرأها فصح وركب فرسه وأدرك أصحابه، وهذه الآية ورد هذا الفقير ولله الحمد منذ سنين نسأل الله تعالى أن يوفق لنا الخير ببركتها إنه خير الموفقين. هذا ومن باب الإشارة في الآيات: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ لما هداهم سبحانه إلى الإيمان العلمي وهم مفتونون بمحبة الأنفس والأموال استنزلهم لغاية عنايته سبحانه بهم عن ذلك بالمعاملة الرابحة بأن أعطاهم بدل ذلك الجنة، ولعل المراد بها جنة النفس ليكون الثمن من جنس المثمن الذي هو مألوفهم ولكن الفرق بين الأمرين، قال ابن عطاء: نفسك موضع كل شهوة وبلية ومالك محل كل إثم ومعصية فاشترى مولاك ذلك منك ليزيل ما يضرك ويعوضك عليه ما ينفعك ولهذا اشترى سبحانه النفس ولم يشتر القلب، وقد ذكر بعض الأكابر في ذلك أيضا أن النفس محل العيب والكريم يرغب في شراء ما يزهد فيه غيره فشراء الله تعالى ذلك مع اطلاعه سبحانه على العيب بالجنة التي لا عيب فيها نهاية الكرم ويرشد إلى ذلك قول القائل: ولي كبد مقروحة من يبيعني ... بها كبدا ليست بذات قروح أباها جميع الناس لا يشترونها ... ومن يشتري ذا علة بصحيح الجزء: 6 ¦ الصفحة: 50 وعن الجنيد قدس سره قال: إنه سبحانه اشترى منك ما هو صفتك وتحت تصرفك والقلب تحت صفته وتصرفه لم تقع المبايعة عليه، ويشير إلى ذلك قوله صلّى الله عليه وسلم: «قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن» ، وذكر بعض أرباب التأويل أنه تعالى لما اشترى الأنفس منهم فذاقوا بالتجرد عنها حلاوة اليقين ولذة الترك ورجعوا عن مقام لذة النفس وتابوا عن هواها ولم يبق عندهم لجنّة النفس التي كانت ثمنا قدر وصفهم بالتائبين فقال سبحانه: التَّائِبُونَ أي الراجعون عن طلب ملاذ النفس وتوقع الأجر إليه تعالى وبلفظ آخرهم قوم رجعوا من غير الله إلى الله واستقاموا بالله تعالى مع الله تعالى. الْعابِدُونَ أي الخاضعون المتذللون لعظمته وكبريائه تعالى تعظيما وإجلالا له جل شأنه لا رغبة في ثواب ولا رهبة من عقاب وهذه أقصى درجات العبادة ويسميها بعضهم عبودة الْحامِدُونَ بإظهار الكمالات العملية والعلمية حمدا فعليا حاليا وأقصى مراتب الحمد إظهار العجز عنه. يروى أن داود عليه السلام قال: يا رب كيف أحمدك والحمد من آلائك فأوحى الله تعالى إليه الآن حمدتني يا داود. وما أعلى كلمة نبينا صلّى الله عليه وسلم «اللهم لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» السَّائِحُونَ إليه تعالى بالهجرة عن مقام الفطرة ورؤية الكمالات الثابتة لهم في مفاوز الصفات ومنازل السبحات، وقال بعض العارفين: السائحون هم السيارون بقلوبهم في الملكوت الطائرون بأجنحة المحبة في هواء الجبروت، وقد يقال: هم الذين صاموا عن المألوفات حين عاينوا هلال جماله تعالى في هذه النشأة ولا يفطرون حتى يعاينوه مرة أخرى في النشأة الأخرى، وقد امتثلوا ما أشار إليه صلّى الله عليه وسلم بقوله: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» الرَّاكِعُونَ في مقام محو الصفات السَّاجِدُونَ بفناء الذات، وقال بعض العارفين: الراكعون هم العاشقون المنحنون من ثقل أوقار المعرفة على باب العظمة ورؤية الهيبة، والساجدون هم الطالبون لقربه سبحانه. فقد جاء في الخبر «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» وقد يقال: الراكعون الساجدون هم المشاهدون للحبيب السامعون منه، وما أحسن ما قيل: لو يسمعون كما سمعت كلامها ... خروا لعزة ركعا وسجودا الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ أي الداعون الخلق إلى الحق والدافعون لهم عما سواه، فإن المعروف على الإطلاق هو الحق سبحانه والكل بالنسبة إليه عز شأنه منكر وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ أي المراعون أوامره ونواهيه سبحانه في جوارحهم وأسرارهم وأرواحهم أو الذين حفظوا حدود الله المعلومة فأقاموها على أنفسهم وعلى غيرهم، وقيل: هم القائمون في مقام العبودية بعد كشف صفات الربوبية لهم فلا يتجاوزون ذلك وإن حصل لهم ما حصل فهم في مقام التمكين والصحو لا يقولون ما يقوله سكارى المحبة ولا يهيمون في أودية الشطحات. وفي الآية نعي على أناس ادعوا الانتظام في سلك حزب الله تعالى وزمرة أوليائه وهم قد ضيعوا الحدود وخرقوا سفينة الشريعة وتكلموا بالكلمات الباطلة عند المسلمين على اختلاف فرقهم حتى عند السادة الصوفية فإنهم أوجبوا حفظ المراتب، وقالوا: إن تضييعها زندقة. وقد خالطتهم فرأيت منهم ... خبائث بالمهيمن نستجير ولعمري إن المؤمن من ينكر على أمثالهم فإياك أن تغتر بهم وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بالإيمان الحقّ المقيمين في مقام الاستقامة واتباع الشريعة ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ أي ما صح منهم ذلك ولا استقام فإن الوقوف عند القدر من شأن الكاملين. ومن هنا قيل: لا تؤثر همة العارف بعد كمال عرفانه أي إذا تيقن وقوع كل شيء بقدره تعالى الموافق للحكمة البالغة وأن ما شاء الله ما كان ولم يشأ لم يكن ولم يتهم الله سبحانه في شيء من الفعل والترك سكن تحت كهف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 51 الأقدار وسلم لمدعي الإرادة وأنصت لمنادي الحكمة وترك مراده لمراد الحبيب بل لا يريد إلا ما يريده، وهو الذي يقتضيه مقام العبودية المحضة الذي هو أعلى المقامات ودون ذلك مقام الإدلال، ولقد كان حضرة مولانا القطب الرباني الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره في هذا المقام وله كلمات تشعر بذلك لكن لم يتوف قدس سره حتى انتقل منه إلى مقام العبودية المحضة كما نقل مولانا عبد الوهاب الشعراني في الدرر واليواقيت، وقد ذكر أن هذا المقام كان مقام تلميذه حضرة مولانا أبي السعود الشبلي قدس سره وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً أي ليصفهم بالضلال عن طريق التسليم والانقياد لأمره والرضا بحكمه بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ إلى التوحيد العلمي ورؤية وقوع كل شيء بقضائه وقدره حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ أي ما يجب عليهم اتقاؤه في كل مقام من مقامات سلوكهم وكل مرتبة من مراتب وصولهم فإذا بين لهم ذلك فإن أقدموا في بعض المقامات على ما تبين لهم وجوب اتقائه أضلهم لارتكابهم ما هو ضلال في دينهم وإلا فلا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فيعلم دقائق ذنوبهم وإن لم يتفطن لها أحد. لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ لا يخفى أن توبة الله سبحانه على كل من النبي عليه الصلاة والسلام ومن معه بحسب مقامه، وذكر بعضهم أن التوبة إذا نسبت إلى العبد كانت بمعنى الرجوع من الزلات إلى الطاعات وإذا نسبت إلى الله سبحانه كانت بمعنى رجوعه إلى العباد بنعت الوصال وفتح الباب ورفع الحجاب وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وذلك لاستشعار سخط المحبوب وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ أي تحققوا ذلك فانقطعوا إليه سبحانه ورفعوا الوسائط ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ حيث رأى سبحانه انقطاعهم إليه وتضرعهم بين يديه، وقد جرت عادته تعالى مع أهل محبته إذا صدر منهم ما ينافي مقامهم بأدبهم بنوع من الحجاب حتى إذا ذاقوا طعم الجناية واحتجبوا عن المشاهدة وعراهم ما عراهم مما أنساهم دنياهم وأخراهم أمطر عليهم وابل سحاب الكرم وأشرق على آفاق أسرارهم أنوار القدم فيؤنسهم بعد يأسهم ويمن عليهم بعد قنوطهم وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا، وما أحلى قوله: هجروا والهوى وصال وهجر ... هكذا سنّت الغرام الملاح يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ في جميع الرذائل بالاجتناب عنها وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ نية وقولا وفعلا أي اتصفوا بما اتصفوا به من الصدق وقيل: خالطوهم لتكونوا مثلهم فكل قرين بالمقارن يقتدي. وفسر بعضهم الصادقين بالذين لم يخلفوا الميثاق الأول فإنه أصدق كلمة، وقد يقال: الأصل الصدق في عهد الله كما قال تعالى: رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ [الأحزاب: 23] ثم في عقد العزيمة ووعد الخليقة كما قال سبحانه في إسماعيل: إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ [مريم: 54] وإذا روعي الصدق في المواطن كلها كالخاطر والفكر والنية والقول والعمل صدقت المنامات والواردات والأحوال والمقامات والمواهب والمشاهدات فهو أصل شجرة الكمال وبذر ثمرة الأحوال وملاك كل خير وسعادة وضده الكذب فهو أسوأ الرذائل وأقبحها وهو منافي المروءة كما قالوا: لا مروءة لكذوب وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ إشارة إلى أنه يجب على كل مستعد من جماعة سلوك طريق طلب العلم إذ لا يمكن لجميعهم أما ظاهرا فلفوات المصالح وأما باطنا فلعدم الاستعداد للجميع. والفقه من علوم القلب وهي إنما تحصل بالتزكية والتصفية وترك المألوفات واتباع الشريعة. فالمراد من النفر السفر المعنوي وهذا هو العلم النافع، وعلامة حصوله عدم خشية أحد سوى الله تعالى، ألا ترى كيف نفي الله عمن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 52 خشي غيره سبحانه الفقه فقال: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [الحشر: 13] وعلى هذا فحق لمثلي أن ينوح على نفسه، وقد صرح بعض الأكابر أن الفقه علم راسخ في القلب، ضاربة عروقه في النفس، ظاهر أثره على الجوارح لا يمكن لصاحبه أن يرتكب خلاف ما يقتضيه إلا إذا غلب القضاء والقدر، وقد أنزل الله تعالى كما قيل على بعض أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام: لا تقولوا العلم بالسماء من ينزل به ولا في تخوم الأرض من يصعد به ولا من وراء البحر من يعبر ويأتي به، العلم مجعول في قلوبكم تأدبوا بين يدي بآداب الروحانيين وتخلقوا بأخلاق الصديقين، أظهر العلم من قلوبكم حتى يغمركم ويغطيكم. وجاء «من اتقى الله أربعين صباحا تفجرت ينابع الحكمة من قلبه» وإذا تحققت ذلك علمت أن دعوى قوم اليوم الفقه بالمعنى الذي ذكرناه مع تهافتهم على المعاصي تهافت الفراش على النار وعقدهم الحلقات عليها دعوى كاذبة مصادمة للعقل والنقل وهيهات أن يحصل لهم ذلك الفقه ما داموا على تلك الحال ولو ضربوا رؤوسهم بألف صخرة صماء، وعطف سبحانه قوله: وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ على قوله تعالى: لِيَتَفَقَّهُوا إشارة إلى أن الإنذار بعد التفقه والتحلي بالفضائل إذ هو الذي يرجى نفعه: ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يسمع ما تقول ويقتدى ... بالقول منك وينفع التعليم ولذا قال جل وعلا: لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ إشارة إلى الجهاد الأكبر ولعله تعليم لكيفية النفر المطلوب وبيان لطريق تحصيل الفقه أي قاتلوا كفار قوى نفوسكم بمخالفة هواها. وفي الخبر «أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك» وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً أي قهرا وشدة حتى تبلغوا درجة التقوى وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ بالولاية والنصر أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أي يصيبهم بالبلاء ليتوبوا ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ وفي الأثر البلاء سوط من سياط الله تعالى يسوق به عباده إليه ويرشد إلى ذلك قوله تعالى: وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [لقمان: 32] وقوله تعالى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً [يونس: 12] وبالجملة إن البلاء يكسر سورة النفس فيلين القلب فيتوجه إلى مولاه إلا أن من غلبت عليه الشقاوة ذهب منه ذلك الحال إذا صرف عنه البلاء كما يشير إليه قوله تعالى: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت: 65] وقوله سبحانه: فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ [يونس: 12] لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من جنسكم لتقع الإلفة بينكم وبينه فإن الجنس إلى الجنس يميل وحينئذ يسهل عليكم الاقتباس من أنواره صلّى الله عليه وسلم. وقرىء كما قدمنا «من أنفسكم» أي أشرافكم في كل شيء ويكفيه شرفا أنه عليه الصلاة والسلام أول التعينات وأنه كما وصفه الله تعالى على خلق عظيم: وعلى تفنن واصفيه بوصفه ... يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ أي يشق عليه عليه الصلاة والسلام مشقتكم فيتألم صلّى الله عليه وسلم لما يؤلمكم كأن يتألم الشخص إذا عرا بعض أعضائه مكروه، وعن سهل أنه قال: المعنى شديد عليه غفلتكم عن الله تعالى ولو طرفة عين فإن العنت ما يشق ولا شيء أشق في الحقيقة من الغفلة عن المحبوب حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ أي على صلاح شأنكم أو على حضوركم وعدم غفلتكم عن مولاكم جل شأنه بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ يدفع عنهم ما يؤذيهم رَحِيمٌ يجلب لهم ما ينفعهم، ومن آثار الرأفة تحذيرهم من الذنوب والمعاصي ومن آثار الرحمة إضافته صلّى الله عليه وسلم عليهم العلوم والمعارف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 53 والكمالات، قال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: علم الله تعالى عجز خلقه عن طاعته فعرفهم ذلك لكي يعلموا أنهم لا ينالون الصفو من خدمته فأقام سبحانه بينه وبينهم مخلوقا من جنسهم في الصورة فقال: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ وألبسه من نعته الرأفة والرحمة وأخرجه إلى الخلق سفيرا صادقا وجعل طاعته طاعته وموافقته موافقته فقال سبحانه: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء: 80] ثم أفرده لنفسه خاصة وآواه إليه بشهوده عليه في جميع أنفاسه وسلى قلبه عن إعراضهم عن متابعته بقوله جل شأنه: فَإِنْ تَوَلَّوْا وأعرضوا عن قبول ما أنت عليه لعدم الاستعداد وزواله فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا حاجة لي بكم كما لا حاجة للإنسان إلى العضو المتعفن الذي يجب قطعه عقلا فالله تعالى كما في لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فلا مؤثر غيره ولا ناصر سواه عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ لا على غيره من جميع المخلوقات إذ لا أرى لأحد منهم فعلا ولا حول ولا قوة إلا بالله وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ المحيط بكل شيء، وقد ألبسه سبحانه أنوار عظمته وقواه على حمل تجلياته ولولا ذلك لذاب بأقل من لمحة عين، وإذا قرىء «العظيم» بالرفع فهو صفة للرب سبحانه، وعظمته جل جلاله مما لا نهاية لها وما قدروا الله حق قدره نسأله بجلاله وعظمته أن يوفقنا لإتمام تفسير كتابه حسبما يحب ويرضى فلا إله غيره ولا يرجى الا خيره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 54 سورة يونس مكية على المشهور واستثنى منها بعضهم ثلاث آيات (1) فَلَعَلَّكَ تارِكٌ أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ قال: إنها نزلت في المدينة، وحكى ابن الفرس والسخاوي أن من أولها إلى رأس أربعين آية مكي والباقي مدني، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما روايتان، فأخرج ابن مردويه من طريق العوفي عنه ومن طريق ابن جريج عن عطاء عنه أنها مكية، وأخرج من طريق عثمان بن عطاء عن أبيه عنه أنها مدنية، والمعول عليه عند الجمهور الرواية الأولى، وآياتها مائة وتسع عند الجميع غير الشامي فإنها عنده مائة وعشر آيات. ووجه مناسبتها لسورة براءة أن الأولى ختمت بذكر الرسول صلّى الله عليه وسلم وهذه ابتدأت به، وأيضا أن في الأول بيانا لما يقوله المنافقون عند نزول سورة من القرآن وفي هذه بيان لما يقوله الكفار في القرآن حيث قال سبحانه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [يونس: 38] الآية، وقال جل وعلا: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ [يونس: 15] وأيضا في الأولى ذم المنافقين بعدم التوبة والتذكر إذا أصابهم البلاء في قوله سبحانه: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ [التوبة: 126] على أحد الأقوال وفي هذه ذم لمن يصيبه البلاء فيرعوي ثم يعود وذلك في قوله تعالى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ [يونس: 12] وفي قوله سبحانه: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [يونس: 22] إلى أن قال سبحانه: فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [يونس: 23] وأيضا في الأولى براءة الرسول صلّى الله عليه وسلم من المشركين مع الأمر بقتالهم على أتم وجه وفي هذه براءته صلّى الله عليه وسلم من عملهم لكن من دون أمر بقتال بل أمر فيها عليه الصلاة والسلام أن يظهر البراءة فيها على وجه يشعر بالإعراض وتخلية السبيل كما قيل على ضد ما في الأولى وهذا نوع من المناسبة أيضا وذلك في قوله تعالى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [يونس: 41] إلى غير ذلك، والعجب من الجلال السيوطي عليه الرحمة كيف لم يلح له في تناسق الدرر وجه المناسبة بين السورتين وذكر وجه المناسبة بين هذه السورة وسورة الأعراف وقد يوجد في الإسقاط ما لا يوجد في الإسقاط   (1) قوله (فلعلك تارك) إلخ كذا بخط مؤلفه وهذه الثلاث من سورة هود وسيأتي له فيها مثل هذه العبارة وعبارة الخطيب المفسر مكية الا (فإن كنت في شك) الآيتين او الثلاث او (ومنهم من يؤمن به) الآية اهـ مصححه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 55 الر بتفخيم الراء المفتوحة وهو الأصل وأمال أبو عمرو وبعض القراء إجراء لألف الراء مجرى الألف المنقلبة عن الياء فإنهم يميلونها تنبيها على أصلها، وفي الإمالة هنا دفع توهم أن- را- حرف كما ولا فقد صرحوا أن الحروف يمتنع فيها الإمالة، وقرأ ورش بين بين، والمراد من الر على ما روى جماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنا الله آرى، وفي رواية أخرى أنها بعض الرحمن وتمامه حم ون، وعن قتادة أنها بعض الراحم وهو من أسماء القرآن، وقيل: هي أسماء للأحرف المعلومة من حروف التهجي أتي بها مسرودة على نمط التعديد بطريق التحدي وعليه فلا محل لها من الإعراب، والكلام فيها وفي نظائرها شهير. والأكثرون على أنها اسم للسورة فمحلها الرفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف أي هذه السورة مسماة بكذا وهو أظهر من الرفع على الابتداء لعدم سبق العلم بالتسمية بعد فحقها الإخبار بها لا جعلها عنوان الموضوع لتوقفه على علم المخاطب بالانتساب، والإشارة إليها قبل جريان ذكرها لصيرورتها في حكم الحاضر لاعتبار كونها على جناح الذكر كما يقال في الصكوك: هذا ما اشترى فلان، وجوز النصب بتقدير فعل لائق بالمقام كاذكر واقرأ وكلمة تِلْكَ إشارة إليها إما على تقدير كون الر مسرودا على نمط التعديد فقد نزل حضور مادتها منزلة ذكرها فأشير إليها كأنه قيل: هذه الكلمات المؤلفة من جنس هذه الحروف المبسوطة إلخ، وإما على تقدير كونها اسما للسورة فقد نوهت بالإشارة إليها بعد تنويهها بتعيين اسمها أو الأمر بذكرها أو بقراءتها. وما في اسم الإشارة من معنى البعد للتنبيه على بعد منزلتها في الفخامة ومحله الرفع على أنه مبتدأ خبره قوله عز وجل: آياتُ الْكِتابِ وعلى تقدير كون الر مبتدأ فهو إما مبتدأ ثان أو بدل من الأول، والمعنى هي آيات مخصوصة منه مترجمة باسم مستقل، والمقصود ببيان بعضيتها منه وصفيتها بما أشير إلى اتصافه به من النعوت الفاضلة والصفات الكاملة، والمراد بالكتاب إما جميع القرآن العظيم وإن لم ينزل بعد إما باعتبار تعينه وتحققه في العلم أو في اللوح أو باعتبار نزوله جملة إلى بيت العزة من السماء الدنيا وإما جميع القرآن النازل وقتئذ المتفاهم بين الناس إذ ذاك فإنه كما يطلق على المجموع الشخصي يطلق على مجموع ما نزل في كل كذا قال شيخ الإسلام. وأنت تعلم أن المشهور عن السلف تفويض معنى الر وأمثاله إلى الله تعالى وحيث لم يظهر المراد منها لا معنى للتعرض لإعرابها، وقد ذكروا أنه يجوز في الإشارة أن تكون لآيات هذه السورة وأن تكون لآيات القرآن ويجوز الجزء: 6 ¦ الصفحة: 57 في الكتاب أن يراد به السورة وأن يراد القرآن فتكون الصور أربعا. إحداها الإشارة إلى آيات القرآن والكتاب بمعنى السورة ولا يصح إلا بتخصيص آيات أو تأويل بعيد. وثانيها عكسه ولا محذور فيه. وثالثها الإشارة إلى آيات السورة والكتاب بمعنى السورة. ورابعها الإشارة إلى آيات القرآن والكتاب بمعنى القرآن، ومرجع إفادة الكلام عليهما باعتبار صفة الكتاب الآتية، وجوز الإشارة إلى الآيات لكونها في حكم الحاضر وإن لم تذكر كما في المثال المذكور آنفا. وفي أمالي ابن الحاجب أن المشار إليه لا يشترط أن يكون موجودا حاضرا بل يكفي أن يكون موجودا ذهنا. وفي الكشاف في تفسير قوله تعالى: هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الكهف: 78] ما يؤيده، وأوثر لفظ تلك لما أشار إليه الشيخ ولكونه في حكم الغائب من وجه ولا يخلو ما ذكروه عن دغدغة، وأما حمل الكتاب على الكتب التي خلت قبل القرآن من التوراة والإنجيل وغيرهما كما أخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة فهو في غاية البعد فتأمل، وقوله تعالى: الْحَكِيمِ صفة للكتاب ووصف بذلك لاشتماله على الحكم فيراد بالحكيم ذو الحكمة على أنه للنسبة كلابن وتامر، وقد يعتبر تشبيه الكتاب بإنسان ناطق بالحكمة على طريق الاستعارة بالكناية وإثبات الحكمة قرينة لها، وجوز أن يكون وصفه بذلك لأنه كلام حكيم فالمعنى حكيم قائله فالتجوز في الإسناد كليله قائم ونهاره صائم، وقيل: لأن آياته محكمة لم ينسخ منها شيء أي بكتاب آخر ففعيل بمعنى مفعل وقد تقدم ما له وما عليه أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً الهمزة لإنكار تعجبهم ولتعجيب السامعين منه لوقوعه في غير محله، والمراد بالناس كفار العرب، والتعبير عنهم باسم الجنس من غير تعرض لكفرهم الذي هو المدار لتعجبهم كما تعرض له فيما بعد لتحقيق ما فيه من الشركة بين رسول الله صلّى الله عليه وسلم وبينهم وتعيين مدار التعجيب في زعمهم ثم تبيين خطئهم وإظهار بطلان زعمهم بإيراد الإنكار، واللام متعلقة بمحذوف وقع حالا من عَجَباً كما هو القاعدة في نعت النكرة إذا تقدم عليها، وقيل: متعلقة بعجبا بناء على التوسع المشهور في الظروف، وبعضهم جعلها متعلقة به لا على طريق المفعولية كما في قوله: عجبت لسعي الدهر بيني وبينها بل على طريق التبيين كما في هَيْتَ لَكَ [يوسف: 23] وسقيا لك ومثل ذلك يجوز تقديمه على المصدر. وأنت تعلم أن هذا قول بالتعلق بمقدر في التحقيق، وقيل: إنها متعلقة به لأنه بمعنى المعجب والمصدر إذا كان بمعنى مفعول أو فاعل يجوز تقديم معموله عليه، وجوز أيضا تعلقه بكان وإن كانت ناقصة بناء على جوازه، وعَجَباً خبر كان قدم على اسمها وهو قوله سبحانه: أَنْ أَوْحَيْنا لكونه مصب الإنكار والتعجيب وتشويقا إلى المؤخر ولأن في الاسم ضرب تفصيل ففي تقديمه رعاية للأصل نوع إخلال بتجاوب أطراف النظم الكريم. وقرأ ابن مسعود «عجب» بالرفع على أنه اسم كان وهو نكرة والخبر أَنْ أَوْحَيْنا وهو معرفة لأن أن مع الفعل في تأويل المصدر المضاف إلى المعرفة فهو كقول حسان: كأن سبيئة من بيت رأس ... يكون مزاجها عسل وماء وحمله بعضهم على القلب، وفي قبوله مطلقا أو إذا تضمن لطيفة خلاف والمعول عليه اشتراط التضمن وهو غير ظاهر هنا، وحكي عن ابن جني أنه قال: إنما جاز ذلك في البيت من حيث كان عسل وماء جنسين فكأنه قال: يكون مزاجها العسل والماء، ونكرة الجنس تفيد مفاد معرفته، ألا ترى أنك تقول: خرجت فإذا أسد بالباب أي فإذا الأسد بالباب لا فرق بينهما لأنك في الموضعين لا تريد أسدا معينا، ولهذا لم يجز هذا في قولك: كان قائم أخاك وكان جالس أباك لأنه ليس في جالس وقائم معنى الجنسية التي تتلاقى معنى نكرتها ومعرفتها. ومعنى الآية على هذا كان الوحي للناس هذا الجنس من الفعل وهو التعجب، ولا يخفى أن المصدر المتحصل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 58 هو المصدر المضاف إلى المعرفة كما سمعت فاعتباره محلى بأل الجنسية خلاف الظاهر. وأجاز بعضهم الإخبار عن المعرفة بالنكرة في باب النواسخ خاصة سواء كان هناك نفي أو ما في حكمه أم لا. وابن جني يجوز ذلك إذا كان نفي أو ما في حكمه ولا يجوز إذا لم يكن، وفي الآية قد تقدم الاستفهام الإنكاري على الناسخ وهو في حكم النفي. واختار غير واحد كون كان تامة. و «عجب» فاعل لها وأَنْ أَوْحَيْنا بتقدير حرف جر متعلق بعجب أي لأن أوحينا أو من أن أوحينا أو هو بدل منه بدل كل من كل أو بدل اشتمال، والإنكار متوجه إلى كونه عجبا لا إلى حدوثه وكون الأبدال في حكم تنحية المبدل منه ليس معناه إهداره بالمرة كما تقرر في موضعه، واقتصر في اللوامح على أن لِلنَّاسِ خبر كان، وتعقب بأن ركيك معنى لأنه يفيد إنكار صدوره من الناس لا مطلقا وفيه ركاكة ظاهرة فافهم، وإنما قيل: للناس لا عند الناس للدلالة على أنهم اتخذوه أعجوبة لهم وفيه من زيادة تقبيح حالهم ما لا يخفى إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أي إلى بشر من جنسهم كقوله تعالى حكاية: أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا [الإسراء: 94] وقوله سبحانه: لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [المؤمنون: 24] أو إلى رجل من أفناء رجالهم من حيث المال لا من حيث النسب لأنه صلّى الله عليه وسلم كان من مشاهيرهم فيه وكان منه بمكان لا يدفع فهو كقولهم: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] وفي بعض الآثار أنهم كانوا يقولون: العجب أن الله تعالى لم يجد رسولا يرسله إلى الناس إلا يتيم أبي طالب والعجب من فرط جهلهم أما في قولهم الأول فحيث لم يعلموا أن بعث الملك إنما يكون عند كون المبعوث إليهم ملائكة كما قال تعالى: قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا [الإسراء: 95] وأما عامة البشر فبمعزل عن استحقاق مفاوضة الملائكة لأنها منوطة بالتناسب فبعث الملك إليهم مزاحم للحكمة التي عليها يدور فلك التكوين والتشريع وإنما الذي تقتضيه الحكمة بعث الملك من بينهم إلى الخواص المختصين بالنفوس الزكية المؤيدين بالقوة القدسية المتعلقين بكلا العالمين الروحاني والجسماني ليتأتى لهم الاستفاضة والإفاضة وهذا تابع للاستعداد الأزلي كما لا يخفى، وأما في قولهم الثاني فلأن مناط الاصطفاء للإيحاء إلى شخص هو التقدم في الاتصاف بما علمت والسبق في إحراز الفضائل وحيازة الملكات السنية جبلة واكتسابا، ولا ريب لأحد في أن للنبي صلّى الله عليه وسلم القدح المعلى من ذلك بل له عليه الصلاة والسلام فيه غاية الغايات القاصية ونهاية النهايات النائية يقول رائيه: وأحسن منك لم تر قط عيني ... ومثلك قط لم تلد النساء خلقت مبرأ من كل عيب ... كأنك قد خلقت كما تشاء وكذا يقول: ولو صورت نفسك لم تزدها ... على ما فيك من كرم الطباع وأما التقدم في الرياسة الدنيوية والسبق في نيل الحظوظ الدنية فلا دخل له في ذلك قطعا بل له إخلال به غالبا، وما أحسن قول الشافعي رضي الله تعالى عنه من أبيات: لكن من رزق الحجى حرم الغنى ... ضدان مفترقان أيّ تفرق وما ذكروه من اليتم أن رجع إلى ما في الآية على التوجيه الثاني فبطلانه بطلانه وإن أرادوا أن أصل اليتم مانع من الإيحاء إليه صلّى الله عليه وسلم فهو أظهر بطلانا وأوضح هذيانا وما ألطف ما قيل إن أنفس الدر يتيمه، وقيل للحسن: لم جعل الله تعالى النبي صلّى الله عليه وسلم يتيما؟ فقال: لئلا يكون لمخلوق عليه منة فإن الله سبحانه هو الذي آواه وأدبه ورباه صلّى الله عليه وسلم هذا والوجه الثاني من الوجهين السابقين في قوله سبحانه: إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ على الوجه الذي ذكرناه هو الذي أراده الجزء: 6 ¦ الصفحة: 59 صاحب الكشاف ولم يرتضه الجلال السيوطي وزعم أن التحامي عنه أولى، ثم قال: والذي عندي في تفسير ذلك أن المراد إلى مشهور بينهم يعرفون نسبه وجلالته وأمانته وعفته كما قال سبحانه: في آخر السورة التي قبل لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة: 128] فإن هذا هو محل إنكار العجب ويكون هذا وجه مناسبة وضع هذه السورة بعد تلك واعتلاق أول هذه بآخر تلك، ونظيره وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ [النحل: 113] رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة: 129] إلى آخر ما قال، وتعقب بأنه غير ظاهر لأنه وإن كان أعظم مما ذكر لكن السياق يقتضي بيان كفرهم وتذليلهم وتحقير من أعزه الله تعالى وعظمه والذي يقتضيه سبب النزول تعين الوجه الأول هنا. فقد أخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما بعث الله تعالى محمدا صلّى الله عليه وسلم أنكرت العرب ذلك أو من أنكر منهم فقالوا: الله تعالى أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد عليه الصلاة والسلام فأنزل سبحانه أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ الآية، وقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا [يوسف: 109، النحل: 43، الأنبياء: 7] الآية. فلما كرر الله سبحانه عليهم الحجج قالوا: وإذا كان بشرا فغير محمد صلّى الله عليه وسلم كان أحق بالرسالة فلولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم فأنزل الله تعالى ردا عليهم أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الزخرف: 32] الآية ومنه يعلم أن ما حكي في الوجه الثاني سبب لنزول آية أخرى أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ أي أخبرهم بما فيه تخويف لهم مما يترتب على فعل ما لا ينبغي، والمراد به جميع الناس الذين يمكنه عليه الصلاة والسلام تبليغهم ذلك لا ما أريد بالناس أولا وهو النكتة في إيثار الإظهار على الإضمار، وكون الثاني عين الأول عند إعادة المعرفة ليس على الإطلاق، وأَنْ هي المفسرة لمفعول الإيحاء المقدر وقد تقدم عليها ما فيه معنى القول دون حروفه وهو الإيحاء أو هي المخففة من المثقلة على أن اسمها ضمير الشأن، والجملة الأمرية خبرها وفي وقوعها خبر ضمير الشأن دون تأويل وتقدير قول اختلاف، فذهب صاحب الكشف إلى أنه لا يحتاج إلى ذلك لأن المقصود منها التفسير وخالفه غير واحد في ذلك وذهبوا إلى أنه لا فرق بين خبره وخبر غيره. وقال بعضهم: هي المصدرية الخفيفة في الوضع بناء على أنها توصل بالأمر والنهي والكثير على المنع، وذكر أبو حيان هذا الاحتمال هنا مع أنه نقل عنه في المغني أن مذهبه المنع لما أنه يفوت معنى الأمر إذا سبك بالمصدر. واعترض بأنه يفوت معنى المضي والحالية والاستقبال المقصود أيضا مع الاتفاق على جواز وصلها بما يدل على ذلك، وأجيب بأنه قد يقال: بأن بينهما فرقا فإن المصدر يدل على الزمان التزاما فقد تنصب عليه قرينة فلا يفوت معناه بالكلية بخلاف الأمر والنهي فإنه لا دلالة للمصدر عليهما أصلا. وقال بعض المدققين: إن المصدر كما يجوز أخذه من جوهر الكلمة يجوز أخذه من الهيئة وما يتبعها فيقدر في هذا ونحوه أوحينا إليه الأمر بالإنذار كما قدر في- أن لا تزني خير- عدم الزنا خير، ولا يخفى أن هذا البحث يجري في أن المخففة من الثقيلة لأنها مصدرية أيضا وإن أقل الاحتمالات مؤنة احتمال التفسير وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا بما أوحيناه إليك وصدقوه أَنَّ لَهُمْ أي بأن لهم قَدَمَ صِدْقٍ أي سابقة ومنزلة رفيعة عِنْدَ رَبِّهِمْ وأصل القدم العضو المخصوص، وأطلقت على السبق مجازا مرسلا لكونها سببه وآلته وأريد من السبق الفضل والشرف والتقدم المعنوي إلى المنازل الرفيعة مجازا أيضا فالمجاز هنا بمرتبتين، وقيل: المراد تقدمهم على غيرهم في دخول الجنة لقوله صلّى الله عليه وسلم: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة» وقوله صلّى الله عليه وسلم: «إن الجنة محرمة على الأنبياء حتى أدخلها أنا وعلى الأمم حتى تدخلها أمتي» ، وقيل: تقدمهم في البعث وأصل الصدق ما يكون في الأقوال ويستعمل كما قال الراغب في الأفعال فيقال: صدق في القتال إذا وفاه حقه وكذا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 60 في ضده يقال: كذب فيه فيعبر به عن كل فعل فاضل ظاهرا وباطنا ويضاف إليه كمقعد صدق ومدخل صدق ومخرج صدق إلى غير ذلك، وصرحوا هنا بأن الإضافة من إضافة الموصوف إلى صفته، والأصل قدم صدق أي محققة مقررة، وفيه مبالغة لجعلها عين الصدق ثم جعل الصدق كأنه صاحبها، ويحتمل أن تكون الإضافة من إضافة المسبب إلى السبب وفي ذلك تنبيه على أن ما نالوه من المنازل الرفيعة كان بسبب صدق القول والنية. وقال بعضهم: إن هذا التنبيه قد يحصل على الاعتبار الأول لأن الصدق قد تجوز به عن توفية الأمور الفاضلة حقها للزوم الصدق لها حتى كأنها لا توجد بدونه ويكفي مثله في ذلك التنبيه وهذا كما قالوا: أن أبا لهب يشير إلى أنه جهنمي وفيه خفاء كما لا يخفى ويجوز إلى يراد بالقدم المقام بإطلاق الحال وإرادة المحل، وعن الأزهري أن القدم الشيء الذي تقدمه قدامك ليكون عدة لك حين تقدم عليه ويشعر بأنه اسم مفعول وبه صرح بعضهم وقال إنه كالنقض، وقيل: إنه اسم للحسنى من العبد كما أن اليد اسم للحسنى من السيد وفعلوا ذلك للفرق بين العبد والسيد وهو من الغرابة بمكان، ولا يكاد يصح في قول ذي الرمة: لكم قدم لا ينكر الناس أنها ... مع الحسب العادي طمت على البحر وقوله: وأنت امرؤ من أهل بيت ذؤابة ... لهم قدم معروفة في المفاخر والسبق هو الأسبق إلى الذهن في ذلك وكذا في قول حسان: لنا القدم العليا إليك وخلفنا ... لأولنا في طاعة الله تابع وقول الآخر: صل لذي العرش واتخذ قدما ... تنجيك يوم العثار والزلل محتمل لسائر المعاني وهل يطلق على سابقة السوء أولا الظاهر الأول وقد نص على ذلك أبو عبيدة والكسائي. وقال صاحب الانتصاف لم يسموا سابقة السوء قدما إما لكون المجاز لا يطرد، وإما لأنه غلب في العرف على سابقة الخير وفيه نظر، وتفسير ابن عباس رضي الله تعالى عنهما له بالأجر وابن مسعود بالعمل لا يخرج عما ذكرنا من معانيه، وكذا تفسير علي كرم الله تعالى وجهه وأبي سعيد الخدري والحسن وزيد بن أسلم له برأس الموجودات محمد صلّى الله عليه وسلم يرجع إلى تفسيره بالخير والسعادة كما قاله جمع، وكونه صلّى الله عليه وسلم خيرا وسعادة للمؤمنين مما لا يمتري فيه مؤمن. أو يقال: إن المراد شفاعته صلّى الله عليه وسلم والأمر في ذلك حينئذ في غاية الظهور وخص التبشير بالمؤمنين لأنه لا يتعلق بالكفار وتبشيرهم أن آمنوا راجع إلى تبشير المؤمنين وهذا بخلاف الإنذار فإنه يتعلق بالمؤمن والكافر ولذلك ذكره سبحانه ولم يذكر جل وعلا المنذر به للتعميم والتهويل، وذكر المبشر به على الوجه الذي ذكره لتقوى رغبة المؤمنين فيما يؤديهم إليه، وقدم الإنذار على التبشير لأن التخلية مقدمة على التخلية وإزالة ما لا ينبغي مقدمة في الرتبة على فعل ما ينبغي. قالَ الْكافِرُونَ هم المتعجبون وإيرادهم بهذا العنوان على بابه، وترك العاطف لجريانه مجرى البيان للجملة التي دخل عليها همزة الإنكار أو لكونه استئنافا مبنيا على السؤال كأنه قيل: ماذا صنعوا بعد التعجب هل بقوا على التردد والاستبعاد أو قطعوا فيه بشيء؟ فقيل: قال الكافرون على طريقة التأكيد إِنَّ هذا أي ما أوحي إليه صلّى الله عليه وسلم من الكتاب المنطوي على الإنذار والتبشير، وزعم الخازن أن في الكلام حذفا أي أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر وبشر فلما جاءهم بالوحي وأنذرهم قال الكافرون إن هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ أي ظاهر، وقرأ ابن كثير الجزء: 6 ¦ الصفحة: 61 والكوفيون «لساحر» على أن الإشارة إلى رجل وعنوا به رسول الله صلّى الله عليه وسلم وفي قراءة أبي «ما هذا إلا سحر مبين» وأرادوا بالسحر الحاصل بالمصدر، وفي هذا اعتراف بأن ما عاينوه خارج عن طوق البشر نازل من حضرة خلاق القوى والقدر ولكنهم يسمونه بما قالوا تماديا في العناد كما هو شنشنة المكابر اللجوج ونشنشة المفحم المحجوج إِنَّ رَبَّكُمُ استئناف سيق لإظهار بطلان تعجبهم المذكور وما تبعه من تلك المقالة الباطلة غب الإشارة إليه بالإنكار والتعجيب وحقق فيه حقية ما تعجبوا منه وصحة ما أنكروه بالتنبيه الإجمالي على بعض ما يدل عليها من شؤون الخلق والتقدير وأحوال التكوين والتدبير ويرشدهم إلى معرفتها بأدنى تذكير لاعترافهم به من غير نكير كما يعرب عنه غير ما آية في الكتاب الكريم، والتأكيد لمزيد الاعتناء بمضمون الجملة على ما هو الظاهر أي إن ربكم ومالك أمركم الذي تعجبون من أن يرسل إليكم رجلا منكم بالإنذار والتبشير وتعدون ما أوحي إليه من الكتاب سحرا هو اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أي أوقات فالمراد من اليوم معناه اللغوي وهو مطلق الوقت. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن تلك الأيام من أيام الآخرة التي يوم منها كألف سنة مما تعدون، وقيل: هي مقدار ستة أيام من أيام الدنيا وهو الأنسب بالمقام لما فيه من الدلالة على القدرة الباهرة بخلق هذه الأجرام العظيمة في مثل تلك المدة اليسيرة ولأنه تعريف لنا بما نعرفه، ولا يمكن أن يراد باليوم اليوم المعروف لأنه كما قيل عبارة عن كون الشمس فوق الأرض وهو مما لا يتصور تحققه حين لا أرض ولا سماء، واليوم بهذا المعنى يسمى النهار المفرد، ويطلق اليوم أيضا على مجموع ذلك النهار وليلته ومقدار ذلك حينئذ ممكن الإرادة هنا أيضا. وقد صرح بعض الأكابر بأن المراد بالسماوات ما عدا المحدد وأن اليوم هنا عبارة عن مدة دورة تامة له، ولا يخفى أن اليوم اللغوي يتناول هذا أيضا إلا أن إرادته كإرادة مقدار مجموع النهار وليلته يحتاج إلى نقل وليس ذلك أمرا معروفا عند المخاطبين ليستغني عن النقل على أن القول به يدور على كون المحدد متحركا بالحركة الوضعية ويحتاج ذلك إلى النقل أيضا، وكذا يدور على كون المحدد خارجا عن السماوات المخلوقة في الأيام الست لكن ذلك لا يضر إذ الآيات والأخبار شاهدة بالخروج كما لا يخفى، وفي خلقها مدرجا مع القدرة التامة على إبداعها في طرفة عين اعتبار للنظار وحث لهم على التأني في الأحوال والأطوار، وفيه أيضا على ما صرح به بعض المحققين دليل على الاختيار، وأما تخصيص ذلك بالعدد المعين فقد قيل: إنه أمر قد استأثر بعلم ما يستدعيه علام الغيوب جلت قدرته ودقت حكمته. وقيل: إنه سبحانه جعل لكل من خلق مواد السماوات وصورها وربط بعضها ببعض وخلق مادة الأرض وصورتها وربط إحداهما بالأخرى وقتا فلذا صارت الأوقات ستا وفيه تأمل، وسيأتي إن شاء الله تعالى في الدخان تحقيق هذا المطلب على وجه ينكشف به الغبار عن بصائر الناظرين. وإيثار جمع السماوات لما هو المشهور من الإيذان بأنها أجرام مختلفة الطباع متباينة الآثار والأحكام، وتقديمها على الأرض إما لأنها أعظم منها خلقا أو لأنها جارية مجرى الفاعل والأرض جارية مجرى القابل على ما بين في موضعه، وتقديم الأرض عليها في آية طه لكونها أقرب إلى الحس وأظهر عنده وسيأتي أيضا تحقيقه هناك إن شاء الله تعالى ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ على المعنى الذي أراده سبحانه وكف الكيف مشلولة، وقيل: الاستواء على العرش مجاز عن الملك والسلطان متفرع عن الكناية فيمن يجوز عليه القعود على السرير يقال: استوى فلان على سرير الملك ويراد منه ملك وإن لم يقعد على السرير أصلا، وقيل: إن الاستواء بمعنى الاستيلاء وأرجعوه إلى صفة القدرة. وأنت تعلم أن هذا وأمثاله من المتشابه وللناس فيه مذاهب وما أشرنا إليه هو الذي عليه أكثر سلف الأمة رضي الله تعالى عنهم، وقد صرح بعض أن الاستواء صفة غير الثمانية لا يعلم ما هي إلا من هي له والعجز عن درك الإدراك إدراك، واختار كثير الجزء: 6 ¦ الصفحة: 62 من الخلف أن المراد بذلك الملك والسلطان وذكره لبيان جلاله ملكه وسلطانه سبحانه بعد بيان عظمة شأنه وسعة قدرته بما مر من خلق هاتيك الأجرام العظيمة، وقوله تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ استئناف لبيان حكمة استوائه جل وعلا على العرش وتقرير عظمته، والتدبير في اللغة النظر في أدبار الأمور وعواقبها لتقع على الوجه المحمود والمراد به هنا التقدير الجاري على وفق الحكمة والوجه الأتم الأكمل. وأخرج أبو الشيخ وغيره عن مجاهد أن المعنى يقضي الأمر والمراد بالأمر أمر الكائنات علويها وسفليها حتى العرش فأل فيه للعهد أي يقدر أمر ذلك كله على الوجه الفائق، والنمط اللائق حسبما تقتضيه المصلحة وتستدعيه الحكمة ويدخل فيما ذكر ما تعجبوا منه دخولا ظاهرا، وزعم بعضهم أن المعنى يدبر ذلك على ما اقتضته حكمته ويهيىء أسبابه بسبب تحريك العرش وهو فلك الأفلاك عندهم وبحركته يحرك غيره من الأفلاك الممثلة وغيرها لقوة نفسه، وقيل: لأن الكل في جوفه فيلزم من حركته حركته لزوم حركة المظروف لحركة الظرف وهو مبني على أن الظرف مكان طبيعي للمظروف وإلا ففيه نظر. وأنت تعلم أن مثل هذا الزعم على ما فيه مما لا يقبله المحدثون وسلف الأمة إذ لا يشهد له الكتاب ولا السنة وحينئذ فلا يفتى به وإن حكم القاضي، وجوز في الجملة أن تكون في محل النصب على أنها حال من ضمير اسْتَوى وأن تكون في محل الرفع على أنها خبر ثان لأن، وعلى كل حال فإيثار صيغة المضارع للدلالة على تجدد التدبير واستمراره منه تعالى، وقوله سبحانه: ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ بيان لاستبداده تعالى في التدبير والتقدير ونفي للشفاعة على أبلغ وجه فإن نفي جميع أفراد الشفيع بمن الاستغراقية يستلزم نفي الشفاعة على أتم الوجوه، فلا حاجة إلى أن يقال: التقدير ما من شفاعة لشفيع، وفي ذلك أيضا تقرير لعظمته سبحانه إثر تقرير، والاستثناء مفرغ من أعم الأوقات أي ما من شفيع يشفع لأحد في وقت من الأوقات إلا بعد إذنه تعالى المبني على الحكمة الباهرة وذلك عند كون الشفيع من المصطفين الأخيار والمشفوع له ممن يليق بالشفاعة. وذهب القاضي إلى أن فيه ردا على من زعم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله تعالى. وتعقب بأنه غير تام لأنهم لما ادعوا شفاعتها فقد يدعون الإذن لها فكيف يتم هذا الرد ولا دلالة في الآية على أنهم لا يؤذن لهم، وما قيل: إنها دعوى غير مسلمة واحتمالها غير مجد لا فائدة فيه إلا أن يقال: مراده أن الأصنام لا تدرك ولا تنطق فكونها ليس من شأنها أن يؤذن لها بديهي، وقوله عز شأنه: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ استئناف لزيادة التقرير والمبالغة في التذكير ولتفريع الأمر بالعبادة بقوله سبحانه: فَاعْبُدُوهُ والإشارة إلى الذات الموصوف بتلك الصفات المقتضية لاستحقاق ما أخبر به عنه وهو الله وربكم فإنهما خبران لذلكم، وحيث كان وجه ثبوت ذلك له ما ذكر مما لا يوجد في غيره اقتضى انحصاره فيه وأفاد أن لا رب غيره ولا معبود سواه، ويجوز أن يكون الاسم الجليل نعتا لاسم الإشارة ورَبَّكُمُ خبره وأن يكون هو الخبر ورَبَّكُمُ بيان له أو بدل منه ولا يخلو الكلام من إفادة الانحصار، وإذا فرع الأمر المذكور على ذلك أفاد الأمر بعبادته سبحانه وحده، أي فاعبدوه سبحانه من غير أن تشركوا به شيئا من ملك أو نبي فضلا عن جماد لا يبصر ولا يسمع ولا يضر ولا ينفع، وليس الداعي لهذا الحمل أن أصل العبادة ثابت لهم فيحمل الأمر بها على ذلك ليفيد لما قيل: من أن الخطاب للمشركين ولا عبادة مع الشرك أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي أتعلمون أن الأمر كما فصل فلا تتذكرون ذلك حتى تقفوا على فساد ما أنتم عليه فترتدعوا عنه وتعبدوا الله تعالى وحده، وإيثار تَذَكَّرُونَ على تفكرون للإيذان بظهور الأمر وأنه كالمعلوم الذي لا يفتقر إلى فكر تام ونظر كامل بل إلى مجرد التفات وإخطار بالبال، وقوله سبحانه: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً كالتعليل لوجوب العبادة، والجار والمجرور خبر مقدم ومَرْجِعُكُمْ مبتدأ مؤخر وهو مصدر ميمي لا اسم مكان خلافا لمن وهم فيه، وجَمِيعاً الجزء: 6 ¦ الصفحة: 63 حال من الضمير المجرور لكونه فاعلا في المعنى أي إليه تعالى رجوعكم مجتمعين لا إلى غيره سبحانه بالبعث وَعْدَ اللَّهِ مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة لأنها وعد منه تعالى بالبعث وحيث كانت لا تحتمل غير الوعد كان ذلك من أفراد المصدر المؤكد لنفسه عندهم كما في قولك: له على ألف عرفا، ويجوز أن يكون نصبا على المصدرية لفعل محذوف أي وعد الله وعدا، وأيا ما كان فهو دليل على أن المراد بالمرجوع الرجوع بالبعث لأن ما بالموت بمعزل عن الوعد كما أنه بمعزل عن الاجتماع فما وقع في بعض نسخ القاضي بالموت أو النشور ليس على ما ينبغي. وقرىء «وعد الله» بصيغة الفعل ورفع الاسم الجليل على الفاعلية حَقًّا مصدر مؤكد لما دل عليه الأول وهو من قسم المؤكد لغيره لأن الأول ليس نصا فيه فإن الوعد يحتمل الحقية والتخلف. وقيل: إنه منصوب بوعد على تقدير- في- وتشبيهه بالظرف كقوله: أفي الحق إني هائم بك مغرم والأول أظهر. وقوله سبحانه: إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ كالتعليل لما أفاده إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ فإن غاية البدء والإعادة هو الجزاء بما يليق. وقرأ أبو جعفر والأعمش «أنه» بفتح الهمزة على تقدير لأنه، وجوز أن يكون منصوبا بمثل ما نصب وَعْدَ أي وعد الله سبحانه بدء الخلق ثم إعادته أي إعادته بعد بدئه، ويكون الوعد واقعا على المجموع لكن باعتبار الجزء الأخير لأن البدء ليس موعودا، وأن يكون مرفوعا بمثل ما نصب حقا أي حق بدء الخلق ثم إعادته ويكون نظير قول الحماسي: أحقا عباد الله أن لست رائيا ... رفاعة طول الدهر إلا توهما وعن المرزوقي أنه خرجه على النصب على الظرفية وهو إما خبر مقدم أو ظرف معتمد وزعم أن ذلك مذهب سيبويه، وجوز أن يكون النصب بوعد الله على أنه مفعول له، والرفع بحقا على أنه فاعل له وظاهر كلام الكشاف يدل على أن الفعلين العاملين في المصدرين المذكورين هما اللذان يعملان فيما ذكر لا فعلان آخران مثلهما وحينئذ يفوت أمر التأكيد الذي ذكرناه لأن فاعل العامل بالمصدر المؤكد لا بد أن يكون عائدا على ما تقدمه مما أكده، وقرىء «حق أنه يبدأ الخلق» وهو كقولك: حق أن زيدا منطلق. وقرئ «يبدىء» من أبدأ، ولعل المراد من الخلق نحو المكلفين لا ما يعم ذلك والجمادات، ويؤيد ذلك ما أخرجه غير واحد عن مجاهد أن معنى الآية يحيي الخلق ثم يميته لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ أي بالعدل وهو حال من فاعل يجزي أي ملتبسا بالعدل أو متعلق بيجزي أي ليجزيهم بقسطه ويوفيهم أجورهم، وإنما أجمل ذلك إيذانا بأنه لا يفي به الحصر، ويرشح ذلك جعل ذاته الكريمة هي المجازية أو بقسطهم وعدلهم في أمورهم أو بإيمانهم ورجح هذا بأنه أوفق بقوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ فإن معناه ويجزي الذين كفروا بشراب من ماء حار وقد انتهى حره وعذاب أليم بسبب كفرهم فيظهر التقابل بين سببي جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين، مع أنه لا وجه لتخصيص العدل بجزاء المؤمنين بل جزاء الآخرين أولى به كما لا يخفى، وتكرير الإسناد بجعل الجملة الظرفية خبرا للموصول لتقوية الحكم، والجمع بين صيغتي الماضي والمضارع للدلالة على مواظبتهم على الكفر، وتغيير النظم الكريم للمبالغة في استحقاقهم العقاب بجعله حقا مقررا لهم والإيذان بأن التعذيب بمعزل عن الانتظام في سلك العلة الغائية للإعادة بناء على تعلق ليجزي بها أولها للبدء بناء على تعلقه بهما على التنازع، وإنما المنتظم في ذلك السلك هو الإثابة فهي المقصودة بالذات والعقاب واقع بالعرض هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً تنبيه على الاستدلال على وجوده تعالى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 64 ووحدته تعالى وعلمه وقدرته وحكمته بآثار صنيعه في النيرين بعد التنبيه على الاستدلال بما مر وبيان لبعض أفراد التدبير الذي أشير إليه إشارة إجمالية وإرشاد إلى أنه سبحانه حين دبر أمورهم المتعلقة بمعاشهم هذا التدبر البديع فلأن يدبر مصالحهم المتعلقة بمعادهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب أولى وأحرى، أو جعل إما بمعنى أنشأ وأبدع فضياء حال من مفعوله وإما بمعنى صير فهو مفعوله الثاني، والكلام على حد- ضيق فم القربة- إذا لم تكن الشمس خالية عن تلك الحالة وهي على ما قيل مأخوذة من شمسة القلادة للخرزة الكبيرة وسطها وسميت بذلك لأنها أعظم الكواكب كما تدل عليه الآثار ويشهد له الحس وإليه ذهب جمهور أهل الهيئة، ومنهم من قال: سميت بذلك لأنها في الفلك الأوسط بين أفلاك العلوية وبين أفلاك الثلاثة الأخر وهو أمر ظني لم تشهد له الأخبار النبوية كما ستعلمه قريبا إن شاء الله تعالى. والضياء مصدر كقيام، وقال أبو علي في الحجة: كونه جمعا كحوض وحياض وسوط وسياط أقيس من كونه مصدرا. وتعقب بأن أفراد النور فيما بعد يرجح الأول، وياؤه منقلبة عن واو لانكسار ما قبلها. وأصل الكلام جعل الشمس ذات ضياء. ويجوز أن يجعل المصدر بمعنى اسم الفاعل أي مضيئة وأن يبقى على ظاهره من غير مضاف فيفيد المبالغة بجعلها نفس الضياء. وقرأ ابن كثير «ضئاء» بهمزتين بينهما ألف. والوجه فيه كما قال أبو البقاء: أن يكون آخر الياء وقدم الهمزة فلما وقعت الياء طرفا بعد ألف زائدة قلبت همزة عند قوم وعند آخرين قلبت ألفا ثم قلبت الألف همزة لئلا يجتمع ألفان وَالْقَمَرَ نُوراً أي ذا نور أو منيرا أو نفس النور على حد ما تقدم آنفا والنور قيل أعم من الضوء بناء على أنه ما قوي من النور والنور شامل للقوي والضعيف، والمقصود من قوله سبحانه: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النور: 35] تشبيه هداه الذي نصبه للناس بالنور الموجود في الليل أثناء الظلام والمعنى أنه تعالى جعل هداه كالنور في الظلام فيهدى قوم ويضل آخرون ولو جعله كالضياء الذي لا يبقى معه ظلام لم يضل أحد. وهو مناف للحكمة وفيه نظر، وقيل: هما متباينان فما كان بالذات فهو ضياء وما كان بالعرض فهو نور، ولكون الشمس نيرة بنفسها نسب إليها الضياء ولكون نور القمر مستفادا منها نسب إليه النور. وتعقبه العلامة الثاني بأن ذلك قول الحكماء وليس من اللغة في شيء فإنه شاع نور الشمس ونور النار ونحن قد بسطنا الكلام على ذلك فيما تقدم وفي كتابنا الطراز المذهب وأتينا بما فيه هدى للناظرين. بقي أن حديث الاستفادة المذكورة سواء كانت على سبيل الانعكاس من غير أن يصير جوهر القمر مستنيرا كما في المرآة أو بأن يستنير جوهره على ما هو الأشبه عند الإمام قد ذكرها كثير من الناس حتى القاضي في تفسيره وهو مما لم يجىء من حديث من عرج إلى السماء صلّى الله عليه وسلم وإنما جاء عن الفلاسفة. وقد زعموا أن الأفلاك الكلية تسعة أعلاها فلك الأفلاك ثم فلك الثوابت ثم فلك كيوان ثم فلك برجيس ثم فلك بهرام ثم فلك الشمس ثم فلك الزهرة ثم فلك الكاتب ثم فلك القمر، وزعم صاحب التحفة أن فلك الشمس تحت فلك الزهرة وما عليه الجمهور هو الأول، واستدل كثير منهم على هذا الترتيب مما يبقى معه الاشتباه بين الشمس وبين الزهرة والكاتب كالكسف والانكساف واختلاف المنظر الذي يتوصل إلى معرفته بذات الشعبتين لأن الأول لا يتصور هناك لأن الزهرة والكاتب يحترقان عند الاقتران في معظم المعمورة والثاني أيضا مما لا يستطاع علمه بتلك الآلة لأنها تنصب في سطح نصف النهار وهذان الكوكبان لا يظهران هناك لكونهما حوالى الشمس بأقل من برجين فإذا بلغا نصف النهار كانت الشمس فوق الأرض شرقية أو غربية فلا يريان أصلا، وجعل الشمس في الفلك الأوسط لما في ذلك من حسن الترتيب كأنها شمسة القلادة أو لأنها بمنزلة الملك في العالم فكما ينبغي للملك أن يكون في وسط العسكر ينبغي لها أن تكون في وسط كرات الجزء: 6 ¦ الصفحة: 65 العالم أمر إقناعي بل هو من قبيل التمسك بجبال القمر، ومثل ذلك تمسكهم في عدم الزيادة على هذه الأفلاك بأنه لا فضل في الفلكيات مع أنه يلزم عليه أن يكون ثخن الفلك الأعظم أقل ما يمكن أن يكون للأجسام من الثخانة إذ لا كوكب فيه حتى يكون ثخنه مساويا لقطره فالزائد على أقل ما يمكن فضل. وقد بين في رسالة الإبعاد والأجرام أنه بلغ الغاية في الثخن. وقد قدمنا لك ذلك وحينئذ يمكن أن يكون لكل من الثوابت فلك على حدة وأن تكون تلك الأفلاك متوافقة في حركاتها جهة وقطبا ومنطقة وسرعة بل لو قيل بتخالف بعضها لم يكن هناك دليل ينفيه لأن المرصود منها أقل قليل فيمكن أن يكون بعض ما لم يرصد متخالفا على أن من الناس من أثبت كرة الثوابت وتحت الفلك الأعظم واستدل على ذلك بما استدل، ومن علم أن أرباب الأرصاد منذ زمان يسير وجدوا كوكبا سيارا أبطأ سيرا من زحل وسموه هرشلا وقد رصده لالنت فوجده يقطع البرج في ست سنين شمسية وأحد عشر شهرا وسبعة وعشرين يوما وهو يوم تحريرنا هذا المبحث وهو اليوم الرابع والعشرون من جمادى الآخرة سنة الألف والمائتين والست والخمسين حيث الشمس في السنبلة قد قطع من الحوت درجة واحدة وثلاث عشرة دقيقة راجعا لا يبقى له اعتماد على ما قاله المتقدمون، ويجوز أمثال ما ظفر به هؤلاء المتأخرون، وأيضا من الجائز أن تكون الأفلاك ثمانية لا مكان كون جميع الثوابت مركوزة في محدب ممثل زحل أي في متممه الحاوي على أنه يتحرك بالحركة البطيئة والفلك الثامن يتحرك بالحركة السريعة وحينئذ تكون دائرة البروج المارة بأوائل البروج منتقلة بحركة الثامن غير منتقلة بحركة الممثل ليحصل انتقال الثوابت بحركة الممثل من برج إلى برج كما هو الواقع. وقد صرح البرجندي أن القدماء لم يثبتوا الفلك الأعظم وإنما أثبته المتأخرون، وأيضا يجوز أن تكون سبعة بأن يفرض الثوابت ودائرة البروج على محدب ممثل زحل ويكون هناك نفسان تتصل إحداهما بمجموع السبعة وتحركها إحدى الحركتين الأوليين والأخرى بالكرة السابعة وتحركها الأخرى ولكن بشرط أن تفرض دوائر البروج متحركة بالسريعة دون البطيئة كتحركها متوهمة على سطوح الممثلات بالسريعة دون البطيئة لينقل الثوابت بالبطيئة من برج إلى برج كما هو الواقع ونحن من وراء المنع فيما يرد على هذا الاحتمال، وأيضا ذكر الإمام أنه لم لا يجوز أن تكون الثوابت تحت فلك القمر فتكون تحت كرات السيارة لا فوقها. وما يقال: من أنا نرى أن هذه السيارة تكسف الثوابت والكاسف تحت المكسوف لا محالة مدفوع بأن هذه السيارات إنما تكسف الثوابت القريبة من المنطقة دون القريبة من القطبين فلم لا يجوز أن يقال: هذه الثوابت القريبة من المنطقة مركوزة في الفلك الثامن والقريبة من القطبين مركوزة في كرة أخرى تحت كرة القمر. على أنه لم لا يجوز أن يقال: الكواكب تتحرك بأنفسها من غير أن تكون مركوزة في جسم آخر ودون إثبات الامتناع خرط القتاد. وذكروا في استفادة نور القمر من ضوء الشمس أنه من الحدسيات لاختلاف أشكاله بحسب قربه وبعده منها وذلك كما قال ابن الهيثم لا يفيد الجزم بالاستفادة لاحتمال أن يكون القمر كرة نصفها مضيء ونصفها مظلم ويتحرك على نفسه فيرى هلالا ثم بدرا ثم ينمحق وهكذا دائما، ومقصوده أنه لا بد من ضم شيء آخر إلى اختلاف الأشكال حسب القرب والبعد ليدل على المدعى وهو حصول الخسوف عند توسط الأرض بينه وبين الشمس. وبعض المحققين كصاحب حكمة العين وصاحب المواقف نقلوا ما نقلوا عن ابن الهيثم ولم يقفوا على مقصوده منه فقالوا: إنه ضعيف وإلا لما انخسف القمر في شيء من الاستقبالات أصلا وذلك كما قال العامل عجيب منهم، وأنت تعلم أن لا جزم أيضا وأن ضم ما ضم لجواز أن يكون سبب آخر لاختلاف تلك الأشكال النورية لكنا لا نعلمه كأن يكون كوكب كمد تحت فلك القمر ينخسف به في بعض استقبالاته. وإن طعن في ذلك بأنه لو كان لرؤى. قلنا: لم لا يجوز أن يكون ذلك الاختلاف والخسوف من آثار إرادة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 66 الفاعل المختار من دون توسط القرب والبعد من الشمس وحيلولة الأرض بينها وبينه بل ليس هناك إلا توسط الكاف والنون وهو كاف عند من سلمت عينه من الغين. وللمتشرعين من المحدثين وكذا لسادتنا الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم كلمات شهيرة في هذا الشأن، ولعلك قد وقفت عليها وإلا فستقف بعد إن شاء الله تعالى. وقد استندوا فيما يقولون إلى أخبار نبوية وأرصاد قلبية وغالب الأخبار في ذلك لم تبلغ درجة الصحيح وما بلغ منها آحاد ومع هذا قابل للتأويل بما لا ينافي مذهب الفلاسفة والحق أنه لا جزم بما يقولونه في ترتيب الأجرام العلوية وما يلتحق بذلك وأن القول به مما لا يضر بالدين إلا إذا صادم ما علم مجيئه عن النبي صلّى الله عليه وسلم «هذا» وسمي القمر قمرا لبياضه كما قال الجوهري، واعتبر هو وغيره كونه قمرا بعد ثلاث. وَقَدَّرَهُ أي قدر له وهيأ مَنازِلَ أو قدر مسيره في منازل فمنازل على الأول مفعول به وعلى الثاني نصب على الظرفية، وجوز أن يكون قدر بمعنى جعل المتعدي لواحد ومَنازِلَ حال من مفعوله أي جعله وخلقه متنقلا وإن يكون بمعنى جعل المتعدي لإثنين أي صيره ذا منازل، وأيّا ما كان فالضمير للقمر وتخصيصه بهذا التقدير لسرعة سيره بالنسبة إلى الشمس ولأن منازله معلومة محسوسة ولكونه عمدة في تواريخ العرب ولأن أحكام الشرع منوطة به في الأكثر، وجوز أن يكون الضمير له وللشمس بتأويل كل منهما، والمنازل ثمانية وعشرون وهي الشرطان والبطين والثريا والدبران والهقعة والهنعة والذراع والنثرة والطرف والجبهة والزبرة والصرفة والعواء. والسماك الأعزل والغفرة والزباني والإكليل والقلب والشولة والنعائم والبلدة وسعد الذابح وسعد بلع وسعد السعود وسعد الأخبية وفرغ الدلو المقدم والفرغ المؤخر وبطن الحوت، وهي مقسمة على البروج الاثني عشر المشهورة فيكون لكل برج منزلان وثلث، والبرج عندهم ثلاثون درجة حاصلة من قسمة ثلاثمائة وستين أجزاء دائرة البروج على اثني عشر، والدرجة عندهم منقسمة بستين دقيقة وهي منقسمة بستين ثانية وهي منقسمة بستين ثالثة وهكذا إلى الروابع والخوامس والسوادس وغيرها، ويقطع القمر بحركته الخاصة في كل يوم بليلته ثلاث عشرة درجة وثلاث دقائق وثلاثا وخمسين ثانية وستا وخمسين ثالثة، وتسمية ما ذكرنا منازل مجاز لأنه عبارة عن كواكب مخصوصة من الثوابت قريبة من المنطقة، والمنزلة الحقيقية للقمر الفراغ الذي يشغله جرم القمر على أحد الأقوال في المكان، فمعنى نزول القمر في هاتيك المنازل مسامتته إياها، وكذا تعتبر المسامتة في نزوله في البروج لأنها مفروضة أولا في الفلك الأعظم. وأما تسمية نحو الحمل والثورة والجوزة بذلك فباعتبار المسامتة أيضا. وكان أول المنازل الشرطين ويقال له النطح وهو لأول الحمل ثم تحركت حتى صار أولها على ما حرره المحققون من المتأخرين الفرغ المؤخر ولا يثبت على ذلك لأن للثوابت حركة على التوالي على الصحيح وإن كانت بطيئة وهي حركة فلكها، ومثبتو ذلك اختلفوا في مقدار المدة التي يقطع بها جزءا واحدا من درجات منطقته فقيل هي ست وستون ستة شمسية أو ثمان وستون سنة قمرية، وذهب ابن الأعلم إلى أنها سبعون سنة شمسية وطابقه الرصد الجديد الذي تولاه نصير الطوسي بمراغة، وزعم محيي الدين أحد أصحابه أنه تولى رصد عدة من الثوابت كعين الثور وقلب العقرب بذلك الرصد فوجدها تتحرك في كل ست وستين سنة شمسية درجة واحدة، وادعى بطليموس أنه وجد الثوابت القريبة إلى المنطقة متحركة في كل مائة سنة شمسية درجة والله تعالى أعلم بحقائق الأحوال وهو المتصرف في ملكه وملكوته حسبما يشاء لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ التي يتعلق بها غرض علمي لإقامة مصالحكم الدينية والدنيوية وَالْحِسابَ أي ولتعلموا الحساب بالأوقات من الأشهر والأيام وغير ذلك مما نيط به شيء من المصالح المذكورة، واللام على ما يفهم من أمالي عز الدين بن عبد السلام متعلقة بقدر. واستشكل هو ذلك بأن علم العدد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 67 والحساب لا يفتقر لكون القمر مقدرا بالمنازل بل طلوعه وغروبه كاف. وذكر بعضهم أن حكمة ذلك صلاح الثمار بوقوع شعاع القمر عليها وقوعا تدريجيا، وكونه أدل على وجوده سبحانه وتعالى إذ كثرة اختلاف أحوال الممكن وزيادة تفاوت أوصافه ادعى إلى احتياجه إلى صانع حكيم واجب بالذات وغير ذلك مما يعرفه الواقفون على الاسرار وأجاب مولانا سري الدين بأن المراد من الحساب حساب الأوقات بمعرفة الماضي من الشهر والباقي منه وكذا من الليل ثم قال: وهذا إذا علقت اللام- بقدره منازل- فإن علقته بجعل الشمس والقمر لم يرد السؤال. ولعل الأولى على هذا أن يحمل السِّنِينَ على ما يعم السنين الشمسية والقمرية وإن كان المعتبر في التاريخ العربي الإسلامي السنة القمرية، والتفاوت بين السنتين عشرة أيام وإحدى عشرة ساعة ودقيقة واحدة، فإن السنة الأولى عبارة عن ثلاثمائة وخمسة وستين يوما وخمس ساعات وتسع وأربعين دقيقة على مقتضى الرصد الأبلخاني والسنة الثانية عبارة عن ثلاثمائة وأربعة وخمسين يوما وثماني ساعات وثمان وأربعين دقيقة، وينقسم كل منهما إلى بسيطة وكبيسة وبيان ذلك في محله، وتخصيص العدد بالسنين والحساب بالأوقات لما أنه لم يعتبر في السنين المعدودة معنى مغاير لمراتب الأعداد كما اعتبر في الأوقات المحسوبة، وتحقيقه أن الحساب إحصاء ما له كمية انفصالية بتكرير أمثاله من حيث يتحصل بطائفة معينة منها عدد معين له اسم خاص وحكم مستقل كالسنة المتحصلة من اثني عشر شهرا قد تحصل كل من ذلك من أيام معلومة قد تحصل كل منها من ساعات كذلك والعد مجرد إحصائه بتكرير أمثاله من غير اعتبار أن يتحصل بذلك شيء كذلك، ولما لم يعتبر في السنين المعدودة تحصيل حد معين له اسم خاص غير أسامي مراتب الأعداد وحكم مستقل أضيف إليها العدد، وتحصل مراتب الأعداد من العشرات والمئات والألوف اعتباري لا يجدي في تحصيل المعدود نفعا، وحيث اعتبر في الأوقات المحسوبة تحصيل ما ذكر من المراتب التي لها أسام خاصة وأحكام مستقلة علق بها الحساب المنبئ عن ذلك، والسنة من حيث تحققها في نفسها مما يتعلق به الحساب وإنما الذي يتعلق به العد طائفة منها، وتعلقه في ضمن ذلك بكل واحدة من تلك الطائفة ليس من تلك الحيثية المذكورة- أعني حيثية تحصلها من عدة أشهر- قد تحصل كل واحد منها من عدة أيام قد حصل كل منها من عدة ساعات فإن ذلك وظيفة الحساب بل من حيث إنها فرد من تلك الطائفة المعدودة من غير أن يعتبر معها شيء غير ذلك. وتقديم العدد على الحساب مع أن الترتيب بين متعلقيهما وجودا وعلما على العكس لأن العلم المتعلق بعدد السنين له علم إجمالي بما تعلق به الحساب تفصيلا وإن لم تتحد الجهة أو لأن العدد من حيث أنه لم يعتبر فيه تحصيل أمر آخر حسبما حقق آنفا نازل من الحساب الذي اعتبر فيه ذلك منزلة البسيط من المركب قاله شيخ الإسلام. ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ أي ما ذكر من الشمس والقمر على ما حكى سبحانه من الأحوال إِلَّا بِالْحَقِّ استثناء من أعم أحوال الفاعل والمفعول، والباء للملابسة أي ما خلق ذلك ملتبسا بشيء من الأشياء إلا ملتبسا بالحق مراعيا فيه الحكمة والمصلحة أو مراعي فيه ذلك فالمراد بالحق هنا خلاف الباطل والعبث يُفَصِّلُ الْآياتِ أي الآيات التكوينية المذكورة أو الأعم منها ويدخل المذكور دخولا أوليا أو نفصل الآيات التنزيلية المنبهة على ذلك. وقرىء «نفصل» بنون العظمة وفيه التفات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ الحكمة في إبداع الكائنات فيستدلون بذلك على شؤون مبدعها جل وعلا أو يعلمون ما في تضاعيف الآيات المنزلة فيؤمنون بها. وتخصيص التفصيل بهم على الاحتمالين لأنهم المنتفعون به، والمراد لقوم عقلاء من ذوي العلم فيعم من ذكرنا وغيرهم إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ تنبيه آخر إجمالي على ما ذكر أي في تعاقبهما وكون كل منهما خلفة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 68 للآخر بحسب طلوع الشمس وغروبها التابعين عند أكثر الفلاسفة لحركة الفلك الأعظم حول مركزه على خلاف التوالي فإنه يلزمها حركة سائر الأفلاك وما فيها من الكواكب على ما تقدم مع سكون الأرض وهذا في أكثر المواضع وأما في عرض تسعين فلا يطلع شيء ولا يغرب بتلك الحركة أصلا بل بحركات أخرى وكذا فيما يقرب منه قد يقع طلوع وغروب بغير ذلك وتسمى تلك الحركة الحركة اليومية وجعلها بعضهم بتمامها للأرض وجعل آخرون بعضها للأرض وبعضها للفلك الأعظم، والمشهور عند كثير من المحدثين أن الشمس نفسها تجري مسخرة بإذن الله تعالى في بحر مكفوف فتطلع وتغرب حيث شاء الله تعالى ولا حركة للسماء وإلى مثل ذلك ذهب الشيخ الأكبر قدس سره. ويجوز أن يراد باختلاف الليل والنهار تفاوتهما في أنفسهما بازدياد كل منهما بانتقاص الآخر وانتقاصه بازدياده وهو ناشىء عندهم من اختلاف حال الشمس بالنسبة إلينا قربا وبعدا بسبب حركتها الثانية التي بها تختلف الأزمنة، وتنقسم السنة إلى فصول وقد يتساوى الليل والنهار في بعض الأزمان عند بعض وذلك إنما يكون إذا اتفق حلول الشمس نقطة الاعتدال عند الطلوع أو الغروب وكان الأوج في أحد الاعتدالين فإنه إذا تحقق الأول كان قوس النهار كقوس الليل وإذا تحقق الثاني كان الأمر بالعكس وهذا نادر جدا، ولا يمكن على ما ذهب إليه بطليموس من عدم حركة الأوج فلا يتساوى الليل والنهار عنده أصلا، وقد يراد اختلافهما بحسب الأمكنة أما في الطول والقصر فإن البلاد القريبة من القطب الشمالي أيامها الصيفية أطول ولياليها الصيفية أقصر من أيام البلاد البعيدة منه ولياليها، وأما في أنفسهما فإن كرية الأرض على ما قالوا تقتضي أن تكون بعض الأوقات في بعض الأماكن ليلا وفي مقابله نهارا. وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من المصنوعات المتقنة والآثار المحكمة لَآياتٍ عظيمة كثيرة دالة على وجود الصانع تعالى ووحدته وكمال قدرته وبالغ حكمته التي من جملة مقتضياته ما أنكروا من إرسال الرسول وإنزال الكتاب وتبيين طرائق الهدى وتعيين مهاوي الردى لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ الله تعالى ويحذرون من العاقبة، وخصصهم سبحانه بالذكر لأن التقوى هي الداعية للنظر والتدبر إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا بيان لمآل أمر من كفر بالبعث المشار إليه فيما سبق، وأعرض عن البينات الدالة عليه، والمراد بلقائه تعالى شأنه إما الرجوع إليه بالبعث أو لقاء الحساب، وأيا ما كان ففيه مع الالتفات إلى ضمير الجلالة من تهويل الأمر ما لا يخفى. والرجاء يطلق على توقع الخير كالأمل وعلى الخوف وتوقع الشر وعلى مطلق التوقع وهو في الأول حقيقة وفي الأخيرين مجاز، واختار بعض المحققين المعنى المجازي الأخير المنتظم للأمل والخوف، فالمعنى لا يتوقعون الرجوع إلينا أو لقاء حسابنا المؤدي إلى حسن الثواب أو إلى سوء العقاب فلا يأملون الأول ولا يخافون الثاني ويشير إلى عدم أملهم قوله سبحانه: وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا فإنه منبىء عن إيثار الأدنى الخسيس على الأعلى النفيس وإلى عدم خوفهم قوله عز وجل: وَاطْمَأَنُّوا بِها فإن المراد أنهم سكنوا فيها سكون من لا براح له آمنين من اعتراء المزعجات غير محظرين ببالهم ما يسوءهم من العذاب، وجوز أن يراد بالرجاء المعنى الأول والكلام على حذف مضاف أي لا يؤملون حسن لقائنا بالبعث والإحياء بالحياة الأبدية ورضوا بدلا منها ومما فيها من الكرامات السنية بالحياة الدنيا الفانية الدنية وسكنوا إليها مكبين عليها قاصرين مجامع هممهم على لذائذها وزخارفها من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم، وجوز أن يراد به المعنى الثاني والكلام على حذف المضاف أيضا لا يخافون سوء لقائنا الذي يجب أن يخاف، وتعقب بأن كلمة الرضا بالحياة الدنيا تأبى ذلك فإنها منبئة عما تقدم من ترك الأعلى وأخذ الأدنى، وقال الإمام: إن حمل الرجاء على الخوف بعيد لأن تفسير الضد بالضد غير جائز ولا يخفى أنه في حيز المنع فقد ورد ذلك في استعمالهم وذكره الراغب والإمام المرزوقي وأنشدوا شاهدا له قول أبي ذؤيب: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 69 إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ... وحالفها في بيت نوب عوامل ووجه ذلك الراغب بأن الرجاء والخوف يتلازمان، وأما الاعتراض على الإمام بأن استعمال الضد في الضد جائز في الاستعارة التهكمية فليس بشيء لأن مقصوده رحمه الله تعالى أن ذلك غير جائز في غير الاستعارة المذكورة كما يشعر به قوله تفسير دون استعارة ثم إنه لا يجوز اعتبار هذه الاستعارة هنا لأن التهكم غير مراد كما لا يخفى، ويعلم مما ذكرنا في تفسير الآية أن الباء للظرفية، وجوز أن تكون للسببية على معنى سكنوا بسبب زينتها وزخارفها، واختيار صيغة الماضي في الخصلتين الأخيرتين للدلالة على التحقق والتقرر كما أن اختيار صيغة المستقبل في الأولى للإيذان بالاستمرار وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا المفصلة في صحائف الأكوان حسبما أشير إلى بعضها أو آياتنا المنزلة المنبهة على الاستدلال بها المتفقة معها في الدلالة على حقية ما لا يرجونه من اللقاء المترتب على البعث وعلى بطلان ما رضوا به واطمأنوا فيه من الحياة الدنيا غافِلُونَ لا يتفكرون فيها أصلا وإن نبهوا بما نبهوا لانهماكهم بما يصدهم عنها من الأحوال المعدودة، وتكرير الموصول للتوصل به إلى هذه الصلة المؤذنة بدوام غفلتهم واستمرارها والعطف لمغايرة الوصف المذكور لما قبله من الأوصاف وفي ذلك تنبيه على أنهم جامعون لهذا وتلك وأن كل واحد منهما متميز مستقل صالح لأن يكون منشأ للذم والوعيد، والقول بأن ذلك لتغاير الوصفين والتنبيه على أن الوعيد على الجمع بين الذهول عن الآيات رأسا والانهماك في الشهوات بحيث لا يخطر ببالهم الآخرة أصلا ليس بشيء إذ يفهم من ظاهره أن كلا منهما غير موجب للوعيد بالاستقلال بل الموجب له المجموع وهو كما ترى، وكونه لتغاير الفريقين بأن يراد من الأولين من أنكر البعث ولم يرد إلا الحياة الدنيا وبالآخرين من ألهاه حب العاجل عن التأمل في الآجل والإعداد له كأهل الكتاب الذين ألهاهم حب الدنيا والرياسة عن الإيمان والاستعداد للآخرة بعيد غاية البعد في هذا المقام أُولئِكَ أي الموصوفون بما ذكر مَأْواهُمُ أي مسكنهم ومقرهم الذي لا براح لهم منه النَّارُ لا ما اطمأنوا به من الحياة الدنيا ونعيمها بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من الأعمال القلبية المعدودة وما يستتبعه من المعاصي أو يكسبهم ذلك، والجمع بين صيغتي الماضي والمضارع للدلالة على الاستمرار، والباء متعلقة بما دل عليه الجملة الأخيرة الواقعة خبرا عن اسم الإشارة وقدره أبو البقاء جوزوا، وجملة أُولئِكَ إلخ خبر إن في قوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ إلخ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بما يجب الإيمان به ويندرج فيه الإيمان بالآيات التي غفل عنها الغافلون اندراجا أوليا وقد يخص المتعلق بذلك نظرا للمقام وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الأعمال الصالحة في أنفسها اللائقة بالإيمان وترك ذكر الموصوف لجريان الصفة مجرى الأسماء يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ أي يهديهم بسبب إيمانهم إلى مأواهم ومقصدهم وهي الجنة وإنما لم تذكر تعويلا على ظهورها وانسياق النفس إليها لا سيما مع ملاحظة ما سبق من بيان مأوى الكفرة وما أداهم إليه من الأعمال السيئة ومشاهدة ما لحق من التلويح والتصريح. والمراد بهذا الإيمان الذي جعل سببا لما ذكر الإيمان الخاص المشفوع بالأعمال الصالحة لا المجرد عنها ولا ما هو الأعم ولا ينبغي أن ينتطح في ذلك كبشان، والآية عليه بمعزل عن الدلالة على خلاف ما عليه الجماعة من أن الإيمان الخالي عن العمل الصالح يفضي إلى الجنة في الجملة ولا يخلد صاحبه في النار فإن منطوقها أن الإيمان المقرون بالعمل الصالح سبب للهداية إلى الجنة، وأما أن كل ما هو سبب لها يجب أن يكون كذلك فلا دلالة لها ولا لغيرها عليه كيف لا وقوله سبحانه: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام: 82] مناد بخلافه بناء على ما أطبقوا عليه من تفسير الظلم بالشرك ولئن حمل على ظاهره أيضا يدخل في الاهتداء من آمن ولم يعمل صالحا ثم مات قبل أن يظلم بفعل حرام أو بترك واجب، وإلى حمل الإيمان على ما قلنا ذهب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 70 الزمخشري وقال: إن الآية تدل على أن الإيمان المعتبر في الهداية إلى الجنة هو الإيمان المقيد بالعمل الصالح، ووجه ذلك بأنه جعل فيها الصلة مجموع الأمرين فكأنه قيل: إن الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح ثم قيل: بإيمانهم أي هذا المضموم إليه العمل الصالح. وزعم بعضهم أن ذلك منه مبني على الاعتزال وخلود غير الصالح في النار، ثم قال إنه لا دلالة في الآية على ما ذكره لأنه جعل سبب الهداية إلى الجنة مطلق الإيمان، وأما أن إضافته إلى ضمير الصالحين يقتضي أخذ الصلاح قيدا في التسبب فممنوع فإن الضمير يعود على الذوات بقطع النظر عن الصفات، وأيضا فإن كون الصلة علة للخبر بطريق المفهوم فلا يعارض السبب الصريح المنطوق على أنه ليس كل خبر عن الموصول يلزم فيه ذلك، ألا ترى أن نحو الذي كان معنا بالأمس فعل كذا خال عما يذكرونه في نحو الذي يؤمن يدخل الجنة، وانتصر للزمخشري بأن الجمع بين الإيمان والعمل الصالح. ظاهر في أنهما السبب والتصريح بسببية الإيمان المضاف إلى ضمير الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالتنصيص على أنه ذلك الإيمان المقرون بما معه لا المطلق لكنه ذكر لأصالته وزيادة شرفه، ولا يلزم على هذا استدراك ذكره ولا استقلاله بالسببية. وفيه رد على القاضي البيضاوي حيث ادعى أن مفهوم الترتيب وإن دل على أن سبب الهداية الإيمان والعمل الصالح لكن منطوق قوله سبحانه: بِإِيمانِهِمْ دل على استقلال الإيمان. ومنع في الكشف أيضا كون المنطوق ذلك وفرعه على كون الاستدلال من جعل الإيمان والعمل الصالح واقعين في الصلاة ليجريا مجرى العلة ثم لما أعيد الإيمان مضافا كان إشارة إلى الأيمان المقرون لما ثبت أن استعمال ذلك إنما يكون حيث معهود والمعهود السابق هو هذا والأصل عدم غيره، ثم قال: ولو سلم أن المنطوق ذلك لم يضر الزمخشري لأن العمل يعد شرطا حينئذ جمعا بين المنطوق والمفهوم بقدر الإمكان فلم يلغ اقتران العمل ولا دلالة السببية، وهذا فائدة إفراده بالذكر ثانيا مع ما فيه من الأصالة وزيادة الشرف، ولا مخالف له من الجماعة لأن العصاة غير مهديين، وأما أن كل من ليس مهتديا فهو خالد في النار فهو ممنوع غاية المنع انتهى «وفي القلب» من هذا المنع شيء والأولى التعويل على ما قدمناه في تقرير كون الآية بمعزل عن الدلالة على خلاف ما عليه الجماعة، والهداية على هذا الوجه يحتمل أن تفسر بالدلالة الموصلة إلى البغية وبمجرد الدلالة والمختار الأول، واختار الثاني من قال: إن المعنى يهديهم طريق الجنة بنور إيمانهم، وذلك إما على تقدير المضاف أو على أن إيمانهم يظهر نورا بين أيديهم، وقيل: إن المعنى يسددهم بسبب إيمانهم للاستقامة على سلوك السبيل المؤدي إلى الثواب والهداية عليه بالمعنى الأول، وقيل: المراد بهديهم إلى إدراك حقائق الأمور فتنكشف لهم بسبب ذلك، وأيّا ما كان فالالتفات في قوله سبحانه: رَبُّهُمْ لتشريفهم بإضافة الرب إليهم مع الإشعار بعلة الهداية وقوله تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ أي من تحت منازلهم أو من بين أيديهم، استئناف نحوي أو بياني فلا محل له من الإعراب أو خبر ثان لأن فمحله الرفع. وجوز أن يكون في محل النصب على الحال من المفعول يَهْدِيهِمْ على تقدير كون المهدي إليه ما يريدونه في الجنة كما قال أبو البقاء، وإن جعل حالا منتظرة لم يحتج إلى القول بهذا التقدير لكنه خلاف الظاهر، والزمخشري لما فسر يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بيسددهم إلخ جعل هذه الجملة بيانا له وتفسيرا لأن التمسك بسبب السعادة كالوصول إليها، ولا يخفى أن سبيل هذا البيان سبيل البدل وبذلك صرح الطيبي وحينئذ فمحلها الرفع لأنه محل الجملة المبدل منها وقوله سبحانه: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ خبر آخر أو حال أخرى من مفعول يَهْدِيهِمْ فتكون حالا مترادفة أو من الْأَنْهارُ فتكون متداخلة أو متعلق بتجري أو بيهدي والمراد على ما قيل بالمهدي إليه إما منازلهم في الجنة أو ما يريدونه فيها دَعْواهُمْ أي دعاؤهم وهو مبتدأ، وقوله تعالى شأنه: فِيها متعلق به، وقوله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 71 سبحانه: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ خبره أي دعاؤهم هذا الكلام، والدعوى وإن اشتهرت بمعنى الادعاء لكنها وردت بما ذكرنا أيضا، وكون الخبر من جنس الدعاء يشهد له قوله صلّى الله عليه وسلم «أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفات لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير» . والظاهر أن إطلاق الدعاء على ذلك مجاز وهو الذي يفهمه كلام ابن الأثير حيث قال: إنما سمي التهليل والتحميد والتمجيد دعاء لأنه بمنزلته في استيجاب ثواب الله تعالى وجزائه. وفي الحديث: «إذا شغل عبدي ثناؤه علي عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» وجاءت بمعنى العبادة كما في قوله سبحانه: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [مريم: 48] وجوز إرادته هنا والمراد نفي التكليف أي لا عبادة لهم غير هذا القول وليس ذلك بعبادة وإنما يلهمونه وينطقون به تلذذا لا تكليفا. ونظير ذلك قوله سبحانه: وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً [الأنفال: 35] وفيه خفاء كما لا يخفى يقال: يأتي نظير هذا في الآية على احتمال أن يراد بالدعوى الدعاء حقيقة فيكون المعنى على طرز ما قرر أنه لا سؤال لهم من الله تعالى سوى ذلك، ومن المعلوم أن ذلك ليس بسؤال فيفيد أنه لا سؤال لهم أصلا. والغرض من ذلك الإشارة إلى حصول جميع مقاصدهم بالفعل فليس بهم حاجة إلى سؤال شيء إلا أن فيه ما فيه ونصب- سبحان- على المصدرية لفعل محذوف وجوبا وهو بمعنى التسبيح. وقدرت الجملة اسمية أي إنّا نسبحك تسبيحا لأنها أبلغ والجمل التي بعدها كذلك، واللَّهُمَّ بتقدير يا الله حذف حرف النداء وعوض عنه الميم وتمام الكلام فيه وفيما قبله قد تقدم لك فتذكر، وكان القياس تقديم الاسم الجليل لأن النداء يقدم على الدعاء لكنه استعمل في التسبيح كذلك قيل: لأنه تنزيه عن جميع النقائص وفي النداء ربما يتوهم ترك الأدب. وَتَحِيَّتُهُمْ أي ما يحيون به فِيها سَلامٌ أي سلامتهم من كل مكروه، وهو خبر تَحِيَّتُهُمْ وفِيها متعلق بها، والتحية التكرمة بالحال الجليلة وأصلها أحياك الله تعالى حياة طيبة، وإضافتها هنا إلى المفعول، والفاعل أما الله سبحانه أي تحية الله تعالى إياهم ذلك ويرشد إليه قوله عز وجل: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] أو الملائكة عليهم السلام ويرشد إليه قوله سبحانه: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ [الرعد: 23، 24] . وجوز أن تكون الإضافة إلى الفاعل بتقدير مضاف أي تحية بعضهم بعضا آخر ذلك، وقد يعتبر البعض المقدر مفعولا فالإضافة إلى المفعول والفاعل محذوف، وقيل: يجوز أن يكون مما أضيف فيه المصدر لفاعله ومفعوله معا إذا كان المعنى يحيي بعضهم بعضا، ونظيره في الإضافة إلى الفاعل والمفعول قوله تعالى: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ [الأنبياء: 78] حيث أضيف حكم إلى ضمير داود وسليمان عليهما السلام وهما حاكمان وغيرهما وهم المحكوم عليهم، وليس ذلك من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز المختلف فيه حيث إن إضافة المصدر لفاعله حقيقة ولمفعوله مجاز لأنه لا خلاف في جواز الجمع إذا كان المجاز عقليا إنما الخلاف فيه إذا كان لغويا وَآخِرُ دَعْواهُمْ أي خاتمة دعائهم أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي إنه الحمد لله فإن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن محذوف والجملة الاسمية خبرها وأن ومعمولا ها خبر آخر، وليست مفسرة لفقد شرطها، ولا زائدة لأن الزيادة خلاف الأصل ولا داعي إليها، على أنه قد قرأ ابن محيصن، ومجاهد، وقتادة، ويعقوب بتشديدها ونصب الْحَمْدُ وفي ذلك دليل لما قلنا، والظاهر أن تحقق مضمون هذه الجمل لكونها اسميه على سبيل الدوام والاستمرار وفي الأخبار ما يؤيده، فلعل القوم لما دخلوا الجنة حصل لهم من العلم بالله تعالى ما لم يحصل لهم قبله على اختلاف مراتبهم. وقد صرح مولانا شهاب الدين السهروردي في بعض رسائله في الكلام بتفاوت أهل الجنة في المعرفة فقال: إن عوام المؤمنين في الجنة يكونون في العلم كالعلماء في الدنيا والعلماء فيها يكونون كالأنبياء عليهم السلام في الدنيا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 72 والأنبياء عليهم السلام يكونون في ذلك كنبينا صلّى الله عليه وسلم ويكون لنبينا عليه الصلاة والسلام من العلم بربه سبحانه الغاية القصوى التي لا تكون لملك مقرب ولا لنبي مرسل، ويمكن أن يكون ذلك المقام المحمود، ولا يبعد عندي أنهم مع تفاوتهم في المعرفة لا يزالون يترقبون فيها على حسب مراتبهم، والسير في الله سبحانه غير متناه والوقوف على الكنه غير ممكن، وحينئذ التفاوت في معرفة الصفات وهي كما قيل إما سلبية وتسمى بصفات الجلال لأنها يقال فيها: جل عن كذا جل عن كذا وإما غيرها وتسمى بصفات الإكرام وبذلك فسر قوله تعالى: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ فلا يزالون يدعون الله تعالى بالتسبيح الذي هو إشارة إلى نعته بنعوت الجلال وبالتحميد الذي هو إشارة إلى وصفه بصفات الإكرام، والدوام عرفي وهو أكثر من أن يحصى، وقوله عليه الصلاة والسلام في وصف أهل الجنة كما في صحيح مسلم: «يسبحون الله تعالى بكرة وعشيا» يؤيد بظاهره ذلك، والمراد بالبكرة والعشية- كما قال النووي- قدرهما، وظاهر الآية أنهم يقدمون نعته تعالى بنعوت الجلال ويختمون دعاءهم بوصفه بصفات الإكرام لأن الأولى متقدمة على الثانية لتقدم التخلية على التحلية، ويرشد إلى ذلك قوله سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] والمختار عندي كون فاعل التحية هو الله تعالى أو الملائكة عليهم السلام وحينئذ لا يبعد أن يكون الترتيب الذكري حسب الترتيب الوقوعي وذلك بأن يقال: إنهم حين يشرعون بالدعاء يسبحون الله تعالى وينزهونه فيقابلون بالسلام وهو دعاء بالسلامة عن كل مكروه فإن كان من الله سبحانه فهو مجاز لا محالة لاستحالة حقيقة الدعاء عليه تعالى وإن كان من الملائكة عليهم السلام فلا مانع من بقائه على حقيقته لكن يوجه الطلب فيه إلى الدوام لأن أصل السلامة حاصل لهم وإن قلنا: إنها تقبل الزيادة فلا بعد في أن يوجه إلى طلبها، وما ألطف مقابلة التسبيح والتنزيه بالسلامة عن المكروه لقربها من ذلك معنى كما لا يخفى على المنصف ثم يختمون دعاءهم بالحمد لله رب العالمين. وهكذا لا يزال دأبهم بكرة وعشيا كما يشير إليه خبر الصحيح، ولعل عدم ذكر التحميد فيه اكتفاء بما في الآية وهذا ما عندي فيها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن ابن جريج قال: أخبرت أن أهل الجنة إذا مر بهم الطائر يشتهونه قالوا: سبحانك اللهم وذلك دعاؤهم به فيأتيهم الملك بما اشتهوا فإذا جاء الملك به يسلم عليهم فيردون عليه وذلك قوله تعالى: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ فإذا أكلوا قدر حاجتهم قالوا: الحمد لله رب العالمين وذلك قوله سبحانه: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وهو ظاهر في أن الترتيب الذكرى حسب الترتيب الوقوعي أيضا لكن يدل على أن الدعوى بمعنى الدعاء، ومعنى كون سبحانك اللهم دعاء وطلبا لما يشتهون حينئذ أنه علامة للطلب، ونظير ذلك تسبيح المصلي إذا نابه شيء في صلاته وفي بعض الآثار أن هذه الكلمة علامة بين أهل الجنة والخدم في الطعام فإذا قالوها أتوهم بما يشتهون. وأخرج ابن مردويه عن أبي بن كعب مرفوعا أنهم إذا قالوا ذلك أتاهم ما اشتهوا من الجنة من ربهم ولا بأس في ذلك. نعم في كون الحمد بعد أكل قدر حاجتهم مدلول قوله سبحانه: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ خفاء. وقال القاضي بيض الله تعالى غرة أحواله: لعل المعنى أنهم إذا دخلوا الجنة وعاينوا عظمة الله سبحانه وكبرياءه مجدوه ونعتوه بنعوت الجلال ثم حياهم الملائكة بالسلامة عن الآفات والفوز بأصناف الكرامات أو الله تعالى فحمدوه وأثنوا عليه بصفات الإكرام وهو أيضا ظاهر في كون الترتيب الذكرى كما قلنا إلا أنه تعقب بأن إضافة آخِرُ إلى دَعْواهُمْ يأباه، وكأن وجه الآباء على ما قيل: إن ذلك على هذا آخر الحال وبأن اعتبار الفوز بالكرامات في مفهوم السلام غير ظاهر، ولعل الأمر في ذلك سهل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 73 وقال شيخ الإسلام: لعلهم يقولون: سبحانك اللهم عند ما يعاينون من تعاجيب آثار قدرته تعالى ونتائج رحمته ورأفته ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر تقديسا لمقامه تعالى عن شوائب العجز والنقصان وتنزيها لوعده الكريم عن سمات الخلف ويكون خاتمة دعائهم أن يقولون: الحمد لله رب العالمين نعتا له تعالى شأنه بصفات الإكرام إثر نعته بصفات الجلال، والمعنى دعاؤهم منحصر فيما ذكر إذ ليس لهم مطلب مترقب حتى ينظموه في سلك الدعاء، ولعل توسيط ذكر تحيتهم عند الحكاية بين دعائهم وخاتمته للتوسل إلى ختم الحكاية بالتحميد تبركا مع أن التحية ليست بأجنبية على الإطلاق انتهى. وكأنه أراد بعدم كون التحية أجنبية على الإطلاق كونها دعاء معنى، وكلامه نص في أن الترتيب الوقوعي مخالف للترتيب الذكرى، ولا يخفى أن توجيه توسيط ذكر التحية بما ذكره مما لا يكاد يرتضيه منصف على أنه غفل هو وسائر من وقفنا على كلامه من المفسرين عن توجيه اسمية الجمل فافهم، والله تعالى أعلم وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ هم الذين لا يرجون لقاء الله تعالى المذكورون في قوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا إلخ، والآية متصلة بذلك دالة على استحقاقهم للعذاب وأنه سبحانه إنما يمهلهم استدراجا وذكر المؤمنين وقع في البين تتميما ومقابلة. وجيء بالناس بدل ضميرهم تفظيعا للأمر. وفي إرشاد العقل السليم إنما أوردوا باسم الجنس لما أن تعجيل الخير لهم ليس دائرا على وصفهم المذكور إذ ليس كل ذلك بطريق الاستدراج، والمراد لو يعجل الله تعالى لهم الشَّرَّ الذي كانوا يستعجلون به تكذيبا واستهزاء فإنهم كانوا يقولون: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ونحو ذلك. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال: هو دعاء الرجل على نفسه وماله بما يكره أن يستجاب له، وأخرجا عن مجاهد أنه قال: هو قول الإنسان لولده وما له إذا غضب اللهم لا تبارك فيه. اللهم العنه، وفيه حمل- الناس- على العموم والمختار الأول، ويؤيده ما قيل: من أن الآية نزلت في النضر بن الحارث حين قال: اللهم إن كان هذا هو الحق إلخ، وقوله سبحانه: اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ نصب على المصدرية، والأصل- على ما قال أبو البقاء- تعجيلا مثل استعجالهم فحذف تعجيلا وصفته المضافة وأقيم المضاف إليه مقامها. وفي الكشاف وضع اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ موضع تعجيله لهم إشعارا بسرعة إجابته سبحانه لهم وإسعافه بطلبتهم حتى كأن استعجالهم بالخير تعجيل له وهو كلام رصين يدل على دقة نظر صاحبه كما قال ابن المنير، إذ لا يكاد يوضع مصدر مؤكد مقارنا لغير فعله في الكتاب العزيز بدون مثل هذه الفائدة الجليلة، والنحاة يقولون في ذلك: أجري المصدر على فعل مقدر دل عليه المذكور ولا يزيدون عليه، وإذا راجع الفطن قريحته وناجى فكرته علم أنه إنما قرن بغير فعله لفائدة وهي في قوله تعالى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17] التنبيه على نفوذ القدرة في المقدور وسرعة إمضاء حكمها حتى كأن إنبات الله تعالى لهم نفس نباتهم أي إذا وجد الإنبات وجد النبات حتما كأن أحدهما عين الآخر فقرن به وقال الطيبي: كان أصل الكلام ولو يجعل الله للناس الشر تعجيله ثم وضع موضعه الاستعجال ثم نسب إليهم فقيل استعجالهم بالخير لأن المراد أن رحمته سبقت غضبه فأريد مزيد المبالغة وذلك أن استعجالهم الخير أسرع من تعجيل الله تعالى لهم ذلك فإن الإنسان خلق عجولا والله تعالى صبور حليم يؤخر للمصالح الجمة التي لا يهتدي إليها عقل الإنسان ومع ذلك يسعفهم بطلبتهم ويسرع إجابتهم. وأوجب أبو حيان كون التقدير تعجيلا مثل استعجالهم أو أن ثم محذوفا يدل عليه المصدر أي لو يعجل الله للناس الشر إذا استعجلوه استعجالهم بالخير قال: لأن مدلول عجل غير مدلول استعجل لأن عجل يدل على الوقوع واستعجل يدل على طلب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 74 التعجيل وذلك واقع من الله تعالى وهذا مضاف إليهم فلا يجوز ما قرره الزمخشري وأتباعه: وأجاب السفاقسي بأن استفعل هنا للدلالة على وقوع الفعل لا على ما طلبه كاستقر بمعنى أقر، وقوله: وهذا مضاف إليهم مبني على أن المصدر مضاف للفاعل ويحتمل أن يكون مضافا للمفعول ولا يخفى أن كل ذلك ناشىء من قلة التدبر، ومعنى قوله سبحانه: لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ لأميتوا وأهلكوا بالمرة يقال: قضي إليه أجله أي أنهى إليه مدته التي قدر فيها موته فهلك، وفي إيثار صيغة المبنى للمفعول جرى على سنن الكبرياء مع الإيذان بتعين الفاعل. وقرأ ابن عامر. ويعقوب «لقضى» على البناء للفاعل، وقرأ عبد الله «لقضينا» وفيه التفات، واختيار صيغة الاستقبال في الشرط وإن كان المعنى على المضي لإفادة أن عدم قضاء الأجل لاستمرار عدم التعجيل فإن المضارع المنفي للواقع موقع الماضي ليس بنص في إفادة انتفاء استمرار الفعل بل قد يفيد استمرار انتفائه أيضا بحسب المقام كما حقق في موضعه. وذكر بعض المحققين أن المقدم هاهنا ليس نفس التعجيل المذكور بل هو إرادته المستتبعة للقضاء المذكور وجودا وعدما لأن القضاء ليس أمرا مغايرا لتعجيل الشر في نفسه بل هو إما نفسه أو جزئي منه كسائر جزئياته من غير مزية له على البقية إذ لم يعتبر في مفهومه ما ليس في مفهوم تعجيل الشر من الشدة والهول فلا يكون في ترتبه عليه وجودا أو عدما مزيد فائدة مصححة لجعله تاليا له فليس كقوله تعالى: لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ [الحجرات: 7] ولا كقوله سبحانه: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ [الأنعام: 30] وقوله تعالى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فاطر: 45] إذا فسر الجواب بالاستئصال، وأيضا في ترتيب التالي على إرادة المقدم ما ليس في ترتيبه على المقدم نفسه من الدلالة على المبالغة وتهويل الأمر والدلالة على أن الأمور منوطة بإرادته تعالى المبنية على الحكم البالغة. وقوله سبحانه فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا أي نتركهم إمهالا واستدراجا فِي طُغْيانِهِمْ الذي هو عدم رجاء اللقاء وإنكار البعث والجزاء وما يتفرع على ذلك من الأعمال السيئة والمقالات الشنيعة يَعْمَهُونَ أي يترددون ويتحيرون، لا يصح عطفه على شرط «لو» ولا على جوابها لانتفائه وهو مقصود إثباته وليست «لو» بمعنى أن كما قيل فهو إما معطوف على مجموع الشرطية لأنها في معنى لا يعجل لهم وفي قوته فكأنه قيل: لا يعجل بل يذرهم أو معطوف على مقدر تدل عليه الشرطية أي ولكن يمهلهم أو ولكن لا يعجل ولا يقضي فيذرهم وبكل قال بعض، وقيل: الجملة مستأنفة والتقدير فنحن نذرهم، وقيل: إن الفاء واقعة في جواب شرط مقدر والمعنى لو يعجل الله تعالى ما استعجلوه لأبادهم ولكن يمهلهم ليزيدوا في طغيانهم ثم يستأصلهم وإذا كان كذلك فنحن نذر هؤلاء الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يترددون ثم نقطع دابرهم. وصاحب الكشف بعد ما قرر أن اتصال وَلَوْ يُعَجِّلُ إلخ بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا إلخ وأن ذكر المؤمنين إنما وقع في البين تتميما ومقابلة وليس بأجنبي قال: إنه لا حاجة إلى جعل هذا جواب شرط مقدر، وفي وضع الموصول موضع الضمير نوع بيان للطغيان بما في حيز الصلة وإشعار بعليته للترك والاستدراج. وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ أي إذا أصابه جنس الضر من مرض وفقر وغيرهما من الشدائد إصابة يسيرة، وقيل: مطلقا دَعانا لكشفه وإزالته لِجَنْبِهِ في موضع الحال ولذا عطف عليه الحال الصريحة أعني قوله سبحانه: أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً أي دعانا مضطجعا أو ملقى لجنبه، واللام على ظاهرها، وقيل: إنها بمعنى على كما في قوله تعالى: يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ [الإسراء: 109] ولا حاجة إليه وقد يعبر بعلى وهي تفيد استعلاءه عليه واللام تفيد اختصاص كينونته واستقراره بالجنب إذ لا يمكنه الاستقرار على غير تلك الهيئة ففيه مبالغة زائدة. واختلف في ذي الحال فقيل: إنه فاعل دَعانا وقيل: هو مفعول مَسَّ واستضعف بأمرين: أحدهما تأخر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 75 الحال عن محلها من غير داع. الثاني أن المعنى على أنه يدعو كثيرا في كل أحواله إلا أنه خص المعدودات بالذكر لعدم خلو الإنسان عنها عادة لا أن الضر يصيبه في كل أحواله: وأجيب عن هذا بأنه لا بأس به فإنه يلزم من مسه الضر في هذه الأحوال دعاؤه فيها أيضا لأن القيد في الشرط قيد في الجواب فإذا قلت إذا جاء زيد فقيرا أحسنا إليه فالمعنى أحسنا إليه في حال فقره وأنت تعلم أن الأظهر هو الأول، واعتبر بعضهم توزيع هذه الأحوال على أفراد الإنسان على معنى أن من الإنسان من يدعو على هذه الحالة ومنه من يدعو على تلك، وذكر غير واحد أنه يجوز أن يكون المراد بهذه الأحوال تعميم أصناف المضار لأنها إما خفيفة لا تمنع الشخص القيام أو متوسطة تمنعه القيام دون القعود أو شديدة تمنعه منها وانفهام ذلك منها بمعونة السياق وإِذا قيل إنها على أصلها وقيل إنها للمضي فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ الذي مسه غب ما دعانا كما ينبىء عنه الفاء مَرَّ أي مضى واستمر على ما كان عليه قبل ونسي حالة الجهد والبلاء أو مر عن موقف الدعاء والابتهال ونأى بجانبه، والمرور على الأول مجاز وعلى الثاني باق على حقيقته ويكون كناية عن عدم الدعاء كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا أي كأنه لم يدعنا فخفف وحذف ضمير الشأن، ومثل ذلك قوله: ووجه مشرق النحر ... كأن ثدياه حقان فإن الأصل فيه كأنه فخفف كأن وحذف ضمير الشأن، لكن صرح ابن هشام في شواهده أن ذلك غير متعين إذ يجوز كون الضمير للوجه أو للصدر على رواية- وصدر- وروي كأن ثدييه على إعمال كأن في اسم مذكور ولا يبعد أن يجوز ذلك في الرواية الأولى على بعض اللغات، والجملة التشبيهية في موضع الحال من فاعل مَرَّ أي مر مشبها بمن لم يدعنا إِلى ضُرٍّ أي إلى كشفه لأنه المدعو إليه، وقيل: لا حاجة إلى التقدير، وإلى بمعنى اللام أي لضر مَسَّهُ والظاهر أن هذا وصف لجنس الإنسان مطلقا أو الكافر منه باعتبار حال بعض الأفراد ممن هو متصف بهذه الصفات. وذكر الشهاب أن للمفسرين في المراد بالإنسان هنا ثلاثة أقوال فقيل: الجنس وقيل: الكافر وقيل: شخص معين وعليه لا حاجة إلى الاعتبار لكن لا اعتبار له كَذلِكَ أي مثل ذلك التزيين العجيب زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ أي للموصوفين بما ذكر من الصفات الذميمة ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الإعراض عن الذكر والدعاء والانهماك في الشهوات، والإسراف مجاوزة الحد وسموا أولئك مسرفين لما أن الله تعالى إنما أعطاهم القوى والمشاعر ليصرفوها إلى مصارفها ويستعملوها فيما خلقت له من العلوم والأعمال الصالحة وهم قد صرفوها إلى ما لا ينبغي مع أنها رأس ما لهم، وفاعل التزيين إما مالك الملك جل شأنه وإما الشيطان عليه اللعنة وقد مر تحقيق ذلك وكذلك فتذكر. وتعلق الآية الكريمة بما قبلها قيل من حيث إن في كل منهما إملاء للكفرة على طريقة الاستدراج بعد الإنقاذ من الشر المقرر في الأولى ومن الضر المقرر في الأخرى. وذكر الإمام في وجه الانتظام مع الآية الأولى وجهين: الأول: أنه تعالى بين في الأولى أنه لو أنزل العذاب على العبد في الدنيا لهلك وأكد ذلك في هذه الآية حيث دلت على غاية ضعفه ونهاية عجزه. والثاني: أنه سبحانه أشار في الأولى إلى أن الكفرة يستعجلون نزول العذاب وبين جل شأنه في هذه أنهم كاذبون في ذلك الطلب حيث أفادت أنه لو نزل بالإنسان أدنى شيء يكرهه فإنه يتضرع إلى الله تعالى في إزالته عنه انتهى. ولكل وجهة. وفي الآية ذم لمن يترك الدعاء في الرخاء ويهرع إليه في الشدة واللائق بحال الكامل التضرع إلى مولاه في السراء والضراء فإن ذلك أرجى للإجابة ففي الحديث «تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة» . وأخرج أبو الشيخ عن أبي الدرداء قال: ادع الله تعالى يوم سرائك يستجب لك يوم ضرائك، وفي حديث الجزء: 6 ¦ الصفحة: 76 للترمذي عن أبي هريرة، ورواه الحاكم عن سلمان وقال صحيح الإسناد «من سره أن يستجيب الله تعالى له عند الشدائد والكروب فليكثر الدعاء في الرخاء» والآثار في ذلك كثيرة وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مثل قوم نوح، وعاد، وثمود. وهو جمع قرن بفتح القاف أهل كل زمان مأخوذ من الاقتران كأن أهل ذلك الزمان اقترنوا في أعمالهم وأحوالهم، وقيل: القرن أربعون سنة وقيل: ثمانون وقيل مائة وقيل هو مطلق الزمان، والمراد هنا المعنى الأول وكذا في قوله صلّى الله عليه وسلم: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم» وقوله: إذا ذهب القرن الذي أنت فيهم ... وخلفت في قرن فأنت غريب مِنْ قَبْلِكُمْ أي من قبل زمانكم، والخطاب لأهل مكة على طريقة الالتفات للمبالغة في تشديد التهديد بعد تأييده بالتوكيد القسمي، والجار والمجرور متعلق بأهلكنا، ومنع أبو البقاء كونه حالا من القرون لَمَّا ظَلَمُوا أي حين فعلوا الظلم بالتكذيب والتمادي في الغي والضلال. والظرف متعلق بأهلكنا وجعل لما شرطية بتقدير جواب هو أهلكناهم بقرينة ما قبله تكلف لا حاجة إليه وقوله سبحانه: وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ حال من ضمير ظَلَمُوا بإضمار قد وقوله تعالى: بِالْبَيِّناتِ متعلق بجاءتهم على أن الباء للتعدية أو بمحذوف وقع حالا من رُسُلُهُمْ دالة على إفراطهم في الظلم وتناهيهم في المكابرة أي ظلموا بالتكذيب وقد جاءتهم رسلهم بالآيات البينة الدالة على صدقهم أو متلبسين بها حين لا مجال للتكذيب، وجوز أبو البقاء وغيره عطفه على ظَلَمُوا فلا محل له من الإعراب أو محله الجر وذلك عند من يرى إضافة الظرف إلى المعطوف عليه، والترتيب الذكرى لا يجب أن يكون حسب الترتيب الوقوعي كما في قوله تعالى: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً [يوسف: 100] ولا حاجة إلى هذا الاعتذار بناء على أن الظلم ليس منحصرا في التكذيب بل هو محمول على سائر أنواع الظلم، والتكذيب مستفاد من قوله تعالى: وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا على أبلغ وجه وآكده لأن اللام لتأكيد النفي. وهذه الجملة على الأول عطف على ظَلَمُوا وليس من العطف التفسيري في شيء على ما قاله صاحب الكشف خلافا للطيبي لأن الأولى إخبار بأحداث التكذيب وهذه أخبار بالإصرار عليه، وعلى الثاني عطف على ما عطف عليه، وقيل: اعتراض للتأكيد بين الفعل وما يجري مجرى مصدره التشبيهي أعني قوله سبحانه: كَذلِكَ فإن الجزاء المشار إليه عبارة عن مصدره أي مثل ذلك الجزاء الفظيع أي الإهلاك الشديد الذي هو الاستئصال بالمرة نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ أي كل طائفة مجرمة فيشمل القرون، وجعل ذلك عبارة عنهم غير مناسب للسياق. وقرىء «يجزي» بياء الغيبة التفاتا من التكلم في أَهْلَكْنَا إليها. وحاصل المعنى على تقدير العطف أن السبب في إهلاكهم تكذيبهم الرسل وأنهم ما صح وما استقام لهم أن يؤمنوا لفساد استعدادهم وخذلان الله تعالى إياهم، ويقتصر على الأمر الأول في بيان الحاصل على تقدير الاعتراض، وذكر الزمخشري بدل الأمر الثاني علم الله تعالى أنه لا فائدة في إمهالهم بعد أن ألزموا الحجة ببعثة الرسل عليهم السلام وجعل بيانا على التقديرين وفيه ما يحتاج إلى الكشف فتدبره. وتعليل عدم الإيمان بالخذلان ونحوه ظاهر، وكلام القاضي صريح في تعليله أيضا بعلم الله تعالى أنهم يموتون على الكفر. واعترض بأنه مناف لقولهم: إن العلم تابع للمعلوم، وتكلف بعض الفضلاء في تصحيحه ما تكلف ولم يأت بشيء. وقال بعض المحققين: معنى كون العلم تابعا للمعلوم أن علمه تعالى في الأزل بالمعلوم المعين الحادث تابع لماهيته بمعنى أن خصوصية العلم وامتيازه عن سائر العلوم إنما هو باعتبار أنه علم بهذه الماهية، وأما وجود الماهية وفعليتها فيما لا يزال فتابع لعلمه الأزلي التابع لماهيته بمعنى أنه تعالى لما علمها في الأزل على هذه الخصوصية لزم أن تتحقق وتوجد فيما لا يزال على هذه الخصوصية فنفس موتهم على الكفر وعدم إيمانهم متبوع لعلمه تعالى الأزلي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 77 ووقوعه تابع له وهذا مما لا شبهة فيه وهو مذهب أهل السنة رحمهم الله تعالى وبه ينحل إشكالات كثيرة فليحفظ. وذكر مولانا الشيخ إبراهيم الكوراني أن معنى كون العلم تابعا للمعلوم أنه متعلق به كاشف له على ما هو عليه وبني على ذلك كون الماهيات ثابتة غير مجعولة في ثبوتها، والقول بالتبعية المذكورة مما ذهب إليه الشيخ الأكبر قدس سره ونازع في ذلك عبد الكريم الجيلي. وقال الشيخ محمد عمر البغدادي عليه الرحمة: إن كون العلم تابعا للمعلوم بالنظر إلى حضرة الأعيان القديمة التي أعطت الحق العلم التفصيلي بها وأما بالنظر إلى العلم الإجمالي الكلي فالمعلوم تابع للعلم لأن الحق تعالى لما تجلى من ذاته لذاته بالفيض الأقدس حصلت الأعيان واستعدادا فلم تحصل عن جهل تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وحينئذ فلا مخالفة بين الشيخ الأكبر قدس سره والجيلي، على أنه إن بقيت هناك مخالفة فالحق مع الشيخ لأن الجيلي بالنسبة إليه نحلة تدندن حول الحمى، والدليل أيضا مع الشيخ كنار على علم لكنه قد أبعد رضي الله تعالى عنه الشوط بقوله: العلم تابع للمعلوم والمعلوم أنت وأنت هو والبحث وعن المسلك صعب المرتقى وتمام الكلام فيه يطلب من محله. واستفادة معنى العلم هنا على ما قيل من التأكيد الذي أفادته اللام، وفي الآية وعيد شديد وتهديد أكيد لأهل مكة لأنهم وأولئك المهلكين مشتركون فيما يقتضي الإهلاك، ويعلم مما تقرر أن ضمير كانُوا للقرون وهو ظاهر، وجوز مقاتل أن يكون الضمير لأهل مكة وهو خلاف الظاهر، وكذا جوز كون المراد بالقوم المجرمين أهل مكة على طريقة وضع الظاهر موضع ضمير الخطاب إيذانا بأنهم أعلام في الإجرام وذكر الْقَوْمَ إشارة إلى أن العذاب عذاب استئصال. والتشبيه على هذا ظاهر إذ المعنى يجزيكم مثل جزاء من قبلكم، وأما على الأول فهو على منوال وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143] وأضرابه وفيه بعد أيضا بل قال بعض المحققين: يأباه كل الإباء قوله سبحانه: ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ فإنه صريح في أنه ابتداء تعرض لأمورهم وإن ما بين فيه مبادئ أحوالهم لاختبار كيفية أعمالهم على وجه يشعر باستمالتهم نحو الإيمان والطاعة فمحال أن يكون ذلك إثر بيان منتهى أمرهم وخطابهم بيت القول بإهلاكهم لكمال إجرامهم والعطف على قوله تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا لا على ما قبله، والمعنى ثم استخلفناكم في الأرض بعد إهلاك أولئك القرون التي تسمعون أخبارها وتشاهدون آثارها لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ أي لنعلم أي عمل تعملون فكيف مفعول مطلق لتعملون، وقد صرح في المغني بأن كيف تأتي كذلك وأن منه كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ [الفجر: 6، الفيل: 1] وليست معمولة لِنَنْظُرَ لأن الاستفهام له الصدارة فيمنع ما قبله من العمل فيه، ولذا لزم تقديمه على عامله هنا. وقيل: محلها النصب على الحال من ضمير تَعْمَلُونَ كما هو المشهور فيها إذا كان بعدها فعل نحو كيف ضرب زيد أي على أي حال تعملون الأفعال اللائقة بالاستخلاف من أوصاف الحسن، وفيه من المبالغة في الزجر عن الأعمال السيئة ما فيه، وقيل: محلها النصب على أنها مفعول به لتعملون أي أي عمل تعملون خيرا أو شرا، وقد صرحوا بمجيئها كذلك أيضا، وجعلوا من ذلك نحو كيف ظننت زيدا، وبما ذكر فسر الزمخشري الآية، وتعقبه القطب بما تعقبه ثم قال: ولعله جعل كيف هاهنا مجازا بمعنى أي شيء لدلالة المقام عليه. وذكر بعض المحققين أن التحقيق أن معنى كيف السؤال عن الأحوال والصفات لا عن الذوات وغيرها فالسؤال هنا عن أحوالهم وأعمالهم ولا معنى للسؤال عن العمل إلا عن كونه حسنا أو قبيحا وخيرا أو شرا فكيف ليست مجازا بل هي على حقيقتها، ثم إن استعمال النظر بمعنى العلم مجاز حيث شبه بنظر الناظر وعيان المعاين في تحققه، والكلام الجزء: 6 ¦ الصفحة: 78 استعارة تمثيلية مرتبة على استعارة تصريحية تبعية، والمراد يعاملكم معاملة من يطلب العلم بأعمالكم ليجازيكم بحسبها كقوله تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود: 7، الملك: 2] وقيل يمكن أن يقال: المراد بالعلم المعلوم فحينئذ يكون هذا مجازا مرتبا على استعارة، وأيا ما كان فلا يلزم أن لا يكون الله سبحانه وتعالى عالما بأعمالهم قبل استخلافهم، وليس مبنى تفسير النظر بالعلم على نفي الرؤية كما هو مذهب بعض القدرية القائلين بأنه جل شأنه لا يرى ولا يرى فإنّا ولله تعالى الحمد ممن يقول: إنه تبارك وتعالى يرى ويرى والشروط في الشاهد ليست شروطا عقلية كما حقق في موضعه، وأن الرؤية صفة مغايرة للعلم وكذا السمع أيضا، وممن يقول أيضا: إن صور الماهيات الحادثة مشهودة لله تعالى أزلا في حال عدمها في أنفسها في مرايا الماهيات الثابتة عنده جل شأنه بل هو مبني على اقتضاء المعنى له فإنك إذا قلت: أكرمتك لأرى ما تصنع فمعناه أكرمتك لأختبرك وأعلم صنعك فأجازيك عليه، ومن هنا يعلم أن حمل النظر على الانتظار والتربص كما هو أحد معانيه ليس بشيء، وبعض الناس حمل كلام بعض الأفاضل عليه وارتكب شططا وتكلم غلطا. «هذا» وقرىء «لنظر» بنون واحدة وتشديد الظاء ووجه ذلك أن النون الثانية قلبت ظاء وأدغمت، وقوله تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ التفات من خطابهم إلى الغيبة إعراضا عنهم وتوجيها للخطاب إلى سيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلم بتعديد جناياتهم المضادة لما أريد منهم بالاستخلاف من التكذيب والكفر بالآيات البينات وغير ذلك كدأب من قبلهم من القرون المهلكة، وصيغة المضارع للدلالة على تجدد جوابهم الآتي حسب تجدد التلاوة، والمراد بالآيات الآيات الدالة على التوحيد وبطلان الشرك. وقيل: ما هو أعم من ذلك، والإضافة لتشريف المضاف والترغيب في الإيمان به والترهيب عن تكذيبه ونصب بَيِّناتٍ على الحال أي حال كونها واضحات الدلالة على ما تضمنته، وإيراد فعل التلاوة مبنيا للمفعول مسندا إلى الآيات دون رسول الله صلّى الله عليه وسلم ببنائه للفاعل للإشعار بعدم الحاجة لتعيين التالي وللإيذان بأن كلامهم في نفس المتلو ولو تلاه رجل من إحدى القريتين عظيم قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا وضع الموصول موضع الضمير إشعارا بعلية ما في حيز الصلاة المعظمة المحكية عنهم وذما لهم بذلك أي قالوا لمن يتلوها عليهم وهو رسول الله صلّى الله عليه وسلم ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أشاروا بهذا إلى القرآن المشتمل على تلك الآيات لا إلى أنفسها فقط قصدا إلى إخراج الكل من البين أي ائت بكتاب آخر نقرؤه ليس فيه ما نستبعده من البعث وتوابعه أو ما نكرهه من ذم آلهتنا والوعيد على عبادتها أَوْ بَدِّلْهُ بأن تجعل مكان الآية المشتملة على ذلك آية أخرى، ولعلهم إنما سألوا ذلك كيدا وطمعا في إجابته عليه الصلاة والسلام ليتوسلوا إلى الإلزام والاستهزاء وليس مرادهم أنه عليه الصلاة والسلام لو أجابهم آمنوا قُلْ أيها الرسول لهم ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ المصدر فاعل يكون وهي من كان التامة وتفسر بوجد ونفي الوجود قد يراد به نفي الصحة فإن وجود ما ليس بصحيح كلا وجود، فالمعنى هنا ما يصح لي أصلا تبديله مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي أي من جهتي ومن عندي. وأصل تلقاء مصدر على تفعال التاء ولم يجىء مصدر بكسرها غيره وغير تبيان في المشهور. وقرىء شاذا بالفتح وهو القياس في المصادر الدالة على التكرار كالتطواف والتجوال، وقد خرج هنا من ذلك إلى الظرفية المجازية، والجر بمن لا يخرج الظرف عن ظرفيته ولذا اختصت الظروف الغير المتصرفة كعند بدخولها عليها. ومن الناس من وهم في ذلك وقصر الجواب ببيان امتناع ما اقترحوه على اقتراحهم الثاني للإيذان بأن استحالة ما اقترحوه أولا من الظهور بحيث لا حاجة إلى بيانها ولأن ما يدل على استحالة الثاني يدل على استحالة الأول بالطريق الأولى فهو بحسب المآل والحقيقة جواب عن الأمرين إِنْ أَتَّبِعُ أي ما اتبع فيما آتي وأذر إِلَّا ما يُوحى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 79 إِلَيَّ من غير تغيير له في شيء أصلا على معنى قصر حاله عليه الصلاة والسلام على اتباع ما يوحى لا قصر اتباعه على ما يوحى إليه كما هو المتبادر من ظاهر العبارة فكأنه قيل: ما أفعل إلا اتباع ما يوحى إلي، والجملة مستأنفة بيانا لما يكون فإن من شأنه اتباع الوحي على ما هو عليه لا يستقل بشيء دونه أصلا، وفي ذلك على ما قيل جواب لنقض مقدر وهو أنه كيف هذا وقد نسخ بعض الآيات ببعض، ورد لما عرضوا له بهذا السؤال من أن القرآن كلامه صلّى الله عليه وسلم، وكذا تقييد التبديل في الجواب بقوله: مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي لرد تعريضهم بأنه من عنده عليه الصلاة والسلام ولذلك أيضا سماه عصيانا عظيما مستتبعا لعذاب عظيم بقوله عز وجل: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وهو تعليل لمضمون ما قبله من امتناع التبديل واقتصار أمره صلّى الله عليه وسلم على اتباع الوحي أي إني أخاف إن عصيته تعالى بتعاطي التبديل والإعراض عن الوحي عذاب يوم عظيم هو يوم القيامة ويوم اللقاء الذي لا يرجونه، وفيه إيماء بأنهم استوجبوا العذاب بهذا الاقتراح لأن اقتراح ما يوجبه يستوجبه أيضا وإن لم يكن كفعله، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة لضميره عليه الصلاة والسلام لتهويل أمر العصيان وإظهار كمال نزاهته صلّى الله عليه وسلم، وفي إيراد اليوم بالتنوين التفخيمي ووصفه بعظيم ما لا يخفى ما فيه من العذاب وتفظيعه، وجوز العلامة الطيبي كون الجواب المذكور جوابا عن الاقتراحين من غير حاجة إلى شيء وذلك بحمل التبديل فيه على ما يعم تبديل ذات بذات أخرى كبدلت الدنانير دراهم وهو الذي أشاروا إليه بقولهم: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا وتبديل صفة بصفة أخرى كبدلت الخاتم حلقة وهو الذي أشاروا إليه بقولهم: أَوْ بَدِّلْهُ. وأورد عليه بأن تقييد التبديل بقوله سبحانه: مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي يمنع حمله على الأعم لأنه يشعر بأن ذلك مقدور له صلّى الله عليه وسلم ولكن لا يفعله بغير إذنه تعالى والتبديل الذي أشاروا إليه أولا غير مقدور له عليه الصلاة والسلام حتى أن المقترحين يعلمون استحالة ذلك لكن اقترحوه لما مر وقالوا: لو شئنا لقلنا مثل هذا مكابرة وعنادا. ثم إن الظاهر أنهم اقترحوا التبديل والإتيان بطريق الافتراء قيل: لا مساغ للقول بأنهم اقترحوا ذلك من جهة الوحي فكأنهم قالوا: ائت بقرآن غير هذا أو بدله من جهة الوحي كما أتيت بالقرآن من جهته ويكون معنى قوله: ما يَكُونُ لِي إلخ ما يتسهل لي ولا يمكنني أن أبدله لما في الكشاف من أن قوله: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي يرد ذلك، ووجه بأنهم لم يطلبوا ما هو عصيان على هذا التقدير حتى يقول في جوابهم ما ذكر، ونظر فيه بأن الطلب من غير إذن عصيان فإن لم يحمل ما يتسهل لي على أن ذلك لكونه غير مأذون كان الجواب غير مطابق لسؤالهم لأن السؤال عن تبديل من الله تعالى وهو عليه الصلاة والسلام قال: لا يمكنني التبديل من تلقاء نفسي في الجواب وإن حمل عليه فالعصيان أيضا منزل عليه، وأجيب بأن صاحب الكشاف حمل ما يَكُونُ على أنه لا يمكن ولا يتسهل والعصيان يقع على الممكن المقدور لا أنهم طلبوا ما هو عصيان أو ليس والمطابقة حاصلة بل أشدها لأن الحاصل إما التبديل من تلقاء نفسي فغير ممكن وإما من قبل الوحي فأنا تابع غير متبوع. نعم لا ينكر أنه يمكن أن يأتي وجه آخر بأن يحمل على أنه لا يحل لي ذلك دون وصاحب الكشاف لم ينفه. وذكر بعض المحققين أنه لا مساغ لحمل مقترحهم على ما هو من جهة الوحي لمكان التعليل بأني أخاف إلخ إذ المقصود بما ذكر فيه معصية الافتراء كما يرشد إلى ذلك صريح ما بعده من الآيتين الكريمتين وحينئذ لا يتحقق فيه تلك المعصية، ومعصية استدعاء تبديل ما اقتضته الحكمة التشريعية لا سيما بموجب اقتراح الكفرة ليست مقصودة فلا ينفع تحققها، وهو كلام وجيه يعلم منه ما في الكلام السابق من النظر، بقي أنه يفهم من بعض الآثار أنهم طلبوا الإتيان من جهة الوحي فعن مقاتل أن الآية نزلت في خمسة نفر عبد الله بن أمية المخزومي والوليد بن المغيرة ومكرز بن حفص وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس العامري. والعاص بن عامر بن هشام قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلم: إن كنت تريد أن نؤمن لك فائت بقرآن ليس فيه ترك عبادة اللات والعزى ومنات وليس فيه عيبها وإن لم ينزل الله تعالى عليك فقل أنت من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 80 نفسك أو بدله فاجعل مكان آية عذاب آية رحمة ومكان حرام حلالا ومكان حلال حراما، وربما يقال: إن هذا على تقدير صحته لا يأبى أن يكون ما في الآية ما أشار إليه تالي الشرطية الثانية من كلامهم فتدبر، وقوله سبحانه: قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ تحقيق لحقية القرآن وأنه من عنده سبحانه أثر بيان بطلان ما اقترحوه على أتم وجه، وصدر بالأمر المستقل إظهارا لكمال الاعتناء بشأنه وإيذانا باستقلاله مفهوما وأسلوبا فإنه برهان دال على كونه بأمر الله تعالى ومشيئته كما ستعلمه إن شاء الله تعالى وما سبق مجرد إخبار باستحالة ما اقترحوه، ومفعول المشيئة محذوف ينبىء عنه الجزاء كما هو المطرد في أمثاله، ويفهم من ظاهر كلام بعضهم أنه غير ذلك وليس بذلك وهو ظاهر، والمعنى أن الأمر كله منوط بمشيئته تعالى وليس لي منه شيء أصلا ولو شاء سبحانه عدم تلاوتي له عليكم وعدم ادرائكم به بواسطتي بأن لم ينزله جل شأنه علي ولم يأمرني بتلاوته ما تلوته عليكم وَلا أَدْراكُمْ بِهِ أي ولا أعلمكم به بواسطتي والتالي وهو عدم التلاوة والإدراء منتف فينتفي المقدم وهو مشيئته العدم وهي مستلزمة لعدم مشيئته الوجود فانتفاؤه مستلزم لانتفائه وهو إنما يكون بتحقق مشيئة الوجود فثبت أن تلاوته عليه الصلاة والسلام للقرآن وإدراءه تعالى بواسطته بمشيئته تعالى. وتقييد الإدراء بذلك هو الذي يقتضيه المقام وحيث اقتصر بعضهم في تقدير المفعول في الشرط على عدم التلاوة علل التقييد بأن عدم الإعلام ليس من لوازم الشرط الذي هو عدم مشيئة تلاوته عليه الصلاة والسلام فلا يجوز نظمه في سلك الجزاء، ولم يظهر وجه الاقتصار على ذلك وعدم ضم عدم الإدراء إليه مع أن العطف ظاهر فيه، وفي إسناد عدم الإدراء إليه تعالى المنبئ عن استناد الإدراء إليه سبحانه أعلام بأنه لا دخل له عليه الصلاة والسلام في ذلك حسبما يقتضيه المقام أيضا. وفي رواية أبي ربيعة عن ابن كثير «ولأدراكم» بلام التوكيد وهي الواقعة في جواب لَوْ أي لو شاء الله ما تلوته عليكم ولأعلمكم به على لسان غيري على معنى أنه الحق الذي لا محيص عنه لو لم أرسل به لأرسل به غيري، وجيء باللام هنا للإيذان بأن إعلامهم به على لسان غيره صلّى الله عليه وسلم أشد انتفاء وأقوى، ولعل لا في القراءة الأولى لأنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع وإلا فهي لا تقع في جواب لَوْ فلا يقال: لو قام زيد لا قام عمرو بل ما قام، ومن هنا نص السمين على أنها زائدة مؤكدة للنفي، وروي عن ابن عباس، والحسن، وابن سيرين أنهم قرؤوا «ولا أدرأتكم» بإسناد الفعل إلى ضميره صلّى الله عليه وسلم كالفعل السابق، والأصل ولا أدريتكم فقلبت الياء ألفا على لغة من يقلب الياء الساكنة المفتوح ما قبلها ألفا وهي لغة بالحارث بن كعب وقبائل من اليمن حتى قلبوا ياء التثنية ألفا وجعلوا المثنى في جميع الأحوال على لفظ واحد وحكى ذلك قطرب عن عقيل. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر وغيرهما عن الحسن أنه قرأ «ولا أدرأتكم» بهمزة ساكنة فقيل: إنها مبدلة من الألف المنقلبة عن الياء كما سمعت وقيل: إنها مبدلة من الياء ابتداء كما يقال في البيت لبئت وعلى القولين هي غير أصلية، وجاء ذلك في بعض اللغات كما نص عليه غير واحد، وجوز أن تكون أصلية على أن الفعل من الدرء وهو الدفع والمنع ويقال أدرأته أي جعلته دارئا أي دافعا، والمعنى ولا جعلتكم بتلاوته خصماء تدرؤونني بالجدال. وقرىء «ولا أدرأكم» بالهمز وتركه أيضا مع إسناد الفعل إلى ضمير الله تعالى. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان يقرأ «ولا أنذرتكم به» فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً نوع تعليل للملازمة المستلزمة لكون ذلك بمشيئة الله عز وجل حسبما مر آنفا واللبث الإقامة، ونصب عُمُراً على التشبيه بظرف الزمان والمراد منه مدة، وقيل: هو على تقدير مضاف أي مقدار عمر، وهو بضم الميم وقرأ الأعمش بسكونها للتخفيف، والمعنى قد أقمت فيما بينكم مدة مديدة وهي مقدار أربعين سنة تحفظون تفاصيل أحوالي وتحيطون خبرا بأقوالي وأفعالي مِنْ قَبْلِهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 81 أي من قبل نزول القرآن أو من قبل وقت نزوله، ورجوع الضمير للتلاوة ليس بشيء لا أتعاطى شيئا مما يتعلق بذاك لا من حيث نظمه المعجز ولا من حيث معناه الكاشف عن أسرار الحقائق وأحكام الشرائع أَفَلا تَعْقِلُونَ أي ألا تلاحظون ذلك فلا تعقلون امتناع صدوره عن مثلي ووجوب كونه منزلا من عند الله العزيز الحكيم فإن ذلك غير خاف على من له عقل سليم وذهن مستقيم بل لعمري أن من كان له أدنى مسكة من عقل إذا تأمل في أمره صلّى الله عليه وسلم وأنه نشأ فيما بينهم هذا الدهر الطويل من غير مصاحبة العلماء في شأن من الشؤون ولا مراجعة إليهم في فن من الفنون ولا مخالطة للبلغاء في المحاورة والمفاوضة ولا خوض معهم في إنشاء الخطب والمعارضة ثم أتى بكتاب بهرت فصاحته كل ذي أدب وحيرت بلاغته مصاقع العرب واحتوى على بدائع أصناف العلوم ودقائق حقائق المنطوق والمفهوم وغدا كاشفا عن أسرار الغيب التي لا تنالها الظنون ومعربا عن أقاصيص الأولين وأحاديث الآخرين من القرون ومصدقا لما بين يديه من الكتب المنزلة ومهيمنا عليها في أحكامه المجملة والمفصلة لا يبقى عنده اشتباه في أنه وحي منزل من عند الله جل جلاله وعم أفضاله، هذا هو الذي اتفقت عليه كلمة الجمهور وهو أوفق بالرد عليهم كما لا يخفى على المتأمل. وقيل: إن الأنسب ببناء الجواب فيما سلف على امتناع صدور التغيير والتبديل عنه عليه الصلاة والسلام لكونه معصية موجبة للعذاب العظيم واقتصاره صلّى الله عليه وسلم على اتباع الوحي وامتناع الاستبداد بالرأي من غير تعرض هناك ولا هنا لكون القرآن في نفسه أمرا خارجا عن طوق البشر ولا بكونه عليه الصلاة والسلام غير قادر على الإتيان بمثله أن يستشهد هاهنا بما يلائم ذلك من أحواله صلّى الله عليه وسلم المستمرة في تلك المدة المتطاولة من كمال نزاهته عليه الصلاة والسلام عما يوهم شائبة صدور الكذب والافتراء عنه في حق أحد كائنا من كان كما ينبىء عنه تعقيبه بتظليم المفتري على الله تعالى، والمعنى قد لبثت فيما بين ظهرانيكم قبل الوحي لا أتعرض لأحد قط بتحكم ولا جدال ولا أحوم حول مقال فيه شائبة شبهة فضلا عما فيه كذب وافتراء ألا تلاحظونه فلا تعقلون أن من هذا شأنه المطرد في هذا العهد البعيد يستحيل أن يفتري على الله عز وجل ويتحكم على كافة الخلق بالأوامر والنواهي الموجبة لسلب الأموال وسفك الدماء وغير ذلك وأن ما أتى به وحي مبين تنزيل من رب العالمين انتهى. وأنت تعلم أن هذا غير منساق إلى الذهن وأن الكلام الأول مشير في الجملة إلى كون القرآن أمرا خارجا عن طوق البشر وأنه صلّى الله عليه وسلم غير قادر على الإتيان بمثله على أنه بعد لا يخلو عن مقال فتأمل، وقوله سبحانه: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ استفهام إنكاري معناه النفي أي لا أحد أظلم من ذلك، ونفي الأظلمية كما هو المشهور كناية عن نفي المساواة فالمراد أنه أظلم من كل ظالم وقد مر تحقيق ذلك. والآية مرتبطة بما قبلها على أن المقصود منها تفاديه صلّى الله عليه وسلم مما لوحوا به من نسبة الافتراء على الله سبحانه إليه عليه الصلاة والسلام وحاشاه وتظليم للمشركين بتكذيبهم للقرآن وكفرهم به، كَذِباً مع أن الافتراء لا يكون إلا كذلك للإيذان بأن ما لوحوا به ضمنا وحملوه عليه الصلاة والسلام عليه صريحا مع كونه افتراء على الله سبحانه كذب في نفسه فرب افتراء يكون كذبه في الإسناد فقط كما إذا أسندت ذنب زيد إلى عمرو وهذا للمبالغة منه صلّى الله عليه وسلم في التفادي مما ذكر، والفاء لترتيب الكلام على ما سبق من بيان كون القرآن بمشيئته تعالى وأمره أي وإذا كان الأمر كذلك فمن افترى عليه سبحانه بأن يخلق كلاما فيقول: هذا من عند الله تعالى أو يبدل بعض آياته ببعض كما تجوزون ذلك في شأني، وكذلك من كذب بآياته جل شأنه كما تفعلونه أنتم أظلم من كل ظالم، وقيل: المقصود من الآية تظليم المشركين بافترائهم على الله تعالى في قولهم: إنه تعالى عما يقولون ذو شريك وذو ولد وتكذيبهم بآياته سبحانه، وهي مرتبطة أما بما قبلها أيضا على معنى أني لم أفتر على الله تعالى ولم أكذب عليه وقد قام الدليل على ذلك وأنتم قد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 82 فعلتم ذلك حيث زعمتم أن لله تعالى شريكا وأن له ولدا وكذبتم نبيه صلّى الله عليه وسلم وما جاء به من عنده سبحانه وأما بقوله تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا [يونس: 13] إلخ على أن يكون قوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ [يونس: 14] وقوله سبحانه: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ إلى هنا إعلاما بأن المشركين الذين بعث إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم واستنوا بسنن من قبلهم في تكذيب آيات الله تعالى والرسل عليهم الصلاة والسلام ويكون هذا عودا إلى الأول بعد الفراغ من قصة المشركين، وقيل: وجه تعلقها بما تقدم أنهم إنما سألوه صلّى الله عليه وسلم تبديل القرآن لما فيه من ذم آلهتهم الذين افتروا في جعلها آلهة، وقيل: إن الآية توطئة لما بعدها ولا يخفى أن الأول هو الأنسب بالمقام وأوفق بالفاء وأبعد عن التكلف وأقرب انسياقا إلى الذهن السليم إِنَّهُ أي الشأن لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ أي لا ينجون من محذور ولا يفوزون بمطلوب، والمراد جنس المجرمين فيندرج فيه المفتري والمكذب اندراجا أوليا، ولا يخفى ما في اختيار ضمير الشأن من الاعتناء بشأن ما يذكر بعده من أول الأمر. وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ حكاية لجناية أخرى لهم وهي عطف على قوله سبحانه: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ الآية عطف قصة على قصة، ومِنْ دُونِ في موضع الحال من فاعل يَعْبُدُونَ أي متجاوزين الله تعالى إما بمعنى ترك عبادته سبحانه بالكلية لأنها لا تصح ولا تقع عبادة مع الشركة أو بمعنى عدم الاكتفاء بها وجعلها قرينا لعبادة غيره سبحانه كما اختاره البعض، وما إما موصولة أو موصوفة، والمراد بها الأصنام، ومعنى كونها لا تضر ولا تنفع أنها لا تقدر على ذلك لأنها جمادات، والمقصود من هذا الوصف نفي صحة معبوديتها لأن من شأن المعبود القدرة على ما ذكر، وقيل: المعنى لا تضرهم إن تركوا عبادتها ولا تنفعهم إن عبدوها والمقصود أيضا نفي صحة معبوديتها لأن من شأن المعبود أن يثيب عابده ويعاقب من لم يعبده، والفرق بين التفسيرين على ما قاله القطب إطلاق النفع والضر في الأول والتقييد بالعبادة وتركها في الثاني. وقيل: المقصود على الأول من الموصول الأصنام بعينها وعلى الثاني فاقد أوصاف المعبودية، ويجوز أن يدخل فيه غير الأصنام من الملائكة والمسيح عليهم السلام، والظاهر أن المراد هنا الأصنام لأن العرب إنما كانوا يعبدونها وكان أهل الطائف يعبدون اللات وأهل مكة العزى ومناة وهبل وإسافا ونائلة وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: كان النضر بن الحارث يقول: إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزى وفيه نزلت الآية. والظاهر أن سائر المشركين كانوا يقولون هذا القول، ولعل ذلك منهم على سبيل الفرض والتقدير أي إن كان بعث كما زعمتم فهؤلاء يشفعون لنا، فلا يقال: إن المتبادر من الشفاعة عند الله تعالى أنه في الآخرة وهو مستلزم للبعث وهم ينكرونه كما يدل عليه قوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [النحل: 38] وكذا ما تقدم آنفا من قوله سبحانه: قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا فيلزم المنافاة بين مفاهيم الآيات، وكأنه لذلك قال الحسن عليه الرحمة: إنهم أرادوا من هذه الشفاعة الشفاعة في الدنيا لإصلاح المعاش، وحينئذ لا منافاة والجمهور على الأول، ومن سبر حال القوم رآهم مترددين ولذلك اختلفت كلماتهم، ونسبة الشفاعة للأصنام قيل باعتبار السببية وذلك لأنهم كما هو المشهور وضعوها على صور رجال صالحين ذوي خطر عندهم وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادتها فإن أولئك الرجال يشفعون لهم، وقيل: إنهم كانوا يعتقدون أن المتولي لكل إقليم روح معين من أرواح الأفلاك فعينوا لذلك الروح صنما من الأصنام واشتغلوا بعبادتها قصدا إلى عبادة الكواكب وقيل: غير ذلك، والحق أن من الأصنام ما وضع على الوجه الأول ومنها ما وضع لكونها كالهيا كل للروحانيات قُلْ تبكيتا لهم أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ أي أتخبرونه سبحانه بما لا وجود له ولا تحقق أصلا وهو كون الأصنام شفعاءهم عنده جل شأنه فإن ما لا يعلمه علام الغيوب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 83 المحيط علمه بالكليات والجزئيات لا يكون له تحقق بالكلية، وذكروا أن مثل ذلك لا يسمى شيئا بناء على أنه كما قال سيبويه ما يصح أن يعلم ويخبر عنه وهو يشمل الموجود والمعدوم كما حققه بعض أصحابنا كالمعتزلة وسموا ما لا يعلم بالمنفي كالشريك وكاجتماع الضدين، وحقق ذلك الشيخ إبراهيم الكوراني في رسالة مستقلة أتى فيها بالعجب العجاب، ويجوز أن يراد بالموصول أن له سبحانه شريكا والمقصود على الوجهين من ذكر أنباء الله تعالى بما لا تحقق له ولم يتعلق به علمه التهكم والهزء بهم وإلا فلا أنباء، وقوله سبحانه: فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ في موضع الحال من العائد المحذوف أي بما لا يعلمه كائنا في ذلك، والمقصود منه تأكيد النفي المدلول عليه بما قبله فإنه قد جرى في العرف أن يقال عند تأكيد النفي للشيء ليس هذا في السماء ولا في الأرض لاعتقاد العامة أن كل ما يوجد إما في السماء وإما في الأرض كما هو رأي المتكلمين في كل ما سوى الله تعالى إذ هو سبحانه المعبود المنزه عن الحلول في المكان، والآيات التي ظاهرها ذلك من المتشابه والمذاهب فيه شهيرة، وهذا إذا أريد بالسماء والأرض جهتا العلو والسفل، وقيل: الكلام إلزامي لزعم المخاطبين الكافرين أن الأمر كذلك، وقيل: إن معنى الآية أتخبرونه تعالى بشريك أو شفيع لا يعلم شيئا في السماوات ولا في الأرض كما في قوله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النحل: 73] وليس بشيء سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي عن إشراكهم المستلزم لتلك المقالة الباطلة أو عن شركائهم الذين يعتقدونهم شركاء، وقرىء «أتنبئون» بالتخفيف، وقرأ حمزة، والكسائي تشركون بتاء الخطاب على أنه من جملة القول المأمور به، وعلى الأول هو اعتراض تذييلي من جهته سبحانه وتعالى. وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً أي وما كان الناس كافة من أول الأمر إلا متفقين على الحق والتوحيد من غير اختلاف، وروي هذا عن ابن عباس، والسدي، ومجاهد، والجبائي، وأبي مسلم، ويؤيده قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه «وما كان الناس إلا أمة واحدة على هدى» وذلك من عهد آدم عليه الصلاة والسلام إلى أن قتل قابيل هابيل، وقيل: إلى زمن إدريس عليه الصلاة والسلام، وقيل: إلى زمن نوح عليه الصلاة والسلام، وكانوا عشرة قرون، وقيل: كانوا كذلك في زمنه عليه الصلاة والسلام بعد أن لم يبق على الأرض من الكافرين ديار إلى أن ظهر بينهم الكفر، وقيل: من لدن إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى أن ظهر عمرو بن لحي عبادة الأصنام وهو المروي عن عطاء، وعليه فالمراد من النَّاسُ العرب خاصة وهو الأنسب بإيراد الآية الكريمة إثر حكاية ما حكي منهم من الهنات وتنزيه ساحة الكبرياء عن ذلك. فَاخْتَلَفُوا بأن كفر بعضهم وثبت الآخرون على ما هم عليه فخالف كل من الفريقين الآخر، والفاء للتعقيب وهي لا تنافي امتداد زمان الاتفاق إذ المراد بيان وقوع الاختلاف عقيب انصرام مدة الاتفاق لا عقيب حدوثه وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ بتأخير القضاء بينهم أو العذاب الفاصل بينهم إلى يوم القيامة فإنه يوم الفصل والجزاء لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ عاجلا فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ بأن ينزل عليهم آيات ملجئة إلى اتباع الحق ورفع الاختلاف أو بأن يهلك المبطل ويبقى المحق، وصيغة الاستقبال لحكاية الحال الماضية والدلالة على الاستمرار، ووجه ارتباط الآية بما قبلها أنها كالتأكيد لما أشار إليه من أن التوحيد هو الدين الحق حيث أفادت أنه ملة قديمة اجتمعت عليها الأمم قاطبة وأن الشرك وفروعه جهالات ابتدعها الغواة خلافا للجمهور وشقا لعصا الجماعة، وقيل: وجه ذلك أنه سبحانه بين فيما قبل فساد القوم بعبادة الأصنام وبين في هذه أن هذا المذهب ليس مذهبا للعرب من أول الأمر بل كانوا على الدين الحق الخالي عن عبادة الأصنام وإنما حدثت فيهم عبادتها بتسويل الشياطين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 84 قيل: والغرض من ذلك أن العرب إذا علموا أن ما هم عليه اليوم لم يكن من قبل فيهم وإنما حدث بعد أن لم يكن لم يتعصبوا لنصرته ولم يتأذوا من تزييفه وإبطاله. وعن الكلبي أن معنى كونهم أمة واحدة اتفاقهم على الكفر وذلك في زمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وروي مثله عن الحسن إلا أنه قال: كانوا كذلك من لدن وفاة آدم إلى زمن نوح عليهما السلام ثم آمن من آمن وبقي من بقي على الكفر. وفائدة إيراد هذا الكلام في هذا المقام تسليته صلّى الله عليه وسلم كأنه قيل: لا تطمع في أن يصير كل من تدعوه إلى الإيمان والتوحيد مجيبا لك قابلا لدينك فإن الناس كلهم كانوا على الكفر وإنما حدث الإيمان في بعضهم بعد ذلك فكيف تطمع في اتفاق الكل عليه. واعترض بأنه يلزم على هذا خلو الأرض في عصر عن مؤمن بالله تعالى عارف به وقد قالوا: إن الأرض في كل وقت لا تخلو عن ذلك. وأجيب بأن عدم الخلو في حيز المنع فقد ورد في بعض الآثار أن الناس قبل يوم القيامة ليس فيهم من يقول الله الله، وعلى تقدير التسليم المراد بالاتفاق على الكفر اتفاق الأكثر. والحق أن هذا القول في حد ذاته ضعيف فلا ينبغي التزام دفع ما يرد عليه، وأضعف منه بل لا يكاد يصح كون المراد أنهم كانوا أمة واحدة فاختلفوا بأن أحدث كل منهم ملة على حدة من ملل الكفر مخالفة لملة الآخر لأن الكلام ليس في ذلك الاختلاف إذ كل من الفريقين مبطل حينئذ فلا يتصور ان يقضي بينهما بإبقاء المحق وإهلاك المبطل أو بإلجاء أحدهما إلى اتباع الحق ليرتفع الاختلاف كما لا يخفى هذا. ومن باب الإشارة في الآيات: الر- ا- إشارة إلى الذات الذي هو أول الوجود و «ل» إشارة إلى العقل المسمى جبريل عليه السلام وهو أوسط الوجود الذي يستفيض من المبدأ ويفيض إلى المنتهى، و «ر» إشارة إلى الرحمة التي هي الذات المحمدية وهي في الحقيقة أول ووسط وآخر لكن الاعتبارات مختلفة، وكأن ذلك قسم منه تعالى بالحقيقة المحمدية على أن ما تضمنته السورة أو القرآن من الآي آيات الكتاب المتقن وقيل: المعنى ما أشير إليه بهذه الأحرف أركان كتاب الكل ذي الحكمة أو المحكم ومعظم تفاصيله أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ إنكار لتعجبهم من سنة الله الجارية وهي الإيحاء إلى رجل، وكان ذلك لبعدهم عن مقامهم وعدم مناسبة حالهم لحاله ومنافاة ما جاء به لما اعتقدوه أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ أي خوفهم من أن يشركوا بي شيئا وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ سابقة عظيمة وقربة ليس لأحد مثلها، وقيل: سابقة رحمة أودعها في محمد صلّى الله عليه وسلم قالَ الْكافِرُونَ أي المحجوبون عن الله تعالى إِنَّ هذا أي الكتاب الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلم لَسِحْرٌ مُبِينٌ لما رأوه خارجا عن قدرهم واحتجبوا بالشيطنة عن الوقوف على حقيقة الحال قالوا ذلك إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أي أوقات مقدار كل يوم منها دورة الفلك الأعظم مرة واحدة كما نص عليه الشيخ الأكبر والستة عدد تام واختاره الله تعالى لما فيه من الأسرار ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ أي الملك يُدَبِّرُ الْأَمْرَ على وفق حكمته بيد قدرته، وقد يفسر العرش بقلب الكامل فالكلام إشارة إلى خلق الإنسان الذي انطوى فيه العالم بأسره ما مِنْ شَفِيعٍ يشفع لأحد بدفع ما يضره أو جلب ما ينفعه إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ بموهبة الاستعداد ثم بتوفيق الأسباب ذلِكُمُ الموصوف بهذه الصفات الجليلة اللَّهُ رَبُّكُمْ الذي يربكم ويدبر أمركم فاعبدوه وخصوه بالعبادة واعرفوه بهذه الصفات ولا تعبدوا الشيطان ولا تحتجبوا عنه تعالى فتنسبوا قوله وفعله إلى الشيطان أَفَلا تَذَكَّرُونَ آياته التي خطها بيد قدرته في صحائف الآفاق والأنفس فتتفكروا فيها وتنزجروا عن الشرك به سبحانه إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً بالعود إلى عين الجمع المطلق في القيامة الصغرى أو إلى عين جمع الذات بالفناء فيه تعالى عند القيامة الكبرى كذا قيل، وقال بعض العارفين: إن مرجع العاشقين جماله ومرجع العارفين جلاله ومرجع الموحدين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 85 كبرياؤه ومرجع الخائفين عظمته ومرجع المشتاقين وصاله ومرجع المحبين دنوه ومرجع أهل العناية ذاته، وقال الجنيد قدس سره في الآية: إنه تعالى منه الابتداء وإليه الانتهاء وما بين ذلك مرابع فضله وتواتر نعمه وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ أي يبدأه في النشأة الأولى ثم يعيده في النشأة الثانية أو يبدأ الخلق باختفائه وإظهارهم ثم يعيده بإفنائهم وظهوره لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ أي يفعل ذلك ليجزي المؤمن والكافر على حسب ما يقتضيه عمل كل، هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً أي جعل شمس الروح ضياء الوجود وَالْقَمَرَ أي قمر القلب نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ أي مقامات لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ أي سني مراتبكم وأطواركم في المسير إليه وفيه تعالى وَالْحِسابَ أي حساب درجاتكم ومواقع أقدامكم في كل مقام ومرتبة، ويقال: جعل شمس الذات ضياء للأرواح العارفة وجعل قمر الصفات نورا للقلوب العاشقة ففنيت الأرواح بصولة الذات في عين الذات وبقيت القلوب بمشاهدة الصفات في عين الصفات وهذه الشمس المشار إليها لا تغيب أصلا عن بصائر الأرواح ومن هنا قال قائلهم: هي الشمس إلا أن للشمس غيبة ... وهذا الذي نعنيه ليس يغيب إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ أي غلبة ظلمة النفس على القلب وَالنَّهارِ أي نهار إشراق ضوء الروح عليه وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ أي سماوات الأرواح وَالْأَرْضِ أي أرض الأجساد لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ حجب صفات النفس الأمارة إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ أي يوصلهم إلى الجنات الثلاث بحسب نور إيمانهم فقوله سبحانه: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ كالبيان لذلك دَعْواهُمْ الاستعدادي فِيها أي في تلك الجنات سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ إشارة إلى تنزيهه تعالى والتنزيه في الأولى عن الشرك في الأفعال بالبراءة عن حولهم وقوتهم وفي الثانية عن الشرك في الصفات بالانسلاخ عن صفاتهم وفي الثالثة عن الشرك في الوجود بفنائهم وَتَحِيَّتُهُمْ أي تحية بعضهم لبعض أو تحية لله تعالى فِيها سَلامٌ أي إفاضة أنوار التزكية وإمداد التصفية أو إشراق أنوار التجليات وإمداد التجريد وإزالة الآفات وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي آخر ما يقتضيه استعدادهم قيامهم بالله تعالى في ظهور كمالاته وصفات جلاله وجماله عليهم وهو الحمد الحقيقي منه وله سبحانه وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً أي استغرق أوقاته في الدعاء فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ هذا وصف الذين لم يدركوا حقائق العبودية في مشاهد الربوبية فإنهم إذا أظلم عليهم ليل البلاء قاموا إلى إيقاد مصباح التضرع فإذا انجلت عنهم الغياهب بسطوع أنوار فجر الفرج نسوا ما كانوا فيه ومروا كأن لم يدعوا مولاهم إلى كشف ما عناهم: كأن الفتى لم يعر يوما إذا اكتسى ... ولم يك صعلوكا إذا ما تمولا ولو كانوا عارفين لم يبرحوا دارة التضرع وإظهار العبودية بين يديه تعالى في كل حين وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً على الفطرة التي فطر الله الناس عليها متوجهين إلى التوحيد متنورين بنور الهداية الأصلية فَاخْتَلَفُوا بمقتضيات النشأة واختلاف الأمزجة والأهوية والعادات والمخالطات وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ وهو قضاؤه سبحانه الأزلي بتقدير الآجال والأرزاق لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ بإهلاك المبطل وإبقاء المحق، والمراد أن حكمة الله تعالى اقتضت أن يبلغ كل منهم وجهته التي ولى وجهه إليها بأعماله التي يزاولها هو وإظهار ما خفي في نفسه وسبحان الحكيم العليم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 86 وَيَقُولُونَ حكاية لجناية أخرى لهم، وفي الكشاف تفسير المضارع بالماضي أي وقالوا وجعل ذلك إشارة إلى أن العطف ليس على وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا كما يقتضيه ظاهر اللفظ وإنما هو على قوله سبحانه: قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا [يونس: 15] وما بينهما اعتراض وأوثر المضارع على الماضي ليؤذن باستمرار هذه المقالة وأنها من دأبهم وعادتهم مع ما في ذلك من استحضار صورتها الشنيعة. وجوز العطف على يَعْبُدُونَ وهو الذي اقتصر عليه بعض المحققين، وأبقى بعضهم الفعل على ظاهره وله وجه، والقائل كفار مكة لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ أرادوا آية من الآيات التي اقترحوها كآية موسى. وعيسى عليهما السلام، ومعنى إنزالها عليه إظهار الله تعالى لها على يده صلّى الله عليه وسلم، وطلبوا ذلك تعنتا وعنادا وإلا فقد أتى صلّى الله عليه وسلم بآيات ظاهرة ومعجزات باهرة تعلو على جميع الآيات وتفوق سائر المعجزات لا سيما القرآن العظيم الباقي إعجازه على وجه الدهر إلى يوم القيامة، ولعمري لو أنصفوا لاستغنوا عن كل آية غيره عليه الصلاة والسلام فإنه الآية الكبرى ومن رآه وسبر أحواله لم يكد يشك في أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فَقُلْ لهم في الجواب إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ وهو جواب على ما قرره الطيبي على الأسلوب الحكيم فإنهم حين طلبوا ما طلبوا مع وجود الآيات المتكاثرة دل على أن سؤالهم للتعنت كما علمت آنفا فأجيبوا بما أجيبوا ليؤذن بأن سؤالهم سؤال المقترحين يستحقون به نقمة الله تعالى وحلول عقابه، يعني أنه لا بد أن يستأصل شأفتكم لكن لا أعلم متى يكون وأنتم كذلك لأن ذلك من الغيب وهو مختص به تعالى لا يعلمه أحد غيره جل شأنه وإذا كان كذلك فانتطروا ما يوجبه اقتراحكم إني معكم من المنتظرين إياه، وقيل: إن المراد أنه تعالى هو المختص بعلم الغيب والصارف عن إنزال الآيات المقترحة أمر مغيب فلا يعلمه إلا هو، واعترض عليه بأنه معين وهو عنادهم قال تعالى: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 109] . وأجيب بأنا لا نسلم أن عنادهم هو الصارف وقد يجاب المعاند والآية وإن دلت على بقائهم على العناد وإن جاءت لم تدل على أن العناد هو الصارف. واختار بعض المحققين أن ما اقترحتموه وزعمتم أنه من لوازم النبوة وعلقتم إيمانكم بنزوله من الغيوب المختصة به سبحانه لا وقوف لي عليه فانتظروا نزوله إني معكم من المنتظرين لما يفعل الله تعالى بكم لاجترائكم على مثل هذه العظيمة من جحود الآيات، واقتراح غيرها، واعترض على ما قيل بأنه يأباه ترتيب الأمر بالانتظار على اختصاص الغيب به تعالى، والذي يخطر بالبال أن سؤال القوم قاتلهم الله تعالى متضمن لدعوى أن الصلاح في إنزال آية مما اقترحوا حيث لم يعتبروا ما نزل ولم يلتفتوا إليه فكأنهم قالوا: لا صلاح في نزول ما نزل وإنما الصلاح في إنزال آية مما نقترح فلولا نزلت وفي ذلك دعوى الغيب بلا ريب فأجيبوا بأن الغيب مختص بالله فهو الذي يعلم ما به الصلاح لا أنتم ولا غيركم ثم قال سبحانه: فَانْتَظِرُوا إلخ على معنى وإذا كان علم الغيب مختصا بالله تعالى وقد ادعيتم من ذلك ما ادعيتم وطعنتم فيما طعنتم فانتظروا نزول العذاب بكم إني معكم من المنتظرين إياه، ولا يرد على هذا ما أورد على غيره ولا ما عسى أن يورد أيضا فتأمل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 88 وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً كالصحة والسعة مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ أي خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم، وإسناد المساس إلى الضراء بعد إسناد الإذاقة إلى ضمير الجلالة من الآداب القرآنية كما في قوله تعالى: وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء: 80] ونظائره وينبغي التأدب في ذلك ففي الخبر «اللهم إن الخير بيديك والشر ليس إليك» والمراد بالناس كفار مكة على ما قيل لما روي أن الله تعالى سلط عليهم القحط سبع سنين حتى كادوا يهلكون فطلبوا منه صلّى الله عليه وسلم أن يدعو لهم بالخصب ووعده بالإيمان فلما دعا لهم ورحمهم الله تعالى بالحياء طفقوا يطعنون في آياته تعالى ويعاندونه عليه الصلاة والسلام ويكيدونه وذلك قوله سبحانه: إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا أي بالطعن فيها وعدم الاعتداد بها والاحتيال في دفعها، والظاهر أن المراد بالآيات: الآيات القرآنية، وقيل: المراد بها الآيات التكوينية كإنزال الحياء، ومكرهم فيها إضافتها إلى الأصنام والكواكب. وقيل: إن النَّاسَ عام لجميع الكفار، ولا يجوز حمله على ما يشمل العصاة كما لا يخفى، وكانت العرب تضيف الأمطار وكذا الرياح والحر والبرد إلى الأنواء، وهو جمع نوء مصدر ناء ينوء إذا نهض بجهد ومشقة ويقال ذلك أيضا إذا سقط فهو من الأضداد، ويطلق على النجم الذي هو أحد المنازل الثمانية والعشرين التي ذكرناها فيما سبق وهو المراد في كلامهم إلا أن الإضافة إليه باعتبار سقوطه مع الفجر كما هو المشهور أو باعتبار طلوعه ذلك الوقت كما قال الأصمعي. وقد عد القائل بتأثير الأنواء كافرا فقد روى الشيخان، وأبو داود، والنسائي عن زيد بن خالد قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال الله تعالى أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بالكوكب وكافر بي ومؤمن بالكوكب فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب» ولعل كون ذلك من الكفر بالله تعالى مبني على زعم أن للكواكب تأثيرا اختيارا ذاتيا في ذلك وإلا فاعتقاد أن التأثير عندها لا بها كما هو المشهور من مذهب الأشاعرة في سائر الأسباب ليس بكفر كما نص عليه العلامة ابن حجر، وكذا اعتقاد أن التأثير بها على معنى إن الله تعالى أودع فيها قوة مؤثرة بإذنه فمتى شاء سبحانه أثرت ومتى لم يشأ لم تؤثر كما هو مذهب السلف في الأسباب على ما قرره الشيخ إبراهيم الكوراني في مسلك السداد، ولو كان نسبة التأثير مطلقا إلى الأنواء ونحوها من العلويات كفرا لا تسع الخرق ولزم إكفاء كثير من الناس حتى أفاضلهم لقولهم بنسبة الكثير من عالم الكون والفساد إلى العلويات ويسمونها بالآباء العلوية، وقد صرح الشيخ الأكبر قدس سره بأن للكواكب السيارات وغيرها تأثيرا في هذا العالم إلا أن الوقوف على تعيين جزئياته مما لا يطلع عليه إلا أرباب الكشف والأرصاد القلبية، وليس مراده قدس سره وكذا مراد من أطلق التأثير إلا ما ذهب إليه أحد الفريقين في الأسباب وحاشا ثم حاشا أن يكون أولئك الأفاضل ممن يعتقد أن في الوجود مؤثرا غير الله تعالى بل من وقف على حقيقة كلام الحكماء الذين هم بمعزل عن الشريعة الغراء وجدهم متفقين على أن الوجود معلول له تعالى على الإطلاق، قال بهمنيار في التحصيل: فإن سئلت الحق فلا يصح أن يكون علة الوجود إلا ما هو بريء من كل وجه من معنى ما بالقوة وهذا هو المبدأ الأول لا غير، وما نقل عن أفلاطون من قوله: إن العالم كرة والأرض مركز والإنسان هدف والأفلاك قسي والحوادث سهام والله تعالى هو الرامي فأين المفر يشعر بذلك أيضا نعم إنهم قالوا بالشرائط العقلية وهي المراد بالوسائط في كلام بعضهم وهو خلاف المذهب الحق، والجملة لا يكفر من قال: إن الكواكب مؤثرة على معنى أن التأثير عندها أو بها بإذن الله تعالى بل حكمه حكم من قال: إن النار محرقة والماء مرو مثلا، ولا فرق بين القولين إلا بما عسى أن يقال: إن التأثير في نحو النار والماء أمر محسوس مشاهد والتأثير في الكواكب ليس كذلك والقول به رجم بالغيب لكن ذلك بعد تسليمه لا يوجب كون أحد القولين كفرا دون الآخر كما لا يخفى على المنصف، ومع هذا الأحوط عدم إطلاق نسبة التأثير إلى الكواكب والتجنب عن التلفظ بنحو ما أكفر الله سبحانه المتلفظة هذا وَإِذا الأولى شرطية والثانية الجزء: 6 ¦ الصفحة: 89 فجائية رابطة للجواب، وتنكير مَكْرٌ للتفخيم. وفِي متعلقة بالاستقرار الذي تتعلق به اللام. قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً أي منكم فأسرع أفعل تفضيل وهو مأخوذ إما من سرع الثلاثي كما حكاه الفارسي أو من أسرع المزيد إلا أن في أخذ أفعل من المزيد خلافا فمنهم من منعه مطلقا ومنهم من جوزه مطلقا ومنهم من قال: إن كانت الهمزة للتعدية امتنع وإلا جاز ومثله في ذلك بناء التعجب، ووصف المفضل عليه بالسرعة دل عليه المفاجأة على أن صحة استعمال أسرع في ذلك لا يتوقف على دلالة الكلام على ما ذكر خلافا لما يقتضيه ظاهر كلام الزمخشري، وأصل المكر إخفاء الكيد والمضرة، والمراد به الجزاء والعقوبة على المكر مجازا مرسلا أو مشاكلة وهي لا تنافيه كما في شرح المفتاح، وقد شاع أنه لا يستعمل فيه تعالى إلا على سبيل المشاكلة وليس بذاك كما حقق في موضعه إِنَّ رُسُلَنا الحفظة من قبلنا على أعمالكم يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ أي مكركم أو ما تمكرونه، وكيفية كتابة ذلك مما لا يلزم العلم به ولا حاجة إلى جعل ذلك مجازا عن العلم، وهذا تحقيق للانتقام منهم وتنبيه على أن ما دبروا في إخفائه غير خاف على الكتبة فضلا عن منزل الكتاب الذي لا تخفى عليه خافية. وفي ذلك تجهيل لهم كما لا يخفى، والظاهر أن الجملة ليست داخلة في الكلام الملقن كقوله تعالى: وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً [الكهف: 109] وهي تعليل لأسرعية مكره سبحانه وتعالى، وجوز أن تكون داخلة في ذلك وفي إِنَّ رُسُلَنا التفاتا إذ لو أجرى على قوله سبحانه: قُلِ اللَّهُ لقيل إن رسله فلا إشكال فيه من حيث إنه لا وجه لأمر الرسول صلّى الله عليه وسلم بأن يقول لهم إن رسلنا إذ الضمير لله تعالى لا له عليه الصلاة والسلام بتقدير مضاف أي رسل بنا أو بالإضافة لأدنى ملابسة كما قيل. وقال بعضهم في الجواب: إنه حكاية ما قال الله تعالى على كون المراد أداء هذا المعنى لا بهذه العبارة. وقرأ الحسن ومجاهد يمكرون على لفظ الغيبة، وروي ذلك أيضا عن نافع ويعقوب وفيه الجري على ما سبق من قوله سبحانه: مَسَّتْهُمْ ولَهُمْ والمناسب الخطاب كما قرأ الباقون إذا كانت الجملة داخلة في حيز القول إذ المعنى قل لهم، ومناسبة الخطاب حينئذ ظاهرة وفيه أيضا مبالغة في الإعلام بمكرهم، وجعلها بعض المحققين على تلك القراءة وعدم دخولها في حيز القول تعليلا للأسرعية أو الأمر المذكور. وصيغة الاستقبال في الفعلين للدلالة على الاستمرار والتجدد وكذا في قوله سبحانه: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وهو على ما قيل كلام مستأنف مسوق لبيان جناية أخرى لهم مبنية على ما مر آنفا من اختلاف حالهم بحسب اختلاف ما يعتريهم من الضراء. وعن أبي مسلم أنه تفسير لبعض ما أجمل في قوله سبحانه: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ إلخ، وهو قريب من قول الإمام أنه تعالى لما قال: وَإِذا أَذَقْنَا الآية وهو كلام كلي ضرب لهم مثلا بهذا ليتضح ويظهر ما هم عليه. وزعم بعضهم أنه متصل بما تقدم من دلائل التوحيد فكأنه قيل: إلهكم الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وهُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ إلخ، وأول التسيير بالحمل على السير والتمكين منه، والداعي لذلك قيل: عدم صحة جعل قوله سبحانه: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ غاية للتسيير في البحر مع أنه مقدم عليه وغاية الشيء لا بد أن تكون متأخرة عنه، وبعد التأويل لا إشكال في جعل ما ذكر غاية لما قبله. وقيل: هو دفع لزوم الجمع بين الحقيقة والمجاز وذلك لأن المسير في البحر هو الله تعالى إذ هو سبحانه المحدث لتلك الحركات في الفلك بالريح ولا دخل للعبد فيه بل في مقدماته، وأما سير البر فمن الأفعال الاختيارية الصادرة من المخاطبين أنفسهم إن كانوا مشاة أو من دوابهم إن كانوا ركبانا وتسيير الله تعالى فيه إعطاء الآلات والأدوات ولزوم الجمع عليه ظاهر. ووجه الدفع أن المراد من التسيير ما ذكر وهو معنى مجازي شامل للحقيقة والمجاز. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 90 وادعى بعضهم اتحاد التسيير في البر والبحر واستدل بالآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى. وتعقب بأنه تكلف. والزمخشري لم يؤول التسيير بما ذكرنا وجعل الغاية مضمون الجملة الشرطية الواقعة بعد حتى بما في حيزها كأنه قيل: يسيركم حتى إذا وقعت هذه الحادثة وكان كيت وكيت من مجيء الريح العاصف وتراكم الأمواج والظن للهلاك والدعاء بالإنجاء دون الكون في البحر، وتعقب ذلك القطب بأنه لو جعل الكون في الفلك مع ما عطف عليه من قوله تعالى: وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها كفى ولم يحتج إلى اعتبار مجموع الشرط والجزاء، ثم قال: والتحقيق أن الغاية إن فسرت بما ينتهي إليه الشيء بالذات فهي ليس إلا ما وقع شرطا في مثل ذلك وإن فسرت بما ينتهي إليه الشيء مطلقا سواء كان بالذات أو بالواسطة فهي مجموع الشرط والجزاء، واستوضح ذلك من قولك: مشيت حتى إذا بلغت البلد اتجرت فإن ما انتهى إليه المشي بالذات الوصول إلى البلد وأما الاتجار فأمر مترتب على ذلك فيكون مما انتهى إليه المشي بالواسطة والتضعيف في يسير للتعدية تقول سار الرجل وسيرته، وقال الفارسي: إن سار متعد كسير لأن العرب تقول سرت الرجل وسيرته بمعنى، ومنه قول الهذلي: فلا تجزعي من سنة أنت سرتها ... فأول راض سنة من يسيرها وقال في الصحاح: سارت الدابة وسارها صاحبها يتعدى ولا يتعدى وأنشد له هذا البيت، وأوله النحويون حيث لم يرتضوا ذلك، والْفُلْكِ السفن ومفرده وجمعه واحد وتغاير الحركات بينهما اعتباري، وفي الصحاح أنه واحد وجمع يذكر ويؤنث وكأن ذلك باعتبار المركب والسفينة. وكان سيبويه يقول: الفلك التي هي جمع تكسير للفلك الذي هو واحد وليست مثل الجنب الذي هو واحد وجمع والطفل وما أشبههما من الأسماء لأن فعلا وفعلا يشتركان في الشيء الواحد مثل العرب والعرب والعجم والعجم والرهب والرهب فحيث جاز أن يجمع فعل على فعل مثل أسد وأسد لم يمتنع أن يجمع فعل على فعل، وضمير جَرَيْنَ للفلك وضمير بِهِمْ لمن فيها وهو التفات للمبالغة في تقبيح حالهم كأنه أعرض عن خطابهم وحكى لغيرهم سوء صنيعهم، وقيل: لا التفات بل معنى قوله سبحانه: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ حتى إذا كان بعضكم فيها إذ الخطاب للكل ومنهم المسيرون في البر فالضمير الغائب عائد إلى ذلك المضاف المقدر كما في قوله تعالى: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ [النور: 40] فإنه في تقدير أو كذي ظلمات يغشاه موج، والباء الأولى للتعدية والثانية وكذا الثالثة للسببية فلذا تعلق الحرفان بمتعلق واحد، وإلا فقد منعوا تعلق حرفين بمعنى بمتعلق واحد، واعتبار تعلق الثاني بعد تعلق الأول به وملاحظته معه يزيل اتحاد المتعلق. وجوز أن تكون الثانية للحال أي جرين بهم ملتبسة بريح فتتعلق بمحذوف كما في البحر، وقد تجعل الأولى للملابسة أيضا وَفَرِحُوا عطف على جَرَيْنَ وهو عطف على كُنْتُمْ وقد تجعل حالا بتقدير قد وضمير بِها للريح ونقل الطبرسي القول برجوعه للفلك ولا يكاد يجري به القلم، والمراد بطيبة حسبما يقتضيه المقام لينة الهبوب موافقة المقصد. وظاهر الآية- على ما نقل عن الإمام- يقتضي أن راكب السفينة متحرك بحركتها خلافا لمن قال: إنه ساكن، ولا وجه كما قال بعض المحققين لهذا الخلاف فإنه ساكن بالذات سائر بالواسطة. وقرأ ابن عامر «ينشركم» بالنون والشين المعجمة والراء المهملة من النشر ضد الطي أي يفرقكم ويبثكم، وقرأ الحسن «ينشركم» من أنشر بمعنى أحيا. وقرأ بعض الشاميين «ينشّركم» بالتشديد للتكثير من النشر أيضا، وعن أم الدرداء أنها قرأت «في الفلكي» بزيادة ياءي النسب، ووجه ذلك بأنهما زائدتان كما في الخارجي والأحمري ولا اختصاص لذلك في الصفات لمجيء دودوي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 91 وأنا الصلتاني في قول الصلتان، ويجوز أن يراد به اللج والماء الغمر الذي لا تجري الفلك إلا فيه، وقوله سبحانه: جاءَتْها جواب إِذا والضمير المنصوب للفلك أو للريح الطيبة على معنى تلقتها واستولت عليها من طرف مخالف لها فإن الهبوب على وفقها لا يسمى على ما قيل مجيئا لريح أخرى عادة بل هو اشتداد للريح الأولى، ورجح الثاني بأنه الأظهر لاستلزامه للأول من غير عكس لأن الهبوب على طريقة الريح اللينة بعد مجيئا بالنسبة إلى الفلك دون الريح اللينة مع أنه لا يستتبع تلاطم الأمواج الموجب لمجيئها من كل مكان ولأن التهويل في بيان استيلائها على ما فرحوا به وعلقوا به حبال رجائهم أكثر وفيه تأمل رِيحٌ عاصِفٌ أي ذات عصف فهو من باب النسب كلابن وتامر، ويستوي فيه المذكر والمؤنث كما صرحوا به فلذا لم يقل عاصفة مع أن الريح مؤنثة لا تذكر بدون تأويل. وقيل: لم يقل عاصفة لأن العصوف مختص بالريح فهو كحائض فلا حاجة إلى الفارق أو أنه اعتبر التذكير في الريح كما اعتبر فيها التأنيث والأولى ما قدمناه، وأصل العصف الكسر والنبات المتكسر والمراد شديدة الهبوب وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ وهو ما علا وارتفع من اضطراب الماء، وقيل: هو اضطراب البحر والأول هو المشهور من كلّ الموج وهو ما علا وارتفع من اضطراب الماء، وقيل: هو اضطراب البحر والأول هو المشهور مِنْ كُلِّ مَكانٍ أي من أمكنة مجيء الموج عادة وقد يتفق مجيئه من جهات حسب أسباب تتفق لذلك وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ أي أهلكوا كما رواه ابن المنذر عن ابن جريج، ففي الكلام استعارة تبعية، وقيل: إن الإحاطة استعارة لسد مسالك الخلاص تشبيها له بإحاطة العدو بإنسان ثم كني بتلك الاستعارة عن الهلاك لكونها من روادفها ولوازمها. وقيل: إن ذلك مثل في الهلاك، والظن على ما يتبادر منه، وجوز أن يكون بمعنى اليقين بناء على تحقق وقوعه في اعتقادهم أو كون الكناية عن القرب من الهلاك دَعَوُا اللَّهَ جعله غير واحد بدل اشتمال من ظنوا لأن دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك فبينهما ملابسة تصحح البدلية، وقيل: هو جواب ما اشتمل عليه المعنى من معنى الشرط أي لما ظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله إلخ. وجعله أبو حيان استئنافا بيانيا كأنه قيل: فماذا كان حالهم إذ ذاك؟ فقيل: دعوا إلخ، ورجح القول بالبدل عليه بأنه أدخل في اتصال الكلام. والدلالة عن كونه المقصود مع إفادته ما يستفاد من الاستئناف مع الاستغناء عن تقدير السؤال وأنت تعلم أن تقدير السؤال ليس تقديرا حقيقيا بل أمر اعتباري وفيه من الإيجاز ما فيه وليس بأبعد مما تكلف للبدلية، ويشعر كلام بعضهم جواز كونه جواب الشرط، وجاءَتْها في موضع الحال كقوله تعالى: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ [العنكبوت: 65] الآية، وتعقب بأن الاحتياج إلى الجواب يقتضي صرف ما يصلح له إليه لا إلى الحال الفضلة المفتقرة إلى تقدير قد مع أن عطف وَظَنُّوا على جاءَتْها يأبى الحالية والفرح بالريح الطيبة لا يكون حال مجيء العاصفة والمعنى على تحقق المجيء لا على تقديره ليجعل حالا مقدرة ولا يخلو عن حسن، والظاهر أن ما عده مانعا من الحالية غير مشترك بينه وبين كونه جواب إِذا لأنه يقتضي أنهما في زمان واحد كما لا يخفى على من له أدنى معرفة بأساليب الكلام، وقوله سبحانه: مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حال من ضمير دَعَوُا ولَهُ متعلق بمخلصين والدِّينَ مفعوله أي دعوه تعالى من غير إشراك لرجوعهم من شدة الخوف إلى الفطرة التي جبل عليها كل أحد من التوحيد وأنه لا متصرف إلا الله سبحانه المركوز في طبائع العالم وروي ذلك عن ابن عباس ومن حديث أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص: «لما كان يوم الفتح فر عكرمة بن أبي جهل فركب البحر فأصابتهم عاصف فقال أصحاب السفينة لأهل السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا فقال عكرمة: لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص ما ينجيني في البر غيره اللهم إن لك عهدا إن أنت عافيتني مما أنا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 92 فيه أن آتي محمدا حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفوا كريما قال فجاء فأسلم» . وفي رواية ابن سعد عن أبي مليكة وأن عكرمة لما ركب السفينة وأخذتهم الريح فجعلوا يدعون الله تعالى ويوحدونه قال: ما هذا؟ فقالوا: هذا مكان لا ينفع فيه إلا الله تعالى قال: فهذا له محمد صلّى الله عليه وسلم الذي يدعونا إليه فارجعوا بنا فرجع. وأسلم» . وظاهر الآية أنه ليس المراد تخصيص الدعاء فقط به سبحانه بل تخصيص العبادة به تعالى أيضا لأنهم بمجرد ذلك لا يكونون مخلصين له الدين. وأيّا ما كان فالآية دالة على أن المشركين لا يدعون غيره تعالى في تلك الحال، وأنت خبير بأن الناس اليوم إذا اعتراهم أمر خطير وخطب جسيم في بر أو بحر دعوا من لا يضر ولا ينفع ولا يرى ولا يسمع فمنهم من يدعو الخضر واليأس ومنهم من ينادي أبا الخميس والعباس ومنهم من يستغيث بأحد الأئمة ومنهم من يضرع إلى شيخ من مشايخ الأمة ولا ترى فيهم أحدا يخص مولاه بتضرعه ودعاه ولا يكاد يمر له ببال أنه لو دعا الله تعالى وحده ينجو من هاتيك الأهوال فبالله تعالى عليك قل لي أي الفريقين من هذه الحيثية أهدى سبيلا وأي الداعيين أقوم قيلا؟ وإلى الله تعالى المشتكى من زمان عصفت فيه ريح الجهالة وتلاطمت أمواج الضلالة وخرقت سفينة الشريعة واتخذت الاستغاثة بغير الله تعالى للنجاة ذريعة وتعذر على العارفين الأمر بالمعروف وحالت دون النهي عن المنكر صنوف الحتوف، هذا وقوله تعالى: لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ في محل نصب بقول مقدر عند البصريين وهو حال من الضمير السابق، ومذهب الكوفيين إجراء الدعاء مجرى القول لأنه من أنواعه وجعل الجملة محكية به والأول هو الأولى هنا، واللام موطئة لقسم مقدر ولَنَكُونَنَّ جوابه. والمشار إليه بهذه الحال التي هم فيها أي والله لئن أنجيتنا مما نحن فيه من الشدة لنكونن البتة بعد ذلك أبدا شاكرين لنعمك التي من جملتها هذه النعمة المسئولة، والعدول عن لنشكرن إلى ما في النظم الجليل للمبالغة في الدلالة على الثبوت في الشكر والمثابرة عليه فَلَمَّا أَنْجاهُمْ مما نزل بهم من الشدة والكربة، والفاء للدلالة على سرعة الإجابة إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ أي فاجؤوا الفساد فيها وسارعوا إليه مترامين في ذلك ممعنين فيه من قولهم: بغى الجرح إذا ترامى في الفساد، وزيادة فِي الْأَرْضِ للدلالة على شمول بغيهم لأقطارها، وصيغة المضارع للدلالة على التجدد والاستمرار، وقوله سبحانه وتعالى: بِغَيْرِ الْحَقِّ تأكيد لما يفيده البغي إذ معناه أنه بغير الحق عندهم أيضا بأن يكون ظلما ظاهرا لا يخفى قبحه على كل أحد كما قيل نحو ذلك في قوله تعالى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [البقرة: 61] . وقد فسر البغي بإفساد صورة الشيء وإتلاف منفعته وجعل بِغَيْرِ الْحَقِّ للاحتراز مما يكون من ذلك بحق كتخريب الغزاة ديار الكفرة وقطع أشجارهم وحرق زروعهم كما فعل صلّى الله عليه وسلم ببني قريظة. وتعقب بأنه مما لا يساعده النظم الكريم لأن البغي بالمعنى الأول هو اللائق بحال المفسدين فينبغي بناء الكلام عليه. والزمخشري اختار كون ذلك للاحتراز عما ذكر. وذكر في الكشف أنه أشار بذلك إلى أن الفساد اللغوي خروج الشيء من الانتفاع فلا كل بغي- أي فساد في الأرض واستطالة فيها- كذلك كما علمت وإن كان موضوعه العرفي للاستطالة بغير حق لكن النظر إلى موضوعه الأصلي، وقيل: إن البغي الذي يتعدى بفي بمعنى الإتلاف والإفساد وهو يكون حقا وغيره والذي يتعدى بعلى بمعنى الظلم، وتقييد الأول بغير الحق للاحتراز وتقييد الثاني به للتأكيد، ولعل من يجعل البغي هنا بمعنى الظلم يقول: إن المعنى يبغون على المسلمين مثلا فافهم يا أَيُّهَا النَّاسُ توجيه الخطاب إلى أولئك الباغين للتشديد في التهديد والمبالغة في الوعيد إِنَّما بَغْيُكُمْ الذي تتعاطونه وهو مبتدأ خبره قوله سبحانه: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 93 عَلى أَنْفُسِكُمْ أي عليكم في الحقيقة لا على الذين تبغون عليهم وإن ظن كذلك، وقوله تعالى: مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا نصب على أنه مصدر مؤكد لفعل مقدر بطريق الاستئناف أي تتمتعون متاع الحياة الدنيا، والمراد من ذلك بيان كون ما في البغي من المنفعة العاجلة شيئا غير معتد به سريع الزوال دائم الوبال، وقيل: إنه منصوب على أنه مصدر واقع موقع الحال أي متمتعين، والعامل هو الاستقرار الذي في الخبر ولا يجوز أن يكون نفس البغي لأنه لا يجوز الفصل بين المصدر ومعموله بالخبر، وأيضا لا يخبر عن المصدر إلا بعد تمام صلاته ومعمولاته. وتعقب بأنه ليس في تقييد كونهم بغيهم على أنفسهم محال تمتعهم بالحياة الدنيا معنى يعتد به. وقيل: على أنه ظرف زمان كمقدم الحاج أي زمان متاع الحياة الدنيا والعامل فيه الاستقرار أيضا وفيه ما في سابقه، وقيل: على أنه مفعول لفعل دل عليه المصدر أي تبغون متاع الحياة الدنيا. واعترض بأن هذا يستدعي أن يكون البغي بمعنى الطلب لأنه الذي يتعدى بنفسه والمصدر لا يدل عليه، وجعل المصدر أيضا بمعناه مما يخل بجزالة النظم الكريم لأن الاستئناف لبيان سوء عاقبة ما حكي عنهم من البغي المفسر على المختار بالفساد المفرط اللائق بحالهم وحينئذ تنتفي المناسبة ويفوت الانتظام، وجعل الأول أيضا بمعناه مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عنه. وقيل: على أنه مفعول له أي لأجل متاع الحياة الدنيا والعامل فيه الاستقرار. وتعقب بأن المعلل بما ذكر نفس البغي لا كونه على أنفسهم، وقيل: العامل فيه فعل مدلول عليه بالمصدر أي تبغون لأجل متاع الحياة الدنيا على أن الجملة مستأنفة، وقيل: على أنه مفعول صريح للمصدر وعليكم متعلق به لا خبر لما مر، والمراد بالأنفس الجنس، والخبر محذوف لطول الكلام، والتقدير إنما بغيكم على أبناء جنسكم متاع الحياة الدنيا مذموم أو منهي عنه أو ضلال أو ظاهر الفساد أو نحو ذلك. وفيه الابتناء على أن البغي بمعنى الطلب وقد علمت ما فيه. نعم لو جعل نصبه على العلة أي إنما بغيكم على أبناء جنسكم لأجل متاع الحياة الدنيا مذموم كما اختاره بعضهم لكان له وجه في الجملة لكن الحق الذي يقتضيه جزالة النظم هو الأول. وقرأ الجمهور «متاع» بالرفع. قال صاحب المرشد: وفيه وجهان، أحدهما كونه الخبر والظرف صلة المصدر. والثاني كونه خبر مبتدأ محذوف أي هو أو ذلك متاع، وزيد وجه آخر وهو كونه خبرا بعد خبر لبغيكم، والمختار بل المتعين على الوجه الأول كون المراد بأنفسكم أبناء جنسكم أو أمثالكم على سبيل الاستعارة، والتعبير عنهم بذلك للتشفيق والحث على ترك إيثار التمتع المذكور على ما ينبغي من الحقوق، ولا مانع على الوجهين الأخيرين من الحمل على الحقيقة كما بين ذلك مولانا شيخ الإسلام. وقرىء بنصب المتاع وَالْحَياةَ وخرج نصب الأول على ما مر ونصب الثاني على أنه بدل اشتمال من الأول. وقيل: على أنه مفعول به له إذا لم يكن انتصابه على المصدرية لأن المصدر المؤكد لا يعمل، وذكر أبو البقاء أنه قرئ بجرهما على أن الثاني مضاف إليه والأول نعت للأنفس أي ذات متاع، وجوز أن يكون المصدر بمعنى اسم الفاعل أي متمتعات، وضعف كونه بدلا إذ قد أمكن كونه صفة «هذا» وفي الآية من الزجر عن البغي ما لا يخفى. وقد أخرج أبو الشيخ، وأبو نعيم، والخطيب، والديلمي، وغيرهم عن أنس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثلاث هن رواجع على أهلها المكر والنكث والبغي ثم تلا عليه الصلاة والسلام يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله ومن نكث فإنما ينكث على نفسه» . وأخرج البيهقي في الشعب عن أبي بكرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما من ذنب أجدر أن يعجل لصاحبه العقوبة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 94 من البغي وقطيعة الرحم. وأخرج أيضا من طريق بلال بن أبي بردة عن أبيه عن جده عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «لا يبغي على الناس إلا ولد بغي أو فيه عرق منه» . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم قالا: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لو بغى جبل على جبل لدك الباغي منهما» وكان المأمون يتمثل بهذين البيتين لأخيه: يا صاحب البغي إن البغي مصرعة ... فأربع فخير فعال المرء أعدله فلو بغى جبل يوما على جبل ... لاندكّ منه أعاليه وأسفله وعقد ذلك الشهاب فقال: إن يعد ذو بغي عليك فخله ... وارقب زمانا لانتقام باغي واحذر من البغي الوخيم فلو بغى ... جبل على جبل لدك الباغي ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ عطف على ما مر من الجملة المستأنفة المقدرة كأنه قيل: تتمتعون متاع الحياة الدنيا ثم ترجعون إلينا، وإنما غير السبك إلى ما في النظم الكريم للدلالة على الثبات والقصر. فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا على الاستمرار من البغي فهو وعيد وتهديد بالجزاء والعذاب وقد تقدم الكلام في نظيره إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كلام مستأنف لبيان شأن الحياة الدنيا وقصر مدة التمتع فيها، وأصل المثل ما شبه مضربه بمورده ويستعار للأمر العجيب المستغرب، أي إنما حالها في سرعة تقضيها وانصرام نعيمها بعد إقبالها واغترار الناس بها كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ أي فكثر بسببه نَباتُ الْأَرْضِ حتى التف بعضه ببعض، فالباء للسببية ومنهم من أبقاها على المصاحبة، وجعل الاختلاط بالماء نفسه فإنه كالغذاء للنبات فيجري فيه ويخالطه والأول هو الذي يقتضيه كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ كالبقول والزروع والحشيش والمراعي، والجار والمجرور في موضع الحال من النبات حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ أي استوفت واستكملت زُخْرُفَها أي حسنها وبهجتها وَازَّيَّنَتْ بأصناف النبات وأشكالها وألوانها المختلفة: كأذيال خود أقبلت في غلائل ... مصبغة والبعض أقصر من بعض وقد ذكر غير واحد أن في الكلام استعارة بالكناية حيث شبهت الأرض بالعروس وحذف المشبه به وأقيم المشبه مقامه وإثبات أخذ الزخرف لها تخييل وما بعده ترشيح، وقيل: الزخرف الذهب استعير للنضارة والمنظر المشار، وأصل ازينت تزينت فأدغمت التاء في الزاي وسكنت فاجتلبت همزة وصل للتوصل للابتداء بالساكن، وبالأصل قرأ عبد الله، وقرأ الأعرج، والشعبي، وأبو العالية، ونصر بن عاصم، والحسن بخلاف «وأزينت» بوزن أفعلت كأكرمت، وكان قياسه أن يعل فيقلب ياؤه ألفا فيقال ازانت لأنه المطرد في باب الأفعال المعتل العين لكنه ورد على خلافه كأغيلت المرأة إذا سقت ولدها الغيل وهو لبن حملها عليه وقد جاء أغالت على القياس. ومعنى الأفعال هنال هنا الصيرورة أي صارت ذات زينة أو صيرت نفسها كذلك، وقرأ أبو عثمان النهدي «ازيأنت» بهمزة وصل بعدها زاي ساكنة وياء مفتوحة وهمزة كذلك ونون مشددة وتاء تأنيث، وأصله ازيانت بوزن احمارت بألف صريحة فكرهوا اجتماع ساكنين فقلبوا الألف همزة مفتوحة كما قرىء الضالين وجاء أيضا احمأرت بالهمزة كقوله: إذا ما الهوادي بالعبيط احمأرت وقرأ عوف بن جميل «ازيانت» بألف من غير إبدال، وقرىء «ازاينت» لقصد المبالغة وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 95 عَلَيْها أي على الأرض، والمراد ظنوا أنهم متمكنون من منفعتها محصلون لثمرتها رافعون لغلتها، وقيل: الكناية للزروع، وقيل: للثمرة، وقيل: للزينة لانفهام ذلك من الكلام أَتاها أَمْرُنا جواب إِذا أي نزل بها ما قدرناه من العذاب وهو ضرب زرعها ما يحتاجه من الآفات والعاهات كالبرد، والجراد، والفأر، والصرصر، والسموم، وغير ذلك لَيْلًا أَوْ نَهاراً أي في ليل أو في نهار، ولعل المراد الإشارة إلى أنه لا فرق في إتيان العذاب بين زمن غفلتهم وزمن يقظتهم إذ لا يمنع منه مانع ولا يدفع عنه دافع فَجَعَلْناها أي فجعلنا نباتها حَصِيداً أي شبيها بما حصد من أصله، والظاهر أن هذا من التشبيه لذكر الطرفين فيه فإن المحذوف في قوة المذكور، وجوز أن يكون هناك استعارة مصرحة والأصل جعلنا نباتها هالكا فشبه الهالك بالحصيد وأقيم اسم المشبه به مقامه، ولا ينافيه تقدير المضاف كما توهم لأنه لم يشبه الزرع بالحصيد بل الهالك به. وذهب السكاكي إلى أن في الكلام استعارة بالكناية حيث شبهت الأرض المزخرفة والمزينة بالنبات الناضر المونق الذي ورد عليه ما يزيله ويفنيه وجعل الحصيد نخيلا ولا يخفى بعده كَأَنْ لَمْ تَغْنَ أي كان لم يغن نباتها أي لم يمكث ولم يقم، فتغن من غني بالمكان إذا أقام ومكث فيه ومنه قيل للمنزل مغنى، وقد حذف المضاف في هذا وفيما قبله فانقلب الضمير المجرور منصوبا في أولهما ومرفوعا مستترا في الثاني، واختير الحذف للمبالغة حيث أفاد ظاهر الكلام جعل الأرض نفسها حصيدا وكأنها نفسها لم تكن لتغيرها بتغير ما فيها، وقد عطف بعضهم عليهما عَلَيْها لما أن التقدير فيه على نباتها فحذف المضاف وجر الضمير بعلى وليس بالبعيد خلا أن في كون الحذف للمبالغة أيضا ترددا، وقيل: ضمير تَغْنَ وما قبله يعودان على الزرع كما قيل في ضمير عَلَيْها وقيل: يعودان على الأرض ولا حذف بل يجعل التجوز في الإسناد. وأنت تعلم أن إرجاع الضمائر كلها للأرض ولو مع ارتكاب التجوز في الإسناد أولى من إرجاعها لغيرها كائنا ما كان. نعم إنه لا يمكن إرجاع الضمير إليها في قراءة الحسن «يغني» بالياء التحتية وجعل ذلك من قبيل ولا أرض أبقل إبقالها كما ترى فينبغي أن يرجع للنبات أو للزرع مثلا ومآل المعنى كأن لم يكن نابتا بِالْأَمْسِ أي فيما قبل إتيان أمرنا بزمان قريب فإن الأمس مثل في ذلك، والجملة التشبيهية جوز أن تكون في محل النصب على أنها حال وأن تكون مستأنفة لا محل لها من الإعراب جوابا لسؤال مقدر، والممثل به في الآية ما يفهم من الكلام وهو زوال خضرة النبات فجأة وذهابه حطاما لم يبق له أثر بعد ما كان غضا طريا قد التف بعضه ببعض وازينت الأرض بألوانه حتى طمع الناس وظنوا أنه قد سلم من الجوائح لا الماء وإن دخلته كاف التشبيه فإنه من التشبيه المركب مع اشتمال الكلام نفسه على أمور حقيقية وأمور مجازية فيها من اللطافة ما لا يخفى. وعن أبي أنه قرأ «كأن لم تغن بالأمس وما أهلكناها إلا بذنوب أهلها» كَذلِكَ أي مثل ذلك التفصيل البديع نُفَصِّلُ الْآياتِ أي القرآنية التي من جملتها هذه الآية الجليلة الشأن المنبهة على أحوال الحياة الدنيا أي نوضحها ونبينها لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في معانيها ويقفون على حقائقها، وتخصيصهم بالذكر لأنهم المنتفعون، وجوز أن يراد بالآيات ما ذكر في أثناء التمثيل من الكائنات والفاسدات وبتفصيلها تصريفها على الترتيب المحكي إيجادا وإعداما فإنها آيات وعلامات يستدل بها المتفكر فيها على أحوال الحياة الدنيا حالا ومآلا والأول هو الظاهر. وعن أبي مجلز أنه قال: كان مكتوبا إلى جنب هذه الآية فمحى «ولو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى واديا ثالثا ولا يشبع نفس ابن آدم إلّا التراب ويتوب الله على من تاب» . وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ ترغيب للناس في الحياة الأخروية الباقية إثر ترغيبهم عن الحياة الدنيوية الفانية أي يدعو الناس جميعا إلى الجنة حيث يأمرهم بما يفضي إليها، وسميت الجنة بذلك لسلامة أهلها عن كل ألم وآفة أو لأن الله تعالى يسلم عليهم أو لأن خزنتها يقولون لهم سلام عليكم طبتم أو لأن بعضهم يسلم فيها على بعض. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 96 فالسلام إما بمعنى السلامة أو بمعنى التسليم، أو لأن السلام من أسمائه تعالى ومعناه هو الذي منه وبه السلامة أو ذو السلامة عن جميع النقائص فأضيفت إليه سبحانه للتشريف كما في بيت الله تعالى للكعبة ولأنه لا ملك لغيره جل شأنه فيها ظاهرا وباطنا وللتنبيه على أن من فيها سالم عما مر للنظر إلى معنى السلامة في أصله، ويدل على قصده تخصيصه بالإضافة إليه دون غيره من أسمائه تعالى وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ هدايته إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل إلى تلك الدار وهو الدين الحق، وفي الآية دلالة على أن الهداية غير الدعوة إلى ذلك وعلى أن الأمر مغاير للإرادة حيث عمم سبحانه الدعوة إذ حذف مفعولها وخص الهداية بالمشيئة المساوية للإرادة على المشهور إذ قيدها بها وهو الذي ذهب إليه الجماعة، وقال المعتزلة: إن المراد بالهداية التوفيق والإلطاف ومغايرة الدعوة والأمر لذلك ظاهرة فإن الكافر مأمور وليس بموفق وأن من يشاء هو من علم سبحانه أن اللطف ينفع فيه لأن مشيئته تعالى شأنه تابعة للحكمة فمن علم أنه لا ينفع فيه اللطف لم يوفقه ولم يلطف به إذ التوفيق لمن علم الله تعالى أنه لا ينفعه عبث والحكمة منافية للبعث فهو جل وعلا يهدي من ينفعه اللطف وإن أراد اهتداء الكل لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا أي العمل بأن فعلوا المأمور به واجتنبوا المنهي عنه، وفسر رسول الله صلّى الله عليه وسلم الإحسان بقوله عليه الصلاة والسلام: «أن تعبد الله تعالى كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» الْحُسْنى أي المنزلة الحسنى وهي الجنة وَزِيادَةٌ وهي النظر إلى وجه ربهم الكريم جل جلاله وهو التفسير المأثور عن أبي بكر وعلي كرم الله تعالى وجهه، وابن عباس، وحذيفة، وابن مسعود، وأبي موسى الأشعري، وخلق آخرين، وروي مرفوعا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم من طرق شتى، وقد أخرج الطيالسي، وأحمد، ومسلم، والترمذي، وابن ماجه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وابن خزيمة وابن حبان وأبو الشيخ والدارقطني في الرؤية وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن صهيب «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم تلا هذه الآية للذين أحسنوا إلخ فقال إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله تعالى موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون: وما هو؟ ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويزحزحنا عن النار؟ قال: فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه سبحانه فو الله ما أعطاهم الله تعالى شيئا أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم» فحكاية هذا التفسير بقيل، كما فعل البيضاوي عفا الله تعالى عنه مما لا ينبغي، وقول الزمخشري عامله الله تعالى بعدله: إن الحديث مرقوع- بالقاف- أي مفترى لا يصدر إلا عن رقيع فإنه متفق على صحته وقد أخرجه حفاظ ليس فيهم ما يقال. نعم جاء في تفسير ذلك غير ما ذكر لكن ليس في هذه الدرجة من الصحة ولا رفع فيه صريحا، فقد أخرج ابن جرير عن مجاهد قال: الزيادة المغفرة والرضوان، وأخرج عن الحسن أنها تضعيف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وأخرج عن ابن زيد أنها أن لا يحاسبهم على ما أعطاهم في الدنيا، وأخرج عن الحكم بن عتيبة عن علي كرم الله تعالى وجهه أنها غرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب. وتعقبه ابن الجوزي بأنه لا يصح، وقيل: الزيادة أن تمر السحابة بهم فتقول: ما تريدون أنا أمطركم فلا يريدون شيئا إلا أمطرتهم. وجمع بعضهم بين الروايات بأنه لا مانع من أن يمن الله تعالى عليهم بكل ما ذكر ويصدق عليه أنه زيادة على ما منّ به عليهم من الجنة، وأيد ذلك بما أخرجه سعيد بن منصور، وابن المنذر، والبيهقي، عن سفيان أنه قال: ليس في تفسير القرآن اختلاف إنما هو كلام جامع يراد به هذا وهذا، والذي حمل الزمخشري على عدم الاعتماد على الروايات الناطقة بحمل الزيادة على رؤية الله تعالى زعمه الفاسد كأصحابه أن الله تعالى لا يرى وقد علمت منشأ ذلك الزعم وقد رده أهل السنة بوجوه وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أي لا يغشاها غبرة ما فيها سواد ولا أثر هوان ما وكسوف بال، والمعنى لا يعرض عليهم ما يعرض لأهل النار أو لا يعرض لهم ما يوجب ذلك من الحزن وسوء الحال، والكلام الجزء: 6 ¦ الصفحة: 97 على الأول حقيقة وعلى الثاني كناية لأن عدم غشيان ذلك لازم لعدم غشيان ما يوجبهما فذكر اللازم لينتقل منه إلى الملزوم، ورجح هذا بأنه أمدح، والمقصود بيان خلوص نعيمهم من شوائب المكاره إثر بيان ما من سبحانه به عليهم من النعيم، وقيل: إن ذكر ذلك لتذكيرهم بما ينقذهم منه فإنهم إذا ذكروا ذلك زاد ابتهاجهم ومسرتهم كما أن أهل النار إذا ذكروا ما فاتهم من النعيم ازداد غمهم وحسرتهم، وقيل: الغرض إدخال السرور عليهم بتذكير حال أعدائهم أهل النار فإن الإنسان متى علم أن عدوه في الهوان وسوء الحال ازداد سرورا، وقد شاهدنا من يكتفي بمضرة عدوه عن حصول المنفعة له بل من يسره ضرر عدوه وإن تضرر هو، وتقديم المفعول على الفاعل للاهتمام ببيان أن المصون من الرهق أشرف أعضائهم وللتشويق إلى المؤخر ولأن في الفاعل ضرب تفصيل أُولئِكَ أي المذكورون باعتبار اتصافهم بما تقدم أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون بلا زوال ويلزم ذلك عدم زوال نعيمها. وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ أي الشرك والمعاصي، وهو مبتدأ بتقدير المضاف خبره قوله سبحانه: جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها والباء متعلقة بجزاء وهو مصدر المبني للمفعول لا اسم للعوض كما في بعض الأوجه الآتية على ما قيل أي جزاء الذين كسبوا السيئات أن تجازى سيئة واحدة بسيئة مثلها على معنى عدم الزيادة بمقتضى العدل وإلا فلا مانع عن العفو بمقتضى الكرم لكن ذلك في غير الشرك ويجوز أن يكون جزاء سيئة بمثلها جملة من مبتدأ وخبر هي خبر المبتدأ وحينئذ لا حاجة إلى تقدير المضاف لكن العائد محذوف أي جزاء سيئة منهم بمثلها على حد- السمن منوان بدرهم.. وأجاز أبو الفتح أن يكون جزاء مبتدأ محذوف الخبر أي لهم جزاء سيئة بمثلها وحذف لهم لقرينة لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا والجملة خبر الَّذِينَ كَسَبُوا وحينئذ لا حاجة إلى تقدير عائد كما لا حاجة إلى تقدير مضاف، وجوز غير واحد أن يكون الَّذِينَ عطفا على الذين المجرور الذي هو مع جاره خبر وجزاء سيئة معطوف على الحسنى الذي هو المبتدأ، وفي ذلك العطف على معمولي عاملين مختلفين وفيه مذاهب المنع مطلقا وهو مذهب سيبويه والجواز مطلقا وهو مذهب القراء والتفصيل بين أن يتقدم المجرور نحو في الدار زيد والحجرة عمرو فيجوز أو لا فيمتنع، والمانعون يحملون نحو هذا المثال على إضمار الجار ويجعلونه مطردا كقوله: أكل امرئ تحسبين امرأ ... ونار توقد بالليل نارا وقيل: هو مبتدأ والخبر جملة ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ أو كَأَنَّما أُغْشِيَتْ أو أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ وما في البين اعتراض، وفي تعدد الاعتراض خلاف بين النحويين وجَزاءُ سَيِّئَةٍ حينئذ مبتدأ وبِمِثْلِها متعلق به والخبر محذوف أي واقع أو بِمِثْلِها هو الخبر على أن الباء زائدة أو الجار والمجرور في موضع الخبر على أن الباء غير زائدة، والأولى تقدير المتعلق خاصا كمقدر ويصح تقديره عاما، والقول بأنه لا معنى له حاصل وهم ظاهر، وأيا ما كان لا دلالة في الآية على أن الزيادة هي الفضل دون الرؤية وقد علمت أن تفسيرها بذلك هو المأثور عن النبي صلّى الله عليه وسلم وجملة من السلف الصالح فلا ينبغي العدول عنه لما يتراءى منه خلافه لا سيما وقد أتى الإمام وغيره بدلائل جمة على أن المراد بها ذلك ولم يؤت بالآيتين على أسلوب واحد لمراعاة ما بين الفريقين من كمال التنائي والتباين، وإيراد الكسب للإيذان بأن ذلك إنما هو بسوء صنيعهم وجنايتهم على أنفسهم وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ أي هوان عظيم، فالتنوين هنا للتفخيم على عكس التنوين فيما قبل كما أشرنا إليه، وفي إسناد الرهق إلى أنفسهم دون وجوههم إيذان بأنها محيطة بهم غاشية لهم. وقرىء «يرهقهم» بالياء التحتانية لكون الفاعل ظاهرا وتأنيثه غير حقيقي، وقيل: التذكير باعتبار أن المراد من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 98 الذلة سببها مجازا، ولا يحتاج إليه كما لا يخفى لأن التذكير في مجازي التأنيث لا سيما المفصول كثير جدا. والواو على ما قال غير واحد للعطف وما بعده معطوف على كَسَبُوا وضعفه أبو البقاء بأن المستقبل لا يعطف على الماضي. وأجيب بالمنع، وفي العطف هاهنا ما لا يخفى من المبالغة حيث أخرج نسبة الرهق إليهم يوم القيامة مخرج المعلوم حيث جعل ذلك بواسطة العطف صلة الموصول، وقيل: إنه عطف على ما قبله بحسب المعنى كأنه قيل: والذين كسبوا السيئات تجازى سيئتهم بمثلها وترهقهم ذلة ولعله أولى من الأول، وأما جعل الواو حالية والجملة في موضع الحال من ضمير كَسَبُوا فلا يخفى حاله ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ أي ما لهم أحد يعصمهم ويمنعهم من سخط الله تعالى وعذابه فمن الأولى متعلقة بعاصم والكلام على حذف مضاف ومِنَ الثانية زائدة لتعميم النفي، أو ما لهم من جهته وعنده تعالى من يعصمهم كما يكون للمؤمنين فمن الأولى متعلقة بمحذوف وقع حالا من عاصِمٍ وقيل متعلقة بالاستقرار المفهوم من الظرف وليس في الكلام مضاف محذوف، ومِنَ الثانية على حالها والجملة مستأنفة أو حال من ضمير تَرْهَقُهُمْ وفي نفي العاصم من المبالغة في نفي العصمة ما لا يخفى كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ أي كأنما ألبست ذلك لفرط سوادها وظلمتها، والجار والمجرور صفة قِطَعاً وقوله سبحانه: مُظْلِماً حال من اللَّيْلِ والعامل فيه متعلق الجار والمجرور فعلا كان أو اسما. وجوز أبو البقاء كونه حالا من قِطَعاً أو صفة له، وكان الواجب الجمع لأن قِطَعاً جمع قطعة إلا أنه أفردت حاله أو صفته لتأويل ذلك بكثير ولا يخفى أنه تكلف مستغنى عنه، والظاهر أن مِنَ للتبعيض، وقال بعض المحققين: لليل معنيان زمان تخفى فيه الشمس قليلا أو كثيرا كما يقال دخل الليل والآن ليل وما بين غروب الشمس إلى طلوعها أو قربها من الطلوع، فمن إما تبعيضية على الأول وبيانية على الثاني، وجوز الزمخشري أن يكون العامل في الحال أُغْشِيَتْ من قبل أن مِنَ اللَّيْلِ صفة لقطعا فكان إفضاؤه إلى الموصوف كإفضائه إلى الصفة. قال صاحب التقريب: وفيه نظر لأن مِنَ اللَّيْلِ ليس صلة أغشيت حتى يكون عاملا في المجرور بل التقدير أنه صفة فيكون العامل فيه الاستقرار، وأيضا الصفة مِنَ اللَّيْلِ وذو الحال هو- الليل- فلا يكون أُغْشِيَتْ عاملا في ذي الحال مع أنه المقصود وقد يقال: إن مِنَ للتبيين والتقدير كائنة من الليل فأغشيت عامل في الصفة وهي كائنة فكأنه عامل في اللَّيْلِ وهو مبني على أن العامل في العامل في الشيء عامل فيه وهو فاسد فالوجه أن يقال: إن مِنَ للتبعيض أي بعض الليل ويكون بدلا من قِطَعاً ويجعل مُظْلِماً حالا من البعض لا مِنَ اللَّيْلِ فيكون العامل في ذي الحال أُغْشِيَتْ ولا يخفى أنه وجه أغشى قطعا من ليل التكلف والتعسف مظلما. وأجاب الإمام أمين الدين بأن نسبة أُغْشِيَتْ إلى قِطَعاً إنما هي باعتبار ذاتها المبهمة المفسرة بالليل لا باعتبار مفهوم القطع في نفسها وإنما ذكرت لبيان مقدار ما أغشيت به وجوههم وهو الليل مظلما فإفضاء الفعل إلى قِطَعاً باعتبار ما لا يتم معناها المراد إلا به كإفضاء الفعل إليه كما إذا قيل: اشتريت أرطالا من الزيت صافيا فإن المشترى فيه الزيت والأرطال مبنية لمقدار ما اشترى صافيا فالعامل في الحال إنما هو العامل اللفظي ولا يلاحظ معنى الفعل في الجار والمجرور من جهة العمل لغلبة العامل اللفظي عليه بالظهور ولا يخفى ما فيه. وقال في الكشف: إن الزمخشري ذهب إلى أن أُغْشِيَتْ له اتصال بقوله تعالى: مِنَ اللَّيْلِ من قبل أن الصفة والموصوف متحدان لا سيما والقطع بعض الليل فجاز أن يكون عاملا في الصفة بذلك الاعتبار وكأنه قيل أغشيت الليل مظلما وهذا كما جوز في نحو وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً [الحجر: 47] أن يكون حالا من الضمير باعتبار اتحاده بالمضاف وكأنه قيل: ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا وكما جوز في مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً الجزء: 6 ¦ الصفحة: 99 [البقرة: 135، آل عمران: 95، النساء: 125، الأنعام: 161، النحل: 123] لأن الملة كالجزء كأنه قيل: اتبعوا إبراهيم حنيفا وهذا الذي ذهب إليه الزمخشري وهو سر هذا الموضع لا ما طوله كثيرون لا سيما حمل مِنَ على التجريد فإنه مع أن المعنى على التبعيض لا البيان وليس كل بيان تجريدا لا يتم مقصوده انتهى. وقد عرض في ذلك بشيخه العلامة الطيبي فإنه عليه الرحمة قد تكلف ما تكلف والإنصاف أن ما جوزه الزمخشري هنا مما لا ينبغي والسعي في إصلاحه مع وجود الوجه الواضح الذي لا ترهقه قترة يقرب من أن يكون عبثا. وقرأ ابن كثير، والكسائي، ويعقوب، وسهل «قطعا» بسكون الطاء وهو اسم مفرد معناه طائفة من الليل أو ظلمة آخره أو اسم جنس لقطعة وأنشدوا: افتحي الباب وانظري في النجوم ... كم علينا من قطع ليل بهيم وعلى هذا يجوز أن يكون مُظْلِماً صفة له أو حالا منه بلا تكلف تأويل. وقرىء «كأنما يغشى وجوههم قطع من الليل مظلم» والكلام فيه ظاهر، والجملة كالتي قبلها مستأنفة أو حال من ضمير تَرْهَقُهُمْ أُولئِكَ أي الموصوفون بما ذكر من الصفات الذميمة أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ لا يخرجون منها أبدا واحتجت الوعيدية بهذه الآية على قولهم الفاسد بخلود أهل الكبائر. وأجيب بأن السيئات شاملة للكفر وسائر المعاصي وقد قامت الأدلة على أنه لا خلود لأصحاب المعاصي فخصصت الآية بمن عداهم، وأيضا قد يقال إنهم داخلون في الذين أحسنوا بناء على ما أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن ابن عباس وأبو الشيخ عن قتادة أنهم الذين شهدوا أن لا إله إلا الله أي المؤمنون مطلقا فلا يدخلون في القسم الآخر لتنافي الحكمين، وقيل: إن أل في السيئات للاستغراق فالمراد من عمل جميع ذلك والقول بخلوده في النار مجمع عليه وليس بذاك. وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ كلام مستأنف مسوق لبيان بعض آخر من أحوالهم الفظيعة، وتأخيره في الذكر مع تقدمه في الوجود على بعض أحوالهم المحكية سابقا كما قال بعض المحققين للإيذان باستقلال كل من السابق واللاحق بالاعتبار ولو روعي الترتيب الخارجي لعد الكل شيئا واحدا ولذلك فصل عما قبله، وزعم الطبرسي أنه تعالى لما قدم ذكر الجزاء بين بهذا وقت ذلك، وعليه فالآية متصلة بما ذكر آنفا لكن لا يخفى أن ذلك لم يخرج مخرج البيان، وأولى منه أن يقال: وجه اتصاله بما قبله أن فيه تأكيدا لقوله سبحانه: ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ من حيث دلالته على عدم نفع الشركاء لهم. ويَوْمَ منصوب بفعل مقدر كذكرهم وخوفهم، وضمير نَحْشُرُهُمْ لكلا الفريقين من الذين أحسنوا الحسنى والذين كسبوا السيئات لأنه المتبادر من قوله تعالى: جَمِيعاً ومن أفراد الفريق الثاني بالذكر في قوله سبحانه: ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أي للمشركين من بينهم ولأن توبيخهم وتهديدهم على رؤوس الأشهاد أفظع، والإخبار بحشر الكل في تهويل اليوم أدخل، وإلى هذا ذهب القاضي البيضاوي وغيره، وكون مراده بالفريقين فريقي الكفار والمشركين خلاف الظاهر جدا. وقيل: الضمير للفريق الثاني خاصة فيكون الذين أشركوا من وضع الموصول موضع الضمير، والنكتة في تخصيص وصف إشراكهم في حيز الصلة من بين سائر ما اكتسبوه من السيئات ابتناء التوبيخ والتقريع عليه مع ما فيه من الإيذان بكونه معظم جناياتهم وعمدة سيئاتهم، وهو السر في الإظهار في مقام الإضمار على القول الأخير مَكانَكُمْ ظرف متعلق بفعل حذف فسد هو مسده وهو مضاف إلى الكاف، والميم علامة الجمع أي ألزموا مكانكم. والمراد انتظروا حتى تنظروا ما يفعل بكم. وعن أبي علي الفارسي أن مكان اسم فعل وحركته حركة بناء. وهل هو اسم فعل لالزم أو لا ثبت ظاهر كلام بعضهم الأول والمنقول عن شرح التسهيل الثاني لأنه على الأول يلزم أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 100 يكون متعديا كألزم مع أنه لازم، وأجيب بمنع اللزوم، وقال السفاقسي: في كلام الجوهري ما يدل على أن ألزم يكون لازما ومتعديا فلعل ما هو اسم له اللازم: وذكر الكوفيون أنه يكون متعديا وسمعوا من العرب مكانك زيدا أي انتظره. واختار الدماميني في شرح التسهيل عدم كونه اسم فعل فقال: لا أدري ما الداعي إلى جعل هذا الظرف اسم فعل إما لازما وإما متعديا وهلا جعلوه ظرفا على بابه ولم يخرجوه عن أصله أي اثبت مكانك أو انتظر مكانك، وإنما يحسن دعوى اسم الفعل حيث لا يمكن الجمع بين ذلك الاسم وذلك الفعل نحو: صه وعليك وإليك، وأما إذا أمكن فلا كوراءك وأمامك وفيه منع ظاهر. وقوله تعالى: أَنْتُمْ توكيد للضمير المنتقل إلى الظرف من عامله على القول الأول وللضمير المستتر في اسم الفعل على القول الثاني، وقوله سبحانه: وَشُرَكاؤُكُمْ عطف على ذلك، وقيل: إن أَنْتُمْ مبتدأ خبره محذوف أي مهانون أو مجزيون وهو خلاف الظاهر مع ما فيه من تفكيك النظم، وقيل: ولأنه يأباه قراءة وشركاءكم بالنصب إذ يصير حينئذ مثل- كل رجل وضيعته- ومثله لا يصح فيه ذلك لعدم ما يكون عاملا فيه، والعامل على التوجيه الأول ظاهر لمكان مَكانَكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ أي ففرقنا، وهو من زلت الشيء عن مكانه أزيله أي أزلته، والتضعيف للتكثير لا للتعدية، وهو يائي ووزنه فعل بدليل زايل، وقد قرىء به وهو بمعناه نحو كلمته وكالمته وصعر خده وصاعر خده. وقال أبو البقاء: إنه واوي لأنه من زال يزول، وإنما قلبت الواو ياء لأنه فيعل، والأول أصح لما علمت ولأن مصدره التزييل لا الزيولة مع أن فعل أكثر من فيعل، ونصب- بين- على الظرفية لا على أنه مفعول به كما توهم، والمراد بالتفريق قطع الأقران والوصل التي كانت بينهم وبين الشركاء في الدنيا. وقيل: التفريق الجسماني وظاهر النظم الجليل لا يساعده، والعطف على نَقُولُ وإيثار صيغة الماضي للدلالة على التحقق لزيادة التوبيخ والتحسير، والفاء للدلالة على وقوع التنزيل ومبادية عقيب الخطاب من غير مهملة إيذانا بكمال رخاوة ما بين الفريقين من العلاقة والوصلة، وقوله سبحانه: وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ عطف على ما قبله، وجوز أن يكون في موضع الحال بتقدير قد أو بدونها على الخلاف، والإضافة باعتبار أن الكفار هم الذين اتخذوهم شركاء لله سبحانه وتعالى. وقيل: لأنهم جعلوا لهم نصيبا من أموالهم فصيروهم شركاء لأنفسهم في ذلك، والمراد بهؤلاء الشركاء قيل: الأصنام فإن أهل مكة إنما كانوا يعبدونها وهم المعنيون بأكثر هذه الآيات، ونسبة القول لها غير بعيد من قدرته سبحانه فينطقها الله الذي أنطق كل شيء في ذلك الموقف فتقول لهم ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ والمراد من ذلك تبريهم من عبادتهم وأنهم إنما عبدوا في الحقيقة أهواءهم الداعية لهم وما أعظم هذا مكان الشفاعة التي كانوا يتوقعونها منهم. وقيل: المراد بهم الملائكة والمسيح عليهم السلام لقوله تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ [سبأ: 40] وقوله سبحانه: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ [المائدة: 116] الآية، والمراد من ذلك القول ما أريد منه أولا أيضا لأن نفي العبادة لا يصح لثبوتها في الواقع والكذب لا يقع في القيامة ممن كان، وقيل: إن قول الشركاء مجرى على حقيقته بناء على أن ذلك الموقف موقف الدهشة والحيرة فذلك الكذب يكون جاريا مجرى كذب الصبيان والمجانين المدهوشين، ويمكن أن يقال أيضا: إنهم ما أقاموا لأعمال الكفار وزنا وجعلوها لبطلانها كالعدم فلذا نفوا عبادتهم إياهم أو يقال: إن المشركين لما تخيلوا فيما عبدوه أوصافا كثيرة غير موجودة فيه في نفس الأمر كانوا في الحقيقة إنما عبدوا ذوات موصوفة بتلك الصفات ولما كانت ذوات الشركاء خالية عن تلك الصفات صدق أن يقال: إن المشركين ما عبدوا الشركاء وهذا أولى من الأولين بل لا يكاد يلتفت إليهما وكأن حاصل المعنى عليه إنكم عبدتم من زعمتم أنه يقدر على الشفاعة لكم وتخليصكم من العذاب وإنه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 101 موصوف بكيت وكيت فاطلبوا فإنا لسنا كذلك. والمراد من ذلك قطع عرى أطماعهم وإيقاعهم في اليأس الكلي من حصول ما كانوا يرجونه ويعتقدونه فيهم ولعل اليأس كان حاصلا لهم من حين الموت والابتلاء بالعذاب ولكن يحصل بما ذكر مرتبة فوق تلك المرتبة. وقيل: المراد بهم الشياطين وقطع الوصل عليه من الجانبين لا من جانب العبدة فقط كما يقتضيه ما قبل، والمراد من قولهم ذلك على طرز ما تقدم. وأورد على القول بأن المراد الملائكة والمسيح عليهم السلام بأنه لا يناسب قوله سبحانه: مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ حيث إن المراد منه الوعيد والتهديد، وظاهر العطف انصراف ذلك إلى الشركاء أيضا، وتهديد أولئك الكرام عليهم الصلاة والسلام مما لا يكاد يقدم على القول به. واعترض بأن هذا مشترك الإلزام فإنه يرد على القول الأول أيضا إذ لا معنى للوعيد والتهديد في حق الأصنام مع عدم صدور شيء منها يوجب ذلك، ولا مخلص إلا بالتزام أن التهديد والوعيد للمخاطبين فقط أو للمجموع باعتبارهم. وأجيب بجواز كون تهديد الأصنام نظير إدخالها النار مع عبدتها كما يدل عليه قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98] وكذا قوله سبحانه: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [البقرة: 24] على ما عليه جمع من المفسرين، ودعوى الفرق بين التهديد والإدخال في النار تحتاج إلى دليل. نعم قالوا: يجب على القول بأن المراد الملائكة عليهم السلام أن تحمل الغفلة في قوله سبحانه: فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ على عدم الارتضاء لا على عدم الشعور لأن عدم شعور الملائكة بعبادتهم غير ظاهر بل لو قيل بوجوب هذا الحمل على القول بأن المراد المسيح عليه السلام أيضا لم يبعد لأن عدم شعوره بعبادتهم مع أنه سينزل ويكسر الصليب كذلك، ولا يكاد يصح الحمل على الظاهر إلا إذا كان المراد الأصنام فإن عدم شعورهم بذلك ظاهر، وتعقب بأنه لا دليل على شعور الملائكة عليهم السلام بعبادتهم ليصرف له اللفظ عن حقيقته، وليس هؤلاء المعبودون هم الحفظة أو الكتبة بل ملائكة آخرون ولعلهم مشغلون بأداء ما أمروا به عن الالتفات إلى ما في هذا العالم ونحن لا ندعي في الملائكة عليهم السلام ما يدعيه الفلاسفة فإنهم الذين قالوا يوم استنبئوا عن الأسماء: سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا [البقرة: 32] وهذا جبريل عليه السلام من أجلهم قدرا كان كثيرا ما يسأله رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن أشياء فيقول: لا أعلم وسوف أسأل ربي، وكذا لا دليل على شعور المسيح عليه السلام بعبادة هؤلاء المخاطبين عند إيقاعها وكونه سينزل ويكسر الصليب لا يستدعي الشعور بها كذلك كما لا يخفى، وقد يستأنس لعدم شعوره بما حكى الله تعالى عنه في الجواب عن سؤاله له عليه السلام من قوله: ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المائدة: 117] ، واعترض على القول الأخير بأنه لا يصح مع هذا القول مطلقا لأن الشياطين هم الذين زينوا لهم هذه الشنيعة الشنعاء وأغروهم عليها فكيف يتأتى القول بأنهم غافلون حقيقة عنها أو أنهم غير مرتضين لها، ولعل من ذهب إلى ذلك يلتزم الكذب ويقول بجواز وقوعه يوم القيامة. وقيل: إن القول الأول لا يصح مع هذا القول أيضا مطلقا لأن الأوثان لا تتصف بالغفلة حقيقة لأنها كما يفهم من القاموس اسم لترك الشيء وذهاب القلب عنه إلى غيره وهذا شأن ذوي القلوب والأوثان ليست من ذلك وكذا لا تتصف بها مجازا عن عدم الارتضاء إذ الظاهر أن مرادهم من عدم الارتضاء السخط والكراهة وظاهر أن الأوثان لا تتصف بسخط ولا ارتضاء إذ هما تابعان للإدراك ولا إدراك لها ومن أثبته للجمادات حسب عالمها فالأمر عنده سهل ومن لا يثبته يقول: إنها مجاز عن عدم الشعور، وقد يقال: إن المراد بغفلتهم عن عبادة المشركين عدم طلبهم الاستعدادي لها ويرجع ذلك بالآخرة إلى نفي استحقاق العبادة عن أنفسهم وإثبات الظلم لعباديهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 102 وحينئذ فالأظهر أن يراد بالشركاء جميع ما عبد من دون الله تعالى من ذوي العقول وغيرهم والكل صادق في قوله ذلك، وقد يراد من عدم الطلب ما يشمل عدم الطلب الحالي والقالي إذا اعتبر كون القائل ممن يصح نسبة ذلك له كالملائكة عليهم السلام وهذا الوجه لا يتوقف على شعور الشركاء بعبادتهم ولا على عدمه فيجوز أن يكون لهم شعور بذلك ويجوز أن لا يكون لهم شعور، والظاهر أن تفسير الغفلة بعدم الارتضاء المراد منهم على ما قيل السخط والكراهة يستدعي الشعور إذ كراهة الشيء مع عدم الشعور به مما لا يكاد يعقل وإثباته لجميع الشركاء ولو إجمالا في وقت من الأوقات الدنيوية غير مسلم، ولعل التعبير بالغفلة أكثر تهجينا للمخاطبين ولعبادتهم من التعبير بعدم الطلب مثلا فتأمل، والباء في بِاللَّهِ صلة وشَهِيداً تمييز، وإِنْ مخففة من أن واللام هي الفارقة بين المخففة والنافية والظرف متعلق بغافلين، والتقديم لرعاية الفاصلة، أي كفى الله شهيدا فإنه العليم الخبير المطلع على كنه الحال إنا كنا غافلين عن عبادتكم، والظاهر من كلام بعض المحققين أن فَكَفى إلخ استشهاد على النفي السابق لا على الإثبات اللاحق هُنالِكَ أي في ذلك المقام الدحض والمكان الدهش وهو مقام الحشر فهنالك باق على أصله وهو الظرفية المكانية، وقيل: إنه استعمل ظرف زمان مجازا أي في ذلك الوقت تَبْلُوا أن تختبر كُلُّ نَفْسٍ مؤمنة كانت أو كافرة ما أَسْلَفَتْ من العمل فتعاين نفعه وضره أتم معاينة. وقرأ حمزة والكسائي «تتلو» من التلاوة بمعنى القراءة، والمراد قراءة صحف ما أسلفت، وقيل: إن ذلك كناية عن ظهور الأعمال. وجوز أن يكون من التلو على معنى أن العمل يتجسم ويظهر فيتبعه صاحبه حتى يرد به الجنة أو النار أو هو تمثيل. وقرأ عاصم في رواية عنه «نبلو» بالباء الموحدة والنون ونصب «كلّ» على أن فاعل- نبلو- ضميره تعالى و «كل» مفعوله و «ما» بدل منه بدل اشتمال، والكلام استعارة تمثيلية أي هنالك نعامل كل نفس معاملة من يبلوها ويتعرف أحوالها من السعادة والشقاوة باختبار ما أسلفت من العمل، ويجوز أن يراد نصيب بالبلاء أي العذاب كل نفس عاصية بسبب ما أسلفت من الشر فتكون ما منصوبة بنزع الخافض وهو الباء السببية. وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ عطف على زيلنا والضمير للذين أشركوا وما في البين اعتراض في أثناء الحكاية مقرر لمضمونها، والمعنى ردوا إلى جزائه وعقابه أو إلى موضع ذلك، فالرد إما معنوي أو حسي. وقال الإمام: المعنى جعلوا ملجئين إلى الإقرار بألوهيته سبحانه وتعالى مَوْلاهُمُ أي ربهم الْحَقِّ أي المتحقق الصادق في ربوبيته لا ما اتخذوه ربا باطلا. وقرئ «الحقّ» بالنصب على المدح، والمراد به الله تعالى وهو من أسمائه سبحانه أو على المصدر المؤكد والمراد به ما يقابل الباطل، ولا منافاة بين هذه الآية وقوله سبحانه: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ [محمد: 11] . لاختلاف معنى المولى فيهما. وأخرج أبو الشيخ عن السدي أن الأولى منسوخة بالثانية ولا يخفى ما فيه وَضَلَّ أي ضاع وذهب عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ من أن آلهتهم تشفع لهم أو ما كانوا يدعون أنها شركاء لله عز وجل، وما يحتمل أن تكون موصولة وأن تكون مصدرية والجملة معطوفة على قوله سبحانه: رُدُّوا ومن الناس من جعلها عطفا على- زيلنا- وجملة- ردوا- معطوفة على جملة- تبلو- إلخ داخلة في الاعتراض وضمير الجمع للنفوس المدلول عليها بكل نفس، والعدول إلى الماضي للدلالة على التحقق والتقرر، وإيثار صيغة الجمع للإيذان بأن ردهم إليه سبحانه يكون على طريق الاجتماع وما ذكرناه أولى لفظا ومعنى. وتعقب شيخ الإسلام جعل الضمير للنفوس وعطف رُدُّوا على تَبْلُوا إلخ بأنه لا يلائمه التعرض لوصف الحقية في قوله سبحانه: مَوْلاهُمُ الْحَقِّ فإنه للتعريض بالمردودين ثم قال: ولئن اكتفى فيه بالتعريض ببعضهم أو حمل الْحَقِّ على معنى العدل في الثواب والعقاب أي مع تفسير المولى بمتولي الأمور فقوله سبحانه: وَضَلَّ إلخ مما لا مجال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 103 فيه للتدارك قطعا فإن ما فيه من الضمائر الثلاثة للمشركين فيلزم التفكيك حتما، وتخصيص كل نفس بالنفوس المشركة مع عموم البلوى للكل يأباه مقام تهويل المقام انتهى، والظاهر أنه اعتبر عطف وَضَلَّ عَنْهُمْ إلخ على رُدُّوا مع رجوع ضميره للنفوس وهو غير ما ذكرناه فلا تغفل قُلْ أي لأولئك المشركين الذين حكيت أحوالهم وبين ما يؤدي إليه أفعالهم التي هي أفعى لهم احتجاجا على حقية التوحيد وبطلان ما هم عليه من الإشراك. مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي منهما جميعا فإن الأرزاق تحصل بأسباب سماوية كالمطر وحرارة الشمس المنضجة وغير ذلك ومواد أرضية والأولى بمنزلة الفاعل والثانية بمنزلة القابل أو من كل واحد منهما بالاستقلال كالأمطار والمن والأغذية الأرضية توسعة عليكم- فمن- على هذا لابتداء الغاية، وقيل: هي لبيان مَنْ على تقدير المضاف، وقيل: تبعيضية على ذلك التقدير أي من أهل السماء والأرض أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ «أم» منقطعة بمعنى بل والإضراب انتقالي لا إبطالي وفيه تنبيه على كفاية هذا الاستفهام فيما هو المقصود أي من يستطيع خلقهما وتسويتهما على هذه الفطرة العجيبة ومن وقف على تشريحهما وقف على ما يبهر العقول أو من يحفظهما من الآفات مع كثرتها وسرعة انفعالهما عن أدنى شيء يصيبهما أو من يتصرف بهما إذهابا وإبقاء، والملك على كل مجاز، قيل: والمعنى الأول أوفق لنظم الخالقية مع الرازقية كقوله تعالى: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [فاطر: 3] وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ أي ومن ينشىء الحيوان من النطفة مثلا والنطفة من الحيوان أو من يحيي أو يميت بأن يكون المراد بالإخراج التحصيل من قولهم: الخارج كذا أي الحاصل أي من يحصل الحي من الميت بأن يفيض عليه الحياة ويحصل الميت من الحي بأن يفيض عليه الموت ويسلي عنه الحياة والمآل ما علمت، ومن الناس من فسر الحي والميت هنا بالمؤمن والكافر والأول أولى وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي ومن يلي تدبير أمر العالم جميعا وهو تعميم بعد تخصيص ما اندرج تحته من الأمور الظاهرة بالذكر، وفيه إشارة إلى أن الكل منه سبحانه وإليه وأنه لا يمكنكم علم تفاصيله فَسَيَقُولُونَ بلا تلعثم ولا تأخير اللَّهُ إذ لا مجال للمكابرة والعناد في شيء من ذلك لغاية وضوحه، والاسم الجليل مبتدأ والخبر محذوف أي الله يفعل ما ذكر من الأفاعيل لا غيره هذا وربما يستدل بالآية على تقدير أن لا تكون مَنْ لابتداء الغاية على جواز أن يقال الله سبحانه أنه من أهل السماء والأرض، وكون المراد هناك غير الله تعالى لا يناسب الجواب ومن لم ير الجواز يعني ومن رآه بناء على ظواهر الآيات المفيدة لكونه تعالى في السماء وقوله صلّى الله عليه وسلم في الجارية التي أشارت إلى السماء حين قيل لها: أين الله؟ «أعتقها فإنها مؤمنة» وإقراره حصينا حين قال له عليه الصلاة والسلام: «كم تعبد يا حصين؟ فقال: سبعة ستة في الأرض وواحد في السماء فقال صلّى الله عليه وسلم: فمن الذي أعددته لرغبتك ورهبتك؟ فقال حصين: الإله الذي في السماء» أبقى الآية على ما يقتضيه ظاهرها. وأنت تعلم إنه لم يرد صريحا كونه تعالى من أهل السماء والأرض وإن ورد كونه جل وعلا في السماء على المعنى اللائق بجلاله جل جلاله فلا أرى جواز ذلك، ولا داعي لإخراج مَنْ عن ابتداء الغاية ليحتاج إلى العناية في رد الاستدلال كما لا يخفى، وفي الانتصاف أن هذه الآية كافحة لوجوه القدرية الزاعمين أن الأرزاق منقسمة فمنها ما رزقه الله تعالى للعبد وهو الحلال ومنها ما رزقه العبد لنفسه وهو الحرام فهي ناعية عليهم هذا الشرك الخفي لو سمعوا أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ [يونس: 42] وكذا فيما قيل تكفح في وجوه أناس يزعمون أن الذي يدبر الأمر في كل عصر قطبه وهو عماد السماء عندهم ولولاه لوقعت على الأرض فكأني بك إذا سألتهم من يدبر الأمر يقولون القطب، وقد يعتذر عنهم بأن مرادهم أنه المدبر بإذن الله تعالى وجاء إطلاق المدبر بهذا المعنى على غيره تعالى في قوله سبحانه: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً [النازعات: 5] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 104 وربما يقال إنه لا فرق عندهم بين الله تعالى وبين القطب إلا بالاعتبار لأنه الذي فاز بقربى النوافل والفرائض على أتم وجه فارتفعت الغيرية، فالقول بأن القطب هو المدبر كالقول بأنّ الله سبحانه هو المدبر بلا فرق. واعترض هذا بأنه ذهاب إلى القول بوحدة الوجود وأكثر المتكلمين وبعض الصوفية كالإمام الرباني قدس سره ينكرون ذلك، والأول بأنه هلا قال المشركون في جواب ذلك: الملائكة أو عيسى عليهم السلام مثلا على معنى أنهم المدبرون للأمر بإذن الله تعالى فيكون المذكورون عندهم بمنزلة الأقطاب عند أولئك، وأجيب بأن السؤال إنما هو عمن ينتهي إليه الأمر فلا يتسنى لهم إلا الجواب المذكور، ولعل غير أهل الوحدة لو سئلوا كذلك ما عدلوا في الجواب عنه سبحانه، وأما أهل الوحدة قدس الله تعالى أسرارهم فلهم كلمات لا يقولها المشركون وهي لعمري فوق طور العقل ولذا أنكرها أهل الظاهر عليهم فَقُلْ لهم أَفَلا تَتَّقُونَ الهمزة لإنكار عدم الاتقاء بمعنى إنكار الواقع كما في قولك: أتضرب أباك لا بمعنى إنكار الوقوع كما في قولك: أأضرب أبي، والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه النظم الكريم أي أتعلمون ذلك فلا تتقون، والخلاف في مثل هذا التركيب شهير وما ذكرناه هو ما عليه البعض، ومفعول تَتَّقُونَ محذوف وهو متعد لواحد أي أفلا تتقون عذابه الذي لكم بما تتعاطونه من إشراككم به سبحانه ما لا يشاركه في شيء مما ذكر من خواص الألوهية، وكلام القاضي يوهم أنه متعد إلى مفعولين وليس بذاك. فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فذلكة لما تقرر والإشارة إلى المتصف بالصفات السابقة حسبما اعترفوا به، وهي مبتدأ والاسم الجليل صفة له ورَبُّكُمُ خبر والْحَقُّ خبر بعد خبر أو صفة أو خبر مبتدأ محذوف، ويجوز أن يكون الاسم الجليل هو الخبر ورَبُّكُمُ بدل منه أو بيان له والْحَقُّ صفة الرب أي مالككم ومتولي أموركم الثابت ربوبيته والمتحقق ألوهيته تحققا لا ريب فيه فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ أي لا يوجد غير الحق شيء يتبع إلا الضلال فمن تخطى الحق وهو عبادة الله تعالى وحده لا بد وأن يقع في الضلال وهو عبادة غيره سبحانه على الانفراد أو الاشتراك لأن عبادته جل شأنه مع الاشتراك لا يعتد بها- فما- اسم استفهام وذا- موصول، ويجوز أن يكون الكل اسما واحدا قد غلب فيه الاستفهام على اسم الإشارة، وهو مبتدأ خبره بَعْدَ الْحَقِّ على ما في النهر والاستفهام إنكاري بمعنى إنكار الوقوع ونفيه، وبَعْدَ بمعنى غير مجاز والحق ما علمت، وهو غير الأول ولذا أظهر، وإطلاق- الحق- على عبادته سبحانه وكذا إطلاق- الضلال- على عبادة غيره تعالى لما أن المدار في العبادة الاعتقاد، وجوز أن يكون- الحق- عبارة عن الأول والإظهار لزيادة التقرير ومراعاة كمال المقابلة بينه وبين الضلال والمراد به هو الأصنام، والمعنى فماذا بعد الرب الحق الثابت ربوبيته إلا الضلال أي الباطل الضائع المضمحل وإنما سمي بالمصدر مبالغة كأنه نفس الضلال والضياع، وقيل: المراد بالحق والضلال ما يعم التوحيد وعبادة غيره سبحانه وغير ذلك ويدخل ما يقتضيه المقام هنا دخولا أوليا، ويؤيده ما أخرجه ابن أبي حاتم عن أشهب قال: سئل مالك عن شهادة اللعّاب بالشطرنج والنرد فقال أما من أدمن فما أرى شهادتهم طائلة يقول الله تعالى: فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فهذا كله من الضلال. فَأَنَّى تُصْرَفُونَ أي فكيف تصرفون عن الحق إلى الضلال والاستفهام إنكاري بمعنى إنكار الواقع واستبعاده والتعجب منه، وفيه من المبالغة ما ليس في توجيه الإنكار إلى نفس الفعل فإنه لا بد لكل موجود من أن يكون وجوده على حال من الأحوال فإذا انتفى جميع أحوال وجوده فقد انتفى وجوده على الطريق البرهاني والفاء لترتيب الإنكار والتعجب على ما قبله، ولعل ذلك الإنكار والتعجب متوجهان في الحقيقة إلى منشأ الصرف وإلا فنفس الصرف منه تعالى على ما هو الحق فلا معنى لإنكاره والتعجب منه مع كونه فعله جل شأنه، وإنما لم يسند الفعل إلى الفاعل لعدم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 105 تعلق غرض به. وذهب المعتزلة أن فاعل الصرف نفسه المشركون فهم الذين صرفوا أنفسهم وعدلوا بها عن الحق إلى الضلال بناء على أن العباد هم الخالقون لأفعالهم، وأمر الإنكار والتعجب عليه ظاهر، وإنما لم يسند الفعل إلى ضميرهم على جهة الفاعلية إشارة إلى أنه بلغ من الشناعة إلى حيث إنه لا ينبغي أن يصرح بوقوعه منهم فتدبر كَذلِكَ أي كما حقت كلمة الربوبية لله سبحانه وتعالى أو كما أنه ليس بعد الحق إلا الضلال أو كما أنهم مصرفون عن الحق حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي حكمه عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أي تمردوا في الكفر وخرجوا إلى أقصى حدوده، والمراد بهم أولئك المخاطبون، ووضع الموصول موضع ضميرهم للتوصل إلى ذمهم بعنوان الصلة وللإشعار بالعلية أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بدل من الكلمة بدل كل من كل أو بدل اشتمال بناء على أن الحكم بالمعنى المصدري أو بمعنى المحكوم به، وقد تفسر الكلمة بالعدة بالعذاب فيكون هذا في موضع التعليل لحقيتها أي لأنهم إلخ، واعترض بأن محصل الآية حينئذ على ما تقرر في الذين فسقوا أن كلمة العذاب حقت على أولئك المتمردين لتمردهم في كفرهم ولأنهم لا يؤمنون وهو تكرار لا طائل تحته، وأجيب بأنه لو سلم أن في الآية تكرارا مطلقا فهو تصريح بما علم ضمنا، وفيه دلالة على شرف الإيمان بأن عذاب المتمردين في الكفر بسبب انتفاء الإيمان قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ احتجاج آخر على حقية التوحيد وبطلان الإشراك، ولم يعطف إيذانا باستقلاله في إثبات المطلوب، والسؤال للتبكيت والإلزام، وجعل سبحانه الإعادة لسطوع البراهين القائمة عليها بمنزلة البدء في إلزامهم ولم يبال بإنكارهم لها لأنهم مكابرون فيه والمكابر لا يلتفت إليه فلا يقال: إن مثل هذا الاحتجاج إنما يتأتى على من اعترف بأن من خواص الإلهية بدء الخلق ثم إعادته ليلزم من نفيه عن الشركاء نفي الإلهية وهم غير مقرين بذلك، ففي الآية الإشارة إلى أن الإعادة أمر مكشوف ظاهر بلغ في الظهور والجلاء بحيث يصح أن يثبت فيه دعوى أخرى، وجعل ذلك الطيبي من صنعة الإدماج كقول ابن نباتة: فلا بدّ لي من جهلة في وصاله ... فمن لي بخلّ أودع الحلم عنده فقد ضمن الغزل الفخر بكونه حليما والفخر شكاية الإخوان قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قيل هو أمر له صلّى الله عليه وسلم بأن يبين لهم من يفعل ذلك أي قل لهم الله سبحانه هو يفعلهما لا غيره كائنا ما كان لا بأس ينوب عليه الصلاة والسلام عنهم في الجواب كما قاله غير واحد لأن المقول المأمور به غير ما أريد منهم من الجواب وإن كان مستلزما له إذ ليس المسئول عنه من يبدأ الخلق ثم يعيده كما في قوله سبحانه: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ [الرعد: 16] حتى يكون القول المأمور به عين الجواب الذي أريد منهم ويكون صلّى الله عليه وسلم نائبا عنهم في ذلك بل إنما هو وجود من يفعل البدء والإعادة من شركائهم فالجواب المطلوب منهم لا غير. نعم أمر صلّى الله عليه وسلم بأن يضمنه مقالته إيذانا بتعينه وتحتمه وإشعارا بأنهم لا يجترؤون على التصريح به مخافة التبكيت والقام الحجر لا مكابرة ولجاجا انتهى، وقد يقال: المراد من قوله سبحانه: هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ إلخ هل المبدئ المعيد الله أم الشركاء، والمراد من قوله سبحانه جل شأنه: اللَّهُ إلخ الله يبدأ ويعيد لا غيره من الشركاء وحينئذ ينتظم السؤال والجواب وانفهام الحصر بدلالة الفحوى فإنك إذا قلت: من يهب الألوف زيد أم عمرو فقيل: زيد يهب الألوف أفاد الحصر بلا شبهة. وبما ذكر يعلم ما في الكلام السابق في الرد على ما قاله الجمع وكذا رد ما قاله القطب من أن هذا لا يصلح جوابا عن ذلك السؤال لأن السؤال عن الشركاء وهذا الكلام في الله تعالى بل هو استدلال على إلهيته تعالى وإنه الذي يستحق العبادة بأنه المبدئ المعيد بعد الاستدلال على نفي إلهية الشركاء فتأمل، وفي إعادة الجملة في الجواب بتمامها غير محذوفة الخبر كما في الجواب السابق لمزيد التأكيد والتحقيق فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ الإفك الصرف والقلب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 106 عن الشيء يقال: أفكه عن الشيء يأفكه إفكا إذا قلبه عنه وصرفه، ومنه قول عروة بن أذينة: إن تك عن أحسن الصنيعة مأ ... فوكا ففي آخرين قد أفكوا وقد يخص كما في القاموس بالقلب عن الرأي ولعله الأنسب بالمقام أي كيف تقلبون من الحق إلى الباطل والكلام فيه كما تقدم في فَأَنَّى تُصْرَفُونَ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ احتجاج آخر على ما ذكر جيء به إلزاما غب إلزام وإفحاما إثر إفحام. وفصله إيذانا بفضله واستقلاله في إثبات المطلوب كما في سابقه. والمراد هل من يهدي إلى الحق بإعطاء العقل وبعثة الرسل وإنزال الكتب والتوفيق إلى النظر والتدبر بما نصب في الآفاق والأنفس إلى غير ذلك الله سبحانه أم الشركاء؟. ومنهم من يبقي الكلام على ما يتبادر منه كما سمعت فيما قبل، ومن الناس من خصص طريق الهداية، والتعميم أوفق بما يقتضيه المقام من كمال التبكيت والإلزام كما لا يخفى قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أي هو سبحانه يهدي له دون غيره جل شأنه، والكلام في الأمر على طرز ما سبق، وفعل الهداية يتعدى إلى اثنين ثانيهما بواسطة وهي إلى أو اللام وقد يتعدى لهما بنفسه وهو لغة على ما قيل كاستعماله قاصرا بمعنى اهتدى، والمبرد أنكر هذا حيث قال: إن هدى بمعنى اهتدى لا يعرف لكن لم يتابعه على ذلك الحفاظ كالفراء وغيره، وقد جمع هنا بين صلتيه إلى واللام تفننا وإشارة بإلى إلى معنى الانتهاء وباللام للدلالة على أن المنتهى غاية للهداية وأنها لم تتوجه إليه على سبيل الاتفاق بل على قصد من الفعل وجعله ثمرة له ولذلك عدي بها ما أسند إليه سبحانه كما ترى، وأما قوله تعالى: أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ فالمقصود به التعميم وإن كان الفاعل في الواقع هو الله جل شأنه. وقيل: اللام هنا للاختصاص والجمهور على الأول، والمفعول محذوف في المواضع الثلاثة، وجواز اللزوم في الأول مما لا يلتفت إليه، ويقدر فيها على طرز واحد كالشخص ونحوه، وقيل: التقدير قل هل من شركائكم من يهدي غيره إلى الحق قل الله يهدي من يشاء إلى الحق أفمن يهدي غيره إلى الحق أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال وهي قراءة يعقوب وحفص، وأصله يهتدي وكسر الهاء لالتقاء الساكنين. وقرأ حماد ويحيى عن أبي بكر عن عاصم بكسر الياء والهاء والتشديد وكسرت الياء اتباعا للهاء، وكان سيبويه يرى جواز كسر حرف المضارعة لغة إلا الياء لثقل الكسرة عليها وهذه القراءة حجة عليه. وقرأ ابن كثير وورش عن نافع وابن عامر بفتح الياء والهاء والتشديد والأصل يهتدي فنقلت فتحة التاء إلى الهاء قبلها ثم قلبت دالا لقرب مخرجهما وأدغمت فيها. وقرأ أبو عمرو وقالوا عن نافع كذلك لكنه اختلس فتحة الهاء تنبيها على أن الحركة فيها عارضة، وفي بعض الطرق عن أبي عمرو أنه قرأ بالإدغام المجرد عن نقل الحركة إلى ما قبلها أو التحريك بالكسر لالتقاء الساكنين. واستشكل ذلك بأن فيه الجمع بين الساكنين ولذا قال المبرد: من رام هذا لا بد أن يحرك حركة خفيفة قال ابن النحاس إذ بدونه لا يمكن النطق، وذكر القاضي أنه لم يبال بالتقاء الساكنين لأن المدغم في حكم المتحرك، وأنكر بعضهم هذه القراءة وادعى أنه إنما قرأ بالاختلاس، والحق أنه قرأ بهما وروي ذلك عن نافع أيضا وتفصيله في لطائف الإشارات والطيبة. وقرأ حمزة والكسائي «يهدي» كيرمي، وهو إما لازم بمعنى يهتدي كما هو أحد استعمالات فعل الهداية على المعول عليه كما علمت آنفا أو متعد أي لا يهدي غيره، ورجح هذا بأنه الأوفق بما قبل فإن المفهوم منه نفي الهداية لا الاهتداء، وقد يرجع الأول بأن فيه توافق القراءات معنى وتوافقها خير من تخالفها، وإنما نفي الاهتداء مع أن المفهوم مما سبق نفي الهداية كما ذكر لما أن نفيها مستتبع لنفيه غالبا فإن من اهتدى إلى الحق لا يخلو عن هداية غيره في الجملة وأدناها كونه قدوة له بأن يراه فيسلك مسلكه، والفاء لترتيب الاستفهام على ما سبق كأنه قيل: إذا كان الأمر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 107 كذلك فأنا أسألكم أمن يهدي إلى الحق إلخ. والمقصود من ذلك الإلزام، والهمزة على هذا متأخرة في الاعتبار وإنما قدمت في الذكر لإظهار عراقتها في اقتضاء الصدارة كما هو المشهور عند الجمهور. وصيغة التفضيل إما على حقيقتها والمفضل عليه محذوف كما اختاره مكي والتقدير أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع ممن لا يهدي أم من لا يهدي أحق، وإما بمعنى حقيق كما اختاره أبو حيان، وهو خبر عن الموصول، والفصل بالخبر بين أم وما عطفت عليه هو الأفصح كما قال السمين، وقد لا يفصل كما في قوله سبحانه: أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ [الأنبياء: 109] والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير، وأَنْ يُتَّبَعَ في حيز النصب أو الجر بعد حذف الجار على الخلاف المعروف في مثله أو بأن يتبع إِلَّا أَنْ يُهْدى استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا يهتدي أو لا يهدي غيره في حال من الأحوال إلا حال هدايته تعالى له إلى الاهتداء أو إلى هداية الغير، وهذا على ما قاله جمع حال أشراف شركائهم كالمسيح وعزير والملائكة عليهم السلام دون الأوثان لأن الاهتداء الذي هو قبول الهداية وهداية الغير مختصان بذوي العلم فلا يتصور فيها. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وغيرهما أن المراد الأوثان، ووجه ذلك بأنه جار على تنزيلهم لها منزلة ذوي العلم، وقيل: المعنى أم من لا يهتدي من الأوثان إلى مكان فينقل إليه إلا أن ينقل إليه أو إلا أن ينقله الله تعالى من حاله إلى أن يجعله حيوانا مكلفا فيهديه وهو من قولك: هديت المرأة إلى زوجها وقد هديت إليه وقيل: الآية الأولى قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ في الأصنام أو فيما يعمهم ونحو الملائكة عليهم السلام وهذه في رؤساء الضلالة كالأحبار والرهبان الذين اتخذوا أربابا من دون الله وليس بالبعيد فيما أرى، ويؤيده التعبير بالاتباع فإنه يقتضي العمل بأوامرهم والاجتناب عن نواهيهم وهذا لا يعقل في الأوثان إلا بتكلف، وهو وإن عقل في أشراف شركائهم لكنهم لا يدعون إلا إلى خير واتباعهم في ذلك لا ينعي على أحدهم اللهم إلا أن يقال: إن المشركين تقولوا عليهم أوامر ونواهي فنعى عليهم اتباعهم لهم في ذلك، وعير بالاتباع ولم يعبر بالعبادة بأن يقال: أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يعبد أم من لا يهدي إلا أن يهدي مع أن الآية متضمنة إبطال صحة عبادتهم من حيث إنهم لا يهدون وأدنى مراتب العبودية هداية المعبود لعبدته إلى ما فيه صلاح أمرهم مبالغة في تفظيع حال عبادتهم لأنه إذا لم يحسن الاتباع لم تحسن العبادة بالطريق الأولى وإذا قبح حال ذاك فحال هذه أقبح والله تعالى أعلم. وقرىء إلا أن «يهدّى» مجهولا مشددا دلالة على المبالغة في الهداية فَما لَكُمْ أي أي شيء لكم في اتخاذ هؤلاء العاجزين شركاء لله سبحانه وتعالى، والكلام مبتدأ وخبر والاستفهام للإنكار والتعجب. وعن بعض النحاة أن مثل هذا التركيب لا يتم بدون حال بعده نحو قوله تعالى: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ [المدثر: 49] لعل الحال هنا محذوف لظهوره كأنه قيل: فما لكم متخذين هؤلاء شركاء ولا يصح أن يكون قوله عز وجل كَيْفَ تَحْكُمُونَ في موضع الحال لأن الجملة الاستفهامية لا تقع حالا بل هو استفهام آخر للإنكار التعجب أيضا أي كيف تحكمون بالباطل الذي يأباه صريح العقل ويحكم ببطلانه من اتخاذ الشركاء لله جل وعلا، والفاء لترتيب الإنكار على ما ظهر من وجوب اتباع الهادي وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا كلام مبتدأ غير داخل في حيز الأمر مسوق من جهته تعالى لبيان سوء إدراكهم وعدم فهمهم لمضمون ما أفحمهم من البراهين النيرة الموجبة للتوحيد أي ما يتبع أكثرهم في معتقداتهم ومحاوراتهم إلا ظنا واهيا مستندا إلى خيالات فارغة وأقيسة باطلة كقياس الغائب على الشاهد وقياس الخالق على المخلوق بأدنى مشاركة موهومة ولا يتلفتون إلى فرد من أفراد العلم فضلا عن أن يسلكوا مسالك الأدلة الصحيحة الهادية إلى الحق فيفهموا مضمونها ويقفوا على صحتها وبطلان ما يخالفها، فالمراد بالاتباع مطلق الانقياد الشامل لما يقارن القبول والانقياد وما لا يقارنه وبالقصر ما أشير إليه من أن لا يكون لهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 108 في أثنائه اتباع لفرد من أفراد العلم والتفات إليه. وتنكير ظَنًّا للنوعية. وفي تخصيص هذا الاتباع بالأكثر الإشارة إلى أن منهم من قد يتبع فيقف على حقية التوحيد لكن لا يقبله مكابرة وعنادا، ومقتضى ما ذكروه في وجه أمره صلّى الله عليه وسلم بأن ينوب عنهم في الجواب من أنه الإشارة إلى أن لجاجهم وعنادهم يمنعهم من الاعتراف بذلك أن فيهم من علم وكان معاندا، ولعل النيابة حينئذ عن الجميع باعتبار هذا البعض، وجوز أن يكون المعنى ما يتبع أكثرهم مدة عمره إلا ظنا ولا يتركونه أبدا، فإن حرف النفي الداخل على المضارع يفيد استمرار النفي بحسب المقام فالمراد بالاتباع هو الإذعان والانقياد والقصر باعتبار الزمان، وفي التخصيص تلويح بما سيكون من بعضهم من اتباع الحق والتوبة، وقيل: المعنى وما يتبع أكثرهم في إقرارهم بالله تعالى إلا ظنا لأنه قول غير مستند إلى برهان عندهم، وقيل: المعنى وما يتبع أكثرهم في قولهم للأصنام أنها آلهة وأنها شفعاء عند الله إلا الظن، والأكثر بمعنى الجميع وهذا كما ورد القليل بمعنى العدم في قوله تعالى: فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ [البقرة: 88] وفي قوله: قليل التشكي في المصيبات حافظ ... من اليوم أعقاب الأحاديث في غد وحمل النقيض على النقيض حسن وطريقة مسلوكة، ولا يخفى أنه لا يتعين على هذين القولين حمل الأكثر على الجميع بل يمكن حمله على ما يتبادر منه أيضا، ومن الناس من جعل ضمير أَكْثَرُهُمْ للناس وحينئذ يجب الحمل على المتبادر بلا كلفة إِنَّ الظَّنَّ مطلقا لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً فكيف الظن الفاسد والمراد من الحق العلم والاعتقاد الصحيح المطابق للواقع، والجار متعلق بما قبله وشَيْئاً نصب على أنه مفعول مطلق أي إغناء ما، ويجوز أن يكون مفعولا به والجار والمجرور في موضع الحال منه، والجملة استئناف لبيان شأن الظن وبطلانه، وفيه دليل لمن قال: إن تحصيل العلم في الاعتقاديات واجب وإن إيمان المقلد غير صحيح، وإنما لم يؤخذ عاما للعمليات لقيام الدليل على صحة التقليد والاكتفاء بالظن فيها كما قرر في موضعه. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ وعيد لهم على أفعالهم القبيحة ويندرج فيها ما حكي عنهم من الإعراض عن البراهين القاطعة واتباع الظنون الفاسدة اندراجا أوليا. وقرىء «تفعلون» بالالتفات إلى الخطاب لتشديد الوعيد. وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ شروع في بيان حالهم من القرآن إثر بيان حالهم مع الأدلة المندرجة في تضاعيفه أو استئناف لبيان ما يجب اتباعه والبرهان عليه غب المنع مع اتباع الظن، وقيل: إنه متعلق بما قصه الله تعالى من قولهم: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا [يونس: 15] وقيل: بقوله سبحانه: وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [يونس: 20] إلخ ولا يخفى ما في ذلك من البعد وكانَ هنا ناقصة عند كثير من الكاملين وهذَا اسمها والْقُرْآنُ نعت له أو عطف بيان وأَنْ يُفْتَرى بتأويل المصدر أي افتراء خبر كانَ وهو في تأويل المفعول أي مفترى كما ذكره ابن هشام في قاعدة أن اللفظ قد يكون على تقدير وذلك المقدر على تقدير آخر، ومنه قوله: لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى وذهب بعض المعربين أن ما كانَ بمعنى ما صح وأن في الكلام لا ما مقدرة لتأكيد النفي، والأصل ما كان هذا القرآن لأن يفتري كقوله تعالى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التوبة: 122] وأَنْ يُفْتَرى خبر كان ومِنْ دُونِ اللَّهِ خبر ثان وهو بيان للأول، أي ما صح ولا استقام أن يكون هذا القرآن المشحون بفنون الهدايات المستوجبة للاتباع التي من جملتها هاتيك الحجج البينة الناطقة بحقية التوحيد وبطلان الشرك صادرا من غير الله تعالى كيف كان، وقيل عليه ما قيل لكنه لا ينبغي العدول عما قاله في محل مِنْ دُونِ اللَّهِ وما ذكر في حاصل المعنى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 109 أمر مقبول كما لا يخفى، وجوز البدر الدماميني أن تكون كانَ تامة وأَنْ يُفْتَرى بدل اشتمال من هذَا الْقُرْآنُ وتعقب بأنه لا يحسن قطعا لأن ما وجد القرآن يوهم من أول الأمر نفي وجوده وأيضا لا بد من الملابسة بين البدل والمبدل منه في بدل الاشتمال فيلزم أن يبتنى الكلام على الملابسة بين القرآن العظيم والافتراء وفي التزام كل ما ترى، وأجيب عن ذلك بما لا أراه مثبتا للحسن أصلا، واقتصر بعضهم على اعتبار المصدر من غير تأويله باسم المفعول اعتبارا للمبالغة على حد ما قيل في زيد عدل، والظاهر عندي أن المبالغة حينئذ راجعة إلى النفي نظير ما قيل في قوله تعالى: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] لا أن النفي راجع إلى المبالغة كما لا يخفى، ومن هنا يعلم ما في قول بعض المحققين: إن قول الزمخشري في بيان معنى الآية: وما صح وما استقام وكان محالا أن يكون مثله في علو أمره وإعجازه مفترى ربما يشعر بأنه على حذف اللام إذ مجرد توسيط- كان- لا يفيد ذلك والتعبير بالمصدر لا تعلق له بتأكيد معنى النفي من النظر، ثم إنهم فيما رأينا لم يعتبروا المصدر هنا إلا نكرة والمشهور اتفاق النحاة على أن أن والفعل المؤول بالمصدر معرفة ولذلك لا يخبر به عن النكرة، وكأنه مبني على ما قاله ابن جني في الخاطريات من أنه يكون نكرة وذكر أنه عرضه على أبي علي فارتضاه. واستشكل بعضهم هذه الآية بأن أن تخلص المضارع للاستقبال كما نص على ذلك النحويون، والمشركون إنما زعموا كون القرآن مفترى في الزمان الماضي كما يدل عليه ما يأتي إن شاء الله تعالى فكيف ينبغي كونه مفترى في الزمان المستقبل. وأجيب عنه بأن الفعل فيها مستعمل في مطلق الزمان وقد نص على جواز ذلك في الفعل ابن الحاجب. وغيره ونقله البدر الدماميني في شرحه لمغني اللبيب، ولعل ذلك من باب المجاز، وحينئذ يمكن أن يكون نكتة العدول عن المصدر الصريح مع أنه المستعمل في كلامهم عند عدم ملاحظة أحد الأزمنة نحو أعجبني قيامك أن المجاز أبلغ من الحقيقة، وقيل: لعل النكتة في ذلك استقامة الحمل بدون تأويل للفرق بين المصدر الصريح والمؤول على ما أشار إليه شارح اللباب. وغيره، ولا يخفى أن فيه مخالفة لما مرت الإشارة إليه من أن أن والفعل في تأويل المصدر وهو في تأويل المفعول قيل: وقد يجاب أيضا عن أصل الإشكال بأنه إنما نفي في الماضي إمكان تعلق الافتراء به في المستقبل وكونه محلا لذلك فينتفي تعلق الافتراء به بالفعل من باب أولى، وفي ذلك سلوك طريق البرهان فيكون في الكلام مجاز أصلي أو تبعي، وقد نص أبو البقاء على جواز كون الخبر محذوفا وأن التقدير وما كان هذا القرآن ممكنا أن يفترى، وقال العلامة ابن حجر: إن الآية جواب عن قولهم: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ [يونس: 15] وهو طلب للافتراء في المستقبل، وأما الجواب عن زعمهم أنه عليه الصلاة والسلام افتراه وحاشاه فسيأتي عند حكاية زعمهم ذلك فلا إشكال، على أن عموم تخليص أن المضارع للاستقبال في حيز المنع، لم لا يجوز أن يكون ذلك فيما عدا خبر كان المنفية كما يرشد إليه قوله سبحانه: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة: 113] فإنه نزل عن استغفار سبق منهم للمشركين كما قاله أئمة التفسير، وقد أطال الكلام على ذلك في ذيل فتاويه فتبصر. وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي من الكتب الإلهية كالتوراة والإنجيل، فالمراد من الموصول الجنس، وعنى بالتصديق بيان الصدق وهو مطابقة الواقع وإظهاره وإضافته إما لفاعله أو مفعوله، وتصديق الكتب له بأن ما فيه من العقائد الحقة مطابق لما فيها وهي مسلمة عند أهل الكتاب وما عداهم إن اعترف بها وإلا فلا عبرة به. وفي جعل الإضافة للمفعول مبالغة في نفي الافتراء عنه لأنه ما يثبت ويظهر به صدق غيره فهو أولى بالصدق، ووجه كونه مصدقا لها أنه دال على نزولها من عند الله تعالى ومشتمل على قصص الأولين حسبما ذكر فيها وهو معجز دونها فهو الصالح لأن يكون حجة وبرهانا لغيره لا بالعكس، وزعم بعضهم أن المراد من الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أخبار الجزء: 6 ¦ الصفحة: 110 الغيوب والإضافة للفاعل، وتصديقها له مجيئها على وفق ما أخبر به وليس بشيء، ونصب- التصديق- على العطف على خبر- كان- أو على أنه خبر لكان مقدرة، وقيل: على أنه مفعول لأجله لفعل مقدر أي أنزل لتصديق ذلك، وجعل العلة هنا ما ذكر مع أنه أنزل لأمور لأنه المناسب لمقام رد دعوى افترائه، وقيل: نصب على المصدرية لفعل مقدر أي يصدق تصديق إلخ، وقرأ عيسى بن عمرو الثقفي برفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ولكن هو تصديق إلخ وكذا قرأ بالرفع في قوله تعالى: وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ أي ما كتب وأثبت من الحقائق والشرائع، والعطف نصبا أو رفعا على تَصْدِيقَ وقوله سبحانه: لا رَيْبَ فِيهِ خبر آخر للكن أو للمبتدأ المقدر، وفصل لأنه جملة مؤكدة لما قبلها، وجوز أن يكون حالا من الكتاب وإن كان مضافا إليه فإنه مفعول في المعنى وأن يكون استئنافا نحويا لا محل له من الإعراب أو بيانيا جوابا للسؤال عن حال الكتاب والأول أظهر، والمعنى لا ينبغي لعاقل أن يرتاب فيه لوضوح برهانه وعلو شأنه مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ خبر آخر لكان أو المبتدأ المقدر كما مر في سابقه أو متعلق بتصديق أو بتفصيل أو بالفعل المعلل بهما أو متعلق بمحذوف وقع حالا من الكتاب ولا رَيْبَ فِيهِ اعتراض لئلا يلزم الفصل بالأجنبي بين المتعلق والمتعلق أو الحال وذيها. وجوز أن يكون حالا من الضمير المجرور في فِيهِ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أم منقطعة وهي مقدرة ببل والهمزة عند سيبويه والجمهور أي بل أيقولون، وبل انتقالية والهمزة لإنكار الواقع واستبعاده أي ما كان ينبغي ذلك، وجوز أن تكون للتقرير لإلزام الحجة والمعنيان على ما قيل متقاربان، وقيل: إن أم متصلة ومعادلها مقدر أي أتقرون به أم تقولون افتراه، وقيل: هي استفهامية بمعنى الهمزة، وقيل: عاطفة بمعنى الواو والصحيح الأول، وأيّا ما كان فالضمير المستتر للنبي صلّى الله عليه وسلم وإن لم يذكر لأنه معلوم من السياق قُلْ تبكيتا لهم وإظهارا لبطلان مقالتهم الفاسدة إن كان الأمر كما تقولون فَأْتُوا بِسُورَةٍ طويلة كانت أو قصيرة مِثْلِهِ في البلاغة وحسن الارتباط وجزالة المعنى على وجه الافتراء، وحاصله على ما قيل: إن كان ذاك افتراء مني فافتروا سورة مثله فإنكم مثلي في العربية والفصاحة وأشد تمرنا واعتيادا في النظم والنثر، وعلى هذا فالمراد بإتيان المخاطبين بذلك إنشاؤهم له والتكلم به من عند أنفسهم لا ما يعم ذلك وإيراده من كلام الغير ممن تقدم، وجوز أن يكون المراد ما ذكر ولعله السر في العدول عن قولوا سورة مثله مثلا إلى ما في النظم الكريم، أي إن كان الأمر كما زعمتم فأتوا من عند أنفسكم أو ممن تقدمكم من فصحاء العرب وبلغائها كامرىء القيس وزهير وأضرابهما بسورة مماثلة له في صفاته الجليلة فحيث عجزتم عن ذلك مع شدة تمرنكم ولم يوجد في كلام أولئك وهم الذين نصبت لهم المنابر في عكاظ الفصاحة والبلاغة وبهم دارت رحا النظم والنثر وتصرمت أيامهم في الإنشاء والإنشاد دل على أنه ليس من كلام البشر بل هو من كلام خالق القوى والقدر. وقرىء بِسُورَةٍ مِثْلِهِ على الإضافة أي بسورة كتاب مثله وَادْعُوا للمعاونة والمظاهرة. مَنِ اسْتَطَعْتُمْ دعاءه والاستعانة به من آلهتكم التي تزعمون إنها ممدة لكم في المهمات والملمات والمداراة الذين تلجئون إليهم في كل ما تأتون وتذرون مِنْ دُونِ اللَّهِ متعلق بادعوا كما قيل ومَنِ ابتدائية على معنى أن الدعاء مبتدأ من غيره تعالى لا ملابسة له معه جل شأنه بوجه، وجوز أن يكون متعلقا بما عنده ومن بيانية أي ادعوا من استطعتم من خلقه ولا يخلو عن حسن. وفائدة هذا القيد قيل: التنصيص على براءتهم منه تعالى وكونهم في عدوة المضادة والمشاقة، وليس المراد به إفادة استبداده تعالى بالقدرة على ما كلفوه فإن ذلك مما يوهم أنهم لو دعوه لأجابهم إليه، وقد يقال: لا بأس بإفادة ذلك لأن الاستبداد المذكور مما يؤيد المقصود وهو كون ما أتى به صلّى الله عليه وسلم لم يكن من عند نفسه بل هو منه تعالى، والإيهام مما لا يلتفت إليه فإن دعاءهم إياه تعالى بمعنى طلبهم منه سبحانه وتعالى أن يأتي بما كلفوه مستبدا به مما لا يكاد يتصور لأنه ينافي زعمهم السابق كما لا يخفى فتأمل إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أني افتريته فإن ذلك مستلزم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 111 لإمكان الإتيان بمثله وهو أيضا مستلزم لقدرتكم عليه وجواب إِنْ محذوف لدلالة المذكور عليه، وفي هذه الآية دلالة على إعجاز القرآن لأنه عليه الصلاة والسلام تحدى مصاقع العرب بسورة ما منه فلم يأتوا بذلك وإلا لنقل إلينا لتوفر الدواعي إلى نقله. وزعم بعض الملاحدة أنه لا يلزم من عجزهم عن الإتيان بذلك كونه من عند الله تعالى قطعا فإنه قد يتفق في الشخص خصوصية لا توجد في غيره فيحتمل أنه صلّى الله عليه وسلم كان مخصوصا بهذه المرتبة من الفصاحة والبلاغة ممتازا بها عن سائر العرب فأتى بما أتى دونهم، وقد جاء من بعض الطرق أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «أنا أفصح العرب بيد أني من قريش» وأجيب بأنه صلّى الله عليه وسلم وإن كان في أقصى الغايات من الفصاحة حتى كأن الله تعالى شأنه وعزت قدرته محض اللسان العربي وألقى زبدته على لسانه صلّى الله عليه وسلم فما من خطيب يقاومه إلا نكص متفكك الرجل وما من مصقع يناهزه إلا رجع فارغ السجل إلا أن كلامه صلّى الله عليه وسلم لا يشبه ما جاء به من القرآن وكلام شخص واحد متشابه كما لا يخفى على ذوي الأذواق الواقفين على كلام البلغاء قديما وحديثا. وتعقب بأنه لا يدفع ذلك الزعم لما فيه ظاهرا من تسليم كون كلامه عليه الصلاة والسلام معجزا لا تستطاع معارضته وحينئذ العجز عن معارضة القرآن يجعله دائرا بين كونه كلامه تعالى وكونه كلامه صلّى الله عليه وسلم ولا يثبت كونه كلام الله عز وجل إلا بضم امتيازه على كلامه صلّى الله عليه وسلم والزاعم لم يدع إلا عدم لزوم كونه من عند الله تعالى قطعا من عجزهم عن الإتيان بذلك، وأيضا ينافي هذا التسليم ما تقدم في بيان حاصل فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ حيث علل بأنكم مثلي في العربية والفصاحة إلخ، ومن هنا قيل: الأوجه في الجواب أن يلتزم عدم إعجاز كلامه صلّى الله عليه وسلم مع كونه عليه الصلاة والسلام أفصح العرب ولا منافاة بينهما كما لا يخفى على المتأمل. وأطال بعضهم الكلام في هذا المقام، وبعض أدرج مسألة خلق الأفعال في البين وجعل مدار الجواب مذهب الأشعري فيها ولعل الأمر غني عن الإطالة عند من انجاب عن عين بصيرته الغين بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ قيل: هو إضراب وانتقال عن إظهار بطلان ما قالوا في حق القرآن العظيم بالتحدي إلى إظهاره ببيان أنه كلام ناشىء عن عدم علمهم بكنه أمره والاطلاع على شأنه الجليل فما عبارة عن القرآن وهو المروي عن الحسن وعليه محققو المفسرين، وقيل: هي عبارة عما ذكر فيه مما يخالف دينهم كالتوحيد والبعث والجزاء وليس بذاك سواء كانت الباء للتعدية كما هو المتبادر أم للسببية، والمراد أنهم سارعوا إلى تكذيبه من غير أن يتدبروا ما فيه ويقفوا على ما في تضاعيفه من الشواهد الدالة على كونه كما وصف آنفا ويعلموا أنه ليس مما يمكن أن يؤتى بسورة مثله، والتعبير عنه بهذا العنوان دون أن يقال: بل كذبوا به من غير أن يحيطوا بعلمه أو نحوه للإيذان بكمال جهلهم به وأنهم لم يعلموه إلا بعنوان عدم العلم به وبأن تكذيبهم به إنما هو بسبب عدم إحاطتهم بعلمه لما أن تعليق الحكم بالموصول مشعر بعلية ما في حيز الصلة له، وأصل الكلام بما لم يحيطوا به علما إلا أنه عدل عنه إلى ما في النظم الكريم لأنه أبلغ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ عطف على الصلة أو حال من الموصول أي ولم يقفوا بعد على معانيه الوضعية والعقلية المنبئة عن علو شأنه وسطوع برهانه، فالتأويل نوع من التفسير، والإتيان مجاز عن المعرفة والوقوف، ولعل اختياره للإشعار بأن تلك المعاني متوجهة إلى الأذهان منساقة إليها بنفسها، وجوز أن يراد بالتأويل وقوع مدلوله وهو عاقبته وما يؤول إليه وهو المعنى الحقيقي عند بعض فإتيانه حينئذ مجاز عن تبينه وانكشافه، أي ولم يتبين لهم إلى الآن تأويل ما فيه من الأخبار بالغيوب حتى يظهر أنه صدق أم كذب. والمعنى أن القرآن معجز من جهة النظم والمعنى ومن جهة الإخبار بالغيب وهم فاجؤوا تكذيبه قبل أن يتدبروا نظمه ويتفكروا في معناه أو ينتظروا وقوع ما أخبر به من الأمور المستقبلة، ونفي إتيان التأويل بكلمة لَمَّا الدالة على توقع منفيها بعد نفي الإحاطة بعلمه بكلمة- لم- لتأكيد الذم وتشديد التشنيع فإن الشناعة في تكذيب الشيء قبل علمه المتوقع إتيانه أفحش منها في تكذيبه قبل علمه مطلقا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 112 وادعى بعضهم أن الإضراب عن التكذيب عنادا المدلول عليه بقوله سبحانه: قُلْ فَأْتُوا إلخ فإن الإلزام إنما يأتي بعد ظهور العجز، ومعنى هذا الإضراب ذمهم على التقليد وترك النظر مع التمكن منه وهو أدخل في الذم من العناد من وجه، وذلك لأن التقليد اعتراف من صاحبه بالقصور في الفطنة ثم لا يعذر فيه فلا يرتضي ذو عقل أن يقلد رجلا مثله من غير تقدم عليه بفطنة وتجربة وأما العناد فقد يحمده بعض النفوس الأبية بل في أشعارهم ما يدل على أنهم مفتخرون بذلك كقولهم: فعاند من تطيق له عناد ولا يرد أن العناد لما كان بعد العلم كان أدخل في الذم فلا نسلم أنه أدخل فيه من التقليد بل من الجهل قبل التدبر دون اقتران التقليد به، وإن سلم فهذا أيضا أدخل من وجه، وقد جعل مصب الإنكار على جمعهم بين الأمرين والجمع على كل حال أدخل من التفرد بواحد صح الإضراب فكأنه قيل: دع تحديهم وإلزامهم فإنهم لا يستأهلون الخطاب لأنهم مقلدون متهافتون في الأمر لا عن خبر وحجى. وقد ذكر الزمخشري في هذا المقام ثلاثة أوجه، الوجه الأول أن التقدير أم كذبوا وقالوا هو مفترى بعد العلم بإعجازه عنادا بل كذبوا به قبل أن يأتيهم العلم بوجه إعجازه أيضا فهم مستمرون على التكذيب في الحالين مذمومون به موسومون برذيلتي التقليد والعناد جامعون بينهما بالنسبة إلى وقتين، ووجه ذلك بأن بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ صريح في تكذيبهم قبل العلم بوجه الإعجاز وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ يدل على امتداد هذا التكذيب إلى مجيء التأويل المنتظر بالنسبة إلى تكذيبهم قبل لا بالنسبة إلى زمان الإخبار فإن التأويل أيضا واقع، وحينئذ إما أن يكون التكذيب كونه واردا ذما لهم بالتسرع إلى التكذيب الذي هو منطوق النص فيجب أن يكون العطف على قوله سبحانه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ويكون ذلك لبيان أنهم كذبوا عن علم وهذا لبيان تكذيبهم قبله أيضا ويكون الجهتان منظورتين وأنهم مذمومون فيهما. والحاصل أن أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ لا مرية فيه أنه تكذيب بعد العلم لمكان الأمر بعده. لكن لما جعل التوقع المفاد بلما لعلم الإعجاز لزم أن يكون بالنسبة إلى حالهم الأولى وهو التكذيب قبل العلم فإن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يتوقع زواله بالعلم ويكون معنى المبالغة في لَمَّا الإشعار باستغراق الوقت للتكذيب إلى زمان التأويل المنتظر الواقع الذي كذبوا فيه عنادا وبغيا. الوجه الثاني حمل التأويل على المعنى الثاني الذي ذكرناه، والمعنى بل سارعوا إلى التكذيب قبل الإحاطة بعلمه ليعرفوا إعجاز نظمه، وقيل: إتيان التأويل المنتظر وهو ما يؤول إليه من الصدق في الأخبار بالمغيبات، والمقصود من هذا ذمهم بالتسارع إلى التكذيب من الوجهين لكن لما كان مع الوجهين علم ما يتضمنه لو يدبروا لم يكن فيه شيء منتظر والثاني لما لم يكن كذلك كان فيه أمر منتظر، وأتى بحرف التوقع دليلا عن أن هذا المنتظر كائن وسيظهر أنهم مبطلون فيه أيضا كالأول ولا نظر إلى أنهم مذمومون حالتي العناد والتقليد بل المقصود كمال إظهار الإلزام بأنه مفروغ عنه مع أمثالهم للتهافت المذكور. الوجه الثالث أن أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ذم لطائفة كذبوا عن علم وهذا ذم لأخرى كذبت عن شك ولما وجد فيما بينهم القسمان أسند الكل إلى الكل وليس بدعا في القرآن، والغرض من الإضراب تعميم التكذيب وأنه كان الواجب على الشاك التوقف لا التسرع إلى التكذيب ومعنى التوقع أنه سيزول شكهم فسيعلم بعضهم ويبقى بعض على ما هو عليه، والآية ساكتة عن التفصيل ناطقة بزوال الشك ولا خفاء أن الشاك ينتظر وكذلك كان صلّى الله عليه وسلم يتوقع زوال شكهم انتهى، ولا يخفى أن ما نقلنا أولا أولى بالقبول عند ذوي العقول. وأورد على دعوى أن أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ تكذيب بعد العلم أنها ناشئة من عدم العلم وما سيق لإثباتها في حيز الجزء: 6 ¦ الصفحة: 113 المنع فإن الإلزام بعد التحدي وذلك القول قبله، وكونه مسبوقا بالتحدي الوارد في سورة البقرة يرده أنها مدنية وهذه مكية. نعم ربما يقال في الاستدلال على كون ذلك القول بعد العلم بوقوع حكايته في النظم الكريم بعد حكاية الإشارة إلى مضمونه بقوله تعالى: قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ [يونس: 15] ورده بما سمعته هناك حسبما قرره الجمهور، وبيان ذلك أنهم نقل عنهم أولا الإشارة إلى نسبة الافتراء إلى سيد الصادقين صلّى الله عليه وسلم ثم نقل عنهم التصريح بذلك، والظاهر أن الأمر حسبما نقل لكثرة وقوع التصريح بعد الإشارة، وقد تخلل رد ما أشاروا إليه في البين فيحتمل أنهم عقلوه وعلموا الحق لكنهم لم يقروا به عنادا وبغيا فصرحوا بما صرحوا فيكون ذلك منهم بعد العلم ولترقيهم من الإشارة إلى التصريح ترقي في إلزامهم فإن هذا التحدي أظهر في الإلزام مما تقدم كما هو ظاهر، لكن للمناقشة في هذا مجال، ويخطر بالبال أنه يحتمل أن يكون الإضراب عن ذمهم بالتكذيب بالقرآن إلى ذمهم بالمسارعة إلى تكذيب ما لم يحيطوا به علما وأن الوقوف على العلم به متوقع سواء كان قرآنا أو غيره- فما- عامة للأمرين ويدخل القرآن في العموم دخولا أوليا ولعله أولى مما قيل: إنه إضراب عن مقدر وينبغي أن تسمى- بل- هذه فصيحة فإن المعنى فما أجابوا أو ما قدروا أن يأتوا بل كذبوا إلخ كَذلِكَ أي مثل تكذيبهم من غير تدبر وتأمل كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي فعلوا التكذيب أو كذبوا أنبياءهم فيما أتوا به فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ خطاب لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكون عاما لكل من يصلح له، والمراد بالظالمين الذين من قبلهم، ووضع المظهر موضع المضمر للإيذان بكون التكذيب ظلما وبعليته لإصابة ما أصابهم من سوء العاقبة وبدخول هؤلاء الذين حكي عنهم ما حكي في زمرتهم جرما ووعيدا دخولا أوليا، والفاء لترتيب ما بعدها على محذوف ينساق إليه الكلام أي فأهلكناهم فانظر إلخ، وكيف في موضع نصب خبر كان، وقد يتصرف فيها فتوضع موضع المصدر وهو كيفية ويخلع عنها معنى الاستفهام بالكلية، وهي هنا تحتمل ذلك، وكذا قول البخاري رضي الله تعالى عنه:- كيف كان بدء الوحي- كما قال السمين، ونقل عنه أن فعل النظر معلق عن العمل لمكان كيف لأنهم عاملوها في كل موضع معاملة الاستفهام المحض وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وصف لحالهم بعد إتيان التأويل المتوقع كما قيل إذ حينئذ يمكن تنويعهم إلى المؤمن به وغير المؤمن به ضرورة امتناع الإيمان بشيء من غير علم به واشتراك الكل في التكذيب قبل ذلك فالضمير للمكذبين، ومعنى الإيمان به إما الاعتقاد بحقيته فقط أي منهم من يصدق به في نفسه أنه حق عند الإحاطة بعلمه وإتيان تأويله لكنه يعاند ويكابر وإما الإيمان الحقيقي أي منهم من سيؤمن به ويتوب عن الكفر وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ أي لا يصدق به في نفسه كما لا يصدق به ظاهرا لفرط غباوته المانعة عن الإحاطة بعلمه كما ينبغي أو لسخافة عقله واختلال تمييزه وعجزه عن تخليص علومه عن معارضة الظنون والأوهام التي ألفها فيبقى على ما كان عليه من الشك أو لا يؤمن به فيما سيأتي بل يموت على كفره معاندا كان أو شاكا وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ أي بكلا الفريقين على الوجه الأول من التفسير لا بالمعاندين فقط لاشتراكهما في أصل الإفساد المستدعي لاشتراكهما في الوعيد المراد من الكلام أو بالمصرين الباقين على الكفر على الوجه الثاني منه وَإِنْ كَذَّبُوكَ أي أصروا على تكذيبك بعد إلزام الحجة، وأول بذلك لأن أصل التكذيب حاصل فلا يصح فيه الاستقبال المفاد بالشرط، وأيضا جوابه وهو قوله سبحانه: فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ المراد منه التبرؤ والتخلية إنما يناسب الإصرار على التكذيب واليأس من الإجابة، والمعنى لي جزاء عملي ولكم جزاء عملكم كيفما كانا، وتوحيد العمل المضاف إليهم باعتبار الاتحاد النوعي ولمراعاة كمال المقابلة كما قيل، وقوله سبحانه: أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ تأكيد لما أفاده لام الاختصاص من عدم تعدي جزاء العمل إلى غير عامله أي لا تؤاخذون بعملي ولا أؤاخذ بعملكم، وعلى هذا فالآية محكمة غير الجزء: 6 ¦ الصفحة: 114 منسوخة بآية السيف لما أن مدلولها اختصاص كل بأفعاله وثمراتها من الثواب والعقاب وآية السيف لم ترفع ذلك، وعن مقاتل والكلبي وابن زيد أنها منسوخة بها وكأن ذلك لما فهموا منها الإعراض وترك التعرض بشيء، ولعل وجه تقديم حكم المتكلم أولا وتأخيره ثانيا والعكس في حكم المخاطبين ظاهر مما ذكرناه في معنى الآية فافهم. هذا ومن باب الإشارة في الآيات: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا وهو احتجابهم عن قبول صفات الحق وذلك لأنه بتوفر النعم الظاهرة والمرادات الجسمانية يقوي ميل النفس إلى الجهة السفلية فتحتجب عن قبول ذلك كما أنه بأنواع البلاء تنكسر سورة النفس ويتلطف القلب ويحصل الميل إلى الجهة العلوية والتهيؤ لقبول ذلك قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً بإخفاء القهر الحقيقي في هذا اللطف الصوري إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ في ألواح الملكوت هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أي يسير نفوسكم في بر المجاهدات وقلوبكم في بحر المشاهدات، وقيل: يسير عقولكم في بر الأفعال وأرواحكم في بحر الصفات والذات حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ أي فلك العناية الأزلية وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وهي ريح صبا وصاله سبحانه وَفَرِحُوا بِها لإيذانها بذلك وتعطرها بشذا ديار الإنس ومرابع القدس: ألا يا نسيم الريح ما لك كلما ... تقربت منا زاد نشرك طيبا أظن سليمى خبرت بسقامنا ... فأعطتك رياها فجئت طبيبا جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وذلك عاصف القهر وأمواج صفات الجلال، وهذه سنة جارية في العاشقين لا يستمر لهم حال ولا يدون لهم وصال، ولله در من قال: فبتنا على رغم الحسود وبيننا ... شراب كريح المسك شيب به الخمر فوسدتها كفي وبت ضجيعها ... وقلت لليلي طل فقد رقد البدر فلما أضاء الصبح فرق بيننا ... وأي نعيم لا يكدره الدهر وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ أي إنهم من الهالكين في تلك الأمواج دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ بالتبري من غير الله تعالى قائلين لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لك بك فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وهو تجاوزهم عن حد العبودية بسكرهم في جمال الربوبية، وذلك مثل ما عرا الحلاج وأضرابه ثم إنه سبحانه نبههم بعد رجوعهم من السكر إلى الصحو على أن الأمر وراء ذلك بقوله جل وعلا: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أي إنه يرجع إليكم ما ادعيتم لا إليه تعالى فإنه سبحانه الموجود المطلق حتى عن قيد الإطلاق كذا قالوا. وقال ابن عطاء في الآية حتى إذا ركبوا مراكب المعرفة وجرت بهم رياح العناية وطابت نفوسهم وقلوبهم بذلك وفرحوا بتوجههم إلى مقصودهم جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ أفنتهم عن أحوالهم وإرادتهم وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ أي تيقنوا أنهم مأخوذون عنهم ولم يبق لهم ولا عليهم صفة يرجعون إليها وأن الحق خصهم من بين عباده بأن سلبهم عنهم دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حيث صفى سبحانه أسرارهم وطهرها مما سواه فَلَمَّا أَنْجاهُمْ أي ردهم إلى أوصافهم وأشباحهم رجعوا إلى ما عليه عوام الخلق من طلب المعاش للنفوس انتهى. وكأنه حمل البغي على الطلب وضمنه معنى الاشتغال أي يطلبون في الأرض مشتغلين بغير الحق سبحانه وهو المعاش الذي به قوام أبدانهم، ويشكل أمر الوعيد المنبئ به فَنُنَبِّئُكُمْ إلخ على هذا التأويل وما قبله لأن ما يقع في السكر لا وعيد عليه وكذا طلب المعاش، وانظر هل يصح أن يقال: إن الأمر من باب حسنات الأبرار الجزء: 6 ¦ الصفحة: 115 سيئات المقربين؟ ثم إنه سبحانه مثل الحياة في سرعة زوالها وانصرام نعيمها غب إقبالها واغترار صاحبها بها بما أشار إليه سبحانه بقوله جل وعلا: كَماءٍ أَنْزَلْناهُ إلخ وفيه إشارة إلى ما يعرض والعياذ بالله تعالى لمن سبقت شقاوته في الأزل من الحور بعد الكور فبينما تراه وأحواله حالية وأعوامه عن شوائب الكدر خالية وغصون أنسه متدلية ورياض قربه مونقة قلب الدهر له ظهر المجن وغزاه بجيوش المحن وهبت على هاتيك الرياض عاصفات القضاء وضاقت عليه فسيحات الفضاء وذهب السرور والإنس وجعل حصيدا كأن لم يغن بالأمس وأنشد لسان حاله: قف بالديار فهذه آثارهم ... نبكي الأحبة حسرة وتشوقا كم قد وقفت بها أسائل مخبرا ... عن أهلها أو صادقا أو مشفقا فأجابني داعي الهوى في رسمها ... فارقت من تهوى فعز الملتقى وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وهو العالم الروحاني السليم من الآفات وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ لا شعوب فيه وهو طريق الوحدة. وقد يقال: يدعو الجميع إلى داره. ويهدي خواص العارفين إلى وصاله. أو يدعو السالكين إلى الجنة ويبدي المجذوبين إلى المشاهدة لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا وهم خواص الخواص الْحُسْنى وهي رؤية الله تعالى وَزِيادَةٌ وهي دوام الرؤية، أو للذين جاؤوا بما يحسن به حالهم من خير قلبي أو قالبي، المثوبة الحسنى من الكمال الذي يفاض عليهم وزيادة في استعداد قبول الخير إلى ما كانوا عليه قبل، وقد يقال: الحسنى ما يقتضيه قرب النوافل والزيادة ما يقتضيه قرب الفرائض وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أي لا يصيبهم غبار الخجالة ولا ذل الفرقة أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ التي تقتضيها أفعالهم هُمْ فِيها خالِدُونَ ثم ذكر سبحانه حال الذين أساؤوا بقوله جل شأنه: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ إلخ وأشار إلى أنه على عكس حال أولئك الكرام وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً في المجمع الأكبر ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا منهم وهم المحجوبون الواقفون مع الغير بالمحبة والطاعة مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ قفوا جميعا وانتظروا الحكم فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ أي قطعنا الأسباب التي كانت بينهم وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ بل كنتم تعبدون أشياء اخترعتموها في أوهامكم الفاسدة فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ لم نطلبها منكم لا بلسان حال ولا بلسان قال هُنالِكَ أي في ذلك الموقف تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ أي تذوق وتختبر ما أَسْلَفَتْ في الدنيا وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ المتولي لجزائهم بالعدل والقسط وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ من اختراعاتهم وتوهماتهم الكاذبة وأمانيهم الباطلة. ثم ذكر سبحانه مما يدل على التوحيد ما ذكر، والرزق من السماء عند العارفين هو رزق الأرواح ومن الأرض رزق الأشباح، والحي عندهم العارف والميت الجاهل وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ذم لهم بعدم العلم بما يجب لمولاهم وما يمتنع وما يجوز ولا يكاد ينجو من هذا الذم إلا قليل، ومنهم الذين عرفوه جل شأنه به لا بالفكر بل قد يكاد يقصر العلم عليهم فإن أدلة أهل الرسوم من المتكلمين وغيرهم متعارضه وكلماتهم متجاذبة فلا تكاد ترى دليلا سالما من قيل وقال ونزاع وجدال، والوقوف على علم من ذلك مع ذلك أمر أبعد من العيوق وأعز من بيض الأنوق: لقد طفت في تلك المعاهد كلها ... وسرحت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعا كف حائر ... على ذقن أو قارعا سن نادم فمن أراد النجاة فليفعل ما فعل القوم ليحصل له ما حصل لهم أولا فليتبع السلف الصالح فيما كانوا عليه في أمر دينهم غير مكترث بمقالات الفلاسفة ومن حذا حذوهم من المتكلمين التي لا تزيد طالب الحق إلا شكا وَما كانَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 116 هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من اللوح المحفوظ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ الذي هو الأم، أهي كيف يكون مختلقا وقد أثبت قبله في كتابين مفصلا ومجملا بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ذم لهم بالمسارعة إلى تكذيب الحق قبل التأمل والتدبر والاطلاع على الحقيقة وهذه عادة المنكرين أهل الحجاب مع كلمات القوم حيث إنهم يسارعون إلى إنكارها قبل التأمل فيها وتدبر مضامينها والوقوف على الاصطلاحات التي بنيت عليها وكان الحري بهم التثبت والتدبر والله تعالى ولي التوفيق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 117 وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ بيان لكونهم مطبوعا على قلوبهم بحيث لا سبيل إلى إيمانهم ومَنْ مبتدأ خبره مقدم عليه، وهو إما موصول أو نكرة موصوفة والجملة بعده إما صلة أو صفة، وجمع الضمير الراجع إليه رعاية لجانب المعنى كما أفرد فيما بعد رعاية لجانب اللفظ، ولعل ذلك للإيماء إلى كثرة المستمعين بناء على عدم توقف الاستماع على ما يتوقف عليه النظر من الشروط العادية أو العقلية، والمعنى ومن المكذبين الذين أو أناس يصغون إلى القرآن أو إلى كلامك إذا علمت الشرائع وتصل الألفاظ لآذانهم، ولكن لا ينتفعون بها ولا يقبلونها كالصم الذين لا يسمعون أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أي تقدر على أسماعهم وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ أي ولو انضم إلى صممهم عدم عقلهم لأن الأصم العاقل ربما تفرس إذا وصل إلى صماخه دوي وأما إذا اجتمع فقدان السمع والعقل فقد تم الأمر، وإنما جعلوا كالصم الذين لا عقل لهم مع كونهم عقلاء لأن عقولهم قد أصيبت بآفة معارضة الوهم لها وداء متابعة الالف والتقليد، ومن هنا تعذر عليهم فهم معاني القرآن والأحكام الدقيقة وإدراك الحكم الرشيقة الأنيقة فلم ينتفعوا بسرد الألفاظ عليهم غير ما تنتفع به البهائم من كلام الناعق وتقديم المسند إليه في أَفَأَنْتَ للتقوية عند السكاكي وجعله العلامة للتخصيص. ففي تقديم الفاعل المعنوي وإيلائه همزة الإنكار الدلالة على أن نبي الله صلّى الله عليه وسلم تصور في نفسه من حرصه على إيمان القوم أنه قادر على الاسماع أو نزل منزلة من تصور أنه قادر عليه وأنه تعالى شأنه نفى ذلك عنه صلّى الله عليه وسلم وأثبته لنفسه سبحانه على الاختصاص كأنه قيل: أنت لا تقدر على إسماع أولئك بل نحن القادرون عليه كذا قيل وفي القلب منه شيء، ولذا اختير هنا مذهب السكاكي، وجعل إنكار الإسماع متفرعا على المقدمة الاستدراكية المطوية المفهومة من المقام حسبما أشير إليه، وفيه اعتبار كون الهمزة مقدمة من تأخير لاقتضائها الصدارة وهو مذهب لبعضهم. وقيل: إنها في موضعها، وأدخلت الفاء لإنكار ترتب الإسماع على الاستماع لكن لا بطريق العطف على فعله المذكور الواقع صلة أو صفة للزوم اختلال المعنى على ذلك بل بطريق العطف على فعل مثله مفهوم من فحوى النظم غير واقع موقعه كأنه قيل: أيستمعون إليك فأنت تسمعهم، وقد يراد إنكار إمكان وقوع الإسماع عقيب ذلك وترتبه عليه كما ينبىء عنه وضع الصم موضع ضميرهم ووصفهم بعدم العقل، وجواب لَوْ محذوف لدلالة ما قبله عليه، والجملة معطوفة على جملة مقدرة مقابلة لها، والكل في موضع الحال من مفعول الفعل السابق، أي أفأنت تسمع الصم لو كانوا يعقلون ولو كانوا لا يعقلون على معنى أفأنت تسمعهم على كل حال مفروض ويقال- للو- هذه وصلية وذلك أمر مشهور. واستشكل الإتيان بها هنا بأن الأصل فيها أن يكون الحكم على تقدير تحقق مدخولها ثابتا كما أنه ثابت على تقدير عدمه إلا أنه على تقدير عدمه أولى والأمر هنا بالعكس. وأجيب بأن اتصال الوصل بالإثبات جار على المعروف فإن تقديره تسمعهم ولو كانوا لا يعقلون وظاهر أن إسماعهم مع العقل بطريق الأولى، والاستفهام إثبات بحسب الظاهر فإن نظر إليه فذاك وإن نظر إلى الإنكار وأنه نفي بحسب المعنى اعتبر أنه داخل على المجموع بعد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 119 ارتباطه وكذا يقال فيما بعد فتأمل فيه ولا تغفل وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ ويعاين دلائل نبوتك الواضحة ولكن لا يهتدي بها كالأعمى أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ تقدر على هدايتهم وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ أي ولو انضم إلى عدم البصر عدم البصيرة فإن المقصود من الأبصار هو الاعتبار والاستبصار والعمدة في ذلك هي البصيرة ولذلك يحدس الأعمى المستبصر ويتفطن لما لا يدرك البصير الأحمق، فلا يقال: كيف أثبت لهم النظر والأبصار أو لا ونفى عنهم ثانيا. إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ أي لا ينقصهم شَيْئاً مما نيطت به مصالحهم وكمالاتهم من مبادئ الإدراكات وأسباب العلوم والإرشاد إلى الحق بإرسال الرسل عليهم السلام ونصب الأدلة بل يوفيهم ذلك فضلا منه جل شأنه وكرما وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ أي ينقصون ما ينقصون من ذلك لعدم استعمال مشاعرهم فيما خلقت له وإعراضهم عن قبول الحق وتكذيبهم للرسل وترك النظر في الأدلة- فشيئا- مفعول ثان- ليظلم- بناء على أنه مضمن معنى ينقص كما قيل أو أنه بمعناه من غير حاجة إلى القول بالتضمين كما نقول وأن النقص يتعدى لاثنين كما يكون لازما ومتعديا لواحد، ولم يذكر ثاني مفعولي الثاني لعدم تعلق الغرض به، وتقديم المفعول الأول يحتمل أن يكون لمجرد الاهتمام مع مراعاة الفاصلة من غير قصد إلى قصر المظلومية عليهم على رأي من لا يرى التقديم موجبا للقصر كابن الأثير ومن تبعه كما في قوله سبحانه: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [هود: 101] ويحتمل أن يكون لقصر المظلومية على رأي من يرى التقديم موجبا لذلك كالجمهور ومن تبعهم، ولعل إيثار قصرها على قصر الظالمية عليهم للمبالغة في بطلان أفعالهم وسخافة عقولهم على أن قصر الأولى عليهم مستلزم كما قيل لما يقتضيه ظاهر الحال من قصر الثانية عليهم فاكتفى بالقصر الأول عن الثاني مع رعاية ما ذكر من الفائدة. وجوز بعضهم كون أَنْفُسَهُمْ تأكيدا للناس والمفعول حينئذ محذوف فيكون بمنزلة ضمير الفصل في قوله تعالى: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ [الزخرف: 76] في قصر الظالمية عليهم، والتعبير عن فعلهم ذلك بالنقص مع كونه تفويتا بالكلية لمراعاة جانب قرينه، وصيغة المضارع للاستمرار نفيا وإثباتا أما الثاني فظاهر وأما الأول فلأن حرف النفي إذا دخل على المضارع يفيد بحسب المقام استمرار النفي لا نفي الاستمرار كما مر غير مرة. وقيل: المعنى أن الله لا يظلم الناس بتعذيبهم يوم القيامة شيئا من الظلم ولكن الناس أنفسهم يظلمون ظلما مستمرا فإن مباشرتهم المستمرة للسيئات الموجبة للتعذيب عين ظلمهم لأنفسهم فالظلم على معناه المشهور، وشَيْئاً مفعول مطلق والمضارع المنفي للاستقبال والمثبت للاستمرار، ومساق الآية الكريمة على الأول لإلزام الحجة وعلى الثاني للوعيد وعلى الوجهين هي تذييل لما سبق، وجعلها على الأول تذييلا لجميع التكاليف والأقاصيص المذكورة من أول السورة وإن كان متجها خلاف الظاهر لا سيما وما بعد ليس ابتداء مشروع في قصة آخرين. وقيل: معنى الآية أن الله لا يظلم الناس شيئا بسلب حواسهم وعقولهم إن سلبها لأنه تصرف في خالص ملكه ولكن الناس أنفسهم يظلمون بإفساد ذلك وصرفه لما لا يليق، وهي جواب لسؤال نشأ من الآية السابقة والظلم فيها على ظاهره أيضا. واستدل بها على أن للعبد كسبا وليس مسلوب الاختيار بالكلية كما ذهب إليه الجبرية والمختار عند كثير من المحققين أن نفي ظلم الناس عنه تعالى شأنه لأنه سبحانه جواد حكيم يفيض على القوابل حسب استعدادها الأزلي الثابت في العلم فما من كمال أو نقص في العبد إلا هو كماله أو نقصه الذي اقتضاه استعداده كما يرشد إلى ذلك قوله جل وعلا: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ [طه: 50] وقوله سبحانه: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 120 [الشمس: 8] وأن إثبات ظلم الناس لأنفسهم باعتبار اقتضاء استعدادهم الثابت في العلم الأزلي ما أفيض عليهم مما استحقوا به التعذيب. وقد ذكروا أن هذا الاستعداد غير مجعول ضرورة أن الجعل مسبوق بتعلق القدرة المسبوق بتعلق الإرادة المسبوق بتعلق العلم والاستعداد ليس كذلك لأنه لم يثبت العلم إلا وهو متعلق به بل بسائر الأشياء أيضا لأن التعلق بالمعلوم من ضروريات العلم والتعلق بما لا ثبوت له أصلا مما لا يعقل ضرورة أنه نسبة وهي لا تتحقق بدون ثبوت الطرفين، ولا يرد على هذا أنه يلزم منه استغناء الموجودات عن المؤثر لأنا نقول: إن كان المراد استغناءها عن ذلك نظرا إلى الوجود العلمي القديم فالأمر كذلك ولا محذور فيه وإن كان المراد استغناءها عن ذلك نظرا إلى وجودها الخارجي الحادث فلا نسلم اللزوم وتحقيق ذلك بما له وما عليه في محله، وفي الآية على هذا تنبيه على أن كون أولئك المكذبين كما وصفوا إنما نشأ عن اقتضاء استعدادهم له ولذلك ذموا به لا عن محض تقديره عليهم من غير أن يكون منهم طلب له باستعدادهم ولعل تسمية التصرف على خلاف ما يقتضيه الاستعداد لو كان ظلما من باب المجاز وتنزيل المقتضى منزلة الملك وإلا فحقيقة الظلم مما لا يصح إطلاقه على تصرف من تصرفاته تعالى كيف كان إذ لا ملك حقيقة لأحد سواه في شيء من الأشياء، ووضع الظاهر في الجملة الاستدراكية موضع الضمير لزيادة التعيين والتقرير. وقرأ حمزة والكسائي بتخفيف «لكن» ورفع «الناس» وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ بالياء وهي قراءة حمزة على عاصم. وقرأ الباقون بالنون على الالتفات ويَوْمَ عند الأكثرين منصوب بمضمر أي اذكر لهم أو أنذرهم يوم نجمعهم لموقف الحساب كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا أي كأنهم أناس لم يلبسوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ أي شيئا قليلا منه فإنها مثل في غاية القلة وتخصيصها بالنهار لأن ساعات أعرف حالا من ساعاته الليل والجملة في موقع الحال من مفعول يَحْشُرُهُمْ أي نحشرهم مشبهين بمن لم يلبث في الدنيا أو في البرزخ إلا ذلك القدر اليسير، وليس المراد من التشبيه ظاهره على ما قيل، وقد صرح في شرح المفتاح أن التشبيه كثيرا ما يذكر ويراد به معان أخر تترتب عليه، فالمراد إما التأسف على عدم انتفاعهم بأعمارهم أو تمني أن يطول مكثهم قبل ذلك حتى لا يشاهدوا ما شاهدوه من الأهوال فمآل الجملة في الآخرة نحشرهم متأسفين أو متمنين طول مكثهم قبل ذلك، ويجوز أن يراد نحشرهم مشبهين في أحوالهم الظاهرة للناس بمن لم يلبث في الدنيا ولم يتقلب في نعيمها إلا يسيرا فإن من أقام بها دهرا وتمتع بمتاعها لا يخلو عن بعض آثار نعمة وأحكام بهجة منافية لما بهم من رثاثة الهيئة وسوء الحال وإليه ذهب بعضهم، والظاهر أنه تكلف لإبقاء التشبيه على ظاهره والأول أولى كما لا يخفى، وأيا ما كان ففائدة التشبيه كنار على علم، والعجب ممن لم يرها فقال الظاهر إن كَأَنْ للظن، وادعى البعض أن فائدة التقييد على تقدير أن يراد اللبث في البرزخ بيان كمال يسر الحشر بالنسبة إلى قدرته تعالى ولو بعد دهر طويل وإظهار بطلان استبعادهم وإنكارهم بقولهم: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [المؤمنون: 82، الصافات: 16، الواقعة: 47] ونحو ذلك أو بيان تمام الوافقة بين النشأتين في الإشكال والصور فإن قلة اللبث في البرزخ من موجبات عدم التبدل والتغير، ولعل مآل الحال على هذا ويوم نحشرهم على صورهم وأشكالهم غير متغيرين، وجوز أبو علي كون الجملة في موضع الصفة- ليوم- والعائد محذوف تقديره كأن لم يلبثوا قبله أو لمصدر محذوف والعائد كذلك أي حشرا كأن لم يلبثوا قبله، ورد بأن مثل هذا الرابط لا يجوز حذفه والأول بأن المراد بالظرف المضاف وهو الموصوف يوم القيامة وهو يوم معين وتقدير الكلام يوم حشره أو يوم حشرنا فيكون الموصوف معرفة والجمل نكرات ولا تنعت المعرفة بالنكرة. وأجيب بأن المنع من جواز حذف مثل ذلك الرابط في حيز المنع وبأن الجمل التي تضاف إليها أسماء الزمان قد يقدر حلها إلى معرفة فيكون ما أضيف إليها معرفة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 121 وقد يقدر حلها إلى نكرة فيكون ذلك نكرة، ولعل أبا علي يتكلف لاعتبار حلها إلى نكرة ويكون الموصوف هنا نكرة عنده فيرتفع محذور نعت المعرفة بالنكرة. وأنت تعلم أن الجواب إنما يدفع البطلان لا غير فالحق ترجيح الحالية، وقوله سبحانه: يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ أي يعرف بعضهم بعضا كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلا يحتمل أن يكون استئنافا وأن يكون بيانا للجملة التشبيهية واستدلالا عليها كما قيل، وذلك أنه لو طال العهد لم يبق التعارف لأن طول العهد منس مفض إلى التناكر لكن التعارف باق فطول العهد منتف وهو معنى لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً وفيه دغدغة. وزعم أبو البقاء كونه حالا مقدرة ولا داعي لاعتبار كونها مقدرة لأن الظاهر عدم تأخر التعارف عن الحشر بزمان طويل ليحتاج إليه، وقد صرحوا بأن التعارف بينهم يكون أول خروجهم من القبور ثم ينقطع لشدة الأهوال المذهلة واعتراء الأحوال المعضلة المغيرة للصور والأشكال المبدلة لها من حال إلى حال، وعندي أن لا قطع بالانقطاع فالمواقف مختلفة والأحوال متفاوتة فقد يتعارفون بعد التناكر في موقف دون موقف وحال دون حال، وفي بعض الآثار ما يؤيد ذلك. وزعم بعضهم المنافاة بين ما تدل عليه هذه الآية وما يدل عليه قوله سبحانه: فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ [المؤمنون: 101] وقوله تعالى: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً [المعارج: 10] من عدم التعارف لولا اعتبار الزمانين. وقيل: لا منافاة بناء على أن المثبت تعارف تقريع وتوبيخ والمنفي تعارف تواصل وشفقة، ولمانع أن يمنع دلالة ما ذكر من الآيات على نفي التعارف، وقصارى ما يدل عليه نفي نفع الأنساب وسؤال بعضهم بعضا، والتعارف الذي تدل عليه هذه الآية لا ينافي ذلك، فقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن أنه قال فيها: يعرف الرجل صاحبه إلى جنبه فلا يستطيع أن يكلمه ثم إن حمل التعارف على معرفة بعضهم بعضا هو المعروف عند المفسرين، وقيل: المراد به التعريف أي يعرف بعضهم بعضا ما كانوا عليه من الخطأ والكفر وفيه ما فيه. وجوز بعضهم أن يكون الظرف السابق متعلقا- بيتعارفون- قيل فيعطف على ما سبق ولا يظهر له وجه وقوله تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ جملة مستأنفة سيقت للشهادة منه تعالى على خسرانهم والتعجيب منه وهي خبرية لفظا إنشائية معنى، وقيل: مقول لقول مقدر وقع حالا من ضمير يَتَعارَفُونَ أو من ضمير يَحْشُرُهُمْ إن كانت جملة يَتَعارَفُونَ حالا أيضا لئلا يفصل بين الحال وذيها أجنبي والاستئناف أظهر، والتعبير عنهم بالموصول مع أن المقام مقام إضمار لذمهم بما في حيز الصلة وللإشعار بعليته لما أصابهم، والظاهر أن المراد بلقاء الله تعالى مطلق الحساب والجزاء وبالخسران الوضيعة أي قد وضعوا في تجارتهم ومعاملتهم واشترائهم الكفر بالإيمان، وجوز أن يراد بالأول سوء اللقاء وبالثاني الهلاك والضلال، أي قد ضلوا وهلكوا بتكذيبهم بذلك وَما كانُوا مُهْتَدِينَ أي لطرق التجارة عارفين بأحوالها أو ما كانوا مهتدين إلى طريق النجاة، والجملة عطف على جملة قَدْ خَسِرَ إلخ، وجوز أن تكون معطوفة على صلة الموصول على أنها كالتأكيد لها وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ أصله إن نرينك وما مزيد لتأكيد معنى الشرط ومن تمت أكد الفعل بالنون والرؤية بصرية أي إما نرينك بعينك بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ من العذاب بأن نعذبهم في حياتك أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل ذلك فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ جواب للشرط وما عطف عليه. والمعنى إن عذابهم في الآخرة مقرر عذبوا في الدنيا أو لا، وقيل: هو جواب نَتَوَفَّيَنَّكَ كأنه قيل: إما نتوفينك فإلينا مرجعهم فنريكه في الآخرة وجواب محذوف أي إما نرينك فذاك المراد أو المتمنى أو نحو ذلك، وقال الطيبي: أي فذاك حق وصواب أو واقع أو ثابت واختار الأول أبو حيان، والاعتراض عليه بأن الرجوع لا يترتب على تلك الإراءة فيحتاج إلى التزام كون الشرطية اتفاقية ناشىء من الغفلة عن المعنى المراد، والمراد من نَعِدُهُمْ وعدناهم إلا أنه عدل إلى صيغة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 122 الاستقبال لاستحضار الصورة أو للدلالة على التجدد والاستمرار أي نعدهم وعدا متجددا حسبما تقتضيه الحكمة من إنذار غب إنذار. وفي تخصيص البعض بالذكر قيل رمز إلى أن العدة بإراءة بعض الموعود وقد أراه صلّى الله عليه وسلم ذلك يوم بدر ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ من الأفعال السيئة التي حكيت عنهم، والمراد من الشهادة لازمها مجازا وهو المعاقبة والجزاء فكأنه قيل: ثم الله تعالى معاقب على ما يفعلون، وجوز أن يراد منها إقامتها وأداؤها بإنطاق الجوارح وإلا فشهادة الله سبحانه بمعنى كونه رقيبا وحافظا أمر دائم في الدارين وثُمَّ لا تناسب ذلك، والظاهر أنها على هذين الوجهين على ظاهرها. وفي الكشف وغيره هي على الأول للتراخي الرتبي وعلى الثاني على الظاهر وظاهر كلام البعض استحسان حملها على التراخي الرتبي مطلقا ولا أرى لارتكاب خلاف الظاهر بعد ذلك الارتكاب داعيا، وأن العطف بها على الجزاء لا على مجموع الشرطية، وأنت تعلم أن العطف على ذاك يمنع من إرادة التعذيب منه أو إراءته أو نحو ذلك مما لا يصح أن يكون المعنى المعطوف بثم بعده ومترتبا عليه، ولعل ما اعتبروه هناك ليس تفسيرا للرجوع بل هو بيان للمقصود من الكلام، وإظهار اسم الجلالة لإدخال الروعة وتربية المهابة وتأكيد التهديد. وقرأ ابن أبي عبلة ثُمَّ بالفتح أي هنالك وَلِكُلِّ أُمَّةٍ يوم القيامة رَسُولٌ تنسب إليه وتدعى به فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ الموقف ليشهد عليهم بالكفر والإيمان قُضِيَ بَيْنَهُمْ أي بعد أن يشهد بِالْقِسْطِ بالعدل وحكم بنجاة المؤمن وعقاب الكافر وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أصلا والجملة قيل تذييل لما قبلها مؤكدة له. وقيل: في موضع الحال أي مستمرا عدم ظلمهم، ونظير هذه الآية على هذا قوله سبحانه: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ [الزمر: 69] أو لكل أمة من الأمم الخالية رسول يبعث إليهم بشريعة اقتضتها الحكمة ليدعوهم إلى الحق فإذا جاء رسولهم فبلغهم ودعاهم فكذبوه وخالفوه قضي بينهم أي بين كل أمة ورسولها بالعدل وحكم بنجاة الرسول والمؤمنين به وهلاك المكذبين والأول مما رواه ابن جرير وغيره عن مجاهد، والاستقبال عليه على ظاهره ولا يحتاج إلى تقدير مثل ما احتيج في التفسير الثاني وقد رجح بقوله تعالى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بناء على أن الظاهر أن المراد بالوعد الذي أشاروا إليه العذاب الدنيوي الموعود كما يرشد إليه ما بعد. واستشكل ما يقتضيه ظاهر الآية من أن الله تعالى لم يهمل أمة من الأمم قط بل بعث إلى كل واحدة منهم رسولا بأن أهل الفترة ليست فيهم رسول كما يشهد له قوله سبحانه: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ [يس: 6] وأجيب بأن عموم الآية لا يقتضي أن يكون الرسول حاضرا مع كل أمة منهم لأن تقدمه على بعض منهم لا يمنع من كونه رسولا إلى ذلك البعض كما لا يمنع تقدم رسولنا صلّى الله عليه وسلم من كونه مبعوثا إلينا إلى آخر الأبد غاية ما في الباب أن ما وقع من تخليط القوم في زمن الفترة يكون مؤديا إلى ضعف أثر دعوة الأنبياء عليهم السلام انتهى وهو كما ترى. وقد يقال: إن المراد من كل أمة كل جماعة أراد الله تعالى تكليفها حسبما سبق به علمه أو أراد سبحانه تنفيذ كلمته فيها أو نحو ذلك من المخصصات التي لا يلغو معها الحكم لا كل جماعة من الناس مطلقا فلا إشكال أصلا فتدبر. ثم إن هذا القول من المكذبين استعجال لما وعدوا به وغرضهم منه على ما قيل استبعاد الموعود وأنه مما لا يكون وقد يراد بالاستفهام الاستبعاد ابتداء إذ المقام يقتضيه ولا مانع عنه والقول بأن ذلك إنما يكون ابتداء بأين وأنى ونحوهما دون متى غير مسلم كيف وهو معنى مجازي والمجاز لا حجر فيه والخطاب لسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام والمؤمنين الذين يتلون عليهم الآيات المتضمنة لذلك، وجواب إِنْ محذوف اعتمادا على ما تقدمه أي إن كنتم صادقين في أنه يأتينا فليأتنا عجلة، ولكونه صلّى الله عليه وسلم هو الواسطة في إتيان ذلك ومنه نشأ الوعد دون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 123 المؤمنين أمر صلّى الله عليه وسلم بالجواب بقوله سبحانه: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً أي لا أقدر على شيء منهما بوجه من الوجوه وتقديم الضر لما أن مساق النظم الكريم لإظهار العجز عنه وأما ذكر النفع فللتعميم إظهارا لكمال العجز، وقيل: إنه استطرادي لئلا يتوهم اختصاص ذلك بالضر والأول أولى، وما وقع في سورة الأعراف من تقديم النفع فللإشعار بأهميته والمقام مقامه، والمعنى لا أملك شيئا من شؤوني ردا وإيرادا مع إن ذلك أقرب حصولا فكيف أملك شؤونكم حتى أتسبب في إتيان عذابكم الموعود حسبما تريدون إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ استثناء منقطع عند جمع أي ولكن ما شاء الله تعالى كائن، وقيل: متصل على معنى إلا ما شاء الله تعالى أن أملكه، وتعقب بأنه يأباه مقام التبري عن أن يكون له صلّى الله عليه وسلم دخل في إتيان الوعد فإن ذلك يستدعي بيان كون المتنازع فيه مما لا يشاء أن يملكه عليه الصلاة والسلام: والمعتزلة قالوا باتصال الاستثناء واستدلوا بذلك على أن العبد مستقل بأفعاله من الطاعات والمعاصي، وأنت تعلم أن ذلك بمراحل عن إثبات مدعاهم. نعم استدل بها بعض من يرى رأي السلف من أن للعبد قدرة مؤثرة بإذن الله تعالى لا أنه ليس له قدرة أصلا كما يقوله الجبرية، ولا أن له قدرة لكنها غير مؤثرة كما هو المشهور عن الأشاعرة، ولا أن له قدرة مؤثرة إن شاء الله تعالى وإن لم يشأ كما هو رأي المعتزلة وقال: المعنى لا أقدر على شيء من الضر والنفع إلا ما شاء الله تعالى أن أقدر عليه منهما فإني أقدر عليه بمشيئته سبحانه، وقال بعضهم: إذا كان الملك بمعنى الاستطاعة يكون الاستثناء متصلا وإذا أبقي على ظاهره تعين الانقطاع، ولا يخفى أن الأصل الاتصال ولا ينبغي العدول عنه حيث أمكن من دون تعسف، وأيا ما كان فظاهر كلامهم أن الاستثناء من المفعول إلا أنه على تقدير الانقطاع ليس المعنى على إخراج المستثنى من حكم المستثنى منه ولذا جعل الحكم على ذلك التقدير أنه كائن دون أملكه مثلا فلا تدافع في كلام من حكم بالانقطاع وقال في بيان المعنى أي ولكن ما شاء الله تعالى من ذلك كائن مشيرا بذلك إلى النفع والضر فإنه صريح في كون المستثنى من جنس المستثنى منه المقتضي للاتصال لأن المدار عند المحققين في الأمرين على الإخراج من الحكم وعدمه. ومما يقضي منه العجب زعم أن الاستثناء من فاعل لا أَمْلِكُ وجعل المعنى لا أملك أنا ولكن الله سبحانه هو المالك لكل ما يشاء بمشيئته لِكُلِّ أُمَّةٍ من الأمم الذين أصروا على تكذيب رسلهم أَجَلٌ لعذابهم يحل بهم عند حلوله لا يتعدى إلى أمة أخرى إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ أي أجل كل أمة على ما هو الظاهر، ووضع الظاهر موضع الضمير لزيادة التقرير، والإضافة لإفادة كمال التعيين، وجوز أن يكون الضمير للأمم المدلول عليه بكل أمة، ووجه إظهار الأجل مضافا لذلك بأنه لإفادة المعنى المقصود الذي هو بلوغ كل أمة أجلها الخاص بها ومجيئه إياها بعينها من بين الأمم بواسطة اكتساب الأجل بإضافته عموما يفيده معنى الجمعية كأنه قيل: إذا جاءتهم آجالهم بالجمع كما قرأ به ابن سيرين بأن يجيء كل واحد من تلك الأمم أجلها الخاص بها، ويفسر الأجل بحد معين من الزمان والمجيء عليه ظاهر وبما امتد إليه من ذلك فمجيئه حينئذ عبارة عن انقضائه إذ هناك يتحقق مجيئه بتمامه أي إذا تم وانقضى أجلهم الخاص بهم فَلا يَسْتَأْخِرُونَ عنه ساعَةً أي شيئا قليلا من الزمان وَلا يَسْتَقْدِمُونَ عليه، والاستفعال عند جمع على أصله، ونفي طلب التأخر والتقدم أبلغ، وقال آخرون: إنه بمعنى التفعل أي لا يتأخرون ولا يتقدمون، والجملة الثانية إما مستأنفة أو معطوفة على القيد والمقيد ومنعوا عطفها على فَلا يَسْتَأْخِرُونَ لئلا يرد أنه لا يتصور التقدم بعد مجيء الأجل فلا فائدة في نفيه، وأجازه غير واحد والفائدة عنده في ذلك المبالغة في انتفاء التأخر لأنه لما نظم في سلكه أشعر بأنه بلغ في الاستحالة إلى مرتبته فهو مستحيل مثله للتقدير الإلهي وإن أمكن في نفسه، قيل: وهذا هو السر في إيراد صيغة الاستفعال أي إنه بلغ في الاستحالة إلى أنه لا يطلب إذ المحال لا يطلب. ودفع بعضهم ذلك بأن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 124 جاءَ بمعنى قارب المجيء نحو قولك: إذا جاء الشتاء فتأهب له. وتعقب بأنه ليس في تقييد عدم الاستئخار بالقرب والدنو مزيد فائدة، وأشار الزمخشري إلى جواب آخر وهو أن لا يتأخر ولا يتقدم كناية عن كونه له حد معين وأجل مضروب لا يتعداه بقطع النظر عن التقدم والتأخر كقول الحماسي: وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متقدم عنه ولا متأخر فإنه أراد كما قال المرزوقي حبسني الهوى في موضع تستقرين فيه فألزمه ولا أفارقه وأنا معك مقيمة وظاعنة لا أعدل عنك ولا أميل إلى سواك، ووجه تقديم بيان انتفاء الاستئخار على بيان انتفاء الاستقدام قد تقدم في آية الأعراف مع بسط كلام فيها ثم لا يخفى أن هذه الآية داخلة في حيز الجواب ولم تعطف على ما قبلها إيذانا باستقلالها فيه. قال العلامة الطيبي طيب الله تعالى ثراه: إن الجواب بقوله سبحانه: قُلْ لا أَمْلِكُ إلخ وارد على الأسلوب الحكيم لأنهم ما أرادوا بالسؤال إلا استبعاد أن الموعود من الله تعالى وأنه صلوات الله تعالى وسلامه عليه هو الذي يدعي أن ذلك منه فطلبوا منه تعيين الوقت تهكما وسخرية فقيل في الجواب هذا التهكم إنما يتم إذا ادعيت بأني أنا الجالب لذلك الموعود: وإذا كنت مقرا بأني مثلكم في أني لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا كيف ادعي ما ليس لي بحق؟ ثم شرع في الجواب الصحيح ولم يلتفت صلّى الله عليه وسلم إلى تهكمهم واستبعادهم فقال: لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إلخ، وحاصله على ما في الكشاف إن عذابكم له أجل مضروب عند الله تعالى وحد محدود من الزمان إذا جاء ذلك الوقت أنجز وعدكم لا محالة فلا تستعجلوا، ومن هنا يعلم سر إسقاط الفاء من إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ وزيادتها في فَلا يَسْتَأْخِرُونَ على عكس آية الأعراف حيث أتى بها أولا ولم يؤت بها ثانيا، وذلك أنه لما سيقت الآية جوابا عن استعجالهم العذاب الموعود حسبما علمت آنفا اعتنى بأمر الشرطية ولزومها كمال الاعتناء فأتى بها غير متفرعة على شيء كأنها من الأمور الثابتة في نفسها الغير المتفرعة على غيرها وقوي لزوم التالي فيها للمقدم بزيادة الفاء التي بها يؤتى للربط في أمثال ذلك ولا كذلك آية الأعراف كما لا يخفى إلا على الأنعام فاحفظه فإنه من الأنفال، ولا يأباه ما مر في تقرير الاستفهام في صدر الكلام كما هو ظاهر لدى ذوي الأفهام، وكذا لا يأباه ما قيل في ربط هذه الآية بما قبلها من أنها بيان لما أبهم في الاستثناء وتقييد لما في القضاء السابق من الإطلاق المشعر بكون المقضي به أمرا منجزا غير متوفق على شيء غير مجيء الرسول وتكذيب الأمة لأنه على ما فيه ما فيه إنكار المدخلية في الجواب، ولعل الغرض يتم بمجرد ذلك لحصول التغاير بين مساقي الآيتين به أيضا، وقد يقال: إن إسقاط الفاء أولا لتكون الجملة في موضع الصفة- لأجل- تهويلا لأمره وتنويها بشأنه حسبما يقتضيه المقام، أي لكل أمة أجل موصوف بأنه إذا جاء لا يستأخرون عنه ولا يستقدمون عليه البتة، والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير مثل ما مر آنفا وليس بذاك، ومما تضحك منه الموتى ما قاله بعض العظاميين بعد أن كاد يقضي عليه فكرا من أن السر في اختلاف الآيتين الإشارة منه تعالى إلى جواز الأمرين عربية ولم يعلم عافاه الله تعالى أن القرآن الكريم لم ينزل معلما للعربية مبينا لقواعدها وشارحا لما يجوز فيها وما لا يجوز، بل نزل معجزا بفصاحته وبلاغته وما تضمنه من الأسرار أقواما كل منهم في ذلك الشأن- الجذيل المحكك والعذيق المرجب.. وذكر بعض من أحيا ميت الفضل علمه وصفا عن تخليط أبناء العصر فهمه صفاء الدين عيسى البندنيجي أن مساق هذه الآية لتثبيت النبي صلّى الله عليه وسلم وشرح صدره عليه الصلاة والسلام عما عسى يضيق به بحسب البشرية من قولهم: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ولتلقينه صلّى الله عليه وسلم رد قولهم ذلك كما يشعر به السياق فناسب قطع كل من الجملتين عن الأخرى ليستقل كل منهما في إفادة التثبيت والرد للتأكيد والمبالغة فيها ولذا لم يؤت بالفاء في صدر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 125 الشرطية وجيء بها في الجواب زيادة في ذلك لإفادتها تحقق ما بعدها عقيب ما يقتضيه بلا مهلة، وآية الأعراف سيقت وعيدا لأهل مكة، ومن البين أن محط الفائدة في إشعار أنه وعيد وأن ما هو أدخل في التخويف الجملة الشرطية، لأنها النص في نزول العذاب عند حلول الأجل وأنه لا محيص لهم عن ذلك عنده دون لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فقط فكان المقام مقام ربط ووصل فجيء بالفاء لتدل على ذلك وتؤذن باتحاد الجملتين في كونهما وعيدا ولمسامحته سبحانه في الوعيد لم يؤت بالفاء في الجواب انتهى. ولعل ما قدمناه ليس بالبعيد عنه من وجه وإن خالفه من وجه آخر ولكل وجهة والله تعالى أعلم بأسرار كتابه. قُلْ لهم بعد ما بينت لهم كيفية حالك وجريان سنة الله تعالى فيما بين الأمم على الإطلاق ونبهتهم على أن عذابهم أمر مقرر محتوم لا يتوقف إلا على مجيء أجله المعلوم إيذانا بكمال دنوه وتنزيلا له منزلة إتيانه حقيقة أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ الذي تستعجلون به ولعل استعمال إِنْ من باب المجاراة بَياتاً أي وقت بيات أَوْ نَهاراً أي عند اشتغالكم بمشاغلكم وإنما لم يقل ليلا ونهارا ليظهر التقابل لأن المراد الإشعار بالنوم والغفلة والبيات متكفل بذلك لأنه الوقت الذي يبيت فيه العدو ويوقع فيه ويغتنم فرصة غفلته وليس في مفهوم الليل هذا المعنى ولم يشتهر شهرة النهار بالاشتغال بالمصالح والمعاش حتى يحسن الاكتفاء بدلالة الالتزام كما في النهار، وقد يقال: النهار كله محل الغفلة لأنه إما زمان اشتغال بمعاش أو زمان قيلولة بخلاف الليل فإن محل الغفلة فيه ما قارب وسطه وهو وقت البيات فلذا خص بالذكر، والبيات جاء بمعنى البيتوتة وبمعنى التبييت كالسلام بمعنى التسليم والمعنى المراد هنا مبني على هذا ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ أي أي شيء يستعجلون من العذاب وليس شيء منه يوجب الاستعجال لما أن كله مكروه من المذاق موجب للنفار، فمن للتبعيض والضمير للعذاب والتنكير في شيء للفردية، وجوز أن يكون المعنى على التعجيب وهو مستفاد من المقام كأنه قيل: أي هول شديد يستعجلون منه، فمن بيانية وتجريدية بناء على عد الزمخشري لها منها، وقيل: الضمير لله تعالى، وعليه فالمعنى على الثاني ولكن تزول فائدة الإبهام والتفسير وما فيه من التفخيم. وما قيل: إنه أبلغ على معنى هل تعرفون ما العذاب المعذب به هو الله سبحانه (1) فهو مشترك على التقديرين ألا ترى إلى قوله تعالى: عَذابُهُ، وماذا بمعنى أي شيء منصوب المحل مفعولا مقدما وهو أولى من جعله مبتدأ، ومن فعل قدر العائد، ومن قال: إن ضمير مِنْهُ هو الرابط مع تفسيره بالعذاب جنح إلى أن المستعجل من العذاب فهو شامل للمبتدأ فيقوم مقام رابطه لأن عموم الخبر في الاسم الظاهر يكون رابطا على المشهور ففي الضمير أولى. وزعم أبو البقاء أن الضمير عائد إلى المبتدأ وهو الرابط وجعل ذلك نظير قولك: زيد أخذت منه درهما وليس بشيء كما لا يخفى، والمراد من المجرمون المخاطبون، وعدل عن الضمير إليه للدلالة على أنهم لجرمهم ينبغي أن يفزعوا من إتيان العذاب فضلا عن أن يستعجلوه، وقيل: النكتة في ذلك إظهاره تحقيرهم وذمهم بهذه الصفة الفظيعة، والجملة متعلقة- بأرأيتم- على أنها استئناف بياني أو في محل نصب على المفعولية وعلق عنها الفعل للاستفهام، وهو في الأصل استفهام عن الرؤية البصرية أو العلمية ثم استعمل بمعنى أخبروني لما بين الرؤية والأخبار من السببية والمسببية في الجملة فهو مجاز فيما ذكر وإليه ذهب الكثير، وذهب أبو حيان إلى أن ذلك بطريق التضمين ولم يستعمل إلا في الأمر العجيب، وجواب الشرط محذوف أي إن أتاكم عذابه في أحد ذينك الوقتين تندموا أو تعرفوا الخطأ أو فاخبروني ماذا يستعجل منه المجرمون.   (1) قوله «هو الله سبحانه» كذا بخطه رحمه الله تعالى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 126 وزعم أبو حيان تعين الأخير لأن الجواب إنما يقدر مما تقدمه لفظا أو تقديرا ولم يدر أن تقديره من غير جنس المذكور إذا قامت قرينة عليه ليس بعزيز، ولئن سلم صحة الحصر الذي ادعاه فما ذكر غير خارج عنه بناء على أن المقصود من أَرَأَيْتُمْ ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ إلخ تنديمهم أو تجهيلهم كما نص عليه بعض المحققين. وفي الكشف تقرير لأحد الأوجه المذكورة في الكشاف أن ماذا إلخ متعلق الاستخبار والشرط مع جوابه المحذوف مقرر لمضمون الاستخبار ولهذا وسط بينهما، ولما كان في الاستفهام تجهيل وتنديم قدر الجواب تندموا أو تعرفوا الخطأ، ولا مانع من تقديرهما معا أو ما يفيد المعنيين ولهذا حذف الجواب ووسط تأكيدا على تأكيد انتهى. وجوز كون ماذا يَسْتَعْجِلُ جوابا للشرط كقولك: إن أتيتك ماذا تطعمني والمجموع بتمامه متعلق «بأرأيتم» ورد بأن جواب الشرط إذا كان استفهاما فلا بد فيه من الفاء تقول أن زارنا فلان فأي رجل هو ولا تحذف إلا ضرورة، وقد صرح في المفصل بأن الجملة إذا كانت إنشائية لا بد من الفاء معها، والاستفهام وإن لم يرد به حقيقته لم يخرج عن الإنشائية، والمثال مصنوع فلا يعول عليه. وأجيب بأن الرضي صرح بأن وقوع الجملة الاستفهامية جوابا بدون الفاء ثابت في كثير من الكلام الفصيح، ولو سلم ما ذكر فيقدر القول وحذفه كثير مطرد بلا خلاف، وأورد أيضا على هذا الوجه أن استعجال العذاب قبل إتيانه فكيف يكون مرتبا عليه وجزاء له، وأجيب بأنه حكاية عن حال ماضية أي ماذا كنتم تستعجلون، ويشهد لهذا التصريح- بكنتم- فيما بعد والقرآن يفسر بعضه بعضا، وأنت تعلم أن مجرد ذلك لا يجوز كونه جوابا لأن الاستعجال الماضي لا يترتب على إتيان العذاب فلا بد من تقدير نحو تعلموا أي تعلموا ماذا إلخ، وقيل: إن أتاكم بمعنى إن قارب إتيانه إياكم أو المراد إن أتاكم أمارات عذابه، وقيل: حيث إن المراد إنكار الاستعجال بمعنى نفيه رأسا صح كونه جوابا، واعترض على جعل مجموع الشرطية متعلقا «بأرأيتم» بأنه لا يصح أن يكون مفعولا به له بناء على أنه بمعنى أخبروني وهو متعد بعن ولا تدخل الجملة إلا أنها إذا اقترنت بالاستفهام وقلنا بجواز تعليقها وفيه كلام في العربية جاز، ودفع بأن مراد القائل بالتعلق التعلق اللغوي لأن المعنى أخبروني عن صنيعكم إن أتاكم إلخ، والمراد بقوله سبحانه: أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ زيادة التنديم والتجهيل، والمعنى أئذا وقع العذاب وحل بكم حقيقة آمنتم به وعاد استهزاؤكم وتكذيبكم تصديقا وإذعانا، وجيء بثم دلالة على زيادة الاستبعاد، وفيه أن هذا الثاني أبعد من الأول وأدخل في الإنكار. وجوز أن يكون هذا جواب الشرط والاستفهامية الأولى اعتراض، والمعنى أخبروني إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان، وأصل الكلام على ما قيل: إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا أو وقع وتحقق آمنتم ثم جيء بحرف التراخي بدل الواو دلالة على الاستبعاد ثم زيد أداة الشرط دلالة على استقلاله بالاستبعاد وعلى أن الأول كالتمهيد له وجيء- بإذا- مؤكدا- بما- ترشيحا لمعنى الوقوع والتحقيق وزيادة للتجهيل وأنهم لم يؤمنوا إلا بعد أن لم ينفعهم البتة، وهذا الوجه مما جوزه الزمخشري. وتعقب بأنه في غاية البعد لأن ثم حرف عطف لم يسمع تصدير الجواب به والجملة المصدرة بالاستفهام لا تقع جوابا بدون الفاء وأجيب عن هذا بما مر. وأما الجواب عنه بأنه أجرى ثُمَّ مجرى الفاء فكما أن الفاء في الأصل للعطف والترتيب وقد ربطت الجزاء فكذلك هذه فمخالف لإجماع النحاة، وقياسه على الفاء غير جلي ولهذه الدغدغة قيل: مراد الزمخشري أنه يدل على الجواب التقدير إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه وما في النظم الكريم معطوف عليه للتأكيد نحو كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ وتعقب بأنه لا يخفى تكلفه فإن عطف التأكيد بثم مع حذف المؤكد مما لا ينبغي ارتكابه ولو قيل: المراد إن آمَنْتُمْ هو الجواب وأَ ثُمَّ إِذا ما وَقَعَ معترض فالاعتراض بالواو والفاء وأما- بثم- الجزء: 6 ¦ الصفحة: 127 فلم يذهب إليه أحد، وبالجملة قد كثر الجرح والتعديل لهذا الوجه ولا يصلح العطار ما أفسد الدهر. وقرىء «ثمّ» بفتح الثاء بمعنى هنالك، وقوله سبحانه: آلْآنَ على تقدير القول وهو الأظهر والأقوى معنى أي قيل لهم عند إيمانهم بعد وقوع العذاب الآن آمنتم به، فالآن في محل نصب على أنه ظرف لآمنتم مقدرا، ومنع أن يكون ظرفا للمذكور لأن الاستفهام له صدر الكلام. وقرىء بدون همزة الاستفهام والظاهر عندي على هذا تعلقه بمقدر أيضا لأن الكلام على الاستفهام، وبعض جوز تعلقه بالمذكور وليس بذاك. وعن نافع أنه قرىء «آلان» بحذف الهمزة التي بعد اللام وإلقاء حركتها على اللام، وقوله سبحانه: وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ في موضع الحال من فاعل آمَنْتُمْ المقدر، والكلام على ما قيل مسوق من جهته تعالى غير داخل تحت القول الملقن لتقرير مضمون ما سبق من إنكار التأخير والتوبيخ عليه، وفائدة الحال تشديد التوبيخ والتقريع وزيادة التنديم والتحسير. قال العلامة الطيبي: إن الآن آمنتم به يقتضي أن يقال بعده: وقد كنتم به تكذبون لا تَسْتَعْجِلُونَ إلا أنه وضع موضعه لأن المراد به الاستعجال السابق وهو ما حكاه سبحانه عنهم بقوله تعالى: مَتى هذَا الْوَعْدُ وكان ذلك تهكما منهم وتكذيبا واستبعادا، وفي العدول استحضار لتلك المقالة الشنيعة فيكون أبلغ من تكذبون، وتقديم الجار والمجرور على الفعل لمراعاة الفواصل، وقوله تعالى: ثُمَّ قِيلَ إلخ عطف على قيل المقدر قبل آلْآنَ لتوكيد التوبيخ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أي وضعوا ما نهوا عنه من الكفر والتكذيب موضع ما أمروا به من الإيمان والتصديق أو ظلموا أنفسهم بتعريضها للهلاك والعذاب، ووضع الموصول موضع الضمير لذمهم بما في حيز الصلة والإشعار بعليته لإصابة ما أصابهم ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ أي المؤلم على الدوام هَلْ تُجْزَوْنَ أي ما تجزون اليوم إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ أي إلا ما استمررتم على كسبه في الدنيا من أصناف الكفر التي من جملتها ما مر من الاستعجال، وزاد غير واحد في البيان سائر أنواع المعاصي بناء أن الكفار مكلفون بالفروع فيعذبون على ذلك لكن هل العذاب عليه مستمر تبعا للكفر أو منته كعذاب غيرهم من العصاة؟ قيل: الظاهر الثاني وبالجمع بين النصوص الدالة على تخفيف عذاب الكفار وما يعارضها فقالوا: إن المخفف عذاب المعاصي والذي لا يخفف عذاب الكفر وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أي يستخبرونك أَحَقٌّ هُوَ أي العذاب الموعود كما هو الأنسب بالسياق دون ادعاء النبوة الذي جوزه بعضهم، ورجح عليه أيضا بأنه لا يتأتى إثبات النبوة لمنكريها بالقسم. وأجيب بأنه ليس المراد منه إثباتها بل كون تلك الدعوى جدا لا هزلا أو أنه بالنسبة لمن يقنع بالإثبات بمثله، وقد يقال: ما ذكر مشترك الإلزام لأن العذاب الموعود لا يثبت عند الزاعمين أنه افتراء قبل وقوعه بمجرد القسم أيضا فلا يصلح ما ذكر مرجحا، والحق أن القسم لم يذكر للإلزام بل توكيد لما أنكروه، والاستفهام للإنكار، والاستنباء على سبيل التهكم والاستهزاء كما هو المعلوم من حالهم فلا يقتضي بقاءه على أصله، وربما يقال: إن الاستنباء بمعنى طلب النبأ حقيقة لكن لا عن الحقية ومقابلها بالمعنى المتبادر لأنهم جازمون بالثاني بل المراد من ذلك الجد والهزل كأنهم قالوا: إنا جازمون بأن ما تقوله كذب لكنا شاكون في أنه جد منك أم هزل فأخبرنا عن حقيقة ذلك، ونظير هذا قولهم: أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [سبأ: 8] على ما قرره الجماعة إلا أن ذلك خلاف الظاهر، وحَقٌّ خبر قدم على المبتدأ الذي هو هُوَ ليلي الهمزة المسئول عنه، وجوز أن يكون مبتدأ وهو مرتفع به ساد مسدا لخبر لأنه بمعنى ثابت فهو حينئذ صفة وقعت بعد الاستفهام فتعمل ويكتفى بمرفوعها عن الخبر إذا كان اسما ظاهرا أو في حكمه كالضمير المنفصل هنا، والمشهور أن استنبأ تتعدى إلى اثنين أحدهما بدون واسطة والآخر بواسطة- عن- فالمفعول الأول على هذا ليستنبؤن الكاف والثاني قامت مقامه هذه الجملة، على معنى يسألونك عن جواب هذا السؤال إذ الاستفهام لا يسأل عنه وإنما يسأل عن جوابه والزمخشري لما رأى أن الجملة هنا لا تصلح أن تكون مفعولا ثانيا معنى لما عرفت ولفظا لأنه لا يصح دخول- عن- عليها جعل الفعل مضمنا معنى القول أي يقولون لك هذا، والجملة في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 128 محل نصب مفعول القول. وقرأ الأعمش «آلحق هو» بالتعريف مع الاستفهام وهي تؤيد كون الاستفهام للإنكار لما فيها من التعريض لبطلانه المقتضي لإنكاره لإفادة الكلام عليها القصر وهو من قصر المسند على المسند إليه على المشهور، والمعنى أن الحق ما تقول أم خلافه، وجعله الزمخشري من قصر المسند إليه على المسند حيث قال كأنه قيل: أهو الحق لا الباطل أو أهو الذي سميتموه الحق، وأشار بالترديد إلى أن الغرض من هذا الوجه لا يختلف جعل الحصر حقيقيا تهكما أو ادعائيا. واعترض ذلك بأنه مخالف لما عليه علماء المعاني في مثل هذا التركيب. وفي الكشف أنه يتخايل أن الحصر على معنى أهو الحق لا غيره لا معنى أهو الحق لا الباطل على ما قرروه في قولهم: زيد المنطلق والمنطلق زيد، فعلى هذا لا يسد ما ذكره الزمخشري ولكنه يضمحل بما حققناه في قوله تعالى: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [البقرة: 24، التحريم: 6] وأن انحصار أحدهما في الآخر يلاحظ بحسب المقام وحينئذ لا يبالى قدم أو أخر، وهاهنا المعنى على حصر العذاب في الحقية لا على حصر الحقيقة في العذاب. وقد قال هناك: إن التحقيق أن نحو زيد المنطلق وعكسه إنما يحكم فيه بقصر الثاني أعني الانطلاق على الأول لأن المناسب قصر العام على الخاص، وكذلك نحو الناس هم العلماء والعلماء هم الناس وإن كان بينهما عموم وخصوص من وجه لأن المقصود بين، وأما في نحو قولنا: الخاشعون هم العلماء والعلماء هم الخاشعون فالحكم مختلف تقديما وتأخيرا وأحد القصرين غير الآخر، فينبغي أن ينظر إلى مقتضى المقام إن تعين أحدهما لذلك حكم به قدم أو أخر وإلا روعي التقديم والتأخير، وقد يكون القصر متعاكسا نحو زيد المنطلق إذا أريد المعهود وهذا ذاك، وكذلك الجنسان إذا اتحدا موردا كقولك: الضاحك الكاتب إلى آخر ما قال، وكون المعنى هاهنا على حصر العذاب في الحقية دون العكس هو المناسب، ومخالفة علماء المعاني ليست بدعا من صاحب الكشاف وأمثاله، والحق ليس محصورا بما هم عليه كما لا يخفى فتدبر قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ أي قل لهم غير مكترث باستهزائهم مغضيا عما قصدوا بانيا للأمر على أساس الحكمة: نعم إن ذلك العذاب الموعود ثابت البتة، فضمير إِنَّهُ للعذاب أيضا وإِي حرف جواب وتصديق بمعنى نعم قيل: ولا تستعمل كذلك إلا مع القسم خاصة كما أن هل بمعنى قد في الاستفهام خاصة، ولذلك سمع من كلامهم وصلها بواو القسم إذا لم يذكر المقسم به فيقولون- إيو- ويوصلون به هاء السكت أيضا فيقولون:- إيوه- وهذه اللفظة شائعة اليوم في لسان المصريين وأهل ذلك الصقع. وادعى أبو حيان أنه يجوز استعمالها مع القسم وبدونه إلا أن الأول هو الأكثر قال: وما ذكر من السماع ليس بحجة لأن اللغة فسدت بمخالطة غير العرب فلم يبق وثوق بالسماع، وحذف المجرور بواو القسم والاكتفاء بها لم يسمع من موثوق به وهو مخالف للقياس، وأكد الجواب بأتم وجوه التأكيد حسب شدة إنكارهم وقوته وقد زيد تقريرا وتحقيقا بقوله جل شأنه: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أي بفائتين العذاب على أنه من فاته الأمر إذا ذهب عنه، ويصح جعله من أعجزه بمعنى وجده عاجزا أي ما أنتم بواجدي العذاب أو من يوقعه بكم عاجزا عن إدراككم وإيقاعه بكم، وأيا ما كان فالجملة إما معطوفة على جواب القسم أو مستأنفة سيقت لبيان عجزهم عن الخلاص مع ما فيه من التقرير المذكور. وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ أي بالكفر أو بالتعدي على الغير أو غير ذلك من أصناف الظلم كذا قيل، وربما يقتصر على الأول لأنه الفرد الكامل مع أن الكلام في حق الكفار ولَوْ قيل بمعنى أن وقيل على ظاهرها واستبعد ولا أراه بعيدا ما فِي الْأَرْضِ أي ما في الدنيا من خزائنها وأموالها ومنافعها قاطبة لَافْتَدَتْ بِهِ أي لجعلته فدية لها من العذاب من افتداه بمعنى فداه فالمفعول محذوف أي لافتدت نفسها به. وجوز أن يكون افتدى لازما على أنه مطاوع فدى المتعدي يقال فداه فافتدى، وتعقب بأنه غير مناسب للسياق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 129 إذ المتبادر منه أن غيره فداه لأن معناه قبلت الفدية والقابل غير الفاعل، ونظر فيه بأنه قد يتحد القابل والفاعل إذا فدى نفسه نعم المتبادر الأول وَأَسَرُّوا أي النفوس المدلول عليها بكل نفس، والعدول إلى صيغة الجمع لإفادة تهويل الخطب بكون الأسرار بطريق المعية والاجتماع، وإنما لم يراع ذلك فيما سبق لتحقيق ما يتوخى من فرض كون جمع ما في الأرض لكل واحد من النفوس، وإيثار صيغة جمع المذكر لحمل لفظ النفس على الشخص أو لتغليب ذكور مدلوله على إنائه، والأسرار الإخفاء أي أخفوا النَّدامَةَ أي الغم والأسف على ما فعلوا من الظلم، والمراد إخفاء آثارها كالبكاء وعض اليد وإلا فهي من الأمور الباطنة التي لا تكون إلا سرا وذلك لشدة حيرتهم وبهتهم لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ أي عند معاينتهم من فظاعة الحال وشدة الأهوال ما لم يمر لهم ببال، فأشبه حالهم حال المقدم للصلب يثخنه ما دهمه من الخطب ويغلب حتى لا يستطيع التفوه ببنت شفة ويبقى جامدا مبهوتا، وقيل: المراد بالأسرار الإخلاص أي أخلصوا الندامة وذلك إما لأن إخفاءها إخلاصها وإما من قولهم: سر الشيء لخالصه الذي من شأنه أن يخفى ويصان ويضن به وفيه تهكم بهم: وقال أبو عبيدة. والجبائي: إن الأسرار هنا بمعنى الإظهار. وفي الصحاح أسررت الشيء كتمته وأعلنته أيضا وهو من الأضداد، والوجهان جميعا يفسران في قوله تعالى: وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ وكذلك في قول امرئ القيس: لو يسرون مقتلي انتهى وفي القاموس أيضا أسره كتمه وأظهره ضد، وفيه اختلاف اللغويين فإن الأزهري منهم ادعى أن استعمال أسر بمعنى أظهر غلط وأن المستعمل بذلك المعنى هو أشهر بالشين المعجمة لا غير. ولعله قد غلط في التغليط، وعليه فالإظهار أيضا باعتبار الآثار على ما لا يخفى. وجوز بعضهم أن يكون المراد بالإسرار الإخفاء إلا أن المراد من ضمير الجمع الرؤساء أي أخفى رؤساؤهم الندامة من سفلتهم الذين أضلوهم حياء منهم وخوفا من توبيخهم، وفيه أن ضمير أَسَرُّوا عام لا قرينة على تخصيصه على أن هول الموقف أشد من أن يتفكر معه في أمثال ذلك، وجملة أَسَرُّوا مستأنفة على الظاهر وقيل: حال بتقدير قد، ولَمَّا على سائر الأوجه بمعنى حين منصوب بأسروا، وجوز أن يكون للشرط والجواب محذوف على الصحيح لدلالة ما تقدم عليه أي لما رأوا العذاب أسروا الندامة وَقُضِيَ أي حكم وفصل بَيْنَهُمْ أي بين النفوس الظالمة بِالْقِسْطِ أي بالعدل وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ. أصلا لأنه لا يفعل بهم إلا ما يقتضيه استعدادهم، وقيل: ضمير بَيْنَهُمْ للظالمين السابقين في قوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ والمظلومين الذين ظلموهم وإن لم يجر لهم ذكر لكن الظلم يدل بمفهومه عليهم وتخصيص الظلم بالتعدي، والمعنى وقعت الحكومة بين الظالمين والمظلومين وعومل كل منهما بما يليق به. وأنت تعلم أن المقام لا يساعد على ذلك لأنه إن لم يقتض حمل الظلم على أعظم أفراده وهو الشرك فلا أقل من أنه يقتضي حمله على ما يدخل ذلك فيه دخولا أوليا، والظاهر أن جملة قُضِيَ مستأنفة، وجوز أن تكون معطوفة على جملة رَأَوُا فتكون داخلة في حيز لما أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي إن له سبحانه لا لغيره تعالى ما وجد في هذه الإجرام العظيمة داخلا في حقيقتها أو خارجا عنها متمكنا فيها، وكلمة ما لتغليب غير العقلاء على العقلاء، وهو تذييل لما سبق وتأكيد واستدلال عليه بأن من يملك جميع الكائنات وله التصرف فيها قادر على ما ذكر وقيل: إنه متصل بقوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ كأنه بيان لعقدهم ما يفتدون به وعدم ملكهم شيئا حيث أفاد أن جميع ما في السماوات والأرض ملكه لا ملك لأحد فيه سواه جل وعلا وليس بشيء وإن ذكره بعض الأجلة واقتصر عليه أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 130 أي جميع ما وعد به كائنا ما كان فيندرج فيه العذاب الذي استعجلوه وما ذكر في أثناء بيان حاله اندراجا أوليا. فالمصدر بمعنى اسم المفعول، ويجوز أن يكون باقيا على معناه المصدري أي وعده سبحانه بجميع ما ذكر حَقٌّ أي ثابت واقع لا محالة أو مطابق للواقع، والظاهر أن حمل الوعد على العموم بحيث يندرج فيه العذاب المذكور والعقاب للعصاة أو الوعد بهما يستدعي اعتبار التغليب في الكلام، وبعضهم حمل الوعد على ما وعد به صلّى الله عليه وسلم من نصره وعقاب من لم يتبعه وقال: إن اعتبار التغليب توهم وليس بالمتعين، وإظهار الاسم الجليل لتفخيم شأن الوعد والإشعار بعلة الحكم، وتصدير الجملتين بحر في التنبيه والتحقيق للتسجيل على تحقق مضمونها المقرر لمضمون ما سلف من الآيات الكريمة والتنبيه على وجوب استحضاره والمحافظة عليه. وذكر الإمام في توجيه ذكر أداة التنبيه في الجملة الأولى أن أهل هذا العالم مشغولون بالنظر إلى الأسباب الظاهرة فيضيفون الأشياء إلى ملاكها الظاهرة المجازية ويقولون مثلا الدار لزيد والغلام لعمرو والسلطنة للخليفة والتصرف للوزير فكانوا مستغرقين في نوم الجهل والغفلة حيث يظنون صحة تلك الإضافات فلذلك زادهم سبحانه بقوله عز اسمه: أَلا إِنَّ لِلَّهِ إلخ، واستناد جميع ذلك إليه جل شأنه بالمملوكية لما ثبت من وجوب وجوده لذاته سبحانه وأن جميع ما سواه ممكن لذاته وأن الممكن لذاته مستند إلى الواجب لذاته إما ابتداء أو بواسطة وذلك يقتضي أن الكل مملوك له تعالى، والكلام في ذكر الأداة في الجملة الثانية على هذا النمط لا يخلو عن تكلف، والحق ما أشرنا إليه في وجه التصدير، ووجه اتصال هذه الجملة بما تقدم ظاهر مما قررنا وللطبرسي في توجيه ذلك كلام ليس بشيء وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لسوء استعدادهم وقصور عقولهم واستيلاء الغفلة عليهم لا يَعْلَمُونَ فيقولون ما يقولون ويفعلون ما يفعلون هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ في الدنيا من غير دخل لأحد في ذلك، وهذا على ما يفهم من كلام البعض استدلال على البعث والنشور على معنى أنه تعالى يفعل الإحياء والإماتة في الدنيا فهو قادر عليهما في العقبى لأن القادر لذاته لا تزول قدرته والمادة القابلة بالذات للحياة والموت قابلة لهما أبدا، ولا يخفى أن ذكر القدرة على الإماتة استطرادي لا دخل له في الاستدلال على ذلك، والظاهر عندي أنه كالذي قبله تذييل لما سبق وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ في الآخرة بالبعث والحشر يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ التفات ورجوع إلى استمالتهم نحو الحق واستنزالهم إلى قبوله واتباعه غب تحذيرهم من غوائل الضلال بما تلا عليهم من القوارع وإيذان بأن جميع ذلك مسوق لمصالحهم وهذا وجه الربط بما تقدم. وقال أبو حبان في ذلك: إنه تعالى لما ذكر الأدلة على الألوهية والوحدانية والقدرة ذكر الدلائل الدالة على صحة النبوة والطريق المؤدي إليها وهو المتصف بهذه الأوصاف والأول أولى ولا يأباه عموم الخطاب كما هو الظاهر واختار الطبري خلافا لمن جعله خاصا بقريش، والموعظة كالوعظ والعظة تذكير ما يلين القلب من الثواب والعقاب، وقيل: زجر مقترن بتخويف، والشفاء الدواء ويجمع على أشفية وجمع الجمع أشافي، والهدى معلوم مما مر غير مرة، والرحمة الإحسان أو إرادته أو صفة غيرهما لائقة بمن قامت به، ومِنْ رَبِّكُمْ متعلق بجاء ومِنْ ابتدائية أو بمحذوف وقع صفة لموعظة ومِنْ تبعيضية والكلام على حذف مضاف أي موعظة من مواعظ ربكم ولِما إما متعلق بما عنده واللام مقوية وإما متعلق بمحذوف وقع نعتا له وكذا يقال على ما قيل فيما بعد، والمراد قد جاءكم كتاب جامع لهذه الفوائد والمنافع كاشف عن أحوال الأعمال حسناتها وسيئاتها مرغب في الأولى ورادع عن الأخرى ومبين للمعارف الحقة المزيلة لأدواء الشكوك وسوء مزاج الاعتقاد وهاد إلى طريق الحق واليقين بالإرشاد إلى الاستدلال بالدلائل الآفاقية والأنفسية ورحمة للمؤمنين حيث نجوا به من ظلمات الكفر والضلال إلى نور الإيمان وتخلصوا من دركات النيران الجزء: 6 ¦ الصفحة: 131 وارتقوا إلى درجات الجنان. قال بعض المحققين: إن في ذلك إشارة إلى أن للنفس الإنسانية مراتب كمال من تمسك بالقرآن فاز بها. أحدها تهذيب الظاهر عن فعل ما لا ينبغي وإليه الإشارة «بالموعظة» بناء على أن فيها الزجر عن المعاصي وثانيها تهذيب الباطن عن العقائد الفاسدة والملكات الردية وإليه الإشارة ب شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وثالثها تحلي النفس بالعقائد الحقة والأخلاق الفاضلة ولا يحصل ذلك إلا بالهدى. ورابعها تجلي أنوار الرحمة الإلهية وتختص بالنفوس الكاملة المستعدة بما حصل لها من الكمال الظاهر والباطن لذلك. وقال الإمام: الموعظة إشارة إلى تطهر ظواهر الخلق عما لا ينبغي وهو الشريعة، والشفاء إلى تطهر الأرواح عن العقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة وهو الطريقة، والهدى إلى ظهور الحق في قلوب الصديقين وهو الحقيقة، والرحمة إلى بلوغ الكمال والإشراق حتى يكمل غيره ويفيض عليه وهو النبوة والخلافة فهذه درجات لا يمكن فيها تقديم ولا تأخير، ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر جدا والذي يقتضيه الظاهر كون المذكورات أوصافا للقرآن باعتبار كونه سببا وآلة لها، وجعلت عينه مبالغة وبينها تلازم في الجملة، والتنكير فيها للتفخيم، والهداية إن أخذت بمعنى الدلالة مطلقا فعامة أو بمعنى الدلالة الموصولة فخاصة وحينئذ يكون لِلْمُؤْمِنِينَ قيد الأمرين، ويؤيد تقييد الهدى بذلك قوله سبحانه: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] فالقرآن واعظ بما فيه من الترهيب والترغيب أو بما فيه من الزجر عن المعاصي كيفما كانت المقترن بالتخويف فقط بناء على التفسير الثاني للموعظة، وشاف لما في الصدور من الأدواء المفضية إلى الهلاك كالجهل والشك والشرك والنفاق وغيرها، ومرشد ببيان ما يليق وما لا يليق إلى ما فيه النجاة والفوز بالنعيم الدائم أو موصول إلى ذلك، وسبب الرحمة للمؤمنين الذين آمنوا به وامتثلوا ما فيه من الأحكام، وأما إذا ارتكب خلاف الظاهر فيقال غير ما قيل أيضا مما ستراه إن شاء الله تعالى في باب الإشارة. واستدل كما قال الجلال السيوطي بالآية على أن القرآن يشفي من الأمراض البدنية كما يشفي من الأمراض القلبية فقد أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: إني أشتكي صدري فقال عليه الصلاة والسلام: «اقرأ القرآن يقول الله تعالى شفاء لما في الصدور» وأخرج البيهقي في الشعب عن واثلة بن الأسقع أن رجلا شكا إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وجع حلقه فقال: «عليك بقراءة القرآن» وأنت تعلم أن الاستدلال بها على ذلك مما لا يكاد يسلم، والخبر الثاني لا يدل عليه إذ ليس فيه أكثر من أمره صلّى الله عليه وسلم الشاكي بقراءة القرآن إرشادا له إلى ما ينفعه ويزول به وجعه ونحن لا ننكر أن لقراءة القرآن بركة قد يذهب الله تعالى بسببها الأمراض والأوجاع وإنما ننكر الاستدلال بالآية على ذلك والخبر الأول وإن كان ظاهرا في المقصود لكن ينبغي تأويله كأن يقال: لعله صلّى الله عليه وسلم اطلع على أن في صدر الرجل مرضا معنويا قلبيا قد صار سببا للمرض الحسي البدني فأمره عليه الصلاة والسلام بقراءة القرآن ليزول عنه الأول فيزول الثاني، ولا يستبعد كون بعض الأمراض القلبية قد يكون سببا لبعض الأمراض القالبية فإنا نرى أن نحو الحسد والحقد قد يكون سببا لذلك، ومن كلامهم: لله تعالى در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله: وهذا أولى من إخراج الكلام مخرج الأسلوب الحكيم. والحسن البصري ينكر كون القرآن شفاء للأمراض، فقد أخرج أبو الشيخ عنه، أنه قال: إنّ الله تعالى جعل القرآن شفاء لما في الصدور ولم يجعله شفاء لأمراضكم، والحق ما ذكرنا قُلْ تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليأمر الناس بأن يغتنموا ما في القرآن العظيم من الفضل والرحمة أي قل لهم بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ متعلق بمحذوف، وأصل الكلام ليفرحوا بفضل الله تعالى وبرحمته ثم قدم الجار والمجرور على الفعل لإفادة اختصاصه بالمجرور ثم أدخل عليه الفاء لإفادة معنى السببية فصار بفضل الله وبرحمته فليفرحوا ثم جيء بقوله سبحانه: فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا للتأكيد والتقرير ثم حذف الفعل الأول لدلالة الثاني عليه، والفاء الأولى قيل جزائية والثانية زائدة للتأكيد، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 132 والأصل أن فرحوا بشيء فبذلك ليفرحوا لا بشيء آخر ثم زيدت الفاء لما ذكر ثم حذف الشرط، وقيل: إن الأولى هي الزائدة لأن جواب الشرط في الحقيقة فليفرحوا- وبذلك- مقدم من تأخير لما أشير إليه، وزيدت فيه الفاء للتحسين، ولذلك جوز أن يكون بدلا من قوله سبحانه: بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ وحينئذ لا يحتاج إلى القول بحذف متعلقه ونظير ذلك في الاختلاف في تعيين الزائد فيه قول النمر بن تولب: لا تجزعي إن منفسا أهلكته ... فإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي ومن غريب العربية ما أشار إليه بعضهم أن الآية من باب الاشتغال وقد أقيم اسم الإشارة مقام ضمير المعمول وتوحيده باعتبار ما ذكر ونحوه كما هو شائع فيه، ووجه غرابته أن المعروف في شرط الباب اشتغال العامل بضمير المعمول ولم يذكر أحد من النحاة اشتغاله باسم الإشارة إليه، وجوز أن يقدر متعلق الجار والمجرور فليعتنوا أي بفضل الله ورحمته فليعتنوا فبذلك فليفرحوا، والقرينة على تقدير ذلك أن ما يفرح به يكون مما يعتنى ويهتم بشأنه، أو تقديم الجار والمجرور على ما قيل، وقال الحلبي: الدلالة عليه من السياق واضحة وليس شرط الدلالة أن تكون لفظية، فقول أبي حيان: إن ذلك إضمار لا دليل عليه ما لا وجه له، وأن يقدر جاءتكم بعد قُلْ مدلولا عليه بما قبل أي قل جاءتكم موعظة وشفاء وهدى ورحمة بفضل الله وبرحمته ولا يجوز تعلقه بجاءتكم المذكور لأن قُلْ تمنع من ذلك،- وذلك- على هذا إشارة إلى المصدر المفهوم من الفعل وهو المجيء أي فبمجيء المذكورات فليفرحوا، وتكرير الباء في برحمته على سائر الأوجه للإيذان باستقلالها في استيجاب الفرح، والمراد بالفضل والرحمة إما الجنس ويدخل فيه ما في مجيء القرآن من الفضل والرحمة دخولا أوليا وإما ما في مجيئه من ذلك، ويؤيده ما روي عن مجاهد أن المراد بالفضل والرحمة القرآن. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن أنس قال قال: «رسول الله صلّى الله عليه وسلم فضل الله القرآن ورحمته أن جعلكم من أهله» وروي ذلك عن البراء وأبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهما موقوفا. وجاء عن جمع جم أن الفضل القرآن والرحمة الإسلام وهو في معنى الحديث المذكور. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الفضل القرآن والرحمة الإسلام وهو في معنى الحديث المذكور. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الفضل العلم والرحمة محمد صلّى الله عليه وسلم. وأخرج الخطيب، وابن عساكر عنه تفسير الفضل بالنبي عليه الصلاة والسلام والرحمة بعلي كرم الله تعالى وجهه، والمشهور وصف النبي صلّى الله عليه وسلم بالرحمة كما يرشد إليه قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] دون الأمير كرم الله تعالى وجهه، وإن كان رحمة جليلة رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وقيل: المراد بهما الجنة والنجاة من النار وقيل غير ذلك، ولا يجوز أن يراد بالرحمة على الوجه الأخير من أوجه الإعراب ما أريد بها أولا بل هي فيه غير الأولى كما لا يخفى. وروى رويس عن يعقوب أنه قرأ «فلتفرحوا» بتاء الخطاب ولام الأمر على أصل المخاطب المتروك بناء على القول بأن أصل صيغة الأمر الأمر باللام فحذفت مع تاء المضارعة واجتلبت همزة الوصل للتوصل إلى الابتداء بالساكن لا على القول بأنها صيغة أصلية، وقد وردت هذه القراءة في حديث صحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلم، وقد أخرجه جماعة منهم أبو داود وأحمد والبيهقي من طرق عن أبي ابن كعب رضي الله تعالى عنه مرفوعا، وقرأ بها أيضا ابن عباس وقتادة وغيرهما. وفي تعليقات الزمخشري على كشافه كأنه صلّى الله عليه وسلم إنما آثر القراءة بالأصل لأنه أدل على الأمر بالفرح وأشد تصريحا به إيذانا بأن الفرح بفضل الله تعالى وبرحمته بليغ التوصية به ليطابق التقرير والتكرير وتضمين معنى الشرط لذلك، ونظيره مما انقلب فيه ما ليس بفصيح فصيحا قوله سبحانه: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص: 4] من تقديم الظرف اللغو ليكون الغرض اختصاص التوحيد انتهى، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 133 وهو مأخوذ من كلام ابن جني في توجيه ذلك، ونقل عن شرح اللب في توجيهه أنه لما كان النبي صلّى الله عليه وسلم مبعوثا إلى الحاضر والغائب جمع بين اللام والتاء قيل: وكأنه عنى أن الأمر لما كان لجملة المؤمنين حاضرهم وغائبهم غلب الحاضرون في الخطاب على الغائبين وأتى باللام رعاية لأمر الغائبين، وهي نكتة بديعة إلا أنه أمر محتمل، وما نقل عن صاحب الكشاف أولى بالقبول. وقرىء «فافرحوا» وهي تؤيد القراءة السابقة لأنها أمر المخاطب على الأصل. وقرىء «فليفرحوا» بكسر اللام هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من الأموال والحرث والأنعام وسائر حطام الدنيا فإنها صائرة إلى الزوال مشرفة عليه وهو راجع إلى لفظ ذلك باعتبار مدلوله وهو مفرد فروعي لفظه وإن كان عبارة عن الفضل والرحمة. ويجوز إرجاع الضمير إليهما ابتداء بتأويل المذكور كما فعل في ذلك أو جعلهما في حكم شيء واحد، ولك أن تجعله راجعا إلى المصدر أعني المجيء الذي أشير إليه وما تحتمل الموصولية والمصدرية. وقرأ ابن عامر «تجمعون» بالخطاب لمن خوطب ب يا أَيُّهَا النَّاسُ سواء كان عاما أو خاصا بكفار قريش، وضمير فَلْيَفْرَحُوا للمؤمنين أي فبذلك فليفرح المؤمنون فهو خير مما تجمعون أيها المخاطبون وعلى قراءة «فلتفرحوا» «وافرحوا» يكون الخطاب على ما قيل للمؤمنين، وجوز أن يكون لهم على قراءة الغيبة أيضا التفاتا، وتعقب بأن الجمع أنسب بغيرهم وإن صح وصفهم به في الجملة فلا ينبغي أن يلتزم القول بما يستلزمه ما دام مندوحة عنه. قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ أي ما قدر لانتفاعكم من ذلك وإلا فالرزق ليس كله منزلا، واستعمال أنزل فيما ذكر مجاز من إطلاق المسبب على السبب، وجوز أن يكون الإسناد مجازيا بأن أسند الإنزال إلى الرزق لأن سببه كالمطر منزل، وقيل: إن هناك استعارة مكنية تخيلية وهو بعيد. وجعل الرزق مجازا عن سببه أو تقدير لفظ سبب مما لا ينبغي وما إما موصولة في موضع النصب على أنها مفعول أول- لأرأيتم- والعائد محذوف أي أنزله والمفعول الثاني ما ستراه إن شاء الله تعالى قريبا وما استفهامية في موضع النصب على أنه مفعول أَنْزَلَ وقدم عليه لصدارته، وهو معلق لما قبله إن قلنا بالتعليق فيه أي أي شيء أنزل الله تعالى من رزق فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا أي فبعضتموه وقسمتموه إلى حرام وحلال وقلتم، هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ [الأنعام: 138] وما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا [الأنعام: 139] إلى غير ذلك. قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ في جعل البعض منه حراما والبعض الآخر حلالا أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ أَمْ والهمزة متعادلتان والجملة في موضع المفعول الثاني- لأرأيتم- وقُلْ مكرر للتأكيد فلا يمنع من ذلك، والعائد على المفعول الأول مقدر، والمعنى أرأيتم الذي أنزله الله تعالى لكم من رزق ففعلتم فيه ما فعلتم أي الأمرين كائن فيه الأذن فيه من الله تعالى بجعله قسمين أم الافتراء منكم، وكان أصل آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ إلخ آلله أذن أم غيره فعدل إلى ما في النظم الجليل دلالة على أن الثابت هو الشق الثاني وهم نسبوا ذلك إليه سبحانه فهم مفترون عليه جل شأنه لا على غيره وفيه زجر عظيم كما لا يخفى، ولعل هذا مراد من قال: إن الاستفهام للاستخبار ولم يقصد به حقيقته لينافي تحقق العلم بانتفاء الإذن وثبوت الافتراء بل قصد به التقرير والوعيد وإلزام الحجة. وجوز أن يكون الاستفهام لإنكار الإذن وتكون أَمْ منقطعة بمعنى بل الاضرابية، والمقصود الاضراب عن ذلك لتقرير افترائهم، والجملة على هذا معمولة للقول وليست متعلقة- بأرأيتم- وهو قد اكتفى بالجملة الأولى كما أشرنا إليه، ومن الناس من جوز كون أَمْ متصلة وكونها منفصلة على تقدير تعلق الجملة بفعل القول وأوجب الاتصال على تقدير تعلقها- بأرأيتم- وجعل الاسم الجليل مبتدأ مخبرا عنه بالجملة للتخصيص عند بعض ولتقوية الجزء: 6 ¦ الصفحة: 134 الحكم عند آخر، والإظهار بعد في مقام الإضمار للإيذان بكمال قبح افترائهم، وتقديم الجار والمجرور للقصر مطلقا في رأي ولمراعاة الفواصل على الوجه الأول وللقصر على الوجه الثاني في آخر. واستدل المعتزلة بالآية على أن الحرام ليس برزق ولا دليل لهم فيها على ما ذكرناه لأن المقدر للانتفاع هو الحلال فيكون المذكور هنا قسما من الرزق وهو شامل للحلال والحرام والكفرة إنما أخطؤوا في جعل بعض الحلال حراما، ومن جعل أهل السنة نظيرا لهم في جعلهم الرزق مطلقا منقسما إلى قسمين فقد أعظم الفرية وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ كلام مسوق من جهته تعالى لبيان هول ما سيلقونه غير داخل تحت القول المأمور به، والتعبير عنهم بالموصول لقطع احتمال الشق الأول من الترديد والتسجيل عليهم بالافتراء، وزيادة الكذب مع أن الافتراء لا يكون إلا كذلك لإظهار كمال قبح ما افتعلوا وكونه كذبا في اعتقادهم أيضا، وما استفهامية مبتدأ وظَنُّ خبرها هو مصدر مضاف إلى فاعله ومفعولاه محذوفان. وقوله سبحانه: يَوْمَ الْقِيامَةِ ظرف لنفس الظن لا بيفترون لعدم صحته معنى ولا بمقدر لأن التقدير خلاف الظاهر، أي أي شيء ظنهم في ذلك اليوم أني فاعل بهم، والمقصود التهديد والوعيد، ويدل على تعلقه بالظن قراءة عيسى بن عمر وَما ظَنُّ بصيغة الماضي وما في هذه القراءة بمعنى الظن في محل نصب على المصدرية، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع وأكثر أحوال القيامة يعبر عنها بذلك في القرآن لما ذكر، والعمل في الظرف المستقبل لا يمنع لتصييره الفعل نصا في الاستقبال التجوز المذكور لأنه يقدر لتحققه أيضا ماضيا، وقيل: الظرف متعلق بما يتعلق به ظنهم اليوم من الأمور التي ستقع يوم القيامة تنزيلا له ولما يقع فيه من الأهوال لمكان وضوح أمره في التحقق والتقرر منزلة المسلم عندهم، أي أي شيء ظنهم لما سيقع يوم القيامة أيحسبون أنهم لا يسألون عن افترائهم أو لا يجازون جزاء يسيرا ولذلك ما يفعلون يفعلون كلا إنهم لفي أشد العذاب لأن معصيتهم أشد المعاصي، والآية السابقة قيل متصلة بقوله سبحانه: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [يونس: 31] إلخ كأنه قيل: حيث أقروا أنه سبحانه الرازق قل لهم أرأيتم ما أنزل الله إلخ ونقل ذلك عن أبي مسلم، وقيل: بقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إلخ، وذلك أنه جل شأنه لما وصف القرآن بما وصفه وأمر نبيه صلّى الله عليه وسلم أن يرغب باغتنام ما فيه عقب ذلك بذكر مخالفتهم لما جاء به وتحريمهم ما أحل، وقيل: إنها متصلة بالآيات الناعية عليهم سوء اعتقادهم كأنه سبحانه بعد أن نعي عليهم أصولهم بين بطلان فروعهم، ولعل خير الثلاثة وسطها. إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ أي عظيم لا يقدر قدره ولا يكتنه كنهه عَلَى النَّاسِ جميعا حيث أنعم عليهم بالعقل ورحمهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب وبين لهم ما لا تستقل عقولهم بإدراكه وأرشدهم إلى ما يهمهم من أمر المعاش والمعاد ورغبهم ورهبهم وشرح لهم الأحوال وما يلقاه الحائد عن الرشاد من الأهوال. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ ذلك الفضل فلا ينتفعون به، ولعل الجملة تذييل لما سبق مقرر لمضمونه. وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ أي في أمر معتنى به، من شأنه بالهمز كسأله إذا قصده وقد تبدل همزته ألفا، وهو في الأصل مصدر وقد أريد المفعول وَما تَتْلُوا مِنْهُ الضمير المجرور للشأن والتلاوة أعظم شؤونه صلّى الله عليه وسلم ولذا خصت بالذكر أو للتنزيل، والإضمار قبل الذكر لتفخيم شأنه أو لله عز وجل، ومِنْ قيل تبعيضية على الاحتمالين الأولين وابتدائية على الثالث والتي في قوله سبحانه: مِنْ قُرْآنٍ زائدة لتأكيد النفي على جميع التقادير وإلى ذلك ذهب القطب. وقال الطيبي: إن مِنْ الأولى على الاحتمال الأخير ابتدائية والثانية مزيدة، وعلى الاحتمال الأولى الأولى للتبعيض والثانية للبيان، وعلى الثاني الأولى ابتدائية والثانية للبيان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 135 وفي إرشاد العقل السليم أن الضمير الأول للشأن والظرف صفة لمصدر محذوف أي تلاوة كائنة من الشأن أو للتنزيل ومِنْ ابتدائية أو تبعيضية أو لله تعالى شأنه ومِنْ الثانية مزيدة وابتدائية على الوجه الأول وبيانية أو تبعيضية على الوجه الثاني والثالث. وأنت تعلم أنه قد يكون الظرف متعلقا بما عنده، والتزام تعلقه بمحذوف وقع صفة لمصدر كذلك في جميع الاحتمالات مما لا حاجة إليه. نعم اللازم بناء على المشهور أن لا يتعلق حرفان بمعنى بمتعلق واحد، وذهب أبو البقاء إلى أن الضمير الأول للشأن و «من» الأولى للأجل كما في قوله سبحانه: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا [نوح: 25] ومِنْ الثانية مزيدة وما بعدها مفعول به- لتتلو- وله وجه، ومما يقضي منه العجب ما قاله بعضهم إنه يحتمل أن يكون ضمير مِنْهُ للشأن إما على تقدير ما تتلو حال كون القراءة بعض شؤونك وإما أن يحمل الكلام على حذف المضاف أي وما تتلو من أجل الشأن بأن يحدث لك شأن فتتلو القرآن من أجله فإن الحالية مما لا تكاد تخطر ببال من له أدنى ذوق في العربية ولم نر القول بتقدير مضاف في الكلام إذا كان فيه مِنْ الأجلية أو نحوها، وما في كلام غير واحد من الأفاضل في أمثال ذلك تقدير معنى لا تقدير إعراب، ويبعد حمل هذا البعض على ذلك كما لا يخفى «هذا» ثم إن القرآن عام للمقروء كلّا وبعضا وهو حقيقة في كل كما حقق في موضعه، والقول بأنه مجاز في البعض بإطلاق الكل وإرادة الجزء مما لا يلتفت إليه وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ أي أي عمل كان، والخطاب الأول خاص برأس النوع الإنساني وسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلم وهذا عام ويشمل سائر العباد برهم وفاجرهم لا الأخيرين فقط، وقد روعي في كل من المقامين ما يليق به فعبر في مقام الخصوص في الأول بالشأن لأن عمل العظيم عظيم وفي الثاني بالعمل العام للجليل والحقير، وقيل: الخطاب الأول عام للأمة أيضا كما في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطلاق: 1] إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً استثناء مفرغ من أعم أحوال المخاطبين بالأفعال الثلاثة أي وما تلابسون بشيء منها في حال من الأحوال إلا حال كوننا رقباء مطلعين عليه حافظين له كذا قالوا، ويفهم منه أن الجار والمجرور متعلق بما بعده، ولعل تقديمه للاهتمام بتخويف من أريد تخويفه من المخاطبين، وكأنه للمبالغة فيه جيء بضمير العظمة، وأن المقصود من الاطلاع عليهم الاطلاع على عملهم إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ أي تشرعون فيه وتتلبسون به، وأصل الإفاضة الاندفاع بكثرة أو بقوة، وحيث أريد بالأفعال السابقة الحالة المستمرة الدائمة المقارنة للزمان الماضي أيضا أوثر في الاستثناء صيغة الماضي، وفي الظرف كلمة إِذا التي تفيد المضارع معنى الماضي كذا قيل، ولم أر من تعرض لبيان وجه اختيار النفي- بما- التي تخلص المضارع للحال عند الجمهور عند انتفاء قرينة خلافه في الجملتين الأوليين والنفي- بلا- التي تخلص المضارع للاستقبال عند الأكثرين خلافا لابن مالك في الجملة الثالثة، ولعل ذلك من آثار اختلاف الخطاب خصوصا وعموما فتأمله فإنه دقيق جدا وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ أي ما يبعد وما يغيب، ومنه يقال: الروض العازب وروض عزيب إذا كان بعيدا من الناس، والكلام على حذف مضاف أي وما يعزب عن علم ربك عز وجل أو هو كناية عن ذلك، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلّى الله عليه وسلم من الإشعار باللطف ما لا يخفى. وقرأ الكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب بكسر الزاي مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ مِنْ مزيدة لتأكيد النفي، والمثقال اسم لما يوازن الشيء ويكون في ثقله وهو في الشرع أربعة وعشرون قيراطا. وأخرج ذلك ابن أبي حاتم في تفسيره عن أبي جعفر، والصحيح أنه لم يختلف جاهلية وإسلاما فقد نقل الجلال السيوطي عن الرافعي أنه قال: أجمع أهل العصر الأول على التقدير بهذا الوزن وهو أن الدرهم ستة دوانيق وكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل ولم يتغير المثقال في الجاهلية ولا في الإسلام. والذرة واحدة الذر وهو النمل الأحمر الصغير، وسئل ثعلب عنها فقال: إن مائة نملة وزن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 136 حبة والذرة واحدة منها، وقيل: الذرة ليس لها وزن ويراد بها ما يرى في شعاع الشمس الداخل في النافذة فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ أي في جهتي السفل والعلو أو في دائرة الوجود والإمكان لأن العامة لا تعرف سواهما ممكنا ليس فيهما ولا متعلقا بهما، والكلام شامل لهما أنفسهما أيضا كما لا يخفى، وتقديم الأرض على السماء مع أنها قدمت عليها في كثير من المواضع ووقعت أيضا في سبأ في نظير هذه الآية مقدمة لأن الكلام في حال أهلها والمقصود إقامة البرهان على إحاطة علمه سبحانه بتفاصيلها، وذكر السماء لئلا يتوهم اختصاص إحاطة علمه جل وعلا بشيء دون شيء، وحاصل الاستدلال أنه سبحانه لا يغيب عنه شيء ومن يكون هذا شأنه كيف لا يعلم حال أهل الأرض وما هم عليه مع نبيه صلّى الله عليه وسلم، وقوله سبحانه: وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ جملة مستقلة ليست معطوفة على ما قبلها، ولا نافية للجنس وأَصْغَرَ اسمها منصوب لشبهه بالمضاف وكذا أَكْبَرَ لتقدير عمله، وقول السمين: إنهما مبنيان على الفتح ضعيف وهو مذهب البغداديين، وزعم أنه سبق قلم متأخر عن حيز القبول، وفِي كِتابٍ متعلق بمحذوف وقع خبرا. وقرأ حمزة ويعقوب وخلف وسهل بالرفع على الابتداء والخبر، ولا يجوز إلغاؤها إذا تكررت، وأما قولهم: إن الشبيه بالمضاف يجب نصبه فالمراد منه المنع من البناء لا المنع من الرفع والإلغاء كما توهمه بعضهم، وجوز أن يكون ذلك على جعل لا عاملة عمل ليس، وقيل: إن أَصْغَرَ على القراءة الأولى عطف على مِثْقالِ أو ذَرَّةٍ باعتبار اللفظ، وجيء بالفتح بدلا عن الكسر لأنه لا ينصرف للوصف ووزن الفعل، وعلى القراءة الأخرى معطوف على مِثْقالِ باعتبار محله لأنه فاعل، ومِنْ كما عرفت مزيد. واستشكل بأنه يصير التقدير ولا يعزب عنه أصغر من ذلك ولا أكبر منه إلا في كتاب فيعزب عنه ومعناه غير صحيح. وأجيب بأن هذا على تقدير اتصال الاستثناء وأما على تقدير انقطاعه فيصير التقدير لكن لا أصغر ولا أكبر إلا هو في كتاب مبين، وهو مؤكد لقوله سبحانه: لا يَعْزُبُ عَنْهُ [سبأ: 3] إلخ، وأجاب بعضهم على تقدير الاتصال بأنه على حد لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدخان: 56] وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [النساء: 23] في رأي، فالمعنى لا يبعد عن علمه شيء إلا ما في اللوح الذي هو محل صور معلوماته تعالى شأنه بناء على تفسير الكتاب المبين به أو إلا ما في علمه بناء على ما قيل: إن الكتاب العلم، فإن عد ذلك من العزوب فهو عازب عن علمه وظاهر أنه ليس من العزوب قطعا فلا يعزب عن علمه شيء قطعا. ونقل عن بعض المحققين في دفع الإشكال أن العزوب عبارة عن مطلق البعد، والمخلوقات قسمان قسم أوجده الله تعالى من غير واسطة كالأرض والسماء والملائكة عليهم السلام وقسم أوجده بواسطة القسم الأول مثل الحوادث في العالم وقد تتباعد سلسلة العلية والمعلولية عن مرتبة وجود واجب الوجود سبحانه، فالمعنى لا يبعد عن مرتبة وجوده تعالى ذرة في الأرض ولا في السماء إلا وهو في كتاب مبين أثبت فيه سبحانه تلك المعلومات، فهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال، وإثبات العزوب بمعنى البعد عنه تعالى في سلسلة الإيجاد لا محذور فيه وهو وجه دقيق إلا أنه أشبه بتدقيقات الحكماء وإن خالف ما هم عليه في الجملة. وقال الكواشي: معنى يعزب يبين وينفصل، أي لا يصدر عن ربك شيء من خلقه ألا وهو في اللوح وتلخيصه أن كل شيء مكتوب فيه. واعترض بأن تفسيره يبين وينفصل غير معروف، وقيل: المراد بالبعد عن الرب سبحانه البعد والخروج عن غيبه أي لا يخرج عن غيبه إلا ما كان في اللوح فيعزب عن الغيب ويبعد إذ لا يبقى ذلك غيبا حينئذ لاطلاع الملائكة عليهم السلام وغيرهم عليه فيفيد إحاطة علمه سبحانه بالغيب والشهادة. ومن هنا يظهر وجه آخر لتقديم الأرض على السماء، وقيل: إن إِلَّا عاطفة بمنزلة الواو كما قال بذلك الفراء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 137 في قوله تعالى: لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ [النمل: 10، 11] والأخفش في قوله سبحانه: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [البقرة: 15] وقوم في قوله جل شأنه: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ [النجم: 32] وهو مقدر بعدها، والكلام قد تم عند قوله سبحانه: وَلا أَكْبَرَ ثم ابتدأ بقوله تعالى: إِلَّا فِي كِتابٍ أي وهو في كتاب ونقل ذلك مكي عن أبي علي الحسن بن يحيى الجرجاني ثم قال: وهو قول حسن لولا أن جميع البصريين لا يعرفون إِلَّا بمعنى الواو، والإنصاف أنه لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى العزيز على ذلك ولو اجتمع الخلق إنسهم وجنهم على مجيء إلا بمعنى الواو، وقيل: إن الاستثناء من محذوف دل عليه الكلام السابق أي ولا شيء إلا في كتاب ونظيره ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 38] ويكون من مجموع ذلك إثبات العلم لله تعالى في كل معلوم وإن كل شيء مكتوب في الكتاب، ويشهد لهذا على ما قيل كثير من أساليب كلام العرب. ونقل عن صاحب كتاب تبصرة المتذكر أنه يجوز أن يكون الاستثناء متصلا بما قبل قوله تعالى: ولا يَعْزُبُ ويكون في الآية تقديم وتأخير، وترتيبها وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا في كتاب مبين إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه إلي ولا أكبر، وتلخيصه وما من شيء إلا وهو في اللوح المحفوظ ونحن نشاهده في كل آن. ونظر فيه البلقيني في رسالته المسماة بالاستغناء بالفتح المبين في الاستثناء في وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ بأنه على ما فيه من التكلف يلزم عليه القول بتركيب في الكلام المجيد لم يوجد في كلام العرب مثله أعني إلا في كتاب مبين إلا كنا عليكم شهودا وليس ذلك نظير. أمر ربهم إلا الفتى إلا العلا. كما لا يخفى. وأنت تعلم أن أقل الأقوال تكلفا القول بالانقطاع، وأجلها قدرا وأدقها سرا القول بالاتصال وإخراج الكلام مخرج إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [النساء: 22، 23] ونظائره الكثيرة نثرا ونظما، ولا عيب فيه إلا أن الآية عليه أبلغ فليفهم، ثم إنه تعالى لما عمم وعده ووعيده في حق كافة من أطاع وعصي أتبعه سبحانه بشرح أحوال أوليائه تعالى المخلصين فقال عز من قائل: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وفي إرشاد العقل السليم أنه بيان على وجه التبشير والوعد لما هو نتيجة لأعمال المؤمنين وغاية لما ذكر قبله من كونه سبحانه مهيمنا على نبيه صلّى الله عليه وسلم وأمته في كل ما يأتون ويذرون وإحاطة علمه جل وعلا بعد ما أشير إلى فظاعة حال المفترين على الله تعالى يوم القيامة وما سيعتريهم من الهول إشارة إجمالية على طريق التهديد والوعيد، وصدرت الجملة بحرف التنبيه والتحقيق لزيادة تقرير مضمونها، والأولياء جمع ولي من الولي بمعنى القرب والدنو يقال: تباعد بعد ولي أي قرب، والمراد بهم خلص المؤمنين لقربهم الروحاني منه سبحانه كما يفصح عنه تفسيرهم الآتي، ويفسر الولي بالمحب وبين المعنيين تلازم، وسيأتي تمام الكلام على ذلك قريبا إن شاء الله تعالى، وجاء بمعنى النصير ويشير كلام البعض إلى صحة اعتبار هذا المعنى هنا، والمراد من الجملتين المنفيتين المتعاطفتين دوام انتفاء مدلولهما كما مر تحقيقه غير مرة، قيل: والمعنى لا خوف عليهم من لحوق مكروه ولا هم يحزنون من فوات مطلوب في جميع الأوقات أي لا يعتريهم ما يوجب ذلك أصلا لا أنه يعتريهم لكنهم لا يخافون ولا يحزنون ولا أنه لا يعتريهم خوف وحزن أصلا بل يستمرون على النشاط والسرور، كيف لا واستشعار الخوف استعظاما لجلال الله تعالى واستقصارا للجد والسعي في إقامة حقوق العبودية من خصائص الخواص والمقربين بل كلما ازداد العبد قربا من ربه سبحانه ازداد خوفا وخشية منه سبحانه، ويرشد إلى ذلك غير ما خبر وقوله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] وإنما لا يعتريهم ذلك لأن مقصدهم ليس إلا الله تعالى ونيل رضوانه المستتبع للكرامة والزلفى وذلك مما لا ريب في حصوله ولا احتمال لفواته بموجب الوعد الإلهي، وأما ما عدا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 138 ذلك من الأمور الدنيوية المترددة بين الحصول والفوات فهي عندهم أحقر من ذبالة (1) عند الحجاج بل الدنيا بأسرها في أعينهم أقذر من ذراع خنزير ميت بال عليه كلب في يد مجذوم فهيهات أن تنتظم في سلك مقصدهم وجودا وعدما حتى يخافوا من حصول ضارها أو يحزنوا من فوات نافعها. وقيل: المراد بانتفاء الخوف والحزن أمنهم من ذلك يوم القيامة بعد تحقق ما لهم من القرب والسعادة وإلا فالخوف والحزن يعرضان لهم قبل ذلك سواء كان سببهما دنيويا أو أخرويا، ولا يجوز أن يراد أمنهم مما ذكر في الدنيا أو فيما يعمها والآخرة لأن في ذلك أمنا من مكر الله تعالى فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ [الأعراف: 99] وهذا مبني على أن الخوف المنفي مسند إليهم وليس بالمتعين، فقد ذهب بعض الجلة إلى أنه مسند إلى غيرهم أي غيرهم لا يخاف عليهم ولا يلزم من ذلك أنهم لا يخافون ليجيء حديث لزوم الأمن، وجعل ذلك نكتة اختلاف أسلوب الجملتين. والعدول عن لا هم يخافون الأنسب- بل هم يحزنون- إلى ما في النظم الجليل، وقد يقال: إذا كان المراد أنهم لا يعتريهم ما يوجب الخوف والحزن لا يبقى لحديث لزوم الأمن من مكر الله تعالى مجال على ما لا يخفى على المتدبر لكن لا يظهر عليه نكتة اختلاف أسلوب الجملتين وكونها اختلاف شأن الخوف والحزن بشيوع وصف الأخير بعدم الثبات كما قيل: فلا حزن يدوم ولا سرور دون الأول ولذا ناسب أن يعبر بالاسم في الأول وبالفعل المفيد للحدوث التجدد في الثاني كما ترى. وقيل: إن المراد نفي استيلاء الخوف عليهم ونفي الحزن أصلا ومفاد ذلك اتصافهم بالخوف في الجملة، ففيه إشارة إلى أنهم بين الرجاء والخوف غير آيسين ولا آمنين، ولهذا لم يؤت بالجملتين على طرز واحد، وكذا لم يقل لا خوف لهم مثلا، والأوجه عندي ما نقل عن بعض الجلة من أن معنى لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ لا يخاف عليهم غيرهم ويجعل الجملة الأولى عليه كناية عن حسن حالهم، وأنت في الجملة الثانية بالخيار، والخوف على ما قال الراغب توقع المكروه وضده الأمن، والحزن من الحزن بالفتح وهو خشونة في النفس لما يحصل من الغم ويضاده الفرح، وعلى هذا قالوا في بيان المعنى لا خوف عليهم من لحوق مكروه ولا هم يحزنون من فوات مأمول الَّذِينَ آمَنُوا أي بكل ما جاء من عند الله تعالى وَكانُوا يَتَّقُونَ عما يحق الاتقاء منه من الأفعال والتروك اتقاء دائما حسبما يفيده الجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل والموصول في محل الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، والجملة استئناف بياني كأنه قيل: من أولئك وما سبب فوزهم بما أشار إليه الكلام السابق؟ فقيل: هم الذين جمعوا بين الإيمان والتقوى المفضيين إلى كل خير المجنبين عن كل شر؟ ولك أن تقصر في السؤال على من أولئك فيكون ذلك بيانا وتفسيرا للمراد من الأولياء فقط، وعلى الأول هذا مع الإشارة إلى ما به نالوا مالوا، وقيل: محله النصب أو الرفع على المدح أو على أنه وصف للأولياء. ورد بأن في ذلك الفصل بين الصفة والموصوف بالخبر. وقد أباه النحاة. نعم جوزه الحفيد، وجوز فيه البدلية أيضا، والمراد من التقوى عند جمع المرتبة الثالثة منها وهي التقوى المأمور بها في قوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: 102] وفسرت بتنزه الإنسان عن كل ما يشغل سره عن الحق والتبتل إليه بالكلية، وبذلك يحصل الشهود والحضور والقرب الذي يدور إطلاق الاسم عليه، وهكذا كان حال من دخل معه صلّى الله عليه وسلم تحت   (1) قوله من ذبالة كذا في خطه رحمة الله تعالى بذال معجمة والمعروف كما في غير كتاب تبالة بتاء مفتوحة اهـ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 139 الخطاب بقوله سبحانه وتعالى: وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إلخ خلا أن لهم في شأن التبتل والتنزه درجات متفاوتة حسبما درجات تفاوت استعداداتهم، وأقصى الدرجات ما انتهى إليه همم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حتى جمعوا بذلك بين رياسة النبوة والولاية ولم يعقهم التعلق بعالم الأشباح عن الاستغراق في عالم الأرواح ولم تصدهم الملابسة بمصالح الخلق عن التبتل إلى جناب الحق سبحانه عز وجل لكمال استعداد نفوسهم الزكية المؤيدة بالقوة القدسية كذا قيل، وفي كون حال كل من دخل معه صلّى الله عليه وسلم تحت الخطاب مرادا به جميع الصحابة رضي الله تعالى عنهم ما أشار إليه من التقوى الحقيقية المأمور بها في الآية التي بها يحصل الشهود والحضور والقرب بحث، وقصارى ما تحقق بعد نزاع طويل ذكرناه في جوابنا لسؤال أهل- لاهور- أن الصحابة كلهم عدول من لابس منهم الفتنة ومن لم يلابسها ودعوى أن العدالة تستلزم الولاية بالمعنى السابق إن تمت تم المقصود وإلا فلا، والآية ظاهرة في أن الأولياء هم المؤمنون المتقون وأقل ما يكفي في إطلاق الولي التقرب إليه سبحانه بالفرائض من امتثال الأوامر واجتناب الزواجر، والأكمل التقرب إليه جل شأنه بكل ما يمكن من القرب، وفي المبين المعين الولي هو من يتولى الله تعالى بذاته أمره فلا تصرف له أصلا إذ لا وجود له ولا ذات ولا فعل ولا وصف، والتركيب يدل على القرب فكأنه قريب منه عز وجل لاستدامة عباداته واستقامة طاعاته أو لاستغراقه في بحر معرفته ومشاهدة طلعة عظمته انتهى، وفيه القول بأن الولي فعيل بمعنى مفعول، وجوز أن يكون بمعنى فاعل، وفسر بأنه من يتولى عبادة الله تعالى وطاعته على التوالي من غير تخلل معصية، وعن القشيري أن كلا الوصفين تولى الله تعالى أمره وتولية عبادة الله تعالى وطاعته شرط في الولاية غير أن الوصف الأول غالب على المجذوب المراد والثاني على السالك المريد، ولا يخفى أن هذا الكلام وكذا ما قبله يدل على أن تخلل المعصية مناف للولاية وهو الذي يشير إليه كلام غير واحد من الفضلاء، وليس في ذلك قول بالعصمة التي لم يثبتها الجماعة إلا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام بل قصارى ما فيه القول بالحفظ، وقد قيل: الأولياء محفوظون وفسر بعدم صدور الذنب مع إمكانه، والقيد لإخراج العصمة. نعم جاءت العصمة بمعنى الحفظ المفسر بما ذكر، وعلى ذلك خرج قول صاحب حزب البحر اللهم اعصمني في الحركات والسكنات لأن الدعاء بما هو من خواص الأنبياء عليهم السلام لا يجوز كالدعاء بسائر المستحيلات كما حقق في محله. وأطلق بعضهم القول بأن تخلل ذلك غير مناف احتجاجا بما حكي عن الجنيد قدس سره أنه سئل هل يزني العارف؟ فقال: نعم وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً [الأحزاب: 38] ، وتعقب بأنه محمول على الإمكان سؤالا وجوابا ولا كلام فيه وإنما الكلام في أن الوقوع مناف أو غير مناف، وقال بعضهم: لا شبهة في عدم بقاء وصف الولاية حال التلبس بالمعصية إذ لا تقوى حينئذ بالإجماع ومدار هذا الوصف عليها وكذا على الإيمان، وهو غير كامل إذ ذاك عند أهل الحق وغير متحقق أصلا بل المتحقق الفسق المعنى بالواسطة أو الكفر عند آخرين، وكذا لا شبهة في عدم منافاة وقوع المعصية الاتصاف بالولاية بعده بأن يعود من ابتلي بذلك إلى قوى الله تعالى ويتصف بما تتوقف الولاية عليه، وهو نظير من يتصف بالإيمان أو بالعدالة مثلا بعد أن لم يكن متصفا بذلك بقي الكلام في منافاة الوقوع الاتصاف قبل، فإن قيل: إنه مناف له بمعنى أنه لذلك لم يكن متصفا قبل بما هو إيمان وتقوى عند الناس فلا شبهة أيضا في عدم المنافاة بهذا المعنى وهو ظاهر وإن قيل: إنه مناف له بمعنى أنه لم يكن لذلك متصفا بما ذكر عند الله تعالى بناء على أن المراد بالتقوى التي هي شرط الولي التقوى الكاملة التي يترتب عليها حب الله تعالى المترتب عليه الحفظ كما أشير إليه فيما رواه البخاري من حديث أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن الله تعالى قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضت عليه، ولا زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 140 أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها» الحديث. وقد قال غير واحد في معنى الشرطية فإذا أحببته كنت حافظا حواسه وجوارحه فلا يسمع ولا يبصر ولا يأخذ ولا يمشي إلا فيما أرضى وأحب وينقلع عن الشهوات ويستغرق في الطاعات، وقريب منه قول الخطابي: المراد من ذلك توفيقه في الأعمال التي يباشرها بهذه الأعضاء، يعني ييسر عليه فيها سبيل ما يحبه ويعصمه عن موافقة ما يكرهه من إصغاء إلى لهو يسمعه ونظر إلى ما نهي عنه ببصره وبطش بما لا يحل بيده وسعى في باطل برجله، وكذا قول بعضهم المعنى أجعل سلطان حبي غالبا عليه حتى أسلب عنه الاهتمام بشيء غير ما يقربه إلي فيصير متخليا عن اللذات متجنبا عن الشهوات متى ما يتقلب وأينما يتوجه لقي الله تعالى بمرأى فيه ومسمع منه ويأخذ حب الله تعالى مجامع قلبه فلا يسمع ولا يرى ولا يفعل إلا ما يحبه ويكون له في ذلك عونا ومؤيدا ووكيلا يحمي جوارحه وحواسه فله وجه لأنه إذا وقعت المعصية يعلم أنه لم يكن محفوظا وبه يعلم أنه لم يكن محبوبا وبذلك يعلم أنه لم يكن متقربا إليه تعالى شأنه ومتقيا إياه حق تقاته وإن ظنه الناس كذلك فهو ليس من أوليائه سبحانه في نفس الأمر. نعم من اتصف بصفات الأولياء ظاهرا يجب تعظيمه واحترامه والتأدب معه والكف عن إيذائه بشيء من أنواع الإيذاء التي لا مسوغ لها شرعا كالإنكار عليه عنادا أو حسدا دون المنازعة في محاكمة أو خصومة راجعة لاستخراج حق أو كشف غامض ونحو ذلك لما دل عليه الحديث السابق المشتمل من تهديد المؤذي على الغاية القصوى والحكم على من ذكره لولاية إذا لم يكن هناك نص من معصوم على ما يدل على تحققها في نفس الأمر إنما هو بالنظر إلى الظاهر لا إلى ما عند الله تعالى لما أن من الذنوب ما لا يمكن أن يطلع عليه إلا علام الغيوب ومنها الذنوب القلبية التي هي أدواء قاتلة وسموم ناقعة مع أن الأعمال بخواتيمها وهي مجهولة إلا للمبدىء المعيد جل جلاله «هذا» وهو تحقيق يلوح عليه مخايل القبول، ومن الناس من قسم الولاية إلى صغرى قد يقع فيها الذنب على الندرة لكن يبادر للتنصل منه فورا وعد العلامة ابن حجر عليه الرحمة من وقع منه الذنب كذلك فبادر للتنصل منه محفوظا فالوقوع عنده على الندرة مع المبادرة للتنصل لا ينافي الحفظ وإنما ينافيه تكرر الوقوع وكثرته وكذا ندرته مع عدم المبادرة للتنصل، وكبرى لا يقع فيها الذنب أصلا مع إمكان الوقوع ولو قيل أو مع استحالته كما في ولاية الأنبياء عليهم السلام وادعى أن ذلك من خصوصيات ولايتهم فيكون الحفظ أعم من العصمة لم يبعد. وأنت تعلم أن قولهم الأنبياء معصومون ظاهر في كون العصمة من توابع النبوة ومعللة بها وهو مخالف لتلك الدعوى كما لا يخفى، وما ذكر من التقسيم حسن ويعلم منه أن الكثير ممن يدعي الولاية في زماننا أو تدعى له ليس له منها سوى الدعوى لإصراره والعياذ بالله تعالى على كبائر تقع منه في اليوم مرارا عافانا الله تعالى والمسلمين من ذلك. وقد جاء عن النبي صلّى الله عليه وسلم في تفسير الأولياء ما يظن أنه مخالف لما دلت عليه الآية في ذلك. فقد أخرج ابن المبارك، والترمذي في نوادر الأصول وأبو الشيخ وابن مردويه وآخرون عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قيل: يا رسول الله من أولياء الله؟ قال: «الذين إذا رؤوا ذكر الله تعالى» أي لحسن سمتهم وأخباتهم. وأخرج أحمد وابن أبي حاتم والبيهقي وجماعة عن أبي مالك الأشعري قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن الله تعالى عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله تعالى. قال أعرابي: يا رسول الله انعتهم لنا قال: «هم أناس من أفناء الناس ونوازع القبائل لم تصل بينهم أرحام متقاربة تحابوا في الله وتصافوا في الله يضع الله تعالى لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسون عليها يفزع الناس وهم لا يفزعون وهم أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون» ولا مخالفة في الحقيقة فإن ما أشير إليه من حسن السمت والإخبات والتحاب في الله تعالى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 141 من الأحكام اللازمة للإيمان والتقوى والآثار الخاصة بهما الحقيقة بالتخصيص بالذكر لظهورها وقربها من أفهام الناس، وقد أورد رسول الله صلّى الله عليه وسلم كلا من ذلك حسبما يقتضيه مقام الإرشاد والتذكير ترغيبا لسائل أو حاضر فيما خصه بالذكر من أحكامهما، وأريد بوصفهم بأنهم يغبطهم النبيون على مجالسهم وقربهم الإشارة إلى راحتهم مما يعتري الأنبياء عليهم السلام من الاشتغال بأممهم، والمراد أنهم يغبطونهم على مجموع الأمرين، وعن الكواشي أن ذلك خارج مخرج المبالغة، والمعنى أنه لو فرض قوم بهذه الصفة لكانوا هؤلاء. وقال بعض المحققين: إن ذلك تصوير لحسن حالهم على طريقة التمثيل، وأيا ما كان فلا دليل فيه على أن الولاية أفضل من النبوة وقد كفر معتقد ذلك، وقد يؤول له بحمل ذلك على أن ولاية النبي أفضل من نبوته كما حمل ما قاله العز بن عبد السلام المخالف للأصح من أن النبوة أفضل من الرسالة على نحو ذلك، وكذا لنظير ما ذكرنا لا يخالف ما دلت الآية عليه تفسير عيسى عليه السلام لذلك. فقد أخرج أحمد في الزهد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن وهب قال: قال الحواريون: يا عيسى من أولياء الله تعالى الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟ فقال عليه السلام: الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها والذين نظروا إلى آجل الدنيا حين نظر الناس إلى عاجلها وأماتوا منها ما يخشون أن يميتهم وتركوا ما علموا أن سيتركهم فصار استكثارهم منها استقلالا وذكرهم إياها فواتا وفرحهم بما أصابوا منها حزنا وما عارضهم من نائلها رفضوه وما عارضهم من رفعتها بغير الحق وضعوه، خلقت الدنيا عندهم فليسوا يجددونها وخربت بينهم فليسوا يعمرونها وماتت في صدورهم فليسوا يحيونها، يهدمونها فيبنون بها آخرتهم ويبيعونها فيشترون بها ما يبقى لهم، رفضوها فكانوا برفضها هم الفرحين، باعوها فكانوا ببيعها هم الرابحين ونظروا إلى أهلها صرعى قد خلت فيهم المثلات فأحيوا ذكر الموت وأماتوا ذكر الحياة، يحبون الله سبحانه وتعالى ويستضيئون بنوره ويضيئون به لهم خبر عجيب وعندهم الخبر العجيب، بهم قام الكتاب وبه قاموا وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا وبهم علم الكتاب وبه علموا، ليس يرون نائلا مع ما نالوا ولا أماني دون ما يرجون ولا فرقا دون ما يحذرون. ُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ استئناف جيء به في موضع التعليل لنفي حزنهم والخوف عليهم في قول، وفي آخر جيء به بيانا لما أولاهم سبحانه من خيرات الدارين بعد أن أخبر جل وعلا بإنجائهم من شرورهما ومكارهما وكأنه على هذا قيل: هل لهم وراء ذلك من نعمة وكرامة؟ فقيل: لهم البشرى إلخ، وتقديم الأول لما أن التخلية سابقة على التحلية مع ما فيه من رعاية حق المقابلة بين حسن حال المؤمنين وسوء حال المفترين وتعجيل إدخال المسرة بتبشير الخلاص عن الأهوال، وتوسيط البيان السابق بين التخلية والتحلية لإظهار كمال العناية به مع الإيذان بأن انتفاء ما تقدم لإيمانهم واتقائهم عما يؤدي إليه من الأسباب، ومن الناس من فسر الأولياء بالذين يتولونه تعالى بالطاعة ويتولاهم بالكرامة وجعل الَّذِينَ آمَنُوا إلخ تفسيرا لتوليهم إياه تعالى، وهذه الجملة تفسيرا لتوليته تعالى إياهم. وتعقب بأنه لا ريب في أن اعتبار القيد الأخير في مفهوم الولاية غير مناسب لمقام ترغيب المؤمنين في تحصيلها والثبات عليها وبشارتهم بآثارها ونتائجها بل مخل بذلك إذ التحصيل إنما يتعلق بالمقدور والاستبشار لا يحصل إلا بما علم وجود سببه والقيد المذكور ليس بمقدور لهم حتى يحصلوا الولاية بتحصيله ولا بمعلوم لهم عند حصوله حتى يعرفوا حصول الولاية لهم ويستبشروا بمحاسن آثارها بل التولي بالكرامة عين نتيجة الولاية فاعتباره في عنوان الموضوع ثم الاخبار بعدم الخوف والحزن مما لا يليق بشأن التنزيل الجليل انتهى، وأنت تعلم أن ما ارتكبه ذلك البعض تكلف وعدول عن الظاهر فلا ينبغي العدول إليه وإن كان ما ذكره المتعقب لا يخلو عن نظر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 142 وجوز كون الموصول مبتدأ وهذه الجملة خبره، وفي بعض الأخبار ما يؤيده، وْبُشْرى في الأصل الخبر بما يظهر السرور في بشرة الوجه ومثلها البشارة وتطلق على المبشر به من ذلك وإلى إرادة كل ذهب بعض، والظرفان بعده على الأول متعلقان به وعلى الثاني في موضع الحال منه، والعامل ما في الخبر من معنى الاستقرار أي لهم البشرى حال كونها في الدنيا وحال كونها في الآخرة أي عاجلة وآجلة أو من الضمير المجرور أي حال كونهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، والثابت في أكثر الروايات أن البشرى في الحياة الدنيا هي الرؤيا الصالحة التي هي جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة كما هو المشهور، أو جزء من سبعين جزءا منها كما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عمر وأبي هريرة وهو وابن ماجة عن الأول. فقد أخرج الطيالسي وأحمد والدارمي والترمذي وابن ماجة والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم عن عبادة بن الصامت قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن قوله سبحانه: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا قال: هي «الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له» وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود أنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن ذلك فأجيب بما ذكر أيضا، وأخرج من طريق أبي سفيان عن جابر مثلي ذلك، وأخرج ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ وأبو القاسم ابن منده من طريق أبي جعفر عن جابر المذكور قال: أتى رجل من أهل البادية رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أخبرني عن قول الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى إلخ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليه الصلاة والسلام: «أما قوله تعالى: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فهي الرؤيا الحسنة ترى للمؤمن فيبشر بها في دنياه أما قوله سبحانه: فِي الْآخِرَةِ فإنها بشارة المؤمن عند الموت أن الله قد غفر لك ولمن حملك إلى قبرك» وجاء مرفوعا وموقوفا عن غير واحد تفسيرها بما ذكر، وأخرج ابن جرير وابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن البشرى في الحياة الدنيا هي قوله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلم: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً [الأحزاب: 47] وعن الزجاج والفراء أنها هذا وما يشاكله من قوله تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ [يونس: 2] وقوله سبحانه: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ [التوبة: 21] الآية، وقوله جل وعلا: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة: 155] إلى غير ذلك، وأخرج ابن أبي شيبة وغيره عن الضحاك أنه قال في ذلك: إنهم يعلمون أين هم قبل أن يموتوا. وجاء في تفسير البشرى في الآخرة ما سمعت في الخبر عن جابر الأخير. وأخرج ابن جرير وغيره عن أبي هريرة مرفوعا أنها الجنة، وعن عطاء أن البشرى في الدنيا أن تأتيهم الملائكة عند الموت بالرحمة قال الله تعالى: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ [فصلت: 30] وأما البشرى في الآخرة فتلقى الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالفوز والكرامة وما يرون من بياض وجوههم وإعطاء الصحائف بأيمانهم وما يقرؤون منها وغير ذلك من البشارات، وقيل: المراد بالبشرى العاجلة نحو النصر والفتح والغنيمة والثناء الحسن والذكر الجميل ومحبة الناس وغير ذلك، وأما البشرى الآجلة فغنية عن البيان، وأنت تعلم أنه لا ينبغي العدول عما ورد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في تفسير ذلك إذا صح وحيث عدل من عدل لعدم وقوفه على ذلك فيما أظن، فالأولى أن يحمل البشرى في الدارين على البشارة بما يحقق نفي الخوف والحزن كائنا ما كان، ويرشد إلى ذلك السباق، ومن أجل ذلك بشرى الملائكة لهم بذلك وقتا فوقتا حتى يدخلوا الجنة، وقد نطق الكتاب العزيز في غير موضع بهذه البشرى من الله تعالى علينا بها برحمته وكرمه تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ أي لا تغيير لأقواله التي من جملتها مواعيده الواردة بشارة للمؤمنين المتقين فيدخل فيها البشارات الواردة هاهنا دخولا أوليا ويثبت امتناع الأخلاف فيها لطفا وكرما ثبوتا قطعيا، وأريد من عدم تبديل كلماته سبحانه على تقدير أن يراد من البشرى الرؤيا الصالحة عدم الخلف بينها وبين ما دل على ثبوتها ووقوعها فيما سيأتي بطريق الوعد من قوله تبارك اسمه: هُمُ الْبُشْرى لا عدم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 143 الخلف بينها وبين نتائجها الدنيوية والأخروية ولم يظهر لي وجهه بعد التدبر، والمشهور أن الرؤيا الصالحة لا يتخلف ما تدل عليه. وقد جاء من حديث الحكيم الترمذي وغيره عن عبادة رضي الله تعالى عنه أنه صلّى الله عليه وسلم قال له في الرؤيا الصالحة كلام يكلم به ربك عبده في المنام لِكَ أي ما ذكر من أن لهم البشرى في الدارين وَالْفَوْزُ الْعَظِيمُ الذي لا فوز وراءه، وجوز أن تكون الإشارة إلى البشرى بمعنى التبشير وقيل: إن ذلك إشارة إلى النعيم الذي وقعت به البشرى وجعل غير واحد الجملة الأولى وهذه الجملة اعتراضا جيء به لتحقيق المبشر به لتعظيم شأنه وهو مبني على جواز تعدد الاعتراض وعلى أنه يجوز أن يكون في آخر الكلام. ولذا قال العلامة الطيبي: لو جعلت الأولى معترضة والثانية تذييلا للمعترض والمعترض فيه ومؤكدة لهما كان أحسن بناء على أن ما في آخر الكلام يسمى تذييلا لا اعتراضا وهو مجرد اصطلاح. ومن جعل قوله سبحانه: وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ معطوفا على الجملة قبل أي أن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون فلا يحزنك قول أعداء الله تعالى فالاعتراض عنده بين متصلين لا في آخر الكلام لكنه ليس بشيء، والذي عليه الجمهور أنه استئناف سيق تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلم عما كان يلقاه من جهة الأعداء من الأذية الناشئة مقالاتهم الرديئة الوحشية وتبشيرا له عليه الصلاة والسلام بالنصر والعز إثر بيان أن له ولأتباعه أمنا من كل محذور وفوزا بكل مطلوب فهو متصل بقوله سبحانه: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ إلخ معنى. وقيل: إنه متصل بقوله سبحانه: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ [يونس: 41] الآية واختاره على ما فيه من البعد الطبرسي. وقرأ نافع «ولا يحزنك» من أحزن وهو في الحقيقة نهي له صلّى الله عليه وسلم عن الحزن كأنه قيل: لا تحزن بقولهم ولا تبال بكل ما يتفوهون به في شأنك مما لا خير فيه، وإنما عدل عنه إلى ما في النظم الجليل للمبالغة في النهي عن الحزن لما أن النهي عن التأثير نهي عن التأثر بأصله ونفي له بالمرة، ونظير ذلك كما مر قولهم- لا أرينك هاهنا- ولا يأكلك السبع- ونحوه، وقد وجه فيه النهي إلى اللازم والمراد هو النهي عن الملزوم، قيل: وتخصيص النهي عن الحزن بالإيراد مع شمول النفي السابق للخوف أيضا لما أنه لم يكن فيه صلّى الله عليه وسلم شائبة خوف حتى ينهى عنه وربما كان يعتريه صلّى الله عليه وسلم في بعض الأوقات حزن فسلي عنه، ولا يخفى أن إذا قلنا إن الخوف والحزن متقاربان فإذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا كما علمت آنفا كان النهي عن الحزن نهيا عن الخوف أيضا إلا أن الأولى عدم اعتبار ما فيه توهم نسبة الخوف إلى ساحته عليه الصلاة والسلام وإن لم يكن في ذلك نقص. فقد جاء نهي الأنبياء عليهم السلام عن الخوف كنهيهم عن الحزن بل قد ثبت صريحا نسبة ذلك إليهم وهو مما لا يخل بمرتبة النبوة إذ ليس كل خوف نقصا لينزهوا عنه كيف كان. إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً كلام مستأنف سيق لتعليل النهي، وقيل: جواب سؤال مقدر كأنه قيل: لم لا يحزنه؟ فقيل: لأن الغلبة والقهر لله سبحانه لا يملك أحد شيئا منها أصلا لا هم ولا غيرهم فلا يقهر ولا يغلب أولياءه بل يقهرهم ويغلبهم ويعصمك منهم. وقرأ أبو حيوة «أن» بالفتح على صريح التعليل أي لأن، وحمل قتيبة بن مسلم ذلك على البدل ثم أنكر القراءة لذلك لأنه يؤدي إلى أن يقال: فلا يحزنك أن العزة لله جميعا وهو فاسد. وذكر الزمخشري أنه لو حمل على البدل لكان له وجه أيضا على أسلوب فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ [القصص: 86] وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [الشعراء: 203، القصص: 88] فيكون للتهييج والإلهاب والتعريض بالغير وفيه بعد هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يسمع أقوالهم في حقك ويعلم ما يضمرونه عليك فيكافؤهم على ذلك وما ذكرناه في الآية هو الظاهر المتبادر. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: لما لم ينتفعوا بما جاءهم من الله تعالى وأقاموا على كفرهم كبر ذلك على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فجاءه من الله سبحانه فيما يعاتبه وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 144 السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يسمع ما يقولون ويعلمه فلو شاء بعزته لانتصر منهم ولا يخفى أنه خلاف الظاهر جدا مع ما فيه من تعليق العلم بما علق بالسمع، ولعل روايته عن الحبر غير معول عليها. أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ أي من الملائكة والثقلين كما يدل عليه التعبير- بمن- الشائع في العقلاء، والتغليب غير مناسب هنا، ووجه تخصيصهم بالذكر الإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بغيرهم فإنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم إذا كانوا عبيد الله مملوكين له سبحانه فما عداهم من الموجودات أولى بذلك، والجملة مع ما فيها من التأكيد لما سبق من اختصاص العزة به جل شأنه الموجب لسلوته عليه الصلاة والسلام وعدم مبالاته بمقالات المشركين تمهيد لما لحق من قوله سبحانه: وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ ودليل على بطلان ظنونهم وأعمالهم المبينة عليها والاقتصار على أحد الأمرين قصور فلا تكن من القاصرين، وما نافية وشُرَكاءَ مفعول يَتَّبِعُ ومفعول يَدْعُونَ محذوف لظهوره، أي ما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء شركاء في الحقيقة وإن سموها شركاء لجهلهم فالمراد سلب الصفة في الحقيقة ونفس الأمر فما ذكره أبو البقاء من عدم جواز هذا الوجه من الإعراب لأنه يدل على نفي اتباعهم الشركاء مع أنهم اتبعوهم ناشىء من الغفلة عما ذكرنا، وجوز أن يكون شُرَكاءَ المذكور مفعول يَدْعُونَ ويكون مفعول يَتَّبِعُ محذوفا لانفهامه من قوله سبحانه: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ أي ما يتبعون يقينا وإنما يتبعون ظنهم الباطل أو ظنهم أنها شركاء بتقدير معمول الظن أو تنزيله منزلة اللازم، وقدر بعضهم مفعول يَتَّبِعُونَ شركاء ميلا إلى إعمال الثاني في التنازع، وتعقب بأنه لا يصح أن يكون من ذلك الباب لأن مفعول الفعل الأول مقيد دون الثاني فلا يتحد المعمول والاتحاد شرط في ذلك، وكون التقييد عارضا بعد الإعمال بقرينة عامله فلا ينافي ما شرط في الباب بالباب كما لا يخفى، وجوز أيضا أن تكون ما استفهامية منصوبة- بيتبع- وشُرَكاءَ مفعول يَدْعُونَ أي أي شيء يتبع المشركون أي ما يتبعونه ليس بشيء، وأن تكون موصولة معطوفة على مَنْ أي وله تعالى ما يتبعه المشركون خلقا وملكا فكيف يكون شريكا له سبحانه، وتخصيص ذلك بالذكر مع دخوله فيما سبق عبارة أو دلالة للمبالغة في بيان بطلان الاتباع وفساد ما بنوه عليه من الظن الذي هو من الفساد بمكان، وجوز على احتمال الموصولية أن تكون مبتدأ خبره محذوف أي باطل ونحوه أو الخبر قوله سبحانه: إِنْ يَتَّبِعُونَ والعائد محذوف أي في عبادته أو اتباعه. وقرأ السلمي «تدعون» بالتاء الخطابية، وروي ذلك عن علي كرم الله وجهه وهي قراءة متجهة خلافا لزاعم خلافه فإن «ما» فيها استفهامية للتبكيت والتوبيخ والعائد على الَّذِينَ محذوف وشُرَكاءَ حال منه، والمراد من الَّذِينَ الملائكة والمسيح وعزير عليهم الصلاة والسلام فكأنه قيل: أي شيء يتبع الذين تدعونهم حال كونهم شركاء في زعمكم من الملائكة والنبيين تقريرا لكونهم متبعين لله تعالى مطيعين له وتوبيخا لهم على عدم اقتدائهم بهم في ذلك كقوله سبحانه: أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ [الإسراء: 57] وحاصله أن الذين تعبدونهم يعبدون الله تعالى ولا يعبدون غيره فما لكم لا تقتدون بهم ولا تتبعونهم في ذلك ثم صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة فقيل: إن يتبع هؤلاء إلا الظن ولا يتبعون ما يتبعه الملائكة والنبيون عليهم السلام من الحق وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ أي يحزرون ويقدرون أنهم شركاء تقديرا باطلا أو يكذبون فيما ينسبونه إليه سبحانه وتعالى على أن الخرص إما بمعنى الحزر والتخمين كما هو الأصل الشائع فيه وإما بمعنى الكذب فإنه جاء استعماله في ذلك لغلبته في مثله. هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً تنبيه على تفرده تعالى بالقدرة الكاملة والنعمة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 145 الشاملة ليدلهم على توحده سبحانه باستحقاق العبادة فتعريف الطرفين للقصر وهو قصر تعيين، وفي ذلك أيضا تقرير لما سلف من كون جميع الموجودات الممكنة تحت قدرته وملكته المفصح عن اختصاص العزة به سبحانه. والجعل إن كان بمعنى الإبداع والخلق- فمبصرا- حال وإن كان بمعنى التصيير- فلكم- المفعول الثاني أو حال كما في الوجه الأول فالمفعول الثاني لِتَسْكُنُوا فِيهِ أو هو محذوف يدل عليه المفعول الثاني من الجملة الثانية كما أن العلة الغائية منها محذوفة اعتمادا على ما في الأولى، والتقدير هو الذي جعل لكم الليل مظلما لتسكنوا فيه والنهار مبصرا لتتحركوا فيه لمصالحكم فحذف من كل ما ذكر في الآخر اكتفاء بالمذكور عن المتروك وفيه على هذا صنعة الاحتباك والآية شائعة في التمثيل بها لذلك وهو الظاهر فيها وإن كان أمرا غير ضروري، ومن هنا ذهب جمع إلى أنه لا احتباك فيها، والعدول عن لتبصروا فيه الذي يقتضيه ما قبل إلى ما في النظم الجليل للتفرقة بين الظرف المجرور والظرف الذي هو سبب يتوقف عليه في الجملة وإسناد الأبصار إلى النهار مجازي كالذي في قول جرير: لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى ... ونمت وما ليل المطي بنائم وقولهم:- نهاره صائم- وغير ذلك مما يحصى كثرة. وإلى هذا ذهب ابن عطية وجماعة، وقيل: إن مُبْصِراً للنسب كلابن وتامر أي ذا إبصار إِنَّ فِي ذلِكَ أي في الجعل المذكور أو في الليل والنهار، وما في اسم الإشارة من معنى البعد للإيذان ببعد منزلة المشار إليه وعلو رتبته لَآياتٍ أي حججا ودلالات على توحيد الله تعالى كثيرة أو آيات أخر غير ما ذكر لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ أي الحجج مطلقا سماع تدبر واعتبار أو يسمعون هذه الآيات المتلوة ونظائرها المنبهة على تلك الآيات التكوينية الآمرة بالتأمل فيها ذلك السماع فيعملون بمقتضاها، وتخصيص هؤلاء بالذكر مع أن الآيات منصوبة لمصلحة الكل لما أنهم المنتفعون بها. قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً شروع في ذكر ضرب آخر من أباطيل المشركين وبيان بطلانه، والمراد بهؤلاء المشركين على ما قيل: كفار قريش والعرب فإنهم قالوا: الملائكة بنات الله تعالى، واليهود والنصارى القائلون: عزير وعيسى عليهما السلام ابناه عز وجل والاتخاذ صريح في التبني، وظاهر الآية يدل على أن ذلك قول كل المشركين وإذا ثبت أن منهم من يقول بالولادة والتقدير حقيقة كان ما هنا قول البعض ولينظر هل يجري فيه احتمال إسناد ما للبعض للكل لتحقق شرطه أم لا يجري لفقد ذلك والولد يستعمل مفردا وجمعا. وفي القاموس الولد محركة وبالضم والكسر والفتح واحد وجمع وقد يجمع على أولاد وولدة وإلدة بالكسر فيهما وولد الضم وهو يشمل الذكر والأنثى سُبْحانَهُ تنزيه وتقديس له تعالى عما نسبوا إليه على ما هو الأصل في معنى سبحان وقد يستعمل للتعجب مجازا ويصح إرادته هنا، والمراد التعجب من كلمتهم الحمقى، وجمع بعضهم بين التنزيه والتعجب ولعله مبني على أن التعجب معنى كنائي وأنه يصح إرادة المعنى الحقيقي في الكناية وهو أحد قولين في المسألة، وقيل: إنه لا يلزم استفادة معنى التعجب منه باستعمال اللفظ فيه بل هو من المعاني الثواني، وقوله سبحانه: هُوَ الْغَنِيُّ أي عن كل شيء في كل شيء علة لتنزهه تعالى وتقدس عن ذلك وإيذان بأن اتخاذ الولد مسبب عن الحاجة وهي التقوى أو بقاء النوع مثلا، وقوله تعالى: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي من العقلاء وغيرهم تقرير لمعنى الغني لأن المالك لجميع الكائنات هو الغني وما عداه فقير، وقيل: هو علة أخرى لتنزه عن التبني لأنه ينافي المالكية، وقوله جل شأنه: إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ أي حجة بِهذا أي بما ذكر من القول الباطل توضيح لبطلانه بتحقيق سلامة ما أقيم من البرهان الساطع عن المعارض والمنافي- فإن- نافية ومِنْ زائدة لتأكيد النفي ومجرورها مبتدأ والظرف المقدم خبره أو مرتفع على أنه فاعل له لاعتماده على النفي وبِهذا متعلق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 146 إما- بسلطان- لأنه بمعنى الحجة كما سمعت وإما بمحذوف وقع صفة له، وقيل: وقع حالا من الضمير المستتر في الظرف الراجع إليه وإما بما في عِنْدَكُمْ من معنى الاستقرار، ويتعين على هذا كون سُلْطانٍ فاعلا للظرف لئلا يلزم الفصل بين العامل المعنوي ومتعلقه بأجنبي، والالتفات إلى الخطاب لمزيد المبالغة في الإلزام والإفحام وتأكيد ما في قوله تعالى: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ من التوبيخ والتقريع على جهلهم واختلاقهم، وفي الآية دليل على أن كل قول لا دليل عليه فهو جهالة وأن العقائد لا بد لها من قاطع وأن التقليد بمعزل من الاهتداء ولا تصلح متمسكا لنفي القياس والعمل بخبر الآحاد لأن ذلك في الفروع وهي مخصوصة بالأصول لما قام من الأدلة على تخصيصها وإن عم ظاهرها. قُلْ تلوين للخطاب وتوجيه له إلى سيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلم ليبين سوء مغبتهم ووخامة عاقبتهم وفي ذلك إنذارهم عن الاستمرار على ما هم فيه ولغيرهم عن الوقوع في مثله إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ في كل أمر ويدخل الافتراء بنسبة الولد والشريك إليه تعالى دخولا أوليا وهو أولى من الاقتصار على ما الكلام فيه، وحينئذ فالمراد بالموصول ما يعم أولئك المخاطبين وغيرهم، أي إن من تكون هذه صفتهم كائنا ما كانوا لا يُفْلِحُونَ لا ينجون من مكروه ولا يفوزون بمطلوب أصلا ويندرج في ذلك عدم النجاة من النار وعدم الفوز بالجنة والاقتصار عليه في مقام المبالغة في الزجر عن الافتراء عليه سبحانه دون النعيم في المناسبة. مَتاعٌ فِي الدُّنْيا خبر مبتدأ محذوف أي هو أو ذلك متاع، والتنوين للتحقير والتقليل، والظرف متعلق بما عنده أو بمحذوف وقع نعتا له، والجملة كلام مستأنف سيق جوابا لسؤال مقدر عما يتراءى فيهم بحسب الظاهر من نيل المطالب والفوز بالحظوظ الدنيوية على الإطلاق أو في ضمن افترائهم وبيانا لأن ذلك بمعزل من أن يكون من جنس الفلاح كأنه قيل: كيف لا يفلحون وهم في غبطة ونعيم؟ فقيل: هو أو ذلك متاع حقير قليل في الدنيا وليس بفوز بالمطلوب، ثم أشير إلى انتفاء النجاة عن المكروه أيضا بقوله سبحانه: ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ أي إلى حكمنا رجوعهم بالموت فيلقون الشقاء المؤبد ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ أي بسبب كفرهم المستمر أو بكفرهم في الدنيا فأين هم من الفلاح وما ذكرنا من كون متاع خبر مبتدأ محذوف هو الذي ذهب إليه غير واحد من المعربين، غير أن أبا البقاء وآخرين منهم قدروا المبتدأ حياتهم أو تقلبهم أو افتراؤهم، واعترض على تقدير الأخير بأن المتاع إنما يطلق على ما يكون مطبوعا عند النفس مرغوبا فيه في نفسه يتمتع به وينتفع وإنما عدم الاعتداد به لسرعة زواله، ونفس الافتراء عليه سبحانه أقبح القبائح عند النفس فضلا عن أن يكون مطبوعا عندها. وأجيب بأن إطلاق المتاع على ذلك باعتبار أنه مطبوع عند نفوسهم الخبيثة وفيه انتفاع لهم به حسبما يرونه انتفاعا وإن كان من أقبح القبائح وغير منتفع به في نفس الأمر، ولا يخفى أن الوجه الأول مع هذا أوجه، وقيل: إن المذكور مبتدأ محذوف الخبر أي لهم متاع إلخ وليس ببعيد، والآية إما مسوقة من جهته سبحانه لتحقيق عدم أفلاحهم غير داخلة في الكلام المأمور به وهو الذي يقتضيه ظاهر قوله سبحانه: ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ وقوله تعالى: ثُمَّ نُذِيقُهُمُ وإما داخلة فيه على أن النبي صلّى الله عليه وسلم مأمور بنقله وحكايته عنه تعالى شأنه وله نظائر في الكتاب العزيز وَاتْلُ عَلَيْهِمْ أي على المشركين من أهل مكة وغيرهم لتحقيق ما سبق من عدم إفلاح المفترين وكون ما يتمتعون به على جناح الفوات وأنهم مشرفون على الشقاء المؤبد والعذاب الشديد نَبَأَ نُوحٍ أي خبره الذي له شأن وخطر مع قومه الذين هم أضراب قومك في الكفر والعناد ليتدبروا ما فيه مما فيه مزدجر فلعلهم ينزجرون عما هم عليه أو تنكسر شدة شكيمتهم ولعل بعض من يسمع ذلك منك ممن أنكر صحة نبوتك أن يعترف بصحتها فيؤمن بك بأن يكون قد ثبت عنده ما يوافق ما تضمنه المتلو من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 147 غير مخالفة له أصلا فيستحضر أنك لم تسمع ذلك من أحد ولم تستفده من كتاب فلا طريق لعلمك به إلا من جهة الوحي وهو مدار النبوة. وفي ذلك من تقرير ما سبق من كون الكل لله سبحانه، واختصاص؟؟؟ العزة به تعالى، وانتفاء الخوف على أوليائه وحزنهم، وتشجيع النبي صلّى الله عليه وسلم وحمله على عدم المبالاة بهم وبأقوالهم وأفعالهم ما لا يخفى، والاقتصار على بعض ذلك قصور وقد تقدم الكلام في نوح عليه السلام إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اللام للتبليغ أو للتعليل وإِذْ بدل من نَبَأَ بدل اشتمال أو معمولة له لا- لاتل- لفساد المعنى، وجوز أبو البقاء تعلقه بمحذوف وقع حالا من نَبَأَ وأيّا ما كان فالمراد بعض نبئه عليه الصلاة والسلام لا كل ما جرى بينه وبين قومه وكانوا على ما قال الأجهوري من بني قابيل يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ أي عظم وشق عَلَيْكُمْ مَقامِي أي نفسي على أنه في الأصل اسم مكان وأريد منه النفس بطريق الكناية الإيمائية كما يقال المجلس السامي، ويجوز أن يكون مصدرا ميميا بمعنى الإقامة يقال: قمت بالمكان وأقمت بمعنى أي إقامتي بين ظهرانيكم مدة مديدة، وكونها ما ذكر الله تعالى ألف سنة إلا خمسين عاما يقتضي أن يكون القول في آخر عمره ومنتهى أمره ويحتاج ذلك إلى نقل، أو المراد قيامه بدعوتهم وقريب منه قيامه لتذكيرهم ووعظهم لأن الواعظ كان يقوم بين من يعظهم لأنه أظهر وأعون على الاستماع كما يحكى عن عيسى عليه السلام أنه كان يعظ الحواريين قائما وهم قعود، وكثيرا ما كان نبينا صلّى الله عليه وسلم يقوم على المنبر فيعظ الجماعة وهم قعود فيجعل القيام كناية أو مجازا عن ذلك أو هو عبارة عن ثبات ذلك وتقرره وَتَذْكِيرِي إياكم بِآياتِ اللَّهِ الدالة على وحدانيته المبطلة لما أنتم عليه من الشرك فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ لا على غيره، والجملة جواب الشرط وهو عبارة عن عدم مبالاته والتفاته إلى استثقالهم، ويجوز أن تكون قائمة مقامه، وقيل: الجواب محذوف وهذا عطف عليه أي فافعلوا ما شئتم، وقيل: المراد الاستمرار على تخصيص التوكل به تعالى، ويجوز أن يكون المراد إحداث مرتبة مخصوصة من مراتب التوكل وإلا فهو عليه السلام متوكل عليه سبحانه لا على غيره دائما، وقوله سبحانه: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ عطف على الجواب المذكور عند الجمهور والفاء لترتيب الأمر بالإجماع على التوكل لا لترتيب نفس الإجماع عليه، وقيل: إنه الجواب وما سبق اعتراض وهو يكون بالفاء. فاعلم فعلم المرء ينفعه. ولعله أقل غائلة مما تقدم لما سمعته مع ما فيه من ارتكاب عطف الإنشاء على الخبر وفيه كلام. و «أجمعوا» بقطع الهمزة وهو كما قال أبو البقاء من أجمعت على الأمر إذا عزمت عليه إلا أنه حذف حرف الجر فوصل الفعل، وقيل: إن أجمع متعد بنفسه واستشهد له بقول الحارث بن حلزة: أجمعوا أمرهم بليل فلما ... أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء ونص السدوسي على أن عدم الإتيان بعلى كأجمعت الأمر أفصح من الإتيان بها كأجمعت على الأمر، وقال أبو الهيثم: معنى أجمع أمره جعله مجموعا بعد ما كان متفرقا وتفرقته أن يقول مرة أفعل كذا ومرة أفعل كذا فإذا عزم فقد جمع ما تفرق من عزمه ثم صار بمعنى العزم حتى وصل بعلى وأصله التعدية بنفسه، ولا فرق بين أجمع وجمع عند بعض، وفرق آخرون بينهما بأن الأول يستعمل في المعاني والثاني في الأعيان فيقال: أجمعت أمري وجمعت الجيش ولعله أكثري لا دائمي، والمراد بالأمر هنا نحو المكر والكيد وَشُرَكاءَكُمْ أي التي زعمتم أنها شركاء لله سبحانه وتعالى، وهو نصب على أنه مفعول معه من الفاعل لأن الشركاء عازمون لا معزوم عليهم، ويؤيد ذلك قراءة الحسن وابن أبي إسحاق وأبي عبد الرحمن السلمي وعيسى الثقفي بالرفع فإن الظاهر أنه حينئذ معطوف على الضمير المرفوع المتصل ووجود الفاصل قائم مقام التأكيد بالضمير المنفصل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 148 وقيل: إنه مبتدأ محذوف الخبر أي وشركاؤكم يجمعون ونحوه. وقيل: إن النصب بالعطف على أَمْرَكُمْ بحذف المضاف أي وأمر شركائكم بناء على أن أجمع تتعلق بالمعاني والكلام خارج مخرج التهكم بناء على أن المراد بالشركاء الأصنام، وقيل: إنه على ظاهره والمراد بهم من على دينهم. وجوز أن لا يكون هناك حذف والكلام من الإسناد إلى المفعول المجازي على حد ما قيل في وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] وقيل: إن ذاك على المفعولية به لمقدر كما قيل في قوله: علفتها تبنا وماء باردا أي وادعوا شركاءكم كما قرأ به أبي رضي الله تعالى عنه، وقرأ نافع «فأجمعوا» بوصل الهمزة وفتح الميم من جمع، وعطف الشركاء على الأمر في هذه القراءة ظاهر بناء على أنه يقال: جمعت شركائي كما يقال: جمعت أمري، وزعم بعضهم أن المعنى ذوي أمركم وهو كما ترى، والمعنى أمرهم بالعزم والإجماع على قصده والسعي في إهلاكه على أي وجه يمكنهم من المكر ونحوه ثقة بالله تعالى وقلة مبالاة بهم، وليس المراد حقيقة الأمر ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ ذلك عَلَيْكُمْ غُمَّةً أي مستورا من غمه إذا ستره، ومنه حديث وائل بن حجر «لا غمة في فرائض الله تعالى» أي لا تستر ولا تخفي وإنما تظهر وتعلن، والجار والمجرور متعلق- بغمة.، والمراد نهيهم عن تعاطي ما يجعل ذلك غمة عليهم فإن الأمر لا ينهى ويستلزم ذلك الأمر بالإظهار، فالمعنى أظهروا ذلك وجاهروني به فإن الستر إنما يصار إليه لسد باب تدارك الخلاص بالهرب أو نحوه فحيث استحال ذلك في حقي لم يكن للستر وجه، وكلمة «ثم» للتراخي في الرتبة، وإظهار الأمر في مقام الإضمار لزيادة التقرير، وقيل: أظهر لأن المراد به ما يعتريهم من جهته عليه السلام من الحال الشديدة عليهم المكروهة لديهم لا الأمر الأول، والمراد بالغمة الغم كالكربة والكرب، والجار والمجرور متعلق بمقدر وقع حالا منها، وثم للتراخي في الزمان، والمعنى ثم لا يكن حالكم غما كائنا عليكم وتخلصوا بهلاكي من ثقل مقامي وتذكيري بآيات الله تعالى، واعترض عليه بأنه لا يساعده قوله تعالى شأنه: ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ أي أدوا إليّ ذلك الأمر الذي تريدون ولا تمهلوني على أن القضاء من قضى دينه إذا أداه، ومفعوله محذوف كما أشرنا إليه وفيه استعاره مكنية والقضاء تخييل وقد يفسر القضاء بالحكم أي احكموا بما تؤدوه إلي ففيه تضمين واستعارة مكنية أيضا لأن توسيط ما يحصل بعد الإهلاك بين الأمر بالعزم على مباديه وبين الأمر بقضائه من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه، والوجه الأول سالم عن ذلك وهو ظاهر، وقيل: المراد بالغمة المعنى الأول وبالأمر ما تقدم وبالنهي الأمر بالمشاورة أي اجمعوا أمركم ثم تشاوروا فيه وفيه بعد لعدم ظهور كلا الترتيبين الدالة عليهما ثم سواء اعتبرت قراءة الجماعة أو قراءة نافع في «اجمعوا» وقرىء «أفضوا» إلي بالفاء أي انتهوا إليّ بشركم أو ابرزوا إليّ من أفضى إذا خرج إلى الفضاء كأبرز إذا خرج إلى البراز وهو المكان الواسع فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي بقيتم على إعراضكم عن تذكيري أو أحدثتم إعراضا مخصوصا عن ذلك بعد وقوفكم على أمري ومشاهدتكم مني ما يدل على صحة قولي فَما سَأَلْتُكُمْ بمقابلة تذكيري ووعظي مِنْ أَجْرٍ تؤدونه إلي حتى يؤدي ذلك إليكم إلى توليكم إما لاتهامكم إياي بالطمع أو لثقل دفع المسئول عليكم أو حتى يضرني توليكم المؤدي إلى الحرمان فالأول لإظهار بطلان التولي ببيان عدم ما يصححه والثاني لإظهار عدم مبالاته عليه السلام بوجوده وعدمه، وعلى التقديرين فالفاء الأولى لترتب هذا الشرط على الجزاء قبله والفاء الثانية لسببية الشرط للإعلام بمضمون الجزاء بعده كما ذكره بعض المحققين، أي إن توليتم فاعلموا أن ليس في مصحح له أولا تأثر منه على حد ما قيل في قوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام: 17] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 149 وذهب بعضهم إلى أن جواب الشرط محذوف أقيم ما ذكر وهو علته مقامه أي فلا باعث لكم على التولي ولا موجب له أو فلا ضير عليّ بذلك، وكلام البعض مشعر بأنه مع اعتبار الحذف والإقامة المذكورين يجيء حديث اعتبار سببية الشرط للإعلام وهو الذي يميل إليه الذوق و «من» زائدة للتأكيد أي فما سألتكم أجرا، وقوله تعالى: إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ تأكيد لما قبله على المعنى الأول وتعليل لاستغنائه عليه السلام على المعنى الثاني أي ما ثوابي على العظة والتذكير إلا عليه تعالى يثيبني بذلك آمنتم أو توليتم، وقوله سبحانه: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تذييل على ما قيل لمضمون ما قبله مقرر له، والمعنى وأمرت بأن أكون منتظما في عداد المسلمين الذين لا يأخذون على تعليم الدين شيئا ولا يطلبون به دنيا، وفيه حمل الإسلام على ما يساوق الإيمان واعتبار التقييد، وعدل عنه بعضهم لما فيه من نوع تكلف فحمل الإسلام على الاستسلام والانقياد ولم يقيد، أي وأمرت بأن أكون من جملة المنقادين لحكمه تعالى لا أخالف أمره ولا أرجو غيره، وفيه على هذا المعنى أيضا من تأكيد ما تقدم وتقرير مضمونه ما لا يخفى، ولا يظهر أمر التأكيد على تقدير أن يكون المعنى من المستسلمين لكل ما يصيب من البلاء في طاعة الله تعالى ظهوره على التقديرين السابقين، وبالجملة إنه عليه السلام لم يقصر في إرشادهم بهذا الكلام وبلغ الغاية القصوى فيه. وذكر بعضهم وجه نظمه على هذا الأسلوب على بعض الأوجه المحتملة فقال: إنه عليه الصلاة والسلام قال في أول الأمر: فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فبين وثوقه بربه سبحانه أي إني وثقت به فلا تظنوا بي أن تهديدكم إياي بالقتل والإيذاء يمنعني من الدعاء إلى الله تعالى، ثم أورد عليهم ما يدل على صحة دعواه فقال: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ كأنه يقول: اجمعوا كل ما تقدرون عليه من الأشياء التي توجب حصول مطلوبكم ثم لم يقتصر على ذلك بل أمرهم أن يضيفوا إلى أنفسهم شركاءهم الذين كانوا يزعمون أن حالهم يقوى بمكانهم وبالتقرب إليهم ثم لم يقتصر على هذين بل ضم إليهما ثالثا وهو قوله: ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً فأراد أن يسعوا في أمره غاية السعي ويبالغوا فيه غاية المبالغة حتى يطيب عيشهم، ثم لم يقتصر على ذلك حتى ضم إليه رابعا فقال: ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ آمرا لهم بأداء ذلك كله إليه، ثم ضم إلى ذلك خامسا وَلا تُنْظِرُونِ فنهاهم عن الإمهال وفي ذلك من الدلالة على أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الغاية في التوكل على الله سبحانه وأنه كان قاطعا بأن كيدهم لا يضره ولا يصل إليه وأن مكرهم لا ينفذ فيه ما هو أظهر من الشمس وأبين من أمس، ثم إنه عليه السلام أراد أن يجعل الحجة لازمة عليهم ويبرىء ساحته فنفى سؤاله إياهم شيئا من الأجر وأكد ذلك بأن أجره على الله سبحانه لا على غيره مشيرا إلى مزيد كرمه جل جلاله وأنه يثيبه على فعله سأله أو لم يسأله ولذا لم يقل إن سؤالي الأجر إلا من الله تعالى، ثم لم يكتف بذلك حتى ضم إليه أنه مأمور بما يندرج فيه عدم سؤالهم والالتفات إلى ما عندهم وأن يتصف به على أتم وجه لأن مِنَ الْمُسْلِمِينَ أبلغ من مسلما كما تحقق في محله وفي ذلك قطع ما عسى أن يحول بينهم وبين إجابة دعوته والاتعاظ بعظته إلا أن القوم قد بلغوا الغاية في العناد والتمرد. فَكَذَّبُوهُ أي فأصروا بعد أن لم يبق عليهم عليه السلام في قوس الإلزام منزعا وفي كأس بيان أن لا سبب لتوليهم غير التمرد مكرعا على ما هم عليه من التكذيب الدال عليه السباق واللحاق وهو عطف على جملة قوله تعالى: قالَ لِقَوْمِهِ والفاء في قوله تعالى: فَنَجَّيْناهُ فصيحة في رأي أي فحقت عليهم كلمة العذاب فأنجيناه، وأنكر ذلك الشهاب وادعى أن ذكر ما يشير إليه في عبارة بعض المفسرين توطئة للتفريع لا إشارة إلى أن الفاء فصيحة، وأنا لا أرى فيه بأسا إلا أن تقدير فعاملنا كلا بما تقتضيه الحكمة ونحوه عندي أولى، ومتعلق الإنجاء محذوف أي من الغرق كما يدل عليه المقام، وقيل: من أيدي الكفار أي فخلصناه من ذلك وَمَنْ مَعَهُ من المؤمنين به وكانوا في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 150 المشهور أربعين رجلا وأربعين امرأة وقيل دون ذلك فِي الْفُلْكِ أي السفينة وهو مفرد هاهنا والجار كما قال الأجهوري وغيره متعلق بأنجيناه أي وقع الإنجاء في الفلك، ويجوز أن يتعلق بالاستقرار الذي تعلق به الظرف قبله الواقع صلة أي والذي استقروا معه في الفلك وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ عمن هلك بالإغراق بالطوفان وهو جمع خليفة وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وهم الباقون من قومه، والتعبير عنهم بالموصول للإيذان بعلية مضمون الصلة للإغراق وتأخير ذكره عن ذكر الإنجاء والاستخلاف لإظهار كمال العناية بشأن المقدم ولتعجيل المسرة للسامعين وللإيذان بسبق الرحمة التي هي من مقتضيات الربوبية على الغضب الذي هو من مستتبعات جرائم المجرمين فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ المخوفين بالله تعالى وعذابه والمراد بهم المكذبين، والتعبير عنهم بذلك للإشارة إلى إصرارهم على التكذيب حيث لم ينجع الإنذار فيهم ولم يفدهم شيئا وقد جرت عادة الله تعالى أن لا يهلك قوما بالاستئصال إلا بعد الإنذار لأن من أنذر فقد أعذر، والنظر كما قال الراغب يكون بالبصر والبصيرة والثاني أكثر عند الخاصة وسيق الكلام لتهويل ما جرى عليهم وتحذير من كذب بالرسول عليه الصلاة والسلام والتسلية له صلّى الله عليه وسلم، والمراد اعتبر ما أخبر الله تعالى به لأنه لا يمكن أن ينظر إليه هو صلّى الله عليه وسلم ولا من أنذره ثُمَّ بَعَثْنا أي أرسلنا مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد نوح عليه الصلاة والسلام رُسُلًا أي كراما ذوي عذر كثير فالتنكير للتفخيم والتكثير إِلى قَوْمِهِمْ قيل أي إلى أقوامهم على معنى أرسلنا كل رسول الله إلى قوم خاصة مثل هود إلى عاد وصالح إلى ثمود وغير ذلك ممن قص منهم ومن لم يقص لا على معنى أرسلنا كل رسول منهم إلى أقوام الكل أو إلى قوم أي قوم كانوا، وفيه إشارة إلى أن عموم الرسالة إلى البشر لم يثبت لأحد من أولئك الرسل عليهم الصلاة والسلام، وظاهر كلامهم الإجماع على أن ذلك مخصوص بنبينا صلّى الله عليه وسلم ولم يثبت لأحد ممن أرسل بعد نوح، واختلف فيه عليه السلام هل بعث إلى أهل الأرض كافة أو إلى أهل صقع منها، وعليه يبنى النظر في الغرق هل عم جميع أهل الأرض أو كان لبعضهم وهم أهل دعوته المكذبين به كما هو ظاهر كثير من الآيات والأحاديث، قال ابن عطية: الراجح عند المحققين هو الثاني، وكثير من أهل الأرض كأهل الصين وغيرهم ينكرون عموم الغرق، والأول لا ينافي القول باختصاص عموم الرسالة على العموم المشهور بين الخصوص والعموم بنبينا صلّى الله عليه وسلم لأنها لمن بعده إلى يوم القيامة. وزعم بعضهم أن الغرق كان عاما مع خصوص البعثة ولا مانع من أن يهلك الله تعالى من لا جناية له مع من له جناية ولا اعتراض عليه سبحانه فيما ذكر إذ هو تصرف في خالص ملكه ولا يسئل عما يفعل. وفي قوله سبحانه: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً نوع إشارة إلى ذلك. نعم قد ثبت لنوح عليه السلام عموم الرسالة انتهاء حيث لم يبق على وجه الأرض بعد الطوفان سوى من كان معه وهم جميع أهل الأرض إذ ذاك فالفرق بين رسالته عليه السلام ورسالة نبينا صلّى الله عليه وسلم ظاهر فإن رسالة نبينا عليه الصلاة والسلام عامة ابتداء وانتهاء ورسالته عليه السلام عامة انتهاء لا ابتداء ولا يخلو عن نظر، والأولى أن يعتبر في اختصاص عموم رسالة نبينا عليه الصلاة والسلام كونها لمن بعده إلى يوم القيامة فإن عدم ثبوت ذلك لأحد من الرسل عليهم السلام قبل نوح وبعده ما لا يتنازع فيه، وهذا كله إذا لم يلاحظ في العموم الجن وكذا الملائكة إذا لوحظ كما يفيده قوله سبحانه: لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان: 1] فأمر الاختصاص أظهر وأظهر. فَجاؤُهُمْ أي فأتى كل رسول قومه المخصوصين به بِالْبَيِّناتِ أي بالمعجزات الواضحة الدالة على صدق ما يقولون، والباء إما متعلقة بما عندها على أنها للتعدية أو بمحذوف وقع حالا من الضمير المرفوع أي متلبسين بالبينات لكن لا بأن يأتي كل رسول ببينة فقط بل بأن يأتي ببينة أو ببينات كثيرة خاصة به معينة له حسب اقتضاء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 151 الحكمة، وإلى نفي إرادة الإتيان ببينة وإرادة الإتيان ببينات كثيرة ذهب شيخ الإسلام، ثم قال: فإن مراعاة انقسام الآحاد على الآحاد إنما هي في ضميري فَجاؤُهُمْ كما أشير إليه، ولعل صنيعنا أحسن من صنيعه، ويفهم من كلام بعض المحققين أن انفهام إرسال كل رسول إلى قومه من إضافة القوم إلى ضمير رُسُلًا وليس ذلك من مقابلة الجمع بالجمع المقتضي لانقسام الآحاد على الآحاد، ولا شك أن انفهام مجيء كل رسول قومه المخصوصين به تابع لذلك. وبعد هذا كله إذا اعتبر مقابلة الجمع بالجمع في جاؤوهم بالبينات، وقيل بانقسام الآحاد على الآحاد لا يلزم أن يكون لكل رسول بينة جاء بها كما أن- باع القوم دوابهم- لا يقتضي أن يكون لكل واحد من القوم دابة واحدة باعها فإن معناه باع كل من القوم ما له من الدواب وهو يعم الدابة الواحدة وغيرها، وهذا بخلاف ركب القوم دوابهم فإنه يتعين فيه إرادة كل واحدة من الدواب لاستحالة ركوب الشخص دابتين مثلا. وقد نص العلامة أبو القاسم السمرقندي في حواشيه على المطول أنه لا يشترط في مقابلة الجمع بالجمع انقسام الآحاد على الآحاد بمعنى أن يكون لكل واحد من أحد الجمعين واحد من الجمع الآخر وهو ظاهر فيما قلنا، والمعول عليه في كون الآية من قبيل المثال الأول أمر خارج، فإن من المعلوم أن الرسول الواحد من الرسل عليهم السلام قد جاء قومه ببينات فوق الواحدة فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بيان لاستمرار عدم إيمانهم في الزمان الماضي أي فما صح ولا استقام لهم في وقت من الأوقات أن يؤمنوا لشدة شكيمتهم ومزيد عنادهم، وضمير الجمع عنا للقوم المبعوث إليهم وكذا في قوله تعالى: بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ والباء فيه صلة- يؤمنوا- وما موصولة والمراد بها جميع الشرائع التي جاء بها كل رسول أصولها وفروعها، والمراد بعدم إيمانهم بها إصرارهم على ذلك بعد اللتيا والتي وبتكذيبهم من قبل تكذيبهم من حين مجيء الرسل عليهم السلام إلى زمان الإصرار والعناد، وهذا بناء على أن المحكي آخر أحوالهم حسبما يشير إليه حكاية قوم نوح عليه السلام، ولم يجعل التكذيب مقصودا بالذات كما جعل عدم إيمانهم كذلك إيذانا بأنه بين في نفسه غني عن البيان، وإنما المحتاج إليه عدم إيمانهم بعد تواتر البينات وتظاهر المعجزات التي كانت تضطرهم إلى القبول لو كانوا من أهل العقول، وإذا كان المحكي جميع أحوال أولئك الأقوام فالمراد بعدم إيمانهم المفاد بالنفي السابق كفرهم المستمر من حين مجيء الرسل عليهم السلام إلى زمان إصرارهم وبعدم إيمانهم المفهوم من جملة الصلة كفرهم قبل مجيء الرسل عليهم السلام ويراد حينئذ من الموصول أصول الشرائع التي أجمعت عليها الرسل قاطبة ودعوا أممهم إليها كالتوحيد ولوازمه مما يستحيل تبدله وتغيره ومعنى تكذيبهم بذلك قبل مجيء رسلهم أنهم ما كانوا أهل جاهلية بحيث لم يسمعوا بذلك قط بل كأن كل قوم يتسامعون به من بقايا من قبلهم فيكذبونه ثم كانت حالهم بعد مجيء الرسل كحالهم قبل ذلك كأن لم يبعث إليهم أحد، وقيل: المراد أنهم لم ينتفعوا بالبعثة وكانت حالهم بعد البعثة كحالهم قبلها في كونهم أهل جاهلية والأولى أولى، وتخصيص التكذيب وعدم الإيمان بما ذكر من الأصول لظهور حال الباقي بدلالة النص، فإنهم حين لم يؤمنوا بما اجتمعت عليه الكافة فلأن لا يؤمنوا بما تفرد به البعض أولى، وعدم جعل هذا التكذيب مقصودا بالذات لأن ما عليه يدور أمر العذاب عند اجتماع التكذيبين هو التكذيب الواقع بعد البعثة والدعوة حسبما يعرب عنه قوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] وإنما ذكر ما وقع قبل بيانا لعراقتهم في الكفر والتكذيب، وفكك بعضهم بين الضمائر فقيل: ضمير كانُوا ويؤمنوا لقوم الرسل وضمير كَذَّبُوا لقوم نوح عليه السلام أي ما كان قوم الرسل ليؤمنوا بما كذب به قوم نوح أي بمثله، والمراد به ما بعث الرسل عليهم السلام لإبلاغه وجوز على هذا القول أن يراد بالموصول نوح نفسه أي ما كان قوم الرسل ليؤمنوا بنوح عليه السلام إذ لو آمنوا به الجزء: 6 ¦ الصفحة: 152 آمنوا بأنبيائهم عليهم السلام ولا يخفى ما في ذلك، ومن الناس من جعل الباء سببية وما مصدرية والمعنى كذبوا رسلهم فكان عقابهم من الله تعالى أنهم لم يكونوا ليؤمنوا بسبب تكذيبهم من قبل وأيده بالآية الآتية، وفيه مخالفة الجمهور من جعل ما المصدرية اسما كما هو رأي الأخفش. وابن السراج ليرجع الضمير إليها، وفي إرجاعه إلى الحق بادعاء كونه مركوزا في الأذهان ما لا يخفى من التعسف، وقيل: ما موصوفة والباء للسببية أيضا أو للملابسة أي بشيء كذبوا به وهو العناد والتمرد وهو كما ترى كَذلِكَ أي مثل ذلك الطبع المحكم نَطْبَعُ فالإشارة على حد ما قرر في قوله سبحانه: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143] ونظائره مما مر، وجعل الإشارة إلى الإغراق كما فعل الخازن ليس بشيء، والطبع يطلق على تأثير الشيء بنقش الطابع وعلى الأثر الحاصل عن النقش والختم مثله في ذلك على ما ذكره الراغب أيضا، وذكر أنه تصور الشيء بصورة ما كطبع السكة وطبع الدراهم وأنه أعم من الختم وأخص من النقش، والأكثرون على تفسيره بالختم مرادا به المنع أن نختم عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ أي المتجاوزين عن الحدود المعهودة في الكفر والعناد ونمنعها لذلك عن قبول الحق وسلوك سبيل الرشاد، وقد جاء الطبع بمعنى الدنس ومنه طبع السيف لصدئه ودنسه، وبعضهم حمل ما في الآية على ذلك، وفسره المعتزلة حيث وقع منسوبا إليه تعالى بالخذلان تطبيقا له على مذهبهم، ومن هنا قال الزمخشري: إنه جار مجرى الكناية عن عنادهم ولجاجهم لأن من عاند وثبت على اللجاج خذله الله تعالى ومنه التوفيق واللطف فلا يزال كذلك حتى يراكم الرين والطبع على قلبه، ومراده كما قيل إن نَطْبَعُ بمعنى نخذل على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية لكن لما كان الطبع الذي هو الخذلان تابعا لعنادهم ولجاجهم لازما لهما أجري مجرى الكناية عنهما. وقرىء «يطبع» بالياء على أن الضمير لله سبحانه وتعالى ثُمَّ بَعَثْنا عطف على ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ عطف قصة على قصة مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد أولئك الرسل عليهم السلام مُوسى وَهارُونَ أؤثر التنصيص على بعثتهما عليهما السلام مع ضرب تفصيل إيذانا بخطر شأن القصة وعظم وقعها إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ أي أشراف قومه الذين يجتمعون على رأي فيملؤون العين رواء والنفوس جلالة وبهاء، وتخصيصهم بالذكر لأصالتهم في إقامة المصالح والمهمات ومراجعة الكل إليهم في النوازل والملمات، وقيل: المراد بهم هنا مطلق القوم من استعمال الخاص في العام بِآياتِنا أي أدلتنا ومعجزاتنا وهي الآيات المفصلات في الأعراف والباء للملابسة أي متلبسين بها فَاسْتَكْبَرُوا أي تكبروا وأعجبوا بأنفسهم وتعظموا عن الاتباع، والفاء فصيحة أي فأتياهم فبلغاهم الرسالة فاستكبروا، وأشير بهذا الاستكبار إلى ما وقع منهم أول الأمر من قول اللعين لموسى عليه السلام: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ [الشعراء: 18] وغير ذلك وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ جملة معترضة تذييلية وجوز فيها الحالية بتقدير قد، وعلى الوجهين تفيد اعتيادهم الإجرام وهو فعل الذنب العظيم، أي وكانوا قوما شأنهم ودأبهم ذلك. وقد يؤخذ مما ذكر تعليل استكبارهم، والحمل على العطف الساذج لا يناسب البلاغة القرآنية ولا يلائمها فمعلوم هذا القدر من سوابق أوصافهم فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا الفاء فصيحة أيضا معربة عما صرح به في مواضع أخر كأنه قيل: قال موسى: قد جئتكم ببينة من ربكم إلى قوله تعالى: فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ [الأعراف: 107] فلما جاءهم الحق قالُوا من فرط عنادهم وعتوهم مع تناهي عجزهم: إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ أي ظاهر كونه سحرا أو واضح في بابه فائق فيما بين أضرابه- فمبين- من أبان بمعنى ظهر واتضح لا بمعنى أظهر وأوضح كما هو أحد معنييه، والإشارة إلى الحق الذي جاءهم، والمراد به كما قال غير الجزء: 6 ¦ الصفحة: 153 واحد الآيات، وقد أقيم مقام الضمير للإشارة إلى ظهور حقيته عند كل أحد، ونسبة المجيء إليه على سبيل الاستعارة تشير أيضا إلى غاية ظهوره وشدة سطوعه بحيث لا يخفى على من له أدنى مسكة، ومن هنا قيل في المعنى: فلما جاءهم الحق من عندنا وعرفوه قالوا إلخ، فالاعتراض عليه بأنه لا دلالة في الكلام على هذه المعرفة وإنما تعلم في موضع آخر كقوله سبحانه: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [النمل: 14] من قلة المعرفة لظهور دلالة ما علمت، وكذا ما قالوا بناء على ما قيل من دلالته على الاعتراف وتناهي العجز عليها، وقرىء «لساحر» وعنوا به موسى عليه السلام لأنه الذي ظهر على يده ما أعجزهم قالَ مُوسى استئناف بياني كأنه قيل: فماذا قال لهم موسى عليه السلام؟ فقيل: قال لهم على سبيل الاستفهام الإنكاري التوبيخي: أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ الذي هو أبعد شيء من السحر الذي هو الباطل البحت لَمَّا جاءَكُمْ أي حين مجيئه إياكم ووقوفكم عليه وهو الذي يقتضيه ما أشير إليه آنفا، أو من أول الأمر من غير تأمل وتدبر كما قيل، وأيا ما كان فهو مما ينافي القول الذي في حيز الاستفهام، والمقول محذوف ثقة بدلالة ما قبل وما بعد عليه وإيذانا بأنه مما لا ينبغي أن يتفوه به ولو على نهج الحكاية، أي أتقولون له ما تقولون من أنه سحر مبين؟ يعني به أنه مما لا يمكن أن يقوله قائل ويتكلم به متكلم، وجوز أن يكون مقول القول قوله عز وجل: أَسِحْرٌ هذا على أن مقصودهم بالاستفهام تقريره عليه السلام لا الاستفهام الحقيقي لأنهم قد بتوا القول بأنه سحر فكيف يستفهمون عنه، والمحكي في أحد الموضعين مفهوم قولهم ومعناه وإلا فالقصة واحدة والصادر فيها بحسب الظاهر إحدى المقالتين ولا يخفى ضعفه، وأن يكون القول بمعنى العيب والطعن من قولهم: فلأن يخاف القالة- وبين الناس تقاول- إذا قال بعضهم لبعض ما يسوءه، ونظيره الذكر في قوله تعالى: سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ [الأنبياء: 60] وحينئذ يستغنى عن المفعول، واللام لبيان المطعون فيه كما في قوله تعالى: هَيْتَ لَكَ [يوسف: 23] أي أتعيبونه وتطعنون فيه، وعلى هذا الوجه وكذا الوجه الأول يكون قوله سبحانه: أَسِحْرٌ هذا إنكارا مستأنفا من جهة موسى عليه السلام لكونه سحرا وتكذيب لقولهم وتوبيخ لهم عليه إثر توبيخ وتجهيل إثر تجهيل، أما على الوجه المتقدم فظاهر، وأما على الوجه الأخير فوجه إيثار إنكار كونه سحرا على إنكار كونه معيبا بأن يقال: أفيه عيب؟ حسبما يقتضيه ظاهر الإنكار السابق التصريح بالرد عليهم في خصوصية ما عابوه به بعد التنبيه بالإنكار الأول على أنه ليس فيه شائبة عيب ما، وتقديم الخبر للإيذان بأنه مصب الإنكار، وما في اسم الإشارة من معنى القرب لزيادة تعيين المشار إليه واستحضار ما فيه من الصفات الدالة على كونه آية باهرة من آيات الله تعالى المنادية على امتناع كونه سحرا، أي أسحر هذا الذي أمره واضح مكشوف وشأنه مشاهد معروف بحيث لا يرتاب فيه أحد ممن له عين مبصرة، وقوله سبحانه: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ تأكيد للإنكار السابق وما فيه من التوبيخ والتجهيل، وقد استلزم القول بكونه سحرا القول بكون من أتى به ساحرا، والجملة في موضع الحال من ضمير المخاطبين والرابط الواو بلا ضمير كما في قوله: جاء الشتاء ولست أملك عدة وقولك: جاء زيد ولم تطلع الشمس، أي أتقولون للحق إنه سحر والحال أنه لا يفلح فاعله أي لا يظفر بمطلوب ولا ينجو من مكروه وأنا قد أفلحت وفزت بالحجة ونجوت من الهلكة، وجملة أَسِحْرٌ هذا معترضة بين الحال وذيها لتأكيد الإنكار السابق ببيان استحالة كونه سحرا بالنظر إلى ذاته قبل بيان استحالته بالنظر إلى صدوره منه عليه السلام، ومن جعلها مقول القول أبقى الحالية على حالها ولا اعتراض عنده، وكان المعنى على ذلك أتحملوني على الإقرار بأنه سحر وما أنا عليه من الفلاح دليل على أن بينه وبين السحر أبعد مما بين المشرق والمغرب، وقيل: يجوز الجزء: 6 ¦ الصفحة: 154 أن تكون هذه الجملة كالتي قبلها في حيز قولهم وهي حالية أيضا لكن على نمط آخر والاستفهام مصروف إليها، والمعنى أجئتنا بسحر تطلب به الفلاح والحال أنه لا يفلح الساحر، أو هم يتعجبون من فلاحه وهو ساحر، ولا يخفى أن السباق والسياق يأبيان هذا التجويز فلا ينبغي حمل النظم الجليل على ذلك، وفي إرشاد العقل السليم أن تجويز أن يكون الكل مقول القول مما لا يساعده النظم الكريم أصلا، أما أولا فلأن ما قالوا هو الحكم بأنه سحر من غير أن يكون فيه دلالة على ما تعسف فيه من المعنى بوجه من الوجوه، فصرف جوابه عليه السلام عن صريح ما خاطبوه به إلى ما لا يفهم منه مما يجب تنزيه التنزيل عن أمثاله وكون ذلك إعراضا عن رد الإنكار السابق إلى رد ما هو أبلغ منه في الإنكار لا أراه يحسن الالتفات هنا إلى قبول ذلك التجويز في كلام الله تعالى العزيز. وأما ثانيا فلأن التعرض لعدم إفلاح السحرة على الإطلاق من وظائف من يتمسك بالحق المبين دون الكفرة المتشبثين بأذيال بعض منهم في معارضته عليه السلام ولو كان ذلك من كلامهم لناسب تخصيص عدم الإفلاح بمن زعموه ساحرا بناء على غلبة من يأتون به من السحرة، والاعتذار بأن التشبث بأذيال بعض السحرة لا ينافي التعرض لعدم إفلاحهم على الإطلاق لجواز أن يكون اعتقادهم عدم الإفلاح مطلقا وتشبثهم بعد بما تشبثوا به من باب تلقي الباطل بالباطل لا أراه إلا من باب تشبث الغريق بالحشيش، وأما ثالثا فلأن قوله عز وجل: قالُوا أَجِئْتَنا إلخ مسوق لبيان أنه عليه السلام ألقمهم الحجر فانقطعوا عن الإتيان بكلام له تعلق بكلامه عليه السلام فضلا عن الجواب الصحيح واضطروا إلى التشبث بذيل التقليد الذي هو دأب كل عاجز محجوج وديدن كل معالج لجوج على أنه استئناف وقع جوابا عما قبله من كلامه صلّى الله عليه وسلم على طريقة قالَ مُوسى كما أشير إليه كأنه قيل: فماذا قالوا لموسى عليه السلام حين قال لهم ما قال؟ فقيل: قالوا عاجزين عن المحاجة: أجئتنا لِتَلْفِتَنا أي لتصرفنا، وبين اللفت والفتل مناسبة معنوية واشتقاقية وقد نص غير واحد على أنهما أخوان وليس أحدهما مقلوبا من الآخر كما قال الأزهري عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أي من عبادة غير الله تعالى، ولا ريب في أن ذلك إنما يتسنى بكون ما ذكر من تتمة كلامه عليه السلام على الوجه الذي شرح إذ على تقدير كونه محكيا من قبلهم يكون جوابه عليه السلام خاليا عن التبكيت الملجئ لهم إلى العدول عن سنن المحاجة، ولا ريب في أنه لا علاقة بين قولهم: أَجِئْتَنا إلخ وبين إنكاره عليه السلام لما حكي عنهم مصححة لكونه جوابا عنه، وهذا ظاهر إلا على من حجب عن إدراك البديهيات، وبالجملة الحق أن لا وجه لذلك التجويز بوجه والانتصار له من الفضول كما لا يخفى وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ أي الملك كما روي عن مجاهد فهو من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم، وعن الزجاج أنه إنما سمي الملك كبرياء لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا، وقيل: أي العظمة والتكبر على الناس باستتباعهم. وقرأ حماد بن يحيى عن أبي بكر، وزيد عن يعقوب «يكون» بالياء التحتانية لأن التأنيث غير حقيقي مع وجود الفاصل. فِي الْأَرْضِ أي أرض مصر، وقيل: أريد الجنس، والجار متعلق- بتكون- أو الكبرياء أو بالاستقرار في- لكما- لوقوعه خبرا أو بمحذوف وقع حالا من الْكِبْرِياءُ أو من الضمير في لَكُمَا لتحمله إياه وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ أي بمصدقين فيما جئتما به أصلا، وفيه تأكيد لما يفهم من الإنكار السابق، والمراد بضمير المخاطبين موسى وهارون عليهما السلام، وإنما لم يفردوا موسى عليه السلام بالخطاب هنا كما أفردوه به فيما تقدم لأنه المشافة لهم بالتوبيخ والإنكار تعظيما لأمر ما هو أحد سببي الإعراض معنى ومبالغة في إغاظة موسى عليه السلام وإقناطه عن الإيمان بما جاء به، وفي إرشاد العقل السليم أن تثنية الضمير في هذين الموضعين بعد إفراده فيما تقدم من المقامين باعتبار شمول الكبرياء لهما عليهما السلام واستلزام التصديق لأحدهما التصديق للآخر، وأما اللفت والمجيء له فحيث الجزء: 6 ¦ الصفحة: 155 كانا من خصائص صاحب الشريعة أسند إلى موسى عليه السلام خاصة انتهى فتدبر وَقالَ فِرْعَوْنُ أسند الفعل إليه وحده لأن الأمر من وظائفه دون الملأ وهذا بخلاف الأفعال السابقة من الاستكبار ونحوه فإنها مما تسند إليه وإلى ملئه، لكن الظاهر أنه غير داخل في القائلين أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا لأنه عليه اللعنة لم يكن يظهر عبادة أحد كما كان يفعله ملؤه وسائر قومه، أي قال لملئه يأمرهم بترتيب مبادئ الإلزام بالفعل بعد اليأس عن الإلزام بالقول ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ بفنون السحر حاذق ماهر فيه. وقرأ حمزة والكسائي «سحار» فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ عطف على مقدر يستدعيه المقام قد حذف إيذانا بسرعة امتثالهم للأمر كما هو شأن الفاء الفصيحة، وقد نص على نظير ذلك في قوله سبحانه: فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ [البقرة: 60] أي فأتوا به فلما جاؤوا قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ أي ما ثبتم واستقر رأيكم على إلقائه كائنا ما كان من أصناف السحر، وأصل الإلقاء طرح الشيء حيث تلقاه أي تراه ثم صار في العرف اسما لكل طرح، وكان هذا القول منه عليه السلام بعد ما قالوا له ما حكي عنهم في السور الأخر من قولهم: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ [الأعراف: 115] ونحو ذلك ولم يكن في ابتداء مجيئهم، وما موصولة والجملة بعدها صلة والعائد محذوف أي ملقون إياه، ولا يخفى ما في الإبهام من التحقير والإشعار بعدم المبالاة، والمراد أمرهم بتقديم ما صمموا على فعله ليظهر إبطاله وليس المراد الأمر بالسحر والرضا به فَلَمَّا أَلْقَوْا ما ألقوا من العصي والحبال واسترهبوا الناس وجاؤوا بسحر عظيم قالَ لهم مُوسى غير مكترث بهم بما صنعوا ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ ما موصولة وقعت مبتدأ والسِّحْرُ خبر وأل فيه للجنس والتعريف لإفادة القصر إفرادا أي الذي جئتم به هو السحر لا الذي سماه فرعون وملؤه من آيات الله تعالى سحرا وهو للجنس، ونقل عن الفراء أن أل للعهد لتقدم السحر في قوله تعالى: إِنَّ هذا لَسِحْرٌ ورد بأن شرط كونها للعهد اتحاد المتقدم والمتأخر ذاتا كما في أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ [المزمل: 15، 16] ولا اتحاد فيما نحن فيه فإن السحر المتقدم ما جاء به موسى عليه السلام وهذا ما جاء به السحرة. ومن الناس من منع اشتراط الاتحاد الذاتي مدعيا أن الاتحاد في الجنس كاف فقد قالوا في قوله تعالى: وَالسَّلامُ عَلَيَّ [مريم: 33] إن أل للعهد مع أن السلام الواقع على عيسى عليه السلام غير السلام الواقع على يحيى عليه السلام ذاتا، والظاهر اشتراط ذلك وعدم كفاية الاتحاد في الجنس وإلا لصح في رأيت رجلا وأكرمت الرجل إذا كان الأول زيدا والثاني عمرا مثلا أن يقال: إن أل للعهد لأن الاتحاد في الجنس ظاهر ولم نجد من يقوله بل لا أظن أحدا تحدثه نفسه بذلك وما في الآية من هذا القبيل بل المغايرة بين المتقدم والمتأخر أظهر. إذ الأول سحر ادعائي والثاني حقيقي، والسَّلامُ فيما نقلوا متحد وتعدد من وقع عليه لا يجعله متعددا في العرف والتدقيق الفلسفي لا يلتفت إليه في مثل ذلك. وقد ذكر بعض المحققين أن القول بكون التعريف للعهد مع دعوى استفادة القصر منه مما يتنافيان لأن القصر إنما يكون إذا كان التعريف للجنس. نعم إذا لم يرد بالنكرة المذكورة أولا معين ثم عرفت لا ينافي التعريف الجنسية لأن النكرة تساوي تعريف الجنس فحينئذ لا ينافي تعريف العهد القصر وإن كان كلامهم يخالفه ظاهرا فليحرر انتهى. وأقول: دعوى الفراء العهد هنا مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، ولعله أراد الجنس وإن عبر بالعهد بناء على ما ذكره الجلال السيوطي في همع الهوامع نقلا عن ابن عصفور أنه قال: لا يبعد عندي أن يسمى الألف واللام اللتان لتعريف الجنس عهديتين لأن الأجناس عند العقلاء معلومة مذ فهموها والعهد تقدم لمعرفة. وادعى أبو الحجاج يوسف بن معزوز أن أل لا تكون إلا عهدية وتأوله بنحو ما ذكر إلا أن ظاهر التعليل لا يساعد ذلك. وقرأ عبد الله «سحر» بالتنكير، وأبيّ «ما أتيتم به سحر» والكلام على ذلك مفيد للقصر أيضا، لكن بواسطة التعريض لوقوعه في مقابلة قولهم: إِنَّ هذا لَسِحْرٌ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 156 مُبِينٌ وجوز في ما في جميع هذا القراءات أن تكون استفهامية و «السحر» خبر مبتدأ محذوف. وقرأ أبو عمرو، وأبو جعفر «آلسحر» بقطع الألف ومدها على الاستفهام- فما- استفهامية مرفوعة على الابتداء وجِئْتُمْ بِهِ خبرها و «السحر» خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف، أي شيء جسيم جئتم به أهو السحر أو السحر هو، وقد يجعل السحر بدلا من ما كما تقول ما عندك أدينار أم درهم، وقد تجعل «ما» نصبا بفعل محذوف يقدر بعدها أي أي شيء أتيتم به وجِئْتُمْ بِهِ مفسر له وفي «السحر» الوجهان الأولان. وجوز أن تكون موصولة مبتدأ والجملة الاسمية أي أهو السحر أو السحر هو خبره، وفيه الإخبار بالجملة الإنشائية، ولا يجوز أن تكون على هذا التقدير منصوبة بفعل محذوف يفسره المذكور لأن ما لا يعمل لا يفسر عاملا إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ أي سيمحقه بالكلية بما يظهره على يدي من المعجزة فلا يبقى له أثر أصلا أو سيظهر بطلانه وفساده للناس، والسين للتأكيد إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ أي جنسهم على الإطلاق فيدخل فيه السحرة دخولا أولياء، ويجوز أن يراد بالمفسدين المخاطبون فيكون من وضع الظاهر موضع الضمير للتسجيل عليهم بالإفساد والإشعار بعلة الحكم، والجملة تذييل لتعليل ما قبلها وتأكيده، والمراد بعدم إصلاح ذلك عدم إثباته أو عدم تقويته بالتأييد الإلهي لا عدم جعل الفاسد صالحا لظهور أن ذلك مما لا يكون أي إنه سبحانه لا يثبت عمل المفسدين ولا يديمه بل يزيله ويمحقه أو لا يقويه ولا يؤيده بل يظهر بطلانه ويجعله معلوما. واستدل بالآية على أن السحر إفساد وتمويه لا حقيقة له. وأنت تعلم أن في إطلاق القول بأن السحر لا حقيقة له بحثا، والحق أن منه ما له حقيقة ومنه ما هو تخيل باطل ويسمى شعبذة وشعوذة وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ أي يثبته ويقويه وهو عطف على قوله سبحانه: سَيُبْطِلُهُ وإظهار الاسم الجليل في المقامين لإلقاء الروعة وتربية المهابة بِكَلِماتِهِ أي بأوامره وقضاياه، وعن الحسن أي بوعده النصر لمن جاء به وهو سبحانه لا يخلف ذلك، وعن الجبائي أي بما ينزله مبينا لمعاني الآيات التي أتى بها نبيه عليه السلام. وقرىء «بكلمته» وفسرت بالأمر واحد الأوامر حسبما فسرت الكلمات بالأوامر وأريد منها الجنس فيتطابق القراءتان، وقيل: يحتمل أن يراد بها قول كن وأن يراد بها الأمر واحد الأمور ويراد بالكلمات الأمور والشؤون وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ذلك، والمراد بهم كل من اتصف بالإجرام من السحرة وغيرهم فَما آمَنَ لِمُوسى عطف على مقدر فصل في موضع آخر أي فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ [الشعراء: 45] إلخ، وإنما لم يذكر تعويلا على ذلك وإيثارا للإيجاز وإيذانا بأن قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ مما لا يحتمل الخلف أصلا، ولعل عطفه على ذلك بالفاء باعتبار الإيجاب الحادث الذي هو أحد مفهومي الحصر، فإنهم قالوا: معنى ما قام إلا زيد قام زيد ولم يقم غيره، وبعضهم لم يعتبر ذلك وقال: إن عطفه بالفاء على ذلك مع كونه عدما مستمرا من قبيل ما في قوله تعالى: فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وما في قولك: وعظته فلم يتعظ- وصحت به فلم ينزجر، والسر في ذلك أن الإتيان بالشيء بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه وإن كان استمرارا عليه لكنه بحسب العنوان فعل جديد وصنع حادث أي فما آمن له عليه السلام في مبدأ أمره إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ أي إلا أولاد بعض بني إسرائيل حيث دعا عليه السلام الآباء فلم يجيبوه خوفا من فرعون وأجابته طائفة من شبانهم، فالمراد من الذرية الشبان لا الأطفال. ومِنْ للتبعيض، وجوز أن تكون للابتداء والتبعيض مستفاد من التنوين، والضمير لموسى عليه السلام كما هو إحدى الروايتين عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخرج ابن جرير عنه أن الضمير لفرعون وبه قال جمع، فالمؤمنون من غير بني إسرائيل ومنهم زوجته آسية وما شطته ومؤمن آل فرعون والخازن وامرأته، وفي إطلاق الذرية على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 157 هؤلاء نوع خفاء. ورجح بعضهم إرجاع الضمير لموسى عليه السلام بأنه المحدث عنه وبأن المناسب على القول الآخر الإضمار فيما بعد، ورجح ابن عطية إرجاع الضمير لفرعون بأن المعروف في القصص أن بني إسرائيل كانوا في قهر فرعون وكانوا قد بشروا بأن خلاصهم على يد مولود يكون نبيا صفته كذا كذا فلما ظهر موسى عليه السلام اتبعوه ولم يعرف أن أحدا منهم خالفه فالظاهر القول الثاني، وما ذكر من أن المحدث عنه موسى عليه السلام لا يخلو عن شيء، فإن القائل أن يقابل ذلك بأن الكلام في قوم فرعون لأنهم القائلون إنه ساحر ولأن وعظ أهل مكة وتخويفهم المسوق له الآيات قاض بأن المقصود هنا شرح أحوالهم. وأنت تعلم أن للبحث في هذا مجالا والمعروف بعد تسليم كونه معروفا لا يضر القول الأول لأن المراد حينئذ فما أظهر إيمانه وأعلن به إلا ذرية من بني إسرائيل دون غيرهم فإنهم أخفوه ولم يظهروه عَلى خَوْفٍ حال من ذرية وعَلى بمعنى مع كما قيل في قوله تعالى: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ [البقرة: 177] والتنوين للتعظيم أي كائنين مع خوف عظيم مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ الضمير لفرعون، والجمع عند غير واحد على ما هو المعتاد في ضمائر العظماء. ورد بأن الواو في كلام العرب الجمع في ضمير المتكلم كنحن وضمير المخاطب كما في قوله تعالى: رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون: 99] وقوله: ألا فارحموني يا إله محمد ولم ينقل في ضمير الغائب كما نقل عن الرضي، وأجيب بأن الثعالبي، والفارسي نقلاه في الغائب أيضا والمثبت مقدم على النافي، وبأنه لا يناسب تعظيم فرعون فإن كان على زعمه وزعم قومه فإنما يحسن في كلام ذكر أنه محكي عنهم وليس فليس، ويجاب بأن المراد من التعظيم تنزيله منزلة المتعدد، وكونه لا يناسب في حيز المنع، لم لا يجوز أن يكون مناسبا لما فيه من الإشارة إلى مزيد عظم الخوف المتضمن زيادة مدح المؤمنين؟ وقيل: إن ذلك وارد على عادتهم في محاوراتهم في مجرد جمع ضمير العظماء وإن لم يقصد التعظيم أصلا فتأمله وجوز أن يكون الجمع لأن المراد من فِرْعَوْنَ آله كما يقال: ربيعة، ومضر، واعترض عليه بأن هذا إنما عرف في القبيلة وأبيها إذ يطلق اسم الأب عليهم وفرعون ليس من هذا القبيل، على أنه قد قيل: إن إطلاق أبي نحو القبيلة عليها لا يجوز ما لم يسمع ويتحقق جعله علما لها، ألا تراهم لا يقولون: فلان من هاشم ولا من عبد المطلب بل من بني هاشم وبني عبد المطلب فكيف يراد من فرعون آله ولم يتحقق فيه جعله علما لهم، ودعوى التحقق هنا أول المسألة فالقول بأن الجمع لأن المراد به آله كربيعة ليس بشيء إلا أن يراد أن فرعون ونحوه من الملوك إذا ذكر خطر بالبال خطر اتباعه معه فعاد الضمير على ما في الذهن، وتمثيله بما ذكر لأنه نظيره في الجملة، ثم إنه لا يخفى أنه إذا أريد من فرعون آله ينبغي أن يراد من آلِ فِرْعَوْنَ فرعون وآله على التغليب، وقيل: إن الكلام على حذف مضاف أي آل فرعون فالضمير راجع إلى ذلك المحذوف، وفيه أن الحذف يعتمد القرينة ولا قرينة هنا، وضمير الجمع يحتمل رجوعه لغير ذلك المحذوف كما ستعلمه قريبا إن شاء الله تعالى فلا يصلح لأن يكون قرينة، وأما أن المحذوف لا يعود إليه ضمير كما قال أبو البقاء فليس بذاك لأنه إن أريد أنه لا يعود إليه مطلقا فغير صحيح وإن أريد إذا حذف لقرينة فممنوع لأنه حينئذ في قوة المذكور، وقد كثر عود الضمير إليه كذلك في كلام العرب، وقريب من هذا القيل زعم أن هناك معطوفا محذوفا إليه يعود الضمير أي على خوف من فرعون وقومه وملئهم، ويرد عليه أيضا ما قيل: إن هذا الحذف ضعيف غير مطرد. وقيل: الضمير للذرية أو للقوم أي على خوف من فرعون ومن أشراف بني إسرائيل حيث كانوا يمنعونهم خوفا من فرعون عليهم أو على أنفسهم، أو من أشراف القبط ورؤسائهم حيث كانوا يمنعونهم انتصارا لفرعون، ولعل المنساق إلى الذهن رجوعه إلى الذرية والجمع باعتبار المعنى، ويؤول المعنى إلى أنهم آمنوا على خوف من فرعون ومن أشراف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 158 قومهم أَنْ يَفْتِنَهُمْ أي يبتليهم ويعذبهم، وأصل الفتن كما قال الراغب إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته واستعمل في إدخال الإنسان النار كما في قوله سبحانه: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [الذاريات: 13] ويسمى ما يحصل منه العذاب فتنة ويستعمل في الاختبار وبمعنى البلاء والشدة وهو المراد هنا، و «أن» وما بعدها في تأويل مصدر وقع بدلا من فرعون بدل اشتمال أي على خوف من فرعون فتنته، ويجوز أن يكون مفعول خَوْفٍ لأنه مصدر منكر كثر إعماله، وقيل: إنه مفعول له والأصل لأن يفتنهم فحذف الجار وهو مما يطرد فيه الحذف، ولا يضر في مثل هذا عدم اتحاد فاعل المصدر والمعلل به على أن مذهب بعض الأئمة عدم اشتراط ذلك في جواز النصب وإليه مال الرضي وأيده بما ذكرناه في حواشينا على شرح القطر للمصنف، وإسناد الفعل إلى فرعون خاصة لأنه مدار أمر التعذيب، وفي الكلام استخدام في رأي حيث أريد من فرعون أولا آله وثانيا هو وحده وأنت تعلم ما فيه. وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ أي لغالب قاهر في أرض مصر، واستعمال العلو بالغلبة والقهر مجاز معروف وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ أي المتجاوزي الحد في الظلم والفساد بالقتل وسفك الدماء أو في الكبر والعتو حتى ادعى الربوبية واسترق أسباط الأنبياء عليهم السلام، والجملتان اعتراض تذييلي مؤكد لمضمون ما سبق وفيهما من التأكيد ما لا يخفى وَقالَ مُوسى لما رأى تخوف المؤمنين يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ أي صدقتم به وبآياته فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا أي اعتمدوا لا على أحد سواه فإنه سبحانه كافيكم كل شر وضر. إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ أي مستسلمين لقضاء الله تعالى مخلصين له، وليس هذا من تعليق الحكم بشرطين بل من تعليق شيئين بشرطين لأنه علق وجوب التوكل المفهوم من الأمر وتقديم المتعلق بالإيمان فإنه المقتضي له وعلق نفس التوكل ووجود بالإسلام والإخلاص لأنه لا يتحقق مع التخليط، ونظير ذلك- إن دعاك زيد فأجبه إن قدرت عليه- فإن وجوب الإجابة معلق بالدعوة ونفس الدعوة معلقة بالقدرة، وحاصله إن كنتم آمنتم بالله فيجب عليكم التوكل عليه سبحانه فافعلوه واتصفوا به إن كنتم مستسلمين له تعالى. وهذا النوع على ما في الكشف يفيد مبالغة في ترتب الجزاء على الشرط على نحو- إن دخلت الدار فأنت طالق إن كنت زوجتي- وجعله بعضهم من باب التعليق بشرطين المقتضي لتقدم الشرط الثاني على الأول في الوجود حتى لو قال: إن كلمت زيدا فأنت طالق إن دخلت الدار لم تطلق ما لم تدخل قبل الكلام لأن الشرط الثاني شرط للأول فيلزم تقدمه عليه، وقرره بأن هاهنا ثلاثة أشياء: الإيمان، والتوكل، والإسلام، والمراد بالإيمان التصديق وبالتوكل إسناد الأمور إليه عز وجل، وبالإسلام تسليم النفس إليه سبحانه وقطع الأسباب فعلق التوكل بالتصديق بعد تعليقه بالإسلام لأن الجزاء معلق بالشرط الأول وتفسير للجزاء الثاني كأنه قيل: إن كنتم مصدقين بالله تعالى وآياته فخصوه سبحانه بإسناد جميع الأمور إليه وذلك لا يتحصل إلا بعد أن تكونوا مخلصين لله تبارك وتعالى مستسلمين بأنفسكم له سبحانه ليس للشيطان فيكم نصيب وإلا فاتركوا أمر التوكل. ويعلم منه أن ليس لكل أحد من المؤمنين الخوض في التوكل بل للآحاد منهم وإن مقام التوكل دون مقام التسليم والأكثر على الأول ولعله أدق نظرا فَقالُوا مجيبين له عليه السلام من غير تلعثم وبلع ريق في ذلك عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا لا على غيره سبحانه ويؤخذ من هذا القصر والتعبير بالماضي دون نتوكل أنهم كانوا مؤمنين مخلصين، قيل: ولذا أجيب دعاؤهم رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي موضع فتنة وعذاب لهم بأن تسلطهم علينا فيعذبونا أو يفتنونا عن ديننا أو يفتنوا بنا ويقولوا: لو كان هؤلاء على الحق لما أصيبوا وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ دعاء بالإنجاء من سوء جوارهم وسوء صنيعهم بعد الإنجاء من ظلمهم، ولذا عبر عنهم بالكفر بعد ما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 159 وصفوا بالظلم ففيه وضع المظهر موضع المضمر، وجوز أن يراد من القوم الظالمين الملأ الذين تخوفوا منهم ومن القوم الكافرين ما يعمهم وغيرهم، وفي تقديم التوكل على الدعاء وإن كان بيانا لامتثال أمر موسى عليه السلام لهم به تلويح بأن الداعي حقه أن يبني دعاءه على التوكل على الله تعالى فإنه أرجى للإجابة ولا يتوهمن أن التوكل مناف للدعاء لأنه أحد الأسباب للمقصود والتوكل قطع الأسباب لأن المراد بذاك قطع النظر عن الأسباب العادية وقصره على مسببها عز وجل واعتقاد أن الأمر مربوط بمشيئته سبحانه فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وقد صرحوا أن الشخص إذا تعاطى الأسباب معتقدا ذلك يعد متوكلا أيضا، ومثل التوكل في عدم المنافاة للدعاء على ما تشعر به الآية الاستسلام. نعم في قول بعضهم: إن الاستسلام من صفات إبراهيم عليه السلام وكان من آثاره ترك الدعاء حين ألقي في النار واكتفاؤه عليه السلام بالعلم المشار إليه بقوله: حسبي من سؤالي علمه بحالي ما يشعر بالمنافاة ومن عرف المقامات أمعن النظر هان عليه أمر الجمع وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا أَنْ مفسرة لأن في الوحي معنى القول، ويحتمل أن تكون مصدرية والتبوء اتخاذ المباءة أي المنزل كالتوطن اتخاذ الوطن، والجمهور على تحقيق الهمزة ومنهم من قرأ «تبويا» لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً فجعلها ياء وهي مبدلة من الهمزة تخفيفا، والفعل على ما قيل مما يتعدى لواحد فيقال: تبوأ زيد كذا لكن إذا أدخلت اللام على الفاعل فقيل: تبوأ لزيد كذا تعدى لما كان فاعلا باللام فيتعدى لاثنين، وخرجت الآية على ذلك- فلقومكما- أحد المفعولين، وقيل: هو متعد لواحد ولِقَوْمِكُما متعلق بمحذوف وقع حالا من البيوت، واللام على الوجهين غير زائدة. وقال أبو علي: هو متعد بنفسه لاثنين واللام زائدة كما في رَدِفَ لَكُمْ [النمل: 72] وفعل وتفعل قد يكونان بمعنى مثل علقتها وتعلقتها، والتقدير بوئا قومكما بيوتا يسكنون فيها أو يرجعون إليها للعبادة. ومصر غير منصرف لأنه مؤنث معرفة ولو صرفته لخفته كما صرفت هندا لكان جائزا، والجار متعلق- بتبوأ- وجوز أن يكون حالا من بُيُوتاً أو من- قومكما- أو من ضمير الفاعل في تَبَوَّءا وفيه ضعف وَاجْعَلُوا أنتما وقومكما ففيه تغليب المخاطب على غيره بُيُوتَكُمْ تلك فالإضافة للعهد قِبْلَةً أي مصلى، وقيل: مساجد متوجهة نحو القبلة يعني الكعبة فإن موسى عليه السلام كان يصلي إليها، وعلى التفسيرين تكون القبلة مجازا فيما فسرت به بعلاقة اللزوم أو الكلية والجزئية، والاختلاف في المراد هنا ناظر للاختلاف في أن تلك البيوت المتخذة هل للسكنى أو للصلاة فإن كان الأول فالقبلة مجاز عن المصلى وإن كان الثاني فهو مجاز عن المساجد. واعترض القول بحمل القبلة على المساجد المتوجهة إلى الكعبة بأن المنصوص عليه في الحديث الصحيح أن اليهود تستقبل الصخرة والنصارى مطلع الشمس ولم يشتهر أن موسى عليه السلام كان يستقبل الكعبة في صلاته فالقول به غريب، وأغرب منه ما قاله العلائي: من أن الأنبياء عليهم السلام كانت قبلتهم كلهم الكعبة، قيل: وجعل البيوت مصلى ينافيه ما في الحديث «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» من أن الأمم السالفة كانوا لا يصلون إلا في كنائسهم، وأجيب عن هذا بأن محله إذا لم يضطروا فإذا اضطروا جازت لهم الصلاة في بيوتهم كما رخص لنا صلاة الخوف، فإن فرعون لعنه الله تعالى خرب مساجدهم ومنعهم من الصلاة فأوحى إليهم أن صلوا في بيوتكم كما روي عن ابن عباس وابن جبير، وقد يقال: إنه لا منافاة أصلا بناء على أن المراد تعيين البيوت للصلاة وعدم صحة الصلاة في غيرها فيكون حكمها إذ ذاك حكم الكنائس اليوم وما هو من الخصائص صحة الصلاة في أي مكان من الأرض وعدم تعين موضع منها لذلك فلا حاجة إلى ما يقال: من أن اعتبار جعل الأرض كلها مسجدا خصوصية بالنظر إلى ما استقرت عليه شريعة موسى عليه السلام من تعين الصلاة في الكنائس وعدم جوازها في أي مكان أراده المصلي من الأرض، وما تقدم من استقبال اليهود الصخرة فالمشهور أنه كان في بيت المقدس وأما قبل بعد نزول التوراة فكانوا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 160 يستقبلون التابوت وكان يوضع في قبة موسى عليه السلام، على أنه قد قيل: إن الاستقبال في بيت المقدس كان للتابوت أيضا وكانوا يضعونه على الصخرة فيكون استقباله استقبالها، وأما استقبالهم في مصر فيحتمل أنه كان للكعبة كما روي عن الحسن وما في الحديث محمول على آخر أحوالهم، ويحتمل أنه كان للصخرة حسبما هو اليوم ويحتمل غير ذلك والله تعالى أعلم بحقيقة الحال، وقيل: معنى قِبْلَةً متقابلة ورواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أي اجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ فيها، قيل: أمروا بذلك في أول أمرهم لئلا يظهر عليهم الكفرة فيؤذونهم ويفتنونهم في دينهم، وهو مبني على أن المراد بالبيوت المساكن فلا يصح كما لا يخفى، ولعل التوجيه على ذلك هو أنهم أمروا بالصلاة ليستعينوا ببركتها على مقصودهم فقد قال سبحانه: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة: 45، 153] وهي في المساجد أفضل فتكون أرجى للنفع وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بحصول مقصودهم، وقيل: بالنصرة في الدنيا إجابة لدعوتهم والجنة في العقبى، وإنما ثني الضمير أولا لأن التبوء للقوم واتخاذ المعابد مما يتولاه رؤساء القوم بتشاور، ثم جمع ثانيا لأن جعل البيوت مساجد والصلاة فيها مما يفعله كل أحد مع أن في إدخال موسى وهارون عليهما السلام مع القوم في الأمرين المذكورين ترغيبا لهم في الامتثال، ثم وجد ثالثا لأن بشارة الأمة وظيفة صاحب الشريعة وهي من الأعظم أسر وأوقع في النفس، ووضع المؤمنين موضع ضمير القوم لمدحهم بالإيمان وللإشعار بأنه المدار في التبشير قالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً أي ما يتزين به من اللباس والمراكب ونحوها وتستعمل مصدرا وَأَمْوالًا أنواعا كثيرة من المال كما يشعر به الجمع والتنوين، وذكر ذلك بعد الزينة من ذكر العام بعد الخاص للشمول، وقد يحمل على ما عداه بقرينة المقابلة، وفسر بعضهم الزينة بالجمال وصحة البدن وطول القامة ونحوه فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ أي لكي يضلوا عنها وهو تعليل للإيتاء السابق، والكلام إخبار من موسى عليه السلام بأن الله تعالى إنما أمدهم بالزينة والأموال استدراجا ليزدادوا إثما وضلالة كما أخبر سبحانه عن أمثالهم بقوله سبحانه: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً [آل عمران: 178] وإلى كون اللام للتعليل ذهب الفراء. والظاهر أنه حقيقة فيكون ذلك الضلال مراد الله تعالى، ولا يلزم ما قاله المعتزلة من أنه إذا كان مرادا يلزم أن يكونوا مطيعين به بناء على أن الإرادة أمر أو مستلزم له لما أنه قد تبين بطلان هذا المبنى في الكلام، وقدر بعضهم حذرا من ذلك لئلا يضلوا كما قدر في شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا [الأعراف: 17] شهدنا أن لا تقولوا ولا حاجة إليه، وقيل: إن التعليل مجازي لأنهم لما ضلوا بسبب ذلك جعل إيتاؤه كأنه للضلال فيكون في اللام استعارة تبعية، وقال الأخفش: اللام للعاقبة فيكون ذلك إخبارا منه عليه السلام لممارسته لهم وتفرسه بهم أو لعلمهم بالوحي على ما قيل بأن عاقبة ذلك الإيتاء الضلال. والفرق بين التعليل المجازي وهذا إن قلنا بأنه معنى مجازي أيضا أن في التعليل ذكر ما هو سبب لكن لم يكن إيتاؤه لكونه سببا وفي لام العاقبة لم يذكر سبب أصلا وهي كاستعارة أحد الضدين للآخر، وقال ابن الأنباري: إنها للدعاء ولا مغمز على موسى عليه السلام في الدعاء عليهم بالضلال إما لأنه عليه السلام علم بالممارسة أو نحوها أنه كائن لا محالة فدعا به وحاصله أنه دعاء بما لا يكون إلا ذلك فهو تصريح بما جرى قضاء الله تعالى به، ونحوه لعن الله تعالى الشيطان وإما لأنه ليس بدعاء حقيقة، وليس النظر إلى تنجيز المسئول وعدمه بل النظر إلى وصفهم بالعتو وإبلاء عذره عليه السلام في الدعوة فهو كناية إيمائية على هذا، وما قيل: هذا شهادة بسوء حالهم بطريق الكناية في الكناية لأن الضلالة رديف الإضلال وهو منع اللطف فكنى بالضلال عن الإضلال والإضلال رديف كونهم كالمطبوع عليهم فكان هذا كشفا وبيانا لحالهم بطريق الكناية فهو على ما فيه شيء عنه غني لأن الطبع مصرح به بعد بل النظر هاهنا إلى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 161 الزبدة والخلاصة من هذه المطالب كلها، ويشعر كلام الزمخشري باختيار كونها للدعاء، وفي الانتصاف أنه اعتزال أدق من دبيب النمل يكاد الاطلاع عليه يكون كشفا، والظاهر أنها للتعليل، وقال صاحب الفرائد: لولا التعليل لم يتجه قوله: إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً ولم ينتظم وأورده عليه أيضا أنه ينافي غرض البعثة وهو الدعوة إلى الإيمان والهدى، ولا يخفى أن دفع هذا يعلم مما قدمنا آنفا. وأما وجه انتظام الكلام فهو كما قال غير واحد: إن موسى عليه السلام ذكر قوله: إِنَّكَ آتَيْتَ إلخ تمهيدا للتخلص إلى الدعاء عليهم أي إنك أوليتهم هذه النعمة ليعبدوك ويشكروك فما زادهم ذلك إلا طغيانا وكفرا وإذا كانت الحال هذه فليضلوا عن سبيلك ولو دعا ابتداء لم يحسن إذ ربما لم يعذر فقدم الشكاية منهم والنعي بسوء صنيعهم ليتسلق منه إلى الدعاء مع مراعاة تلازم الكلام من إيراد الأدعية منسوقة نسقا واحدا وعدم الاحتياج إلى الاعتذار عن تكرير النداء كما احتاج القول بالتعليل إلى الاعتذار عنه بأنه للتأكيد وللإشارة إلى أن المقصود عرض ضلالهم وكفرانهم تقدمة للدعاء عليهم بعد. وادعى الطيبي أنه لا مجال للقول بالاعتراض لأنه إنما يحسن موقعه إذا التذت النفس بسماعه، ولذا عيب قول النابعة: لعل زيادا لا أبا لك غافل وفي كلامه ميل إلى القول بأن اللام للدعاء وهو لدى المنصف خلاف الظاهر، وما ذكروه له لا يفيده ظهورا. وقرىء «ليضّلوا» بضم الياء وفتحها رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ أي أهلكها كما قال مجاهد، فالطمس بمعنى الإهلاك، وفعله من باب ضرب ودخل، ويشهد له قراءة «اطمس» بضم الميم، ويتعدى ولا يتعدى، وجاء بمعنى محو الأثر والتغيير وبهذا فسره أكثر المفسرين قالوا: المعنى ربنا غيرها عن جهة نفعها إلى جهة لا ينتفع بها. وأنت تعلم أن تغييرها عن جهة نفعها إهلاك لها أيضا فلا ينافي ما أخرجه ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن الضحاك أنه بعد هذا الدعاء صارت دراهمهم ودنانيرهم ونحاسهم وحديدهم حجارة منقوشة. وعن محمد القرظي قال: سألني عمر بن عبد العزيز عن هذه الآية فأخبرته أن الله تعالى طمس على أموال فرعون وآل فرعون حتى صارت حجارة فقال عمر: مكانك حتى آتيك فدعا بكيس مختوم ففكه فإذا فيه البيضة مشقوقة وهي حجارة وكذا الدراهم والدنانير وأشباه ذلك. وفي رواية عنه أنه صار سكرهم حجارة وأن الرجل بينما هو مع أهله إذ صارا حجرين وبينما المرأة قائمة تخبز إذ صارت كذلك، وهذا مما لا يكاد يصح أصلا وليس في الآية ما يشير إليه بوجه، وعندي أن أخبار تغيير أموالهم إلى الحجارة لا تخلو عن وهن فلا يعول عليها، ولعل الأولى أن يراد من طمسها إتلافها منهم على أتم وجه، والمراد بالأموال ما يشمل الزينة من الملابس والمراكب وغيرها وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ أي اجعلها قاسية واطبع عليها حتى لا تنشرح للإيمان كما هو قضية شأنهم فَلا يُؤْمِنُوا جواب للدعاء أعني اشْدُدْ دون اطْمِسْ فهو منصوب، ويحتمل أن يكون دعاء بلفظ النهي نحو إلهي لا تعذبني فهو مجزوم، وجوز أن يكون عطفا على لِيُضِلُّوا وما بينهما دعاء معترض فهو حينئذ منصوب أو مجزوم حسبما علمت من الخلاف في اللام حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ أي يعاينوه ويوقنوا به بحيث لا ينفعهم ذلك إذ ذاك، والمراد به جنس العذاب الأليم. وأخرج غير واحد عن ابن عباس تفسيره بالغرق. واستدل بعضهم بالآية على أن الدعاء على شخص بالكفر لا يعد كفرا إذا لم يكن على وجه الاستيجاز والاستحسان للكفر بل كان على وجه التمني لينتقم الله تعالى من ذلك الشخص أشد انتقام، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام خواهر زادة، فقولهم: الرضا بكفر الغير كفر ليس على إطلاقه عنده بل هو مقيد بما إذا كان على وجه الاستحسان، لكن قال صاحب الذخيرة: قد عثرنا على رواية عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أن الرضا بكفر الغير الجزء: 6 ¦ الصفحة: 162 كفر من غير تفصيل، والمنقول عن علم الهدى أبي منصور الماتريدي التفصيل ففي المسألة اختلاف، قيل: والمعول عليه أن الرضا بالكفر من حيث إنه كفر كفر وإن الرضا به لا من هذه الحيثية بل من حيثية كونه سببا للعذاب الأليم أو كونه أثرا من آثار قضاء الله تعالى وقدره مثلا ليس بكفر وبهذا يندفع التنافي بين قولهم: الرضا بالكفر كفر، وقولهم: الرضا بالقضاء واجب بناء على حمل القضاء فيه على المقضي، وعلى هذا لا يتأتى ما قيل: إن رضا العبد بكفر نفسه كفر بلا شبهة على إطلاقه بل يجري فيه التفصيل السابق في الرضا بكفر الغير أيضا، ومن هذا التحقيق يعلم ما في قولهم: إن من جاءه كافر ليسلم فقال له: اصبر حتى أتوضأ أو أخره يكفر لرضاه بكفره في زمان من النظر، ويؤيده ما في الحديث الصحيح في فتح مكة أن ابن أبي سرح أتى به عثمان رضي الله تعالى عنه إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله بايعه فكف صلّى الله عليه وسلم يده عن بيعته ونظر إليه ثلاث مرات كل ذلك يأبى أن يبايعه فبايعه بعد الثلاث ثم أقبل صلّى الله عليه وسلم على أصحابه فقال: أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟ قالوا: وما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك ألا أومأت إلينا بعينك فقال عليه الصلاة والسلام: إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة أعين، وقد أخرجه ابن أبي شيبة، وأبو داود. والنسائي. وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص وهو معروف في السير فإنه ظاهر في أن التوقف مطلقا ليس كما قالوه كفرا فليتأمل. قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما هو خطاب لموسى وهارون عليهما السلام، وظاهره أن هارون عليه السلام دعا بمثل ما دعا موسى عليه السلام حقيقة لكن اكتفي بنقل دعاء موسى عليه السلام لكونه الرسول بالاستقلال عن نقل دعائه وأشرك بالبشارة إظهارا لشرفه عليه السلام، ويحتمل أنه لم يدع حقيقة لكن أضيفت الدعوة إليه أيضا بناء على أن دعوة موسى في حكم دعوته لمكان كونه تابعا ووزيرا له، والذي تضافرت به الآثار أنه عليه السلام كان يؤمن لدعاء أخيه والتأمين دعاء، فإن معنى آمين استجب وليس اسما من أسمائه تعالى كما يروونه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قيل: ولكونه دعاء استحب الحنفية الإسرار به، وفيه نظر لأن الظاهر أن مدار استحباب الإسرار والجهر ليس كونه دعاء فإن الشافعية استحبوا الجهر به مع أن المشهور عنهم أنهم قائلون أيضا بكونه دعاء، وظاهر كلام بعض المحققين أن إضافة الرب إلى ضمير المتكلم مع الغير في المواقع الثلاثة تشعر بأنه عليه السلام كان يؤمن لدعاء موسى عليه السلام ولا يخفى ما في ذلك الإشعار من الخفاء. وقرىء «دعواتكما» بالجمع ووجهه ظاهر فَاسْتَقِيما فامضيا لأمري واثبتا على ما أنتم عليه من الدعوة وإلزام الحجة ولا تستعجلا فإن ما طلبتماه كائن في وقته لا محالة. أخرج ابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: يزعمون أن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة، وأخرج ابن جرير عن ابن جريج مثله وأخرج الترمذي عن مجاهد أن الدعوة أجيبت بعد أربعين سنة ولم يذكر الزعم وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ بعادات الله تعالى في تعليق الأمور بالحكم والمصالح أو سبيل الجهلة في عدم الوثوق بوعد الله سبحانه، والنهي لا يقتضي صحة وقوع المنهي عنه فقد كثر نهي الشخص عما يستحيل وقوعه منه، ولعل الغرض منه هنا مجرد تأكيد أمر الوعد وإفادة أن في تأخير إنجازه حكما إلهية. وعن ابن عامر أنه قرأ وَلا تَتَّبِعانِّ بالنون الخفيفة المكسورة لالتقاء الساكنين، ووجه ذلك ابن الحاجب بأن لا نافية والنون علامة الرفع، والجملة إما في موضع الحال من الضمير المرفوع في- استقيما- كأنه قيل: استقيما غير متبعين، والجملة المضارعية المنفية- بلا- الواقعة حالا يجوز اقترانها بالواو وعدمه خلافا لمن زعم وجوب عدم الاقتران بالواو إلا أن يقدر مبتدأ، وإما معطوفة على الجملة الطلبية التي قبلها وهي وإن كانت خبرية لفظا إلا أنها طلبية معنى لأن المراد منها النهي كما في قوله تعالى: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [الصف: 11] ولا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ [البقرة: 83] والنهي المخرج بصورة الخبر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 163 أبلغ من النهي المخرج بصورته، ويجوز أن تعتبر الجملة مستأنفة للإخبار بأنهما لا يتبعان سبيل الجاهلين، ومن الناس من جعل لا في قراءة العامة نافية أيضا وهو ضعيف لأن النفي لا يؤكد على الصحيح، وقيل: لا ناهية والنون نون التوكيد الخفيفة كسرت لالتقاء الساكنين وهو تخريح لين فإن الكسائي وسيبويه لا يجيزانه لأنهما يمنعان وقوع الخفيفة بعد الألف سواء كانت ألف التثنية أو الألف الفاصلة بين نون الإناث ونون التوكيد نحو هل تضربنان يا نسوة، وأيضا النون الخفيفة إذا لقيها ساكن لزم حذفها عند الجمهور ولا يجوز تحريكها، لكن يونس والفراء أجازا ذلك وفيه عنهما روايتان إبقاؤها ساكنة لأن الألف لخفتها بمنزلة الفتحة وكسرها على أصل التقاء الساكنين وعلى هذا يتم ذاك التخريج. وقيل: إن هذه النون هي نون التوكيد الثقيلة إلا أنها خففت وهو كما ترى، وعنه أيضا «ولا تتبعان» بتخفيف التاء الثانية وسكونها وبالنون المشددة من تبع الثلاثي، وأيضا «ولا تتبعان» وهي كالأولى إلا أن النون ساكنة على إحدى الروايتين عمن تقدم في تسكين النون الخفيفة بعد الألف على الأصل واغتفار التقاء الساكنين إذا كان الأول ألفا كما في محياي. ثم اعلم أنه اشتهر في تعليل كسر النون في قراءة العامة بأنه لالتقاء الساكنين وظاهره أنه بذلك زال التقاء الساكنين وليس كذلك إذ الساكنان هما الألف والنون الأولى ولا شيء منهما بمتحرك وإنما المتحرك النون الثانية، ومن هنا قال بعض محققي النحاة: إن أصل التحريم ليتأتى الإدغام وكونه بالكسر تشبيها بنون التثنية، والتقاء الساكنين أعني الألف والنون الأولى غير مضر لما قالوا من جوازه إذا كان الأول حرف مد والثاني مدغما في مثله كما في- دابة- لارتفاع اللسان بهما معا حينئذ وقد حقق ذلك في موضعه فليراجع هذا والله تعالى أعلم. ومن باب الإشارة في الآيات: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ أشار سبحانه إلى أنهم يستمعون لكن حكمهم حكم الأصم في عدم الانتفاع وذلك لعدم استعدادهم حقيقة أو حكما بأن كان ولكن حجب نوره رسوخ الهيئات المظلمة، وكذا يقال فيما بعد، ثم إنه تعالى رفع ما يتوهم من أن كونهم في تلك الحالة ظلم منه سبحانه لهم بقوله جل شأنه: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً بسلب حواسهم وعقولهم مثلا وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث طلب استعدادهم الغير المجعول ذلك وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ لذهولهم بتكاثف ظلمات المعاصي على قلوبهم يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ بحكم سابقة الصحبة وداعية الهوى اللازمة للجنسية الأصلية، وهذا التعارف قد يبقى إذا اتحدوا في الوجهة واتفقوا في المقصد وقد لا يبقى وذلك إذا اختلفت الأهواء وتباينت الآراء فحينئذ تتفاوت الهيئات المستفادة من لواحق النشأة فيقع التناكر وعوارض العادة قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ لما ينتفعون به وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ من جنسهم ليتمكنوا من الاستفاضة منه فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بإنجاء من اهتدى به وإثابته وإهلاك من أعرض عنه وتعذيبه لظهور أسباب ذلك بوجوده وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ فيعاملوا بخلاف ما يستحقون وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إنكار للقيامة لاحتجابهم بما هم فيه من الكثافة قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ سلب لاستقلاله في التأثير وبيان لأنه لا يملك إلا ما أذن الله تعالى فيه، وهذا نوع من توحيد الأفعال وفيه إرشاد لهم بأنه لا يملك استعجال ما وعدهم به يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي تزكية لنفوسكم بالوعد والوعيد والزجر عن الذنوب المتسببة للعقاب والتحريض على الطاعة الموجبة بفضل الله تعالى للثواب وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ أي دواء للقلوب من أمراضها التي هي أشد من أمراض الأبدان كالشك والنفاق والحسد والحقد وأمثال ذلك بتعليم الحقائق والحكم الموجبة لليقين والتصفية والتهيؤ لتجليات الصفات الحقة وَهُدىً لأرواحكم إلى الشهود الذاتي وَرَحْمَةٌ بإفاضة الكمالات اللائقة بكل مقام من المقامات الثلاثة بعد حصول الاستعداد في مقام الجزء: 6 ¦ الصفحة: 164 النفس بالموعظة ومقام القلب بالتصفية ومقام الروح بالهداية للمؤمنين بالتصديق أولا ثم باليقين ثانيا ثم بالعيان ثالثا. وذكر بعضهم الموعظة للمريدين والشفاء للمحبين والهدى للعارفين والرحمة للمستأنسين والكل مؤمنون إلا أن مراتب الإيمان متفاوتة والخطاب في الآية لهم وفيها إقامة الظاهر مقام المضمر، ويقال: إنه سبحانه بدأ بالموعظة لمريض حبه لأنها معجون لإسهال شهواته فإذا تطهر عن ذلك يسقيه شراب ألطافه فيكون ذلك شفاء له مما به فإذا شفي يغذيه بهدايته إلى نفسه فإذا كمل بصحبته يطهره بمياه رحمته من وسخ المرض ودرن الامتحان قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ بتوفيقه للقبول في المقامات وَبِرَحْمَتِهِ بالمواهب الخلقية والعملية والكشفية فيها فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا لا بالأمور الفانية القليلة المقدار الدنية القدر هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من الخسائس والمحقرات، وفسر بعضهم الفضل بانكشاف صباح الأزل لعيون أرواح المريدين وزيادة وضوحه في لحظة حتى تطلع شموس الصفات. وأقمار الذات فيطيرون في أنوار ذلك بأجنحة الجذبات إلى حيث شاء الله تعالى والرحمة بتتابع مواجيد الغيوب للقلوب بنعت التفريد بلا انقطاع، ومن هنا قال ضرغام أجمة التصوف أبو بكر الشبلي قدس سره: وقتي سرمد وبحري بلا شاطىء وقيل: فضله الوصال ورحمته الوقاية عن الانفصال، وقيل: فضله إلقاء نيران المحبة في قلوب المريدين ورحمته جذبه أرواح المشتاقين، وقيل: فضله سبحانه على العارفين كشف الذات وعلى المحبين كشف الصفات وعلى المريدين كشف أنوار الآيات ورحمته جل شأنه على العارفين العناية وعلى المحبين الكفاية وعلى المريدين الرعاية. وقال الجنيد: فضل الله تعالى في الابتداء ورحمته في الانتهاء وهو مناسب لما قلنا، وقال الكتاني: فضل الله تعالى النعم الظاهرة ورحمته النعم الباطنة وقيل غير ذلك، قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ أي أخبروني ما أنزل الله سبحانه من رزق معنوي كالمعارف الحقانية وكالآداب الشرعية فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً كالقسم الأول حيث أنكرتموه على أهله ورميتموه بالزندقة وَحَلالًا كالقسم الثاني حيث قبلتموه قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ في الحكم بالتحليل والتحريم أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ في ذلك، ثم إنه سبحانه أوعد المفترين بقوله عز ومن قائل: وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ إلخ، ففي الآية إشارة إلى سوء حال المنكرين على من تحلى بالمعارف الإلهية، ولعل منشأ ذلك زعمهم انحصار العلم فيما عندهم ولم يعلموا أن وراء علومهم علوما لا تحصى يمنّ الله تعالى بها على من يشاء، وفي قوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: 114] إشارة إلى ذلك فما أولاهم بأن يقال لهم: ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 85] ومن العجيب أنهم إذا سمعوا شيئا من أهل الله تعالى مخالفا لما عليه مجتهدوهم ردوه وقالوا: زيغ وضلال واعتمدوا في ذلك على مجرد تلك المخالفة ظنا منهم أن الحق منحصر فيما جاء به أحد أولئك المجتهدين مع أن الاختلاف لم يزل قائما بينهم على ساق. على أنه قد يقال لهم: ما يدريكم أن هذا القائل الذي سمعتم منه ما سمعتم وأنكرتموه أنه مجتهد أيضا كسائر مجتهديكم؟ فإن قالوا: إن للمجتهد شروطا معلومة وهي غير موجودة فيه قلنا: هذه الشروط التي وضعت للمجتهد في دين الله تعالى هل هي منقولة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم صريحا أو صنعتموها أنتم من تلقاء أنفسكم أو صنعها المجتهد؟ فإن كانت منقولة عن الرسول عليه الصلاة والسلام فأتوا بها واتلوها وصححوا نقلها إن كنتم صادقين وهيهات ذاك، وإن كان الواضع لها أنتم- وأنتم أجهل من ابن يوم- فهي رد عليكم ولا حبا ولا كرامة على أن في اعتبارها أخذا بكلام من ليس مجتهدا وأنتم لا تجوزونه، وإن كان الواضع لها المجتهد فإثبات كونه مجتهدا متوقف على اعتبار تلك الشروط واعتبار تلك الشروط متوقف على إثبات كونه مجتهدا وهل هذا إلا دور وهو محال لو تعقلونه، وأيضا لم لا يجوز أن تكون تلك الشروط شروطا للمجتهد النقلي وهناك مجتهد آخر شرطه تصفية النفس وتزكيتها وتخلقها بالخلق الرباني الجزء: 6 ¦ الصفحة: 165 وتهيؤها واستعدادها لقبول العلم من الله تعالى وأي مانع من أن يخلق الله تعالى العلم فيمن صفت نفسه وتهيأت بالفقر واللجأ إلى الله تعالى وصدق عزمه في الأخذ ولم يتكل على حوله وقوته كما يخلقه فيمن استوفى شروط الاجتهاد عندكم فاجتهد وصرف فكره ونظره؟ والقول بأنه سبحانه إنما يخلق العلم في هذا دون ذاك حجر على الله تعالى وخروج عن الإنصاف كما لا يخفى، فلا ينبغي للمصنف العارف بأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء من عباده إلا أن يسلم لمن ظهرت فيه اثار التصفية والتهيؤ وسطعت عليه أنوار التخلق بالخلق الرباني ما أتى به ولو لم يأت به مجتهد ما لم يخالف ما علم مجيئه من الدين بالضرورة، ويأبى الله تعالى أن يأتي ذلك بمثل ما ذكر. لكن ذكر مولانا الإمام الرباني ومجدد الألف الثاني قدس سره في بعض مكتوباته الفارسية أنه لا يجوز تقليد أهل الكشف في كشفهم لأن الكشف لا يكون حجة على الغير وملزما له، وقد يقال: ليس في هذا أكثر من منع تقليد أهل الكشف، ومحل النزاع الإنكار عليهم ورميهم والعياذ بالله تعالى بالزندقة وليس في الكلام أدنى رائحة منه كما لا يخفى إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ بصنفي العلمين وإفاضتهما بعد تهيئة الاستعداد لقبولهما وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ ذلك ولا يعرفون قدره فيمنعون عن الزيادة وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ إخبار منه تعالى بعظيم اطلاعه سبحانه على الخواطر وما يجري في الضمائر فلا يخفى عليه جل شأنه خاطر ولا ضمير أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ثم أخبر جل وعلا عن سلطان إحاطته على كل ذرة من العرش إلى ما تحت الثرى بقوله تبارك اسمه: وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ أي إن علمه سبحانه محيط بما في العالم السفلي والعلوي فكل ذرة من ذراته داخلة في حيطة علمه كيف لا وكلها قائمة به جل شأنه ينظر إلى كل في كل آن نظر الحفظ والرعاية ولولا ذلك لهلكت الذرات واضمحلت سائر الموجودات أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ إذ لم يبق منهم بقية يخاف بسببها من حرمان وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لامتناع فوات شيء من الكمالات واللذات منهم الَّذِينَ آمَنُوا الإيمان الحقيقي وَكانُوا يَتَّقُونَ بقاياهم وظهور تلوناتهم هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بوجود الاستقامة والأخلاق المبشرة بجنة النفوس فِي الْآخِرَةِ بظهور أنوار الصفات والحقائق عليهم المبشرة بجنة القلوب والظاهر أن الموصول بيان للأولياء، فالولي هو المؤمن المتقي على الكمال ولهم في تعريفه عبارات شتى تقدم بعضها. وفي الفتوحات: هو الذي تولاه الله تعالى بنصرته في مقام مجاهدته الأعداء الأربعة الهوى والنفس والشيطان والدنيا، وفيها تقسيم الأولياء إلى عدة أقسام منها الأقطاب والأوتاد والأبدال والنقباء والنخباء وقد ورد ذلك مرفوعا وموقوفا من حديث عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وأنس، وحذيفة بن اليمان، وعبادة بن الصامت، وابن عباس، وعبد الله بن عمر، وابن مسعود، وعوف بن مالك، ومعاذ بن جبل، وواثلة بن الأسقع، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وأبي الدرداء، وأم سلمة، ومن مرسل الحسن، وعطاء، وبكر بن خنيس، ومن الآثار عن التابعين ومن بعدهم ما لا يحصى. وقد ذكر ذلك الجلال السيوطي في رسالة مستقلة له وشيد أركانه، وأنكره- كما قدمنا- بعضهم والحق مع المثبتين، وأنا والحمد لله تعالى منهم وإن كنت لم أشيد قبل أركان ذلك، والأئمة والحواريون والرجبيون والختم والملامية والفقراء وسقيط الرفرف ابن ساقط العرش والأمناء والمحدثون إلى غير ذلك، وعد الشيخ الأكبر قدس سره منهم الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والبيان الذي في الآية صادق عليهم عليهم السلام على أتم وجه، ونسب إليه رضي الله تعالى عنه القول بتفضيل الولي على النبي والرسول وخاض فيه كثير من المنكرين حتى كفروه وحاشاه بسبب ذلك، وقد صرح في غير موضع من فتوحاته وكذا من سائر تأليفه بما ينافي هذا القول حسبما فهمه المنكرون، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 166 وقد ذكر في كتاب القربة أنه ينبغي لمن سمع لفظة من عارف متحقق مبهمة كأن يقول الولاية هي النبوة الكبرى أو الولي العارف مرتبته فوق مرتبة الرسول أن يتحقق المراد منها ولا يبادر بالطعن، ثم ذكر في بيان ما ذكر ما نصه: اعلم أنه لا اعتبار للشخص من حيث ما هو إنسان فلا فضل ولا شرف في الجنس بالحكم الذاتي وإنما يقع التفاضل بالمراتب، فالأنبياء صلوات الله تعالى عليهم ما فضلوا الخلق إلا بها، فالنبي صلّى الله عليه وسلم له مرتبة الولاية والمعرفة والرسالة ومرتبة الولاية والمعرفة دائمة الوجود ومرتبة الرسالة منقطعة فإنها تنقطع بالتبليغ والفضل للدائم الباقي، والولي العارف مقيم عنده سبحانه والرسول خارج وحالة الإقامة أعلى من حالة الخروج، فهو صلّى الله عليه وسلم من حيثية كونه وليا وعارفا أعلى وأشرف من حيثية كونه رسولا وهو صلّى الله عليه وسلم الشخص بعينه واختلفت مراتبه لا أن الولي منا أرفع من الرسول نعوذ بالله تعالى من الخذلان، فعلى هذا الحد يقول تلك الكلمة أصحاب الكشف والوجود إذ لا اعتبار عندنا إلا للمقامات ولا نتكلم إلا فيها لا في الأشخاص، فإن الكلام في الأشخاص قد يكون بعض الأوقات غيبة، والكلام على المقامات والأحوال من صفات الرجال، ولنا في كل حظ شرب معلوم ورزق مقسوم انتهى، وهو صريح في أنه قدس سره لا يقول هو ولا غيره من الطائفة بأن الولي أفضل من النبي حسبما ينسب إليه، وقد نقل الشعراني عنه أنه قال: فتح لي قدر خرم إبرة من مقام النبوة تجليا لا دخولا فكدت أحترق، فينبغي تأويل جميع ما يوهم القول بذلك كأخباره في كتابة التجليات وغيره باجتماعه ببعض الأنبياء عليهم السلام وإفادته لهم من العلم ما ليس عندهم. وكقول الشيخ عبد القادر الجيلي قدس سره وقد تقدم: يا معاشر الأنبياء أوتيتم الألقاب وأوتينا ما لم تؤتوه إلى غير ذلك، فإن اعتقاد أفضلية ولي من الأولياء على نبي من الأنبياء كفر عظيم وضلال بعيد، ولو ساغ تفضيل ولي على نبي لفضل الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه على أحد من الأنبياء لأنه أرفع الأولياء قدرا كما ذهب إليه أهل السنة ونص عليه الشيخ قدس سره في كتاب القربة أيضا مع أنه لم يفضل كذلك بل فضل على من عداهم كما نطق به «ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين أفضل من أبي بكر الصديق» فمتى لم يفضل الصديق وهو الذي وقر في صدره ما وقر ونال من الكمال ما لا يحصر فكيف يفضل غيره؟. وفضل كثير من الشيعة عليا كرم الله تعالى وجهه وكذا أولاده الأئمة الطاهرين رضي الله تعالى عنهم أجمعين على كثير من الأنبياء والمرسلين من أولي العزم وغيرهم ولا مستند لهم في ذلك إلا أخبار كاذبة وأفكار غير صائبة. وبالجملة متى رأينا الشخص مؤمنا متقيا حكمنا عليه بالولاية نظرا لظاهر الحال ووجب علينا معاملته بما هو أهله من التوقير والاحترام غير غالين فيه بتفضيله على رسول أو نبي أو نحو ذلك مما عليه العوام اليوم في معاملة من يعتقدونه وليا التي هي أشبه شيء بمعاملة المشركين من يعتقدونه إلها نسأل الله تعالى العفو والعافية، ولا يشترط فيه صدور كرامة على يده كما يشترط في الرسول صدور معجزة، ويكفيه الاستقامة كرامة كما يدل عليه ما اشتهر عن أبي يزيد قدس سره، بل الولي الكامل لا التفات له إليها ولا يود صدورها على يده إلا إذا تضمنت مصلحة للمسلمين خاصة أو عامة. وفي الجواهر والدر للشعراني سمعت شيخنا يقول: إذا زل الولي ولم يرجع لوقته عوقب بالحجاب، وهو أن يحبب إليه إظهار خرق العوائد المسماة في لسان العامة كرامات فيظهر بها ويقول: لو كنت مؤاخذا بهذه الذلة لقبض عني التصريف وغاب عنه أن ذلك استدراج بل ولو سلم من الزلة فالواجب خوفه من المكر والاستدراج، وقال بعضهم: الكرامة حيض الرجال ومن اغتر بالكرامات بالكرى مات. وأضر الكرامات للولي ما أوجب الشهرة فإن الشهرة آفة، وقد نقل عن الخواص أنها تنقص مرتبة الكمال، وأيد ذلك بالأثر المشهور خص بالبلاء من عرفه الناس. نعم ذكر في أسرار القرآن أن الولاية لا تتم إلا بأربع مقامات الأول مقام المحبة. والثاني مقام الشوق. والثالث مقام العشق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 167 والرابع مقام المعرفة، ولا تكون المحبة إلا بكشف الجمال ولا يكون الشوق إلا باستنشاق نسيم الوصال ولا يكون العشق إلا بدنو الأنوار ولا تكون المعرفة إلا بالصحبة، وتتحقق الصحبة بكشف الألوهية مع ظهور أنوار الصفات، ولحصول ذلك آثار وعلامات مذكورة فيه فليراجعه من أرادها والكلام في هذا المقام كثير وكتب القوم ملأى منه وما ذكرناه كفاية لغرضنا. وأحسن ما يعتمد عليه في معرفة الولي اتباع الشريعة الغراء وسلوك المحجة البيضاء فمن خرج عنها قيد شبر بعد عن الولاية بمراحل فلا ينبغي أن يطلق عليه اسم الولي ولو أتى بألف ألف خارق، فالولي الشرعي اليوم أعز من الكبريت الأحمر ولا حول ولا قوة إلا بالله: أما الخيام فإنها كخيامهم ... وأرى نساء الحي غير نسائها تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ أي لما سبق لهم في الأزل من حسن العناية، أو لا تبديل لحقائقه سبحانه الواردة عليهم وأسمائه تعالى المنكشفة لهم وأحكام تجلياته جل وعلا النازلة بهم، أو لا تبديل لفطرهم التي فطرهم عليها، ويقال لكل محدث- كلمة- لأنه أثر الكلمة وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ أي لا تتأثر به إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً لا يملك أحد سواه منها شيئا فسيكفيكهم الله تعالى ويقهرهم وهُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم الْعَلِيمُ بما ينبغي أن يفعل بهم. أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ أي إن كل من في ذلك تحت ملكه سبحانه وتصرفه وقهره لا يقدرون على شيء من غير إذنه فهو كالتأكيد لما أفادته الآية السابقة أو أن من فيها من الملائكة والثقلين الذين هم أشرف الممكنات عبيد له سبحانه لا يصلح أحد منهم للربوبية فما لا يعقل أحق بأن لا يصلح لذلك فهو كالدليل على قوله سبحانه: وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إلا ما يتوهمونه ويتخيلونه شريكا ولا شركة له في الحقيقة هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ إشارة إلى سكون العشاق والمشتاقين في الليل إذا مد أطنابه ونشر جلبابه وميلهم إلى مناجاة محبوبهم وانجذابهم إلى مشاهدة مطلوبهم وتلذذهم بما يرد عليهم من الواردات الإلهية واستغراقهم بأنواع التجليات الربانية، ومن هنا قال بعضهم: لولا الليل لما أحببت البقاء في الدنيا، وهذه حالة عشاق الحضرة وهم العشاق الحقيقيون نفعنا الله تعالى بهم، وأنشد بعض المجازيين: أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ... ويجمعني بالليل والهم جامع نهاري نهار الناس حتى إذا بدا ... لي الليل هزتني إليك المضاجع وَالنَّهارَ مُبْصِراً أي ألبسه سربال أنوار القدرة لتقضوا فيها حاجاتكم الضرورية، وقيل: الإشارة بذلك إلى ليل الجسم ونهار الروح أي جعل لكم ليل الجسم لتسكنوا فيه ونهار الروح لتبصروا به حقائق الأشياء وما تهتدون به إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ كلام الله تعالى فيقيمون بواطنه وحدوده ويطلعون به على صفاته وأسمائه سبحانه وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً أي معلولا يجانسه سُبْحانَهُ أي أنزهه جل وعلا من ذلك هُوَ الْغَنِيُّ الذي وجوده بذاته وبه وجود كل شيء وذلك ينافي الغنى وأكد غناه جل شأنه بقوله تعالى: لَهُ ما فِي السَّماواتِ إلخ، وقوله سبحانه: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إلخ أمر له صلّى الله عليه وسلم أن يتلو عليهم نبأ نوح عليه السلام في صحة توكله على الله تعالى ونظره إلى قومه وشركائهم بعين الغنى وعدم المبالاة بهم وبمكائدهم ليعتبروا به حاله عليه الصلاة والسلام فإن الأنبياء عليهم السلام في ملة التوحيد والقيام بالله تعالى وعدم الالتفات إلى الخلق سواء، أو أمر له صلّى الله عليه وسلم بأن يتلو نبأ نوح مع قومه ليتعظ قومه وينزجروا عما هم عليه مما يفضي إلى إهلاكهم وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ أي إيمانا حقيقيا فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ أي منقادين، أي إن صح إيمانكم يقينا فعليه توكلوا بشرط أن لا يكون لكم فعل ولا تروا لأنفسكم ولا لغيركم قوة ولا تأثيرا بل تكونوا منقادين كالميت بين يدي مغسله، فإن شرط الجزء: 6 ¦ الصفحة: 168 صحة التوكل فناء بقايا الأفعال والقوى قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما أي على ما أنتما عليه من الدعوة شكرا لتلك الإجابة، وقيل: أي استقيما على معرفتكما مقام السؤال وهو مقام الرضوان والبسط ليستجاب لكما بعد إذا دعوتما فإن من لم يعرف مقام السؤال قد يوقعه في غير مقامه فيسيء الأدب فلا يستجاب له، وقيل: إن هذا عتاب لهما عليهما السلام أي قد أجيب دعوتكما لضعفكما عن تحمل وارد امتحاني فاستقيما بعد ذلك على تحمل بلائي والصبر فيه فإنه اللائق بشأنكما، وقد قيل: المعرفة تقتضي الرضا بالقضاء والسكون في البلاء، وقيل: أي استقيما في دعائكما والاستقامة في الدعاء على ما قال ذو النون المصري أن لا يغضب الداعي لتأخير الإجابة ولا يسأل سؤال خصوص نسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 169 وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ من جاوز المكان إذا قطعه وتخطاه، وهو متعد إلى المفعول الأول الذي كان فاعلا في الأصل بالباء وإلى الثاني بنفسه، والمعنى جعلناهم مجاوزين البحر بأن جعلناه يبسا وحفظناهم حتى بلغوا الشط. وقرأ الحسن «وجوزنا» بالتضعيف، وفعل بمعنى فاعل فهو من التجويز المرادف للمجاوزة بالمعنى السابق وليس بمعنى نفذ لأنه لا يحتاج إلى التعدية بالباء ويتعدى إلى المفعول الثاني بفي كما في قوله: ولا بد من جار يجيز سبيلها ... كما جوز السكي في الباب فيتق فكان الواجب هنا من حيث اللغة أن يقال: وجوزنا بني إسرائيل البحر أي نفذناهم وأدخلناه فيه، وفي الآية إشارة إلى انفصالهم عن البحر وإلى مقارنة العناية الإلهية لهم عند الجواز كما هو المشهور في الفرق بين أذهبه وذهب به فَأَتْبَعَهُمْ قال الراغب: يقال تبعه وأتبعه إذا قفا أثره إما بالجسم أو بالارتسام والائتمار وظاهره أن الفعلين بمعنى. وقال بعض المحققين: يقال تبعته حتى أتبعته إذا كان سبقك فلحقته، فالمعنى هنا أدركهم ولحقهم فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ حتى تراءت الفئتان وكاد يجتمع الجمعان بَغْياً وَعَدْواً أي ظلما واعتداء، وهما مصدران منصوبان على الحال بتأويل اسم الفاعل أي باغين وعادين أو على المفعولية لأجله أي للبغي والعدوان. وقرأ الحسن «وعدوا» بضم العين والدال وتشديد الواو، وذلك أن الله سبحانه وتعالى لما أخبر موسى وهارون عليهما السلام بإجابة دعوتهما أمر موسى عليه السلام بإخراج بني إسرائيل من مصر ليلا وكانوا كما ذكره غير واحد ستمائة ألف فخرج بهم على حين غفلة من فرعون وملئه فلما أحسن بذلك خرج هو وجنوده على أثرهم مسرعين فالتفت القوم فإذا الطامة الكبرى وراءهم فقالوا: يا موسى هذا فرعون وجنوده وراءنا وهذا البحر أمامنا فكيف الخلاص فأوحى الله تعالى إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق اثني عشر فرقا كل فرق كالطود العظيم وصار لكل سبط طريق فسلكوا ووصل فرعون ومن معه إلى الساحل وهم قد خرجوا من البحر ومسلكهم باق على حاله فسلكه بمن معه أجمعين فلما دخل آخرهم وهم أولهم بالخروج غشيهم من اليم ما غشيهم حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ أي لحقه، والمراد بلحوقه إياه وقوعه فيه وتلبسه بأوائله، وقيل: معنى أدركه قارب إدراكه كجاء الشتاء فتأهب لأن حقيقة اللحوق تمنعه من القول الذي قصة سبحانه بقوله جل شأنه: قالَ آمَنْتُ إلخ، ومن الناس من أبقى الإدراك على ظاهره وحمل القول على النفسي وزعم أن الآية دليل على ثبوت الكلام النفسي، ونظر فيه بأن قيام الاحتمال يبطل صحة الاستدلال، وأيّا ما كان فليس المراد الإخبار بإيمان سابق كما قيل بل إنشاء إيمان أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ أي بأنه، وقدر الجار لأن الإيمان وكذا الكفر متعد بالباء ومحل مدخوله بعد حذفه الجر أو النصب فيه خلاف شهير وجعله متعديا بنفسه فلا تقدير لأنه في أصل وضعه كذلك مخالفة للاستعمال المشهور فيه. وقرأ حمزة والكسائي «إنه» بالكسر على إضمار القول أي وقال إنه أو على الاستئناف لبيان إيمانه أو الإبدال من جملة آمنت والجملة الاسمية يجوز إبدالها من الفعلية، والاستئناف على البدلية باعتبار المحكي لا الحكاية لأن الكلام في الأول، والجملة الأولى في كلامه مستأنفة والمبدل من المستأنف مستأنف والضمير للشأن، وعبر عنه تعالى بالموصول وجعل صلته إيمان بني إسرائيل به تعالى ولم يقل كما قال السحرة آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ [الأعراف: 121، 122] للإشعار الجزء: 6 ¦ الصفحة: 170 برجوعه عن الاستعصاء واتباعه لمن كان يستتبعهم طمعا في القبول والانتظام معهم في سلك النجاة وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي الذين أسلموا نفوسهم لله تعالى أي جعلوها خالصة سالمة له سبحانه، وأراد بهم إما بني إسرائيل خاصة وإما الجنس وهم إذ ذاك داخلون دخولا أولياء، والظاهر أن الجملة على التقديرين معطوفة على جملة آمَنْتُ وإيثار الاسمية لادعاء الدوام والاستمرار. وقيل: إنها على جملة الأول معطوفة وعلى الثاني تحتمل الحالية أيضا من ضمير المتكلم أي آمنت مخلصا لله تعالى منتظما في سلك الراسخين في ذلك، ولقد كرر المعنى الواحد بثلاث عبارات وبالغ ما بالغ حرصا على القبول المقتضي للنجاة وليت بعض ذلك قد كان حين ينفعه الإيمان وذلك قبل اليأس، فإن إيمان اليأس غير مقبول كما عليه الأئمة الفحول آلْآنَ الاستفهام للإنكار والتوبيخ، والظرف متعلق بمحذوف يقدر مؤخرا أي الآن تؤمن حين يئست من الحياة وأيقنت بالممات، وقدر مؤخرا ليتوجه الإنكار والتوبيخ إلى تأخير الإيمان إلى حد يمتنع قبوله فيه، والكلام على تقدير القول أي فقيل له ذلك وهو معطوف على على قالَ، وهذا إلى آيَةً حكاية لما جرى منه سبحانه من الغضب على المخذول ومقابلة ما أظهره بالرد الشنيع وتقريعه بالعصيان والإفساد إلى غير ذلك، وفي حذف الفعل المذكور وإبراز الخبر المحكي في صورة الإنشاء من الدلالة على عظم السخط وشدة الغضب ما لا يخفى. والقائل له ذلك قيل: هو الله تعالى، وقيل: هو جبريل عليه السلام، وقيل: إنه ميكائيل عليه السلام. فقد أخرج أبو الشيخ عن أبي أمامة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لي جبريل عليه السلام: ما أبغضت شيئا من خلق الله تعالى ما أبغضت إبليس يوم أمر بالسجود فأبى أن يسجد وما أبغضت شيئا أشد بغضا من فرعون فلما كان يوم الغرق خفت أن يعتصم بكلمة الإخلاص فينجو فأخذت قبضة من حمأة فضربت بها في فيه فوجدت الله تعالى عليه أشد غضبا مني فأمر ميكائيل فأتاه فقال الآن» إلخ وما تضمنه هذا الخبر من فعل جبريل عليه السلام جاء في غير ما خبر. ومن ذلك ما أخرجه الطيالسي وابن حبان وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب، والترمذي، والحاكم وصححاه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لي جبريل: لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في في فرعون مخافة أن تدركه الرحمة» واستشكل هذا التعليل. وفي الكشاف أن ذلك من زيادات الباهتين لله تعالى وملائكته عليهم السلام: وفيه جهالتان: إحداهما أن الإيمان يصح بالقلب كإيمان الأخرس فحال البحر لا يمنعه. والأخرى أن من كره إيمان الكافر وأحب بقاءه على الكفر فهو كافر لأن الرضا بالكفر كفر، وارتضاه ابن المنير قائلا: لقد أنكر منكرا وغضب لله تعالى وملائكته عليهم السلام كما يجب لهم، والجمهور على خلافه لصحة الحديث عند الأئمة الثقات كالترمذي المقدم على المحدثين بعد مسلم. وغيره، وقد خاضوا في بيان المراد منه بحيث لا يبقى فيه إشكال. ففي إرشاد العقل السليم أن المراد بالرحمة الرحمة الدنيوية أي النجاة التي هي طلبة المخذول وليس من ضرورة إدراكها صحة الإيمان كما في إيمان قوم يونس عليه السلام حتى يلزم من كراهته ما لا يتصور في شأن جبريل عليه السلام من الرضا بالكفر إذ لا استحالة في ترتب هذه الرحمة على مجرد التفوه بكلمة الإيمان وإن كان ذلك في حالة البأس واليأس فيحمل دسه عليه السلام على سد باب الاحتمال البعيد لكمال الغيظ وشدة الحرد انتهى. ولا يخفى أن حمل الرحمة على الرحمة الدنيوية بعيد ويكاد يأبى عنه ما أخرجه ابن جرير والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لي جبريل عليه السلام: لو رأيتني يا محمد وأنا أغط فرعون بإحدى يدي وأدس من الحال في فيه مخافة أن تدركه رحمة الله تعالى فيغفر له» فإنه رتب فيه المغفرة على إدراك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 171 الرحمة وهو ظاهر في أنه ليس المراد بها الرحمة الدنيوية لأن المغفرة لا تترب عليها وإنما يترتب عليها النجاة. وقال بعض المحققين: إنما فعل جبريل عليه السلام ما فعل غضبا عليه لما صدر منه وخوفا أنه إذا كرر ذلك ربما قبل منه على سبيل خرق العادة لسعة بحر الرحمة الذي يستغرق كل شيء، وأما الرضا بالكفر فالحق أنه ليس بكفر مطلقا بل إذا استحسن وإنما الكفر رضاه بكفر نفسه كما في التأويلات لعلم الهدى انتهى، وقد تقدم آنفا ما يتعلق بهذه المسألة فتذكره فما في العهد من قدم، نعم قيل: إن الرضا بكفر نفسه إنما يكون وهو كافر فلا معنى لعده كفرا والكفر حاصل قبله، وهو على ماله وما عليه بحث آخر لا يضر فيما نحن فيه. والطيبي بعد أن أجاب بما أجاب أردف ذلك بقوله: على أنه ليس للعقل مجال في مثل هذا النقل الصحيح إلا التسليم ونسبة القصور إلى النفس، وقد يقال: إن الخبر متى خالف صريح العقل أو تضمن نسبة ما لا يتصور شرعا في حق شخص إليه ولم يمكن تأويله على وجه يوافق حكم العقل ويندفع به نسبة النقص لا يكون صحيحا، واتهام الراوي بما يوهن أمر روايته أهون من اتهام العقل الصريح ونسبة النقص إليه دون نسبة النقص إلى من شهد الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم بعصمته وكماله فتأمل والله تعالى الموفق، وقوله سبحانه: وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ في موضع الحال من فاعل الفعل العامل في الظرف جيء به لتشديد التوبيخ والتقريع على تأخير الإيمان إلى هذا الآن ببيان أنه لم يكن تأخيره لما عسى يعد عذرا بل كان ذلك على طريقة الرد والاستعصاء والإفساد فإن قوله تعالى: وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ عطف على عَصَيْتَ داخل في حيز الحال والتحقيق أي وقد كنت من المفسدين الغالين في الضلال والإضلال عن الإيمان فهذا عبارة عن فساده الراجح إلى نفسه والساري إلى غيره من الظلم والتعدي وصد بني إسرائيل عن السبيل والأول عن عصيانه الخاص به، وقوله جل شأنه: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ تهكم به وتخييب له وحسم لأطماعه بالمرة، والمراد فاليوم نخرجك مما وقع فيه قومك من قعر البحر ونجعلك طافيا ملابسا ببدنك عاريا عن الروح إلا أنه عبر عن ذلك بالتنجية مجازا، وجعل الجار والمجرور في موضع الحال من ضمير المخاطب لذلك مع ما فيه من التلويح بأن مراده بالإيمان هو النجاة، وقيل: معنى الحال عاريا عن اللباس أو تام الأعضاء كاملها. وجعل بعض الأفاضل الكلام على التجريد، وجوز أن يكون الباء زائدة- وبدنك- بدل بعض من ضمير المخاطب كأنه قيل: ننجي بدنك، وجعل الباء للآلة ليكون على وزن قولك- أخذته بيدك- ونظرته بعينك- إيذانا بحصول هذا المطلوب البعيد التناول وجه لكنه غير وجيه كما لا يخفى، وقيل: التنجية الإلقاء على النجوة وهي المكان المرتفع، قيل: وسمي به لنجاته عن السيل، وإلى هذا ذهب يونس بن حبيب النحوي، فقد أخرج ابن الأنباري. وأبو الشيخ عنه أنه قال: المعنى نجعلك على نجوة من الأرض كي يراك بنو إسرائيل فيعرفوا أنك قد مت، وجاء تفسير البدن بالدرع، وروي ذلك عن محمد بن كعب وأبي، وكانت له درع من ذهب يعرف بها، وفي رواية أنها كانت من لؤلؤ. وأخرج ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن أبي جهضم موسى بن سالم أنه كان لفرعون شيء يلبسه يقال له البدن يتلألأ، وقرأ يعقوب «ننجيك» من باب الافعال وهو بمعنى التفعيل بمعنييه السابقين، وأخرج ابن الأنباري عن محمد بن السميفع اليماني، ويزيد البربري أنهما قرآ «ننحيك» بالحاء المهملة ونسبت إلى أبي بن كعب، وأبي السمال أي نجعلك في ناحية ونلقيك على الساحل. وقرأ أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه «بأبدانك» على صيغة الجمع بجعل كل عضو بمنزلة البدن فأطلق الكل على الجزء مجازا وعلى هذا جمع الإجرام في قوله: وكم موطن لولاي طحت كما هوى ... بإجرامه من قلة النيق منهوي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 172 أو بإرادة دروعك بناء على أن المخذول كان لابسا درعا على درع. وأخرج ابن الأنباري عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قرأ «بندائك» أي بدعائك لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً أي لتكون لمن يأتي بعدك من الأمم إذا سمعوا حال أمرك ممن شاهد حالك وما عراك عبرة ونكالا من الطغيان أو حجة تدلهم على أن الإنسان وإن بلغ الغاية القصوى من عظم الشأن وعلو الكبرياء وقوة السلطان فهو مملوك مقهور بعيد عن مظان الألوهية والربوبية، وقيل: المراد بمن خلفه من بقي بعده من بني إسرائيل أي لتكون لهم علامة على صدق موسى عليه السلام إذا كان في نفوسهم من عظمته ما خيل إليه أنه لا يهلك فكذبوا لذلك خبر موسى عليه السلام بهلاكه حتى عاينوه على ممرهم من الساحل أحمر قصيرا كأنه ثور وروي هذا عن مجاهد. وقرىء «لمن خلفك» فعلا ماضيا أي حل مكانك، ونسب إلى ابن السميقع، وأبي السمال أنهما أيضا قرآ «لمن خلقك» بفتح اللام والقاف أي لتكون لخالقك آية كسائر الآيات فإن إفراده سبحانه إياك بالإلقاء إلى الساحل دليل على أنه قصد منه جل شأنه لكشف تزويرك وإماطة الشبهات في أمرك وبرهان نير على كمال علمه وقدرته وحكمته وإرادته وهو معنى لا بأس به يصح أن توجه به الآية على القراءة المشهورة أيضا. ذكر في النشر أن مما لا يوثق بنقله قراءة ابن السميقع، وأبي السمال «ننحيك» بالحاء و «لمن خلقك» بالقاف، وفي تعليل تنجيته بما ذكر كما قاله بعض المحققين إيذان بأنها ليست لإعزازة أو لفائدة أخرى عائدة إليه بل لكمال الاستهانة به وتفضيحه على رؤوس الأشهاد وزيادة تفظيع حاله كمن يقتل ثم يجر جسده في الأسواق ويطرح جيفة في الميدان أو يدار برأسه في النواحي والبلدان، واللام الأولى متعلقة بالفعل قبلها والثانية بمحذوف وقع حالا من «آية» أي كائنة لمن خلقك، وجاد الرد على هذا المخذول على طرز ما أتى به في قوله: آمَنْتُ أَنَّهُ إلخ في اشتماله على المبالغة كما لا يخفى على من تفكر في الآية، وقد قرر فحوى المحكي بقوله سبحانه: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ أي لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها، وهو اعتراض تذييلي جيء به عند الحكاية لذلك، ولهذه الآية وأشباهها وقع الإجماع على كفر المخذول وعدم قبول إيمانه، ويشهد لذلك أيضا ما رواه ابن عدي، والطبراني من أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «خلق الله تعالى يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمنا وخلق فرعون في بطن أمه كافرا» فهو من أهل النار المخلدين فيها بلا ريب وبذلك قال الشيخ الأكبر قدس سره في أول كتابه الفتوحات في الباب الثاني والستين منه حيث ذكر أن الذين خذلهم الله تعالى من العباد جعلهم طائفتين، طائفة لا تضرهم الذنوب التي وقعت منهم وإليهم الإشارة بقوله تعالى: وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا [البقرة: 268] وهؤلاء لا تمسهم النار بما تاب الله تعالى عليهم واستغفار الملأ الأعلى ودعائهم لهم. وقسم الطائفة الأخرى إلى قسمين قسم أخرجهم من النار بالشفاعة هم طائفة من المؤمنين وأهل التوحيد ماتوا ولم تكفر عنهم خطاياهم، وقسم آخر أبقاهم في النار وهم المجرمون خاصة الذين يقال لهم يوم القيامة: وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس: 59] ولهم يقال: أهل النار لأنهم الذين يعمرونها، وهم على أربع طوائف كلهم في النار لا يخرجون منها. الطائفة الأولى المتكبرون على الله تعالى كفرعون وأشباهه ممن ادعى الربوبية لنفسه ونفاها عن الله تعالى فقال: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص: 38] وقال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات: 24] يريد به ما في السماء غيري وكذلك نمرود وغيره. والثانية المشركون وهم الذين أثبتوا الله تعالى إلا أنهم جعلوا معه آلهة أخرى وقالوا: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: 3] والثالثة المعطلة وهم الذين نفوا الإله جملة واحدة فلم يثبتوا للعالم إلها أصلا. والرابعة المنافقون وهم الذين أظهروا الإيمان للقهر الذي حكم عليهم وهم في نفوسهم على ما هم عليه من اعتقاد إحدى هذه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 173 الطوائف الثلاث فهؤلاء الأصناف الأربعة هم أهل النار الذين لا يخرجون منها من الجن والإنس انتهى. وهو صريح فيما قلنا إلا أنه ذهب في موضع آخر من الكتاب المذكور إلى خلافه فقال في الباب السابع والستين ومائة ما حاصله: إن الله تعالى لما علم أنه قد طبع على كل قلب مظهر للجبروت والكبرياء وأن فرعون في نفسه أذل الأذلاء أمر موسى وهارون عليهما السلام أن يعاملاه بالرحمة واللين لمناسبة باطنه واستنزال ظاهره من جبروته وكبريائه فقال سبحانه: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه: 44] ولعل وعسى من الله تعالى واجبتان فتذكر بما يقابله من اللين والمسكنة ما هو عليه في باطنه ليكون الظاهر والباطن على السواء فما زالت تلك الخميرة معه تعمل في باطنه مع الترجي الإلهي الواجب فيه وقوع المترجى ويتقوى حكمها إلى حين انقطاع يأسه من اتباعه وحال الغرق بينه وبين أطماعه لجأ إلى ما كان مستترا في باطنه من الذلة والافتقار ليتحقق عند المؤمنين وقوع الرجاء الإلهي فقال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فرفع الاشكال من الاشكال كما قالت السحرة لما آمنت: آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ [الأعراف: 121، 122] أي الذي يدعوان إليه فجاءت بذلك لدفع الارتياب ورفع الإشكال، وقوله: وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ خطاب منه للحق تعالى لعلمه أنه سبحانه يسمعه ويراه فخاطبه الحق بلسان الغيب وسمعه الآن أظهرت ما قد كنت تعلمه وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين لأتباعك، وما قال له وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فهي كلمة بشرى له عرفنا بها لنرجو رحمته مع إسرافنا وإجرامنا ثم قال سبحانه: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً يعني لتكون النجاة لمن يأتي بعدك آية أي علامة إذا قال ما قال ما قلته تكون له النجاة مثل ما كانت لك، وما في الآية أن بأس الآخرة لا يرتفع وأن إيمانه لم يقبل وإنما فيها أن بأس الدنيا لا يرتفع عمن نزل به إذا آمن في حال نزوله إلا قوم يونس عليه السلام فقوله سبحانه: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ بمعنى أن العذاب لا يتعلق إلا بظاهرك وقد أريت الخلق نجاته من العذاب فكان ابتداء الغرق عذابا فصار الموت فيه شهادة خالصة بريئة لم يتخللها معصية فقبض على أفضل عمل وهو التلفظ بالإيمان كل ذلك حتى لا يقنط أحد من رحمة الله تعالى والأعمال بخواتيمها فلم يزل الإيمان بالله تعالى يجول في باطنه وقد حال الطابع الإلهي الذاتي في الخلق بين الكبرياء واللطائف الإنسانية فلم يدخلها قط كبرياء، وأما قوله تعالى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [غافر: 85] فكلام محقق في غاية الوضوح فإن النافع هو الله تعالى فما نفعهم إلا هو سبحانه، وقوله عز وجل: سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ [غافر: 85] فيعني بذلك الإيمان عند رؤية البأس الغير المعتاد، وقد قال تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً فغاية هذا الإيمان أن يكون كرها وقد أضافه الحق سبحانه إليه والكراهة محلها القلب والإيمان كذلك والله تعالى لا يأخذ العبد بالأعمال الشاقة عليه من حيث ما يجده من المشقة فيها بل يضاعف له فيها الأجر، وأما في هذا الموطن فالمشقة منه بعيدة بل جاء طوعا في إيمانه وما عاش بعد ذلك بل قبض ولم يؤخر لئلا يرجع إلى ما كان عليه من الدعوى ولو قبض ركاب البحر الذين قال سبحانه فيهم: ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء: 67] عند نجاتهم لماتوا موحدين وقد حصلت لهم النجاة، ثم قوله تعالى في تتميم قصته هذه: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ على معنى قد ظهرت نجاتك آية أي علامة على حصول النجاة فغفل أكثر الناس عن هذه الآية فقضوا على المؤمن بالشقاء، وأما قوله تعالى: فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [هود: 98] فليس فيه أنه يدخلها معهم بل قال جل وعلا: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غافر: 46] ولم يقل أدخلوا فرعون وآله، ورحمة الله تعالى أوسع من أن لا يقبل إيمان المضطر وأي اضطرار أعظم من اضطرار فرعون في حال الغرق؟ والله تبارك وتعالى يقول: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل: 62] فقرن للمضطر إذا دعاه بالإجابة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 174 وكشف السوء عنه، وهذا آمن لله تعالى خالصا وما دعاه في البقاء في الحياة الدنيا خوفا من العوارض وأن يحال بينه وبين هذا الإخلاص الذي جاءه في هذه الحال فرجح جانب لقاء الله تعالى على البقاء بالتلفظ بالإيمان وجعل ذلك الغرق نكال الآخرة والأولى فلم يكن عذابه أكثر من غم الماء الأجاج وقبضه على أحسن صفة، وهذا هو الذي يعطيه ظاهر اللفظ وهو معنى قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى [النازعات: 26] يعني في أخذه نكال الآخرة والأولى. وقدم سبحانه: ذكر الآخرة على الأولى ليعلم أن ذلك العذاب أعني عذاب الغرق هو نكال الآخرة وهذا هو الفضل العظيم انتهى، وهو نص في إيمانه بل في كونه من الشهداء بناء على أن الموت غرقا شهادة للمؤمنين كما أجمع عليه أئمة الدين على خلاف في موت من قصر في تعلم السباحة غريقا هل يعد شهادة أم لا؟ فإن بعض الشافعية ذهب إلى أن المقصر المذكور إذا مات غريقا مات عاصيا لا شهيدا، وإنما الشهيد من مات كذلك وكان عارفا بالسباحة أو غير مقصر في تعلمها لكن لا يتعلم وكأن الشيخ قدس سره لا يقول بهذا التفصيل أو كان يعلم أن فرعون كان ممن يعلم السباحة أو ممن لم يقصر في تعلمها أو أنه يقول: إن الإيمان كفر عنه كل معصية قبله ومن جملة ذلك معصية التقصير مثلا التي هي دون قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات: 24] وما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص: 38] بألف ألف مرتبة لكن لا أدري هل الغريق شهيد في شريعة موسى عليه السلام كما هو كذلك في شريعتنا أم هذا الأمر من خواص هذه الشريعة التي أنعم الله تعالى على أهلها بما أنعم كرامة لنبيها صلّى الله عليه وسلم، وقد ذهب قدس سره في كتابه فصوص الحكم إلى نحو ما ذهب إليه أخيرا في كتابه الفتوحات، وقد اعترض عليه بذلك غير واحد وهو عندي ليس بأعظم من قوله قدس سره بإيمان قوم نوح عليه السلام وكثير من أضرابهم ونجاتهم يوم القيامة وقد نص على ذلك في الفصوص، والعجب أنه لم يكثر معترضوه في ذلك كثرتهم في القول بإيمان فرعون وقد انتصر له بعض الناس ومنهم في المشهور الجلال الدواني وله رسالة في ذلك أتى فيها بما لا يعد شيئا عند أصاغر الطلبة، لكن في تاريخ حلب للفاضل الحلبي كما قال مولانا الشهاب إنها ليست للجلال وإنما هي لرجل يسمى محمد بن هلال النحوي وقد ردها القزويني وشنع عليه وقال: إنما مثله مثل رجل خامل الذكر لما قدم مكة بال في زمزم ليشتهر بين الناس، وفي المثل خالف تعرف، ويؤيد كونها ليست للجلال أنه شافعي المذهب كما يشهد لذلك حاشيته على الأنوار. وفي فتاوى ابن حجر أن بعض فقهائنا كفر من ذهب إلى إيمان فرعون مع ما عليه تلك الرسالة من اختلال العبارة وظهور الركاكة وعدم مشابهتها لسائر تأليفاته، ولولا خوف الإطالة لسردتها عليك، وبالجملة ظواهر الآي صريحة في كفر فرعون وعدم قبول إيمانه، ومن ذلك قوله سبحانه: وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت: 38- 40] فإنه ظاهر في استمرار فرعون على الكفر والمعاصي الموجبة لما حل به كما يدل عليه التعبير بكان والفعل المضارع ومع الإيمان لا استمرار، على أن نظمه في سلك من ذكر معه ظاهر أيضا في المدعى. وألحق بعضهم بذلك قوله تعالى: يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ [طه: 39] بناء على أن عَدُوٌّ صفة مشبهة وهي للثبوت فيدل على ثبوت عداوته لله تعالى وعداوته لرسوله عليه السلام وثبوت إحدى العداوتين كاف في سوء حاله خلافا لمن وهم، وقد صرحوا أيضا بأن إيمان البأس واليأس غير مقبول ولا شك أن إيمان المخذول كان من ذلك القبيل وإنكاره مكابرة، وقد حكي إجماع الأئمة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 175 المجتهدين على عدم القبول ومستندهم فيه الكتاب والسنة، وما ينقل عن الإمام مالك من القبول لم يثبت عند المطلعين على أقوال المجتهدين واختلافاتهم. نعم صرح الإمام القاضي عبد الصمد من ساداتنا الحنفية في تفسيره بأن مذهب الصوفية أن الإيمان ينتفع به ولو عند معاينة العذاب، وهذا الإمام متقدم على الشيخ الأكبر قدس سره بنحو مائة سنة، وحينئذ تشكل حكاية الإجماع إلا أن يقال: بعدم تسليم صحة ذلك عن الصوفية الذين هم من أهل الاجتهاد المعول عليهم لما فيه من المخالفة للأدلة الظاهرة في عدم النفع فلا يخل ذلك بالإجماع بالإجماع. وفي الزواجر أنه على تقدير التسليم لا يضرنا ذلك في دعوى إجماع الأمة على كفر فرعون لأنا لم نحكم بكفره لأجل إيمانه عند البأس فحسب بل لما انضم إليه من أنه لم يؤمن بالله تعالى إيمانا صحيحا بل كان تقليدا محضا بدليل قوله: إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ فكأنه اعترف بأنه لا يعرف الله تعالى وإنما سمع من بني إسرائيل أن للعالم إلها فآمن بذلك الإله الذي سمع بني إسرائيل يقرون بوجوده وهذا هو محض التقليد الذي لا يقبل لا سيما من مثل فرعون الذي كان دهريا منكرا لوجود الصانع فإنه لا بد له من برهان قطعي يزيل ما هو عليه من الاعتقاد الخبيث البالغ نهاية القبح والفحش، وأيضا لا بد في إسلام الدهري ونحوه ممن كان قد دان بشيء أن يقر ببطلان ذلك الشيء الذي كفر به فلو قال: آمنت بالذي لا إله غيره لم يكن مسلما، وفرعون لم يعترف ببطلان ما كان كفر به من نفي الصانع وادعاء الإلهية لنفسه الخبيثة، وقوله: إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ لا يدرى ما الذي أراد به فلذا صرح الأئمة بأن آمنت بالذي لا إله غيره لا يحصل الإيمان للاحتمال فكذا ما قاله، وعلى التنزيل فالإجماع منعقد على أن الإيمان بالله تعالى مع عدم الإيمان بالرسول لا يصح فلو سلمنا أن فرعون آمن بالله تعالى إيمانا صحيحا فهو لم يؤمن بموسى عليه السلام ولا تعرض له أصلا فلم يكن إيمانه نافعا، ألا ترى أن الكافر لو قال ألوفا من المرات أشهد أن لا إله إلا الله أو إلا الذي آمن به المسلمون لا يكون مؤمنا حتى يقول وأن محمدا رسول الله. والسحرة تعرضوا في إيمانهم للإيمان بموسى عليه السلام بقولهم: آمنا برب العالمين رب موسى وهارون فلا يقال: إن إيمان فرعون طرز إيمانهم لذلك على أن إيمانهم حين آمنوا كان بمعجزة موسى عليه السلام والإيمان بالله تعالى مع الإيمان بمعجزة الرسول إيمان بالرسول فهم آمنوا بموسى عليه السلام بخلاف فرعون فإنه لم يتعرض للإيمان به عليه السلام أصلا بل في ذكره بني إسرائيل دونه مع أنه الرسول العارف بالإله وما يليق به والهادي إلى طريقه إشارة ما إلى بقائه على كفره به. وما ذكره الشيخ الأكبر قدس سره في توجيه آية حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ إلخ خارج عن ذوق الكلام العربي وتجشم تكلف لا معنى له، ويرشدك إلى بعض ذلك أنه قدس سره حمل قوله تعالى: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ إلخ على العتب والبشرى، مع أنه لا يخفى أنه لو صح إيمانه وإسلامه لكان الأنسب بمقام الفضل الذي إليه طمح نظر الشيخ أن يقال له: الآن نقبلك ونكرمك لاستلزام صحة إيمانه رضا الحق عنه ومن وقع له الرضا لا يخاطب بمثل ذلك الخطاب كما لا يخفى على من له وقوف على أساليب كلام العرب ومحاوراتهم، وأيضا كيف يخاطب بمثل ذلك الخطاب كما لا يخفى على من له وقوف على أساليب كلام العرب ومحاوراتهم، وأيضا كيف يخاطب من محا الإيمان عصيانه وإفساده بما هو ظاهر في التأنيب المحض والتقريع الصرف والتوبيخ البحت فما ذلك إلا لإقامة أعظم نواميس الغضب عليه وتذكيره بقبائحه التي قدمها وإعلامه بأنها هي التي منعته عند النطق بالإيمان إلى حيث لا ينفعه وكذا تأويله فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ [غافر: 85] بأن النافع هو الله تعالى مع أن اصطلاح الكتاب والسنة نسبة الأشياء إلى أسبابها إيجابا وسلبا، فإذا قيل: لا ينفع الإيمان فليس معناه الشرعي إلا الحكم عليه بأنه باطل لا يعتد به وأي معنى سوغ تخصيص نفع الله تعالى بهذه الحالة التي هي حالة وقوع العذاب مع النظر إلى ما هو الواقع من أن الله تعالى هو النافع حقيقة في كل وقت ولو نفعهم لما استأصلهم بالعذاب، وقوله تعالى: وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ [غافر: 78] دليل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 176 واضح على أن المراد فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ [غافر: 85] أنهم باقون مع ذلك الإيمان على الكفر إلى غير ذلك مما لا يخفى على الناظر في كلامه قدس سره، فالذي ينبغي أن يعول عليه ما ذهب أولا إليه، وقد قالوا: إذا اختلف كلام إمام يؤخذ منه بما يوافق الأدلة الظاهرة ويعرض عما خالفها، ولا شك أن ما ذهب إليه أولا هو الموافق لذلك، على أنه لو لم يكن له قدس سره إلا القول بقبول إيمانه لا يلزمنا اتباعه في ذلك والأخذ به لمخالفته ما دل عليه الكتاب والسنة وشهدت به أئمة الصحابة والتابعين فمن بعدهم من المجتهدين، وجلالة قائله لا توجب القبول، فقد قال مالك، وغيره: ما من أحد إلا مأخوذ من قوله ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر يعني النبي صلّى الله عليه وسلم، وعن علي كرم الله تعالى وجهه: لا تنظر إلى من قال وانظر إلى ما قال، وكأن الشيخ قدس سره قال ذلك من طريق النظر والنظر يخطىء ويصيب، وعن علم أن للنبي عليه الصلاة والسلام اجتهادا جاء الوحي بخلافه لم يستعظم ما قيل في الشيخ وإن كان هو- هو- على أنه لو كان قال ذلك من طريق الكشف إلا أنه أبدى الاستدلال تفهيما وإرشادا إلى أن فهمه لم يخالف ما يدل عليه الكتاب لم يلزمنا أيضا تقليده بل قد مر عن الإمام الرباني قدس سره أنه لا يجوز تقليد الكشف، وصرح غير واحد بأنه ليس بحجة على الغير كالإلهام ولا يثبت به حكم شرعي. وأنت تعلم أنه لو كان كل من القولين من طريق الكشف يلزم انقسام الكشف إلى صواب وخطأ كالنظر ضرورة عدم اجتماع الإيجاب والسلب على الكذب ولا على الصدق وهو ظاهر، وقد قال بعضهم: بالانقسام ويخفى وجهه، ومن الناس من أول كلام الشيخ المثبت لقبول الإيمان بأن المراد بفرعون فيه النفس الأمارة وبموسى وهارون المأمورين بالقول اللين موسى الروح وهارون القلب وأخذ يقرر الكلام على هذا السنن، ولا يخفى أن ارتكاب ذلك على ما فيه من التكلف الظاهر الكلف في كلام الشيخ ما يأباه ولعله خلاف مطمح نظره ولذلك لم يرتكبه أجلة أصحابه بل أبقوا كلامه على ظاهره وهو الظاهر، وإكفار بعض المنكرين له فيه ضلال وأي ضلال وظلم عظيم موجب للنكال، فإن له قدس سره في ذلك مستندا كغيره المقابل له وإن اختلفا في القوة والضعف، على أن الوقوف على حقيقة هذه المسألة ليس مما كلفنا به فلا يضر الجهل بها في الدين والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ كلام مستأنف سيق لبيان النعم الفائضة عليهم أثر نعمة الإنجاء على وجه الإجمال وإخلالهم بشكرها، وبوأ بمعنى أنزل كأباء والاسم منه البيئة بالكسر كما في القاموس، وجاء بوأه منزلا وبوأه في منزل وكذا بوأت له مكانا إذا سويته، وهو مما يتعدى لواحد ولاثنين أي أنزلناهم بعد أن أنجيناهم وأهلكنا أعداءهم مُبَوَّأَ صِدْقٍ أي منزلا صالحا مرضيا وهو اسم مكان منصوب على الظرفية، ويحتمل المصدرية بتقدير مضاف أي بمكان مبوأ وبدونه، وقد يجعل مفعولا ثانيا، وأصل الصدق ضد الكذب لكن جرت عادة العرب على أنهم إذا مدحوا شيئا أضافوه إلى الصدق فقالوا: رجل صدق مثلا إذا كان كاملا في صفته صالحا للغرض المطلوب منه كأنهم لاحظوا أن كل ما يظن به فهو صادق، والمراد بهذا المبوأ كما رواه ابن المنذر. وغيره عن الضحاك الشام ومصر، فإن بني إسرائيل الذين كانوا في زمان موسى عليه السلام وهم المرادون هنا ملكوا ذلك حسبما ذهب إليه جمع من الفضلاء. وأخرج أبو الشيخ، وغيره عن قتادة أن المراد به الشام وبيت المقدس واختاره بعضهم بناء على أن أولئك لم يعودوا إلى مصر بعد ذلك، وأنت تعلم أنه ينبغي أن يراد ببني إسرائيل عن القولين ما يشمل ذريتهم بناء على أنهم ما دخلوا الشام في حياة موسى عليه السلام وإنما دخلها أبناؤهم وقد تقدم لك ما يتعلق بهذه المقام فتذكره. وقيل: المراد به أطراف المدينة إلى جهة الشام، وببني إسرائيل بنو إسرائيل الذين كانوا على عهد نبينا عليه أفضل الصلاة وأكمل السلام وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي اللذائذ قيل: وقد يفسر بالحلال فَمَا اخْتَلَفُوا في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 177 أمور دينهم بل كانوا متبعين أمر رسولهم عليه السلام حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ أي إلا بعد ما علموا بقراءة التوراة والوقوف على أحكامها، وقيل: المعنى ما اختلفوا في أمر محمد صلّى الله عليه وسلم إلا بعد ما علموا صدق نبوته بنعوته المذكورة في كتابهم وتظاهر معجزاته، وهو ظاهر على القول الأخير في المراد من بني إسرائيل المبوئين، وأما على القول الأول ففيه خفاء لأن أولئك المبوئين الذين كانوا في عصر موسى عليه السلام لم يختلفوا في أمر نبينا صلّى الله عليه وسلم ضرورة لينسب إليهم ذلك الاختلاف حقيقة، وليس هذا نظير قوله تعالى: وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [الأعراف: 141] الآية ولا قوله سبحانه: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ [البقرة: 91] ليعتبر المجاز، وزعم الطبرسي أن المعنى أنهم كانوا جميعا على الكفر لم يختلفوا فيه حتى أرسل إليهم موسى عليه السلام ونزلت التوراة فيها حكم الله تعالى فمنهم من آمن ومنهم من أصر على كفره وليس بشيء أصلا كما لا يخفى إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فيميز بين المحق والمبطل بالإثابة والعقوبة فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ أي في شك ما يسير، والخطاب قيل: له صلّى الله عليه وسلم والمراد إن كنت في ذلك على سبيل الفرض والتقدير لأن الشك لا يتصور منه عليه الصلاة والسلام لانكشاف الغطاء له ولذا عبر- بإن- التي تستعمل غالبا فيما لا تحقق له حتى تستعمل في المستحيل عقلا وعادة كما في قوله سبحانه: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ [الزخرف: 81] وقوله تعالى: فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ [الأنعام: 35] وصدق الشرطية لا يتوقف على وقوعها كما هو ظاهر والمراد بالموصول القصص، أي إن كنت في شك من القصص المنزلة إليك التي من جملتها قصة فرعون وقومه وأخبار بني إسرائيل فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ فإن ذلك محقق عندهم ثابت في كتبهم حسبما أنزلناه إليك، وخصت القصص بالذكر لأن الأحكام المنزلة إليه عليه الصلاة والسلام ناسخة لأحكامهم مخالفة لها فلا يتصور سؤالهم عنها، والمراد بالكتاب جنسه فيشمل التوراة والإنجيل وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ويؤيده أنه قرىء «الكتب» بالجمع، وفسر الموصول بمن لم يؤمن من أهل الكتاب لأن إخبارهم بما يوافق ما أنزل المترتب على السؤال أجدى في المقصود، وفسره بعضهم بالمؤمنين منهم كعبد الله بن سلام. وتميم الداري ونسب ذلك إلى ابن عباس والضحاك ومجاهد. وتعقب بأن ابن سلام وغيره إنما أسلموا بالمدينة وهذه السورة مكية، وينبغي أن يكون المراد الاستدلال على حقية المنزل والاستشهاد بما في الكتب المتقدمة على ما ذكر وأن القرآن مصدق لها، ومحصل ذلك أن الفائدة دفع الشك إن طرأ لأحد غيره صلّى الله عليه وسلم بالبرهان أو وصف أهل الكتاب بالرسوخ في العلم بصحة نبوته صلّى الله عليه وسلم وتوبيخهم على ترك الإيمان أو تهييج الرسول عليه الصلاة والسلام وزيادة تثبيته، وليس الغرض إمكان وقوع الشك له صلّى الله عليه وسلم أصلا، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام حين جاءته الآية على ما أخرج عبد الرزاق، وابن جرير عن قتادة: «لا أشك ولا أسأل» . وزعم الزجاج أن إن نافية وقوله سبحانه: فَسْئَلِ جواب شرط مقدر أي ما كنت في شك مما أنزلنا إليك فإن أردت أن تزداد يقينا فاسأل وهو خلاف الظاهر وفيما ذكر غنى عنه، ومثله ما قيل: إن الشك بمعنى الضيق والشدة بما يعاينه صلّى الله عليه وسلم من تعنت قومه وأذاهم أي إن ضقت ذرعا بما تلقى من أذى قومك وتعنتهم فاسأل أهل الكتاب كيف صبر الأنبياء عليهم السلام على أذى قومهم وتعنتهم فاصبر كذلك بل هو أبعد جدا من ذلك، وقيل: الخطاب له صلّى الله عليه وسلم والمراد به أمته أو لكل من يسمع أي إن كنت أيها السامع في شك مما أنزلنا على لسان نبينا إليك فاسأل، أَنْزَلْنا إِلَيْكَ على هذا نظير قوله سبحانه: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً [النساء: 174] وفي جعل القراءة صلة الموصول إشارة إلى أن الجواب لا يتوقف على أكثر منها، وفي الآية تنبيه على أن من خالجته شبهة في الدين ينبغي له الجزء: 6 ¦ الصفحة: 178 مراجعة من يزيلها من أهل العلم بل المسارعة إلى ذلك حسبما تدل عليه الفاء الجزائية بناء على أنها تفيد التعقيب لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ الواضح الذي لا محيد عنه ولا ريب في حقيته مِنْ رَبِّكَ القائم بما يصلح شأنك فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ أي بالتزلزل عما أنت عليه من الحزم واليقين ودم على ذلك كما كنت من قبل، والامتراء الشك والتردد وهو أخف من التكذيب فلذا ذكر أولا، وعقب بقوله سبحانه: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ أي بشيء منها فَتَكُونَ بذلك مِنَ الْخاسِرِينَ أنفسا وأعمالا، والتعبير بالخاسرين أظهر في التحذير من التعبير بالكافرين، وفائدة النهي في الموضعين التهييج والإلهاب نظير ما مر، والمراد بذلك إعلام أن الامتراء والتكذيب قد بلغا في القبح والمحذورية إلى حيث ينبغي أن ينهى عنهما من لا يمكن أن يتصف بهما فكيف بمن يمكن اتصافه وفيه قطع لأطماع الكفرة. إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ إلخ بيان لمنشأ إصرار الكفرة على ما هم عليه من الكفر والضلال إلى حيث لا ينتفعون بالإيمان أي إن الذين ثبتت عليهم كَلِمَتُ رَبِّكَ أي حكمه وقضاؤه المفسر عند الأشاعرة بإرادته تعالى الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال بأنهم يموتون على الكفر أو يخلدون في النار لا يُؤْمِنُونَ إذ لا يمكن أن ينتقض قضاؤه سبحانه وتتخلف إرادته جل جلاله لَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ واضحة المدلول مقبولة لدى العقول حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ الإغراق ونحوه وحينئذ يقال لهم- الصيف ضيعت اللبن- وفسر الزمخشري بقول الله تعالى الذي كتبه في اللوح وأخبر سبحانه به الملائكة أنهم يموتون كفارا وجعل تلك كتابة معلوم لا كتابة مقدر ومراد، ولا ضير في تفسير الكلمة بذلك إلا أن جعل الكتابة كتابة معلوم لا كتابة مقدر ومراد مبني على مذهب الاعتزال، والذي عليه أهل السنة أن أفعال العباد بأسرها معلومة له تعالى ومرادة ولا يكون إلا ما أراده سبحانه، وعلمه عز شأنه وإرادته متوافقان ولا تجوز المخالفة بينهما ولا يتعلق علمه سبحانه إلا بما عليه الشيء في نفسه ولا يريد إلا ما علم ولا يقدر إلا ما يريد ولا جبر هناك ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين، وفسره المولى الكوراني في شرحه للمقدمات الأربع المذكورة في توضيح الأصول بأن العبد مجبور باختياره وفصله بما لا مزيد عليه، وبإثبات الاستعداد وأنه غير مجعول تتضح الحجة البالغة وبسط الكلام في علم الكلام، وقد تقدم بعض ما ينفع في هذا المقام، وإن أردت ما يطمئن به الخاطر وتنشرح له الضمائر فعليك برسائل ذلك المولى في هذا الشأن فإنها واضحة المسالك في تحصيل الإيقان فَلَوْلا كانَتْ كلام مستأنف لتقرير هلاكهم ولولا هنا تحضيضية فيها معنى التوبيخ كهلا ومثلها ما في قول الفرزدق: تعدون عقر النيب أفضل مجدكم ... بني ضوطرى لولا الكميّ المقنعا ويشهد لذلك قراءة أبي وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما «فهلا» ، والتوبيخ على ما نقل عن السفاقسي على ترك الإيمان المذكور بعد، «وكان» كما اختاره بعض المحققين ناقصة، وقوله تعالى: قَرْيَةٌ اسمها، وجملة قوله سبحانه: آمَنَتْ خبرها، وقوله جل شأنه: فَنَفَعَها إِيمانُها معطوف على الخبر، أي فهلا كانت قرية من القرى التي أهلكت هلاك الاستئصال آمنت قبل معاينة العذاب ولم تؤخر إيمانها إلى حين معاينته كما أخر فرعون إيمانه فنفعها ذلك بأن يقبله الله تعالى منها، ويكشف بسببه العذاب عنها، وذهب السمين وغيره إلى أنها تامة وقَرْيَةٌ فاعلها وجملة آمَنَتْ صفة «ونفعها» معطوفة عليها. وتعقب بأنه يلزم حينئذ أن يكون التحضيض والتوبيخ على الوجود مع أنه ليس بمراد. وأجيب بأنه لا مانع من أن يكون التحضيض على الصفة وحينئذ لا غبار على ما قيل، وأيا ما كان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 179 فالمراد بالقرية أهلها مجازا شائعا والقرينة هنا أظهر من أن تخفى، وقوله تبارك وتعالى: إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ استثناء منقطع كما قال الزجاج وسيبويه والكسائي. وأكثر النحاة أي لكن قوم يونس لَمَّا آمَنُوا عند ما رأوا أمارات العذاب ولم يؤخروا إلى حلوله كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ أي الذل والهوان فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بعد ما أظلهم وكاد ينزل بهم وَمَتَّعْناهُمْ بمتاع الدنيا بعد كشف العذاب عنهم إِلى حِينٍ أي زمان من الدهر مقدر لهم في علم الله تعالى. ونقل عن ابن عباس أن المراد إلى يوم القيامة فهم اليوم أحياء إلا أن الله تعالى سترهم عن الناس على حد ما يقال في الخضر عليه السلام، ورأيت في بعض الكتب ما يوافقه إلا أنه ذكر فيه أنهم يظهرون أيام المهدي ويكونون من جملة أنصاره ثم يموتون والكل مما لا صحة له. وقال آخرون: الاستثناء متصل، ويراد من القرية أهلها المشرفون على الهلاك. وقيل: العاصون ويعتبر النفي الذي يشعر به التحضيض وهو مشعر بالأمر أيضا ولذا جعلوه في حكمه إلا أنه لا يصح اعتباره على تقدير الاتصال لما يلزمه من كون الإيمان من المستثنين غير مطلوب وهو غير مطلوب بل فاسد، وقيل: لا مانع من ذلك على ذلك التقدير لأن أهل القرى محضوضون على الإيمان النافع وليس قوم يونس محضوضين عليه لأنهم آمنوا، والذوق يأبى إلا اعتبار النفي فقط حال اعتبار الاتصال» ويكون قوله سبحانه: لَمَّا آمَنُوا استئنافا لبيان نفع إيمانهم. وقرىء «إلا قوم» بالرفع على البدل من قرية المراد بها أهلها، وأيد بذلك القول بالاتصال واعتبار النفي لأن البدل لا يكون إلا في غير الموجب، وخرج بعضهم هذه القراءة على أن إِلَّا بمعنى غير وهي صفة ظهر إعرابها فيما بعدها كما في قوله على رأي: وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان وظاهر كلامهم أن الاستثناء مطلقا من قرية، وعن الزمخشري أنه على الأول من القرية لا من الضمير في آمَنَتْ وعلل بأن المنقطع بمعنى لكن فيتوسط بين الكلامين المتغايرين فلا يعتمد ما لا يستقل ولأنه لا مدخل للوصف أعني الإيمان في المستثنى منه فالاستثناء عن أصل الكلام، وأما على الثاني فهو استثناء من الضمير من حيث المعنى جعل في اللفظ منه أو من القرية إذ لا فرق في قولك: كان القوم منطلقين إلا زيدا بين جعله من الاسم أو من الضمير في الخبر لأن الحكم إنما يتم بالخبر، وإنما الفرق في نحو ضربت القوم العالمين إلا زيدا، ثم قال: ونظير هذا في الوجهين قوله تعالى: إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ [الحجر: 58، 59] ووجه ذلك ظاهر. وفي الكشف أن وجه الشبه اختلاف معنى الهلاك على الوجهين كاختلاف معنى الإرسال هنالك على الوجهين، وكأنه عنى بالهلاك المأخوذ قيدا في قوله فهلا كانت قرية من القرى التي أهلكناها فتدبر. وفي يُونُسَ لغات تثليث النون مهموزا وغير مهموز والمتواتر منها الضم بلا همز. وكان من قصة هؤلاء القوم على ما روي عن غير واحد أن يونس عليه السلام بعث إلى أهل نينوى من أرض الموصل وكانوا أهل كفر وشرك فدعاهم إلى الإيمان بالله تعالى وحده وترك ما يعبدون من الأصنام فأبوا عليه وكذبوه فأخبرهم أن العذاب مصبحهم إلى ثلاث فلما كانت الليلة الثالثة ذهب عنهم من جوف الليل فلما أصبحوا تغشاهم العذاب فكان فوق رؤوسهم ليس بينهم وبينه إلا قدر ثلثي ميل، وجاء أنه غامت السماء غيما أسود هائلا يدخن دخانا شديدا فهبط حتى غشي مدينتهم واسودت أسطحتهم فلما أيقنوا بالهلاك طلبوا نبيهم فلم يجدوه فخرجوا إلى الصحراء بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم ولبسوا المسوح وأظهروا الإيمان والتوبة وفرقوا بين الوالدة وولدها من الناس الجزء: 6 ¦ الصفحة: 180 والدواب فجن البعض إلى البعض وعلت الأصوات وعجوا جميعا وتضرعوا إليه تعالى وأخلصوا النية فرحمهم ربهم واستجاب دعاءهم وكشف عنهم ما نزل بهم من العذاب وكان ذلك يوم عاشوراء وكان يوم الجمعة. قال ابن مسعود: إنه بلغ من توبتهم أن ترادوا المظالم فيما بينهم حتى إن كان الرجل ليأتي إلى الحجر قد وضع أساس بنيانه عليه فيقلعه ويرده إلى صاحبه، وجاء في رواية عن قتادة أنهم عجوا إلى الله تعالى أربعين صباحا حتى كشف ما نزل بهم، وأخرج أحمد في الزهد وابن جرير وغيرهما عن ابن غيلان قال: لما غشي قوم يونس العذاب مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا: ما ترى؟ قال: قولوا: يا حي حين لا حي ويا حي محيي الموتى ويا حي لا إله إلا أنت فقالوها فكشف عنهم العذاب، وقال الفضيل بن عياض: قالوا: اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم وأجل فافعل بنا ما أنت أهله، ولا تفعل بنا ما نحن أهله، وكان يونس عليه السلام إذ ذهب عنهم قعد في الطريق يسأل الخبر كما جاء مرفوعا فمر به رجل فقال له: ما فعل قوم يونس؟ فحدثه بما صنعوا فقال: لا أرجع إلى قوم قد كذبتهم وانطلق مغاضبا حسبما قصه الله تعالى في غير هذا الموضع مما سيأتي إن شاء الله تعالى، وظاهر الآية يستدعي أن القوم شاهدوا العذاب لمكان كَشَفْنا وهو الذي يقتضيه أكثر الأخبار وإليه ذهب كثير من المفسرين، ونفع الإيمان لهم بعد المشاهدة من خصوصياتهم فإن إيمان الكفار بعد مشاهدة ما وعدوا به إيمان بأس غير نافع لارتفاع التكليف حينئذ وعادة الله إهلاكهم من غير إمهال كما أهلك فرعون، والقول بأنه بقي حيا إلى ما شاء الله تعالى وسكن أرض الموصل من مفتريات اليهود. وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ تحقيق لدوران إيمان جميع المكلفين وجودا وعدما على قطب مشيئته سبحانه مطلقا بعد بيان تبعية كفر الكفرة لكلمته، ومفعول المشيئة هنا محذوف حسب المعهود في نظائره أي لو شاء سبحانه إيمان من في الأرض من الثقلين لآمن كُلُّهُمْ بحيث لا يشذ منهم أحد جَمِيعاً أي مجتمعين على الإيمان لا يختلفون فيه لكنه لم يشأ ذلك لأن سبحانه لا يشاء إلا ما يعلم ولا يعلم إلا ما له ثبوت في نفسه فيما لا ثبوت له أصلا لا يعلم وما لا يعلم لا يشاء، وإلى هذا التعليل ذهب الكوراني عليه الرحمة وأطال الكلام في تحريره والذب عنه في غير ما رسالة، والجمهور على أنه سبحانه لا يشاؤه لكونه مخالفا للحكمة التي عليها بناء أساس التكوين والتشريع. والآية حجة على المعتزلة الزاعمين أن الله تعالى شاء الإيمان من جميع الخلق فلم يؤمن إلا بعضهم، والمشيئة عندهم قسمان تفويضية يجوز تخلف الشيء عنها وقسرية لا يجوز التخلف عنها وحملوا ما في الآية على هذا الأخير، فالمعنى عندهم لو شاء ربك مشيئة الجاء وقسر إيمان الثقلين لآمنوا لكنه سبحانه لم يشأ كذلك بل أمرهم بالإيمان وخلق لهم اختيار إله ولضده وفوض الأمر إليهم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وهذا دينهم في كل ما ورد عليهم من الآيات الظاهرة في إبطال ما هم عليه، وفيه أنه لا قرينة على التقييد مع أن قوله سبحانه: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ يأباه فيما قيل، فإن الهمزة للإنكار وهي لصدارتها مقدمة من تأخير على ما عليه الجمهور والفاء للتفريع والمقصود تفرع الإنكار على ما قبل ولا فائدة بل لا وجه لاعتبار مشيئة القسر والإلجاء خاصة في تفرع الإنكار، وقيل: إن الهمزة في موضعها والعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام كأنه قيل: أربك لا يشاء ذلك فأنت تكرههم حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ والإنكار متوجه إلى ترتيب الإكراه المذكور على عدم مشيئته تعالى والآباء هو الآباء فلا بد من حمل المشيئة على إطلاقها، والمراد بالناس من طبع عليهم أو الجميع مبالغة، وجوز في «أنت» أن يكون فاعلا بمقدر يفسره ما بعده وأن يكون مبتدأ خبره الجملة بعده ويعدونه فاعلا معنويا، وتقديمه لتقوية حكم الإنكار كما ذهب إليه الشريف قدس سره في شرح المفتاح وذكر فيه أن المقصود إنكار صدور الفعل من المخاطب لا إنكار كونه هو الفاعل مع تقرر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 181 أصل الفعل، وقيل: إن التقديم للتخصيص ففيه إيذان بأن الإكراه أمر ممكن لكن الشأن في المكره من هو وما هو إلا سبحانه وحده لا يشارك فيه لأنه جل شأنه القادر على أن يفعل في قلوبهم ما يضطرهم إلى الإيمان وذلك غير مستطاع للبشر. وَما كانَ لِنَفْسٍ بيان لتبعية إيمان النفوس التي علم الله تعالى إيمانها لمشيئته تعالى وجودا وعدما بعد بيان الدوران الكلي عليها كذلك، وقيل: هو تقرير لما يدل عليه الكلام السابق من أن خلاف المشيئة مستحيل أي ما صح وما استقام لنفس من النفوس التي علم الله تعالى أنها تؤمن أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي بمشيئته وإرادته سبحانه، والأصل في الإذن بالشيء الإعلام بإجازته والرخصة فيه ورفع الحجر عنه، وجعلوا ما ذكر من لوازمه كالتسهيل الذي ذكره بعضهم في تفسيره، وخصصت النفس بالصفة المذكورة ولم تجعل من قبيل قوله تعالى: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران: 145] قيل لأن الاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أي ما كان لنفس أن تؤمن في حال من أحوالها إلا حال كونها ملابسة بإذنه سبحانه فلا بد من كون الإيمان مما يؤول إليه حالها كما أن الموت حال لكل نفس لا محيص لها عنه فلا بد من التخصيص بما ذكر، فإن النفوس التي علم الله تعالى أنها لا تؤمن ليس لها حال تؤمن فيها حتى تستثنى تلك الحال من غيرها انتهى، وقد يقال: إن هذا الاستثناء بالنظر إلى النفس التي علم الله تعالى أنها لا تؤمن مفيد لعدم إيمانها على أتم وجه على حد ما قيل في قوله تعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [النساء: 23] فكأنه قيل: ما كان لنفس علم الله تعالى أنها لا تؤمن أن تؤمن في حال من الأحوال كسلامة العقل وصحة البدن وغيرهما إلا في حال ملابستها إذن الله تعالى وإرادته أن تؤمن وهي تابعة لعلمه بذلك وعلمه به محال لأنه قد علم نقيضه فيلزم انقلاب العلم جهلا فتكون إرادته ذلك محالا فيكون إيمانها محالا إذ الموقوف على المحال محال. وفي الحواشي الشهابية أن ما كانَ إن كان بمعنى ما وجد احتاج إلى تقييد النفس بمن علم أنها تؤمن وإن كان بمعنى ما صح لا يحتاج إليه ولذا ذكره من ذكره وتركه من تركه وفيه خفاء فتأمل وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ أي الكفر كما في قوله تعالى: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التوبة: 125] بقرينة ما قبله، وأصله الشيء الفاسد المستقذر وعبر عنه بذلك لكونه علما في الفساد والاستقذار، وقيل: المراد به العذاب وعبر عنه بذلك لاشتراكهما في الاستكراه والتنفر، وإن إرادة الكفر منه باعتبار أنه نقل أولا عن المستقذر إلى العذاب للاشتراك فيما ذكر ثم أطلق على الكفر لأنه سببه فيكون مجازا في المرتبة الثانية، واختار الإمام التفسير الأول تحاشيا مما في إطلاق المستقذر على عذاب الله تعالى من الاستقذار وبعض الثاني لما أن كلمة عَلَى في قوله تعالى: عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ أي لا يستعملون عقولهم بالنظر في الحجج والآيات أو لا يعقلون دلائله وأحكامه لما على قلوبهم من الطبع تأبى الأول. وتعقب بأن المعنى يقدره عليهم فلا إباء، ويفسر الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ بما يكون به تأسيسا كما سمعت في تفسيره، ومنه تعلم أن الفعل منزل منزلة اللازم أو له مفعول مقدر، وقد يفرق بين التفسيرين بأنهم على الأول لم يسلبوا قوة النظر لكنهم لم يوفقوا لذلك وعلى الثاني بخلافه والأمر الآتي ظاهر في الأول، والجملة معطوفة على مقدر كأنه قيل: فيأذن لهم الإيمان ويجعل إلخ أو فيأذن لبعضهم بذلك ويجعل إلخ. وقرىء «الرجز» بالزاي وقرأ حماد ويحيى عن أبي بكر «ونجعل» بالنون قُلِ انْظُرُوا خطاب لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلم أن يأمر الكفرة الذين هو عليه الصلاة والسلام بين ظهرانيهم بالتفكر في ملكوت السموات والأرض وما فيهما من عجائب الآيات الآفاقية والأنفسية ليتضح له صلّى الله عليه وسلم أنهم من الذين لا يعقلون وكأنه متعلق بما عنده، وتعليقه بقوله سبحانه: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ إلخ على معنى لا تكره الناس على الإيمان ولكن اؤمرهم بما يتوصل به إليه عادة من النظر لا يخلو عن النظر، وقيل: إنه تعالى لما أفاد فيما تقدم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 182 أن الإيمان بخلقه سبحانه وأنه لا يؤمن إلا من بعد إذنه وأن الذين حقت عليهم الكلمة لا يؤمنون أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يأمر بالنظر لئلا يزهد فيه بعد تلك الإفادة، وأرى الأول أولى، وجاء ضم لام قل وكسرها وهما قراءتان سبعيتان، وقوله سبحانه: ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ في محل نصب بإسقاط الخافض لأن الفعل قبله معلق بالاستفهام لأن ما استفهامية وهي مبتدأ وذا بمعنى الذي والظرف صلته وهو خبر المبتدأ، ويجوز أن يكون ماذا كله اسم استفهام مبتدأ والظرف خبره أي أي شيء بديع في السموات والأرض من عجائب صنعته تعالى الدالة على وحدته وكمال قدرته جل شأنه. وجوز أن يكون ماذا كله موصولا بمعنى الذي وهو في محل نصب بالفعل قبله، وضعفه السمين بأنه لا يخلو حينئذ من أن يكون النظر قلبيا كما هو الظاهر فيعدى بفي وأن يكون بصريا فيعدى بإلى. وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ أي ما تكفيهم وما تنفعهم. وقرىء بالتذكير، والمراد بالآيات ما أشير إليه بقوله سبحانه: ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ففيه إقامة الظاهر مقام المضمر وَالنُّذُرُ جمع نذير بمعنى أي الرسل المنذرون أو بمعنى إنذار إي الإنذارات، وجمع لإرادة الأنواع، وجوز أن يكون النُّذُرُ نفسه مصدرا بمعنى الإنذار، والمراد بهؤلاء القوم المطبوع على قلوبهم أي لا يؤمنون في علم الله تعالى وحكمه وما نافية والجملة اعتراضية، وجوز أن يكون في موضع الحال من ضمير قُلِ وفي القلب من جعلها حالا من ضمير انْظُرُوا شيء فانظروا، ويتعين كونها اعتراضية إذا جعلت ما استفهامية إنكارية، وهي حينئذ في موضع النصب على المصدرية للفعل بعدها أو على أنه مفعول به له، والمفعول على هذا وكذا على احتمال النفي محذوف إن لم ينزل الفعل منزلة اللازم أي ما تغني شيئا فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ أي هؤلاء المأمورون بالنظر من مشركي مكة وأشرافهم إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا أي مثل وقائعهم ونزول بأس الله تعالى بهم إذ لا يستحقون غير ذلك، وجاء استعمال الأيام في الوقائع كقولهم: أيام العرب، وهو مجاز مشهور من التعبير بالزمان عما وقع فيه كما يقال: المغرب للصلاة الواقعة فيه، والمراد بالموصول المشركون من الأمم الماضية مِنْ قَبْلِهِمْ متعلق- بخلوا- جيء به للتأكيد والإيماء بأنهم سيخلون كما خلوا قُلْ تهديدا لهم فَانْتَظِرُوا ذلك إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ إياه فمتعلق الانتظار واحد بالذات وهو الظاهر وجوز أن يكون مختلفا بالذات متحدا بالجنس أي فانتظروا إهلاكي إني معكم من المنتظرين هلاككم ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا بالتشديد، وعن الكسائي، ويعقوب بالتخفيف، وهو عطف على مقدر يدل عليه قوله سبحانه: مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا وما بينهما اعتراض جيء به مسارعة إلى التهديد ومبالغة في تشديد الوعيد كأنه قيل: نهلك الأمم ثم ننجي المرسل إليهم وَالَّذِينَ آمَنُوا بهم، وعبر بالمضارع لحكاية الحال الماضية لتهويل أمرها باستحضار صورها، وتأخير حكاية التنجية عن حكاية الإهلاك على عكس ما جاء في غير موضع ليتصل به قوله سبحانه: كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ أي ننجيهم إنجاء كذلك الإنجاء الذي كان لمن قبلهم على أن الإشارة إلى الإنجاء، والجار المجرور متعلق بمقدر وقع صفة لمصدر محذوف. وجوز أن يكون الكاف في محل نصب بمعنى مثل سادة مسد المفعول المطلق. ويحتمل عند بعض أن يكون في موقع الحال من الإنجاء الذي تضمنه نُنَجِّي بتأويل نفعل الإنجاء حال كونه مثل ذلك الإنجاء وأن يكون في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك، وحَقًّا نصب بفعله المقدر أي حق ذلك حقا، والجملة اعتراض بين العامل والمعمول على تقدير أن يكون كَذلِكَ معمولا للفعل المذكور بعد، وفائدتها الاهتمام بالإنجاء وبيان أنه كائن لا محالة وهو المراد بالحق، ويجوز أن يراد به الواجب، ومعنى كون الإنجاء واجبا أنه كالأمر الواجب عليه تعالى وإلا فلا وجوب حقيقة عليه سبحانه، وقد صرح بأن الجملة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 183 اعتراضية غير واحد من المعربين ويستفاد منه أنه لا بأس (1) الجملة الاعتراضية إذا بقي شيء من متعلقاتها، وجوز أن يكون بدلا من الكاف التي هي بمعنى مثل أو من المحذوف الذي نابت عنه. وقيل: إن كَذلِكَ منصوب- بننجي- الأول وحَقًّا منصوب بالثاني وهو خلاف الظاهر، والمراد بالمؤمنين إما الجنس المتناول للرسل عليهم السلام وأتباعهم فقط، وإما الأتباع فقط وإنما لم يذكر إنجاء الرسل إيذانا بعدم الحاجة إليه، وأيّا ما كان ففيه تنبيه على أن مدار الإنجاء هو الإيمان، وجيء بهذه الجملة تذييلا لما قبلها مقررا لمضمونه قُلْ لجميع من شك في دينك وكفر بك يا أَيُّهَا النَّاسُ أوثر الخطاب باسم الجنس مصدرا بحرف التنبيه تعميما للتبليغ وإظهارا لكمال العناية بشأن ما بلغ إليهم إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي الذي أعبد الله تعالى به وأدعوكم إليه ولم تعلموا ما هو ولا صفته حتى قلتم إنه صبأ. فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ في وقت من الأوقات وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ ثم يفعل بكم ما يفعل من فنون العذاب، وجعل هذه الجملة باعتبار مضمونها جوابا بتأويل الأخبار وإلا فلا ترتب لها على الشرط بحسب الظاهر، فالمعنى إن كنتم في شك من ذلك فأخبركم أنه تخصيص العبادة به تعالى ورفض عبادة ما سواه من الأصنام وغيرها مما تعبدونه جهلا، وقد كثر جعل الأخبار بمفهوم الجملة جزاء نحو إن أكرمتني اليوم فقد أكرمتك أمس، وعلى هذا الطراز قوله تعالى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل: 53] فإن استقرار النعمة ليس سببا لحصولها من الله تعالى بل الأمر بالعكس، وإنما سبب للإخبار بحصولها منه تعالى كما قرره ابن الحاجب. وقد يكون المعنى إن كنتم في شك من صحة ديني وسداد فأخبركم أن خلاصته العبادة لإله هذا شأنه دون ما تعبدونه مما هو بمعزل عن ذلك الشأن فاعرضوا ذلك على عقولكم وأجيلوا فيه أفكاركم وانظروا بعين الإنصاف لتعلموا صحته وحقيته، وذكر بعضهم أنه لا يحتاج على هذا إلى جعل المسبب الإخبار والإعلام بل يعتبر الجزاء الأمر بعرض ما ذكر على عقولهم والتفكر فيه، والأظهر اعتبار كون الأخبار جزاء كما في المعنى الأول، والتعبير عما هم عليه بالشك مع كونهم قاطعين بعدم الصحة للإيذان بأن أقصى ما يمكن عروضه للعاقل في هذا الباب هو الشك في الصحة وأما القطع بعدمها فما لا سبيل إليه، وقيل: لا نسلم أنهم كانوا قاطعين بل كانوا في شك واضطراب عند رؤية المعجزات، وجيء- بأن- للإشارة إلا أنه مما لا ينبغي أن يكون لوجود ما يزيله. وجوز أن يكون المعنى إن كنتم في شك من ديني ومما أنا عليه أأثبت عليه أم أتركه وأوافقكم فلا تحدثوا أنفسكم بالمحال ولا تشكوا في أمري واقطعوا عني أطماعكم واعملوا أني لا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولا أختار الضلالة على الهدى كقوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ [الكافرون: 1، 2] ولا يخفى أن ما قبل أوفق بالمقام، وتقديم ترك عبادة غير الله تعالى على عبادته سبحانه لتقدم التخلية على التحلية كما في كلمة التوحيد والإيذان بالمخالفة من أول الأمر، وتخصيص التوفي من بين سائر صفات الأفعال بالذكر متعلقا بهم للتخويف فإنه لا شيء أشد عليهم من الموت، وقيل: المراد أعبد الله الذي خلقكم ثم يتوفاكم ثم يعيدكم وفيه إيماء إلى الحشر الذي ينكرونه وهو من أمهات أصول الدين ثم حذف الطرفان وأبقى الوسط ليدل عليهما فإنهما قد كثر اقترانهما به في القرآن وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي أوجب الله تعالى على ذلك فوجوب الإيمان بالله تعالى شرعي كسائر   (1) قوله لا بأس الجملة إلخ كذا بخطه رحمه الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 184 الواجبات، وذكر المولى صدر الشريعة أن للشرعي معنيين ما يتوقف علي الشرع كوجوب الصلاة والصوم، وما ورد به الشرع ولا يتوقف على الشرع كوجوب الإيمان بالله سبحانه ووجوب تصديقه صلّى الله عليه وسلم فإنه لا يتوقف على الشرع فهو ليس بشرعي بالمعنى الأول، وذلك لأن ثبوت الشرع موقوف على الإيمان بوجود الباري تعالى وعلمه وقدرته وكلامه وعلى التصديق بنبوة النبي عليه الصلاة والسلام بدلالة معجزاته فلو توقف شيء من هذه الأحكام على الشرع لزم الدور، ولقائل أن يمنع توقف الشرع على وجوب الإيمان ونحوه سواء أريد بالشرع خطاب الله تعالى أو شريعة النبي صلّى الله عليه وسلم وتوقف التصديق بثبوت شرع النبي صلّى الله عليه وسلم على الإيمان بالله تعالى وصفاته وعلى التصديق بنبوة النبي صلّى الله عليه وسلم ودلالة معجزاته لا يقتضي توقفه على وجوب الإيمان والتصديق ولا على العلم بوجوبهما غايته أنه يتوقف على نفس الإيمان والتصديق وهو غير مفيد لتوقفه على وجوب الإيمان والتصديق ولا مناف لتوقف وجوب الإيمان ونحوه على الشرع كما هو المذهب عندهم من أن لا وجوب إلا بالسمع، وقول الزمخشري هنا: إنه عليه الصلاة والسلام أمر بالعقل والوحي لا يخلو عن نزغة اعتزالية كما هو دأبه في كثير من المواضع، ومن قال من المفسرين منا: إنه وجب على ذلك بالعقل والسمع أراد بالعقل التابع لما سمع بالشرع فلا تبعية، والكلام على حذف الجار أي أمرت بأن أكون، وحذفه من أن وأن مطرد وإن وقع النظر عن ذلك فالحذف بعد أمر مسموع عن العرب كقوله: أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ... فقد تركتك ذا مال وذا نشب وأدخل بعضهم هذه الجملة في الجزاء وليس بمتعين وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ عطف كما قال غير واحد على أَنْ أَكُونَ واعترض بأن إِنْ في المعطوف عليه مصدرية بلا كلام لعملها النصب والتي في جانب المعطوف لا يصح أن تكون كذلك لوقوع الأمر بعدها، وكذا لا يصح أن تكون مفسرة لعطفها على المصدرية ولأنه يلزم دخول الباء المقدرة عليها والمفسرة لا يدخل عليها ذلك، ودفع ذلك باختيار كونها مصدرية ووقوع الأمر بعدها لا يضر في ذلك، فقد نقل عن سيبويه أنه يجوز وصلها به، ولا فرق في صلة الموصول الحرفي بين الطلب والخبر لأنه إنما منع في الموصول الاسمي لأنه وضع للتوصل به إلى وصف المعارف بالجمل والجمل الطلبية لا تكون صفة، والمقصود من أن هذه يذكر بعدها ما يدل على المصدر الذي تأول به وهو يحصل بكل فعل، وكون تأويله يزيل معنى الأمر المقصود منه مدفوع بأنه يؤول كما أشرنا إليه فيما مر بالأمر بالإقامة إذ كما يؤخذ المصدر من المادة قد يؤخذ من الصيغة مع أنه لا حاجة إليه هنا لدلالة قوله تعالى: أُمِرْتُ عليه، وفي الفرائد أنه يجوز أن يقدر وأوحى إلي أن أقم، وتعقبه الطيبي بأن هذا سائغ إعرابا إلا أن في ذلك العطف فائدة معنوية وهي أن وَأَنْ أَقِمْ إلخ كالتفسير- لأن أكون- إلخ على أسلوب- أعجبني زيد وكرمه- داخل معه في حكم المأمور فلو قدر ذلك فات غرض التفسير وتكون الجملة مستقلة معطوفة على مثلها، وفيه تأمل لجواز أن تكون هذه الجملة مفسرة للجملة المعطوفة هي عيها، وقدر أبو حيان ذلك وزعم أن أَنْ حينئذ يجوز أن تكون مصدرية وأن تكون مفسرة لأن في الفعل المقدر معنى القول دون حروفه وأنه على ذلك يزول قلق العطف ويكون الخطاب في وَجْهَكَ في محله، ورد بأن الجملة المفسرة لا يجوز حذفها، وأما صحة وقوع المصدرية فاعلا أو مفعولا فليس بلازم ولا قلق في العطف الذي عناه، وأمر الخطاب سهل لأنه لملاحظة المحكي والأمر المذكور معه. وإقامة الوجه للدين كناية عن توجيه النفس بالكلية إلى عبادته تعالى والإعراض عمن سواه، فإن من أراد أن ينظر إلى شيء نظر استقصاء يقيم وجهه في مقابلته بحيث لا يلتفت يمينا ولا شمالا إذ لو التفت بطلت المقابلة، والظاهر أن الوجه على هذا ظاهره ويجوز أن يراد به الذات، والمراد اصرف ذاتك وكليتك للدين واجتهد بأداء الفرائض والانتهاء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 185 عن القبائح، فاللام صلة أَقِمْ وقيل: الوجه على ظاهره وإقامته توجيهه للقبلة أي استقبل القبلة ولا تلتفت إلى اليمين أو الشمال، فاللام للتعليل وليس بذاك، ومثله القول بأن ذلك كناية عن صرف العقل بالكلية إلى طلب الدين حَنِيفاً أي مائلا عن الأديان الباطلة، وهو حال إما من الوجه أو من الدين، وعلى الأول تكون حالا مؤكدة لأن إقامة الوجه تضمنت التوجه إلى الحق والإعراض عن الباطل، وعلى الثاني قيل تكون حالا منتقلة وفيه نظر، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في أَقِمْ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عطف على أَقِمْ داخل تحت الأمر وفيه تأكيد له أي لا تكونن منهم اعتقادا ولا عملا وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ استقلالا ولا اشتراكا ما لا يَنْفَعُكَ بنفسه إذا دعوته بدفع مكروه أو جلب محبوب وَلا يَضُرُّكَ إذا تركته بسلب المحبوب دفعا أو رفعا أو بإيقاع المكروه، والجملة قيل معطوفة على جملة النهي قبلها، واختار بعض المحققين عطفها على قوله سبحانه: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ فهي غير داخلة تحت الأمر لأن ما بعدها من الجمل إلى آخر الآيتين متسقة لا يمكن فصل بعضها عن بعض ولا وجه لإدراج الكل تحت الأمر. وأنت تعلم أنه لو قدر فعل الإيحاء في وَأَنْ أَقِمْ كما فعل أبو حيان وصاحب الفرائد لا مانع من العطف كما هو الظاهر على جملة النهي المعطوفة على الجملة الأولى وإدراج جميع المتسقات تحت الإيحاء، وقد يرجح ذلك التقدير بأنه لا يحتاج معه إلى ارتكاب خلاف الظاهر من العطف على البعيد، وقيل: لا حاجة إلى تقدير الإيحاء والعطف كما قيل والأمر السابق بمعنى الوحي كأنه قيل: وأوحى إلي أن أكون إلخ والاندراج حينئذ مما لا بأس به وهو كما ترى ولا أظنك تقبله فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ أي معدودا في عدادهم، والفعل كناية عن الدعاء كأنه قيل: فإن دعوت ما لا ينفع ولا يضر، وكني عن ذلك على ما قيل تنويها لشأنه عليه الصلاة والسلام وتنبيها على رفعة مكانه صلّى الله عليه وسلم من أن ينسب إليه عبادة غير الله تعالى ولو في ضمن الجملة الشرطية. والكلام في فائدة نحو النهي المذكور قد مر آنفا، وجواب الشرط على ما في النهي جملة فَإِنَّكَ وخبرها أعني مِنَ الظَّالِمِينَ وتوسطت إِذاً بين الاسم والخبر مع أن رتبتها بعد الخبر رعاية للفاصلة. وفي الكشاف أن إِذاً جزاء للشرط وجواب لسؤال مقدر كأن سائلا سأل عن تبعة عبادة الأوثان فجعل من الظالمين لأنه لا ظلم أعظم من الشرك إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] وهذه عبارة النحويين، وفسرت كما قال الشهاب: بأن المراد أنها تلد على أن ما بعدها مسبب عن شرط محقق أو مقدر وجواب عن كلام محقق أو مقدر. وقد ذكر الجلال السيوطي عليه الرحمة في جمع الجوامع- بعد أن بين أن- إذا- الظرفية قد يحذف جزء الجملة التي أضيفت هي إليها أو كلها فيعوض عنه التنوين وتكسر للساكنين لا للإعراب خلافا للأخفش وقد تفتح- إن شيخه الكافيجي ألحق بها إذن، ثم قال في شرحه همع الهوامع: وقد أشرت بقولي: وألحق شيخنا بها في ذلك إذن إلى مسألة غريبة قل من تعرض لها وذلك أني سمعت شيخنا عليه الرحمة يقول في قوله تعالى: وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ [المؤمنون: 34] ليست إذن هذه الكلمة المعهودة وإنما هي إذا الشرطية حذفت جملتها التي يضاف إليها وعوض عنها التنوين كما في يومئذ وكنت أستحسن هذا جدا وأظن أن الشيخ لا سلف له في ذلك حتى رأيت بعض المتأخرين جنح إلى ما جنح إليه الشيخ، وقد أوسعت الكلام في ذلك في حاشية المغني انتهى. وأنت تعلم أن الآية التي ذكرها كالآية التي نحن فيها وما ذكره مما يميل إليه القلب ولا أرى فيه بأسا ولعله أولى مما قاله صاحب الكشاف ومتبعوه فليحمل ما في الآية عليه، وكان كثيرا ما يخطر لي ذلك إلا أني لم أكد أقدم على إثباته حتى رأيته لغيري ممن لا ينكر فضله فأثبته حامدا لله تعالى وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ تقرير لما أورد في حيز الصلة من سلب النفع من المعبودات الباطلة وتصوير لاختصاصه به سبحانه أي وإن يصبك بسوء ما فَلا كاشِفَ لَهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 186 عنك كائنا من كان وما كان إِلَّا هُوَ وحده فثبت عدم كشف الأصنام بالطريق البرهاني، وهو بيان لعدم النفع برفع المكروه المستلزم لعدم النفع بجلب المحبوب استلزاما ظاهرا، فإن رفع المكروه أدنى مراتب النفع فإذا انتفى انتفى النفع بالكلية وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ تحقيق لسلب الضرر الوارد في حيز الصلة أي إن يرد أن يصيبك بخير فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ الذي من جملته ما أرادك به من الخير، فهو دليل على جواب الشرط لا نفس الجواب، وفيه إيذان بأن فيضان الخير منه تعالى بطريق التفضل والكرم من غير استحقاق عليه سبحانه أي لا أحد يقدر على رده كائنا من كان فيدخل فيه الأصنام دخولا أوليا، وهو بيان لعدم ضرها بدفع المحبوب قبل وقوعه المستلزم لعدم ضرها برفعه أو بإيقاع المكروه استلزاما جليا ولعل ذكره الإرادة مع الخير والمس مع الضر مع تلازم الأمرين لأن ما يريده سبحانه يصيب وما يصيب لا يكون إلا بإرادته تعالى للإيذان بأن الخير مقصود لله تعالى بالذات والضر إنما يقع جزاء على الأعمال وليس مقصودا بالذات، ويحتمل أنه أريد معنى الفعلين في كل من الخير والضر لاقتضاء المقام تأكيد كل من الترغيب والترهيب إلا أنه قصد الإيجاز في الكلام فذكر في أحدهما المس وفي الآخر الإرادة ليدل بما ذكر في كل جانب على ما ترك في الجانب الآخر، ففي الآية نوع من البديع يسمى احتباكا وقد تقدم في غير آية، ولم يستثن سبحانه في جانب الخير إظهارا لكمال العناية به وينبىء عن ذلك قوله تعالى: يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ حيث صرح جل شأنه بالإصابة بالفضل المنتظم لما أراد من الخير، وقيل: إنما لم يستثن جل وعلا في ذلك لأنه قد فرض فيه أن تعلق الخير به واقع بإرادته تعالى وصحة الاستثناء تكون بإرادة ضده في ذلك الوقت وهو محال، وهذا بخلاف مس الضر فإن إرادة كشفه لا تستلزم المحال وهو تعلق الإرادتين بالضدين في وقت واحد، وفي العدول عن يرد بك الخير إلى ما في النظم الجليل إيماء كما قيل إلى أن المقصود هو الإنسان وسائر الخيرات مخلوقة لأجله، وما أشرنا إليه من رجوع ضمير بِهِ إلى الفضل هو الظاهر المناسب، وجوز رجوعه لما ذكر وليس بذاك، وحمل الفضل على العموم أولا وآخرا حسبما علمت هو الذي ذهب إليه بعض المحققين رادا على من جعله عبارة عن ذلك الخير بعينه على أن يكون الإتيان به أولا ظاهرا من باب وضع المظهر موضع المضمر إظهارا لما ذكره من الفائدة بأن قوله سبحانه: مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ يأبى ذلك لأنه ينادي بالعموم، ويجوز عندي أن يكون الكلام من باب- عندي درهم ونصف، وقوله سبحانه: وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ تذييل لقوله تعالى: يُصِيبُ بِهِ إلخ مقرر لمضمونه والكل تذييل للشرطية الأخيرة مقرر لمضمونها. وذكر الإمام في هذه الآيات أن قوله تعالى: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لا يمكن أن يكون نهيا عن عبادة الأوثان لأن ذلك مذكور في قوله سبحانه أول الآية: فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فلا بد من حمل هذا الكلام على ما فيه فائدة زائدة وهي أن من عرف مولاه لو التفت بعد ذلك إلى غيره كان ذلك شركا وهو الذي يسميه أصحاب القلوب بالشرك الخفي، ويجعل قوله سبحانه: وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ إشارة إلى مقام هو آخر درجات العارفين لأن ما سوى الحق ممكن لذاته موجود بإيجاده والممكن لذاته معدوم بالنظر إلى ذاته وموجود بإيجاد الحق وحينئذ فلا نافع إلا الحق ولا ضار إلا هو وكل شيء هالك إلا وجهه وإذا كان كذلك فلا رجوع إلا إليه عز شأنه في الدارين. ومعنى فَإِنْ فَعَلْتَ إلخ فإن اشتغلت بطلب المنفعة والمضرة من غير الله تعالى فأنت من الظالمين أي الواضعين للشيء في غير موضعه إذا ما سوى الله تعالى معزول عن التصرف فإضافة التصرف إليه وضع للشيء في غير موضعه وهو الظلم، وطلب الانتفاع بالأشياء التي خلقها الله تعالى للانتفاع بها من الطعام والشراب ونحوهما لا ينافي الرجوع بالكلية إلى الله تعالى بشرط أن يكون بصر العقل عند التوجه إلى شيء من ذلك مشاهدا لقدرة الله تعالى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 187 وجوده وإحسانه في إيجاد تلك الموجودات وإيداع تلك المنافع فيها مع الجزم بأنها في أنفسها وذواتها معدومة وهالكة ولا وجود لها ولا بقاء ولا تأثير إلا بإيجاد الله تعالى وإبقائه وإفاضة ما فيها من الخواص عليها بجوده وإحسانه، وقوله تبارك وتعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ إلخ تقرير لأن جميع الممكنات مستندة إليه سبحانه وتعالى وأنه لا معول إلا عليه عز شأنه، وهو كلام حسن بيد أن زعمه أن قوله تعالى: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لا يمكن أن يكون نهيا عن عبادة الأوثان إلخ لا يخفى ما فيه. وقد ذكر نحو هذا الكلام في الآيات ساداتنا الصوفية، ففي أسرار القرآن أنه سبحانه خوف نبيه صلّى الله عليه وسلم من الالتفات إلى غيره في إقباله عليه سبحانه بقوله: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي من الطالبين غيري والمؤثرين على جمال مشاهدتي ما لا يليق من الحدثان، وقد ذكروا أن إقامة الملة الحنيفية بتصحيح المعرفة وهو لا يكون إلا بترك النظر إلى ما سوى الحق جل جلاله، ثم إنه تعالى زاد تأكيدا للإقبال عليه والإعراض عما سواه بقوله جل شأنه: وَلا تَدْعُ إلخ حيث أشار فيه إلى أن من طلب النفع أو الضر من غيره تعالى فهو ظالم أي واضع للربوبية في غير موضعها. ومن هنا قال شقيق البلخي: الظالم من طلب نفعه ممن لا يملك نفع نفسه واستدفع الضر ممن لا يملك الدفاع عن نفسه ومن عجز ذلك إقامة نفسه كيف يقيم غيره، وقرر ذلك بقوله تعالى: وإن يمسسك إلخ. ومن ذلك قال ابن عطاء: إنه تعالى قطع على عباده الرهبة والرغبة إلا منه وإليه بإعلامه أنه الضار النافع وقد يكون الضر إشارة إلى الحجاب والخير إشارة إلى كشف الجمال أي إن يمسسك الله بضر الحجاب فلا كاشف لضرك إلا هو بظهور أنوار وصاله وإن يردك بكشف جماله فلا راد لفضل وصاله من سبب وعلة فإن المختص في الأزل بالوصال لا يحتجب بشيء من الأشياء لأنه في الفضل السابق مصون من جريان القهر هذا ولعله مغن عن الكلام من باب الإشارة في الآيات حسبما هو العادة في الكتاب قُلْ يا أيها الرسول مخاطبا لأولئك الكفرة بعد ما بلغتهم ما أوحي إليك أو للمكلفين مطلقا كما قال الطبرسي يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ وهو القرآن العظيم الظاهر الدلالة المشتمل على محاسن الأحكام التي من جملتها ما مر آنفا من أصول الدين واطلعتم على ما في تضاعيفه من البينات والهدى ولم يبق لكم عذر، وقيل: المراد من الحق النبي صلّى الله عليه وسلم وفيه من المبالغة ما لا يخفى. وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد أن الْحَقُّ هو ما دل عليه قوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ إلخ وهو كما ترى فَمَنِ اهْتَدى بالإيمان والمتابعة فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ أي منفعة اهتدائه لها وَمَنْ ضَلَّ بالكفر والإعراض فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أي فوبال ضلاله عليها، وقيل: والمراد تنزيه ساحة الرسالة عن شائبة غرض عائد إليه عليه الصلاة والسلام من جلب نفع ودفع ضر، ويلوح إليه إسناد المجيء إلى الحق من غير إشعار بكون ذلك بواسطته صلّى الله عليه وسلم وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ أي بحفيظ موكول إلى أمركم وإنما أنا بشير ونذير، وفي الآية إشارة إلى أنه عليه الصلاة والسلام لا يجبرهم على الإيمان ولا يكرههم عليه وإنما عليه البلاغ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها منسوخة بآية السيف وَاتَّبِعْ في جميع شؤونك من الاعتقاد والعمل والتبليغ ما يُوحى إِلَيْكَ على نهج التجدد والاستمرار، والتعبير عن بلوغ الحق المفسر بالقرآن إليهم بالمجيء وإليه صلّى الله عليه وسلم بالوحي تنبيه على ما بين المرتبتين من التنافي، وإذا أريد من الحق ما قيل فالأمر ظاهر جدا وَاصْبِرْ على ما يعتريك من مشاق التبليغ وأذى من ضل حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بالنصرة عليه أو بالأمر بالقتال وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ إذ لا يمكن الخطأ في حكمه تعالى لاطلاعه على السرائر كاطلاعه على الظواهر، وغيره جل شأنه من الحاكمين إنما يطلع على الظواهر فيقع الخطأ في حكمه، ولا يخفى ما في هذه الآيات من الموعظة الحسنة وتسلية النبي صلّى الله عليه وسلم ووعد المؤمنين والوعيد للكافرين والحمد لله تعالى رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين الذي يؤنس ذكره قلوب الموحدين وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 188 سورة هود كما أخرج ذلك ابن النحاس في تاريخه، وأبو الشيخ وابن مردويه من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وابن مردويه عن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما ولم يستثنيا منها شيئا وإلى ذلك ذهب الجمهور، واستثنى بعضهم منها ثلاث آيات فَلَعَلَّكَ تارِكٌ [هود: 12] . أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ [هود: 17] . أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ [هود: 114] وروي استثناء الثالثة عن قتادة، قال الجلال السيوطي: ودليله ما صح من عدة طرق أنها نزلت بالمدينة في حق أبي اليسر، وهي كما قال الداني في كتاب العدد مائة وإحدى وعشرون آية في المدني الأخير واثنتان في المدني الأول وثلاث في الكوفي، ووجه اتصالها بسورة يونس عليه السلام أنه ذكر في سورة يونس قصة نوح عليه السلام مختصرة جدا محملة فشرحت في هذه السورة وبسطت فيها ما لم تبسط في غيرها من السور ولا سورة الأعراف على طولها ولا سورة إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً [نوح: 1] التي أفردت لقصته فكانت هذه السورة شرحا لما أجمل في تلك السورة وبسطا له ثم إن مطلعها شديد الارتباط بمطلع تلك فإن قوله تعالى هنا: الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ [هود: 1] نظير قوله سبحانه هناك: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ [يونس: 1] بل بين مطلع هذه وختام تلك شدة ارتباط أيضا حيث ختمت بنفي الشرك واتباع الوحي وافتتحت هذه ببيان الوحي والتحذير من الشرك، وورد في فضلها ما ورد، فقد أخرج الدارمي وأبو داود في مراسيله والبيهقي في شعب الإيمان. وغيرهم عن كعب قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم اقرؤوا هودا يوم الجمعة» . وأخرج الترمذي وحسنه وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في البعث والنشور من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: «قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله قد شبت قال: شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت» . وأخرج ابن عساكر من طريق يزيد الرقاشي عن أنس عن الصديق رضي الله تعالى عنه أنه قال: «يا رسول الله أسرع إليك الشيب قال: أجل شيبتني سورة هود وأخواتها الواقعة والقارعة والحاقة وإذا الشمس كورت وسأل سائل» . وقد جاء في بعض الروايات أيضا أن عمر رضي الله تعالى عنه قال له عليه الصلاة والسلام: أسرع إليك الشيب يا رسول الله فأجابه بنحو ما ذكر إلا أنه ذكر من الأخوات الواقعة، وعم، وإذا الشمس كورت، وفي رواية أخرى عن سعد بن أبي وقاص قال: قلت يا رسول الله لقد شبت فقال: شيبتني هود والواقعة إلى آخر ما في خبر عمر، وفي بعضها الاقتصار على «شيبتني هود وأخواتها» ، وفي بعض آخر بزيادة «وما فعل بالأمم من قبلي» وقد أخرج ذلك ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه رضي الله تعالى عنهما مرفوعا. وأخرج ابن مردويه وغيره عن عمران بن حصين «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال له أصحابه: أسرع إليك الشيب فقال: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 189 شيبتني هود وأخواتها من المفصل والواقعة» وكل ذلك يدل على خطرها وعظم ما اشتملت عليه وأشارت إليه وهو الذي صار سببا لإسراع الشيب إليه صلّى الله عليه وسلم، وفسره بعضهم بذكر يوم القيامة وقصص الأمم ويشهد له بعض الآثار. وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أبي علي الشتري قال: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلم في المنام: فقلت يا رسول الله روي عنك أنك قلت: «شيبتني هود» قال: نعم. فقلت: ما الذي شيبك منها قصص الأنبياء عليهم السلام وهلاك الأمم؟ قال: لا ولكن قوله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود: 112] وهذا هو الذي اعتمد عليه بعض السادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم وبينه بما بينه، والحق أن الذي شيبه صلّى الله عليه وسلم ما تضمنته هذه السورة أعم من هذا الأمر وغيره ما عظم أمره على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمقتضى علمه الجليل ومقامه الرفيع، وهذا هو المنقدح لذهن السامع ولذلك لم يسأله صلّى الله عليه وسلم أصحابه عما شيبه منها ومن أخواتها بل اكتفوا بما يتبادر من أمثال ذلك الكلام. ودعوى أن المتبادر لهم رضي الله تعالى عنهم ما خفي على أبي علي فلذلك لم يسألوا على تقدير تسليمها يبقى أنهم لم يسألوا عما شيبه عليه الصلاة والسلام من الأخوات مع أنه ليس فيها إلا ذكر يوم القيامة وهلاك الأمم دون ذلك الأمر؟ وكونهم علموا أن المشيب فيها ذلك وفي أخواتها شيء آخر هو ذكر يوم القيامة وهلاك الأمم يأباه ما في خبر أبي علي من نفيه صلّى الله عليه وسلم، وكون ما ذكر مشيبا مفهوما من سورة دون أخرى لا يخفى حاله، وبالجملة لا ينبغي التعويل على هذه الرواية وإن سلم أنها صحت عن أبي علي، واتهام الرائي بعدم الحفظ أو بعدم تحقيق المرئي أهون من القول بصحة الرؤية والتكلف لتوجيه ما فيها، وسيأتي في آخر السورة إن شاء الله تعالى تمام الكلام في هذا المقام فليفهم. الر اسم للسورة على ما ذهب إليه الخليل وسيبويه وغيرهما أو للقرآن على ما روي عن الكلبي والسدي، وقيل: إنها إشارة إلى اسم من أسمائه تعالى أو صفة من صفاته سبحانه، وقيل: هي إقسام منه تعالى بما هو من أصول اللغات ومبادئ كتبه المنزلة ومباني أسمائه الكريمة، وقيل وقيل، وقد تقدم الكلام فيما ينفعك هنا على أتم تفصيل، واختار غير واحد من المتأخرين كونها اسما للسورة وأنها خبر مبتدأ محذوف أي هذه السورة مسماة- بالر- وقيل: محلها الرفع على الابتداء أو النصب بتقدير فعل يناسب المقام نحو اذكر أو اقرأ، وقوله سبحانه: كِتابٌ خبر لها على تقدير ابتدائيتها أو لمبتدأ محذوف على غيره من الوجوه، والتنوين فيه للتعظيم أي كتاب عظيم الشأن جليل القدر أُحْكِمَتْ آياتُهُ أي نظمت نظما محكما لا يطرأ عليه اختلال فلا يكون فيه تناقض أو مخالفة للواقع والحكمة أو شيء مما يخل بفصاحته وبلاغته فالإحكام مستعار من إحكام البناء بمعنى إتقانه أو منعت من النسخ لبعضها أو لكلها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 190 بكتاب آخر كما وقع للكتب السالفة فالإحكام من أحكمه إذا منعه ويقال: أحكمت السفيه إذا منعته من السفاهة، ومنه قول جرير: أبي حنيفة أحكموا سفهاءكم ... إني أخاف عليكم إن أغضبا وقيل: المراد منعت من الفساد أخذا من أحكمت الدابة إذا جعلت في فمها الحكمة وهي حديدة تجعل في فم الدابة تمنعها من الجماح، فكأن ما فيها من بيان المبدأ والمعاد بمنزلة دابة منعها الدلائل من الجماح، ففي الكلام استعارة تمثيلية أو مكنية. وتعقب بأن تشبيهها بالدابة مستهجن لا داعي إليه، ولعل الذوق يفرق بين ذلك وبين تشبيهها بالجمل الأنوف الوارد في بعض الآثار لانقيادها مع المتأولين لكثرة وجوه احتمالاتها الموافقة لأغراضهم. واعترض بعضهم على إرادة المنع من الفساد بأن فيه إيهام ما لا يكاد يليق بشأن الآيات الكريمة من التداعي إلى الفساد لولا المانع، فالأول إذ يراد معنى المنع أن يراد المنع من النسخ ويراد من الكتاب القرآن وعدم نسخه كلّا أو بعضا على حسب ما أشرنا إليه وكون ذلك خلاف الظاهر في حيز المنع. وادعى بعضهم أن المراد بالآيات آيات هذه السورة وكلها محكمة غير منسوخة بشيء أصلا، وروي ذلك عن ابن زيد وخولف فيه. وادعى أن فيها من المنسوخ أربع آيات قوله سبحانه: إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [هود: 12] . وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ [هود: 121] والتي تليها ونسخت جميعا بآية السيف ومَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها [هود: 15] الآية ونسخت بقوله سبحانه: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء: 18] ولا يخلو عن نظر، ويجوز أن يكون المعنى منعت من الشبه بالحجج الباهرة وأيدت بالأدلة الظاهرة أو جعلت حكيمة أي ذات حكمة لاشتمالها على أصول العقائد والأعمال الصالحة والنصائح والحكم، والفعل على هذا منقول من حكم بالضم إذا صار حكيما، ومنه قول نمر بن تولب: وأبغض بغيضك بغضا رويدا ... إذا أنت حاولت أن تحكما فقد قال الأصمعي: إن المعنى إذا حاولت أن تكون حكيما، وفي إسناد الإحكام على الوجوه المذكورة إلى الآيات دون الكتاب نفسه لا سيما إذا أريد ما يشمل كل آية آية من حسن الموقع والدلالة على كونه في أقصى غاياته ما لا يخفى ثُمَّ فُصِّلَتْ أي جعلت مفصلة كالعقد المفصل بالفرائد التي تجعل بين اللآلئ، ووجه جعلها كذلك اشتمالها على دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص أو فصل فيها مهمات العباد في المعاش والمعاد على الإسناد المجازي أو جعلت فصلا فصلا من السور ويراد بالكتاب القرآن، وقيل: يصح أن يراد به هذه السورة أيضا على أن المعنى جعلت معاني آياتها في سور ولا يخفى أنه تكلف لا حاجة إليه. أو فرقت في التنزيل فلم تنزل جملة بل نزلت نجما نجما على حسب ما تقتضيه الحكمة والمصلحة، وثُمَّ على هذا ظاهرة في التراخي الزماني لما أن المتبادر من التنزيل المنجم فيه التنزيل المنجم بالفعل، وإن أريد جعلها في نفسها بحيث يكون نزولها منجما حسب الحكمة فهو رتبي لأن ذلك وصف لازم لها حقيق بأن يرتب على وصف أحكامها، وهي على الأوجه الأول للتراخي الرتبي لا غير، وقيل: للتراخي بين الإخبارين. واعترض بأنه لا تراخي هناك إلا أن يراد بالتراخي الترتيب مجازا أو يقال بوجوده باعتبار ابتداء الخبر الأول وانتهاء الثاني. وأنت تعلم أن القول بالتراخي في الرتبة أولى خلا أن تراخي رتبة التفضيل بأحد المعنيين الأولين عن رتبة الاحكام أمر ظاهر وبالمعنى الثالث فيه نوع خفاء، ولا يخفى عليك أن الاحتمالات في الآية الحاصلة من ضرب معاني الجزء: 6 ¦ الصفحة: 191 الاحكام الأربعة في معاني التفصيل كذلك وضرب المجموع في احتمالات المراد- بثم- تبلغ اثنين ثلاثين أو ثمانية وأربعين احتمالا ولا حجر. والزمخشري ذكر للاحكام ما في الكشف ثلاثة أوجه أخذه من أحكام البناء نظرا إلى التركب البالغ حد الإعجاز. أو من الاحكام جعلها حكيمة، أو جعلها ذات حكمة فيفيد معنى المنع من الفساد، وللتفصيل أربعة جعلها كالقلائد المفصلة بالفرائد لما فيها من دلائل التوحيد وأخواتها. وجعلها فصولا سورة سورة وآية آية وتفريقها في التنزيل وتفصيل ما يحتاج إليه العباد وبيانه فيها روي هذا عن مجاهد، وقال: إن معنى ثُمَّ ليس التراخي في الوقت ولكن في الحال كما تقول هي محكمة أحسن الإحكام ثم مفصلة أحسن التفصيل، وفلان كريم الأصل ثم كريم الفعل. والظاهر أنه أراد أنها في جميع الاحتمالات كذلك، وفيه أيضا أنه إذا أريد بالاحكام أحد الأولين وبالتفصيل أحد الطرفين فالتراخي رتبي لأن الاحكام بالمعنى الأول راجع إلى اللفظ والتفصيل إلى المعنى، وبالمعنى الثاني وإن كان معنويا لكن التفصيل إكمال لما فيه من الإجمال، وأن أريد أحد الأوسطين فالتراخي على الحقيقة لأن الاحكام بالنظر إلى كل آية في نفسها وجعلها فصولا بالنظر إلى بعضها مع بعض أو لأن كل آية مشتملة على جمل من الألفاظ المرصفة وهذا تراخ وجودي، ولما كان الكلام من السائلات كان زمانيا أيضا، ولكن الزمخشري آثر التراخي في الحال مطلقا حملا على التراخي في الأخبار في هذين الوجهين ليطابق اللفظ الوضع وليظهر وجه العدول من الفاء إلى ثم، وإن أريد الثالث وبالتفصيل أحد الطرفين فرتبي وإلا فإخباري، والأحسن أن يراد بالاحكام الأول وبالتفصيل أحد الطرفين وعليه ينطبق المطابقة بين حَكِيمٍ وخَبِيرٍ وأُحْكِمَتْ وفُصِّلَتْ ثم قال: ومنه ظهر أن التراخي في الحال يشمل التراخي الرتبي والإخباري انتهى فليتأمل، وقرىء «أحكمت» بالبناء للفاعل المتكلم و «فصلت» بفتحتين مع التخفيف وروي هذا عن ابن كثير، والمعنى ثم فرقت بين الحق والباطل، وقيل: «فصلت» هنا مثلها في قوله تعالى: وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ [يوسف: 94] أي انفصلت وصدرت مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ صفة لكتاب وصف بها بعد ما وصف بأحكام آياته وتفصيلها الدالين على علو مرتبته من حيث الذات إبانة لجلالة شأنه من حيث الإضافة أو خبر ثان للمبتدأ الملفوظ أو المقدر أو هو معمول لأحد الفعلين على التنازع مع تعلقه بهما معنى أي من عنده أحكامها وتفصيلها واختار هذا في الكشف. وفي الكشاف أن فيه طباقا حسنا لأن المعنى أحكمها حكيم وفصلها أي بينها وشرحها خبير عالم بكيفيات الأمور ففي الآية اللف والنشر، وأصل الكلام على ما قال الطيبي: أحكم آياته الحكيم وفصلها الخبير ثم عدل عنه إلى أحكمت حكيم وفصلت خبير على حد قوله تعالى: يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ [النور: 36، 37] على قراءة البناء للمفعول، وقوله: ليبك يزيد ضارع لخصومة ... ومختبط مما تطيح الطوائح ثم إلى ما في النظم الجليل لما في الكناية من الحسن مع إفادة التعظيم البالغ الذي لا يصل إلى كنهه وصف الواصف لا سيما وقد جيء بالاسمين الجليلين منكرين بالتنكير التفخيمي، ولَدُنْ من الظروف المبنية وهي لأول غاية زمان أو مكان، والمراد هنا الأخير مجازا، وبنيت لشبهها بالحرف في لزومها استعمالا واحدا وهي كونها مبدأ غاية وامتناع الإخبار بها وعنها ولا يبنى عليها المبتدأ بخلاف عند ولدي- فإنهما لا يلزمان استعمالا واحدا بل يكونان لابتداء الغاية وغيرها ويبنى عليهما المبتدأ كما في قوله سبحانه: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ [الأنعام: 59] ولَدَيْنا مَزِيدٌ [ق: 35] قيل: ولقوة شبهها بالحرف وخروجها عن نظائرها لا تعرب إذا أضيفت، نعم جاء عن قيس إعرابها تشبيها بعند وعلى ذلك خرجت قراءة عاصم بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ [الكهف: 2] بالجر وإشمام الدال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 192 الساكنة الضم واقترانها بمن كما في الآية، وكذا إضافتها إلى مفرد كيفما كان هو الغالب وقد تتجرد عن- من- وقد تضاف إلى جملة اسمية كقوله: وتذكر نعماه لدن أنت يافع وفعلية كقوله: صريع غوان راقهن ورقنه ... لدن شب حتى شاب سود الذوائب ومنع ابن الدهان من إضافتها إلى الجملة وأول ما ورد من ذلك على تقدير أن المصدرية بدليل ظهورها معها في قوله: وليت فلم تقطع لدن أن وليتنا ... قرابة ذي قربى ولا حق مسلم ولا يخفى ما في التزام ذلك من التكلف لا سيما في مثل- لدن أنت يافع- وتتمحض للزمان إذا أضيفت إلى الجملة، وجاء نصب غدوة بعدها في قوله: لدن غدوة حتى دنت لغروب وخرج على التمييز، وحكى الكوفيون رفعها بعدها وخرج على إضمار كان، وفيها ثمان لغات، فمنهم من يقول لَدُنْ بفتح اللام وضم الدال وسكون النون وهي اللغة المشهورة، وتخفف بحذف الضمة كما في عضد وحينئذ يلتقي ساكنان. فمنهم من يحذف النون لذلك فيبقى- لد- بفتح اللام وسكون الدال. ومنهم من لا يحذف ويحرك الدال فتحا فيقول: لدن بفتح اللام والدال وسكون النون، ومنهم من لا يحذف ويحرك الدال كسرا فيقول لدن بفتح اللام وكسر الدال وسكون النون ومنهم من لا يحذف ويحرك النون بالكسر فيقول لدن بفتح اللام وسكون الدال وكسر النون، وقد يخفف بنقل ضمة الدال إلى اللام كما يقال في عضد عضد بضم العين وسكون الضاد على قلة، وحينئذ يلتقي ساكنان أيضا. فمنهم من يحذف النون لذلك فيقول- لد- بضم اللام وسكون الدال، ومنهم من لا يحذف ويحرك النون بالكسر فيقول لدن بضم اللام وكسر النون فهذه سبع لغات. وجاء- لد- بحذف نون لدن التي هي أم الجميع وبذلك تتم الثمانية، ويدل على أن أصل- لد- لدن إنك إذا أضفته لمضمر جئت بالنون فتقول: من لدنك ولا يجوز من- لدك- كما نبه عليه سيبويه، وذكر لها في همع الهوامع عشر لغات ما عدا اللغة القيسية فليراجع. أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ في موضع العلة للفعلين السابقين على جعل «أن» مصدرية وتقدير اللام معها كأنه قيل: كتاب أحكمت آياته ثم فصلت لئلا تعبدوا إلا الله أي لتتركوا عبادة غيره عز وجل وتتمحضوا لعبادته سبحانه، فإن الأحكام والتفصيل مما يدعوهم إلى الإيمان والتوحيد وما يتفرع عليه من الطاعات قاطبة. وجوز أن تكون مفسرة لما في التفصيل من معنى القول دون حروفه كأنه قيل: فصل وقال: لا تعبدوا إلا الله أو أمر أن لا تعبدوا إلا الله، وقيل: إن هذا كلام منقطع عما قبله غير متصل به اتصالا لفظيا بل هو ابتداء كلام قصد به الإغراء على التوحيد على لسانه صلّى الله عليه وسلم و «أن» وما بعدها في حيز المفعول به لمقدر كأنه قيل: الزموا ترك عبادة غيره تعالى، واحتمال أن يكون ما قبل أيضا مفعولا به بتقدير قل أول الكلام خلاف الظاهر، ومثله احتمال كون «أن» والفعل في موقع المطلق، وقد صرح بعض المحققين أن ذلك مما لا يحسن أو لا يجوز فلا ينبغي أن يلتفت إليه إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ضمير الغائب المجرور لله تعالى و «من» لابتداء الغاية، والجار والمجرور في الأصل صفة النكرة فلما قدم عليها صار حالا كما هو المعروف في أمثاله أي إني لكم من جهته تعالى نذير أنذركم عذابه إن لم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 193 تتركوا ما أنتم عليه من عبادة غيره سبحانه وبشير أبشركم ثوابه إن آمنتم وتمحضتم في عبادته عز وجل، وجوز كون «من» صلة النذير والضمير إما له تعالى أيضا، والمعنى حينئذ على ما قال أبو البقاء نذير من أجل عذابه وأما للكتاب على معنى إني لكم نذير من مخالفته وبشير لمن آمن به، وقوله تعالى: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ عطف على أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ سواء كان نهيا أو نفيا وفي أَنِ الاحتمالان السابقان وقد علمت أن الحق أن أَنِ المصدرية توصل بالأمر والنهي كما توصل بغيرهما، وفي توسيط جملة إِنَّنِي لَكُمْ إلخ بين المتعاطفين ما لا يخفى من الإشارة إلى علو شأن التوحيد ورفعه قدر النبي صلّى الله عليه وسلم، وقد روعي في تقديم الإنذار على التبشير ما روعي في الخطاب من تقديم النفي على الإثبات والتخلية على التحلية للتجاوب الأطراف، والتعرض لوصف الربوبية تلقين للمخاطبين وإرشاد لهم إلى طريق الابتهال في السؤال وترشيح لما يذكر من التمتيع وإيتاء الفضل، وقوله سبحانه: ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ عطف على اسْتَغْفِرُوا واختلف في توجيه توسيط ثُمَّ بينهما مع أن الاستغفار بمعنى التوبة في العرف فقال الجبائي: إن المراد بالاستغفار هنا التوبة عما وقع من الذنوب وبالتوبة الاستغفار عما يقع منها بعد وقوعه أي استغفروا ربكم من ذنوبكم التي فعلتموها ثم توبوا إليه من ذنوب تفعلونها، فكلمة ثُمَّ على ظاهرها من التراخي في الزمان، وقال الفراء: إن ثُمَّ بمعنى الواو كما في قوله: بهز (1) كهز الرديني ... جرى في الأنابيب ثم اضطرب والعطف تفسيري، وقيل: لا نسلم أن الاستغفار هو التوبة بل هو ترك المعصية والتوبة هي الرجوع إلى الطاعة ولئن سلم أنهما بمعنى- فثم- للتراخي في الرتبة، والمراد بالتوبة الإخلاص فيها والاستمرار عليها وإلى هذا ذهب صاحب الفرائد. وقال بعض المحققين: الاستغفار هو التوبة إلا أن المراد بالتوبة في جانب المعطوف التوصل إلى المطلوب مجازا من إطلاق السبب على المسبب، وثُمَّ على ظاهرها وهي قرينة على ذلك. وأنت تعلم أن أصل معنى الاستغفار طلب الغفر أي الستر ومعنى التوبة الرجوع، ويطلق الأول على طلب ستر الذنب من الله تعالى والعفو عنه والثاني على الندم عليه مع العزم على عدم العود فلا اتحاد بينهما بل ولا تلازم عقلا، لكن اشترط شرعا لصحة ذلك الطلب وقبوله الندم على الذنب مع العزم على عدم العود إليه، وجاء أيضا استعمال الأول في الثاني، والاحتياج إلى توجيه العطف على هذا ظاهر، وأما على ذاك فلأن الظاهر أن المراد من الاستغفار المأمور به الاستغفار المسبوق بالتوبة بمعنى الندم فكأنه قيل: استغفروا ربكم بعد التوبة ثم توبوا إليه ولا شبهة في ظهور احتياجه إلى التوجيه حينئذ، والقلب يميل فيه إلى حمل الأمر الثاني على الإخلاص في التوبة والاستمرار عليها، والتراخي عليه يجوز أن يكون رتيبا وأن يكون زمانيا كما لا يخفى يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً مجزوم بالطلب، ونصب مَتاعاً على أنه مفعول مطلق من غير لفظه كقوله تعالى: أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17] ويجوز أن يكون مفعولا به على أنه اسم لما ينتفع به من منافع الدنيا من الأموال والبنين وغير ذلك، والمعنى كما قيل يعشكم في أمن وراحة، ولعل هذا لا ينافي كون الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ولا كون أشد الناس بلاء الأمثل فالأمثل لأن المراد بالأمن أمنه من غير الله تعالى وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 3] وبالراحة طيب عيشه برجاء الله تعالى والتقرب إليه حتى يعد المحنة منحة: وتعذيبكم عذب لدي وجوركم ... علي بما يقضي الهوى لكم عدل   (1) قوله بهز إلخ كذا في خطه رحمه الله والمعروف كهز الرديني تحت العجاج جرى إلخ. [ ..... ] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 194 وقال الزجاج: المراد يبقيكم ولا يستأصلكم بالعذاب كما استأصل أهل القرى الذين كفروا، والخطاب لجميع الأمة بقطع النظر عن كل فرد فرد إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى مقدر عند الله تعالى وهو آخر أعماركم أو آخر أيام الدنيا كما يقتضيه كلام الزجاج، ولا دلالة في الآية على أن للإنسان أجلين كما زعمه المعتزلة وَيُؤْتِ أي يعط كُلَّ ذِي فَضْلٍ أي زيادة في العمل الصالح فَضْلَهُ أي جزاء فضله في الدنيا أو في الآخرة لأن العمل لا يعطي، وقد يقال: لا حاجة إلى تقدير المضاف، والمراد المبالغة على حد سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ [الأنعام: 139] والضمير لكل، ويجوز أن يعود إلى الرب، والمراد بالفضل الأول ما أريد به أولا وبالثاني زيادة الثواب بقرينة أن الإعطاء ثواب وحينئذ يستغني عن التأويل. واختار بعض المحققين التفسير الأول ثم قال: وهذه تكملة لما أجمل من التمتيع إلى أجل مسمى وتبيين لما عسى أن يعسر فهم حكمته من بعض ما يتفق في الدنيا من تفاوت الحال بين العالمين فرب إنسان له فضل طاعة وعمل لا يمتع في الدنيا أكثر مما متع آخر دونه في الفضل وربما يكون المفضول أكثر تمتيعا فقيل: ويعط كل فاضل جزاء فضله إما في الدنيا كما يتفق في بعض المواد وإما في الآخرة وذلك مما لا مرد له انتهى. ويفهم من كلام بعضهم عدم اعتبار الانفصال على أنه سبحانه ينعم على ذي الفضل في الدنيا والآخرة ولا يختص إحسانه بإحدى الدارين، ولا شك أن كل ذي عمل صالح منعم عليه في الآخرة بما يعلمه الله تعالى وكذا في الدنيا بتزيين العمل الصالح في قلبه والراحة حسب تعليق الرجاء بربه ونحو ذلك ولا إشكال في ذلك كما هو ظاهر للمتأمّل، وقيل: في الآية لف ونشر فإن التمتيع مرتب على الاستغفار وإيتاء الفضل مرتب على التوبة انتهى. وأيّا ما كان ففي الكلام ضرب تفصيل لما أجمل فيما سبق من البشارة، ثم شرع في الإنذار بقوله سبحانه: وَإِنْ تَوَلَّوْا أي تستمروا على الإعراض عما ألقي إليكم من التوحيد والاستغفار والتوبة، وأصله تتولوا فهو مضارع مبدوء بتاء الخطاب لأن ما بعده يقتضيه وحذفت منه إحدى التاءين كما فعل في أمثاله، وقيل: إن تَوَلَّوْا ماض غائب فلا حذف ويقدر فيما بعد فقل لهم وهم خلاف الظاهر، وأخر الإنذار عن البشارة جريا على سنن تقدم الرحمة على الغضب أو لأن العذاب قد علق بالتولي عما ذكر من التوحيد وما معه وذلك يستدعي سابقة ذكره. وقرأ عيسى بن عمرو واليماني «تولوا» بضم التاء وفتح الواو وضم اللام وهو مضارع- ولى- من قولهم: ولى هاربا أي أدبر فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ بمقتضى الشفقة والرأفة أو أتوقع عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ هو يوم القيامة وصف بذلك لكبر ما يكون فيه ولذا وصف بالثقل أيضا، وجوز وصفه بالكبر لكونه كذلك في نفسه، وقيل: المراد به زمان ابتلاهم الله تعالى فيه في الدنيا، وقد روي أنهم ابتلوا بقحط عظيم أكلوا فيه الجيف، وأيّا ما كان ففي إضافة العذاب إليه تهويل وتفظيع له إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ مصدر ميمي وكان قياسه فتح الجيم لأنه من باب ضرب وقياس مصدره الميمي ذلك كما علم من محله، أي إليه تعالى رجوعكم بالموت ثم البعث للجزاء في مثل ذلك اليوم لا إلى غيره جميعا لا يتخلف منكم أحد وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيندرج في تلك الكلية قدرته سبحانه على إماتتكم ثم بعثكم وجزائكم فيعذبكم بأفانين العذاب، وهذا تقرير وتأكيد لما سلف من ذكر اليوم وتعليل للخوف. أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ كأنه جواب سؤال مقدر، وذلك أنه لما ألقي إليهم ما ألقي وسيق إليهم ما سيق من الترغيب والترهيب وقع في ذهن السامع أنهم بعد ما سمعوا مثل هذا المقال الذي تخر له صم الجبال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 195 هل قابلوا بالإقبال أم تمادوا فيما كانوا عليه من الإعراض والضلال فقيل: مصدرا بكلمة التنبيه إشعارا بأن ما بعدها من هناتهم أمر ينبغي أن يفهم ويتعجب منه أَلا إِنَّهُمْ إلخ، فضمير إِنَّهُمْ للمشركين المخاطبين فيما تقدم و «يثنون» بفتح الياء مضارع ثنى الشيء إذا لواه وعطفه، ومنه على ما قيل الاثنان، لعطف أحدهما على الآخر والثناء لعطف المناقب بعضها على بعض وكذا الاستثناء للعطف على المستثنى منه بالإخراج، وأصله يثنيون فأعل بالإعلال المعروف في نحو يرمون، وفي المراد منه احتمالات: منها أن الثني كناية أو مجاز عن الإعراض عن الحق لأن من أقبل على شيء واجهه بصدره ومن أعرض صرفه عنه، أي إنهم يثنون صدورهم عن الحق ويتحرفون عنه، والمراد استمرارهم على ما كانوا عليه من التولي والإعراض المشار إليه بقوله سبحانه: وَإِنْ تَوَلَّوْا إلخ. ومنها أنه مجاز عن الإخفاء لأن ما يجعل داخل الصدر فهو خفي أي إنهم يضمرون الكفر والتولي عن الحق وعداوة النبي صلّى الله عليه وسلم. ومنها أنه باق على حقيقته، والمعنى أنهم إذا رأوا النبي عليه الصلاة والسلام فعلوا ذلك وولوا ظهورهم، والظاهر أن اللام متعلقة- بيثنون- على سائر الاحتمالات، وكأن بعضهم رأى عدم صحة التعلق على الاحتمال الأول لما أن التولي عن الحق لا يصلح تعليله بالاستخفاء لعدم السببية فقدر لذلك متعلقا فعل الإرادة على أنه حال أو معطوف على ما قبله، أي ويريدون ليستخفوا من الله تعالى فلا يطلع رسوله عليه الصلاة والسلام والمؤمنين على أغراضهم، وجعله في قود المعنى أليه من قبيل الإضمار في قوله تعالى: اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [الشعراء: 63] أي فضرب فانفلق، لكن لا يخفى أن انسياق الذهن إلى توسيط الإرادة بين ثني الصدور والاستخفاء ليس بمثابة انسياقه إلى توسيط الضرب بين الأمر والانفلاق كما ذكره العلامة القسطلاني وغيره، وقيل: إنه لا حاجة إلى التقدير في الاحتمالين الأولين لأن انحرافهم عن الحق بقلوبهم وعطف صدورهم على الكفر والتولي وعداوة النبي صلّى الله عليه وسلم وعدم إظهارهم ذلك يجوز أن يكون للاستخفاء من الله تعالى لجهلهم بما لا يجوز على الله تعالى، وأما على الاحتمال الثالث فالظاهر أنه لا بد من التقدير إلا أن يعاد الضمير منه إلى الرسول صلّى الله عليه وسلم وهو الذي يقتضيه سبب النزول على ما ذكره أبو حيان من أن الآية نزلت في بعض الكفار الذين كانوا إذا لقيهم النبي صلّى الله عليه وسلم تطامنوا وثنوا صدورهم كالمستتر وردوا إليه ظهورهم وغشوا وجوههم بثيابهم تباعدا منه وكراهة للقائه عليه الصلاة والسلام وهم يظنون أنه يخفى عليه صلّى الله عليه وسلم، لكن ظاهر قوله تعالى الآتي: يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ يقتضي عود الضمير إليه تعالى. واختار بعض المحققين الاحتمال الثاني من الاحتمالات الثلاث، وأمر التعليل والضمير عليه ظاهر، وأيده بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في الأخنس بن شريق وكان رجلا حلو المنطق حسن السياق للحديث يظهر لرسول الله صلّى الله عليه وسلم المحبة ويضمر في قلبه ما يضادها لكنه ليس بمجمع عليه لما سمعت عن أبي حيان. وقيل: إنه كان الرجل من الكفار يدخل بيته ويرخي ستره ويحني ظهره ويتغشى بثوبه ويقول: هل يعلم الله ما في قلبي فنزلت، وأخرج ابن جرير: وغيره عن عبد الله بن شداد أنها نزلت في المنافقين كان أحدهم إذا مر بالنبي صلّى الله عليه وسلم ثنى صدره وتغشى لئلا يراه، وهو في معنى ما تقدم عن أبي حيان إلا أن فيه بعض الكفار دون المنافقين، فلا يرد عليه ما أورد على هذا من أن الآية مكية والنفاق إنما حدث بالمدينة فكيف يتسنى القول بأنها نزلت في المنافقين؟ وقد أجيب عن ذلك بأنه ليس المراد بالنفاق ظاهره بل ما كان يصدر من بعض المشركين الذين كان لهم مداراة تشبه النفاق، وقد يقال: إن حديث حدوث النفاق بالمدينة ليس إلا غير مسلم بل ظهوره إنما كان فيها والامتياز إلى ثلاث طوائف، ثم لو سلم فلا إشكال بل يكون على أسلوب قوله سبحانه: كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ [الحجر: 90] إذا فسر باليهود ويراد به ما جرى على بني قريظة فإنه إخبار عما سيقع، وجعله كالواقع لتحققه وهو من الإعجاز لأنه وقع كذلك فكذا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 196 ما نحن فيه. نعم الثابت في صحيح البخاري. وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق محمد بن عباد ابن جعفر أنه سمع ابن عباس يقرأ الآية فسأله عنها فقال: أناس كانوا يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء وإن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء فنزل ذلك فيهم، وليس في الروايات السابقة ما يكافىء هذه الرواية في الصحة، وأمر يَثْنُونَ عليها ظاهر خلا أنه إذا كان المراد بالأناس جماعة من المسلمين كما صرح به الجلال السيوطي أشكل الأمر، وذلك لأن الظاهر من حال المسلم إذا استحى من ربه سبحانه فلم يكشف عورته مثلا في خلوة كان مقصوده مجرد إظهار الأدب مع الله تعالى مع علمه بأنه جل شأنه لا يحجب بصره حاجب ولا يمنع علمه شيء ومثل هذا الحياء أمر لا يكاد يذمه أحد بل في الآثار ما هو صريح في الأمر به وهو شعار كثير من كبار الأمة، والقول بأن استحياء أولئك المسلمين كان مقرونا بالجهل بصفاته عز وجل فظنوا أن الثني يحجب عن الله سبحانه فرد عليهم بما رد لا أظنك تقبله، وبالجملة الأمر على هذه الرواية لا يخلو عن إشكال ولا يكاد يندفع بسلامة الأمر، والذي يقتضيه السياق ويستدعيه ربط الآيات كون الآية في المشركين حسبما تقدم فتدبر والله تعالى أعلم. وقرأ الحبر رضي الله تعالى عنه ومجاهد، وغيرهما «تثنوني» بالتاء لتأنيث الجمع وبالياء التحتية لأن التأنيث غير حقيقي، وهو مضارع اثنونى كاحلولى فوزنه تفعوعل بتكرير العين وهو من أبنية المزيد الموضوعة للمبالغة لأنه يقال حلي فإذا أريد المبالغة قيل احلولى وهو لازم- فصدورهم- فاعلة، ويراد منه ما أريد من المعاني في قراءة الجمهور إلا أن المبالغة ملحوظة في ذلك فيقال: المعنى مثلا تنحرف صدورهم انحرافا بليغا. وعن الحبر أيضا وعروة وغيرهما أنهم قرؤوا «تثنون» بفتح التاء المثناة من فوق وسكون التاء وفتح النون وكسر الواو وتشديد النون الأخيرة، والأصل تثنونن بوزن تفعوعل من الثن بكسر الثاء وتشديد النون وهو ما هش وضعف من الكلأ أنشد أبو زيد: يا أيها المفضل المعني ... إنك ريان فصمت عني تكفي اللقوح أكلة من ثن ولزم الإدغام لتكرير العين إذا كان غير ملحق وصُدُورَهُمْ على هذه مرفوع أيضا على الفاعلية، والمعنى على وصف قلوبهم بالسخافة والضعف كذلك النبت الضعيف، فالصدور مجاز عما فيها من القلوب، وجوز أن يكون مطاوع ثناه فإنه يقال: ثناه فانثنى واثنونى كما صرح به ابن مالك في التسهيل فقال: وافعوعل للمبالغة وقد يوافق استفعل ويطاوع فعل ومثلوه بهذا الفعل، فالمعنى أن صدورهم قبلت الثني ويؤول إلى معنى انحرفت كما فسر به قراءة الجمهور. وعن مجاهد وكذا عروة الأعشى أنه قرأ «تثنئن» كتطمئن وأصله يثنان فقلبت الألف همزة مكسورة رغبة في عدم التقاء الساكنين وإن كان على حدة، ويقال في ماضيه اثنان كاحمأر وابيأض، وقيل: أصله تثنون بواو مكسورة فاستثقلت الكسرة على الواو فقلبت همزة كما قيل في وشاح أشاح وفي وسادة إسادة فوزنه على هذا تفوعل وعلى الأول تفعال، ورجح باطراده وهو من الثن الكلأ الضعيف أيضا، وقرىء «تثنوي» كترعوي ونسب ذلك إلى ابن عباس أيضا، وغلط النقل بأنه لا حظ للواو في هذا الفعل إذ لا يقال: ثنوته فانثوى كرعوته فارعوى ووزن ارعوى من غريب الأوزان، وفي الصحاح تقديره افعول ووزنه افعلل، وإنما لم يدغم لسكون الياء وتمام الكلام فيه يطلب من محله، وقرىء بغير ذلك، وأوصل بعضهم القراءات إلى ثلاث عشرة وفصلها في الدر المصون، ومن غريبها أنه قرىء «يثنون» بالضم. واستشكل ذلك ابن جني بأنه لا يقال: أثنيته بمعنى ثنيته ولم يسمع في غير هذه القراءة، وقال أبو البقاء: لا يعرف ذلك في اللغة إلا أن يقال: معناه عرضوها للانثناء كما تقول: أبعت الفرس إذا عرضته للبيع أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ أي يجعلونها أغشية، ومنه قول الخنساء: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 197 أرعى النجوم وما كلفت رعيتها ... وتارة أتغشى فضل أطماري وحاصله حين يأوون إلى فراشهم ويلتحفون بما يلتحف به النائم، وهو وقت كثيرا ما يقع فيه حديث النفس عادة، وعن ابن شداد حين يتغطون بثيابهم للاستخفاء، وأيّا ما كان فالمراد من الثياب معناه الحقيقي وقيل: المراد به الليل وهو يستر كما تستر الثياب، ومن ذلك قولهم: الليل أخفى للويل، والظرف متعلق بقوله سبحانه: يَعْلَمُ أي ألا يعلم ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ حين يستغشون ثيابهم ولا يلزم منه تقييد علم الله تعالى بذلك الوقت لأن من يعلم فيه يعلم فيه غيره بالطريق الأولى، وجوز تعلقه بمحذوف وقدره السمين وأبو البقاء يستخفون وبعضهم يريدون، و «ما» في الموضعين إما مصدرية أو موصولة عائدها محذوف أي الذي يسرونه في قلوبهم والذي يعلنونه أي شيء كان ويدخل ما يقتضيه السياق دخولا أوليا، وخصه بعضهم به، وقدم هنا السر على العلن نعيا عليهم من أول الأمر ما صنعوا وإيذانا بافتضاحهم ووقوع ما يحذرونه وتحقيقا للمساواة بين العلمين على أبلغ وجه فكأن علمه سبحانه بما يسرونه أقدم منه بما يعلنونه، وحاصل المعنى يستوي بالنسبة إلى علمه المحيط سرهم وعلنهم فكيف يخفى عليه سبحانه ما عسى أن يظهروه. وقرأ ابن عباس «على حين يستغشون» قال ابن عطية: ومن هذا الاستعمال قول النابغة: على حين عاتبت المشيب على الصبا إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ تعليل لما سبق وتقرير له، والمراد- بذات الصدور- الأسرار المستكنة فيها أو القلوب التي في الصدور، وأيّا ما كان فليست الذات مقحمة كما في ذات غدوة ولا من إضافة المسمى إلى اسمه كما توهم، أي إنه تعالى مبالغ في الإحاطة بمضمرات جميع الناس وأسرارهم أو بالقلوب وأحوالها فلا يخفى عليه سر من أسرارها فكيف يخفى عليه ما يسرون وما يعلنون، وكان التعبير بالجملة الاسمية للإشارة إلى أنه سبحانه لم يزل عالما بذلك، وفيه دليل على أنه تعالى يعلم الأشياء قبل وجودها الخارجي، وهذا مما لا ينكره أحد سوى شرذمة من المعتزلة قالوا: إنه تعالى إنما يعلم الأشياء بعد حدوثها تعالى عن ذلك علوا كبيرا، ولا يلزم هذا بعض المتكلمين المنكرين للوجود الذهني لأنهم إذا لم يقولوا به مع إنكار الوجود الذهني يلزمهم القول بتعلق العلم بالمعدوم الصرف، وامتناعه من أجل البديهيات، والإنكار مكابرة أو جهل بمعنى التعلق بالمعدوم الصرف، وقد أورد ذلك عليهم المحقق الدواني، وهو ناشىء على ما قيل عن الذهول عن معنى إنكار الوجود الذهني وبعد تحقيق المراد منه يندفع ذلك وبيانه أنه ليس معنى إنكارهم ذلك أنه لا يحصل صورة عند العقل إذا تصورنا شيئا أو صدقنا به لأن حصولها عنده في الواقع بديهي لا ينكره إلا مكابر، وكيف ينكره الجمهور والعلم الحادث مخلوق عندهم والخلق إنما يتعلق بأعيان الموجودات بل هو بمعنى أن ذلك الحصول ليس نحوا آخر من وجود الماهية المعلومة بأن يكون الماهية واحدة كالشمس مثلا وجودان، أحدهما خارجي والآخر ذهني كما يقول به مثبتوه، فهم لا ينكرون الوجود عن صور الأشياء وأشباحها وهي موجودات خارجية وكيفيات نفسانية وهي المخلوقة عندهم، وإنما ينكرون الوجود الذهني عن أنفس تلك الأشياء وذلك بشهادة أدلتهم حيث قالوا: لو حصلت النار في الأذهان لاحترقت الأذهان بتصورها واللازم باطل فإنه كما ترى إنما ينفي الوجود عن نفس النار لا عن شبحها ومثالها، فالحق أن الجمهور إنما أنكر وإما ذهب إليه محققو الحكماء من أن الحاصل في الأذهان أنفس ماهيات الأشياء ولم ينكروا ما ذهب إليه أهل الأشباح، وحينئذ يقال: علم الواجب عندهم إما تعلقه بأشباح الأشياء أو صفة ذات ذلك التعلق فلا يلزمهم القول بما قاله الشرذمة، ولا يتجه عليهم أن التعلق بتلك الأشباح الموجودة في الأزل لكونه نسبة بينها وبينه تعالى متأخر عنها فيلزم إيجاد تلك الأشباح بلا علم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 198 وهو محال، لأنا نقول لما كان الواجب (1) تعالى موجبا فيعلمه وسائر صفاته الذاتية كان وجود تلك الصور الإدراكية التي هي تلك الأشباح مقتضى ذاته تعالى فلا بأس في كونها سابقة على العلم بالذات وإنما المسبوق بالعلم هو أفعاله الاختيارية، ثم ينبغي أن يعلم أنه ليس معنى قولهم: إن علم الواجب تبارك وتعالى بالأشياء أزلي وتعلقه بها حادث أنه ليس هناك إلا تعلق حادث لأنه يلزم حدوث نفس العلم فيعود ما ارتكبه الشرذمة للقطع بأنه لا يصير المعلوم معلوما قبل تعلق العلم به وهو من الفساد بمكان، بل معناه أن التعلق الذي لا تقتضيه حقيقة العلم حادث وهناك تعلق تقتضيه تلك الحقيقة وهو قديم، وذلك لأن الأشباح والأمثال معلومة بالذات وبواسطتها تعلم الأشياء، فتعلق العلم عندهم أعم من تعلقه بذات الشيء المعلوم أو بمثاله وشبحه، ولما لم يمكن وجود الحوادث في الأزل كان العلم الممكن بالنسبة إليها بالتعلق بأمثالها وأشباحها وبعد حدوثها يتجدد التعلق بأن يكون بذات تلك الحوادث. وبالجملة تعلق العلم بأمثال الحوادث وأشباحها أزلي وبأنفسها وذواتها حادث ولا إشكال فيه أصلا، وبهذا التحقيق يندفع شبهات كثيرة كما قيل، لكن أورد عليه أن برهان التطبيق جار في هاتيك الأشباح لما أنها متميزة الآحاد في نفس الأمر فيلزم أحد المحذورين. وفي المقام أبحاث طويلة الذيل وقد بسط الكلام في ذلك مولانا إسماعيل أفندي الكلنبوي في حواشيه على شرح العضدية، وللمولى الشيخ إبراهيم الكوراني تحقيق على طرز آخر ذكره في كتابه مطلع الجود فارجع إليه. وبالجملة لا تخفى صعوبة هذه المسألة وهي مما زلت فيها أقدام أقوام، ولعل الله سبحانه يرزقك تحقيقها بمنه سبحانه، وقد قال به أفضل المتأخرين مولانا إسماعيل أفندي الكنبوي (2) .   (1) قوله «لما كان الواجب» إلخ كذا بخطه وتأمله (2) تم الجزء الحادي عشر بحول الله وقوته ويليه الجزء الثاني عشر واوله وَما مِنْ دَابَّةٍ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 199 الجزء الثاني عشر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 201 بسم الله الرحمن الرحيم وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها الدابة اسم لكل حيوان ذي روح ذكرا كان أو أنثى عاقلا أو غيره، مأخوذ من الدبيب، وهو في الأصل المشي الخفيف ومنه قوله: زعمتني شيخا ولست بشيخ ... إنما الشيخ من يدب دبيبا واختصت في العرف بذوات القوائم الأربع وقد تخص بالفرس، والمراد بها هنا المعنى اللغوي باتفاق المفسرين أي وما من حيوان يدب على الأرض إلا على الله تعالى غذاؤه ومعاشه، والمراد أن ذلك كالواجب عليه تعالى إذ لا وجوب عليه سبحانه عند أهل الحق كما بين في الكلام، فكلمة عَلَى المستعملة للوجوب مستعارة استعارة تبعية لما يشبهه ويكون من المجاز بمرتبتين، وذكر الإمام أن الرزق واجب بحسب الوعد والفضل والإحسان على معنى أنه باق على تفضله لكن لما وعده سبحانه وهو جل شأنه لا يخل بما وعد صوره بصورة الوجوب لفائدتين: التحقيق لوصوله. وحمل العباد على التوكل فيه، ولا يمنع من التوكل مباشرة الأسباب مع العلم بأنه سبحانه المسبب لها ففي الخبر «اعقل وتوكل» وجاء «لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله تعالى وأجملوا في الطلب» ولا ينبغي أن يعتقد أنه لا يحصل الرزق بدون مباشرة سبب فإنه سبحانه يرزق الكثير من دون مباشرة سبب أصلا، وفي بعض الآثار «إن موسى عليه السلام عند نزول الوحي تعلق قلبه بأحوال أهله فأمره الله تعالى بأن يضرب بعصاه صخرة فضرب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 203 فانشقت الصخرة وخرجت صخرة ثانية فضربها فخرجت ثالثة فضربها فانشقت عن دودة كالذرة وفي فمها شيء يجري مجرى الغذاء لها وسمعها تقول: سبحان من يراني ويسمع كلامي ويعرف مكاني ويذكرني ولا ينساني» وما أحسن قول ابن أذينة: لقد علمت وما الإشراف من خلقي ... إن الذي هو رزقي سوف يأتيني أسعى إليه فيعييني تطلبه ... ولو أقمت أتاني لا يعنيني وقد صدقه الله تعالى في ذلك يوم وفد على هشام فقرعه بقوله هذا فرجع إلى المدينة فندم هشام على ذلك وأرسل بجائزته إليه، ويقرب من قصته قصة الثقفي مع عبيد الله بن عامر خال عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه وهي مشهورة حكاها ابن أبي الدنيا ونقلها غير واحد، وقد ألغى أمر الأسباب جدا من قال: مثل الرزق الذي تطلبه ... مثل الطل الذي يمشي معك أنت لا تدركه متبعا ... وإذا وليت عنه تبعك وبالجملة ينبغي الوثوق بالله تعالى وربط القلب به سبحانه فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن واحتج أهل السنة بالآية على أن الحرام رزق وإلا فمن لم يأكل طول عمره إلا من الحرام يلزم أن لا يكون مرزوقا، وأجيب بأن هذا مجرد فرض إذ لا أقل من التغذي بلبن الأم مثلا وهو حلال على أن المراد أن كل حيوان يحتاج إلى الرزق إذا رزق فإنما رزقه من الله تعالى وهو لا ينافي أن يكون هناك من لا رزق له كالمتغذي بالحرام، وكذا من لم يرزق أصلا حتى مات جوعا، وروي هذا عن مجاهد وقد تقدم الكلام في ذلك. وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها موضع قرارها في الأصلاب وَمُسْتَوْدَعَها موضعها في الأرحام وما يجري مجراها من البيض ونحوه، فالمستقر والمستودع اسما مكان، وجوز فيهما أن يكونا مصدرين وأن يكون المستودع اسم مفعول لتعدي فعله، ولا يجوز في المستقر ذلك لأن فعله لازم. والأول هو الظاهر، وإنما خص كل من الاسمين بما خص به من المحل- كما قال بعض الفضلاء- لأن النطفة مثلا بالنسبة إلى الأصلاب في حيزها الطبيعي ومنشئها الخلقي، وأما بالنسبة إلى الأرحام مثلا فهي مودعة فيها إلى وقت معين، وعن عطاء تفسير المستقر بالأرحام والمستودع بالأصلاب وكأنه أخذ تفسير الأول بذلك من قوله سبحانه: وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ [الحج: 5] ، وجوز أن يكون المراد بالمستقر مساكنها من الأرض حيث وجدت بالفعل، وبالمستودع محلها من المواد والمقار حين كانت بعد بالقرة، وهذا عام لجميع الحيوانات بخلاف الأول إذ من الحيوانات ما لم يستقر في صلب كالمتكون من عفونة الأرض مثلا، ولعل تقديم محلها باعتبار حالتها الأخيرة لرعاية المناسبة بينها وبين عنوان كونها دابة في الأرض مثلا، والمعنى على ما قيل: ما من دابة في الأرض إلا يرزقها الله تعالى حيث كانت من أماكنها يسوقه إليها ويعلم موادها المختلفة المندرجة في مراتب الاستعدادات المتفاوتة المتطورة في الأطوار المتباينة ومقارها المتنوعة يفيض عليها في كل مرتبة ما يليق بها من مبادئ وجودها وكمالاتها المتفرعة عليها، ولا يخلو عن حسن إلا أن فيه بعدا، وأخرج عبد الرزاق وجماعة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن مستقرها حيث تأوي ومستودعها حيث تموت، وتعقب بأن تفسير المستودع بذلك لا يلائم مقام التكفل بأرزاقها، وقد يقال: لعل ذلك إشارة إلى نهاية أمد ذلك التكفل، وفي خبر ابن مسعود رضي الله تعالى عنه إشارة إلى ما هو كالمبدأ له أيضا، فقد أخرج عنه ابن جرير والحاكم وصححه أنه قال: مستقرها الأرحام، ومستودعها حيث تموت، فكأنه قيل: إنه سبحانه متكفل برزق كل دابة ويعلم مكانها أول ما تحتاج إلى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 204 الرزق ومكانها آخر ما تحتاج إليه فهو سبحانه يسوقه إليها ولا بد إلى أن ينتهي أمد احتياجها، وجوز في هذه الجملة أن تكون استئنافا بيانيا وأن تكون معطوفة على جملة عَلَى اللَّهِ رِزْقُها داخلة في حيز إِلَّا وعليه اقتصر الأجهوري. كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ أي كل واحد من الدواب ورزقها ومستقرها ومستودعها، أو كل ما ذكر وغيره مثبت في اللوح المحفوظ البين لمن ينظر فيه من الملائكة عليهم السلام، أو المظهر لما أثبت فيه للناظرين، والجملة- على ما قال الطيبي- كالتتميم لمعنى وجوب تكفل الرزق كمن أقر بشيء في ذمته ثم كتب عليه صكا، وفي الكشف إن الأظهر أنها تحقيق للعلم وكأنه تعالى لما ذكر أنه يعلم ما يسرون وما يعلنون أردفه بما يدل على عموم علمه، ثم أتى سبحانه بما يدل على عظيم قدرته جل شأنه من قوله تبارك وتعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ تقريرا للتوحيد لأن من شمل علمه وقدرته هو الذي يكون إلها لا غيره مما لا يعلم ولا يقدر على ضر ونفع وتأكيدا لما سبق من الوعد والوعيد لأن العالم القادر يرجى ويخشى، وجوز أن تكون الآية تقريرا لقوله سبحانه: يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ وما بعدها تقريرا لقوله سبحانه: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وفيه بعد، وكأن المراد بخلق السماوات والأرض إلخ خلقهما وما فيهما، أو تجعل السماوات مجازا عن العلويات فتشملها وما فيها، وتجعل الأرض مجازا بمعنى السفليات فتشملها وما فيها من غير تقدير، واحتيج لذلك لاقتضاء المقام إياه وإلا فخلقهما في تلك المدة لا ينافي خلق غيرهما فيها، والمراد باليوم الوقت مطلقا لا المتعارف إذ لا يتصور ذلك حين لا شمس ولا أرض، وقيل أريد به مدة زمان دور المحدد المسمى بالعرش دورة تامة، وإليه ذهب الشيخ الأكبر قدس سره، وقد علمت حاله فيما تقدم، وقيل: غير ذلك. وفي عدم خلقهما دفعة كما علمت دليل- كما قال غير واحد- على كونه سبحانه قادرا مختارا مع ما فيه من الاعتبار للنظار والحث على التأني في الأمور، وقد تقدم ما قيل في وجه تخصيص هذا العدد دون الزائد عليه كالسبعة أو الناقص عنه كالخمسة للخلق، ولعلنا نحقق ذلك في موضع آخر، وإيثار صيغة الجمع في السماوات لاختلافها بالأصل والذات دون الأرض، وإن قيل: إنها مثل السماء في كونها سبعا طباقا بين كل أرض وأرض مسافة وفيها مخلوقات، وبذلك فسر قوله سبحانه: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق: 2] والكثير على أن الأرض كرة واحدة منقسمة إلى سبعة أقاليم وحملوا الآية على ذلك. وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ عطف على جملة خَلَقَ مع ضميره المستتر أو حال من الضمير بتقدير قد على ما هو المشهور في الجملة الحالية الماضوية من اشتراط قد ظاهرة أو مقدرة والمضي المستفاد- من كان- بالنسبة للحكم لا للتكلم أي كان عرشه على الماء قبل خلقهما وهو الذي يقتضيه كلام مجاهد، وبه صرح القاضي البيضاوي، ثم قال: لم يكن حائل بينهما أي العرش والماء لا أنه كان موضوعا على متن الماء، واستدل به على إمكان الخلاء وأن الماء أول حادث بعد العرش من اجرام هذا العالم انتهى، وكذا صرح به العلامة أبو السعود مفتي الديار الرومية لكنه قال: ليس تحته- يعني العرش- شيء غيره أي الماء سواء كان بينهما فرجة، أو موضوعا على متنه كما ورد في الأثر فلا دلالة فيه على إمكان الخلاء كيف لا ولو دل لدل على وجوده لا على إمكانه فقط ولا على كون الماء أول ما حدث في العالم بعد العرش وإنما يدل على أن خلقهما أقدم من خلق السماوات والأرض من غير تعرض للنسبة بينهما انتهى، ولا يخفى ما بين القاضي والمفتي من المخالفة، والأكثرون على أن الحق مع المفتي كما ستعلمه إن شاء الله تعالى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 205 وانتصر بعضهم للقاضي بأنه لو كان موضوعا على متن الماء للزم قبل خلق تمام العالم أحد الأمور الستة: إما خروج الماء عن حيزه الطبيعي، أو خروج العرش عن حيزه الطبيعي، أو تخلخل الماء، أو نموه أو تخلخل العرش أو نموه، وحين خلق العالم أحد الأمور الخمسة: إما حركة العرش بالاستقامة إلى حيزه الطبيعي. أو تكاثف الماء أو ذبوله أو تكاثف العرش أو ذبوله، وهذه الأمور باطلة كما لا يخفى على من تدرب في الحكمة، ويحمل الإمكان في كلامه على الإمكان الوقوعي، أو يراد به الإمكان الذاتي وبالخلاء الخلاء في عالمنا هذا فإنه المتنازع فيه فكأنه قيل واستدل به على أن الخلاء في عالمنا ممكن بالإمكان الذاتي وتوجيه الاستدلال به حينئذ على ذلك هو أن الخلاء قبل عالمنا هذا كان واقعا ووقوع شيء في وقت من الأوقات دليل على إمكانه الذاتي في جميع الأوقات فإن ثبوت الإمكان للممكن واجب فالممكن في وقت ممكن في وقت آخر كما حققه شارح حكمة العين، ووجه الدلالة على أن الماء أول حادث بعد العرش أن كل جسم بسيط فله مكان طبيعي وأن المكان من لوازم وجود الجسم فإن الفاعل إذا أوجد الجسم أوجده لا محالة في مكان كما صرحوا به، والمكان للخفيف من الأجسام هو الفوق، وللثقيل التحت على حسب الثقل والخفة وتحددهما إنما هو بالفلك الأعظم فوجود الماء في جوف العرش يتوقف على وجود مكانه المتوقف على وجود العرش فيتأخر عنه حدوثا ولا يخفى ما في هذا الوجه من النظر، ولا أقل من أن يقال لم لا يجوز أن يخلق الله تعالى العرش والماء معا؟ على أنه قد جاء في بعض الآثار ما هو ظاهر في أن الماء كان مخلوقا قبل العرش فقد أخرج الطيالسي وأحمد والترمذي وحسنه وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الأسماء والصفات وغيرهم عن أبي رزين العقيلي قال: «قلت: يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ قال: كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء وخلق عرشه على الماء» وقال بعض في بيان وجه ذلك إنه لما كان معنى كون العرش على الماء أنه موضوع فوقه لا مماسه وأن خلق السماوات إنما كان بعدهما اقتضى ذلك أن العرش مخلوق قبل وأن الماء أول حادث بعده وهو من فحوى الخطاب، وقوله: لا إنه كان موضوعا إلخ لأن سياقه لبيان قدرته تعالى يقتضيه وفيه ما فيه كما لا يخفى، وتعقب بعض فضلاء الروم ما ذكر أولا بأن حاصله أن الشق الثاني من الشقين المذكورين في كلام العلامة الثاني مستلزم لأحد أمور تقرر في علم الحكمة بطلانها فيتعين الأول منهما، وهو الذي ذهب إليه العلامة الأول، وهو إنما يتم أن لو كانت المقدمات المذكورة في إبطال تلك الأمور يقينية وهو ممنوع فإن أكثرها مبني على أصول الفلاسفة، وقد بين القاضي نفسه بطلان أكثرها في الطوالع وهو إنما يراعي القواعد الحكمية إذا لم تكن مخالفة للقواعد الإسلامية على أن في كلام ذلك المنتصر خللا من وجوه: الأول أن قوله: يلزم إما خروج الماء عن حيزه الطبيعي إلخ يقال في جوابه: إنه يجوز أن يخرج الماء عن حيزه الطبيعي وذلك غير محال وإن كان خروجه بنفسه بطريق السيلان عن حيزه الطبيعي محالا، ويشهد لذلك أنهم ذكروا أن الماء لثقله الإضافي يقتضي أن يكون فوق الأرض والأرض لثقلها الحقيقي تقتضي أن تكون مغمورة بأسرها فيه بحيث يمكن أن يفرض في جوفها نقطة تكون الخطوط الخارجة منها إلى سطح الماء متساوية من جميع الجهات مع أن الأمر اليوم ليس كذلك لانكشاف ربع شمالي من الأرض، وانحسار الماء عنه إما بسبب قرب الشمس في الجنوب إلى الأرض عند كونها في الحضيض بقدر ثخن المتمم المحوي كما قيل أو لأمر آخر يعلمه الله تعالى والثاني أن ما ذكره من استحالة تخلخل الماء ممنوع عندهم أيضا، وما يقال: إن القول بالتخلخل لا يتصور في البسائط الحقيقية للزوم تركيب ما فيه مدفوع. فقد صرح في حكمة العين وشرحها بأن التخلخل الحقيقي- وهو أن يزداد مقدار الجسم من غير أن يزاد عليه شيء من خارج- ممكن، وحققه سيد المحققين في حواشيه بأن الجسم سواء كان مركبا من الهيولى والصورة أو لم يكن يمكن التخلخل والتكاثف فيه لأن مقدار الجسم زائد عليه والجسم من حيث هو لا مقدار له في ذاته فنسبته إلى جميع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 206 المقادير على السواء فأمكن أن يتصف بأكبر مما هو متصف به أو أصغر، وأيضا الجسم متصل واحد والمقدار زائد عليه والجسم البسيط جزؤه يساوي كله فإذا اتصف الكل بمقدار خاص فجزؤه إذا انفرد وجب أن يكون قابلا للاتصاف بذلك المقدار والكل بالعكس ضرورة تساوي المتماثلات في الأحكام، وحينئذ يتحقق إمكان ذلك، والثالث أن التوجيه بحمل الإمكان على الإمكان الذاتي إلخ منظور فيه إذ لا يلزم من وقوع شيء في وقت من الأوقات إلا إمكان وجوده في ذلك الوقت وإن كان ذلك الإمكان مستمرا واجبا في جميع الأوقات، فقوله: إن ثبوت الإمكان للممكن واجب، فالممكن في وقت ممكن في كل وقت إن أراد به أن إمكانه أمر ثابت له في كل وقت على أن قوله في كل وقت ظرف للإمكان فهو مسلم لكن اللازم منه أن يكون ذلك الشيء متصفا بالإمكان إمكانا مستمرا دائما غير مسبوق بعدم الاتصاف ولا سابق عليه ولا يلزم منه أن يكون وجوده في كل وقت ممكنا لجواز أن يكون وجود الشيء في الجملة ممكنا إمكانا مستمرا ولا يكون وجوده في كل وقت ممكنا بل ممتنع، ولا يلزم من هذا أن يكون الشيء من قبيل الممتنعات دون الممكنات فإن إمكان الشيء ليس معناه جواز اتصافه بجميع أنحاء الوجود بل معناه جواز اتصافه بوجود ما في الجملة فيكفي في إمكان الشيء جواز اتصافه بالوجود الواقع في وقت، والممتنع هو الذي لا يقبل الوجود بوجه من الوجوه، وإن أراد أنه ممكن الوجود في كل وقت على أن يكون في كل وقت ظرفا للوجود فهو ممنوع ولا يتفرع على كون ثبوت الإمكان للممكن واجبا، فإنه قد حقق المحقق الدواني في بعض تصانيفه أن إمكان الممكن وإن كان مستمرا في جميع الأزمنة لا يستلزم إمكان وجود ذلك الممكن في تلك الأزمنة، وعلى هذا اعتمد المتكلمون في الجواب عن استدلال الفلاسفة على قدم العالم بأنه ممكن الوجود في الأزل وإلا لزم الانقلاب وهو محال بالضرورة، وقدرة الباري تعالى أزلية بالاتفاق فلو كان العالم حادثا لزم ترك الجود وهو إفاضة الوجود وما يتبعه من الكمالات على الممكنات مدة غير متناهية وهو محال على الجواد الحق الكريم وحاصل الجواب أن قولكم العالم ممكن الوجود في الأزل إن أردتم به أنه يمكن له الوجود الأزلي على أن يكون في الأزل متعلقا بالوجود فهو ممنوع لجواز أن يكون وجوده في الأزل ممتنعا، وإن أردتم به أن إمكان وجوده في الجملة مستمر في الأزل على أن يكون الظرف متعلقا بالإمكان فمسلم، ولا يلزم أن يكون وجود العالم في الأزل ممكنا لجواز أن يكون وجوده في الأزل مستحيلا مع أنه في الأزل متصف بإمكان وجوده فيما لا يزال، وهذا ما يقال إن أزلية الإمكان لا تستلزم إمكان الأزلية، وما قيل في إثبات الاستلزام إن إمكانه إذا كان مستمرا في الأزل لم يكن هو في ذاته مانعا من قبول الوجود في شيء من أجزاء الأزل فيكون عدم منعه منه أمرا مستمرا في جميع تلك الأجزاء، فإذا نظر إلى ذاته من حيث هو لم يمنع من اتصافه بالوجود في شيء منها بل جاز اتصافه به في كل منها بدلا فقط بل معا أيضا، وجواز اتصافه في كل منها هو إمكان اتصافه بالوجود المستمر في جميع أجزاء الأزل بالنظر إلى ذاته فأزلية الإمكان مستلزمة لإمكان الأزلية صحيح إلى قوله: لم يمنع من اتصافه بالوجود في شيء منها فإنه إن أراد أن ذاته لا تمنع في شيء من أجزاء الأزل من الاتصاف بالوجود في الجملة بأن يكون قوله في شيء منها متعلقا بعدم المنع فيكون معناه أنه لا يمنع في شيء من أجزاء الأزل من الوجود بعده فهو بعينه أزلية الإمكان ولا يلزم منه عدم منعه من الوجود الأزلي الذي هو إمكان الأزلية، وإن أراد به أن ذاته لا تمنع من الوجود في شيء من أجزاء الأزل بأن يكون الجار متعلقا بالوجود فهو بعينه إمكان الأزلية، والنزاع إنما وقع فيه فهو مصادرة على المطلوب، وليت شعري كيف صدر هذا الكلام من قائله مع أن من الموجودات ما هو إني الوجود كبعض الحروف ومع التصريح بأن ماهية الزمان تقتضي لذاتها عدم اجتماع أجزائها وتقدم بعضها على بعض إذ يلزم منه إمكان وجود كل من تلك الأجزاء في الأزل نظرا إلى ذاته، وتمام الكلام في ذلك يطلب من شرح المواقف وحواشيه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 207 وأورد على كون المراد بالخلاء الخلاء في عالمنا لأنه المتنازع فيه أنه صرح غير واحد بأن المتنازع فيه إنما هو الخلاء داخل العالم وحقيقته أن يكون الجسمان بحيث لا يتماسان وليس بينهما ما يماسهما بناء على كونه متقدرا قطعا، وأما الخلاء خارج العالم فمتفق عليه إذ لا تقدر هناك بحسب نفس الأمر، فالنزاع إنما هو في التسمية بالبعد، فالفلاسفة يقولون حقه أن لا يسمى بعدا ولا خلاء، والمتكلمون يسمونه بعدا موهوما ولا شك أن عالم كون العرش على الماء من داخل العالم فالخلاء فيه داخل في المتنازع فيه، وقد نص عليه أيضا بعض المتأخرين. ومن الناس من اعترض على قوله: إنه لو كان موضوعا على متن الماء للزم إلخ بأن الأمور التي يلزم أحدها ذلك التقدير- وهي فاسدة- أكثر مما ذكر وسود وجه القرطاس ببيان ذلك وهو مما لا يحتاج إليه بل ولا يعول عليه، وزعم البعض أن ما راعاه القاضي في هذا الفصل ليس شيء منه مخالفا للقواعد الإسلامية، ووسوست له نفسه أن خروج الماء عن حيزه مما لا يجوز لأن الله سبحانه إن كان موجبا بالذات فلا يتصور الإخراج منه سبحانه لأن نسبته إليه على السوية بحسب الأوقات فلا يمكن كونه قاصرا في بعض دون بعض، وإن كان مختارا يقال: إن ذلك الخروج ممتنع في نفسه وهو سبحانه لا يفعل الممتنع ولا تتعلق قدرته به، وكذا يقال في التخلخل والتكاثف، ويجوز أن يكون بالطبع وإلا لكانا دائمين لأن مقتضى الذات لا يتخلف عنه، وممن ذهب إلى امتناعهما الأصفهاني في شرح حكمة المطالع ثم تكلم منتصرا لنفسه. وللقاضي بما لا يسمن ولا يغني، وقال ابن صدر الدين بعد نقل كلام العلامتين: قد تقرر في علم الأبعاد والأجرام أن ليس لمجموع كرات العناصر بالنسبة إلى الفلك الأعظم الذي هو المراد بالعرش قدر محسوس فلا يتصور كونه موضوعا على متن كرة الماء فإن ذلك إنما يكون إذا كان عظم كرة الماء بحيث يملأ جوف العرش مماسا محد به مقعره وإلا لم يكن موضوعا على متنه الذي هو عبارة عن السطح المحدب بل إما أن لا يتماسا أصلا أو يتماسا بنقطة على ما يشهد به التخيل الصحيح، وكيف يتصور كونه مالئا له وهو الآن لم يمتلىء إلا بالسماوات والأرض والكرسي والعناصر بجملتها، وليس لك أن تقول: لعل الماء في ابتداء الخلقة قد كان على هذا المقدار الصغير الذي الآن عليه فتخلخل إلى حيث ملأ جوفه لامتناع الخلاء، فلما خلق سائر الأجرام العلوية والسفلية عاد بطبعه إلى ما تراه لأنا نقول: التخلخل عبارة عن ازدياد مقدار الجسم من غير أن ينضم إليه شيء فيستدعي حركة أينية وهي تستدعي وجود فضاء خال عن الشاغل وهو المراد بالخلاء، وكذا ليس لك أن تقول: فليكن في ابتداء الخلقة عظيم المقدار بحيث يملأ جوف العرش وتكاثف بعد خلق سائر الأجرام إلى هذا المقدار الصغير لأنا نقول أيضا: التكاثف الذي هو عبارة عن انتقاص مقدار الجسم من غير أن ينقص منه شيء سببه على ما تقرر عندهم أمران: أحدهما التخلخل السابق العارض له بما يوجبه فإذا زال ذلك العارض عاد بطبعه إلى مقداره الأول كما في المد والجزر، وفي الصورة المذكورة لا يتصور هذا لأن المفروض أنه خلق ابتداء عظيم المقدار بحيث يملأ جوف العرش فكيف يتصور أن يتخلخل بعارض حتى يعود عند زواله إلى مقداره الطبيعي الصغير وهو ظاهر وثانيهما الانجماد باستيلاء البرودة الشديدة، وهذا أيضا لا يتصور هاهنا أما أولا فلأن الماء المنعقد جمدا وإن كان أصغر مقدارا منه غير منعقد لكنه لا إلى مرتبة لا يكون له قدر محسوس بالنسبة إلى مقداره الأول بل يقرب منه في الحس كما يشاهد في المياه المنعقدة ولا قدر لكرة الماء الموجود الآن بالنسبة إلى المالئ جوف العرش وهذا مثل أن ينعقد البحر فيصير كالعدسة ولا يلتزمه عاقل. وأما ثانيا فلأن كرة الماء على ما يشاهد غير متجمدة بل باقية على طبعها من الذوبان، فإن قلت: بقي على تقدير كون الماء في ابتداء الخلقة عظيم المقدار مالئا لجوف العرش احتمال آخر وهو أن يفرز بعض أجزاء هذه الكرة العظيمة ويجعل مادة لسائر الأجرام السماوية والأرضية كما في سورة انقلاب بعض العناصر إلى بعض. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 208 ويؤيده ما ورد في الأثر من أن العرش كان قبل خلق السماوات والأرض على الماء، ثم إنه تعالى أحدث في الماء اضطرابا فأزبد فارتفع منه دخان وبقي الزبد على وجه الماء فخلق فيه اليبوسة فصار أرضا، وخلق من الدخان السماوات، وإلى ذلك يشير قوله سبحانه: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ [فصلت: 11] قلنا: إن هذا الاحتمال غير واقع إما على تقدير تركب الجسم من الهيولى والصورة على ما ذهب إليه المشاءون من الفلاسفة فلأن هيولى العناصر وإن كانت واحدة بالشخص قابلة لأن يتوارد عليها صور العناصر بواسطة استعدادات متعاقبة تعرض إلا أن هيولى كل فلك مخالفة لهيولى فلك آخر لا تقبل إلا الصورة التي حصلت فيها، وإما على تقدير تركبه من الجواهر الفردة على ما هو مذهب أهل الحق فلأنها متخالفة الحقائق عند محققي المتأخرين على ما صرحوا به، فما يتركب منه الماء لا يجوز أن يتركب منه سائر الأجسام، وأما ما ورد في الأثر وأشارت إليه الآية من جعل الدخان المرتفع من الماء مادة للسماوات فمصروف عن ظاهره إذ الدخان أجزاء نارية خالطتها أجزاء صغار أرضية تلطفت بالحرارة ولا تمايز بينهما في الحس لغاية الصغر، فقبل خلق السماوات والأرض بما فيهما لم تكن نار وأرض، فمن أين يتولد الدخان؟ وكذا إن أريد بالدخان البخار لأنه أجزاء هوائية مازجتها أجزاء صغار مائية تلطفت بالحرارة بحيث لا تمايز بينهما في الحس أيضا فحيث لا هواء لا بخار، ولهذا قال القاضي في تفسير وَهِيَ دُخانٌ: أمر ظلماني، ولعله أراد به مادتها أو الأجزاء المتصغرة التي ركبت منها، ومن هنا ظهر أن ما في الأثر لا يؤيد كون العرش موضوعا على متن الماء ملتصقا به بل يؤيد أن لا يكون بينهما حائل إذ ارتفاع الدخان والبخار يستدعي وجود فضاء تتحرك فيه تلك الأجزاء، وفي صورة الالتصاق لا يمكن ذلك كما لا يخفى على من له تخيل سليم. ويعلم مما ذكر أنه يجب تفسير الآية بما فسرها به القاضي ولا مجال للقول بالوضع على المتن فيتم الاستدلال، وأما قول أبي السعود: إنه لو دل إلخ ففيه أن الوقوع أدل دليل على إمكان الشيء، ومثل هذا الاستدلال، شائع ذائع في كلامهم، وأما أن المراد بالإمكان الإمكان الوقوعي فكلا إذ النزاع في الإمكان لا الوقوع، وما ينقل عن الأصمعي من أن هذا كقولهم السماء على الأرض مع أن أحدهما ليس ملتصقا بالآخر، وحينئذ يكون معنى قول القاضي: لم يكن حائل بينهما أنه لم يكن حائل محسوس بينهما وكان حائل غير محسوس وهو الهواء ليس بشيء ولا يصلح ما ذكر معنى لذلك إذ الفوقية كانت قبل خلق جميع أجرام هذا العالم فعلى تقدير عدم الالتصاق لا يتصور حائل أصلا، ثم بين وجه دلالة الآية على أن الماء أول حادث بعد العرش بنحو ما قدمنا ذكره انتهى المراد منه. «وأقول» إن هذا الاحتمال الذي أجاب عنه بزعمه قوي جدا، وما ذكره عن محققي المتأخرين صرح الجمهور بخلافه، وقد حقق ذلك في موضعه فلا مانع من أن يخلق الله تعالى من الماء الأجرام السماوية والأرضية بل وكل شيء، وما ذكره في حيز تعليل صرف الأثر عن ظاهره ليس بشيء أصلا إذ يجوز أن يحيل سبحانه بعض ذلك الماء المالئ أجزاء نارية وبعضه أجزاء أرضية ويجعل المجموع دخانا، وكذا يجوز أن يحيل البعض أجزاء هوائية فتمازج أجزاء صغارا مائية متلطفة بحرارة يخلقها حيث شاء فيتكون البخار، وفي الأثر عن وهب بن منبه أنه جل شأنه قبض قبضة من الماء ثم فتح القبضة فارتفع الدخان ثم قضاهن سبع سماوات في يومين ويؤول حديث الارتفاع بما لا يستدعي الفضاء نحو أن يكون المعنى فوجد بعضه دخانا مرتفعا، وقد يقال: يجوز أن يكون الماء في ابتداء الخلقة مالئا للعرش ثم إنه سبحانه لما أراد أن يخلق ما يخلق أفنى منه ما أراد وخلق بلا فاصل يتحقق معه الخلاء بدله ما خلق لا من شيء، والقول باستحالة هذا الخلق مفض إلى فساد عظيم وخطب جسيم لا يكاد يستسهله أحد من المسلمين وهو ظاهر، وما ذكره في دفع قول شيخ الإسلام: إنه لو دل لدل إلخ غير ظاهر فيه قيل: إذ الاعتراض بطريق أنه لو دل لدل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 209 على وجود الخلاء لا على إمكانه الصرف لأن الشيء إذا كان موجودا كان وجوده ضروريا لا ممكنا صرفا على ما بين في محله، وينادي على أن الاعتراض كذلك تقييد الإمكان في عبارته بقيد فقط مع القول بالدلالة على الوجود. وأورد بعضهم على قوله: قد تقرر في علم الأبعاد والأجرام إلخ أن ذلك مبني على ظن أن الماء في الآية هو الماء العنصري وأنه من بعض الظن إذ ذاك إنما خلق بعد خلق الأرض فكيف يتصور أن يكون العرش الذي خلق قبل السماوات والأرض عليه فضلا عن أن يكون موضوعا على متنه أو غير موضوع عليه من غير حائل بينهما، وإنما هو الماء الطبيعي النوري العمائي الذي تكون العرش منه، وفيه صرف اللفظ عن ظاهره، ونظير ذلك ما قاله الكامل بن الكمال: ليس المراد في العرش تاسع الأفلاك، ولا من الماء أحد العناصر لما شهد بذلك شهادة صحيحة لا مرد لها ما أخرجه مسلم في صحيحه من قوله صلّى الله عليه وسلم: «كان الله تعالى ولم يكن معه شيء وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السماوات والأرض» فلا وجه للاستدلال به على إمكان الخلاء، وأن الماء أول حادث بل عرشه سبحانه عبارة عن قيوميته بناء على أنه في الأصل سرير الملك وهو مظهر سلطانه، والماء إشارة إلى صفة الحياة باعتبار أن منه كل شيء حي، فمعنى وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ وكان حيا قيوما، وفي لفظة عَلَى تنبيه على ترتب أحدهما على الآخر فتدبر انتهى. ولعل وجه شهادة الخبر بذلك النفي تضمنه على تقدير الإثبات ما ينافي ما تضمنه النفي فيه إذ يكون حينئذ شيئان معه سبحانه فضلا عن شيء، ولا يخفى أن هذا إنما يتم لو كانت الجملة الماضوية في موضع الحال، والظاهر أنها كغيرها معطوفة على الجملة المستأنفة، وليس في الكلام ما يقتضي أن المعنى وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ مع وجوده تعالى بدون معية شيء له ليضطر إلى حمل الماء والعرش على ما علمت من صفتيه تعالى، ولا أرى في الحديث أكثر من إفادة ثبوت ما تضمنته المتعاطفات قبل خلق السماوات والأرض، وأما أن كونه تعالى ولم يكن معه شيء- وكون عرشه سبحانه على الماء، وكتابته في الذكر ما كتب كلها في وقت واحد هو وقت وجوده تعالى الواقع بعده خلق السماوات والأرض بمهلة وتراخ- فلا أراه، وقد جاء في بعض الروايات عطف الخلق على ما قبله بالواو كسائر المعطوفات. أخرج أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم عن عمران بن حصين قال: «قال أهل اليمن: يا رسول الله أخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان؟ قال: كان الله تعالى قبل كل شيء وكان عرشه على الماء وكتب في اللوح المحفوظ ذكر كل شيء وخلق السماوات والأرض» الخبر، ثم إنه لا يتم أمر الشهادة بمجرد ما تقدم بل لا بد أيضا من حمل الكتابة في الذكر على التقدير، ونفى أن يكون هناك كتابه ومكتوب فيه حسبما يتبادر منهما، ويلتزم هذا في الخبر الثاني أيضا، ومع ذلك يعكر على القول بكون زمن التقدير متحدا كزمن قيوميته وحياته تبارك وتعالى مع زمن وجوده سبحانه ما أخرجه مسلم والترمذي والبيهقي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء» لأن أجزاء الزمان الموهوم الفاصل بين زمان وجوده تعالى ووجود صفاته وزمان وجود الخلق غير متناهية، فكيف تقدر بخمسين ألف سنة وضربها في نفسها وضرب الحاصل من ذلك بنفسه ألف ألف مرة أقل قليل بل لا شيء يذكر بالنسبة إلى غير المتناهي ويعارض هذه الشهادة أيضا ما تقدم في حديث أبي رزين العقيلي من قوله عليه الصلاة والسلام: «وخلق عرشه على الماء» فإنه نص في أن العرش مخلوق، ولا يجوز أن تكون القيومية مخلوقة، وكذا ما روي عن كعب من أنه سبحانه خلق ياقوتة خضراء فنظر إليها بالهيبة فصارت ماء، ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها، ثم وضع العرش على الماء، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 210 وجاء حديث كون الماء على متن الريح عن ابن عباس، وقد أخرج ذلك عنه ابن جرير وابن المنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي، وغيرهم، وإباء ما ذكر عن كون الماء بمعنى صفة الحياة له تعالى ظاهر، ومثله ما أخرجه ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن الربيع بن أنس أنه قال: كان عرشه سبحانه على الماء فلما خلق السماوات والأرض قسم ذلك الماء قسمين فجعل نصفا تحت العرش- وهو البحر المسجور- فلا تقطر منه قطرة حتى ينفخ في الصور فينزل منه مثل الطل فتنبت منه الأجسام، وجعل النصف الآخر تحت الأرض السفلى، ولعل وجه الأمر بالتدبر في كلام هذا الفاضل الإشارة إلى ما ذكرنا. وبالجملة لا شك أن المتبادر من الماء ما هو أحد العناصر ومن العرش الجسم الذي جاء في الأخبار من وصفه ما يبهر العقول وشهادة الخبر السابق مع كونها شهادة نفي عارضتها شهادات إثبات غير نص في المطلوب كما علمت، ومن كون العرش على الماء ما يعم الشقين كونه موضوعا على متنه مماسا له وكونه فوقه من غير أن يكون بينهما ما يماسهما، وتخصيصه بالشق الثاني مما لا يتم له دليل ولا يصفو عن القال والقيل، وأن الآية لا تصلح دليلا على كون الماء أول حادث بعد العرش، ومن رجع إلى الأخبار المعول عليها رأى بعضها كخبر أبي رزين الذي حسنه الترمذي ظاهرا في أن الماء قبل العرش وقصارى ما يقال في هذا المقام: إن الحق مع شيخ الإسلام وإن نصرة القاضي- وإن كان ناصر الدين- نصرة خارجة عن الطريق المستبين، فلا تلتفت هداك الله سبحانه إلى من أطال في ذلك بلا طائل، وأتى بكلام لا يشبه كلام عاقل، وزعم أن ذاك من الحكمة وهو عنها- علم الله- بمراحل، ولولا الوقوع في العبث لنقلناه ونبهنا على ما فيه، وإن كان حال ظاهره مؤذنا بحال خافيه، نعم قد يقال: إن البيضاوي إنما ذكر أنه استدل بالآية على كذا وكذا، ولم يدّع أن فيها دليلا على ذلك، فما يتوجه من الاعتراضات إنما يتوجه على المستدل دونه وكأن من وجه إليه ذلك ادعى ارتضاءه للاستدلال بدليل ما وطأه له من المقال، وزعم الجبائي أن في الآية دلالة على أنه كان قبل خلق السماوات والأرض حي مكلف لأن خلق العرش على الماء لا وجه لحسنه إلا أن يكون فيه لطف بمكلف يمكنه الاستدلال به، ورده على ابن عيسى بأنه لا يلزم ذلك ويكتفي بكون الإخبار به نافعا للمكلفين واختاره المرتضى، ومنشأ ذلك الاعتزال، والله تعالى الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب. لِيَبْلُوَكُمْ اللام للتعليل مجازا متعلقة ب خَلَقَ أي خلق السماوات والأرض وما فيهما من المخلوقات التي من جملتها أنتم، ورتب فيهما جميع ما تحتاجون إليه من مبادئ وجودكم وأسباب معاشركم وأودع في تضاعيفهما ما تستدلون به من تعاجيب الصنائع والعبر على مطالبكم الدينية ليعاملكم معاملة من يختبركم. أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فيجازيكم حسب أعمالكم، وقيل: متعلق بفعل مقدر أي أعلم بذلك لِيَبْلُوَكُمْ وقيل: التقدير وخلقكم لِيَبْلُوَكُمْ وقيل: في الكلام جملة محذوفة أي وكان خلقه لهما لمنافع يعود عليكم نفعها في الدنيا دون الآخرة وفعل ذلك لِيَبْلُوَكُمْ والكل كما ترى، والابتلاء في الأصل الاختبار والكلام خارج مخرج التمثيل والاستعارة، ولا يصح إرادة المعنى الحقيقي لأنه إنما يكون لمن لا يعرف عواقب الأمور. وقيل: إنه مجاز مرسل عن العلم للتلازم بين العلم والاختبار، وهو محوج إلى تكلف أن يراد ليظهر تعلق علمه الأزلي، وإلا فالعلم القديم الذاتي ليس متفرعا على غيره، وما تقدم لا تكلف فيه، وهو مع بلاغته مصادف محزه، والمراد بالعمل ما يشمل عمل القلب وعمل القالب، ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم والحاكم في التاريخ وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذه الآية لِيَبْلُوَكُمْ إلخ فقلت: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 211 ما معنى ذلك يا رسول الله؟ قال: ليبلوكم أيكم أحسن عقلا، ثم قال: وأحسنكم عقلا أورعكم عن محارم الله تعالى وأعملكم بطاعة الله تعالى» لكن ذكر الحافظ السيوطي أن سنده واه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان أن معنى أَحْسَنُ عَمَلًا أزهد في الدنيا، وعن مقاتل أتقى لله تعالى، وعن الضحاك أكثرهم شكرا. ولعل أخذ العمل شاملا للأمرين أولى، وأفضلها ما كان عمل القلب كيف لا ومدار العبادة القالبية الواجبة على العباد معرفة الله تعالى التي تحل القلب، وقد يرفع به للعبد في يوم مثل عمل أهل الأرض. وفي بعض الآثار «تفكر ساعة يعدل عبادة سبعين سنة» واعتبار خلق السماوات في ضمن المفرع عليه لما أن في السماوات مما هو من مبادئ النظر وتهيئة أسباب المعاش الأرضية التي بها قوام القالب ما لا يخفى، وقريب من هذا أن ذكر السماوات وخلقها لتكون أمكنة الكواكب والملائكة العاملين فيها لأجل الإنسان. وقال بعض المحققين: إن كون خلق الأرض وما فيها للابتلاء ظاهر، وأما خلق السماوات فذكر تتميما واستطرادا مع أن السماوات مقر الملائكة الحفظة وقبلة الدعاء ومهبط الوحي إلى غير ذلك مما له دخل في الابتلاء في الجملة، ولعل ما أشير إليه أولا أولى، وجملة الاستفهام في موضع المفعول الثاني لفعل البلوى على المشهور، وجعل في الكشاف الفعل هنا معلقا لما فيه من معنى العلم، ومنع في سورة الملك تسمية ذلك تعليقا مدعيا أنه إنما يكون إذا وقع بعد الفعل ما يسدّ مسدّ المفعولين جميعا- كعلمت أيهما فعل كذا. وعلمت أزيد منطلق- وبين كلاميه في السورتين اضطراب بحسب الظاهر، وأجاب عنه في الكشف بما حاصله أن للتعليق معنيين: مصطلح ويعدى بعن وهو المنفي في تلك السورة ولغوي ويعدى بالباء وعلى، وهو خاص بفعل القلب من غير تخصيص بالسبعة المتعدية إلى مفعولين ولا يكون إلا في الاستفهام خاصة دون ما فيه لام الابتداء ونحوه، ومعنى تعليق الفعل على ما فيه ذلك أن يرتبط به معنى وإعرابا سواء كان لفظا أو محلا وهو المثبت هاهنا، وقال الطيبي: يمكن أن يكون ما هنا على إضمار العلم كأنه قيل: لِيَبْلُوَكُمْ فيعلم أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا والتعليق فيه ظاهر، وما هناك على تضمين الفعل معنى العلم كأنه قيل: ليعلمكم أيكم إلخ فيصح النفي، ولا يخفى على من راجع كلامه أن فيه ما يأبى ذلك، وقد يقال: إن التعليق لا يختص بما كان من الأفعال بمعنى العلم كما ذهب إليه ثعلب والمبرد وابن كيسان، وإن وجهه أويس بما في همع الهوامع، ورجحه الشلوبين، ولا بالفعل القلبي مطلقا بل يكون فيه وفي غيره مما ألحق به لكن مع الاستفهام خاصة، واقتصر بعضهم في الملحق على بصر وتفكر وسأل- وزاد ابن خروف نظر- ووافقه ابن عصفور، وابن مالك، وزاد الأخير نسي كما في قوله: ومن أنتم إنا نسينا من أنتم ونازعه أبو حيان بأن- من- تحتمل الموصولية والعائد محذوف أي من هم أنتم، وكذا زاد أيضا ما قارب المذكورات من الأفعال التي لها تعلق بفعل القلب- كترى البصرية- في قوله: أما ترى أي برق هنالك. وكيستنبئون في قوله تعالى: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ [يونس: 53] وكنبلو فيما نحن فيه، ونازعه أبو حيان بأن ترى في الأول علمية، وأيكم في الأخير موصولة حذف صدر صلتها فبنيت وهي بدل من ضمير الخطاب بدل بعض، ونقل ذلك عنه الجلال السيوطي ولم أجده في بحره، وفي الرضي أن جميع أفعال الحواس تعلق عن العمل، وفي التسهيل ما يؤيده، وأجاز يونس تعليق كل فعل غير ما ذكر، وخرج عليه ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ [مريم: 69] والجمهور لم يوافقوه على ذلك، وقد ذكر بعض الفضلاء أن الفعل القلبي وما جرى مجراه إما متعد إلى واحد أو اثنين، فالأول يجوز تعليقه سواء تعدى بنفسه كعرف، أو بحرف كتفكر لأن معموله لا يكون إلا مفردا، وبالتعليق بطل عمله في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 212 المفرد الذي هو مقتضاه وتعلق بالجملة، ولا معنى للتعليق إلا إبطال العمل لفظا لا محلا وإن تعدى لاثنين، فإما أن يجوز وقوع الثاني جملة كما في باب علم أولا، فإن جاز علق عن المفعولين نحو علمت لزيد قائم لا عن الثاني لأنه يكون جملة بدون تعليق فلا وجه لعده منه إذ لا فرق بين أداة التعليق وعدمها فالتعليق لا يبطل عمل الفعل أصلا كما في علمت زيدا أبوه قائم، وعلمت زيدا لا أبوه قائم، فإن عمله في محل الجملة لا فرق فيه بين وجود حرف التعليق وعدمه وإن لم يجز، وورد فيه كلمة تعليق كان منه نحو يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ [البقرة: 215] فإن المسئول عنه لا يكون إلا مفردا. والفعل فيما نحن فيه يحتمل أن يكون عاملا فيما بعده وهو المختبر به غير متضمن علما، وفعل البلوى إذا كان كذلك يتعدى بالباء إلى المختبر به ولا يكون إلا مفردا كما في قوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ [البقرة: 155] والاستفهام قد أبطل مقتضاه لفظا وهو التعليق، ويحتمل أن يكون متضمنا معنى العلم ويكون العلم عاملا فيه وهو مفعوله الثاني، وحينئذ لا تعليق، ومن هنا يظهر أن تعليق الفعل في الآية إنما هو على تقدير إعمال فعل البلوى، وعدم تعليقه على تقدير إعمال العلم فلا منافاة بين الكلامين انتهى وهو تفصيل حسن، وفي الهمع أن الجملة بعد المعلق في باب علم وأخواتها في موضع المفعولين فإن كان التعليق بعد استيفاء المفعول الأول فهي في موضع المفعول الثاني، وأما في غير هذا الباب فإن كان الفعل مما يتعدى بحرف الجر فالجملة في موضع نصب بإسقاطه نحو فكرت أهذا صحيح أم لا، وجعل ابن مالك منه فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً [الكهف: 19] وإن كان مما يتعدى لواحد فهي في موضعه نحو عرفت أيهم زيد، فإن كان مفعوله مذكورا نحو عرفت زيدا أبو من هو، فالجملة بدل منه على ما اختاره السيرافي وابن مالك، وهو بدل كل من كل بتقدير مضاف أي قصة زيد أو أمره عند ابن عصفور، والتزم ذلك ليكون المبدل منه جملة في المعنى، وبدل اشتمال ولا حاجة إلى التقدير عند ابن الصائغ، وذهب المبرد والأعلم وابن خروف وغيرهم إلى أن الجملة في موضع نصب على الحال، وذهب الفارسي إلى أنها في موضع المفعول الثاني لعرفت على تضمينه معنى علمت، واختاره أبو حيان وفيه نوع مخالفة في الظاهر لما تقدم تظهر بالتأمل إلا أنه اعترض القول بأن ما بعد فعل البلوى مختبر به بأن المختبر به إنما هو خلق السماوات والأرض، وأجيب بأن ذلك وإن كان في نفس الأمن مختبرا عنه والمختبر به ما ذكر إلا أنه جعل مختبرا به باعتبار ترتبه على ذلك، ولا يخفى ما فيه، وقال بعض أرباب التحقيق في دفع المخالفة: إن الزمخشري جعل قوله سبحانه هنا: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا بجملته استعارة تمثيلية فتكون مفرداته مستعملة في معناها الحقيقي معطاة ما تستحقه، وفعل البلوى يعلق عن المفعول الثاني لأنه لا يكون جملة إذ هو يتعدى له بالباء وحرف الجر لا يدخل على الجمل، وجرى التعليق فيه بناء على أنه مناسب لفعل القلوب معنى، وقد صرح غير واحد بجريانه في ذلك وجعله ثمة مستعارا لمعنى العلم، والفعل إذ تجوز به عن معنى فعل آخر عمل عمله وجرى عليه حكمه، وعلم لا يعلق عن المفعول الثاني فكذا ما هو بمعناه فيكون قد سلك في كل من الموضعين مسلكا تفننا، وكثيرا ما يفعل ذلك في كتابه، ولعله لم يعكس الأمر لأن ما فعله في كل أنسب بما قبله من خلق السماوات والأرض وما فيها من النعم والمنافع وخلق الموت والحياة، ولا يخفى أن هذا قريب مما تقدم وفيه ما فيه. والإتيان بصيغة التفضيل الدالة على الاختصاص بالمختبرين الأحسنين أعمالا مع شمول الاختبار لفرق المكلفين وتتفاوت أعمال الكفار منهم إلى حسن شرعي وقبيح لا إلى حسن وأحسن كما في أعمال المؤمنين للتحريض على أحاسن المحاسن، والتحضيض على الترقي دائما لدلالته على أن الأصل المقصود بالاختبار ذلك الفريق ليجازيهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 213 أكمل الجزاء فكأنه قيل: المقصود أن يظهر أفضليتكم لأفضلكم فإن ذلك مفروغ عنه لا يحيد عنه ذو لب، وجوز أن يكون من باب الزيادة المطلقة وأن يكون من باب أي الفريقين خير مقاما، وأيّا ما كان فالخطاب ليس خاصا بالمؤمنين لأن إظهار حال غيرهم مقصود أيضا لكنه لا بالذات على الوجه الأول. وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ. أي مثله في الخديعة والبطلان، فالتركيب من التشبيه البليغ، والإشارة إلى القول المذكور، وجوز أن تكون للقرآن كأنه قيل: لو تلوت عليهم من القرآن ما فيه إثبات البعث لقالوا هذا المتلو سحر، والمراد إنكار البعث بطريق الكناية الإيمائية لأن إنكار البعث إنكار للقرآن، وقيل: إن الأخبار عن كونهم مبعوثين وإن لم يجب عن كونه بطريق الوحي المتلو إلا أنهم عند سماعهم ذلك تخلصوا إلى القرآن لإنبائه عنه في كل موضع وكونه علما عندهم في ذلك فعمدوا إلى تكذيبه، وتسميته سحرا تماديا منهم في العناد، وتفاديا عن سنن الرشاد وهو خلاف الظاهر، وقيل: الإشارة إلى نفس البعث، وتعقب بأنه لا يلائمه التسمية بالسحر فإنه إنما يطلق على شيء موجود ظاهرا لا أصل له في الحقيقة، ونفس البعث عندهم معدوم بحت، وفيه بحث لجواز أنهم أرادوا من السحر الأمر الباطل والشيء الذي لا أصل له ولا حقيقة لشيوعه فيما بينهم بذلك حتى كأنه علم له. وجوز أن تكون الإشارة إلى القائل، والاخبار عنه بالسحر للمبالغة، والخطاب في إِنَّكُمْ إن كان لجميع المكلفين فالموصول مع صلته للتخصيص أي ليقولن الكافرون منهم، وإن كان للكافرين فذكر الموصول ليتوصل به إلى ذمهم بعنوان الصلة، وتعلق الآية الكريمة بما قبلها إما من حيث إن البعث من تتمات الابتلاء المذكور فيه كأنه قيل: الأمر كما ذكر، ومع ذلك إن أخبرتهم بمقدمة فذة من مقدماته وقضية فردة من تتماته يقولون ما يقولون فضلا عن أنهم يصدقون بما وقع هذا تتمة له، وإما من حيث إن البعث خلق جديد فكأنه قيل: وهو الذي خلق جميع المخلوقات ليترتب عليها ما يترتب، ومع ذلك إن أخبرتهم بأنه سبحانه يعيدهم تارة أخرى وهو أهون عليه يعدون ذلك ما يعدون فسبحان الله عما يصفون. وقرأ عيسى الثقفي «ولئن قلت» بضم التاء على أن الفعل مسند إليه تعالى أي وَلَئِنْ قُلْتَ ذلك في كتابي المنزل عليك لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إلخ، وفي البحر أن المعنى على ذلك وَلَئِنْ قُلْتَ مستدلا على البعث من بعد الموت إذ في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ إلخ دلالة على القدرة العظيمة، فمتى أخبر بوقوع ممكن وقع لا محالة وقد أخبر بالبعث فوجب قبوله وتيقن وقوعه انتهى وهو لدى الذوق السليم كماء البحر. وقرأ الأعمش «أنكم» بفتح الهمزة على تضمين قُلْتَ معنى ذكرت وَلَئِنْ قُلْتَ ذاكرا «أنكم مبعوثون» فإن وما بعدها في تأويل مصدر مفعول للذكر، واستظهر بعضهم كون القول بمعنى الذكر مجازا، وتعقب بأن الذكر والقول مترادفان فلا معنى للتجوز حينئذ، ولما كان القول باقيا في التضمين جاء الخطاب على مقتضاه. وجوز أن تكون أن بمعنى عل، ونقل ذلك عن سيبويه، وجاء ائت السوق علك تشتري لحما وأنك تشتري لحما، وهي لتوقع المخاطب لكن لا على سبيل الاخبار فإنهم لا يتوقعون البعث بل على سبيل الأمر كأنه قيل: توقعوا بعثكم ولا تبتوا القول بإنكاره، وبذلك يندفع ما يقال: إن النبي صلّى الله عليه وسلم قاطع بالبعث فكيف يقول لعلكم مبعوثون، وأيضا القراءة المشهورة صريحة في القطع والبت، وهذه صريحة في خلافه فيتنافيان، ومنهم من قال: يجوز أن يكون هذا من الكلام المنصف والاستدراج فربما ينتبهون إذا تفكروا ويقطعون بالبعث إذا نظروا. وقرأ حمزة والكسائي- «إلا ساحر» - والإشارة إلى القائل، ولا مبالغة في الإخبار كما كانت على هذا الاحتمال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 214 في قراءة الجمهور، ويجوز أن تكون للقول أو للقرآن، وفيه من المبالغة ما في قولهم: شعر شاعر وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ أي المترتب على بعثهم أو الموعود بقوله سبحانه: وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ وقيل: عذاب يوم بدر، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قتل جبريل عليه السلام المستهزئين وهم خمسة نفر أهلكوا قبل بدر، والظاهر أن المراد العذاب الشامل للكفرة، ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: لما نزل اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ [الأنبياء: 1] قال ناس: إن الساعة قد اقتربت فتناهوا فتناهى القوم قليلا ثم عادوا إلى أعمالهم أعمال السوء فأنزل الله سبحانه أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل: 1] فقال أناس من أهل الضلالة: هذا أمر الله تعالى قد أتى فتناهى القوم ثم عادوا إلى عكرهم عكر السوء فأنزل الله تعالى هذه الآية إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ أي طائفة من الأيام قليلة لأن ما يحصره العد قليل. وقيل: المراد من الأمة الجماعة من الناس أي ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى جماعة يتعارفون ولا يكون فيهم مؤمن ونقل هذا عن علي بن عيسى، وعن الجبائي أن المعنى إلى أمة بعد هؤلاء نكلفهم فيعصون فتقتضي الحكمة إهلاكهم وإقامة القيامة، وروى الإمامية- وهم بيت الكذب- عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن المراد بالأمة المعدودة أصحاب المهدي في آخر الزمان وهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا كعدة أهل بدر لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أي أيّ شيء يمنعه من المجيء فكأنه يريده ويمنعه مانع، وكانوا يقولون ذلك بطريق الاستعجال وهو كناية عن الاستهزاء والتكذيب لأنهم لو صدقوا به لم يستعجلوه وليس غرضهم الاعتراف بمجيئه والاستفسار عن حابسه كما يرشد إليه ما بعد. أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ ذلك العذاب الأخروي أو الدنيوي لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ أي أنه لا يرفعه رافع أبدا، أو لا يدفعه عنهم دافع بل هو واقع بهم، والظاهر أن يَوْمَ منصوب- بمصروفا- الواقع خبر ليس، واستدل بذلك جمهور البصريين على جواز تقديم خبرها عليها كما يجوز تقديمه على اسمها بلا خلاف معتد به لأن تقديم المعمول يؤذن بتقديم العامل بطريق الأولى وإلا لزم مزية الفرع على أصله، وذهب الكوفيون والمبرد إلى عدم الجواز وادعوا أن الآية لا تصلح حجة لأن القاعدة المشار إليها غير مطردة ألا ترى قوله سبحانه: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ [الضحى: 9] كيف تقدم معمول الفعل مع امتناع تقديمه لأن الفعل لا يلي أما، وجاء عن الحجازيين أنهم يقولون ما اليوم زيد ذاهبا مع أنه لا يجوز تقديم خبر ما اتفاقا، وأيضا المعمول فيها ظرف والأمر فيه مبني على التسامح مع أنه قيل: إنه متعلق بفعل محذوف دل عليه ما بعده، والتقدير ألا يصرف عنهم العذاب أو يلازمهم يوم يأتيهم، ومنهم من جعله متعلقا- بيخافون- محذوفا أي ألا يخافون يوم إلخ، وقيل: هو مبتدأ لا متعلق- بمصروفا- ولا بمحذوف، وبني على الفتح لإضافته للجملة، ونظير ذلك قوله سبحانه: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ [المائدة: 119] على قراءة الفتح، وأنت تعلم أن في بناء الظرف المضاف لجملة صدرها مضارع معرف خلافا بين النحاة، وأن الظاهر تعلقه- بمصروفا- نعم عدم صلاحية الآية للاحتجاج مما لا ريب فيه، وفي البحر قد تتبعت جملة من دواوين العرب فلم أظفر بتقديم خبر ليس عليها ولا بتقديم معموله إلا ما دل عليه ظاهر هذه الآية الكريمة، وقول الشاعر: فيأبى فما يزداد إلا لجاجة ... وكنت أبيا في الخنى لست أقدم وَحاقَ بِهِمْ أي نزل وأحاط، وأصله حق فهو- كزل وزال- وذم وذام- والمراد يحيق بهم. ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ إلا أنه عبر بالماضي لتحقق الوقوع، والمراد بالموصول العذاب وعبر به عنه تهويلا لمكانه، وإشعارا بعلية ما ورد في حيز الصلة من استهزائهم به لنزوله وإحاطته ووضع الاستهزاء موضع الاستعجال لأنه كان استهزاء وَلَئِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 215 أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً أي أعطيناه نعمة من صحة وأمن وجدة وغيرها وأوصلناها إليه بحيث يجد لذتها فالإذاقة مجاز عن هذا الإعطاء ثُمَّ نَزَعْناها أي سلبنا تلك الرحمة مِنْهُ صلة النزع، والتعبير به للإشعار بشدة تعلقه بها وحرصه عليه إِنَّهُ لَيَؤُسٌ شديد اليأس كثيره قطوع رجائه من عود مثل تلك النعمة عاجلا أو آجلا بفضل الله تعالى لعدم صبره وتوكله عليه سبحانه وثقته به. كَفُورٌ كثير الكفران لما سلف لله تعالى عليه من النعم، وتأخير هذا الوصف عن وصف يأسهم لرعاية الفواصل على أن اليأس من باب الكفران للنعمة السالفة أيضا وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ كصحة وأمن وجدة بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ كسقم وخوف وعدم، وفي إسناد الإذاقة إليه تعالى دون المس إشعار بأن إذاقة النعمة مقصودة بالذات دون مس الضر بل هو مقصود بالعرض، ومن هنا قال بعضهم: إنه ينبغي أن تجعل- من- في قوله سبحانه: مِنْهُ للتعليل أن نزعناها من أجل شؤمه وسوء صنيعه وقبح فعله ليكون منا، مِنْهُ مشيرا إلى هذا المعنى ومنطبقا عليه كما قال سبحانه: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء: 79] ولا يخفى أن تفسير مِنْهُ بذلك خلاف الظاهر المتبادر ولا ضرورة تدعو إليه، وإنما لم يؤت ببيان تحول النعمة إلى الشدة وبيان العكس على طرز واحد بل خولف التعبير فيهما حيث بدىء في الأول بإعطاء النعمة وإيصال الرحمة ولم يبدأ في الثاني بإيصال الضر على نمطه تنبيها على سبق الرحمة على الغضب واعتناء بشأنها، وفي التعبير عن ملابسة الرحمة والنعماء بالذوق المؤذن على ما قيل بلذتهما وكونهما مما يرغب فيه وعن ملابسة الضراء بالمس المشعر بكونها في أدنى ما يطلق عليه اسم الملاقاة من مراتبها من اللطف ما لا يخفى، ولعله يقوي عظم شأن الرحمة. وذكر البعض أن في لفظ الإذاقة والمس بناء على أن الذوق ما يختبر به الطعوم، والمس أول الوصول تنبيها على أن ما يجد الإنسان في الدنيا من المنح والمحن نموذج لما يجده في الآخرة، وأنه يقع في الكفران والبطر بأدنى شيء لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي أي المصائب التي تسوءني ولن يعتريني بعد أمثالها إِنَّهُ لَفَرِحٌ بطر بالنعمة مغتر بها، وأصله فارح إلا أنه حول لما ترى للمبالغة، وفي البحر أن فعلا بكسر العين هو قياس اسم الفاعل من فعل اللازم، وقرىء «فرح» بضم الراء كما تقول: ندس ونطس، وأكثر ما ورد الفرح في القرآن للذم فإذا قصد المدح قيد كقوله سبحانه: فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [آل عمران: 170] فَخُورٌ متعاظم على الناس بما أوتي من النعم مشغول بذلك عن القيام بحقها، واللام في لَئِنْ في الآيات والأربع موطئة للقسم، وجوابه سادّ مسدّ جواب الشرط كما في قوله: لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها ... وأمكنني منها إذن لا أقبلها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا استثناء من الإنسان، وهو متصل إن كانت أل فيه لاستغراق الجنس، وهو الذي نقله الطبرسي مخالفا لابن الخازن عن الفراء، ومنقطع إن كانت للعهد إشارة إلى الإنسان الكافر مطلقا، وعن ابن عباس أن المراد منه كافر معين وهو الوليد بن المغيرة، وقيل: هو عبد الله بن أمية المخزومي، وذكره الواحدي، وحديث الانقطاع على الروايتين متصل، ونسب غير مقيد بهما إلى الزجاج والأخفش، وأيّا ما كان فالمراد صبروا على ما أصابهم من الضراء سابقا أو لاحقا إيمانا بالله تعالى واستسلاما لقضائه تعالى. وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ شكرا على نعمه سبحانه السابقة واللاحقة، قال المدقق في الكشف: لما تضمن اليأس عدم الصبر والكفران عدم الشكر كان المستثنى من ذلك ضده ممن اتصف بالصبر والشكر فلما قيل: إِلَّا الَّذِينَ إلخ كان بمنزلة إلا الذين صبروا وشكروا وذلك من صفات المؤمن، فكنى بهما عنه فلذا فسره الزمخشري بقوله: إلا الذين آمنوا، فإن عادتهم إذا أتتهم رحمة أن يشكروا وإذا زالت عنهم نعمة أن يصبروا فلذا حسنت الكناية به عن الإيمان، ثم عرض الجزء: 6 ¦ الصفحة: 216 بشيخه الطيبي بقوله: وأما دلالة صَبَرُوا على أن العمل الصالح شكر لأنه ورد في الأثر الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر، ودلالة عملوا على أن الصبر إيمان لأنهما ضميمتان في الأكثر فغير مطابق لما نحن فيه إلا أن يراد وجه آخر كأنه قيل: إلا المؤمن الصالح الصابر الشاكر وهو وجه- لكن القول ما قالت حذام- لأن الكناية تفيد ذلك مع ما فيها من الحسن والمبالغة أُولئِكَ إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة أي أولئك الموصوفون بتلك الصفات الحميدة لَهُمْ مَغْفِرَةٌ عظيمة لذنوبهم ما كانت وَأَجْرٌ ثواب لأعمالهم الحسنة كَبِيرٌ وصف بذلك لما احتوى عليه من النعيم السرمدي ورفع التكاليف والأمن من العذاب ورضا الله سبحانه عنهم والنظر إلى وجهه الكريم في جنة عرضها السماوات والأرض، ووجه تعلق الآيات الثلاث بما قبلهن على ما في البحر أنه تعالى لما ذكر أن عذاب الكفار وإن تأخر لا بد أن يحيق بهم ذكر ما يدل على كفرهم وكونهم مستحقين العذاب لما جبلوا عليه من كفر نعماء الله تعالى وما يترتب على إحسانه تعالى إليهم مما لا يليق بهم من البطر والفخر، قيل: وهو إشارة إلى أن الوجه تضمن الآيات تعليل الحيق ويبعده تعليله بما في حيز الصلة قبل، واختار بعضهم أنه الاشتراك في الذم فما تضمنه الآيات قبل بيان بعض هناتهم وما تضمنته هذه بيان بعض آخر. وقال بعض المحققين: إن وجه التعلق من حيث إن إذاقة النعماء ومساس الضراء فصل من باب الابتلاء واقع موقع التفصيل من الإجمال في قوله سبحانه: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا والمعنى أن كلّا من إذاقة النعماء ونزعها مع كونه ابتلاء للإنسان أيشكر أم يكفر لا يهتدي إلى سنن الصواب بل يحيد في كلتا الحالتين عنه إلى مهاوي الضلال فلا يظهر منه حسن عمل إلا من الصابرين الصالحين، أو من حيث إن إنكارهم البعث واستهزاءهم بالعذاب بسبب بطرهم وفخرهم كأنه قيل: إنما فعلوا ما فعلوا لأن طبيعة الإنسان مجبولة على ذلك انتهى، ولا يخفى ما في الأول من البعد. والثاني أقرب، والله تعالى أعلم. من باب الإشارة في الآيات: الر إشارة إلى ما مرت الإشارة إليه أُحْكِمَتْ آياتُهُ أي حقائقه وأعيانه في العالم الكلي فلا تتبدل ولا تتغير ثُمَّ فُصِّلَتْ في العالم الجزئي وجعلت مبينة معينة بقدر معلوم مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ فلذا أحكمت خَبِيرٍ فلذا فصلت، وقد يقال: الإشارة إلى آيات القرآن قد أحكمت في قلوب العارفين ثُمَّ فُصِّلَتْ أحكامها على أبدان العاملين، وقيل: أُحْكِمَتْ بالكرامات ثُمَّ فُصِّلَتْ بالبينات أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ أي أن لا تشركوا في عبادته سبحانه وخصصوه عز وجل بالعبادة إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ عقاب الشرك وتبعته وَبَشِيرٌ بثواب التوحيد وفائدته، وقيل. نَذِيرٌ بعظائم قهره وَبَشِيرٌ بلطائف وصله وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ اطلبوا منه سبحانه أن يستركم عن النظر إلى الغير حتى أفعالكم وصفاتكم ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ارجعوا بالفناء ذاتا، وقيل: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ من الدعاوى وتُوبُوا إِلَيْهِ من الخطرات المذمومة يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً بتوفيقكم لاتباع الشريعة حال البقاء بعد الفناء، ويقال: المتاع الحسن صفاء الأحوال، وسناء الأذكار، وحلاوة الأفكار وتجلي الحقائق، وظهور اللطائف، والفرح برضوان الله تعالى وطيب العيش بمشاهدة أنواره سبحانه، والمتاع كل المتاع مشاهدة المحب حبيبه، ولله در من قال: مناي من الدنيا لقاؤك مرة ... فإن نلتها استوفيت كل منائيا إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو وقت وفاتكم وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ بالسعي والاجتهاد وبذل النفس فَضْلَهُ في الدرجات والقرب إليه سبحانه ويقال: يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ في الاستعداد فَضْلَهُ في الكمال، وسئل أبو عثمان عن معنى ذلك فقال: يحقق آمال من أحسن به ظنه وَإِنْ تَوَلَّوْا أي تعرضوا عن امتثال الأمر والنهي فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ وهو يوم الرجوع إلى الله تعالى الذي يظهر فيه عجز ما سواه تعالى ويتبين قبح الجزء: 6 ¦ الصفحة: 217 مخالفة ما أمر به وفظاعة ارتكاب ما نهي عنه أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ يعطفون صُدُورَهُمْ على ما فيها من الصفات المذمومة لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ تعالى وذلك لمزيد جهلهم بما يجوز عليه جل شأنه وما لا يجوز أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ من الأقوال والأفعال وسائر الأحوال، وقيل: ما يُسِرُّونَ من الخطرات وَما يُعْلِنُونَ من النظرات، وقيل: ما يُسِرُّونَ بقلوبهم وَما يُعْلِنُونَ بأفواههم، وقيل: ما يُسِرُّونَ بالليل وَما يُعْلِنُونَ بالنهار، والتعميم أولى ومن الناس من جعل ضمير منه للرسول صلّى الله عليه وسلم وقد علمت أنه يبعده ظهور أن ضمير يَعْلَمُ له تعالى لكن ذكر في أسرار القرآن أنه تعالى كسا أنوار جلاله أفئدة الصديقين فيرون بأبصار قلوبهم ما يجري في صدور الخلائق من المضمرات والخطرات كما يرون الظواهر بالعيون الظاهرة، وقد جاء «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى» وعلى هذا فيمكن أن يكون ضمير يَعْلَمُ للرسول عليه الصلاة والسلام، وأيّا ما كان فالآية نازلة في غير المؤمنين حسبما يقتضيه الظاهر، وقد تقدم لك أن الأمر على ما روي عن الحبر رضي الله تعالى عنه مشكل. وقال بعض أرباب الذوق: إن الآية عليه إشارة إلى أن أولئك الأناس لم يصلوا إلى مقام الجمع ولم يتحققوا بأعلى مراتب التوحيد وفيه خفاء أيضا فتفطن وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها أي ما تتغذى به شبحا وروحا، ويقال: لكل رزق عليه تعالى بقدر حوصلته فرزق الظاهر للأشباح، ورزق المشاهدة للأرواح، ورزق الوصلة للأسرار ورزق الرهبة للنفوس، ورزق الرغبة للعقول، ورزق القربة للقلوب، وهذا بالنظر إلى الإنسان، وأما بالنظر إلى سائر الحيوانات فلها أيضا رزق محسوس، ورزق معقول يعلمه الله تعالى وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها فمستقر الجميع أصلاب العدم وَمُسْتَوْدَعَها أرحام الحدوث وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وما في كل فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ أي كان حيا قيوما- كما قال ابن الكمال.. وقيل: الماء إشارة إلى المادة الهيولانية، والمعنى وَكانَ عَرْشُهُ قبل خلق السماوات والأرض بالذات لا بالزمان مستعليا على المادة فوقها بالرتبة، وقيل: غير ذلك، وإن شئت التطبيق على ما في تفاصيل وجودك فالمعنى على ما قيل: خلق سماوات قوى الروحانية، وأرض الجسد في الأشهر الستة التي هي أقل مدة الحمل، وكان عرشه الذي هو قلب المؤمن على ماء مادة الجسد مستوليا عليه متعلقا به تعلق التصوير والتدبير لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا قيل: جعل غاية الخلق ظهور الأعمال أي خلقنا ذلك لنعلم العلم التفصيلي التابع للوجود الذي يترتب عليه الجزاء أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً إلخ تضمن الإشارة إلى أنه ينبغي للعبد أن يكون في السراء والضراء واثقا بربه تعالى متوكلا عليه غير محتجب عنه برؤية الأسباب لئلا يحصل له اليأس والكفران والبطر والفخر بذلك وجودا وعدما. فإن آتاه رحمة شكره أولا برؤية ذلك منه جل شأنه بقلبه، وثانيا باستعمال جوارحه في مراضيه وطاعاته والقيام بحقوقه تعالى فيها، وثالثا بإطلاق لسانه بالحمد والثناء على الله تعالى وبذلك يتحقق الشكر المشار إليه بقوله تعالى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: 13] وإلى ذلك أشار من قال: أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجبا وبالشكر تزداد النعم كما قال تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم: 7] ، وعن علي كرم الله تعالى وجهه إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلة الشكر، ثم إن نزعها منه فليصبر ولا يتهم الله تعالى بشيء فإنه تعالى أبر بالعبد وأرحم وأخبر بمصلحته وأعلم، ثم إذا أعادها عليه لا ينبغي أن يبطر ويغتر ويفتخر بها على الناس فإن الاغترار والافتخار بما لا يملكه من الجهل بمكان، وقد أفاد سبحانه أن من سجايا الإنسان في الشدة بعد الرحمة اليأس الجزء: 6 ¦ الصفحة: 218 والكفران وبالنعماء بعد الضراء الفرح والفخر إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا مع الله تعالى في حالتي النعماء والضراء والشدة والرخاء، فالفقر والغنى مثلا عندهم مطيتان لا يبالون أيهما امتطوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ما فيه صلاحهم في كل أحوالهم أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ من ذنوب ظهور النفس باليأس والكفران والفرح والفخر وَأَجْرٌ كَبِيرٌ من ثواب تجليات الأفعال والصفات وجنانهما، والله تعالى ولي التوفيق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 219 فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ أي تترك تبليغ بعض ما يوحى إليك وهو ما يخالف رأي المشركين مخافة ردهم واستهزائهم به، فاسم الفاعل للمستقبل ولذا عمل، ولعل- للترجي وهو يقتضي التوقع ولا يلزم من توقع الشيء وقوعه ولا ترجح وقوعه لجواز أن يوجد ما يمنع منه، فلا يشكل بأن توقع ترك التبليغ منه صلّى الله عليه وسلم مما لا يليق بمقام النبوة، والمانع من ذلك فيه عليه الصلاة والسلام عصمته كسائر الرسل الكرام عليهم السلام عن كتم الوحي المأمور بتبليغه والخيانة فيه وتركه تقية، والمقصود من ذلك تحريضه صلّى الله عليه وسلم وتهييج داعيته لأداء الرسالة، ويقال نحو ذلك في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 220 كل توقع نظير هذا التوقع، وقيل: إن التوقع تارة يكون للمتكلم وهو الأصل لأن المعاني الإنشائية قائمة به، وتارة للمخاطب، وأخرى لغيره ممن له تعلق وملابسة به، ويحتمل أن يراد هنا هذا الأخير ويجعل التوقع للكفار، والمعنى أنك بلغ بك الجهد في تبليغهم ما أوحي إليك أنهم يتوقعون منك ترك التبليغ لبعضه، وقيل: إن- لعل- هنا ليست للترجي بل هي للتبعيد، وقد تستعمل لذلك كما تقول العرب: لعلك تفعل كذا لمن لا يقدر عليه، فالمعنى لا تترك، وقيل: إنها للاستفهام الإنكاري كما في الحديث «لعلنا أعجلناك» واختار السمين. وغيره كونها للترجي بالنسبة إلى المخاطب على ما علمت آنفا، ولا يجوز أن يكون المعنى كأني بك ستترك بعض ما أوحي إليك مما شق عليك بإذني ووحي مني، وهو أن يرخص لك فيه كأمر الواحد بمقاومة عشرة إذ أمروا بمقاومة الواحد لاثنين وغير ذلك من التخفيفات لأنه وإن زال به الإشكال إلا أن قوله تعالى بعد أن يقولوا يأباه، نعم قيل: لو أريد ترك الجدال بالقرآن إلى الجلاد والضرب والطعان- لأن هذه السورة مكية نازلة قبل الأمر بالقتال- صح لكن في الكشف بعد كلام: اعلم لو أخذت التأمل لاستبان لك أن مبنى هذه السورة الكريمة على إرشاده تعالى كبرياؤه نبيه صلّى الله عليه وسلم إلى كيفية الدعوة من مفتتحها إلى مختتمها وإلى ما يعتري لمن تصدى لهذه الرتبة السنية من الشدائد واحتماله لما يترتب عليه في الدارين من العوائد لا على التسلي له عليه الصلاة والسلام فإنه لا يطابق المقام، وانظر إلى الخاتمة الجامعة أعني قوله سبحانه: وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود: 123] تقضي العجب وهو يبعد هذه الإرادة إن قلنا: إن ذلك من باب التخفيف المؤذن بالتسلي فتأمله، والضمير في قوله سبحانه: وَضائِقٌ بِهِ لما يوحى أو للبعض وهو الظاهر عند أبي حيان، وقيل: للتبليغ أو للتكذيب، وقيل: هو مبهم يفسره أن يقولوا، والواو للعطف وَضائِقٌ قيل: عطف على تارِكٌ وقوله تعالى: صَدْرُكَ فاعله، وجوز أن يكون الوصف خبرا مقدما وصَدْرُكَ مبتدأ والجملة معطوفة على تارِكٌ، وقيل: يتعين أن تكون الواو للحال، والجملة بعدها حالية لأن هذا واقع لا متوقع فلا يصح العطف، ونظر فيه بأن ضيق صدره عليه الصلاة والسلام بذلك إن حمل على ظاهره ليس بواقع، وإنما يضيق صدره الشريف لما يعرض له في تبليغه من الشدائد، وعدل عن ضيق الصفة المشبهة إلى- ضائق- اسم الفاعل ليدل على أن الضيق مما يعرض له صلّى الله عليه وسلم أحيانا، وكذا كل صفة مشبهة إذا قصد بها الحدوث تحول إلى فاعل فتقول في سيد وجواد وسمين مثلا: سائد وجائد وسامن، وعلى ذلك قول بعض اللصوص يصف السجن ومن سجن فيه: بمنزلة أما اللئيم «فسامن» بها وكرام الناس باد شحوبها وظاهر كلام البحر أن ذلك مقيس فكل ما يبنى من الثلاثي للثبوت والاستقرار على غير وزن فاعل يرد إليه إن أريد معنى الحدوث من غير توقف على سماع، وقيل: إن العدول لمشاركة تارِكٌ وليس بذلك. أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أي مال كثير، وعبروا بالإنزال دون الإعطاء لأن مرادهم التعجيز بكون ذلك على خلاف العادة لأن الكنوز إنما تكون في الأرض ولا تنزل من السماء، ويحتمل أنهم أرادوا بالإنزال الإعطاء من دون سبب عادي كما يشير إليه سبب النزول أي لولا أعطي ذلك ليتحقق عندنا صدقه أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ يصدقه لنصدقه، روي أنهم قالوا: اجعل لنا جبال مكة ذهبا أو ائتنا بملائكة يشهدون بنبوتك إن كنت رسولا فنزلت، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن كلَّا من القولين قالته طائفة فقال عليه الصلاة والسلام: لا أقدر على ذلك فنزلت، وقيل: القائل لكل عبد الله بن أمية المخزومي، ووجه الجمع عليه يعلم مما مر غير مرة، ومحل أَنْ يَقُولُوا نصب أو جر وكان الأصل كراهة أو مخافة أَنْ يَقُولُوا أو لئلا أو لأن أو بأن يقولوا، ولوقوع القول قالوا: إن المضارع بمعنى الماضي، وأَنْ المصدرية خارجة عن مقتضاها، ورجحوا تقدير الجزء: 6 ¦ الصفحة: 221 الكراهة على المخافة لذلك، وقد يراد عند تقديرها مخافة أن يكرروا هذا القول واختار بعض أن يكون المعنى على الجميع أن يقولوا مثل قولهم لولا إلخ- فأن- على مقتضاها، ولا يرد شيء إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ أي ليس عليك إلا الإنذار بما أوحى غير مبال بما يصدر عنهم وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أي قائم به وحافظ له فيحفظ أحوالك وأحوالهم فتوكل عليه في جميع أمورك فإنه فاعل بهم ما يليق بحالهم، والاقتصار على النذير في أقصى غاية من إصابة المحز، والآية قيل: منسوخة، وقيل: محكمة. أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ إضراب بأم المنقطعة عن ذكر ترك اعتدادهم بما يوحى وعدم اكتفائهم بما فيه من المعجزات الظاهرة الدالة على صدق الدعوى، وشروع في ذكر ارتكابهم لما هو أشد منه وأعظم، وتقدر ببل والهمزة الإنكارية أي بل أيقولون، وذهب ابن القشيري إلى أن أَمْ متصلة، والتقدير أيكتفون بما أوحينا إليك أم يقولون إنه ليس من عند الله، والأول أظهر، وأيا ما كان فالضمير البارز في افْتَراهُ لما يوحى قُلْ إن كان الأمر كما تقولون فَأْتُوا أنتم أيضا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ في البلاغة وحسن النظم وهو نعت- لسور- وكان الظاهر مطابقته لها في الجمع لكنه أفرد باعتبار مماثلة كل واحدة منها إذ هو المقصود لا مماثلة المجموع، وقيل: مثل وإن كان مفردا يجوز فيه المطابقة وعدمها فيوصف به الواحد وغيره نظرا إلى أنه مصدر في الأصل كقوله تعالى: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا [المؤمنون: 47] وقد يطابق كقوله سبحانه: ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [محمد: 38] ، وقيل: إنه هنا صفة لمفرد مقدر أي قدر عشر سور مثله، وقيل: إنه وصف لمجموع العشر لأنها كلام وشيء واحد، وأيضا- عشر- ليس بصيغة جمع فيعطى حكم المفرد- كنخل منقعر- وقوله سبحانه: مُفْتَرَياتٍ نعت آخر- لسور- قيل: أخر عن نعتها بالمماثلة لما يوحى لأنه النعت المقصود بالتكليف إذ به قعودهم على العجز عن المعارضة، وأما نعت الافتراء فلا يتعلق به غرض يدور عليه شيء في مقام التحدي، وإنما ذكر على نهج المساهلة وإرخاء العنان ولأنه لو عكس الترتيب لربما توهم أن المراد هو المماثلة له في الافتراء، والمعنى فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مماثلة له في البلاغة مختلقات من عند أنفسكم إن صح أني اختلقته من عند نفسي فإنكم عرب فصحاء بلغاء ومبادي ذلك فيكم من ممارسة الخطب والأشعار ومزاولة أساليب النظم والنثر وحفظ الوقائع والأيام أتم. والكثير على أن هذا التحدي وقع أولا فلما عجزوا تحداهم بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ كما نطقت به سورة [البقرة: 23] ويونس، وهو وإن تأخر تلاوة متقدم نزولا وأنه لا يجوز العكس إذ لا معنى للتحدي بعشر لمن عجز عن التحدي بواحدة وأنه ليس المراد تعجيزهم عن الإتيان بعشر سور مماثلات لعشر معينة من القرآن. وروي عن ابن عباس أن المراد ذلك، وجعل العشر ما تقدم من السور إلى هنا، واعترضه أبو حيان بأن أكثر ما ذكر مدني وهذه السورة حسبما علمت مكية فكيف تصح الحوالة بمكة على ما لم ينزل بعد، ثم قال: ولعل هذا لا يصح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وذهب ابن عطية إلى أن هذا التحدي إنما وقع بعد التحدي بسورة، وروي هذا عن المبرد وأنكر تقدم نزول هذه السورة على نزول تينك السورتين وقال: بل نزلت سورة يونس أولا، ثم نزلت سورة هود. وقد أخرج ذلك ابن الضريس في فضائل القرآن عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. ووجه ذلك بأن ما وقع أولا هو التحدي بسورة مثله في البلاغة والاشتمال على ما اشتمل عليه من الأخبار عن المغيبات والأحكام وأخواتها، فلما عجزوا عن ذلك أمرهم بأن يأتوا بعشر سور مثله في النظم وإن لم تشتمل على ما اشتمل عليه، وضعفه في الكشف، وقال: إنه لا يطرد في كل سورة من سور القرآن، وهب أن السورة متقدمة النزول إلا أنها لما نزلت على التدريج جاز أن تتأخر تلك الآية عن هذه، ولا ينافي تقدم السورة على السورة انتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 222 وتعقبه الشهاب بأن قوله لا يطرد مما لا وجه له لأن مراد المبرد اشتماله على شيء من الأنواع السبعة ولا يخلو شيء من القرآن عنها، وادعاء تأخر نزول تلك الآية خلاف الظاهر، ومثله لا يقال بالرأي، وادعى أن الحق ما قاله المبرد من أنه عليه الصلاة والسلام تحداهم أولا بسورة مثله في النظم والمعنى، ثم تنزل فتحداهم بعشر سور مثله في النظم من غير حجر في المعنى، ويشهد له توصيفها بمفتريات، وأيد بعضهم نظر المبرد بأن التكليف في آية البقرة إنما كان بسبب الريب ولا يزيل الريب إلا العلم بأنهم لا يقدرون على المماثلة التامة، وهو في هذه الآية ليس إلا بسبب قولهم: افْتَراهُ فكلفوا نحو ما قالوا، وفيه أن الأمر في سورة يونس كالأمر هنا مسبوق بحكاية زعمهم الافتراء قاتلهم الله تعالى مع أنهم لم يكلفوا إلا بنحو ما كلفوا به في آية البقرة على أن في قوله: ولا يزيل الريب إلخ منعا ظاهرا، وللعلامة الطيبي هاهنا كلام- زعم أنه الذي يقتضيه المقام- وهو على قلة جدواه لا وجه لما أسسه عليه كما بين ذلك صاحب الكشف. هذا ونقل الإمام أنه استدل بهذه الآية على أن إعجاز القرآن بفصاحته لا باشتماله على المغيبات وكثرة العلوم إذ لو كان كذلك لم يكن لقوله سبحانه: مُفْتَرَياتٍ معنى أما إذا كان وجه الإعجاز الفصاحة صح ذلك لأن فصاحة الكلام تظهر إن صدقا وإن كذبا، واعترض عليه الفاضل الجلبي بما هو مبني على الغفلة عن معنى الافتراء والاختلاق، نعم ما ذكر إنما يدل على صحة كون وجه الإعجاز ذلك ولا يمنع احتمال كونه الأسلوب الغريب وعدم اشتماله على التناقض كما قيل به. وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ أي استعينوا بمن أمكنكم أن تستعينوا به من آلهتكم التي تزعمون أنها ممدة لكم في كل ما تأتون وما تذرون. والكهنة الذين تلجئون إلى آرائهم في الملمات ليسعدوكم في ذلك. مِنْ دُونِ اللَّهِ متعلق- بادعوا- أي متجاوزين الله تعالى، وفيه على ما قال غير واحد إشارة إلى أنه لا يقدر على مثله إلا الله عز وجل إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أني افتريته، فإن ذلك يستلزم الإتيان بمثله وهو أيضا يستلزم قدرتكم عليه، وجواب إِنْ محذوف دل عليه المذكور قبل فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ الخطاب- على ما روي عن الضحاك- للمأمورين بدعاء من استطاعوا، وضمير الجمع الغائب عائد إلى من أي فإن لم يستجب لكم من تدعونه من دون الله تعالى إلى الإسعاد والمظاهرة على المعارضة لعلمهم بالعجز عنه وأن طاقتهم أقصر من أن تبلغه فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ أي ما أنزل إلا ملتبسا بعلمه تعالى لا بعلم غيره على ما تقتضيه كلمة أَنَّما فإنها تفيد الحصر كالمكسورة على الصحيح، قيل: وهو معنى قول من قال: أي ملتبسا بما لا يعلمه إلا الله تعالى ولا يقدر عليه سواه. وادعى بعضهم أن الحصر إنما أفادته الإضافة كما في قوله تعالى: فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً [الجن: 26] والمراد بما لا يعلمه غيره تعالى الكيفيات والمزايا التي بها الإعجاز والتحدي، وذكر عدم قدرة غيره سبحانه مما يقتضيه السياق وإلا فالمذكور في النظم الكريم العلم دون القدرة، وقيل: ذاك لأن نفي العلم بالشيء يستلزم نفي القدرة لأنه لا يقدر أحد على ما لا يعلم، والجملة الشرطية داخلة في حيز القول وإيراد كلمة الشك مع الجزم بعدم الاستجابة من جهة من يدعونه تهكم بهم وتسجيل عليهم بكمال سخافة العقل، وترتيب الأمر بالعلم على مجرد عدم الاستجابة من حيث إنه مسبوق بالدعاء المسبوق بتعجيزهم واضطرارهم فكأنه قيل: فإن لم يستجيبوا لكم عند التجائكم إليهم بعد ما اضطررتم إلى ذلك وصاعت عليكم الحيل وعيت بكم العلل فَاعْلَمُوا إلخ أو من حيث إن من يدعونهم إلى المعارضة أقوى منهم في اعتقادهم فإذا ظهر عجزهم بعدم استجابتهم وإن كان ذلك قبل ظهور عجز أنفسكم يكون عجزهم أظهر وأوضح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 223 وبمجموع ما ذكرنا يظهر أن لا إشكال في الآية، ومما يقتضى منه العجب قول العز بن عبد السلام في أماليه: إن ترتيب هذا المشروط يعني العلم على ذلك الشرط يعني عدم الاستجابة مشكل، وكذا قوله سبحانه: أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ مشكل أيضا إذ لا تصلح الباء للسببية إذ ليس العلم سببا في إنزاله ولا للمصاحبة إذ العلم لا يصحبه في إنزاله، وأن الجواب أنه ليس المراد بالعلم إلا علمنا نحن، وأضيف إليه عز وجل لأنه مخلوق له تعالى، ونظير ذلك ما في قوله جل وعلا: وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ [المائدة: 106] حيث أضيفت الشهادة إلى الله سبحانه باعتبار أنه تعالى شرعها، والقرآن قد نزل بأدلة العلم بأحكام الله تبارك اسمه، فعبر بالمدلول عن الدليل، والتقدير فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ مصحوبا بانتشار علم الأحكام، وهي الأدلة، ولا شك أنه يناسب إذا عجزوا عن معارضته أن يعلموا أن هذه الآيات أدلة أحكام الله تعالى انتهى، وليت شعري كيف غفل هذا العالم الماهر عن ذلك التفسير الظاهر، ولعله كما قيل: من شدة الظهور الخفاء وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي واعلموا أيضا أنه تعالى المختص بالألوهية وأحكامها وأن آلهتكم بمعزل عن رتبة الشركة له تعالى في ذلك فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي داخلون في الإسلام إذ لم يبق بعد شائبة شبهة في حقيته وفي بطلان ما أنتم فيه من الشرك، فيدخل فيه الإذعان بكون القرآن من عند الله تعالى دخولا أوليا، أو منقادون للحق الذي هو كون القرآن من عند الله تعالى وتاركون ما أنتم عليه من المكابرة والعناد، وفي هذا الاستفهام إيجاب بليغ لما فيه من معنى الطلب والتنبيه على قيام الموجب وزوال المانع، ولهذا جيء بالفاء، وفي التعبير- بمسلمون- دون تسلمون تأييد لما يقتضيه ترتيب ما ذكر على ما قيل بها من وجوبه بلا مهلة، قيل: وفي ذلك أيضا إقناط لهم من أن يجيرهم آلهتهم من بأس الله تعالى شأنه وعز سلطانه، وجوز أن يكون الضمير في لَكُمْ للرسول صلّى الله عليه وسلم، ويؤيده أنه جاء في آية أخرى فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ [القصص: 50] ، وروي ذلك عن مجاهد، وكان المناسب للأمر بقل الافراد لكنه جمع للتعظيم، وهو لا يختص بضمير المتكلم كما قاله الرضي، ومن ذلك: وإن شئت حرمت النساء سواكم والجملة غير داخلة في حيز القول بل هي من قبله تعالى للحكم بعجزهم كقوله سبحانه: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة: 24] وعبر بالاستجابة إيماء إلى أنه صلّى الله عليه وسلم على كمال الأمن من أمره كأن أمره عليه الصلاة والسلام لهم بالإتيان بمثله دعاء لهم إلى أمر يريد وقوعه، ويجوز أن يكون الضمير له صلّى الله عليه وسلم وللمؤمنين لأنهم أتباع له صلّى الله عليه وسلم في الأمر بالتحدي، وفيه تنبيه لطيف على أن حقهم أن لا ينفكوا عنه عليه الصلاة والسلام ويناصبوا معه لمعارضة المعاندين كما كانوا يفعلونه في الجهاد وإرشاد إلى أن ذلك مما يفيد الرسوخ في الإيمان، ولذلك رتب عليه ما ترتب. والمراد بالعلم المأمور به ما هو في المرتبة العليا التي كأن ما عداها من مراتب العلم ليس بعلم لكن لا للإشعار بانحطاط تلك المراتب بل بارتفاع هذه المرتبة، ويعلم من ذلك سر إيراد كلمة الشك مع القطع بعدم الاستجابة، فإن تنزيل سائر المراتب منزلة العدم مستتبع لتنزيل الجزم بعدم الاستجابة منزلة الشك، ويجوز أن يكون المأمور به الاستمرار على ما هم عليه من العلم ومعنى مُسْلِمُونَ مخلصون في الإسلام أو ثابتون عليه، والكلام من باب التثبيت والترقية إلى معارج اليقين، واختار تفسير الآية بذلك الجبائي وغيره، وذكر شيخ الإسلام أنه أنسب بما سلف من قوله تعالى: وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ ولما سيأتي إن شاء الله تعالى من قوله سبحانه: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ وأشد بما يعقبه، وقد يؤيد أيضا بما أشرنا إليه لكن لا يخفى أن الكلام على التفسير الأول موافق لما قبله لأن ضمير الجمع في الآية المتقدمة للكفار والضمير في هذه ضمير الجمع فليكن لهم أيضا، ولأن الكفار أقرب المذكورين فرجوع الضمير إليهم أولى، ولأن في التفسير الثاني تأويلات لا يحتاج إليها في الأول. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 224 ومن هنا استظهره أبو حيان واستحسنه الزمخشري، ولعل مرجحاته أقوى من مرجحات الأخير عند من تأمل فلذا قدمناه، وإن قيل: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك، ويكتب- فما لم- في المصحف- على ما قال الأجهوري- بغير نون، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما- نزل- بفتح النون والزاي وتشديدها، وفي البحر أن- ما- يحتمل أن تكون مصدرية أي إن التنزيل، وأن تكون موصولة بمعنى الذي أي إن الذي نزله، وحذف العائد المنصوب في مثل ما ذكر شائع، وفعل- نزل- ضميره تعالى، وجوز بعضهم كون- ما- موصولة على قراءة الجمهور أيضا، ويبعد ذلك بحسب المعروف في مثله أنها موصولة فافهم. مَنْ كانَ يُرِيدُ أي بأعماله الصالحة بحسب الظاهر الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها أي ما يزينها ويحسنها من الصحة والأمن وكثرة الأموال والأولاد والرياسة وغير ذلك، وإدخال كانَ للدلالة على الاستمرار أي من يريد ذلك بحيث لا يكاد يريد الآخرة أصلا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها أي نوصل إليهم أجور أعمالهم في الدنيا وافية، فالكلام على حذف مضاف، وقيل: الأعمال عبارة عن الأجور مجازا، وإليه يشير كلام شيخ الإسلام والأول أولى، ونُوَفِّ متضمن معنى نوصل ولذا عدي بإلى، وإلا فهو مما يتعدى بنفسه، وقيل: إنه مجاز عن ذلك، وقرأ طلحة بن ميمون- «يوف» - بالياء، وإسناد الفعل إلى الله تعالى، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما- «يوف» - بالياء مخففا مضارع أوفى، وقرىء- «توّف» - بالتاء مبنيا للمفعول، ورفع «أعمالهم» والفعل في كل ذلك مجزوم على أنه جواب الشرط كما انجزم في قوله سبحانه: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ [الشورى: 20] وحكى الفراء أن كانَ زائدة ولذا جزم الجواب، وتعقبه أبو حيان بأنه لو كانت زائدة لكان فعل الشرط يُرِيدُ وكان يكون مجزوما، وأجيب بأنه يحتمل أنه أراد بكونها زائدة أنها غير لازمة في المعنى، وقرأ الحسن- نوفي- بالتخفيف وإثبات الياء، وذلك إما على لغة من يجزم المنقوص بحذف الحركة المقدرة كما في قوله: ألم يأتيك والأنباء تنمي أو على ما سمع في كلام العرب إذا كان الشرط ماضيا من عدم جزم الجزاء وإما لأن الأداة لما لم تعمل في الشرط القريب ضعفت عن العمل في لفظ الجزاء البعيد فعملت في محله. ونقل عن عبد القاهر أنها لا تعمل فيه أصلا لضعفها، والمشهور فيه عن النحاة مذهبان: كون الجزاء في نية التقديم. وكونه على تقدير الفاء والمبتدأ، ويمكن أن يرد ذلك إلى هذا، وليس هذا مخصوصا فيما إذا كان الشرط كان على الصحيح لمجيئه في غيره كثيرا، ومنه: وإن أتاه خليل يوم مسغبة ... يقول: لا غائب مالي ولا حرم وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ أي لا ينقصون، والظاهر أن الضمير المجرور- للحياة الدنيا- وقيل: الأظهر أن يكون للأعمال لئلا يكون تكرارا بلا فائدة، وردّ بأن فائدته إفادته من أول الأمر أن عدم البخس ليس إلا في الدنيا فلو لم يذكر توهم أنه مطلق على أنه لا يجوز أن يكون للتأكيد ولا ضرر فيه، وإنما عبر عن ذلك بالبخس الذي هو نقص الحق، ولذلك قال الراغب: هو نقص الشيء على سبيل الظلم مع أنه ليس لهم شائبة حق فيما أوتوه كما عبر عن إعطائه بالتوفية التي هي إعطاء الحقوق مع أن أعمالهم بمعزل من كونها مستوجبة لذلك- كما قال بعض المحققين- بناء للأمر على ظاهر الحال ومحافظة على صور الأعمال ومبالغة في نفي النقص كأن ذلك نقص لحقوقهم فلا يدخل تحت الوقوع والصدور عن الكريم أصلا لكن ينبغي أن يعلم أن هذا ليس على إطلاقه بل الأمر دائر على المشيئة الجارية على قضية الحكمة كما نطق به قوله سبحانه: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء: 18] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 225 وأخرج النحاس في ناسخه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هذه الآية نسخت الآية التي نحن فيها، وأنت تعلم أنه لا نسخ في الأخبار، ولعل هذا إن صح محمول على المسامحة أُولئِكَ إشارة إلى المذكورين باعتبار استمرارهم على إرادة الحياة الدنيا، أو باعتبار توفيتهم أجورهم فيها من غير بخس، أو باعتبارهما معا، وما فيه من معنى للإيذان ببعد منزلتهم في سوء الحال الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ لأن هممهم كانت مصروفة إلى اقتناص الدنيا وأعمالهم كانت ممدودة ومقصورة على تحصيلها وقد ظفروا بما يترتب على ذلك ولم يريدوا به شيئا آخر فلا جرم لم يكن لهم في الآخرة إلا النار وعذابها المخلد. وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها أي في الآخرة كما هو الظاهر، فالجار متعلق- بحبط- وما تحتمل المصدرية والموصولية أي ظهر في الآخرة حبوط صنعهم، أو الذي صنعوه من الأعمال التي كانت تؤدي إلى الثواب الأخروي لو كانت معمولة للآخرة، ويجوز أن يعود الضمير إلى الدنيا فيكون الجار متعلقا- بصنعوا- وما على حالها، والمراد بحبوط الأعمال عدم مجازاتهم عليها لفقد الاعتداد بها لعدم الإخلاص الذي هو شرط ذلك، وقيل: لجزائهم عليها في الدنيا وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ قال أبو حيان: هو تأكيد لقوله سبحانه: حَبِطَ إلخ. والظاهر أنه حمل ما كانُوا يَعْمَلُونَ على معنى ما صَنَعُوا والبطلان على عدم النفع وهو راجع إلى معنى الحبوط. ولما رأى بعضهم أن التأسيس أولى من التأكيد أبقى ما يَعْمَلُونَ على ذلك المعنى، وحمل بطلان ذلك على فساده في نفسه لعدم شرط الصحة، وقال: كأن كلّا من الجملتين علة لما قبلها على معنى ليس لهم في الآخرة إلا النار لحبوط أعمالهم وعدم ترتب الثواب عليها لبطلانها وكونها ليست على ما ينبغي، والأولى ما صنعه المولى أبو السعود عليه الرحمة حيث حمل البطلان على الفساد في نفسه، وما كانُوا يَعْمَلُونَ على أعمالهم في أثناء تحصيل المطالب الدنيوية. ثم قال: ولأجل أن الأول من شأنه استتباع الثواب والأجر وأن عدمه لعدم مقارنته للإيمان والنية الصحيحة، وأن الثاني ليس له جهة صالحة قط علق بالأول الحبوط المؤذن بسقوط أجره بصيغة الفعل المنبئ عن الحدوث، وبالثاني البطلان المفصح عن كونه بحيث لا طائل تحته أصلا بالاسمية الدالة على كون ذلك وصفا لازما له ثابتا فيه، وفي زيادة- كان- في الثاني دون الأول إيماء إلى أن صدور أعمال البر منهم وإن كان لغرض فاسد ليس في الاستمرار والدوام كصدور الأعمال التي هي مقدمات مطالبهم الدنيئة انتهى. ويحتمل عندي على بعد أن يراد- بما كانوا يعملون- هو ما استمروا عليه من إرادة الحياة الدنيا وهو غير ما صنعوه من الأعمال التي نسب إليها الحبوط وإطلاق مثل ذلك على الإرادة مما لا بأس به لأنها من أعمال القلب، ووجه الإتيان- بكان- فيه موافقته لما أشار هو إليه، وفي الجملة تصريح باستمرار بطلان تلك الإرادة وشرح حالها بعد شرح حال المريد وشرح أعماله أراد بها الحياة الدنيا وزينتها، وأيا ما كان فالظاهر أن باطِلٌ خبر مقدم وما كانُوا هو المبتدأ، وجوز في البحر كون باطِلٌ خبرا بعد خبر، وما مرتفعة به على الفاعلية، وقرىء- وبطل- بصيغة الفعل أي ظهر بطلانه حيث علم هناك أن ذاك وما يستتبعه من الحظوظ الدنيوية مما لا طائل تحته أو انقطع أثره الدنيوي فبطل مطلقا، وقرأ أبي وابن مسعود- وباطلا- بالنصب ونسب ذلك إلى عاصم وخرجه صاحب اللوامح على أن ما سيف خطيب- وباطل- مفعول- ليعملون- وفيه تقديم معمول كان وفيه- كتقديم الخبر- خلاف، والأصح الجواز لظاهر قوله تعالى: أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ [سبأ: 40] ومن منع تأول، وجوز أن يكون منصوبا- بيعملون- و «ما» إبهامية صفة له أي باطلا أي باطل، ونظير ذلك حديث ما على قصره ولأمر ما جدع قصير أنفه، وأن يكون مصدرا بوزن فاعل، وهو منصوب بفعل مقدر، و «ما» اسم موصول فاعله أي بطل بطلانا الذي كانوا يعملونه، ونظيره خارجا في قول الفرزدق: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 226 ألم ترني عاهدت ربي وأنني ... لبين رتاج قائما ومقام عليّ حلفة لا أشتم الدهر مسلما ... ولا «خارجا» من في زور كلام فإنه أراد ولا يخرج من في زور كلام خروجا، وفي ذلك على ما في البحر إعمال المصدر الذي هو بدل من الفعل في غير الاستفهام والأمر هذا، والظاهر أن الآية في مطلق الكفرة الذين يعملون البر لا على الوجه الذي ينبغي، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما عن أنس رضي الله تعالى عنه أنها نزلت في اليهود والنصارى، ولعل المراد- كما قال ابن عطية- إنهم سبب النزول فيدخلون فيها لا أنها خاصة بهم ولا يدخل فيها غيرهم، وقال الجبائي: هي في الذين جاهدوا من المنافقين مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جعل الله تعالى حظهم من ذلك سهمهم في الغنائم، وفيه أن ذلك إنما كان بعد الهجرة والآية مكية، وقيل: في أهل الرياء يقال لقارىء القرآن منهم: أردت أن يقال: فلان قارئ، فقد قيل: اذهب فليس لك عندنا شيء، وهكذا لغيره من المتصدق والمقتول في الجهاد وغيرهما ممن عمل من أعمال البر لا لوجه الله تعالى، وربما يؤيد ذلك ما روي عن معاوية حين حدثه أبو هريرة بما تضمن ذلك فبكى، وقال: صدق الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها إلى قوله سبحانه: وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ وعليه فلا بد من تقييد قوله عز وجل: لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ بأن ليس لهم بسبب أعمالهم الريائية إلا ذلك وهو خلاف الظاهر، والسياق يقتضي أنها في الكفرة مطلقا وبرهم كما قلنا، ومن هنا اشتهر أن الكافر يعجل له ثواب أعماله في الدنيا بتوسعة الرزق وصحة البدن وكثرة الولد ونحو ذلك وليس لهم في الآخرة من نصيب لكن ذهب جماعة إلى أنه يخفف بها عنه عذاب الآخرة، ويشهد له قصة أبي طالب، وذهب آخرون إلى أن ما يتوقف على النية من الأعمال لا ينتفع الكافر به في الآخرة أصلا لفقدان شرطه إذ لم يكن من أهل النية لكفره، وما لا ينتفع به ويخفف به عذابه، وبذلك يجمع بين الظواهر المقتضي بعضها للانتفاع في الجملة وبعضها لعدمه أصلا فتدبر. ووجه ارتباط هذه الآية بما قبلها على ما في مجمع البيان أنه سبحانه لما قال: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ؟ فكأن قائلا قال: إن أظهرنا الإسلام لسلامة النفس والمال يكون ماذا؟ فقيل: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا إلخ، أو يقال: إن فيما قبل ما يتضمن إقناط الكفرة من أن يجيرهم آلهتهم من بأس الله عز سلطانه كما تقدم، وذكره بعض المحققين فلا يبعد أن يكون سماعهم ذلك سببا لعزمهم على إظهار الإسلام، أو فعل بعض الأعمال الصالحة ظنا منهم أن ذلك مما يجيرهم وينفعهم فشرح لهم حكم مثل ذلك بقوله سبحانه: مَنْ كانَ يُرِيدُ إلخ لكن أنت تعلم أن هذا يحتاج إلى ادعاء أن ذلك العزم من باب الاحتياط، وفي البحر في بيان المناسبة أنه سبحانه لما ذكر شيئا من أحوال الكفار في القرآن ذكر شيئا من أحوالهم الدنيوية وما يؤولون إليه في الآخرة، وأبو السعود بين ذلك على وجه يقوي به ما ادعاه من أنسبية كون الخطاب فيما سلف له عليه الصلاة والسلام والمؤمنين، فقال: والذي يقتضيه جزالة النظم الكريم أن المراد مطلق الكفرة بحيث يندرج فيهم القادحون في القرآن العظيم اندراجا أوليا فإنه عز وجل لما أمر نبيه صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين بأن يزدادوا علما ويقينا بأن القرآن منزل بعلم الله سبحانه وبأن لا قدرة لغيره سبحانه على شيء أصلا وهيجهم على الثبات على الإسلام والرسوخ فيه عند ظهور عجز الكفرة وما يدعون من دون الله تعالى عن المعارضة وتبين أنهم ليسوا على شيء أصلا اقتضى الحال أن يتعرض لبعض شؤونهم الموهمة لكونهم على شيء في الجملة من نيلهم الحظوظ العاجلة واستوائهم على المطالب الدنيوية، وبيان أن ذلك بمعزل عن الدلالة عليه، ولقد بين ذلك أي بيان انتهى، ولا يخفى أنه يمكن أن يقرر هذا على وجه لا يحتاج فيه إلى توسيط حديث جعل الخطاب السابق له صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين فليفهم، واستدل في الأحكام بالآية على أن ما سبيله أن لا يفعل إلا على وجه القربة لا يجوز أخذ الأجرة عليه لأن الأجرة من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 227 حظوظ الدنيا فمن أخذ عليه الأجرة خرج من أن يكون قربة بمقتضى الكتاب والسنة، وادعى الكيا أنها مثل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات» وتدل على أن من صام في رمضان لا عن رمضان لا يقع عن رمضان، وعلى أن من توضأ للتبرد أو التنظف لا يصح وضوءه، وفي ذلك خلاف مبسوط بما له وعليه في محله. أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ تدل على الحق والصواب فيما يأتيه ويذره، ويدخل في ذلك الإسلام دخولا أوليا، واقتصر عليه بعضهم بناء على أنه المناسب لما بعد، وأصل- البينة- كما قيل: الدلالة الواضحة عقلية كانت أو محسوسة، وتطلق على الدليل مطلقا، وهاؤها للمبالغة، أو النقل، وهي وإن قيل: إنها من بان بمعنى تبين واتضح لكنه اعتبر فيها دلالة الغير والبيان له، وأخذها بعضهم من صيغة المبالغة، والتنوين فيها هنا للتعظيم أي بينة عظيمة الشأن، والمراد بها القرآن وباعتبار ذلك أو البرهان ذكر الضمير الراجع إليها في قوله سبحانه: وَيَتْلُوهُ أي يتبعه شاهِدٌ عظيم يشهد بكونه من عند الله تعالى شأنه وهو- كما قال الحسين بن الفضل- الإعجاز في نظمه، ومعنى كون ذلك تابعا له أنه وصف له لا ينفك عنه حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها فلا يستطيع أحد من الخلق جيلا بعد جيل معارضته ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. وكان الضمير في مِنْهُ وهو متعلق بمحذوف وقع صفة لشاهد، ومعنى كونه منه أنه غير خارج عنه. وجوز أن يكون هذا الضمير راجعا إلى الرب سبحانه، ومعنى كونه منه تعالى أنه وارد من جهته سبحانه للشهادة، وعلى هذا يجوز أن يراد بالشاهد المعجزات الظاهرة على يد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإنها من الشواهد التابعة للقرآن الواردة من قبله عز وجل، وأمر التبعية فيها ظاهر، والمراد بالموصول كل من اتصف بتلك الكينونة من المؤمنين. وعن أبي العالية أنه النبي عليه الصلاة والسلام ولا يخفى أن قوله سبحانه الآتي: أُولئِكَ إلخ لا يلائمه إلا أن يحمل على التعظيم، وأيضا إن السياق كما ستعلم إن شاء الله تعالى للفرق بين الفريقين المؤمنين ومن يريد الحياة الدنيا لا بينهم وبين النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفسر أبو مسلم وغيره البينة بالدليل العقلي، والشاهد بالقرآن وضمير مِنْهُ لله تعالى، ومن ابتدائية، أو للقرآن فقد تقدم ذكره، ومن حينئذ إما بيانية، وإما تبعيضية بناء على أن القرآن ليس كله شاهدا وليس من التجريد على ما توهم الطيبي، فيكون في الآية إشارة إلى الدليلين العقلي، والسمعي، ومعنى كون الثاني تابعا للأول على ما قيل: إنه موافق له لا يخالفه أصلا، ومن هنا قالوا: إن النقل الصحيح لا يخالف العقل الصريح، ولذا أولوا الدليل السمعي إذا خالف ظاهره الدليل العقلي، ولعل في التعبير عن الأول بالبينة التي جاء إطلاقها في كلام الشارع على شاهدين، وعن الثاني بالشاهد الإيماء إلى أن الدليل العقلي أقوى دلالة من الدليل السمعي لأن دلالة الأول قطعية، ودلالة الثاني ظنية غالبا للاحتمالات الشهيرة التي لا يمكن القطع معها، وقد يقال: إن التعبير عن الثاني بالشاهد لمكان التلو. وعن ابن عباس، ومجاهد، والنخعي، والضحاك، وعكرمة، وأبي صالح، وسعيد بن جبير أن البينة القرآن، والشاهد هو جبريل عليه السلام- ويتلو- من التلاوة لا التلو، وضمير مِنْهُ لله تعالى، وفي رواية عن مجاهد أن الشاهد ملك يحفظ القرآن وليس المراد الحفظ المتعارف لأنه- كما قال ابن حجر- خاص بجبريل عليه السلام، وضمير مِنْهُ كما في سابقه إلا أن يتلو من التلو والضمير المنصوب للبينة، وقيل: لمن كان عليها، وعن الفراء أن الشاهد هو الإنجيل، وَيَتْلُوهُ وضمير مِنْهُ على طرز ما روي عن مجاهد سوى أن ضمير- يتلوه- للقرآن. وأخرج أبو الشيخ عن محمد بن الحنفية أن الشاهد لسانه صلّى الله عليه وسلّم، وقد ذكر أهل اللغة ذلك، وكذا الملك من معانيه، ويتلو- حينئذ من التلاوة، والإسناد مجازي ومفعوله للبينة، وضمير مِنْهُ للرسول صلّى الله عليه وسلّم بناء على أنه المراد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 228 بالموصول، ومن تبعيضية، وقيل: الشاهد صورته عليه الصلاة والسلام ومخائله لأن كل عاقل يراه يعلم أنه عليه الصلاة والسلام رسول الله. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: «ما من رجل من قريش إلا نزل فيه طائفة من القرآن، فقال له رجل: ما نزل فيك؟ قال: أما تقرأ سورة هود أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ الآية من كان على بينة من ربه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا شاهد منه» ، وأخرج المنهال عن عبادة بن عبد الله مثله، وأخرج ابن مردويه بوجه آخر عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ أنا وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ علي. وأخرج الطبرسي نحو ذلك عن بعض أهل البيت رضي الله تعالى عنهم وتعلق به بعض الشيعة في أن عليا كرم الله تعالى وجهه هو خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأن الله تعالى سماه شاهدا كما سمى نبيه عليه الصلاة والسلام كذلك في قوله سبحانه: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً [الفتح: 8] والمراد شاهِداً على الأمة كما يشهد له عطف مُبَشِّراً وَنَذِيراً عليه فينبغي أن يكون مقامه كرم الله تعالى وجهه بين الأمة كمقامه عليه الصلاة والسلام بينهم. وحيث أخبر سبحانه أنه يتلوه أي يعقبه ويكون بعده دل على أنه خليفته، وأنت تعلم أن الخبر مما لا يكاد يصح، وفيما سيأتي في الآية إن شاء الله تعالى إباء عنه، ويكذبه ما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والطبراني في الأوسط عن محمد بن الحنفية رضي الله تعالى عنه قال: قلت لأبي كرم الله تعالى وجهه: إن الناس يزعمون في قول الله تعالى: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ أنك أنت التالي؟ قال: وددت أني هو ولكنه لسان محمد صلّى الله عليه وسلّم، على أن في تقرير الاستدلال ضعفا وركاكة بلغت الغاية القصوى كما لا يخفى على من له أدنى فطنة. ونقل أبو حيان أن هذا الشاهد هو أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وفيه ما فيه، وفي عطف- يتلوه- احتمالان: الأول أن يكون على ما وقع صفة لبينة، والثاني أن يكون على جملة «كان» ومرفوعها، وقوله سبحانه: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى عطف على شاهِدٌ والضمير المجرور له، وقد توسط الجار والمجرور بينهما، والظاهر أنه متعلق بمحذوف وقع حالا من الكتاب أي وَيَتْلُوهُ في التصديق كِتابُ مُوسى منزلا من قبله، وحاصله أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ويشهد لصدقه شاهد منه وشاهد آخر من قبله وهو كتاب موسى، قيل: وإنما قدم في الذكر المؤخر في النزول لكونه وصفا لازما له غير مفارق عنه ولعراقته في وصف التلو، وهذا على تقدير أن يكون المراد بالشاهد الإعجاز- كما اختاره بعض المحققين- وقد يقال: إن تأخير بيان شهادة هذا الشاهد عن بيان شهادة الشاهد الأول لأنها ليست في الظهور عند الأمة كشهادة الأول وهو جار على غير ذلك التقدير أيضا، وتخصيص كتاب موسى عليه السلام بالذكر بناء على عدم إرادة الإنجيل فيما تقدم لأن الملتين مجتمعتان على أنه من عند الله تعالى بخلاف الإنجيل فإن اليهود مخالفون فيه فكان الاستشهاد بما تقوم به الحجة على الفريقين أولى. وأوجب بعضهم كون وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى جملة مبتدأة غير داخلة في حيز شيء مما قبلها وهو مبني على كثير من الاحتمالات السابقة في الشاهد، وقرأ محمد بن السائب الكلبي وغيره كِتابُ بالنصب على أنه معطوف على مفعول- يتلوه- أو منصوب بفعل مقدر أي ويتول كتاب موسى، والأول أولى لأن الأصل عدم التقدير، ويتلو في هذه القراءة من التلاوة، والضمير المنصوب للقرآن والمجرور لمن، ومِنْ تبعيضية لا تجريدية، والمعنى على ما يقتضيه كلام الكشاف أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ على أن القرآن حق لا مفترى، والمراد به أهل الكتاب ممن كان يعلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الحق وأن كتابه هو الحق لما كانوا وجدوه في التوراة، ويقرأ القرآن شاهد من هؤلاء، ويقرأ من قبل القرآن كتاب موسى، والمراد بهذا الشاهد ما أريد به في قوله سبحانه: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 229 إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ [الأحقاف: 10] وهو عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه، ففي الآية مدح أهل الكتاب وخص من بينهم تالي الكتابين وشاهدهم بالذكر دلالة على مزيد فضله وتنبيها على أنهم مشايعوه في اتباع الحق وإن لم يبلغوا رتبة الشاهد، وفي قوله تعالى: يَتْلُوهُ استحضار للحال ودلالة على استمرار التلاوة، وهو كما قيل في غاية التطابق للكلام إِماماً، أي مؤتما به في الدين ومقتدى، وفي التعرض لهذا الوصف مع بيان تلو الكتاب ما لا يخفى من تفخيم شأن المتلو والتنوين فيه للتعظيم، وكذا في قوله سبحانه: وَرَحْمَةً أي نعمة عظيمة على من أنزل إليهم ومن بعدهم إلى يوم القيامة باعتبار أحكامه الباقية المؤيدة بالقرآن العظيم وهما حالان من الكتاب أُولئِكَ أي الموصوفون بتلك الصفة الحميدة وهي الكون على بينة يُؤْمِنُونَ بِهِ أي يصدقون بالقرآن حق التصديق حسبما يشهد به تلك الشواهد الحقة المعربة عن حقيته ولا يقلدون أحدا من عظماء الدين فالضمير للقرآن، وقيل: إنه لكتاب موسى عليه السلام لأنه أقرب ولا يناسب ما بعد، وإن لم يك خاليا عن الفائدة، وقيل: إنه للنبي صلّى الله عليه وسلّم وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ أي بالقرآن ولم يعتد بتلك الشواهد الحقة ولم يصدق بها مِنَ الْأَحْزابِ من أهل مكة ومن تحزب معهم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قاله بعضهم، وأخرج عبد الرزاق عن قتادة أن الأحزاب الكفار مطلقا فإنهم تحزبوا على الكفر، وروي ذلك عن ابن جبير، وفي رواية أبي الشيخ عن قتادة أنهم اليهود والنصارى، وقال السدي: هم قريش، وقال مقاتل: هم بنو أمية وبنو المغيرة ابن عبد الله المخزومي وآل أبي طلحة بن عبيد الله فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ أي يردها لا محالة حسبما نطق به قوله سبحانه: لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وآيات أخر، والموعد اسم مكان الوعد كما في قول حسان: أوردتموها حياض الموت ضاحية ... فالنار موعدها والموت لاقيها وفي جعل النار موعدا إشعار بأن له فيها ما لا يوصف من أفانين العذاب فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ أي في شك من أمر القرآن وكونه من عند الله تعالى غبّ ما شهدت به الشواهد وظهر فضل من تمسك به، أو لا تك في شك من كون النار موعدهم، وادعى بعضهم أنه الأظهر وليس كذلك، وأيا ما كان فالخطاب إن كان عاما لمن يصلح له فالمراد التحريض على النظر الصحيح المزيل للشك، وإن كان للنبي صلّى الله عليه وسلّم فهو بيان لأنه ليس محلا للشك تعريضا بمن شك فيه ولا يلزم من نهيه عليه الصلاة والسلام عنه وقوعه ولا توقعه منه صلّى الله عليه وسلّم، وقرأ السلمي وأبو رجاء وأبو الخطاب السدوسي والحسن مِرْيَةٍ بضم الميم وهي لغة أسد وتميم، والكسر لغة أهل الحجاز إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أي الذي يربيك في دينك ودنياك وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ بذلك إما لقصور أنظارهم واختلال أفكارهم وإما لاستكبارهم وعنادهم والنَّاسِ على ما روي عن ابن عباس أهل مكة، وقال صاحب الفينان: جميع الكفار، هذا والهمزة في أَفَمَنْ قيل: للتقرير ومن- مبتدأ والخبر محذوف أي أفمن كان كذا كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها، وحذف معادل الهمزة ومثله كثير، واختار هذا أبو حيان، والذي يقتضيه كلام الزمخشري- ولعله الأولى- خلافه حيث قال: المعنى أمن كان يريد الحياة الدنيا كمن كان على بينة أي لا يعقبونهم ولا يقاربونهم في المنزلة إلى آخر ما قال، وحاصله على ما في الكشف أن الفاء عاطفة للتعقيب مستدعية ما يعطف عليه وهو الدال عليه قوله سبحانه: مَنْ كانَ الآية، فالتقدير أمن كان يريد الحياة الدنيا على أنها موصولة فمن كان على بينة من ربه، والخبر محذوف لدلالة الفاء أي يعقبونهم أو يقربونهم، والاستفهام للإنكار فيفيد أن لا تقارب بين الفريقين فضلا عن التماثل فلذلك صار أبلغ من نحو قوله تعالى: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً [السجدة: 18] وأما إنها عطف على قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا فلا وجه له لأنه يصير من عطف الجملة، ولا يدل على إنكار التماثل، ولا معنى لتقدير الاستفهام في الأول فإن الشرط والجزاء لا إنكار عليه انتهى، وهو جار على أحد مذهبين للنحاة في مثله، ويعلم مما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 230 تقرر أن الآية مرتبطة بقوله سبحانه: مَنْ كانَ إلخ، ومساقها عند شيخ الإسلام للترغيب أيضا فيما ذكر من الإيمان بالقرآن والتوحيد والإسلام، وادعى الطبرسي أنها مرتبطة بقوله تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ [هود: 13] وأن المراد أنهم إذا لم يأتوا بذلك فقل لهم: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ ولا بينة على ذلك. وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن نسب إليه ما لا يليق به كقولهم: الملائكة بنات الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وقولهم لآلهتهم: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: 18] والمراد من الآية ذم أولئك الكفرة بأنهم مع كفرهم بآيات الله تعالى مفترون عليه سبحانه، ويجوز أن تكون لنوع آخر من الدلالة على أن القرآن ليس بمفترى، فإن من يعلم حال من يفتري على الله سبحانه كيف يرتكبه، وأن تكون من الكلام المنصف أي لا أحد أظلم مني أن أقول لما ليس بكلام الله تعالى إنه كلامه كما زعمتم، أو منكم إن كنتم نفيتم أن يكون كلامه سبحانه مع تحقق أنه كلامه جل وعلا، وفيه من الوعيد والتهويل ما لا يخفى، ويجوز عندي إذا كان ما قبل في مؤمني أهل الكتاب أن يكون هذا في بيان حال كفرتهم الذين أسندوا إليه سبحانه ما لم ينزله من المحرف الذي صنعوه ونفوا عنه سبحانه ما أنزله من القرآن أو من نعت النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأيا ما كان فالمراد نفي أن يكون أظلم من ذلك أو مساويا في الظلم على ما تقدم أُولئِكَ أي الموصوفون بالظلم البالغ وهو الافتراء يُعْرَضُونَ من حيث إنهم موصوفون بذلك عَلى رَبِّهِمْ أي مالكهم الحق والمتصرف فيهم حسبما يريد، وفيه على ما قيل: إيماء إلى بطلان رأيهم في اتخاذهم أربابا من دونه سبحانه وتعالى، وجعل بعضهم الكلام على تقدير المضاف أي تعرض أعمالهم، أو على ارتكاب المجاز ولا يحتاج إلى ذلك على ما أشير إليه لأن عرضهم من تلك الحيثية وبذلك العنوان عرض لأعمالهم على وجه أبلغ فإن عرض العامل بعمله أفظع من عرض عمله مع غيبته، والظاهر أنه لا حذف في قوله سبحانه: عَلى رَبِّهِمْ ويفوض من يقف على الله. وقيل: هناك مضاف محذوف أي على ملائكة ربهم وأنبياء ربهم وهم المراد بالأشهاد في قوله تعالى: وَيَقُولُ الْأَشْهادُ وتفسيرهم بالملائكة مطلقا هو المروي عن مجاهد، وعن ابن جريج تفسيرهم بالحفظة من الملائكة عليهم السلام، وقيل: المراد بهم الملائكة، والأنبياء، والمؤمنون، وقيل: جوارحهم، وعن مقاتل وقتادة هم جميع أهل الموقف، وهو جمع شاهد بمعنى حاضر- كصاحب وأصحاب- بناء- على جواز جمع فاعل على أفعال، أو جمع شهيد بمعناه كشريف وأشراف أي ويقول الحاضرون عند العرض أو في موقف القيامة هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ ويحتمل أن يكون شهادة على تعيين من صدر منه الكذب كأن وقوعه أمر واضح غني عن الشهادة، وإنما المحتاج إليها ذلك ولذا لم يقولوا: هؤلاء كذبوا بدون الموصول، ويحتمل أن يكون ذما لهم بتلك الفعلة الشنيعة لا شهادة عليهم كما يشعر به قوله تعالى: وَيَقُولُ دون ويشهد، وتوطئة لما يعقبه من قوله تعالى: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ أي بالافتراء المذكور، والظاهر أن هذا من كلام الأشهاد على الاحتمالين، ويؤيده ما أخرجه الشيخان وخلق كثير عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله تعالى يدني المؤمن حتى يضع كنفه عليه ويستره من الناس ويقرره بذنوبه ويقول له: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: رب أعرف حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ثم يعطي كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فيقول: الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين» . وجوز على الاحتمال الأول أن يكون من كلام الله تعالى، وحينئذ يجوز أن يراد بالظالمين ما يعم الظالمين بالافتراء والظالمين بغير ذلك، ويدخل فيه الأولون دخولا أولياء، ويؤيده ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران الجزء: 6 ¦ الصفحة: 231 قال: إن الرجل ليصلي ويلعن نفسه في قراءته فيقول: ألا لعنة الله على الظالمين وهو ظالم. وربما يجوز ذلك على الاحتمال الثاني أيضا، وأيّا ما كان- فهؤلاء الذين- مبتدأ وخبر، واحتمال أن يكون هؤُلاءِ مبتدأ، والَّذِينَ تابع له، وجملة أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ خبره، وقد أقيم الظاهر مقام المضمر أي عليهم لذمهم بمبدأ الاشتقاق مع الإشارة إلى علة الحكم كما ترى، وجملة- يقول الأشهاد- قيل: مستأنفة على أنها جواب سؤال مقدر كأن سائلا سأل إذ سمع أنهم يعرضون على ربهم ماذا يكون إذ ذاك؟ فأجيب بما ذكر، وقيل وهو الظاهر- إنها معطوفة على جملة يُعْرَضُونَ على معنى أولئك يعرضون ويقول الأشهاد في حقهم، أو ويقول أشهادهم والحاضرون عند عرضهم هؤُلاءِ إلخ، وكأن هذا لبيان أنها مرتبطة في التقدير بالمبتدأ كارتباط الجملة المعطوفة هي عليها به، وقيل: كفى اسم الإشارة القائم مقام الضمير للتحقير رابطا فتدبر. الَّذِينَ يَصُدُّونَ أي كل من يقدرون على صده أو يفعلون الصد عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي دينه القويم وإطلاق ذلك عليه كالصراط المستقيم مجاز وَيَبْغُونَها عِوَجاً أي يطلبون لها انحرافا، والمراد أنهم يصفونها بذلك وهي أبعد شيء عنه، وإطلاق الطلب على الوصف مجاز من إطلاق السبب على المسبب، ويجوز أن يكون الكلام على حذف مضاف أي يبغون أهلها أن ينحرفوا عنها ويرتدوا، وقيل: المعنى يطلبونها على عوج ونصب عِوَجاً على أنه مفعول به، وقيل: على أنه حال ويؤول بمعوجين وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ أي والحال أنهم لا يؤمنون بالآخرة، وتكرير الضمير لتأكيد كفرهم واختصاصهم به لأنه بمنزلة الفصل فيفيد الاختصاص وضربا من التأكيد، والاختصاص ادعائي مبالغة في كفرهم بالآخرة كأن كفر غيرهم بها ليس بكفر في جنبه، وقيل: إن التكرير للتأكيد وتقديم بِالْآخِرَةِ للتخصيص، والأولى كون تقديمه لرؤوس الآي. أُولئِكَ الموصوفون بما يوجب التدمير لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ لله تعالى مفلتين أنفسهم من أخذه لو أراد ذلك فِي الْأَرْضِ مع سعتها وإن هربوا منها كل مهرب بعضهم كناية عن الدنيا وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ينصرونهم من بأسه ولكن أخر ذلك لحكمة تقتضيه. ومِنْ زائدة لاستغراق النفي، وجمع أَوْلِياءَ إما باعتبار أفراد الكفرة كأنه قيل: وما كان لأحد منهم من ولي، أو باعتبار تعدد ما كانوا يدعون من دون الله تعالى فيكون ذلك بيانا لحال آلهتهم من سقوطها عن رتبة الولاية يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ جملة مستأنفة بين فيها ما يكون لهم ويحل بهم، وادعى أنها تتضمن حكمة تأخير المؤاخذة، وزعم بعضهم أنها من كلام الأشهاد، وهي دعائية ليس بشيء. وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب- «يضعّف» - بالتشديد ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ أي إنهم كانوا يستثقلون سماع الحق الذي جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم ويستكرهونه إلى أقصى الغايات حتى كأنهم لا يستطيعونه، وهو نظير قول القائل: العاشق لا يستطيع أن يسمع كلام العاذل، ففي الكلام استعارة تصريحية تبعية، ولا مانع من اعتبار الاستعارة التمثيلية بدلها وإن قيل به، وبالجملة لا ترد الآية على المعتزلة وكذا على أهل السنة لأنهم لا ينفون الاستطاعة رأسا وإن منعوا إيجاد العبد لشيء ما، وكأنه لما كان قبح حالهم في عدم إذعانهم للقرآن الذي طريق تلقيه السمع أشد منه في عدم قبولهم سائر الآيات المنوطة بالإبصار. بالغ سبحانه في نفي الأول عنهم حسبما علمت واكتفى في الثاني بنفي الإبصار فقال عز قائلا: وَما كانُوا يُبْصِرُونَ أي أنهم كانوا يتعامون عن آيات الله تعالى المبسوطة في الأنفس والآفاق، وكأن الجملة جواب سؤال مقدر عن علة مضاعفة العذاب كأنه قيل: ما لهم استوجبوا تلك المضاعفة؟ فقيل: لأنهم كرهوا الحق أشد الكراهة واستثقلوا سماعه أعظم الاستثقال وتعاموا عن آيات الملك المتعال، ولا يشكل على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 232 هذا قوله سبحانه: مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الأنعام: 160] بناء على أن المراد بمثل السيئة ما تقتضيه من العقاب عند الله تعالى فلعل ما فعلوه من السيئات يقتضي تلك المضاعفة فتكون هي المثل كما أن مثل سيئة الكفر هو الخلود في النار، وقيل: إن المضاعفة لافترائهم وكذبهم على ربهم وصدّهم عن سبيل الله تعالى وبغيهم إياها العوج وكفرهم بالآخرة- على ما يدل عليه نسبة مضاعفة العذاب إلى هؤلاء الموصوفين بتلك الصفات- وبه جمع بين ما هنا وقوله سبحانه: مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ [الأنعام: 106] الآية، ولعل التعليل بما تفيده الجملة على هذا لأنه الأصل الأصيل لسائر قبائحهم ومعاصيهم. وزعم بعضهم أن المضاعفة لحفظ الأصل إذ لولا ذلك لارتفع ولم يبق عذابا للألف بطول الأمد وفيه ما فيه، وقيل: إن الجملة بيان لما نفي من ولاية الآلهة فإن ما لا يسمع ولا يبصر بمعزل عن الولاية وقوله سبحانه: يُضاعَفُ إلخ اعتراض وسط بينهما نعيا عليهم من أول الأمر بسوء العاقبة، وفيه أنه مخالف للسياق ومستلزم تفكيك الضمائر، وجوز أبو البقاء أن تكون ما مصدرية ظرفية أي يضاعف لهم العذاب مدة استطاعتهم السمع وإبصارهم، والمعنى أن العذاب وتضعيفه دائم لهم متماد، وأجاز الفراء أن تكون مصدرية وحذف حرف الجر منها كما يحذف من أن وأن، وفيه بعد لفظا ومعنى أُولئِكَ الموصوفون بتلك القبائح. الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ باشتراء عبادة الآلهة بعبادة الله تعالى شأنه، وقيل: خَسِرُوا بسبب تبديلهم الهداية بالضلالة والآخرة بالدنيا وضاع عنهم ما حصلوه بذلك التبديل من متاع الحياة الدنيا والرياسة. وفي البحر أنه على حذف مضاف أي خَسِرُوا سعادة أنفسهم وراحتها فإن أنفسهم باقية معذبة. وتعقب بأن إبقاءه على ظاهره أولى لأن البقاء في العذاب كلا بقاء وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ من الآلهة وشفاعتها لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ أي لا أحد أبين أو أكثر خسرانا منهم، فأفعل للزيادة إما في الكم أو الكيف، وتعريف المسند بلام الجنس لإفادة الحصر، وإن جعل هُمُ ضمير فصل أفاد تأكيد الاختصاص، وإن جعل مبتدأ وما بعده خبره والجملة خبر أن أفاد تأكيد الحكم، وفي لا جَرَمَ أقوال: ففي البحر عن الزجاج أن- لا- نافية ومنفيها محذوف أي لا ينفعهم فعلهم مثلا، وجرم- فعل ماض بمعنى كسب يقال: جرمت الذنب إذا كسبته وقال الشاعر: نصبنا رأسه في جذع نخل ... بما «جرمت» يداه وما اعتدينا وما بعده مفعوله، وفاعله ما دل عليه الكلام أي كسب ذلك أظهرية أو أكثرية خسرانهم، وحكي هذا عن الأزهري، ونقل عن سيبويه أن- لا- نافية حسبما نقل عن الزجاج، وجرم- فعل ماض بمعنى حق، وما بعد فاعله كأنه قيل: لا ينفعهم ذلك الفعل حق أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ إلخ. وذكر أبو حيان أن مذهب سيبويه وكذا الخليل أيضا كون مجموع لا جَرَمَ بمعنى حق وأن ما بعده رفع به على الفاعلية، وقيل: لا صلة وجَرَمَ فعل بمعنى كسب أو حق، وعن الكسائي أن لا نافية وجَرَمَ اسمها مبني معها على الفتح نحو لا رجل، والمعنى لا ضد ولا منع، والظاهر أن الخبر على هذا محذوف وحذف حرف الجر من أن ويقدر حسبما يقتضيه المعنى، وقيل: إن جَرَمَ اسم لا ومعناه القطع من جرمت الشيء أي قطعته، والمعنى لا قطع لثبوت أكثرية خسرانهم أي إن ذلك لا ينقطع في وقت فيكون خلافه. ونقل السيرافي عن الزجاج أن لا جَرَمَ في الأصل بمعنى لا يدخلنكم في الجرم أي الإثم كإثمه أي أدخله في الإثم، ثم كثر استعماله حتى صار بمعنى لا بد، ونقل هذا المعنى عن الفراء، وفي البحر أن جَرَمَ عليه اسم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 233 لا، وقيل: إن جَرَمَ بمعنى باطل إما على أنه موضوع له، وإما أنه بمعنى كسب والباطل محتاج له، ومن هنا يفسر لا جَرَمَ بمعنى حقا لأن الحق نقيض الباطل، وصار لا باطل يمينا كلا كذب في قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنا النبي لا كذب» وفي القاموس أنه يقال: لا جَرَمَ ولاذا جرم ولا أن ذا جرم ولا عن ذا جرم ولا جرم ككرم، ولا جَرَمَ بالضم أي لا بد أو حقا أو لا محالة وهذا أصله ثم كثر حتى تحول إلى معنى القسم فلذلك يجاب عنه باللام، فيقال: لا جَرَمَ لآتينك انتهى، وفيه مخالفة لما نقله السيرافي عن الزجاج، وما ذكره من لا جَرَمَ ككرم رواه بعضهم عن أبي عمرو في الآية، ومن لا ذا جرم حكاه الفراء عن بني عامر، وحكي أيضا لا جَرَمَ بالضم عن أناس من العرب، ولكن قال الشهاب: إن في ثبوت هذه اللغة في فصيح كلامهم ترددا، وجرم فيها يحتمل أن يكون اسما وأن يكون فعلا مجهولا سكن للتخفيف، وحكى بعضهم لا ذو جرم ولا عن جرم ولا جر بحذف الميم لكثرة الاستعمال كما حذفت الفاء من سوف لذلك في قولهم: سو ترى. والظاهر أن المقحمات بين لا وجَرَمَ زائدة، وإليه يشير كلام بعضهم، وحكي بغير لا جرم أنك أنت فعلت ذاك، ولعل المراد أن كونك الفاعل لا يحتاج إلى أن يقال فيه لا جرم فليراجع ذاك والله تعالى يتولى هداك. ثم إنه تعالى لما ذكر طريق الكفار وأعمالهم وبين مصيرهم وما لهم شرع في شرح حال أضدادهم وهم المؤمنون وبيان ما لهم من العواقب الحميدة تكملة لما سلف من محاسن المؤمنين المذكورة عند جمع في قوله سبحانه: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ الآية ليتبين ما بينهما من التباين البين حالا ومآلا فقال عز من قائل: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا أي صدقوا بكل ما يجب التصديق به من القرآن وغيره ولا يكون ذلك إلا باستماع الحق ومشاهدة الآيات الآفاقية والأنفسية والتدبر فيها، أو المعنى فعلوا الإيمان واتصفوا به كما في فلان يعطي ويمنع وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الأعمال الصالحات ولعل المراد بها ما يشمل الترغيب في سلوك سبيل الله عز وجل ونحوه مما على ضده فريق الكفار وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أي اطمأنوا إليه سبحانه وخشعوا له، وأصل الإخبات نزول الخبت وهو المنخفض من الأرض، ثم أطلق على اطمئنان النفس والخشوع تشبيها للمعقول بالمحسوس ثم صار حقيقة فيه، ومنه الخبيت بالتاء المثناة للدنيء، وقيل: إن التاء بدل من الثاء المثلثة أُولئِكَ المنعوتون بتلك النعوت الجليلة الشأن أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون أبدا وليس المراد حصر الخلود فيها لأن العصاة من المؤمنين يدخلون الجنة عند أهل الحق ويخلدون فيها، ولعل من يدعي ذلك يريد بنفي الخلود عن العصاة نقصه من أوله كما قيل به فيما ستسمعه إن شاء الله تعالى مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ المذكورين من المؤمنين والكفار أي حالهما العجيب، وأصل المثل كالمثل النظير ثم استعير لقول شبه مضربه بمورده ولا يكون إلا لما فيه غرابة وصار في ذلك حقيقة عرفية، ومن هنا يستعار للقصة والحال والصفة العجيبة. كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ أي كحال من جمع بين العمى والصمم، ومن جمع بين البصر والسمع فهناك تشبيهان: الأول تشبيه حال الكفرة الموصوفين بالتعامي والتصام عن آيات الله تعالى بحال من خلق أعمى أصم لا تنفعه عبارة ولا إشارة، والثاني تشبيه حال الذين آمنوا وعملوا الصالحات فانتفعوا بأسماعهم وأبصارهم اهتداء إلى الجنة وانكفاء عما كانوا خابطين فيه من ضلال الكفر والدجنة بحال من هو بصير سميع يستضيء بالأنوار في الظلام ويستفيء بمغانم الإنذار والإبشار فوزا بالمرام، والعطف لتنزيل تغاير الصفات منزلة تغاير الذوات كما في قوله: يا لهف زيابة للحرث الص ... ابح فالغانم فالآيب ويحتمل أن يكون هناك أربع تشبيهات بأن يعتبر تشبيه حال كل من الفريقين الفريق الكافر والفريق المؤمن بحال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 234 اثنين أي مثل الفريق الكافر كالأعمى ومثله أيضا كالأصم، ومثل الفريق المؤمن كالبصير ومثله أيضا كالسميع، وقد يعتبر تنويع كل من الفريقين إلى نوعين فيشبه نوع من الكفار بالأعمى ونوع منهم بالأصم ويشبه نوع من المؤمنين بالبصير ونوع منهم بالسميع، واستبعد ذلك إذ تقسيم الكفار إلى مشبه بالأول ومشبه بالثاني وكذلك المؤمنون غير مقصود البتة بدليل نظائره في الآيات الأخر كقوله سبحانه: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ [فاطر: 19، غافر: 58] وكقوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [البقرة: 7] في الكفار الخلص، وقوله تبارك وتعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [البقرة: 18، 171] في المنافقين، وللآية على احتمالاتها شبه في الجملة بقول امرئ القيس: كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي فتدبره، وقد يعتبر التشبيه تمثيليا بأن ينتزع من حال الفريق الأول في تصامهم وتعاميهم المذكورين ووقوعهم بسبب ذلك في العذاب المضاعف والخسران الذي لا خسران فوقه هيئة منتزعة ممن فقد مشعري البصر والسمع فتخبط في مسلكه فوقع في مهاوي الردى ولم يجد إلى مقصده سبيلا، وينتزع من حال الفريق الثاني في استعمال مشاعرهم في آيات الله تعالى حسبما ينبغي وفوزهم بدار الخلود هيئة تشبه بهيئة منتزعة ممن له بصر وسمع يستعملهما في مهماته فيهتدي إلى سبيله وينال مرامه، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر. ولعل أظهر الاحتمالات ما أشير إليه أولا، والكلام من باب اللف والنشر، واللف إما تقديري إن اعتبر في الفريقين لأنه في قوة الكافرين والمؤمنين، أو تحقيقي إن اعتبر فيما دل عليه قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى إلخ، وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا الآية، وأمر النشر ظاهر، ولا يخفى ما فيه من الطباق بين الأعمى والبصير وبين الأصم والسميع، وقدم ما للكافرين قيل: مراعاة لما تقدم ولأن السياق لبيان حالهم، وقدم الأعمى على الأصم لكونه أظهر وأشهر في سوء الحال منه. وفي البحر إنما لم يجىء التركيب كالأعمى والبصير، والأصم والسميع ليكون كل من المتقابلين على إثر مقابلة لأنه تعالى لما ذكر انسداد العين أتبعه بانسداد السمع، ولما ذكر انفتاح البصر أتبعه بانفتاح السمع وذلك هو الأسلوب في المقابلة والأتم في الإعجاز، وسيأتي إن شاء الله تعالى نظير ذلك في قوله سبحانه: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى [طه: 118، 119] ثم الظاهر مما تقدم أن الكلام على حذف مضاف وهو مجرور بالكاف، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبرا عن مثل. وجوز أن تكون الكاف نفسها خبر المبتدأ ويكون معناها معنى المثل، ولا حاجة إلى تقدير مضاف أي مثل الفريقين مثل الأعمى والأصم والبصير والسميع هَلْ يَسْتَوِيانِ يعني الفريقين المذكورين، والاستفهام إنكاري مذكر على ما قيل: لما سبق من إنكار المماثلة في قوله سبحانه: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ إلخ مَثَلًا أي حالا وصفة ونصبه على التمييز المحول عن الفاعل، والأصل هل يستوي مثلهما. وجوز ابن عطية أن يكون حالا، وفيه بعد أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي أتشكون في عدم الاستواء وما بينهما من التباين أو تغفلون عنه فلا تتذكرونه بالتأمل فيما ذكر لكم من المثل، فالهمزة للاستفهام الإنكاري وهو وارد على المعطوفين معا أو أتسمعون هذا فلا تتذكرون فيكون الإنكار واردا على عدم التذكر بعد تحقق ما يوجب وجوده وهو المثل المضروب أي أفلا تفعلون التذكر، أو أفلا تعقلون، ومعنى إنكار عدم التذكر استبعاده من المخاطبين وأنه مما لا يصح أن يقع، وليس من قبيل الإنكار في أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وهَلْ يَسْتَوِيانِ فإن ذلك لنفي المماثلة ونفي الاستواء، ثم إنه تعالى شرع في ذكر قصص الأنبياء الداعين إلى الله تعالى وبيان حالهم مع أممهم ليزداد صلّى الله عليه وسلّم تشميرا في الدعوة وتحملا لما يقاسيه من المعاندين، فقال عز من قائل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ الواو ابتدائية الجزء: 6 ¦ الصفحة: 235 واللام واقعة في جواب قسم محذوف ويقدر حرفه ياء لا واو وإن كان هو الشائع لئلا يجتمع واوان. وبعضهم يقدرها- ولا يبالي بذلك.. ونوح في المشهور ابن لمك بن متوشلخ بن إدريس عليه السلام وأنه أول نبي بعث بعده قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: بعث عليه السلام على رأس أربعين من عمره ولبث يدعو قومه ما قص الله تعالى ألف سنة إلا خمسين عاما وعاش بعد الطوفان ستين سنة وكان عمره ألفا وخمسين سنة. وقال مقاتل: بعث وهو ابن مائة سنة، وقيل: ابن خمسين، وقيل: ابن مائتين وخمسين ومكث يدعو قومه ما قص سبحانه وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة فكان عمره ألفا وأربعمائة وخمسين سنة إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ بالكسر على إرادة القول أي فقال أو قائلا. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالفتح على إضمار حرف الجر أي ملتبسا بذلك الكلام وهو إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ فلما اتصل الجار فتح كما فتح في كان، والمعنى على الكسر وهو قولك: إن زيدا كالأسد بناء على أن كان مركبة وليست حرفا برأسه، وليس في ذلك خروج من الغيبة إلى الخطاب خلافا لأبي علي، ولعل الاقتصار على ذكر كونه عليه السلام نذيرا لأنهم لم يغتنموا مغانم إبشاره عليه السلام مُبِينٌ أي موضح لكم موجبات العذاب ووجه الخلاص منه أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ أي بأن لا تعبدوا إلا الله على أن أَنْ مصدرية والباء متعلقة- بأرسلنا- ولا ناهية أي أرسلناه ملتبسا بنهيهم عن الإشراك إلا أنه وسط بينهما بيان بعض أوصافه ليكون أدخل في القبول ولم يفعل ذلك في صدر السورة لئلا يكون من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه، وجوز كون أَنْ وما بعدها في تأويل مصدر مفعولا- لمبين- أي مبينا النهي عن الإشراك، ويجوز أن تكون أَنْ مفسرة متعلقة- بأرسلنا- أو- بنذير- أو- بمبين- أي أرسلناه بشيء أو نذير بشيء أو مبين شيئا هو أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ لكن قيل: الإنذار في هذا غير ظاهر وهذا على قراءة الكسر فيما مر، وأما على قراءة الفتح فإن لا إلخ بدل من إِنِّي لَكُمْ إلخ ويقدر القول بعد أَنْ فيكون التقدير أرسلناه بقوله: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ، وبقوله لا تَعْبُدُوا فهو بدل البعض أو الكل على المبالغة، وادعاء أَنْ الإنذار كله هو، وجاز أن لا يقدر القول، فالأظهر حينئذ بدل الاشتمال، ومن زعم أنه كذلك مطلقا إذ لا علاقة بينهما بجزئية أو كلية فقد غفل عن أنه على تقدير القول يكون قوله تعالى: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ المعلل به النهي من جملة المقول، وهو إنذار خاص فيكون ذلك بعضا له أو كلّا على الادعاء، والظاهر أن المراد- باليوم- يوم القيامة، وجوز أن يكون يوم الطوفان، ووصفه- بالأليم- أي المؤلم على الإسناد المجازي لأن المؤلم هو الله سبحانه نزل الظرف منزلة الفاعل نفسه لكثرة وقوع الفعل فيه، فجعل كأنه وقع الفعل منه، وكذا وصف العذاب بذلك في غير موضع من القرآن العظيم ويمكن اعتباره هنا أيضا، وجعل الجر للجوار، ووجه التجوز حينئذ أنه جعل وصف الشيء لقوة تلبسه به كأنه عينه فأسند إليه ما يسند إلى الفاعل، ونظير ذلك على الوجهين نهاره صائم، وجد جده، وقد يقال: إن وصف العذاب بالإيلام حقيقة عرفية ومثله يعدّ فاعلا في اللغة، فيقال: آلمه العذاب من غير تجوز، قيل: وهذه المقالة- وكذا ما في معناها- مما قص في غير آية لما لم تصدر عنه عليه السلام مرة واحدة بل كان يكررها في مدته المتطاولة حسبما نطق به قوله تعالى حكاية عنه: رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً [نوح: 5] الآيات عطف على فعل الإرسال المقارن لها أو القول المقدر بعده جوابهم المتعرض لأحوال المؤمنين الذين اتبعوه بعد اللتيا والتي بالفاء التعقيبية فقال سبحانه: فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ أي الأشراف منهم- وهو كما قال غير واحد- من قولهم: فلان مليء بكذا إذا كان قادرا عليه لأنهم ملئوا بكفاية الأمور وتدبيرها، أو لأنهم متمالئون أي متظاهرون متعاونون، أو لأنهم يملؤون القلوب جلالا والعيون جمالا والأكف نوالا، أو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 236 لأنهم مملؤون بالآراء الصائبة والأحلام الراجحة على أنه من الملأ لازما، ومتعديا ووصفهم بالكفر لذمهم والتسجيل عليهم بذلك من أول الأمر لا لأن بعض أشرافهم ليسوا بكفرة. ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا أرادوا ما أنت إلا بشر مثلنا ليس فيك مزية تخصك من بيننا بالنبوة ولو كان ذلك لرأيناه لا أن ذلك محتمل لكن لا نراه، وكذا الحال في وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ فالفعلان من رؤية العين- وبشرا واتبعك- حالان من المفعول بتقدير قد في الثاني أو بدونه على الخلاف ويجوز أن يكونا من رؤية القلب وهو الظاهر فهما حينئذ المفعول الثاني، وتعلق الرأي في الأول بالمثلية لا البشرية فقط، ويفهم من الكشاف أن في الآية وجهين: الأول أنهم أرادوا التعريض بأنهم أحق بالنبوة كأنهم قالوا: هب أنك مثلنا في الفضيلة والمزية من كثرة المال والجاه فلم اختصصت بالنبوة من دوننا، والثاني أنهم أرادوا أنه ينبغي أن يكون ملكا لا بشرا، وتعقب هذا بأن فيه اعتزالا خفيا، وقد بينه العلامة الطيبي، ونوزع في ذلك ففي الكشف أن قولهم مِثْلَنا علية لتحقيق البشرية، وقولهم وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إلخ استدلال بأنهم ضعفاء العقول لا تمييز لهم، فجوّزوا أن يكون الرسول بشرا وقولهم الآتي وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ تسجيل بأن دعوى النبوة باطلة- لإدخاله عليه السلام والأراذل- في سلك على أسلوب يدل على أنهم أنقص البشر فضلا عن الارتقاء، وليس في هذا الكلام اعتزال خفي ولا المقام عنه أبي انتهى. وفي الانتصاف يجوز أن يكونوا قد أرادوا الوجهين جميعا كأنهم قالوا: من حق الرسول أن يكون ملكا لا بشرا وأنت بشر، وإن جاز أن يكون الرسول بشرا فنحن أحق منك بالرسالة، ويشهد لإرادتهم الأولى قوله في الجواب وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ ويشهد لإرادتهم الثانية وَما نَرى لَكُمْ إلخ، والظاهر أن مقصودهم ليس إلا إثبات أنه عليه السلام مثلهم وليس فيه مزية يترتب عليها النبوة ووجوب الإطاعة والاتباع، ولعل قولهم وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إلخ جواب عما يرد عليهم من أنه عليه السلام ليس مثلهم حيث اتبعه من وفق لاتباعه، فكأنهم قالوا: إنه لم يميزك اتباع من اتبعك فيوجب علينا اتباعك لأنه لم يتبعك إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا أي أخساؤنا وأدانينا، وهو جمع أرذل والأغلب الأقيس في مثله إذا أريد جمعه أن يجمع جمع سلامة كالأخسرون جمع أخسر لكنه كسر هنا لأنه صار بالغلبة جاريا مجرى الاسم، ولذا جعل في القاموس الرذل والأرذل بمعنى وهو الخسيس الدنيء، ومعنى جريانه مجرى الاسم أنه لا يكاد يذكر الموصوف معه كالأبطح والأبرق. وجوز أن يكون جمع أرذل جمع رذل فهو جمع الجمع ونظير ذلك أكالب وأكلب وكلب وكونه جمع رذل مخالف للقياس وإنما لم يقولوا: إلا أراذلنا مبالغة في استرذالهم وكأنهم إنما استرذلوهم لفقرهم لأنهم لما لم يعلموا إلا ظاهرا من الحياة الدنيا كان الأشرف عندهم الأكثر منها حظا والأرذل من حرمها ولم يفقهوا أن الدنيا بحذافيرها لا تعدل عند الله تعالى جناح بعوضة وأن النعيم إنما هو نعيم الآخرة. والأشرف من فاز به والأرذل من حرمه، ومثل هؤلاء في الجهل كثير من أهل هذا الزمان عافانا الله سبحانه مما هم فيه من الخذلان والحرمان وكان القوم على ما في بعض الأخبار حاكة وأساكفة وحجامين وأرادوا بقولهم بادِيَ الرَّأْيِ ظاهره وهو ما يكون من غير تعمق، والرأي من رؤية الفكر والتأمل، وقيل: من رؤية العين وليس بذاك. وجوز أن يكون البادي بمعنى الأول، وهو على الأول من البدو، وعلى الثاني من البدء، والباء مبدلة من الهمزة لانكسار ما قبلها وقد قرأ أبو عمرو وعيسى الثقفي بها، وانتصابه على القراءتين على الظرفية- لاتبعك- على معنى اتبعوك في ظاهر رأيهم أو أوله ولم يتأملوا ولم يتثبتوا ولو فعلوا ذلك لم يتبعوك وغرضهم من هذا المبالغة في عدم اعتبار الجزء: 6 ¦ الصفحة: 237 ذلك الاتباع وجعل ذلك بعضهم علة الاسترذال وليس بشيء، وقيل: المعنى أنهم اتبعوك في أول رأيهم أو ظاهره وليسوا معك في الباطن. واستشكل هذا التعليق بأن ما قبل إِلَّا لا يعمل فيما بعدها إلا إذا كان مستثنى منه نحو ما قام إلا زيدا القوم أو مستثنى نحو جاء القوم إلا زيدا أو تابعا للمستثنى منه نحو ما جاءني أحد إلا زيدا خير من عمرو، وبادِيَ الرَّأْيِ ليس واحدا من هذه الثلاثة في بادي الرأي وأجيب بأنه يغتفر ذلك في الظرف لأنه يتسع فيه ما لا يتسع في غيره، واستشكل أمر الظرفية بأن فاعلا ليس بظرف في الأصل، وقال مكي: إنما جاز في فاعل أن يكون ظرفا كما جاز في فعيل كقريب، ومليء لإضافته إلى الرأي وهو كثيرا ما يضاف إلى المصدر الذي يجوز نصبه على الظرفية نحو جهد رأيي أنك منطلق. وقال الزمخشري:- وتابعه غيره- أن الأصل وقت حدوث أول أمرهم أو وقت حدوث ظاهر رأيهم فحذف ذلك وأقيم المضاف إليه مقامه، ولعل تقدير الوقت ليكون نائبا عن الظرف فينتصب على الظرفية، واعتبار الحدوث بناء على أن اسم الفاعل لا ينوب عن الظرف وينتصب والمصدر ينوب عنه كثيرا فأشاروا بذكره إلى أنه متضمن معنى الحدوث بمعنييه فلذا جاز فيه ذلك، وليس مرادهم أنه محذوف إذ لا داعي لذلك في المعنى على التفسيرين، وما ذكروه هنا من أن الصفات لا ينوب منها عن الظرف إلا فعيل من الفوائد الغريبة- كما قال الشهاب- لكن استدركه بالمنع لأن فاعلا وقع ظرفا كثيرا كفعيل، وذلك مثل خارج الدار وباطن الأمر وظاهره وغير ذلك مما هو كثير في كلامهم، وقيل: هو ظرف- لنراك- أي ما نراك في أول رأينا أو فيما يظهر منه، وقيل: لأراذلنا أي أنهم أراذل في أول النظر أو ظاهره لأن رذالتهم مكشوفة لا تحتاج إلى تأمل. وقيل: هو نعت- لبشرا- وقيل: منصوب على أنه حال من ضمير نوح في اتَّبَعَكَ أي وأنت مكشوف الرأي لا حصافة فيك، وقيل: انتصب على النداء لنوح عليه السلام أي- يا بادي الرأي- أي ما في نفسك من الرأي ظاهر لكل أحد، وقيل: هو مصدر على فاعل منصوب على المفعولية المطلقة والعامل فيه ما تقدم على تقدير الظرفية. وَما نَرى لَكُمْ خطاب له عليه السلام ولمتبعيه جميعا على سبيل التغليب أي وما نرى لك ولمتبعيك. عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ أي زيادة تؤهلكم لاتباعنا لكم، وعن ابن عباس تفسير ذلك بالزيادة في الخلق والخلق، وعن بعضهم تفسيره بكثرة الملك والملك، ولعل ما ذكرناه أولى، وكأنّ مرادهم نفي رؤية فَضْلٍ بعد الاتباع أي ما نرى فيك وفيهم بعد الاتباع فضيلة علينا لنتبع وإلا فهم قد نفوا أولا أفضليته عليه السلام في قولهم ما نَراكَ إلخ وصرحوا بأن متبعيه- وحاشاهم- أراذل، وهو مستلزم لنفي رؤية فَضْلٍ لهم عليهم، وقيل: إن هذا تأكيد لما فهم أولا، وقيل: الخطاب لأتباعه عليه السلام فقط فيكون التفاتا أي ما نرى لكم علينا شرف في تلك التبعية لنوافقكم فيها، وحمل الفضل على التفضل والإحسان في احتمالي الخطاب على أن يكون مراد الملأ من جوابهم له عليه السلام حين دعاهم إلى ما دعاهم إليه أنا لا نتبعك ولا نترك ما نحن عليه لقولك لأنك بشر مثلنا ليس فيك ما يستدعي نبوتك وكونك رسول الله تعالى إلينا بذلك وأتباعك أراذل اتبعوك من غير تأمل وتثبت فلا يدل اتباعهم على أن فيك ما يستدعي ذلك وخفي عنا، وأيضا لست ذا تفضل علينا ليكون تفضلك داعيا لنا لموافقتك كيفما كنت ولا أتباعك ذوو تفضل علينا لتوافقهم وإن كانوا أراذل مراعاة لحق التفضل، فإن الإنسان قد يوافق الرذيل لتفضله ولا يبالي بكونه رذيلا لذلك مما يدور في الخلد إلا أن في القلب منه شيئا بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ جميعا لكون كلامكم واحدا ودعوتكم واحدة أو إياك في دعوى النبوة وإياهم في تصديقك، قيل: واقتصروا على الظن احترازا منهم عن نسبتهم إلى المجازفة كما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 238 أنهم عبروا بما عبروا أولا لذلك مع التعريض من أول الأمر برأي المتبعين ومجاراة معه عليه السلام بطريق الآراء على نهج الإنصاف قالَ استئناف بياني يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني، وفيه إيماء إلى ركاكة رأيهم المذكور إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ حجة ظاهرة مِنْ رَبِّي وشاهد يشهد لي بصحة دعواي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ هي النبوة على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وجوز أن تكون هي البينة نفسها جيء بها إيذانا بأنها مع كونها بينة من الله تعالى رحمة ونعمة عظيمة منه سبحانه، ووجه إفراد الضمير في قوله تعالى: فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أي أخفيت على هذا ظاهر، وإن أريد بها النبوة وبالبينة البرهان الدال على صحتها فالافراد لإرادة كل واحدة منهما، أو لكون الضمير للبينة والاكتفاء بذلك لاستلزام خفاء البينة خفاء المدعى، وجملة وَآتانِي رَحْمَةً على هذا معترضة أو لكونه للرحمة، وفي الكلام مقدر أي أخفيت الرحمة بعد إخفاء البينة وما يدل عليها وحذف للاختصار، وقيل: إنه معتبر في المعنى دون تقدير، أو لتقدير- عميت- غير المذكور بعد لفظ البينة وحذف اختصارا، وفيه تقدير جملة قبل الدليل. وقرأ أكثر السبعة «فعميت» بفتح العين وتخفيف الميم مبنيا للفاعل، وهو من العمى ضد البصر، والمراد به هذا الخفاء مجازا يقال: حجة عمياء كما يقال: مبصرة للواضحة، وفي الكلام استعارة تبعية من حيث إنه شبه خفاء الدليل بالعمى في أن كلّا منهما يمنع الوصول إلى المقاصد، ثم فعل ما لا يخفى عليك، وجوز أن يكون هناك استعارة تمثيلية بأن شبه الذي لا يهتدي بالحجة لخفائها عليه بمن سلك مفازة لا يعرف طرقها واتبع دليلا أعمى فيها، وقيل: الكلام على القلب، والأصل فعميتم عنها كما تقول العرب: أدخلت القلنسوة في رأسي، ومنه قول الشاعر: ترى الثور فيها يدخل الظل رأسه وقوله سبحانه: فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ [إبراهيم: 47] وتعقبه أبو حيان بأن القلب عند أصحابنا مطلقا لا يجوز إلا في الضرورة، وقول الشاعر ليس منه بل من باب الاتساع في الظرف، وكذا الآية ليست منه أيضا لأن أخلف يتعدى إلى المفعولين، والوصف منه كذلك ولك أن تضيفه إلى أيهما شئت على أنه لو كان ما ذكر من القلب لكان التعدي بعن دون على، ألا ترى أنك تقول: عميت عن كذا ولا تقول: عميت على كذا. وروى الأعمش عن وثاب- وعميت- بالواو الخفيفة، وقرأ أبيّ والسلمي والحسن وغيرهم فعماها عليكم على أن الفعل لله تعالى، وقرىء بالتصريح به وظاهر ذلك مع أهل السنة القائلين بأن الحسن والقبيح منه تعالى، ولذا أوله الزمخشري حفظا لعقيدته أَنُلْزِمُكُمُوها أي أنكرهكم على الاهتداء بها وهو جواب أرأيتم وساد مسد جواب الشرط. وفي البحر أنه في موضع المفعول الثاني له ومفعول الأول البينة مقدرا وجواب الشرط محذوف دل عليه أَرَأَيْتُمْ أي إِنْ كُنْتُ إلخ فأخبروني وحيث اجتمع ضميران منصوبان وقد قدم أعرفهما- وهو ضمير المخاطب الأعرف من ضمير الغائب- جاز في الثاني الوصل والفصل فيجوز في غير القرآن أنلزمكم إياها وهو الذي ذهب إليه ابن مالك في التسهيل ووافقه عليه بعضهم، وقال ابن أبي الربيع: يجب الوصل في مثل ذلك ويشهد له قول سيبويه في الكتاب: فإذا كان المفعولان اللذان تعدى إليهما فعل الفاعل مخاطبا وغائبا فبدأت بالمخاطب قبل الغائب فإن علامة الغائب العلامة التي لا يقع موقعها إياه وذلك نحو أعطيتكه وقد أعطاكه، قال الله تعالى: أَنُلْزِمُكُمُوها فهذا كهذا إذ بدأت بالمخاطب قبل الغائب انتهى، ولو قدم الغائب وجب الانفصال على الصحيح فيقال: أنلزمها إياكم. وأجاز بعضهم الاتصال، واستشهد بقول عثمان رضي الله تعالى عنه: أراهمني، ولم يقل: أراهم إياي، وتمام الكلام على ذلك في محله، وجيء بالواو تتمة لميم الجمع، وحكي عن أبي عمرو إسكان الميم الأولى تخفيفا، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 239 ويجوز مثل ذلك عند الفراء، وقال الزجاج: أجمع النحويون البصريون على أنه لا يجوز إسكان حركة الإعراب إلا في ضرورة الشعر كقوله: فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل وقوله: وناع يخبرنا بمهلك سيد ... تقطع من وجد عليه الأنامل وأما ما روي عن أبي عمرو من الإسكان فلم يضبطه عنه الراوي، وقد روى عنه سيبويه أنه كان يخفف الحركة ويختلسها وهذا هو الحق، وذكر نحو ذلك الزمخشري، وقال: إن الإسكان الصريح لحن عند الخليل، وسيبويه، وحذاق البصريين، وفي قراءة أبيّ «أنلزمكموها» من شطر أنفسنا، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قرأ من شطر قلوبنا أي من تلقائها وجهتها، وفي البحر أن ذلك على جهة التفسير لا على أنه قرآن لمخالفته سواد المصحف وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ أي لا تختارونها ولا تتأملون فيها، والجملة في موضع الحال قال السمين: إما من الفاعل، أو من أحد المفعولين، واختير أنها في موضع الحال من ضمير المخاطبين، وقدم الجار رعاية للفواصل، ومحصول الجواب أخبروني إن كنت على حجة ظاهرة الدلالة على صحة دعواي إلا أنها خافية عليكم غير مسلمة لديكم أيمكننا أن نكرهكم على قبولها وأنتم معرضون عنها غير متدبرين فيها أي لا يكون ذلك- كذا قرره شيخ الإسلام- ثم قال: وظاهره مشعر بصدوره عنه عليه السلام بطريق إظهار اليأس عن إلزامهم والقعود عن محاجتهم كقوله: وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي [هود: 34] إلخ لكنه محمول على أن مراده عليه السلام ردهم عن الإعراض عنها وحثهم على التدبر فيها بصرف الإنكار المستفاد من الهمزة إلى الإلزام حال كراهتهم لا إلى الإلزام مطلقا، وقال مولانا سعدي جلبي: إن المراد من الإلزام هنا الجبر بالقتل ونحوه لا الإيجاب لأنه واقع فليفهم. وجوز أن يراد بالبينة دليل العقل الذي هو ملاك الفضل وبحسبه يمتاز أفراد البشر بعضها عن بعض وبه تناط الكرامة عند الله عز وجل والاجتباء للرسالة وبالكون عليها التمسك به والثبات عليه وبخفائها على الكفرة على أن يكون الضمير للبينة عدم إدراكهم لكونها رحمة عليهم وبالرحمة النبوة التي أنكروا اختصاصه عليه السلام بها بين ظهرانيهم ويكون المعنى أنكم زعمتم أن عهد النبوة لا يناله إلا من له فضيلة على سائر الناس مستتبعة لاختصاصه به دونهم أخبروني إن امتزت عليكم بزيادة مزية وحيازة فصيلة من ربي وآتاني بحسبها نبوة من عنده فخفيت عليكم تلك البينة ولم تصيبوها ولم تنالوها ولم تعلموا حيازتي لها وكوني عليها إلى الآن حتى زعمتم أني مثلكم وهي متحققة في نفسها أنلزمكم قبول نبوتي التابعة لها والحال أنكم كارهون لذلك، ثم قيل: فيكون الاستفهام للحمل على الإقرار وهو الأنسب بمقام المحاجة، وحينئذ يكون كلامه عليه السلام جوابا عن شبهتهم التي أدرجوها في خلال مقالهم من كونه عليه السلام بشرا قصارى أمره أن يكون مثلهم من غير فضل له عليهم وقطعا لشأفة آرائهم الركيكة انتهى، وفيه أن كون معنى- أنلزمكموها- أنلزمكم قبول نبوتي التابعة لها غير ظاهر على أن في أمر التبعية نظرا كما لا يخفى، ولعل الإتيان بما أتي به من الشرط من باب المجاراة وإسناد الإلزام لضمير الجماعة إما للتعظيم أو لاعتبار متبعيه عليه السلام معه في ذلك وَيا قَوْمِ ناداهم بذلك تلطفا بهم واستدراجا لهم لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي التبليغ المفهوم مما تقدم، وقيل: الضمير للإنذار، وإفراد الله سبحانه بالعبادة، وقيل: للدعاء إلى التوحيد، وقيل: غير ذلك، وكلها أقوال متقاربة أي لا أطلب منكم على ذلك مالًا تؤدونه إلي بعد إيمانكم، وأجرا لي في مقابلة اهتدائكم إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ فهو سبحانه يثيبني على ذلك في الآخرة ولا بدّ حسب وعده الذي لا يخلف. فالمراد بالأجر الأجر على التبليغ، وجوز الجزء: 6 ¦ الصفحة: 240 أن يراد الأجر على الطاعة مطلقا، ويدخل فيه ذلك دخولا أوليا، وفي التعبير بالمال أولا وبالأجر ثانيا ما لا يخفى من مزية ما عند الله تعالى على ما عندهم وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا قيل: هو جواب عما لوحوا به بقولهم: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا من أنه لو اتبعه الأشراف لوافقوهم وأن اتباع الفقراء مانع لهم عن ذلك كما صرحوا به في قولهم أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشعراء: 111] فكان ذلك التماسا منهم لطردهم وتعليقا لإيمانهم به عليه السلام بذلك أنفة من الانتظام معهم في سلك واحد انتهى، والمروي عن ابن جريج أنهم قالوا له: يا نوح إن أحببت أن نتبعك فاطرد هؤلاء وإلا فلن نرضى أن نكون نحن وهم في الأمر سواء، وذلك كما قال قريش للنبي صلّى الله عليه وسلّم في فقراء الصحابة رضي الله تعالى عنهم: اطرد هؤلاء عنك ونحن نتبعك فإنا نستحيي أن نجلس معهم في مجلسك فهو جواب عما لم يذكر في النظم الكريم لكن فيه نوع إشارة إليه، وقرىء «بطارد» بالتنوين قال الزمخشري: على الأصل يعني أن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال فأصله أن يعمل ولا يضاف، وهو ظاهر كلام سيبويه، واستدرك عليه أبو حيان بأنه قد يقال: إن الأصل الإضافة لأنه قد اعتوره شبهان: أحدهما شبهه بالمضارع وهو شبه بغير جنسه، والآخر شبهه بالأسماء إذا كانت فيها الإضافة، وإلحاقه بجنسه أولى من إلحاقه بغير جنسه انتهى، وربما يقال: إن أولوية إلحاقه بالأسماء إنما يتم القول بها إذا كانت الإضافة في الأسماء هي الأصل وليس فليس إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ تعليل للامتناع من طردهم كأنه قيل: لا أطردهم ولا أبعدهم عن مجلسي لأنهم من أهل الزلفى المقربون الفائزون عند الله تعالى وانفهام الفوز بمعونة المقام وإلا فملاقاة الله تعالى تكون للفائز وغيره، أو أنهم ملاقو ربهم فيخاصمون طاردهم عنده فيعاقبه على ما فعل- وحمله على أنهم مصدقون في الدنيا بلقاء ربهم موقنون به عالمون أنهم ملاقوه لا محالة فكيف أطردهم- خلاف الظاهر على أن هذا التصديق من توابع الإيمان، وقيل: المعنى أنهم يلاقونه تعالى فيجازيهم على ما في قلوبهم من إيمان صحيح ثابت كما ظهر لي أو على خلاف ذلك مما تعرفونهم به من بناء أمرهم على بادىء الرأي من غير تعمق في الفكر، وما علي أن أشق عن قلوبهم وأتعرف سر ذلك منهم حتى أطردهم إن كان الأمر كما تزعمون، وفيه أنه مع كونه مبنيا على أن سؤال الطرد لعدم إخلاصهم لا لاسترذالهم وحاله أظهر من أن يخفى يأباه الجزم بترتب غضب الله تعالى على طردهم كما سيأتي إن شاء الله تعالى: وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ أي بكل ما ينبغي أن يعلم، ويدخل فيه جهلهم بمنزلتهم عند الله تعالى وبما يترتب من المحذور على طردهم وبركاكة رأيهم في التماس ذلك، وتوقيف إيمانهم عليه وغير ذلك وإيثار صيغة الفعل للدلالة على التجدد والاستمرار، وعبر بالرؤية موافقة لتعبيرهم، وجوز أن يكون الجهل بمعنى الجناية على الغير وفعل ما يشق عليه لا بمعنى عدم العلم المذموم وهو معنى شائع كما في قوله: ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا أي ولكني أراكم قوما تتسفهون على المؤمنين بنسبتهم إلى الخساسة وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ أي من يصونني منه تعالى ويدفع عني حلول سخطه، والاستفهام للإنكار أي لا ينصرني أحد من ذلك إِنْ طَرَدْتُهُمْ وأبعدتهم عني وهم بتلك المثابة والزلفى منه تعالى، وفي الكلام ما لا يخفى من تهويل أمر طردهم أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي أتستمرون على ما أنتم عليه من الجهل فلا تتذكرون ما ذكر من حالهم حتى تعرفوا أن ما تأتونه بمعزل عن الصواب، قيل: ولكون هذه العلة مستقلة بوجه مخصوص ظاهر الدلالة على وجوب الامتناع عن الطرد أفردت عن التعليل السابق وصدرت- بيا قوم- وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ شروع- على ما قال غير واحد- في دفع الشبه التي أوردوها تفصيلا وذلك من قبيل النشر المشوش ثقة بعلم السامع وتخلل ما تخلل بين شبههم وجوابها- على ما قال العلامة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 241 الطيبي- لأنه مقدمة وتمهيد للجواب، وبينه بأن قوله يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ إثبات لنبوته يعني ما قلت لكم إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إلا عن بينة على إثبات نبوتي وصحة دعوتي لكن خفيت عليكم وعميت حتى أوردتم تلك الشبه الواهية ومع ذلك ليس نظري فيما ادعيت إلا إلى الهداية وإني لا أطمع بمال حتى ألازم الأغنياء منكم وأطرد الفقراء وأنتم تجهلون هذا المعنى حيث تقولون: اطرد الفقراء وإن الله سبحانه ما بعثني إلا للترغيب في طلب الآخرة ورفض الدنيا فمن ينصرني إن كنت أخالف ما جئت به، ثم شرع فيما شرع، وفي الكشف إن قوله أَرَأَيْتُمْ الآية جواب إجمالي عن الشبه كلها مع التعبير بأنهم لا يرجعون فيما يرمون إلى أدنى تدبر وقوله وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ تتميم للتعبير وحث على ما ضمنه من التشويق إلى ما عنده، وقوله: ما أَنَا بِطارِدِ تصريح بجواب ما ضمنوه في قولهم: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا من خسة الشركاء وأنه لولا مكانهم لكان يمكن الاتباع إظهارا للتصلب فيما هو فيه وأن ما يورده ويصدره عن برهان من الله تعالى يوافيه وأنى يدع الحق الأبلج بالباطل اللجلج، ثم شرع في الجواب التفصيلي بقوله: وَلا أَقُولُ إلخ، وهو أحسن مما ذكره الطيبي، وجعلوا هذا ردا لقولهم: وَما نَرى لَكُمْ إلخ كأنه يقول: عدم اتباعي وتكذيبي إن كان لنفيكم عني فضل المال والجاه فأنا لم أدعه ولم أقل لكم إن خزائن رزق الله تعالى وماله عندي حتى أنكم تنازعوني في ذلك وتنكرونه وإنما كان مني دعوى الرسالة المؤيدة بالمعجزات، ولعل جوابه عليه السلام عن ذلك من حيث إنه معني به مستتبع للجواب عنه من حيث إنه عني به متبعوه عليه السلام أيضا، وجعله جوابا عن قولهم: ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا كما جوزه الطبرسي ليس بشيء، وحمل الخزائن على ما أشرنا إليه هو المعول عليه. وقال الجبائي وأبو مسلم: إن المراد بها مقدورات الله تعالى أي لا أقول لكم حين أدعي النبوة عندي مقدورات الله تعالى فأفعل ما أشاء وأعطي ما أشاء وأمنع ما أشاء وليس بشيء، ومثله- بل أدهى وأمر- قول ابن الأنباري: إن المراد بها غيوب الله تعالى وما انطوى عن الخلق، وجعل ابن الخازن هذه الجملة عطفا على لا أَسْئَلُكُمْ إلخ، والمعنى عنده لا أسألكم عليه مالا ولا أقول لكم عندي خزائن الله التي لا يفنيها شيء فأدعوكم إلى اتباعي عليها لأعطيكم منها وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ عطف على عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ المقول للقول، وذكر معه النفي مع أن العطف على مقول القول المنفي منفي أيضا من غير أن يذكر معه أداة نفي لتأكيد النفي السابق والتذكير به ودفع احتمال أن لا يقول هذا المجموع فلا ينافي أن يقول أحدهما أي ولا أقول أنا أعلم الغيب حتى تكذبوني لاستبعاد ذلك وما ذكرت من دعوى النبوة والإنذار بالعذاب إنما هو بوحي وإعلام من الله تعالى مؤيد بالبينة والغيب ما لم يوح به ولم يقم عليه دليل، ولعله إنما لم ينف عليه السلام القول بعلم الغيب على نحو ما فعل في السابق واللاحق مبالغة في نفي هذه الصفة التي ليس لأحد سوى الله تعالى منها نصيب أصلا، ويجوز عطفه على أَقُولُ أي لا أقول لكم ذلك ولا أدعي علم الغيب في قولي إني نذير مبين إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم حتى تسارعوا إلى الإنكار والاستبعاد، وقيل: هو معطوف على هذا أو ذاك إلا أن المعنى لا أعلم الغيب حتى أعلم أن هؤلاء اتبعوني بادي الرأي من غير بصيرة وعقد قلب ولا يخفى حاله، واعترض على الأول بأنه غير ملائم للمقام، ثم قيل: والظاهر أنه صلّى الله عليه وسلّم حين ادعى النبوة سألوه عن المغيبات، وقالوا له: إن كنت صادقا أخبرنا عنها فقال: أنا أدعي النبوة بآية من ربي ولا أعلم الغيب إلا بإعلامه سبحانه، ولا يلزم أن يذكر ذلك في النظم الكريم كما أن سؤال طردهم كذلك انتهى، وفيه أن زعم عدم الملاءمة ليس على ما ينبغي، وأيضا لا يخفى أنه لا قرينة تدل على وقوعه جوابا لما لم يذكر، وأما سؤال طردهم فإن الاستحقار قرينة عليه في الجملة، وقد صرح بعض السلف به ومثله لا يقال من قبل الرأي وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ رد لقولهم ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا أي لا أقول ترويجا لما أدعيه من النبوة إني ملك حتى تقولوا لي ذلك وتكذبوني فإن البشرية ليست من موانع النبوة بل من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 242 مباديها يعني كما قيل: إنكم اتخذتم فقدان هذه الأمور الثلاثة ذريعة إلى تكذيبي، والحال أني لا أدعي شيئا من ذلك ولا الذي يتعلق بشيء منها، وإنما الذي أدعيه يتعلق بالفضائل التي تتفاوت بها مقادير البشر، وقيل: أراد بهذا لا أقول: إني روحاني غير مخلوق من ذكر وأنثى بل إنما أنا بشر مثلكم فلا معنى لردكم علي بقولكم ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وعلى القولين لا دليل فيه على أن الملائكة أفضل من الأنبياء عليهم السلام خلافا لمن استدل به، وجعل ذلك كلاما آخر ليس ردا لما قالوه سابقا مما لا وجه له فتدبر وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ أي تستحقرهم والأصل تزتري بالتاء إلا أنها قلبت دالا لتجانس الزاي في الجهر لأنها من المهموسة، وأصل الازدراء الإعابة يقال: ازدراه إذا عابه، والتعبير بالمضارع للاستمرار، أو لحكاية الحال لأن الازدراء قد وقع، وإسناده إلى الأعين مجاز للمبالغة في رأي من حيث إنه إسناد إلى الحاسة التي لا يتصور منها تعييب أحد فكأن من لا يدرك ذلك يدركه، وللتنبيه على أنهم استحقروهم بادي الرؤية وبما عاينوا من رثاثة حالهم وقلة منالهم دون تأمل وتدبر في معانيهم وكمالاتهم، وعائد الموصول محذوف كما أشرنا إليه، واللام للأجل لا للتبليغ وإلا لقيل فيما بعد يؤتيكم أي لا أقول مساعدة لكم ونزولا على هواكم في شأن الذين استرذلتموهم واستحقرتموهم لفقرهم من المؤمنين لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً في الدنيا أو في الآخرة فعسى الله سبحانه يؤتيهم خيري الدارين. اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ مما يستعدون به لإيتاء ذلك، وفي إرشاد العقل السليم من الإيمان، وفيه توجيه لعطف نفي هذا القول الذي ليس مما يستنكره الكفرة ولا مما يتوهمون صدوره عنه عليه السلام أصالة واستتباعا على نفي هاتيك الأقوال التي هي مما يستنكرونه ويتوهمون صدوره عنه عليه السلام إن ذلك من جهة أن كلا النفيين رد لقياسهم الباطل الذي تمسكوا به فيما سلف فإنهم زعموا أن النبوة تستتبع الأمور المذكورة من ادعاء الملكية وعلم الغيب وحيازة الخزائن وأن العثور على مكانها واغتنام مغانمها ليس من داب الأراذل، فأجاب عليه السلام بنفي ذلك جميعا فكأنه قال: لا أقول وجود تلك الأشياء من مواجب النبوة ولا عدم المال والجاه من موانع الخير، واقتصر عليه السلام على نفي القول المذكور مع أنه عليه السلام جازم بأن الله سبحانه سيؤتيهم خيرا عظيما في الدارين وأنهم على يقين راسخ في الإيمان جريا على سنن الإنصاف مع القوم واكتفاء بمخالفة كلامهم وإرشادا لهم إلى مسلك الهداية بأن اللائق لكل أحد أن لا يبت القول إلا فيما يعلمه يقينا ويبني أموره على الشواهد الظاهرة ولا يجارف فيما ليس فيه على بينة انتهى، وأنت تعلم أنه عليه السلام قد بتّ القول بفوز هؤلاء في قوله: وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ بناء على أنهم المعنيون بالذين آمنوا، وأن المراد من كونهم ملاقو ربهم أنهم مقربون في حضرة القدس- كما قال به غير واحد- وكذا الحكم إذا كان المعني بالموصول من اتصف بعنوان الصلة مطلقا إذ يدخلون فيه دخولا أوليا لما أن المسئول صريحا أو تلويحا طردهم، ولعل البت تارة وعدمه أخرى لاقتضاء المقام ذلك وأن في كون الكفرة قد زعموا أن العثور على مكان النبوة واغتنام مغانمها ليس من دأب الأراذل خفاء مع دعوى أنهم لوحوا بقولهم: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إلخ الذي هو مظنة ذلك الزعم إلى التماس طردهم وتعليق إيمانهم به عليه السلام بذلك أنفة من الانتظام معهم في سلك واحد. وفي البحر أن معنى وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ إلخ ليس احتقاركم إياهم ينقص ثوابهم عند الله تعالى ولا يبطل أجورهم ولست أحكم عليهم بشيء من هذا، وإنما الحكم بذلك للذي يعلم ما في أنفسهم فيجازيهم عليه، وقيل: إن هذا رد لقولهم وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إلخ على معنى لست أحكم عليهم بأن لا يكون لهم خير لظنكم بهم أن بواطنهم ليست كظواهرهم الله أعلم بما في نفوسهم انتهى، ولا يخفى ما فيه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 243 وقد أخرج أبو الشيخ عن السدي أنه فسر الخير بالإيمان أي- لا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله إيمانا- واستشكل بأن الظاهر أن المراد بالموصول أولئك المتبعون المسترذلون وهم مؤمنون عندهم فلا معنى لنفي القول بإيتاء الله تعالى إياهم الإيمان مساعدة لهم ونزولا على هواهم. وأجيب بأن المراد من هذا الإيمان هو المعتد به الذي لا يزول أصلا كما ينبىء عن ذلك التعبير عنه بالخير وهم إنما أثبتوا لهم الاتباع بادي الرأي وأرادوا بذلك أنهم آمنوا إيمانا لا ثبات له، ويجعل ذلك ردا لذلك القول، ويراد من لَنْ يُؤْتِيَهُمُ ما آتاهم فكأنهم قالوا: إنهم اتبعوك وآمنوا بك بلا تأمل ومثل ذلك الإيمان في معرض الزوال، فهم لا يثبتون عليه ويرتدون فرد عليهم عليه السلام بأني لا أحكم على أولئك بأن الله تعالى ما آتاهم إيمانا لا يزول وأنهم سيرتدون كما زعمتم ويكون قوله عليه السلام: اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ تفويضا للحكم بذلك إليه تعالى أو إشارة إلى جلالة ما آتاهم الله تعالى إياه من الإيمان كما يقال الله تعالى أعلم بما يقاسي زيد من عمرو وإذا كان ما يقاسيه منه أمرا عظيما لا يستطاع شرحه، فكأنه قيل: إن إيمانهم عظيم القدر جليل الشأن فكيف أقول لن يؤتيهم الله تعالى إيمانا ثابتا، وفيه من التكلف والتعسف ما الله تعالى به أعلم، وحمل الموصول على أناس مسترذلين جدا غير أولئك ولم يؤمنوا بعد أي لا أقول للذين تزدريهم أعينكم ولم يؤمنوا بعد لن يوفقهم الله تعالى للإيمان حيث كانوا في غاية من رثاثة الحال والدناءة التي تزعمونها مانعة من الخير اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ مما يتأهلون به لإفاضة التوفيق عليهم وهو المدار لذلك لا الأحوال الظاهرة مما لا أقول به إِنِّي إِذاً أي إذا قلت ذلك لَمِنَ الظَّالِمِينَ لهم بحط مرتبتهم ونقص حقوقهم، أو من الظالمين لأنفسهم بذلك، وفيه تعريض بأنهم ظالمون في ازدرائهم واسترذالهم. ويجوز أن يكون إذا قلت شيئا مما ذكر من حيازة الخزائن وادعاء علم الغيب والملكية، ونفي إيتاء الله تعالى أولئك الخير والقوم لمزيد جهلهم محتاجون لأن يعلل لهم نحو الأقوال الأول بلزوم الانتظام في زمرة الظالمين. قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا أي خاصمتنا ونازعتنا، وأصله من جدلت الحبل أي أحكمت فتله ومنه الجديل وجدلت البناء أحكمته، ودرع مجدولة، والأجدل الصقر المحكم البنية، والمجدل القصر المحكم البناء، وسميت المنازعة جدالا لأن المتجادلين كأنهما يفتل كل واحد منهما الآخر عن رأيه، وقيل: الأصل في الجدال الصراع وإسقاط الإنسان صاحبه على الجدالة، وهي الأرض الصلبة فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا عطف على ما قبله على معنى شرعت في جدالنا فأطلته أو أتيت بنوع من أنواع الجدال فأعقبته بأنواع أخر فالفاء على ظاهرها، ولا حاجة إلى تأويل جادَلْتَنا بأردت جدالنا- كما قاله الجمهور- في قوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النحل: 98] ونظير ذلك جادل فلان فأكثر، وجعل بعضهم مجموع ذلك كناية عن التمادي والاستمرار. وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما جدلنا، وهو- كما قال ابن جني- اسم بمعنى الجدال ولما حجهم عليه السلام وأبرز لهم ما ألقمهم به الحجر ضاقت عليهم الحيل وعيت بهم العلل. وقالوا: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب المعجل، وجوز أن يكون المراد به العذاب الذي أشير إليه في قوله: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ بناء على أن لا يكون المراد باليوم يوم القيامة، و «ما» موصولة والعائد محذوف أي بالذي تعدنا به، وفي البحر تعدناه، وجوز أن تكون مصدرية وفيه نوع تكلف إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في حكمك بلحوق العذاب إن لم نؤمن بك. قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ أي إن ذلك ليس إلي ولا مما هو داخل تحت قدرتي وإنما هو لله عز وجل الذي كفرتم به وعصيتم أمره يأتيكم به عاجلا أو آجلا إن تعلقت به مشيئته التابعة للحكمة، وفيه كما قيل: ما لا يخفى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 244 من تهويل الموعود، فكأنه، قيل: الإتيان به أمر خارج عن دائرة القوى البشرية وإنما يفعله الله تعالى. وفي الإتيان بالاسم الجليل الجامع تأكيد لذلك التهويل وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ بمصيريه سبحانه وتعالى عاجزا بدفع العذاب أو الهرب منه، والباء زائدة للتأكيد، والجملة الاسمية للاستمرار، والمراد استمرار النفي وتأكيده لا نفي الاستمرار والتأكيد وله نظائر وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي النصح تحري قول أو فعل فيه صلاح وهو كلمة جامعة، وقيل: هو إعلام مواقع الغي ليتقي ومواضع الرشد ليقتفي، وهو من قولهم: نصحت له الود أي أخلصته، وناصح العسل خالصه، أو من قولهم نصحت الجلد خطته، والناصح الخياط، والنصاح الخيط، وقرأ عيسى بن عمر الثقفي «نصحي» بفتح النون وهو مصدر، وعلى قراءة الجماعة- على ما قال أبو حيان- يحتمل أن يكون مصدرا كالشكر، وأن يكون اسما إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ شرط حذف جوابه لدلالة ما سبق عليه وليس جوابا له لامتناع تقدم الجواب على الشرط على الأصح الذي ذهب إليه البصريون أي إن أردتم أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي، والجملة كلها دليل جواب قوله سبحانه: إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ والتقدير إن كان الله يريد أن يغويكم فإن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي، وجعلوا الآية من باب اعتراض الشرط على الشرط، وفي شرح التسهيل لابن عقيل أنه إذا توالى شرطان مثلا كقولك: إن جئتني إن وعدتك أحسنت إليك، فالجواب للأول، واستغنى به عن جواب الثاني، وزعم ابن مالك أن الشرط الثاني مفيد للأول بمنزلة الحال، فكأنه قيل في المثال: إن جئتني في حال وعدي لك أحسنت إليك، والصحيح في المسألة أن الجواب للأول، وجواب الثاني محذوف لدلالة الشرط الثاني وجوابه عليه، فإذا قلت: إن دخلت الدار إن كلمت زيدا إن جاء إليك فأنت حر، فأنت حر جواب إن دخلت وهو وجوابه دليل جواب إن كلمت وإن كلمت وجوابه دليل جواب إن جاء، والدليل على الجواب جواب في المعنى، والجواب متأخر، فالشرط الثالث مقدم وكذا الثاني، فكأنه قيل إن جاء فإن كلمت فإن دخلت فأنت حر فلا يعتق إلا إذا وقع هكذا مجيء. ثم كلام ثم دخول، وهو مذهب الشافعي عليه الرحمة، وذكر الجصاص أن فيها خلافا بين محمد وأبي يوسف رحمهما الله تعالى، وليس مذهب الإمام الشافعي فقط، وقال بعض الفقهاء: إن الجواب للأخير. والشرط الأخير وجوابه جواب الثاني. والشرط الثاني وجوابه جواب الأول، وعلى هذا لا يعتق حتى يوجد هكذا دخول ثم كلام ثم مجيء، وقال بعضهم: إذا اجتمعت حصل العتق من غير ترتيب وهذا إذا كان التوالي بلا عاطف فإن عطف بأو فالجواب لأحدهما دون تعيين نحو إن جئتني أو إن أكرمت زيدا أحسنت إليك وإن كان بالواو فالجواب لهما وإن كان بالفاء فالجواب للثاني وهو وجوابه جواب الأول فتخرج الفاء عن العطف، وادعى ابن هشام أن في كون الآية من ذلك الباب نظرا قال: إذ لم يتوال شرطان وبعدهما جواب كما فيما سمعت من الأمثلة، وكما في قول الشاعر: إن تستغيثوا بنا إن تذعروا تجدوا ... منا معاقل عز زانها كرم إذا لم يذكر فيها جواب وإنما تقدم على الشرطين ما هو جواب في المعنى للأول فينبغي أن يقدر إلى جانبه ويكون الأصل إن أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي إن كان الله يريد أن يغويكم، وأما أن يقدر الجواب بعدهما ثم يقدر بعد ذلك مقدما إلى جانب الشرط الأول فلا وجه له انتهى. وقد ألف في المسألة رسالة- كما قال الجلال السيوطي- وأوردها في حاشيته على المغني حسنة، ولا يخفى عليك أن المقدر في قوة المذكور، والكثير في توالي شرطين بدون عاطف تأخره سماعا فيقدر كذلك ويجري عليه حكمه. والكلام على ما تقدم متضمن لشرطين مختلفين: أحدهما جواب للآخر وقد جعل المتأخر في الذكر متقدما في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 245 المعنى على ما هو المعهود في المسألة، وهو عند الزمخشري على ما قيل شرطية واحدة مقيدة حيث جعل لا ينفعكم دليل الجواب لأن كان، وجعل إن أردت قيدا لذلك نظير إن أحسنت إلي أحسنت إليك إن أمكنني فتأمل، والكلام متعلق بقولهم: قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا صدر عنه عليه السلام إظهارا للعجز عن ردهم عما هم عليه من الضلال بالحجج والبينات لفرط تماديهم في العناد وإيذانا بأن ما سبق منه إنما كان بطريق النصيحة لهم والشفقة عليهم وأنه لم يأل جهدا في إرشادهم إلى الحق وهدايتهم إلى سبيله المستبين ولكن لا ينفعهم ذلك عند إرادته سبحانه لإغوائهم، وتقييد عدم نفع النصح بإرادته مع أنه محقق لا محالة للإيذان بأن ذلك النصح مقارن للإرادة والاهتمام به، ولتحقيق المقابلة بين ذلك، وبين ما وقع بإزائه من إرادته تعالى لإغوائهم، وإنما اقتصر في ذلك على مجرد إرادة الإغواء دون نفسه حيث لم يقل إن كان الله يغويكم مبالغة في بيان غلبة جنابه جل جلاله حيث دل ذلك على أن نصحه المقارن للاهتمام به لا يجديهم نفعا عند مجرد إرادة الله تعالى إغواءهم فكيف عند تحققه وخلقه فيهم، وزيادة كان للإشعار بتقدم إرادته تعالى زمانا كتقدمه رتبة، وللدلالة على تجددها واستمرارها، وقدم على هذا الكلام ما يتعلق بقولهم: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من قوله: إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ ردا عليهم من أول الأمر وتسجيلا عليهم بحلول العذاب مع ما فيه من اتصال الجواب بالسؤال- قال ذلك مولانا شيخ الإسلام- ثم إن إِنْ أَرَدْتُ أن أبقى على الاستقبال لا ينافي كونه نصحهم في الزمن الماضي، وقيل: إنه مجاراة لهم لاستظهار الحجة لأنهم زعموا أن ما فعله ليس بنصح إذ لو كان نصحا قبل منه، واللام في لَكُمْ ليست للتقوية كما قد يتوهم لتعدي الفعل بنفسه كما في قوله: نصحت بني عوف فلم يتقبلوا ... رسولي ولم تنجح لديهم رسائلي لما في الصحاح أنه باللام أفصح، وفي الآية دليل على أن إرادة الله تعالى مما يصح تعلقها بالإغواء وأن خلاف مراده سبحانه محال، وإلا لم تصدق الشرطية الدالة على لزوم الجواب للشرط، والمعتزلة وقعوا في حيص بيص منها واختلفوا في تأويلها، فقيل: إن يُغْوِيَكُمْ بمعنى يهلككم من غوى الفصيل إذا بشم من كثرة شرب اللبن فهلك، وقد روي مجيء الغوي- بمعنى الهلاك- الفراء. وغيره، وأنكره مكي. وقيل: إن الإغواء مجاز عن عقوبته أي إن كان الله يريد عقوبة إغوائكم الخلق وإضلالكم إياهم. وقيل: إن قوم نوح كانوا يعتقدون أن الله تعالى أراد إغواءهم فأخرج عليه السلام ذلك مخرج التعجب والإنكار أي إن نصحي لا ينفعكم إن كان الأمر كما تزعمون، وقيل: سمي ترك إلجائهم وتخليتهم وشأنهم إغواء مجازا، وقيل: إن نافية أي ما كان الله يريد أن يغويكم، ونفي ذلك دليل على نفي الإغواء، ويكون لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إلخ إخبارا منه عليه السلام لهم وتعزية لنفسه عنهم لما رأى من إصرارهم وتماديهم على الكفر، ولا يخفى ما في ذلك من مخالفة الظاهر المعروف في الاستعمال وارتكاب ما لا ينبغي ارتكاب مثله في كلام الملك المتعال. ومن الناس من اعترض الاستدلال بأن الشرطية لا تدل على وقوع الشرط ولا جوازه فلا يتم ولا يحتاج إلى التأويل ولا إلى القال والقيل، ودفع بأن المقام ينبو عنه لعدم الفائدة في مجرد فرض ذلك فإن أرادوا إرجاعه إلى قياس استثنائي فإما أن يستثنى عين المقدم فهو المطلوب أو نقيض التالي فخلاف الواقع لعدم حصول النفع. وبالجملة الآية ظاهرة جدا فيما ذهب إليه أهل السنة، والله سبحانه الموفق هُوَ رَبُّكُمْ أي خالقكم ومالك أمركم وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيجازيكم على أفعالكم لا محالة. أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يعني نوحا عليه السلام أي بل أيقول قوم نوح إن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 246 نوحا افترى ما جاء به مسندا إلى الله عز وجل قُلْ يا نوح إِنِ افْتَرَيْتُهُ بالفرض البحت. فَعَلَيَّ إِجْرامِي أي وباله فهو على تقدير مضاف، أو على التجوز بالسبب عن المسبب، وفسر الإجرام بكسب الذنب وهو مصدر أجرم، وجاء على قلة جرم، ومن ذلك قوله: طريد عشيرة ورهين ذنب ... بما «جرمت» يدي وجنى لساني وقرىء «أجرامي» بفتح الهمزة على أنه كما قال النحاس: جمع جرم، واستشكل العز بن عبد السلام الشرطية بأن الافتراء المفروض هنا ماض والشرط يخلص للاستقبال بإجماع أئمة العربية، وأجاب أن المراد- كما قال ابن السراج- إن ثبت أني افتريته فعلي إجرامي على ما قيل في قوله تعالى: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ [المائدة: 116] وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ أي من إجرامكم في إسناد الافتراء إلي، قيل: والأصل إن افتريته فعلي عقوبة افترائي ولكنه فرض محال وأنا بريء من افترائكم أي نسبتكم إياي إلى الافتراء، وعدل عنه إدماجا لكونهم مجرمين، وأن المسألة معكوسة، وحملت ما على المصدرية لما في الموصولية من تكلف حذف العائد مع أن ذلك هو المناسب لقوله إِجْرامِي فيما قبل، وما يقتضيه كلام ابن عباس من أن الآية من تتمة قصة نوح عليه السلام وفي شأنه هو الظاهر، وعليه الجمهور، وعن مقاتل أنها في شأن النبي صلّى الله عليه وسلّم مع مشركي مكة أي بل أيقول مشركو مكة افترى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبر نوح، قيل: وكأنه إنما جيء به في تضاعيف القصة عند سوق طرف منها تحقيقا لحقيقتها وتأكيدا لوقوعها وتشويقا للسامعين إلى استماعها لا سيما وقد قص منها طائفة متعلقة بما جرى بينه عليه السلام وبين قومه من المحاجة، وبقيت طائفة مستقلة متعلقة بعذابهم، ولا يخفى أن القول بذلك بعيد وإن وجه بما وجه، وقال في الكشف: إن كونها في شأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أظهر وأنسب من كونها من تتمة قصة نوح عليه السلام لأن أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ كالتكرير لقوله سبحانه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ دلالة على كمال العناد وأن مثله بعد الإتيان بالقصة على هذا الأسلوب المعجز مما لا ينبغي أن ينسب إلى افتراء فجاء زيادة إنكار على إنكار كأنه قيل: بل أمع هذا البيان أيضا يقولون: افْتَراهُ وهو نظير اعتراض قوله سبحانه في سورة وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ [العنكبوت: 18] بين قصة إبراهيم عليه السلام في أحد الوجهين انتهى، ولا أراه معولا عليه. وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ إقناط له عليه السلام من إيمانهم وإعلام بأنه لم يبق فيهم من يتوقع إيمانه، أخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس قال: إن نوحا عليه السلام كان يضرب ثم يلف في لبد فيلقى في بيته يرون أنه قد مات ثم يخرج فيدعوهم، واتفق أن جاءه رجل ومعه ابنه وهو يتوكأ على عصا فقال: يا بني انظر هذا الشيخ لا يغرنك قال: يا أبت أمكني من العصا فأخذ العصا ثم قال: ضعني على الأرض فوضعه فمشى إليه فضربه فشجه موضحة في رأسه وسالت الدماء فقال نوح عليه السلام: رب قد ترى ما يفعل بي عبادك فإن يك لك في عبادك حاجة فاهدهم وإن يكن غير ذلك فصبرني إلى أن تحكم وأنت خير الحاكمين فأوحى الله تعالى إليه وآيسه من إيمان قومه وأخبره أنه لم يبق في أصلاب الرجال ولا في أرحام النساء مؤمن. وقال سبحانه: يا نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ إلخ، والمراد بمن آمن قيل: من استمر على الإيمان وللدوام حكم الحدوث، ولذا لو حلف لا يلبس هذا الثوب وهو لابسه فلم ينزعه في الحال حنث، وقيل: المراد إلا من قد استعد للإيمان وتوقع منه ولا يراد ظاهره وإلا كان المعنى إلا من آمن فإنه يؤمن، وأورد عليه أنه مع بعده يقتضي أن من القوم من آمن بعد ذلك، وهو ينافي تقنيطه من إيمانهم، وقد يقال: المراد ما هو الظاهر والاستثناء على حد الاستثناء في قوله تعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [النساء: 23] على ما قاله غير واحد، فيفيد الكلام الإقناط على أتم وجه وأبلغه أي لن يحدث من قومك إيمانا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 247 ويحصله بعد إلا من قد أحدثه وحصله قبل، وذلك مما لا يمكن لما فيه من تحصيل الحاصل وإحداث المحدث، فإحداث الإيمان وتحصيله بعد مما لا يكون أصلا، وفي الحواشي الشهابية لو قيل: إن الاستثناء منقطع وإن المعنى لا يؤمن أحد بعد ذلك غير هؤلاء لكان معنى بليغا فتدبر، وقرأ أبو البرهسم وَأُوحِيَ مبنيا للفاعل وأنه بكسر الهمزة على إضمار القول على مذهب البصريين وعلى إجراء أُوحِيَ مجرى قال على مذهب الكوفيين، واستدل بالآية من أجاز التكليف بما لا يطاق. فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ أي لا تلتزم البؤس ولا تحزن بما كانوا يتعاطونه من التكذيب والاستهزاء والإيذاء في هذه المدة الطويلة فقد حان وقت الانتقام منهم وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا عطف على فَلا تَبْتَئِسْ والأمر قيل للوجوب إذ لا سبيل إلى صيانة الروح من الغرق إلا به فيجب كوجوبها، وقيل: للإباحة وليس بشيء، وأل في الْفُلْكَ إما للجنس أو للعهد بناء على أنه أوحي إليه عليه السلام من قبل أن الله سبحانه سيهلكهم بالغرق وينجيه ومن معه بشيء يصنعه بأمره تعالى من شأنه كيت وكيت واسمه كذا، والباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال من الفاعل، والأعين حقيقة في الجارحة وهي جارية مجرى التمثيل كأن لله سبحانه أعينا تكلؤه من تعدي الكفرة ومن الزيغ في الصنعة، والجمع للمبالغة، وقد انسلخ عنه لإضافته على ما قيل. معنى القلة وأريد به الكثرة، وحينئذ يقوى أمر المبالغة، وزعم بعضهم أن الأعين بمعنى الرقباء وأن في ذلك ما هو من أبلغ أنواع التجريد، وذلك أنهم ينتزعون من نفس الشيء آخر مثله في صفته مبالغة بكمالها كما أنشد أبو علي: أفات بنو مروان ظلما دماءنا ... وفي الله إن لم يعدلوا حكم عدل وقد جرد هاهنا من ذات المهيمن جماعة الرقباء وهو سبحانه الرقيب نفسه، وقيل: إن ملابسة العين كناية عن الحفظ وملابسة الأعين لمكان الجمع كناية عن كمال الحفظ والمبالغة فيه، ونظير ذلك بسط اليد وبسط اليدين، فإن الأول كناية عن الجود والثاني عن المبالغة فيه، وجوز أن يكون المراد الحفظ الكامل على طريقة المجاز المرسل لما أن الحفظ من لوازم الجارحة، وقيل: المراد من أعيننا ملائكتنا الذين جعلناهم عيونا على مواضع حفظك ومعونتك، والجمع حينئذ على حقيقته لا للمبالغة، ويفهم من صنيع بعضهم أن هذا من المتشابه، والكلام فيه شهير، ففي الدر المنثور عند الكلام على هذه الآية أخرج البيهقي عن سفيان بن عيينة قال: ما وصف الله تبارك وتعالى به نفسه في كتابه فقراءته تفسيره ليس لأحد أن يفسره بالعربية ولا بالفارسية، وقرأ أبو طلحة بن مصرف بأعينا بالإدغام وَوَحْيِنا إليك كيف تصنعها وتعليمنا، أخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه عليه السلام لم يعلم كيف صنعة الفلك فأوحى الله تعالى إليه أن اجعل رأسها كرأس الديك. وجؤجؤها كجؤجؤ الطير، وذنبها كذنب الديك، واجعل لها أبوابا في جنبها وشدها بدسر وأمره أن يطلبها بالقار ولم يكن في الأرض قار ففجر الله تعالى له عين القار حيث ينحتها يغلي غليانا حتى طلاها الخبر، وفيه أن الله تعالى بعث جبريل عليه السلام فعلمه صنعتها، وقيل: كانت الملائكة عليهم السلام تعلمه. وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا أي لا تراجعني فيهم ولا تدعني باستدفاع العذاب عنهم وفيه من المبالغة ما ليس فيما لو قيل: ولا تدعني فيهم، وحيث كان فيه ما يلوح بما يستتبعه أكد التعليل فقيل: إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ أي محكوم عليهم بالإغراق وقد جرى به القضاء وجف القلم فلا سبيل إلى كفه، والظاهر أن المراد من الموصول من لم يؤمن من قومه مطلقا، وقيل: المراد واعلة زوجته وكنعان ابنه وليس بشيء وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ حكاية حال ماضية لاستحضار صورتها العجيبة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 248 وقيل: تقديره، وأخذ أو أقبل يصنع الفلك، وكانت على ما روي عن قتادة وعكرمة والكلبي من خشب الساج وقد غرسه بنفسه ولم يقطعه حتى صار طوله أربعمائة ذراع والذراع إلى المنكب في أربعين سنة على ما روي عن سليمان الفراسي، وقيل: أبقاه عشرين سنة، وقيل: مكث مائة سنة يغرس ويقطع وييبس، وقال عمرو بن الحارث: لم يغرسه بل قطعه من جبل لبنان. وعن ابن عباس أنها كانت من خشب الشمشاد وقطعه من جبل لبنان، وقيل: إنه ورد في التوراة أنها كانت من الصنوبر، وروي أنه كان سام وحام ويافث ينحتون معه، وفي رواية أنه عليه السلام كان معه أيضا أناس استأجرهم ينحتون، وذكر أن طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسون وارتفاعها في السماء ثلاثون. وأخرج ابن جرير وغيره عن الحسن قال: كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع وصنع لها بابا في وسطها، وأتم صنعها على ما روي عن مجاهد في ثلاث سنين. وعن كعب الأحبار في أربعين سنة، وقيل: في ستين، وقيل: في مائة سنة، وقيل: في أربعمائة سنة، واختلف في أنه في أي موضع صنعها، فقيل: في الكوفة، وقيل: في الهند، وقيل: في أرض الجزيرة، وقيل: في أرض الشام، وسفينة الأخبار في تحقيق الحال فيما أرى لا تصلح للركوب فيها إذ هي غير سالمة عن عيب، فالحري بحال من لا يميل إلى الفضول أن يؤمن بأنه عليه السلام صنع الفلك حسبما قص الله تعالى في كتابه ولا يخوض في مقدار طولها وعرضها وارتفاعها ومن أي خشب صنعها وبكم مدة أتم عملها إلى غير ذلك مما لم يشرحه الكتاب ولم تبينه السنة الصحيحة، هذا وفي التعبير- بيصنع- على ما قيل: ملاءمة للاستمرار المفهوم من الجملة الواقعة حالا من ضميره أعني قوله تعالى: وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ أي استهزؤوا به لعمله السفينة إما لأنهم ما كانوا يعرفونها ولا كيفية استعمالها فتعجبوا من ذلك وسخروا منه، ويشهد لعدم معرفتهم ما روي عن ابن عباس أنه عليه السلام حين قال الله تعالى له: اصْنَعِ الْفُلْكَ قال: يا رب وما الفلك؟ قال: بيت من خشب يجري على وجه الماء، قال: يا رب وأين الماء؟ قال: إني على ما أشاء قدير، وإما لأنه عليه السلام كان يصنعها في برية بعيدة عن الماء وكانوا يتضاحكون، ويقولون: يا نوح صرت نجارا بعد ما كنت نبيا، وهذا مبني على أن السفينة كانت معروفة بينهم، ويشهد له ما أخرجه ابن جرير والحاكم وصححه- وضعفه الذهبي- عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كان نوح قد مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم حتى كان آخر زمانه غرس شجرة فعظمت وذهبت كل مذهب ثم قطعها ثم جعل يعملها سفينة فيرونه ويسألونه فيقول أعملها سفينة فيسخرون منه ويقولون: تعمل سفينة في البر وكيف تجري؟ فيقول: سوف تعلمون الحديث والأكثرون- كما قال ابن عطية- على أنهم لم يكونوا رأوا سفينة قط ولا كانت إذ ذاك، وقد ذكر في كتب الأوليات أن نوحا عليه السلام أول من عمل السفينة، والحق أنه لا قطع بذلك، وكل- منصوب على الظرفية و «ما» مصدرية وقتية أي كل وقت مرور، والعامل فيه جوابه وهو سَخِرُوا وقوله سبحانه: قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ استئناف بياني كأن سائلا سأل فقال: فما صنع نوح عليه السلام عند بلوغهم منه هذا المبلغ؟ فقيل: قال: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا لهذا العمل ومباشرة أسباب الخلاص من العذاب فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ لما أنتم فيه من الإعراض عن استدفاعه بالإيمان والطاعة ومن الاستمرار على الكفر والمعاصي، والتعرض لأسباب حلول سخط الله تعالى التي من جملتها سخريتكم منا واستهزاؤكم بنا، وإطلاق السخرية عليهم حقيقة، وعليه عليه السلام للمشاكلة لأنها لا تليق بالأنبياء عليهم السلام، وفسرها بعضهم بالاستجهال وهو مجاز لأنه سبب للسخرية، فأطلقت السخرية وأريد سبها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 249 وقيل: إنها منه عليه السلام لما كانت لجزأئهم من جنس صنيعهم لم تقبح فلا حاجة لارتكاب خلاف الظاهر، وجمع الضمير في مِنَّا إما لأن سخريتهم منه عليه السلام سخرية من المؤمنين أيضا أو لأنهم كانوا يسخرون منهم أيضا إلا أنه اكتفى بذكر سخريتهم منه عليه السلام ولذلك تعرض الجميع للمجازاة في قوله: نَسْخَرُ مِنْكُمْ فتكافأ الكلام من الجانبين، والتشبيه في قوله سبحانه: كَما تَسْخَرُونَ إما في مجرد التحقق والوقوع، وإما في التجدد والتكرر حسبما صدر عن ملأ بعد ملأ، وقيل: لا مانع من أن يراد الظاهر ولا ضرر في ذلك لحديث الجزاء، ومن هنا قال بعضهم: إن في الآية دليلا على جواز مقابلة نحو الجاهل والأحمق بمثل فعله ويشهد له قوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى [البقرة: 194] وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: 40] وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل: 126] إلى غير ذلك، والظاهر أن كلا الفعلين واقع في الحال. وقال ابن جريج: المعنى إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا في الدنيا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ في الآخرة، وقيل: في الدنيا عند الغرق. وفي الآخرة عند الحرق، قال الطبرسي: إن المراد من نسخر منكم على هذا نجازيكم على سخريتكم أو نشمت بكم عند غرقكم وحرقكم، وفيه خفاء، هذا وجوز أن يكون عامل كُلَّما قال، وهو الجواب، وجملة سَخِرُوا صفة لملأ أو بدل من مَرَّ بدل اشتمال لأن مرورهم للسخرية فلا يضركون السخرية ليست بمعنى المرور ولا نوعا منه، وأبو حيان جعل ذلك مبعدا للبدلية وليس بذلك، ويلزم على هذا التجويز استمرار هذا القول منه عليه السلام وهو ظاهر، وعلى الاعراب قيل: لا استمرار وإنما أجابهم به في بعض المرات، ورجح بأن المقصود بيان تناهيهم في إيذائه عليه السلام وتحمله لأذيتهم لا مسارعته عليه السلام إلى الجواب كُلَّما وقع منهم ما يؤذيه من الكلام، وقد يقال: إن في ذلك إشارة إلى أنه عليه السلام بعد أن يئس من إيمانهم لم يبال بإغضابهم ولذا هددهم التهديد البليغ بقوله: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ أي يفضحه أو يذله أو يهلكه، وهي أقوال متقاربة، والمراد بذلك العذاب الغرق وَيَحِلُّ عَلَيْهِ حلول الدين المؤجل عَذابٌ مُقِيمٌ أي دائم وهو عذاب النار، ومَنْ عبارة عنهم، وهي موصولة في محل نصب مفعول للعلم، وهو بمعنى المعرفة فيتعدى إلى واحد. وجوز ابن عطية أن يراد العلم المتعدي إلى مفعولين لكنه اقتصر على واحد، وتعقبه في البحر بأنه لا يجوز حذف الثاني اقتصارا لأن أصله خبر مبتدأ، ولا اختصارا هنا لأنَّه لا دليل على حذفه. وقيل: إن مَنْ استفهامية مبتدأ، والجملة بعدها خبر، وجملة المبتدأ والخبر معلق عنها سادة مسد المفعول أو المفعولين، قيل: ولما كان مدار سخريتهم استجالهم إياه عليه السلام في مكابدة المشاق الفادحة لدفع ما لا يكاد يدخل تحت الصحة على زعمهم من الطوفان ومقاساة الشدائد في عمل السفينة وكانوا يعدونه عذابا قيل: بعد استجهالهم فَسَوْفَ إلخ يعني أن ما أباشره ليس فيه عذاب لاحق بي فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ من يعذب، ولقد أصاب العلم بعد استجالهم محزه انتهى، وهو ظاهر على تقدير حمل السخرية المنسوبة إليه عليه السلام على الاستجهال. ولعله يمكن إجراؤه على تقدير حملها على ظاهرها أيضا بأدنى عناية فافهم، ووصف العذاب بالإخزاء لما في الاستهزاء والسخرية من لحوق الخزي والعار عادة والتعرض لحلول العذاب المقيم للمبالغة في التهديد، وفيه من المجاز ما لا يخفى، وتخصيصه بالمؤجل، وإيراد الأول بالإتيان غاية الجزالة، وحكى الزهراوي أنه قرىء يحل بضم الحاء. حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا غاية لقوله سبحانه: يَصْنَعُ الْفُلْكَ وحَتَّى إما جارة متعلقة به، وإِذا لمجرد الظرفية، وإما ابتدائية داخلة على الشرط وجوابه، والجملة لا محل لها من الإعراب، وحال ما وقع في البين قد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 250 مرت الإشارة إليه، والأمر إما واحد الأوامر أي الأمر بركوب السفينة أو بالفوران أو للسحاب بالإرسال أو للملائكة عليهم السلام بالتصرف فيما يراد أو نحو ذلك، وإما واحد الأمور وهو الشأن أعني نزول العذاب بهم وَفارَ التَّنُّورُ أي نبع منها الماء وارتفع بشدة كما تفور القدر بغليانها وفيه من الاستعارة ما لا يخفى، والمراد من التنور تنور الخبز عند الجمهور، وكان على ما روي عن الحسن ومجاهد تنورا لحواء تخبز فيه ثم صار لنوح عليه السلام وكان من حجارة، وقيل: هو تنور في الكوفة في موضع مسجدها عن يمين الداخل مما يلي باب كندة، وجاء ذلك في رواية عن علي كرم الله تعالى وجهه، وقيل: تنور بالهند، وقيل: بعين وردة من أرض الجزيرة العمرية أو من أرض الشام، وقيل: ليس المراد به تنورا معينا بل الجنس، والمراد فار الماء من التنانير، وفي ذلك من عجيب القدرة ما لا يخفى، ولا تنافي بين هذا وقوله سبحانه: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً [القمر: 12] إذ يمكن أن يكون التفجير غير الفوران فحصل الفوران للتنور والتفجير للأرض، أو يراد بالأرض أماكن التنانير، ووزنه تفعول من النور، وأصله تنوور فقلبت الواو الأولى همزة لانضمامها، ثم حذفت تخفيفا، ثم شددت النون عوضا عما حذف، ونقل هذا عن ثعلب، وقال أبو علي الفارسي: وزنه فعول، وقيل: على هذا إنه أعجمي ولا اشتقاق له، ومادته تنر، وليس في كلام العرب نون قبل راء، ونرجس معرب أيضا، والمشهور أنه مما اتفق فيه لغة العرب والعجم كالصابون والسمور، وعن ابن عباس وعكرمة والزهري أن التَّنُّورُ وجه الأرض هنا، وعن قتادة أنه أشرف موضع منها أي أعلاه وأرفعه، وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ وغيرهما عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه تنوير الصبح، والظاهر أنه لم يستعمل في اللغة العجمية بهذه المعاني الأخيرة، وجوز أن يكون فوران التنور مجازا عن ظهور العذاب وشدة الهول، وهذا كما جاء في الخبر حمى الوطيس مجازا عن شدة الحرب وليس بين الجملتين كثير فرق في المعنى وهو معنى حسن لكنه بعيد عما جاءت به الأخبار قُلْنَا احْمِلْ فِيها أي في الفلك، وأنث الضمير لأنه بمعنى السفينة، والجملة استئناف أو جواب إذا مِنْ كُلٍّ أي من كل نوع من الحيوانات ينتفع به الذين ينجون من الغرق وذراريهم بعد، ولم تكن العادة جارية بخلقه من غير ذكر وأنثى، والجار والمجرور متعلق- بأحمل- أو بمحذوف وقع حالا من مفعوله أعني قوله سبحانه: زَوْجَيْنِ وهو تثنية زوج، والمراد به الواحد المزدوج بآخر من جنسه، فالذكر زوج للأنثى كما هي زوج له، وقد يطلق على مجموعها، وليس بمراد، وإلا لزم أن يحمل من كل صنف أربعة، ولئلا يراد ذلك وصف بقوله تعالى: اثْنَيْنِ وحاصل المعنى احمل ذكرا وأنثى من كل نوع من الحيوانات، وقرأ الأكثرون مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ بالإضافة فاثنين على هذا مفعول- احمل- ومِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ حال منه، ولو أخر لكان صفة له أي احمل اثنين من كل زوجين أي صنف ذكر وصنف أنثى، وقيل: مِنْ زائدة وما بعدها مفعول احمل، واثْنَيْنِ نعت لزوجين بناء على جواز زيادة مِنْ في الموجب ثم ما ذكرناه في تفسير العموم الذي مال إليه البعض وأدرج فيه أناس الهوام والطير، وذكر أنه روي أنه عليه السلام جعل للسفينة ثلاثة بطون وحمل في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام، وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام، وركب هو ومن معه في البطن الأعلى مع ما يحتاج إليه من الزاد، وحمل معه جسد آدم عليه السلام وجعله معترضا بين الرجال والنساء، وكان حمله بوصية منه عليه السلام توارثها ولده حتى وصلت إلى نوح عليه السلام، ويعارض هذا التقسيم ما روي أن الطبقة السفلى للوحش. والوسطى للطعام والعليا له عليه السلام ولمن آمن، وتوسع بعضهم في العموم فأدرج فيه ما ليس من جنس الحيوان، وأيد بما أخرجه إسحاق بن بشر وغيره عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعا أن نوحا عليه السلام حمل معه في السفينة من جميع الشجر، وبما أخرجه أبو الشيخ عن جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما قال: أمر نوح عليه السلام أن يحمل معه مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ فحمل من التمر العجوة واللون. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 251 وأخرج النسائي عن أنس بن مالك أن نوحا عليه السلام نازعه الشيطان في عود الكرم، فقال: هذا لي، وقال نوح: هو لي فاصطلحا على أن لنوح ثلثها، وللشيطان ثلثيها ولا يكاد يعول على مثل هذه الأخبار عند التنقير، ومما يحمل معها في سفينة ما أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: تأذى أهل السفينة بالفأر فعطس الأسد فخرج من منخريه سنوران ذكر وأنثى فأكلا الفأر إلا ما أراد الله تعالى أن يبقي منه، وتأذوا بأذى أهل السفينة فعطس الفيل فخرج من منخريه خنزيران ذكر وأنثى فأكلا أذى أهل السفينة، وفي رواية الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير وغيرهما عنه أن نوحا عليه السلام شكا إلى الله تعالى قرض الفأر حبال السفينة فأوحى الله إليه فسمح جبهة الأسد فخرج سنوران، وشكا عذرة في السفينة فأوحى إليه سبحانه، فمسح ذنب الفيل فخرج خنزيران فأكلا العذرة. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق زيد بن أسلم عن أبيه مرفوعا أن أهل السفينة شكوا الفأرة فقالوا: الفويسقة تفسد علينا طعامنا ومتاعنا. فأوحى الله تعالى إلى الأسد فعطس فخرجت الهرة منه فتخبأت الفأرة منها، ولم يذكر فيه بحث الخنزير، ويفهم منها على ما فيها أن الهرة لم تكن عند الحمل، ومن الأولين أنها والخنزير لم يكونا، وفي بعض الآثار ما يخالفه، فقد أخرج أحمد في الزهد وأبو الشيخ عن وهب بن منبه قال لما أمر الله تعالى نوحا عليه السلام بالحمل قال: كيف أصنع بالأسد، والبقرة وكيف أصنع بالعناق والذئب، وكيف أصنع بالحمام والهر؟ فقال الله تعالى: من ألقى بينهما العداوة؟ قال: أنت يا رب قال: فإني أؤلف بينهم حتى لا يتضارون، ولا يخفى ما بين هذا وبين التقسيم الأول أيضا، وجاء في شأن الأسد روايات مختلفة: ففي رواية أن أصحابه عليه السلام قالوا: كيف نطمئن ومعنا الأسد؟ فسلط الله تعالى عليه الحمى، وكانت أول حمى نزلت الأرض وفي رواية أنه كان يؤذيهم في السفينة فألقيت عليه الحمى ليشتغل بنفسه، وفي أخرى أنه عليه السلام حين أمر بالحمل قال: يا رب كيف بالأسد والفيل؟ فقال له سبحانه: سألقي عليهما الحمى وهي ثقيلة وفي أخرى عن أبي عبيدة أنه عليه السلام حين أمر بالحمل لم يستطع أن يحمل الأسد حتى ألقيت عليه الحمى فحمله فأدخله، ولا يخفى أنها مع دلالة بعضها على أن إلقاء الحمى قبل الدخول، وبعضها على أنه بعده، وكان يغني عن إلقائها بعد دفعا لأذاء التأليف بينه وبين الإنسان كما ألف بين ما مر بعضه مع بعض، ولعل لدفع الأذى بالحمى دون التأليف إن صح ذلك حكمة لكنها غير ظاهرة لنا، وجاء في بعض الآثار ما يفهم منه أنه كان معه عليه السلام في السفينة من الجن ما كان، وفي بعضها أن إبليس عليه اللعنة كان أيضا. فعن ابن عباس أنه لما أراد الله تعالى أن يدخل الحمار السفينة أخذ نوح بأذني الحمار وأخذ إبليس بذنبه فجعل نوح يجذبه وجعل إبليس يجذبه فقال نوح عليه السلام: ادخل شيطان فدخل الحمار ودخل إبليس معه فلما سارت السفينة جلس في ذنبها يتغنى فقال له نوح: ويلك من أذن لك؟ قال: أنت قال: متى؟ قال: إذ قلت للحمار ادخل شيطان فدخلت بإذن منك، وفي رواية أخرى عنه أن نوحا عليه السلام قال للحمار: ويحك ادخل وإن كان الشيطان معك كلمة جرت على لسانه فدخل ودخل معه الشيطان. وأخرج ابن عساكر عن عطاء أن اللعين جاء ليركب السفينة فدفعه نوح عليه السلام فقال: يا نوح إني منظور ولا سبيل لك علي فعرف أنه صادق فأمره أن يجلس على خيزران السفينة، وهو بظاهره مخالف لما روي عن ابن عباس، واختلفوا في أنه كيف جمعت الحيوانات على تفرقها في أكناف الأرض، فقيل: إنها أحست بالعذاب فاجتمعت وعن الزهري أن الله تعالى بعث ريحا فحمل إليه من كل زوجين اثنين من الطير والسباع والوحش والبهائم. وعن جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما أن الله تعالى بعث جبريل عليه السلام فحشرها فجعل عليه السلام الجزء: 6 ¦ الصفحة: 252 يضرب بيديه على الزوجين فتقع يده اليمنى على الذكر واليسرى على الأنثى فيدخلهما السفينة حتى أدخل عدة ما أمر الله تعالى به، وروى إسحاق بن بشر وغيره عن زيد بن ثابت أنه استعصت عليه عليه السلام الماعزة فدفعها في ذنبها فمن ثم انكسر وبدا حياها ومضت النعجة حتى دخلت فمسح على ذنبها فستر حياها. وفي كتب الأخبار كثير من هذه الآثار التي يقضى منها العجب، وأنا لا أعتقد سوى أن الله عزت قدرته خلق الماعزة والنعجة من قبل على ما هما عليه اليوم وأنه سبحانه لم يخلق الهرة من الأسد وإن أشبهته صورة ولا الخنزير من الفيل وإن كان بينهما شبه ما كما شاهدناه عام مجيء الفيل إلى بغداد ولو كلف الفيل أكل العذرة لكان أحب إلى أهل السفينة من زيادة خنزير فيها وأحب من ذلك كله إليهم أن لا يكون في السفينة غيرهم أو يكون حيوان واحد يخلق لهم من عطاسه ما يريدونه من الحيوانات ويحتاجون إليه بعد. والذي يميل القلب إليه أن الطوفان لم يكن عاما- كما قال به البعض- وأنه عليه السلام لم يؤمر بحمل ما جرت العادة بتكونه من عفونة الأرض كالفأر والحشرات بل أمر بحمل ما يحتاج إليه إذا نجا ومن معه من الغرق لئلا يغتموا لفقده ويتكلفوا مشقة جلبه من الأصقاع النائية التي لم يصلها الغرق فكأنه قيل: قلنا احمل فيها من كل ما تحتاجونه إذا نجوتم زوجين اثنين، وإن قلنا بعموم الغرق نقول أيضا: إنه عليه السلام لم يكلف بحمل شيء من المتكونات من العفونة بل كلف بالحمل مما يتناسل من الحيوانات لمصلحة بقاء النوع، وكانت السفينة بحيث تسع ذلك عادة أو معجزة وقدرة الله تعالى أجل من أن تضيق عن ذلك، وإن قيل بالعموم على وجه يبقى معه بعض الجبال أجاز أن يقال: إنه عليه السلام لم يحمل إلا مما لا مهرب له ويضر فقده بجماعته، ولو قيل: إن العموم على إطلاقه وأنه عليه السلام لم يحمل في السفينة إلا ما تتسع له عادة مما يحتاج إليه لئلا يضيق أصحابه ذرعا بفقده بالكلية حسبما تقتضيه الطباع البشرية وغرق ما عدا ذلك لكن الله تعالى جلت قدرته خلق نظير ما غرق بعد على الوجه الذي فعل قبل لم يكن ذلك بدعا ممن أمره بين الكاف والنون جل شأنه وعظم سلطانه. هذا وإنما قدم ذلك على أهله وسائر المؤمنين قيل: لكونه عريقا بالحمل المأمور به لأنه يحتاج إلى مزاولة الأعمال منه عليه السلام في تمييز بعض عن بعض وتعيين الأزواج، وأما البشر فإنما يدخل الفلك باختياره فيخف فيه معنى الحمل، أو لأن ذلك إنما يحمل بمباشرة البشر وهم إنما يدخلونها بعد حملهم إياه، ويجوز أن يكون التقديم حفظا للنظم الكريم عن الانتشار، وأيا ما كان فقوله سبحانه: وَأَهْلَكَ عطف على زَوْجَيْنِ أو على اثْنَيْنِ والمراد بأهله على ما في بعض الآثار امرأته المسلمة وبنوه منها وهم سام عليه السلام- وهو أبو العرب- وأصله على ما قال البكري: بالشين المعجمة، وحام- وهو أبو السودان- قيل: إنه أصاب زوجته في السفينة فدعا نوح عليه السلام أن تغير نطفته فغيرت، وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن أبي صالح، ويافث كصاحب- وهو أبو الترك ويأجوج ومأجوج- وزوجة كل منهم إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ بأنه من المغرقين لظلمهم، وذلك في قوله سبحانه: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا الآية، والمراد زوجة له أخرى تسمى واعلة بالعين المهملة، وفي رواية والقة وابنه منها كنعان وكان اسمه فيما قيل: يام وهذا لقبه عند أهل الكتاب وكانا كافرين، وفي هذا دلالة على أن الأنبياء عليهم السلام يحل لهم نكاح الكافرة بخلاف نبينا صلّى الله عليه وسلّم لقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ [الأحزاب: 50] الآية، والاستثناء جوز أن يكون متصلا إن أريد بالأهل الأهل إيمانا، وأن يكون منقطعا إن أريد به الأهل قرابة، ويكفي في صحة الاستثناء المعلومية عند المراجعة إلى أحوالهم والتفحص عن أعمالهم، وجيء بعلى لكون السابق ضارا لهم كما جيء باللام فيما هو نافع في قوله تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ [الصافات: 171] وقوله سبحانه: إِنَّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 253 الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى [الأنبياء: 101] وَمَنْ آمَنَ عطف على الأهل أي والمؤمنين من غيرهم وإفراد أولئك منهم للاستثناء المذكور، وإيثار صيغة الافراد في آمَنَ محافظة على لفظ مِنْ للإيذان بالقلة كما أفصح عن ذلك قوله تعالى: وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ قيل: كانوا سبعة زوجته وأبناؤه الثلاثة وكنائنه الثلاث، وروي هذا عن قتادة والحكم بن عقبة وابن جريج ومحمد بن كعب، ويرده عطف وَمَنْ آمَنَ على الأهل إلا أن يكون الأهل بمعنى الزوجة فإنه قد ثبت بهذا المعنى لكن قيل: إنه خلاف الظاهر، والاستثناء عليه منقطع أيضا، وعن ابن إسحاق أنهم عشرة خمسة رجال وخمس نسوة، وعنه أنهم كانوا مع نوح عليه السلام عشرين نصفهم رجال ونصفهم الآخر نساؤهم، وقيل: كانوا ثمانية وسبعين نصفهم ذكور ونصفهم إناث، وقيل: كانوا ثمانين رجلا وثمانين امرأة- وقيل: والرواية الصحيحة أنهم كانوا تسعة وسبعين، زوجته وبنوه الثلاثة ونساؤهم واثنان وسبعون رجلا وامرأة من غيرهم من بني شيث، واعتبار المعية في الإيمان للإيماء إلى المعية في مقر الإيمان والنجاة. وَقالَ أي نوح عليه السلام لمن معه من المؤمنين كما ينبىء عنه قوله تعالى: إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. وقيل: الضمير لله تعالى، وفيه أنه لو كان كذلك لكان المناسب إن ربكم إلخ، ولعل هذا القول بعد إدخال ما أمر بحمله في الفلك من الأزواج كأنه قيل: فحمل الأزواج حسبما أمر أو أدخلها في الفلك، وقال للمؤمنين ارْكَبُوا فِيها أي صيروا فيها، وجعل ذلك ركوبا لأنها في الماء كالمركوب في الأرض ففيه استعارة تبعية من حيث تشبيه الصيرورة فيها بالركوب، وقيل: استعارة مكنية والتعدية بفي لاعتبار الصيرورة وإلا فالفعل يتعدى بنفسه، وإلى هذا ذهب القاضي البيضاوي، وقيل: التعدية بذلك لأنه ضمن معنى ادخلوا، وقيل: تقديره اركبوا الماء فيها، وقيل: في زائدة للتوكيد، وكأن الأول أولى، وقال بعض المحققين: الركوب العلو على شيء متحرك ويتعدى بنفسه واستعماله هاهنا بفي ليس لأن المأمور به كونهم في جوفها لا فوقها كما ظن فإن أظهر الروايات أنه عليه السلام ركب هو ومن معه في الأعلى بل لرعاية جانب المحلية والمكانية في الفلك. والسر فيه أن معنى الركوب العلو على شيء له حركة إما إرادية كالحيوان أو قسرية كالسفينة والعجلة ونحوهما فإذا استعمل في الأول توفر له حظ الأصل فيقال: ركبت الفرس، وعليه قوله تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها [النحل: 8] وإن استعمل في الثاني يلوح بمحلية المفعول بكلمة في فيقال: ركبت في السفينة، وعليه الآية الكريمة، وقوله سبحانه: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ [العنكبوت: 65] وحَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها [الكهف: 71] انتهى، وظاهره أن الركوب هاهنا حقيقي. وصرح بعضهم أنه ليس به. وقال الراغب: الركوب في الأصل كون الإنسان على ظهر حيوان، وقد يستعمل في السفينة، وفيه تأكيد لما صرح به البعض بِسْمِ اللَّهِ حال من فاعل (1) ارْكَبُوا والباء للملابسة ولما كانت ملابسة اسم الله عز اسمه بذكره قالوا: المعنى اركبوا مسمين الله، وجوزوا أن تكون الحال محذوفة وهذا معمول لها سادّ مسدّها ولذلك سموه حالا، والأصل ارْكَبُوا قائلين بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها نصب على الظرفية أي وقت إجرائها وإرسائها على أنهما اسما زمان أو مصدران ميميان بمعنى الإجراء والإرساء، ويقدر مضاف محذوف وهو وقت كما في قولك: أتيتك خفوق النجم فإن التقدير وقت خفوقه إلا أنه لما حذف المضاف سدّ المضاف إليه مسده وانتصب انتصابه وهو   (1) قوله: حال من فاعل اركبوا في طرة الأصل بخطه رحمه الله ما نصه، وجوز في هذه الحال أن تكون مقارنة وأن تكون مقدرة بناء على أن الركوب المأمور به ليس إحداثه بل الاستمرار عليه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 254 كثير في المصادر، ويجوز أن يكونا اسمي مكان وانتصابهما بالاستقرار الذي تعلق به الجار والمجرور أو بقائلين، ولا يجوز أن يكون- باركبوا- إذ ليس المعنى على ارْكَبُوا في وقت الإجراء والإرساء، أو في مكانهما وإنما المعنى متبركين أو قائلين فيهما، وتعقب القول بانتصابهما مطلقا بأنهما محدودان ومحدود المكان لا بد له من في، وبعضهم يجوز النصب في مثل ذلك بما فيه من الإبهام، وجوز رفعهما فاعلين بالظرف لاعتماده على ذي الحال أو على أنهما مبتدأ ومعطوف عليه وبِسْمِ اللَّهِ خبرا والخبر محذوف تقديره متحققان ونحوه وهو صلة لهما، والجملة إما مقتضية منقطعة عما قبلها لاختلافهما خبرا وطلبا على أن نوحا عليه السلام أمرهم بالركوب في السفينة ثم أخبرهم بأن إجراءها وإرساءها بسم الله تعالى أو بأن إجراءها وإرساءها باسمه تعالى متحققان لا يشك فيهما، وفي ذلك حث على الركوب وإزالة لما عسى يختلج في قلوبهم من خوف الغرق ونحوه، ويروى عن الضحاك أنه عليه السلام كان إذا أراد أن يجريها، ويقول: بِسْمِ اللَّهِ فتجري، وإذا أراد أن يرسيها قال: بِسْمِ اللَّهِ فترسوا، وإما في موضع الحال من ضمير الفلك أي اركبوا فيها مجراة ومرساة باسم الله وهي حال مقدرة إذ لا إجراء ولا إرساء وقت الركوب كذا قيل، وتعقبه في التقريب بأن الحال إنما تكون مقدرة إذا كانت مفردة كمجراة أما إذا كانت جملة فلا لأن معنى الجملة اركبوا وإجراؤها بِسْمِ اللَّهِ وهذا واقع حال الركوب انتهى، وأجاب عنه في الكشف بأنه لا فرق بين قوله تعالى: فَادْخُلُوها خالِدِينَ [الزمر: 73] وقول القائل: ادخلوها وأنتم مخلدون في عدم المقارنة والرجوع إلى الحال المقدرة فكذلك ما نحن فيه، واعترض على المجيب بأن مراد ذلك القائل إجراؤها مجرى المفرد على نحو كلمته فوه إلى في بأنه تكلف لا حاجة إليه، وهو غير مسلم في المستشهد به أيضا، وإنما ذلك في قول القائل كلمته فاه إلى في انتهى، وكأنه لم ينكشف له مراد صاحب التقريب فإنهم ذكروا أن الفرق بين الحال إذا كانت مفردة وإذا كانت جملة أن الثانية تقتضي التحقق في نفسها والتلبس بها، وربما أشعرت بوقوعها قبل العامل واستمرارها معه كما إذا قلت: جاءني وهو راكب فإنه يقتضي تلبسه بالركوب واستمراره عليه، وهذا ينافي كونها منتظرة ولا أقل من أن لا يحسن الحمل عليه حيث تيسر الإفراد فافهم، وجوز أن تكون حالا مقدرة أيضا من فاعل ارْكَبُوا، واعترض بأنه لا عائد على ذي الحال، وضمير بِسْمِ اللَّهِ للمبتدأ وتقديره أي فإجراؤها معكم أو بكم كائن بِسْمِ اللَّهِ تكلف، والقول بأن الرضي قد ذكر أن الجملة الحالية إذا كانت اسمية قد تخلو من الرابطين عند ظهور الملابسة نحو خرجت زيد على الباب ليس بشيء لضعف ما ذكر في العربية فلا ينبغي التخريج عليه نعم كون الاسمية لا بد فيها من الواو والقول بأن الحال المقدرة لا تكون جملة مطلقا كل منهما في حيز المنع كما لا يخفى. وجوز أن يكون الاسم مقحما كما في قول لبيد: فقوما وقولا بالذي قد عرفتما ... ولا تخمشا وجها ولا تحلقا الشعر إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر ويراد بالله إجراؤها وإرساؤها أي بقدرته أو بأمره أو بإذنه، ويقدر ذلك أو يراد معنى، وخص بعضهم هذا الجواز بما إذا لم يقدر مسمين أو قائلين إذ لا يظهر المعنى حينئذ، ويجري على تقديري الكلام الواحد والكلامين، وكذا على تقدير الزمان والمكان في رأي، ويعتبر الإسناد مجازيا من قبيل نهاره صائم وطريق بر. وقرأ- مجراها ومرساها- بفتح الميم مصدرين أو زمانين أو مكانين على أنهما من جرى ورسا الثلاثيين، وقرأ مجاهد- مجريها ومرسيها- بصيغة اسم الفاعل، وخرج ذلك أبو البقاء على أنهما صفتان للاسم الجليل، وقيل عليه: إن إضافة اسم الفاعل إذا كان بمعنى المستقبل لفظية فهو نكرة لا يصح توصيف المعرفة به فالحق البدلية، والقول بأن مراد المعرب الصفة المعنوية لا النعت النحوي فلا ينافي البدلية بعيد لكن عن الخليل إن ما كانت إضافته غير محضة قد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 255 يصح أن تجعل محضة فتعرف إلا ما كان من الصفة المشبهة فلا تتمحض إضافتها فلا تعرف، والرسو الثبوت والاستقرار ومنه قول الشاعر: فصبرت نفسا عند ذلك حرة ... «ترسو» إذا نفس الجبان تطلع إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ قيل: الجملة مستأنفة لبيان الموجب أي لولا مغفرته لفرطانكم ورحمته إياكم لما أنجاكم من هذه الطامة إيمانكم، وفيه دلالة على أن نجاتهم لم تكن عن استحقاق بسبب أنهم كانوا مؤمنين بل بمحض رحمة الله تعالى وغفرانه على ما عليه أهل السنة، ومنع صلاحية كونها علة- لاركبوا- لعدم المناسبة فيقدر ما يصح به الكلام بأن يقال: امتثلوا هذا الحكم لينجيكم من الهلاك بمغفرته ورحمته، أو يقال: ارْكَبُوا فِيها ذاكرين الله تعالى ولا تخافوا الغرق لما عسى فرط منكم من التقصير لأن الله تعالى شأنه غفور للخطايا والذنوب رحيم بعباده، وجعلها بعضهم تعليلا بالنظر إلى ما فيها من الإشارة إلى النجاة فكأنه قيل: اركبوا لينجيكم الله سبحانه، وقوله سبحانه: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ جوز فيه ثلاثة أوجه: الأول أن يكون مستأنفا، الثاني أن يكون حالا من الضمير المستتر في بِسْمِ اللَّهِ أي جريانها استقر بِسْمِ اللَّهِ حال كونها جارية، الثالث أنه حال من شيء محذوف دل عليه السياق أي فركبوا فيها جارية، والفاء المقدرة للعطف، وبِهِمْ متعلق- بتجري- أو بمحذوف أي ملتبسة والمضارع لحكاية الحال الماضية ولا معنى للحالية من الضمير المستتر في الحال الأولى كما لا يخفى، والموج ما ارتفع من الماء عند اضطرابه، واحده موجة وكَالْجِبالِ في موضع الصفة لموج أي في موج مرتفع متفاوت في الارتفاع متراكم، قيل: إنها جرت بهم في موج كذلك وقد بقي منها فوق الماء ستة أذرع، واستشكل هذا الجريان مع ما روي أن الماء طبق ما بين السماء والأرض وأن السفينة كانت تجري في داخله كالسمك، وأجيب بأن الرواية مما لا صحة لها ويكاد العقل يأبى ذلك، نعم أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن عساكر وعبد بن حميد من طريق مجاهد عن عبيد بن عمير قال: إن الماء علا رأس كل جبل خمسة عشر ذراعا على أنه لو سلم صحة ما ذكر فهذا الجريان كان في ابتداء الأمر قبل أن يتفاقم الخطب كما يدل عليه قوله سبحانه: وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ إلخ فإن ذلك إنما يتصور قبل أن تنقطع العلاقة بين السفينة والبر إذ حينئذ يمكن جريان ما جرى بين نوح عليه السلام وبين ابنه من المفاوضة والاستدعاء إلى السفينة، والجواب بالاعتصام بالجبل. وقال بعض المحققين: إن هذا النداء إنما كان قبل الركوب في السفينة والواو لا تدل على الترتيب، وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قرأ ابنها على أن ضمير التأنيث لامرأته، وفي إضافته إليها إشعار بأنه ربيبه لأن الإضافة إلى الأم مع ذكر الأب خلاف الظاهر، وإن جوزوه، ووجه بأنه نسب إليها لكونه كافرا مثلها، وما يقال من أنه كان لغير رشدة لقوله سبحانه: فَخانَتاهُما [التحريم: 10] فارتكاب عظيمة لا يقادر قدرها فإن الله تعالى قد طهر الأنبياء عليهم السلام عما هو دون ذلك من النقص بمراحل فحاشاهم ثم حاشاهم أن يشار إليهم بأصبع الطعن وإنما المراد بالخيانة الخيانة في الدين، ونسبة هذا القول إلى الحسن ومجاهد- كما زعم الطبرسي- كذب صريح، وقرأ محمد بن علي وعروة بن الزبير رضي الله تعالى عنهم ابْنَهُ بهاء مفتوحة دون ألف اكتفاء بالألف (1) عنها وهو لغة- كما قال ابن عطية- ومن ذلك قوله: أما تقود بها شاة فتأكلها ... أو أن تبيعه في بعض الأراكيب   (1) قوله اكتفاء بالألف إلخ كذا في خطه، ولعله بالفتحة عن الألف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 256 قيل: وهو ضعيف في العربية حتى خصه بعضهم بالضرورة والضمير للأم أيضا، وقرأ ابن عباس ابنه بسكون الهاء، وهي على ما قال ابن عطية وأبو الفضل الرازي لغة أزد فإنهم يسكنون هاء الكناية من المذكر، ومنه قوله: ونضواي (2) مشتاقان له أرقان وقيل: إنها لغة لبني كلاب وعقيل، ومن النحويين من يخص هذا السكون بالضرورة وينشد: وأشرب الماء ما بي نحوه عطش ... ألا لأن عيونه سيل واديها وقرأ السدي- «ابناه» - بألف وهاء سكت، وخرج ذلك على الندبة، واستشكل بأن النحاة صرحوا بأن حرف النداء لا يحذف في الندبة، وأجيب بأن هذا حكاية، والذي منعوه في الندبة نفسها لا في حكايتها، وعن ابن عطية- أبناه- بفتح همزة القطع التي للنداء، وفيه أنه لا ينادي المندوب بالهمزة، وأن الرواية بالوصل فيها والنداء بالهمزة لم يقع في القرآن، ويبعد القول بالندبة أنها لا تلائم الاستدعاء إلى السفينة بعد كما لا يخفى ولو قيل: إن ابناه على هذه القراءة مفعول- نادى- أيضا كما في غيرها من القراءات، والألف للإشباع والهاء الساكنة هاء الضمير في بعض اللغات لم يكن هناك محذور من جهة المعنى وهو ظاهر، نعم يتوقف القول بذلك على السماع في مثله ومتى ثبت تعين عندي تخريج القراءة إن صحت عليه، وقرأ الجمهور «ابنه» بالإضافة إلى ضمير نوح، ووصلوا بالهاء واوا وتوصل في الفصيح، وتنوين «نوح» مكسور عند الجمهور دفعا لالتقاء الساكنين، وقرأ وكيع بضمه اتباعا لحركة الإعراب. وقال أبو حاتم: هي لغة سوء لا تعرف وَكانَ فِي مَعْزِلٍ أي مكان عزل فيه نفسه عن أبيه وإخوته ومن آمن من قومه، والمراد بعده عنهم إما حسا أو معنى، وحاصله المخالفة لهم في الدين فمعزل بالكسر اسم مكان العزلة، وهي إما حقيقية أو مجازية، وقد يكون اسم زمان، وإذا فتح كان مصدرا، وقيل: المراد- كان في معزل- عن الكفار قد انفرد عنهم، وظن نوح عليه السلام أنه يريد مفارقتهم ولذلك دعاه إلى السفينة، وقيل: إنما ناداه لأنه كان ينافقه فظن أنه مؤمن، واختاره كثير من المحققين كالماتريدي وغيره، وقيل: كان يعلم أنه كافر إلى ذلك الوقت لكنه عليه السلام ظن أنه عند مشاهدة تلك الأهوال وبلوغ السيل الزبي ينجر عما كان عليه ويقبل الإيمان، وقيل: لم يجزم بدخوله في الاستثناء لما أنه كان كالمجمل فحملته شفقة الأبوة على أن ناداه يا بُنَيَّ بفتح الياء التي هي لام الكلمة اجتزاء بالفتحة عن الألف المبدلة من ياء الإضافة في قوله يا بنيا، وقيل: إنها سقطت لالتقائها ساكنة مع الراء الساكنة بعدها، ويؤيد الأول أنه قرىء كذلك حيث لا ساكن بعد. ومن الناس من قال: فيه ضعف على ما حكاه يونس من ضعف يا أب ويا أم بحذف الألف والاجتزاء عنها بالفتحة. وقرأ الجمهور بالكسر اقتصارا عليه من ياء الإضافة، وقيل: إنها حذفت لالتقاء الساكنين كما قيل ذلك في الألف، ونداؤه بالتصغير من باب التحنن والرأفة، وكثيرا ما ينادي الوالد ولده كذلك ارْكَبْ مَعَنا أي في السفينة ولتعينها وللإيذان بضيق المقام حيث حال الجريض دون القريض مع إغناء المعية عن ذكرها لم تذكر، وأطلق الركوب وتخفيف الباء وإدغامها في الميم قراءتان سبعيتان ووجه الإدغام التقارب في المخرج وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ تأكيد للأمر وهو نهي عن مشايعة الكفرة والدخول في غمارهم، وقطع بأن الدخول فيه يوجب الغرق على الطريق البرهاني قالَ سَآوِي أي سأنضم إِلى جَبَلٍ من الجبال، وقيل: عنى طورزيتا يَعْصِمُنِي أي يحفظني بارتفاعه مِنَ   (2) قوله: ونضواي كذا بخطه رحمه الله، والذي في الصحاح وغيره ومطواي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 257 الْماءِ فلا يصل إلي. قال ذلك زعما منه أن ذلك كسائر المياه في أزمنة السيول المعتادة التي ربما يتقي منها بالصعود إلى مرتفع وجهلا منه بأن ذلك إنما كان لإهلاك الكفرة فلا بد أن يدركهم ولو كانوا في قلل الجبال قالَ مبينا له حقيقة الحال وصارفا له عن ذلك الفكر المحال لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ نفي لجنس العاصم المنتظم لنفي جميع أفراده ذاتا وصفة للمبالغة في نفي كون الجبل عاصما، وزاد الْيَوْمَ للتنبيه على أنه ليس كسائر الأيام التي تقع فيها الوقائع وتلم فيها الملمات المعتادة التي ربما يتخلص منها بالالتجاء إلى بعض الأسباب العادية، وعبر عن الماء في محل إضماره بأمر الله أي عذابه الذي أشير إليه أولا بقوله سبحانه: حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا تفخيما لشأنه وتهويلا لأمره وتنبيها لابنه على خطئه في تسميته ماء وتوهمه أنه كسائر المياه التي يتخلص منها بالهرب إلى بعض المهارب المعهودة، وتعليلا للنفي المذكور فإن أمر الله سبحانه لا يغالب وعذابه لا يرد، وتمهيدا لحصر العصمة في جناب الله تعالى عز جاره بالاستثناء كأنه قيل: لا عاصم من أمر الله تعالى إلا هو تعالى، وإنما قيل: إِلَّا مَنْ رَحِمَ تفخيما لشأنه الجليل جل شأنه وإشعارا بعلية رحمته بموجب سبقها غضبه كل ذلك لكمال عنايته عليه السلام بتحقيق ما يتوخاه من نجاة ابنه ببيان شأن الداهية وقطع أطماعه الفارغة وصرف عنانه عن التعلل بما لا يغني عنه شيئا وإرشاده إلى العياذ بالمعاذ الحق عز حماه، ولذا عدل عما يقتضيه الظاهر من الجواب بقوله: لا يعصمك الجبل منه كذا ذكره بعض المحققين وهو أحد أوجه في الآية وأقواها. والوجه الثاني أن عاصما صيغة نسبة، والمراد بالموصول المرحوم أي لا ذا عصمة أي معصوم إلا من رحمه الله تعالى، وأيد ذلك بأنه قرىء إِلَّا مَنْ رَحِمَ بالبناء للمفعول، واعترضه في الكشف بأن فاعلا بمعنى النسبة قليل، وأجيب بأنه إن أراد قلته في نفسه فممنوع وإن بالنسبة إلى الوصف فلا يضر. والثالث أن- عاصما- على ظاهره، ومَنْ رَحِمَ بمعنى المرحوم والاستثناء منقطع لا متصل كما في الوجهين الأولين أي لا عاصم من أمر الله لكن من رحمه الله تعالى فهو معصوم، وأورد عليه بأن مثل هذا المنقطع قليل لأنه في الحقيقة جملة منقطعة تخالف الأولى لا في النفي والإثبات فقط بل في الاسمية والفعلية أيضا، والأكثر فيه مثل ما جاءني القوم إلا حمارا، والرابع أن- عاصما- بمعنى معصوم كدافق بمعنى مدفوق وفاتن بمعنى مفتون في قوله: بطيء القيام رخيم الكلا ... م أمسى فؤادي به «فاتنا» ومَنْ رَحِمَ بمعنى الراحم، والاستثناء منقطع أيضا أي لا معصوم إلا الراحم على معنى لكن الراحم يعصم من أراد، والخامس أن الكلام على إضمار المكان والاستثناء متصل أي لا عاصم إلا مكان من رحمه الله من المؤمنين وهو السفينة، قيل: وهو وجه حسن فيه مقابلة لقوله: يَعْصِمُنِي وهو المرجح بعد الأول، والعاصم على هذا حقيقة لكن إسناده إلى المكان مجازي، وقيل: إنه مجاز مرسل عن مكان الاعتصام، والمعنى لا مكان اعتصام إلا مكان من رحمه الله، وادعى أنه أرجح من الكل لأنه ورد جوابا عن قوله: سَآوِي إِلى جَبَلٍ إلخ وليس بمسلم، والسادس ما أبداه صاحب الكشف من عنده وهو أن المعنى لا معصوم إلا مكان من رحمه الله تعالى، ويراد به عصمة من فيه على الكناية فإن السفينة إذا عصمت عصم من فيها، والسابع أن الاستثناء مفرغ، والمعنى لا عاصم اليوم أحدا أو لأحد إلا من رحمه الله أو لمن رحمه الله سبحانه، وعده بعضهم أقربها، ولا أظنك تعدل بالوجه الأول وجها وهو الذي اختاره، والظاهر على ما قال أبو حيان: إن خبر لا محذوف للعلم به أي لا عاصِمَ موجود، والأكثر الحذف في مثل ذلك عند الحجازيين، والتزم الحذف فيه بنو تميم ويكون اليوم منصوبا على إضماره فعل يدل عليه عاصِمَ أي لا عاصِمَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 258 يعصم اليوم والجار والمجرور متعلق بذلك الفعل ومنع جواز أن يكون الْيَوْمَ منصوبا باسم- لا- وأن يكون الجار متعلقا به لأنه يلزم حينئذ أن يكون معربا منونا للطول. وجوز الحوفي أن يكون الْيَوْمَ متعلقا بمحذوف وقع خبرا- للا- والجار متعلق بذلك المحذوف أيضا، وأن يكون متعلقا بمحذوف هو الخبر، والْيَوْمَ في موضع النعت لعاصم، ورد أبو البقاء خبرية اليوم بأنه ظرف زمان وهو لا يكون خبرا عن الجثة، والتزم كونه معمول من أمر الله وكون الخبر هو الجار والمجرور، ورد أبو حيان جواز النعتية بأن ظرف الزمان لا يكون نعتا للجثث كما لا يكون خبرا عنها وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ أي بين نوح عليه السلام وابنه فانقطع ما بينهما من المجاوبة، قيل: كانا يتراجعان الكلام فما استتمت المراجعة حتى جاءت موجة عظيمة وكان راكبا على فرس قد بطر وأعجب بنفسه فالتقمته وفرسه، وليس في الآية هنا إلا إثبات الحيلولة، وأما علمه عليه السلام بغرقه فلم يحصل إلا بعد، وقال الفراء: بينهما أي بين ابن نوح عليه السلام والجبل، وأخرج ذلك ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن القاسم بن أبي بزة، وتعقبه العلامة أبو السعود بأن قوله تعالى: فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ إنما يتفرع على حيلولة الموج بينه عليه السلام وبين ابنه لا بينه وبين الجبل لأنه بمعزل عن كونه عاصما وإن لم يحل بينه وبين الملتجأ إليه موج، وأجيب بأن التفريع لا ينافي ذلك لأن المراد فكان من غير مهلة أو هو بناء على ظنه أن الماء لا يصل إليه، وفي الآية دلالة على غرق سائر الكفرة على أبلغ وجه. فكأن ذلك أمر مقرر الوقوع غير مفتقر إلى البيان، وفي إيراد- كان- دون صار مبالغة في كونه منهم وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي أي انشفي استعير من ازدراد الحيوان ما يأكله للدلالة على أن ذلك ليس كالشف المعتاد التدريجي، وتخصيص البلع بما يؤكل هو المشهور عن اللغويين، وقال الليث: يقال: بلع الماء إذا شربه وهو ظاهر في أنه غير خاص بالمأكول، وذكر السيد أن ذلك مجاز، وأخرج ابن المنذر وغيره عن وهب بن منبه أن البلع بمعنى الازدراد لغة حبشية، وأخرج أبو الشيخ عن جعفر بن محمد عن أبيه أنه بمعنى الشرب لغة هندية ماءَكِ أي ما على وجهك من ماء الطوفان وعبر عنه بالماء بعد ما عبر عنه فيما سلف بأمر الله تعالى لأن المقام مقام النقص والتقليل لا مقام التفخيم والتهويل وَيا سَماءُ أَقْلِعِي أي أمسكي عن إرسال المطر يقال: أقلعت السماء إذا انقطع مطرها وأقلعت الحمى إذا كفت، والظاهر أن المطر لم ينقطع حتى قيل للسماء ما قيل، وهل فوران الماء كان مستمرا حتى قيل للأرض ما قيل أم لا؟ لم أر فيه شيئا، والآية ليست نصا في أحد الأمرين وَغِيضَ الْماءُ أي نقص يقال: غاضه إذا نقصه وجميع معانيه راجعة إليه. وقول الجوهري: غاض الماء إذا قل ونضب، وغيض الماء فعل به ذلك لا يخالفه فإن القلة عين النقصان، وتفسير ذلك بالنقص مروي عن مجاهد وَقُضِيَ الْأَمْرُ أي أنجز ما وعد الله تعالى نوحا عليه السلام من إهلاك كفار قومه وإنجائه بأهله المؤمنين، وجوز أن يكون المعنى أتم الأمر وَاسْتَوَتْ استقرت يقال: استوى على السرير إذا استقر عليه عَلَى الْجُودِيِّ بتشديد الياء، وقرأ الأعمش وابن أبي عبلة بتخفيفها وهما لغتان- كما قال ابن عطية- وهو جبل بالموصل، أو بالشام، أو بآمل- بالمد وضم الميم والمشهور الأول. وجاء في بعض الآثار أن الجبال تشامخت إذ ذاك وتواضع هو لله تعالى شأنه فأكرمه سبحانه باستواء السفينة عليه، من تواضع الله سبحانه رفعه، وكان استواؤها عليه يوم عاشوراء فقد أخرج أحمد وغيره عن أبي هريرة قال: «مر النبي صلّى الله عليه وسلّم بأناس من اليهود وقد صاموا يوم عاشوراء فقال: ما هذا الصوم؟ فقيل: هذا اليوم الذي أنجى الله تعالى فيه موسى عليه السلام وبني إسرائيل من الغرق وغرق فيه فرعون، وهذا يوم استوت فيه السفينة على الجودي فصامه نوح وموسى عليهما السلام شكرا لله تعالى، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أنا أحق بموسى عليه السلام وأحق بصوم هذا اليوم فصامه وأمر أصحابه بالصوم» وأخرج الأصبهاني في الترغيب عنه رضي الله تعالى عنه أنه اليوم الذي ولد فيه عيسى عليه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 259 السلام أيضا وأن صيامه يعدل سنة مبرورة، وكان ركوبه عليه السلام- فيما روي عن قتادة- في عشر خلون من رجب. وأخرج ابن جرير عن عبد العزيز بن عبد الغفور عن أبيه مرفوعا أنه عليه السلام ركب في أول يوم من رجب فصام هو ومن معه وجرت بهم السفينة ستة أشهر فانتهى ذلك إلى المحرم فأرست السفينة على الجودي يوم عاشوراء فصام نوح عليه السلام وأمر جميع من معه من الوحش والدواب فصاموا شكرا لله. وفي بعض الآثار أنها طافت بهم الأرض كلها ولم تدخل الحرم لكنها طافت به أسبوعا وأن الحجر الأسود خبىء في جبل أبي قبيس وأن البيت رفع إلى السماء، وفي رواية ابن عساكر عن مجاهد أنه لم يدخل الحرم من الماء شيء، والظاهر على هذا أنه لا خبء كما أنه لا رفع، وعندي أن رواية ثبوتهما جميعا مما لا تكاد تصح، وبفرض صحتها لا يظهر لي سر رفع البيت بلا حجر وخبء الحجر بلا بيت بل عندي في رفع البيت مطلقا تردد، وإن كنت ممن لا يتردد في أن الله تعالى على كل شيء قدير وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي هلاكا لهم، واللام صلة المصدر، وقيل: متعلق بقيل وأن المعنى قيل لأجلهم بعدا وهو خلاف الظاهر، والتعرض لوصف الظلم للإشعار بعليته للهلاك ولتذكير ما سبق في قوله سبحانه: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا [هود: 37] ولا يخفى ما في هذه الآية أيضا من الدلالة على عموم هلاك الكفرة. ويشهد لذلك آيات أخر وأخبار كثيرة بل فيها ما هو على علاته ظاهر في عموم هلاك من على الأرض ما عدا أهل السفينة فعن عبيد بن عمير أن فيمن أصاب الغرق امرأة معها صبي لها فوضعته على صدرها فلما بلغها الماء وضعته على منكبها فلما بلغها الماء وضعته على يديها فقال الله سبحانه: لو رحمت أحدا من أهل الأرض لرحمتها ولكن حق القول مني. وزعم بعضهم أنه لم ينج أحد من الكفار سوى عوج بن عوق وكان الماء يصل إلى حجرته، وسبب نجاته أن نوحا عليه السلام احتاج إلى خشب ساج فلم يمكنه نقله فحمله عوج من الشام إليه عليه السلام فنجاه الله تعالى من الغرق لذلك، وظاهر كلام القاموس يقتضي نجاته، فقد ذكر فيه عوج بن عوق- بضمهما- رجل ولد في منزل آدم عليه السلام فعاش إلى زمن موسى عليه السلام، والحق أنه لم ينج أحد من الكفار أصلا، وخبر عوج يرويه هيان بن بيان فلا تعج إلى القول به ولا يشكل إغراق الأطفال الذين لا ذنب لهم لما أنه مجرد سبب للموت بالنسبة إليهم وأي محذور في إماتة من لا ذنب له وفي كل وقت يميت الله سبحانه من ذلك ما لا يحصى وهو جل شأنه المالك الحق والمتصرف المطلق يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ولا يحتاج في الجواب إلى ما أخرجه إسحاق بن بشر وابن عساكر عن عبد الله ابن زياد بن سمعان عن رجال سماهم أن الله تعالى أعقم رجالهم قبل الطوفان بأربعين عاما وأعقم نساءهم فلم يتوالدوا أربعين عاما منذ دعا نوح عليه السلام حتى أدرك الصغير فبلغ الحنث وصارت لله تعالى عليهم الحجة ثم أنزل السماء عليهم بالطوفان إذ يبقى عليه مع ضعفه والتعارض بينه وبين الخبر السابق آنفا أمر إهلاك ما لم يكن في السفينة من الحيوانات وقد جاء عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أن نوحا عليه السلام لما حمل من حمل في السفينة رأت البهائم والوحش والسباع العذاب فجعلت تلحس قدمه عليه السلام وتقول: احملنا معك فيقول: إنما أمرت أن أحمل من كل زوجين اثنين ولم يحملها وكذا لا يحتاج إلى الجواب بأن الله تعالى إنما أهلك أولئك الأطفال لعلمه جل شأنه بما كانوا فاعلين وذلك كما يقال في وجه إدخال أطفال الكفار النار يوم القيامة على قول من يراه لما أن فيه ما فيه، وبالجملة إماتة الأحياء بأي سبب كان دفعة أو تدريجا مما لا محذور فيه ولا يسأل عنه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 260 هذا واعلم أن هذه الآية الكريمة قد بلغت من مراتب الإعجاز أقاصيها واستذلت مصاقع العرب فسفعت بنواصيها وجمعت من المحاسن ما يضيق عنه نطاق البيان وكانت من سمهري البلاغة مكان السنان، يروى أن كفار قريش قصدوا أن يعارضوا القرآن فعكفوا على لباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوما لتصفوا أذهانهم فلما أخذوا فيما قصدوه وسمعوا هذه الآية قال بعضهم لبعض: هذا الكلام لا يشبه كلام المخلوقين فتركوا ما أخذوا فيه وتفرقوا، ويروى أيضا أن ابن المقفع- وكان كما في القاموس فصيحا بليغا، بل قيل: إنه أفصح أهل وقته- رام أن يعارض القرآن فنظم كلاما وجعله مفصلا وسماه سورا فاجتاز يوما بصبي يقرؤها في مكتب فرجع ومحا ما عمل، وقال: أشهد أن هذا لا يعارض أبدا وما هو من كلام البشر، ولا يخفى أن هذا لا يستدعي أن لا يكون سائر آيات القرآن العظيم معجزا لما أن حد الإعجاز هو المرتبة التي يعجز البشر عن الإتيان بمثلها ولا تدخل على قدرته قطعا، وهي تشتمل على شيئين: الأول الطرف الأعلى من البلاغة أعني ما ينتهي إليه البلاغة ولا يتصور تجاوزها إياه، والثاني ما يقرب من ذلك الطرف أعني المراتب العلية التي تتقاصر القوى البشرية عنها أيضا ومعنى إعجاز آيات الكتاب المجيد بأسرها هو كونها مما تتقاصر القوى البشرية عن الإتيان بمثلها سواء كانت من القسم الأول أو الثاني، فلا يضر تفاوتها في البلاغة وهو الذي قاله علماء هذا الشأن، وأنشد بعض الفرس في ذلك: در بيان ودر فصاحت كي بود يكسان سخن ... ور چهـ كوينده بود جون حافظ وجون أصمعي در كلام ايزد بيجون كه وحي منزلست ... كي بود تيت يداجون قيل: يا أرض ابلعي وقد فصل بعض مزايا هذه الآية المهرة المتقنون وتركوا من ذلك ما لا يكاد يصفه الواصفون، ولا بأس بذكر شيء مما ذكر إفادة لجاهل وتذكير لفاضل غافل، فنقول: ذكر العلامة السكاكي أن النظر فيها من أربع جهات: من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني وهما مرجعا البلاغة ومن جهة الفصاحة المعنوية ومن جهة الفصاحة اللفظية، أما النظر فيها من جهة علم البيان وهو النظر فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بذلك من القرينة والترشيح والتعريض فهو أنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى أردنا أن نردّ ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد. وأن نقطع طوفان السماء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح عليه السلام وهو إنجاء ما كنا وعدناه من إغراق قومه فقضى، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت وأبقينا الظلمة غرقى، بنى سبحانه الكلام على تشبيه المراد منه بالمأمور الذي لا يتأتى منه لكمال هيبته من الآمر العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود تصويرا لاقتداره سبحانه العظيم، وأن هذه الأجرام العظيمة من السماوات والأرض تابعة لإرادته تعالى إيجادا وإعداما ولمشيئته فيها تغييرا أو تبديلا كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه جل شأنه حق معرفته وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره والإذعان لحكمه وتحتم بذل المجهود عليه في تحصيل مراده وتصوروا مزيد اقتداره فعظمت مهابته في نفوسهم وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم فكما يلوح لهم إشارته سبحانه كان المشار إليه مقدما، وكما يرد عليهم أمره تعالى شأنه كان المأمور به متمما لا تلقى لإشارته بغير الإمضاء والانقياد ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال. ثم بنى على مجموع التشبيهين نظم الكلام فقال جل وعلا: قِيلَ على سبيل المجاز عن الإرادة من باب ذكر المسبب وإرادة السبب لأن الإرادة تكون سببا لوقوع القول في الجملة وجعل قرينة هذا المجاز خطاب الجماد وهو يا أَرْضُ وَيا سَماءُ إذ يصح أن يراد حصول شيء متعلق بالجماد ولا يصح القول له ثم قال سبحانه كما ترى: يا أَرْضُ وَيا سَماءُ مخاطبا لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، والظاهر أنه أراد أن هناك استعارة بالكناية حيث ذكر المشبه أعني السماء والأرض المراد منهما حصول أمر وأريد المشبه به أعني المأمور الجزء: 6 ¦ الصفحة: 261 الموصوف بأنه لا يتأتى منه العصيان ادعاء بقرينة نسبة الخطاب إليه ودخول حرف النداء عليه- وهما من خواص المأمور المطيع- ويكون هذا تخييلا. وقد يقال: أراد أن الاستعارة هاهنا تصريحية تبعية في حرف النداء بناء على تشبيه تعلق الإرادة بالمراد منه بتعلق النداء والخطاب بالمنادى المخاطب وليس بشيء إذ لا يحسن هذا التشبيه ابتداء بل تبعا للتشبيه الأول فكيف يجعل أصلا لمتبوعه؟! على أن قوله للشبه المذكور يدفع هذا الحمل، ثم استعار لغور الماء في الأرض البلع الذي هو اعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي. وفي الكشاف جعل البلع مستعارا لنشف الأرض الماء وهو أولى، فإن النشف دال على جذب من أجزاء الأرض لما عليها كالبلع بالنسبة إلى الحيوان، ولأن النشف فعل الأرض والغور فعل الماء مع الطباق بين الفعلين تعديا، ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيها له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوي الآكل بالطعام، وجعل قرينة الاستعارة لفظة ابْلَعِي لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء. ولا يخفى عليك أنه إذا اعتبر مذهب السلف في الاستعارة يكون ابْلَعِي استعارة تصريحية ومع ذلك يكون بحسب اللفظ قرينة للاستعارة بالكناية في الماء على حد ما قالوا في: يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ [البقرة: 27، الرعد: 25] وأما إذا اعتبر مذهبه فينبغي أن يكون البلع باقيا على حقيقته كالإنبات في أنبت الربيع البقل وهو بعيد، أو يجعل مستعارا لأمر متوهم كما في نطقت الحال، فيلزمه القول بالاستعارة التبعية كما هو المشهور، ثم إنه تعالى أمر على سبيل الاستعارة للتشبيه الثاني وخاطب في الأمر ترشيحا لاستعارة النداء. والحاصل أن في لفظ ابْلَعِي باعتبار جوهره استعارة لغور الماء وباعتبار صورته أعني كونه صورة أمر استعارة أخرى لتكوين المراد وباعتبار كونه أمر خطاب ترشيح للاستعارة المكنية التي في المنادى فإن قرينتها النداء وما زاد على قرينة المكنية يكون ترشيحا لها، وأما جعل النداء استعارة تصريحية تبعية حتى يكون خطاب الآمر ترشيحا لها فقد عرفت ما فيه، ثم قال جل وعلا: ماءَكِ بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالمالك، واختار ضمير الخطاب لأجل الترشيح، وحاصله أن هناك مجازا لغويا في الهيئة الإضافية الدالة على الاختصاص الملكي ولهذا جعل الخطاب ترشيحا لهذه الاستعارة من حيث إن الخطاب يدل على صلوح الأرض للمالكية فما قيل: إن المجاز عقلي والعبارة مصروفة عن الظاهر ليس بشيء، ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان من المطر أو الفعل ففي أَقْلِعِي استعارة باعتبار جوهره وكذا باعتبار صيغته أيضا وهي مبنية على تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ، والخطاب فيه أيضا ترشيح لاستعارة النداء، والحاصل أن الكلام فيه مثل ما مر في ابْلَعِي ثم قال سبحانه: وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً فلم يصرح جل وعلا بمن غاض الماء ولا بمن قضى الأمر وسوى السفينة وقال بعدا كما لم يصرح سبحانه بقائل يا أَرْضُ وَيا سَماءُ في صدر الآية سلوكا في كل واحد من ذلك لسبيل الكناية لأن تلك الأمور العظام لا تصدر إلا من ذي قدرة لا يكتنه قهار لا يغالب فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره جلت عظمته قائلا: يا أَرْضُ ويا سَماءُ ولا غائض ما غاض ولا قاضي مثل ذلك الأمر الهائل، أو أن يكون تسوية السفينة وإقرارها بتسوية غيره. والحاصل أن الفعل إذا تعين لفاعل بعينه استتبع لذلك أن يترك ذكره ويبني الفعل لمفعوله، أو يذكر ما هو أثر لذلك الفعل على صيغة المبني للفاعل، ويسند إلى ذلك المفعول فيكون كناية عن تخصيص الصفة التي هي الفعل بموصوفها، وهذا أولى مما قيل في تقرير الكناية هنا: إن ترك ذكر الفاعل وبناء الفعل للمفعول من لوازم العلم بالفاعل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 262 وتعينه لفاعلية ذلك الفعل فذكر اللازم وأريد الملزوم لما أن استوت غير مبني للمفعول- كقيل وغيض- ثم إنه تعالى ختم الكلام بالتعريض تنبيها لسالكي مسلك أولئك القوم في تكذيب الرسل عليهم السلام ظلما لأنفسهم لا غير ختم إظهار لمكان السخط ولجهة استحقاقهم إياه وأن قيامة الطوفان وتلك الصورة الهائلة ما كانت إلا لظلمهم كما يؤذن بذلك الدعاء بالهلاك بعد هلاكهم والوصف بالظلم مع تعليق الحكم به، وذكر بعضهم أن البعد في الأصل ضد القرب وهو باعتبار المكان ويكون في المحسوس، وقد يقال في المعقول نحو ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً [النساء: 167] واستعماله في الهلاك مجاز، قال ناصر الدين: يقال بعد بعدا بضم فسكون وبعدا بالتحريك إذا بعد بعدا بعيدا بحيث لا يرجى عوده، ثم استعير للهلاك وخص بدعاء السوء ولم يفرق في القاموس بين صيغتي الفعل في المعنيين حيث قال: البعد معروف والموت وفعلهما- ككرم وفرح- بعدا وبعدا فافهم. وزعم بعضهم أن الأرض والسماء أعطيتا ما يعقلان به الأمر فقيل لهما حقيقة ما قيل، وأن القائل بُعْداً نوح عليه السلام ومن معه من المؤمنين، ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر ولا أثر فيه يعول عليه، والكلام على الأول أبلغ، وأما النظر فيها من جهة علم المعاني وهو النظر في فائدة كل كلمة فيها وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها فذلك أنه اختير يا دون سائر أخواتها لكونها أكثر في الاستعمال وأنها دالة على بعد المنادى الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة وإبداء شأن العزة والجبروت، وهو تبعيد المنادى المؤذن بالتهاون به ولم يقل يا أَرْضُ بالكسر لأن الإضافة إلى نفسه جل شأنه تقتضي تشريفا للأرض وتكريما لها فترك إمدادا للتهاون لم يقل يا أيتها الأرض مع كثرته في نداء أسماء الأجناس قصدا إلى الاختصار والاحتراز عن تكلف التنبيه المشعر بالغفلة التي لا تناسب ذلك المقام، واختير لفظ الأرض والسماء على سائر أسمائهما كالمقلة والغبراء وكالمظلة والخضراء لكونهما أخصر وأورد في الاستعمال وأوفى بالمطابقة، فإن تقابلهما إنما اشتهر بهذين الاسمين، واختير لفظ ابْلَعِي على ابتلعي لكونه أخصر وأوفر تجانسا- باقلعي- لأن همزة الوصل إن اعتبرت تساويا في عدد الحروف وإلا تقاربا فيه بخلاف ابتلعي، وقيل: ماءَكِ بالإفراد دون الجمع لما فيه من صورة الاستكثار المتأبى عنها مقام إظهار الكبرياء وهو الوجه في إفراد الأرض والسماء وإنما لم يقل ابْلَعِي بدون المفعول لئلا يستلزم تركه ما ليس بمراد من تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار وساكنات الماء بأسرهن نظرا إلى مقام عظمة الآمر المهيب وكمال انقياد المأمور، ولما علم أن المراد بلع الماء وحده علم أن المقصود بالإقلاع إمساك السماء عن إرسال الماء فلم يذكر متعلق أَقْلِعِي اختصارا واحترازا عن الحشو المستغنى عنه وهذا هو السبب في ترك ذكر حصول المأمور به بعد الأمر فلم يقل قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي فبلعت وَيا سَماءُ أَقْلِعِي فقلعت لأن مقام الكبرياء وكمال الانقياد يغني عن ذكره الذي ربما أوهم إمكان المخالفة، واختير غيض على غيض المشدد لكونه أخصر. وقيل: الماء دون ماء طوفان السماء، وكذا الأمر دون أمر نوح وهو إنجاز ما وعد لقصد الاختصار، والاستغناء بحرف التعريف عن ذلك لأنه إما بدل من المضاف إليه كما هو مذهب الكوفية، وإما لأنه يغني غناء الإضافة في الإشارة إلى المعهود، واختير استوت على سويت أي أقرت مع كونه أنسب بأخواته المبنية للمفعول اعتبارا لكون الفعل المقابل للاستقرار أعني الجريان منسوبا إلى السفينة على صيغة المبني للفاعل في قوله تعالى: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ مع أن اسْتَوَتْ أخصر من سويت، واختير المصدر أعني بُعْداً على ليبعد القوم طلبا لتأكيد معنى الفعل بالمصدر مع الاختصار في العبارة وهو نزول بُعْداً وحده منزلة ليبعدوا بعدا مع فائدة أخرى هي الدلالة على استحقاق الهلاك بذكر اللام، وإطلاق الظلم عن مقيداته في مقام المبالغة يفيد تناول كل نوع فيدخل فيه ظلمهم على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 263 أنفسهم لزيادة التنبيه على فظاعة سوء اختيارهم في التكذيب من حيث إن تكذيبهم للرسل ظلم على أنفسهم لأن ضرره يعود إليهم، هذا من حيث النظر إلى تركيب الكلم، وأما من حيث النظر إلى ترتيب الجمل فذلك أنه قدم النداء على الأمر فقيل: يا أَرْضُ ابْلَعِي وَيا سَماءُ أَقْلِعِي دون أن يقال: ابلعي يا أرض، واقلعي يا سماء جريا على مقتضى اللازم فيمن كان مأمورا حقيقة من تقديم التنبيه ليتمكن الأمر الوارد عقيبه في نفس المنادى قصدا بذلك لمعنى الترشيح للاستعارة المكنية في الأرض والسماء، ثم قدم أمر الأرض على أمر السماء لكونها الأصل نظرا إلى كون ابتداء الطوفان منها حيث فار تنورها أولا، ثم جعل قوله سبحانه: وَغِيضَ الْماءُ تابعا لأمر الأرض والسماء لاتصاله بقصة الماء وأخذه بحجزتها، ألا ترى أصل الكلام قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ فبلعت ماءها وَيا سَماءُ أَقْلِعِي عن إرسال الماء فأقلعت عن إرساله وَغِيضَ الْماءُ النازل من السماء فغاض. وقيد الماء بالنازل وإن كان في الآية مطلقا لأن ابتلاع الأرض ماءها فهم من قوله سبحانه: ابْلَعِي ماءَكِ. واعترض بأن الماء المخصوص بالأرض إن أريد به ما على وجهها فهو يتناول القبيلين الأرضي والسمائي وإن أريد به ما نبع منها فاللفظ لا يدل عليه بوجه، ولهذا حمل الزمخشري الماء على مطلقه، وأشعر كلامه بأن غيض الماء إخبار عن الحصول المأمور به من قوله سبحانه: يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي فالتقدير قيل لهما ذلك فامتثلا الأمر ونقص الماء. ورجح الطيبي ما ذهب إليه السكاكي زاعما أن معنى الغيض حينئذ ما قاله الجوهري، وهو عنده مخالف للمعنى الذي ذكره الزمخشري فقال: إن إضافة الماء إلى الأرض لما كانت ترشيحا للاستعارة تشبيها لاتصاله بها باتصال الملك بالمالك ولذا جيء بضمير الخطاب اقتضت إخراج سائر المياه سوى الذي بسببه صارت الأرض مهيأة للخطاب بمنزلة المأمور المطيع وهو المعهود في قوله تعالى: وَفارَ التَّنُّورُ وبهذا الاعتبار يحصل التواغل في تناسي التشبيه والترشيح، ولو أجريت الإضافة على غير هذا تكون كالتجريد وكم بينهما، هذا ولو حمل على العموم لاستلزام تعميم ابتلاعه المياه بأسرها لورود الأمر من مقام العظمة كما علمت من كلام السكاكي، وليس بذاك، وتعقبه في الكشف بأنه دعوى بلا دليل ورد يمين إذ لا معهود، والظاهر ما على وجه الأرض من الماء ولا ينافي الترشيح وإضافة المالكية، ثم الظاهر من تنزيل الماء منزلة الغذاء أن تجعل الإضافة من باب إضافة الغذاء إلى المغتذي في النفع والتقوية وصيرورته جزءا منه ولا نظر فيه إلى كونه مملوكا أو غير ذلك، وأما التعميم فمطلوب وحاصل على التفسيرين لانحصار الماء في الأرضي والسمائي، وقد قلتم بنضوبهما من قوله سبحانه فبلعت. وقوله تعالى: وَغِيضَ ولا شك أن ما عندنا من الماء غير ماء الطوفان، هذا والمطابق تفسير الزمخشري، ألا ترى إلى قوله جل وعلا: فَالْتَقَى الْماءُ أي الأرضي والسمائي، وهاهنا تقدم الماءان في قوله سبحانه: ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي لأن تقديره عن إرسال الماء على زعمهم، فإذا قيل: وغيض الماء رجع إليهما لا محالة لتقدمهما، ثم إذا جعل من توابع أَقْلِعِي خاصة لم يحسن عطفه على أصل القصة أعني وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي كيف وفي إيثار هذا التفسير الإشارة إلى أنه زال كونه طوفانا لأن نقصان الماء غير الإذهاب بالكلية، وإلى أن الأجزاء الباطنة من الأرض لم تبق على ما كانت عليه من قوة الإنباع ورجعت إلى الاعتدال المطلوب وليس في الاختصاص بالنضوب هذا المعنى البتة انتهى. وزعم الطبرسي أن أئمة البيت رضي الله تعالى عنهم على أن الماء المضاف هو ما نبع وفار وأنه هو الذي ابتلع وغاض لا غير، وأن ماء السماء صار بحارا أو نهارا. وأخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن ابن عباس ما يؤيده، وهذا مخالف لما يقتضيه كلام السكاكي مخالفة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 264 ظاهرة، وفي القلب من صحته ما فيه، ثم إنه تعالى أتبع غيض الماء ما هو المقصود الأصلي من القصة، وهو قوله جلت عظمته: وَقُضِيَ الْأَمْرُ ثم أتبع ذكر المقصود حديث السفينة لتأخره عنه في الوجود، ثم ختمت القصة بالتعريض الذي علمته، وهذا كله نظر في الآية من جانبي البلاغة، وأما النظر فيها من جانب الفصاحة المعنوية فهي كما ترى نظم للمعاني لطيف. وتأدية لها ملخصة مبينة لا تعقيد يعثر الكفر في طلب المراد ولا التواء يشيك الطريق إلى المرتاد بل إذا جربت نفسك عند استماعها وجدت ألفاظها تسابق معانيها ومعانيها تسابق ألفاظها فما من لفظة فيها تسبق إلى أذنك إلا ومعناها أسبق إلى قلبك، وأما النظر فيها من جانب الفصاحة اللفظية فألفاظها على ما ترى عربية مستعملة جارية على قوانين اللغة سليمة عن التنافر بعيدة عن البشاعة عذبة على العذبات سلسلة على الإسلات كل منها كالماء في السلالة وكالعسل في الحلاوة وكالنسيم في الرقة، ولله تعالى در التنزيل ماذا جمعت آياته: وعلى تفنن واصفيه بحسنه ... يفني الزمان وفيه ما لم يوصف وما ذكر في شرح مزايا هذه الآية بالنسبة إلى ما فيها قطرة من حياض وزهرة من رياض، وقد ذكر ابن أبي الأصبع أن فيها عشرين ضربا من البديع مع أنها سبع عشرة لفظة وذلك المناسبة التامة في ابْلَعِي وأَقْلِعِي والاستعارة فيهما والطباق بين الأرض والسماء والمجاز في يا سَماءُ فإن الحقيقة يا مطر السماء، والإشارة في وَغِيضَ الْماءُ فإنه عبر به عن معان كثيرة لأن الماء لا يغيض حتى يقلع مطر السماء وتبلع الأرض ما يخرج منها فينقص ما على وجه الأرض، والإرداف في وَاسْتَوَتْ والتمثيل في وَقُضِيَ الْأَمْرُ والتعليل فإن غيض الماء علة للاستواء وصحة التقسيم فإنه استوعب أقسام الماء حال نقصه والاحتراس في الدعاء لئلا يتوهم أن الغرق لعمومه شمل من لا يستحق الهلاك فإن عدله تعالى يمنع أن يدعو على غير مستحق، وحسن النسق وائتلاف اللفظ مع المعنى والإيجاز فإنه سبحانه قص القصة مستوعبة بأخصر عبارة، والتسهيم لأن أول الآية يدل على آخرها، والتهذيب لأن مفرداتها موصوفة بصفات الحسن، وحسن البيان من جهة أن السامع لا يتوقف في فهم معنى الكلام ولا يشكل عليه شيء منه، والتمكين لأن الفاصلة مستقرة في محلها مطمئنة في مكانها، والانسجام، وزاد الجلال السيوطي بعد أن نقل هذا عن ابن أبي الأصبع الاعتراض، وزاد آخرون أشياء كثيرة إلا أنها ككلام ابن أبي الأصبع قد أشير إليها بأصبع الاعتراض، وقد ألف شيخنا علاء الدين- أعلى الله تعالى درجته في أعلى عليين- رسالة في هذه الآية الكريمة جمع فيها ما ظهر له ووقف عليه من مزاياها فبلغ ذلك مائة وخمسين مزية، وقد تطلبت هذه الرسالة لأذكر شيئا من لطائفها فلم أظفر بها وكأن طوفان الحوادث أغرقها، ولعل فيما نقلناه سدادا من عوز، والله تعالى الموفق للصواب وعنده علم الكتاب. وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ أي أراد ذلك بدليل تفريع قوله سبحانه: فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي عليه، وقيل: النداء على حقيقته والعطف بالفاء لكون حق التفصيل يعقب الإحمال وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ أي وإن وعدك ذلك أو كل وعد تعده حق لا يتطرق إليه خلف فيدخل فيه الوعد المعهود دخولا أوليا. وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ لأنك أعلمهم وأعدلهم، وقد ذكر أنه إذا بنى أفعل من الشيء الممتنع من التفضيل والزيادة يعتبر فيما يناسب معناه معنى الممتنع، وقال العز بن عبد السلام في أماليه: إن هذا ونحوه من أرحم الراحمين وأحسن الخالقين مشكل لأن أفعل لا يضاف إلا إلى جنسه، وهنا ليس كذلك لأن الخلق من الله سبحانه بمعنى الإيجاد ومن غيره بمعنى الكسب وهما متباينان يعني على المشهور من مذهب الأشاعرة، والرحمة من الله تعالى إن حملت على الإرادة أو جعلت من مجاز التشبيه صح وإن أريد إيجاد فعل الرحمة كان مشكلا أيضا إذ لا موجد سواه سبحانه، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 265 وأجاب الآمدي بأنه بمعنى أعظم من يدعي بهذا الاسم، واستشكل بأن فيه جعل التفاضل في غير ما وضع اللفظ بإزائه وهو يناسب مذهب المعتزلة فافهم، وقيل: المعنى هنا أنك أكثر حكمة من ذوي الحكم على أن الحاكم من الحكم كالدارع من الدرع، واعترض عليه بأن الباب ليس بقياسي وأنه لم يسمع حاكم بمعنى حكيم وأنه لا يبنى منه أفعل إذا لأنه ليس جاريا على الفعل لا يقال: ألبن وأتمر من فلان إذا لا فعل بذلك المعنى، والجواب بأنه قد كثر في كلامهم فجوز على أن يكون وجها مرجوحا وبأنه من قبيل أحنك الشاتين لا يخلو عن تعسف كما في الكشف، وتعقب بأن للحكمة فعلا ثلاثيا وهو حكم، وأفعل من الثلاثي مقيس، وأيضا سمع احتنك الجراد وألبن وأتمر فغايته أن يكون من غير الثلاثي ولا يخفى ما فيه، ومنهم من فسره على هذا بأعلمهم بالحكمة كقولهم: آبل من أبل بمعنى أعلم وأحذق بأمر الإبل، وأيا ما كان فهذا النداء منه عليه السلام يقطر منه الاستعطاف، وجميل التوسل إلى من عهده منعما مفضلا في شأنه أولا وآخرا وهو على طريقة دعاء أيوب عليه السلام إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء: 83] فيكون ذلك قبل الغرق، والواو لا تقتضي الترتيب، وقيل: إن النداء إنما كان بعده والمقصود منه الاستفسار عن سبب عدم إنجائه مع سبق وعده تعالى بإنجاء أهله وهو منهم، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا تمام الكلام في ذلك قالَ استئناف بياني كأنه قيل، ما قال له ربه سبحانه حين ناداه بذلك؟ فقيل: قال: يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ أي ليس منهم أصلا لأن مدار الأهلية هو القرابة الدينية وقد انقطعت بالكفر فلا علاقة بين مسلم وكافر ولذا لم يتوارثا، وقد ذكروا أن قرابة الدين أقرب من قرابة النسب كما أشار إلى ذلك أبو فراس بقوله: كانت مودة سلمان له نسبا ... ولم يكن بين نوح وابنه رحم أو لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ الذين أمرتك بحملهم في الفلك لخروجه عنهم بالاستثناء، وحكي هذا عن ابن جرير وعكرمة، والأول عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وعلى القولين ليس هو من الذين وعد بإنجائهم، وكأنه لما كان دعاؤه عليه السلام بتذكير وعده جل ذكره مبنيا على كون كنعان من أهله نفى أولا كونه منهم، ثم علل عدم كونه منهم على طريقة الاستئناف التحقيقي بقوله سبحانه: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ وأصله إنه ذو عمل فاسد فحذف ذو للمبالغة بجعله عين عمله لمداومته عليه، ولا يقدر المضاف لأنه حينئذ تفوت المبالغة المقصودة منه، ونظير ذلك ما في قول الخنساء ترثي أخاها صخرا. ما أم سقب على بو تحن له ... قد ساعدتها على التحنان آظار ترتع ما رتعت حتى إذا ادّكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار يوما بأوجع مني حين فارقني ... صخر وللعيش إحلاء وإمرار وأبدل فاسد بغير- صالح- إما لأن الفاسد ربما يطلق على ما فسد ومن شأنه الصلاح فلا يكون نصا فيما هو من قبيل الفاسد المحض كالمظالم، وإما للتلويح بأن نجاة من نجا إنما هو لصلاحه. وقرأ الكسائي ويعقوب «إنه عمل غير صالح» على صيغة الماضي، ونصب «غير» وهي قراءة عليّ كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وأنس وعائشة، وقد روتها هي وأم سلمة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، والأصل عمل عملا غير صالح، وبه قرىء أيضا كما روي عن عكرمة فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه، وذلك شائع مطرد عند انكشاف المعنى وزوال اللبس، وضعفه بعضهم هنا بأن العرب لا تكاد تقول: عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ وإنما تقول عمل عملا غير صالح، وليس بشيء، وأيد بهذه القراءة كون ضمير إنه في القراءة الأولى لابن نوح لأنه فيها له قطعا فيضعف ما قيل: إنه في الأولى لترك الركوب معهم والتخلف عنهم أي إن ذلك الترك عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ على أنه خلاف الظاهر في نفسه كما لا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 266 يخفى. ومثله في ذلك ما قيل: إنه لنداء نوح عليه السلام أي إن نداءك هذا عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ وتخرج بذلك الجملة عن أن تكون تعليلا لما تقدم ويفوت ما في ذاك من الفائدة ولا يكون الكلام على مساق واحد، نعم روي عن ابن عباس ما يقتضيه فقد أخرج ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عنه أنه قال: إن نساء الأنبياء عليهم السلام لا يزنين، ومعنى الآية مساءلتك إياي يا نوح عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ لا أرضاه لك. وفي رواية ابن جرير عنه سؤالك ما ليس لك به علم غير صالح، ولعل ذلك لم يثبت عن هذا الحبر لأن الظاهر من الرواية الأولى أنه إنما جعل الضمير للمسألة دون ابن نوح لما في ذلك من نسبة الزنا إلى من لا ينسب إليه وهو رضي الله تعالى عنه أجل قدرا من أن يخفى عليه أنه لا يلزم من ذلك هذا المحذور، ثم إنه لما كان دعاؤه عليه السلام مبنيا على كون كنعان من أهله وقد نفى ذلك وحقق ببيان علته فرع على ذلك النهي عن سؤال إنجائه إلا أنه جيء بالنهي على وجه عام يندرج فيه ما ذكر اندراجا أوليا فقال سبحانه: فَلا تَسْئَلْنِ أي إذا وقفت على جلية الحال فلا تطلب مني ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي مطلبا لا تعلم يقينا أن حصوله صواب وموافق للحكمة على تقدير كون ما عبارة عن المسئول الذي هو مفعول للسؤال أو طلبا لا تعلم أنه صواب على تقدير كونه عبارة عن المصدر الذي هو مفعول مطلق فيكون النهي واردا بصريحه في كل من معلوم الفساد ومشتبه الحال قاله شيخ الإسلام، وجوز أن يكون ما ليس لك علم بأنه صواب أو غير صواب وهو الذي ذهب إليه القاضي فيكون النهي واردا في مشتبه الحال ويفهم منه حال معلوم الفساد بالطريق الأولى، وأيا ما كان فهو عام يندرج تحته ما نحن فيه كما ذكرنا، وسمي النداء سؤالا لتضمنه إياه وإن لم يصرح به كما لا يخفى، وبه على ما نقل عن أبي علي إما متعلق بما يدل عليه العلم المذكور وإن لم يتسلط عليه كقوله: ربيته حتى إذا تمعددا ... كان جزائي بالعصا أن أجلدا وإما أن يتعلق بالمستقر في ذلك وكذا الكلام فيما سيأتي إن شاء الله تعالى، والآية ظاهرة في أن نداءه عليه السلام لم يكن استفسارا عن سبب عدم إنجائه مع تحقق سبب الإنجاء فيما عنده كما جوزه القاضي بناء على أنه كان بعد الغرق بل هو دعاء منه عليه السلام لإنجاء ابنه حين حال الموج بينهما ولم يعلم بهلاكه بعد إما بتقريبه إلى الفلك بتلاطم الأمواج مثلا أو بتقريبها إليه، وقيل: أو بإنجائه بسبب آخر ويأباه تذكير الوعد في الدعاء فإنه مخصوص بالإنجاء في الفلك، ومجرد حيلولة الموج لا يستوجب الهلاك فضلا عن العلم به لظهور إمكان عصمة الله تعالى عليه إياه برحمته، وقد وعده بإنجاء أهله ولم يعتقد أن فيه مانعا من الانتظام في سلكهم لمكان النفاق وعدم المجاهرة بالكفر لما في ذلك لفظا من الاحتياج إلى القول بالحذف والإيصال، ومعنى من أن النهي عن الاستفسار عما لا يعلم غير موافق للحكمة إذ عدم العلم بالشيء داع إلى الاستفسار عنه لا إلى تركه. وقيل: إن السؤال عن موجب عدم النجاة مع ما فيه من الجرأة، وشبه الاعتراض فيه أنه تعين له عليه السلام أنه من المستثنين بهلاكه فهو غير سديد كيف ونداؤه ذاك مما يقطر منه الاستعطاف. وقيل: إن النهي إنما هو عن سؤال ما لا حاجة إليه إما لأنه لا يهمّ أو لأنه قامت القرائن على حاله لا عن السؤال للاسترشاد فلا ضير إذن في كلام القاضي وهو كما ترى: ولا يصلح العطار ما أفسد الدهر فالحق أن ذلك مسألة الإنجاء، وكان قبل تحقق الغرق عند رؤية المشارفة عليها ولم يكن عالما بكفره إذ ذاك لأنه لم يكن مجاهرا به وإلا لم يدع له بل لم يدعه أيضا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ لا يدل على أنه كافر عنده بل هو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 267 نهي عن الدخول في غمارهم، وقطع بأن ذلك يوجب الغرق على الطريق البرهاني كما قدمنا، وكأنه عليه السلام حمل مقاولته على غير المكابرة والتعنت لغلبة المحبة وذهوله عن إعطاء التأمل حقه فلذلك طلب ما طلب، فعوتب بأن مثله في معرض الإرشاد والقيام بأعباء الدعوة تلك المدة المتطاولة لا ينبغي أن يشتبه عليه كلام المسترشد والمعاند، ويرجع هذا إلى ترك الأولى، وهو المراد بقوله: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ. وذكر شيخ الإسلام أن اعتزاله قصده الالتجاء إلى الجبل ليس بنص في الإصرار على الكفر لظهور جواز أن يكون ذلك لجهله بانحصار النجاة في الفلك، وزعمه أن الجبل أيضا يجري مجراه أو لكراهة الاحتباس في الفلك بل قوله: سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ بعد ما قال له نوح وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ ربما يطعمه عليه السلام في إيمانه حيث لم يقل أكون معهم أو سنأوي أو يعصمنا فإن إفراد نفسه بنسبة الفعلين المذكورين ربما يشعر بانفراده من الكافرين واعتزاله عنهم وامتثاله ببعض ما أمره به نوح عليه السلام إلا أنه عليه السلام لو تأمل في شأنه حق التأمل وتفحص عن أحواله في كل ما يأتي وما يذر لما اشتبه عليه أنه ليس بمؤمن وأنه مستثنى من أهله ولذلك قيل له: إِنِّي إلخ، وهو ظاهر في أن مدار العتاب الاشتباه كما ذكرنا، وإليه ذهب الزمخشري قال: إن الله تعالى قدم إليه عليه السلام الوعد بإنجاء أهله مع استثناء من سبق عليه القول منهم فكان عليه أن يعتقد أن في الجملة من هو مستوجب للعذاب لكونه غير صالح وأن كلهم ليسوا بناجين وأن لا تخالجه شبهة حين شارف ولده الغرق في أنه من المستثنين لا من المستثنى منهم فعوتب على أن اشتبه عليه ما يجب أن لا يشتبه، وكأنه أراد أن الاستثناء دل على أن المعنى المعتبر الصلاح لا القرابة فكان ينبغي أن يجعله الأصل ويتفحص في الأهل عن وجوده، وأن يجعل كلهم سواسية في استحقاق العذاب إلا من علم صلاحه وإيمانه لا أن يجعل كونه من الأهل أصلا فيسأل إنجاءه مع الشك في إيمانه فقد قصر فيما كان عليه بعض التقصير وأولي العزم مؤاخذون بالنقير والقطمير وحسنات الأبرار سيئات المقربين، وابن المنير لم يرض كون ذلك عتابا قال: وفي كلام الزمخشري ما يدل على أنه يعتقد أن نوحا عليه السلام صدر منه ما أوجب نسبة الجهل إليه ومعاتبته على ذلك وليس الأمر كما تخيله، ثم قال: ونحن نوضح أن الحق في الآية منزلا على نصها مع تبرئة نوح عليه السلام مما توهم الزمخشري نسبته إليه فنقول: لما وعد عليه السلام بتنجية أهله إلا من سبق عليه القول منهم ولم يكن كاشفا لحال ابنه ولا مطلعا على باطن أمره بل كان معتقدا بظاهر الحال أنه مؤمن بقي على التمسك بصيغة العموم للأهلية الثابتة ولم يعارضها يقين في كفر ابنه حتى يخرج من الأهل ويدخل في المستثنين فسأل الله تعالى فيه بناء على ذلك فبين له أنه في علمه من المستثنين وأنه هو لا علم له بذلك فلذلك سأل فيه، وهذا بأن يكون إقامة عذر أولى منه من أن يكون عتبا فإن نوحا عليه السلام لا يكلفه الله تعالى علم ما استأثر به غيبا وأما قوله سبحانه: إِنِّي أَعِظُكَ إلخ فالمراد النهي عن وقوع السؤال في المستقبل بعد أن أعلمه سبحانه باطن أمره وأنه إن وقع في المستقبل في السؤال كان من الجاهلين، والغرض من ذلك تقديم ما يبقيه عليه السلام على سمت العصمة، والموعظة لا تستدعي وقوع ذنب بل المقصد منها أن لا يقع الذنب في الاستقبال ولذلك امتثل عليه السلام ذلك واستعاذ بالله سبحانه أن يقع منه ما نهى عنه كما يدل عليه قوله سبحانه: قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ولا يخفى سقوطه على ما علمت وهو خلاف الظاهر جدا، وقد جاء عن الفضيل بن عياض أنه قال: بلغني أن نوحا عليه السلام بكى عن قول الله تعالى له ما قال أربعين يوما، وأخرج أحمد في الزهد عن وهيب بن الورد الحضرمي قال: لما عاتب الله تعالى نوحا في ابنه وأنزل عليه إِنِّي أَعِظُكَ بكى ثلاثمائة عام حتى صار تحت عينيه مثل الجدول من البكاء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 268 وزعم الواحدي أن السؤال قبل الغرق ومع العلم بكفره، وذلك أن نوحا عليه السلام لم يعلم أن سؤاله ربه نجاة ولده محظور عليه مع إصراره على الكفر حتى أعلمه الله تعالى ذلك، واعترض بأنه إذا كان عالما بكفره مع التصريح بأن في أهله من يستحق العذاب كان طلب النجاة منكرا من المناكير فتدبر، والظاهر على ما قررنا أن قوله: رَبِّ إلخ توبة مما وقع منه عليه السلام وما هنا أيضا عبارة إما عن المسئول أو عن السؤال أي أعوذ بك أن أطلب منك من بعد مطلوبا لا أعلم أن حصوله مقتضى الحكمة أو طلبا لا أعلم أنه صواب سواء كان معلوم الفساد أو مشتبه الحال، أو لا أعلم أنه صواب أو غير صواب، ولم يقل أعوذ بك منه أو من ذلك مبالغة في التوبة وإظهارا للرغبة والنشاط فيها وتبركا بذكر ما لقنه الله تعالى وهو أبلغ من أن يقول: أتوب إليك أن أسألك لما فيه من الدلالة على كون ذلك أمرا هائلا محذورا لا محيص منه إلا بالعوذ بالله تعالى وأن قدرته عليه السلام قاصرة عن النجاة من المكاره إلا بذلك كما في إرشاد العقل السليم، واحتمال أن يكون فيه رد وإنكار نظير ما في [البقرة: 67] من قول موسى عليه السلام: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ مما لا يكاد يمر بفكر أحد من الجاهلين. هذا وفي مصحف ابن مسعود إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ أن تسألني، ورجح به كون ضمير إِنَّهُ في القراءة المتواترة للنداء المتضمن للسؤال، وقرأ ابن كثير فَلا تَسْئَلْنِ بفتح اللام وتشديد النون مفتوحة وهي قراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وكذا قرأ نافع وابن عامر غير أنهما كسرا النون على أن أصله تسألنني فحذفت نون الوقاية لاجتماع النونات وكسرت الشديدة للياء ثم حذفت الياء اكتفاء بالكسرة، وقرأ أبو جعفر وشيبة وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما كذلك إلا أنهم أثبتوا الياء بعد النون وأمره ظاهر، وقرأ الحسن وابن أبي مليكة «تسألني» من غير همز من سال يسال فهما يساولان، وهي لغة سائرة، وقرأ باقي السبعة بالهمز وإسكان اللام وكسر النون وتخفيفها. وأثبت الياء في الوصل ورش وأبو عمرو، وحذفها الباقون وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي ما صدر عني من السؤال المذكور وَتَرْحَمْنِي بقبول توبتي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ أعمالا بسبب ذلك وتأخير ذكر هذا عن حكاية الأمر الوارد على الأرض والسماء وما يتلوه مع أن حقه أن يذكر عقيب قوله سبحانه: فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ حسبما وقع في الخارج على ما علمت من أن النداء كان لطلب الإنجاء قبل العلم بالهلاك قيل: ليكون على أسلوب قصة البقرة في سورتها دلالة على استقلال هذا المعنى بالغرض لما فيه من النكت من جعل قرابة الدين غامرة لقرابة النسب وأن لا يقدم في الأمور الدينية الأصولية إلا بعد اليقين، وتعقب بالفرق بين ما هنا وما هناك عند من كان ذا قلب، وما ذكر من جعل قرابة الدين غامرة لقرابة النسب إلخ لا يفوت على تقدير سوق الكلام على ترتيب الوقوع أيضا. واختار بعض المحققين أن ذلك لأن ذكر هذا النداء كما ترى مستدع لما مر من الجواب المستدعي لذكر توبته عليه السلام المؤدي إلى ذكر قبولها في ضمن الأمر بهبوطه عليه السلام من الفلك بالسلام والبركات الفائضة عليه وعلى المؤمنين حسبما يجيء إن شاء الله تعالى، ولا ريب أن هذه المعاني آخذ بعضها بحجزة بعض بحيث لا تكاد تفرق الآيات الكريمة المنطوية عليها بعضها من بعض وأن ذلك إنما يتم بتمام القصة، وذلك إنما يكون بتمام الطوفان فلا جرم اقتضى الحال ذكر تمامها قبل هذا النداء وهو إنما يكون عند ذكر كون كنعان من المغرقين، ولهذه النكتة ازداد حسن موقع الإيجاز البليغ، وفيه فائدة أخرى هي التصريح بهلاكه من أول الأمر ولو ذكر النداء بعد فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ لربما توهم من أول الأمر إلى أن يرد أنه ليس من أهلك إلخ أنه ينجو بدعائه فنص على هلاكه، ثم ذكر القصة على وجه أفحم مصاقع البلغاء، ثم تعرض لما وقع في تضاعيف ذلك مما جرى بين نوح عليه السلام ورب العزة جلت حكمته وعلت كلمته، ثم ذكر بعد توبته عليه السلام قبولها: بقوله عز وجل: قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ إلخ وهو من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 269 الحسن بمكان، وبني الفعل لما لم يسم فاعله لظهور أن القائل هو الله تعالى، وقيل: القائل الملائكة عليهم السلام والهبوط النزول قيل: أي أنزل من الفلك، وقيل: من الجبل إلى الأرض وذلك أنه روي أن السفينة استوت على الجودي في عاشر ذي الحجة فأقام بمن معه هناك شهرا، ثم قيل له: اهبط فهبط بأرض الموصل وبنى قرب الجبل قرية يقال لها: قرية الثمانين عدد من في السفينة، وفي رواية عن ابن عباس أنه بنى كل منهم بيتا فسميت سوق الثمانين. وأخرج ابن مردويه عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: لما استقرت السفينة على الجودي لبث نوح عليه السلام ما شاء الله تعالى، ثم إنه أذن له بالهبوط فهبط على الجبل فدعا الغراب فقال: ائتني بخبر الأرض، فانحدر إلى الأرض وفيها الغرقى من قوم نوح فوقع على جيفة منهم فأبطأ عليه فلعنه، ودعا الحمامة فوقفت على كفه فقال: اهبطي فأتني بخبر الأرض فانحدرت فلم تلبث قليلا حتى جاءت تنفض ريشها بمنقارها فقالت: اهبط فقد أنبتت الأرض فقال نوح: بارك الله تعالى فيك وفي بيت يأويك وحببك إلى الناس ولولا أن يغلبك الناس على نفسك لدعوت الله سبحانه أن يجعل رأسك من الذهب، والظاهر عندي أن الهبوط من الجودي الذي استقرت عليه السفينة إلى الأرض، وليس في الكلام ما يستدعي أن يكون بعد الاستقرار بلا مهلة ليقال: إن ما تحت الجبل مغمور إذ ذاك بالماء، والتعبير بالهبوط على هذا في غاية الظهور، ولعل ذلك على أن يكون المراد من السفينة لمكان الركوب، وخبر الحمامة والغراب قد طار في الآفاق وأولع به القصاصون، والله تعالى أعلم بصحته، وغالب الظن أنه لم يصح، وكذا اشتهر خبر قرية الثمانين في أرض الموصل وأنها لما ضاقت عليهم تحولوا إلى بابل فبنوها. وأخرج ابن عساكر عن كعب الأحبار أنه قال: أول حائط وضع على وجه الأرض بعد الطوفان حائط حران ودمشق ثم بابل وقرىء اهْبِطْ بضم الباء بِسَلامٍ أي ملتبسا بسلامة مما تكره كائنة مِنَّا أي من جهتنا، ويجوز أن يكون السلام بمعنى التسليم والتحية أي مسلما عليك من جهتنا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ أي خيرات نامية في نسلك وما يقوم به معاشك ومعاشهم من أنواع الأرزاق، أو مباركا عليك أي مدعوا لك بالبركة بأن يقال: بارك الله تعالى فيك وهو مناسب لكون السلام بمعنى التسليم فيكون كقوله: السلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته. وأصل البرك- كما قال الراغب- صدر البعير يقال: برك البعير إذا ألقى بركه، واعتبر فيه اللزوم ولذا سمي محتبس الماء بركة، والبركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء سمي بذلك لثبوت الخير فيه ثبوت الماء في البركة. ولما كان الخير الإلهي يصدر على وجه لا يحس ولا يحصى قيل لكل ما يشاهد فيه زيادة غير محسوسة: هو مبارك وفيه بركة، ولما في ذلك من الإشعار باللزوم- وكونه غير محسوس- اختص تبارك بالاستعمال في الله تبارك وتعالى كما قيل: وفي الكشف كل شيء ثبت وأقام فقد برك وأخذ بروك البعير منه، ثم البرك بمعنى الصدر من الثاني لأنه آلة بروكه أظهر، وحكى عبد العزيز بن يحيى عن الكسائي أنه قرأ- وبركة- بالتوحيد، وفي الآية على القراءتين صنعة الاحتباك لأنه حذف من الثاني ما ذكر في الأول، وذكر فيه ما حذف من الأول، والتقدير سلام منا عليك وبركات، أو وبركة منا عليك، وهذا منه تعالى إعلام وبشارة بقبول توبته عليه السلام وخلاصه من الخسران مع الإشارة إلى عود الأرض إلى حالها من الإنبات وغيره وَعَلى أُمَمٍ ناشئة مِمَّنْ مَعَكَ متشعبة منهم- فمن- ابتدائية، والمراد الأمم المؤمنة المتناسلة ممن معه إلى يوم القيامة، والمراد- ممن معه- أولاده من إطلاق العام وإرادة الخاص بناء على ما قيل: إنه لم يعقب غيرهم، فالناس كلهم على هذا من نسل نوح عليه السلام ومن هنا سمي عليه السلام آدم الثاني وآدم الأصغر، واستدل لذلك بقوله تعالى: وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ [الصافات: 77] وقد يقال ببقاء- من- على عمومه بناء على ما عليه أكثر المفسرين من عدم اختصاص النسل بأولاده عليه السلام بل لمن معه نسل باق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 270 أيضا، والكلام في استدلال الأولين سيأتي إن شاء الله تعالى، وقوله سبحانه: وَأُمَمٌ بالرفع- وهو على ما ذهب إليه الزمخشري- مبتدأ، وجملة قوله تعالى: سَنُمَتِّعُهُمْ صفته، والخبر محذوف أي ومنهم أمم، وساغ ذلك لدلالة ما سبق عليه فإن إيراد الأمم المبارك عليهم المتشعبة منهم نكرة يدل على أن بعض من يتشعب منهم ليسوا على صفتهم، والمعنى ليس جميع من يتشعب منهم مشاركا له في السلام والبركات بل منهم أمم يمتعون في الدنيا ثُمَّ يَمَسُّهُمْ فيها أو في الآخرة أو فيهما مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ وجوز أبو حيان أن يكون أُمَمٍ مبتدأ محذوف الصفة وهي المسوغة للابتداء بالنكرة، والتقدير وأمم منهم، وجملة سَنُمَتِّعُهُمْ هو الخبر كما قالوا: السمن منوان بدرهم، وأن يكون مبتدأ ولا يقدر له صفة والخبر أيضا سَنُمَتِّعُهُمْ ومسوغ الابتداء كون المكان مكان تفصيل فكان مثل قول الشاعر: إذا ما بكى من خلفها انحرفت له ... بشق وشق عندنا لم يحول وقول القرطبي: إنه ارتفع أُمَمٍ على معنى ويكون أمم إن أراد به تفسير معنى فحسن وإن أراد الإعراب فليس يجيد لأن هذا ليس من مواضع إضمار يكون، وقال الأخفش: هذا كما تقول: كلمت زيدا وعمرو جالس يحتمل أن يكون من باب العطف، ويحتمل أن يكون الواو للحال وتكون الجملة هنا حالا مقدرة لأن وقت الأمر بالهبوط لم تكن تلك الأمم موجودة. وقال أبو البقاء: إن أُمَمٍ معطوف على الضمير في اهْبِطْ والتقدير- اهبط أنت وأمم- وكان الفصل بينهما مغنيا عن التأكيد، وسَنُمَتِّعُهُمْ نعت لأمم، وفيه إن الذين كانوا مع نوح عليه السلام في السفينة كلهم مؤمنون لقوله تعالى: وَمَنْ آمَنَ ولم يكونوا قسمين كفارا ومؤمنين ليؤمر الكفار بالهبوط معه اللهم إلا أن يلتزم أن من أولئك المؤمنين من علم الله سبحانه أنه يكفر بعد الهبوط فأخبر عنهم بالحالة التي يؤولون إليها وفيه بعد. وجوز أن تكون- من- في مِمَّنْ مَعَكَ بيانية أي وعلى أمم هم الذين معك، وسموا أمما لأنهم أمم متحزبة وجماعات متفرقة أو لأن جميع الأمم إنما تشعبت منهم فهم أمم مجازا فحينئذ يكون المراد بالأمم المشار إليهم في قوله سبحانه: وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ بعض الأمم المتشعبة منهم وهي الأمم الكافرة المتناسلة منهم إلى يوم القيامة. وفي الكشاف إن الوجه هو الأول قيل: ليقابل قوله تعالى: وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ولأنه أشمل ولأن- من- الابتدائية لا سيما في المنكر أكثر وللنكتة في إدخال الناشئين في المسلم عليهم، وقطع الممتعين عنهم من الدلالة على ما صرح به في قوله سبحانه: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ولهذه النكتة حذف منهم في الثاني، واكتفى بسلام نوح عليه السلام عن سلام مؤمني قومه لأن النبي زعيم أمته وكفاهم هذا التعظيم والاتحاد معه عليه السلام، فلا يراد أن الحمل على البيانية أرجح لئلا يلزم أن لا يكون مسلما عليهم على أن لفظ الأمم في الإطلاق على من معه بأحد الاعتبارين لا فخامة فيه لأن تسمية الجماعة القليلة بالأمة لا يناسب فكيف بالأمم، ولا مبالغة في هذا المقام فيه فلا يعدل عن الحقيقة، وإن جعل من باب إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النحل: 120] لم يلائم تفخيم نوح عليه السلام، وقد ذكر أنه يبقى على البيانية أمر الأمم المؤمنة الناشئة من الذين معه عليه السلام مبهما غير متعرض له ولا مدلول عليه إلا أن يقال: حيث كان المراد بمن معك المؤمنين يعلم أن المشاركين لهم في وصف الإيمان مثلهم فيما تقدم، نعم قيل: إن في دلالة المذكور على الخبر المحذوف على ذلك الوجه خفاء لأن- من المذكورة بيانية، والمحذوفة تبعيضية، أو ابتدائية، وربما يجاب عنه أيضا بإلزام أن لا حذف أصلا كما هو أحد الأوجه التي ذكرناها آنفا فتدبر جميع ما ذكر. والمأثور عدم تخصيص الأمم في الموضعين بمؤمنين معينين وكافرين كذلك، فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 271 وغيرهما عن محمد القرظي قال: دخل في ذلك السلام والبركات كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة ودخل في ذلك المتاع والعذاب الأليم كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة، وأخرج أبو الشيخ عن الحسن أنه قال في الآية ما زال الله تعالى يأخذ لنا بسهمنا وحظنا ويذكرنا من حيث لا نذكر أنفسنا كلما هلكت أمة خلقنا في أصلاب من ينجو بلطفه حتى جعلنا في خير أمة أخرجت للناس، وقيل: المراد بالأمم الممتعة قوم هود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام، وبالعذاب ما نزل بهم، وبالغ بعضهم في عموم الأمم في الأول فجعلها شاملة لسائر الحيوانات التي كانت معه عليه السلام فإن الله تعالى جعل فيها البركة- وليس بشيء- كما لا يخفى، وهاهنا لطيفة وهي أنه قد تكرر في هذه الآية حرف واحد مرات مع غاية الخفة ولم تتكرر الراء مثله في قوله: وقبر حرب بمكان قفر ... وليس قرب قبر حرب قبر ومع ما ترى فيه من غاية الثقل وعسر النطق، ولله تعالى شأن التنزيل ما أكثر لطائفه تِلْكَ إشارة إلى قصة نوح عليه السلام وهي لتقضيها في حكم البعيد، ويحتمل أنه أشير بأداة البعد إلى بعد منزلتها، وقيل: إن الإشارة إلى آيات القرآن وليس بذاك وهي في محل الرفع على الابتداء، وقوله سبحانه: مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ أي بعض أخباره التي لها شأن وكونها بعض ذلك باعتبار أنها على التفصيل لم تبق لطول العهد معلومة لغيره تعالى حتى أن المجوس على ما قيل: ينكرونها رأسا، وقيل: إن كونها من الغيب لغير أهل الكتاب. وقد ذكر غير واحد أن الغيب قسمان: ما لا يتعلق به علم مخلوق أصلا وهو الغيب المطلق، وما لا يتعلق به علم مخلوق معين وهو الغيب المضاف بالنسبة إلى المخلوق، وهو مراد الفقهاء في تكفير الحاكم على الغيب، وقوله سبحانه: نُوحِيها خبر ثان- لتلك- والضمير لها أي موحاة إِلَيْكَ أو هو الخبر، ومِنْ أَنْباءِ متعلق به، وفائدة تقديمه نفي أن يكون علم ذلك بكهانة أو تعلم من الغير، والتعبير بصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية، أو مِنْ أَنْباءِ هو الخبر، وهذا في موضع الحال من أَنْباءِ والمقصود من ذكر كونها موحاة إلجاء قومه صلّى الله عليه وسلَّم للتصديق بنبوته عليه الصلاة والسلام وتحذيرهم مما نزل بالمكذبين، وقوله تعالى: ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ خبر آخر أي مجهولة عندك وعند قومك مِنْ قَبْلِ هذا أي الإيحاء إليك المعلوم مما مر، وقيل: أي الوقت، وقيل: أي العلم المكتسب بالوحي. وفي مصحف ابن مسعود- من قبل هذا القرآن- ويحتمل أن يكون حالا من الهاء في نُوحِيها أو الكاف من إِلَيْكَ أي غير عالم أنت ولا قومك بها، وذكر القوم معه صلّى الله عليه وسلّم من باب الترقي كما تقول: هذا الأمر لا يعلمه زيد ولا أهل بلدة لأنهم مع كثرتهم إذا لم يعلموا ذلك فكيف يعلمه واحد منهم، وقد علم أنه لم يخالط غيرهم. فَاصْبِرْ متفرع على الإيحاء أو على العلم المستفاد منه المدلول عليه بما تقدم مِنْ قَبْلِ هذا أي وإذ قد أوحيناها إليك أو علمتها بذلك فاصبر على مشاق تبليغ الرسالة وأذية قومك كما صبر نوح عليه السلام على ما سمعته من أنواع البلايا في هذه المدة المتطاولة. قيل: وهذا ناظر إلى ما سبق من قوله سبحانه: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ [هود: 12] إلخ إِنَّ الْعاقِبَةَ بالظفر في الدنيا وبالفوز بالآخرة لِلْمُتَّقِينَ كما سمعت ذلك في نوح عليه السلام وقومه، قيل: وهو تعليل للأمر بالصبر وتسلية له صلّى الله عليه وسلّم، والمراد بالتقوى الدرجة الأولى منها، وجوز أن يراد بها الدرجة الثالثة وهي بذلك المعنى منطوية على الصبر فكأنه قيل: فاصبر فإن العاقبة للصابرين، وقيل: الآية فذلكة لما تقدم وبيان للحكمة في إيحاء ذلك من إرشاده صلّى الله عليه وسلّم وتهديد قومه المكذبين له والله تعالى أعلم. ومن باب الإشارة في الآيات: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ إلخ لما كان مقتضى الطباع البشرية عدم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 272 نشاط المتكلم إذا لم يجد محلا قابلا لكلامه وضيق صدره من ذلك هيج جل شأنه نشاط نبيه صلّى الله عليه وسلّم بما أنزل عليه من هذه الآية الكريمة، وقال سبحانه: إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ ولا يخلو الإنذار عن إحدى فائدتين: رفع الحجاب عمن وفق وإلزام الحجة لمن خذل وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ فكل الهداية إليه مَنْ كانَ يُرِيدُ بعلمه الذي هو بظاهره من أعمال الآخرة الْحَياةَ الدُّنْيا كالجاه والمدح نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ أي جزاءها فيها إن شئنا وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ أي لا ينقصون شيئا منها أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ لتعذب قلوبهم بالحجب الدنيوية وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها من أعمال البر فلم ينتفعوا بها، وجاء «إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى» الحديث أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ أي يقين برهاني عقلي أو وجداني كشفي وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وهو القرآن المصدق لذلك، ومن هنا تؤيد الأدلة العقلية بالآيات النقلية القرآنية. ويحكم بكون الكشف صحيحا إذا شهدت له ووافقته، ولذا قالوا: كل كشف خالف ما جاء عن الله تعالى ليس بمعتبر وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى أي يتبع البرهان من قبل هذا الكتاب كتاب موسى عليه السلام في حالة كونه إِماماً يؤتم به في تحقيق المطالب وَرَحْمَةً لمن يهتدي به، وهذا وجه في الآية ذكره بعضهم، وقد قدمنا ما فيها من الاحتمالات وقد ذكروا أن المراد بيان بعد ما بين مرتبتي من يريد الحياة الدنيا ومن هو على بينة من ربه. وللصوفية قدست أسرارهم عبارات شتى في البينة فقال رويم: هي الإشراف عن القلوب والحكم على الغيوب، وقال سيد الطائفة: هي حقيقة يؤيدها ظاهر العلم، وقيل: غير ذلك، وعن أبي بكر بن طاهر أن من كان على بينة من ربه كانت جوارحه وقفا على الطاعات والموافقات ولسانه مشغولا بالذكر ونشر الآلاء والنعماء وقلبه منورا بأنوار التوفيق وضياء التحقيق وسره وروحه مشاهدين للحق في جميع الأوقات وكان عالما بما يبدو من مكنون الغيوب ورؤيته يقين لا شك فيه وحكمه على الخلق كحكم الحق لا ينطق إلا بالحق ولا يرى إلا الحق لأنه مستغرق به فأنى يرى سواه وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً إلخ جعله بعضهم إشارة إلى المثبتين لغيره سبحانه وجودا وهم أهل الكثرة والحجاب، وفسر الأشهاد بالموحدين الذين لا يشهدون في الدار غيره سبحانه ديارا. ومن الناس من عكس الأمر وجعلها ردا على أهل الوحدة القائلين: إن كل ما شاهدته بعينك أو تصورته بفكرك فهو الله سبحانه بمعنى كفر النصارى إيمان بالنسبة إليه وحاش أهل الله تعالى من القول به على ما يشعر به ظاهره، ومنهم من جعلها مشيرة إلى حال من يزعم أنه ولي الله تعالى ويتزيا بزي السادات ويتكلم بكلماتهم وهو في الباطن أفسق من قرد وأجهل من حمار تومه مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ قيل: الْبَصِيرِ من عاين ما يراد به وما يجري له وعليه في جميع أوقاته وَالسَّمِيعِ من يسمع ما يخاطب به من تقريع وتأديب وحث وندب لا يغفل عن الخطاب في حال من الأحوال، وقيل: الْبَصِيرِ الناظر إلى الأشياء بعين الحق فلا ينكر شيئا ولا يتعجب من شيء وَالسَّمِيعِ من يسمع من الحق فيميز الإلهام من الوسواس، وقيل: الْبَصِيرِ هو الذي يشهد أفعاله بعلم اليقين وصفاته بعين اليقين وذاته بحق اليقين فالغائبات له حضور والمستورات له كشف وَالسَّمِيعِ من يسمع من دواعي العلم شرعا، ثم من خواطر التعريف قدرا، ثم يكاشف بخطاب من الحق سرا، وقيل: السَّمِيعِ من لا يسمع إلا كلام حبيبه، والْبَصِيرِ من لا يشاهد إلا أنواره فهو في ضيائها ليلا ونهارا، وإلى هذا يشير قول قائلهم: ليلي من وجهك شمس الضحى ... وإنما السدفة في الجو الناس في الظلمة من ليلهم ... ونحن من وجهك في الضو وفسر كل من- الأعمى والأصم- بضد ما فسر به الْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ والمراد من قوله سبحانه: هَلْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 273 يَسْتَوِيانِ أنهما لا يستويان لما بينهما من التقابل والتباعد إلى حيث لا تتراءى نارهما، ثم إنه تعالى ذكر من قصة نوح عليه السلام مع قومه ما فيه إرشاد وتهديد وعظة ما عليها مزيد فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ أي الأشراف المليئون بأمور الدنيا الذين حجبوا بما هم فيه عن الحق ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا لكونهم واقفين عند حد العقل المشوب بالوهم فلا يرون لأحد طورا وراء ما بلغوا إليه ولم يشعروا بمقام النبوة ومعناها وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وصفوهم بذلك لفقرهم حيث كانوا لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا ولم يعلموا أن الشرف بالكمال لا بالمال. وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ وتقدم يؤهلكم لما تدعونه بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ فلا نبوة لك ولا علم لهم. قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي يجب عليكم الإذعان بها وَآتانِي رَحْمَةً هداية خاصة كشفية متعالية عن درجة البرهان مِنْ عِنْدِهِ فوق طور عقولكم من العلوم اللدنية ومقام النبوة فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ لاحتجابكم بالظاهر عن الباطن وبالخليقة عن الحقيقة أَنُلْزِمُكُمُوها ونجبركم عليها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ لا تلتفتون إليها كأنه عليه السلام أراد أنه لا يكون إلزام ذلك مع الكراهة لكن إن شئتم تلقيه فزكوا أنفسكم واتركوا إنكاركم حتى يظهر عليكم أثر نور الإرادة فتقبلوا ذلك، وفيه إشارة إلى أن المنكر لا يمكن له الاستفاضة من أهل الله تعالى ولا يكاد ينتفع بهم ما دام منكرا ومن لم يعتقد لم ينتفع وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا أي ليس لي مطمح في شيء من أموالكم التي ظننتم أن الشرف بها إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ فهو يثيبني بما هو خير وأبقى وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ أي إنهم أهل الزلفى عنده تعالى وهم حمائم أبراج الملكوت وبزاة معارج الجبروت وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ تسفهون عليهم وتؤذونهم وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ كما تريدون وهم بتلك المثابة أَفَلا تَذَكَّرُونَ لتعرفوا التماس طردهم ضلال، وفيه إشارة إلى أن الإعراض عن فقراء المؤمنين مؤد إلى سخط رب العالمين. قال أبو عثمان: في الآية ما أَنَا بمعرض عمن أقبل على الله تعالى، فإن من أقبل على الله تعالى بالحقيقة أقبل الله تعالى عليه، ومن أعرض عمن أقبل الله تعالى عليه فقد أعرض عن الله سبحانه وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ إلخ أي أنا لا أدعي الفضل بكثرة المال ولا بالاطلاع على الغيب ولا بالملكية حتى تنكروا فضلي بفقدان ذلك وبمنافاة البشرية لما أنا عليه وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تنظرون إليهم بعين الحقارة لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً كما تقولون أنتم إذ الخير عندي ما عند الله تعالى لا المال اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ من الخير مني ومنكم وهو أعلم بقدرهم وخطرهم إِنِّي إِذاً أي إذ نفيت لَمِنَ الظَّالِمِينَ مثلكم وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا قيل: فيه إشارة إلى عين الجمع المشار إليه بخبر «لا زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل» الحديث. وقيل: أي كن في أعين رعايتنا وحفظنا ولا تكن في رؤية عملك والاعتماد عليه، فإن من نظر إلى غيري احتجب به عني، وقال بعضهم: أي أسقط عن نفسك تدبيرك واصنع ما أنت صانع من أفعالك على مشاهدتنا دون مشاهدة نفسك أو أحد من خلقي، وقيل: أي اصنع الفلك ولا تعتمد عليه فإنك بأعيننا رعاية وكلاءة فإن اعتمدت على الفلك وكلت إليه وسقطت من أعيننا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ فيه إشارة إلى رقة قلبه عليه السلام بعد احتمال جفوتهم وأذيتهم، وهكذا شأن الصديقين، والكلام في باقي الآية ظاهر، ولا يخفى أنه يجب الإيمان بظاهرها والتصديق بوقوع الطوفان حسبما قص الله سبحانه وإنكار ذلك كفر صريح، لكن ذكر بعض السادة أنه بعد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 274 الإيمان بذلك يمكن احتمال التأويل على أنه حظ الصوفي من الآية وذلك بأن يؤول الفلك بشريعة نوح التي نجا بها هو ومن آمن معه، والطوفان باستيلاء بحر الهيولى وإهلاك من لم يتجرد عنها بمتابعة نبي وتزكية نفس كما جاء في مخاطبات إدريس عليه السلام لنفسه ما معناه أن هذه الدنيا بحر مملوء ماء فإن اتخذت سفينة تركبها عند خراب البدن نجوت منها إلى عالمك وإلا غرقت فيها وهلكت، وعلى هذا يقال: معنى وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ يتخذ شريعة من ألواح الأعمال الصالحة ودسر العلوم تنتظم بها الأعمال وتحكم وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ كما هو المشاهد في أرباب الخلاعة الممطتين غارب الهوى يسخرون من المتشرعين المتقيدين بقيود الطاعة قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا بجهلكم فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ عند ظهور وخامة عاقبتكم كَما تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عند ذلك مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ في الدنيا من حلول ما لا يلائم غرضه وشهوته وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ في الآخرة من استيلاء نيران الحرمان وظهور هيئات الرذائل المظلمة حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا بإهلاك أمته وَفارَ التَّنُّورُ باستيلاء الأخلاط الفاسدة والرطوبات الفضلية على الحرارة الغريزية وقوة طبيعة ماء الهيولى على نار الروح الحيوانية، أو أَمْرُنا بإهلاكهم المعنوي وَفارَ التَّنُّورُ باستيلاء ماء هوى الطبيعة على القلب وإغراقه في بحر الهيولى الجسماني قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ أي من كل صنفين من نوع اثنين هما صورتاهما النوعية والصنفية الباقيتان عند فناء الأشخاص. ومعنى حملهما فيها علمه ببقائهما مع بقاء الأرواح الإنسية فإن علمه جزء من السفينة المتركبة من العلم والعمل فمعلوميتهما محموليتهما وعالميته بهما حامليته إياهما فيها وَأَهْلَكَ ومن يتصل بك في سيرتك من أقاربك إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ أي الحكم بإهلاكه في الأزل لكفره وَمَنْ آمَنَ من أمتك وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها أي بسم الله تعالى الأعظم الذي هو وجود كل عارف كامل من أفراد نوع الإنسان إجراء أحكامها وترويجها في بحر العالم الجسماني وإثباتها وأحكامها كما ترى من إجراء كل شريعة وأحكامها بوجود الكامل ممن ينسب إليها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ لهيئات نفوسكم البدنية المظلمة وذنوب ملابس الطبيعة المهلكة إياكم المغرقة في بحرها وذلك بمتابعة الشريعة رَحِيمٌ بإفاضة المواهب العلمية والكشفية والهيئات النورانية التي ينجيكم بها وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ من بحر الطبيعة الجسمانية كَالْجِبالِ الحاجبة للنظر المانعة من السير وهم لا يبالون بذلك محفوظون من أن يصيبهم شيء من ذلك الموج، وهذا الجريان يعرض للسالك في ابتداء أمره ولولا أنه محفوظ في لزوم سفينة الشرع لهلك. ولعل في الآية على هذا تغليبا وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ المحجوب بالعقل المشوب بالوهم وَكانَ فِي مَعْزِلٍ لذلك الحجاب عن الدين والشريعة يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا أي ادخل في ديننا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ المحجوبين الهالكين بأمواج هوى النفس المغرقين في بحر الطبع قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ أي سألتجىء إلى الدماغ وأستعصم بالعقل المشرق هناك ليحفظني من استيلاء بحر الهيولى فلا أغرق فيه قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وهو الله الذي رحم أهل التوحيد وأفاض عليهم من شآبيب لطفه ما عرفوا به دينه الحق وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ أي موج هوى النفس واستيلاء ماء بحر الطبيعة وحجب عن الحق فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ في بحر الهيولى الجسمانية، وقيل: من جهة الحق على لسان الشرع لأرض الطبيعة يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وقفي على حد الاعتدال، ولسماء العقل المحجوبة بالعادة والحس المشوبة بالوهم المغيمة بغيم الهوى يا سَماءُ أَقْلِعِي عن إمداد الأرض وَغِيضَ الْماءُ أي ماء قوة الطبيعة الجسمانية ومدد الرطوبة الحاجبة لنور الحق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 275 المانعة للحياة الحقيقية وَقُضِيَ الْأَمْرُ بإنجاء من نجا وإهلاك من هلك وَاسْتَوَتْ أي سفينة شريعته عَلَى الْجُودِيِّ وهو جبل وجود نوح وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الذين عبدوا الهوى دون الحق ووضعوا الطبيعة مكان الشريعة وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ إلخ الكلام على هذا الطرز فيه ظاهر قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ من محل الجمع وذروة مقام الولاية والاستغراق في التوحيد إلى مقام التفصيل وتشريع النبوة بالرجوع إلى الخلق ومشاهدة الكثرة في عين الوحدة غير معطل للمراتب بِسَلامٍ مِنَّا أي سلامة عن الاحتجاب بالكثرة وَبَرَكاتٍ من تقنين قوانين الشرع عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ ناشئة مِمَّنْ مَعَكَ على دينك إلى آخر الزمان وَأُمَمٌ أي وينشأ ممن معك أمم سَنُمَتِّعُهُمْ في الدنيا ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا في العقبى عَذابٌ أَلِيمٌ بإحراقهم بنار الآثار وتعذيبهم بالهيئات المظلمة. هذا ثم ذكر أنه إذا شئت التطبيق على ما في الأنفس أولت نوحا بروحك والفلك بكمالك العلمي والعملي الذي به نجاتك عند طوفان بحر الهيولى والتنور بتنور البدن وفورانه استيلاء الرطوبة الغريبة والأخلاط الفاسدة، وما أشار إليه مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ بجيوش القوى الحيوانية والطبيعية وطيور القوى الروحانية، وأولت ما جاء في القصة من البنين الثلاثة والزوجة بحام القلب وسام العقل النظري ويافث العقل العملي وزوجة النفس المطمئنة والابن الآخر الوهم والزوجة الأخرى الطبيعة الجسمانية التي يتولد منها الوهم. والجبل بالدماغ. واستواءها على الجودي وهبوطه بمثل نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان انتهى، ومن نظر بعين الإنصاف لم يعول إلا على ظاهر القصة وكان له به غنى عن هذا التأويل، واكتفى بما أشار إليه من أن النسب إذا لم يحط بالصلاح كان غريقا في بحر العدم. فما ينفع الأصل من هاشم ... إذا كانت النفس من باهله ومن أنه ينبغي للإنسان التحري بالدعاء وأن لا تشغله الشفقة عن ذلك إلى غير ما ذكر، والآية نص في كفر قوم نوح عليه السلام الذين أغرقهم الله تعالى، وفي فصوص الحكم للشيخ الأكبر قدس سره ما هو نص في إيمانهم ونجاتهم من العذاب يوم القيامة وذلك أمر لا نفهمه من كتاب ولا سنة وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 276 وَإِلى عادٍ متعلق بمحذوف معطوف على قوله سبحانه: أَرْسَلْنا في قصة نوح وهو الناصب لقوله تعالى: أَخاهُمْ أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم أي واحدا منهم في النسب كقولهم: يا أخا العرب، وقدم المجرور ليعود الضمير عليه، وقيل: إن إِلى عادٍ أَخاهُمْ عطف على قوله تعالى: نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [هود: 25] المنصوب على المنصوب والجار والمجرور على الجار والمجرور، وهو من العطف على معمولي عامل واحد وليس من المسألة المختلف فيها، نعم الأول أقرب- كما في البحر- لطول الفصل بالجمل الكثيرة بين المفردات المتعاطفة، وقوله سبحانه: هُوداً عطف بيان- لأخاهم- وجوز أن يكون بدلا منه وكان عليه السلام ابن عم أبي عاد وأرسل إليهم من هو منهم ليكون ذلك أدعى إليه اتباعه قالَ استئناف بياني حيث كان إرساله عليه السلام مظنة للسؤال عما قال لهم ودعاهم كأنه قيل: فما قال لهم حين أرسل إليهم؟ فقيل: قال: يا قَوْمِ ناداهم بذلك استعطافا لهم، وقرأ ابن محيصن «يا قوم» بالضم وهي لغة في المنادى المضاف إلى الياء حكاها سيبويه وغيره اعْبُدُوا اللَّهَ أي وحده وكانوا مشركين يعبدون الأصنام ويدل على أن المراد ذلك قوله تعالى: ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ فإنه استئناف يجري مجرى البيان للعبادة المأمور بها، والتعليل للأمر بها كأنه قيل: أفردوه بالعبادة ولا تشركوا به شيئا إذ ليس لكم إله غيره سبحانه على أنه لا اعتداد بالعبادة مع الإشراك، فالأمر بها يستلزم الأمر بإفراده سبحانه بها وغَيْرُهُ بالرفع صفة- لإله- باعتبار محله لأنه فاعل للظرف لاعتماده على النفي، وقرأ الكسائي بالجر على أنه صفة له جار على لفظه إِنْ أَنْتُمْ ما أنتم بجعلكم الألوهية لغيره تعالى كما قال الحسن- أو بقولكم: إن الله تعالى أمرنا بعبادة الأصنام إِلَّا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 278 مُفْتَرُونَ عليه تعالى عن ذلك علوا كبيرا يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي خاطب به كل رسول قومه إزاحة لما عسى أن يتوهموه وتمحيضا للنصيحة فإنها ما دامت مشوبة بالمطامع بمعزل عن التأثير، وإيراد الموصول للتفخيم، وجعل الصلة فعل الفطر الذي هو الإيجاد والإبداع لكونه أبعد من أن يتوهم نسبته إلى شركائهم وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25، الزمر: 38] مع كونه أقدم النعم الفائضة من جناب الله تعالى المستوجبة للشكر الذي لا يتأتى إلا بالجريان على موجب أمره سبحانه الغالب معرضا عن المطالب الدنيوية التي من جملتها الأجر، ولعل فيه إشارة إلى أنه عليه السلام غني عن أجرهم الذي إنما يرغب فيه للاستعانة به على تدبير الحال وقوام العيش بالله تعالى الذي أوجده بعد أن لم يكن وتكفل له بالرزق كما تكفل لسائر من أوجده من الحيوانات أَفَلا تَعْقِلُونَ أي أتغفلون عن ذلك فلا تعقلون نصيحة من لا يطلب عليها أجرا إلا من الله تعالى ولا شيء أنفى للتهمة من ذلك فتناقدون لما يدعوكم إليه أو تجهلون كل شيء فلا تعقلون شيئا أصلا فإن الأمر مما لا ينبغي أن يخفى على أحد من العقلاء. وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ من الشرك ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ أي ارجعوا إليه تعالى بالطاعة أو توبوا إليه سبحانه وأخلصوا التوبة واستقيموا عليها، وقيل: الاستغفار كناية عن الإيمان لأنه من روادفه، وحيث إن الإيمان بالله سبحانه لا يستدعي الكفر بغيره لغة قيل: ثُمَّ تُوبُوا فكأنه قيل: آمنوا به ثم توبوا إليه تعالى من عبادة غيره، وتعقب بأن قوله سبحانه: اعْبُدُوا اللَّهَ دل على اختصاصه تعالى بالعبادة فلو حمل اسْتَغْفِرُوا على ما ذكر لم يفد فائدة زائدة سوى ما علق عليه، وقد كان يمكن تعليقه بالأول، والحمل على غير الظاهر مع قلة الفائدة مما يجب الاحتراز عنه في كلام الله تعالى المعجز، وقيل: المراد بالاستغفار التوبة عن الشرك وبالتوبة التوبة عما صدر منهم غير الشرك، وأورد عليه أيضا أن الإيمان يجب ما قبله، وقيل: المراد بالأول طلب المغفرة بالإيمان، وبالثاني التوسل إليه سبحانه بالتوبة عن الشرك، وأورد عليه أن التوسل المذكور لا ينفك عن طلب المغفرة بالإيمان لأنه من لوازمه فلا يكون بعده كما تؤذن به ثُمَّ- وقيل: وقيل- وقد تقدم بعض الكلام في ذلك أول السورة. يُرْسِلِ السَّماءَ أي المطر كما في قوله: إذا «نزل السماء» بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا عَلَيْكُمْ مِدْراراً كثير الدر متتابعه من غير إضرار فمفعال للمبالغة كمعطار ومقدام. وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ أي عزا مضموما إلى عزكم أو مع عزكم ويرجع هذا إلى قوله تعالى: وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ [نوح: 12] لأن العز الدنيوي بذلك، وعن الضحاك تفسير- القوة- بالخصب، وعن عكرمة تفسيرها بولد الولد، وقيل: المراد بها قوة الجسم، ورغبهم عليه السلام بكثرة المطر وزيادة القوة لأنهم كانوا أصحاب زروع وبساتين وعمارات، وقيل: حبس الله تعالى عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم ثلاث سنين فوعدهم هود عليه السلام على الاستغفار والتوبة كثرة الأمطار وتضاعف القوة بالتناسل، وقيل: القوة الأولى في الإيمان، والثانية في الأبدان أي يزدكم قوة في إيمانكم إلى قوة في أبدانكم وَلا تَتَوَلَّوْا أي لا تعرضوا عما دعوتكم إليه مُجْرِمِينَ مصرين على ما أنتم عليه من الإجرام، وقيل: مجرمين بالتولي وهو تكلف. قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ أي بحجة واضحة تدل على صحة دعواك، وإنما قالوه لفرط عنادهم أو لشدة عماهم عن الحق وعدم نظرهم في الآيات فاعتقدوا أن ما هو آية ليس بآية وإلا فهو وغيره من الأنبياء عليهم السلام جاؤوا بالبينات الظاهرة والمعجزات الباهرة وإن لم يعين لنا بعضها، ففي الخبر «ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر» وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا أي بتاركي عبادتها عَنْ قَوْلِكَ أي بسبب قولك المجرد عن البينة- فعن- للتعليل كما قيل في قوله تعالى: إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 279 إِيَّاهُ [التوبة: 114] وإلى هذا يشير كلام ابن عطية وغيره، فالجار والمجرور متعلق بِتارِكِي. وذهب بعض المحققين إلى أنه متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير المستتر فيه أي صادرين وهو من الصدر مقابل الورد بمعنى الرجوع عن الماء، وقد شاع في كلامهم استعمال الصدر والورد كناية عن العمل والتصرف، ومنه قوله: ما أمسى الزمان حاجا إلى من ... يتولى الإيراد والإصدارا أي يتصرف في الأمور بصائب رأيه، وقد يكتفي بالصدر في ذلك لاستلزامه للورد فيقولون: لا يصدر إلا عن رأيه، والمعنى هنا حينئذ ما نحن بِتارِكِي آلِهَتِنا عاملين بقولك، والنفي فيه راجع إلى القيد والمقيد جميعا لأنهم لا يتركون آلهتهم ولا يعملون بقوله عليه السلام، وقيل: إن صادرين بمعنى معرضين وهو قيد للنفي، والمعنى انتفى تركنا عبادة آلهتنا معرضين عَنْ قَوْلِكَ ويكون هذا جوابا لقوله: لا تَتَوَلَّوْا وجعل بعضهم إرادة ذلك من باب التضمين لا من باب تقدير المتعلق بقرينة عَنْ وجعله كناية كما علمت، وكلام الزمخشري ظاهر في هذا كما يكشف عنه كلام الكشف وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ أي بمصدقين فيما جئت به أو في كل ما تأتي وتذر، ويندرج فيه ذلك، وقد بالغوا في الإباء عن الإجابة فأنكروا الدليل على نبوته عليه السلام، ثم قالوا مؤكدين لذلك وَما نَحْنُ بِتارِكِي إلخ، ثم كرروا ما دل عليه الكلام السابق من عدم إيمانهم بالجملة الاسمية مع زيادة الباء، وتقديم المسند إليه المفيد للتقوى دلالة على أنهم لا يرجى منهم ذلك بوجه من الوجوه، وفي ذلك من الدلالة على الإقناط ما فيه إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ أي أصابك من عراه يعروه، وأصله من اعتراه بمعنى قصد عراه أي محله وناحيته بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ أرادوا به- قاتلهم الله تعالى- الجنون، والباء للتعدية والتنكير فيه قيل: للتقليل كأنهم لم يبالغوا في العتو كما ينبىء عنه نسبة ذلك إلى بعض آلهتهم دون كلها، وقيل: للتكثير إشارة إلى أن ما قاله لا يصدر إلا عمن أصيب بكثير سوء مبالغة في خروجه عن قانون العقل، وذكر البعض تعظيما لأمر آلهتهم وأن البعض منها له من التأثير ما له، والجملة مقول القول وإلا لغو لأن الاستثناء مفرغ، وأصله أن نقول قولا إلا قولنا هذا فحذف المستثنى منه وحذف القول المستثنى وأقيم مقوله مقامه، أو اعْتَراكَ هو المستثنى لأنه أريد به لفظه فلا حاجة إلى تقدير قول بعد إِلَّا وليس مما استثنى فيه الجملة، ومعنى هذا أنه أفسد عقلك بعض آلهتنا لسبك إياها وصدك عن عبادتها وحطك لها عن رتبة الألوهية بما مر من قولك: ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ وغرضهم من هذا على ما قيل: بيان سبب ما صدر عن هود عليه السلام بعد ما ذكروا من عدم التفاتهم لقوله عليه السلام، وقيل: هو مقرر لما مر من قولهم: وَما نَحْنُ بِتارِكِي إلخ وَما نَحْنُ لَكَ إلخ فإن اعتقادهم بكونه عليه السلام كما قالوا- وحاشاه عن ذلك- يوجب عدم الاعتداد بقوله، وعده من قبيل الخرافات فضلا عن التصديق والعمل بمقتضاه يعنون أنا لا نعتقد كلامك إلا ما لا يحتمل الصدق من الهذيانات الصادرة عن المجانين فكيف نؤمن به ونعمل بموجبه؟ ولقد سلكوا طريق المخالفة والعناد إلى سبيل الترقي من السيّء إلى الأسوأ حيث أخبروا أولا عن عدم مجيئه بالبينة مع احتمال كون ما جاء به حجة في نفسه وإن لم تكن واضحة الدلالة على المراد وثانيا عن ترك الامتثال لقوله عليه السلام: بقولهم: وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ مع إمكان تحقق ذلك بتصديقهم له في كلامه. ثم نفوا عنه تصديقهم له عليه السلام بقولهم: وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ مع كون كلامه عليه السلام مما يقبل التصديق، ثم نفوا عنه تلك المرتبة أيضا حيث قالوا ما قالوا قاتلهم الله أنى يؤفكون انتهى. وللبحث فيه مجال، ولعل الإتيان بهذه الجملة غير مقترنة بالعاطف كالجملتين الأوليين يؤيد كونها ليست الجزء: 6 ¦ الصفحة: 280 مسوقة للتأكيد مثلهما، نعم تضمنها لتقرير ما تقدم مما لا يكاد ينكر فتدبر. قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ أي مما أنتم تجعلونه شريكا وهو سبحانه لم يجعله شريكا ولم ينزل به سلطانا- فما موصولة، ومِنْ دُونِهِ متعلق- بتشركون- لا حال من فاعله أي تشركون مجاوزين الله تعالى في هذا الحكم إذ لا فائدة في التقييد به، وجوز أن تكون مصدرية أيضا أي من إشراككم، وقد جوز كلا الاحتمالين الزمخشري فقال: أي من إشراككم آلهة من دونه أو مما تشركونه آلهة من دونه وأمر تعلق الجار فيهما واحد، وتقدير آلهة لإيضاح المعنى والإشارة إلى أن المفعول مراد لسوق الكلام ولا يصلح أن يكون الظرف صفة له على الوجهين لأن بيانه حاصلهما بنحو ما ذكرناه في بيان حاصل الأول إنما يستقيم إذا تعلق بالفعل المذكور وليس المعنى على آلهة غير الله على ذلك التفسير، وللطيبي ما يخالف ذلك وليس بذاك، وأَنِّي بَرِيءٌ متنازع فيه للفعلين قبله وقد يتنازع المختلفان في التعدي الاسم الذي يكون صالحا لأن يعملا فيه تقول: أعطيت ووهبت لعمرو درهما كما يتنازع اللازم والمتعدي نحو قام وضربت زيدا. وقد أجاب عليه السلام بهذا عن مقالتهم الشنعاء المبنية على اعتقاد كون آلهتهم تضر وتنفع، ولما كان ما وقع أولا منه عليه السلام في حقها من كونها بمعزل عن الألوهية إنما وقع في ضمن الأمر بعبادة الله تعالى واختصاصه بها وقد شق ذلك عليهم وعدوه مما يورث شينا حتى زعموا ما زعموا صرح عليه السلام بالحق وصدع به حيث أخبر ببراءته القديمة عنها بالجملة الاسمية المصدرة- بأن- وأكد ذلك- بأشهد الله- فإنه كالقسم في إفادة التأكيد وأمرهم بأن يسمعوا ذلك ويشهدوا به، والمقصود منه الاستهانة والاستهزاء كما يقول الرجل لخصمه إذا لم يبال به: أشهد على أني قائل لك كذا، وكأنه غاير بين الشهادتين لذلك، وعطف الإنشاء على الاخبار جائز عند بعض، ومن لم يجوزه قدر قولا أي وأقول اشْهَدُوا ويحتمل أن يكون إشهاد الله تعالى إنشاء أيضا وإن كان في صورة الخبر، وحينئذ لا قيل ولا قال، وجوز أن يكون إشهاده عليه السلام لهم حقيقة إقامة للحجة عليهم. وعدل عن الخبر فيه تمييزا بين الخطابين فهو خبر في المعنى كما هو المشهور في الأول لكن الأولى الحمل على المجاز، ثم أمرهم بالاجتماع والاحتشاد مع آلهتهم جميعا دون بعض منها حسبما يشعر به قولهم بَعْضُ آلِهَتِنا والتعاون في إيصال الكيد إليه عليه السلام، ونهاهم عن الإنظار والإمهال في ذلك فقال: فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ أي إن صح ما لوحتم به من كون آلهتكم مما يقدرون على إضرار من ينال منها ويصد عن عبادتها ولو بطريق ضمني فإني بريء منها فكونوا أنتم معها جميعا وباشروا كيدي ثم لا تمهلوني ولا تسامحوني في ذلك. فالفاء لتفريع الأمر على زعمهم من قدرة آلهتهم على ما قالوا وعلى البراءة كليهما، والخطاب للقوم وآلهتهم، ويفهم من كلام بعض أنه للقوم فقط، وفيه نفي قدرة آلهتهم على ضره بطريق برهاني فإن الأقوياء والأشداء إذا لم يقدروا مع اجتماعهم واحتشادهم على الضر كان عدم قدرة الجمادات عليه معلوما من باب أولى، وأيا ما كان فذاك من أعظم المعجزات بناء على ما قيل: إنه كان عليه السلام مفردا بين جمع عتاة جبابرة عطاش إلى إراقة دمه يرمونه عن قوس واحدة، وقد خاطبهم بما خاطبهم وحقرهم وآلهتهم وهيجهم على ما هيجهم فلم يقدروا على مباشرة شيء مما كلفوه، وظهر عجزهم عن ذلك ظهورا بينا. وفي ذلك دلالة على مزيد ثقته بالله سبحانه وكمال عنايته به وعصمته له، وقد قرر ذلك بإظهار التوكل على من كفاه ضرهم في قوله: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ وفيه تعليل لنفي ضرهم بطريق برهاني يعني أنكم وإن لم تبقوا في القوس منزعا وبذلتم في مضادتي مجهودكم لا تقدرون على شيء مما تريدون بي فإني متوكل على الله تعالى واثق بكلاءته وهو مالكي ومالككم لا يصدر عنكم شيء ولا يصيبني أمر إلا بإرادته، وجيء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 281 بلفظ الماضي لأنه أدل على الإنشاء المناسب للمقام، ثم إنه عليه السلام برهن على عدم قدرتهم على ضره مع توكله عليه سبحانه بقوله: ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها أي إلا هو مالك لها قادر عليها يصرفها كيف يشاء غير مستعصية عليه سبحانه، والناصية مقدم الرأس وتطلق على الشعر النابت عليها، واستعمال الأخذ بالناصية في القدرة والتسلط مجاز أو كناية، وفي البحر أنه صار عرفا في القدرة على الحيوان، وكانت العرب تجز الأسير الممنون عليه علامة على أنه قد قدر عليه وقبض على ناصيته، وقوله: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ مندرج في البرهان وهو تمثيل واستعارة لأنه تعالى مطلع على أمور العباد مجاز لهم بالثواب والعقاب كاف لمن اعتصم به كمن وقف على الجادة فحفظها ودفع ضرر السابلة بها، وهو كقوله سبحانه: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ [الفجر: 14] ، وقيل: معناه أن مصيركم إليه تعالى للجزاء وفصل القضاء، ولعل الأول أولى، وفي الكشف أن في قوله: إِنِّي تَوَكَّلْتُ الآية من اللطائف ما يبهرك تأمله من حسن التعليل، وما يعطيه أن من توكل عليه لم يبال بهول ما ناله ثم التدرج إلى تعكيس التخويف بقوله: رَبِّي وَرَبِّكُمْ فكيف يصاب من لزم سدّة العبودية وينجو من تولى مع ما يعطيه من وجوب التوكل عليه سبحانه إذا كان كذلك وترشيحه بقوله: ما مِنْ دَابَّةٍ إلى تمام التمثيل فإنه في الاقتدار على المعرض أظهر منه في الرأفة على المقبل خلاف الصفة الأولى، وما فيه من تصوير ربوبيته واقتداره تعالى وتصوير ذل المعبودين بين يدي قهره أيا ما كان، والختم بما يفيد الغرضين على القطع كفاية من إياه تولى وخزاية من أعرض عن ذكره وتولى بناء على أن معناه أنه سبحانه على الحق والعدل لا يضيع عنده معتصم ولا يفوته ظالم، وفي قوله: رَبِّي من غير إعادة وَرَبِّكُمْ كما في الأول نكتة سرية بعد اختصار المعنى عن الحشو فيه ما يدل على زيادة اختصاصه به وأنه رب الكل استحقاقا وربه دونهم تشريفا وإرفاقا فَإِنْ تَوَلَّوْا أي تتولوا فهو مضارع حذف منه إحدى التاءين وحمل على ذلك لاقتضاء أبلغتكم له، وجوز ابن عطية كونه ماضيا، وفي الكلام التفات ولا يظهر حسنه ولذا قدر غيره ممن جعله كذلك فقل أبلغتكم لكنه لا حاجة إليه، ويؤيد ذلك قراءة الأعرج وعيسى الثقفي تَوَلَّوْا بضم التاء واللام مضارع ولى، والمراد فإن تستمروا على ما كنتم عليه من التولي والإعراض لوقوع ذلك منهم فلا يصلح للشرط، وجوز أن يبقى على ظاهره بحمله على التولي الواقع بعد ما حجهم، والظاهر أن الضمير لقوم هود والخطاب معهم، وهو من تمام الجمل المقولة قبل، وقال التبريزي: إن الضمير لكفار قريش وهو من تلوين الخطاب، وقد انتقل من الكلام الأول إلى الاخبار عمن بحضرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وكأنه قيل: أخبرهم عن قصة قوم هود وادعهم إلى الإيمان بالله تعالى لئلا يصيبهم كما أصاب قوم هود عليه السلام فَإِنْ تَوَلَّوْا فقل لهم- قد أبلغتكم- إلخ وهو من البعد بمكان كما لا يخفى، وقوله سبحانه: فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ دليل جواب الشرط أي إن تتولوا لم أعاتب على تفريط في الإبلاغ فإن ما أرسلت به إليكم قد بلغكم فأبيتم إلا تكذيب الرسالة وعداوة الرسول، وقيل: التقدير إن تتولوا فما علي كبير همّ منكم فإنه قد برئت ساحتي بالتبليغ وأنتم أصحاب الذنب في الإعراض عن الإيمان، وقيل: إنه الجزاء باعتبار لازم معناه المستقبل باعتبار ظهوره أي فلا تفريط مني ولا عذر لكم، وقيل: إنه جزاء باعتبار الإخبار لأنه كما يقصد ترتب المعنى يقصد ترتب الإخبار كما في وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل: 53] على ما مر وكل ذلك لما أن الإبلاغ واقع قبل توليهم، والجزاء يكون مستقبلا بالنظر إلى زمان الشرط. وزعم أبو حيان أن صحة وقوعه جوابا لأن في إبلاغه إليهم رسالته تضمن ما يحل بهم من العذاب المستأصل فكأنه قيل: فإن تتولوا استؤصلتم بالعذاب، ويدل على ذلك الجملة الخبرية، وهي قوله سبحانه: وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وفيه منع ظاهر، وهذا كما قال غير واحد: استئناف بالوعيد لهم بأن الله تعالى يهلكهم ويستخلف قوما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 282 آخرين في ديارهم وأموالهم وهو استئناف نحوي عند بعض بناء على جواز تصديره بالواو. وقال الطيبي: المراد به أن الجملة ليست بداخلة في الجملة الشرطية جزاء بل تكون جملة برأسها معطوفة على الجملة الشرطية وهو خلاف الظاهر من العبارة، وعليه تكون مرتبة على قوله سبحانه: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ والمعنى أنه على العدل ينتقم منكم ويهلككم، وقال الجلبي: لا مانع عندي من حمله على الاستئناف البياني جوابا عما يترتب على التولي وهو الظاهر كأنه قيل: ما يفعل بهم إذا تولوا؟ فقيل: يَسْتَخْلِفُ إلخ. وتعقبه بعضهم بأن الاستئناف البياني لا يقترن بالواو، وجوز أن يكون عطفا على الجواب لكن على ما بعد الفاء لأنه الجواب في الحقيقة، والفاء رابطة له ودخول الفاء على المضارع هنا لأنه تابع يتسامح فيه. وقيل: تقديره فقل: يَسْتَخْلِفُ إلخ، وقرأ حفص برواية هبيرة و «يستخلف» بالجزم وهو عطف على موضع الجملة الجزائية مع الفاء كأنه قيل: فَإِنْ تَوَلَّوْا يعذرني ويهلككم وَيَسْتَخْلِفُ مكانكم آخرين. وجوز أبو البقاء كون ذلك تسكينا لتوالي الحركات، وقرأ عبد الله كذلك، وبجزم قوله سبحانه: وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً، وقيل: إن من جزم الأول جزم هذا لعطفه عليه وهو الظاهر، والمعنى لا تضرونه بهلاككم شيئا أي لا ينتقص ملكه ولا يختل أمره، ويؤيد هذا ما روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قرأ ولا تنقصونه شيئا، ونصب شَيْئاً على أنه مفعول مطلق لتضرون أي شيئا من الضرر لأنه لا يتعدى لاثنين، وجعله بعضهم مفعولا ثانيا مفسرا له بما يتعدى لهما لمكان الرواية، وجوز ابن عطية أن يكون المعنى أنكم لا تقدرون إذا أهلككم على إضراره بشيء ولا على الانتصار منه ولا تقابلون فعله بشيء يضره تعالى عن ذلك علوا كبيرا، والأول أظهر، وقدر بعضهم التولي بدل الإهلاك أي ولا تضرونه بتوليكم شيئا من الضرر لاستحالة ذلك عليه سبحانه إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ أي رقيب محيط بالأشياء علما فلا يخفى عليه أعمالكم ولا يغفل عن مؤاخذتكم. فالحفظ كناية عن المجازاة، ويجوز أن يكون الحفيظ بمعنى الحافظ بمعنى الحاكم المستولي أي إنه سبحانه حافظ مستول على كل شيء، ومن شأنه ذلك كيف يضره شيء وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا أي نزل عذابنا على أن الأمر واحد الأمور، قيل: أو المأمور به، وفي التعبير عنه بذلك مضافا إلى ضميره جل جلاله، وعن نزوله بالمجيء ما لا يخفى من التفخيم والتهويل. وجوز أن يكون واحد الأوامر أي وورد أمرنا بالعذاب، والكلام على الحقيقة إن أريد أمر الملائكة عليهم السلام، ويجوز أن يكون ذلك مجازا عن الوقوع على سبيل التمثيل نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قيل: كانوا أربعة آلاف، وقيل: ثلاثة آلاف، ولعل الانتصار للأنبياء عليهم السلام لم يكن مأذونا به للمؤمنين إذ ذاك فلا ينافي ما تقدم نقله من أنه عليه السلام كان وحده، ولذا عد مواجهته للجم الغفير معجزة له صلّى الله عليه وسلّم لكن لا بد لهذا من دليل كدعوى انفراده عنهم حين المقاولة وفي الحواشي الشهابية أنه لا مانع من ذلك باعتبار حالين وزمانين فتأمل، والظاهر أن ما كان من المقاولة إنما هو في ابتداء الدعوة ومجيء الأمر كان بعد بكثير وإيمان من آمن كان في البين فترتفع المنافاة بِرَحْمَةٍ عظيمة كائنة مِنَّا وهي الإيمان الذي أنعمنا به عليهم. وروي هذا عن ابن عباس والحسن، وذكره الزمخشري- ولشم بعضهم منه رائحة الاعتزال- لم يلتفت إليه ولا بأس بأن تحمل الرحمة عن الفضل فيفيد أن ذلك بمحض فضل الله تعالى إذا له سبحانه تعذيب المطيع كما أن له جل وعلا إثابة العاصي، والجار والمجرور الأول متعلق- بنجينا- وهو الظاهر الذي عليه كثير من المفسرين. وجوز أبو حيان كونه متعلقا- بآمنوا- أي إن إيمانهم بالله تعالى ورسوله عليه السلام برحمة من الله تعالى إذ وفقهم إليه، ولعل ترتيب الإنجاء على النزول باعتبار ما تضمنه من تعذيب الكفار فيكون قد صرح بالإنجاء اهتماما، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 283 ورتب باعتبار الآخر إشارة إلى أنه مقصود منه، ويجوز أن تكون- لما لمجرد الحين- وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ تكرير لأجل بيان ما نجاهم عنه وهي الريح التي كانت تحمل الظعينة وتهدم المساكن وتدخل في أنوف أعداء الله تعالى وتخرج من أدبارهم فتقطعهم إربا إربا، أو المراد بهذا الإنجاء من عذاب الآخرة وبالأول الإنجاء من عذاب الدنيا، ورجح الأول بأنه أوفق لمقتضى المقام، وحاصله أن الأول إخبار بأن الإيمان الذي وفقوا له صار سبب إنجائهم. والثاني بأن ذلك الإنجاء كان من عذاب أي عذاب دلالة على كمال الامتنان وتحريضا على الإيمان وليس من أسلوب- أعجبني زيد وكرمه- في شيء كما ظنه العلامة الطيبي. وقد أورد على الثاني أن إنجاءهم من عذاب الآخرة ليس في وقت نزول العذاب في الدنيا ولا مسببا عنه إلا أن يجاب بأنه عطف على القيد والمقيد كما قيل في قوله سبحانه: لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف: 34] قيل: ولا يخفى ما فيه من التكلف من غير داع لأن الموافق للتعبير بالماضي المفيد لتحققه حتى كأنه وقع أن يجعل باعتبار ذلك واقعا في وقت النزول تجوزا أو المعنى حكمنا بذلك وتبين ما يكون لهم لأن الدنيا أنموذج الآخرة وأيا ما كان فالمراد بغلظ العذاب تضاعفه، وقد يقال على الاحتمال الأول في وصف العذاب الذي كان بالريح: بالغلظ الذي هو ضد الرقة التي هي صفة الريح ما لا يخفى من اللطف، وفيه أيضا مناسبة لحالهم فإنهم كانوا غلاظا شدادا وَتِلْكَ عادٌ أنث اسم الإشارة باعتبار القبيلة على ما قيل، فالإشارة إلى ما في الذهن وصيغة البعيد لتحقيرهم أو لتنزيلهم منزلة البعيد لعدمهم، أو الإشارة إلى قبورهم ومصارعهم، وحينئذ الإشارة للبعيد المحسوس والإسناد مجازي أو هو من مجاز الحذف أي تلك قبور عاد، وجوز أن يكون بتقدير أصحاب تلك عاد، والجملة مبتدأ وخبر، وكان المقصود الحث على الاعتبار بهم والاتعاظ بأحوالهم، وقوله سبحانه: جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ إلخ استئناف لحكاية بعض قبائحهم أي كفروا بآيات ربهم التي أيد بها رسوله الداعي إليه ودل بها على صدقه وأنكروها فقالوا: يا هود ما جئتنا ببينة، أو أنكروا آياته سبحانه في الآفاق والأنفس الدالة عليه تعالى حسبما قال لهم هود عليه السلام. وجوز أن يراد بها الآيات التي أتى بها هود وغيره من الرسل عليهم الصلاة والسلام، ويلائمه جمع الرسل الآتي على قول، وعدي- جحد- بالباء حملا له على كفر لأنه المراد، أو بتضمينه معناه كما أن كفر يجري مجرى جحد فيعدى بنفسه نحو قوله سبحانه: أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ، وقيل: كفر كشكر يتعدى بنفسه وبالباء، وظاهر كلام القاموس أن جحد كذلك وَعَصَوْا رُسُلَهُ قيل: المراد بالرسل هود عليه السلام والرسل الذين كانوا معه من قبله وهو خلاف الظاهر، وقيل: المراد بهم هود عليه السلام وسائر الرسل من قبله تعالى للأمم من قبله ومن بعده عليه السلام بناء على أن عصيانه عليه السلام وكذا عصيان كل رسول بمنزلة عصيان الرسل جميعهم لأن الجميع متفقون على التوحيد فعصيان واحد عصيان للجميع فيه، أو على أن القوم أمرهم كل رسول من قبل بطاعة الرسل والإيمان بهم إن أدركوهم فلم يمتثلوا ذلك الأمر وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ متعال عن قبول الحق، وقال الكلبي: هو الذي يقتل على الغضب ويعاقب على المعصية. وقال الزجاج: هو الذي يجبر الناس على ما يريد، وذكر ابن الأنباري أنه العظيم في نفسه المتكبر على العباد عَنِيدٍ أي طاغ من- عند- بتثليث النون- عندا- بالإسكان- وعندا- بالتحريك- وعنودا- بضم العين إذا طغا وجاوز الحد في العصيان. وفسره الراغب بالمعجب بما عنده، والجوهري بمن خالف الحق ورده وهو يعرفه، وكذا عاند، ويطلق الأخير على البعير الذي يجور عن الطريق ويعدل عن القصد، وجمعه- عند- كراكع وركع، وجمع العنود- عند- كرغيف ورغف، والعنود قيل: بمعنى العنيد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 284 وزعم بعضهم أنه يقال: بعير عنود، ولا يقال: عنيد، ويجمع الأول على عندة والثاني على عند، وآخر أن العنود العادل عن الطريق المحسوس. والعنيد العادل عن الطريق في الحكم وكلاهما من- عند- وأصل معناه على ما قيل: اعتزل في جانب لأن- العند- بالتحريك الجانب يقال: يمشي وسطا لا عندا، ومنه- عند الظرفية، ويقال للناحية أيضا: العند مثلثة، وهذا الحكم ليس كالحكمين السابقين من جحود الآيات وعصيان الرسل في الشمول لكل فرد فرد منهم فإن اتباع الأمر من أحكام الأسافل دون الرؤساء. وقيل: هو مثل ذلك في الشمول، والمراد- بالأمر- الشأن- وبكل جبار عنيد- من هذه صفته من الناس لا أناس مخصوصون من عاد متصفون بذلك، والمراد باتباع الأمر ملازمته أو الرضا به على أتم وجه، ويؤول ذلك إلى الاتصاف أي إن كلّا منهم اتصف بصفة كل جبار عنيد، ولا يخفى ما فيه من التكلف الظاهر، وقد يدعى العموم من غير حاجة إلى ارتكاب مثله، والمراد على ما تقدم أنهم عصوا من دعاهم إلى سبيل الهدى وأطاعوا من حداهم إلى مهاوي الردى وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً أي إبعادا عن الرحمة وعن كل خير أي جعلت اللعنة لازمة لهم، وعبر عن ذلك بالتبعية للمبالغة فكأنها لا تفارقهم وإن ذهبوا كل مذهب بل تدور معهم حسبما داروا، أو لوقوعه في صحبة اتباعهم، وقيل: الكلام على التمثيل بجعل اللعنة كشخص تبع آخر ليدفعه في هوة قدامه، وضمير الجمع لعاد مطلقا كما هو الظاهر. وجوز أن يكون للمتبعين للجبارين منهم، وما حال قوم قدامهم الجبارون أهل النار وخلفهم اللعنة، والبوار، ويعلم من لعنة هؤلاء لعنة غيرهم المتبوعين على ما قيل بالطريق الأولى وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أي واتبعوا يوم القيامة أيضا لعنة وهي عذاب النار المخلد حذف ذلك لدلالة الأول عليه وللإيذان بأن كلا من العنين نوع برأسه لم يجتمعا في قرن واحد بأن يقال: وأتبعوا في هذه الدنيا ويوم القيامة لعنة، ونظير هذا قوله تعالى: وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ [الأعراف: 156] وعبر- بيوم القيامة- بدل الآخرة هنا للتهويل الذي يقتضيه المقام. أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أي بربهم أو كفروا نعمته ولم يشكروها بالإيمان أو جحدوه أَلا بُعْداً لِعادٍ دعاء عليهم بالهلاك مع أنهم هالكون أيّ هلاك تسجيلا عليهم باستحقاق ذلك والاستئهال له، ويقال في الدعاء بالبقاء واستحقاقه: لا يبعد فلان، وهو في كلام العرب كثير، ومنه قوله: لا يبعدن قومي الذين هم ... سم العداة وآفة الجزر وجوز أن يكون دعاء باللعن كما في القاموس: البعد والبعاد اللعن، واللام للبيان كما في قولهم: سقيا لك، وقيل: للاستحقاق وليس بذاك، وتكرير حرف التنبيه وإعادة عاد للمبالغة في تفظيع حالهم والحث على الاعتبار بقصتهم، وقوله سبحانه: قَوْمِ هُودٍ عطف بيان على «عاد» وفائدته الإشارة إلى أن عادا كانوا فريقين: عادا الأولى وعادا الثانية، وهي عاد إرم في قول، وذكر الزمخشري في الفجر أن عقب عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح قيل لهم: عاد كما يقال لبني هاشم: هاشم، ثم قيل للأولين منهم عاد الأولى وإرم تسمية لهم باسم جدهم، ولمن بعدهم عاد الأخيرة، وأنشد لابن الرقيات: مجدا تليدا بناه أوله ... أدرك عادا وقبلها إرما ولعله الأوفق للنقل مع الإيماء إلى أن استحقاقهم للبعد بسبب ما جرى بينهم وبين هود عليه السلام وهم قومه، وليس ذلك لدفع اللبس إذ لا لبس في أن عادا هذه ليست إلا قوم هود عليه السلام للتصريح باسمه وتكريره في القصة، وقيل: ذكر ليفيد مزيد تأكيد بالتنصيص عليهم مع ما في ذلك من تناسب فواصل الآي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 285 وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ الكلام فيه كالكلام في نظيره السابق آنفا، وجمهور القراء على منع صرف ثَمُودَ ذهابا إلى القبيلة، وقرأ ابن وثاب والأعمش بالصرف على إرادة الحي هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ أي ابتدأ خلقكم منها فإنها المادة الأولى وآدم الذي هو أصل البشر خلق منها، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي أنشأ أباكم، وقيل: مِنْ بمعنى في، وليس بشيء، والمراد الحصر كما يفهمه كلام بعض الأجلة كأن القوم لعدم أدائهم حقه سبحانه قد اعتقدوا أن الفاعل لذلك غيره تعالى، أو هو مع غيره فخوطبوا على وجه قصر القلب أو قصر الأفراد بذلك، واحتمال أنهم كانوا يعتقدون أحد الأمرين حقيقة لا تنزيلا يستدعي القول بأنهم كانوا طبيعية أو ثنوية وإلا فالوثنية- وإن عبدوا معه سبحانه غيره- لا يعتقدون خالقية غيره لهم بوجه من الوجوه، وأخذ الحصر على ما قيل: من تقديم الفاعل المعنوي، وقيل: إنه مستفاد من السياق لأنه لما حصر الإلهية فيه تعالى اقتضى حصر الخالقية أيضا فبيان ما خلقوا منه بعد بيان أنه الخالق لا غيره يقتضي هذا فتدبر، والظاهر أن من يقول بالحصر هنا يقول به في قوله سبحانه: وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها لمكان العطف وكونه معطوفا بعد اعتبار التقديم فلا ينسحب على ما بعده مما لا فائدة في التزامه أي وهو الذي جعلكم عمارها وسكانها فالاستفعال بمعنى الافعال يقال: أعمرته الأرض واستعمرته إذا جعلته عامرها وفوضت إليه عمارتها، وإلى هذا ذهب الراغب وكثير من المفسرين، وقال زيد بن أسلم: المعنى أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه من بناء مساكن وحفر أنهار وغرس أشجار وغير ذلك، فالسين للطلب، وإلى هذا ذهب الكيا، واستدل بالآية على أن عمارة الأرض واجبة لهذا الطلب. وقسمها في الكشاف إلى واجب كعمارة القناطر اللازمة والمسجد الجامع. ومندوب كعمارة المساجد. ومباح كعمارة المنازل وحرام كعمارة الخانات، وما يبنى للمباهاة أو من مال حرام كأبنية كثير من الظلمة، واعترض على الكيا بأنه لم يكن هناك طلب حقيقة ولكن نزل جعلهم محتاجين لذلك- وإقدارهم عليه وإلهامهم كيف يعمرون- منزلة الطلب، وقال الضحاك: المعنى عمركم فيها واستبقاكم وكان أحدهم يعمر طويلا حتى أن منهم من يعمر ألف سنة، والمشهور أن الفعل من العمر وهو مدة الحياة بالتشديد ومن العمارة نقيض الخراب بالتخفيف ففي أخذ ذلك من العمر تجوز. وعن مجاهد أن استعمر من العمرى بضم فسكون مقصور، وهي- كما قال الراغب- في العطية أن تجعل له شيئا مدة عمرك أو عمره، والمعنى أعمركم فيها ورباكم أي أعطاكم ذلك ما دمتم أحياء ثم هو سبحانه وارثها منكم، أو المعنى جعلكم معمرين دياركم فيها لأن الرجل إذا ورث داره من بعده فكأنما أعمره إياها لأنه يسكنها عمره ثم يتركها لغيره فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ تفريع على ما تقدم فإن ما ذكر من صنوف إحسانه سبحانه داع إلى الاستغفار والتوبة، وقوله: إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ أي قريب الرحمة لقوله سبحانه: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56] والقرآن يفسر بعضه بعضا مُجِيبٌ لمن دعاه وسأله زيادة في بيان ما يوجب ذلك والأول علة باعثة، وهذا علة غائية وما ألطف التقديم والتأخير، وصرح بعضهم أن قَرِيبٌ ناظر- لتوبوا- ومُجِيبٌ- لاستغفروا- كأنه، قيل: ارجعوا إلى الله تعالى فإنه سبحانه قَرِيبٌ منكم أقرب من حبل الوريد واسألوه المغفرة فإنه جلا وعلا مُجِيبٌ السائلين ولا يخلو عن حسن قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا أي فيما بيننا مَرْجُوًّا فاضلا خيرا نقدمك على جميعنا على ما روي عن ابن عباس. وقال ابن عطية مشورا نأمل منك أن تكون سيدا سادا مسد الأكابر، وقال كعب: كانوا يرجونه للملك بعد ملكهم لأنه كان ذا حسب وثروة. وقال مقاتل: كانوا يرجون رجوعه إلى دينهم إذ كان يبغض أصنامهم ويعدل عن دينهم قَبْلَ هذا أي الذي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 286 باشرته من الدعوة إلى التوحيد وترك عبادة الآلهة فلما سمعنا منك ما سمعناه انقطع عنك رجاؤنا، وقيل: كانوا يرجون دخوله في دينهم بعد دعواه إلى الحق ثم انقطع رجاؤهم- فقبل هذا- قبل هذا الوقت لا قبل الذي باشره من الدعوة، وحكى النقاش عن بعضهم أن مَرْجُوًّا بمعنى حقيرا وكأنه فسره أولا بمؤخرا غير معتنى به ولا مهتم بشأنه، ثم أراد منه ذلك وإلا- فمرجوا- بمعنى حقير لم يأت في كلام العرب، وجاء قولهم: أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا على جهة التوعد والاستبشاع لتلك المقالة منه والتعبير- بيعبد- لحكاية الحال الماضية، وقرأ طلحة «مرجؤا» بالمد والهمز وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ من التوحيد وترك عبادة الآلهة وغير ذلك من الاستغفار والتوبة مُرِيبٍ اسم فاعل من أرابه المتعدي بنفسه إذا أوقعه في الريبة وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة باليقين، أو من أراب الرجل اللازم إذا كان ذا ريبة، والإسناد على الوجهين مجازي إلا أن بينهما- كما قال بعض المحققين- فرقا، وهو أن الأول منقول من الأعيان إلى المعنى. والثاني منقول من صاحب الشك إلى الشك كما تقول: شعر شاعر، فعلى الأول هو من باب الإسناد إلى السبب لأن وجود الشك سبب لتشكيك المشكك ولولاه لما قدر على التشكيك، والتنوين في مُرِيبٍ وفي شَكٍّ للتفخيم، وَإِنَّنا بثلاث نونات، ويقال: إنا بنونين وهما لغتان لقريش. قال الفراء: من قال: إننا أخرج الحرف على أصله لأن كناية المتكلمين- نا- فاجتمعت ثلاث نونات، ومن قال: إنا استثقل اجتماعها فأسقط الثالثة وأبقى الأوليين. واختار أبو حيان أن المحذوف النون الثانية لا الثالثة لأن في حذفها إجحافا بالكلمة إذ لا يبقى منها إلا حرف واحد ساكن دون حذف الثانية لظهور بقاء حرفين بعده على أنه قد عهد حذف النون الثانية من إن مع غير ضمير المتكلمين ولم يعهد حذف نون- نا- ولا ريب في أن ارتكاب المعهود أولى من ارتكاب غير المعهود قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ حجة ظاهرة وبرهان وبصيرة مِنْ رَبِّي مالكي ومتولي أموري وَآتانِي مِنْهُ من قبله سبحانه رَحْمَةً نبوة، وهذا من الكلام المنصف، والاستدراج إذ لا يتصور منه عليه السلام شك فيما في حيز إن، وأصل وضعها أنها لشك المتكلم فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ أي فمن يمنعني من عذابه، ففي الكلام مضاف مقدر والنصرة مستعملة في لازم معناها أو أنّ الفعل مضمن معنى المنع، ولذا تعدى- بمن- والعدول إلى الإظهار لزيادة التهويل والفاء لترتيب إنكار النصر على ما سبق من كونه على بينة وإيتاء الرحمة على تقدير العصيان حسبما يعرب عنه قوله: إِنْ عَصَيْتُهُ أي في المساهلة في تبليغ الرسالة والمنع عن الشرك به تعالى والمجاراة معكم فيما تشتهون فإن العصيان ممن ذلك شأنه أبعد والمؤاخذة عليه ألزم وإنكار نصرته أدخل فَما تَزِيدُونَنِي إذن باستتباعكم إياي أي لا تفيدونني إذ لم يكن فيه أصل الخسران حتى يزيدوه غَيْرَ تَخْسِيرٍ أي غير أن تجعلوني خاسرا بإبطال أعمالي وتعريضي لسخط الله تعالى، أو فَما تَزِيدُونَنِي بما تقولون غير أن أنسبكم إلى الخسران، وأقول لكم: إنكم لخاسرون لا أن أتبعكم. وروي هذا عن الحسن بن الفضل، فالفاعل على الأول هم والمفعول صالح، وعلى الثاني بالعكس والتفعيل كثيرا ما يكون للنسبة كفسقته وفجرته، والزيادة على معناها والفاء لترتيب عدم الزيادة على انتفاء الناصر المفهوم من إنكاره على تقدير العصيان مع تحقق ما ينفيه من كونه عليه السلام على بينة من ربه وإيتائه النبوة. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المعنى فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ مضارة في خسرانكم، فالكلام على حذف مضاف، وعن مجاهد ما تزدادون أنتم باحتجاجكم بعبادة آبائكم إلا خسارا، وأضاف الزيادة إلى نفسه لأنهم أعطوه ذلك وكان قد سألهم الإيمان، قال ابن عطية: المعنى فما تعطوني فيما أقتضيه منكم من الإيمان غَيْرَ تَخْسِيرٍ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 287 لأنفسكم، وأضاف الزيادة إلى نفسه من حيث إنه مقتض لأقوالهم موكل بإيمانهم كما تقول لمن توصيه: أنا أريد بك خيرا وأنت تريد بي سوءا وكان الوجه البين أن تقول: وأنت تريد شرا لكن من حيث كنت مريد خير ومقتضى ذلك حسن أن تضيف الزيادة إلى نفسك، وقيل: المعنى فما تزيدونني غير تخسيري إياكم حيث إنكم كلما ازددتم تكذيبا إياي ازدادت خسارتكم، وهي أقوال كما ترى وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ الإضافة للتشريف والتنبيه على أنها مفارقة لسائر ما يجانسها خلقا، وخلقا لَكُمْ آيَةً معجزة دالة على صدقي في دعوى النبوة، وهي حال من ناقَةُ اللَّهِ، والعامل ما في اسم الإشارة من معنى الفعل. وقيل: معنى التنبيه، والظاهر أنها حال مؤسسة، وجوز فيها أن تكون مؤكدة كهذا أبوك عطوفا لدلالة الإضافة على أنها آية، ولَكُمْ كما في البحر وغيره حال منها فقدمت عليها لتنكيرها ولو تأخرت لكانت صفة لها، واعترض بأن مجيء الحال من الحال لم يقل به أحد من النحاة لأن الحال تبين هيئة الفاعل أو المفعول وليست الحال شيئا منهما، وأجيب بأنها في معنى المفعول للإشارة لأنها متحدة مع المشار إليه الذي هو مفعول في المعنى ولا يخفى ما فيه من التكلف، وقيل: الأولى أن يقال: إن هذه الحال صفة في المعنى لكن لم يعربوها صفة لأمر تواضع النحويون عليه من منع تقدم ما يسمونه تابعا على المتبوع فحديث- إن الحال تبين الهيئة- مخصوص بغير هذه الحال، واعترض بأن هذا ونحوه لا يحسم مادة الاعتراض لأن المعترض نفى قول أحد من النحاة بمجيء الحال من الحال، وبما ذكر لا يثبت القول وهو ظاهر، نعم قد يقال: إن اقتصار أبي حيان والزمخشري- وهما من تعلم في العربية- على هذا النحو من الاعراب كاف في الغرض على أتم وجه، وأراد الزمخشري بالتعلق في كلامه التعلق المعنوي لا النحوي فلا تناقض فيه على أنه بحث لا يضر. وقيل: لَكُمْ حال من ناقَةُ وآيَةً حال من الضمير فيه فهي متداخلة، ومعنى كون الناقة للمخاطبين أنها نافعة لهم ومختصة بهم هي ومنافعها فلا يرد أنه لا اختصاص لذات الناقة بهم، وإنما المختص كونها آية لهم، وقيل: لَكُمْ حال من الضمير في آيَةً لأنها بمعنى المشتق، والأظهر كون لَكُمْ بيان من هي آيَةً له، وجوز كون ناقَةُ بدلا أو عطف بيان من اسم الإشارة، ولَكُمْ خبره، وآيَةً حال من الضمير المستتر فيه فَذَرُوها دعوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ فليس عليكم مؤنتها والفعل مجزوم لوقوعه في جواب الطلب، وقرىء بالرفع على الاستئناف أو على الحال- كما في البحر- والمتبادر من الأكل معناه الحقيقي لكن قيل في الآية اكتفاء أي تأكل وتشرب، وجوز أن يكون مجازا عن التغذي مطلقا والمقام قرينة لذلك. وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ أي بشيء منه فضلا عن العقر والقتل، والنهي هنا على حدّ النهي في قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ [الأنعام: 152] إلخ فَيَأْخُذَكُمْ لذلك عَذابٌ قَرِيبٌ عاجل لا يستأخر عن مسكم إياها بسوء إلا يسيرا وذلك ثلاثة أيام ثم يقع عليكم، وقيل: أراد من وصفه بالقرب كونه في الدنيا، وإلى الأول ذهب غير واحد من المفسرين وكان الإخبار عن وحي من الله تعالى فَعَقَرُوها أي فخالفوا ما أمروا به فعقروها، والعقر قيل: قطع عضو يؤثر في النفس. وقال الراغب: يقال: عقرت البعير إذا نحرته ويجيء بمعنى الجرح أيضا- كما في القاموس- وأسند العقر إليهم مع أن الفاعل واحد منهم وهو قدار- كهمام- في قول، ويقال له: أحمر ثمود، وبه يضرب المثل في الشؤم لرضاهم بفعله، وقد جاء أنهم اقتسموا لحمها جميعا فَقالَ لهم صالح عليه السلام تَمَتَّعُوا عيشوا فِي دارِكُمْ أي بلدكم، وتسمى البلاد الديار لأنها يدار فيها أي يتصرف يقال: ديار بكر لبلادهم، وتقول العرب الذين حوالي مكة: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 288 نحن من عرب الدار يريدون من عرب البلد، وإلى هذا ذهب الزمخشري، وقال ابن عطية: هو جمع دارة كساحة وساح وسوح، ومنه قول أمية بن أبي الصلت يمدح عبد الله بن جدعان: له داع بمكة مشمعل ... وآخر فوق «دارته» ينادي ويمكن أن يسمى جميع مسكن الحي دارا وتطلق الدار على الدنيا أيضا، وبذلك فسرها بعضهم هنا، وفسر الطبرسي التمتع بالتلذذ أي تلذذوا بما تريدون ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ثم يأخذكم العذاب، قيل: إنهم لما عقروا الناقة صعد فصيلها الجبل ورغا ثلاث رغوات فقال صالح عليه السلام: لكل رغوة أجل يوم، وابتداء الأيام على ما في بعض الروايات الأربعاء، وروي أنه عليه السلام قال لهم: تصبح وجوهكم غدا مصفرة. وبعد غد محمرة واليوم الثالث مسودة ثم يصبحكم العذاب فكان كما قال: ذلِكَ إشارة إلى ما يدل عليه الأمر بالتمتع ثلاثة أيام من نزول العذاب عقيبها وما فيه من معنى البعد للتفخيم وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ أي غير مكذوب فيه فحذف الجار وصار المجرور مفعولا على التوسع لأن الضمير لا يجوز نصبه على الظرفية والجار لا يعمل بعد حذفه، ويسمون هذا الحذف والإيصال، وهو كثير في كلامهم ويكون في الاسم- كمشترك- وفي الفعل كقوله: ويوم شهدناه سليما وعامرا ... قليل سوى طعن النهال نوافله أو غَيْرُ مَكْذُوبٍ على المجاز كأن الواعد قال له: أفي بك فإن وفى به صدقه وإلا كذبه فهناك استعارة مكنية تخييلية، وقيل: مجاز مرسل بجعل مَكْذُوبٍ بمعنى باطل ومتخلف، أو وعد غير كذب على أن مكذوب مصدر على وزن مفعول كمجلود ومعقول بمعنى عقل وجلد فإنه سمع منهم ذلك لكنه نادر، ولا يخفى ما في تسمية ذلك وعدا من المبالغة في التهكم فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا أي عذابنا أو أمرنا بنزوله، وفيه ما لا يخفى من التهويل نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ متعلق بنجينا أو بآمنوا بِرَحْمَةٍ مِنَّا أي بسببها أو ملتبسين بها، وفي التنوين والوصف نوعان من التعظيم وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ أي نجيناهم من خزي يومئذ وهو الهلاك بالصيحة وهذا كقوله تعالى: وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ على معنى إنا نجيناهم، وكانت تلك التنجية من خزي يومئذ، وجوز أن يراد ونجيناهم من ذل وفضيحة يوم القيامة أي من عذابه، فهذه الآية كآية هود سواء بسواء. وتعقب أبو حيان هذا بأنه ليس بجيد إذ لم تتقدم جملة ذكر فيها يوم القيامة ليكون التنوين عوضا عن ذلك، والمذكور إنما هو جاء أمرنا فليقدر يوم إذ جاء أمرنا وهو جيد، والدفع بأن القرينة قد تكون غير لفظية كما هنا فيه نظر، وقيل: القرينة قوله سبحانه فيما مر: «عذاب يوم غليظ» وفيه ما فيه، وقيل: الواو زائدة فيتعلق مِنْ- بنجينا- المذكور، وهذا لا يجوز عند البصريين لأن الواو لا تزاد عندهم فيوجبون هنا التعلق بمحذوف وهو معطوف على ما تقدم، وقرأ طلحة وأبان «ومن خزي» بالتنوين ونصب «يومئذ» على الظرفية معمولا لخزي، وعن نافع والكسائي أنهما قرآ بالإضافة وفتح- يوم- لأنه مضاف إلى إذ وهو غير متمكن، وهذا كما فتح حين في قول النابغة: على «حين» عاتبت المشيب على الصبا ... فقلت: ألما أصح والشيب وازع إِنَّ رَبَّكَ خطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ أي القادر على كل شيء والغالب عليه في كل وقت ويندرج في ذلك الإنجاء والإهلاك في ذلك اليوم وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قوم صالح، وعدل عن الضمير إلى الظاهر تسجيلا عليهم بالظلم وإشعارا بعليته لنزول العذاب بهم الصَّيْحَةُ أي صيحة جبريل أو صيحة من السماء فيها كل صاعقة وصوت مفزغ، وهي على ما في البحر فعلة للمرة الواحدة من الصياح، يقال: صاح يصيح إذا صوت بقوة، وأصل ذلك- كما قال الراغب- تشقيق الصوت من قولهم: إنصاح الخشب. أو الثوب إذا انشق فسمع منه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 289 صوت، وصيح الثوب كذلك، وقد يعبر بالصيحة عن الفزع، وفي فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ [الأعراف: 78، 91] قيل: ولعلها وقعت عقيب الصيحة المستتبعة لتموج الهواء، وقد تقدم الكلام منا في ذلك فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ أي منازلهم ومساكنهم، وقيل: بلادهم جاثِمِينَ هامدين موتى لا يتحركون، وقد مر تمام الكلام في ذلك معنى وإعرابا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا أي كأنهم لم يقيموا فِيها أي في ديارهم، والجملة قيل: في موضع الحال أي أصبحوا جاثِمِينَ مماثلين لمن لم يوجد ولم يقم في مقام قط أَلا إِنَّ ثَمُودَ وضع موضع المضمر لزيادة البيان، ومنعه من الصرف حفص وحمزة نظرا إلى القبيلة، وصرفه أكثر السبعة نظرا إلى الحي كما قدمنا آنفا، وقيل: نظرا إلى الأب الأكبر يعني يكون المراد به الأب الأول وهو مصروف وحينئذ يقدر مضاف كنسل وأولاد ونحوه، وقيل: المراد أنه صرف نظرا لأول وضعه وإن كان المراد به هنا القبيلة كَفَرُوا رَبَّهُمْ صرح بكفرهم مع كونه معلوما مما سبق من أحوالهم تقبيحا لحالهم وتعليلا لاستحقاقهم الدعاء عليهم بالبعد والهلاك في قوله سبحانه: أَلا بُعْداً لِثَمُودَ، وقرأ الكسائي لا غير بالتنوين، وقد تقدم الكلام في شرح قصتهم على أتم وجه وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ وهم الملائكة روي عن ابن عباس أنهم كانوا اثني عشر ملكا. وقال السدي: أحد عشر على صورة الغلمان في غاية الحسن والبهجة، وحكى صاحب الفينان أنهم عشرة منهم جبريل، وقال الضحاك: تسعة، وقال محمد بن كعب: ثمانية، وحكى الماوردي أنهم أربعة ولم يسمهم. وجاء في رواية عن عثمان بن محيصن أنهم جبريل وإسرافيل وميكائيل ورفائيل عليهم السلام، وفي رواية عن ابن عباس وابن جبير أنهم ثلاثة الأولون فقط، وقال مقاتل: جبرائيل وميكائيل وملك الموت عليهم السلام، واختار بعضهم الاقتصار على القول بأنهم ثلاثة لأن ذلك أقل ما يدل عليه الجمع وليس هناك ما يعول عليه في الزائد وإنما أسند إليهم المجيء دون الإرسال لأنهم لم يكونوا مرسلين إليه عليه السلام بل إلى قوم لوط لقوله تعالى: إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ [هود: 70] وإنما جاؤوه لداعية البشرى، قيل: ولما كان المقصود في السورة الكريمة ذكر صنيع الأمم السالفة مع الرسل المرسلة إليهم ولحوق العذاب بهم ولم يكن جميع قوم إبراهيم عليه السلام من لحق بهم العذاب بل إنما لحق بقوم لوط منهم خاصة غير الأسلوب المطرد فيما سبق من قوله تعالى: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً [هود: 50] وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً [هود: 61] ثم رجع إليه حيث قيل: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً [هود: 84] والباء في قوله تعالى: بِالْبُشْرى للملابسة أي ملتبسين بالبشرى، والمراد بها قيل: مطلق البشارة المنتظمة بالبشارة بالولد من سارة لقوله تعالى: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ [هود: 71] الآية، وقوله سبحانه: فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ [الصافات: 101] إلى غير ذلك، وللبشارة بعدم لحوق الضرر به لقوله تعالى: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى [هود: 74] لظهور تفرع المجادلة على مجيئها، وكانت البشارة الأولى على ما قيل: من ميكائيل والثانية من إسرافيل عليهما السلام، وقيل: المراد بها البشارة بهلاك قوم لوط عليه السلام فإن هلاك الظلمة من أجل ما يبشر به المؤمن. واعترض بأنه يأباه مجادلته عليه السلام في شأنهم، واستظهر الزمخشري أنها البشارة بالولد وهي المرادة بالبشرى فيما سيأتي، وسر تفرع المجادلة عليها سيذكر إن شاء الله تعالى، وعلل في الكشف استظهار ذلك بقوله: لأنه الأنسب بالإطلاق، ولقوله سبحانه في الذاريات: وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الذاريات: 28] ثم قال بعده: فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ [الذاريات: 31] ثم قال: وقوله تعالى: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ إلخ، وإن كان يحتمل أن ثمة بشارتين فيحمل في كل موضع على واحدة لكنه خلاف الظاهر انتهى، ولما كان الاخبار بمجيء الرسل عليهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 290 السلام مظنة لسؤال السامع بأنهم ما قالوا: أجيب بأنهم قالُوا سَلاماً أي سلمنا أو نسلم عليك سلاما فهو منصوب بفعل محذوف، والجملة مقول القول قال ابن عطية: ويصح أن يكون مفعول قالُوا على أنه حكاية لمعنى ما قالوا لا حكاية للفظهم. وروي ذلك عن مجاهد والسدي، ولذلك عمل فيه القول، وهذا كما تقول لرجل قال: لا إله إلا الله قلت حقا وإخلاصا. وقيل: إن النصب- بقالوا- لما فيه من معنى الذكر كأنه قيل: ذكروا سلاما قالَ سَلامٌ أي عليكم سلام أو سلام عليكم، والابتداء بنكرة مثله سائغ كما قرر في النحو، وقد حياهم عليه السلام بأحسن من تحيتهم لأنها بجملة اسمية دالة على الدوام والثبات فهي أبلغ، وأصل معنى السلام السلامة مما يضر. وقرأ حمزة والكسائي «سلم» في الثاني بدون ألف مع كسر السين وسكون اللام وهو على ما قيل: لغة في سَلامٌ كحرم، وحرام، ومنه قوله: مررنا فقلنا: إيه «سلم» فسلمت ... كما اكتل بالبرق الغمام اللوائح وقال ابن عطية: ويحتمل أن يراد بالسلم ضد الحرب، ووجه بأنهم لما امتنعوا من تناول طعامه وخاف منهم قاله أي أنا مسالم لا محارب لأنهم كانوا لا يأكلون طعام من بينهم وبينه حرب، واعترض بأنه يدل على أن قوله هذا بعد تقديم الطعام. وقوله سبحانه: فَما لَبِثَ إلخ صريح في خلافه، وذكر في الكشاف أن حمزة والكسائي قرآ بكسر السين وسكون اللام في الموضعين وهو مخالف للمنقول في كتب القراءات، وقرأ ابن أبي عبلة- قال سلاما- بالنصب كالأول، وعنه أنه قرأ بالرفع فيهما فَما لَبِثَ أي فما أبطأ إبراهيم عليه السلام أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ أي في مجيئه به أو عن مجيئه به فَما نافية، وضمير لَبِثَ لإبراهيم. وأَنْ جاءَ بتقدير حرف جر متعلق بالفعل وحذف الجار قبل أن وأن مطرد، وحكى ابن العربي أن أَنْ بمعنى حتى، وقيل: أَنْ وما بعدها فاعل لَبِثَ أي فما تأخر مجيئه، وروي ذلك عن الفراء، واختاره أبو حيان. وقيل: ما مصدرية والمصدر مبتدأ أو هي اسم موصول بمعنى الذي كذلك، وأَنْ جاءَ على حذف مضاف أي قدر وهو الخبر أي فلبثه أو الذي لبثه قدر مجيئه وليس بشيء والعجل ولد البقرة، ويسمى الحسيل والخبش (1) بلغة أهل السراة والباء فيه للتعدية أو الملابسة، والحنيذ السمين الذي يقطر ودكه من حنذت الفرس إذا عرقته بالجلال كأن ودكه كالجلال عليه، أو كأن ما يسيل منه عرق الدابة المجللة للعرق، واقتصر السدي على السمين في تفسيره لقوله تعالى: بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات: 26] ، وقيل: هو المشوي بالرضف في أخدود، وجاء ذلك في رواية عن ابن عباس ومجاهد وقتادة، وفي رواية عن مجاهد تفسيره بالمطبوخ. وإنما جاء عليه السلام بالعجل لأن ما له كان البقر وهو أطيب ما فيها، وكان من دأبه عليه السلام إكرام الضيف، ولذا عجل القرى، وذلك من أدب الضيافة لما فيه من الاعتناء بشأن الضيف، وفي مجيئه بالعجل كله مع أنهم بحسب الظاهر يكفيهم بعضه دليل على أنه من الأدب أن يحضر للضيف أكثر مما يأكل، واختلف في هذا العجل هل كان مهيأة قبل مجيئهم أو أنه هيىء بعد أن جاؤوا؟ قولان اختار أبو حيان أولهما لدلالة السرعة بالإتيان به على ذلك، ويختار الفقير ثانيهما لأنه أزيد في العناية وأبلغ في الإكرام، وليست السرعة نصا في الأول كما لا يخفى.   (1) قوله: والخبش كذا في خطه على احتمال أنه الحبش، ولم نظفر بأيهما اسم ولد البقرة حرره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 291 فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ كناية عن أنهم لا يمدون إليه أيديهم ويلزمه أنهم لا يأكلون، وقيل: لا كناية بناء على ما روي أنهم كانوا ينكتون اللحم بقداح في أيديهم وليس بشيء، وفي القلب من صحة هذه الرواية شيء إذ هذا النكت أشبه شيء بالبعث، والملائكة عليهم السلام يجلون عن مثله ورَأى قيل: علمية فجملة لا تَصِلُ مفعول ثان، والظاهر أنها بصرية، والجملة في موضع الحال ففيه دليل على أن من أدب الضيافة النظر إلى الضيف هل يأكل أولا لكن ذكروا أنه ينبغي أن يكون بتلفت ومسارقة لا بتحديد النظر لأن ذلك مما يجعل الضيف مقصرا في الأكل أي لما شاهد منهم ذلك نَكِرَهُمْ أي نفرهم وَأَوْجَسَ أي استشعر وأدرك، وقيل: أضمر مِنْهُمْ أي من جهتهم خِيفَةً أي خوفا، وأصلها الحالة التي عليها الإنسان من الخوف، ولعل اختيارها بالذكر للمبالغة حيث تفرس لذلك مع جهالته لهم من قبل وعدم معرفته من أي الناس يكونون كما ينبىء عنه ما في الذاريات من قوله سبحانه حكاية عنه: قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ [الذاريات: 25] أنهم ملائكة، وظن أنهم أرسلوا لعذاب قومه أو لأمر أنكره الله تعالى عليه قالُوا حين رأوا أثر ذلك عليه عليه السلام، أو أعلمهم الله تعالى به، أو بعد أن قال لهم ما في [الحجر: 52] إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ فإن الظاهر منه أن هناك قولا بالفعل لا بالقوة كما هو احتمال فيه على ما ستراه إن شاء الله تعالى، وجوز أن يكون ذلك لعلمهم أن علمه عليه السلام أنهم ملائكة يوجب الخوف لأنهم لا ينزلون إلا بعذاب، وقيل: إن الله تعالى جعل للملائكة مطلقا ما لم يجعل لغيرهم من الاطلاع كما قال تعالى: يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ [الانفطار: 12] وفي الصحيح «قالت الملائكة رب عبدك هذا يريد أن يعمل سيئة» الحديث، وهو قول بأن الملائكة يعلمون الأمور القلبية. وفي الأخبار الصحيحة ما هو صريح بخلافه، والآية والخبر المذكوران لا يصلحان دليلا لهذا المطلب، وإسناد القول إليهم ظاهر في أن الجميع قالوا: لا تَخَفْ ويحتمل أن القائل بعضهم، وكثيرا ما يسند فعل البعض إلى الكل في أمثال ذلك، وظاهر قوله سبحانه: إِنَّا أُرْسِلْنا أنه استئناف في معنى التعليل للنهي المذكور كما أن قوله سبحانه: إِنَّا نُبَشِّرُكَ [الحجر: 53، مريم: 7] استئناف كذلك فإن إرسالهم إلى قوم آخرين يوجب أمنه من الخوف أي أُرْسِلْنا بالعذاب إِلى قَوْمِ لُوطٍ خاصة، ويعلم مما ذكرنا أنه عليه السلام أحس بأنهم ملائكة، وإليه ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقد يستدل له بقولهم: لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا فإنه كما لا يخفى على من له أدنى ذوق إنما يقال لمن عرفهم ولم يعرف فيهم أرسلوا فخاف، وأن الإنكار المدلول عليه بنكرهم غير المدلول عليه بما في الذاريات فلا إشكال في كون الإنكار هناك قبل إحضار الطعام وهنا بعده، وأصل الإنكار ضد العرفان، ونكرت وأنكرت واستنكرت بمعنى، وقيل: إن أنكر فيما لا يرى من المعاني ونكر فيما يرى بالبصر، ومن ذلك قول الشاعر: وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا فإنه أراد في الأول على ما قيل: أنكرت مودتي، وقال الراغب: إن أصل ذلك أن يرد على القلب ما لا يتصوره وذلك ضرب من الجهل وبه فسر ما في الآية، وفرق بعضهم بين ما هنا وبين ما وقع في الذاريات بأن الأول راجع إلى حالهم حين قدم إليهم العجل. والثاني متعلق بأنفسهم ولا تعلق له برؤية عدم أكلهم بل وقع عند رؤيته عليه السلام لهم لعدم كونهم من جنس ما يعده من الناس، ويحتاج هذا إلى اعتبار حذف المضاف أو ملاحظة الحيثية، واعترض ما قدمناه بأن فيه ارتكاب مجاز، ولعل الأمر فيه سهل. وذهب بعضهم إلى أنه عليه السلام لم يعرف أنهم ملائكة حتى قالوا له: لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا وكأن سبب خوفه منهم أنهم لم يتحرموا بطعامه فظن أنهم يريدون به سوءا إذ كانت العادة إذ ذاك كذلك، وكان عليه السلام نازلا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 292 في طرف من الأرض منفردا عن قومه، وهي رواية عن ابن عباس أخرجها إسحاق بن بشر وابن عساكر من طريق جويبر عن الضحاك عنه، وقيل: كان سبب خوفه أنهم دخلوا بغير إذن وبغير وقت. وقال العلامة الطيبي: الحق أن الخوف إنما صدر عن مجموع كونهم منكرين وكونهم ممتنعين من الطعام كما يعلم من الآيات الواردة في هذه القصة ولأنه لو عرفهم بأنهم ملائكة لم يحضر بين أيديهم الطعام ولم يحرضهم على الأول وإنما عدلوا إلى قولهم: إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ ليكون جامعا للمعاني بحيث يفهم منه المقصود أيضا انتهى. وفيه إشارة إلى الردّ على الزمخشري، وقد اختلف كلامه في تعليل الخوف فعلله تارة بعرفانه أنهم ملائكة وأخرى بأنهم لم يتحرموا طعامه، ولعله أراد بذلك العرفان العرفان بعد إحضار الطعام، وما ذكره الطيبي من أنه لو عرفهم بأنهم ملائكة لم يحضر إلخ غير قادح إذ يجوز أن يخافهم بعد الإحضار أولا لعدم التحرم ثم بعد تفرس أنهم ملائكة خافهم لأنهم ملائكة أرسلوا للعذاب، والزمخشري حكى أحد الخوفين في موضع والآخر في آخر. قال بعض المحققين والتعليل بأنهم ملائكة هو الوجه لينتظم قوله سبحانه: لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الحجر: 53] مع ما قبله إذ لو كان الوجل لكونهم على غير زي من عرف ونحوه لم يحسن التعليل بقوله تعالى: إِنَّا نُبَشِّرُكَ فإنه إنما هو تعليل للنهي عن الوجل من أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب كأنهم قالوا: لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ وإِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ فجاء على اختصارات القرآن بذكر أحد التعليلين في أحد الموضعين والآخر في الآخر، ولا شك أن في الحجر اختصارا لطي حديث الرواع، والتعجيل بالعجل الحنيذ وعدم تحرمهم بطعامه لما أن المقصود من سوق القصة هنالك الترغيب والترهيب للاعتبار بحال إبراهيم عليه السلام وما لقي من البشرى والكرامة، وحال قوم لوط عليه السلام وما منوا به من السوأى والملامة، ألا ترى إلى قوله سبحانه: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الحجر: 49] إلى قوله جل وعلا: عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ [الحجر: 51] فاقتصر على ما يفيد ذلك الغرض، وأما في هذه السورة فجيء بها للإرشاد الذي بنى عليه السورة الكريمة مع إدماج التسلية ورد ما رموه به عليه الصلاة والسلام من الافتراء، وفي كل من أجزاء القصة ما يسد من هذه الأغراض فسرد على وجهها، وفي سورة الذاريات للأخيرين فقط فجيء بما يفيد ذلك فلا عليك إن رأيت اختصارا أن تنقل إليه من المبسوط ما يتم به الكلام بعد أن تعرف نكتة الاختصار، وهذا من خواص كتاب الله تعالى الكريم انتهى ولا يخلو عن حسن، وفيه ذهاب إلى كون جملة إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ استئنافا في موضع التعليل كما هو الظاهر. وقال شيخ الإسلام عليه الرحمة: الظاهر ما ذكر إلا أنه ليس كذلك فإن قوله تعالى: قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ [الحجر: 58] صريح في أنهم قالوه جوابا عن سؤاله عليه السلام وقد أوجز الكلام اكتفاء بذلك انتهى. وتعقب بأنه قد يقال: إن ذلك لا يقدح في الحمل على الظاهر لجواز أن يكونوا قالوا ذلك على معنى التعليل للنهي عن الخوف، ولكنه وإن أريد منه الإرسال بالعذاب لقوم لوط عليه السلام مجمل لم يؤت به على وجه يظهر منه ما نوع هذا العذاب هل هو استئصال أم لا؟ فسأل عليه السلام لتحقيق ذلك فكأنه قال: أيها المرسلون إلى قوم لوط ما هذا الأمر العظيم الذي أرسلتم به؟ فأجابوه بما يتضمن بيان ذلك مع الإشارة إلى علة نزول ذلك الأمر بهم وهو قولهم: إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: 58، 59] الآية فإن انفهام عذاب الاستئصال لقوم لوط عليه السلام من ذلك ظاهر، وكذا الإشارة إلى العلة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 293 والحاصل أن السؤال في تلك الآية عن الخطب وهو في الأصل الأمر العظيم الذي يكثر فيه التخاطب ويراد من السؤال عنه تحقيق أمر لم يعلمه عليه السلام من كلامهم قيل إما لأنه لم يعلم ذلك منه أو لأنه كان مشغولا عن كمال التوجه ليعلم عليه السلام منه ذلك، وفي خطابه عليه السلام لهم عليهم السلام بعنوان الرسالة ما يؤيد تقدم قولهم: إِنَّا أُرْسِلْنا على هذا السؤال لكنه أسقط هناك تعويلا على ما هنا ولا بدع في الإسقاط من المتأخر تعويلا على المتقدم، وتأخر الحجر والذاريات عن هود تلاوة مما لا كلام فيه، وتأخرهما نزولا مما رواه ابن ضريس في فضائل القرآن عن محمد بن عبد الله بن أبي جعفر الرازي عن عمر بن هارون عن عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه عن ابن عباس، وذكر أنها كلها نزلت بمكة وأن بين هود والحجر سورة واحدة، وبين الحجر والذاريات ثلاثة عشرة سورة فليتأمل في هذا المقام، ويفهم من كلام بعضهم أنه عليه السلام لم يتحقق كونهم ملائكة إلا بعد أن مسح جبريل عليه السلام العجل بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمه فحينئذ عرفهم وأمن منهم، ولم يتحقق صحة الخبر عندي، والذي أميل إليه أنه عليه السلام عرفهم قبل ذلك وأن خوفه منهم لكونهم ملائكة لم يدر لأي شيء نزلوا، ويبعد عند من عرف حال إبراهيم عليه السلام والقول بأنه خاف بشرا وبلغ منه الخوف حتى قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ [الحجر: 52] لا سيما إذا قلنا: إن من خافهم كانوا ثلاثة وأنه عليه السلام لم يكن في طرف من الأرض بل كان بين أصحابه، أو كان هناك لكن بين خدمه وغلمانه وَامْرَأَتُهُ سارة بنت هاران بن ناحور وهي بنت عمه قائِمَةٌ في الخدمة كما أخرجه ابن أبي حاتم عن مجاهد وكانت نساؤهم لا تحتجب لا سيما العجائز منهم، وكانت رضي الله تعالى عنها عجوزا، وقال وهب: كانت قائمة وراء الستر تسمع محاورتهم، وأخذ منه بعضهم أن تستر النساء كان لازما، والظاهر أنه لم يكن كذلك لتأخر آية الحجاب، ويجوز أن يقال: إن القيام وراء الستر كان اتفاقيا، وعن ابن إسحاق أنها كانت قائمة تصلي، وقال المبرد: كانت قائمة عن الولد وهو خلاف المشهور في الاستعمال، وأخرج ابن المنذر عن المغيرة قال في مصحف ابن مسعود: وامرأته قائمة وهو جالس، وفي الكشاف بدل وهو جالس وهو قاعد، وعن ابن عطية بدل وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ وهي قائمة ففيه الإضمار من غير تقدم ذكر، وكأن ذلك إن صح للتعويل على انفهام المرجع من سياق الكلام، والجملة إما في موضع الحال من ضمير قالُوا وإما مستأنفة للأخبار فَضَحِكَتْ من الضحك المعروف، والمراد به حقيقته عند الكثير، وكان ذلك عند بعضهم سرورا بزوال الخوف عن إبراهيم عليه السلام، والنساء لا يملكن أنفسهن كالرجال إذا غلب عليهن الفرح، وقيل: كان سرورا بهلاك أهل الفساد، وقيل: بمجموع الأمرين، وقال ابن الأنباري: إن ضحكها كان سرورا بصدق ظنها لأنها كانت تقول لإبراهيم: اضمم إليك لوطا فإني أرى العذاب سينزل بقومه وكان لوط ابن أخيه وقيل: ابن خالته وقيل: كان أخا سارة وقد مر آنفا أنها بنت عم إبراهيم عليه السلام، وعن ابن عباس أنها ضحكت من شدة خوف إبراهيم وهو في أهله وغلمانه، والذين جاؤوه ثلاثة وهي تعهده يغلب الأربعين، وقيل: المائة، وقال قتادة: كان ذلك من غفلة قوم لوط وقرب العذاب منهم، وقال السدي: ضحكت من إمساك الأضياف عن الأكل وقالت: عجبا لأضيافنا نخدمهم بأنفسنا وهم لا يأكلون طعامنا، وقال وهب بن منبه: وروي أيضا عن ابن عباس أنها ضحكت من البشارة بإسحاق، وفي الكلام على ذلك تقديم وتأخير، فَضَحِكَتْ من المعجز الذي تقدم نقله عن جبريل عليه السلام، ولعل الأظهر ما ذكرناه أولا عن البعض، وذهب بعضهم إلى أن المراد بالضحك التبسم ويستعمل في السرور المجرد نحو مسفرة ضاحكة، ومنه قوله: روضة تضحك، وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ وغيرهما عن ابن عباس أن فَضَحِكَتْ بمعنى حاضت، وروي ذلك عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ومجاهد وعكرمة، وقولهم: ضحكت الأرنب بهذا المعنى أيضا، وأنكر أبو عبيدة وأبو عبيد والفراء مجيء ضحك بمعنى حاض، وأثبت ذلك جمهور اللغويين، وأنشدوا له قوله: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 294 «وضحك» الأرانب فوق الصفا ... كمثل دم الجوف يوم اللقا وقوله: وعهدي بسلمى «ضاحكا» في لبابة ... ولم يعد حقا ثديها أن تحلما وقوله: إني لآتي العرس عند ظهورها ... وأهجرها يوما إذا تك «ضاحكا» والمثبت مقدم على النافي ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، نعم قال ابن المنير: إنه يبعد الحمل على ذلك هنا قولها: أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ إلخ فإنه لو كان الحيض قبل البشارة لما تعجبت إذ لا عجب في حمل من تحيض، والحيض في العادة معيار على إمكان الحمل، ودفع بأن الحيض في غير أوانه مؤكد للتعجب أيضا، ولأنه يجوز أن تظن أن دمها ليس بحيض بل استحاضة فلذا تعجبت، وقرأ محمد بن زياد الأعرابي من قراء مكة «فضحكت» بفتح الحاء، وزعم المهدوي أنه غير معروف وأن «ضحك» بالكسر هو المعروف، ومصدره ضحكا وضحكا بسكون الحاء وفتح الضاد وكسرها، وضحكا وضحكا بكسر الحاء مع فتح الضاد وكسرها، والظاهر أن هذه مصادر ضحك بأي معنى كان ويفهم من مجمع البيان أن مصدر- ضحك- بمعنى حاضت إنما هو ضحكا بفتح الضاد وسكون الحاء، ولم نر هذا التخصيص في غيره، وعن بعضهم أن فتح الحاء في الماضي مخصوص بضحك بمعنى حاض، وعليه فالقراءة المذكورة تؤيد تفسير ضحكت على قراءة الجمهور بحاضت. فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ قيل: أي عقبنا سرورها بسرور أتم منه على ألسنة رسلنا وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ بالنصب، وهي قراءة ابن عامر وحمزة وحفص وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما على أنه منصوب بتقدير فعل يفسره ما يدل عليه الكلام أي ووهبنا لها من وراء إسحاق يعقوب، ورجع ذلك أبو علي، واعترض البعض بأنه حينئذ لا يكون ما ذكر داخلا تحت البشارة، ودفع بأن ذكر هذه الهبة قبل وجود الموهوب بشارة معنى، وقيل: هو معطوف على محل بِإِسْحاقَ لأنه في محل نصب، واعترض أنه إنما يتأتى العطف على المحل إذا جاز ظهور المحل في فصيح الكلام كقوله: ولسنا بالجبال ولا الحديدا وبشر لا تسقط باؤه من المبشر به في الفصيح، وزعم بعضهم أن العطف على بِإِسْحاقَ على توهم نصبه لأنه في معنى وهبنا لها إسحاق فيكون كقوله: «مشائيم» ليسوا مصلحين عشيرة ... ولا ناعب إلا يبين غرابها إلا أنه توهم في هذا وجود الباء في المعطوف عليه على عكس ما في الآية الكريمة، ويقال لمثل هذا: عطف التوهم، ولا يخفى ما في هذه التسمية هنا من البشاعة على أن هذا العطف شاذ لا ينبغي التخريج عليه مع وجود غيره، وبهذا اعترض على الزمخشري من حمل كلامه حيث قال: وقرىء بالنصب كأنه قيل: وهبنا لها إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب على طريقة قوله: مشائيم. البيت عليه لما أنه الظاهر منه، وقال في الكشف أراد أنه عطف معنوي ومثله شائع مستفيض في العطف والإضمار على شريطة التفسير وغيرهما، وإنما شبهه بقوله: ولا ناعب تنبيها على أن ذلك مع بعده لما كان واقعا فهذا أجدر، والغرض من التشبيه أن غير الموجود في اللفظ جعل بمنزلته وأعمل، ولا يخفى أنه خلاف المتبادر من عبارته، وقيل: إنه معطوف على لفظ إِسْحاقَ وفتحته للجر لأنه غير مصروف للعلمية الجزء: 6 ¦ الصفحة: 295 والعجمة، وعلى هذا دخوله في البشارة ظاهر إلا أنه قيل عليه: إنه يلزمه الفصل بين نائب الجار ومجروره وهو أبعد منه بين الجار ومجروره، وفي البحر أن من ذهب إلى أنه معطوف على ما ذكر فقوله ضعيف لأنه لا يجوز الفصل بالظرف أو المجرور بين حرف العطف ومعطوفه المجرور، فلا يجوز مررت بزيد اليوم وأمس عمرو فإن جاء ففي شعر، فإن كان المعطوف منصوبا أو مرفوعا ففي جواز ذلك خلاف نحو قام زيد واليوم عمرو وضربت زيدا واليوم عمرا، وقرأ الحرميان والنحويان وأبو بكر ويَعْقُوبَ بالرفع على الابتداء، وَمِنْ وَراءِ الخبر كأنه قيل: ومن وراء إسحاق يعقوب كائن أو موجود أو مولود- قال النحاس: والجملة حال داخلة في البشارة أي فبشرناها بإسحاق متصلا به يعقوب. وأجاز أبو علي أن يرتفع بالجار والمجرور كما أجازه الأخفش، وقيل: إنه جائز على مذهب الجمهور أيضا لاعتماده على ذي الحال، وتعقب بأنه وهم لأن الجار والمجرور إذا كان حالا لا يجوز اقترانه بالواو فليتدبر. وجوز النحاس أيضا أن يكون فاعلا بإضمار فعل تقديره ويحدث من وراء إسحاق يعقوب. قال ابن عطية: وعلى هذا لا يدخل في البشارة، وقد مر ما يعلم منه الجواب، ووَراءِ هنا بمعنى خلف وبذلك فسرها الراغب، وغيره هنا، وهو رواية عن ابن عباس، وفي رواية أخرى عنه تفسيرها بولد الولد وهو أحد معانيها كما في الصحاح والقاموس، وبذلك قال الشعبي، واختاره أبو عبيدة، واستشكل بأن يَعْقُوبَ ولد إسحاق عليه السلام لصلبه لا ولد ولده، ولدفع ذلك قال الزمخشري فيما نقل عنه: إن وجه هذا التفسير أن يراد بيعقوب أولاده كما يقال: هاشم ويراد أولاده فكأنه قيل: من ولد ولد إسحاق أولاد يعقوب، ويتضمن ذلك البشارة بيعقوب من طريق الأولى، وقيل: وجه ذلك أنه سمي ولد إسحاق وَراءِ بالنسبة إليها أي وراؤها من إسحاق كأنهم بشروها بأن تعيش حتى ترى ولد ولدها، أو بأن يولد لولدها ولد، قيل: وهذا أقرب، والمنقول عن الزمخشري أظهر، والمعول عليه تفسيره بمعنى خلف إذ في كلا الوجهين تكلف لا يخفى، والاسمان يحتمل وقوعهما في البشارة كما في قوله تعالى: نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى [مريم: 7] وهو الأظهر. وروي عن السدي: ويحتمل أنها بشرت بولد وولد ولد من غير تسمية ثم سميا بعد الولادة، وتوجيه البشارة إليها مع أن الأصل في ذلك إبراهيم عليه السلام، وقد وجهت إليه في آيتي الحجر والذاريات للإيذان بأن ما بشر به يكون منهما ولكونها عقيمة حريصة على الولد وكانت قد تمنته حينما ولد لهاجر إسماعيل عليه السلام قالَتْ استئناف بياني كأن سائلا سأل ما فعلت حين بشرت؟ فقيل قالت: يا وَيْلَتى من الويل وأصله الخزي، ويستعمل في كل أمر فظيع، والمراد هنا التعجب وقد كثرت هذه الكلمة على أفواه النساء إذا طرأ عليهن ما يتعجبن منه، والظاهر أن الألف بدل من ياء المتكلم، ولذا أمالها أبو عمرو وعاصم في رواية، وبهذا يلغز فيقال: ما ألف هي ضمير مفرد متكلم. وقرأ الحسن «يا ويلتي» بالياء على الأصل، وقيل: إنها ألف الندبة ولذا يلحقونها الهاء فيقولون: يا ويلتاه أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ ابنة تسعين سنة على ما روي عن ابن إسحاق، أو تسع وتسعين على ما روي عن مجاهد. وَهذا الذي تشاهدونه بَعْلِي أي زوجي، وأصل البعل القائم بالأمر فأطلق على الزوج لأنه يقوم بأمر الزوجة، وقال الراغب: هو الذكر من الزوجين وجمعه بعولة نحو فحل وفحولة، ولما تصوروا من الرجل استعلاء على المرأة فجعل سائسها والقائم عليها وسمى به شبه كل مستعل على غيره به فسمي باسمه، ومن هنا سمى العرب معبودهم الذي يتقربون به إلى الله تعالى بعلا لاعتقادهم ذلك فيه شَيْخاً ابن مائة سنة. أو مائة وعشرين، وهو من شاخ يشيخ، وقد يقال: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 296 للأنثى شيخة كما قال: وتضحك مني «شيخة» عبشمية ويجمع على أشياخ وشيوخ وشيخان ونصبه على الحال عند البصريين، والعامل فيه ما في هذا من معنى الإشارة أو التنبيه. قال الزجاج: «ومثل هذه الحال من لطيف النحو وغامضه إذ لا تجوز إلا حيث يعرف الخبر ففي قولك: هذا زيد قائما لا يقال إلا لمن يعرفه فيفيده قيامه ولو لم يكن كذلك لزم أن لا يكون زيدا عند عدم القيام وليس بصحيح فهنا بعليته معروفة، والمقصود بيان شيوخته وإلا لزم أن لا يكون بعلها قبل الشيخوخة قاله الطيبي، ونظر فيه بأنه إنما يتوجه إذا لم تكن الحال لازمة غير منفكة أما في نحو هذا أبوك عطوفا فلا يلزم المحذور، والحال هاهنا مبينة هيئة الفاعل أو المفعول لأن العامل فيها ما أشير إليه وبذلك التأويل يتحد عامل الحال وذوها، وذهب الكوفيون إلى أن هذا يعمل عمل كان وشَيْخاً خبره وسموه تقريبا» . وقرأ ابن مسعود- وهو في مصحفه- والأعمش- شيخ- بالرفع على أنه خبر محذوف أي هو شيخ، أو خبر بعد خبر، وفي البحر إن الكلام على هذا كقولهم: هذا حلو حامض، أو هو الخبر، وبَعْلِي بدل من اسم الإشارة. أو بيان له، وجوز أن يكون بَعْلِي الخبر، وشيخ- تابعا له، وكلتا الجملتين وقعت حالا من الضمير في أَأَلِدُ لتقرير ما فيه من الاستبعاد وتعليله أي ألد وكلانا على حالة منافية لذلك، وإنما قدمت بيان حالها على بيان حاله عليه السلام لأن مباينة حالها لما ذكر من الولادة أكثر إذ ربما يولد للشيوخ من الشواب أما العجائز داؤهن عقام، ولأن البشارة متوجهة إليها صريحا ولأن العكس في البيان ربما يوهم من أول الأمر نسبة المانع عن الولادة إلى جانب إبراهيم عليه السلام وفيه ما لا يخفى من المحذور، واقتصارها في الاستبعاد على ولادتها من غير تعرض لحال النافلة لأنها المستبعدة وأما ولادة ولدها فلا يتعلق بها استبعاد قاله شيخ الإسلام إِنَّ هذا أي ما ذكر من حصول الولد من هرمين مثلنا، وقيل: هو إشارة إلى الولادة أو البشارة بها، والتذكير لأن المصدر في تأويل إِنَّ مع الفعل ولعل المآل أن هذا الفعل لَشَيْءٌ عَجِيبٌ أي من سنة الله تعالى المسلوكة في عباده، والجملة تعليل بطريق الاستئناف التحقيقي ومقصدها كما قيل: استعظام نعمة الله تعالى عليها في ضمن الاستعجاب العادي لا استبعاد ذلك من حيث القدرة قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أي قدرته وحكمته. أو تكوينه وشأنه سبحانه أنكروا عليها تعجبها لأنها كانت ناشئة في بيت النبوة ومهبط الوحي ومحل الخوارق فكان حقها أن تتوقر ولا يزدهيا ما يزدهي سائر النساء من أمثال هذه الخوارق من ألطاف الله سبحانه الخفية ولطائف صنعه الفائضة على كل أحد ممن يتعلق بإفاضته عليه مشيئته تعالى الأزلية لا سيما أهل بيت النبوّة الذين هم هم وأن تسبح الله تعالى وتمجده وتحمده، وإلى ذلك أشاروا بقوله تعالى: رَحْمَةِ اللَّهِ المستتبعة كل خير ووضع المظهر موضع المضمر لزيادة تشريفها والإيماء إلى عظمتها وَبَرَكاتُهُ أي خيراته التامة المتكاثرة التي من جملتها هبة الأولاد، وقيل: الرحمة النبوة. والبركات الأسباط من بني إسرائيل لأن الأنبياء عليهم السلام منهم وكلهم من ولد إبراهيم عليه السلام وقيل: رحمته تحيته. وبركاته فواضل خيره بالخلة والإمامة. عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ نصب على المدح. أو الاختصاص كما ذهب إليه كثير من المعربين، قال أبو حيان: وبينهما فرق ولذلك جعلهما سيبويه في بابين وهو أن المنصوب على المدح لفظ يتضمن بوضعه المدح كما أن المنصوب على الذم يتضمن بوضعه الذم والمنصوب على الاختصاص يقصد به المدح. أو الذم لكن لفظه لا يتضمن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 297 بوضعه ذلك كقول رؤبة: بنا تميما يكشف الضباب. انتهى، وفي الهمع أن النصب في الاختصاص بفعل واجب الإضمار وقدره سيبويه- بأعني- ويختص بأي الواقعة بعد ضمير المتكلم كأنا أفعل كذا أيها الرجل. وكاللهم اغفر لنا أيتها العصابة، وحكمها في هذا الباب- إلا عند السيرافي والأخفش- حكمها في باب النداء ويقوم مقامها في الأكثر كما- قال سيبويه- بنو نحو قوله: نحن بني ضبة أصحاب الجمل. ومنه قوله: نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق ومعشر كقوله: لنا معشر الأنصار مجد مؤثل ... بإرضائنا خير البرية أحمدا وفي الحديث «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» وآل وأهل، وأبو عمرو لا ينصب غيرهما وليس بشيء، وقلّ كون ذلك علما كما في بيت رؤبة السابق في كلام أبي حيان، ولا يكون اسم إشارة ولا غيره ولا نكرة البتة، ولا يجوز تقديم اسم الاختصاص على الضمير، وقلّ وقوع الاختصاص بعد ضمير المخاطب كسبحانك الله العظيم، وبعد لفظ غائب في تأويل المتكلم أو المخاطب نحو على المضارب الوضيعة أيها البائع، فالمضارب لفظ غيبة لأنه ظاهر لكنه في معنى على أو عليك ومنع ذلك الصفار البتة لأن الاختصاص شبه النداء فكما لا ينادى الغائب فكذلك لا يكون فيه الاختصاص انتهى مع أدنى زيادة وتغيير، ومنه يعلم بعض ما في كلام أبي حيان وأن حمل ما في الآية الكريمة على الاختصاص من ارتكاب ما قل في كلامهم، وجوز في الكشاف نصبه على النداء، وقدمه على احتمال النصب على الاختصاص، ولعله أشار بذلك إلى ترجيحه على الاحتمال الثاني لكن ذكر بعض الأفاضل ان في ذلك فوات معنى المدح المناسب للمقام، والمراد من البيت- كما في البحر- بيت السكنى، وأصله مأوى الإنسان بالليل، ثم قد يقال من غير اعتبار الليل فيه، ويقع على المتخذ من حجر ومن مدر ومن صوف ووبر وعبر عن مكان الشيء بأنه بيته ويجمع على بيوت وأبيات، وجمع الجمع أبابيت وبيوتات وأبياوات، ويصغر على بييت وبييت بالكسر، ويقال: بويت كما تقوله العامة، وصرف الخطاب من صيغة الواحدة إلى الجمع ليكون جوابهم عليهم السلام لها جوابا لمن يخطر بباله مثل ما خطر ببالها من سائر أهل البيت. والجملة كلام مستأنف علل به إنكار تعجبها فيه جملة خبرية، واختاره جمع من المحققين، وقيل: هي دعائية وليس بذاك، واستدل بالآية على دخول الزوجة في أهل البيت، وهو الذي ذهب إليه السنيون، ويؤيده ما في سورة الأحزاب، وخالف في ذلك الشيعة فقالوا: لا تدخل إلا إذا كانت قريب الزوج، ومن نسبه فإن المراد من البيت بيت النسب لا بيت الطين والخشب، ودخول سارة رضي الله تعالى عنها هنا لأنها بنت عمه، وكأنهم حملوا البيت على الشرف كما هو أحد معانيه، وبه فسر في قول العباس رضي الله تعالى عنه يمدح النبي صلّى الله عليه وسلّم: حتى احتوى «بيتك» المهيمن من ... خندف علياء تحتها النطف ثم خصوا الشرف بالشرف النسبي وإلا فالبيت بمعنى النسب مما لم يشع عند اللغويين، ولعل الذي دعاهم لذلك بغضهم لعائشة رضي الله تعالى عنها فراموا إخراجها من حكم يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب: 33] ، وسيأتي إن شاء الله تعالى تفصيل الكلام في هذا المقام، واستدل بالآية على كراهة الزيادة في التحية على السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وروي ذلك عن غير واحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم. أخرج البيهقي في الشعب عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رجلا قال له: سلام عليك ورحمة الله وبركاته الجزء: 6 ¦ الصفحة: 298 ومغفرته فانتهره ابن عمر وقال: حسبك ما قال الله تعالى، وأخرج عن ابن عباس أن سائلا قام على الباب وهو عند ميمونة فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته وصلواته ومغفرته، فقال: انتهوا بالتحية إلى ما قال الله سبحانه، وفي رواية عن عطاء قال: كنت جالسا عند ابن عباس فجاء سائل فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته ورضوانه فقال: ما هذا السلام؟! وغضب حتى احمرت وجنتاه إن الله تعالى حد للسلام حدا ثم انتهى ونهى عما وراء ذلك ثم قرأ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ قال أبو الهيثم: أي تحمد أفعاله، وفي الكشاف أي فاعل ما يستوجب به الحمد من عباده ففعيل بمعنى مفعول، وجوز الراغب أن يكون حَمِيدٌ هنا بمعنى حامد ولعل الأول أولى مَجِيدٌ أي كثير الخير والإحسان، وقال ابن الأعرابي: هو الرفيع يقال: مجد كنصر وكرم مجدا ومجادة أي كرم وشرف وأصله من مجدت الإبل إذا وقعت في مرعى كثير واسع، وقد أمجدها الراعي إذا أوقعها في ذلك، وقال الأصمعي: يقال: أمجدت الدابة إذا أكثرت علفها، وقال الليث: أمجد فلان عطاءه ومجده إذا كثره، ومن ذلك قول أبي حية النميري: تزيد على صواحبها وليست ... «بماجدة» الطعام ولا الشراب أي ليست بكثيرة الطعام ولا الشراب، ومن أمثالهم في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار أي استكثر من ذلك، وقال الراغب: أي تحرى السعة في بذل الفضل المختص به، وقال ابن عطية: مجد الشيء إذا حسنت أوصافه، والجملة على ما في الكشف تذييل حسن لبيان أن مقتضى حالها أن تحمد مستوجب الحمد المحسن إليها بما أحسن وتمجده إذ شرفها بما شرف، وقيل: هي تعليل لما سبق من قوله سبحانه: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ أي الخوف والفزع، قال الشاعر: إذا أخذتها هزة «الروع» أمسكت ... بمنكب مقدام على الهول أروعا والفعل راع، ويتعدى بنفسه كما في قوله: «ما راعني» إلا حمولة أهلها ... وسط الديار تسف حب الخمخم والروع بضم الراء النفس وهي محل الروع، والفاء لربط بعض أحوال إبراهيم عليه السلام ببعض غب انفصالها بما ليس بأجنبي من كل وجه بل له مدخل في السياق والسباق، وتأخر الفاعل عن الظرف لكونه مصب الفائدة، والمعنى لما زال عنه ما كان أوجسه منهم من الخيفة واطمأنت نفسه بالوقوف على جلية أمرهم وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ أي يجادل رسلنا في حالهم وشأنهم، ففيه مجاز في الإسناد، وكانت مجادلته عليه السلام لهم ما قصه الله سبحانه في قوله سبحانه في سورة العنكبوت: وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ قالَ: إِنَّ فِيها لُوطاً [العنكبوت: 31، 32] فقوله عليه السلام: إِنَّ فِيها لُوطاً مجادلة وعدّ ذلك مجادلة لأن مآله على ما قيل: كيف تهلك قرية فيها من هو مؤمن غير مستحق للعذاب؟ ولذا أجابوه بقولهم نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ [العنكبوت: 33] وهذا القدر من القول هو المتيقن. وعن حذيفة أنهم لما قالوا له عليه السلام ما قالوا، قال: أرأيتم إن كان فيها خمسون من المسلمين أتهلكونها؟ قالوا: لا، قال: فثلاثون؟ قالوا: لا، قال: فعشرون، قالوا: لا، قال: فإن كان فيهم عشرة أو خمسة- شك الراوي.؟ قالوا: لا، قال: أرأيتم إن كان فيها رجل واحد من المسلمين أتهلكونها؟ قالوا: لا، فعند ذلك قال: إِنَّ فِيها لُوطاً فأجابوه بما أجابوه، وروي نحو ذلك عدة روايات الله تعالى أعلم بصحتها، وفسر بعضهم المجادلة بطلب الشفاعة، وقيل: هي سؤاله عن العذاب هل هو واقع بهم لا محالة أم على سبيل الإخافة ليرجعوا إلى الطاعة؟ وأيا ما كان- فيجادلنا- الجزء: 6 ¦ الصفحة: 299 جواب- لما- وكان الظاهر جادلنا إلا أنه عبر بالمضارع لحكاية الحال الماضية واستحضار صورتها، وقيل: إن- لما- كلو تقلب المضارع ماضيا كما أن- إن- تقلب الماضي مستقبلا، وقيل: الجواب محذوف، وهذه الجملة في موضع الحال من فاعله أي أخذ أو أقبل مجادلا لنا، وآثر هذا الوجه الزجاج ولكنه جعله مع حكاية الحال وجها واحدا لأنه قال: ولم يذكر في الكلام أخذ لأن الكلام إذا أريد به حكاية حال ماضية قدر فيه أخذ وأقبل لأنك إذا قلت: قام زيد دل على فعل ماض، وإذا قلت: أخذ زيد يقوم دل على حال ممتدة من أجلها ذكر أخذ وأقبل، وصنيع الزمخشري يدل على أنهما وجهان، وتحقيقه على ما في الكشف أنه إذا أريد استمرار الماضي فهو كما ذكره الزجاج، وإن أريد التصوير المجرد فلا، وقيل: الجواب محذوف. والجملة مستأنفة استئنافا نحويا أو بيانيا وهي دليل عليه، والتقدير اجترأ على خطابنا أو فطن بمجادلتنا وقال: كيت وكيت، واختاره في الكشاف، وقيل: إن هذه الجملة- وكذا الجملة التي قبلها- في موضع الحال من إِبْراهِيمَ على الترادف أو التداخل وجواب لما قلنا يقدر قبل يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا، وأقرب الأقوال أولها، والبشرى إن فسرت بقولهم: لا تَخَفْ فسببية ذهاب الخوف ومجيء السرور للمجادلة ظاهرة، وأما إن فسرت ببشارة الولد- كما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن قتادة واختاره جمع أو بما يعمها- فلعل سببيتها لها من حيث إنها تفيد زيادة اطمئنان قلبه عليه السلام بسلامته وسلامة أهله كافة كذا قاله مولانا شيخ الإسلام، ثم قال: إن قيل: إن المتبادر من هذا الكلام أن يكون إبراهيم عليه السلام قد علم أنهم مرسلون لإهلاك قوم لوط قبل ذهاب الروع عن نفسه ولكن لم يقدر على مجادلتهم في شأنهم لاشتغاله بشأن نفسه، فلما ذهب عنه الروع فرغ لها مع أن ذهاب الروع إنما هو قبل العلم بذلك لقوله سبحانه: قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ قلنا: كان لوط عليه السلام على شريعة إبراهيم عليه السلام وقومه مكلفين بها فلما رأى من الملائكة عليهم السلام ما رأى خاف على نفسه وعلى كافة أمته التي من جملتهم قوم لوط، ولا ريب في تقدم هذا الخوف على قولهم: لا تَخَفْ وأما الذي علمه عليه السلام بعد النهي فهو اختصاص قوم لوط بالهلاك لا دخول لهم تحت العموم فتأمل انتهى. وفيه أن كون الكل أمته في حيز المنع، وما أشار إليه من اتحاد الشريعتين إن أراد به الاتحاد في الأصول كاتحاد شريعة نبينا صلّى الله عليه وسلّم مع شريعة إبراهيم عليه السلام فمسلم لكن لا يلزم منه ذلك، وإن أراد به الاتحاد في الأصول والفروع فغير مسلم ولو سلم. ففي لزوم كون الكل أمته له تردد على أنه لو سلمنا كل ذلك فلقائل أن يقول: سلمنا أنه عليه السلام لما رأى من الملائكة عليهم السلام ما رأى حصل له خوف على نفسه وعلى كافة أمته التي من جملتهم قوم لوط عليه السلام لكن لا نسلم أن هذا الخوف كان عن علم بأن أولئك الملائكة كانوا مرسلين لإهلاك الكل المندرج فيه قوم لوط بل عن تردد وتحير في أمرهم، وحينئذ لا ينحل السؤال بهذا الجواب كما لا يخفى على المتبصر، وكأنه لذلك أمر بالتأمل وقد يقال: المفهوم من الكلام تحقق المجادلة بعد تحقق مجموع الأمرين ذهاب الروع ومجيء البشارة، وهو لا يستدعي إلا سبق العلم بأنهم مرسلون لإهلاك قوم لوط على تحقق المجموع، ويكفي في ذلك سبقه على تحقق البشارة، وهذا العلم مستفاد من قولهم له: لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ وكأنه عليه السلام إنما لم يجادل بعد هذا العلم، وأخر المجادلة إلى مجيء البشارة ليرى ما ينتهي إليه كلام الملائكة عليهم السلام، أو لأنه لم يقع فاصل سكوت في البين ليجادل فيه إلا أن هذا لا يتم إلا أن يكون الإخبار بالإرسال إلى قوم لوط سابقا على البشارة بالولد، وفيه تردد. وفي بعض الآيات ما هو ظاهر في سبق البشارة على الإخبار بذلك، نعم يمكن أن يلتزم سبق الاخبار على البشارة، ويقال: إنهم أخبروه أولا ثم بشروه ثانيا، ثم بعد أن تحقق مجموع الأمرين قال: فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 300 الْمُرْسَلُونَ [الحجر: 57، الذاريات: 31] ويقال: المراد منه السؤال عن حال العذاب هل هو واقع بهم لا محالة أم هو على سبيل الإخافة ليرجعوا إلى الإيمان؟ وتفسير المجادلة به كما مر عن بعض فتدبر ذاك والله سبحانه يتولى هداك إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ غير عجول على الانتقام إلى المسيء إليه أَوَّاهٌ كثير التأوه من الذنوب والتأسف على الناس مُنِيبٌ راجع إلى الله تعالى، والمقصود من وصفه عليه السلام بهذه الصفات المنبئة عن الشفقة ورقة القلب بيان ما حمله على ما صدر عنه من المجادلة، وحمل الحلم على عدم العجلة والتأني في الشيء مطلقا، وجعل المقصود من الوصف بتلك الصفات بيان ما حمله على المجادلة وإيقاعها بعد أن تحقق ذهاب الروع ومجيء البشرى لا يخفى حاله. يا إِبْراهِيمُ على تقدير القول ليرتبط بما قبل أي قالت الملائكة، أو قلنا يا إِبْراهِيمُ. أَعْرِضْ عَنْ هذا الجدال إِنَّهُ أي الشأن قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ أي قدره تعالى المقضي بعذابهم، وقد يفسر بالعذاب، ويراد بالمجيء المشارفة فلا يتكرر مع قوله سبحانه: وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ أي لا بجدال ولا بدعاء ولا بغيرهما إذ حاصل ذلك حينئذ شارفهم ثم وقع بهم، وقيل: لا حاجة إلى اعتبار المشارفة، والتكرار مدفوع بأن ذاك توطئة لذكر كونه غير مردود. وقرأ عمرو بن هرم- وإنهم أتاهم- بلفظ الماضي وعَذابٌ فاعل به، وعبر بالماضي لتحقيق الوقوع وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: انطلقوا من عند إبراهيم عليه السلام وبين القريتين أربعة فراسخ ودخلوا عليه في صورة غلمان مرد حسان الوجوه فلذلك سِيءَ بِهِمْ أي أحدث له عليه السلام مجيئهم المساءة لظنه أنهم أناس فخاف أن يقصدهم قومه ويعجز عن مدافعتهم، وقيل: كان بين القريتين ثمانية أميال فأتوها عشاء، وقيل نصف النهار ووجدوا لوطا في حرث له. وقيل: وجدوا بنتا له تستقي ماء من نهر سدوم وهي أكبر محل للقوم فسألوها الدلالة على من يضيفهم ورأت هيئاتهم فخافت عليهم من قوم أبيها فقالت لهم: مكانكم وذهبت إلى أبيها فأخبرته فخرج إليهم فقالوا: إنا نريد أن تضيفنا الليلة، فقال: أو ما سمعتم بعمل هؤلاء القوم؟ فقالوا: وما عملهم؟ فقال: أشهد بالله تعالى أنهم شر قوم في الأرض، وقد كان الله تعالى قال للملائكة لا تعذبوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات، فلما قال هذه قال جبريل عليه السلام: هذه واحدة وتكرر القول منهم حتى كرر لوط الشهادة فتمت الأربع ثم دخل المدينة فدخلوا معه منزله وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً أي طاقة وجهدا، وهو في الأصل مصدر ذرع البعير بيديه يذرع في مسيره إذا سار مادا خطوه مأخوذ من الذراع وهي العضو المعروف، ثم توسع فيه فوضع موضع الطاقة والجهد، وذلك أن اليد كما تجعل مجازا عن القوة فالذراع المعروفة كذلك، وفي الصحاح يقال: ضقت بالأمر ذرعا إذا لم تطقه ولم تقو عليه، وأصل الذرع بسط اليد فكأنك تريد مددت يدي إليه فلم تنله، وربما قالوا: ضقت به ذراعا، قال حميد بن ثور يصف ذئبا: وإن بات وحشا ليلة لم يضق بها ... «ذراعا» ولم يصبح لها وهو خاشع وفي الكشاف جعلت العرب ضيق الذراع والذرع عبارة عن فقد الطاقة كما قالوا: رحب الذراع بكذا إذا كان مطيقا له، والأصل فيه أن الرجل إذا طالت ذراعه نال ما لا يناله القصير الذراع فضرب ذلك مثلا في العجز والقدرة، ونصبه على أنه تمييز محول عن الفاعل أي ضاق بأمرهم وحالهم ذرعه، وجوز أن يكون الذرع كناية عن الصدر والقلب، وضيقه كناية عن شدة الانقباض للعجز عن مدافعة المكروه والاحتيال فيه، وهو على ما قيل: كناية متفرعة على كناية أخرى مشهورة وقيل: إنه مجاز لأن الحقيقة غير مرادة هنا، وأبعد بعضهم في تخريج هذا الكلام فخرجه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 301 على أن المراد أن بدنه ضاق قدر عن احتمال ما وقع وَقالَ هذا اليوم يَوْمٌ عَصِيبٌ أي شديد، وأصله من العصب بمعنى الشد كأنه لشدة شره عصب بعضه ببعض، وقال أبو عبيدة: سمي بذلك لأنه يعصب الناس بالشر، قال الراجز: يوم عصيب يعصب الأبطالا ... عصب القوى السلم الطوالا وفي معناه العصبصب والعصوصب وَجاءَهُ أي لوطا وهو في بيته مع أضيافه قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ قال أبو عبيدة: أي يستحثون إليه كأنه يحث بعضهم بعضا، أو يحثهم كبيرهم ويسوقهم، أو الطمع في الفاحشة، والعامة على قراءته مبنيا للمفعول، وقرأ جماعة «يهرعون» بفتح الياء مبنيا للفاعل من هرع، وأصله من الهرع وهو الدم الشديد السيلان كأن بعضه يدفع بعضا، وجاء أهرع القوم إذا أسرعوا، وفسر بعضهم الإسراع بالمشي بين الهرولة والجمز. وعن ابن عباس أنه سئل عما في الآية، فقال: المعنى يقبلون إليه بالغضب، ثم أنشد قول مهلهل: فجاؤوا يهرعون وهم أسارى ... نقودهم على رغم الأنوف وفي رواية أخرى عنه أنه فسر ذلك بيسرعون وهو بيان للمراد ويستقيم على القراءتين، وجملة يُهْرَعُونَ في موضع الحال من قومه أي جاؤوا مهرعين إليه، روي أنه لما جاء لوط بضيفه لم يعلم ذلك أحد إلا أهل بيته فخرجت امرأته حتى أتت مجالس قومها فقالت: إن لوطا قد أضاف الليلة فئة ما رئي مثلهم جمالا فحينئذ جاؤوا يهرعون إليه وَمِنْ قَبْلُ أي من قبل وقت مجيئهم، وقيل: «من قبل» بعث لوط رسولا إليهم كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قيل: المراد سيئة إتيان الذكور إلا أنها جمعت باعتبار تكررها أو باعتبار فاعليها. وقيل: المراد ما يعم ذلك، وإتيان النساء في محاشهن. والمكاء والصفير واللعب بالحمام والقمار والاستهزاء بالناس وغير ذلك، والمراد من ذكر عملهم السيئات من قبل بيان أنهم اعتادوا المنكر فلم يستحيوا فلذلك أسرعوا لطلب الفاحشة من ضيوفه مظهرين غير مكترثين، فالجملة معترضة لتأكيد ما قبلها. وقيل: إنها بيان لوجه ضيق صدره لما عرف من عادتهم، وجعلها شيخ الإسلام في موضع الحال كالتي قبلها أي جاؤوا مسرعين، والحال أنهم كانوا منهمكين في عمل السيئات. قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فتزوجوهن وكانوا يطلبونهن من قبل ولا يجيبهم لخبثهم وعدم كفاءتهم لا لعدم مشروعية تزويج المؤمنات من الكفار فإنه كان جائزا، وقد زوج النبي صلّى الله عليه وسلّم ابنته زينب لأبي العاص بن الربيع وابنته رقية لعتبة بن أبي لهب قبل الوحي- وكانا كافرين- إلا أن عتبة لم يدخل بها وفارقها بطلب أبيه حين نزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [المسد: 1] فتزوّجها عثمان رضي الله تعالى عنه، وأبا العاص كان قد دخل بها لكن لما أسر يوم بدر وفادى نفسه أخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم العهد عليه أن يردها إذا عاد فأرسل عليه الصلاة والسلام زيد بن حارثة ورجلا من الأنصار في طلبها فجاءا بها ثم إنه أسلم وأتى المدينة فردها عليه الصلاة والسلام إليه بنكاح جديد أو بدونه على الخلاف. وقال الحسن بن الفضل: إنه عليه السلام عرض بناته عليهم بشرط الإسلام، وإلى ذلك ذهب الزجاج، وهو مبني على أن تزويج المسلمات من الكفار لم يكن جائزا إذ ذاك، فقيل: كان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوجهما ابنتيه ولم يكن له عليه السلام سواهما، واسم إحداهما- على ما في بعض الآثار- زعوراء والأخرى زيتاء، وقيل: كان له عليه السلام ثلاث بنات، وأخرجه الحاكم وصححه عن ابن عباس، ويؤيده ظاهر الجمع وإن جاء إطلاقه على اثنين، وأيا ما كان فقد أراد عليه السلام بذلك وقاية ضيفه وهو غاية الكرم فلا يقال: كيف يليق به عليه السلام أن يعرض بناته على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 302 أعدائه ليزوجهن إياهم؟! نعم استشكل عرض بناته- بناء على أنهن اثنتان كما هو المشهور، أو ثلاث كما قيل- على أولئك المهرعين ليتزوجوهن مع القول بأنهم أكثر منهن إذ لا يسوغ القول بحل تزوج الجماعة بأقل منهم في زمان واحد، ومن هنا قال بعض أجلة المفسرين: إن ذلك القول لم يكن منه عليه السلام مجريا على الحقيقة من إرادة النكاح بل كان ذلك مبالغة في التواضع لهم وإظهارا لشدة امتعاضه مما أوردوا عليه طمعا في أن يستحيوا منه ويرقوا له إذا سمعوا ذلك فيتركوا ضيوفه مع ظهور الأمر واستقرار العلم عنده وعندهم أن لا مناكحة بينه وبينهم وهو الأنسب بجوابهم الآتي، وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس وابن أبي حاتم عن ابن جبير ومجاهد وابن أبي الدنيا وابن عساكر عن السدي أن المراد ببناته عليه السلام نساء أمته، والإشارة بهؤلاء لتنزيلهن منزلة الحاضر عنده وإضافتهن إليه لأن كل نبي أب لأمته، وفي قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه- النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم. وقرأ أبي رضي الله تعالى عنه مثل ذلك لكنه قدم وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الأحزاب: 6] على- وهو أب لهم- وأراد عليه السلام بقوله: هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ أنظف فعلا، أو أقل فحشا كقولك: الميتة أطيب من المغصوب وأحل منه، ويراد من الطهارة على الأول الطهارة الحسية وهي الطهارة عما في اللواطة من الأذى والخبث، وعلى الثاني الطهارة المعنوية وهو التنزه عن الفحش والإثم، وصيغة أفعل في ذلك مجاز، والظاهر- أن هؤلاء بناتي- مبتدأ وخبر، وكذلك هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ وجوز أبو البقاء كون بَناتِي بدلا أو عطف بيان وهُنَّ ضمير فصل، وأَطْهَرُ هو الخبر، وكون هُنَّ مبتدأ ثانيا، وأَطْهَرُ خبره، والجملة خبر هؤُلاءِ. وقرأ الحسن وزيد بن علي وعيسى الثقفي وسعيد بن جبير والسدي «أطهر» بالنصب، وقد خفي وجهه حتى قال عمرو بن العلاء: إن من قرأ «أطهر» بالنصب فقد تربع في لحنه وذلك لأن انتصابه على أن يجعل حالا عمل فيها ما في هؤُلاءِ من الإشارة أو التنبيه أو ينصب هؤُلاءِ بفعل مضمر كأنه قيل: خذوا هؤلاء وبَناتِي بدل، ويعمل هذا المضمر في الحال وهُنَّ في الصورتين فصل وهذا لا يجوز لأن الفصل إنما يكون بين المسند والمسند إليه، ولا يكون بين الحال وذيها كذا قيل، وهذا المنع هو المروي عن سيبويه وخالف في ذلك الأخفش فأجاز توسط الفصل بين الحال وصاحبها فيقول: جاء زيد هو ضاحكا، وجعل من ذلك هذه الآية على هذه القراءة، وقيل: بوقوعه شذوذا كما في قولهم: أكثر أكلي التفاحة هي نضيجة، ومن منع ذلك خرج هذا على إضمار كان، والآية الكريمة على أن هُنَّ مبتدأ ولَكُمْ الخبر، وأَطْهَرُ حال من الضمير في الخبر، واعترض بأن فيه تقديم الحال على عاملها الظرفي، والأكثرون على منعه أو على أن يكون هؤُلاءِ مبتدأ وبَناتِي هُنَّ جملة في موضع خبر المبتدأ كقولك: هذا أخي هو، ويكون أَطْهَرُ حالا وروي هذا عن المبرد وابن جني، أو على أن يكون هؤُلاءِ مبتدأ وبَناتِي بدلا منه أو عطف بيان وهُنَّ خبر وأَطْهَرُ على حاله. وتعقب بأنه ليس فيه معنى طائل، ودفع بأن المقصود بالإفادة الحال كما في قولك: هذا أبوك عطوفا وادعى في الكشف أن الأوجه أن يقدروا خذوا هؤلاء أطهر لكم، وقوله: بَناتِي هُنَّ جملة معترضة تعليلا للأمر وكونهن أولى قدمت للاهتمام كأنه قيل: خذوا هؤلاء العفائف أطهر لكم إن بناتي هن وأنتم تعلمون طهارتي وطهارة بناتي ويجوز أن يقال هُنَّ تأكيد للمستكن في بَناتِي لأنه وصف مشتق لا سيما على المذهب الكوفي فافهم ولا تغفل فَاتَّقُوا اللَّهَ بترك الفواحش أو بإيثارهن عليهم وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أي لا تفضحوني في شأنهم فإن إخزاء ضيف الرجل إخزاء له، أو لا تخجلوني فيهم، والمصدر على الأول الخزي وعلى الثاني الخزاية، وأصل معنى خزي لحقه انكسار إما من نفسه وهو الحياء المفرط، وإما من غيره وهو الاستخفاف والتفضيح، والضيف في الأصل مصدر، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 303 ولذا إذا وصف به المثنى أو المجموع لم يطابق على المشهور، وسمع فيه ضيوف، وأضياف، وضيفان، وَلا ناهية، والفعل مجزوم بحذف النون، والموجودة نون الوقاية، والياء محذوفة اكتفاء بالكسرة، وقرىء بإثباتها على الأصل أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يهتدي إلى الحق الصريح ويرعوي عن الباطل القبيح، وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس أنه قال: يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر، وهو إما بمعنى ذو رشد أو بمعنى مرشد كالحكيم بمعنى المحكم، والاستفهام للتعجب، وحمله على الحقيقة لا يناسب المقام. قالُوا معرضين عما نصحهم به من الأمر بالتقوى والنهي عن الإخزاء عن أول كلامه لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ أي حق وهو واحد الحقوق، وعنوا به قضاء الشهوة أي ما لنا حاجة في بناتك، وقد يفسر بما يخالف الباطل أي ما لنا في بناتك نكاح حق لأنك لا ترى جواز نكاحنا للمسلمات، وما هو إلا عرض سابري كذا قيل، وهو ظاهر في أنه كان من شريعته عليه السلام عدم حل نكاح الكافر المسلمة. وقيل: إنما نفوا أن يكون لهم حق في بناته لأنهم كانوا قد خطبوهن فردهم وكان من سنتهم أن من رد في خطبة امرأة لم تحل له أبدا، وقيل: إنهم لما اتخذوا إتيان الذكور مذهبا كان عندهم هو الحق وأن نكاح الإناث من الباطل فقالوا ما قالوا، وقيل: قالوا ذلك لأن عادتهم كانت أن لا يتزوج الرجل منهم إلا واحدة وكانوا كلهم متزوجين وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ أي من إتيان الذكور، والظاهر أن ما مفعول لتعلم، وهو بمعنى تعرف، وهي موصولة والعائد محذوف أي الذي نريده، وقيل: إنها مصدرية فلا حذف أي إرادتنا. وجوز أن تكون استفهامية وقعت مفعولا- لنريد- وهي حينئذ معلقة- لتعلم- ولما يئس عليه السلام من ارعوائهم عما هم عليه من الغي قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أي لو ثبت أن لي قوة ملتبسة بكم بالمقاومة على دفعكم بنفسي لفعلت- فلو- شرطية وجوابها محذوف كما حذف في قوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [الرعد: 31] وجوز أن تكون للتمني، وبِكُمْ حال من قُوَّةً كما هو المعروف في صفة النكرة إذا قدمت عليها، وضعف تعلقه بها لأن معمول المصدر لا يتقدم عليه في المشهور، وقوله: أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ عطف على ما قبله بناء على ما علمت من معناه الذي يقتضيه مذهب المبرد، والمضارع واقع موقع الماضي، واستظهر ذلك أبو حيان، وقال الحوفي: إنه عطف على ما تقدم باعتبار أن المراد أو أني آوي، وجوز ذلك أبو البقاء، وكذا جوز أن تكون الجملة مستأنفة، والركن- في الأصل الناحية من البيت أو الجبل، ويقال: ركن بضم الكاف، وقد قرىء به ويجمع على أركان، وأراد عليه السلام به القوي شبهه بركن الجبل في شدته ومنعته أي أو أنضم إلى قوي أتمنع به عنكم وأنتصر به عليكم، وقد عد رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذا القول منه عليه السلام بادرة واستغربه، فقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «رحم الله تعالى أخي لوطا كان يأوي إلى ركن شديد» يعني عليه الصلاة والسلام به الله تعالى فإنه لا ركن أشد منه عز وجل. إذا كان غير الله للمرء عدة ... أتته الرزايا من وجوه الفوائد وجاء أنه سبحانه- لهذه الكلمة- لم يبعث بعد لوط نبيا إلا في منعة من عشيرته، وفي البحر أنه يجوز- على رأي الكوفيين- أن تكون أَوْ بمعنى بل ويكون عليه السلام قد أضرب عن الجملة السابقة، وقال: بل آوي في حالي معكم إلى ركن شديد وكني به عن جناب الله تعالى ولا يخفى أنه يأبى الحمل على هذه الكناية تصريح الأخبار الصحيحة بما يخالفها، وقرأ شيبة وأبو جعفر «آوي» بالنصب على إضمار أن بعد أَوْ فيقدر بالمصدر عطفا على قُوَّةً ونظير ذلك قوله: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 304 ولولا رجال من رزام أعزة ... وآل سبيع أو أسوأك علقما أي لو أن لي بكم قوة أو أويا، روي أنه عليه السلام أغلق بابه دون أضيافه وأخذ يجادل قومه عنهم من وراء الباب فتسوروا الجدار فلما رأت الملائكة عليهم السلام ما على لوط من الكرب. قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بضرر ولا مكروه فافتح الباب ودعنا وإياهم، ففتح الباب فدخلوا فاستأذن جبريل عليه السلام رب العزة في عقوبتهم فأذن له فلما دنوا طمس أعينهم فانطلقوا عميا يركب بعضهم بعضا وهم يقولون: النجاء النجاء فإن في بيت لوط قوما سحرة، وفي رواية أنه عليه السلام أغلق الباب على ضيفه فجاؤوا فكسروا الباب فطمس جبريل أعينهم فقالوا: يا لوط جئتنا بسحرة وتوعدوه فأوجس في نفسه خيفة قال: يذهب هؤلاء ويذروني فعندها قال جبريل عليه السلام: «لا تخف إنا رسل ربك» فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بالقطع من الإسراء، وقرأ ابن كثير ونافع بالوصل حيث جاء في القرآن من السرى، وقد جاء سرى وهما بمعنى واحد عند أبي عبيدة والأزهري، وعن الليث أسرى سار أول الليل وسرى سار آخره ولا يقال في النهار: إلا سار وليس هو مقلوب سرى، والفاء لترتيب الأمر بالإسراء على الإخبار برسالتهم المؤذنة بورود الأمر والنهي من جنابه عز وجل إليه عليه السلام، والباء للتعدية أو للملابسة أي سر ملابسا بأهلك بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ قال ابن عباس: بطائفة منه، وقال قتادة: بعد مضي صدر منه، وقيل: نصفه، وفي رواية أخرى عن الحبر آخره وأنشد قول مالك بن كنانة: ونائحة تقوم بقطع ليل ... على رحل أهانته شعوب وليس من باب الاستدلال، وإلى هذا ذهب محمد بن زياد لقوله سبحانه: نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ [القمر: 34] وتعقبه ابن عطية بأنه يحتمل أنه أسرى بأهله من أول الليل حتى جاوزوا البلد المقتلع، ووقعت نجاتهم بسحر، وأصل القطع القطعة من الشيء لكن قال ابن الأنباري: إن ذلك يختص بالليل فلا يقال: عندي قطع من الثوب. وفسر بعضهم القطع من الليل بطائفة من ظلمته، وعن الحبر أيضا تفسيره بنفس السواد، ولعله من باب المساهلة وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أي لا يتخلف كما روي عن ابن عباس، أو لا ينظر إلى ورائه كما روي عن قتادة، قيل: وهذا هو المعنى المشهور الحقيق للالتفات، وأما الأول فلأنه يقال: لفته عن الأمر إذا صرفته عنه فالتفت أي انصرف، والتخلف انصراف عن المسير، قال تعالى: أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا [يونس: 78] أي تصرفنا كذا قال الراغب. وفي الأساس أنه معنى مجازي، والنهي في اللفظ لأحد، وفي المعنى للوط عليه السلام على ما نقل عن المبرد، وهذا كما تقول لخادمك: لا يقم أحد في أن النهي في الظاهر لأحد، وهو في الحقيقة للخادم أن لا يدع أحدا يقوم، فالمعنى هنا فأسر بأهلك ولا تدع أحدا منهم يلتفت ولا يخفى أنه على هذا تتم المناسبة بين المعطوف عليه والمعطوف لأن الأول لأمره عليه السلام والثاني لنهيه، ويعلم من هذا أن ضمير «منكم» للأهل. وقد صرح بذلك شهاب فلك الفضل الخفاجي، فقال: وهاهنا لطيفة وهو أن المتأخرين من أهل البديع اخترعوا نوعا من البديع سموه تسمية النوع، وهو أن يؤتى بشيء من البديع ويذكر اسمه على سبيل التورية كقوله في البديعية في الاستخدام: واستخدموا العين مني فهي جارية ... وكم سمحت بها في يوم بينهم وتبجحوا باختراعه، وأنا بمنّ الله تعالى أقول: إنه وقع في القرآن في هذه الآية لأن قوله سبحانه: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ إلخ وقع فيه ضمير مِنْكُمْ للأهل فقوله جل وعلا: لا يَلْتَفِتْ من تسمية النوع وهذا من بديع النكات انتهى، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 305 وسر النهي عن الالتفات بمعنى التخلف ظاهر، وأما سره إذا كان بمعنى النظر إلى وراء فهو أن يجدوا في السير فإن من يلتفت إلى ورائه لا يخلو عن أدنى وقفة أو أن لا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب فيرقوا لهم. وذكر بعضهم أن النهي وكذا الضمير للوط عليه السلام ولأهله أي لا يلتفت أحد منك ومن أهلك. إِلَّا امْرَأَتَكَ بالنصب وهو قراءة أكثر السبعة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالرفع وقد كثر الكلام في ذلك فقال الزمخشري: إنه سبحانه استثناها من قوله: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ ويدل عليه قراءة عبد الله- فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بقطع من الليل إلا امرأتك- ويجوز أن ينتصب من- لا يلتفت- على أصل الاستثناء، وإن كان الفصيح هو البدل أعني قراءة من قرأ بالرفع فأبدلها من أحد، وفي إخراجها مع أهله روايتان: روي أنه أخرجها معهم وأمر أن لا يلتفت منهم أحد إلا هي فلما سمعت هدّة العذاب التفتت وقالت: يا قوماه فأدركها حجر فقتلها. وروي أنه لما أمر أن يخلفها مع قومها فإن هواها إليهم فلم يسر بها، واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين انتهى، وأورد عليه ابن الحاجب ما خلاصته أنه إما أن يسري بها فالاستثناء من أحد متعين أولا فيتعين من فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ والقصة واحدة فأحد التأويلين باطل قطعا، والقراءتان الثابتتان قطعا لا يجوز حملهما على ما يوجب بطلان أحدهما، فالأولى أن يكون إِلَّا امْرَأَتَكَ رفعا ونصبا مثل ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ [النساء: 66] ولا يبعد أن يكون بعض القراء على الوجه الأقوى، وأكثرهم على ما دونه بل جوز بعضهم أن تتفق القراء على القراءة بغير الأقوى. وأجاب عنه بعض المغاربة بما أشار إليه في الكشف من منع التنافي لأن الاستثناء من الأهل يقتضي أن لا يكون لوط عليه السلام مأمورا بالإسراء بها، ولا يمنع أنها سرت بنفسها، ويكفي لصحة الاستثناءين هذا المقدر كيف ولم ينه عن إخراجها ولكنه أمر بإخراج غيرها، نعم يرد على قوله: واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين أنه يلزم الشك في كلام لا ريب فيه من رب العالمين، ويجاب بأن معناه اختلاف القراءتين جالب وسبب لاختلاف الروايتين كما تقول: السلاح للغزو أي أداة وصالح مثلا له، ولم يرد أن اختلاف القراءتين لأجل اختلاف الروايتين قد حصل، ولا شك أن كل رواية تناسب قراءة وإن أمكن الجمع، وأما قوله: وأمر أن لا يلتفت منهم أحد إلا هي فنقل للرواية لا تفسير للفظ القرآن، وإنما الكائن فيه استثناؤها عن الحكم الذي للاستصلاح إذ لم يعن بها، وإلى معنى ما أشار إليه صاحب الكشف في منع التنافي أشار أبو شامة فقال: وقع في تصحيح ما أعربه النحاة معنى حسن، وذلك أن يكون في الكلام اختصار نبه عليه اختلاف القراءتين فكأنه قيل: فأسر بأهلك إلا امرأتك كما قرأ به عبد الله ورواه أبو عبيدة عن مصحفه، فهذا دليل على أن استثناءها من السري بهم، ثم كأنه قال سبحانه: فإن خرجت معكم وتبعتكم من غير أن تكون أنت سريت بها فانه أهلك عن الالتفات غيرها فإنها ستهلك ويصيبها ما يصيب قومها، فكانت قراءة النصب دالة على المعنى المتقدم، وقراءة الرفع دالة على هذا المعنى المتأخر ومجموعهما دال على جملة المعنى المشروح، ولا يخفى ما في ذلك من التكلف كما قال ابن مالك، ولذا اختار أن الرفع على أن الاستثناء منقطع، وامْرَأَتَكَ مبتدأ، والجملة بعدها خبره وإلا بمعنى لكن. وقال ابن هشام في المغني في الجهة الثامنة من الباب الخامس: إن ما ذكره الزمخشري وقد سبقه إليه غيره في الآية خلاف الظاهر، والذي حمل القائلين عليه أن النصب قراءة الأكثرين فإذا قدر الاستثناء من أحد كانت قراءتهم على الوجه المرجوح، وقد التزم بعضهم جواز مجيء الأمرين مستدلا بقوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 306 49] فإن النصب في ذلك عند سيبويه على حد قولهم: زيدا ضربته، ولم ير خوف إلباس المفسر بالصفة مرجحا كما رآه بعض المتأخرين، ثم قال: والذي أجزم به أن قراءة الأكثرين لا تكون مرجحة، وأن الاستثناء على القراءتين من جملة الأمر بدليل سقوط وَلا يَلْتَفِتْ إلخ في قراءة ابن مسعود، والاستثناء منقطع بدليل سقوطه في آية الحجر، ولأن المراد بالأهل المؤمنون وإن لم يكونوا من أهل بيته لا أهل بيته وإن لم يكونوا مؤمنين كما في قوله تعالى لنوح عليه السلام: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود: 46] ووجه الرفع أنه على الابتداء، وما بعد، الخبر والمستثنى الجملة، ونظيره لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ [الغاشية: 22- 24] . واختار أبو شامة ما اخترته من أن الاستثناء منقطع لكنه قال: وجاء النصب على اللغة الحجازية والرفع على التميمية، وهذا يدل على أنه جعل الاستثناء من جملة النهي، وما قدمته أولى لضعف اللغة التميمية، ولما قدمت من سقوط جملة النهي في قراءة عبد الله انتهى. واستظهر ذلك الحمصي في حواشيه على التصريح واستحسنه غير واحد، وقد نقل أبو حيان القول بالانقطاع على القراءتين وتخريج النصب على اللغة الحجازية والرفع عن الأخرى، ثم قال: إنه كلام لا تحقيق فيه فإنه إذا لم يقصد إخراجها من المأمور بالإسراء بهم ولا من المنهيين عن الالتفات وكان المعنى لكن امرأتك يجري عليها كذا وكذا كان من الاستثناء الذي لا يتوجه إليه العامل، وهذا النوع من الاستثناء المنقطع يجب فيه النصب بإجماع العرب، وإنما الخلاف في المنقطع الذي يمكن توجه العامل إليه وفيه نظر، ففي التوضيح لابن مالك حق المستثنى بإلا من كلام تام موجب مفردا كان أو مكملا معنى بما بعده كقوله تعالى: إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ [الحجر: 59، 60] النصب، ولا يعرف أكثر المتأخرين من البصريين إلا النصب، وقد غفلوا عن وروده مرفوعا بالابتداء ثابت الخبر كقول أبي قتادة: أحرموا كلهم إلا أبو قتادة لم يحرم، ومحذوفة نحو ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان: 34] إلا الله، وإِلَّا في ذلك بمعنى لكن أي لكن أبو قتادة لم يحرم ولكن الله يعلم انتهى، وما نحن فيه من قبيل هذا، وفي حاشيتي البدر الدماميني وتقي الدين الشمني أن الرضي قد أجاب بما يقتضي أن الاستثناء متصل ولا تناقض، وذلك أنه قال: ولما تقرر أن الاتباع هو الوجه مع الشرائط المذكورة وكان أكثر القراء على النصب في وَلا يَلْتَفِتْ إلخ تكلف الزمخشري لئلا تكون قراءة الأكثر محمولة على وجه غير مختار بما تكلف، واعترضه ابن الحاجب بلزوم التناقض لأن الاستثناء من- أسر بأهلك- يقتضي كونها غير مسري بها، ومن- لا يلتفت منكم أحد- يقتضي كونها مسري بها لأن الالتفات بالإسراء، والجواب أن الإسراء وإن كان مطلقا في الظاهر إلا أنه في المعنى مقيد بعدم الالتفات. فمآله أسر بأهلك إسراء لا التفات فيه إلا امرأتك فإنك تسري بها إسراء مع الالتفات فاستثن على هذا إن شئت- من- أسر- أو- لا يلتفت- ولا تناقض وهذا كما تقول: امش ولا تتبختر أي امش مشيا لا تتبختر فيه فكأنه قيل: ولا يلتفت منكم أحد في الإسراء، وكذا امش ولا تتبختر في المشي فحذف الجار والمجرور للعلم به انتهى. وأورد عليه السيد السند في حواشيه أن الاستثناء إذا رجع إلى القيد كان المعنى فأسر بجميع أهلك إسراء لا التفات فيه إلا من امرأتك فيكون الإسراء بها داخلا في المأمور به وإذا رجع إلى المقيد لم يكن الإسراء بها داخلا في المأمور به فيكون المحذور باقيا بحاله ولا مخلص عنه إلا بأن يقال: إن تناول العام إياها ليس قطعيا لجواز أن يكون مخصوصا فلا يلزم من رجوع الاستثناء إلى قوله تعالى: وَلا يَلْتَفِتْ كونه عليه السلام مأمورا بالإسراء بها، وحينئذ يوجه الاستثناء بما ذكر من أنها تبعتهم أو أسري بها مع كونه غير مأمور بذلك إذ لا يلزم من عدم الأمر به النهي عنه فتأمل انتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 307 وبحث فيه الشهاب ولم يرتض احتمال التخصيص لما أنه لا دليل عليه ويفهم صنيعه ارتضاء كلام الرضي، ثم قال: ومراده بالتقييد أنه ذكر شيئان متعاطفان، فالظاهر أن المراد الجمع بينهما لا أن الجملة حالية فلا يرد عليه أن الحمل على التقييد مع كون الواو للنسق ممنوع، وكذا جعلها للحال مع لا الناهية، وأيضا القراءة بإسقاطها تدل على عدم اعتبار ذلك التقييد ولا يخلو عن شيء، هذا وقد ألفت في تحقيق هذا الاستثناء عدة رسائل: منها رسالة للحمصي وأخرى للعلامة الكافيجي ألفها لبعض سلاطين آل عثمان غمرهم الله سبحانه بصنوف الفضل والإحسان حين طلب منه لبحث وقع في مجلسه ذلك، وبالجملة القول بالانقطاع أقل تكلفا فيما يظهر، والقول بأنه حينئذ لا يبقى ارتباط لقوله سبحانه: إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ ناشىء من عدم الالتفات فلا ينبغي أن يلتفت إليه كما لا يخفى على من أحاط خبرا بما تقدم نقله فتأمل، وضمير إِنَّهُ للشأن، وما أَصابَهُمْ مبتدأ، ومُصِيبُها خبره، والجملة خبر- إن- الذي اسمه ضمير الشأن، وفي البحر إن مُصِيبُها مبتدأ، وما أَصابَهُمْ خبره، والجملة خبر إن، ويجوز على مذهب الكوفيين أن يكون مُصِيبُها خبر- إن- وما فاعل به لأنهم يجوزون أنه قائم أخواك، ومذهب البصريين أن ضمير الشأن لا يكون خبره إلا جملة مصرحا بجزأيها فلا يجوز هذا الأعراب عندهم، والأولى ما ذكر أولا، والجملة إما تعليل على طريقة الاستئناف أو خبر- لامرأتك- على قراءة الرفع، والمراد من ما العذاب، ومن أَصابَهُمْ يصيبهم والتعبيرية دونه للإيذان بتحقق الوقوع، وفي الإبهام. واسمية الجملة. والتأكيد ما لا يخفى. إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أي موعد عذابهم وهلاكهم ذلك، وكأن هذا على ما قيل: تعليل للأمر بالإسراء والنهي عن الالتفات المشعر بالحث على الإسراع، وقوله سبحانه: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ تأكيد للتعليل، فإن قرب الصبح داع إلى الإسراع للتباعد عن مواقع العذاب، وروي أنه عليه السلام سأل الملائكة عليهم السلام عن وقت هلاكهم فقالوا: موعدهم الصبح، فقال: أريد أسرع من ذلك، فقالوا له: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ. ولعله إنما جعل ميقات هلاكهم الصبح لأنه وقت الدعة والراحة فيكون حلول العذاب حينئذ أفظع ولأنه أنسب بكون ذلك عبرة للناظرين. وقرأ عيسى بن عمر الصُّبْحُ بضم الباء قيل: وهي لغة فلا يكون ذلك اتباعا فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا أي عذابنا أو الأمر به، فالأمر على الأول واحد الأمور، وعلى الثاني واحد الأوامر، قيل: ونسبة المجيء إليه بالمعنيين مجازية، والمراد لما حان وقوعه ولا حاجة إلى تقدير الوقت مع دلالة لما عليه. وقيل: إنه يقدر على الثاني أي جاء وقت أمرنا لأن الأمر نفسه ورد قبله، ونحن في غنى عن ادعاء تكراره، ورجح تفسير الأمر بما هو واحد الأوامر- أعني ضد النهي- بأنه الأصل فيه لأنه مصدر أمره، وأما كونه بمعنى العذاب فيخرجه عن المصدرية الأصلية وعن معناه المشهور الشائع، ويجعل التعذيب مسببا عنه بقوله سبحانه: جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها فإنه جواب لما والتعذيب نفس إيقاع العذاب فلا يحسن جعله مسببا عن ذلك بل العكس أولى إلا أن يؤول المجيء بإرادته، وضمير عالِيَها وسافِلَها لمدائن قوم لوط المعلومة من السياق وهي المؤتفكات، وهي خمس مدائن: ميعة وصغره وعصره ودوما وسدوم. وقيل: سبع أعظمها سدوم، وهي القرية التي كان فيها لوط عليه السلام، وكان فيها على ما روي عن قتادة أربعة آلاف ألف إنسان أو ما شاء الله تعالى من ذلك، وقيل: إن هذا العدد إنما كان في المدائن كلها، وقيل: إن ما كان في المدائن أكثر من ذلك بكثير، والله تعالى أعلم. ونصب عالِيَها- وسافِلَها على أنهما مفعولان للجعل، والمراد قلبناها على تلك الهيئة وهو جعل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 308 العالي سافلا، وإنما قلبت كذلك ولم يعكس تهويلا للأمر وتفظيعا للخطب لأن جعل عالِيَها الذي هو مقرهم ومسكنهم سافِلَها أشق من جعل- سافلها عاليها- وإن كان مستلزما له، روي أن لوطا عليه السلام سرى بمن معه قبل الفجر وطوى الله تعالى له الأرض حتى وصل إلى إبراهيم عليه السلام، ثم إن جبريل عليه السلام اقتلع المدائن بيده، وفي رواية أدخل جناحه تحت المدائن فرفعها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة ونباح الكلاب ثم قلبها، وما أعظم حكمة الله تعالى في هذا القلب الذي هو أشبه شيء بما كانوا عليه من إتيان الإعجاز والإعراض عما تقتضيه الطباع السليمة ولا ينبغي أن يجعل الكلام كناية عن إنزال أمر عظيم فيها كما يقول القائل: اليوم قلبت الدنيا على فلان لما فيه من العدول عن الظاهر والانحراف عما نطقت به الآثار من غير داع سوى استبعاد مثل ذلك وما ذلك ببعيد، وإسناد الجعل إلى ضميره تعالى باعتبار أنه المسبب فهو إسناد مجازي باعتبار اللغة وإن كان سبحانه هو الفاعل الحقيقي. والنكتة في ذلك تعظيم الأمر وتهويله فإن ما يتولاه العظيم من الأمور فهو عظيم، ويقوي ذلك ضمير العظمة أيضا وعلى هذا الطرز قوله سبحانه: وَأَمْطَرْنا عَلَيْها أي على المدائن أو شذاذ أهلها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ وكان ذلك زيادة في تفظيع حالهم أو قطعا لشأفتهم واستئصالا لهم. روي أن رجلا منهم كان بالحرم فبقي حجر معلق بالهواء حتى خرج منه فوقع عليه وأهلكه، والسجيل الطين المتحجر لقوله تعالى في الآية الأخرى: حِجارَةً مِنْ طِينٍ [الذاريات: 33] والقرآن يفسر بعضه بعضا، ويتعين إرجاع بعضه لبعض في قصة واحدة، وهو كما أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس ومجاهد معرب- سنك كل-. وقال أبو عبيدة: السجيل- كالسجين- الشديد من الحجارة، وقيل: هو من أسجله إذا أرسله أو أدر عطيته، والمعنى حجارة كائنة من مثل الشيء المرسل أو مثل العطية في الإدرار وهو على هذا خارج مخرج التهكم، وقيل: من- السجل- بتشديد اللام وهو الصك، ومعنى كونه من ذلك أنه مما كتب الله تعالى عليهم أن يعذبهم به، وقيل: أصله من سجين وهو اسم لجهنم أو لواد فيها، فأبدلت نونه لاما. وقال أبو العالية وابن زيد: السجيل اسم لسماء الدنيا. قال أبو حيان: وهو ضعيف لوصفه بقوله سبحانه: مَنْضُودٍ أي نضد وضع بعضه على بعض معدا لعذابهم، أو نضد في الإرسال يرسل بعضه إثر بعض كقطار الأمطار، ولا يخفى أن هذه المعاني كما تأبى ما قال أبو العالية وابن زيد تأبى بحسب الظاهر ما قيل: إن المراد به جهنم، وتكلف بعضهم فقال: يمكن وصف جهنم بذلك باعتبار المعنى الأول بناء على أنها دركات بعضها فوق بعض أو أن الأصل منضود فيه فاتسع، وقد يتكلف بنحو هذا لما قاله أبو العالية وابن زيد وجوز أن يكون مَنْضُودٍ صفة حجارة على تأويل الحجر وجره للجوار، وعليه فالأمر ظاهر إلا أنه من التكلف بمكان مُسَوَّمَةً أي عليها سيما يعلم بها أنها ليست من حجارة الأرض قاله ابن جريج، وقيل: معلمة ببياض وحمرة، وروي ذلك عن ابن عباس والحسن، وجاء في رواية أخرى عن ابن عباس أنه كان بعضها أسود فيه نقطة بيضاء وبعضها أبيض فيه نقطة سوداء. وعن الربيع أنها كانت معلمة باسم من يرمي بها، وكان بعضها كما قيل: مثل رؤوس الإبل، وبعضها مثل مباركها، وبعضها مثل قبضة الرجل عِنْدَ رَبِّكَ أي في خزائنه التي لا يمكلها غيره سبحانه ولا يتصرف بها سواه عز وجل، والظرف قيل: منصوب- بمسومة- أو متعلق بمحذوف وقع صفة له، والمروي عن مقاتل أن المعنى أنها جاءت من عند ربك، وعن أبي بكر الهذلي أنها معدة عنده سبحانه. وقال ابن الأنباري: المراد ألزم هذا التسويم للحجارة عنده تعالى إيذانا بقدرته وشدة عذابه فليفهم وَما هِيَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 309 أي الحجارة الموصوفة بما ذكر مِنَ الظَّالِمِينَ من كل ظالم بِبَعِيدٍ فإنهم بسبب ظلمهم مستحقون لها، وفيه وعيد لأهل الظلم كافة، وروي هذا عن الربيع. وأخرج ابن جرير وغيره عن قتادة أن المراد من الظالمين ظالمو هذه الأمة. وجاء في خبر ذكره الثعلبي، وقال فيه العراقي: لم أقف له على إسناد أنه صلّى الله عليه وسلم سأل جبريل عليه السلام عن ذلك فقال: يعني ظالمي أمتك ما من ظالم منهم إلا وهو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة، وقيل: المراد بالظالمين قوم لوط عليه السلام، والمعنى لم تكن الحجارة لتخطئهم. وعن ابن عباس أن المعنى وما عقوبتهم ممن يعمل عملهم ببعيد، وظاهره أن الضمير للعقوبة المفهومة من الكلام، والظَّالِمِينَ من يشبههم من الناس، ويمكن أن يقال: إن مراده بيان حاصل المعنى لا مرجع الضمير. وذهب أبو حيان إلى أن الظاهر أن يكون ضمير هِيَ للقرى التي جعل عالِيَها سافِلَها والمراد من الظَّالِمِينَ ظالمو مكة، وقد كانت قريبة إليهم يمرون عليها في أسفارهم إلى الشام. وتذكير- البعيد- يحتمل أن يكون على تأويل الحجارة بالحجر المراد به الجنس، أو إجرائه على موصوف مذكر أي بشيء بعيد، أو بمكان بعيد فإنها وإن كانت في السماء وهي في غاية البعد من الأرض إلا أنها إذا هوت منها فهي أسرع شيء لحوقا بهم فكأنها بمكان قريب منهم، أو لأنه على زنة المصدر- كالزفير والصهيل- والمصادر يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث وَإِلى مَدْيَنَ أي أولاد مدين بن إبراهيم عليه السلام فحذف المضاف أو جعل اسما بالغلبة للقبيلة وكثيرا ما تسمى القبيلة باسم أبيهم- كمضر وتميم- ولعل هذا أولى، وجوز أن يراد بمدين المدينة التي بناها مدين فسميت به فيقدر حينئذ مضاف أي وإلى أهل مدين أَخاهُمْ نسيبهم شُعَيْباً قد مر ما قيل في نسبه عليه السلام، والجملة معطوفة على قوله سبحانه: وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً [هود: 61] أي وأرسلنا إلى مدين شعيبا. قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أمر بالتوحيد على وجه أكيد ولما كان ملاك الأمر قدمه على النهي عما اعتادوه من البخس المنافي للعدل المخل بحكمة التعاوض، وإيصال الحقوق لأصحابها بقوله: وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ قيل: أي لا تنقصوا الناس من المكيال والميزان يعني مما يكال ويوزن على ذكر المحل وإرادة الحال، واستظهر أن المراد لا تنقصوا حجم المكيال عن المعهود وكذا الصنجات، وقد تقدم في [الأعراف: 85] الْكَيْلَ بدل الْمِكْيالَ فتذكر وتأمل إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ أي ملتبسين بثروة واسعة تغنيكم عن ذلك أو بنعمة من الله تعالى حقها أن تقابل بغير ما أنتم عليه بأن تتفضلوا على الناس شكرا عليها، فإن أجل شكر النعم الإحسان والتفضل على عباد الله تعالى، أو أراكم بخير وغنى فلا تزيلوه بما تأتونه من الشر، وعلى كل حال الجملة في موضع التعليل للنهي وعقب بعلة أخرى أعني قوله تعالى: وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إن لم تنتهوا عن ذلك عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ وجوز أن يكون تعليلا للأمر والنهي جميعا. وفسر المحيط بما لا يشذ منه أحد منهم، وفسره الزمخشري بالمهلك أخذا من قوله تعالى: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ [الكهف: 42] وأصله من إحاطة العدو، وادعى أن وصف اليوم بالإحاطة أبلغ من وصف العذاب لأن اليوم زمان يشتمل على الحوادث فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمعذب ما اشتمل عليه منه كما إذا أحاط بنعيمه يعني أن اليوم لما كان زمانا مشتملا على الحوادث الكائنة فيه عذابا أو غيره فإذا أحاط بالمعذب ملتبسا بعذابه لأنه حادثة فقد اجتمع للمعذب الأمر الذي يشتمل عليه اليوم وهو العذاب كما إذا أحاط ملتبسا بنعيمه. والحاصل أن إحاطة اليوم تدل على إحاطة كل ما فيه من العذاب، وأما إحاطة العذاب على قوم فقد يكون بأن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 310 يصيب كل فرد منهم فردا من أفراد العذاب، وأما فيما نحن فيه فيدل على إحاطة أنواع العذاب المشتمل عليها اليوم بكل فرد، ولا شك في أبلغية هذا- كذا في الكشف- وتمام الكلام فيه، وقال بعض المحققين في بيان الأبلغية: إن اليوم زمان لجميع الحوادث فيوم العذاب زمان جميع أنواع العذاب الواقعة فيه فإذا كان محيطا بالمعذب فقد اجتمع أنواع العذاب له، وهذا كقوله: إن المروءة والسماحة والندى ... في قبة ضربت على ابن الحشرج فإن وقوع العذاب في اليوم كوجود الأوصاف في القبة، وجعل اليوم محيطا بالمعذب كضرب القبة على الممدوح فكما أن هذا كناية عن ثبوت تلك الأوصاف له كذلك ذاك كناية عن ثبوت أنواع العذاب للمعذب، وأما وصف العذاب بالإحاطة ففيه استعارة إحاطته لاشتماله على المعذب فكما أن المحيط لا يفوته شيء من أجزاء المحاط لا يفوت العذاب شيء من أجزاء المعذب، وهذه الاستعارة تفيد أن العذاب لكل المعذب وتلك الكناية تفيد أن كل العذاب له، ولا يخفى ما بينهما من التفاوت في الأبلغية، وجوز أن يكون مُحِيطٍ نعتا- لعذاب- وجر للجوار، وقيل: هو نعت- ليوم- جار على غير من هو له، والتقدير- عذاب يوم محيط عذابه- وليس بشيء كما لا يخفى، وأيا ما كان فالمراد عذاب يوم القيامة أو عذاب الاستئصال في الدنيا، وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه فسر الخير برخص السعر. والعذاب بغلائه. وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ أي أتموهما، وفائدة التصريح بذلك مع أن الانتهاء المطلوب من النهي السابق لا يتحقق بدون الإتمام فيكون مطلوبا تبعا، وهذا مسلم على المذاهب جعل النهي عن الشيء عين الأمر بالضد أو مستلزما له تضمنا أو التزاما لأن الخلاف في مقتضى اللفظ لا أن التحريم أو الوجوب ينفك عن مقابلة الضد غير واحدة النعي بما كانوا عليه من القبيح وهو النقص مبالغة في الكف، ثم الأمر بالضد مبالغة في الترغيب وإشعارا بأنه مطلوب أصالة وتبعا مع الإشعار بتبعية الكف عكسا، وتقييده بقوله سبحانه: بِالْقِسْطِ أي بالعدل من غير زيادة ولا نقصان، ثم إدماج أن المطلوب من الإتمام العدل، ولهذا قد يكون الفضل محرما كما في الربويات، وإلى هذا يشير كلام الزمخشري، وظاهره حمل المكيال والميزان على ما يكال ويوزن، وحملهما بعضهم في الموضعين على الآلتين المعروفتين، وفسر القسط بما ذكرنا ثم قال: إن الزيادة في الكيل والوزن وإن كانت تفضلا مندوبا إليه لكنها في الآلة محظورة كالنقص، فلعل الزائد للاستعمال عند الاكتيال والناقص للاستعمال عند الكيل. وفائدة الأمر بتسوية الآلتين وتعديلهما بعد النهي عن نقصهما المبالغة في الحمل على الإيفاء والمنع والبخس، والتنبيه على أنه لا يكفيهم مجرد الكف عن النقص والبخس بل يجب عليهم إصلاح ما أفسدوه وجعلوه معيارا لظلمهم وقانونا لعدوانهم، وفيه حمل اللفظ على المتبادر منه، فإن الحمل على المعنى الآخر مجاز كما أشرنا إليه، وادعى الفاضل الحلبي أن هذا الأمر بعد النهي السابق ليس من باب التكرار في شيء، فقال: إن النهي قد كان عن نقص حجم المكيال وصنجات الميزان، والأمر بإيفاء المكيال والميزان حقهما بأن لا ينقص في الكيل والوزن، وهذا الأمر بعد مساواة المكيال والميزان للمعهود فلا تكرار كيف ولو كان تكريرا للتأكيد والمبالغة لم يكن موضع الواو لكمال الاتصال بين الجملتين انتهى. وتعقب بأن حمل هذين اللفظين- وقد تكررا- في أحد الموضعين على أحد معنيين متغايرين خلاف الظاهر، وأن في التكرار من الفوائد ما جعله أقوى من التأسيس فلا ينبغي الهرب منه، وأما العطف فلأن اختلاف المقاصد في ذينك المتعاطفين جعلهما كالمتغايرين فحسن ذلك، وقد صرح به أهل المعاني في قوله سبحانه: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ [البقرة: 49، إبراهيم: 6] انتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 311 وفي ورود ما تعقب به أو لا تأمل فتأمل، وقوله تعالى: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ يحتمل أن يكون تعميما بعد تخصيص فإنه يشمل الجودة والرداءة وغير المكيل والموزون أيضا فهو تذييل وتتميم لما تقدم، وكذا قوله سبحانه: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ فإن العثي يعم تنقيص الحقوق وغيره لأنه عبارة عن مطلق الفساد، وفعله من باب رمى وسعى ورضي، وجاء واويا ويائيا، ويحتمل أن يكون نهيا عن بخس المكيل والموزون بعد النهي عن نقص المعيار والأمر بإيفائه أي لا تنقصوا الناس بسبب نقص المكيال والميزان وعدم اعتدالهما أشياءهم التي يشترونها بهما، والتصريح بهذا النهي بعد ما علم في ضمن النهي، والأمرين السابقين للاهتمام بشأنه والترغيب في إيفاء الحقوق بعد الترهيب والزجر عن نقصها، وإلى كل من الاحتمالين ذهب بعض، وهو مبني على ما علمت من الاختلاف السابق في تفسير ما سبق، وقيل: المراد بالبخس المكس كأخذ العشور على نحو ما يفعل اليوم، والعثي- السرفة وقطع لطريق والغارة، ومُفْسِدِينَ حال من ضمير تَعْثَوْا، وفائدة ذلك إخراج ما يقصد به الإصلاح كما فعل الخضر عليه السلام من قتل الغلام. وخرق السفينة فهو حال مؤسسة، وقيل: ليس الفائدة الإخراج المذكور فإن المعنى- لا تعثوا في الأرض بتنقيص الحقوق مثلا مفسدين مصالح دينكم وأمر آخرتكم- ومآل ذلك على ما قيل: إلى تعليل النهي كأنه قيل: لا تفسدوا في الأرض فإنه مفسد لدينكم وآخرتكم بَقِيَّتُ اللَّهِ قال ابن عباس: أي ما أبقاه سبحانه من الحلال بعد الإيفاء خَيْرٌ لَكُمْ مما تجمعون بالبخس، فإن ذلك هباء منثور بل هو شر محض وإن زعمتم أنه خير إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي بشرط أن تؤمنوا إذ مع الكفر لا خير في شيء أصلا، أو إن كنتم مصدقين بي في مقالتي لكم، وفي رواية أخرى عن الحبر أنه فسر البقية بالرزق. وقال الربيع هي وصيته تعالى، وقال مقاتل: ثوابه في الآخرة، وقال الفراء: مراقبته عز وجل، وقال قتادة: ذخيرته، وقال الحسن: فرائضه سبحانه. وزعم ابن عطية أن كل هذا لا يعطيه لفظ الآية وإنما معناه الإبقاء وهو مأخوذ مما روي عن ابن جريج أنه قال: المعنى إبقاء الله تعالى النعيم عليكم خير لكم مما يحصل من النقص بالتطفيف، وأيا ما كان فجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله على ما ذهب إليه جمهور البصريين وهو الصحيح، وقرأ إسماعيل بن جعفر عن أهل المدينة «بقية» بتخفيف الياء قال ابن عطية: وهي لغة، قال أبو حيان: إن حق وصف فعل اللازم أن يكون على وزن فاعل نحو شجيت المرأة فهي شجية فإذا شددت الياء كان على وزن فعيل للمبالغة، وقرأ الحسن- تقية الله- بالتاء والمراد تقواه سبحانه ومراقبته الصارفة عن المعاصي وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أحفظكم من القبائح أو أحفظ عليكم أعمالكم وأجازيكم بها وإنما أنا ناصح مبلغ وقد أعذرت إذ أنذرت ولم آل جهدا، أو ما أنا بحافظ عليكم نعم الله تعالى لو لم تتركوا سوء صنيعكم. قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا من الأصنام أجابوا بذلك أمره عليه السلام إياهم بعباده الله تعالى وحده المتضمن لنهيهم عن عبادة الأصنام وغرضهم منه إنكار الوحي الآمر لكنهم بالغوا في ذلك إلى حيث أنكروا أن يكون هناك آمر من العقل وزعموا أن ذلك من أحكام الوسوسة والجنون قاتلهم الله أنى يؤفكون، وعلى هذا بنوا استفهامهم وأخرجوا كلامهم وقالوا بطريق الاستهزاء: أَصَلاتُكَ التي هي من نتائج الوسوسة وأفاعيل المجانين تأمرك بأن نترك ما استمر على عبادته آباؤنا جيلا بعد جيل من الأوثان والتماثيل، وإنما جعلوه عليه السلام مأمورا مع أن الصادر عنه إنما هو الأمر بعبادة الله تعالى وغير ذلك من الشرائع لأنه عليه السلام لم يكن يأمرهم من تلقاء نفسه بل من جهة الوحي وأنه كان يعلمهم بأنه مأمور بتبليغه إليهم، وتخصيصهم إسناد الأمر إلى الصلاة من بين سائر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 312 أحكام النبوة لأنه عليه السلام كان كثير الصلاة معروفا بذلك، بل أخرج ابن عساكر عن الأحنف أنه عليه السلام كان أكثر الأنبياء صلاة، وكانوا إذا رأوه يصلي يتغامزون ويتضاحكون فكانت هي من بين شعائر الدين ضحكة لهم، وقيل: إن ذلك لأنه عليه السلام كان يصلي ويقول لهم: إن الصلاة تأمر بالمعروف وتنهى عن الفحشاء والمنكر، وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وإلى الأول ذهب غير واحد، وهذا الإسناد حقيقي لا مجازي غاية ما في الباب أنهم قصدوا الحقيقة تهكما، واختيار المضارع ليدل على العموم بحسب الزمان، وقوله سبحانه: أَنْ نَتْرُكَ على تقدير بتكليف أن نترك- فحذف المضاف وهو تكليف، فدخل الجار على أَنْ ثم حذف وحذفه قبلها مطرد، وعرف التخاطب في مثله يقتضي ذلك، وقيل: إن الداعي إليه أن الشخص لا يكلف بفعل غيره لأنه غير مقدور له أصلا، وقيل: لا تقدير، والمعنى- أصلاتك تأمرك بما ليس في وسعك وعهدتك من أفاعيل غيرك- وغرضهم من ذلك التعريض بركاكة رأيه وحاشاه عليه السلام، والاستهزاء به من تلك الجهة، وتعقب بأنه يأباه دخول الهمزة على الصلاة دون الأمر، ويستدعي أن يصدر عنه عليه السلام في أثناء الدعوة ما يدل على ذلك أو يوهمه، وأنى ذلك؟ فتأمل، وقرأ أكثر السبعة- أصلواتك- بالجمع، وأمر الجمع بين القراءتين سهل، وقوله تعالى: أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا أجابوا به أمره عليه السلام بإيفاء الحقوق ونهيه عن البخس والنقص وهو عطف على ما وأو بمعنى الواو أي وأن نترك فعلنا ما نشاء في أموالنا من التطفيف وغيره، ولا يصح عطفه على أَنْ نَتْرُكَ لاستحالة المعنى إذ يصير حينئذ- تأمرك بفعلنا في أموالنا ما نشاء من التطفيف وغيره- وهم منهيون عن ذلك لا مأمورون به، وحمل ما على ما أشرنا إليه هو الظاهر، وقيل: كانوا يقرضون الدراهم والدنانير ويجرونها مع الصحيحة على جهة التدليس فنهوا عن ذلك فقالوا ما قالوا، وروي هذا عن محمد بن كعب، وأدخل بعضهم ذلك الفعل في العثي في الأرض فيكون النهي عنه نهيا عنه. ولا مانع من اندراجه في عموم ما، وقرأ الضحاك بن قيس وابن أبي عبلة وزيد بن علي- بالتاء- في الفعلين على الخطاب فالعطف على مفعول تَأْمُرُكَ أي- أصلاتك تأمرك أن تفعل في أموالنا ما تشاء أي من إيفاء المكيال والميزان- كما هو الظاهر، وقيل: من الزكاة، فقد كان عليه السلام يأمرهم بها كما روي عن سفيان الثوري، قيل: وفي الآية على هذا مع حمل الصلاة على ما يتبادر منها دليل على أنه كان في شريعته عليه السلام صلاة وزكاة، وأيد بما روي عن الحسن أنه قال: لم يبعث الله تعالى نبيا إلا فرض عليه الصلاة والزكاة، وأنت تعلم أن حمل ما نَشؤُا على الزكاة غير متعين بل هو خلاف ظاهر السوق، وحمل الصلاة على ذلك وإن كان ظاهرا إلا أنه روى ابن المنذر وغيره عن الأعمش تفسيرها بالقراءة، ونقل عن غيره تفسيرها بالدعاء الذي هو المعنى اللغوي لها. وعن أبي مسلم تفسيرها بالدين لأنها من أجل أموره، وعلى تقدير أن يراد منها الصلاة بالمعنى الآخر لا تدل الآية على أكثر من أن يكون له عليه السلام صلاة، ولا تدل على أنها من الأمور المكلف بها أحد من أمته فيمكن أن يكون ذلك من خصوصياته عليه السلام، وما روي عن الحسن ليس نصا في الغرض كما لا يخفى، هذا وجوز أن يكون العطف على هذه القراءة على ما وتعقب بأنه يستدعي أن يحمل الترك على معنيين مختلفين ولا يترك على ما يتبادر منه. وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة بالنون في الأول والتاء في الثاني، والعطف على مفعول تَأْمُرُكَ والمعنى ظاهر مما تقدم إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ وصفوه عليه السلام بهذين الوصفين الجليلين على طريقة الاستعارة التهكمية، فالمراد بهما ضد معناهما، وهذا هو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وإليه ذهب قتادة والمبرد. وجوز أن يكونوا وصفوه بذلك بناء على الزعم، والجملة تعليل لما سبق من استبعاد ما ذكروه كأنهم قالوا: كيف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 313 تكلفنا بما تكلفنا مع أنك أنت الحليم الرشيد بزعمك وقيل: يجوز أن يكون تعليلا باقيا على ظاهره بناء على أنه عليه السلام كان موصوفا عندهم بالحلم والرشد، وكان ذلك بزعمهم مانعا من صدور ما صدر منه عليه السلام، ورجح الأول بأنه الأنسب بما قبله لأنه تهكم أيضا، ورجح الأخير بأنه يكون الكلام عليه نظير ما مر في قصة صالح عليه السلام من قولهم له: قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا [هود: 62] وتعقيبه بمثل ما عقب به ذلك حسبما تضمنه قوله سبحانه: قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ حجة ظاهرة مِنْ رَبِّي ومالك أموري وَرَزَقَنِي مِنْهُ من لدنه سبحانه رِزْقاً حَسَناً هو النبوة والحكمة يدل على ذلك، والجواب عليه من باب إرخاء العنان. والكلام المنصف كأنه عليه السلام قال: صدقتم فيما قلتم إني لم أزل مرشدا لكم حليما فيما بينكم لكن ما جئت به ليس غير الإرشاد والنصيحة لكم، انظروا بعين الإنصاف وأنتم ألباء إن كنت على حجة واضحة ويقين من ربي وكنت نبيا على الحقيقة أيصح لي وأنا مرشدكم والناصح لكم أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان والكف عن المعاصي والأنبياء لا يبعثون إلا لذلك؟ ثم إنه عليه السلام أكد معنى الإرشاد، وأدرج معنى الحلم فيما سيأتي من كلامه صلّى الله عليه وسلم كذا قرره العلامة الطيبي. واختار شيخ الإسلام عدم كونه باقيا على الظاهر لما أن مقام الاستهزاء آب عنه، وذكر قدس سره أن المراد بالبينة والرزق الحسن النبوة والحكمة، وأن التعبير عنهما بذلك للتنبيه على أنهما مع كونهما بينة رزق حسن كيف لا وذلك مناط الحياة الأبدية له عليه السلام ولأمته؟ وأن هذا الكلام منه عليه السلام رد على مقالتهم الشنعاء المتضمنة زعم عدم استناد أمره ونهيه إلى سند، ثم قال: وجواب الشرط محذوف يدل عليه فحوى الكلام أي أتقولون والمعنى أنكم عددتم ما صدر عني من الأوامر والنواهي من قبيل ما لا يصح أن يتفوه به عاقل وجعلتموه من أحكام الوسوسة والجنون واستهزأتم بي وبأفعالي وقلتم ما قلتم، فأخبروني إن كنت من جهة ربي ومالك أموري ثابتا على النبوة والحكمة التي ليس وراءها غاية للكمال ولا مطمح لطامح ورزقني لذلك رزقا حسنا أتقولون في شأني وشأن أفعالي ما تقولون مما لا خير فيه ولا شر وراءه؟! وادّعى أن هذا هو الجواب الذي يستدعيه السياق ويساعده النظم الكريم. وفسر القاضي- الرزق الحسن- بما آتاه الله تعالى من المال الحلال، ومعنى كون ذلك منه تعالى أنه من عنده سبحانه وبإعانته بلا كد في تحصيله، وقدر جواب الشرط فهل يسع لي مع هذا الإنعام الجامع للسعادة الروحانية والجسمانية أن أخون في وحيه وأخالفه في أمره ونهيه، وذكر أن هذا الكلام منه عليه السلام اعتذار عما أنكروا عليه من تغيير المألوف والنهي عن دين الآباء، وقدر بعضهم ما قدره العلامة الطيبي. وزعم شيخ الإسلام أن ذينك التقديرين بمعزل عما يستدعيه السياق، وأنهما إنما يناسبان إن حمل كلامهم على الحقيقة وأريد بالصلاة الدين حسبما نقل عن أبي مسلم وعطاء، ويكون المراد بالرزق الحسن على ذلك ما آتاه الله تعالى من الحلال فقط كما روي عن الضحاك ويكون المعنى حينئذ أخبروني إن كنت نبيا من عند الله تعالى ورزقني مالا حلالا أستغني به عن العالمين أيصح أن أخالف أمره أو أوافقكم فيما تأتون وما تذرون انتهى. وأقول: لا يخفى أن المناسب للمقام حمل الرزق الحسن على ما آتاه الله تعالى من الحلال الخالي عن التطفيف والبخس، وتقدير جواب الشرط نحو ما قدره القاضي ليس في الكلام ما يأبى عنه، ولا يتوقف على حمل الكلام على الحقيقة والصلاة على الدين بل يتأتى تقدير ذلك، ولو كان الكلام على سبيل التهكم والصلاة بالمعنى المتبادر بأن يقال: إنهم قاتلهم الله تعالى لما قالوا في ظلال الضلال وقالوا ما قالوا في حق نبيهم وما صدر منه من الأفعال لم يكن لهم مقصود إلا ترك الدعوة وتركهم وما يفعلون، ولم يتعرض عليه السلام صريحا لرد قولهم المتضمن لرميه- وحاشاه بالوسوسة والجنون والسفه والغواية- إيذانا بأن ذلك مما لا يستحق جوابا لظهور بطلانه وتعرض الجزء: 6 ¦ الصفحة: 314 لجوابهم عما قصدوه بكلامهم ذلك بما يكون فيه قطع أطماعهم من أول الأمر مع الإشارة إلى رد ما تضمنته مقالتهم الشنعاء فكأنه عليه السلام قال لهم: يا قوم إنكم اجترأتم على هذه المقالة الشنيعة وضمنتموها ما هو ظاهر البطلان لقصد أن أترككم وشأنكم من عبادة الأوثان ونقص المكيال والميزان فأخبروني إن كنت نبيا من عند الله تعالى ومستتنيا بما رزقني من المال الحلال عنكم وعن غيركم أيصح أن أخالف وحيه وأوافق هواكم لا يكون ذلك مني أصلا فإذن لا فائدة لكم في هذا الكلام الشنيع، وربما يقال: إن في هذا الجواب إشارة إلى وصفهم بنحو ما وصفوه به عليه السلام كأنه قال: إن طلبكم مني ترك الدعوة وموافقة الهوى مع أني مأمور بدعوتكم وغني عنكم مما لا يصدر عن عاقل ولا يرتكبه إلا سفيه غاو، وكأن التعرض لذكر الرزق مع الكون على بينة للإشارة إلى وجود المقتضي وارتفاع ما يظن مانعا، ولا يخفى ما في إخراج الجواب على هذا الوجه من الحسن فتأمل. بقي أن الذي ذكره النحاة على ما قال أبو حيان في مثل هذا الكلام أعني أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ إلخ أن تقدر الجملة الاستفهامية على أنها في موضع المفعول الثاني- لأرأيتم- المتضمنة معنى أخبروني المتعدية إلى مفعولين والغالب في الثاني أن يكون جملة استفهامية، وجواب الشرط ما يدل عليه الجملة السابقة مع متعلقها، والتقدير- إن كنت على بينة من ربي فأخبروني هل يسع لي- إلخ فافهم ولا تغفل وَما أُرِيدُ بنهيي إياكم عما أنهاكم عنه عن البخس والتطفيف أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ أي أقصده بعد ما وليتم عنه فأستبد به دونكم كما هو شأن بعض الناس في المنع عن بعض الأمور يقال: خالفني فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مول عنه، وخالفني عنه إذا ولى عنه وأنت قاصده. قال في البحر: والظاهر على ما ذكروه أن أَنْ أُخالِفَكُمْ في موضع المفعول به- لأريد- أي وما أريد مخالفتكم، ويكون خالف بمعنى خلف نحو جاوز وجاز، ويكون المعنى وما أريد أن أكون خلفا منكم، وإِلى متعلقة بأخالف أو بمحذوف أي مائلا إلى ما أنهاكم عنه، وقيل: في الكلام فعل محذوف معطوف على المذكور أي وأميل إلى إلخ، ويجوز أن يبقى أخالف على ظاهره من المخالفة، ويكون إِنْ وما بعدها في موضع المفعول به- لأريد- ويقدر مائلا إلى كما تقدم، أو يكون إِنْ وما بعدها في موضع المفعول له، وإِلى ما متعلقا- بأريد- أي وما أقصد لأجل مخالفتكم إلى ما أنهاكم عنه، وقال الزجاج في معنى ذلك: أي ما أقصد بخلافكم إلى ارتكاب ما أنهاكم عنه إِنْ أُرِيدُ أي ما أريد بما أقول لكم إِلَّا الْإِصْلاحَ أي إلا أن أصلحكم بالنصيحة والموعظة مَا اسْتَطَعْتُ أي مدة استطاعتي ذلك وتمكني منه لا آلو فيه جهدا- فما- مصدرية ظرفية. وجوز فيها أن تكون موصولة بدلا من الإصلاح أي المقدار الذي استطعته أو إِلَّا الْإِصْلاحَ إصلاح ما استطعت، وهي إما بدل بعض أو كل لأن المتبادر من الإصلاح ما يقدر عليه، وقيل: بدل اشتمال، وعليه وعلى الأول يقدر ضمير أي منه لأنه في مثل ذلك لا بد منه وجوز أيضا أن تكون مفعولا به للمصدر المذكور كقوله: ضعيف النكاية أعداءه ... يخال الفرار يراخي الأجل أي ما أريد إلا أن أصلح ما استطعت إصلاحه من فاسدكم، والأبلغ الأظهر ما قدمناه لأن في احتمال البدلية إضمارا وفوات المبالغة وفي الاحتمال الأخير إعمال المصدر المعرف في المفعول به، وفيه- مع أنه لا يجوز عند الكوفيين ويقل عند البصريين- فواتها، وزيادة إضمار مفعول «استطعت» وَما تَوْفِيقِي أي ما كوني موفقا لتحقيق ما أتوخاه من إصلاحكم إِلَّا بِاللَّهِ أي بتأييده سبحانه ومعونته. واختار بعضهم أن يكون المراد- وما توفيقي لإصابة الحق والصواب في كل ما آتي وأذر إلا بهدايته تعالى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 315 ومعونته- والظاهر أن المراد وما كل فرد من أفراد توفيقي لما صرحوا به من أن المصدر المضاف من صيغ العموم، ويؤول إلى هذا ما قيل: إن المعنى ما جنس توفيقي لأن انحصار الجنس يقتضي انحصار أفراده لكن على الأول بطريق المفهوم. وعلى الثاني بطريق المنطوق، وتقدير المضاف بعد الباء مما التزمه كثير، وفيه على ما قيل: دفع الاستكشال بأن فاعل التوفيق هو الله تعالى، وأهل العربية يستقبحون نسبة الفعل إلى الفاعل بالباء لأنها تدخل على الآلة فلا يحسن ضربي بزيد، وإنما يقال: من زيد، فالاستعمال الفصيح بناء على هذا- وما توفيقي إلا من عند الله ووجه الدفع بذلك التقدير ظاهر لأن الدخول ليس على الفاعل حينئذ. وجوز أن يكون ذلك التقدير لما أن التوفيق وهو كون فعل العبد موافقا لما يحبه الله تعالى ويرضاه لا يكون إلا بدلالة الله تعالى عليه، ومجرد الدلالة لا يجدي بدون المعونة منه عز شأنه عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في ذلك، أو في جميع أموري لا على غيره فإنه سبحانه القادر المتمكن من كل شيء، وغيره سبحانه عاجز في حد ذاته بل معدوم ساقط عن درجة الاعتبار كما أشار إليه الكتاب وعاينه أولو البصائر والألباب وَإِلَيْهِ أُنِيبُ أي أرجع فيما أنا بصدده، أو أقبل بشراشري في مجامع أموري لا إلى غيره، والجملة معطوفة على ما قبلها، وكأن إيثار صيغة الاستقبال فيها على الماضي الأنسب للتقرر والتحقق كما في التوكل لاستحضار الصورة والدلالة على الاستمرار، ولا يخفى ما في جوابه عليه السلام مما لا يكاد يوجد في كلام خطيب إلا أن يكون نبيا. وفي أنوار التنزيل أن لأجوبته عليه السلام الثلاثة يعني يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إلخ وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إلخ وإِنْ أُرِيدُ إلخ على هذا النسق شأنا، وهو التنبيه على أن العاقل يجب أن يراعي في كل ما يأتيه ويذره ثلاثة حقوق أهمها وأعلاها حق الله تعالى، فإن الجواب الأول متضمن بيان حق الله تعالى من شكر نعمته والاجتهاد في خدمته. وثانيها حق النفس، فإن الجواب الثاني متضمن بيان حق نفسه من كفها عما ينبغي أن ينتهي عنه غيره. وثالثها حق الناس فإن الجواب الثالث متضمن للإشارة إلى أن حق الغير عليه إصلاحه وإرشاده وإنما لم يعطف قوله: إِنْ أُرِيدُ إلخ على ما قبله لكونه مؤكدا ومقررا له لأنه لو أراد الاستئثار بما نهى عنه لم يكن مريدا للإصلاح، ولا ينافي هذا كونه متضمنا لجواب آخر، وكأن قوله: وَما تَوْفِيقِي إلخ إزاحة لما عسى أن يوهمه إسناد الاستطاعة إليه بإرادته من استبداده بذلك، ونظير ذلك إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5] وفيه مع ما بعده إشارة إلى محض التوحيد، وقال غير واحد: إنه قد اشتمل كلامه عليه السلام على مراعاة لطف المراجعة ورفق الاستنزال والمحافظة على حسن المجاراة والمحاورة، وتمهيد معاقد الحق بطلب التوفيق من جانبه تعالى والاستعانة به عز شأنه في أموره وحسم أطماع الكفار وإظهار الفراغ عنهم وعدم المبالاة بمعاداتهم، وقيل: وفيه أيضا تهديدهم بالرجوع إلى الله تعالى للجزاء، وذلك من قوله: وَإِلَيْهِ أُنِيبُ لأن الرجوع إليه سبحانه يكنى به عن الجزاء وهو وإن كان هنا مخصوصا به لاقتضاء المقام له لكنه لا فرق فيه بينه وبين غيره، وفيه مع خفاء وجه الإشارة أن الإنابة إنما هي الرجوع الاختياري بالفعل إليه سبحانه لا الرجوع الاضطراري للجزاء وما يعمه، وقد يقال: إن في قوله: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ إشارة أيضا إلى تهديدهم لأنه عز وجل الكافي المعين لمن توكل عليه لكن لا يتعين أن يكون ذلك تهديدا بالجزاء يوم القيامة وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ أي لا يكسبنكم شِقاقِي أي معاداتي، وأصلها أن أحد المتعاديين يكون في عدوة وشق والآخر في آخر، وروي هذا عن السدي وعن الحسن ضراري، وعن بعض فراقي، والكل متقارب، وهو فاعل- يجرمنكم- والكاف مفعوله الأول، وقوله سبحانه: أَنْ يُصِيبَكُمْ مفعوله الثاني، وقد جاء تعدي- جرم- إلى مفعولين كما جاء تعديها لواحد وهي مثل كسب في ذلك، ومن الأول قوله: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 316 ولقد طعنت أبا عيينة طعنة ... «جرمت» فزارة بعدها أن يغضبوا وإضافة- شقاق- إلى ياء المتكلم من إضافة المصدر إلى مفعوله أي لا يكسبنكم شقاقكم إياي أن يصيبكم مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ من الغرق أَوْ قَوْمَ هُودٍ من الريح أَوْ قَوْمَ صالِحٍ من الرجفة والصيحة ونهي الشقاق مجاز أو كناية عن نهيهم وهو أبلغ من توجيه النهي إليهم لأنه إذا نهى وهو لا يعقل علم نهي المشاقين بالطريق الأولى، وقرأ ابن وثاب والأعمش «يجرمنكم» بضم الياء، وحكي أيضا عن ابن كثير وهو حينئذ من أجرمته ذنبا إذا جعلته جارما له أي كاسبا، والهمزة للنقل من جرم المتعدي إلى مفعول واحد، ونظيره في النقل كذلك كسب المال فإنه يقال فيه أكسبه المال والقراءتان سواء في المعنى إلا أن المشهورة جارية على ما هو الأكثر استعمالا في كلام الفصحاء من العرب الموثوق بعربيتهم، وقرأ مجاهد والجحدري، وابن أبي إسحاق «مثل» بالفتح، وروي ذلك عن نافع، وخرجه جمع على أن «مثل» فاعل أيضا إلا أنه بني على الفتح لإضافته إلى غير متمكن، وقد جوز فيه وكذا في غير مع- ما وأن- المخففة والمشددة ذلك كالظروف المضافة للمبني، وعلى هذا جاء قوله: لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت ... حمامة في غصون ذات أو قال وبعض على أنه نعت لمصدر محذوف والفتحة إعراب أي إصابة مثل إصابة قوم نوح، وفاعل يُصِيبَكُمْ ضمير مستتر يعود على العذاب المفهوم من السياق وفيه تكلف وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ زمانا كما روي عن قتادة أو مكانا كما روي عن غيره ومراده عليه السلام أنكم إن لم تعتبروا بمن قبل لقدم عهد أو بعد مكان فاعتبروا بهؤلاء فإنهم بمرأى ومسمع منكم وكأنه إنما غير أسلوب التحذير بهم واكتفى بذكر قربهم إيذانا بأن ذلك مغن عن ذكر ما أصابهم لشهرة كونه منظوما في سمط ما ذكر من دواهي الأمم المرقومة، وجوز أن يراد بالبعد البعد المعنوي أي ليسوا ببعيد منكم في الكفر والمساوي، فاحذروا أن يحل بكم ما حل بهم من العذاب، وقد أخذ هذا المعنى بعض المتأخرين فقال: فإن لم تكونوا قوم لوط بعينهم ... فما قوم لوط منكم ببعيد وإفراد «بعيد» وتذكيره مع كون المخبر عنه وهو قوم اسم جمع، ومؤنثا لفظا على ما نص عليه الزمخشري، واستدل له بتصغيره على قويمة وذلك يقتضي أن يقال: ببعيدة موافقة للفظ وببعداء موافقة للمعنى لأن المراد، وما إهلاكهم أو وما هم بشيء بعيد، أو وما هم في زمان بعيد أو مكان بعيد، وجوز أن يكون ذلك لأنه يستوي في بعيد المذكر والمؤنث لكونه على زنة المصادر كالنهيق والصهيل. وفي الكشف عن الجوهري أن القوم يذكر ويؤنث لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها إذا كانت للآدميين تذكر وتؤنث مثل رهط ونفر وقوم وإذا صغرت لم تدخل فيه الهاء، وقلت: قويم ورهيط ونفير، ويدخل الهاء فيما يكون لغير الآدميين مثل الإبل والغنم لأن التأنيث لازم وبينه وبين ما نقل عن الزمخشري بون بعيد، وعليه فلا حاجة إلى التأويل، هذا ثم إنه عليه السلام لما أنذرهم سوء عاقبة صنيعهم عقبه طمعا في اروعائهم عما هم فيه من الضلال بالحمل على الاستغفار والتوبة فقال: وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ مر تفسير مثله إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ عظيم الرحمة فيرحم من يطلب منه المغفرة وَدُودٌ أي كثير الود والمحبة فيحب من يتوب ويرجع إليه، والمشهور جعل الودود مجازا باعتبار الغاية أي مبالغ في فعل ما يفعل البليغ المودة بمن يوده من اللطف والإحسان. وجوز أن يكون كناية عند من لم يشترط إمكان المعنى الأصلي، والداعي لارتكاب المجاز أو الكناية على ما قيل: إن المودة بمعنى الميل القلبي وهو مما لا يصح وصفه تعالى به، والسلفي يقول: المودة فينا الميل المذكور، وفيه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 317 سبحانه وراء ذلك مما يليق بجلال ذاته جل جلاله، وقيل: معنى وَدُودٌ متحبب إلى عباده بالإحسان إليهم، وقيل: محبوب المؤمنين، وتفسيره هنا بما تقدم أولى، والجملة في موضع التعليل للأمر السابق ولم يعتبر الأكثر ما أشرنا إليه من نحو التوزيع، فقال: عظيم الرحمة للتائبين مبالغ في اللطف والإحسان بهم، وهو مما لا بأس به قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ أي ما نفهم ذلك كأنهم جعلوا كلامه المشتمل على فنون الحكم والمواعظ وأنواع العلوم والمعارف إذ ضاقت عليهم الحيل وعيت بهم العلل ولم يجدوا إلى محاورته عليه السلام سبيلا من قبيل التخليط والهذيان الذي لا يفهم معناه ولا يدرك فحواه، وقيل: قالوا ذلك استهانة به عليه السلام كما يقول الرجل لمن لا يعبأ به: لا أدري ما تقول، وليس فيه كثير مغايرة للأول، ويحتمل أن يكون ذلك لعدم توجههم إلى سماع كلامه عليه السلام لمزيد نفرتهم عنه أو لغباوتهم وقصور عقولهم، قيل: وقولهم كَثِيراً للفرار عن المكابرة ولا يصح أن يراد به الكل وإن ورد في اللغة لأن مما تقول يأبى ذلك كما أن كَثِيراً نفسه يأبى حمل كلامهم هذا على أنه كناية عن عدم القبول، وزعم بعضهم أنهم إنما لم يفقهوا كثيرا مما يقول لأنه عليه السلام كان ألثغ، وأظن أنه لم يفصح بذلك خبر صحيح على أن ظاهر ما جاء من وصفه عليه السلام بأنه خطيب الأنبياء يأبى ذلك. ولعل صيغة المضارع للإيذان بالاستمرار وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا أي فيما بيننا ضَعِيفاً لا قوة لك ولا قدرة على شيء من الضر والنفع والإيقاع والدفع. وروي عن ابن عباس وابن جبير وسفيان الثوري وأبي صالح تفسير الضعيف بالأعمى وهي لغة أهل اليمن، وذلك كما يطلقون عليه ضريرا وهو من باب الكناية على ما نص عليه البعض، وإطلاق البصير عليه كما هو شائع من باب الاستعارة تمليحا، وضعف هذا التفسير بأن التقييد بقولهم: فينا بصير لغوا لأن من كان أعمى يكون أعمى فيهم وفي غيرهم وإرادة لازمه وهي الضعف بين من ينصره ويعاديه لا يخفى تكلفه، ومن هنا قال الإمام: جوز بعض أصحابنا العمى على الأنبياء عليهم السلام لكن لا يحسن الحمل عليه هنا، وأنت تعلم أن المصحح عند أهل السنة أن الأنبياء عليهم السلام ليس فيهم أعمى، وما حكاه الله تعالى عن يعقوب عليه السلام كان أمرا عارضا وذهب. والأخبار المروية عمن ذكرنا في شعيب عليه السلام لم نقف على تصحيح لها سوى ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فإن الحاكم صحح بعض طرقه لكن تصحيح الحاكم كتضعيف ابن الجوزي غير معول عليه، وربما يقال فيه نحو ما قيل في يعقوب عليه السلام، فقد أخرج الواحدي وابن عساكر عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «بكى شعيب عليه السلام من حب الله تعالى حتى عمي فرد الله تعالى عليه بصره وأوحى إليه يا شعيب ما هذا البكاء أشوقا إلى الجنة أم خوفا من النار، فقال: لا ولكن اعتقدت حبك بقلبي فإذا نظرت إليك فلا أبالي ما الذي تصنع بي، فأوحى الله تعالى إليه يا شعيب إن يكن ذلك حقا فهنيئا لك لقائي يا شعيب لذلك أخدمتك موسى ابن عمران كليمي» ، وذهب بعض المعتزلة إلى أنه لا يجوز استنباء الأعمى لكونه صفة منفرة لعدم الاحتراز معه عن النجاسات ولأنه يخل بالقضاء والشهادة فإخلاله بمقام النبوة أولى، وأجيب بأنا لا نسلم عدم الاحتراز معه عن النجاسات فإن كثيرا ممن نشاهده من العميان أكثر احترازا عنها من غيره، وبأن القاضي والشاهد يحتاجان إلى التمييز بين المدعي والمدعى عليه، والنبي لا يحتاج لتمييز من يدعوه مع أنه معصوم فلا يخطىء كغيره كذا قيل، فلينظر وَلَوْلا رَهْطُكَ أي جماعتك قال الراغب: هم ما دون العشرة. وقال الزمخشري: من الثلاثة إلى العشرة، وقيل: إلى السبعة، وقيل: بل يقال: إلى الأربعين، ولا يقع فيما قيل- كالعصبة. والنفر- إلا على الرجال، ومثله الراهط وجمعه أرهط وجمع الجمع أراهط، وأصله على ما نقل عن الرماني الشد، ومنه الرهيط لشدة الأكل، والراهطاء لحجر اليربوع لأنه يتوثق به ويخبىء فيه ولده، والظاهر أن مرادهم لولا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 318 مراعاة جانب رهطك لَرَجَمْناكَ أي لقتلناك برمي الأحجار، وهو المروي عن ابن زيد، وقيل: ذلك كناية عن نكاية القتل كأنهم قالوا: لقتلناك بأصعب وجه، وقال الطبري: أرادوا لسببناك كما في قوله تعالى: لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [مريم: 46] ، وقيل: لأبعدناك وأخرجناك من أرضنا، ولم يجوزوا أن يكون المراد لولا ممانعة رهطك ومدافعتهم لأن ممانعة الرهط وهم عدد نزر لألوف مؤلفة مما لا يكاد يتوهم ومعنى وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ ما أنت بمكرم محترم حتى نمتنع من رجمك وإنما نكف عنك للمحافظة على حرمة رهطك الذين ثبتوا على ديننا ولم يختاروك علينا، والجار الأول متعلق بِعَزِيزٍ وجاز لكون المعمول ظرفا والباء مزيدة، ولك أن تجعله متعلقا بمحذوف يفسره الظاهر وهو خبر أنت، وقد صرح السكاكي في المفتاح أنه قصد بتقديم هذا الضمير الذي هو فاعل معنوي وإن لم يكن الخبر فعلا بل صفة مشبهة وإيلائه النفي الحصر والاختصاص أي اختصاص النفي بمعنى أن عدم العزة مقصور عليك لا يتجاوزك إلى رهطك لا بمعنى نفي الاختصاص بمعنى لست منفردا بالعزة وهو ظاهر، قاله العلامة الثاني، وقال السيد السند: إنه قصد فيه نفي العزة عن شعيب عليه السلام وإثباتها لرهطه فيكون تخصيصا للعزة بهم ويلزمه تخصيص عدمها به إلا أن المتبادر كما يشهد به الذوق السليم هو القصد إلى الأول، واستدل السكاكي على كون ذلك للاختصاص بقوله عليه السلام في جواب هذا الكلام ما حكي بقوله عز شأنه: قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ أي من نبي الله على ما قال عليه الرحمة، ووجه الاستدلال كما قال العلامة وغيره: إنه لو لم يكن قصدهم اختصاصه بنفي العزة بل مجرد الإخبار بعدم عزته عليهم لم يستقم هذا الجواب ولم يكن مطابقا لمقالهم إذ لا دلالة لنفي العزة عنه على ثبوتها للغير، وإنما يدل على ذلك اختصاصه بنفي العزة. واعترض صاحب الإيضاح بأن هذا من باب أنا عارف وهو لا يفيد الاختصاص وفاقا وإنما يفيده التقديم على الفعل مثل أنا عرفت، وكون المشتقات قريبة من الأفعال في التقوى لا يقتضي كونها كالأفعال في الاختصاص والتمسك بالجواب ضعيف لجواز أن يكون جوابا لقولهم: لَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ فإنه يدل على أن رهطه هم الأعزة حيث كان الامتناع عن رجمه بسببهم لا بسببه ومعلوم بحسب الحال والمقام أن ذلك لعزتهم لا لخوفهم، وتعقبه السيد السند بأن صاحب الكشاف صرح بالتخصيص في قوله تعالى: كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [المؤمنون: 100] فكيف يقال: باب أنا عارف لا يفيد الاختصاص اتفاقا وإن جعله جوابا لما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ هو الظاهر بأن يجعل التنوين للتعظيم فيدل على ثبوت أصل العزة له عليه السلام ولا دلالة لقولهم: وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ على اشتراك العزة فلا يلائمه أرهطي أعز عليكم، ثم قال: فإن قيل: شرط التخصيص عند السكاكي أن يكون المقدم بحيث إذا أخر كان فاعلا معنويا ولا يتصور ذلك فيما نحن فيه قلنا: إن الصفة بعد النفي تستقل مع فاعلها كلاما فجاز أن يقال: ما عزيز أنت على أن يكون أنت تأكيدا للمستتر ثم يقدم ويدخل الباء على عزيز بعد تقديم أَنْتَ وجعله مبتدأ. وكذلك قوله سبحانه: وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا [هود: 29] وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [الزمر: 41، الشورى: 6] مما يلي حرف النفي وكان الخبر صفة، وقد صرح صاحب الكشاف وغيره بإفادة التقديم الحصر في ذلك كله، وأما صورة الإثبات نحو أنا عارف فلا يجري فيها ذلك فلا يفيد عنده تخصيصا، وإن كان مفيدا إياه عند من لا يشترط ذلك. وأجاب صاحب الكشف عما قاله صاحب الإيضاح بعد نقل خلاصته: بأن ما فيه الخبر وصفا كما يقارب ما فيه الخبر فعلا في إفادة التقوى على ما سلمه المعترض يقاربه في إفادة الحصر لذلك الدليل بعينه، وأن قولهم: وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ كفى به دليلا أن حق الكلام أن يفاد التخصيص لا أصل العز ففهمه من ذلك لا ينافي كونه جوابا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 319 لهذا الكلام بل يؤكده، وقد صرح الزمخشري بإفادة نحو هذا التركيب الاحتمالين في أنها كلمة هو قائلها، وقال العلامة الطيبي: إن قوله تعالى: لَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وقوله سبحانه: وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ من باب الطرد والعكس عنادا منهم فلا بد من دلالتي المنطوق، والمفهوم في كل من اللفظين انتهى. ويعلم من جميع ما ذكر ضعف اعتراض صاحب الإيضاح والعجب من العلامة حيث قال: إنه اعتراض قوي وأشار السكاكي بتقدير المضاف إلى دفع الإشكال بأن كلامهم إنما وقع في شعيب عليه السلام وفي رهطه وأنهم هم الأعزة دونه من غير دلالة على أنهم أعز من الله تعالى. وأجيب أيضا بأن تهاونهم بنبي الله تعالى تهاون به سبحانه فحين عز عليهم رهطه دونه كان رهطه أعز عليهم من الله تعالى أو بأن المعنى أرهطي أعز عليكم من الله تعالى حتى كان امتناعكم عن رجمي بسبب انتسابي إليهم وأنهم رهطي لا بسبب انتسابي إلى الله تعالى وأني رسوله. ثم ما ذكره السيد قدس سره من جعل التنوين في- عزيز- للتعظيم وحينئذ يدل الكلام على ثبوت أصل العزة له عليه السلام فيلائمه أرهطي أعز؟ إلخ صحيح في نفسه إلا أن ذلك بعيد جدا من حال القوم، فإن الظاهر أنهم إنما قصدوا نفي العزة عنه عليه السلام مطلقا وإثباتها لرهطه لا نفي العزة العظيمة عنه وإثباتها لهم ليدل الكلام على اشتراكهما في أصل العزة وزيادتها فيهم، وذلك لأن العزة وإن لم تكن عظيمة تمنع من القتل بالحجارة الذي هو من أشر أنواع القتل، ولا أظن إنكار ذلك إلا مكابرة، وكأنه لهذا لم يعتبر مولانا أبو السعود عليه الرحمة جعل التنوين للتعظيم لتتأتى المشاركة فيظهر وجه إنكار الأعزية فاحتاج للكشف عن ذلك مع عدم المشاركة، فقال: وإنما أنكر عليه السلام عليهم أعزية رهطه منه تعالى مع أن ما أثبتوه إنما هو مطلق عزة رهطه لا أعزيتهم منه عز وجل مع الاشتراك في أصل العزة لتثنية التقريع وتكرير التوبيخ حيث أنكر عليهم أولا ترجيح جنبة الرهط على جنبة الله تعالى. وثانيا نفي العزة بالمرة، والمعنى أرهطي أعز عليكم من الله فإنه مما لا يكاد يصح، والحال أنكم لم تجعلوا له تعالى حظا من العزة أصلا وَاتَّخَذْتُمُوهُ بسبب عدم اعتدادكم بمن لا يرد ولا يصدر إلا بأمره وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا شيئا منبوذا وراء الظهر منسيا انتهى. وأنا أقول: قد ذكر الرضي أن المجرور بمن التفضيلية لا يخلو من مشاركة المفضل في المعنى إما تحقيقا كما في- زيد أحسن من عمرو- أو تقديرا كقول علي كرم الله تعالى وجهه: لأن أصوم يوما من شعبان أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان وذلك لأن إفطار يوم الشك الذي يمكن أن يكون من رمضان محبوب عند المخالف فقدره علي كرم الله تعالى وجهه محبوبا إلى نفسه أيضا، ثم فضل صوم شعبان عليه فكأنه قال: هب أنه محبوب عندي أيضا أليس صوم يوم من شعبان أحب منه انتهى، وما في الآية يمكن تخريجه على طرز الأخير فيكون إنكاره عليه السلام عليهم أعزية رهطه منه تعالى على تقدير أن يكون عز وجل عزيزا عندهم أيضا، ويعلم من ذلك إنكار ما هم عليه بطريق الأولى، وكأن هذا هو الداعي لاختيار هذا الأسلوب من الإنكار، ووقوعه في الجواب لا يأبى ذلك، وإن قيل بجواز خلو المجرور- بمن- من مشاركة المفضل وإرادة مجرد المبالغة من أفعل المقرون بها بناء على مجيء ذلك بقلة- كما قال الجلال السيوطي في همع الهوامع- نحو العسل أحلى من الخل والصيف أحر من الشتاء، واعتمد هنا على قرينة السباق والسياق فالأمر واضح، واستحسن كون قوله تعالى: وَاتَّخَذْتُمُوهُ إلخ اعتراضا وفائدته تأكيد تهاونهم بالله تعالى ببيان أنهم قوم عادتهم أن لا يعبؤوا بالله تعالى ويجعلوه كالشيء المنبوذ، وجوز بعض كونه عطفا على ما قبله على معنى أفضلتم رهطي على الله سبحانه وتهاونتم به تعالى ونسيتموه ولم تخشوا جزاءه عز وجل، وقال غير واحد: إنه يحتمل أن يكون الغرض من قوله عليه السلام أَرَهْطِي إلخ الرد والتكذيب لقومه فإنهم لما ادعوا أنهم لا يكفون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 320 عن رجمه عليه السلام لعزته بل لمراعاة جانب رهطه ردّ عليهم ذلك بأنكم ما قدرتم الله تعالى حق قدره ولم تراعوا جنابه القوي فكيف تراعون رهطي الأذلة، وأيا ما كان فضمير اتَّخَذْتُمُوهُ عائد إلى الله تعالى وهو الذي ذهب إليه جمهور المفسرين، وروي عن ابن عباس والحسن وغيرهما، والظهري- منسوب إلى الظهر، أصله المرمي وراء الظهر، والكسر من تغييرات النسب كما قالوا في النسبة إلى أمس: أمسي بالكسر وإلى الدهر دهري بالضم، ثم توسعوا فيه فاستعلموه للمنسي المتروك، وذكروا أنه يحتمل أن يكون في الكلام استعارة تصريحية وأن يكون استعارة تمثيلية. وزعم بعضهم أن الضمير له تعالى، والظهري- العون وما يتقوى به، والجملة في موضع الحال، والمعنى أفضلتم الرهط على الله تعالى ولم تراعوا حقه سبحانه والحال أنكم تتخذونه سند ظهوركم وعماد آمالكم. ونقل ابن عطية هذا المعنى عن جماعة، وقيل: الظهري المنسي، والضمير عائد على الشرع الذي جاء به شعيب عليه السلام وإن لم يذكر صريحا، وروي عن مجاهد أو على أمر الله، ونقل عن الزجاج، وقيل: الظهري بمعنى المعين، والضمير لله تعالى، وفي الكلام مضاف محذوف أي عصيانه والمعنى على ما قرره أبو حيان واتخذتم عصيانه تعالى عونا وعدة لدفعي، وقيل: لا حذف والضمير للعصيان وهو الذي يقتضيه كلام المبرد، ولا يخفى ما في هذه الأقوال من الخروج عن الظاهر من غير فائدة، ومما ينظم في سلكها تفسير العزيز بالملك زعما أنهم كانوا يسمون الملك عزيزا على أن من له أدنى ذوق لا يكاد يسلم صحة ذلك فتفطن، ونصب ظِهْرِيًّا على أنه مفعول ثان- لاتخذتموه- والهاء مفعوله الأول، ووَراءَكُمْ ظرف له أو حال من ظِهْرِيًّا. إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ تهديد عظيم لأولئك الكفرة الفجرة أي أنه سبحانه قد أحاط علما بأعمالكم السيئة التي من جملتها رعايتكم جانب الرهط دون رعاية جنابه جل جلاله في فيجازيكم على ذلك، وكذا قوله: وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي غاية تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم، وهو مصدر مكن يقال: مكن مكانة إذا تمكن أبلغ تمكن، والميم على هذا أصلية، وفي البحر يقال: المكان والمكانة مفعل ومفعلة من الكون والميم حينئذ زائدة، وفسر ابن زيد- المكانة- بالحال يقال: على مكانتك يا فلان إذا أمرته أن يثبت على حاله كأنك قلت: اثبت على حالك التي أنت عليها لا تنحرف، وهو من استعارة العين للمعنى كما نص عليه غير واحد، وحاصل المعنى هاهنا اثبتوا على ما أنتم عليه من الكفر والمشاقة لي وسائر ما لا خير فيه. وقرأ أبو بكر- مكاناتكم- على الجمع وهو باعتبار جمع المخاطبين كما أن الافراد باعتبار الجنس، والجار والمجرور كما قال بعضهم: يحتمل أن يكون متعلقا بما عنده على تضمين الفعل على معنى البناء ونحوه كما تقول: عمل على الجد وعلى القوة ونحوهما، وأن يكون في موضع الحال أي اعملوا قارين وثابتين على مكانتكم. إِنِّي عامِلٌ على مكانتي حسبما يؤيدني الله تعالى ويوفقني بأنواع التأييد والتوفيق، وكأنه حذف على مكانتي للاختصار ولما فيه من زيادة الوعيد، وقوله سبحانه: سَوْفَ تَعْلَمُونَ استئناف وقع جواب سؤال مقدر ناشىء من تهديده عليه السلام إياهم بقوله: اعْمَلُوا إلخ كأن سائلا منهم سأل فماذا يكون بعد ذلك؟ فقيل: سَوْفَ تَعْلَمُونَ ولذا سقطت الفاء وذكرت في آية الأنعام للتصريح بأن الوعيد ناشىء ومتفرع على إصرارهم على ما هم عليه والتمكن فيه، وما هنا أبلغ في التهويل للإشعار بأن ذلك مما يسأل عنه ويعتنى به، والسؤال المقدر يدل على ما دلت عليه الفاء مع ما في ذلك من تكثير المعنى بتقليل اللفظ، وكأن الداعي إلى الإتيان بالأبلغ هنا دون ما تقدم أن القوم قاتلهم الله تعالى بالغوا في الاستهانة به عليه السلام وبلغوا الغاية في ذلك فناسب أن يبالغ لهم في التهديد ويبلغ فيه الغاية وإن كانوا في عدم الانتفاع كالأنعام، وما فيها نحو ذلك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 321 وقال بعض أجلة الفضلاء: إن اختيار إحدى الطريقين ثمة والأخرى هنا وإن كان مثله لا يسأل عنه لأنه دوري لأن أول الذكرين يقتضي التصريح فيناسب في الثاني خلافه انتهى، وهو دون ما قلناه، ومَنْ في قوله سبحانه: مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ قيل: موصولة مفعول العلم وهو بمعنى العرفان، وجملة يَأْتِيهِ عَذابٌ صلة الموصول، وجملة يُخْزِيهِ صفة عَذابٌ ووصفه بالإخزاء تعريضا بما أوعدوه عليه السلام من الرجم فإنه مع كونه عذابا فيه خزي ظاهر، وقوله تعالى: وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ عطف على مَنْ يَأْتِيهِ ومَنْ أيضا موصولة، وجوز أن تكون مَنْ في الموضعين استفهامية، والعلم على بابه وهي معلقة له عن العمل. واستظهر أبو حيان الموصولية، وليس هذا العطف من عطف القسيم على قسيمه كما في- سيعلم الصادق والكاذب- إذ ليس القصد إلى ذكر الفريقين، وإنما القصد إلى الرد على القوم في العزم على تعذيبه بقولهم: لَرَجَمْناكَ والتصميم على تكذيبه بقولهم: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ [هود: 87] إلخ فكأنه قيل: سيظهر لكم من المعذب أنتم أم نحن ومن الكاذب في دعواه أنا أم أنتم وفيه إدراج حال الفريقين أيضا. وفي الإرشاد أن فيه تعريضا بكذبهم في ادعائهم القوة والقدرة على رجمه عليه السلام، وفي نسبته إلى الضعف والهوان وفي ادعائهم الإبقاء عليه لرعاية جانب الرهط، وقال الزمخشري: إنه كان القياس، ومن هو صادق بدل هذا المعطوف لأنه قد ذكر عملهم على مكانتهم، وعمله على مكانته، ثم أتبعه ذكر عاقبة العاملين منه ومنهم فحينئذ ينصرف مَنْ يَأْتِيهِ إلخ إلى الجاحدين ومن هو صادق إلى النبي المبعوث ولكنهم لما كانوا يدعونه عليه السلام كاذبا قال: ومن هو كاذب بمعنى في زعمكم ودعواكم تجهيلا لهم يعني أنه عليه السلام جرى في الذكر على ما اعتادوه في تسميته كاذبا تجهيلا لهم، والمعنى ستعلمون حالكم وحال الصادق الذي سميتموه كاذبا لجهلكم، وليس المراد ستعلمون أنه كاذب في زعمكم فلا يرد ما توهم من أن كذبه في زعمهم واقع معلوم لهم الآن فلا معنى لتعليق علمه على المستقبل، وقال ابن المنير: الظاهر أن الكلامين جميعا لهم- فمن يأتيه- إلخ متضمن ذكر جزائهم، وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ متضمن ذكر جرمهم الذي يجازون به وهو الكذب، وهو من عطف الصفة على الصفة والموصوف واحد كما تقول لمن تهدده: ستعلم من يهان ومن يعاقب، وأنت تعني المخاطب في الكلامين فيكون في ذكر كذبهم تعريض لصدقه وهو أبلغ وأوقع من التصريح، ولذلك لم يذكر عاقبة شعيب عليه السلام استغناء بذكر عاقبتهم، وقد مر مثل ذلك أول السورة في قوله سبحانه: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ [الزمر: 40] حيث اكتفى بذلك عن أن يقول: ومن هو على خلاف ذلك، ونظيره فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ [الأنعام: 135] حيث ذكر فيه إحدى العاقبتين لأن المراد بهذه العاقبة عاقبة الخير لأنها متى أطلقت لا يعني إلا ذلك نحو والعاقبة للمتقين، ولأن اللام في له يدل على أنها ليست عليه، واستغنى عن ذكر مقابلتها انتهى، وتعقبه الطيبي بما رده عليه الفاضل الجلبي وَارْتَقِبُوا أي انتظروا ما أقول لكم من حلول ما أعدكم به وظهور صدقه إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ أي منتظر ذلك، وقيل: المعنى انتظروا العذاب إني منتظر النصرة والرحمة، وروي ذلك عن ابن عباس، ورَقِيبٌ إما بمعنى مرتقب كالرفيع بمعنى المرتفع أو راقب كالصريم بمعنى الصارم، أو مراقب كعشير بمعنى معاشر، والأنسب على ما قيل بقوله: ارْتَقِبُوا: الأول وإن كان مجيء فعيل بمعنى اسم الفاعل المزيد غير كثير وفي زيادة مَعَكُمْ إظهار منه عليه السلام لكمال الوثوق بأمره وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا أي عذابنا كما ينبىء عنه قوله سبحانه: سَوْفَ تَعْلَمُونَ إلخ أو وقته فإن الارتقاب يؤذن بذلك نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وهو الإيمان الذي وفقناهم له أو بمرحمة كائنة منا لهم وإنما جيء بالفاء في قصتي ثمود ولوط حيث قيل: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 322 فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا وبالواو هاهنا وفي قصة عاد حيث قيل: وَلَمَّا جاءَ إلخ لأنه قد سبق هناك سابقة الوعد بقوله سبحانه: ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ [هود: 65] وقوله تعالى: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ [هود: 81] وهو يجري مجرى السبب المقتضي لدخول الفاء في معلوله، وأما هاهنا. وفي قصة عاد فلم يسبق مثل ذلك بل ذكر مجيء العذاب على أنه قصة بنفسه وما قبله قصة أخرى لكنهما متعلقان بقوم واحد فهما متشاركان من وجه مفترقان من آخر، وذلك مقام الواو كذا قيل. وتعقب بأن في الكلام هاهنا ذكر الوعد أيضا، وهو قوله سبحانه: يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إلى قوله عز وجل: رَقِيبٌ غاية الأمر أنه لم يذكر بلفظ الوعد ومثله لا يكفي في الفرق، وقيل: إن ذكر الفاء في الموضعين لقرب عذاب قوم صالح ولوط للوعد المذكور فإن بين الأولين والعذاب ثلاثة أيام وبين الآخرين وبينه ما بين قول الملائكة إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ والصبح: وهي سويعات يسيرة. ولا كذلك عذاب قومي شعيب وهود عليهما السلام بل في قصة قوم شعيب عليه السلام ما يشعر بعدم تضييق زمان مجيء العذاب بناء على الشائع في استعمال سَوْفَ على أن من أنصف من نفسه لم يشك في الفرق بين الوعد في قصتي صالح ولوط عليهما السلام. والوعد في غيرهما، فإن الإشعار بالمجيء فيهما ظاهر فحسن تفريعه بالفاء ولا كذلك في غيرهما كذا قيل، وفيه ما لا يخفى، ولعل الاقتصار على التفرقة بالقرب وعدمه أقل غائلة مما قيل، وكذا مما يقال: من أن الإتيان بالفاء- لتقدم الوعد وتركها وإن كان هناك وعد للإشارة إلى سوء حال أولئك القومين ومزيد فظاعته حتى أن العذاب حل بهم لا لسبب سبق الوعد بل لمجرد ظلمهم وكأن وجه اعتبار ذلك فيهم دون قومي لوط وصالح عليهما السلام أنهم امتازوا عنهم برمي ذينك النبيين بالجنون ومشافهتهما بما لم يشافه به كل من قومي صالح ولوط نبيه فيما قص عنهما في هذه السورة الكريمة فإن في ذلك ما لا يكاد يخفى عليك فتدبر وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا عدل عن الضمير تسجيلا عليهم بالظلم وإشعارا بالعلية أي وأخذت أولئك الظالمين بسبب ظلمهم الذي فصل الصَّيْحَةُ قيل: صاح بهم جبريل عليه السلام فهلكوا وكانت صيحة على الحقيقة، وجوز البلخي أن يكون المراد بها نوعا من العذاب، والعرب تقول: صاح بهم الزمان إذا هلكوا، وقال امرؤ القيس: فدع عنك نهبا «صيح» في حجراته ... ولكن حديث ما حديث الرواحل والمعول عليه الأول، وقد سبق في [الأعراف: 78، 91، 155] الرَّجْفَةُ أي الزلزلة بدلها، ولعلها كانت من مباديها فلا منافاة، وقيل: غير ذلك فتذكر فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ أي ميتين من جثم الطائر إذا ألصق بطنه بالأرض، ولذا خص الجثمان بشخص الإنسان قاعدا، ثم توسعوا فاستعملوا الجثوم بمعنى الإقامة، ثم استعير من هذا الجاثم للميت لأنه لا يبرح مكانه، ولما لم يجعل متعلق العلم في قوله سبحانه: سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ إلخ نفس مجيء العذاب بل من يجيئه ذلك جعل مجيئه بعد أمرا مسلم الوقوع غنيا عن الإخبار به حيث جعل شرطا، وجعل تنجية شعيب عليه السلام والمؤمنين وإهلاك الكفرة الظالمين جوابا له ومقصود الإفادة، وإنما قدم التنجية اهتماما بشأنها وإيذانا بسبق الرحمة على الغضب قاله شيخ الإسلام، وأصبح- إما ناقصة أو تامة أي صاروا جاثمين، أو دخلوا في الصباح حال كونهم جاثمين كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا أي لم يقيموا فِيها متصرفين في أطرافها متقلبين في أكنافها، والجملة إما خبر بعد خبر أو حال بعد حال. أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ العدول عن الإضمار إلى الإظهار للمبالغة في تفظيع حالهم وليكون أنسب بمن شبه هلاكهم بهلاكهم، وإنما شبه هلاكهم بهلاكهم لأن عذاب كل كان بالصيحة غير أنه روى الكلبي عن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 323 ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن صيحة ثمود كانت من تحتهم وصيحة مدين كانت من فوقهم. وقرأ السلمي وأبو حيوة «بعدت» بضم العين، والجمهور بكسرها على أنه من بعد يبعد بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع بمعنى هلك، ومنه قوله: يقولون: «لا تبعد» وهم يدفونني ... وأين مكان البعد إلا مكانيا وأما بعد يبعد بالضم فهو البعد ضد القرب قاله ابن قتيبة، قيل: أرادت العرب بهذا التغيير الفرق بين المعنيين، وقال ابن الأنباري: من العرب من يسوي بين الهلاك والبعد الذي هو ضد القرب، وفي القاموس البعد المعروف والموت، وفعلهما- ككرم وفرح- بعدا وبعدا بفتحتين، وقال المهدوي: إن بعد بالضم يستعمل في الخير والشر وبعد بالكسر في الشر خاصة، وكيفما كان الأمر فالمراد ببعدت على تلك القراءة أيضا هلكت غاية الأمر أنه في ذلك إما حقيقة أو مجاز، ومن هلك فقد بعد ونأى كما قال الشاعر: من كان بينك في التراب وبينه ... شهران فهو في غاية «البعد» وفي الآية ما يسمى الاستطراد، قيل: ولم يرد في القرآن من هذا النوع إلا ما في هذا الموضع وقد استعملته العرب في أشعارها، ومن ذلك قول حسان رضي الله تعالى عنه: إن كنت كاذبة الذي حدثتني ... فنجوت منجى الحارث بن هشام ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ... ونجا برأس طمرة ولجام هذا ومن باب الإشارة في الآيات: قوله سبحانه في قصة هود عليه السلام: ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فيه إشارة إلى أن كل ذي نفس تحت قهره سبحانه وسلطانه أسير في يد تصرفه وملكته عاجز عن الفعل إلا بإذنه وأنه عز وجل لا يسلط أحدا على أحد إلا عن استحقاق ذنب أو رفع درجة وإعلاء منزلة لأنه تبارك وتعالى على طريق العدل الذي لا اعوجاج فيه، وذكر الشيخ الأكبر قدس سره في فصوصه: إن كل ما سوى الحق فهو دابة فإنه ذو روح وما ثم من يدب بنفسه وإنما يدب بغيره بحكم التبعية للذي هو على صراط مستقيم فكل ماش فهو على الصراط المستقيم وحينئذ فلا مغضوب عليه ولا ضال من هذا الوجه، نعم إن الناس على قسمين: أهل الكشف وأهل الحجاب، فالأولون يمشون على طريق يعرفونها ويعرفون غايتها فهي في حقهم صراط مستقيم كما أنها في نفس الأمر كذلك، والآخرون يمشون على طريق يجهلونها ولا يعرفون غايتها وأنها تنتهي إلى الحق فهي في حقهم ليست صراطا مستقيما وإن كانت عند العارف ونفس الأمر صراطا مستقيما، واستنبط قدس سره من الآية أن مآل الخلق كلهم إلى الرحمة التي وسعت كل شيء، وهي الرحمة السابقة على الغضب، وادعى أن فيها بشارة للخلق أيّ بشارة. وقال القيصري في تفسيرها: أي ما من شيء موجود إلا هو سبحانه آخذ بناصيته وإنما جعل دابة لأن الكل عند صاحب الشهود وأهل الوجود حي، فالمعنى ما من حي إلا والحق آخذ بناصيته ومتصرف فيه بحسب أسمائه يسلك به أي طريق شاء من طرقه وهو على صراط مستقيم وأشار بقوله سبحانه: آخِذٌ إلى هوية الحق الذي مع كل من الأسماء ومظاهرها، وإنما قال: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ بإضافة الرب إلى نفسه، وتنكير الصراط تنبيها على أن كل رب على صراطه المستقيم الذي عين له من الحضرة الإلهية، والصراط المستقيم الجامع للطرق هو المخصوص بالاسم الإلهي ومظهره لذلك قال في الفاتحة المختصة بنبينا صلّى الله عليه وسلم: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] بلام العهد أو الماهية التي منها تتفرع جزئياتها، فلا يقال: إذا كان كل أحد على الصراط المستقيم فما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 324 فائدة الدعوة؟ لأنا نقول: الدعوة إلى الهادي من المضل. وإلى العدل من الجائر كما قال سبحانه: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً [مريم: 85] انتهى بحروفه، وأعظم من هذا إشكالا التكليف مع القول بالوحدة وكذا التنعيم والتعذيب فإن الظاهر من التقرير لكلام المحققين من الصوفية أن المكلف عبارة عن موجود هو حصة من الوجود المطلق المفاض على حقائق الممكنات المتعين بتعينات مختلفة اقتضتها الاستعدادات الذاتية للحقائق التي هي المعدومات المتميزة في نفس الأمر المستعدة باستعدادات ذاتية غير مجعولة، فالمكلف مقيد من مقيدات الوجود المطلق المفاض، والمقيد لا يوجد بدون المطلق لأنه قيومه، والمطلق من حيث الإطلاق عين الحق، ولا شك أن قاعدة التكليف تقتضي أن يكون بينهما مغايرة ومباينة حقيقية ذاتية حتى يصح التكليف وما يترتب عليه من التعذيب والتنعيم. وأجيب بأن حقيقة الممكن أمر معدوم متميز في نفسه بتميز ذاتي غير مجعول ووجوده خاص مقيد بخصوصية ما اقتضاها استعداده الذاتي لماهيته العدمية فهو مركب من الوجود والعدم وحقيقته مغايرة لوجوده تعقلا لتمايزهما ذهنا، ولا ينافي ذلك قول الأشعري: وجود كل شيء عين حقيقته لما بين في محله وحقيقة الحق تعالى لا تغاير وجوده ووجوده سبحانه هو الوجود المطلق بالإطلاق الحقيقي حسبما حققه محققو الصوفية، فالمغايرة الذاتية بين المكلف والمكلف في غاية الظهور لأن المكلف هو المعدوم اللابس لحصة من الوجود المتعين بمقتضى حقيقته، والمكلف سبحانه هو الحق عز وجل الذي هو عين الوجود المطلق الغير المقترن بماهية عدمية، وبعبارة أخرى: إن حقيقة الممكن أمر معدوم وحقيقة الواجب سبحانه الوجود المطلق حتى عن قيد الإطلاق وقد وقع في البين تجلي الهوية في العبد وذلك التجلي هو الجامع للقدرة وغيرها من الكمالات التي يتوقف عليها التكليف بمقتضى الحكمة ومحقق للمغايرة. وحاصل ذلك أن حقيقة المزج بين تجلي الهوية والصورة الخلقية المتعينة بمقتضى الحقيقة العدمية هي التي أحدثت ما به يصح التكليف وما يترتب عليه، وكون الحق سبحانه قيوما للوجود المقيد غير قادح في ذلك بل القيومية هي المصححة له لما تبين من النصوص أنه لا تكليف إلا بالوسع ولا وسع للممكن إلا بقيوميته تعالى بنص ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ [الكهف: 39] وما هو بالله فهو لله تعالى، والبحث في ذلك طويل، وبعض كلماتهم يتراءى منهم عدم المغايرة بين المكلف والمكلف من ذلك ما قيل: لقد كنت دهرا قبل أن يكشف الغطا ... إخالك أني ذاكر لك شاكر فلما أضاء الليل أصبحت شاهدا ... بأنك مذكور وذكر وذاكر لكن ينبغي أن لا يبادر سامعها بالإنكار، ويرجع في المراد منها إلى العارفين بدقائق الأسرار، هذا وقد تقدم الكلام في ناقة صالح عليه السلام، وفيما قص الله تعالى هاهنا عن إبراهيم عليه السلام إشارة إلى بعض آداب الفتوة، فقد قالوا: إن من آدابها إذا نزل الضيف أن يبدأ بالكرامة في الإنزال ثم يثني بالكرامة بالطعام، وإنما أوجس عليه السلام في نفسه خيفة لأنه ظن الغضب، والخليل يخشى غضب خليله ومناه رضاه، ولله در من قال: لعلك غضبان ولست بعالم ... سلام على الدارين إن كنت راضيا وفي هذه القصة دليل على أنه قد ينسد باب الفراسة على الكاملين لحكم يريدها الله تعالى، ومن ذلك لم يعرف إبراهيم وكذا لوط عليهما السلام الملائكة عليهم السلام في أول الأمر، وكانت مجادلته عليه السلام من آثار مقام الإدلال على ما قيل، وقوله تعالى عن لوط عليه السلام: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ قيل: يشير بالقوة إلى الهمة وهي عندهم القوة المؤثرة في النفوس لأن القوة منها جسمانية ومنها روحانية، وهذه المسماة بالهمة وهي أقوى تأثيرا لأنها قد تؤثر في أكثر العالم. أو كله بخلاف الجسمانية، وقصد عليه السلام بالركن الشديد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 325 القبيلة لأنه يعلم أن أفعال الله تعالى لا تظهر في الخارج إلا على أيدي المظاهر فتوجه إلى الله سبحانه وطلب منه أن يجعل له أنصارا ينصرونه على أعداء الله تعالى، وردد الأمر بين ذلك وأن يجعل له همة مؤثرة من نفسه ليقاوم بها الأعداء، وقد علمت ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلم من قوله: «يرحم الله تعالى أخي لوطا» الخبر. وذكر الشيخ الأكبر قدس سره أنه عليه الصلاة والسلام نبه بذلك الخبر أن لوطا كان مع الله تعالى من أنه سبحانه رُكْنٍ شَدِيدٍ والإشارة في قصة شعيب عليه السلام إلى أنه ينبغي لمن كان في حيز أن لا يعصي الله تعالى، وللواعظ أن لا يخالف فعله قوله: لا تنه عن خلق وتأتي مثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم وأنه لا ينبغي أن يكون شيء عند العبد أعز عليه من الله تعالى إلى غير ذلك، والله تعالى الهادي إلى سبيل الرشاد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 326 وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وهي الآيات التسع العصا واليد البيضاء والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والنقص من الثمرات والأنفس، والباء متعلقة بمحذوف وقع حالا من مفعول أَرْسَلْنا أو نعتا لمصدره المؤكد أي أرسلناه حال كونه ملتبسا بآياتنا أو أرسلناه إرسالا ملتبسا بها. وَسُلْطانٍ مُبِينٍ هو المعجزات الباهرة منها- وهو العصا- والإفراد بالذكر لإظهار شرفها لكونها أبهرها، والمراد بالآيات ما عداها، ويجوز أن يراد بهما واحد، والعطف باعتبار التغاير الوصفي أي أرسلناه بالجامع بين كونه آياتنا وكونه سلطانا له على نبوته واضحا في نفسه أو موضحا إياها من أبان لازما بمعنى تبين ومتعديا بمعنى بين، وجعل بعضهم الآيات والسلطان شيئا واحدا في نفس الأمر إلا أن في ذلك تجريدا نحو مررت بالرجل الكريم والنسمة المباركة كأنه جرد من الآيات الحجة وجعلها غيرها وعطفت عليها لذلك، وجوز أن يكون المراد بالآيات ما سمعت وبالسلطان ما بينه عليه السلام في تضاعيف دعوته حين قال له فرعون: فَمَنْ رَبُّكُما [طه: 49] فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى [طه: 51] من الحقائق الرائقة والدقائق اللائقة أو هو الغلبة والاستيلاء كما في قوله سبحانه: وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً وجعله عبارة عن التوراة، أو إدراجها في جملة الآيات يرده كما قال أبو حيان قوله عز وجل: إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فإن نزولها إنما كان بعد مهلك فرعون وقومه قاطبة ليعمل بها بنو إسرائيل فيما يأتون ويذرون، وأما فرعون وقومه فإنما كانوا مأمورين بعبادة رب العالمين وترك العظيمة الشنعاء التي كان يدعيها الطاغية وتقبلها منه فئته الباغية وبإرسال بني إسرائيل من الأسر والقسر، ومن هذا يعلم ما في عد النقص من الثمرات والنقص من الأنفس آية واحدة من الآيات التسع، وعد إظلال الجبل منها لأن ذلك إنما كان لقبول التوراة حين أباه بنو إسرائيل فهو متأخر أيضا ضرورة. ومثل ذلك عد فلق البحر وإظلال الغمام بدلهما لأن هذا الإظلال أيضا متأخر عن مهلك فرعون وقومه. وأجاب بعض الأفاضل عن الاعتراض على جعل التوراة من الآيات بأن التصحيح ممكن، أما أولا فبما صرحوا به من جواز إرجاع الضمير وتعلق الجار ونحوه بالمطلق الذي في ضمن المقيد فقوله سبحانه: إِلى فِرْعَوْنَ يجوز أن يتعلق بالإرسال المطلق لا المقيد بكونه بالتوراة، وأما ثانيا فبأن يقال: إن موسى عليه السلام كما أرسل إلى الفراعنة أرسل إلى بني إسرائيل أيضا فيجب أن يحمل ملأ فرعون على ما يشملهم فيجيء الكلام على التوزيع على معنى أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين وإلى ملئه بالتوراة فيكون لفا ونشرا غير مرتب، ويقال نحو هذا على تقدير عدّ إظلال الجبل أو الغمام من الآيات، وفي مجموعة سري الدين المصري أن هذا السؤال مما أورد الحافظ الطاشكندي على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 327 مخدوم الملك فأجاب بأن قوله سبحانه: بِآياتِنا حال مقدرة أي مقدرين تلبسه أو نصرته بالآيات والسلطان إلى فرعون وملئه فلا يقدح فيه ظهور بعضها بعد هلاك فرعون كالتوراة وانفجار الماء وغير ذلك، وبأنه قيل: إن إعطاء التوراة مجموعا مرتبا مكتوبا في الألواح بعد غرق فرعون، وأوحى بها إلى موسى عليه السلام في حياة فرعون وكان يأمر بها قومه ويبلغها إلى فرعون وملئه، ويؤيده ما قيل: إن بعض الألواح كان منزلا قبل نزول التوراة بتمامها وكانت تلك الألواح من خشب والألواح التي كانت فيها التوراة بتمامها كانت من زمرد أو من ياقوت أحمر أو من صخرة صماء انتهى، ولا يخفى أن الذهاب إلى كون الحال مقدرة مما لا يكاد يقبله الذوق السليم، وما حكي من أن إعطاء التوراة مجموعا كان بعد والإيحاء بها كان قبل إلخ مما لا مستند له من الأخبار الصحيحة، وما ذكر أولا من حديث التعلق بالمطلق. وثانيا من حمل «الملأ» على ما يشمل بني إسرائيل إلخ مما ينبغي أن ينزه ساحة التنزيل عنه، وكيف يحمل- الملأ- على ما يشمل بني إسرائيل مع الإضافة إليه وجعلهم من أهل النار، ولا أظنك في مرية من القول بعدم صحة ذلك وقيل: لو جعل إِلى فِرْعَوْنَ متعلقا بسلطان مبين لفظا أو معنى على تقدير وسلطان مرسل به إلى فرعون لم يبعد مع المناسبة بينه وبين السلطان، وفيه ما لا يخفى فتأمل. وتخصيص- الملأ- بالذكر مع عموم رسالة موسى عليه السلام للقوم كافة لأصالتهم في الرأي وتدبير الأمور واتباع الغير لهم في الورود والصدور، ولم يصرح بكفر فرعون بالآيات وانهماكه فيما كان عليه من الضلال والإضلال بل اقتصر على ذكر شأن ملئه فقيل: فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ أي أمره بالكفر بما جاء به موسى عليه السلام من الحق للإيذان بوضوح حاله فكأن كفره وأمر ملئه بذلك أمر متحقق الوجود غير محتاج إلى الذكر صريحا، وإنما المحتاج إلى ذلك شأن ملئه المترددين بين هاد إلى الحق- وهو موسى عليه السلام- وداع إلى الضلال- وهو فرعون- فنعى عليهم سوء اختيارهم، وإيراد الفاء للإشعار بمفاجأتهم في الاتباع ومسارعة فرعون إلى الكفر والأمر به، فكأن ذلك لم يتراخ عن الإرسال والتبليغ. وجوز أن يراد من الأمر الطريقة والشأن، قيل: ومعنى فَاتَّبَعُوا فاستمروا على الاتباع، والفاء مثل ما في قولك: وعظته فلم يتعظ وزجرته فلم ينزجر، فإن الإتيان بالشيء بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه وإن كان استمرارا عليه لكنه بحسب العنوان فعل جديد وصنع حادث، ويجوز أن يكون المراد فاتصفوا بما اتصف به فرعون من الكفر بما جاء به موسى عليه السلام والتكذيب له ووافقوه في ذلك، وإيراد الفاء للإشعار بمفاجأتهم في الموافقة لفرعون في الكفر ومسارعته إليه فكأنه حين حصل الإرسال والتبليغ حصل كفر فرعون بما جاء به موسى عليه السلام ووقع على أثره الموافقة منهم، ولا تتوهمن أن هذه الموافقة كانت حاصلة لهم قبل لأنها تتوقف على اتصاف فرعون بالكفر بما جاء به موسى عليه السلام، وذلك إنما تجدد له بعد الإرسال والتبليغ فلا ضرورة إلى الحمل على الاستمرار، وجعل الفاء كما في قولك: زجرته فانزجر فتأمل. وعدل عن أمره إلى أمر فرعون لدفع توهم رجوع الضمير إلى موسى عليه السلام من أول الأمر ولزيادة تقبيح حال المتبعين فإن فرعون علم في الفساد والإفساد والإضلال، فاتباعه لفرط الجهالة وعدم الاستبصار، وكذا الحال في قوله تعالى: وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ أي براشد أو بذي رشد، والرشد ضد الغي وإسناده إلى الأمر مجازي وكأن في العدول عن أمر فرعون غي وضلال إلى ما في النظم الكريم زيادة في تقبيح فعلهم وتحسيرا لهم على فوات ما فيه صلاح الدارين أعني الرشد. ويجوز أن يجعل الرشد كناية عن المحمودية والإسناد حقيقي أي- وما أمر فرعون بصالح حميد العاقبة- وقوله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 328 سبحانه: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ على الأول استئناف وقع جوابا لمن سأل عن حال المتبوع والتابع مآلا، وعلى الثاني تفسير وإيضاح لعدم صلاح عاقبته أي كيف يرشد أمر من هذه عاقبته، وجملة وَما أَمْرُ إلخ جوز أن تكون حالا من فاعل- اتبعوا- وأن تكون حالا من مفعوله قيل: وهو مختار الزمخشري، والمراد بالقوم ما يشمل الملأ وغيرهم، ويَقْدُمُ كينصر من قدم- كنصر- بمعنى تقدم، ومنه قادمة الرحل، وهذا كما يقال: قدمه بمعنى تقدمه، ومنه مقدمة الجيش وأقدم بمعنى تقدم، ومنه مقدم العين فإنه بالكسر لا غير كما قاله المرزوقي، ومثله مؤخر العين كما في المزهر، والمراد من أوردهم يوردهم، والتعبير به دونه للإيذان بتحقق وقوعه لا محالة، والقول: بأنه باق على حقيقته- والمراد فأوردهم في الدنيا النار أي موجبها وهو الكفر- ليس بشيء، ونصب النار على أنه مفعول ثان- لأوردهم- وهي استعارة مكنية تهكمية للضد وهو الماء، وفي قرينتها احتمالات كما شاع في يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ [البقرة: 27، الرعد: 25] وعلى احتمال المجاز يكون الإيراد مستعارا استعارة تبعية لسوقهم إلى النار. وجوز أن يقال: إنه شبه فرعون بالفارط وهو الذي يتقدم القوم للماء ففيه استعارة مكنية، وجعل اتباعه واردة وإثبات الورود لهم تخييل، وجوز أيضا جعل المجموع تمثيلا. وجوز بعضهم كون يَقْدُمُ وأورد متنازعين في النار إلا أنه أعمل الثاني وحذف مفعول الأول وليس بذلك. وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ أي بئس الورد الذي يردونه النار لأن الورد إنما يورد لتسكين العطش وتبريد الأكباد وفي النار تقطع الأكباد واشتعالها كذا قيل، فالورد على هذا بمعنى النصيب من الماء والْمَوْرُودُ صفته، والمخصوص بالذم محذوف وهو النار، وتعقب بأنه لا بد من تصادق فاعل بِئْسَ ومخصوصها ولا تصادق على هذا، وأيضا في جواز وصف فاعل- نعم. وبئس- خلاف، وابن السراج والفارسي على عدم الجواز. وجوز ابن عطية كون الْمَوْرُودُ صفة والمخصوص النار إلا أنه جعل الكلام على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، فالتصادق حاصل في الحقيقة أي- بئس مكان الورود المورود النار- ومنهم من يجعل الْمَوْرُودُ هو المخصوص بالذم، والمراد به النار، ويقدر المضاف ليحصل التصادق أيضا أي- بئس مكان الورد النار- ومن يجعل الورد فاعل بِئْسَ ويفسره بالجمع الوارد. والْمَوْرُودُ صفة لهم والمخصوص بالذم ضميرهم المحذوف أي- بئس القوم المورود بهم هم- فيكون ذما للواردين لا لموضع الورود وَأُتْبِعُوا أي الملأ الذين اتبعوا أمر فرعون، وقيل: القوم مطلقا فِي هذِهِ أي في الدنيا لَعْنَةً عظيمة حيث يلعنهم من بعدهم من الأمم وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أيضا حيث يلعنهم أهل الموقف قاطبة فهي تابعة لهم حيثما ساروا ودائرة أينما داروا فكما اتبعوا أمر فرعون اتبعتهم اللعنة في الدارين جزاء وفاقا. وقال الكلبي: اللعنة في الدنيا من المؤمنين أو بالغرق، ويوم القيامة من الملائكة أو بالنار. بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ أي بئس العون المعان كما نقل عن أبي عبيدة، والمخصوص بالذم محذوف أي رفدهم، ويكون الرِّفْدُ بمعنى العطية كما يكون بمعنى العون. قال أبو حيان: يقال: رفد الرجل يرفده رفدا ورفدا إذا أعطاه وأعانه من رفد الحائط دعمه، وعن الأصمعي الرفد بالفتح القدح والرفد بالكسر ما فيه من الشراب، وقال الليث: أصل الرفد العطاء والمعونة، ومنه رفادة قريش وهي معاونتهم للحاج بشيء يخرجونه للفقراء، ويقال رفده رفدا ورفدا بكسر الراء وفتحها، ويقال: بالكسر الاسم وبالفتح المصدر، وفسره هنا بالعطاء غير واحد. وزعم أن المقام لا يلائمه ليس بشيء نعم تفسيره بالعون جاء في صحيح البخاري، والمراد به على التفسيرين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 329 اللعنة وتسميتها عونا على التفسير الأول من باب الاستعارة التهكمية، وأما كونها معانا فلأنها أرفدت في الآخرة بلعنة أخرى لتكونا هاديتين إلى صراط الجحيم، وكان القياس أن يسند المرفود إليهم لأن اللعنة في الدنيا تتبعهم وكذا في الآخرة لقوله سبحانه: وَأُتْبِعُوا إلخ، ولكن أسند إلى الرفد الذي هو اللعنة على الإسناد المجازي نحو جدّ جدّه وجنونك مجنون، وكذا يعتبر الاستعارة والمجاز المذكوران على التفسير الثاني كذا قيل. وقال بعض المدققين: إن في قول الزمخشري في بيان الآية على المعنى الأول المنقول عن أبي عبيدة وذلك أن اللعنة في الدنيا رفد للعذاب ومدد له، وقد رفدت باللعنة في الآخرة ما يشعر بأنه ليس من الاستعارة التهكمية في شيء إذ لو كان رفدا للمعذبين لكان من ذلك القبيل، ثم قال: وجعله من باب جد جده أبعد وأبعد لأنه ذكر أنه رفد أعين برفد أما لو فسر بالتفسير الثاني ففيه الأول لا الثاني لأنه ليس مصدرا وإنما العطاء بمعنى ما يعطي فكثيرا ما يطلق عليه انتهى وفيه نظر لا يخفى، ثم إن القول بأن هناك لعنتين رفدت إحداهما بالأخرى هو المروي عن مجاهد وغيره فيوم معطوف على محل في الدنيا. وذهب قوم إلى أن التقسيم هو أن لهم في الدنيا لعنة ويوم القيامة بئس ما يرفدون به فهي لعنة واحدة أولا وقبح إرفاد آخرا انتهى، وتعقبه في البحر بأن هذا لا يصح لأنه يدل على أن يَوْمَ معمول بِئْسَ وهي لا تتصرف فلا يتقدم معمولها عليها، ولو كان يَوْمَ متأخرا صح ذلك كما قال الشاعر: ولنعم حشو الدرع أنت إذا ... دعيت نزال ولج في الذعر وهو كلام وجيه، والآية ظاهرة في سوء حال فرعون يوم القيامة لأنه إذا كان حال الاتباع ما قص الله سبحانه فما ظنك بحال من أغواهم وألقاهم في هذا الضلال البعيد؟ وهذا يعكر على من ذهب إلى أنه قبض طاهرا مطهرا بل قال بعضهم: إنها نص في رد ذلك لأنه تعالى سلب عنه فيها الرشاد بعد موته والمؤمن الطاهر المطهر لا يسلب عنه الرشاد بعد الموت، ولعل من ذهب إلى ذلك يقول: باب التأويل واسع وباب الرحمة أوسع منه. ذلِكَ إشارة إلى ما قص من أنباء الأمم وبعده باعتبار تقضيه أو باعتبار ما قيل في غير موضع، والخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو مبتدأ خبره مِنْ أَنْباءِ الْقُرى المهلكة بما جنته أيدي أهلها فأل فيها للعهد السابق تقديرا بذكر أربابها نَقُصُّهُ عَلَيْكَ خبر بعد خبر أي ذلك النبأ بعض أنباء القرى مقصوص عليك وجوز أن يكون مِنْ أَنْباءِ في موضع الحال وهذا هو الخبر، وجوز أيضا عكس ذلك مِنْها أي من تلك القرى قائِمٌ وَحَصِيدٌ أي ومنها حصيد، فالعطف من عطف الجملة على الجملة وهو الذي يقتضيه المعنى كما لا يخفى، وقد شبه ما بقي منها بالزرع القائم على ساقه وما عفا وبطل بالحصيد، فالمعنى منها باق ومنها عاف، وهو المروي عن قتادة، ونحوه ما روي عن الضحاك قائِمٌ لم يخسف وَحَصِيدٌ قد خسف، وقيل: وَحَصِيدٌ الزرع جاء في كلامهم بمعنى الفناء كما في قوله: والناس في قسم المنية بينهم ... كالزرع منه قائم وحصيد وصيغة فعيل بمعنى مفعول أي محصود كما قال الأخفش، وجمعه حصدى وحصاد مثل مرضى ومراض، وجملة مِنْها قائِمٌ إلخ مستأنفة استئنافا نحويا للتحريض على النظر في ذلك والاعتبار به، أو بيانيا كأنه سئل لما ذكرت ما حالها؟ فأجيب بذلك، وقال أبو البقاء: هي في موضع الحال من الهاء في نقصه، وجوز الطيبي كونها حالا من القرى، وادعى صاحب الكشف أن جعلها حالا من ضمير نقصه فاسد لفظا ومعنى، ومن القرى كذلك، وفي الحواشي الشهابية أراد بالفساد اللفظي في الأول خلو الجملة من الواو والضمير. وفي الثاني مجيء الحال من المضاف إليه في غير الجزء: 6 ¦ الصفحة: 330 الصور المعهودة، وبالفساد المعنوي أنه يقتضي أنه ليس من المقصوص بل هو حال خارجة عنها وليس بمراد، ولا يسوغ جعل ما بعده ابتداء المقصوص، وفيه فساد لفظي أيضا. وزعم بعض أنه أراد بالفساد الأول في الأول ما ذكر. وفي الثاني وقوع الجملة الاسمية حالا بالضمير وحده وبالضمير تخصيص كونها مقصوصة بتلك الحالة فإن المقصوصية ثابتة لها وللنبأ وقت قيام بعضها أيضا، وقد أصاب بعضا وأخطأ بعضا، ووجه الجلبي الخلو عن الواو والضمير بأن المقصود من الضمير الربط وهو حاصل لارتباط ذلك بمتعلق ذي الحال وهي القرى، فالمعنى نقص عليك بعض أنباء القرى وهي على هذه الحالة تشاهدون فعل الله تعالى بها، وتعقب بأن الاكتفاء في الربط بما ذكر مع خفائه مذهب تفرد به الأخفش ولم يذكره في الحال وإنما ذكره في خبر المبتدأ، وقول أبي حيان: إن الحال أبلغ في التخويف وضرب المثل للحاضرين مع ما سمعت نفعا والحق أنه لا وجه لما ذكره أبو البقاء يعول عليه إلا الذهول وَما ظَلَمْناهُمْ قيل: الضمير للقرى مرادا بها أهلها وقد أريد منها أولا حقيقتها، ففي الكلام استخدام، وقيل: الضمير لأهل القرى لأن هناك مضافا مقدرا أي ذلك من أنباء أهل القرى والضمائر منها ما يعود إلى المضاف، ومنها ما يعود إلى المضاف إليه، ومتى وضح الأمر جاز مثل ذلك. وقيل: القرى على ظاهرها وإسناد الأنباء إليها مجاز، وضمير مِنْها لها وضمير ظَلَمْناهُمْ للأهل المفهوم منها، وقيل: الْقُرى مجاز عن أهلها، والضميران راجعان إليها بذلك الاعتبار، أو يقدر المضاف والضميران له أيضا، وعلى هذا خرج ما حكي عن بعضهم من أن معنى مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ منها باق نسله، ومنها منقطع نسله، وأيا ما كان ففي الكلام إيذان بإهلاك الأهل فيكون المعنى هنا وما ظلمناهم بإهلاكنا إياهم وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ حيث اقترفوا بسوء استعدادهم ما يترتب عليه ذلك بمقتضى الحكمة فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ أي ما نفعتهم ولا دفعت بأس الله تعالى عنهم آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ أي يعبدونها مِنْ دُونِ اللَّهِ أوثر صيغة المضارع لحكاية الحال الماضية أو للدلالة على استمرار عبادتهم لها مِنْ شَيْءٍ أي شيئا من الإغناء أو شيئا من الأشياء- فما- نافية لا استفهامية- وإن جوّزه السمين- وتعلق عن بما عنده لما فيه من معنى الدفع، ومِنْ الأخيرة صلة ومجرورها مفعول مطلق أو مفعول به للدفع، وقوله سبحانه: لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ أي حين مجيء عذابه منصوب- بأغنت- وهذا- على ما في البحر- بناء على خلاف مذهب سيبويه لأن مذهبه أن لَمَّا حرف وجوب لوجوب. وقرىء- آلهتهم اللاتي- و «يدعون» بالبناء للمفعول وهو وصف للآلهة كالتي في المشهورة، وفيه مطابقة للموصوف ليست في الَّتِي لكن قيل- كما في جمع الجوامع للجلال السيوطي- إن التي في جمع غير عالم أكثر من اللاتي، نعم إن الآلهة قد عوملت في الآية معاملة العقلاء لأن عبدتها نزلوها منزلة العقلاء في اعتقادهم فيها أنها تنفع وتضر، فقيل: وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ومن هنا قيل: إن اللاتي في تلك القراءة واقع موقع الألي أو الذين، والتتبيب- على ما في البحر التخسير، يقال: تب خسر وتببه خسره. وذكر الجوهري أن التب الخسران والهلاك والتتبيب الإهلاك وفي القاموس التب والتبب والتباب والتتبيب النقص والخسار. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عمر ومجاهد تفسير ذلك بالتخسير وكذا أخرج الطستي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إلا أنه استشهد عليه بقول بشر بن أبي خازم: هم جدعوا الأنوف فأذهبوها ... وهم تركوا بني سعد تبابا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 331 وحينئذ فالمعنى فما زادوهم غير تخسير أو خسارة لنفوسهم حيث استحقوا العذاب الأليم الدائم على عبادتهم لها نسأل الله تعالى العفو والعافية. وَكَذلِكَ أي مثل ذلك الأخذ والإهلاك الذي مر بيانه، وهو على ما قال السمين: خبر مقدم، وقوله سبحانه: أَخْذُ رَبِّكَ مبتدأ مؤخر، وقيل: بالعكس، والكاف يحتمل أن تكون اسمية وأن تكون حرفية وقد يجعل المشار إليه الأخذ المذكور بعد كما تحقق قبل، وفي قراءة عبد الله كذلك بغير واو. إِذا أَخَذَ الْقُرى أي أهلها وإنما أسند إليها للإشعار بسريان أثره، وقرأ الجحدري وأبو رجاء وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ على أن أَخْذُ رَبِّكَ فعل وفاعل، والظرف لما مضى، وهو إخبار عما جرت به عادة الله تعالى في إهلاك من تقدم من الأمم وكذلك على هذا ساد مسد المصدر النوعي ولا مانع من تقدمه على الفعل والقرى متنازع للمصدر والفعل، وقوله سبحانه: وَهِيَ ظالِمَةٌ في موضع الحال من الْقُرى ولذا أنث الضمير وظالِمَةٌ إلا أن وصف القرى بالظلم مجاز وهو في الحقيقة صفة أهلها وجعله حالا من المضاف المقدر أولا وتأنيثه مكتسب من المضاف إليه تكلف، وفائدة هذه الحال الإشعار بأن أخذهم بسبب ظلمهم، وفي ذلك من إنذار الظالم ما لا يخفى، والمراد بالظلم إما الكفر أو ما هو أعم، وظاهر صنيع بعضهم أخذا من إطلاقه أنه شامل لظلم المرء نفسه. وغيره إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ وجيع شَدِيدٌ لا يرجى منه الخلاص وهذا مبالغة في التهديد والتحذير. أخرج الشيخان في صحيحيهما والترمذي والنسائي وابن ماجة وآخرون عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إلى قوله تعالى: إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ» إِنَّ فِي ذلِكَ أي أخذه سبحانه للأمم المهلكة أو فيما قص من أخبارهم لَآيَةً أي لعلامة، وفسرها بعضهم بالعبرة لما أنها تلزمها وهو حسن والتنوين للتعظيم أي لعبرة عظيمة لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ فإنه إذا رأى ما وقع في الدنيا بالمجرمين من العذاب الأليم اعتبر به حال العذاب الموعود فإنه عصا من عصية وقليل من كثير، وانزجر بذلك عن المعاصي التي يترتب عليها العذاب وأكب على التقوى والخشية من الله تعالى، وقد أقيم من خاف إلخ مقام من صدق بذلك لما بينهما من اللزوم ولأن الاعتبار إنما ينشأ من الخوف، وذكر هذا القيد لأن من أنكر الآخرة وأحال فناء هذا العالم أسند الحوادث إلى أسباب فلكية وأوضاع مخصوصة فلم يعتبر بذلك أصلا ولم ينزجر عن الضلالة قطعا، وقال: إن ما وقع إنما وقع لهاتيك الأسباب والأوضاع لا للمعاصي التي اقترفتها الأمم المهلكة. وقيل: المراد أن فيما ذكر دليلا على عذاب المجرمين في الآخرة لأنهم إذا عذبوا في الدنيا لإجرامهم- وهي دار العمل- فلأن يعذبوا في الآخرة عليه- وهي دار الجزاء- أولى، وقيل: المراد أن فيه دليلا على البعث والجزاء، وذلك أن الأنبياء عليهم السلام قد أخبروا باستئصال من كذبهم وأشرك بالله ووقع ما أخبروا به وفق إخبارهم، وذلك أحد الشواهد على صدقهم فيكونون صادقين فيما يخبرون به من البعث والجزاء فلا بد أن يقع لا محالة، والتقييد بما ذكر هنا كالتقييد في قوله سبحانه: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] وهو كما ترى ذلِكَ إشارة إلى يوم القيامة المدلول عليه بذكر الآخرة يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ أي يجمع له الناس للمحاسبة والجزاء، فالناس نائب فاعل مجموع. وأجاز ابن عطية أن يكون مبتدأ ومَجْمُوعٌ خبره، وفيه بعد إذ الظاهر حينئذ أن يكون مجموعا وعدل عن الفعل- وكان الظاهر- ليدل الكلام على ثبوت معنى الجمع وتحقق وقوعه لا محالة وأن الناس لا ينفكون عنه فهو أبلغ من قوله تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ [التغابن: 9] وإيضاحه أن في هذا دلالة على لزوم الوصف ولزوم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 332 الإسناد، وفي ذلك على حدوث تعلق الجمع بالمخاطبين واختصاصه باليوم ولهذا استدركه بقوله: الجمع فأضاف اليوم إليه ليدل على لزومه له وإنما الحادث جمع الأولين والآخرين دفعة وَذلِكَ أي يوم القيامة مع ملاحظة عنوان جمع الناس له يَوْمٌ مَشْهُودٌ أي مشهود فيه فاتسع في الجار والمجرور ووصل الفعل إلى الضمير إجراء له مجرى المفعول به كما في قوله: ويوما شهدناه سليما وعامرا ... قليل سوى طعن الدراك نوافله أي يشهد فيه الخلائق الموقف لا يغيب عنه أحد وإنما لم يجعل نفس اليوم مشهودا بل جعله مشهودا فيه ولم يذكر المشهود تهويلا وتعظيما أن يجري على اللسان وذهابا إلى أن لا مجال لالتفات الذهن إلى غيره، وقد يقال: المشهود هو الذي كثر شاهدوه، ومنه قولهم: لفلان مجلس مشهود وطعام محضور، ولأم قيس الضبية: ومشهد قد كفيت الناطقين به ... في محفل من نواصي الناس مشهود واعتبروا كثرة شاهديه نظرا إلى أنه الذي يستحق أن يطلق اسم المشهود على الإطلاق عليه، ولو جعل اليوم نفسه مشهودا من غير هذا الاعتبار لم يحصل الغرض من تعظيم اليوم وتمييزه فإن سائر الأيام كذلك لكن جاء الامتياز من ذلك لما أضيف إليه من الكثرة المهولة المميزة، وبما ذكر يعلم سقوط ما قيل: الشهود الحضور واجتماع الناس حضورهم فمشهود بعد مجموع مكرر وَما نُؤَخِّرُهُ أي ذلك اليوم الملحوظ بعنوان الجمع والشهود، ونقل الحوفي رجوع الضمير للجزاء، وقرأ الأعمش ويعقوب- يؤخره- بالياء. إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ أي لانتهاء مدة قليلة، فالعد كناية عن القلة، وقد يجعل كناية عن التناهي، والأجل عبارة عن جميع المدة المعينة للشيء، وقد يطلق على نهايتها، ومنع إرادة ذلك هنا لأنه لا يوصف بالعد في كلامهم بوجه، وجوزها بعضهم بناء على أن الكناية لا يشترط فيها إمكان المعنى الأصلي، وتعقب بأنه عدول عن الظاهر، وتقدير المضاف أسهل منه واللام للتوقيت، وفي المجمع أنها تدل على الغرض وأن الحكمة اقتضت التأخير ولذا عدل عن إلى إليها وفي الآية رد على الدهرية، والفلاسفة الزاعمين أنه لا انقضاء لمدة الدنيا، وهو بحث مفروغ منه يَوْمَ يَأْتِ أي ذلك اليوم المؤخر بانقضاء أجله المضروب حسبما تقتضيه الحكمة وهو المروي عن ابن جريج، وقيل: الضمير للجزاء أيضا، وقيل: لله تعالى، وفيه من تفخيم شأن اليوم ما لا يخفى، ويعضده قراءة- وما يؤخره- بالياء، ونسبة الإتيان ونحوه إليه سبحانه أتت في غير ما آية، واعترض الأول بأن التقدير عليه يوم إتيان ذلك اليوم ولا يصح لأن تعرف اليوم بالإتيان يأبى تعرف الإتيان به، ولأن إتيان اليوم لا ينفك عن يوم الإتيان فيكفي الإسناد وتلغو الإضافة، ونقل العلامة الطيبي نصا على عدم جوازه كما لا تقول: جئتك يوم بسرك، وأجيب أن كل زمان له شأن يعتبر تجدده كالعيد والنيروز والساعة مثلا، يجري مجرى الزماني وإن كان في نفسه زمانا فباعتبار تغاير الجهتين صحت الإضافة والإسناد كما يصح أن يقال: يوم تقوم الساعة ويوم يأتي العيد والعيد في يوم كذا، فالأول زمان وضميره أعني فاعل الفعل زماني، وإذا حسن مثل قوله: فسقي الغضى والساكنيه وإن هم ... شبوه بين جوانحي وضلوعي فهذا أحسن، وقرأ النحويان ونافع «يأتي» بإثبات الياء وصلا وحذفها وقفا، وابن كثير بإثباتها وصلا ووقفا وهي ثابتة في مصحف أبي، وقرأ باقي السبعة بحذفها وصلا ووقفا، وسقطت في مصحف عثمان رضي الله تعالى عنه، وإثباتها وصلا ووقفا هو الوجه، ووجه حذفها في الوقت التشبيه بالفواصل، ووصلا ووقفا التخفيف كما قالوا: لا أدر ولا أبال، وذكر الزمخشري أن الاجتزاء بالكسرة عن الياء كثير في لغة هذيل، ومن ذلك قوله: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 333 كفاك كف ما تليق درهما ... جودا وأخرى تعط بالسيف الدما وقرأ الأعمش- «يوم يأتون» - بواو الجمع، وكذا في مصحف عبد الله أي يوم يأتي الناس أو أهل الموقف لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ أي لا تتكلم بما ينفع وينجي من جواب أو شفاعة، وهذا الفعل على الأظهر هو الناصب للظرف السابق. وجوز أن يكون منصوبا بالانتهاء المضاف إلى الأجل وأن يكون مفعولا به- لا ذكر- محذوفا، وهذه الجملة في موضع الحال من ضمير اليوم، وأجاز الحوفي وابن عطية كونها نعتا ليوم، وتعقب بأنه يقتضي أن إضافته لا تفيده تعريفا وهو ممنوع ولعل من يدعي ذلك يقول: إن الجمل بمنزلة النكرات حتى أطلقوا عليها ذلك فالإضافة إليها كالإضافة إليها إِلَّا بِإِذْنِهِ أي إلا بإذن الله تعالى شأنه وعز سلطانه في التكلم كقوله سبحانه: لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ [النبأ: 38] وهذا في موقف من مواقف ذلك اليوم، وقوله تبارك وتعالى: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات: 35، 36] في موقف آخر من مواقفه كما أن قوله تعالى: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها [النحل: 111] في آخر منها، وروي هذا عن الحسن. وقد ذكر غير واحد أن المأذون فيه الأجوبة الحقة والممنوع منه الأعذار بالباطلة، نعم قد يؤذن فيها أيضا لإظهار بطلانها كما في قول الكفرة: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] ونظائره، والقول بأن هذا ليس من قبيل الأعذار وإنما هو إسناد الذنب إلى كبرائهم وأنهم أضلوهم ليس بشيء كما لا يخفى، وفي الدرر والغرر للسيد المرتضى أن بين قوله سبحانه: يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ وقوله سبحانه: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ وكذا قوله جل وعلا: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصافات: 17] اختلافا بحسب الظاهر، وأجاب قوم من المفسرين عن ذلك بأن يوم القيامة يوم طويل ممتد فيجوز أن يمنعوا النطق في بعضه ويؤذن لهم في بعض آخر منه، ويضعف هذا الجواب أن الإشارة إلى يوم القيامة بطوله فكيف يجوز أن تكون الآيات فيه مختلفة، وعلى ما ذكروه يكون معنى هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ هذا يوم لا ينطقون في بعضه وهو خلاف الظاهر، والجواب السديد عن ذلك أن يقال: إنما أريد نفي النطق المسموع المقبول الذي ينتفعون به ويكون لهم في مثله إقامة حجة وخلاص لا نفي النطق مطلقا بحيث يعم ما ليس له هذه الحالة، ويجري هذا المجرى قولهم: خرس فلان عن حجته وحضرنا فلانا يناظر فلانا فلم نره قال شيئا وإن كان الذي وصف بالخرس والذي نفي عنه القول قد تكلم بكلام كثير إلا أنه من حيث لم يكن فيه حجة ولم يتضمن منفعة جاز إطلاق ما حكيناه عليه، ومثله قول الشاعر: أعمى إذا ما جارتي خرجت ... حتى يواري جارتي الخدر ويصم عما كان بينهما ... سمعي وما بي غيره وقر وعلى هذا فلا اختلاف لأن التساؤل والتلاؤم مثلا لا حجة فيه، وأما قوله سبحانه: وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ فقد قيل فيه: إنهم غير مأمورين بالاعتذار فكيف يعتذرون، ويحمل الإذن على الأمر وإنما لم يؤمروا به لأن تلك الحالة لا تكليف فيها والعباد ملجؤون عند مشاهدة الأهوال إلى الاعتراف والإقرار، وأحسن من هذا أن يحمل يُؤْذَنُ لَهُمْ أنه لا يسمع لهم ولا يقبل عذرهم انتهى. وأنت تعلم أن تضعيفه لما أجاب به القوم من امتداد يوم القيامة وجواز كون المنع من النطق في بعض منه والإذن في بعض آخر ليس بمرتضى عند ذي الفكر الرضي لظهور صحة وقوع الزمان الممتد ظرفا للنقيضين فيما إذا لم يقتض كل منهما أو أحدهما جميع ذلك الزمان، وقد شاع دفع التناقض بين الكلامين بمثل ما فعلوا ومرجعه إلى القول باختلاف الزمان كما أن مرجع ما روي عن الحسن إلى القول باختلاف المكان، واتحاد الزمان والمكان من شروط الجزء: 6 ¦ الصفحة: 334 تناقض القضيتين وليس هذا الذي فعلوه بأبعد مما فعله المرتضى على أن في كلامه بعد ما لا يخفى. وقال بعض الفضلاء: لا منافاة بين هذه الآية والآيات التي تدل على التكلم يوم القيامة لأن المراد من يوم يأتي حين يأتي، والقضية المشتملة على ذلك وقتية حكم فيها بسلب المحمول عن جميع أفراد الموضوع في وقت معين وهذا لا ينافي ثبوت المحمول للموضوع في غير ذلك الوقت، وقال ابن عطية: لا بد من أحد أمرين: إما أن يقال: إن ما جاء في الآيات من التلاوم والتساؤل والتجادل ونحو ذلك مما هو صريح في التكلم كان عن إذن، وإما أن يحمل التكلم هنا على تكلم شفاعة أو إقامة حجة وكلا القولين كما ترى، والاستثناء قيل: من أعم الأسباب أي لا تكلم نفس بسبب من الأسباب إلا بسبب إذنه تعالى وهو متصل، وجوز أن يكون منقطعا ويقدر ما لا يتناول المستثنى أي لا تكلم نفس باقتدار من عندها إلا بإذنه تعالى، ولا يخفى أن هذا استثناء مفرغ، وقد طرق سمعك ما هو الأصح فيه، وقرىء كما في المصاحف لابن الأنباري- يوم يأتون لا تكلم دابة إلا بإذنه- فَمِنْهُمْ أي أهل الموقف المدلول عليه بقوله سبحانه: لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ أو الجميع الذي تضمنه نَفْسٌ إذ هو اسم جنس أريد به الجميع على ما نقله أبو حيان عن ابن عطية، أو الناس المذكور في قوله سبحانه: مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ ونقل ابن الأنباري أن الضمير لأمة محمد صلّى الله عليه وسلم وهو من الغرابة بمكان وكأنه قصد هذا القائل بذلك تمهيدا لتوجيه الاستثناء الآتي وهو ولله الحمد غني عن ذلك، والظاهر أن من للتبعيض والجار والمجرور خبر مقدم، وقوله سبحانه: شَقِيٌّ مبتدأ، وقوله تعالى: وَسَعِيدٌ بتقدير ومنهم سعيد، وحذف منهم لدلالة الأول عليه، والسعادة على ما قال الراغب: معاونة الأمور الإلهية للإنسان على نيل الخير ويضادها الشقاوة، وفسر في البحر الشقاوة بنكد العيش وسوئه، ثم قال: والسعادة ضدها، وفي القاموس ما يقرب من ذلك، فالشقي والسعيد هما المتصفان بما ذكر، وفسر غير واحد الأول بمن استحق النار بمقتضى الوعيد والثاني بمن استحق الجنة بموجب الوعد، وهذا هو المتعارف بين الشرعيين، وتقديم الشقي على السعيد لأن المقام مقام الإنذار والتحذير فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا أي سبقت لهم الشقاوة فَفِي النَّارِ أي مستقرون فيها لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ قال أهل اللغة من الكوفية والبصرية: الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمار والشهيق بمنزلة آخر نهيقه، قال رؤبة: حشرج في الصدر صهيلا أو شهق ... حتى يقال ناهق وما نهق وقال ابن فارس: الزفير إخراج النفس والشهيق رده، قال الشماخ في حمار وحش: بعيد مدى التطريب أول صوته ... زفير ويتلوه شهيق محشرج وقال الراغب: الزفير ترديد النفس حتى تنتفخ الضلوع منه من زفر فلان إذا حمل حملا بمشقة فتردد فيه نفسه، ومنه قيل: للإماء الحاملات الماء: زوافر والشهيق طول الزفير وهو رد النفس، والزفير مدة، وأصله من جبل شاهق أي متناه في الطول. وعن السائب أن الزفير للحمير والشهيق للبغال وهو غريب، ويراد بهما الدلالة على كربهم وغمهم وتشبيه حالهم بحال من استولت على قلبه الحرارة وانحصر فيه روحه، أو تشبيه أصواتهم بأصوات الحمير ففي الكلام استعارة تمثيلية أو استعارة مصرحة، والمأثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: يريد ندامة ونفسا عاليا وبكاء لا ينقطع، وقرأ الحسن «شقوا» بضم الشين فاستعمل متعديا لأنه يقال: شقاه الله تعالى كما يقال أشقاه، وجملة لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ إلخ مستأنفة كأن سائلا قال: ما شأنهم فيها؟ فقيل لهم فيها كذا وكذا، وجوّز أن تكون منصوبة المحل على الحالية من النار أو من الضمير في الجار والمجرور كقوله عز وجل: خالِدِينَ فِيها خلا أنه إن أريد حدوث كونهم في النار فالحال مقدرة ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أي مدة دوامهما، وهذا عبارة عن التأبيد ونفي الانقطاع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 335 على منهاج قول العرب: لا أفعل كذا ما لاح كوكب وما أضاء الفجر وما اختلف الليل والنهار وما بل بحر صوفة وما تغنت حمامة إلى غير ذلك من كلمات التأييد عندهم لا تعليق قرارهم فيها بدوام هذه السماوات والأرض، فأن النصوص القاطعة دالة على تأبيد قرارهم فيها وانقطاع دوامهما، وروي هذا عن ابن جرير، وجوز أن يحمل ذلك على التعليق والمراد بالسماوات والأرض سماوات الآخرة وأرضها، وهي دائمة للأبد، قال الزمخشري: والدليل على أن لها سماوات وأرضا قوله سبحانه: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ [إبراهيم: 48] وقوله سبحانه: وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ [الزمر: 74] ولأنه لا بد لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلهم إما سماء يخلقها الله تعالى أو يظلهم العرش، وكل ما أظلك فهو سماء انتهى. قال القاضي: وفيه نظر لأنه تشبيه بما لا يعرف أكثر الخلق وجوده ودوامه ومن عرفه فإنما عرفه بما يدل على دوام الثواب والعقاب فلا يجدي له التشبيه وأجاب عنه صاحب الكشف بأنه إذا أريد ما يظلهم وما يقلهم فهو ظاهر السقوط لأن هذا القدر معلوم الوجود لكل عاقل وأما الدوام فليس مستفادا من دليل دوام الثواب والعقاب بل مما يدل على دوام الجنة والنار سواء عرف أنهما دار الثواب والعقاب وأن أهلهما السعداء والأشقياء من الناس أولا على أنه ليس من تشبيه ما يعرف بما لا يعرف بل العكس انتهى، وتعقبه الجلبي بأن قوله: لكل عاقل غير صحيح فإنه لا يعترف بذلك إلا المؤمنون بالآخرة، وقوله: الدوام مستفاد مما يدل على دوام الجنة والنار لا يدفع ما ذكره القاضي لأنه يريد أن المشبه به ليس أعرف من المشبه لا عند المتدين لأنه يعرف كليهما من قبل الأنبياء عليهم السلام وليس فيه ما يوجب أعرفية دوام سماوات الآخرة وأرضها وليس مراده أن دوامهما مستفاد من خصوص الدليل الدال على الثواب والعقاب بعينه فإنه لا يهمه ليمنع ولا عند غير المتدين فإنه لا يعترف به ولا بها ولا يعرفه، وقوله: على أنه ليس من تشبيه إلخ مبني على أنه تشبيه تلك الدار بهذه الدار وليس بذلك، وإنما المراد التشبيه الضمني لدوامهم بدوامهما انتهى، وفيه بحث. والحق أن صحة إرادة ذلك مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان، وفي الأخبار عن ابن عباس والحسن والسدي وغيرهم ما يقتضيه، ومن تأمل منصفا بعد تسليم أن هناك تشبيها يظهر له أن المشبه به أعرف من المشبه وأقرب إلى الذهن، واتحاد طريق العلم بهما لا يضر في ذلك شيئا بداهة أن ثبوت الحيز أعرف وأقرب إلى الذهن من ثبوت ما تحيز فيه وإن وردا من طرق السمع كما لا يخفى على أن اشتراط كون المشبه به أعرف وأقرب إلى الذهن من ثبوت ما تحيز فيه وإن وردا من طرق السمع كما لا يخفى على أن اشتراط كون المشبه به أعرف في كل تشبيه غير مسلم عند الناظر في المعاني، نعم المتبادر من السموات والأرض هذه الأجرام المعهودة عندنا، فالأولى أن تبقى على ظاهرها ويجعل الكلام خارجا مخرج ما اعتادته العرب في محاوراتهم عند إرادة التبعيد والتأبيد، وهو أكثر من أن يحصى، ولعل هذا أولى أيضا مما في تفسير ابن كثير من حمل السموات والأرض على الجنس الشامل لما في الدنيا والآخرة أي المظل والمقل في كل دار، وفي الدرر أنه يمكن أن يكون المراد أنهم خالدون بمقدار مدة بقاء السموات والأرض التي يعلم انقطاعها ثم يزيدهم سبحانه على ذلك ويخلدهم ويؤبد مقامهم، ولعله أراد مدة بقائهما منذ خلقهما الله تعالى إلى أن يبدلهما لا مدة بقائهما بعد دخولهم النار يوم القيامة لأنهما يبدلان قبل دخولهم، والآية على هذا من قبيل قوله سبحانه: لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً [النبأ: 23] إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ قيل: هو استثناء من الضمير المستكن في خالِدِينَ وتكون ما واقعة على نوع من يعقل كما في قوله سبحانه: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء: 3] أو واقعة على من يعقل على مذهب من يرى وقوعها عليه مطلقا. والمراد بمن شاء فساق الموحدين فإنهم يخرجون منها كما نطقت به الأخبار، وذلك كاف في صحة الاستثناء لأن زوال الحكم عن الكل يكفيه زواله عن البعض وهم المراد بالاستثناء الثاني فإنهم مفارقون عن الجنة أيام عذابهم، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 336 والتأبيد من مبدأ معين ينتقض باعتبار الابتداء كما ينتقض باعتبار الانتهاء، ألا ترى أنك إذا قلت مكثت يوم الخميس في البستان إلا ثلاث ساعات جاز أن يكون ذلك الزمان الواقع فيه عدم المكث من أوله ومن آخره، وهؤلاء وإن شقوا بعصيانهم فقد سعدوا بإيمانهم، ولا يقال: فعلى هذا لا يكون قوله سبحانه: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ تقسيما صحيحا لأن من شرطه أن تكون صفة كل قسم منفية عن قسيمه لأن ذلك الشرط حيث الانفصال حقيقي أو مانع من الجمع، وهاهنا المراد أن أهل الموقف لا يخرجون من القسمين وأن حالهم لا تخلو عن السعادة والشقاوة، وذلك لا يمنع اجتماع الأمرين في شخص واحد باعتبارين انتهى، وهو ما ذكره الإمام وآثره القاضي، واعترض بأنه لا دلالة في اللفظ على المبدأ المعين ولو سلم فالاستثناء يقتضي إخراجا عن حكم الخلود وهو لا محالة بعد الدخول، فكيف ينتقض بما سبق عليه؟ كيف وقد سبق قوله تعالى: في الجنة؟ ثم قيل: فإن قلت: زمان تفرقهم عن الموقف هو الابتداء وهو آخر يوم يأتي قلت: إن ادعى أن الابتداء من ابتداء ذلك الزمان جاز أن يسلم دلالة اللفظ عليه ولا ينفع لأن الكل في الدارين غير خالدين على هذا التقدير، وأما جعل ابتداء المدة من انتهائه فلا، وبأن تقابل الحكمين يدل على تقابل القسمين بمعنى منع الجمع مطلقا وأجيب- بعد غمض العين عما في ذلك من الخروج عن آداب المناظرة- بأن مبدأ زمان خلود أهل الجنة من زمان دخول أهل النار في النار، ويدل على ذلك اتحاد معيار الخلودين، وهو ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ فإنه يدل على زمان خلودهما ولا اتحاد مع الاختلاف في المبدأ، والاستثناء عن حكم الخلود من مبدأ معين يكون بالإخراج عن حكم الدخول الذي يتضمنه الخلود فيها لا محالة. وخلاصة المعنى على هذا أن السعداء كلهم خالدون في الجنة من زمان دخول أهل النار في النار إلا العصاة منهم الذين أراد الله سبحانه دخولهم في النار مدة معينة علمها عنده جل وعلا، وما ذكر من حديث تقابل الحكمين إن أريد تقابلهما بمعنى منع الجمع فلا تقابل فيهما بهذا المعنى لاجتماعهما في العصاة، وإن أريد مطلقا فلا دلالة على تقابل القسمين بذلك المعنى انتهى. ولا يخفى على المنصف ما في ذلك القول من التكلف ومخالفة الظاهر والانتصار له بما ذكر لا يجديه نفعا، وقيل: هو استثناء من الضمير المتقدم إلا أن الحكم الخلود في عذاب النار، وكذا يقال فيما بعد: إن الحكم فيه الخلود في نعيم الجنة وأهل النار ينقلون منها إلى الزمهرير وغيره من العذاب أحيانا وكذلك أهل الجنة ينعمون بما هو أعلى منها كالاتصال بجناب القدس والفوز برضوان الله تعالى الذي هو أكبر وما يتفضل به عليهم سوى ثواب الجنة مما لا يعرف كنهه إلا هو سبحانه وتعالى، وإلى هذا ذهب الزمخشري سالا سيف البغي والاعتزال، وقد رده العلامة الطيبي وأطال الكلام في ذلك. وقال صاحب الكشف: إن ذلك في أهل النار ظاهر لأنهم ينقلون من حر النار إلى برد الزمهرير، والرد بأن النار عبارة عن دار العقاب غير وارد لأنا لا ننكر استعمال النار فيها تغليبا أما دعوى الغلبة حتى يهجر الأصل فكلا، ألا ترى إلى قوله تعالى: ناراً تَلَظَّى [الليل: 14] ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [التحريم: 6] ؟ وكم وكم، وأما رضوان الله تعالى عن أهل الجنة وهم فيها فيأبى الاستثناء كيف وقوله سبحانه: خالِدِينَ فِيها لا يدل بظاهره على أنهم منعمون بها فضلا عن انفرادها بتنعمهم إلا أن يخصص بجنة الثواب لا محض التفضل، وكفاه بطلانا التخصيص من غير دليل، واعترض بأن لك أن تقول: هجر الأصل في الآيتين اللتين ذكرتا علم من الوصف، وفي هذه الآية ذكرها في مقابلة الجنة يعضد أن المراد بها دار العقاب مطلقا. وقيل: إن الاستثناء مفرغ من أعم الأوقات وما على أصلها لما لا يعقل وهو الزمان والحكم الكون في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 337 النار، والمعنى أما الذين شقوا ففي النار في كل زمان بعد إتيان ذلك اليوم إلا زمانا شاء الله تعالى فيه عدم كونهم فيها وهو زمان موقف الحساب، واعترض بأن عصاة المؤمنين الداخلين النار إما سعداء فيلزم أن يخلدوا في الجنة فيما سوى الزمان المستثنى وليس كذلك. أو أشقياء فيلزم أن يخلدوا في النار وهو خلاف مذهب أهل السنة، وأيضا تأخره عن الحال- ولا مدخل لها في الاستثناء- لا يفصح، والإبهام بقوله سبحانه: إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ والتفخيم الذي يعطيه لا يبقى له رونق، وأجيب بأنه قد يقال: إن القائل بذلك يخص الأشقياء بالكفار والسعداء بالأتقياء ويكون العصاة مسكوتا عنهم هنا فلا يرد عليه شيء إن كان سنيا وإن كان معتزليا فقد وافق سنن طبعه، ويجاب عما بعد بالمنع، وقيل: أمر الاستثناء ما علمت إلا أن المستثنى مدة لبثهم في الدنيا أو البرزخ ويقطع النظر عن يَوْمَ يَأْتِ والمعنى أنهم في النار جميع أزمان وجودهم إلا زمانا شاء الله تعالى لبثهم في الدنيا أو البرزخ، والمراد مع زمان الموقف إذ ليسوا في زمانه أيضا في النار إلا أن يراد بالنار العذاب فلا يحتاج للمعية لكن يرد أنهم معذبون في البرزخ أيضا إلا أن يقال: لا يعتد بذلك لأنه عذاب غير تام لعدم تمام حياتهم فيه، وأورد عليه ما أورد على ما قبله، وأجيب بأنه إنما يرد لو كان المستثنى في الاستثناء الثاني هو ذلك الزمان المستثنى في الاستثناء الأول وهو غير مسلم فليكن المستثنى منه زمان لبثهم في النار مع ذلك الزمان المستثنى في الآية الأولى فإن المستثنى ليس فيه ما يدل على تعيين زمان حتى لا يمكن الزيادة عليه وهو كما ترى. وقيل: هو استثناء من قوله سبحانه: لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ورد بأن المقابل لا يجري فيه هذا ويبقى الإشكال، وأجيب بأن المراد ذكر ما تحتمله الآية والاطراد ليس بلازم، وتعقب بأنه ليس المراد إلا بيان ضعف هذا الوجه وكفى بعدم الاطراد ضعفا، وقيل: إِلَّا بمعنى سوى كقولك: لك عليّ ألفان إلا الألف التي كانت يعني سواها، ونقل ذلك عن الزجاج والفراء والسجاوندي، والمعنى سوى ما شاء ربك من الزيادة التي لا آخر لها على مدة بقاء السموات والأرض، والاستثناء في ذلك منقطع، ويحتمل أن يريدوا أن إِلَّا بمعنى غير صفة لما قبلها والمعنى يخلدون فيها مقدار مدة السموات والأرض سوى ما شاء الله تعالى مما لا يتناهى، وضعف هذا القيل بأنه يلزم حمل السموات والأرض على هذين الجسمين المعروفين من غير نظر إلى معنى التأبيد وهو فاسد، وقيل: إِلَّا بمعنى الواو أي وما شاء ربك زائدا على ذلك، واستشهد على مجيئها بمعنى الواو بقوله: وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك «إلا» الفرقدان وفيه أن هذا قول مردود عند النحاة، وقال العلامة الطيبي: الحق الذي لا محيد عنه أن يحمل ما على من لإرادة الوصفية وهي المرحومية، وخالِدِينَ حال مقدرة من ضمير الاستقرار أي في النار، والمعنى وأما الذين شقوا ففي النار مقدرين الخلود إلا المرحوم الذي شاء الله تعالى أن لا يستقر مخلدا فيفيد أن لا يستقر فيها مطلقا أو يستقر غير مخلد، وأحوال العصاة على هذا النهج كما علم من النصوص، وفي ذلك إيذان بأن إخراجهم بمحض رحمة الله تعالى فينطبق عليه قوله سبحانه: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ وتعقب بأنه لا يجري في المقابل إلا بتأويل الإمام وقد مر ما فيه، أو بجعله من أصل الحكم ويقتضي أن لا يدخلوا أصلا، وإذا أول بمقدرين فلو جعل استثناء من مقدرين لم يتجه، ومن قوله تعالى: فَفِي النَّارِ فلا يكون لهم دخول أصلا، ودلالة «ما» لإبهامها إما على التفخيم أو التحقير ولا يطابق المقام، وقيل: وقيل، والأوجه أن يقال: إن الاستثناء في الموضعين مبني على الفرض والتقدير فمعنى إلا ما شاء أي لو فرض أن الله تعالى شاء إخراجهم من النار أو الجنة في زمان لكان مستثنى من مدة خلودهم لكن ذلك لا يقع لدلالة القواطع على عدم وقوعه، وهذا كما قال الطيبي من أسلوب حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الأعراف: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 338 40] ولا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدخان: 56] وذكر أنه وقف على نص من قبل الزجاج يوافق ذلك. وفي المعالم عن الفراء أيضا ما يوافقه حيث نقل عنه أنه قال: هذا استثناء استثناء سبحانه ولا يفعله كقولك: والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك وعزيمتك أن تضربه، وحذو القذة بالقذة ما نقله قبل عن بعضهم أن المعنى لو شاء لأخرجهم لكنه لا يشاء لأنه سبحانه حكم لهم بالخلود. وفي البحر عن ابن عطية نقلا عن بعض ما هو بمعناه أيضا حيث قال: وأما قوله تعالى: إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ فقيل فيه: إنه على طريق الاستثناء الذي ندب الشرع إلى استعماله في كل كلام فهو على نحو قوله جل وعلا: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح: 27] استثناء في واجب، وهذا الاستثناء في حكم الشرط كأنه قيل: إن شاء ربك فليس يحتاج أن يوصف بمتصل ولا منقطع، وممن ذهب إلى ذلك أيضا الفاضل ميرزا جان الشيرازي في تعليقاته على تفسير القاضي ونص على أنه من قبيل التعليق بالمحال حتى يثبت محالية المعلق ويكون كدعوى الشيء مع بينة، وهو أحد الأوجه التي ذكرها السيد المرتضى في درره، وتفسير الاستثناء الأول بالشرط أخرجه ابن مردويه عن جابر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كما ذكر ذلك الجلال السيوطي في الدر المنثور، ولعل النكتة في هذا الاستثناء على ما قيل: إرشاد العباد إلى تفويض الأمور إليه جل شأنه وإعلامهم بأنها منوطة بمشيئته جل وعلا يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا حق لأحد عليه ولا يجب عليه شيء كما قال تبارك وتعالى: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ. وذكر بعض الأفاضل أن فائدته دفع توهم كون الخلود أمرا واجبا عليه تعالى لا يمكن له سبحانه نقضه كما ذهب إليه المعتزلة حيث أخبر به جل وعلا مؤكدا، والمراد- بالذين شقوا- على هذا الوجه الكفار فقط فإنهم الأحقاء بهذا الاسم على الحقيقة- وبالذين سعدوا- المؤمنون كافة مطيعهم وعاصيهم فيكون التقسيم في قوله سبحانه: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ للانفصال الحقيقي ولا ينافيه قوله تعالى: فَفِي الْجَنَّةِ لأنه يصدق بالدخول في الجملة. وفي الكشف بعد نقل أن الاستثناء من باب حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فإن قلت: فقد حصل مغزى الزمخشري من خلود الفساق، قلت: لا كذلك لأنهم داخلون في السعداء، والآية تقتضي خلود السعيد وذلك بعد دخوله فيها لا محالة، ولا تنفي كينونته في النار قبل دخوله في الجنة فإن اللفظ لا يقتضي أن يدخلوا- أعني السعداء- كلهم في الجنة معا كيف والقاطع يدل على دخولهم أولا فأولا على حسب مراتبهم انتهى فتأمل، فإن الآية من المعضلات. وإنما لم يضمر في إِنَّ رَبَّكَ إلخ كما هو الظاهر لتربية المهابة وزيادة التقرير، واللام في لِما قيل: للتقوية أي فعال ما يريده سبحانه لا يتعاصى عليه شيء بوجه من الوجوه. وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ الكلام فيه ما علمت خلا أنه لم يذكر هاهنا أن لهم بهجة وسرورا كما ذكر في أهل النار لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ لأن المقام مقام التحذير والإنذار، وسُعِدُوا بالبناء للمفعول قراءة حمزة والكسائي وحفص ونسبت إلى ابن مسعود وطلحة بن مصرف وابن وثاب والأعمش، وقرأ جمهور السبعة «سعدوا» بالبناء للفاعل، واختار ذلك على ابن سليمان، وكان يقول: عجبا من الكسائي كيف قرأ «سعدوا» مع علمه بالعربية، وهذا عجيب منه فإنه ما قرأ إلا ما صح عنده ولم يقرأ بالرأي ولم يتفرد بذلك، وروي عنه أنه احتج لذلك بقولهم: مسعود، وتعقب بأنه لا حجة فيه لاحتمال أنه كان مسعود فيه، وذكر أن الفراء حكى أن هذيلا تقول: سعده الله تعالى بمعنى أسعده، وقال الجوهري: سعد بالكسر فهو سعيد مثل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 339 قولهم: سلم فهو سليم، وسعد فهو مسعود، وقال أبو نصر عبد الرحيم القشيري: ورد سعده الله تعالى فهو مسعود. وأسعده الله تعالى فهو مسعد، وما ألطف الإشارة في- شقوا وسعدوا- على قراءة البناء للفاعل في الأول والبناء للمفعول في الثاني، فمن وجد ذلك فليحمد الله تعالى. ومن لم يجد فلا يلومنّ إلا نفسه عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ أي غير مقطوع عنهم ولا مخترم، ومصدره الجذ، وقد جاء جذذت. وجددت بالذال المعجمة والدال كما قال ابن قتيبة، وبالمعجمة أكثر، ونصب عَطاءً على المصدرية من معنى الجملة لأن قوله سبحانه: فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها يقتضي إعطاء وإنعاما فكأنهم قيل: يعطيهم إعطاء وهو إما اسم مصدر هو الإعطاء. أو مصدر بحذف الزوائد كقوله تعالى: أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17] ، وقيل: هو نصب على الحالية من المفعول المقدر للمشيئة. أو تمييز، فإن نسبة مشيئة الخروج إلى الله تعالى تحتمل أن تكون على جهة عطاء مجذوذ، وعلى جهة عطاء غير مجذوذ فهو رافع للإبهام عن النسبة، ولعل النصب على المصدرية أولى وكأنه جيء بذلك اعتناء ومبالغة في التأبيد ودفعا لما يتوهم من ظاهر الاستثناء من الانقطاع، وقيل: إن ذلك لبيان أن ثواب أهل الجنة- وهو إما نفس الدخول أو ما هو كاللازم البين له- لا ينقطع فيعلم منه أن الاستثناء ليس للدلالة على الانقطاع كما في العقاب بل للدلالة على ترادف نعم ورضوان من الله تعالى أو لبيان النقص من جانب المبدأ ولهذا فرق في النظم بين التأبيد من حيث تمم الأول بقوله سبحانه: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ للدلالة على أنه ينعم بعض من يعذبه ويبقى غيره كما يشاء ويختار والثاني بقوله تعالى: عَطاءً إلخ بيانا لأن إحسانه لا ينقطع، ومن الناس من تمسك بصدر الآية أنه لا يبقى في النار أحد ولم يقل بذلك في الجنة، وتقوى مطلبه ذاك بما أخرجه ابن المنذر عن الحسن قال: قال عمر: لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه، وبما أخرج إسحاق بن راهويه عن أبي هريرة قال: سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد، وقرأ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا الآية، وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن إبراهيم قال: ما في القرآن آية أرجى لأهل النار من هذه الآية خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ قال: وقال ابن مسعود: ليأتين عليها زمان تصفق فيه أبوابها، وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال: جهنم أسرع الدارين عمرانا وأسرعهما خرابا إلى غير ذلك من الآثار. وقد نص ابن الجوزي على وضع بعضها كخبر عن عبد الله بن عمرو بن العاص يأتي على جهنم يوم ما فيها من ابن آدم أحد تصفق أبوابها كأنها أبواب الموحدين، وأول البعض بعضها ومر شيء من الكلام في ذلك، وأنت تعلم أن خلود الكفار مما أجمع عليه المسلمون ولا عبرة بالمخالف، والقواطع أكثر من أن تحصى، ولا يقاوم واحدا منها كثير من هذه الأخبار، ولا دليل في الآية على ما يقوله المخالف لما علمته من الوجوه فيها ولا حاجة إلى دعوى النسخ فيها كما روي عن السدي بل لا يكاد يصح القول بالنسخ في مثل ذلك، هذا وقد ذكر أن في الآية صيغة الجمع مع التفريق والتقسيم أما الجمع ففي قوله تعالى: يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فإن النفس كما تقرر عامة لكونها نكرة في سياق النفي، وأما التفريق ففي قوله تعالى: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ وأما التقسيم ففي قوله سبحانه: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا إلخ ونظيرها في ذلك قول الشريف القيرواني: لمختلفي الحاجات جمع ببابه ... فهذا له فن وهذا له فن فللخامل العليا وللمعدم الغنى ... وللمذنب العتبى وللخائف الأمن ومن هنا يعلم حال الفاءين فاء فَمِنْهُمْ وفاء فَأَمَّا إلخ، قيل: وفي العدول عن فأما الشقي ففي النار خالدا فيها إلخ. وأما السعيد- أو المسعود- ففي الجنة خالدا فيها إلخ إلى ما في النظم الجليل إشارة إلى سبق هذه الشقاوة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 340 والسعادة وأن ذلك أمر قد فرغ منه كما يدل عليه ما أخرجه أحمد والترمذي والنسائي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وفي يده كتابان فقال: «أتدرون ما هذان الكتابان؟ قلنا: لا يا رسول الله أما تخبرنا؟ فقال للذي في يده اليمنى: هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وآبائهم وقبائلهم ثم أجملهم على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا، ثم قال للذي في شماله: هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وآبائهم وقبائلهم ثم أجملهم على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا، فقال أصحابه: ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه؟ فقال: سدّدوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل، ثم قال صلّى الله عليه وسلم بيده فنبذهما وقال: فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير» وجاء في حديث «الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه» وحمل ذلك بعضهم على ظهور الأمر للملك الموكل بالنطفة وإلا فالأمر قبل ذلك، وبعضهم فسر الأم بالثبوت العلمي الذي يظهر المعلوم منه إلى هذا الوجود الخارجي وهو ضرب من التأويل كما لا يخفى، ولا يأبى هذه الإشارة عند التأمل ما أخرجه الترمذي وحسنه وأبو يعلى وابن مردويه وغيرهم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: «لما نزلت فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ قلت: يا رسول الله فعلام نعمل على شيء قد فرغ منه، أو على شيء لم يفرغ منه؟ قال: بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر ولكن كل ميسر لما خلق له» ، وقيل: كان الظاهر هنا التعبير بالمضارع إلا أنه عبر بالماضي إشارة إلى تحقق الوقوع وأتى بالموصول جمعا إيذانا بأن المراد- بشقي وسعيد- فريق شقي، وفريق سعيد، ولم يقل أشقياء وسعداء لأن الإفراد أوفق بما قبل، وقيل: الإفراد أولا للإشارة إلى أن كل فريق من حيث اتصافه بالشقاوة أو السعادة كشيء واحد، وجمع ثانيا لما أن دخول كل فريق في الجنة والنار ليس جملة واحدة بل جمعا جمعا وزمرة زمرة وله شواهد من الكتاب والسنة فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ أي في شك، والفاء لترتيب النهي على ما قص من القصص وبين في تضاعيفها من العواقب الدنيوية والأخروية أي فلا تك في شك بعد أن بين لك ما بين مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ أي من عبادة هؤلاء المشركين في أنها ضلال مؤد إلى مثل ما حل بمن قبلهم ممن قصصت عليك سوء عاقبة عبادتهم- فمن- ابتدائية، وجوز أن تكون بمعنى في، و «ما» مصدرية، وجوز أن تكون موصولة وفي الكلام مضاف محذوف أي من حال ما يعبدونه من أنه لا يضر ولا ينفع إذ لا معنى للمرية في أنفسهم ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ استئناف بياني وقع تعليلا في المعنى للنهي عن المرية، والاستثناء إما من مصدر مقدر أو مفعول محذوف أي هم وآباؤهم سواء في الشرك ما يعبدون عبادة إلا كعبادة آبائهم. أو ما يعبدون شيئا إلا مثل الذي عبدوه من الأوثان وقد بلغك ما لحق آباؤهم بسبب ذلك فيلحقهم مثله لأن التماثل في الأسباب يقتضي التماثل في المسببات، ومعنى كَما يَعْبُدُ كما كان عبد فحذف لدلالة قَبْلُ عليه، وكأن اختيار هذا للإشارة إلى أن ذلك كان عادة مستمرة لهم وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ يعني هؤلاء الكفرة نَصِيبَهُمْ حظهم من العذاب كما وفينا آباءهم حظوظهم. أو من الرزق فيكون عذرا لتأخر العذاب عنهم مع قيام ما يوجبه، وفي هذا من الإشارة إلى مزيد فضل الله تعالى وكرمه ما لا يخفى حيث لم يقطع رزقهم مع ما هم عليه من عبادة غيره، وفي التعبير- بالنصيب- على الأول تهكم لأنه ما يطلب ويراد والعذاب بمعزل عن ذلك، وتفسيره بما ذكر مروي عن ابن زيد، وبالرزق- عن أبي العالية، وعن ابن عباس أن المراد به ما قدر من خير أو شر، وقرأ ابن محيصن «لموفوهم» مخففا من أوفى غَيْرَ مَنْقُوصٍ حال مؤكدة من النصيب كقوله تعالى: ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [التوبة: 25] وفائدته دفع توهم التجوز، وإلى هذا ذهب العلامة الطيبي، وقال: إنه الحق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 341 وفي الكشاف أنه جيء بهذه الحال عن النصيب الموفى لأنه يجوز أن يوفى وهو ناقص ويوفى وهو كامل ألا تراك تقول: وفيته شطر حقه وثلث حقه وحقه كاملا وناقصا انتهى، وتعقبه أبو حيان بأن هذه مغلطة لأنه إذا قيل: وفيته شطر حقه فالتوفية إنما وقعت في الشطر وكذا ثلث حقه، والمعنى أعطيته الشطر أو الثلث كاملا لم أنقصه منه شيئا، وأما قولك: وفيته حقه كاملا فالحال فيه مؤكدة لأن التوفية تقتضي الإكمال، وأما قولك: وفيته حقه ناقصا فغير صحيح للمنافاة انتهى. وقال ابن المنير: إنه وهم لأن التوفية تقتضي عدم نقصان الموفى كاملا كان أو بعضا فقولك: وفيته نصف حقه يستلزم عدم نقصان النصف الموفى، فالسؤال عن وجه انتصاب هذه الحال قائم بعد، والأوجه أن يقال: استعملت التوفية بمعنى الإعطاء كما استعمل التوفي بمعنى الأخذ، ومن قال: أعطيت فلانا حقه كان جديرا أن يؤكده بقوله: غَيْرَ مَنْقُوصٍ انتهى. وفي الكشف أقول في تعليق التوفية بالنصف مع أن الكل حقه ما يدل على مطلوبه إذ لا فرق بين قولك: نصف حقه وحقه منصفا، فجاز وفيته نصيبه منصفا ونصيبه ناقصا، ويحسن فائدة التأكيد ويظهر أن الواهم من هو فتأمل وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة فَاخْتُلِفَ فِيهِ أي في شأن الكتاب وكونه من عند الله تعالى فآمن به قوم وكفر به آخرون فلا تبال باختلاف قومك فيما آتيناك من القرآن، وقولهم: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ [هود: 12] وزعمهم «إنك افتريته» . وجوز رجوع الضمير إلى موسى وهو خلاف الظاهر، وإن كان الاختلاف فيه عليه السلام هل هو نبي أم لا؟ مستلزما للاختلاف في كتابه هل هو من الله تعالى أم لا، وقيل: إن- في- على هذا الاحتمال بمعنى على أي فاختلف قومه عليه وتعنتوا كما فعل قومك معك وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ وهي كلمة القضاء بتأخير العذاب إلى الأجل المعلوم على حسب الحكمة الداعية إلى ذلك لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي لأوقع القضاء بين المختلفين من قومك بإنزال العذاب الذي يستحقه المبطلون ليتميزوا به عن المحقين، وفي البحر إن الظاهر عود الضمير على قوم موسى، قيل: وليس بذاك. وقال ابن عطية: عوده على القومين أحسن عندي، وتعقب بأن قوله سبحانه: وَإِنَّ كُلًّا إلخ ظاهر في التعميم بعد التخصيص وفيه نظر، والأولى عندي الأول وَإِنَّهُمْ أي وإن كفار قومك أريد بالضمير بعض من رجع إليهم ضمير بينهم للأمن من الإلباس لَفِي شَكٍّ عظيم مِنْهُ أي من القرآن وإن لم يجر له ذكر فإن ذكر إيتاء كتاب موسى ووقوع الاختلاف فيه لا سيما بصدد التسلية يناديه نداء غير خفي. وقيل: الضمير للوعيد المفهوم من الكلام مُرِيبٍ أي موقع في الريبة، وجوز أن يكون من أراب إذا صار ذا ريبة وَإِنَّ كُلًّا التنوين عوض عن المضاف إليه كما هو المعروف في تنوين كل عند قوم من النحاة، وقيل: إنه تنوين تمكين لكنه لا يمنع تقدير المضاف إليه أيضا أي وإن كل المختلفين المؤمنين والكافرين. وقال مقاتل: يعني به كفار هذه الأمة لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ أي أجزية أعمالهم، ولام لَيُوَفِّيَنَّهُمْ واقعة في جواب القسم أي والله ليوفينهم، ولَمَّا بالتشديد وهو مع تشديد أن قراءة ابن عامر وحمزة وحفص وأبي جعفر، وتخريج الآية على هذه القراءة مشكل حتى قال المبرد: إنها لحن وهو من الجسارة بمكان لتواتر القراءة وليته قال كما قال الكسائي: ما أدري ما وجه هذه القراءة، واختلفوا في تخريجها فقال أبو عبيدة: إن أصل لَمَّا هذه لما منونا، وقد قرىء كذلك ثم بني على فعلى وهو مأخوذ من لمته إذا جمعته، ولا يقال: إنها «لما» المنونة وقف عليها بالألف، وأجرى الوصل مجرى الموقف لأن ذلك على ما قال أبو حيان: إنما يكون في الشعر واستبعد هذا التخريج بأنه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 342 لا يعرف بناء فعلي من لمّ، وبأنه يلزم لمن أمال فعلى أن يميلها ولم يملها أحد بالإجماع وبأنه كان القياس أن تكتب بالياء ولم تكتب بها، وسيعلم إعراب الآية على هذا مما سيأتي إن شاء الله تعالى. وقيل: لَمَّا المخففة وشددت في الوقف ثم أجرى الوصل مجرى الوقف وحينئذ فالإعراب ما ستعرفه أيضا إن شاء الله تعالى وهو بعيد جدا، وقيل: إنها بمعنى إلا، وإلا تقع زائدة كما في قوله: حلفت يمينا غير ذي مثنوية ... يمين امرئ إلا بها غير آثم فلا يبعد أن لَمَّا التي بمعناها زائدة وهو وجه ضعيف مبني على وجه ضعيف في إلا، وعن المازني أن أن المشددة هنا نافية، ولَمَّا بمعنى إلا غير زائدة وهو باطل لأنه لم يعهد تثقيل أن النافية، ولنصب- كل- والنافية لا تنصب، وقال الحوفي: إِنَّ على ظاهرها، ولَمَّا بمعنى إلا كما في قولك: نشدتك بالله إلا فعلت، وضعفه أبو علي بأن لَمَّا هذه لا تفارق القسم قبلها وليس كما ذكر فقد تفارق وإنما يضعف ذلك بل يبطله كما قال أبو حيان: إن الموضع ليس موضع دخول إلا ألا ترى أنك لو قلت: إن زيدا إلا ضربت لم يكن تركيبا عربيا وقيل: إن لَمَّا هذه أصلها لمن ما فهي مركبة من اللام ومن الموصولة أو الموصوفة وما الزائدة فقلبت النون ميما للإدغام فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت الوسطى منها ثم أدغم المثلان، وإلى هذا ذهب المهدوي، وقال الفراء وتبعه جماعة منهم نصر الشيرازي: إن أصلها لمن ما بمن الجارة وما الموصولة أو الموصوفة وهي على الاحتمالين واقعة على من يعقل فعمل بذلك نحو ما عمل على الوجه الذي قبله، وقد جاء هذا الأصل في قوله: وأنا لمن ما تضرب الكبش ضربة ... على رأسه تلقي اللسان من الفم واللام على هذين الوجهين قيل: موطئة للقسم، ونقل عن الفارسي- وهو مخالف لما اشتهر عن النحاة- من أن الموطئة هي الداخلة على شرط مقدم على جواب قسم تقدم لفظا أو تقديرا لتؤذن بأن الجواب له نحو والله لئن أكرمتني لأكرمتك وليس ما دخلت عليه جواب القسم بل ما يأتي بعدها وكان مذهبه كمذهب الأخفش أنه لا يجب دخولها على الشرط، وإنما هي ما دلت على أن ما بعدها صالح لأن يكون جوابا للقسم مطلقا، وقيل: إنها اللام الداخلة في خبر إن، ومن موصولا أو موصوفا على الوجه الأول من الوجهين هو الخبر والقسم وجوابه صلة أو صفة، والمعنى وإن كلا للذين أو الخلق والله ليوفينهم ربّك، ومن ومجرورها على الوجه الثاني في موضع الخبر لأن، والجملة القسمية وجوابها صلة أو صفة أيضا لكن لما، والمعنى وإن كلا لمن الذين أو لمن خلق والله ليوفينهم ربك، قال في البحر: وهذان الوجهان ضعيفان جدا ولم يعهد حذف نون من وكذا حذف نون من الجارة إلا في الشعر إذا لقيت لام التعريف أو شبهها غير المدغمة نحو قولهم: ملمال يريدون من المال، وفي تفسير القاضي وغيره أن الأصل لمن ما بمن الجارة قلبت النون ميما فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت أولاهن، وفيه أيضا ما فيه، ففي المغني أن حذف هذه الميم استثقالا لم يثبت انتهى، وقال الدماميني: كيف يستقيم تعليل الحذف بالاستثقال وقد اجتمعت في قوله تعالى: عَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ [هود: 48] ثماني ميمات انتهى، وأنشد الفراء على ما ذهب إليه قول الشاعر: وإني لما أصدر الأمر وجهه ... إذا هو أعيا بالسبيل مصادره وزعم بعضهم أن لما بمعنى حين وفي الكلام حذف أي لما عملوا ما عملوا أو نحو ذلك والحذف في الكلام كثير نحو قوله: إذا قلت: سيروا إن ليلى لعلها ... جرى دون ليلى مائل القرن أعضب أراد لعلها تلقاني أو تصلني أو نحو ذلك وهو كما ترى، وقال أبو حيان بعد أن ذكر أن هذه التخريجات مما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 343 تنزه ساحة التنزيل عن مثلها: كنت قد ظهر لي وجه جار على قواعد العربية عار من التكلف وهو أن لَمَّا هذه هي الجازمة حذف فعلها المجزوم لدلالة المعنى عليه كما حذفوه في قولهم: قاربت المدينة ولما يريدون ولما أدخلها، والتقدير هنا وإن كلّا لما ينقص من جزاء عمله ويدل عليه ليوفينهم ربك أعمالهم، وكنت أعتقد أني ما سبقت إلى ذلك حتى تحققت أن ابن الحاجب وفق لذلك فرأيت في كتاب التحرير نقلا عنه أنه قال: لَمَّا هذه هي الجازمة حذف فعلها للدلالة عليه، وقد ثبت الحذف في قولهم: خرجت ولما، وسافرت ولما ونحوه، وهو سائغ فصيح فيكون التقدير لما يتركوا أو لما يهملوا ويدل عليه تفصيل المجموعين ومجازاتهم، ثم قال: وما أعرف وجها أشبه من هذا وإن كانت النفوس تستبعده من جهة أن مثله لم يقع في القرآن انتهى، ولا يخفى عليك أن الأولى أن يقدر لما يوفوا أعمالهم أي إلى الآن لم يوفوها وسيوفونها، وإلى ذلك ذهب ابن هشام لما يلزم على التقديرات السابقة على ما هو المشهور في معنى لما أنهم سينقصون من جزاء أعمالهم وأنهم سيتركون ويهملون، وذلك بمعزل عن أن يراد وهو ظاهر، وهذا وجه النظر الذي عناه ابن هشام في قوله معترضا على ابن الحاجب: وفي هذا التقدير نظر. وقال الجلبي: وجهه أن الدال على المحذوف سابق عليه بكثير مع أن ذلك المحذوف ليس من لفظ هذا الذي قيل: إنه دال عليه وليس بذاك، ثم المرجح عند كثير من المفسرين ما ذهب إليه الفراء، وقرأ نافع وابن كثير أن ولما بالتخفيف وخرجت هذه القراءة على أن أن عاملة وإن خففت اعتبارا للأصل في العمل وهو شبه الفعل ولا يضر زوال الشبه اللفظي، وإلى ذلك ذهب البصريون، وذكر أبو حيان أن مذهبهم جواز إعمالها إذا خففت لكن على قلة إلا مع المضمر فلا يجوز إلا إن ورد في شعر، ونقل عن سيبويه منهم أنه قال: أخبرني الثقة أنه سمع بعض العرب يقول: إن عمرا لمنطلق. وزعم بعض من النحويين أن المكسورة إذا خففت لا تعمل، وتأول الآية بجعل كُلًّا منصوبا بفعل مقدر أي إن أرى كلّا مثلا وليس بشيء، وجعل هذا في البحر مذهب الكوفيين، وفي الارتشاف أن الكوفيين لا يجوزون تخفيف المكسورة لا مهملة ولا معملة، وذكر بعضهم مثله وأن ما يعدّها البصريون مخففة يعدها الكوفيون نافية، واستثنى منهم الكسائي فإنه وافق البصريين ومذهبهم في ذلك هو الحق، وكُلًّا اسمها واللام هي الداخلة على خبر إن وما موصولة خبر إن، والجملة القسمية وجوابها صلة، وإلى هذا ذهب الفراء، واختار الطبري في اللام مذهبه، وفي ما كونها نكرة موصوفة، والجملة صفتها أي وإن كلا لخلق أو لفريق موفى عمله، واختار أبو علي في اللام ما اختاراه وجعل الجملة القسمية خبرا وما مزيدة بين اللامين وقد عهدت زيادتها في غير ما موضع، وقرأ أبو بكر عن عاصم بتخفيف إن وتشديد لما، وقرأ الكسائي، وأبو عمرو بعكس ذلك وتخريج القراءتين لا يخفى على من أحاط خبرا في تخريج القراءتين قبل، وقرأ أبي، والحسن بخلاف عنه، وأبان بن تغلب، وأن بالتخفيف كل بالرفع لما بالتشديد، وخرجت على أن إن نافية وكل مبتدأ والجملة القسمية وجوابها خبره، ولَمَّا بمعنى إلّا أي ما كل إلّا أقسم والله ليوفينهم، وأنكر أبو عبيدة مجيء لَمَّا بمعنى إلّا في كلام العرب، وقال الفراء: إن جعلها هنا بمعنى إلّا وجه لا نعرفه، وقد قالت العرب مع اليمين بالله: لما قمت عنا وإلّا قمت عنا، وأما في غير ذلك فلم نسمع مجيئها بمعنى إلّا لا في نثر ولا في شعر ويلزم القائل أن يجوز قام الناس لما زيدا على معنى إلّا زيدا ولا التفات إلى إنكارهما، والقراءة المتواترة في وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ [يس: 32] وإِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ [الطارق: 4] تثبت ما أنكراه. وقد نص الخليل، وسيبويه، والكسائي على مجيء ذلك، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، وكون العرب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 344 خصصت مجيئها كذلك ببعض التراكيب لا يضر شيئا فكم من شيء خص بتركيب دون ما أشبهه. وقرأ الزهري، وسليمان بن أرقم وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا بتشديد الميم والتنوين ولم يتعرضوا في النقل عنهما لتشديد أن ولا لتخفيفها، وهي في هذه القراءة مصدر من قولهم: لممت الشيء إذا جمعته كما مرّ ونصبها على الحالية من ضمير المفعول في لَيُوَفِّيَنَّهُمْ عند أبي البقاء وضعفه. وقال أبو علي: إنها صفة لكل ويقدر مضافا إلى نكرة ليصح وصفه بالنكرة، وكان المصدر حينئذ بمعنى اسم المفعول، وذكر الزمخشري في معنى الآية على هذه القراءة أنه وإن كلّا ملمومين بمعنى مجموعين كأنه قيل: وإن كلّا جميعا كقوله تعالى: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [الحجر: 30، ص: 73] وجعل ذلك الطيبي منه ميلا إلى القول بالتأكيد. وقال ابن جني: إنها منصوبة- بليوفينهم- على حد قولهم: قياما لا أقومن، والتقدير توفية جامعة لأعمالهم لَيُوَفِّيَنَّهُمْ وخبر إِنَّ في ذلك جملة القسم وجوابه، وروى أبو حاتم أن في مصحف أبي وإن من كل إلّا ليوفينهم وخرج على أن إن نافية ومن زائدة. وقرأ الأعمش نحو ذلك إلّا أنه أسقط من وهو حرف ابن مسعود رضي الله تعالى عنه والوجه ظاهر، قيل: وقد تضمنت هذه الجملة عدة مؤكدات من أن واللام وما إذا كانت زائدة والقسم ونون التأكيد وذلك للمبالغة في وعد الطائعين ووعيد العاصين إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي أنه سبحانه بما يعمله كل فرد من المختلفين من الخير والشر عليم على أتم وجه بحيث لا يخفى عليه شيء من جلائله ودقائقه، والجملة قيل: توكيد للوعد والوعيد فإنه سبحانه لما كان عالما بجميع المعلومات كان عالما بمقادير الطاعات والمعاصي وما يقتضيه كل فرد منها من الجزاء بمقتضى الحكمة وحينئذ تأتي توفية كل ذي حق حقه إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وقرأ ابن هرمز «تعملون» على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ لما بين أمر المختلفين في التوحيد والنبوة، وأطنب سبحانه في شرح الوعد والوعيد أمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالاستقامة مثل الاستقامة التي أمر بها وهذا يقتضي أمره صلّى الله عليه وسلّم بوحي آخر ولو غير متلو كما قاله غير واحد، والظاهر أن هذا أمر بالدوام على الاستقامة وهي لزوم المنهج المستقيم وهو المتوسط بين الإفراط والتفريط وهي كلمة جامعة لكل ما يتعلق بالعلم والعمل وسائر الأخلاق فتشمل العقائد والأعمال المشتركة بينه صلّى الله عليه وسلّم وبين سائر المؤمنين والأمور الخاصة به عليه الصلاة والسلام من تبليغ الأحكام والقيام بوظائف النبوة وتحمل أعباء الرسالة وغير ذلك، وقد قالوا: إن التوسط بين الإفراط والتفريط بحيث لا يكون ميل إلى أحد الجانبين قيد عرض شعرة مما لا يحصل إلّا بالافتقار إلى الله تعالى ونفي الحول والقوة بالكلية، ومثلوا الأمر المتوسط بين ذينك الطرفين بخط يكون بين الشمس والظل ليس بشمس ولا ظل بل هو أمر فاصل بينهما ولعمري إن ذلك لدقيق، ولهذا قالوا: لا يطيق الاستقامة إلّا من أيد بالمشاهدات القوية والأنوار السنية ثم عصم بالتشبث بالحق وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا [الإسراء: 74] وجعل بعض العارفين الصراط الذي هو أدق من الشعرة وأحد من السيف إشارة إلى هذا المنهج المتوسط، ومما يدل على شدة هذا الأمر ما أخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن الحسن أنه قال: لما نزلت هذه الآية قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «شمروا شمروا» وما رئي بعدها ضاحكا. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ما نزلت على رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم آية أشد من هذه الآية ولا أشق، واستدل بعض المفسرين على عسر الاستقامة بما شاع من قوله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «شيبتني الجزء: 6 ¦ الصفحة: 345 هود» ، وأنت تعلم أن الأخبار متضافرة بضم سور أخرى إليها وإن اختلفت في تعيين المضموم كما مرّ أول السورة، وحينئذ لا يخفى ما في الاستدلال من الخفاء، ومن هنا قال صاحب الكشف: التخصيص بهود لهذه الآية غير لائح إذ ليس في الأخوات ذكر الاستقامة. وذكر في قوت القلوب أنه لما كان القريب الحبيب صلى الله تعالى عليه وسلم شيبه ذكر البعد وأهله ثم قال: ولعل الأظهر أنه عليه الصلاة والسلام شيبه ذكر أهوال القيامة، وكأنه- بأبي هو وأمي- شاهد منه يوما يجعل الوالدان شيبا انتهى. وبعضهم استدل للتخصيص برؤيا أبي علي الشتري السابقة وفيه بعد تسليم صحة الرواية إن رؤيا النبي صلّى الله عليه وسلّم وإن كانت حقا حيث إن الشيطان لا يتمثل به عليه الصلاة والسلام إلّا أنه من أين يجزم بضبط الرائي وتحقيقه ما رأى على أن مما يوهن أمر هذه الرؤيا ويقوي ظن عدم ثبوتها ما أخرجه ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «شيبتني هود وأخواتها وما فعل بالأمم قبلي» وذكر الشهاب ما يقوي اعتراض صاحب الكشف من أنه ليس في الطرق المروية في هذا الباب الاقتصار على هود بل ذكر معها أخواتها وليس فيها الأمر المذكور مع أنه وقع في غيرها من آل حميم، ثم ذكر أنه لاح له ما يدفع الاشكال وذلك أن مبنى هذه السورة الكريمة على إرشاده تعالى شأنه نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم إلى كيفية الدعوة من مفتتحها إلى مختتمها وإلى ما يعتري من تصدى لهذه المرتبة السنية من الشدائد واحتماله لما يترتب عليه من الفوائد لا على التسلية إذ لا يطابق المقام حسبما تقدم لك عن صاحب الكشف، ولما كانت هذه السورة جامعة لإرشاده من أول أمره إلى آخره وهذه الآية فذلكة لها فحينما نزلت هذه السورة هاله ما فيها من الشدائد وخاف من عدم القيام بأعبائها حتى إذا لقي الله تعالى في يوم الجزاء ربما مسه نصب من السؤال عنها فذكر القيامة في تلك السور يخوفه هولها لاحتمال تفريطه فيما أرشده الله تعالى له في هذه، وهذا لا ينافي عصمته عليه الصلاة والسلام وقربه لكونه الأعلم بالله تعالى والأخوف منه، فالخوف منها يذكره بما تضمنته هذه السورة فكأنها هي المشيبة له صلّى الله عليه وسلّم من بينها ولذا بدأ بها في جميع الروايات، ولما كانت تلك الآية فذلكة لها كانت هي المشيبة في الحقيقة فلا منافاة بين نسبة التشييب لتلك السور ولا لهذه السورة وحدها كما فعله من فعله ولا لتلك الآية كما وقع في تلك الرؤيا انتهى، وسيأتي إن شاء الله تعالى وجه آخر لنسبة التشييب لهذه السورة فليتأمل، وذهب بعض المحققين إلى كون الكاف في كَما بمعنى على كما في قولهم: كن كما أنت عليه أي على ما أنت عليه، ومن هنا قال ابن عطية وجماعة: المعنى استقم على القرآن، وقال مقاتل: امض على التوحيد، وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: استقم على الأخبار عن الله تعالى بصحة العزم، والأظهر إبقاء ما على العموم أي استقم على جميع ما أمرت به، والكلام في حذف مثل هذا الضمير أمر شائع، وقد مرّ التنبيه عليه، ومال بعضهم إلى كون الكاف للتشبيه حسبما هو الظاهر منها إلّا أنه قال: إنها في حكم مثل في قولهم: مثلك لا يبخل فكأنه قيل: استقم الاستقامة التي أمرت بها فرارا من تشبيه الشيء بنفسه ولا يخفى أنه ليس بلازم، ومن الغريب ما نقل عن أبي حيان أنه قال في تذكرته: فإن قلت: كيف جاء هذا التشبيه للاستقامة بالأمر؟ قلت: هو على حذف مضاف تقديره مثل مطلوب الأمر أي مدلوله، فإن قلت: الاستقامة المأمور بها هي مطلوب الأمر فكيف يكون مثلا لها؟ قلت: مطلوب الأمر كلي والمأمور جزئي فحصلت المغايرة وصح التشبيه كقولك: صل ركعتين كما أمرت، وأبعد بعضهم فجعل الكاف بمعنى على واستفعل للطلب كاستغفر الله تعالى أي اطلب الغفران منه، وقال: المعنى اطلب الإقامة على الدين. وَمَنْ تابَ مَعَكَ أي تاب من الشرك وآمن معك فالمعية باعتبار اللازم من غير نظر إلى ما تقدمه وغيره، وقد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 346 يقال: يكفي الاشتراك في التوبة والمعية فيها مع قطع النظر عن المثوب عنه، وقد كان صلى الله تعالى عليه وسلم يستغفر الله تعالى في اليوم أكثر من سبعين مرة، واستظهر ذلك الجلبي، ومَنْ على ما اختاره أبو حيان، وجماعة عطف على الضمير المستكن في فَاسْتَقِمْ وأغنى الفصل بالجار والمجرور عن تأكيده بضمير منفصل لحصول الغرض به، وفي الكلام تغليب لحكم الخطاب على الغيبة في لفظ الأمر، واختار كثير أنه فاعل لفعل محذوف أي وليستقم من إلخ لأن الأمر لا يرفع الظاهر، وحينئذ فالجملة معطوفة على الجملة الأولى، ومن ذهب إلى الأول رجحه بعدم احتياجه إلى التقدير ودفع المحذور بأنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع. وجوز أبو البقاء كونه منصوبا على أنه مفعول معه، والمعنى استقم مصاحبا لمن تاب، قيل: وهو في المعنى أتم وإن كان في اللفظ نوع نبوة عنه. وقيل: إنه مبتدأ والخبر محذوف أي فليستقم، وجوز كون الخبر مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا أي لا تنحرفوا عما حدّ لكم بإفراط أو تفريط فإن كلا طرفي قصد الأمور ذميم، وسمي ذلك طغيانا وهو مجاوزة الحدّ تغليظا أو تغليبا لحال سائر المؤمنين على حاله صلى الله تعالى عليه وسلم، وعن ابن عباس أن المعنى لا تطغوا في القرآن فتحلوا وتحرموا ما لم تؤمروا به. وقال ابن زيد: لا تعصوا ربكم، وقال مقاتل: لا تخلطوا التوحيد بالشرك، ولعل الأول أولى. إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيكم على ذلك وهو تعليل للأمر والنهي السابقين كأنه قيل: استقيموا ولا تطغوا لأن الله تعالى ناظر لأعمالكم فيجازيكم عليها، وقيل: إنه تتميم للأمر بالاستقامة، والأول أحسن وأتم فائدة، وقرأ الحسن، والأعمش- يعملون- بياء الغيبة، وروي ذلك عن عيسى الثقفي أيضا، وفي الآية- على ما قال غير واحد- دليل على وجوب اتباع المنصوص عليه من غير انحراف بمجرد التشهي وإعمال العقل الصرف فإن ذلك طغيان وضلال، وأما العمل بمقتضى الاجتهاد التابع لعلل النصوص فذلك من باب الاستقامة كما أمر على موجب النصوص الآمرة بالاجتهاد، وقال الإمام: وعندي لا يجوز تخصيص النص بالقياس لأنه لما دلّ عموم النص على حكم وجب الحكم بمقتضاه لقوله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ والعمل بالقياس انحراف عنه، ولذا لما ورد القرآن بالأمر بالوضوء وجيء بالأعضاء مرتبة في اللفظ وجب الترتيب فيها، ولما ورد الأمر في الزكاة بأداء الإبل من الإبل، والبقر من البقر وجب اعتبارها، وكذا القول في كل ما ورد أمر الله تعالى به كل ذلك للأمر بالاستقامة كما أمر انتهى. وأنت تعلم أن إيجاب الترتيب في الوضوء لذلك ليس بشيء ويلزمه أن يوجب الترتيب في الأوامر المتعاطفة بالواو مثل أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ [البقرة: 43 وغيرها] وكذا في نحو وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة: 45] بعين ما ذكر في الوضوء وهو كما ترى، وكأنه عفا الله تعالى عنه يجزم بأن الحنفية الذين لا يوجبون الترتيب في أعمال الوضوء طاغون خارجون عما حدّ الله تعالى لا احتمال للقول بأنهم مستقيمون وهو من الظلم بمكان وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أي لا تميلوا إليهم أدنى ميل، والمراد بهم المشركون كما روى ذلك ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وفسر الميل بميل القلب إليهم بالمحبة، وقد يفسر بما هو أعم من ذلك كما يفسر الَّذِينَ ظَلَمُوا بمن وجد منه ما يسمى ظلما مطلقا، قيل: ولإرادة ذلك لم يقل إلى الظالمين ويشمل النهي حينئذ مداهنتهم وترك التغيير عليهم مع القدرة والتزيي بزيهم وتعظيم ذكرهم ومجالستهم من غير داع شرعي، وكذا القيام لهم ونحو ذلك، ومدار النهي على الظلم والجمع باعتبار جمعية المخاطبين، وقيل: إن ذلك للمبالغة في النهي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 347 من حيث إن كونهم جماعة مظنة الرخصة في مداهنتهم مثلا، وتعقب بأنه إنما يتم أن لو كان المراد النهي عن الركون إليهم من حيث إنهم جماعة وليس فليس فَتَمَسَّكُمُ أي فتصيبكم بسبب ذلك كما تؤذن به الفاء الواقعة في جواب النهي النَّارُ وهي نار جهنم، وإلى التفسير الثاني- وما أصعبه على الناس اليوم بل في غالب الأعاصير من تفسير- ذهب أكثر المفسرين، قالوا: وإذا كان حال الميل في الجملة إلى من وجد منه ظلم ما في الإفضاء إلى مساس الناس النار فما ظنك بمن يميل إلى الراسخين في الظلم كل الميل. ويتهالك على مصاحبتهم ومنادمتهم، ويتعب قلبه وقالبه في إدخال السرور عليهم، ويستنهض الرجل والخيل في جلب المنافع إليهم، ويبتهج بالتزيي بزيهم والمشاركة لهم في غيهم. ويمد عينيه إلى ما متعوا به من زهرة الدنيا الفانية، ويغبطهم بما أوتوا من القطوف الدانية غافلا عن حقيقة ذلك ذاهلا عن منتهى ما هنالك! وينبغي أن يعد مثل ذلك من الذين ظلموا لا من الراكنين إليهم بناء على ما روي أن رجلا قال لسفيان: إني أخيط للظلمة فهل أعدّ من أعوانهم، فقال له: لا أنت منهم والذي يبيعك الإبرة من أعوانهم، وما أحسن ما كتبه بعض الناصحين للزهري حين خالط السلاطين، وهو- عافانا الله تعالى وإياك- أبا بكر من الفتن فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو لك الله تعالى ويرحمك أصبحت شيخا كبيرا وقد أثقلتك نعم الله تعالى بما فهمك من كتابه وعلمك من سنة نبيك صلى الله تعالى عليه وسلم وليس كذلك أخذ الله تعالى الميثاق على العلماء، قال سبحانه: لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران: 187] واعلم أن أيسر ما ارتكبت وأخف ما احتملت أنك آنست وحشة الظالم وسهلت سبيل الغي بدنوك ممن لم يؤد حقا ولم يترك باطلا حين أدناك اتخذوك قطبا تدور عليك رحى باطلهم وجسرا يعبرون عليك إلى بلائهم وسلما يصعدون فيك إلى ضلالهم يدخلون الشك بك على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهلاء فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك وما أكثر ما أخذوا منك فيما أفسدوا عليك من دينك فما يؤمنك أن تكون ممن قال الله تعالى فيهم: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم: 59] فإنك تعامل من لا يجهل ويحفظ عليك من لا يغفل فداو دينك فقد دخله سقم وهيىء زادك فقد حضر السفر البعيد، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء والسلام. وعن الأوزاعي ما من شيء أبغض إلى الله تعالى من عالم يزور عاملا، وعن محمد بن سلمة: الذباب على العذرة أحسن من قارئ على باب هؤلاء، وفي الخبر من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصي الله تعالى في أرضه، ولعمري إن الآية أبلغ شيء في التحذير عن الظلمة والظلم، ولذا قال الحسن: جمع الدين في لاءين يعني- لا تطغوا، ولا تركنوا- ويحكى أن الموفق أبا أحمد طلحة العباسي صلّى خلف الإمام فقرأ هذه الآية فغشي عليه فلما أفاق قيل له، فقال: هذا فيمن ركن إلى من ظلم فكيف الظالم. هذا وخطاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه من المؤمنين بهذين النهيين بعد الأمر بالاستقامة للتثبيت عليها، وقد تجعل تأكيدا لذلك إذا كان المراد به الدوام والثبات، وعن أبي عمرو أنه قرأ «تركنوا» بكسر التاء على لغة تميم. وقرأ قتادة، وطلحة، والأشهب، ورويت عن أبي عمرو «تركنوا» بضم الكاف مضارع ركن بفتحها وهي على ما في البحر لغة قيس، وتميم. وقال الكسائي: إنها لغة أهل نجد وشذ- تركن- بالفتح مضارع ركن كذلك، وقرأ ابن أبي عبلة «ولا تركنوا» مبنيا للمفعول من أركنه إذا أماله، وقراءة الجمهور «تركنوا» بفتح الكاف، والماضي- ركن- بكسرها وهي لغة قريش، وهي الفصحى- على ما قال الأزهري- وقرأ ابن وثاب، وعلقمة، والأعمش، وابن مصرف، وحمزة فيما يروى عنه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 348 «فتمسكم» بكسر التاء على لغة تميم أيضا وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ من أنصار يمنعون العذاب عنكم، والمراد نفي أن يكون لكل نصير، والمقام قرينة على ذلك، والجملة في موضع الحال من ضمير فَتَمَسَّكُمُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ من جهته تعالى إذ قد سبق في حكمه تعالى أن يعذبكم بركونكم إليهم ولا يبقى عليكم، وثُمَّ قيل: لاستبعاد نصره سبحانه إياهم وقد أوعدهم العذاب على ذلك، وأوجبه لهم وتعقب بأن أثر الحرف إنما هو في مدخوله ومدخول ثُمَّ عدم النصرة وليس بمستبعد، وإنما المستبعد نصر الله تعالى لهم، فالظاهر أنها للتراخي في الرتبة لأن عدم نصر الله أشد وأفظع من عدم نصرة غيره، وأجيب بما لا يخلو عن تكلف، وأيا ما كان فالمقام مقام الواو إلّا أنه عدل عنها لما ذكر. وجوز القاضي أن تكون منزلة منزلة الفاء بمعنى الاستبعاد فإنه سبحانه لما بين أنه معذبهم وأن أحدا لا يقدر على نصرهم أنتج ذلك أنهم لا ينصرون أصلا، ووجه ذلك بأنه كان الظاهر أن يؤتى بالفاء التفريعية المقارنة للنتائج إذ المعنى أن الله تعالى أوجب عليكم عقابه ولا مانع لكم منه فإذن أنتم لا تنصرون فعدل عنه إلى العطف- بثم- الاستبعادية إلى الوجه الذي ذكره، واستبعاد الوقوع يقتضي النفي، والعدم الحاصل الآن فهو مناسب لمعنى تسبب النفي، ودفع بذلك ما قيل عليه: إن الداخل على النتائج هي الفاء السببية لا الاستبعادية ولا يخفى قوة الاعتراض، وفرق بين وجهي الاستبعاد السابق والتنزيل المذكور بأن المنفي على الأول نصرة الله تعالى لهم، وعلى الثاني مطلق النصرة وَأَقِمِ الصَّلاةَ أي المكتوبة، ومعنى إقامتها أداؤها على تمامها. وقيل: المداومة عليها، وقيل: فعلها في أول وقتها طَرَفَيِ النَّهارِ أي أوله وآخره وانتصابه على الظرفية- لأقم- ويضعف كونه ظرفا للصلاة ووجه انتصابه على ذلك إضافته إلى الظرف وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ أي ساعات منه قريبة من النهار فإنه من أزلفه إذا قربه. وقال الليث: هي طائفة من أول الليل، وكذا قال ثعلب، وقال أبو عبيدة، والأخفش، وابن قتيبة: هي مطلق ساعاته وآناؤه وكل ساعة زلفة، وأنشدوا للعجاج: ناج طواه الأين مما وجفا ... طي الليالي زلفا فزلفا سماوة الهلال حتى احقوقفا وهو عطف على طَرَفَيِ النَّهارِ، ومِنَ اللَّيْلِ في موضع الصفة له، والمراد بصلاة الطرفين قيل: صلاة الصبح والعصر، وروي ذلك عن الحسن، وقتادة، والضحاك، واستظهر ذلك أبو حيان بناء على أن طرف الشيء يقتضي أن يكون من الشيء، والتزم أن أول النهار من الفجر، وقد يطلق طرف الشيء على الملاصق لأوله وآخره مجازا فيمكن اعتبار النهار من طلوع الشمس مع صحة ما ذكروه في صلاة الطرف الأول بجعل التثنية هنا مثلها في قولهم: القلم أحد اللسانين إلّا أنه قيل بشذوذ ذلك. وروي عن ابن عباس- واختاره الطبري- أن المراد صلاة الصبح والمغرب فإن كان النهار من أول الفجر إلى غروب الشمس فالمغرب طرف مجازا وهو حقيقة طرف الليل، وإن كان من طلوع الشمس إلى غروبها فالصبح كالمغرب طرف مجازي، وقال مجاهد، ومحمد بن كعب القرظي: الطرف الأول الصبح، والثاني الظهر، والعصر، واختار ذلك ابن عطية، وأنت تعلم أن في جعل الظهر من الطرف الثاني خفاء وإنما الظهر نصف النهار والنصف لا يسمى ظرفا إلّا بمجاز بعيد، والمراد بصلاة الزلف عند الأكثر صلاة المغرب والعشاء. وروى الحسن في ذلك خبرا مرفوعا، وعن ابن عباس أنه فسر صلاة الزلف بصلاة العتمة وهي ثلث الليل الأول الجزء: 6 ¦ الصفحة: 349 بعد غيبوبة الشفق وقد تطلق على وقت صلاة العشاء الآخرة، وأغرب من قال: صلاة الطرفين صلاة الظهر والعصر، وصلاة الزلف صلاة المغرب، والعشاء، والصبح، وقيل: معنى زُلَفاً قربا، وحقه على هذا- كما في الكشاف- أن يعطف على الصلاة أي أقم الصلاة طرفي النهار وأقم زلفا من الليل أي صلوات تتقرب بها إلى الله عزّ وجلّ انتهى، قيل: والمراد بها على هذا صلاة العشاء والتهجد وقد كان واجبا عليه عليه الصلاة والسلام، أو العشاء، والوتر على ما ذهب إليه أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه، أو المجموع كما يقتضيه ظاهر الجمع، وقد تفسر بصلاة المغرب والعشاء- واختاره البعض- وقد جاء إطلاق الجمع على الاثنين فلا حاجة إلى التزام أن ذلك باعتبار أن كل ركعة قربة فتحقق قرب فوق الثلاث فيما ذكر. وقرأ طلحة، وابن أبي إسحاق، وأبو جعفر «زلفا» بضم اللام إما على أنه جمع زلفة أيضا ولكن ضمت عينه اتباعا لفائه. أو على أنه اسم مفرد كعنق، أو جمع زليف بمعنى زلفة كرغيف ورغف، وقرأ مجاهد، وابن محيصن بإسكان اللام كبسر بالضم والسكون في بسرة، وهو على هذا- على ما في البحر- اسم جنس، وفي رواية عنهما أنهما قرآ- زلفى- كحبلى وهو بمعنى زلفة فإن تاء التأنيث وألفه قد يتعاقبان نحو قربى وقربة، وجوز أن تكون هذه الألف بدلا من التنوين إجراء للوصل مجرى الوقف إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ أي يكفرنها ويذهبن المؤاخذة عليها وإلّا فنفس السيئات أعراض وجدت فانعدمت، وقيل: يمحينها من صحائف الأعمال، ويشهد له بعض الآثار، وقيل: يمنعن من اقترافها كقوله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت: 45] وهو مع بعده في نفسه مخالف للمأثور عن الصحابة، والتابعين رضي الله تعالى عنهم فلا ينبغي أن يعول عليه. والظاهر أن المراد من الحسنات ما يعم الصلوات المفروضة وغيرها من الطاعات المفروضة وغيرها، وقيل: المراد الفرائض فقط لرواية «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان الى رمضان مكفرات ما بينهن» وفيه أنه قد صح من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: «إذا أمّن الإمام فأمّنوا فإن الملائكة تؤمن فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه» وفي رواية تفرد بها يحيى بن نصير- وهو من الثقات- بزيادة «وما تأخر» وصح أن صيام يوم عرفة تكفر السنة الماضية والمستقبلة، وأخرج أبو داود في السنن بإسناد حسن عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أكل طعاما ثم قال الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن لبس ثوبا وقال: الحمد لله الذي كساني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في تكفير أفعال ليست بمفروضة ذنوبا كثيرة، وقيل: المراد بها الصلوات المفروضة لما في بعض طرق خبر سبب النزول من أن أبا اليسر من الأنصار قبل امرأة ثم ندم فأتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره بما فعل فقال عليه الصلاة والسلام: «أنتظر أمر ربي فلما صلى صلاة قال صلى الله تعالى عليه وسلم: نعم اذهب بها فإنها كفارة لما عملت» وروي هذا القول عن ابن عباس، وابن مسعود، وابن المسيب، والظاهر أن ذلك منهم اقتصار على بعض مهم من أفراد ذلك العام، وسبب النزول لا يأبى العموم كما لا يخفى، وفي رواية عن مجاهد أنها قول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم، وفيه ما فيه، والمراد بالسيئات عند الأكثرين الصغائر لأن الكبائر لا يكفرها على ما قالوا: إلّا التوبة، واستدلوا لذلك بما رواه مسلم من رواية العلاء «الصلوات الخمس كفارة لما بينها ما اجتنبت الكبائر» واستشكل بأن الصغائر مكفرة باجتناب الكبائر بنص إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [النساء: 31] فما الذي تكفره الصلوات الخمس؟ وأجاب البلقيني بأن ذلك غير وارد لأن المراد بالآية أن تجتنبوا في جميع العمر ومعناه الموافاة على هذه الحالة من وقت الإيمان أو التكليف إلى الموت، والذي في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 350 الحديث «إن الصلوات تكفر ما بينها» أي في يومها إذا اجتنبت الكبائر في ذلك اليوم فلا تعارض، وتعقبه السمهودي بقوله: ولك أن تقول: لا يتحقق اجتناب الكبائر في جميع العمر إلّا مع الإتيان بالصلوات الخمس فيه كل يوم فالتكفير حاصل بما تضمنه الحديث فما فائدة الاجتناب المذكور في الآية ثم قال: ولك أن تجيب بأن ذلك من باب فعل شيئين كل منهما مكفر، وقد قال بعض العلماء: إنه إذا اجتمعت مكفرات فحكمها أنها إذا ترتبت فالمكفر السابق وإن وقعت معا فالمكفر واحد منها يشاؤه الله تعالى، وأما البقية فثوابها باق له وذلك الثواب على كل منها يكون بحيث يعدل تكفير الصغائر لو وجدت، وكذا إذا فعل واحدا من الأمور المكفرة ولم يكن قد ارتكب ذنبا. وفي شرح مسلم للنووي نحو ذلك غير أنه ذكر أنه لو صادف فعل المكفر كبيرة أو كبائر ولم يصادف صغيرة رجونا أن يخفف من الكبائر، ويرد على قوله: إن المراد إِنْ تَجْتَنِبُوا في جميع العمر منع ظاهر، والظاهر أن المراد من ذلك أن ثواب اجتناب الكبائر في كل وقت يكفر الصغائر الواقعة فيه، وفي تفسير القاضي ما يؤيده، وكذا ما ذكره الإمام حجة الإسلام في الكلام على التوبة من أن حكم الكبيرة أن الصلوات الخمس لا تكفرها وأن اجتناب الكبائر يكفر الصغائر بموجب قوله سبحانه: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما إلخ، ولكن اجتناب الكبيرة إنما يكفر الصغيرة إذا اجتنبها مع القدرة والإرادة كمن يتمكن من امرأة ومن مواقعتها فكيف نفسه عن الوقوع ويقتصر على النظر واللمس فإن مجاهدته نفسه في الكف عن الوقاع أشد تأثيرا في تنوير قلبه من إقدامه على النظر في إظلامه فهذا معنى تكفيره فإن كان عنينا ولم يكن امتناعه إلّا بالضرورة للعجز أو كان قادرا ولكن امتنع لخوف من آخر فهذا لا يصلح للتكفير أصلا فكل من لا يشتهي الخمر بطبعه ولو أبيح له ما شربه فاجتنابه لا يكفر عنه الصغائر التي هي من مقدماته كسماع الملاهي والأوتار وهذا ظاهر يدل عليه أن الحسنات يذهبن السيئات، ولا شك أن اجتناب الكبائر إذا قارن القصد حسنة وإنما قيدنا بذلك وإن كان الخروج عن عهدة النهي لا يتوقف عليه لأنه لا يثاب على الاجتناب بدون ذلك، فالأولى في الجواب عن الإشكال أن يقال: «ما اجتنبت الكبائر» في الخبر ليس قيدا لأصل التكفير بل لشمول التكفير سائر الذنوب التي بين الصلوات الخمس فهو بمثابة استثناء الكبائر من الذنوب، وكأنه قيل: الصلوات الخمس كفارة لجميع الذنوب التي بينها وتكفيرها للجميع في المدة التي اجتنبت فيها الكبائر أو مقيد باجتناب الكبائر وإلّا فليست الصلوات كفارة لجميع الذنوب بل للصغائر فقط، وهذا وإن كان خلاف الظاهر من عود القيد لأصل التكفير لكن قرينة الآية دعت للعدول عنه إلى ذلك جمعا بين الأدلة، ولا بدّ في هذا من اعتبار ما قالوا في اجتماع الأمور المكفرة للصغائر، وذكر الحافظ ابن حجر بعد نقله لكلام البلقيني ما لفظه: وعلى تقدير ورود السؤال فالتخلص عنه سهل وذلك لأنه لا يتم اجتناب الكبائر إلّا بفعل الصلوات الخمس فمن لم يفعلها لم يعد مجتنبا للكبائر لأن تركها من الكبائر فيتوقف التكفير على فعلها انتهى ولا يخلو عن بحث، وممن صرح بأن ما اجتنبت إلخ بمعنى الاستثناء نقلا عن بعضهم المحب الطبري، فقد قال في أحكامه: اختلف العلماء في أمر تكفير الصغائر بالعبادات هل هو مشروط باجتناب الكبائر؟ على قولين: أحدهما نعم وهو ظاهر قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «ما اجتنبت الكبائر» فإن ظاهره الشرطية كما يقتضيه «إذا اجتنبت» الآتي في بعض الروايات، فإذا اجتنبت الكبائر كانت مكفرة لها وإلّا فلا، وإليه ذهب الجمهور على ما ذكره ابن عطية، وقال بعضهم: لا يشترط، والشرط في الحديث بمعنى الاستثناء والتقدير مكفرات لما بينها إلّا الكبائر وهو الأظهر. هذا وقد ذكر الزركشي أنهم اختلفوا في أن التكفير هل يشترط فيه التوبة أم لا؟ فذهب إلى الاشتراط طائفة وإلى عدمه أخرى، وفي البحر أن الاشتراط نص حذاق الأصوليين، ولعل الخلاف مبني على الخلاف في اشتراط الاجتناب وعدمه فمن جعل اجتناب الكبائر شرطا في تكفير الصغائر لم يشترط التوبة وجعل هذه خصوصية لمجتنب الكبائر ولم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 351 يشترطه إلّا من اشترطها، ويدل عليه خبر أبي اليسر فإن الروايات متضافرة على أنه جاء نادما والندم توبة، وأن إخباره صلى الله تعالى عليه وسلم له بأن صلاة العصر كفرت عنه ما فعل إنما وقع بعد ندمه لكن ظاهر إطلاق الحديث يقتضي أن التكفير كان بنفس الصلاة فإن التوبة بمجردها تجب ما قبلها فلو اشترطناها مع العبادات لم تكن العبادات مكفرة، وقد ثبت أنها مكفرات فيسقط اعتبار التوبة معها انتهى ملخصا مع زيادة، ولا يخفى أن هذا يحتاج إلى التزام القول بأن ندم أبي اليسر لم يكن توبة صحيحة وإلّا لكان التكفير به لأنه السابق، وبعض التزم القول بكونه توبة صحيحة إلّا أنه توبة لم تقبل ولم تكفر الذنب، وأنت تعلم أن في عدم تكفير التوبة الذنب مقالا، والمنقول عن السبكي أنه قال: إن قبول التوبة عن الكفر مقطوع به تفضلا، وفي القطع بقبول توبة العاصي قولان لأهل السنة، والمختار عند إمام الحرمين أن تكفير التوبة للذنب مظنون، وادعى النووي أنه الأصح، وفي شرح البرهان: الصحيح عندنا القطع بالتكفير، وقال الحليمي: لا يجب على الله تعالى قبول التوبة لكنه لما أخبر عن نفسه أنه يقبل التوبة عن عباده ولم يجز أن يخلف وعده علمنا أنه سبحانه وتعالى لا يرد التوبة الصحيحة فضلا منه تعالى، ومثل هذا الخلاف في التكفير باجتناب الكبائر ونحوه هل هو قطعي أو ظني، وفي كلام العلامة نجم الدين النسفي، وصدر الشريعة، وغيرهما أن العقاب على الصغائر جائز الوقوع سواء اجتنبت مرتكبها الكبائر أم لا لدخولها تحت قوله تعالى: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ [آل عمران: 129، المائدة: 18] ولقوله تعالى: لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الكهف: 49] والإحصاء إنما يكون للسؤال والمجازاة إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث، وخالفت المعتزلة في ذلك فلم يجيزوا وقوع التعذيب إذا اجتنبت الكبائر واستدلوا بآية إِنْ تَجْتَنِبُوا إلخ، ويجاب بأن المراد بالكبائر الكفر والجمع لتعدد أنواعه أو تعدد من اتصف به، ومعنى الآية إن تجتنبوا الكفر نجعلكم صالحين لتكفير سيئاتكم، ولا يخفى ما في استدلالهم من الوهن، وجوابهم عن استدلال المعتزلة لعمري أوهن منه. وذهب صاحب الذخائر إلى أن من الحسنات ما يكفر الصغائر والكبائر إذ قد صح في عدة أخبار من فعل كذا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وفي بعضها خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ومتى حملت الحسنات في الآية على الاستغراق فالمناسب حمل السيئات عليه أيضا، والتخصيص خلاف الظاهر وفضل الله تعالى واسع، وإلى هذا مال ابن المنذر، وحكاه ابن عبد البر عن بعض المعاصرين له وعني به فيما قيل: أبا محمد المحدث لكن ردّ عليه، فقال بعضهم. يقول: إن الكبائر والصغائر تكفرها الطهارة والصلاة لظاهر الأحاديث وهو جهل بين وموافقة للمرجئة في قولهم، ولو كان كما زعم لم يكن للأمر بالتوبة معنى، وقد أجمع المسلمون على أنها فرض، وقد صح أيضا من حديث أبي هريرة «الصلوات كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر» انتهى. وفيه أن دعوى أن ذلك جهل لا يخلو عن الإفراط إذ الفرق بين القول بعموم التكفير ومذهب المرجئة في غاية الوضوح، ولو صح أن ذلك ذهاب إلى قولهم للزمه مثله بالنسبة إلى التوبة فإنه يسلم أنها تكفر الصغائر والكبائر وهي من جملة أعمال العبد فكما جاز أن يجعل الله سبحانه هذا العمل سببا لتكفير الجميع يجوز أن يجعل غيره من الأعمال كذلك، وقوله: ولو كان كما زعم إلخ مردود لأنه لا يلزم من تكفير الذنوب الحاصلة عدم الأمر بالتوبة وكونها فرضا إذ تركها من الذنوب المتجددة التي لا يشملها التكفير السابق بفعل الوضوء مثلا ألا ترى أن التوبة من الصغائر واجبة على ما نقل عن الأشعري، وحكى إمام الحرمين وتلميذه الأنصاري الإجماع عليه ومع ذلك فجميع الصغائر مكفرة بنص الشارع وإن لم يتب على ما سمعت من الخلاف، وتحقيق ذلك أن التوبة واجبة في نفسها على الفور ومن أخرها تكرر عصيانه بتكرر الأزمنة كما صرح به الشيخ عز الدين بن عبد السلام، ولا يلزم من تكفير الله تعالى ذنوب عبده سقوط الجزء: 6 ¦ الصفحة: 352 التكليف بالتوبة التي كلف بها تكليفا مستمرا، وقريب من هذا ارتفاع الإثم عن النائم إذا أخرج الصلاة عن وقتها مع الأمر بقضائها، وما روي من حديث أبي هريرة إنما ورد في أمر خاص فلا يتعداه إذ الأصل بقاء ما عداه على عمومه وهذا مما لا مجال للقياس فيه حتى يخص بالقياس على ذلك فلا يليق نسبة ذلك القائل إلى الجهل، والرجاء بالله تعالى شأنه قوي كذا قيل، وفي المقام بعد أبحاث تركنا ذكرها خوف الإملال فإن أردتها فعليك بالنظر في الكتب المفصلة في علم الحديث. ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ أي عظة للمتعظين، وخصهم بالذكر لأنهم المنتفعون بها، والإشارة إلى ما تقدم من الوصية بالاستقامة والنهي عن الطغيان والركون إلى الذين ظلموا وإقامة الصلوات في تلك الأوقات بتأويل المذكور. وإلى هذا ذهب الزمخشري واستظهر أبو حيان كون ذلك إشارة إلى إقامة الصلاة وأمر التذكير سهل، وقيل: هي إشارة إلى الإخبار بأن الحسنات يذهبن السيئات، وقال الطبري: إشارة إلى الأوامر والنواهي في هذه السورة، وقيل: إلى القرآن، وبعض من جعل الإشارة إلى الإقامة فسر الذكرى بالتوبة وَاصْبِرْ أي على مشاق امتثال ما كلفت به، في الكشاف أن هذا كرور منه تعالى إلى التذكير بالصبر بعد ما جاء بما هو خاتمة للتذكير لفضل خصوصية ومزية وتنبيه على مكان الصبر ومحله كأنه قال: وعليك بما هو أهم مما ذكرت به وأحق بالتوصية وهو الصبر على امتثال ما أمرت به والانتهاء عما نهيت عنه فلا يتم شيء منه إلّا به انتهى. ووجه كونه كريرا إلى ما ذكر بأن الأمر بالاستقامة أمر بالثبات قولا وفعلا وعقدا وهو الصبر على طاعة الله تعالى ويتضمن الصبر عن معصيته ضرورة على أن ما ذكره سبحانه كله لا يتم إلّا بالصبر ففي ضمن الأمر به أمر بالصبر، واعترض اعتبار الانتهاء عما نهى عنه من متعلقات الصبر إذ لا مشقة في ذلك، واعتذر عن ذلك بأنه يمكن أن يراد بما نهى عنه من الطغيان والركون ما لا يمكن عادة خلو البشر عنه من أدنى ميل بحكم الطبيعة من الاستقامة المأمور بها ومن يسير ميل بحكم البشرية إلى من وجد منه ظلم فإن في الاحتراز عن أمثاله من المشقة ما لا يخفى، وتعقب بأن ما هو من توابع الطبيعة لا يكون من متعلقات النهي، ولهذا ذكروا أن حب المسلم لولده الكافر مثلا لا إثم فيه، فالأولى أن يقال: إن وجود المشقة في امتثال مجموع ما كلف به يكفي في الغرض، وقيل: المراد من الصبر المأمور به المداومة على الصلاة كأنه قيل: أقم الصلاة أي أدّها تامة ودوام عليها نظير قوله تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها [طه: 132] فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ أي يوفيهم ثواب أعمالهم من غير بخس أصلا، وعبر عن ذلك بنفي الإضاعة بيانا لكمال نزاهته تعالى عن حرمانهم شيئا من ثوابهم، وعدل عن الضمير ليكون كالبرهان على المقصود مع إفادة فائدة عامة لكل من يتصف بذلك وهو تعليل للأمر بالصبر، وفيه إيماء إلى أن الصبر على ما ذكر من باب الإحسان، وعن مقاتل أنه فسر الإحسان هنا بالإخلاص. وعن ابن عباس أنه قال: المحسنون المصلون وكأنه نظر إلى سياق الكلام، هذا ومن البلاغة القرآنية أن الأوامر بأفعال الخير أفردت للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وإن كانت عامة في المعنى، والمناهي جمعت للأمة، وما أعظم شأن الرسول عليه الصلاة والسلام عند ربه جلّ وعلا فَلَوْلا كانَ تحضيض فيه معنى التفجع مجازا أي فهلا كان مِنَ الْقُرُونِ أي الأقوام المقترنة في زمان واحد مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ أي ذوو خصلة باقية من الرأي والعقل أو ذوو فضل على أن يكون- البقية- اسما للفضل والهاء للنقل، وأطلق عليه ذلك على سبيل الاستعارة من البقية التي يصطفيها المرء لنفسه ويدخرها مما ينفعه، ومن هنا يقال: فلان من بقية القوم أي من خيارهم، وبذلك فسر بيت الحماسة: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 353 إن تذنبوا ثم يأتيني بقيتكم ... فما علي بذنب عندكم فوت ومنه قولهم: في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا، وجوز أن تكون البقية بمعنى البقوى كالتقية بمعنى التقوى أي فهلا كان منهم ذوو إبقاء لأنفسهم وصيانة لها عما يوجب سخط الله تعالى وعقابه، والظاهر أنها على هذا مصدر، وقيل: اسم مصدر، ويؤيد المصدرية أنه قرىء «بقية» بزنة المرة وهو مصدر بقاه يبقيه كرماه يرميه بمعنى انتظره وراقبه. وفي الحديث عن معاذ بن جبل قال: «بقينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقد تأخر عن صلاة العشاء حتى ظن الظان أنه ليس بخارج» الخبر أراد معاذ انتظرناه، وأما الذي من البقاء ضد الفناء ففعله بقي يبقى كرضي يرضى، والمعنى على هذه القراءة فهلا كان منهم ذوو مراقبة لخشية الله تعالى وانتقامه، وقرىء «بقية» بتخفيف الياء اسم فاعل من بقي نحو شجيت فهي شجية» . وقرأ أبو جعفر وشيبة «بقية» بضم الباء وسكون القاف يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ الواقع فيما بينهم حسبما ذكر في قصصهم، وفسر الفساد في البحر بالكفر وما اقترن به من المعاصي إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ استثناء منقطع أي ولكن قليلا منهم أنجيناهم لكونهم كانوا ينهون، وقيل أي: ولكن قليلا ممن أنجينا من القرون نهوا عن الفساد وسائرهم تاركون للنهي، ومِنَ الأولى بيانية لا تبعيضية لأن النجاة إنما هي للناهين وحدهم بدليل قوله سبحانه: أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا [الأعراف: 165] وإلى ذلك ذهب الزمخشري، ومنع اتصال الاستثناء على ما عليه ظاهر الكلام لاستلزامه فساد المعنى لأنه يكون تحضيضا- لأولي البقية- على النهي عن الفساد إلّا للقليل من الناجين منهم، ثم قال: وإن قلت: في تحضيضهم على النهي عن الفساد معنى نفيه عنهم فكأنه قيل: ما كان من القرون أولو بقية إلّا قليلا كان استثناء متصلا ومعنى صحيحا وكان انتصابه على أصل الاستثناء وإن كان الأفصح أن يرفع على البدل، والحاصل أن في الكلام اعتبارين: التحضيض والنفي، فإن اعتبر التحضيض لا يكون الاستثناء متصلا لأن المتصل يسلب ما للمستثنى منه عن المستثنى أو يثبت له ما ليس له، والتحضيض معناه لم ما نهوا، ولا يجوز أن يقال: إلّا قليلا فإنهم لا يقال لهم: لم ما نهوا لفساد المعنى لأن القليل ناهون وإن اعتبر النفي كان متصلا لأنه يفيد أن القليل الناجين ناهون، وأورد على ذلك القطب أن صحة السلب أو الإثبات بحسب اللفظ لازم في الخبر وأما في الطلب فيكون بحسب المعنى فإنك إذا قلت: اضرب القوم إلّا زيدا فليس المعنى على أنه ليس اضرب بل على أن القوم مأمور بضربهم إلّا زيدا فإنه غير مأمور به فكذا هنا يجوز أن يقال: أُولُوا بَقِيَّةٍ محضوضون على النهي إِلَّا قَلِيلًا فإنهم ليسوا محضوضين عليه لأنهم نهوا فالاستثناء متصل قطعا كما ذهب إليه بعض السلف، وقد يدفع ما أورده بأن مقتضى الاستثناء أنهم غير محضوضين، وذلك إما لكونهم نهوا أو لكونهم لا يحضون عليه لعدم توقعه منهم، فإما أن يكون قد جعل احتمال الفساد إفسادا أو ادّعى أنه هو المفهوم من السياق، ثم إن المدقق صاحب الكشف قال: إن ظاهر تقرير كلام الزمخشري يشعر بأن يَنْهَوْنَ خبر كانَ جعل مِنَ الْقُرُونِ خبرا آخر أو حالا قدمت لأن تحضيض- أولي البقية- على النهي على ذلك التقدير حتى لو جعل صفة، ومِنَ الْقُرُونِ خبرا كان المعنى تنديم أهل القرون على أن لم يكن فيهم أولو بقية ناهون وإذا جعل خبرا لا يكون معنى الاستثناء ما كان من القرون أولو بقية إلّا قليلا بل كان ما كان منهم أولو بقية ناهين إلّا قليلا فإنهم نهوا وهو فاسد، والانقطاع على ما آثره الزمخشري أيضا يفسد لما يلزم منه أن يكون أولو بقية غير ناهين لأن في التحضيض والتنديم دلالة على نفيه عنهم، فالوجه أن يؤوّل بأن المقصود من ذكر الاسم الخبر وهو كالتمهيد له كأنه قيل: فلولا كان من القرون من قبلكم ناهون إلّا قليلا، وفي كلامه إشارة إلى أنه لا يختلف نفي الناهي، وأولو البقية، وإنما عدل إلى المنزل مبالغة لأن أصحاب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 354 فضلهم وبقاياهم إذا حضضوا على النهي وندموا على الترك فهم أولى بالتحضيض والتنديم، وفيه مع ذلك الدلالة على خلوهم عن الاسم لخلوهم عن الخبر لأن ذا البقية لا يكون إلّا ناهيا فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم وهو من باب ولا ترى الضب بها ينجحر وقولك: ما كان شجعانهم يحمون عن الحقائق في معرض الذم تريد أن لا شجاع ولا حماية لكن بالغت في الذم حتى خيلت أنه لو كان لهم شجاع كان كالعدم فهذا هو الوجه الكريم والمطابق لبلاغة القرآن العظيم انتهى، وهو تحقيق دقيق أنيق. وادعى بعضهم أن الظاهر أن كانَ تامة، وأُولُوا بَقِيَّةٍ فاعلها، وجملة يَنْهَوْنَ صفته، ومِنَ الْقُرُونِ حال متقدمة عليه، ومِنَ تبعيضية، ومِنْ قَبْلِكُمْ حال من الْقُرُونِ، ويجوز أن يكون صفة لها أي الكائنة بناء على رأي من جوز حذف الموصول مع بعض صلته، واعترض بأنه يلزم منه كون التحضيض على وجود أولئك فيهم وكذا يلزم كون المنفي ذلك وليس بذاك بل المدار على النهي تحضيضا ونفيا، والتزام توجه الأمرين إليه لكون الصفة قيدا في الكلام والاستعمال الشائع توجه نحو ما ذكر إلى القيد كما قيل زيادة نغمة في الطنبور من غير طرب، ومثله يعد من النصب وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وهم تاركو النهي عن الفساد. ما أُتْرِفُوا فِيهِ ما أنعموا فيه من الثروة والعيش الهنيء والشهوات الدنيوية، وأصل الترف التوسع في النعمة. وعن الفراء معنى أترف عود الترفة وهي النعمة، وقيل: أُتْرِفُوا أي طغوا من أترفته النعم إذا أطغته- ففي- إما سببية أو ظرفية مجازية، وتعقب بأن هذا المعنى خلاف المشهور وإن صح هنا ومعنى اتباع ذلك الاهتمام به وترك غيره أي اهتموا بذلك وَكانُوا مُجْرِمِينَ أي مرتكبي جرائم غير ذلك، أو كافرين متصفين بما هو أعظم الإجرام، ولكل من التفسيرين ذهب بعض، وحمل بعضهم الَّذِينَ ظَلَمُوا على ما يعم تاركي النهي عن الفساد والمباشرين له، ثم قال: وأنت خبير بأنه يلزم من التحضيض بالأولين عدم دخول مباشري الفساد في الظلم والإجرام عبارة، ولعل الأمر في ذلك هين فلا تغفل، والجملة عند أبي حيان مستأنفة للإخبار عن حال هؤلاء الَّذِينَ ظَلَمُوا وبيان أنهم مع كونهم تاركي النهي عن الفساد كانوا ذوي جرائم غير ذلك. وجوز بعض المحققين أن تكون عطفا على مقدر دلّ عليه الكلام أي لم ينهوا وَاتَّبَعَ إلخ. وقيل: التقدير إلّا قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد وَاتَّبَعَ الَّذِينَ إلخ، وأن تكون استئنافا يترتب على قوله سبحانه: إِلَّا قَلِيلًا أي إلّا قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا من مباشري الفساد وتاركي النهي عنه، وجعل الإظهار على هذا مقتضى الظاهر، وعلى الأول لإدراج المباشرين مع التاركين في الحكم والتسجيل عليهم بالظلم وللإشعار بعلية ذلك لما حاق بهم من العذاب. وفي الكشاف ما يقضي ظاهره بأن العطف على نهوا الواقع خبر لكن فيلزم أن يكون المعطوف خبرا أيضا مع خلوه عن الرابط، وأجيب تارة بأنه في تأويل سائرهم أو مقابلوهم وأخرى بأن نهوا جملة مستأنفة استؤنفت بعد اعتبار الخبر فعطف عليها، وفي ذلك ما فيه، وقوله تعالى: وَكانُوا مُجْرِمِينَ عطف على اتَّبَعَ الَّذِينَ إلخ مع المغايرة بينهما، وجوز أن يكون العطف تفسيريا على معنى وَكانُوا مُجْرِمِينَ بذلك الاتباع، وفيه بعد، وأن يكون على أُتْرِفُوا على معنى اتبعوا الأتراف وكونهم مجرمين لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام، أو أريد بالإجرام إغفالهم للشكر، وتعقبه صاحب التقريب بقوله: وفيه نظر لأن ما في ما أُتْرِفُوا موصولة لا مصدرية لعود الضمير من فِيهِ إليه، فكيف يقدر كانُوا مصدرا إلّا أن يقال: يرجع الضمير إلى الظلم بدلالة ظَلَمُوا فتكون ما مصدرية وأن تكون الجملة اعتراضا بناء على أنه قد يكون في آخر الكلام عند أهل المعاني. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 355 وقرأ أبو جعفر والعلاء بن سيابة وأبو عمرو وفي رواية الجعفي «وأتبع» بضم الهمزة المقطوعة وسكون التاء وكسر الباء على البناء للمفعول من الاتباع، وقيل: ولا بد حينئذ من تقدير مضاف أي اتبعوا جزاء ما أترفوا وما إما مصدرية أو موصولة والواو للحال، وجعلها بعضهم للعطف على لم ينهو المقدر، والمعنى على الأول إِلَّا قَلِيلًا نجيناهم وقد هلك سائرهم، وأما قوله سبحانه: وَكانُوا مُجْرِمِينَ فقد قالوا: إنه لا يحسن جعله قيدا للإنجاء إلا من حيث إنه يجري مجرى العلة لإهلاك السائرين فيكون اعتراضا، أو حالا من الَّذِينَ ظَلَمُوا والحال الأول من مفعول أَنْجَيْنا المقدر، وجوز أن يفسر بذلك القراءة المشهورة، وتقدم الإنجاء للناهين يناسب أن يبين هلاك الذين لم ينهوا، والواو للحال أيضا في القول الشائع كأنه قيل: أَنْجَيْنا القليل وقد اتبع الذين ظلموا جزاءهم فهلكوا، وإذا فسرت المشهورة بذلك فقيل: فاعل- اتبع ما أترفوا- أو الكلام على القلب فتدبر وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى أي ما صح وما استقام بل استحال في الحكمة أن يهلك القرى التي أهلكها وبلغتك أنباؤها أو ما يعمها وغيرها من القرى الظالم أهلها، واللام في مثل ذلك زائدة لتأكيد النفي عند الكوفية، وعند البصرية متعلقة بمحذوف توجه إليه النفي، وقوله سبحانه: بِظُلْمٍ أي ملتبسا به قيل: هو حال من الفاعل أي ظالما لها والتنكير للتفخيم والإيذان بأن إهلاك المصلحين ظلم عظيم، والمراد تنزيه الله تعالى عن ذلك على أبلغ وجه وإلّا فلا ظلم منه تعالى فيما يفعله بعباده كائنا ما كان لما علم من قاعدة أهل السنة، وقوله جلّ وعلا: وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ حال من المفعول والعامل فيه عامله، ولكن لا باعتبار تقييده بالحال السابقة لدلالته على تقييد نفي الإهلاك ظلما بحال كون أهلها مصلحين، وفيه من الفساد على ما قيل ما فيه بل مطلقا عن ذلك، وهذا ما اختاره ابن عطية، ونقل الطبري أن المراد بالظلم الشرك والباء للسببية أي لا يهلك القرى بسبب إشراك أهلها وهم مصلحون في أعمالهم يتعاطون الحق فيما بينهم بل لا بد في إهلاكهم من أن يضموا إلى شركهم فسادا وتباغيا وذلك لفرط رحمته ومسامحته في حقوقه سبحانه، ومن ذلك قدم الفقهاء- عند تزاحم الحقوق- حقوق العباد في الجملة ما لم يمنع منه مانع. قال ابن عطية: وهذا ضعيف، وكأنه ذهب قائله إلى ما قيل: الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم والجور، ولعل وجه ضعفه ما ذكره بعض المحققين من أن مقام النهي عن المنكرات التي أقبحها الإشراك بالله تعالى لا يلائمه فإن الشرك داخل في الفساد في الأرض دخولا أوليا ولذلك كان ينهى كل من الرسل عليهم السلام أمته عنه ثم عن سائر المعاصي، فالوجه كما قال: حمل الظلم على مطلق الفساد الشامل لسائر القبائح والآثام وحمل الإصلاح على إصلاحه، والإقلاع عنه بكون البعض متصديا للنهي، والبعض الآخر متوجها إلى الاتعاظ غير مصر على ما هو عليه من الشرك وغيره من أنواع الفساد انتهى، لكن أخرج الطبراني، وابن مردويه وأبو الشيخ والديلمي عن جرير قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسأل عن تفسير هذه الآية وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ فقال عليه الصلاة والسلام: وأهلها ينصف بعضهم بعضا» وأخرجه ابن أبي حاتم. والخرائطي في مساوئ الأخلاق عن جرير موقوفا، وهو ظاهر في المعنى الذي نقله الطبري، ولعله لم يثبت عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإلّا فالأمر مشكل، وجعل التصدي للنهي من بعض والاتعاظ من بعض آخر من إنصاف البعض البعض كما ترى فافهم وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً مجتمعين على الدين الحق بحيث لا يقع من أحد منهم كفر لكنه لم يشأ سبحانه ذلك فلم يكونوا مجتمعين على الدين الحق، ونظير ذلك قوله سبحانه: وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها [السجدة: 13] وروي هذا عن ابن عباس وقتادة وروي عن الضحاك أن المراد لو شاء لجمعهم على هدى أو ضلالة وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ بعضهم على الحق وبعضهم على الباطل. أخرج ذلك ابن أبي حاتم عن ابن عباس، ولعل المراد الاختلاف في الحق والباطل من العقائد التي هي أصول الجزء: 6 ¦ الصفحة: 356 الدين بقرينة المقام، وقيل: المراد ما يشمل الاختلاف في العقائد والفروع وغيرهما من أمور الدين لعدم ما يدل على الخصوص في النظم فالاستثناء في قوله سبحانه: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ متصل على الأول وهو الذي اختاره أبو حيان وجماعة وعلى الثاني منقطع حيث لم يخرج من رحمة الله تعالى من المختلفين كأئمة أهل الحق فإنهم أيضا مختلفون فيما سوى أصول الدين من الفروع، وإلى هذا ذهب الحوفي ومن تبعه. وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ أي الناس، والإشارة- كما روي عن الحسن، وعطاء- إلى المصدر المفهوم من مُخْتَلِفِينَ ونظيره إذا نهي السفيه جرى إليه كأنه قيل: وللاختلاف خلق الناس على معنى لثمرة الاختلاف من كون فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى: 7] خلقهم، واللام لام العاقبة والصيرورة لأن حكمة خلقهم ليس هذا لقوله سبحانه: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] ولأنه لو خلقهم له لم يعذبهم على ارتكاب الباطل كذا قال غير واحد، وروي عن الإمام مالك ما يقتضيه، وعندي أنه لا ضير في الحمل على الظاهر ولا منافاة بين هذه الآية والآية التي ذكروها لما ستعلمه إن شاء تعالى من تفسيرها في الذاريات، وما يروى فيها من الآثار وأن الخلق من توابع الإرادة التابعة للعلم التابع للمعلوم في نفسه والتعذيب أو الإثابة ليس إلّا لأمر أفيض على المعذب والمثاب بحسب الاستعداد الأصلي، وربما يرجع هذا بالآخرة إلى أن التعذيب والإثابة من توابع ذلك الاستعداد الذي عليه المعذب أو المثاب في نفسه، ومن هنا قالوا: إن المعصية والطاعة أمارتان على الشقاوة والسعادة لا مقتضيتان لهما، وبذلك يندفع قولهم: ولأنه لو خلقهم له لم يعذبهم، ولما قرّرناه شواهد كثيرة من الكتاب والسنة لا تخفى على المستعدين لإدراك الحقائق، وقيل ضمير: خَلَقَهُمْ لمن باعتبار معناه، والإشارة للرحمة المفهومة من رَحِمَ، والتذكير لتأويلها بأن والفعل أو لكونها بمعنى الخير، وروي ذلك عن مجاهد وقتادة وروي عن ابن عباس أن الضمير للناس والإشارة للرحمة والاختلاف أي لاختلاف الجميع ورحمة بعضهم خَلَقَهُمْ، وجاءت الإشارة لاثنين كما في قوله تعالى: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ [البقرة: 68] واللام على هذا قيل: بمعنى مجازي عام للمعنى الظاهر والصيرورة وعلى ما قبله معناها، وأظهر الأقوال في الإشارة والضمير ما قدمناه، والقولان الآخران دونه، وأما القول بأن الإشارة لما بعد، وفي الكلام تقديم وتأخير أي- وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم إلخ أي لملء جهنم خلقهم- فبعيد جدا من تراكيب كلام العرب ومن هذا الطرز ما قيل: إن ذلك إشارة إلى شهود ذلك اليوم المشهود وكذا ما قيل: إنه إشارة إلى قوله تعالى: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود: 105] أو إلى الشقاوة والسعادة المفهومتين من ذلك، أو إلى أن يكون فريق في الجنة وفريق في السعير، أو إلى النهي المفهوم من قوله سبحانه: يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ، أو إلى الجنة والنار أو إلى العبادة إلى غير ذلك من الأقوال التي يتعجب منها. وذهب بعض المحققين في معنى الآية إلى أن المراد من الوحدة الوحدة في الدين الحق، ومن الاختلاف الاختلاف فيه على معنى المخالفة له كما في قوله تعالى: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [البقرة: 213] والمراد- بمن رحم- الذين هداهم الله تعالى ولم يخالفوا الحق، والإشارة للاختلاف بمعنى المخالفة، وضمير خَلَقَهُمْ للذين بقوا بعد الثنيا وهم المختلفون المخالفون، واللام للعاقبة كأنه قيل: ولو شاء ربك لجعل الناس على الحق ودين الإسلام لكنه لم يشأ فلم يجعل، ولا يزالون مخالفين للحق إلّا قوما هداهم سبحانه بفضله فلم يخالفوا الحق، ولما ذكر من الاختلاف خلق المختلفين المخالفين ولا يخفى ما فيه من ارتكاب خلاف الظاهر وإن أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد ما يقتضي بعضه. ومن الغريب ما روي عن الحسن أن المراد من الاختلاف الاختلاف في الأرزاق والأحوال وتسخير بعضهم بعضا، وقال ابن بحر: المراد أن بعضهم يخلف بعضا فيكون الآتي خلفا للماضي، ومنه ما اختلف الجديدان أي ما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 357 خلف أحدهما صاحبه، وإلى هذا ذهب أبو مسلم إلّا أنه قال: يخلف بعضهم بعضا في الكفر تقليدا، وفي ذلك ما فيه، وأيا ما كان فالظاهر من الناس العموم وليتأمل هذه الآية مع قوله تعالى: وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً [هود: 19] وليراجع تفسير ذلك. وقال الفاضل الجلبي: ليس في هذه الآية ما يدل على عموم الناس حتى تخالف وَما كانَ النَّاسُ إلخ، وفيه نظر، والجار والمجرور أعني لذلك متعلق- بخلق- بعده، والظاهر أن الحصر المستفاد من التقديم إذا قلنا: إن التقديم له إضافي والمضاف هو إليه مختلف حسب اختلاف الأقوال في تعيين المشار إليه، وهو على الأول الاتفاق وعلى ما عداه يظهر أيضا بأدنى التفات، هذا واستدل بالآية على أن الأمر غير الإرادة وأنه تعالى لم يرد الإيمان من كل وإن ما أراده سبحانه يجب وقوعه. وذكر بعض العارفين أن منشأ تشييب سورة هود له الله صلى تعالى عليه وسلم اشتمالها على أمره عليه الصلاة والسلام بالاستقامة على الدعوة مع إخباره أنه سبحانه إنما خلق الناس للاختلاف وأنه لا يشاء اجتماعهم على الدين الحق وهو كما ترى وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي نفذ قضاؤه وحق أمره، وقد تفسر الكلمة بالوعيد مجازا، وقد يراد منها الكلام الملقى على الملائكة عليهم السلام والأول أولى، والجملة متضمنة معنى القسم، ولذا جيء باللام في قوله سبحانه: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ والجنة والجن بمعنى واحد، وفي تفسير ابن عطية أن الهاء في الجنة للمبالغة وإن كان الجن يقع على الواحد، فالجنة جمعه انتهى، فيكون من الجموع التي يفرق بينها وبين مفردها بالهاء ككمء وكمأة على ما ذكرناه في تعليقاتنا على الألفية، وفي الآية سؤال مشهور وهو أنها تقتضي بظاهرها دخول جميع الفريقين في جهنم والمعلوم من الآيات والأخبار خلافه، وأجاب عن ذلك القاضي بما حاصله أن المراد- بالجنة والناس- إما عصاتهما على أن التعريف للعهد والقرينة عقلية لما علم من الشرع أن العذاب مخصوص بهم وأن الوعيد ليس إلّا لهم، وفي معنى ذلك ما قيل: المراد- بالجنة والناس- أتباع إبليس لقوله سبحانه في [الأعراف: 18] و [ص: 85] لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ فاللازم دخول جميع تابعيه في جهنم ولا محذور فيه، والقرآن يفسر بعضه بعضا، ولا حاجة الى تقدير عصاة مضافا الى الفريقين كما قيل فأجمعين لاستغراق الأفراد المرادة حسبما علمت وأما ما يتبادر منهما ويراد من التأكيد بيان أن ملء جهنم من الصنفين لا من أحدهما فقط وهذا لا يقتضي شمول أفراد كلا الفريقين ويكون الداخلوها منهما مسكوتا عنه موكولا إلى شيء آخر، واعترض الأخير بأنه مبني على وقوع أَجْمَعِينَ تأكيدا للمثنى وهو خلاف ما صرحوا به، وفيه أن ذلك إذا كان لمثنى حقيقي لا إذا كان كل فرد منه جمعا فإنه حينئذ تأكيد للجمع في الحقيقة فلا ورود لما ذكر. نعم يرد على الشق الأول أن التأكيد يقتضي دخول جميع العصاة في النار والمعلوم من النصوص خلافه اللهم إلّا أن يقال: المراد العصاة الذين قدر الله تعالى أن يدخلوها، وأجاب بعضهم بأن ذلك لا يقتضي دخول الكل بل قدر ما يملأ جهنم كما إذا قيل: ملأت الكيس من الدراهم لا يقتضي دخول جميع الدراهم في الكيس، ورده الجلال الدواني بأنه نظير أن يقال: ملأت الكيس من جميع الدراهم وهو بظاهره يقتضي دخول جميع الدراهم فيه، والسؤال عليه كما في الآية باق بحاله، ثم قال: والحق في الجواب أن يقال: المراد بلفظ أَجْمَعِينَ تعميم الأصناف، وذلك لا يقتضي دخول جميع الأفراد كما إذا قلت: ملأت الجراب من جميع أصناف الطعام لا يقتضي ذلك إلّا أن يكون فيه شيء من كل صنف من الأصناف لا أن يكون فيه جميع أفراد الطعام، وكقولك: امتلأ المجلس من جميع أصناف الناس فإنه لا يقتضي أن يكون في المجلس جميع أفراد الناس بل أن يكون فيه من كل صنف فرد وهو ظاهر، وعلى هذا يظهر فائدة لفظ أَجْمَعِينَ إذ فيه رد على اليهود وغيرهم ممن زعم أنهم لا يدخلون النار انتهى، وتعقبه ابن الصدر بقوله: فيه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 358 بحث لأنهم صرحوا بأن فائدة التأكيد بكل وأجمعين- دفع توهم عدم الشمول والإحاطة بجميع الأفراد، وما ذكره من المثالين فإنما نشأ شمول الأصناف فيه من إضافة لفظ الجميع إلى الأصناف كيف ولو قيل: ملأت الجراب من جميع الطعام بإسقاط لفظ الأصناف كان الكلام فيه كالكلام فيما نحن فيه، وأيضا ما ذكره من أن في ذلك ردا على اليهود إلخ غير صحيح لأن اليهود قالوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [البقرة: 80] فكيف يزعمون أنهم لا يدخلونها أصلا فتدبر ذاك والله سبحانه يتولى هداك. وأجاب بعضهم بمنزع صوفي وهو أن المراد من الجنة والنار الذين بقوا في مرتبة الجنية والإنسية حيث انغمسوا في ظلمات الطبيعة وانتكبوا في مقر الأجرام العنصرية ولم يرفعوا إلى العالم الأعلى واطمأنوا بالحياة الدنيا ورضوا بها وانسلخوا عن عالم المجردات وهم المشركون الذين قيل في حقهم: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ [التوبة: 28] إلخ فإنهم لا يستأهلون دار الله تعالى وقربه، ثم قال: ولهذا ترى الله تعالى شأنه يذم الإنسان ويدعو عليه في غير ما موضع وَكُلًّا أي وكل نبأ فالتنوين للتعويض عن المضاف إليه المحذوف، ونصب- كل- على أنه مفعول به لقوله سبحانه: نَقُصُّ عَلَيْكَ أي نخبرك به، وقوله تعالى: مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ صفة لذلك المحذوف لا- لكلا- لأنها لا توصف في الفصيح كما في إيضاح المفصل، ومِنْ تبعيضية، وقيل: بيانية، وقوله عزّ وجلّ: ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ قيل: عطف بيان- لكلا- بناء على عدم اشتراط توافق البيان والمبين تعريفا وتنكيرا، المعنى هو ما نثبت إلخ. وجوز أن يكون بدلا منه بدل كل أو بعض، وفائدة ذلك التنبيه على أن المقصود من الاقتصاص زيادة يقينه صلى الله تعالى عليه وسلم وطمأنينة قلبه وثبات نفسه على أداء الرسالة واحتمال أذى الكفار، وجوز أيضا أن يكون مفعول نَقُصُّ وَكُلًّا حينئذ منصوب إما على المصدرية أي كل نوع من أنواع الاقتصاص نَقُصُّ عَلَيْكَ الذي نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ من أنباء الرسل، وإما على الحالية من ما أو من الضمير المجرور في بِهِ على مذهب من يرى جواز تقديم حال المجرور بالحرف عليه، وهو حينئذ نكرة بمعنى جميعا أي نقص عليك من أنباء الرسل الأشياء التي نثبت بها فؤادك جميعا. واستظهر أبو حيان كون كُلًّا مفعولا به لنقص، ومِنْ أَنْباءِ في موضع الصفة له وهو مضاف في التقدير إلى نكرة، وما صلة كما هي في قوله تعالى: قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ [الأعراف: 3] ولا يخفي ما فيه. وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ أي الأمر الثابت المطابق للواقع، والإشارة بهذه إلى السورة كما جاء ذلك من عدة طرق عن ابن عباس وأبي موسى الأشعري وقتادة وابن جبير. وقيل: الإشارة إليها مع نظائرها وليس بذاك ككونها إشارة إلى دار الدنيا، وإن جاء في رواية عن الحسن، وقيل: إلى الأنباء المقتصة وهو مما لا بأس به وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ عطف على الْحَقُّ أي جاءك الجامع المتصف حقا في نفسه وكونه موعظة وذكرى للمؤمنين، ولعل تحلية الوصف الأول باللام دون الأخيرين لما قيل: من أن الأول حال للشيء في نفسه والأخيران وصفان له بالقياس إلى غيره. وقال الشهاب: الظاهر أن يقال إنما عرف الأول لأن المراد منه ما يختص بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم من إرشاده الى الدعوة وتسليته بما هو معروف معهود عنده، وأما الموعظة والتذكير فأمر عام لم ينظر فيه لخصوصية، ففرق بين الوصفين للفرق بين الموصوفين، وفي التخصيص بهذه السورة ما يشهد له لأن مبناها على إرشاده صلى الله تعالى عليه وسلم على ما سمعت عن صاحب الكشف، وتقديم الظرف على الفاعل ليتمكن المؤخر عنه وروده أفضل تمكن ولأن في المؤخر نوع طول يخل تقديمه بتجاوب النظم الكريم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 359 وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي جهتكم وحالكم التي أنتم عليها إِنَّا عامِلُونَ على جهتنا وحالنا التي نحن عليها وَانْتَظِرُوا بنا الدوائر إِنَّا مُنْتَظِرُونَ أن ينزل بكم نحو ما نزل بأمثالكم من الكفرة، وصيغة الأمر في الموضعين للتهديد والوعيد، والآيتان محكمتان. وقيل: المراد الموادعة فهما منسوختان وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي أنه سبحانه يعلم كل ما غاب في السماوات والأرض ولا يعلم ذلك أحد سواه جلّ وعلا وَإِلَيْهِ لا إلى غيره عزّ شأنه يُرْجَعُ الْأَمْرُ أي الشأن كُلُّهُ فيرجع لا محالة أمرك وأمرهم إليه، وقرأ أكثر السبعة «يرجع» بالبناء للفاعل من رجع رجوعا فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ فإنه سبحانه كافيك، والفاء لترتيب الأمر بالعبادة والتوكل على كون مرجع الأمور كلها إليه، وقيل: على ذلك، وكونه تعالى عالما بكل غيب أيضا، وفي تأخير الأمر بالتوكل عن الأمر بالعبادة تنبيه على أن التوكل لا ينفع دونها وذلك لأن تقدمه في الذكر يشعر بتقدمه في الرتبة أو الوقوع. وقيل: التقديم والتأخير لأن المراد من العبادة امتثال سائر الأوامر من الإرشاد والتبليغ وغير ذلك ومن التوكل التوكل فيه كأنه قيل: امتثل ما أمرت به وداوم على الدعوة والتبليغ وتوكل عليه في ذلك ولا تبال بالذين لا يؤمنون ولا يضق صدرك منهم وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ بتاء الخطاب على تغليب المخاطب، وبذلك قرأ نافع، وأبو عامر وحفص وقتادة والأعرج وشيبة وأبو جعفر والجحدري أي وما ربك بغافل عما تعمل أنت وما يعملون هم فيجازي كلا منك ومنهم بموجب الاستحقاق، وقرأ الباقون من السبعة بالياء على الغيبة وذلك ظاهر، هذا وفي زوائد الزهد لعبد الله ابن أحمد بن حنبل وفضائل القرآن لابن الضريس عن كعب أن فاتحة التوراة فاتحة الأنعام وخاتمتها حاتمة هود وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلى آخر السورة، والله تعالى أعلم. ومن باب الإشارة في الآيات يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ كامل الشقاوة ومنهم سعيد كامل السعادة فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ أي نار الحرمان عن المراد وآلام ما اكتسبوه من الآثام وهو عذاب النفس خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ فيخرجون من ذلك إلى ما هو أشد منه من نيران القلب وذلك بالسخط والإذلال ونيران الروح وذلك بالحجب واللعن والقهر إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ لا حجر عليه سبحانه وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ أي جنة حصول المرادات واللذات وهي جنة النفس خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ فيخرجون من ذلك إلى ما هو أعلى وأعلى من جنات القلب في مقام تجليات الصفات وجنات الروح في مقام الشهود وهناك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وقد يحمل التنوين على النوعية ويؤول الاستثناء بخروج الشقي من النار بالترقي من مقامه إلى الجنة بزكاء نفسه عما حال بينه وبينها فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ أي في القيام بحقوق الحق والخلق وذلك بالمحافظة على حقوقه تعالى والتعظيم لأمره والتسديد لخلقه مع شهود الكثرة في الوحدة والوحدة في الكثرة من غير إخلال ما بشرط من شرائط التعظيم وَمَنْ تابَ عن إنيته وذنب وجوده معك من المؤمنين الموحدين إلى مقام البقاء بعد الفناء، وقيل: إن الاستقامة المأمور بها صلى الله تعالى عليه وسلم فوق الاستقامة المأمور بها من معه عليه الصلاة والسلام والعطف لا يقتضي أكثر من المشاركة في مطلق الفعل كما يرشد إليه قوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ على قول، ومن هنا قال الجنيد قدس سره: الاستقامة مع الخوف والرجاء حال العابدين والاستقامة مع الهيبة والرجاء حال المقربين، والاستقامة مع الغيبة عن رؤية الاستقامة حال العارفين وَلا تَطْغَوْا ولا تخرجوا عما حدّ لكم من الشريعة فإن الخروج عنها زندقة وَلا تَرْكَنُوا أي لا تميلوا أدنى ميل إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا وهي النفوس المظلمة المائلة إلى الشرور في أصل الخلقة كما قيل: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 360 الظلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عفة فلعلة لم يظلم وروي ذلك عن علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جعفر رضي الله تعالى عنهم، وقيل: المعنى لا تقتدوا بالمرائين والجاهلين وقرناء السوء، وقيل: لا تصحبوا الأشرار ولا تجالسوا أهل البدع وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ أمر بإقامة الصلاة المفروضة على ما علمت، وقد ذكروا أن الصلاة معراج المؤمن، وفي الأخبار ما يدل على علو شأنها والأمر غني عن البيان إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ قال الواسطي: أنوار الطاعات تذهب بظلم المعاصي. وقال يحيى بن معاذ: إن الله سبحانه لم يرض للمؤمن بالذنب حتى ستر ولم يرض بالستر حتى غفر ولم يرض بالغفران حتى بدل فقال سبحانه: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ وقال تعالى: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ذلك الذي ذكر من إقامة الصلاة في الأوقات المشار إليها وإذهاب الحسنات السيئات ذكرى للذاكرين تذكير لمن يذكر حاله عند الحضور مع الله تعالى في الصفاء والجمعية والأنس والذوق وَاصْبِرْ بالله سبحانه في الاستقامة ومع الله تعالى بالحضور في الصلاة وعدم الركون إلى الغير فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ الذين يشاهدونه في حال القيام بالحقوق فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ فيه حض على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ قيل: القرى فيه إشارة إلى القلوب وَأَهْلُها إشارة إلى القوى وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً متساوية في الاستعداد متفقة على دين التوحيد وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ في الوجهة والاستعداد إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ بهدايته إلى التوحيد وتوفيقه للكمال فإنهم متفقون في المذهب والمقصد متوافقون في السيرة والطريقة قبلتهم الحق ودينهم التوحيد والمحبة وإن اختلفت عباراتهم كما قيل: عباراتنا شتى وحسنك واحد ... وكل إلى ذاك الجمال يشير وَلِذلِكَ الاختلاف خَلَقَهُمْ وذلك ليكونوا مظاهر جماله وجلاله ولطفه وقهره، وقيل: ليتم نظام العالم ويحصل قوام الحياة الدنيا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي أحكمت وأبرمت لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لأن جهنم رتبة من مراتب الوجود لا يجوز في الحكمة تعطيلها وإبقاؤها في كتم العدم مع إمكانها وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ لما اشتملت عليه من مقاساتهم الشدائد من أممهم مع ثباتهم وصبرهم وإهلاك أعدائهم وَجاءَكَ فِي هذِهِ السورة الْحَقُّ الذي لا ينبغي المحيد عنه وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ وتخصيص هذه السورة بالذكر لما أشرنا إليه، وقيل: للتشريف، وإلّا فالقرآن كله كذلك، والكل يغرف من بحره على ما يوافق مشربه، ومن هنا قيل: العموم متعلقون بظاهره، والخصوص هائمون بباطنه، وخصوص الخصوص مستغرقون في تجلي الحق سبحانه فيه وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ على اختلاف معانيها وَالْأَرْضِ كذلك وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ أي كل شأن من الشؤون فإن الكل منه فَاعْبُدْهُ أسقط عنك حظوظ نفسك وقف مع الأمر بشرط الأدب وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ لا تهتم بما قد كفيته واهتم بما ندبت إليه وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فيجازي كلا حسبما تقتضيه الحكمة والله تعالى ولي التوفيق وبيده أزمة التحقيق لا رب غيره ولا يرجى إلّا خيره. انتهى ما وفقنا له من تفسير سورة هود بمنّ من بيده الكرم والجود، ونسأله سبحانه أن ييسر لنا إتمام ما قصدناه، ويوفقنا لفهم معاني كلامه على ما يحبه ويرضاه، والحمد لله حق حمده، والصلاة والسلام على من لا نبي من بعده، وعلى آله وصحبه وجنده وحزبه، ما غردت الأقلام في رياض التحرير، ووردت الأفهام من حياض التفسير. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 361 سورة يوسف مكية كلها على المعتمد، وروي عن ابن عباس وقتادة أنهما قالا: إلا ثلاث آيات من أولها، واستثنى بعضهم رابعة، وروي قوله سبحانه: لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ [يوسف: 7] وكل ذلك واه جدا لا يلتفت إليه، وما اعتمدناه كغيرنا هو الثابت عن الحبر، وقد أخرجه النحاس وأبو الشيخ وابن مردويه عنه، وأخرجه الأخير عن ابن الزبير وهو الذي يقتضيه ما أخرجه الحاكم وصححه عن رفاعة بن رافع من حديث طويل يحكي فيه قدوم رافع مكة وإسلامه وتعليم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إياه هذه السورة، واقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1] وآيها مائة وإحدى عشرة آية بالإجماع على ما نقل عن الداني وغيره، وسبب نزولها على ما روي عن سعد بن أبي وقاص أنه أنزل القرآن على رسول الله عليه الصلاة والسلام فتلاه على أصحابه زمانا فقالوا: يا رسول الله لو قصصت علينا فنزلت، وقيل: هو تسلية الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم عما يفعله به قومه بما فعلت إخوة يوسف عليه السلام به، وقيل: إن اليهود سألوه صلى الله تعالى عليه وسلم أن يحدثهم بأمر يعقوب وولده وشأن يوسف وما انتهى إليه فنزلت، وقيل: إن كفار مكة أمرتهم اليهود أن يسألوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن السبب الذي أحل بني إسرائيل بمصر فسألوه فنزلت ويبعد القولين الأخيرين فيما زعموا ما أخرجه البيهقي في الدلائل من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن حبرا من اليهود دخل على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فوافقه وهو يقرأ سورة يوسف فقال: يا محمد من علمكها؟ قال: الله علمنيها فعجب الحبر لما سمع منه فرجع إلى اليهود فقال لهم: والله إن محمدا ليقرأ القرآن كما أنزل في التوراة فانطلق بنفر منهم حتى دخلوا عليه فعرفوه بالصفة ونظروا إلى خاتم النبوة بين كتفيه فجعلوا يستمعون إلى قراءة سورة يوسف فتعجبوا وأسلموا عند ذلك، وفي القلب من صحة الخبر ما فيه، ووجه مناسبتها للتي قبلها اشتمالها على شرح ما قاساه بعض الأنبياء عليهم السلام من الأقارب، وفي الأولى ذكر ما لقوا من الأجانب، وأيضا قد وقع فيما قبل فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ [هود: 71] وقوله سبحانه: رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ [هود: 73] ووقع هنا حال يعقوب مع أولاده وما صارت إليه عاقبة أمرهم مما هو أقوى شاهد على الرحمة، وقد جاء عن ابن عباس وجابر بن زيد أن يونس نزلت ثم هود ثم يوسف وعد هذا وجها آخر من وجوه المناسبة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 362 الر الكلام فيه وفي نظائره شهير وقد تقدم لك منه ما فيه إقناع، والإشارة في قوله سبحانه: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ إليه في قول: وإلى آياتُ هذه السورة في آخر، وأشير إليها مع أنها لم تذكر بعد لتنزيلها لكونها مترقبة منزلة المتقدم أو لجعل حضورها في الذهن بمنزلة الوجود الخارجي والإشارة بما يشار به للبعيد، أما على الثاني فلأن ما أشير إليه لما لم يكن محسوسا نزل منزلة البعيد لبعده عن حيز الإشارة أو العظمة وبعد مرتبته وعلى غيره لذلك، أو لأنه لما وصل من المرسل إلى المرسل إليه صار كالمتباعد. وزعم بعضهم أن الإشارة إلى ما في اللوح وهو بعيد، وأبعد من ذلك كون الإشارة إلى التوراة والإنجيل أو الآيات التي ذكرت في سورة هود والمراد بالكتاب إما هذه السورة أو القرآن، وقد تقدم لك في يونس ما يؤنسك تذكره هنا فتذكر الْمُبِينِ من أبان بمعنى بان أي ظهر فهو لازم أي الظاهر أمره في كونه من عند الله تعالى وفي إعجازه أو الواضح معانيه للعرب بحيث لا تشتبه عليهم حقائقه ولا تلتبس عليهم دقائقه وكأنه على المعنيين حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فارتفع واستتر ولا يعد هذا من حذف الفاعل المحظور فلا حاجة إلى القول بأن الإسناد مجازي فرارا منه، أو بمعنى بين بمعنى أظهر فهو متعد والمفعول مقدر أي المظهر ما فيه هدى ورشد، أو ما سألت عنه اليهود (1) أو ما أمرت أن تسأل عنه من السبب الذي أحلّ بني إسرائيل بمصر، أو الأحكام والشرائع وخفايا الملك والملكوت وأسرار النشأتين وغير ذلك من الحكم والمعارف والقصص. وعن ابن عباس ومجاهد الاقتصار على الحلال والحرام وما يحتاج إليه في أمر الدين، وأخرج ابن جرير عن خالد بن معدان عن معاذ رضي الله تعالى عنه أنه قال في ذلك: بين الله تعالى فيه الحروف التي سقطت عن ألسن الأعاجم، وهي ستة أحرف: الطاء والظاء والصاد والضاد والعين والحاء المهملتان والمذكور في- الفرهنك وغيره- من الكتب المؤلفة في اللغة الفارسية أن الأحرف الساقطة ثمانية، ونظم ذلك بعضهم فقال: هشت حرفست آن كه أندر فارسي نايد همي ... تا نياموزى نباشى أندرين معنى معاف بشنو اكنون تا كدام است أن حروف وياد كير ... ثا وحا وصاد وطا وظا وعين وقاف ومع هذا فالأمر مبني على الشائع الغالب وإلّا فبعض هذه الأحرف موجود في بعض كلماتهم كما لا يخفى على المتتبع، ولعل الوصف على الأقوال الأول أمدح منه على قول الأخير، والظاهر أن ذلك وصف له باعتبار الشرف الذاتي، قوله سبحانه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وصف له باعتبار الشرف الإضافي وضمير الغائب للكتاب السابق   (1) وفي الكلام على هذا براعة استهلال فافهم اهـ منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 363 ذكره فإن كان المراد به القرآن كله كما هو الظاهر المناسب للحال فذاك وإن كان المراد به هذه السورة فتسميته قرآنا لأنه اسم جنس يقع على الكثير والقليل فكما يطلق على الكل يطلق على البعض، نعم إنه غلب على الكل عند الإطلاق معرفا لتبادره، وهل وصل بالغلبة إلى حد العلمية أو لا؟ فيه خلاف، وإلى الأول ذهب البيضاوي قدس سره فتلزمه الألف واللام ومع ذلك لم يهجر المعنى الأول، ووقع في كتب الأصول أنه وضع تارة للكل خاصة، وأخرى لما يعمه، والبعض أعني الكلام المنقول في المصحف تواترا، ونظر فيه بأن الغلبة ليس لها وضع ثان وإنما هي تخصيص لبعض أفراد الموضوع له، ولذا لزمت العلم بها اللام أو الإضافة إلّا أن يدعى أن فيها وضعا تقديريا كذا قيل وممن صرح- بأن التعيين بالغلبة قسيم للتعيين بالوضع- العلامة الزرقاني وغيره لكن تعقبه الحمصي فقال: إن دلالة الإعلام بالغلبة على تعيين مسماها بالوضع وإن كان غير الوضع الأول فليتأمل. وعن الزجاج وابن الأنباري أن الضمير لنبأ يوسف وإن لم يذكر في النظم الكريم، وقيل: هو للإنزال المفهوم من الفعل، ونصبه على أنه مفعول مطلق، وَقُرْآناً هو المفعول به، والقولان ضعيفان كما لا يخفى، ونصب قُرْآناً على أنه حال وهو بقطع النظر عما بعده وعن تأويله بالمشتق حال موطئة للحال التي هي عَرَبِيًّا وإن أول بالمشتق أي مقروءا فحال غير موطئة وعَرَبِيًّا إما صفته على رأي من يجوز وصف الصفة، وإما حال من الضمير المستتر فيه على رأي من يقول بتحمل المصدر الضمير إذا كان مؤولا باسم المفعول مثلا، وقيل: قُرْآناً بدل من الضمير، وعَرَبِيًّا صفته، وظاهر صنيع أبي حيان يقتضي اختياره، ومعنى كونه عَرَبِيًّا أنه منسوب الى العرب باعتبار أنه نزل بلغتهم وهي لغة قديمة. أخرج ابن عساكر في التاريخ عن ابن عباس أن آدم عليه السلام كان لغته في الجنة العربية فلما أكل من الشجرة سلبها فتكلم بالسريانية فلما تاب ردّها الله تعالى عليه، وقال عبد الملك بن حبيب: كان اللسان الأول الذي هبط به آدم عليه السلام من الجنة عربيا الى أن بعد وطال العهد حرف وصار سريانيا وهو منسوب الى أرض سورية وهي أرض الجزيرة. وبها كان نوح عليه السلام وقومه قبل الغرق، وكان يشاكل اللسان العربي إلا أنه محرف وكان أيضا لسان جميع من في السفينة إلا رجلا واحدا يقال له: جرهم فإنه كان لسانه العربي الأول فلما خرجوا من السفينة تزوج إرم بن سام بعض بناته وصار اللسان العربي في ولده عوص أبي عاد وعبيل وجاثر أبي ثمود وجديس وسميت عاد باسم جرهم لأنه كان جدّهم من الأم وبقي اللسان السرياني في ولد أرفخشد بن سام الى أن وصل الى قحطان من ذريته وكان باليمن فنزل هناك بنو إسماعيل عليه السلام فتعلم منهم بنو قحطان اللسان العربي، وقال ابن دحية: العرب أقسام: الأول عاربة وعرباء- وهم الخلص- وهم تسع قبائل من ولد إرم بن نوح، وهي عاد وثمود وأميم وعبيل وطسم وجديس وعمليق وجرهم ووبار ومنهم تعلم إسماعيل عليه السلام العربية، والثاني المتعربة قال في الصحاح: وهم الذين ليسوا بخلص وهم بنو قحطان، والثالث المستعربة وهم الذين ليسوا بخلص أيضا- وهم بنو إسماعيل- وهم ولد معد بن عدنان بن أدد اهـ. وقال ابن دريد في الجمهرة العرب العاربة سبع قبائل: عاد وثمود وعمليق وطسم وجديس وأميم وجاسم وقد انقرض أكثرهم إلا بقايا متفرقين في القبائل، وأول من انعدل لسانه عن السريانية الى العربية يعرب بن قحطان وهو مراد الجوهري بقوله: إنه أول من تكلم بالعربية، واستدل بعضهم على أنه أول من تكلم بها بما أخرجه ابن عساكر في التاريخ بسند رواه عن أنس بن مالك موقوفا ولا أراه يصح ذكر فيه تبلبل الألسنة ببابل وأنه أول من تكلم بالعربية. وأخرج الحاكم في المستدرك وصححه، والبيهقي في شعب الإيمان من طريق سفيان الثوري عن جعفر بن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 364 محمد عن أبيه عن جابر رضي الله تعالى عنهم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم تلا هذه الآية إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا إلخ ثم قال: «ألهم إسماعيل عليه السلام هذا اللسان العربي إلهاما» وقال الشيرازي في كتاب الألقاب: أخبرنا أحمد بن إسماعيل المداني أخبرنا محمد بن أحمد بن إسحاق الماشي حدثنا محمد بن جابر حدثنا أبو يوسف بن السكيت قال: حدثني الأثرم عن أبي عبيدة حدثنا مسمع بن عبد الملك عن محمد بن علي بن الحسين عن آبائه رضي الله تعالى عنهم أجمعين عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «أول من فتق لسانه بالعربية المبينة إسماعيل عليه السلام وهو ابن أربع عشرة سنة» وروي أيضا عن ابن عباس أن إسماعيل عليه السلام أول من تكلم بالعربية المحضة، وأريد بذلك- على ما قاله بعض الحفاظ- عربية قريش (1) التي نزل بها القرآن وإلا فاللغة العربية مطلقا كانت قبل إسماعيل عليه السلام وكانت لغة حمير وقحطان وقال محمد بن سلام: أخبرني يونس عن أبي عمرو بن العلاء قال: العرب كلها ولد إسماعيل إلا حميرا وبقايا جرهم وقد جاورهم وأصهر إليهم، وذكر ابن كثير أن من العرب من ليس من ذريته كعاد وثمود وطسم وجديس وأميم وجرهم والعماليق وأمم غيرهم لا يعلمهم إلا الله سبحانه كانوا قبل الخليل عليه السلام وفي زمانه وكان عرب الحجاز من ذريته (2) وأما عرب اليمن- وهم حمير- فالمشهور كما قال ابن ماكولا: إنهم من قحطان واسمه مهزم وهو ابن هود، وقيل: أخوه، وقيل: من ذريته، وقيل: قحطان هو هود، وحكى ابن إسحاق، وغيره أنه من ذرية إسماعيل، والجمهور على أن العرب القحطانية من عرب اليمن وغيرهم ليسوا من ذريته عليه السلام وأن اللغة العربية مطلقا كانت قبله وهي إحدى اللغات التي علمها آدم عليه السلام وكان يتكلم بها وبغيرها أيضا وكثر تكلمه فيما قيل: بالسريانية، وادعى بعضهم أنها أول اللغات وأن كل لغة سواها حدثت بعدها إما توقيفا أو اصطلاحا، واستدلوا على أسبقيتها وجودا بأن القرآن كلام الله تعالى وهو عربي وفيه ما فيه، وهي أفضل اللغات حتى حكى شيخ الإسلام ابن تيمية عن الإمام أبي يوسف عليه الرحمة كراهة التكلم بغيرها لمن يحسنها من غير حاجة، وبعدها في الفضل على ما قيل: الفارسية الدرية (3) حتى روي عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه جواز قراءة القرآن بها سواء في ذلك ما كان ثناء كالإخلاص وغيره. وسواء كانت عن عجز عن العربية أم لا، وروي عن صاحبيه جواز القراءة في الصلاة بغير العربية لمن لا يحسنها وفي النهاية والدراية أن أهل فارس كتبوا إلى سلمان الفارسي أن يكتب لهم الفاتحة بالفارسية فكتب فكانوا يقرؤون ما كتب في الصلاة حتى لانت ألسنتهم. وقد عرض ذلك على النبي عليه الصلاة والسلام ولم ينكر عليه، نعم الصحيح ان الإمام رجع عن ذلك، وفي النفحة القدسية في أحكام قراءة القرآن وكتابته بالفارسية للشرنبلالي ما ملخصه: حرمة كتابة القرآن بالفارسية إلا أن يكتبه بالعربية ويكتب تفسير كل حرف وترجمته وحرمة مسه لغير الطاهر اتفاقا كقراءته وعدم صحة الصلاة بافتتاحها بالفارسية وعدم صحتها بالقراءة بها إذا كانت ثناء واقتصاره عليها مع القدرة على العربية وعدم الفساد بما هو ذكر وفسادها بما ليس ذكرا بمجرد قراءته ولا يخرج عن كونه أميا وهو يعلم الفارسية فقط وتصح الصلاة بدون قراءة للعجز عن العربية على الصحيح عند الإمام وصاحبيه، وأطال الكلام في ذلك، وفي معراج الدراية من تعمد قراءة القرآن او كتابته بالفارسية فهو مجنون أو زنديق والمجنون يداوى والزنديق يقتل، وروي ذلك عن أبي بكر محمد بن الفضل البخاري   (1) وصححوا أن العربية المحضة كانت بتوقيف منه تعالى لاسماعيل عليه السلام فليحفظ اهـ منه. (2) ذكر بعضهم أنهم كانوا أربعة إخوة قحطان وقاحط ومقحط وفالغ وفي قحطان الخلاف اهـ منه (3) وفي رواية عنه أنه لا فرق في ذلك بين الفارسية وغيرها من اللغات كالهندية اهـ منه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 365 ومع هذا لا ينكر فضل الفارسية، ففي الحديث «لسان أهل الجنة العربي والفارسي الدري» وقد اشتهر ذلك لكن ذكر الذهبي في تاريخه عن سفيان أنه قال: بلغنا أن الناس يتكلمون يوم القيامة بالسريانية فإذا دخلوا الجنة تكلموا بالعربية. وأخرج الطبراني والحاكم والبيهقي وآخرون عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «أحبوا العرب لثلاث لأني عربي والقرآن عربي وكلام أهل الجنة عربي» . وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة ما يعضده، ولا يخفى على الخبير بمزايا الكلام أن في الكلام العربي من لطائف المعاني ودقائق الأسرار ما لا يستقل بأدائه لسان (1) ويليه في ذلك الكلام الفارسي فإن كان هذا مدار الفضل فلا ينبغي أن يتنازع اثنان في أفضلية العربي ثم الفارسي مما وصل إلينا من اللغات وإن كان شيئا آخر فالظاهر وجوده في العربي الذي اختار سبحانه إنزال القرآن به لا غير، وقد قسم لنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم من هذا اللسان ما لم يقسم لأحد من فصحاء العرب، فقد أخرج ابن عساكر في تاريخه عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال: «يا رسول الله ما لك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟ قال: كانت لغة إسماعيل قد درست فجاء بها جبريل عليه السلام فحفظنيها فحفظتها» . وأخرج البيهقي من طريق يونس عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبيه من حديث فيه طول قال رجل «يا رسول الله ما أفصحك ما رأينا الذي هو أعرب منك؟ قال: حق لي فإنما أنزل القرآن علي بلسان عربي مبين» ، هذا وجوز أن يكون العربي منسوبا إلى عربة وهي ناحية دار إسماعيل عليه السلام قال الشاعر: وعربة أرض ما يحل حرامها ... من الناس إلا اللوذعي الحلاحل والمراد لغة أهل هذه الناحية، واستدل جماعة منهم الشافعي رضي الله تعالى عنه وابن جرير وأبو عبيدة والقاضي أبو بكر بوصف القرآن بكونه عربيا على أنه لا معرب فيه، وشدد الشافعي التكبير على من زعم وقوع ذلك فيه، وكذا أبو عبيدة فإنه قال: من زعم أن فيه غير العربية فقد أعظم القول. ووجه ابن جرير ما ورد عن ابن عباس وغيره في تفسير ألفاظ منه أنها بالفارسية أو الحبشية أو النبطية كذا بأن ذلك مما اتفق فيه توارد اللغات، وقال غيره: بل كان للعرب التي نزل القرآن بلغتهم بعض مخالطة لأهل سائر الألسنة في أسفار لهم فعلقت من لغاتهم ألفاظ غيرت بعضها بالنقص من حروفها واستعملتها في أشعارها ومحاورتها حتى جرت مجرى العربي الفصيح ووقع بها البيان، وعلى هذا الحد نزل بها القرآن. وقال آخرون: كل تلك الألفاظ عربية صرفة ولكن لغة العرب متسعة جدا ولا يبعد أن تخفى على الأكابر الأجلة، وقد خفي على ابن عباس معنى فاطر وفاتح، ومن هنا قال الشافعي في الرسالة: لا يحيط باللغة إلا نبي. وذهب جمع الى وقوع غير العربي فيه، وأجابوا عن الآية بأن الكلمات اليسيرة بغير العربية لا تخرجه عن العربية، فالقصيدة الفارسية لا تخرج عن كونها فارسية بلفظة عربية. وقال غير واحد: المراد أنه عربي الأسلوب، واستدلوا باتفاق النحاة على أن منع صرف نحو إبراهيم للعلمية والعجمة، ورد بأن الأعلام ليست محل خلاف وإنما الخلاف في غيرها، وأجيب بأنه إذا اتفق على وقوع الأعلام فلا مانع من وقوع الأجناس ونظر فيه، واختار الجلال السيوطي القول بالوقوع، واستدل عليه بما صح عن أبي ميسرة   (1) وكذا في العربي ثم الفارسي من الاتساع ما لا يخفى اهـ منه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 366 التابعي الجليل أنه قال: في القرآن من كل لسان، وروي مثله عن سعيد بن جبير ووهب بن منبه. وذكر أن حكمة وقوع تلك الألفاظ فيه أنه حوى علوم الأولين والآخرين ونبأ كل شيء فلا بد أن تقع فيه الإشارة الى أنواع اللغات لتتم إحاطته بكل شيء فاختير له من كل لغة أعذبها وأخفها وأكثرها استعمالا للعرب وأيضا لما كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مرسلا الى كل أمة ناسب أن يكون في كتابه المبعوث به من لسان كل قوم شيء، وقد أشار الى الوجه الأول ابن النقيب. وقال أبو عبد الله القاسم بن سلام بعد أن حكى القول بالوقوع عن الفقهاء: والمنع عن أهل العربية الصواب تصديق القولين جميعا وذلك أن هذه الأحرف أصولها عجمية كما قال الفقهاء لكنها وقعت للعرب فعربتها بألسنتها وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها فصارت عربية ثم نزل القرآن، وقد اختلطت هذه الأحرف بكلام العرب فمن قال: إنها عربية فهو صادق، ومن قال: إنها عجمية فهو صادق، ومال الى هذا القول الجواليقي وابن الجزري وآخرون، وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة إبراهيم عليه السلام ما يتعلق بهذا المبحث أيضا فليتفطن وليتأمل. واحتج الجبائي بالآية على كون القرآن مخلوقا من أربعة أوجه: الأول وصفه بالإنزال، والقديم لا يجوز عليه ذلك، الثاني وصفه بكونه عربيا، والقديم لا يكون عربيا ولا فارسيا، الثالث أن قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا يدل على أنه سبحانه قادر على إنزاله غير عربي وهو ظاهر الدلالة على حدوثه. الرابع أن قوله عزّ شأنه تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ يدل على تركبه من الآيات والكلمات وكل ما كان مركبا كان محدثا ضرورة أن الجزء الثاني غير موجود حال وجود الجزء الأول. وأجاب الأشاعرة عن ذلك كله بأن قصارى ما يلزم منه أن المركب من الحروف والكلمات محدث وذلك مما لا نزاع لنا فيه، والذي ندعي قدمه شيء آخر نسميه الكلام النفسي وهو مما لا يتصف بالإنزال ولا بكونه عربيا ولا غيره ولا بكونه مركبا من الحروف ولا غيرها، وقد تقدم لك في المقدمات ما ينفعك هنا فلا تغفل. لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي لكي تفهموا معانيه وتحيطوا بما فيه من البدائع أو تستعملوا فيه عقولكم فتعلموا أنه خارج عن طوق البشر مشتمل على ما يشهد له أنه منزل من عند خلاق القوى والقدر، وهذا بيان لحكمة إنزاله بتلك الصفة، وصرح غير واحد أن- لعل- مستعملة بمعنى لام التعليل على طريق الاستعارة التبعية، ومراده من ذلك ظاهر، وجعلها للرجاء من جانب المخاطبين وإن كان جائزا لا يناسب المقام. وزعم الجبائي أن المعنى أنزله لتعقلوا معانيه في أمر الدين فتعرفوا الأدلة الدالة على توحيده وما كلفكم به، وفيه دليل على أنه تعالى أراد من الكل الإيمان والعمل الصالح من حصل منه ذلك ومن لم يحصل، وفيه أنه بمعزل عن الاستدلال به على ما ذكر كما لا يخفى نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أي نخبرك ونحدثك من قص أثره إذا اتبعه كأن المحدث يتبع ما حدث به وذكره شيئا فشيئا ومثل ذلك تلي أَحْسَنَ الْقَصَصِ أي أحسن الاقتصاص فنصبه على المصدرية إما لإضافته الى المصدر أو لكونه في الأصل صفة مصدر أي قصصا أحسن القصص، وفيه مع بيان الواقع إيهام لما في اقتصاص أهل الكتاب من القبح والخلل، والمفعول به محذوف أي مضمون هذا القرآن، والمراد به هذه السورة، وكذا في قوله عزّ وجلّ: بِما أَوْحَيْنا أي بسبب إيحائنا. إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ والتعرض لعنوان قرآنيتها لتحقيق أن الاقتصاص ليس بطريق الإلهام أو الوحي غير المتلو، ولعل كلمة هذَا للإيماء الى تعظيم المشار اليه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 367 وقيل: فيها إيماء الى مغايرة هذا القرآن لما في قوله تعالى: قُرْآناً عَرَبِيًّا بأن يكون المراد بذلك المجموع وفيه تأمل، وأحسنيته لأنه قد قص على أبدع الطرائق الرائعة الرائقة، وأعجب الأساليب الفائقة اللائقة كما لا يكاد يخفى على من طالع القصة من كتب الأولين وإن كان لا يميز الغث من السمين ولا يفرق بين الشمال واليمين، وجوز أن يكون هذا المذكور مفعول نَقُصُّ. وصرح غير واحد أن الآية من باب تنازع الفعلين، والمذهب البصري أولى هنا إما لفظا فظاهر وإما معنى فلأن القرآن كما سمعت السورة وإيقاع الإيحاء عليها أظهر من إيقاع نَقُصُّ باعتبار اشتمالها على القصة وما هو أظهر أولى بإعمال صريح الفعل فيه، وفيه من تفخيم القرآن وإحضار ما فيه من الإعجاز وحسن البيان ما ليس في إعمال نَقُصُّ صريحا، وجوز تنزيل أحد الفعلين منزلة اللازم، ويجوز أن يكون أَحْسَنَ مفعولا به لنقص، والقصص: إما فعل بمعنى مفعول كالنبأ والخبر أو مصدر سمي به المفعول كالخلق والصيد أي نقص عليك أحسن ما يقصه من الأنباء وهو قصة آل يعقوب عليه السلام، ووجه أحسنيتها اشتمالها على حاسد ومحسود ومالك ومملوك وشاهد ومشهود وعاشق ومعشوق وحبس وإطلاق وخصب وجدب وذنب وعفو وفراق ووصال وسقم وصحة وحل وارتحال وذل وعز وقد أفادت أنه لا دافع لقضاء الله تعالى ولا مانع من قدره وأنه سبحانه إذا قضى لإنسان بخير ومكرمة فلو أن أهل العالم اجتمعوا على دفع ذلك لم يقدروا وأن الحسد سبب الخذلان والنقصان، وأن الصبر مفتاح الفرج، وأن التدبير من العقل وبه يصلح أمر المعاش الى غير ذلك مما يعجز عن بيانه بنان التحرير. وقيل: إنما كانت وأَحْسَنَ لأن غالب من ذكر فيها كان مآله الى السعادة، وقيل: المقصوص أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية لا قصة آل يعقوب فقط، والمراد بهذا القرآن ما اشتمل على ذلك، أَحْسَنَ ليس أفعل تفضيل بل هو بمعنى حسن كأنه قيل: حسن القصص من باب إضافة الصفة الى الموصوف أي القصص الحسن، والقول عليه عند الجمهور ما ذكرنا، قيل: ولكونها بتلك المثابة من الحسن تتوفر الدواعي إلى نقلها ولذا لم تتكرر كغيرها من القصص، وقيل: سبب ذلك من افتتان امرأة ونسوة بأبدع الناس جمالا، ويناسب ذلك عدم التكرار لما فيه من الإغضاء والستر، وقد صحح الحاكم في مستدركه حديث النهي عن تعليم النساء سورة يوسف، وقال الأستاذ أبو إسحاق: إنما كرر الله تعالى قصص الأنبياء وساق هذه القصة مساقا واحدا إشارة إلى عجز العرب كأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال لهم: إن كان من تلقاء نفسي فافعلوا في قصة يوسف ما فعلت في سائر القصص وهو وجه حسن إلا أنه يبقى عليه أن تخصيص سورة يوسف لذلك يحتاج الى بيان فإن سوق قصة آدم عليه السلام مثلا مساقا واحدا يتضمن الإشارة إلى ذلك أيضا بعين ما ذكر، وقال الجلال السيوطي: ظهر لي وجه في سوقها كذلك وهو أنها نزلت بسبب طلب الصحابة أن يقص عليهم فنزلت مبسوطة تامة ليحصل لهم مقصود القصص من الاستيعاب وترويح النفس بالإحاطة ولا يخفى ما فيه، وكأنه لذلك قال: وأقوى ما يجاب به أن قصص الأنبياء إنما كررت لأن المقصود بها إفادة إهلاك من كذبوا رسلهم والحاجة داعية الى ذلك كتكرير تكذيب الكفار للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فكلما كذبوا أنزلت قصة منذرة بحلول العذاب كما حل بالمكذبين، ولهذا قال سبحانه في آيات: فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ [الأنفال: 38] أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ [الأنعام: 6] وقصة يوسف لم يقصد منها ذلك، وبهذا أيضا يحصل الجواب عن عدم تكرير قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين وقصة موسى مع الخضر وقصة الذبيح، ثم قال: فإن قلت: قد تكررت قصة ولادة يحيى وولادة عيسى عليهما السلام مرتين وليست من قبيل ما ذكرت قلت الأولى في سورة- كهيعص- وهي مكية أنزلت خطابا لأهل مكة، والثانية في سورة آل عمران وهي مدنية الجزء: 6 ¦ الصفحة: 368 أنزلت خطابا لليهود ولنصارى نجران حين قدموا ولهذا اتصل بهذا ذكر المحاجة والمباهلة اهـ. واعترض بأن قصة آدم عليه السلام كررت مع أنه ليس المقصود بها إفادة إهلاك من كذبوا رسلهم، وأجيب بأنها وإن لم يكن المقصود بها إفادة ما ذكر إلّا أن فيها من الزجر عن المعصية ما فيها فهي أشبه قصة بتلك القصص التي كررت لذلك فافهم وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ أي قبل إيحائنا إليك ذلك لَمِنَ الْغافِلِينَ عنه لم يخطر ببالك ولم يقرع سمعك، وهذا تعليل لكونه موحى كما ذكره بعض المحققين والأكثر في مثله ترك الواو، والتعبير عن عدم العلم بالغفلة لإجلال شأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وكذا العدول عن- لغافلا- إلى ما في النظم الجليل عند بعض، ويمكن أن يقال: إن الشيء إذا كان بديعا وفيه نوع غرابة إذا وقف عليه قيل للمخاطب: كنت عن هذا غافلا فيجوز أن يقصد الإشارة إلى غرابة تلك القصة فيكون كالتأكيد لما تقدم إلّا أن فيه ما لا يخفى وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن واللام فارقة، وجملة كُنْتَ إلخ خبر- إن- إِذْ قالَ يُوسُفُ نصب بإضمار- اذكر- بناء على تصرفها، وذكر الوقت كناية عن ذكر ما حدث فيه والكلام شروع في إنجاز ما وعد سبحانه، وحكى مكي أن العامل في إِذْ الغافلين. وقال ابن عطية: يجوز أن يكون العامل فيها نَقُصُّ وروي ذلك عن الزجاج على معنى نقص عليك الحال إِذْ إلخ. وهي للوقت المطلق المجرد عن اعتبار المضي، وفي كلا الوجهين ما فيه. واستظهر أبو حيان بقاءها على معناها الأصلي وأن العامل فيها قالَ يا بُنَيَّ كما تقول: إذ قام زيد قام عمرو، ولا يخلو عن بعد، وجوز الزمخشري كونها بدلا من أَحْسَنَ الْقَصَصِ على تقدير جعله مفعولا به وهو بدل اشتمال، وأورد أنه إذا كان بدلا من المفعول يكون الوقت مقصوصا ولا معنى له، وأجيب بأن المراد لازمه وهو اقتصاص قول يوسف عليه السلام فإن اقتصاص وقت القول ملزوم لاقتصاص القول. واعترض بأنه يكون بدل بعض أو كل لا اشتمال، وأجيب بأنه إنما يلزم ما ذكر لو كان الوقت بمعنى القول وهو إما عين المقصوص أو بعضه، أما لو بقي على معناه وجعل مقصوصا باعتبار ما فيه فلا يرد الاعتراض. هذا ولم يجوزوا البدلية على تقدير نصب أَحْسَنَ الْقَصَصِ على المصدرية، وعلل ذلك بعدم صحة المعنى حينئذ وبقيام المانع عربية، أما الأول فلأن المقصوص في ذلك الوقت لا الاقتصاص. وأما الثاني فلأن أحسن الاقتصاص مصدر فلو كان الظرف بدلا وهو المقصود بالنسبة لكان مصدرا أيضا وهو غير جائز لعدم صحة تأويله بالفعل، وأورد على هذا أن المصدر كما يكون ظرفا نحو أتيتك طلوع الشمس يكون الظرف أيضا مصدرا ومفعولا مطلقا لسدّه مسدّ المصدر كما في قوله: ولم تغتمض عيناك ليلة أرمد فإنهم صرحوا- كما في التسهيل وشروحه- أن ليلة مفعول مطلق أي اغتماض ليلة، وما ذكر من حديث التأويل بالفعل فهو من الأوهام الفارغة، نعم إذا ناب عن المصدر ففي كونه بدل اشتمال شبهة وهو شيء آخر غير ما ذكر، وعلى الأول أنه وإن لم يشتمل الوقت على الاقتصاص فهو مشتمل على المقصوص فلم لم تجز البدلية بهذه الملابسة؟ ورد بأن مثل هذه الملابسة لا تصحح البدلية، ونقل عن الرضي أن الاشتمال ليس كاشتمال الظرف على المظروف بل كونه دالّا عليه إجمالا ومتقاضيا له بوجه ما بحيث تبقى النفس عند ذكر الأول متشوقة إلى الثاني منتظرة له فيجيء الثاني مبينا لما أجمل فيه فإن لم يكن كذلك يكن بدل غلط وعلى هذا يقال في عدم صحة البدلية: إن النفس إنما تتشوق لذكر وقت الشيء لا لذكر وقت لازمه ووقت القول ليس وقتا للاقتصاص، ويُوسُفُ علم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 369 أعجمي لا عربي مشتق من الأسف وسمي به لأسف أبيه عليه أو أسفه على أبيه أو أسف من يراه على مفارقته لمزيد حسنه كما قيل، وإلّا لانصرف لأنه ليس فيه غير العلمية ولا يتوهمن أن فيه وزن الفعل أيضا إذ ليس لنا فعل مضارع مضموم الأول والثالث، وكذا يقال في يونس، وقرىء بفتح السين وكسرها على ما هو الشائع في الأسماء الأعجمية من التغيير لا على أنه مضارع بني للمفعول أو للفاعل من آسف لأن القراءة المشهورة شهدت بعجميته ولا يجوز أن يكون أعجميا وغير أعجمي قاله غير واحد لكن في الصحاح أن يعفر ولد الأسود الشاعر إذا قلته بفتح الياء لم تصرفه لأنه مثل يقتل. وقال يونس: سمعت رؤبة يقول: أسود بن يعفر بضم الياء وهذا ينصرف لأنه قد زال عنه شبه الفعل اهـ. وصرحوا بأن هذا مذهب سيبويه، وأن الأخفش خالفه فمنع صرفه لعروض الضم للاتباع، وعلى هذا يحتمل أن يقال: إنه عربي ومنه من الصرف على قراءة الفتح والكسر للعلمية ووزن الفعل. وكذا على قراءة الضم بناء على ما يقوله الأخفش ويلتزم كون ضم ثالثه اتباعا لضم أوله، وأجيب بأنه لو كان عربيا لوقع فيه الخلاف كما وقع في يعفر، والظاهر أن أعجميته متحققة عندهم ولذا التزموا منعه من الصرف لها وللعلمية ولا الالتفات لذلك الاحتمال. وقرأ طلحة بن مصرف- يؤسف- بالهمز وفتح السين، وقد جاء فيه الضم والكسر مع الهمز أيضا فيكون فيه ست لغات لِأَبِيهِ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وفي الصحيح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» . نسب كأن عليه من شمس الضحى ... نورا ومن ضوء الصباح عمودا يا أَبَتِ أصله يا أبي فعوض عن الياء تاء التأنيث لتناسبهما في كون كل منهما من حروف الزيادة ويضم الى الاسم في آخره ولهذا قلبها هاء في الوقف ابن كثير وابن عامر، وخالف الباقون فأبقوها تاء في الوقف وكسرت لأنها عوض عن الياء التي هي أخت الكسرة فحركت بحركة تناسب أصلها لا لتدل على الياء ليكون ذلك كالجمع بين عوضين أو بين العوض والمعوض، وجعل الزمخشري هذه الكسرة كسرة الياء زحلقت الى التاء لما فتح ما قبلها للزوم فتح ما قبل تاء التأنيث، وقرأ ابن عامر وأبو جعفر (1) ، والأعرج بفتحها لأن أصلها وهو الياء إذا حرك حرك بالفتح، وقيل: لأن أصل يا أَبَتِ يا أبتا بأن قلبت الياء ألفا ثم حذفت وأبقيت فتحتها دليلا عليها، وتعقب بأن يا أبتا ضعيف (2) كيا أبتي حتى قيل: إنه يختص بالضرورة كقوله يا أبتا علك أو عساكا وقال الفراء وأبو عبيدة وأبو حاتم: إن الألف المحذوفة من يا أبتا للندبة، ورد بأن الموضع ليس موضع ندبة، وعن قطرب أن الأصل- يا أبة- بالتنوين فحذف والنداء باب حذف، ورد بأن التنوين لا يحذف من المنادى المنصوب نحو يا ضاربا رجلا، وقرىء بضم التاء إجراء لها مجرى الأسماء المؤنثة بالتاء من غير اعتبار التعويض، وأنت تعلم أن ضم المنادى المضاف شاذ وإنما لم تسكن مع أن الباء التي وقعت هي عوضا عنها تسكن لأنها حرف صحيح منزل منزلة الاسم فيجب تحريكها ككاف الخطاب. وزعم بعضهم أن الياء أبدلت تاء لأنها تدل على المبالغة والتعظيم في نحو علامة ونسابة والأب والأم مظنة التعظيم فعلى هذا لا حذف ولا تعويض، والتاء حينئذ اسم، فقد صرحوا أن الاسم إذا كان على حرف واحد وأبدل لا   (1) المروي عن ابن عامر أنه قرأ به في القرآن اهـ منه (2) لما فيه من الجمع بين عوضين، وفي الثاني الجمع بين العوض والمعوض اهـ منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 370 يخرج عن الاسمية، وقال الكوفيون: إن التاء لمجرد التأنيث وياء بالإضافة مقدرة، ويأباه عدم سماع يا أبتي في السعة، وكذا سماع فتحها على ما قيل، وتعقب بأن تاء لات للتأنيث عند الجمهور وكذا تاء ربت، وثمت وهي مفتوحة إِنِّي رَأَيْتُ أي في المنام كما يقتضيه كلام ابن عباس وغيره، وكذا قوله سبحانه: لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ وهذا تأويل رؤياي، فإن مصدر رأي الحلمية الرؤيا ومصدر البصرية الرؤية في المشهور، ولذا خطىء المتنبي في قوله: ورؤياك أحلى في العيون من الغمض وذهب السهيلي وبعض اللغويين الى أن الرؤيا سمعت من العرب بمعنى الرؤية ليلا ومطلقا، واستدل بعضهم لكون رأي حلمية بأن ذلك لو وقع يقظة وهو أمر خارق للعادة لشاع وعد معجزة ليعقوب عليه السلام أو إرهاصا ليوسف عليه السلام، وأجيب بأنه يجوز أن يكون في زمان يسير من الليل والناس غافلون، والحق أنها حلمية، ومثل هذا الاحتمال مما لا يلتفت إليه. وقرأ أبو جعفر «أني» (1) بفتح الياء أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وهي جربان والطارق والذيال وقابس وعمودان والفيلق والمصبح والفزع ووثاب وذو الكتفين والضروج فقد روي عن جابر أن سنانا اليهودي جاء الى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: أخبرني يا محمد عن النجوم التي رآهن يوسف فسكت فنزل جبريل عليه السلام فأخبره بذلك فقال عليه الصلاة والسلام: هل أنت مؤمن إن أخبرتك؟ قال: نعم فعد صلّى الله عليه وسلّم ما ذكر فقال اليهودي: أي والله إنها لأسماؤها. وأخرج السهيلي عن الحارث بن أبي أسامة نحو ذلك إلا أنه ذكر النطح بدل المصبح، وأخرج الخبر الأول جماعة من المفسرين وأهل الأخبار وصححه الحاكم، وقال: إنه على شرط مسلم، وقال أبو زرعة وابن الجوزي: إنه منكر موضوع. وقرأ الحسن وطلحة بن سليمان وغيرهما أَحَدَ عَشَرَ بسكون العين لتوالي الحركات وليظهر جعل الاسمين اسما واحدا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ عطف على ما قبل. وزعم بعضهم أن الواو للمعية وليس بذاك وتخصيصهما بالذكر وعدم الاندراج في عموم الكواكب لاختصاصهما بالشرف وتأخيرهما لأن سجودهما أبلغ وأعلى كعبا فهو من باب لا يعرفه فلان ولا أهل بلده، وتقديم الشمس على القمر لما جرت عليه عادة القرآن إذا جمع الشمس والقمر، وكان ذلك إما لكونها أعظم جرما وأسطع نورا وأكثر نفعا من القمر وإما لكونها أعلى مكانا منه وكون فلكها أبسط من فلكه على ما زعمه أهل الهيئة وكثيرين من غيرهم، وإما لأنها مفيضة النور عليه كما ادعاه غير واحد، واستأنس له بقوله سبحانه: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً [يونس: 5] وإنما أورد الكلام على هذا الأسلوب ولم يطو ذكر العدد لأن المقصود الأصلي أن يتطابق المنام ومن هو في شأنهم وبترك العدد يفوت ذلك رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ استظهر في البحر أن رَأَيْتُهُمْ تأكيد لما تقدم تطرية للعهد كما في قوله تعالى: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ واختار الزمخشري التأسيس وأن الكلام جواب سؤال مقدر كأن يعقوب عليه السلام قال له عند قوله: رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كيف رأيتها؟ سائلا عن حال رؤيتها فقال: رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ وكأنه لا يرى أن رأي   (1) قوله: وقرأ أبو جعفر إلخ هكذا بخطه ولعلها من غير المتواتر عنه. [ ..... ] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 371 الحلمية مما تتعدى الى مفعولين كالعلمية ليلتزم كون المفعول الثاني للفعل الأول محذوفا، ويرى أنها تتعدى لواحد كالبصرية فلا حذف، وساجِدِينَ حال عنده كما يشير إليه كلامه، والمشهور عند الجمهور أنها تتعدى الى مفعولين ولا يحذف ثانيهما اقتصارا. وجوز أن يكون مذهبه القول بالتعدي الى ما ذكر إلا أنه يقول بجواز ما منعوه من الحذف، وأنت تعلم أن ما استظهره في البحر سالم عن المخالفة والنظرية أمر معهود في الكتاب الجليل (1) وإنما أجريت هذه المتعاطفات مجرى العقلاء في الضمير جمع الصفة لوصفها بوصف العقلاء أعني السجود سواء كان المراد منه التواضع أو السجود الحقيقي وإعطاء الشيء الملابس لآخر من بعض الوجوه حكما من أحكامه إظهارا لأثر الملابسة والمقاربة شائع في الكلام القديم والحديث، وفي الكلام على ما قيل: استعارة مكنية بتشبيه المذكورات بقوم عقلاء ساجدين والضمير والسجود قرينة أو أحدهما قرينة تخييلية والآخر ترشيح. وذهب جماعة من الفلاسفة الى أن الكواكب أحياء ناطقة، واستدل لهم بهذه الآية ونظائرها وكثير من ظواهر الكتاب والسنة يشهد لهم، وليس في القول بذلك إنكار ما هو من ضروريات الدين، وتقديم الجار والمجرور لإظهار العناية والاهتمام مع ما في ضمنه عل ما قيل: من رعاية الفواصل، وكانت هذه الرؤية فيما قيل: ليلة الجمعة، وأخرج أبو الشيخ عن ابن منبه أنها كانت ليلة القدر، ولعله لا منافاة لظهور إمكان كون ليلة واحدة ليلة القدر وليلة الجمعة، واستشكل كونها في ليلة القدر بأنها من خواص هذه الأمة، وأجيب بأن ما هو من الخواص تضعيف ثواب العمل فيها الى ما قص الله سبحانه وكان عمره عليه السلام حين رأى ذلك اثنتي عشرة سنة فيما يروى عن وهب. وقيل: سبع عشرة سنة، وكان قد رأى قبل وهو ابن سبع سنين أن إحدى عشرة عصا طوالا كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدائرة وإذا عصا صغيرة تثب عليها حتى اقتلعتها وغلبتها فوصف ذلك لأبيه فقال: إياك أن تذكر هذا لأخوتك، وتعبير هذه العصي لإحدى عشرة هو بعينه تعبيرا لأحد عشر كوكبا فإن كلا منهما إشارة الى إخوته، وليس في الرؤيا الأولى ما يشير الى ما يشير إليه الشمس والقمر في الرؤية الثانية، ولا ضرورة الى التزام القول باتحاد المنامين بأن يقال: إنه عليه السلام رأى في كل أحد عشر شيئا إلا أن ذلك في الأول عصي وفي الثاني كواكب، ويكون عطف الشمس والقمر على ما قبله من قبيل عطف ميكائيل وجبريل عليهما السلام على الملائكة كما يوهمه كلام بعضهم، وعبرت الشمس بأبيه والقمر بأمه اعتبارا للمكان والمكانة. وروى ذلك عن قتادة وعن السدي أن القمر خالته لأن أمه راحيل قد ماتت، والقول: بأن الله تعالى أحياها بعد لتصديق رؤياه لا يخفى حاله، وعن ابن جريج أن الشمس أمّه والقمر أبوه وهو اعتبار للتأنيث والتذكير، وقد تعبر الشمس بالملك وبالذهب وبالزوجة الجميلة والقمر بالأمير والكواكب بالرؤساء وكذا بالعلماء أيضا. وعن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أن رؤية القمر تؤوّل على أحد سبعة عشر وجها، ملك أو وزير أو نديم الملك أو رئيس أو شريف أو جارية أو غلام أو أمر باطل أو وال أو عالم مفسد أو رجل معظم أو والد أو والدة أو زوجة أو بعل لها أو ولد أو عظمة ولعل ذلك مبني على اختلاف الرائي وكيفية الرؤية، وزعم بعضهم أنه عليه السلام لم يكن رأي الكواكب ولا الشمس والقمر وإنما رأى إخوته وأبويه إلا أنه عبر عنهم بذلك على طريقة الاستعارة التصريحة وهو   (1) وزعم بعضهم أن أحد الفعلين من الرؤية والآخر من الرؤيا وهو كما ترى اهـ منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 372 خلاف الظاهر جدا ويكاد يعدّ من كلام النائم، ويؤيد ظاهر ما نقله كثير من المفسرين أنه عليه السلام رأى الكواكب والشمس والقمر قد نزلت فسجدت له فقص ذلك على أبيه قالَ يا بُنَيَّ صغره للشفقة ويسمي النحاة مثل هذا تصغير التحبيب، وما ألطف قول بعض المتأخرين: قد صغر الجوهر في ثغره ... لكنه تصغير تحبيب ويحتمل أن يكون لذلك لصغر السن، وفتح الياء قراءة حفص، وقرأ الباقون بكسرها، والجملة استئناف مبني على سؤال كأنه قيل: فماذا قال الأب بعد سماع هذه الرؤية العجيبة من ابنه؟ فقيل: قال: يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً أي فيحتالوا لإهلاكك حيلة عظيمة لا تقدر على التقضي عنها أو خفية لا تتصدى لمدافعتها، وإنما قال له ذلك لما أنه عليه السلام عرف من رؤياه أن سيبلغه الله تعالى مبلغا جليلا من الحكمة ويصطفيه للنبوة وينعم عليه بشرف الدارين فخاف عليه حسد الإخوة وبغيهم فقال له ذلك صيانة لهم من الوقوع فيما لا ينبغي في حقه وله من معاناة المشاق ومقاساة الأحزان وإن كان واثقا بأنهم لا يقدرون على تحويل ما دلت عليه الرؤيا وأنه سبحانه سيحقق ذلك لا محالة وطمعا في حصوله بلا مشقة وليس ذلك من الغيبة المحظورة في شيء، والرؤيا- مصدر رأي- الحلمية الدالة على ما يقع في النوم سواء كان مرئيا أم لا على ما هو المشهور، والرؤية- مصدر رأي- البصرية الدالة على إدراك مخصوص، وفرق بين مصدر المعنيين بالتأنيثين، ونظير ذلك القربة للتقرب المعنوي بعبادة ونحوها، والقربى للتقرب النسبي وحقيقتها عند أهل السنة كما قال محيي الدين النووي نقلا عن المازني: إن الله سبحانه يخلق في قلب النائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان وهو سبحانه يخلق ما يشاء لا يمنعه نوم ولا يقظة، وقد جعل سبحانه تلك الاعتقادات علما على أمور أخر يخلقها في ثاني الحال، ثم إن ما يكون علما على ما يسر يخلقه بغير حضرة الشيطان. وما يكون علما على ما يضر يخلقه بحضرته، ويسمى الأول رؤيا وتضاف إليه تعالى إضافة تشريف، والثاني حلما وتضاف الى الشيطان كما هو الشائع من إضافة الشيء المكروه إليه، وإن كان الكل منه تعالى، وعلى ذلك جاء قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الرؤيا من الله تعالى والحلم من الشيطان» وفي الصحيح عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا رأى أحدكم الرؤيا يحبها فإنها من الله تعالى فليحمد الله تعالى وليحدث بها وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان فليستعذ بالله تعالى من الشيطان الرحيم ومن شرها ولا يذكرها لأحد فإنها لن تضره» . وصح عن جابر أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثا وليستعذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم وليتحول عن جنبه الذي كان عليه» ولا يبعد جعل الله تعالى ما ذكر سببا للسلامة عن المكروه كما جعل الله الصدقة سببا لدفع البلاء وإن لم نعرف وجه مدخلية البصق عن اليسار والتحول عن الجنب الذي كان عليه مثلا في السببية، وقيل هي أحاديث الملك الموكل بالأرواح إن كانت صادقة ووسوسة الشيطان والنفس إن كانت كاذبة، ونسب هذا الى المحدثين، وقد يجمع بين القولين بأن مقصود القائل بأنها اعتقادات يخلقها الله تعالى في قلب إلخ أنها اعتقادات تخلق كذلك بواسطة حديث الملك أو بواسطة وسوسة الشيطان مثلا والمسببات في المشهور عن الأشاعرة مخلوقة له تعالى عند الأسباب لا بها فتدبر. وقال غير واحد من المتفلسفة هي انطباع الصورة المنحدرة من أفق المتخيلة الى الحس المشترك، والصادقة منها إنما تكون باتصال النفس بالملكوت لما بينهما من التناسب عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ فتتصور بما فيها مما يليق بها من المعاني الحاصلة هناك، ثم إن المتخيلة تحاكيه بصورة تناسبها فترسلها الى الحس المشترك فتصير مشاهدة، ثم إن كانت شديدة المناسبة لذلك المعنى بحيث لا يكون التفاوت إلا بالكلية والجزئية استغنت عن التعبير وإلا احتاجت اليه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 373 وذكر بعض أكابر الصوفية ما يقرب من هذا، وهو: أن الرؤيا من أحكام حضرة المثال المقيد المسمى بالخيال وهو قد يتأثر من العقول السماوية والنفوس الناطقة المدركة للمعاني الكلية والجزئية فيظهر فيه صور مناسبة لتلك المعاني وقد يتأثر من القوى الوهمية المدركة للمعاني الجزئية فقط فيظهر فيه صورة تناسبها، وهذا قد يكون بسبب سوء مزاج الدماغ وقد يكون بسبب توجه النفس بالقوة الوهمية الى إيجاد صورة من الصور كمن يتخيل صورة محبوبه الغائب عنه تخيلا قويا فتظهر صورته في خياله فيشاهده، وهي أول مبادئ الوحي الإلهي في أهل العناية لأن الوحي لا يكون إلا بنزول الملك وأول نزوله في الحضرة الخيالية ثم الحسية، وقد صح عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: «أول ما بدىء به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح» والمرئي على ما قال بعضهم: سواء كان على صورته الأصلية أو لا قد يكون بإرادة المرئي. وقد يكون بإرادة الرائي وقد يكون بإرادتهما معا. وقد يكون لا بإرادة من شيء منهما، فالأول كظهور الملك على نبي من الأنبياء عليهم السلام في صورة من الصور وظهور الكمل من الأناسي على بعض الصالحين في صور غير صورهم، والثاني كظهور روح من الأرواح الملكية أو الإنسانية باستنزال الكامل إياه الى عالمه ليكشف معنى ما مختصا علمه به، والثالث كظهور جبريل عليه السلام للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم باستنزاله إياه وبعث الحق سبحانه إياه إليه صلى الله تعالى عليه وسلم، والرابع كرؤية زيد مثلا صورة عمرو في النوم من غير قصد وإرادة منهما، وكانت رؤيا يوسف عليه السلام من هذا القسم لظهور أنها لو كانت بإرادة الأخوة لعلموا فلم يكن للنهي عن الاقتصاص معنى، ويشير الى انها لم تكن بقصده قوله بعد: قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا [يوسف: 100] . هذا والمنقول عن المتكلمين أنها خيالات باطلة وهو من الغرابة بمكان بعد شهادة الكتاب والسنة بصحتها، ووجه ذلك بعض المحققين بأن مرادهم أن كون ما يتخيله النائم إدراكا بالبصر رؤية، وكون ما يتخيله إدراكا بالسمع سمعا باطل فلا ينافي حقيقة ذلك بمعنى كونه أمارة لبعض الأشياء كذلك الشيء نفسه أو ما يضاهيه ويحاكيه، وقد مر الكلام في ذلك فتيقظ. والمشهور الذي تعاضدت فيه الروايات أن الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة، ووجه ذلك عند جمع أنه صلى الله تعالى عليه وسلم بقي حسبما أشارت عائشة رضي الله تعالى عنها ستة أشهر يرى الوحي مناما ثم جاءه الملك يقظة وستة أشهر بالنسبة الى ثلاث وعشرين سنة جزء من ست وأربعين جزءا. وذكر الحليمي أن الوحي كان يأتيه عليه الصلاة والسلام على ستة وأربعين نوعا: مثل النفث في الروع، وتمثل الملك له بصورة دحية رضي الله تعالى عنه مثلا وسماعه مثل صلصلة الجرس الى غير ذلك، ولذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم ما قال، وذكر الحافظ العسقلاني أن كون الرؤيا الصادقة جزء من كذا من النبوة إنما هو باعتبار صدقها لا غير وإلا لساغ لصاحبها أن يسمى نبيا وليس كذلك، وقد تقدم لك أن في بعض الروايات ما فيه مخالفة لما في هذه الرواية من عدة الأجزاء، ولعل المقصود من كل ذلك على ما قيل: مدح الرؤيا الصادقة والتنويه برفعة شأنها لا خصوصية العدد ولا حقيقة الجزئية. وقال ابن الأثير في جامع الأصول: روى قليل أنها جزء من خمسة وأربعين جزءا وله وجه مناسبة بأن عمره صلى الله تعالى عليه وسلم لم يستكمل ثلاثا وستين بأن يكون توفي عليه الصلاة والسلام بأثناء السنة الثالثة والستين ورواية أنها جزء من أربعين جزءا تكون محمولة على كون عمره عليه الصلاة والسلام ستين وهو رواية لبعضهم، وروي أنها جزء من سبعين جزءا ولا أعلم لذلك وجها اهـ. وأنت تعلم أن سبعين كثيرا ما يستعمل في التكثير فلعله هو الوجه، والغرض الإشارة الى كثرة أجزاء النبوة فتدبر، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 374 والمراد- بإخوته- هاهنا على ما قيل: الإخوة الذين يخشى غوائلهم ومكائدهم من بني علاته الأحد عشر، وهم يهوذا وروبيل وشمعون ولاوي وريالون ويشجر ودينه بنو يعقوب (1) من ليا بنت ليان بن ناهر وهي بنت خالته، ودان ويفتالى وجاد وآشر بنوه عليه السلام من سريتين له زلفة وبلهة (2) وهم المشار إليهم بالكواكب، وأما بنيامين الذي هو شقيق يوسف عليه السلام وأمهما راحيل التي تزوجها يعقوب عليه السلام بعد وفات أختها ليا أو في حياتها (3) إذ لم يكن جمع الأختين إذ ذاك محرما فليس بداخل تحت هذا النهي إذ لا تتوهم مضرته ولا تخشى معرته ولم يكن معهم في الرؤيا إذ لم يكن معهم في السجود. وتعقب بأن المشهور أن بني علاته عليه السلام عشرة وليس فيهم من اسمه دينه، ومن الناس من ذكر ذلك في عداد أولاد يعقوب إلا أنه قال: هي أخت يوسف، وبناء الكلام عليه ظاهر الفساد بل لا تكاد تدخل في الإخوة إلا باعتبار التغليب لأنه جمع أخ فهو مخصوص بالذكور، فلعل المختار أن المراد من الإخوة ما يشمل الأعيان والعلات، ويعد بنيامين بدل دينه إتماما لأحد عشر عدة الكواكب المرئية، والنهي عن الاقتصاص عليه- وإن لم يكن ممن تخشى غوائله- من باب الاحتياط وسد باب الاحتمال، ومما ذاع كل سر جاوز الاثنين شاع، ويلتزم القول بوقوع السجود منه كسائر أهله وإسناد الكيد الى الإخوة باعتبار الغالب فلا إشكال كذا قيل، وهو على علاته أولى مما قيل: إن المراد بإخوته ما لا يدخل تحته بنيامين ودينه لأنهما لا تخشى معرتهما ولا يتوهم مضرتهما فهم حينئذ تسعة وتكمل العدة بأبيه وأمه أو خالته ويكون عطف الشمس والقمر من قبيل عطف جبريل وميكائيل على الملائكة، وفيه من تعظيم أمرهما ما فيه لما أن في ذلك ما فيه، ونصب فَيَكِيدُوا بأن مضمرة في جواب النهي وعدي باللام مع أنه مما يتعدى بنفسه كما في قوله تعالى: فيكيدوني لتضمينه ما يتعدى بها وهو الاحتيال كما أشرنا اليه، وذلك لتأكيد المعنى بإفادة معنى الفعلين المتضمن والمضمن جميعا ولكون القصد الى التأكيد والمقام مقامه أكد الفعل بالمصدر وقرر بالتعليل بعد، وجعل اللام زائدة كجعله مما يتعدى بنفسه وبالحرف خلاف الظاهر، وقيل: إن الجار والمجرور من متعلقات التأكيد على معنى فيكيدوا كيدا لك وليس بشيء وجعل بعضهم اللام للتعليل على معنى فيفعلوا لأجلك وإهلاكك كيدا راسخا أو خفيا وزعم أن هذا الأسلوب آكد من أن يقال فيكيدوك كيدا إذ ليس فيه دلالة على كون نفس الفعل مقصود الإيقاع وفيه نوع مخالفة للظاهر أيضا فافهم. وقرأ الجمهور رُؤْياكَ بالهمز من غير إمالة، والكسائي «رؤياك» بالإمالة وبغير همز وهي لغة أهل الحجاز إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ أي لهذا النوع عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة فلا يألو جهدا في تسويل إخوتك وإثارة الحسد فيهم حتى يحملهم على ما لا خير فيه وإن كانوا ناشئين في بيت النبوة، والظاهر أن القوم كانوا بحيث يمكن أن يكون للشيطان عليهم سبيل، ويؤيد هذا أنهم لم يكونوا أنبياء، والمسألة خلافية فالذي عليه الأكثرون سلفا وخلفا أنهم لم يكونوا أنبياء أصلا، أما السلف فلم ينقل عن الصحابة منهم أنه قال بنبوتهم ولا يحفظ عن أحد من التابعين أيضا، وأما أتباع التابعين فنقل عن ابن زيد أنه قال بنبوتهم وتابعه شرذمة قليلة، وأما الخلف فالمفسرون فرق: فمنهم من قال بقول ابن زيد كالبغوي، ومنهم من بالغ في رده كالقرطبي وابن كثير، ومنهم من حكى القولين بلا ترجيح كابن الجوزي،   (1) سألت بعض اليهود عن ضبطها فقال: لياء بهمزة بعد الياء والله تعالى أعلم اهـ منه. (2) وادعى بعضهم أن السريتين كانتا أختين أيضا، وقد جمع بينهما ولم يحل ذلك لأحد بعده اهـ منه. (3) وإلى هذا ذهب اليهود اهـ منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 375 ومنهم من لم يتعرض للمسألة لكن ذكر ما يشعر بعدم كونهم أنبياء كتفسيره الأسباط بمن نبىء من بني إسرائيل والمنزل إليهم بالمنزل إلى أنبيائهم كأبي الليث السمرقندي والواحدي، ومنهم من لم يذكر شيئا من ذلك ولكن فسر الأسباط بأولاد يعقوب فحسبه ناس قولا بنبوتهم وليس نصا فيه لاحتمال أن يريد بالأولاد ذريته لابنيه لصلبه، وذكر الشيخ ابن تيمية في مؤلف له خاص في هذه المسألة ما ملخصه: الذي يدل عليه القرآن واللغة والاعتبار أن إخوة يوسف عليه السلام ليسوا بأنبياء وليس في القرآن ولا عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بل ولا عن أحد من أصحابه رضي الله تعالى عنهم خبر بأن الله تعالى نبأهم وإنما احتج من قال: بأنهم نبئوا بقوله تعالى في آيتي [البقرة: 136، 140] [والنساء: 163] والْأَسْباطِ وفسر ذلك بأولاد يعقوب والصواب أنه ليس المراد بهم أولاده لصلبه بل ذريته كما يقال لهم: بنو إسرائيل، وكما يقال لسائر الناس: بنو آدم، وقوله تعالى: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف: 159] وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً [الأعراف: 160] صريح في أن الأسباط هم الأمم من بني إسرائيل وكل سبط أمة، وقد صرحوا بأن الأسباط من بني إسرائيل كالقبائل من بني إسماعيل، وأصل السبط كما قال أبو سعيد الضرير: شجرة واحدة ملتفة كثيرة الأغصان فلا معنى لتسمية الأبناء الاثني عشر أسباطا قبل أن ينتشر عنهم الأولاد، فتخصيص الأسباط في الآية ببنيه عليه السلام لصلبه غلط لا يدل عليه اللفظ ولا المعنى ومن ادعاه فقد أخطأ خطأ بينا والصواب أيضا أنهم إنما سموا أسباطا من عهد موسى عليه السلام، ومن حينئذ كانت فيهم النبوة فإنه لم يعرف فيهم نبي قبله إلا يوسف، ومما يؤيد ذلك أنه سبحانه لما ذكر الأنبياء من ذرية إبراهيم قال: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ [الأنعام: 84] الآيات فذكر يوسف ومن معه ولم يذكر الأسباط ولو كان إخوة يوسف قد نبئوا كما نبىء لذكروا كما ذكر، وأيضا إن الله تعالى ذكر للأنبياء عليهم السلام من المحامد والثناء ما يناسب النبوة وإن كان قبلها وجاء في الحديث «أكرم الناس يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم نبي ابن نبي» فلو كانت إخوته أنبياء كانوا قد شاركوه في هذا الكرم، وهو سبحانه لما قص قصتهم وما فعلوا بأخيهم ذكر اعترافهم بالخطيئة وطلبهم الاستغفار من أبيهم ولم يذكر من فضلهم ما يناسب النبوة وإن كان قبلها، بل ولا ذكر عنهم توبة باهرة كما ذكر عمن ذنبه دون ذنبهم، ولم يذكر سبحانه عن أحد من الأنبياء قبل النبوة ولا بعدها أنه فعل مثل هذه الأمور العظيمة من عقوق الوالد وقطيعة الرحم وإرقاق المسلم وبيعه الى بلاد الكفر. والكذب البين الى غير ذلك مما حكاه عنهم، بل لو لم يكن دليل على عدم نبوتهم سوى صدور هذه العظائم منهم لكفى لأن الأنبياء معصومون عن صدور مثل ذلك قبل النبوة وبعدها عند الأكثرين، وهي أيضا أمور لا يطيقها من هو دون البلوغ فلا يصح الاعتذار بأنها صدرت منهم قبله وهو لا يمنع الاستنباء بعد، وأيضا ذكر أهل السير أن إخوة يوسف كلهم ماتوا بمصر وهو أيضا مات بها لكن أوصى بنقله الى الشام فنقله موسى عليه السلام ولم يذكر في القرآن أن أهل مصر قد جاءهم نبي قيل موسى غير يوسف ولو كان منهم نبي لذكر، وهذا دون ما قبله في الدلالة كما لا يخفى. والحاصل أن الغلط في دعوى نبوتهم (1) إنما جاء من ظن أنهم هم الأسباط وليس كذلك إنما الأسباط أمة عظيمة، ولو كان المراد بالأسباط أبناء يعقوب لقال سبحانه ويعقوب وبنيه فإنه أبين وأوجز لكنه عبر سبحانه بذلك إشارة الى أن النبوة حصلت فيهم من حين تقطيعهم أسباطا من عهد موسى عليه السلام فليحفظ. هذا ولما نبهه عليه السلام على أن لرؤياه شأنا عظيما وحذره مما حذره شرع في تعبيرها وتأويلها على وجه   (1) سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى أن منهم من استدل على نبوتهم بغير ذلك، وأن فيه ما فيه اهـ منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 376 إجمالي فقال: وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ أي يصطفيك ويختارك للنبوة كما روي عن الحسن، أو للسجود لك كما روي عن مقاتل، أو لأمور عظام كما قال الزمخشري، فيشمل ما تقدم وكذا يشمل إغناء أهله ودفع القحط عنهم ببركته وغير ذلك، ولعل خير الأقوال وسطها وأصل الاجتباء من جبيت الشيء إذا حصلته لنفسك وفسروه بالاختيار لأنه إنما يجتبي ما يختار. وذكر بعضهم أن اجتباء الله تعالى العبد تخصيصه إياه بفيض إلهي يتحصل منه أنواع من المكرمات بلا سعي من العبد وذلك مختص بالأنبياء عليهم السلام ومن يقاربهم من الصديقين والشهداء والصالحين، والمشار إليه بذلك إما الاجتباء لمثل تلك الرؤيا فالمشبه والمشبه به متغايران، وإما لمصدر الفعل المذكور وهو المشبه والمشبه به، وَكَذلِكَ في محل نصب صفة لمصدر مقدر وقدم تحقيق ذلك، وقيل هنا: إن الجار والمجرور خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك وليس الأمر كذلك، ولا يخفى ما في ذكر الرب مضافا إلى ضمير المخاطب من اللطف، وإنما لم يصرح عليه السلام بتفاصيل ما تدل عليه الرؤيا حذرا من إذاعته على ما قيل وَيُعَلِّمُكَ ذهب جمع إلى أنه كلام مبتدأ غير داخل تحت التشبيه أراد به عليه السلام تأكيد مقالته وتحقيقها وتوطين نفس يوسف عليه السلام بما أخبر به على طريق التعبير والتأويل أي وهو يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أي ذلك الجنس من العلوم، أو طرفا صالحا فتطلع على حقيقة ما أقول ولا يخفى ما فيه من تأكيد ما سبق والبعث على تلقي ما سيأتي بالقبول، وعلل عدم دخوله تحت التشبيه بأن الظاهر أن يشبه الاجتباء بالاجتباء والتعليم غير الاجتباء فلا يشبه به، ونظر فيه بأن التعليم نوع من الاجتباء والنوع يشبه بالنوع، وقيل: العلة في ذلك أنه يصير المعنى ويعلمك تعليما مثل الاجتباء بمثل هذه الرؤيا ولا يخفى سماجته فإن الاجتباء وجه الشبه بين المشبه والمشبه به ولم يلاحظ في التعليم ذلك. وقال بعض المحققين: لا مانع من جعله داخلا تحت التشبيه على أن المعنى بذلك الإكرام بتلك الرؤيا أي كما أكرمك بهذه المبشرات يكرمك بالاجتباء والتعليم ولا يحتاج في ذلك إلى جعله تشبيهين وتقدير كذلك، وأنت تعلم أن المنساق إلى الفهم هو العطف ولا بأس فيما قرّره هذا المحقق لتوجيهه، نعم للاستئناف وجه وجيه وإن لم يكن المنساق إلى الفهم والظاهر أن المراد من تأويل الأحاديث تعبير الرؤيا إذ هي إخبارات غيبية يخلق الله تعالى بواسطتها اعتقادات في قلب النائم حسبما يشاؤه ولا حجر عليه تعالى، أو أحاديث الملك إن كانت صادقة أو النفس أو الشيطان إن لم تكن كذلك، وذكر الراغب أن التأويل من الأول وهو الرجوع، وذلك ردّ الشيء إلى الغاية المرادة منه علما كان أو فعلا، فالأول كقوله سبحانه: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران: 7] والثاني كقوله وللنوى قبل يوم البين تأويل وجاء الأول بمعنى السياسة التي يراعى مآلها يقال: ألنا وائل علينا اهـ. وشاع التأويل في إخراج الشيء عن ظاهره، والْأَحادِيثِ جمع تكسير لحديث على غير قياس كما قالوا: باطل وأباطيل، وليس باسم جمع له لأن النحاة قد شرطوا في اسم الجمع أن لا يكون على وزن يختص بالجمع كمفاعيل، وممن صرح بأنه جمع الزمخشري في المفصل، وهو مراده من اسم الجمع في الكشاف فإنه كغيره كثيرا ما يطلق اسم الجمع على الجمع المخالف للقياس فلا مخالفة بين كلاميه، وقيل: هو جمع أحدوثة، وردّ بأن الأحدوثة الحديث المضحك كالخرافة فلا يناسب هنا، ولا في أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام أن يكون جمع أحدوثة، وقال ابن هشام: الأحدوثة من الحديث ما يتحدث به ولا تستعمل إلّا في الشر، ولعل الأمر ليس كما ذكروا، وقد نص المبرد على أنها ترد في الخير، وأنشد قول جميل وهو مما سار وغار: وكنت إذا ما جئت سعدى أزورها ... أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 377 من الخفرات البيض ود جليسها ... إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها وقيل: إنهم جمعوا حديثا على أحدوثة ثم جمعوا الجمع على أحاديث كقطيع أو أقطعة وأقاطيع، وكون المراد من تأويل الأحاديث تعبير الرؤيا هو المروي عن مجاهد والسدي وعن الحسن أن المراد عواقب الأمور، وعن الزجاج أن المراد بيان معاني أحاديث الأنبياء والأمم السالفة والكتب المنزلة. وقيل: المراد بالأحاديث الأمور المحدثة من الروحانيات والجسمانيات، وبتأويلها كيفية الاستدلال بها على قدرة الله تعالى وحكمته وجلالته والكل خلاف الظاهر فيما أرى وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بأن يصل نعمة الدنيا بنعمة الآخرة، أو بأن يضم إلى النبوة المستفادة من الاجتباء الملك ويجعله تتمة لها، أو بأن يضم إلى التعليم الخلاص من المحن والشدائد وتوسيط ذكر التعليم لكونه من لوازم النبوة والاجتباء ولرعاية ترتيب الوجود الخارجي ولأن التعليم وسيلة إلى إتمام النعمة فإن تعبيره لرؤيا صاحبي السجن ورؤيا الملك صار ذريعة إلى الخلاص من السجن والاتصال بالرئاسة العظمى. وفسر بعضهم الاجتباء بإعطاء الدرجات العالية كالملك والجلالة في قلوب الخلق وإتمام النعمة بالنبوة، وأيد بأن إتمام عبارة عما تصير به النعمة كاملة خالية عن جهات النقصان وما ذاك في حق البشر إلّا النبوة فإن جميع مناصب الخلق ناقصة بالنسبة إليها. وجوز أن تعد نفس الرؤيا من نعم الله تعالى عليه فيكون جميع النعم الواصلة إليه بحسبها مصداقا لها تماما لتلك النعمة ولا يخلو عن بعد، وقيل: المراد من الاجتباء إفاضة ما يستعد به لكل خير ومكرمة، ومن تعليم تأويل الأحاديث تعليم تعبير الرؤيا، ومن إتمام النعمة عليه تخليصه من المحن على أتم وجه بحيث يكون مع خلاصة منها ممن يخضع له، ويكون في تعليم التأويل إشارة إلى استنبائه لأن ذلك لا يكون إلّا بالوحي وفيه أن تفسير الاجتباء بما ذكر غير ظاهر، وكون التعليم فيه إشارة إلى الاستنباء في حيز المنع وما ذكر من الدليل لا يثبته، فإن الظاهر أن إخوته كانوا يعلمون التأويل وإلّا لم ينهه أبوه عليه السلام عن اقتصاص رؤياه عليهم خوف الكيد، وكونهم أنبياء إذ ذاك مما لم يذهب إليه ذاهب ولا يكاد يذهب إليه أصلا، نعم ذكروا أنه لا يعرف التعبير كما ينبغي إلّا من عرف المناسبات التي بين الصور ومعانيها وعرف مراتب النفوس التي تظهر في حضرة خيالاتهم بحسبها فإن أحكام الصورة والواحدة تختلف بالنسبة إلى الأشخاص المختلفة المراتب وهذا عزيز الوجود، وقد ثبت الخطأ في التعبير من علماء أكابر، فقد روى أبو هريرة أن رجلا أتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: «إني رأيت ظلة ينطف منها السمن والعسل وأرى الناس يتكففون في أيديهم فالمستكثر والمستقل وأرى سببا واصلا من السماء إلى الأرض فأراك يا رسول الله أخذت به فعلوت ثم أخذ به رجل آخر فعلا ثم أخذ به رجل آخر فعلا ثم أخذ به رجل آخر فعلا ثم أخذ به رجل آخر فانقطع به ثم وصل له فعلا فقال أبو بكر رضي الله تعالى: أي رسول الله بأبي أنت وأمي والله لتدعني فلأعبرها فقال عليه الصلاة والسلام: عبرها، فقال عليه الصلاة والسلام عبرها، فقال: أما الظلة فظلة الإسلام، وأما ما ينطف من السمن والعسل فهو القرآن لينه وحلاوته، وأما المستكثر والمستقل فالمستكثر من القرآن والمستقل منه: وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فهو الحق الذي أنت عليه تأخذ به فيعليك الله تعالى ثم يأخذ به رجل بعدك فيعلو به ثم آخر بعده فيعلو به ثم آخر بعده فيعلو به ثم آخر فينقطع به ثم يوصل له فيعلو به أي رسول الله لتحدثني أصبت أم أخطأت؟ فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: أصبت بعضا وأخطأت بعضا، فقال: أقسمت بأبي أنت وأمي لتحدثني يا رسول الله ما الذي أخطأت؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «لا تقسم» اهـ اللهم إلّا أن يدعي أن المراد التعليم على الوجه الأكمل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 378 بحيث لا يخطىء من يخطىء به، وهو يستدعي كون الرجل بحيث يعرف المناسبات ومراتب النفوس ويلتزم القول بأن ذلك لا يكون إلّا نبيا، واختير أن المراد بالاجتباء الاصطفاء للنبوة، وبتعليم التأويل ما هو الظاهر. وبإتمام النعمة تخليصه من المكاره، ويكون قوله عليه السلام: يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ إشارة إجمالية منه إلى تعبير الرؤيا كما لا يخفى على من له ذوق وهو أيضا متضمن للبشارة، وهذا إرداف لها بما هو أجل في نظر يوسف عليه السلام ووجه توسيط التعليم عليه لا يخفى. وحاصل المعنى كما أكرمك بهذه المبشرة الدالة على سجود إخوتك لك ورفعة شأنك عليهم يكرمك بالنبوة والعلم الذي تعرف به تأويل أمثال ما رأيت وإتمام نعمته عليك وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ بالخلاص من المكاره وهي في حق يوسف عليه السلام مما لا يخفى (1) وفي حق آل يعقوب، والمراد بهم أهله من بنيه وغيرهم وأصله أهل، وقيل: أول، وقد حققناه في غير ما كتاب ولا يستعمل إلّا فيمن له خطر مطلقا ولا يضاف لما لا يعقل ولو كان ذا خطر بخلاف أهل فلا يقال: آل الحجام ولا آل الحرم، ولكن أهل الحجام وأهل الحرم، نعم قد يضاف لما نزل منزلة العاقل كما في قول عبد المطلب وانصر على آل الصليب (2) وعابديه اليوم آلك وفيه رد على أبي جعفر الزبيدي حيث زعم عدم جواز إضافته إلى الضمير لعدم سماعه مضافا إليه، ويعقوب كابنه اسم أعجمي لا اشتقاق له فما قيل: من أنه إنما سمي بذلك لأنه خرج من بطن أمه عقب أخيه العيص غير مرضي عند الجلة الفاقة والقحط وتفرق الشمل، وغير ذلك مما يعم أو يخص، ومنهم من فسر الآل بالبنين وإتمام النعمة بالاستنباء، وجعل حاصل المعنى يمنّ عليك وعلى سائر أبناء يعقوب بالنبوة، واستدل بذلك على أنهم صاروا بعد أنبياء. وفي إرشاد العقل السليم أن رؤية يوسف عليه السلام إخوته كواكب يهتدى بأنوارها من نعم الله تعالى عليهم لدلالتها على مصير أمرهم إلى النبوة فيقع كل ما يخرج من القوة إلى الفعل من كمالاتهم بحسب ذلك تماما لتلك النعمة لا محالة، وأنت تعلم أن ما ذكر لا يصلح دليلا على أنهم صاروا أنبياء لما علمت من الاحتمالات، والدليل إذا طرقه الاحتمال بطل به الاستدلال ورؤيتهم كواكب يهتدى بأنوارها بمعزل عن أن تكون دليلا على أن مصيرهم إلى النبوة، وإنما تكون دليلا على أن مصيرهم إلى كونهم هادين للناس وهو مما لا يلزمه النبوة فقد قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» ونحن لا ننكر أن القوم صاروا هادين بعد أن منّ الله تعالى عليهم بالتوبة بل هم لعمري حينئذ من أجلة أصحاب نبيهم، وقد يقال أيضا: إنه لو دلّ رؤيتهم كواكب على أن مصيرهم إلى النبوة لكانت رؤية أمه قمرا أدل على ذلك ولا قائل به. وقال بعضهم: لا مانع من أن يراد- بآل يعقوب- سائر بنيه، وبإتمام النعمة- إتمامها بالنبوة لكن لا يثبت بذلك نبوتهم بعد لجواز أن يراد يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بالنبوة وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ بشيء آخر كالخلاص من المكروه مثلا، وهذا كقولك: أنعمت على زيد وعلى عمرو وهو لا يقتضي أن يكون الإنعام عليهما من نوع واحد لصدق الكلام بأن يكون قد أنعمت على زيد بمنصب وعلى عمرو بإعطائه ألف دينار، أو بتخليصه من ظالم مثلا وهو ظاهر.   (1) قوله: في حق آل يعقوب إلخ هو خبر مقدم، وقوله، الآتي الفاقة والقحط إلخ، مبتدأ مؤخر اهـ منه. (2) بناء على أن الصليب اسم لما يعلقه النصارى في أعناقهم ويعبدونه فليفهم اهـ منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 379 ورجح بعضهم حمل الآل على ما يعم الأبناء بأنه لو كان المراد الأبناء لكان الأظهر الأخصر وعلى إخوتك بدل ما في النظم الجليل، وقيل إنما اختار ذلك عليه لأنه يتبادر من الإخوة الذي نهى عن الاقتصاص عليهم فلا يدخل بنيامين، والمراد إدخاله، وقيل: المراد- بآل يعقوب- أتباعه الذين على دينه. وقيل: يعقوب خاصة على أن الآل بمعنى الشخص ولا يخفى ما في القولين من البعد، وأبعدهما الأخير ومن جعل إتمام النعمة إشارة إلى الملك جعل العطف باعتبار أنهم يغتنمون آثاره من العز والجاه والمال هذا. كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ أي إتماما كائنا كإتمام نعمته على أبويك من قبل هذا الوقت أو من قبلك، والاسمان الكريمان عطف بيان- لأبويك- والتعبير عنهما بالأب مع كونهما أبا جده وأبا أبيه للإشعار بكمال ارتباطه بالأنبياء عليهم السلام وتذكير معنى الولد سر أبيه ليطمئن قلبه بما أخبر به، وإتمام النعمة على إبراهيم إما بالنبوة، وإما باتخاذه خليلا وإما بإنجائه من نار عدوه وإما من ذبح ولده وإما بأكثر من واحد من هذه وعلى إسحاق إما بالنبوة أو بإخراج يعقوب من صلبه أو بإنجائه من الذبح وفدائه بذبح عظيم على رواية أنه الذبيح، وذهب إليه غير واحد، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه، وأمر التشبيه على سائر الاحتمالات سهل إذ لا يجب أن يكون من كل وجه والاقتصار في المشبه به على ذكر إتمام النعمة من غير الجزء: 6 ¦ الصفحة: 380 تعرض للاجتباء من باب الاكتفاء كما قيل فإن إتمام النعمة يقتضي سابقة النعمة المستدعية للاجتباء لا محالة ومعرفته عليه السلام لما أخبر به مما لم تدل عليه الرؤيا إما بفراسة، وكثيرا ما تصدق فراسة الوالد بولده كيفما كان الوالد، فما ظنك بفراسته إذا كان نبيا أو بوحي؟ وقد يدعي أنه استدل بالرؤيا على كل ذلك إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ بكل شيء فيعلم من يستحق المذكورات حَكِيمٌ فاعل لكل شيء حسبما تقتضيه الحكمة فيفعل ما يفعل جريا على سنن علمه وحكمته، والجملة استئناف لتحقيق الجمل المذكورة. لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ [يوسف: 22] أي في قصصهم، والظاهر أن المراد بالإخوة هنا ما أريد بالإخوة فيما مرّ، وذهب جمع إلى أنهم هناك بنو علاته، وجوز أن يراد بهم هاهنا ما يشمل من كان من الأعيان لأن لبنيامين أيضا حصة من القصة، ويبعده على ما قيل: قالُوا الآتي آياتٌ علامات عظيمة الشأن دالة على عظيم قدرة الله تعالى القاهرة وحكمته الباهرة لِلسَّائِلِينَ لكل من سأل عن قصتهم وعرفها، أو للطالبين للآيات المعتبرين بها فإنهم الواقفون عليها المنتفعون بها دون من عداهم ممن اندرج تحت قوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ [يوسف: 105] فالمراد بالقصة نفس المقصوص، أو على نبوته عليه الصلاة والسلام الذين سألوه عن قصتهم حسبما علمت في بيان سبب النزول فأخبرهم صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك على ما هو عليه من غير سماع من أحد ولا قراءة كتاب، فالمراد بالقصة اقتصاصها، وجمع- الآيات- حينئذ قيل: للإشعار بأن اقتصاص كل طائفة من القصة آية بينة كافية في الدلالة على نبوته صلى الله تعالى عليه وسلّم، وقيل: لتعدد جهة الإعجاز لفظا ومعنى، وزعم بعض الجلة أن الآية من باب الاكتفاء، والمراد آياتٌ للذين يسألون والذين لا يسألون، ونظير ذلك قوله سبحانه: سَواءً لِلسَّائِلِينَ [فصلت: 10] وحسن ذلك لقوة دلالة الكلام على المحذوف، وقال ابن عطية: إن المراد من السائلين الناس إلّا أنه عدل عنه تحضيضا على تعلم مثل هذه القصة لما فيها من مزيد العبر، وكلا القولين لا يخلو عن بعد. وقرأ أهل مكة وابن كثير ومجاهد- آية- على الإفراد، وفي مصحف أبي- عبرة للسائلين- إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ بنيامين وتخصيصه بالإضافة لاختصاصه بالأخوة من جانبي الأم والأب وهي أقوى من الأخوة من أحدهما، ولم يذكروه باسمه إشعارا بأن محبة يعقوب عليه السلام له لأجل شقيقه يوسف عليه السلام، ولذا لم يتعرضوه بشيء مما أوقع بيوسف عليه السلام واللام للابتداء، ويوسف- مبتدأ وَأَخُوهُ عطف عليه، وقوله سبحانه: أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا خبر ومتعلق به وهو أفعل تفضيل من المبني للمفعول شذوذا ولذا عدي بإلى حسبما ذكروا من أن أفعل من الحب والبغض يعدى إلى الفاعل معنى بإلى وإلى المفعول باللام، وفي تقول: زيد أحب إلي من بكر إذا كنت تكثر محبته ولي وفيّ إذا كان يحبك أكثر من غيره، ولم يثن مع أن المخبر عنه به اثنان لأن أفعل من كذا لا يفرق فيه بين الواحد وما فوقه ولا بين المذكر وما يقابله بخلاف أخويه فإن الفرق واجب في المحلى جائز في المضاف إذا أريد تفضيله على المضاف إليه وإذا أريد تفضيله مطلقا فالفرق لازم، وجيء بلام الابتداء لتحقيق مضمون الجملة وتأكيده أي كثرة حبه لهما أمر ثابت لا شبهة فيه وَنَحْنُ عُصْبَةٌ أي والحال إنا جماعة قادرون على خدمته والجد في منفعته دونهما، والعصبة والعصابة على ما نقل عن الفراء: العشرة فما زاد سموا بذلك لأن الأمور تعصب بهم أي تشد فتقوى. وعن ابن عباس أن العصبة ما زاد على العشرة وفي رواية عنه أنها ما بين العشرة والأربعين، وعن مجاهد أنها من عشرة الى خمسة عشرة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 381 وعن مقاتل هي عشرة، وعن ابن جبير ستة أو سبعة، وقيل: ما بين الواحد إلى العشرة، وقيل: إلى خمسة عشر، وعن ابن زيد والزجاج وابن قتيبة هي الجماعة مطلقا ولا واحد لها من لفظها كالنفر والرهط، وقيل: الثلاثة نفر وإذا زادوا فهم رهط إلى التسعة فإذا زادوا فهم عصبة، ولا يقال لأقل من عشرة: عصبة، وروى النزال بن سبرة عن علي كرم الله تعالى وجه أنه قرأ بنصب «عصبة» فيكون الخبر محذوفا، وعصبة حال من الضمير فيه أي نجتمع عصبة، وقدر ذلك ليكون في الحال دلالة على الخبر المحذوف لما فيها من معنى الاجتماع. وزعم ابن المنير أن الكلام على طريقة: أنا أبو النجم وشعري شعري، والتقدير ونحن نحن عصبة، وحذف الخبر لمساواته المبتدأ وعدم زيادته عليه لفظا ففي حذفه خلاص من تكرار اللفظ بعينه مع دلالة السياق على المحذوف، ولا غرو في وقوع الحال بعد نحن لأنه بالتقدير المذكور كلام تام فيه من الفخامة ما فيه وقدر في هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ [هود: 78] على قراءة النصب مثل ذلك، وفيه أن الفخامة إنما تجيء من التكرار فلا يجوز الحذف على أن الدلالة على المحذوف غير بينة. وعن ابن الأنباري أن ذلك كما تقول العرب: إنما العامري عمته أي يتعهد ذلك، والدال على المحذوف فيه عمته فإن الفعلة للحالة التي يستمر عليها الشخص فيلزم لا محالة تعهده لها، والأولى أن يعتبر نظير قول الفرزدق: يا لهذم حكمك مسمطا فإنه أراد كما قال المبرد ... حكمك لك مسمطا أي مثبت نافذ غير مردود، وقد شاع هذا فيما بينهم لكن ذكروا أن فيه شذوذا من وجهين، والآية على قراءة الأمير كرم الله تعالى وجهه أكثر شذوذا منه لا يخفى على المتدرب في علم العربية إِنَّ أَبانا أي في ترجيحهما علينا في المحبة مع فضلنا عليهما وكونهما بمعزل عن كفاية الأمور لَفِي ضَلالٍ أي خطأ في الرأي وذهاب عن طريق التعديل اللائق من تنزيل كل منا منزلته مُبِينٍ ظاهر الحال، وجعل الضلال ظرفا لتمكنه فيه، ووصفه بالمبين إشارة إلى أن ذلك غير مناسب له بزعمهم والتأكيد المزيد الاعتناء، يروى أنه عليه السلام كان أحب إليه لما يرى فيه من أن المخايل وكانت إخوته يحسدونه فلما رأى الرؤيا تضاعفت له المحبة فكان لا يصبر عنه ويضمه كل ساعة إلى صدره ولعله أحس قلبه بالفراق فتضاعف لذلك حسدهم حتى حملهم على ما قص الله تعالى عنهم، وقال بعضهم: إن سبب زيادة حبه عليه السلام ليوسف وأخيه صغرهما وموت أمهما، وحب الصغير أمر مركوز في فطرة البشر فقد قيل لابنة الحسن: أي بنيك أحب إليك؟ قالت: الصغير حتى يكبر والغائب حتى يقدم والمريض حتى يشفى، وقد نظم بعض الشعراء في محبة الولد الصغير قديما وحديثا، ومن ذلك ما قاله الوزير أبو مروان عبد الملك بن إدريس الجزيري من قصيدة بعث بها إلى أولاده وهو في السجن: وصغيرهم عبد العزيز فإنني ... أطوي لفرقته جوى لم يصغر ذاك المقدم في الفؤاد وإن غدا ... كفأ لكم في المنتمى والعنصر إن البنان الخمس أكفاء معا ... والحلي دون جميعها للخنصر وإذا الفتى فقد الشباب سماله ... حب البنين ولا كحب الأصغر وفيه أن منشأ زيادة الحب لو كانت ما ذكر لكان بنيامين أوفر حظا في ذلك لأنه أصغر من يوسف عليه السلام كما يدل عليه قولهم: إن أمهما ماتت في نفاسه، والآية كما أشرنا إليه مشيرة إلى أن محبته لأجل شقيقه يوسف فالذي ينبغي أن يعول عليه أنه عليه السلام إنما أحبه أكثر منهم لما رأى فيه من مخايل الخير ما لم ير فيهم وزاد ذلك الحب بعد الرؤيا لتأكيدها تلك الإمارات عنده ولا لوم على الوالد في تفضيله بعض ولده على بعض في المحبة لمثل ذلك، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 382 وقد صرح غير واحد أن المحبة ليست مما تدخل تحت وسع البشر والمرء معذور فيما لم يدخل تحته، نعم ظن أبناؤه أن ما كان منه عليه السلام إنما كان عن اجتهاد وأنه قد أخطأ في ذلك والمجتهد يخطىء ويصيب وإن كان نبيا، وبهذا ينحل ما قيل: إنهم إن كانوا قد آمنوا بكون أبيهم رسولا حقا من عند الله تعالى فكيف اعترضوا وكيف زيفوا طريقته وطعنوا فيما هو عليه، وإن كانوا مكذبين بذلك فهو يوجب كفرهم والعياذ بالله تعالى وهو مما لم يقل به أحد ووجه الانحلال ظاهر اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً الظاهر أن هذا من جملة ما حكي بعد قوله سبحانه: إِذْ قالُوا وقد قاله بعض منهم مخاطبا للباقين وكانوا راضين بذلك إلّا من قال: لا تَقْتُلُوا إلخ، ويحتمل أنه قاله كل منهم مخاطبا للبقية، والاستثناء هو الاستثناء، وزعم بعضهم أن القائل رجل غيرهم شاوروه في ذلك وهو خلاف الظاهر ولا ثبت له، والظاهر أن القائل خيرهم بين الأمرين القتل والطرح. وجوز أن يكون المراد قال بعض: اقْتُلُوا يُوسُفَ وبعض اطْرَحُوهُ والطرح رمي الشيء وإلقاؤه، ويقال: طرحت الشيء أبعدته، ومنه قول عروة بن الورد: ومن يك مثلي ذا عيال ومقترا ... من المال يطرح نفسه كل مطرح ونصب أَرْضاً على إسقاط حرف الجر كما ذهب إليه الحوفي ابن عطية أي ألقوه في أرض بعيدة عن الأرض التي هو فيها، وقيل: نصب على أنه مفعول ثان- لاطرحوه- لتضمينه معنى أنزلوه فهو كقوله تعالى: أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً [المؤمنون: 29] ، وقيل: منصوب على الظرفية، ورده ابن عطية وغيره بأن ما ينتصب على الظرفية المكانية لا يكون إلّا مبهما وحيث كان المراد أرضا بعيدة عن أرضه لم يكن هناك إبهام، ودفع بما لا يخلو عن نظر، وحاصل المعنى اقتلوه أو غربوه فإن التغريب كالقتل في حصول المقصود مع السلام من إثمه، ولعمري لقد ذكروا أمرين مرين فإن الغربة كربة أية كربة ولله تعالى در من قال: حسنوا القول وقالوا غربة ... إنما الغربة للأحرار ذبح يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ بالجزم جواب الأمر، والوجه الجارحة المعروفة، وفي الكلام كناية تلويحية عن خلوص المحبة، ومن هنا قيل: أي يقبل عليكم إقبالة واحدة لا يلفت عنكم إلى غيركم، والمراد سلامة محبته لهم ممن يشاركهم فيها وينازعهم إياها، وقد فسر الوجه بالذات والكناية بحالها خلا أن الانتقال إلى المقصود بمرتبتين: على الأول وبمرتبة على هذا، وقيل: الوجه بمعنى الذات، وفي الكلام كناية عن التوجه والتقيد بنظم أحوالهم وتدبير أمورهم لأن خلوه لهم يدل على فراغه عن شغل يوسف عليه السلام فيشتغل بهم وينظم أمورهم، ولعل الوجه الأوجه هو الأول وَتَكُونُوا بالجزم عطفا على جواب الأمر، وبالنصب بعد الواو بإضمار أن (1) أي يجتمع لكم خلو وجهه والكون مِنْ بَعْدِهِ أي بعد يوسف على معنى بعد الفراغ من أمره، أو من بعد قتله أو طرحه، فالضمير إما ليوسف أو لأحد المصدرين المفهومين من الفعلين. قَوْماً صالِحِينَ بالتوبة والتنصل إلى الله تعالى عما جئتم به من الذنب- كما روي عن الكلبي- وإليه ذهب الجمهور، فالمراد بالصلاح الصلاح الديني بينهم وبين الله تعالى، ويحتمل أن المراد ذلك لكن بينهم وبين أبيهم بالعذر   (1) لا يخفى على المتأمل في هذا التفسير حل ما استشكله بعض الناس على تقدير العطف على جواب الأمر من عدم استقامة أن تقتلوا أو تطرحوا تكونوا من بعده صالحين من حيث المعنى، وعندي أن ما أشير إليه من الجواب كالجواب عن نظير هذا الاستشكال في قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الفتح: 1] لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 2] الآية فتأمل ترشد اهـ منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 383 وهو وإن كان مخالفا للدين لكونه كذبا لكنه موافق له من جهة أنهم يرجون عفو أبيهم وصفحه به ليخلصوا من العقوق على ما قيل، ويحتمل أن يراد الصلاح الدنيوي أي صالحين في أمر دنياكم فإنه ينتظم لكم بعده بخلو وجه أبيكم، وإيثار الخطاب في لَكُمْ وما بعده للمبالغة في حملهم على القبول فإن اعتناء المرء بشأن نفسه واهتمامه بتحصيل منافعه أتم وأكمل قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ هو يهوذا وكان رأيه فيه أهون شرا من رأي غيره وهو القائل: فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ [يوسف: 80] إلخ قاله السدي. وقال قتادة وابن إسحاق: هو روبيل، وعن مجاهد أنه شمعون، وقيل: دان، وقال بعضهم: إن أحد هذين هو القائل: اقْتُلُوا يُوسُفَ إلخ، وأما القائل، لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ فغيره، ولعل الأصح أنه يهوذا. قيل: وإنما لم يذكر أحد منهم باسمه سترا على المسيء وكل منهم لم يخل عن الإساءة وإن تفاوتت مراتبها، والقول بأنه على هذا لا ينبغي لأحد أن يعين أحدا منهم باسمه تأسيا بالكتاب ليس بشيء لأن ذلك مقام تفسير وهو فيه أمر مطلوب، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا كأن سائلا سأل اتفقوا على ما عرض عليهم من خصلتي الصنيع أم خالفهم في ذلك أحد؟ فقيل: قال قائل منهم: لا تَقْتُلُوا إلخ، والإتيان- بيوسف- دون ضميره لاستجلاب شفقتهم عليه واستعظام قتله وهو هو فإنه يروى أنه قال لهم: القتل عظيم ولم يصرح بنهيهم عن الخصلة الأخرى، وأحاله على أولوية ما عرضه عليهم بقوله: وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ أي في قعره وغوره سمي به لغيبته عن عين الناظر، ومنه قيل للقبر: غيابة، قال المنخل السعدي: إذا أنا يوما غيبتني غيابتي ... فسيروا بسيري في العشيرة والأهل وقال الهروي: الغيابة في الجب شبه كهف أو طاق في البئر فوق الماء يغيب ما فيه عن العيون، والجب الركية التي لم تطو فإذا طويت فهي بئر قال الأعشى: لئن كنت في جب ثمانين قامة ... ورقيت أسباب السماء بسلم ويجمع على جبب وجباب وأجباب وسمي جبا لأنه جب من الأرض أي قطع، وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى الكلام في تأنيثه وتذكيره. وقرأ نافع في- غيابات- في الموضعين كأن لتلك الجب غيابات، ففيه إشارة إلى سعتها، أو أراد بالجب الجنس أي في بعض غيابات الجب، وقرأ ابن هرمز- غيابات- بتشديد الياء التحتية وهو صيغة مبالغة، ووزنه على ما نقل صاحب اللوامح يجوز أن يكون فعالات كحمامات، ويجوز أن يكون فيعالات كشيطانات في جمع شيطانة، وقرأ الحسن غيبة بفتحات على أنه في الأصل مصدر كالغلبة، ويحتمل أن يكون جمع غائب كصانع وصنعة، وفي حرف أبي رضي الله تعالى عنه غيبة بسكون الياء التحتية على أنه مصدر أريد به الغائب. يَلْتَقِطْهُ أي يأخذه على وجه الصيانة عن الضياع والتلف فإن الالتقاط أخذ شيء مشرف على الضياع كذا قيل، وفي مجمع البيان هو أن يجد الشيء ويأخذه من غير أن يحسبه، ومنه قوله ومنهل وردته التقاطا. بَعْضُ السَّيَّارَةِ أي بعض جماعة تسير في الأرض وأل في السيارة كما في الجب وما فيهما، وفي- البعض- من الإبهام لتحقيق ما يتوخاه من ترويج كلامه بموافقته لغرضهم الذي هو تنائي يوسف عليه السلام عنهم بحيث لا يدرى أثره ولا يروى خبره، وقرأ الحسن- تلتقطه- على التأنيث باعتبار المعنى كما في قوله: إذا بعض السنين تعرفتنا ... كفى الأيتام فقد أبى اليتيم وجاء قطعت بعض أصابعه وجعلوا هذا من باب اكتساب المضاف من المضاف إليه التأنيث كقوله: كما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 384 شرقت صدر القناة من الدم إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أي إن كنتم عازمين مصرين على أن تفعلوا به ما يفرق بينه وبين أبيه أو إن كنتم فاعلين بمشورتي ورأيي فألقوه إلخ، ولم بيت القول لهم بل عرض عليهم ذلك تأليفا لقلوبهم وتوجيها إلى رأيه وحذرا من سوء ظنهم به ولما كان هذا مظنة لسؤال سائل يقول: فما فعلوا بعد ذلك هل قبلوا رأيه أم لا؟ فأجيب على سبيل الاستئناف على وجه أدرج في تضاعيفه قبولهم له بما سيجيء إن شاء الله تعالى من قوله سبحانه: وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ فقيل: قالُوا يا أَبانا خاطبوه عليه السلام بذلك تحريكا لسلسلة النسب وتذكيرا لرابطة الأخوة ليتسببوا بذلك استنزاله عن رأيه في حفظه منهم لما أحس بحسدهم فكأنهم قالوا: ما لَكَ أي أيّ شيء لك لا تَأْمَنَّا لا تجعلنا أمناء عَلى يُوسُفَ مع أنك أبونا ونحن بنوك وهو أخونا وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ مريدون له الخير ومشفقون عليه ليس فينا ما يخل بذلك، وجملة لا تَأْمَنَّا في موضع الحال، وكذا جملة وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ والاستفهام- بما لك- فيه معنى التعجب، والكلام ظاهر في أنه تقدم منهم سؤال أن يخرج عليه السلام معهم فلم يرض أبوهم بذلك. وقرأ الجمهور لا تَأْمَنَّا بالإدغام والإشمام، وفسر بضم الشفتين مع انفراج بينهما (1) إشارة إلى الحركة مع الإدغام الصريح كما يكون في الوقف وهو المعروف عندهم وفيه عسر هنا، ويطلق على إشراب الكسرة شيئا من الضمة كما قالوا في قيل، وعلى إشمام أحد حرفين شيئا من حرف آخر كما قالوا في الصراط، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وأبو جعفر والزهري وعمرو بن عبيد بالإدغام من غير إشمام، وإرادة النفي ظاهرة، وقرأ ابن هرمز بضم الميم مع الإدغام، وهذه الضمة منقولة إلى الميم من النون الأولى بعد سلب حركتها. وقرأ أبي والحسن وطلحة بن مصرف والأعمش- لا تأمننا- بالإظهار وضم النون على الأصل، وهو خلاف خط المصحف لأنه بنون واحدة، وقرأ ابن وثاب وأبو رزين- لا تيمنا- بكسر حرف المضارعة على لغة تميم، وسهل الهمزة بعد الكسرة ابن وثاب، ولم يسهل أبو رزين. وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن عاصم أنه قرأ بذلك بمحضر عبيد بن فضلة فقال له: لحنت، فقال أبو رزين: ما لحن من قرأ بلغة قومه أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً نصب على الظرفية الزمانية وهو يطلق على اليوم الذي يلي يومك، وعلى الزمن المستقبل مطلقا، وأصله غدو فحذفت لامه وقد جاء تاما أي ابعثه معنا غدا الى الصحراء يَرْتَعْ أي يتسع في أكل الفواكه ونحوها، وأصل معنى الرتع أن تأكل وتشرب ما تشاء في خصب وسعة، ويقال: رتع أقام في خصب وتنعّم، ويسمى الخصب رتعة بسكون التاء وفتحها، وذكر الراغب ان الرتع حقيقة في أكل البهائم ويستعار للإنسان إذا أريد به الأكل الكثير، وعلى ذلك قوله: وإذ يخلوا له الحمى رتع وَيَلْعَبْ بالاستباق والانتضال ونحوهما مما يتدرب به لقتال العدو، وليس المراد لعب لهو وإلا لم يقرّهم عليه يعقوب عليه السلام وإنما عبر عن ذلك به لكونه على هيئته تحقيقا لما رموه من استصحاب يوسف عليه السلام بتصويرهم له بصورة ما يلائم حاله عليه السلام من صغر السن، وقرأ الجمهور يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ بالياء والجزم، والابنان وأبو عمرو بالنون والجزم، وكسر العين الحرميان، واختلف (2) عن قنبل في إثبات الياء وحذفها، ويروى عن ابن كثير   (1) قالوا: وهذه الإشارة بعد الإدغام أو قبله، وفي الثاني تأمل اهـ منه. (2) روي عنه الإثبات وصلا ووقفا، وفي رواية إثباتها في الوقف دون الوصل، وهو المروي عن البزي اهـ منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 385 «نرتع» بالنون وَيَلْعَبْ بالياء، وهي قراءة جعفر بن محمد، وقرأ العلاء بن سيابة «يرتع» بالياء وكسر العين مجزوما محذوف اللام «ويلعب» بالياء أيضا وضم الباء على أنه مستأنف أو خبر مبتدأ محذوف أي وهو يلعب. وقرأ مجاهد وقتادة وابن محيصن- نرتع- بنون مضمونة وعين ساكنة من أرتعنا- ونلعب- بالنون أيضا، وكذلك أبو رجاء إلا أنه بالياء التحتية فيهما، والقراءتان على حذف المفعول أي نرتع المواشي أو غيرها، والفعلان في هذه القراءات كلها مبنيان للفاعل. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «يرتع ويلعب» بالياء والبناء للمفعول فيهما، وخرج ذلك على أن نائب الفاعل ضمير غد، والأصل يرتع فيه ويلعب فيه، ثم حذف الجار واتسع فعدي الفعل للضمير فصار يرتعه ويلعبه، ثم بني للمفعول فاستتر الضمير الذي كان منصوبا لكونه نائبا عن الفاعل، ومن كسر العين من الفعل الأول فهو عنده من المراعاة على ما روي عن مجاهد أي يراعي بعضنا ويحرسه. وقال ابن زيد: من رعي الإبل أي نتدرب في الرعي وحفظ المال، أو من رعي النبات والكلأ، والمراد نرعى مواشينا إلا أنه أسند ذلك إليهم مجازا، أو تجوز عن أكلهم بالرعي، وضعف ابن عطية القراءة بإثبات الياء، وقال: إن إثباتها في مثل هذا الموضوع لا يجوز إلا في الشعر كقوله:. ألم يأتيك والأنباء تنمى ... بما لاقت لبون بني زياد وقيل: إن تقدير حذف الحركة في الياء ونحوها للجازم لغة وليس من الضرورة في شيء، وأخرج أبو الشيخ عن مقاتل بن حيان أنه كان يقرأ نلهو ونعلب وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ أي من أن يناله مكروه، والجملة في موضع الحال والعامل فيها فعل الأمر أو الجواب وليس ذلك من باب الأعمال كما قال أبو حيان لأن الحال لا تضمر، وذلك الباب لا بد فيه من الإضمار إذا أعمل الأول، وقد أكدوا مقالتهم بأصناف التأكيد من إيراد الجملة اسمية وتحليتها بأن واللام، وإسناد الحفظ الى كلهم وتقديم لَهُ على الخبر احتيالا في تحصيل مقصدهم قالَ استئناف بياني كأن سائلا يقول: فماذا قال أبوهم لهم؟ فقيل: قال إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ لشدة مفارقته عليّ وقلة صبري عنه، واللام الداخلة على خبر إن إذا كان مضارعا قيل: تقصره على الحال وهو ظاهر كلام سيبويه، وقيل: تكون له ولغيره، واستدلوا بقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [النحل: 124] ، وقيل: إنها للحال إن خلت عن قرينة ومعها تكون لغيره، وجعلوا من ذلك ما في الآية، وبعضهم جعلها هنا للحال، واستشكل بأن الذهاب مستقبل فيلزم تقدم الفعل على فاعله وهو غير جائز لأنه أثره ولا يعقل تقدم الأثر على المؤثر. وأجيب بأن التقدير قصد أو توقع أن تذهبوا به، فالكلام على تقدير المضاف وهو الفاعل وليس ذاك أمرا مستقبلا بل حال، ولا يمتنع في مثل ذلك حذف الفاعل لما صرحوا به أنه إنما يمتنع إذا لم يسدّ مسدّه شيء وهنا قد سدّ، ولا يجب أن يكون السادّ هو المضاف إليه كما ظن بل لو سدّ غيره كان الحذف جائزا أيضا، ومن هنا كان تقدير قصدكم أن تذهبوا صحيحا، ويحتمل أن يكون ذلك تقدير معنى لا تقدير إعراب، وقال بعضهم: إنه يمكن دفع الإشكال من غير حاجة إلى تقدير المضاف بأن يقال: إن الذهاب يحزنه باعتبار تصوره كما قيل نظيره في العلة الغائية، وقال شهاب: ذلك التحقيق أظن أن ما قالوه في توجيه الإشكال مغلطة لا أصل لها فإن لزوم كون الفاعل موجودا عند وجود الفعل إنما هو الفاعل الحقيقي لا النحوي واللغوي فإن الفعل قد يكون قبله سواء كان حالا كما فيما نحن فيه أو ماضيا كما أنه يصح أن يكون الفاعل في مثله أمرا معدوما كما في قوله: ومن سره أن لا يرى ما يسوءه ... فلا يتخذ شيئا يخاف له فقدا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 386 ولم يقل أحد في مثله إنه محتاج إلى التأويل فإن الحزن والغم كالسرور والفرح يكون بالشيء قبل وقوعه كما صرح به ابن هلال في فروقه، ولا حاجة إلى تأويل أو تقدير أو تنزيل للوجود الذهني منزلة الخارجي على القول به، أو الاكتفاء به فإن مثله لا يعرفه أهل العربية، أو اللسان فإن أبيت إلا اللجاج فيه فليكن من التجوز في النسبة إلى ما يستقبل لكونه سببا للحزن الآن اهـ. وأنت تعلم أنهم صرحوا بأن فعل الفاعل الاصطلاحي إما قائم به أو واقع منه، وقيام الشيء بما لم يوجد بعد ووقوعه منه غير معقول، وحينئذ فالتأويل بما يصح القيام أو الوقوع في فاقد ذلك بحسب الظاهر واجب كذا قيل فتدبر، وقرأ ابن هرمز وابن محيصن- ليحزني- بالإدغام، وبذلك قرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما، وقرأ أيضا تذهبوا به من أذهب رباعيا، ويخرج كما قال أبو حيان على زيادة الباء في بِهِ كما خرج بعضهم تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المؤمنون: 20] في قراءة من ضم التاء وكسر الباء الموحدة على ذلك أي- ليحزني أن تذهبوه.. وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ هو حيوان معروف وخصه بالذكر لأن الأرض على ما قيل: كانت مذئبة، وقيل: لأنه سبع ضعيف حقير فنبه عليه السلام بخوفه عليه السلام عليه منه على خوفه عليه مما هو أعظم منه افتراسا من باب أولى، ولحقارة الذئب خصه الربيع بن ضبع الفزاري في كونه يخشاه لما بلغ من السن ما بلغ في قوله: والذئب أخشاه إن مررت به ... وحدي وأخشى الرياح والمطرا وقيل: لأنه عليه السلام رأى في المنام أن ذئبا قد شد عليه فكان يحذره، ولعل هذا الحذر لأن الأنبياء عليهم السلام لمناسبتهم التامة بعالم الملكوت تكون واقعاتهم بعينها واقعة، وإلّا فالذئب في النوم يؤول بالعدو. وادعى بعضهم أنه عليه السلام ورّى بالذئب عن واحد منهم فإنه عليه السلام أجلّ قدرا من أن لا يعلم أن رؤياه تلك من أي أقسام الرؤيا هي، فإن منها ما يحتاج للتعبير ومنها ما لا يحتاج إليه، والكامل يعرف ذلك. وتعقب بأنه يحتمل أن يكون الأمر قد خفي عليه كما قد خفي مثل ذلك على جده إبراهيم عليه السلام وهو بناء على ما ذكره شيخنا ابن العربي قدس سره من أن رؤياه عليه السلام ذبح ولده من الرؤيا المعبرة بذبح كبش لكنه خفي عليه ذلك ولا يخفى ما فيه، والمذكور في بعض الروايات أنه عليه السلام رأى في منامه كأنه على ذروة جبل وكأن يوسف في بطن الوادي فإذا عشرة من الذئاب قد احتوشته تريد أكله فدرأ عند واحد ثم انشقت الأرض فتوارى يوسف فيها ثلاثة أيام، وأنا لم أجد لرواية الرؤيا مطلقا سندا يعول عليه ولا حاجة بنا إلى اعتبارها لتكلف الكلام فيها، وبالجملة ما وقع منه عليه السلام من هذا القول كان تلقينا للجواب من غير قصد وهو على أسلوب قوله سبحانه: ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار: 6] والبلاء موكل بالمنطق. وأخرج أبو الشيخ وغيره عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «ولا تلقنوا الناس فيكذبوا فإن بني يعقوب لم يعلموا أن الذئب يأكل الناس فلما لقنهم أبوهم كذبوا فقالوا: أكله الذئب» والحزن ألم القلب لفوت المحبوب والخوف انزعاج النفس لنزول المكروه، ولذلك أسند الأول الى الذهاب به المفوت لاستمرار مصاحبته ومواصلته ليوسف عليه السلام، والثاني إلى ما يتوقع نزوله من أكل الذئب والذئب أصله الهمزة وهي لغة الحجاز، وبها قرأ غير واحد. وقرأ الكسائي وخلف وأبو جعفر وورش، والأعشى وغيرهم بإبدالها ياء لسكونها وانكسار ما قبلها وهو القياس في مثل ذلك، وذكر بعضهم أنه قد همزه على الأصل ابن كثير ونافع في رواية قالون وأبو عمرو وقفا وابن عامر وحمزة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 387 درجا وأبدلا وقفا، ولعل ذلك لأن التقاء الساكنين في الوقف وإن كان جائزا إلا أنه إذا كان الأول حرف مد يكون أحسن. وقال نصر: سمعت أبا عمرو ولا يهمزه، والظاهر أنه أراد مطلقا فيكون ما تقدم رواية وهذه أخرى، ويجمع على أذؤب وذئاب وذؤبان واشتقاقه عند الزمخشري من تذاءبت الريح إذا هبت من كل جهة. وقال الأصمعي: إن اشتقاق تذاءبت من الذئب يفعله في عدوه، قيل: وهو أنسب ولذا عد تذاءبت الريح من المجاز في الأساس لكن قيل عليه إن أخذ الفعل من الأسماء الجامدة- كابل- قليل مخالف للقياس وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ لاشتغالكم بالرتع واللعب أو لقلة اهتمامكم بحفظه. قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ أي والحال أنا جماعة جديرة بأن تعصب بنا الأمور وتكفى بآرائنا وتدبيراتنا الخطوب، واللام الداخلة على الشرط موطئة للقسم، وقوله سبحانه: إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ جواب مجزىء عن الجزاء، والخسار إما بمعنى الهلاك تجوزا عن الضعف، أو استحقاقه، أو عن استحقاق الدعاء به أي لضعفاء عاجزون أو مستحقون للهلاك لا غناء عندنا ولا نفع في حياتنا، أو مستحقون لأن يدعى علينا بالخسار والدمار فيقال: خسرهم الله تعالى ودمرهم إذ أكل الذئب أخاهم وهم معه، وجوز أن يكون بمعناه الحقيقي أي إن لم نقدر على حفظه وهو أعز شيء عندنا فقد هلكت مواشينا وخسرناها وإنما اقتصروا على جواب خوف أبيهم عليه السلام من أكل الذئب مع أنه ذكر في وجه عدم مفارقته أمرين: حزنه لمفارقته وخوفه عليه من الذئب لأنه السبب القوي في المنع دون الحزن لقصر زمانه بناء على سرعة عودهم به، أو لأن حزنه بالذهاب به إنما هو للخوف عليه، فنفي الثاني يدل على نفي الأول، أو لكراهتهم لذلك لأنه سبب حسدهم له فلذلك أعاروه أذنا صماء فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أي عزموا عزما مصمما على أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ قيل: هو بئر على ثلاث فراسخ من مقام يعقوب عليه السلام بكنعان التي هي من نواحي الأردن، وقيل: هو بين مصر ومديرين، بنفس أرض الأردن، وزعم بعضهم أنها بئر بيت المقدس، وتعقب بأنه يرده التعليل بالتقاط بعض السيارة ومجيئهم عشاء ذلك اليوم فإن بين منزل يعقوب عليه السلام وبيت المقدس مراحل وجواب- لما- محذوف إيذانا بهوره وإشعارا بأن تفصيله مما لا يحويه فلك العبارة ومجمله فعلوا ما فعلوا، وقدره بعضهم عظمت فتنتهم وهو أولى من تقدير وضعوه فيها، وقيل: لا حذف والجواب أو حينا، والواو زائدة وليس بشيء. قال وهب وغيره من أهل السير والأخبار: إن إخوة يوسف عليه السلام قالوا: أما تشتاق أن تخرج معنا إلى مواشينا فنتصيد ونستبق؟ فقال عليه السلام: بلى قالوا: فسل أباك أن يرسلك معنا، فقال عليه السلام: أفعل فدخلوا بجماعتهم على يعقوب فقالوا: يا أبانا إن يوسف قد أحب أن يخرج معنا إلى مواشينا، فقال يعقوب: ما تقول يا بني؟ قال: نعم يا أبت إني أرى من إخوتي من اللين واللطف فأحب أن تأذن لي وكان يعقوب يكره مفارقته ويحب مرضاته فأذن له وأرسله معهم فلما خرجوا به جعلوا يحملونه على رقابهم ويعقوب ينظر إليهم فلما بعدوا عنه وصاروا به إلى الصحراء ألقوه إلى الأرض وأظهروا له ما في أنفسهم من العداوة وبسطوا له القول وجعلوا يضربونه فجعل كلما جاء إلى واحد منهم واستغاث به ضربه فلما فطن لما عزموا عليه جعل ينادي يا أبتا لو رأيت يوسف وما نزل به من إخوته لأحزنك ذلك وأبكاك يا أبتاه ما أسرع ما نسوا عهدك وضيعوا وصيتك وجعل يبكي بكاء شديدا فأخذه روبيل فجلد به الأرض ثم جثم على صدره وأراد قتله، فقال له يوسف: مهلا يا أخي لا تقتلني، فقال له: يا ابن راحيل أنت صاحب الأحلام قل لرؤياك تخلصك من أيدينا ولوى عنقه فاستغاث بيهوذا وقال له: اتق الله تعالى فيّ وحل بيني وبين من يريد قتلي فأدركته رحمة الأخوة ورق له فقال: يا إخوتاه ما على هذا عاهدتموني ألا أدلكم على ما هو أهون لكم وأرفق به؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 388 قالوا: وما هو؟ قال: تلقونه في هذا الجب فإما أن يموت أو يلتقطه بعض السيارة فانطلقوا به إلى بئر هناك واسع الأسفل ضيق الرأس فجعلوا يدلونه فيها فتعلق بشفيرها فربطوا يديه ونزعوا قميصه فقال: يا إخوتاه ردوا على قميصي لأستتر به في الجب فلم يفعلوا ثم ألقوه فيها، فقال لهم: يا إخوتاه ردوا علي قميصي لأستتر به في الجب فلم يفعلوا ثم ألقوه فيها، فقال لهم: يا إخوتاه أتدعوني وحيدا؟ قالوا: ادع الشمس والقمر والكواكب تؤنسك. وقيل: جعلوه في دلو ثم أدلوه فلما بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يموت وكان في البئر ماء فسقط فيه ثم قام على صخرة فيها. وروي أنهم لما ألقوه في الجب جعل يبكي فنادوه أنها رحمة أدركتهم فأجابهم فأرادوا رضخه بصخرة ليقتلوه فمنعهم يهوذا وكان عند يعقوب قميص إبراهيم عليه السلام الذي كساه الله تعالى إياه من الجنة حين ألقي في النار وكان قد جعله في قصبة من فضة وعلقه في عنق يوسف لما خرج مع إخوته فلما صار في البئر أخرجه ملك وألبسه فأضاء له الجب، وعن الجنس أنه لما ألقى فيها عذب ماؤها (1) وكان يغنيه عن الطعام والشراب ونزل عليه جبريل عليه السلام يؤنسه فلما أمسى نهض ليذهب فقال له: إني أستوحش إذا ذهبت، فقال: إذا رمت شيئا فقل: يا صريخ المستصرخين، ويا غوث المستغيثين، ويا مفرج كرب المكروبين قد ترى مكاني وتعلم حالي ولا يخفى عليك شيء من أمري فلما قالها يوسف عليه السلام حفته الملائكة عليهم السلام واستأنس بهم. وقال محمد بن مسلم الطائفي: إنه عليه السلام لما ألقي في الجب قال: يا شاهدا غير غائب ويا قريبا غير بعيد ويا غالبا غير مغلوب اجعل لي فرجا مما أنا فيه، وقيل: كان يقول: يا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ارحم ضعفي وقلة حيلتي وصغر سني، وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «لما ألقي يوسف في الجب أتاه جبريل عليه السلام فقال: يا غلام من ألقاك في هذا الجب؟ قال: إخوتي قال: ولم؟ قال: لمودة أبي إياي حسدوني، قال: تريد الخروج من هاهنا؟ قال: ذاك الى إله يعقوب، قال: قل: اللهم إني أسألك باسمك المكنون المخزون يا بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام أن تغفر لي وترحمني وأن تجعل من أمري فرجا ومخرجا وأن ترزقني من حيث أحتسب ومن حيث لا أحتسب فقالها فجعل الله تعالى له من أمره فرجا ومخرجا ورزقه ملك مصر من حيث لا يحتسب ثم قال عليه الصلاة والسلام: ألظوا بهؤلاء الكلمات فإنهن دعاء المصطفين الأخيار» وروي غير ذلك، والروايات في كيفية إلقائه وما قال وما قيل له كثيرة، وقد تضمنت ما يلين له الصخر لكن ليس فيها ما له سند يعول عليه، والله تعالى أعلم وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ الضمير ليوسف أي أعلمناه عند ذلك تبشيرا له بما يؤول إليه أمره وإزالة لوحشته وتسلية له، وكان ذلك على ما روي عن مجاهد بالإلهام، وقيل: بالإلقاء في مبشرات المنام، وقال الضحاك وقتادة: بإرسال جبريل عليه السلام إليه والموحى إليه ما تضمنه قوله سبحانه: لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وهو بشارة له بالخلاص أيضا أي لتخلصن مما أنت فيه من سوء الحال وضيق المجال ولتخبرن إخوتك بما فعلوا بك وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بأنك يوسف لتباين حاليك: حالك هذا وحالك يومئذ بعلو شأنك وكبرياء سلطانك وبعد حالك من أوهامهم، وقيل: لبعد العهد المبدل للهيئات المغير للأشكال والأول أدخل في التسلية، أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما دخل إخوة يوسف على يوسف فعرفهم وهم له منكرون وجيء بالصواع فوضعه على يده ثم نقره فطن، فقال: إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف يدنيه دونكم وأنكم انطلقتم به   (1) وسيأتي رواية أن يهوذا كان يأتيه بالطعام قريبا إن شاء الله تعالى اهـ منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 389 فألقيتموه في غيابة الجب فأتيتم أباكم فقلتم: إن الذئب أكله وجئتم على قميصه بدم كذب، فقال بعضهم لبعض: إن هذا الجام ليخبره بخبركم، ثم قال ابن عباس: فلا نرى هذه الآية لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ إلخ نزلت إلّا في ذلك، وجوز أن يتعلق وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بالإيحاء على معنى أنا آنسناه بالوحي وأنزلنا عن قلبه الوحشة التي أورثوه إياها وهم لا يشعرون بذلك ويحسبون أنه مستوحش لا أنيس له. وروي ذلك عن قتادة، وكان هذا الإيحاء وهو عليه السلام ابن ست عند الضحاك واثنتي عشرة سنة أو ثماني عشرة سنة عند الحسن وسبع عشرة سنة عند ابن السائب- وهو الذي يزعمه اليهود- وقيل غير ذلك، ومن نظر في الآيات ظهر له أن الراجح كونه عليه السّلام لم يبلغ الحلم إذ ذاك، وعلى جميع الأقوال أنه عليه السّلام لم يكن بالغا الأربعين عند الإيحاء إليه، نعم أكثر الأنبياء عليهم السّلام نبئوا في سن الأربعين وقد أوحي إلى بعضهم- كيحيى، وعيسى عليهما السلام- قبل ذلك بكثير. وزعم بعضهم أن ضمير إِلَيْهِ يعود على يعقوب عليه السّلام وليس بشيء كما لا يخفى، وقرأ ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لينبئنهم بياء الغيبة وكذا في مصاحف البصرة. وقرأ سلام بالنون على أنه وعيد لهم، فقوله سبحانه: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ متعلق- بأوحينا- لا غير على ما قاله الزمخشري ومن تبعه، ونظر فيه بأنه يجوز أن يتعلق أيضا بقوله تعالى: لَتُنَبِّئَنَّهُمْ وأن يراد بإنباء الله تعالى إيصال فعلهم به عليه السّلام وهم لا يشعرون بذلك، ودفع بأنه بناء على الظاهر وأنه لا يجتمع إنباء الله تعالى مع عدم شعورهم بما أنبأهم به إلّا بتأويل كتقدير لنعلمنهم بعظيم ما ارتكبوه قبل وهم لا يشعرون بما فيه وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً أي في ذلك الوقت وهو- كما قال الراغب- من صلاة المغرب إلى العتمة والعشاءان: المغرب، والعتمة. وعن الحسن أنه قرأ- عشيا- بضم العين وفتح الشين وتشديد الياء منونا وهو تصغير عشي وهو من زوال الشمس إلى الصباح، وعنه أنه قرأ- عشي- بالضم والقصر كدجى فنصبه على الحال وهو جمع أعشى عند بعض وعاش عند آخرين، وأصله عشاة كماش ومشاة فحذفت الهاء تخفيفا، وأورد عليهما بأنه لا جواز لمثل هذا الحذف وأنه لا يجمع أفعل فعلاء على فعل بضم الفاء وفتح العين بل فعل بسكون العين، ولذا قيل: كان أصله عشوا فنقلت حركة الواو إلى ما قبلها لكونه حرفا صحيحا ساكنا ثم حذفت بعد قلبها ألفا لالتقاء الساكنين وإن قدر ما بكوا به في ذلك اليوم لا يعشو منه الإنسان وأجيب عن هذا بأن المقصود المبالغة في شدة البكاء والنحيب لا حقيقته أي كاد يضعف بصرهم لكثرة البكاء، وقيل: هو جمع عشوة مثلث العين وهي ركوب أمر على غير بصيرة يقال: أوطأه عشوة أي أمرا ملتبسا يوقعه في حيرة وبلية فيكون تأكيدا لكذبهم وهو تمييز أو مفعول له، وجوز أن يكون جمع عشوة بالضم بمعنى شعلة النار عبارة عن سرعتهم لابتهاجهم بما فعلوا من العظيمة وافتعلوا من (1) العضيهة، وجوز أن يكون عِشاءً في قراءة الجمهور جمع عاش مثل راع ورعاء ويكون نصبه على الحال، والظاهر الأول، وإنما- جاؤوا عشاء- إما لأنهم لم يصلوا من مكانهم إلا في ذلك الوقت، وإما ليكونوا أقدر على الاعتذار لمكان الظلمة التي يرتفع فيها الحياء، ولذا قيل: لا تطلب الحاجة بالليل فإن الحياء في العينين ولا تعتذر في النهار من ذنب فتلجلج في الاعتذار وهل جاؤوا في عشاء اليوم الذي ذهبوا فيه أو في عشاء يوم آخر؟ ظاهر كلام بعضهم الأول، وذهب بعضهم إلى الثاني بناء على ما روي أنه عليه السّلام مكث في الجب ثلاثة أيام وكان إخوته يرعون حواليه وكان يهوذا يأتيه بالطعام.   (1) البهتان اهـ منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 390 وفي الكلام- على ما في البحر- حذف والتقدير وَجاؤُ أَباهُمْ دون يوسف عِشاءً يَبْكُونَ أي متباكين أي مظهرين البكاء بتكلف لأنه لم يكن عن حزن لكنه يشبهه، وكثيرا ما يفعل بعض الكذابين كذلك، أخرج ابن المنذر عن الشعبي قال: جاءت امرأة إلى شريح تخاصم في شيء فجعلت تبكي فقولوا: يا أبا أمية أما تراها تبكي؟! فقال: قد جاء إخوة يوسف أباهم عشاء يبكون، وقال الأعمش: لا يصدق باك بعد إخوة يوسف، وفي بعض الآثار أن يعقوب عليه السّلام لما سمع بكاءهم قال: ما بالكم أجرى في الغنم شيء؟ قالوا: لا قال: فما أصابكم وأين يوسف؟ قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ أي متسابقين في العدو على الأقدام على ما روى عن السدي، أو في الرمي بالسهام كما قال الزجاج، أو في أعمال نتوزعها من سقي ورعي واحتطاب أو في الصيد وأخذه كما قيل، ورجح ما قاله الزجاج بقراءة عبد الله- إنا ذهبنا ننتضل- وأورد على الأول أنه كيف ساغ لهم الاستباق في العدو وهو من أفعال الصبيان التي لا ثمرة فيها، وأجيب بالمنع وثمرته التدرب في العدو لمحاربة العدو ومدافعة الذئب مثلا وبالجملة نَسْتَبِقُ بمعنى نتسابق وقد يشترك الافتعال والتفاعل فيكونان بمعنى كالانتضال والتناضل ونظائرهما وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا أي ما يتمتع به من الثياب والأزواد وغيرهما فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ عقيب ذلك من غير مضي زمان يعتاد فيه التفقد والتعهد وحيث لا يكاد يطرح المتاع عادة إلّا في مقام يؤمن فيه الغوائل لم يعد تركه عليه السّلام عنده من باب الغفلة وترك الحفظ الملتزم لا سيما إذا لم يغيبوا عنه فكأنهم قالوا: إنا لم نقصر في محافظته ولم نفغل عن مراقبته بل تركناه في مأمننا ومجمعنا بمرأى منا وما فارقناه إلّا ساعة يسيرة بيننا وبينه مسافة قصيرة فكان ما كان قاله شيخ الإسلام، والظاهر أنهم لم يريدوا إلّا أن الذئب أكل يوسف ولم يقصدوا بذلك تعريضا فما قيل: إنهم عرضوا وأرادوا أكل الذئب لا يلتفت إليه لما فيه من الخروج عن الجادة من غير موجب وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا أي ما أنت مصدق لنا في هذه المقالة وَلَوْ كُنَّا عندك وفي اعتقادك صادِقِينَ أي موصوفين بالصدق والثقة لفرط محبتك فكيف وأنت سيء الظن بنا غير واثق بقولنا، قيل: ولا بد من التأويل إذ لو كان المعنى وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ في نفس الأمر لكان تقديره فكيف إذا كنا كاذبين فيه فيلزم اعترافهم بكذبهم فيه، وقد تقدم أن المراد في مثل ذلك تحقيق الحكم السابق على كل حال فكأنه قيل هنا: وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا في حال من الأحوال فتذكر وتأمل. وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ أي ذي كذب أو وصف بالمصدر مبالغة كأنه نفس الكذب وعينه كما يقال للكذاب: هو الكذب بعينه والزور بذاته، ومن ذلك ما في قوله: أفيضوا على عزابكم من بناتكم ... فما في كتاب الله أن يحرم الفضل وفيهن فضل قد عرفنا مكانه ... فهن به جود وأنتم به بخل وبعضهم يؤوّل كذب بمكذوب فيه فإن المصدر قد يؤول بمثل ذلك، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما كذبا بالنصب وخرج على أنه في موضع الحال من فاعل جاؤُ بتأويل كاذبين، وقيل: من دم علي تأويل مكذوبا فيه، وفيه أن الحال من النكرة على خلاف القياس، وجوز أن يكون مفعولا من أجله أي جاؤوا بذلك لأجل الكذب، وقرأت عائشة رضي الله تعالى عنها والحسن- كدب- بالدال المهملة وليس من قلب الذال دالا بل هو لغة أخرى بمعنى كدر أو طري أو يابس فهو من الأضداد، وقال صاحب اللوامح: المعنى ذي كدب أي أثر لأن الكدب بياض يخرج في أظافر الشبان ويؤثر فيها فهو كالنقش ويسمى ذلك الفوف ولم يعتبر بعض المحققين تقدير المضاف وجعل ذلك من التشبيه البليغ أو الاستعارة فإن الدم في القميص يشبه الكذب من جهة مخالفة لونه لون ما هو فيه، وقوله سبحانه عَلى قَمِيصِهِ- على ما ذهب إليه أبو البقاء- حال من دم، وفي جواز تقديم الحال على صاحبها المجرور بالحرف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 391 غير الزائد خلاف، والحق كما قال السفاقسي: الجواز لكثرة ذلك في كلامهم، وفي اللباب ولا تتقدم على صاحبها المجرور على الأصح نحو مررت جالسة بهند إلّا أن يكون الحال ظرفا على أن الحق ما اختاره ابن مالك من جواز التقديم مطلقا، وقال الزمخشري ومن تبعه: إنه في موضع النصب على الظرفية أي جاؤوا فوق قميصه كما تقول: جاء على جماله بأحمال، وأراد على ما في الكشف أن عَلى على حقيقة الاستعلاء وهو ظرف لغو، ومنع في البحر كون العامل فيه المجيء لأنه يقتضي أن الفوقية ظرف للجائين، وأجيب بأن الظرفية ليست باعتبار الفاعل بل باعتبار المفعول. وفي بعض الحواشي أن الأولى أن يقال: جاؤوا مستولين على قميصه، وقوله سبحانه: بِدَمٍ حال من القميص، وجعل المعنى استولوا على القميص ملتبسا بدم جائين، وهو على ما قيل: أولى من جاؤوا مستولين لما تقرّر في التضمين، والأمر في ذلك سهل فإن جعل المضمن أصلا والمذكور حالا وبالعكس كل منهما جائز وإذا اقتضى المقام أحدهما رجح، واستظهر كونه ظرفا للمجيء المتعدي، والمعنى أتوا بدم كذب فوق قميصه ولا يخفى استقامته، هذا ثم إن ذلك الدم كان دم سخلة ذبحوها ولطخوا بدمها القميص- كما روي عن ابن عباس ومجاهد.. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة أنهم أخذوا ظبيا فذبحوه فلطخوا بدمه القميص، ولما جاؤوا به جعل يقلبه فيقول: ما أرى به أثر ناب ولا ظفر إن هذا السبع رحيم، وفي رواية أنه أخذ القميص وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص، وقال: تالله ما رأيت كاليوم ذئبا أحلم من هذا أكل ابني ولم يمرق عليه قميصه، وجاء أنه بكى وصاح، وخر مغشيا عليه فأفاضوا عليه الماء فلم يتحرك ونادوه فلم يجب ووضع يهوذا يده على مخارج نفسه فلم يحس بنفس ولا تحرك له عرق، فقال: ويل لنا من ديان يوم الدين ضيعنا أخانا وقتلنا أبانا فلم يفق إلا ببرد السحر قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أي زينت وسهلت أَمْراً من الأمور منكرا لا يوصف ولا يعرف، وأصل التسويل تقدير شيء في النفس مع الطمع في إتمامه. وقال الراغب: هو تزيين النفس لما تحرص عليه وتصوير القبيح بصورة الحسن. وقال الأزهري: كأن التسويل تفعيل من سوال الإنسان وهو أمنيته التي يطلبها فتزين لطالبها الباطل وغيره وأصله مهموز، وقيل: من السول بفتحتين وهو استرخاء في العصب ونحوه كأن المسول لمزيد حرصه استرخى عصبه، وفي الكلام حذف على ما في البحر أي لم يأكله الذئب بَلْ سَوَّلَتْ إلخ، وعلمه عليه السّلام بكذبهم قيل: حصل من سلامة القميص على التمزيق وهي إحدى ثلاث آيات في القميص: ثانيتها عود يعقوب بصيرا بإلقائه على وجهه، وثالثتها قده من دبر فإنه كان دليلا على براءة يوسف، وينضم إلى ذلك وقوفه بالرؤيا الدالة على بلوغه مرتبة علياء تنحط عنها الكواكب، وقيل: من تناقضهم فإنه يروى أنه عليه السّلام لما قال: ما تقدم عن قتادة قال بعضهم: بل قتله اللصوص فقال: كيف قتلوه وتركوا قميصه وهم إلى قميصه أحوج منهم الى قتله؟! ولعله مع هذا العلم إنما حزن عليه السّلام لما خشي عليه من المكروه والشدائد غير الموت، وقيل: إنما حزن لفراقه وفراق الأحبة مما لا يطاق، ولذلك قيل: لولا مفارقة الأحباب ما وجدت ... لها المنايا الى أرواحنا سبلا ولا بأس بأن يقال: إنه أحزنه فراقه وخوف أن يناله مكروه فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أي فأمري صبر جميل، أو فصبري صبر جميل كما قال قطرب، أو فالذي أفعله ذلك كما قال الخليل. أو فهو صبر إلخ كما قال الفراء، وصبر في كل ذلك خبر مبتدأ محذوف أو فصبر جميل أمثل وأجمل على أنه مبتدأ خبره محذوف، وهل الحذف في مثل ذلك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 392 واجب أو جائز؟ فيه خلاف، وكذا اختلفوا فيما إذا صح في كلام واحد اعتبار حذف المبتدأ وإبقاء الخبر واعتبار العكس هل الاعتبار الأول أولى أم الثاني؟. وقرأ أبي والأشهب وعيسى بن عمر- فصبرا جميلا- بنصبهما وكذا في مصحف أنس بن مالك، وروي ذلك عن الكسائي، وخرج على أن التقدير فاصبر صبرا على أن اصبر مضارع مسند لضمير المتكلم، وتعقب بأنه لا يحسن النصب في مثل ذلك إلّا مع الأمر، والتزم بعضهم تقديره هنا بأن يكون عليه السّلام قد رجع إلى مخاطبة نفسه فقال: صبرا جميلا على معنى فاصبري يا نفس صبرا جميلا، والصبر الجميل على ما روى الحسن عنه صلّى الله تعالى عليه وسلّم- ما لا شكوى فيه أي إلى الخلق وإلّا فقد قال يعقوب عليه السّلام: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف: 86] ، وقيل: إنه عليه السّلام سقط حاجباه على عينيه فكان يرفعهما بعصابة فسئل عن سبب ذلك فقال: طول الزمان وكثرة الأحزان فأوحى الله تعالى إليه أتشكو إلى غيري، فقال يا رب خطيئة فاغفرها. وقيل: المراد من قوله: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ إني أتجمل لكم في صبري فلا أعاشركم على كآبة الوجه وعبوس الجبين بل أبقى على ما كنت عليه معكم وهو خلاف الظاهر جدا وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ أي المطلوب منه العون وهو إنشاء منه عليه السّلام للاستعانة المستمرة عَلى ما تَصِفُونَ متعلق بالمستعان والوصف ذكر الشيء بنعته وهو قد يكون صدقا وقد يكون كذبا، والمراد به هنا الثاني كما في قوله سبحانه: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصافات: 18] بل قيل: إن الصيغة قد غلبت في ذلك ومعنى استعانته عليه السّلام بالله تعالى على كذبهم طلبه منه سبحانه إظهار كونه كذبا بسلامة يوسف عليه السّلام والاجتماع معه فيكون ذكر الاستعانة هنا نظير عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً [يوسف: 83] بعد قوله فيما بعد: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ، وفي بعض الآثار أن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت يوم الإفك: والله لئن حلفت لا تصدقوني ولئن اعتذرت لا تعذروني فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وولده والله المستعان على ما تصفون فأنزل الله تعالى في عذرها ما أنزل، وقيل: المراد أنه تعالى المستعان على احتمال ما تصفونه من هلاك يوسف كأنه عليه السّلام بعد أن قال: صبر جميل طلب الإعانة منه تعالى على الصبر وذلك لأن الدواعي النفسانية تدعو إلى إظهار الجزع وهي قوية والدواعي الروحانية الصبر الجميل فكأنه وقعت المحاربة بين الصفتين فما لم تحصل المعونة منه جلّ وعلا لا تحصل الغلبة، فقوله: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ يجري مجرى إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة: 5] وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ يجري مجرى وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5] ولعل الأول أسلم من القال والقيل، وللإمام الرازي عليه الرحمة في هذا المقام بحث، وهو: أن الصبر على قضاء الله تعالى واجب وأما الصبر على ظلم الظالمين ومكر الماكرين فغير واجب بل الواجب إزالته لا سيما في الضرر العائد إلى الغير فكان اللائق بيعقوب عليه السّلام التفتيش والسعي في تخليص يوسف عليه السّلام من البلية والشدة إن كان حيا، وفي إقامة القصاص إن صح أنهم قتلوه قد يقال: إن الواجب المتعين عليه السعي في طلبه وتخليصه لأن الظاهر أنه كان عالما بأنه حي سليم لقوله: وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ [يوسف: 6] فإن الظاهر أنه إنما قاله عن وحي، وأيضا إنه عليه السّلام كان عظيم القدر جليل الشأن معظما في النفوس مشهورا في الآفاق فلو بالغ في الطلب والتفحص لظهر ذلك واشتهر ولزال وجه التلبيس فما السبب في تركه عليه السّلام الفحص مع نهاية رغبته في حضور يوسف وغاية محبته له، وهل الصبر في هذا المقام إلّا مذموم عقلا وشرعا؟ ثم قال: والجواب أن نقول: لا جواب عن ذلك إلّا أن يقال: إنه سبحانه وتعالى منعه عن الطلب تشديدا للمحنة وتغليظا للأمر، وأيضا لعله عرف بقرائن الأحوال أن أولاده أقوياء وأنهم لا يمكنونه من الطلب والتفحص وأنه لو بالغ في البحث ربما أقدموا على إيذائه وقتله، وأيضا لعله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 393 عليه السّلام علم أن الله تعالى يصون يوسف عن البلاء والمحنة وأن أمره سيعظم بالآخرة ثم لم يرد هتك ستر أولاده وما رضي بإلقائهم في ألسنة الناس، وذلك لأن أحد الولدين إذا ظلم الآخر وقع الأب في العذاب الشديد لأنه إن لم ينتقم يحترق قلبه على الولد المظلوم وإن انتقم يحترق على الولد الذي ينتقم منه، ونظير ذلك ما أشار إليه الشاعر بقوله: قومي هم قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي ولئن عفوت لأعفون جللا ... ولئن سطوت لموهن عظمي فلما وقع يعقوب عليه السّلام في هذه البلية رأى أن الأصوب الصبر والسكوت وتفويض الأمر بالكلية إلى الله تعالى لا سيما إن قلنا: إنه عليه السّلام كان عالما بأن ما وقع لا يمكن تلافيه حتى يبلغ الكتاب أجله. وَجاءَتْ شروع فيما جرى على يوسف عليه السّلام في الجب بعد الفراغ عن ذكر ما وقع بين إخوته وبين أبيه أي وجاءت إلى الجب سَيَّارَةٌ رفقة تسير من جهة مدين إلى مصر وكان ذلك بعد ثلاثة أيام مضت من زمن إلقائه في قول، وقيل: في اليوم الثاني، والظاهر أن الجب كا في طريق سيرهم المعتاد. وقيل: إنه كان في قفرة بعيدة من العمران فأخطؤوا الطريق فأصابوه فَأَرْسَلُوا إليه وارِدَهُمْ الذي يرد الماء ويستقي لهم وكان ذلك مالك بن ذعر الخزاعي. وقال ابن عطية: الوارد هنا يمكن أن يقع على الواحد وعلى الجماعة اهـ والظاهر الأول، والتأنيث في جاءَتْ والتذكير في فَأَرْسَلُوا ووارِدَهُمْ باعتبار اللفظ والمعنى، وفي التعبير بالمجيء إيماء إلى كرامة يوسف عليه السّلام عند ربه سبحانه، وحذف متعلقه وكذا متعلق الإرسال لظهوره ولذا حذف المتعلق في قوله سبحانه: فَأَدْلى دَلْوَهُ أي أرسلها إلى الجب ليخرج الماء، ويقال: دلا الدلو إذا أخرجها ملأى، والدلو من المؤنثات للسماعية فتصغر على دلية وتجمع على أدل ودلاء ودلى. وقال ابن الشحنة: إن الدلو التي يستقى بها مؤنثة وقد تذكر، وأما الدلو مصدر دلوت وضرب من السير فمذكر ومثلها في التذكير والتأنيث الجب عند الفراء على ما نقله عن محمد بن الجهم، وعن بعضهم أنه مذكر لا غير وأما البئر مؤنثة فقط في المشهور، ويقال في تصغيرها: بويرة وفي جمعها آبار وأبار وأبؤر وبئار وفي الكلام حذف أي فأدلى دلوه فتدلى بها يوسف فخرج قالَ استئناف مبني على سؤال يقتضيه الحال يا بُشْرى هذا غُلامٌ نادى البشرى بشارة لنفسه أو لقومه ورفقته كأنه نزلها منزلة شخص فناداه فهو استعارة مكنية وتخييلية أي يا بشرى تعالى فهذا أو إن حضورك، وقيل: المنادى محذوف كما في يا ليت أي يا قومي انظروا واسمعوا بشراي، وقيل: إن هذه الكلمة تستعمل للتبشير من غير قصد إلى النداء. وزعم بعضهم أن بشرى اسم صاحب له ناداه ليعينه على إخراجه، وروي هذا عن السدي- وليس بذاك- وقرأ غير الكوفيين- يا بشراي- بالإضافة، وأمال فتحة الراء حمزة والكسائي، وقرأ ورش بين اللفظين. وروي عن نافع أنه قرأ- يا بشراي- بسكون ياء الإضافة ويلزمه التقاء الساكنين على غير حده، واعتذر بأنه أجرى الوصل مجرى الوقف ونظائر ذلك كثيرة في القرآن وغيره، وقيل: جاز ذلك لأن الألف لمدها تقوم مقام الحركة، وقرأ أبو الطفيل والحسن وابن أبي إسحاق والجحدري «يا بشري» بقلب الألف ياء وإدغامها في ياء الإضافة- وهي لغة لهذيل ولناس غيرهم- ومن ذلك قول أبي ذؤيب: سبقوا هوى وأعنقوا لهواهم ... فتخرموا ولكل جنب مصرع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 394 ويقولون: يا سيدي، ومولى، والغلام- كثيرا ما يطلق على ما بين الحولين إلى البلوغ، وقد يطلق على الرجل الكامل كما في قول ليلى الأخيلية في الحجاج بن يوسف الثقفي: غلام إذا هز القناة سقاها والظاهر أن التنوين فيه للتفخيم، وحق له ذلك فقد كان عليه من أحسن الغلمان، وذكر البغوي عنه صلّى الله تعالى عليه وسلّم أنه قال: أعطي يوسف شطر الحسن. وقال محمد بن إسحاق: ذهب يوسف وأمه بثلثي الحسن، وحكى الثعلبي عن كعب الأخبار أنه قال: كان يوسف حسن الوجه جعد الشعر ضخم العينين مستوي الخلق أبيض اللون غليظ الساعدين والساقين خميص البطن صغير السرة وكان إذا تبسم رأيت النور في ضواحكه وإن تكلم رأيت شعاع النور من ثناياه ولا يستطيع أحد وصفه وكان حسنه كضوء النهار عند الليل وكان يشبه آدم عليه السّلام يوم خلقه قبل أن يصيب الخطيئة، ويحكى أن جوانب الجب بكت عليه حين خرج منها، ولعله من باب بكت الدار لفقد فلان، والظاهر أن قول الوارد يا بُشْرى هذا غُلامٌ كان عند رؤيته، وقيل إنه حين وروده على أصحابه صاح بذاك وَأَسَرُّوهُ أي أخفاه الوارد وأصحابه عن بقية الرفقة حتى لا تراه فتطمع فيه، وقيل: أخفوا أمره وكونه وجد في البئر، وقالوا لسائر القافلة: دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر، وقيل: الضمير لإخوة يوسف، وذلك أن بعضهم رجع ليتحقق أمره فرآه عند السيارة فأخبر إخوته فجاؤوا إليهم فقالوا: هذا غلام أبق لنا فاشتروه منا فاشتروه وسكت يوسف مخافة أن يقتلوه، وفي رواية أنهم قالوا بالعبرانية: لا تنكر العبودية نقتلك فأقر بها واشتروه منهم، وقيل: كان يهوذا يأتيه بالطعام فأتاه يوم أخرج فلم يجده في الجب ووجده عند الرفقة فأخبر إخوته فأتوهم فقالوا ما قالوا، وروي كون الضمير للإخوة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قيل: وهو المناسب لإفراد قالَ وجمع ضمير- أسروا- وللوعيد الآتي قريبا إن شاء الله تعالى، وليس فيه اختلال في النظم، ولا يخفى أن الظاهر ما أشير إليه أولا، ونصب قوله سبحانه: بِضاعَةً على الحال أي أخفوه حال كونه متاعا للتجارة، وفي الفرائد أنه ضمن أسروه معنى جعلوه أي جعلوه بضاعة مسرين إياه فهو مفعول به. وقال ابن الحاجب: يحتمل أن يكون مفعولا له أي لأجل التجارة وليس شرطه مفقودا لاتحاد فاعله وفاعل الفعل المعلل به إذ المعنى كتموه لأجل تحصيل المال به، ولا يجوز أن يكون تمييزا وهو من- البضع- بمعنى القطع وكأن البضاعة إنما سميت بذلك لأنها تقطع من المال وتجعل للتجارة، ومن ذلك البضع بالكسر لما بين الثلاث إلى العشرة أو لما فوق الخمس ودون العشرة، والبضيعة للجزيرة المنقطعة عن البر، واعتبر الراغب في البضاعة كونها قطعة وافرة من المال تقتنى للتجارة ولم يعتبر الكثير كونها وافرة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ لم يخف عليه سبحانه أسرارهم، وصرح غير واحد أن هذا وعيد لإخوة يوسف عليه السّلام على ما صنعوا بأبيهم وأخيهم وجعلهم إياه، وهو عرضة للابتذال بالبيع والشراء وَشَرَوْهُ الضمير المرفوع إما للإخوة فشرى بمعنى باع، وإما للسيارة فهو بمعنى اشترى كما في قوله: وشريت بردا ليتني ... من بعد برد كنت هامه وقوله: ولو أن هذا الموت يقبل فدية ... شريت أبا زيد بما ملكت يدي وجوز أن يكون على هذا الوجه بمعنى باع بناء على أنهم باعوه لما التقطوه من بعضهم بِثَمَنٍ بَخْسٍ أي نقص وهو مصدر أريد به اسم المفعول أي منقوص، وجوز الراغب أن يكون بمعنى باخس أي ناقص عن القيمة نقصانا ظاهرا، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 395 وقال مقاتل: زيف ناقص العيار، وقال قتادة: بخس ظلم لأنه ظلموه في بيعه، وقال ابن عباس، والضحاك في آخرين: البخس الحرام وكان ذلك حراما لأنه ثمن الحر وسمي الحرام بخسا لأنه مبخوس البركة أي منقوصها، وقوله سبحانه: دَراهِمَ بدل من ثمن أي لا دنانير مَعْدُودَةٍ أي قليلة وكنى بالعدّ عن القلة لأن الكثير يوزن عندهم وكانت عدة هذه الدراهم في كثير من الروايات عشرين درهما، وفي رواية عن ابن عباس اثنين وعشرين، وفي أخرى عنه عشرين وحلة ونعلين، وقيل: ثلاثين وحلة ونعلين، وقيل: ثمانية عشر اشتروا بها أخفافا ونعالا، وقيل: عشرة وعن عكرمة أنها كانت أربعين درهما، ولا يأبى هذا ما ذكره غير واحد من أن عادتهم أنهم لا يزنون، إلّا ما بلغ أوقية وهي أربعون درهما إذ ليس فيه نفي أن الأربعين قد تعدّ وَكانُوا فِيهِ أي في يوسف كما هو الظاهر مِنَ الزَّاهِدِينَ أي الراغبين عنه، والضمير في وَكانُوا إن كان للإخوة فظاهر وإن كان للرفقة وكانوا بائعين فزهدهم فيه لأنهم التقطوه والملتقط للشيء متهاون به لا يبالي بما بدعه ولأنه يخاف أن يعرض له مستحق ينتزعه من يده فيبيعه من أول مساوم بأوكس الثمن وإن كان لهم وكانوا مبتاعين بأن اشتروه من بعضهم أو من الإخوة فزهدهم لأنهم اعتقدوا فيه أنه آبق فخافوا أن يخاطروا بما لهم فيه، وقيل: ضمير فِيهِ للثمن وزهدهم لرداءته أو لأن مقصودهم ليس إلّا إبعاد يوسف عليه السّلام وهذا ظاهر على تقدير أن يكون ضمير كانُوا للإخوة، والجار- على ما نقل عن ابن مالك- متعلق بمحذوف يدل عليه- الزاهدين- أي كانوا زاهدين فيه من الزاهدين، وذلك أن اللام في الزاهدين اسم موصول ولا يتقدم ما في صلة الموصول عليه، ولأن ما بعد الجار لا يعمل فيما قبله، وهل مِنَ الزَّاهِدِينَ حينئذ صفة لزاهدين المحذوف مؤكدة كما تقول: عالم من العلماء أو صفة مبينة أي زاهدين بلغ بهم الزهد إلى أن يعدّوا في الزاهدين لأن الزاهد قد لا يكون عريقا في الزاهدين حتى يعدّ فيهم إذا عدّوا أو يكون خبرا ثانيا؟ كل ذلك محتمل، وليس بدلا من المحذوف لوجود مِنَ معه، وقدر بعضهم المحذوف أعني وأنا فيه من الزاهدين، وقال ابن الحاجب في أماليه: إنه متعلق بالصلة والمعنى عليه بلا شبهة وإنما فروا منه لما فهموا من صلة الموصول لا تعمل فيما قبل الموصول مطلقا، وبين صلة- أل- وغيرها فرق فإن هذه على صورة الحرف المنزل منزلة الجزء من الكلمة فلا يمتنع تقديم معمولها عليها فلا حاجة إلى القول بأن تعلقه بالمذكور إنما هو على مذهب المازني الذي جعل- أل- في مثل ذلك حرف تعريف وكأنه لا يرى تقدم معمول المجرور ممتنعا وإلا لم يتم ذكره ارتفاع المحذور. وزعم بعضهم أنه يلزم بعد عمل اسم الفاعل من غير اعتماد من الغفلة بمكان لأن محل الخلاف عمله في الفاعل والمفعول به الصريح لا في الجار والمجرور الذي يكفيه رائحة الفعل وقال بعض المتأخرين: إن الصفة هنا معتمدة على اسم- كانوا- وهو مبتدأ في الأصل، والاعتماد على ذلك معتبر عندهم، ففي الرضى عند قول ابن الحاجب: والاعتماد على صاحبه ويعني بصاحبه المبتدأ إما في الحال نحو زيد ضارب أخوه أو في الأصل نحو كان زيد ضاربا أخواه. وظننتك ضاربا أخواك وإن زيدا ضارب غلاماه، وعلى هذا لا يحتاج في الجواب إلى إخراج الجار والمجرور عن حكم الفاعل والمفعول به الصريح وإن كان له وجه وجيه خلافا لمن أنكره، ومن الناس من يتمسك بعموم يتوسع في الظرف والجار والمجرور ما لا يتوسع في غيرهما في دفع ما يورد على تعلق الجار هنا بالصفة المجرور الواقعة صلة لآل كائنا ما كان فليفهم. هذا والشائع أن الباعة إخوته، والزاهدين هم، وفي بعض الآثار أنهم حين باعوه قالوا للتاجر: إنه لص آبق فقيده ووكل به عبدا أسود فلما جاء وقت ارتحالهم بكى عليه السّلام فقال له التاجر: ما لك تبكي؟ فقال: أريد أن أصل إلى الذين باعوني لأودعهم وأسلم عليهم سلام من لا يرجع إليهم، فقال التاجر للعبد: خذه واذهب به إلى مواليه ليوعدهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 396 ثم ألحقه بالقافلة فما رأيت غلاما أبر من هذا بمواليه ولا قوما أجفى منهم فتقدم العبد به إلى إخوته وكان واحد منهم مستيقظا يحرس الأغنام فلما وصل إليه يوسف وهو يعثر في قيده انكب عليه وبكى، فقال له: لماذا جئت؟ فقال: جئت لأودعكم وأسلم عليكم فصاح عليهم أخوهم قوموا إلى من أتاكم يسلم عليكم سلام من لا يرجو أن يراكم أبدا فويل لكم من هذا الوداع فقاموا فجعل يوسف ينكب على كل واحد منهم ويقبله ويعانقه، ويقول: حفظكم الله تعالى وإن ضيعتموني آواكم الله تعالى وإن طردتموني رحمكم الله تعالى وإن لم ترحموني. قيل: إن الأغنام ألقت ما في بطونها من هول هذا التوديع، ثم أخذه العبد وطلب القافلة فبينما هو على الراحلة إذ مر بقبر أمه راحيل في مقابر كنعان فلما أبصر القبر لم يتمالك أن رمى بنفسه عليه فاعتنقه وجعل يبكي ويقول: يا أماه ارفعي رأسك من التراب حتى تري ولدك مقيدا يا أماه إخوتي في الجب طرحوني ومن أبي فرقوني وبأبخس الأثمان باعوني ولم يرقوا لصغر سني ولم يرحموني فأنا أسأل الله تعالى أن يجمع بيني وبين والذي في مستقر رحمته إنه أرحم الراحمين. فالتفت العبد فلم يره فرجع فرآه على القبر فقال: والله لقد صدق مواليك إنك عبد آبق ثم لطمه لطمة شديدة فغشي عليه ثم أفاق فقال له: لا تؤاخذني هذا قبر أمي نزلت أسلم عليها ولا أعود بعد لما تكرهه أبدا ثم رفع عينيه الى السماء وقد تمرغ بالتراب والدموع في وجهه فقال: اللهم إن كانت لي خطيئة أخلقت وجهي عندك فبحرمة آبائي الكرام إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن تعفو عني وترحمني يا أرحم الراحمين فضجت الملائكة الى الله تعالى عند ذلك فقال تبارك وتعالى: يا ملائكتي هذا نبي وابن انبيائي وقد استغاث بي وأنا مغيثه ومغيث المستغيثين يا جبريل أدركه فنزل جبريل عليه السّلام فقال: يا صديق الله ربك يقرئك السلام ويقول لك: مهلا عليك فقد أبكيت ملائكة السماوات السبع أتريد أن أطبق السماء على الأرض؟ فقال: لا يا جبريل ارفق بخلق ربي فإنه حليم لا يعجل فضرب الأرض بجناحه فهبت ريح حمراء وكسفت الشمس وأظلمت الغبراء فلم ير أهل القافلة بعضهم بعضا، فقال التاجر: انزلوا قبل أن تهلكوا إن لي سنين عديدة أمر بهذا الطريق فما رأيت كاليوم فمن أصاب منكم ذنبا فليتب منه فما أصابنا هذا إلا بذنب اقترفناه فأخبره العبد بما فعل مع يوسف، وقال يا سيدي: إني لما ضربته رفع عينيه الى السماء وحرك شفتيه فقال له التاجر: ويحك أهلكتنا وأهلكت نفسك فتقدم اليه التاجر وقال: يا غلام إنا ظلمناك حين ضربناك فإن شئت أن تقتص منا فها نحن بين يديك؟ فقال يوسف: ما أنا من قوم إذا ظلموا يقتصون ولكني من أهل بيت إذا ظلموا عفوا وغفروا ولقد عفوت عنكم رجاء أن يعفو الله تعالى عني فانجلت الظلمة وسكنت الريح وأسفرت الشمس وأضاءت مشارق الأرض ومغاربها فساروا حتى دخلوا مصر آمنين وكان هذا التاجر فيما قيل: مالك بن ذعر الذي أخرجه من الجب، وقيل: غيره. وروي أنه حين ورد به مصر باعه بعشرين دينارا وزوجي نعل وثوبين أبيضين، وقيل: أدخل السوق للبيع فترافعوا في ثمنه حتى بلغ وزنه مسكا ووزنه ورقا ووزنه حريرا فاشتراه (1) بذلك العزيز الذي كان على خزائن مصر عند ملكها، وقيل: كان خباز الملك وصاحب شرابه ودوابه وصاحب السجن المشهور، والمعول عليه هو الأول، واسمه قطفير أو أطفير أو قنطورا والأول مروي عن ابن عباس، وهو المراد في قوله سبحانه: وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ فهذا الشراء غير الشراء السابق الذي كان بثمن بخس، وزعم اتحادهما ضعيف جدا وإلا لا يبقى لقوله: مِنْ مِصْرَ كثير   (1) أخرج ابن إسحاق وابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس أن مالك بن ذعر لما باع يوسف من العزيز سأله من أنت فذكر له من هو وابن من هو وكان من مدين فعرفه فقال: لو أخبرتني لم أبعك ثم طلب منه الدعاء فدعا له، وقال: بارك الله تعالى لك في أهلك فحملت امرأته اثني عشر بطنا في كل بطن غلامان، وهذا إذ صح يبعد صحة القصة فتأمل اهـ منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 397 جدوى، وكان الملك يومئذ الريان بن الوليد العمليقي ومات في حياة يوسف عليه السّلام بعد أن آمن به فملك بعده قابوس بن مصعب فدعاه الى الإيمان فأبى. وقيل: كان الملك في أيامه فرعون موسى عليه السّلام عاش أربعمائة سنة بدليل قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ [غافر: 34] ، وقيل: فرعون موسى عليه السّلام من أولاد فرعون يوسف عليه السّلام، والآية من قبيل خطاب الأولاد بأحوال الآباء وهو الصحيح، وظاهر أمر العزيز أنه كان كافرا. واستدل في البحر على ذلك بكون الصنم في بيته حسبما يذكر في بعض الروايات. وقال مجاهد: كان مؤمنا، ولعل مراده أنه آمن بعد ذاك وإلا فكونه مؤمنا يوم الاشتراء مما لا يكاد يسلم، نعم إنه اعتنى بأمر يوسف عليه السّلام ولذا قال: لِامْرَأَتِهِ راعيل (1) بنت رعابيل، وهو المروي عن مجاهد. وقال السدي: زليخا (2) بنت تمليخا، وقيل: اسمها راعيل ولقبها زليخا، وقيل: بالعكس، والجار الأول كما قال أبو البقاء: متعلق- باشتراه- كقولك اشتريته من بغداد أي فيها أو بها، أو متعلق بمحذوف وقع حالا من الذي أو من الضمير في- اشترى- أي كائنا من أهل مصر، والجار الثاني متعلق- بقال- كما أشرنا اليه لا- باشتراه- ومقول القول: أَكْرِمِي مَثْواهُ أي اجعلي محل ثوائه وإقامته كريما أي حسنا مرضيا، وهذا كناية عن إكرامه عليه السّلام نفسه على أبلغ وجه وأتمه لأن من أكرم المحل بتنظيفه وفرشه ونحو ذلك فقد أكرم ضيفه بسائر ما يكرم به، وقيل: المثوى مقحم يقال: المجلس العالي والمقام السامي والمعنى أحسني تعهده والنظر فيما يقتضيه إكرام الضيف عَسى أَنْ يَنْفَعَنا في قضاء مصالحنا إذا تدرب في الأمور وعرف مجاريها أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً أي نتبناه ونقيمه مقام الولد، وكان فيما يروى عقيما، ولعل الانفصال لمنع الخلو. وزعم بعضهم أنه لمنع الجمع على معنى عسى أن نبيعه فننتفع بثمنه وليس بشيء، وكان هذا القول من العزيز لما تفرس فيه من مخايل الرشد والنجابة، ومن ذلك قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه فيما أخرجه سعيد بن منصور والحاكم وصححه وجماعة: أفرس الناس ثلاثة: العزيز حين تفرس في يوسف فقال لامرأته: أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا إلخ. والمرأة التي أتت موسى فقالت لأبيها: يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ [القصص: 26] . وأبو بكر حين استخلف عمر وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ أي جعلنا له فيها مكانا يقال: مكنه فيه أي أثبته فيه، ومكن له فيه أي جعل له مكانا فيه، ولتقاربهما وتلازمهما يستعمل كل منهما في مقام الآخر قال سبحانه: وكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ [الأنعام: 6] والمراد بالمكان هنا المكانة والمنزلة لا البعد المجرد أو السطح الباطن من الحاوي المماس للسطح الظاهر من المحوي أو غير ذلك مما ذهب إليه من ذهب من الفلاسفة إن حقا وإن باطلا، والإشارة الى ما يفهم مما تقدم من الكلام وما فيه من معنى البعد لتفخيمه، والكاف نصب على المصدرية أي كما جعلنا له مثوى كريما في منزل العزيز أو مكانا عليا في قلبه حتى أمر امرأته دون سائر حواشيه بإكرام مثواه جعلنا له مكانة رفيعة في أرض مصر، وفسر الجعل المذكور بجعله وجيها فيما بين أهل مصر ومحببا في قلوبهم بناء على أنه الذي يؤدي الى الغاية المذكورة في قوله تعالى: وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أي بعض تعبير الرؤيا التي عمدتها رؤيا الملك وصاحبي السجن، وروي هذا المعنى عن مجاهد، وهو الظاهر كما يرشد اليه قوله عليه   (1) راعيل بوزن هابيل اهـ منه. [ ..... ] (2) هو بفتح الزاي وكسر اللام والخاء المعجمة وفي آخره ألف وهو المشهور، وقيل: إنه بضم أوله على هيئة المصغر اهـ منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 398 السّلام: ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي [يوسف: 37] سواء جعل معطوفا على غاية مقدرة ينساق إليها الكلام ويستدعيها النظام كأنه قيل: ومثل ذلك التمكين البديع مكنا ليوسف في الأرض وجلنا قلوب أهلها كافة محال محبته ليترتب. على ذلك ما يترتب مما جرى بينه وبين امرأة العزيز. ولنعلمه بعض تأويل الأحاديث فيؤدي ذلك الى الرتبة العليا والرئاسة العظمى، ولعل ترك المعطوف عليه للإشعار بعدم كونه مرادا أو جعل علة لمحذوف كأنه قيل: ولهذه الحكمة البالغة فعلنا ذلك التمكين لا لشيء غيرها مما ليس له عاقبة حميدة. واختار بعض المحققين كون ذلك إشارة الى مصدر الفعل المذكور بعده، والكاف مقحمة للدلالة على تأكيد فخامة شأن المشار اليه على ما ذكروا في وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143] والمراد به التمكين في قلب العزيز أو في منزله وكون ذلك تمكينا في الأرض بملابسة أنه عزيز فيها لما أن الذي عليه يدور تلك الأمور إنما هو التمكين في جانب العزيز وأما التمكين في جانب الناس كافة فتأديته إليها إنما هي باعتبار اشتماله على ذلك التمكين، ولا يخفى أن حمل التمكين في الأرض على التمكين في قلب العزيز. أو في منزله خلاف الظاهر، وكذا حمله على ما تقدم، ولعل الظاهر حمله على جعله ملكا يتصرف في أرض مصر بالأمر والنهي إلا أن في جعل التعليم المذكور غاية له خفاء لأن ذلك الجعل من آثاره ونتائجه المتفرعة عليه دون العكس ولم يعهد منه عليه السّلام في تضاعيف قضاياه العمل بموجب الرؤيا المنبهة على الحوادث قبل وقوعها عهدا مصححا لجعله غاية لذلك وما وقع من التدارك في أمر السنين فإنما هو عمل بموجب الرؤيا السابقة المعهودة وإرادة ليظهر تعليمنا له كما ترى، وكأن من ذهب إلى ذلك- لأنه الظاهر- أراد بتعليم تأويل الأحاديث تفهيم غوامض أسرار الكتب الإلهية ودقائق سنن الأنبياء عليهم السّلام فيكون المعنى حينئذ مكنا له في أرض مصر ليتصرف فيها بالعدل ولنعلمه معاني كتب الله تعالى وأحكامها ودقائق سنن الأنبياء عليهم السّلام فيقضي بها بين أهلها، والتعليم الإجمالي لتلك الأحاديث وإن كان غير متأخر عن تمكينه بذلك المعنى إلا أن تعليم كل معنى شخصي يتفق في ضمن الحوادث والإرشاد الى الحق في كل نازلة من النوازل متأخر عن ذلك صالح لأن يكون غاية له، وأدرج بعضهم الإنجاء تحت الإشارة بذلك، وفيه بحث فتدبر وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ لا يمنع عما يشاء ولا ينازع فيما يريد بل إنما أمره لشيء إذا أراد أن يقول له كن فيكون، ويدخل في عموم المصدر المضاف شؤونه سبحانه المتعلقة بيوسف عليه السّلام دخولا أوليا أو متول على أمر يوسف عليه السّلام فيدبره ولا يكله إلى غيره، والى رجوع ضمير أمره الى الله تعالى ذهب ابن جبير، والى رجوعه الى يوسف عليه السّلام ذهب القرطبي، وأيا ما كان فالكلام على ما في الكشف تذييل أما على الأول فلجريه مجرى قوله تعالى: إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [الإسراء: 81] من سابقه لأنه لما كان غالبا على جميع أموره لا يزاحمه أحد ولا يمتنع عليه مراد كانت إرادته تمكين يوسف وكيت وكيت، والوقوع رضيعي لبان، وأما على الثاني فلأن معناه أنه الغالب على أمره يتولاه بلطيف صنعه وجزيل إحسانه وإذا جاء نهر الله تعالى بطل نهر معقل فأين يقع كيد الإخوة وغيرهم كامرأة العزيز موقعه فهو كقوله: وعلام أركبه إذا لم أنزل ... من سابقه أعني فدعوا نزال فكنت أول نازل والآية على الأول صريحة في مذهب أهل السنة وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أن الأمر كذلك فيما يأتون ويذرون زعما منهم أن لهم من الأمر شيئا، وأنى لهم ذلك؟! وأن الأمر كله لله عزّ وجلّ، أو لا يعلمون لطائف صنعه وخفايا فضله، والمراد- بأكثر الناس- قيل: الكفار، ونقل ذلك عن ابن عطية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 399 وقيل: أهل مصر، وقيل: أهل مكة، وقيل: الأكثر بمعنى الجميع، والمراد أن جميع الناس لا يطلعون على غيبه تعالى، والأولى أن يبقى على ما يتبادر منه ولا يقتصر في تفسيره على ما تضمنته الأقوال قبل، بل يراد به من نفى عنه العلم بما تقدم كائنا ما كان، ولا يبعد أن يندرج في عمومه أهل الاعتزال وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ أي بلغ زمان انتهاء اشتداد جسمه وقوته وهو سن الوقوف عن النمو المعتد به أعني ما بين الثلاثين والأربعين، وسئل القاضي النحوي مهذب الدين محمد بن علي بن علي بن أبي طالب الخيمي عنه، فقال: هو خمس وثلاثون سنة وتمامه أربعون. وقال الزجاج: هو سبعة عشر عاما الى نحو الأربعين، وعن مجاهد وقتادة- ورواه ابن جبير- عن ابن عباس أنه ثلاثة وثلاثون أو ثلاثون أو أحد وعشرون وقال الضحاك عشرون وحكى ابن قتيبة أنه ثمان وثلاثون. وقال الحسن: أربعون، والمشهور أن الإنسان يقف جسمه عن النمو إذا بلغ ذلك، وإذا وقف الجسم وقفت القوى والشمائل والأخلاق ولذا قيل: إذا المرء وفى الأربعين ولم يكن ... له دون ما يهوى حياء ولا ستر فدعه ولا تنفس عليه الذي مضى ... وإن جر أسباب الحياة له العمر وقيل: أقصى الأشد اثنان وستون، والى كون الأشد منتهى الشباب والقول قبل أن يؤخذ في النقصان ذهب أبو عبيدة وغيره من ثقات اللغويين واستظهره بعض المحققين، وهو عند سيبويه جمع واحدة شدة- كنعمة وأنعم- وقال الكسائي والفراء: إنه جمع شدّ نحو- صك. وأصك وفلس وأفلس- وهذا على ما ذكر أبو حاتم يوجب أن يكون مؤنثا لأن كل جمع على أفعل مؤنث. وزعم عن أبي عبيدة أنه لا واحد له من لفظه عن العرب، وقال الفراء: أهل البصرة يزعمون أنه اسم واحد لكنه على بناء ندر في المفردات وقلما رأينا اسما على أفعل إلا وهو جمع آتَيْناهُ حُكْماً أي حكمة وهي في لسان الشرع العلم النافع المؤيد بالعمل لأنه بدونه لا يعتدّ به، والعمل بخلاف العلم سفه، أو حكما بين الناس وَعِلْماً يعني علم تأويل الرؤيا، وخص بالذكر لأنه غير داخل فيما قبله، أو أفرد بالذكر لأنه مما له شأن وليوسف عليه السّلام به اختصاص تام كذا قيل، وفسر بعضهم الحكمة بالنبوة والعلم بالتفقه في الدين، وقيل: الحكمة حبس النفس عن هواها وصونها عما لا ينبغي، والعلم هو العلم النظري، وقيل: أراد بالحكمة الحكم بين الناس، وبالعلم العلم بوجوه المصالح فإن الناس كانوا إذا تحاكموا الى العزيز أمره بأن يحكم بينهم لما رأى من عقله وإصابته في الرأي. وعن ابن عباس أن الحكم النبوة والعلم الشريعة وتنكيرهما للتفخيم أي حكما وعلما لا يكتنه كنههما ولا يقادر قدرهما، وتعقب كون المراد بالعلم العلم بتأويل الأحاديث- بأن قوله سبحانه: وَكَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء العجيب نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي كل من يحسن في علمه- يأباه لأن ذلك لا يصلح أن يكون جزاء لأعماله الحسنة التي من جملتها معاناة الأحزان والشدائد إلا أن يخص بعلم تأويل رؤيا الملك فإن ذلك حيث كان عند تناهي أيام البلاء صح أن يعد إيتاءه من جملة الجزاء وأما رؤيا صاحبي السجن فقد لبث عليه السّلام بعد تعبيرها في السجن بضع سنين، وفي تعليق الجزاء المذكور بالمحسنين إشعار بعلية الإحسان له وتنبيه على أنه تعالى إنما أتاه ما آتاه لكونه محسنا في أعماله متقنا في عنفوان أمره، ومن هنا قال الحسن: من أحسن عبادة الله سبحانه في شبيبته آتاه الله تعالى الحكمة في اكتهاله، واستشكل ما أفاده تعليق الحكم بالمشتق من العلية على تقدير أن يراد من الحكمة العلم المؤيد بالعمل مثلا بأن إحسان العمل لا يكون إلا بعد العلم به فلو كان العلم المؤيد به مثلا علة للإحسان بذلك لزم الدور. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 400 وأجيب بأن إحسان العمل يمكن أن يكون بطريق آخر كالتقليد والتوفيق الإلهي فيكون سببا للعلم به عن دليل عقلي أو سمعي، أو المراد الأعمال الغير المتوقفة على السمع فيكون ذلك السبب للعلم بما شرع له من الأعمال، وقال بعض المحققين: الظاهر تغاير العلمين كما في الأثر «من عمل بما علم يسر الله تعالى له علم ما لم يعلم» ، وعن الضحاك تفسير الْمُحْسِنِينَ بالصابرين على النوائب وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها رجوع إلى شرح ما جرى عليه عليه السّلام في منزل العزيز بعد ما أمر امرأته بإكرام مثواه، وقوله سبحانه: وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ إلى هنا اعتراض جيء به أنموذجا للقصة ليعلم السامع من أول الأمر أن ما لقيه عليه السّلام من الفتن التي ستحكى بتفاصيلها له غاية جميلة وعاقبة حميدة وأنه عليه السلام محسن في أعماله لم يصدر عنه ما يخل بنزاهته، والمراودة (1) المطالبة برفق من راد يرود إذا ذهب وجاء لطلب شيء، ومنه الرائد لطالب الكلأ والماء، وباعتبار الرفق قيل: رادت الإبل في مشيتها ترود رودانا، ومنه بني المرود ويقال: أرود يرود إذا رفق، ومنه بني رويد، والإرادة منقولة من راد يرود إذا سعى في طلب شيء وهي مفاعلة من واحد نحو مطالبة الدائن ومماطلة المديون ومداواة الطبيب وغير ذلك مما يكون من أحد الجانبين الفعل ومن الآخر سببه فإن هذه الأفعال وإن كانت صادرة عن أحد الجانبين لكن لما كانت أسبابها صادرة عن الجانب الآخر جعلت كأنها صادرة عنهما، قال شيخ الإسلام: وهذا باب لطيف المسلك مبني على اعتبار دقيق تحقيقه أن سبب الشيء يقوم مقامه ويطلق عليه اسمه كما في قولهم: كما تدين تدان، أي كما تجزي تجزى، فإن فعل البادئ وإن لم يكن جزاء لكنه لكونه سببا للجزاء أطلق عليه اسمه، وكذلك إرادة القيام إلى الصلاة وإرادة قراءة القرآن حيث كانتا سببا للقيام، والقراءة عبر عنهما بهما فقيل: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة: 6] فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ [النحل: 98] وهذه قاعدة مطردة مستمرة، ولما كانت أسباب الأفعال المذكورة فيما نحن فيه صادرة عن الجانب المقابل لجانب فاعلها فإن مطالبة الدائن للمماطلة التي هي من جانب الغريم وهي منه للمطالبة التي من جانب الدائن، وكذا مداواة الطبيب للمرض الذي هو من جانب المريض، وكذلك مراودتها فيما نحن فيه لجمال يوسف عليه السلام نزل صدورها عن محالها بمنزلة صدور مسبباتها التي هي تلك الأفعال فبنى الصيغة على ذلك وروعي جانب الحقيقة بأن أسند الفعل إلى الفاعل وأوقع على صاحب السبب فتأمل اهـ. وكأنه أشار بالأمر بالتأمل إلى ما فيه مما لا يخفى على ذويه، وفي الكشف المراودة منازعة في الرود بأن يكون له مقصد مجيئا وذهابا وللمفاعل مقصد آخر يقابله فيهما، ومعنى المفاعلة هاهنا إما المبالغة في رودها أو الدلالة على اختلافهما فيه فإنها طلبت منه الفعل وهو طلب منها الترك وهذا أبلغ ولما كان منازعة جيء- بعن- في قوله إذا كانت بمعنى تهيأت لا تكون اسم فعل بل تكون فعلا مسندا إلى ضمير المتكلم بل لأنه لما بينت التهيؤ بأنه له لزم كونها هي المتهيأة كما إذا قيل لك: قربني منك فقلت هيهات فإنه يدل على معنى بعدت بالقرينة. وقرأ ابن كثير وأهل مكة هَيْتَ بفتح الهاء وسكون الياء وضم التاء تشبيها له بحيث. وقرأ أبو الأسود وابن أبي إسحاق وابن محيصن وعيسى البصرة وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «هيت» بفتح الهاء وسكون الياء وكسر التاء تشبيها له بجير، والكلام فيها على هاتين القراءتين كالكلام فيها على القراءة السابقة. وقرأ نافع وابن عامر وابن ذكوان والأعرج وشيبة وأبو جعفر «هيت» بكسر الهاء بعدها ياء ساكنة وتاء مفتوحة،   (1) وزعم بعضهم أن «ما» هنا من الرويد وهو الرفق والتحمل فافهم اهـ منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 401 وحكى الحلواني عن هشام أنه قرأ كذلك إلا أنه همز، وتعقب ذلك الداني تبعا لأبي على الفارسي في الحجة، وقد تبعه أيضا جماعة بأن فتح التاء فيما ذكر وهم من الراوي لأن الفعل حينئذ من التهيؤ، ويوسف عليه السلام لم يتهيأ لها بدليل وَراوَدَتْهُ إلخ فلا بد من ضم التاء، ورد ذلك صاحب النشر بأن المعنى على ذلك تهيأ لي أمرك لأنها لم يتيسر لها الخلوة به قبل أو حسنت هيئتك، ولَكَ على المعنيين للبيان، والرواية عن هشام صحيحة جاءت من عدة طرق، وروي عنه أيضا (1) أنه قرأ بكسر الهاء والهمزة وضم التاء، وهي رواية أيضا عن ابن عباس وابن عامر وأبي عمرو أيضا وقرأ كذلك أبو رجاء وأبو وائل وعكرمة ومجاهد وقتادة وطلحة وآخرون (2) . وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وابن أبي إسحاق كذلك إلا أنهما سهلا الهمزة، وذكر النحاس أنه قرىء بكسر الهاء بعدها ياء ساكنة وكسر التاء، وقرىء أيضا هيا بكسر الهاء وفتحها وتشديد الياء، وهي على ما قال ابن هشام: لغة في هَيْتَ، وقال بعضهم: إن القراءات كلها لغات وهي فيها اسم فعل بمعنى هلم، وليست التاء ضميرا، وقال آخر: إنها لغات والكلمة عليها اسم فعل إلا على قراءة ضم التاء مع الهمز وتركه فإن الكلمة عليها تحتمل أن تكون فعلا رافعا لضمير المتكلم من هاء الرجل يهيء كجاء يجيء إذا حسنت هيئته. أو بمعنى تهيأت، يقال: هئت وتهيأت بمعنى، وإذا كانت فعلا تعلقت اللام بها، ونقل عن ابن عباس أيضا أنه قرأ هييت مثل حببت وهي في ذلك فعل مبني للمفعول مسهل الهمزة من هيأت الشيء كأن أحدا هيأها له عليه السلام قالَ مَعاذَ اللَّهِ نصب على المصدر يقال: عذت عوذا وعياذا وعياذة ومعاذا أي أعوذ بالله عزّ وجلّ معاذا مما تريدين مني، وهذا اجتناب منه عليه السّلام على أتم الوجوه وإشارة إلى التعليل بأنه منكر هائل يجب أن يعاذ بالله جلّ وعلا للخلاص منه، وما ذلك إلا لأنه قد علم بما أراه الله تعالى ما هو عليه في حد ذاته من غاية القبح ونهاية السوء، وقوله تعالى: إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ تعليل ببعض الأسباب الخارجية مما عسى يكون مؤثرا عندها وداعيا لها إلى اعتباره بعد التنبيه على سببه الذاتي التي لا تكاد تقبله لما سولته لها نفسها، والضمير للشأن، وفي تصدير الجملة به من الإيذان بفخامة مضمونها ما فيه مع زيادة تقريره في الذهن أي إن الشأن الخطير هذا أي هو ربي أي سيدي العزيز أحسن تعهدي حيث أمرك بإكرامي على أكمل وجه فكيف يمكن أن أسيء إليه بالخيانة في حرمه؟! وفيه إرشاد لها إلى رعاية حق العزيز بألطف وجه، وإلى هذا المعنى ذهب مجاهد والسدي، تعالى: عَنْ نَفْسِهِ كما تقول: جاذبته عن كذا دلالة على الإبعاد وتحصيل الجذب البالغ، ولهذا قال في الأساس: ومن المجاز راوده عن نفسه خادعه عنها. وقال الزمخشري هنا: أي فعلت ما يفعل المخادع بصاحبه عن الشيء الذي لا يريد أن يخرجه من يده، ولا شك أن هذا إنما يحصل من المنازعة في الرود، ولهذه النكتة جعل كناية عن التمحل لموافقته إياها، والعدول عن التصريح باسمها للمحافظة على الستر ما أمكن أو للاستجهان بذكره، وإيراد الموصول دون امرأة العزيز مع أنه أخصر وأظهر لتقرير المراودة فإن كونه في بيتها مما يدعو إلى ذلك (3) ولإظهار كمال نزاهته عليه السلام فإن عدم ميله إليها مع دوام مشاهدته لمحاسنها واستعصائه عليها مع كونه تحت يدها ينادي بكونه عليه السلام في أعلى معارج العفة، وإضافة البيت إلى ضميرها لما أن العرب تضيف البيوت إلى النساء باعتبار أنهن القائمات بمصالحه أو الملازمات له، وخرج   (1) وانفرد الهذلي عنه برواية ترك الهمز اهـ منه. (2) منهم يحيى بن وثاب، والمقري اهـ منه. (3) قيل لواحدة: ما حملك على ما أنت عليه مما لا خير فيه؟ قالت: قرب الوساد اهـ منه (2) . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 402 على ذلك قوله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب: 33] وكثر في كلامهم صاحبة البيت وربة البيت للمرأة ومن ذلك. يا ربة البيت قومي غير صاغرة وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ أي أبواب البيت، وتشديد الفعل للتكثير في المفعول إن قلنا: إن الأبواب كانت سبعة كما قيل، فإن لم نقل به فهو لتكثير الفعل فكأنه غلق مرة بعد مرة أو بمغلاق بعد مغلاق، وجمع الْأَبْوابَ حينئذ إما لجعل كل جزء منه كأنه باب أو لجعل تعدد إغلاقه بمنزلة تعدده، وزعم بعضهم أنه لم يغلق إلا بابان: باب الدار وباب الحجرة التي هما فيها. وادعى بعض المتأخرين أن التشديد للتعدية وأن كونه للتكثير وهم معللا ذلك بأن غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ غلقا لغة رديئة متروكة حسبما ذكره الجوهري، ورد بأن إفادة التعدية لا تنافي إفادة التكثير معها فإن مجرد التعدية يحصل بباب الأفعال فاختيار التفعيل عليه لأحد الأمرين، ولذا قال الجوهري أيضا: وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ شدد للتكثير اهـ. وفي الحواشي الشهابية أنه لم يتنبه الراد لأن ما نقله عليه لا له لأن الرديء الذي ذكره اللغويون إنما هو استعمال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 403 الثلاثي منه لا أن له ثلاثيا لازما حتى يتعين كون التفعيل للتعدية فتعديه لازم في الثلاثي وغيره سواء كان رديئا أو فصيحا فتعين أنه للتكثير، وقد قال بذلك غير واحد، فالواهم ابن أخت خالة الموهم فافهم. وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ أي أسرع فهي اسم فعل أمر مبني على الفتح كأين، وفسرها الكسائي والفراء بتعال، وزعما أنها كلمة حورانية وقعت إلى أهل الحجاز فتكلموا بها وقال أبو زيد: هي عبرانية، وعن ابن عباس والحسن هي سريانية، وقال السدي: هي قبطية. وقال مجاهد وغيره هي عربية تدعوه بها إلى نفسها (1) وهي كلمة حث وإقبال، واللام للتبيين كالتي في سقيا لك فهي متعلقة بمحذوف أي إرادتي كائنة لك أو أقول لك، وجوز كونها اسم فعل خبري كهيهات، واللام متعلقة بها والمعنى تهيأت لك، وجعلها بعضهم على هذا للتبيين متعلقة بمحذوف أيضا لأن اسم الفعل لا يتعلق به الجار، والتاء مطلقا من بنية الكلمة، وليس تفسيرها بتهيأت لكون الدال على التكلم التاء ليرد أنها وابن أبي إسحاق، وتعقب بأن فيه إطلاق الرب على غيره تعالى فإن أريد به الرب بمعنى الخالق فهو باطل لأنه يمكن أن يطلق نبي كريم على مخلوق ذلك، وإذا أريد به السيد فهو عليه السلام في الحقيقة مملوك له، ومن هنا- وإن كان فيما ذكر نظر ظاهر- اختار في البحر أن الضمير لله تعالى، ورَبِّي خبر إن، وأَحْسَنَ مَثْوايَ خبر ثان، أو هو الخبر، والأول بدل من الضمير أي إنه تعالى خالقي أحسن مثواي بعطف قلب من أمرك بإكرامي عليّ فكيف أعصيه بارتكاب تلك الفاحشة الكبيرة؟ وفيه تحذير لها عن عقاب الله تعالى، وجوز على تقدير أن يكون الرب بمعنى الخالق كون الضمير للشأن أيضا، وأيا ما كان ففي الاقتصار على ذكر هذه الحالة من غير تعرض لاقتضائها الامتناع عما دعته إليه إيذان بأن هذه المرتبة من البيان كافية في الدلالة على استحالته وكونه مما لا يدخل تحت الوقوع أصلا، وقوله تعالى: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ تعليل غب تعليل للامتناع المذكور، والفلاح الظفر وإدراك البغية، وذلك ضربان: دنيوي، وأخروي، فالأول الظفر بالسعادات التي تطيب بها حياة الدنيا وهو البقاء والغنى والعز والثاني أربعة أشياء: بقاء بلا فناء، وغنى بلا فقر، وعز بلا ذل وعلم بلا جهل ولذلك قيل: لا عيش إلّا عيش الآخرة، ومعنى أفلح دخل في الفلاح كأصبح وأخواتها، ولعل المراد به هنا الفلاح الأخروي، وبالظالمين كل من ظلم كائنا من كان فيدخل في ذلك المجازون للإحسان بالإساءة والعصاة لأمر الله تعالى دخولا أوليا، وقيل: الزناة لأنهم ظالمون لأنفسهم، وللمزني بأهله، وقيل: الخائنون لأنهم ظالمون لأنفسهم أيضا ولمن خانوه وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ أي بمخالطته إذ الهمّ- سواء استعمل بمعنى القصد والإرادة مطلقا أو بمعنى القصد الجازم والعقد الثابت كما هو المراد هاهنا، لا يتعلق بالأعيان. والمعنى أنها قصدت المخالطة وعزمت عليها عزما جازما لا يلويها عنه صارف بعد ما باشرت مباديها وفعلت ما فعلت مما قص الله تعالى، ولعلها تصدت هنالك لأفعال أخر من بسط يدها إليه وقصد المعانقة وغير ذلك مما اضطره عليه السلام إلى الهرب نحو الباب، والتأكيد لدفع ما عسى يتوهم من احتمال إقلاعها عما كانت عليه بما في مقالته عليه السلام من الزواجر وَهَمَّ بِها أي مال إلى مخالطتها بمقتضى الطبيعة البشرية كميل الصائم في اليوم الحار إلى الماء البارد، ومثل ذلك لا يكاد يدخل تحت التكليف لا أنه عليه السلام قصدها قصدا اختياريا لأن ذلك أمر مذموم تنادي الآيات على عدم اتصافه عليه السلام به، وإنما عبر عنه بالهم لمجرد وقوعه في صحبة همها في الذكر بطريق   (1) قال أبو حيان: ولا يبعد اتفاق اللغات في لفظة واحدة، وقد وجد ذلك في كلام العرب مع لغات غيرهم، وقال الجوهري: هوت وهيت به صاح به، ودعاء، ولا يبعد أن يكون مشتقا من اسم الفعل كما اشتقوا من الجمل نحو سبح وحمدل اهـ منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 404 المشاكلة لا لشبهه به كما قيل، وقد أشير إلى تغايرهما كما قال غير واحد: حيث لم يلزا في قرن واحد من التعبير بأن قيل: ولقد هما بالمخالطة أو هم كل منهما بالآخر وأكد الأول دون الثاني. لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ أي حجته الباهرة الدالة على كمال قبح الزنا وسوء سبيله، والمراد برؤيته لها كمال إيقانه بها ومشاهدته لها مشاهدة واصلة إلى مرتبة عين اليقين، وقيل: المراد برؤية البرهان حصول الأخلاق وتذكر الأحوال الرادعة من الإقدام على المنكر، وقيل: رؤية وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا [الإسراء: 32] مكتوبا في السقف، وجواب لَوْلا محذوف يدل عليه الكلام أي لولا مشاهدته البرهان لجرى على موجب ميله الجبلي لكنه حيث كان مشاهدا له استمر على ما هو عليه من قضية البرهان، هذا ما ذهب إليه بعض المحققين في معنى الآية وهو قول بإثبات هم له عليه السلام إلّا أنه هم غير مذموم. وفي البحر أنه لم يقع منه عليه السلام هم بها البتة بل هو منفي لوجود رؤية البرهان كما تقول: قارفت الذنب لولا أن عصمك الله تعالى ولا نقول: إن جواب لَوْلا متقدم عليها وإن كان لا يقوم دليل على امتناع ذلك بل صريح أدوات الشرط العاملة مختلف في جواز تقديم أجوبتها عليها، وقد ذهب إلى الجواز الكوفيون. ومن أعلام البصريين أبو زيد الأنصاري وأبو العباس المبرد بل نقول: إن جواب لَوْلا محذوف لدلالة ما قبله عليه كما يقول جمهور البصريين في قول العرب: أنت ظالم إن فعلت كذا فيقدرونه إن فعلت فأنت ظالم، ولا يدل قولهم: أنت ظالم على ثبوت الظلم بل هو مثبت على تقدير وجود الفعل، وكذلك هاهنا التقدير لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ لهم بها فكان يوجد الهمّ على تقدير انتفاء رؤية البرهان لكنه وجد رؤية البرهان فانتفى الهم، والمراد بالبرهان ما عنده عليه السلام من العلم الدال على تحريم ما همت به وأنه لا يمكن الهم فضلا عن الوقوع فيه، ولا التفات إلى قول الزجاج: ولولا كان الكلام ولهم بها كان بعيدا فكيف مع سقوط اللام لأنه توهم أن قوله تعالى: هَمَّ بِها هو جواب لَوْلا ونحن لم نقل بذلك، وإنما قلنا إنه دليل الجواب على أنه على تقدير أن يكون نفس الجواب قد يقال: إن اللام ليست بلازمة بل يجوز أن يأتي جواب لَوْلا إذا كانت بصيغة الماضي باللام وبدونها فيقال: لولا زيد لأكرمتك ولو زيد أكرمتك، فمن ذهب إلى أن المذكور هو نفس الجواب لم يبعد، وكذا لا التفات أيضا لقول ابن عطية: إن قول من قال إن الكلام قد تم في قوله تعالى: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وأن جواب لَوْلا في قوله سبحانه: وهَمَّ بِها وأن المعنى، لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ لهم بها فلم يهم يوسف عليه السلام يرده لسان العرب، وأقوال السلف لما في قوله: يرده لسان العرب من البحث. وقد استدل من ذهب إلى الجواز بوجوده في لسان العرب فقد قال سبحانه: إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها [القصص: 10] فقوله سبحانه: إِنْ كادَتْ إلخ إما أن يكون هو الجواب على ما ذهب إليه ذلك القائل، وإما أن يكون دليل الجواب على ما قرّرناه، وأما أقوال السلف فالذي نعتقده أنه لم يصح منها شيء عنهم لأنها أقوال متكاذبة يناقض بعضها بعضا مع كونها قادحة في بعض فساق المسلمين فضلا عن المقطوع لهم بالعصمة على أن ما روي لا يساعد عليه كلام العرب لأنه يقتضي كون الجواب محذوفا لغير دليل لأنهم لم يقدروا بناء على ذلك لهمّ بها وكلام العرب لا يدل إلّا على أن يكون المحذوف من معنى ما قبل الشرط لأنه الدليل عليه، هذا وممن ذهب إلى تحقق الهمّ القبيح منه عليه السلام الواحدي فإنه قال في كتاب البسيط: قال المفسرون الموثوق بعلمهم المرجوع إلى روايتهم الآخذون للتأويل عمن شاهد التنزيل: هم يوسف عليه السلام أيضا بهذه المرأة هما صحيحا وجلس منها مجلس الرجل من المرأة فلما رأى البرهان من ربه زال كل شهوة عنه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 405 قال أبو جعفر الباقر: رضي الله تعالى عنه بإسناده عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: «طمعت فيه وطمع فيها» وكان طمعه فيها أن هم أن يحل التكة. وعن ابن عباس أنه حل الهيمان وجلس منها مجلس الخائن، وعنه أيضا أنها استلقت له وقعد بين رجليها ينزع ثيابه، ورووا في البرهان روايات شتى: منها ما أخرجه أبو نعيم في الحلية عن علي كرم الله تعالى وجهه أنها قامت إلى صنم مكلل بالدر والياقوت في ناحية البيت فسترته بثوب أبيض بينها وبينه، فقال عليه السلام: أي شيء تصنعين؟ فقالت: أستحي من إلهي أن يراني على هذه السوأة فقال: تستحين من صنم لا يأكل ولا يشرب ولا أستحي أنا من إلهي الذي هو قائم على كل نفس بما كسبت؟ ثم قال: لا تناليها مني أبدا وهو البرهان الذي رأى، ومنها ما أخرجه ابن جرير وغيره عن ابن عباس أنه عليه السلام مثل له يعقوب عليه السلام فضرب بيده على صدره، ومنها ما أخرجه عن قتادة أنه قال: ذكر لنا أنه مثل له يعقوب عاضا على إصبعيه وهو يقول: يا يوسف أتهمّ بعمل السفهاء وأنت مكتوب من الأنبياء، ومنها ما أخرجه عن القاسم بن أبي بزة قال: نودي يا ابن يعقوب لا تكونن كالطير له ريش فإذا زنى قعد ليس له ريش فلم يعرض للنداء وقعد فرفع رأسه فرأى وجه يعقوب عاضا على إصبعه فقام مرعوبا استحياء من أبيه إلى غير ذلك، وتعقب الإمام الرازي ما ذكر بأن هذه المعصية التي نسبوها إلى يوسف- وحاشاه- من أقبح المعاصي وأنكرها، ومثلها لو نسب إلى أفسق خلق الله تعالى وأبعدهم عن كل خير لاستنكف منه، فكيف يجوز إسناده إلى هذا الصديق الكريم؟ وأيضا إن الله سبحانه شهد بكون ماهية السوء وماهية الفحشاء مصروفتين عنه، ومع هذه الشهادة كيف يقبل القول بنسبة أعظم السوء والفحشاء إليه عليه السلام، وأيضا إن هذا الهم القبيح لو كان واقعا منه عليه السلام كما زعموا وكانت الآية متضمنة له لكان تعقيب ذلك بقوله تعالى: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ خارجا عن الحكمة لأنا لو سلمنا أنه لا يدل على نفي المعصية فلا أقل من أن يدل على المدح العظيم، ومن المعلوم أنه لا يليق بحكمة الله تعالى أن يحكي إقدامه على معصية عظيمة ثم إنه يمدحه ويثني عليه بأعظم المدائح والأثنية، وأيضا إن الأكابر كالأنبياء متى صدرت عنهم زلة أو هفوة استعظموا ذلك وأتبعوه بإظهار الندامة والتوبة والتخضع والتنصل فلو كان يوسف عليه السلام أقدم على هذه الفاحشة المنكرة لكان من المحال أن لا يتبعها بذلك، ولو كان قد أتبعها لحكى وحيث لم يكن علمنا أنه ما صدر عنه هذه في هذه الواقعة ذنب أصلا، وأيضا جميع من له تعلق بهذه الواقعة قد أفصح ببراءة يوسف عليه السلام عن المعصية كما لا يخفى على من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ومن نظر في قوله سبحانه: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ رآه أفصح شاهد على براءته عليه السلام، ومن ضم إليه قول إبليس: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: 82، 83] وجد إبليس مقرا بأنه لم يغوه ولم يضله عن سبيل الهدى كيف وهو عليه السلام من عباد الله تعالى المخلصين بشهادة الله تعالى، وقد استثناهم من عموم لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. وعند هذا يقال للجهلة الذين نسبوا إلى يوسف عليه السلام تلك الفعلة الشنيعة: إن كانوا من أتباع الله سبحانه فليقبلوا شهادة الله تعالى على طهارته عليه السلام، وإن كانوا من أتباع إبليس فليقبلوا شهادته، ولعلهم يقولون كنا في أول الأمر من تلامذته إلى أن تخرجنا فزدنا عليه في السفاهة كما قال الحريري: وكنت امرأ من جند إبليس فانتهى ... بي الحال حتى صار إبليس من جندي فلو مات قبلي كنت أحسن بعده ... طرائق فسق ليس يحسنها بعدي ومن أمعن النظر في الحجج وأنصف جزم أنه لم يبق في يد الواحدي ومن وافقه إلا مجرد التصلف وتعديد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 406 أسماء المفسرين ولم يجد معهم شبهة في دعواهم المخالفة لما شهد له الآيات البينات سوى روايات واهيات. وقد ذكر الطيبي طيب الله تعالى ثراه بعد أن نقل ما حكاه محيي السنة عن بعض أهل الحقائق من أن الهم همان: هم ثابت وهو ما كان معه عزم وعقد ورضا مثل هم امرأة العزيز. وهم عارض وهو الخطرة وحديث النفس من غير اختيار ولا عزم مثل هم يوسف عليه السلام أن هذا التفسير هو الذي يجب ان نذهب اليه ونتخذه مذهبا، وإن نقل المفسرون ما نقلوا لأن متابعة النص القاطع وبراءة المعصوم عن تلك الرذيلة وإحالة التقصير على الرواة أولى بالمصير اليه على أن أساطين النقل المتقنين لم يرووا في ذلك شيئا مرفوعا في كتبهم، وجل تلك الروايات بل كلها مأخوذ من مسألة أهل الكتاب اهـ، نعم قد صحح الحاكم بعضا من الروايات التي استند إليها من نسب تلك الشنيعة إليه عليه السلام لكن تصحيح الحاكم محكوم عليه بعدم الاعتبار عند ذوي الاعتبار. وفي إرشاد العقل السليم بعد نقل نبذة منها إن كل ذلك إلا خرافات وأباطيل تمجها الآذان وتردها العقول والأذهان ويل لمن لاكها ولفقها أو سمعها وصدقها، ثم إن الإمام عليه الرحمة ذكر في تفسير الآية الكريمة بعد أن منع دلالتها على الهم ما حاصله: إنا سلمنا أن الهم قد حصل إلا أنا نقول: لا بد من إضمار فعل مخصوص يجعل متعلق الهم إذ الذوات لا تصلح ولا يتعين ما زعموه من إيقاع الفاحشة بها بل نضمره شيئا آخر يغاير ما أضمروه، فنقول: المراد هم بدفعها عن نفسه ومنعها عن ذلك القبيح لأنه الذي يستدعيه حاله عليه السلام، وقد جاء هممت بفلان أي قصدته ودفعته ويضمر في الأول المخالطة والتمتع ونحو ذلك لأنه اللائق بحالها، فإن قالوا: لا يبقى حينئذ لقوله سبحانه: لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ فائدة؟ قلنا: بل فيه أعظم الفوائد وبيانه من وجهين. الأول أنه تعالى أعلم يوسف أنه لو هم بدفعها لفعلت معه ما يوجب هلاكه فكان في الامتناع عن ذلك صون النفس عن الهلاك، الثاني أنه لو اشتغل بدفعها فلربما تعلقت به فكان يتمزق ثوبه من قدام وكان في علم الله تعالى أن الشاهد يشهد بأن ثوبه لو كان متمزقا من قدام لكان هو الجاني. ولو كان متمزقا من خلف لكانت هي الجانية فأعلمه هذا المعنى فلا جرم لم يشتغل بدفعها وفر عنها حتى صارت الشهادة حجة له على براءته عن المعصية، والى تقدير الدفع (1) ذهب بعض السادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم ففي الجواهر والدرر للشعراني: سألت شيخنا عن قوله تعالى وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها ما هذا الهم الذي أبهم فقد تكلم الناس فيه بما لا يليق برتب الأنبياء عليهم السلام؟ فقال: لا أعلم، قلت: قد ذكر الشيخ الأكبر قدس سره أن مطلق اللسان يدل على أحدية المعنى، ولكن ذلك أكثري لا كلي فالحق أنها همت به عليه السلام لتقهره على ما أرادته منه، وهم هو بها ليقهرها في الدفع عما أرادته منه فالاشتراك في طلب القهر منه ومنها والحكم مختلف، ولهذا قالت: أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ [يوسف: 51] وما جاء في السورة أصلا أنه راودها عن نفسها اهـ، وجوز الإمام أيضا تفسير الهم بالشهوة، وذكر أنه مستعمل في اللغة الشائعة فإنه يقول القائل فيما لا يشتهيه: لا يهمني هذا، وفيما يشتهيه: هذا أهم الأشياء الي، وهو ما أشرنا اليه أولا إلا أنه عليه الرحمة حمل الهم في الموضعين على ذلك فقال بعد: فمعنى الآية ولقد اشتهته واشتهاها ولولا أن رأى برهان ربه لفعل وهو مما لا داعي اليه إذ لا محذور في نسبة الهم المذموم إليها، والظاهر أن الهم بهذا المعنى مجاز كما نص عليه السيد المرتضى في درره لا حقيقة كما يوهمه ظاهر كلام الإمام، وقد ذهب الى هذا التأويل أبو علي الجبائي وغيره، وروي ذلك عن الحسن، وبالجملة لا ينبغي التعويل على ما شاع في الأخبار والعدول عما ذهب اليه المحققون الأخيار،   (1) وجوزه من الإمامية السيد المرتضى في الدرر اهـ منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 407 وإياك والهم بنسبة تلك الشنيعة الى ذلك الجناب بعد أن كشف الله سبحانه عن بصر بصيرتك فرأيت برهان ربك بلا حجاب كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ قيل: خيانة السيد وَالْفَحْشاءَ الزنا لأنه مفرط القبح، وقيل: السُّوءَ مقدمات الفحشاء من القبلة والنظر بشهوة. وقيل: هو الأمر السيّء مطلقا فيدخل فيه الخيانة المذكورة وغيرها، والكاف على ما قيل: في محل نصب، والإشارة الى التثبيت اللازم للإراءة المدلول عليها بقوله سبحانه: لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه لِنَصْرِفَ إلخ، وقال ابن عطية: إن الكاف متعلقة بمضمر تقديره جرت أفعالنا وأقدارنا كَذلِكَ لِنَصْرِفَ، وقدر أبو البقاء نراعيه كذلك، والحوفي أريناه البراهين كذلك، وجوز الجميع كونه في موضع رفع فقيل: أي الأمر أو عصمته مثل ذلك لكن قال الحوفي: إن النصب أجود لمطالبة حروف الجر للأفعال أو معانيها، واختار في البحر كون الإشارة الى الرؤية المفهومة من رأي أو الرأي المفهوم، وقد جاء مصدر الرأي كالرؤية كما في قوله: ورأى عيني الفتى أباكا ... يعطى الجزيل فعليك ذاكا والكاف في موضع نصب بما دل عليه قوله سبحانه: لَوْلا أَنْ رَأى إلخ، وهو أيضا متعلق لِنَصْرِفَ أي مثل الرؤية أو الرأي يرى براهيننا لِنَصْرِفَ إلخ، وقيل (1) غير ذلك، ومما لا ينبغي أن يلتفت إليه ما قيل: إن الجار والمجرور متعلق بهم، وفي الكلام تقديم وتأخير وتقديره ولقد همت به وهم بها كذلك لولا أن رأى برهان ربه لنصرف عنه إلخ، ولا يخفى ما في التعبير بما في النظم الجليل دون لنصرفه عن السوء والفحشاء من الدلالة على رد من نسب إليه ما نسب والعياذ بالله تعالى. وقرأ الأعمش- ليصرف- بياء الغيبة وإسناد الصرف إلى ضمير الرب سبحانه إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ تعليل لما سبق من مضمون الجملة بطريق التحقيق، والمخلصون هم الذين أخلصهم الله تعالى واختارهم لطاعته بأن عصمهم عما هو قادح فيها، والظاهر أن المراد الحكم عليه بأنه مختار لطاعته سبحانه، ويحتمل على ما قيل: أن يكون المراد أنه من ذرية إبراهيم عليه السلام الذين قال فيهم جلّ وعلا: إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ [ص: 46] . وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر المخلصين إذا كان فيه أل حيث وقع بكسر اللام وهم الذين أخلصوا دينهم لله تعالى، ولا يخفى ما في التعبير بالجملة الاسمية من الدلالة على انتظامه عليه السلام في سلك أولئك العباد الذين هم من أول الأمر لا أنه حدث له ذلك بعد أن لم يكن، وفي هذا عند ذوي الألباب ما ينقطع معه عذر أولئك المتشبثين بأذيال هاتيك الأخبار التي ما أنزل الله تعالى بها من كتاب وَاسْتَبَقَا الْبابَ متصل بقوله سبحانه: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها إلخ، وقوله تعالى: كَذلِكَ إلخ اعتراض جيء به بين المعطوفين تقريرا لنزاهته عليه السلام، والمعنى لقد همت به وأبى هو واستبقا أي تسابقا إلى الباب على معنى قصد كل من يوسف عليه السلام وامرأة العزيز سبق الآخر إليه فهو ليخرج وهي لتمنعه من الخروج وقيل: المراد من السبق في جانبها الإسراع إثره إلّا أنه عبر بذلك للمبالغة، ووحد الباب هنا مع جمعه أولا لأن المراد الباب البراني الذي هو المخلص واستشكل بأنه كيف يستبقان إليه ودونه أبواب جوانية بناء على ما ذكروا من أن الأبواب كانت سبعة. وأجيب بأنه روي عن كعب أن أقفال هاتيك الأبواب كانت تتناثر إذا قرب إليها يوسف عليه السلام وتتفتح له   (1) ومما قيل: إن الكاف في موضع نصب، والإشارة إلى الإراءة المدلول عليها بما تقدم أي مثل ذلك التبصير والتعريف عرفناه برهاننا فيما قبل اهـ منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 408 ويحتمل أنّه لم تكن تلك الأبواب المغلقة على الترتيب بابا فبابا بل كانت في جهات مختلفة كلها منافذ للمكان الذي كانا فيه فاستبقا إلى باب يخرج منه، ونصب الباب على الاتساع لأن أصل استبق أن يتعدى بإلى لكن جاء كذلك على حد وَإِذا كالُوهُمْ [المطففين: 3] وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا [الأعراف: 155] ، وقيل: إنه ضمن الاستباق معنى الابتدار فعدى تعديته وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ يحتمل أن يكون معطوفا على اسْتَبَقَا، ويحتمل أن يكون في موضع الحال كما قال أبو حيان أي وقد قدت، والقدّ القطع والشق وأكثر استعماله فيما كان طولا وهو المراد هنا بناء على ما قيل: إنها جذبته من وراء فانخرق القميص إلى أسفله، ويستعمل القط فيما كان عرضا، وعلى هذا جاء ما قيل في وصف علي كرم الله تعالى وجهه: إنه كان إذا اعتلى قدّ وإذا اعترض قط، وقيل، القدّ هنا مطلق الشق، ويؤيده ما نقل عن ابن عطية أنه قرأت فرقة- وقط- وقد وجد ذلك في مصحف المفضل بن حرب. وعن يعقوب تخصيص القدّ بما كان في الجلد والثوب الصحيحين، والقميص معروف، وجمعه أقمصة، وقمص، وقمصان، وإسناد القدّ بأي معنى كان إليها خاصة مع أن لقوة يوسف عليه السلام أيضا دخلا فيه إما لأنها الجزء الأخير للعلة التامة، وإما للإيذان بمبالغتها في منعه عن الخروج وبذل مجهودها في ذلك لفوت المحبوب أو لخوف الافتضاح وَأَلْفَيا أي وجدا، وبذلك قرأ عبد الله سَيِّدَها أي زوجها وهو فيعل (1) من ساد يسود، وشاع إطلاقه على المالك وعلى الرئيس، وكانت المرأة إذ ذاك على ما قيل: تقول لزوجها سيدي، ولذا لم يقل سيدهما، وفي البحر إنما لم يضف إليهما لأنه لم يكن مالكا ليوسف حقيقة لحريته لَدَى الْبابِ أي عند الباب البراني، قيل: وجداه يريد أن يدخل مع ابن عم لها قالَتْ استئناف مبني على سؤال سائل يقول: فماذا كان حين ألفيا السيد عند الباب، فقيل، فقالت: ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً من الزنا ونحوه. إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ الظاهر أن ما نافية، وجَزاءُ مبتدأ، ومِنْ موصولة أو موصوفة مضاف إليه، والمصدر المؤول خبر، وأَوْ للتنويع خبر المبتدأ وما بعد معطوف على ذلك المصدر أي ليس جزاؤه إلّا السجن أو العذاب الأليم، والمراد به على ما قيل: الضرب بالسوط، وعن ابن عباس أنه القيد، وجوز أن تكون ما استفهامية- فجزاء- مبتدأ أو خبر أي أي شيء جزاؤه غير ذلك أو ذلك، ولقد أتت في تلك الحالة التي يدهش فيها الفطن اللوذعي حيث شاهدها زوجها على تلك الهيئة بحيلة جمعت فيها غرضيها وهما تبرئة ساحتها مما يلوح من ظاهر الحال، واستنزال يوسف عليه السلام عن رأيه في استعصائه عليها وعدم مواتاته لها على مرادها بإلقاء الرعب في قلبه من مكرها طمعا في مواقعته لها مكرها عند يأسها عن ذلك مختارا كما قالت: لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ [يوسف: 32] ثم إنها جعلت صدور الإرادة المذكورة عن يوسف عليه السلام أمرا محققا مفروغا عنه غنيا عن الإخبار بوقوعه، وإن ما هي عليه من الأفاعيل لأجل تحقيق جزائها، ولم تصرح بالاسم بل أتت بلفظ عام تهويلا للأمر ومبالغة في التخويف كأن ذلك قانون مطرد في حق كل أحد كائنا من كان، وذكرت نفسها بعنوان أهلية العزيز إعظاما للخطب وإغراء له على تحقيق ما يتوخاه بحكم الغضب والحمية كذا قرّره غير واحد. وذكر الإمام في تفسيره ما فيه نوع مخالفة لذلك حيث قال: إن في الآية لطائف: أحدها أن حبها الشديد ليوسف عليه السلام حملها على رعاية دقيقتين في هذا الموضع وذلك لأنها بدأت بذكر السجن وأخرت ذكر العذاب لأن المحب لا يسعى في إيلام المحبوب، وأيضا إنها لم تذكر أن يوسف عليه السلام يحب أن يقابل بأحد هذين   (1) وهذا البناء مختص بالمعتل وشذ في غيره اهـ منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 409 الأمرين بل ذكرت ذلك ذكرا كليا صونا للمحبوب عن الذكر بالشر والألم، وأيضا قالت: إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ والمراد منه أن يسجن يوما، أو أقل على سبيل التخفيف، فأما الحبس الدائم فإنه لا يعبر عنه بهذه العبارة بل يقال: يجب أن يجعل من المسجونين، ألا ترى أن فرعون كيف قال حين هدد موسى عليه السلام: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء: 29] . وثانيها أنها لما شاهدت من يوسف عليه السلام أنه استعصم منها مع أنه كان في عنفوان الشباب وكمال القوة ونهاية الشهوة عظم اعتقادها في طهارته ونزاهته فاستحيت أن تقول: إن يوسف قصدني بسوء وما وجدت ممن نفسها أن ترميه بهذا الكذب على سبيل التصريح بل اكتفت بهذا التعريض، وليت الحشوية كانوا يكتفون بمثل ما اكتفت به، ولكنهم لم يفعلوه ووصفوه بعد قريب من أربعة آلاف سنة بما وصفوه من القبيح وحاشاه. وثالثها أن يوسف عليه السلام أراد أن يضربها ويدفعها عن نفسه وكان ذلك بالنسبة إليها جاريا مجرى السوء فقولها ما جَزاءُ إلخ جار مجرى التعريض فلعلها بقلبها كانت تريد إقدامه على دفعها ومنعها، وفي ظاهر الأمر كانت توهم أنه قصدني بما لا ينبغي انتهى المراد منه، وفيه من الأنظار ما فيه. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما أو عذابا أليما بالنصب على المصدرية كما قال الكسائي: أي أو يعذب عذابا أليما إلّا أنه حذف ذلك لظهوره، وهذه القراءة أوفق بقوله تعالى: أَنْ يُسْجَنَ ولم يظهر لي في سر اختلاف التعبير على القراءة المشهورة ما يعول عليه، والله تعالى أعلم بأسرار كتابه فتدبر قالَ استئناف وجواب عما يقال: فماذا قال يوسف عليه السلام حينئذ؟ فقيل: قال: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي أي طالبتني للمواتاة لا أني أردت بها سوءا كما زعمت وإنما قاله عليه السلام لتنزيه نفسه عن التهمة ودفع الضرر عنها لا لتفضيحها. وفي التعبير عنها بضمير الغيبة دون الخطاب أو اسم الإشارة مراعاة لحسن الأدب مع الإيماء إلى الإعراض عنها كذا قالوا، وفي هذا الضمير ونحوه كلام فقد ذكر ابن هشام في بعض حواشيه على قول ابن مالك في ألفيته: فما لذي غيبة أو حضور إلخ لينظر الى نحو هِيَ راوَدَتْنِي فإن هِيَ ضمير باتفاق، وليس هو للغائب بل لمن بالحضرة، وكذا يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ [القصص: 26] وهذا في المتصل وذاك في المنفصل، وقول من يخاطب شخصا في شأن آخر حاضر معه قلت له: اتق الله تعالى وأمرته بفعل الخير، وقد يقال: إنه نزل الضمير فيهن منزلة الغائب وكذا في عكس ذلك يبلغك عن شخص غائب شيء فنقول: ويحك يا فلان أتفعل كذا؟ تنزيلا له منزلة من بالحضرة، وحينئذ يقال: الحد المستفاد مما ذكر إنما هو للضمير باعتبار وضعه اهـ. وقال السراج البلقيني في رسالته المسماة نشر العبير لطي الضمير المفسر لضمير الغائب إما مصرح به أو مستغنى بحصول مدلوله حسا أو علما فالحس نحو قوله تعالى: هِيَ راوَدَتْنِي ويا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ كما ذكره ابن مالك، وتعقبه شيخنا أبو حيان بأنه ليس كما مثل به لأن هذين الضميرين عائدان على ما قبلهما فضمير هِيَ راوَدَتْنِي عائد على الأهل في قولها: ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً ولما كنت عن نفسها بذلك ولم تقل بي بدل بِأَهْلِكَ كنى هو عليه السلام عنها بضمير الغيبة فقال: هِيَ راوَدَتْنِي ولم يخاطبها بأنت راودتني، ولا أشار إليها بهذه راودتني وكل هذا على سبيل الأدب في الألفاظ والاستحياء في الخطاب الذي لا يليق بالأنبياء عليهم السلام، فأبرز الاسم في صورة ضمير الغائب تأدبا مع العزيز وحياء منه، وضمير اسْتَأْجِرْهُ عائد على موسى فمفسره مصرح بلفظه، وكأن ابن مالك تخيل أن هذا موضع إشارة لكون صاحب الضمير حاضرا عند المخاطب فاعتقد أن المفسر يستغني عنه بحضور مدلوله حسا فجرى الضمير مجرى اسم الإشارة، والتحقيق ما ذكرناه هذا كلامه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 410 وعندي أن الذي قاله ابن مالك أرجح، مما قاله الشيخ، وذلك أن الاثنين إذا وقعت بينهما خصومة عند حاكم فيقول المدعي للحاكم: لي على هذا كذا: فيقول المدعي عليه: هو يعلم أنه لا حق له علي، فالضمير في هو إنما هو لحضور مدلوله حسا لا لقوله: لي كما هو المتبادر الى الأفهام، وأيضا يرد على ما ذكره في ضمير اسْتَأْجِرْهُ أن موسى عليه السلام لم يسبق له ذكر عند حضوره مع بنت شعيب عليه السلام، وقد قالت: يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ وقصدها بالضمير الرجل الحاضر الذي بان لها من قوته وأمانته الأمر العظيم، ثم إن من خاصم زوجته فقال للحاضرين من أهلها. أو من غيرهم: هي طالق تطلق زوجته لوجود ما قرره ابن مالك، ولا يتمشى على ما قرره الشيخ كما لا يخفى، وبالجملة إن التأويل الذي ذكره في الآيتين وإن سلم فيهما لكن لا يكاد يتمشى معه في غيرهما هذا فليفهم وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها ذهب جمع إلى أنه كان ابن خالها (1) ، وكان طفلا في المهد (2) أنطقه الله تعالى ببراءته عليه السلام، فقد ورد عنه صلى الله تعالى عليه وسلم «تكلم أربعة في المهد وهم صغار: ابن ماشطة ابنة فرعون، وشاهد يوسف عليه السلام، وصاحب جريج، وعيسى ابن مريم عليهما السلام» وتعقب ذلك الطيبي بقوله: يرده دلالة الحصر في حديث الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى ابن مريم، وصاحب جريج، وصبي كان يرضع من أمه فمر راكب حسن الهيئة فقالت: أمه اللهم اجعل ابني مثل هذا فترك الصبي الثدي، وقال اللهم لا تجعلني مثله» اهـ، ورده الجلال السيوطي فقال: هذا منه على جاري عادته من عدم الاطلاع على طرق الأحاديث، والحديث المتقدم صحيح أخرجه أحمد في مسنده، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه وصححه من حديث ابن عباس، ورواه الحاكم أيضا من حديث أبي هريرة، وقال صحيح على شرط الشيخين، وفي حديث الصحيحين المشار اليه آنفا زيادة على الأربعة «الصبي الذي كان يرضع من أمه فمر راكب» إلخ فصاروا خمسة وهم أكثر من ذلك، ففي صحيح مسلم تكلم الطفل في قصة أصحاب الأخدود، وقد جمعت من تكلم في المهد فبلغوا أحد عشر، ونظمتها فقلت: تكلم في المهد النبي محمد ... ويحيى وعيسى والخليل ومريم ومبري جريج ثم شاهد يوسف ... وطفل لذي الأخدود يرويه مسلم وطفل عليه مر بالأمة التي ... يقال لها تزني ولا تتكلم وما شطة في عهد فرعون طفلها ... وفي زمن الهادي المبارك يختم اهـ، وفيه أنه لم يرد الطيبي الطعن على الحديث الذي ذكر كما توهم، وإنما أراد أن بين الحديث الدال على الخصر وغيره تعارضا يحتاج الى التوفيق وفي الكشف بعد ذكره حديث الأربعة، وما تعقب به مما تقدم عن الطيبي أنه نقل الزمخشري في سورة البروج خامسا فإن ثبتت هذه أيضا فالوجه أن يجعل في المهد قيدا وتأكيدا لكونه في مبادئ الصبا، وفي هذه الرواية يحمل على الإطلاق أي سواء كان في المبادئ أو بعيدها بحيث يكون تكلمه من الخوارق، ولا يخفى أنه توفيق بعيد. وقيل: كان ابن عمها الذي كان مع زوجها لدى الباب وكان رجلا ذا لحية ولا ينافي هذا قول قتادة: إنه كان رجلا حكيما من أهلها ذا رأي يأخذ الملك برأيه ويستشيره، وجوز أن يكون بعض أهلها وكان معهما في الدار بحيث   (1) وفي بعض الآثار أنه ابن أخت لها وكان عمره إذ ذاك ثلاثة أشهر اهـ منه. (2) ولم ترتض ذلك الجبائي لوجوه ذكرها الإمام، ولا يخفى ما فيها اهـ منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 411 لم يشعرا به فبصر بما جرى بينهما فأغضبه الله تعالى ليوسف فقال الحق، وعن مجاهد أن الشاهد هو القميص المقدود وليس بشيء كما لا يخفى، وجعل الله تعالى الشاهد من أهلها قيل: ليكون أدل على نزاهته عليه السلام وأنفى للتهمة وألزم لها، وخص هذا بما إذا لم يكن الشاهد الطفل الذي أنطقه الله تعالى الذي أنطق كل شيء، وأما إذا كان ذلك فذكر كونه من أهلها لبيان الواقع فإن شهادة الصبي حجة قاطعة ولا فرق فيها بين الأقارب وغيرهم، وتعقب بأن كون شهادة القريب مطلقا أقوى مما لا ينبغي أن يشك فيه، وسمي شاهدا لأنه أدى تأديته في أن ثبت بكلامه قول يوسف وبطل قولها، وقيل: سمي بذلك من حيث دل على الشاهد وهو تخريق القميص، وفسر مجاهد فيما أخرجه عنه ابن جرير الشهادة بالحكم أي وحكم حاكم من أهلها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ أي من قدام يوسف عليه السلام، أو من قدام القميص وإِنْ شرطية، وكانَ فعل الشرط وقوله سبحانه: فَصَدَقَتْ جواب الشرط وهو بتقدير قد، وإلا فالفاء لا تدخل في مثله، وعن ابن خروف أن مثل هذا على إضمار المبتدأ، والجملة جواب الشرط لا الماضي وحده، وفي الكشاف إن الشرطية هنا نظير قولك: إن أحسنت إلي فقد أحسنت إليك من قبل لمن يمتن عليك بإحسانه فإنه على معنى إن تمتن علي أمتن عليك، وكذا هنا المراد أن يعلم أنه كان قميصه قدّ ونحوه وإلا فبين أن الذي للاستقبال وكانَ تناف قيل: وهو مبني على ما ذهب اليه البعض من أن كانَ قوية في الدلالة على الزمان فحرف الشرط لا يقلب ماضيها مستقبلا وإلا فكل ماض دخل عليه الشرط قلبه مستقبلا من غير حاجة الى التأويل، وتعقب بأنه لا بد من التأويل هاهنا وجعل حدوث العلم ونحوه جزئي الشرطية كأن يقال: إن يعلم أو يظهر كونه كذلك فقد ظهر الصدق، ويقال نظيره في الشرطية الأخرى الآتية: وإن كانت كانَ مما يقلب حرف الشرط ماضيها مستقبلا كسائر الأفعال الماضية لأن المعنى ليس على تعليق الصدق أو الكذب في المستقبل على كون القميص كذا أو كذا كذلك بل على تعليق ظهور أحد الأمرين الصدق والكذب على حدوث العلم بكونه كذلك وهو ظاهر، وهل هذا التأويل من باب التقدير، أو من غيره؟ فيه خلاف، والذي يشير إليه كلام بعض المدققين أنه ينزل في مثل ذلك العلم بالشيء منزلة استقباله لما بينهما من التلازم كما قيل: أي شيء يخفى؟ فقيل: ما لا يكون فليفهم، ثم إن متعلق الصدق ما دل كلامها عليه من أن يوسف أراد بها سوءا وهو متعلق الكذب المسند إليها فيما بعد، وهما كما يتعلقان بالنسبة التي يتضمنها الكلام باعتبار منطوقه يتعلقان بالنسبة التي يتضمنها باعتبار ما يستلزمه فكأنه قيل: إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ في دعواها أن يوسف أراد بها سوءا وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ في دعواه أنها راودته عن نفسه وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ أي من خلف يوسف عليه السلام أو خلف القميص فَكَذَبَتْ في دعواها وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواه، والشرطيتان محكيتان: إما بقول مضمر أي شهد قائلا أو فقال إِنْ كانَ إلخ كما هو مذهب البصريين، وإما يشهد لأن الشهادة قول من الأقوال مع رعاية زيادة الإيضاح، وجملتا- وهو من الكاذبين. وهو من الصادقين- مؤكدتان لأن من قوله: فَصَدَقَتْ يعلم كذبه، ومن قوله: فَكَذَبَتْ يعلم صدقه، ووجه دلالة قدّ القميص من دبر على كذبها أنها تبعته وجذبت ثوبه فقدته، وأما دلالة قده من قبل على صدقها فمن وجهين: أحدهما أنه إذا كان تابعها وهي دافعته عن نفسه قدت قميصه من قدام بالدفع، وثانيهما أن يسرع إليها ليلحقها فيتعثر في مقام قميصه فيشقه كذا في الكشاف، وتعقب ابن المنير الوجه الأول بأن ما قرر في اتباعه لها يحتمل مثله في اتباعها له فإنها إنما تقد قميصه من قبل بتقدير أن يكون عليه السلام أخذ بها حتى صارا متقابلين فدفعته عن نفسها، وهذا بعينه يحتمل إذا كانت هي التابعة بأن تكون اجتذبته حتى صارا متقابلين ثم جذبت قميصه إليها من قبل بل هذا أظهر لأن الموجب لقدّ القميص غالبا الجذب لا الدفع، والوجه الثاني بأن ما ذكر بعينه محتمل لو كانت هي التابعة وهو فار منها بأن ينقدّ قميصه في إسراعه للفرار اهـ . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 412 وأجيب عما ذكره أولا بأنه غير وارد لأن تلك الحالة السريعة لا تحتمل إلا أيسر ما يمكن وأسرعه، وعلى تقدير اتباعها له تعين القدّ من دبر لأنه أهون الجذبين، ثم لا نفرض كر الفار ليدفعها أو كما لحقت جذبت فهذا الفرض لا وجه له هنالك فإذا ثبت دلالته في الجملة على هذا القسم تعينت، وعما ذكره ثانيا بأن الظاهر على تقدير أن تكون تابعة أنه إذا تعثر الفار يتعلق به التابع متشبثا وإذا كانا منفلتين بعد ذلك الاحتمال. وذكر الفاضل المتعقب أن الحق في هذا الفصل أن يقال: إن الشاهد المذكور إن كان صبيا أنطقه الله تعالى في المهد كما ورد في بعض الأحاديث فالآية في مجرد كلامه قبل أوانه حتى لو قال صدق يوسف وكذبت لكفى برهانا على صدقه عليه السلام كما كان مجرد إخبار عيسى عليه السلام في المهد برهانا على صدق مريم، فلا تنبغي المناسبة بين الأمارة المنصوبة وما رتب عليها لأن العمدة (1) في الدلائل نصبها لا مناسبتها، وإن كان قريبا لها قد بصر بها من حيث لا تشعر فهذا- والله تعالى أعلم- كان من حقه أن يصرح بما رأى فيصدق يوسف عليه السلام ويكذبها ولكنه أراد أن لا يكون هو الفاضح لها، ووثق بأن قدّ قميصه إنما كان من دبر فنصبه أمارة لصدقه وكذبها، ثم ذكر القسم الآخر وهو قده من قبل على علم بأنه لم ينقد كذلك حتى ينفي عن نفسه التهمة في الشهادة وقصد الفضيحة وينصفهما جميعا فلذا ذكر أمارة على صدقها المعلوم نفيه كما ذكر أمارة على صدقه المعلوم وجوده، وأخرجهما مخرجا واحدا وبنى قُدَّ لما لم يسم فاعله في الموضعين سترا على من قدّه، وقدم أمارة صدقها في الذكر إزاحة للتهمة ووثوقا بأن الأمارة الثانية هي الواقعة فلا يضره تأخيرها. والحاصل أن عمدة هذا الشاهد الأمارة الأخيرة فقط والمناسبة فيها محققة، وأما الأمارة الأولى فليست مقصودة وإنما هي كالغرض ذكرت توطئة للثانية فلم يلتمس لها مناسبة مثل تلك المناسبة، وأما إن كان الحكيم الذي كان الملك يرجع الى رأيه فلا بد من التماس المناسبة في الطرفين لأنها عمدة الحكيم، وأقرب وجه في المناسبة أن قدّ القميص من دبر دليل على إدباره عنها، وقدّه من قبل دليل على إقباله عليها بوجهه، ولا يخفى أن مثل هذا الوجه لا يصلح أن يكون مطمح نظر الحكيم الذي لا يلتفت إلا لليقينيات، فالأولى أن يقال: يحتمل أن ذلك الحكيم كان واقفا على حقيقة الحال بطريق من الطرق الممكنة، ويسهل أمر ذلك إذا قلنا: إنه كان ابن عم لها فهو متيقن بعدم مقدم الشرطية الأولى وبوجود مقدم الشرطية الثانية، ومن ضروريات ذلك الجزم بانتفاء تالي الأولى ووقوع تالي الثانية فإذا هو إخبار بكذبها وصدقه عليه السلام لكنه ساق شهادته مساقا مأمونا من الجرح والطعن حيث صورها بصورة الشرطية المترددة ظاهرا بين نفعها ونفعه، وأما حقيقة فلا تردد فيها قطعا كما أشير إليه، وإلى كون الشرطية الأولى غير مقصودة بالذات ذهب العلامة ابن الكمال معرضا بغفلة القاضي البيضاوي حيث قال: إن قوله تعالى: إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ إلخ من قبيل المسامحة في أحد شقي الكلام لتعين الآخر عند القاتل تنزيلا للمحتمل منزلة الظاهر لأن الشق بالجذب في هذا الشق أيضا محتمل، ومن غفل عن هذا قال: لأنه يدل على أنه قصدها فدفعت عن نفسها إلى آخر عبارة البيضاوي، وحاصل ذلك على ما قرره بعض مشايخنا عليهم الرحمة أن القائل: يعلم يقينا وقوع الشق من دبر لكنه ذكر الشق من القبل مع أنه محتمل أن يكون بجذبها إياه إلى طرفها كما أن كونه من دفعها إياه من بعض محتملاته تنزيلا لهذا المحتمل منزلة الظاهر تأكيدا ومبالغة لثبوت ما دلت عليه الشرطية الثانية من صدقه وكذبها يعني أنا نحكم بصدقها وكذبه بمجرد وقوع الشق في القبل، وإن كان محتملا لأسباب أخر غير دفعها لكنه ما وقع هذا الشق   (1) قيل: إن التصوير بصورة الشرطية على هذا الشق للإيذان بأن ذلك من العلائم أيضا اهـ منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 413 أصلا فلا صدق لها وذلك كما إذا قيل لك: بلغت الى زيد الكلام الفلاني في هذا اليوم؟ فقلت: إن كنت تكلمت في هذا اليوم مع زيد فقولكم هذا صادق مع أن تكلمك معه في هذا اليوم مطلقا لا يدل على صدق دعواهم لاحتمال أنك تكلمت معه بكلام غير ذلك الكلام لكنك قلت ذلك تحقيقا لعدم تبليغك ذلك الكلام إليه، هذا وذكر شيخ مشايخنا العلامة صبغة الله الحيدري طيب الله تعالى ثراه: أن الظاهر أن دلالة كل من الشقين في الشقين على ما يدل عليه من حيث موافقته لما ادعاه صاحبه فإنها كانت تقول: هو طلبني مقبلا عليّ فخلصت نفسي عنه بالدفع أو الفرار وهو كان يقول: هي الطالبة ففررت منها وتبعتني واجتذبت ثوبي فقدته فوقوع الشق في شق الدبر يدل على كونه مدبرا عنها لا مقبلا عليها وعكسه على عكسه، ثم فرع على هذا أن ما ذكره ابن الكمال غفلة عن المخاصمة بالمقاولة وهو توجيه لطيف للآية الكريمة، بيد أن دعوى وقوع المخاصمة بالمقاولة على الطرز الذي ذكره رحمه الله تعالى مما لا شاهد لها، وعلى المدعي البيان على أنه يبعد عقلا أن تقول هو طلبني مقبلا فخلصت نفسي منه فانقدّ قميصه من قبل وهو الذي تقتضيه دعواه أن الظاهر أن دلالة كل من الشقين إلخ لظهور أن ظهور كذبها حينئذ أسرع ما يكون، وبالجملة قيل: إن الاحتمالات المضعفة لهذه المشاهدة كثيرة: منها ما علمت، ومنها ما تعلمه بأدنى التفات، ومن هنا قالوا: إن ذلك من باب اعتبار الأمارة، ولذلك احتج بالآية كما قال ابن الفرس: من يرى الحكم من العلماء بالأمارات والعلامات فيما لا تحضره البينات كاللقطة، والسرقة، والوديعة، ومعاقد الحيطان، والسقوف وغير ذلك. وذكر الإمام أن علامات كذب المرأة كانت كثيرة بالغة مبلغ اليقين فضموا إليها هذه العلامة الأخرى لا لأجل أن يعوّلوا في الحكم عليها بل لأجل أن يكون ذلك جاريا مجرى المقويات والمرجحات والله تعالى أعلم. وقرأ الحسن، وأبو عمرو في رواية «من قبل، ومن دبر» بسكون الباء فيهما والتنوين وهي لغة الحجاز، وأسد، وقرأ أبو يعمر، وابن أبي إسحاق، والعطاردي، وأبو الزناد، وآخرون «من قبل، ومن دبر» بثلاث ضمات، وقرأ الأولان، والجارود في رواية عنهم بإسكان الباء فيهما مع بنائهما على الضم جعلوهما- كقبل، وبعد- بعد حذف المضاف إليه ونية معناه، وتعقب ذلك أبو حاتم بأن هذا رديء في العربية وإنما يقع بعد البناء في الظروف، وهذان اللفظان اسمان متمكنان وليسا بظرفين، وعن ابن إسحاق أنه قرأ من- قبل ومن دبر- بالفتح قيل: كأنه جعلهما علمين للجهتين فمنعهما الصرف للعملية والتأنيث (1) باعتبار الجهة فَلَمَّا رَأى أي السيد، وقيل: الشاهد، والفعل من الرؤية البصرية أو القلبية أي فلما علم قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ أي هذا القد والشق كما قال الضحاك مِنْ كَيْدِكُنَّ أي ناشىء من احتيالكن أيتها النساء ومكركن ومسبب عنه، وهذا تكذيب لها وتصديق له عليه السلام على ألطف وجه كأنه قيل: أنت التي راودته فلم يفعل وفرّ فاجتذبتيه فشققت قميصه فهو الصادق في إسناد المراودة إليك وأنت الكاذبة في نسبة السوء إليه، وقيل: الضمير للأمر الذي وقع فيه التشاجر وهو عبارة عن إرادة السوء التي أسندت الى يوسف عليه السلام وتدبير عقوبته بقولها ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إلخ أي إن ذلك من جنس مكركن واحتيالكن، وقيل: هو للسوء وهو نفسه وإن لم يكن احتيالا لكنه يلازمه، وقال الماوردي: هو لهذا الأمر وهو طمعها في يوسف عليه السلام وجعله من الحيلة مجاز أيضا كما في الوجه الذي قبله، وقال الزجاج: هو لقولها ما جَزاءُ إلخ فقط (2) ، واختار العلامة أبو السعود القيل الأول وتكلف له بما تكلف واعترض على ما بعده من الأقوال بما اعترض.   (1) قيل: وكأنه علم جنس وفيه نظر اهـ فتأمل اهـ منه. (2) لم يجعل هؤلاء من سببية كما أشرنا إليه اهـ منه. [ ..... ] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 414 ولعل ما ذكرناه أقرب للذوق وأقل مؤنة مما تكلف له وأيا ما كان فالخطاب عام للنساء مطلقا وكونه لها ولجواريها- كما قيل- ليس بذاك، وتعميم الخطاب للتنبيه على أن الكيد خلق لهن عريق: ولا تحسبا هندا لها الغدر وحدها ... سجية نفس كل غانية هند (1) إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ فإنه ألطف وأعلق بالقلب وأشد تأثيرا في النفس ولأن ذلك قد يورث من العار ما لا يورثه كيد الرجال، ولربات القصور منهن القدح المعلى من ذلك لأنهن أكثر تفرغا من غيرهن مع كثرة اختلاف الكيادات إليهن فهن جوامع كوامل، ولعظم كيد النساء (2) اتخذهن إبليس عليه اللعنة وسائل لإغواء من صعب عليه إغواؤه، ففي الخبر «ما أيس الشيطان من أحد إلا أتاه من جهة النساء» وحكي عن بعض العلماء أنه قال: أنا أخاف من النساء ما لا أخاف من الشيطان فإنه تعالى يقول: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً [النساء: 76] وقال للنساء: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ولأن الشيطان يوسوس مسارقة وهن يواجهن به، ولا يخفى أن استدلاله بالآيتين مبني على ظاهر إطلاقهما، ومثله مما تنقبض له النفس وتنبسط يكفي فيه ذلك القدر فلا يضر كون ضعف كيد الشيطان إنما هو في مقابلة كيد الله تعالى، وعظم كيدهن إنما هو بالنسبة الى كيد الرجال، وما قيل: إن ما ذكر لكونه محكيا عن قطفير- لا يصلح للاستدلال به بوجه من الوجوه- ليس بشيء لأنه سبحانه قصه من غير نكير فلا جناح في الاستدلال به كما لا يخفى يُوسُفُ حذف منه حرف النداء لقربه وكمال تفطنه للحديث، وفي ندائه باسمه تقريب له عليه السلام وتلطيف. وقرأ الأعمش «يوسف» بالفتح، والأشبه على ما قال أبو البقاء: أن يكون أخرجه على أصل المنادى كما جاء في الشعر يا عديا لقد وقتك الأواقي وقيل: لم تضبط هذه القراءة عن الأعمش، وقيل: إنه أجرى الوقف مجرى الوصل ونقل إلى الفاء حركة الهمزة من قوله تعالى: أَعْرِضْ عَنْ هذا أي عن هذا الأمر واكتمه ولا تتحدث به فقد ظهر صدقك وطهارة ثوبك، وهذا كما حكى الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله بالوصل والفتح، وقرىء «أعرض» بصيغة الماضي فيوسف حينئذ مبتدأ والجملة بعده خبر، ولعل المراد الطلب على أتم وجه فيؤول الى معنى أَعْرِضْ وَاسْتَغْفِرِي أنت أيتها المرأة، وضعف أبو البقاء هذه القراءة بأن الأشبه عليها أن يقال: فاستغفري لِذَنْبِكِ الذي صدر عنك وثبت عليك إِنَّكِ كُنْتِ بسبب ذلك مِنَ الْخاطِئِينَ أي من جملة القوم المتعمدين للذنب، أو من جنسهم يقال: خطىء يخطىء خطأ وخطأ إذا أذنب متعمدا، وأخطأ إذا أذنب من غير تعمد، وذكر الراغب أن الخطأ العدول عن الجهة وهو أضرب: الأول أو يريد غير ما تحسن إراداته فيفعله، وهذا هو الخطأ التام المأخوذ به الإنسان، والثاني أن يريد ما يحسن فعله ولكن يقع منه خلاف ما يريد وهذا قد أصاب في الإرادة وأخطأ في الفعل، ومن ذلك قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «من اجتهد فأخطأ فله أجر» والثالث أن يريد ما لا يحسن فعله ويتفق منه خلافه فهذا مخطئ في الإرادة مصيب في الفعل، ولا يخفى أن المعنى الذي ذكرناه راجع إلى الضرب الأول من هذه الضروب، والجملة المؤكدة في موضع التعليل للأمر والتذكير لتغليب الذكور على الإناث واحتمال أن يقال: المراد إنك من نسل الخاطئين فمنهم سرى ذلك العرق الخبيث فيك بعيد جدا، وهذا النداء قيل: من الشاهد الحكيم، وروي ذلك عن ابن عباس، وحمل الاستغفار على طلب المغفرة والصفح من الزوج، ويحتمل أن يكون المراد به طلب المغفرة من الله تعالى ويقال: إن أولئك القوم وإن كانوا يعبدون الأوثان إلّا أنهم مع ذلك يثبتون الصانع ويعتقدون أن للقبائح   (1) هو لأبي تمام من قصيدة اهـ منه. (2) وهذا من كيده فافهم اهـ منه. . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 415 عاقبة سوء من لديه سبحانه إذا لم يغفرها، واستدل على أنهم يثبتون الصانع أيضا بأن يوسف عليه السلام قال لهم: أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف: 39] ، والظاهر أن قائل ذلك هو العزيز، ولعله كما قيل: كان رجلا حليما، وروي ذلك عن الحسن، ولذا اكتفى بهذا القدر من مؤاخذتها، وروي أنه كان قليل الغيرة وهو لطف من الله تعالى بيوسف عليه السلام، وفي البحر أن تربة إقليم قطفير اقتضت ذلك، وأين هذا مما جرى لبعض ملوك المغرب أنه كان مع ندمائه المختصين به في مجلس أنس وجارية تغنيهم من وراء ستر فاستعاد بعض خلصائه بيتين من الجارية كانت قد غنت بهما فما لبث أن جيء برأس الجارية مقطوعا في طست، وقال له الملك: استعد البيتين من هذا الرأس فسقط في يد ذلك المستعيد ومرض مدة حياة الملك وَقالَ نِسْوَةٌ المشهور- وإليه ذهب أبو حيان- أنه جمع تكسير للقلة كصبية، وغلمة، وليس له واحد من لفظه بل من معناه وهو امرأة. وزعم ابن السراج أنه اسم جمع، وعلى كل فتأنيثه غير حقيقي ولا التفات إلى كون ذلك المفرد مؤنثا حقيقا لأنه مع طروّ ما عارض ذلك ليس كسائر المفردات ولذا لم يؤنث فعله، وفي نونه لغتان: الكسر وهي المشهورة والضم وبه قرأ المفضل، والأعمش، والسلمي كما قال القرطبي فلا عبرة بمن أنكر ذلك، وهو إذ ذاك اسم جمع بلا خلاف، ويكسر للكثرة على نساء، ونسوان، وكنّ فيما روي عن مقاتل خمسا: امرأة الخباز، وامرأة الساقي، وامرأة البواب، وامرأة السجان، وامرأة صاحب الدواب. وروى الكلبي أنهن كنّ أربعا بإسقاط امرأة البواب فِي الْمَدِينَةِ أريد بها مصر، والجار والمجرور في موضع الصفة- لنسوة- على ما استظهره بعضهم، ووصفن بذلك لأن إغاظة كلامهن بهذا الاعتبار لا تصافهن بما يقوي جانب الصدق أكثر فإن كلام البدويات لبعدهن عن مظان الاجتماع والاطلاع على حقيقة أحوال الحضريات القصريات لا يلتفت إلى كلامهن فلا يغيظ تلك الإغاظة، والكثير على اختيار تعلقه- بقال- ومعنى كون قولهن في المدينة إشاعته وإفشاؤه فيها، وتعقب بأن ذلك خلاف الظاهر امْرَأَتُ الْعَزِيزِ هو في الأصل الذي يقهر ولا يقهر كأنه مأخوذ من عز أي حصل في عزاز وهي الأرض الصلبة التي يصعب وطؤها ويطلق على الملك، ولعلهم كانوا يطلقونه إذ ذاك فيما بينهم على كل من ولاه الملك على بعض مخصوص من الولايات التي لها شأن فكان من خواصه ذوي القدر الرفيع والمحل المنيع، وهو بهذا المعنى مراد هنا لأنه أريد به قطفير وهو في المشهور كما علمت إنما كان على خزائن الملك- وكان الملك الريان بن الوليد- وقيل: المراد به الملك، وكان قطفير ملك مصر، واسكندرية، وإضافتهن لها إليه بهذا العنوان دون أن يصرحن باسمها او اسمه ليظهر كونها من ذوات الأخطار فيكون عونا على إشاعة الخبر بحكم أن النفوس الى سماع أخبار ذوي الأخطار أميل، وقيل- وهو الأولى- إن ذاك لقصد المبالغة في لومها بقولهن تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ أي تطلب مواقعته إياها وتتمحل في ذلك، وإيثارهن صيغة للدلالة على دوام المراودة كأنها صارت سجية لها، والفتى من الناس الطري من الشبان، وأصله فتى بالياء لقولهم في التثنية- وهي ترد الأشياء الى أصولها- فتيان، فالفتوة على هذا شاذ، وجمعه فتية، وفتيان، قيل: إنه يائي وواوي ككنوت وكنيت، وله نظائر كثيرة، ويطلق على المملوك والخادم لما أن جل الخدمة شبان. وفي الحديث «لا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي» وأطلق على يوسف عليه السلام هنا لأنه كان يخدمها، وقيل: لأن زوجها وهبه لها فهو مملوكها بزعم النسوة، وتعبيرهن عنه عليه السلام بذلك مظانا إليها لا الى العزيز لإبانة ما بينهما من التباين البين الناشئ عن الخادمية والمخدومية أو المالكية والمملوكية وكل ذلك لتربية ما مر من المبالغة في اللوم فإن من لا زوج لها من النساء أو لها زوج دنيء قد تعذر في مراودة الأخدان لا سيما إذا كان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 416 فيهم علو الجناب، وأما التي لها زوج فمراودتها لغيره لا سيما لمن لم يكن بينها وبينه كفاءة لها وتماديها في ذلك غاية الغي ونهاية الضلال قَدْ شَغَفَها حُبًّا أي شق حبه شغاف قلبها وهو حجابه. وقيل: هو جلدة رقيقة يقال لها: لسان القلب حتى وصل الى فؤادها، وبهذا يحصل المبالغة في وصفها بالحب له، وقيل: الشغاف سويداء القلب، فالمبالغة حينئذ ظاهرة، والى هذا يرجع ما روي عن الحسن من أن الشغاف باطن القلب، وما حكي عن أبي علي من أنه وسطه والفعل مفتوح الغين المعجمة عند الجمهور. وقرأ ثابت البناني بكسرها وهي لغة تميم، وقرأ علي كرم الله تعالى وجه، وعلي بن الحسين، وابنه محمد، وابنه جعفر رضي الله تعالى عنهما، والشعبي، وعوف الأعرابي- شعفها- بفتح العين المهملة، وهي رواية عن قتادة، وابن هرمز، ومجاهد، وحميد، والزهري، وروي عن ثابت البناني (1) أنه قرأ كذلك أيضا إلا أنه كسر العين، وهو من شعف البعير إذ هنأه فأحرقه بالقطران، فالمعنى وصل حبه الى قلبها فكاد يحترق، ومن هذا قول الأعشى: يعصي الوشاة وكان الحب آونة ... مما يزين للمشعوف ما صنعا وذكر الراغب أنه من شعفة القلب وهي رأسه عند معلق النياط، ويقال: لأعلى الجبل شعفة أيضا، وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن عباس أن الشغف الحب القاتل، والشعف حب دون ذلك، وأخرجا عن الشعبي أن الشغف الحب، والشعف الجنون، وأخرجا أيضا عن ابن زيد أن الشغف في الحب، والشعف في البغض، وهذا المعنى ممتنع الإرادة هنا على هذه القراءة، وفي كتاب أسرار البلاغة في فصل ترتيب الحب أن أول مراتب الحب الهوى، ثم العلاقة وهي الحب اللازم للقلب، ثم الكلف وهو شدة الحب، ثم العشق وهو اسم لما فضل عن المقدار المسمى بالحب، ثم الشعف بالمهملة وهو احتراق القلب مع لذة يجدها، وكذلك اللوعة واللاعج، ثم الشغف بالمعجمة وهو أن يبلغ الحب شغاف القلب، ثم الجوى وهو الهوى الباطن، ثم التيم وهو أن يستعبده الحب، ثم التبل وهو أن يسقمه الحب، ثم التدله وهو ذهاب العقل من الحب، ثم الهيوم وهو أن يذهب الرجل على وجهه لغلبة الهوى عليه اهـ. ورتب بعضهم ذلك على طراز آخر والله تعالى أعلم، وأيا ما كان فالجملة إما خبر ثان أو حال من فاعل تُراوِدُ أو من مفعوله، والمقصود منها تكرير اللوم وتأكيد العذل ببيان اختلاف أحوالها القلبية كأحوالها القالبية، وجوز أبو البقاء كونها استئنافية فهي حينئذ على ما قيل: في موضع التعليل لدوام المراودة، وليس بذاك لأنه إن اعتبر من حيث الإنية كان مصيره إلى الاستدلال بالأخفى على الأجلى، وإن اعتبر من حيث اللمية كان فيه ميل إلى تمهيد العذر من قبلها وليس المقام له، وانتصاب حُبًّا على التمييز وهو محول عن الفاعل إذ الأصل قد شغفها حبه كما أشير إليه، وأدغم النحويان، وحمزة، وهشام، وابن محيصن دال قَدْ في شين شغفها. إِنَّا لَنَراها أي نعلمها، فالرؤية قلبية واستعمالها بمعنى العلم حقيقة كاستعمالها بمعنى الإحساس بالبصر، وإذا أريد منها البصرية ثم تجوز بها عن العلمية كان أبلغ في إفادة كونها فيما صنعت من المراودة والمحبة المفرطة مستقرة فِي ضَلالٍ عظيم عن طريق الرشد والصواب أو سنن العقل مُبِينٍ واضح لا يخفى كونه ضلالا على أحد، أو مظهر لأمرها بين الناس، فالتنوين للتفخيم والجملة مقرّرة لمضمون الجملتين السابقتين المسوقتين للوم والتشنيع، وتسجيل عليها بأنها في أمرها على خطأ عظيم، وإنما لم يقلن: إنها لفي ضلال مبين إشعارا كما قيل: بأن ذلك الحكم   (1) وروى ذلك عن أبي رجاء أيضا اهـ منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 417 غير صادر منهن مجازفة بل عن علم ورأي مع التلويح بأنهن متنزهات عن أمثال ما هي عليه، وصح اللوم على الشغف قيل: لأنه اختياري باعتبار مباديه كما يشير إليه قوله: مازحته فعشقته ... والعشق أوله مزاح وإلّا فما ليس باختياري لا ينبغي اللوم عليه كما أشار إليه البوصيري بقوله: يا لائمي في الهوى العذري معذرة ... مني إليك ولو أنصفت لم تلم وقيل: اللوم عليه باعتبار الاسترسال معه وترك علاجه فإنهم صرحوا بأن ذلك من جملة الأدواء، وذكروا له من المعالجة ما ذكروا، ومن أحسن ما ذكر له من ذلك تذكر مساوئ المحبوب والتفكر في عواقبه فقد قيل: لو فكر العاشق في منتهى ... حسن الذي يسبيه لم يسبه وتمام الكلام في هذا المقام يطلب في محله فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أي باغتيابهن وسوء مقالتهن، وتسمية ذلك مكرا لشبهه له في الإخفاء، وقيل: كانت استكتمتهن سرها فأفشينه وأطلعن على أمرها، وقيل: إنهن قصدن بتلك المقالة إغضابها حتى تعرض عليهن يوسف لتبدي عذرها فيفزن بمشاهدته والمكر على هذين القولين حقيقة أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ تدعوهن، قيل: دعت أربعين امرأة منهن الخمس أو الأربع المذكورات، وروي ذلك عن وهب، والظاهر عود الضمير على تلك النسوة القائلة ما قلن عنها وَأَعْتَدَتْ أي هيأت لَهُنَّ مُتَّكَأً أي ما يتكئن عليه من النمارق والوسائد كما روي عن ابن عباس، وهو من الاتكاء الميل إلى أحد الشقين، وأصله موتكأ لأنه من توكأت فأبدلت الواو تاء وأدغمت في مثلها، وروي عن الحبر أيضا أن المتكأ مجلس الطعام لأنهم كانوا يتكؤون له كعادة المترفين المتكبرين، ولذلك نهي عنه، فقد أخرج ابن أبي شيبة عن جابر رضي الله تعالى عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه نهى أن يأكل الرجل بشماله وأن يأكل متكئا، وقيل: أريد به نفس الطعام قال العتبي: يقال: اتكأنا عند فلان أي أكلنا ومن ذلك قول جميل: فظللنا بنعمة واتكأنا ... وشربنا الحلال من قلله وهو على هذا اسم مفعول أي متكئا له أو مصدر أي اتكاء، وعبر بالهيئة التي يكون عليها الآكل المترف عن ذلك مجازا، وقيل: هو من باب الكناية، وعن مجاهد أنه الطعام يحز حزا بالسكين واختلفوا في تعيينه، فقيل: كان لحما وكانوا لا ينهشون اللحم وإنما يأكلونه حزا بالسكاكين، وقيل: كان أترجا، وموزا، وبطيخا، وقيل: الزماورد وهو الرقاق الملفوف باللحم وغيره أو شيء شبيه بالأترج، وأنه إنما سمي ما يقطع بالسكين بذلك لأن عادة من يقطع شيئا أن يعتمد عليه فيكون متكأ عليه، وقرأ الزهري، وأبو جعفر، وشيبة- متكي- مشدد التاء من غير همز بوزن متقي وهو حينئذ إما أن يكون من الاتكاء وفيه تخفيف الهمزة كما قالوا في توضأت: توضيت، أو يكون مفتعلا من أو كيت السقاء إذا شددته بالوكاء والمعنى اعتدت لهن ما يشتد عليه بالاتكاء أو بالقطع بالسكين، وقرأ الأعرج متكئا على وزن مفعلا من تكأ يتكأ إذ اتكأ، وقرأ الحسن، وابن هرمز متكئا بالمد والهمز وهو مفتعل من الاتكاء إلّا أنه أشبع الفتحة فتولدت منها الألف وهو كثير في كلامهم، ومنه قوله: وأنت من الغوائل حين ترمي ... وعن ذم الرجال بمنتزاح وقوله: ينباع من ذفرى عضوب حسرة ... زيافة مثل الفنيق المكرم (1)   (1) ومنه قوله أعوذ بالله من العقراب الشائلات عقد الأذناب اهـ منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 418 وقرأ ابن عباس، وابن عمر، ومجاهد، وقتادة، وآخرون (1) بضم الميم وسكون التاء وتنوين الكاف، وجاء ذلك عن ابن هرمز أيضا، وهو الأترج- عند الأصمعي، وجماعة- والواحد متكة، وأنشد: فأهدت متكة لبني أبيها ... تخب بها العثمثمة الوقاح وقيل: هو اسم يعم جميع ما يقطع بالسكين- كالأترج، وغيره- من الفواكه، وأنشد: نشرب الإثم بالصواع جهارا ... ونرى المتك بيننا مستعارا وهو من متك الشيء بمعنى بتكه أي قطعه، وعن الخليل تفسير المتك مضموم الميم بالعسل، وعن أبي عمرو تفسيره بالشراب الخالص، وحكى الكسائي تثليث ميمه، وفسره بالفالوذج، وكذا حكى التثليث المفضل لكن فسره بالزماورد، وذكر أنه بالضم المائدة أو الخمر في لغة كندة، وبالفتح قرأ عبد الله، ومعاذ رضي الله تعالى عنهما، وفي الآية على سائر القراءات حذف أي فجئن وجلسن وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً. وقال بعض المحققين: لا يبعد أن تسمى هذه الواو فصيحة، وإنما أعطت كل واحدة ذلك لتستعمله في قطع ما يعهد قطعه مما قدم بين أيديهن وقرب إليهن، وغرضها من ذلك ما سيقع من تقطيع أيديهن لتبكتهنّ بالحجة. وقيل: غرضها ذاك والتهويل على يوسف عليه السّلام من مكرها إذا أخرج على أربعين نسوة مجتمعات في أيديهن الخناجر توهمه أنهن يثبن عليه فيكون خائفا من مكرها دائما فلعله يجيبها إلى مرادها، والسكين مذكر عند السجستاني قال: وسألت أبا زيد الأنصاري، والأصمعي، وغيرهم ممن أدركناه فكلهم يذكره وينكر التأنيث فيه، وعن الفراء أنه يذكر ويؤنث، وذلك حكي عن اللحياني، ويعقوب، ومنع بعضهم أن يقال: سكينة، وأنشد عن الكسائي ما يخالف ذلك وهو قوله: الذئب سكينته في شدقه ... ثم قرابا نصلها في حلقه وَقالَتِ ليوسف عليه السلام وهن مشغولات بمعالجة السكاكين وإعمالها فيما بأيديهن، والعطف بالواو ربما يشير إلى أن قوله: اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ أي ابرز لهن لم يكن عقيب ترتيب أمورهنّ ليتم غرضها بهن. والظاهر أنها لم تأمره بالخروج إلّا لمجرد أن يرينه فيحصل مرامها، وقيل: أمرته بالخروج عليهن للخدمة أو للسلام، وقد أضمرت مع ذلك ما أضمرت يحكى أنها ألبسته ثيابا بيضا في ذلك اليوم لأن الجميل أحسن ما يكون في البياض فَلَمَّا رَأَيْنَهُ عطف على مقدر يستدعيه الأمر بالخروج وينسحب عليه الكلام أي فخرج عليهن فرأينه، وإنما حذف على ما قيل: تحقيقا لمفاجأة رؤيتهن كأنها تفوت عند ذكر خروجه عليهن (2) ، وفيه إيذان بسرعة امتثاله عليه السلام بأمرها فيما لا يشاهد مضرته من الأفاعيل، ونظير هذا آت كما مر آنفا أَكْبَرْنَهُ أي أعظمنه ودهشن برؤية جماله الفائق الرائع الرائق، فإن فضل جماله على جمال كل جميل كان كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب. وأخرج ابن جرير، وغيره عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: رأيت يوسف ليلة المعراج كالقمر ليلة البدر، وحكي أنه عليه السلام كان إذا سار في أزقة مصر تلألأ وجهه على الجدران كما يرى نور الشمس، وجاء عن الحسن أنه أعطي ثلث الحسن، وفي رواية عن أنس مرفوعا أنه عليه السلام أعطي هو وأمه شطر   (1) منهم الضحاك والجحدري والكلبي وأبان اهـ منه. (2) كما حذف لتحقيق السرعة في قوله تعالى: فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ اهـ منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 419 الحسن (1) وتقدم خبر أنه عليه السلام كان يشبه آدم عليه السلام يوم خلقه ربه، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن معنى أكبرن حضن، ومن ذلك قوله: يأتي النساء على أطهارهن ولا ... يأتي النساء إذا أكبرن إكبارا وكأنه إنما سمي الحيض إكبارا لكون البلوغ يعرف به فكأنه يدخل الصغار سن الكبر فيكون في الأصل كناية مجازا، والهاء على هذا إما ضمير المصدر فكأنه قيل: أكبرن إكبارا، وإما ضمير يوسف عليه السلام على إسقاط الجار أي حضن لأجله من شدّة شبقهن، والمرأة كما زعم الواحدي إذا اشتدّ شبقها حاضت ومن هنا أخذ المتنبي قوله: خف الله واستر ذا الجمال ببرقع ... إذا لحت حاضت في الخدور العوائق وقيل: إن الهاء للسكت، ورد بأنها لا تحرك ولا تثبت في الوصل، وإجراء الوصل مجرى الوقف وتحريكها تشبيها لها بالضمير كما في قوله: وأحر قلباه ممن قلبه شبم على تسليم صحته ضعيف في العربية واعترض في الكشف التخريجين الأولين فقال: إن نزع الخافض ضعيف لأنه إنما يجري في الظروف والصفات والصلات، وذلك لدلالة الفعل على مكان الحذف، وأما في مثل هذا فلا، والمصدر ليس من مجازه إذ ليس المقام للتأكيد، وزعم أن الوجه هو الأخير، وكل ما ذكره في حيز المنع كما يخفى. وأنكر أبو عبيدة مجيء أكبرن بمعنى حضن، وقال: لا نعرف ذلك في اللغة، والبيت مصنوع مختلق لا يعرفه العلماء بالشعر، ونقل مثل ذلك عن الطبري، وابن عطية، وغير واحد من المحققين، ورواية ذلك عن ابن عباس إنما أخرجها ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق عبد الصمد، وهو- وإن روى ذلك عن أبيه علي عن أبيه ابن عباس- لا يعول عليه فقد قالوا: إنه عليه الرحمة ليس من رواة العلم. وعن الكميت الشاعر تفسير أكبرن بأمنين، ولعل الكلام في ذلك كالكلام فيما تقدم تخريجا وقبولا، وأنا لا أرى الكميت من خيل هذا الميدان وفرسان ذلك الشان وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ أي جرحنها بما في أيديهن من السكاكين لفرط دهشتهن وخروج حركات جوارحهن عن منهاج الاختيار حتى لم يعلمن بما عملن ولم يشعرن بمألم ما نالهن، وهذا كما تقول: كنت أقطع اللحم فقطعت يدي، وهو معنى حقيقي للتقطيع عند بعض. وفي الكشف إنه معنى مجازي على الأصح، والتضعيف للتكثير إما بالنسبة لكثرة القاطعات، وإما بالنسبة لكثرة القطع في يد كل واحدة منهن. وأخرج ابن المنذر، وغيره عن مجاهد أنه فسر التقطيع بالإبانة، والمعنى الأول أسرع تبادرا إلى الذهن، وحمل الأيدي على الجوارح المعلومة مما لا يكاد يفهم خلافه، ومن العجيب ما روي عن عكرمة من أن المراد بها الأكمام، وأظن أن منشأ هذا محض استبعاد وقوع التقطيع على الأيدي بالمعنى المتبادر، ولعمري لو عرض ما قاله على أدنى الأفهام لاستبعدته وَقُلْنَ تنزيها لله سبحانه عن صفات التقصير والعجز وتعجبا من قدرته جلّ وعلا على مثل ذلك الصنع البديع حاشَ لِلَّهِ أصله حاشا الله بالألف كما قرأ أبو عمرو في الدرج فحذفت ألفه الأخيرة تخفيفا، وهو   (1) قيل: إنه عليه السلام ورث الجمال من جدته سارة اهـ منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 420 على ما قيل: حرف وضع للاستثناء والتنزيه معا ثم نقل وجعل اسما بمعنى التنزيه وتجرد عن معنى الاستثناء ولم ينون مراعاة لأصله المنقول عنه، وكثيرا ما يراعون ذلك ألا تراهم قالوا: جلست من عن يمينه؟ فجعلوا- عن- اسما ولم يعربوه، وقالوا: غدت من عليه فلم يثبتوا ألف على مع المضمر كما أثبتوا ألف فتى في فتاة كل ذلك مراعاة للأصل، واللام للبيان فهي متعلقة بمحذوف، ورد في البحر دعوى إفادته التنزيه في الاستثناء بأن ذلك غير معروف عند النحاة، ولا فرق بين قام القوم إلّا زيدا، وحاشا زيدا، وتعقب بأن عدم ذكر النحاة ذلك لا يضر لأنه وظيفة اللغويين لا وظيفتهم، واعترض بعضهم حديث النقل بأن الحرف لا يكون اسما إلّا إذا نقل وسمي به وجعل علما، وحينئذ يجوز فيه الحكاية والإعراب، ولذا جعله ابن الحاجب اسم فعل بمعنى برىء الله تعالى من السوء، ولعل دخول اللام كدخولها في هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ، وكون المعنى على المصدرية لا يرد عليه لأنه قيل: إن أسماء الأفعال موضوعة لمعاني المصادر وهو المنقول عن الزجاج، نعم ذهب المبرد، وأبو علي، وابن عطية، وجماعة إلى أنه فعل ماض بمعنى جانب، وأصله من حاشية الشيء وحشيه أي جانبه وناحيته، وفيه ضمير يوسف واللام للتعليل متعلقة به أي جانب يوسف ما قرف به لله تعالى أي لأجل خوفه ومراقبته، والمراد تنزيهه وبعده كأنه صار في جانب عما اتهم به لما رؤي فيه من آثار العصمة وأبهة النبوة عليه الصلاة والسلام، ولا يخفى أنه على هذا يفوت معنى التعجب، واستدل على اسميتها بقراءة أبي السمال «حاشا لله» بالتنوين، وهو في ذلك على حد: سقيا لك، وجوز أن يكون اسم فعل والتنوين كما في صه، وكذا بقراءة أبي، وعبد الله (1) رضي الله تعالى عنهما- حاشا الله- بالإضافة كسبحان الله، وزعم الفارسي أن حاشَ في ذلك حرف جر مرادا به الاستثناء كما في قوله: حاشا أبي ثوبان إن أبا ... ثوبان ليس ببكمة فدم ورد بأنه يتقدمه هنا ما يستثنى منه، وجاء في رواية عن الحسن أنه قرأ- حاش لله- بسكون الشين وصلا ووقفا مع لام الجر في الاسم الجليل على أن الفتحة اتبعت الألف في الإسقاط لأنها كالعرض اللاحق لها، وضعفت هذه القراءة بأن فيها التقاء الساكنين على غيره حده، وفي رواية أخرى عنه أنه قرأ- حاش الإله- وقرأ الأعمش- حشا لله- بحذف الألف الأولى، هذا واستدل المبرد، وابن جني، والكوفيون على أن- حاش- قد تكون فعلا بالتصرف فيها بالحذف كما علمت في هذه القراءات، وبأنه قد جاء المضارع منها كما في قول النابغة: ولا أرى فاعلا في الناس يشبهه ... ولا- أحاشى- من الأقوام من أحد ومقصودهم الرد على- س- وأكثر البصرية حيث أنكروا فعليتها، وقالوا: إنها حرف دائما بمنزلة إلّا لكنها تجر المستثنى، وكأنه لم يبلغهم النصب بها كما في قوله حاشا قريشا فإن الله فضلهم وربما يجيبون عن التصرف بالحذف بأن الحذف قد يدخل الحرف كقولهم: أما والله، وأم والله، نعم ردّ عليهم أيضا بأنها تقع قبل حرف الجر، ويقابل هذا القول ما ذهب إليه الفراء من أنها لا تكون حرفا أصلا بل هي فعل دائما ولا فاعل لها، والجر الوارد بعدها كما في حاشاي إني مسلم معذور والبيت المار آنفا بلام مقدرة، والحق أنها تكون فعلا تارة فينصب ما بعدها ولها فاعل وهو ضمير مستكن فيها وجوبا يعود إما على البعض المفهوم من الكلام، أو المصدر المفهوم من الفعل، ولذا لم يثن، ولم يجمع، ولم يؤنث، وحرفا أخرى ويجر ما بعدها، ولا تتعلق بشيء كالحروف الزائدة عند ابن هشام، أو تتعلق بما قبلها من فعل أو شبهه عند بعض، ولا تدخل عليها إلّا كما إذا كانت فعلا خلافا للكسائي في زعمه جواز ذلك إذا   (1) وروي عنهما أيضا. كما قاله صاحب اللوامح. كقراءة أبي عمرو اهـ منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 421 جرت، وأنها إذا وقعت قبل لام الجر كانت اسم مصدر مرادفا للتنزيه، وتمام الكلام في محله ما هذا بَشَراً نفين عنه البشرية لما شاهدن من جماله الذي لم يعهد مثاله في النوع الإنساني، وقصرهن على الملكية بقولهن: إِنْ هذا أي ما هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ أي شريف كثير المحاسن بناء على ما ركز في الطباع من أنه لا حي أحسن من الملك كما ركز فيها أن لا أقبح من الشيطان ولذا لا يزال يشبه بهما كل متناه في الحسن والقبح وإن لم يرهما أحد، وأنشدوا لبعض العرب: فلست لأنسى ولكن لملأك ... تنزل من جو السماء يصوب وكثر في شعر المحدثين ما هو من هذا الباب، ومنه قوله: ترك إذا قوبلوا كانوا ملائكة ... حسنا وإن قوتلوا كانوا عفاريتا وغرضهن من هذا وصفه بأنه في أقصى مراتب الحسن والكمال الملائم لطباعهن، ويعلم مما قرر ان الآية لا تقوم دليلا على أن الملك أفضل من بني آدم كما ظن أبو علي الجبائي، واتباعه، وأيده الفخر- ولا فجر له- بما أيده، وذهب غير واحد إلى أن الغرض تنزيهه عليه السلام عما رمي به على أكمل وجه، وافتتحوا ذلك- بحاشا لله- على ما هو الشائع في مثل ذلك، ففي شرح التسهيل الاستعمال على أنهم إذا أرادوا تبرئة أحد من سوء ابتدؤوا تبرئة الله سبحانه من السوء ثم يبرئون من أرادوا تبرئته على معنى أن الله تعالى منزه عن أن لا يطهره مما يضيمه فيكون آكد وأبلغ، والمنصور ما أشير إليه أولا وهو الذي يقتضيه السياق والسباق، نعم هذا الاستعمال ظاهر فيما يأتي إن شاء الله تعالى من قوله تعالى عن النسوة: حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ [يوسف: 51] وما عاملة عمل ليس وهي لغة للحجازيين لمشابهتها لها في نفي الحال على ما هو المشهور في ليس من أنها لذلك أو في مطلق النفي بناء على ما قال الرضي من أنها ترد لنفي الماضي، والمستقبل، والغالب على لغتهم جر الخبر بالباء حتى إن النحويين لم يجدوا شاهدا على النصب في أشعارهم غير قوله: وأنا النذير بحرة مسودة ... تصل الجيوش إليكم قوادها أبناؤها متكنفون أباهم ... حنقوا الصدور وما هم أولادها والزمخشري يسمي هذه اللغة: اللغة القدمى الحجازية، ولغة بني تميم في مثل ذلك الرفع، وعلى هذا جاء قوله: ومهفهف الأعطاف قلت له انتسب ... فأجاب ما قتل المحب حرام وبلغتهم قرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، وزعم ابن عطية أنه لم يقرأ بها أحد هنا، وقرأ الحسن وأبو الحويرث الحنفي ما هذا بشرى- بالباء الجارة، وكسر الشين على أن شرى- كما قال صاحب اللوائح- مصدر أقيم مقام المفعول به (1) أي ما هذا بمشرى أي ليس ممن يشترى بمعنى أنه أعز من أن يجري عليه ذلك. وروى هذه القراءة عبد الوارث عن أبي عمرو أيضا إلا أنه روي عنه أنه مع ذلك كسر اللام من ملك، وروى الكسر بن عطية عن الحسن، وأبي الحويرث أيضا، والمراد إدخاله في حيز الملوك بعد، ففي كونه مما يصلح للملوكية فبين الجملتين تناسب ظاهر، وكأن بعضهم لم ير أن من قرأ بذلك قرأ أيضا «ملك» بكسر اللام فقال: لتحصيل التناسب بينهما في تفسير ذلك أي ما هذا بعبد مشترى لئيم (2) ، وعلى التقديرين لا يقال: إن هذه القراءة   (1) وجوز إبقاءه على المصدرية أي لم يحصل هذا بشرى اهـ منه. (2) والأولى أن يقال: أي ما هذا عبد لئيم فيملك بل سيد كريم ما لك فتدبر اهـ منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 422 مخالفة لمقتضى المقام، نعم إنها مخالفة لرسم المصحف لأنه لم يكتب ذلك بالياء فيه. قالَتْ فَذلِكُنَّ الفاء فصيحة والخطاب للنسوة والإشارة- حسبما يقتضيه الظاهر- إلى يوسف عليه السلام بالعنوان الذي وصفته به الآن من الخروج في الحسن والكمال عن المراتب البشرية، والاقتصار على الملكية أو بعنوان ما ذكر مع الأخبار وتقطيع الأيدي بسببه أيضا، فاسم الإشارة مبتدأ والموصول خبره، والمعنى إن كان الأمر كما قلتن فذلكن الملك الكريم الخارج في الحسن عن المراتب البشرية، أو الذي قطعتن أيديكن بسببه وأكبرتنه ووصفتنه بما وصفتنه هو الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ أي عيرتنني في الافتنان فيه أو بالعنوان الذي وصفنه به فيما سبق بقولهن: امرأة العزيز عشقت عبدها الكنعاني، فاسم الإشارة خبر لمبتدأ محذوف دخلت الفاء عليه بعد حذفه، والموصول صفة اسم الإشارة أي فهو ذلكن العبد الكنعاني الذي صورتن في أنفسكن وقلتن فيه وفيّ ما قلتن، فالآن قد علمتن من هو وما قولكن فينا، وقيل (1) : أرادت هذا ذلك العبد الكنعاني الذي صورتن في أنفسكن ثم لمتنني فيه على معنى أنكن لم تصورنه بحق صورته ولو صورتنه بما عاينتن لعذرتنني في الافتتان به، والإشارة بما يشار به إلى البعيد مع قرب المشار إليه وحضوره قيل: رفعا لمنزلته في الحسن واستبعادا لمحله فيه، وإشارة إلى أنه لغرابته بعيد أن يوجد مثله. وقيل: إن يوسف عليه السلام كان في وقت اللوم غير حاضر وهو عند هذا الكلام كان حاضرا فإن جعلت الإشارة إليه باعتبار الزمان الأول كانت على أصلها، وإن لوحظ الثاني كان قريبا، وكانت الإشارة بما ذكر لتنزيله لعلو منزلته منزلة البعيد، واحتمال أنه عليه السلام أبعد عنهن وقت هذا الكلام لئلا يزددن دهشة وفتنة ولذا أشير إليه بذلك بعيد. وجوز ابن عطية كون الإشارة إلى حب يوسف عليه السلام، وضمير فِيهِ عائد إليه، وجعل الإشارة على هذا إلى غائب على بابها ويبعده على ما فيه وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وهو إباحة منها ببقية سرها بعد أن أقامت عليهن الحجة وأوضحت لديهن عذرها وقد أصابهن من قبله ما أصابها (2) أي والله لقد راودته حسبما قلتن وسمعتن فَاسْتَعْصَمَ قال ابن عطية: أي طلب العصمة وتمسك بها وعصاني. وفي الكشاف أن الاستعصام بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحفظ الشديد كأنه في عصمة وهو مجتهد في الاستزادة منها، ونحوه استمسك واستوسع الفتق واستجمع الرأي واستفحل الخطب اهـ. وفي البحر والذي ذكره الصرفيون في «استعصم» أنه موافق لاعتصم، وأما استمسك واستوسع واستجمع فاستغفل فيه أيضا موافقة لافتعل، والمعنى امتسك واتسع واجتمع، وأما استفحل فاستفعل فيه موافقة لتفعل أي تفحل نحو استكبر وتكبر، فالمعنى فامتنع عما أرادت منه وبالامتناع فسرت العصمة على إرادة الطلب لأنه هو معناها لغة، قيل: وعنت بذلك فراره عليه السلام منها فإنه امتنع منها أولا بالمقال ثم لما لم يفده طلب ما يمنعه منها بالفرار، وليس المراد بالعصمة ما أودعه الله تعالى في بعض أنبيائه عليهم السلام مما يمنع عن الميل للمعاصي فإنه معنى عرفي لم يكن قبل بل لو كان لم يكن مرادا كما لا يخفى، وتأكيد الجملة بالقسم مع أن مضمونها من مراودتها له عن نفسه مما تحدث به النسوة لإظهار ابتهاجها بذلك.   (1) تعقبه المولى أبو السعود بأنه لا يلائم المقام وبين ذلك بما فيه تأمل اهـ منه. (2) وكأنها عملت مما قيل: لا تخف ما صنعت بك الأشواق ... واشرح هواك فكلنا عشاق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 423 وقيل: إنه باعتبار المعطوف وهو الاستعصام كأنها نظمته لقوة الداعي إلى خلافه من كونه عليه السلام في عنفوان الشباب ومزيد اختلاطه معها ومرادوتها إياه مع ارتفاع الموانع فيما تظن في سلك ما ينكر ويكذب المخبر به فأكدته لذلك وهو كما ترى، وفي الآية دليل على أنه عليه السلام لم يصدر منه ما سود به القصاص وجوه الطروس، وليت السدي لو كان قد سد فاه عن قوله: فَاسْتَعْصَمَ بعد حل سراويله، ثم إنها بعد أن اعترفت لهن بما سمعنه وتحدثهن به وأظهرت من إعراضه عنها واستعصامه ما أظهرت ذكرت أنها مستمرة على ما كانت عليه لا يلويها عنها لوم ولا إعراض فقالت: وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ أي الذي آمر به فيما سيأتي كما لم يفعل فيما مضى- فما- موصولة والجملة بعدها صلة والعائد الهاء، وقد حذف حرف الجر منه فاتصل بالفعل وهذا أمر شائع مع- أمر- كقوله: أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ومفعول- أمر- الأول إما متروك لأن مقصودها لزوم امتثال ما أمرت به مطلقا كما قيل، وإما محذوف لدلالة يَفْعَلْ عليه وهو ضمير يعود على يوسف أي ما آمره به. وجوز أن يكون الضمير الموجود هو العائد على يوسف والعائد على الموصول محذوف أي به، ويعتبر الحذف تدريجا لاشتراطهم في حذف العائد المجرور بالحرف كونه مجرورا بمثل ما جرّ به الموصول لفظا ومعنى ومتعلقا، وإذا اعتبر التدريج في الحذف يكون المحذوف منصوبا، وكذا يقال في أمثال ذلك. وقال ابن المنير في تفسيره: إن هذا الجار مما أنس حذفه فلا يقدر العائد إلّا منصوبا مفصولا كأنه قيل: أمر يوسف إياه لتعذر اتصال ضميرين من جنس واحد، ويجوز أن تكون ما مصدرية فالضمير المذكور ليوسف أي لئن لم يفعل أمري إياه، ومعنى فعل الأمر فعل موجبه ومقتضاه فهو إما على الإسناد المجازي أو تقدير المضاف، وعبرت عن مراودتها بالأمر إظهارا لجريان حكومتها عليه واقتضاء للامتثال لأمرها لَيُسْجَنَنَّ بالنون الثقيلة آثرت بناء الفعل للمفعول جريا على رسم الملوك. وجوز أن يكون إيهاما لسرعة ترتب ذلك على عدم امتثاله لأمرها كأنه لا يدخل بينهما فعل فاعل. وَلَيَكُوناً بالمخففة مِنَ الصَّاغِرِينَ أي الأذلاء المهانين، وهو من صغر كفرح، ومصدر صغر بفتحتين، وصغرا بضم فسكون، وصغار بالفتح، وهذا في القدر، وأما في الجثة والجرم فالفعل صغر ككرم، ومصدره صغر كعنب، وجعل بعضهم الصغار مصدرا لهذا أيضا، وكذا الصغر بالتحريك، والمشهور الأول، وأكدت السجن بالنون الثقيلة قيل: لتحققه، وما بعده بالنون الخفيفة لأنه غير متحقق. وقيل: لأن ذلك الكون من توابع السجن ولوازمه، فاكتفت في تأكيده بالنون الخفيفة بعد أن أكدت الأول بالثقيلة، وقرأت فرقة بالتثقيل فيهما وهو مخالف لرسم المصحف لأن النون رسمت فيه بالألف- كنسفعا- على حكم الوقف وهي يوقف عليها بالألف كما في قول الأعشى ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا ... وذلك في الحقيقة لشبهها بالتنوين لفظا لكونها نونا ساكنة مفردة تلحق الآخر، واللام الداخلة على حرف الشرط موطئة للقسم وجوابه سادّ مسدّ الجوابين، ولا يخفى شدة ما توعدت به كيف وأن للذل تأثيرا عظيما في نفوس الأحرار وقد يقدمون الموت عليه وعلى ما يجرّ إليه، قيل: ولم تذكر العذاب الأليم الذي ذكرته في ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً [يوسف: 25] إلخ لأنها إذ ذاك كانت في طراوة غيظها ومتنصلة من أنها هي التي راودته فناسب هناك التغليظ بالعقوبة، وأما هنا فإنها في طماعية ورجاء، وإقامة عذرها عند النسوة فرقت عليه فتوعدته بالسجن وما هو من فروعه ومستتبعاته، وقيل: إن قولها: لَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ إنما أتت به بدل قولها هناك: عَذابٌ أَلِيمٌ ذله بالقيد أو بالضرب أو بغير ذلك، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 424 لكن يحتمل أنها أرادت بالذل والعذاب الأليم ما يكون بالضرب بالسياط فقط، أو ما يكون به أو بغيره، أو أرادت بالذل ما يكون بالضرب، وبالعذاب الأليم ما يكون به، أو بغيره أو العكس وكيفما كان الأمر فما طلبته هنا أعظم مما لوحت بطلبه هناك لمكان الواو هنا وأو هناك، ولعلها إنما بالغت في ذلك بمحضر عن تلك النسوة لمزيد غيظها بظهور كذبها وصدقه وإصراره على عدم بلّ غليلها، ولتعلم يوسف عليه السلام أنها ليست في أمرها على خيفة ولا خفية من أحد، فيضيق عليه الحيل ويعيي به العلل وينصحن له ويرشدنه إلى موافقتها فتدبر قالَ استئناف بياني كأن سائلا يقول: فماذا صنع يوسف حينئذ؟ فقيل: قالَ مناجيا لربه عزّ وجلّ رَبِّ السِّجْنُ الذي وعدتني بالإلقاء فيه، وهو اسم للمحبس، وقرأ عثمان مولاه طارق وزيد بن علي والزهري وابن أبي إسحاق وابن هرمز ويعقوب «السّجن» بفتح السين على أنه مصدر سجنه أي حبسه، وهو في القراءتين مبتدأ خبره ما بعده، وقرأ «ربّ» بالضم، و «السّجن» بكسر السين والجر على الإضافة- فرب- حينئذ مبتدأ والخبر هو الخبر، والمعنى على ما قيل: لقاء صاحب السجن أو مقاساة أمره أَحَبُّ إِلَيَّ أي آثر عندي لأن فيه مشقة قليلة نافذة إثرها راحات كثيرة أبدية مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ من مواتاتها التي تؤدي إلى الشقاوة والعذاب الأليم، وصيغة التفضيل ليست على بابها إذ ليس له عليه السلام شائبة محبة لما يدعونه إليه وإنما هو والسجن شران أهونهما وأقربهما إلى الإيثار السجن، والتعبير عن الإيثار بالمحبة لحسم مادة طمعها عن المساعدة لها على مطلوبها خوفا من الحبس، والاقتصار على السجن لكون الصغار من مستتبعاته على ما قيل، وقيل: اكتفى عليه السلام بذكر السجن عن ذكره لوفائه بالغرض وهو قطع طمعها عن المساعدة خوفا مما توعدته به لأنها تظن أن السجن أشد عليه من الصغار بناء على زعمها أنه فتاها حقيقة وأن الفتيان لا يشق عليهم ذلك مشقة السجن، ومتى كان الأشد أحب إليه مما يدعونه إليه كان غير الأشد أحب إليه من باب أولى، وفيه منع ظاهر، وإسناد الدعوة إليهن لأنهن خوفنه عن مخالفتها وزيّن له مطاوعتها، فقد روي أنهنّ قلن له: أطع مولاتك واقض حاجتها لتأمن من عقوبتها فإنها المظلومة وأنت الظالم، وروي أن كلّا منهنّ طلبت الخلوة لنصيحته فلما خلت به دعته إلى نفسها، وعن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما أن كل واحدة منهن أرسلت إليه سرا تسأله الزيارة، فإسناد ذلك إليهنّ لأنهن أيضا دعونه إلى أنفسهن صريحا أو إشارة. وفي أثر ذكره القرطبي أنه عليه السلام لما قال: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ إلخ أوحى الله تعالى إليه: يا يوسف أنت جنيت على نفسك ولو قلت: العافية أحب إلي عوفيت، ولذلك رد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على من كان يسأل الصبر، فقد روى الترمذي عن معاذ بن جبل عنه عليه الصلاة والسلام أنه سمع رجلا وهو يقول: «اللهم إني أسألك الصبر فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: سألت الله تعالى فاسأله العافية» . وَإِلَّا تَصْرِفْ أي وإن لم تدفع عَنِّي كَيْدَهُنَّ في تحبيب ذلك إلي وتحسينه لدي بأن تثبتني على ما أنا عليه من العصمة والعفة أَصْبُ إِلَيْهِنَّ أي أمل على قضية الطبيعة وحكم القوة الشهوية إلى إجابتهن بمواتاتها أو إلى أنفسهن وهو كناية عن مواتاتهن، وهذا فزع منه عليه السلام إلى ألطاف الله تعالى جريا على سنن الأنبياء عليهم السلام والصالحين في قصر نيل الخيرات والنجاة عن الشرور على جناب الله تعالى وسلب القوى والقدر عن أنفسهم ومبالغة في استدعاء لطفه سبحانه في صرف كيدهن بإظهار أنه لا طاقة له بالمدافعة كقول المستغيث: أدركني وإلّا هلكت، لا أنه عليه السلام يطلب الإجبار الإلجاء إلى العصمة والعفة وفي نفسه داعية تدعوه إلى السوء كذا قرّره المولى أبو السعود وهو معنى لطيف وقد أخذه من كلام الزمخشري لكن قال القطب، وغيره: إنه فرار إلى الاعتزال وإشارة إلى جواب استدلال الأشاعرة بهذه الآية على أن العبد لا ينصرف عن المعصية إلّا إذا صرفه الله تعالى وقد قرّر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 425 ذلك الإمام بما قرّره فليراجع وليتأمل، وأصل إِلَّا إن لا فهي مركبة من إن الشرطية ولا النافية كما أشرنا إليه، وقد أدغمت فيه النون باللام وأَصْبُ من صبا يصبو صبوا وصبوة إذا مال إلى الهوى، ومنه الصبا للريح المخصوصة لأن النفوس تميل إليها لطيب نسيمها وروحها مضارع مجزوم على أنه جواب الشرط، والجملة الشرطية عطف على قوله: السِّجْنُ أَحَبُّ وجيء بالأولى اسمية دون الثانية لأن أحبيته السجن مما يدعونه إليه كانت ثابتة مستمرة ولا كذلك الصرف المطلوب، وقرىء «أصب» من صبيت صبابة إذا عشقت، وفي البحر الصبابة إفراط الشوق كأن صاحبها ينصب فيما يهوى، والفعل مضمن معنى الميل أيضا ولذا عدي بإلى أي أصب مائلا إليهن وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ أي الذين لا يعملون بما يعلمون لأن من لا جدوى لعلمه فهو ومن لا يعلم سواء، أو من السفهاء بارتكاب ما يدعونني إليه من القبائح لأن الحكيم لا يفعل القبيح، فالجهل بمعنى السفاهة ضد الحكمة لا بمعنى عدم العلم، ومن ذلك قوله: ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 426 فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ [يوسف: 34- 52] أي أجاب له على أبلغ وجه دعاءه الذي تضمنه قوله: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ إلخ فإنه في قوة قوله: اصرفه عني بل أقوى منه في استدعاء الصرف على ما علمت، وفي إسناد الاستجابة إلى الرب مضافا إلى ضميره عليه السلام ما لا يخفى من إظهار اللطف، وزاد حسن موقع ذلك افتتاح كلامه عليه السلام بندائه تعالى بعنوان الربوبية فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ حسب دعائه بأن ثبته على العصمة والعفة وحال بينه وبين المعصية إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لدعاء المتضرعين إليه الْعَلِيمُ بأحوالهم وما انطوت عليه نياتهم وبما يصلحهم لا غيره سبحانه ثُمَّ بَدا لَهُمْ أي ظهر للعزيز وأصحابه المتصدين للحل والعقد ربما اكتفوا بأمر يوسف عليه السلام بالكتمان والإعراض عن ذلك مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ الصارفة لهم عن ذلك البدا وهي الشواهد الدالة على براءته عليه السلام وطهارته من قد القميص وقطع النساء أيديهن، وعليهما اقتصر قتادة فيما أخرجه عنه ابن جرير، وفيه إطلاق الجمع على اثنين والأمر فيه هين، وعن مجاهد الاقتصار على القد فقط لأن القطع ليس من الشواهد الدالة على البراءة في شيء حينئذ للتعظيم، ويحمل الجمع حينئذ على التعظيم أو أل على الجنسية وهي تبطل معنى الجمعية كذا قيل، وهو كما ترى، ووجه بعضهم عدّ القطع من الشواهد بأن حسنه عليه الصلاة والسلام الفاتن للنساء في مجلس واحد، وفي أول نظرة يدل على فتنتها بالطريق الأولى وأن الطلب منها لا منه، وعدّ بعضهم استعصامه عليه السلام عن النسوة إذ دعونه إلى أنفسهن فإن العزيز وأصحابه قد سمعوه وتيقنوا به حتى صار كالمشاهد لهم، ودلالة ذلك على البراءة ظاهرة. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة قال: سألت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن الآيات فقال: ما سألني عنها أحد قبلك من الآيات: قد القميص وأثرها في جسده وأثر السكين فعدّ رضي الله تعالى عنه الأثر من الآيات ولم يذكر فيما سبق، ومن هنا قيل: يجوز أن يكون هناك آيات غير ما ذكر ترك ذكرها كما ترك ذكر كثير من معجزات الأنبياء عليهم السلام، وفاعل بَدا ضمير يعود إما للبداء مصدر الفعل المذكور أو بمعنى الرأي كما في قوله: لعلك والموعود حق لقاؤه ... بدا لك في تلك القلوص بداء وإما للسجن بالفتح المفهوم من قوله سبحانه: لَيَسْجُنُنَّهُ وجملة القسم وجوابه إما مفعول لقول مضمر وقع حالا من ضميرهم وإلى ذلك ذهب المبرد، وإما مفسرة للضمير المستتر في بَدا فلا موضع لها. وقيل: إن جملة لَيَسْجُنُنَّهُ جواب- لبدا- لأنه من أفعال القلوب، والعرب تجريها مجرى القسم وتتلقاها بما يتلقى به، وزعم بعضهم أن مضمون الجملة هو فاعل بَدا كما قالوا في قوله سبحانه: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ [طه: 128] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 427 وقوله تعالى: وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ [إبراهيم: 45] أن الفاعل مضمون الجملة أي كثرة إهلاكنا وكيفية فعلنا، وظاهر كلام ابن مالك في شرح التسهيل أن الفاعل في ذلك الجملة لتأويلها بالمفرد حيث قال: وجاز الإسناد في هذا الباب باعتبار التأويل كما جاز في باب المبتدأ نحو سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ [البقرة: 6، يس: 10] وجمهور النحاة لا يجوزون ذلك كما حقق في موضعه. واختار المازني في الفاعل الوجه الأول، قيل: وحسن- بدا لهم- بداء- وإن لم يحسن ظهر لهم ظهور لأن البداء قد استعمل في غير المصدرية كما علمت، واختار أبو حيان الوجه الأخير وكونه ضمير السجن السابق على قراءة من فتح السين، باستنزال المرأة لزوجها ومطاوعته لها وحبه إياها وجعله زمام أمره بيدها. روي أنه عليه السلام لما استعصم عنها ويئست منه قالت للعزيز: إن هذا الغلام العبراني قد فضحني في الناس يخبرهم بأني راودته عن نفسه فأبى ويصف الأمر حسبما يختار، وأنا محبوسة محجوبة فإما أن تأذن لي فأخرج فأعتذر إلى الناس وأكذبه، وإما أن تحبسه كما أني محبوسة فحبس ، قال ابن عباس: إنه أمر به عليه السلام فحمل على حمار وضرب معه الطبل ونودي عليه في أسواق مصر أن يوسف العبراني راود سيدته فهذا جزاؤه، وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما قال أبو صالح: كلما ذكر هذا بكى، وأرادت بذلك تحقيق وعيدها لتلين به عريكته وتنقاد لها قرونته لما انصرمت حبال رجائها عن استتباعه بعرض الجمال بنفسها وبأعوانها. وقرأ الحسن- لتسجننه- على صيغة الخطاب بأن الخاطب بعضهم العزيز ومن يليه أو العزيز وحده على وجه التعظيم، أو خاطب به العزيز ومن عنده من أصحاب الرأي المباشرين للسجن والحبس حَتَّى حِينٍ قال ابن عباس: إلى انقطاع المقال وما شاع في المدينة من الفاحشة، وهذا بادي الرأي عند العزيز، وأما عندها فحتى يذلله السجن ويسخره لها ويحسب الناس أنه المجرم، وقيل: الحين هاهنا خمس سنين، وقيل: بل سبع. وقال مقاتل: إنه عليه السلام حبس اثنتي عشرة سنة، والأولى أن لا يجزم بمقدار، وإنما يجزم بالمدة الطويلة، والحين عند الأكثرين وقت من الزمان غير محدود يقع على القصير منه والطويل، وقد استعمل في غير ذلك كما ذكرناه في شرح القادرية. وقرأ ابن مسعود- عتى- بإبدال حاء حَتَّى عينا وهي لغة هذيل، وقد أقرأ رضي الله تعالى عنه بذلك إلى أن كتب إليه عمر رضي الله تعالى عنه أن يقرىء بلغة قريش حَتَّى بالحاء وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ غلامان كانا للملك الأكبر الريان بن الوليد: أحدهما خبازه وصاحب طعامه، والآخر ساقيه وصاحب شرابه، وكان قد غضب عليهما الملك بسبب أن جماعة من أشراف مصر أرادوا المكر بالملك واغتياله فضمنوا لهما مالا على أن يسمّاه في طعامه وشرابه فأجابا إلى ذلك، ثم إن الساقي ندم فرجع عن ذلك. وقبل الخباز الرشوة وسمّ الطعام فلما حضر بين يدي الملك قال الساقي: لا تأكل أيها الملك فإن الطعام مسموم فقال للساقي: اشربه فشربه فلم يضره، وقال للخباز: كل من طعامك فأبى فأطعم من ذلك وقال الخباز: لا تشرب فإن الشراب مسموم، لدابة فهلكت فأمر الملك بحبسهما فاتفق أن أدخلا معه السجن، ولعله إنما عبر- بدخل- الظاهر في كون الدخول بالاختيار مع أنه لم يكن كذلك للإشارة على ما قيل: إلى أنهما لما رأيا يوسف هان عليهما أمر السجن لما وقع في قلوبهما من محبته. وهوى كل نفس حيث حل حبيبها. فقد أخرج غير واحد عن ابن إسحاق أنهما لما رأياه قالا له: يا فتى لقد والله أحببناك حين رأيناك، فقال لهما عليه السلام: أنشد كما الله تعالى أن لا تحباني فو الله ما أحبني أحد قط إلّا دخل علي من حبه بلاء، لقد أحبتني عمتي فدخل علي من حبها بلاء، ثم أحبني أبي فدخل علي من حبه بلاء، ثم أحبتني زوجة صاحبي هذا فدخل علي بحبها إياي بلاء فلا تحباني بارك الله تعالى فيكما فأبيا إلّا حبه والله حيث كان، وقيل: عبر بذلك لما أن ذكر مَعَهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 428 يفيد اتصافه عليه السلام بما ينسب إليهما، والمناسب في حقه نسبة الدخول لمكان قوله عليه السلام: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لا الإدخال المفيد لسلب الاختيار، ولو عبر بادخل لأفاد ذلك نسبة الإدخال إليه فلم يكن بدّ من التعبير بالدخول ترجيحا لجانبه عليه السلام، والظاهر أن- مع- تدل على الصحبة والمقارنة لفاعل الفعل في ابتداء تلبسه بالفعل، فتفيد أن دخولهما مصاحبين له وأنهم سجنوا الثلاثة في ساعة واحدة، وتعقب أن هذا منتقض بقوله سبحانه: أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ [النمل: 44] حكاية عن بلقيس إذ ليس إسلامها مقارنا لابتداء إسلام سليمان عليه السلام، وأجيب بأن الحمل على المجاز هنالك للصارف ولا صارف فيما نحن فيه، فيحمل على الحقيقة، ويشهد لذلك ما ذكره الزمخشري في قوله سبحانه: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ [الصافات: 102] من أنه بيان متعلق بمحذوف لتعذر التعلق- ببلغ- أو السَّعْيَ معنى أو لفظا. وقال صاحب الكشف: إنه لا يتعين المحكي عنها لمعية الفاعل فجاز أن يراد أسلمت لله ولرسوله مثلا، وتقديم مع للإشعار بأنها كانت تظن أنها على دين قبل وأنها كانت مسلمة فيما كانت تعبد من الشمس فدل على أنه إسلام يعتدّ به من أثر متابعة نبيه لا إسلام كالأول فاسد، وهذا معنى صحيح حمل الآية عليه أولى، وإن حمل على معية الفاعل لم يكن بدّ من محذوف نحو مع بلوغ دعوته وإظهار معجزته لأن فرق ما بين المعية ومطلق الجمع معلوم بالضرورة اهـ. وفرق بعضهم بي الفعل الممتدّ كالإسلام وغيره كالدخول بأن الأول لا يقتضي مقارنتهما في ابتدائه بخلاف الثاني، وهو على ما قيل: راجع إلى الجمع وليس من المعية في شيء على أنه حينئذ يحتاج إلى تأويل في آية فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ واختير أن المقارنة هي الأصل ولا يعدل عنها ما أمكنت فتأمل. وتأخير الفاعل عن المفعول لما مر غير مرة من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ليتمكن عند النفس حين وروده فضل تكمن، ولعل تقديم الظرف على السجن لأن الاهتمام بأمر المعية أشدّ من الاهتمام بأمره لما أنها المنشأ لما كان، وقيل: إنما قدم لأن تأخيره، يوهم أن يكون خبرا مقدما على المبتدأ، وتكون الجملة حالا من فاعل- دخل- وتعقب بأن حاصل التركيب الأول مصاحبة الفتيين له عند دخولهما، وحاصل الثاني مصاحبة الفتيين له عند دخوله، ويؤول الأمران إلى دخولهما ودخوله متصاحبين فإنهم. والجملة على ما قيل: معطوفة على محذوف ينساق إليه الذهن كأنه قيل: فلما بدا لهم ذلك سجنوه وَدَخَلَ مَعَهُ إلخ، وقرأ السِّجْنَ بفتح السين على معنى موضع السجن قالَ استئناف مبني على سؤال من يقول: ما صنعا بعد ما دخلا؟ فأجيب بأنه قالَ أَحَدُهُما وهو الشرابي واسمه بنو إِنِّي أَرانِي أي رأيتني في المنام والتعبير بالمضارع لاستحضار الصور الماضية أَعْصِرُ خَمْراً أي عنبا، روي أنه قال: رأيت حبلة من كرم حسنة لها ثلاثة أغصان فيها عناقيد عنب فكنت أعصرها وأسقي الملك، وسماه بما يؤول إليه لأن الخمر مما لا يعصر إذ عصر الشيء إخراج ما فيه من المائع بقوة، وكون العنب يؤول إلى الخمر وكون الذي يؤول إليه ماؤه لا جرمه لا يضر لأنه المقصود منه فما عداه غير منظور إليه فليس فيه تجوزان بالنظر إلى المتعارف فيه، وقيل: الخمر بلغة غسان اسم للعنب، وقيل: في لغة أذرعان (1) ، وقرأ أبيّ وعبد الله- «أعصر عنبا» - قال في البحر: وينبغي أن يحمل ذلك على التفسير لمخالفته لسواد المصحف، والثابت عنهما بالتواتر قراءتهما أَعْصِرُ خَمْراً انتهى، وقد أخرج القراءة كذلك عن   (1) قال المعتمر: لقيت أعرابيا يحمل عنبا في وعاء فقلت: ما تحمل؟ قال: خمرا أراد العنب اهـ منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 429 الثاني البخاري في تاريخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه من طرق، وذكروا أنه قال: والله لقد أخذتها من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هكذا فافهم. وقال ابن عطية: يجوز أن يكون وصف الخمر بأنها معصورة لأن العصر من أجلها فليس ذلك من مجاز الأول، والمشهور أنه منه كما قال الفراء: مؤنثة وربما ذكرت، وعن السجستاني أنه سمع التذكير ممن يوثق به من الفصحاء، ورأي الحلمية جرت مجرى أفعال القلوب في جواز كون فاعلها ومفعولها ضميرين متحدي المعنى، ولا يجوز ذلك في غير ما ذكر، فلا يقال: أضربني ولا أكرمني، وحاصله أرى نفسي أعصر خمرا وَقالَ الْآخَرُ وهو الخباز واسمه مجلث (1) إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً، وفي مصحف ابن مسعود- ثريدا.. تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ وهذا كما قيل أيضا: تفسير لا قراءة، روي أنه قال: رأيت أني أخرج من مطبخة الملك وعلى رأسي ثلاث سلال فيها خبز والطير تأكل من أعلاه، والخبز معروف، وجمعه أخباز وهو مفعول أَحْمِلُ والظرف متعلق- بأحمل- وتأخيره عنه لما مرّ، وقيل: متعلق بمحذوف وقع حالا منه، وجملة تَأْكُلُ إلخ صفة له أو استئناف مبني على السؤال نَبِّئْنا أي أخبرنا بِتَأْوِيلِهِ بتعبيره وما يؤول إليه أمره، والضمير للرؤيتين بتأويل ما ذكر أو ما رؤي وقد أجري الضمير مجرى ذلك بطريق الاستعارة (2) فإن اسم الإشارة يشار به إلى متعدد كما مرت الإشارة إليه غير مرة هذا إذا قالاه معا أو قاله أحدهما من جهتهما معا، وأما إذا قاله كل منهما إثر ما قص ما رآه فالمرجع غير متعدد ولا يمنع من هذا الاحتمال صيغة المتكلم مع الغير لاحتمال أن تكون واقعة في الحكاية دون المحكي على طريقة قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ [المؤمنون: 51] فإنهم لم يخاطبوا دفعة بل خوطب كل منهم في زمان بصيغة مفردة خاصة به إِنَّا نَراكَ تعليل لعرض رؤياهما عليه واستفسارهما منه عليه السلام أي إنا نعتقدك مِنَ الْمُحْسِنِينَ أي من الذين يحسنون تأويل الرؤيا لما رأياه يقص عليه بعض أهل السجن رؤياه فيؤوّلها لهم تأويلا حسنا، وكان عليه السلام حين دخل السجن قد قال: إني أعبر الرؤيا وأجيد أو من العلماء كما في قول علي كرم الله تعالى وجهه: قيمة كل امرئ ما يحسنه وذلك لما سمعاه يذكر للناس ما يدل على علمه وفضله، أخرج ابن أبي حاتم وغيره عن قتادة قال: لما انتهى يوسف إلى السجن وجد فيه قوما قد انقطع رجاؤهم واشتد بلاؤهم وطال حزنهم فجعل يقول: ابشروا واصبروا تؤجروا إن لهذا لأجرا فقالوا: يا فتى بارك الله تعالى فيك ما أحسن وجهك وأحسن خلقك وخلقك لقد بورك لنا في جوارك ما نحب أنا كنا في غير هذا منذ جئتنا لما تخبرنا من الأجر والكفارة والطهارة، فمن أنت يا فتى؟ قال: أنا يوسف بن صفي الله تعالى يعقوب بن ذبيح الله تعالى إسحاق بن خليل الله تعالى إبراهيم فقال له عامل السجن: يا فتى لو استطعت خليت سبيلك ولكن سأحسن جوارك فكن في أي بيوت السجن شئت، أو مِنَ الْمُحْسِنِينَ إلى أهل السجن أي فأحسن إلينا بكشف غمتنا إن كنت قادرا على ذلك، وإلى هذا ذهب الضحاك، أخرج سعيد بن منصور والبيهقي، وغيرهما عنه أنه سئل ما كان إحسان يوسف؟ فقال: كان إذا مرض إنسان في السجن قام عليه، وإذا ضاق عليه مكان أوسع له، وإذا احتاج جمع له قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ في   (1) وقيل: اسم الفتيين راشان ومرطش، وقيل: شبرهم وشرهم اهـ منه. [ ..... ] (2) والسر في المصير إلى هذا الإجراء بعد التأويل أن الضمير إنما يتعرض لنفس المرجع من حيث هو من غير تعرض لحال من أحواله فلا ينبغي تأويله بأحد الاعتبارين إلّا بإجرائه مجرى اسم الإشارة الذي يدل على المشار إليه باعتبار الذي جرى عليه الكلام فتأمل، قاله أبو السعود اهـ منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 430 الحبس حسب عادتكما المطردة إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا يأتيكما طعام في حال من الأحوال إلّا حال ما نبأتكما به بأن بينت لكما ماهيته وكيفيته وسائر أحواله قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما، وحاصله لا يأتيكما طعام إلّا أخبرتكما قبل إتيانه إياكما بأنه يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت، وإطلاق التأويل على ذلك مع أن حقيقته في المشهور تفسير الألفاظ المراد منها خلاف الظاهر ببيان المراد بطريق الاستعارة فإن ذلك يشبه تفسير المشكل، أو أنه بالنسبة إلى الطعام المبهم بمنزلة التأويل بالنسبة إلى ما رؤي في المنام وشبيه له. ويحسن هذه الاستعارة ما في ذلك من المشاكلة لما وقع في عبارتهما من قولهما: نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ وكون المراد بالتأويل الأمر الآيل لا المآل بناء على أنه في الأصل جعل شيء آئلا إلى شيء آخر وكما يجوز أن يراد به الثاني يجوز أن يراد به الأول، ويكون المعنى- إلّا نبأتكما بما يؤول إليه من الكلام- والخبر المطابق للواقع في غاية البعد بل لا يكاد يلتفت إليه كما لا يخفى على المنصف، وكأنه عليه السلام أراد أن يعرض عليهما التوحيد ويزينه لهما ويقبح لهما الشرك الله تعالى قبل أن يجيبهما عما سألاه من تعبير رؤياهم ثم يجيبهما عن ذلك. وهذه طريقة على كل ذي عقل أن يسلكها مع الجهلة والفسقة إذا استفتاه واحد منهم أن يقدم الإرشاد والنصيحة أولا ويدعوه إلى ما هو أولى به وأوجبه عليه مما استفتى فيه ثم يفتيه، ولعل ذلك كان مفترضا عليه عليه السلام فوصف نفسه أولا بما هو فوق علم العلماء وهو الإخبار بالمغيبات وجعله تخلصا لما أراد كالتخلصات المعروفة عندهم فإن الإخبار بالغيب يناسب ما سألاه من تأويل رؤياهما وأن من كان هكذا لا محالة يكون بغيره صادقا، ويقوي أمر المناسبة تخصيص الطعام بالذكر من بين سائر المغيبات كما لا يخفى، ويناسب ما أراده من الدعوة إلى التوحيد لأنه ثبت صدقه ونبوته وكونه من المرتضين عند الله تعالى الصادقين في أقوالهم وأفعالهم، وفي حكاية الله تعالى ذلك إرشاد لمن كان له قلب، وقد أدمج فيه أن وصف العالم نفسه لينتفع به لا يحرم ولا يعد ذلك من التزكية المحظورة، وإلى ما ذكرنا من حمل الإتيان على الإتيان في اليقظة ذهب غير واحد من الأجلة، وروي عن ابن جريج، وحمله بعضهم على الإتيان مناما، قال السدي وابن إسحاق: إنه عليه السلام لما علم من رؤية الخباز أنه يقتل أخذ في حديث آخر تنسية لهما أمر المنام وطماعية في إيمانهما ليأخذ المقتول بحظه من الإيمان وتسلم له آخرته فقال بعظيم علمه بالتعبير:- إنه لا يجيئكما طعام في نومكما تريان أنكما ترزقانه إلّا أعلمتكما بما يؤول إليه أمره في اليقظة قبل أن يظهر ذلك- ولا يخفى أن حديث الطماعية المذكورة مما لا بأس إلّا أن حديث التنسية لا يخلو عن منع، وجاء في رواية أخرى عن ابن جريج أخرجها ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عنه ما يقرب من هذا الحديث من وجه فإنه قال: إنه عليه السلام كره العبارة لهما فأجابهما بأن له علما بما يأتيهما من الطعام ولم يصرح بما تدل عليه رؤياهما شفقة على الهالك منهما، وكان الملك إذا أراد قتل إنسان صنع له طعاما معلوما فأرسل به إليه فلما لم يكتفيا بذلك وطلبا منه التعبير أيضا دعاهما إلى التوحيد كراهة للعبارة أيضا، فلما لم يكتفيا عبر لهما وأوضح ما تدل عليه رؤياهما وهو كما ترى، وأيا ما كان فالضمير في تأويله يعود على الطعام، وجوز عوده على ما قصاه عليه من الرؤيتين على معنى (1) لا يأتيكما طعام ترزقانه حسب عادتكما إلّا أخبرتكما بتأويل ما قصصتما عليّ قبل أن يأتيكما ذلك الطعام الموقت، والمراد الأخبار بالاستعجال بالتنبئة، وفيه أنه خلاف الظاهر مع أن الأخبار بالاستعجال مما ليس فيه كثير مناسبة لما هو   (1) قال في إرشاد العقل السليم في الاعتراض عليه: وأنت خبير بأن النظم الكريم ظاهر في تعدد إتيان الطعام والإخبار بالتأويل وتجددهما وأن المقام مقام إظهار فضله في فنون العلوم بحيث يدخل في ذلك رؤياهما دخولا أوليا اهـ فافهم اهـ منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 431 بصدده، وقد يقال: يجوز عود الضمير إلى ما قصاه ويكون المراد من الطعام المرزوق ما رأياه في النوم، ولا يخفى ما فيه أيضا لكن التأويل على هذين الوجهين لا يحتاج إلى التأويل بل يراد منه ما أريد من تأويله في كلامهما، وكذا الضمير المستتر في يَأْتِيكُما يعود على الطعام وعوده على التأويل وإن كان أقرب بعيد، ثم إنه عليه السلام أخبرهما بأن علمه ذلك ليس من علوم الكهنة والمنجمين بل هو فضل إلهي يؤتيه من يشاء فقال: ذلِكُما ويروى أنهما قالا له: من أين لك ما تدعيه من العلم وأنك لست بكاهن ولا منجم؟! وقيل: قالا إن هذا كهانة أو تنجيم، فقال: أي ذلك التأويل، والكشف عن المغيبات، ومعنى البعد في ذلك للإشارة إلى بعد منزلته وعلو درجته مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي بالوحي أو بنحو ذلك مما يحصل به العلم كما يكون للأولياء أهل الكشف رضي الله تعالى عنهم، واقتصر بعضهم على الأول وادعى أن الآية دليل على أنه عليه السلام كان إذ ذاك نبيا، وأيا ما كان فالمراد أن ذلك بعض مما علمنيه الله تعالى أو من ذلك الجنس الذي لا يناله إلّا الأصفياء، ولقد دلهما بذلك على أن له علوما جمة ما سمعاه قطرة من تيارها وزهرة من أزهارها وقوله: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ مما تقدم وتعليلا له كأنه قيل: لماذا علمك ربك تلك العلوم الجليلة الشأن؟ فقال: لأني تركت دين الكفر الذي اجتمعوا عليه من الشرك وعبادة الأوثان. وقيل: تعليل للتعليم الواقع صلة وهو يؤدي إلى معنى أنه مما علمني ربي لهذا السبب دون غيره وليس بمراد. وقيل: لمضمون الجملة الخبرية، وفيه أن ما ذكر ليس بعلة لكون التأويل المذكور بعضا مما علمه ربه- أو لكونه من جنسه- بل لنفس التعليم، والمراد بالترك الامتناع فإنه لم يتلوث بتلك قط كما يفصح عنه ما يأتي من كلامه عليه السلام قريبا إن شاء الله تعالى لكن عبر به عن ذلك استجلابا لهما لأن يتركا تلك الملة التي هم عليها على أحسن وجه والتعبير عن كفرهم بالله تعالى بسلب الإيمان به سبحانه للتنصيص على أن عبادتهم له تعالى مع عبادة الأوثان ليس بإيمان به تعالى كما يزعمونه، وأراد بأولئك القوم المتصفين بعنوان الصلة حيث كانوا، وقيل: أهل مصر فإنهم كانوا عبدة إذ ذاك وَهُمْ بِالْآخِرَةِ وما فيها من الجزاء هُمْ كافِرُونَ أي على الخصوص دون غيرهم من الكنعانيين الذين هم ملة إبراهيم عليه السلام على ما يفيده توسيط ضمير الفصل هنا عند البعض، وذكر أن تقديم الضمير للتخصيص وتكريره للتأكيد، ولعله إنما أكد إنكارهم للمعاد لأنه كان أشد من إنكارهم للمبدأ فتأمل. وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ داخل في حيز التعليل كأنه قال: إنما فزت بما فزت بسبب أني لم أتبع ملة قوم كفروا بالمبدأ والمعاد واتبعت ملة آبائي الكرام المؤمنين بذلك، وإنما قاله عليه السلام ترغيبا لصاحبيه في الإيمان والتوحيد وتنفيرا لهما عما كانا عليه من الشرك والضلال، وقدم ذكر تركه لملتهم على ذكر اتباعه لملة آبائه عليهم السلام لأن التخلية مقدمة على التحلية. وجوز بعضهم أن لا يكون هناك تعليل وإنما الجملة الأولى مستأنفة ذكرت تمهيدا للدعوة والثانية إظهارا لأنه من بيت النبوة لتقوى الرغبة فيه، وفي كلام أبي حيان ما يقتضي أنه الظاهر وليس بذاك، وقرأ الأشهب العقيلي والكوفيون «آبائي» بإسكان الياء وهي مروية عن أبي عمرو ما كانَ ما صح وما استقام فضلا عن الوقوع لَنا معاشر (1) الأنبياء لقوة نفوسنا، وقيل: أي أهل هذا البيت لوفور عناية الله تعالى بنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي شيئا أي شيء كان من ملك أو جني أو إنسي فضلا عن الصنم الذي لا يسمع ولا يبصر- فمن- زائدة في المفعول به لتأكيد   (1) قيل: يراد معاشر الأنبياء، ويعتبر التغليب بناء على عدم نبوته عليه السلام إذ ذاك وهو كما ترى اهـ منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 432 العموم، ويجوز أن يكون المعنى شيئا من الإشراك قليلا كان أو كثيرا فيراد من شَيْءٍ المصدر وأمر العموم بحاله، ويلزم من عموم ذلك عموم المتعلقات ذلِكَ أي التوحيد المدلول عليه بنفي صحة الشرك مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا أي ناشىء من تأييده لنا بالنبوة والوحي بأقسامه، والمراد أنه فضل علينا بالذات وَعَلَى النَّاسِ بواسطتنا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ أي لا يوحدون، وحيث عبر عن ذلك بذلك العنوان عبر التوحيد الذي يوجبه بالشكر لأنه مع كونه من آثار ما ذكر من التأييد شكر لله عزّ وجلّ، ووضع الظاهر موضع الضمير الراجع الى الناس لزيادة التوضيح والبيان ولقطع توهم رجوعه إلى مجموع الناس وما كنى عنه- بنا- الموهم لعدم اختصاص غير الشاكر بالناس، وفيه من الفساد ما فيه، وجوز أن يكون المعنى ذلك التوحيد ناشىء من فضل الله تعالى علينا حيث نصب لنا أدلة ننظر فيها ونستدل بها على الحق، وقد نصب مثل تلك الأدلة لسائر الناس أيضا من غير تفاوت ولكن أكثرهم لا ينظرون ولا يستدلون بها اتباعا لأهوائهم فيبقون كافرين غير شاكرين، والفضل على هذا عقلي وعلى الأول سمعي، وجوز المولى أبو السعود أن يقال: المعنى ذلك التوحيد من فضل الله تعالى علينا حيث أعطانا عقولا ومشاعر نستعملها في دلائل التوحيد التي مهدها في الأنفس والآفاق، وقد أعطى سائر الناس أيضا مثلها ولكن أكثرهم لا يشكرون أي لا يصرفون تلك القوى والمشاعر الى ما خلقت هي له ولا يستعملونها فيما ذكر من أدلة التوحيد الآفاقية والأنفسية والعقلية والنقلية انتهى، ولك أن تقول: يجوز أن تكون الإشارة إلى ما أشير إليه- بذلكما- ويراد منه ما يفهم مما قبل من علمه بتأويل الرؤيا، مِنْ في قوله مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تبعيضية، ويكون قد أخبر عنه أولا بأنه مما علمه إياه ربه وثانيا بأنه بعض فضل الله تعالى عليه وعلى آبائه بالذات وعلى الناس بواسطتهم لأنهم يعبرون لهم رؤياهم فيكشفون لهم ما أبهم عليهم ويزيلون عنهم ما أشغل أذهانهم مع ما في ذلك من النفع الذي لا ينكره إلّا نائم أو متناوم، ومن وقف على ما ترتب على تعبير رؤيا الملك من النفع الخاص والعام لم يشك في أن علم التعبير من فضل الله تعالى على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون فضل الله تعالى مطلقا أو فضله عليهم بوجود من يرجعون إليه في تعبير رؤياهم، ويكون ذلك نظير قولك لمن سألك عن زيد: ذلك أخي ذلك حبيبي، ولكنه وسط هاهنا ما وسط وتفنن في التعبير فأتى باسم الإشارة أولا مقرونا بخطابهما ولم يأت به ثانيا كذلك وأتى بالرب مضافا إلى ضميره أولا وبالاسم الجليل ثانيا، ويجوز أن يكون المشار إليه في الموضعين الإخبار بالمغيبات مطلقا، والكلام في سائر الآية عليه لا أظنه مشكلا، وعلى الوجهين لا ينافي تعليل نيل تلك الكرامة- بتركه ملة الكفرة واتباعه ملة آبائه الكرام- الإخبار بأن ذلك من فضل الله تعالى عليه وعلى من معه كما لا يخفى، نعم إن حمل الإشارة على ما ذكر وتوجيه الآية عليه بما وجهت لا يخلو عن بعد. ومن الناس من جعل الإشارة إلى النبوة وفيه ما فيه أيضا، هذا وأوجب الإمام كون المراد في قوله: لا يَشْكُرُونَ لا يشكرون الله تعالى على نعمة الإيمان، ثم قال: وحكي أن واحدا من أهل السنة دخل على بشر بن المعتمر فقال: هل تشكر الله تعالى على الإيمان أم لا؟ فإن قلت: لا فقد خالفت الإجماع، وإن شكرته فكيف تشكره على ما ليس فعلا له؟! فقال بشر: إنا نشكره على أن أعطانا القدرة والعقل والآلة، وأما أن نشكره على الإيمان مع أنه ليس فعلا له فذلك باطل، وصعب الكلام على بشر فدخل عليهم ثمامة بن الأشرس، فقال: إنا لا نشكر الله تعالى على الإيمان بل الله تعالى يشكره علينا كما قال سبحانه: فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الإسراء: 19] فقال بشر: لما صعب الكلام سهل، وتعقب ذلك عليه الرحمة بأن الذي التزمه ثمامة باطل وهو على طرف الثمام بنص هذه الآية لأنه سبحانه بين فيها أن عدم الإشراك من فضل الله تعالى، ثم بين أن أكثر الناس لا يشكرون هذه النعمة، وقد ذكر سبحانه ذلك على سبيل الذم فدل على أنه يجب على مؤمن أن يشكر الله تعالى على الإيمان لئلا يدخل في الذم وحينئذ تقوى الحجة وتكمل الدلالة اه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 433 ولعل الوجه في الآية ما تقدم فليفهم يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أي يا صاحبي فيه إلّا أنه أضيف إلى الظرف توسعا كما في قولهم: يا سارق الليلة أهل الدار ولعله إنما ناداهما بعنوان الصحبة في مدار الأشجان ودار الأحزان التي تصفو فيها المودة وتتمحض النصيحة ليقبلا عليه ويقبلا مقالته، ويجوز أن يراد بالصحبة السكنى كما يقال: أَصْحابُ النَّارِ وأَصْحابُ الْجَنَّةِ [الحشر: 20] لملازمتهم لهما، والإضافة من باب إضافة الشيء إلى شبه المفعول عند أبي حيان وإلى المفعول عند غيره ولا اتساع في ذلك، وقيل: بل هناك اتساع أيضا، وأنه أضافهما إلى السجن دونه لكونهما كافرين وفيه نظر، ولعل في ندائهما بذلك على هذا الوجه حثا لهما على الإقرار بالحق كأنه قال لهما: يا ساكني هذا المكان الشاق والمحل الضنك إني ذاكر لكم أمرا فقولوا. الحق فيه ولا تزيغوا عن ذلك فأنتم تحت شدة ولا ينبغي لمن كان كذلك أن يزيغ عن الحق، وإنما حمل الصاحب على ما سمعت لأن صاحب السجن في الاستعمال المشهور السجان أو الملك، والنداء- بيا- بناء على الشائع (1) من أنها للبعيد للإشارة إلى غفلتهما وهيمانهما في أودية الضلال، وقد تلطف عليه السلام بهما في ردهما إلى الحق وإرشادهما إلى الهدى حيث أبرز لهما ما يدل على بطلان ما هما عليه بصورة الاستفهام حتى لا تنفر طباعهما من المفاجأة بإبطال ما ألفاه دهرا طويلا ومضت عليه أسلافهما جيلا فجيلا فقال: أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ متعددون متكثرون يستعبدكما منهم هذا وهذا، والكلام على ما صرح به أبو حيان على حذف مضاف أي أعبادة أرباب متفرقين خَيْرٌ لكما أَمِ اللَّهُ أي أم عبادة الله سبحانه الْواحِدُ المنفرد بالألوهية الْقَهَّارُ الغالب الذي لا يغالبه أحد جلّ وعلا، وهو أولى مما قاله الخطابي من أنه الذي قهر الجبابرة بالعقوبة والخلق بالموت. وذكر الزمخشري أن هذا مثل ضرب لعبادة الله تعالى وحده ولعبادة الأصنام، واعترضه القطب بأن ذلك إنما يصح لو نسبا تارة إلى أرباب شتى وأخرى إلى رب واحد كما في قوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ [الزمر: 29] الآية لكنهما نسبا إلى أرباب وإلى الله تعالى، فكيف يكون مثلا؟! وأجاب بأن يفسر الله تعالى برب واحد لأنه في مقابلة أرباب، وإنما عبر عن رب واحد بالله تعالى لانحصاره فيه جلّ جلاله. وقال الطيبي أيضا: إن في ذلك إشكالا لأن الظاهر من الآية نفي استواء الأصنام وعبادتها بالله تعالى وعبادته فأين المثل؟ ثم قال: لكن التقدير أسادات شتى تستعبد مملوكا واحدا خير من سيد واحد قهار فوضع موضع الرب، والسيد الله لكونه مقابلا لقوله: أَأَرْبابٌ فيكون كقوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ الآية. وقرر في الكشف ما ادعى معه ظهور كونه مثلا طهورا لا إشكال فيه، والحق أنه ظاهر في نفي الاستواء وإن جعله مثلا يحتاج إلى تأويل حسبما سمعت عن الطيبي إلّا أنه لا يخلو عن لطف ولعله الأولى وإن أحوج إلى ما أحوج، وحمل التفرق على التفرق في العدد والتكاثر مما ذهب إليه غير واحد، وحمله بعضهم على الاختلاف في الكبر والصغر والشكل ونحو ذلك مما يحصل لها بواسطة تأثير الغير فيها، وجعله إشارة الى كونها مقهورة عاجزة. وأما التعدد فيشير إليه جمع أرباب باعتبار أنه جمع فيكون ذكر الْواحِدُ على هذا في مقابلة ما أشير إليه من التعدد، والْقَهَّارُ في مقابلة ما أشير إليه من المقهورية والعجز، والمعنى أمتعددون سميتموهم أربابا عجز مقهورون متأثرون من غيرهم خير أَمِ اللَّهُ أي صاحب هذا الاسم الجليل الْواحِدُ الذي يستحيل عليه التكثر بوجه من الوجوه الْقَهَّارُ الذي لا موجود إلّا وهو مسخر تحت قهره وقدرته عاجز في قبضته.   (1) والحق أنها للنداء مطلقا بعيدا كان المنادى أو قريبا اهـ منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 434 وقيل: المراد من مُتَفَرِّقُونَ مختلفو الأجناس والطبائع كالملك والجن والجماد مثلا، ويجوز أن يراد منه من لا ارتباط بينهم ولا اتفاق، وكثيرا ما يكنى بذلك عن العجز واختلال الحال، وقد استنبط الإمام من الآية غير ما حجة على بطلان عبادة الأصنام، وظاهر كلامه أنه لم يعتبرها مثلا فليتأمل، ثم إنه عليه السلام زاد في الإرشاد ببيان سقوط آلهتهما عن درجة الاعتبار رأسا فضلا عن الألوهية، واخرج ذلك على أتم وجه فقال معمما للخطاب لهما ولمن على دينهما من أهل مصر كما هو الظاهر، وقيل: مطلقا، وقيل: من معهما من أهل السجن: ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ أي من دون الله تعالى شيئا إِلَّا أَسْماءً أي ألفاظا فارغة لا مطابق لها في الخارج لأن ما ليس فيه مصداق إطلاق الاسم عليه لا وجود له أصلا فكانت عبادتهم لتلك الألفاظ فقط سَمَّيْتُمُوها جعلوها أسماء أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ بمحض الجهل والضلالة ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها أي بتلك التسمية المستتبعة للعبادة مِنْ سُلْطانٍ أي حجة تدل على صحتها، قيل: كانوا يطلقون على معبوداتهم الباطلة اسم الآلهة ويزعمون الدليل على ذلك فردوا بأنكم سميتم ما لم يدل على استحقاقه هذا الاسم عقل ولا نقل ثم أخذتم تعبدون ذلك باعتبار ما تطلقونه عليه، وإنما لم يذكر المسميات تربية لما يقتضيه المقام من إسقاطها عن مرتبة الوجود وإيذانا بأن تسميتهم في البطلان حيث كانت بلا مسمى كعبادتهم حيث كانت بلا معبود، ويلحق بهؤلاء الذين يزعمون أنهم يعبدون الله تعالى وهم يتخيلونه جسما عظيما جالسا فوق العرش أو نحو ذلك مما ينزهه العقل والنقل عنه تعالى تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا لأن ما وضع له الاسم الجليل في نفس الأمر ليس هو الذي تخيلوه بل هو أمر وراء ذلك وهو المستحق للعبادة وما وضعوه هم له ليس بآله في نفس الأمر ولا مستحق للعبادة وهو الذي عبدوه فما عبدوا في الحقيقة إلّا اسما لا مطابق له في الخارج لأن ما في الخارج أمر وما وضعوا الاسم له أمر آخر إِنِ الْحُكْمُ أي ما الحكم في شأن العبادة المتفرعة على تلك التسمية وفي صحتها إِلَّا لِلَّهِ عز سلطانه لأنه المستحق لها بالذات- إذ هو الواجب بالذات الموجد للكل والمالك لأمره- أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا أي بأن لا تعبدوا أحدا إِلَّا إِيَّاهُ حسبما يقتضي به قضية العقل أيضا، والجملة استئناف مبني على سؤال ناشىء من الجملة السابقة كأنه قيل: فماذا حكم الله سبحانه في هذا الشأن؟ فقيل: أَمَرَ إلخ، وقيل: في موضع التعليل لمحذوف كأنه قيل: حيث لم يكن الحكم في أمر العبادة إلّا له فلا تكون العبادة إلا له سبحانه أو لمن يأمر بعبادته وهو لا يأمر بذلك ولا يجعله لغيره لأنه سبحانه أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، وهو خلاف الظاهر. وجوز أن يكون سرد هذه الجمل على هذا الطرز لسدّ الطرق في توجيه صحة عبادة الأصنام عليهم أحكم سدّ فإنهم إن قالوا: إن الله تعالى قد أنزل حجة في ذلك ردوا بقوله: ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ وإن قالوا: حكم لنا بذلك كبراؤنا ردوا بقوله: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ وإن قالوا: حيث لم ينزل حجة في ذلك ولم يكن حكم لغيره بقي الأمر موقوفا إذ عدم إنزال حجة تدل على الصحة لا يستلزم إنزال حجة على البطلان ردوا بقوله: أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ أي تخصيصه تعالى بالعبادة الدِّينُ الْقَيِّمُ الثابت الذي دلت عليه البراهين العقلية والنقلية وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أن ذلك هو الدين القيم لجهلهم تلك البراهين أو لا يعلمون شيئا أصلا فيعبدون أسماء سموها من عند أنفسهم معرضين عما يقتضيه العقل ويسوق إليه سائق النقل، ومنشأ هذا الإعراض الوقوف عند المألوفات والتقيد بالحسيات وهو مركوز في أكثر الطباع ومن ذلك جاء التشبيه، والتجسيم، ونسبه الحوادث الكونية الى الشمس والقمر وسائر الكواكب. ونحو ذلك، ثم إنه عليه السلام بعد تحقيق الحق وبيانه لهما مقدار علمه الواسع شرع في إنبائهما عما استنبآه عنه، ولكونه بحثا مغايرا لما سبق فصله عنه بتكرير الخطاب فقال: يا صاحِبَيِ السِّجْنِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 435 أَمَّا أَحَدُكُما أراد به الشرابي، وإنما لم يعينه عليه السلام ثقة بدلالة التعبير مع ما فيه من رعاية حسن الصحبة فَيَسْقِي رَبَّهُ أي سيده خَمْراً روي أنه عليه السلام قال له: ما رأيت من الكرمة وحسنها هو الملك وحسن حالك عنده، وأما القضبان الثلاثة فإنها ثلاثة أيام تمضي في السجن ثم تخرج وتعود إلى ما كنت عليه، وقرىء «فيسقي» بضم الياء والبناء للفاعل من أسقى، قال صاحب اللوامح: يقال: سقى، وأسقى بمعنى، وقرىء في السبعة «نسقيكم» و «نسقيكم» بالفتح والضم، والمعروف أن سقاه ناوله ليشرب. وأسقاه جعل له سقيا، ونسب ضم الياء لعكرمة، والجحدري، وذكر بعضهم أن عكرمة قرأ «فيسقى» بالبناء للمفعول، وريه- بالياء المثناة والراء المكسورة، والمراد به ما يروى به وهو مفعول ثان- ليسقى- والمفعول الأول الضمير النائب عن الفاعل العائد على أحد، ونصب خَمْراً حينئذ على التمييز وَأَمَّا الْآخَرُ وهو الخباز فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ روي أنه عليه السلام قال له: ما رأيت السلال الآخرة الثلاث ثلاثة أيام تمر ثم تخرج فتصلب قُضِيَ أتم وأحكم الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ وهو ما يؤول إليه حالكما وتدل عليه رؤياكما من نجاة أحدكما وهلاك الآخر، ومعنى استفتائهما فيه سؤالهما عنه، أخرج جماعة منهم الحاكم وصححه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: ما رأى صاحبا يوسف شيئا إنما تحالما ليجربا علمه فلما أول رؤياهما قالا: إنما كنا نلعب ولم نر شيئا، فقال عليه السلام: قُضِيَ الْأَمْرُ إلخ يقول: وقعت العبارة اهـ، وقيل: المراد بالأمر ما اتهما به، والكلام حينئذ على حذف مضاف أي عاقبة ذلك. وذهب بعض المحققين إلى أن المراد به ما رأياه من الرؤيتين، ونفى أن يكون المراد ما يؤول إليه أمرهما، قال: لأن الاستفتاء إنما يكون في الحادثة لا في حكمها يقال: استفتى الفقيه في الحادثة أي طلب منه بيان حكمها ولا يقال: استفتاه في حكمها وكذا الإفتاء، يقال: أفتى في الواقعة الفلانية بكذا ولا يقال: أفتى في حكمها بكذا ومما هو علم في ذلك قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ ومعنى استفتائهما فيه طلبهما لتأويله بقولهما نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ وعبر عن ذلك بالأمر وعن طلب تأويله بالاستفتاء تهويلا لأمره وتفخيما لشأنه إذ الاستفتاء إنما يكون في النوازل المشكلة الحكم المبهمة الجواب، وإيثار صيغة المضارع لما أنهما بصدد الاستفتاء إلى أن يقضي عليه السلام من الجواب وطره وإسناد القضاء إليه مع أنه من أحوال مآله لأنه في الحقيقة عين ذلك المآل، وقد ظهر في عالم المثال بتلك الصورة، وأما توحيده مع تعدد رؤياهما فوارد على حسب ما وحداه في قولهما: نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ لا لأن الأمر ما اتهما به وسجنا لأجله من سمّ الملك فإنهما لم يستفتيا فيه ولا فيما هو صورته بل فيما هو صورة لمآله وعاقبته فتأمل اهـ. وتعقب بأنه لا مانع من أن يراد بالأمر المآل كما يقتضيه ظاهر إسناد إليه وإليه ذهب الكثير، وتجعل- في- للسببية مثلها في قوله عليه الصلاة والسلام: «إن امرأة دخلت النار في هرة» ويكون معنى الاستفتاء فيه الاستفتاء بسببه أي طلب بيان حكم الرؤيتين لأجله، وهما إنما طلبا ذلك لتعرف حالهما ومآل أمرهما. وإن أبيت ذلك فأي مانع من أن يكون الاستفتاء في الأمر مع أن الاستفتاء إنما يكون في الحادثة، وهي هنا الرؤيتان لما أن بين الأمر وتلك الحادثة اتحادا كما ادعاه هو، ووجه به إسناد القضاء إلى الأمر بالمعنى الذي حمله عليه مع أنه من أحوال مآله، وليس له أن يقول بصحة اعتبار العينية في إسناد القضاء وعدم صحة اعتبارها في تعلق الاستفتاء إذ بعد اعتبار العينية بين شيئين يكون صحة نسبة ما هو من أحوال أحدهما إلى الآخر دون صحة نسبة ما هو من أحوال ذلك الآخر إليه ترجيحا بلا مرجح، ومنع ذلك مكابرة، ويرجح ما ذهب إليه الكثير أن فيه سلامة من نزع الخف قبل الوصول إلى الماء كما لا يخفى على من تيمم كعبة الإنصاف، وبأن ما ذكره في تعليل عدم صحة تفسير الأمر بما اتهما به وسجنا لأجله لا يخلو عن دغدغة على أن ذلك كان تعريضا بصاحب الكشاف وهو على ما قال الطيبي: ما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 436 عني بالأمر إلّا العاقبة، نعم صدر كلامه ظاهر فيما ذكر والأمر فيه سهل، ولعل وجه الأمر بالتأمل في كلام هذا المحقق مجموع ما ذكرناه فتأمل، ثم إن هذا الإخبار كما يحتمل أن يكون للرد عليهما حسبما ورد في الأثر يحتمل أن يكون تحقيقا لتعبيره وتأكيدا له، ولا يشكل على الأول أنه لا داعي لجحود الشرابي لأنا نقول على تقدير كذبهما في ذلك: يحتمل أن يكون لمراعاة جانب صاحبه الخباز. وجاء في بعض الآثار «إن الذي جحد هو الخباز» فحينئذ الأمر واضح. واستدل بذلك على ما هو المشهور من أن الرؤيا تقع كما تعبر، ولذا قيل: المنام على جناح طائر إذا قص وقع وَقالَ أي يوسف عليه السلام. لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ أوثر على صيغة المضارع مبالغة في الدلالة على تحقيق النجاة حسبما يفيده قوله: قُضِيَ الْأَمْرُ إلخ، وهو السر في إيثار ما عليه النظم الكريم على أن يقال: للذي ظنه ناجيا مِنْهُمَا أي من صاحبيه، وإنما ذكر بوصف النجاة تمهيدا لمناط التوصية بالذكر بما يدور (1) عليه الامتياز بينه وبين صاحبه المذكور بوصف الهلاك، والظانّ هو يوسف عليه السلام لا صاحبه، وإن ذهب إليه بعض السلف لأن التوصية لا تدور على ظنّ الناجي بل على ظنّ يوسف عليه السلام وهو بمعنى اليقين كما في قوله تعالى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [البقرة: 46] ونظائره. ولعل التعبير به من باب إرخاء العنان والتأدب مع الله تعالى، فالتعبير على هذا بالوحي كما ينبىء عنه قوله: قُضِيَ الْأَمْرُ إلخ، وقيل: هو بمعناه، والتعبير بالاجتهاد والحكم بقضاء الأمر أيضا اجتهادي، واستدل به من قال: إن تعبير الرؤيا ظني لا قطعي، والجار والمجرور إما في موضع الصفة- لناج- أو الحال من الموصول ولا يجوز أن يكون متعلقا- بناج- لأنه ليس المعنى عليه اذْكُرْنِي بما أنا عليه من الحال والصفة. عِنْدَ رَبِّكَ سيدك، وروي أنه لما انتهى بالناجي في اليوم الثالث إلى باب السجن قال له: أوصني بحاجتك، فقال عليه السلام: حاجتي أن تذكرني عند ربك وتصفني بصفتي التي شاهدتها فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ أي أنسى ذلك الناجي بوسوسته وإلقائه في قلبه أشغالا حتى يذهل عن الذكر، وإلّا فالإنساء حقيقة لله تعالى، والفاء للسببية فإن توصيته عليه السلام المتضمنة للاستعانة بغيره سبحانه وتعالى كانت باعثة لما ذكر من إنسائه ذِكْرَ رَبِّهِ أي ذكر يوسف عليه السلام عند الملك، والإضافة لأدنى ملابسة، ويجوز أن تكون من إضافة المصدر إلى المفعول بتقدير مضاف أي ذكر إخبار ربه فَلَبِثَ أي فمكث يوسف عليه السلام بسبب ذلك القول أو الإنساء فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ البضع ما بين الثلاث إلى التسع كما روي عن قتادة وعن مجاهد أنه من الثلاث إلى السبع، وقال أبو عبيدة: من الواحد إلى العشرة، ولا يذكر على ما قال الفراء: إلّا مع العشرات دون المائة والألف، وهو مأخوذ من البضع بمعنى القطع والمراد به هنا في أكثر الأقاويل سبع سنين وهي مدة لبثه كلها فيما صححه البعض، وسنتان منها كانت مدة لبثه بعد ذلك القول، ولا يأبى ذلك فاء السببية لأن لبث هذا المجموع مسبب عما ذكر، وقيل: إن هذه السبع مدة لبثه بعد ذلك القول، وقد لبث قبلها خمسا فجميع المدة اثنتا عشرة سنة، ويدل عليه خبر «رحم الله تعالى أخي يوسف لو لم يقل: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ لما لبث في السجن سبعا بعد خمس» (2) ، وتعقب بأن الخبر لم يثبت بهذا اللفظ وإنما   (1) ولذا لم يذكره بعنوان التقرب المفهوم من التعبير المذكور وإن كان أدخل وأدعى إلى تحقيق ما وصاه به اهـ منه. (2) وقيل: إنه لبث خمس سنين، وقد تقدم هذا للقول فتذكر اهـ منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 437 الثابت في عدة روايات ما لبث في السجن طول ما لبث وهو لا يدل على المدعى، وروي ابن حاتم عن طاوس والضحاك تفسير البضع هاهنا بأربع عشرة سنة وهو خلاف المعروف في تفسيره، والأولى أن لا يجوز بمقدار معين كما قدمنا، وكون هذا اللبث مسببا عن القول هو الذي تظافرت عليه الأخبار كالخبر السابق والخبر الذي روي عن أنس قال: «أوحى الله تعالى إلى يوسف عليه السلام من استنقذك من القتل حين هم إخوتك أن يقتلوك، قال: أنت يا رب، قال: فمن استنقذك من الجب إذ ألقوك فيه، قال: أنت يا رب، قال: فمن استنقذك من المرأة إذ همت بك، أنت يا رب، قال: فما بالك نسيتني وذكرت آدميا، قال: يا رب كلمة تكلم بها لساني، قال: وعزتي لأدخلنك في السجن بصع سنين» وغير ذلك من الأخبار، ولا يشكل على هذا أن الاستعانة بالعباد في كشف الشدائد مما لا بأس به، فقد قال سبحانه: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى [المائدة: 2] فكيف عوتب عليه السلام في ذلك لأن ذلك ما يختلف باختلاف الأشخاص، واللائق بمناصب الأنبياء عليهم السلام ترك ذلك والأخذ بالعزائم، واختار أبو حيان أن يوسف عليه السلام إنما قال للشرابي ما قال ليتوصل بذلك إلى هداية الملك وإيمانه بالله تعالى كما توصل إلى إيضاح الحق لصاحبيه، وإن ذلك ليس من باب الاستعانة بغير الله تعالى في تفريج كربه وخلاصه من السجن، ولا يخفى أن ذلك خلاف الظاهر، وموجب للطعن في غير ما خبر، نعم إنه اللائق بمنصبه عليه الصلاة والسلام. وجوز بعضهم كون ضمير- أنساه- ورَبِّهِ عائدين على يوسف عليه السلام، وإنساء الشيطان ليس من الإغواء في شيء بل هو ترك الأولى بالنسبة لمقام الخواص الرافعين للأسباب من البين، وأنت تعلم أن الأول هو المناسب لمكان الفاء، ولقوله تعالى الآتي: واذكر بعد أمة وَقالَ الْمَلِكُ وهو الريان وكان كافرا، ففي إطلاق ذلك عليه دلالة على ما قيل: على جواز تسمية الكافر ملكا، ومنعه بعضهم، وكذا منع أن يقال: له أمير احتجاجا بأنه صلى الله تعالى عليه وسلم كتب إلى هرقل «عظيم الروم» ولم يكتب ملك الروم، أو أميرهم لما فيه من إيهام كونه على الحق، وجعل هذا حكاية اسم مضى حكمه وتصرم وقته، ومثله لا يضر أي قال لمن عنده: إِنِّي أَرى أي رأيت، وإيثار صيغة المضارع لحكاية الحال الماضية سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ ممتلئات لحما وشحما من سمن كسمع سمانة بالفتح وسمنا كعنبا فهو سامن، وسمين، وذكر أن سمينا وسمينة تجمع على سمان، فهو ككرام جمع كريم وكريمة، يقال: رجال كرام ونسوة كرام يَأْكُلُهُنَّ أي أكلهن، والعدول إلى المضارع لاستحضار الصورة تعجيبا، والجملة حال من البقرات أو صفة لها سَبْعٌ عِجافٌ أي سبع بقرات مهزولة جدا من قولهم: نصل أعجف أي دقيق وهو جمع عجفاء على خلاف القياس، والقياس عجف كحمراء، وحمر فإن فعلاء وأفعل لا يجمع على فعال لكنهم بنوه على سِمانٍ وهم قد يبنون الشيء على ضده كقولهم: عدوة بالهاء لمكان صديقة، وفعول بمعنى فاعل لا تدخله الهاء، وأجرى سِمانٍ على المميز فجر على أنه وصف له، ولم ينصب على أن يكون صفة للعدد المميز لأن وصف تمييزه وصف له معنى، وقد ذكروا أنه إذا وصف التمييز كان التمييز بالنوع وإذا وصف التمييز كان التمييز بالجنس، ولا شك أن الأول أولى وأبلغ لاشتمال النوع على الجنس فهو أزيد في رفع الإبهام المقصود من التمييز، فلهذا رجح ما في النظم الكريم على غيره ولم يقل: سَبْعٌ عِجافٌ بالإضافة، وجعله صفة للتمييز المقدر على قياس ما قبله- لأن التمييز لبيان الجنس والحقيقة والوصف- لا يدل عليه بل على شيء ما له حال وصفة، فلذا ذكروا أن التمييز يكون باسم الجنس الجامد ولا يكون بالوصف المشتق في فصيح الكلام، فتقول: عندي ثلاثة قرشيون ولا تقول قرشيين بالإضافة، وأما قولك: ثلاثة فرسان وخمسة ركبان فلجريان الفارس والراكب مجرى الأسماء لاستعمالها في الأغلب من غير موصوف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 438 واعترض صاحب الفرائد بأن الأصل في العدد التمييز بالإضافة فإذا وصف السبع بالعجاف فلا بد من تقدير المضاف إليه، وكل واحد من الوصف- وتقدير المضاف إليه- خلاف الأصل أما إذا أضيف كانت الصفة قائمة مقام الموصوف فقولنا: سَبْعٌ عِجافٌ في قوة قولنا: سبع بقرات عجاف، فالتمييز المطلوب بالإضافة حاصل بالإضافة إلى الصفة لقيامها مقام الموصوف، فكما يجوز سبع بقرات عجاف يجوز سبع عجاف، وإنما لم يضف لأنه قائم مقام البقرات وهي موصوفة بعجاف فكانت من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة وهي غير جائزة إلّا بتأويل، وتعقب ذلك القطب بأنه هب أن الأصل في العدد التمييز بالإضافة لكن لما سبق ذكر سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ تبين أن السبع العجاف بقرات فهذا السبع مميز بما تقدم فقد حصل التمييز بالإضافة فلو أضيف إلى العجاف لكان العجاف قائما مقام البقرات في التمييز فيكون التمييز بالوصف وهو خلاف الأصل، وأما إن السبع قائم مقام البقرات فإنما يكون إذا وصف بالعجاف أما إذا أضيف بكون العجاف قائمة مقام البقرات فلا يلزم إضافة الموصوف إلى الصفة اهـ، وفيه تأمل. وذكر العلامة الطيبي في هذا المقام أنه يمكن أن يقال: إن المميز إذا وصف ثم رفع به الإبهام والإجمال من العدد آذن بأنهما مقصودان في الذكر بخلافه إذا ميز ثم وصف بل الوصف ادعى لأن المميز إنما استجلب للوصف، ومن ثمّ ترك التمييز في القرائن الثلاث والمقام يقتضي ذلك لأن المقصود بيان الابتلاء بالشدة بعد الرخاء، وبيان الكمية بالعدد والكيفية بالبقرات تابع فليفهم، ويعلم من ذلك وجه العدول إلى ما في النظم الكريم عن أن يقال: إني أرى سبع بقرات عجاف يأكلن سبعا سمانا الأخصر منه. وقيل: إن التعبير بذلك بأنه ما رأى السمان، فقد روي أنه رأى سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس ثم خرج عقيبهنّ سبع بقرات عجاف فابتلعت السمان ولم يتبين عليها منهن شيء. وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ قد انعقد حبها وَأُخَرَ أي وسبعا أخر يابِساتٍ قد أدركت والتوت على الخضر حتى غلبتها ولم يبق من خضرتها شيء على ما روي، ولعل عدم التعرض لذكر العدد للاكتفاء بما ذكر من حال البقرات، ولا يجوز عطف أخر على سنبلات لأن العطف على المميز يقتضي أن يكون المعطوف والمعطوف عليه بيانا للمعدود سواء قيل: بالانسحاب أو بتكرير العامل لأن المعنى على القولين لا يختلف وإنما الاختلاف في التقدير اللفظي وحينئذ يلزم التدافع في الآية لأن العطف يقتضي أن تكون السنبلات خضرها ويابسها سبعا، ولفظ أُخَرَ يقتضي أن يكون غير السبع وذلك لأن تباينها في الوصف أعني الخضرة واليبس منطوق، واشتراكهما في السنبلية فيكون مقتضى لفظ أُخَرَ تغايرهما في العدد ولزم التدافع، وعلى هذا يصح أن تقول: عندي سبعة رجال قيام وقعود بالجر لأنك ميزت سبعة رجال موصوفين بالقيام والقعود على أن بعضهم كذا وبعضهم كذا، ولا يصح سبعة رجال قيام وآخرين قعود لما علمت، فالآية والمثال في هذا المبحث على وزان واحد كما يقتضيه كلام الكشاف، ونظر في ذلك صاحب الفرائد فقال: إن الصحيح أن العطف في حكم تكرير العامل لا الانسحاب فلو عطف آخرين على رجال قيام لكان سبعة مكررة في المعطوف أي وسبعة آخرين أي رجال آخرين قعود، ويفسد المعنى لأن المفروض أن الرجال سبعة، وأما الآية فلو كرّر فيها وقيل: وسبع أخر أي وسبع سنبلات أخر استقام لأن الخضر سبع واليابسات سع، نعم لو خرج ذلك على المرجوح وهو الانسحاب أدّى إلى أن السبع المذكورة مميزة بسنبلات خضر وسنبلات أخر يابسات، وفسد إذ المراد أن كلا منهما سبعة، لا أنها سبعة، فالمثال والآية ليسا على وزان إذ هو على تكرير العامل يفسد وعلى الانسحاب يصح، والآية بالعكس، ثم بنى على ما زعمه من أن الصحيح قول التكرير جواز العطف. وادعى أن الأولى أن يكون العطف على خُضْرٍ لا على يابِساتٍ ليدل على موصوف آخر، وهو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 439 سنبلات ولا يقدر موصوفها بقرينة السياق، ولا يخفى أن الكلام إنما هو على تقدير أن يكون مميز السبع ما علمت، وعلى ذلك يلزم التدافع، ولا يبنى على فرض أنهم سبعة أو أربعة عشر فيصح في الآية ولا يصح في المثال فإنه وهم. ومن ذلك يظهر أنه لا مدخل للتكرير والانسحاب في هذا الفرض، ثم إن المختار قول الانسحاب على ما نص عليه الشيخ ابن الحاجب وحققه في غير موضع، وأما الاستدلال بالآية على الانسحاب لا التقدير وإلّا لكان لفظ أُخَرَ تطويلا يصان كلام الله تعالى المعجز عنه فغير سديد على ما في الكشف لأن القائل بالتقدير يدّعي الظهور في الاستقلال، وكذلك القائل بالانسحاب يدعي الظهور في المقابل على ما نص عليه أئمة العربية فلا يكون التأكيد- بأخر- لإرادة النصوص تطويلا بل إطنابا يكون واقعا في حاق موقعه هذا يا أَيُّهَا الْمَلَأُ خطاب للاشراف ممن يظن به العلم، يروى أنه جمع السحرة والكهنة والمعبرين فقال لهم: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ. أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ هذه أي عبروها وبينوا حكمها وما تؤول إليه من العاقبة. وقيل: هو خطاب لجلسائه وأهل مشورته، والتعبير عن التعبير بالإفتاء لتشريفهم وتفخيم أمر رؤياه إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ أي تعلمون عبارة جنس الرؤيا (1) علما مستمرا وهي الانتقال من الصورة المشاهدة في المنام إلى ما هي صورة ومثال لها من الأمور الآفاقية والأنفسية الواقعة في الخارج من العبور وهو المجاوزة، تقول: عبرت النهر إذا قطعته وجاوزته، ونحوه أولتها أي ذكرت ما تؤول إليه وعبرت الرؤيا بالتخفيف عبارة أقوى وأعرف عند أهل اللغة من عبرت بالتشديد تعبيرا حتى إن بعضهم أنكر التشديد، ويرد عليه ما أنشده المرد في الكامل لبعض الأعراب وهو: رأيت رؤيا ثم عبرتها ... وكنت للأحلام عبارا والجمع بين الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار كما أشير إليه، واللام قيل: متعلقة بمحذوف والمقصود بذاك البيان كأنه لما قيل: تَعْبُرُونَ قيل: لأي شيء؟ فقيل: للرؤيا فهي للبيان كما في سقيا له إلّا أن تقديم البيان على المبين لا يخلو عن شيء، وقيل- واختاره أبو حيان- إنها لتقوية الفعل المذكور لأنه ضعف بالتأخير، ويقال لها: لام التقوية وتدخل في الفصيح على المعمول إذا تقدم على عامله مطلقا وعلى معمول غير الفعل إذا تأخر كزيد ضارب لعمرو، وفي كونها زائدة أو لا خلاف، وقيل: إنه جيء بها لتضمين الفعل المتعدي معنى فعل قاصر يتعدى باللام أي إن كنتم تنتدبون لعبارتها، وجوز أن يكون لِلرُّءْيا خبر كان كما تقول: كان فلان لهذا الأمر إذا كان مستقبلا به متمكنا منه، وجملة تَعْبُرُونَ خبر آخر أو حال، ولا يخفى ما في ذلك من التكلف، وكذا فيما قبله. وقرأ أبو جعفر بالإدغام في الرؤيا وبابه بعد قلب الهمزة واوا ثم قلب الواو ياء لسبقها إياها ساكنة، ونصوا على شذوذ ذلك لأن الواو بدل غير لازم قالُوا استئناف بياني كأنه قيل: فماذا قال الملأ للملك إذ قال لهم ذلك؟ فقيل: هي أَضْغاثُ أَحْلامٍ أي هي أَضْغاثُ إلخ، وهي جمع ضغث وهو أقل من الحزمة وأكثر من القبضة من أخلاط النبات، وقد يطلق على ما كان من جنس واحد كما في قوله: خود كأن فراشها وضعت به ... أضغاث ريحان غداة شمال وجعل من ذلك ما في قوله تعالى: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ [ص: 44] فقد روي أن أيوب عليه السلام أخذ عثكالا من النخل فضرب به، وفي الكشاف أن «أضغاث الأحلام» تخاليطها وأباطيلها وما يكون منها من   (1) ذكر بعض المحققين أن الرؤيا تكون جمعا فلا تغفل اهـ منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 440 حديث نفس أو وسوسة شيطان، وقد استعيرت لذلك، وأصلها ما جمع من أخلاط النبات وحزمه وإضافتها على معنى من أي أضغاث من أحلام، وأورد عليه أن الأضغاث إذا استعيرت للأحلام الباطلة والأحلام مذكورة، ولفظ هي المقدر عبارة عن رؤيا مخصوصة فقد ذكر المستعار والمستعار له، وذلك مانع من الاستعارة على الصحيح عندهم، وقد أجاب الكثير عن ذلك بما لا يخلو عن بحث، وذكر بعض المحققين في تقرير ذاك وجهين. الأول أنه يريد أن حقيقة الأضغاث أخلاط النبات فشبه به التخاليط والأباطيل مطلقا سواء كانت أحلاما أم غيرها، ويشهد له قول الصحاح والأساس: ضغث الحديث خلطه، ثم أريد هنا بواسطة الإضافة أباطيل مخصوصة فطرفا الاستعارة أخلاط النبات والأباطيل الملفقات، فالأحلام ورؤيا الملك خارجان عنهما فلا يضر ذكرهما كما إذا قلت: رأيت أسد قريش فهو قرينة أو تجريد، وقوله: تخاليطها تفسير له بعد التخصيص، وقوله: وقد استعيرت لذلك إشارة إلى التخاليط. الثاني أن الأضغاث استعيرت للتخاليط الواقعة في الرؤيا الواحدة فهي أجزاؤها لا عينها فالمستعار منه حزم النبات والمستعار له أجزاء الرؤيا، وهذا كما إذا استعرت الورد للخد، ثم قلت: شممت ورد هند مثلا فإنه لا يقال: إنه ذكر فيه الطرفان اهـ، ولا يخفى ما فيه من التكلف وارتكاب غير الظاهر. واستظهر بعضهم كون أَضْغاثُ أَحْلامٍ من قبيل لجين الماء، ولا يخفى أنه سالم عما أورد على الزمخشري (1) إلّا أن صاحب الأساس قد صرح بأن ذلك من المجاز، والمتبادر منه المجاز المتعارف الذي لا يطلق على ما ذكر، ولعل الأمر في ذلك سهل، والأحلام جمع حلم بضمة وبضمتين المنامات الباطلة على ما نص عليه جمع، وقال بعضهم: الرؤيا والحلم عبارة عما يراه النائم مطلقا لكن غلبت الرؤيا على ما يراه من الخير والشيء الحسن، وغلب الحلم على خلافه، وفي الحديث «الرؤيا من الله تعالى والحلم من الشيطان» وقال التوربشتي: الحلم عند العرب يستعمل استعمال الرؤيا والتفريق من الاصطلاحات التي سنها الشارع صلى الله تعالى عليه وسلّم للفصل بين الحق والباطل كأنه كره أن يسمي ما كان من الله تعالى وما كان من الشيطان باسم واحد فجعل الرؤيا عبارة عن القسم الصالح لما فيها من الدلالة على مشاهدة الشيء بالبصر والبصيرة، وجعل الحلم عبارة عما كان من الشيطان لأن أصل الكلمة لم تستعمل إلّا فيما يخيل للحالم في منامه من قضاء الشهوة بما لا حقيقة له اهـ وهو كلام حسن، ومما يشهد له في دعوى كون الحلم يستعمل عند العرب استعمال الرؤيا البيت السابق الذي أنشده المبرد كما لا يخفى، وإنما قالوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بالجمع مع أن الرؤيا ما كانت إلّا واحدة للمبالغة في وصف ذلك بالبطلان، وهذا كما يقال: فلان يركب الخيل ويلبس عمائم الخز لمن لا يركب إلّا فرسا واحدا وما له إلّا عمامة فردة. وفي الفرائد لما كانت أَضْغاثُ أَحْلامٍ مستعارة لما ذكر وهي تخاليطها وأباطيلها وهي متحققة في رؤيا واحدة بحسب أنها متركبة من أشياء كل منها حلم فكانت أحلاما، قال الشهاب: وهو واه وإن استحسنه العلامة الطيبي، نعم ليس هذا من إطلاق الجمع على الواحد لوجود ذلك في هذا الجنس إذ الإضافة على معنى في، ثم نقل عن الرضي أنه قال في شرح الشافية إن جمع القلة ليس بأصل في الجمع لأنه لا يذكر إلّا حيث يراد بيان القلة فلا يستعمل لمجرد الجمعية والجنسية كما يستعمل له جمع الكثرة، يقال: فلان حسن الثياب في معنى حسن الثوب ولا يحسن حسن الثوب، وكم عندك من الثوب أو من الثياب ولا يحسن من الأثواب اهـ، ثم قال: وقد ذكره الشريف في   (1) لا يخفى أن صاحب الأساس قد يطلق المجاز على غير ما هو المتعارف فافهم اهـ منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 441 شرح المفتاح وهو مخالف لما ذكروه هنا فتأمله، ولعل ما ذكر بعد تسليمه إنما هو في جمع القلة الذي معه جمع كثرة كما ذكره في المثال لا في ذلك وجمع القلة الذي ليس معه جمع كثرة كما هنا، فإنا لم نجد في كتب اللغة جمعا لمفرد هذا الجمع غير هذا الجمع، وقد ذكر غير واحد أن جمع القلة إذا لم يوجد معه جمع كثرة يستعمل استعمال جمع الكثرة، ثم لا يخفى حسن موقع الأضغاث مع السنابل، فيا لله در شأن التنزيل ما أبدع رياض بلاغته. وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ أي المنامات الباطلة بِعالِمِينَ لأنها لا تأويل لها وإنما التأويل للمنامات الصادقة، وهذا إما لشيوع الأحلام في أباطيلها وإما لكون اللام للعهد والمعهود الأضغاث منها، والكلام وارد على أسلوب. () على لاحب لا يهتدي بمناره () وهو إشارة إلى كبرى قياس ساقوه للعذر عن جهلهم كأنهم قالوا هذه رؤيا باطلة وكل رؤيا كذلك لا نعلم تأويلها أي لا تأويل لها حتى نعلمه ينتج هذه رؤيا لا تأويل لها. وجوز أن يكون المراد من الأحلام الرؤى (1) مطلقا، وأل فيه للجنس، والكلام اعتراف منهم بقصور علمهم وأنهم ليسوا بنحارير في تأويل الرؤى مع أن لها تأويلا، واختاره ابن المنير وادعى أنه الظاهر (2) ، وأن قول الملك لهم أولا إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ دليل على أنهم لم يكونوا في علمه عالمين بها لأنه أتى بكلمة الشك فجاء اعترافهم بالقصور مطابقا لشك الملك الذي أخرجه مخرج استفهامهم عن كونهم عالمين، وأن قول الفتى: أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ إلى قوله: لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ دليل على ذلك أيضا. وذكر بعض المحققين أنه يشعر به عدولهم عما وقع في كلام الملك من العبارة المعبرة عن مجرد الانتقال من الدال إلى المدلول حيث لم يقولوا بتعبير الأحلام، أو عبارتها إلى التأويل المنبئ عن التصرف، والتكلف في ذلك لما بين الآيل والمآل من البعد، واعترض بأنه على هذا يبقى قولهم: أَضْغاثُ أَحْلامٍ ضائعا إذ لا دخل له في العذر، وأجيب بأنه يمكن أن يكون المقصود منه إزالة خوف الملك من تلك الرؤيا فلا يبقى ضائعا. وقال صاحب الكشف: إن وجه ذلك أن يجعل الأول جوابا مستقلا، والثاني كذلك أي هاهنا أمران: أحدهما من جانب الرائي، والثاني من جانب المعبر، ووجه تقديم الظرف على عامله إنا أصحاب الآراء والتدابير وعلمنا بذلك رصين لا بتأويل الرؤى، ووجهه على الأول ظاهر، وادعى أن المقام يطابقه، ووروده على ذلك الأسلوب مقوله لا موهن خلافا لما في الانتصاب، ويقوى عند اختيار الوجه الثاني إذا كان الخطاب لجلسائه وأهل مشورته من أهل الحل والعقد لأن الأغلب على أمثالهم الجهل بمثل هذا العلم الذي لا يعلمه إلّا أفراد من الناس وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما أي صاحبي يوسف عليه السّلام وهو الشرابي وَادَّكَرَ بالدال غير المعجمة عند الجمهور، وأصله اذتكر أبدلت التاء دالا وأدغمت الدال فيها. وقرأ الحسن- اذكر- بابدال التاء ذالا معجمة وإدغام الذال المعجمة فيها، والقراءة الأولى أفصح، والمعنى على كليهما تذكر ما سبق له مع يوسف عليه السّلام بَعْدَ أُمَّةٍ أي طائفة من الزمان ومدة طويلة.   (1) هي جمع رؤيا. (2) وكذا ادعى أبو حيان في البحر اهـ منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 442 وقرأ الأشهب العقيلي «إمة» بكسر الهمزة وتشديد الميم أي نعمة عليه بعد نعمة، والمراد بذلك خلاصه من القتل والسجن وإنعام ملكه عليه، وعلى هذا جاء قوله (1) : ألا لا أرى إمة أصبحت به ... فتتركه الأيام وهي كما هي وقال ابن عطية: المراد به نعمة أنعم الله تعالى بها على يوسف عليه السّلام وهي تقريب إطلاقه ولا يخفى بعده، وقرأ ابن عباس وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهم- وأمة (2) - وأمه بفتح الهمزة والميم المخففة وهاء منونة من أمه يأمه أمها إذا نسي، وجاء في المصدر- أمه- بسكون الميم أيضا فقد روي عن مجاهد وعكرمة وشبيل بن عزرة الضبعي أنهم قرؤوا بذلك ولا عبرة بمن أنكر، والجملة اعتراض بين القول والمقول، وجوز أن تكون حالا من الموصول أو من ضميره في الصلة، ويحتاج ذلك إلى تقدير قد على المشهور، وقيل: معطوفة على نجا وليس بشيء- كما قال بعض المحققين- لأن حق كل من الصلة والصفة أن تكون معلومة الانتساب إلى الموصول والموصوف عند المخاطب كما عند المتكلم، ومن هنا قيل: الأوصاف قبل العلم بها أخبار والأخبار بعد العلم بها أوصاف، وأنت تعلم أن تذكره بعد أمة إنما علم بهذه الجملة فلا معنى لنظمه مع نجاته المعلومة من قبل في سلك الصلة أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ أي أخبركم بتأويل ذلك الذي خفي أمره بالتلقي ممن عنده علمه لا من تلقاء نفسي ولذلك لم يقل أفتيكم في ذلك، وعقبه بقوله: فَأَرْسِلُونِ إلى من عنده علمه، وأراد به يوسف عليه السّلام وإنما لم يصرح به حرصا على أن يكون هو المرسل إليه فإنه لو ذكره فلربما أرسلوا غيره وضمير الجمع إما لأنه أراد الملك وحده لكن خاطبه بذلك على سبيل التعظيم كما هو المعروف في خطاب الملوك، ويؤيده ما روي أنه لما سمع مقالة القوم جثى بين يدي الملك وقال: إن في السجن رجلا عالما يعبر الرؤيا فابعثوني إليه فبعثوه وكان السجن- على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- في غير مدينة الملك، وقيل: كان فيها، قال أبو حيان ويرسم الناس اليوم سجن يوسف عليه السّلام في موضع على النيل بينه وبين الفسطاط ثمانية أميال، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن أنه كان يقرأ- أنا آتيكم- مضارع أتى من الإتيان فقيل له: إنما هو أَنَا أُنَبِّئُكُمْ فقال: أهو كان ينبئهم؟! (3) ، وأخرج ابن المنذر وغيره عن أبيّ أنه قرأ أيضا كذلك. وفي البحر أنه كذا في الأمام أيضا يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ في الكلام حذف أي فأرسلوه فأتاه فقال: يا يوسف، ووصفه بالمبالغة في الصدق حسبما علمه وجرب أحواله في مدة إقامته معه في السجن لكونه بصدد اغتنام آثاره واقتباس أنواره، فهو من باب براعة الاستهلال، وفيه إشارة إلّا أنه ينبغي للمستفتي أن يعظم المفتي، واستدل بذلك على أنهما لم يكذبا على يوسف في منامهما وأنهما كذبا في قولهما: كذبنا إن ثبت. أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ أي في رؤيا ذلك، وإنما لم يصرح به لوضوح مرامه بقرينة ما سبق من معاملتهما ولدلالة مضمون الحادثة عليه حيث إن مثله لا يقع في عالم الشهادة، والمعنى بين لنا مآل ذلك وحكمه، وعبر عن ذلك بالإفتاء، ولم يقل كما قال هو وصاحبه أولا نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ- تفخيما لشأنه عليه السّلام حيث عاين رتبته في الفضل- ولم يقل: أفتني مع أنه المستفتي وحده إشعارا بأن الرؤيا ليست له بل لغيره ممن له ملابسة بأمور العامة وأنه في ذلك   (1) وقوله ثم بعد الفلاح والملك والأمة ووارتهم هناك قبور اهـ منه. (2) أي جماعة من التابعين اهـ منه. (3) لعله لم يرد إلّا مجرد ترجيح قراءته اهـ منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 443 معبر وسفير، ولذا لم يغير (1) لفظ الملك، ويؤذن بهذا قوله: لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ أي إلى الملك ومن عنده، أو إلى أهل البلد فأنبئهم بما أفتيت لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ذلك ويعلمون بمقتضاه، أو يعلمون فضلك ومكانك مع ما أنت فيه من الحال فتتخلص منه، والجملة عند أبي حيان على الأول كالتعليل للرجوع، وعلى الثاني كالتعليل- لأفتنا- وإنما لم بيت القول بل قال: لَعَلِّي ولَعَلَّهُمْ مجاراة معه عليه السّلام على نهج الأدب واحترازا عن المجازفة إذ لم يكن على يقين من الرجوع: فبينما المرء في الأحياء مغتبط ... إذا هو الرمس تعفوه الأعاصير ولا من علمهم بذلك فربما لم يعلموه إما لعدم فهمهم أو لعدم اعتمادهم قالَ مستأنف على قياس ما مرّ غير مرة تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً قرأ حفص بفتح الهمزة، والجمهور بإسكانها، وقرىء- دابا- بألف من غير همز على التخفيف، وهو في كل ذلك مصدر- لدأب- وأصل معناه التعب، ويكنى به عن العادة المستمرة لأنها تنشأ من مداومة العمل اللازم له التعب، وانتصابه على الحال من ضمير تَزْرَعُونَ أي دائبين أو ذوي دأب، وأفرد لأن المصدر الأصل فيه الإفراد، أو على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف أي تدأبون دأبا. والجملة حالية أيضا، وعند المبرد مفعول مطلق- لتزرعون- وذلك عنده نظير قعد القرفصاء وليس بشيء، وقد أول عليه السّلام البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخاصيب، والعجاف واليابسات بسنين مجدبة، فأخبرهم بأنهم يواظبون على الزراعة سبع سنين ويبالغون فيها إذ بذلك يتحقق الخصب الذي هو مصداق البقرات السمان وتأويلها، وقيل: المراد الأمر بالزراعة كذلك، فالجملة خبر لفظا أمر معنى، وأخرج على صورة الخبر مبالغة في إيجاب إيجاده حتى كأنه وقع وأخبر عنه، وأيد بأن قوله تعالى: فَما حَصَدْتُمْ أي في كل سنة. فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ ولا تذروه كيلا يأكله السوس كما هو شأن غلال مصر ونواحيها إذا مضى عليها نحو عامين، ولعله استدل على ذلك بالسنبلات الخضر يناسب كونه أمرا مثله، قيل: لأنه لو لم يؤول ذلك بالأمر لزم عطف الإنشاء على الخبر لأن- ما- إما شرطية أو موصولة متضمنة لمعنى الشرط، وعلى كل حال فلكون الجزء إنشاء تكون إنشائية معطوفة على خبرية. وأجيب بأنا لا نسلم أن الجملة الشرطية التي جوابها إنشائي إنشائية، ولو سلم فلا نسلم العطف بل الجملة مستأنفة لنصحهم وإرشادهم إلى ما ينبغي أن يفعلوه حيث لم يكن معتادا لهم كما كان الزرع كذلك، أو هي جواب شرط مقدر أي إن زرعتم فَما حَصَدْتُمْ إلخ، وأيضا يحتمل الأمر عكس ما ذكروه بأن يكون ذروه بمعنى تذروه، وأبرز في صورة الأمر لأنه بإرشاده فكأنهم أمرهم به، والتحقيق ما في الكشف من أن الأظهر أن تَزْرَعُونَ على أصله لأنه تأويل المنام بدليل قوله الآتي: ثُمَّ يَأْتِي وقوله: فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ اعتراض اهتماما منه عليه السّلام بشأنهم قبل تتميم التأويل، وفيه ما يؤكد أمر السابق واللاحق كأنه قد كان فهو يأمرهم بما فيه صلاحهم وهذا هو النظم المعجز انتهى. وذكر بعضهم أن- ما حصدتم- إلخ على تقدير كون تَزْرَعُونَ بمعنى ازرعوا داخل في العبارة فإن أكل السبع العجاف السبع السمان وغلبة السنبلات اليابسات الخضر دال على أنهم يأكلون في السنين المجدبة ما حصل في السنين المخصبة، وطريق بقائه تعلموه من يوسف عليه السّلام فبقي لهم في تلك المدة، وقيل: إن تزرعون   (1) قيل: لم يغير لفظ الملك لأن التعبير يكون على وفقه فافهم اهـ منه. [ ..... ] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 444 على هذا التقدير وكذا ما بعده خارج عن العبارة، والكل كما ترى إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ أي اتركوا ذلك في السنبل إلّا ما لا غنى عنه من القليل الذي تأكلونه في تلك السنين، وفيه إرشاد إلى التقليل في الأكل. وقرأ السلمي مما- يأكلون- بالياء على الغيبة أي يأكل الناس، والاقتصار على استثناء المأكول دون البذر لكون ذلك معلوما من قوله عليه السّلام: تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد السنين السبع المذكورات، وإنما لم يقل من بعدهن قصدا (1) إلى تفخيم شأنهن سَبْعٌ شِدادٌ أي سبع سنين صعاب على الناس، وحذف التمييز لدلالة الأول عليه يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ أي ما ادخرتم في تلك السنين من الحبوب المتروكة في سنابلها لأجلهن، وإسناد الأكل إليهن مع أنه حال الناس فيهن مجازي كما في قوله تعالى: وَالنَّهارَ مُبْصِراً [يونس: 67، النمل: 86، غافر: 61] واللام في لَهُنَّ ترشيح لذلك، وكان الداعي إليه التطبيق بين المعبر والمعبر به، ويجوز أن يكون التعبير بذلك للمشاكلة لما وقع في الواقعة. وفسر بعضهم الأكل بالإفناء كما في قولهم: أكل السير لحم الناقة أي أفناه وذهب به إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ أي تحرزونه وتخبئونه لبزور الزراعة (2) مأخوذ من الحصن وهو الحرز والملجأ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي السنين الموصوفة بما ذكر الشدة وأكل المدخر من الحبوب عامٌ هو كالسنة لكن كثيرا ما يستعلم فيما فيه الراء والخصب، والسنة فيما فيه الشدة والجدب ولهذا يعبر عن الجدب بالسنة، وكأنه تحاشيا عن ذلك وتنبيها من أول الأمر على اختلاف الحال بينه وبين السوابق عبر به دون السنة فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ أي يصيبهم غيث أي مطر كما قال ابن عباس ومجاهد والجمهور فهو من غاث الثلاثي اليائي، ومنه قول الأعرابية: غثنا ماشيتنا وقول بعضهم أذى البراغيث إذا البراغيث، وقيل: هو من الغوث أي الفرج، يقال: أغاثنا الله تعالى إذا أمدّنا برفع المكاره حين أظلتنا فهو رباعي واوي وَفِيهِ يَعْصِرُونَ من العصر المعروف أي يعصرون ما من شأنه أن يعصر من العنب والقصب والزيتون والسمسم ونحوها من الفواكه لكثرتها، والتعرض لذكره كما قال بعض المحققين مع جواز الاكتفاء عنه بذكر الغيث المستلزم له عادة كما اكتفي به عن ذكر تصرفهم في الحبوب: إما لأن استلزام الغيث له ليس كاستلزامه للحبوب إذ المذكورات يتوقف صلاحها على أمور أخرى غير المطر، وإما لمراعاة جانب المستفتي باعتبار حالته الخاصة به بشارة له، وهي التي يدور عليها حسن موقع تغليبه على الناس في قراءة حمزة والكسائي بالفوقانية. وعن ابن عباس تفسير ذلك بيحلبون وكأنه مأخوذ من العصر المعروف لأن في الحلب عصر الضرع ليخرج الدر وتكرير فيه إما كما قيل: للإشعار باختلاف ما يقع فيه زمانا وعنوانا، وإما لأن المقام مقام تعداد منافع ذلك العام، ولأجله قدم في الموضعين على العامل فإن المقام بيان أنه يقع في ذلك العام هذا وذاك لا بيان أنهما يقعان في ذلك العام كما يفيده التأخير، وجوز أن يكون التقديم للقصر على معنى أن غيثهم في تلك السنين كالعدم بالنسبة إلى عامهم ذلك وأن يكون ذلك في الأخير لمراعاة الفواصل، وفي الأول لرعاية حاله.   (1) وفي إرشاد العقل السليم لم يقل ذلك قصدا إلى الإرشاد إلى وصفهن فإن الضمير ساكت عن أوصاف المرجع بالكلية فتدبر اهـ منه. (2) البذر والبزر بمعنى كما في العين، وهو الجب الذي يجعل في الأرض لينبت، وقال ابن دريد على ما في المجمل: البذر بالذال في البقول والبزر بالزاي خلافه اهـ منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 445 وقرأ جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما والأعرج وعيسى البصرة «يعصرون» على البناء للمفعول، وعن عيسى- تعصرون- بالفوقانية مبنيا للمفعول أيضا من عصره الله تعالى إذا أنجاه أي ينجيهم الله سبحانه مما هم فيه من الشدة، وهو مناسب لقوله: يُغاثُ النَّاسُ وعن أبي عبيدة وغيره أخذ المبني للفاعل من العصر بمعنى النجاة أيضا، وفي البحر تفسير العصر والعصرة بالضم بالمنجاة، وأنشد قول أبي زبيد في عثمان رضي الله تعالى: صاديا يستغيث غير مغاث ... ولقد كان عصرة المنجود وقال ابن المنير: معناه عصيرون من أعصرت السحابة عليهم أي حان وقت عصر الرياح لها لتمطر فعلى صلة الفعل كما في عصرت الليمون على الطعام فحذفت وأوصل الفعل بنفسه، أو تضمن أعصرت معنى مطرت فتعدى تعديته، وفي الصحاح عصر القوم أي أمطروا، ومنه قراءة بعضهم، وفيه يَعْصِرُونَ وظاهره أن اللفظ موضوع لذلك فلا يحتاج إلى التضمين عليه، وحكى النقاش أنه قرىء «يعصرون» بضم الياء وكسر الصاد وتشديدها من عصر مشددا للتكثير، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «وفيه تعصرون» بكسر التاء والعين والصاد وتشديدها، وأصله- يعتصرون- فأدغم التاء في الصاد ونقل حركتها إلى العين، وأتبع حركة التاء لحركة العين، واحتمل أن يكون من اعتصر العنب ونحوه أو من اعتصر بمعنى نجا، ومن ذلك قوله: لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصان بالماء اعتصاري ثم إن أحكام هذا العام المبارك كما أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة علم آتاه الله تعالى علمه لم يكن فيما سئل عنه، وروي مثل ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وعنيا أن ذلك بالوحي وهو الظاهر، ولقد أتى عليه السّلام بما يدل على فضله في آخر فتواه على عكس ما فعل أولا عند الجواب عن رؤيا صاحبيه حيث أتى بذلك في أولها ووجه ذلك ظاهر، وقيل: إن هذه البشارة منه عليه السّلام لم تكن عن وحي بل لأن العادة جارية بأن انتهاء الجدب الخصب، أو لأن السنة الإلهية على أن يوسع على عباده سبحانه بعد ما ضيق عليهم، وفيه أنه لو كان كذلك لأجمل في البشارة، وإن حصر الجدب يقتضي تغييره بخصب مالا على ذكره خصوصا على ما تقتضيه بعض القراءات من إغاثة بعضهم بعضا فإنها لا تعلم إلّا بالوحي، ثم إنه عليه السّلام بعد أن أفتاهم وأرشدهم وبشرهم كان يتوقع وقوع ما أخبر به، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أنه عليه السّلام كان بعد ذلك يصنع لرجل طعام اثنين فيقربه إلى الرجل فيأكل نصفه ويدع نصفه حتى إذا كان يوم قربه له فأكله كله، فقال عليه السّلام: هذا أول يوم من الشداد، واستدل البلخي بتأويله لذلك على بطلان قول من يقول: إن الرؤيا على ما عبرت أولا فإنهم كانوا قد قالوا: أَضْغاثُ أَحْلامٍ فلو كان ما قالوه مؤثرا شيئا لأعرض عليه السّلام عن تأويلها وفيه بحث، فقد روى أبو داود وابن ماجه عن أبي رزين الرؤيا على جناح طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت، ولا تقصها إلّا على وادّ وذي رأي، ولعله إذا صح هذا يلتزم القول بأن الحكم على الرؤيا بأنها أَضْغاثُ أَحْلامٍ وأنها لا ذيل لها ليس من التعبير في شيء، وإلّا فالجمع بين ما هنا وبين الخبر مشكل. وقال ابن العربي: إنه ينبغي أن يخص ذلك بما يحتمل من الرؤيا وجوها فيعبر بأحدها فيقع عليه، واستدلوا بذلك أيضا على صحة رؤيا الكافر وهو ظاهر، وقد ذكروا للاستفتاء عن الرؤيا آدابا: منها أن لا يكون ذلك عند طلوع الشمس أو عند غروبها أو في الليل، وقالوا: إن تعبيرها مناما هو تعبيرها في نفسي الأمر فلا تحتاج إلى تعبير بعد، وأكثروا القول فيما يتعلق بها، وأكثر ما قيل مما لا يظهر لي سره ولا أرى بعض ذلك إلّا كأضغاث أحلام وَقالَ الْمَلِكُ بعد ما جاء السفير المعبر بالتعبير وسمع منه ما سمع من نقير وقطمير. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 446 ائْتُونِي بِهِ لما رأى من علمه وفضله وأخباره عما لا يعلمه إلّا اللطيف الخبير فَلَمَّا جاءَهُ أي يوسف عليه السّلام الرَّسُولُ وهو صاحبه الذي استفتاه، وقال له: إن الملك يريد أن تخرج إليه. قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ أي سيدك وهو الملك فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ أي فتشه عن شأنهن وحالهن، وإنما لم يقل فاسأله أن يفتش عن ذلك حثا للملك على الجد في التفتيش لتتبين براءته وتتضح نزاهته فإن السؤال عن شيء مما يهيج الإنسان ويحركه للبحث لأنه يأنف من الجهل، ولو قال: سله أن يفتش لكان تهييجا له عن الفحص عن ذلك، وفيه جراءة عليه فربما امتنع منه ولم يلتفت إليه، وإنما لم يتعرض عليه السّلام لامرأة العزيز مع أنها الأصل الأصيل لما لاقاه تأدبا وتكرما، ولذا حملها ذلك على الاعتراف بنزاهته وبراءة ساحته، وقيل: احترازا عن مكرها حيث اعتقدها باقية في ضلالها القديم، وأما النسوة فقد كان يطمع في صدعهن بالحق وشهادتهن بإقرارها بأنها راودته عن نفسه فاستعصم، ولذلك اقتصر على وصفهن بتقطيع الأيدي ولم يصرح بمراودتهن له واكتفى بالإيماء إلى ذلك بقوله: إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ مجاملة معهن واحترازا عن سوء مقالتهن وانتصابهن عند رفعهن إلى الملك للخصومة عن أنفسهن متى سمعن بنسبته لهن إلى الفساد، وفي الكشاف أنه عليه السّلام أراد بهذا أنه كيد عظيم لا يعلمه إلّا الله تعالى، أو استشهد بعلم الله تعالى على أنهن كدنه وأنه بريء مما قرف به، أو أراد الوعيد لهن- أي عليم بكيدهن- فمجازيهن عليه انتهى. وكان الحصر على الأول من قربه من زيد يعلم وصلوحه لإفادته عنده (1) أو من اقتضاء المقام لأنه إذا حمله على السؤال ثم أضاف علمه إلى الله تعالى دلّ به على عظمته، وأن الكنه غير مأمول الوصول لكن ما لا يدرك كله لا يترك كله، وهذا هو الوجه، وفيه زيادة تشويق وبعث إلى تعرف الأمر، فالجملة عليه تتميم لقوله: فَسْئَلْهُ إلخ والكيد اسم لما كدنه به، وعلى الوجه الثاني تكون تذييلا كأنه (2) قيل: احمله على التعرف يتبين له براءة ساحتي فإن الله سبحانه يعلم أن ذلك كان كيدا منهن وإذا كان كيدا يكون لا محالة بريئا، والكيد هو الحدث وعلى الثالث تحتملهما والمعنى بعث الملك على الغضب له والانتقام له والانتقام منهن، وإلّا لم يتلاءم الكلام ولا يطابق كرم يوسف عليه السّلام الذي عجب منه نبينا عليه الصلاة والسّلام فقد أخرج غير واحد عن ابن عباس وابن مسعود عنه صلّى الله تعالى عليه وسلّم أنه قال: «لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره والله تعالى يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه ما أجبتهم حتى اشترطت أن يخرجوني ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول فقال: ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث لأسرعت الإجابة وبادرتهم الباب ولما ابتغيت العذر أن كان حليما ذا أناة» ودعاؤه له صلّى الله تعالى عليه وسلّم قيل: إشارة إلى ترك العزيمة بالرخصة وهي تقديم حق الله تعالى بتبليغ التوحيد والرسالة على براءة نفسه، وجعله العلامة الطيبي من قبيل قولك لمن تعظمه: رضي الله تعالى عنك ما جوابك عن كلامي، وقيل: يمكن أن يقال: إن في براءته النفس من حق الله تعالى ما فيها فإنها إذا تحققت عندهم وقع ما تلاها موقع القبول، وقد ذكر أن الاجتهاد (3) في نفي التهم واجب وجوب اتقاء الوقوف في مواقفها، فقد قال صلّى الله تعالى عليه وسلّم: «من كان يؤمن بالله تعالى واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم» .   (1) أي صاحب الكشاف اهـ منه. (2) وقال الطيبي: كأنه قال: والله تعالى شاهدي وشهادة الله تعالى تلك الأمارات الدالة على براءته اهـ ولا يحتاج إلى هذا ففي الكيد غنية على أنه حسن اهـ منه. (3) وزعم بعضهم أن الآية تدل على ذلك وفيه نظر اهـ منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 447 وأخرج مسلم من رواية أنس أن رسول الله عليه الصّلاة والسّلام «كان مع إحدى نسائه فمرّ به رجل فدعاه، وقال: هذه زوجتي، فقال: يا رسول الله من كنت أظن به فلم أكن أظن بك؟! فقال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» وكأنه لهذا كان الزمخشري وكان ساقط الرجل قد أثبت على القضاة أن رجله لم تقطع في جناية ولا فساد بل سقطت من ثلج أصابها في بعض الأسفار، وكان يظهر مكتوب القضاة في كل بلد دخله خوفا من تهمة السوء (1) فلعله عليه السّلام خشي أن يخرج ساكتا عن أمر ذنبه غير متضحة براءة ساحته عما سجن فيه وقرف به من أن يتسلق به الحاسدون إلى تقبيح أمره ويجعلوه سلما إلى حط قدره ونظر الناس إليه بعين الاحتقار فلا يعلق كلامه في قلوبهم ولا يترتب على دعوته قبولهم، وفي ذلك من تعري التبليغ عن الثمرة ما فيه، وما ذكره صلّى الله تعالى عليه وسلّم «ولو كنت مكانه» إلخ كان تواضعا منه عليه الصلاة والسلام لا أنه لو كان مكانه بادر وعجل وإلّا فحلمه صلى الله تعالى عليه وسلم وتحمله واهتمامه بما يترتب عليه قبول الخلق أوامر الحق سبحانه وتعالى أمر معلوم لدى الخواص والعموم، وزعم ابن عطية أنه يحتمل أن يكون عليه السّلام أراد بالرب العزيز كما قيل في قوله: إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ [يوسف: 23] ففي ذلك استشهاد به وتقريع له وليس بشيء، ومثله ما قيل: إن ضمير كيدهن ليس عائدا على النسوة المذكورات بل عائد على الجنس فافهم. وقرأ أبو حيوة وأبو بكر عن عاصم في رواية «النسوة» بضم النون، وقرأت فرقة- اللائي- بالياء وهو كاللاء جمع التي قالَ استئناف مبني على السؤال كما سبق كأنه قيل: فما كان بعد ذلك؟ فقيل: قال الملك إثر ما بلغه الرسول الخبر وأحضرهن: ما خَطْبُكُنَّ أي شأنكن، وأصله الأمر العظيم الذي يحق لعظمته أن يكثر فيه التخاطب ويخطب له إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ وخادعتنه عَنْ نَفْسِهِ ورغبتنه في طاعة مولاته هل وجدتن فيه ميلا إليكن؟ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ تنزيها له وتعجيبا من نزاهته عليه السّلام وعفته ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ بالغن في نفي جنس السوء عنه بالتنكير وزيادة مِنْ، وفي الكشف في توجيه كون السؤال المقدر في نظم الكلام عن وجدانهن فيه الميل، وذلك لأنه سؤال عن شأنهن معه عند المراودة، وأوله الميل ثم ما يترتب عليه، وحمله (2) على السؤال يدعي النزاهة الكلية فيكون سؤال الملك منزلا عليه إذ لا يمكن ما بعده إلّا إذا سلم الميل، وجوابهن عليه ينطبق لتعجبهن عن نزاهته بسبب التعجب من قدرة الله تعالى على خلق عفيف مثله ليكون التعجب منها على سبيل الكناية فيكون أبلغ وأبلغ، ثم نفيهن (3) العلم مطلقا وطرفا أي طرف دهم من سوء أي سوء فضلا عن شهود الميل معهن اهـ، وهو من الحسن بمكان. وما ذكره ابن عطية- من أن النسوة قد أجبن بجواب جيد يظهر منه براءة أنفسهن جملة وأعطين يوسف عليه السّلام بعض براءة وذلك أن الملك لما قرّرهن أنهن راودنه قلن جوابا عن ذلك وتنزيها لأنفسهن: حاشَ لِلَّهِ ويحتمل أن يكون في جهته عليه السلام، وقولهن: ما عَلِمْنا إلخ ليس بإبراء تام، وإنما هو شرح القصة على وجهها حتى يتقرر الخطأ في جهتهن- ناشىء- عن الغفلة عما قرّره المولى صاحب الكشف قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ وكانت حاضرة المجلس، قيل: أقبلت النسوة عليها يقررنها، وقيل: خافت أن يشهد عليها بما قالت يوم قطعن أيديهن فأقرت قائلة: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أي ظهر وتبين بعد خفاء قاله الخليل، وهو مأخوذ من الحصة وهي القطعة من   (1) ويناسب هذا ما تقدم عن أبي حيان في «اذكرني عند ربك» فتذكر فما في العهد من قدم اهـ منه. (2) أي يوسف عليه السّلام اهـ منه. (3) قد صرح غير واحد أن المراد بالعلم هنا الإدراك اهـ منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 448 الجملة أي تبينت حصة الحق من حصة الباطل، والمراد تميز هذا عن هذا، وإلى ذلك ذهب الزجاج أيضا، وقيل: هو من حص شعره إذا استأصله بحيث ظهرت بشرة رأسه، وعلى ذلك قوله: قد حصت البيضة رأسي فما ... أطعم نوما غير تهجاع ويرجع هذا إلى الظهور أيضا، وقيل: هو من حصحص البعير إذا ألقى مباركة ليناخ، قال حميد بن ثور الهلالي يصف بعيرا: فحصحص في صم الصفا ثفناته ... وناء بسلمى نوءة ثم صمما والمعنى الآن ثبت الحق واستقر، وذكر الراغب وغيره أن حص وحصحص- ككف وكفكف وكب وكبكب- وقرىء بالبناء للمفعول على معنى أقر الحق في مقره ووضع في موضعه، والْآنَ من الظروف المبنية في المشهور (1) وهو اسم للوقت الحاضر جميعه كوقت فعل الإنشاء حال النطق به أو الحاضر بعضه كما في هذه الآية، وقوله سبحانه: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ [الأنفال: 66] وقد يخرج عند ابن مالك عن الظرفية كخبر «فهو يهوي في النار الآن حين انتهى إلى مقرها» فإن الآن فيه في موضع رفع على الابتداء، و «حين» خبره وهو مبني لإضافته إلى جملة صدرها ماض وألفه منقلبة عن واو لقولهم في معناه: الأوان، وقيل: عن ياء لأنه من آن يئين إذا قرب، وقيل: أصله أو أن قلبت الواو ألفا ثم حذفت لالتقاء الساكنين، ورد بأن الواو قبل الألف لا تقلب كالجواد والسواد، وقيل: حذفت الألف وغيرت الواو إليها كما في راح ورواح استعملوه مرة على فعل وأخرى على فعال كزمن وزمان، واختلفوا في علة بنائه فقال الزجاج: بني لتضمنه معنى الإشارة لأن معناه هذا الوقت، وردّ بأن المتضمن معنى الإشارة بمنزلة اسم الإشارة وهو لا تدخله ال، وقال أبو علي: لتضمنه معنى لام التعريف لأنه استعمل معرفة وليس علما وأل فيه زائدة، وضعف (2) بأن تضمن اسم معنى حرف اختصارا ينافي زيادة ما لا يعتد به هذا مع كون المزيد غير المضمن معناه فكيف إذا كان إياه، وقال المبرد وابن السراج: لأنه خالف نظائره إذ هو نكرة في الأصل استعمل من أول وضعه باللام، وبابها أن تدخل على النكرة وإليه ذهب الزمخشري، ورده ابن مالك بلزوم بناء الجماء الغفير ونحوه مما وقع في أول وضعه باللام، وبأنه لو كانت مخالفة الاسم لسائر الأسماء موجبة لشبه الحرف واستحقاق البناء لوجب بناء كل اسم خالف الأسماء بوزن أو غيره، وهو باطل بإجماع، واختار أنه بني لشبه الحرف في ملازمة لفظ واحد لأنه لا يثنى ولا يجمع ولا يصغر بخلاف حين ووقت وزمان ومدة وردّه أبو حيان بما ردّ هو به على من تقدم، وقال الفراء: إنما بني لأنه نقل من فعل ماض وهو آن بمعنى حان فبقي على بنائه استصحابا على حد أنهاكم عن قيل وقال، وردّ بأنه لو كان كذلك لم تدخل عليه أل كما لا تدخل على ما ذكر، وجاز فيه الإعراب كما جاز فيه، وذهب بعضهم إلى أنه معرب منصوب على الظرفية، واستدل بقوله: كأنهما ملآن لم يتغيرا، بكسر النون أي من الآن فحذفت النون والهمزة وجر فدل على أنه معرب وضعف (3) باحتمال أن تكون الكسرة كسرة بناء ويكون في بناء الآن لغتان: الفتح والكسر كما في شتان إلّا أن الفتح أكثر وأشهر، وفي شرح الألفية لابن الصائغ أن الذي قال: إن أصله أو أن يقول: بإعرابه كما أن وأنا معرب. واختار الجلال السيوطي بإعرابه لأنه لم يثبت لبنائه علة معتبرة فهو عنده منصوب على الظرفية، وإن دخلت من   (1) والدليل على اسميتها دخول أل وحرف الجر اهـ منه. (2) المضعف هو ابن مالك اهـ منه. (3) المضعف ابن مالك أيضا اهـ منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 449 جرّ وخروجه عن الظرفية غير ثابت، وفي الاستدلال بالحديث السابق مقال، وأيا ما كان فهو هنا متعلق- بحصحص- أي حصحص الحق في هذا الوقت أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ لا أنه راودني عن نفسي، وإنما قالت ذلك بعد اعترافها تأكيدا لنزاهته عليه السلام، وكذا قولها: وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ أي في قوله حين افتريت عليه هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي [يوسف: 26] قيل: إن الذي دعاها لذلك كله التوخي لمقابلة الأعراف حيث لا يجدي الإنكار بالعفو، وقيل: إنها لما تناهت في حبه لم تبال بانتهاك سترها وظهور سرها، وفي إرشاد العقل السليم أنها لم ترد بقولها: الْآنَ إلخ مجرد ظهور ما ظهر بشهادة النسوة من مطلق نزاهته عليه السلام فيما أحاط به علمهن من غير تعرض لنزاهته في سائر المواطن خصوصا فيما وقع فيه التشاجر بمحضر العزيز ولا بحث عن حال نفسها وما صنعت في ذلك بل أرادت ظهور ما هو متحقق في نفس الأمر وثبوته من نزاهته عليه السلام في محل النزاع وخيانتها، ولهذا قالت: أَنَا راوَدْتُهُ إلخ، وأرادت- بالآن- زمان تكلمها بهذا الكلام لا زمان شهادتهن اهـ فافهم وتأمل هل ترى فوق هذه المرتبة نزاهة حيث لم يتمالك الخصماء من الشهادة بها على أتم وجه: والفضل ما شهدت به الخصماء وليت من نسب إليه السوء- وحاشاه- كان عنده عشر معشار ما كان عند أولئك النسوة الشاهدات من الإنصاف ذلِكَ لِيَعْلَمَ الذي ذهب إليه غير واحد أن ذلك إشارة إلى التثبت مع ما تلاه من القصة أجمع (1) فهو من كلام يوسف عليه السلام جعله فذلكة منه لما نهض له أولا من التشمر لطهارة ذيله وبراءة ساحته، وقد حكى الله تعالى ما وقع من ذلك طبق الوجود مع رعاية ما عليه دأب القرآن من الإيجاز كحذف فرجع إلى ربه فأنهاه مقالة يوسف فأحضرهن سائلا قال: ما خَطْبُكُنَّ إلخ وكذلك كما قيل في قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ إلخ، وكذلك هذا أيضا لأن المعنى فرجع إليه الرسول قائلا فتش الملك عن كنه الأمر وبان له جلية الحق من عصمتك وأنك لم ترجع في ذلك المقام الدحض بمس ملام فعند ذلك قال عليه السلام: ذلِكَ لِيَعْلَمَ العزيز أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ في حرمته بِالْغَيْبِ أي بظهر الغيب، وقيل: ضمير يعلم للملك، وضمير أَخُنْهُ للعزيز، وقيل: للملك أيضا لأن خيانة وزيره خيانة له، والباء إما للملابسة أو للظرفية، وعلى الأول هو حال من فاعل أَخُنْهُ أي تركت خيانته وأنا غائب عنه، أو من مفعوله أي وهو غائب عني وهما متلازمان، وجوز أن يكون حالا منهما وليس بشيء، وعلى الثاني فهو ظرف لغو لما عنده أي لَمْ أَخُنْهُ بمكان الغيب وراء الإستار والأبواب المغلقة، ويحتمل الحالية أيضا وَأَنَّ اللَّهَ أي وليعلم أن الله تعالى. لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ أي لا ينفذه ولا يسدّده بل يبطله ويزهقه فهداية الكيد مجاز عن تنفيذه، ويجوز أن يكون المراد لا يهدي الخائنين (2) بسبب كيدهم فأوقع الهداية المنفية على الكيد وهي واقعة عليهم تجوزا للمبالغة لأنه إذا لم يهد السبب علم منه عدم هداية مسببه بالطريق الأولى، وفيه تعريض بامرأة العزيز في خيانتها أمانته، وبه في خيانته أمانة الله تعالى حين ساعدها على حبسه بعد ما رأوا الآيات الدالة على نزاهته عليه السلام، ويجوز أن يكون مع   (1) وفي الكشاف صح ذلك لدلالة المعنى عليه ونحوه قوله تعالى: قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ [الأعراف: 109، 110] ، وفيه دغدغة اهـ منه. (2) في عبارة بعضهم بكيدهم فالباء إما متعلقة بالفعل أو متعلقة بالخائنين، وفيه تنبيه على أنه تعالى يهدي كيد من لم يقصد الخيانة بكيده كيوسف عليه السلام في كيده إخوته كذا قيل، فتدبر اهـ منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 450 ذلك تأكيدا لأمانته عليه السلام على معنى لو كنت خائنا لما هدى الله تعالى كيدي ولا سدّده، وتوهم عبارة بعضهم عدم اجتماع التأكيد والتعريض، والحق أنه لا مانع من ذلك، وأراد بكيده تشمره وثباته ذلك، وتسميته كيدا على فرض الخيانة على بابها حقيقة كما لا يخفى، فما في الكشف من أنه سماه كيدا استعارة أو مشاكلة ليس بشيء، وقيل: إن ضمير يعلم ولَمْ أَخُنْهُ لله تعالى أي ذلك ليعلم الله تعالى أني لم أعصه أي ليظهر أني غير عاص ويكرمني ويصير سبب رفع منزلتي وليظهر أن كيد الخائن لا ينفذ وأن العاقبة للمطيع لا للعاصي فهو نظير قوله تعالى: لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ [البقرة: 143] وله نظائر أخر في القرآن كثيرة إلّا أن الله تعالى أخبر عن نفسه بذلك وأما غيره فلم يرد في الكتاب العزيز، وفيه نوع إيهام التحاشي عنه أحسن على أن المقام لما تقدم ادعى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 451 بسم الله الرحمن الرحيم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3 وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي أي لا أنزهها عن السوء قال ذلك عليه السلام: هضما لنفسه البرية عن كل سوء وتواضعا لله تعالى وتحاشيا عن التزكية والإعجاب بحالها على أسلوب قوله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» (1) أو تحديثا بنعمة الله تعالى وإبرازا لسره المكنون في شأن أفعال العباد أي لا أنزهها من حيث هي- هي- ولا أسند هذه الفضيلة إليها بمقتضى طبعها من غير توفيق من الله سبحانه بل إنما ذلك بتوفيقه جل شأنه ورحمته، وقيل: إنه أشار بذلك إلى أن عدم التعرض لم يكن لعدم الميل الطبيعي بل لخوف الله تعالى إِنَّ النَّفْسَ البشرية التي من جملتها نفسي في حد ذاتها لَأَمَّارَةٌ لكثيرة الأمر بِالسُّوءِ أي بجنسه، والمراد أنها كثيرة الميل إلى الشهوات مستعملة في تحصيلها القوى والآلات. وفي كثير من التفاسير أنه عليه السلام حين قال: لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ قال له جبريل عليه السلام: ولا حين هممت؟ فقال: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إلخ، وقد أخرجه الحاكم في تاريخه وابن مردويه بلفظ قريب من هذا عن أنس مرفوعا، وروي ذلك عن ابن عباس وحكيم بن جابر والحسن وغيرهم، وهو إن صح يحمل الهم فيه على الميل الصادر عن طريق الشهوة البشرية لا عن طريق العزم والقصد، وقيل: لا مانع من أن يحمل على الثاني ويقال: إنه صغيرة وهي تجوز على الأنبياء عليهم السلام قبل النبوة، ويلتزم أنه عليه السلام لم يكن إذ ذاك نبيا. والزمخشري جعل ذلك وما أشبهه من تلفيق المبطلة وبهتهم على الله تعالى ورسوله، وارتضاه وهو الحري بذلك ابن المنير وعرض بالمعتزلة بقوله: وذلك شأن المبطلة من كل طائفة إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي قال ابن عطية: الجمهور على أن الاستثناء منقطع وما مصدرية أي لكن رحمة ربي هي التي تصرف عنها السوء على حد ما جوز في قوله سبحانه: وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا [يس: 23] وجوز أن يكون استثناء من أعم الأوقات وما مصدرية ظرفية زمانية أي هي أمارة بالسوء في كل وقت إلا في وقت رحمة ربي وعصمته، والنصب على الظرفية لا على الاستثناء كما توهم، لكن فيه التفريغ في الإثبات والجمهور على أنه لا يجوز إلا بعد النفي أو شبهه. نعم أجازه بعضهم في الإثبات إن استقام المعنى كقرأت إلا يوم الجمعة. وأورد على هذا بأنه يلزم عليه كون نفس يوسف وغيره من الأنبياء   (1) روي «ولا فخر» بالمعجمات من فوق ومعناه الكلام الباطل اه منه. [ ..... ] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4 عليهم السلام مائلة إلى الشهوات في أكثر الأوقات إلا أن يحمل ذلك على ما قبل النبوة بناء على جواز ما ذكر قبلها أو يراد جنس النفس لا كل واحدة. وتعقيب بأن الأخير غير ظاهر لأن الاستثناء معيار العموم ولا يرد ما ذكر رأسا لأن المراد هضم النوع البشري اعترافا بالعجز لولا العصمة على أن وقت الرحمة قد يعم العمر كله لبعضهم اهـ، ولعل الأولى الاقتصار على ما في حيز العلاوة فتأمل، وأن يكون استثناء من النفس أو من الضمير المستتر في- أمارة- الراجع إليها أي كل نفس أمارة بالسوء إلا التي رحمها الله تعالى وعصمها عن ذلك كنفسي أو من مفعول- أمارة- المحذوف أي أمارة صاحبها إلا ما رحمه الله تعالى، وفيه وقوع ما على من يعقل وهو خلاف الظاهر، ولينظر الفرق في ذلك بينه وبين انقطاع الاستثناء إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ عظيم المغفرة فيغفر ما يعتري النفوس بمقتضى طباعها ومبالغ في الرحمة فيعصمها من الجريان على موجب ذلك، والإظهار في مقام الإضمار مع التعرض لعنوان الربوبية لتربية مبادئ المغفرة والرحمة، ولعل تقديم ما يفيد الأولى على ما يفيد الثانية لأن التخلية مقدمة على التحلية، وذهب الجبائي واستظهره أبو حيان إلى أن ذلِكَ لِيَعْلَمَ إلى هنا من كلام امرأة العزيز، والمعنى ذلك الإقرار والاعتراف بالحق ليعلم يوسف أني لم أخنه ولم أكذب عليه في حال غيبته وما أبرئ نفسي مع ذلك من الخيانة حيث قلت ما قلت وفعلت به ما فعلت إن كل نفس أمارة بالسوء إلا نفسا رحمها الله تعالى بالعصمة كنفس يوسف عليه السلام إن ربي غفور لمن استغفر لذنبه واعترف به رحيم له. وتعقب ذلك صاحب الكشف بأنه ليس موجبه إلا ما توهم من الاتصال الصوري وليس بذاك، ومن أين لها أن تقول: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي بعد ما وضح ولا كشية الأبلق أنها أمها يرجع إليها طمها ورمها. ومن الناس من انتصر له بأن أمر التعليل ظاهر عليه، وهو على تقدير جعله من كلامه عليه السلام غير ظاهر لأن علم العزيز بأنه لم يكن منه ما قرف به إنما يستدعي التفتيش مطلقا لا خصوص تقديمه على الخروج حين طلبه الملك والظاهر على ذلك التقدير جعله له. وأجيب بأن المراد ليظهر علمه على أتم وجه وهو يستدعي الخصوص، ويساعد على إرادة ظهور العلم أن أصل العلم كان حاصلا للعزيز قبل حين شهد شاهد من أهلها وفيه نظر، ويمكن أن يقال: إن في التثبت وتقديم التفتيش على الخروج من مراعاة حقوق العزيز ما فيه حيث لم يخرج من جنسه قبل ظهور بطلان ما جعله سببا له مع أن الملك دعاه إليه، ويترتب على ذلك علمه بأنه لم يخنه في شيء من الأشياء أصلا فضلا عن خيانته في أهله لظهور أنه عليه السلام إذا لم يقدم على ما عسى أن يتوهم أنه نقض لما أبرمه مع قوة الداعي وتوفر الدواعي فهو بعدم الإقدام على غيره أجدر وأحرى، فالعلة للتثبت مع ما تلاه من القصة هي قصد حصول العلم بأنه عليه السلام لم يكن منه ما يخون به كائنا ما كان مع ما عطف عليه، وذلك العلم إنما يترتب على ما ذكر لا على التفتيش ولو بعد الخروج كما لا يخفى، أو يقال: إن المراد ليجري على موجب العلم بما ذكر بناء على التزام أنه كان قبل ذلك عالما به لكنه لم يجر على موجب علمه وإلا لما حبسه عليه السلام فيتلافى تقصيره بالإعراض عن تقبيح أمره أو بالثناء عليه ليحظى عند الملك ويعظمه الناس فتينع من دعوته أشجارها وتجري في أودية القلوب أنهارها، ولا شك أن هذا مما يترتب على تقديم التفتيش كما فعل، وليس ذلك مما لا يليق بشأنه عليه السلام بل الأنبياء عليهم السلام كثيرا ما يفعلون مثل ذلك في مبادئ أمرهم وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يعطي الكافر إذا كان سيد قومه ما يعطيه ترويجا لأمره، وإذا حمل قوله عليه السلام لصاحبه الناجي اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ [يوسف: 42] على مثل هذا كما فعل أبو حيان تناسب طرفا الكلام أشد تناسب، وكذا لو حمل ذاك على ما اقتضاه ظاهر الكلام وتظافرت عليه الأخبار. وقيل هنا: إن ذلك لئلا يقبح العزيز أمره عند الملك تمحلا لإمضاء ما قضاه، ويكون ذلك من قبيل السعي في تحقيق المقتضي لخلاصه وهذا من قبيل التشمير لرفع المانع لكنه مما لا يليق بجلالة شأنه عليه السلام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 5 ولعل الدعاء بالمغفرة في الخبر السالف على هذا إشارة إلى ما ذكر، ويقال: إنه عليه السلام إنما لم يعاتب عليه كما عوتب على الأول لكونه دونه مع أنه قد بلغ السيل الزبى، ولا يخفى أن عوده عليه السلام لما يستدعي أدنى عتاب بالنسبة إلى منصبه بعد أن جرى ما جرى في غاية البعد، ومن هنا قيل: الأولى أن يجعل ما تقدم كما تقدم ويحمل هذا على أنه عليه السلام أراد به تمهيد أمر الدعوة إلى الله تعالى جبرا لما فعل قبل واتباعا لخلاف الأولى بالنظر إلى مقامه بالأولى، وقيل: في وجه التعليل غير ذلك، وأخرج ابن جرير عن ابن جريج أن هذا من تقديم القرآن وتأخيره وذهب إلى أنه متصل بقول: فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إلخ ويرد على ظاهره ما لا يخفى فتأمل جميع ما ذكرناه لتكون على بصيرة من أمرك. وفي رواية البزي عن ابن كثير وقالون عن نافع أنهما قرآ «بالسو» على قلب الهمزة واوا والإدغام وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ أجعله خالصا لِنَفْسِي وخاصا بي فَلَمَّا كَلَّمَهُ في الكلام إيجاز أي فأتوا به فلما إلخ، وحذف ذلك للإيذان بسرعة الإتيان فكأنه لم يكن بينه وبين الأمر بإحضاره عليه السلام والخطاب معه زمان أصلا، ولم يكن حاضرا مع النسوة في المجلس كما زعمه بعض وجعل المراد من هذا الأمر قربوه إلي، والضمير المستكن في «كلمه» ليوسف عليه السلام والبارز للملك أي فلما كلم يوسف عليه السلام الملك آثر ما أتاه فاستنطقه ورأى حسن منطقه بما صدق الخبر الخبر، واستظهر في البحر كون الضمير الأول للملك والثاني ليوسف أي فلما كلمه الملك ورأى حسن جوابه ومحاورته قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ ذو مكانة ومنزلة رفيعة أَمِينٌ مؤتمن على كل شيء، وقيل: آمن من كل مكروه، والوصف بالأمانة هو الأبلغ في الإكرام، والْيَوْمَ ليس بمعيار للمكانة والأمانة بل هو آن التكلم، والمراد تحديد مبدئهما احترازا عن كونهما بعد حين، وفي اختيار- لدى- على عند ما لا يخفى من الاعتناء بشأنه عليه السلام، وكذا في اسمية الجملة وتأكيدها. روي أن الرسول جاءه فقال له: أجب الملك الآن بلا معاودة والق عنك ثياب السجن واغتسل والبس ثيابا جددا ففعل فلما قام ليخرج دعا لأهل السجن اللهم عطف عليهم قلوب الأخيار ولا تعم عليهم الأخبار فهم أعلم الناس بالأخبار في كل بلد ثم خرج فكتب على الباب هذه منازل البلوى وقبور الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء، فلما وصل إلى باب الملك قال: حسبي ربي من دنياي وحسبي ربي من خلقه عز جارك وجل ثناؤك ولا إله غيرك، فلما دخل على الملك قال: اللهم إني أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بك من شره وشر غيره ثم سلم عليه بالعربية فقال له الملك: ما هذا اللسان؟ فقال: لسان عمي إسماعيل، ثم دعا له بالعبرانية فقال له: وما هذا اللسان أيضا؟ فقال: هذا لسان آبائي، وكان الملك يعرف سبعين لسانا فكلمه بها فأجابه بجميعها فتعجب منه وقال: أيها الصديق إني أحب أن أسمع رؤياي منك فحكاها عليه السلام له طبق ما رأى لم يخرم منها حرفا، فقال الملك: أعجب من تأويلك إياها معرفتك لها فأجلسه معه على السرير وفوض إليه أمره وقيل: إنه أجلسه قبل أن يقص الرؤيا. وأخرج ابن جرير عن ابن إسحاق قال: ذكروا أن قطفير هلك (1) في تلك الليالي وأن الملك زوج (2) يوسف امرأته راعيل فقال لها حين أدخلت عليه: أليس هذا خيرا مما كنت تريدين؟ فقالت: أيها الصديق لا تلمني فإني كنت امرأة كما ترى حسناء جملاء ناعمة في ملك ودنيا وكان صاحبي لا يأتي النساء وكنت كما جعلك الله تعالى في حسنك وهيئتك فغلبتني نفسي على ما رأيت فيزعمون أنه وجدها عذراء فأصابها فولدت له رجلين إفرائيم وميشا.   (1) وجاء في رواية أن الملك عزله ونصب يوسف عليه السلام منصبه اهـ منه. (2) وكان ذلك على الفور بناء على أنه لم تكن العدة من دينهم اهـ منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 6 أخرج الحكيم الترمذي عن وهب قال: أصابت امرأة العزيز حاجة فقيل لها: لو أتيت يوسف بن يعقوب فسألتيه فاستشارت الناس في ذلك فقالوا: لا تفعلي فإنا نخافه عليك قالت: كلا إني لا أخاف ممن يخاف الله تعالى فأدخلت عليه فرأته في ملكه فقالت: الحمد لله الذي جعل العبيد ملوكا بطاعته ثم نظرت إلى نفسها فقالت: الحمد لله الذي جعل الملوك عبيدا بمعصيته فقضى لها جميع حوائجها ثم تزوجها فوجدها بكرا الخبر. وفي رواية أنها تعرضت له في الطريق فقالت ما قالت فعرفها فتزوجها فوجدها بكرا وكان زوجها عنينا، وشاع عند القصاص أنها عادت شابة بكرا إكراما له عليه السلام بعد ما كانت ثيبا غير شابة، وهذا مما لا أصل له، وخبر تزوجها أيضا مما لا يعول عليه عند المحدثين وعلى فرض ثبوت التزوج فظاهر خبر الحكيم أنه إنما كان بعد تعيينه عليه السلام لما عين له من أمر الخزائن، قيل: ويعرب عنه قوله تعالى: قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ أي أرض مصر، وفي معناه قول بعضهم أي أرضك التي تحت تصرفك، وقيل: أراد بالأرض الجنس وبخزائنها الطعام الذي يخرج منها، وعَلى متعلقة على ما قيل- بمستول- مقدر، والمعنى ولني على أمرها من الإيراد والصرف إِنِّي حَفِيظٌ لها ممن لا يستحقها عَلِيمٌ بوجوه التصرف فيها، وقيل: بوقت الجوع، وقيل: حفيظ للحساب عليم بالألسن، وفيه دليل على جواز مدح الإنسان نفسه بالحق إذا جهل أمره، وجواز طلب الولاية إذا كان الطالب ممن يقدر على إقامة العدل وإجراء أحكام الشريعة وإن كان من يد الجائر أو الكافر، وربما يجب عليه الطلب إذا توقف على ولايته إقامة واجب مثلا وكان متعينا لذلك، وما في الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن سمرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عبد الرحمن لا تسأل الأمارة فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها» وارد في غير ما ذكر. وعن مجاهد أنه أسلم الملك على يده عليه السلام، ولعل إيثاره عليه السلام لتلك الولاية خاصة إنما كان للقيام بما هو أهم أمور السلطنة إذ ذاك من تدبير أمر السنين لكونه من فروع تلك الولاية لا لمجرد عموم الفائدة كما قيل. وجاء في رواية أن الملك لما كلمه عليه السلام وقص رؤياه وعبرها له قال: ما ترى أيها الصديق؟ قال: تزرع في سني الخصب زرعا كثيرا فإنك لو زرعت فيها على حجر نبت وتبني الخزائن وتجمع فيها الطعام بقصبه وسنبله فإنه أبقى له ويكون القصب علفا للدواب فإذا جاءت السنون بعت ذلك فيحصل لك مال عظيم، فقال الملك: ومن لي بهذا ومن يجمعه ويبيعه لي ويكفيني العمل فيه؟ فقال: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إلخ، والظاهر أنه أجابه لذلك حين سأله، وإنما لم يذكر إجابته له عليه السلام إيذانا بأن ذلك أمر لا مرد له غني عن التصريح به لا سيما بعد تقديم ما تندرج تحته أحكام السلطنة جميعها. وأخرج الثعلبي عن ابن عباس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحم الله تعالى أخي يوسف لو لم يقل: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ لاستمله من ساعته ولكنه أخر ذلك سنة» ثم إنه كما روي عن ابن عباس وغيره توجه وختمه بخاتمه ورداه بسيفه ووضع له سريرا من ذهب مكللا بالدر والياقوت طوله ثلاثون ذراعا وعرضه عشرة أذرع ووضع عليه الفرش وضرب عليه حلة من إستبرق فقال عليه السلام: أما السرير فأشد به ملكك وأما الخاتم فأدبر به أمرك وأما التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي فقال: قد وضعته إجلالا لك وإقرارا بفضلك، فجلس على السرير ودانت له الملوك وفوض إليه الملك أمره وأقام العدل بمصر وأحبته الرجال والنساء، وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام في السنة الأولى بالدراهم والدنانير حتى لم يبق منها شيء، وفي الثانية بالحلي والجواهر، وفي الثالثة بالدواب والمواشي، وفي الرابعة بالعبيد والجواري، وفي الخامسة بالضياع والعقار، وفي السادسة بالأولاد، وفي السابعة بالرقاب حتى استرقهم جميعا وكان ذلك مما يصح في شرعهم. فقالوا: ما رأينا كاليوم ملكا أجل وأعظم منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 7 فقال للملك: كيف رأيت صنع الله تعالى فيما خولني فما ترى في هؤلاء؟ فقال الملك: الرأي رأيك ونحن لك تبع فقال: إني أشهد الله تعالى وأشهدك أني قد أعتقتهم ورددت إليهم أملاكهم. ولعل الحكمة في ذلك إظهار قدرته وكرمه وانقيادهم بعد ذلك لأمره حتى يخلص إيمانهم ويتبعوه فيما يأمرهم به فلا يقال: ما الفائدة في تحصيل ذلك المال العظيم ثم إضاعته؟ وكان عليه السلام في تلك المدة فيما يروى لا يشبع من الطعام فقيل له: أتجوع وخزائن الأرض بيدك؟ فقال: أخاف إن شبعت أنسى الجائع وأمر عليه السلام طباخي الملك أن يجعلوا غذاءه نصف النهار وأراد بذلك أن يذوق طعم الجوع فلا ينسى الجياع، قيل: ومن ثم جعل الملوك غذاءهم نصف النهار، وقد أشار سبحانه إلى ما آتاه من الملك العظيم بقوله جل وعلا: وَكَذلِكَ أي مثل التمكين البديع مَكَّنَّا لِيُوسُفَ أي جعلنا له مكانا فِي الْأَرْضِ أي أرض مصر، روي أنها كانت أربعين فرسخا في أربعين، وفي التعبير عن الجعل المذكور بالتمكين في الأرض مسندا إلى ضميره تعالى من تشريفه عليه السلام والمبالغة في كمال ولايته والإشارة إلى حصول ذلك من أول الأمر لا أنه حصل بعد السؤال ما لا يخفى، واللام في لِيُوسُفَ على ما زعم أبو البقاء يجوز أن تكون زائدة أي مكنا يوسف وأن لا تكون كذلك والمفعول محذوف أي مكنا له الأمور، وقد مر لك ما يتضح منه الحق يَتَبَوَّأُ مِنْها ينزل من قطعها وبلادها حَيْثُ يَشاءُ ظرف ليتبوأ، وجوز أن يكون مفعولا به كما في قوله تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: 124] ومِنْها متعلق بما عنده، وقيل: بمحذوف وقع حالا من حيث. وتعقب بأن حَيْثُ لا يتم إلا بالمضاف إليه وتقديم الحال على المضاف إليه لا يجوز، والجملة في موضع الحال من يوسف وضمير يَشاءُ له، وجوز أن يكون لله تعالى ففيه التفات، ويؤيده أنه قرأ ابن كثير والحسن وبخلاف عنهم أبو جعفر وشيبة ونافع «نشاء» بالنون فإن الضمير على ذلك لله تعالى قطعا نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا بنعمتنا وعطائنا في الدنيا من الملك والغنى وغيرهما من النعم، وقيل: المراد بالرحمة النبوة وليس بذاك مَنْ نَشاءُ بمقتضى الحكمة الداعية للمشيئة وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ بل نوفي لهم أجورهم في الدنيا لإحسانهم، والمراد به على ما قيل: الإيمان والثبات على التقوى فإن قوله سبحانه: وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ قد وضع فيه الموصول موضع ضمير الْمُحْسِنِينَ وجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل تنبيها على ذلك، والمعنى ولأجرهم في الآخرة خير، والإضافة فيه للملابسة، وجعل في تعقيب الجملة الثالثة المؤكدة بعد المنفية إشعار بأن مدار المشيئة المذكورة إحسان من تصيبه الرحمة المذكورة، وفي ذكر الجملة الثالثة المؤكدة بعد دفع توهم انحصار ثمرات الإحسان فيما ذكر من الأجر العاجل، ويفهم من ذلك أن المراد- ممن نشاء- من نشاء أن نصيبه بالرحمة من عبادنا الذين آمنوا واستمروا على التقوى. وتعقب بأنه خلاف الظاهر، ولعل الظاهر حمل مَنْ على ما هو أعم مما ذكر وحينئذ لا يبعد أن يراد بالرحمة النعمة التي لا تكون في مقابلة شيء من الأعمال وبالأجر ما كان في مقابلة شيء من ذلك، يبقى أمر وضع الموصول موضع الضمير على حاله كأنه قيل: نتفضل على من نشاء من عبادنا كيف كانوا وننعم عليهم بالملك والغنى وغيرهما لا في مقابلة شيء ونوفي أجور المؤمنين المستمرين على التقوى منهم ونعطيهم في الدنيا ما نعطيهم في مقابلة إيمانهم واستمرارهم على التقوى وما نعطيهم في مقابلة ذلك في الآخرة من النعيم العظيم المقيم خير لهم مما نعطيهم في الدنيا لعظمه ودوامه. واعترض بأن فيه إطلاق الرحمة على ما يصيب الكافر من نحو الملك والغنى مع أنه ليس برحمة كما يشعر به كثير من الآيات ويقتضيه قولهم: ليس لله تعالى نعمة على كافر. وأجيب بأن قولهم: في «الرحمن» أنه الذي يرحم المؤمن والكافر في الدنيا ظاهر في صحة إطلاق الرحمة على ما يصيب الكافر من ذلك، وكذا قوله تعالى: وَما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 8 أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] ظاهر في صحة القول بكون الكافر مرحوما في الجملة وأمر الإشعار سهل، وقولهم: ليس لله تعالى نعمة على كافر إنما قاله البعض بناء على أخذ- يحمد عاقبتها- في تعريفها. وإن أبيت ولا أظن فلم لا يجوز أن يقال: إنه عبر عما ذكر بالرحمة رعاية لجانب من اندرج في عموم «من» من المؤمنين. نعم يرد على تفسير الرحمة هنا بالنعمة التي لا تكون في مقابلة شيء من الأعمال والأجر بما كان ما روي عن سفيان بن عيينة أنه قال: المؤمن يثاب على حسناته في الدنيا والآخرة والفاجر يعجل له الخير في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق وتلا الآية فإنه ظاهر في أن ما يصيب الكافر مما تقدم في مقابلة عمل له وأن في الآية ما يدل على ذلك وليس هو إلا نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وقد يجاب بأنه لعله حمل الْمُحْسِنِينَ على ما يشمل الكفار الفاعلين لما يحسن كصلة الرحم ونصرة المظلوم وإطعام الفقير ونحو ذلك، فحصر الدلالة فيما ذكر ممنوع نعم إن هذا الأثر يعكر على التفسير السابق عكرا بينا إذا الآية عليه لا تعرض فيها للكافر أصلا فلا معنى لتلاوتها إثر ذلك الكلام. وعمم بعضهم الأوقات في نُصِيبُ وَلا نُضِيعُ فقال نصيب في الدنيا والآخرة ولا نضيع أجر المحسنين بل نوفي أجورهم عاجلا وآجلا، وأيد بأنه لا موجب للتخصيص وأن خبر سفيان يدل على العموم وتعقب بأن من خص ذلك بالدنيا فإنما خصه ليكون ما بعده تأسيسا وبأنه لا دلالة للخبر على ذلك لأنه مأخوذ من مجموع الآية وفيه ما فيه. وعن ابن عباس تفسير الْمُحْسِنِينَ بالصابرين، ولعله رضي الله تعالى عنه على تقدير صحة الرواية رأى ذلك أوفق بالمقام. وأيّا ما كان في الآية إشارة إلى أن ما أعد الله تعالى ليوسف عليه السلام من الأجر والثواب في الآخرة أفضل مما أعطاه في الدنيا من الملك. وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ ممتارين لما أصاب أرض كنعان وبلاد الشام ما أصاب مصر، وقد كان حل بآل يعقوب عليه السلام ما حل بأهلها فدعا أبناءه ما عدا بنيامين فقال لهم: يا بني بلغني أن بمصر ملكا صالحا يبيع الطعام فتجهزوا إليه واقصدوه تشتروا منه ما تحتاجون إليه فخرجوا حتى قدموا مصر فَدَخَلُوا عَلَيْهِ عليه السلام وهو في مجلس ولايته فَعَرَفَهُمْ لقوة فهمه وعدم مباينة أحوالهم السابقة أحوالهم يوم المفارقة لمفارقته إياهم وهم رجال وتشابه هيئاتهم وزيهم في الحالين، ولكون همته معقودة بهم وبمعرفة أحوالهم لا سيما في زمن القحط، ولعله عليه السلام كان مترقبا مجيئهم إليه لما يعلم من تأويل رؤياه. وروي أنهم انتسبوا في الاستئذان عليه فعرفهم وأمر بإنزالهم، ولذلك قال الحسن: ما عرفهم حتى تعرفوا إليه. وتعقب ذلك في الانتصاف بأن توسيط الفاء بين دخولهم عليه ومعرفته لهم يأبى كلام الحسن ويدل على أن مجرد دخولهم عليه استعقبه المعرفة بلا مهلة وفيه تأمل. وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أي والحال أنهم منكرون له لنسيانهم له بطول العهد وتباين ما بين حاليه في نفسه ومنزلته وزيه ولاعتقادهم أنه هلك، وقيل: إنما لم يعرفوه لأنه عليه السلام أوقفهم موقف ذوي الحاجات بعيدا منه وكلمهم بالواسطة، وقيل: إن ذلك لمحض أنه سبحانه لم يخلق العرفان في قلوبهم تحقيقا لما أخبر أنه سينبئهم بأمرهم وهم لا يشعرون فكان ذلك معجزة له عليه السلام، وقابل المعرفة بالإنكار على ما هو الاستعمال الشائع، فعن الراغب المعرفة والعرفان معرفة الشيء بتفكر في أثره فهو أخص من العلم، وأصله من عرفت أي أصبت عرفه أي رائحته ويضاد المعرفة الإنكار والعلم الجهل، وحيث كان إنكارهم له عليه السلام أمرا مستمرا في حالتي المحضر والمغيب أخبر عنه بالجملة الاسمية بخلاف عرفانه عليه السلام إياهم. وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ أصلحهم بعدتهم وأوقر ركائبهم بما جاؤوا لأجله، ولعله عليه السلام إنما باع كل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 9 واحد منهم وحمل بعير لما روي أنه عليه السلام كان لا يبيع أحدا من الممتارين أكثر من ذلك تقسيطا بين الناس وفيما يأتي إن شاء الله تعالى من قولهم: وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ [يوسف: 65] ما يؤيده، وأصل الجهاز ما يحتاج إليه المسافر من زاد ومتاع، وجهاز العروس ما تزف به إلى زوجها والميت ما يحتاج إليه في دفنه. وقرئ بكسر الجيم قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ ولم يقل بأخيكم مبالغة في إظهار عدم معرفته لهم كأنه لا يدري من هو ولو أضافه اقتضى معرفته لإشعار الإضافة به، ومن هنا قالوا في أرسل غلاما لك: الغلام غير معروف وفي أرسل غلامك معروف بينك وبين مخاطبك عهد فيه، ولعله عليه السلام إنما قال ذلك لما قيل: من أنهم سألوه حملا زائدا على المعتاد لبنيامين فأعطاهم ذلك وشرط عليهم أن يأتوه به مظهرا لهم أنه يريد أن يعلم صدقهم، وقيل: إنهم لما رأوه فكلموه بالعبرية قال لهم: من أنتم فإني أنكركم؟ فقالوا: نحن قوم من أهل الشام رعاة أصابنا الجهد فجئنا نمتار فقال: لعلكم جئتم عيونا تنظرون عورة بلادي قالوا: معاذ الله نحن إخوة بنو أب واحد وهو شيخ صديق نبي من الأنبياء اسمه يعقوب قال: كم أنتم؟ قالوا: كنا اثني عشر فهلك منا واحد، فقال: كم أنتم هاهنا؟ قالوا: عشرة. قال: فأين الحادي عشر؟، قالوا: هو عند أبيه يتسلى به عن الهالك. قال: فمن يشهد لكم أنكم لستم عيونا وأن ما تقولون حق؟ قالوا: نحن ببلاد لا يعرفنا فيها أحد فيشهد لنا قال: فدعوا بعضكم عندي رهينة وائتوني بأخيكم من أبيكم وهو يحمل رسالة من أبيكم حتى أصدقكم فاقترعوا فأصاب القرعة شمعون، وقيل: إنه عليه السلام هو الذي اختاره لأنه كان أحسنهم رأيا فيه، والمشهور أن الأحسن يهوذا فخلفوه عنده، ومن هذا يعلم سبب هذا القول. وتعقب بأنه لا يساعده ورود الأمر بالإتيان به عند التجهيز ولا الحث عليه بإيفاء الكيل ولا الإحسان في الإنزال ولا الاقتصار على منع الكيل من غير ذكر الرسالة على أن استبقاء شمعون لو وقع لكان ذلك طامة ينسى عندها كل قيل، وقال بعضهم: إنه يضعف الخبر اشتماله على بهت إخوته بجعلهم جواسيس إلا أن يقال: إن ذلك كان عن وحي. وقال ابن المنير: إن ذلك غير صحيح لأنه إذا ظنهم جواسيس كيف يطلب منهم واحدا من إخوتهم وما في النظم الكريم يخالفه وأطال في ذلك. وتعقب بأنه ليس بشيء لأنهم لما قالوا له: إنهم أولاد يعقوب عليه السلام طلب أخاهم وبه يتضح الحال. وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أنهم لما دخلوا عليه عليه السلام فعرفهم وهم له منكرون جاء بصواع الملك الذي كان يشرب فيه فوضعه على يده فجعل ينقره ويطن وينقره ويطن فقال: إن هذا الجام ليخبرني خبرا هل كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف وكان أبوه يحبه دونكم وإنكم انطلقتم به فألقيتموه في الجب وأخبرتم أباكم أن الذئب أكله وجئتم على قميصه بدم كذب؟ قال: فجعل بعضهم ينظر إلى بعض ويعجبون أن الجام يخبر بذلك، وفيه مخالفة للخبر السابق، وفي الباب أخبار أخر وكلها مضطربة فليقصر على ما حكاه الله تعالى مما قالوا ليوسف عليه السلام وقال: أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ أتمه لكم، وإيثار صيغة الاستقبال مع كون هذا الكلام بعد التجهيز للدلالة على أن ذلك عادة مستمرة وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ جملة حالية أي ألا ترون أني أوف الكيل لكم إيفاء مستمرا والحال أني في غاية الإحسان في إنزالكم وضيافتكم وكان الأمر كذلك، ويفهم من كلام بعضهم التعميم في الجملتين بحيث يندرج حينئذ في ذلك المخاطبون، وتخصيص الرؤية بالإيفاء لوقوع الخطاب في أثنائه، وأما الإحسان في الإنزال فقد كان مستمرا فبما سبق ولحق ولذلك أخبر عنه بالجملة الاسمية، ولم يقل ذلك عليه السلام بطريق الامتنان بل لحثهم على تحقيق ما أمرهم به، والاقتصار في الكيل على ذكر الإيفاء لأن معاملته عليه السلام معهم في ذلك كمعاملته مع غيرهم في مراعاة مواجب العدل، وأما الضيافة فليس للناس فيها حق فخصهم في ذلك بما يشاء قاله شيخ الإسلام فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي إيعاد لهم على عدم الإتيان به، والمراد لا كيل لكم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 10 في المرة الأخرى فضلا عن إيفائه وَلا تَقْرَبُونِ أي لا تقربوني بدخول بلادي فضلا عن الإحسان في الإنزال والضيافة، وهو إما نهي أو نفي معطوف على التقديرين على الجزاء، وقيل: هو على الأول استئناف لئلا يلزم عطف الإنشاء على الخبر. وأجيب بأن العطف مغتفر فيه لأن النهي يقع جزاء، وفيه دليل على أنهم كانوا على نية الامتيار مرة بعد أخرى وأن ذلك كان معلوما له عليه السلام، والظاهر أن ما فعله معهم كان بوحي وإلا فالبر يقتضي أن يبادر إلى أبيه ويستدعيه لكن الله سبحانه أراد تكميل أجر يعقوب في محنته وهو الفعال لما يريد في خليقته قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ أي سنخادعه ونستميله برفق ونجتهد في ذلك، وفيه تنبيه على عزة المطلب وصعوبة مناله وَإِنَّا لَفاعِلُونَ أي إنا لقادرون على ذلك لا نتعايا به أو إنا لفاعلون ذلك لا محالة ولا نفرط فيه ولا نتوانى، والجملة على الأول تذييل يؤكد مضمون الجملة الأولى ويحقق حصول الموعود من إطلاق المسبب- أعني الفعل- على السبب- أعني القدرة، وعلى الثاني هي تحقيق للوفاء بالوعد وليس فيه ما يدل على أن الموعود يحصل أولا. وَقالَ يوسف عليه السلام لِفِتْيانِهِ لغلمانه الكيالين كما قال قتادة وغيره أو لأعوانه الموظفين لخدمته كما قيل، وهو جمع فتى أو اسم جمع له على قول وليس بشيء، وقرأ أكثر السبعة «لفتيته» وهو جمع قلة له، ورجحت القراءة الأولى بأنها أوفق بقوله: اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ فإن الرحال فيه جمع كثرة ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي انقسام الآحاد على الآحاد فينبغي أن يكون في مقابلة صيغة جمع الكثرة، وعلى القراءة الأخرى يستعار أحد الجمعين للآخر. روي أنه عليه السلام وكل بكل رحل رجلا يعني فيه بضاعتهم التي اشتروا بها الطعام وكانت نعالا وأدما وأصل البضاعة قطعة وافرة من المال تقتنى للتجارة والمراد بها هنا ثمن ما اشتروه. والرحل ما على ظهر المركوب من متاع الراكب وغيره كما في البحر، وقال الراغب: هو ما يوضع على البعير للركوب ثم يعبر به تارة عن البعير وأخرى عما يجلس عليه في المنزل ويجمع في القلة على أرحلة، والظاهر أن هذا الأمر كان بعد تجهيزهم، وقيل: قبله ففيه تقديم وتأخير ولا حاجة إليه، وإنما فعل عليه السلام ذلك تفضلا عليهم وخوفا أن لا يكون عند أبيه ما يرجعون به مرة أخرى وكل ذلك لتحقيق ما يتوخاه من رجوعهم بأخيهم كما يؤذن به قوله: لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها أي يعرفون حق ردها والتكرم بذلك- فلعل- على ظاهرها وفي الكلام مضاف مقدر، ويحتمل أن يكون المعنى لكي يعرفوها فلا يحتاج إلى تقدير وهو ظاهر التعلق بقوله: إِذَا انْقَلَبُوا أي رجعوا إِلى أَهْلِهِمْ فإن معرفتهم لها مقيدة بالرجوع وتفريغ الأوعية قطعا، وأما معرفة حق التكرم في ردها وإن كانت في ذاتها غير مقيدة بذلك لكن لما كان ابتداؤها حينئذ قيدت به لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ حسبما طلبت منهم، فإن التفضل بإعطاء البدلين ولا سيما عند إعواز البضاعة من أقوى الدواعي إلى الرجوع، وقيل: إنما فعله عليه السلام لما أنه لم ير من الكرم أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمنا وهو الكريم ابن الكريم وهو كلام حق في نفسه ولكن يأباه التعليل المذكور، ومثله في هذا ما زعمه ابن عطية من وجوب صلتهم وجبرهم عليه عليه السلام في تلك الشدة إذ هو ملك عادل وهم أهل إيمان ونبوة، وأغرب منه ما قيل: إنه عليه السلام فعل ذلك توطئة لجعل السقاية في رحل أخيه بعد ذلك ليتبين أنه لم يسرق لمن يتأمل القصة، ووجه بعضهم علية الجعل المذكور للرجوع بأن ديانتهم تحملهم على رد البضاعة لاحتمال أنه لم يقع ذلك قصدا أو قصدا للتجربة- فيرجعون- على هذا إما لازم وإما متعد، والمعنى يرجعونها أي يردونها، وفيه أن هيئة التعبية تنادي بأن ذلك بطريق التفضل فاحتمال غيره في غاية البعد، ألا ترى أنهم كيف جزموا بذلك حين رأوها وجعلوا ذلك دليلا على التفضلات السابقة كما ستحيط به خبرا إن شاء الله تعالى. فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ أي حكم بمنعه بعد اليوم إن لم نذهب بأخينا بنيامين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 11 حيث قال لنا الملك فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي والتعبير بذلك عما ذكر مجاز والداعي لارتكابه أنه لم يقع منع ماض، وفيه دليل على كون الامتيار مرة بعد أخرى كان معهودا بينهم وبينه عليه السلام، وقيل: إن الفعل على حقيقته والمراد منع أن يكال لأخيهم الغائب حملا آخر ورد بغيره غير محمل بناء على رواية أنه عليه السلام لم يعط له وسقا فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا بنيامين إلى مصر، وفيه إيذان بأن مدار المنع على عدم كونه معهم نَكْتَلْ أي من الطعام ما نحتاج إليه، وهو جواب الطلب، قيل: والأصل يرفع المانع ونكتل فالجواب هو يرفع إلا أنه رفع ووضع موضعه يكتل لأنه لما علق المنع من الكيل بعدم إتيان أخيهم كان إرساله رفعا لذلك المانع، ووضع موضعه ذلك لأنه المقصود، وقيل: إنه جيء بآخر الجزأين ترتبا دلالة على أولهما مبالغة، وأصل هذا الفعل نكتيل على وزن نفعيل قلبت الياء الفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ثم حذفت لالتقاء الساكنين. ومن الغريب أنه نقل السجاوندي أنه سأل المازني ابن السكيت عند الواثق عن وزن نكتل فقال: نفعل فقال المازني: فإذا ماضيه كتل فخطأه على أبلغ وجه. وقرأ حمزة والكسائي «يكتل» بياء الغيبة على اسناده للأخ مجازا لأنه سبب للاكتيال أو يكتل أخونا فينضم اكتياله إلى اكتيالنا، وقوى أبو حيان بهذه القراءة القول ببقاء منع على حقيقته ومثل الإمام وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ من أن يصيبه مكروه، وهذا سد لباب الاعتذار وقد بالغوا في ذلك كما لا يخفى، وفي بعض الأخبار- ولا يخفى حاله- أنهم لما دخلوا على أبيهم عليه السلام سلموا عليه سلاما ضعيفا فقال لهم: يا بني ما لكم تسلمون علي سلاما ضعيفا وما لي لا أسمع فيكم صوت شمعون فقالوا: يا أبانا جئناك من عند أعظم الناس ملكا ولم ير مثله علما وحكما وخشوعا وسكينة ووقارا ولئن كان لك شبه فإنه يشبهك ولكنا أهل بيت خلقنا للبلاء إنه اتهمنا وزعم أنه لا يصدقنا حتى ترسل معنا بنيامين برسالة منك تخبره عن حزنك وما الذي أحزنك وعن سرعة الشيب إليك وذهاب بصرك وقد منع منا الكيل فيما يستقبل إن لم نأته بأخينا فأرسله معنا نكتل وإنا له لحافظون حتى نأتيك به قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ استفهام إنكاري وآمَنُكُمْ بالمد وفتح الميم ورفع النون مضارع من باب علم وأمنه وائتمنه بمعنى أي ما ائتمنكم عليه إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ أي إلا ائتمانا مثل ائتماني إياكم عَلى أَخِيهِ يوسف مِنْ قَبْلُ وقد قلتم أيضا في حقه ما قلتم ثم فعلتم به ما فعلتم فلا أثق بكم ولا بحفظكم وإنما أفوض أمري إلى الله تعالى فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فأرجو أن يرحمني بحفظه ولا يجمع علي مصيبتين، وهذا كما ترى ميل منه عليه السلام إلى الإذن والإرسال لما رأى فيه من المصلحة، وفيه أيضا من التوكل علي الله تعالى ما لا يخفى، ولذا روي أن الله تعالى قال: وعزتي وجلالي لأردهما عليك إذ توكلت علي، ونصب حافِظاً على التمييز نحو لله دره فارسا، وجوز غير واحد أن يكون على الحالية. وتعقبه أبو حيان بأنه ليس بجيد لما فيه من تقييد الخيرية بهذه الحالة. ورد بأنها حال لازمة مؤكدة لا مبينة ومثلها كثير مع أنه قول بالمفهوم وهو غير معتبر ولو اعتبر ورد على التمييز وفيه نظر، وقرأ أكثر السبعة «حفظا» ونصبه على ما قال أبو البقاء على التمييز لا غير. وقرأ الأعمش «خير حافظ» على الإضافة وافراد «حافظ» وقرأ أبو هريرة «خير الحافظين» على الإضافة والجمع، ونقل ابن عطية عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قرأ «فالله خير حافظا وهو خير الحافظين» قال ابن حيان: وينبغي أن تجعل جملة وهو خير إلخ تفسير للجملة التي قبلها لا أنها قرآن وقد مر تعليل ذلك وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ قال الراغب: المتاع كل ما ينتفع به على وجه، وهو في الآية الطعام، وقيل: الوعاء وكلاهما متاع وهما متلازمان فإن الطعام كان في الوعاء، والمعنى على أنهم لما فتحوا أوعية طعامهم وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ التي كانوا أعطوها ثمنا للطعام رُدَّتْ إِلَيْهِمْ أي تفضلا وقد علموا ذلك بما مر من دلالة الحال، وقرأ علقمة ويحيى بن وثاب والأعمش «ردت» بكسر الراء، وذلك أنه نقلت حركة الدال المدغمة إلى الراء بعد توهم خلوها من الضمة وهي لغة لبني ضبة كما نقلت العرب في قيل وبيع، وحكى قطرب النقل في الحرف الصحيح غير المدغم نحو ضرب زيد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 12 قالُوا استئناف بياني كأنه قيل: ماذا قالوا حينئذ؟ فقيل: قالوا لأبيهم ولعله كان حاضرا عند الفتح يا أَبانا ما نَبْغِي إذا فسر البغي بمعنى الطلب كما ذهب إليه جماعة- فما- يحتمل أن تكون استفهامية منصوبة المحل على أنها مفعول مقدم- لنبغي- فالمعنى ماذا نطلب وراء ما وصفنا لك من إحسان الملك إلينا وكرمه الداعي إلى امتثال أمره والمراجعة إليه في الحوائج وقد كانوا أخبروه بذلك على ما روي أنهم قالوا له عليه السلام: إنا قدمنا على خير رجل وأنزلنا وأكرمنا كرامة لو كان رجلا من آل يعقوب ما أكرمنا كرامته، وقوله تعالى: هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا جملة مستأنفة موضحة لما دل عليه الإنكار من بلوغ اللطف غايته كأنهم قالوا: كيف لا وهذه بضاعتنا ردها إلينا تفضلا من حيث لا ندري بعد ما من علينا بما يثقل الكواهل من المنن العظام وهل من مزيد على هذا فنطلبه، ومرادهم به أن ذلك كاف في استيجاب الامتثال لأمره والالتجاء إليه في استجلاب المزيد، ولم يريدوا أنه كاف مطلقا فينبغي التقاعد عن طلب نظائره وهو ظاهر. وجملة رُدَّتْ في موضع الحال من بِضاعَتُنا بتقدير قد عند من يرى وجوبها في أمثال ذلك والعامل معنى الإشارة، وجعلها خبر هذِهِ وبضاعتنا- بيانا له ليس بشيء، وإيثار صيغة البناء للمفعول قيل: للإيذان بكمال الإحسان الناشئ عن كمال الإخفاء المفهوم من كمال غفلتهم عنه بحيث لم يشعروا به ولا بفاعله، وقيل: للإيذان بتعين الفاعل وفيه من مدحه أيضا ما فيه، وقوله تعالى: وَنَمِيرُ أَهْلَنا أي نجلب لهم الميرة، وهي بكسر الميم وسكون الياء طعام يمتاره الإنسان أي يجلبه من بلد إلى بلد، وحاصله نجلب لهم الطعام من عند الملك معطوف على مقدر ينسحب عليه البضاعة أي فنستظهر بها ونمير أهلنا وَنَحْفَظُ أَخانا من المكاره حسبما وعدنا، وتفرعه على ما تقدم باعتبار دلالته على إحسان الملك فإنه مما يعين على الحفظ وَنَزْدادُ أي بواسطته ولذلك وسط الاخبار به بين الأصل والمزيد كَيْلَ بَعِيرٍ أي وسق بعير زائدا على أوساق أباعرنا على قضية التقسيط المعهود من الملك، والبعير في المشهور مقابل الناقة، وقد يطلق عليها وتكسر في لغة باؤه ويجمع على أبعرة وبعران وأباعر، وعن مجاهد تفسيره هنا بالحمار وذكر أن بعض العرب يقول للحمار بعير وهو شاذ. وقوله تعالى ذلِكَ كَيْلٌ أي مكيل يَسِيرٌ أي قليل لا يقوم بأودنا يحتمل أن يكون اشارة إلى ما كيل لهم أولا، والجملة استئناف جيء بها للجواب عما عسى أن يقال لهم: قد صدقتم فيما قلتم ولكن ما الحاجة إلى التزام ذلك وقد جئتم بالطعام؟ فكأنهم قالوا: إن ما جئنا به غير كاف لنا فلا بد من الرجوع مرة أخرى وأخذ مثل ذلك مع زيادة ولا يكون ذلك بدون استصحاب أخينا، ويحتمل أن يكون إشارة إلى ما تحمله أباعرهم، والجملة استئناف وقع تعليلا لما سبق من الازدياد كأنه قيل: أي حاجة إلى الازدياد؟ فقيل: إن ما تحمله أباعرنا قليل لا يكفينا، وقيل: المعنى أن ذلك الكيل الزائد قليل لا يضايقنا فيه الملك أو سهل عليه لا يتعاظمه، وكأن الجملة على هذا استئناف جيء به لدفع ما يقال: لعل الملك لا يعطيكم فوق العشرة شيئا ويرى ذلك كثيرا أو صعبا عليه وهو كما ترى، وجوز أن يكون ذلك إشارة إلى الكيل الذي هم بصدده وتضمنه كلامهم وهو المنضم إليه كيل البعير الحاصل بسبب أخيهم المتعهد بحفظه كأنهم لما ذكروا ما ذكروا صرحوا بما يفهم منه مبالغة في استنزال أبيهم فقالوا: ذلك الذي نحن بصدده كيل سهل لا مشقة فيه ولا محنة تتبعه، وقد يبقى الكيل على معناه المصدري والكلام على هذا الطراز إلا يسيرا. وجوز بعضهم كون ذلك من كلام يعقوب عليه السلام والإشارة إلى كيل البعير أن كيل بعير واحد شيء قليل لا يخاطر لمثله بالولد، وكان الظاهر على هذا ذكره مع كلامه السابق أو اللاحق، وقيل: معنى ما نَبْغِي أي مطلب نطلب من مهماتنا، والجمل الواقعة بعده توضيح وبيان لما يشعر به الإنكار من كونهم فائزين ببعض المطالب أو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 13 متمكنين من تحصيله فكأنهم قالوا: هذه بضاعتنا حاضرة فنستظهر بها ونمير أهلنا ونحفظ أخانا من المكروه ونزداد بسببه غير ما نكتاله لأنفسنا كيل بعير فأي شيء نبغي وراء هذه المباغي، وما ذكرنا من العطف على المقدر هو المشهور. وفي الكشف لك أن تقول: إن نَمِيرُ وما تلاه معطوف على مجموع ما نَبْغِي والمعنى اجتماع هذين القولين منهم في الوجود ولا يحتاج إلى جامع وراء ذلك لكونهما محكيين قولا لهم على أنه حاصل لاشتراك الكل في كونه لاستنزال يعقوب عليه السلام عن رأيه وأن الملك إذا كان محسنا كان الحفظ أهون شيء، والاستفهام لرجوعه إلى النفي لا يمنع العطف ووافقه في ذلك بعضهم. وقرأ ابن مسعود وأبو حيوة «ما تبغي» بتاء الخطاب وروت عائشة رضي الله تعالى عنها ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، والخطاب ليعقوب عليه السلام، والمعنى أي شيء وراء هذه المباغي المشتملة على سلامة أخينا وسعة ذات أيدينا أو وراء ما فعل معنا الملك من الإحسان داعيا إلى التوجه إليه، والجملة المستأنفة موضحة أيضا لذلك أو أي شيء تبغي شاهدا على صدقنا فيما وصفنا لك من إحسانه، والجملة المذكورة عبارة عن الشاهد المدلول عليه بفحوى الإنكار، ويحتمل أن تكون ما نافية ومفعول نَبْغِي محذوف أن ما نبغي شيئا غير ما رأيناه من احسان الملك في وجوب المراجعة إليه أو ما نبغي غير هذه المباغي، والقول بأن المعنى ما نبغي منك بضاعة أخرى نشتري بها ضعيف، والجملة المستأنفة على كل تقدير تعليل للنفي، وأما إذا فسر البغي بمجاوزة الحد- فما- نافية فقط، والمعنى ما نبغي في القول ولا نكذب فيما وصفنا لك من إحسان الملك إلينا وكرمه الموجب لما ذكر، والجملة المستأنفة لبيان ما ادعوا من عدم البغي، وقوله: وَنَمِيرُ إلخ عطف على ما نَبْغِي أي لا نبغي فيما نقول ونمير ونفعل كيت وكيت فاجتمع أسباب الإذن في الإرسال، والأول كالتمهيد والمقدمة للبواقي والتناسب من هذا الوجه لأن الكل متشاركة في أن المطلوب يتوقف عليها بوجه ما، على أنه لو لم يكن غير الاجتماع في المقولية لكفى على ما مر آنفا عن الكشف. وجوز (1) كونه كلاما مبتدأ أي جملة تذييلية اعتراضية كقولك: فلان ينطبق بالحق والحق أبلج كأنه قيل: وينبغي أن نمير، ووجه التأكيد الذي يقتضيه التذييل أن المعنى إن الملك محسن ونحن محتاجون ففيم التوقف في الإرسال وقد تأكد موجباه؟، وقال العلامة الطيبي: إنما صح التأكيد والتذييل لأن الكلام في الامتيار وكل من الجمل بمعناه أو المعنى ما نَبْغِي في الرأي وما نعدل عن الصواب فيما نشير به عليك من إرسال أخينا معنا، والجمل كلها للبيان أيضا إلا أن ثم محذوفا ينساق إليه الكلام أي بضاعتنا حاضرة نستظهر بها ونمير أهلنا ونصنع كيت وذيت وهو على ما قيل: وجه واضح حسن يلائم ما كانوا فيه مع أبيهم فتأمل هذا. وقرأت عائشة وأبو عبد الرحمن السلمي «ونمير» بضم النون، وقد جاء مار عياله وأمارهم بمعنى كما في القاموس. قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ بعد أن عاينت منكم ما أجرى المدامع حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ أي حتى تعطوني ما أتوثق به من جهته، فالموثق مصدر ميمي بمعنى المفعول، وأراد عليه السلام أن يحلفوا له بالله تعالى وإنما جعل الحلف به سبحانه موثقا منه لأنه مما تؤكد العهود به وتشدد وقد أذن الله تعالى بذلك فهو إذن منه تعالى شأنه لَتَأْتُنَّنِي بِهِ جواب قسم مضمر إذ المعنى حتى تحلفوا بالله وتقولوا والله لنأتينك به. وفي مجمع البيان نقلا عن ابن عباس أنه عليه السلام طلب منهم أن يحلفوا بمحمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وسيد المرسلين، والظاهر عدم صحة الخبر. وذكر العمادي أنه عليه السلام قال لهم: قولوا بالله رب محمد صلى الله عليه وسلم لنأتينك به   (1) فيه رد على صاحب الفرائد حيث غفل عن ذلك فقال رادا على هذا التجويز: إن الواو لا تصلح في الابتداء والتزم العطف اهـ منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 14 إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ أي إلا أن تغلبوا فلا تطيقوا ذلك أو إلا أن تهلكوا جميعا وكلاهما مروي عن مجاهد، وأصله من احاطة العدو واستعماله في الهلاك لأن من أحاط به العدو فقد هلك غالبا، والاستثناء قيل مفرغ من أعم الأحوال والتقدير لتأتنني به على كل حال إلا حال الإحاطة بكم. ورد بأن المصدر من أَنْ والفعل لا يقع موقع الحال كالمصدر الصريح فيجوز جئتك ركضا أي راكضا دون جئتك أن تركض وإن كان في تأويله لما أن الحال عندهم نكرة وأَنْ مع ما في حيزها معرفة في رتبة الضمير. وأجيب بأنه ليس المراد بالحال الحال المصطلح عليها بل الحال اللغوية، ويؤول ذلك إلى نصب المصدر المؤول على الظرفية وفيه نظر. وفي البحر أنه لو قدر كون أَنْ والفعل في موقع المصدر الواقع ظرف زمان أي لتأتنني به في كل وقت إلا إحاطة بكم أي إلا وقت إحاطة بكم لم يجز عند ابن الأنباري لأنه يمنع وقوع المصدر المؤول ظرفا ويشترط المصدر الصريح فيجوز خرجنا صياح الديك دون خرجنا أن يصيح الديك أو ما يصيح الديك، وجاز عند ابن جني المجوز لذاك كما في قول أبي ذؤيب الهذلي: وتالله ما إن شهلة (1) أم واحد ... بأوجد مني أن يهان صغيرها وقيل: من أعم العلل على تأويل الكلام بالنفي الذي ينساق إليه أي لتأتنني ولا تمتنعن من الإتيان به إلا للإحاطة بكم كقولهم: أقسمت عليك الا فعلت أي ما أطلب إلا فعلك، والظاهر اعتبار التأويل على الوجه الأول أيضا فإن الاستثناء فيه مفرغ كما علمت، وهو لا يكون في الإثبات إلا إذا صح وظهر ارادة العموم فيه نحو قرأت إلا يوم الجمعة لإمكان القراءة في كل يوم غير الجمعة وهنا غير صحيح لأنه لا يمكن لإخوة يوسف عليه السلام أن يأتوا بأخيهم في كل وقت وعلى كل حال سوى وقت الإحاطة بهم لظهور أنهم لا يأتون به له وهو في الطريق أو في مصر اللهم إلا أن يقال: إنه من ذلك القبيل وأن العموم والاستغراق فيه عرفي أي في كل حال يتصور الإتيان فيها، وتعقب المولى أبو السعود تجويز الأول بلا تأويل بقوله: وأنت تدري أنه حيث لم يكن الإتيان من الأفعال الممتدة الشاملة للأحوال على سبيل المعية كما في قولك: لألزمنك إلى أن تقضيني حقي ولم يكن مراده عليه السلام مقارنته على سبيل البدل لما عدا الحال المستثناة كما إذا قلت: صل إلا أن تكون محدثا بل مجرد تحققه ووقوعه من غير إخلال به كما في قولك: لأحجن العام إلا أن أحصر فإن مرادك إنما هو الإخبار بعدم منع ما سوى حال الإحصار عن الحج لا الاخبار بمقارنته لتلك الأحوال على سبيل البدل كما هو مرادك في مثال الصلاة كان اعتبار الأحوال معه من حيث عدم منعها منه، فآل المعنى إلى التأويل المذكور اه. وبحث فيه واحد من الفضلاء بثلاثة أوجه: الأول أنه لو كان المراد من قوله: لَتَأْتُنَّنِي بِهِ الأخبار بمجرد تحقق الإتيان ووقوعه من غير إخلال به لم يحتج إلى التأويل المذكور- أعني التأويل بالنفي- كما لا يخفى على المتأمل فكلامه يفيد خلاف مراده. الثاني أنا سلمنا أن ليس مراد القائل من قوله: لأحجن إلخ الأخبار بمقارنة الحج لما عدا حال الإحصار على سبيل البدل لكن لا نسلم أن ليس مراده منه إلا الإخبار بعدم منع ما سوى حال الإحصار عنه غايته أن بينهما ملازمة وذاك لا يستلزم الاحتياج إلى التأويل بالنفي. الثالث أنه إن أراد من قوله: كان اعتبار الأحوال إلخ أن الإتيان به لم يكن معه اعتبار الأحوال كما هو الظاهر فممنوع، وإن أراد أن اعتبار الأحوال معه يستلزم حيثية عدم منعها منه فمسلم لكن لا يلزم منه الاحتياج إلى التأويل المذكور أيضا وليس المدعى إلا ذاك اه وهو كما ترى فتبصر، ثم إنهم أجابوه عليه السلام إلى ما أراد فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ عهدهم من الله تعالى حسبما أراد عليه السلام قالَ   (1) امرأة شهلة بالشين إذا كانت نصفا عاقلة اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 15 عرضا لثقته بالله تعالى وحثا لهم على مراعاة حلفهم به عز وجل اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ في أثناء طلب الموثق وإيتائه من الجانبين، وإيثار صيغة الاستقبال لاستحضار الصورة المؤدي إلى تثبتهم ومحافظتهم على تذكره ومراقبته وَكِيلٌ أي مطلع رقيب، فإن الموكل بالأمر يراقبه ويحفظه، قيل: والمراد أنه سبحانه مجاز على ذلك. وَقالَ ناصحا لهم لما عزم على إرسالهم جميعا يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مصر مِنْ بابٍ واحِدٍ نهاهم عليه السلام عن ذلك حذرا من إصابة العين فإنهم كانوا ذوي جمال وشارة حسنة وقد اشتهروا بين أهل مصر بالزلفى والكرامة التي لم تكن لغيرهم عند الملك فكانوا مظنة لأن يعانوا إذا دخلوا كوكبة واحدة، وحيث كانوا مجهولين مغمورين بين الناس لم يوصهم بالتفرق في المرة الأولى، وجوز أن يكون خوفه عليه السلام عليهم من العين في هذه الكرة بسبب أن فيهم محبوبه وهو بنيامين الذي يتسلى به عن شقيقه يوسف عليه السلام ولم يكن فيهم في المرة الأولى فأهمل أمرهم ولم يحتفل بهم لسوء صنيعهم في يوسف، والقول أنه عليه السلام نهاهم عن ذلك أن يستراب بهم لتقدم قول أنتم جواسيس ليس بشيء أصلا، ومثله ما قيل: إن ذلك كان طمعا أن يتسمعوا خبر يوسف عليه السلام والعين حق كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصح أيضا بزيادة «ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين» و «إذا استغسلتم فاغتسلوا» وقد ورد أيضا «إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر» وقد كان صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسنين رضي الله تعالى عنهما بقوله: «أعوذ بكلمات الله تعالى التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة» وكان يقول: «كان أبو كما يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق عليهم السلام» . ولبعضهم في هذا المقام كلام مفصل مبسوط لا بأس باطلاعك عليه، وهو أن تأثير شيء في آخر إما نفساني أو جسماني وكل منهما إما في نفساني أو جسماني، فالأنواع أربعة يندرج تحتها ضروب الوحي والمعجزات والكرامات والإلهامات والمنامات وأنواع السحر والأعين والنيرنجات ونحو ذلك. أما النوع الأول- أعني تأثير النفساني في مثله- فكتأثير المبادئ العالية في النفوس الإنسانية بإفاضة العلوم والمعارف، ويندرج في ذلك صنفان: أحدهما ما يتعلق بالعلم الحقيقي بأن يلقي إلى النفس المستعدة لذلك كمال العلم من غير واسطة تعليم وتعلم حتى تحيط بمعرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بحسب الطاقة البشرية كما ألقى إلى نبينا صلى الله عليه وسلم علوم الأولين والآخرين مع أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يتلو من قبل كتابا ولا يخطه بيمينه. وثانيهما ما يتعلق بالتخيل القوي بأن يلقي إلى من يكون مستعدا له ما يقوى به على تخيلات الأمور الماضية والاطلاع على المغيبات المستقبلة، والمنامات والإلهامات داخلة أيضا تحت هذا النوع، وقد يدخل تحته نوع من السحر وهو تأثير النفوس البشرية القوية فيها قوتا التخيل والوهم في نفوس بشرية أخرى ضعيفة فيها هاتان القوتان كنفوس البله والصبيان والعوام الذين لم تق وقوتهم العقلية فتتخيل ما ليس بموجود في الخارج موجودا فيه وما هو موجود فيه على ضد الحال الذي هو عليها وقد يستعان في هذا القسم من السحر بأفعال وحركات يعرض منها للحس حيرة وللخيال دهشة ومن ذلك الاستهتار في الكلام والتخليط فيه. وأما النوع الثاني- أعني تأثير النفساني في الجسماني- فكتأثير النفوس الإنسانية في الأبدان من تغذيتها وإنمائها وقيامها وقعودها إلى غير ذلك ومن هذا القبيل صنف من المعجزات وهو ما يتعلق بالقوة المحركة للنفس بأن تبلغ قوتها إلى حيث تتمكن من التصرف في العالم تمكنها من التصرف في بدنها كتدمير قوم بريح عاصفة أو صاعقة أو زلزلة أو طوفان وربما يستعان فيه بالتضرع والابتهال إلى المبادئ العالية كأن يستسقي للناس فيسقون ويدعو عليهم فيهلكون ولهم فينجون، ويندرج في هذا صنف من السحر أيضا كما في بعض النفوس الخبيثة التي تقوى فيها القوة الوهمية بسبب من الأسباب كالرياضة والمجاهدة مثلا فيسلطها صاحبها على التأثير فيمن أراده بتوجه تام وعزيمة صادقة إلى أن يحصل المطلوب الذي هو تأثره بنحو مرض الجزء: 7 ¦ الصفحة: 16 وذبول جسم ويصل ذلك إلى الهلاك، وأما النوع الثالث وهو تأثير الجسماني في الجسماني فكتأثير الأدوية والسموم في الأبدان ويدخل فيه أنواع النيرنجات والطلسمات فإنها بتأثير بعض المركبات الطبيعية في بعض بسبب خواص فيها كجذب المغناطيس للحديث واختطاف الكهرباء التبن وقد يستعان في ذلك بتحصين المناسبات بالاجرام العلوية المؤثرة في عالم الكون والفساد كما يشاهد في صور أشكال موضوعة في أوقات مخصوصة على أوضاع معلومة في مقابلة بعض الجهات ومسامتة بعض الكواكب يستدفع بها كثير من أذية الحيوانات. وأما النوع الرابع وهو تأثير الجسماني في النفساني فكتأثير الصور المستحسنة أو المستقبحة في النفوس الإنسانية من استمالتها إليها وتنفيرها عنها وعد من ذلك تأثير أصناف الأغاني والرقص والملاهي في بعض النفوس وتأثير البيان فيمن له ذوق كما يشير إليه قوله عليه الصلاة والسلام: «إن من البيان لسحرا» إذا تمهد هذا فاعلم أنهم اختلفوا في إصابة العين فأبو علي الجبائي أنكرها إنكارا بليغا ولم يذكر لذلك شبهة فضلا عن حجة وأثبتها غيره من أهل السنة والمعتزلة وغيرهم إلا أنهم اختلفوا في كيفية ذلك فقال الجاحظ: إنه يمتد من العين أجزاء فتصل بالشخص المستحسن فتؤثر فيه تأثير السم في الأبدان فالتأثير عنده من تأثير الجسماني في الجسماني. وضعف ذلك القاضي بأنه لو كان الأمر كما قال لوجب أن تؤثر العين في الشخص الذي لا يستحسن كتأثيرها فيما يستحسن. وتعقبه الإمام بأنه تضعيف ضعيف، وذلك لأنه استحسن العائن شيئا فإما أن يحب بقاءه كما إذا استحسن ولده مثلا وإما أن يكره ذلك كما إذا أحس بذلك المستحسن عند عدوه الحاسد هو له، فإن كان الأول فإنه يحصل عند ذلك الاستحسان خوف شديد من زواله وهو يوجب انحصار الروح في داخل القلب، فحينئذ يسخن القلب والروح جدا ويحصل في الروح الباصر كيفية قوية مسخنة، وإن كان الثاني فإنه يحصل عند ذلك الاستحسان هم شديد وحزن عظيم بسبب حصول ذلك المستحسن لعدوه، وذلك أيضا يوجب انحصار الروح وحصول الكيفية القوية المسخنة، وفي الصورتين يسخن شعاع العين فيؤثر ولا كذلك في عدم الاستحسان فبان الفرق، ولذلك السبب أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم العائن بالوضوء ومن أصيب بالاغتسال اهـ. وما أشار إليه من أن العائن قد يصيب ولده مثلا مما شهدت له التجربة، لكن أخرج الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: «العين حق يحضرها الشيطان وحسد ابن آدم» وظاهره يقتضي خلاف ذلك، وأما ما ذكره من الأمر بالوضوء والاغتسال فقد جاء في بعض الروايات، وكيفية ذلك أن يغسل العائن وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخل إزاره أي ما يلي جسده من الإزار، وقيل وركيه: وقيل: مذاكيره ويصب الغسالة على رأس المعين وقد مر «إذا استغسلتم فاغسلوا» وهو خطاب للعائنين أي إذا طلب منكم ما اعتيد من الغسل فافعلوا والأمر للندب عند بعض، وقال الماوردي تبعا لجماعة: للوجوب فيجب على العائن أن يغسل ثم يعطي الغسالة للمعين لأنه الذي يقتضيه ظاهر الأمر ولأنه قد جرب ذلك وعلم البرء به ففيه تخليص من الهلاك كإطعام المضطر، وذكر أن ذلك أمر تعبدي وهو مخالف لما أشار إليه الإمام من كون الحكمة فيه تبريد تلك السخونة، وهو مأخوذ من كلام ابن القيم حيث قال في تعليل ذلك: لأنه كما يؤخذ درياق لسم الحية من لحمها يؤخذ علاج هذا الأمر من أثر الشخص العائن، وأثر تلك العين كشعلة نار أصابت الجسد ففي الاغتسال إطفاء لتلك الشعلة، وهو (1) على علاته أوفى من كلام الإمام. ويرد على ما قرره في الانتصار للجاحظ أنه لا يسد عنه باب الاعتراض على ما ذكره في كيفية إصابة العين، إذ يرد عليه ما ثبت من   (1) فيه إشارة إلى أن فيه ما فيه أيضا فقد ذكر ابن القيم نفسه أن ذلك لا ينتفع به من أنكره ولا يخفى أنه لو كان الأمر كما ذكر لم يكن فرق بين المنكر والمعتقد في الانتفاع فتأمل اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 17 أن بعض العائنين قد يصيب ما يوصف له ويمثل ولو كان بينه وبينه فراسخ، والتزام امتداد تلك للأجزاء إلى حيث المصاب مما لا يكاد يقبل (1) كما لا يخفى على ذي عين. وقال الحكماء واختاره بعض المحققين من أهل السنة: إن ذلك من تأثير النفساني بالجسماني وبنوه على أنه ليس من شرط المؤثر أن يكون تأثيره بحسب هذه الكيفيات المحسوسة أعني الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة بل قد يكون التأثير نفسيا محضا كما يدل عليه أن اللوح الذي يكون قليل عرض إذا كان موضوعا على الأرض يقدر كل إنسان على المشي عليه ولو كان موضوعا بين جدارين مرتفعين لم يقدر كل أحد على المشي عليه وما ذاك إلا لأن الخوف من السقوط منه يوجب السقوط وأيضا إن الإنسان إذا تصور أن فلانا مؤذيا له حصل في قلبه غضب وتسخن مزاجه، فمبدأ ذلك ليس إلا التصور النفساني بل مبدأ الحركات البدنية مطلقا ليس إلا التصورات النفسانية، ومتى ثبت أن تصور النفس يوجب تغير بدنه الخاص لم يبعد أيضا أن يكون بعض النفوس بحيث تتعدى تأثيراتها إلى سائر الأبدان، وأيضا جواهر النفوس مختلفة فلا يمتنع أن يكون بعض النفوس بحيث تؤثر في تغير بدن حيوان آخر بشرط أن تراه أو ترى مثاله على ما نقل وتتعجب منه، ومتى ثبت أن ذلك غير ممتنع وكانت التجارب شاهدة بوقوعه وجب القول به من غير تلعثم، ولأن وقوع ذلك أكثري عند اعمال العين والنظر بها إلى الشيء نسب التأثير إلى العين والا فالمؤثر إنما هو النفس، ونسبة التأثير إليها كنسبة الإحراق إلى النار والري إلى الماء ونحو ذلك، والفاعل للآثار في الحقيقة هو الله عز سلطانه بالإجماع، لكن جرت عادته تعالى على خلقها بالأسباب من غير توقف عقلي عليها كما يظن جهلة الفلاسفة على ما نقل عن السلف أو عند الأسباب من غير مدخلية لها بوجه من الوجوه على ما شاع عن الأشعري. فمعنى قوله عليه الصلاة والسلام: «العين حق» أن إصابة النفس بواسطتها أمر كائن مقتضي به في الوضع الإلهي لا شبهة في تحققه وهو كسائر الآثار المشاهدة لنحو النار والماء والأدوية مثلا. وأنت تعلم أن مدار كل شيء المشيئة الإلهية فما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن، وحكمة خلق الله تعالى التأثير في مسألة العين أمر مجهول لنا. وزعم أبو هاشم وأبو القاسم البلخي أن ذلك مما يرجع إلى مصلحة التكليف قالا: لا يمتنع أن تكون العين حقا على معنى أن صاحب العين إذا شاهد الشيء وأعجب به استحسانا كان المصلحة له في تكليفه أن يغير الله تعالى ذلك الشيء حتى لا يبقى قلب ذلك المكلف متعلقا به، ثم لا يبعد أيضا أنه لو ذكر ربه عند تلك الحالة وعدل عن الاعجاب وسأل ربه سبحانه بقاء ذلك تتغير المصلحة فيبقيه الله تعالى ولا يفنيه وهو كما ترى، ثم إن ما أشار إليه من نفع ذكر الله تعالى والالتجاء إليه سبحانه حق، فقد صرحوا بأن الأدعية والرقي من جملة الأسباب لدفع أذى العين بل إن من ذلك ما يكون سببا لرد سهم العائن إليه. فقد أخرج ابن عساكر أن سعيد الساجي قيل له: احفظ ناقتك من فلان العائن فقال: لا سبيل له إليها فعانها فسقطت تضطرب فأخبر الساجي فوقف عليها فقال: حبس حابس وشهاب قابس رددت عين العائن عليه وعلى أحب الناس إليه وعلى كبده وكليتيه رشيق وفي ماله يليق فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ [الملك: 3] الآية فخرجت حدقتا العائن وسلمت الناقة. ويدل على نفع الرقية من العين مشروعيتها كما تدل عليه الآثار، وقد جاء في بعضها أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا رقية إلا من عين أو حمة» والمراد منه أنه لا رقية أولى وأنفع من رقية العين والحمة وإلا فقد رقى صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه من   (1) ومثله ما يقال من ذهابها كالسهم كما قيل: سهم أصاب وراميه بذي سلم ... من بالعراق لقد أبعدت مرماك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 18 غيرهما. وينبغي لمن علم من نفسه أنه ذو عين أو لا ينظر إلى شيء نظر إعجاب وأن يذكر الله تعالى عند رؤية ما يستحسن. فقد ذكر غير واحد من المجربين أنه إذا فعل ذلك لا يؤثر، ونقل الأجهوري أنه يندب أنه يعوذ المعين فيقول اللهم بارك فيه ولا تضره ما شاء الله لا قوة إلا بالله، وفي تحفة المحتاج أن من أدويتها أي العين المجربة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها أن يتوضأ العائن إلى آخر ما ذكرناه آنفا وأن يدعو للمعين وأن يقول المعين ما شاء الله لا قوة إلا بالله حصنت نفسي بالحي القيوم الذي لا يموت أبدا ودفعت عنها السوء بألف لا حول ولا قوة إلا بالله، ويسن عند القاضي لمن رأى نفسه سليمة وأحواله معتدلة أن يقول ذلك. وفي شرح مسلم عن العلماء أنه على السلطان منع من عرف بذلك من مخالطة الناس ويرزقه من بيت المال إن كان فقيرا فإن ضرره أشد من ضرر المجذوم الذي منعه عمر رضي الله تعالى عنه من مخالطة الناس. ورأيت لبعض أصحابنا أيضا القول بندب ذلك، وأنه لا كفارة على عائن قيل: لأن العين لا تعد مهلكا عادة على أن التأثير يقع عندها لا بها حتى بالنظر للظاهر، وهذا بخلاف الساحر فإنهم صرحوا بأنه يقتل إذا أقر أن سحره يقتل غالبا. ونقل عن المالكية أنه لا فرق بين الساحر والعائن فيقتلان إذا قتلا ثم إن العين على ما نقل عن الرازي لا تؤثر ممن له نفس شريفة لما في ذلك من الاستعظام للشيء. وفيما أخرجه الإمام أحمد في مسنده ما يؤيد المدعى، واعترض بما رواه القاضي أن نبيا استكثر قومه فمات منهم في ليلة مائة ألف فشكا ذلك إلى الله تعالى فقال له سبحانه وتعالى: «إنك استكثرتهم فعنتهم هلا حصنتهم إذا استكثرتهم فقال: يا رب كيف أحصنهم؟ قال: تقول حصنتكم بالحي القيوم» . إلى آخر ما تقدم وقد يجاب بأن ما ذكر الرازي هو الأغلب بل يتعين تأويل هذا إن صح بأن ذلك النبي عليه السلام لما غفل عن الذكر عند الاستكثار عوتب فيهم ليسأل فيعلم فهو كالإصابة بالعين لا أنه عان حقيقة هذا والله تعالى أعلم، ثم إنه عليه السلام لم يكتف بالنهي عن الدخول من باب واحد بل ضم إليه قوله: وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ بيانا للمراد به وذلك لأن عدم الدخول من باب واحد غير مستلزم للدخول من أبواب متفرقة وفي دخولهم من بابين أو ثلاثة بعض ما في الدخول من باب واحد من نوع اجتماع مصحح لوقوع المحذور، وإنما لم يكتف بهذا الأمر مع كونه مستلزما للنهي السابق إظهارا لكمال العناية به وإيذانا بأنه المراد بالأمر المذكور لا تحقيق شيء آخر وَما أُغْنِي عَنْكُمْ أي لا أنفعكم ولا أدفع عنكم بتدبيري مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي من قضائه تعالى عليكم شيئا فإنه لا يغني حذر من قدر، ولم يرد بهذا عليه السلام- كما قيل- الغاء الحذر بالمرة كيف وقد قال سبحانه: خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء: 102] وقال عز قائلا: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195] بل أراد بيان أن ما وصاهم به ليس مما يستوجب المراد لا محالة بل هو تدبير وتشبث بالأسباب العادية التي لا تؤثر إلا بإذنه تعالى وأن ذلك ليس بمدافعة للقدر بل هو استعانة بالله تعالى وهرب منه إليه إِنِ الْحُكْمُ أي ما الحكم مطلقا إِلَّا لِلَّهِ لا يشاركه أحد ولا يمانعه شيء عَلَيْهِ سبحانه دون غيره تَوَكَّلْتُ في كل ما آتي به وأذر، وفيه دلالة على أن ترتيب الأسباب غير مخل بالتوكل، وفي الخبر «اعقلها وتوكل» . وَعَلَيْهِ عز سلطانه دون غيره فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ أي المريدون للتوكل، قيل: جمع بين الواو والفاء في عطف الجملة على الجملة مع تقديم الصلة للاختصاص ليفيد بالواو عطف فعل غيره من تخصيص التوكل بالله تعالى شأنه على فعل نفسه وبالفاء سببية فعله لكونه نبيا لفعل غيره من المقتدين به، وهي على ما صرح به بعضهم زائدة حيث قال: ولا بد من القول بزيادة الفاء وإفادتها السببية، ويلتزم أن الزائد قد يدل على معنى غير التوكيد، وذكر أنه لو اكتفى بالفاء وحدها وقيل: فعليه فليتوكل إلخ أفاد تسبب الاختصاص لا أصل التوكل وهو المقصود، وكل ذلك لا يخلو عن بحث. واختار بعضهم أنه جيء بالفاء إفادة للتأكيد فقط كما هو الأمر الشائع في الحروف الزائدة فتدبر، وأيّا ما كان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 19 فيدخل بنوه عليه السلام في عموم الأمر دخولا أوليا، وفي هذا الأسلوب ما لا يخفى من حسن هدايتهم وإرشادهم إلى التوكل فيما هم بصدده على الله تعالى شأنه غير معتمدين على ما وصاهم به من التدبير وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ من الأبواب المتفرقة من البلد، قيل: كانت له أربعة أبواب فدخلوا منها، وانما اكتفى بذكره لاستلزامه الانتهاء عما نهوا عنه، وحاصله لما دخلوا متفرقين ما كانَ ذلك الدخول يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ من جهته سبحانه مِنْ شَيْءٍ أي شيئا مما قضاه عليهم جل شأنه، والجملة قيل: جواب لَمَّا والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل لتحقق المقارنة الواجبة بين جواب لَمَّا ومدخولها، فإن عدم الإغناء بالفعل إنما يتحقق عند نزول المحذور لا وقت الدخول وإنما المتحقق حينئذ ما أفاده الجمع المذكور من عدم كون الدخول مغنيا فيما سيأتي، وليس المراد بيان سببية الدخول المذكور لعدم الإغناء كما في قوله تعالى: فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً [فاطر: 42] فإن مجيء النذير هناك سبب لزيادة نفورهم بل بيان عدم سببيته للإغناء مع كونها متوقعة في بادئ الرأي حيث إنه وقع حسبما وصاهم به عليه السلام، وهو نظير قولك: حلف أن يعطيني حقي عند حلول الأجل فلما حل لم يعطني شيئا، فإن المراد بيان عدم سببية حلول الأجل للإعطاء مع كونها مرجوة بموجب الحلف لا بيان سببيته لعدم الإعطاء، فالمآل بيان عدم ترتب الغرض المقصود على التدبير المعهود مع كونه مرجو الوجود لا بيان ترتب عدمه عليه، ويجوز أن يراد ذلك أيضا بناء على ما ذكره عليه السلام في تضاعيف وصيته من أنه لا يغني عنهم تدبيره من الله تعالى شيئا فكأنه قيل: ولما فعلوا ما وصاهم به لم يفدهم ذلك شيئا ووقع الأمر حسبما قال عليه السلام فلقوا ما لقوا فيكون من باب وقوع المتوقع اه، وإلى كون الجواب ما ذكر ذهب أبو حيان وقال: إن فيه حجة لمن زعم أن- لما- حرف وجوب لوجوب لا ظرف زمان بمعنى حين إذ لو كان كذلك ما جاز أن يكون معمولا لما بعد «ما» النافية، ولعل من يذهب إلى ظرفيتها يجوز ذلك بناء على أن الظرف يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره، وقال أبو البقاء: في جواب لَمَّا وجهان: أحدهما أنه آوى وهو جواب لَمَّا الأولى والثانية كقولك: لما جئتك وكلمتك أجبتني وحسن ذلك أن دخولهم على يوسف عليه السلام تعقب دخولهم من الأبواب. والثاني أنه محذوف أي امتثلوا أو قضوا حاجة أبيهم وإلى الوجه الأخير ذهب ابن عطية أيضا ولا يخفى أنه عليه وعلى ما قبله ترتفع غائلة توجيه أمر الترتب، وما أشار إليه صاحب القيل في ثاني وجهيه هو الذي يقتضيه ظاهر كلام كثير من المفسرين حيث ذكروا أن هذا منه تعالى تصديق لما أشار إليه يعقوب عليه السلام في قوله: «وما أغني عنكم من الله شيئا» . واعترض القول بعدم ترتب الغرض على التدبير بأن الغرض ليس إلا دفع إصابة العين لهم وقد تحقق بدخولهم متفرقين وهو وارد أيضا على ما ذكر في الوجه الأخير كما لا يخفى. وأجيب بأن المراد بدفع العين أن لا يمسهم سوء ما، وإنما خصت إصابة العين لظهورها، وقيل: إن ما أصابهم من العين أيضا فلم يترتب الغرض على التدبير بل تخلف ما أراده عليه السلام عن تدبيره وتعقب بأنه تكلف، واستظهر أن المراد أنه عليه السلام خشي عليهم شر العين فأصابهم شر آخر لم يخطر بباله فلم يفد دفع ما خافه شيئا، وحينئذ يدعي أن دخولهم من حيث أمرهم أبوهم كان مفيدا لهم من حيث إنه دفع العين عنهم إلا أنه لما أصابهم ما أصابهم من إضافة السرقة إليهم وافتضاحهم بذلك مع أخيهم بوجدان الصواع في رحله وتضاعف المصيبة على أبيهم لم يعد ذلك فائدة فكأن دخولهم لم يفدهم شيئا. واعترض أيضا ما ذكر في توجيه الجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل بأن المشهور أن الغرض منه إفادة الاستمرار كما مرت الإشارة إليه غير مرة وظاهر ذلك لا يدل عليه، قيل: وإذا كان الغرض هنا ذاك احتمل الكلام وجهين نفي استمرار الإغناء واستمرار نفيه وفيه تأمل فتأمل جدا. هذا وما أشرنا إليه من زيادة مِنْ في المنصوب هو أحد وجهين ذكرهما الرازي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 20 في الآية. ثانيهما جواز كونها زائدة في المرفوع وحينئذ ليس في الكلام ضمير الدخول كما لا يخفى، قيل: ولو اعتبر على هذا الوجه كون مرفوع كانَ ضمير الشأن لم يبعد أي ما كان الشأن يغني عنهم من الله تعالى شيء إِلَّا حاجَةً استثناء منقطع أي ولكن حاجة فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها أي أظهرها ووصاهم بها دفعا للخطرة غير معتقد أن للتدبير تأثيرا في تغيير التقدير، والمراد بالحاجة شفقته عليه السلام وحرازته من أن يعانوا. وذكر الراغب أن الحاجة إلى الشيء الفقر إليه مع محبته وجمعه حاج وحاجات وحوائج، وحاج يحوج احتاج ثم ذكر الآية. وأنكر بعضهم مجيء الحوائج جمعا لها وهو محجوج بوروده في الفصيح، وفي التصريح باسمه عليه السلام إشعار بالتعطف والشفقة والترحم لأنه عليه السلام قد اشتهر بالحزن والرقة، وجوز أن يكون ضمير قَضاها للدخول على معنى أن ذلك الدخول قضى حاجة في نفس يعقوب عليه السلام وهي إرادته أن يكون دخولهم من أبواب متفرقة، فالمعنى ما كان ذلك الدخول يغني عنهم من جهة الله تعالى شيئا لكن قضى حاجة حاصلة في نفس يعقوب لوقوعه حسب إرادته، والاستثناء منقطع أيضا، وجملة قَضاها صفة حاجَةً وجوز أن يكون خبر إِلَّا لأنها بمعنى لكن وهي يكون لها اسم وخبر فإذا أولت بها فقد يقدر خبرها وقد يصرح به كما نقله القطب. وغيره عن ابن الحاجب، وفيه أن عمل إلا بمعنى لكن عملها مما لم يقل به أحد من أهل العربية. وجوز الطيبي كون الاستثناء متصلا على أنه من باب: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم. فالمعنى ما أغنى عنهم ما وصاهم به أبوهم شيئا إلا شفقته التي في نفسه، ومن الضرورة أن شفقة الأب مع قدر الله تعالى كالهباء فإذن ما أغني عنهم شيئا أصلا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ جليل لِما عَلَّمْناهُ أي لتعليمنا إياه بالوحي ونصب الأدلة حيث لم يعتقد أن الحذر يدفع القدر حتى يتبين الخلل في رأيه عند تخلف الأثر أو حيث بت القول بأنه لا يغني عنهم من الله تعالى شيئا فكانت الحال كما قال، فاللام للتعليل وما مصدرية والضمير المنصوب ليعقوب عليه السلام، وجوز كون ما موصولا اسميا والضمير لها واللام صلة علم والمراد به الحفظ أي إنه لذو حفظ ومراقبة للذي علمناه إياه، وقيل: المعنى أنه لذو علم لفوائد الذي علمناه وحسن إثارة، وهو إشارة إلى كونه عليه السلام عاملا بما علمه وما أشير إليه أولا هو الأولى، ويؤيد التعليل قراءة الأعمش لِما عَلَّمْناهُ وفي تأكيد الجملة بأن واللام وتنكير عِلْمٍ وتعليله بالتعليم المسند إلى ضمير العظمة من الدلالة على جلالة شأن يعقوب عليه السلام وعلو مرتبة علمه وفخامته ما لا يخفى. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ سر القدر ويزعمون أنه يغني عنه الحذر، وقيل: المراد «لا يعلمون» إيجاب الحذر مع أنه لا يغني شيئا من القدر. وتعقب بأنه يأباه مقام بيان تخلف المطلوب عن المبادئ. وقيل: المراد لا يَعْلَمُونَ أن يعقوب عليه السلام بهذه المثابة من العلم، ويراد- بأكثر الناس- حينئذ المشركون فإنهم لا يعلمون أن الله تعالى كيف أرشد أولياءه إلى العلوم التي تنفعهم في الدنيا والآخرة، وفيه أنه بمعزل عما نحن فيه. وجعل المفعول سر القدر هو الذي ذهب إليه غير واحد من المحققين وقد سعى في بيان المراد منه وتحقيق إلغاء الحذر بعض أفاضل المتأخرين المتشبثين بأذيال الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم فقال: إن لنا قضاء وقدرا وسر قدر وسر سره، وبيانه أن الممكنات الموجودة، وإن كانت حادثة باعتبار وجودها العيني لكنها قديمة باعتبار وجودها العلمي وتسمى بهذا الاعتبار مهيئات الأشياء والحروف العالية والأعيان الثابتة، ثم إن تلك الأعيان الثابتة صور نسبية وظلال شؤونات ذاتية لحضرة الواجب تعالى، فكما أن الواجب تعالى والشؤون الذاتية له سبحانه مقدسة عن قبول الجزء: 7 ¦ الصفحة: 21 التغير أزلا وأبدا كذلك الأعيان الثابتة التي هي ظلالها وصورها يمتنع عليها أن تتغير عن الأحكام التي هي عليها في حد نفسها، فالقضاء هو الحكم الكلي على أعين الموجودات بأحوال جارية وأحكام طارئة عليها من الأزل إلى الأبد، والقدر تفصيل هذا الحكم الكلي بتخصيص إيجاد الأعيان وإظهارها بأوقات وأزمان يقتضي استعدادها الوقوع فيها وتعليق كل حال من أحوالها بزمان معين وسبب مخصوص، وسر القدر هو أن يمتنع أن يظهر عين من الأعيان إلا على حسب ما يقتضيه استعداده، وسر سر القدر هو أن تلك الاستعدادت أزلية غير مجعولة بجعل الجاعل لكون تلك الأعيان ظلال شؤونات ذاتية مقدسة عن الجعل والانفعال، ولا شك أن الحكم الكلي على الموجودات تابع لعلمه تعالى بأعيانها الثابتة، وعلمه سبحانه بتلك الأعيان تابع لنفس تلك الأعيان إذ لا أثر للعلم الأزلي في المعلوم بإثبات أمر له لا يكون ثابتا أو بنفي أمر عنه يكون ثابتا بل علمه تعالى بأمر ما إنما يكون على وجه يكون هو في حد ذاته على ذلك الوجه، وأما الأعيان فقد عرفت أنها ظلال لأمور أزلية مقدسة عن شوائب التغير فكانت أزلا، فالله تعالى علم بها كما كانت وقضى وحكم كما علم وقدر وأوجد كما قضى وحكم، فالقدر تابع للقضاء التابع للعلم التابع للمعلوم التابع لما هو ظل له فإليه سبحانه يرجع الأمر كله فيمتنع أن يظهر خلاف ما علم فلذا يلغو الحذر، لكن أمر به رعاية للأسباب فإن تعطيلها مما يفوت انتظام أمر هذه النشأة، ولذا ورد أن نبيا من الأنبياء عليهم السلام ترك تعاطي أسباب تحصيل الغذاء وقال: لا أسعى في طلب شيء بعد أن كان الله تعالى هو المتكفل برزقي ولا آكل ولا أشرب ما لم يكن سبحانه هو الذي يطعمني ويسقيني فبقي أياما على ذلك حتى كادت تغيظ نفسه مما كابده فأوحى إليه سبحانه يا فلان لو بقيت كذلك إلى يوم القيامة ولم تتعاط سببا ما رزقتك أتريد أن تعطل أسبابي؟. وقال بعض المحققين: إن سبب إيجاب الحذر أن كثيرا من الأمور قضي معلقا ونيط تحصيله بالأفعال الاختيارية للبشر بترتيب أسبابه ودفع موانعه فيمكن أن يكون الحفظ عن المكروه من جملة ما نيط بفعل اختياري وهو الحذر وهو لا يأبى ما قلناه كما لا يخفى «هذا» . وذكر الشيخ الأكبر قدس سره أن القدر مرتبة بين الذات والمظاهر ومن علم الله تعالى علمه ومن جهله سبحانه جهله والله تعالى شأنه لا يعلم فالقدر أيضا لا يعلم، وإنما طوى علمه حتى لا يشارك الحق في علم حقائق الأشياء من طريق الإحاطة بها إذ لو علم أي معلوم كان بطريق الإحاطة من جميع وجوهه كما يعلمه الحق لما تميز علم الحق عن علم العبد بذلك الشيء ولا يلزمنا على هذا الاستواء فيما علم منه، فإن الكلام فيما علم كذلك، فإن العبد جاهل بكيفية تعلق العلم مطلقا بمعلومه فلا يصح أن يقع الاشتراك مع الحق في العلم بمعلوم ما، ومن المعلومات العلم بالعلم، وما من وجه من المعلومات إلا وللقدر فيه حكم لا يعلمه إلا هو سبحانه فلو علم القدر علمت أحكامه ولو علمت أحكامه لاستقل العبد في العلم بكل شيء وما احتاج إليه سبحانه في شيء وكان له الغنى على الإطلاق، وسر القدر عين تحكمه في الخلائق، وأنه لا ينكشف لهم هذا السر حتى يكون الحق بصرهم. وقد ورد النهي عن طلب علم القدر وفي بعض الآثار أن عزيزا عليه السلام كان كثير السؤال عنه إلى أن قال الحق سبحانه له: يا عزيز لئن سألت عنه لأمحون اسمك من ديوان النبوة، ويقرب من ذلك السؤال عن علل الأشياء في مكنوناتها، فإن أفعال الحق لا ينبغي أن تعلل فإن ما ثم علة موجبة لتكوين شيء إلا عين وجود الذات وقبول عين الممكن لظهور الوجود، والأزل لا يقبل السؤال عن العلل، والسؤال عن ذلك لا يصدر إلا عن جاهل بالله تعالى فافهم ذاك والله سبحانه يتولى هداك وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى أي ضم إِلَيْهِ أَخاهُ بنيامين، قال المفسرون: إنهم لما دخلوا عليه عليه السلام قالوا: أيها الملك هذا أخونا الذي أمرتنا أن نأتيك به قد جئناك به فقال لهم: أحسنتم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 22 وأصبتم وستجدون ذلك عندي، وبلغوه رسالة أبيهم، فإنه عليه السلام لما ودعوه قال لهم: بلغوا ملك مصر سلامي وقولا له: إن أبانا يصلي عليك ويدعو لك ويشكر صنيعك معنا، وقال أبو منصور المهراني: إنه عليه السلام خاطبه بذلك في كتاب فلما قرأه يوسف عليه السلام بكى ثم إنه أكرمهم وأنزلهم وأحسن نزلهم ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة فبقي بنيامين وحيدا فبكى وقال: لو كان أخي يوسف حيا لأجلسني معه فقال يوسف عليه السلام: بقي أخوكم وحده فقالوا له: كان له أخ فهلك قال: فأنا أجلسه معي فأخذه وأجلسه معه على مائدة وجعل يؤاكله، فلما كان الليل أمرهم بمثل ذلك وقال: ينام كل اثنين منكم على فراش فبقي بنيامين وحده فقال: هذا ينام عندي على فراشي فنام مع يوسف عليه السلام على فراشه فجعل يوسف عليه السلام يضمه إليه ويشم ريحه حتى أصبح وسأله عن ولده فقال: لي عشرة بنين اشتققت أسماءهم من اسم أخ لي هلك فقال له: أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال: من يجد أخا مثلك أيها الملك؟ ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل فبكى يوسف عليه السلام وقام إليه وعانقه وتعرف إليه عند ذلك قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ يوسف فَلا تَبْتَئِسْ أي فلا تحزن بِما كانُوا يَعْمَلُونَ بنا فيما مضى فإن الله تعالى قد أحسن إلينا وجمعنا على خير ولا تعلمهم بما أعلمتك، والقول بأنه عليه السلام تعرف إليه وأعلمه بأنه أخوه حقيقة هو الظاهر. وروي عن ابن عباس وابن إسحاق وغيرهما إلا أن ابن إسحاق قال: إنه عليه السلام قال له بعد أن تعرف إليه: لا تبال بكل ما تراه من المكروه في تحيلي في أخذك منهم، قال ابن عطية: وعلى هذا التأويل يحتمل أن يشير بِما كانُوا يَعْمَلُونَ إلى ما يعمله فتيانه عليه السلام من أمر السقاية ونحو ذلك، وهو لعمري مما لا يكاد يقول به من له أدنى معرفة بأساليب الكلام، وقال وهب: إنما أخبر عليه السلام أنه قائم مقام أخيه الذاهب في الود ولم يكشف إليه الأمر، ومعنى فَلا تَبْتَئِسْ إلخ لا تحزن بما كنت تلقاه منهم من الحسد والأذى فقد أمنتهم، وروي أنه قال ليوسف عليه السلام: أنا لا أفارقك قال: قد علمت اغتمام والدي فإذا حبستك ازداد غمه ولا سبيل إلى ذلك إلا أن أنسبك إلى ما لا يجمل قال: لا أبالي فافعل ما بدا لك قال: فإني أدس صاعي في رحلك ثم أنادي عليك بأنك سرقته ليتهيأ لي ردك بعد تسريحك معهم قال: افعل فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ ووفى لهم الكيل وزاد كلّا منهم على ما روي حمل بعير جَعَلَ السِّقايَةَ هي إناء يشرب به الملك وبه كان يكال الطعام للناس، وقيل: كانت تسقى بها الدواب ويكال بها الحبوب، وكانت من فضة مرصعة بالجواهر على ما روي عن عكرمة أو بدون ذلك كما روي عن ابن عباس والحسن وعن ابن زيد أنها من ذهب، وقيل: من فضة مموهة بالذهب، وقيل: كانت إناء مستطيلة تشبه المكوك الفارسي الذي يلتقي طرفاه يستعمله الأعاجم، يروى أنه كان للعباس مثله يشرب به في الجاهلية ولعزة الطعام في تلك الأعوام قصر كيله على ذلك، والظاهر أن الجاعل هو يوسف عليه السلام نفسه، ويظهر من حيث كونه ملكا أنه عليه السلام لم يباشر الجعل بنفسه بل أمر أحدا فجعلها فِي رَحْلِ أَخِيهِ بنيامين من حيث يشعر أو لا يشعر. وقرئ «وجعل» بواو، وفي ذلك احتمالان الأول أن تكون الواو زائدة على مذهب الكوفيين وما بعدها هو جواب لَمَّا والثاني أن تكون عاطفة على محذوف وهو الجواب أي فلما جهزهم أمهلهم حتى انطلقوا وجعل ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ نادى مسمع كما في مجمع البيان، وفي الكشاف وغيره نادى مناد. وأورد عليه أن النحاة قالوا: لا يقال قام قائم لأنه لا فائدة فيه. وأجيب بأنهم أرادوا أن ذلك المنادي من شأنه الإعلام بما نادى به بمعنى أنه موصوف بصفة مقدرة تتم بها الفائدة أي أذن رجل معين للأذان أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ وقد يقال: قياس ما في النظم الجليل على المثال المذكور ليس في محله وكثيرا ما تتم الفائدة بما ليس من أجزاء الجملة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر وهو مؤمن» والعير الإبل التي عليها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 23 الأحمال سميت بذلك لأنها تعير أي تذهب وتجيء، وهو اسم جمع لذلك لا واحد له، والمراد هنا أصحاب العير كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «يا خيل الله اركبي» وذلك إما من باب المجاز أو الإضمار إلا أنه نظر إلى المعنى (1) في الآية ولم ينظر إليه في الحديث (2) وقيل: العير قافلة الحمير ثم توسع (3) فيها حتى قيلت لكل قافلة كأنها جمع عير بفتح العين وسكون الياء وهو الحمار، وأصلها عير بضم العين والياء استثقلت الضمة على الياء فحذفت ثم كسرت العين لثقل الياء بعد الضمة كما فعل في بيض جمع أبيض وغيد جمع أغيد، وحمل العير هنا على قافلة الإبل هو المروي عن الأكثرين، وعن مجاهد أنها كانت قافلة حمير، والخطاب ب إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ إن كان بأمر يوسف عليه السلام فلعله أريد بالسرقة أخذهم له من أبيه على وجه الخيانة كالسراق ودخول بنيامين فيه بطريق التغليب أو أريد سرقة (4) السقاية، ولا يضر لزوم الكذب لأنه إذا تضمن مصلحة رخص فيه. وأما كونه برضا أخيه فلا يدفع ارتكاب الكذب وإنما يدفع تأذي الأخ منه، أو يكون المعنى على الاستفهام أي أئنكم لسارقون ولا يخفى ما فيه من البعد وإلا فهو من قبل المؤذن بناء على زعمه قيل والأول هو الأظهر الأوفق للسياق. وفي البحر الذي يظهر أن هذا التحيل ورمي البراء بالسرقة وإدخال الهم على يعقوب عليه السلام بوحي من الله تعالى لما علم سبحانه في ذلك من الصلاح ولما أراد من محنتهم بذلك، ويؤيده قوله سبحانه: وكَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ [يوسف: 76] وقرأ اليماني «إنكم سارقون» بلا لام قالُوا أي الاخوة وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ أي على طالبي السقاية المفهوم من الكلام أو على المؤذن إن كان أريد منه جمع كأنه عليه السلام جعل مؤذنين ينادون بذلك على ما في البحر، والجملة في موضع الحال من ضمير قالُوا جيء بها للدلالة على انزعاجهم مما سمعوه لمباينته لحالهم أي قالوا مقبلين عليهم ماذا تَفْقِدُونَ أي أي شيء تفقدون أو ما الذي تفقدونه؟ والفقد كما قال الراغب: عدم الشيء بعد وجوده فهو أخص من العدم فإنه يقال له ولما لم يوجد أصلا، وقيل: هو عدم الشيء بأن يضل عنك لا بفعلك، وحاصل المعنى ما ضاع منكم؟ وصيغة المستقبل لاستحضار الصورة. وقرأ السلمي «تفقدون» بضم التاء من أفقدته إذا وجدته فقيدا نحو أحمدته إذا وجدته محمودا. وضعف أبو حاتم هذه القراءة ووجهها ما ذكر، وعلى القراءتين فالعدول عما يقتضيه الظاهر من قولهم: ماذا سرق منكم على ما قيل لبيان كمال نزاهتهم بإظهار أنه لم يسرق منهم شيء فضلا عن أن يكونوا هم السارقين له، وإنما الممكن أن يضيع منهم شيء فيسألونهم ماذا؟، وفيه إرشاد لهم إلى مراعاة حسن الأدب والاحتراز عن المجازفة ونسبة البراء إلى ما لا خير فيه لا سيما بطريق التأكيد فلذلك غيروا كلامهم حيث قالوا في جوابهم: قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ ولم يقولوا سرقتموه أو سرق، وقيل: كان الظاهر أن يبادروا بالإنكار ونفى أن يكونوا سارقين ولكنهم قالوا ذلك طلبا لإكمال الدعوى إذ يجوز أن يكون فيها ما تبطل به فلا تحتاج إلى خصام، وعدلوا عن ماذا سرق منكم؟ إلى ما في النظم الجليل لما ذكر آنفا، والصواع بوزن غراب المكيال وهو السقاية ولم يعبر بها مبالغة في الإفهام والإفصاح ولذا أعاد الفعل، وصيغة المستقبل لما تقدم أو للمشاكلة. وقرأ الحسن وأبو حيوة وابن جبير فيما نقل ابن عطية كما قرأ الجمهور إلا أنهم كسروا الصاد، وقرأ أبو هريرة   (1) فقيل إنكم لسارقون اه منه. (2) فقيل اركبي دون اركبوا اه منه. (3) وقيل تجوز بها لقافلة الحمير فتأمل اه منه. (4) والكلام من قبيل بنو فلان قتلوا فلانا فتدبر اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 24 ومجاهد «صاع» بغير واو على وزن فعل فالألف فيه بدل من الواو المفتوحة. وقرأ أبو رجاء «صوع» بوزن قوس. وقرأ عبد الله بن عون بن أبي أرطبان «صوع» بضم الصاد وكلها لغات في الصاع، وهو مما يذكر ويؤنث وأبو عبيدة لم يحفظ التأنيث، وقرأ الحسن وابن جبير فيما نقل عنهما صاحب اللوامح، «صواغ» بالغين المعجمة على وزن غراب أيضا، وقرأ يحيى بن يعمر كذلك إلا أنه حذف الألف وسكن الواو، وقرأ زيد بن علي «صوغ» على أنه مصدر من صاغ يصوغ أريد به المفعول. وكذا يراد من صواغ وصوغ في القراءتين أي نفقد مصوغ الملك وَلِمَنْ جاءَ بِهِ أي أتى به مطلقا ولو من عند نفسه، وقيل: من دل على سارقه وفضحه حِمْلُ بَعِيرٍ أي من الطعام جعلا له، والحمل على ما في مجمع البيان بالكسر لما انفصل وبالفتح لما اتصل، وكأنه أشار إلى ما ذكره الراغب من أن الحمل بالفتح يقال في الأثقال المحمولة في الباطن كالولد في البطن والماء في السحاب والثمرة في الشجرة وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ أي كفيل أؤديه إليه وهو قول المؤذن. واستدل بذلك كما في الهداية وشروحها على جواز تعليق الكفالة بالشروط لأن مناديه علق الالتزام بالكفالة بسبب وجوب المال وهو المجيء بصواع الملك وندائه بأمر يوسف عليه السلام، وشرع من قبلنا شرع لنا إذا مضى من غير إنكار، وأورد عليه أمران: الأول ما قاله بعض الشافعية من أن هذه الآية محمولة على الجعالة لما يأتي به لا لبيان الكفالة فهي كقول من أبق عبده من جاء به فله عشرة دراهم وهو ليس بكفالة لأنها إنما تكون إذا التزم عن غيره وهنا قد التزم عن نفسه. الثاني أن الآية متروكة الظاهر لأن فيها جهالة المكفول له وهي تبطل الكفالة. وأجيب عن الأول بأن الزعم حقيقة في الكفالة والعمل بها مهما أمكن واجب فكأن معناه قول المنادي للغير: إن الملك قال: لمن جاء به حمل بعير وأنابه زعيم فيكون ضامنا عن الملك لا عن نفسه فتتحقق حقيقة الكفالة. وعن الثاني بأن في الآية ذكر أمرين الكفالة مع الحمالة للمكفول له، وإضافتها إلى سبب الوجوب، وعدم جواز أحدهما بدليل لا يستلزم عدم جواز الآخر. وفي كتاب الأحكام أنه روي عن عطاء الخراساني زَعِيمٌ بمعنى كفيل فظن بعض الناس أن ذلك كفالة إنسان وليس كذلك لأن قائله جعل حمل بعير أجرة لمن جاء بالصاع وأكده بقوله: وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ أي ضامن فألزم نفسه ضمان الأجرة لرد الصاع، وهذا أصل في جواز قول القائل: من حمل هذا المتاع لموضع كذا فله درهم وأنه إجارة جائزة وإن لم يشارط رجلا بعينه وكذا قال محمد بن الحسن في السير الكبير: ولعل حمل البعير كان قدرا معلوما، فلا يقال: إن الإجارة لا تصح إلا بأجر معلوم كذا ذكره بعض المحققين. وقال الإمام: إن الآية تدل على أن الكفالة كانت صحيحة في شرعهم، وقد حكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله «الزعيم غارم» وليس كفالة بشيء مجهول لأن حمل بعير من الطعام كان معلوما عندهم فصحت الكفالة به إلا أن هذه كفالة مال لرد السرقة وهي كفالة لما لم يجب لأنه لا يحل للسارق أن يأخذ شيئا على رد السرقة. ولعل مثل هذه الكفالة كانت تصح عندهم، وتعقب بأنه لا دليل على أن الراد هو من علم أنه الذي سرق ليحتاج إلى التزام القول بصحة ذلك في دينهم وتمام البحث في محله قالُوا تَاللَّهِ أكثر النحويين على أن التاء بدل من الواو كما أبدلت في تراث وتوراة عند البصريين، وقيل هي بدل من الباء، وقال السهيلي: إنها أصل برأسها، وقال الزجاج: إنها لا يقسم بها إلا في الله خاصة. وتعقب بالمنع لدخولها على الرب مطلقا أو مضافا للكعبة وعلى الرحمن (1) وقالوا   (1) قيل على ضعف اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 25 تحياتك أيضا. وأيّا ما كان ففي القسم بها معنى التعجب كأنهم تعجبوا من رميهم بما ذكر مع ما شاهدوه من حالهم، فقد روي أنهم كانوا يعكمون (1) أفواه إبلهم لئلا تنال من زروع الناس وطعامهم شيئا واشتهر أمرهم في مصر بالعفة والصلاح والمثابرة على فنون الطاعات، ولذا قالوا: لَقَدْ عَلِمْتُمْ علما جازما مطابقا للواقع ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ أي لنسرق فإن السرقة من أعظم أنواع الإفساد أو لنفسد فيها أي إفساد كان فضلا عما نسبتمونا إليه من السرقة، ونفي المجيء للإفساد وإن لم يكن مستلزما لما هو مقتضى المقام من نفي الإفساد مطلقا لكنهم جعلوا المجيء الذي يترتب عليه ذلك ولو بطريق الاتفاق مجيئا لغرض الإفساد مفعولا لأجله ادعاء إظهارا لكمال قبحه عندهم وتربية لاستحالة صدوره عنهم فكأنهم قالوا: إن صدر عنا إفساد كان مجيئنا لذلك مريدين به تقبيح حاله وإظهار كمال نزاهتهم عنه كذا قيل. وقيل: إنهم أرادوا نفي لازم المجيء للإفساد في الجملة وهو تصور الإفساد مبالغة في نزاهتهم عن ذلك فكأنهم قالوا: ما مر لنا الإفساد ببال ولا تعلق بخيال فضلا عن وقوعه منا ولا يخفى بعده وَما كُنَّا سارِقِينَ أي ما كنا نوصف بالسرقة قط، والظاهر دخول هذا في حيز العلم كالأول، ووجهه أن العلم بأحوالهم المشاهدة يستلزم العلم بأحوالهم الفائتة، والحلف في الحقيقة على الأمرين اللذين في حيز العلم لا على علم المخاطبين بذلك إلا أنهم ذكروه للاستشهاد وتأكيد الكلام، ولذا أجرت العرب العلم مجرى القسم كما في قوله: ولقد علمت لتأتين منيتي ... إن المنايا لا تطيش سهامها وفي ذلك من إلزام الحجة عليهم وتحقيق أمر التعجب المفهوم من تاء القسم من كلامهم كما فيه، وذكر بعضهم أنه يجوز أن يكون كما جئنا إلخ متعلق العلم وأن يكون جواب القسم أو جواب العلم لتضمنه معناه وهو لا يأبي ما تقدم قالُوا أي أصحاب يوسف عليه السلام فَما جَزاؤُهُ أي الصواع، والكلام على حذف مضاف أي ما جزاء سرقته، وقيل: الضمير لسرق أو للسارق والجزاء يضاف إلى الجناية حقيقة وإلى صاحبها مجازا، وقد يقال: بحذف المضاف فافهم والمراد فما جزاء ذلك عندكم وفي شريعتكم إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ أي في ادعاء البراءة كما هو الظاهر، وفي التعبير- بإن- مراعاة لجانبهم قالُوا أي الإخوة جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ أي أخذ من وجد الصواع فِي رَحْلِهِ واسترقاقه، وقدر المضاف لأن المصدر لا يكون خبرا عن الذات ولأن نفس ذات من وجد في رحله ليست جزاء في الحقيقة، واختاروا عنوان الوجدان في الرحل دون السرقة مع أنه المراد لأن كون الأخذ والاسترقاق سنة عندهم ومن شريعة أبيهم عليه السلام إنما هو بالنسبة إلى السارق دون من وجد عنده مال غيره كيفما كان إشارة إلى كمال نزاهتهم حتى كأن أنفسهم لا تطاوعهم وألسنتهم لا تساعدهم على التلفظ به مثبتا لأحدهم بأي وجه كان وكأنهم تأكيدا لتلك الإشارة عدلوا عمن وجد عنده إلى من وجد في رحله فَهُوَ جَزاؤُهُ أي فأخذه جزاؤه وهو تقدير للحكم السابق بإعادته كما في قولك: حق الضيف أن يكرم فهو حقه وليس مجرد تأكيد، فالغرض من الأول إفادة الحكم ومن الثاني إفادة حقيته والاحتفاظ بشأنه كأنه قيل: فهذا ما تلخص وتحقق للناظر في المسألة لا مرية فيه، قيل: وذكر الفاء في ذلك لتفرعه على ما قبله ادعاء وإلا فكان الظاهر تركها لمكان التأكيد، ومنه يعلم أن الجملة المؤكدة قد تعطف لنكتة وإن لم يذكره أهل المعاني، وجوز كون مَنْ موصولة مبتدأ وهذه الجملة خبره والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط وجملة المبتدأ وخبره خبر جَزاؤُهُ. وأن تكون مَنْ شرطية مبتدأ ووُجِدَ فِي رَحْلِهِ فعل   (1) وليتهم قد كانوا عكموا فم ذئبهم عن أكل يوسف عليه السلام اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 26 الشرط وجزاؤه فهو جزاؤه والفاء رابطة والشرط وجزاؤه خبر أيضا كما في احتمال الموصولة. واعترض على ذلك بأنه يلزم خلو الجملة الواقعة خبرا للمبتدأ عن عائد إليه لأن الضمير المذكور- لمن- لا له. وأجيب بأنه جعل الاسم الظاهر وهو الجزاء الثاني قائما مقام الضمير والربط كما يكون بالضمير يكون بالظاهر والأصل جزاؤه من وجد في رحله فهو- هو- أي فهو الجزاء، وفي العدول ما علم من التقرير السابق وإزالة اللبس والتفخيم لا سيما في مثل هذا الموضع فهو كاللازم، وقد صرح الزجاج بأن الإظهار هنا أحسن من الإضمار وعلله ببعض ما ذكر وأنشد: لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغص الموت ذا الغنى والفقيرا وبذلك يندفع ما في البحر اعتراضا على هذا الجعل من أن وضع الظاهر موضع الضمير للربط إنما يفصح إذا كان المقام مقام تعظيم كما قال سيبويه فلا ينبغي حمل النظم الجليل على ذلك، وأن يكون جزاؤه خبر مبتدأ محذوف تقديره المسئول عن جزاؤه فهو حكاية قول السائل ويكون مَنْ وُجِدَ إلخ بيانا وشروعا في الفتوى، وهذا على ما قيل كما يقول من يستفتي في جزاء صيد المحرم: جزاء صيد المحرم، ثم يقول: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة: 95] فإن قول المفتي: جزاء صيد الحرم بتقدير ما استفتيت فيه أو سألت عنه ذلك وما بعده بيان للحكم وشرح للجواب، وليس التقدير ما أذكره جزاء صيد الحرم لأن مقام الجواب والسؤال ناب عنه. نعم إذا ابتدأ العالم بإلقاء مسألة فهنالك يناسب هذا التقدير. وتعقب ذلك أبو حيان بأنه ليس في الأخبار عن المسئول عنه بذلك كثير فائدة إذ قد علم أن المسئول عنه ذلك من قولهم: فَما جَزاؤُهُ وكذا يقال في المثال، وأجيب بأنه يمكن أن يقال: إن فائدة ذلك إعلام المفتي المستفتي أنه قد أحاط خبره بسؤاله ليأخذ فتواه بالقبول ولا يتوقف في ذلك لظن الغفلة فيها عن تحقيق المسئول وهي فائدة جليلة. وزعم بعضهم أن الجملة من الخبر والمبتدأ المحذوف على معنى الاستفهام الإنكاري كأن المسئول ينكر أن يكون المسئول عنه ذلك لظهور جوابه ثم يعود فيجيب وهو كما ترى كَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء الأوفى نَجْزِي الظَّالِمِينَ بالسرقة، والظاهر أن هذا من تتمة كلام الإخوة فهو تأكيد للحكم المذكور غب تأكيد وبيان لقبح السرقة وقد فعلوا ذلك ثقة بكمال براءتهم عنها وهي عما فعل بهم غافلون، وقيل: هو من كلام أصحاب يوسف عليه السلام، وقيل: كلامه نفسه أي مثل الجزاء الذي ذكرتموه نجزي السارقين. فَبَدَأَ قيل المؤذن ورجح بقرب سبق ذكره، وقيل: يوسف عليه السلام فقد روي أن إخوته لما قالوا ما قالوا قال لهم أصحابه: لا بد من تفتيش رحالكم فردوهم بعد أن ساروا منزلا أو بعد أن خرجوا من العمارة إليه عليه السلام فبدأ بِأَوْعِيَتِهِمْ أي بتفتيش أوعية الإخوة العشرة ورجح ذلك بمقاولة يوسف عليه السلام فإنها تقتضي ظاهرا وقوع ما ذكر بعد ردهم إليه ولا يخفى أن الظاهر أن إسناد التفتيش إليه عليه السلام مجازي والمفتش حقيقة أصحابه يأمره بذلك قَبْلَ تفتيش وِعاءِ أَخِيهِ بنيامين لنفي التهمة. روي أنه لما بلغت النوبة إلى وعائه قال: ما أظن هذا أخذ شيئا فقالوا: والله لا تتركه حتى تنظر في رحله فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا ففعل ثُمَّ اسْتَخْرَجَها أي السقاية أو الصواع لأنه كما علمت مما يؤنث ويذكر عند الحفاظ، وقيل: الضمير للسرقة المفهومة من الكلام أي ثم استخرج السرقة مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ لم يقل منه على رجع الضمير إلى الوعاء أو من وعائه على رجعه إلى أخيه قصدا إلى زيادة كشف وبيان، والوعاء الظرف الذي يحفظ فيه الشيء وكأن المراد به هنا ما يشمل الرحل وغيره لأنه الأنسب بمقام التفتيش ولذا لم يعبر بالرحال على ما قيل، وعليه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 27 يكون عليه السلام قد فتش كل ما يمكن أن يحفظ الصواع فيه مما كان معهم من رحل وغيره. وقولهم: مقابلة الجمع بالجمع تقتضي انقسام الآحاد على الآحاد كما قال المدقق أبو القاسم السمرقندي لا يقتضي أن يلزم في كل مقابلة مقارنة الواحد للواحد لأن انقسام الآحاد على الآحاد كما يجوز أن يكون على السواء كما في ركب القوم دوابهم يجوز أن يكون على التفاوت كما في باع القوم دوابهم فإنه يفهم معه أن كلّا منهم باع ما له من دابة وقد مر التنبيه على هذا فيما سبق وحينئذ يحتمل أن يراد من وعاء أخيه الواحد والمتعدد. وقرأ الحسن «وعاء» بضم الواو وجاء كذلك عن نافع وقرأ ابن جبير «إعاء» بإبدال الواو المكسورة همزة كما قالوا في وشاح إشاح وفي وسادة إسادة وقلب الواو المكسورة في أول الكلمة همزة مطرد في لغة هذيل كَذلِكَ أي مثل ذلك الكيد العجيب وهو إرشاد الإخوة إلى الإفتاء المذكور بإجرائه على ألسنتهم وحملهم عليه بواسطة المستفتين من حيث لم يحتسبوا كِدْنا لِيُوسُفَ أي صنعنا ودبرنا لأجل تحصيل غرضه من المقدمات التي رتبها من دس السقاية وما يتلوه فالكيد مجاز لغوي في ذلك وإلا فحقيقته وهي أن توهم غيرك خلاف ما تخفيه وتريده على ما قالوا محال عليه تعالى، وقيل: إن ذلك محمول على التمثيل، وقيل: إن في الكيد اسنادين بالفحوى إلى يوسف عليه السلام وبالتصريح إليه سبحانه والأول حقيقي والثاني مجازي، والمعنى فعلنا كيد يوسف وليس بذاك، وفي درر المرتضى إن كدنا بمعنى أردنا وأنشد: كادت وكدت وتلك خير إرادة ... لو عاد من لهو الصبابة ما مضى واللام للنفع لا كاللام في قوله تعالى: فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً [يوسف: 5] فإنها للضرر على ما هو الاستعمال الشائع. ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ أي في سلطانه على ما روي عن ابن عباس أو في حكمه وقضائه كما روي عن قتادة، والكلام استئناف وتعليل لذلك الكيد كأنه قيل: لماذا فعل ذلك؟ فقيل: لأنه لم يكن ليأخذ أخاه جزاء وجود الصواع عنده في دين الملك في أمر السارق إلا بذلك الكيد لأن جزاء السارق في دينه على ما روي عن الكلبي، وغيره أن يضاعف عليه الغرم. وفي رواية ويضرب دون أن يؤخذ ويسترق كما هو شريعة يعقوب عليه السلام فلم يكن يتمكن بما صنعه من أخذ أخيه بما نسب إليه من السرقة بحال من الأحوال. إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي إلا حال مشيئته تعالى التي هي عبارة عن ذلك الكيد أو إلا حال مشيئته تعالى للأخذ بذلك الوجه، وجوز أن يكون المراد من ذلك الكيد الإرشاد المذكور ومبادئه المؤدية إليه جميعا من إرشاد يوسف عليه السلام وقومه إلى ما صدر عنهم من الأفعال والأقوال حسبما شرح مرتبا، وأمر التعليل كما هو بيد أن المعنى على هذا الاحتمال مثل ذلك الكيد البالغ إلى هذا الحد كدنا ليوسف عليه السلام ولم نكتف ببعض من ذلك لأنه لم يكن يأخذ أخاه في دين الملك به إلا حال مشيئتنا له بإيجاد ما يجري مجرى الجزاء الصوري من العلة التامة وهو إرشاد إخوته إلى الإفتاء المذكور فالقصر المستفاد من تقديم المجرور مأخوذ بالنسبة إلى البعض، وكذا يقال في تفسير من فسر كِدْنا لِيُوسُفَ بقوله علمناه إياه وأوحينا به إليه أي مثل ذلك التعليم المستتبع لما شرح علمناه دون بعض من ذلك فقط إلخ، والاستثناء على كل حال من أعم الأحوال وجوز أن يكون من أعم العلل والأسباب أي لم يكن ليأخذ أخاه في دين الملك لعلة من العلل وسبب من الأسباب إلا لعلة مشيئته تعالى، وأيّا ما كان فهو متصل لأن أخذ السارق وإذا كان ممن يرى ذلك ويعتقده دينا لا سيما عند رضاه وإفتائه به ليس مخالفا لدين الملك فلذلك لم ينازعه الملك وأصحابه في مخالفة دينهم بل لم يعدوه مخالفة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 28 وقيل: إن جملة ما كان إلخ في موضع البيان والتفسير للكيد وإن معنى الاستثناء إلا أن يشاء الله تعالى أن يجعل ذلك الحكم حكم الملك وفيه بحث، وجوز أن يكون الاستثناء منقطعا أي لكن أخذه بمشيئة الله سبحانه وإذنه في دين غير دين الملك نَرْفَعُ دَرَجاتٍ أي رتبا كثيرة عالية من العلم، وانتصابها على ما نقل عن أبي البقاء على الظرفية أو على نزع الخافض أي إلى درجات، وجوز غير واحد النصب على المصدرية، وأيّا ما كان فالمفعول به قوله تعالى: مَنْ نَشاءُ أي نشاء رفعه حسبما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة كما رفعنا يوسف عليه السلام، وإيثار صيغة الاستقبال للإشعار بأن ذلك سنة مستمرة غير مختصة بهذه المادة والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ من أولئك المرفوعين عَلِيمٌ لا ينالون شأوه. قال المولى المحقق شيخ الإسلام قدس سره في بيان ربط الآية بما قبل: إنه إن جعل الكيد عبارة عن إرشاد الإخوة إلى الإفتاء وحملهم عليه أو عبارة عن ذلك مع مبادئه المؤدية إليه فالمراد برفع يوسف عليه السلام ما اعتبر فيه بالشرطية أو الشطرية من إرشاده عليه السلام إلى ما يتم من قبله من المبادئ المفضية إلى استبقاء أخيه، والمعنى أرشدنا إخوته إلى الإفتاء لأنه لم يكن متمكنا من غرضه بدونه أو أرشدنا كلّا منهم ومن يوسف وأصحابه إلى ما صدر عنهم ولم نكتف بما تم من قبل يوسف لأنه لم يكن متمكنا من غرضه بمجرد ذلك. وحينئذ يكون قوله تعالى: نَرْفَعُ إلى عَلِيمٌ توضيحا لذلك على معنى أن الرفع المذكور لا يوجب تمام مرامه إذ ليس ذلك بحيث لا يغيب عن علمه شيء بل إنما نرفع كل من نرفع حسب استعداد وفوق كل واحد منهم عليم لا يقادر قدره يرفع كلّا منهم إلى ما يليق به من معارج العلم وقد رفع يوسف إلى ذلك وعلم أن ما حواه دائرة علمه لا يفي بمرامه فأرشد إخوته إلى الإفتاء المذكور فكان ما كان وكأنه عليه السلام لم يكن على يقين من صدور ذلك منهم وإن كان على طمع منه فإن ذلك إلى الله تعالى شأنه وجودا وعدما، والتعرض لوصف العلم لتعيين جهة الفوقية، وفي صيغة المبالغة مع التنكير والالتفات إلى الغيبة من الدلالة على فخامة شأنه عز شأنه وجلالة مقدار علمه المحيط جل جلاله ما لا يخفى. وإن جعل عبارة عن التعليم المستتبع للإفتاء فالرفع عبارة عن ذلك التعليم، والإفتاء وإن كان لم يكن داخلا تحت قدرته عليه السلام لكنه كان داخلا تحت علمه بواسطة الوحي والتعليم، والمعنى مثل ذلك التعليم البالغ إلى هذا الحد علمناه ولم نقتصر على تعليم ما عدا الإفتاء الذي سيصدر عن إخوته إذ لم يكن متمكنا من غرضه في أخيه إلا بذلك، وحينئذ يكون قوله تعالى: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ توضيحا لقوله سبحانه: كِدْنا وبيانا لأن ذلك من باب الرفع إلى الدرجات العالية من العلم ومدحا ليوسف عليه السلام برفعه إليها وَفَوْقَ إلخ تذييلا له أي نرفع الدرجات عالية من نشاء رفعه وفوق كل منهم عليم هو أعلى درجة. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: فوق كل عالم عالم إلى أن ينتهي العلم إلى الله تعالى، والمعنى أن إخوة يوسف كانوا علماء إلا أن يوسف أفضل منهم اه والذي اختاره الزمخشري على ما قيل حديث التذييل إلا أنه أوجز في كلامه حتى خفي مغزاه وعد ذلك من المداحض حيث قال: وفوق كل ذي علم عليم فوقه أرفع درجة منه في علمه أو فوق العلماء كلهم عليم هم دونه في العلم وهو الله عز وعلا، وبيان ذلك على ما في الكشف أن غرضه أن يبين وجه التذييل بهذه الجملة فأفاد أنه إما على وجه التأكيد لرفع درجة يوسف عليه السلام على إخوته في العلم أي فاقهم علما لأن فوق كل ذي علم عليم أرفع درجة منه، وفيه مدح له بأن الذين فاقهم علما أيضا وإما على تحقيق أن الله تعالى رفعه درجات وهو إليه لا منازع له فيه فقال: وفوق العلماء كلهم عليم هم دونه يرفع من يشاء يقربه إليه بالعلم كما رفع يوسف عليه السلام، وذكر أن ما يقال: من أن الكل على الثاني مجموعي وعلى الأول بمعنى كل واحد كلام غير محصل لأن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 29 الداخل على النكرة لا يكون مجموعيا، وأصل النكتة في الترديد أنه لو نظر إلى العلم ولا تناهيه كان الأول فيرتقي إلى ما لا نهاية لعلمه بل جل عن النهاية من كل الوجوه، ولا بد من تخصيص في لفظ كُلِّ والمعنى وفوق كل واحد من العلماء عالم وهكذا إلى أن ينتهي، ولو نظر إلى العالم وإفادته إياه كان الثاني، والمعنى وفوق كل واحد واحد عالم واحد فأولى أن يكون فوق كلهم لأن الثاني معلول الأول، ولظهور المعنى عليه قدر وفوق العلماء كلهم وكلا الوجهين يناسب المقام اه. ولعل اعتبار كون الجملة الأولى مدحا ليوسف عليه السلام وتعظيما لشأن الكيد وكون الثانية تذييلا هو الأظهر فتأمل. وقد استدل بالآية من ذهب إلى أنه تعالى شأنه عالم بذاته لا بصفة علم زائدة على ذلك، وحاصل استدلالهم أنه لو كان له سبحانه صفة علم زائدة على ذاته كان ذا علم لاتصافه به وكل ذي علم فوقه عليم للآية فيلزم أن يكون فوق وأعلم منه جل وعلا عليم آخر وهو من البطلان بمكان. وأجيب بأن المراد بكل ذي علم المخلوقات ذوو العلم لأن الكلام في الخلق ولأن العليم صيغة مبالغة معناه أعلم من كل ذي علم فيتعين أن يكون المراد به الله تعالى فما يقابله يلزم كونه من الخلائق لئلا يدخل فيما يقابله، وكون المراد من العليم ذلك هو إحدى روايتين عن الحبر، فقد أخرج عبد الرزاق وجماعة عن سعيد بن جبير قال: كنا عند ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فحدث بحديث فقال رجل عنده: «وفوق كل ذي علم عليم» فقال ابن عباس: بئسما قلت الله العليم وهو فوق كل عالم، وإلى ذلك ذهب الضحاك، فقد أخرج أبو الشيخ عنه أنه قال بعد أن تلا الآية يعني الله تعالى بذلك نفسه، على أنه لو صح ما ذكره المستدل لم يكن الله تعالى عالما بناء على أن الظاهر اتفاقه معنا في صحة قولنا فوق كل العلماء عليم، وذلك أنه يلزم على تسليم دليله إذا كان الله تعالى عالما أن يكون فوقه من هو أعلم منه، فإن أجاب بالتخصيص في المثال فالآية مثله. وقرأ غير واحد من السبعة «درجات من نشاء» بالإضافة، قيل: والقراءة الأولى أنسب بالتذييل حيث نسب فيها الرفع إلى من نسب إليه الفوقية لا إلى درجته والأمر في ذلك هين. وقرأ يعقوب بالياء في «يرفع» و «يشاء» وقرأ عيسى البصرة «نرفع» بالنون و «درجات» منونا و «من يشاء» بالياء. قال صاحب اللوامح: وهذه قراءة مرغوب عنها ولا يمكن إنكارها. وقرأ عبد الله الحبر «وفوق كل ذي عالم عليم» فخرجت كما في البحر على زيادة ذي أو على أن «عالم» مصدر بمعنى علم كالباطل أو على أن التقدير كل ذي شخص عالم، والذي في الدر المنثور أنه رضي الله تعالى عنه قرأ «وفوق كل عالم عليم» بدون ذِي ولعله إلا ثبت والله تعالى العليم قالُوا أي الإخوة إِنْ يَسْرِقْ يعنون بنيامين فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ يريدون به يوسف عليه السلام وما جرى عليه من جهة عمته، فقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: كان أول ما دخل على يوسف عليه السلام من البلاء فيما بلغني أن عمته كانت تحضنه وكانت أكبر ولد إسحاق عليه السلام وكانت إليها منطقة أبيها وكانوا يتوارثونها بالكبر فكانت لا تحب أحدا كحبها إياه حتى إذا ترعرع وقعت نفس يعقوب إليه فأتاها فقال: يا أختاه سلمي إلى يوسف فو الله ما أقدر على أن يغيب عني ساعة فقالت: والله ما أنا بتاركته فدعه عندي أياما أنظر إليه لعل ذلك يسليني، فلما خرج يعقوب عليه السلام من عندها عمدت إلى تلك المنطقة فحزمتها على يوسف عليه السلام من تحت ثيابه ثم قالت: فقدت منطقة أبي إسحاق فانظروا من أخذها فالتمست ثم قالت: اكشفوا أهل البيت فكشفوهم فوجدوها مع يوسف عليه السلام فقالت: والله إنه لسلم لي أصنع فيه ما شئت فأتاها يعقوب فأخبرته الخبر فقال لها: أنت وذاك إن كان فعل فأمسكته فما قدر عليه حتى ماتت. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الآية: «سرق يوسف عليه السلام صنما لجده أبي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 30 أمه من ذهب وفضة فكسره وألقاه على الطريق فعيره إخوته بذلك، وأخرج غير واحد عن زيد بن أسلم قال: كان يوسف عليه السلام غلاما صغيرا مع أمه عند خال له وهو يلعب مع الغلمان فدخل كنيسة لهم فوجد تمثالا صغيرا من ذهب فأخذه وذلك الذي عنوه بسرقته. وقال مجاهد: إن سائلا جاءه يوما فأخذ بيضة فناولها إياه وقال سفيان بن عيينة: أخذ دجاجة فأعطاها السائل. وقال وهب: كان عليه السلام يخبئ الطعام من المائدة للفقراء وقيل وقيل: وعن ابن المنير أن ذلك تصلف لا يسوغ نسبة مثله إلى بيت النبوة بل ولا إلى أحد من الأشراف فالواجب تركه وإليه ذهب مكي. وقال بعضهم: المعنى إن يسرق فقد سرق مثله من بني آدم وذكر له نظائر في الحديث، قيل وهو كلام حقيق بالقبول. وأنت تعلم أن في عد كل ما قيل في بيان المراد من سرقة الأخ تصلفا تصلف فإن فيه ما لا بأس في نسبته إلى بيت النبوة، وإن ادعى أن دعوى نسبتهم السرقة إلى يوسف عليه السلام مما لا يليق نسبة مثله إليهم لأن ذلك كذب إذ لا سرقة في الحقيقة وهم أهل بيت النبوة الذين لا يكذبون جاء حديث أكله الذئب وهم غير معصومين أولا وآخرا وما قاله البعض. وقيل: إنه كلام حقيق بالقبول مما يأباه ما بعد كما لا يخفى على من له ذوق، على أن ذلك في نفسه بعيد ذوقا وأتوا بكلمة إِنْ لعدم جزمهم بسرقته بمجرد خروج السقاية من رحله، فقد وجدوا من قبل بضاعتهم في رحالهم ولم يكونوا سارقين. وفي بعض الروايات أنهم لما رأوا إخراج السقاية من رحله خجلوا فقالوا: يا ابن راحيل كيف سرقت هذه السقاية؟ فرفع يده إلى السماء فقال: والله ما فعلت فقالوا: فمن وضعها في رحلك؟ قال: الذي وضع البضاعة في رحالكم، فإن كان قولهم: إِنْ يَسْرِقْ إلخ بعد هذه المقاولة فالظاهر أنها هي التي دعتهم «لأن» وأما قولهم: «إن ابنك سرق» فبناء على الظاهر ومدعى القوم وكذا علمهم مبني على ذلك وقيل: إنهم جزموا بذلك وإِنْ لمجرد الشرط ولعله الأولى لظاهر ما يأتي إن شاء الله الله تعالى تحقيقه ويَسْرِقْ لحكاية الحال الماضية، والمعنى إن كان سرق فليس ببدع لسبق مثله من أخيه وكأنهم أرادوا بذلك دفع المعرة عنهم واختصاصها بالشقيقين، وتنكير أَخٌ لأن الحاضرين لا علم لهم به. وقرأ أحمد بن جبير الأنطاكي وابن أبي سريج عن الكسائي والوليد بن حسان. وغيرهم «فقد سرّق» بالتشديد مبنيا للمفعول أي نسب السرقة فَأَسَرَّها يُوسُفُ الضمير لما يفهم من الكلام والمقام أي أضمر الحزازة التي حصلت له عليه السلام مما قالوا: وقيل: أضمر مقالتهم أو نسبة السرقة إليه فلم يجبهم عنها فِي نَفْسِهِ لا أنه أسرها لبعض أصحابه كما في قوله تعالى: وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً [نوح: 9] وَلَمْ يُبْدِها أي يظهرها لَهُمْ لا قولا ولا فعلا صفحا لهم وحلما وهو تأكيد لما سبق قالَ أي في نفسه، وهو استئناف مبني على سؤال نشأ من الأخبار بالإسرار المذكور كأنه قيل: فماذا قال في نفسه في تضاعيف ذلك؟ فقيل: قال أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً أي منزلة في السرق، وحاصله أنكم أثبت في الاتصاف بهذا الوصف وأقوى فيه حيث سرقتم أخاكم من أبيكم ثم طفقتم تفترون على البريء، وقال الزجاج: إن الإضمار هنا على شريطة التفسير لأن قالَ أَنْتُمْ إلخ بدل من الضمير، والمعنى فأسر يوسف في نفسه قوله: أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً والتأنيث باعتبار أنه جملة أو كلمة. وتعقب ذلك أبو علي بأن الإضمار على شريطة التفسير على ضربين، أحدهما أن يفسر بمفرد نحو نعم رجلا زيد وربه رجلا. وثانيهما أن يفسر بجملة كقوله تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1] وأصل هذا أن يقع في الابتداء ثم يدخل عليه النواسخ نحو إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً [طه: 74] فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ [الحج: 46] وليس منها- شفاء النفس مبذول- وغير ذلك، وتفسير المضمر في كلا الموضعين متصل بالجملة التي قبلها المتضمنة لذلك المضمر ومتعلق بها ولا يكون منقطعا عنها والذي ذكره الزجاج منقطع فلا يكون من الإضمار على شريطة التفسير. وفي أنوار التنزيل أن المفسر بالجملة لا يكون إلا ضمير الشأن، واعترض عليه بالمنع. وفي الكشف أن هذا ليس من التفسير بالجمل في شيء حتى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 31 يعترض بأنه من خواص ضمير الشأن الواجب التصدير وإنما هو نظير وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ [البقرة: 132] إلخ. وتعقب بأن في تلك الآية تفسير جملة بجملة وهذه فيها تفسير ضمير بجملة. وفي الكشاف جعل أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً هو المفسر وفيه خفاء لأن ذلك مقول القول. واستدل بعضهم بالآية على إثبات الكلام النفسي بجعل قالَ إلخ بدلا من- أسر- ولعل الأمر لا يتوقف على ذلك لما أشرنا إليه من أن المراد قال في نفسه، نعم قال أبو حيان: إن الظاهر أنه عليه السلام خاطبهم وواجههم به بعد أن أسر كراهية مقالتهم في نفسه وغرضه توبيخهم وتكذيبهم، ويقويه أنهم تركوا أن يشفعوا بأنفسهم وعدلوا إلى الشفاعة له بأبيه وفيه نظر. وقرأ عبد الله وابن أبي عبلة «فأسره» بتذكير الضمير وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ أي عالم علما بالغا إلى أقصى المراتب بأن الأمر ليس كما تصفون من صدور السرقة منا، فصيغة أفعل لمجرد المبالغة لا لتفضيل علمه تعالى على علمهم كيف لا وليس لهم بذلك من علم قاله غير واحد. وقال أبو حيان: إن المعنى أعلم بما تصفون به منكم لأنه سبحانه عالم بحقائق الأمور وكيف كانت سرقة أخيه الذي أحلتم سرقته عليه فأفعل حينئذ على ظاهره. واعترض بأنه لم يكن فيهم علم والتفضيل يقتضي الشركة، وأجيب بأنه تكفي الشركة بحسب زعمهم فإنهم كانوا يدعون العلم لأنفسهم، ألا ترى قولهم: فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ جزما. قالُوا عند ما شاهدوا مخايل أخذ بنيامين مستعطفين يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً طاعنا في السن لا يكاد يستطيع فراقه وهو علالة به يتعلل عن شقيقه الهالك، وقيل: أرادوا مسنا كبيرا في القدر، والوصف على القولين محط الفائدة وإلا فالإخبار بأن له أبا معلوم مما سبق فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ بدله فلسنا عنده بمنزلته من المحبة والشفقة إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ إلينا فأتم إحسانك فما الانعام إلا بالإتمام أو من عادتك الإحسان مطلقا فاجر على عادتك ولا تغيرها معنا فنحن أحق الناس بذلك، فالإحسان على الأول خاص وعلى الثاني عام، والجملة على الوجهين اعتراض تذييلي على ما ذهب إليه بعض المدققين، وذهب بعض آخر إلى أنه إذا أريد بالإحسان الإحسان إليهم تكون مستأنفة لبيان ما قبل إذ أخذ البدل إحسان إليهم وإذا أريد أن عموم ذلك من دأبك وعادتك تكون مؤكدة لما قبل وذكر أمر عام على سبيل التذييل أنسب بذلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 32 قالَ مَعاذَ اللَّهِ أي نعوذ بالله تعالى معاذا من أَنْ نَأْخُذَ فحذف الفعل وأقيم المصدر مقامه مضافا إلى المفعول به وحذف حرف الجر كما في أمثاله إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ لأن أخذنا له إنما هو بقضية فتواكم فليس لنا الإخلال بموجبها إِنَّا إِذاً أي إذا أخذنا غير من وجدنا متاعنا عنده ولو برضاه لَظالِمُونَ في مذهبكم وشرعكم وما لنا ذلك، وإيثار صيغة المتكلم مع الغير مع كون الخطاب من جهة اخوته على التوحيد من باب السلوك إلى سنن الملوك وللإشعار بأن الأخذ والإعطاء ليس مما يستبد به بل هو منوط بآراء أهل الحل والعقد، وإيثار مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ على من سرق متاعنا الأخصر لأنه أوفق بما وقع في الاستفتاء والفتوى أو لتحقيق الحق والاحتراز عن الكذب في الكلام مع تمام المرام فإنهم لا يحملون وجدان الصواع عنده على محمل غير السرقة، والمتاع اسم لما ينتفع به وأريد به الصواع، وما ألطف استعماله مع الأخذ المراد به الاسترقاق والاستخدام وكأنه لهذا أوثر على الصواع، والظاهر أن الأخذ في كلامهم محمول على هذا المعنى أيضا حقيقة. وجوز ابن عطية أن يكون ذلك مجازا لأنهم يعلمون أنه لا يجوز استرقاق حر غير سارق بدل من قد أحكمت السنة رقه فقولهم ذلك كما تقول لمن تكره فعله: اقتلني ولا تفعل كذا وأنت لا تريد أن يقتلك ولكنك تبالغ في استنزاله، ثم قال: وعلى هذا يتجه قول يوسف عليه السلام: مَعاذَ اللَّهِ لأنه تعوذ من غير جائز، ويحتمل أن لا يريدوا هذا المعنى، وبعيد عليهم وهم أنبياء أن يريدوا استرقاق حر فلم يبق إلا أن يريدوا بذلك الحمالة أي خذ أحدنا وأبقه عندك حتى ينصرف إليك صاحبك ومقصدهم بذلك أن يصل بنيامين إلى أبيه فيعرفه جلية الحال اه وهو كلام لا يعول عليه أصلا كما لا يخفى ولجواب يوسف عليه السلام معنى باطن هو أن الله عز وجل إنما أمرني بالوحي أن آخذ بنيامين لمصالح علمها سبحانه في ذلك فلو أخذت غيره كنت ظالما لنفسي وعاملا بخلاف الوحي فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ أي يئسوا من يوسف عليه السلام واجابته لهم إلى مرادهم، فاستفعل بمعنى فعل نحو سخر واستسخر وعجب واستعجب على ما في البحر، وقال غير واحد: إن السين والتاء زائدتان للمبالغة أي يئسوا يأسا كاملا لأن المطلوب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 33 المرغوب مبالغ في تحصيله، ولعل حصول هذه المرتبة من اليأس لهم لما شاهدوه من عوذه بالله تعالى مما طلبوه الدال على كون ذلك عنده في أقصى مراتب الكراهة وأنه مما يجب أن يحترز عنه ويعاذ بالله تعالى منه، ومن تسميته ذلك ظلما بقوله: إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ. وفي بعض الآثار أنهم لما رأوا خروج الصواع من رحله وكانوا قد أفتوا بما أفتوا تذكروا عهدهم مع أبيهم استشاط من بينهم روبيل (1) غضبا وكان لا يقوم لغضبه شيء ووقف شعره حتى خرج من ثيابه فقال: أيها الملك لتتركن أخانا أو لأصيحن صيحة لا يبقين بها في مصر حامل إلا وضعت فقال يوسف عليه السلام لولد له صغير: قم إلى هذا فمسه أو خذ بيده. وكان إذا مسه أحد من ولد يعقوب عليه السلام يسكن غضبه، فلما فعل الولد سكن غضبه فقال لإخوته: من مسني منكم؟ فقالوا: ما مسك أحد منا فقال: لقد مسني ولد من آل يعقوب عليه السلام، ثم قال لإخوته كم عدد الأسواق بمصر؟ قالوا: عشرة قال: اكفوني أنتم الأسواق وأنا أكفيكم الملك أو اكفوني أنتم الملك وأنا أكفيكم الأسواق فلما أحس يوسف عليه السلام بذلك قام إليه وأخذ بتلابيبه وصرعه وقال: أنتم يا معشر العبرانيين تزعمون أن لا أحد أشد منكم قوة فعند ذلك خضعوا وقالوا: يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إلخ، ويمكن على هذا أن يكون حصول اليأس الكامل لهم من مجموع الأمرين. وجوز بعضهم كون ضمير مِنْهُ لبنيامين، وتعقب بأنهم لم ييأسوا منه بدليل تخلف كبيرهم لأجله وروى أبو ربيعة عن البزي عن ابن كثير أنه قرأ «استأيسوا» من أيس مقلوب (2) يئس، ودليل القلب على ما في البحر عدم انقلاب ياء أيس ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وحاصل المعنى (3) لما انقطع طمعهم بالكلية خَلَصُوا انفردوا عن غيرهم واعتزلوا الناس. وقول الزجاج: انفرد بعضهم عن بعض فيه نظر نَجِيًّا أي متناجين متشاورين فيما يقولون لأبيهم عليه الصلاة والسلام، وإنما وحده وكان الظاهر جمعه لأنه حال من ضمير الجمع لأنه مصدر بحسب الأصل كالتناجي أطلق على المتناجين مبالغة أو لتأويله بالمشتق والمصدر ولو بحسب الأصل يشمل القليل والكثير أو لكونه على زنة المصدر لأن فعيلا من أبنية المصادر هو فعيل بمعنى مفاعل كجليس بمعنى مجالس وكعشير (4) بمعنى معاشر، أي مناج بعضهم بعضا فيكونون متناجين وجمعه أنجية قال لبيد: وشهدت أنجية الخلافة عاليا ... كعبي وارداف الملوك شهود (5) وأنشد الجوهري: إني إذا ما القوم كانوا أنجية ... واضطربوا مثل اضطراب الأرشية هناك أوصيني ولا توصي بيه. وهو على خلاف القياس إذ قياسه في الوصف افعلاء كمغني وأغنياء قالَ كَبِيرُهُمْ أي رئيسهم وهو شمعون قاله مجاهد، أو كبيرهم في السن وهو روبيل قاله قتادة، أو كبيرهم في العقل وهو   (1) وقيل: شمعون وروي عن وهب اه منه. (2) في مجمع البيان أن أيس ويئس كل منهما لغة اه منه. [ ..... ] (3) على تقرير كون الزيادة للمبالغة اه منه. (4) وخليط بمعنى مخالط وسمير بمعنى مسامر وغير ذلك اه منه. (5) وهو يقوي كونه جامدا كرغيف وأرغفة اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 34 يهوذا قاله وهب. والكلبي، وعن محمد بن إسحاق أنه لاوي أَلَمْ تَعْلَمُوا كأنهم أجمعوا عند التناجي على الانقلاب جملة ولم يرض به فقال منكرا عليهم: «ألم تعلموا» . أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ عهدا يوثق به وهو حلفهم بالله تعالى وكونه منه تعالى لأنه بإذنه فكأنه صدر منه تعالى أو هو من جهته سبحانه- فمن- ابتدائية وَمِنْ قَبْلُ أي من قبل هذا، والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى: ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ أي قصرتم في شأنه ولم تحفظوا عهد أبيكم فيه وقد قلتم ما قلتم. وما مزيدة والجملة حالية، وهذا على ما قيل أحسن الوجوه في الآية وأسلمها، وجوز أن تكون ما مصدرية ومحل المصدر النصب عطفا على مفعول تَعْلَمُوا أي ألم تعلموا أخذ أبيكم موثقا عليكم وتفريطكم السابق في شأن يوسف عليه السلام، وأورد عليه أمران الفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف، وتقديم معمول صلة الموصول الحرفي عليه وفي جوازهما خلاف للنحاة والصحيح الجواز خصوصا بالظرف المتوسع فيه، وقيل: بجواز العطف على اسم أَنَّ ويحتاج حينئذ إلى خبر لأن الخبر الأول لا يصح أن يكون خبرا له فهو فِي يُوسُفَ أو مِنْ قَبْلُ على معنى ألم تعلموا أن تفريطكم السابق وقع في شأن يوسف عليه السلام أو أن تفريطكم الكائن أو كائنا في شأن يوسف عليه السلام وقع من قبل. واعترض بأن مقتضى المقام إنما هو الإخبار بوقوع ذلك التفريط لا يكون تفريطهم السابق واقعا في شأن يوسف عليه السلام كما هو مفاد الأول، ولا يكون تفريطهم الكائن في شأنه واقعا من قبل كما هو مفاد الثاني. وفيه أيضا ما ذكره أبو البقاء وتبعه أبو حيان من أن الغايات لا تقع خبرا ولا صلة (1) ولا صفة ولا حالا وقد صرح بذلك سيبويه سواء جرت أم لم تجر فتقول: يوم السبت يوم مبارك والسفر بعده ولا تقول والسفر بعد، وأجاب عنه في الدر المصون بأنه إنما امتنع ذلك لعدم الفائدة لعدم العلم بالمضاف إليه المحذوف فينبغي الجواز إذا كان المضاف إليه معلوما مدلولا عليه كما في الآية الكريمة، ورد بأن جواز حذف المضاف إليه في الغايات مشروط بقيام القرينة على تعيين ذلك المحذوف على ما صرح به الرضي فدل على أن الامتناع ليس معللا بما ذكر. وقال الشهاب: (2) إن ما ذكروه ليس متفقا عليه فقد قال الإمام المرزوقي في شرح الحماسة: إنها تقع صفات وأخبارا وصلات وأحوالا ونقل هذا الإعراب المذكور هنا عن الرماني وغيره واستشهد له بما يثبته من كلام العرب، ثم إن في تعرفها بالإضافة باعتبار تقدير المضاف إليه معرفة يعينه الكلام السابق عليها اختلافا والمشهور أنها (3) معارف، وقال بعضهم: نكرات وإن التقدير من قبل شيء كما في شرح التسهيل. والفاضل صاحب الدر سلك مسلكا حسنا وهو أن المضاف إليه إذا كان معلوما مدلولا عليه بأن يكون مخصوصا معينا صح الأخبار لحصول الفائدة فإن لم يتعين بأن قامت قرينة العموم دون الخصوص وقدر من قبل شيء لم يصح الأخبار ونحوه إذ ما شيء إلا وهو قبل شيء ما فلا فائدة في الأخبار فحينئذ يكون معرفة ونكرة، ولا مخالفة بين كلامه وكلام الرضي مع أن كلام الرضي غير متفق عليه انتهى، وهو كما قال تحقيق نفيس، وقيل: محل المصدر الرفع على الابتداء والخبر مِنْ قَبْلُ وفيه البحث السابق،   (1) أورد على أنها لا يكون صلة قوله تعالى: كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ ودفع بان الصلة قوله سبحانه: كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ و «من قبل» ظرف لغو متعلق بخبر كان لا مستقر صلة اه منه. (2) وذكر أنه تحقيق حقيق بان يرسم في دفاتر الأذهان ويعلق في حقائب الحفظ والجنان اه منه. (3) وذكر السيرافي في شرح الكتاب ما يقتضي أن الغايات معارف لا يقدر ما حذف بعدها إلا معرفة فتأمل اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 35 وقيل: ما موصولة ومحلها من الأعراب ما تقدم من الرفع أو النصب وجملة فَرَّطْتُمْ صلتها والعائد محذوف، والتفريط بمعنى التقديم من الفرط لا بمعنى التقصير أي ما قدمتموه من الجناية. وأورد عليه أنه يكون قوله تعالى: مِنْ قَبْلُ تكرار فإن جعل خبرا يكون الكلام غير مفيد وإن جعل متعلقا بالصلة يلزم مع التكرار تقديم متعلق الصلة على الموصول وهو غير جائز، وقيل: ما نكرة موصوفة ومحلها ما تقدم وفيه ما فيه فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ مفرع على ما ذكره وذكر به و «برح» تامة وتستعمل إذا كانت كذلك بمعنى ذهب وبمعنى ظهر كما في قولهم: برح الخفاء، وقد ضمنت هنا معنى فارق فنصبت الْأَرْضَ على المفعولية، ولا يجوز أن تكون ناقصة لأن الأرض لا يصح أن تكون خبرا عن المتكلم هنا وليست منصوبة على الظرفية ولا بنزع الخافض وعنى بها أرض مصر أي فلن أفارق أرض مصر جريا على قضية الميثاق حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي في البراح بالانصراف إليه أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي بالخروج منها على وجه لا يؤدي إلى نقض الميثاق أو بخلاص أخي بسبب من الأسباب، قال في البحر: إنه غيا ذلك بغايتين خاصة وهي إذن أبيه وعامة وهي حكم الله تعالى له وكأنه بعد أن غيا بالأولى رجع وفوض الأمر إلى من له الحكم حقيقة جل شأنه، وأراد حكمه سبحانه بما يكون عذرا له ولو الموت، والظاهر أن أحب الغايتين إليه الأولى فلذا قدم لِي فيها وأخره في الثانية فليفهم وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ إذ لا يحكم سبحانه إلا بالحق والعدل. ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا له يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ الظاهر أن هذا القول من تتمة كلام كبيرهم وقيل: هو من كلام يوسف عليه السلام وفيه بعد كما أن الظاهر أنهم أرادوا أنه سرق في نفس الأمر. وَما شَهِدْنا عليه إِلَّا بِما عَلِمْنا من سرقته وتبقيناه حيث استخرج صواع الملك من رحله. وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ وما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الميثاق أو ما علمنا أنك ستصاب به كما أصبت بيوسف. وقرأ الضحاك «سارق» باسم الفاعل. وقرأ ابن عباس وأبو رزين والكسائي في رواية «سرّق» بتشديد الراء مبنيا للمفعول أي نسب إلى السرقة فمعنى وَما شَهِدْنا إلخ وما شهدنا إلا بقدر ما علمنا من التسريق وما كنا للأمر الخفي بحافظين أسرق بالصحة أم دس الصواع في رحله ولم يشعر. واستحسنت هذه القراءة لما فيها من التنزيه كذا قالوا، والظاهر أن القول باستفادة اليقين من استخراج الصواع من رحله مما لا يصح فكيف يوجب اليقين، واحتمال أنه دس فيه من غير شعور قائم جعل مجرد وجود الشيء في يد المدعى عليه بعد إنكاره موجبا للسرق في شرعهم أولا، قيل: فالوجه أن الظن البين قائم مقام العلم، ألا ترى أن الشهادة تجوز بناء على الاستصحاب ويسمى علما كقوله تعالى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ [الممتحنة: 10] وإنما جزموا بذلك لبعد الاحتمالات المعارضة عندهم، وإذا جعل الحكم بالسرقة وكذا علمهم أيضا مبنيا على ما شاهدوا من ظاهر الأمر اتحدت القراءتان ويفسر وَما كُنَّا إلخ بما فسّر به على القراءة الأخيرة، وقيل: معنى ما شَهِدْنا إلخ ما كانت شهادتنا في عمرنا على شيء إلا بما علمنا وليست هذه شهادة منا إنما هي خبر عن صنيع ابنك بزعمهم وَما كُنَّا إلخ كما هو وهو ذهاب أيضا إلى أنهم غير جازمين. وفي الكشف الذي يشهد له الذوق أنهم كانوا جازمين وقولهم: إن يسرق فقد سرق تمهيد بين، وادعاء العلم لا يلزم العلم فإن كان لبعد الاحتمالات المعارضة فلا يكون كذبا محرما وإلا فغايته الكذب في دعوى العلم وليس بأول كذباتهم، وكان قبل أن تنبؤوا ولهذا خونهم الأب في هذه أيضا، على أن قولهم: جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ مؤكدا ذلك التأكيد يدل على أنهم جعلوا الوجدان في الرحل قاطعا وإلا كان عليهم أن يقولوا: جزاؤه من وجد في رحله متعديا أو سارقا ونحوه، فإن يحتمل عنهم الحزم هنالك فلم لا يحتمل هاهنا اه وفيه مخالفة لبعض ما نحن عليه، وكذا لما ذكرناه في تفسير جَزاؤُهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 36 إلخ، ولعل الأمر في هذا هين. ومن غريب التفسير أن معنى قولهم: لِلْغَيْبِ لليل وهو بهذا المعنى في لغة حمير وكأنهم قالوا: «وما شهدنا إلا بما علمنا- من ظاهر حاله- وما كنا لليل حافظين» أي لا ندري ما يقع فيه فلعله سرق فيه أو دلس عليه، وأنا لا أدري ما الداعي إلى هذا التفسير المظلم مع تبلج صبح المعنى المشهور وأيا ما كان فلام لِلْغَيْبِ للتقوية والمراد حافظين الغيب وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها يعنون كما روي عن ابن عباس وقتادة والحسن مصر، وقيل: قرية بقربها لحقهم المنادي بها، والأول ظاهر على القول بأن المفتش لهم يوسف عليه السلام والثاني الظاهر على القول بأنه المؤذن، وسؤال القرية عبارة عن سؤال أهلها إما مجازا في القرية لإطلاقها عليها بعلاقة الحالية والمحلية أو في النسبة أو يقدر فيه مضاف وهو مجاز أيضا عند سيبويه وجماعة. وفي المحصول وغيره أن الإضمار والمجاز متباينان ليس أحدهما قسما من الآخر والأكثرون على المقابلة بينهما، وأيا ما كان فالمسؤول عنه محذوف للعلم به، وحاصل المعنى أرسل من تثق به إلى أهل القرية واسألهم عن القصة وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها أي أصحابها الذين توجهنا فيهم وكنا معهم فإن القصة معروفة فيما بينهم وكانوا قوما من كنعان من جيران يعقوب عليه السلام، وقيل: من أهل صنعاء، والكلام هنا في التجوز والإضمار كالكلام سابقا. وقيل: لا تجوز ولا إضمار في الموضعين والمقصود حالة تحقيق الحال والاطلاع على كنه القصة على السؤال من الجمادات والبهائم أنفسها بناء على أنه عليه السلام نبي فلا يبعد أن تنطق وتخبره بذلك على خرق العادة. وتعقب بأنه مما لا ينبغي أن يكون مرادا ولا يقتضيه المقام لأنه ليس بصدد إظهار المعجزة، وقال بعض الأجلة: الأولى ابقاء الْقَرْيَةَ والْعِيرَ على ظاهرهما وعدم إضمار مضاف إليهما ويكون الكلام مبنيا على دعوى ظهور الأمر بحيث إن الجمادات والبهائم قد علمت به وقد شاع مثل ذلك في الكلام قديما وحديثا ومنه قول ابن الدمينة: سل القاعة الوعسا من الاجرع الذي ... به البان هل حييت اطلال دارك وقوله: سلوا مضجعي عني وعنها فإننا ... رضينا بما يخبرن عنا المضاجع وقوله: واسأل نجوم الليل هل زار الكرى ... جفني وكيف يزور من لم يعرف ولا يخفى أن مثل هذا لا يخلو عن ارتكاب مجاز. نعم هو معنى لطيف بيد أن الجمهور على خلافه وأكثرهم على اعتبار مجاز الحذف وَإِنَّا لَصادِقُونَ فيما أخبرناك به، وليس المراد إثبات صدقهم بما ذكر حتى يكون مصادرة بل تأكيد صدقهم بما يفيد ذلك من الاسمية وإن واللام وهو مراد من قال: إنه تأكيد في محل القسم، ويحتمل على ما قيل أن يريد أن هنا قسما مقدرا، وقيل: المراد الإثبات ولا مصادرة على معنى أنا قوم عادتنا الصدق فلا يكون ما أخبرناك به كذبا ولا نظنك في مرية من عدم قبوله قالَ أي أبوهم عليه السلام وهو استئناف مبني على سؤال نشأ مما سبق فكأنه قيل: فماذا كان عند قول ذلك القائل للإخوة ما قال؟ فقيل: قال أبوهم عند ما رجعوا إليه فقالوا له ما قالوا: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً وإنما حذف للإيذان بأن مسارعتهم إلى قبول كلام ذلك القائل ورجوعهم به إلى أبيهم أمر مسلم غني عن البيان وإنما المحتاج إليه جوابه. يروى أنهم لما عزموا على الرجوع إلى أبيهم قال لهم يوسف عليه السلام: إذا أتيتم أباكم فاقرؤوا عليه السلام وقولوا له: إن ملك مصر يدعو لك أن لا تموت حتى ترى ولدك يوسف ليعلم أن في أرض مصر صديقين مثله، فساروا حتى وصلوا إليه فأخبروه بجميع ما كان فبكى وقال ما قال، وبَلْ للاضراب وهو على ما قيل إضراب لا عن صريح كلامهم فإنهم صادقون فيه بل عما يتضمنه من ادعاء البراءة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 37 عن التسبب فيما نزل به وإنه لم يصدر عنهم ما أدى إلى ذلك من قول أو فعل كأنه لم يكن الأمر كذلك بل زينت وسهلت لكم أنفسكم أمرا من الأمور فأتيتموه يريد بذلك فتياهم بأخذ السارق بسرقته وليس ذلك من دين الملك. وقال أبو حيان إن هنا كلاما محذوفا وقع الاضراب عنه والتقدير ليس حقيقة كما أخبرتم بل سولت إلخ وهو عند ابن عطية وادعى أنه الظاهر على حد ما قال في قصة يوسف عليه السلام ظن سوء بهم خلا أنه عليه السلام صدق ظنه هناك ولم يتحقق هنا. وذكر ابن المنير في توجيه هذا القول هاهنا مع أنهم لم يتعمدوا في حق بنيامين سوءا ولا أخبروا أباهم إلا بالواقع على جليته وما تركوه بمصر إلا مغلوبين عن استصحابه انهم كانوا عند أبيهم عليه السلام حينئذ متهمين وهم قمن باتهامه لما أسلفوه في حق يوسف عليه السلام وقامت عنده قرينة تؤكد التهمة وتقويها وهو أخذ الملك له في السرقة ولم يكن ذلك إلا من دينه لا من دينه ولا من دين غيره من الناس فظن أنهم الذين أفتوه بذلك بعد ظهور السرقة التي ذكروها تعمدا ليتخلف دونهم، واتهام من هو بحيث يتطرق إليه التهمة لا جرح فيه لا سيما فيما يرجع إلى الوالد مع الولد، ثم قال: ويحتمل أن يكون الوجه الذي سوغ له هذا القول في حقهم أنهم جعلوا مجرد وجود الصواع في رحل من يوجد في رحله سرقة من غير أن يحيلوا الحكم على ثبوت كونه سارقا بوجه معلوم، وهذا في شرعنا لا يثبت السرقة على من ادعيت عليه فإن كان في شرعهم أيضا كذلك ففي عدم تحرير الفتوى اشعار بأنهم كانوا حراصا على أخذه وهو من التسويل وان اقتضى ذلك في شرعهم فالعمدة على الجواب الأول هذا، والتنوين في أَمْراً للتعظيم أي أمرا عظيما فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أي فأمري ذلك أو فصبر جميل أجمل وقد تقدم تمام الكلام فيه فتذكر. عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً بيوسف وأخيه بنيامين والمتوقف بمصر إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بحالي وحالهم الْحَكِيمُ الذي يبتلي ويرفع البلاء حسب الحكمة البالغة، قيل: إنما ترجى عليه السلام للرؤيا التي رآها يوسف عليه السلام فكان ينتظرها ويحسن ظنه بالله تعالى لا سيما بعد أن بلغ الشظاظ الوركين وجاوز الحزام الطبيين فإنه قد جرت سنته تعالى أن الشدة إذا تناهت يجعل وراءها فرجا عظيما، وانضم إلى ذلك ما أخبر به عن ملك مصر أنه يدعو له أن لا يموت حتى يرى ولده وَتَوَلَّى أي أعرض عَنْهُمْ كراهة لما جاؤوا به وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ الأسف أشد الحزن على ما فات، والظاهر أنه عليه السلام أضافه إلى نفسه، والألف بدل من ياء المتكلم للتخفيف، والمعنى يا أسفي تعال فهذا أوانك، وقيل: الألف ألف الندبة والهاء محذوفة والمعول عليه الأول، وإنما تأسف على يوسف مع أن الحادث مصيبة أخويه لأن رزأه كان قاعدة الارزاء عنده وإن تقادم عهده أخذا بمجامع قلبه لا ينساه ولا يزول عن فكره أبدا ولم تنسني أوفى المصيبات بعده ... ولكن نكاء القرح بالقرح أوجع ولا يرد أن هذا مناف لمنصب النبوة إذ يقتضي ذلك معرفة الله تعالى ومن عرفه سبحانه أحبه ومن أحبه لم يتفرغ قلبه لحب ما سواه لما قيل: إن هذه محبة طبيعية ولا تأبى الاجتماع مع حبه تعالى، وقال الإمام: إن مثل هذه المحبة الشديدة تزيل عن القلب الخواطر ويكون صاحبها كثير الرجوع إليه تعالى كثير الدعاء والتضرع فيصير ذلك سببا لكمال الاستغراق، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما للصوفية قدس الله تعالى أسرارهم في هذا المقام في باب الإشارة، وقيل: لأنه عليه السلام كان واثقا بحياتهما عالما بمكانهما طامعا بإيابهما وأما يوسف فلم يكن في شأنه ما يحرك سلسلة رجائه سوى رحمة الله تعالى وفضله وفيه بحث. وأخرج الطبراني وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن سعيد بن جبير «لم تعط أمة من الأمم إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [البقرة: 156] إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم» أي لم يعلموه ولم يوفقوا له عند نزول المصيبة بهم، ألا يرى إلى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 38 يعقوب عليه السلام حين أصابه ما أصابه لم يسترجع وقال ما قال، وفي أَسَفى ويُوسُفَ تجنيس نفيس من غير تكلف وهو مما يزيد الكلام الجليل بهجة وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ أي بسببه وهو في الحقيقة سبب للبكاء والبكاء سبب لا بيضاض عينه فإن العبرة إذا كثرت محقت سواد العين وقلبته إلى بياض كدر فأقيم سبب السبب مقامه لظهوره، والابيضاض قيل إنه كناية عن العمى فيكون قد ذهب بصره عليه السلام بالكلية واستظهره أبو حيان لقوله تعالى: فَارْتَدَّ بَصِيراً [يوسف: 96] وهو يقابل بالأعمى، وقيل: ليس كناية عن ذلك والمراد من الآية أنه عليه السلام صارت في عينيه غشاوة بيضتهما وكان عليه السلام يدرك إدراكا ضعيفا، وقد تقدم الكلام في حكم العمى بالنسبة إلى الأنبياء عليهم السلام، وكان الحسن ممن يرى جوازه. فقد أخرج عبد الله بن أحمد في زوائده وابن جرير وأبو الشيخ عنه قال: كان منذ خرج يوسف من عند يعقوب عليهما السلام إلى يوم رجع ثمانون سنة لم يفارق الحزن قلبه ودموعه تجري على خديه ولم يزل يبكي حتى ذهب بصره وما على الأرض يومئذ والله أكرم على الله تعالى منه، والظاهر أنه عليه السلام لم يحدث له هذا الأمر عند الحادث الأخير، ويدل عليه ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ليث بن أبي سليم أن جبريل عليه السلام دخل على يوسف عليه السلام في السجن فعرفه فقال له: أيها الملك الكريم على ربه هل لك علم بيعقوب؟ قال: نعم. قال: ما فعل؟ قال: ابيضت عيناه من الحزن عليك قال: فما بلغ من الحزن؟ قال: حزن سبعين مثكلة قال: هل له على ذلك من أجر؟ قال: نعم أجر مائة شهيد. وقرأ ابن عباس ومجاهد مِنَ الْحُزْنِ بفتح الحاء والزاي وقرأ قتادة بضمهما. واستدل بالآية على جواز التأسف والبكاء عند النوائب، ولعل الكف عن أمثال ذلك لا يدخل تحت التكليف فإنه قل من يملك نفسه عند الشدائد. وقد روى الشيخان من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم بكى على ولده إبراهيم وقال: «إن العين تدمع والقلب يخشع ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون» وإنما المنهي عنه ما يفعله الجهلة من النياحة ولطم الخدود والصدور وشق الجيوب وتمزيق الثياب. ورويا أيضا من حديث أسامة أنه صلى الله عليه وسلم رفع إليه صبي لبعض بناته يجود بنفسه فأقعده في حجره ونفسه تتقعقع كأنها في شن ففاضت عيناه عليه الصلاة والسلام فقال سعد: يا رسول الله ما هذا؟ فقال: هذه رحمة جعلها الله تعالى فيمن شاء من عباده وإنما يرحم الله تعالى من عباده الرحماء. وفي الكشاف أنه قيل له عليه الصلاة والسلام: تبكي وقد نهيتنا عن البكاء؟ قال: ما نهيتكم عن البكاء وإنما نهيتكم عن صوتين أحمقين صوت عند الفرح وصوت عند الترح وعن الحسن أنه بكى على ولد أو غيره فقيل له في ذلك فقال: ما رأيت الله تعالى جعل الحزن عارا على يعقوب عليه السلام فَهُوَ كَظِيمٌ أي مملوء من الغيظ على أولاده ممسك له في قلبه لا يظهره، وقيل: مملوء من الحزن ممسك له لا يبديه، وهو من كظم السقاء إذا شده بعد ملئه، ففعيل بمعنى مفعول أي مكظوم فهو كما جاء في يونس عليه السلام إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ [القلم: 48] ويجوز أن يكون بمعنى فاعل كقوله تعالى وَالْكاظِمِينَ [آل عمران: 134] من كظم الغيظ إذا تجرعه أي شديد التجرع للغيظ أو الحزن لأنه لم يشكه إلى أحدا قط، وأصله من كظم البعير جرته إذا ردها في جوفه فكأنه عليه السلام يرد ذلك في جوفه مرة بعد أخرى من غير أن يطلع أحدا عليه. وفي الكلام من الاستعارة على الوجهين ما لا يخفى، ورجح الأخير منهما بأن فعيلا بمعنى فاعل مطرد ولا كذلك فعيلا بمعنى مفعول قالُوا أي الإخوة وقيل غيرهم من أتباعه عليه السلام تَاللَّهِ تَفْتَؤُا أي لا تفتأ ولا تزال تَذْكُرُ يُوسُفَ تفجعا عليه فحذف حرف النفي كما في قوله: فقلت يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 39 لأن القسم إذا لم يكن معه علامة الإثبات كان على النفي وعلامة الإثبات هي اللام ونون التأكيد وهما يلزمان جواب القسم المثبت فإذا لم يذكرا دل على أنه منفي لأن المنفي لا يقارنهما ولو كان المقصود هاهنا الإثبات لقيل لتفتأن، ولزوم اللام والنون مذهب البصريين، وقال الكوفيون والفارسي: يجوز الاقتصار على أحدهما وجاء الحذف فيما إذا كان الفعل حالا كقراءة ابن كثير «لأقسم بيوم القيامة» وقوله: لأبغض كل امرئ ... يزخرف قولا ولا يفعل ويتفرع على هذا مسألة فقهية وهي أنه إذا قال: والله أقوم يحنث إذا قام وإن لم يقم لا، ولا فرق بين كون القائل عالما بالعربية أولا على ما أفتى به خير الدين الرملي، وذكر أن الحلف بالطلاق كذلك فلو قال: علي الطلاق بالثلاث تقومين الآن تطلق إن قامت ولا تطلق إن لم تقم، وهذه المسألة مهمة لا بأس بتحقيق الحق فيها وإن أدى إلى الخروج عما نحن بصدده فنقول: قال غير واحد: إن العوام لو أسقطوا اللام والنون في جواب القسم المثبت المستقبل فقال أحدهم: والله أقوم مثلا لا يحنث بعدم القيام فلا كفارة عليه، وتعقبه المقدسي بأنه ينبغي أن تلزمهم الكفارة لتعارفهم الحلف كذلك، ويؤيده ما في الظهيرية أنه لو سكن الهاء أو نصب في بالله يكون يمينا مع أن العرب ما نطقت بغير الجر، وقال أيضا: إنه ينبغي أن يكون ذلك يمينا وإن خلا من اللام والنون، ويدل عليه قوله في الولوالجية: سبحان الله أفعل لا إله إلا الله أفعل كذا ليس بيمين إلا أن ينويه، واعترضه الخير الرملي بأن ما نقله لا يدل لمدعاه، أما الأول فلأنه تغيير إعراب لا يمنع المعنى الموضوع فلا يضر التسكين والرفع والنصب لما تقرر من أن اللحن لا يمنع الانعقاد، وأما الثاني فلأنه ليس من المتنازع فيه إذ هو الإثبات والنفي لا أنه يمين، وقد نقل ما ذكرناه عن المذهب والنقل يجب اتباعه، ونظر فيه. أما أولا فبأن اللحن كما في المصباح وغيره الخطأ في العربية، وأما ثانيا فبأن ما في الولوالجية من المتنازع فيه فإنه أتى بالفعل المضارع مجردا من اللام والنون وجعله يمينا مع النية ولو كان على النفي لوجب أن يقال: إنه مع النية يمين على عدم الفعل كما لا يخفى، وإنما اشترط في ذلك النية لكونه غير متعارف. وقال الفاضل الحلبي: إن بحث المقدسي وجيه، والقول بأنه يصادم المنقول يجاب عنه بأن المنقول في المذهب كان على عرف صدر الإسلام قبل أن تتغير اللغة، وأما الآن فلا يأتون باللام والنون في مثبت القسم أصلا ويفرقون بين الإثبات والنفي بوجود لا ولا وجودها، وما اصطلاحهم على هذا إلا كاصطلاح الفرس ونحوهم في أيمانهم وغيرها اه، ويؤيد هذا ما ذكره العلامة قاسم وغيره من أنه يحمل كلام كل عاقد وحالف وواقف على عرفه وعادته سواء وافق كلام العرب أم لا، ومثله في الفتح، وقد فرق النحاة بين بلى ونعم في الجواب أن بلى لا يجاب ما بعد النفي ونعم للتصديق فإذا قيل: ما قام زيد فإن قلت: بلى كان المعنى قد قام وإن نعم كان ما قام، ونقل في شرح المنار عن التحقيق أن المعتبر في أحكام الشرع العرف حتى يقام كل واحد منهما مقام الآخر، ومثله في التلويح، وقول المحيط والحلف بالعربية أن يقول في الإثبات والله لأفعلن إلى آخر ما قال بيان للحكم على قواعد العربية، وعرف العرب وعادتهم الخالية عن اللحن وكلام الناس اليوم إلا ما ندر خارج عن هاتيك القواعد فهو لغة اصطلاحية لهم كسائر اللغات الأعجمية التي تصرف فيها أهلها بما تصرفوا فلا يعاملون بغير لغاتهم وقصدهم إلا من التزم منهم الإعراب أو قصد المعنى فينبغي أن يدين، ومن هنا قال السائحاني: إن أيماننا الآن لا تتوقف على تأكيد فقد وضعناها نحن وضعا جديدا واصطلحنا عليها اصطلاحا حادثا وتعارفناها تعارفا مشهورا فيجب معاملتنا على قدر عقولنا ونياتنا كما أوقع المتأخرون الطلاق بعلي الطلاق ومن لم يدر بعرف أهل زمانه فهو جاهل اه، ونظير هذا ما قالوه: من أنه لو أسقطت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 40 الفاء الرابطة لجواب الشرط فهو تنجيز لا تعليق حتى لو قال: إن دخلت الدار أنت طالق تطلق في الحال وهو مبني على قواعد العربية أيضا وهو خلاف المتعارف الآن فينبغي بناؤه على العرف فيكون تعليقا وهو المروي عن أبي يوسف. وفي البحر أن الخلاف مبني على جواز حذفها اختيارا وعدمه فأجازه أهل الكوفة وعليه فرع أبو يوسف ومنعه أهل البصرة وعليه تفرع المذهب. وفي شرح نظم الكنز للمقدسي أنه ينبغي ترجيح قول أبي يوسف لكثرة حذف الفاء في الفصيح ولقولهم: العوام لا يعتبر منهم اللحن في قولهم: أنت واحدة بالنصب الذي لم يقل به أحد اه هذا ثم إن ما ذكر إنما هو في القسم بخلاف التعليق وهو وإن سمي عند الفقهاء حلفا ويمينا لكنه لا يسمى قسما فإن القسم خاص باليمين بالله تعالى كما صرح به القهستاني فلا يجري فيه اشتراط اللام والنون في المثبت منه لا عند الفقهاء ولا عند اللغويين، ومنه الحرام يلزمني وعلي الطلاق لا أفعل كذا فإنه يراد به في العرف إن فعلت كذا فهي طالق فيجب امضاؤه عليهم كما صرح به في الفتح وغيره. قال الحلبي: وبهذا يندفع ما توهمه بعض الأفاضل من أن في قول القائل: علي الطلاق أجيء اليوم إن جاء في اليوم وقع الطلاق وإلا فلا لعدم اللام والنون. وأنت خبير بأن النحاة إنما اشترطوا ذلك في جواب القسم المثبت لا في جواب الشرط وكيف يسوغ لعاقل فضلا عن فاضل أن يقول إن قام زيد أقم على معنى إن قام زيد لم أقم، على أن أجيء ليس جواب الشرط بل هو فعل الشرط لأن المعنى إن لم أجئ اليوم فأنت طالق، وقد وقع هذا الوهم لكثير من المفتين كالخير الرملي وغيره، وقال السيد أحمد الحموي في تذكرته الكبرى: رفع إلى سؤال صورته رجل اغتاظ من ولد زوجته فقال: علي الطلاق بالثلاث أني أصبح أشتكيك من النقيب فلما أصبح تركه ولم يشتكه ومكث مدة فهل والحالة هذه يقع عليه الطلاق أم لا؟ الجواب (1) إذا ترك شكايته ومضت مدة بعد حلفه لا يقع عليه الطلاق لأن الفعل المذكور وقع في جواب اليمين وهو مثبت فيقدر النفي حيث لم يؤكد ثم قال: فأجبت أنا بعد الحمد لله تعالى ما أفتى به هذا المجيب من عدم وقوع الطلاق معللا بما ذكر فمنبئ عن فرط جهله وحمقه وكثرة مجازفته في الدين وخرقه إذ ذاك في الفعل إذا وقع جوابا للقسم بالله تعالى نحو تفتأ لا في جواب اليمين بمعنى التعليق بما يشق من طلاق وعتق ونحوهما وحينئذ إذا أصبح الحالف ولم يشتكه وقع عليه الطلاق الثلاث وبانت زوجته منه بينونة كبرى اه ولنعم ما قال ولله تعالى در القائل: من الدين كشف الستر عن كل كاذب ... وعن كل بدعي أتى بالعجائب فلولا رجال مؤمنون لهدمت ... صوامع دين الله من كل جانب «وفتئ» هذه من أخوات كان الناقصة كما أشرنا إليه ويقال فيها: فتأ كضرب وأفتأ كأكرم، وزعم ابن مالك أنها تكون بمعنى سكن وفتر فتكون تامة وعلى ذلك جاء تفسير مجاهد- للاتفتأ- بلا تفتر عن حبه، وأوله الزمخشري بأنه عليه الرحمة جعل الفتوء والفتور أخوين أي متلازمين لا أنه بمعناه فإن الذي بمعنى فتر وسكن هو فثأ بالمثلثة كما في الصحاح من فثأت القدر إذا سكن غليانها والرجل إذا سكن غضبه، ومن هنا خطأ أبو حيان ابن مالك فيما زعمه وادعى أنه من التصحيف. وتعقب بأن الأمر ليس كما قاله فإن ابن مالك نقله عن الفراء وقد صرح به السرقسطي ولا يمتنع اتفاق مادتين في معنى وهو كثير، وقد جمع ذلك ابن مالك في كتاب سماه- ما اختلف إعجامه واتفق إفهامه- ونقله عنه صاحب القاموس. واستدل بالآية على جواز الحلف بغلبة الظن، وقيل: إنهم علموا ذلك منه ولكنهم نزلوه منزلة المنكر   (1) المجيب عبد المنعم البنتيني اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 41 فلذا أكدوه بالقسم أي نقسم بالله تعالى لا تزال ذاكر يوسف متفجعا عليه حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً مريضا مشفيا على الهلاك، وقيل: الحرض من أذابه هم أو مرض وجعله مهزولا نحيفا، وهو في الأصل مصدر حرض فهو حرض بكسر الراء، وجاء أحرضني كما في قوله: إني امرؤ لج بي حب فأحرضني ... حتى بليت وحتى شفني السقم ولكونه كذلك في الأصل لا يؤنث ولا يثني ولا يجمع لأن المصدر يطلق على القليل والكثير، وقال ابن إسحاق: الحرض الفاسد الذي لا عقل له. وقرئ «حرضا» بفتح الحاء وكسر الراء. وقرأ الحسن البصري «حرضا» بضمتين ونحوه من الصفات رجل جنب وغرب (1) أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ أي الميتين، وأَوْ قيل: يحتمل أن تكون بمعنى بل أو بمعنى إلى، فلا يرد عليه أن حق هذا التقديم على حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً فإن كانت للترديد فهي لمنع الخلو والتقديم على ترتيب الوجود كما قيل في قوله تعالى: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة: 255] أو لأنه أكثر وقوعاالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي البث في الأصل إثارة الشيء وتفريقه كبث الريح التراب واستعمل في الغم الذي لا يطيق صاحبه الصبر عليه كأنه ثقل عليه فلا يطيق حمله وحده فيفرقه على من يعينه، فهو مصدر بمعنى المفعول وفيه استعارة تصريحية. وجوز أن يكون بمعنى الفاعل أي الغم الذي بث الفكر وفرقه، وأيّا ما كان فالظاهر أن القوم قالوا ما قالوا بطريق التسلية والإشكاء فقال في جوابهم: إني لا أشكو ما بي إليكم أو إلى غيركم حتى تتصدوا لتسليتي وإنما أشكو غمي حُزْنِي إِلَى اللَّهِ تعالى ملتجئا إلى جنابه متضرعا في دفعه لدى بابه فإنه القادر على ذلك. وفي الخبر عن ابن عمر قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كنوز البر إخفاء الصدقة وكتمان المصائب والأمراض ومن بث لم يصبر» وقرأ الحسن وعيسى «حزني» بفتحتين وقرأ قتادة بضمتين. أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ أي من لطفه ورحمته الا تَعْلَمُونَ فأرجو أن يرحمني ويلطف بي ولا يخيب رجائي، فالكلام على حذف مضاف ونَ بيانية قدمت على المبين وقد جوزه النحاة. وجوز أن تكون ابتدائية أي أعلم وحيا أو إلهاما أو بسبب من أسباب العلم من جهته تعالى ما لا تعلمون من حياة يوسف عليه السلام. قيل: إنه عليه السلام علم ذلك من الرؤيا حسبما تقدم، وقيل إنه رأى ملك الموت في المنام فأخبره أن يوسف حي ذكره غيره واحد ولم يذكروا له سندا والمروي عن ابن أبي حاتم عن النضر أنه قال: بلغني أن يعقوب عليه السلام مكث أربعة وعشرين عاما لا يدري أيوسف عليه السلام حي أم ميت حتى تمثل له ملك الموت عليه السلام فقال له: من أنت؟ قال: أنا ملك الموت فقال: أنشدك باله يعقوب هل قبضت روح يوسف؟ قال: لا فعند ذلك قال عليه السلام: يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا أي فتعرفوا، وهو تفعل من الحس وهو في الأصل الإدراك بالحاسة، وكذا أصل التحسس طلب الإحساس، واستعماله في التعرف استعمال له في لازم معناه، وقريب منه التجسس بالجيم، وقيل: إنه به في الشر وبالحاء في الخير ورد بأنه، قرئ هنا «فتجسسوا» بالجيم أيضا، وقال الراغب: أصل الجس مس العرق وتعرف نبضه للحكم به على الصحة والمرض وهو أخص من الحس فإنه تعرف ما يدركه الحس والجس تعرف حال ما من ذلك مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ أي من خبرهما، ولم يذكر الثالث لأن غيبته اختيارية لا يعسر إزالتها، وعلى فرض ذلك الداعية فيهم للتحسس منه لكونه أخاهم قوية فلا حاجة لأمرهم بذلك، والجار متعلق بما عنده وهو بمعنى عن بناء على ما نقل   (1) في الصحاح هو غريب وغرب أيضا بضم الغين والراء اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 42 عن ابن الأنباري أنه لا يقال: تحسست من فلان، وإنما يقال: تحسست عنه، وجوز أن تكون للتبعيض على معنى تحسوا خبرا من أخبار يوسف وأخيه. وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ أي لا تقنطوا من فرجه سبحانه وتنفيسه، وأصل معنى الروح بالفتح كما قال الراغب التنفس يقال: أراح الإنسان إذا تنفس ثم استعير للفرج كما قيل: له تنفيس من النفس. وقرأ عمر بن عبد العزيز والحسن وقتادة «روح» بالضم، وفسر بالرحمة على أنه استعارة من معناها المعروف لأن الرحمة سبب الحياة كالروح وإضافتها إلى الله تعالى لأنها منه سبحانه، وقال ابن عطية كأن معنى هذه القراءة لا تيأسوا من حي معه روح الله الذي وهبه فإن كل من بقيت روحه يرجى، ومن هذا قوله: وفي غير من قد وارت الأرض فاطمع. وقول عبيد بن الأبرص: وكل ذي غيبة يؤوب ... وغائب الموت لا يؤوب وقرأ أبي «من رحمة الله» وعبد الله «من فضل الله» وكلاهما عند أبي حيان تفسير لا قراءة. وقرئ «تأيسوا» . وقرأ الأعرج «تيئسوا» بكسر التاء والأمر والنهي على ما قيل إرشاد لهم إلى بعض ما أبهم في قوله: وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 62] ثم إنه عليه السلام حذرهم عن ترك العمل بموجب نهيه بقوله: إِنَّهُ أي الشأن لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ لعدم علمهم بالله تعالى وصفاته فإن العارف لا يقنط في حال من الأحوال أو تأكيدا لما يعلمونه من ذلك، قال ابن عباس: إن المؤمن من الله تعالى على خير يرجوه في البلاء ويحمده في الرخاء. وذكر الإمام أن اليأس لا يحصل إلا إذا اعتقد الإنسان أن الإله غير قادر على الكمال أو غير عالم بجميع المعلومات أو ليس بكريم، واعتقاد كل من هذه الثلاث يوجب الكفر فإذا كان اليأس لا يحصل إلا عند حصول أحدها وكل منها كفر ثبت أن اليأس لا يحصل إلا لمن كان كافرا، واستدل بعض أصحابنا بالآية على أن اليأس من رحمة الله تعالى كفر، وادعى أنها ظاهرة في ذلك. وقال الشهاب: ليس فيها دليل على ذلك بل هو ثابت بدليل آخر، وجمهور الفقهاء على أن اليأس كبيرة ومفاد الآية أنه من صفات الكفار لا أن من ارتكبه كان كافرا بارتكابه، وكونه لا يحصل إلا عند حصول أحد المكفرات التي ذكرها الإمام مع كونه في حيز المنع لجواز أن ييأس من رحمة الله تعالى إياه مع إيمانه بعموم قدرته تعالى وشمول علمه وعظم كرمه جل وعلا لمجرد استعظام ذنبه مثلا واعتقاده عدم أهليته لرحمة الله تعالى من غير أن يخطر له أدنى ذرة من تلك الاعتقادات السيئة الموجبة للكفر لا يستدعي أكثر من اقتضائه سابقية الكفر دون كون ارتكابه نفسه كفرا كذا قيل، وقيل: الأولى التزام القول بأن اليأس قد يجامع الإيمان وإن القول بأنه لا يحصل إلا بأحد الاعتقادات المذكورة غير بين ولا مبين. نعم كونه كبيرة مما لا شك فيه بل جاء عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه أكبر الكبائر، وكذا القنوط وسوء الظن، وفرقوا بينها بأن اليأس عدم أمل وقوع شيء من أنواع الرحمة له، والقنوط هو ذاك مع انضمام حالة هي أشد منه في التصميم على عدم الوقوع، وسوء الظن هو ذاك مع انضمام أنه مع عدم رحمته له يشدد له العذاب كالكفار. وذكر ابن نجيم في بعض رسائله ما به يرجع الخلاف بين من قال: إن اليأس كفر ومن قال: إنه كبيرة لفظيا فقال: قد ذكر الفقهاء من الكبائر الأمن من مكر الله تعالى واليأس من رحمته وفي العقائد واليأس من رحمة الله تعالى كفر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 43 فيحتاج إلى التوفيق. والجواب أن المراد باليأس إنكار سعة الرحمة للذنوب، ومن الأمن الاعتقاد أن لا مكر، ومراد الفقهاء من اليأس اليأس لاستعظام ذنوبه واستبعاد العفو عنها، ومن الأمن الأمن لغلبة الرجاء عليه بحيث دخل في حد الأمن ثم قال: والأوفق بالسنة طريق الفقهاء لحديث الدارقطني عن ابن عباس مرفوعا حيث عدها من الكبائر وعطفها على الإشراك بالله تعالى اه وهو تحقيق نفيس فليفهم فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ أي على يوسف عليه السلام بعد ما رجعوا إلى مصر بموجب أمر أبيهم، وإنما لم يذكر إيذانا بمسارعتهم إلى ما أمروا به وإشعارا بأن ذلك أمر محقق لا يفتقر إلى الذكر والبيان. وأنكر اليهود رجوعهم بعد أخذ بنيامين إلى أبيهم ثم عودهم إلى مصر وزعموا أنهم لما جاؤوا أولا للميرة اتهمهم بأنهم جواسيس فاعتذروا وذكروا أنهم أولاد نبي الله تعالى يعقوب وأنهم كانوا اثني عشر ولدا هلك واحد منهم وتخلف أخوه عند أبيهم يتسلى به عن الهالك حيث إنه كان يحبه كثيرا فقال: ائتوني به لأتحقق صدقكم وحبس شمعون عنده حتى يجيئوا فلما أتوا به ووقع ما وقع من أمر السرقة أظهروا الخضوع والانكسار فلم يملك عليه السلام نفسه حتى تعرف إليهم ثم أمرهم بالعود إلى أبيهم ليخبروه الخبر ويأتوا به وهو الذي تضمنته توراتهم اليوم وما بعد الحق إلا الضلال قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ خاطبوه بذلك تعظيما له على حد خطابهم السابق به على ما هو الظاهر، وهل كانوا يعرفون اسمه أم لا؟ لم أر من تعرض لذلك فإن كانوا يعرفونه ازداد أمر جهالتهم غرابة، والمراد على ما قال الإمام وغيره يا أيها الملك القادر المنيع مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ الهزال من شدة الجوع، والمراد بالأهل ما يشمل الزوجة وغيرها وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ مدفوعة يدفعها كل تاجر رغبة عنها واحتقارا، من أزجيته إذا دفعته وطردته والريح تزجي السحاب، وأنشدوا لحاتم: ليبك على ملحان ضيف مدفع ... وأرملة تزجي مع الليل أرملا وكني بها عن القليل أو الرديء لأنه لعدم الاعتناء يرمي ويطرح، قيل: كانت بضاعتهم من متاع الأعراب صوفا وسمنا، وقيل: الصنوبر وحبة الخضراء (1) وروي ذلك عن أبي صالح، وزيد بن أسلم، وقيل: سويق المقل والإقط، وقيل: قديد وحش، وقيل: حبالا واعدالا وأحقابا، وقيل: كانت دراهم زيوفا لا تؤخذ إلا بوضيعة، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والمروي عن الحسن تفسيرها بقليلة لا غير، وعلى كل- فمزجاة- صفة حقيقية للبضاعة، وقال الزجاج: هي من قولهم: فلان يزجي العيش أي يدفع الزمان بالقليل، والمعنى إنا جئنا ببضاعة يدفع بها الزمان وليست مما ينتفع به، والتقدير على هذا ببضاعة مزجاة بها الأيام أي تدفع بها ويصبر عليها حتى تنقضي كما قيل: درج الأيام تندرج ... وبيوت الهم لا تلج وما ذكر أولا هو الأولى، وعن الكلبي أن «مزجاة» من لغة العجم، وقيل: من لغة القبط. وتعقب ذلك ابن الأنباري بأنه لا ينبغي أن يجعل لفظ معروف الاشتقاق والتصريف منسوبا إلى غير لغة العرب فالنسبة إلى ذلك مزجاة. وقرأ حمزة والكسائي «مزجية» بالإمالة لأن أصلها الياء، والظاهر أنهم إنما قدموا هذا الكلام ليكون ذريعة إلى إسعاف مرامهم ببعث الشفقة وهز العطف والرأفة وتحريك سلسلة الرحمة ثم قالوا: فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ أي أتممه لنا ولا تنقصه لقلة بضاعتنا أو رداءتها، واستدل بهذا على أن الكيل على البائع ولا دليل فيه وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا ظاهره بالإيفاء أو بالمسامحة وقبول المزجاة أو بالزيادة على ما يساويها.   (1) معروفة وليست الفستق كما ظنه أبو حيان اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 44 وقال الضحاك، وابن جريج: إنهم أرادوا تصدق علينا برد أخينا بنيامين على أبيه، قيل: وهو الأنسب بحالهم بالنسبة إلى أمر أبيهم وكأنهم أرادوا تفضل علينا بذلك لأن رد الأخ ليس بصدقة حقيقة، وقد جاءت الصدقة بمعنى التفضل كما قيل، ومنه تصدق الله تعالى على فلان بكذا، وأما قول الحسن لمن سمعه يقول: اللهم تصدق على أن الله تعالى لا يتصدق إنما يتصدق من يبغي الثواب قل: اللهم أعطني أو تفضل علي أو ارحمني فقد رد بقوله صلى الله عليه وسلم: «صدقة تصدق الله تعالى بها عليكم فاقبلوا صدقته» وأجيب عنه مجازا ومشاكلة، وإنما رد الحسن على القائل لأنه لم يكن بليغا كما في قصة المتوفى، وادعى بعضهم تعين الحمل على المجاز أيضا إذا كان المراد طلب الزيادة على ما يعطى بالثمن بناء على أن حرمة أخذ الصدقة ليست خاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم كما ذهب إليه سفيان بن عيينة بل هي عامة له عليه الصلاة والسلام ولمن قبله من الأنبياء عليهم السلام وآلهم كما ذهب إليه البعض، والسائلون من إحدى الطائفتين لا محالة، وتعقب بأنا لو سلمنا العموم لا نسلم أن المحرم أخذ الصدقة مطلقا بل المحرم إنما هو أخذ الصدقة المفروضة وما هنا ليس منها، والظاهر كما قال الزمخشري: أنهم تمسكنوا له عليه السلام بقولهم: مَسَّنا إلخ وطلبوا إليه أن يتصدق عليهم بقولهم: وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا فلو لم يحمل على الظاهر لما طابقه ذلك التمهيد ولا هذا التوطيد أعني إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ بذكر الله تعالى وجزائه الحاملين على ذلك وإن فاعله منه تعالى بمكان. قال النقاش: وفي العدول عن إن الله تعالى يجزيك بصدقتك إلى ما في النظم الكريم مندوحة عن الكذب فهو من المعاريض، فإنهم كانوا يعتقدونه ملكا كافرا وروي مثله عن الضحاك، ووجه عدم بدئهم بما أمروا به على القول بخلاف الظاهر في متعلق التصدق بأن فيما سلكوه استجلابا للشفقة والرحمة فكأنهم أرادوا أن يملؤوا حياض قلبه من نميرها ليسقوا به أشجار تحسسهم لتثمر لهم غرض أبيهم، ووجهه بعضهم بمثل هذا ثم قال: على أن قولهم وَتَصَدَّقْ إلخ كلام ذو وجهين فإنه يحتمل الحمل على المحملين فلعله عليه السلام حمله على طلب الرد ولذلك قالَ مجيبا عما عرضوا به وضمنوه كلامهم من ذلك: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ وكان الظاهر على هذا الاقتصار على التعرض بما فعل مع الأخ إلا أنه عليه السلام تعرض لما فعل به أيضا لاشتراكهما في وقوع الفعل عليهما، فإن المراد بذلك إفرادهم له عنه وإذلاله بذلك حتى كان لا يستطيع أن يكلمهم إلا بعجز وذلة، والاستفهام ليس عن العلم بنفس ما فعلوه لأن الفعل الإرادي مسبوق بالشعور لا محالة بل هو عما فيه من القبح بدليل قوله: إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ أي هل علمتم قبح (1) ما فعلتموه زمان جهلكم قبحه وزال ذلك الجهل أم لا؟ وفيه من إبداء عذرهم وتلقينهم إياه ما فيه كما في قوله تعالى: ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار: 6] والظاهر لهذا أن ذلك لم يكن تشفيا بل حث على الإقلاع ونصح لهم لما رأى من عجزهم وتمسكنهم ما رأى مع خفي معاتبة على وجود الجهل وأنه حقيق الانتفاء في مثلهم، فلله تعالى هذا الخلق الكريم كيف ترك حظه من التشفي إلى حق الله تعالى على وجه يتضمن حق الاخوتين أيضا والتلطف في أسماعه مع التنبيه على أن هذا الضر أولى بالكشف، قيل: ويجوز أن يكون هذا الكلام منه عليه السلام منقطعا عن كلامهم وتنبيها لهم عما هو حقهم ووظيفتهم من الإعراض عن جميع المطالب والتمحض لطلب بنيامين، بل يجوز أن يقف عليه السلام بطريق الوحي أو الإلهام على وصية أبيه عليه السلام وإرساله إياهم للتحسس منه ومن أخيه فلما رآهم قد اشتغلوا عن ذلك قال ما قال، والظاهر أنه عليه السلام لما رأى ما رأى منهم وهو من أرق خلق الله تعالى قلبا وكان قد بلغ الكتاب أجله شرع في كشف أمره فقال ما قال.   (1) قيل الكلام على حذف مضاف وقيل هو كناية عما ذكر فافهم اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 45 روي عن ابن إسحاق أنهم لما استعطفوه رق لهم ورحمهم حتى أنه أرفض دمعه باكيا ولم يملك نفسه فشرع في التعرف لهم، وأراد بما فعلوه به جميع ما جرى وبما فعلوه بأخيه أذاهم له وجفاءهم إياه وسوء معاملتهم له وإفرادهم له كما سمعت، ولم يذكر لهم ما آذوا به أباهم على ما قيل تعظيما لقدره وتفخيما لشأنه أن يذكره مع نفسه وأخيه مع أن ذلك من فروع ما ذكر، وقيل: إنهم أدوا إليه كتابا من أبيهم وصورته كما في الكشاف من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر أما بعد فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء، أما جدي فشدت يداه ورجلاه ورمي به في النار ليحرق فنجاه الله تعالى وجعلت النار عليه بردا وسلاما، وأما أبي فوضع على قفاه السكين ليقتل ففداه الله تعالى، وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب الأولاد إلي فذهب به اخوته إلى البرية ثم أتوني بقميصه ملطخا بالدم وقالوا: قد أكله الذئب فذهبت عيناي من بكائي عليه ثم كان لي ابن كان أخاه من أمه وكنت أتسلى به فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا: إنه سرق وإنك حبسته لذلك وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقا فإن رددته علي وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك والسلام. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي روق نحوه، فلما قرأ يوسف عليه السلام الكتاب لم يتمالك وعيل صبره فقال لهم ذلك. وروي أنه لما قرأ الكتاب بكى وكتب الجواب اصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا هذا، وما أشرنا إليه من كون المراد إثبات الجهل لهم حقيقة هو الظاهر، وقيل: لم يرد نفي العلم عنهم لأنهم كانوا علماء ولكنهم لما لم يفعلوا ما يقتضيه العلم وترك مقتضى العلم من صنيع الجهال سماهم جاهلين، وقيل: المراد جاهلون بما يؤول إليه الأمر، وعن ابن عباس والحسن جاهِلُونَ صبيان قبل أن تبلغوا أوان الحلم والرزانة، وتعقب بأنه ليس بالوجه لأنه لا يطابق الوجود وينافي وَنَحْنُ عُصْبَةٌ فالظاهر عدم صحة الإسناد، وزعم في التحرير أن قول الجمهور: إن الاستفهام للتقرير والتوبيخ ومراده عليه السلام تعظيم الواقعة أي ما أعظم ما ارتكبتم في يوسف وأخيه كما يقال: هل تدري من عصيت؟ وقيل: هل بمعنى قد كما في هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ [الإنسان: 1] والمقصود هو التوبيخ أيضا وكلا القولين لا يعول عليه والصحيح ما تقدم. ومن الغريب الذي لا يصح البتة ما حكاه الثعلبي أنه عليه السلام حين قالوا له ما قالوا غضب عليهم فأمر بقتلهم فبكوا وجزعوا فرق لهم وقال: هَلْ عَلِمْتُمْ إلخ قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ استفهام تقرير ولذلك أكد بإن واللام لأن التأكيد يقتضي التحقق المنافي للاستفهام الحقيقي، ولعلهم قالوه استغرابا وتعجبا، وقرأ ابن كثير وقتادة وابن محيصن «إنك» بغير همزة استفهام، قال في البحر: والظاهر أنها مرادة ويبعد حمله على الخبر المحض، وقد قاله بعضهم لتعارض الاستفهام والخبر إن اتحد القائلون وهو الظاهر، فإن قدر أن بعضا استفهم وبعضا أخبر ونسب كل إلى المجموع أمكن وهو مع ذلك بعيد، وأنت في القراءتين مبتدأ ويُوسُفُ خبره والجملة في موضع الرفع خبر إن، ولا يجوز أن يكون أنت تأكيدا للضمير الذي هو اسم- إن- لحيلولة اللام، وقرأ أبي «أإنك أو أنت يوسف» وخرج ذلك ابن جني في كتاب المحتسب على حذف خبر إن وقدره أإنك لغير يوسف أو أنت يوسف، وكذا الزمخشري إلا أنه قدره أإنك يوسف أو أنت يوسف ثم قال: وهذا كلام متعجب مستغرب لما يسمع فهو يكرر الاستيثاق، قال في الكشف: وما قدره أولى لقلة الإضمار وقوة الدلالة على المحذوف وإن كان الأول أجري على قانون الاستفهام، ولعل الأنسب أن يقدر أإنك أنت أو أنت يوسف تجهيلا لنفسه أن يكون مخاطبه يوسف أي أإنك المعروف عزيز مصر أو أنت يوسف، استبعدوا أن يكون العزيز يوسف أو يوسف عزيزا، وفيه قلة الإضمار أيضا مع تغاير المعطوف والمعطوف عليه وقوة الدلالة على المحذوف والجري على قانون الاستفهام مع زيادة الفائدة من إيهام البعد بين الحالتين. فإن قيل: ذاك أوفق للمشهور لقوة الدلالة على أنه هو، يجاب بأنه يكفي في الدلالة على الأوجه كلها أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 46 الاستفهام غير جاء على الحقيقة، على أن عدم التنافي بين كونه مخاطبهم المعروف وكونه يوسف شديد الدلالة أيضا مع زيادة إفادة ذكر موجب استبعادهم وهو كلام يلوح عليه مخايل التحقيق، واختلفوا في تعيين سبب معرفتهم إياه عليه السلام فقيل: عرفوه بروائه وشمائله وكان قد أدناهم إليه ولم يدنهم من قبل، وقيل: كان يكلمهم من وراء حجاب فلما أراد التعرف إليهم رفعه فعرفوه، وقيل: تبسم فعرفوه بثناياه وكانت كاللؤلؤ المنظوم وكان يضيء ما حواليه من نور تبسمه، وقيل: إنه عليه السلام رفع التاج عن رأسه فنظروا إلى علامة بقرنه كان ليعقوب وإسحاق وسارة مثلها تشبه الشامة البيضاء فعرفوه بذلك، وينضم إلى كل ذلك، علمهم أن ما خاطبهم به لا يصدر مثله إلا عن حنيف مسلم من سنخ (1) إبراهيم لا عن بعض أعزاء مصر، وزعم بعضهم أنهم إنما قالوا ذلك على التوهم ولم يعرفوه حتى أخبر عن نفسه قالَ أَنَا يُوسُفُ والمعول عليه ما تقدم وهذا جواب عن مساءلتهم وزاد عليهم قوله: وَهذا أَخِي أي من أبوي مبالغة في تعريف نفسه، قال بعض المدققين: إنهم سألوه متعجبين عن كونه يوسف محققين لذلك مخيلين لشدة التعجب أنه ليس إياه فأجابهم بما يحقق ذلك مؤكدا، ولهذا لم يقل عليه السلام: بلى أو أنا هو فأعاد صريح الاسم وَهذا أَخِي بمنزلة أنا يوسف لا شبهة فيه على أن فيه ما يبنيه عليه من قوله: قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وجوز الطيبي أن يكون ذلك جاريا على الأسلوب الحكيم كأنهم لما سألوه متعجبين أنت يوسف؟ أجاب لا تسألوا عن ذلك فإنه ظاهر ولكن اسألوا ما فعل الله تعالى بك من الامتنان والإعزاز وكذلك بأخي ولي من ذاك في شيء كما لا يخفى. وفي إرشاد العقل السليم إن في زيادة الجواب مبالغة وتفخيما لشأن الأخ وتكملة لما أفاده قوله: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ حسبما يفيده قَدْ مَنَّ إلخ فكأنه قال: هل علمتم ما فعلتم بنا من التفريق والإذلال فأنا يوسف وهذا أخي قد من الله تعالى علينا بالخلاص عما ابتلينا به والاجتماع بعد الفرقة والعزة بعد الذلة والأنس بعد الوحشة. ولا يبعد أن يكون فيه إشارة إلى الجواب عن طلبهم لرد بنيامين بأنه أخي لا أخوكم فلا وجه لطلبكم انتهى وفيه ما فيه. وجملة قَدْ مَنَّ إلخ عند أبي البقاء مستأنفة، وقيل: حال من يُوسُفُ وأَخِي وتعقب بأن فيه بعدا لعدم العامل في الحال حينئذ، ولا يصح أن يكون هذا لأنه إشارة إلى واحد وعلينا راجع إليهما جميعا إِنَّهُ أي الشأن مَنْ يَتَّقِ أي يفعل التقوى في جميع أحواله أو يق نفسه عما يوجب سخط الله تعالى وعذابه وَيَصْبِرْ على البلايا والمحن أو على مشقة الطاعات أو عن المعاصي التي تستلذها النفس فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (2) أي أجرهم، وإنما وضع المظهر موضع المضمر تنبيها على أن المنعوتين بالتقوى والصبر موصفون بالإحسان، والجملة في موضع العلة للمن. واختار أبو حيان عدم التخصيص في التقوى والصبر، وقال مجاهد: المراد من يتق في ترك المعصية ويصبر في السجن، والنخعي من يتق الزنا ويصبر على العزوبة، وقيل: من يتق المعاصي ويصبر على أذى الناس، وقال الزمخشري: المراد من يخف الله تعالى ويصبر عن المعاصي وعلى الطاعات. وتعقبه صاحب الفرائد بأن فيه حمل من يتق على المجاز ولا مانع من الحمل على الحقيقة والعدول عن ذلك إلى المجاز من غير ضرورة غير جائز فالوجه أن يقال: من يتق من يحترز عن ترك ما أمر به وارتكاب ما نهي عنه ويصبر في المكاره وذلك باختياره وهذا بغير اختياره فهو محسن، وذكر الصبر بعد التقوى من ذكر الخاص بعد العام ويجوز أن يكون ذلك لإرادة الثبات على التقوى كأنه قيل: من يتق ويثبت على التقوى انتهى.   (1) أي أصل اه منه. (2) جوز أبو حيان كون المحسنين عاما يندرج فيه من تقدم فتأمل اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 47 والوجه الأول ميل لما ذكره أبو حيان. وتعقب ذلك الطيبي بأن هذه الجملة تعليل لما تقدم وتعريض بإخوته بأنهم لم يخافوا عقابه تعالى ولم يصبروا على طاعته عز وجل وطاعة أبيهم وعن المعصية إذ فعلوا ما فعلوا فيكون المراد بالاتقاء الخوف وبالصبر الصبر على الطاعة وعن المعصية ورد بأن التعريض حاصل في التفسير الآخر فكأنه فسره به لئلا يتكرر مع الصبر وفيه نظر. وقرأ قنبل من «يتق» بإثبات الياء، فقيل: هو مجزوم بحذف الياء التي هي لام الكلمة وهذه ياء إشباع وقيل: جزمه بحذف الحركة المقدرة وقد حكوا ذلك لغة، وقيل: هو مرفوع ومَنَّ موصول وعطف المجزوم عليه على التوهم كأنه توهم أن مَنَّ شرطية ويَتَّقِ مجزوم، وقيل: إن يَصْبِرْ مرفوع كيتقي إلا أنه سكنت الراء لتوالي الحركات وإن كان ذلك في كلمتين كما سكنت في يَأْمُرُكُمْ ويُشْعِرُكُمْ ونحوهما أو للوقف وأجري الوصل مجرى الوقف، والأحسن من هذه الأقوال كما في البحر أن يكون يتقي مجزوما على لغة وإن كانت قليلة، وقول أبي علي: إنه لا يحمل على ذلك لأنه إنما يجيء في الشعر لا يلتفت إليه لأن غيره من رؤساء النحويين حكوه لغة نظما ونثرا قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا أي اختارك وفضلك علينا بالتقوى والصبر، وقيل: بالملك، وقيل: بالصبر والعلم ورويا عن ابن عباس، وقيل: بالحلم والصفح ذكره سليمان الدمشقي، وقال صاحب الغنيان: بحسن الخلق والخلق والعلم والحلم والإحسان والملك والسلطان والصبر على أذانا والأول أولى. وَإِنْ أي والحال أن الشأن كُنَّا لَخاطِئِينَ أي لمتعمدين للذنب إذ فعلنا ما فعلنا ولذلك أعزك وأذلنا، فالواو حالية وإِنْ مخففة اسمها ضمير الشأن واللام التي في خبر كان هي المزحلقة و «خاطئين» من خطئ إذا تعمد وأما أخطأ فقصد الصواب ولم يوفق له، وفي قولهم: هذا من الاستنزال لإحسانه عليه السلام والاعتراف بما صدر منهم في حقه مع الإشعار بالتوبة ما لا يخفى ولذلك قالَ لا تَثْرِيبَ أي لا تأنيب ولا لوم عَلَيْكُمُ وأصله من الثرب وهو الشحم الرقيق في الجوف وعلى الكرش، وصيغة التفعيل للسلب أي إزالة الثرب كالتجليد والتقريع بمعنى إزالة الجلد والقرع، واستعير للوم الذي يمزق الأعراض ويذهب بهاء الوجه لأنه بإزالة الشحم يبدو الهزال وما لا يرضى كما أنه باللوم تظهر العيوب فالجامع بينهما طريان النقص بعد الكمال وإزالة ما به الكمال والجمال وهو اسم لا وعَلَيْكُمُ متعلق بمقدر وقع خبرا، وقوله تعالى: الْيَوْمَ متعلق بذلك الخبر المقدر أو بالظرف أي لا تثريب مستقر عليكم اليوم، وليس التقييد به لإفادة وقوع التثريب في غيره فإنه عليه السلام إذا لم يثرب أول لقائه واشتعال ناره فبعده بطريق الأولى. وقال المرتضى: إن الْيَوْمَ موضوع موضع الزمان كله كقوله: اليوم يرحمنا من كان يغبطنا ... واليوم نتبع من كانوا لنا تبعا كأنه أريد بعد اليوم، وجوز الزمخشري تعلقه- بتثريب- وتعقبه أبو حيان قائلا: لا يجوز ذلك لأن التثريب مصدر وقد فصل بينه وبين معموله- بعليكم- وهو إما خبر أو صفة ولا يجوز الفصل بينهما بنحو ذلك لأن معمول المصدر من تمامه، وأيضا لو كان متعلقا به لم يجز بناؤه لأنه حينئذ من قبيل المشبه بالمضاف وهو الذي يسمى المطول والممطول فيجب أن يكون معربا منونا، ولو قيل: الخبر محذوف وعَلَيْكُمُ متعلق بمحذوف يدل عليه تثريب وذلك المحذوف هو العامل في الْيَوْمَ والتقدير لا تثريب يثرب عليكم اليوم كما قدروا في لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [هود: 43] أي لا عاصم يعصم اليوم لكان وجها قويا لأن خبر لا إذا علم كثر حذفه عند أهل الحجاز ولم يلفظ به بنو تميم، وكذا منع ذلك أبو البقاء وعلله بلزوم الإعراب والتنوين أيضا، واعترض بأن المصرح به في متون النحو بأن شبيه المضاف سمع فيه عدم التنوين نحو لا طالع جبلا ووقع في الحديث «لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت» باتفاق الرواة فيه وإنما الخلاف فيه هل هو مبني أو معرب ترك تنوينه، وفي التصريح نقلا عن المغني أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 48 نصب الشبيه بالمضاف وتنوينه هو مذهب البصريين، وأجاز البغداديون لا طالع جبلا بلا تنوين أجروه في ذلك مجرى المضاف كما أجروه مجراه في الإعراب وعليه يتخرج الحديث «لا مانع» إلخ. فيمكن أن يكون مبنى ما قاله أبو حيان وغيره مذهب البصريين، والحديث المذكور لا يتعين- كما قال الدنوشري أخذا من كلام المغني في الجهة الثانية من الباب الخامس- حمله على ما ذكر لجواز كون اسم لا فيه مفردا واللام متعلقة بالخبر والتقدير لا مانع مانع لما أعطيت وكذا فيما بعده. وذكر الرضي أن الظرف بعد النفي لا يتعلق بالمنفي بل بمحذوف وهو خبر وأن الْيَوْمَ في الآية معمول عَلَيْكُمُ ويجوز العكس، واعترض أيضا حديث الفصل بين المصدر ومعموله بما فيه ما فيه، وقيل: عَلَيْكُمُ بيان كلك في سقيا لك فيتعلق بمحذوف والْيَوْمَ خبر. وجوز أيضا كون الخبر ذاك والْيَوْمَ متعلقا بقوله: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ونقل عن المرتضى أنه قال في الدرر: قد ضعف هذا قوم من جهة أن الدعاء لا ينصب ما قبله ولم يشتهر ذلك، وقال ابن المنير: لو كان متعلقا به لقطعوا بالمغفرة بأخبار الصديق ولم يكن كذلك لقولهم: يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا [يوسف: 97] وتعقب بأنه لا طائل تحته لأن المغفرة وهي ستر الذنب يوم القيامة حتى لا يؤاخذوا به ولا يقرعوا إنما يكون ذلك الوقت وأما قبله فالحاصل هو الإعلام به والعلم بتحقق وقوعه بخبر الصادق لا يمنع الطلب لأن الممتنع طلب الحاصل لا طلب ما يعلم حصوله، على أنه يجوز أن يكون هضما للنفس واعتبر باستغفار الأنبياء عليهم السلام، ولا فرق بين الدعاء والاخبار هنا انتهى. وقد يقال أيضا: إن الذي طلبوه من أبيهم مغفرة ما يتعلق به ويرجع إلى حقه ولم يكن عندهم علم بتحقق ذلك، على أنه يجوز أن يقال: إنهم لم يعتقدوا إذ ذاك نبوته وظنوه مثلهم غير نبي فإنه لم يمض وقت بعد معرفة أنه يوسف يسع معرفة أنه نبي أيضا وما جرى من المفاوضة لا يدل على ذلك فافهم، وإلى حمل الكلام على الدعاء ذهب غير واحد وذهب جمع أيضا إلى كونه خبرا. والحكم بذلك مع أنه غيب قيل: لأنه عليه السلام صفح عن جريمتهم حينئذ وهم قد اعترفوا بها أيضا فلا محالة أنه سبحانه يغفر لهم ما يتعلق به تعالى وما يتعلق به عليه السلام بمقتضى وعده جل شأنه بقبول توبة العباد، وقيل: لأنه عليه السلام قد أوحي إليه بذلك، وأنت تعلم أن أكثر القراء على الوقف على الْيَوْمَ وهو ظاهر في عدم تعلقه- بيغفر- وهو اختيار الطبري وابن إسحاق. وغيرهم واختاروا كون الجملة بعد دعائية وهو الذي يميل إليه الذوق والله تعالى أعلم وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فإن كل من يرحم سواه جل وعلا فإنما يرحم برحمته سبحانه مع كون ذلك مبنيا على جلب نفع أو دفع ضر ولا أقل من دفع ما يجده في نفسه من التألم الروحاني مما يجده في المرحوم، وقيل: لأنه تعالى يغفر الصغائر والكبائر التي لا يغفرها غيره سبحانه ويتفضل على التائب بالقبول، والجملة إما بيان للوثوق بإجابة الدعاء أو تحقيق لحصول المغفرة لأنه عفا عنهم فالله تعالى أولى بالعفو والرحمة لهم هذا. ومن كرم يوسف عليه السلام ما روي أن إخوته أرسلوا إليه إنك تدعونا إلى طعامك بكرة وعشية ونحن نستحي منك بما فرط منا فيك فقال عليه السلام: إن أهل مصر وإن ملكت فيهم كانوا ينظرون إلي بالعين الأولى ويقولون: سبحان من بلغ عبدا بيع بعشرين درهما ما بلغ ولقد شرفت بكم الآن وعظمت في العيون حيث عليم الناس أنكم اخوتي وأني من حفدة إبراهيم عليه السلام، والظاهر أنه عليه السلام أنه حصل بذلك من العلم للناس ما لم يحصل قبل فإنه عليه السلام على ما دل عليه بعض الآيات السابقة والأخبار قد أخبرهم أنه ابن من وممن. وكذا ما أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: قال الملك يوما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 49 ليوسف عليه السلام إني أحب أن تخالطني في كل شيء إلا في أهلي وأنا آنف أن تأكل معي فغضب يوسف عليه السلام، فقال: أنا أحق أن آنف أنا ابن إبراهيم خليل الله وأنا ابن إسحاق ذبيح الله وأنا ابن يعقوب نبي الله لكن لم يشتهر ذلك أو لم يفد الناس علما. وفي التوراة التي بأيدي اليهود اليوم أنه عليه السلام لما رأى من إخوته مزيد الخجل أدناهم إليه وقال: لا يشق عليكم إن بعتموني وإلى هذا المكان أوصلتموني فإن الله تعالى قد علم ما يقع من القحط والجدب وما ينزل بكم من ذلك ففعل ما أوصلني به إلى هذا المكان والمكانة ليزيل عنكم بي ما ينزل بكم ويكون ذلك سببا لبقائكم في الأرض وانتشار ذراريكم فيها وقد مضت من سني الجدب سنتان وبقي خمس سنين وأنا اليوم قد صيرني الله تعالى مرجعا لفرعون وسيدا لأهله وسلطانا على جميع أهل مصر فلا يضق عليكم أمركم اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا هو القميص الذي كان عليه حينئذ كما هو الظاهر وعن ابن عباس وغيره أنه القميص الذي كساه الله تعالى إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار وكان من قمص الجنة جعله يعقوب حين وصل إليه في قصبة فضة وعلقه في عنق يوسف وكان لا يقع على عاهة من عاهات الدنيا إلا ابرأها بإذن الله تعالى. وضعف هذا بأن قوله: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ يدل على أنه عليه السلام كان لابسا له في تعويذته كما تشهد به الإضافة إلى ضميره وهو تضعيف ضعيف كما لا يخفى، وقيل: هو القميص الذي قد من دبر وأرسله ليعلم يعقوب أنه عصم من الفاحشة ولا يخفى بعده، وأيّا ما كان فالباء إما للمصاحبة أو للملابسة أي اذهبوا مصحوبين أو ملتبسين به أو للتعدية على ما قيل أي اذهبوا قميصي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً أي يصر بصيرا ويشهد له فَارْتَدَّ بَصِيراً أو يأت إلي وهو بصير وينصره قوله: وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ من النساء والذراري وغيرهم مما ينتظمه لفظ الأهل كذا قالوا. وحاصل الوجهين- كما قال بعض المدققين- أن الإتيان في الأول مجاز عن الصيرورة ولم يذكر إتيان الأب إليه لا لكونه داخلا في الأهل فإنه يجل عن التابعية بل تفاديا عن أمر الخوة بالإتيان لأنه نوع إجبار على من يؤتى به فهو إلى اختياره، وفي الثاني على الحقيقة وفيه التفادي المذكور، والجزم بأنه من الآتين لا محالة وثوقا بمحبته وإن فائدة الإلقاء إتيانه على ما أحب من كونه معافى سليم البصر، وفيه أن صيرورته بصيرا أمر مفروغ عنه مقطوع إنما الكلام في تسبب الإلقاء لإتيانه كذلك فهذا الوجه أرجح وإن كان الأول من الخلافة بالقبول بمنزل، وفيه دلالة على أنه عليه السلام قد ذهب بصره، وعلم يوسف عليه السلام بذلك يحتمل أن يكون بإعلامهم ويحتمل أن يكون بالوحي، وكذا علمه بما يترتب على الإلقاء يحتمل أن يكون عن وحي أيضا أو عن وقوف من قبل على خواص ذلك القميص بالتجربة أو نحوها إن كان المراد بالقميص الذي كان في التعويذة ويتعين الاحتمال الأول إن كان المراد غيره على ما هو الظاهر. وقال الإمام: يمكن أن يقال: لعل يوسف عليه السلام علم أن أباه ما عرا بصره ما عراه إلا من كثرة البكاء وضيق القلب فإذا ألقى عليه قميصه فلا بد وأن ينشرح صدره وأن يحصل في قلبه الفرح الشديد وذلك يقوي الروح ويزيل الضعف عن القوي فحينئذ يقوى بصره ويزول عنه ذلك النقصان فهذا القدر مما يمكن معرفته بالعقل فإن القوانين الطبية تدل على صحته وأنا لا أرى ذلك، قال الكلبي: وكان أولئك الأهل نحوا من سبعين إنسانا (1) وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس أنهم اثنان وسبعون من ولده وولد ولده، وقيل: ثمانون، وقيل: تسعون وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن مسعود أنهم ثلاثة وتسعون. وقيل: ست وتسعون وقد نموا في مصر فخرجوا منها مع موسى عليه السلام وهم ستمائة ألف وخمسمائة وبضعة وسبعون رجلا سوى الذرية والهرمى وكانت الذرية ألف ألف ومائتي ألف على ما قيل.   (1) وفي التوراة أن من دخل مصر من بني إسرائيل سبعون اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 50 وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ خرجت من عريش مصر قاصدة مكان يعقوب عليه السلام وكان قريبا من بيت المقدس والقول بأنه كان بالجزيرة لا يعول عليه، يقال: فصل من البلد يفصل فصولا إذا انفصل منه وجاوز حيطانه وهو لازم وفصل الشيء فصلا إذا فرقه وهو متعد. وقرأ ابن عباس «ولما انفصل العير» قالَ أَبُوهُمْ يعقوب عليه السلام لمن عنده إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ أي لأشم فهو وجود حاسة الشم أشمه الله تعالى ما عبق بالقميص من ريح يوسف عليه السلام من مسيرة ثمانية أيام على ما روي عن ابن عباس، وقال الحسن وابن جريج من ثمانين فرسخا، وفي رواية عن الحسن أخرى من مسيرة ثلاثين يوما. وفي أخرى عنه من مسيرة عشر ليال، وقد استأذنت الريح على ما روي عن أبي أيوب الهروي في إيصال عرف يوسف عليه السلام فأذن الله تعالى لها، وقال مجاهد: صفقت الريح القميص فراحت روائح الجنة في الدنيا واتصلت بيعقوب عليه السلام فوجد ريح الجنة فعلم أنه ليس في الدنيا من ريحها إلا ما كان من ذلك القميص فقال ما قال، ويبعد ذلك الإضافة فإنها حينئذ لأدنى ملابسة وهي فيما قبل وإن كانت كذلك أيضا إلا أنها أقوى بكثير منها على هذا كما لا يخفى لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ أي تنسبوني إلى الفند بفتحتين ويستعمل بمعنى الفساد (1) كما في قوله: إلا سليمان إذ قال الإله له ... قم في البرية فاحددها عن الفند وبمعنى ضعف الرأي والعقل من الهرم وكبر السن ويقال: فند الرجل إذا نسبه إلى الفند، وهو على ما قيل مأخوذ من الفند وهو الحجر كأنه جعل حجرا لقلة فهمه كما قيل: إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى ... فكن حجرا من يابس الصخر جلمد ثم اتسع فيه فقيل فنده إذا ضعف رأيه ولامه على ما فعل قال الشاعر: يا عاذليّ دعا لومي وتفنيدي ... فليس ما قلت من أمر بمردود وجاء أفند الدهر فلانا أفسده، قال ابن مقبل: دع الدهر يفعل ما أراد فإنه ... إذا كلف الافناد بالناس أفندا ويقال: شيخ مفند إذا فسد رأيه، ولا يقال: عجوز مفندة لأنها لا رأي لها في شبيبتها حتى يضعف قاله الجوهري وغيره من أهل اللغة، وذكره الزمخشري في الكشاف وغيره، واستغربه السمين ولعل وجهه أن لها عقلا وإن كان ناقصا يشتد نقصه بكبر السن فتأمل، وجواب لَوْلا محذوف أي لولا تفنيدكم إياي لصدقتموني أو لقلت: إن يوسف قريب مكانه أو لقاؤه أو نحو ذلك، والمخاطب قيل: من بقي من ولده غير الذين ذهبوا يمتارون وهم كثير، وقيل: ولد ولده ومن كان بحضرته من ذوي قرابته وهو المشهور قالُوا أي أولئك المخاطبون تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ أي لفي ذهابك عن الصواب قدما بالإفراط في محبة يوسف والإكثار من ذكره والتوقع للقائه وجعله فيه لتمكنه ودوامه عليه، وأخرج ابن جرير عن مجاهد أن الضلال هنا بمعنى الحب، وقال مقاتل: هو الشقاء والعناء، وقيل: الهلاك والذهاب من قولهم: ضل الماء في اللبن أي ذهب فيه وهلك. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير تفسيره بالجنون وهو مما لا يليق وكأنه لتفسير بمثل ذلك قال قتادة: لقد قالوا كلمة غليظة لا ينبغي أن يقولها مثلهم لمثله عليه السلام ولعلهم إنما قالوا ذلك لظنهم أنه مات.   (1) وجاء بمعنى الكذب كما في الصحاح وغيره اه منه. [ ..... ] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 51 فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ قال مجاهد: هو يهوذا. روي أنه قال لإخوته قد علمتم أني ذهبت إلى أبي بقميص الترحة فدعوني أذهب إليه بقميص الفرحة فتركوه. وفي رواية عن ابن عباس أنه مالك بن ذعر والرواية الشهيرة عنه ما تقدم، و «أن» صلة وقد أطردت زيادتها بعد لما. وقرأ ابن مسعود وعد ذلك قراءة تفسير «وجاء البشير من بين يدي العير» أَلْقاهُ أي ألقى البشير القميص عَلى وَجْهِهِ أي وجه يعقوب عليه السلام، وقيل: فاعل «ألقى» ضمير يعقوب عليه السلام أيضا والأول أوفق بقوله: فَأَلْقُوهُ على وجه أبي وهو يبعد كون البشير مالكا كما لا يخفى، والثاني قيل: هو الأنسب بالأدب ونسب ذلك إلى فرقد قال: إنه عليه السلام أخذه فشمه ثم وضعه على بصره فَارْتَدَّ بَصِيراً والظاهر أنه أريد بالوجه كله، وقد جرت العادة أنه متى وجد الإنسان شيئا يعتقد فيه البركة مسح به وجهه، وقيل: عبر بالوجه عن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 52 العينين لأنهما فيه، وقيل: عبر بالكل عن البعض «وارتد» عند بعضهم من أخوات كان وهي بمعنى صار- فبصيرا- خبرها وصحح أبو حيان أنها ليست من أخواتها- فبصيرا- حال، والمعنى أنه رجع إلى حالته الأولى من سلامة البصر. وزعم بعضهم أن في الكلام ما يشعر بأن بصره صار أقوى مما كان عليه لأن فعيلا من صيغ المبالغة وما عدل من يفعل إليه إلا لهذا المعنى. وتعقب بأن فعيلا هنا ليس للمبالغة إذ ما يكون لها هو المعدول عن فاعل وأما «بصير» هنا فهو اسم فاعل من بصر بالشيء فهو جار على قياس فعل نحو ظرف فهو ظريف ولو كان كما زعم بمعنى مبصر لم يكن للمبالغة أيضا لأن فعيلا بمعنى مفعل ليس للمبالغة نحو أليم وسميع، وأيّا ما كان فالظاهر أن عوده عليه السلام بصيرا بإلقاء القميص على وجهه ليس إلا من باب خرق العادة وليس الخارق بدعا في هذه القصة، وقيل: إن ذاك لما أنه عليه السلام انتعش حتى قوي قلبه وحرارته الغريزية فأوصل نوره إلى الدماغ وأداه إلى البصر، ومن هذا الباب استشفاء العشاق بما يهب عليهم من جهة أرض المعشوق كما قال: وإني لأستشفى بكل غمامة ... يهب بها من نحو أرضك ريح وقال آخر: ألا يا نسيم الصبح ما لك كلما ... تقربت منا فاح نشرك طيبا كأن سليمى نبئت بسقامنا ... فأعطتك رياها فجئت طبيبا إلى غير ذلك مما لا يحصى وهو قريب مما سمعته آنفا عن الإمام هذا، وجاء في بعض الأخبار أنه عليه السلام سأل البشير كيف يوسف؟ قال: ملك مصر فقال: ما أصنع بالملك على أي دين تركته؟ قال: على الإسلام قال: الآن تمت النعمة. وأخرج أبو الشيخ عن الحسن قال: لما جاء البشير إليه عليه السلام قال: ما وجدت عندنا شيئا وما اختبزنا منذ سبعة أيام ولكن هون الله تعالى عليك سكرات الموت، وجاء في رواية أنه قال له: ما أدري ما أثيبك اليوم ثم دعا له بذلك قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ يحتمل أن يكون خطابا لمن كان عنده من قبل أي ألم أقل لكم إني لأجد ريح يوسف، ويحتمل أن يكون خطابا لبنيه القادمين أي ألم أقل لكم لا تيأسوا من رحمة الله وهو الأنسب بقوله: إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ فإن مدار النهي العلم الذي أوتيه عليه السلام من جهة الله سبحانه، والجملة على الاحتمالين مستأنفة على الأخير يجوز أن تكون مقول القول أي ألم أقل لكم: حين أرسلتكم إلى مصر وأمرتكم بالتحسس ونهيتكم عن اليأس من روح الله تعالى أني أعلم من الله ما لا تعلمون من حياة يوسف عليه السلام، واستظهر في البحر كونها مقول القول وهو كذلك. قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا طلبوا منه عليه السلام الاستغفار، ونادوه بعنوان الأبوة تحريكا للعطف والشفقة وعللوا ذلك بقولهم: إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ أي ومن حق المعترف بذنبه أن يصفح عنه ويستغفر له، وكأنهم كانوا على ثقة من عفوه ولذلك اقتصروا على طلب الاستغفار وأدرجوا ذلك في الاستغفار، وقيل: حيث نادوه بذلك أرادوا ومن حق شفقتك علينا أن تستغفر لنا فإنه لولا ذلك لكنا هالكين لتعمد الإثم فمن ذا يرحمنا إذا لم ترحمنا وليس بذاك قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ روي عن ابن عباس مرفوعا أنه عليه السلام أخر الاستغفار لهم إلى السحر لأن الدعاء فيه مستجاب، وروي عنه أيضا كذلك أنه أخره إلى ليلة الجمعة (1) وجاء ذلك في حديث طويل رواه الترمذي وحسنه، وقيل: سوفهم إلى قيام الليل، وقال ابن جبير وفرقة: إلى الليالي البيض فإن الدعاء فيها   (1) وفي رواية إلى سحرها اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 53 يستجاب، وقال الشعبي: أخره حتى يسأل يوسف عليه السلام فإن عفا عنهم استغفر لهم، وقيل أخر ليعلم حالهم في صدق التوبة وتعقب بعضهم بعض هذه الأقوال بأن سوف تأبى ذلك لأنها أبلغ من السين في التنفيس فكان حقه على ذلك السين ورد بما في المغني من أن ما ذكر مذهب البصريين وغيرهم يسوي بينهما، وقال بعض المحققين: هذا غير وارد حتى يحتاج إلى الدفع لأن التنفيس التأخير مطلقا ولو أقل من ساعة فتأخيره إلى السحر مثلا ومضي ذلك اليوم محل للتنفيس بسوف، وقيل: أراد عليه السلام الدوام على الاستغفار لهم وهو مبني على أن السين وسوف يدلان على الاستمرار في المستقبل وفيه كلام للنحويين. نعم جاء في بعض الأخبار ما يدل على أنه عليه السلام استمر برهة من الزمان يستغفر لهم. أخرج ابن جرير عن أنس بن مالك قال إن الله تعالى لما جمع شمله ببنيه وأقر عينه خلا ولده نجيا فقال بعضهم لبعض: لستم قد علمتم ما صنعتم وما لقي منكم الشيخ وما لقي منكم يوسف قالوا بلى قال فيغركم عفوهما عنكم فكيف لكم بربكم واستقام أمرهم على أن أتوا الشيخ فجلسوا بين يديه ويوسف إلى جنبه فقالوا يا أبانا أتيناك في أمر لم نأتك في مثله قط ونزل بنا أمر لم ينزل بنا مثله حتى حركوه والأنبياء عليهم السلام أرحم البرية فقال: ما لكم يا بني؟ قالوا ألست قد علمت ما كان منا إليك وما كان منا إلى أخينا يوسف؟ قالا بلى قالوا أفلستما قد عفوتما؟ قالا بلى قالوا فإن عفو كما لا يغني عنا شيئا إن كان الله تعالى لم يعف عنا قال فما تريدون يا بني؟ قالوا: نريد أن تدعو الله سبحانه فإذا جاءك الوحي من عند الله تعالى بأنه قد عفا عما صنعنا قرت أعيننا واطمأنت قلوبنا وإلا فلا قرة عين في الدنيا لنا أبدا قال فقام الشيخ فاستقبل القبلة وقام يوسف عليه السلام خلفه وقاموا خلفهما أذلة خاشعين فدعا وأمن يوسف فلم يجب فيهم عشرين سنة حتى إذا كان رأس العشرين نزل جبريل على يعقوب عليهما السلام فقال: إن الله تعالى بعثني أبشرك بأنه قد أجاب دعوتك في ولدك وأنه قد عفا عما صنعوا وأنه قد عقد مواثيقهم من بعدك على النبوة، قيل: وهذا إن صح دليل على نبوتهم وإن ما صدر منهم كان قبل استنبائهم، والحق عدم الصحة وقد مر تحقيق المقام بما فيه كفاية فتذكر. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عائشة قال: ما تيب على ولد يعقوب إلا بعد عشرين سنة وكان أبوهم بين يديهم فما تيب عليهم حتى نزل جبريل عليه السلام فعلمه هذا الدعاء «يا رجاء المؤمنين لا تقطع رجاءنا يا غياث المؤمنين أغثنا يا معين المؤمنين أعنا يا محب التوابين تب علينا» فأخره إلى السحر فدعا به فتيب عليهم، وأخرج أبو عبيد وغيره عن ابن جريج أن ما سيأتي إن شاء الله متعلق بهذا وهو من تقديم القرآن وتأخيره والأصل سوف أستغفر لكم ربي إن شاء الله. وأنت تعلم أن هذا مما لا ينبغي الالتفات إليه فإن ذاك من كلام يوسف عليه السلام بلا مرية ولا أدري ما الداعي إلى ارتكابه ولعله محض الجهل. واعلم أنه ذكر بعض المتأخرين في الكلام على هذه الآية أن الصحيح أن أَسْتَغْفِرُ متعد إلى مفعولين يقال: استغفرت الله الذنب، وقد نص على ذلك ابن هشام وقد حذف من اسْتَغْفِرْ لَنا أولهما، وذكر ثانيهما وعكس الأمر في سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ ولعل السر والله سبحانه أعلم أن حذف الأول من الأول لإرادة التعميم أي استغفر لنا كل من أذنبنا في حقه ليشمله سبحانه وتعالى ويشمل يوسف وبنيامين وغيرهما ولم يحذف الثاني أيضا تسجيلا على أنفسهم باقتراف الذنوب لأن المقام مقام الاعتراف بالخطأ والاستعطاف لما سلف فالمناسب هو التصريح، وأما إثباته في الثاني فلأنه الأصل مع التنبيه على أن الأهم الذي ينبغي أن يصرف إليه الهم ويمحض له الوجه هو استغفار الرب واستجلاب رضاه فإنه سبحانه إذا رضي أرضى، على أن يوسف وأخاه قد ظهرت منهما مخايل العفو وأدركتهما رقة الأخوة، وأما حذف الثاني منه فللإيجاز لكونه معلوما من الأول مع قرب العهد بذكره اه، ولعل التسويف على هذا ليزداد انقطاعهم إلى الله تعالى فيكون ذلك أرجى لحصول المقصود فتأمل فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ روي أنه عليه السلام جهز الجزء: 7 ¦ الصفحة: 54 إلى أبيه جهازا ومائتي راحلة ليتجهز إليه بمن معه، وفي التوراة أنه عليه السلام أعطى لكل من إخوته خلعة وأعطى بنيامين ثلاثمائة درهم وخمس خلع وبعث لأبيه بعشرة حمير موقرة بالتحف وبعشرة أخرى موقرة براو طعاما. وجاء في بعض الأخبار أنه عليه السلام خرج هو والملك (1) في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر بأجمعهم لاستقباله فتلقوه عليه السلام وهو يمشي يتوكأ على يهوذا فنظر إلى الخيل والناس فقال: يا يهوذا أهذا فرعون مصر قال: لا يا أبت ولكن هذا ابنك يوسف قيل له: إنك قادم فتلقاك بما ترى، فلما لقيه ذهب يوسف عليه السلام ليبدأه بالسلام فمنع ذلك ليعلم أن يعقوب أكرم على الله تعالى منه فاعتنقه وقبله وقال: السلام عليك أيها الذاهب بالأحزان عني، وجاء أنه عليه السلام قال لأبيه: يا أبت بكيت علي حتى ذهب بصرك ألم تعلم أن القيامة تجمعنا؟ قال: بلى ولكن خشيت أن تسلب دينك فيحال بيني وبينك. وفي الكلام إيجاز والتقدير فرحل يعقوب عليه السلام بأهله وساروا حتى أتوا يوسف فلما دخلوا عليه وكان ذلك فيما قيل يوم عاشوراء آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ أي ضمهما إليه واعتنقهما، والمراد بهما أبوه وخالته ليا، وقيل: راحيل وليس بذاك، والخالة تنزل منزلة الأم لشفقتها كما ينزل العم منزلة الأب، ومن ذلك قوله: وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ [البقرة: 133] وقيل: إنه لما تزوجها بعد أمه صارت رابة ليوسف عليه السلام فنزلت منزلة الأم لكونها مثلها في زوجية الأب وقيامها مقامها والرابة تدعى أما وإن لم تكن خالة، وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وقال بعضهم: المراد أبوه وجدته أم أمه حكاه الزهراوي، وقال الحسن وابن إسحاق: إن أمه عليه السلام كانت بالحياة فلا حاجة إلى التأويل لكن المشهور أنها ماتت في نفاس بنيامين، وعن الحسن وابن إسحاق القول بذلك أيضا إلا أنهما قالا: إن الله تعالى أحياها له ليصدق رؤياه، والظاهر أنه لم يثبت ولو ثبت مثله لاشتهر، وفي مصحف عبد الله «آوى إليه أبويه وإخوته» وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ وكأنه عليه السلام ضرب في الملتقى خارج البلد مضربا فنزل فيه فدخلوا عليه فيه فآواهما إليه ثم طلب منهم الدخول في البلدة فهناك دخولان: أحدهما دخول عليه خارج البلدة، والثاني دخول في البلدة، وقيل: إنهم إنما دخلوا عليه عليه السلام في مصر وأراد بقوله: ادْخُلُوا مِصْرَ تمكنوا منها واستقروا فيها إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ أي من القحط وسائر المكاره، والاستثناء على ما في التيسير داخل في الأمن لا في الأمر بالدخول لأنه إنما يدخل في الوعد لا في الأمر. وفي الكشاف أن المشيئة تعلقت بالدخول المكيف بالأمن لأن القصد إلى اتصافهم بالأمن في دخولهم فكأنه قيل: أسلموا وآمنوا في دخولكم إن شاء الله والتقدير ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله دخلتم آمنين فحذف الجزاء لدلالة الكلام ثم اعترض بالجملة الجزائية بين الحال وذي الحال اه، وكأنه أشار بقوله: فكأنه قيل إلخ إلى أن في التركيب معنى الدعاء وإلى ذلك ذهب العلامة الطيبي، وقال في الكشف: إن فيه إشارة إلى أن الكيفية مقصودة بالأمر كما إذا قلت: ادخل ساجدا كنت آمرا بهما وليس فيه إشارة إلى أن في التركيب معنى الدعاء فليس المعنى على ذلك، والحق مع العلامة كما لا يخفى، وزعم صاحب الفرائد أن التقديم ادخلوا مصر إن شاء الله دخلتم آمنين، فآمنين متعلق بالجزاء المحذوف وحينئذ لا يفتقر إلى التقديم والتأخير وإلى أن يجعل الجزائية معترضة، وتعقب بأنه لا ارتياب أن هذا الاستثناء في أثناء الكلام كالتسمية في الشر وفيه للتيمن والتبرك واستعماله مع الجزاء كالشريعة المنسوخة فحسن موقعه في الكلام أن يكون معترضا فافهم وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عند نزولهم بمصر عَلَى الْعَرْشِ   (1) قيل: يقتضي أنه عليه السلام لم يكن ملكا وإنما كان على خزائنه كالعزيز والرواية مختلفة فيه فإنه قيل: إنه تسلطان وهو المشهور اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 55 على السرير كما قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما تكرم لهما فوق ما فعله بالإخوة وَخَرُّوا لَهُ أي أبواه وإخوته، وقيل: الضمير للإخوة فقط وليس بذاك فإن الرؤيا تقتضي أن يكون الأبوان والإخوة خروا له سُجَّداً أي على الجباه كما هو الظاهر، وهو كما قال أبو البقاء حال مقدرة لأن السجود يكون بعد الخرور وكان ذلك جائزا عندهم وهو جار مجرى التحية والتكرمة كالقيام والمصافحة وتقبيل اليد ونحوها من عادات الناس الفاشية في التعظيم والتوقير، قال قتادة: كان السجود تحية الملوك عندهم وأعطى الله تعالى هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة كرامة منه تعالى عجلها لهم، وقيل: ما كان ذلك إلا إيماء بالرأس، وقيل: كان كالركوع البالغ دون وضع الجبهة على الأرض، وقيل: المراد به التواضع ويراد بالخرور المرور كما في قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً [الفرقان: 73] فقد قيل: المراد لم يمروا عليها كذلك، وأنت تعلم أن اللفظ ظاهر في السقوط، وقيل: ونسب لابن عباس أن المعنى خروا لأجل يوسف سجدا لله شكرا على ما أوزعهم من النعمة، وتعقب بأنه يرده قوله تعالى: وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ إذ فيها رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يوسف: 4] ، ودفع بأن القائل به يجعل اللام للتعليل فيهما، وقيل: اللام فيهما بمعنى إلى كما في صلى للكعبة، قال حسان: ما كنت أعرف أن الدهر منصرف ... عن هاشم ثم منها عن أبي حسن أليس أول من صلى لقبلتكم ... وأعرف الناس بالأشياء والسنن وذكر الإمام أن القول بأن السجود كان لله تعالى لا ليوسف عليه السلام حسن، والدليل عليه أن قوله تعالى: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً مشعر بأنهم صعدوا ثم سجدوا ولو كان السجود ليوسف عليه السلام كان قبل الصعود والجلوس لأنه أدخل في التواضع بخلاف سجود الشكر لله تعالى، ومخالفة ظاهر الترتيب ظاهر المخالفة للظاهر، ودفع ما يرد عليه مما علمت بما علمت، ثم قال: وهو متعين عندي لأنه يبعد من عقل يوسف عليه السلام ودينه أن يرضى بأن يسجد له أبوه مع سابقته في حقوق الولادة والشيخوخة والعلم والدين وكمال النبوة. وأجيب بأن تأخير الخرور عن الرفع ليس بنص في المقصود لأن الترتيب الذكري لا يجب كونه على وفق الترتيب الوقوعي فلعل تأخيره عنه ليتصل به. ذكر كونه تعبير الرؤياء وما يتصل به، وبأنه يحتمل أن يكون الله تعالى قد أمر يعقوب بذلك لحكمة لا يعلمها إلا هو وكان يوسف عليه السلام عالما بالأمر فلم يسعه إلا السكوت والتسليم، وكأن في قوله: يا أَبَتِ [يوسف: 4] إلخ إشارة إلى ذلك كأنه يقول: يا أبت لا يليق بمثلك على جلالتك في العلم والدين والنبوة أن تسجد لولدك إلا أن هذا أمر أمرت به وتكليف كلفت به فإن رؤيا الأنبياء حق كما أن رؤيا إبراهيم ذبح ولده صار سببا لوجوب الذبح في اليقظة. ولذا جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه عليه السلام لما رأى سجود أبويه وإخوته له هاله ذلك واقشعر جلده منه، ولا يبعد أن يكون ذلك من تمام تشديد الله تعالى على يعقوب عليه السلام كأنه قيل له: أنت كنت دائم الرغبة في وصاله والحزن على فراقه فإذا وجدته فاسجد له. ويحتمل أيضا أنه عليه السلام إنما فعله مع عظم قدره لتتبعه الاخوة فيه لأن الأنفة ربما حملتهم على الأنفة منه فيجر إلى ثوران الأحقاد القديمة وعدم عفو يوسف عليه السلام. ولا يخفى أن الجواب عن الأول لا يفيد لما علمت أن مبناه موافقة الظاهر. والاحتمالات المذكورة في الجواب عن الثاني قد ذكرها أيضا الإمام وهي كما ترى، وأحسنها احتمال أن الله تعالى قد أمره بذلك لحكمة لا يعلمها إلا هو. ومن الناس من ذهب إلى أن ذلك السجود لم يكن إلا من الاخوة فرارا من نسبته إلى يعقوب عليه السلام لما علمت، وقد رد بما أشرنا إليه أولا من أن الرؤيا تستدعي العموم، وقد أجاب عن ذلك الإمام بأن تعبير الرؤيا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 56 لا يجب أن يكون مطابقا للرؤيا بحسب الصورة والصفة من كل الوجوه فسجود الكواكب والشمس والقمر يعبر بتعظيم الأكابر من الناس له عليه السلام، ولا شك أن ذهاب يعقوب وأولاده من كنعان إلى مصر لأجله في نهاية التعظيم له فكفى هذا القدر في صحة الرؤيا فأما أن يكون التعبير كالأصل حذو القذة بالقذة فلم يوجبه أحد من العقلاء اه، والحق أن السجود بأي معنى كان وقع من الأبوين والاخوة جميعا والقلب يميل إلى أنه كان انحناء كتحية الأعاجم وكثير من الناس اليوم ولا يبعد أن يكون ذلك بالخرور ولا بأس في أن يكون من الأبوين وهما على سرير ملكه ولا يأبى ذلك رؤياه عليه السلام مِنْ قَبْلُ أي من قبل سجودكم هذا أو من قبل هذه الحوادث والظرف متعلق- برؤياي- وجوز تعلقها بتأويل- لأنها أولت بهذا قبل وقوعها، وجوز أبو البقاء كونه متعلقا بمحذوف وقع حالا من رُءْيايَ وصحة وقوع الغايات حالا تقدم الكلام فيها قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا أي صدقا، والرؤيا توصف بذلك ولو مجازا، وأعربه جمع على أنه مفعول ثان لجعل وهي بمعنى صير، وجوز أن يكون حالا أي وضعها صحيحة وأن يكون صفة مصدر محذوف أي جعلا حقا وأن يكون مصدرا من غير لفظ الفعل بل من معناه لأن جعلها في معنى حققها و «حقا» في معنى تحقيق، والجملة على ما قال أبو البقاء حال مقدرة أو مقارنة وَقَدْ أَحْسَنَ بِي الأصل كما في البحر أن يتعدى الإحسان بإلى أو اللام كقوله تعالى: وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص: 7] وقد يتعدى بالباء كقوله تعالى: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [البقرة: 83، الأنعام: 151، الإسراء: 23] وكقول كثير عزة: أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... لدينا ولا مقلية إن تقلت وحمله بعضهم على تضمين أَحْسَنَ معنى لطف ولا يخفى ما فيه من اللطف إلا أن بعضهم أنكر تعدية- لطف- بالباء وزعم أنه لا يتعدى إلا باللام فيقال: لطف الله تعالى له أي أوصل إليه مراده بلطف وهذا ما في القاموس لكن المعروف في الاستعمال تعديه بالباء وبه صرح في الأساس وعليه المعول، وقيل: الباء بمعنى إلى، وقيل: المفعول محذوف أي أحسن صنعه بي فالباء متعلقة بالمفعول المحذوف، وفيه حذف المصدر وإبقاء معموله وهو ممنوع عند البصريين، وقوله: إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ منصوب- بأحسن- أو بالمصدر المحذوف عند من يرى جواز ذلك وإذا كانت تعليلية فالإحسان هو الإخراج من السجن بعد أن ابتلي به وما عطف عليه وإذا كانت ظرفية فهو غيرهما، ولم يصرح عليه السلام بقصة الجب حذرا من تثريب اخوته وتناسيا لما جرى منهم لأن الظاهر حضورهم لوقوع الكلام عقيب خرورهم سجدا ولأن الإحسان إنما تم بعد خروجه من السجن لوصوله للملك وخلوصه من الرق والتهمة واكتفاء بما يتضمنه قوله: وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ أي البادية، وأصله (1) البسيط من الأرض وإنما سمي بذلك لأن ما فيه يبدو للناظر لعدم ما يواريه ثم أطلق على البرية مطلقا، وكان منزلهم على ما قيل: بأطراف الشام ببادية فلسطين وكانوا أصحاب إبل وغنم، وقال الزمخشري: كانوا أهل عمد وأصحاب مواش ينتقلون في المياه والمناجع. وزعم بعضهم أن يعقوب عليه السلام إنما تحول إلى البادية بعد النبوة لأن الله تعالى لم يبعث نبيا من البادية. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: كان يعقوب عليه السلام قد تحول إلى بدا وسكنها ومنها قدم على يوسف وله بها مسجد تحت جبلها: قال ابن الأنباري: إن بدا اسم موضع معروف يقال: هو بين شعب وبدا وهما موضعان ذكرهما جميل (2) بقوله: وأنت الذي حببت شعبا إلى بدا ... إلي وأوطاني بلاد سواهما   (1) وأصل البدو مصدر بدا يبدو مصدر بدوا ثم سمي به اه منه. (2) وقيل كثير عزة اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 57 فالبدو على هذا قصد هذا الموضع يقال: بدا القوم بدوا إذا أتوا بدا كما يقال: أغاروا إذا أتوا الغور، فالمعنى أتى بكم من قصد بدا فهم حينئذ حضريون (1) كذا قاله الواحدي في البسيط وذكره القشيري وهو خلاف الظاهر جدا مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي أي أفسد وحرش، وأصله من نزغ الرابض الدابة إذا نخسها وحملها على الجري وأسند ذلك إلى الشيطان مجازا لأنه بوسوسته وإلقائه، وفيه تفاد عن تثريبهم أيضا، وذكره تعظيما لأمر الإحسان لأن النعمة بعد البلاء أحسن موقعا. واستدل الجبائي والكعبي والقاضي بالآية على بطلان الجبر وفيه نظر إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ أي لطيف التدبير له إذ ما من صعب إلا وتنفذ فيه مشيئته تعالى ويتسهل دونها كذا قاله غير واحد، وحاصله أن اللطيف هنا بمعنى العالم بخفايا الأمور المدبر لها والمسهل لصعابها، ولنفوذ مشيئته سبحانه فإذا أراد شيئا سهل أسبابه أطلق عليه جل شأنه اللطيف لأن ما يلطف يسهل نفوذه، وإلى هذا يشير كلام الراغب حيث قال: اللطيف ضد الكثيف ويعبر باللطيف عن الحركة الخفيفة وتعاطي الأمور الدقيقة فوصف الله تعالى به لعلمه بدقائق الأمور ورفقه بالعباد، فاللام متعلقة- بلطيف- لأن المراد مدبر لما يشاء على ما قاله غير واحد، وقال بعضهم: إن المعنى لأجل ما يشاء، وهو على الأول متعد باللام وعلى الثاني غير متعد بها وقد تقدم آنفا ما في ذلك إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بوجوه المصالح الْحَكِيمُ الذي يفعل كل شيء على وجه الحكمة لا غيره. روي أن يوسف طاف بأبيه عليهما السلام في خزائنه فلما أدخله خزينة القرطاس قال: يا بني ما أعقك عندك هذه القراطيس وما كتبت إلي على ثمان مراحل قال: أمرني جبريل قال: أو ما تسأله؟ قال: أنت أبسط مني إليه فسأله قال جبريل عليه السلام: الله تعالى أمرني بذلك لقولك: وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ [يوسف: 13] قال: فهلا خفتني وهذا عذر واضح ليوسف عليه السلام في عدم إعلام أبيه بسلامته. وقد صرح غير واحد بأنه عليه السلام أوحي إليه بإخفاء الأمر على أبيه إلى أن يبلغ الكتاب أجله، لكن يبقى السؤال بأن يعقوب عليه السلام كان من أكابر الأنبياء نفسا وأبا وجدا وكان مشهورا في أكناف الأرض ومن كان كذلك ثم وقعت له واقعة هائلة في أعز أولاده عليه لم تبق تلك الواقعة خفية بل لا بد وأن تبلغ في الشهرة إلى حيث يعرفها كل أحد لا سيما وقد انقضت المدة الطويلة فيها وهو في ذلك الحزن الذي تضرب فيه الأمثال ويوسف عليه السلام ليس بمكان بعيد عن مكانه ولا متوطنا زوايا الخفاء ولا خامل الذكر بل كان مرجع العام والخاص وداعيا إلى الله تعالى في السر والعلن وأوقات السرور والمحن فكيف غم أمره ولم يصل إلى أبيه خبره؟. وأجيب عن ذلك بأنه ليس إلا من باب خرق العادة، واختلفوا في مقدار المدة بين الرؤيا وظهور تأويلها فقيل: ثماني عشرة سنة، وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن الحسن أن المدة ثمانون سنة، وأخرج ابن جرير عن ابن جريج أنها سبع وتسعون سنة، وعن حذيفة أنها سبعون سنة، وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أنها خمس وثلاثون سنة، وأخرج جماعة عن سلمان الفارسي أنها أربعون سنة وهو قول الأكثرين، قال ابن شداد: وإلى ذلك ينتهي تأويل الرؤيا والله تعالى أعلم بحقائق الأمور. رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ أي بعضا عظيما منه- فمن- للتبعيض ويبعد القول بزيادتها أو جعلها لبيان الجنس والتعظيم من مقتضيات المقام، وبعضهم قدر عظيما في النظم الجليل على أنه مفعول به كما نقل أبو البقاء وليس بشيء، والظاهر أنه أراد من ذلك البعض ملك مصر ومن الْمُلْكِ ما يعم مصر وغيرها، ويفهم من كلام بعضهم جواز أن يراد من الملك مصر ومن البعض شيء منها وزعم أنه لا ينافي قوله تعالى: مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ   (1) وفي الحديث من يرد الله تعالى به خيرا ينقله من البادية إلى الحاضرة اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 58 يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ [يوسف: 56] لأنه لم يكن مستقلا فيه وإن كان ممكنا فيه وفيه تأمل، وقيل: أراد ملك نفسه من إنفاذ شهوته، وقال عطاء: ملك حساده بالطاعة ونيل الأماني وليس بذاك وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أي بعضا من ذلك كذلك، والمراد بتأويل الأحاديث إما تعليم تعبير الرؤيا وهو الظاهر وإما تفهيم غوامض أسرار الكتب الإلهية ودقائق سنن الأنبياء، وعلى التقديرين لم يؤت عليه السلام جميع ذلك، والترتيب على غير الظاهر ظاهر وأما على الظاهر فلعل تقديم إيتاء الملك على ذلك في الذكر لأنه بمقام تعداد النعم الفائضة عليه من الله سبحانه والملك أعرق في كونه نعمة من التعليم المذكور وإن كان ذلك أيضا نعمة جليلة في نفسه فتذكر وتأمل (1) . وقرأ عبد الله وابن ذر «آتيتن وعلمتن» بحذف الياء فيهما اكتفاء بالكسرة، وحكى ابن عطية عن الأخير «آتيتني» بغير «قد» فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي مبدعهما وخالقهما، ونصبه على أنه نعت- لرب- أو بدل أو بيان أو منصوب بأعني أو منادى ثان، ووصفه تعالى به بعد وصفه بالربوبية مبالغة في ترتيب مبادئ ما يعقبه من قوله: أَنْتَ وَلِيِّي متولي أموري ومتكفل بها أو موال لي وناصر فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فالوالي إما من الولاية أو الموالاة، وجوز أن يكون بمعنى المولى كالمعطى لفظا ومعنى أي الذي يعطيني نعم الدنيا والآخرة تَوَفَّنِي أقبضني مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ من آبائي على ما روي عن ابن عباس أو بعامة الصالحين في الرتبة والكرامة كما قيل، واعترض بأن يوسف عليه السلام من كبار الأنبياء عليهم السلام والصلاح أول درجات المؤمنين فكيف يليق به أن يطلب اللحاق بمن هو في البداية؟ وأجيب بأنه عليه السلام طلبه هضما لنفسه فسبيله سبيل استغفار الأنبياء عليهم السلام، ولا سؤال ولا جواب إذا أريد من الصالحين آباؤه الكرام يعقوب وإسحاق وإبراهيم عليهم السلام، وقال الإمام: هاهنا وهاهنا مقام آخر في الآية على لسان أصحاب المكاشفات وهو أن النفوس المفارقة إذا أشرقت بالأنوار الإلهية واللوامع القدسية فإذا كانت متناسبة متشاكلة انعكس النور الذي في كل واحد منها إلى الأخرى بسبب تلك الملاءمة والمجانسة فعظمت تلك الأنوار وتقوت هاتيك الأضواء، ومثال ذلك المرايا الصقيلة الصافية إذا وصفت وصفا متى أشرقت الشمس عليها انعكس الضوء من كل واحد منها إلى الأخرى فهناك يقوى الضوء ويكمل النور وينتهي في الاشراق والبريق إلى حد لا تطيقه الأبصار الضعيفة فكذلك هاهنا انتهى. وهو كما ترى، والحق أن يقال: إن الصلاح مقول بالتشكيك متفاوت قوة وضعفا والمقام يقتضي أنه عليه السلام أراد بالصالحين المتصفين بالمرتبة المعتنى بها من مراتب الصلاح، وقد قدمنا ما عند أهل المكاشفات في الصلاح فارجع إليه. بقي أن المفسرين اختلفوا في أن هذا هل هو منه عليه السلام تمني للموت وطلب منه أم لا؟ فالكثير منهم على أنه طلب وتمني لذلك، قال الإمام: ولا يبعد من الرجل العاقل إذا كمل عقله أن يتمنى الموت وتعظم رغبته فيه لأنه حينئذ يحس بنقصانه مع شغفه بزواله وعلمه بأن الكمال المطلق ليس إلا لله تعالى فيبقى في قلق لا يزيله إلا الموت فيتمناه، وأيضا يرى أن السعادة الدنيوية سريعة الزوال مشرفة على الفناء والألم الحاصل عند زوالها أشد من اللذة الحاصلة عند وجدانها مع أنه ليس هناك لذة إلا وهي ممزوجة بما ينغصها بل لو حققت لا ترى لذة حقيقية في هذه اللذائذ الجسمانية وإنما حاصلها دفع الآلام، فلذة الأكل عبارة عن دفع ألم الجوع، ولذة النكاح عبارة عن دفع الألم الحاصل بسبب الدغدغة المتولدة من حصول المني في أوعيته، وكذا الإمارة والرياسة يدفع بها الألم الحاصل بسبب شهوة الانتقام ونحو ذلك، والكل لذلك خسيس وبالموت التخلص عن الاحتياج إليه، على أن عمدة الملاذ الدنيوية الأكل والجماع والرياسة والكل في نفسه خسيس معيب، فإن الأكل عبارة عن ترطيب الطعام بالبزاق   (1) إشارة الى ما قيل: إنه لا يمكن تمشية هذا الاعتذار فيما سبق لأن التعليم هناك وارد على نهج العلة الغائية للتمكين فإن حمل على معنى التمليك لزم تأخره عنه وأما الواقع هاهنا فمجرد التأخير في الذكر والعطف بالواو لا يستدعي ذلك الترتيب في الوجود فافهم اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 59 المجتمع في الفم ولا شك أنه مستقذر في نفسه ثم حينما يصل إلى المعدة يظهر فيه الاستحالة والتعفن ومع ذا يشارك الإنسان فيه الحيوانات الخسيسة فيلتذ الجعل بالروث التذاذ الإنسان باللوزينج، وقد قال العقلاء: من كان همته ما يدخل في بطنه فقيمته ما يخرج من بطنه، والجماع نهاية ما يقال فيه: إنه إخراج فضلة متولدة من الطعام بمعونة جلدة مدبوغة بالبول ودم الحيض والنفاس مع حركات لو رأيتها من غيرك لأضحكتك، وفيه أيضا تلك المشاركة وغاية ما يرجى من ذلك تحصيل الولد الذي يجر إلى شغل البال والتحيل لجمع المال ونحو ذلك، والرياسة إذا لم يكن فيها سوى أنها على شرف الزوال في كل آن لكثرة من ينازع فيها ويطمح نظره إليها فصاحبها لم يزل خائفا وجلا من ذلك لكفاها عيبا، وقد يقال أيضا: إن النفس خلقت مجبولة على طلب اللذات والعشق الشديد لها والرغبة التامة في الوصول إليها فما دام في هذه الحياة الجسمانية يكون طالبا لها وما دام كذلك فهو في عين الآفات ولجة الحسرات، وهذا اللازم مكروه والملزوم مثله فلهذا يتمنى العاقل زوال هذه الحياة الجسمانية ليستريح من ذلك النصب، ولله تعالى قول من قال: ضجعة الموت رقدة يستريح الجسم فيها والعيش مثل السهاد وقال: تعب كلها الحياة فما اعجب إلا من راغب في ازدياد إن حزنا في ساعة الفوت أضعا ... ف سرور في ساعة الميلاد وقد ذكر غير واحد أن تمني الموت حبا للقاء الله تعالى مما لا بأس به، وقد روى الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها «من أحب لقاء الله تعالى أحب الله تعالى لقاءه» الحديث نعم تمني الموت عند نزول البلاء منهي عنه ففي الخبر لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، وقال قوم: إنه عليه السلام لم يتمن الموت وإنما عدد نعم الله تعالى عليه ثم دعا بأن تدوم تلك النعم في باقي عمره حتى إذا حان أجله قبضه على الإسلام وألحقه بالصالحين. والحاصل أنه عليه السلام إنما طلب الموافاة على الإسلام لا الوفاة، ولا يرد على القولين أنه من المعلوم أن الأنبياء عليهم السلام لا يموتون إلا مسلمين إما لأن الإسلام هنا بمعنى الاستسلام لكل ما قضاه الله تعالى أو لأن ذلك بيان لأنه وإن لم يتخلف ليس إلا بإرادة الله تعالى ومشيئته (1) والذاهبون إلى الأول قالوا إنه عليه السلام لم يأت عليه أسبوع حتى توفاه الله تعالى وكان الحسن يذهب إلى القول الثاني ويقول: إنه عليه السلام عاش بعد هذا القول سنين كثيرة وروى المؤرخون أن يعقوب عليه السلام أقام مع يوسف أربعا وعشرين سنة ثم توفي وأوصى أن يدفن بالشام إلى جنب أبيه فذهب به ودفنه ثمت وعاش بعده ثلاثا وعشرين سنة وقيل: أكثر ثم تاقت نفسه إلى الملك المخلد فتمنى الموت فتوفاه الله تعالى طيبا طاهرا فتخاصم أهل مصر في مدفنه حتى هموا بالقتال فرأوا أن يجعلوه في صندوق من مرمر ويدفنوه في النيل بحيث يمر عليه الماء ثم يصل إلى مصر ليكونوا شرعا فيه ففعلوا ثم أراد موسى عليه السلام نقله إلى مدفن آبائه فأخرجه بعد أربعمائة سنة على ما قيل: من صندوق المرمر لثقله وجعله في تابوت من خشب ونقله إلى ذلك، وكان عمره مائة وعشرين سنة، وقيل: مائة وسبع سنين، وقد ولد له من امرأة العزيز إفرائيم وهو جد يوشع عليه السلام وميشا ورحمة زوجة أيوب عليه السلام، ولقد توارثت الفراعنة من العمالقة بعده مصر ولم يزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا دين يوسف وآبائه عليهم السلام إلى أن بعث الله تعالى موسى عليه السلام فكان ما كان.   (1) والآية دليل لأهل السنة في أن الإيمان من الله تعالى كما قرره الامام فليراجع اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 60 وفي التوراة أن يوسف عليه السلام أسكن أباه وإخوته في مكان يقال له عين شمس من أرض السدير وبقي هناك سبع عشرة سنة وكان عمره حين دخل مصر مائة وثلاثين سنة ولما قرب أجله دعا يوسف عليه السلام فجاء ومعه ولداه (1) منشا وهو بكره وافرايم فقدمهما إليه ودعا لهما ووضع يده اليمنى على رأس الأصغر واليسرى على رأس الأكبر وكان يوسف يحب عكس ذلك فكلم أباه فيه فقال: يا بني إني لأعلم أن ما يتناسل من هذا الأصغر أكثر مما يتناسل من هذا الأكبر ودعا ليوسف عليه السلام وبارك عليه وقال: يا بني إني ميت كان الله تعالى معكم وردكم إلى بلد أبيكم يا بني إذا أنا مت فلا تدفنني في مصر وادفني في مقبرة آبائي وقال: نعم يا أبت وحلف له ثم دعا سائر بنيه وأخبرهم بما ينالهم في أيامهم ثم أوصاهم بالدفن عند آبائه في الأرض التي اشتراها إبراهيم عليه السلام من عفرون الختي في أرض الشام وجعلها مقبرة، وبعد أن فرغ من وصيته عليه السلام توفي فانكب يوسف عليه السلام يقبله ويبكي وأقام له حزنا عظيما وحزن عليه أهل مصر كثيرا ثم ذهب به يوسف وإخوته وسائر آله سوى الأطفال ومعهم قواد الملك ومشايخ أهل مصر ودفنوه في المكان الذي أراد ثم رجعوا، وقد توهم إخوة يوسف منه عليه السلام أن يسيء المعاملة معهم بعد موت أبيهم عليه السلام فلما علم ذلك منهم قال لهم: لا تخافوا إني أخاف الله تعالى ثم عزاهم وجبر قلوبهم ثم أقام هو وآل أبيه بمصر وعاش مائة وعشر سنين حتى رأى لافرايم ثلاثة بنين وولد بنو ما خير بن منشا في حجره أيضا، ثم لما أحس بقرب أجله قال لإخوته: إني ميت والله سبحانه سيذكر كم ويردكم إلى البلد الذي أقسم أن يملكه إبراهيم وإسحاق ويعقوب فإذا ذكركم سبحانه وردكم إلى ذلك البلد فاحملوا عظامي معكم ثم توفي عليه السلام فحنطوه وصيروه في تابوت بمصر وبقي إلى زمن موسى عليه السلام فلما خرج حمله حسبما أوصى عليه السلام (2) ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من أنباء يوسف عليه السلام، وما فيه من معنى البعد لما مر مرارا، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وهو مبتدأ وقوله تعالى: مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ الذي لا يحوم حوله أحد خبره، وقوله سبحانه: نُوحِيهِ إِلَيْكَ خبر بعد خبر أو حال من الضمير في الخبر، وجوز أن يكون ذلِكَ اسما موصولا مبتدأ ومِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ صلته ونُوحِيهِ إِلَيْكَ خبره وهو مبني على مذهب مرجوح من جعل سائر أسماء الإشارة موصولات. وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ يريد إخوة يوسف عليه السلام إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وهو جعلهم إياه في غيابة الجب وَهُمْ يَمْكُرُونَ به ويبغون له الغوائل، والجملة قيل: كالدليل على كون ذلك من أنباء الغيب وموحى إليه عليه الصلاة والسلام، والمعنى أن هذا النبأ غيب لم تعرفه إلا بالوحي لأنك لم تحضر إخوة يوسف عليه السلام حين عزموا على ما هموا به من أن يجعلوه في غيابة الجب وهم يمكرون به، ومن المعلوم الذي لا يخفى على مكذبيك أنك ما لقيت أحدا سمع ذلك فتعلمته منه، وهذا من المذهب الكلامي على ما نص عليه غير واحد وإنما حذف الشق الأخير مع أن الدال على ما ذكر مجموع الأمرين لعلمه من آية أخرى كقوله تعالى: ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ [هود: 49] وقال بعض المحققين: إن هذا تهكم بمن كذبه وذلك من حيث أنه تعالى جعل المشكوك فيه كونه عليه السلام   (1) بالنون في التوراة افرايم بالياء بعد الألف والمضبوط عندنا غير ذلك والأمر سهل اهـ منه. (2) وأخرج ابن ابي حاتم عن سعيد بن عبد العزيز أنه عليه السلام لم يعرف موضعه ولم يجد أحدا يخبره إلا امرأة يقال لها تارخ بنت شيرين بن يعقوب فاشترطت عليه أن تصير شابة كلما كبرت وأن تكون منه عليه السلام في درجته يوم القيامة ففعل بعد أن امتنع من الطلبة الثانية حتى أمر بإمضائها فدلته فأخرجه فعادت بنت ثلاثين وعمرت الفا وستمائة او اربعمائة سنة حتى أدركت سليمان عليه السلام فتزوجها اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 61 حاضرا بين يدي أولاد يعقوب عليه السلام ما كرين فنفاه بقوله: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ وإنما الذي يمكن أن يرتاب فيه المرتاب قبل التعرف هو تلقيه من أصحاب هذه القصة، وكان ظاهر الكلام أن ينفي ذلك فلما جعل المشكوك ما لا ريب فيه لأن كونه عليه الصلاة والسلام لم يلق أحدا ولا سمع كان عندهم كفلق الفجر جاء التهكم البالغ وصار حاصل المعنى قد علمتم يا مكابرة أنه لم يكن مشاهدا المن مضى من القرون الخالية وإنماركم لما أخبر به يفضي إلى أن تكابروا بأنه قد شاهد من مضى منهم، وهذا كقوله تعالى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا [الأنعام: 144] ومنه يظهر فائدة العدول عن أسلوب ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ إلى هذا الأسلوب وهو أبلغ مما ذكر أولا، وذكر لترك ذلك نكتة أخرى أيضا وهي أن المذكور مكرهم وما دبروه وهو مما أخفوه حتى لا يعلمه غيرهم فلا يمكن تعلمه من الغير ولا يخلو عن حسن، وأيّا ما كان ففي الآية إيذان بأن ما ذكر من النبأ هو الحق المطابق للواقع وما ينقله أهل الكتاب ليس على ما هو عليه: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ الظاهر للعموم، وقال ابن عباس: إنهم أهل مكة وَلَوْ حَرَصْتَ أي على إيمانهم وبالغت في إظهار الآيات القاطعة الدالة على صدقك عليهم بِمُؤْمِنِينَ لتصميمهم على الكفر وإصرارهم على العناد حسبما اقتضاه استعدادهم و «حرص» من باب ضرب وعلم وكلاهما لغة فصيحة، وجواب لَوْ محذوف للعلم به، والجملة معترضة بين المبتدأ والخبر. قال ابن الأنباري: سألت قريش واليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف عليه السلام فنزلت مشروحة شرحا وافيا فأمل عليه الصلاة والسلام أن يكون ذلك سبب إسلامهم، وقيل: إنهم وعدوه أن يسلموا فلما لم يفعلوا عزاه تعالى بذلك. وقيل: إنها نزلت في المنافقين، وقيل: في النصارى، وقيل: في المشركين فقط، وقيل: في أهل الكتاب فقط وقيل: في الثنوية وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ أي هذا الإنباء أو جنسه أو القرآن، وأيّا ما كان فالضمير عائد على ما يفهم مما قبله (1) والمعنى ما تطلب منهم على تبليغه مِنْ أَجْرٍ أي جعل ما كما يفعله حملة الأخبار إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ أي ما هو إلا تذكير وعظة من الله تعالى لِلْعالَمِينَ كافة، والجملة كالتعليل لما قبلها (2) لأن الوعظ العام ينافي أخذ الأجرة من البعض لأنه لا يختص بهم. وقيل: أريد انه ليس إلا عظة من الله سبحانه أمرت أن أبلغها فوجب علي ذلك فكيف أسأل أجرا على أداء الواجب وهو خلاف الظاهر، وعليه تكون الآية دليلا على حرمة أخذ الأجرة على أداء الواجبات. وقرأ مبشر بن عبيد «وما نسألهم» بالنون. وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ أي وكم من آية قال الجلال السيوطي: إن «كأي» اسم ككم التكثيرية الخبرية في المعنى مركب من كاف التشبيه وأي الاستفهامية المنونة وحكيت، ولهذا جاز الوقف عليها بالنون لأن التنوين لما دخل في التركيب أشبه النون الأصلية ولذا رسم في المصحف نونا، ومن وقف عليها بحذفه اعتبر حكمة في الأصل، وقيل: الكاف فيها هي الزائدة قال ابن عصفور: ألا ترى أنك لا تريد بها معنى التشبيه وهي مع ذا لازمة وغير متعلقة بشيء وأي مجرورها، وقيل: هي اسم بسيط واختاره أبو حيان قال: ويدل على ذلك تلاعب العرب بها في اللغات، وإفادتها للاستفهام نادر حتى أنكره الجمهور، ومنه قول أبي لابن مسعود: كأين تقرأ سورة الأحزاب آية؟ فقال: ثلاثا وسبعين، والغالب وقوعها خبرية ويلزمها الصدر فلا تجر خلافا لابن قتيبة. وابن عصفور ولا يحتاج إلى سماع، والقياس على كم يقتضي أن يضاف إليها ولا يحفظ ولا يخبر عنها إلا بجملة فعلية مصدرة بماض أو مضارع كما هنا، قال أبو حيان: والقياس أن تكون في موضع نصب على المصدر أو الظرف أو خبر كان كما كان ذلك في كم. وفي البسيط أنها   (1) وقيل الضمير لدين الله تعالى اه منه. (2) ومن تأمل ظهر له أن كونه عظة للعالمين عامة فيه ما ينافي أن يسأل الاجر من غير وجه فما ألطف التعليل بذلك فتأمل اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 62 تكون مبتدأ وخبرا ومفعولا ويقال فيها: كائن بالمد بوزن اسم الفاعل من كان ساكنة النون وبذلك، قرأ ابن كثير «وكأ» بالقصر بوزن «عم» و «كأي» بوزن رمي وبه، قرأ ابن محيصن «وكييء» بتقديم الياء على الهمزة. وذكر صاحب اللوامح أن الحسن قرأ «وكي» بياء مكسورة من غير همز ولا ألف ولا تشديد و «آية» في موضع التمييز ومِنْ زائدة، وجر تمييز كأين بها دائمي أو أكثري، وقيل: هي مبينة للتمييز المقدر، والمراد من الآية الدليل الدال على وجود الصانع ووحدته وكمال علمه وقدرته، وهي وإن كانت مفردة لفظا لكنها في معنى الجمع أي آيات لمكان كائن، والمعنى وكأي عدد شئت من الآيات الدالة على صدق ما جئت به غير هذه الآية فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي كائنة فيهما من الاجرام الفلكية وما فيها من النجوم وتغير أحوالها ومن الجبال والبحار وسائر ما في الأرض من العجائب الفائتة للحصر: وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد يَمُرُّونَ عَلَيْها يشاهدونها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ غير متفكرين فيها ولا معتبرين بها، وفي هذا من تأكيد تعزيه صلى الله عليه وسلم وذم القوم ما فيه، والظاهر أن فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ في موضع الصفة- لآية- وجملة يَمُرُّونَ خبر كَأَيِّنْ كما أشرنا إليه سابقا وجوز العكس، وقرأ عكرمة وعمرو بن قائد وَالْأَرْضِ بالرفع على أن في السموات هو الخبر- لكأين- وَالْأَرْضِ مبتدأ خبره الجملة بعده ويكون ضمير عَلَيْها للأرض لا للآيات كما في القراءة المشهورة، وقرأ السدي وَالْأَرْضِ بالنصب على أنه مفعول بفعل محذوف يفسره يَمُرُّونَ وهو من الاشتغال المفسر بما يوافقه في المعنى وضمير عَلَيْها كما هو فيما قبل أي ويطؤون الأرض يمرون عليها، وجوز أن يقدر يطؤون ناصبا للأرض وجملة يَمُرُّونَ حال منها أو من ضمير عاملها. وقرأ عبد الله «والأرض» بالرفع و «يمشون» بدل يَمُرُّونَ والمعنى على القراءات الثلاث أنهم يجيئون ويذهبون في الأرض ويرون آثار الأمم الهالكة وما فيها من الآيات والعبر ولا يتفكرون في ذلك. وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ في إقرارهم (1) بوجوده تعالى وخالقيته إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ به سبحانه، والجملة في موضع الحال من الأكثر أي ما يؤمن أكثرهم إلا في حال إشراكهم. قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والشعبي وقتادة: هم أهل مكة آمنوا وأشركوا كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك، ومن هنا كان صلى الله عليه وسلم إذا سمع أحدهم يقول: لبيك لا شريك لك يقول له: قط قط أي يكفيك ذلك ولا تزد إلا شريكا إلخ. وقيل: هم أولئك آمنوا لما غشيهم الدخان في سني القحط وعادوا إلى الشرك بعد كشفه. وعن ابن زيد وعكرمة وقتادة ومجاهد أيضا أن هؤلاء كفار العرب مطلقا أقروا بالخالق الرازق المميت وأشركوا بعبادة الأوثان والأصنام، وقيل: أشركوا بقولهم: الملائكة بنات الله سبحانه. وعن ابن عباس أيضا أنهم أهل الكتاب أقروا بالله تعالى وأشركوا به من حيث كفروا بنبيه صلى الله عليه وسلم أو من حيث عبدوا عزيزا والمسيح عليهما السلام. وقيل: أشركوا بالتبني واتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا. وقيل: هم الكفار الذين يخلصون في الدعاء عند الشدة ويشركون إذا نجوا منها وروي ذلك عن عطاء، وقيل: هم الثنوية قالوا بالنور والظلمة. وقيل: هم المنافقون جهروا بالإيمان وأخفوا الكفر ونسب ذلك للبلخي، وعن الحبر أنهم المشبهة آمنوا مجملا وكفروا مفصلا. وعن الحسن أنهم المراءون بأعمالهم والرياء شرك خفي، وقيل: هم المناظرون إلى الأسباب المعتمدون عليها، وقيل: هم الذين   (1) اشارة الى أنه ايمان لساني إذ لا اعتقاد به مع الشرك اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 63 يطيعون الخلق بمعصية الخالق، وقد يقال نظرا إلى مفهوم الآية: إنهم من يندرج فيهم كل من أقر بالله تعالى وخالقيته مثلا وكان مرتكبا ما يعد شركا كيفما كان، ومن أولئك عبدة القبور الناذرون لها المعتقدون للنفع والضر ممن الله تعالى أعلم بحاله فيها وهم اليوم أكثر من الدود، واحتجت الكرامية بالآية على أن الإيمان مجرد الإقرار باللسان وفيه نظر أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أي عقوبة تغشاهم وتشملهم، والاستفهام انكار فيه معنى التوبيخ والتهديد كما في البحر، والكلام في العطف ومحل الاستفهام في الحقيقة مشهور وقد مر غير مرة، والمراد بهذه العقوبة ما يعم الدنيوية والأخروية على ما قيل. وفي البحر ما هو صريح في الدنيوية للمقابلة بقوله سبحانه: أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً فجأة من غير سابقة علامة وهو الظاهر وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بإتيانها غير مستعدين لها قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أي هذه السبيل التي هي الدعوة إلى الإيمان والتوحيد سبيلي كذا قالوا، والظاهر أنهم أخذوا الدعوة إلى الإيمان من قوله تعالى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: 103] لإفادة أنه يدعوهم إلى الإيمان بجد وحرص وإن لم ينفع فيهم، والدعوة إلى التوحيد من قوله سبحانه: وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ لدلالته على أن كونه ذكرا لهم لاشتماله على التوحيد لكنهم لا يرفعون له رأسا كسائر آيات الآفاق والأنفس الدالة على توحده تعالى ذاتا وصفات، وفسر ذلك بقوله تعالى: أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ أي أدعو الناس إلى معرفته سبحانه بصفات كماله ونعوت جلاله ومن جملتها التوحيد فالجملة لا محل لها من الإعراب، وقيل: إن الجملة في موضع الحال من الياء والعامل فيها معنى الإشارة. وتعقب بأن الحال في مثله من المضاف إليه مخالفة للقواعد ظاهرا وليس ذلك مثل أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [النحل: 123] واعترض أيضا بأن فيه تقييد الشيء بنفسه وليس ذاك عَلى بَصِيرَةٍ أي بيان وحجة واضحة غير عمياء، والجار والمجرور في موضع الحال من ضمير «أدعو» وزعم أبو حيان أن الظاهر تعلقه- بأدعو- وقوله تعالى: أَنَا تأكيد لذلك الضمير أو للضمير الذي في الحال، وقوله تعالى: وَمَنِ اتَّبَعَنِي عطف على ذي الحال، ونسبة أَدْعُوا إليه من باب التغليب كما قرر في قوله تعالى: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة: 35، الأعراف: 19] ومنهم من قدر في مثله فعلا عاملا في المعطوف ولم يعول عليه المحققون، ومنع عطفه على أَنَا لكونه تأكيدا ولا يصح في المعطوف كونه تأكيدا كالمعطوف عليه. واعترض بأن ذلك غير لازم كما يقتضيه كلام المحققين، وجوز كون مَنِ مبتدأ خبره محذوف أي ومن اتبعني كذلك أي داع وأن يكون عَلى بَصِيرَةٍ خبرا مقدما وأَنَا مبتدأ وَمَنِ عطف عليه، وقوله تعالى: وَسُبْحانَ اللَّهِ أي وأنزهه سبحانه وتعالى تنزيها من الشركاء، وهو داخل تحت القول وكذا وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ في وقت من الأوقات، والكلام مؤكد لما سبق من الدعوة إلى الله تعالى. وقرأ عبد الله «قل هذا سبيلي» على التذكير والسبيل تؤنث وقد تذكر وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا رد لقولهم: لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [المؤمنون: 24] ونفي له، وقيل: المراد نفي استنباء النساء ونسب ذلك إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وزعم بعضهم أن الآية نزلت (1) في سجاح بنت المنذر المنبئة التي يقول فيها الشاعر: أمست نبيتنا أنثى نطوف بها ... ولم تزل أنبياء الله ذكرانا فلعنة الله والأقوام كلهم ... على سجاح ومن بالإفك أغرانا أعني مسيلمة الكذاب لاسقيت ... اصداؤه ماء مزن أينما كانا وهو مما لا صحة له لأن ادعاءها النبوة كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم وكونه إخبارا بالغيب لا قرينة عليه نُوحِي إِلَيْهِمْ   (1) وهي تميمية ادعت النبوة ثم أسلمت وحسن إسلامها وقصتها معروفة في التواريخ اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 64 كما أوحينا إليك. وقرأ أكثر السبعة «يوحي» بالياء وفتح الحاء مبنيا للمفعول، وقراءة النون وهي قراءة حفص وطلحة وأبي عبد الرحمن موافقة لأرسلنا مِنْ أَهْلِ الْقُرى لأن أهلها كما قال ابن زيد وغيره: وهو مما لا شبهة فيه أعلم وأحلم من أهل البادية ولذا يقال: لأهل البادية أهل الجفاء، وذكروا أن التبدي مكروه إلا في الفتن، وفي الحديث «من بدا جفا» قال قتادة: ما نعلم أن الله تعالى أرسل رسولا قط إلا من أهل القرى، ونقل عن الحسن أنه قال: لم يبعث رسول من أهل البادية ولا من النساء ولا من الجن، وقوله تعالى: وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ [يوسف: 100] قد مر الكلام فيه آنفا. أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من المكذبين بالرسل والآيات من قوم نوح وقوم لوط وقوم صالح وسائر من عذبه الله تعالى فيحذروا تكذيبك وروي هذا عن الحسن، وجوز أن يكون المراد عاقبة الذين من قبلهم من المشغوفين بالدنيا المتهالكين عليها فيقلعوا ويكفوا عن حبها وكأنه لا حظ المجوز ما سيذكر، والاستفهام على ما في البحر للتقريع والتوبيخ وَلَدارُ الْآخِرَةِ من إضافة الصفة إلى الموصوف عند الكوفية أي ولا الدار الآخرة وقدر البصري موصوفا أي ولدار الحال أو الساعة أو الحياة الآخرة وهو المختار عند الكثير في مثل ذلك خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك والمعاصي: أَفَلا تَعْقِلُونَ فتستعملوا عقولكم لتعرفوا خيرية دار الآخرة فتتوسلوا إليها بالاتقاء، قيل: إن هذا من مقول «قل» أي قل لهم مخاطبا أفلا تعقلون فالخطاب على ظاهره، وقوله سبحانه: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إلى مِنْ قَبْلِهِمْ أو اتَّقَوْا اعتراض بين مقول القول، واستظهر بعضهم كون هذا التفاتا. وقرأ جماعة يعقلون بالياء رعيا لقوله سبحانه: أَفَلَمْ يَسِيرُوا حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ غاية لمحذوف دل عليه السباق والتقدير عند بعضهم لا يغرنهم تماديهم فيما هم فيه من الدعة والرخاء فإن من قبلهم قد أمهلوا حتى يئس الرسل من النصر عليهم في الدنيا أو من إيمانهم لانهماكهم في الكفر وتماديهم في الطغيان من غير وازع، وقال أبو الفرج بن الجوزي: التقدير وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا فدعوا قومهم فكذبوهم وصبروا وطال دعاؤهم وتكذيب قومهم حتى إذا استيأس إلخ، وقال القرطبي: التقدير وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا ثم لم نعاقب أممهم حتى إذا استيأس إلخ، وقال الزمخشري: التقدير وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا فتراخى النصر حتى إذا إلخ، ولعل الأول أولى وإن كان فيه كثرة حذف، والاستفعال بمعنى المجرد كما أشرنا إليه وقد مر الكلام في ذلك وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا بالتخفيف والبناء للمفعول وهي قراءة علي كرم الله تعالى وجهه وأبي وابن مسعود وابن عباس ومجاهد، وطلحة والأعمش، والكوفيين، واختلف في توجيه الآية على ذلك فقيل: الضمائر الثلاثة للرسل والظن بمعنى التوهم لا بمعناه الأصلي ولا بمعناه المجازي أعني اليقين وفاعل كُذِبُوا المقدر إما أنفسهم أو رجاؤهم فإنه يوسف بالصدق والكذب أي كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم بأنهم ينصرون أو كذبهم رجاؤهم النصر، والمعنى أن مدة التكذيب والعداوة من الكفار وانتظار النصر من الله تعالى قد تطاولت وتمادت حتى استشعروا القنوط وتوهموا أن لا نصر لهم في الدنيا جاءَهُمْ نَصْرُنا فجأة وقيل: الضمائر كلها للرسل والظن بمعناه وفاعل كُذِبُوا المقدر من أخبرهم عن الله تعالى وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقد أخرج الطبراني وغيره عن عبد الله بن أبي مليكة قال: إن ابن عباس قرأ قَدْ كُذِبُوا مخففة ثم قال: يقول أخلفوا وكانوا بشرا وتلا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة: 214] قال ابن أبي مليكة: فذهب ابن عباس إلى أنهم يئسوا وضعفوا فظنوا أنهم قد أخلفوا وروى ذلك عنه البخاري في الصحيح، واستشكل هذا بأن فيه ما لا يليق نسبته إلى الأنبياء عليهم السلام بل إلى صالحي الأمة ولذا نقل عن عائشة رضي الله تعالى عنها ذلك، فقد أخرج البخاري والنسائي وغيرهما من طريق عروة أنه سأل عائشة رضي الله تعالى عنها عن هذه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 65 الآية قال: قلت أكذبوا أم كذبوا؟ فقالت عائشة: بل كذبوا يعني بالتشديد قلت: والله لقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن قالت: أجل لعمري لقد استيقنوا بذلك فقلت: لعله وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا مخففة قالت: معاذ الله تعالى لم تكن الرسل لتظن ذلك بربها قلت: فما هذه الآية؟ قالت: هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم وطال عليهم البلاء واستأخر عنهم النصر حتى إذا استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم جاء نصر الله تعالى عند ذلك. وأجاب بعضهم بأنه يمكن أن يكون أراد رضي الله تعالى عنه بالظن ما يخطر بالبال ويهجس بالقلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية، وذهب المجد بن تيمية إلى رجوع الضمائر جميعها أيضا إلى الرسل مائلا إلى ما روي عن ابن عباس مدعيا أنه الظاهر وأن الآية على حد قوله تعالى: إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ [الحج: 52] فإن الإلقاء في قلبه وفي لسانه وفي علمه من باب واحد والله تعالى ينسخ ما يلقي الشيطان، ثم قال: والظن لا يراد به في الكتاب والسنة الاعتقاد الراجح كما هو في اصطلاح طائفة من أهل العلم ويسمون الاعتقاد المرجوح وهما فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث» وقال سبحانه: إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً [النجم: 28] فالاعتقاد المرجوح هو ظن وهو وهم، وهذا قد يكون ذنبا يضعف الإيمان ولا يزيله وقد يكون حديث النفس المعفو عنه كما قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل» وقد يكون من باب الوسوسة التي هي صريح الإيمان كما ثبت في الصحيح أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم قالوا: يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما أن يحرق حتى يصير حمما أو يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به قال صلى الله عليه وسلم: «أو قد وجدتموه؟ قالوا: نعم. قال: ذلك صريح الإيمان» وفي حديث آخر «إن أحدنا ليجد ما يتعاظم أن يتكلم به قال: الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة» ونظير هذا ما صح من قوله صلى الله عليه وسلم: «نحن أحق بالشك من إبراهيم عليه السلام إذ قال له ربه: أو لم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبى» فسمى النبي صلى الله عليه وسلم التفاوت بين الإيمان والاطمئنان شكا بإحياء الموتى، وعلى هذا يقال: الوعد بالنصر في الدنيا لشخص قد يكون الشخص مؤمنا بإنجازه ولكن قد يضطرب قلبه فيه فلا يطمئن فيكون فوات الاطمئنان ظنا أنه كذب، فالشك والظن أنه كذب من باب واحد وهذه الأمور لا تقدح في الإيمان الواجب وإن كان فيها ما هو ذنب، فالأنبياء عليهم السلام معصومون من الإقرار على ذلك كما في أفعالهم على ما عرف من أصول السنة والحديث، وفي قص مثل ذلك عبرة للمؤمنين بهم عليهم السلام فإنهم لا بد أن يبتلوا بما هو أكثر من ذلك فلا ييأسوا إذا ابتلوا ويعلمون أنه قد ابتلي من هو خير منهم وكانت العاقبة إلى خير فيتيقن المرتاب ويتوب المذنب ويقوى إيمان المؤمن وبذلك يصح الاتساء بالأنبياء، ومن هنا قال سبحانه: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ ولو كان المتبوع معصوما مطلقا لا يتأتى الاتساء فإنه يقول التابع أنا لست من جنسه فإنه لا يذكر بذنب فإذا أذنب استيأس من المتابعة والاقتداء لما أتى به من الذنب الذي يفسد المتابعة على القول بالعصمة بخلاف ما إذا علم أنه قد وقع شيء وجبر بالتوبة فإنه يصح حينئذ أمر المتابعة كما قيل: أول من أذنب وأجرم ثم تاب وندم أبو البشر آدم ومن يشابه به فما ظلم. ولا يلزم الاقتداء بهم فيما نهوا عنه ووقع منهم ثم تابوا عنه لتحقق الأمر بالاقتداء بهم فيما أقروا عليه ولم ينهوا عنه ووقع منهم ولم يتوبوا منه، وما ذكر ليس بدون المنسوخ من أفعالهم وإذا كان ما أمروا به وأبيح لهم ثم نسخ تنقطع فيه المتابعة فما لم يؤمروا به ووقع منهم وتابوا عنه أحرى وأولى بانقطاع المتابعة فيه اه. ولا يخفى أن ما ذكره مستلزم لجواز وقوع الكبائر من الأنبياء عليهم السلام وحاشاهم من غير أن يقروا على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 66 ذلك والقول به جهل عظيم ولا يقدم عليه ذو قلب سليم، على أن في كلامه بعد ما فيه، وليته اكتفى بجعل الضمائر للرسل وتفسير الظن بالتوهم كما فعل غيره فإنه ما لا بأس به، وكذا لا بأس في حمل كلام ابن عباس على أنه أراد بالظن فيه ما هو على طريق الوسوسة ومثالها من حديث النفس فإن ذلك غير الوسوسة المنزه عنها الأنبياء عليهم السلام أو على أنه أراد بذلك المبالغة في التراخي وطول المدة على طريق الاستعارة التمثيلية بأن شبه المبالغة في التراخي بظن الكذب باعتبار استلزام كل منهما لعدم ترتب المطلوب فاستعمل ما لأحدهما في الآخر، وقيل: إن الضمائر الثلاثة للمرسل إليهم لأن ذكر الرسل متقاض ذاك، ونظير ذلك قوله: أمنك البرق أرقبه فهاجا ... وبت أخاله دهما خلاجا فإن ضمير إخاله للرعد ولم يصرح به بل اكتفى بوميض البرق عنه، وإن شئت قلت: إن ذكرهم قد جرى في قوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فيكون الضمير للذين من قبلهم ممن كذب الرسل عليهم السلام، والمعنى ظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم فيما ادعوه من النبوة وفيما وعدوا به من لم يؤمن من العقاب وروي ذلك عن ابن عباس أيضا، فقد أخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور والنسائي وابن جرير وغيرهم من طرق عنه رضي الله تعالى عنه أنه كان يقرأ «كذبوا» مخففة ويقول: حتى إذا يئس الرسل من قومهم أن يستجيبوا لهم وظن قومهم أن الرسل قد كذبوهم فيما جاؤوا به جاء الرسل نصرنا، وروي ذلك أيضا عن سعيد بن جبير أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ربيعة بن كلثوم قال: حدثني أبي أن مسلم بن يسار سأل سعيد بن جبير فقال: يا أبا عبد الله آية قد بلغت مني كل مبلغ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا فإن الموت أن تظن الرسل أنهم قد كذبوا مثقلة أو تظن أنهم قد كذبوا مخففة فقال سعيد: حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يستجيبوا لهم وظن قومهم أن الرسل كذبتهم جاءهم نصرنا فقام مسلم إليه فاعتنقه وقال: فرج الله تعالى عنك كما فرجت عني، وروي أنه قال ذلك بمحضر من الضحاك فقال له: لو رحلت في هذه إلى اليمن لكان قليلا، وقيل: ضمير ظَنُّوا للمرسل إليهم وضمير أَنَّهُمْ وكُذِبُوا للرسل عليهم السلام أي وظنوا أن الرسل عليهم السلام أخلفوا فيما وعد لهم من النصر وخلط الأمر عليهم. وقرأ غير واحد من السبعة والحسن وقتادة ومحمد بن كعب وأبو رجاء وابن أبي مليكة والأعرج وعائشة في المشهور كُذِبُوا بالتشديد والبناء للمفعول، والضمائر على هذا للرسل عليهم السلام أي ظن الرسل أن أممهم كذبوهم فيما جاؤوا به لطول البلاء عليهم فجاءهم نصر الله تعالى عند ذلك وهو تفسير عائشة رضي الله تعالى عنها الذي رواه البخاري عليه الرحمة، والظن بمعناه أو بمعنى اليقين أو التوهم، وعن ابن عباس ومجاهد والضحاك أنهم قرؤوا «كذبوا» مخففا مبنيا للفاعل فضمير ظَنُّوا للأمم وضمير أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا للرسل أي ظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوا فيما وعدوهم به من النصر أو العقاب، وجوز أن يكون ضمير ظَنُّوا للرسل وضمير أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا للمرسل إليهم أي ظن الرسل عليهم السلام أن الأمم كذبتهم فيما وعدوهم به من أنهم يؤمنون، والظن الظاهر كما قيل: إنه بمعنى اليقين، وقرئ كما قال أبو البقاء: كُذِبُوا بالتشديد والبناء للفاعل، وأول ذلك بأن الرسل عليهم السلام ظنوا أن الأمم قد كذبوهم في وعدهم هذا، والمشهور استشكال الآية من جهة أنها متضمنة ظاهرا على القراءة الأولى، نسبة ما لا يليق من الظن إلى الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام، واستشكل بعضهم نسبة الاستيئاس إليهم عليهم السلام أيضا بناء على أن الظاهر أنهم استيأسوا مما وعدوا به وأخبروا بكونه فإن ذلك أيضا مما لا يليق نسبته إليهم. وأجيب بأنه لا يراد ذلك وإنما يراد أنهم استيأسوا من إيمان قومهم. واعترض بأنه يبعده عطف وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا الظاهر في أنهم ظنوا كونهم مكذوبين فيما وعدوا به عليه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 67 وذكر المجد في هذا المقام تحقيقا غير ما ذكره أولا وهو أن الاستيئاس وظن أنهم مكذوبين كليهما متعلقان بما ضم للموعود به اجتهادا، وذلك أن الخبر عن استيئاسهم مطلق وليس في الآية ما يدل على تقييده بما وعدوا به وأخبروا بكونه وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن الله تعالى إذا وعد الرسل بنصر مطلق كما هو غالب اخباراته لم يعين زمانه ولا مكانه ولا صفته، فكثيرا ما يعتقد الناس في الموعود به صفات أخرى لم يدل عليها خطاب الحق تعالى بل اعتقدوها بأسباب أخرى كما اعتقد طائفة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم إخبار النبي صلى الله عليه وسلم لهم أنهم يدخلون المسجد الحرام ويطوفون به أن ذلك يكون عام الحديبية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج معتمرا ورجا أن يدخل مكة ذلك العام ويطوف ويسعى فلما استيئسوا من ذلك ذلك العام لما صدهم المشركون حتى قاضاهم عليه الصلاة والسلام على الصلح المشهور بقي في قلب بعضهم شيء حتى قال عمر رضي الله تعالى عنه مع أنه كان من المحدثين: ألم تخبرنا يا رسول الله أنا ندخل البيت ونطوف؟ قال: بلى أفأخبرتك إنك تدخله هذا العام؟ قال: لا. قال: إنك داخله ومطوف به، وكذلك قال له أبو بكر رضي الله تعالى عنه فبين له أن الوعد منه عليه الصلاة والسلام كان مطلقا غير مقيد بوقت، وكونه صلى الله عليه وسلم سعى في ذلك العام إلى مكة وقصدها لا يوجب تخصيصا لوعده تعالى بالدخول في تلك السنة، ولعله عليه الصلاة والسلام إنما سعى بناء على ظن أن يكون الأمر كذلك فلم يكن، ولا محذور في ذلك فليس من شرط النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون كل ما قصده، بل من تمام نعمة الله تعالى عليه أن يأخذ به عما يقصده إلى أمر آخر هو أنفع مما قصده إن كان كما كان في عام الحديبية، ولا يضر أيضا خروج الأمر على خلاف ما يظنه عليه الصلاة والسلام، فقد روى مسلم في صحيحه أنه عليه الصلاة والسلام قال في تأبير النخل: «إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله تعالى شيئا فخذوا به فإني لن أكذب على الله تعالى» ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ذي اليدين: «ما قصرت الصلاة ولا نسيت ثم تبين النسيان» وفي قصة الوليد بن عقبة النازل فيها إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات: 6] الآية وقصة بني أبيرق النازل فيها إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً [النساء: 105] ما فيه كفاية في العلم بأنه صلى الله عليه وسلم قد يظن الشيء فيبينه الله تعالى على وجه آخر، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو- هو- هكذا فما ظنك بغيره من الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، ومما يزيد هذا قوة أن جمهور المحدثين والفقهاء على أنه يجوز للأنبياء عليهم السلام الاجتهاد في الأحكام الشرعية ويجوز عليهم الخطأ في ذلك لكن لا يقرون عليه فإنه لا شك أن هذا دون الخطأ في ظن ما ليس من الأحكام الشرعية في شيء، وإذا تحقق ذلك فلا يبعد أن يقال: إن أولئك الرسل عليهم السلام أخبروا بعذاب قومهم ولم يعين لهم وقت له فاجتهدوا وعينوا لذلك وقتا حسبما ظهر لهم كما عين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية لدخول مكة فلما طالت المدة استيأسوا وظنوا كذب أنفسهم وغلط اجتهادهم وليس في ذلك ظن بكذب وعده تعالى ولا مستلزما له أصلا فلا محذور. وأنت تعلم أن الأوفق بتعظيم الرسل عليهم السلام والأبعد عن الحوم حول حمى ما لا يليق بهم القول بنسبة الظن إلى غيرهم صلى الله عليه وسلم والله تعالى أعلم، والظاهر أن ضمير جاءَهُمْ على سائر القراءات والوجوه للرسل، وقيل: إنه راجع إليهم وإلى المؤمنين جاء الرسل ومن آمن بهم نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ انجاءه وهم الرسل والمؤمنون بهم، وإنما لم يعينوا للإشارة إلى أنهم الذين يستأهلون أن يشاء نجاتهم ولا يشاركهم فيه غيرهم. وقرأ عاصم وابن عامر ويعقوب «فنجّي» بنون واحدة وجيم مشددة وياء مفتوحة على أنه ماض مبني للمفعول ومَنْ نائب الفاعل. وقرأ مجاهد والحسن والجحدري وطلحة وابن هرمز كذلك إلا أنهم سكنوا الياء، وخرجت على أن الفعل ماض أيضا كما في القراءة التي قبلها إلا أنه سكنت الياء على لغة من يستثقل الحركة على الياء مطلقا، ومنه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 68 قراءة من قرأ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ [المائدة: 89] بسكون الياء، وقيل: الأصل ننجي بنونين فأدغم النون في الجيم. ورده أبو حيان بأنها لا تدغم فيها، وتعقب بأن بعضهم قد ذهب إلى جواز ادغامها ورويت هذه القراءة عن الكسائي ونافع، وقرأت فرقة كما قرأ باقي السبعة بنونين مضارع أنجى إلا أنهم فتحوا الياء، ورواها هبيرة عن حفص عن عاصم، وزعم ابن عطية أن ذلك غلط من هبيرة إذ لا وجه للفتح، وفيه أن الوجه ظاهر، فقد ذكروا أن الشرط والجزاء يجوز أن يأتي بعدهما المضارع منصوبا بإضمار أن بعد الفاء كقراءة من قرأ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ [البقرة: 284] بنصب يغفر، ولا فرق في ذلك بين أن تكون أداة الشرط جازمة أو غير جازمة. وقرأ نصر بن عاصم وأبو حيوة وابن السميفع وعيسى البصرة وابن محيصن وكذا الحسن ومجاهد في رواية «فنجا» ماضيا مخففا و «من» فاعله. وروي عن ابن محيصن أنه قرأ كذلك إلا أنه شدد الجيم، والفاعل حينئذ ضمير النصر و «من» مفعوله. وقد رجحت قراءة عاصم ومن معه بأن المصاحف اتفقت على رسمها بنون واحدة. وقال مكي: أكثر المصاحف عليه فأشعر بوقوع خلاف في الرسم، وحكاية الاتفاق نقلت عن الجعبري وابن الجزري وغيرهما، وعن الجعبري أن قراءة من قرأ بنونين توافق الرسم تقديرا لأن النون الثانية ساكنة مخفاة عند الجيم كما هي مخفاة عند الصاد والظاء في لننصر ولننظر والإخفاء لكونه سترا يشبه الإدغام لكونه تغييبا فكما يحذف عند الإدغام يحذف عند الإخفاء بل هو عنده أولى لمكان الاتصال. وعن أبي حيوة أنه قرأ «فنجّي من يشاء» بياء الغيبة أي من يشاء الله تعالى نجاته وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عذابنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ إذا نزل بهم، وفيه بيان لمن تعلق بهم المشيئة لأنه يعلم من المقابلة أنهم من ليسوا بمجرمين. وقرأ الحسن «بأسه» بضمير الغائب أي بأس الله تعالى، ولا يخفى ما في الجملة من التهديد والوعيد لمعاصري النبي صلى الله عليه وسلم لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ أي قصص الأنبياء عليهم السلام وأممهم، وقيل: قصص يوسف وأبيه وإخوته عليهم السلام وروي ذلك عن مجاهد وقيل: قصص أولئك وهؤلاء، والقصص مصدر بمعنى المفعول ورجح الزمخشري الأول بقراءة أحمد بن جبير الأنطاكي عن الكسائي. وعبد الوارث عن أبي عمرو «قصصهم» بكسر القاف جمع قصة. ورد بأن قصة يوسف وأبيه وإخوته مشتملة على قصص وأخبار مختلفة على أنه قد يطلق الجمع على الواحد، وفيه أنه كما قيل إلا أنه خلاف المتبادر المعتاد فإنه يقال في مثله قصة لا قصص، واقتصر ابن عطية على القول الثالث وهو ظاهر في اختياره عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ أي لذوي العقول المبرأة عن الأوهام الناشئة عن الألف والحس. وأصل اللب الخالص من الشيء ثم أطلق على ما زكا من العقل فكل لب عقل وليس كل عقل لبا، وقال غير واحد: إن اللب هو العقل مطلقا وسمي بذلك لكونه خالص ما في الإنسان من قواه، ولم يرد في القرآن إلا جمعا، والعبرة- كما قال الراغب- الحالة التي يتوصل بها من معرفة المشاهد إلى ما ليس بمشاهد، وفي البحر أنها الدلالة التي يعبر بها إلى العلم ما كانَ أي القرآن المدلول عليه بما سبق دلالة واضحة. واستظهر أبو حيان عود الضمير إلى القصص فيما قبل، واختار بعضهم الأول لأنه يجري على القراءتين بخلاف عوده إلى المتقدم فإنه لا يجري على قراءة القصص بكسر القاف لأنه كان يلزم تأنيث الضمير، وجوز بعضهم عوده إلى القصص بالفتح في القراءة به وإليه في ضمن المكسور في القراءة به وكذا إلى المكسور نفسه، والتذكير باعتبار الخبر وهو كما ترى حَدِيثاً يُفْتَرى أي يختلق وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب السماوية وَتَفْصِيلَ أي تبيين كُلِّ شَيْءٍ قيل: أي مما يحتاج إليه في الدين إذ ما من أمر ديني إلا وهو يستند إلى القرآن بالذات أو بوسط، وقال ابن الكمال: إن كُلِّ للتكثير والتفخيم لا للإحاطة والتعميم كما في قوله تعالى: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل: 23] ومن لم يتنبه لهذا احتاج إلى تخصيص الشيء بالذي يتعلق بالدين ثم تكلف في بيانه فقال: إذ ما من أمر إلخ ولم يدر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 69 أن عبارة التفصيل لا تتحمل هذا التأويل، ورد بأنه متى أمكن حمل كلمة كُلِّ على الاستغراق الحقيقي لا يحمل على غيره، والتخصيص مما لا بأس به على أنه نفسه قد ارتكب ذلك في تفسير قوله تعالى: وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ [الأنعام: 154، الأعراف: 145] وكون عبارة التفصيل لا تتحمل ذلك التأويل في حيز المنع. ومن الناس من حمل «كل» على الاستغراق من غير تخصيص ذاهبا إلى أن في القرآن تبيين كل شيء من أمور الدين والدنيا وغير ذلك مما شاء الله تعالى ولكن مراتب التبيين متفاوتة حسب تفاوت ذوي العلم وليس ذلك بالبعيد عند من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وقيل: المراد تفصيل كل شيء واقع ليوسف وأبيه وإخوته عليهم السلام مما يهتم به وهو مبني على أن الضمير في كانَ لقصصهم وَهُدىً من الضلالة وَرَحْمَةً ينال بها خير الدارين لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يصدقون تصديقا معتدا به، وخصوا بالذكر لأنهم المنتفعون بذلك ونصب تَصْدِيقَ على أنه خبر كان محذوفا أي ولكن كان تصديق، والاخبار بالمصدر لا يخفى أمره. وقرأ حمران بن أعين، وعيسى الكوفة فيما ذكر صاحب اللوامح وعيسى الثقفي فيما ذكر ابن عطية «تصديق» بالرفع وكذا برفع ما عطف عليه على تقدير ولكن هو تصديق إلخ، وقد سمع من العرب في مثل ذلك الرفع والنصب، ومنه قول ذي الرمة: وما كان مالي من تراث ورثته ... ولا دية كانت ولا كسب مأثم ولكن عطاء الله من كل رحلة ... إلى كل محجوب السرداق خضرم فإنه روي بنصب- عطاء- ورفعه، هذا والله تعالى الهادي إلى سوء السبيل. ومن باب الإشارة في هذه السورة: قال سبحانه: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ وهو اقتصاص ما جرى ليوسف عليه السلام وأبيه وإخوته عليهم السلام، وإنما كان ذلك أحسن القصص لتضمنه ذكر العاشق والمعشوق وذلك مما ترتاح له النفوس أو لما فيه من بيان حقائق محبة المحبين وصفاء سر العارفين والتنبيه على حسن عواقب الصادقين والحث على سلوك سبيل المتوكلين والاقتداء بزهد الزاهدين والدلالة على الانقطاع إلى الله تعالى والاعتماد عليه عند نزول الشدائد، والكشف عن أحوال الخائنين وقبح طرائق الكاذبين، وابتلاء الخواص بأنواع المحن وتبديلها بأنواع الألطاف والمنن مع ذكر ما يدل على سياسة الملوك وحالهم مع رعيتهم إلى غير ذلك، وقيل: لخلو ذلك من الأوامر والنواهي التي يشغل سماعها القلب إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ هذه أول مبادئ الكشوف فقد ذكروا أن أحوال المكاشفين أوائلها المنامات فإذا قوي الحال تصير الرؤيا كشفا، قيل: إنه عليه السلام قد سلك به نحوا مما سلك برسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أنه بدأ بالرؤيا الصادقة كما بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بها فكان لا يرى رؤيا إلا كانت مثل فلق الصبح ثم حبب إليه الخلاء على ما يشير إليه قوله: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ كما حبب ذلك إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فكان يتحنث في غار حراء الليالي ذوات العدد، وفيه أن حديث السجن بعد إيتاء النبوة فتدبر. وذكر بعض الكبار أن يوسف عليه السلام كان آدم الثاني لما كان عليه من كسوة الربوبية ما كان على آدم عليه السلام وهو مجلي الحق للخلق لو يعلمون فلما رأت الملائكة ما رأت من آدم سجدوا له وهاهنا سجد ليوسف من سجد وهم الشمس والقمر والكواكب المعدودة المشار بهم إلى أبويه وإخوته الذين هم على القول بنبوتهم خير من الملائكة عليهم السلام، ولا بدع إذ سجدوا لمن يتلألأ من وجهه الأنوار القدسية والأشعة السبوحية: لو يسمعون كما سمعت حديثها ... خروا لعزة ركعا وسجودا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 70 وقد يقال: إن إبراهيم عليه السلام لما رأى في وجنة الكوكب ونقطة خال القمر وأسرة جبين الشمس أمارات الحدثان وصرف وجهه عنها متوجها إلى ساحة القدم المنزهة عن التغير المصونة عما يوجب النقص قائلا: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ أسجد الله تعالى الشمس والقمر وأسجد بدل الكواكب كواكب لبعض بنيه إعظاما لأمره ومبالغة في تنزيه جلال الكبرياء، وحيث تأخرت البراءة إلى الثالث تأخر أمر الإسجاد إلى ثالث البنين، وليس المقصود من هذا إلا بيان بعض من أسرار تخصيص المذكور بالإراءة مع احتمال أن يكون هناك ما يصلح أن يكون رؤياه ساجدا معبرا بسجود أبويه واخوته له عليهم السلام في عالم الحس فتدبر. قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فيه إشارة إلى بعض آداب المريدين فقد قالوا: إنه لا ينبغي لهم أن يفشوا سر المكاشفة إلا لشيوخهم وألا يقعوا في ورطة ويكونوا مرتهنين بعيون الغيرة. بالسر إن باحوا تباح دماؤهم ... وكذا دماء البائحين تباح فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً هذا من الإلهامات المجملة وهي انذارات وبشارات، ويجوز أن يكون علم عليه السلام ذلك من الرؤيا قال بعضهم: إن يعقوب دبر ليوسف عليهما السلام في ذلك الوقت خوفا عليه فوكل إلى تدبيره فوقع به ما وقع ولو ترك التدبير ورجع إلى التسليم لحفظ لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ وذلك كسواطع نور الحق من وجهه وظهور علم الغيب من قلبه ومزيد الكرم من أفعاله وحسن عقبى الصبر من عاقبته، وكسوء حال الحاسد وعدم نقض ما أبرمه الله تعالى وغير ذلك، وقال بعضهم: إن من الآيات في يوسف عليه السلام أنه حجة على كل من حسن الله تعالى خلقه أن لا يشوهه بمعصيته ومن لم يراع نعمة الله تعالى فعصى كان أشبه شيء بالكنيف المبيض والروث المفضض. وقال ابن عطاء: من الآيات أن لا يسمع هذه القصة محزون مؤمن بها إلا استروح وتسرى عنه ما فيه، وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ قيل: إن ذلك كان بكاء فرح بظفرهم بمقصودهم لكنهم أظهروا أنه بكاء حزن على فقد يوسف عليه السلام، وقيل: لم يكن بكاء حقيقة وإنما هو تباك من غير عبرة وجاؤوا عشاء ليكونوا أجرأ في الظلمة على الاعتذار أو ليدلسوا على أبيهم ويوهموه أن ذلك بكاء حقيقة لا تباك فإنهم لو جاؤوا ضحى لافتضحوا: إذا اشتبكت دموع في خدود ... تبين من بكى ممن تباكى فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وهو السكون إلى موارد القضاء سرا وعلنا، وقال يحيى بن معاذ: الصبر الجميل أن يتلقى البلاء بقلب رحيب ووجه مستبشر، وقال الترمذي: هو أن يلقى العبد عنانه إلى مولاه ويسلم إليه نفسه مع حقيقة المعرفة فإذا جاء حكم من أحكامه ثبت له مسلما ولا يظهر لوروده جزعا ولا يرى لذلك مغتما، وأنشد الشبلي في حقيقة الصبر. عبرات خططن في الخد سطرا ... فقراه من لم يكن قط يقرا صابر الصبر فاستغاث به الصب ... ر فصاح المحب بالصبر صبرا قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ قال جعفر: كان لله تعالى في يوسف عليه السلام سر فغطى عليهم موضع سره ولو كشف للسيارة عن حقيقة ما أودع في ذلك البدر الطالع من برج دلوهم لما اكتفى قائلهم بذلك ولما اتخذوه بضاعة، ولهذا لما كشف للنسوة بعض الأمر قلن: ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ولجهلهم أيضا بما أودع فيه من خزائن الغيب باعوه بثمن بخس وهو معنى قوله سبحانه: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ قال الجنيد قدس سره: كل ما وقع تحت العد والإحصاء فهو بخس ولو كان جميع ما في الكونين فلا يكن حظك البخس من ربك فتميل إليه وترضى به دون ربك جل جلاله، وقال ابن عطاء: ليس ما باع اخوة يوسف من نفس لا يقع عليها البيع بأعجب من بيع نفسك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 71 بأدنى شهوة بعد أن بعتها من ربك بأوفر الثمن قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الآية فبيع ما تقدم بيعه باطل. وإنما باع يوسف أعداؤه وأنت تبيع نفسك من أعدائك وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ قيل: أي لا تنظري إليه نظر الشهوة فإن وجهه مرآة تجلي الحق في العالم، أو لا تنظري إليه بنظر العبودية ولكن انظري إليه بنظر المعرفة لترى فيه أنوار الربوبية أو اجعلي محبته في قلبك لا في نفسك فإن القلب موضع المعرفة والطاعة والنفس موضع الفتنة والشهوة عَسى أَنْ يَنْفَعَنا قيل: أي بأن يعرفنا منازل الصديقين ومراتب الروحانيين ويبلغنا ببركة صحبته إلى مشاهدة رب العالمين، وقيل: أراد حسنى صحبته في الدنيا لعله أن يشفع لنا في العقبى وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها حيث غلب عليها العشق وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ قطعت الأسباب وجمعت الهمة إليه أو غلقت أبواب الدار غيرة أن يرى أحد أسرارهما وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ قال ابن عطاء: هم شهوة وَهَمَّ بِها هم زجر عما همت به بضرب أو نحوه لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ وهو الواعظ الإلهي في قلبه كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ والخواطر الرديئة وَالْفَحْشاءَ الأفعال القبيحة، وقيل: البرهان هو أنه لم يشاهد في ذلك الوقت إلا الحق سبحانه وتعالى، وقيل: هو مشاهدة أبيه يعقوب عليه السلام عاضا على سبابته، وجعل ذلك بعض أجلة مشايخنا أحد الأدلة على أن للرابطة المشهورة عند ساداتنا النقشبندية أصلا أصيلا وهو على فرض صحته بمراحل عن ذلك وَاسْتَبَقَا الْبابَ فرارا من محل الخطر: قيل: لو فر إلى الله تعالى لكفاه ولما ناله بعد ما عناه وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً نفت عن نفسها الذنب لأنها علمت إذ ذاك أنها لو بينت الحق لقتلت وحرمت من حلاوة محبة يوسف والنظر إلى وجهه. لحبك أحببت البقاء لمهجتي ... فلا طال إن أعرضت عني بقائيا وإنما عرضت بنسبة الذنب إليه لعلمها بأنه عليه السلام لم يبق في البؤس ولا يقدر أحد على أن يؤذيه لما أن وجهه سالب القلوب وجالب الأرواح. له في طرفه لحظات سحر ... يميت بها ويحيي من يريد ويسبي العالمين بمقلتيه ... كأن العالمين له عبيد وقال ابن عطاء: إنها إذ ذاك لم تستغرق في محبته بعد فلذا لم تخبر بالصدق وآثرت نفسها عليه ولهذا لما استغرقت في المحبة آثرت نفسه على نفسها فقالت: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ الآية، ثم إنه عليه السلام لم يسعه بعد تهمتها له إلا الذب عن ساحة النبوة التي هي أمانة الله تعالى العظمى فقال: هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وإلا فاللائق بمقام الكرم السكوت عن جوابها لئلا يفضحها، وقيل: إنها لما ادعت محبة يوسف وتبرأت منها عند نزول البلاء أراد يوسف عليه السلام أن يلزمها ملامة المحبة فإن الملامة شعار المحبين ومن لم يكن ملوما في العشق لم يكن متحققا فيه إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ عظم كيدهن لأنهن إذا ابتلين بالحب أظهرن مما يجلب القلب ما يعجز عنه إبليس مع مساعدة الطبيعة إلى الميل إليهن وقوة المناسبة بين الرجال وبينهن كما يشير إليه قوله تعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها [النساء: 1] فما في العالم فتنة أضر على الرجال من النساء قَدْ شَغَفَها حُبًّا قال الجنيد قدس سره: الشغف أن لا يرى المحب جفاء له جفاء بل يراه عدلا منه ووفاء. وتعذيبكم عذب لدي وجوركم ... علي بما يقضي الهوى لكم عدل إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قال ابن عطاء: في عشق مزعج فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ عظمنه لما رأين في وجهه نور الهيبة وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ لاستغراقهن في عظمته وجلاله، ولعله كشف لهن ما لم يكشف لزليخا، قال ابن عطاء: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 72 دهشن في يوسف وتحيرن حتى قطعن أيديهن ولم يشعرن بالألم وهذه غلبة مشاهدة مخلوق لمخلوق فكيف بمن يحظى بمشاهدة من الحق فينبغي أن لا ينكر عليه إن تغير وصدر عنه ما صدر، وأعظم من يوسف عليه السلام في هذا الباب عند ذوي الأبصار السليمة النور المحمدي المنقدح من النور الإلهي والمتشعشع في مشكاة خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام فإنه لعمري أبو الأنوار، وما نور يوسف بالنسبة إلى نوره عليه الصلاة والسلام إلا النجم وشمس النهار. لواحى زليخا لو رأين جبينه ... لآثرن بالقطع القلوب على الأيدي وقلن: ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ قلن ذلك إعظاما له عليه السلام من أن يكون من النوع الإنساني، قال محمد بن علي رضي الله تعالى عنهما: أردن ما هذا بأهل أن يدعى إلى المباشرة بل مثله من يكرم وينزه عن مواضع الشبه والأول أوفق بقولها: فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ أرادت أن لو مكن لم يقع في محزه وكيف يلام من هذا محبوبه، وكأنها أشارت إلى أنها مجبورة في ذلك الوله معذورة في مزيد حبها له: خليلي إني قلت بالعدل مرة ... ومنذ علاني الحب مذهبي الجبر وفي ذلك إشارة أيضا إلى أن اللوم لا يصدر إلا عن خلي، ولذا لم تعاتبهن حتى رأت ما صنع الهوى بهن وما أحسن ما قيل: وكنت إذا ما حدث الناس بالهوى ... ضحكت وهم يبكون في حسرات فصرت إذا ما قيل هذا متيم ... تلقيتهم بالنوح والعبرات وقال سلطان العاشقين: دع عنك تعنيفي وذق طعم الهوى ... فإذا عشقت فبعد ذلك عنف قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ قيل: لأن السجن مقام الانس والخلوة والمناجاة والمشاهدات والمواصلات وفيما يدعونه إليه ما يوجب البعد عن الحضرة والحجاب عن مشاهدة القربة، وقيل: طلب السجن ليحتجب عن زليخا فيكون ذلك سببا لازدياد عشقها وانقلابه روحانيا قدسيا كعشق أبيه له، وقال ابن عطاء: ما أراد عليه السلام بطلب ذلك إلا الخلاص من الزنا ولعله لو ترك الاختيار لعصم من غير امتحان كما عصم في وقت المراودة ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ قال أبو علي: أحسن الناس حالا من رأى نفسه تحت ظل الفضل والمنة لا تحت ظل العمل والسعي يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ دعاء إلى التوحيد على أتم وجه، وحكي أن رجلا قال للفضيل: عظني فقرأ له هذه الآية وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ كان ذلك على ما قيل غفلة منه عليه السلام عما يقتضيه مقامه ويشير إليه كلامه، ولهذا أدبه ربه باللبث في السجن ليبلغ أقصى درجات الكمال والأنبياء مؤاخذون بمثاقيل الذر لمكانتهم عند ربهم، وقد يحمل كلامه هذا على ما لا يوجب العتاب كما ذهب إليه بعض ذوي الألباب يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ قال أبو حفص: الصديق من لا يتغير عليه باطن أمره من ظاهره، وقيل: الذي لا يخالف قاله حاله، وقيل: الذي يبذل الكونين في رضا محبوبه وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إشارة إلى أن النفس بطبعها كثيرة الميل إلى الشهوات قال أبو حفص: النفس ظلمة كلها وسراجها التوفيق فمن لم يصحبه التوفيق كان في ظلمة، وقد تخفى دسائس النفس إلى حيث تأمر بخير وتضمر فيه شرا ولا يفطن لدسائسها إلا لوذعي: فخالف النفس والشيطان واعصهما ... وإن هما محضاك النصح فاتهم وذكر بعض السادة أن النفس تترقى بواسطة المجاهدة والرياضة من مرتبة كونها أمارة إلى مرتبة أخرى من كونها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 73 لوامة وراضية ومرضية ومطمئنة وغير ذلك وجعلوا لها في كل مرتبة ذكرا مخصوصا وأطنبوا في ذلك فليرجع إليه قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ قيل: خزائن الأرض رجالها أي اجعلني عليهم أمينا فإني حفيظ لما يظهرونه، عليم بما يضمرونه، وقيل: أراد الظاهر إلا أنه أشار إلى أنه متمكن من التصرف مع عدم الغفلة أي حفيظ للأنفاس بالذكر وللخواطر بالفكر، عليم بسواكن الغيوب وخفايا الأسرار وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ قال بعضهم: لما جفوه صار جفاؤهم حجابا بينهم وبين معرفتهم إياه وكذلك المعاصي تكون حجابا على وجه معرفة الله تعالى قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ كأنه عليه السلام أمر بذلك ليكمل لأبيه عليه السلام مقام الحزن الذي هو كما قال الشيخ الأكبر قدس سره: من أعلى المقامات، وقال بعضهم: إن علاقة المحبة كانت بين يوسف ويعقوب عليهما السلام من الجانبين فتعلق أحدهما بالآخر كتعلق الآخر به كما يرى ذلك في بعض العشاق مع من يعشقونه وأنشدوا: لم يكن المجنون في حالة ... إلا وقد كنت كما كانا لكنه باح بسر الهوى ... وإنني قد ذبت كتمانا فغار عليه السلام أن ينظر أبوه إلى أخيه نظره إليه فيكونا شركين في ذلك والمحب غيور فطلب أن يأتوه به لذلك، والحق أن الأمر كان عن وحي لحكمة غير هذه وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ إشارة إلى العلم اللدني وهو على نوعين. ظاهر الغيب وهو علم دقائق المعاملات والمقامات والحالات والكرامات والفراسات، وباطن الغيب وهو علم بطون الأفعال ويسمى حكمة المعرفة، وعلم الصفات ويسمى المعرفة الخاصة، وعلم الذات ويسمى التوحيد والتفريد والتجريد، وعلم أسرار القدم ويسمى علم الفناء والبقاء، وفي الأولين للروح مجال وفي الثالث للسر والرابع لسر السر، وفي المقام تفصيل وبسط يطلب من محله. وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ كأنه عليه السلام إنما فعل ذلك ليعرفه الحال بالتدريج حتى يتحمل أثقال السرور إذ المفاجأة في مثل ذلك ربما تكون سبب الهلاك، ومن هنا كان كشف سجف الجمال للسالكين على سبيل التدريج فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ قيل: إن الله تعالى أمره بذلك ليكون شريكا لإخوته في الإيذاء بحسب الظاهر فلا يخجلوا بين يديه إذا كشف الأمر، وحيث طلب قلب بنيامين برؤية يوسف احتمل الملامة، وكيف لا يحتمل ذلك وبلاء العالم محمول بلمحة رؤية المعشوق، والعاشق الصادق يؤثر الملامة ممن كانت في هوى محبوبه. أجد الملامة في هواك لذيذة ... حبا لذكرك فليلمني اللوم وفي الآية- على ما قيل- إشارة لطيفة إلى أن من اصطفاه الله تعالى في الأزل لمحبته ومشاهدته وضع في رحله صاع ملامة الثقلين، ألا ترى إلى ما فعل بآدم عليه السلام صفيه كيف اصطفاه ثم عرض عليه الأمانة التي لم يحملها السموات والأرض والجبال وأشفقن منها فحملها ثم هيج شهوته إلى حبة حنطة ثم نادى عليه بلسان الأزل وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى [طه: 121] وذلك لغاية حبه له حتى صرفه عن الكون وما فيه ومن فيه إليه ولولا أن كشف جماله له لم يتحمل بلاء الملامة، وهذا كما فعل يوسف عليه السلام بأخيه آواه إليه وكشف جماله له وخاطبه بما خاطبه ثم جعل السقاية في رحله ثم نادى عليه بالسرقة ليبقيه معه نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ أي نرفع درجاتهم في العلم فلا يزال السالكون يترقون في العلم وتشرب أطيار أرواحهم القدسية من بحار علومه تعالى على مقادير حواصلها، وتنتهي الدرجات بعلم الله تعالى فإن علوم الخالق محدودة وعلمه تعالى غير محدود وإلى الله تعالى تصير الأمور قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ قال بعض السادات: لما كان بنيامين بريئا مما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 74 رمي به من السرقة أنطقهم الله تعالى حتى رموا يوسف عليه السلام بالسرقة وهو بريء منها فكان ذلك من قبيل واحدة بواحدة ليعلم العالمون أن الجزاء واجب. وقال بعض العارفين: إنهم صدقوا بنسبة السرقة إلى يوسف عليه السلام ولكنها سرقة الباب العاشقين وأفئدة المحبين بما أودع فيه من محاسن الأزل قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ الإشارة في ذلك من الحق عز وجل أن لا نفشي أسرارنا وندني إلى حضرتنا إلا من كان في قلبه استعداد قبول معرفتنا أو لا نختار لكشف جمالنا إلا من كان في قلبه شوق إلى وصالنا، وقال بعض الخراسانيين: الإشارة فيه أنا لا نأخذ من عبادنا أشد أخذ إلا من ادعى فينا أو أخبر عنا ما لم يكن له الاخبار عنه والادعاء فيه، وقال بعضهم: إلا من مد يده إلى ما لنا وادعاه لنفسه، وقال أبو عثمان: الإشارة أنا لا نتخذ من عبادنا وليا إلا من ائتمناه على ودائعنا فحفظها ولم يخن فيها، ولطيفة الواقعة أنه عليه السلام لم يرض أن يأخذ بدل حبيبه إذ ليس للحبيب بديل في شرع المحبة. أبى القلب إلا حب ليلى فبغضت ... إلي نساء ما لهن ذنوب إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ قال بعضهم: إنهم صدقوا بذلك لكنه سرق أسرار يوسف عليه السلام حين سمع منه في الخلوة ما سمع ولم يبده لهم عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ كأنه عليه السلام لما رأى اشتداد البلاء قوي رجاؤه بالفرج فقال ما قال: اشتدى أزمة تنفرجي ... قد آذن ليلك بالبلج وكان لسان حاله يقول: دنا وصال الحبيب واقتربا ... وا طربا للوصال وا طرابا وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ قال بعض العارفين: إن تأسفه على رؤية جمال الله تعالى من مرآة وجه يوسف عليه السلام وقد تمتع بذلك برهة من الزمان حتى حالت بينه وبينه طوارق الحدثان فتأسف عليه السلام لذلك واشتاقت نفسه لما هنالك: سقى الله أياما لنا ولياليا ... مضت فجرت من ذكرهن دموع فيا هل لها يوما من الدهر أوبة ... وهل لي إلى أرض الحبيب رجوع وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ حيث بكى حتى أضر بعينيه وكان ذلك حتى لا يرى غير حبيبه. لما تيقنت أني لست أبصركم ... غمضت عيني فلم أنظر إلى أحد قال بعض العارفين: الحكمة في ذهاب بصر يعقوب وبقاء بصر آدم وداود عليهما السلام مع أنهما بكيا دهرا طويلا أن بكاء يعقوب كان بكاء حزن معجون بألم الفراق حيث فقد تجلي جمال الحق من مرآة وجه يوسف ولا كذلك بكاء آدم وداود فإنه كان بكاء الندم والتوبة وأين ذلك المقام من مقام العشق. وقال أبو سعيد القرشي: إنما لم يذهب بصرهما لأن بكاءهما كان من خوف الله تعالى فحفظا وبكاء يعقوب كان لفقد لذة فعوتب، وقيل: يمكن أن يكون ذهاب بصره عليه السلام من غيرة الله تعالى عليه حين بكى لغيره وإن كان واسطة بينه وبينه، ولهذا جاء أن الله تعالى أوحى إليه يا يعقوب أتتأسف على غيري وعزتي لآخذن عينيك ولا أردهما عليك حتى تنساه، واختار بعض العارفين أن ذلك الأسف والبكاء ليسا إلا لفوات ما انكشف له عليه السلام من تجلي الله تعالى في مرآة وجه يوسف عليه السلام، ولعمري إنه لو كان شاهد تجليه تعالى في أول التعنيات وعين أعيان الموجودات صلى الله عليه وسلم لنسي ما رأى ولما عراه ما عرا ولله تعالى در سيدي ابن الفارض حيث يقول: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 75 لو أسمعوا يعقوب بعض ملاحة ... في وجهه نسي الجمال اليوسفي قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ هذا من الجهل بأحوال العشق وما عليه العاشقون فإن العاشق يتغذى بذكر معشوقه: فإن تمنعوا ليلى وحسن حديثها ... فلن تمنعوا مني البكا والقوافيا وإذا لم يستطع ذكره بلسانه كان مستغرقا بذكره إياه بجنانه: غاب وفي قلبي له شاهد ... يولع إضماري بذكراه مثلت الفكرة لي شخصه ... حتى كأني أتراءاه وكيف يخوف العاشق بالهلاك في عشق محبوبه وهلاكه عين حياته كما قيل: ولكن لدى الموت فيه صبابة ... حياة لمن أهوى علي بها الفضل ومن لم يمت في حبه لم يعش به ... ودون اجتناء النحل ما جنت النحل الَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أي أنا لا أشكو إلى غيره فإني أعلم غيرته سبحانه وتعالى على أحبابه وأنتم لا تعلمون ذلك، وأيضا من انقطع إليه تعالى كفاه ومن أناخ ببابه أعطاه، وأنشد ذو النون: إذا ارتحل الكرام إليك يوما ... ليلتمسوك حالا بعد حال فإن رحالنا حطت رضاء ... بحكمك عن حلول وارتحال فسسنا كيف شئت ولا تكلنا ... إلى تدبيرنا يا ذا المعالي وعلى هذا درج العاشقون إذا اشتد بهم الحال فزعوا إلى الملك المتعال، ومن ذلك: إلى الله أشكو ما لقيت من الهجر ... ومن كثرة البلوى ومن ألم الصبر ومن حرق بين الجوانح والحشا ... كجمر الغضا لا بل أحر من الجمر وقد يقال: إنه عليه السلام إنما رفع قصة شكواه إلى عالم سره ونجواه استرواحا مما يجده بتلك المناجاة كما قيل: إذا ما تمنى الناس روحا وراحة ... تمنيت أن أشكو إليه فيسمع يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ كأنه عليه السلام تنسم نسائم الفرج بعد أن رفع الأمر إلى مولاه عز وجل فقال ذلك: وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ من رحمته بإرجاعهما إلي أو من رحمته تعالى بتوفيق يوسف عليه السلام برفع خجالتكم إذا وجدتموه قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ أرادوا ضر المجاعة ولو أنهم علموا وأنصفوا لقصدوا ضر فراقك فإنه قد أضر بأبيهم وبهم وبأهلهم لو يعلمون: كفى حزنا بالواله الصب أن يرى ... منازل من يهوى معطلة قفرا واعلم أن فيما قاله إخوة يوسف له عليه السلام من هنا إلى الْمُتَصَدِّقِينَ تعليم آداب الدعاء والرجوع إلى الأكابر ومخاطبة السادات فمن لم يرجع إلى باب سيده بالذلة والافتقار وتذليل النفس وتصغير ما يبدو منها ويرى أن ما من سيده إليه على طريق الصدقة والفضل لا على طريق الاستحقاق كان مبعدا مطرودا، وينبغي لعشاق جمال القدم إذا دخلوا الحضرة أن يقولوا: يا أيها العزيز مسنا وأهلنا من ضر فراقك والبعد عن ساحة وصالك ما لا يحتمله الصم الصلاب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 76 خليلي ما ألقاه في الحب إن يدم ... على صخرة صماء ينفلق الصخر ويقولوا: جِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ من أعمال معلولة وأفعال مغشوشة ومعرفة قليلة لم تحط بذرة من أنوار عظمتك وكل ذلك لا يليق بكمال عزتك وجلال صمديتك فَأَوْفِ لَنَا كيل قربك من بيادر جودك وفضلك وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا بنعم مشاهدتك فإنه إذا عومل المخلوق بما عومل فمعاملة الخالق بذلك أولى قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ خاطبوه بعد المعرفة بخطاب المودة لا بخطاب التكلف، وفيه من حسن الظن فيه عليه السلام ما فيه. إذا صفت المودة بين قوم ... ودام ولاؤهم سمج الثناء ويمكن أن يقال: إنهم لما عرفوه سقطت عنهم الهيبة وهاجت الحمية فلم يكلموه على النمط الأول، وقوله: قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي جواب لهم لكن زيادة وَهذا أَخِي قيل: لتهوين حال بديهة الخجل، وقيل: للإشارة إلى أن إخوتهم لا تعد اخوة لأن الاخوة الصحيحة ما لم يكن فيها جفاء، ثم إنه عليه السلام لما رأى اعترافهم واعتذارهم قال: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وهذا من شرائط الكرم فالكريم إذا قدر عفا: والعذر عند كرام الناس مقبول وقال شاه الكرماني: من نظر إلى الخلق بعين الحق لم يعبأ بمخالفتهم ومن نظر إليهم بعينه أفنى أيامه بمخاصمتهم، ألا ترى يوسف عليه السلام لما علم مجاري القضاء كيف عذر اخوته اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً لما علم عليه السلام أن أباه عليه السلام لا يحتمل الوصال الكلي بالبديهة جعل وصاله بالتدريج فأرسل إليه بقميصه، ولما كان مبدأ الهم الذي أصابه من القميص الذي جاؤوا عليه بدم كذب عين هذا القميص مبدأ للسرور دون غيره من آثاره عليه السلام ليدخل عليه السرور من الجهة التي دخل عليه الهم منها وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ كان كرم يوسف عليه السلام يقتضي أن يسير بنفسه إلى أبيه ولعله إنما لم يفعل لعلمه أن ذلك يشق على أبيه لكثرة من يسير معه ولا يمكن أن يسير إليه بدون ذلك أو لأن في ذلك تعطل أمر العامة وليس هناك من يقوم به غيره، ويحتمل أن يكون أوحى إليه بذلك لحكمة أخرى، وقيل: إن المعشوقية اقتضت ذلك، ومن رأى معشوقا رحيما بعاشقه؟، وفيه ما لا يخفى وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ يقال: إن ريح الصبا سألت الله تعالى فقالت: يا رب خصني أن أبشر يعقوب عليه السلام بابنه فأذن لها بذلك فحملت نشره إلى مشامه عليه السلام وكان ساجدا فرفع رأسه وقال ذلك وكان لسان حاله يقول: أيا جبلي نعمان بالله خليا ... نسيم الصبا يخلص إلى نسيمها أجد بردها أو تشف مني حرارة ... على كبد لم يبق إلا صميمها فإن الصبا ريح إذا ما تنسمت ... على نفس مهموم تجلت همومها وهكذا عشاق الحضرة لا يزالون يتعرضون لنفحات ريح وصال الأزل، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لنفحات الرحمن» ويقال: المؤمن المتحقق يجد نسيم الإيمان في قلبه وروح المعرفة السابقة له من الله تعالى في سره، وإنما وجد عليه السلام هذا الريح حيث بلغ الكتاب أجله ودنت أيام الوصال وحان تصرم أيام الهجر والبلبال وإلا فلم لم يجده عليه السلام لما كان يوسف في الجب ليس بينه وبينه إلا سويعة من نهار وما ذلك إلا لأن الأمور مرهونة بأوقاتها، وعلى هذا كشوفات الأولياء فإنهم آونة يكشف لهم على ما قيل اللوح المحفوظ، وأخرى لا يعرفون ما تحت أقدامهم فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً فيه إشارة إلى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 77 أن العاشق الهائم المنتظر لقاء الحق سبحانه إذا ذهبت عيناه من طول البكاء يجيء إليه بشير تجليه فيلقي عليه قميص أنسه في حضرات قدسه فيرتد بصيرا بشم ذلك فهنالك يرى الحق بالحق وينجلي الغين عن العين، ويقال: إنه عليه السلام إنما ارتد بصيرا حين وضع القميص على وجهه لأنه وجد لذة نفحة الحق تعالى منه حيث كان يوسف عليه السلام محل تجليه جل جلاله وكان القميص معبقا بريح جنان قدسه فعاد لذلك نور بصره عليه السلام إلى مجاريه فأبصر قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وعدهم إلى أن يتعرف منهم صدق التوبة أو حتى يستأذن ربه تعالى في الاستغفار لهم فيأذن سبحانه لئلا يكون مردودا فيه كما رد نوح عليه السلام في ولده بقوله تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ وقال بعضهم: وعدهم الاستغفار لأنه لم يفرغ بعد من استبشاره إلى استغفاره، وقيل: إنما أسرع يوسف بالاستغفار لهم ووعد يعقوب عليهما السلام لأن يعقوب كان أشد حبا لهم فعاتبهم بالتأخير ويوسف لم يرهم أهلا للعتاب فتجاوز عنهم من أول وهلة أو اكتفى بما أصابهم من الخجل وكان خجلهم منه أقوى من خجلهم من أبيهم، وفي المثل كفى للمقصر حياء يوم اللقاء فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ لأنهما ذاقا طعم مرارة الفراق فخصهما من بينهم بمزيد الدنو يوم التلاق، ومن هنا يتبين أين منازل العاشقين يوم الوصال وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً حيث بان لهم أنواع جلال الله تعالى في مرآة وجهه عليه السلام وعاينوا ما عاينت الملائكة عليهم السلام من آدم عليه السلام حين وقعوا له ساجدين، وما هو إذ ذاك إلا كعبة الله تعالى التي فيها آيات بينات مقام إبراهيم رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً مفوضا إليك شأني كله بحيث لا يكون لي رجوع إلى نفسي ولا إلى سبب من الأسباب بحال من الأحوال وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ بمن أصلحتهم لحضرتك وأسقطت عنهم سمات الخلق وأزلت عنهم رعونات الطبع، ولا يخفى ما في تقديمه عليه السلام الثناء على الدعاء من الأدب وهو الذي يقتضيه المقام وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ قال غير واحد من الصوفية: من التفت إلى غير الله تعالى فهو مشرك، وقال قائلهم: ولو خطرت لي في سواك إرادة ... على خاطري سهوا حكمت بردتي قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ بيان من الله تعالى وعلم لا معارضة للنفس والشيطان فيه أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وذكر بعض العارفين أن البصيرة أعلى من النور لأنها لا تصح لأحد وهو رقيق الميل إلى السوي، وفي الآية إشارة إلى أنه ينبغي للداعي إلى الله تعالى أن يكون عارفا بطريق الإيصال إليه سبحانه عالما بما يجب له تعالى وما يجوز وما يمتنع عليه جل شأنه، والدعاة إلى الله تعالى اليوم من هؤلاء الذين نصبوا أنفسهم إلى الإرشاد بزعمهم أجهل من حمار الحكيم توما، وهم لعمري في ضلالة مدلهمة ومهامه يحار فيها الخريت وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ولبئس ما كانوا يصنعون لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ وهم ذوو الأحوال من العارفين والعاشقين والصابرين والصادقين وغيرهم، وفيها أيضا عبرة للملوك في بسط العدل كما فعل يوسف عليه السلام، ولأهل التقوى في ترك ما تراودهم النفس الشهوانية عليه، وللمماليك في حفظ حرم السادة، ولا أحد أغير من الله تعالى ولذلك حرم الفواحش، وللقادرين في العفو عمن أساء إليهم ولغيرهم في غير ذلك ولكن أين المعتبرون؟ أشباح ولا أرواح وديار ولا ديار فإنا لله وإنا إليه راجعون هذا. وقد أول بعض الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم يوسف بالقلب المستعد الذي هو في غاية الحسن، ويعقوب بالعقل والاخوة بني العلات بالحواس الخمس الظاهرة والخمس الباطنة والقوة الشهوانية، وبنيامين بالقوة العاقلة العملية، وراحيل أم يوسف بالنفس اللوامة، وليا بالنفس الأمارة، والجب بقعر الطبيعة البدنية، والقميص الذي ألبسه يوسف في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 78 الجب بصفة الاستعداد الأصلي والنور الفطري، والذئب بالقوة الغضبية، والدم الكذب بأثرها، وابيضاض عين يعقوب بكلال البصيرة وفقدان نور العقل، وشراؤه من عزيز مصر بثمن بخس بتسليم الطبيعة له إلى عزيز الروح الذي في مصر مدينة القدس بما يحصل للقوة الفكرية من المعاني الفائضة عليها من الروح، وامرأة العزيز بالنفس اللوامة، وقد القميص من دبر بخرقها لباس الصفة النورية التي هي من قبل الأخلاق الحسنة والأعمال الصالحة، ووجدان السيد بالباب بظهور نور الروح عند إقبال القلب إليه بواسطة تذكر البرهان العقلي وورود الوارد القدسي عليه، والشاهد بالفكر الذي هو ابن عم امرأة العزيز أو بالطبيعة الجسمانية الذي هو ابن خالتها، والصاحبين بقوة المحبة الروحية وبهوى النفس، والخمر بخمر العشق، والخبز باللذات، والطير بطير القوى الجسمانية، والملك بالعقل الفعال، والبقرات بمراتب النفس، والسقاية بقوة الإدراك، والمؤذن بالوهم إلى غير ذلك، وطبق القصة على ما ذكر وتكلف له أشد تكلف وما أغناه عن ذلك والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل لا رب غيره ولا يرجى إلا خيره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 79 سورة الرّعد جاء من طريق مجاهد عن ابن عباس. وعلي بن أبي طلحة أنها مكية، وروي ذلك عن سعيد بن جبير قال سعيد ابن منصور في سننه: حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر قال: سألت ابن جبير عن قوله تعالى: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ [الرعد: 39] هل هو عبد الله بن سلام؟ فقال: كيف وهذه السورة مكية. وأخرج مجاهد عن ابن الزبير، وابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس، ومن طريق ابن جريج. وعثمان عن عطاء عنه، وأبو الشيخ عن قتادة أنها مدنية إلا أن في رواية الأخير استثناء قوله تعالى: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ [الرعد: 31] الآية فإنها مكية، وروي أن أولها إلى آخر وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً [الرعد: 31] . الآية مدني وباقيها مكي. وفي الإتقان يؤيد القول بأنها مدنية ما أخرجه الطبراني وغيره عن أنس أن قوله تعالى: اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى [الرعد: 8] إلى قوله سبحانه: وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ [الرعد: 13] نزل في قصة أربد بن قيس وعامر بن الطفيل حين قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: والذي يجمع به بين الاختلاف أنها مكية إلا آيات منها، وهي ثلاث وأربعون آية في الكوفي، وأربع في المدني، وخمس في البصري، وسبع في الشامي. ووجه مناسبتها لما قبلها أنه سبحانه قال فيما تقدم: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ [يوسف: 105] فأجمل سبحانه الآيات السماوية والأرضية ثم فصل جل شأنه ذلك هنا أتم تفصيل، وأيضا أنه تعالى قد أتى هنا مما يدل على توحيده عز وجل ما يصلح شرحا لما حكاه عن يوسف عليه السلام من قوله: أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف: 39] وأيضا في كل من السورتين ما فيه تسلية له صلى الله عليه وسلم، هذا مع اشتراك آخر تلك السورة وأول هذه فيما فيه وصف القرآن كما لا يخفى. وجاء في فضلها ما أخرجه ابن أبي شيبة. والمروزي في الجنائز أنه كان يستحب إذا حضر الميت أن يقرأ عنده سورة الرعد فإن ذلك يخفف عن الميت وأنه أهون لقبضه وأيسر لشأنه، وجاء في ذلك أخبار أخر نصوا على وضعها والله تعالى أعلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 80 المر أخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عن ابن عباس أن معنى ذلك أنا الله أعلم وأرى وهو أحد أقوال مشهورة في مثل ذلك تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ جعل غير واحد الكتاب بمعنى السورة وهو بمعنى المكتوب صادق عليها من غير اعتبار تجوز، والإشارة إلى آياتها باعتبار أنها لتلاوة بعضها والبعض الآخر في معرض التلاوة صارت كالحاضرة أو لثبوتها في اللوح أو مع الملك، والمعنى تلك الآيات السورة الكاملة العجيبة في بابها، واستفيد هذا على ما قيل من اللام، وذلك أن الإضافة بيانية فالمآل ذلك الكتاب، والخبر إذا عرف بلام الجنس أفاد المبالغة وأن هذا المحكوم عليه اكتسب من الفضيلة ما يوجب جعله نفس الجنس وأنه ليس نوعا من أنواعه. وحيث إنه في الظاهر كالممتنع أريد ذلك. وجوز أن يكون المراد بالكتاب القرآن، وتِلْكَ إشارة إلى آيات السورة، والمعنى آيات هذه السورة آيات القرآن الذي هو الكتاب العجيب الكامل الغني عن الوصف بذلك المعروف به من بين الكتب الحقيق باختصاص اسم الكتاب، والظاهر أن المراد جميعه. وجوز أن يراد به المنزل حينئذ، ورجح إرادة القرآن بأنه المتبادر من مطلق الكتاب المستغني عن النعت وبه يظهر جميع ما أريد من وصف الآيات بوصف ما أضيفت إليه من نعوت الكمال بخلاف ما إذا جعل عبارة عن السورة فإنها ليست بتلك المثابة من الشهرة في الاتصاف بذلك المغنية عن التصريح بالوصف وفيه بحث، وأيّا ما كان فلا محذور في حمل آيات الكتاب على تلك كما لا يخفى، وقيل: الإشارة- بتلك- إلى ما قص سبحانه عليه عليه الصلاة والسلام من أنباء الرسل عليهم السلام المشار إليها في آخر السورة المتقدمة بقوله سبحانه: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ [يوسف: 102] وجوز على هذا أن يراد بالكتاب ما يشمل التوراة والإنجيل، وأخرج ذلك ابن جرير عن مجاهد. وقتادة. وجوز ابن عطية هذا على تقدير أن تكون الإشارة إلى- المر- مرادا بها حروف المعجم أيضا وجعل ذلك مبتدأ أولا وتِلْكَ مبتدأ ثانيا وآياتُ خبره والجملة خبر الأول والرابط اشارة، وأما قوله سبحانه وتعالى: وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ فالظاهر أن الموصول فيه مبتدأ وجملة أُنْزِلَ من الفعل ومرفوعه صلته ومِنْ رَبِّكَ متعلق- بأنزل- والْحَقُّ خبر، والمراد بالموصول عند كثير القرآن كله والكلام استدراك على وصف السورة فقط بالكمال، وفي أسلوبه قول فاطمة الأنمارية وقد قيل لها: أي بنيك أفضل؟ ربيع بل عمارة بل قيس بل أنس ثكلتهم إن كنت أعلم أيهم أفضل والله إنهم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها، وذلك كما أنها نفت التفاضل آخرا بإثبات الكمال لكل واحد دلالة على أن كمال كل لا يحيط به الوصف وهو إجمال بعد التفصيل لهذا الغرض، كذلك لما أثبت سبحانه لهذه السورة خصوصا الكمال استدركه بأن كل المنزل كذلك لا يختص به سورة دون أخرى للدلالة المذكورة، وهو على ما قيل معنى بديع ووجه بليغ ذكره صاحب الكشاف، وقيل: إنه لتقرير ما قبله والاستدلال عليه لأنه إذا كان كل المنزل عليه حقا فذلك المنزل أيضا حق ضرورة أنه من كل المنزل فهو كامل لأنه لا أكمل من الحق والصدق، ولخفاء أمر الاستدلال قال العلامة البيضاوي أنه كالحجة على ما قبله، ولعل الأول أولى ومع ذا لا يخلو عن خفاء أيضا، ولو قيل: المراد بالكمال فيما تقدم الكمال الراجع إلى الفصاحة والبلاغة ويكون ذلك وصفا للمشار إليه بالإعجاز من جهة ذلك، ويكون هذا وصفا له بخصوصه على تقدير أن يكون فيه وضع الظاهر موضع الضمير أو لما يشمله وغيره على تقدير أن لا يكون فيه ذلك بكونه حقا مطابقا للواقع إذ لا تستدعي الفصاحة والبلاغة الحقية كما يشهد به الرجوع إلى المقامات الحريرية لم يبعد كل البعد فتدبر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 82 وجوز الحوفي كون مِنْ رَبِّكَ هو الخبر والْحَقُّ خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق أو خبر بعد خبر أو كلاهما خبر واحد كما قيل في الرمان حلو حامض، وهو إعراب متكلف، وجوز أيضا كون الموصول في محل خفض عطفا على الْكِتابِ والْحَقُّ حينئذ خبر مبتدأ محذوف لا غير. قيل: والعطف من عطف العام على الخاص أو إحدى الصفتين على الأخرى كما قالوا في قوله: هو الملك القرم وابن الهمام البيت، وبعضهم يجعله من عطف الكل على الجزء أو من عطف أحد المترادفين على الآخر، ولكل وجهة، وإذا أريد بالكتاب ما روي عن مجاهد، وقتادة فأمر العطف ظاهر، وجوز أبو البقاء كون الَّذِي نعتا للكتاب بزيادة الواو في الصفة كما في: أتاني كتاب أبي حفص والفاروق والنازلين والطيبين، وتعقب بأن الذي ذكر في زيادة الواو للإلصاق خصه صاحب المغني بما إذا كان النعت جملة، ولم نر من ذكره في المفرد. وأجاز الحوفي أيضا كون الموصول معطوفا على آياتُ وجعل الْحَقُّ نعتا له وهو كما ترى. ثم المقصود على تقدير أن يكون الْحَقُّ خبر مبتدأ مذكور أو محذوف قصر الحقية على المنزل لعراقته فيها وليس في ذلك ما يدل على أن ما عداه ليس بحق أصلا على أن حقيته مستتبعة لحقية سائر الكتب السماوية لكونه مصدقا لما بين يديه ومهيمنا عليه، وساق بعض نفاة القياس هذه الآية بناء على تضمنها الحصر في معرض الاستدلال على نفي ذلك فقالوا: الحكم المستنبط بالقياس غير منزل من عند الله تعالى وإلا لكان من يحكم به كافرا لقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ [المائدة: 44] وكل ما ليس منزلا من عند الله تعالى ليس بحق لهذه الآية لدلالتها على أن لا حق إلا ما أنزله الله تعالى، والمثبتون لذلك أبطلوا ما ذكروه في المقدمة الأولى بأن المراد بعدم الحكم الإنكار وعدم التصديق أو المراد من لم يحكم بشيء أصلا مما أنزل الله تعالى، ولا شك أنه من شأن للكفرة أو المراد بما أنزله هناك التوراة بقرينة ما قبله، ونحن غير متعبدين بها فيختص باليهود ويكون المراد الحكم بكفرهم إذ لم يحكموا بكتابهم، ونحن نقول بموجبه كما بين في شرح المواقف، وما ذكروه في المقدمة الثانية بأن المراد بالمنزل من الله تعالى ما يشمل الصريح وغيره فيدخل فيه القياس لاندراجه في حكم المقيس عليه المنزل من عنده سبحانه وقد جاء في المنزل صريحا فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الحشر: 2] وهو دال على ما حقق في محله على حسن اتباع القياس على أنك قد علمت المقصود من الحصر. ويحتمل أيضا على ما قيل أن يكون المراد هو الحق لا غيره من الكتب الغير المنزلة أو المنزلة إلى غيره بناء على تحريفها ونسخها، وقد يقال: إن دليلهم منقوض بالسنة والإجماع، والجواب الجواب، ولا يخفى ما في التعبير عن القرآن بالموصول وإسناد الإنزال إليه بصيغة ما لم يسم فاعله، والتعرض لوصف الربوبية مضافا إلى ضميره عليه الصلاة والسلام من الدلالة على فخامة المنزل وتشريف المنزل والإيماء إلى وجه بناء الخبر ما لا يخفى وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ قيل هم كفار مكة، وقيل: اليهود والنصارى والأولى أن يراد أكثرهم مطلقا لا يُؤْمِنُونَ بذلك الحق المبين لإخلالهم بالنظر والتأمل فيه فعدم إيمانهم كما قال شيخ الإسلام متعلق بعنوان حقيته لأنه المرجع للتصديق والتكذيب لا بعنوان كونه منزلا كما قيل ولأنه وارد على سبيل الوصف دون الاخبار اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ أي خلقهن مرتفعات على طريقة سبحان من كبر الفيل وصغر البعوض لا أنه سبحانه رفعها بعد إن لم تكن كذلك بِغَيْرِ عَمَدٍ أي دعائم، وهو اسم جمع عند الأكثر والمفرد عماد كاهاب وأهب يقال: عمدت الحائط أعمده عمدا إذا دعمته فاعتمد واستند، وقيل: المفرد عمود، وقد جاء أديم وأدم وقصيم وقصم، وفعيل وفعول يشتركان في كثير من الأحكام، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 83 وقيل: إنه جمع ورجح الأول بما سنشير إليه إن شاء الله تعالى قريبا. وقرأ أبو حيوة ويحيى بن وثاب «عمد» بضمتين، وهو جمع عماد كشهاب وشهب أو عمود كرسول ورسل ويجمعان في القلة على أعمدة، والجمع لجمع السموات لا لأن المنفي عن كل واحدة منها العمد لا العماد، والجار والمجرور في موضع الحال أي رفعها خالية عن عمد تَرَوْنَها استئناف لا محل له من الإعراب جيء به للاستشهاد على كون السموات مرفوعة كذلك كأنه قيل: ما الدليل على ذلك؟ فقيل: رؤيتكم لها بغير عمد فهو كقولك: أنا بلا سيف ولا رمح تراني. ويحتمل أن يكون الاستئناف نحويا بدون تقدير سؤال وجواب والأول أولى، وجوز أن تكون الجملة في موضع الحال من السموات أي رفعها مرئية لكم بغير عمد وهي حال مقدرة لأن المخاطبين حين رفعها لم يكونوا مخلوقين، وأيّا ما كان فالضمير المنصوب للسموات. وجوز كون الجملة صفة للعمد فالضمير لها واستدل لذلك بقراءة أبي «ترونه» لأن الظاهر أن الضمير عليها للعمد وتذكيره حينئذ لائح الوجه لأنه اسم جمع فلوحظ أصله في الإفراد ورجوعه إلى الرفع خلاف الظاهر، وعلى تقدير الوصفية يحتمل توجه النفي إلى الصفة والموصوف على منوال: ولا ترى الضب بها ينجحر. لأنها لو كانت لها عمد كانت مرئية وهذا في المعنى كالاستئناف، ويحتمل توجه إلى الصفة فيفيد أن لها عمدا لكنها غير مرئية وروي ذلك عن مجاهد وغيره، والمراد بها قدرة الله تعالى وهو الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض، فيكون العمد على هذا استعارة. وأخرج ابن حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: السماء على أربعة أملاك كل زاوية موكل بها ملك. وزعم بعضهم أن العمد جبل قاف فإنه محيط بالأرض والسماء عليه كالقبة، وتعقبه الإمام بأنه في غاية السقوط وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يمكن أن يكون مراده في وجه ذلك، وأنا لا أرى ما قبله يصح عن ابن عباس، فالحق أن العمد قدرة الله تعالى، وهذا دليل على وجود الصانع الحكيم تعالى شأنه وذلك لأن ارتفاع السموات على سائر الأجسام المساوية لها في الجرمية كما تقرر في محله واختصاصها بما يقتضي ذلك لا بد وأن يكون لمخصص ليس بجسم ولا جسماني يرجح بعض الممكنات على بعض بإرادته. ورجح في الكشف استئناف الجملة بأن الاستدلال برفع هذه الأجرام دون عمد كاف، والاستشهاد عليه بكونه مشاهدا محسوسا تأكيد للتحقيق، ثم لا يخفى أن الضمير المنصوب في تَرَوْنَها إذا كان راجعا إلى السموات المرفوعة اقتضى ظاهر الآية أن المرئي هو السماء. وقد صرح الفلاسفة بأن المرئي هو كرة البخار وثخنها كما قال صاحب التحفة أحد وخمسون ميلا وتسع وخمسون دقيقة، والمجموع سبعة عشر فرسخا وثلث فرسخ تقريبا، وذكروا أن سبب رؤيتها زرقاء أنها مستضيئة دائما بأشعة الكواكب وما وراءها لعدم قبوله الضوء كالمظلم بالنسبة إليها فإذا نفذ نور البصر من الأجزاء المستنيرة بالأشعة إلى الأجزاء التي هي كالمظلم رأى الناظر ما فوقه من المظلم بما يمازجه من الضياء الأرضي والضياء الكوكبي لونا متوسطا بين الظلام والضياء وهو اللون اللازوردي، وذلك كما إذا نظرنا من جسم أحمر مشف إلى جسم أخضر فإنه يظهر لنا لون مركب من الحمرة والخضرة. وأجمعوا أن السموات التي هي الأفلاك لا ترى لأنها شفافة لا لون لها لأنها لا تحجب الأبصار عن رؤية ما وراءها من الكواكب وكل ملون فإنه يحجب عن ذلك. وتعقب ذلك الإمام الرازي بأنا لا نسلم أن كل ملون حاجب فإن الماء والزجاج ملونان لأنهما مرئيان ومع ذلك لا يحجبان. فإن قيل: فيهما حجب عن الابصار الكامل قلنا: وكيف عرفتم أنكم أدركتكم هذه الكواكب إدراكا تاما انتهى، على أن ما ذكروه لا يتمشى في المحدد إذ ليس وراءه شيء حتى يرى ولا في الفلك الذي يسمونه بفلك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 84 الثوابت أيضا إذ ليس فوقه كوكب مرئي وليس لهم أن يقولوا لو كان كل منهما ملونا لوجب رؤيته لأنا نقول جاز أن يكون لونه ضعيفا كلون الزجاج فلا يرى من بعيد ولئن سلمنا وجوب رؤية لونه قلنا: لم لا يجوز أن تكون هذه الزرقة الصافية المرئية لونه وما ذكر أولا فيها دون إثباته كرة النار وما يقال: إنها أمر يحسن في الشفاف إذا بعد عمقه كما في ماء البحر فإنه يرى أزرق متفاوت الزرقة بتفاوت قعره قربا وبعدا فالزرقة المذكورة لون يتخيل في الجو الذي بين السماء والأرض لأنه شفاف بعد عمقه لا يجدي نفعا لأن الزرقة كما تكون لونا متخيلا قد تكون أيضا لونا حقيقيا قائما بالأجساد، وما الدليل على أنها لا تحدث إلا بذلك الطريق التخيلي فجاز أن تكون تلك الزرقة المرئية لونا حقيقيا لأحد الفلكين كذا قال بعض المحققين، وأنت تعلم أنه لا مانع عند المسلمين من كون المرئي هو السماء الدنيا المسماة بفلك القمر عند الفلاسفة بل هو الذي تقتضيه الظواهر، ولا نسلم أن ما يذكرونه من طبقات الهواء مانعا، وهذه الزرقة يحتمل أن تكون لونا حقيقيا لتلك السماء صبغها الله تعالى به حسبما اقتضته حكمته، وعليه الأثريون كما قال القسطلاني، ويؤيده ظاهر ما صح من قوله صلى الله عليه وسلم: «ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء» ، وفي رواية «الأرض من ذي لهجة أصدق من أبي ذر» ويحتمل أن يكون لونا تخيليا في طبقة من طبقات الهواء الشفاف الذي ملأ الله به ما بين السماء والأرض ويكون لها في نفسها لون حقيقي الله تعالى أعلم بكيفيته ولا بعد في أن يكون أبيض وهو الذي يقتضيه بعض الأخبار لكنا نحن نراها من وراء ذلك الهواء بهذه الكيفية كما نرى الشيء الأبيض من وراء جام أخضر أخضر، ومن وراء جام أزرق أزرق وهكذا، وجاء في بعض الآثار أن ذلك من انعكاس لون جبل قاف عليها. وتعقب بأن جبل قاف لا وجود له، وبرهن عليه بما يرده- كما قال العلامة ابن حجر- ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من طرق أخرجها الحفاظ وجماعة منهم ممن التزموا تخريج الصحيح، وقول الصحابي ذلك ونحوه مما لا مجال للرأي فيه حكمه حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، منها أن وراء أرضنا بحرا محيطا ثم جيلا يقال له قاف ثم أرضا ثم بحرا ثم جبلا وهكذا حتى عد سبعا من كل، وخرج بعض أولئك عن عبد الله بن بريدة أنه جبل من زمرد محيط بالدنيا عليه كنفا السماء، وعن مجاهد مثله. ونقل صاحب حل الرموز ان له سبع شعب وأن لكل سماء منها شعبة، وفي القلب من صحة ذلك ما فيه، بل أنا أجزم بأن السماء ليست محمولة إلا على كاهل القدرة، والظاهر أنها محيطة بالأرض من سائر جهاتها كما روي عن الحسن، وفي الزرقة الاحتمالان. بقي الكلام في رؤية باقي السموات وظاهر الآية يقتضيه وأظنك لا ترى ذلك وظاهر بعض الآيات يساعدك فتحتاج إلى القول بأن الباقي وإن لم يكن مرئيا حقيقة لكنه في حكم المرئي ضرورة أنه إذا لم يكن لهذا عماد لا يتصور أن يكون لما وراءه عماد عليه بوجه من الوجوه، ويؤول هذا إلى كون المراد ترونها حقيقة أو حكما بغير عمد، وجوز أن يكون المراد ترون رفعها أي السموات جميعا بغير ذلك. وفي الكشف ما يشير إليه وإذا جعل الضمير للعمد فالأمر ظاهر فتدبر، ومن البعيد الذي لا نراه زعم بعضهم أن تَرَوْنَها خبر في اللفظ ومعناه الأمر روها وانظروا هل لها من عمد ثُمَّ اسْتَوى سبحانه استواء يليق بذاته عَلَى الْعَرْشِ وهو المحدد بلسان الفلاسفة، وقد جاء في الأخبار من عظمه ما يبهر العقول، وجعل غير واحد من الخلف الكلام استعارة تمثيلية للحفظ والتدبير، وبعضهم فسر استوى باستولى، ومذهب السلف في ذلك شهير ومع هذا قد قمنا الكلام فيه، وأيّا ما كان فليس المراد به القصد إلى إيجاد العرش كما قالوا في قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [البقرة: 29] لأن إيجاده قبل إيجاد السموات، ولا حاجة إلى إرادة ذلك مع القول بسبق الإيجاد وحمل ثُمَّ على التراخي في الرتبة، نعم قال بعضهم: إنها للتراخي الرتبي لا لأن الاستواء بمعنى القصد المذكور وهو متقدم بل لأنه صفة قديمة لائقة به تعالى شأنه وهو متقدم على رفع السموات أيضا وبينهما تراخ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 85 في الرتبة وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ذللهما وجعلهما طائعين لما أريد منهما كُلٌّ من الشمس والقمر يَجْرِي يسير في المنازل والدرجات لِأَجَلٍ مُسَمًّى أي وقت معين، فإن الشمس تقطع الفلك في سنة والقمر في شهر لا يختلف جرى كل منهما كما في قوله تعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها [يس: 38] وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ [يس: 39] وهو المروي عن ابن عباس، وقيل: أي كل يجري لغاية مضروبة ينقطع دونها سيره وهي إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ [التكوير: 1، 2] وهذا مراد مجاهد من تفسير الأجل المسمى بالدنيا، قيل: والتفسير الحق ما روي عن الحبر، وأما الثاني فلا يناسب الفصل به بين التسخير والتدبير. ثم إن غايتهما متحدة والتعبير- بكل يجري- صريح في التعدد وما للغاية إلى دون اللام، ورد بأنه إن أراد أن التعبير بذلك صريح في تعدد ذي الغاية فمسلم لكن لا يجديه نفعا، وإن أراد صراحته في تعدد الغاية فغير مسلم، واللام تجيء بمعنى إلى كما في المغني وغيره. وأنت تعلم لا يفيد أكثر من صحة التفسير الثاني فافهم، وما أشرنا إليه من المراد من كل هو الظاهر، وزعم ابن عطية أن ذكر الشمس والقمر قد تضمن ذكر الكواكب فالمراد من كل كل منهما ومما هو في معناهما من الكواكب والحق ما علمت يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي أمر العالم العلوي والسفلي، والمراد أنه سبحانه يقضي ويقدر ويتصرف في ذلك على أكمل الوجوه وإلا فالتدبير بالمعنى اللغوي لاقتضائه التفكر في دبر الأمور مما لا يصح نسبته إليه تعالى: يُفَصِّلُ الْآياتِ أي ينزلها ويبينها مفصلة، والمراد بها آيات الكتب المنزلة أو القرآن على ما هو المناسب لما قبل، أو المراد بها الدلائل المشار إليها فيما تقدم وبتفصيلها تبيينها، وقيل إحداثها على ما هو المناسب لما بعد. والجملتان جوز أن يكونا مستأنفتين وأن يكونا حالين من ضمير اسْتَوى وسخر من تتمته بناء على أنه جيء به لتقرير معنى الاستواء وتبيينه أو جملة مفسرة له، وجوز أن يكون يُدَبِّرُ حالا من فاعل سَخَّرَ ويُفَصِّلُ حالا من فاعل يُدَبِّرُ، واللَّهُ الَّذِي إلخ على جميع التقادير مبتدأ وخبر، وجوز أن يكون الاسم الجليل مبتدأ والموصول صفته وجملة يُدَبِّرُ خبره وجملة يُفَصِّلُ خبرا بعد خبر، ورجح كون ذلك مبتدأ وخبرا في الكشف بأن قوله تعالى الآتي: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ عطف عليه على سبيل التقابل بين العلويات والسفليات وفي المقابل تتعين الخبرية فكذلك في المقابل ليتوافقا، ولدلالته على أن كونه كذلك هو المقصود بالحكم لا أنه ذريعة إلى تحقيق الخبر وتعظيمه كما في الوجه الآخر، ثم قال: وهو على هذا جملة مقررة لقوله سبحانه: وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وعدل عن ضمير الرب إلى الاسم المظهر الجامع لترشيح التقرير كأنه قيل: كيف لا يكون منزل من هذه أفعاله الحق الذي لا أحق منه، وفي الإتيان بالمبتدأ والخبر معرفتين ما يفيد تحقيق إن هذه الأفعال دون مشاركة لا سيما وقد جعلت صلات للموصول، وهذا أشد مناسبة للمقام من جعله وصفا مفيدا تحقيق كونه تعالى مدبرا مفصلا مع التعظيم لشأنهما كما في قول الفرزدق: إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتا دعائمه أعز وأطول وتقدم ذكر الآيات ناصر ضعيف لأن الآيات في الموضعين مختلفة الدلالة ولأن المناسب حينئذ تأخره عن قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ إلخ، على أن سوق تلك الصفات أعني رفع السموات وما تلاه للغرض المذكور وسوق مقابلاتها لغرض آخر منافر، وفي الأول روعي لطيفة في تعقيب الأوائل بقوله سبحانه: يُدَبِّرُ يُفَصِّلُ للإيقان والثواني بقوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ أي من فضل السوابق لإفادتها اليقين واللواحق ذرائع إلى حصوله لأن الفكر آلته والإشارة إلى تقديم الثواني بالنسبة إلينا مع التأخر رتبة وذلك فائت على الوجه الآخر اه وهو من الحسن بمكان فيما أرى، ولا تنافي كما قال الشهاب بين الوجهين باعتبار أن الوصفية تقتضي المعلومية والخبرية الجزء: 7 ¦ الصفحة: 86 تقتضي خلافها لأن المعلومية عليهما والمقصود بالإفادة قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ أي لكم تتفكروا وتحققوا كمال قدرته سبحانه فتعلموا أن من قدر على ذلك قدر على الإعادة والجزاء، وحاصله أنه سبحانه فعل كل ذلك لذلك، وعلى الوجه الآخر فعل الأخيرين لذلك مع أن الكل له ثم قال: وهذا مما يرجح الوجه الأول أيضا كما يرجحه أنه ذكر تبيين الآيات وهي الرفع وما تلاه فإنه ذكرها ليستدل بها على قدرته تعالى وعلمه ولا يستدل بها إلا إذا كانت معلومة فيقتضي كونها صفة. فإن قيل: لا بد في الصلة أن تكون معلومة سواء كانت صفة أو خبرا يقال: إذا كان ذلك صلة دل على انتساب الآيات إلى الله تعالى وإذا كان خبرا دل على انتسابها إلى موجود مبهم وهو غير كاف في الاستدلال فتأمل. وقرأ النخعي وأبو رزين. وأبان بن تغلب عن قتادة «ندبر» . «نفصل» بالنون فيهما وكذا روى أبو عمرو الداني عن الحسن ووافق في «نفصل» بالنون الخفاف. وعبد الوهاب عن أبي عمرو، وهبيرة عن حفص، وقال صاحب اللوامح: جاء عن الحسن. والأعمش «نفصل» بالنون، وقال المهدوي: لم يختلف في يُدَبِّرُ وليس كما قال لما سمعت، ثم أنه تعالى لما ذكر من الشواهد العلوية ما ذكر أردفها بذكر الدلائل السفلية فقال عز شأنه: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ أي بسطها طولا وعرضا، قال الأصم: البسط المد إلى ما لا يرى منتهاه، ففيه دلالة على بعد مداها وسعة أقطارها، وقيل: كانت مجتمعة فدحاها من مكة من تحت البيت، وقيل: كانت مجتمعة عند بيت المقدس فدحاها وقال سبحانه لها: اذهبي كذا وكذا وهو المراد بالمد، ولا يخفى أنه خلاف ما يقتضيه المقام. واستدل بالآية على أنها مسطحة غير كرية، والفلاسفة مختلفون في ذلك فذهب فريق منهم إلى أنها ليست كرية وهؤلاء طائفتان. فواحدة تقول: إنها محدبة من فوق مسطحة من أسفل فهي كقدح كب على وجه الماء. وأخرى تقول بعكس ذلك، وذهب الأكثرون منهم إلى أنها كرية أما في الطول فلأن البلاد المتوافقة في العرض أو التي لا عرض لها كلما كانت أقرب إلى الغرب كان طلوع الشمس وسائر الكواكب عليها متأخرا بنسبة واحدة ولا يعقل ذلك إلا في الكرة، وأما في العرض فلأن السالك في الشمال كلما أوغل فيه ازداد القطب ارتفاعا عليه بحسب إيغاله فيه على نسبة واحدة بحيث يراه قريبا من سمت رأسه وكذلك تظهر له الكواكب الشمالية وتخفى عنه الكواكب الجنوبية، والسالك الواغل في الجنوب بالعكس من ذلك، وأما فيما بينهما فلتركب الأمرين. وأورد عليهم الاختلاف المشاهد في سطحها فأجابوا عنه بأن ذلك لا يقدح في أصل الكرية الحسية المعلومة بما ذكر، فإن نسبة ارتفاع أعظم الجبال على ما استقر عليه استقراؤهم وانتهت إليه آراؤهم وهو جبل دماوند فيما بين الري وطبرستان أو جبل في سرنديب إلى قطر الأرض كنسبة سبع عرض شعيرة إلى ذراع. واعترض ذلك بأنه هب أن ما ذكرتم كذلك فما قولكم فيما هو مغمور في الماء؟ فإن قالوا: إذا كان الظاهر كريا فالباقي كذلك لأنها طبيعة واحدة. قلنا: فالمرجع حينئذ إلى البساطة واقتضاؤها الكرية الحقيقية ولا شك أنه يمنعها التضاريس وإن لم تظهر للحس لكونها في غاية الصغر، لكن أنت تعلم أن أرباب التعليم يكتفون بالكرية الحسية في السطح الظاهر فلا يتجه عليهم السؤال عن المغمور ولا يليق بهم الجواب بالرجوع إلى البساطة، والحق الذي لا ينكره إلا جاهل أو متجاهل أن ما ظهر منها كري حسا، ولذلك كرية الفلك تختلف أوقات الصلاة في البلاد فقد يكون الزوال ببلد ولا يكون ببلد آخر وهكذا الطلوع والغروب وغير ذلك، وكرية ما عدا ما ذكر لا يعلمها إلا الله تعالى. نعم إنها لعظم جرمها الظاهر يشاهد كل قطعة وقطر منها كأنه مسطح وهكذا كل دائرة عظيمة وبذلك يعلم أنه لا تنافي بين المد وكونها كرية. وزعم ابن عطية أن ظاهر الشريعة يقتضي أنها مسطحة وكأنه يقول بذلك وهو خلاف ما يقتضيه الدليل. وهي عندهم ثلاث طبقات الطبقة الصرفة المحيطة بالمركز ثم الطبقة الطينية ثم الطبقة المخالطة التي تتكون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 87 فيها المعادن وكثير من النباتات والحيوانات، والصرفة منها غير ملونة عند بعضهم، ومال ابن سينا إلى أنها ملونة، واحتج عليه بأن الأرض الموجودة عندنا وإن كانت مخلوطة بغيرها ولكنا قد نجد فيها ما يكون الغالب عليه الأرضية فلو كانت الأرض البسيطة شفافة لكان يجب أن نرى في شيء من أجزاء الأرض مما ليس متكونا تكونا معدنيا شيئا فيه اشفاف ولكان حكم الأرض في ذلك حكم الماء والهواء فإنهما وإن امتزجا إلا أنهما ما عدما الاشفاف بالكلية. واختلف القائلون بالتلون فمنهم من قال: إن لونها هو الغبرة، ومنهم من زعم أنه السواد وزعم أن الغبرة إنما تكون إذا خالطت الأجزاء الأرضية أجزاء هوائية فبسببها ينكسر ويحصل الغبرة، وأما إذا اجتمعت تلك الأجزاء بحيث لا يخالطها كثير هوائية اشتد السواد وذلك مثل الفحم قبل أن يترمد فإن النار لا عمل لها إلا في تفريق المختلفات فهي لما حللت ما في الخشب من الهوائية واجتمعت الأجزاء الأرضية من غير أن يتخللها شيء غريب ظهر لون أجزائها وهو السواد، ثم إذا رمدته اختلطت بتلك الأجزاء أجزاء هوائية فلا جرم ابيضت مرة أخرى. والذي صح في الخبر وقد سبق إطلاق الغبراء على الأرض وهو محتمل لأن تكون سائر طبقاتها كذلك ولأن يكون وجهها الأعلى كذلك، نعم جاء في بعض الآثار أن في أسفل الأرض ترابا أبيض وما ذكر من الطبقات مما لا يصادم خبرا صحيحا في ذلك، وكونها سبع طبقات بين كل طبقة وطبقة كما بين كل سماء وسماء خمسمائة عام وفي كل خلق غير مسلم، وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق: 12] لا يثبته كما ستعلم إن شاء الله تعالى، والخبر في ذلك غير مسلم الصحة أيضا، ومثل ذلك فيما أرى ما روي عن كعب أنه قال لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: إن الله تعالى جعل مسيرة ما بين المشرق والمغرب خمسمائة سنة فمائة سنة في المشرق لا يسكنها شيء من الحيوان لا جن ولا انس ولا دابة وليس في ذلك شجرة ومائة سنة في المغرب كذلك وثلاثمائة سنة فيما بين المشرق والمغرب يسكنها الحيوان، وكذا ما أخرجه ابن حاتم عن عبد الله بن عمر من أن الدنيا مسيرة خمسمائة عام أربعمائة عام خراب ومائة عمران، والمقرر عند أهل الهندسة والهيئة غير هذا. فقد ذكر القدماء منهم أن محيط دائرة الأرض الموازية لدائرة نصف النهار ثمانية آلاف فرسخ حاصلة من ضرب فراسخ درجة واحدة وهي عندهم اثنان وعشرون فرسخا وتسعا فرسخ في ثلاثمائة وستين محيط الدائرة العظمى على الأرض، والمتأخرون أن ذلك ستة آلاف وثمانمائة فرسخ حاصلة من ضرب فراسخ درجة وهي عندهم تسعة عشر فرسخا إلا تسع فرسخ في المحيط المذكور، وعلى القولين التفاوت بين ما يقوله المهندسون ومن معهم وما نسب لغيرهم ممن تقدم أمر عظيم والحق في ذلك مع المهندسين. وزعموا أن الموضع الطبيعي للأرض هو الوسط من الفلك وأنها بطبعها تقتضي أن تكون مغمورة بالماء ساكنة في حاق الوسط منه لكن لما حصل في جانب منها تلال وجبال ومواضع عالية وفي جانب آخر ضد ذلك لأسباب ستسمعها بعد إن شاء الله تعالى وكان من طبع الماء أن يسيل من المواضع العالية إلى المواضع العميقة لا جرم انكشف الجانب المشرف من الأرض وسال الماء إلى الجوانب العميقة منها. وللكواكب في زعمهم تأثير في ذلك بحسب المسامتات التي تتبدل عند حركاتها خصوصا الثوابت والأوجات والحضيضات المتغيرة في أمكنتها. وحكم أصحاب الأرصاد أن طول البر المنكشف نصف دور الأرض وعرضه أحد أرباعها إلى ناحية الشمال، وفي تعيين أي الربعين الشماليين منكشف تعذر أو تعسر كما قال صاحب التحفة، وأما ما عدا ذلك فقال الإمام: لم يقم دليل على كونه مغمورا في الماء ولكن الأشبه ذلك إذ الماء أكثر من الأرض أضعافا لأن كل عنصر يجب أن يكون بحيث لو استحال بكليته إلى عنصر آخر كان مثله، والماء يصغر حجمه عند الاستحالة أرضا ومع ذلك لو كان في بعض المواضع من الأرباع الثلاثة عمارة قليلة لا يعتد بها، وأما تحت القطبين فلا يمكن أن يكون عمارة لاشتداد البرد: وإنما حكموا بأن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 88 المعمور الربع لأنهم لم يجدوا في أرصاد الحوادث الفلكية كالخسوفات وقرانات الكواكب التي لا اختلاف منظر لها تقدما في ساعات الواغلين في المشرق لتلك الحوادث على ساعات الواغلين في المغرب زائدا على اثنتي عشرة ساعة مستوية وهي نصف الدور لأن كل ساعة خمسة عشر جزءا من أجزاء معدل النهار تقريبا وضرب خمسة عشر في اثني عشر مائة وثمانون. ونحن نقول بوجود الخراب وانه أكثر من المعمور بكثير وأكثر المعمور شمالي ولا يوجد في الجنوب منه إلا مقدار يسير، لكنا نقول: ما زعموه سببا للانكشاف غير مسلم ونسند كون الأرض بحيث وجدت صالحة لسكنى الحيوانات وخروج النبات إلى قدرته تعالى واختياره سبحانه وإلا فمن أنصف علم أن لا سبيل للعقل إلى معرفة سبب ذلك على التحقيق وقال: إنه تعالى فعل ذلك في الأرض لمجرد مشيئته الموافقة للحكمة. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ أي جبالا ثوابت في أحيازها من الرسو وهو ثبات الأجسام الثقيلة ولم يذكر الموصوف لإغناء غلبة الوصف بها عن ذلك، وفواعل يكون جمع فاعل إذا كان صفة مؤنث كحائض أو صفة ما لا يعقل مذكر كجمل بازل وبوازل أو اسما جامدا أو ما جرى مجراه كحائط وحوائط وانحصار مجيئه جمعا لذلك في فوارس وهوالك ونواكس إنما هو في صفات العقلاء لا مطلقا، والجمع هنا في صفة ما لا يعقل، قيل: فلا حاجة إلى جعل المفرد هنا راسية صفة لجمع القلة أعني أجبلا ويعتبر في جمع الكثرة أعني جبالا انتظامه لطائفة من جموع القلة وينزل كل منها منزلة مفردة كما قيل، على أنه لا مجال لذلك لأن جمعية كل من صيغتي الجمعين إنما هي لشمول الأفراد لا باعتبار شمول جمع القلة للأفراد وجمع الكثرة لجموع القلة فكل منهما جمع جبل لا أن جبالا جمع أجبل اه. وتعقب بأنه لعل من قال: إن الرواسي هنا جمع راسية صفة أجبل لا يلتزم ما ذكر وأنه إذا صح إطلاق أجبل راسية على جبال قطر مثلا صح إطلاق الجبال على جبال جميع الأقطار من غير اعتبار جعل الجبال جمعا لجموع القلة نعم لا يصح أن يكون جبال جمع أجبل لأنه يصير حينئذ جمع الجمع وهو خلاف ما صرح به أهل اللغة. وجعل راسية صفة جبل لا أجبل والتاء فيه للمبالغة لا للتأنيث كما في- علامة- يرد عليه أن تاء المبالغة في فاعلة غير مطرد. وقال أبو حيان: إنه غلب على الجبال وصفها بالرواسي ولذا استغنوا بالصفة عن الموصوف وجمع جمع الاسم كحائط وحوائط وهو مما لا حاجة إليه لما سمعت، وأورد عليه أيضا أن الغلبة تكون بكثرة الاستعمال والكلام في صحته من أول الأمر ففيما ذكره دور، وأجيب بأن كثرة استعمال الرواسي غير جار على موصوف يكفي لمدعاه وفيه تأمل، وكذا لا حاجة إلى ما قيل: إنه جمع راسية صفة جبل مؤنث باعتبار البقعة وكل ذلك ناشىء من الغفلة عما ذكره محققو علماء العربية، هذا والتعبير عن الجبال بهذا العنوان لبيان تفرع قرار الأرض على ثباتها، وفي الخبر «لما خلق الله تعالى الأرض جعلت تميد فخلق الله تعالى الجبال عليها فاستقرت فقالت الملائكة: ربنا خلقت خلقا أعظم من الجبال؟ قال: نعم الحديد، فقالوا: ربنا خلقت خلقا أعظم من الحديد؟ قال: نعم النار، فقالوا: ربنا خلقت خلقا أعظم من النار؟ قال: نعم الماء فقالوا: ربنا خلقت خلقا أعظم من الماء؟ قال: نعم الهواء، فقالوا: ربنا خلقت خلقا أعظم من الهواء؟ قال نعم ابن آدم يتصدق الصدقة بيمينه فيخفيها عن شماله» وأول جبل وضع على الأرض كما أخرج ابن أبي حاتم عن عطاء أبو قبيس، ومجموع ما يرى عليها من الجبال مائة وسبعة وثمانون جبلا (1) وأبى الفلاسفة كون استقرار الأرض بالجبال واختلفوا في سبب ذلك فالقائلون بالكرية منهم من جعله جذب الفلك لها من جميع الجوانب فيلزم أن   (1) في الإقليم الأول عشرون وفي الثاني سبعة وعشرون وفي الثالث ثلاثة وثلاثون وفي الرابع خمسة وخمسون وفي الخامس ثلاثون وفي السادس أحد عشر وفي السابع مثله اه منه. [ ..... ] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 89 تقف في الوسط كما يحكى عن صنم حديدي في بيت مغناطيسي الجوانب كلها فإنه وقف في الوسط لتساوي الجذب من كل جانب. ورد بأن الأصغر أسرع انجذابا إلى الجاذب من الأكبر فما بال المدرة لا تنجذب إلى الفلك بل تهرب عنه إلى المركز، وأيضا إن الأقرب أولى بالانجذاب من الأبعد فالمدرة المقذوفة إلى فوق أولى بالانجذاب على أصلهم فكان يجب أن لا تعود، ومنهم من جعله دفع الفلك بحركته لها من كل الجوانب كما إذا جعل شيء من التراب في قارورة كرية ثم أديرت على قطبيها إدارة سريعة فإنه يعرض وقوف التراب في وسطها لتساوي الدفع من كل جانب ورد بأن الدفع إذا كانت قوته هذه القوة فما باله لا يحس به، وأيضا ما بال هذا الدفع لا يجعل حركة الرياح والسحب إلى جهة بعينها، وأيضا ما باله لم يجعل انتقالنا إلى المغرب أسهل من انتقالنا إلى المشرق، وأيضا يجب أن تكون حركة الثقيل كلما كان أعظم أيضا لأن اندفاع الأعظم من الدافع أبطأ من اندفاع الأصغر، وأيضا يجب أن تكون حركة الثقيل النازل ابتداء أسرع من حركته انتهاء لأنه عند الابتداء أقرب إلى الفلك، وغير القائلين بها منهم من جعلها غير متناهية من جانب السفل وسبب سكونها عندهم أنها لم يكن لها مهبط تنزل فيه، ويرد دليل تناهي الأجسام، ومنهم من قال بتناهيها وجعل السبب طفوها على الماء أما مع كون محدبها فوق ومسطحها أسفل وأما مع العكس، ورد بأن مجرد الطفو لا يقتضي السكون على أن فيه عند الفلاسفة بعد ما فيه، وذهب محققوهم إلى أن سكونها لذاتها لا لسبب منفصل، قال في المباحث المشرقية: والوجه المشترك في إبطال ما قالوا في سبب السكون أن يقال: جميع ما ذكرتموه من الجذب والدفع وغيرهما أمور عارضة وغير طبيعية ولا لازمة للماهية فيصح فرض ماهية الأرض عارية عنها فإذا قدرنا وقوع هذا الممكن فإما أن تحصل في حيز معين أولا تحصل فيه وحينئذ إما أن تحصل في كل الاحياز أو لا تحصل في شيء منها والأخيران ظاهرا الفساد فتعين الأول وهو أن تختص بحيز معين ويكون ذلك لطبعها المخصوص ويكون حينئذ سكونها في الحيز لذاتها لا لسبب منفصل، وإذا عقل ذلك فليعقل في اختصاصها بالمركز أيضا، ثم ذكر في تكون الجبال مباحث: الأول الحجر الكبير إنما يتكون لأن حرا عظيما يصادق طينا لزجا إما دفعة أو على سبيل التدريج. وأما الارتفاع فله سبب بالذات وسبب بالعرض، أما الأول فكما إذا نقلت الريح الفاعلة للزلزلة طائفة من الأرض وجعلتها تلّا من التلال، وأما الثاني فإن يكون الطين بعد تحجره مختلف الأجزاء في الرخاوة والصلابة وتتفق مياه قوية الجري أو رياح عظيمة الهبوب فتحفر الأجزاء الرخوة وتبقي الصلبة ثم لا تزال السيول والرياح تؤثر في تلك الحفر إلى أن تغور غورا شديدا ويبقى ما تنحرف عنه شاهقا، والأشبه أن هذه المعمورة قد كانت في سالف الدهر مغمورة في البحار فحصل هناك الطين اللزج الكثير ثم حصل بعد الانكشاف (1) وتكونت الجبال، ومما يؤيد هذا الظن في كثير من الأحجار إذا كسرناها أجزاء الحيوانات المائية كالأصداف ثم لما حصلت الجبال وانتقلت البحار حصل الشهوق إما لأن السيول حفرت ما بين الجبال وإما لأن ما كان من هذه المنكشفات أقوى تحجرا وأصلب طينة إذا انهد ما دونه بقي أرفع وأعلى، إلا أن هذه أمور لا تتم في مدة تفي التواريخ بضبطها. والثاني سبب عروق الطين في الجبال يحتمل أن يكون من جهة ما تفتت منها وتترب وسالت عليه المياه ورطبته أو خلطت به طينها الجيد، وأن يكون من جهة أن   (1) وذكر حضرة مولانا علي رضا باشا خلد الله تعالى ملكه خلود الجبال أن من جملة أسباب التكون أن بعض المياه تخرج من بعض العيون فتنقلب حجرا وهكذا لا تزال تخرج وتنقلب حجرا إلى أن يصير ذلك جبلا عظيما ويتفق له عارض فينقطع وذكر أنه شاهد ذلك اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 90 القديم من طين البحر غير متفق الجوهر منه ما يقوى تحجره ومنه ما يضعف وأن يكون من جهة أنه يعرض للبحر أن يفيض قليلا قليلا على سهل وجبل فيعرض للسهل أن يصير طينا لزجا مستعدا للتحجر القوي وللجبل أن يتفتت كما إذا نقعت آجرة وترابا في الماء ثم عرضت الآجرة والطين على النار فإنه حينئذ تتفتت الآجرة ويبقى الطين متحجرا. والثالث قد نرى بعض الجبال منضودا ساقا فساقا فيشبه أن يكون ذلك لأن طينته قد ترتبت هكذا بأن كان ساق قد ارتكم أولا ثم حدث بعده في مدة أخرى ساق آخر فارتكم وكان قد سال على كل ساق من خلاف جوهره فصار حائلا بينه وبين الساق الآخر فلما تحجرت المادة عرض للحائل أن انتثر عما بين الساقين. هذا وتعقب ما ذكروه في سبب التكون بأنه لا يخفى أن اختصاص بعض من أجزاء الأرض بالصلابة وبعض آخر منها بالرخاوة مع استواء نسبة تلك الأجزاء كلها إلى الفلكيات التي زعموا أنها المعدات لها قطعا للمجاورة والملاصقة الحاصلة بين الأجزاء الرخوة والصلبة يستدعي سببا مخصصا وعند هذا الاستدعاء يقف العقل ويحيل ذلك الاختصاص على سبب من خارج هو الفاعل المختار جل شأنه فليت شعري لم لم يفعل ذلك أولا حذفا للمؤنة. نعم لا يبعد أن يكون ذلك من أسباب تكونها بإرادة الله تعالى عند من يقول من المليين وغيرهم بالوسائط لا عند الأشاعرة إذ الكل عندهم مستند إليه سبحانه ابتداء فلا يتصور واسطة حقيقة على رأيهم وما ذكر من الأسباب أمور لا تفيد إلا ظنا ضعيفا. وحديث رؤية أجزاء الحيوانات المائية كالأصداف كذلك أيضا فإنا كثيرا ما نرى ذلك في مواضع المطر. وقد أخبرني من أثق به أنه شاهد ضفادع وقعت مع المطر، على أن ذلك لا يتم على تقدير أن يكون المكشوف من الأرض قد انكشف في مبدأ الفطرة ولم يكن مغمورا بالماء ثم انكشف، وهو مما ذهب إليه بعض محققي الفلاسفة أيضا. واعترضوا على القائلين بأن الانكشاف قد حصل بعد بأن أقوى أدلته أن حضيض الشمس في جانب الجنوب فقرب الشمس إلى الأرض هناك أكثر من جانب الشمال بقدر ثخن المتمم من ممثلها فتشتد بذلك الحرارة هناك فانجذب الماء من الشمال إلى الجنوب لأن الحرارة جذابة للرطوبة فلذا انكشف الربع الشمالي فإذا انتقل الحضيض إلى جانب الشمال انعكس الأمر. ويرد عليه أنه لو كان كذلك لكان الربع الشمالي الآخر أيضا مكشوفا إذ لا فرق بين الربعين في ذلك وفي التزام ذلك بعد على أنه لم يلتزمه أحد. ثم إن وجود الجبال في المغمور وجودها في المعمور يستدعي أنه كان معمورا وأن الحضي إض كان في غير جهته اليوم وهو قول بأن البر لا يزال يكون بحرا والبحر لا يزال يكون برا بتبدل جهتي الأوج والحضيض فيكون المنكشف تارة جانب الشمال وأخرى جانب الجنوب وحيث إن ذلك إنما يكون على سبيل التدريج يقتضي أن نشاهد اليوم شيئا من جانب الجنوب منكشفا ومن جانب الشمال مغمورا ولا نظن وجود ذلك ولو كان لاشتهر، فإن أوج الشمس اليوم في عاشرة السرطان وحركته في كل سنة دقيقة تقريبا فيكون من الوقت الذي انتقل فيه من الجانب الشمالي إلى اليوم آلاف عديدة من السنين يغمر فيها كثير ويعمر كثير. نعم يحكى أن جزيرة قبرس كانت متصلة بالبر ثم حال البحر بينهما لكنه على تقدير ثبوته ليس مما نحن فيه ولا نسلم إن يكي دنيا مما حدث انكشافها لجواز أن تكون منكشفة من قبل، فالحق أن هذا البر بعد أن وجد لم يصر بحرا وهذا البحر المحيط بعد أن أحاط لم يصر برا وهو الذي تقتضيه الأخبار الإلهية والآثار النبوية. نعم جاء في بعض الآثار ما ظاهره أن الأرض المسكونة كانت مكشوفة في مبدأ الفطرة كأثر الياقوتة، وفي بعض آخر منها ما ظاهره أنها كانت مغمورة كخبر ابن عباس أن الله تعالى لما أراد أن يخلق الخلق أمر الريح فأبدت عن حشفة ومنها دحيت الأرض ما شاء الله تعالى في الطول والعرض فجعلت تميد فجعل عليها الجبال الرواسي، وفي التوراة ما هو نص في ذلك ففي أول سفر الخليقة منها أول ما خلق الله تعالى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 91 السماء والأرض وكانت الأرض غامرة مستبحرة وكان هناك ظلام وكانت رياح الإله تهب على وجه الماء فشاء الله تعالى أن يكون نور فكان ثم ذكر فيه أنه لما مضى يوم ثان شاء الله تعالى أن يجتمع الماء من تحت السماء إلى موضع واحد ويظهر اليبس فكان كذلك وسمى الله سبحانه اليبس أرضا ومجتمع الماء بحارا، وفيه أيضا إن خلق النيرين كان في اليوم الثالث، وهو آب عن جعل سبب الانكشاف ما سمعت عن قرب من قرب الشمس، وما أشارت إليه هذه الآية ونطق به غيرها من الآيات من كون الجبال سببا لاستقرار الأرض وانها لولاها لمادت أمر لا يقوم على أصولنا دليل يأباه فنؤمن به وإن لم نعلم ما وجه ذلك على التحقيق، ويحتمل أن يكون وجهه أن الله تعالى خلق الأرض حسبما اقتضته حكمته صغيرة بالنسبة إلى سائر الكرات وجعل لها مقدارا من الثقل معينا ووضعها في المكان الذي وضعها فيه من الماء وأظهر منها ما أظهر وليس ذلك إلا بسبب مشيئته تعالى التابعة لحكمته سبحانه لا لأمر اقتضاه ذاتها فجعلت تميد لاضطراب أمواج البحر المحيط بها فوضع عليها من الجبال ما ثقلت به بحيث لم يبق للأمواج سلطان عليها وهذا كما يشاهد في السفن حيث يضعون فيها ما يثقلها من أحجار وغيرها لنحو ذلك، وكون نسبة ارتفاع أعظم الجبال إليها النسبة السابقة لا يضرنا في هذا المقام لأن الحجم أمر والثقل أمر آخر فقد يكون ذو الحجم الصغير أثقل من ذي الحجم الكبير بكثير، لا يقال: إن خلقها ابتداء بحيث لا تزحزحها الأمواج كان ممكنا فلم لم يفعله سبحانه وتعالى بل خلقها بحيث تحركها الأمواج ثم وضع عليها الجبال لدفع ذلك؟ لأنا نقول إنما فعل سبحانه هكذا لما فيه من الحكم التي هو جل شأنه بها أعلم، وهذا السؤال نظير أن يقال: إن خلق الإنسان ابتداء بحيث لا يؤثر فيه الجوع والعطش مثلا شيئا كان ممكنا فلم لم يفعله تعالى بل خلقه بحيث يؤثران فيه ثم خلق له ما يدفع به ذلك ليدفعه به وله نظائر بعد كثيرة، وليس ذلك إلا ناشئا عن الغفلة عما يترتب على ما صدر منه تعالى من الحكم، ولعل الحكمة فيما نحن فيه إظهار مزيد عظمته جلت عظمته للملائكة عليهم السلام فإن ذلك مما يوقظ جفن الاستعظام ألا تراهم كيف قالوا حين رأوا ما رأوا ربنا خلقت خلقا أعظم من الجبال إلخ. ويقال لمن لم يؤمن بهذا بين أنت لنا حكمة تقدم بعض الأشياء على بعض في الخلق كيفما كان التقدم وكذا حكمة خلق الإنسان ونحوه محتاجا وخلق ما يزيل احتياجه دون خلقه ابتداء على وجه لا يحتاج معه إلى شيء، فإن بين شيئا قلنا بمثله فيما نحن فيه، ثم إنا نقول: ليس حكمة خلق الجبال منحصرة في كونها أوتادا للأرض وسببا لاستقرارها بل هناك حكم كثيرة لا يعلمها إلا الله تعالى. وقد ذكر الفلاسفة للجبال منافع كثيرة قالوا: إن مادة السحب والعيون والمعدنيات هي البخار فلا تتكون إلا في الجبال أو فيما يقرب منها. أما العيون فلأن الأرض إذا كانت رخوة نشفت الأبخرة عنها فلا يجتمع منها قدر يعتد به فإذن لا تجتمع إلا في الأرض الصلبة والجبال أصلب الأرضين فلا جرم كانت أقواها على حبس البخار حتى يجتمع ما يصلح أن يكون مادة للعيون، ويشبه أن يكون مستقر الجبل مملوءا ماء ويكون الجبل في حقنه الأبخرة مثل الانبيق الصلب المعد للتقطير لا يدع شيئا من البخار يتحلل وقعر الأرض التي تحته كالقرع والعيون كالأذناب التي في الأنابيق والأودية والبخار كالقوابل، ولذلك أكثر العيون إنما تنفجر من الجبال وأقلها في البراري وهو مع هذا لا يكون إلا إذا كانت الأرض صلبة، وأما إن أكثر السحب تكون في الجبال فلوجوه: أحدها أن في باطن الجبال من النداوات ما لا يكون في باطن الأرضين الرخوة، وثانيها: أن الجبال بسبب ارتفاعها أبرد فلا جرم يبقى على ظاهرها من الانداء والثلوج ما لا يبقى على ظاهر الأرضين، وثالثها: إن الأبخرة الصاعدة تكون في الجبال، وإذا ثبت ذلك ظهر أن أسباب تراكم السحب في الجبال أكثر لأن المادة فيها ظاهرا وباطنا أكثر والاحتقان أشد والسبب المحلل وهو الحر أقل، وأما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 92 المعدنيات المحتاجة إلى أبخرة فيكون اختلاطها بالأرضية أكثر وإقامتها في مواضع لا تتفرق فيها أطول ولا شيء في هذا المعنى كالجبال، ومن تأمل علم أن للجبال منافع غير ذلك لا تحصى فلا يضر أن بعضا من الناس من وراء المنع لبعض ما ذكر وسمعت من بعض (1) العصريين أن من جملة منافعها كونها سببا لانكشاف هذا المقدار المشاهد من الأرض وذلك لاحتباس الأبخرة الطالبة لجهة العلو فيها، وهو يقتضي أن الأرض قبلها كانت مغمورة وهو خلاف ما يقتضيه ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام «لما خلق الله تعالى الأرض فجعلت تميد فوضع عليها الجبال فاستقرت» على أنه يتراءى المنافاة بين جعلها أوتادا للمصرح به في الآيات وكونها جاذبة للأرض إلى جهة العلو ولا يرد على ما ذكر في توجيه كونها سببا لاستقرار الأرض أن كونها فيها كشرع في سفينة ينافيه إذ يقتضي ذلك أن تتحرك الأرض إلى خلاف جهة مهب الهواء لأنا من وراء منع حدوث الهواء على وجه يحركها بسببه كذلك. وهذا كله إذا حكمنا العقل في البين وتقيدنا بالعاديات، وأما إذا أسندنا كل ذلك إلى قدرة الفاعل المختار جل شأنه وقلنا: إنه سبحانه خلق الأرض مائدة وجعل عليها الجبال وحفظها عن الميد لحكم علمها تحار فيها الأفكار ولا يحيط بها إلا من أوتي علما لدنيا من ذوي الأبصار ارتفعت عنا جميع المؤن وزالت سائر المحن ولا يلزمنا على هذا أيضا القول بأن الأرض وسط العالم كما هو رأي أكثر الفلاسفة المتقدمين والمتأخرين. ولم يخالف من الأولين إلا شرذمة زعموا أن كرة النار في الوسط لأنها أشرف من الأرض لكونها مضيئة لطيفة حسنة اللون وكون الأرض كثيفة مظلمة قبيحة اللون وحيز الأشرف يجب أن يكون أشرف الاحياز وهو الوسط فإذن هي في الوسط وهذا من الإقناعات الضعيفة، ومع ذلك يرد عليه أنا لا نسلم شرافة النار على الأرض مطلقا فإنها إن ترجحت عليها باللطافة وما معها فالأرض راجحة بأمور. أحدها أن النار مفرطة الكيفية مفسدة والأرض ليست كذلك، وثانيها أنها لا تبقى في المكان الغريب مثل ما تبقى الأرض. وثالثها أن الأرض حيز الحياة والنشوء والنار ليست كذلك، وما ذكر من استحسان الحس البصري للنار يعارضه استحسان الحس اللمسي للأرض بالنسبة إليها، على أنا لو سلمنا الأشرفية فهي لا تقتضي إلا الوسط الشرقي لا المقداري إذ لا شرف له وذلك ليس هو الا حيزها الذي يزعمه جمهور المتقدمين لها لأنه متوسط بين الأجرام العنصرية والأجرام الفكلية، ولم يخالف من الآخرين إلا شرذمة قليلة وهم هرشل وأصحابه زعموا أن الشمس ساكنة في وسط العالم وكل ما عداها يتحرك عليها لأنها جرم عظيم جدا وكل الأجرام دونها لا سيما الأرض فإنها بالنسبة إليها كلا شيء، والحكمة تقتضي سكون الأكبر وتحرك الأصغر، وهذا أيضا من الإقناعات الضعيفة ومع ذلك يرد عليه أن سكون الأصغر لا سيما بين أمواج ورياح وحركة الأكبر لا سيما مثل الحركة التي يثبتها الجمهور للشمس أبلغ في القدرة، وتعليلهم ذلك أيضا بأنا لا نرى للشمس ميلا عما يقال له منطقة البروج فيقتضي أن تكون ساكنة بخلاف غيرها لا يخفي ما فيه، والذي يميل إليه كثير من الناس أن تحت الأرض ماء وأنها فيه كبطيخة خضراء في حوض. وجاء في بعض الأخبار أن الأرض على متن ثور والثور على ظهر حوت والحوت في الماء ولا يعلم ما تحت الماء إلا الذي خلقه. وذكر غير واحد أن زيادة كبد ذلك الحوت هو الذي يكون أول طعام أهل الجنة فحملوا الحوت فيما صح من قوله صلى الله عليه وسلم: «أول شيء يأكله أهل الجنة زائدة كبد الحوت» على ذلك الحوت وبينوا حكمة ذلك الأكل أنه إشارة إلى خراب الدنيا وبشارة بفساد أساسها وأمن العود إليها حيث إن الأرض التي كانوا يسكنونها كانت مستقرة عليه، وخص الأكل بالزائدة لما بينه الأطباء من أن العلة إذا وقعت في الكبد دون الزائدة رجي برؤه فإن وقعت   (1) هو الرشتي سيد كاظم اهـ منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 93 في الزائدة هلك العليل فأكلهم من ذلك أدخل في البشرى. ومنع بعضهم صحة الأخبار الدالة على أنها ليست على الماء بلا واسطة لا سيما الخبر الطويل الذي ذكره البغوي في سورة «ن» ولم ينكر صحة الخبر في أن أول شيء يأكله أهل الجنة زائدة كبد الحوت إلا أنه قال: المراد بالحوت فيه حوت ما بدليل ما رواه سلطان المحدثين البخاري «أول ما يأكله أهل الجنة زيادة كبد حوت يأكل منه سبعون ألفا» بتنكير لفظ حوت، ونظير ذلك في صحيح مسلم حيث ذكر فيه أنه تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يكفأها الجبار بيده كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة وإن ادامهم ثور ونون يأكل من زائدة كبدهما سبعون ألفا، وذكر حال الأرض فيه لا يعين مراد الخصم فإنه يجوز أن يكون الجمع بين ذلك للإشارة إلى خراب الدنيا وانقطاع أمر الاستعداد للمعاش وانصرام الحياة العنصرية المائية أما الإشارة إلى الأول فظاهر، وأما إلى الثاني فبالاستيلاء على الثور وأكل زائدة كبده فإنه عمدة عدة الحارث المهتم لأمر معاشه وفي الخبر «كلكم حارث وكلكم همام» وأما الإشارة إلى الثالث فبالاستيلاء على الحوت وأكل زائدة كبده أيضا فإنه حيوان عنصري مائي لا يمكن أن يحيا سويعة إذا فارق الماء، وبهذا يظهر المناسبة التامة بين ما اشتمل عليه الخبر، ولا يبعد أن يكون ظهور الحياة الدنيوية بصورة الحوت وما يحتاج إليه فيها من أسباب الحراثة الضرورية في أمر المعاش بصورة الثور وكل الصيد في جوف الفراء، ويكون ذلك من قبيل ظهور الموت في صورة الكبش الأملح في ذلك اليوم، وقال بعض العارفين في سر تخصيص الكبد: إنه بيت الدم وهو بيت الحياة ومنه تقع قسمتها في البدن إلى القلب وغيره، وبخار ذلك الدم هو النفس المعبر عنه بالروح الحيواني ففي كونه طعاما لأهل الجنة بشارة بأنهم أحياء لا يموتون. وذكر أنه يستخرج من الثور الطحال وهو في الحيوان بمنزلة الأوساخ في البدن فإنه يجتمع فيه أوساخ البدن مما يعطيه البدن من الدم الفاسد فيعطى لأهل النار يأكلونه، وكان ذلك من الثور لأنه بارد يابس كطبع الموت، وجهنم على صورة جاموس والغذاء لأهل النار من طحاله أشد مناسبة منه فلما فيه من الدمية لا يموت أهل النار ولما أنه من أوساخ البدن ومن الدم الفاسد المؤلم لا يحيون ولا ينعمون فما يزيدهم أكله إلا مرضا وسقما. ونقل عن الغزالي والعهدة على الناقل أنه صلى الله عليه وسلم سئل تارة ما تحت الأرض؟ فقال: الحوت وسئل أخرى فقال: الثور، وعنى عليه الصلاة والسلام بذلك البرجين الذين هما من البروج الاثني عشر المعلومة وقد كان كل منهما وتد الأرض وقت السؤال ولو كان الوتد إذ ذاك العقرب مثلا لقال عليه الصلاة والسلام العقرب تحت الأرض. وأنت تعلم أن ذلك بمعزل عن مقاصد الشارع صلى الله عليه وسلم، ولا يتم على ما وقفت عليه من أن الأرض على متن الثور والثور على ظهر الحوت والحوت على الماء، والقول بأن المراد أن الأرض فوق الثور باعتبار أنه وتدها حين الإخبار والثور فوق الحوت باعتبار أنه من البروج الشمالية والحوت من البروج الجنوبية والبروج الشمالية في غالب المعمورة تعد فوق البروج الجنوبية والحوت فوق الماء باعتبار أنه ليس بينه وبينه حائل يرى لا يقدم عليه الا ثور أو حمار. وبعضهم يؤول خبر الترتيب بأن المراد منه الإشارة إلى أن عمارة الأرض موقوفة على الحراثة وهي موقوفة على السعي والاضطراب وذلك الثور من مبادئ الحراثة والحوت لا يكاد يسكن عن الحركة في الماء وهي كما ترى والذي ينبغي أن يعول عليه الإيمان بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صح فليس وراءه عليه الصلاة والسلام حكيم، والترتيب الذي يذكره الفلاسفة لم يأتوا له ببرهان مبين وليس عندهم فيه سوى ما يفيد الظن، وحينئذ فيمكن القول بترتيب آخر. نعم لا ينبغي القول بترتيب يكذبه الحس ويأباه العقل الصريح وإن جاء مثل ذلك عن الشارع وجب تأويله كما لا يخفى (1) وذكر بعض   (1) ومن رام الجمع بين الشريعة والفلسفة فقد رام الجمع بين الضدين كما لا يخفى اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 94 الفضلاء أنه لم يجىء في ترتيب الأجرام العلوية والسفلية وشرح أحوالها كما فعل الفلاسفة عن الشارع صلى الله عليه وسلم لما أن ذلك ليس من المسائل المهمة في نظره عليه الصلاة والسلام، وليس المهم إلا التفكر فيها والاستدلال بها على وحدة الصانع وكماله جل شأنه وهو حاصل بما يحس منها، فسبحان من رفع السماء بغير عمد ومد الأرض وجعل فيها رواسي وَأَنْهاراً جمع نهر وهو مجرى الماء الفائض وتجمع أيضا على نهر ونهور وأنهر وتطلق على المياه السائلة على الأرض وضمها إلى الجبال وعلق بهما فعلا واحدا من حيث إن الجبال سبب لتكونها على ما قيل. وتعقب بأنه مبني على ما ذهب إليه بعض الفلاسفة من إن الجبال لتركبها من أحجار صلبة إذا تصاعدت إليها الأبخرة احتبست فيها وتكاملت فتنقلب مياها وربما خرقتها فخرجت، وذكر أن الذي تدل عليه الآثار أنها تنزل من السماء لكن لما كان نزولها عليها أكثر كانت كثيرا ما تخرج الأنهار منها، ويكفي هذا لتشريكهما في عامل واحد وجعلهما جملة واحدة، وكأنهم عنوا بالنزول من السماء على الجبال نزول ماء المطر من السماء التي هي أحد الأجرام العلوية عليها، والأكثرون أن النزول من السحاب، والمراد من السماء جهة العلو وهو الذي تحكم به المشاهدة، وقد أسلفنا لك ما يتعلق بذلك أول الكتاب فتذكر. والأنهار التي جعلها الله تعالى في الأرض كثيرة، وذكر بعضهم أنها مائة وستة وتسعون نهرا (2) وقيل: هي أكثر من ذلك، وجاء في أربعة منها أنها من الجنة، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سيحان، وجيحان، والفرات، والنيل كل من أنهار الجنة» والأولان بالألف بعد الحاء وهما نهران في أرض الأرمن فجيحان نهر المصيصة وسيحان نهر أدنه، وقول الجوهري في صحاحه جيحان نهر بالشام غلط أو أنه أراد المجاز من حيث إنه ببلاد الأرمن وهي مجاورة للشام، وهما غير سيحون وجيحون بالواو فإن سيحون نهر الهند وهو يجري من جبال بأقاصيها مما يلي العين إلى أن ينصب في البحر الحبشي مما يلي ساحل الهند، ومقدار جريه أربعمائة فرسخ، وجيحون نهر بلخ يجري من أعين إلى أن يأتي خوارزم فيتفرق بعضه في أماكن ويمضي باقيه إلى البحيرة التي عليها القرية المعروفة بالجرجانية أسفل خوارزم يجري منه إليها السفن طولها مسيرة شهر وعرضها نحو ذلك، وأما قول القاضي عياض هذه الأنهار الأربعة أكبر أنهار بلاد الإسلام فالنيل بمصر والفرات بالعراق وسيحان وجيحان ويقال سيحون وجيحون ببلاد خراسان فقد قال النووي: إن فيه إنكارا من أوجه. أحدها قوله: الفرات بالعراق وليست بالعراق وإنما هي فاصلة بين الشام والجزيرة. الثاني قوله: سيحان وجيحان ويقال سيحون وجيحون فجعل الأسماء مترادفة وليس كذلك بل سيحان غير سيحون وجيحان غير جيحون باتفاق الناس. والثالث قوله: ببلاد خراسان إنما سيحان وجيحان ببلاد الأرمن بقرب الشام انتهى. وقد يجاب عن الأول بنحو ما أجيب به عن الجوهري، ولا يخفى أنه بعد زعم الترادف يصح الحكم بأنهما ببلاد خراسان كما يصح الحكم بأنهما ببلاد الأرمن، وفي كون هذه الأنهار من الجنة تأويلان: الأول أن المراد تشبيه مياهها بمياه الجنة والإخبار بامتيازها على ما عداها ومثله كثير في الكلام. والثاني ما ذكره القاضي عياض أن الإيمان عم بلادها وأن الأجسام المتغذية منها صائرة إلى الجنة وهذا ليس بشيء. ولورد إلى اعتبار التشبيه أي إنها مثل أنهار الجنة في أن المتغذين من مائها المؤمنون لكان أوجه، وقال النووي: الأصح أن الكلام على ظاهره وأن لها مادة من الجنة وهي موجودة اليوم عند أهل السنة.   (2) في الإقليم الأول ثلاثون وفي الثاني سبعة وعشرون وفي الثالث اثنان وعشرون وفي الرابع كذلك وفي الخامس خمسة عشر وفي السادس أربعون وفي السابع كذلك والله تعالى أعلم اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 95 ويأبى التأويل الأول ما في صحيح مسلم أيضا من حديث الإسراء وحدث نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى أربعة أنهار يخرج من أصلها نهران ظاهران ونهران باطنان فقلت: يا جبريل ما هذه الأنهار؟ فقال: أما النهر إن الباطنان فنهران في الجنة (1) وأما الظاهران فالفرات والنيل، وضمير أصلها لسدرة المنتهى كما جاء مبينا في صحيح البخاري وغيره. والقاضي عياض قال هنا: إن هذا الحديث يدل على أن أصل سدرة المنتهي في الأرض لخروج النيل والفرات من أصلها. وتعقبة النووي بأن ذلك ليس بلازم بل معناه أن الأنهار تخرج من أصلها ثم تسير حيث أراد الله تعالى حتى تخرج من الأرض وتسير فيها، وهذا لا يمنعه عقل ولا شرع وهو ظاهر الحديث فوجب المصير إليه، قيل: ولعل الله تعالى يوصل مياه هاتيك الأنهار بقدرته الباهرة إلى محالها التي يشاهد خروجها منها من حيث لا يراها أحد وما ذلك على الله بعزيز، والظاهر أن المراد أصل مياهها الخارجة من محالها لا هي وما ينضم إليها من السيول وغيرها، وكأني أرى بعض الناس لا يلتزمون ذلك في جميع ما يجري في هاتيك الأنهار، وبعضهم أيضا يجعل الأخبار في هذا الشأن إشارات إلى أمور أنفسية فقط وليس مما ترتضيه الأنفس المرضية. نعم أنا لا أمنع التأويل مع بقاء الأمر آفاقيا وليس عدم اعتقاد الظاهر مما يخل بالدين كما لا يخفى على من لا تعصب عنده. وللاخباريين في هذه الأنهار كلام طويل تمجه أسماع ذوي الألباب ولا يجري في أنهار قلوبهم ولا أراه يصلح إلا للإلقاء في البحر. وجاء في بعض الأخبار مرفوعا «نهران مؤمنان ونهران كافران أما المؤمنان فالنيل والفرات وأما الكافران فدجلة وجيحون» وحمل ذلك على أنه صلى الله عليه وسلم شبه النهرين الأولين لنفعهما بسهولة بالمؤمن والنهرين الأخيرين بالكافر لعدم نفعهما كذلك أنهما إنما يخرج في الأكثر ماؤهما بآلة ومشقة وإلا فوصف ذلك بالإيمان والكفر على الحقيقة غير ظاهر، ثم إن أفضل الأنهار كما قال غير واحد النيل وباقيها على السواء. وزاد بعضهم في عداد ما هو من الجنة دجلة وروي في ذلك خبرا عن مقاتل عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وليس مما يعول عليه، والله تعالى أعلم وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ متعلق- بجعل- في قوله تعالى: جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ أي اثنينية حقيقية وهما الفردان اللذان كل منهما زوج الآخر وأكد به الزوجين لئلا يفهم أن المراد بذلك الشفعان إذ يطلق الزوج على المجموع لكن اثنينية ذلك اعتبارية أي جعل من كل نوع من أنواع الثمرات الموجودة في الدنيا ضربين وصنفين إما في اللون كالأبيض والأسود أو في الطعم كالحلو والحامض أو في القدر كالصغير والكبير أو في الكيفية كالحار والبارد وما أشبه ذلك. وقيل: المعنى خلق في الأرض من جميع أنواع الثمرات زوجين زوجين حين مدها ثم تكاثرت بعد ذلك وتنوعت، وتعقب أنه دعوى بلا دليل مع أن الظاهر خلافه فإن النوع الناطق المحتاج إلى زوجين خلق ذكره أولا فكيف في الثمرات وتكون واحد من كل أولا كاف في التكون والوجه ما ذكر أولا، وجوز أن يتعلق الجار- بجعل- الأول ويكون الثاني استئنافا لبيان كيفية الجعل. وزعم بعضهم أن المراد بالزوجين على تقدير تعلق الجار بجعل السابق الشمس والقمر، وقيل: الليل. والنهار وكلا القولين ليس بشيء يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أي يلبسه مكانه فيصير الجو مظلما بعد ما كان مضيئا، ففيه اسناد ما لمكان الشيء إليه، وفي جعل الجو مكانا للنهار تجوز لأن الزمان لا مكان له والمكان إنما هو للضوء الذي هو لازمه،   (1) هما السلسبيل والكوثر اهـ منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 96 وجوز في الآية استعارة كقوله تعالى: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ [الزمر: 5] بجعله مغشيا للنهار ملفوفا عليه كاللباس على الملبوس، قيل: والأول أوجه وأبلغ، واكتفى بذكر تغشية الليل النهار مع تحقق عكسه للعلم به منه مع أن اللفظ يحتملهما إلا أن التغشية بمعنى الستر وهي أنسب بالليل من النهار، وعد هذا في تضاعيف الآيات السفلية وإن كان تعلقه بالآيات العلوية ظاهرا باعتبار ظهوره في الأرض. وقرأ حمزة. والكسائي. وأبو بكر «يغشّي» بالتشديد وقد تقدم تمام الكلام في ذلك إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر من مد الأرض وجعل الرواسي عليها وإجراء الأنهار فيما وخلق الثمرات واغشاء الليل النهار، وفي الإشارة بذلك تنبيه على عظم المشار إليه في بابه لَآياتٍ باهرة قيل: هي آثار تلك الأفاعيل البديعة جلت حكمة صانعها- ففي- على معناها فإن تلك الآثار مستقرة في تلك الأفاعيل منوطة بها، وجوز أن يشار بذلك إلى تلك الآثار المدلول عليها بتلك الأفاعيل لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فإن التفكر فيها يؤدي إلى الحكم بأن يكون كل من ذلك على هذا النمط الرائق والأسلوب اللائق لا بد له من مكون قادر حكيم يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. والفكرة كما قال الراغب قوة مطرقة للعلم إلى المعلوم، والتفكر جولان تلك القوة بحسب نظر العقل وذلك لإنسان دون الحيوان، ولا يقال: إلا فيما لا يمكن أن يحصل له صورة في القلب، ولهذا روي تفكروا في آلاء الله تعالى ولا تتفكروا في الله تعالى إذ كان الله سبحانه منزها أن يوصف بصورة. وقال بعض الأدباء: الفكر مقلوب عن الفرك لكن يستعمل الفكر في المعاني وهو فرك الأمور وبحثها طلبا للوصول إلى حقيقتها، والمشهور أنه ترتيب أمور معلومة للتأدي إلى مجهول، وقد تقدم وجه جعل هذا مقطعا في الآية. وذكر الإمام أن الأكثر في الآيات إذا ذكر فيها الدلائل الموجودة في العالم السفلي أن يجعل مقطعها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وما يقرب منه وسببه أن الفلاسفة يسندون حوادث العالم السفلى إلى الاختلافات الواقعة في الإشكالات الكوكبية فرده الله تعالى بقوله: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ لأن من تفكر فيها علم أنه لا يجوز أن يكون حدوث تلك الحوادث من الاتصالات الفلكية فتفكر. وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ جملة مستأنفة مشتملة على طائفة أخرى من الآيات أي في الأرض بقاع كثيرة مختلفة في الأوصاف فمن طيبة منبتة ومن سبخة لا تنبت ومن رخوة ومن صلبة ومن صالحة للزرع لا للشجر ومن صالحة للشجر لا للزرع إلى غير ذلك مُتَجاوِراتٌ أي متلاصقة والمقصود الأخبار بتفاوت أجزاء الأرض المتلاصقة على الوجه الذي علمت وهذا هو المأثور عن الأكثرين، وأخرج أبو الشيخ عن قتادة أن المعنى وفي الأرض قرى قريب بعضها من بعض، وأخرج عن الحسن أنه فسر ذلك بالأهواز. وفارس. والكوفة. والبصرة، ومن هنا قيل في الآية اكتفاء على حد سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] والمراد قطع متجاورات وغير متجاورات، وفي بعض المصاحف «وقطعا متجاورات» بالنصب أي وجعل في الأرض قطعا وَجَنَّاتٌ أي بساتين كثيرة (1) مِنْ أَعْنابٍ أي من أشجار الكرم وَزَرْعٌ من كل نوع من أنواع الحبوب، لمراعاة أصله حيث كان مصدرا، ولعل تقديم ذكر الجنات عليه مع كونه عمود المعاش لما أن في صنعة الأعناب مما يبهر العقول ما لا يخفى، ولو لم يكن فيها إلا أنها مياه متجمدة في ظروف رقيقة حتى إن منها شفافا لا يحجب البصر عن إدراك ما في جوفه لكفى، ومن هنا جاء في بعض الأخبار القدسية أتكفرون بي وأنا خالق العنب. وفي إرشاد العقل السليم تعليل ذلك بظهور حال الجنات في اختلافها ومباينتها لسائرها ورسوخ ذلك فيها، وتأخير قوله تعالى: وَنَخِيلٌ لئلا يقع بينها   (1) التقييد بذلك من المقام اهـ منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 97 وبين صفتها وهي قوله تعالى: صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ فاصلة أو يطول الفصل بين المتعاطفين، وصنوان جمع صنو وهو الفرع الذي يجمعه وآخر أصل واحد وأصله المثل، ومنه قيل: للعم صنو، وكسر الصاد في الجمع كالمفرد هو اللغة المشهورة وبها قرأ الجمهور، ولغة تميم وقيس صِنْوانٌ بالضم كذئب وذؤبان وبذلك قرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما والسلمي. وابن مصرف، ونقله الجعبري في شرح الشاطبية عن حفص. وقرأ الحسن، وقتادة بالفتح، وهو على ذلك اسم جمع كالسعدان لا جمع تكسير لأنه ليس من أبنيته، وقرأ الحسن «جنات» بالنصب عطفا عند بعض على «زوجين» مفعول «جعل» و «من كل الثمرات» حينئذ حال مقدمة لا صلة «جعل» لفساد المعنى عليه أن جعل فيها زوجين حال كونه من كل الثمرات وجنات من أعناب، ولا يجب هنا تقييد المعطوف بقيد المعطوف عليه. وزعم بعضهم أن العطف على رَواسِيَ وقال أبو حيان: الأولى إضمار فعل لبعد ما بين المتعاطفين أو بالجر عطفا على كُلِّ الثَّمَراتِ على أن يكون هو مفعولا بزيادة مِنْ في الإثبات وزَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ حالا منه، والتقدير وجعل فيها من كل الثمرات حال كونها صنفين، فلعل عدم نظم قوله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ في هذا السلك مع أن اختصاص كل من تلك القطع بما لها من الأحوال والصفات بمحض خلق الخالق الحكيم جلت قدرته حين مد الأرض ودحاها- على ما قيل- الإيماء إلى كون تلك الأحوال صفات راسخة لتلك القطع. وقرأ جمع من السبعة وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ بالجر على أن العطف على أَعْنابٍ وهو كما في الكشف من باب- متلقدا سيفا ورمحا- أو المراد أن في الجنات فرجا مزروعة بين الأشجار وإلا فلا يقال للمزرعة وحدها جنة وهذا أحسن منظرا وأنزه. وادعى أبو حيان أن في جعل الجنة من الأعناب تجوزا لأن الجنة في الحقيقة هي الأرض التي فيها الأعناب يُسْقى أي ما ذكر من القطع والجنات والزرع والنخيل وقرأ أكثر السبعة بالتأنيث مراعاة للفظ وهي قراءة الحسن. وأبي جعفر، قيل: والأول أوفق بمقام بيان اتحاد الكل في حالة السقي بِماءٍ واحِدٍ لا اختلاف في طبعه سواء كان السقي من ماء الأمطار أو من ماء الأنهار، وقيل: إن الثاني أوفق بقوله سبحانه: وَنُفَضِّلُ أي مع وجود أسباب التشابه بمحض قدرتنا وإحساننا بَعْضَها عَلى بَعْضٍ آخر منها فِي الْأُكُلِ لمكان التأنيث، وأمال فتحة القاف حمزة والكسائي والأكل بضم الهمزة والكاف وجاء تسكينها ما يؤكل، وهو هنا الثمر والحب، وقول بعضهم: أي في الثمر شكلا وقدرا ورائحة وطعما من باب التغليب، وقرأ حمزة والكسائي «يفضل» بالياء على بناء الفاعل ردا على يُدَبِّرُ ويُفَصِّلُ ويُغْشِي وقرأ يحيى بن يعمر وهو أول من نقط المصحف. وأبو حيوة والحلبي عن عبد الوارث بالياء على بناء المفعول ورفع «بعضها» وفيه ما لا يخفى من الفخامة والدلالة على أن عدم احتمال استناد الفعل إلى فاعل آخر مغن عن بناء الفعل للفاعل إِنَّ فِي ذلِكَ الذي فصل من أحوال القطع وغيرها لَآياتٍ كثيرة عظيمة باهرة لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يعلمون على قضية عقولهم فإن من عقل هاتيك الأحوال العجيبة وخروج الثمار المختلفة في الأشكال والألوان والطعوم والروائح في تلك القطع المتباينة المتلاصقة مع اتحاد ما تسقى به بل وسائر أسباب نموها لا يتلعثم في الجزم بأن لذلك صانعا حكيما قادرا مدبرا لها لا يعجزه شيء، وقيل: المراد أن من عقل ذلك لا يتوقف في الجزم بأن من قدر على إبداع ما ذكر قادر على إعادة ما أبداه بل هي أهون في القياس ولعل ما ذكرناه أولى. ثم إن الأحوال وإن كانت هي الآيات أنفسها لا أنها فيها إلا أنها قد جردت عنها أمثالها مبالغة في كونه آية- ففي- تجريدية مثلها في قوله تعالى: لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ [فصلت: 28] على المشهور. وجوز أن يكون المشار إليه الأحوال الكلية، والآيات إفرادها الحادثة شيئا فشيئا في الأزمنة وآحادها الواقعة في الأقطار والأمكنة المشاهدة لأهلها- ففي- على معناها ومنهم من فسر الآيات بالدلالات لتبقى في على ذلك وهو كما ترى، وحيث كانت دلالة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 98 هذه الأحوال على مدلولاتها أظهر مما سبق علق سبحانه كونها آيات بمحض التعقل كما قال أبو حيان وغيره، ولذلك- على ما قيل- لم يتعرض جل شأنه لغير تفضيل بعضها على بعض في الأكل الظاهر لكل عاقل مع تحقق ذلك في الخواص والكيفيات مما يتوقف العثور عليه على نوع تأمل وتفكر كأنه لا حاجة إلى التفكر في ذلك أيضا، وفيه تعريض بأن المشركين غير عاقلين، ولبعض الرجاز فيما تشير إليه الآية: والأرض فيها عبرة للمعتبر ... تخبر عن صنع مليك مقتدر تسقى بماء واحد أشجارها ... وبقعة واحدة قرارها والشمس والهواء ليس يختلف ... وأكلها مختلف لا يأتلف لو أن ذا من عمل الطبائع ... أو أنه صنعة غير صانع لم يختلف وكان شيئا واحدا ... هل يشبه الأولاد إلا الوالدا الشمس والهواء يا معاند ... والماء والتراب شيء واحد فما الذي أوجب ذا التفاضلا ... إلا حكيم لم يرده باطلا وأخرج ابن جرير عن الحسن في هذه الآية أنه قال: هذا مثل ضربه الله تعالى لقلوب بني آدم كانت الأرض في يد الرحمن طينة واحدة فسطحها وبطحها فصارت قطعا متجاورة فينزل عليها الماء من السماء فتخرج هذه زهرتها وثمرها وشجرها وتخرج نباتها وتخرج هذه سبخها وملحها وخبثها وكلتاهما تسقى بماء واحد فلو كان الماء ملحا قيل إنما استسبخت هذه من قبل الماء، كذلك الناس خلقوا من آدم عليه السلام فينزل عليهم من السماء تذكرة فترق قلوب فتخشع وتخضع، وتقسو قلوب فتلهو وتسهو، ثم قال: والله ما جالس القرآن أحد إلا قام من عنده بزيادة أو نقصان قال الله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الإسراء: 82] اهـ قال أبو حيان وهو شبيه بكلام الصوفية وَإِنْ تَعْجَبْ أي إن يقع منك عجب يا محمد فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ بعد مشاهدة الآيات الدالة على عظيم قدرته تعالى أي فليكن عجبك من قولهم: أَإِذا كُنَّا تُراباً إلى آخره فإنه الذي ينبغي أن يتعجب منه، ورفع عجب على أنه خبر مقدم وقَوْلُهُمْ مبتدأ مؤخر، وقدم الخبر للقصر والتسجيل من أول الأمر بكون قولهم أمرا عجيبا، وفي البحر أنه لا بد من تقدير صفة- لعجب- لأنه لا يتمكن المعنى بمطلق فيقدر الله تعالى أعلم فعجب أي عجب أو فعجب غريب، وإذا قدرناه موصوفا جاز أن يعرب مبتدأ للمسوغ وهو الوصف ولا يضر كون الخبر معرفة، وذلك كما قال سيبويه في- كم مالك- ان كم مبتدأ لوجود المسوغ فيه وهو الاستفهام، وفي نحو اقصد رجلا خير منه أبوه إن خير مبتدأ للمسوغ أيضا وهو العمل، ونقل أبو البقاء القول بأن عجب بمعنى معجب ثم قال: فعلى هذا يجوز أن يرتفع قَوْلُهُمْ به. وتعقب بأنه لا يجوز ذلك لأنه لا يلزم من كون شيء بمعنى شيء أن يكون حكمه في العمل حكمه فمعجب يعمل وعجب لا يعمل، ألا ترى أن فعلا كذبح وفعلة كقبض وفعلة كغرفة بمعنى مفعول ولا يعمل عمله فلا تقول مررت برجل ذبح كبشه أو قبض ماله أو غرفة ماؤه، بمعنى مذبوح كبشه ومقبوض ماله ومغروف ماؤه وقد نصوا على أن هذه تنوب في الدلالة لا العمل عن المفعول، وحصر النحويون ما يرفع الفاعل في أشياء ولم يعدوا المصدر إذا كان بمعنى اسم الفاعل منها. والظاهر أن أَإِذا كُنَّا إلى آخره في محل نصب مقول لقول محكي به، والاستفهام إنكاري مفيد لكمال الاستبعاد والاستنكار، وجوز أن يكون في محل رفع على البدلية من قَوْلُهُمْ على أنه بمعنى المقول وهو على ما قال أبو حيان: إعراب متكلف وعدول عن الظاهر، وعليه فالعجب تكلمهم بذلك وعلى الأول كلامهم ذلك، والعامل في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 99 إِذا ما دل عليه قوله تعالى: أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ وهو نبعث أو نعاد، والجديد ضد الخلق والبالي، ويقال: ثوب جديد أي كما فرغ من عمله وهو فعيل بمعنى مفعول كأنه قطع من نسجه، وتقديم الظرف لتقوية الإنكار بالبعث بتوجيهه إليه في حالة منافية له، وتكرير الهمزة في أَإِنَّا لتأكيد الإنكار، وليس مدار إنكارهم كونهم ثابتين في الخلق الجديد بالفعل عند كونهم ترابا بل كونهم بعرضية ذلك واستعدادهم له، وفيه من الدلالة على عتوهم وتماديهم في النكير ما لا يخفى. قال أبو البقاء: ولا يجوز أن تنتصب إِذا بكنا لأنها مضافة إليها ولا بجديد لأن ما بعد أن لا يعمل فيما قبلها وكذا الاستفهام. ورد الأول في المغني بأن إِذا عند من يقول بأن العامل فيها شرطها وهو المشهور غير مضافة كما يقوله الجميع إذا جزمت كما في قوله: وإذا تصبك خصاصة فتحمل قيل: فالوجه في رد ذلك أن عمله فيها موقوف على تعيين مدلولها وتعيينه ليس إلا بشرطها فيدور، ونظر فيه الشهاب بأنها عندهم بمنزلة متى وأيان غير معينة بل مبهمة كما ذكره القائلون به وبه صرح في المغني أيضا. وقيل: معنى الآية إن تعجب يا محمد من قولهم في إنكار البعث فقولهم عجيب حقيق أن يتعجب منه. وتعقبه في البحر بأنه ليس مدلول اللفظ لأنه جعل فيه متعلق عجبه صلى الله عليه وسلم هو قولهم في إنكار البعث وجواب الشرط هو ذلك القول فيتحد الشرط والجزاء إذ تقديره إن تعجب من إنكارهم البعث فاعجب من قولهم في إنكار البعث وهو غير صحيح. ورد بأن ذلك مما اتحد فيه الشرط والجزاء صورة وتغايرا حقيقة كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «من كانت هجرته إلى الله تعالى ورسوله فهجرته إلى الله تعالى ورسوله» وقولهم: من أدرك الصمان فقد أدرك المرعى وهو أبلغ في الكلام لأن معناه أنه أمر لا يكتنه كنهه ولا تدرك حقيقته وأنه أمر عظيم. وذهب بعض إلى أن الخطاب في إِنْ تَعْجَبْ عام، والمعنى إن تعجب يا من نظر ما في هذه الآيات وعلم قدرة من هذه أفعاله فازدد تعجبا ممن ينكر مع هذا قدرته على البعث وهو أهون شيء عليه، وقيل: المعنى إن تجدد منك التعجب لإنكارهم البعث فاستمر عليه فإن إنكارهم ذلك من الأعاجيب، وقيل: المراد إن كنت تريد أيها المريد عجبا فهلم فإن من أعجب العجب إنكارهم البعث، واختلف القراء في الاستفهامين إذا اجتمعا في أحد عشر موضعا هذا. وفي المؤمنين. والعنكبوت. والنمل. والسجدة والواقعة. والنازعات. وبني إسرائيل في موضعين وكذا في الصافات، فقرأ نافع. والكسائي بجعل الأول استفهاما والثاني خبرا إلا في العنكبوت والنمل فعكس نافع وجمع الكسائي بين الاستفهامين في العنكبوت وأما في النمل فعلى أصله إلا أنه زاد نونا. وقرأ ابن عامر بجعل الأول خبرا والثاني استفهاما إلا في النمل والنازعات فعكس وزاد في النمل نونا كالكسائي وإلا في الواقعة فقرأ باستفهامين وهي قراءة باقي السبعة في هذا الباب إلا ابن كثير وحفصا فإنهما قرآ في العنكبوت بالخير في الأول والاستفهام في الثاني وهم على أصولهم في اجتماع الهمزتين من تخفيف وتحقيق وفصل بين الهمزتين أُولئِكَ مبتدأ والموصول خبره أي أولئك المنكرون للبعث ريثما عاينوا من آيات ربهم الكبرى ما يرشدهم إلى الإيمان لو كانوا يبصرون الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وتمادوا في ذلك فإن إنكار قدرته عز وجل إنكار له سبحانه لأن الإله لا يكون عاجزا مع ما في ذلك من تكذيبه جل شأنه وتكذيب رسله المتفقون عليه عليهم السلام وَأُولئِكَ مبتدأ خبره جملة قوله تعالى: الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وفيه احتمالان: الأول أن يكون المراد وصفهم بذلك في الدنيا فهو تشبيه وتمثيل لحالهم في امتناعهم عن الإيمان وعدم الالتفات إلى الحق بحال طائفة في أعناقهم أغلال وقيود لا يمكنهم الالتفات معها كقوله: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 100 كيف الرشاد وقد خلفت في نفر ... لهم عن الرشد أغلال وأقياد كأنه قيل: أولئك مقيدون بقيود الضلالة لا يرجى خلاصهم. الثاني أن يكون المراد وصفهم به في الآخرة والكلام إما باق على حقيقته كما قال سبحانه: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ [غافر: 71] وروي ذلك عن الحسن قال: إن الأغلال لم تجعل في أعناق أهل النار لأنهم أعجزوا الرب سبحانه ولكنما جعلت في أعناقهم لكي إذا طغا بهم اللهب أرستهم في النار، وأما مخرج مخرج التشبيه لحالهم بحال من يقدم للسياسة. وقيل: المراد من الأغلال أعمالهم الفاسدة التي تقلدوها كالأغلال، وهو جار على احتمال أن يكون ذلك في الدنيا أو في الآخرة والأول ناظر إلى ما قبل والثاني إلى قوله تعالى: وَأُولئِكَ أي الموصوفون بما ذكر أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ لا ينفكون عنها، قيل: وتوسيط الفصل ليس لتخصيص الخلود بمنكري البعث خاصة بل بالجميع المدلول عليه بقوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ. وأورد على ذلك أن هُمْ ليس ضمير فصل لأن شرطه أن يقع بين مبتدأ وخبر يكون اسما معرفة أو مثل المعرفة في أنه لا يقبل حرف التعريف كأفعل التفضيل وهذا ليس كذلك، وأجيب بأن المراد بالفصل الضمير المنفصل وأنه أتى به وجعل الخبر جملة مع أن الأصل فيه الإفراد لقصد الحصر والتخصيص المذكور كما في هو عارف. وقال بعضهم: لعل القائل بما ذكر لا يتبع النحاة في الاشتراط المذكور كما أن الجرجاني والسهيلي جوزا ذلك إذا كان الخبر مضارعا واسم الفاعل مثله وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ بالعقوبة التي هددوا بها على الإصرار على الكفر استهزاء وتكذيبا قَبْلَ الْحَسَنَةِ أي العافية والسلامة منها، والمراد بكونها قبلها أن سؤالها قبل سؤالها أو أن سؤالها قبل انقضاء الزمان المقدر لها، وأخرج ابن جرير. وغيره عن قتادة أنه قال في الآية: هؤلاء مشركو العرب استعجلوا بالشر قبل الخير فقالوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال: 32] وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ جمع مثلة كسمرة وسمرات وهي العقوبة الفاضحة، وفسرها ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالعقوبة المستأصلة للعضو كقطع الاذن ونحوه سميت بها لما بين العقاب والمعاقب به من المماثلة كقوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: 40] أو هي مأخوذة من المثال بمعنى القصاص يقال: أمثلت الرجل من صاحبه وأقصصته بمعنى واحد أو هي من المثل المضروب لعظمها. والجملة في موضع الحال لبيان ركاكة رأيهم في الاستعجال بطريق الاستهزاء أي يستعجلونك بذلك مستهزئين بإنذارك منكرين لوقوع ما أنذرتهم إياه والحال أنه قد مضت العقوبات الفاضحة النازلة على أمثالهم من المكذبين المستهزئين. وقرأ مجاهد. والأعمش «المثلات» بفتح الميم والثاء، وعيسى بن عمرو في رواية الأعمش. وأبو بكر بضمهما وهو لغة أصلية، ويحتمل أنه أتبع فيه العين للفاء، وابن وثاب بضم الميم وسكون الثاء وهي لغة تميم، وابن مصرف بفتح الميم وسكون الثاء وهي لغة الحجازيين وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ عظيمة لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ أنفسهم بالذنوب والمعاصي، والجار والمجرور في موضع الحال من الناس والعامل فيها هو العامل في صاحبها وهو مَغْفِرَةٍ أي إنه تعالى لغفور للناس مع كونهم ظالمين: قيل: وهذه الآية ظاهرة في مذهب أهل السنة وهو جواز مغفرة الكبائر والصغائر بدون توبة لأنه سبحانه ذكر المغفرة مع الظلم أي الذنب ولا يكون معه إلا قبل التوبة لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وأول ذلك المعتزلة بأن المراد مغفرة الصغائر لمجتنب الكبائر أو مغفرتها لمن تاب أو المراد بالمغفرة معناها اللغوي وهو الستر بالإمهال وتأخير العقاب إلى الآخرة كأنه قيل: إنه تعالى لا يعجل للناس العقوبة وإن كانوا ظالمين بل يستر عليهم بتأخيرها. واعترض التأويل بالتخصيص بأنه تخصيص للعام من غير دليل. وأجيب بأن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 101 الكفر قد خص بالإجماع فيسري التخصيص إلى ذلك. وتعقب الأخير بأنه في غاية البعد لأنه كما قال الإمام لا يسمى مثله مغفرة وإلا لصح أن يقال: الكفار مغفورون. ورد بأن المغفرة حقيقتها في اللغة الستر وكونهم مغفورين بمعنى مؤخر عذابهم إلى الآخر لا محذور فيه وهو المناسب لاستعجالهم العذاب. وأجيب بأن المراد أن ذلك مخالف للظاهر ولاستعمال القرآن، وذكر العلامة الطيبي أنه يجب تأويل الآية بأحد الأوجه الثلاثة لأنها بظاهرها كالحث على الظلم لأنه سبحانه وعد المغفرة البالغة مع وجود الظلم. وتعقب ذلك في الكشف فقال: فيه نظر لأن الأسلوب يدل على أنه تعالى بليغ المغفرة لهم مع استحقاقهم لخلافها لتلبسهم بما العقاب أولى بهم عنده، والظاهر أن التأويل بناء على مذهب الاعتزال. وأما على مذهب أهل السنة فإنما يؤول لو عم الظلم الكفر، ثم قال: والتأويل بالستر والإمهال أحسن فيكون قوله تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ لتحقيق الوعيد بهم وإن كانوا تحت ستره وإمهاله، ففيه إشارة إلى أن ذلك إمهال لا إهمال. والمراد بالناس إما المعهودون وهم المستعجلون المذكورون قبل أو الجنس دلالة على كثرة الهالكين لتناولهم وأضرابهم وهذا جار على المذهبين، وكذا اختار الطيبي هذا التأويل وقال هو الوجه. والآية على وزان قوله تعالى: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً [الفرقان: 6] على ما ذكره الزمخشري في تفسيره وأنت قد سمعت ما له وما عليه فتدبر. واختار غير واحد إرادة الجنس من الناس وهو مراد أيضا في «شديد العقاب» . والتخصيص بالكفار غير مختار. ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن سعيد بن المسيب قال: لما نزلت هذه الآية وَإِنَّ رَبَّكَ إلخ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لولا عفو الله تعالى وتجاوزه ما هنأ أحد العيش ولولا وعيده وعقابه لا تكل كل أحد» وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا وهم المستعجلون كما روي عن قتادة، وكأنه إنما عبر عنهم بذلك نعيا عليهم كفرهم بآيات الله تعالى التي تخر لها صم الجبال حيث لم يرفعوا لها رأسا ولم يعدوها من جنس الآيات وقالوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ مثل آيات موسى وعيسى عليهما السلام من قلب العصا حية وإحياء الموتى عنادا أو مكابرة وإلا ففي أدنى آية أنزلت عليه عليه الصلاة والسلام غنية وعبرة لأولي الألباب، والتعبير بالمضارع استحضارا للحال الماضية، وجوز أن يكون إشارة إلى أن ذلك القول ديدنهم، وتنوين آيَةٌ للتعظيم وجوز أن يكون للوحدة. إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ مرسل للإنذار من سوء عاقبة ما نهى الله تعالى عنه كدأب من قبلك من الرسل وليس عليك إلا الإتيان بما يعلم به نبوتك وقد حصل بما لا مزيد عليه ولا حاجة إلى إلزامهم وإلقامهم الحجر بالإتيان بما اقترحوه وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ أي نبي داع إلى الحق مرشد إليه بآية تليق به وبزمانه، والتنكير للإبهام وروي هذا عن قتادة أيضا. ومجاهد، وعليه فقوله تعالى: اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى استئناف جوابا عن سؤال من يقول: لماذا لم يجابوا إلى المقترح فتنقطع حجتهم ولعلهم يهتدون؟ بأن ذلك أمر مدبر ببالغ العلم ونافذ القدرة لا عن الجزاف واتباع آرائهم السخاف، وجوز أن يراد بالهادي هو الله تعالى وروي ذلك عن ابن عباس. والضحاك. وابن جبير، فالتنوين فيه للتفخيم والتعظيم، وتوجيه الآية على ذلك أنهم لما أنكروا الآيات عنادا لكفرهم الناشئ عن التقليد ولم يتدبروا الآيات قيل: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ لا هاد مثبت للإيمان في صدورهم صاد لهم عن جحودهم فإن ذلك إلى الله تعالى وحده وهو سبحانه القادر عليه، وعلى هذا قيل: يجوز أن يكون قوله سبحانه: اللَّهُ خبر مبتدأ محذوف أي هو الله ويكون ذلك تفسيرا- لهاد- ويَعْلَمُ جملة مقررة لاستقلاله تعالى بالهداية كالعلة لذلك، ويجوز أن يكون جملة اللَّهُ يَعْلَمُ مقررة ويكون من باب إقامة الظاهر، مقام المضمر كأنه هو تعالى يعلم أي ذلك الهادي، والأول بعيد جدا، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس، وابن جرير عن عكرمة. وأبي الضحى أن المنذر والهادي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجه ذلك بأن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 102 هادٍ عطف على مُنْذِرٌ ولِكُلِّ قَوْمٍ متعلق به قدم عليه للفاصلة. وفي ذلك دليل على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم وشمول دعوته، وفيه الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالجار والمجرور والنحويون في جوازه مختلفون، وقد يجعل هادٍ خبر مبتدأ مقدر أي وهو هاد أو وأنت هاد، وعلى الأول فيه التفات، وقال أبو العالية: الهادي العمل، وقال علي بن عيسى: هو السابق إلى الهدى ولكل قوم سابق سبقهم إلى الهدى. قال أبو حيان: وهذا يرجع إلى أن الهادي هو النبي لأنه الذي يسبق إلى ذلك وعن أبي صالح أنه القائد إلى الخير أو إلى الشر والكل كما ترى. وقالت الشيعة: إنه علي كرم الله تعالى وجهه ورووا في ذلك أخبارا، وذكر ذلك القشيري منا. وأخرج ابن جرير وابن مردويه والديلمي وابن عساكر عن ابن عباس قال: لما نزلت إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ الآية وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره فقال: أنا المنذر وأومأ بيده إلى منكب علي كرم الله تعالى وجهه فقال: أنت الهادي يا علي بك يهتدي المهتدون من بعدي. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والحاكم وصححه وابن عساكر أيضا عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في الآية: رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر وأنا الهادي، وفي لفظ والهادي رجل من بني هاشم - يعني نفسه.. واستدل بذلك الشيعة على خلافة علي كرم الله وجهه بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا فصل. وأجيب بأنا لا نسلم صحة الخبر، وتصحيح الحاكم محكوم عليه بعدم الاعتبار عند أهل الأثر، وليس في الآية دلالة على ما تضمنه بوجه من الوجوه، على أن قصارى ما فيه كونه كرم الله تعالى وجهه به يهتدي المهتدون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك لا يستدعي إلا إثبات مرتبة الإرشاد وهو أمر والخلافة التي نقول بها أمر لا تلازم بينهما عندنا. وقال بعضهم: إن صح الخبر يلزم القول بصحة خلافة الثلاثة رضي الله تعالى عنهم حيث دل على أنه كرم الله تعالى وجهه على الحق فيما يأتي ويذر وأنه الذي يهتدي به وهو قد بايع أولئك الخلفاء طوعا ومدحهم وأثنى عليهم خيرا ولم يطعن في خلافتهم فينبغي الاقتداء به والجري على سننه في ذلك ودون إثبات خلاف ما أظهر خرط القتاد. وقال أبو حيان: إنه صلى الله عليه وسلم على فرض صحة الرواية إنما جعل عليا كرم الله تعالى وجهه مثالا من علماء الأمة وهداتها إلى الدين فكأنه عليه الصلاة والسلام قال: يا علي هذا وصفك فيدخل الخلفاء الثلاث وسائر علماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم بل وسائر علماء الأمة، وعليه فيكون معنى الآية إنما أنت منذر ولكل قوم في القديم والحديث إلى ما شاء الله تعالى هداة دعاة إلى الخير اه وظاهره أنه لم يحمل تقديم المعمول في خبر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما على الحصر الحقيقي وحينئذ لا مانع من القول بكثرة من يهتدي به، ويؤيد عدم الحصر ما جاء عندنا من قوله صلى الله عليه وسلم: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» وأخبار أخر متضمنة لإثبات من يهتدي به غير علي كرم الله تعالى وجهه، وأنا أظنك لا تلتفت إلى التأويل ولا تعبأ بما قيل وتكتفي بمنع صحة الخبر وتقول ليس في الآية مما يدل عليه عين ولا أثر هذا، وما يحتمل أن تكون مصدرية أي يعلم حمل كل أنثى من أي الإناث كانت، والحمل على هذا بمعنى المحمول، وأن تكون موصولة والعائد محذوف أي الذي تحمله في بطنها من حين العلوق إلى زمن الولادة لا بعد تكامل الخلق فقط، وجوز أن تكون نكرة موصوفة ويَعْلَمُ قيل متعدية إلى واحد فهي عرفانية، ونظر فيه بأن المعرفة لا يصح استعمالها في علم الله تعالى وهو ناشئ من عدم المعرفة بتحقيق ذلك وقد تقدم، وجوز أن تكون استفهامية معلقة- ليعلم- وهي مبتدأ أو مفعول مقدم والجملة سادة مسد المفعولين، أي يعلم أي شيء تحمل وعلى أي حال هو من الأحوال المتواردة عليه طورا فطورا، ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر المتبادر، وكما جوز في «ما» هذه هذه الأوجه جوزت في ما بعدها أيضا، ووجه مناسبة الآية لما قبلها قد علم مما سبق، وقيل: وجهها أنه لما تقدم إنكارهم البعث الجزء: 7 ¦ الصفحة: 103 وكان من شبههم تفرق الأجزاء واختلاط بعضها ببعض بحيث لا يتهيأ الامتياز بينها نبه سبحانه بهذه الآية على إحاطة علمه جل شأنه إزاحة لشبهتهم وقيل: وجهها أنهم لما استعجلوا بالسيئة نبه عز وجل على إحاطة علمه تعالى ليفيد أنه جلت حكمته إنما ينزل العذاب حسبما يعلم من المصلحة والحكمة، وفي مصحف أبي ومر ما قيل في نظيره ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ [فاطر: 11، فصلت: 47] وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ أي ما تنقصه وما تزداده في الجثة كالخديج والتام وروي ذلك عن ابن عباس، وفي المدة كالمولود في أقل مدة الحمل والمولود في أكثرها وفيما بينهما وهو رواية أخرى عن الحبر، قيل: إن الضحاك ولد لسنتين، وإن هرم (1) بن حيان لأربع ومن ذلك سمي هرما، وإلى كون أقصى مدة الحمل أربع سنين ذهب الشافعي، وعند مالك أقصاها خمس، وعند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أقصاها سنتان وهو المروي عن عائشة رضي الله عنها، فقد أخرج ابن جرير عنها لا يكون الحمل أكثر من سنتين قدر ما تتحرك فلكة مغزل، وفي العدد كالواحد فما فوق، قيل: ونهاية ما عرف أربعة فإنه يروى أن شريك (2) بن عبد الله بن أبي نمير القرشي كان رابع أربعة وهو الذي وقف عليه إمامنا الأعظم رضي الله تعالى عنه، وقال الشافعي عليه الرحمة: أخبرني شيخ باليمن أن امرأته ولدت بطونا في كل بطن خمسة وهذا من النوادر، وقد اتفق مثله لكن ما زاد على اثنين لضعفه لا يعيش إلا نادرا. وما يحكى أنه ولد لبعضهم أربعون في بطن واحدة كل منهم مثل الإصبع وأنهم عاشوا كلهم فالظاهر أنه كذب، وقيل: المراد نقصان دم الحيض وازدياده وروي ذلك عن جماعة، وفيه جعل الدم في الرحم كالماء في الأرض يغيض تارة ويظهر أخرى، وغاض جاء متعديا ولازما كنقص وكذا ازداد وهو مما اتفق عليه أهل اللغة، فإن جعلتهما لازمين لا يجوز أن تكون «ما» موصولة أو موصوفة لعدم العائد، وإسناد الفعلين كيفما كانا إلى الأرحام فإنهما على اللزوم لما فيها وعلى التعدي لله جل شأنه وعظم سلطانه وَكُلُّ شَيْءٍ من الأشياء عِنْدَهُ سبحانه بِمِقْدارٍ بقدر لا يجاوزه ولا ينقص عنه كقوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر: 49] فإن كل حادث من الأعراض والجواهر له في كل مرتبة من مراتب التكوين ومباديها وقت معين وحال مخصوص لا يكاد يجاوزه ولعل حال المعدوم معلوم بالدلالة إذا قلنا: إن الشيء هو الموجود وعند ظرف متعلق بمحذوف وقع صفة لشيء أو لكل وبِمِقْدارٍ خبر كُلُّ وجوز أن يكون الظرف متعلقا بمحذوف وقع حالا من- مقدار- وهو في الأصل صفة له لكنه لما قدم أعرب حالا وفاء بالقاعدة وأن يكون ظرفا لما يتعلق به الجار، والمراد بالعندية الحضور العلمي بل العلم الحضوري على ما قيل، فإن تحقق الأشياء في أنفسها في أي مرتبة كانت من مراتب الوجود والاستعداد لذلك علم بالنسبة إليه تعالى، وقيل: معنى عنده في حكمه عالِمُ الْغَيْبِ أي الغائب عن الحس وَالشَّهادَةِ أي الحاضر له عبر عنهما بهما مبالغة. أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن الغيب السر والشهادة العلانية، وقيل: الأول المعدوم والثاني الموجود ونقل عن بعضهم أنه قال: إنه سبحانه لا يعلم الغيب على معنى أن لا غيب بالنسبة إليه جل شأنه والمعدومات مشهودة له تعالى بناء على القول برؤية المعدوم كما برهن عليه الكوراني في رسالة ألفها لذلك، ولا يخفى ما في ذلك من مزيد الجسارة على الله تعالى والمصادمة لقوله جل شأنه: عالِمُ الْغَيْبِ ولا ينبغي لمسلم أن يتفوه بمثل هذه الكلمة التي تقشعر من سماعها أبدان المؤمنين نسأل الله تعالى أن يوفقنا للوقوف عند حدنا ويمن علينا بحسن الأدب معه سبحانه،   (1) وزنه ككتف اه منه. (2) ويعد من التابعين اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 104 ورفع عالِمُ على أنه خبر مبتدأ محذوف أو خبر بعد خبر. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «عالم» بالنصب على المدح، وهذا الكلام كالدليل على ما قبله من قوله تعالى: اللَّهُ يَعْلَمُ إلخ. الْكَبِيرُ العظيم الشأن الذي كل شيء دونه الْمُتَعالِ المستعلي على كل شيء في ذاته وعلمه وسائر صفاته سبحانه، وجوز أن يكون المعنى الكبير الذي يجل عما نعته به الخلق من صفات المخلوقين ويتعالى عنه، فعلى الأول المراد تنزيهه سبحانه في ذاته وصفاته عن مداناة شيء منه وعلى هذا المراد تنزيهه تعالى عما وصفه الكفرة به فهو رد لهم كقوله جل شأنه: سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [المؤمنون: 91، الصافات: 159] قال العلامة الطيبي: إن معنى الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ بالنسبة إلى مردوفه وهو عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هو العظيم الشأن الذي يكبر عن صفات المخلوقين ليضم مع العلم العظمة والقدرة بالنظر إلى ما سبق من قوله تعالى ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى إلى آخر ما يعيد التنزيه عما يزعمه النصارى والمشركون ورفع الْكَبِيرُ على انه خبر بعد أن يكون عالِمُ مبتدأ وهو خبره سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ أخفاه في نفسه ولم يتلفظ به، وقيل: تلفظ به بحيث لم يسمع نفسه دون غيره وَمَنْ جَهَرَ بِهِ من يقابل ذلك بالمعنيين وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ مبالغ في الاختفاء كأنه مختف بِاللَّيْلِ وطالب للزيادة وَسارِبٌ بِالنَّهارِ أي ظاهر فيه كما روي عن ابن عباس، وهو على ما قال جمع في الأصل اسم فاعل من سرب إذا ذهب في سربه أي طريقه، ويكون بمعنى تصرف كيف شاء قال الشاعر: إني سربت وكنت غير سروب ... وتقرب الأحلام غير قريب وقال الآخر: وكل أناس قاربوا قيد فحلهم ... ونحن خلعنا قيده فهو سارب أي فهو متصرف كيف شاء لا يدفع عن جهة يفتخر بعزة قومه، فما ذكره الخبر لازم معناه، وقرينته وقوعه في مقابلة مستخف، والظاهر من كلام بعضهم أنه حقيقة في الظاهر، ورفع سَواءٌ على أنه خبر مقدم ومَنْ مبتدأ مؤخر، ولم يثن الخبر لأنه في الأصل مصدر وهو الآن بمعنى مستو ولم يجئ تثنيته في أشهر اللغات، وحكى أبو زيد هما سواءان، ومِنْكُمْ حال من الضمير المستتر فيه لا في أَسَرَّ وجَهَرَ لأن ما في حيز الصلة والصفة لا يتقدم على الموصول والموصوف، وجوز أبو حيان كون سَواءٌ مبتدأ لوصفه بمنكم وما بعده الخبر، وكذا أعرب سيبويه قول العرب: سواء عليه الخير والشر، وقول ابن عطية: إن سيبويه ضعف ذلك بأنه ابتداء بنكرة لا يصح وسارِبٌ عطف على مَنْ كأنه قيل: سواء منكم إنسان هو مستخف وآخر سارب، والنكتة في زيادة هو في الأول أنه الدال على كمال العلم فناسب زيادة تحقيق وهو النكتة في حذف الموصوف عن سارب أيضا، والوجه في تقديم أَسَرَّ وأعماله في صريح القول على جهره وأعماله في ضميره، وجوز أن يكون على مُسْتَخْفٍ واستشكل بأن سواء يقتضي ذكر شيئين فإذا كان سارب معطوفا على جزء الصلة أو الصفة لا يكون هناك الا شيء واحد، ولا يجيء هذا على الأول لأن المعنى ما علمت. وأجيب بأن مَنْ عبارة عن الاثنين كما في قوله: تعال فإن عاهدتني لا تخونني ... نكن مثل من يا ذئب يصطحبان فكأنه قيل: سواء منكم اثنان مستخف بالليل وسارب بالنهار، قال في الكشف: وعلى الوجهين مَنْ موصوفة لا موصولة فيحمل الأوليان أيضا على ذلك ليتوافق الكل. وإيثارها على الموصولة دلالة على أن المقصود الوصف فإن ذلك متعلق العلم، وأما لو قيل: سواء الذي أسر القول والذي جهر به فإن أريد الجنس من باب: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 105 ولقد أمر على اللئيم يسبني فهو والأول سواء لكن الأول نص، وإن أريد المعهود حقيقة أو تقديرا لزم إيهام خلاف المقصود لما مر، وقيل: في الكلام موصول محذوف والتقدير ومن هو سارب كقول أبي فراس: فليت الذي بيني وبينك عامر ... وبيني وبين العالمين خراب وقول حسان: أمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء وهو ضعيف جدا لما فيه من حذف الموصول مع صدر الصلة، وقد ادعى الزمخشري أن أحد الحذفين سائغ لكن اجتماعهما منكر من المنكرات بخلاف البيتين، وقال أبو حيان: إن حذف من هنا وإن كان للعلم به لا يجوز (1) عند البصريين ويجوز عند الكوفيين، وزعم بعضهم أن المقصود استواء الحالتين سواء كانتا لواحد أو لاثنين، والمعنى سواء استخفاؤه وسروبه بالنسبة إلى علم الله تعالى فلا حاجة إلى توجيه الآية بما مر، وكذا حال ما تقدمه فعبر بأسلوبين والمقصود واحد. وتعقب بأنه لا تساعده العربية لأن مَنْ لا تكون مصدرية ولا سابك في الكلام. وزعم ابن عطية جواز أن تكون الآية متضمنة ثلاثة أصناف فالذي يسر طرف والذي يجهر طرف مضاد للأول والثالث متلون يعصى بالليل مستخفيا ويظهر البراءة بالنهار وهو كما ترى. ومن الغريب ما نقل عن الأخفش وقطرب تفسير المستخفي بالظاهر فإنه وإن كان موجودا في كلامهم بهذا المعنى لكن يمنع عنه في الآية ما يمنع، ثم إن في بيان علمه تعالى بما ذكر بعد بيان شمول علمه سبحانه الأشياء كلها ما لا يخفى من الاعتناء بذلك. لَهُ الضمير راجع إلى من تقدم ممن أسر بالقول وجهر به إلى آخره باعتبار تأويله بالمذكور وإجرائه مجرى اسم الإشارة وكذا المذكورة بعده مُعَقِّباتٌ ملائكة تعتقب في حفظه وكلاءته جمع معقبة من عقب مبالغة في عقبه إذا جاء على عقبة وأصله من العقب وهو مؤخر الرجل ثم تجوز به عن كون الفعل بغير فاصل ومهلة كأن أحدهم يطأ عقب الآخر، فالتفعيل للتكثير وهو إما في الفاعل أو في الفعل لا للتعدية لأن ثلاثيه متعد بنفسه، ويجوز أن يكون إطلاق المعقبات على الملائكة عليهم السلام باعتبار أنهم يعقبون أقوال الشخص وأفعاله أي يتبعونها ويحفظونها بالكتابة. وقال الزمخشري: إن أصله معتقبات فهو من باب الافتعال فادغمت التاء في القاف كقوله تعالى: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ [التوبة: 90] أي المعتذرون. وتعقب بأنه وهم فاحش فإن التاء لا تدغم في القاف من كلمة أو كلمتين، وقد نص الصرفيون على أن القاف والكاف كل منهما لا يدغم في الآخر ولا يدغمان في غيرهما، والتاء في معقبة للمبالغة كتاء- نسابة- لأن الملائكة عليهم السلام غير مؤنثين، وقيل: هي للتأنيث بمعنى أن معقبة صفة جماعة منهم، فمعنى معقبات جماعات كل جماعة منها معقبة وليس معقبة جمع معقب، وذكر الطبري أنه جمعه وشبه ذلك برجل ورجال ورجالات وهو كما ترى لكن أوله أبو حيان بأنه أراد بقوله: جمع معقب أنه أطلق من حيث الاستعمال على جمع معقب وإن كان أصله أن يطلق على مؤنث معقب فصار مثل الواردة للجماعة الذين يردون وإن كان أصله أن يطلق على مؤنث وارد وتشبيه ذلك بما ذكر من حيث المعنى لا من حيث صناعة النحو، فبين أن معقبة من حيث أريد به الجمع كرجال من حيث وضع للجمع وإن معقبات من حيث استعمل جمعا لمعقبة المستعمل في الجمع كرجالات الذي هو جمع رجال.   (1) أي في الشعر اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 106 وقرأ أبي وإبراهيم «معاقيب» وهو جمع كما قال الزمخشري جمع معقب أو معقبة بتشديد القاف فيهما والياء عوض من حذف إحدى القافين في التكسير، وقال ابن جني: إنه تكسير معقب كمطعم ومطاعيم ومقدم ومقاديم كأنه جمع على معاقبة ثم حذفت الهاء من الجمع وعوضت الياء عنها ولعله الأظهر، وقرئ «معتقبات» من اعتقب مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ متعلق بمحذوف وقع صفة لمعقبات أو حالا من الضمير في الظرف الواقع خبرا له، فالمعنى أن المعقبات محيطة بجميع جوانبه أو هو متعلق بمعقبات ومِنْ لابتداء الغاية، فالمعنى أن المعقبات تحفظ ما قدم وأخر من الأعمال أي تحفظ جميع أعماله، وجوز أن يكون متعلقا بقوله تعالى: يَحْفَظُونَهُ والجملة صفة معقبات أو حال (1) من الضمير في الظرف. وقرأ أبي «من بين يديه ورقيب من خلفه» وابن عباس «ورقباء من خلفه» وروى مجاهد عنه أنه قرأ «له معقبات من خلفه ورقيب من بين يديه يحفظونه» مِنْ أَمْرِ اللَّهِ متعلق بما عنده ومِنْ للسببية أي يحفظونه من المضار بسبب أمر الله تعالى لهم بذلك، ويؤيد ذلك أن عليا كرم الله تعالى وجهه، وابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وزيد بن علي. وجعفر بن محمد. وعكرمة رضي الله تعالى عنهم قرؤوا «بأمر الله» بالباء وهي ظاهرة في السببية. وجوز أن يتعلق بذلك أيضا لكن على معنى يحفظونه من بأسه تعالى متى أذنب بالاستمهال أو الاستغفار له أي يحفظونه باستدعائهم من الله تعالى أن يمهله ويؤخر عقابه ليتوب أو يطلبون من الله تعالى أن يغفر له ولا يعذبه أصلا، وقال في البحر: إن معنى الكلام يصير على هذا الوجه إلى التضمين أي يدعون له بالحفظ من نقمات الله تعالى. وقال الفراء وجماعة: في الكلام تقديم وتأخير أي له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، وروي هذا عن مجاهد. والنخعي. وابن جريج فيكون مِنْ أَمْرِ اللَّهِ متعلقا بمحذوف وقع صفة لمعقبات أي كائنة من أمره تعالى، وقيل: إنه لا يحتاج في هذا المعنى إلى دعوى تقديم وتأخير بأن يقال: إنه سبحانه وصف المعقبات بثلاث صفات. احداها كونها كائنة من بين يديه ومن خلفه. وثانيتها كونها حافظة له. وثالثتها كونها كائنة من أمره سبحانه، وإن جعل مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ متعلقا- بيحفظونه- يكون هناك صفتان الجملة والجار والمجرور، وتقديم الوصف بالجملة على الوصف به سائغ شائع في الفصيح، وكأن الوصف بالجملة الدالة على الديمومة في الحفظ لكونه آكد قدم على الوصف الآخر. وأخرج ابن أبي حاتم. وابن جرير. وأبو الشيخ عن ابن عباس أن المراد بالمعقبات الحرس الذين يتخذهم الأمراء لحفظهم من القتل ونحوه، وروي مثله عن عكرمة، ومعنى يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أنهم يحفظونه من قضاء الله تعالى وقدره ويدفعون عنه ذلك في توهمه لجهله بالله تعالى. ويجوز أن يكون من باب الاستعارة التهكمية على حد ما اشتهر في قوله تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: 21، التوبة: 34، الانشقاق: 24] فهو مستعار لضده وحقيقته لا يحفظونه. وعلى ذلك يخرج قول بعضهم: إن المراد لا يحفظونه لا على أن هناك نفيا مقدرا كما يتوهم، والأكثرون على أن المراد بالمعقبات الملائكة. وفي الصحيح «يتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر» وذكروا أن مع العبد غير الملائكة الكرام الكاتبين ملائكة حفظة، فقد أخرج أبو داود. وابن المنذر وابن أبي الدنيا. وغيرهم عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: لكل عبد حفظة يحفظونه لا يخر عليه حائط أو يتردى في بئر أو تصيبه دابة حتى إذا جاء القدر الذي قدر له خلت عنه الحفظة فأصابه ما شاء الله تعالى أن يصيبه.   (1) وقد تكون مستأنفة اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 107 وأخرج ابن أبي الدنيا والطبراني والصابوني عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وكل بالمؤمن (1) ثلاثمائة وستون ملكا يدفعون عنه ما لم يقدر عليه من ذلك للبصر سبعة أملاك يذبون عنه كما يذب عن قصعة العسل من الذباب في اليوم الصائف وما لو بدا لكم لرأيتموه على كل سهل وجبل كلهم باسط يديه فاغر فاه وما لو وكل العبد فيه إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين» . وأخرج ابن جرير عن كنانة العدوي قال: دخل عثمان رضي الله تعالى عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أخبرني عن العبد كم معه من ملك؟ فقال: ملك عن يمينك على حسناتك وهو أمير على الذي على الشمال إذا عملت حسنة كتبت عشرا فإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين: أأكتب؟ قال: لا لعله يستغفر الله تعالى ويتوب فإذا قال ثلاثا قال: نعم اكتب أراحنا الله تعالى منه فبئس القرين ما أقل مراقبته لله سبحانه وأقل استحياءه منه تعالى يقول الله جل وعلا: ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 18] وملكان من بين يديك وملكان من خلفك يقول الله تعالى: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وملك قابض على ناصيتك فإذا تواضعت لله تعالى رفعك وإذا تجبرت على الله تعالى قصمك وملك قائم على فيك لا يدع أن تدخل الحية فيه وملكان على عينك فهؤلاء عشرة أملاك ينزلون على كل بني آدم في النهار وينزل مثلهم في الليل» . والاخبار في هذا الباب كثيرة. واستشكل أمر الحفظ بأن المقدر لا بد من أن يكون وغير المقدر لا يكون بدا فالحفظ من أي شيء. وأجيب بأن من القضاء والقدر ما هو معلق فيكون الحفظ منه ولهذا حسن تعاطي لأسباب وإلا فمثل ذلك وارد فيها بأن يقال: إن الأمر الذي نريد أن نتعاطاه إما أن يكون مقدرا وجوده فلا بد أن يكون أو مقدرا عدمه فلا بد أن لا يكون فما الفائدة في تعاطيه والتشبث بأسبابه؟. وتعقب هذا أن ما ذكر إنما حسن منا لجهلنا بأن ما نطلبه من المعلق أو من غيره والمسألة المستشكلة ليست كذلك، وأنت تعلم أن الله تعالى جعل في المحسوسات أسبابا محسوسة وربط بها مسبباتها حسبما تقتضيه حكمته الباهرة ولو شاء لأوجد المسببات من غير أسباب لفناه جل شأنه الذاتي ولا مانع من أن يجعل في الأمور الغير المحسوسة أسبابا يربط بها المسببات كذلك، وحينئذ يقال: إنه جلت عظمته جعل أولئك الحفظة أسبابا للحفظ كما جعل في المحسوس نحو الجفن للعين سببا لحفظها مع أنه ليس سببا إلا للحفظ مما لم يبرم من قضائه وقدره جل جلاله، والوقوف على الحكم بأعيانها مما لم نكلف به، والعلم بأن أفعاله تعالى لا تخلو عن الحكم والمصالح على الإجمال مما يكفي المؤمن، ويقال نحو هذا في أمر الكرام الكاتبين فهم موجودون بالنص وقد جعلهم الله تعالى حفظة لأعمال العبد كاتبين لها ونحن نؤمن بذلك وإن لم نعلم ما قلمهم وما مدادهم وما قرطاسهم وكيف كتابتهم وأين محلهم وما حكمة ذلك مع أن علمه تعالى كاف في الثواب والعقاب عليها وكذا تذكر الإنسان لها وعلمه بها يوم القيامة كاف في دفع ما عسى أن يختلج في صدره عند معاينة ما يترتب عليها، ومن الناس من خاض في بيان الحكمة وهو أسهل من بيان ما معها. وذكر الإمام الرازي في جواب السؤال عن فائدة جعل الملائكة عليهم السلام موكلين علينا كلاما طويلا فقال: اعلم أن ذلك غير مستبعد لأن المنجمين اتفقوا على أن التدبير في كل يوم لكوكب على حدة وكذا القول في كل ليلة، ولا شك أن لتلك الكواكب أرواحا عندهم فتلك التدبيرات المختلفة لتلك الأرواح في الحقيقة، وكذا القول في تدبير الهيلاج والكدخداه على ما يقولون. وأما أصحاب الطلسمات فهذا الكلام مشهور على ألسنتهم فإنهم يقولون:   (1) لعل التخصيص بالذكر للشرف فلا تغفل اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 108 أخبرنا الطباع التام بكذا، ومرادهم به أن لكل إنسان روحا فلكية تتولى صلاح مهماته ودفع بلياته وآفاته، وإذا كان هذا متفقا عليه بين قدماء الفلاسفة وأصحاب الأحكام فكيف يستبعد مجيئه في الشرع. وتمام التحقيق فيه أن الأرواح البشرية مختلفة في جواهرها وطبائعها فبعضها خيرة وبعضها شريرة وبعضها حرة وبعضها نذلة وبعضها قوية القهر وبعضها ضعيفته، وكما أن الأمر في الأرواح البشرية كذلك فكذلك القول في الأرواح الفلكية، ولا شك أن الأرواح الفلكية في كل باب وصفة أقوى من الأرواح البشرية، وكل طائفة من الأرواح البشرية تكون متشاركة في طبيعة خاصة وصفة مخصوصة وتكون في مرتبة روح من الأرواح الفلكية مشاكلة لها في الطبيعة والخاصية، فتكون تلك الأرواح البشرية كأنها أولاد لذلك الروح الفلكي وإذا كان الأمر كذلك فإن ذلك الروح الفلكي يكون معينا على مهماتها ومرشدا لها إلى مصالحها وعاصما إياها عن صنوف الآفات، وهذا كلام ذكره محققو الفلاسفة، وبذلك يعلم أن ما وردت به الشريعة أمر مقبول عند الكل فلا يمكن استنكاره اه. ولعل مقصوده بذلك تنظير أمر الحفظة مع العبد بأمر الأرواح الفلكية معه على زعم الفلاسفة في الجملة، وإلا فما يقوله المسلمون في أمرهم أمر وما يقوله الفلاسفة في أمر تلك الأرواح أمر آخر وهيهات هيهات أن نقول بما قالوا فإنه بعيد عما جاء عن الشارع عليه الصلاة والسلام بمراحل، ثم ذكر عليه الرحمة من فوائد الحفظة للأعمال أن العبد إذا علم أن الملائكة عليهم السلام يحضرونه ويحصون عليه أعماله وهم- هم- كان أقرب إلى الحذر عن ارتكاب المعاصي، كمن يكون بين يدي أناس أجلاء من خدام الملك موكلين عليه فإنه لا يكاد يحاول معصية بينهم، وقد ذكر ذلك غيره ولا يخلو عن حسن، ثم نقل عن المتكلمين في فائدة الصحف المكتوبة أنها وزنها يوم القيامة فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ، ويظهر كل من الأمرين للخلائق. وتعقبه القاضي بأن ذلك بعيد لأن الأدلة قد دلت على أن كل واحد قبل مماته عند المعاينة يعلم أنه من السعداء أو من الأشقياء والعياذ بالله تعالى فلا يجوز توقف حصول المعرفة على الميزان، ثم أجاب بأنه لا يمتنع أيضا ما ذكرناه لأمر يرجع إلى حصول سرور العبد عند الخلق العظيم بظهور أنه من أولياء الله تعالى لهم وحصول ضد ذلك لمن كان من أعداء الله تعالى، ولا يخفى أن هذا مبني على أن الذي يوزن هو الصحف وهو أحد أقوال في المسألة. نعم ذهب إليه جمع من الأجلّة لحديث البطاقة والسجلات المشهور، وكذا على أن الكتابة على معناها الظاهر وهو الذي ذهب إليه أهل الحديث بل وغيرهم فيما أعلم ونقل (1) عن حكماء الإسلام معنى آخر فقال: إن الكتابة عبارة عن نقوش مخصوصة وضعت بالاصطلاح لتعريف بعض المعاني المخصوصة فلو قدرنا كون تلك النقوش دالة على تلك المعاني بأعيانها وذواتها كانت تلك الكتابة أقوى وأكمل، وحينئذ نقول: إن الإنسان إذا أتى بعمل من الأعمال مرات كثيرة متوالية حصل في نفسه بسبب ذلك ملكة قوية راسخة، فإن كانت تلك الملكة ملكة في أعمال نافعة في السعادات الروحانية عظم ابتهاجه بعد الموت، وإن كانت تلك الملكة ملكة ضارة في الأحوال الروحانية عظم تضرره بها بعد، ثم قال: إذا ثبت هذا فنقول: إن التكرير الكثير إن كان سببا لحصول تلك الملكة الراسخة كان لكل واحد من تلك الأعمال أثر في حصول تلك الملكة، وذلك الأثر وإن كان غير محسوس إلا أنه حاصل في الحقيقة، وإذا عرف هذا ظهر أنه لا يحصل للإنسان لمحة ولا حركة ولا سكون إلا ويحصل منه في جوهر نفسه أثر من آثار السعادة أو آثار   (1) أي الرازي اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 109 الشقاوة قل أو كثر، وهذا هو المراد من كتب الأعمال عند حكماء الإسلام والله تعالى العالم بحقائق الأمور انتهى، وقد رأيت ذلك لبعض الصوفية. وأنت تعلم أنه خلاف ما نطقت به الآيات والأخبار، ونحن في أمثال هذه الأمور لا نعدل عن الظاهر ما أمكن، والحق أبلج وما بعد الحق إلا الضلال هذا. ومن الناس من جعل ضمير «له» لمن الأخير والأول أولى، ومنهم من جعله لله تعالى وما بعده- لمن- وفيه تفكيك للضمائر من غير داع، ومنهم من جعله للنبي صلى الله عليه وسلم وهو عليه الصلاة والسلام معلوم من السياق وقد تقدم الأخبار عنه صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ [يونس: 20] الآية. واستدل على ذلك بما أخرجه ابن المنذر. وابن أبي حاتم. والطبراني في الكبير. وابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء بن يسار عن ابن عباس أن أربد بن قيس وعامر بن الطفيل قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتحيا إليه وهو عليه الصلاة والسلام جالس فجلسا بين يديه فقال عامر: ما تجعل لي إن أسلمت؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم قال: أتجعل لي إن أسلمت الأمر بعدك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ليس ذلك لك ولا لقومك ولكن لك أعنة الخيل قال: فاجعل لي الوبر ولك المدر فقال صلى الله عليه وسلم: لا فلما قفى من عنده قال: لأملأنها عليك خيلا ورجلا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يمنعك الله تعالى، وفي رواية وأبناء قيلة- يريد الأوس والخزرج- فلما خرجا قال عامر: يا أربد إني سألهي محمدا عنك بالحديث فاضربه بالسيف فإن الناس إذا قتلته لم يزيدوا على أن يرضوا بالدية ويكرهوا الحرب فسنعطيهم الدية فقال أربد: افعل فأقبلا راجعين فقال عامر: يا محمد قم معي أكلمك فقام عليه الصلاة والسلام معه فخليا إلى الجدار ووقف عامر يكلمه وسل أربد السيف فلما وضع يده عليه يبست على قائمة فلم يستطع سله وأبطأ على عامر فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أربد وما يصنع فانصرف عنهما وقال عامر لأربد: مالك؟ قال: وضعت يدي على قائم سيفي فيبست فلما خرجا حتى إذا كانا بالرقم نزلا فخرج إليهما سعد بن معاذ وأسيد بن حضير فوقع بهما أسيد قال: اشخصا يا عدوي الله تعالى لعنكم الله تعالى فقال عامر: من هذا يا سعد؟ فقال: هذا أسيد بن حضير الكتائب فقال: أما والله إن كان حضير صديقا لي، ثم إن الله سبحانه أرسل على أربد صاعقة فقتلته وخرج عامر حتى إذا كان بوادي الجريد أرسل الله تعالى عليه قرحة فأدركه الموت، وفي رواية أنه كان يصيح يا لعامر أغدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية فأنزل الله تعالى فيهما اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى إلى قوله سبحانه: لَهُ مُعَقِّباتٌ إلى آخره ثم قال: المعقبات من أمر الله يحفظون محمدا صلى الله عليه وسلم، وجاء في رواية أخرى عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: هذه للنبي عليه الصلاة والسلام خاصة، والأكثرون على اعتبار العموم. وسبب النزول لا يأبى ذلك والله تعالى أعلم، ثم إنه سبحانه بعد أن ذكر إحاطة علمه بالعباد وإن لهم معقبات يحفظونهم من أمره جل شأنه نبه على لزوم الطاعة ووبال المعصية فقال عز من قائل: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ من النعمة والعافية حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ما اتصفت به ذواتهم من الأحوال الجميلة لا ما أضمروه ونووه فقط، والمراد بتغيير ذلك تبديله بخلافه لا مجرد تركه، وجاء عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعا يقول الله تعالى: «وعزتي وجلالي وارتفاعي فوق عرشي ما من أهل قرية ولا أهل بيت ولا رجل ببادية كانوا على ما كرهت من معصيتي ثم تحولوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي إلا تحولت لهم عما يكرهون من عذابي إلى ما يحبون من رحمتي وما من أهل قرية ولا أهل بيت ولا رجل ببادية كانوا على ما أحببت من طاعتي ثم تحولوا عنها إلى ما كرهت من معصيتي إلا تحولت لهم عما يحبون من رحمتي إلى ما يكرهون من عذابي» أخرجه ابن أبي شيبة وأبو الشيخ وابن مردويه. واستشكل ظاهر الآية حيث أفادت أنه لا يقع تغيير النعم بقوم حتى يقع تغيير منهم بالمعاصي مع أن ذلك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 110 خلاف ما قررته الشريعة من أخذ العامة بذنوب الخاصة ومنه قوله سبحانه: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: 25] وقوله عليه الصلاة والسلام وقد سئل «أنهلك وفينا الصالحون؟ نعم إذا كثر الخبث» وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم الله سبحانه بعقاب» في أشياء كثيرة وأيضا قد ينزل الله تعالى بالعبد مصائب يزيد بها أجره، وقد يستدرج المذنب بترك ذلك. وأولها ابن عطية لذلك بأن المراد حتى يقع تغيير ما منهم أو ممن هو منهم كما غير سبحانه بالمنهزمين يوم أحد بسبب تغيير الرماة ما بأنفسهم والحق أن المراد أن ذلك عادة الله تعالى الجارية في الأكثر لا أنه سبحانه لا يصيب قوما إلا بتقدم ذنب منهم فلا إشكال، قيل: ولك أن تقول: إن قوله سبحانه: وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ تتميم لتدارك ما ذكر وفيه تأمل، والسوء بجمع كل ما يسوء من مرض وفقر وغيرهما من أنواع البلاء، ومَرَدَّ مصدر ميمي أي فلا رد له، والعامل في إِذا ما دل عليه الجواب لأن معمول المصدر وكذا ما بعد الفاء لا يتقدم عليه، والتقدير كما قال أبو البقاء وقع أو لم يرد أو نحو ذلك، والظاهر أن إِذا للكلية، وقد جاءت كذلك في أكثر الآيات وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ سبحانه مِنْ والٍ يلي أمورهم من ضر ونفع ويدخل في ذلك دخولا أوليا دفع السوء عنهم، وقيل: الأول إشارة إلى نفي الدافع بالدال وهذا إشارة إلى نفي الرافع بالراء لئلا يتكرر ولا حاجة إلى ذلك كما لا يخفى. واستدل بالآية على أن خلاف مراد الله تعالى محال. واعترض بأنها إنما تدل على أنه تعالى إذا أراد بقوم سوءا وجب وقوعه ولا تدل على أن كل مراد له تعالى كذلك ولا على استحالة خلافه بل على عدم وقوعه، وأجيب بأنه لا فرق بين إرادة السوء وإرادة غيره لكن اقتصر على إرادة الأول لأن الكلام في الانتقام من الكفار وهو أبلغ في تخويفهم فإذا امتنع رد السوء فغيره كذلك، والمراد بالاستحالة عدم الإمكان الوقوعي لا الذاتي ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر، ومن أعجب ما قيل: إن الجمهور احتجوا بالآية على أن المعاصي مما يشملها السوء وإنها بخلقه تعالى، ومن الناس من جعل الآية متعلقة بقوله تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ [الرعد: 6] إلى آخره وبين ذلك أبو حيان بما لا يرتضيه إنسان، وقيل: إن فيها إيذانا بأنهم بما باشروه من إنكار البعث واستعجال السيئة واقتراح الآية قد غيروا ما في أنفسهم من الفطرة فاستحقوا لذلك حلول غضب الله تعالى هذا. ووقف ابن كثير على هادٍ وكذا واقٍ حيث وقع وعلى والٍ هنا وباقٍ في النحل بإثبات الياء وباقي السبعة وقفوا بحذفها. وفي الإقناع لأبي جعفر ابن الباذش عن ابن مجاهد الوقف في جميع الباب لابن كثير بالياء وهذا لا يعرفه المكيون، وفيه أيضا عن أبي يعقوب الأزرق عن ورش أنه خيره في الوقف في جميع الباب بين أن يقف بالياء وأن يقف بحذفها كذا في البحر، وفيه أنه أثبت ابن كثير وأبو عمرو في رواية ياء «المتعال» وقفا ووصلا وهو الكثير في لسان العرب وحذفها الباقون وصلا ووقفا لأنها كذلك رسمت في الإمام. واستشهد سيبويه لحذفها في الفواصل والقوافي وأجاز غيره حذفها مطلقا ووجه حذفها مع أنها تحذف مع التنوين وأل معاقبة له إجراء المعاقب مجرى المعاقب. هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً من الصاعقة وَطَمَعاً في الغيث قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وأخرج أبو الشيخ عن الحسن أنه قال: خوفا لأهل البحر وطمعا لأهل البر. وعن قتادة خوفا للمسافر من أذى المطر وطمعا للمقيم في نفعه، وعن الماوردي خوفا من العقاب وطمعا في الثواب، والمراد من البرق معناه المتبادر وعن ابن عباس أن المراد به الماء فهو مجاز من باب إطلاق الشيء على ما يقارنه غالبا. ونصب خَوْفاً وَطَمَعاً على أنهما مفعول له- ليريكم- واتحاد فاعل العلة والفاعل المعلل ليس شرطا للنصب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 111 مجمعا، ففي شرح الكافية للرضي وبعض النحاة لا يشترط تشاركهما في الفاعل وهو الذي يقوى في ظني وإن كان الأغلب هو الأول. واستدل على جواز عدم التشارك بما ذكرناه في حواشينا على شرح القطر للمصنف. وفي همع الهوامع وشرط الأعلم والمتأخرون المشاركة للفعل في الوقت والفاعل ولم يشترط ذلك سيبويه ولا أحد من المتقدمين، واحتاج المشترطون إلى تأويل هذا للاختلاف في الفاعل فإن فاعل الإراءة هو الله تعالى وفاعل الطمع والخوف غيره سبحانه فقيل: في الكلام مضاف مقدر وهو إرادة أي يريكم ذلك إرادة أن تخافوا وتطمعوا فالمفعول له المضاف المقدر وفاعله وفاعل الفعل المعلل به واحد، وقيل: الخوف والطمع موضوعان موضع الإخافة والأطماع كما وضع النبات موضع الإنبات في قوله تعالى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17] والمصادر ينوب بعضها عن بعض أو هما مصدران محذوفا الزوائد كما في شرح التسهيل، وقيل: إنهما مفعول له باعتبار أن المخاطبين رائين لأن إراءتهم متضمنة لرؤيتهم والخوف والطمع من أفعالهم فهم فعلوا الفعل المعلل بذلك وهو الرؤية فيرجع إلى معنى قعدت عن الحرب جبنا وهذا على طريقة قول النابغة الذبياني: وحلت بيوتي في يفاع ممنع ... يخال به راعي الحمولة طائرا حذارا على أن لا تنال مقادتي ... ولا نسوتي حتى يمتن حرائرا حيث قيل: إنه على معنى أحللت بيوتي حذارا، ورد ذلك المولى أبو السعود بأنه لا سبيل إليه لأن ما وقع في معرض العلة الغائية لا سيما الخوف لا يصلح علة لرؤيتهم. وتعقبه عزمي زاده وغيره بأن كلام واه لأن القائل صرح بأنه من قبيل قعدت عن الحرب جبنا ويريد أن المفعول له حامل على الفعل وموجود قبله وليس مما جعل في معرض العلة الغائية كما قالوا في ضربته تأديبا فلا وجه للرد عليه بما ذكر، وقيل: التعليل هنا مثله في لام العاقبة لا أن ذلك من قبيل قعدت عن الحرب جبنا كما ظن لأن الجبن باعث على القعود دونهما للرؤية وهو غير وارد لأنه باعث بلا شبهة، واعترض عليه العزمي بأن اللام المقدرة في المفعول له لم يقل أحد بأنها تكون لام العاقبة ولا يساعده الاستعمال وهو ليس بشيء، كيف وقد قال النحاة كما في الدر المصون: إنه كقول النابغة السابق، وقال أيضا: بقي هاهنا بحث وهو أن مقتضى جعل الآية نحو قعدت إلى آخره على ما قاله ذلك القائل أن يكون الخوف والطمع مقدمين في الوجود على الرؤية وليس كذلك بل هما إنما يحصلان منها ويمكن أن يقال: المراد بكل من الخوف والطمع على ما قاله ما هو من الملكات النفسانية كالجبن في المثال المذكور ويصح تعليل الرؤية من الإراءة بهما يعني أن الرؤية التي تقع بإراءة الله سبحانه إنما كانت لما فيهم من الخوف والطمع إذ لو لم يكن في جبلتهم ذلك لما كان لتلك الرؤية فائدة اه، ولا يخفى ما فيه من التعسف، وقد علمت أنه غير وارد، وقيل: إن النصب على الحالية من الْبَرْقَ أو المخاطبين بتقدير مضاف أو تأويل المصدر باسم المفعول أو الفاعل أو إبقاء المصدر على ما هو عليه للمبالغة كما قيل في زيد عدل وَيُنْشِئُ السَّحابَ أي الغمام المنسحب في الهواء الثِّقالَ بالماء وهي جمع ثقيلة وصف بها السحاب لكونه اسم جنس في معنى الجمع ويذكر ويؤنث فكأنه جمع سحابة ثقيلة لا أنه جمع أو اسم جنس جمعي لاطلاقه على الواحد وغيره. وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ قيل: هو اسم للصوت المعلوم والكلام على حذف مضاف أي سامعو الرعد أو الإسناد مجازي من باب الإسناد للحامل والسبب، والباء في قوله سبحانه: بِحَمْدِهِ للملابسة، والجار والمجرور في موضع الحال أي يسبح السامعون لذلك الصوت ملتبسين بحمد الله تعالى فيضجون بسبحان الله والحمد لله. وقيل: لا حذف ولا تجوز في الإسناد وإنما التجوز في التسبيح والتحميد حيث شبه دلالة الرعد بنفسه على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 112 تنزيهه تعالى عن الشريك والعجز بالتسبيح والتنزيه اللفظي ودلالته على فضله جل شأنه ورحمته بحمد الحامد لما فيهما من الدلالة على صفات الكمال، وقيل: إنه مجاز مرسل استعمل في لازمه، وقيل: الرعد اسم ملك فإسناد التسبيح والتحميد إليه حقيقة. قال في الكشف: والأشبه في الآية الحمل على الإسناد المجازي ليتلاءم الكلام فإن الرعد في المتعارف يقع على الصوت المخصوص وهو الذي يقرن بالذكر مع البرق والسحاب والكلام في إراءة الآيات الدالة على القدرة الباهرة وإيجادها وتسبيح ملك الرعد لا يلائم ذلك، أما حمل الصوت المخصوص للسامعين على التسبيح والحمد فشديد الملاءمة جدا، وإذا حمل على الإسناد حقيقة فالوجه أن يكون اعتراضا دلالة على اعتراف الملك الموكل بالسحاب وسائر الملاءمة بكمال قدرته سبحانه جلت قدرته وجحود الإنسان ذلك، وأنت تعلم أن تسبيح الملائكة على ما ادعى أنه الأشبه يبقى كالاعتراض في البين، والذي اختاره أكثر المحدثين كون الإسناد حقيقيا بناء على أن الرعد اسم للملك الذي يسوق السحاب، فقد أخرج أحمد. والترمذي وصححه. والنسائي. وآخرون عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أخبرنا ما هذا الرعد؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ملك من ملائكة الله تعالى موكل بالسحاب بيديه مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمره الله تعالى قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال عليه الصلاة والسلام: صوته فقالوا: صدقت، والأخبار في ذلك كثيرة، واستشكل بأنه لو كان علما للملك لما ساغ تنكيره وقد نكر في البقرة، وأجيب بأن له إطلاقين ثانيهما إطلاقه على نفس الصوت والتنكير على هذا الإطلاق، وقال ابن عطية: وقيل: إن الرعد ريح تخفق بين السحاب، وروي ذلك عن ابن عباس، وتعقبه أبو حيان بقوله: وهذا عندي لا يصح فإن ذلك من نزغات الطبيعيين وغيرهم. وقال الإمام: إن المحققين من الحكماء يذكرون أن هذه الآثار العلوية إنما تتم بقوى روحانية فلكية وللسحاب روح معين من الأرواح الفلكية يدبره وكذا القول في الرياح وسائر الآثار العلوية، وهو عين ما قلنا: من أن الرعد اسم لملك من الملائكة يسبح الله تعالى، فهذا الذي قاله المفسرون بهذه العبارة هو عين ما ذكره المحققون من الحكماء فكيف يليق بالعاقل الإنكار اه. وتعقبه أبو حيان أيضا بأن غرضه جريان ما يتخيله الفلاسفة على مناهج الشريعة ولن يكون ذلك أبدا، ولقد صدق رحمه الله تعالى في عدم صحة التطبيق بين ما جاءت به الشريعة وما نسجته عناكب أفكار الفلاسفة. نعم إن ذلك ممكن في أقل قليل من ذاك وهذا، والمشهور عن الفلاسفة أن الريح تحتقن في داخل السحاب ويستولي البرد على ظاهره فيتجمد السطح الظاهر ثم إن ذلك الريح يمزقه تمزيقا عنيفا فيتولد من ذلك حركة عنيفة وهي موجبة للسخونة وليس البرق والرعد إلا ما حصل من الحركة وتسخينها، وأما السحاب فهو أبخرة متصاعدة قد بلغت في صعودها إلى الطبقة الباردة من الهواء لكن لما لم يقو البرد تكاثفت بذلك القدر من البرد واجتمعت وتقاطرت ويقال للمتقاطر مطر. ورد الأول بأنه خلاف المعقول من وجوه. أحدها أنه لو كان الأمر كما ذكر لوجب أن يكون كلما حصل البرق حصل الرعد وهو الصوت الحادث من تمزيق السحاب ومعلوم أنه كثيرا ما يحدث البرق القوي من غير حدوث الرعد. ثانيها أن السخونة الحاصلة بسبب قوة الحركة مقابلة بالطبيعة المائية الموجبة للبرد وعند حصول هذا المعارض القوي كيف تحدث النارية بل يقال: النيران العظيمة تنطفئ بصب الماء عليها والسحاب كله ماء فكيف يمكن أن يحدث فيه شعلة ضعيفة نارية. ثالثها أن من مذهبكم أن النار الصرفة لا لون لها البتة فهب أنه حصلت النارية بسبب قوة المحاكمة الحاصلة في أجزاء السحاب لكن من أين حدث ذلك اللون الأحمر؟ ورد الثاني بأن الأمطار مختلفة فتارة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 113 تكون قطراتها كبيرة وتارة تكون صغيرة وتارة تكون متقاربة وأخرى تكون متباعدة إلى غير ذلك من الاختلافات وذلك مع أن طبيعة الأرض واحدة وطبيعة الشمس المسخنة للبخارات واحدة يأبى أن يكون ذلك كما قرروا، وأيضا التجربة دالة على أن للتضرع والدعاء في انعقاد السحاب ونزول الغيث أثرا عظيما وهو يأبى أن يكون ذلك للطبيعة والخاصية فليس كل ذلك إلا بإحداث محدث حكيم قادر يخلق ما يشاء كيف يشاء، وقال بعض المحققين: لا يبعد أن يكون في تكون ما ذكر أسباب عادية كما في الكثير من أفعاله تعالى وذلك لا ينافي نسبته إلى المحدث الحكيم القادر جل شأنه، ومن أنصف لم يسعه إنكار الأسباب بالكلية فإن بعضها كالمعلوم بالضرورة وبهذا أنا أقول، وقد تقدم بعض الكلام في هذا المقام. وكان صلى الله عليه وسلم كما أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة إذا هبت الريح أو سمع صوت الرعد تغير لونه حتى يعرف ذلك في وجهه الشريف ثم يقول للرعد: «سبحان من سبحت له وللريح اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابا» . وأخرج أحمد والبخاري في الأدب المفرد. والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن عمر «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع صوت الرعد والصواعق قال: «اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك» . وأخرج أبو داود في مراسيله عن عبيد الله بن أبي جعفر «أن قوما سمعوا الرعد فكبروا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا سمعتم الرعد فسبحوا ولا تكبروا» وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس «أنه عليه الصلاة والسلام كان يقول إذا سمع الرعد: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم» . وأخرج ابن مردويه. وابن جرير عن أبي هريرة قال: «كان صلى الله عليه وسلم إذا سمع الرعد قال سبحان من يسبح الرعد بحمده» . وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ أي ويسبح الملائكة عليهم السلام من هيبته تعالى وإجلاله جل جلاله، وقيل: الضمير يعود على الرعد، والمراد بالملائكة أعوانه جعلهم الله تعالى تحت يده خائفين خاضعين له وهو قول ضعيف وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ جمع صاعقة وهي كالصاقعة في الأصل الهدة الكبيرة إلا أن الصقع يقال في الأجسام الأرضية والصعق في الأجسام العلوية، والمراد بها هنا النار النازلة من السحاب مع صوت شديد فَيُصِيبُ سبحانه بِها مَنْ يَشاءُ أصابته بها فيهلكه، قيل: وهذه النار قيل تحصل من احتكاك أجزاء السحاب، واستدل بما أخرجه ابن المنذر. وابن مردويه عن ابن عباس قال: الرعد ملك اسمه الرعد وصوته هذا تسبيحه فإذا اشتد زجره احتك السحاب واصطدم من خوفه فتخرجه الصواعق من بينه، وقال الفلاسفة: إن الدخان المحتبس في جوف السحاب إذا نزل ومزق السحاب قد يشتعل بقوة التسخين الحاصل من الحركة الشديدة والمصاكة العنيفة وإذا اشتعل فلطيفه ينطفئ سريعا وهو البرق وكثيفه لا ينطفئ حتى يصل إلى الأرض وهو الصاعقة، وإذا وصل إليها فربما صار لطيفا ينفذ في المتخلخل ولا يحرقه بل يبقى منه أثر سواد ويذيب ما يصادمه من الأجسام الكثيفة المندمجة فيذيب الذهب والفضة في الصرة مثلا ولا يحرقها إلا ما أحرق من المذوب، وقد أخبر أهل التواتر بأن صاعقة وقعت منذ زمان بشيراز على قبة الشيخ الكبير أبي عبد الله بن خفيف قدس سره فأذابت قنديلا فيها ولم تحرق شيئا منها، وربما كان كثيفا غليظا جدا فيحرق كل شيء أصابه، وكثيرا ما يقع على الجبل فيدكه دكا، وقد يقع على البحر فيغوص فيه ويحرق ما فيه من الحيوانات، وربما كان جرم الصاعقة دقيقا جدا مثل السيف فإذا وصل إلى شيء قطعه بنصفين ولا يكون مقدار الانفراج إلا قليلا، ويحكى أن صبيا كان نائما بصحراء فأصابت الصاعقة ساقيه فسقطت رجلاه ولم يخرج دم لحصول الكي من حرارتها، وهذا الذي قالوه في سبب تكونها ليس بالبعيد عما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في ذلك، ومادتها على ما نقل بعضهم عن ابن سينا أجسام نارية فارقتها السخونة وصارت لاستيلاء البرودة على جوهرها متكاثفة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 114 وقال الإمام في شرح الإشارات: الصواعق على ما نقل عن الشيخ تشبه الحديد تارة والنحاس تارة والحجر تارة وهو ظاهر في أن مادتها ليست كذلك وإلا لما اختلفت، ومن هنا قيل: إن مادتها الأبخرة والأدخنة الشبيهة بمواد هذه الأجسام، وقيل: إنها نار تخرج من فم الملك الموكل بالسحاب إذا اشتد زجره. واخرج ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن أبي عمران الجوني قال: إن بحورا من نار دون العرش يكون منها الصواعق، وإذا صح ما روي عن الحبر لا يعدل عنه. وقد أخرج سعيد بن منصور. وابن المنذر عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال «من صوت الرعد فقال سبحانه الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير فإن أصابته صاعقة فعلي ديته» . وأخرج ابن أبي حاتم. وغيره عن أبي جعفر قال: «الصاعقة تصيب المؤمن والكافر ولا تصيب ذاكرا» وفي خبر مرفوع ما يؤيده، وقد أهلكت أربد كما علمت، وقد أشار إلى ذلك أخوه لأمه لبيد العامري بقوله يرثيه: أخشى على أربد، الحتوف ولا ... أرهب نوء السماك والأسد فجعني البرق والصواعق بال ... فارس يوم الكريهة النجد وفي تلك القصة على ما قال ابن جريج وغيره نزلت الآية. وعن مجاهد أن يهوديا ناظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينا هو كذلك نزلت صاعقة فأخذت قحف رأسه فنزلت، وقيل: إنه عليه الصلاة والسلام بعث إلى جبار من العرب ليسلم فقال: أخبروني عن إله محمد أمن لؤلؤ هو أم من ذهب أم من نحاس؟ فنزلت عليه صاعقة فأهلكته فنزلت. ومِنْ مفعول فَيُصِيبُ والكلام على ما في البحر من باب الأعمال وقد أعمل فيه الثاني إذ كل من يُرْسِلُ وفَيُصِيبُ يطلب مِنْ ولو أعمل الأول لكان التركيب ويرسل الصواعق فيصيب بها على من يشاء، لكن جاء على الكثير في لسان العرب المختار عند البصريين وهو أعمال الثاني، ثم إنه تعالى بعد أن ذكر علمه النافذ في كل شيء واستواء الظاهر والخفي عنده تعالى وما دل على قدرته الباهرة ووحدانيته قال جل شأنه: وَهُمْ أي الذين كفروا وكذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأنكروا آياته يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ حيث يكذبون ما يصفه الصادق به من كمال العلم والقدرة والتفرد بالألوهية وإعادة الناس ومجازاتهم، فالمراد بالمجادلة فيه تعالى المجادلة في شأنه سبحانه وما أخبر به عنه جل شأنه، وهي من الجدل بفتحتين أشد الخصومة، وأصله من الجدل بالسكون وهو فتل الحبل ونحوه لأنه يقوي به ويشد طاقاته. وقال الراغب: أصل ذلك من جدلت الحبل أي أحكمت فتله كأن المتجادلين يفتل كل واحد منهما الآخر عن رأيه، وقيل: الأصل في الجدال الصراع وإسقاط الإنسان صاحبه على الجدالة وهي الأرض الصلبة، وإلى تفسير الآية بما ذكر ذهب الزمخشري، قال في الكشف: وفي كلامه إشارة إلى أن في الكلام التفاتا لأن قوله تعالى: سَواءٌ مِنْكُمْ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب وإن شئت فتأمل من قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ إلى قوله سبحانه: الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ. ثم التفت من الخطاب إلى الغيبة وحسن موقعهما، أما الأول فما فيه من تخصيص الوعيد المدمج في سَواءٌ مِنْكُمْ ولهذا ذيل بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ إلى مِنْ والٍ وفيه من التهديد ما لا يخفى على ذي بصيرة، والحث على طلب النجاة وزيادة التقريع في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ وفي مجيء سَواءٌ مِنْكُمْ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ بعد قوله تعالى: اللَّهُ يَعْلَمُ هكذا من دون حرف النسق لأن الأول مقرر لقوله سبحانه: اللَّهُ يَعْلَمُ من زيادة الادماج المذكور تحقيقا للعلم والثاني مقرر لما ضمن من الدلالة على القدرة في قوله تعالى: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ مع رعاية نمط التعديد على أسلوب الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرحمن: 1، 2] ما يبهر الألباب ويظهر للمتأمل في وجه الاعجاز التنزيلي العجب العجاب، وأما الثاني فما فيه من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 115 الدلالة على أنهم مع وضوح الآيات وتلاوتها عليهم والتنبيه البالغ ترغيبا وترهيبا لم يبالوا بها بالة فكأنه يشكوا جنايتهم إلى من يستحق الخطاب أو كمن يدمدم في نفسه أني أصنع بهم وأفعل كيت وكيت جزاء ما ارتكبوه ليرى ما يريد أن يوقع بهم، وعلى هذا فقوله تعالى: هُمْ إلى آخره معطوف على قوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ المعطوف على وَيَسْتَعْجِلُونَكَ والعدول عن الفعلية إلى الاسمية وطرح رعاية التناسب للدلالة على أنهم ما ازدادوا بعد الآيات إلا عنادا «وأما الذين كفروا فزادتهم رجسا إلى رجسهم» (1) وجاز أن يقال: إنه معطوف على هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ على معنى هو الذي يريكم هذه الآيات الكوامل الدالة على القدرة والرحمة وأنتم تجادلون فيه سبحانه وهذا أقرب مأخذا والأول أملأ بالفائدة اه ومخايل التحقيق ظاهرة عليه وزعم الطيبي أن الأنسب لتأليف النظم أن يكون هذا تسلية لحبيبه صلى الله عليه وسلم، فإنه تعالى لما نعى على كفار قريش عنادهم في اقتراحهم الآيات كآيات موسى. وعيسى عليهما السلام وإنكارهم كون الذي جاء عليه الصلاة والسلام آيات سلاه جل شأنه بما ذكر كأنه قال: هون عليك فإنك لست مختصا بذلك فإنه مع ظهور الآيات البينات ودلائل التوحيد يجادلون في الله تعالى باتخاذ الشركاء وإثبات الأولاد ومع شمول علمه تعالى وكمال قدرته جل جلاله ينكرون الحشر والنشر ومع قهر سلطانه وشديد سطوته يقدمون على المكايدة والعناد فلا تذهب نفسك عليهم حسرات فليتأمل، ولا يستحسن العطف على يُرْسِلُ الصَّواعِقَ لعدم الاتساق، وجوز أن تكون الجملة حالا من مفعول فَيُصِيبُ أي يصيب بها من يشاء في حال جداله أو من مفعول يَشاءُ على ما قيل وهو كما ترى، ولا يعين سبب النزول الحالية كما لا يخفى وَهُوَ سبحانه وتعالى شَدِيدُ الْمِحالِ أي المماحلة وهي المكايدة من محل بفلان بالتخفيف إذا كاده وعرضه للهلاك، ومنه تمحل لكذا إذا تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه فهو مصدر كالقتال، وقيل: هو اسم لا مصدر من المحل بمعنى القوة وحمل على ذلك قول الأعشى: فرع نبل يهتز في غصن المج ... د عظيم الندى شديد المحال وقول عبد المطلب: لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم عدوا محالك وكأن أصله من المحل بمعنى القحط، وكلا التفسيرين مروي على ابن عباس، وقيل: هو مفعل لأفعال من الحول بمعنى القوة، وقال ابن قتيبة: هو كذلك من الحيلة المعروفة وميمه زائدة كميم مكان، وغلطه الأزهري بأنه لو كان مفعلا لكان كمرود ومحور، واعتذر عن ذلك بأنه أعل على غير قياس، وأيد دعوى الزيادة بقراءة الضحاك. والأعرج «المحال» بفتح الميم على أنه مفعل من حال يحول إذا احتال لأن الأصل توافق القراءتين، ويقال للحيلة أيضا المحالة ومنه المثل المرء يعجز لا المحالة، وقال أبو زيد: هو بمعنى النقمة وكأنه أخذه من المحل بمعنى القحط أيضا، وقال ابن عرفة: هو الجدال يقال: ما حل عن أمره أي جادل، وقيل: هو بمعنى الحقد وروي عن عكرمة وحملوه على التجوز. وجوز أن يكون «المحال» بالفتح بمعنى الفقار وهو عمود الظهر وقوامه، قال في الأساس: يقال فرس قوي المحال أي الفقار الواحدة محالة والميم أصلية، ويكون ذلك مثلا في القوة والقدرة كما جاء في الحديث الصحيح (2) «فساعد الله تعالى أسد وموساه أحد» لأن الشخص إذا اشتد محاله كان منعوتا بشدة القوة والاضطلاع بما يعجز عنه   (1) في سورة التوبة، الآية: 125 وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ .... (2) في البحر والمراد أنه سبحانه لو أراد تحريمها بشق آذانها لخلقها كذلك فإنه سبحانه يقول لما أراد كن فيكون اه منه. [ ..... ] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 116 غيره، ألا ترى إلى قولهم: فقرته الفواقر وهو مثل لتوهين القوى، وبهذا الحمل لا يلزم إثبات الجسمية له تعالى، والجملة الاسمية في موضع الحال من الاسم الجليل لَهُ أي لله تعالى دَعْوَةُ الْحَقِّ أي الدعاء والتضرع الثابت الواقع في محله المجاب عند وقوعه، والإضافة للايذان بملابسة الدعوة للحق واختصاصها به وكونها بمعزل من شائبة البطلان والضلال والضياع كما يقال: كلمة الحق والمراد أن إجابة ذلك له تعالى دون غيره، ويؤيده ما بعد كما لا يخفى (1) وقيل: المراد بدعوة الحق الدعاء عند الخوف فإنه لا يدعى فيه إلا الله تعالى كما قال سبحانه: ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء: 67] وزعم الماوردي أن هذا أشبه بسياق الآية، وقيل: الدعوة بمعنى الدعاء أي طلب الإقبال، والمراد به العبادة للاشتمال، والإضافة على طرز ما تقدم، وبعضهم يقول: إن هذه الإضافة من إضافة الموصوف إلى الصفة والكلام فيه شهير، وحاصل المعنى أن الذي يحق أن يعبد هو الله تعالى دون غيره. ويفهم من كلام البعض- على ما قيل- أن الدعوة بمعنى الدعاء ومتعلقها محذوف أي للعبادة والمعنى أنه الذي يحق أن يدعى إلى عبادته دون غيره، ولا يخفى ما بين المعنيين من التلازم فإنه إذا كانت الدعوة إلى عبادته سبحانه حقا كانت عبادته جل شأنه حقا وبالعكس، وعن الحسن أن المراد من الحق هو الله تعالى، وهو- كما في البحر- ثاني الوجهين اللذين ذكرهما الزمخشري، والمعنى عليه كما قال: له دعوة المدعو الحق الذي يسمع فيجب، والأول ما أشرنا إليه أولا وجعل الحق فيه مقابل الباطل. وبين صاحب الكشف حاصل الوجهين بأن الكلام مسوق لاختصاصه سبحانه بأن يدعى ويعبد ردا لمن يجادل في الله تعالى ويشرك به سبحانه الأنداد ولا بد من أن يكون في الإضافة اشعار بهذا الاختصاص، فإن جعل الحق في مقابل الباطل فهو ظاهر، وإن جعل اسما من أسمائه تعالى كان الأصل لله دعوته تأكيدا للاختصاص من اللام والإضافة ثم زيد ذلك بإقامة الظاهر مقام المضمر معادا بوصف ينبئ عن اختصاصها به أشد الاختصاص فقيل: له دعوة المدعو الحق والحق من أسمائه سبحانه يدل على أنه الثابت بالحقيقة وما سواه باطل من حيث هو وحق بتحقيقه تعالى إياه فيتقيد بحسب كل مقام للدلالة على أن مقابله لا حقيقة له، وإذا كان المدعو من دونه بطلانه لعدم الاستجابة فهو الحق الذي يسمع فيجيب انتهى. وبهذا سقط ما قاله أبو حيان في الاعتراض على الوجه الثاني من أن مآله إلى الله دعوة الله وهو نظير قولك: لزيد دعوة زيد ولا يصح ذلك، واستغنى عما قال العلامة الطيبي في تأويله: من أن المعنى ولله تعالى الدعوة التي تليق أن تنسب وتضاف إلى حضرته جل شأنه لكونه تعالى سميعا بصيرا كريما لا يخيب سائله فيجيب الدعاء فإن ذلك كما ترى قليل الجدوى. ويعلم ما في الكشف وجه تعلق هذه الجملة بما تقدم، وقال بعضهم: وجه تعلق هذه والجملة التي قبلها أعني قوله تعالى: وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ إن كان سبب النزول قصة أربد. وعامر أن إهلاكهما من حيث لم يشعرا به محال من الله تعالى وإجابة لدعوة رسوله صلى الله عليه وسلم فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: «اللهم احبسهما عني بما شئت» أو دلالة على رسوله صلى الله عليه وسلم على الحق، وإن لم يكن سبب النزول ذلك فالوجه أن ذلك وعيد للكفرة على مجادلتهم الرسول صلى الله عليه وسلم بحلول محاله بهم وتهديدهم بإجابة دعائه عليه الصلاة والسلام أن دعا عليهم أو بيان ضلالتهم وفساد رأيهم في عبادة غير الله تعالى، ويعلم مما ذكر وجه التعلق على بعض التفاسير إذا قلنا: إن سبب النزول قصة اليهودي أو الجبار فتأمل. وَالَّذِينَ يَدْعُونَ أي الأصنام الذين يدعونهم أي المشركون، وحذف عائد الموصول في مثل ذلك كثير،   (1) عن علي كرم الله تعالى وجهه أن دعوة الحق التوحيد وعن ابن عباس ما هو أعم من ذلك فافهم اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 117 وجوز أن يكون الموصول عبارة عن المشركين وضمير الجمع المرفوع عائد إليه ومفعول يَدْعُونَ محذوف أي الأصنام وحذف لدلالة قوله تعالى: مِنْ دُونِهِ عليه لأن معناه متجاوزين له وتجاوزه إنما هو بعبادتها ويؤيد الوجه الأول قراءة البزدوي عن أبي عمرو «تدعون» بتاء الخطاب، وضمير لا يَسْتَجِيبُونَ عليه عائد على الَّذِينَ وعلى الثاني عائد على مفعول يَدْعُونَ وعلى كل فالمراد لا يستجيب الأصنام لَهُمْ أي للمشركين بِشَيْءٍ من طلباتهم إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ أي لا يستجيبون شيئا من الاستجابة وطرفا منها إلا استجابة كاستجابة الماء لمن بسط كفيه إليه من بعيد يطلبه ويدعوه لِيَبْلُغَ أي الماء بنفسه من غير أن يؤخذ بشيء من إناء ونحوه فاهُ وَما هُوَ أي الماء بِبالِغِهِ أي ببالغ فيه أبدا لكونه جمادا لا يشعر بعطشه وبسط يديه إليه، وجوز أبو حيان كون هُوَ ضمير الفم والهاء في بِبالِغِهِ ضمير الماء أي وما فوه ببالغ الماء لأن كلا منهما لا يبلغ الآخر على هذه الحال. وجوز بعضهم كون الأول ضمير باسط والثاني ضمير «الماء» قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون الأول عائدا على «باسط» والثاني عائدا على الفم لأن اسم الفاعل إذا جرى على غير من هو له لزم إبراز الفاعل فكان يجب على ذلك أن يقال: وما هو ببالغه الماء، والجمهور على ما سمعت أولا، والغرض- كما قال بعض المدققين- نفي الاستجابة على البت بتصوير أنهم أحوج ما يكونون إليها لتحصيل مباغيهم أخيب ما يكون أحد في سعيه لما هو مضطر إليه، والحاصل أنه شبه آلهتهم حين استكفائهم إياهم ما أهمهم بلسان الاضطرار في عدم الشعور فضلا عن الاستطاعة للاستجابة وبقائهم لذلك في الخسار بحال ماء بمرأى من عطشان باسط كفيه إليه يناديه عبارة وإشارة فهو لذلك في زيادة الكباد والبوار، والتشبيه على هذا من المركب التمثيلي في الأصل أبرز في معرض التهكم حيث أثبت أنهما استجابتان زيادة في التخسير والتحسير، فالاستثناء مفرغ من أعم عام المصدر كما أشرنا إليه، والظاهر أن الاستجابة هناك مصدر من المبني للفاعل وهو الذي يقتضيه الفعل الظاهر، وجوز أن يكون من المبني للمفعول ويضاف إلى الباسط بناء على استلزام المصدر من المبني للفاعل للمصدر من المبني للمفعول وجودا وعدما فكأنه قيل: لا يستجيبون لهم بشيء فلا يستجاب لهم استجابة كائنة كاستجابة من بسط كفيه إلى الماء كما في قول الفرزدق: وعض زمان يا ابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحت (1) أو مجلف أي لم يدع فلم يبق إلا مسحت (2) أو مجلف. وأبو البقاء يجعل الاستجابة مصدر المبني للمفعول وإضافته إلى كَباسِطِ من باب إضافة المصدر إلى مفعوله كما في قوله تعالى: لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ [فصلت: 49] والفاعل ضمير «الماء» على الوجه الثاني في الموصول، وقد يراد من بسط الكفين إلى الماء بسطهما أي نشر أصابيعهما ومدها لشربه لا للدعاء، والإشارة إليه كما أشرنا إليه فيما تقدم، وعلى هذا قيل: شبه الداعون لغير الله تعالى بمن أراد أن يغرف الماء بيديه فبسطهما ناشرا أصابعه في أنهما لا يحصلان على طائل، وجعل بعضهم وجه الشبه قلة الجدوى، ولعله أراد عدمها لكنه بالغ بذكر القلة وإرادة العدم دلالة على هضم الحق وإيثار الصدق ولإشمام طرف من التهكم، والتشبيه على هذا من تشبيه المفرد المقيد كقولك لمن لا يحصل من سعيه على شيء: هو كالراقم على الماء فإن المشبه هو الساعي مقيدا بكون سعيه كذلك والمشبه به هو الراقم مقيدا بكونه على الماء كذلك فيما نحن   (1) رواه الجوهري إلا مسحتا أو مجلف بنصب الأول ورفع الثاني ثم قال: يريد الا مسحتا أو هو مجلف فلا تغفل اه منه. (2) المسحت المهلك والمجلف بالجيم الذي بقيت منه بقية اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 118 فيه، وليس من المركب العقلي في شيء على ما توهم. نعم وجه الشبه عقلي اعتباري والاستثناء مفرغ عن أعم عام الأحوال أي لا يستجيب الآلهة لهؤلاء الكفرة الداعين إلا مشبهين أعني الداعين بمن بسط كفيه ولم يقبضهما وأخرجهما كذلك فلم يحصل على شيء لأن الماء يحصل بالقبض لا بالبسط. وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه أن ذلك تشبيه بعطشان على شفير بئر بلا رشاء ولا يبلغ قعر البئر ولا الماء يرتفع إليه، وهو راجع إلى الوجه الأول وليس مغايرا له كما قيل. وعن أبي عبيدة أن ذلك تشبيه بالقابض على الماء في أنه لا يحصل على شيء، ثم قال: والعرب تضرب المثل في الساعي فيما لا يدركه بذلك، وأنشد قول الشاعر: فأصبحت فيما كان بيني وبينها ... من الود مثل القابض الماء باليد وقوله: وإني وإياكم وشوقا إليكم ... كقابض ماء لم تسعه أنامله وهو راجع إلى الوجه الثاني خلا أنه لا يظهر من (باسط) معنى قابض فإن بسط الكف ظاهر في نشر الأصابع ممددة كما في قوله: تعود بسط الكف حتى لو أنه ... أراد انقباضا لم تطعه أنامله وكيفما كان فالمراد- بباسط- شخص باسط أي شخص كان، وما يقتضيه ظاهر ما روي عن بكير بن معروف من أنه قابيل حيث إنه لما قتل أخاه جعل الله تعالى عذابه أن أخذ بناصيته في البحر ليس بينه وبين الماء إلا أصبع فهو يريده ولا يناله مما لا ينبغي أن يعول عليه. وقرئ «كباسط كفّيه» بالتنوين أي كشخص يبسط كفيه وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ أي في ضياع وخسار وباطل، والمراد بهذا الدعاء إن كان دعاء آلهتهم فظاهر أنه كذلك لكنه فهم من السابق وحينئذ يكون مكررا للتأكيد، وإن كان دعائهم الله تعالى فقد استشكلوا ذلك بأن دعاء الكافر قد يستجاب وهو المصرح به في الفتاوى، واستجابة دعاء إبليس وهو رأس الكفار نص في ذلك. وأجيب بأن المراد دعاؤهم الله تعالى بما يتعلق بالآخرة، وعلى هذا يحمل ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن أصوات الكفار محجوبة عن الله تعالى فلا يسمع دعاءهم، وقيل: يجوز أن يراد دعاؤهم مطلقا ولا يقيد بما أجيبوا به وَلِلَّهِ وحده يَسْجُدُ يخضع وينقاد لا لشيء غيره سبحانه استقلالا ولا اشتراكا، فالقصر ينتظم القلب والأفراد مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الملائكة والثقلين كما يقتضيه ظاهر التعبير بمن، وتخصيص انقياد العقلاء مع كون غيرهم أيضا كذلك لأنهم العمدة وانقيادهم دليل انقياد غيرهم على أن فيما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانا لذلك، وقيل: المراد ما يشمل أولئك وغيرهم، والتعبير بمن للتغليب طَوْعاً وَكَرْهاً نصب على الحال، فإن قلنا بوقوع المصدر حالا من غير تأويل فهو ظاهر وإلا فهو بتأويل طائعين وكارهين أي إنهم خاضعون لعظمته تعالى منقادون لاحداث ما أراد سبحانه فيهم من أحكام التكوين والاعدام شاؤوا أو أبوا من غير مداخلة حكم غيره جل وعلا بل غير حكمه تعالى في شيء من ذلك. وجوز أن يكون النصب على العلة فالكره بمعنى الإكراه وهو مصدر المبني للمفعول ليتحد الفاعل بناء على اشتراط ذلك في نصب المفعول لأجله وهو عند من لم يشترط على ظاهره، وما قيل عليه من أن اعتبار العلية في الكره غير ظاهر لأنه الذي يقابل الطوع وهو الإباء ولا يعقل كونه علة للسجود فمدفوع بأن العلة ما يحمل على الفعل أو ما يترتب عليه لا ما يكون غرضا له وقد مر عن قرب فتذكره، وقيل: النصب على المفعولية المطلقة أي سجود طوع وكره وَظِلالُهُمْ أي وتنقاد له تعالى ظلال من له ذلك منهم وهم الانس فقط أو ما يعمهم وكل كثيف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 119 وفي الحواشي الشهابية ينبغي أن يرجع الضمير لمن في الأرض لأن من في السماء لا ظل له إلا أن يحمل على التغليب أو التجوز، ومعنى انقياد الظلال له تعالى أنها تابعة لتصرفه سبحانه ومشيئته في الامتداد والتقلص والفيء والزوال، وأصل الظل- كما قال الفراء- مصدر ثم أطلق على الخيال الذي يظهر للجرم، وهو إما معكوس أو مستو وبينى على كل منهما أحكام ذكروها في محلها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ ظرف للسجود المقدر والباء بمعنى في وهو كثير، والمراد بهما الدوام لأنه يذكر مثل للتأبيد، قيل: فلا يقال لم خص بالذكر؟ وكذا يقال: إذا كانا في موضع الحال من الظلال، وبعضهم يعلل ذلك بأن امتدادها وتقلصها في ذينك الوقتين أظهر. والغدو جمع غداة كقنى وقناة، والآصال جمع أصيل وهو ما بين العصر والمغرب، وقسل: هو جمع أصل جمع أصيل، وأصله أأصال بهمزتين فقلبت الثانية ألفا، وقيل: الغدو مصدر وأيد بقراءة ابن مجلز «الإيصال» بكسر الهمزة على أنه مصدر آصلنا بالمد أي دخلنا في الأصيل كام قاله ابن جني هذا، وقيل: إن المراد حقيقة السجود فإن الكفرة حالة الاضطرار وهو المعنى بقوله تعالى: وَكَرْهاً يخصون السجود به سبحانه قال تعالى: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت: 65] ولا يبعد أن يخلق الله تعالى في الظلال افهاما وعقولا بها تسجد لله تعالى شأنه كما خلق جل جلاله ذلك للجبال حتى اشتغلت بالتسبيح وظهرت فيها آثار التجلي كما قاله ابن الأنباري. وجوز أن يراد بسجودها ما يشاهد فيها من هيئة السجود تبعا لأصحابها، وهذا على ما قيل: مبني على ارتكاب عموم المجاز في السجود المذكور في الآية بأن يراد به الوقوع على الأرض فيشمل سجود الظلال بهذا المعنى أو تقدير فعل مؤد ذلك رافع للظلال أو خبر له كذلك أو التزام أن إرادة ما ذكر لا يضر في الحقيقة لكونه بالتبعية والعرض أو أن الجمع بين الحقيقة والمجاز جائز ولا يخفى ما في بعض الشقوق من النظر. وعن قتادة أن السجود عبارة عن الهيئة المخصوصة وقد عبر بالطوع عن سجود الملائكة عليهم السلام والمؤمنين وبالكره عن سجود من ضمه السيف إلى الإسلام فيسجد كرها اما نفاقا أو يكون الكره أول حالة فيستمر عليه الصفة وان صح إيمانه بعد، وقيل: الساجد طوعا من لا يثقل عليه السجود والساجد كرها من يثقل عليه ذلك. وعن ابن الأنباري الأول من طالت مدة إسلامه فألف السجود والثاني من بدأ بالإسلام إلى أن يألف، وأيّا ما كان- فمن- عام أريد به مخصوص إذ يخرج من ذلك من لا يسجد، وقيل: هو عام لسائر أنواع العقلاء والمراد- بيسجد- يجب أن يسجد لكن عبر عن الوجوب بالوقوع مبالغة. واختار غير واحد في تفسير الآية ما ذكرناه أولا، ففي البحر والذي يظهر أن مساق الآية إنما هو أن العالم كله مقهور لله تعالى خاضع لما أراد سبحانه منه مقصور على مشيئته لا يكون منه إلا ما قدر جل وعلا فالذين تعبدونهم كائنا ما كانوا داخلون تحت القهر لا يستطيعون نفعا ولا ضرا، ويدل على هذا المعنى تشريك الظلال في السجود وهي ليست أشخاصا يتصور منها السجود بالهيئة المخصوصة ولكنها داخلة تحت مشيئته تعالى يصرفها سبحانه حسبما أراد إذ هي من العالم والعالم جواهره واعراضه داخلة تحت قهر إرادته تعالى كما قال سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ [النحل: 48] وكون المراد بالظلال الأشخاص كما قال بعضهم ضعيف وأضعف منه ما قاله ابن الأنباري، وقياسها على الجبال ليس بشيء لأن الجبل يمكن أن يكون له عقل بشرط تقدير الحياة وأما الظل فعرض لا يتصور قيام الحياة به وإنما معنى سجودها ميلها من جانب إلى جانب واختلاف أحوالها كما أراد سبحانه وتعالى. وفي إرشاد العقل السليم بعد نقل ما قيل أولا وأنت خبير بأن اختصاص سجود الكافر حالة الاضطرار والشدة لله تعالى لا يجدي فإن سجوده للصنم حالة الاختيار والرخاء مخل بالقصر المستفاد من تقديم الجار والمجرور، فالوجه حمل السجود على الانقياد ولأن تحقيق انقياد الكل في الإبداع والإعدام الجزء: 7 ¦ الصفحة: 120 له تعالى أدخل في التوبيخ على اتخاذ أولياء من دونه سبحانه وتعالى من تحقيق سجودهم له تعالى اه وفي تلك الأقوال بعد ما لا يخفى على الناقد البصير. قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تحقيق كما قال بعض المحققين لأن خالقهما ومتولي أمرهما مع ما فيهما على الإطلاق هو الله تعالى، وقيل: إنه سبحانه بعد أن ذكر انقياد المظروف لمشيئته تعالى ذكر ما هو كالحجة على ذلك من كونه جل وعلا خالق هذا الظرف العظيم الذي يبهر العقول ومدبره أي قل يا محمد لهؤلاء الكفار الذين اتخذوا من دونه أولياء من رب هذه الإجرام العظيم العلوية والسفلية؟ قُلِ اللَّهُ أمر صلى الله عليه وسلم بالجواب إشعارا بأنه متعين للجوابية فهو عليه الصلاة والسلام والخصم في تقريره سواء، ويجوز أن يكون ذلك تلقينا للجواب ليبين لهم ما هم عليه من مخالفتهم لما علموه، وقيل: إنه حكاية لاعترافهم والسياق يأباه. وقال مكي: إنهم جهلوا الجواب فطلبوه من جهته صلى الله عليه وسلم فأمر باعلامهم به، ويبعده أنه تعالى قد أخبر بعلمهم في قوله سبحانه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25، الزمر: 38] وحينئذ كيف يقال: انهم جهلوا الجواب فطلبوه؟ نعم قال البغوي: روي أنه لما قال صلى الله عليه وسلم ذلك للمشركين عطفوا عليه فقالوا: أجب أنت فأمره الله تعالى بالجواب، وهو يفرض صحته لا يدل على جهلهم كما لا يخفى قُلْ إلزاما لهم وتبكيتا أَفَاتَّخَذْتُمْ لأنفسكم مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ عاجزين لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ وهي أعز عليهم منكم نَفْعاً يستجلبونه وَلا ضَرًّا يدفعونه عنها فضلا عن القدرة على جلب النفع للغير ودفع الضرر عنه، والهمزة للإنكار، والمراد بعد أن علمتموه رب السموات والأرض اتخذتم من دونه أولياء في غاية العجز عن نفعكم فجعلتم ما كان يجب أن يكون سبب التوحيد من علمكم سبب الإشراك، فالفاء عاطفة للتسبب والتفريع دخلت الهمزة عليه لأن المنكر الاتخاذ بعد العلم لا العلم ولا هما معا، ووصف الأولياء بما ذكر مما يقوي الإنكار ويؤكده، ويفهم- على ما قيل- من كلام البعض أن هذا دليل ثان على ضلالهم وفساد رأيهم في اتخاذهم أولياء رجاء أن ينفعوهم، واختلف في الدليل الأول فقيل: هو ما يفهم من قوله تعالى: قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ وقيل: هو ما يفهم من قوله سبحانه: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلخ فتدبر قُلْ تصويرا لآرائهم الركيكة بصورة المحسوس هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى الذي هو المشرك الجاهل بالعبادة ومستحقها وَالْبَصِيرُ الذي هو الموحد العالم بذلك وإلى هذا ذهب مجاهد، وفي الكلام عليه استعارة تصريحية، وكذا على ما قيل: إن المراد بالأول الجاهل بمثل هذه الحجة بالثاني العالم بها، وقيل: إن الكلام على التشبيه والمراد لا يستوي المؤمن الكافر كما لا يستوي الأعمى والبصير فلا مجاز. ومن الناس من فسر الأول بالمعبود الغافل (1) والثاني بالمعبود العالم بكل شيء وفيه بعد أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ التي هي عبارة عن الكفر والضلال وَالنُّورُ الذي هو عبارة عن الإيمان والتوحيد وروي ذلك عن مجاهد أيضا، وجمع الظلمات لتعدد أنواع الكفر ككفر النصارى وكفر المجوس والكفر غيرهم، وكون الكفر كله ملة واحدة أمر آخر. و «أو» كما في البحر منقطعة وتقدر- ببل- والهمزة على المختار، والتقدير بل أهل تستوي، وهل وإن نابت عن الهمزة في كثير من المواضع فقد جامعتها أيضا كما في قوله: أهل رأونا بوادي القف ذي الأكم وإذا جامعتها مع التصريح بها فلأن تجامعها مع أم المتضمنة لها أولى، ويجوز فيها بعد أَمْ هذه أن يؤتى بها   (1) هذا من إرخاء العنان أو من باب المشاكلة كذا قيل فتدبر اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 121 لشبهها بالأدوات الاسمية التي للاستفهام في عدم الأصالة فيه كما في قوله تعالى: أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ [يونس: 31] ويجوز أن لا يؤتى بها لأن «أم» متضمنة للاستفهام، وقد جاء الأمران في قوله: هل ما علمت وما استودعت مكتوم ... أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم أم هل كبير بكى لم يقض عبرته ... أثر الأحبة يوم البين مشكوم وقرأ الأخوان. وأبو بكر «أم هل يستوي» بالباء التحتية، ثم إنه تعالى أكد ما اقتضاه الكلام السابق من تخطئة المشركين فقال سبحانه: أَمْ جَعَلُوا أي بل أجعلوا لِلَّهِ جلا وعلا شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ سبحانه وتعالى، والهمزة لانكار الوقوع وليس المنكر هو الجعل لأنه واقع منهم وإنما هو الخلق كخلقه تعالى، والمعنى أنهم لم يجعلوا لله تعالى شركاء خلقوا كخلقه فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ بسبب ذلك وقالوا: هؤلاء خلقوا كخلق الله تعالى واستحقوا بذلك العبادة كما استحقها سبحانه ليكون ذلك منشأ لخطئهم بل إنما جعلوا له شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق فضلا عما يقدر عليه الخالق، والمقصود بالإنكار والنفي هو والمقيد على ما نص عليه غير واحد من المحققين. وفي الانتصاف أن خَلَقُوا كَخَلْقِهِ في سياق الإنكار جيء به للتهكم فإن غير الله تعالى لا يخلق شيئا ولا مساويا ولا منحطا وقد كان يكفي في الإنكار لولا ذلك أن الآلهة التي اتخذوها لا تخلق. وتعقبه الطيبي بأن إثبات التهكم تكلف فإنه ذكر الشيء وإرادة نقيضه استحقارا للمخاطب كما في قوله تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: 21، التوبة: 34، الانشقاق: 24] ، وهاهنا كَخَلْقِهِ جيء به مبالغة في إثبات العجز لآلهتهم على سبيل الاستدراج وإرخاء العنان، فإنه تعالى لما أنكر عليهم أولا اتخاذهم من دونه شركاء ووصفها بأنها لا تملك لأنفسها نفعا ولا ضرا فكيف تملك ذلك لغيرها أنكر عليهم ثانيا على سبيل التدرج وصف الخلق أيضا، يعني هب أن أولئك الشركاء قادرون على نفع أنفسهم وعلى نفع عبدتهم فهل يقدرون على أن يخلقوا شيئا، وهب أنهم قادرون على خلق بعض الأشياء فهل يقدرون على ما يقدر عليه الخالق من خلق السموات والأرض اه. والحق أن الآية ناعية عليهم متهكمة بهم فإن من لا يملك لنفسه شيئا من النفع والضر أبعد من أن يفيدهم ذلك، وكيف يتوهم فيه أنه خالق وأن يشتبه على ذي عقل فينبه على نفيه، وهذا المقدار يكفي في الغرض فافهم قُلْ تحقيقا للحق وإرشاد لهم اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ من الجواهر والاعراض، ويلزم هذا أن لا خالق سواه لئلا يلزم التوارد وهو المقصود ليدل على المراد وهو نفي استحقاق غيره تعالى للعبادة والألوهية أي لا خالق سواه فيشاركه في ذلك الاستحقاق. وبعموم الآية استدل أهل السنة على أن أفعال العباد مخلوقة له تعالى، والمعتزلة تزعم التخصيص بغير أفعالهم. ومن الناس من يحتج أيضا لما ذهب إليه أهل الحق بالآية الأولى وهو كما ترى وَهُوَ الْواحِدُ المتوحد بالألوهية المنفرد بالربوبية الْقَهَّارُ الغالب على كل ما سواه ومن جملة ذلك آلهتهم فكيف يكون المغلوب شريكا له تعالى، وهذا على ما قيل كالنتيجة لما قبله، وهو يحتمل أن يكون من مقول القول وأن يكون جملة مستأنفة. أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ أي من جهتها على ما هو المشاهد، وقيل: منها نفسها ولا تجوز في الكلام. واستدل له بآثار الله تعالى أعلم بصحتها، وقيل: أنزل منها نفسها ماءً أي كثيرا أو نوعا منه وهو ماء المطر باعتبار أن مباديه منها وذلك لتأثير الأجرام الفلكية في تصاعد البخار فيتجوز من مِنَ فَسالَتْ بذلك أَوْدِيَةٌ دافعة في مواقعه لا جميع الأودية إذ الأمطار لا تستوعب الأقطار وهو جمع واد. قال أبو علي الفارسي: ولا يعلم أن فاعلا جمع على أفعلة، ويشبه أن يكون ذلك لتعاقب فاعل وفعيل على الشيء الواحد كعالم وعليم وشاهد وشهيد وناصر ونصير. ثم إن وزن فاعل يجمع على أفعال كصاحب وأصحاب وطائر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 122 وأطيار. ووزن فعيل يجمع على أفعلة كجريب وأجربة، ثم لما حصلت المناسبة المذكورة بين فاعل وفعيل لا جرم يجمع فاعل جمع فعيل فيقال: واد وأودية ويجمع فعيل جمع فاعل يتيم وأيتام وشريف وأشراف اه. ونظير ذلك ناد وأندية وناج وأنجية قيل. ولا رابع لها. وفي شرح التسهيل ما يخالفه. والوادي الموضع الذي يسيل فيه الماء بكثرة، وبه سميت الفرجة بين الجبلين ويطلق على الماء الجاري فيه، وهو اسم فاعل من ودي إذا سال فإن أريد الأول فالإسناد مجازي أو الكلام على تقدير مضاف كما قال الإمام أي مياه أودية، وإن أريد الثاني وهو معنى مجازي من باب اطلاق اسم المحل على الحال فالإسناد حقيقي، وإيثار التمثيل بالأودية على الأنهار المستمرة الجريان لوضوح المماثلة بين شأنها وما مثل بها كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى بِقَدَرِها أي بمقدارها الذي عينه الله تعالى واقتضته حكمته سبحانه في نفع الناس، أو بمقدارها المتفاوت قلة وكثرة بحسب تفاوت محالها صغرا وكبرا لا بكونها مالئة لها منطبقة عليها بل بمجرد قلتها بصغرها المستلزم لقلة موارد الماء وكثرتها بكبرها المستدعي لكثرة الموارد، فإن موارد السيل الجاري في الوادي الصغير أقل من موارد السيل الجاري في الوادي الكبير، هذا إذا أريد بالأودية ما يسيل فيها أما إن أريد بها المعنى الحقيقي فالمعنى سالت مياها بقدر تلك الأودية على نحو ما عرفته آنفا أو يراد بضميرها مياها بطريق الاستخدام ويراد بقدرها ما ذكر أولا من المعنيين قاله شيخ الإسلام، والجار والمجرور على ما نقل عن الحوفي متعلق بسالت، وقال أبو البقاء: إنه في موضع الصفة لأودية، وجوز أن يكون متعلقا بأنزل. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما. والأشهب العقيلي. وأبو عمرو في رواية «بقدرها» بسكون الدال وهي لغة في ذلك. فَاحْتَمَلَ أي حمل وجاء افتعل بمعنى المجرد كاقتدر وقدر السَّيْلُ أي الماء الجاري في تلك الأودية والتعريف لكونه معهودا مذكوا بقوله تعالى: أَوْدِيَةٌ ولم يجمع لأنه كما قال الراغب مصدر بحسب الأصل، وفي البحر أنه إنما عرف لأنه عني به ما فهم من الفعل والذي يتضمن الفعل من المصدر وإن كان نكرة إلا أنه إذا عاد في البحر أنه إنما عرف لأنه عني به ما فهم من الفعل والذي يتضمن الفعل من المصدر وإن كان نكرة إلا أنه إذا عاد في الظاهر كان معرفة كما كان لو صرح به نكرة، وكذا يضمر إذا عاد على ما دل عليه الفعل من المصدر نحو من كذب كان شرا له أي الكذب، ولو جاء هنا مضمرا لكان جائزا عائدا على المصدر المفهوم من سالت اه. وأورد عليه أنه كيف يجوز أن يعني به ما فهم من الفعل وهو حدث والمذكور المعرف عين كما علمت. وأجيب بأنه بطريق الاستخدام. ورد بأن الاستخدام أن يذكر لفظ بمعنى ويعاد عليه ضمير بمعنى آخر حقيقيا كان أو مجازيا وهذا ليس كذلك لأن الأول مصدر أي حدث في ضمن الفعل وهذا اسم عين ظاهر يتصف بذلك فكيف يتصور فيه الاستخدام. نعم ما ذكروه أغلبي لا يختص بما ذكر فإن مثل الضمير اسم الإشارة وكذا الاسم الظاهر (1) اه. وانظر هل يجوز أن يراد من السيل المعنى المصدري فلا يحتاج إلى حديث الاستخدام أم لا، وعلى الجواز يكون المعنى فاحتمل الماء المنزل من السماء بسبب السيل زَبَداً هو الغثاء الذي يطرحه الوادي إذا جاش ماؤه واضطربت أمواجه على ما قاله أبو الحجاج الأعلم، وهو معنى قول ابن عيسى: إنه وضر الغليان وخبثه، قال الشاعر: وما الفرات إذا جاشت غواربه ... ترمي أواذيه العبرين (2) بالزبد رابِياً أي عاليا منتفخا فوق الماء، ووصف الزبد بذلك قيل: بيانا لما أريد بالاحتمال المحتمل لكون المحمول غير طاف كالأشجار الثقيلة، وإنما لم يدفع ذلك بأن يقال فاحتمل السيل زبدا فوقه للإيذان بأن تلك الفوقية   (1) كقول بعض المولدين. أخت الغزالة إشراقا وملتفتا. اه منه. (2) أي الجانبين اهـ منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 123 مقتضى شأن الزبد لا من جهة المحتمل تحقيقا للمماثلة بينه وبين ما مثل به من الباطن الذي شأنه الظهور في مبادئ الرأي من غير مداخلة في الحق وَمِمَّا يُوقِدُونَ ابتداء جملة كما روي عن مجاهد معطوفة على الجملة الأولى لضرب مثل آخر أي ومن الذي يفعلون الإيقاد عَلَيْهِ وضمير الجمع للناس أضمر مع عدم السبق لظهوره، وقرأ أكثر السبعة. وأبو جعفر. والأعرج. وشيبة «توقدون» بتاء الخطاب، والجار متعلق بما عنده وكذا قوله تعالى: فِي النَّارِ عند أبي البقاء والحوفي، قال أبو علي: قد يوقد على الشيء وليس في النار كقوله تعالى: فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ [القصص: 38] فإن الطين الذي أمر بالوقد عليه ليس في النار وإنما يصيبه لهبها، وقال مكي. وغيره: إن فِي النَّارِ متعلق بمحذوف وقع حالا من الموصول أي كائنا أو ثابتا فيها، ومنعوا تعلقه- بتوقدون- قالوا: لأنه لا يوقد على شيء الا وهو في النار والتعليق بذلك يتضمن تخصيص حال من حال أخرى، وقال أبو حيان: لو قلنا: إنه لا يوقد على شيء إلا وهو في النار لجاز أيضا التعليق على سبيل التوكيد كما قالوا في قوله تعالى: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام: 38] وقيل: إن زيادة ذلك للإشعار بالمبالغة في الاعتمال للإذابة وحصول الزبد والمراد بالموصول نحو الذهب. والفضة. والحديد. والنحاس. والرصاص، وفي عدم ذكرها بأسمائها والعدول إلى وصفها بالإيقاد عليها المشعر بضربها بالمطارق لأنه لأجله وبكونها كالحطب الخسيس تهاون بها إظهارا لكبريائه جل شأنه على ما قيل، وهو لا ينافي كون ذلك ضرب مثل للحق لأن مقام الكبرياء يقتضي التهاون بذلك مع الإشارة إلى كونه مرغوبا فيه منتفعا به بقوله تعالى: ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ فوفى كل من المقامين حقه فما قيل: إن الحمل على التهاون لا يناسب المقام لأن المقصود تمثيل الحق بها وتحقيرها لا يناسبه ساقط فتأمل. ونصب ابْتِغاءَ على أنه مفعول له كما هو الظاهر، وقال الحوفي: إنه مصدر في موقع الحال أي مبتغين وطالبين اتخاذ حلية وهي ما يتزين ويتجمل به كالحلى المتخذ من الذهب والفضة واتخاذ متاع وهو ما يتمتع به من الأواني والآلات المتخذة من الحديد والرصاص وغير ذلك من الفلزات زَبَدٌ خبث مِثْلُهُ أي مثل ما ذكر من زبد الماء في كونه رابيا فوقه رفع زَبَدٌ على أنه مبتدأ خبره مِمَّا يُوقِدُونَ ومِنَ لابتداء الغاية دالة على مجرد كونه مبتدأ وناشئا منه. واستظهر أبو حيان كونها للتبعيض لأن ذلك الزبد بعض ما يوقد عليه من تلك المعادن ولم يرتضه بعض المحققين لإخلاله على ما قال بالتمثيل، وإنما لم يتعرض لإخراج ذلك من الأرض كما تعرض لعنوان إنزال الماء من السماء لعدم دخل ذلك العنوان في التمثيل على ما ستعلمه إن شاء الله تعالى كما أن للعنوان السابق دخلا فيه بل له إخلال بذلك كَذلِكَ أي مثل ذلك الضرب البديع المشتمل على نكت رائقة: يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ أي مثل الحق ومثل الباطل، والحذف للابناء (1) على كمال التماثل بين الممثل والممثل به كأن المثل المضروب عين الحق والباطل فَأَمَّا الزَّبَدُ من كل من السيل وما يوقدون عليه، وأفرد ولم يثن وإن تقدم زبدان لاشتراكهما في مطلق الزبدية فهما واحد باعتبار القدر المشترك فَيَذْهَبُ جُفاءً مرميا به يقال: جفا الماء بالزبد إذا قذفه ورمى به، ويقال: أجفا أيضا بمعناه، وقال ابن الأنباري: جفاء أي متفرقا من جفأت الريح الغيم إذا قطعته وفرقته وجفأت الرجل صرعته، ويقال: جفأ الوادي وأجفأ إذا نشف، وقرئ «جفالا» باللام بدل الهمزة وهو بمعنى متفرقا أيضا أخذا من جفلت الريح الغيم كجفأت ونسبت هذه القراءة إلى رؤبة، قال ابن أبي حاتم: ولا يقرأ بقراءته لأنه كان يأكل الفأر يعني أنه كان أعرابيا جافيا، وعنه لا تعتبر قراءة الأعراب في القرآن، والنصب على الحالية وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ أي من الماء   (1) قوله للأبناء كذا بخط المؤلف ولعله للابتناء تأمل اه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 124 الصافي الخالص من الغثاء والجوهر المعدني الخالص من الخبث فَيَمْكُثُ يبقى فِي الْأَرْضِ أما الماء فيبقى بعضه في مناقعه ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون ونحوها وأما الجوهر المعدني فيصاغ من بعضه أنواع الحلي ويتخذ من بعضه أصناف الآلات والأدوات فينتفع بكل من ذلك أنواع الانتفاعات مدة طويلة فالمراد بالمكث في الأرض ما هو أعم من المكث في نفسها ومن البقاء في أيدي المتقلبين فيها، وتغيير ترتيب اللف الواقع في الفذلكة الموافق للترتيب الواقع في التمثيل قيل لمراعاة الملاءمة بين حالتي الذهاب والبقاء وبين ذكرهما فإن المعتبر إنما هو بقاء الباقي بعد ذهاب الذاهب لا قبله، وقيل: النكتة في تقديم الزبد على ما ينفع أن الزبد هو الظاهر المنظور أولا وغيره باق متأخر في الوجود لاستمراره، والآية من الجمع والتقسيم كما لا يخفى. وحاصل الكلام في الآيتين أنه تعالى مثل الحق وهو القرآن العظيم عند الكثير في فيضانه من جناب القدس على قلوب خالية عنه متفاوتة الاستعداد وفي جريانه عليها ملاحظة وحفظا وعلى الألسنة مذاكرة وتلاوة مع كونه ممدا لحياتها الروحانية وما يتلوها من الملكات السنية والأعمال المرضية بالماء النازل من السماء السائل في أودية يابسة لم تجر عادتها بذلك سيلانا مقدرا بمقدار اقتضته الحكمة في إحياء الأرض وما عليها الباقي فيها حسبما يدور عليه منافع الناس وفي كونه حلية تتحلى بها النفوس وتصل إلى البهجة الأبدية ومتاعا يتمتع به في المعاش والمعاد بالذهب والفضة وسائر الفلزات التي يتخذ منها أنواع الآلات والأدوات وتبقى منتفعا بها مدة طويلة، ومثل الباطل الذي ابتلي به الكفرة لقصور نظرهم بما يظهر فيهما من غير مداخلة له فيهما وإخلال بصفائهما من الزبد الرابي فوقهما المضمحل سريعا. وصح عن أبي موسى الأشعري أنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن مثل ما بعثني الله تعالى به من الهدى والعلم مثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها أجادب اكتسبت الماء نفع الله تعالى بها الناس فشربوا منها وسقوا ورعوا وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله تعالى ونفعه ما بعثني الله تعالى به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله تعالى الذي أرسلت به» وقال ابن عطية: صدر الآية تنبيه على قدرة الله تعالى وإقامة الحجة على الكفرة فلما فرع من ذلك جعله مثالا للحق والباطل والإيمان والكفر واليقين في الشرع والشك فيه، وكأنه أراد بعطف الإيمان وما بعده التفسير للمراد بالحق والباطل. وعن ابن عباس جعل الزبد إشارة إلى الشك والخالص منه إشارة إلى اليقين كَذلِكَ أي مثل ذلك الضرب العجيب يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ في كل باب إظهار الكمال اللطف والعناية في الإرشاد، وفيه تفخيم لشأن هذا التمثيل وتأكيد لقوله سبحانه: «يضرب الله الحق والباطل» إما باعتبار ابتناء هذا على التمثيل الأول أو بجعل ذلك إشارة إليهما جميعا. وبعد ما بين تعالى شأنه شأن كل من الحق والباطل حالا ومآلا أكمل بيان شرع في بيان حال أهل كل منهما مآلا تكميلا للدعوة ترغيبا وترهيبا فقال سبحانه: لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ إذ دعاهم إلى الحق بفنون الدعوة التي من جملتها ضرب الأمثال فإن له لما فيه من تصوير المعقول بصورة المحسوس تأثيرا بليغا في تسخير النفوس، والجار والمجرور خبر مقدم، وقوله سبحانه: الْحُسْنى أي المثوبة الحسنى وهي الجنة كما قال قتادة. وغيره، وعن مجاهد الحياة الحسنى أي الطيبة التي لا يشوبها كدر أصلا. وعن ابن عباس أن المراد جزاء الكلمة الحسنى وهي لا إله إلا الله وفيه من البعد ما لا يخفى مبتدأ مؤخر وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ سبحانه وعاندوا الحق الجلي لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ من أصناف الأموال جَمِيعاً بحيث لم يشذ منه شاذ في أقطارها أو مجموعا غير متفرق بحسب الأزمان وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أي بالمذكور مما في الأرض ومثله معه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 125 جميعا ليتخلصوا عما بهم، وفيه من تهويل ما يلقاهم ما لا يحيط به البيان، والموصول مبتدأ والجملة الشرطية خبره وهي على ما قيل واقعة موضع السوأى المقابلة للحسنى الواقعة في القرينة الأولى فكأنه قيل: وللذين لم يستجيبوا له السوأى. وتعقب بأن الشرطية وإن دلت على سوء حالهم لكنها بمعزل عن القيام مقام لفظ السوأى مصحوبا باللام الجارة الداخلة على الموصول أو ضميره وعليه يدور حصول المرام فالذي ينبغي أن يعول عليه أن الواقع في تلك المقابلة سوء الحساب في قوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وحيث كان اسم الإشارة الواقع مبتدأ في هذه الجملة عبارة عن الموصول الواقع مبتدأ في الجملة السابقة كان خبره أعني الجملة الظرفية خبرا عن الموصول في الحقيقة ومبينا لإبهام مضمون الشرطية الواقعة خبرا عنه أولا ولذلك ترك العطف فكأنه قيل: والذين لم يستجيبوا له لهم سوء الحساب وذلك في قوة أن يقال: وللذين لم يستجيبوا له سوء الحساب مع زيادة تأكيد فتم حسن المقابلة على أبلغ وجه وآكده. واعتذر بأنه يمكن أن يكون المراد أن لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً إلى آخره الآية واقع موقع ذلك على معنى أن رعاية حسن المقابلة لقوله تعالى: لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى تقتضي أن يقال: وللذين لم يستجيبوا له السوأى ولا يزاد على ذلك لكنه جيء بقوله سبحانه: لَوْ أَنَّ لَهُمْ إلخ بدل ما ذكر، ولعل في كلام الطيبي ما يستأنس به لذلك. وإلى اعتبار السوأى في المقابلة ذهب أيضا صاحب الكشف قال: إن قوله تعالى لَوْ أَنَّ لَهُمْ في مقابلة الحسنى بدل السوأى مع زيادة تصوير وتحسير، وأوثر الإجمال في الأول دلالة على أن جزاء المستجيبين لا يدخل تحت الوصف فتدبر، والمراد بسوء الحساب أي الحساب السيء على ما روي عن إبراهيم النخعي. والحسن أن يحاسبوا بذنوبهم كلها لا يغفر لهم منها شيء وهو المعني بالمناقشة. وعن ابن عباس هو أن يحاسبوا فلا تقبل حسناتهم ولا تغفر سيئاتهم وَمَأْواهُمْ أي مرجعهم جَهَنَّمُ بيان لمؤدى ما تقدم وفيه نوع تأييد لتفسير الحسنى بالجنة وَبِئْسَ الْمِهادُ أي المستقر، والمخصوص بالذم محذوف أي مهادهم أو جهنم. وقال الزمخشري: اللام في قوله تعالى: لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا متعلقة بيضرب الله الأمثال وقوله سبحانه: الْحُسْنى صفة للمصدر أي استجابوا الاستجابة الحسنى، وقوله عز وجل: وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا معطوف على الموصول الأول، وقوله جل وعلا: لَوْ أَنَّ لَهُمْ إلخ كلام مستأنف مسوق لبيان ما أعد لغير المستجيبين من العذاب، والمعنى كذلك يضرب الله تعالى الأمثال للمؤمنين المستجيبين والكافرين المعاندين أي هما مثلا الفريقين انتهى، قال أبو حيان: والتفسير الأول أولى لأن فيه ضرب الأمثال غير مقيد بمثل هذين، والله تعالى قد ضرب أمثالا كثيرة في هذين وفي غيرهما ولأن فيه ذكر ثواب المستجيبين بخلاف هذا ولأن تقدير الاستجابة الحسنى مشعر بتقييد الاستجابة ومقابلها ليس نفي الاستجابة مطلقا وإنما هو نفي الاستجابة الحسنى والله تعالى قد نفى الاستجابة مطلقا ولأنه حينئذ يكون لَوْ أَنَّ لَهُمْ إلخ كلاما مفلتا أو كالمفلت إذ يصير المعنى كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين والكافرين لو أن لهم إلخ، ولو كان هنا حرف يربط لَوْ بما قبلها زال التفلت، وأيضا أنه يوهم الاشتراك في الضمير وإن كان تخصيص ذلك بالكافرين معلوما: وتعقب بأنه لا كلام في أولوية التفسير الأول لكن كون ما ذكر وجها لها محل كلام إذ لا مقتضى في التفسير الثاني لتقييد الأمثال عموما بمثل هذين، ألا ترى قوله تعالى: كَذلِكَ ثم إن فيه تفهيم ثواب المستجيبين أيضا ألا يرى إلى القصر المستفاد من تقديم الظرف، وأيضا قوله تعالى: الْحُسْنى صفة كاشفة لا مفهوم لها فإن الاستجابة لله تعالى لا تكون إلا حسنى وكيف يكون قوله سبحانه: لَوْ أَنَّ لَهُمْ إلخ مفلتا وقد قالوا: إنه كلام مبتدأ لبيان حال المستجيبين يعنون أنه استئناف بياني جواب للسؤال عن مآل حالهم ثم كيف يتوهم الاشتراك مع كون تخصيصه بالكافرين معلوما انتهى. قال بعض المحققين: إن ما ذكر متوجه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 126 بحسب بادئ الرأي والنظرة الأولى أما إذا نظر بعين الإنصاف بعد تسليم أن ذاك أولى وأقوى علم أن ما قاله أبو حيان وارد فإن قوله تعالى: كَذلِكَ يقتضي أن هذا شأنه وعادته عز شأنه في ضرب الأمثال فيقتضي أن ما جرت به العادة القرآنية مقيد بهؤلاء وليس كذلك، وما ذكره المتعقب ولو سلم فهو خلاف الظاهر. وأما قوله: إن المستجيبين معلوم مما ذكره ففرق بين العلم ضمنا والعلم صراحة، وأما أن الصفة مؤكدة أولا مفهوم لها فخلاف الأصل أيضا، وكون الجملة غير مرتبطة بما قبلها ظاهر، والسؤال عن حال أحد الفريقين مع ذكرهما ملبس، وعود الضمير على ما قبله مطلقا هو المتبادر وما ذكر لا يدفع الإيهام. وفي إرشاد العقل السليم بعد نقل التفسير الأخير وحمل الأمثال فيه على الأمثال السابقة: وأنت خبير بأن عنوان الاستجابة وعدمها لا مناسبة بينه وبين ما يدور عليه أمر التمثيل وأن الاستعمال المستفيض دخول اللام على من يقصد تذكيره بالمثل. نعم قد يستعمل في هذا المعنى أيضا كما في قوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ [التحريم: 11] ونظائره، على أن بعض الأمثال المضروبة لا سيما المثل الأخير الموصول بالكلام ليس مثل الفريقين بل مثل للحق والباطل ولا مساغ لجعل الفريقين مضروبا لهم أيضا بأن يجعل في حكم أن يقال: كذلك يضرب الله الأمثال للناس إذ لا وجه حينئذ لتنويعهم إلى المستجيبين وغير المستجيبين ويؤيد هذا ما في الكشف حيث قال: إن جعل لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا من تتمة الأمثال لا من صلة يضرب متكلف لأنهما مثلا الحق والباطل بالأصالة ومن صلة يَضْرِبُ أبعد لأن الأمثال إنما ضربت لمن يعقل. ثم إن كون المراد بالأمثال الأمثال السابقة مبني على أن ما تقدم كان أمثالا والمشهور أنه مثلان، نعم أخرج ابن جرير. وغيره عن قتادة أنه قال في الآية: هذه ثلاثة أمثال ضربها الله تعالى في مثل واحد، وبعد هذا كله لا شك في سلامة التفسير الأول من القيل والقال وإنه الذي يستدعيه النظم الجليل لأن تمام حسن الفاصلة أن تكون كاسمها ولهذا انحط قول امرئ القيس: ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل عن قول المتنبي: إذا كان مدحا فالنسيب المقدم ... أكل فصيح قال شعرا متيم وهو الذي فهمه السلف من الآية، ومن هنا كان أكثر الشيوخ يقفون على الأمثال ويتبدؤون بقوله تعالى: لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا وقال صاحب المرشد: إنه وقف تام والوقف على الْحُسْنى حسن وكذا على لَافْتَدَوْا بِهِ والعجب من الزمخشري كيف اختار خلاف ذلك مع وضوحه والله تعالى أعلم. ومن باب الإشارة: المر أي الذات الأحدية واسمه العليم واسمه الأعظم ومظهره الذي هو الرحمة تِلْكَ آياتُ علامات الْكِتابِ الجامع الذي هو الوجود المطلق اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها أي بغير عمد مرئية بل بعمد غير مرئية، وجعل الشيخ الأكبر قدس سره عمادها الإنسان الكامل، وقيل: النفس المجردة التي تحركها بواسطة النفس المنطبعة وهي قوة جسمانية سارية في جميع أجزاء الفلك لا يختص بها جزء دون جزء لبساطته وهي بمنزلة الخيال فينا وفيه ما فيه، وقيل: رفع سموات الأرواح بلا مادة تعمدها بل مجردة قائمة بنفسها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ بالتأثير والتقويم، وقيل: عرش القلب بالتجلي وَسَخَّرَ الشَّمْسَ شمس الروح بإدراك المعارف الكلية واستشراف الأنوار العالية «والقمر» قمر القلب بإدراك ما في العالمين والاستمداد من فوق ومن تحت ثم قبول تجليات الصفات كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى وهو كماله بحسب الفطرة يُدَبِّرُ الْأَمْرَ في البداية بتهيئة الاستعداد وترتيب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 127 المبادئ يُفَصِّلُ الْآياتِ في النهاية بترتيب الكمالات والمقامات لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ عند مشاهدة آيات التجليات تُوقِنُونَ عين اليقين. وقال ابن عطاء: يدبر الأمر بالقضاء السابق ويفصل الآيات بأحكام الظاهر لعلكم توقنون أن الله تعالى الذي يجري تلك الأحوال لا بد لكم من الرجوع إليه سبحانه وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ أي أرض قلوب أوليائه ببسط أنوار المحبة وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ المعرفة لئلا تتزلزل بغلبة هيجان المواجيد وجعل فيها أَنْهاراً من علوم الحقائق وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وهي ثمرات أشجار الحكم المتنوعة يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ تجلى الجلال وتجلى الجمال إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في آيات الله تعالى، قال أبو عثمان: الفكر إراحة القلب من وساوس التدبير، وقيل: تصفيته لوارد الفوائد، وقيل: الإشارة في ذلك إلى مد أرض الجسد وجعل رواسي العظام فيها وأنهار العروق وثمرات الأخلاق من الجود والبخل والفجور والعفة والجبن والشجاعة والظلم والعدل وأمثالها والسواد والبياض والحرارة والبرودة والملاسة والخشونة ونحوها، وتغشية ليل ظلمة الجسمانيات نهار الروحانيات وفي ذلك آيات لقوم يفتكرون في صنع الله تعالى وتطابق عالميه الأصغر والأكبر وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ فقلوب المحبين مجاورة لقلوب المشتاقين وهي لقلوب العاشقين وهي لقلوب الوالهين وهي لقلوب الهائمين وهي لقلوب العارفين وهي لقلوب الموحدين، وقيل: في أرض القلوب قطع متجاورات قطع النفوس وقطع الأرواح وقطع الأسرار وقطع العقول والأولى تنبت شوك الشهوات والثانية زهر المعارف والثالثة نبات كواشف الأنوار والرابعة أشجار نور العلم وفيها جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ أي أعناب العشق وَزَرْعٌ أي زرع دقائق المعرفة وَنَخِيلٌ أي نخل الإيمان صِنْوانٌ في مقام الفرق وَغَيْرُ صِنْوانٍ في مقام الجمع، وقيل: صنوان إيمان مع شهود وغير صنوان إيمان بدونه يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وهو التجلي الذي يقتضيه الجود المطلق وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ في الطعم الروحاني، وقيل: أشير أيضا إلى أن في أرض الجسد قطعا متجاورات من العظم واللحم والشحم والعصب وجنات من أشجار القوى الطبيعية والحيوانية والإنسانية من أعناب القوى الشهوانية التي يعصر منها هوى النفس والقوى العقلية التي يعصر منها خمر المحبة والعشق وزرع القوى الإنسانية ونخيل سائر الحواس الظاهرة والباطنة صنوان كالعينين والأذنين وغير صنوان كاللسان وآلة الفكر والوهم يسقى بماء واحد وهو ماء الحياة ونفضل بعضها على بعض في أكل الإدراكات والملكات كتفضيل مدركات العقل على الحس والبصر على اللمس وملكة الحكمة على العفة وهكذا وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ بعد ظهور الآيات أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ولم يعلموا أن القادر على ذلك قادر على أن يحيي الموتى. وقيل: إن منشأ التعجب أنهم أنكروا الخلق الجديد يوم القيامة مع أن الإنسان في كل ساعة في خلق آخر جديد بل العالم بأسره في كل لحظة يتجدد بتبدل الهيئات والأحوال والأوضاع والصور، وإلى كون العالم كل لحظة في خلق جديد ذهب الشيخ الأكبر قدس سره فعنده الجوهر وكذا العرض لا يبقى زمانين كما أن العرض عند الأشعري كذلك، وهذا عند الشيخ قدس سره مبني على أن الجواهر والأعراض كلها شؤونه تعالى عما يقوله الظالمون علوا كبيرا وهو سبحانه كل يوم أي وقت في شأن، وأكثر الناس ينكرون على الأشعري قوله بتجدد الأعراض، والشيخ قدس سره زاد في الشطرنج جملا ولا يكاد يدرك ما يقول بالدليل بل هو موقوف على الكشف والشهود، وقد اغتر كثير من الناس بظاهر كلامه فاعتقدوه من غير تدبر فضلوا وأضلوا أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ فلم يعرفوا عظمته سبحانه وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ فلا يقدرون أن يرفعوا رؤوسهم المنكسة إلى النظر في الآيات وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 128 فِيها خالِدُونَ لعظم ما أتوا به وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ بمناسبة استعدادهم للشر وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ عقوبة أمثالهم وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ أنفسهم باكتساب الأمور الحاجبة لهم عن النور ولم ترسخ فيهم وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ لمن رسخت فيه وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لعمى بصائرهم عن مشاهدة الآيات الشاهدة بالنبوة لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ تشهد له صلى الله عليه وسلم بذلك إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ما عليك إلا إنذارهم لا هدايتهم وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ هو الله تعالى، وقيل: لكل طائفة شيخ يعرفهم طريق الحق اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى فيعلم ما تحمل أنثى النفس من ولد الكمال أي ما في قوة كل استعداد وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ أي تنقص أرحام الاستعداد بترك النفس وهواها وَما تَزْدادُ بالتزكية وبركة الصحبة وَكُلُّ شَيْءٍ من الكمالات عِنْدَهُ سبحانه بِمِقْدارٍ معين على حسب القابلية سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ في ممكن استعداده وَمَنْ جَهَرَ بِهِ بإبرازه إلى الفعل وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ ظلمة ظلمه نفسه وَسارِبٌ بِالنَّهارِ بخروجه من مقام النفس وذهابه في نهار نور الروح لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إشارة إلى سوابق الرحمة الحافظة له من خاطفات الغضب أو الإمدادات الملكوتية الحافظة له من جنب القوى الخيالية والوهمية والسبعية والبهيمية وإهلاكها إياه إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ من النعم الظاهرة أو الباطنة حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ من الاستعداد وقوة القبول قال النصرابادي: إن هذا الحكم عام لكن مناقشة الخواص فوق مناقشة العوام، وعن بعض السلف أنه قال: إن الفأرة مزقت خفي وما أعلم ذلك إلا بذنب أحدثته وإلا لما سلطها علي وتمثل بقول الشاعر: لو كنت من مازن لم تستبح إبلي ... بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ إذ الكل تحت قهره سبحانه، قال القاسم: إذا أراد الله تعالى هلاك قوم حسن موارده في أعينهم حتى يمشون إليها بتدبيرهم وأرجلهم، ولله تعالى در من قال: إذا لم يكن عون من الله للفتى ... فأول ما يجني عليه اجتهاده هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ أي برق لوامع الأنوار القدسية خَوْفاً خائفين من سرعة انقضائه أو بطء رجوعه وَطَمَعاً طامعين في ثباته أو سرعة رجوعه وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ بماء العلم والمعرفة، وقيل: يرى المحبين برق المكاشفة وينشئ للعارفين سحاب العظمة الثقال بماء الهيبة فيمطر عليهم ما يحييهم به الحياة التي لا تشبهها حياة، وأنشدوا للشبلي: أظلت علينا منك يوما غمامة ... أضاءت لنا برقا وأبطا رشاشها فلا غيمها يصحو فييأس طامع ... ولا غيثها يأتي فيروي عطاشها وعن بعضهم أن البرق إشارة إلى التجليات البرقية التي تحصل لأرباب الأحوال وأشهر التجليات في تشبيهه بالبرق التجلي الذاتي، وأنشدوا: ما كان ما أوليت من وصلنا ... إلا سراجا لاح ثم انطفى وذكر الإمام الرباني قدس سره في المكتوبات أن التجلي الذاتي دائمي للكاملين من أهل الطريقة النقشبندية لا يرقى وأطال الكلام في ذلك مخالفا لكبار السادة الصوفية كالشيخ محيي الدين قدس سره. وغيره، والحق أن ما ذكره من التجلي الذاتي ليس هو الذي ذكروا أنه برقي كما لا يخفى على من راجع كلامه وكلامهم وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ أي رعد سطوة التجليات الجلالية ويمجد الله تعالى عما يتصوره العقل ملتبسا بِحَمْدِهِ وإثبات ما ينبغي له عز شأنه وَالْمَلائِكَةُ وتسبح ملائكة القوى الروحانية مِنْ خِيفَتِهِ من هيبة جلاله جل جلاله وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ هي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 129 صواعق السبحات الإلهية عند تجلي القهر الحقيقي المتضمن للّطف الكلي فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ فيحرقه عن بقية نفس، وفي الخبر «إن لله تعالى سبعين ألف حجاب من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» وقال ابن الزنجاني: الرعد صعقات الملائكة والبرق ذفرات أفئدتهم والمطر بكاؤهم، وجعل الزمخشري هذا من بدع المتصوفة، وكأني بك تقول: إن أكثر ما ذكر في باب الإشارة من هذا الكتاب من هذا القبيل. والجواب إنا لا ندعي إلا الإشارة وأما أن ذلك مدلول اللفظ أو مراد الله تعالى فمعاذ الله تعالى من أن يمر بفكري، واعتقاد ذلك هو الضلال البعيد والجهل الذي ليس عليه مزيد، وقد نص المحققون من الصوفية على أن معتقد ذلك كافر والعياذ بالله تعالى، ولعلك تقول: كان الأولى مع هذا ترك ذلك. فنقول: قد ذكر مثله من هو خير منا والوجه في ذكره غير خفي عليك لو أنصفت وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ بالتفكر في ذاته والنظر للوقوف على حقيقة صفاته وَهُوَ سبحانه شَدِيدُ الْمِحالِ في دفع الأفكار والأنظار عن حرم ذاته وحمى صفاته جل جلاله: هيهات أن تصطاد عنقاء البقاء ... بلعابهن عناكب الأفكار لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ أي الحقة الحقيقة بالإجابة لا لغيره سبحانه وَالَّذِينَ يَدْعُونَ الأصنام لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ أي إلا استجابة كاستجابة من ذكر لأن ما يدعونه بمعزل عن القدرة وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ المحجوبين إِلَّا فِي ضَلالٍ أي ضياع لأنهم لا يدعون إلا له الحق وإنما يدعون الها توهموه ونحتوه في خيالهم وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ينقاد مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الحقائق والروحانيات طَوْعاً وَكَرْهاً شاؤوا أو أبوا وَظِلالُهُمْ هياكلهم بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ أي دائما وقيل: يسجد من في السموات وهو الروح والعقل والقلب وسجودهم طوعا ومن في الأرض النفس وقواها وسجودهم كرها. وقيل: الساجدون طوعا أهل الكشف والشهود والساجدون كرها أهل النظر والاستدلال أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ من سماء روح القدس ماءً أي ماء العلم فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ أي أودية القلوب بِقَدَرِها بقدر استعدادها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً من خبث صفات أرض النفس رابِياً طافيا على ذلك وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ نار العشق من المعارف والكشوف والحقائق والمعاني التي تهيج العشق ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ طلب زينة النفس لكونها كمالات لها أَوْ مَتاعٍ من الفضائل الخلقية التي تحصل بسببها فإنها مما تتمتع به النفس ما زَبَدٌ خبث مِثْلُهُ كالنظر إليها ورؤيتها والإعجاب بها وسائر ما يعد من آفات النفس «فأما الزبد فيذهب جفاء» منفيا بالعلم «وأما ما ينفع الناس» من المعاني الحقة والفضائل الخالصة «فيمكث في الأرض» أرض النفس، وقال بعضهم: إنه تعالى شبه ما ينزل من مياه بحار ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله إلى قلوب الموحدين والعارفين والمكاشفين والمريدين بما ينزل من السماء إلى الأودية، فكما تحمل الأودية حسب اختلافها ماء المطر تحمل تلك القلوب مياه هاتيك البحار حسب اختلاف حواصلها وأقدار استعداداتها في المحبة والمعرفة والتوحيد، وكما أن قطرات الأمطار تكون في الأودية سيلا فيحتمل السيل زبدا وحثالة وما يكون مانعا من الجريان يكون تواتر أنوار الحق سبحانه سيل المعارف والكشوفات فيسيل في أودية القلوب فيحتمل من أوصاف البشرية وما دون الحق الذي يمنع القلوب من رؤية الغيوب ما يحتمله فيذهب جفاء فتصير حينئذ مقدسة عن زبد الرياء والسمعة والنفاق والخواطر المذمومة وتبقى سائحة في أنوار الأزل والأبد بلا مانع من العرش إلى الثرى، وشبه سبحانه أعمال الظاهر والباطن وما ينفتح بمفاتيحها من الغيب بجواهر الأرض من الذهب والفضة وغيرهما إذا أذيبا للانتفاع بهما وبين تعالى أن لهما زبدا مثل زبد السيل وأنه يذهب ويمكث أصلهما الصافي، فكذلك أعمال الظاهر والباطن تدخل في بودقة الإخلاص ويوقد عليهما نيران الامتحان فيذهب ما فيه حظ النفس الجزء: 7 ¦ الصفحة: 130 ويبقى ما هو خالص لله تعالى، وهكذا الخواطر يبقى منها خاطر الحق ويضمحل سريعا خاطر الباطل، وعن بعضهم القلوب أوعية وفيها أودية فقلب يسيل فيه ماء التوبة وقلب يسيل فيه ماء الرحمة وقلب يسيل فيه ماء الخوف وقلب يسيل فيه ماء الرجاء وقلب يسيل فيه ماء المعرفة وقلب يسيل فيه ماء الانس وكل ماء من هذه المياه ينبت في القلب نوعا من القربة والقرب من الله عز وجل ومن القلوب ما حرم ذلك والعياذ بالله تعالى، وقال ابن عطية: روي عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: «أنزل من السماء ماء» إلخ يريد بالماء الشرع والدين وبالأودية القلوب ومعنى سيلانها بقدرها أخذ النبيل بحظه والبليد بحظه، ثم قال: وهذا قول لا يصح- والله تعالى أعلم- عن ابن عباس لأنه ينحو إلى قول أصحاب الرموز، وقد تمسك به الغزالي وأهل ذلك الطريق، وفيه إخراج اللفظ عن مفهوم كلام العرب بغير داع إلى ذلك، وإن صح ذلك عن ابن عباس فيقال فيه: إنما قصد رضي الله تعالى عنه أن قوله تعالى: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ معناه الحق الذي يتقرر في القلوب والباطل الذي يعتريها اه ونحن نقول: إن صح ذلك فمقصود الخبر منه الإشارة وإن كان يريد غير ظاهر فيه، وحجة الإسلام الغزالي عليه الرحمة أشد الناس على أهل الرموز القائلين بأن الظاهر ليس مراد الله تعالى كما لا يخفى على متتبعي كلامه، وسمعت من بعض الناس أن أهل الكيمياء تكلموا في هذه الآية على ما يوافق غرضهم ولم أقف على ذلك «للذين استجابوا لربهم» بتصفية الاستعداد عن كدورات صفات النفس «الحسنى» المثوبة الحسنى وهو الكمال الفائض عليهم عند الصفاء «والذين لم يستجيبوا له» تعالى وبقوا في الرذائل البشرية والكدورات الطبيعية «لو أن لهم ما في الأرض» الجهة السفلية من الأموال والأسباب التي انجذبوا إليها بالمحبة فأهلكوا أنفسهم بها «ومثله معه لافتدوا به» مما ينالهم من الحجاب والحرمان أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ لوقوفهم مع الأفعال في مقام النفس وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ الحرمان «وبئس المهاد» جهنم والعياذ بالله تعالى ونسأله العفو والعافية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 131 أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ من القرآن الذي مثل بالماء المنزل من السماء والإبريز الخالص في المنفعة والجدوى هو الْحَقُّ الذي لا حق وراءه أو الحق الذي أشير إليه بالأمثال المضروبة فيستجيب له كَمَنْ هُوَ أَعْمى عمى القلب لا يدركه ولا يقدر قدره وهو- هو- فيبقى حائرا في ظلمات الجهل وغياهب الضلال ولا يتذكر بما ضرب من الأمثال، والمراد كمن لا يعلم ذلك إلا أنه أريد زيادة تقبيح حاله فعبر عنه بالأعمى، والهمزة للإنكار وإيراد الفاء بعدها لتوجيه الإنكار إلى ترتب توهم المماثلة على ظهور حال كل منهما بما ضرب من الأمثال وما بين من المصير والمآل كأنه قيل: أبعد ما بين حال كل من الفريقين وما لهما يتوهم المماثلة بينهما. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما أو من يعلم بالواو مكان الفاء إِنَّما يَتَذَكَّرُ بما ذكر من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 132 المذكرات فيقف على ما بينهما من التفاوت والتنائي أُولُوا الْأَلْبابِ أي العقول الخالصة المبرأة من متابعة الألف ومعارضة الوهم، فاللب أخص من العقل وهو الذي ذهب إليه الراغب، وقيل: هما مترادفان والقصد بما ذكر دفع ما يتوهم من أن الكفار عقلاء مع أنهم غير متذكرين ولو نزلوا منزلة المجانين حسن ذلك. والآية (1) على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في حمزة رضي الله تعالى عنه. وأبي جهل وقيل: في عمر رضي الله تعالى عنه. وأبي جهل، وقيل: في عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه. وأبي جهل، وقد أشرنا إلى وجه اتصالها بما قبلها، والعلامة الطيبي بعد أن قرر وجه الاتصال بأن فَمَنْ يَعْلَمُ عطف على جملة لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا إلخ والهمزة مقحمة بين المعطوف والمعطوف عليه، وذكر من معنى الآية على ذلك ما ذكر قال: ثم إنك إذا أمعنت النظر وجدتها متصلة بفاتحة السورة يعني بقوله تعالى: وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ وهو كما ترى الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ بما عقدوا على أنفسهم من الاعتراف بربوبيته تعالى حين قالوا: بلى، أو بما عهد الله تعالى عليهم في كتبه من الأحكام فالمراد بهم ما يشمل جميع الأمم، وإضافة العهد إلى الاسم الجليل من باب إضافة المصدر إلى مفعوله على الوجه الأول ومن باب إضافة المصدر إلى الفاعل على الثاني، وإذا أريد بالعهد ما عقده الله تعالى عليهم يوم قال سبحانه: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: 172] كانت الإضافة مطلقا من باب إضافة المصدر إلى الفاعل وهو الظاهر كما في البحر، وحكى حمل العهد على عهد ألست عن قتادة، وحمله على ما عهد في الكتب عن بعضهم، ونقل عن السدي حمله على ما عهد إليهم في القرآن، وعن القفال حمله على ما في جبلتهم وعقولهم من دلائل التوحيد والنبوات إلى غير ذلك واستظهر حمله على العموم وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ ما وثقوا من المواثيق بين الله تعالى وبينهم من الإيمان به تعالى والأحكام والنذور وما بينهم وبين العباد كالعقود وما ضاهاها، وهو تعميم بعد تخصيص وفيه تأكيد للاستمرار المفهوم من صيغة المستقبل. وقال أبو حيان: الظاهر أن هذه الجملة تأكيد للتي قبلها لأن العهد هو الميثاق ويلزم من إيفاء العهد انتفاء نقضه، وقال ابن عطية: المراد بالجملة الأولى يوفون بجميع عهود الله تعالى وهي أوامره ونواهيه التي وصى الله تعالى بها عبيده ويدخل في ذلك التزام جميع الفروض وتجنب جميع المعاصي، والمراد بالجملة الثانية أنهم إذا عقدوا في طاعة الله تعالى عهدا لم ينقضوه اه، وعليه فحديث التعميم بعد التخصيص لا يتأتى كما لا يخفى، وقد تقدم الله سبحانه إلى عباده في نقض الميثاق ونهى عنه في بضع وعشرين آية من كتابه كما روي عن قتادة، ومن أعظم المواثيق- على ما قال ابن العربي- أن لا يسأل العبد سوى مولاه جل شأنه. وفي قصة أبي حمزة الخراساني ما يشهد لعظم شأنه فقد عاهد ربه أن لا يسأل أحدا سواه فاتفق أن وقع في بئر فلم يسأل أحدا من الناس المارين عليه إخراجه منها حتى جاء من أخرجه بغير سؤال ولم ير من أخرجه فهتف به هاتف كيف رأيت ثمرة التوكل؟ فينبغي الاقتداء به في الوفاء بالعهد على ما قال أيضا. وقد أنكر ابن الجوزي فعل هذا الرجل وبين خطأه وأن التوكل لا ينافي الاستغاثة في تلك الحال، وذكر أن سفيان الثوري وغيره قالوا: لو أن إنسانا جاع فلم يسأل حتى مات دخل النار، ولا ينكر أن يكون الله تعالى قد لطف بأبي حمزة الجاهل. نعم لا ينبغي الاستغاثة بغير الله تعالى على النحو الذي يفعله الناس اليوم مع أهل القبور الذين يتخيلون فيهم ما يتخيلون فآها ثم آها مما يفعلون.   (1) هي أفمن يعلم إلخ اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 133 وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ الظاهر العموم في كل ما أمر الله تعالى به في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وقال الحسن: المراد صلة الرسول صلى الله عليه وسلم بالإيمان به، وروي نحوه عن ابن جبير، وقال قتادة: المراد صلة الأرحام، وقيل: صلة الإيمان بالعمل، وقيل: صلة قرابة الإسلام بإفشاء السلام وعيادة المرضى وشهود الجنائز ومراعاة حق الجيران والرفقاء والخدم، ومن ذهب إلى العموم أدخل في ذلك الأنبياء عليهم السلام ووصلهم أن يؤمن بهم جميعا ولا يفرق بين أحد منهم والناس على اختلاف طبقاتهم ووصلهم بمراعاة حقوقهم بل سائر الحيوانات ووصلها بمراعاة ما يطلب في حقها وجوبا أو ندبا، وعن الفضيل بن عياض أن جماعة دخلوا عليه بمكة فقال: من أين أنتم؟ قالوا: من أهل خراسان (1) قالوا: اتقوا الله تعالى وكونوا من حيث شئتم واعلموا أن العبد لو أحسن الإحسان كله وكانت له دجاجة فأساء إليها لم يكن محسنا، ومفعول «أمر» محذوف والتقدير ما أمرهم الله به، و «أن يوصل» بدل من الضمير المجرور أي ما أمر الله بوصله وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ أي وعيده سبحانه والظاهر أن المراد به مطلقا، وقيل: المراد وعيده تعالى على قطع ما أمروا بوصله وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا، وهذا من قبيل ذكر الخاص بعد العام للاهتمام، والخشية والخوف قيل بمعنى، وفي فروق العسكري أن الخوف يتعلق بالمكروه ومنزله تقول خفت زيدا وخفت المرض والخشية تتعلق بالمنزل دون المكروه نفسه، ولذا قال سبحانه: «يخشون» أولا «ويخافون» ثانيا، وعليه فلا يكون اعتبار الوعيد في محله، لكن هذا غير مسلم لقوله تعالى: «خشية إملاق» و «لمن خشي العنت منكم» وفرق الراغب بينهما فقال: الخشية خوف يشوبه تعظيم وأكثر ما يكون ذلك عن علم ولذلك خص العلماء بها في قوله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] . وقال بعضهم: الخشية أشد الخوف لأنها مأخوذة من قولهم: شجرة خشية أي يابسة ولذا خصت بالرب في هذه الآية، وفرق بينهما أيضا بأن الخشية تكون من عظم المخشي وإن كان الخاشي قويا والخوف من ضعف الخائف وإن كان المخوف أمرا يسيرا، يدل على ذلك أن تقاليب الخاء والشين والياء تدل على الغفلة وفالتدبر، والحق أن مثل هذه الفروق أغلبي لا كلي وضعي ولذا لم يفرق كثير بينهما، نعم اختار الإمام ان المراد من يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ أنهم يخافونه خوف مهابة وجلالة زاعما أنه لولا ذلك يلزم التكرار وفيه ما فيه. وَالَّذِينَ صَبَرُوا على كل ما تكرهه النفس من المصائب المالية والبدنية وما يخالفه هوى النفس كالانتقام ونحوه ويدخل فيما ذكر التكاليف ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ طلبا لرضاه تعالى من غير أن ينظروا إلى جانب الخلق رياء أو سمعة ولا إلى جانب أنفسهم زينة وعجبا، وقيل: المراد طالبين ذلك فنصب ابْتِغاءَ على الحالية وعلى الأول هو منصوب على أنه مفعول له، والكلام في مثل الوجه منسوبا إليه تعالى شهير. وفي البحر أن الظاهر منه هاهنا جهة الله تعالى أي الجهة التي تقصد عنده سبحانه بالحسنات ليقع عليها المثوبة كما يقال: خرج زيد لوجه كذا، وفيه أيضا أنه جاءت الصلة هنا بلفظ الماضي وفيما تقدم بلفظ المضارع على سبيل التفنن في الفصاحة لأن المبتدأ في معنى اسم الشرط والماضي كالمضارع في اسم الشرط فكذلك فيما أشبهه: ولذا قال النحويون: إذا وقع الماضي صلة أو صفة لنكرة عامة احتمل أن يراد به المضي وإن يراد به الاستقبال، فمن الأول الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ [آل عمران: 173] ومن الثاني إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [المائدة: 341]   (1) كأنهم تعرفوا إليه بأنهم من منشئه فأجاب بأن الجامع التقوى لا المولد، وقيل: كأنهم افتخروا بأنهم من خراسان والأول أولى اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 134 ويظهر أيضا أن اختصاص هذه الصلة بالماضي وما تقدم بالمضارع أن ما تقدم قصد به الاستصحاب، والالتباس وأما هذه فقد قصد بها تقدمها على ذلك لأن حصول تلك الصلات إنما هي مترتبة على حصول الصبر وتقدمه عليها ولذا لم يأت صلة في القرآن إلا بصيغة الماضي إذ هو شرط في حصول التكاليف وإيقاعها. وفي إرشاد العقل السليم حيث كان الصبر ملاك الأمر في كل ما ذكر من الصلات السابقة واللاحقة أورد بصيغة الماضي اعتناء بشأنه ودلالة على وجوب تحققه فإن ذلك مما لا بد منه إما في نفس الصلات كما فيها عدا الأولى والرابعة والخامسة أو في إظهار أحكامها كما في الصلات الثلاث المذكورات فإنها وإن استغنت عن الصبر في أنفسها حيث لا مشقة على النفس في الاعتراف بالربوبية والخشية والخوف لكن إظهار أحكامها والجري على موجبها غير خال عن الاحتياج إليه وهو لا يخلو عن شيء، والأولى على ما قيل الاقتصار في التعليل على الاعتناء بشأنه، وعطف قوله سبحانه: وَأَقامُوا الصَّلاةَ وكذا ما بعده على ذلك على ما نص عليه غير واحد من باب عطف الخاص على العام، والمراد بالصلاة قيل الصلاة المفروضة وقيل مطلقا وهو أولى، ومعنى إقامتها إتمام أركانها وهيئاتها وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ بعض ما أعطيناهم وهو الذي وجب عليهم إنفاقه كالزكاة وما ينفق على العيال والمماليك أو ما يشمل ذلك والذي ندب سِرًّا حيث يحسن السر كما في إنفاق من لا يعرف بالمال إذا خشي التهمة في الإظهار أو من عرف به لكن لو أظهره ربما داخله الرياء والخيلاء، وكما في الإعطاء لمن تمنعه المروءة من الأخذ ظاهرا وَعَلانِيَةً حيث تحسن العلانية كما إذا كان الأمر على خلاف ما ذكر، وقال بعضهم: إن الأول مخصوص بالتطوع والثاني بأداء الواجب، وعن الحسن أن كلا الأمرين في الزكاة المفروضة فإن لم يتهم بترك أداء الزكاة فالأولى أداؤها سرا وإلا فالأولى أداؤها علانية، وقيل: السر ما يؤديه بنفسه والعلانية ما يؤديه إلى الإمام والأولى الحمل على العموم، ولعلّ تقديم السر للإشارة إلى فضل صدقته، وجاء في الصحيح عد المتصدق سرا من الذين يظلمهم الله تعالى في ظله يوم القيامة وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أي يدفعون الشر بالخير ويجازون الإساءة بالإحسان على ما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد، وعن ابن جبير يردون معروفا على من يسيء إليهم فهو كقوله تعالى: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان: 63] وقال الحسن: إذا حرموا أعطوا، وإذا ظلموا عفوا، وإذا قطعوا وصلوا وقيل: يتبعون السيئة بالحسنة فتمحوها. وفي الحديث أن معاذا قال: أوصني يا رسول الله قال: «إذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها السر بالسر والعلانية بالعلانية» وعن ابن كيسان يدفعون بالتوبة معرة الذنب. وقيل: بلا إله إلا الله شركهم، وقيل: بالصدقة العذاب. وقيل: إذا رأوا منكرا أمروا بتغييره، وقيل وقيل، ويفهم صنيع بعض المحققين اختيار الأول فهم كما قيل: يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السوء إحسانا وهذا بخلاف خلق بعض الجهلة: جريء متى يظلم يعاقب بظلمه ... سريعا وإن لا يبد بالظلم يظلم وقال في الكشف: الأظهر التعميم أي يدرؤون بالجميل السيء سواء كان لأذاهم أو لا مخصوصا بهم أو لا طاعة أو معصية مكرمة أو منقصة ولعل الأمر كما قال، وتقديم المجرور على المنصوب لإظهار كمال العناية بالحسنة أُولئِكَ أي المنعتون بالنعوت الجليلة والملكات الجميلة، وليس المراد بهم أناسا بأعيانهم وإن كانت الآية نازلة- على ما قيل- في الأنصار، واسم الإشارة مبتدأ خبره الجملة الظرفية أعني قوله سبحانه: لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ أي عاقبة الدنيا وما ينبغي أن يكون مآل أمر أهلها وهي الجنة، فتعريف الدار للعهد والعاقبة المطلقة تفسر بذلك وفسرت به في قوله تعالى: «والعاقبة للمتقين» وفسرها الزمخشري أيضا بالجنة إلا أنه قال: لأنها التي أراد الله تعالى أن تكون عاقبة الدنيا ومرجع أهلها، وفيه على ما قيل شائبة اعتزال. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 135 وجوز أن يراد- بالدار- الآخرة أي لهم العقبى الحسنة في الدار الآخرة، وقيل: الجار والمجرور خبر اسم الإشارة و «عقبى» فاعل الاستقرار، وأيا ما كان فليس فيه قصر حتى يرد أن بعض ما في حيز الصلة ليس من العزائم التي يخل إخلالها بالوصول إلى حسن العاقبة. وقال بعضهم: إن المراد مآل أولئك الجنة من غير تخلل بدخول النار فلا بأس لو قيل بالقصر، ولا يلزم عدم دخول الفاسق المعذب الجنة، والقول إنه موصوف بتلك الصفات في الجملة كما ترى. والجملة خبر للموصولات المتعاطفة أن رفعت بالابتداء أو استئناف نحو أو بياني في جواب ما بال الموصوفين بهذه الصفات؟ إن جعلت الموصولات المتعاطفة صفات- لأولي الألباب- على طريقة المدح من غير أن يقصد أن يكون للصلات المذكورة مدخل في التذكر، والأول أوجه لما في الكشف من رعاية التقابل بين الطائفتين، وحسن العطف في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ وجريهما على استئناف الوصف للعالم ومن هو كأعمى، وقوله سبحانه: جَنَّاتُ عَدْنٍ بدل من عقبى الدار كما قال الزجاج بدل كل من كل، وجوز أبو البقاء. وغيره أن يكون مبتدأ خبره قوله تعالى: يَدْخُلُونَها وتعقب بأنه بعيد عن المقام، والأولى أن يكون مبتدأ محذوف كما ذكر في البحر، ورد بأنه لا وجه له لأن الجملة بيان لعقبى الدار فهو مناسب للمقام، والعدن الإقامة والاستقرار يقال: عدن بمكان كذا إذا استقر، ومنه المعدن لمستقر الجواهر أي جنات يقيمون فيها، وأخرج غير واحد عن ابن مسعود أنه قال: «جنات عدن» بطنان الجنة أي وسطها، وروي نحو ذلك عن الضحاك إلا أنه قال: هي مدينة وسط الجنة فيها الأنبياء والشهداء وأئمة الهدى، وجاء فيها غير ذلك من الأخبار، ومتى أريد منها مكان مخصوص من الجنة كان البدل بدل بعض من كل. وقرأ النخعي «جنة» بالإفراد، وروي عن ابن كثير وأبي عمرو «يدخلونها» مبنيا للمفعول وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ جمع أبوي كل واحد منهم فكأنه قيل: من آبائهم وأمهاتهم وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وهو كما قال أبو البقاء عطف على المرفوع في- يدخلون- وإنما ساغ ذلك مع عدم التأكيد للفصل بالضمير الآخر، وجوز أن يكون مفعولا معه. واعترض بأن واو المعية لا تدخل إلا على المتبوع. ورد بأن هذا إنما ذكر في مع لا في الواو وفيه نظر، والمعنى أنه يلحق بهم من صلح من أهليهم وإن لم يبلغ مبلغ فضلهم تبعا لهم تعظيما لشأنهم. أخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن ابن جبير قال: يدخل الرجل الجنة فيقول: أين أمي أين ولدي أين زوجتي؟ فيقال: لم يعملوا مثل عملك فيقول: كنت أعمل لي ولهم ثم قرأ الآية، وفسر «من صلح» بمن آمن وهو المروي عن مجاهد وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وفسر ذلك الزجاج بمن آمن وعمل صالحا، وذكر أنه تعالى بين بذلك أن الأنساب لا تنفع إذا لم يكن معها أعمال صالحة بل الآباء والأزواج والذرية لا يدخلون الجنة إلا بالأعمال الصالحة. ورد عليه الواحدي فقال: الصحيح ما روي عن ابن عباس لأن الله تعالى جعل من ثواب المطيع سروره بحضور أهله معه في الجنة، وذلك يدل على أنهم يدخلونها كرامة للمطيع الآتي بالأعمال الصالحة فلو دخلوها بأعمالهم لم يكن في ذلك كرامة للمطيع ولا فائدة في الوعد به إذ كل من كان مصلحا في عمله فهو يدخل الجنة. وضعف ذلك الإمام بأن المقصود بشارة المطيع بكل ما يزيده سرورا وبهجة فإذا بشر الله تعالى المكلف بأنه إذا دخل الجنة يحضر معه أهله يعظم سروره وتقوى بهجته. ويقال: إن من أعظم سرورهم أن يجتمعوا فيتذاكروا أحوالهم في الدنيا ثم يشكرون الله تعالى على الخلاص منها، ولذلك حكى سبحانه عن بعض أهل الجنة أنه يقول: «يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين» وعلى هذا لا تكون الآية دليلا على أن الدرجة تعلو بالشفاعة. ومنهم من استدل بها على ذلك على المعنى الأول لها. وتعقب بأنها أيضا لا دلالة لها على ما ذكر. وأجيب بأنه إذا جاز أن تعلو بمجرد التبعية للكاملين في الإيمان تعظيما لشأنهم فالعلو بشفاعتهم معلوم بالطريق الأولى. وقال بعضهم: إنهم لما كانوا بصلاحهم مستحقين لدخول الجزء: 7 ¦ الصفحة: 136 الجنة كان جعلهم في درجتهم مقتضى طلبهم وشفاعتهم لهم بمقتضى الإضافة. والحق أن الآية لا تصلح دليلا على ذلك خصوصا إذا كان الواو بمعنى مع فتأمل، والظاهر أنه لا تمييز بين زوجة وزوجة وبذلك صرح الإمام ثم قال: ولعل الأولى من مات عنها أو ماتت عنه. وما روي عن سودة أنها لما هم رسول الله صلى الله عليه وسلم بطلاقها قالت: دعني يا رسول الله أحشر في جملة نسائك كالدليل على ما ذكر. واختلف في المرأة ذات الأزواج إذا كانوا قد ماتوا عنها فقيل: هي في الجنة لآخر أزواجها. ويؤيده كون أمهات المؤمنين زوجاته صلى الله عليه وسلم فيها مع كون أكثرهن كن قد تزوجن قبل بغيره عليه الصلاة والسلام. وقيل: هي لأول أزواجها كامرأة أخبرها ثقة أن زوجها قد مات ووقع في قلبها صدقه فتزوجت بعد انقضاء عدتها ثم ظهرت حياته فإنها تكون له. وتعقب بأن هذا ليس من هذا القبيل بل هو يشبه ما لو مات رجل وأخبر معصوم كالنبي بموته فتزوجت امرأته بعد انقضاء العدة ثم أحياه الله تعالى وقد قالوا في ذلك: إن زوجته لزوجها الثاني. وقيل: إن الزوجة تخير يوم القيامة بين أزواجها فمن كان منهم أحسنهم خلقا معها كانت له وارتضاه جمع. وقرأ ابن أبي عبلة «صلح» بضم اللام والفتح أفصح وعيسى الثقفي «ذريتهم» بالتوحيد وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ من أبواب المنازل. أخرج ابن أبي حاتم عن أنس بن مالك أنه قرأ الآية حتى ختمها ثم قال: إن المؤمن لفي خيمة من درة مجوفة ليس فيها جذع ولا وصل طولها في الهواء ستون ميلا في كل زاوية منها أهل ومال لها أربعة آلاف مصراع من ذهب يقوم على كل باب منها سبعون ألفا من الملائكة مع كل ملك هدية من الرحمن ليس مع صاحبه مثلها لا يصلون إليه إلا بإذن بينه وبينهم حجاب» وروي عن ابن عباس ما هو أعظم من ذلك. وقال أبو الأصم: أريد من كل باب من أبواب البر كباب الصلاة وباب الزكاة وباب الصبر، وقيل: من أبواب الفتوح والتحف، قيل: فعلى هذا المراد بالباب النوع ومَنْ للتعليل، والمعنى يدخلون لإتحافهم بأنواع التحف، وتعقب بأن في كون الباب بمعنى النوع كالبابة نظرا فإن ظاهر كلام الأساس وغيره يقتضي أن يكون مجازا أو كناية عما ذكر لأن الدار التي لها أبواب إذا أتاها الجم الغفير يدخلونها من كل باب فأريد به دخول الأرزاق الكثيرة عليهم وأنها تأتيهم من كل جهة وتعدد الجهات يشعر بتعدد المأتيات فإن لكل جهة تحفة سَلامٌ عَلَيْكُمْ أي قائلين ذلك وهو بشارة بدوام السلامة، فالجملة مقول لقول محذوف واقع حالا من فاعل يَدْخُلُونَ وجوز كونها حالا من غير تقدير أي مسلمين، وهي في الأصل فعلين أي يسلمون سلاما، وقوله تعالى: بِما صَبَرْتُمْ متعلق كما قال أبو البقاء بما تعلق به عَلَيْكُمْ أو به نفسه لأنه نائب عن متعلقه، ومنع هذا- كما قال السيوطي- السفاقسي وقال: لا وجه له، والصحيح أنه متعلق بما تعلق به عَلَيْكُمْ وجوز الزمخشري تعلقه- بسلام- على معنى نسلم عليكم ونكرمكم بصبركم ومنعه أبو البقاء بأن فيه الفصل بين المصدر ومعمول له بالأجنبي وهو الخبر، ووجه ذلك في الدر المصون بأن المنع إنما هو في المصدر المؤول بحرف مصدري وهذا ليس منه مع أن الرضي جوز ذلك مع التأويل أيضا وقال: لا أراه مانعا لأن كل مؤول بشيء لا يثبت له جميع أحكامه، وجوز لهذه العلة العلامة الثاني تقديم معمول المصدر المؤول بأن والفعل عليه في نحو قوله تعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ [النور: 2] وقال في الكشف: إن عَلَيْكُمْ نظرا إلى الأصل غير أجنبي فلذلك جاز أن يفصل به، على أن الزمخشري لم يصرح بأنه معموله بل من مقتضاه ولذا قال: أي نسلم إلخ فدل على أن التعلق معنوي يقدر ما يناسبه، ولو جعل معمولا للظرف المستقر أعني عَلَيْكُمْ فيكون متعلقا معنى- بسلام- ضرورة لكان وجها خاليا عن التكلف، وجعله أبو حيان خبر مبتدأ محذوف وبِما مصدرية والباء سببية أو بدلية أي هذا الثواب الجزيل بسبب صبركم في الدنيا على المشاق أو بدله. وعن أبي عمران بما صبرتم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 137 على دينكم، وعن الحسن عن فضول الدنيا، وعن محمد بن النصر على الفقر، والتعميم أولى. وتخصيص الصبر بالذكر من بين الصلات السابقة لما أنه ملاك الأمر والأمر المعتنى به كما علمت فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ أي فنعم عاقبة الدنيا الجنة، وقيل: المراد بالدار الآخرة، وقال بعضهم: المراد أنهم عقبوا الجنة من جهنم، قال ابن عطية: وهذا مبني على ما ورد من أن كل رجل من أهل الجنة قد كان له مقعد من النار فصرفه الله تعالى عنه إلى النعيم فيعرض عليه ويقال له: هذا مقعدك من النار قد أبدلك الله تعالى بالجنة بإيمانك وصبرك. وقرأ ابن يعمر «فنعم» بفتح النون وكسر العين وذلك هو الأصل، وابن وثاب «فنعم» بفتح النون وسكون العين وتخفيف فعل لغة تميم، وجاء فيها- كما في الصحاح- «نعم» بكسر النون واتباع العين لها وأشهر استعمالاتها ما عليه الجمهور. وأخرج ابن جرير عن محمد بن إبراهيم قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ وكذا كان يفعل أبو بكر. وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهم، وتمسك بعضهم بالآية على أن الملك أفضل من البشر فقالوا: إنه سبحانه ختم مراتب سعادات البشر بدخول الملائكة عليهم على سبيل التحية والإكرام والتعظيم والسلام فكانوا أجل مرتبة من البشر لما كان دخولهم عليهم لأجل السلام والتحية والإكرام والتعظيم والسلام فكانوا أجلّ مرتبة من البشر لما كان دخولهم عليهم لأجل السلام والتحية موجبا علو درجاتهم وشرف مراتبهم، ولا شك أن من عاد من سفره إلى بيته فإذا قيل في معرض كمال مرتبته إنه يزوره الأمير. والوزير. والقاضي. والمفتي دل على أن درجة المزور أقل وأدنى من درجات الزائرين فكذا هاهنا، وهو من الركاكة بمكان. ولم لا يجوز أن يكون ما هنا نظير ما إذا أتى السلطان بشخص من عماله الممتازين عنده قد أطاعه في أوامره ونواهيه إلى محل كرامته ثم بعد أن أنزله المنزل اللائق به أرسل خدمه إليه بالهدايا والتحف والبشارة بما يسره فهل إذا قيل: إن فلانا قد أحله السلطان محل كرامته ودار حكومته وأنزله المنزل اللائق به وأرسل خدمه إليه بما يسره كان ذلك دليلا على أن أولئك الخدم أعلى درجة منه؟ لا أظنك تقول ذلك. نعم جاء في بعض الأخبار ما يؤيد بظاهره ما تقدم، فقد أخرج أحمد. والبزار. وابن حبان. والحاكم وصححه. وجماعة عن عبد الله بن عمرو قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من يدخل الجنة من خلق الله تعالى فقراء المهاجرين الذين تسد بهم الثغور وتتقى بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء فيقول الله تعالى لمن يشاء من ملائكته: ائتوهم فحيوهم فتقول الملائكة: ربنا نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم فيقول الله تعالى: إن هؤلاء عباد لي كانوا يعبدوني ولا يشركون بي شيئا وتسد بهم الثغور وتتقي بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء فتأتيهم الملائكة عند ذلك فيدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار» ومن أنصف ظهر له أن هذا لا يدل على أن الملائكة مطلقا أفضل من البشر مطلقا كما لا يخفى، وذكر الإمام الرازي في تفسير الآية على الوجه المروي عن الأصم في تفسير دخول الملائكة من كل باب أن الملائكة طوائف منهم روحانيون ومنهم كروبيون فالعبد إذا راض نفسه بأنواع الرياضات كالصبر والشكر والمراقبة والمحاسبة ولكل مرتبة من هذه المراتب جوهز قدسي وروح علوي مختص بتلك الصفة مزيد اختصاص فعند الموت إذا أشرقت تلك الجواهر القدسية تجلت فيها من كل روح من الأرواح السماوية ما يناسبها من الصفات المخصوصة فيفيض عليها من ملائكة الصبر كمالات مخصوصة نفسانية لا تظهر إلا في مقام الصبر ومن ملائكة الشكر كمالات روحانية لا تتجلى إلا في مقام الشكر وهكذا القول في جميع المراتب اه. وتعقبه أبو حيان بأنه كلام فلسفي لا تفهمه العرب ولا جاءت به الأنبياء عليهم السلام فهو مطروح لا يلتفت إليه المسلمون. وأنت تعلم أن مثل هذا كلام كثير من الصوفية وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ أريده بهم من يقابل الأولين ويعاندهم بالاتصاف بنقائض أوصافهم مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ الاعتراف به، قيل: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 138 المراد بالعهد قوله سبحانه: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: 172] وبالميثاق ما هو اسم آلة أعني ما يوثق به الشيء وأريد به الاعتراف بقول: بَلى وقد يسمى العهد من الطرفين ميثاقا لتوثيقه بين المتعاهدين وفسر الإمام عهد الله تعالى بما ألزمه عباده بواسطة الدلائل العقلية لأن ذلك أوكد كل عهد وكل أيمان إذ الأيمان إنما تفيد التوكيد بواسطة الدلائل الدالة على أنها توجب الوفاء بمقتضاها، ثم قال: والمراد من نقضها أن لا ينظر المرء فيها فلا يمكنه حينئذ العمل بموجبها أو بأن ينظر ويعلم صحتها ثم يعاند فلا يعمل بعلمه أو بأن ينظر في الشبه فلا يعتقد الحق، والمراد بقوله سبحانه مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ من بعد أن أوثق إليه تلك الأدلة وأحكامها لأنه لا شيء أقوى مما دل الله تعالى على وجوبه في أنه ينفع فعله ويضر تركه. وأورد أنه إذا كان العهد لا يكون إلا بالميثاق فما فائدة مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ؟ وأجاب بأنه لا يمتنع أن يكون المراد مفارقة من تمكن من معرفته بالحلف لمن لم يتمكن أو لا يمتنع أن يكون المراد الأدلة المؤكدة لأنه يقال: قد تؤكد إليك بدلائل أخرى سواء كانت عقلية أو سمعية اه ولا يخفى أنه إذا أريد بالعهد ذلك القول وبالميثاق الاعتراف به لم يحتج إلى القيل والقال، وحمل بعضهم العهد هنا على سائر ما وصى الله تعالى به عباده كالعهد فيما سبق والميثاق على الإقرار والقبول. والآية كما روي عن مقاتل نزلت في أهل الكتاب وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ من الإيمان بجميع الأنبياء عليهم السلام المجتمعين على الحق حيث يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ومن حقوق الأرحام وموالاة المؤمنين وغير ذلك، وإنما لم يتعرض- كما قال بعض المحققين- لنفي الخشية والخوف عنهم صريحا لدلالة النقض والقطع على ذلك. وأما عدم التعرض لنفي الصبر المذكور فلأنه إنما اعتبر تحققه في ضمن الحسنات المعهودة ليقعن معتدا بهن فلا وجه لنفيه عمن بينه وبين الحسنات بعد المشرقين لا سيما بعد تقييده بكونه ابتغاء وجهه تعالى، كما لا وجه لنفي الصلاة والإنفاق بناء على أن المراد منه إعطاء الزكاة ممن لا يحوم حول الإيمان بالله تعالى فضلا عن فروح الشرائع، وإن أريد بالإنفاق ما يشمل ذلك وغيره فنفيه مندرج تحت قطع ما أمر الله تعالى بوصله بل قد يقال باندراج نفي الصلاة أيضا تحت ذلك، وأما درء السيئة بالحسنة فانتفاؤه عنهم ظاهر مما سبق ولحق فإن من يجازي إحسانه عزّ وجلّ بنقض عهده سبحانه ومخالفة الأمر ويباشر الفساد حسبما يحكيه قوله عزّ وجلّ: وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بالظلم لأنفسهم وغيرهم وتهييج الفتن بمخالفة دعوة الحق وإثارة الحرب على المسلمين كيف يتصور منه الدرء المذكور، على أنه قيل: إن ذلك يشعر بأن له دخلا في الإفضاء إلى العقوبة التي ينبئ عنها قوله سبحانه: أُولئِكَ إلخ أي أولئك الموصوفون بتلك القبائح لَهُمُ بسبب ذلك اللَّعْنَةُ أي الإبعاد من رحمة الله تعالى وَلَهُمْ مع ذلك سُوءُ الدَّارِ أي سوء عاقبة الدار، والمراد بها الدنيا وسوء عاقبتها عذاب جهنم أو جهنم نفسها، ولم يقل: سوء عاقبة الدار تفاديا أن يجعلها عاقبة حيث جعل العاقبة المطلقة هي الجنة، وجوز أن يراد بالدار جهنم وبسوئها عذابها، والأول أوجه لرعاية التقابل ولأن المبادر إلى الفهم من الدار الدنيا بقرينة السابق ولأنها الحاضرة في أذهانهم ولما ذكر من النكتة السرية وذلك لأن ترتيب الحكم على الموصول يشعر بعلية الصلة له، ولا يخفى أنه لا دخل له في ذلك على أكثر التفاسير فإن مجازاة السيئة بمثلها مأذون فيها، ودفع الكلام السيء بالحسن وكذا الإعطاء عند المنع والعفو عند الظلم والوصل عند القطع ليس مما يورث تركه تبعة وأما ما اعتبر اندراجه تحت الصلة الثانية من الإخلال ببعض الحقوق المندوبة فلا ضير في ذلك لأن اعتباره من حيث إنه من مستتبعات الإخلال بالعزائم كالكفر ببعض الأنبياء عليهم السلام وعقوق الوالدين وترك سائر الحقوق الواجبة، وقيد بالأكثر لأنه على الكثير مما ذكرناه في تفسيره المدخلية ظاهرة، وقيل: إنه سلك في وصف الكفرة وذمهم وذكر ما لهم في مآلهم ما لم يسلك في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 139 وصف المؤمنين ومدحهم وشرح ما أعد لهم وما ينتهي إليه أمرهم فأتى في أحدهما بموصولات متعددة وصلات متنوعة إلى غير ذلك ولم يؤت بنحو ذلك في الآخر تنبيها على مزيد الاعتناء بشأن المؤمنين قولا وفعلا وعدم الاعتناء بشأن أضدادهم فإنهم أنجاس يتمضمض من ذكرهم هذا، مع الجزم بأن مقتضى الحال هو هذا، وقيل: إن المسلكين من آثار الرحمة الواسعة فتأمل، وتكرير لَهُمُ للتأكيد والإيذان باختلافهما واستقلال كل منهما في الثبوت اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ أي يوسعه لِمَنْ يَشاءُ من عباده وَيَقْدِرُ أي يضيق، وقيل: يعطي بقدر الكفاية، والمراد بالرزق الدنيوي لا ما يعم الاخروي لأنه على ما قيل غير مناسب للسياق، وقال صاحب الكشف: إنه شامل للرزقين الحسي والمعنوي الدنيوي والأخروي وذكر في بيان ربط الآية على ذلك ما ذكر، وهي كما روي عن ابن عباس نزلت في أهل مكة ثم إنها وإن كانت كذلك عامة وكأنها دفع لما يتوهم من أنه كيف يكونون مع ما هم عليه من الضلال في سعة من الرزق فبين سبحانه أن سعة رزقهم ليس تكريما لهم كما أن تضييق رزق بعض المؤمنين ليس لإهانة لهم وإنما كل من الأمرين صادر منه تعالى لحكم إلهية يعلمها سبحانه وربما وسع على الكافر إملاء واستدراجا له وضيق على المؤمن زيادة لأجره. وتقديم المسند إليه في مثل هذه الآية للتقوى فقط عند السكاكي، والزمخشري يرى أنه لا مانع من أن يكون للتقوى والتخصيص ولذا قال: أي الله وحده يبسط ويقدر دون غيره سبحانه، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «ويقدر» بضم الدال حيث وقع وَفَرِحُوا استئناف ناع قبح أفعالهم ما وسعه عليه. والضمير قبل لأهل مكة وإن لم يسبق ذكرهم واختاره جماعة، وقال أبو حيان: للذين ينقضون، وزعم بعضهم أن الجملة معطوفة على صلة الَّذِينَ وفي الآية تقديم وتأخير ومحل هذا بعد يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ولا يخفى بعده للاختلاف عموما وخصوصا واستقبالا ومضيا أي فرحوا فرح أشر وبطر لا فرح سرور بفضل الله تعالى. بِالْحَياةِ الدُّنْيا أي بما بسط فيها من النعيم لأن فرحهم ليس بنفس الدنيا فنسبة الفرح إليها مجازية أو هناك تقدير أي ببسط الحياة أو الحياة الدنيا مجاز عما فيها وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ أي كائنة في جنب نعيمها. فالجار والمجرور في موضع الحال وليس متعلقا بالحياة ولا بالدنيا كما قال أبو البقاء لأنهما ليسا فيها. وفِي هذه معناها المقايسة وهي كثيرة في الكلام كما يقال: ذنوب العبد في رحمة الله تعالى كقطرة في بحر وهي الداخلة بين مفضول سابق وفاضل لاحق وهي الظرفية المجازية لأن ما يقاس بشيء يوضع بجنبه، وإسناد مَتاعٌ في قوله تعالى: إِلَّا مَتاعٌ إلى الحياة الدنيا يحتمل أن يكون مجازيا ويحتمل أن يكون حقيقيا، والمراد أنها ليست إلا شيئا نزرا يتمتع به كعجالة الراكب وزاد الراعي يزوده أهله الكف من التمر أو الشيء من الدقيق أو نحو ذلك، والمعنى أنهم رضوا بحظ الدنيا معرضين عن نعيم الآخرة والحال أن ما أشروا به في جنب ما أعرضوا عنه نزر النفع سريع النفاد، أخرج الترمذي وصححه عن عبد الله بن مسعود قال: «نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثر في جنبه فقلنا: يا رسول الله لو اتخذنا لك فقال: ما لي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها» ، وقيل: معنى الآية كالخبر «الدنيا مزرعة الآخرة» يعني كان ينبغي أن يكون ما بسط لهم في الدنيا وسيلة إلى الآخرة كمتاع تاجر يبيعه بما يهمه وينفقه في مقاصده لا أن يفرحوا بها ويعدوها مقاصد بالذات والأول أولى وأنسب. وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي أهل مكة عبد الله بن أبي أمية وأصحابه، وإيثار هذه الطريقة على الإضمار مع ظهور إرادتهم عقيب ذكر فرحهم بناء على أن ضمير «فرحوا» لهم لذمهم والتسجيل عليهم بالكفر فيما حكى عنهم من قولهم: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فإن ذلك في أقصى مراتب المكابرة والعناد كأن ما أنزل عليه الصلاة والسلام الجزء: 7 ¦ الصفحة: 140 من الآيات العظام الباهرة ليست عندهم بآية حتى اقترحوا ما لا تقتضيه الحكمة من الآيات كسقوط السماء عليهم كسفا وسير الأخشبين وجعل البطاح محارث ومفترسا كالأردن وإحياء قصي لهم إلى غير ذلك قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ إضلاله مشيئة تابعة للحكمة الداعية إليها، وهو كلام جار مجرى التعجب من قولهم، وذلك أن الآيات الباهرة المتكاثرة التي أوتيها صلى الله عليه وسلم لم يؤتها نبي قبله، وكفى بالقرآن وحده آية فإذا جحدوها ولم يعتدوا بها كان ذلك موضعا للتعجب والإنكار، وكان الظاهر أن يقال في الجواب: ما أعظم عنادكم وما أشد تصميمكم على الكفر ونحوه إلا أنه وضع هذا موضعه للإشارة إلى أن المتعجب منه يقول: إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ إلخ أي إنه تعالى يخلق فيمن يشاء الضلال بصرف اختياره إلى تحصيله ويدعه منهمكا فيه لعلمه بأنه لا ينجع فيه اللطف ولا ينفعه الإرشاد لسوء استعداده كمن كان على صفتكم في المكابرة والعناد وشدة الشكيمة والغلو في الفساد فلا سبيل له إلا الاهتداء ولو جاءته كل آية. وَيَهْدِي إِلَيْهِ أي إلى جانبه العلي الكبير. وقال أبو حيان: أي إلى دينه وشرعه سبحانه هداية موصلة إليه لا دلالة مطلقة إلى ما يوصل فإن ذلك غير مختص بالمهتدين وفيه من تشريفهم ما لا يوصف، وقيل: الضمير للقرآن أو للرسول عليه الصلاة والسلام وهو خلاف الظاهر جدا مَنْ أَنابَ أي أقبل إلى الحق وتأمل في تضاعيف ما نزل من دلائله الواضحة وحقيقة الإنابة الرجوع إلى نوبة الخير، وإيثارها في الصلة على إيراد المشيئة كما في الصلة الأولى على ما قال مولانا شيخ الإسلام للتنبيه على الداعي إلى الهداية بل إلى مشيئتها والإشعار بما دعا إلى المشيئة الأولى من المكابرة، وفيه حث للكفرة على الإقلاع عما هم عليه من العتو والعناد، وإيثار صيغة الماضي للإيماء إلى استدعاء الهداية السابقة كما أن إيثار صيغة المضارع في الصلة الأولى للدلالة على استمرار المشيئة حسب استمرار مكابرتهم، والآية صريحة في مذهب أهل السنة في نسبة الخير والشر إليه عزّ وجلّ وأولها المعتزلة فقال أبو علي الجبائي: المعنى يضل من يشاء عن ثوابه ورحمته عقوبة له على كفره فلستم ممن يجيبه الله تعالى إلى ما يسأل لاستحقاقكم العذاب والإضلال عن الثواب ويهدي إلى جنته من تاب وآمن، ثم قال: وبهذا تبين أن الهدى هو الثواب من حيث علق بقوله تعالى: مَنْ أَنابَ والهدى الذي يفعله سبحانه بالمؤمن هو الثواب لأنه يستحقه على إيمانه، وذلك يدل على أنه تعالى يضل عن الثواب بالعقاب لا عن الدين بالكفر على ما ذهب إليه من خالفنا اه ولا يخفى ما فيه. الَّذِينَ آمَنُوا بدل من مَنْ أَنابَ بدل كل من كل فإن أريد بالهداية الهداية المستمرة فالأمر ظاهر لظهور كون الإيمان مؤديا إليها، وإن أريد إحداثها فالمراد بالذين آمنوا الذين صار أمرهم إلى الإيمان كما قالوا في هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 21] أي الصائرين إلى التقوى وإلا فالإيمان لا يؤدي إلى الهداية نفسها، ويجوز أن يكون عطف بيان على ذلك أو منصوبا على المدح أو خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين آمنوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ أي تستقر وتسكن بِذِكْرِ اللَّهِ أي بكلامه المعجز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهو المروي عن مقاتل، وإطلاق الذكر على ذلك شائع في الذكر، ومنه قوله تعالى: وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ [الأنبياء: 50] وإِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] وسبب اطمئنان قلوبهم بذلك علمهم أن لا آية أعظم ومن ذلك لا يقترحون الآيات التي يقترحها غيرهم، والعدول إلى صيغة المضارع لإفادة دوام الاطمئنان وتجدده حسب تجدد المنزل من الذكر أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ وحده تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ لله دون غيره من الأمور التي تمل إليها النفوس من الدنيا ويأت، وإذا أريد سائر المعجزات فالقصر من حيث إنها ليست في إفادة الطمأنينة بالنسبة إلى من لم يشاهدها بمثابة القرآن المجيد فإنه معجزة باقية إلى يوم القيامة يشاهدها كل أحد وتطمئن به القلوب كافة وفيه إشعار بأن الكفرة لا قلوب لهم وأفئدتهم هواء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 141 حيث لم يطمئنوا به ولم يعدوه آية وهو أظهر الآيات وأبهرها، وقيل: في الكلام مضاف مقدر أي لتطمئن قلوبهم بذكر رحمته تعالى ومغفرته بعد القلق والاضطراب من خشيته تعالى كقوله تعالى: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 23] وهذا مناسب على ما في الكشف للإنابة إليه تعالى، والمصدر عليه مضاف إلى الفاعل وقيل: المراد بذكر الله دلائله سبحانه الدالة على وحدانيته عزّ وجلّ والاطمئنان عن قلق الشك والتردد، وهذا مناسب لذكر الكفر ووقوعه في مقابلته، وقيل: المراد بذكره تعالى أنسا به وتبتلا إليه سبحانه فالمراد بالهداية دوامها واستمرارها. وقيل: وهذا مناسب أيضا حديث الكفر لأن الكفرة إذا ذكر الله تعالى وحده اشمأزت قلوبهم، والمصدر على القولين مضاف إلى المفعول. والوجه الأول أشد ملاءمة للنظم لا سيما لقوله تعالى: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ والمصدر فيه بمعنى المفعول. ومن الغريب ما نقل في تفسير الخازن أن هذا في الحلف بالله وذلك أن المؤمن إذا حلف له بالله تعالى سكن قلبه، وروي نحو ذلك أبو الشيخ عن السدي فإن الحمل عليه هنا مما لا يناسب المقام، وأما ما روي عن أنس من أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه حين نزلت هذه الآية: «هل تدرون ما معنى ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: من أحب الله تعالى ورسوله وأحب أصحابي: ومثله ما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه من أنه عليه الصلاة والسلام قال حين نزلت: «ذاك من أحب الله تعالى ورسوله وأحب أهل بيتي صادقا غير كاذب وأحب المؤمنين شاهدا غائبا» فليس المراد منه تفسير المراد بذكر الله بل بيان أن الموصوفين بما ذكر من أحبه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم إلخ، وهو كذلك إذ لا يكاد يتحقق الانفكاك بين هاتيك الصفات فليتأمل، ولا تنافي بين هذه الآية على سائر الأوجه وقوله تعالى: إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال: 2، الحج: 35] لأن المراد هناك وجلت من هيبته تعالى واستعظامه جلت عظمته. وذكر الأمام في بيان اطمئنان القلب بذكره تعالى وجوها فقال: إن الموجودات على ثلاثة أقسام: مؤثر لا يتأثر. ومتأثر لا يؤثر وموجود يؤثر ويتأثر فالأول هو الله تعالى. والثاني هو الجسم فإنه ليس له خاصية إلى القبول للآثار المتنافية والصفات المختلفة. والثالث الموجودات الروحانية فإنها توجهت إلى الحضرة الإلهية صارت قابلة للآثار الفائضة عليها منها وإذا توجهت إلى أعلام الأجسام اشتاقت إلى التصرف فيها لأن عالم الأرواح مدبر لعالم الأجسام فإذا عرف هذا فالقلب كلما توجه إلى مطالعة عالم الأجسام حصل فيه الاضطراب والقلق والميل الشديد إلى الاستيلاء عليه والتصرف فيه وإذا توجه إلى مطالعة الحضرة الإلهية وحصلت فيه الأنوار الصمدية فهناك يكون ساكنا مطمئنا، وأيضا أن القلب كلما وصل إلى شيء فإنه يطلب الانتقال منه إلى أمر آخر أشرف منه لأنه لا سعادة في عالم الجسم إلا وفوقها مرتبة أخرى أما إذا انتهى إلى الاستسعاد بالمعارف الالهية والأنوار القدسية ثبت واستقر فلم يقدر على الانتقال من البتة لأنه ليس هناك درجة أخرى في السعادة أعلى منه وأكمل، وأيضا أن الإكسير إذا وقعت منه ذرة على الجسم النحاسي انقلب ذهبا باقيا على ممر الدهور صابرا على الذوبان الحاصل بالنار فاكسير نور الله تعالى إذا وقع في القلب أولى أن يقلبه جوهرا باقيا صافيا نورانيا لا يقبل التغير والتبدل، ولهذه الأوجه قال سبحانه: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ اه، والأولى أن يقال: إن سبب الطمأنينة نور يفيضه الله تعالى عن قلب المؤمنين بسبب ذكره فيذهب ما فيها من القلق والوحشة ونحو ذلك، وللمناقشة فيما ذكره مجال وسيؤتي إن شاء الله تعالى في باب الإشارة ما يشبه ذلك الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بدل من الْقُلُوبُ أي قلوب الذين آمنوا، والأظهر أنه بدل الكل لأن القلوب في الأول قلوب المؤمنين المطمئنين وكذلك لو عمم القلب على معنى أن قلوب هؤلاء الأجلاء كل القلوب لأن الكفار أفئدتهم هواء، وأما الحمل على بدل البعض ليعمم القلب من غير الملاحظة المذكورة واستنباط هذا المعنى من البدل فبعيد، وأما احتماله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 142 لبدل الاشتمال وإن استحسنه الطيبي فكلا أو مبتدأ خبره الجملة الدعائية على التأويل أعني قوله سبحانه: طُوبى لَهُمْ أي يقال لهم ذلك، أو لا حاجة إلى التأويل والجملة خبرية أو خبر مبتدأ مضمر أو نصب على المدح- فطوبى لهم- حال مقدرة والعامل فيها الفعلان. وقال بعض المدققين: لعل الأشبه وجه آخر وهو أن يتم الكلام عند قوله تعالى: مَنْ أَنابَ ثم قيل: الَّذِينَ آمَنُوا وتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ في مقابلة وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ وقوله سبحانه: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ جملة اعتراضية تفيد كيف لا تطمئن قلوبهم به ولا اطمئنان للقلب بغيره، وقوله عز وجل: الَّذِينَ آمَنُوا بدل من الأول، وفيه إشارة إلى أن ذكر الله تعالى أفضل الأعمال الصالحة بل هو كلها وطُوبى لَهُمْ خبر الأول فيتم التقابل بين القرينتين وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا والَّذِينَ آمَنُوا وتَطْمَئِنُّ وبين جزئي التذييل: يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ ومن الناس من زعم أن الموصول الأول مبتدأ والموصول الثاني خبره وأَلا بِذِكْرِ اللَّهِ اعتراض وطُوبى لَهُمْ دعاء وهو كما ترى، وطُوبى قيل مصدر من طاب كبشرى وزلفى والواو منقلبة من الياء كموسر وموقن. وقرأ مكوزة الأعرابي «طيبي» ليسلم الياء، وقال أبو الحسن الهنائي: هي جمع طيبة كما قالوا في كيسة كوسى. وتعقبه أبو حيان بأن فعلى ليست من أبنية الجموع فلعله أراد أنه اسم جمع، وعلى الأول فلهم في المعنى المراد عبارات. فأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أن المعنى فرح وقرة عين لهم، وعن الضحاك غبطة لهم، وعن قتادة حسنى لهم. وفي رواية أخرى عنه أصابوا خيرا، وعن النخعي خير كثير لهم. وفي رواية أخرى عنه كرامة لهم، وعن سميط بن عجلان دوام الخير لهم ويرجع ذلك إلى معنى العيش الطيب لهم. وفي رواية عن ابن عباس. وابن جبير أن طُوبى اسم للجنة بالحبشية وقيل بالهندية، وقال القرطبي: الصحيح أنها علم لشجرة في الجنة، فقد أخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني والبيهقي في البعث والنشور، وصححه السهيلي وغيره عن عتبة ابن عبد قال: «جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أفي الجنة فاكهة؟ قال: نعم فيها شجرة تدعى طوبى هي نطاق الفردوس قال: أي شجر أرضنا تشبه؟ قال: ليس تشبه شيئا من شجر أرضك ولكن أتيت الشام؟ قال: لا قال: فإنها تشبه شجرة بالشام تدعى الجوزة تنبت على ساق واحد ثم ينتشر أعلاها قال: ما عظم أصلها؟ قال: لو ارتحلت جذعة من إبل أهلك ما أحطت بأصلها حتى تنكسر ترقوتاها هرما قال: فهل فيها عنب؟ قال: نعم. قال: ما عظم العنقود منه؟ قال: مسيرة شهر للغراب الأبقع» والأخبار المصرحة بأنها شجرة في الجنة منتشرة جدا، وحينئذ فلا كرم في جواز الابتداء بها وإن كانت نكرة فمسوغ الابتداء بها ما ذهب إليه سيبويه من أنه ذهب بها مذهب الدعاء كقولهم: سلام عليك الا أنه ذهب ابن مالك إلى أنه التزم فيها الرفع على الابتداء، ورد عليه بأن عيسى الثقفي قرأ وَحُسْنُ مَآبٍ بالنصب، وخرج ذلك ثعلب على أنه معطوف على طوبى وأنها في موضع نصب، وهي عنده مصدر معمول لقد رأى طاب واللام للبيان كما في سقيا له، ومنهم من قدر جعل طُوبى لَهُمْ وقال صاحب اللوامح: إن التقدير يا طوبى لهم ويا حسن مآب- فحسن- معطوف على المنادى وهو مضاف للضمير واللام مقحمة كما في قوله: يا بؤس للجهل ضرار الأقوام. ولذلك سقط التنوين من بؤس وكأنه قيل. يا طوباهم ويا حسن مآبهم أي ما أطيبهم وأحسن مآبهم كما تقول: يا طيبها ليلة أي ما أطيبها ليلة ولا يخفى ما فيه من التكلف. وأجاب السفاقسي عن ابن مالك بأنه يجوز نصب حُسْنُ بمقدر أي ورزقهم حسن مآب وهو بعيد. وقرئ «حسن مآب» بفتح النون ورفع «مآب» وخرج ذلك على أن حُسْنُ فعل ماض أصله حسن نقلت ضمة السين إلى الحاء ومثله جائز في فعل إذا كان للمدح أو الذم كما قالوا: حسن ذا أدبا كَذلِكَ أي مثل ذلك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 143 الإرسال العظيم الشأن المصحوب بالمعجزة الباهرة، ويجوز أن يراد مثل إرسال الرسل قبلك أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ فيكون قد شبه إرساله صلى الله عليه وسلم بإرسال من قبله وإن لم يجر لهم ذكر لدلالة قوله تعالى: قَدْ خَلَتْ أي مضت مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ كثيرة قد أرسل إليهم رسل عليهم وروي هذا عن الحسن، وقيل: الكاف متعلقة بالمعنى الذي في قوله تعالى: قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ إلخ أي كما أنفذنا ذلك أرسلناك ونقل نحوه عن الحوفي وقال ابن عطية: الذي يظهر أن المعنى كما أجرينا العادة في الأمم السابقة بأن نضل ونهدي بوحي لا بالآيات المقترحة كذلك أيضا فعلنا في هذه الأمة وأرسلناك إليهم بوحي لا بالآيات المقترحة فنضل من نشاء ونهدي من أناب، وقال أبو البقاء: التقدير الأمر كذلك، والحسن ما قدمناه وما روي عن الحسن. وفِي بمعنى إلى كما في قوله تعالى: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ [إبراهيم: 9] وقيل: هي على ظاهرها، وفيها إشارة إلى أنه من جملتهم وناشئ بينهم ولا تكون بمعنى إلى إذ لا حاجة لبيان من أرسل إليهم وفيه نظر ظاهر، وهي متعلقة بالفعل المذكور، وقول الزمخشري: في تفسير الآية يعني أرسلنا إرسالا له شأن وفضل على الإرسالات ثم فسر كيف أرسله بقوله: فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ أي أرسلناك في أمة قد تقدمها أمم كثيرة فهي آخر الأمم وأنت خاتم الأنبياء لم يرد به أنها لا تتعلق بالمذكور بل أراد أن المشار إليه المبهم لما كان ما بعده تفخيما كان بيانه بصلة ذلك الفعل حتى يزول الإبهام، ويجوز أن يريد ذلك فيقدر أرسلناك ثانيا ويكون قوله: أي أرسلناك في أمة إظهارا للمحذوف أيضا لا بيانا لحاصل الآية وهو الذي آثره العلامة الطيبي، والتعلق بالمذكور هو الظاهر، وجملة قَدْ خَلَتْ إلخ في موضع الصفة- لأمة- وفائدة الوصف بذلك قيل: ما أشار إليه الزمخشري. واعترض بأنه لا يلزم من تقدم أمم كثيرة قبل أن لا يكون أمة يرسل إليها بعد حتى يلزم أن يكون صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء عليهم السلام، وبحث فيه الشهاب بأن المراد بكون إرساله عليه الصلاة والسلام عجيبا أن رسالته أعظم من كل رسالة فهي جامعة لكل ما يحتاج إليه فيلزم أن لا نسخ إذ النسخ إنما يكون للتكميل والكامل أتم كمال غير محتاج لتكميل كما قال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: 3] اه ولعمري أن الاعتراض قوي والبحث في غاية الضعف إذ لا يلزم من كون إرساله صلى الله عليه وسلم عجيبا ما ادعاه، ولو سلمنا ذلك لا يلزم منه أيضا كونه عليه الصلاة والسلام خاتما إذ بعثه مقرر دينه الكامل كما بعث كثير من أنبياء بني إسرائيل لتقرير دين موسى عليه السلام لا يأبى ما ذكر من جامعية رسالته عليه الصلاة والسلام ولزوم عدم النسخ لذلك كما لا يخفى، ولعله لهذا اختار بعضهم ما روي عن الحسن وقال: منبها على فائدة الوصف يعني مثل إرسال الرسل قبلك أرسلناك إلى أمم تقدمتها أمم أرسلوا إليهم فليس ببدع إرسالك إليها لِتَتْلُوَا لتقرأ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أي الكتاب العظيم الشأن، ويشعر بهذا الوصف ذكر الموصول غير جار على موصوف، وإسناد الفعل في صلته إلى ضمير العظمة وكذا الإيصال إلى المخاطب المعظم بدليل سابقه على ما سمعت أولا، وتقديم المجرور على المنصوب من قبيل الإبهام ثم البيان كما في قوله تعالى: وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ [الشرح: 2] وفيه ما لا يخفى من ترقب النفس إلى ما سيرد وحسن قبولها له عند وروده عليها، وضمير الجمع للأمة باعتبار معناها كما روعي في ضمير خَلَتْ لفظها. وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ أي بالبليغ الرحمة الذي أحاطت بهم نعمته ووسعت كل شيء رحمته فلم يشكروا نعمه سبحانه لا سيما ما أنعم به عليهم بإرسالك إليهم وإنزال القرآن الذي هو مدار المنافع الدينية والدنيوية عليهم بل قابلوا رحمته ونعمه بالكفر ومقتضى العقل عكس ذلك، وكان الظاهر- بنا- إلا أنه التفت إلى الظاهر وأوثر هذا الاسم الدال على المبالغة في الرحمة للإشارة إلى أن الإرسال ناشئ منها كما قال سبحانه: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً الجزء: 7 ¦ الصفحة: 144 لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] وضمير الجمع للأمة أيضا، والجملة في موضع الحال من فاعل أَرْسَلْناكَ لا من ضمير عَلَيْهِمُ إذ الإرسال ليس للتلاوة عليهم حال كفرهم، ومنهم من جوز ذلك والتلاوة عليهم حال الكفر ليقفوا على إعجازه فيصدقوا به لعلمهم بأفانين البلاغة ولا ينافي تلاوته عليهم بعد إسلامهم، وجوز في الجملة أن تكون مستأنفة والضمير حسبما علمت، وقيل: إنه يعود على الذين قالوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ وقيل: يعود على أُمَّةٍ وعلى أُمَمٌ ويكون في الآية تسلية له صلى الله عليه وسلم، وعن قتادة. وابن جريج. ومقاتل أن الآية نزلت في مشركي مكة لما رأوا كتاب الصلح يوم الحديبية وقد كتب فيه علي كرم الله تعالى وجهه «بسم الله الرحمن الرحيم» فقال: سهيل بن عمرو: ما نعرف الرحمن إلا مسيلمة، وقيل: سمع أبو جهل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا الله يا رحمن فقال إن محمدا ينهانا عن عبادة الآلهة وهو يدعو إلهين فنزلت، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه لما قيل لكفار قريش: اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا: وَمَا الرَّحْمنُ [الفرقان: 60] ؟ فنزلت، وضعف كل ذلك بأنه غير مناسب لأنه يقتضي أنهم يكفرون بهذا الاسم وإطلاقه عليه سبحانه وتعالى والظاهر أن كفرهم بمسماه قُلْ حين كفروا به سبحانه ولم يوحدوه هُوَ أي الرحمن الذي كفرتم به رَبِّي خالقي ومتولي أمري ومبلغي إلى مراتب الكمال، وإيراد هذا قبل قوله تعالى: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي لا مستحق للعبادة سواه تنبيه على أن استحقاق العبادة منوط بالربوبية، والجملة داخلة في حيز القول وهي خبر بعد خبر عند بعض، وقال بعض آخر: إنه تعالى بعد أن نعى على الكفرة حالهم وعكسهم مقتضى العقل أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن ينبههم على خاصة نفسه ووظيفته من الشكر ومآل أمره تأنيبا لهم فقال: قل هو ربي الذي أرسلني إليكم وأيدني بما أيدني ولا رب لي سواه عَلَيْهِ لا على أحد سواه تَوَكَّلْتُ في جميع أموري لا سيما في النصرة عليكم وَإِلَيْهِ خاصة مَتابِ أي مرجعي فيثيبني على مصابرتكم ومجاهدتكم، وقوله سبحانه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ اعتراض أكد به اختصاص التوكل عليه سبحانه وتفويض الأمور عاجلا وآجلا إليه، ومثله قوله تعالى: اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 106] اه وإلى القول بالاعتراض ذهب صاحب الكشف وحمل على ذلك كلام الكشاف حيث ذكر بعد هُوَ رَبِّي الواحد المتعالي عن الشركاء فقال: جعله فائدة الاعتراض بلا إله إلا هو أي هذا البليغ الرحمة ولا إله إلا هو فهو بليغ الانتقام كما هو بليغ الرحمة يرحمني وينتقم لي منكم، وهو تمهيد أيضا لقوله: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ولم يجعل خبرا بعد خبر إذ ليس المقصود الإخبار بأنه تعالى متوحد بالإلهية بل المقصود أن المتوحد بها ربي وذلك يفيده الاعتراض وأما أن المفهوم من كلامه أنه حال ولذلك أجرى مجرى الوصف فكلا إلا أن يجعل حالا مؤكدة ولا يغاير الاعتراض إذا كثير مغايرة لكن الأول أملأ بالفائدة اه ولا يخفى ما في توجيه كلام الكشاف بذلك من الخفاء، وفي كون المقصود أن المتوحد بالإلهية ربي دون الإخبار بأنه تعالى متوحد بها على ما قيل تأمل. ولعل مبناه أن ما أثبته أوفق بالغرض الذي يشير كلامه إلى اعتباره مساقا للآية، وفيه من المبالغة في وصفه تعالى بالتوحد ما لا يخفى. نعم قيل للقول بالاعتراض وجه وأنه حينئذ لا يبعد أن يقال: إنه تعالى بعد أن ذكر إرساله صلى الله عليه وسلم إليهم وأن حالهم أنهم يكفرون بالبليغ الرحمة ولا يقابلون رحمته بالشكر فيأمنوا به ويوحدوه أمره بالإخبار بتخصيص توكله واعتماده على ذلك البليغ الرحمة ورجوعه في سائر أموره إليه إيماء إلى أن إصرارهم على الكفر لا يضره شيئا وأن له عليه الصلاة والسلام عاقبة محمودة وأنه سبحانه سينصره عليهم، وفي ذلك من تسفيه رأيهم في الإصرار على الكفر واستنهاضهم إلى اتباعه ما فيه إلا أنه عز شأنه أمره أولا أن يقول: هُوَ رَبِّي توطئة لذلك وجيء بلا إله إلا هو اعتراضا للتأكيد، والذي يميل إليه الطبع بعد التأمل وملاحظة الأسلوب القول بالاعتراض، ثم لا يخفى أن حمل وَإِلَيْهِ مَتابِ على إليه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 145 رجوعي في سائر أموري خلاف الظاهر وأنه على ذلك يكون كالتأكيد لما قبله، وقال شيخ الإسلام في تفسيره: أي إليه توبتي كقوله تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [غافر: 55، محمد: 19] أمر عليه الصلاة والسلام بذلك إبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله تعالى وأنها صفة الأنبياء وبعثا للكفرة على الرجوع عما هم عليه بأبلغ وجه وألطفه، فإنه عليه الصلاة والسلام حيث أمر بها وهو منزه عن شائبة اقتراف ما يوجبها من الذنب وإن قل فتوبتهم وهم عاكفون على أنواع الكفر والمعاصي مما لا بد منه أصلا اه، وفيه أن هذا إنما يصلح باعثا للإقلاع عن الذنب على أبلغ وجه وألطفه لو كان الكلام مع غير الكفرة الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعا، ولعل ذلك ظاهر عند المنصف، وقال العلامة البيضاوي، في ذلك: أي إليه مرجعي ومرجعكم وكأنه أراد أيضا فيرحمني وينتقم منكم، والانتقام من الرحمن أشد كما قيل: أعوذ بالله تعالى من غضب الحليم. وتعقب بأنه إنما يتم لو كان المضاف إليه المحذوف ضمير المتكلم ومعه غيره أي متابنا إذ يكون حينئذ مرجعي ومرجعكم تفصيلا لذلك ولا يكاد يقول به أحد مع قوله بكسر الباء فإنه يقتضي أن يكون المحذوف الياء على أن ذلك الضمير لا يناسب ما قبله، ولعل العلامة اعتبر أن في الآية اكتفاء على ما قيل: أي متابي ومتابكم أو أن الكلام دال عليه التزاما وهذا أولى على ما قيل فتأمل وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً أي قرآنا ما، والمراد به المعنى اللغوي، وهو اسم أن والخبر قوله تعالى شأنه: سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ وجواب لَوْ محذوف لا نسياق الكلام إليه كما في قوله: فأقسم لو شيء أتانا رسوله ... سواك ولكن لم نجد لك مدفعا والمقصود إما بيان عظم شأن القرآن العظيم وفساد رأي الكفرة حيث لم يقدروا قدره ولم يعدوه من قبيل الآيات واقترحوا غيره وإما بيان غلوهم في المكابرة والعناد وتماديهم في الضلالة والفساد، والمعنى على الأول لو أن كتابا سيرت بإنزاله أو بتلاوته الجبال وزعزعت عن مقارها كما فعل ذلك بالطور لموسى عليه السلام أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أي شققت وجعلت أنهارا وعيونا كما فعل بالحجر حين ضربه موسى عليه السلام بعصاه أو جعلت قطعا متصدعة أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى أي كلم أحد به الموتى بأن أحياهم بقراءته فتكلم معهم بعد، وذلك كما وقع الاحياء لعيسى عليه السلام لكان ذلك هذا القرآن لكونه الغاية القصوى في الانطواء على عجائب آثار قدرة الله تعالى وهيبته عز وجل كقوله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر: 21] قاله بعض المحققين، وقيل: في التعليل لكونه الغاية في الإعجاز والنهاية في التذكير والإنذار. وتعقب بأنه لا مدخل للإعجاز في هذه الآثار والتذكير والإنذار مختصان بالعقلاء مع أنه لا علاقة لذلك بتكليم الموتى واعتبار فيض العقول إليها مخل بالمبالغة المقصودة، وبحث فيه بأن ما ذكر أولا من مزيد الانطواء على عجائب آثار قدرة الله تعالى أمر يرجع إلى الهيبة وهي أيضا مما لا يترتب عليها تكليم الموتى بل لعلها مانعة من ذلك لأنها حيث اقتضت تزعزع الجبال وتقطع الأرض فلأن تقتضي موت الأحياء دون إحياء الأموات الذي يكون التكليم بعده من باب أولى وفيه نظر، والباء في المواضع الثلاثة للسببية وجوز في الثالث منها أن تكون صلة ما عندها، وتقديم المجرور فيها على المرفوع لقصد الإبهام، ثم التفسير لزيادة التقرير على ما مر غير مرة. وأَوْ في الموضعين لمنع الخلو لا الجمع، والتذكير في كُلِّمَ لتغليب المذكر من الموتى على غيره، واقتراحهم وإن كان متعلقا بمجرد ظهور مثل هذه الأفاعيل العجيبة على يده صلى الله عليه وسلم لا بظهورها بواسطة القرآن لكن ذلك حيث كان مبنيا على عدم اشتماله في زعمهم على الخوارق نيط ظهورها به مبالغة في شأن اشتماله عليها وأنه حقيق بأن يكون مصدرا لكل خارق وإبانة لركاكة رأيهم في شأنه الرفيع كأنه قيل: لو أن ظهور أمثال ما اقترحوه من مقتضيات الجزء: 7 ¦ الصفحة: 146 الحكمة لكان مظهرها هذا القرآن الذي لم يعدوه آية، وفيه من تفخيم شأنه العزيز ووصفهم بركاكة العقل ما لا يخفى كذا حققه بعض الأجلة وهو من الحسن بمكان، وعلى الثاني لو أن قرآنا فعلت به هذه الأفاعيل العجيبة لما آمنوا به كقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى [الأنعام: 111] الآية، والكلام على ما استظهره الشهاب على التقديرين حقيقة على سبيل الفرض كقوله: ولو طار ذو حافر قبلها ... لطارت ولكنه لم يطر وجعله على الأول تمثيلا كالآية المذكورة هناك على ما قال لا وجه له، وتمثيل الزمخشري بها لبيان أن القرآن يقتضي غاية الخشية، وصنيع كثير من المحققين ظاهر في ترجيح التقدير الأول، وفي الكشف لو تأملت في هذه السورة الكريمة حق التأمل وجدت بناء الكلام فيها على حقية الكتاب المجيد واشتماله على ما فيه صلاح الدارين وإن السعيد كل السعيد من تمسك بحبله والشقي كل الشقي من أعرض عنه إلى هواه حيث قال تعالى أولا: وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ [الرعد: 1] ثم تعجب من إنكارهم ذلك بقوله سبحانه: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ ثم قال تعالى: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ [الرعد: 14] فأثبت حقيته بالحجة، ثم قال جل وعلا: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً [الرعد: 17] وهو مثل للحق الذي هو القرآن ومن انتفع به على ما فسره المحققون، ثم صرح تعالى بنتيجة ذلك كله بالبرهان النير في قوله سبحانه: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى [الرعد: 19] ثم أعاد جل شأنه قوله: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا دلالة على إنكارهم أول ما أتاهم وبعد رصانة علمهم بحقيته فهم متمادون في الإنكار، ثم كر إلى بيان الحقية فيما نحن فيه وبالغ المبالغة التي ليس بعدها سواء جعل داخلا في حيز القول أو جعل ابتداء كلام منه تعالى تذييلا وهو الأبلغ ليكون مقصودا بذاته في الإفادة المذكورة مؤكدا لمجموع ما دل عليه قوله تعالى: وكَذلِكَ أَرْسَلْناكَ من تعظيم الرسول عليه الصلاة والسلام وما أنزل عليه وشدة إنكارهم وتصميمهم لا علاوة في أن لم يبق إلا التوكل والصبر على مجاهدتكم إذ لا وراء هذا القرآن حتى أجيء به لتسلموا ثم فخمه ونعى عليهم مكابرتهم بقوله تعالى وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وأيد حقية الكتاب فيمن أنزل عليه في خاتمة السورة بقوله جل وعلا: كَفى بِاللَّهِ إلى قوله سبحانه: عِلْمُ الْكِتابِ تنبيها على أنه مع ظهور أمره في إفادة الحقائق العرفانية والخلائق الإيمانية لا يعلم حقيقة ما فيه إلا من تفرد به وبإنزاله تبارك وتعالى اه. وفي سبب النزول وستعلمه قريبا إن شاء الله تعالى مما يؤيد الثاني، والظاهر على حققه وأشرنا إليه أولا أن الآية على الأول متعلقة بقوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ وهي على الثاني متعلقة بقوله سبحانه وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ بيانا لتصميمهم في كفرهم وإنكارهم الآيات ومن أتى بها لا بذلك لبعد المرمى من غير ضرورة، وقوله تعالى: بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أي له الأمر الذي يدور عليه فلك الأكوان وجودا وعدما يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد حسبما تقتضيه الحكم البالغة، قيل: إضراب عما تقتضيه الشرطية من معنى النفي لا بحسب منطوقه بل باعتبار موجبه ومؤداه أي لو أن قرآنا فعل به ما ذكر لكان ذلك هذا القرآن ولكن لم يفعل سبحانه بل فعل ما عليه الشأن الآن لأن الأمر كله له وحده، فالإضراب ليس بمتوجه إلى كون الأمر لله تعالى بل إلى ما يؤدي إليه ذلك من كون الشأن على ما كان لما تقتضيه الحكمة، وقيل: إن حاصل الإضراب لا يكون تسيير الجبال مع ما ذكر بقرآن بل يكون بغيره مما أراده الله تعالى فإن الأمر له سبحانه جميعا، وزعم بعضهم أن الأحسن العطف على مقدر أي ليس لك من الأمر شيء بل الأمر لله جميعا، ومعنى قوله سبحانه: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أفلم يعلموا وهي- كما قال القاسم بن معن لغة هوازن، وقال ابن الكلبي: هي لغة حي من النخع، وأنشدوا على ذلك قول سحيم بن وثيل الرباحي: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 147 أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني ... ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم وقول رباح بن عدي: ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه ... وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا فإنكار الفراء ذلك وزعمه أنه لم يسمع أحد من العرب يقول يئست بمعنى علمت ليس في محله، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، والظاهر أن استعمال اليأس في ذلك حقيقة، وقيل: مجاز لأنه متضمن للعلم فإن الآيس عن الشيء عالم بأنه لا يكون، واعترض بأن اليأس حينئذ يقتضي حصول العلم بالعدم وهو مستعمل في العلم بالوجود، وأجيب بأنه لما تضمن العلم بالعدم تضمن مطلق العلم فاستعمل فيه، ويشهد لإرادة العلم هنا قراءة علي كرم الله تعالى وجهه، وابن عباس. وعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم. وعكرمة. وابن أبي مليكة. والجحدري. وأبي يزيد المدني. وجماعة «أفلم يتبين» من تبينت كذا إذا علمته وهي قراءة مسندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست مخالفة للسواد إذ كتبوا ييئس بغير صورة الهمزة (1) وأما قول من قال: إنما كتبه الكاتب وهو ناعس فسوى أسنان السين فهو قول زنديق ابن ملحد على ما في البحر، وعليه فرواية ذلك كما في الدر المنثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما غير صحيحة، وزعم بعضهم أنها قراءة تفسير وليس بذاك، والفاء للعطف على مقدر أي أغفلوا عن كون الأمر جميعه لله تعالى فلم يعلموا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ بتخفيف أن وجعل اسمها ضمير الشأن والجملة الامتناعية خبرها وأن وما بعدها ساد مسد مفعولي العلم لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً أي بإظهار أمثال تلك الآثار العظيمة، والإنكار على هذا متوجه إلى المعطوفين جميعا أو أعلموا كون الأمر جميعا لله تعالى فلم يعلموا ما يوجبه ذلك العلم مما ذكر. وحينئذ هو متوجه إلى ترتب المعطوف على المعطوف عليه أي تخلف العلم الثاني عن العلم الأول، وأيّا ما كان فالإنكار إنكار الوقوع لا الواقع ومناط الإنكار ليس عدم علمهم بمضمون الشرطية فقط بل عدم علمهم بعدم تحقق مقدمها كأنه قيل: ألم يعلموا أن الله تعالى لو شاء هدايتهم لهداهم وأنه سبحانه لم يشأ ذلك، وذلك لما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الكفار لما سألوا الآيات ود المؤمنون أن يظهرها الله تعالى ليجتمعوا على الإيمان هذا على التقدير الأول، وأما على التقدير الثاني فالإضراب متوجه إلى ما سلف من اقتراحهم مع كونهم في العناد على ما شرح، والمعنى فليس لهم ذلك بل لله تعالى الأمر إن شاء أتى بما اقترحوا وإن شاء سبحانه لم يأت به حسبما تستدعيه حكمته الباهرة من غير أن يكون لأحد عليه جل جلاله حكم أو اقتراح، واليأس بمعنى القنوط كما هو الشائع في معناه أي ألم يعلم الذين آمنوا حالهم هذه فلم يقنطوا من إيمانهم حتى ودوا ظهور مقترحاتهم فالإنكار متوجه إلى المعطوفين أو أعلموا ذلك فلم يقنطوا من إيمانهم فهو متوجه إلى وقوع المعطوف بعد المعطوف عليه أي إلى تخلف القنوط عن العلم المذكور، والإنكار على هذين التقديرين إنكار الواقع لا الوقوع فإن عدم قنوطهم من ذلك مما لا مرد له، وقوله تعالى: أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ إلى آخره مفعول به لعلما محذوف وقع مفعولا له أي أفلم ييأسوا من إيمان الكفار علما منهم بأنه لو يشاء الله لهدى الناس جميعا وأنه لم يشأ ذلك، وقد يجعل العلم في موضع الحال أي عالمين بذلك، ولم يعتبر التضمين لبعده، ويجوز أن يكون متعلقا- بآمنوا- بتقدير الباء أي أفلم يقنط الذين آمنوا وصدقوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا على معنى أفلم ييأس من إيمان هؤلاء الكفرة المؤمنون بمضمون هذه الشرطية وبعدم تحققها المنفهم من مكابرتهم حسبما يحكيه كلمة لَوْ فالوصف المذكور من دواعي إنكار يأسهم، وبما أشرنا إليه ينحل ما قيل: من أن تعلق الإيمان بمضمون الشرطية   (1) قيل: إن رسم ييأس ولا تيأسوا بألف ورسم غيرهما من نظائرهما بدونهما فليراجع اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 148 وتخصيصه بالذكر يقتضي أن لذلك دخلا في اليأس من الإيمان مع أن الأمر بالعكس لأن قدرة الله تعالى على هداية جميع الناس يقتضي رجاء إيمانهم لا اليأس منه وذلك لاعتبار العلم بعدم تحقق المضمون أيضا. وقال بعضهم في الجواب عن ذلك: إن وجه تخصيص الإيمان بذلك أن إيمان هؤلاء الكفرة المصممين كأنه محال متعلق بما لا يكون لتوقفه على مشيئة الله تعالى هداية جميع الناس وذلك ما لا يكون بالاتفاق وهو في معنى ما أشير إليه، وذكر أبو حيان احتمالا آخر في الآية وهو أن الكلام قد تم عند قوله سبحانه: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا وهو تقرير أي قد يئس المؤمنون من إيمان هؤلاء المعاندين أَنْ لَوْ يَشاءُ إلخ جواب قسم محذوف أي أقسم لو يشاء الله لهدى الناس جميعا، ويدل على إضمار القسم وجود أن مع لو كقوله: أما والله ان لو كنت حرا ... وما بالحر أنت ولا العتيق وقوله: فأقسم أن لو التقينا وأنتم ... لكان لنا يوم من الشر مظلم وقد ذكر سيبويه أن أن تأتي بعد القسم، وجعلها ابن عصفور رابطة للقسم بالجملة المقسم عليها انتهى، وفيه من التكلف ما لا يخفى، ومن الناس من جعل الإضراب مطلقا عما تضمنه لَوْ من معنى النفي على معنى بل الله تعالى قادر على الإتيان بما اقترحوا إلا أن إرادته لم تتعلق بذلك لعلمه سبحانه بأنه لا تلين له شكيمتهم، ولا يخفى أنه ظاهر على التقدير الثاني. وأما على التقدير الأول فقد قيل: إن إرادة تعظيم شأن القرآن لا تنافي الرد على المقترحين، وأيد جانب الرد بما أخرجه ابن أبي شيبة. وابن المنذر وغيرهما عن الشعبي قال: قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن كنت نبيا كما تزعم فباعد جبلي مكة أخشبيها هذين مسيرة أربعة أيام أو خمسة فإنها ضيقة حتى نزرع فيها ونرعى وابعث لنا أباءنا من الموتى حتى يكلمونا ويخبرونا أنك نبي أو احملنا إلى الشام أو إلى اليمن أو إلى الحيرة حتى نذهب ونجيء في ليلة كما زعمت أنك فعلته فنزلت هذه الآية. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس أنهم قالوا: سير بالقرآن الجبال، قطع بالقرآن الأرض، أخرج به موتانا فنزلت، وعلى هذا لا حاجة إلى الاعتذار في إسناد الأفاعيل المذكورة إلى القرآن كما احتيج إليه فيما تقدم، وعلى خبر الشعبي يراد من تقطيع الأرض قطعها بالسير، ويشهد للتفسير بما قدمنا أولا ما أخرجه أبو نعيم في الدلائل. وغيره من حديث الزبير بن العوام أنه لما نزلت «وأنذر عشيرتك الأقربين» صاح رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي قبيس يا آل عبد مناف إني نذير فجاءته عليه الصلاة والسلام قريش فحذرهم وأنذرهم فقالوا، تزعم أنك نبي يوحى إليك وأن سليمان سخر له الريح والجبال وأن موسى سخر له البحر وأن عيسى كان يحيي الموتى فادع الله تعالى أن يسير عنا هذه الجبال ويفجر لنا الأرض أنهارا فنتخذ محارث فنزرع ونأكل وإلا فادع الله تعالى أن يحيي لنا موتانا نكلمهم ويكلمونا وإلا فادع الله تعالى أن يجعل هذه الصخرة التي تحتك ذهبا فننحت منها وتغنينا عن رحلة الشتاء والصيف فإنك تزعم أنك كهيئتهم. الخبر، وفيه فنزلت وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ [الإسراء: 59] إلى تمام ثلاث آيات، ونزلت وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً الآية هذا. وعن الفراء أن جواب لَوْ مقدم وهو قوله تعالى: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ وما بينهما اعتراض وهو مبني- كما قيل- على جواز تقديم جواب الشرط عليه، ومن النحويين من يراه، ولا يخفى أن في اللفظ نبوة عن ذلك لكون تلك الجملة اسمية مقترنة بالواو، ولذا أشار السمين إلى أن مراده أن تلك الجملة دليل الجواب والتقدير ولو أن قرآنا فعل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 149 به كذا وكذا لكفروا بالرحمن، وأنت تعلم أنه لا فرق بين هذا وتقدير لما آمنوا في المعنى، وجوز جعل لَوْ وصلية ولا جواب لها والجملة حالية أو معطوفة على مقدر. وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة على ما روي عن مقاتل تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا أي بسبب ما صنعوه من الكفر والتمادي فيه، وإبهامه إما لقصد تهويله أن استهجانه، وهو تصريح بما أشعر به بناء الحكم على الموصول من علية الصلة له مع ما في صيغة الصنع من الإيذان برسوخهم في ذلك قارِعَةٌ من القرع وأصله ضرب شيء بشيء بقوة، ومنه قوله: ولما قرعنا النبع بالنبع بعضه ... ببعض أبت عيدانه أن تكسرا والمراد بها الرزية التي تقرع قلب صاحبها، وهي هنا ما كان يصيبهم من أنواع البلايا والمصائب من القتل والأسر والنهب والسلب، وتقديم المجرور على الفاعل لما مر غير مرة من إرادة التفسير إثر الإبهام لزيادة التقرير والأحكام مع ما فيه من بيان أن مدار الإصابة من جهتهم أثر ذي أثير أَوْ تَحُلُّ تلك القارعة قَرِيباً مكانا قريبا مِنْ دارِهِمْ فيفزعون منها ويتطاير إليهم شررها، شبه القارعة بالعدو المتوجه إليهم فاسند إليها الإصابة تارة والحلول أخرى ففيه استعارة بالكناية وتخييل وترشيخ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ أي موتهم أو القيامة فإن كلا منهما وعد محتوم لا مرد له، وفيه دلالة على أن ما يصيبهم حينئذ من العذاب أشد، ثم حقق ذلك بقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ أي الوعد كالميلاد والميثاق بمعنى الولادة والتوثقة، ولعل المراد به ما يندرج تحته الوعد الذي نسب إليه الإتيان لا هو فقط، قال القاضي: وهذه الآية تدل على بطلان من يجوز الخلف على الله تعالى في ميعاده وهي وإن كانت واردة في حق الكفار إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وعمومه يتناول كل وعيد ورد في حق الفساق، وأجاب الإمام بأن الخلف غير وتخصيص العموم غير، ونحن لا نقول بالخلف ولكنا نخصص عمومات الوعيد بالآيات الدالة على العفو، وأنت تعلم أن المشهور في الجواب أن آيات الوعد مطلقة وآيات الوعيد وإن وردت مطلقة لكنها مقيدة حذف قيدها لمزيد التخويف ومنشأ الأمرين عظم الرحمة ونهاية الكرم، والفرق بين الوعد والوعيد أظهر من أن يذكر. نعم قد يطلق الوعد على ما هو وعيد في نفس الأمر لنكتة وليتأمل فيما هنا على الوجه الذي تقرر. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد بالقارعة السرايا التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثها كانوا بين غارة واختطاف وتخويف بالهجوم عليهم في دارهم. فالإصابة والحلول حينئذ من أحوالهم، وجوز على هذا أن يكون قوله تعالى: أَوْ تَحُلُّ خطابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مرادا به حلول الحديبية، والمراد بوعد الله تعالى ما وعد به من فتح مكة. وعزا ذلك الطبري إلى ابن عباس. ومجاهد وقتادة. وروي عن مقاتل. وعكرمة. وذهب ابن عطية إلى أن المراد- بالذين كفروا- كفار قريش. والعرب، وفسر القارعة بما ينزل بهم من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن الحسن. وابن السائب أن المراد بهم الكفار مطلقا قالا: وذلك الأمر مستمر فيهم إلى يوم القيامة، ولا يتأتى على هذا أن يراد بالقارعة سرايا رسول الله عليه الصلاة والسلام فيراد بها حينئذ ما ذكر أولا، وأنت تعلم أنه إذا أريد جنس الكفرة لا يلزم منه حلول ما تقدم بجميعهم. وقرأ مجاهد وابن جبير «أو يحل» بالياء على الغيبة، وخرج ذلك على أن يكون الضمير عائدا على القارعة باعتبار أنها بمعنى البلاء أو بجعل هائها للمبالغة أو على أن يكون عائدا على الرسول عليه الصلاة والسلام. وقرآ أيضا «من ديارهم» على الجمع. وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي تركتهم ملاوة أي من الزمان ومنه الملوان في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 150 أمن ودعة كما يملى للبهيمة في المرعى، وهذا تسلية للحبيب صلى الله عليه وسلم عما لقي من المشركين من الاستهزاء به عليه الصلاة والسلام وتكذيبه وعدم الاعتداد بآياته واقتراح غيرها وكل ذلك في المعنى استهزاء ووعيد لهم، والمعنى أن ذلك ليس مختصا بك بل هو أمر مطرد قد فعل برسل جليلة كثيرة كائنة من قبلك فأمهلت الذين فعلوه بهم، والعدول في الصلة إلى وصف الكفر ليس لأن المملى لهم غير المستهزئين بل للإشارة إلى أن ذلك الاستهزاء كفر كما قيل. وفي الإرشاد لإرادة الجمع بين الوصفين أي فأمليت للذين كفروا بكفرهم مع استهزائهم لا باستهزائهم فقط ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ أي عقابي إياهم، والمراد التعجيب مما حل بهم وفيه من الدلالة على شدته وفظاعته ما لا يخفى. أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ أي رقيب ومهيمن عَلى كُلِّ نَفْسٍ كائنة ما كانت بِما كَسَبَتْ فعلت من خير أو شر لا يخفى عليه شيء من ذلك ولا يفوته ما يستحقه كل من الجزاء وهو الله تعالى شأنه، وما حكاه القرطبي عن الضحاك من أن المراد بذلك الملائكة الموكلون ببني آدم فمما لا يكاد يعرج عليه هنا، ومن مبتدأ والخبر محذوف أي كمن ليس كذلك، ونظيره قوله تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [الزمر: 22] وحسن حذفه المقابلة، وقد جاء مثبتا كثيرا كقوله تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ [النحل: 17] وقوله سبحانه: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى [الرعد: 19] إلى غير ذلك، والهمزة للاستفهام الإنكاري، وإدخال الفاء قيل: لتوجيه الإنكار إلى توهم المماثلة غب ما علم مما فعل سبحانه بالمستهزئين من الإملاء والأخذ ومن كون الأمر كله له سبحانه وكون هداية الناس جميعا منوطة بمشيئته جل وعلا ومن تواتر القوارع على الكفرة حتى يأتي وعده تعالى كأنه قيل: الأمر كذلك فمن هذا شأنه كما ليس في عداد الأشياء حتى يشركوه به فالإنكار متوجه إلى ترتب المعطوف أعني توهم المماثلة على المعطوف عليه المقدر أعني كون الأمر كما ذكر (1) لا إلى المعطوفين جميعا (2) وفي الكشف أنه ضمن هذا التعقيب الترقي في الإنكار يعني لا عجب من إنكارهم لآياتك الباهرة مع ظهورها إنما العجب كل العجب جعلهم القادر على إنزالها المجازي لهم على اعراضهم عن تدبر معانيها وأمثالها بقوارع تترى واحدة غب أخرى يشاهدونها رأي عين تترامى بهم إلى دار البوار وأهوالها كمن لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا فضلا عمن اتخذه ربا يرجو منه دفعا أو جلبا. وزعم بعضهم أن الفاء للتعقيب الذكرى أي بعد ما ذكر أقول هذا الأمر وليس بذاك وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ جملة مستأنفة وفيها دلالة على الخبر المحذوف، وجوز أن تكون معطوفة على كَسَبَتْ على تقدير أن تكون بِما مصدرية لا موصولة والعائد محذوف، ولا يلزم اجتماع الأمرين حتى يخص كل نفس بالمشركين، وأبعد من قال: إنها عطف على اسْتُهْزِئَ وجوز أن تكون حالية على معنى أفمن هذه صفاته كمن ليس كذلك؟ وقد جعلوا له شركاء لا شريكا واحدا، وقال صاحب حل العقد: المعنى على الحالية أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت موجود والحال أنهم جعلوا له شركاء، وهذا نظير قولك: أجواد يعطي الناس ويغنيهم موجود ويحرم مثلي. ومنهم من أجاز العطف على جملة أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ كمن ليس كذلك لأن الاستفهام الإنكاري بمعنى النفي فهي خبرية معنى، وقدر آخرون الخبر- لم يوحدوه- وجعل العطف عليه أي أفمن هذا شأنه لم يوحدوه وجعلوا له شركاء وظاهر كلامهم اختصاص العطف على الخبر بهذا التقدير دون تقدير كمن ليس كذلك، قال البدر الدماميني: ولم يظهر وجه الاختصاص، ووجه ذلك الفاضل الشمني بأن حصول المناسبة بين   (1) كما في قولك أتعلم الحق فلا تعمل به اه منه. (2) كما في قولك ألا تعلم الحق فلا تعمل به اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 151 المعطوف والمعطوف عليه التي هي شرط قبول العطف بالواو إنما هو على التقدير الأخير دون التقدير الأول. ويدل على الاشتراط قول أهل المعاني: زيد يكتب ويشعر مقبول دون يعطي ويشعر. وتعقبه الشهاب بأنه من قلة التدبر فإن مرادهم أنه على التقدير الأول يكون الاستفهام إنكاريا بمعنى لم يكن نفيا للتشابه على طريق الإنكار فلو عطف جعلهم شركاء عليه يقتضي أنه لم يكن وليس بصحيح، وعلى التقدير الأخير الاستفهام توبيخي والإنكار فيه بمعنى لم كان وعدم التوحيد وجعل الشركاء واقع موبخ عليه منكر فيظهر العطف على الخبر، وأما ما ذكر من حديث التناسب فغفلة لأن المناسبة بين تشبيه الله سبحانه بغيره والشرك تامة وعلى الوجه الأخير عدم التوحيد عين الإشراك فليس محلا للعطف عند أهل المعاني على ما ذكره فهو محتاج إلى توجيه آخر. واختار بعض المحققين التقدير الأول، وفي ذلك الحذف تعظيم للقالة وتحقير لمن زن بتلك الحالة، وفي العدول عن صريح الاسم في أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ تفخيم فخيم بواسطة الإبهام المضمر في إيراده موصولا مع تحقيق أن القيام كائن وهم محققون، وفي وضع الاسم الجليل موضع المضمر الراجع إلى من تنصيص على وحدانيته تعالى ذاتا واسما وتنبيه على اختصاصه باستحقاق العبادة مع ما فيه من البيان بعد الإبهام، ولعل توجيه الوضع المذكور مما لا يختص به تقدير دون تقدير وخصه بعضهم فيما يحتاج عليه إلى ضمير قُلْ سَمُّوهُمْ تبكيت إثر تبكيت أي سموهم من هم وماذا أسماؤهم؟ وفي البحر أن المعنى أنهم ليسوا ممن يذكر ويسمى إنما يذكر ويسمى من ينفع ويضر، وهذا مثل أن يذكر لك أن شخصا يوقر ويعظم وهو عندك لا يستحق ذلك فتقول لذاكره: سمه حتى أبين لك زيفه وأنه بمعزل عن استحقاق ذلك، وقريب منه ما قيل: إن ذلك إنما يقال في الشيء المستحقر الذي يبلغ في الحقارة إلى أن لا يذكر ولا يوضع له اسم فيقال سمه على معنى أنه أخس من أن يذكر ويسمى ولكن إن شئت أن تضع له اسما فافعل فكأنه قيل: سموهم بالآلهة على التهديد، والمعنى سواء سميتوهم بذلك أم لم تسموهم به فإنهم في الحقارة بحيث لا يستحقون أن يلتفت إليهم عاقل، وقيل: إن التهديد هنا نظير التهديد لمن نهي عن شرب الخمر ثم قيل له: سم الخمر بعد هذا وهو خلاف الظاهر، وقيل: المعنى اذكروا صفاتهم وانظروا هل فيها ما يستحقون به العبادة ويستأهلون الشركة أَمْ تُنَبِّئُونَهُ أي بل أتخبرون الله تعالى بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أي بشركاء مستحقين للعبادة لا يعلمهم سبحانه وتعالى، والمراد نفيها بنفي لازمها على طريق الكناية لأنه سبحانه إذا كان لا يعلمها وهو الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء فهي لا حقيقة لها أصلا، وتخصيص الأرض بالذكر لأن المشركين إنما زعموا أنه سبحانه له شركاء فيها، والضمير المستقر في يَعْلَمُ على هذا التفسير لله تعالى والعائد على ما محذوف كما أشرنا إلى ذلك. وجوز أن يكون العائد ضمير «يعلم» والمعنى أتنبئون الله تعالى بشركة الأصنام التي لا تتصف بعلم البتة، وذكر نفي العلم في الأرض لأن الأرض مقر الأصنام فإذا انتفى علمها في المقر التي هي فيه فانتفاؤه في السموات العلى أحرى، وقرأ الحسن «أتنبئونه» بالتخفيف من الأنباء أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ أي بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير معنى متحقق في نفس الأمر كتسمية الزنجي كافورا كقوله تعالى: ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ [التوبة: 30] وروي عن الضحاك. وقتادة أن الظاهر من القول الباطل منه، وأنشدوا من ذلك قوله: أعيرتنا ألبانها ولحومها ... وذلك عار يا ابن ريطة ظاهر ويطلق الظاهر على الزائل كما في قوله: وعيرها الواشون أني أحبها ... وتلك شكاة ظاهر عنك عارها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 152 ومن أراد ذلك هنا فقد تكلف، وعن الجبائي أن المراد من- ظاهر من القول- ظاهر كتاب أنزله الله تعالى وسمى به الأصنام آلهة حقة، وحاصل الآية نفي الدليل العقلي والدليل السمعي على حقية عبادتها واتخاذها آلهة، وجوز أن تكون أَمْ متصلة والانقطاع هو الظاهر، ولا يخفى ما في الآية من الاحتجاج والأساليب العجيبة ما ينادي بلسان طلق ذلق أنه ليس من كلام البشر كما نص على ذلك الزمخشري، وبين ذلك صاحب الكشف بأنه لما كان قوله تعالى: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ كافيا في هدم قاعدة الإشراك للتفرع السابق والتحقق بالوصف اللاحق مع ما ضمن من زيادات النكت وكان إبطالا من طرف الحق وذيل باطاله من طرف النقيض على معنى وليتهم إذا أشركوا بمن لا يجوز أن يشرك به أشركوا من يتوهم فيه أدنى توهم وروعي فيه أنه لا أسماء للشركاء فضلا عن المسمى على الكناية الإيمائية ثم بولغ فيه بأنه لا يستأهل السؤال عن حالها بظهور فسادها وسلك فيه مسلك الكناية التلويحية من نفي العلم بنفي المعلوم ثم منه بعدم الاستئهال، والهمزة المضمنة فيها تدل على التوبيخ وتقرير أنهم يريدون أن ينبئوا عالم السر والخفيات بما لا يعلمه وهذا محال على محال، وفي جعله اتخاذهم شركاء ومجادلتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتة سرية بل نكت سرية ثم أضرب عن ذلك، وقيل: قد بين الشمس لذي عينين وما تلك التسمية إلا بظاهر من القول من غير أن يكون تحته طائل وما هو إلا مجرد صوت فارغ حق لمن تأمل فيه حق التأمل أن يعترف بأنه كلام مصون عن التعمل، صادر عن خالق القوى والقدر، تتضاءل عن بلوغ طرف من أسراره إفهام البشر. وقد ذيل الزمخشري كلامه بقوله فتبارك الله أحسن الخالقين، وهي كما في الانتصاف كلمة حق أريد بها باطل يدندن بها من هو عن حلية الإنصاف عاطل هذا بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إضراب عن الاحتجاج عليهم، ووضع الموصول موضع المضمر ذما لهم وتسجيلا عليهم بالكفر كأنه قيل دع هذا فإنه لا فائدة فيه لأنهم زين لهم مَكْرُهُمْ كيدهم للاستلام بشركهم أو تمويههم الأباطيل فتكلفوا إيقاعها في الخيال من غير حقيقة ثم بعد ذلك ظنوها شيئا لتماديهم في الضلال، وعلى هذا المراد مكرهم بأنفسهم وعلى الأول مكرهم بغيرهم، وإضافة- مكر- إلى ضميرهم من إضافة المصدر إلى الفاعل، وجوز على الثاني أن يكون مضافا إلى المفعول وفيه بعد. وقرأ مجاهد «بل زيّن» على البناء للفاعل و «مكرهم» بالنصب وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ أي سبيل الحق فتعريفه للعهد أو ما عداه كأنه غير سبيل، وفاعل الصد إما مكرهم ونحوه أو الله تعالى بختمه على قلوبهم أو الشيطان بإغوائه لهم، والاحتمالان الأخيران جاريان في فاعل التزيين، وقرأ ابن كثير. ونافع. وأبو عمرو. وابن عامر «وصدّوا» على البناء للفاعل وهو كالأول من صده صدا فالمفعول محذوف أي صدوا الناس عن الإيمان، ويجوز أن يكون من صد صدودا فلا مفعول. وقرأ ابن وثاب «وصدّوا» بكسر الصاد، وقال بعضهم: إنه قرأ كذلك في المؤمن والكسر هنا لابن يعمر، والفعل على ذلك مجهول نقلت فيه حركة العين إلى الفاء إجراء له مجرى الأجوف. وقرأ ابن أبي إسحق «وصد» بالتنوين عطفا على مكرهم وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ أي يخلق فيه الضلال لسوء استعداده فَما لَهُ مِنْ هادٍ يوفقه للهدى ويوصله إلى ما فيه لَهُمْ عَذابٌ شاق فِي الْحَياةِ الدُّنْيا . بالقتل والأسر وسائر ما يصيبهم من المصائب فإنها إنما تصيبهم عقوبة من الله تعالى على كفرهم، وأما وقوع مثل ذلك للمؤمن فعلى طريق الثواب ورفع الدرجات وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ من ذلك لشدته ودوامه وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ أي عذابه سبحانه مِنْ واقٍ من حافظ يعصمهم من ذلك- فمن- الأولى صلة واقٍ والثانية مزيدة للتأكيد، ولا يضر تقديم معمول المجرور عليه لأن الزائد لا حكم له. وجوز أن تكون مِنَ الأولى ظرفا مستقرا وقع حالا من واقٍ وصلته محذوفة، والمعنى ما لهم واق وحافظ من عذاب الله تعالى حال كون ذلك الواقي من جهته تعالى ورحمته ومِنَ على هذا للتبيين، وجوز أيضا أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 153 تكون لغوا متعلقة بما في الظرف أعني لَهُمْ من معنى الفعل وهي للابتداء، والمعنى ما حصل لهم من رحمة الله تعالى واق من العذاب مَثَلُ الْجَنَّةِ أي نعتها وصفتها كما أخرجه ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن عكرمة، فهو على ما في البحر من مثلت الشيء إذا وصفته وقربته للفهم، ومنه وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى [الروم: 27] أي الصفة العليا، وأنكر أبو علي ذلك وقال: إن تفسير المثل بالصفة غير مستقيم لغة ولم يوجد فيها وإنما معناه الشبيه. وقال بعض المحققين: إنه يستعمل في ثلاثة معان. فيستعمل بمعنى الشبيه في أصل اللغة، وبمعنى القول السائر المعروف في عرف اللغة، وبمعنى الصفة الغريبة، وهو معنى مجازي له مأخوذ من المعنى العرفي بعلاقة الغرابة لأن المثل إنما يسير بين الناس لغرابته، وأكثر المفسرين على تفسيره هنا بالصفة الغريبة، وهو حينئذ مبتدأ خبره- عند سيبويه- محذوف أي فيما يقص ويتلى عليكم صفة الجنة الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ أي عن الكفر والمعاصي، وقدر مقدما لطول ذيل المبتدأ ولئلا يفصل بينه وبين ما يتعلق به معنى، وقوله تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ جملة مفسرة- كخلقه من تراب- في قوله سبحانه: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ [آل عمران: 59] أو مستأنفة استئنافا بيانيا أو حال من العائد المحذوف من الصلة أي التي وعدها، وقيل: هي الخبر على طريقة قولك: شأن زيد يأتيه الناس ويعظمونه. واعترض بأنه غير مستقيم معنى لأنه يقتضي أن الأنهار في صفة الجنة وهي فيها لا في صفتها، وفيه أيضا تأنيث الضمير العائد على «مثل» حملا على المعنى، وقد قيل: إنه قبيح. وأجيب بأن ذاك على تأويل أنها تجري، فالمعنى مثل الجنة جريان الأنهار أو أن الجملة في تأويل المفرد فلا يعود منها ضمير للمبتدأ أو المراد بالصفة ما يقال فيه هذا إذا وصف، فلا حاجة إلى الضمير كما في خبر ضمير الشأن. وقال الطيبي: إن تأنيث الضمير لكونه راجعا إلى الجنة لا إلى المثل، وإنما جاز ذلك لأن المقصود من المضاف عين المضاف إليه وذكره توطئة له وليس نحو غلام زيد. وتعقب كل ذلك الشهاب بأنه كلام ساقط متعسف لأن تأويل الجملة بالمصدر من غير حرف سابك شاذ، وكذا التأويل بأنه أريد بالصفة لفظها الموصوف به وليس في اللفظ ما يدل عليه وهو تجوز على تجوز ولا يخفى تكلفه، وقياسه على ضمير الشأن قياس مع الفارق، وأما عود الضمير على المضاف إليه دون المبتدأ في مثل ذلك فأضعف من بيت العنكبوت فالحزم الإعراض عن هذا الوجه، وعن الزجاج أن الخبر محذوف والجملة المذكورة صفة له، والمراد مثل الجنة جنة تجري إلى آخره، فيكون سبحانه قد عرفنا الجنة التي لم نرها بما شاهدناه من أمور الدنيا وعايناه. وتعقبه أبو علي- على ما في البحر- بأنه لا يصح لا على معنى الصفة ولا على معنى الشبه لأن الجنة التي قدرها جنة ولا تكون صفة لأن الشبه عبارة عن المماثلة التي بين الشيئين وهو حدث فلا يجوز الإخبار عنه بالجنة الجنة. ورد بأن المراد بالمثل المثيل أو الشبيه فلا غبار في الاخبار، وقيل: إن التشبيه هنا تمثيلي منتزع وجهه من عدة أمور من أحوال الجنان المشاهدة من جريان أنهارها وغضارة أغصانها والتفاف أفنانها ونحوه، ويكون قوله تعالى: أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها بيانا لفضل تلك الجنان وتمييزها عن هذه الجنان المشاهدة، وقيل: إن هذا بيان لحال جنان الدنيا على سبيل الفرض وأن فيما ذكر انتشارا واكتفاء في النظير بمجرد جريان الأنهار وهو لا يناسب البلاغة القرآنية وهو كما ترى. ونقل عن الفراء أن الجملة خبر أيضا إلا أن المثل بمعنى الشبه مقحم، والتقدير الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار إلى آخره، وقد عهد إقحامه بهذا المعنى، ومنه قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] وتعقبه أبو حيان بأن إقحام الأسماء لا يجوز، ورد بأنه في كلامهم كثير- كثم اسم السلام عليكما- ولا صدقة إلا عن ظهر غني- إلى غير ذلك، والأولى بعد القيل والقال الوجه الأول فإنه سالم من التكلف مع ما فيه من الإيجاز والإجمال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 154 والتفصيل، والظاهر أن المراد من الأكل ما يؤكل فيها، ومعنى دوامه أنه لا ينقطع أبدا، وقال إبراهيم التيمي: إن لذته دائمة لا تزاد بجوع ولا تمل بشبع وهو خلاف الظاهر. وفسر بعضهم الأكل بالثمرة، فقيل: وجهه أنه ليس في جنة الدنيا غيره وإن كان في الموعودة غير ذلك من الأطعمة، واستظهر أن ذلك لإضافته إلى ضمير الجنة والأطعمة لا يقال فيها أكل الجنة وفيه تردد، والظل في الأصل ضد الضح وهو عند الراغب أعم من الفيء فإنه يقال: ظل الليل ولا يقال فيؤه، ويقال لكل موضع لم تصل إليه الشمس ظل ولا يقال الفيء إلا لما زالت عنه، وفي القاموس هو الضح والفيء أو هو بالغداة والفيء بالعشي جمعه ظلال وظلول واظلال، ويعبر به عن العزة والمنعة وعن الرفاهة، والمشهور تفسيره هنا بالمعنى الأول، وهو مبتدأ محذوف الخبر أي وأكلها كذلك أي دائم، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، ومعنى دوامه أنه لا ينسخ كما ينسخ في الدنيا بالشمس إذ لا شمس هناك على الشائع عند أهل الأثر أو لأنها لا تأثير لها على ما قيل، ويجوز عندي أن يراد بالظل العزة أو الرفاهة وأن يراد المعنى الأول ويجعل الكلام كناية عن دوام الراحة، وأكفر خارجة بن معصب كما روي عنه ذلك ابن المنذر. وأبو الشيخ القائل بعدم دوام الجنة كما يحكى عن جهم. وأتباعه لهذه الآية. وبها استدل القاضي على أنها لم تخلق بعد لأنها لو كانت مخلوقة لوجب أن يفنى وينقطع أكلها لقوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] لكن أكلها لا ينقطع ولا يفنى للآية المذكورة فوجب أن لا تكون مخلوقة بعد، ثم قال: ولا ننكر أن يكون الآن جنان كثيرة في السماء يتمتع بها من شاء الله تعالى من الأنبياء والشهداء وغيرهم إلا أنا نقول: إن جنة الخلد إنما تخلق بعد الإعادة. وأجاب الإمام عن ذلك بأن دليله مركب من شيئين قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ وقوله سبحانه: أُكُلُها دائِمٌ فإذا أدخلنا التخصيص في أحد هذين العمومين سقط الدليل فنحن نخصص أحدهما بالدلائل الدالة على أن الجنة مخلوقة كقوله تعالى: وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحديد: 21] اه. ويرد على الاستدلال أنه مشترك الإلزام إذ الشيء في قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ الموجود مطلقا كما في قوله تعالى: «خالق كل شيء وهو بكل شيء عليم» (1) والمعنى أن كل ما يوجد في وقت من الأوقات يصير هالكا بعد وجوده فيصح أن يقال: لو وجدت الجنة في وقت لوجب هلاك أكلها تحقيقا للعموم لكن هلاكه باطل لقوله تعالى: أُكُلُها دائِمٌ فوجودها في وقت من الأوقات باطل. وأجيب بأنه لعل المراد من الشيء الموجود في الدنيا فإنها دار الفناء دون الموجود في الآخرة فإنها دار البقاء وهذا كاف في عدم اشتراك الإلزام وفيه أنه إن أريد أن معنى الشيء هو الموجود في الدنيا فهو ظاهر البطلان، وإن أريد أن المراد ذلك بقرينه كونه محكوما عليه بالهلاك وهو إنما يكون في الدنيا لأنها دار الفناء فنقول: إنه تخصيص بالقرينة اللفظية فنحن نخصصه بغير الجنة لقوله تعالى: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ وأُكُلُها دائِمٌ فلا يتم الاستدلال. وأجاب غير الإمام بأن المراد هو الدوام العرفي وهو عدم طريان العدم زمانا يقيد به وهذا لا ينافي طريان العدم عليه وانقطاعه لحظة على أن الهلاك لا يستلزم الفناء بل يكفي فيه الخروج عن الانتفاع المقصود، ولو سلم يجوز أن يكون المراد أن كل ممكن فهو هالك في حد ذاته بمعنى أن الوجود الإمكاني بالنظر إلى الوجود الواجبي بمنزلة العدم، وقيل: في الجواب أيضا: إن المراد بالدوام المعنى الحقيقي أعني عدم طريان العدم مطلقا، والمراد بدوام الأكل دوام   (1) كذا في الأصل، وفي سورة الزمر، الآية: 62 خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 155 النوع وبالهلاك هلاك الأشخاص، ويجوز أن لا ينقطع النوع أصلا مع هلاك الأشخاص بأن يكون هلاك كل شخص معين من الأكل بعد وجود مثله، وهذا مبني على ما ذهب إليه الأكثرون من أن الجنة لا يطرأ عليها العدم ولو لحظة، وأما على ما قيل: من جريانه عليها لحظة فلا يتم لأنه يلزم منه انقطاع النوع قطعا كما لا يخفى. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن مسعود رضي الله تعالى عنه «مثال الجنة» وفي اللوامح عن السلمي «أمثال الجنة» أي صفاتها تِلْكَ الجنة المنعوتة بما ذكر عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا الكفر والمعاصي أي مآلهم ومنتهى أمرهم وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ لا غير كما يؤذن به تعريف الخبر، وحمل الاتقاء على اتقاء الكفر والمعاصي لأن المقام مقام ترغيب وعليه يكون العصاة مسكوتا عنهم، وقد يحمل على اتقاء الكفر بقرينة المقابلة فيدخل العصاة في الذين اتقوا لأن عاقبتهم الجنة وإن عذبوا. وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ نزلت- كما قال الماوردي- في مؤمني أهل الكتابين كعبد الله بن سلام. وكعب. وأضرابهما من اليهود وكالذين أسلموا من النصارى كالثمانين المشهورين وهم أربعون رجلا بنجران وثمانية باليمن واثنان وثلاثون بالحبشة، فالمراد بالكتاب التوراة والإنجيل يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ إذ هو الكتاب الموعود فيما أوتوه وَمِنَ الْأَحْزابِ أي من أحزابهم وهم كفرتهم الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة ككعب بن الأشرف. وأصحابه. والسيد، والعاقب أسقفي نجران. وأشياعهما، وأصله جمع حزب بكسر وسكون الطائفة المتحزبة أي المجتمعة لأمر ما كعداوة وحرب وغير ذلك، وإرادة جماعة مخصوصة منه بواسطة العهد مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ وهو ما لا يوافق كتبهم من الشرائع الحادثة إنشاء أو نسخا وأما ما يوافق كتبهم فلم ينكروه وإن لم يفرحوا به، وعن ابن عباس. وابن زيد أنها نزلت في مؤمني اليهود خاصة. فالمراد بالكتاب التوراة وبالأحزاب كفرتهم. وعن مجاهد. والحسن. وقتادة أن المراد بالموصول جميع أهل الكتاب فإنهم كانوا يفرحون بما يوافق كتبهم. فالمراد- بما أنزل إليك- بعضه وهو الموافق، واعترض عليه بأنه يأباه مقابلة قوله سبحانه: وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ لأن إنكار البعض مشترك بينهم، وأجيب بأن المراد من الأحزاب من حظه إنكار بعضه فحسب ولا نصيب له من الفرح ببعض منه لشدة بغضه وعداوته وأولئك يفرحون ببعضه الموافق لكتبهم، وقيل: الظاهر أن المعنى أن منهم من يفرح ببعضه إذا وافق كتبهم وبعضهم لا يفرح بذلك البعض بل يغتم به وإن وافقها وينكر الموافقة لئلا يتبع أحد منهم شريعته صلى الله عليه وسلم كما في قصة الرجم، وأنت تعلم أن الجوابين ليسا بشيء، وعلى تفسير الموصول بعامة أهل الكتاب فسر البعض البعض بما لم يوافق ما حرفوه، وبين ذلك بأن منهم من يفرح بما وافق ومنهم من ينكره لعناده وشدة فساده، وإنكارهم لمخالفة المحرف بالقول دون القلب لعلمهم به أو هو بالنسبة لمن لم يحرفه، ولعل نعي الإنكار أوفق بالمقام من نعي التحريف عليهم على ما لا يخفى على المتأمل، وقيل: المراد بالموصول مطلق المسلمين وبالأحزاب اليهود والنصارى والمجوس (1) . وأخرج ذلك ابن جرير عن قتادة، فالمراد بالكتاب القرآن، ومعنى يَفْرَحُونَ استمرار فرحهم وزيادته وقالت فرقة: المراد بالأحزاب أحزاب الجاهلية من العرب، وقال مقاتل: هم بنو أمية. وبنو المغيرة. وآل أبي طلحة قُلْ صادعا بالحق غير مكترث بمنكر بعض ما أنزل إليك إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ أي شيئا من الأشياء أو لا أفعل الإشراك به سبحانه، والظاهر أن المراد قصر الأمر على عبادته تعالى خاصة وهو الذي يقتضيه كلام الإمام حيث   (1) وهم لا ينكرون كثيرا من القصص اه منه. [ ..... ] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 156 قال: إن إِنَّما للحصر ومعناه إني ما أمرت إلا بعبادة الله تعالى وهو يدل على أنه لا تكليف ولا أمر ولا نهي إلا بذلك، وقيل: معناه إنما أمرت بعبادته تعالى وتوحيده لا بما أنتم عليه. وفي إرشاد العقل السليم أن المعنى إلزاما للمنكرين وردا لإنكارهم إنما أمرت إلى آخره، والمراد قصر الأمر بالعبادة على الله تعالى لا قصر الأمر مطلقا على عبادته سبحانه أي قل لهم: إنما أمرت فيما أنزل إلي بعبادة الله تعالى وتوحيده. وظاهر أن لا سبيل لكم إلى إنكاره لإطباق جميع الأنبياء عليهم السلام والكتب على ذلك لقوله تعالى: تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً [آل عمران: 65] فما لكم تشركون به عزيرا. والمسيح عليهما السلام، ولا يخفى أن هذا التفسير مبني على كون المراد من الأحزاب كفرة أهل الكتابين وهذا الكلام إلزام لهم، واعترض بأن منهم من ينكر التوحيد وإطباق جميع الأنبياء والكتب عليه كالمثلثة من النصارى. وأجيب بأنهم مع التثليث يزعمون التوحيد ولا ينكرونه كما يدل عليه قولهم: باسم الأب والابن وروح القدس إلها واحدا، وأنت تعلم أن هذا مما لا يحتاج إليه والاعتراض ناشئ من الغفلة عن المراد، وقد يقال: المعنى إنما أمرت بعبادة الله تعالى وعدم الإشراك به وذلك أمر تستحسنه العقول وتصرح به الدلائل الآفاقية والأنفسية: وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد فإنكاره دليل الحماقة وشاهد الجهالة لا ينبغي لعاقل أن يلتفت إليه، ويجري هذا على سائر تفاسير الأحزاب. وقرأ أبو خليد عن نافع «ولا أشرك» بالرفع على القطع أي وأنا لا أشرك، وجوز أن يكون حالا أي أن أعبد الله غير مشرك به قيل: وهو الأولى لخلو الاستئناف عن دلالة الكلام على أن المأمور به تخصيص العبادة به تعالى وفيه بحث إِلَيْهِ أي إلى الله تعالى خاصة على النهج المذكور من التوحيد أو إلى ما أمرت به من التوحيد أَدْعُوا الناس لا إلى غيره ولا إلى شيء آخر مما لا يطبق عليه الكتب الإلهية والأنبياء عليهم السلام فما وجه إنكاركم؟ قاله في الإرشاد أيضا، والأولى عود المضير على الله تعالى كنظيره السابق وكذا اللاحق في قوله سبحانه: وَإِلَيْهِ أي الله تعالى وحده مَآبِ أي مرجعي للجزاء وعلى ذلك اقتصر العلامة البيضاوي وكان قد زاد ومرجعكم فيما تقدم غير بعيد، واعترض بأنه كان عليه أن يزيده هنا أيضا بل هذا المقام أنسب بالتعميم ليدل على ثبوت الحشر عموما وهو المروي عن قتادة، وقد جعل الإمام هذه الآية جامعة لكل ما يحتاج المرء إليه من معرفة المبدأ والمعاد فقوله سبحانه: قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ جامع لكل ما ورد التكليف به وقوله تعالى: إِلَيْهِ أَدْعُوا مشير إلى نبوته عليه الصلاة والسلام. وقوله جل وعلا: وَإِلَيْهِ مَآبِ إشارة إلى الحشر والبعث والقيامة. وأجاب الشهاب عن ذلك بقوله: إن قول الزمخشري إليه لا إلى غيره مرجعي وأنتم تقولون مثل ذلك فلا معنى لإنكاركم فيه بيان لنكتة التخصيص من أنهم ينكرون حقيقة أو حكما فلا حاجة إلى ما يقال لا حاجة لذكره هنا لدلالة قوله تعالى: تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ انتهى. وهو كما ترى، ولعل الأظهر أن يقال: إن دلالة الكلام عليه هنا ليست كدلالته عليه هناك إذ مساق الآية فيه للتخويف اللائق به اعتباره ومساقها هنا لأمر آخر والاقتصار على ذلك كاف فيه. وأنت تعلم أنه لا مانع من اعتباره ويكون معنى الآية قل في جوابهم: إني إنما أمرني الله تعالى بما هو من معالي الأمور وإليه أدعو وقتا فوقتا وإليه مرجعي ومرجعكم فيثيبني على ما أنا عليه وينتقم منكم على إنكاركم وتخلفكم عن اتباع دعوتي أو فحينئذ يظهر حقية جميع ما أنزل إلي ويتبين فساد رأيكم في إنكار كم شيئا منه، وقد يقال على عدم اعتباره نحو ما قيل فيما قبل: إن المعنى قل في مقابلة إنكارهم إني إنما أمرني الله تعالى بما أمرني به وإليه أدعو وإليه مرجعي فيما يعرض لي في أمر الدعوة وغيره فلا أبالي بإنكاركم فإنه سبحانه كاف من رجع إليه، ولعل هذا المعنى هنا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 157 من حيث إنه فيه تأسيس محض أولى منه هناك، واقتصر في الإرشاد على جعل الكلام إلزاما وجعله نكتة أمره صلى الله عليه وسلم بأن يخاطبهم بذلك، وذكر أن قوله تعالى: وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا شروع في رد إنكارهم لفروع الشرائع الواردة ابتداء أو بدلا من الشرائع المنسوخة ببيان الحكمة في ذلك وأن الضمير راجع- لما أنزل إليك- والإشارة إلى مصدر أَنْزَلْناهُ أو أُنْزِلَ إِلَيْكَ أي مثل ذلك الإنزال البديع الجامع لأصول مجمع عليها وفروع متشعبة إلى موافقة ومخالفة حسبما يقتضيه قضية الحكمة أنزلناه حاكما يحكم في القضايا والواقعات بالحق ويحكم به كذلك، والتعرض لهذا العنوان مع أن بعضه ليس بحكم لتربيته وجوب مراعاته وتحتم المحافظة عليه، والتعرض لكونه عربيا أي مترجما بلسان العرب للإشارة إلى أن ذلك إحدى مواد المخالفة للكتب السابقة مع أن ذلك مقتضى الحكمة إذ بذلك يسهل فهمه وإدراك إعجازه يعني بالنسبة للعرب، وأما بالنسبة إلى غيرهم فلعل الحكمة أن ذلك يكون داعيا لتعلم العلوم التي يتوقف عليها ما ذكر. ومنهم من اقتصر على اشتمال الإنزال على أصول الديانات المجمع عليها حسبما يفيده على رأي قوله تعالى: قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ إلى آخره، وتعقب بأنه يأباه التعرض لاتباع أهوائهم وحديث المحو والإثبات وإنه لكل أجل كتاب فإن المجمع عليه لا يتصور فيه استتباع والاتباع، وقيل: إن الإشارة إلى إنزال الكتب السالفة على الأنبياء عليهم السلام، والمعنى كما أنزلنا الكتب على من قبلك أنزلنا هذا الكتاب عليك لأن قوله تعالى: والَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يتضمن إنزاله تعالى ذلك وهذا الذي أنزلناه بلسان العرب كما أن الكتب السابقة بلسان من أنزلت عليه وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم: 4] وإلى هذا ذهب الإمام. وأبو حيان، وقال ابن عطية: المعنى كما يسرنا هؤلاء للفرح وهؤلاء لإنكار البعض أنزلناه حكما إلى آخره وليته ما قيل، وإلا بلغ الاحتمال الأول مما أشرنا إليه، ونصب حُكْماً على الحال من منصوب أَنْزَلْناهُ وإذا أريد به حاكما كان هناك مجاز في النسبة كما لا يخفى، ونصب عَرَبِيًّا على الحال أيضا إما من ضمير أَنْزَلْناهُ كالحال الأولى فتكون حالا مترادفة أو من المستتر في الأولى فتكون حالا متداخلة، ويصح أن يكون وصفا- لحكما- الحال وهي موطئة وهي الاسم الجامد الواقع حالا لوصفه بمشتق وهو الحال في الحقيقة، والأول أولى لأن حُكْماً مقصود بالحالية هنا والحال الموطئة لا تقصد بالذات. واختار الطبرسي أن معنى حكما حكمة كما في قوله تعالى: «وآتيناه الحكم والنبوة» (1) وهو أحد أوجه ذكرها الإمام، ونصبه على الحال أيضا فلا تغفل. واستدلت المعتزلة بالآية على حدوث القرآن من وجوه. الأول أنه تعالى وصفه بكونه منزلا وذلك لا يليق إلا بالمحدث. الثاني أنه وصفه بكون عربيا والعربي أمر وضعي وما كان كذلك كان محدثا. الثالث أنها دلت على أنه إنما كان حكما عربيا لأن الله تعالى جعله كذلك والمجعول محدث. وأجاب الإمام بأن كل ذلك إنما يدل على أن المركب من الحروف والأصوات محدث ولا نزاع فيه أي بين المعتزلة والأشاعرة وإلا فالحنابلة على ما اشتهر عنهم قائلون بقدم الكلام اللفظي، وقد أسلفنا في المقدمات كلاما نفيسا في مسألة الكلام فارجع إليه ولا يهولنك قعاقع المخالفين لسلف الأمة. وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ التي يدعونك إليها كالصلاة إلى بيت المقدس بعد تحويل القبلة إلى الكعبة وكترك الدعوة إلى الإسلام بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ العظيم الشأن الفائض عليك من ذلك الحكم العربي أو العلم بمضمونه ما لَكَ مِنَ اللَّهِ من جنابه العزيز جل شأنه والالتفات من التكلم إلى الغيبة وإيراد الاسم الجليل لتربية المهابة مِنْ وَلِيٍ   (1) ليس هذا نص آية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 158 يلي أمرك وينصرك على من يبغيك الغوائل وَلا واقٍ يقيك من مصارع السوء، وحيث لم يستلزم نفي الناصر على العدو نفي الواقي من نكايته أدخل في المعطوف حرف النفي للتأكيد كقولك: ما لي دينار ولا درهم أو مالك من بأس الله تعالى من ناصر وواق لاتباعك أهواءهم بعد ما جاءك من الحق، وأمثال هذه القوارع إنما هي لقطع أطماع الكفرة وتهييج المؤمنين على الثبات في الدين لا للنبي صلى الله عليه وسلم فإنه عليه الصلاة والسلام بمكان لا يحتاج فيه إلى باعث أو مهيج، ومن هنا قيل: إن الخطاب لغيره صلى الله عليه وسلم، واللام في لئن موطئة ومِنَ الثانية مزيدة وما لَكَ ساد مسد جوابي الشرط والقسم وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا كثيرة كائنة مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً أي نساء وأولادا كما جعلناها لك، روي عن الكلبي أن اليهود عيرت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: ما نرى لهذا الرجل همه إلا النساء والنكاح ولو كان نبيا كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء فنزلت ردا عليهم حيث تضمنت أن التزوج لا ينافي النبوة وأن الجمع بينهما قد وقع في رسل كثيرة قبله. ذكر أنه كان لسليمان عليه السلام ثلاثمائة امرأة مهرية وسبعمائة سرية وأنه كان لداود عليه السلام مائة امرأة، ولم يتعرض جل شأنه لرد قولهم: ما نرى لهذا الرجل همة إلا النساء للإشارة إلى أنه لا يستحق جوابا لظهور أنه عليه الصلاة والسلام لم يشغله أمر النساء عن شيء ما من أمر النبوة، وفي أدائه صلى الله عليه وسلم للأمرين على أكمل وجه دليل وأي دليل على مزيد كماله ملكية وبشرية. ومما يوضح ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يجوع الأيام حتى يشد على بطنه الشريف الحجر ومع ذا يطوف على جميع نسائه في الليلة الواحدة ولا يمنعه ذاك عن هذا. وفي تكثير نسائه عليه الصلاة والسلام فوائد جمة، ولو لم يكن فيه سوى الوقوف على استواء سره وعلنه لكفى، وذلك لأن النساء من شأنهن أن لا يحفظن سرا كيفما كان فلو كان منه عليه الصلاة والسلام في السر ما يخالف العلن لوقفن عليه مع كثرتهن ولو كن قد وقفن لأفشوه عملا بمقتضى طباع النساء لا سيما الضرائر. ومن وقف على الآثار وأحاط خبرا بما روى عن هاتيك النساء الطاهرات علم أنهن لم يتركن شيئا من أحواله الخفية إلا ذكروه، وناهيك ما روي أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم اختلفوا في الإيلاج بدون إنزال هل يوجب الغسل أم لا؟ فسألوا عائشة رضي الله تعالى عنها فقالت ولا حياء في الدين: فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم معي فاغتسلنا جميعا وروي أنهم طعنوا في نبوته بالتزوج وبعدم الإتيان بما يقترحونه من الآيات فنزل ذلك وقوله تعالى: وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي وما صح وما استقام ولم يكن في وسع رسول من الرسل الذين من قبل أن يأتي من أرسل إليهم بآية ومعجزة يقترحونها عليه إلا بتيسير الله تعالى ومشيئته المبنية على الحكم والمصالح التي يدور عليها أمر الكائنات، وقد يراد بالآية الآية الكتابية النازلة بالحكم على وفق مراد المرسل إليهم وهو أوفق بما بعد، وجوز إرادة الأمرين باعتبار عموم المجاز أي الدال مطلقا أو على استعمال اللفظ في معنييه بناء على جوازه، والالتفات لما تقدم ولتحقيق مضمون الجملة بالإيماء إلى العلة. لِكُلِّ أَجَلٍ أي لكل وقت ومدة من الأوقات والمدد كِتابٌ حكم معين يكتب على العباد حسبما تقتضيه الحكمة، فإن الشرائع كلها لإصلاح أحوالهم في المبدأ والمعاد، ومن قضية ذلك أن تختلف حسب أحوالهم المتغيرة حسب تغير الأوقات كاختلاف العلاج حسب اختلاف أحوال المرضى بحسب الأوقات، وهذا عند بعض رد لما أنكروه عليه عليه الصلاة والسلام من نسخ بعض الأحكام كما أن ما قبله رد لطعنهم بعدم الإتيان بالمعجزات المقترحة. يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ أي ينسخ ما يشاء نسخه من الأحكام لما تقتضيه الحكمة بحسب الوقت وَيُثْبِتُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 159 بدله ما فيه الحكمة أو يبقيه على حاله غير منسوخ أو يثبت ما يشاء إثباته مطلقا أعم منهما ومن الإنشاء ابتداء، وقال عكرمة: يمحو بالتوبة جميع الذنوب ويثبت بدل ذلك حسنات كما قال تعالى: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ [الفرقان: 70] وقال ابن جبير: يغفر ما يشاء من ذنوب عباده ويترك ما يشاء فلا يغفره، وقال: يمحو ما يشاء ممن حان أجله ويثبت ما يشاء ممن لم يأت أجله، وقال علي كرم الله تعالى وجهه: يمحو ما يشاء من القرون لقوله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ [يس: 31] ويثبت ما يشاء منها لقوله سبحانه: ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ [المؤمنون: 42] وقال الربيع: هذا في الأرواح حالة النوم يقبضها الله تعالى إليه فمن أراد موته فجأة أمسك روحه فلم يرسلها ومن أراد بقاءه أرسل روحه، بيانه قوله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها [الزمر: 42] الآية، وعن ابن عباس. والضحاك يمحو من ديوان الحفظة ما ليس بحسنة ولا بسيئة لأنهم مأمورون بكتب كل قول وفعل ويثبت ما هو حسنة أو سيئة، وقيل: يمحو بعض الخلائق ويثبت بعضا من الأناسي وسائر الحيوانات والنباتات والأشجار وصفاتها وأحوالها، وقيل: يمحو الدنيا ويثبت الآخرة، وقال الحسن. وفرقة: ذلك في آجال بني آدم يكتب سبحانه في ليلة القدر، وقيل: في ليلة النصف من شعبان آجال الموتى فيمحو أناسا من ديوان الأحياء ويثبتهم في ديوان الأموات، وقال السدي: يمحو القمر ويثبت الشمس بيانه قوله تعالى: فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً [الإسراء: 12] وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يمحو الله تعالى ما يشاء من أمور عباده ويثبت إلا السعادة والشقاوة والآجال فإنها لا محو فيها، ورواه عنه مرفوعا ابن مردويه، وقيل: هو عام في الرزق والأجل والسعادة والشقاوة ونسب إلى جماعة من الصحابة والتابعين وكانوا يتضرعون إلى الله تعالى أن يجعلهم سعداء، فقد أخرج ابن أبي شيبة في المصنف. وغيره عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: ما دعا عبد قط بهذه الدعوات إلا وسع عليه في معيشته يا ذا المن ولا يمن عليه يا ذا الجلال والإكرام يا ذا الطول لا إله إلا أنت ظهر اللاجين وجار المستجيرين ومأمن الخائفين إن كنت كتبتني عندك في أم الكتاب شقيا فامح عني اسم الشقاوة وأثبتني عندك سعيدا وان كنت كتبتني عندك في أم الكتاب محروما مقترا عليّ رزقي فامح حرماني ويسر رزقي وأثبتني عندك سعيدا موفقا للخير فإنك تقول في كتابك الذي أنزلت يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ. وأخرج عبد بن حميد وغيره عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال وهو يطوف بالبيت: اللهم إن كنت كتبت علي شقوة أو ذنبا فامحه واجعله سعادة ومغفرة فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب. وأخرج ابن جرير عن شقيق أبي وائل أنه كان يكثر الدعاء بهذه الدعوات اللهم إن كنت كتبتنا أشقياء فامحنا واكتبنا سعداء وإن كنت كتبتنا سعداء فاثبتنا فإنك تمحو ما تشاء وتثبت. واخرج ابن سعد وغيره عن الكلبي أنه قال: يمحو الله تعالى من الرزق ويزيد فيه ويمحو من الأجل ويزيد فيه فقيل له: من حدثك بهذا؟ فقال: أبو صالح عن جابر بن عبد الله بن رئاب الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأبو حيان يقول: إن صح شيء من ذلك ينبغي تأويله فمن المعلوم أن السعادة والشقاوة والرزق والأجل لا يتغير شيء منها، وإلى التعميم ذهب شيخ الإسلام قال بعد نقل كثير من الأقوال: والأنسب تعميم كل من المحو والإثبات ليشمل الكل ويدخل في ذلك مواد الإنكار دخولا أوليا وما أخرجه ابن جرير عن كعب من أنه قال لعمر رضي الله تعالى عنه: يا أمير المؤمنين لولا آية في كتاب الله تعالى لأنبئنك بما هو كائن إلى يوم القيامة قال: وما هي؟ قال قوله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ الآية يشعر بذلك، وأنت تعلم أن المحو والإثبات إذا كانا بالنسبة إلى ما في أيدي الملائكة ونحو فلا فرق بين السعادة والشقاوة والرزق والأجل وبين غيرها في أن كلا يقبل المحو والإثبات، وإن كانا بالنسبة إلى ما في العلم فلا فرق أيضا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 160 بين تلك الأمور وبين غيرها في أن كلا لا يقبل ذلك لأنه العلم إنما تعلق بها على ما هي عليه في نفس الأمر وإلا لكان جهلا وما في نفس الأمر مما لا يتصور فيه التغير والتبدل، وكيف يتصور تغير زوجية الأربعة مثلا وانقلابها إلى الفردية مع بقاء الأربعة أربعة هذا مما لا يكون أصلا ولا أظنك في مرية من ذلك، ولا يأبى هذا عموم الأدلة الدالة على أنه ما شاء الله تعالى كان لأن المشيئة تابعة للعلم والعلم بالشيء تابع لما عليه الشيء في نفس الأمر فهو سبحانه لا يشاء إلا ما عليه الشيء في نفس الأمر، قيل: ويشير إلى أن ما في العلم لا يتغير قوله سبحانه: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ بناء على أن أُمُّ الْكِتابِ هو العلم لأن جميع ما يكتب في صحف الملائكة وغيرها لا يقع حيثما يقع إلا موافقا لما ثبت فيه فهو أم لذلك أي أصل له فكأنه قيل: يمحو ما يشاء محوه ويثبت ما يشاء إثباته مما سطر في الكتب وثابت عنده العلم الأزلي الذي لا يكون شيء إلا على وفق ما فيه، وتفسير أُمُّ الْكِتابِ بعلم الله تعالى مما رواه عبد الرزاق. وابن جرير عن كعب رضي الله تعالى عنه، والمشهور أنها اللوح المحفوظ قالوا: وهو أصل الكتب إذ ما من شيء من الذاهب والثابت إلا وهو مكتوب فيه كما هو. والظاهر أن المراد الذاهب والثابت مما يتعلق بالدنيا (1) لا مما يتعلق بها وبالآخرة أيضا لقيام الدليل العقلي على تناهي الأبعاد مطلقا والنقلي على تناهي اللوح بخصوصه، فقد جاء أنه من درة بيضاء له دفتان من ياقوت طوله مسيرة خمسمائة عام وامتناع ظرفية المتناهي لغير المتناهي ضروري، ولعل من يقول بعموم الذاهب والثابت يلتزم القول بالإجمال حيث يتعذر التفصيل. وقد ذهب بعضهم إلى تفسير أُمُّ الْكِتابِ بما هو المشهور، والتزم القول بأن ما فيه لا يتغير وإنما التغير لما في الكتب غيره، وهذا قائل بعدم تغير ما في العلم لما علمت. ورأيت في نسخة لبعض الأفاضل كانت عندي وفقدت في حادثة بغداد ألفت في هذه المسألة وفيها أنه ما من شيء إلا ويمكن تغييره وتبديله حتى القضاء الأزلي واستدل لذلك بأمور. منها أنه قد صح من دعائه صلى الله عليه وسلم في القنوت: «وقني شر ما قضيت» وفيه طلب الحفظ من شر القضاء الأولى ولم لم يمكن تغييره ما صح طلب الحفظ منه. ومنها ما صح في حديث التراويح من عذره صلى الله عليه وسلم عن الخروج إليها، وقد اجتمع الناس ينتظرونه لمزيد رغبتهم فيها بقوله: «خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها» فإنه لا معنى لهذه الخشية لو كان القضاء الأزلي لا يقبل التغيير، فإنه إن كان قد سبق القضاء بأنها ستفرض فلا بد أن تفرض وإن سبق القضاء بأنها لا تفرض فمحال أن تفرض على ذلك الفرض، على أنه قد جاء في حديث فرض الصلاة ليلة المعراج بعد ما هو ظاهر في سبق القضاء بأنها خمس صلوات مفروضة لا غير فما معنى الخشية بعد العلم بذلك لولا العلم بإمكان التغيير والتبديل. ومنها ما صح أنه صلى الله عليه وسلم كان يضطرب حاله الشريف ليلة الهواء الشديد حتى أنه لا ينام وكان يقول في ذلك: «أخشى أن تقوم الساعة» فإنه لا معنى لهذه الخشية أيضا مع اخبار الله تعالى أن بين يديها ما لم يوجد إذ ذاك كظهور المهدي وخروج الدجال ونزول عيسى عليه السلام وخروج يأجوج ومأجوج ودابة الأرض وطلوع الشمس من مغربها وغير ذلك مما يستدعي تحققه زمانا طويلا فلو لم يكن عليه الصلاة والسلام يعلم أن القضاء يمكن تغييره وان ما قضي من أشراطها يمكن تبديله ما خشي صلى الله عليه وسلم من ذلك. ومنها أن المبشرين بالجنة كانوا من أشد الناس خوفا من النار حتى أن منهم من كان يقول: ليت أمي لم تلدني، وكان عمر رضي الله تعالى عنه يقول: لو نادى مناد كل الناس في الجنة إلا واحدا لظننت أني ذلك الواحد، وهذا مما لا معنى له مع إخبار الصادق وتبشيره له بالجنة والعلم بأن القضاء لا يتغير. ومنها أنه لولا إمكان التغيير للغا الدعاء إذ المدعو به إما أن يكون قد سبق القضاء بكونه فلا   (1) وفي الأخبار ما يؤيد ذلك اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 161 بد أن يكون وإلا فمحال أن يكون، وطلب ما لا بد أن يكون أو محال أن يكون لغو مع أنه قد ورد الأمر به، والقول بأنه لمجرد إظهار العبودية والافتقار إلى الله تعالى وكفى بذلك فائدة يأباه ظاهر قوله تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60] وأيضا أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال: «لا ينفع الحذر من القدر ولكن الله تعالى يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر» وأخرج ابن مردويه. وابن عساكر عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ الآية فقال له عليه الصلاة والسلام: «لأقرن عينك بتفسيرها ولأقرن عين أمتي بعدي بتفسيرها، الصدقة على وجهها وبر الوالدين واصطناع المعروف يحول الشقاء سعادة ويزيد في العمر ويقي مصارع السوء» وهذا لا يكاد يعقل على تقدير أن القضاء لا يتغير، وفي الأخبار والآثار مما هو ظاهر في إمكان التغير ما لا يحصى كثرة، ولعل من ذلك الدعاء المار عن ابن مسعود، ثم ان القضاء المعلق يرجع في المال إلى القضاء المبرم عند مثبته فلا يفيده التعلق بذلك في دفع ما يرد عليه، ودفع ما يرد على القول بالتغير من أنه يلزم منه التغير في ذاته تعالى لما أنه ينجر إلى تغير العلم وهو يوجب التغير في ذاته تعالى من صفة إلى أخرى أو يلزم من ذلك الجهل. وهذا مأخوذ من الشبهة التي ذكرها جمهور الفلاسفة في نفي علم الله تعالى بالجزئيات المتغيرة فإنهم قالوا: إنه تعالى إذا علم مثلا أن زيدا في الدار الآن ثم خرج عنها فإما أن يزول ذلك العلم ولا يعلم سبحانه أنه في الدار أو يبقى ذلك العلم بحاله، والأول يوجب التغير في ذاته سبحانه، والثاني يوجب الجهل وكلاهما نقص يجب تنزيه الله تعالى عنه بما دفعوا به تلك الشبهة، وهو ما ذكر في المواقف وشرحه من منع لزوم التغير فيه تعالى بل التغير إنما هو في الإضافات لأن العلم عندنا اضافة مخصوصة وتعلق بين العالم والمعلوم. أو صفة حقيقية ذات إضافة، فعلى الأول يتغير نفس العلم، وعلى الثاني يتغير إضافاته فقط، وعلى التقديرين لا يلزم تغير في صفة موجودة بل في مفهوم اعتباري وهو جائز. وأجاب كثير من الاشاعرة والمعتزلة بأن العلم بأن الشيء وجد والعلم بأنه سيوجد واحد فإن من علم أن زيدا سيدخل البلد غدا فعند حصول الغد يعلم بهذا العلم بأنه دخل البلد الآن إذا كان علمه هذا مستمرا بلا غفلة مزيلة له وإنما يحتاج أحدنا إلى علم آخر متجدد يعلم به أنه دخل الآن لطريان الغفلة عن الأول، والباري تعالى يمتنع عليه الغفلة فكان علمه سبحانه بأنه وجد عين علمه بأنه سيوجد فلا يلزم من تغير المعلوم تغير في العلم ونهاية كلامه في هذا المقام أنه يجوز أن يتغير ما في علم الله تعالى والا لتعين عليه سبحانه الفعل أو الترك وفيه من الحجر عليه جل جلاله ما لا يخفى، ولا يلزم من ذلك التغير سوى التغير في التعلقات وهو غير ضار، واعترض بأنه على هذا القول لا يبقى وثوق بشيء من الأخبار الغيبية كالحشر والنشر وكذا لا يبقى وثوق بالأخبار بأنه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين لجواز أن يكون الله تعالى قد علم ذلك حين أخبر ثم تعلق علمه بخلافه لكنه سبحانه لم يخبر ولا نقص في الاخبار الأول لأنه اخبار عما كان متعلق العلم إذ ذاك، وأيضا يلزم من ذلك نفي نفس الأمر أو نفي كون تعلق العلم على وفقه وكلا النفيين كما ترى. بقي الجواب عما تمسك به وهو عن بعض ظاهر وعن بعض يحتاج إلى تأمل فتأمل. واستدل بالآية بعض الشيعة القائلين بجواز البداء على الله سبحانه وفيه ما فيه هذا. ويخطر لي في الآية معنى لم أر من ذكره وهو أن يراد بقوله سبحانه: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ما ذكرناه أولا قبل حكاية الأقوال وهو مما رواه البيهقي في المدخل. وغيره عن ابن عباس، وابن جرير عن قتادة ويخصص ذلك بالأحكام الفرعية، ويراد بأم الكتاب الأحكام الأصلية فإنها مما لا تقبل النسخ وهي أصل لكل كتاب باعتبار أن الأحكام الفرعية التي فيه إنما تصح ممن أتى بها لكن لا يساعد على هذا المأثور عن السلف. نعم هو مناسب للمقام كما لا يخفى، وزعم الضحاك. والفراء أن في الآية قلبا والأصل لكل كتاب أجل. وتعقب بأنه لا يجوز ادعاء القلب إلا في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 162 ضرورة الشعر على أنه لا داعي إليه هنا بل قد يدعى فساد المعنى عليه وأيا ما كان فأل في الكتاب للجنس فهو شامل للكثير، ولهذا فسره غير واحد بالجمع، وقرأ نافع، وابن عامر وَيُثْبِتُ بالتشديد وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ أصله إن نريك وما مزيدة لتأكيد معنى الشرط، ومن ثمة ألحقت النون بالفعل، قال ابن عطية: ولو كانت إِنْ وحدها لم يجز الحاق النون، وهو مخالف لظاهر كلام سيبويه، قال ابن خروف: أجاز سيبويه الإتيان- بما- وعدم الإتيان بها والإتيان بالنون مع ما وعدم الإتيان بها، والإراءة هنا بصرية والكاف مفعول أول وقوله سبحانه: بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ مفعول ثان، والمراد بعض الذي وعدناهم من إنزال العذاب عليهم، والعدول إلى صيغة المضارعة لحكاية الحال الماضية أو نعدهم وعدا متجددا حسب ما تقتضيه الحكمة من إنذار عقيب إنذار، وفي إيراد البعض رمز على ما قيل إلى إراءة بعض الموعود أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل ذلك فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ أي تبليغ أحكام ما أنزلنا عليك وما تضمنه من الوعد والوعيد لا تحقيق مضمون الوعيد الذي تضمنه ذلك، فالمقصور عليه البلاغ ولهذا قدم الخبر، وهذا الحصر مستفاد من إنما لا من التقديم وإلا لانعكس المعنى، وقوله تعالى: وَعَلَيْنَا الْحِسابُ الظاهر أنه معطوف على ما في حيز إنما فيصير المعنى إنما علينا محاسبة أعمالهم السيئة والمؤاخذة بها دون جبرهم على اتباعك أو إنزال ما اقترحوه عليك من الآيات. واعتبر الزمخشري عطفه على جملة فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ فيصير المعنى وعلينا لا عليك محاسبة أعمالهم، قيل: وهو الظاهر ترجيحا للمنطوق على المفهوم إذا اجتمع دليلا حصر، وحاصل معنى الآية كيفما دارت الحال أريناك بعض ما وعدناهم من العذاب الدنيوي أو لم نركه فعلينا ذلك وما عليك إلا التبليغ فلا تهتم بما وراء ذلك فنحن نكفيكه ونتم ما وعدناك به من الظفر ولا يضجرك تأخره فإن ذلك لما نعلم من المصالح الخفية. وفي البحر عن الحوفي أنه قد تقدم في الآية شرطان نُرِيَنَّكَ ونَتَوَفَّيَنَّكَ لأن المعطوف على الشرط شرط، وقوله تعالى: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ لا يصلح أن يكون جوابا للشرط الأول ولا للشرط الثاني لأنه لا يترتب على شيء منهما وهو ظاهر فيحتاج إلى تأويل، وهو أن يقدر لكل شرط منهما ما يناسب أن يكون جزاء مترتبا عليه، فيقال والله تعالى أعلم: وإما نرينك بعض الذي نعدهم فذلك شافيك من أعدائك ودليل صدقك وإما نتوفينك قبل حلوله بهم فلا لوم عليك ولا عتب، ويكون قوله تعالى: فَإِنَّما إلخ دليلا عليهما، والواقع من الشرطين هو الأول كما في بدر. ثم إنه سبحانه طيب نفسه عليه الصلاة والسلام بطلوع تباشير الظفر فقال جل شأنه: أَوَلَمْ يَرَوْا إلخ. والاستفهام للإنكار والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أأنكروا نزول ما وعدناهم أو أشكوا أو ألم ينظروا في ذلك ولم يروا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ أي أرض الكفرة نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها من جوانبها بأن نفتحها شيئا فشيئا ونلحقها بدار الإسلام ونذهب منها أهلها بالقتل والأسر والإجلاء أليس هذا مقدمة لذاك. ومثل هذه الآية قوله تعالى: أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ [الأنبياء: 44] وروي ذلك عن ابن عباس والحسن والضحاك وعطية والسدي وغيرهم، وروي عن ابن عباس أيضا وأخرجه الحاكم عنه وصححه أن انتقاص الأرض موت أشرافها وكبرائها وذهاب العلماء منها. وفي رواية عن أبي هريرة يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الاقتصار على الأخير، وروي أيضا عن مجاهد فالمراد من الأرض جنسها، والأطراف كما قيل بمعنى الأشراف، ومجيء ذلك بهذا المعنى محكي عن ثعلب، واستشهد له الواحدي بقول الفرزدق: واسأل بنا وبكم إذا وردت مني ... أطراف كل قبيلة من يمنع وقريب من ذلك قول ابن الأعرابي: الطرف والطرف الرجل الكريم. وقول بعضهم: طرف كل شيء خياره، وجعلوا من هذا قول علي كرم الله تعالى وجهه: العلوم أودية في أي واد أخذت منها خسرت فخذوا من كل شيء طرفا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 163 قال ابن عطية: أراد كرم الله تعالى وجهه خيارا وأنت تعلم أن الأظهر جانبا، وادعى الواحدي أن تفسير الآية بما تقدم هو اللائق. وتعقبه الإمام بأنه يمكن القول بلياقة الثاني، وتقرير الآية عليه أو لم يروا أنا نحدث في الدنيا من الاختلافات خرابا بعد عمارة وموتا بعد حياة وذلا بعد عز ونقصا بعد كمال وهذه تغييرات مدركة بالحس فما الذي يؤمنهم أن يقلب الله تعالى الأمر عنهم فيجعلهم أذلة بعد أن كانوا أعزة ومقهورين بعد أن كانوا قاهرين وهو كما ترى، وقيل: نقصها هلاك من هلك من الأمم قبل قريش وخراب أرضهم أي ألم يروا هلاك من قبلهم وخراب ديارهم فكيف يأمنون من حلول ذلك بهم، والأول أيضا أوفق بالمقام منه، ولا يخفى ما في التعبير بالإتيان المؤذن بعظيم الاستيلاء من الفخامة كما في قوله تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان: 23] وفي الحواشي الشهابية أن المعنى يأتيها أمرنا وعذابنا، وجملة نَنْقُصُها في موضع الحال من فاعل نَأْتِي أو من مفعوله وقرأ الضحاك نَنْقُصُها مثقلا من نقص عداه بالتضعيف من نقص اللازم على ما في البحر وَاللَّهُ يَحْكُمُ ما يشاء كما يشاء وقد حكم لك ولأتباعك بالعز والإقبال وعلى أعدائك ومخالفيك بالقهر والاذلال حسبما يشاهده ذوو الأبصار من المخائل والآثار، وفي الالتفات من التكلم إلى الغيبة وبناء الحكم على الاسم الجليل من الدلالة على الفخامة وتربية المهابة وتحقيق مضمون الخبر بالإشارة إلى العلة ما لا يخفى، وهي جملة اعتراضية جيء بها لتأكيد فحوى ما تقدمها، وقوله سبحانه: لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ اعتراض أيضا لبيان علو شأن حكمه جل وعلا، وقيل: هو نصب على الحال كأنه قيل: والله تعالى يحكم نافذا حكمه كما تقول: جاء زيد لا عمامة على رأسه ولا قلنسوة أي حاسرا وإليه ذهب الزمخشري، قيل: وإنما أول الجملة الاسمية بالمفرد لأن تجردها من الواو إذا وقعت حالا غير فصيح عنده ولا يخفى عليك أن جعلها معترضة أولى وأعلى، والمعقب من يكر على الشيء فيبطله وحقيقته الذي يعقب الشيء بالإبطال، ومنه يسمى الذي يطلب حقا من آخر معقبا لأن يعقب غريمه ويتبعه للتقاضي، قال لبيد: حتى تهجر بالرواح وهاجها ... طلب المعقب حقه المظلوم وقد يسمى الماطل معقبا لأنه يعقب كل طلب برد، وعن أبي علي عقبني حقي أن مطلني. ويقال للبحث عن الشيء تعقب، وجوز الراغب أن يراد هذا المعنى هنا على أن يكون الكلام نهيا للناس أن يخوضوا في البحث عن حكمه وحكمته إذا خفيت عليهم، ويكون ذلك من نحو النهي عن الخوض في سر القدر وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ فيما قليل يحاسبهم ويجازيهم في الآخرة بعد ما عذبهم بالقتل والأسر والإجلاء في الدنيا حسبما يرى، وكأنه قيل: لا تستبطئ عقابهم فإنه آت لا محالة وكل آت قريب، وقال ابن عباس: المعنى سريع الانتقام. وَقَدْ مَكَرَ الكفار الَّذِينَ خلوا مِنْ قَبْلِهِمْ من قبل كفار مكة بأنبيائهم وبالمؤمنين كما فعل هؤلاء، وهذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لا عبرة بمكرهم ولا تأثير بل لا وجود له في الحقيقة، ولم يصرح سبحانه بذلك اكتفاء بدلالة القصر المستفاد من تعليله أعني قوله تعالى: فَلِلَّهِ الْمَكْرُ أي جنس المكر جَمِيعاً لا وجود لمكرهم أصلا، إذ هو عبارة عن إيصال المكروه إلى الغير من حيث لا يشعر به وحيث كان جميع ما يأتون ويذرون بعلمه وقدرته سبحانه وإنما لهم جرد الكسب من غير فعل ولا تأثير حسبما يبينه قوله تعالى: يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ ومن قضيته عصمة أوليائه سبحانه وعقاب الماكرين بهم توفية لكل نفس جزاء ما كسبت ظهر إن ليس لمكرهم بالنسبة إلى من مكروا بهم عين ولا أثر وإن المكر كله لله تعالى حيث يؤاخذهم بما كسبوا من فنون المعاصي التي من جملتها مكرهم من حيث لا يحتسبون، كذا قاله شيخ الإسلام، وقد تكلف قدس سره في ذلك ما تكلف، وحمل الكسب على ما هو الشائع عند الاشاعرة والله تعالى لا يفرق بينه وبين الفعل وكذا رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله تعالى عنهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 164 والتابعون واللغويون، وقيل: وجه الحصر أنه لا يعتد بمكر غيره سبحانه لأنه سبحانه هو القادر بالذات على إصابة المكروه المقصود منه وغيره تعالى إن قدر على ذلك فبتمكينه تعالى وإذنه فالكل راجع إليه جل وعلا. وفي الكشاف أن قوله تعالى: يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلخ تفسير لقوله سبحانه: فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً لأن من علم ما تكسب كل نفس وأعد لها جزاءها فهو له المكر لأنه يأتيهم من حيث لا يعلمون وهم في غفلة مما يراد بهم، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي فلله جزاء المكر. وجوز في أل أن تكون للعهد أي له تعالى المكر الذي باشروه جميعا لا لهم، على معنى أن ذلك ليس مكرا منهم بالأنبياء بل هو بعينه مكر من الله تعالى بهم وهم لا يشعرون حيت لا يحيق المكر السيء إلا بأهله وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ حين يأتيهم العذاب لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ أي العاقبة الحميدة من الفريقين وان جهل ذلك قبل، وقيل: السين لتأكيد وقوع ذلك وعلمه به حينئذ، والمراد من الكافر الجنس فيشمل سائر الكفار، وهذه قراءة الحرميين. وأبي عمرو، وقرأ باقي السبعة «وسيعلم الكفار» بصيغة جمع التكسير. وقرأ ابن مسعود «الكافرون» بصيغة جمع السلامة، وقرأ أبي «الذين كفروا» وقرأ «الكفر» أي أهله، وقرأ جناح بن حبيس «وسيعلم» بالبناء للمفعول من أعلم أي سيخبر واللام للنفع، وجوز أن تكون للملك على معنى سيعلم الكفرة من يملك الدنيا آخرا، وفسر عطاء «الكافر» بالمستهزئين وهم خمسة والمقسمين وهم ثمانية وعشرون، وقال ابن عباس: يريد بالكافر أبا جهل، وما تقدم هو الظاهر، ولعل ما ذكر من باب التمثيل وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قيل: قاله رؤساء اليهود. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: «قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقف من اليمن فقال له عليه الصلاة والسلام: هل تجدني في الإنجيل رسولا؟ قال: لا. فأنزل الله تعالى الآية، فالمراد من الذين كفروا على هذا هذا ومن وافقه ورضي بقوله، وصيغة الاستقبال لاستحضار صورة كلمتهم الشنعاء تعجيبا منها أو للدلالة على تجدد ذلك منهم واستمراره قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فإنه جل وعلا قد أظهر على رسالتي من الأدلة والحجج ما فيه غنى عن شهادة شاهد آخر، وتسمية ذلك شهادة مع أنه فعل وهي قول مجاز من حيث إنه يغني غناها بل هو أقوى منها وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ أي علم القرآن وما عليه من النظم المعجز، قيل: والشهادة إن أريد بها تحملها فالأمر ظاهر وإن أريد أداؤها فالمراد بالموصول المتصف بهذا العنوان من ترك العناد وآمن. وفي الكشف أن المعنى كفى هذا العالم شهيدا بيني وبينكم، ولا يلزم من كفايته في الشهادة أن يؤديها فمن أداها فهو شاهد أمين ومن لم يؤدها فهو خائن، وفيه تعريض بليغ بأنهم لو أنصفوا شهدوا، وقيل: المراد «بالكتاب» التوراة والإنجيل، والمراد بمن عنده علم ذلك الذين أسلموا من أهل الكتابين كعبد الله بن سلام وأضرابه فإنهم يشهدون بنعته عليه الصلاة والسلام في كتابهم وإلى هذا ذهب قتادة، فقد أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عنه أنه قال في الآية: كان من أهل الكتاب قوم يشهدون بالحق ويعرفونه منهم عبد الله بن سلام والجاورد وتميم الداري، وسلمان الفارسي، وجاء عن مجاهد وغيره وهي رواية عن ابن عباس أن المراد بذلك عبد الله ولم يذكروا غيره. وأخرج ابن مردويه من طريق عبد الملك بن عمير عن جندب قال: جاء عبد الله بن سلام حتى أخذ بعضادتي باب المسجد ثم قال: أنشدكم بالله تعالى أتعلمون أني الذي أنزلت فيه وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ؟ قالوا: اللهم نعم. وأنكر ابن جبير ذلك، فقد أخرج سعيد بن منصور وجماعة عنه أنه سئل أهذا الذي عنده علم الكتاب هو عبد الله بن سلام؟ فقال: كيف وهذه السورة مكية. والشعبي أنكر أن يكون شيء من القرآن نزل فيه وهذا لا يعول عليه فمن حفظ حجة على من لم يحفظ، وأجيب عن شبهة ابن جبير بأنهم قد يقولون: إن السورة مكية وبعض آياتها مدنية فلتكن هذه من ذلك، وأنت تعلم أنه لا بد لهذا من نقل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 165 وفي البحر أن ما ذكر لا يستقيم إلا أن تكون هذه الآية مدنية والجمهور على أنها مكية، وأجيب بأن ذلك لا ينافي كون الآية مكية بأن يكون الكلام إخبارا عما سيشهد به، ولك أن تقول. إذا كان المعنى على طرز ما في الكشف وانه لا يلزم من كفاية من ذكر في الشهادة أداؤها لم يضر كون الآية مكية وعدم إسلام عبد الله بن سلام حين نزولها بل ولا عدم حضوره، ولا مانع أن تكون الآية مكية، والمراد من الذين كفروا أهل مكة وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ اليهود والنصارى كما أخرجه ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس ويكون حاصل الجواب لذلك إنكم لستم بأهل كتاب فاسألوا أهله فإنهم في جواركم. نعم قال شيخ الإسلام: إن الآية مدنية بالاتفاق وكأنه لم يقف على الخلاف، وقيل: المراد بالكتاب اللوح ومَنْ عبارة عنه تعالى وروي هذا عن مجاهد. والزجاج، وعن الحسن لا والله ما يعني إلا الله تعالى، والمعنى كما في الكشاف كفى بالذي يستحق العبادة وبالذي لا يعلم علم ما في اللوح إلا وهو شهيدا بيني وبينكم، وبهذا التأويل صار العطف مثله في قوله: إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم فلا محذور في العطف، والحصر إما من الخارج لأن علم ذلك مخصوص به تعالى أو للذهاب إلى أن الظرف خبر مقدم فيفيد الحصر. وقسم الحسن للمبالغة في رد ما زعموا على ما قيل: وفي الكشف إنما بالغ الحسن لما قدمنا (1) من بناء السورة الكريمة على ما بني وجعل السابقة مثل الخاتمة وما في العطف من النكتة، ولهذا فسره الزمخشري بقوله: كفى بالذي إلخ عطفه عطف ذات على ذات إشارة إلى الاستقلال بالشهادة من كل واحد من الوصفين من غير نظر إلى الآخر فالذي يستحق العبادة قد شهد بما شحن الكتاب من الدعوة إلى عبادته وبما أيد عبده من عنده بأنواع التأييد والذي لا يعلم علم ما في اللوح أي علم كل شيء إلا هو قد شهد بما ضمن الكتاب من المعارف وأنزل على أسلوب فائق على المتعارف، ويعضد ذلك القول أنه قرأ على كرم الله تعالى وجهه. وأبي وابن عباس وعكرمة وابن جبير وعبد الرحمن بن أبي بكرة والضحاك وسالم بن عبد الله بن عمر وابن أبي إسحاق ومجاهد والحكم والأعمش وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ يجعل من حرف جر والجار والمجرور خبر مقدم وعلم مبتدأ مؤخر. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه أيضا وابن السميفع والحسن بخلاف عنه وَمَنْ عِنْدَهُ بحرف الجر وعِلْمُ الْكِتابِ على أن علم فعل مبني للمفعول والْكِتابِ نائب الفاعل فإن ضمير عِنْدَهُ على القراءتين راجع لله تعالى كما في القراءة السابقة على ذلك التأويل والأصل توافق القراءات، وقيل: المراد- بالكتاب- اللوح «وبمن» جبريل عليه السلام. وأخرج تفسير مِنْ بذلك ابن أبي حاتم عن ابن جبير وهو كما ترى. وقال محمد بن الحنفية والباقر- كما في البحر: المراد «بمن» علي كرم الله تعالى وجهه، والظاهر أن المراد «بالكتاب» حينئذ القرآن، ولعمري أن عنده رضي الله تعالى عنه علم الكتاب كملا لكن الظاهر أنه كرم الله تعالى وجهه غير مراد، والظاهر أن مَنْ في قراءة الجمهور في محل جر بالعطف على لفظ الاسم الجليل، ويؤيده أنه قرئ بإعادة الباء في الشواذ، وقيل: إنه في محل رفع بالعطف على محله لأن الباء زائدة، وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون في موضع رفع الابتداء والخبر محذوف تقديره أعدل أو أمضى قولا أو نحو هذا مما يدل عليه لفظ شَهِيداً ويراد بذلك الله تعالى، وفيه من البعد ما لا يخفى، والعلم في القراءة التي وقع عِنْدَهُ فيها صلة مرفوع بالمقدر في الظرف فيكون فاعلا لأن الظرف إذا وقع صلة أوغل في شبه الفعل لاعتماده على الموصول فعمل عمل الفعل كقولك:   (1) وقد ذكرناه فيما مر فتذكر اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 166 مررت بالذي في الدار أخوه فأخوه فاعل كما تقول: بالذي استقر في الدار أخوه قاله الزمخشري، وليس بالمتحتم لأن الظرف وشبهه إذا وقعا صلتين أو صفتين أو حالين أو خبرين أو تقدمها أداة نفي أو استفهام جاز فيما بعدهما من الاسم الظاهر أن يرتفع على الفاعلية وهو الأجود وجاز أن يكون مبتدأ والظرف أو شبهه في موضع الخبر والجملة من المبتدأ والخبر صلة أو صفة أو حال أو خبر، وهذا مبني على اسم الفاعل فكما جاز ذلك فيه وإن كان الأحسن أعماله في الاسم الظاهر فكذلك يجوز فيما ناب عنه من ظرف أو مجرور، وقد نص سيبويه على إجازة ذلك في نحو مررت برجل حسن وجهه فأجاز رفع حسن على أنه خبر مقدم، وقد توهم بعضهم أن اسم الفاعل إذا اعتمد على شيء مما ذكر تحتم أعماله في الظاهر وليس كذلك، وقد أعرب الحوفي عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ مبتدأ وخبرا في صلة مَنْ وهو ميل إلى المرجوح، وفي الآية على القراءتين بمن الجارة دلالة على أن تشريف العبد بعلوم القرآن من إحسان الله تعالى إليه وتوفيقه، نسأل الله تعالى أن يشرفنا بهاتيك العلوم ويوفقنا للوقوف على أسرار ما فيه من المنطوق والمفهوم ويجعلنا ممن تمسك بعروته الوثقى واهتدى بهداه حتى لا يضل ولا يشقى ببركة النبي صلى الله عليه وسلم. هذا ومن باب الإشارة في الآيات: الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ قيل: عهد الله تعالى مع المؤمنين القيام له سبحانه بالعبودية في السراء والضراء وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ فيصلون بقولهم محبته وبأسرارهم مشاهدته سبحانه وقربته وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ عند تجلي الصفات في مقام القلب فيشاهدون جلال صفة العظمة ويلزمهم الهيبة والخشية وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ عند تجلي الأفعال في مقام النفس فينظرون إلى البطش والعقاب فيلزمهم الخوف. وسئل ابن عطاء ما الفرق بين الخشية والخوف؟ فقال: الخشية من السقوط عن درجات الزلفى والخوف من اللحوق بدركات المقت والجفا، وقال بعضهم الخشية أدق والخوف أصلب وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ صبروا عما دون الله تعالى بالله سبحانه لكشف أنوار وجهه الكريم أو صبروا في سلوك سبيله سبحانه عن المألوفات طلبا لرضاه وَأَقامُوا الصَّلاةَ صلاة المشاهدة أو اشتغلوا بالتزكية بالعبادات البدنية وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً أفادوا مما مننا عليهم من الأحوال والمقامات والكشوف وهذبوا المريدين حتى صار لهم ما صار لهم ظاهرا وباطنا أو اشتغلوا بالتزكية بالعبادات المالية أيضا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ الحاصلة لهم من تجلي الصفة الالهية السنية السَّيِّئَةَ التي هي صفة النفس، وقال بعضهم: يعاشرون الناس بحسن الخلق فإن عاملهم أحد بالجفاء قابلوه بالوفاء أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ البقاء بعد الفناء أو العاقبة الحميدة جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ قيل: يدخلون جنة الذات ومن صلح من آباء الأرواح ويدخلون جنة الصفات بالقلوب ويدخلون جنة الأفعال ومن صلح من أزواج النفوس وذريات القوى أو يدخلون جنات القرب والمشاهدة والوصال ومن صلح من المذكورين تبع لهم- ولأجل عين ألف عين تكرم- وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ يدخل عليهم أهل الجبروت والملكوت من كل باب من أبواب الصفات محيين لهم بتحايا الإشراقات النورية والامدادات القدسية أو يدخل عليهم الملائكة الذين صحبوهم في الدنيا من كل باب من أبواب الطاعة مسلمين عليهم بعد استقرارهم في منازلهم كما يسلم أصحاب الغائب عليه إذا قدم إلى منزله واستقر فيه الَّذِينَ آمَنُوا الإيمان العلمي بالغيب وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ قالوا: ذكر النفس باللسان والتفكر في النعم، وذكر القلب بالتفكر في الملكوت ومطالعة صفات الجمال، وذكر السر بالمناجاة، وذكر الروح بالمشاهدة، وذكر الخفاء بالمناغاة في العشق، وذكر الله تعالى بالفناء فيه أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ وذلك أن النفس تضطرب بظهور الجزء: 7 ¦ الصفحة: 167 صفاتها وأحاديثها وتطيش فيتلون القلب ويتغير لذلك فإذا تفكر في الملكوت ومطالعة أنوار الجمال والجبروت استقر واطمأن، وسائر أنواع الذكر إنما يكون بعد الاطمئنان، قال الهزجوري: قلوب الأولياء مطمئنة لا تتحرك دائما خشية أن يتجلى الله تعالى عليها فجأة فيجدها غير متسمة بالأدب الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ تخلية وتحلية طُوبى لَهُمْ بالوصول إلى الفطرة وكمال الصفات وَحُسْنُ مَآبٍ بالدخول في جنة القلب وهي جنة الصفات أو طوبى لهم الآن حيث لم يوجد منهم ما يخالف رضاء محبوبهم وحسن مآب في الآخرة حيث لا يجدون من محبوبهم خلاف مأمولهم أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ أي بحسب كسبها ومقتضاه أي كما تقتضي مكسوباتها من الصفات والأحوال التي تعرض لاستعدادها يفيض عليها من الجزاء قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ ما أخرج سبحانه أحدا من العبودية حتى سيد أحرار البرية صلى الله عليه وسلم، وفسرها أبو حفص بأنها ترك كل ملك وملازمة المأمور به. وقال الجنيد قدس سره: لا يرتقي أحد في درجات العبودية حتى يحكم فيما بينه وبين الله تعالى أوائل البدايات وهي الفروض والواجبات والسنن والأوراد، ومطايا الفضل عزائم الأمور فمن أحكم على نفسه هذا من الله تعالى عليه بما بعده وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً فيه على ما قيل إشارة إلى أنه إذا شرف الله تعالى شخصا بولايته لم يضر به مباشرة أحكام البشرية من الأهل والولد ولم يكن بسط الدنيا له قدحا في ولايته، وقوله سبحانه: وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فيه منع طلب الكرامات واقتراحها من المشايخ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ لكل وقت أمر مكتوب يقع فيه ولا يقع في غيره ومن هنا قيل: الأمور مرهونة لأوقاتها، وقيل: لله تعالى خواص في الأزمنة والأمكنة والأشخاص يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ قيل: يمحو عن ألواح العقول صور الأفكار ويثبت فيها أنوار الأذكار ويمحو عن أوراق القلوب علوم الحدثان ويثبت فيها لدنيات علم العرفان، وقيل: يمحو العارفين بكشف جلاله ويثبتهم في وقت آخر بلطف جماله، وقال ابن عطاء: يمحو أوصافهم ويثبت أسرارهم لأنها موضع المشاهدة، وقيل: يمحو ما يشاء عن الألواح الجزئية التي هي النفوس السماوية من النقوش الثابتة فيها فيعدم عن المواد ويفني ويثبت ما يشاء فيها فيوجد وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ العلم الأزلي القائم بذاته سبحانه، وقيل: لوح القضاء السابق الذي هو عقل الكل وفيه كل ما كان ويكون أزلا وأبدا على الوجه الكلي المنزه عن المحو والإثبات، وذكروا أن الألواح أربعة. لوح القضاء السابق العالي عن المحو الإثبات وهو لوح العقل الأول. ولوح القدر وهو لوح النفس الناطقة الكلية التي يفصل فيها كليات اللوح الأول وهو المسمى باللوح المحفوظ. ولوح النفوس الجزئية السماوية التي ينتقش فيها كل ما في هذا العالم بشكله وهيئته ومقداره وهو المسمى بالسماء الدنيا وهو بمثابة خيال العالم كما أن الأول بمثابة روحه والثاني بمثابة قلبه. ثم لوح الهيولى القابل للصور في عالم الشهادة اه وهو كلام فلسفي أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها قيل: ذلك بذهاب أهل الولاية الذين بهم عمارة الأرض، وقيل: الإشارة أنا نقصد أرض وقت الجسد الشيخوخة ننقصها من أطرافها بضعف الأعضاء والقوى الظاهرة والباطنة شيئا فشيئا حتى يحصل الموت أو نأتي أرض النفس وقت السلوك ننقصها من أطرافها بإفناء أفعالها بأفعالنا أولا وبافناء صفاتها بصفاتنا ثانيا وبإفناء ذاتها في ذاتنا ثالثا لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ لا راد ولا مبدل لكل ما حكم به نسأل الله تعالى أن يحكم لنا بما هو خير وأولى في الآخرة والأولى بحرمة النبي صلى الله عليه وسلم تعالى عليه وسلم وشرف وعظم وكرم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 168 سورة إبراهيم أخرج ابن مردويه عن ابن عباس. وابن الزبير أنها نزلت بمكة، والظاهر أنهما أرادا أنها كلها كذلك وهو الذي عليه الجمهور، وأخرج النحاس في ناسخه عن الحبر أنها مكية إلا آيتين منها فإنهما نزلتا بالمدينة وهما أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً [إبراهيم: 28] الآيتين نزلتا في قتلى بدر من المشركين، وأخرج نحوه أبو الشيخ عن قتادة، وقال الإمام: إذا لم يكن في السورة ما يتصل بالأحكام فنزولها بمكة والمدينة سواء إذ لا يختلف الغرض فيه إلا أن يكون فيها ناسخ أو منسوخ فتظهر فائدته يعني أنه لا يختلف الحال وتظهر ثمرته إلا بما ذكر فإن لم يكن فليس فيه إلا ضبط زمان النزول وكفى به فائدة، وهل في هذه السورة منسوخ أو لا؟ قولان والجمهور على الثاني. وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن فيها آية منسوخة وهي قوله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34] فإنه قد نسخت باعتبار الآخر بقوله تعالى في سورة النحل: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل: 18] وفيه نظر، وهي إحدى وخمسون آية في البصري، وقيل: خمسون فيه، واثنان وخمسون في الكوفي، وأربع في المدني، وخمس في الشامي. وارتباطها بالسورة التي قبلها واضح جدا لأنه قد ذكر في تلك السورة من مدح الكتاب وبيان أنه مغن عما اقترحوه ما ذكر، وافتتحت هذه بوصف الكتاب والإيماء إلى أنه مغن عن ذلك أيضا، وإذا أريد ب مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [الرعد: 43] الله تعالى ناسب مطلع هذه ختام تلك أشد مناسبة، وأيضا قد ذكر في تلك إنزال القرآن حكما عربيا ولم يصرح فيها بحكمة ذلك وصرح بها هنا وأيضا تضمنت تلك الأخبار من قبله تعالى بأنه ما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله تعالى وتضمنت هذه الأخبار به من جهة الرسل عليهم السلام وأنهم قالوا: ما كان لنا أن نأتي بسلطان إلا بإذن الله، وأيضا ذكر هناك أمره عليه الصلاة والسلام بأن عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ [الرعد: 30] وحكي هنا عن إخوانه المرسلين عليهم السلام توكلهم عليه سبحانه وأمرهم بالتوكل عليه جل شأنه، واشتملت تلك على تمثيل للحق والباطل واشتملت هذه على ذلك أيضا بناء على بعض ما ستسمعه إن شاء الله تعالى في قوله سبحانه: مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً [إبراهيم: 24] إلى آخره، وأيضا ذكر في الأولى من رفع السماء ومد الأرض وتسخير الشمس والقمر إلى غير ذلك ما ذكر وذكر هنا نحو ذلك إلا أنه سبحانه اعتبر ما ذكر أولا آيات وما ذكر ثانيا نعما وصرح في كل بأشياء لم يصرح بها في الآخر، وأيضا قد ذكر هناك مكر الكفرة وذكر هنا أيضا وذكر من وصفه ما لم يذكر هناك، وأيضا قال الجلال السيوطي: إنه ذكر في الأولى قوله تعالى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ [الرعد: 32] وذلك مجمل في أربعة مواضع الرسل. والمستهزئين. وصفة الاستهزاء والأخذ وقد فصلت الأربعة في قوله سبحانه: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ [إبراهيم: 9] الآيات، وقد اشتركت السورتان مما عدا افتتاح كل منهما بالمتشابه بأن كلا قد افتتح بالألف واختتم بالباء، وجمعا أيضا في آخر ما ختما به، وبقي مناسبات بينهما غير ما ذكرنا لو ذكرناها لطال الكلام والله تعالى أعلم بما في كتابه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 169 الر مر الكلام فيما يتعلم به كِتابٌ جوز فيه أن يكون خبرا- لألر- على تقدير كونه مبتدأ أو لمبتدأ مضمر على تقدير كونه خبرا لمبتدأ محذوف أو مفعول لفعل محذوف أو مسرودا على نمط التعديد، وجوز أن يكون خبرا ثانيا للمبتدأ الذي أخبر عنه- بالر- وأن يكون مبتدأ وسوغ الابتداء به كونه موصوفا في التقدير أي كتاب عظيم، وقوله تعالى: أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ إما في موضع الصفة أو الخبر وهو مع مبتدآته قيل في موضع التفسير، وفي إسناد الإنزال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 171 إلى ضمير العظمة ومخاطبته عليه الصلاة والسلام مع إسناد الإخراج إليه صلى الله عليه وسلم في قوله سبحانه: لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ما لا يخفى من التفخيم والتعظيم، واللام متعلقة ب أَنْزَلْناهُ، والمراد من الناس جميعهم أي أنزلناه إليك لتخرجهم كافة بما في تضاعيفه من البينات الواضحة المفصحة عن كونه من عند الله تعالى الكاشفة عن العقائد الحقة من عقائد الكفر والضلال وعبادة الله عزّ وجلّ من الآلهة المختلفة كالملائكة وخواص البشر والكواكب والأصنام التي كلها ظلمات محضة وجهالات صرفة إلى الحق المؤسس على التوحيد الذي هو نور بحت وقرئ «ليخرج الناس» بالياء التحتانية في «يخرج» ورفع «الناس» به بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أي بتيسيره وتوفيقه تعالى وهو مستعار من الاذن الذين يوجب تسهيل الحجاب لمن يقصد الورود، ويجوز أن يكون مجازا مرسلا بعلاقة اللزوم، وقال محيي السنة: اذنه تعالى أمره وقيل: علمه سبحانه وقيل: إرادته جل شأنه وهي على ما قيل متقاربة، ومنه الإمام أن يراد بذلك الأمر أو العلم وعلله بما لا يخلو عن نظر. وفي الكلام على ما ذكر أولا ثلاث استعارات. إحداهما ما سمعت في الاذن والأخريان في الظُّلُماتِ والنُّورِ وقد أشير إلى المراد منهما، وجوز العلامة الطيبي أن تكون كلها استعارة مركبة تمثيلية بتصوير الهدى بالنور والضلال بالظلمة والمكلف المنغمس في ظلمة الكفر بحيث لا يتسهل له الخروج إلى نور الايمان إلا بتفضل الله تعالى بإرسال رسول بكتاب يسهل عليه ذلك كمن وقع في تيه مظلم ليس منه خلاص فبعث ملك توقيعا لبعض خواصه في استخلاصه وضمن تسهيل ذلك على نفسه ثم استعمل هنا ما كان مستعملا هناك فقيل: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إلى آخره، وكان الظاهر- بإذننا- إلا أنه وضع ذلك الظاهر موضع الضمير، وقيل: رَبِّهِمْ للإشعار بالتربية واللطف والفضل وبأن الهداية لطف محض، وفيه أن الكتاب والرسول والدعوة لا تجدي دون إذن الله تعالى كما قال سبحانه: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص: 56] اه، وما ذكره من الاستعارة التمثيلية مع بلاغته وحسنه لا يخلو عن بعد، وكأنه للإنباء عن كون التيسير والتوفيق منوطين بالإقبال إلى الحق كما يفصح عنه قوله تعالى: وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ [الرعد: 27] استعير لذلك الاذن الذي هو ما علمت، وأضيف إلى ضمير الناس اسم الرب المفصح عن التربية التي هي عبارة عن تبليغ الشيء إلى كماله المتوجه إليه، وشمول الإذن بذلك المعنى للكل واضح وعليه يدور كون الانزال لإخراجهم جميعا، وعدم تحقق الاذن بالفعل في بعضهم لعدم تحقق شرطه المستند إلى سوء اختيارهم ورداءة استعدادهم غير مخل بذلك، ومن هنا فساد قول الطبرسي: إن اللام لام الغرض لا لام العاقبة وإلا لزم أن يكون جميع الناس مؤمنين والواقع بخلافه، وذكر الإمام أن المعتزلة استدلوا بهذه الآية على أن أفعال الله تعالى تعلل برعاية المصالح، ثم ساق دليل أصحابه على امتناع ذلك وذكر أنه إذا ثبت الامتناع يلزم تأويل كل ما أشعر بخلافه وتأويله بحمل اللام على لام العاقبة ونحوها، ونقل عن ابن القيم وغيره القول بالتعليل وأنه مذهب السلف وأن في الكتاب والسنة ما يزيد على عشرة آلاف موضع ظاهرة في ذلك وتأويل الجميع خروج عن الإنصاف، وليس الدليل على امتناع ذلك من المتانة على وجه يضطر معه إلى التأويل، وللشيخ إبراهيم الكوراني في بعض رسائله كلام نفيس في هذا الغرض سالم فيما أرى عن العلة إن أردته فارجع إليه، والباء متعلقة- بتخرج- على ما هو الظاهر، وجوز أن يكون متعلقا بمضمر وقع حالا من مفعوله أي ملتبسين بإذن ربهم، ومنهم من جوز كونه حالا من فاعله أي ملتبسا بإذن ربهم. وتعقب بأنه يأباه إضافة الرب إليهم لا إليه صلى الله عليه وسلم. ورد بما رد فتأمل. واستدل بالآية القائلون بأن معرفة الله تعالى لا تحصل إلا من طريق التعليم من الرسول صلى الله عليه وسلم حيث ذكر فيها أنه عليه الصلاة والسلام هو الذي يخرج الناس من ظلمات الضلال إلى نور الهدى. وأجيب بأن الرسول عليه الصلاة والسلام كالمنبه وأما المعرفة فإنما تحصل من الدليل. واستدل بها أيضا كل من المعتزلة وأهل السنة على مذهبه في أفعال العباد وتفصيل ذلك في تفسير الإمام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 172 إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الجار والمجرور بدل من الجار والمجرور فيما تقدم أعني قوله تعالى: إِلَى النُّورِ وقال غير واحد: إن صِراطِ بدل من النُّورِ وأعيد عامله وكرر لفظا ليدل على البدلية كما في قوله تعالى: لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ [الأعراف: 75] ولا يضر الفصل بين البدل والمبدل منه بما قبله لأنه غير أجنبي إذ هو من معمولات العامل في المبدل منه على كل حال. واستشكل هذا مع الاستعارة السابقة بأن التعقيب بالبدل لا يتقاعد عن التعقيب بالبيان في مثل قوله تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة: 187] وأجيب بأن الصراط استعارة أخرى للهدى جعل نورا أولا لظهوره في نفسه واستضاءة الضلال في مهواة الهوى به، ثم جعل ثانيا جادة مسلوكة مأمونة لا كبنيات الطرق دلالة على تمام الإرشاد. وفي الإرشاد أن إخلال البيان والبدل بالاستعارة إنما هو في الحقيقة لا في المجاز وهو ظاهر، وجوز أن يكون الجار والمجرور متعلقا بمحذوف على أنه جواب سائل يسأل إلى أي نور؟ فقيل: إِلى صِراطِ إلى آخره، وإضافة الصراط إليه تعالى لأنه مقصده أو المبين له، وتخصيص الوصفين الجليلين بالذكر للترغيب في سلوكه إذ في ذلك إشارة إلى أنه يعز سالكه ويحمد سابله، وقال أبو حيان: النكتة في ذلك أنه لما ذكر قبل إنزاله تعالى لهذا الكتاب وإخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ناسب ذكر هاتين الصفتين صفة العزة المتضمنة للقدرة والغلبة لإنزاله مثل هذا الكتاب المعجز الذي لا يقدر عليه سواه، وصفة الحمد لإنعامه بأعظم النعم لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ووجه التقديم والتأخير على هذا ظاهر. وقال الإمام: إنما قدم ذكر الْعَزِيزِ على ذكر الْحَمِيدِ لأن الصحيح أن أول العلم بالله تعالى العلم بكونه تعالى قادرا ثم بعد ذلك العلم بكونه عالما ثم بعد ذلك العلم بكونه غنيا عن الحاجات، والعزيز هو القادر والحميد هو العالم الغني فلما كان العلم بكونه تعالى قادرا متقدما على العلم بكونه عالما بالكل غنيا عنه لا جرم قدم ذكر العزيز على ذكر الحميد اه ولم نر تفسير الْحَمِيدِ بما ذكر لغيره، وفي المواقف وشرح أسماء الله تعالى الحسنى لحجة الإسلام الغزالي وغيرهما أن الْحَمِيدِ هو المحمود المثني عليه وهو سبحانه محمود بحمده لنفسه أزلا وبحمد عباده له تعالى أبدا، وبين هذا وما ذكره الإمام بعد بعيد، وأما ما ذكره في الْعَزِيزِ فهو قول لبعضهم وقيل: هو الذي لا مثل له. وربما يقال على هذا: إن التقديم للاعتناء بالصفات السلبية كما يؤذن به قولهم: التخلية أولى من التحلية وكذا قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] ولعل كلامه قدس سره بعد لا يخلو عن نظر، وقوله تعالى: اللَّهِ بالرفع على ما قرأ نافع. وابن عامر خبر مبتدأ محذوف أي هو الله والموصول الآتي صفته، وبالجر على قراءة باقي السبعة والأصمعي عن نافع بدل مما قبله في قول ابن عطية: والحوفي وأبي البقاء، وعطف بيان في قول الزمخشري قال: لأنه أجري مجرى الأسماء الأعلام لغلبته واختصاصه بالمعبود بحق كما غلب النجم على الثريا، ولعل جعله جاريا مجرى ذلك ليس لاشتراطه في عطف البيان بل لأن عطف البيان شرطه إفادة زيادة إيضاح لمتبوعه وهي هنا بكونه كالعلم باختصاصه بالمعبود بحق وقد خرج عن الوصفية بذلك فليس صفة كالعزيز الحميد. ثم إنه لا يخفى عليك أنه عند الأئمة المحققين علم لا أنه كالعلم، وعن ابن عصفور أنه لا تقدم صفة على موصوف إلا حيث سمع وذلك قليل، وللعرب فيما وجد من ذلك وجهان: أحدهما أن تقدم الصفة وتبقيها على ما كانت عليه، وفي إعراب مثل هذا وجهان: أحدهما إعرابه نعتا مقدما. والثاني أن يجعل ما بعد الصفة بدلا، والوجه الثاني أن تضيف الصفة إلى الموصوف اه، وعلى هذا يجوز أن يكون الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ صفتين متقدمتين ويعرب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 173 الاسم الجليل موصوفا متأخرا، ومما جاء فيه تقديم ما لو أخر لكان صفة وتأخير ما لو قدم لكان موصوفا قوله: والمؤمن العائذات الطير يمسحها ... ركبان مكة بين الغيل والسعد فلو جاء على الكثير لكان التركيب والمؤمن الطير العائذات، ومثله قوله: لو كنت ذا نبل وذا تشذيب ... لم أخش شدات الخبيث الذيب وجوز في قراءة الرفع كون الاسم الجليل مبتدأ وقوله تعالى الَّذِي لَهُ أي ملكا وملكا ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خبره وما تقدم أولى، فإن في الوصفية من بيان كمال فخامة شأن الصراط وإظهار تحتم سلوكه على الناس ما ليس في الخبرية، والمراد بما في السموات وما في الأرض ما وجد داخلا فيهما أو خارجا عنهما متمكنا فيهما، ومن الناس من استدل بعموم ما على أن أفعال العباد مخلوقة له تعالى كما ذكره الإمام، وقوله تعالى: وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ وعيد لمن كفر بالكتاب ولم يخرج به من الظلمات إلى النور بالويل. وهو عند بعض نقيض الوأل بالهمزة بمعنى النجاة فمعناه الهلاك فهو مصدر إلا أنه لا يشتق منه فعل إنما يقال: ويلا له فينصب نصب المصادر ثم يرفع رفعها لإفادة معنى الثبات فيقال: ويل له كسلام عليك، وقال الراغب: قال الأصمعي ويل قبوح وقد يستعمل للتحسر، وويس استصغار، وويح ترحم، ومن قال: هو واد في جهنم لم يرد أنه في اللغة موضوع لذلك وإنما أراد أن من قال الله تعالى فيه ذلك فقد استحق مقرا من النار وثبت له ذلك، وقوله سبحانه: مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ في موضع الصفة لويل ولا يضر الفصل على ما في البحر وغيره بالخبر، وجوز أن يكون في موضع الحال على ما في الحواشي الشهابية ومِنْ بيانية، وجوز أن تكون ابتدائية على معنى أن الويل بمعنى عدم النجاة متصل بالعذاب الشديد وناشىء عنه، وقيل إن الجار متعلق: بويل على معنى أنهم يولولون من العذاب ويضجون من قائلين يا ويلاه كقوله تعالى: دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً [الفرقان: 13] ومنع أبو حيان وأبو البقاء ذلك لما فيه من الفصل بين المصدر ومعموله بالخبر وهو لا يجوز، وقد مر قريبا في الرعد ما يتعلق بذلك فتذكر فما في العهد من قدم. وفي الكشاف أن مِنْ عَذابٍ إلخ مصل بالويل على معنى أنهم يولولون إلى آخر ما ذكرنا، وهو محتمل لتعلقه به ولتعلقه بمحذوف، واستظهر هذا في البحر. وفي الكشف أن الزمخشري لما رأى أن الويل من الذنوب لا من العذاب كما يرشد إليه قوله تعالى: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ [البقرة: 79] وأمثاله أشار هنا إلى أن الاتصال معنوي لا من ذلك الوجه فإنه هناك جعل الويل نفس العذاب وهنا جعله تلفظهم بكلمة التلهف من شدة العذاب وكلاهما صحيح، ولم يرد أن هنالك فصلا بالخبر لقرب ما مر في قوله تعالى: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ [الرعد: 24] اه. واعترض عليه بأنه لا حاجة لما ذكر من التكلف لأن اتصاله به ظاهر لا يحتاج إلى صرفه للتلفظ بتلك الكلمة، ومِنْ بيانية لا ابتدائية حتى يحتاج إلى ما ذكر، ولا يخفى قوة ذلك وأنه لا يحتاج إلى التكلف ولو جعلت مِنْ ابتدائية فتأمل، والظاهر أن المراد بالعذاب الشديد عذاب الآخرة، وجوز أن يكون المراد عذابا يقع بهم في الدنيا الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ أي يختارونها عليها فإن المختار للشيء يطلب من نفسه أن يكون أحب إليه من غيره، فالسين للطلب، والمحبة مجاز مرسل عن الاختيار والإيثار بعلاقة اللزوم في الجملة فلا يضر وجود أحدهما بدون الآخر كاختيار المريض الدواء المر لنفعه وترك ما يحبه ويشتهيه من الأطعمة اللذيذة لضرره، ولاعتبار التجوز عدى الفعل بعلى ويجوز أن يكون استفعل بمعنى أفعل كاستجاب بمعنى أجاب والفعل مضمن معنى الاختيار والتعدية بعلى لذلك وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعوقون الناس ويمنعونهم عن دين الله تعالى والإيمان به وهو الصراط الذي بين شأنه، والاقتصار على الإضافة إلى الاسم الجليل المنطوي على كل وصف جميل لزوم الاختصار. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 174 وقرأ الحسن «يصدون» من أصد المنقول من صده صدودا إذا تنكب وحاد وهو ليس بفصيح بالنسبة إلى القراءة الأخرى لأن في صده مندوحة عن تكلف النقل ولا محذور في كون القراءة المتواترة أفصح من غيرها، ومن مجيء أصد قوله: أناس أصدوا الناس بالسيف عنهم ... صدود السواقي عن أنوف الحوائم ونظير هذا وقفه وأوقفه وَيَبْغُونَها أي يبغون لها فحذف الجار وأوصل الفعل إلى الضمير أي يطلبون لها عِوَجاً أي زيغا واعوجاجا وهي أبعد شيء عن ذلك أي يقولون لمن يريدون صده وإضلاله عن السبيل هي سبيل ناكبة وزائغة غير مستقيمة، وقيل: المعنى يطلبون أن يروا فيها ما يكون عوجا قادحا فيها كقول من لم يصل إلى العنقود وليسوا بواجدين ذلك، وكلا المعنيين أنسب مما قيل: إن المعنى يبغون أهلها أن يعوجوا بالردة. ومحل موصول هذه الصلات الجر على أنه بدل كما قيل من الكافرين فيعتبر كل وصف من أوصافهم بما ينسابه من المعاني المعتبرة في الصراط، فالكفر المنبئ عن الستر بإزال كونه نورا، واستحباب الحياة الدنيا الفانية المفصحة عن وخامة العاقبة بمقابلة كون مسلوكه محمود العاقبة. والصد عنه بإزالة كون سالكه عزيزا. وقال الحوفي. وأبو البقاء: إنه صفة الكافرين ورد ذلك أبو حيان بأن فيه الفصل بين الصفة والموصوف بأجنبي وهو مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ سواء كان في موضع الصفة- لويل- أو متعلقا بمحذوف، ونظير ذلك على الوصفية قولك: الدار لزيد الحسنة القرشي وهو لا يجوز لأنك قد فصلت بين زيد وصفته بأجنبي عنهما والتركيب الصحيح فيه أن يقال الدار الحسنة لزيد القرشي أو الدار لزيد القرشي الحسنة، وقيل إذا جعل مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ خبر مبتدأ محذوف والجملة اعتراضية لا يضر الفصل بها وهو كما ترى وجوز أن يكون محله النصب على الذم أو الرفع عليه بأن يقدر أنه كان نعتا فقطع أي هم الذين، وجوز أن لا يقدر ذلك ويجعل مبتدأ خبره قوله تعالى: أُولئِكَ فِي ضَلالٍ أي بعد عن الحق بَعِيدٍ وهو على غير هذا الوجه استئناف في موضع التعليل، وفيه تأكيد لما أشعر به بناء الحكم على الموصول، والمراد أنهم قد ضلوا عن الحق ووقعوا عنه بمراحل. وفي الآية من المبالغة في ضلالهم ما لا يخفى حيث أسند فيها إلى المصدر ما هو لصاحبه مجازا- كجد جده- إلا أن الفرق بين ما نحن فيه وذاك أن المسند إليه في الأول مصدر غير المسند وفي ذاك مصدره وليس بينهما بعد. ويجوز أن يقال: إنه أسند فيها ما للشخص إلى سبب اتصافه بما وصف به بناء على أن البعد في الحقيقة صفة له باعتبار بعد مكانه عن مقصده وسبب بعده ضلاله لأنه لو لم يضل لم يبعد عنه، فيكون كقولك: قتل فلانا عصيانه، والإسناد مجازي وفيه المبالغة المذكورة أيضا، وفي الكشاف هو من الإسناد المجازي والبعد في الحقيقة للضال فوصف به فعله، ويجوز أن يراد في ضلال ذي بعد أو فيه بعد لأن الضال قد يضل عن الطريق مكانا قريبا وبعيدا، وكتب عليه في الكشف أن الاسناد المجازي على جعل البعد لصاحب الضلال لأنه الذي يتباعد عن طريق الضلال فوصف ضلاله بوصفه مبالغة وليس المراد ابعادهم في الضلال وتعمقهم فيه. وأما قوله: فيجوز أن يراد في ضلال ذي بعد فعلى هذا البعد صفة للضلال حقيقة بمعنى بعد غوره وأنه هاوية لا نهاية لها، وقوله: أو فيه بعد على جعل الضلال مستقرا للبعد بمنزلة مكان بعيد عن الجادة وهو معنى بعده في نفسه عن الحق لتضادهما، وإليه الإشارة بقوله: لأن الضال قد يضل مكانا بعيدا وقريبا، والغرض بيان غاية التضاد وأنه بعد لا يوازن وزانه، وعلى جميع التقارير البعد مستفاد من البعد المسافي إلى تفاوت ما بين الحق والباطل أو ما بين أهلهما وجاز أن يكون قوله: ذي بعد أو فيه بعد وجها واحدا إشارة إلى الملابسة بين الضلال والبعد لا بواسطة صاحب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 175 الضلال لكن الأول أولى تكثيرا للفائدة، ثم قوله تعالى: أُولئِكَ فِي ضَلالٍ دون أن يقول سبحانه: أولئك ضالون ضلالا بعيدا للدلالة على تمكنهم فيه تمكن المظروف في الظرف وتصوير اشتمال الضلال عليهم اشتمال المحيط على المحاط وليكون كناية بالغة في إثبات الوصف أعني الضلال على الأوجه فافهم. وَما أَرْسَلْنا أي في الأمم الخالية من قبلك كما سيذكر إن شاء الله تعالى إجمالا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا متلبسا بِلِسانِ قَوْمِهِ متكلما بلغة من أرسل إليهم من الأمم المتفقة على لغة سواء بعث فيهم أولا، وقيل: بلغة قومه الذين هو منهم وبعث فيهم، ولا ينتقض الحصر بلوط عليه السلام فإنه تزوج منهم وسكن معهم، وأما يونس عليه السلام فإنه من القوم الذين أرسل إليهم كما قالوه فلا حاجة إلى القول بأن ذلك باعتبار الأكثر الأغلب ولعل الأولى ما ذكرنا. وقرأ أبو السمال. وأبو الحوراء. وأبو عمران الجوني «بلسن» بإسكان السين على وزن ذكر وهي لغة في لسان كريش ورياش، وقال صاحب اللوامح: إنه خاص باللغة واللسان يطلق عليها وعلى الجارحة وإلى ذلك ذهب ابن عطية. وقرأ أبو رجاء. وأبو المتوكل. والجحدري «بلسن» بضم اللام والسين وهو جمع لسان كعماد وعمد. وقرئ «بلسن» بضم اللام وسكون السين وهو مخفف لسن كرسل ورسل لِيُبَيِّنَ ذلك الرسول لَهُمْ لأولئك القوم الذين أرسل إليهم ما كلفوا به فيتلقوه منه بسهولة وسرعة فيمتثلوا ذلك من غير حاجة إلى الترجمة وحيث لم تتأت هذه القاعدة في شأن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى إخوانه المرسلين أجمعين لعموم بعثته وشمول رسالته الأسود والأحمر والجن والبشر على اختلاف لغاتهم وكان تعدد نظم الكتاب المنزل إليه صلى الله عليه وسلم عليه حسب تعدد ألسنة الأمم أدعى إلى التنازع واختلاف الكلمة وتطرق أيدي التحريف مع أن استقلال بعض من ذلك بالإعجاز مئنة لقدح القادحين، واتفاق الجميع فيه أمر قريب من الإلجاء المنافي للتكليف، وحصل البيان بالترجمة والتفسير اقتضت (1) الحكمة المنبئ عن العزة وجلالة الشأن المستتبع لفوائد غنية عن البيان، على أن الحاجة إلى الترجمة تتضاعف عند التعدد إذ لا بد لكل طائفة من معرفة توافق الكل حذو القذة بالقذة من غير مخالفة ولو في خصلة فذة، وإنما يتم ذلك بمن يترجم عن الكل واحدا أو متعددا وفيه من التعذر ما فيه، ثم لما كان أشرف الأقوام وأولاهم بدعوته عليه الصلاة والسلام قومه الذين بعث بين ظهرانيهم ولغتهم أفضل اللغات نزل الكتاب المبين بلسان عربي مبين وانتشرت أحكامه بين الأمم أجمعين، كذا قرره شيخ الإسلام والمسلمين وهو من الحسن بمكان، بيد أن بعضهم أبقى الكلام على عمومه بحيث يشمل النبي (2) صلى الله عليه وسلم وأراد بالقوم الذين ذلك الرسول منهم وبعث فيهم، والمراد من قومه صلى الله عليه وسلم العرب كلهم، ونقل ذلك أبو شامة في المرشد عن السجستاني واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم: «أنزل القرآن على سبعة أحرف» وفيه نظر ظاهر. وقال ابن قتيبة: المراد منهم قريش ولم ينزل القرآن إلا بلغتهم، وقيل: إنما نزل بلغة مضر خاصة لقول عمر رضي الله تعالى عنه: نزل القرآن بلغة مضر، وعين بعضهم فيما حكاه ابن عبد البر سبعا منهم هذيل وكنانة وقيس وضبة وتيم الرباب وأسيد بن خزيمة وقريش، وأخرج أبو عبيد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: نزل بلغة الكعبين كعب قريش وكعب خزاعة فقيل: وكيف؟ فقال: لأن الدار واحدة يعني خزاعة كانوا جيران قريش فسهلت عليهم لغتهم وجاء عن أبي صالح عنه أنه قال: نزل على سبع لغات منها خمس بلغة العجز من هوازن ويقال لهم عليا هوازن، ومن هنا قال أبو عمرو بن العلاء: أفصح العرب عليا هوازن وسفلى تميم يعني بني دارم، والذي يذهب مذهب السجستاني يقول: إن في القرآن ما نزل بلغة حمير. وكنانة. وجرهم. وأزدشنوءة. ومذحج وخثعم وقيس عيلان وسعد العشيرة.   (1) قوله اقتضت إلخ هكذا بخطه اه منه. (2) ادعى بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم كل اللغات لعموم البعثة وإن كان لم يتكلم على خلاف بغير العربية فافهم ولا تغفل اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 176 وكندة. وعذرة. وحضر موت. وغسان. ومزينة. ولخم. وجذام. وحنيفة. واليمامة. وسبأ. وسليم. وعمارة. وطي. وخزاعة. وعمان. وتميم. وإنمار. والأشعريين. والأوس. والخزرج. ومدين وقد مثل لكل ذلك أبو القاسم، وذكر أبو بكر الواسطي أن في القرآن من اللغات خمسين لغة وسردها ممثلا لها إلا أنه ذكر أن فيه من غير العربية الفرس والنبط والحبشة والبربر والسريانية والعبرانية والقبط، والذاهب إلى ما ذهب إليه ابن قتيبة يقول: إن ما نسب إلى غير قريش على تقدير صحة نسبته مما يوافق لغتهم، ونقل أبو شامة عن بعض ومن جاورهم من العرب الفصحاء ثم أبيح لسائر العرب أن تقرأه بلغاتهم التي جرت عاداتهم باستعمالها كاختلافهم في اللفظ والإعراب، ولم يكلف أحد منهم الانتقال من لغته إلى لغة أخرى للمشقة. ولما كان فيهم من الحمية ولطلب تسهيل المراد لكن أنت تعلم أن هذه الإباحة لم تستمر، وكون المتبادر من قومه عليه الصلاة والسلام قريشا مما لا أظن أن أحدا يمتري فيه ويليه في التبادر العرب. وفي البحر أن سبب نزول الآية أن قريشا قالوا: ما بال الكتب كلها أعجمية وهذا عربي؟ وهذا إن صح ظاهر في العموم، ثم إنه لا يلزم من كون لغته لغة قريش أو العرب اختصاص بعثته صلى الله عليه وسلم بهم، وإن زعمت طائفة من اليهود يقال لهم العيسوية اختصاص البعثة بالعرب لذلك، وحكمة إنزاله بلغتهم أظهر من أن تخفى، وقيل: الضمير في قَوْمِهِ لمحمد صلى الله عليه وسلم المعلوم من السياق فإنه كما أخرج ابن أبي عن سفيان الثوري لم ينزل وحي إلا بالعربية ثم ترجم كل نبي لقومه، وقيل: كان يترجم ذلك جبريل عليه السلام ونسب إلى الكلبي، وفيه أنه إذا لم يقع التبيين إلا بعد الترجمة فات الغرض مما ذكر، وضمير لَهُمْ للقوم بلا خلاف وهم المبين لهم بالترجمة. وفي الكشاف أن ذلك ليس بصحيح لأن ضمير لَهُمْ للقوم وهم العرب فيؤدي إلى أن الله تعالى أنزل التوراة مثلا بالعربية ليبين للعرب وهو معنى فاسد. وتكلف الطيبي دفع ذلك بأن الضمير راجع إلى كل قوم قوم بدلالة السياق، والجواب كما في الكشف أنه لا يدفع عن الإيهام على خلاف مقتضى المقام. واحتج بعض الناس بهذه الآية على أن اللغات اصطلاحية لا توقيفية قال: لأن التوقيف لا يحصل إلا بإرسال الرسل. وقد دلت الآية على أن إرسال كل من الرسل لا يكون إلا بلغة قومه وذلك يقتضي تقدم حصول اللغات على إرسال الرسول، وإذا كان كذلك امتنع حصول تلك اللغات بالتوقيف فوجب حصولها بالاصطلاح انتهى. وأجيب بأنا لا نسلم توقف التوقيف على إرسال الرسل لجواز أن يخلق الله تعالى في العقلاء علما بأن الألفاظ وضعها واضع لكذا وكذا، ولا يلزم من هذا كون العاقل عالما بالله تعالى بالضرورة بل الذي يلزم منه ذلك لو خلق سبحانه في العقلاء علما ضروريا بأنه تعالى الواضع وأين هذا من ذاك، على أنه لا ضرر في التزام خلق الله تعالى هذا العلم الضروري وأي ضرر في كونه سبحانه معلوم الوجود بالضرورة لبعض العقلاء؟ والقول بأنه يبطل التكليف حينئذ على عمومه غير مسلم وعلى تخصيص بالمعرفة مسلم وغير ضار فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ إضلاله أي يخلق فيه الضلال لوجود أسبابه المؤدية إليه فيه، وقيل: يخذله فلا يلطف به لما يعلم أنه لا ينجع فيه الإلطاف وَيَهْدِي يخلق الهداية أو يمنح الألطاف مَنْ يَشاءُ هدايته لما فيه من الأسباب المؤدية إلى ذلك، والالتفات بإسناد الفعلين إلى الاسم الجليل لتفخيم شأنهما وترشيخ مناط كل منهما، والفاء قيل فصيحة مثلها في قوله تعالى: فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ [البقرة: 60] (1) كأنه قيل: فبينوه لهم فأضل الله تعالى من شاء إضلاله وهدى من شاء هدايته حسبما اقتضته حكمته تعالى البالغة، والحذف للإيذان بأن مسارعة كل رسول إلى ما أمر به وجريان كل من الفعلين   (1) هكذا نظمها وجاء في أصل المؤلف «فانفلق» وهو غلط اه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 177 على سننه أمر محقق غني عن الذكر والبيان. وفي الكشف وجه التعقيب عن السابق كوجهه في قوله تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً [البقرة: 26] على معنى أرسلنا الكتاب للتبين فمنهم من نفعناه بذلك البيان ومنهم من جعلناه حجة عليه، والفاء على هذه تفصيلية، والعدول إلى صيغة الاستقبال لاستحضار الصورة أو الدلالة على التجدد والاستمرار حيث تجدد البيان من الرسل عليهم السلام المتعاقبة عليهم، وتقديم الإضلال على الهداية- كما قال بعض المحققين- إما لأنه إبقاء ما كان على ما كان والهداية إنشاء ما لم يكن أو للمبالغة في بيان أنه لا تأثير للتبيين والتذكير من قبل الرسل عليهم السلام وأن مدار الأمر إنما هو مشيئته تعالى بإيهام أن ترتب الضلالة أسرع من ترتب الاهتداء، وهذا محقق لما سلف من تقييد لإخراج من الظلمات إلى النور بإذن ربهم وَهُوَ الْعَزِيزُ فلا يغالب في مشيئته تعالى الْحَكِيمُ فلا يشاء ما يشاء إلا لحكمة بالغة، وفيه كما في البحر وغيره أن ما فوض إلى الرسول عليهم الصلاة والسلام إنما هو التبليغ وتبيين طريق الحق، وأما الهداية والإرشاد إليه فذلك بيد الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. ثم إن هذه الآية ظاهرة في مذهب أهل السنة من أن الضلالة والهداية بخلقه سبحانه، وقد ذكر المعتزلة لها عدة تأويلات، وللإمام فيها كلام طويل إن أردته فارجع إليه وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى شروع في تفصيل ما أجمل في قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ الآية بِآياتِنا أي ملتبسا بها وهي كما أخرج ابن جرير. وغيره عن مجاهد. وعطاء. وعبيد بن عمير الآيات التسع التي أجراها الله تعالى على يده عليه السلام، وقيل: يجوز أن يراد بها آيات التوراة أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ بمعنى أي أخرج- فإن- تفسيرية لأن في الإرسال معنى القول دون حروفه أو بأن أخرج فهي مصدرية حذف قبلها حرف الجر لأن أرسل يتعدى بالباء، والجار يطرد حذفه قبل أن وأن، واتصال المصدرية بالأمر أمر مر تحقيقه. وزعم بعضهم أن أَنْ هنا زائدة ولا يخفى ضعفه، والمراد من قومه عليه السلام كما هو الظاهر بنو إسرائيل ومن إخراجهم إخراجهم بعد مهلك فرعون مِنَ الظُّلُماتِ من الكفر والجهالات التي كانوا فيها وأدت بهم إلى أن يقولوا: يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف: 138] إِلَى النُّورِ إلى الإيمان بالله تعالى وتوحيده وسائر ما أمروا به، وقيل: أخرجهم من ظلمات النقص إلى نور الكمال وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ أي بنعمائه وبلائه كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، واختاره الطبري لأنه الأنسب بالمقام والأوفق بما سيأتي إن شاء الله تعالى من الكلام، والعطف على أَخْرِجْ وجوز أن تكون الجملة مستأنفة، والالتفات من التكلم إلى الغيبة بإضافة الأيام إلى الاسم الجليل للإيذان بفخامة شأنها والإشعار- على ما قيل- بعدم اختصاص ما فيها من المعاملة بالمخاطب وقومه كما يوهمه الإضافة إلى ضمير المتكلم، وحاصل المعنى عظهم بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد. وعن ابن عباس أيضا والربيع ومقاتل وابن زيد المراد- بأيام الله- وقائعه سبحانه ونقماته في الأمم الخالية، ومن ذلك أيام العرب لحروبها وملاحمها كيوم ذي قار ويوم الفجار ويوم قضة وغيرها، واستظهره الزمخشري للغلبة العرفية وأن العرب استعملته للوقائع، وأنشد الطبرسي لذلك قول عمرو بن كلثوم: وأيام لنا غرر طوال ... عصينا الملك فيها إن ندينا وأنشده الشهاب للمعنى السابق، وأنشد لهذا قوله: وأيامنا مشهورة في عدونا وأخرج النسائي وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند. والبيهقي في شعب الإيمان. وغيرهم عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر الأيام في الآية بنعم الله تعالى وآلائه، وروى ذلك ابن المنذر عن ابن عباس ومجاهد وجعل أبو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 178 حيان من ذلك بيت عمرو، والأظهر فيه ما ذكره الطبرسي. وأنت تعلم أنه إن صح الحديث فعليه الفتوى، لكن ذكر شيخ الإسلام في ترجيح التفسير المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أولا على ما روي ثانيا بأنه يرد الثاني ما تصدى له عليه السلام بصدد الامتثال من التذكير بكل من السراء والضراء مما جرى عليهم وعلى غيرهم حسبما يتلى بعد، وهو يبعد صحة الحديث، والقول بأن النقم بالنسبة إلى قوم نعم بالنسبة إلى آخرين كما قيل: مصائب قوم عند قوم فوائد مما لا ينبغي أن يلتفت إليه عاقل في هذا المقام. نعم إن قوله تعالى: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ظاهر في تفسير الأيام بالنعم وما يستدعي غير ذلك ستسمع فيه أقوالا لا يستدعيه على بعضها. وزعم بعضهم أن المراد من قومه عليه السلام القبط والظُّلُماتِ والنُّورِ الكفر والإيمان لا غير، وقيل: قومه عليه السلام القبط. وبنو إسرائيل وكان عليه السلام مبعوثا إليهم جميعا إلا أنه بعث إلى القبط بالاعتراف بوحدانية الله تعالى وأن لا يشركوا به سبحانه شيئا، وإلى بني إسرائيل بذلك وبالتكليف بفروع الشريعة. وقيل: هم بنو إسرائيل فقط إلا أن المراد من الظُّلُماتِ والنُّورِ إن كانوا كلهم مؤمنين ظلمات ذل العبودية ونور عزة الدين وظهور أمر الله تعالى، ونحن نقول: نسأل الله تعالى أن يخرجنا وأهل هذه الأقوال من ظلمات الجهل إلى نور العلم إِنَّ فِي ذلِكَ أي في التذكير بأيام الله تعالى أو في الأيام لَآياتٍ عظيمة أو كثيرة دالة على وحدانية الله تعالى وقدرته وعلمه وحكمته، وهي على الأول الأيام، ومعنى كون التذكير ظرفا لها كونه مناطا لظهورها، وعلى الثاني كذلك أيضا إلا أن كلمة فِي تجريدية أو هي عليه كل واحدة من النعماء والبلاء، والمشار إليه المجموع المشتمل عليها من حيث هو مجموع، وجوز أن يراد بالأيام فيما سبق أنفسها المنطوية على النعم والنقم، فإذا كانت الإشارة إليها وحملت الآيات على النعماء والبلاء فأمر الظرفية ظاهر لِكُلِّ صَبَّارٍ كثير الصبر على بلائه تعالى شَكُورٍ كثير الشكر لنعمائه عز وجل. وقيل: المراد لكل مؤمن، فعلى الأول الوصفان عبارتان لمعنيين، وعلى هذا عبارة عن معنى واحد على طريق الكناية كحي مستوي القامة بادي البشرة في الكناية عن الإنسان، والتعبير عن المؤمن بذلك للإشعار بأن الصبر والشكر عنوان المؤمن الدال على ما في باطنه. والمراد على ما قيل لكل من يليق بكمال الصبر والشكر أو الإيمان ويصير أمره إلى ذلك لا لمن اتصف به بالفعل لأن الكلام تعليل للأمر بالتذكير المذكور السابق على التذكير المؤدي إلى تلك المرتبة، فإن من تذكر ما فاض أو نزل عليه أو على ما قبله من النعمة والنقمة وتنبه لعاقبة الصبر والشكر أو الإيمان لا يكاد يفارق ذلك وتخصيص الآيات بالصبار الشكور لأنه المنتفع بها لا لأنها خافية عن غيره فإن التبيين حاصل بالنسبة إلى الكل، وتقديم الصبر على الشكر لما أن الصبر مفتاح الفرج المقتضي للشكر، وقيل: لأنه من قبيل التروك يقال: صبرت الدابة إذا حبستها بلا علف والشكر ليس كذلك فإنه- كما قال الراغب- تصور النعمة وإظهارها، قيل: وهو مقلوب الكشر أي الكشف، وقيل: أصله من عين شكرى أي ممتلئة فالشكر على هذا هو الامتلاء من ذكر المنعم عليه، وهو على ثلاثة أضرب: شكر القلب. وشكر اللسان. وشكر الجوارح، وذكر أن توفية شكر الله تعالى صعبة، ولذلك لم يثن سبحانه بالشكر على أحد من أوليائه إلا على اثنين نوح (1) وإبراهيم (2) عليهما السلام، وقد يكون انقسام الشكر   (1) قال تعالى فيه إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً اه منه. (2) قال فيه «شاكرا لأنعمه اجتباه» اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 179 على النعمة وعدم انقسام الصبر على النقمة وجها للتقديم والتأخير، وقيل: ذلك لتقدم متعلق الصبر- أعني البلاء- على متعلق الشكر أعني النعماء. وَإِذْ قالَ مُوسى شروع في بيان تصديه عليه السلام لما أمر به من التذكير للإخراج المذكور وَإِذْ منصوب على المفعولية عند كثير بمضمر خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم، وتعليق الذكر بالوقت مع أن المقصود تذكير ما وقع فيه من الحوادث لما مر غير مرة أي اذكر لهم وقت قوله عليه السلام لِقَوْمِهِ الذين أمرناه بإخراجهم من الظلمات إلى النور اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ تعالى الجلية عَلَيْكُمْ وبدا عليه السلام بالترغيب لأنه عند النفس أقبل وهي إليه أميل، وقيل: بدأ بهذا الأمر لما بينه وبين آخر الكلام السابق من مزيد الربط، ولا يخفى أن هذا إنما هو على تقدير أن يكون عليه السلام مأمورا بالترغيب والترهيب، أما إذا كان مأمورا بالترغيب فقط فلا سؤال، والظرف متعلق بنفس النعمة أن جعلت مصدرا بمعنى الأنعام أو بمحذوف وقع حالا منها إن جعلت اسما أي اذكروا انعامه عليكم أو نعمته كائنة عليكم، وإِذْ في قوله سبحانه: إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يجوز أن يتعلق بالنعمة أيضا على تقدير جعلها مصدرا أي اذكروا إنعامه عليكم وقت انجائكم، ويجوز أن يتعلق بكلمة عَلَيْكُمْ إذا كانت حالا لا ظرفا لغوا للنعمة لأن الظرف المستقر لنيابته عن عامله يجوز أن يعمل عمله أو هو على هذا معمول لمتعلقه كأنه قيل: اذكروا نعمة الله تعالى مستقرة عليكم وقت إنجائكم، ويجوز أن يكون بدل اشتمال من نعمة الله مرادا بها الأنعام أو العطية المنعم بها يَسُومُونَكُمْ يبغونكم من سامه خسفا إذا أولاه ظلما، وأصل السوم- كما قال الراغب- الذهاب في طلب الشيء فهو لفظ لمعنى مركب من الذهاب والطلب فأجرى مجرى الذهاب في قولهم: سامت الإبل فهي سائمة، ومجرى الطلب في قولهم: سمته كذا سُوءَ الْعَذابِ مفعول ثان- ليسومونكم- والسوء مصدر ساء يسوء، والمراد جنس العذاب السيء أو استعبادهم واستعمالهم من الأعمال الشاقة والاستهانة بهم وغير ذلك. وفي أنوار التنزيل أن المراد بالعذاب هاهنا غير المراد به في سورة البقرة والأعراف لأنه مفسر بالتذبيح والتقتيل ثم ومعطوف عليه التذبيح المفاد بقوله تعالى: وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ هاهنا، وفيه إشارة إلى وجه العطف وتركه مع أن القصة واحدة، وحاصل ذلك أنه حيث طرح الواو قصد تفسير العذاب وبيانه فلم يعطف لما بينهما من كمال الاتصال وحيث عطف لم يقصد ذلك، والعذاب إن كان المراد به الجنس فالتذبيح لكونه أشد أنواعه عطف عليه عطف جبريل على الملائكة عليهم السلام تنبيها على أنه لشدته كأنه ليس من ذلك الجنس، وإن كان المراد به غيره كالاستعباد فهما متغايران والمحل محل العطف، وقد جوز أهل المعاني أن يكونا بمعنى في الجميع وذكر الثاني للتفسير، وترك العطف في السورتين ظاهر والعطف هنا لعد التفسير لكونه أوفى المراد وأظهر منزلة المغاير وهو وجه حسن أيضا، وسبب هذا التذبيح أن فرعون رأى في المنام أو قال له الكهنة. إنه سيولد لبني إسرائيل من يذهب بملكه فاجتهدوا في ذلك فلم يغن عنهم من قضاء الله تعالى شيئا وقرأ ابن محيصن «ويذبحون» مضارع ذبح ثلاثيا. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما كذلك إلا أنه حذف الواو وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ أي يبقونهن في الحياة مع الذل، ولذلك عد من جملة البلاء أو لأن إبقاءهن دون البنين رزية في نفسه كما قيل: ومن أعظم الرزء فيما أرى ... بقاء البنات وموت البنينا والجمل أحوال من آل فرعون أو من ضمير المخاطبين أو منهما جميعا لأن فيها ضمير كل منهما، ولا اختلاف في العامل لأنه وإن كان في آل فرعون من في الظاهر لكنه لفظ أَنْجاكُمْ في الحقيقة، والاقتصار على الاحتمالين الأولين هنا وتجويز الثلاثة في سورة البقرة كما فعل البيضاوي بيض الله تعالى غرة أحواله لا يظهر وجهه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 180 وَفِي ذلِكُمْ أي فيما ذكرنا من الأفعال الفظيعة بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي ابتلاء منه تعالى لأن البلاء عين تلك الأفعال اللهم إلا أن تجعل فِي تجريدية فنسبته إلى الله تعالى إما من حيث الخلق وهو الظاهر أو الإقدار والتمكين، ويجوز أن يكون المشار إليه الإنجاء من ذلك والبلاء الابتلاء بالنعمة فإنه يكون بها كما يكون بالمحنة قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: 35] وقال زهير: جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم ... فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو وهو الأنسب بصدر الآية، ويلوح إليه التعرض لوصف الربوبية، وعلى الأول يكون ذلك باعتبار المآل الذي هو الإنجاء أو باعتبار أن بلاء المؤمن تربية له ونفع في الحقيقة عَظِيمٌ لا يطاق حمله أو عظيم الشأن جليل القدر وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ داخل في مقول موسى عليه السلام لا كلام مبتدأ، وهو معطوف على نعمة الله أي اذكروا نعمة الله تعالى عليكم واذكروا حين تأذن ربكم أي آذن إيذانا بليغا واعلم إعلاما لا يبقى معه شبهة لما في صيغة التفعل من معنى التكلف المحمول في حقه تعالى لاستحالة حقيقته عليه سبحانه على غايته التي هي الكمال، وجوز عطفه على إِذْ أَنْجاكُمْ أي اذكروا نعمته تعالى في هذين الوقتين فإن هذا التأذن أيضا نعمة من الله تعالى عليهم لما فيه من الترغيب والترهيب الباعثين إلى ما ينالون به خيري الدنيا والآخرة، وفي قراءة ابن مسعود «وإذ قال ربكم» لَئِنْ شَكَرْتُمْ ما خولتكم من نعمة الإنجاء من إهلاك وغير ذلك وقابلتموه بالإيمان أو بالثبات عليه أو الإخلاص فيه والعمل الصالح لَأَزِيدَنَّكُمْ أي نعمة إلى نعمة فإن زيادة النعمة ظاهرة في سبق نعمة أخرى، وقيل: يفهم ذلك أيضا من لفظ الشكر فإنه دال على سبق النعم فليس الزيادة لمجرد الأحداث، والظاهر- على ما قيل- إن هذه الزيادة في الدنيا، وقيل: يحتمل أن تكون في الدنيا وفي الآخرة وليس ببعيد، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لئن وحدتم وأطعتم لأزيدنكم في الثواب، وعن الحسن. وسفيان الثوري أن المعنى لئن شكرتم أنعامي لأزيدنكم من طاعتي، والكل خلاف الظاهر. وذكر الإمام أن حقيقة الشكر الاعتراف بنعمة المنعم مع تعظيمه، وبيان زيادة النعم به أن النعم منها روحانية ومنها جسمانية والشاكر يكون أبدا في مطالعة أقسام نعم الله تعالى وأنواع فضله وكرمه وذلك يوجب تأكد محبة الله تعالى المحسن عليه بذلك ومقام المحبة أعلى مقامات الصديقين، ثم قد يترقى العبد من تلك الحالة إلى أن يكون حبه للمنعم شاغلا له عن الالتفات إلى النعمة وهذه أعلى وأغلى فثبت من هذا أن الاشتغال بالشكر يوجب زيادة النعم الروحانية، وكونه موجبا لزيادة النعم الجسمانية فللاستقراء الدال على أن كل من كان اشتغاله بالشكر أكثر كان وصول النعم إليه أكثر وهو كما ترى وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ ذلك وعمطتموه ولم تشكروه كما تدل عليه المقابلة، وقيل: المراد بالكفر ما يقابل الإيمان كأنه قيل: ولئن أشركتم إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ فعسى يصيبكم منه ما يصيبكم، ومن عادة الكرام غالبا التصريح بالوعد والتعريض بالوعيد فما ظنك بأكرم الأكرمين، فلذا لم يقل سبحانه: إن عذابي لكم لأعذبنكم كما قال جل وعلا: لَأَزِيدَنَّكُمْ. وجوز أن يكون المذكور تعليلا للجواب المحذوف أي لأعذبنكم، وبين الإمام وجه كون كفران النعم سببا للعذاب أنه لا يحصل الكفران إلا عند الجهل بكون تلك النعمة من الله تعالى والجاهل بذلك جاهل بالله تعالى والجهل به سبحانه من أعظم أنواع العذاب. والآية مما اجتمع فيها القسم والشرط فالجواب ساد مسد جوابيهما، والجملة إما مفعول- لتأذن- لأنه ضرب من القول أو مفعول قول مقدر منصوب على الحال ساد معموله مسده أي قائلا لئن شكرتم إلخ، وهذان مذهبان مشهوران للكوفية والبصرية في أمثال ذلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 181 واستدل بالآية على أن شكر المنعم واجب وهو مما أجمع عليه السنيون والمعتزلة إلا أن الأولين على وجوبه شرعا والآخرين على وجوبه عقلا، وهو مبني على قولهم بالحسن والقبح العقليين، وقد هد أركانه أهل السنة، على أنه لو قيل به لم يكد يتم لهم الاستدلال بذلك في هذا المقام كما بين في محله وَقالَ مُوسى لهم: إِنْ تَكْفُرُوا نعمه سبحانه ولم تشكروها أَنْتُمْ يا بني إسرائيل وَمَنْ فِي الْأَرْضِ من الناس وقيل من الخلائق جَمِيعاً لم يتضرر هو سبحانه وإنما يتضرر من يكفر فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عن شكركم وشكرهم حَمِيدٌ مستوجب للحمد بذاته تعالى لكثرة ما يوجبه من أياديه وإن لم يحمده أحد أو محمود تحمده الملائكة عليهم السلام بل كل ذرة من ذرات العالم ناطقة بحمده، والحمد حيث كان بمقابلة النعمة وغيرها من الفضائل كان أدل على كماله جل وعلا، وهو تعليل لما حذف من جواب إِنْ تَكْفُرُوا كما أشرنا إليه، ثم إن موسى عليه السلام بعد أن ذكرهم أولا بنعمائه تعالى عليهم صريحا وضمنه بذكر ما أصابهم من الضراء، وأمرهم ثانيا بذكر ما جرى منه سبحانه من الوعد بالزيادة على الشكر والوعيد بالعذاب على الكفر وحقق لهم مضمون ذلك، وحذرهم من عند نفسه عن الكفران ثالثا لما رأى منهم ما يوجب ذلك شرع في الترهيب بتذكير ما جرى على الأمم الدارجة فقال: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ليتدبروا ما أصاب كل واحد من حزبي المؤمن والكافر فيتم له عليه السلام مقصوده منهم. وجوز أن يكون من تتمة قوله عليه السلام: إِنْ تَكْفُرُوا إلخ على أنه كالبيان لما أشير إليه في الجواب من عود ضرر الكفران على الكافر دونه عز وجل، وقيل: هو من كلامه تعالى جيء تتمة لقوله سبحانه: لَئِنْ شَكَرْتُمْ إلخ وبيانا لشدة عذابه ونقل كلام موسى عليه السلام معترض في البين وهو كما ترى، وقيل: هو ابتداء كلام منه تعالى مخاطبا به أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعد ما ذكر إرساله عليه الصلاة والسلام بالقرآن وقص عليهم من قصص موسى عليه الصلاة والسلام مع أمته ولعل تخصيص تذكيرهم بما أصاب أولئك المعدودين مع قرب غيرهم إليهم للإشارة إلى أن إهلاكه تعالى الظالمين ونصره المؤمنين عادة قديمة له سبحانه وتعالى، ومن الناس من استبعد ذلك. قَوْمِ نُوحٍ بدل من الموصول أو عطف بيان وَعادٍ معطوف على قوم نوح وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد هؤلاء المذكورين عطف على قوم نوح وما عطف عليه، وقوله تعالى: لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ اعتراض أو الموصول مبتدأ وهذه الجملة خبره وجملة المبتدأ وخبره اعتراض، والمعنى على الوجهين أنهم (1) من الكثرة بحيث لا يعلم عددهم إلا الله تعالى، ومعنى الاعتراض على الأول ألم يأتكم أنباء الجم الغفير الذي لا يحصى كثرة فتعتبروا بها إن في ذلك لمعتبرا، وعلى الثاني هو ترق ومعناه ألم يأتكم نبأ هؤلاء ومن لا يحصى عددهم كأنه يقول: دع التفصيل فإنه لا مطمع في الحصر، وفيه لطف لإيهام الجمع بين الإجمال والتفصيل ولذا جعله الزمخشري أول الوجهين، وما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: بين عدنان وإسماعيل عليه السلام ثلاثون أبا لا يعرفون، وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه إذا قرأ هذه الآية قال: كذب النسابون يعني أنهم يدعون علم الأنساب وقد نفى الله تعالى علمهما عن العباد أظهر فيه على ما قيل. ومن هنا يعلم أن ترجيح الطيبي الوجه الأول بما رجحه به ليس في محله: واعترض أبو حيان القول بالاعتراض بأنه لا يكون إلا بين جزئين يطلب أحدهما الآخر وما ذكر ليس كذلك، ومنع بأن بين المعترض بينهما ارتباطا يطلب به   (1) إلا أن مرجع الضمير في أنهم مختلف اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 182 أحدهما الآخر لأنه يجوز أن تكون الجملة الآتية حالا بتقدير قد والاعتراض يقع بين الحال وصاحبها، فليس ما ذكر مخالفا لكلام النحاة، ولو سلم أنها ليست بحالية فما ذكروه هنا على مصطلح أهل المعاني وهم لا يشترطون الشرط المذكور، حتى جوزوا أن يكون الاعتراض في آخر الكلام كما صرح به ابن هشام في المغني، مع أن الجملة الآتية مفسرة لما في الجملة الأولى فهي مرتبطة بها معنى، واشتراط الارتباط الإعرابي عند النحاة غير مسلم أيضا فتأمل. وجعل أبو البقاء جملة لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ على تقدير عطف الموصول على ما قبل حالا من الضمير في مِنْ بَعْدِهِمْ. وجوز الاستئناف، ولعله أراد بذلك الضمير المستقر في الجار والمجرور لا الضمير المجرور بالإضافة لفقد شرط مجيء الحال منه، وجوز على تقدير كون الموصول مبتدأ كون تلك الجملة خبرا وكونها حالا والخبر قوله تعالى: جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ والكثير على أنه استئناف لبيان نبئهم بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الظاهرة، فبين كل رسول منهم لأمته طريق الحق وهداهم إليه ليخرجهم من الظلمات إلى النور فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ أي أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وما نطقت به وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ أي على زعمكم، وهي البينات التي أظهروها حجة على صحة رسالتهم. ومرادهم بالكفر بها الكفر بدلالتها على صحة رسالتهم أو الكتب والشرائع، وحاصله أنهم أشاروا إلى جوابهم هذا كأنهم قالوا: هذا جوابنا لكم ليس عندنا غيره إقناطا لهم من التصديق، وهذا كما يقع في كلام المخاطبين أنهم يشيرون إلى أن هذا هو الجواب ثم يقررونه أو يقررونه ثم يشيرون بأيديهم إلى أن هذا هو الجواب، فضمير أَيْدِيَهُمْ وأَفْواهِهِمْ إلى الكفار، والأيدي على حقيقتها، والرد مجاز عن الإشارة وهي تحتمل المقارنة والتقدم والتأخر، وقال أبو صالح: المراد أنهم وضعوا أيديهم على أفواههم مشيرين بذلك للرسل عليهم السلام أن يكفوا ويسكتوا عن كلامهم كأنهم قالوا: اسكتوا فلا ينفعكم الإكثار ونحن مصرون على الكفر لا نقلع عنه. فكم أنا لا أصغي وأنت تطيل. فالضميران للكفار أيضا وسائر ما في النظم على حقيقته. وأخرج ابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن المراد أنهم عضوا أيديهم غيظا من شدة نفرتهم من رؤية الرسل وسماع كلامهم، فالضميران أيضا كما تقدم، واليد والفم على حقيقتهما، والرد كناية عن العض، ولا ينافي الحقيقة كون المعضوض الأنامل كما في قوله تعالى: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ [آل عمران: 119] فإن من عض موضعا من اليد يقال حقيقة إنه عض اليد، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد أنهم وضعوا أيديهم على أفواههم تعجبا مما جاء به الرسل عليهم السلام، وهذا كما يضع من غلبه الضحك يده على فيه، فالضميران وسائر ما في النظم كما في القول الثاني، وجوز أن يرجع الضمير في أَيْدِيَهُمْ إلى الكفار وفي أَفْواهِهِمْ إلى الرسل عليهم السلام، وفيه احتمالان: الأول أنهم أشاروا بأيديهم إلى أفواه الرسل عليهم السلام أن اسكتوا، والآخر أنهم وضعوا أيديهم على أفواه الرسل عليهم السلام منعا لهم من الكلام. وروي هذا عن الحسن، والكلام يحتمل أن يكون حقيقة ويحتمل أن يكون استعارة تمثيلية بأن يراد برد أيدي القوم إلى أفواه الرسل عليهم السلام عدم قبول كلامهم واستماعه مشبها بوضع اليد على فم المتكلم لإسكاته. وظاهر ما في البحر يقتضي أنه حقيقة حيث قال: إن ذلك أبلغ في الرد وأذهب في الاستطالة على الرسل عليهم السلام والنيل منهم، وأن يكون الضمير في أَيْدِيَهُمْ للكفار وضمير أَفْواهِهِمْ للرسل عليهم السلام. والأيدي جمع يد بمعنى النعمة أي ردوا نعم الرسل عليهم السلام التي هي أجل النعم من مواعظهم ونصائحهم وما أوحي إليهم من الشرائع والأحكام في أفواههم، ويكون ذلك مثلا لردها وتكذيبها بأن يشبه رد الكفار ذلك برد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 183 الكلام الخارج من الفم فقيل: ردوا أيديهم أي مواعظهم في أفواههم والمراد عدم قبولها، وقيل: المراد بالأيدي النعم والضمير الأول للرسل عليهم السلام أيضا لكن الضمير الثاني للكفار على معنى كذبوا ما جاؤوا به بأفواههم أي تكذيبا لا مستند له، وفِي بمعنى الباء، وقد أثبت الفراء مجيئها بمعناها وأنشد: وأرغب فيها (1) عن لقيط ورهطه ... ولكنني عن سنبس لست أرغب وضعف حمل الأيدي على النعم بأن مجيئها بمعنى ذلك قليل في الاستعمال حتى أنكره بعض أهل اللغة وإن كان الصحيح خلافه، والمعروف في ذلك الأيادي كما في قوله: سأشكر عمرا إن تراخت منيتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلت وبأن الرد والأفواه يناسب إرادة الجارحة، وقال أبو عبيدة الضميران للكفار والكلام ضرب مثل أي لم يؤمنوا ولم يجيبوا، والعرب تقول للرجل إذا سكت عن الجواب وأمسك رد يده في فيه، ومثله عن الأخفش. وتعقبه القتبي بأنا لم نسمع أحدا من العرب يقول رد فلان يده في فيه إذا سكت وترك ما أمر به، وفيه أنهما سمعا ذلك ومن سمع حجة على من لم يسمع، قال أبو حيان: وعلى ما ذكراه يكون ذلك من مجاز التمثيل كأن الممسك عن الجواب الساكت عنه وضع يده على فيه. ورده الطبري بأنه قد أجابوا بالتكذيب لأنهم قالوا: إِنَّا كَفَرْنا إلى آخره. وأجيب بأنه يحتمل أن يكون مراد القائل أنهم أمسكوا وسكتوا عن الجواب المرضي الذي يقتضيه مجيء الرسل عليهم السلام إليهم بالبينات وهو الاعتراف والتصديق، وقال ابن عطية: الضميران للكفار ويحتمل أن يتجوز في الأيدي ويراد منها ما يشمل أنواع المدافعة، والمعنى ردوا جميع مدافعتهم في أفواههم أي إلى ما قالوا بأفواههم من التكذيب، وحاصله أنهم لم يجدوا ما يدفعون به كلام الرسل عليهم السلام سوى التكذيب المحض، وعبر عن جميع المدافعة بالأيدي إذ هي موضع أشد المدافعة والمرادة. وقيل: المراد أنهم جعلوا أيديهم في محل ألسنتهم على معنى أنهم آذوا الرسل عليهم السلام بألسنتهم نحو الإيذاء بالأيدي، والذي يطابق المقام وتشهد له بلاغة التنزيل هو الوجه الأول، ونص غير واحد على أنه الوجه القوي لأنهم لما حاولوا الإنكار على الرسل عليهم السلام كل الإنكار جمعوا في الإنكار بين الفعل والقول، ولذا أتى بالفاء تنبيها على أنهم لم يمهلوا بل عقبوا دعوتهم بالتكذيب وصدروا الجملة بإن، ويلي ذلك على ما في الكشف الوجه الثاني ولا يخفى ما في أكثر الوجوه الباقية فتأمل وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ عظيم مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ من الإيمان والتوحيد، وبهذا وتفسير بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ بما ذكر أولا يندفع ما يتوهم من المنافاة بين جزمهم بالكفر وشكهم هذا، وقيل في دفع ذلك على تقدير كون متعلقي الكفر والشك واحدا: إن الواو بمعنى أو أي أحد الأمرين لازم وهو أنا كفرنا جزما بما أرسلتم به فإن لم نجزم فلا أقل من أن نكون شاكين فيه وأيا ما كان فلا سبيل إلى الإقرار والتصديق، وقيل: إن الكفر عدم الإيمان عمن هو من شأنه- فكفرنا- بمعنى لم نصدق وبذلك فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وذلك لا ينافي الشك. وفي البحر أنهم بادروا أولا إلى الكفر وهو التكذيب المحض ثم أخبروا أنهم في شك وهو التردد كأنهم نظروا بعض نظر اقتضى أن انتقلوا من التكذيب المحض إلى التردد أو هما قولان من طائفتين طائفة بادرت بالتكذيب والكفر وأخرى شكت، والشك في مثل ما جاءت به الرسل عليهم السلام كفر، وهذا أولى من قرينه. وقرأ طلحة «مما تدعونا» بإدغام نون الرفع في نون الضمير كما تدغم في نون الوقاية في نحو أتحاجوني.   (1) يعني بنتا له ولقيط اسم رجل ورهطه قبيلته وسنبس قبيلة أيضا اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 184 مُرِيبٍ أي موقع في الريبة من أرابني بمعنى أوقعني في ريبة أو ذي ريبة من أراب صار ذا ريبة، وهي قلق النفس وعدم اطمئنانها بالشيء، وهو صفة توكيدية قالَتْ رُسُلُهُمْ استئناف مبني على سؤال ينساق إليه المقام كأنه قيل: فماذا قالت لهم رسلهم حين قابلوهم بما قابلوهم به؟ فأجيب بأنهم قالوا منكرين عليهم ومتعجبين من مقالتهم الحمقاء: أَفِي اللَّهِ شَكٌّ بتقديم الظرف وإدخال الهمزة عليه للإيذان بأن مدار الإنكار ليس نفس الشك بل وقوعه فيمن لا يكاد يتوهم فيه الشك أصلا، ولولا هذا القصد لجاز تقديم المبتدأ، والقول بأنه ليس كذلك خطأ لأن وقوع النكرة بعد الاستفهام مسوغ للابتداء بها وهو مما لا شك فيه، وكون ذلك المؤخر مبتدأ غير متعين بل الأرجح كونه فاعلا بالظرف المعتمد على الاستفهام كما ستعلم إن شاء الله تعالى، والكلام على تقدير مضاف على ما قيل أي أفي وحدانية الله تعالى شك، بناء على أن المرسل إليهم لم يكونوا دهرية منكرين للصانع بل كانوا عبدة أصنام، وقيل: يقدر في شأن الله ليعلم الوجود والوحدة لأن فيهم دهرية ومشركين. وقيل: يقدر حسب المخاطبين وتقدير الشأن مطلقا ذو شأن، وفي عدم تطبيق الجواب على كلام الكفرة بأن يقولوا: أأنتم في شك مريب من الله تعالى مبالغة في تنزيه ساحة الجلال عن شائبة الشك وتسجيل عليهم بسخافة العقول أي أفي شأنه تعالى شأنه من وجوده ووحدته ووجوب الإيمان به وحده شك ما وهو أظهر من كل ظاهر وأجلى من كل جلي حتى تكونوا من قبله سبحانه في شك عظيم مريب، وحيث كان مقصدهم الأقصى الدعوة إلى الإيمان والتوحيد وكان إظهار البينات وسيلة إلى ذلك لم يتعرضوا للجواب عن قولهم: إِنَّا كَفَرْنا إلى آخره واقتصروا على بيان ما هو الغاية القصوى، وقد يقال: إنهم عليهم السلام قد اقتصروا على إنكار ما ذكر لأنه يعلم منه إنكار وقوع الجزم بالكفر به سبحانه من باب أولى. فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي مبدعهما وما فيهما من المصنوعات على نظام أنيق شاهد بتحقق ما أنتم في شك منه. وفي الآية- كما قيل- إشارة إلى دليل التمانع. وجر فاطِرِ على أنه بدل من الاسم الجليل أو صفة له. وحيث كان «شك» فاعلا بالظرف وهو كالجزء من عامله لا يعد أجنبيا فليس هناك فصل بين التابع والمتبوع بأجنبي وبهذا رجحت الفاعلية على المبتدئية لأن المبتدأ ليس كذلك. نعم إلى الابتدائية ذهب أبو حيان وقال: إنه لا يضر الفصل بين الموصوف وصفته بمثل هذا المبتدأ فيجوز أن تقول: في الدار زيد الحسنة وإن كان أصل التركيب في الدار الحسنة زيد. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «فاطر» نصبا على المدح. ثم إنه بعد أن أشير إلى الدليل الدال على تحقق ما هم في شك منه نبه على عظم كرمه ورحمته تعالى فقيل: يَدْعُوكُمْ أي إلى الإيمان بإرساله إيانا لا أنا ندعوكم إليه من تلقاء أنفسنا كما يوهم قولكم مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ لِيَغْفِرَ لَكُمْ بسببه، فالمدعو إليه غير المغفرة. وتقدير الإيمان لقرينة ما سبق. ويحتمل أن يكون المدعو إليه المغفرة لا لأن اللام بمعنى إلى فإنه من ضيق العطن بل لأن معنى الاختصاص ومعنى الانتهاء كلاهما واقعان في حاق الموقع فكأنه قيل: يدعوكم إلى المغفرة لأجلها لا لغرض آخر. وحقيقته أن الأغراض غايات مقصودة تفيد معنى الانتهاء وزيادة قاله: في الكشف، وهذا نظير قوله: دعوت لما نابني مسورا ... فلبى (1) فلبى يدي مسور   (1) والمعنى دعوته فأجابني فكان مجابا دعا له بأن يكون مجابا كما كان مجيبا، وكتب ابن حبيب الكاتب لبى الأول بالألف للتمييز اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 185 مِنْ ذُنُوبِكُمْ أي بعضها وهو ما عدا المظالم وحقوق العباد على ما قيل، وهو مبني على أن الإسلام إنما يرفع ما هو من حقوق الله تعالى الخالصة له دون غيره، والذي صححه المحدثون في شرح ما صح من قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الإسلام يهدم ما قبله» أنه يرفع ما قبله مطلقا حتى المظالم وحقوق العباد، وأيد ذلك بظاهر قوله تعالى في آية أخرى: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران: 31، الأحزاب: 71] بدون من، ومِنْ هنا ذهب أبو عبيدة. والأخفش إلى زيادة مِنْ فيما هي فيه، وجمهور البصريين لا يجوزون زيادتها في الموجب ولا إذا جرت المعرفة كما هنا فلا يتأتى التوفيق بذلك بين الآيتين، وجعلها الزجاج للبيان ويحصل به التوفيق، وقيل: هي للبدل أي ليغفر لكم بدل ذنوبكم ونسب للواحدي. وجوز أيضا أن تكون للتبعيض ويراد من البعض الجميع توسعا. ورد الإمام الأول بأن مِنْ لا تأتي للبدل، والثاني بأنه عين ما نقل عن أبي عبيدة. والأخفش وهو منكر عند سيبويه والجمهور وفيه نظر ظاهر، ولو قال: إن استعمال البعض في الجميع مسلم وأما استعمال من التبعيضية في ذلك فغير مسلم لكان أولى. وفي البحر يصح التبعيض ويراد بالبعض ما كان قبل الإسلام وذلك لا ينافي الحديث وتكون الآية وعدا بغفران ما تقدم لا بغفران ما يستأنف ويكون ذاك مسكوتا عنه باقيا تحت المشيئة في الآية والحديث، ونقل عن الأصم القول بالتبعيض أيضا على معنى إنكم إذا آمنتم يغفر لكم الذنوب التي هي الكبائر وأما الصغائر فلا حاجة إلى غفرانها لأنها في نفسها مغفورة، واستطيب ذلك الطيبي قال: والذي يقتضيه المقام هذا لأن الدعوة عامة لقوله سبحانه: قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ كأنه قيل: أيها الشاكون الملوثون بأوضار الشرك والمعاصي إن الله تعالى يدعوكم إلى الإيمان والتوحيد ليطهركم من أخباث أنجاس الذنوب فلا وجه للتخصيص أي بحقوق الله تعالى الخالصة له، وقد ورد إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ [الأنفال: 38] و «ما» للعموم سيما في الشرط، ومقام الكافر عند ترغيبه في الإسلام بسط لا قبض، والكفار إذا أسلموا إنما اهتمامهم في الشرك ونحوه لا في الصغائر، ويؤيده ما روي أن أهل مكة قالوا: يزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس التي حرم الله تعالى لم يغفر له فكيف ولم نهاجر وعبدنا الأوثان وقتلنا النفس التي حرم الله تعالى فنزلت قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزمر: 53] الآية، وقصة وحشي مشهورة، وجرح ذلك القاضي فقال: إن الأصم قد أبعد في هذا التأويل لأن الكفار صغائرهم ككبائرهم في أنها لا تغفر وإنما تكون الصغيرة مغفورة من الموحدين من حيث إنه يزيد ثوابهم على عقابها وأما من لا ثواب له أصلا فلا يكون شيء من ذنوبه صغيرا ولا يكون شيء منها مغفورا، ثم قال: وفي ذلك وجه آخر وهو أن الكافر قد ينسى بعض ذنوبه في حال توبته وإيمانه فلا يكون المغفور إلا ما ذكره وتاب منه اه. ولو سمع الأصم هذا التوجيه لأخذ ثأره من القاضي فإنه لعمري توجيه غير وجيه ولو أن أحدا سخم وجه القاضي لسخمت وجهه، وقال الزمخشري: إن الاستقراء في الكافرين أن يأتي مِنْ ذُنُوبِكُمْ وفي المؤمنين ذُنُوبِكُمْ وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين ولئلا يسوي في الميعاد بين الفريقين. وحاصله على ما في الكشف أن ليس مغفرة بعض الذنوب للدلالة على أن بعضا آخر لا يغفر فإنه من قبيل دلالة مفهوم اللقب ولا اعتداد به، كيف وللتخصيص فائدة أخرى هي التفرقة بين الخطابين بالتصريح بمغفرة الكل وإبقاء البعض في حق الكفرة مسكوتا عنه لئلا يتكلوا على الإيمان. وفيه أيضا أن هذا معنى حسن لا تكلف فيه. واعترض ابن الكمال بأن حديث التفرقة إنما يتم لو لم يجىء خطاب على العموم وقد جاء كذلك في سورة الأنفال في قوله سبحانه: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وأجيب بأن هذا غير وارد إذ المراد التفرقة فيما ذكر فيه صيغة ويغفر ذنوبكم لا مطلق ما كان بمعناه ولذا أسند الأمر إلى الاستقراء، ومثل الزمخشري لا يخفى عليه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 186 ما أورد ولا يلزم رعاية هذه النكتة في جميع المواد، وذكر البيضاوي في وجه التفرقة بين الخطابين ما حاصله لعل المعنى في ذلك أنها لما ترتبت المغفرة في خطاب الكفرة على الإيمان لزم فيه مِنْ التبعيضية لإخراج المظلم لأنها غير مغفورة، وأما في خطاب المؤمنين فلما ترتبت على الطاعة واجتناب المعاصي التي من جملتها المظالم لم يحتج إلى مِنْ لإخراجها لأنها خرجت بما رتبت عليه، وهو مبني على خلاف ما صححه المحدثون، وينافيه ما ذكره في تفسير مِنْ ذُنُوبِكُمْ في سورة نوح عليه السلام ومع ذا أورد عليه قوله تعالى: يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ [نوح: 2- 4] حيث ذكرت مِنْ مع ترتيب المغفرة على الطاعة واجتناب المعاصي الذي أفاده اتقوا وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ [الصف: 10] الآية لعدم ذكر مِنْ مع ترتبها على الإيمان، والجواب بأنه لا ضير إذ يكفي ترتيب ذلك على الإيمان في بعض المواد فيحمل مثله على أن القصد إلى ترتيبه عليه وحده بقرينة ذلك البعض وما ذكر معه يحمل على الأمر به بعد الإيمان أدنى من أن يقال فيه ليس بشيء، وبالجملة توجيه الزمخشري أوجه مما ذكره البيضاوي فتأمل وتذكر. وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إلى وقت سماه الله تعالى وجعله منتهى أعماركم على تقدير الإيمان ولا يعاجلكم بعذاب الاستئصال، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يمتعكم في الدنيا باللذات والطيبات إلى الموت، ولا يلزم مما ذكر القول بتعدد الأجل كما يزعمه المعتزلة، وقد مر تحقيق ذلك قالُوا استئناف كما سبق آنفا إِنْ أَنْتُمْ ما أنتم إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا من غير فضل يؤهلكم لما تدعون من الرسالة. والزمخشري تهالك في مذهبه حتى اعتقد أن الكفار كانوا يعتقدون تفضيل الملك تُرِيدُونَ صفة ثانية- لبشر- حملا على المعنى كقوله تعالى: أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا [التغابن: 6] أو كلام مستأنف أي تريدون بما أنتم عليه من الدعوة والإرشاد أَنْ تَصُدُّونا بما تدعونا إليه من التوحيد وتخصيص العبادة بالله تعالى عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا عما استمر على عبادته آباؤنا من غير شيء يوجبه. وقرأ طلحة «أن تصدونّا» بتشديد النون، وخرج على جعل أن مخففة من الثقيلة وتقدير فاصل بينها وبين الفعل أي إنه قد تصدونا، وقد جاء مثل ذلك في قوله: علموا أن يؤملون فجادوا ... قبل أن يسألوا بأعظم سؤل والأولى أن يخرج على أن إِنْ هي الثنائية التي تنصب المضارع لكنها لم تعمل كما قيل: في قوله تعالى: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [البقرة: 233] في قراءة الرفع حملا لها على أختها ما المصدرية كما عملت ما حملا عليها فيما ذكره بعضهم في قولهم: أن تقرءان على أسماء ويحكما ... مني السلام وأن لا تشعرا أحدا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي إن لم يكن الأمر كما قلنا بل كنتم رسلا من قبله تعالى كما تدعون فأتونا بما يدل على صحة ما تدعونه من الرسالة حتى نترك ما لم نزل نعبده أبا عن جد، أو على فضلكم واستحقاقكم لتلك المرتبة. قال ابن عطية: إنهم استبعدوا إرسال البشر فأرادوا حجة عليه، وقيل: بل إنهم اعتقدوا محاليته وذهبوا مذهب البراهمة وطلبوا الحجة على جهة التعجيز أي بعثكم محال وإلا فأتوا بسلطان مبين أي إنكم لا تفعلون ذلك أبدا. وهو خلاف الظاهر، وهذا الطلب كان بعد إتيانهم عليهم السلام لهم من الآيات الظاهرة والبينات الباهرة ما تخر له الجبال الصنم أقدمهم عليه العناد والمكابرة قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ مجاراة لأول مقالتهم: إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ كما تقولون وهذا كالقول بالموجب لأن فيه أطماعا في الموافقة ثم كر إلى جانبهم بالإبطال بقولهم عليهم السلام: وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أي إنما اختصنا الله تعالى بالرسالة بفضل منه سبحانه وامتنان، والبشرية غير مانعة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 187 لمشيئته جل وعلا، وفيه دليل على أن الرسالة عطائية وأن ترجيح بعض الجائزات على بعض بمشيئته تعالى، ولا يخفى ما في العدول عن ولكن الله من علينا إلى ما في النظم الجليل من التواضع منهم عليهم السلام، وقيل: المعنى ما نحن من الملائكة بل نحن بشر مثلكم في الصورة أو في الدخول تحت الجنس ولكن الله تعالى يمن على من يشاء بالفضائل والكمالات والاستعدادات التي يدور عليها فلك الاصطفاء للرسالة، وفي هذا ذهاب إلى قول بعض حكماء الإسلام: إن الإنسان لو لم يكن في نفسه وبدنه مخصوصا بخواص شريفة علوية قدسية فإنه يمتنع عقلا حصول صفة النبوة فيه، وأجابوا عن عدم ذكر المرسلين عليهم السلام فضائلهم النفسانية والبدنية بأنه من باب التواضع كاختيار العموم، والحق منع الامتناع العقلي وإن كانوا عليهم السلام جميعا لهم مزايا وخواص مرجحة لهم على غيرهم، وإنما قيل لهم كما قيل لاختصاص الكلام بهم حيث أريد إلزامهم بخلاف ما سلف من إنكار وقوع الشك فيه تعالى فإنه عام وإن اختص بهم ما يعقبه وَما كانَ لَنا أي ما صح وما استقام أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ أي بحجة ما من الحجج فضلا عن السلطان المبين الذي اقترحتموه بشيء من الأشياء وسبب من الأسباب إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فإنه أمر يتعلق بمشيئته تعالى إن شاء كان وإلا فلا وَعَلَى اللَّهِ وحده دون ما عداه مطلقا فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ في الصبر على معاندتكم ومعاداتكم، عمموا الأمر للإشعار بما يوجب التوكل من الإيمان وقصدوا به أنفسهم قصدا أوليا، ويدل على ذلك قولهم: وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ ومحل الخلاف في دخول المتكلم في عموم كلامه حيث لم يعلم دخوله فيه بالطريق الأولى أو تقم عليه قرينة كما هنا. واحتمال أن يراد بالمؤمنين أنفسهم وما لَنا التفات لا التفات إليه، والجمع بين الواو والفاء تقدم الكلام فيه (1) و «ما» استفهامية للسؤال عن السبب والعذر وأن على تقدير حرف الجر أي أي عذر لنا في عدم التوكل عليه تعالى، والإظهار لإظهار النشاط بالتوكل عليه جل وعلا والاستلذاذ باسمه تعالى وتعليل التوكل وَقَدْ هَدانا أي والحال أنه سبحانه قد فعل بنا ما يوجب ذلك ويستدعيه حيث هدانا سُبُلَنا أي أرشد كلا منا سبيله ومنهاجه الذي شرع له وأوجب عليه سلوكه في الدين. وقرأ أبو عمرو «سبلنا» بسكون الباء، وحيث كانت أذية الكفار مما يوجب القلق والاضطراب القادح في التوكل قالوا على سبيل التوكيد القسمي مظهرين لكمال العزيمة. وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وما مصدرية أي اذائكم إيانا بالعناد واقتراح الآيات وغير ذلك مما لا خير فيه، وجوزوا أن تكون موصولة بمعنى الذي والعائد محذوف أي الذي آذيتموناه، وكان الأصل آذيتمونا به فهل حذف به أو الباء ووصل الفعل إلى الضمير؟ قولان وَعَلَى اللَّهِ خاصة فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ أي فليثبت المتوكلون على ما أحدثوه من التوكل، والمراد بهم المؤمنون، والتعبير عنهم بذلك لسبق اتصافهم به، وغرض المرسلين من ذلك نحو غرضهم مما تقدم وربما يتجوز في المسند إليه. فالمعنى وعليه سبحانه فليتوكل مريدو التوكل لكن الأول أولى. وقرأ الحسن بكسر لام الأمر في ليتوكل وهو الأصل هذا، وذكر بعضهم أن من خواص هذه الآية دفع أذى البرغوث. فقد أخرج المستغفري في الدعوات عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا آذاك البرغوث فخذ قدحا من ماء واقرأ عليه سبع مرات وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ الآية وتقول: إن كنتم مؤمنين فكفوا شركم وأذاكم عنا ثم ترشه حول فراشك فإنك تبيت آمنا من شرها» . وأخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أبي الدرداء مرفوعا نحو ذلك إلا أنه ليس فيه «إن كنتم مؤمنين فكفوا   (1) في سورة يوسف عليه السلام اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 188 شركم وأذاكم عنا» ولم أقف على صحة الخبر ولم أجرب ذلك إذ ليس للبرغوث ولع بي والحمد لله تعالى، وأظن أن ذلك لملوحة الدم كما أخبرني به بعض الأطباء والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا قيل: لعل هؤلاء القائلين بعض المتمردين في الكفر من أولئك الأمم الكافرة التي نقلت مقالاتهم الشنيعة دون جميعهم كقوم شعيب وأضرابهم ولذلك لم يقل: وقالوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا وجوز أن يكون المراد بهم أهل الحل والعقد الذين لهم قدرة على الإخراج والإدخال، ويكون ذلك علة للعدول عن قالوا أيضا، وأَوْ لأحد الأمرين، ومرادهم ليكونن أحد الأمرين إخراجكم أو عودكم، فالمقسم عليه في وسع المقسم، والقول بأنها بمعنى حتى أو إلا أن قول من لم يمعن النظر كما في البحر فيما بعدها إذ لا يصح تركيب ذلك مع ما ذكر كما يصح في لألزمنك أو تقضيني حقي، والمراد من العود الصيرورة والانتقال من حال إلى أخرى وهو كثير الاستعمال بهذا المعنى، فيندفع ما يتوهم من أن العود يقتضي أن الرسل عليهم السلام كانوا وحاشاهم في ملة الكفر قبل ذلك. واعترض في الفرائد بأنه لو كان العود بمعنى الصيرورة لقيل إلى ملتنا فتعديته بفي يقتضي أنه ضمن معنى الدخول أي لتدخلن في ملتنا. ورده الطيبي بأنه إنما يلزم ما ذكر لو كان فِي مِلَّتِنا صلة الفعل أما إذا جعل خبرا له لأن صار من أخوات كان فلا يرد كما في نحو صار زيد في الدار. نعم يفهم مما ذكره وجه آخر وهو جعله مجازا بمعنى تدخلن لا تضمينا لأنه على ما قرروه يقصد فيه المعنيان فلا يدفع المحذور. وفي الكشف أن فِي أبلغ من إلى لدلالته على الاستقرار والتمكن كأنهم لم يرضوا بأن يتظاهروا أنهم من أهل ملتهم، وقيل: المراد من العود في ملتهم سكوتهم عنهم وترك مطالبتهم بالإيمان وهو كما ترى، وقيل: هو على معناه المتبادر والخطاب لكل رسول ولمن آمن معه من قومه فغلبوا الجماعة على الواحد، فإن كان الجماعة حاضرين فالأمر ظاهر وإلا فهناك تغليب آخر في الخطاب، وقيل: لا تغليب أصلا والخطاب للرسل وحدهم بناء على زعمهم أنهم كانوا من أهل ملتهم قبل إظهار الدعوة كقول فرعون عليه اللعنة لموسى عليه السلام: وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ [الشعراء: 19] وقد مر الكلام في مثل ذلك فتذكر فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أي إلى الرسل عليهم السلام بعد ما قيل لهم ما قيل رَبُّهُمْ مالك أمرهم سبحانه لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ أي المشركين المتناهين في الظلم وهم أولئك القائلون، وقال ابن عطية: خص سبحانه الظالمين من الذين كفروا إذ جائز أن يؤمن من الكفرة الذين قالوا تلك المقالة ناس فالتوعد بإهلاك من خلص للظلم، و «أوحى» يحتمل أن يكون بمعنى فعل الإيحاء فلا مفعول له ولَنُهْلِكَنَّ على إضمار القول أي قائلا لنهلكن، ويحتمل أن يكون جاريا مجرى القول لكونه ضربا منه ولَنُهْلِكَنَّ مفعوله وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ أي أرضهم وديارهم، فاللام للعهد وعند بعض عوض عن المضاف إليه مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد إهلاكهم، وأقسم سبحانه وتعالى في مقابلة قسمهم، والظاهر أن ما أقسم عليه جل وعلا عقوبة لهم على قولهم: لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا وفي ذلك دلالة على مزيد شناعة ما أتوا به حيث إنهم لما أرادوا إخراج المخاطبين من ديارهم جعل عقوبته إخراجهم من دار الدنيا وتوريث أولئك أرضهم وديارهم، وفي الحديث «من آذى جاره أورثه الله تعالى داره» وقرأ أبو حيوة «ليهلكن الظالمين وليسكننكم الأرض» بياء الغيبة اعتبارا- لأوحى- كقولك: أقسم زيد ليخرجن ذلِكَ إشارة إلى الموحى به وهو إهلاك الظالمين وإسكان المخاطبين ديارهم، وبذلك الاعتبار وحد اسم الإشارة مع أن المشار إليه اثنان فلا حاجة إلى جعله من قبيل عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ [البقرة: 68] وإن صح أي ذلك الأمر محقق ثابت. لِمَنْ خافَ مَقامِي أي موقفي الذي يقف به العباد بين يدي للحساب يوم القيامة، وإلى هذا ذهب الزجاج الجزء: 7 ¦ الصفحة: 189 فالمقام اسم مكان وإضافته إلى ضميره تعالى لكونه بين يديه سبحانه، وقال الفراء: هو مصدر ميمي أضيف إلى الفاعل أي خاف قيامي عليه بالحفظ لأعماله ومراقبتي إياه، وقيل: المراد إقامتي على العدل والصواب وعدم الميل عن ذلك. وقيل: لفظ مقام مقحم لأن الخوف من الله تعالى أي لمن خافني وَخافَ وَعِيدِ أي وعيدي بالعذاب فياء المتكلم محذوفة للاكتفاء بالكسرة عنها في غير الوقف. والوعيد على ظاهره ومتعلقه محذوف، وجوز أن يكون مصدرا من الوعد على وزن فعيل وهو بمعنى اسم المفعول أي عذابي الموعود للكفار: وفيه استعارة الوعد للإيعاد، والمراد بمن خاف على ما أشير إليه في الكشاف المتقون، ووقوع ذلك إلى آخره بعد وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ موقع وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ في قصة موسى عليه السلام حيث قال لقومه: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف: 128] وَاسْتَفْتَحُوا أي استنصروا الله تعالى على أعدائهم كقوله تعالى: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ [الأنفال: 19] ويجوز أن يكون من الفتاحة أي الحكومة أي استحكموا الله تعالى وطلبوا منه القضاء بينهم كقوله تعالى: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ [الأعراف: 89] والضمير المرسل عليهم السلام كما روي عن قتادة وغيره، والعطف على فَأَوْحى ويؤيد ذلك قراءة ابن عباس. ومجاهد وابن محيصن «واستفتحوا» بكسر التاء أمرا للرسل عليهم السلام معطوفا على «ليهلكن» فهو داخل تحت الموحى، والواو من الحكاية دون المحكي، وقيل: ما قبله لإنشاء الوعد فلا يلزم عطف الإنشاء على الخبر مع أن مذهب بعضهم تجويزه، وأخر على القراءتين عن قوله تعالى: لَنُهْلِكَنَّ أو- أوحى إليهم- على ما في الكشف دلالة على أنهم لم يزالوا داعين إلى أن تحقق الموعود من إهلاك الظالمين، وذلك لأن لَنُهْلِكَنَّ وعد وإنما حقيقة الإجابة حين الإهلاك، وليس من تفويض الترتيب إلى ذهن السامع في شيء ولا ذلك من مقامه كما توهم. وقال ابن زيد: الضمير للكفار والعطف حينئذ على قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي قالوا ذلك واستفتحوا على نحو ما قال قريش: عَجِّلْ لَنا قِطَّنا [ص: 16] وكأنهم لما قوي تكذيبهم وأذاهم ولم يعاجلوا بالعقوبة ظنوا أن ما قيل لهم باطل فاستفتحوا على سبيل التهكم والاستهزاء كقول قوم نوح: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا [هود: 32] وقوم شعيب فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً [الشعراء: 187] إلى غير ذلك، وقيل: الضمير للرسل عليهم السلام ومكذبيهم لأنهم كانوا كلهم سألوا الله تعالى أن ينصر المحق ويهلك المبطل، وجعل بعضهم العطف على فَأَوْحى على هذا أيضا بل ظاهر كلام بعض أن العطف عليه على القراءة المشهورة مطلقا، وسيأتي إن شاء الله تعالى احتمال آخر في الضمير ذكره الزمخشري. وَخابَ أي خسر وهلك كُلُّ جَبَّارٍ متكبر عن عبادة الله تعالى وطاعته، وقال الراغب: الجبار في صفة الإنسان يقال لمن يجبر نقيصته بادعاء منزلة من التعالي لا يستحقها، ولا يقال إلا على طريق الذم عَنِيدٍ معاند للحق مباه بما عنده، وجاء فعيل بمعنى مفاعل كثيرا كخليط بمعنى مخالط ورضيع بمعنى مراضع، وذكر أبو عبيدة إن اشتقاق ذلك من العند وهو الناحية، ولذا قال مجاهد: العنيد مجانب الحق، قيل: والوصف الأول إشارة إلى ذمه باعتبار الخلق النفساني والثاني إلى ذمة باعتبار الأثر الصادر عن ذلك الخلق وهو كونه مجانبا منحرفا عن الحق، وفي الكلام إيجاز الحذف بحذف الفاء الفصيحة والمعطوف عليه أي استفتحوا ففتح لهم وظفروا بما سألوا وأفلحوا وخاب كل جبار عنيد وهم قومهم المعاندون فالخيبة بمعنى مطلق الحرمات دون الحرمان عن المطلوب أو ذلك باعتبار أنهم كانوا يزعمون أنهم على الحق، هذا إذا كان ضمير اسْتَفْتَحُوا للرسل عليهم السلام، وأما إذا كان للكفار فالعطف كما في البحر على اسْتَفْتَحُوا أي استفتح الكفار على الرسل عليهم السلام وخابوا ولم يفلحوا، وإنما وضع كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ موضع ضميرهم ذما لهم وتسجيلا عليهم بالتجبر والعناد لا أن بعضهم ليسوا كذلك ولم تصبهم الخيبة، ويقدر إذا كان الضمير للرسل عليهم السلام وللكفرة استفتحوا جميعا فنصر الرسل وخاب كل عات متمرد، والخيبة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 190 على الوجهين بمعنى الحرمان غب الطلب، وفي إسناد الخيبة إلى كل منهم ما لا يخفى من المبالغة مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ أي من قدامه وبين يديه كما قال الزجاج. والطبري. وقطرب. وجماعة، وعلى ذلك قوله (1) : أليس ورائي إن تراخت منيتي ... لزوم العصا تحنى عليها الأصابع ومعنى كونها قدامه أنه مرصد لها واقف على شفيرها ومبعوث إليها، وقيل: المراد من خلف حياته وبعدها، ومن ذلك قوله: حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب وإليه ذهب ابن الأنباري، واستعمال «وراء» في هذا وذاك بناء على أنها من الأضداد عند أبي عبيدة. والأزهري فهي من المشتركات اللفظية عندهما. وقال جماعة: إنها من المشتركات المعنوية فهي موضوعة لأمر عام صادق على القدام والخلف وهو ما توارى عنك. وقد تفسر بالزمان مجازا فيقال: الأمر من ورائك على معنى أنه سيأتيك في المستقبل من أوقاتك وَيُسْقى قيل عطف على متعلق مِنْ وَرائِهِ المقدر، والأكثر على أنه عطف على مقدر جوابا عن سؤال سائل كأنه قيل: فماذا يكون اذن؟ فقيل: يلقى فيها ما يلقى ويسقى مِنْ ماءٍ مخصوص لا كالمياه المعهودة صَدِيدٍ قال مجاهد. وقتادة. والضحاك هو ما يسيل من أجساد أهل النار، وقال محمد بن كعب. والربيع. ما يسيل من فروج الزناة والزواني، وعن عكرمة هو الدم والقيح وأعربه الزمخشري عطف بيان لماء. وفي إبهامه أولا ثم بيانه من التهويل ما لا يخفى، وجواز عطف البيان في النكرات مذهب الكوفيين. والفارسي، والبصريون لا يرونه وعلى مذهبهم هو بدل من ماءٍ ان اعتبر جامدا أو نعت إن اعتبر فيه الاشتقاق من الصد أي المنع من الشرب كأن ذلك الماء لمزيد قبحه مانع عن شربه، وفي البحر قيل: إنه بمعنى مصدود عنه أي لكراهته يصد عنه، وإلى كونه نعتا ذهب الحوفي وكذا ابن عطية قال: وذلك كما تقول: هذا خاتم حديد، وإطلاق الماء على ذلك ليس بحقيقة وإنما أطلق عليه باعتبار أنه بدله، وقال بعضهم: هو نعت على إسقاط مفيد التشبيه كما تقول مررت برجل أسد، والتقدير مثل صديد وعلى هذا فاطلاق الماء عليه حقيقة، وبالجملة تخصيص السقي من هذا الماء بالذكر من بين عذابها يدل على أنه من أشد أنواعه يَتَجَرَّعُهُ جوز أبو البقاء كونه صفة لماء أو حالا منه أو استئنافا. وجوز أبو حيان كونه حالا من ضمير يُسْقى والاستئناف أظهر وهو مبني على سؤال كأنه قيل: فماذا يفعل به؟ فقيل: يتجرعه أي يتكلف جرعه مرة بعد أخرى لغلبة العطش واستيلاء الحرارة عليه وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ أي لا يقارب أن يسيغه فضلا عن الاساغة بل يغص به فيشربه بعد اللتيا والتي جرعة غب جرعة فيطول عذابه تارة بالحرارة والعطش وأخرى بشربه على تلك الحالة فإن السوغ انحدار الماء انحدار الشراب في الحلق بسهولة وقبول نفس ونفيه لا يفيد نفي ما ذكر جميعا، وقيل: تفعل مطاوع فعل يقال: جرعه فتجرع وقيل: إنه موافق للمجرد أي جرعه كما تقول عدا الشيء، وتعداه، وقيل: الاساغة الإدخال في الجوف، والمعنى لا يقارب أن يدخله في جوفه قبل أن يشربه ثم شربه على حد ما قيل في قوله تعالى: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة: 71] أي ما قاربوا قبل الذبح، وعبر عن ذلك   (1) وقوله: أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي ... وقوم تميم والفلاة ورائيا وقوله: عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 191 بالاساغة لما أنها المعهودة في الأشربة. أخرج أحمد. والترمذي. والنسائي. والحاكم وصحح. وغيرهم عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الآية: يقرب إليه فيتكرهه فإذا أدنى منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره يقول الله تعالى: وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ [محمد: 15] وقال سبحانه: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ [الكهف: 29] ، ويسيغه بضم الياء لأنه يقال: ساغ الشراب وأساغه غيره وهو الفصيح وإن ورد ثلاثيه متعديا أيضا على ما ذكره أهل اللغة، وجملة لا يَكادُ إلى آخره في موضع الحال من فاعل يتجرعه أو من مفعوله أو منهما جميعا وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ أي أسبابه من الشدائد وأنواع العذاب فالكلام على المجاز أو بتقدير مضاف مِنْ كُلِّ مَكانٍ أي من كل موضع، والمراد أنه يحيط به من جميع الجهات كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقال إبراهيم التيمي: من كل مكان من جسده حتى من أطراف شعره وروي نحو ذلك عن ميمون بن مهران. ومحمد بن كعب، واطلاق المكان على الأعضاء مجاز، والظاهر أن هذا الإتيان في الآخرة. وقال الأخفش: أراد البلايا التي تصيب الكافر في الدنيا سماها موتا لشدتها. ولا يخفى بعده لأن سياق الكلام في أحوال الكافر في جهنم وما يلقى فيها وَما هُوَ بِمَيِّتٍ أي والحال أنه ليس بميت حقيقة كما هو الظاهر من مجيء أسبابه على أتم وجه فيستريح مما غشيه من أصناف الموبقات وَمِنْ وَرائِهِ أي من بين يدي من حكم عليه بما مر عَذابٌ غَلِيظٌ يستقبل كل وقت عذابا أشد وأشق مما كان قبله، وقيل: في وراء هنا نحو ما قيل فيما تقدم أمامه، وذكر هذه الجملة لدفع ما يتوهم من الخفة بحسب الاعتياد كما في عذاب الدنيا، وقيل: ضمير ورائه يعود على العذاب المفهوم من الكلام السابق لا على كل جبار، وروي ذلك عن الكلبي، والمراد بهذا العذاب قيل: الخلود في النار وعليه الطبرسي، وقال الفضيل: هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد هذا، وجوز في الكشاف أن تكون هذه الآية- أعني قوله تعالى: وَاسْتَفْتَحُوا إلى هنا- منقطعة عن قصة الرسل عليهم السلام نازلة في أهل مكة طلبوا الفتح الذي هو المطر في سنينهم التي أرسلت عليهم بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فخيب سبحانه رجاءهم ولم يسقهم ووعدهم أن يسنيهم في جهنم بدل سقياهم صديد أهل النار، والواو على هذا قيل: للاستئناف، وقيل: للعطف إما على قوله تعالى: وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ أو على خبر أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ لقربه لفظا ومعنى، والوجه الأول أوجه لبعد العهد وعدم قرينة تخصيص الاستفتاح بالاستمطار ولأن الكلام على ذلك التقدير يتناول أهل مكة تناولا أوليا فان المقصود من ضرب القصة أن يعتبروا مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ مبتدأ خبره محذوف أي فيما يتلى عليكم صفتهم التي هي في الغرابة كالمثل كما ذهب إليه سيبويه، وقوله سبحانه: أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ جملة مستأنفة لبيان مثلهم، ورجح ابن عطية كونه مبتدأ وهذه الجملة خبره، وتعقبه الحوفي بأنه لا يجوز لخلو الجملة عما يربطها بالمبتدأ وليست نفسه في المعنى لتستغني عن ذلك لظهور أن ليس المعنى مثلهم هذه الجملة. وأجاب عنه السمين بالتزام أنها نفسه لأن مثل الدين في تأويل ما يقال فيهم ويوصفون به إذا وصفوا فلا حاجة إلى الرابط كما في قولك: صفة زيد عرضه مصون وماله مبذول، قيل: ولا يخفى حسنه إلا أن المثل عليه بمعنى الصفة، والمراد بالصفة اللفظ الموصوف به كما يقال: صفة زيد أسمر أي اللفظ الذي يوصف به هو هذا، وهذا وإن كان مجازا على مجاز لكنه يغتفر لأن الأول ملحق بالحقيقة لشهرته وليس من الاكتفاء بعود الضمير على المضاف إليه لأن المضاف ذكر توطئة له فإن ذلك أضعف من بيت العنكبوت كما علمت. وذهب الكسائي. والفراء إلى أن مَثَلُ مقحم وتقدم ما عليه وله، وقال الحوفي: هو مبتدأ وكَرَمادٍ خبره وأعمالهم بدل من المبتدأ بدل اشتمال كما في قوله: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 192 ما للجمال مشيها وئيدا ... أجندلا يحملن أم حديدا وفيه خفاء، ولعله اعتبر المضاف إليه. وفي الكشاف جواز كونه بدلا من مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا لكن على تقدير مثل أعمالهم فيكون التقدير مثل الذين كفروا مثل أعمالهم كرماد، قال في الكشف: وهو بدل الكل من الكل وذلك لأن مثلهم ومثل أعمالهم متحدان بالذات، وفيه تفخيم اه، وقيل: إنه على هذا التقدير أيضا بدل اشتمال لأن مثل أعمالهم كونها كرماد ومثلهم كون أعمالهم كرماد فلا اتحاد لكن الأول سبب للثاني فتأمل، والرماد معروف وعرفه ابن عيسى بأنه جسم يسحقه الإحراق سحق الغبار ويجمع على رمد في الكثرة وأرمدة في القلة وشذ جمعه على أفعلاء قالوا أرمداء كذا في البحر، وذكر في القاموس أن الأرمداء كالأربعاء الرماد ولم يذكر أنه جمع، والمراد بأعمالهم ما هو من باب المكارم كصلة الأرحام وعتق الرقاب وفداء الأسارى وقرى الأضياف واغاثة الملهوفين وغير ذلك، وقيل: ما فعلوه لأصنامهم من القرب بزعمهم، وقيل: ما يعم هذا وذاك ولعله الأولى، وجيء بالجملة على ما اختاره بعضهم جوابا لما يقال: ما بال أعمالهم التي عملوها حتى آل أمرهم إلى ذلك المآل؟ إذ بين فيها أنها كرماد اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ أي حملته وأسرعت الذهاب به فاشتد من شد بمعنى عدا، والباء للتعدية أو للملابسة، وجوز أن يكون من الشدة بمعنى القوة أي قويت بملابسة حمله فِي يَوْمٍ عاصِفٍ العصف اشتداد الريح وصف به زمان هبوبها على الإسناد المجازي كنهاره صائم وليله قائم للمبالغة، وقال الهروي: التقدير في يوم عاصف الريح فحذف الريح لتقدم ذكره كما في قوله: إذا جاء يوم مظلم الشمس كاسف (1) والتنوين على هذا عوض من المضاف إليه، وضعف هذا القول ظاهر، وقيل: إن عاصف صفة الريح إلا أنه جر على الجوار، وفيه أنه لا يصح وصف الريح به لاختلافهما تعريفا وتنكيرا، وقرأ نافع. وأبو جعفر «الرياح» على الجمع وبه يشتد فساد الوصفية، وقرأ ابن أبي اسحق. وإبراهيم بن أبي بكر عن الحسن فِي يَوْمٍ عاصِفٍ على الإضافة، وذلك عند أبي حيان من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه والتقدير في يوم ريح عاصف، وقد يقال: إنه من إضافة الموصوف إلى الصفة من غير حاجة إلى حذف عند من يرى جواز ذلك لا يَقْدِرُونَ أي يوم القيامة مِمَّا كَسَبُوا في الدنيا من تلك الأعمال عَلى شَيْءٍ ما أي لا يرون له أثرا من ثواب أو تخفيف عذاب. ويؤيد التعميم ما ورد في الصحيح عن عائشة أنها قالت: يا رسول الله إن ابن جدعان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين هل ذلك نافعه؟ قال: لا ينفعه لأنه لم يقل ربي اغفر لي خطيئتي يوم الدين، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي لا يقدرون من ثواب ما كسبوا على شيء ما والأول أولى، وقدم المتعلق الأول- للايقدرون- على الثاني وعكس في البقرة لأهمية كل في آيته وذلك ظاهر لمن له أدنى بصيرة، وحاصل التمثيل تشبيه أعمالهم في حبوطها وذهابها هباء منثورا لابتنائها على غير أساس من معرفة الله تعالى والإيمان به وكونها لوجهه برماد طيرته الريح العاصف وفرقته، وهذه الجملة فذلكة ذلك والمقصود منه، قيل: والاكتفاء بيان عدم رؤية الأثر لأعمالهم للأصنام مع أن لها عقوبات للتصريح ببطلان اعتقادهم وزعمهم أنها شفعاء لهم عند الله تعالى، وفيه تهكم بهم ذلِكَ أي ما دل عليه التمثيل دلالة واضحة من ضلالهم مع حسبانهم أنهم على شيء هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ عن طريق الحق والصواب، وقد تقدم تمام الكلام في ذلك غير بعيد. أَلَمْ تَرَ خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته الذين بعث إليهم، وقيل: خطاب لكل واحد من الكفرة لقوله   (1) يريد كاسف اه منه. [ ..... ] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 193 تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ والرؤية رؤية القلب، وقوله تعالى: أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ساد مسد مفعوليها أي ألم تعلم أنه تعالى خلقهما بِالْحَقِّ أي ملتبسة بالحكمة والوجه الصحيح الذي يحق أن يخلق عليه. وقرأ السلمي «ألم تر» بسكون الراء ووجهه أنه أجرى الوصل مجرى الوقف، قال أبو حيان: وتوجيه آخر وهو ان «ترى» حذفت العرب ألفها في قولهم: قام القوم ولو تر ما زيد كما حذفت ياء لا أبالي وقالوا لا أبال فلما دخل الجازم تخيل إن الراء هي آخر الكلمة فسكنت للجازم كما قالوا في لا أبال لم أبل، تخيلوا اللام آخر الكلمة، والمشهور التوجيه الأول. وقرأ الأخوان «خالق السموات والأرض» بصيغة اسم الفاعل والإضافة وجر «الأرض» . إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ يعدمكم أيها الناس كما قاله جماعة أو أيها الكفرة كما روي عن ابن عباس بالمرة وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ أي يخلق بدلكم خلقا مستأنفا لا علاقة بينكم وبينهم، والجمهور على أنه من جنس الآدميين، وذهب آخرون إلى أنه أعم من أن يكون من ذلك الجنس أو من غيره، أورد سبحانه هذه الشرطية بعد أن ذكر خلقه السموات والأرض: إرشادا إلى طريق الاستدلال فإن من قدر على خلق مثل هاتيك الأجرام العظيمة كان على إعدام المخاطبين وخلق آخرين بدلهم أقدر ولذلك قال سبحانه: وَما ذلِكَ أي المذكور من إذهابكم والإتيان بخلق جديد مكانكم عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ بمتعذر أو متعسر فإنه سبحانه وتعالى قادر بذاته لا باستعانة وواسطة على جميع الممكنات لا اختصاص له بمقدور دون مقدور. وهذه الآية على ما في الكشاف بيان لإبعادهم في الضلال وعظم خطبهم في الكفر بالله تعالى لوضوح آياته الشاهدة له الدالة على قدرته الباهرة وحكمته البالغة وأنه هو الحقيق بأن يؤمن به ويرجى ثوابه ويخشى عقابه وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً أي يبرزون يوم القيامة، وإيثار الماضي لتحقق الوقوع أو لأنه لا مضي ولا استقبال بالنسبة إليه سبحانه، والمراد ببروزهم لله ظهورهم من قبورهم للرائين لأجل حساب الله تعالى، فاللام للتعليل وفي الكلام حذف مضاف، وجوز أن تكون اللام صلة البروز وليس هناك حذف مضاف، ويراد أنهم ظهورا له عز شأنه عند أنفسهم وعلى زعمهم فإنهم كانوا يظنون عند ارتكابهم الفواحش سرا أنها تخفى على الله تعالى فإذا كان يوم القيامة انكشفوا له تعالى عند أنفسهم وعلموا أنه لا تخفى عليه جل شأنه خافية، وقال ابن عطية: معنى برزوا صاروا بالبراز وهي الأرض المتسعة فاستعير ذلك لمجمع يوم القيامة، وهذا ميل إلى التعليل والحذف. ونقل الإمام عن الحكماء في تأويل البروز أن النفس إذا فارقت الجسد فكأنه زال الغطاء وبقيت مجردة بذاتها عارية عن كل ما سواها هو البروز لله تعالى وهو كلام تعده العرب من الأحاجي ولذا لم يلتفت إليه المحدثون. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وَبَرَزُوا مبنيا للمفعول وبتشديد الراء، والمراد أظهرهم الله تعالى وأخرجهم من قبورهم لمحاسبته فَقالَ الضُّعَفاءُ جمع ضعيف، والمراد بهم ضعاف الرأي وهم الاتباع، وكتب في المصحف العثماني بواو قبل الهمزة، ووجه ذلك بأنه على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو، ونظيره علموا بني إسرائيل. ورد ذلك الجعبري قائلا: إنه ليس من لغة العرب ولا حاجة للتوجيه بذلك لأن الرسم سنة متبعة، وزعم ابن قتيبة أنه لغة ضعيفة، ولو وجه بأنه اتباع للفظه في الوقف فإن من القراء من يقف في مثل ذلك بالواو كان حسنا صحيحا كذا ذكر فليراجع. ولعل من أنصف لا يرى أحسن من ترك التوجيه. لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا أي لرؤسائهم الذين استتبعوهم واستغووهم إِنَّا كُنَّا في الدنيا لَكُمْ تَبَعاً في تكذيب الرسل عليهم السلام والإعراض عن نصائحهم وهو جمع تابع كخادم وخدم وغايب وغيب أو اسم جمع لذلك ولم يذكر كونه جمعا في البحر. أو هو مصدر نعت به مبالغة أو بتأويل أو بتقدير مضاف أي تابعين أو ذوي تبع وبه على سائر الاحتمالات يتعلق الجار والمجرور، والتقديم للحصر أي تبعا لكم لا لغيركم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 194 وقيل: المعنى انا تبع لكم لا لرأينا ولذا سماهم الله تعالى ضعفاء، ولا يلزم منه كون الرؤساء أقوياء الرأي حيث ضلوا وأضلوا، ولو حمل الضعف على كونهم تحت أيديهم وتابعين لهم كان أحسن وليس بذاك. فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا استفهام أريد به التوبيخ والتقريع، والفاء للدلالة على سببية الاتباع للاغنياء، وهو من الغناء بمعنى الفائدة، وضمن معنى الدفع ولذا عدي بعن أي أنا اتبعناكم فيما كنتم فيه من الضلال فهل أنتم اليوم دافعون عنا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي بعض الشيء الذي هو عذاب الله تعالى بناء على ما قيل: إن مِنْ الثانية للتبعيض واقعة موقع المفعول للوصف السابق والأولى للبيان وهي واقعة موقع الحال من مجرور الثانية لأنها لو تأخرت كانت صفة له وصفة النكرة إذا قدمت أعربت حالا. واعترض هذا الوجه بأن فيه تقديم من البيانية على ما تبينه وهو لا يجوز، وكذا تقديم الحال على صاحبها المجرور. وأجيب بأن في كل من هذين الأمرين اختلافا، وقد أجاز جماعة تقديم مِنْ البيانية وصححه ذلك لأنه إنما يفوت بالتقديم الوصفية لا البيانية، وكذا أجاز كثير كابن كيسان وغيره تقديم الحال على صاحبها المجرور فلعل الذاهب إلى هذا الوجه في الآية يرى رأي المجوزين لكل من التقديمين. وقال بعض المدققين: جاز تقديم هذه الحال لأنها في الحقيقة عما سد مسده من شيء أعني بعض لا عن المجرور وحده، وفيه من البعد ما لا يخفى، وجوز أن تكون الأولى والثانية للتبعيض، والمعنى هل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو بعض عذاب الله تعالى والأعراب كما سبق، واختار بعضهم على هذا كون الحال عما سد مسده من شيء إذ لو جعل حالا عن المجرور لآل الكلام إلى هل أنتم مغنون عنا بعض بعض عذاب الله تعالى ولا معنى له، وفيه أنه يفيد المبالغة في عدم الغناء كقولهم: أقل من القليل فنفي المعنى لا معنى له، ولا يصح الإلغاء إذ لا يصح أن يتعلق بفعل ظرفان من جنس دون ملابسة بينهما تصحح التبعية، وجعل الثاني بدلا من الأول يأباه- كما في الكشف- اللفظ والمعنى وقد تعقب أبو حيان توجيه التبعيض في المكانين كما سمعت بأن ذلك يقتضي البدلية فيكون بدل عام من خاص لأن مِنْ شَيْءٍ أعم من قوله: مِنْ عَذابِ وهذا لا يقال: لأن بعضية الشيء مطلقة فلا يكون لما بعض، ومما ذكرنا يعلم ما فيه. وجوز أن تكون الأولى مفعولا والثانية صفة مصدر سادة مسده، والشيء عبارة عن إغناء ما أي فهل أنتم مغنون عنا بعض عذاب الله بعض الإغناء. وتعقب بأنه يلزم على هذا أن يتعلق بعامل طرفان إلى آخر ما سمعت آنفا، وفيه نظر لأنه لكون أحدهما في تأويل المفعول به والآخر في تأويل المفعول المطلق صح التعلق ولم يكونا من جنس واحد، وقد يقال: إن تقييد الفعل بالثاني بعد اعتبار تقييده بالأول فليس العامل واحدا. ونص الحوفي وأبو البقاء على أن مِنْ الثانية زائدة للتوكيد وسوغ زيادتها تقدم الاستفهام الذي هو هنا في معنى النفي، ومِنْ عَذابِ اللَّهِ إما متعلق- بمغنون- أو متعلق بمحذوف وقع حالا من شَيْءٍ أي شيئا كائنا من عذاب الله تعالى أو مغنون من عذاب الله غناء ما قالُوا أي المستكبرون جوابا عن توبيخ الضعفاء وتقريعهم واعتذارا عما فعلوا بهم: لَوْ هَدانَا اللَّهُ إلى الإيمان ووفقنا له لَهَدَيْناكُمْ ولكن ضللنا فضللناكم أي اخترنا لكم ما اخترنا لأنفسنا، وحاصله على ما قيل: إن ما كان منا في حقكم هو النصح لكن قصرنا في رأينا، وقال الزمخشري: إنهم وركوا الذنب في ضلالهم واضلالهم على الله تعالى وكذبوا في ذلك، ويدل على وقوع الكذب من أمثالهم يوم القيامة قوله تعالى حكاية عن المنافقين: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ [المجادلة: 18] وقد خالف في ذلك أصول مشايخه لأنهم لا يجوزون صدور الكذب عن أهل القيامة فلا يقبل منه، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 195 وجوز أن يكون المعنى لو كنا من أهل اللطف فلطف بنا ربنا واهتدينا لهديناكم إلى الإيمان، ونقل ذلك القاضي وزيفه كما ذكره الإمام، وقيل: المعنى لو هدانا الله تعالى إلى الرجعة إلى الدنيا فنصلح ما أفسدناه لهديناكم وهو كما ترى، وقال الجياني. وأبو مسلم: المراد لو هدانا الله تعالى إلى طريق الخلاص من العقاب والوصول إلى النعيم والثواب لهديناكم إلى ذلك، وحاصله لو خلصنا لخلصناكم أيضا لكن لا مطمع فيه لنا ولكم، قال الإمام: والدليل على أن المراد من الهدى هو هذا أنه الذي طلبوه والتمسوه. سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا مما لقينا أَمْ صَبَرْنا على ذلك وسَواءٌ اسم بمعنى الاستواء مرفوع على الخبرية للفعل المذكور بعده لأنه مجرد عن النسبة والزمان فحكمه حكم المصدر. والهمزة وأَمْ قد جردتا عن الاستفهام لمجرد التسوية ولذا صارت الجملة خبرية فكأنه قيل: جزعنا وصبرنا سواء علينا أي سيان، وإنما أفرد الخبر لأنه مصدر في الأصل، وقال الرضي في مثله: إن سَواءٌ خبر مبتدأ محذوف أي الأمران سواء ثم بين الأمران بقولهم: أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا وما قيل: من أن سَواءٌ خبر مبتدأ محذوف والجملة جزاء للجملة المذكورة بعد لتضمنها معنى الشرط، وإفادة همزة الاستفهام معنى إن لاشتراكهما في الدلالة على عدم الجزم، والتقدير إن جزعنا أم صبرنا فالأمران سيان فتكلف كما لا يخفى، والجزع حزن يصرف عما يراد فهو حزن شديد. وفي البحر هو عدم احتمال الشدة فهو نقيض الصبر، وإنما أسندوا كلا من الجزع والصبر واستوائهما إلى ضمير المتكلم المنتظم للمخاطبين أيضا مبالغة في النهي عن التوبيخ بإعلامهم أنهم شركاء لهم فيما ابتلوا به وتسلية لهم. وجوز أن يكون هذا من كلام الفريقين فهو مردود إلى ما سيق له الكلام وهم الفريقان، ولا نظر إلى القرب كما قيل في قوله تعالى: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [يوسف: 52] وأيد ذلك بما أخرجه ابن أبي حاتم. والطبراني. وابن مردويه عن كعب بن مالك رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيما يظن أنه قال: «يقول أهل النار: هلموا فلنصبر فيصبرون خمسمائة عام فلما رأوا ذلك لا ينفعهم قالوا: هلموا فلنجزع فيبكون خمسمائة عام فلما رأوا ذلك لا ينفعهم قالوا: سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا الآية، وإلى كون هذه المحاورة بين الضعفاء والمستكبرين في النار ذهب بعضهم ميلا لظواهر الاخبار. واستظهر أبو حيان أنها في موضع العرض وقت البروز بين يدي الله تعالى، وقول الاتباع: فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا جزع منهم، وكذا جواب الرؤساء باعترافهم بالضلال، واحتمال أنه من كلام الأولين فقط خلاف الظاهر جدا، وقوله تعالى: ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ جملة مفسرة لا جمال ما فيه الاستواء فلا محل لها من الإعراب أو حال مؤكدة أو بدل منه، والمحيص من حاص حاد وفر، وهو إما اسم مكان كالمبيت والمصيف أو مصدر ميمي كالمغيب والمشيب، والمعنى ليس لنا محل ننجو فيه من عذابه أو لا نجاة لنا من ذلك وَقالَ الشَّيْطانُ الذي أضل كلا الفريقين واستتبعهما عند ما عتباه وقرعاه على نمط ما قاله الاتباع للرؤساء لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ أي أحكم وفرغ منه وهو الحساب ودخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار خطيبا في محفل الأشقياء من الثقلين. أخرج ابن جرير وغيره عن الحسن قال: إذا كان يوم القيامة قام إبليس خطيبا على منبر من نار فقال: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ إلى آخره، وعن مقاتل أن الكفار يجتمعون عليه في النار باللائمة فيرقى منبرا من نار فيقول ذلك، وفي بعض الآثار ما هو ظاهر في أن هذا في الموقف، فقد أخرج الطبراني. وابن المبارك في الزهد. وابن جرير. وابن عساكر لكن بسند ضعيف من حديث عقبة بن عامر يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم «أن الكفار حين يروا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين يأتون إبليس فيقولون له قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فقم أنت فاشفع لنا فإنك أنت أضللتنا فيقوم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 196 فيثور من مجلسه أنتن ريح شمها أحد فيقول ما قص الله تعالى» . ومعنى وَعْدَ الْحَقِّ وعدا من حقه أن ينجز أو وعدا نجز وهو الوعد بالبعث والجزاء، وقيل: أراد بالحق ما هو صفته تعالى أي إن الله تعالى وعدكم وعده الذي لا يخلف، والظاهر أنه صفة الوعد، وفي الآية على الأول إيجاز أي إن الله سبحانه وعدكم وعد الحق فوفاكم وأنجزكم ذلك وَوَعَدْتُكُمْ وعد الباطل وهو أن لا بعث ولا حساب ولئن كانا فالأصنام تشفع لكم فَأَخْلَفْتُكُمْ موعدي أي لم يتحقق ما أخبرتكم به وظهر كذبه، وقد استعير الإخلاف لذلك ولو جعل مشاكلة لصح وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ أي تسلط أو حجة تدل على صدقي إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ أي إلا دعائي إياكم إلى الضلالة، وهذا وإن لم يكن من جنس السلطان حقيقة لكنه أبرزه في مبرزه وجعله منه ادعاء فلذا كان الاستثناء متصلا، وهو من تأكيد الشيء بضده كقوله: وخيل قد دلفت لها بخيل ... تحية بينهم ضرب وجيع وهو من التهكم لا من باب الاستعارة أو التشبيه أو غيرهما على ما حقق في موضعه، فإن لم يعتبر فيه التهكم والادعاء يكون الاستثناء منقطعا على حد قوله: وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس وإلى الانقطاع ذهب أبو حيان وقال: إنه الظاهر، وجوز الإمام القول بالاتصال من غير اعتبار الادعاء ووجه ذلك بأن القدرة على حمل الإنسان على الشيء تارة تكون بالقهر من الحامل وتارة تكون بتقوية الداعية في قلبه وذلك بإلقاء الوسواس إليه وهذا نوع من أنواع التسلط فكأنه قال: ما كان لي تسلط عليكم إلا بالوسوسة لا بالضرب ونحوه فَاسْتَجَبْتُمْ لِي أي أسرعتم إجابتي كما يؤذن بذلك الفاء، وقيل: يستفاد الإسراع من السين لأن الاستجابة وإن كانت بمعنى الإجابة لكن عد ذلك من التجريد وأنهم كأنهم طلبوا ذلك من أنفسهم فيقتضي السرعة وفيه بعد فَلا تَلُومُونِي بوعدي إياكم حيث لم يكن على طريق القسر والإلجاء كما يدل عليه الفاء، وقيل: بوسوستي فإن من صرح بالعداوة وقال: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الأعراف: 16] لا يلام بأمثال ذلك. وقرئ «فلا يلوموني» بالياء على الالتفات وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ حيث استجبتم لي باختياركم الناشئ عن سوء استعدادكم حين دعوتكم بلا حجة ولا دليل بل بمجرد تزيين وتسويل ولم تستجيبوا لربكم إذ دعاكم دعوة الحق المقرونة بالبينات والحجج، وليس مراد اللعين التنصل عن توجه اللائمة إليه بالمرة بل بيان أنهم أحق بها منه. وفي الكشاف أن في هذه الآية دليلا على أن الإنسان هو الذي يختار الشقاوة والسعادة ويحصلهما لنفسه وليس من الله تعالى إلا التمكين ولا من الشيطان إلا التزيين، ولو كان الأمر كما تزعم المجبرة لقال: فلا تلوموني ولا أنفسكم فإن الله تعالى قد قضى عليكم الكفر وأجبركم عليه، وليس قوله المحكي باطلا لا يصح التعلق به وإلا لبين الله سبحانه بطلانه وأظهر إنكاره، على أنه لا طائل في النطق بالباطل في ذلك المقام، ألا ترى كيف أتى بالصدق الذي لا ريب فيه في قوله: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ إلى آخره وقوله: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ إلى آخره اه. واعترض قوله: وإلا لبين سبحانه بطلانه بأنه ينقلب عليه في قول المستكبرين لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ إذ لم يعقب بالبطلان على وجه التوريك الذي ادعاه، وكذلك قوله: على أنه لا طائل إلى آخره. والجواب أن الأول غير متعين لذلك الوجه كما سمعت، ومع ذلك قد عقب بالبطلان في مواضع عديدة، ويكفي حكاية الكذب عنهم في ذلك الموطن، وذلك في الموطن على توهم أنه نافع كما حكى الله تعالى عنهم، أما بعد قضاء الأمر ودخول أهل الجنة الجنة والنار النار فلا يتوهم لذلك طائل البتة لا سيما والشيطان لا غرض له في ذلك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 197 فافترقا قائلا وموطنا وحكما، بل الجواب أن أهل الحق لا ينكرون توجه اللائمة عليهم وأن الله تعالى مقدس عن ذلك وحجته البالغة وقضاؤه سبحانه الحق، حيث أثبتوا للعبد القدرة الكاسبة التي يدور عليها فلك التكليف وجعلوا لها مدخلا في ذلك فإنه سبحانه إنما يخلق أفعاله حسبما يختاره، وسلبهم التأثير الذاتي عن قدرته لا ينفي اللوم عنهم كما بين في محله، وما ذكره من أنه لو كان الأمر إلى آخره مبني على عدم الفرق بين مذهب أهل الحق الملقبين عنده بالمجبرة وبين مسلك المجبرة في الحقيقة والفرق مثل الصبح ظاهر، هذا واستدل بظاهر الآية على أن الشيطان لا قدرة له على تصريع الإنسان أو تعويج أعضائه وجوارحه أو على إزالة عقله لأنه نفي أن يكون له تسلط إلا بالوسوسة. وأجاب من زعم القدرة على نحو ذلك بأن المقصود في الآية نفي أن يكون له تسلط في أمر الإضلال إلا بمحض الوسوسة لا نفي أن يكون له تسلط أصلا والسياق أدل قرينة على ذلك. وانتزع بعضهم من الآية ابطال التقليد في الاعتقاد، قال ابن الفرس: وهو انتزاع حسن لأنهم اتبعوا الشيطان بمجرد دعواه ولم يطلبوا منه برهانا فحكى ذلك عنهم متضمنا لذمهم، ثم الظاهر أن هذه الدعوة من الشيطان- أعني إبليس- بلا واسطة، وهي إن كانت في وقت واحد لمتعددين مما يعسر تصوره، ولا يبعد أن يقال: إن له أعوانا يفعلون كما يفعل لكن لما كان ذلك بأمره تصدى وحده لما تصدى ونسبت الدعوة إليه، وللإمام الرازي في الآية كلام طويل ساقه لبيان كيفية الدعوة وإلقاء الشيطان الوسوسة في قلب الإنسان، وأكثره عند المحدثين والسلف الصالحين أشبه شيء بوساوس الشياطين، ولعل النوبة تفضي إن شاء الله تعالى إلى تحقيق ذلك بعون الله تعالى القادر المالك ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ أي بمغيثكم مما أنتم فيه من العذاب، يقال: استصرخني فأصرخته أي استغاثني فأغثته، وأصله من الصراخ وهو مد الصوت، والهمزة للسلب كأن المغيث يزيل صراخ المستغيث. وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ مما أنا فيه، وفي تعرضه لذلك مع أنه لم يكن في حيز الاحتمال مبالغة في بيان عدم إصراخه إياهم وإيذان بأنه أيضا مبتلى بمثل ما ابتلوا به ومحتاج إلى الاصراخ فكيف له بإصراخ الغير ولذلك آثار الجملة الاسمية، والمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار، وكذا يقال في التأكيد فكان ما مضى جوابا منه عن توبيخهم وتقريعهم وهذا جواب استغاثتهم واستعانتهم به في دفع ما دهمهم من العذاب. وقرأ يحيى بن وثاب. والأعمش. وحمزة «بمصرخي» بكسر الياء على الأصل في التخلص من التقاء الساكنين، وذلك أن الأصل بمصرخين لي فاضيف وحذفت نون الجمع للإضافة فالتقت ياء الجمع الساكنة وياء المتكلم والأصل فيها السكون فكسرت لالتقاء الساكنين وأدغمت. وطعن في هذه القراءة كثير من النحاة، قال الفراء: لعلها من زعم القراء فإنه قل من سلم منهم من الوهم. وقال أبو عبيد: نراهم غلطوا. وقال الأخفش: ما سمعت هذا الكسر من أحد من العرب ولا من أحد من النحويين، وقال الزجاج: إنها عند الجميع رديئة مرذولة ولا وجه لها إلا وجيه ضعيف. وقال الزمخشري: هي ضعيفة، واستشهدوا لها ببيت مجهول: قال لها هل لك يا تافيّ ... قالت له ما أنت بالمرضيّ (1) وكأنهم قدروا ياء الإضافة ساكنة فحركوها بالكسر لما عليه أصل التقاء الساكنين، ولكنه غير صحيح لأن ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة حيث قبلها ألف نحو عصاي فما بالها وقبلها ياء والقول بأنه جرت الياء الأولى مجرى الحرف الصحيح لأجل الإدغام فكأنها ياء وقعت ساكنة بعد حرف صحيح ساكن فحركت بالكسر على الأصل ذهاب إلى القياس وهو قياس حسن، ولكن الاستعمال المستفيض الذي هو بمنزلة الخبر المتواتر تتضاءل إليه القياسات اه.   (1) وقبله: أقبل في ثوب معافري. عند اختلاط الليل والعشي. ماض إذا ما هم بالمضي اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 198 وقد قلد هؤلاء الطاغين جماعة، وقد وهموا طعنا وتقليدا فإن القراءة متواترة عن السلف والخلف فلا يجوز أن يقال فيها: إنها خطأ أو قبيحة أو رديئة، وقد نقل جماعة من العلماء أنها لغة لكنه قل استعمالها. ونص قطرب على أنها لغة في بني يربوع فإنهم يكسرون ياء المتكلم إذا كان قبلها ياء أخرى ويصلونها بها كعليه ولديه، وقد يكتفون بالكسرة وذلك لغة أهل الموصل وكثير من الناس اليوم، وقد حسنها أبو عمرو وهو إمام لغة وإمام نحو إمام قراءة وعربيّ صحيح، ورووا بيت النابغة: عليّ لعمرو نعمة بعد نعمة ... لوالده ليست بذات عقارب بكسر ياء- على- فيه، وأنشدوا لذلك أيضا البيت السابق وهو للأغلب العجلي، وجهل الزمخشري به كالزجاج لا يلتفت إليه، وقوله: إن ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة إلى آخره مردود بأنه روي سكون الياء بعد الألف، وقرأ به القراء في مَحْيايَ [الأنعام: 162] وما ذكره أيضا قياس مع الفارق فإنه لا يلزم من كسرها مع الياء المجانسة للكسرة كسرها مع الألف الغير المجانية لها ولذا فتحت بعدها للمجانسة وكون الأصل في هذا الياء الفتح في كل موضع غير مسلم كيف وهي من المبنيات والأصل في المبني أن يبنى على السكون. ومن الناس من وجه القراءة بأنها على لغة من يزيد ياء على ياء الإضافة إجراء لها مجرى هاء الضمير وكافه، فإن الهاء قد توصل بالواو إذا كانت مضمومة كهذا لهو وضربهو، وبالياء إذا كانت مكسورة نحو بهي، والكاف قد تلحقها الزيادة فيقال أعطيتكاه وأعطيتكيه إلا أنه حذفت الياء هنا اكتفاء بالكسرة، وقال البصير: كسر الياء ليكون طبقا لكسر الهمزة في قوله: إِنِّي كَفَرْتُ لأنه أراد الوصل دون الوقف والابتداء بذلك والكسر أدل على الوصل من الفتح وفيه نظر، وبالجملة لا ريب في صحة تلك القراءة وهي لغة فصيحة، وقد روي أنه تكلم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث بدء الوحي وشرح حاله عليه الصلاة والسلام لورقة بن نوفل رضي الله تعالى عنه فانكارها محض جهالة، وأراد بقوله: إِنِّي كَفَرْتُ إني كفرت اليوم بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ أي من قبل هذا اليوم- يعني في الدنيا-. وما مصدرية ومِنْ متعلقة بأشركتموني أي كفرت باشراككم إياي لله تعالى في الطاعة لأنهم كانوا يطيعونه في أعمال الشر كما يطاع الله تعالى في أعمال الخير، فالإشراك استعارة بتشبيه الطاعة به وتنزيلها منزلته أو لأنهم لما أشركوا الأصنام ونحوها بإيقاعه لهم في ذلك فكأنهم أشركوه، والكفر مجاز عن التبري كما في قوله تعالى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [فاطر: 14] ومراد اللعين أنه إن كان اشراككم لي بالله تعالى هو الذي أطمعكم في نصرتي لكم وخيل إليكم أن لكم حقا علي فإني تبرأت من ذلك ولم أحمده فلم يبق بيني وبينكم علاقة، وإرادة اليوم حسبما ذكرنا هو الظاهر فيكون الكلام محمولا على إنشاء التبري منهم يوم القيامة. وجوز النسفي أن يكون إخبارا عن أنه تبرأ منهم في الدنيا فيكون مِنْ قَبْلُ متعلقا- بكفرت- أو متنازعا فيه. وجوز غير واحد أن تكون ما موصولة بمعنى من كما قيل في قولهم: سبحانه ما سخركن لنا، والعائد محذوف ومِنْ قَبْلُ متعلق- بكفرت- أي إني كفرت من قبل حين أبيت السجود لآدم عليه السلام بالذي أشركتمونيه أي جعلتموني شريكا له بالطاعة وهو الله عز وجل، فأشرك منقول من شركت زيدا للتعدية إلى مفعول ثان، والكلام على هذا إقرار من اللعين بقدم كفره وبيان لأن خطيئته سابقة عليهم فلا إغاثة لهم منه فهو في المعنى تعليل لعدم إصراخه إياهم. وزعم الإمام أنه لنفي تأثير الوسوسة كأنه يقول: لا تأثير لوسوستي في كفركم بدليل أني كفرت قبل أن وقعتم في الكفر بسبب وسوسة أخرى وإلا لزم التسلسل فثبت بهذا أن سبب الوقوع في الكفر شيء آخر سوى الوسوسة، وكان الظاهر على هذا تقديمه على قوله: ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ إلى آخره ولا يظهر لتأخيره نكتة يهش لها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 199 الخاطر. ومنهم من جعله تعليلا لعدم اصراخهم إياه وهو مما لا وجه له إذ لا احتمال لذلك حتى يحتاج إلى التعليل، وقيل: لأن تعليل عدم إصراخهم بكفره يوهم أنهم بسبيل من ذلك لولا المانع من جهته. واعترض بأن نحو هذا الإيهام جار في الوجه الأول وهم الكفرة الذين لا تنفعهم شفاعة الشافعين. وتعقب في البحر القول بالموصولية بأن فيه إطلاق ما على الله تعالى والأصح فيها أنها لا تطلق على آحاد من يعلم، وما في سبحان ما سخركن يجوز أن تكون مصدرية بتقدير مضاف أي سبحان موجد أو ميسر تسخير كن لنا. وقال الطيبي: إن ما لا تستعمل في ذي العلم إلا باعتبار الوصفية فيه وتعظيم شأنه والمثال على ذلك أي سبحان العظيم الشأن الذي سخر كن للرجال مع مكركن وكيدكن، وكون ما موصولة عبارة عن الصنم أي إني كفرت بالصنم الذي أشركتمونيه مما لا ينبغي أن يلتفت إليه إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ الظاهر أنه من تمام كلام إبليس قطعا لأطماع الكفار من الإغاثة والإعانة، وحكى الله تعالى عنه ما سيقوله في ذلك الوقت ليكون تنبيها للسامعين وحثا لهم على النظر في عاقبتهم والاستعداد لما لا بد منه وأن يتصوروا ذلك المقام الذي يقول فيه الشيطان ما يقول فيخافوا ويعملوا ما ينفعهم هناك، وقيل: إنه من كلام الخزنة يوم ذاك، وقيل: إنه ابتداء كلام من جهته تعالى، وأيد بأنه قرأ الحسن. وعمرو بن عبيد أُدْخِلَ في قوله تعالى: وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بصيغة المضارع المسند إلى المتكلم. وأنت تعلم أنه إذا اعتبرت هذه القراءة مؤيدة لهذا القول فلتعتبر قراءة الجمهور أُدْخِلَ بصيغة الماضي المبني للمفعول مؤيدة لما قبله فإن المدخلين الملائكة عليهم السلام فتأمل، وكأن الله تعالى لما جمع الفريقين في قوله سبحانه: وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً وذكر شيئا من أحوال الكفار ذكر ما آل إليه أمر المؤمنين من ادخالهم الجنة بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أي بأمره سبحانه أو بتوفيقه وهدايته جل شأنه، والجار والمجرور متعلق- بأدخل- على قراءة الجمهور. وفي التعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم إظهار مزيد اللطف بهم، وعلقه جماعة على القراءة الأخرى بقوله تعالى: تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ أي يحييهم الملائكة بالسلام بإذن ربهم. وتعقب ذلك أبو حيان بأن فيه تقديم معمول المصدر المنحل بحرف مصدري وفعل عليه وهو غير جائز لما أن ذلك في حكم تقديم جزء من الشيء المرتب الأجزاء عليه. ورد بأن الظاهر أنه هنا غير منحل إليهما لأنه ليس المعنى المقصود منه أن يحيوا فيها بسلام، ولو سلم فمراد القائل بالتعلق التعلق المعنوي فالعامل فيه فعل مقدر يدل عليه تَحِيَّتُهُمْ أي يحيون بإذن ربهم. وقال العلامة الثاني: الأظهر أن التقديم جائز إذا كان المعمول ظرفا أو شبهه وهو في الكلام كثير، والتقدير تكلف، وليس كل مؤول بشيء حكمه حكم ما أوّل به، مع أن الظرف مما يكفيه رائحة من الفعل لأن له شأنا ليس لغيره لتنزله من الشيء منزلة نفسه لوقوعه فيه وعدم انفكاكه عنه، ولهذا اتسع في الظروف ما لم يتسع في غيرها اه، وبالجواز أقول، وإنما لم يجعله المحققون متعلقا- بأدخل- على تلك القراءة مع أنه سالم من الاعتراض ومشتمل على الالتفات أو التجريد وهو من المحسنات لأن قولك: أدخلته باذني ركيك لا يناسب بلاغة التنزيل، والالتفات أو التجريد حاصل إذا علق بما بعده أيضا. وفي الانتصاف الصارف عن هذا الوجه هو أن ظاهر أُدْخِلَ بلفظ المتكلم يشعر بأن إدخالهم الجنة لم يكن بواسطة بل من الله تعالى مباشرة وظاهر الاذن يشعر بإضافة الدخول إلى الواسطة فبينهما تنافر، واستحسن أن يعلق- بخالدين- والخلود غير الدخول فلا تنافر، وتعقبه في الكشف بأن ذلك لا يدفع الركاكة وكأنه لما أن الإذن للدخول لا للاستمرار بحسب الظاهر، وكون المراد بمشيئتي وتيسيري لا يدفع ذلك عند التأمل الصادق، فما ذهب إليه ابن جني الجزء: 7 ¦ الصفحة: 200 واستطيبه الشيخ الطيبي وارتضاه ليس بشيء لمن سلم له ذوقه أَلَمْ تَرَ الخطاب لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم، وقيل: لمن يصلح له والفعل معلق بما بعده من قوله تعالى: كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا أي كيف اعتمله ووضعه في موضعه اللائق به كَلِمَةً طَيِّبَةً نصب على البدلية من مَثَلًا وضَرَبَ متعدية إلى مفعول واحد كما ذهب إلى ذلك الحوفي. والمهدوي. وأبو البقاء، وهو على ما قيل: بدل اشتمال ولو جعل بدل كل من كل لم يبعد. واعترض عليه بأنه لا معنى لقولك ضرب الله كلمة طيبة إلا بضم مَثَلًا إليه فمثلا هو المقصود بالنسبة فكيف يبدل منه غيره، ولا يخفى أن هذا بناء على ظاهر قول النحاة: إن المبدل في نية الطرح وهو غير مسلم، وقوله سبحانه: كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ صفة كَلِمَةً أو خبر مبتدأ محذوف أي هي كشجرة، وجوز أن يكون كلمة منصوبا بمضمر وضَرَبَ أيضا متعدية لواحد أي جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة أي حكم بأنها مثلها والجملة تفسير لقوله سبحانه: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كقولك: شرف الأمير زيدا كساه حلة وحمله على فرس. وتعقب ذلك أبو حيان بأن فيه تكلف إضمار لا ضرورة تدعو إليه. وأجاب عنه السمين بما فيه بحث، وجوز أيضا أن يكون ضرب المذكور متعديا إلى مفعولين إما لكونه بمعنى جعل واتخذ أو لتضمينه معناه وكلمة أول مفعوليه قد أخر عن ثانيهما أعني مَثَلًا لئلا يبعد عن صفته التي هي كَشَجَرَةٍ قيل: ولا يرد على هذا بأن المعنى أنه تعالى ضرب لكلمة طيبة مثلا لا كلمة طيبة مثلا لأن المثل عليه بمعنى الممثل به والتقدير ذات مثل أو لها مثلا. وقرئ «كلمة» بالرفع على الابتداء لكونها نكرة موصوفة والخبر «كشجرة» ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف و «كشجرة» صفة أخرى أَصْلُها ثابِتٌ أي ضارب بعروقه في الأرض. وقرأ أنس بن مالك «كشجرة طيبة ثابت أصلها» وقراءة الجماعة على الأصل وذكروا أنها أقوى معنى. قال ابن جني: لأنك إذا قلت ثابت أصلها فقد أجريت الصفة على شجرة وليس الثبات لها إنما هو للأصل، والصفة إذا كانت في المعنى لما هو من سبب الموصوف قد تجري عليه لكنها أخص بما هي له لفظا ومعنى فالأحسن تقديم الأصل عناية به، ومن ثم قالوا: زيد ضربته فقدموا المفعول عناية به حيث إن الغرض ليس ذكر الفاعل وإنما هو ذكر المفعول، ثم لم يقنعوا بذلك حيث أزالوه عن لفظ الفضلة وجعلوه رب الجملة لفظا فرفعوه بالابتداء وصار ضربته ذيلا له وفضلة ملحقة به، وكذلك قولك: مررت برجل أبوه قائم أقوى معنى من قولك: مررت برجل قائم أبوه لأن المخبر عنه بالقيام إنما هو الأب لا الرجل مع ما في التقديم هنا من حسن التقابل والتقسيم إلا أن لقراءة أنس وجها حسنا، وهو أن ثابت أصلها صفة الشجرة وأصل الصفة أن تكون اسما مفردا لأن الجملة إذا وقعت صفة حكم على موضعها بإعراب المفرد وذاك لم يبلغ مبلغ الجملة بخلاف «أصلها ثابت» فإنه جملة قطعا، وقال بعضهم: إنها أبلغ ولم يذكر وجه ذلك فزعم من زعم أنه ما أشير إليه من وجه الحسن وهو بمعزل عن الصواب. وقال ابن تمجيد: هو أنه كوصف الشيء مرتين مرة صورة ومرة معنى مع ما فيه من الإجمال والتفصيل كما في أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح: 1] فإنه لما قيل: «كشجرة طيبة ثابت» تبادر الذهن من جعل ثابِتٌ صفة لشجرة صورة أن شيئا من الشجرة متصف بالثبات ثم لما قيل: أَصْلُها علم صريحا أن الثبات صفة أصل الشجرة وقيل: كونها أكثر مبالغة لجعل الشجرة بثبات أصولها ثابتة بجميع أغصانها فتدبر وَفَرْعُها أي أعلاها من قولهم: فرع الجبل إذا علاه، وسمي الأعلى فرعا لتفرعه على الأصل ولهذا أفرد وإلا فكل شجرة لها فروع وأغصان، ويجوز أن يراد به الفروع لأنه مضاف والإضافة حيث لا عهد ترد للاستغراق أو لأنه مصدر بحسب الأصل وإضافته على ما اشتهر تفيد العموم فكأنه قيل: وفروعها فِي السَّماءِ أي في جهة العلو تُؤْتِي أُكُلَها تعطي ثمرها كُلَّ حِينٍ وقت أقته الله تعالى لإثمارها بِإِذْنِ رَبِّها بإرادة خالقها جل شأنه، والمراد بالكلمة الطيبة شهادة أن لا إله إلا الله على ما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 201 أخرجه البيهقي. وغيره عن ابن عباس، وعن الأصم أنها القرآن، وعن ابن بحر دعوة الإسلام، وقيل: التسبيح والتنزيه، وقيل: الثناء على الله تعالى مطلقا، وقيل: كل كلمة حسنة، وقيل: جميع الطاعات، وقيل: المؤمن نفسه، وأخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس وهو خلاف الظاهر، وكأن إطلاق الكلمة عليه نظير إطلاقها على عيسى عليه السلام، والمراد بالشجرة المشبه بها النخلة عند الأكثرين، وروي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وعكرمة والضحاك وابن زيد. وأخرج عبد الرزاق والترمذي وغيرهما عن شعيب بن الحبحاب قال: كنا عند أنس فأتينا بطبق عليه رطب فقال أنس لأبي العالية: كل يا أبا العالية فإن هذا من الشجرة التي ذكرها الله تعالى في كتابه «ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة ثابت أصلها» وأخرج الترمذي أيضا. والنسائي. وابن حبان. والحاكم وصححه عن أنس قال: «أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقناع من بسر فقال: مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ- حتى بلغ- كُلَّ حِينٍ قال: هي النخلة (1) . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنها شجرة جوز الهند، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه رضي الله تعالى عنه أيضا أنها شجرة في الجنة، وقيل: كل شجرة مثمرة طيبة الثمار كالنخلة وشجرة التين والعنب والرمان وغير ذلك. وأنت تعلم أنه إذا صح الحديث ولم يتأت حمل ما فيه على التمثيل لا ينبغي العدول عنه. ووجه تشبيه الكلمة الطيبة بمعنى شهادة أن لا إله إلا الله بهذه الشجرة المنعوتة بما ذكر أن أصل تلك الكلمة ومنشأها وهو الإيمان ثابت في قلوب المؤمنين وما يتفرع منها وينبني عليها من الأعمال الصالحة والأفعال الزكية يصعد إلى السماء، وما يترتب على ذلك من ثواب الله تعالى ورضاه هو الثمرة التي تؤتيها كل حين، ويقال نحو هذا على تقدير أن تكون الكلمة بمعنى آخر فتأمل. والذاهبون إلى تفسير الشجرة بالنخلة من السلف اختلفوا في مقدار الحين، فأخرج البيهقي عن سعيد بن المسيب أنه شهران قال: إن النخلة إنما يكون فيها حملها شهرين. وأخرج ابن جرير عن مجاهد أنه سنة وقيل غير ذلك، واختلفت الروايات عن ابن عباس والأشهر أنه فسره بستة أشهر وقال: إن النخلة ما بين حملها إلى صرامها ستة أشهر، وأفتى رضي الله تعالى عنه لرجل حلف أن لا يكلم أخاه حينا أنه لو كلمه قبل ستة أشهر حنث وهو الذي قال به الحنيفة، فقد ذكروا أن الحين والزمان معرفين أو منكرين واقعين في النفي أو في الإثبات ستة أشهر، وعللوا ذلك بأن الحين قد جاء بمعنى الساعة وبمعنى أربعين سنة وبمعنى الأبد وبمعنى ستة أشهر فعند عدم النية ينصرف إليه لأنه الوسط ولأن القليل لا يقصد بالمنع لوجود الامتناع فيه عادة والأربعون سنة لا تقصد بالحلف عادة لأنه في معنى الأبد، ولو سكت عن الحين تأبد فالظاهر أنه لم يقصد ذلك ولا الأبد ولا أربعين سنة فيحكم بالوسط في الاستعمال والزمان استعمل استعمال الحين ويعتبر ابتداء الستة أشهر من وقت اليمين في نحو لا أكلم فلانا حينا مثلا، وهذا بخلاف لأصومن حينا فإن له أن يعين فيه أي ستة أشهر شاء كما بين في محله، ومتى نوى الحالف مقدارا معينا في الحين وأخيه صدق لأنه نوى حقيقة كلامه لأن كلا منهما للقدر المشترك بين القليل والكثير والمتوسط واستعمل في كل كما لا يخفى على المتتبع فليتذكر وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ لأن في ضربها زيادة إفهام وتذكير فإنه تصوير المعاني العقلية بصور المحسوسات وبه يرتفع التنازع بين الحس والخيال. وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ وهي كلمة الكفر أو الدعاء إليه أو الكذب أو كل كلمة لا يرضاها الله تعالى. وقرئ   (1) قال الترمذي الحديث الموقوف أصح اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 202 وَمَثَلُ بالنصب عطفا على كَلِمَةً طَيِّبَةً وقرأ أبيّ «وضرب الله مثلا كلمة خبيثة» كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ولعل تغيير الأسلوب على قراءة الجماعة للإيذان بأن ذلك غير مقصود بالضرب والبيان وإنما ذلك أمر ظاهر يعرفه كل أحد، وفي الكلام مضاف مقدر أي كمثل شجرة خبيثة، والمثل بمعنى الصفة الغريبة اجْتُثَّتْ أي اقتلعت من أصلها، وحقيقة الاجتثاث أخذ الجثة وهي شخص الشيء كلها مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ لكون عروقها قريبة من الفوق فكأنها فوق ما لَها مِنْ قَرارٍ أي استقرار على الأرض، والمراد بهذه الشجرة المنعوتة الحنظلة. وروي ذلك أيضا مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الضحاك أنها الكشوث، ويشبه به الرجل الذي لا حسب له ولا نسب كما قال الشاعر: فهو الكشوث فلا أصل ولا ورق ... ولا نسيم ولا خللّ ولا ثمر وقال الزجاج وفرقة شجرة الثوم، وقيل: شجرة الشوك، وقيل: الطحلب، وقيل: الكمأة وقيل: كل شجر لا يطيب له ثمر، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها شجرة لم تخلق على الأرض والمقصود التشبيه بما اعتبر فيه تلك النعوت، وقال ابن عطية: الظاهر أن التشبيه وقع بشجرة غير معينة جامعة لتلك الأوصاف وفي رواية عن الحبر أيضا تفسير هذه الشجرة بالكافر. وروى الإمامية- وأنت تعرف حالهم- عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه تفسيرها ببني أمية وتفسير الشجرة الطيبة برسول الله صلى الله عليه وسلم: وعلي كرم الله تعالى وجهه. وفاطمة رضي الله تعالى عنها وما تولد منهما، وفي بعض روايات أهل السنة ما يعكر على تفسير الشجرة الخبيثة ببني أمية. فقد أخرج ابن مردويه عن عدي بن أبي حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى قلب العباد ظهرا وبطنا فكان خير عباده العرب وقلب العرب ظهرا وبطنا فكان خير العرب قريشا وهي الشجرة المباركة التي قال الله تعالى في كتابه: مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ» لأن بني أمية من قريش وأخبار الطائفتين في هذا الباب ركيكة وأحوال بني أمية التي يستحقون بها ما يستحقون غير خفية عند الموافق والمخالف، والذي عليه الأكثرون في هذه الشجرة الخبيثة أنها الحنظل، وإطلاق الشجرة عليه للمشاكلة وإلا فهو نجم لا شجر، وكذا يقال في إطلاقه على الكشوث ونحوه. وللإمام الرازي قدس سره كلام في هذين المثلين لا بأس بذكره ملخصا وهو أنه تعالى ذكر في المثل الأول شجرة موصوفة بأربع صفات ثم شبه الكلمة الطيبة بها. الصفة الأولى كونها طَيِّبَةً وذلك يحتمل كونها طيبة المنظر وكونها طيبة الرائحة وكونها طيبة الثمرة بمعنى كونها لذيذة مستطابة وكونها طيبة الثمرة بمعنى كثرة الانتفاع بها، ويجب إرادة الجميع إذ به يحصل كمال الطيب. والثانية كون «أصلها ثابتا» وهو صفة كمال لها لأن الشيء الطيب إذا كان في معرض الزوال فهو وإن كان يحصل الفرح بوجدانه إلا أنه يعظم الحزن بالخوف من زواله وأما إذ لم يكن كذلك فإنه يعظم السرور به من غير ما ينغص ذلك. والثانية كون فَرْعُها فِي السَّماءِ وهو أيضا صفة كمال لها لأنها متى كانت مرتفعة كانت بعيدة عن عفونة الأرض وقاذورات الأبنية فكانت ثمرتها نقية خالصة عن جميع الشوائب. والرابعة كونها «دائمة الثمر» لا أن ثمرها حاضر في بعض الأوقات دون بعض وهو صفة كمال أيضا إذ الانتفاع بها غير منقطع حينئذ. ثم إن من المعلوم بالضرورة أن الرغبة في تحصيل مثل هذه الشجرة يجب أن تكون عظيمة، وأن العاقل متى أمكنه تحصيلها ينبغي أن يقوم له على ساق ولا يتساهل عنه، والمراد من الكلمة المشبهة بذلك معرفة الله تعالى والاستغراق في محبته سبحانه وطاعته، وشبه ذلك للشجرة في صفاتها الأربعة، أما في الأولى فظاهر بل لا لذة ولا طيب في الحقيقة إلا لهذه المعرفة لأنها ملائمة لجوهر النفس النطقية والروح القدسية ولا كذلك لذة الفواكه إذ هي أمر ملائم لمزاج البدن، ومن تأمل أدنى تأمل ظهر له فروق لا تحصى بين اللذتين، وأما في الصفة الثانية فثبوت الأصل في شجرة معرفة الله تعالى أقوى وأكمل لأن عروقها راسخة في جوهر النفس القدسية وهو جوهر مجرد آمن عن الكون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 203 والفساد بعيد عن التغير والفناء، وأيضا مدد هذا الرسوخ إنما هو من تجلي جلال الله تعالى وهو من لوازم كونه سبحانه في ذاته نور النور ومبدأ الظهور وذلك مما يمتنع عقلا زواله وأما في الصفة الثالثة فلأن شجرة المعرفة لها أغصان صاعدة في هواء العالم الإلهي وأغصان صاعدة في هواء العالم الجسماني، والنوع الأول أقسامه كثيرة يجمعها قوله صلى الله عليه وسلم: «التعظيم لأمر الله تعالى» ويدخل فيه التأمل في دلائل معرفته سبحانه كأحوال العوالم العلوية والسفلية، وكذا محبة الله تعالى والتشوق إليه سبحانه والمواظبة على ذكره جل شأنه والاعتماد عليه وقطع النظر عما سواه جل وعلا إلى غير ذلك، والنوع الثاني أقسامه كذلك ويجمعها قوله عليه الصلاة والسلام، «والشفقة على خلق الله تعالى» ويدخل فيه الرأفة والرحمة والصفح والتجاوز عن الإساءة والسعي في إيصال الخبر إلى عباد الله تعالى ودفع الشرور عنهم ومقابلة الإساءة بالإحسان إلى ما لا يحصى، وهي فروع من شجرة المعرفة فإن الإنسان كلما كان متوغلا فيها كانت هذه الأحوال عنده أكمل وأقوى. وأما في الصفة الرابعة فلأن شجرة المعرفة موجبة لما علمت من الأحوال ومؤثرة في حصولها والمسبب لا ينفك عن السبب، فدوام أكل هذه الشجرة أتم من دوام أكل الشجرة المنعوتة فهي أولى بهذه الصفة بل ربما توغل العبد في المعرفة فيصير بحيث كلما لا حظ شيئا لا حظ الحق فيه وربما عظم ترقيه فيصير لا يرى شيئا إلا يرى الله تعالى قبله، وأيضا قد يحصل للنفس من هذه المعرفة الهامات نفسانية وملكات روحانية ثم لا يزال يصعد منها في كل حين ولحظة كلام طيب وعمل صالح وخضوع وخشوع وبكاء وتذلل كثمرة هذه الشجرة، وفي قوله سبحانه: بِإِذْنِ رَبِّها دقيقة عجيبة وذلك لأن الإنسان عند حصول هذه الأحوال السنية والدرجات العلية قد يفرح بها من حيث هي- هي- وقد يترقى فلا يفرح بها كذلك وإنما يفرح بها من حيث إنها من المولى جل جلاله وعند ذلك يكون فرحه في الحقيقة بالمولى تبارك وتعالى ولذلك قال بعض المحققين: من آثر العرفان للعرفان فقد وقف بالساحل ومن آثر العرفان لا للعرفان بل للمعروف فقد خاض لجة الوصول. وذكر بعضهم في هذا المثال كلاما لا يخلو عن حسن، وهو أنه إنما مثل سبحانه الإيمان بالشجرة لأن الشجرة لا تستحق أن تسمى شجرة إلا بثلاثة أشياء: عرق راسخ. وأصل قائم. وأغصان عالية فكذلك الإيمان لا يتم إلا بثلاثة أشياء: معرفة في القلب. وقول باللسان. وعمل بالأركان، ولم يرتض قدس سره تفسير الشجرة بالنخلة ولا الحين بما شاع فقال: بعد نقل كلام جماعة إن هؤلاء وإن أصابوا في البحث عن مفردات ألفاظ الآية إلا أنهم بعدوا عن إدراك المقصود لأنه تعالى وصف شجرة بالصفات المذكورة ولا حاجة بنا إلى أن تلك الشجرة هي النخلة أم غيرها، فإنا نعلم بالضرورة أن الشجرة الكذائية يسعى في تحصيلها وادخارها لنفسه كل عاقل سواء كان لها وجود في الدنيا أو لم يكن لأن هذه الصفة أمر مطلوب التحصيل، واختلافهم في تفسير الحين أيضا من هذا الباب والله تعالى أعلم، وذكر تبارك وتعالى في المثل الثاني شجرة أيضا إلا أنه تعالى وصفها بثلاث صفات. الصفة الأولى كونها خَبِيثَةٍ وذلك يحتمل أن يكون بحسب الرائحة وأن يكون بحسب الطعم وأن يكون بحسب الصورة وأن يكون بحسب اشتمالها على المضار الكثيرة ولا حاجة إلى القول بأنها شجرة كذا أو كذا فإن الشجرة الجامعة لتلك الصفات وإن لم تكن موجودة إلا أنها إذا كانت معلومة الصفة كان التشبيه بها نافعا في المطلوب. والثانية «اجتثاثها من فوق الأرض» وهذه في مقابلة أصلها ثابت في الأول. والثالثة نفى أن يكون لها قرار وهذه كالمتممة للصفة الثانية، والمراد بالكلمة المشبهة بذلك الجهل بالله تعالى والإشراك به سبحانه فإنه أول الآفات وعنوان المخافات ورأس الشقاوات فخبثه أظهر من أن يخفى وليس له حجة ولا ثبات ولا قوة بل هو داحض غير ثابت اه، وهو كلام حسن لكن فيه مخالفة لظواهر كثير من الآثار فتأمل يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ الذي ثبت عندهم وتمكن في قلوبهم وهو الكلمة الطيبة التي ذكرت صفتها العجيبة، والظاهر أن الجار متعلق- بيثبت- وكذا قوله سبحانه: فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي يثبتهم بالبقاء على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 204 ذلك مدة حياتهم فلا يزالون إذا قيض لهم من يفتنهم ويحاول زللهم عنه كما جرى لأصحاب الأخدود. ولجرجيس. وشمشون وكما جرى لبلال وكثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله تعالى عنهم وَفِي الْآخِرَةِ أي بعد الموت وذلك في القبر الذي هو أول منزل من منازل الآخرة وفي مواقف القيامة فلا يتلعثمون إذا سئلوا عن معتقدهم هناك ولا تدهشهم الأهوال. وأخرج ابن أبي شيبة عن البراء بن عازب أنه قال في الآية: التثبيت في الحياة الدنيا إذا جاء الملكان إلى الرجل في القبر فقالا له: من ربك؟ قال: ربي الله. قالا: وما دينك؟ قال: ديني الإسلام: قالا: ومن نبيك؟ قال: نبيي محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فالمراد من الْآخِرَةِ يوم القيامة، وأخرج الطبراني في الأوسط. وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في هذه الآية: يُثَبِّتُ اللَّهُ إلخ في الآخرة القبر» وعلى هذا فالمراد بالحياة الدنيا مدة الحياة وإلى ذلك ذهب جمهور العلماء واختاره الطبري. نعم اختار بعضهم أن الحياة الدنيا مدة حياتهم والآخرة يوم القيامة والعرض وكان الداعي لذلك عموم الَّذِينَ آمَنُوا وشمولهم لمؤمني الأمم السابقة مع عدم عموم سؤال القبر، وجوز تعلق الجار الأول- بآمنوا- على معنى آمنوا بالتوحيد الخالص فوحدوه ونزهوه عما لا يليق بجنابه سبحانه، وكذا جوز تعلق الجار الثاني- بالثابت- ومن الناس من زعم أن التثبيت في الدنيا الفتح والنصر وفي الآخرة الجنة والثواب ولا يخفى أن هذا مما لا يكاد يقال، وأمر تعلق الجارين ما قدمنا وهذا عند بعضهم مثال إيتاء الشجرة أكلها كل حين وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ أي يخلق فيهم الضلال عن الحق الذي ثبت المؤمنين عليه حسب إرادتهم واختيارهم الناشئ عن سوء استعدادهم، والمراد بهم الكفرة بدليل مقابلتهم- بالذين آمنوا- ووصفهم بالظلم إما باعتبار وضعهم للشيء في غير موضعه، وإما باعتبار ظلمهم لأنفسهم حيث بدلوا فطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها فلم يهتدوا إلى القول الثابت أو حيث قلدوا أهل الضلال وأعرضوا عن البينات الواضحة، وإضلالهم- على ما قيل- في الدنيا أنهم لا يثبتون في مواقف الفتن وتزل أقدامهم أول شيء وهم في الآخرة أضل وأزل. وأخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم. والبيهقي من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الكافر إذا حضره الموت تنزل عليه الملائكة عليهم السلام يضربون وجهه ودبره فإذا دخل قبره اقعد فقيل له: من ربك؟ فلم يرجع إليهم شيئا وأنساه الله تعالى ذكر ذلك، وإذا قيل له: من الرسول الذي بعث إليكم؟ لم يهتد له ولم يرجع إليهم شيئا فذلك قوله تعالى: وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ: وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ من تثبيت بعض وإضلال بعض آخرين حسبما توجبه مشيئته التابعة للحكم البالغة المقتضية لذلك، وفي إظهار الاسم الجليل في الموضعين من الفخامة وتربية المهابة ما لا يخفى مع ما فيه- كما قيل- من الإيذان بالتفاوت في مبادئ التثبيت والإضلال فإن مبدأ صدور كل منهما عنه سبحانه وتعالى من صفاته العلا غير ما هو مبدأ صدور الآخر، وفي ظاهر الآية من الرد على المعتزلة ما فيها أَلَمْ تَرَ تعجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد مما صنع الكفرة من الأباطيل أي ألم تنظر إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ أي شكر نعمته تعالى الواجب عليهم ووضعوا موضعه كُفْراً عظيما وغمطا لها، فالكلام على تقدير مضاف حذف وأقيم المضاف إليه مقامه وهو المفعول الثاني وكُفْراً المفعول الأول، وتوهم بعضهم عكس ذلك، وقد لا يحتاج إلى تقدير على معنى أنهم بدلوا النعمة نفسها كفرا لأنهم لما كفروها سلبوها فبقوا مسلوبيها موصوفين بالكفر، وقد ذكر هذا كالأول الزمخشري، والوجهان كما في الكشف خلافا لما قرره الطيبي وتابعه عليه غيره متفقان في أن التبديل هاهنا تغيير في الذات إلا أنه واقع بين الشكر والكفر أو بين النعمة نفسها والكفر، والمراد بهم أهل مكة فإن الله سبحانه أسكنهم حرمه وجعلهم قوام بيته وأكرمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم فكفروا نعمة الله تعالى بدل ما ألزمهم من الشكر العظيم، أو أصابهم الله تعالى بالنعمة والسعة لإيلافهم الرحلتين فكفروا نعمته سبحانه فضربهم جل جلاله بالقحط سبع سنين وقتلوا وأسروا يوم بدر فحصل لهم الكفر بدل النعمة وبقي ذلك طوقا في أعناقهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 205 وأخرج الحاكم وصححه. وابن جرير. والطبراني. وغيرهم من طرق عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في هؤلاء المبدلين: هما الأفجران من قريش بنو أمية وبنو المغيرة فأما بنو المغيرة فقطع الله تعالى دابرهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين. وأخرج البخاري في تاريخه. وابن المنذر. وغيرهما عن عمر رضي الله تعالى عنه مثل ذلك (1) . وجاء في رواية كما في جامع الأصول هم والله كفار قريش. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: هم جبلة بن الأيهم والذين اتبعوه من العرب فلحقوا بالروم، ولعله رضي الله تعالى عنه لا يريد أنها نزلت في جبلة ومن معه لأن قصتهم كانت في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه وإنما يريد أنها تخص من فعل فعل جبلة إلى يوم القيامة وَأَحَلُّوا أي أنزلوا قَوْمَهُمْ بدعوتهم إياهم لما هم فيه من الضلال، ولم يتعرض لحلولهم لدلالة الإحلال عليه إذ هو فرع الحلول كما قالوا في قوله تعالى في فرعون: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [هود: 98] دارَ الْبَوارِ أي الهلاك من بار يبور بوارا وبورا، قال الشاعر: فلم أر مثلهم أبطال حرب ... غداة الحرب إذ خيف البوار وأصله- كما قال الراغب- فرط الكساد، ولما كان فرط الكساد يؤدي إلى الفساد كما قيل كسد حتى فسد عبر به عن الهلاك جَهَنَّمَ عطف بيان للدار، وفي الإبهام ثم البيان مالا يخفى من التهويل، وأعربه الحوفي وأبو البقاء بدلا منها، وقوله تعالى: يَصْلَوْنَها أي يقاسون حرها حال من الدار أو من جَهَنَّمَ أو من «قومهم» أو استئناف لبيان كيفية الحلول، وجوز أبو البقاء كون جَهَنَّمَ منصوبا على الاشتغال أي يصلون جهنم يصلونها وإليه ذهب ابن عطية، فالمراد بالإحلال حينئذ تعريضهم للهلاك بالقتل والأسر، وأيد بما روى عطاء أن الآية نزلت في قتلى بدر، وبقراءة ابن أبي عبلة جَهَنَّمَ بالرفع على الابتداء، ويحتمل أن يكون جَهَنَّمَ على هذه القراءة خبر مبتدأ محذوف واختاره أبو حيان معللا بأن النصب على الاشتغال مرجوح من حيث إنه لم يتقدم ما يرجحه ولا ما يجعله مساويا، وجمهور القراء على النصب ولم يكونوا ليقرؤوا بغير الراجح أو المساوي، إذ زيد ضربته بالرفع أرجح من زيدا ضربته فلذلك كان ارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف في تلك القراءة راجحا، وأنت تعلم أن قوله تعالى: قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ يرجح التفسير السابق وَبِئْسَ الْقَرارُ على حذف المخصوص بالذم أي بئس القرار هي أي جهنم أو بئس القرار قرارهم فيها، وفيه بيان أن حلولهم وصليّهم على وجه الدوام والاستمرار وَجَعَلُوا عطف على أَحَلُّوا أو ما عطف عليه داخل معه في حيز الصلة وحكم التعجيب أي جعلوا في اعتقادهم وحكمهم لِلَّهِ الفرد الصمد الذي ليس كمثله شيء وهو الواحد القهار أَنْداداً أمثالا في التسمية أو في العبادة، وقال الراغب: ند الشيء مشاركه في جوهره وذلك ضرب من المماثلة فإن المثل يقال في أي مشاركة كانت فكل ند مثل وليس كل مثل ندا، ولعل المعول عليه هنا ما أشرنا إليه. لِيُضِلُّوا قومهم الذين يشايعونهم حسبما ضلوا عَنْ سَبِيلِهِ القويم الذي هو التوحيد، وقيل: مقتضى ظاهر النظم الكريم أن يذكر كفرانهم نعمة الله تعالى ثم كفرانهم بذاته سبحانه باتخاذ الأنداد ثم إضلالهم لقومهم المؤدي إلى إحلالهم دار البوار، ولعل تغيير الترتيب لتثنية التعجيب وتكريره والإيذان بأن كل واحد من هذه الهنات يقضي منه العجب ولو سيق النظم على نسق الوجود لربما فهم التعجيب من المجموع، وله نظائر في الكتاب الجليل، وقرأ ابن   (1) كأنهما يتأولان ما سيتلى من قوله عز وجل قُلْ تَمَتَّعُوا الآية اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 206 كثير. وأبو عمرو. ورويس عن يعقوب لِيُضِلُّوا بفتح الياء، والظاهر أن اللام في القراءتين مثلها في قوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص: 8] وذلك أنه لما كان الإضلال أو الضلال نتيجة للجعل المذكور شبه بالغرض والعلة الباعثة فاستعمل له حرفه على سبيل الاستعارة التبعية قاله غير واحد وقيل عليه: إن كون الضلال نتيجة للجعل لله سبحانه أندادا غير ظاهر إذ هو متحد معه أو لازم لا ينفك عنه إلا أن يراد الحكم به أو دوامه. ورد بأنهم مشركون لا يعتقدون أنه ضلال بل يزعمون أنه اهتداء فقد ترتب على اعتقادهم ضده، على أن المراد بالنتيجة ما يترتب على الشيء أعم من أن يكون من لوزامه أولا وفيه تأمل قُلْ لأولئك الضلال المتعجب منهم تَمَتَّعُوا بما أنتم عليه من الشهوات التي من جملتها تبديل نعمة الله تعالى كفرا واستتباع الناس في الضلال، وجعل ذلك متمتعا به تشبيها له بالمشتهيات المعروفة لتلذذهم به كتلذذهم بها، وفي التعبير بالأمر- كما قال الزمخشري إيذان بأنهم لانغماسهم بالتمتع بما هم عليه وأنهم لا يعرفون غيره ولا يريدونه مأمورون به قد أمرهم آمر مطاع لا يسعهم أن يخالفوه ولا يملكون لأنفسهم أمرا دونه وهو آمر الشهوة وعلى هذا يكون قوله تعالى: فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ جواب شرط ينسحب عليه الكلام على ما أشار إليه بقوله: والمعنى إن دمتم على ما أنتم عليه من الامتثال لآمر الشهوة فإن مصيركم إلى النار، ويجوز أن يكون الأمر مجازا عن التخلية والخذلان وأن ذلك الآمر متسخط إلى غاية، ومثاله أن ترى الرجل قد عزم على أمر وعندك أن ذلك الأمر خطأ وأنه يؤدي إلى ضرر عظيم فتبالغ في نصحه واستنزاله عن رأيه فإذا لم تر منه إلا الإباء والتصميم حردت عليه وقلت: أنت وشأنك فافعل ما شئت فلا تريد بهذا حقيقة الأمر ولكنك كأنك تقول: فاذ قد أبيت قبول النصيحة فأنت أهل ليقال لك افعل ما شئت وتبعث عليه ليتبين لك إذا فعلت صحة رأي الناصح وفساد رأيك انتهى. قال صاحب الكشف: إن الوجهين مشتركان في إفادة التهديد لكن الأداء إليه مختلف، والأول نظير ما إذا أطاع أحد عبيدك بعض من تنقم طريقته فتقول: أطع فلانا، وهذا صحيح صدر من المنقوم أمر ومن العبد طاعة أو كان منه موافقة لبعض ما يهواه، والقسم الأخير هو ما نحن فيه والثاني ظاهر انتهى. وظاهر هذا أن التهديد على الوجهين مفهوم من صيغة الأمر، ويفهم من كلام بعض الأجلة أن ذلك على الوجه الأول من الشرطية وعلى الثاني من الأمر وما في حيز الفاء تعليل له، ولعل النظر الدقيق قاض بما أفتى به ظاهر ما في الكشف، وذكر غير واحد أن هذا كقول الطبيب لمريض يأمره بالاحتماء فلا يحتمي: كل ما تريد فإن مصيرك إلى الموت فإن المقصود- كما قال صاحب الفرائد- التهديد ليرتدع ويقبل ما يقول. وجعل الطيبي ما قرر في المثال هو المراد من قول الزمخشري إن في تَمَتَّعُوا إيذانا بأنهم لانغماسهم إلخ، وأنت تعلم أنه ظاهر في الوجه الثاني فافهم. والمصير مصدر صار التامة بمعنى رجع وهو اسم إن وإِلَى النَّارِ في موضع الخبر، ولا ينبغي أن يقال: إنه متعلق- بمصير- وهو من صار بمعنى انتقل ولذا عدى بالى لأنه يدعو إلى القول بحذف خبر إن وحذفه في مثل هذا التركيب قليل، والكثير فيما إذا كان الاسم نكرة والخبر جار ومجرور. والحوفي جوز هذا التعلق فالخبر عنده محذوف أي فإن مصيركم إلى النار واقع أو كائن لا محالة. ثم إنه تعالى لما هدد الكفار وأشار إلى انهماكهم في اللذة الفانية أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر خلص عباده بالعبادة البدنية والمالية فقال سبحانه: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وخصهم بالإضافة إليه تعالى رفعا لهم وتشريفا وتنبيها على أنهم المقيمون لوظائف العبودية الموفون بحقوقها، وترك العطف بين الأمرين للإيذان بتباين حالهما تهديدا وغيره، ومقول القول على ما ذهب إليه المبرد. والأخفش. والمازني محذوف دل عليه يُقِيمُوا أي قل لهم: أقيموا الصلاة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 207 وأنفقوا. يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ والفعل المذكور مجزوم على أنه جواب قُلْ عندهم. وأورد أنه لا يلزم من قوله عليه الصلاة والسلام: أقيموا وأنفقوا أن يفعلوا. ورد بأن المقول لهم الخلص وهم متى أمروا امتثلوا، ومن هنا قالوا: إن في ذلك إيذانا بإكمال مطاوعتهم وغاية مسارعتهم إلى الامتثال، ويشد عضد ذلك حذف المقول لما فيه من إيهام أنهم يفعلون من غير أمر، على أن مبنى الإيراد على أنه يشترط في السببية التامة وقد منع. وجعل ابن عطية- قل- بمعنى بلغ وأد الشريعة والزم في جواب ذلك. وهو قريب مما تقدم. وحكي عن أبي علي وعزي للمبرد أن الجزم في جواب الأمر المقول المحذوف، وتعقبه أبو البقاء بأنه فاسد لوجهين: الأول أن جواب الشرط لا بد أن يخالف فعل الشرط إما في الفعل أو في الفاعل أو فيهما فإذا اتحدا لا يصح كقولك: قم تقم إذ التقدير هنا إن يقيموا يقيموا. والثاني أن الأمر المقدر للمواجهة والفعل المذكور على لفظ الغيبة وهو خطأ إذا كان الفاعل واحدا. وقيل عليه: إن الوجه الأول قريب، وأما الثاني فليس بشيء لأنه يجوز أن تقول: قل لعبدك أطعني يطعك وإن كان للغيبة بعد المواجهة باعتبار حكاية الحال. وعن أبي علي وجماعة أن يُقِيمُوا خبر في معنى اومر وهو مقول القول. ورد بحذف النون وهي في مثل ذلك لا تحذف، ومنه قوله تعالى: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ إلى قوله سبحانه: تُؤْمِنُونَ [الصف: 10، 11] إذ المراد منه آمنوا، والقول بأنه لما كان بمعنى الأمر بني على حذف النون كما بني الاسم المتمكن في النداء على الضم في نحو يا زيد لما شبه بقبل وبعد ما لم يبن إنما لوحظ فيه لفظه مما لا يكاد يلتفت إليه، وذهب الكسائي. والزجاج وجماعة إلى أنه مقول القول وهو مجزوم بلام أمر مقدرة أي ليقيموا وينفقوا على حد قول الأعشى: محمد تفد نفسك كل نفس ... إذا ما خفت من أمر تبالا وأنت تعلم أن إضمار الجازم أضعف من إضمار الجار إلا أن تقدم قُلْ نائب منابه كما أن كثرة الاستعمال في أمر المخاطب ينوب مناب ذلك. والشيء إذا كثر في موضع أو تأكد الدلالة عليه جاز حذفه، منه حذف الجار من أني إذا كانت بمعنى من أين، وبما ذكرنا من النيابة فارق ما هنا ما في البيت فلا يضرنا تصريحهم فيه بكون الحذف ضرورة، وعن ابن مالك أنه جعل حذف هذه اللام على أضرب. قليل. وكثير. ومتوسط، فالكثير أن يكون قبله قول بصيغة الأمر كما في الآية، والمتوسط ما تقدمه قوله غير أمر كقوله: قلت لبواب لديه دارها ... تيذن فإني حمها وجارها والقليل ما سوى ذلك. وظاهر كلام الكشف اختيار هذا الوجه حيث قال المدقق فيه: والمعنى على هذا أظهر لكثرة ما يلزم من الإضمار، وإن تقييد الجواب بقوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ إلى وَلا خِلالٌ ليس فيه كثير طائل إنما المناسب تقييد الأمر به، وقال: ابن عطية: ويظهر أن مقول القول اللَّهُ الَّذِي إلخ ولا يخفى ما في ذلك من التفكيك، على أنه لا يصح حينئذ أن يكون يُقِيمُوا مجزوما في جواب الأمر لأن قول اللَّهُ الَّذِي إلخ لا يستدعي إقامة الصلاة والإنفاق إلا بتقدير بعيد جدا هذا، والمراد بالصلاة قيل ما يعم كل صلاة فرضا كانت أو تطوعا، وعن ابن عباس تفسيرها بالصلاة المفروضة وفسر الإنفاق بزكاة الأموال. ولا يخفى عليك أن زكاة المال إنما فرضت في السنة الثانية من الهجرة بعد صدقة الفطر وإن هذه السورة كلها مكية عند الجمهور، والآيتين ليست هذه الآية إحداهن عند بعض، ثم إن لم يكن هذا المأمور به في الآية مأمورا به من قبل فالأمر ظاهر وإن كان مأمورا به فالأمر للدوام فتحقق ذلك ولا تغفل سِرًّا وَعَلانِيَةً منتصبان على المصدرية الجزء: 7 ¦ الصفحة: 208 لكن من الأمر المقدر أو من الفعل المذكور على ما ذهب إليه الكسائي ومن معه على ما قيل، والأصل انفاق سر وانفاق علانية فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فانتصب انتصابه، ويجوز أن يكون الأصل إنفاقا سرا وإنفاقا علانية فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه، وجوز أن يكونا منتصبين على الحالية إما على التأويل بالمشتق أو على تقدير مضاف أي مسرين ومعلنين أو ذوي سر وعلانية أو على الظرفية أي في سر وعلانية، وقد تقدم الكلام في حكم نفقة السر ونفقة العلانية مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ فيبتاع المقصر فيه ما يتلافى به تقصيره أو يفتدي به نفسه، والمقصود- كما قال بعض المحققين- نفي عقد المعاوضة بالمرة، وتخصيص البيع بالذكر للإيجاز مع المبالغة نفي العقد إذ انتفاء البيع يستلزم انتفاء الشراء على أبلغ وجه وانتفاؤه ربما يتصور مع تحقق الإيجاب من البائع انتهى، وقيل: إن البيع كما يستعمل في إعطاء المثمن وأخذ الثمن وهو المعنى الشائع يستعمل في إعطاء الثمن وأخذ المثمن وهو معنى الشراء، وعلى هذا جاء قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يبيعن أحدكم على بيع أخيه» ولا مانع من إرادة المعنيين هنا، فإن قلنا بجواز استعمال المشترك في معنييه مطلقا كما قال به الشافعية أو في النفي كما قال به ابن الهمام فذاك وإلا احتجنا إلى ارتكاب عموم المجاز فكأنه قيل: لا معاوضة فيه وَلا خِلالٌ أي مخالة فهو كما قال أبو عبيدة وغيره مصدر خاللته كالخلال، وقال الأخفش: هو جمع خليل كأخلاء وأخلة، والمراد واحد وهو نفي أن يكون هناك خليل ينتفع به بأن يشفع له أو يسامحه بما يفتدي به، ويحتمل أن يكون المعنى من قبل أن يأتي يوم لا انتفاع فيه لما لهجوا بتعاطيه من البيع والمخالة ولا انتفاع بذلك وإنما الانتفاع والارتفاق فيه بالإنفاق لوجه الله تعالى، فعل الأول المنفي البيع والخلال في الآخرة، وعلى هذا المراد نفي البيع والخلال الذين كانا في الدنيا بمعنى نفي الانتفاع بهما، وفِيهِ ظرف للانتفاع المقدر حسبما أشرنا إليه، ولا يشكل ما هنا مع قوله تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف: 67] حيث أثبت فيه المخالة وعدم العداوة بين المتقين لأن المراد هنا على ما قيل نفي المخالة النافعة بذاتها في تدارك ما فات ولم يذكر في تلك الآية أن المتقين يتدارك بعضهم لبعض ما فات. وقيل في التوفيق بين الآيتين: إن المراد لا مخالة بسبب ميل الطبع ورغبة النفس وتلك المخالة الواقعة بين المتقين في الله تعالى، مع أن الاستثناء من الإثبات لا يلزمه النفي وإن سلم لزومه فنفي العداوة لا يلزم منه المخالة وهو كما ترى ومثله ما قيل: إن الإثبات والنفي بحسب المواطن. والظرف على ما استظهره غير واحد متعلق بالأمر المقدر، وعلقه بالفعل المذكور من رأى رأي الكسائي ومن معه بل وبعض من رأي غير ذلك إلا أنه لا يخلو عن شيء، وتذكير إتيان ذلك اليوم على ما في إرشاد العقل السليم لتأكيد مضمون الأمر من حيث إن كلا من فقدان الشفاعة وما يتدارك به التقصير معاوضة وتبرعا وانقطاع آثار البيع والخلال والواقعين في الدنيا وعدم الانتفاع بهما من أقوى الدواعي إلى الإتيان بما تبقى عوائده وتدوم فوائده من الإنفاق في سبيل الله تعالى أو من حيث إن ادخار المال وترك إنفاقه إنما يقع غالبا للتجارات والمهاداة فحيث لا يمكن ذلك في الآخرة فلا وجه لادخاره إلى وقت الموت. وتخصيص أمر الإنفاق بذلك التأكيد لميل النفوس إلى المال وكونها مجبولة على حبه والضنة به. وفيه أيضا أنه لا يبعد أن يكون تأكيدا لمضمون الأمر بإقامة الصلاة أيضا من حيث إن تركها كثيرا ما يكون للاشتغال بالبياعات والمخاللات كما في قوله تعالى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الجمعة: 11] وأنت تعلم بعده لفظا بناء على تعلق سِرًّا وَعَلانِيَةً بالأمر بالإنفاق، ثم إن ما ذكر من الوجهين في الآية هو الذي ذكره بعض المحققين، واقتصر الزمخشري فيها على الوجه الثاني، وكلامه في تقريره ظاهر في أن فائدة التقييد الحث على الإنفاق حسبما بينه في الكشف، وفيه في تقرير الحاصل أن قوله تعالى: لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ أي لا انتفاع بهما كناية عن الانتفاع بما يقابلهما وهو ما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 209 أنفق لوجه الله تعالى فهو حث على الإنفاق لوجهه سبحانه كأنه قيل: لينفقوا له من قبل أن يأتي يوم ينتفع بانفاقهم المنفقون له ولا ينفع الندم لمن أمسك، والعدول إلى ما في النظم الجليل ليفيد الحصر وإن ذلك وحده هو المنتفع به، وليفيد المضادة بين ما ينفع عاجليا وما ينفع آجليا، وذكر في آية [البقرة: 254] مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ أن المعنى من قبل أن يأتي يوم لا تقدرون فيه على تدارك ما فاتكم من الإنفاق لأنه لا بيع حتى تبتاعوا ما تنفقونه ولا خلة حتى يسامحكم أخلاؤكم به، وبين المدقق وجه اختصاص كل من المعنيين بموضعه مع صحة جريانهما جميعا في كل من الموضعين بأن الأول خطاب عام فكان الحث فيه على الإنفاق مطلاقا وتصوير أن الإنفاق نفسه هو المطلوب فليغتنم قبل أن يأتي يوم يفوت فيه ولا يدركه الطالب هو الموافق لمقتضى المقام وأن الثاني لما اختص بالخلص كان الموافق للمقام تحريضهم على ما هم عليه من الإنفاق ليدوموا عليه فقيل: دوموا عليه وتمسكوا به تغتبطوا يوم لا ينفع إلا من دام عليه، ولو قيل: دوموا عليه قبل أن يفوتكم ولا تدركوه لم يكن بتلك الوكادة لأن الأول بالحث على طلب أصل الفعل أشبه والثاني بطلب الدوام فتفطن له اه ولا يخلو عن دغدغة. وقرأ أبو عمرو وابن كثير ويعقوب «لا بيع فيها ولا خلال» بفتح الاسمين تنصيصا على استغراق النفي، ودلالة الرفع على ذلك باعتبار خطابي هو على ما قيل وقوعه في جواب هل فيه بيع أو خلال؟ ثم إنه لما ذكر سبحانه أحوال الكافرين لنعمه وأمر المؤمنين بإقامة مراسم الطاعة شكرا لها شرع جل وعلا في تفصيل ما يستوجب على كافة الأنام المثابرة على الشكر والطاعة من النعم العظام والمنن الجسام للمؤمنين عليها وتقريعا للكفرة المخلين أتم إخلال بها فقال عز قائلا: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ إلخ، وهذا أولى مما قيل: إنه تعالى لما أطال الكلام في وصف أحوال السعداء والأشقياء وكان حصول السعادة بمعرفة الله تعالى وصفاته والشقاوة بالجهل بذلك ختم الوصف بالدلائل الدالة على وجوده جل شأنه وكمال علمه وقدرته فقال سبحانه ما قال لظهور اعتبار المذكورات في حيز الصلة نعما لا دلائل، والاسم الجليل مبتدأ والموصول خبره ولا يخفى ما في الكلام من تربية المهابة والدلالة على قوة السلطان، والمراد خلق السموات وما فيها من الإجرام العلوية والأرض وما فيها من أنواع المخلوقات وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ أي السحاب ماءً أي نوعا منه وهو المطر، وسمي السحاب سماء لعلوه وكل ما علاك سماء وقيل: المراد بالسماء الفلك المعلوم فإن المطر منه يتبدى إلى السحاب ومن السحاب إلى الأرض، وعليه الكثير من المحدثين لظواهر الأخبار. واستبعد ذلك الإمام لأن الإنسان ربما كان واقفا على قلة جبل عال ويرى السحاب أسفل منه فإذا نزل رآه ماطرا، ثم قال: وإذا كان هذا أمرا مشاهدا بالبصر كان النزاع فيه باطلا، وأول بعضهم الظواهر لذلك بأن معنى نزول المطر من السماء نزوله بأسباب ناشئة منها، وأيّا ما كان «فمن» ابتدائية وهي متعلقة «بأنزل» وتقديم المجرور على المنصوب إما باعتبار كونه مبتدأ لنزوله أو لتشريفه كما في قولك: أعطاه السلطان من خزائنه مالا أو لما مر غيره مرة من التشويق إلى المؤخر فَأَخْرَجَ بِهِ أي بذلك الماء مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ تعيشون به وهو بمعنى المرزوق مرادا به المعنى اللغوي وهو كل ما ينتفع به فيشمل المطعوم والملبوس، ونصبه على أنه مفعول فَأَخْرَجَ ومِنَ الثَّمَراتِ بيان له فهو في موضع الحال منه، وتقدم مِنَ البيانية على ما تبينه قد أجازه الكثير من النحاة وقد مر الكلام في ذلك، واستظهر أبو حيان المانع لذلك كون مِنَ للتبعيض، والجار والمجرور في موضع الحال ورِزْقاً مفعول فَأَخْرَجَ أيضا، وجوز أن تكون مِنَ بمعنى بعض مفعول أخرج ورِزْقاً بمعنى مرزوقا حالا منه فهو بيان للمراد من بعض الثمرات لأن منها ما ينتفع به فهو رزق ومنها ما ليس كذلك، ويجوز أن يكون رِزْقاً باقيا على مصدريته، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 210 ونصبه على أنه مفعول له أي أخرج به ذلك لأجل الرزق والانتفاع به أو مفعول مطلق- لأخرج- لأن أخرج بعض الثمرات في معنى رزق فيكون في معنى قعدت جلوسا على المشهور، وقيل: من زائدة ولا يرى جواز ذلك هنا إلا الأخفش ولَكُمْ صفة- لرزقا- إن أريد به المرزوق ومفعول به إن أريد به المصدر كأنه قيل: رزقا إياكم، والباء للسبية. ومعنى كون الإخراج بسببه أن الله تعالى أودع فيه قوة مؤثرة بإذنه في ذلك حسبما جرت به حكمته الباهرة مع غناه الذاتي سبحانه عن الاحتياج إليه في الإخراج، وهذا هو رأي السلف الذي رجع إليه الأشعري كما حقق في موضعه، وزعم من زعم أن المراد أخرج عنده والتزموا هذا التأويل في ألوف من المواضع وضللوا القائلين بأن الله تعالى أودع في بعض الأشياء قوة مؤثرة في شيء ما حتى قالوا: إنهم إلى الكفر أقرب منهم إلى الإيمان، وأولئك عندي أقرب إلى الجنون وسفاهة الرأي. والثَّمَراتِ يراد بها ما يراد من جمع الكثرة لأن صيغ الجموع يتعاور بعضها موضع بعض أو لأنه أريد بالمفرد جماعة الثمرة التي في قولك: أكلت ثمرة بستان فلان، وقد تقدم لك ما ينفعك تذكره في هذا المقام فتذكر وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ السفن بأن أقدركم على صنعتها واستعمالها بما ألهمكم كيفية ذلك، وقيل: بأن جعلها لا ترسب في الماء لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ حيث توجهتم بِأَمْرِهِ بمشيئته التي بها نيط كل شيء، وتخصيصه بالذكر على ما ذكره بعض المحققين للتنصيص على أن ذلك ليس بمزاولة الأعمال واستعمال الآلات كما يتراءى من ظاهر الحال، ويندرج في تسخير الفلك كما في البحر تسخيره (1) وكذا تسخير الرياح وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ جعلها معدة لانتفاعكم حيث تشربون منها وتتخذون جداول تسقون بها زروعكم وجناتكم وما أشبه ذلك، هذا إذا أريد بالأنهار المياه العظيمة الجارية في المجاري المخصوصة وأما إذا أريد بها نفس المجاري فتسخيرها تيسيرها لهم لتجري فيها المياه وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ أي دائمين في الحركة لا يفتران إلى انقضاء عمر الدنيا. أخرج ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: الشمس بمنزلة الساقية تجري بالنهار في السماء في فلكها فإذا غربت جرت بالليل في فلكها تحت الأرض حتى تطلع من مشرقها وكذلك القمر، والقول بجريانهما إذا غربا تحت الأرض مروي أيضا عن الحسن البصري وهو الذي يشهد له العقل السليم وللأخباريين غير ذلك، وظاهر الآية إثبات الحركة لهما أنفسهما. والفلاسفة يثبتون لهما حركتين يسمون إحداهما الحركة الأولى وهي الحركة اليومية من المشرق إلى المغرب الحاصلة لها بقسر المحدد لفلكيهما، والأخرى الحركة الثانية وهي الحركة على توالي البروج من المغرب إلى المشرق الحاصلة لهما بحركة فلكيهما حركة ذاتية، ولا يثبتون لهما حركة في ثخن الفلك على نحو حركة السمكة في الماء لصلابة الفلك وعدم قبوله الخرق أصلا عندهم. وأثبت الشيخ الأكبر قدس سره في فتوحاته حركتهما على ذلك النحو، والفلك عنده مثل الماء والهواء. ذكر بعض الأخباريين أنهما وسائر الكواكب معلقة بسلاسل من نور بأيدي ملائكة يسيرونها كيف شاء الله تعالى وحيث شاء سبحانه، والأفلاك ساكنة عند هذا البعض، وكذا عند الشيخ قدس سره على ما يقتضيه ظاهر كلامه، والأخبار في هذا الباب ليست بحيث تسد ثغر الخصم. وذكر النسفي أنه ليس فيها ما يعول عليه، وكلام الفلاسفة ما لم يكن فيه مصادمة لما تحقق عن المخبر الصادق لله مما لا بأس به، وفسر بعضهم دائِبَيْنِ بمجدين تعبين وهو   (1) فيه استخدام فلا تغفل اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 211 على التشبيه والاستعارة، وأصل الدأب العادة المستمرة، ونصب الاسم على الحال، وتسخير هذين الكوكبين العظيمين جعلهما منيرين مصلحين ما نيط بهما صلاحه من المكونات، ولعمري أن الله سبحانه جعلهما اجدى من تفاريق العصا. وفي كتاب المشارع والمطارحات للشيخ شهاب الدين السهروردي قتيل حلب أن تأثير الشمس والقمر أظهر الآثار السماوية، وتأثير الشمس أظهر من تأثير القمر، وأظهر الآثار بعد الشعاع التسخين الحاصل منه ولولا ذلك ما كان كون ولا فساد ولا استحالة ولا ليل ولا نهار ولا فصول ولا مزاج ولا حيوانات ولا غيرها، وأطال الكلام في بيان ذلك وما يتعلق به، ولا ضرر عندي في اعتقاد أنهما مؤثران بإذن الله تعالى كسائر الأسباب عند السلف الصالح وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ يتعاقبان لسباتكم ومعاشكم، وأرجع بعض المحققين التسخير في المواضع الأربعة إلى معنى التصريف، وأصله سياقة الشيء إلى الغرض المختص به قهرا، وذكر أن في التعبير عن ذلك به من الإشعار بما في ذلك من صعوبة المأخذ وعزة المنال والدلالة على عظم السلطان وشدة المحال ما لا يخفى، والظاهر أنه في المعنى المراد به هنا مجاز في تلك المواضع جميعا، ونقل أبو حيان عن المتكلمين أنه مجاز في الأخير منها قال: لأن الليل والنهار عرضان والأعراض لا تسخر وفيه قصور، وفي إبراز كل من هذه النعم في جملة مستقلة تنويه لشأنها وتنبيه على رفعة مكانها وتنصيص على كون كل نعمة جليلة مستوجبة للشكر. وتأخير تسخير الشمس والقمر عن تسخير ما تقدم من الأمور مع ما بينه وبين خلق السموات من المناسبة الظاهرة قيل: لاستتباع ذكرها لذكر الأرض المستدعي لذكر إنزال الماء منها إليها الموجب لذكر إخراج الرزق الذي من جملته ما يحصل بواسطة الفلك والأنهار أو للتفادي عن توهم كون الكل- أعني خلق السموات والأرض وتسخير الشمس والقمر- نعمة واحدة، وقد تقدم نظيره آنفا، وذكر بعضهم في وجه ذكر هذه المتعاطفات على هذا الأسلوب أنه بدأ بخلق السموات والأرض لأنهما أصلان يتفرع عليهما سائر ما يذكر بعد، وثنى بإنزال الماء من السماء وإخراج الثمرات به لشدة تعلق النفوس بالرزق فيكون تقديمه من قبيل تعجيل المسرة. ولما كان الانتفاع بما ينبت من الأرض إنما يكمل بوجود الفلك الجواري في البحر وذلك لأنه تعالى خص كل طرف من أطراف الأرض بنوع من ذلك وبالنقل يكثر الربح ذكر سبحانه تسخير الفلك التي ينقل عليها واقتصر عليها اعتناء بشأنها، ولما ذكر أمر الثمرات وما به يكمل الانتفاع بها من حيث النقل ذكر تسخير الأنهار العذبة التي يشرب منها الناس في سائر الأحيان إتماما لأمر الرزق وذكر تسخير الشمس والقمر بعد لأن الانتفاع بهما ليس بالمباشرة كالانتفاع بالفلك والانتفاع بالأنهار، وأخر تسخير الليل والنهار لأنهما عرضان وما تقدمهما جوهر والعرض من حيث هو بعد الجوهر اه، وليس بشيء يعول عليه. وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ أي أعطاكم بعض جميع من سألتموه حسبما تقتضيه مشيئته التابعة للحكمة والمصلحة- فمن كل- مفعول ثان- لآتي- ومِنْ تبعيضية، وقال بعض الكاملين: إن كُلِّ للتكثير والتفخيم لا للإحاطة والتعميم كما في قوله تعالى: وفَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام: 44] واعترض على حمل مِنْ على التبعيض دون ابتداء الغاية بأنه يفضي إلى إخلاء لفظ كُلِّ عن فائدة زائدة لأن ما نص في العموم بل يوهم إيتاء البعض من كل فرد متعلق به السؤال ولا وجه له. ودفع بأنه بعد تسليم كون ما نصا في العموم هنا عمومان عموم الأفراد وعموم الأصناف بمعنى كل صنف صنف وهما مقصودان هنا، فالمعنى أعطاكم من جميع أفراد كل صنف سألتموه، فإن الاحتياج بالذات إلى النوع والصنف لا لفرد بخصوصه، وفسر ما سَأَلْتُمُوهُ بما من شأنه أن يسأل لاحتياج الناس إليه سواء سئل بالفعل أم لم يسأل، فلا ينفى إيتاء ما لا حاجة إليه مما لا يخطر بالبال، وجعلوا الاحتياج إلى الشيء سؤالا له بلسان الحال وهو من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 212 باب التمثيل، وسبيل هذا السؤال سبيل الجواب في رأي في قوله تعالى: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا: بَلى [الأعراف: 172] وقيل: الأصل وآتاكم من كل منا سألتموه وما لم تسألوه فحذف الثاني لدلالة ما أبقى على ما ألقى، وما يحتمل أن تكون موصولة والضمير المنصوب في سَأَلْتُمُوهُ عائد عليها، والتقدير من كل الذي سألتموه إياه ومنع أبو حيان جواز أن يكون راجعا إليه تعالى يكون العائد على الموصول محذوفا مستندا بأنه لو قدر متصلا لزم اتصال ضميرين متحدي الرتبة من دون اختلاف وهو لا يجوز (1) ولو قدر منفصلا حسبما تقتضيه القاعدة في مثل ذلك لزم حذف العائد المنفصل وقد نصوا على عدم جوازه اه. وذهب بعضهم إلى جواز كلا التقديرين مدعيا أن منع اتصال المتحدين رتبة خاصة فيما إذا ذكرا معا أما إذا ذكر أحدهما وحذف الآخر فلا منع إذ الاتصال حينئذ محض اعتبار وعلة المنع لا تجري فيه، وأن منع حذف المنفصل خاص أيضا فيما إذا كان الانفصال لغرض معنوي كالحصر في قولك: جاء الذي أباه ضربت إذ بالحذف حينئذ يفوت ذلك الغرض، أما إذا كان لغرض لفظي كدفع اجتماع المثلين فلا منع إذ ليس هناك غرض يفوت، ويحتمل أن تكون موصوفة والكلام في الضمير كما تقدم، وأن تكون مصدرية والضمير لله تعالى والمصدر بمعنى المفعول أي مسؤولكم. وقرأ ابن عباس والضحاك، والحسن ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وعمرو بن قائد وقتادة وسلام. ويعقوب ونافع في رواية مِنْ كُلِّ بالتنوين أي وآتاكم من كل شيء ما احتجتم إليه وسألتموه بلسان الحال، وجوز على هذه القراءة أن تكون ما نافية والمفعول الثاني مِنْ كُلِّ كما في قوله تعالى: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل: 23] والجملة المنفية في موضع الحال أي أتاكم من كل غير سائليه، وهو إخبار منه تعالى بسبوغ نعمته سبحانه عليهم بما لم يسألوه من النعم وروي هذا عن الضحاك، ولا يخفى أن الوجه هو الأول لما أن القراءة على هذا الوجه تخالف القراءة الأولى والأصل توافق القراءتين وإن فهم منها إيتاء ما سألوه بطريق الأولى. وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ أي ما أنعم به عليكم كما هو الظاهر. وقال الواحدي: إن نِعْمَتَ هنا اسم أقيم مقام المصدر يقال: أنعم إنعاما ونعمة كما يقال أنفقت إنفاقا ونفقة فالنعمة بمعنى الإنعام ولذا لم تجمع، والمعول عليه ما أشرنا إليه من أنها اسم جنس بمعنى المنعم به، والمراد بها الجمع كأنه قيل: وإن تعدوا نعم الله لا تُحْصُوها وقد نص بعضهم على أن المفرد يفيد الاستغراق بالإضافة وما قيل: إن الاستغراق ليس مأخوذا من الإضافة بل من الشرط والجزاء المخصوصين فيه نظر لأن الحكم المذكور يقتضي صحة إرادته منه ولولاه تنافيا، والمراد- بلا تحصوها- لا تطيقوا حصرها ولو إجمالا فإنها غير متناهية، وأصل الإحصاء العد بالحصى فإن العرب كانوا يعتمدونه في العد كاعتمادنا فيه على الأصابع ولذا قال الأعشى: ولست بالأكثر منهم حصى ... وإنما العزة للكاثر ثم استعمل لمطلق العد وقال بعض الأفاضل: إن أصله أن الحاسب إذا بلغ عقدا معينا من عقود الأعداد وضع حصاة ليحفظه بها ففيه إيذان بعدم بلوغ مرتبة معتد بها من مراتبها فضلا عن بلوغ غايتها وهو من الحسن بمكان إلا أنه ذهب إلى الأول الراغب وغيره، ولو الإحصاء بالحصر لئلا يتنافى الشرط والجزاء إذا ثبت في الأول العد ونفي في الثاني ولو أول إِنْ تَعُدُّوا بأن تريدوا العد يندفع السؤال على ما قيل أيضا والأول أولى، وقال بعض الفضلاء: إن المعنى أن تشرعوا في عد أفراد نعمة من نعمه تعالى لا تطيقوا عدها.   (1) قال ابن مالك. وفي اتحاد الرتبة الزم فصلا. اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 213 وإنما أتى بإن وعدم العد مقطوع به نظرا إلى توهم أنه يطاق، قيل: والكلام عليه أبلغ منه على الأول لما فيه من الإشارة إلى أن النعمة الواحدة لا يمكن عد تفاصيلها، لكن أنت تعلم أن الظاهر هو الأول. وقد ذكر الإمام مثالين يستوضح بهما الوقوف على أن نعم الله تعالى لا تحصى ولا يمكن أن تستقصى فقال: الأول أن الأطباء ذكروا أن الأعصاب قسمان دماغية ونخاعية، والدماغية سبعة وقد اتعبوا أنفسهم في معرفة الحكم الناشئة من كل واحد منها، ولا شك أن كل واحدة تنقسم إلى شعب كثيرة وكل واحدة من تلك الشعب تنقسم أيضا إلى شعب أدق من الشعر، ولكل واحد منها ممر إلى الأعضاء، ولو أن واحدة اختلت كيفا أو وضعا أو نحو ذلك لاختلت مصالح البنية، ولكل منها على كثرتها حكم مخصوصة، وكما اعتبرت هذا في الشظايا العصبية فاعتبر مثله في الشرايين والأوردة، وفي كل واحد من الأعضاء البسيطة والمركبة بحسب الكمية والوضع والفعل الانفعال حتى ترى أقسام هذا الباب بحرا لا ساحل له، وإذا اعتبرت هذا في بدن الإنسان فاعتبر في نفسه وروحه فإن عجائب عالم الأرواح أكثر من عجائب عالم الأجسام وإذا اعتبرت أحوال عالم الأفلاك والكواكب وطبقات العناصر وعجائب البر والبحر والنبات والمعدن والحيوان ظهر لك أن عقول جميع الخلائق لو ركبت وجعلت عقلا واحدا وتأمل به الإنسان في حكمة الله تعالى في أقل الأشياء لما أدرك منها إلا القليل. الثاني أنه إذا أخذت لقمة من الخبز لتضعها في فمك فانظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها، فأما الأول فاعرف أنها لا تتم إلا إذا كان هذا العالم بكليته قائما على الوجه الأصوب لأن الحنطة لا بد منها ولا تنبت إلا بمعونة الفصول وتركب الطبائع وظهور الأمطار والرياح، ولا يحصل شيء من ذلك إلا بدوران الأفلاك واتصال بعض الكواكب ببعض على وجوه مخصوصة، ثم بعد أن تكون الحنطة لا بد لها من آلات الطحن ونحوه وهي لا تحصل إلا عند تولد الحديد في أرحام الجبال ثم تأمل كيف تكونت على الأشكال المخصوصة، ثم إذا حصلت تلك الآلات فانظر أنه لا بد من اجتماع العناصر حتى يمكن الطبخ، وأما الثاني فتأمل في تركيب بدن الحيوان وهو أنه تعالى كيف خلق ذلك حتى يمكنه الانتفاع بتلك اللقمة، وإنه كيف يتضرر الحيوان بالأكل وفي أي الأعضاء تحدث تلك المضار فلا يمكنك أن تعرف القليل إلا بمعرفة علم التشريح وعلم الطب على الوجه الأكمل، وأنى للعقول بإدراك كل ذلك فظهر بالبرهان الباهر صحة هذه الشرطية اه. وقال مولانا أبو السعود قدس سره بعد كلام: وإن رمت العثور على حقيقة الحق والوقوف على ما جل من السرودق فاعلم أن الإنسان بمقتضى حقيقته الممكنة بمعزل عن استحقاق الوجود وما يتبعه من الكمالات اللائقة والملكات الرائقة بحيث لو انقطع ما بينه وبين العناية الإلهية من العلاقة لما استقر له القرار ولا اطمأنت به الدار إلا في مطمورة العدم والبوار ومهاوي الهلاك والدمار لكن يفيض عليه من الجناب الأقدس تعالى شأنه وتقدس في كل زمان يمضي وكل آن يمر وينقضي من أنواع الفيوض المتعلق بذاته ووجوده وسائر الصفات الروحانية والنفسانية والجسمانية ما لا يحيط به نطاق التعبير ولا يعلمه إلا اللطيف الخبير، وتوضيحه أنه كما لا يستحق الوجود ابتداء لا يستحقه بقاء وإنما ذلك من جناب المبدئ الأول عز شأنه وجل فكما لا يتصور وجوده ابتداء ما لم ينسد عليه جميع أنحاء عدمه الأصلي لا يتصور بقاؤه على الوجود بعد تحققه بعلته ما لم ينسد عليه جميع أنحاء عدمه الطارئ لأن الاستمرار والدوام من خصائص الوجود الواجبي. وأنت خبير بأن ما يتوقف عليه وجوده من الأمور الوجودية التي هي علله وشرائطه وإن وجب كونها متناهية لوجوب تناهي ما دخل تحت الوجود لكم الأمور العدمية التي لها دخل في وجوده ليست كذلك إذ لا استحالة في أن يكون لشيء واحد موانع غير متناهية، وإنما الاستحالة في دخولها تحت الوجود وارتفاع تلك الموانع التي لا تتناهى أعني بقاءها على العدم مع إمكان وجودها في أنفسها في كل آن من آنات وجوده، نعم غير متناهية حقيقة لا ادعاء، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 214 وكذا الحال في وجودات علله وشرائطه القريبة والبعيدة ابتداء وبقاء، وكذا في كمالاته التابعة لوجوده اه، ويتراءى منه أنه قد ترك الإمام في تحقيق هذا المقام وراءه وأنه لو سمع ذلك لاقتدى به في ذكره ولعد من النعم اقتداءه وقريب منه ما يقال في بيان عدم تناهي النعم: إن الوجود نعمة وكذا كل ما يتبعه من الكمالات، وذلك موقوف على وجوده تعالى في الأزمنة الموهومة الغير المتناهية، وتحقق ما يتوقف عليه وجود النعمة نعمة فتحققه سبحانه في كل آن من تلك الآنات نعمة، فالنعم غير متناهية، ولك أن تقول من بيان ذلك: إنه ما من إنسان إلا وقد دفع الله تعالى عنه من البلايا ما لا يحيط به نطاق الحصر لأن البلايا الداخلة تحت حيطة الإمكان غير متناهية، ولا شك أن دفع كل بلية نعمة فتكون النعم غير متناهية، ولا شك أن دفع كل بلية نعمة فتكون النعم غير متناهية، ومما يوضح عدم تناهي البلايا الممكنة أن أهل النار المخلدين فيها لا زال عذابهم بازدياد كما يرشد إليه قوله تعالى: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً [النبأ: 30] وقد ذكر غير واحد في ذلك أنهم كلما استغاثوا من نوع من العذاب أغيثوا بأشد من ذلك، فيكون كل مرتبة منه متناهيا في الشدة وإن كانت مراتبه غير متناهية بحسب العدد والمدة وعلى هذا نعم الله تعالى على المبتلي أيضا لا تحصى. وفي رواية ابن أبي الدنيا. والبيهقي عن ابن مسعود قال: إن لله تعالى على أهل النار منة فلو شاء أن يعذبهم بأشد من النار لعذبهم. ثم الظاهر المراد بالنعمة معناها اللغوي- أعني الأمر الملائم- لا المعنى الشرعي- أعني الملائم الذي تحمد عاقبته- إذ لا يتأتى عليه عموم الخطاب، ولا يبعد إطلاق النعمة بذلك المعنى على نحو رفع الموانع وتحقق العلل والشرائط حسبما ذكر سابقا، وظاهر ما تقدم يقتضي أن النعم في حد ذاتها غير محصورة والآية ظاهرة في أن الإنسان لا يحصرها بالعد وفرق بين الأمرين فتدبر. وبالجملة ليس للعبد إلا العجز عن الوقوف على نهاية نعمه سبحانه وتعالى وكذا العجز عن شكر ذلك، وما أحسن ما قال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: من لم يعرف نعمة الله تعالى عليه إلا في مطعمه ومشربه فقد قل علمه وحضر عذابه. وأخرج البيهقي في الشعب. وغيره عن سليمان التيمي قال: إن الله تعالى أنعم على العباد على قدره سبحانه وكلفهم الشكر على قدرهم، وعن طلق بن حبيب قال: إن حق الله تعالى أثقل من أن يقوم به العباد، وإن نعم الله سبحانه أكثر من أن يحصيها العباد ولكن أصبحوا توابين وأمسوا توابين. وأفضل نعمه جل شأنه على عباده على ما روي عن سفيان بن عيينة أن عرفهم أن لا إله إلا الله. وأخرج ابن أبي الدنيا. وغيره عن أبي أيوب القرشي مولى بني هاشم أن داود عليه السلام قال: رب أخبرني ما أدنى نعمتك علي؟ فأوحى الله تعالى إليه يا داود تنفس فتنفس فقال تبارك وتعالى: هذا أدنى نعمتي عليك. واشتهر أن أول النعم المقصودة لذاتها الوجود وأنه معدن كل كمال كما أن العدم معدن كل نقص. ويدل على أنه نعمة لا يكاد يقاس بها غيرها عند كثير من الناس أن الإنسان منهم يفدي نفسه بملك الدنيا لو كان بيده وعلم أن الفداء ممكن إذا ألم به الألم وتحقق العدم. ومن العجيب أن أبا على الشبلي البغدادي، وقيل: ابن سيناء لم يعد وجود الإنسان نعمة عليه فقد قال من أبيات: ودهر ينثر الأعمار نثرا ... كما للغصن بالورق انتثار ودنيا كلما وضعت جنينا ... غذاه من نوائبها ظؤار إلى أن قال: نعاقب في الظهور وما ولدنا ... ويذبح في حشا الأم الحوار وننتظر البلايا والرزايا ... وبعد فللوعيد لنا انتظار الجزء: 7 ¦ الصفحة: 215 ونخرج كارهين كما دخلنا ... خروج الضب أخرجه ال وجار فماذا الامتنان على وجود ... لغير الموجدين به ال خيار فكانت أنعما لو أن كونا ... نخير قبله أو نس تشار فهذا الداء ليس له دواء ... وهذا الكسر ليس له انجبار إلى آخر ما قال، ولعمري لقد غمط نعمة الله تعالى عليه وظلمها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ يظلم النعمة باغفال شكرها بالكلية أو بوضعه في غير موضعه أو يظلم نفسه بتعريضها للحرمان بترك الشكر كَفَّارٌ شديد الكفران والجحود، وقيل: ظلوم في الشدة يشكو ويجزع، كفار في النعمة يجمع ويمنع، والأول أنسب بما قبله، وأل في الإنسان للجنس ومصداق الحكم بالظلم وأخيه بعض من وجدا من أفراده فيه ويدخل في ذلك الذين بدلوا نعمة الله تعالى كفرا، والظاهر أن الجملة استئناف بياني وقع جوابا لسؤال مقدر كأنه قيل: لم يراعوا حقها؟ أو لم حرمها بعضهم؟ وقيل: إنها تعليل لعدم تناهي النعم ولذا أتى بصيغتي المبالغة فيها وهو كما ترى هذا، وفي النحل وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل: 18] وفرق أبو حيان بين الختمين بأنه هنا لما تقدم قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً [إبراهيم: 28] وبعده وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً فكان ذلك نصا على ما فعلوا من القبائح من الظلم والكفران ناسب أن يختم بذم من وقع ذلك منه فختمت الآية بقوله سبحانه إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ وأما في المحل فلما ذكر عدة تفضلات وأطنب فيها وقال جل شأنه: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ [النحل: 17] أي من أوجد هذه النعم السابق ذكرها ليس كمن لا يقدر على الخلق ذكر من تفضيلاته تعالى اتصافه بالغفران والرحمة تحريضا على الرجوع إليه سبحانه وأن هاتين الصفتين هو جل وعلا متصف بهما كما هو متصف بالخلق، ففي ذلك اطماع لمن آمن به تعالى وانتقل من عبادة المخلوق إلى عبادة الخالق تبارك وتعالى أنه يغفر لله السابق ويرجمه، وأيضا فإنه لما ذكر أنه تعالى هو المتفضل بالنعم على الإنسان ذكر ما حصل من المنعم ومن جنس المنعم عليه، فحصل من المنعم ما يناسل حالة عطائه وهو الغفران والرحمة إذ لولاهما لما أنعم عليه، وحصل من جنس المنعم عليه ما يناسب حالة الأنعام ويقع معها في الجملة وهو الظلم والكفران فكأنه وقصوره. إن صدر من الإنسان ظلم فالله تعالى غفور أو كفران فالله تعالى رحيم لعلمه بعجز الإنسان وقصوره. وما نقل السخاوي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم من أن هذه الآية منسوخة بآية النحل مما لا يلتفت إليه انتهى كلامه. وفيه بحث، وقيل: إنما ختم سبحانه آية النحل بما ختم للإطناب هناك في ذكر النعم مع تقدم الدعوة إلى الشكر صريحا فكان ذلك مظنة التقصير فيه ويناسب الإطناب في سرد النعم أن يذكر منها ما يتعلق بذلك وهو الغفران والرحمة فتأمل والله تعالى أعلم بأسرار كتابه. ومن باب الإشارة في الآيات: الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ فيه احتمالات عندهم فقيل: من ظلمات الكثرة إلى نور الوحدة أو من ظلمات صفات النشأة إلى نور الفطرة، أو من ظلمات حجب الأفعال والصفات إلى نور الذات، وهو المراد بقولهم: النور البحت الخالص من شوب المادة والمدة. وقال جعفر: من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ومن ظلمات البدعة إلى نور السنة، ومن ظلمات النفوس إلى نور القلوب، وقال أبو بكر بن طاهر: من ظلمات الظن إلى نور الحقيقة وقيل غير ذلك بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بتيسيره بهبة الاستعداد وتهيئة أسباب الخروج إلى الفعل إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الذي يقهر الظلمة بالنور الْحَمِيدِ بكمال ذاته أو بما يهب لعباده المستعدين من الفضائل والعلوم أو من الوجود الباقي أو نحو ذلك وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ المحجوبين مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ وهو عذاب الحرمان الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا الحسية والصورية عَلَى الْآخِرَةِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 216 العقلية والمعنوية وَيَصُدُّونَ المريدين عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ طريقه الموصول إليه سبحانه: وَيَبْغُونَها عِوَجاً انحرافا مع استقامتها وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ أي بكلام يناسب حالهم واستعدادهم وقدر عقولهم والألم يفهموا فلا يحصل البيان، وعن عمر رضي الله تعالى عنه كلموا الناس بما يفهمون أتريدون أن يكذب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ وفي أسرار التأويل لكل نبي وصديق اصطلاح في كلام المعرفة وطريق المحبة يخاطب به من يعرفه من أهل السلوك، وعلى هذا لا ينبغي للصوفي أن يخاطب العامة باصطلاح الصوفية لأنهم لا يعرفونه، وخطابهم بذلك مثل خطاب العربي بالعجمية أو العجمي بالعربية، ومنشأ ضلال كثير من الناس الناظرين في كتاب القوم جهلهم باصطلاحاتهم فلا ينبغي للجاهل بذلك النظر فيها لأنها تأخذ بيده إلى الكفر الصريح بل توقعه في هوة كفر، كفر أبي جهل إيمان بالنسبة إليه، ومن هنا صدر الأمر السلطاني إذ كان الشرع معتني به بالنهي عن مطالعة كتب الشيخ الأكبر قدس سره ومن انخرط في سلكه فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ إضلال لزوال استعداده بالهيئات الظلمانية ورسوخها والاعتقادات الباطلة واستقرارها وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ هدايته ممن بقي على استعداده أو لم يرسخ فيه تلك الهيئات والاعتقادات وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ وهي أيام وصاله سبحانه حين كشف لعباده سجف الربوبية في حضرة قدسية وأدناهم إلى جنابه ومن عليهم بلذيذ من خطابه: سقيا لها ولطيبها ... ولحسنها وبهائها أيام لم يلج النوى ب ... ين العصا ولحائها وما أحسن ما قيل: وكانت بالعراق لنا ليال ... سلبناهن من ريب الزمان جعلناهن تاريخ الليالي ... وعنوان المسرة والأماني وأمره عليه السلام بتذكير ذلك ليثور غرامهم ويأخذ نحو الحبيب هيامهم فقد قيل: تذكر والذكرى تشوق وذو الهوى ... يتوق ومن يعلق به الحب يصبه وجوز أن يراد بأيام الله تعالى أيام تجليه جل جلاله بصفة الجلال وتذكيرهم بذلك ليخافوا فيمتثلوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أي لكل مؤمن بالإيمان الغيبي إذ الصبر والشكر- على ما قيل- مقامان للسالك قبل الوصول وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ قال الجوزجاني: أي لئن شكرتم الإحسان لأزيدنكم المعرفة ولئن شكرتم المعرفة لأزيدنكم الوصلة ولئن شكرتم الوصلة لأزيدنكم القرب ولئن شكرتم القرب لأزيدنكم الأنس، ويعم ذلك كله ما قيل: لئن شكرتم نعمة لأزيدنكم نعمة خيرا منها، وللشكر مراتب وأعلى مراتبه الإقرار بالعجز عنه. وفي بعض الآثار أن داود عليه السلام قال: يا رب كيف أشكرك والشكر من آلائك؟ فأوحى الله تعالى إليه الآن شكرتني يا داود، وقال حمدون: شكر النعمة أن ترى نفسك فيها طفيليا قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ أي إن سبحانه لا شك فيه لأنه الظاهر في الآفاق والأنفس فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ موجدهما ومظهرهما من كتم العدم يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ليستر بنوره سبحانه ظلمات حجب صفاتكم فلا تشكون فيه عند جلية اليقين وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إلى غاية يقتضيها استعدادكم من السعادة قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا منعهم ذلك عن اتباع الرسل عليهم السلام قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ سلموا لهم المشاركة في الجنس وجعلوا الموجب لاختصاصهم بالنبوة ما من الله تعالى به عليهم مما يرشحهم لذلك، وكثيرا ما يقول المنكرون في حق أجلة المشايخ مثل ما قال هؤلاء الكفرة في حق رسلهم والجواب نحو هذا الجواب وَما كانَ لَنا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 217 أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ . جواب عن قول أولئك: فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ ويقال نحو ذلك للمنكرين الطالبين من الولي الكرامة تعنتا ولجاجا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ لأن الإيمان يقتضي التوكل وهو الخمود تحت الموارد وفسره بعضهم بأنه طرح القلب في الربوبية والبدن في العبودية، فالمتوكل لا يريد إلا ما يريده الله تعالى، ومن هنا قيل: إن الكامل لا يحب إظهار الكرامة، وفي المسألة تفصيل عندهم وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً ذكر بعضهم أن البروز متعدد فبروز عند القيامة الصغرى بموت الجسد. وبروز عند القيامة الوسطى بالموت الإرادي وهو الخروج عن حجاب صفات النفس إلى عرصة القلب. وبروز عند القيامة الكبرى وهو الخروج عن حجاب الآنية إلى فضاء الوحدة الحقيقية، وإن حدوث التقاول بين الضعفاء والمستكبرين المشار إليه بقوله تعالى: فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إلخ فهو بوجود المهدي القائم بالحق الفارق بين أهل الجنة والنار عند قضاء الأمر الإلهي بنجاة السعداء وهلاك الأشقياء وفسروا الشيطان بالوهم وقد يفسرونه في بعض المواضع بالنفس الأمارة. والقول المقصوص عنه في الآية عند ظهور سلطان الحق، وبعضهم حمل الشيطان هنا على الشيطان المعروف عند أهل الشرع وذكر أن قوله: فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ دليل بقائه على الشرك حيث رأى الغير في البين وما ثم غير الله تعالى، وإلى هذا يشير كلام الواسطي حيث قال: من لام نفسه فقد أشرك، ويخالفه قول محمد بن حامد: النفس محل كل لائمة فمن لم يلم نفسه على الدوام ورضي عنها في حال من الأحوال فقد أهلكها، ويأباه ما صح في الحديث القدسي يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه فتأمل وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ لم يذكر من يحييهم، وقد ذكروا أن منهم من يحييهم ربهم وهم أهل الصفوة والقربة، ومنهم من يحييهم الملائكة وهم أهل الطاعات والدرجات، وما أطيب سلام المحبوب على محبة وما ألذه على قلبه: أشاروا بتسليم فجدنا بأنفس ... تسيل من الآماق والاسم أدمع أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها إشارة كما قيل إلى كلمة التوحيد التي غرسها الحق في أرض بساتين الأرواح وجعل سبحانه أصلها هناك ثابتا بالتوفيق وفرعها في سماء القربة وسقيها من سواقي العناية وساقها المعرفة وأغصانها المحبة وأوراقها الشوق وحارسها الرعاية تؤتي أكلها في جميع الأنفاس من لطائف العبودية وعرفان أنوار الربوبية، وقال بعضهم: الكلمة الطيبة النفس الطيبة أصلها ثابت بالاطمئنان، وثبات الاعتقاد بالبرهان وفرعها في سماء الروح تؤتي أكلها من ثمرات المعارف والحكم والحقائق كل وقت بتسهيله تعالى وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ إشارة إلى كلمة الكفر أو النفس الخبيثة، وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: الشجرة الخبيثة الشهوات وأرضها النفوس وماؤها الأمل وأوراقها الكسل وثمارها المعاصي وغايتها النار يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ قال الصادق رضي الله تعالى عنه: يثبتهم في الحياة الدنيا على الإيمان وفي الآخرة على صدق جواب الرحمن، وجعل بعضهم القول الثابت قوله سبحانه وحكمه الأزلي أي يثبتهم على ما فيه تبجيلهم وتوقيرهم في الدارين حيث حكم بذلك في الأزل وحكمه سبحانه الثابت الذي لا يتغير ولا يتبدل وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ في الحياتين لسوء استعدادهم الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ من الهداية الأصلية والنور الفطري كُفْراً احتجابا وضلالا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ من تابعهم واقتدى بهم في ذلك دارَ الْبَوارِ الهلاك والحرمان وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً من متاع الدنيا ومشتهياتها التي يحبونها كحب الله سبحانه لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ كل من نظر إلى ذلك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 218 والتفت إليه اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ أي سموات الأرواح وَالْأَرْضَ أي أرض الأجساد وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ أي سماء عالم القدس ماءً وهو ماء العلم فَأَخْرَجَ بِهِ من أرض النفس مِنَ الثَّمَراتِ وهي ثمرات الحكم والفضائل رِزْقاً لَكُمْ في تقوى القلب بها وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ أي فلك العقول لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ أي بحر آلائه وأسرار مخلوقاته الدالة على عظمته سبحانه وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ أي أنهار العلم التي تنتهي بكم إلى ذلك البحر العظيم وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ شمس الروح وَالْقَمَرَ قمر القلب دائِبَيْنِ في السير بالمكاشفة والمشاهدة وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ ليل ظلمة صفات النفس وَالنَّهارَ نهار نور الروح لطلب المعاش والمعاد والراحة والاستنارة وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ بلسان الاستعداد فإن المسئول بذلك لا يمنع وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ السابقة واللاحقة لا تُحْصُوها لعدم تناهيها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ ينقص حق الله تعالى أو حق نفسه بإبطال الاستعداد أو يضع نور الاستعداد في ظلمة الطبيعة ومادة البقاء في محل الفناء كَفَّارٌ لتلك النعم التي لا تحصى لغفلته عن المنعم عليه بها، وقيل: إن الإنسان لظلوم لنفسه حيث يظن أن شكره يقابل نعمه تعالى، كفار محجوب عن رؤية الفضل عليه بداية ونهاية. نسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى ويكرمنا بالهداية والعناية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 219 وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ مفعول لفعل محذوف أي اذكر ذلك الوقت، والمقصود تذكير ما وقع فيه على نهج ما قيل في أمثاله رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ يعني مكة شرفها الله تعالى: آمِناً أي ذا أمن، فصيغة فاعل للنسب كلابن وتامر لأن الآمن في الحقيقة أهل البلد، ويجوز أن يكون الإسناد مجازيا من إسناد ما للحال إلى المحل كنهر جار، والفرق بين ما هنا وما في [البقرة: 126] من قوله: رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً أنه عليه السلام سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون، وفي الثاني أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن كأنه قال: هو بلد مخوف فاجعله آمنا كذا في الكشاف، وتحقيقه أنك إذا قلت: اجعل هذا خاتما حسنا فقد أشرت إلى المادة طالبا أن يسبك منها خاتم حسن وإذا قلت: اجعل هذا الخاتم حسنا فقد قصدت الحسن دون الخاتمية، وذلك لأن محط الفائدة هو المفعول الثاني لأنه بمنزلة الخبر، وإلى هذا يرجع ما قيل في الفرق أن في الأول سؤال أمرين البلدية والأمن وهاهنا سؤال أمر واحد وهو الأمن. واستشكل هذا التفسير بأن يقتضي أن يكون سؤال البلدية سابقا على السؤال المحكي في هذه السورة وأنه يلزم أن تكون الدعوة الأولى غير مستجابة. قال في الكشف: والتقصي عن ذلك إما بأن المسئول أولا صلوحه للسكنى بأن يؤمن فيه أهله في أكثر الأحوال على المستمر في البلاد فقد كان غير صالح لها بوجه على ما هو المشهور في القصة، وثانيا إزالة خوف عرض كما يعتري البلاد الآمنة أحيانا، وأما بالحمل على الاستدامة وتنزيله منزلة العاري عنه مبالغة أو بأن أحدهما أمن الدنيا والآخر أمن الآخرة أو أن الدعاء الثاني صدر قبل استجابة الأول، وذكر بهذه العبارة إيماء إلى أن المسئول الحقيقي هو الأمن والبلدية توطئة لا أنه بعد الاستجابة عراه خوف، وكأنه بنى الكلام على الترقي فطلب أولا أن يكون بلدا آمنا من جملة البلاد التي هي كذلك، ثم لتأكيد الطلب جعله مخوفا حقيقة فطلب الأمن لأن دعاء المضطر أقرب إلى الإجابة ولذا ذيله عليه السلام بقوله: إِنِّي أَسْكَنْتُ إلخ اه. وهو مبني على تعدد السؤال وإن حمل على وحدته وتكرير الحكاية كما استظهره بعضهم، واستظهر آخرون الأول لتغاير التعبير في المحلين، فالظاهر أن المسئول كلا الأمرين وقد حكى أولا، واقتصر هاهنا على حكاية سؤال الأمن لأن سؤال البلدية قد حكي بقوله: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ إذ المسئول هويها إليهم للمساكنة كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا للحج فقط وهو عين سؤال البلدية وقد حكى بعبارة أخرى على ما اختاره بعض الأجلة أو لأن نعمة الأمن أدخل في استيجاب الشكر فذكره أنسب بمقام تقريع الكفرة على إغفاله على ما قيل، وهذه الآية وما تلاها أعني قصة إبراهيم عليه السلام على ما نص عليه صاحب الكشف واردة على سبيل الاعتراض مقررة لما حث عليه من الشكر بالإيمان والعمل الصالح وزجر عنه من مقابلهما مدمجا فيها دعوة هؤلاء النافرين بلسان اللطف والتقريب مؤكدة لجميع ما سلف أشد التأكيد. وفي إرشاد العقل السليم أن المراد منها تأكيد ما سلف من تعجيبه صلى الله عليه وسلم ببيان فن آخر من جنايات القوم حيث كفروا بالنعم الخاصة بهم بعد ما كفروا بالنعم العامة وعصوا أباهم إبراهيم عليه السلام حيث أسكنهم مكة زادها الله تعالى شرفا لإقامة الصلاة والاجتناب عن عبادة الأصنام والشكر لنعم الله تعالى وسأله أن يجعله بلدا آمنا ويرزقهم من الثمرات ويهوى قلوب الناس إليهم فاستجاب الله تعالى دعاءه وجعله حرما آمنا تجبى إليه ثمرات كل شيء فكفروا بتلك النعم العظام واستبدلوا دار البوار بالبلد الحرام وجعلوا لله تعالى أندادا وفعلوا ما فعلوا من القبائح الجسام وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أي بعدني وإياهم أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ أي عن عبادتها، وقرأ الجحدري. وعيسى الثقفي «وأجنبني» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 220 بقطع الهمزة وكسر النون بوزن أكرمني وهما لغة أهل نجد يقولون: جنبه مخففا وأجنبه رباعيا وأما أهل الحجاز فيقولون: جنبه مشددا، وأصل التجنب أن يكون الرجل في جانب غير ما عليه غيره ثم استعمل بمعنى البعد، والمراد هنا على ما قال الزجاج طلب الثبات والدوام على ذلك أي ثبتنا على ما نحن عليه من التوحيد وملة الإسلام والبعد عن عبادة الأصنام وإلا فالأنبياء معصومون عن الكفر وعبادة غير الله تعالى. وتعقب ذلك الإمام بأنه لما كان من المعلوم أنه سبحانه يثبت الأنبياء عليهم السلام على الاجتناب فما الفائدة في سؤال التثبيت؟ ثم قال: والصحيح عندي في الجواب وجهان: الأول أن عليه السلام وإن كان يعلم أن الله تعالى يعصمه من عبادة الأصنام إلا أنه ذكر ذلك هضما لنفسه وإظهارا للحاجة والفاقة إلى فضل الله سبحانه وتعالى في كل المطالب، والثاني أن الصوفية يقولون: الشرك نوعان. ظاهر وهو الذي يقول به المشركون. وخفي وهو تعلق القلب بالوسائط والأسباب الظاهرة والتوحيد المحض قطع النظر عما سوى الله تعالى، فيحتمل أن يكون مراده عليه السلام من هذا الدعاء العصمة عن هذا الشرك انتهى، ويرد على هذا الأخير أنه يعود السؤال عليه فيما أظن لأن النظر إلى السوي يحاكي الشرك الذي يقول به المشركون عند الصوفية فقد قال قائلهم (1) : ولو خطرت لي في سواك إرادة ... على خاطري سهوا حكمت بردتي ولا أظن أنهم يجوزون ذلك للأنبياء عليهم السلام، وحيث بني الكلام على ما قرروه يقال: ما فائدة سؤال العصمة عن ذلك والأنبياء عليهم السلام معصومون عنه؟ والجواب الصحيح عندي ما قيل: إن عصمة الأنبياء عليهم السلام ليست لأمر طبيعي فيهم بل بمحض توفيق الله تعالى إياهم وتفضله عليهم، ولذلك صح طلبها وفي بعض الآثار أن الله سبحانه قال لموسى عليه السلام: يا موسى لا تأمن مكري حتى تجوز الصراط. وأنت تعلم أن المبشرين بالجنة على لسان الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام كانوا كثيرا ما يسألون الله تعالى الجنة مع أنهم مقطوع لهم بها، ولعل منشأ ذلك ما قيل لموسى عليه السلام فتدبر، والمتبادر من بنيه عليه السلام من كان من صلبه، فلا يتوهم أن الله تعالى لم يستجب دعاءه لعبادة قريش الأصنام وهم من ذريته عليه السلام حتى يجاب بما قاله بعضهم من أن المراد كل من كان موجودا حال الدعاء من أبنائه ولا شك أن دعوته عليه السلام مجابة فيهم أو بأن دعاءه استجيب في بعض دون بعض ولا نقص فيه كما قال الإمام. وقال سفيان بن عيينة: إن المراد ببنيه ما يشمل جميع ذريته عليه السلام وزعم أنه لم يعبد أحد من أولاد إسماعيل عليه السلام الصنم وإنما كان لكل قوم حجر نصبوه وقالوا هذا حجر والبيت حجر وكانوا يدورون به ويسمونه الدوار ولهذا كره غير واحد أن يقال دار بالبيت (2) بل يقال طاف به، وعلى ذلك أيضا حمل مجاهد البنين وقال: لم يعبد أحد من ولد إبراهيم عليه السلام صنما وإنما عبد بعضهم الوثن، وفرق بينهما بأن الصنم هو التمثال المصور والوثن هو التمثال الغير المصور، وليت شعري كيف ذهبت على هذين الجليلين ما في القرآن من قوارع تنعى على قريش عبادة الأصنام. وقال الإمام بعد نقله كلام مجاهد: إن هذا ليس بقوي لأنه عليه السلام لم يرد بهذا الدعاء إلا عبادة غير الله تعالى والصنم كالوثن في ذلك ويرد مثله على ابن عيينة، ومن هنا قيل عليه: إن فيما ذكره كرا على ما فر منه لأن ما كانوا يصنعونه عبادة لغير الله تعالى أيضا: واستدل بعض أصحابنا بالآية على أن التبعيد من الكفر والتقريب من الإيمان   (1) هو ابن الفارض قدس سره اه منه. (2) ولا يخفى أن هذا من الآداب وإلا فقد ورد «دار» في بعض من الآثار كما قال النووي اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 221 ليس إلا من الله تعالى لأنه عليه السلام إنما طلب التبعيد عن عبادة الأصنام منه تعالى، وحمل ذلك على الألطاف فيه ما فيه رَبِّ إِنَّهُنَّ أي الأصنام أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ أي تسببن له في الضلال فاسناد الإضلال إليهن مجازي لأنهن جماد لا يعقل منهن ذلك والمضل في الحقيقة هو الله تعالى، وهذا تعليل لدعائه عليه السلام السابق، وصدر بالنداء إظهارا للاعتناء به ورغبة في استجابته فَمَنْ تَبِعَنِي منهم فيما أدعو إليه من التوحيد وملة الإسلام فَإِنَّهُ مِنِّي يحتمل أن تكون من تبعيضية على التشبيه أي فإنه كبعضي في عدم الانفكاك، ويحتمل أن تكون اتصالية كما في قوله صلى الله عليه وسلم لعليّ كرم الله تعالى وجهه «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» أي فإنه متصل بي لا ينفك عني في أمر الدين، وتسميتها اتصالية لأنه يفهم منها اتصال شيء بمجرورها وهي ابتدائية إلا أن ابتدائيته باعتبار الاتصال كذا في حواشي شرح المفتاح الشريفي، يعني أن مجرورها ليس مبدأ أو منشأ لنفس ما قبلها بل لاتصاله، فإما أن يقدر متعلقها فعلا خاصا كما قاله الجلال السيوطي في بيان الخبر من أن مِنِّي فيه خبر المبتدأ ومن اتصالية ومتعلق الخبر خاص والباء زائدة بمعنى أنت متصل بي ونازل مني بمنزلة هارون من موسى، وإما أن يقدر فعل عام كما ذهب إليه الشريف هناك أي منزلته بمنزلة كائنة وناشئة مني كمنزلة هارون من موسى عليهما السلام، وتقديره خاصا هنا كما فعلنا على تقدير جعلها اتصالية مما يستطيبه الذوق السليم دون تقديره عاما وَمَنْ عَصانِي أي لم يتبعني، والتعبير عنه بالعصيان كما قيل للإيذان بأنه عليه السلام مستمر على الدعوة وأن عدم اتباع من لم يتبعه إنما هو لعصيانه لا لأن الدعوة لم تبلغه. وفي البحر أن بين الاتباع والعصيان طباقا معنويا لأن الاتباع طاعة فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي قادر على أن تغفر له وترحمه، وفي الكلام على ما أشار إليه البعض حذف والتقدير ومن عصاني فلا أدعو عليه فإنك إلخ، وفي الآية دليل على أن الشرك يجوز أن يغفر ولا إشكال في ذلك بناء على ما قال النووي في شرح مسلم من أن مغفرة الشرك كانت في الشرائع القديمة جائزة في أممهم وإنما امتنعت في شرعنا. واختلف القائلون بأن مغفرة الشرك لم تكن جائزة في شريعة من الشرائع في توجيه الآية، فمنهم من ذهب إلى أن المراد غفور رحيم بعد التوبة ونسب ذلك إلى السدي. ومنهم من ذهب إلى تقييد العصيان بما دون الشرك وغفل عما تقتضيه المعادلة، وروي ذلك عن مقاتل. وفي رواية أخرى عنه أنه قال: إن المعنى ومن عصاني بإقامته على الكفر فإنك قادر على أن تغفر له وترحمه بأن تنقله من الكفر إلى الإيمان والإسلام وتهديه إلى الصواب. ومنهم من قال: المعنى ومن لم يتبعني فيما أدعو إليه من التوحيد وأقام على الشرك فإنك قادر على أن تستره عليه وترحمه بعدم معاجلته بالعذاب، ونظير ذلك قوله تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ [الرعد: 6] ومنهم من قال: إن الكلام على ظاهره وكان ذلك منه عليه السلام قبل أن يعلم أن الله سبحانه لا يغفر الشرك، ولا نقص بجهل ذلك لأن مغفرة الشرك جائزة عقلا كما تقرر في الأصول لكن الدليل السمعي منع منها، ولا يلزم النبي أن يعلم جميع الأدلة السمعية في يوم واحد. والإمام لم يرتض أكثر هذه الأوجه وجعل هذا الكلام منه عليه السلام شفاعة في إسقاط العقاب عن أهل الكبائر قبل التوبة وأنه دليل لحصول ذلك لنبينا صلى الله عليه وسلم فقال: إن المعصية المفهومة من الآية إما أن تكون من الصغائر أو من الكبائر بعد التوبة أو قبلها، والأول والثاني باطلان لأن مَنْ عَصانِي مطلق فتخصيصه عدول عن الظاهر، وأيضا الصغائر والكبائر بعد التوبة واجبة الغفران عند الخصم فلا يمكن اللفظ عليه فثبت أن الآية شفاعة لأهل الكبائر قبل التوبة، ومتى ثبتت منه عليه السلام ثبتت في حق نبينا عليه الصلاة والسلام لمكان اتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ [النساء: 125] ونحوه، ولئلا يلزم النقص، وهو كما ترى، وقد مر لك ما ينفعك في هذا المقام فتذكر هداك الله تعالى. رَبَّنا قال في البحر كرر النداء رغبة في الإجابة والالتجاء إليه تعالى، وأتى بضمير الجماعة لأنه تقدم ذكره الجزء: 7 ¦ الصفحة: 222 عليه السلام وذكر بنيه في قوله: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ وتعقب بأن ذلك يقتضي ضمير الجماعة في رَبِّ إِنَّهُنَّ إلخ مع أنه جيء فيه بضمير الواحد، فالوجه أن ذلك لأن الدعاء المصدر به وما هو بصدد تمهيد مبادئ إجابته من قوله: إِنِّي أَسْكَنْتُ إلخ متعلق بذريته، فالتعرض لوصف ربوبيته تعالى لهم أدخل في القبول وإجابة المسئول، والتأكيد لمزيد الاعتناء فيما قصده من الخبر ومِنْ في قوله مِنْ ذُرِّيَّتِي بمعنى بعض وهي في تأويل المفعول به أي أسكنت بعض ذريتي، ويجوز أن يكون المفعول محذوفا والجار والمجرور صفته سدت مسده أي أسكنت ذرية من ذريتي ومِنْ تحتمل التبعيض والتبيين. وزعم بعضهم أن مِنْ زائدة على مذهب الأخفش لا يرتضيه سليم البصيرة كما لا يخفى، والمراد بالمسكن إسماعيل عليه السلام ومن سيولد له فإن إسكانه حيث كان على وجه الاطمئنان متضمن لإسكانهم، والداعي للتعميم على ما قيل قوله الآتي: لِيُقِيمُوا إلخ، ولا يخفى أن الإسكان له حقيقة ولأولاده مجاز، فمن لم يجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز يرتكب لذلك عموم المجاز، وهذا الإسكان بعد ما كان بينه عليه السلام وبين أهله ما كان. وذلك أن هاجر أم إسماعيل كانت أمة من القبط لسارة فوهبتها من إبراهيم عليه السلام فلما ولدت له إسماعيل غارت فلم تقاره على كونه معها فأخرجها وابنها إلى أرض مكة فوضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء ثم قفى منطلقا فتبعته هاجر فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء قالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها فقالت له: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم (1) قالت: إذن لا يضيعنا. ثم رجعت، وانطلق عليه السلام حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرون استقبل بوجهه البيت وكان إذ ذاك مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله ثم دعا بهذه الدعوات ورفع يديه فقال: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ- إلى- لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ثم إنها جعلت ترضع ابنها وتشرب مما في السقاء حتى إذا نفد عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلبط فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا فلم تر، فهبطت حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزته ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدا فلم تر ففعلت ذلك سبع مرات ولذلك سعى الناس بينهما سبعا، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت: صه تريد نفسها ثم تسمعت فسمعت أيضا فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه حتى ظهر الماء فجعلت تحوضه وتغرف منه في سقائها وهو يفور فشربت وأرضعت ولدها وقال لها الملك: لا تخافي الضيعة فإن هاهنا بيت الله تعالى يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله سبحانه لا يضيع أهله، ثم إنه مرت رفقة من جرهم فرأوا طائرا عائفا فقالوا: لا طير إلا على الماء فبعثوا رسولهم فنظر فإذا بالماء فأتاهم فقصدوه وأم إسماعيل عنده، فقالوا: أشركينا في مائك نشركك في ألباننا ففعلت، فلما أدرك إسماعيل عليه السلام زوجوه امرأة منهم وتمام القصة في كتب السير. بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ وهو وادي مكة شرفها الله تعالى، ووصفه بذلك دون غير مزورع للمبالغة لأن المعنى ليس صالحا للزرع، ونظيره قوله تعالى: قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ [الزمر: 28] وكان ذلك لحجريته، قال ابن عطية: وإنما لم يصفه عليه السلام بالخلو عن الماء مع أنه حاله إذ ذاك لأنه كان علم أن الله تعالى لا يضيع إسماعيل عليه السلام وأمه في ذلك الوادي وأنه سبحانه يرزقهما الماء فنظر عليه السلام النظر البعيد، وقال أبو   (1) وبهذا يبطل استدلال بعض غلاة المتصوفة بالآية على أنه يجوز للإنسان أن يضع ولده وعياله في أرض مضيعة اتكالا اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 223 حيان بعد نقله وقد يقال: إن انتفاء كونه ذا زرع مستلزم لانتفاء الماء إذ لا يمكن أن يوجد زرع إلا حيث الماء فنفى ما يتسبب عن الماء وهو الزرع لانتفاء سببه وهو الماء اه، وقال بعضهم: إن طلب الماء لم يكن مهما له عليه السلام لما أن الوادي مظنة السيول والمحتاج للماء يدخر منها ما يكفيه وكان المهم له طلب الثمرات فوصف ذلك بكونه غير صالح للزرع بيانا لكمال الافتقار إلى المسئول فتأمل. عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ظرف لأسكنت كقولك: صليت بمكة عند الركن، وزعم أبو البقاء أنه صفة واد أبو بدل منه، واختار بعض الأجلة الأول إذ المقصود إظهار كون ذلك الإسكان مع فقدان مباديه لمحض التقرب إلى الله تعالى والالتجاء إلى جواره الكريم كما ينبئ عنه التعرض لعنوان الحرمة المؤذن بعزة الملتجأ وعصمته عن المكاره، فإنهم قالوا: معنى كون البيت محرما أن الله تعالى حرم التعرض له والتهاون به أو أنه لم يزل ممنعا عزيزا يهابه الجبابرة في كل عصر أو لأنه منع منه الطوفان فلم يستول عليه ولذا سمي عتيقا على ما قيل (1) ، وأبعد من قال إنه سمي محرما لأن الزائرين يحرمون على أنفسهم عند زيارته أشياء كانت حلالا عليهم، وسماه عليه السلام بيتا باعتبار ما كان فإنه كان مبنيا قبل، وقيل: باعتبار ما سيكون بعد وهو ينزع إلى اعتبار عنوان الحرمة كذلك. رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ أي لأن يقيموا، فاللام جارة والفعل منصوب بأن مضمرة بعدها، والجار والمجرور متعلق- بأسكنت- المذكور، وتكرير النداء وتوسيطه لإظهار كمال العناية بإقامة الصلاة فإنها عماد الدين ولذا خصها بالذكر من بين سائر شعائره، والمعنى على ما يقتضيه كلام غير واحد على الحصر أي ما أسكنتهم بهذا الوادي البلقع الخالي من كل مرتفق ومرتزق إلا ليقيموا الصلاة عند بيتك المحرم ويعمروه بذكرك وعبادتك وما تعمر به مساجدك ومتعبداتك متبركين بالبقعة التي شرفتها على البقاع مستسعدين بجوارك الكريم متقربين إليك بالعكوف عند بيتك والطواف به والركوع والسجود حوله مستنزلين رحمتك التي آثرت بها سكان حرمك. وهذا الحصر- على ما ذكروا- مستفاد من السياق فإنه عليه السلام لما قال: بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ نفى أن يكون سكانهم للزراعة ولما قال: عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ أثبت أنه مكان عبادة فلما قال: لِيُقِيمُوا أثبت أن الإقامة عنده عبادة وقد نفى كونها للكسب فجاء الحصر مع ما في رَبَّنا من الإشارة إلى أن ذلك هو المقصود. وعن مالك أن التعليل يفيد الحصر، فقد استدل بقوله تعالى: لِتَرْكَبُوها [النحل: 8] على حرمة أكلها، وفي الكشف أن استفادة الحصر من تقدير محذوف مؤخر يتعلق به الجار والمجرور أي ليقوموا أسكنتهم هذا الإسكان، أخبر أولا أنه أسكنهم، بواد قفر فأدمج فيه حاجتهم إلى الوافدين وذكر وجه الإيثار لشرف الجوار بقوله: عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ثم صرح ثانيا بأنه إنما آثر ذلك ليعمروا حرمك المحرم وبنى عليه الدعاء الآتي، ومن الدليل على أنه غير متعلق بالمذكور تخلل رَبَّنا ثانيا بين الفعل ومتعلقه وهذا بين ولا وجه لاستفادة ذلك من تكرار رَبَّنا إلا من هذا الوجه اه، واختار بعضهم ما ذكرناه أولا في وجه الاستفادة وقال: إنه معنى لطيف ولا ينافيه الفصل بالنداء لأنه اعتراض لتأكيد الأول وتذكيره فهو كالمنبه عليه فلا حاجة إلى تعلق الجار بمحذوف مؤخر واستفادة الحصر من ذلك، وهو الذي ينبغي أن يعول عليه، ويجعل النداء مؤكدا للأول يندفع ما قيل: إن النداء له صدر الكلام فلا يتعلق ما بعده بما قبله فلا بد من تقدير متعلق، ووجه الاندفاع ظاهر، وقيل: اللام لام الأمر والفعل مجزوم بها، والمراد هو الدعاء لهم بإقامة الصلاة كأنه طلب منهم الإقامة وسأل من الله تعالى أن يوفقهم لها ولا يخفى بعده، وأبعد منه ما قاله أبو الفرج بن   (1) وقيل: العتيق مقابل الجديد اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 224 الجوزي: إن اللام متعلقة بقوله: اجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ وفي قوله: لِيُقِيمُوا بضمير الجمع على ما في البحر دلالة على أن الله تعالى أعلمه بأن ولده إسماعيل عليه السلام سيعقب هنالك ويكون له نسل فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ أي أفئدة من أفئدتهم تَهْوِي إِلَيْهِمْ أي تسرع إليهم شوقا وودادا- فمن- للتبعيض، ولذا قيل: لو قال عليه السلام: أفئدة الناس لازدحمت عليهم فارس والروم، وهو مبني على الظاهر من إجابة دعائه عليه السلام وكون الجمع المضاف يفيد الاستغراق. وروي عن ابن جبير أنه قال: لو قال عليه السلام: أفئدة الناس لحجت البيت اليهود والنصارى. وتعقب بأنه غير مناسب للمقام إذ المسئول توجيه القلوب إليهم للمساكنة معهم لا توجيهها إلى البيت للحج وإلا لقيل تهوى إليه فإن عين الدعاء بالبلدية قد حكي بعبارة أخرى اه. وأنت تعلم أنه لا منافاة بين الشرطية في المروي وكون المسئول توجيه القلوب إليهم للمساكنة معهم، وقد جاء نحو تلك الشرطية عن ابن عباس، ومجاهد كما في الدر المنثور. وغيره، على أن بعضهم جعل هذا دعاء بتوجيه القلوب إلى البيت. فقد أخرج ابن أبي شيبة. وابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن الحكم قال: سألت عكرمة. وطاوسا. وعطاء بن أبي رباح عن هذه الآية فَاجْعَلْ إلى آخره فقالوا: البيت تهوى إليه قلوبهم يأتونه، وفي لفظ قالوا: هواهم إلى مكة أن يحجوا نعم هو خلاف الظاهر، وجوز أن تكون مِنْ للابتداء كما في قولك: القلب منه سقيم تريد قلبه فكأنه قيل: أفئدة ناس، واعترضه أبو حيان بأنه لا يظهر كونها للابتداء لأنه لا فعل هنا يبتدأ فيه لغاية ينتهي إليها إذ لا يصح ابتداء جعل أفئدة من الناس. وتعقبه بعض الأجلة بقوله: وفيه بحث فإن فعل الهوى للأفئدة يبتدأ به لغاية ينتهي إليها، ألا يرى إلى قوله: إِلَيْهِمْ وفيه تأمل اه وكأن فيه إشارة إلى ما قيل: من أن الابتداء في مِنْ الابتدائية إنما هو من متعلقها لا مطلقا، وإن جعلناها متعلقة- بتهوى- لا يظهر لتأخيره ولتوسيط الجار فائدة، وذكر مولانا الشهاب في توجيه الابتداء وترجيحه على التبعيض كلاما لا يخلو عن بحث فقال: اعلم أنه قال في الإيضاح أنه قد يكون القصد إلى الابتداء دون أن يقصد انتهاء مخصوص إذا كان المعنى لا يقتضي إلا المبتدأ منه كأعوذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم، وزيد أفضل من عمرو. وقد قيل: إن جميع معاني مِنْ دائرة على الابتداء، والتبعيض هنا لا يظهر فيه فائدة كما في قوله: وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [مريم: 4] فإن كون قلب الشخص وعظمه بعضا منه معنى مكشوف غير مقصود بالإفادة فلذا جعلت للابتداء والظرف مستقر للتفخيم كأن ميل القلب نشأ من جملته مع أن ميل جملة كل شخص من جهة قلبه كما أن سقم قلب العاشق نشأ منه مع أنه إذا صلح صلح البدن كله، وإلى هذا نحا المحققون من شراح الكشاف لكنه معنى غامض فتدبره، والأفئدة مفعول أول- لا جعل- وهو جمع فؤاد وفسروه على ما في البحر. وغيره بالقلب لكن يقال له فؤاد إذا اعتبر فيه معنى التفؤد أي التوقد، يقال: فأدت اللحم أي شويته ولحم فئيد أي مشوي، وقيل: الأفئدة هنا القطع من الناس بلغة قريش وإليه ذهب ابن بحر، والمفعول الثاني جملة «تهوى» وأصل الهوى الهبوط بسرعة وفي كلام بعضهم السرعة، وكان حقه أن يعدى باللام كما في قوله: حتى إذا ما هوت كف الوليد لها ... طارت وفي كفه من ريشها تبك وإنما عدي بإلى لتضمينه معنى الميل كما في قوله: تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمن الجن كأنجاسها ولما كان ما تقدم كالمبادئ لإجابة دعائه عليه السلام وإعطاء مسؤوله جاء بالفاء في قوله: «فاجعل» إلى آخره وقرأ هشام «أفئيدة» بياء بعد الهمزة نص عليه الحلواني عنه، وخرج ذلك على الإشباع كما في قوله: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 225 أعوذ بالله من العقراب ... الشائلات عقد الأذناب ولما كان ذلك لا يكون إلا في ضرورة الشعر عند بعضهم قالوا: إن هشاما قرأ بتسهيل الهمزة كالياء فعبر عنها الراوي بالياء فظن من أخطأ فهمه أنها بياء بعد الهمزة، والمراد بياء عوضا من الهمزة. وتعقب ذلك الحافظ أبو عمرو الداني بأن النقلة عن هشام كانوا من أعلم الناس بالقراءة ووجوهها فهم أجل من أن يعتقد فيهم مثل ذلك. وقرئ «آفدة» على وزن ضاربة وفيه احتمالان: أحدهما أن يكون قدمت فيه الهمزة على الفاء فاجتمع همزتان ثانيتهما ساكنة فقلبت ألفا فوزنه أعفلة كما قيل في أدور جمع دار قلبت فيه الواو المضمومة همزة ثم قدمت وقلبت الفاء فصار آدر. وثانيهما أنه اسم فاعل من أفد يأفد بمعنى قرب ودنا ويكون بمعنى عجل، وهو صفة لمحذوف أي جماعة أو جماعات آفدة. وقرئ «أفدة» بفتح الهمزة من غير مد وكسر الفاء بعدها دال، وهو إما صفة من أفد بوزن خشنة فيكون بمعنى آفدة في القراءة الأخرى أو أصله أفئدة فنقلت حركة الهمزة إلى ما قبلها ثم طرحت وهو وجه مشهور عند الصرفيين والقراء. قال الأولون: إذا تحركت الهمزة بعد ساكن صحيح تبقى أو تنقل حركتها إلى ما قبلها وتحذف، ولا يجوز جعلها بين بين لما فيه من شبه التقاء الساكنين، وقال صاحب النشر من الآخرين: الهمزة المتحركة بعد حرف صحيح ساكن كمسؤولا وأفئدة وقرآن وظمآن فيها وجه واحد وهو النقل وحكى فيه وجه ثان وهو بين بين وهو ضعيف جدا وكذا قال غيره منهم، فما قيل: إن الوجه إخراجها بين بين ليس بالوجه. وقرأت أم الهيثم «أفودة» بالواو المكسورة بدل الهمزة، قال صاحب اللوامح: وهو جمع وفد، والقراءة حسنة لكني لا أعرف هذه المرأة بل ذكرها أبو حاتم اه. وقال أبو حيان: يحتمل أنه أبدل الهمزة في فؤاد ثم جمع وأقرت الواو في الجمع إقرارها في المفرد أو هو جمع وفد كما قال صاحب اللوامح وقلب إذ الأصل أوفدة، وجمع فعل على أفعلة شاذ ونجد وأنجدة ووهى وأوهية، وأم الهيثم امرأة نقل عنها شيء من لغات العرب. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «إفادة» على وزن امارة ويظهر أن الهمزة بدل من الواو المكسورة كما قالوا: أشاح في وشاح فالوزن فعالة أي فاجعل ذوي وفادة، ويجوز أن يكون مصدر أفاد إفادة أي ذوي إفادة وهم الناس الذين يفيدون وينتفع بهم. وقرأ مسلمة بن عبد الله «تهوى» بضم التاء مبنيا للمفعول من أهوى المنقول بهمزة التعدية من هوى اللازم كأنه قيل: يسرع بها إليهم. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. وجماعة من أهله. ومجاهد «تهوى» مضارع هو بمعنى أحب، وعدي بإلى لما تقدم وَارْزُقْهُمْ أي ذريتي الذين أسكنتهم هناك. وجوز أن يريدهم والذين ينحازون إليهم من الناس، وإنما لم يخص عليه السلام الدعاء بالمؤمنين منهم كما في قوله: وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [البقرة: 126] اكتفاء- على ما قيل- بذكر إقامة الصلاة. مِنَ الثَّمَراتِ من أنواعها بأن تجعل بقربهم قرى يحصل فيها ذلك أو تجبى إليهم من الأقطار الشاسعة وقد حصل كلا الأمرين حتى أنه يجتمع في مكة المكرمة البواكير والفواكه المختلفة الأزمان من الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد. أخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم عن محمد بن مسلم الطائفي أن الطائف كانت من أرض فلسطين فلما دعا إبراهيم عليه السلام بهذه الدعوة رفعها الله تعالى ووضعها حيث وضعها رزقا للحرم. وفي رواية أن جبريل عليه السلام اقتلعها فجاء وطاف بها حول البيت سبعا ولذا سميت الطائف ثم وضعها قريب مكة. وروي نحو ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وأخرج ابن أبي حاتم عن الزهري أن الله تعالى نقل قرية من قرى الشام فوضعها بالطائف لدعوة إبراهيم عليه السلام. والظاهر أن إبراهيم عليه السلام لم يكن مقصوده من هذا الدعاء نقل أرض منبتة من فلسطين أو قرية من قرى الشام وإنما مقصوده عليه السلام أن يرزقهم سبحانه من الثمرات وهو لا يتوقف على النقل، فلينظر ما وجه الحكمة فيه، وأنا لست على يقين من صحته ولا أنكر والعياذ بالله تعالى أن الله جل وعلا على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 226 كل شيء قدير وأنه سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ تلك النعمة بإقامة الصلاة وأداء سائر مراسم العبودية واستدل به على أن تحصيل منافع الدنيا إنما هي ليستعان بها على أداء العبادات وإقامة الطاعات، ولا يخفى ما في دعائه عليه السلام من مراعاة حسن الأدب والمحافظة على قوانين الضراعة وعرض الحاجة واستنزال الرحمة واستجلاب الرأفة، ولذا من عليه بحسن القبول وإعطاء المسئول، ولا بدع في ذلك من خليل الرحمن عليه السلام. رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ من الحاجات وغيرها، وأخرج ابن أبي حاتم عن إبراهيم النخعي أن مراده عليه السلام ما نخفي من حب إسماعيل وأمه وما نعلن لسارة من الجفاء لهما، وقيل: ما نخفي من الوجد لما وقع بيننا من الفرقة وما نعلن من البكاء والدعاء، وقيل: ما نخفي من كآبة الافتراق وما نعلن مما جرى بيننا وبين هاجر عند الوداع من قولها: إلى من تكلنا؟ وقولي لها: إلى الله تعالى، وما في جميع هذه الأقوال موصولة والعائد محذوف والظاهر العموم وهو المختار، والمراد بما نخفي على ما قيل ما يقابل ما نُعْلِنُ سواء تعلق به الإخفاء أو لا أي تعلم ما نظهره وما لا نظهره فإن علمه تعالى متعلق بما لا يخظر بباله عليه السلام من الأحوال الخفية، وتقديم ما نُخْفِي على ما نُعْلِنُ لتحقيق المساواة بينهما في تعلق العلم على أبلغ وجه فكان تعلقه بما يخفى أقدم منه بما يعلن أو لأن مرتبة السر والخفاء متقدمة على مرتبة العلن إذ ما من شيء يعلن الا وهو قبل ذلك خفي فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى أقدم من تعلقه بحالته الثانية، وجعل بعضهم ما مصدرية والتقديم والتأخير لتحقيق المساواة أيضا، ومن هنا قيل: أي تعلم سرنا كما تعلم علننا. والمقصود من فحوى كلامه عليه السلام أن إظهار هذه الحاجات وما هو مباديها وتتماتها ليس لكونها غير معلومة لك بل إنما هو لإظهار العبودية والتخشع لعظمتك والتذلل لعزتك وعرض الافتقار لما عندك والاستعجال لنيل أياديك، وقيل: أراد عليه السلام أنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا وأرحم بنا من أنفسنا فلا حاجة لنا إلى الطلب لكن ندعوك لإظهار العبودية إلى آخره، وقد أشار السهروردي إلى أن ظهور الحال يغني عن السؤال بقوله: ويمنعني الشكوى إلى الناس أنني ... عليل ومن أشكو إليه عليل ويمنعني الشكوى إلى الله أنه ... عليم بما أشكوه قبل أقول وتكرير النداء للمبالغة في الضراعة والابتهال، وضمير الجماعة- كما قال بعض المحققين- لأن المراد ليس مجرد علمه تعالى بما يخفى وما يعلن بل بجميع خفايا الملك والملكوت وقد حققه عليه السلام بقوله على وجه الاعتراض: وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ لما أن علمه تعالى ذاتي فلا يتفاوت بالنسبة إليه معلوم دون معلوم، وقال أبو حيان: لا يظهر تفاوت بين إضافة رب إلى ياء المتكلم وبين إضافته إلى جمع المتكلم اهـ. ومما نقلنا يعلم وجه إضافة رب هنا إلى ضمير الجمع، ولا أدري ماذا أراد أبو حيان بكلامه هذا، وما يرد عليه أظهر من أن يخفى، وإنما قال عليه السلام: وَما يَخْفى إلى آخره دون أن يقول: ويعلم ما في السموات والأرض تحقيقا لما عناه بقوله: تَعْلَمُ ما نُخْفِي من أن علمه تعالى بذلك ليس على وجه يكون فيه شائبة خفاء بالنسبة إلى علمه تعالى كما يكون ذلك بالنسبة إلى علوم المخلوقات. وكلمة فِي متعلقة بمحذوف وقع صفة- لشيء- أي لشيء كائن فيهما أعم من أن يكون ذلك على وجه الاستقرار فيهما أو على وجه الجزئية منهما، وجوز أن تتعلق- بيخفى- وهو كما ترى. وتقديم الأرض على السماء مع توسيط لا بينهما باعتبار القرب والبعد من المستعدين للتفاوت بالنسبة إلى علومنا. والمراد من السَّماءِ ما يشمل السموات كلها ولو أريد من الْأَرْضِ جهة السفل ومن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 227 السماء جهة العلو كما قيل جاز (1) ، والالتفات من الخطاب إلى الاسم الجليل للإشعار بعلة الحكم والإيذان بعمومه لأنه ليس بشأن يختص به أو بمن يتعلق به بل شامل لجميع الأشياء فالمناسب ذكره تعالى بعنوان مصحح لمبدئية الكل، وعن الجبائي أن هذا من كلام الله تعالى شأنه وارد بطريق الاعتراض لتصديقه عليه السلام كقوله سبحانه: وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ [النمل: 34] والأكثرون على الأول. ومِنْ على الوجهين للاستغراق الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ أي مع كبر سني ويأسي عن الولد- فعلى- بمعنى مع كما في قوله: إني على ما ترين من كبري ... أعرف من أين تؤكل الكتف والجار والمجرور في موضع الحال، والتقييد بذلك استعظاما للنعمة وإظهار الشكر لها، ويصح جعل «على» بمعناها الأصلي والاستعلاء مجازي كما في البحر، ومعنى استعلائه على الكبر أنه وصل غايته فكأنه تجاوزه وعلا ظهره كما يقال: على رأس السنة، وفيه من المبالغة ما لا يخفى، وقال بعضهم: لو كانت للاستعلاء لكان الأنسب جعل الكبر مستعليا عليه كما في قولهم: على دين، وقوله: وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ [الشعراء: 14] بل الكبر أولى بالاستعلاء منهما حيث يظهر أثره في الرأس وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مريم: 4] نعم يمكن أن تجري على حقيقتها بجعلها متعلقة بالتمكن والاستمرار أي متمكنا مستمرا على الكبر فهو الأنسب كاظهار ما في الهيئة من الآية حيث لم يكن في أول الكبر اه وفيه غفلة عما ذكرنا إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه وهب له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين سنة، ووهب له إسحق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة، وفي رواية أنه ولد له إسماعيل لأربع وستين، وإسحق لسبعين، وعن ابن جبير لم يولد لإبراهيم عليه السلام إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة إِنَّ رَبِّي ومالك أمري لَسَمِيعُ الدُّعاءِ أي لمجيبه فالسمع بمعنى القبول والإجابة مجاز كما في سمع الله تعالى لمن حمده، وقولهم: سمع الملك كلامه إذا اعتد به وقبله، وهو فعيل من أمثلة المبالغة وأعمله سيبويه وخالف في ذلك جمهور البصريين، وخالف الكوفيون فيه وفي أعمال سائر أمثلتها، وهو إذا قلنا بجواز عمله مضاف لمفعوله أن أريد به المستقبل، وقيل: إنه غير عامل لأنه قصد به الماضي أو الاستمرار، وجوز الزمخشري أن يكون مضافا لفاعله المجازي فالأصل سميع دعاؤه بجعل الدعاء نفسه سامعا، والمراد أن المدعو وهو الله تعالى سامع. وتعقبه أبو حيان بأنه بعيد لاستلزامه أن يكون من باب الصفة المشبهة وهو متعد ولا يجوز ذلك إلا عند الفارسي حيث لا يكون لبس نحو زيد ظالم العبيد إذا علم أن له عبيدا ظالمين، وهاهنا فيه البأس لظهور أنه من إضافة المثال للمفعول انتهى، وهو كلام متين. والقول بأن اللبس منتف لأن المعنى على الإسناد المجازي كلام واه لأن المجاز خلاف الظاهر فاللبس فيه أشد ومثله القول بأن عدم اللبس إنما يشترط في إضافته إلى فاعله على القطع، وهذا كما قال بعض الأجلة مع كونه من تتمة الحمد والشكر لما فيه من وصفه تعالى بأن قبول الدعاء عادته سبحانه المستمرة تعليل على طريق التذييل للهبة المذكورة وفيه إيذان بتضاعيف النعمة فيها حيث وقعت بعد الدعاء بقوله: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: 100] فاقترنت الهبة بقبول الدعوة، وذكر بعضهم أن موقع قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ وتذييله موقع الاعتراض بين أدعيته عليه السلام في هذا المكان تأكيدا للطلب بتذكير ما عهد من الإجابة، يتوسل إليه سبحانه بسابق نعمته تعالى في شأنه كأنه عليه السلام يقول اللهم استجب دعائي في حق ذريتي في هذا المقام فإنك لم تزل سميع الدعاء وقد دعوتك على الكبر أن تهب لي ولدا فأجبت دعائي وهبت لي إسماعيل وإسحاق ولا يخفى أن إسحاق عليه السلام لم يكن   (1) قيل وهو أوفق بافراد السماء اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 228 مولودا عند دعائه عليه السلام السابق فالوجه أن لا يجعل ذلك اعتراضا بل يحمل على أن الله تعالى حكى جملا مما قاله إبراهيم عليه السلام في أحايين مختلفة تشترك كلها فيما سيق له الكلام من كونه عليه السلام على الإيمان والعمل الصالح وطلب ذلك لذريته وأن ولده الحقيقي من تبعه على ذلك فترك العناد والكفر، وقد ذكر هذا صاحب الكشف. ومما يعضده ما أخرجه ابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ إلخ: قال هذا بعد ذلك بحين، ووحد عليه السلام الضمير في رب وإن كان عقيب ذكر الولدين لما أن نعمة الهبة فائضة عليه عليه السلام خاصة وهما من النعم لا من المنعم عليهم رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ معدلا لها فهو مجاز من أقمت العود إذا قومته، وأراد بهذا الدعاء الديمومة على ذلك، وجوز بعضهم أن يكون المعنى مواظبا عليها، وبعض عظماء العلماء أخذ الأمرين في تفسير ذلك على أن الثاني قيد للأول مأخوذ من صيغة الاسم والعدول عن الفعل كما أن الأول مأخوذ من موضوعه على ما قيل، فلا يلزم استعمال اللفظ في معنيين مجازيين، وتوحيد ضمير المتكلم مع شمول دعوته عليه السلام لذريته أيضا حيث قال: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي للإشعار بأنه المقتدى في ذلك وذريته أتباع له فإن ذكرهم بطريق الاستطراد «ومن» للتبعيض، والعطف كما قال أبو البقاء على مفعول «اجعل» الأول أي ومن ذريتي مقيم الصلاة. وفي الحواشي الشهابية أن الجار والمجرور في الحقيقة صفة للمعطوف على ذلك أي وبعضا من ذريتي ولولا هذا التقدير كان ركيكا، وإنما خص عليه السلام هذا الدعاء ببعض ذريته لعلمه من جهته تعالى أن بعضا منهم لا يكون مقيم الصلاة بأن يكون كافرا أو مؤمنا لا يصلي، وجوز أن يكون علم من استقرائه عادة الله تعالى في الأمم الماضية أن يكون في ذريته من لا يقيمها وهذا كقوله: وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة: 128] رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ ظاهره دعائي هذا المتعلق بجعلي وجعل بعض ذريتي مقيمي الصلاة ولذلك جيء بضمير الجماعة، وقيل: الدعاء بمعنى العبادة أي تقبل عبادتي. وتعقب بأن الأنسب أن يقال فيه دعاءنا حينئذ. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، وهبيرة عن حفص «دعائي» بياء ساكنة في الوصل، وفي رواية البزي عن ابن كثير أنه يصل ويقف بياء. وقال قنبل: إنه يشم الياء في الوصل ولا يثبتها ويقف عليها بالألف رَبَّنَا اغْفِرْ لِي أي ما فرط مني مما أعده ذنبا وَلِوالِدَيَّ أي لأمي وأبي، وكانت أمه على ما روي عن الحسن مؤمنة فلا إشكال في الاستغفار لها، وأما استغفاره لأبيه فقد قيل في الاعتذار عنه إنه كان قبل أن يتبين له أنه عدو لله سبحانه والله تعالى قد حكى ما قاله عليه السلام في أحايين مختلفة، وقيل: إنه عليه السلام نوى شرطية الإسلام والتوبة وإليه ذهب ابن الخازن، وقيل: أراد بوالده نوحا عليه السلام، وقيل: أراد بوالده آدم وبوالدته حواء عليهما السلام وإليه ذهب بعض من قال بكفر أمه والوجه ما تقدم. وقالت الشيعة: إن والديه عليه السلام كانا مؤمنين ولذا دعا لهما، وأما الكافر فأبوه والمراد به عمه أو جده لأمه، واستدلوا على إيمان أبويه بهذه الآية ولم يرضا ما قيل فيها حتى القول الأول بناء على زعمهم أن هذا الدعاء كان بعد الكبر وهبة إسماعيل وإسحاق عليهما السلام له وقد كان تبين له في ذلك الوقت عداوة أبيه الكافر لله تعالى. وقرأ الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما. وأبو جعفر محمد. وزيد ابنا علي. وابن يعمر. والزهري. والنخعي «ولولدي» بغير ألف وبفتح اللام تثنية ولد يعني بهما إسماعيل وإسحاق. وأنكر عاصم الجحدري هذه القراءة ونقل أن في مصحف أبي «ولأبوي» وفي بعض المصاحف «ولذريتي» وعن يحيى بن يعمر «ولولدي» بضم الواو وسكون اللام الجزء: 7 ¦ الصفحة: 229 فاحتمل أن يكون جمع ولد كأسد في أسد ويكون قد دعا عليه السلام لذريته، وأن يكون لغة في الولد كما في قول الشاعر: فليت زيادا كان في بطن أمه ... وليت زيادا كان ولد حمار ومثل ذلك العدم والعدم، وقرأ ابن جبير «ولوالدي» بإسكان الياء على الإفراد كقوله: واغفر لأبي وَلِلْمُؤْمِنِينَ كافة من ذريته وغيرهم، ومن هنا قال الشعبي فيما رواه عنه ابن أبي حاتم: ما يسرني بنصيبي من دعوة نوح وإبراهيم عليهما السلام للمؤمنين والمؤمنات حمر النعم، وللإيذان باشتراك الكل في الدعاء بالمغفرة جيء بضمير الجماعة يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ أي يثبت ويتحقق، واستعمال القيام فيما ذكر إما مجاز مرسل أو استعارة، ومن ذلك قامت الحرب والسوق، وجوز أن يكون قد شبه الحساب برجل قائم على الاستعارة المكنية وأثبت له القيام على التخييل، وأن يكون المراد يقوم أهل الحساب فحذف المضاف أو أسند إلى الحساب ما لأهله مجازا، وجعل ذلك العلامة الثاني في شرح التخليص مثل ضربه التأديب مما فيه الإسناد إلى السبب الغائي أي يقوم أهله لأجله، وذكر السالكوتي أنه إنما قال مثله لأن الحساب ليس ما لأجله القيام حقيقة لكنه شبيه به في ترتبه عليه وفيه بحث. وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ خطاب لكل من توهم غفلته تعالى، وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم كما هو المتبادر، والمراد من النهي تثبيته عليه الصلاة والسلام على ما هم عليه من عدم ظن أن الغفلة تصدر منه عز شأنه كقوله تعالى: وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [القصص: 88] وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [القصص: 87] أي دم على ذلك، وهو مجاز كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا [النساء: 136] وفيه إيذان بكون ذلك الحسبان واجب الاحتراز عنه في الغاية حتى نهى عنه من لا يمكن تعاطيه، وجوز أن يكون المراد من ذلك على طريق الكناية أو المجاز بمرتبتين الوعيد والتهديد، والمعنى لا تحسبن الله تعالى يترك عقابهم للطفه وكرمه بل هو معاقبهم على القليل والكثير، وأن يكون ذلك استعارة تمثيلية أي لا تحسبنه تعالى يعاملهم معاملة الغافل عما يعملون ولكن معاملة الرقيب المحاسب على النقير والقطمير، وإلى هذه الأوجه أشار الزمخشري. وتعقب الوجه الأول بأنه غير مناسب لمقام النبوة لأنه عليه الصلاة والسلام لا يتوهم منه عدم الدوام على ما هو عليه من عدم الحسبان ليثبت، وفيه نظر. وفي الكشف الوجه هو الأول لأن في إطلاق الغافل عليه سبحانه وإن كان على المجاز ركة يصان كلام الله تعالى عنها، وفي الكناية النظر إلى المجموع فلم يجسر العاقل عليه تعالى عنه، ويجوز أن يكون الأول مجازا في المرتبة الثانية بجعل عدم الغفلة مجازا عن العلم، ثم جعله مجازا عن الوعيد غير سديد لعدم منافاة إرادة الحقيقة. والأسلم من القيل والقال ما ذكرناه أولا من كون الخطاب لكل من توهم غفلته سبحانه وتعالى لغير معين، وهو الذي اختاره أبو حيان، وعن ابن عيينة أن هذا تسلية للمظلوم (1) وتهديد للظالم فقيل له: من قال هذا؟ فغضب وقال: إنما قاله من علمه، وقد نقل ذلك في الكشاف فاستظهر صاحب الكشف كونه تأييدا لكون الخطاب لغير معين، وجوز أن يكون جاريا على الأوجه إذ على تقدير اختصاص الخطاب به عليه الصلاة والسلام أيضا لا يخلو عن التسلية للطائفتين فتأمل، والمراد بالظالمين أهل مكة الذين عدت مساويهم فيما سبق أو جنس الظالمين وهم داخلون دخولا أوليا، والآية على ما قال الطيبي مردودة إلى قوله تعالى: قُلْ تَمَتَّعُوا وقُلْ لِعِبادِيَ واختار جعلها تسلية له عليه الصلاة والسلام وتهديدا للظالمين على سبيل العموم.   (1) وروي نحوه عن ميمون بن مهران اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 230 وقرأ طلحة «ولا تحسب» بغير نون التوكيد إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ يمهلهم متمتعين بالحظوظ الدنيوية ولا يعجل عقوبتهم، وهو استئناف وقع تعليلا للنهي السابق أي لا تحسبن الله تعالى غافلا عن عقوبة أعمالهم لما ترى من التأخير إنما ذلك لأجل هذه الحكمة، وإيقاع التأخير عليهم مع أن المؤخر إنما هو عذابهم قيل: لتهويل الخطب وتفظيع الحال ببيان أنهم متوجهون إلى العذاب مرصدون لأمر ما لا أنهم باقون باختيارهم، وللدلالة على أن حقهم من العذاب هو الاستئصال بالمرة وأن لا يبقى منهم في الوجود عين ولا أثر، وللإيذان بأن المؤخر ليس من جملة العذاب وعنوانه، ولو قيل: إنما يؤخر عذابهم لما فهم ذلك. وقرأ السلمي والحسن والأعرج والمفضل عن عاصم، ويونس بن حبيب عن أبي عمرو. وغيرهم «نؤخرهم» بنون العظمة وفيه التفات لِيَوْمٍ هائل تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ أي ترتفع أبصار أهل الموقف فيدخل في زمرتهم الظالمون المعهودون دخولا أوليا أي تبقى مفتوحة لا تطرف- كما قال الراغب- من هول ما يرونه، وفي البحر شخص البصر أحد النظر ولم يستقر مكانه، والظاهر أن اعتبار عدم الاستقرار لجعل الصيغة من شخص الرجل من بلده إذا خرج منها فإنها يلزمه عدم القرار فيها أو من شخص بفلان إذا ورد عليه ما يقلقه كما في الأساس. وحمل بعضهم الألف واللام على العهد أي أبصارهم لأنه المناسب لما بعده والظاهر مما روي عن قتادة فقد أخرج عبد بن حميد. وغيره عنه أنه قال في الآية: شخصت فيه والله أبصارهم فلا ترتد إليهم، واختار بعضهم حمل «أل» على العموم قال: لأنه أبلغ في التهويل، ولا يلزم عليه التكرير مع بعض الصفات الآتية، وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى ما قيل فيه مُهْطِعِينَ مسرعين إلى الداعي قاله ابن جبير. وقتادة، وقيده في البحر يقول: بذلة واستكانة كإسراع الأسير والخائف، وقال الأخفش: مقبلين للإصغاء وأنشد: بدجلة دارهم ولقد أراهم ... بدجلة مهطعين إلى السماع وقال مجاهد: مديمين النظر لا يطرفون، وقال أحمد بن يحيى: المهطع الذي ينظر في ذلّ وخشوع لا يقلع بصره، وروى ابن الأنباري أن الإهطاع التجميح وهو قبض الرجل ما بين عينيه، وقيل: إن الإهطاع مد العنق والهطع طول العنق، وذكر بعضهم أن أهطع وهطع بمعنى وإن كل المعاني تدور على الإقبال مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ رافعيها مع الإقبال بأبصارهم إلى ما بين أيديهم من غير التفات إلى شيء، قاله ابن عرفة. والقتيبي. وأنشد الزجاج قول الشماخ يصف إبلا ترعى أعلى الشجر: يباكرن العضاه بمقنعات ... نواجذهن كالحد الوقيع وأنشده الجوهري لكون الإقناع انعطاف الإنسان إلى داخل الفم يقال: فم مقنع أي معطوفة أسنانه إلى داخله وهو الظاهر، وفسر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المقنع بالرافع رأسه أيضا وأنشد له قول زهير: هجان وحمر مقنعات رؤوسها ... وأصفر مشمول من الزهر فاقع ويقال: أقنع رأسه نكسه وطأطأه فهو من الأضداد، قال المبرد. وكونه بمعنى رفع أعرف في اللغة اه، وقيل: ومن المعنى الأول قنع الرجل إذا رضي بما هو فيه كأنه رفع رأسه عن السؤال: وقد يقال: إنه من الثاني كأنه طأطأ رأسه ولم يرفعه للسؤال ولم يستشرف إلى غير ما عنده، ونصب الوصفين على أنهما حالان من مضاف محذوف أي أصحاب الأبصار بناء على أنه يقال: شخص زيد ببصره أو الأبصار تدل على أصحابها فجاءت الحال من المدلول عليه ذكر ذلك أبو البقاء، وجوز أن يكون مُهْطِعِينَ منصوبا بفعل مقدر أي تبصرهم مهطعين ومُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ على هذا قيل: حال من المستتر في مُهْطِعِينَ فهي حال متداخلة وإضافته غير حقيقية فلذا وقع حالا وقال بعض الأفاضل: إن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 231 في اعتبار الحالية من أصحاب حسبما ذكر أولا ما لا يخفى من البعد والتكلف، والأولى والله تعالى أعلم جعل ذلك حالا مقدرة من مفعول يُؤَخِّرُهُمْ وقوله سبحانه: تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ بيان حال عموم الخلائق. ولذلك أوثر فيه الجملة الفعلية، فإن المؤمنين المخلصين لا يستمرون على تلك الحال بخلاف الكفار حيث يستمرون عليها ولذلك عبر عن حالهم بما يدل على الدوام والثبات، فلا يرد على هذا توهم التكرار بين مُهْطِعِينَ وتَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ على بعض التفاسير، وبنحو ذلك رفع التكرار بين الأول، وقوله تعالى: لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ بمعنى لا يرجع إليهم تحريك أجفانهم حسبما كان يرجع إليهم كل لحظة، فالطرف باق على أصل معناه وهو تحريك الجفن، والكلام كناية عن بقاء العين مفتوحة على حالها. وجوز أن يراد بالطرف نفس الجفن مجازا لأنه يكون فيه ذلك أي لا ترجع إليهم أجفانهم التي يكون فيها الطرف، وقال الجوهري: الطرف العين ولا يجمع أنه في الأصل مصدر فيكون واحدا ويكون جمعا وذكر الآية، وفسره بذلك أبو حيان أيضا وأنشد قول الشاعر: وأغض طرفي ما بدت لي جارتي ... حتى يواري جارتي مأواها وليس ما ذكر متعينا فيه وهو معنى مجازي له وكذا النظر، وجوز إرادته على معنى لا يرجع إليهم نظرهم لينظروا إلى أنفسهم فضلا عن شيء آخر بل يبقون مبهوتين، ولا ينبغي كما في الكشف أن يتخيل تعلق إِلَيْهِمْ بما بعده على معنى لا يرجع نظرهم إلى أنفسهم أي لا يكون منهم نظر كذلك لأن صلة المصدر لا تتقدم، والمسألة في مثل ما نحن فيه خلافية، ودعوى عدم الجمع ادعاها جمع، وادعى أبو البقاء أنه قد جاء مجموعا هذا. وأنت خبير بأن لزوم التكرار بين مُهْطِعِينَ ولا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ على بعض التفاسير متحقق ولا يدفعه اعتبار الحالية من مفعول يُؤَخِّرُهُمْ على أن بذلك لا يندفع عرق التكرار رأسا بين تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ وكل من الأمرين المذكورين كما لا يخفى على من صحت عين بصيرته. وفي إرشاد العقل السليم أن جملة لا يَرْتَدُّ إلخ حال أو بدل من مُقْنِعِي إلخ أو استئناف والمعنى لا يزول ما اعتراهم من شخوص الإبصار وتأخيره عما هو من تتمته من الإهطاع والإقناع مع ما بينه وبين الشخوص المذكور من المناسبة لتربية هذا المعنى، وكأنه أراد بذلك دفع التكرار، وفي انفهام- لا يزول- إلخ من ظاهر التركيب خفاء، واعتبر بعضهم عدم الاستقرار في الشخوص وعدم الطرف هنا، فاعتراض عليه بلزوم المنافاة، وأجيب بأن الثاني بيان حال آخر وان أولئك الظالمين تارة لا تقر أعينهم وتارة يبهتون فلا تطرف أبصارهم، وقد جعل الحالتان المتنافيتان لعدم الفاصل كأنهما في حال واحد كقول امرئ القيس: مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا ... كجلمود صخر حطه السيل من عل وهذا يحتاج إليه على تقدير اعتبار ما ذكر سواء اعتبر كون الشخوص وما بعده من أحوال الظالمين بخصوصهم أم لا، والأولى أن لا يعتبر في الآية ما يحوج لهذا الجواب، وأن يختار من التفاسير ما لا يلزمه صريح التكرار، وأن يجعل شخوص الأبصار حال عموم الخلائق وما بعده حال الظالمين المؤخرين فتأمل. وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ أي خالية من العقل والفهم لفرط الحيرة والدهشة، ومنه قيل للجبان، والأحمق: قلبه هواء أي لا قوة ولا رأي فيه، ومن ذلك قول زهير: كأن الرحل منها فوق صعل ... من الظلمان جؤجؤه هواء وقول حسان: ألا بلغ أبا سفيان عني ... قأنت مجوف نخب هواء وروي معنى ذلك عن أبي عبيدة. وسفيان، وقال ابن جريج: صفر من الخير خالية منه، وتعقب بأنه لا يناسب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 232 المقام. وأخرج ابن أبي شيبة. وابن المنذر عن ابن جبير أنه قال: أي تمور في أجوافهم إلى حلوقهم ليس لها مكان تستقر فيه، والجملة في موضع الحال أيضا والعامل فيها إما يَرْتَدُّ أو ما قبله من العوامل الصالحة للعمل. وجوز أن تكون جملة مستقلة، وإلى الأول ذهب أبو البقاء وفسر هَواءٌ بفارغة، وذكر أنه إنما أفرد مع كونه خبرا لجمع لأنه بمعنى فارغة وهو يكون خبرا عن جمع كما يقال: أفئدة فارغة لأن تاء التأنيث فيه يدل على تأنيث الجمع الذي في أفئدتهم، ومثل ذلك أحوال صعبة وأفعال فاسدة، وقال مولانا الشهاب: الهواء مصدر ولذا أفرد، وتفسيره باسم الفاعل كالخالي بيان للمعنى المراد منه المصحح لحمل فلا ينافي المبالغة في جعل ذلك عين الخلاء، والمتبادر من كلام غير واحد أن الهواء ليس بمعنى الخلاء بل بالمعنى الذي يهب على الذهن من غير إعمال مروحة الفكر، ففي البحر بعد سرد أقوال لا يقضي ظاهرها بالمصدرية أن الكلام تشبيه محض لأن الأفئدة ليست بهواء حقيقة. ويحتمل أن يكون التشبيه في فراغها من الرجاء والطمع في الرحمة. وأن يكون في اضطراب أفئدتهم وجيشانها في الصدور وأنها تجيء وتذهب وتبلغ الحناجر. وهذا في معنى ما روي آنفا عن ابن جبير. وذكر في إرشاد العقل السليم ما هو ظاهر في أن الكلام على التشبيه أيضا حيث قال بعد تفسير ذلك بما ذكرنا أولا: كأنها نفس الهواء الخالي عن كل شاغل هذا ثم إنهم اختلفوا في وقت حدوث تلك الأحوال فقيل عند المحاسبة بدليل ذكرها عقيب قوله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ وقيل: عند إجابة الداعي والقيام من القبور. وقيل عند ذهاب السعداء إلى الجنة والأشقياء إلى النار فتذكر ولا تغفل وَأَنْذِرِ النَّاسَ خطاب لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم بعد إعلامه أن تأخير عذابهم لماذا وأمر له بإنذارهم وتخويفهم منه فالمراد بالناس الكفار المعبر عنهم بالظالمين كما يقتضيه ظاهر إتيان العذاب وإلى ذلك ذهب أبو حيان وغيره. ونكتة العدول إليه من الإضمار على ما قاله شيخ الإسلام الإشعار بأن المراد بالإنذار هو الزجر عما هم عليه من الظلم شفقة عليهم لا التخويف للإزعاج والإيذاء فالمناسب عدم ذكرهم بعنوان الظلم، وقال الجبائي: وأبو مسلم: المراد بالناس ما يشمل أولئك الظالمين وغيرهم من المكلفين، والإنذار كما يكون للكفار يكون لغيرهم كما في قوله تعالى: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ [يس: 11] والإتيان يعم الفريقين من كونهما في الموقف وإن كان لحوقه بالكفار خاصة، وأيا ما كان- فالناس- مفعول أول- لأنذر- وقوله سبحانه: يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ مفعوله الثاني على معنى أنذرهم هوله وما فيه. فالإيقاع عليه مجازي أو هو بتقدير مضاف، ولا يجوز أن يكون ظرفا للإنذار لأنه في الدنيا، والمراد بهذا اليوم اليوم المعهود وهو اليوم الذي وصف بما يذهب الألباب وهو يوم القيامة، وقيل: هو يوم موتهم معذبين بالسكرات ولقاء الملائكة عليهم السلام بلا بشرى. وروي ذلك عن أبي مسلم، أو يوم هلاكهم بالعذاب العاجل، وتعقب بأنه يأباه القصر السابق، وأجيب بما فيه ما فيه. فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي فيقولون، والعدول عنه إلى ما في النظم الجليل للتسجيل عليهم بالظلم والإشعار بعليته لما ينالهم من الشدة المنبئ عنها القول وفي العدول عن الظالمين المتكفل بما ذكر مع اختصاره وسبق الوصف به للإيذان على ما قيل بأن الظلم في الجملة كاف في الإفضاء إلى ما أفضوا إليه من غير حاجة إلى الاستمرار عليه كما ينبئ عنه صيغة اسم الفاعل، والمعنى- على ما قال الجبائي وأبو مسلم- الذين ظلموا منهم وهم الكفار، وقيل: يقول كل من ظلم بالشرك والتكذيب من المنذرين وغيرهم من الأمم الخالية: رَبَّنا أَخِّرْنا أي عن العذاب أو أخر عذابنا، ففي الكلام تقدير مضاف أو تجوز في النسبة، قال الضحاك. ومجاهد: إنهم طلبوا الرد إلى الدنيا والإمهال إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أي أمد وحدّ من الزمان قريب، وقيل: إنهم طلبوا رفع العذاب والرجوع إلى حال التكليف مدة يسيرة يعملون فيها ما يرضيه سبحانه. والمعنى على ما روي عن أبي مسلم أخر آجالنا وابقنا أياما نُجِبْ دَعْوَتَكَ أي الدعوة إليك وإلى توحيدك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 233 أو دعوتك لنا على ألسنة الرسل عليهم السلام، ففيه إيماء إلى أنهم صدقوهم في أنهم رسل الله سبحانه وتعالى. وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ فيما جاؤوا به أي نتدارك ما فرطنا به من إجابة الدعوة واتباع الرسل عليهم السلام، ولا يخلو ذكر الجملتين عن تأكيد والمقام حري به، وجمع إما باعتبار اتفاق الجميع على التوحيد وكون عصيانهم للرسول صلى الله عليه وسلم عصيانا لهم جميعا عليهم السلام، وإما باعتبار أن المحكي كلام ظالمي الأمم جميعا والمقصود بيان وعد كل أمة بالتوحيد واتباع رسولها على ما قيل. أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ على تقدير القول معطوفا على «فيقول» والمعطوف عليه هذه الجملة أي فيقال لهم توبيخا وتبكيتا: ألم تؤخروا في الدنيا ولم تكونوا حلفتم إذ ذاك بألسنتكم بطرا وأشرا وسفها وجهلا ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ مما أنتم عليه من التمتع بالحظوظ الدنياوية أو بألسنة الحال ودلالة الأفعال حيث بنيتم مشيدا وأملتم بعيدا ولم تحدثوا أنفسكم بالانتقال إلى هذه الأحوال والأهوال، وفيه إشعار بامتداد زمان التأخير وبعد مداه أو مالكم من زوال وانتقال من دار الدنيا إلى دار أخرى للجزاء كقوله تعالى: «وأقسما بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت» وروي هذا عن مجاهد، وأيّا ما كان «فمالكم» إلخ جواب القسم، و «من» صلة لتأكيد النفي، وصيغة الخطاب فيه لمراعاة حال الخطاب في «أقسمتم» كما في حلف بالله تعالى ليخرجن وهو أدخل في التوبيخ من أن يقال- ما لنا- مراعاة لحال المحكي الواقع في جواب قسمهم، وقيل هو ابتداء كلام من قبل الله تعالى جوابا لقولهم: «ربنا أخرنا» أي ما لكم من زوال عن هذه الحال وجواب القسم لا يبعث الله من في القبور محذوفا وهو خلاف المتبادر. وهذا أحد أجوبة يجاب بها أهل النار على ما في بعض الآثار. فقد ذكر البيهقي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: لأهل النار خمس دعوات يجيبهم الله تعالى في أربع منها فإذا كانت الخامسة لم يتكلموا بعدها أبدا، يقولون: رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ [غافر: 11] فيجيبهم الله عز وجل ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [غافر: 12] ثم يقولون: رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة: 12] فيجيبهم جل شأنه فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا [السجدة: 14] الآية، ثم يقولون: رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ فيجيبهم تبارك وتعالى أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ الآية، ثم يقولون: رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [فاطر: 37] فيجيبهم جل جلاله أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر: 37] فيقولون: رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ [المؤمنون: 106] فيجيبهم جل وعلا اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: 108] فلا يتكلمون بعدها إن هو إلا زفير وشهيق، وعند ذلك انقطع رجاؤهم وأقبل بعضهم ينبح في وجه بعض وأطبقت عليهم جهنم، اللهم إنا نعوذ بك من غضبك ونلوذ بكنفك من عذابك ونسألك التوفيق للعمل الصالح في يومنا لغدنا والتقرب إليك بما يرضيك قبل أن يخرج الأمر من يدنا. وَسَكَنْتُمْ من السكنى بمعنى التبوء والاستيطان وهو بهذا المعنى مما يتعدى بنفسه تقول سكنت الدار واستوطنتها إلا أنه عدي هنا بفي حيث قيل: فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جريا على أصل معناه فإنه منقول عن سكن بمعنى قر وثبت وحق ذلك التعدية بفي، وجوز أن يكون المعنى وقررتم في مساكنهم مطمئنين سائرين سيرتهم في الظلم بالكفر والمعاصي غير محدثين أنفسكم بما لقوا بسبب ما اجترحوا من الموبقات، وفي إيقاع الظلم على أنفسهم بعد إطلاقه فيما سلف إيذان بأن غائلة الظلم آئلة إلى صاحبه، والمراد بهم- كما قال بعض المحققين- إما جميع من تقدم من الأمم المهلكة على تقدير اختصاص الاستمهال والخطاب السابق بالمنذرين، وإما أوائلهم من قوم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 234 نوح وهود على تقدير عمومها للكل، وهذا الخطاب وما يتلوه باعتبار حال أواخرهم. وَتَبَيَّنَ لَكُمْ أي ظهر لكم على أتم وجه بمعاينة الآثار وتواتر الأخبار كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ من الإهلاك والعقوبة بما فعلوا من الظلم والفساد، وفاعل تَبَيَّنَ مضمر يعود على ما دل عليه الكلام أي فعلنا العجب بهم أو حالهم أو خبرهم أو نحو ذلك، وكيف في محل نصب- بفعلنا- وجملة الاستفهام ليست معمولة- لتبين- لأنه لا يعلق، وقيل: الجملة فاعل «تبين» بناء على جواز كونه جملة وهو قول ضعيف للكوفيين. وذهب أبو حيان إلى ما ذهب إليه الجماعة ثم ذكر أنه لا يجوز أن يكون الفاعل «كيف» لأنه لا يعمل فيها ما قبلها إلا فيما شذ من قولهم: على كيف تبيع الأحمرين وقولهم: انظر إلى كيف تصنع. وقرأ السلمي فيما حكاه عنه أبو عمرو الداني «ونبين» بنون العظمة ورفع الفعل، وحكى ذلك أيضا صاحب اللوامح عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وذلك على إضمار مبتدأ أي ونحن نبين والجملة حالية، وقال المهدوي عن السلمي أنه قرأ بنون العظمة إلا أنه جزم الفعل عطفا على تكونوا أي أو لم نبين لكم وَضَرَبْنا لَكُمُ أي في القرآن العظيم على تقدير اختصاص الخطاب بالمنذرين أو على ألسنة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على تقدير عمومه لجميع الظالمين. الْأَمْثالَ أي صفات ما فعلوا وما فعل بهم من الأمور التي هي في الغرابة كالأمثال المضروبة لتعتبروا وتقيسوا أعمالكم على أعمالهم وما لكم على ما لهم وتنتقلوا من حلول العذاب العاجل إلى العذاب الآجل فتردعوا عما كنتم فيه من الكفر والمعاصي، وجوز أن يراد من الأمثال ما هو جمع مثل بمعنى الشبيه أي بينا لكم أنهم مثلهم في الكفر واستحقاق العذاب: وروي هذا عن مجاهد، والجمل الثلاث في موقع الحال من ضمير أَقْسَمْتُمْ أي أقسمتم أن ليس لكم زوال والحال أنكم سكنتم في مساكن المهلكين بظلمهم وتبين لكم فعلنا العجيب بهم ونبهناكم على جلية الحال بضرب الأمثال، وقوله سبحانه: وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ حال من الضمير الأول في فَعَلْنا بِهِمْ أو من الثاني أو منهما جميعا، وقدم عليه قوله تعالى: وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ لشدة ارتباطه على ما قيل بما قبله أي فعلنا بهم ما فعلنا والحال أنهم قد مكروا في إبطال الحق وتقرير الباطل مكرهم العظيم الذي استفرغوا في عمله المجهود وجاوزوا فيه كل حد معهود بحيث لا يقدر عليه غيرهم، والمراد بيان تناهيه في استحقاق ما فعل بهم، أو وقد مكروا مكرهم المذكور في ترتيب مبادئ البقاء ومدافعة أسباب الزوال فالمقصود إظهار عجزهم واضمحلال قدرتهم وحقارتها عند قدرة الله سبحانه قاله شيخ الإسلام، وهو ظاهر في أن هذا من تتمة ما يقال لأولئك الذين ظلموا، وهو المروي عن محمد بن كعب القرظي، فقد أخرج عنه ابن جرير أنه قال: بلغني أن أهل النار ينادون رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ إلخ فيرد عليهم بقوله سبحانه: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ إلى قوله تعالى لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ وذكره ابن عطية احتمالا، وقيل غير ذلك مما ستعلمه إن شاء الله تعالى قريبا. وظاهر كلام غير واحد أن استفادة المبالغة في مَكَرُوا مَكْرَهُمْ من الإضافة. وفي الحواشي الشهابية أن مَكْرَهُمْ منصوب على أنه مفعول مطلق لأنه لازم فدلالته على المبالغة لقوله تعالى الآتي: وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ إلخ لا لأن إضافة المصدر تفيد العموم أي أظهروا كل مكر لهم أو لأن إضافته وأصله التنكير لإفادة أنهم معروفون بذلك وللبحث فيه مجال وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ أي جزاء مكرهم على أن الكلام على حذف مضاف، وجوز أن لا يكون هناك مضاف محذوف، والمعنى مكتوب عنده تعالى مكرهم ومعلوم له سبحانه وذلك كناية عن مجازاته تعالى لهم عليه، وأيا ما كان فإضافة مكر إلى الفاعل وهو الظاهر المتبادر، وقيل: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 235 إنه مضاف إلى مفعوله على معنى عنده تعالى مكرهم الذي يمكرهم به وتعقبه أبو حيان بأن المحفوظ أن مكر لازم ولم يسمع متعديا، وأجيب بأنه يجوز أن يكون المكر متجوزا به أو مضمنا معنى الكيد أو الجزاء، والكلام في نسبة المكر إليه تعالى وأنه إما باعتبار المشاكلة أو الاستعارة مشهور، وذكر بعض المحققين أن المراد بهذا المكر ما أفاده قوله تعالى: كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ لا أنه وعيد مستأنف. والجملة حال من الضمير في «مكروا» أي مكروا مكرهم وعند الله تعالى جزاؤه أو هو ما أعظم منه. والمقصود بيان فساد رأيهم حيث باشروا فعلا مع تحقق ما يوجب تركه وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ أي وإن كان مكرهم في غاية الشدة والمتانة، وعبر عن ذلك بكونه معدى لإزالة الجبال عن مقارها لكونه مثلا في ذلك. وَإِنْ شرطية وصلية عند جمع، والمراد أنه سبحانه مجازيهم على مكرهم ومبطله إن لم يكن في هذه الشدة وإن كان فيها، ولا بد على هذا الوجه من ملاحظة الإبطال وإلا فالجزاء المجرد عن ذلك لا يكاد يتأتى معه النكتة التي يدور عليها ما في إن الوصلية من التأكيد المعنوي. وجوز أن يكون المعنى أنه تعالى يقابلهم بمكرهم، ولا يمنع من ذلك كون مكرهم في غاية الشدة فهو سبحانه وتعالى أشد مكرا، ولا حاجة حينئذ إلى ملاحظة الإبطال فتدبر. وعن الحسن وجماعة أن إِنْ نافية واللام لام الجحود كانَ تامة، والمراد بالجبال آيات الله تعالى وشرائعه ومعجزاته الظاهرة على أيدي الرسل السالفة عليهم السلام التي هي كالجبال في الرسوخ والثبات والقصد إلى تحقير مكرهم وأنه ما كان لتزول منه الآيات والنبوات. وجوز أن تكون كانَ ناقصة وخبرها إما محذوف أو الفعل الذي دخلت عليه اللام على الخلاف الذي بين البصريين والكوفيين. وأيد هذا الوجه بما روي عن ابن مسعود من أنه قرأ «وما كان» بما النافية، وتعقب بأن فيه معارضة للقراءة الدالة على عظم مكرهم كقراءة الجمهور، وأجيب بأن الجبال في تلك القراءة يشار بها إلى ما راموا إبطاله من الحق كما أشرنا إليه وفي هذه على حقيقتها فلا تعارض إذ لم يتواردا على محل واحد نفيا وإثباتا. ورد بأنه إذا جعل الحق شبيها بالجبال في الثبات كان مثلها بل أدون منها في هذا المعنى، فإذا نفى إزالته إياه انتفى إزالته جبال الدنيا وحينئذ يجيء الإشكال. وتعقبه الشهاب بأن هذا غير وارد لأن المشبه لا يلزم أن يكون أدون من المشبه به في وجه الشبه بل فقد يكون بخلافه ولو سلم فقد يقدر على إزالة الأقوى دون الآخر لمانع كالشجاع يقدر على قتل أسد ولا يقدر على قتل رجل مشبه به لامتناعه بعدة أو حصن ولا حصن أحصن وأحمى من تأييد الله تعالى شأنه للحق بحيث تزول الجبال يوم تنسف نسفا ولا يزول انتهى، وإلى تفسير الْجِبالُ على هذه القراءة بما ذكرنا شيخ الإسلام ثم قال: وأما كونها عبارة عن أمر النبي لله وأمر القرآن العظيم- كما قيل- فلا مجال له إذ الماكرون هم المهلكون لا الساكنون في مساكنهم من المخاطبين. وإن خص الخطاب بالمنذرين وسيظهر لك قريبا إن شاء الله تعالى جواز ذلك على بعض الأقوال في الآية، والجملة حال من الضمير في مَكَرُوا لا من قوله تعالى وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وجوز أبو البقاء. وغيره أن تكون مخففة من الثقيلة والمعنى إن كان مكرهم ليزول منه ما هو كالجبال في الثبات من الآيات والشرائع والمعجزات، والجملة أيضا حال من الضمير المذكور أي مكروا مكرهم المعهود وأن الشأن كان مكرهم لإزالة الحق من الآيات والشرائع على معنى أنه لم يكن يصح أن يكون منهم مكر كذلك وكان شأن الحق مانعا من مباشرة المكر لإزالته. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن وثاب والكسائي لِتَزُولَ بفتح اللام الأولى ورفع الفعل- فإن- على ذلك عند البصريين مخففة واللام هي الفارقة، وعند الكوفيين نافية واللام بمعنى إلا، والقصد إلى تعظيم مكرهم فالجملة حال من قوله تعالى: وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ أي عنده تعالى جزاء مكرهم أو المكر بهم والحال أن مكرهم بحيث تزول منه الجبال أن في غاية الشدة. وقرئ «لتزول» بالفتح والنصب، وخرج ذلك على لغة جاءت في فتح لام كي. وقرأ عمر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 236 وعلي وأبيّ وعبد الله وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو إسحاق السبيعي وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهم ورحمهم «وإن كاد» بدال مكان النون و «لتزول» بالفتح والرفع، وهي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ونقل أبو حاتم عن أبي رضي الله تعالى عنه أنه قرأ ولولا كلمة الله لزال من مكرهم الجبال وحمل ذلك بعضهم على التفسير لمخالفته لسواد المصحف مخالفة ظاهرة هذا ومن الناس من قال: إن الضمير في مَكَرُوا للمنذرين، والمراد بمكرهم ما أفاده قوله عز وجل: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [الأنفال: 30] وغيره من أنواع مكرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، قال شيخ الإسلام: ولعل الوجه حينئذ أن يكون قوله تعالى: «وقد مكروا» إلخ حالا من القول المقدر أي فيقال لهم ما يقال والحال أنهم مع ما فعلوا من الأقسام المذكور مع ما ينافيه قد مكروا مكرهم العظيم أي لم يكن الصادر عنهم مجرد الأقسام الذي وبخوا به بل اجترءوا على مثل هذه العظيمة. وقوله سبحانه: وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ حال من ضمير مَكَرُوا حسبما ذكر من قبل. وقوله تعالى: وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ إلى آخره مسوق لبيان عدم تفاوت الحال في تحقيق الجزاء بين كون مكرهم قويا وضعيفا كما مرت الإشارة إليه، وعلى تقدير كون إِنْ نافية فهو حال من ضمير مَكَرُوا والجبال عبارة عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم وقد مكروا والحال أن مكرهم ما كان لتزول منه هاتيك الشرائع والآيات التي هي كالجبال في القوة، وعلى تقدير كونها مخففة من الثقيلة واللام مكسورة يكون حالا منه أيضا، على معنى أن ذلك المكر العظيم منهم كان لهذا الغرض، والقصد إلى أنه لم يصح أن يكون منهم مكر كذلك لما أن شأن الشرائع أعظم من أن يمكر بها. وعلى تقدير فتح اللام فهو حال من قوله تعالى: وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ كما ذكر سابقا اه. ويجوز أن يراد بمكرهم شركهم كما أخرجه ابن جرير. وغيره عن ابن عباس، والجبال على حقيقتها وأمر الجملة على ما قال. وحاصل المعنى لم يكن الصادر عنهم مجرد الأقسام مع ما ينافيه بل اجترءوا على الشرك وقالوا: «اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إذا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا» وقد روي عن الضحاك أنه صرح بأن ما نحن فيه كهذه الآية، ثم إن القول بجعل الضمير للمنذرين قول بعدم دخول هذا الكلام في حيز ما يقال، وهو الظاهر كما قيل، وكذا حمل الجبال على معناها الحقيقي. وفي البحر الذي يظهر أن زاول الجبال مجاز ضرب مثلا لمكر قريش وعظمه والجبال لا تزول، وفيه من المبالغة في ذم مكرهم ما لا يخفى. وأما ما روي أن جبلا زال بحلف امرأة اتهمها زوجها وكان ذلك الجبل من حلف عليه كاذبا مات فحملها للحلف فمكرت بأن رمت نفسها من الدابة وكانت وعدت من اتهمت به أن يكون في المكان الذي وقعت فيه من الدابة فأركبها زوجها وذلك الرجل وحلفت على الجبل أنها ما مسها غيرهما فنزلت سالمة وأصبح الجبل قد اندك وكانت المرأة من عدنان. وما روي من قصة نمروذ بن كوش بن كنعان أو بخت نصر واتخاذ الأنسر وصعودهما إلى قرب السماء في قصة طويلة مشهورة، وما فعل بعضهم من حمل الجبال على دين الإسلام والقرآن وحمل المكر على اختلافهم فيه من قولهم: هذا سحر، هذا شعر، هذا إفك فأقول ينبو عنها ظاهر اللفظ، وبعيد جدا قصة الأنسر اه. واستبعد ذلك أيضا- كما نقل الإمام- القاضي وقال: إن الخطر في ذلك عظيم ولا يكاد العاقل يقدم عليه، وما جاء خبر صحيح معتمد ولا حاجة في تأويل الآية إليه، ونعم ما قال في خبر النسور فإنه وإن جاء عن علي كرم الله تعالى وجهه. وعن مجاهد. وابن جبير. وأبي عبيدة. والسدي. وغيرهم إلا أن في الأسانيد ما لا يخفى على من نقر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 237 وقد شاع ذلك من أخبار القصاص وخبرهم واقع عن درجة القبول ولو طاروا إلى النسر الطائر، ومثل ذلك فيما أرى خبر المتهمة فافهم والله تعالى أعلم فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ تثبيت له صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه من الثقة بالله سبحانه والتيقن بإنجاز وعده تعالى بتعذيب الظالمين المقرون بالأمر بانذارهم كما يفصح عنه الفاء، وقال الطيبي: واستحسنه التلميذ أنه يجوز أن يحمل الوعد على المفاد بقوله تعالى: وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وقد جعله وجها آخر لما ذكره الزمخشري من تفسيره له بقوله تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا [غافر: 51] وكَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة: 21] وفيه نظر لأنه لا اختصاص لذلك- كما قيل- بالتعذيب لا سيما الأخروي، وإضافة مُخْلِفَ إلى الوعد عند الجمهور من إضافة اسم الفاعل إلى المفعول الثاني كقولهم: هذا معطي درهم زيدا، وهو لما كان يتعدى إلى اثنين جازت إضافته إلى كل منهما فينصب ما تأخر، وأنشد بعضهم نظيرا لذلك قوله: ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه ... وسائره باد إلى الشمس أجمع وذكر أبو البقاء أن هذا قريب من قولهم: يا سارق الليلة أهل الدار. وفي الكشاف أن تقديم الوعد ليعلم أنه تعالى لا يخلف الوعد أصلا كقوله سبحانه: لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ [آل عمران: 9، الرعد: 31] ثم قال جل شأنه: رُسُلَهُ ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحدا وليس من شأنه إخلاف المواعيد كيف يخلف رسله الذين هم خيرته وصفوته. ونظر فيه ابن المنير بأن الفعل إذا تقيد بمفعول انقطع احتمال إطلاقه وهو هنا كذلك فليس تقديم الوعد دالا على إطلاق الوعد بل على العناية والاهتمام به لأن الآية سيقت لتهديد الظالمين بما وعد سبحانه على ألسنة رسله عليهم السلام فالمهم ذكر الوعد وكونه على ألسنة الرسل عليهم السلام لا يتوقف عليه التهديد والتخويف. وقال صاحب الإنصاف: إن هذا النظر قوي إلا أن ما اعترض عليه هو القاعدة عند أهل البيان، كما قال الشيخ عبد القاهر في قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الأنعام: 100] أنه قدم شُرَكاءَ للإيذان بأنه لا ينبغي أن يتخذ لله تعالى شركاء مطلقا ثم ذكر «الجن» تحقيرا أي إذا لم يتخذ من غير الجن فالجن أحق بأن لا يتخذوا. وتعقب بأنه لا يدفع السؤال بل يؤيده، وكذا ما ذكره الفاضل الطيبي فإنه مع تطويله لم يأت بطائل فالوجه ما في الكشف من أن ذلك الإعلام إنما نشأ من جعل الاهتمام بشأن الوعد فهو ما سيق له الكلام وما عداه تبع، وإفادة هذا الأسلوب الترقي كإفادة اشْرَحْ لِي صَدْرِي [طه: 25] الإجمال والتفصيل. نعم إن الظاهر من حال صاحب الكشاف أنه أضمر فيما قرره اعتزالا وهذه مسألة أخرى، وقيل: مُخْلِفَ هنا متعد إلى واحد كقوله تعالى: لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ فاضيف إليه وانتصب رُسُلَهُ بوعده إذ هو مصدر ينحل إلى أن والفعل وقرأت فرقة «مخلف» وعده رسله بنصب «وعده» وإضافة مُخْلِفَ إلى رُسُلَهُ ففصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول، وهذه القراءة تؤيد إعراب الجمهور في القراءة الأولى وأنه مما يتعدى «مخلف» هنا إلى مفعولين إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب لا يماكر وقادر لا يقادر ذُو انتِقامٍ من أعدائه لأوليائه فالجملة تعليل للنهي المذكور وتذييل له وحيث كان الوعد عبارة عن تعذيبهم خاصة كما مرت إليه الإشارة لم يذيل- كما قال بعض المحققين- بأن يقال: «إن الله لا يخلف الميعاد» بل تعرض لوصف العز والانتقام المشعرين بذلك والمراد بالانتقام ما أشير إليه بالفعل وعبر عنه بالمكر. يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ ظرف لمضمر مستأنف ينسحب عليه النهي المذكور أي ينجزه يوم إلى آخره أو معطوف عليه نحو فَارْتَقِبْ يَوْمَ [الدخان: 10] إلى آخره، وجعله بعض الفضلاء معمولا لا ذكر محذوفا كما قيل في شأن نظائره، وقيل: ظرف للانتقام وهو يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ بعينه ولكن له أحوال جمة بذكر كل مرة بعنوان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 238 مخصوص، والتقييد مع عموم انتقامه سبحانه للأوقات كلها للافصاح عما هو المقصود من تعذيب الكفرة المؤخر إلى ذلك اليوم بموجب الحكمة المقتضية له. وجوز أبو البقاء تعلقه بلا يخلف الوعد مقدرا بقرينة السابق، وفيه الوجه قبله من الحاجة إلى الاعتذار. وقال الحوفي: هو متعلق- بمخلف- وإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ جملة اعتراضية، وفيه رد لما قيل: لا يجوز تعلقه بذلك لأن ما قبل إنّ لا يعمل فيما بعدها لأن لها الصدارة، ووجه أنها لكونها وما بعدها اعتراضا لا يبالى بها فاصلا. وجوز الزمخشري انتصابه على البدلية من يَوْمَ يَأْتِيهِمُ وهو بدل كل من كل، وتبعه بعض من منع تعلقه- بمخلف- لمكان ماله الصدر. والعجب أن العامل فيه حينئذ- أنذر- فيلزم عليه ما لزم القائل بتعلقه بما ذكر فكأنه ذهب إلى أن البدل له عامل مقدر وهو ضعيف، وقوله تعالى: وَالسَّماواتُ عطف على المرفوع أي وتبدل السموات غير السموات، والتبديل قد يكون في الذات كما في بدلت الدراهم دنانير ومنه قوله تعالى: بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها [النساء: 56] وقد يكون في الصفات كما في قولك: بدلت الحلقة خاتما إذا غيرت شكلها، ومنه قوله سبحانه: يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ [الفرقان: 70] والآية الكريمة ليست بنص في أحد الوجهين نص ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال تبدل الأرض يزاد فيها وينقص منها وتذهب آكامها وجبالها وأوديتها وشجرها وما فيها وتمد مد الأديم العكاظي وتصير مستوية لا ترى فيها عوجا ولا أمتا. وتبدل السموات بذهاب شمسها وقمرها ونجومها وحاصله يغير كل عما عو عليه في الدنيا. وأنشد: وما الناس بالناس الذين عهدتهم ... ولا الدار بالدار التي كنت أعلم وقال ابن الأنباري: تبدل السموات بطيها وجعلها مرة كالمهل ومرة وردة كالدهان. وأخرج ابن أبي الدنيا. وابن جرير. وغيرهما عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: تبدل الأرض من فضة والسماء من ذهب. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد أنه تكون الأرض كالفضة والسموات كذلك. وصح عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: تبدل الأرض أرضا بيضاء كأنها سبيكة فضة لم يسفك فيها دم حرام ولم يعمل فيها خطيئة. وروي ذلك مرفوعا أيضا، والموقوف- على ما قال البيهقي- أصح. وقد يحمل قول الإمام كرم الله تعالى وجهه على التشبيه. وقال الإمام: لا يبعد أن يقال: المراد بتبديل الأرض جعلها جهنم وبتبديل السموات جعلها الجنة، وتعقب بأنه بعيد لأنه يلزم أن تكون الجنة والنار غير مخلوقتين الآن والثابت في الكلام والحديث خلافه، وأجيب بأن الثابت خلقهما مطلقا لا خلق كليهما فيجوز أن يكون الموجود الآن بعضهما ثم تصير السموات والأرض بعضا منهما، وفيه أن هذا وإن صححه لا يقر به، والاستدلال على ذلك بقوله تعالى: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين: 18] وقوله سبحانه: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ [المطففين: 7] في غاية الغرابة من الإمام فإن في إشعار ذلك بالمقصود نظرا فضلا عن كونه دالا عليه. نعم جاء في بعض الآثار ما يؤيد ما قاله، فقد أخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم عن أبي بن كعب أنه قال في الآية: تصير السموات جنانا ويصير مكان البحر نارا أو تبدل الأرض غيرها. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود أنه قال: الأرض كلها نار يوم القيامة وجاء في تبديل الأرض روايات أخر. فقد أخرج ابن جرير عن ابن جبير أنه قال: تبدل الأرض خبزة بيضاء فيأكل المؤمن من تحت قدميه. وأخرج عن محمد بن كعب القرظي مثله. وأخرج البيهقي في البعث عن عكرمة كذلك. وأخرج ابن مردويه عن أفلح مولى أبي أيوب أن رجلا من يهود سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما الذي تبدل به الأرض؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 239 فقال: خبزة فقال اليهودي: درمكة بأبي أنت فضحك صلى الله عليه وسلم ثم قال: قاتل الله تعالى بيهود هل تدرون ما الدرمكة؟ لباب الخبز. وقد تقدم خبر أن الأرض تكون يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة وهو في الصحيحين من رواية أبي سعيد الخدري مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحكى بعضهم أن التبديل يقع في الأرض ولكن تبدل لكل فريق بما يقتضيه حاله، ففريق من المؤمنين يكونون على خبز يأكلون منه وفريق يكونون على فضة وفريق الكفرة يكونون على نار، وليس تبديلها بأي شيء كان بأعظم من خلقها بعد إن لم تكن. وذكر بعضهم أنها تبدل أولا صفتها على النحو المروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، ثم تبدل ذاتها ويكون هذا الأخير بعد أن تحدّث أخبارها، ولا مانع من أن يكون هنا تبديلات على أنحاء شتى. وفي صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعا أن الناس يوم تبدل على الصراط، وفيه من حديث ثوبان «أن يهوديا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض؟ فقال عليه الصلاة والسلام: هم في الظلمة دون الجسر» ولعل المراد من هذا التبديل نحو خاص منه، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. وتقديم تبديل الأرض لقربها منا ولكون تبديلها أعظم أمرا بالنسبة إلينا. وَبَرَزُوا أي الخلائق أو الظالمون المدلول عليهم بمعونة السياق كما قيل، والمراد بروزهم من أجداثهم التي في بطون الأرض. وجوز أن يكون المراد ظهورهم بأعمالهم التي كانوا يعملونها سرا ويزعمون أنها لا تظهر أو يعملون عمل من يزعم ذلك، ووجه إسناد البروز إليهم مع أنه على هذا لأعمالهم بأنه للإيذان بتشكلهم بأشكال تناسبها. وأنت تعلم أن الظاهر ظهورهم من أجداثهم، والعطف على تُبَدَّلُ والعدول إلى صيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع. وجوز أبو البقاء أن تكون الجملة مستأنفة وأن تكون حالا من الْأَرْضُ بتقدير يرقد والرابط الواو. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وَبَرَزُوا بضم الباء وكسر الراء مشددة، جعله مبنيا للمفعول على سبيل التكثير باعتبار المفعول لكثرة المخرجين لِلَّهِ أي لحكمه سبحانه ومجازاته الْواحِدِ الذي لا شريك له الْقَهَّارِ الغالب على كل شيء، والتعرض للوصفين لتهويل الخطب وتربية المهابة لأنهم إذا كانوا واقفين عند ملك عظيم قهار لا يشاركه غيره كانوا على خطر إذ لا مقاوم له ولا مغيث سواه وفي ذلك أيضا تحقيق إتيان العذاب الموعود على تقدير كون يَوْمَ تُبَدَّلُ بدلا من يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ. وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ عطف على بَرَزُوا. والعدول إلى صيغة المضارع لاستحضار الصورة أو للدلالة على الاستمرار، وأما البروز فهو دفعي لا استمرار فيه وعلى تقدير حالية بَرَزُوا فهو معطوف على تُبَدَّلُ وجوز عطفه على عامل الظرف المقدم على تقدير كونه ينجزه مثلا يَوْمَئِذٍ يوم إذ برزوا لله تعالى أو يوم إذ تبدل الأرض أو يوم إذ ينجز وعده، والرؤية إذا كانت بصرية فالمجرمين مفعولها وقوله تعالى: مُقَرَّنِينَ حال منه، وإن كانت علمية فالمجرمين مفعولها الأول مُقَرَّنِينَ مفعولها الثاني. والمراد قرن بعضهم من بعض وضم كل لمشاركه في كفره وعمله كقوله تعالى: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ [التكوير: 7] على قول، وفي المثل إن الطيور على أشباهها تقع، أو قرنوا مع الشياطين الذين أغووهم كقوله تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ [مريم: 68] إلخ أو قرنوا مع ما اقترفوا من العقائد الزائغة والملكات الرديئة والأعمال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 240 السيئة غب تصورها وتشكلها بما يناسبها من الصور الموحشة والأشكال الهائلة، أو قرنوا مع جزاء ذلك أو كتابه فلا حاجة إلى حديث التصور بالصور، أو قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم وجاء ذلك في بعض الآثار والظاهر أنه على حقيقة. ويحتمل- على ما قيل- أن يكون تمثيلا لمؤاخذتهم على ما اقترفته أيديهم وأرجلهم، وأصل المقرن بالتشديد من جمع في قرن بالتحريك وهو الوثاق الذي يربط به فِي الْأَصْفادِ جمع صفد ويقال فيه صفاد وهو القيد الذي يوضع في الرجل أو الغل الذي يكون في اليد والعنق أو ما يضم به اليد والرجل إلى العنق ويسمى هذا جامعة ومن هذا قول سلامة بن جندل: وزيد الخيل قد لاقى صفادا ... يعض بساعد وبعظم ساق وجاء صفد بالتخفيف وصفد بالتشديد للتكثير وتقول: أصفدته إذا أعطيته فتأتي بالهمزة في هذا المعنى، وقيل: صفد وأصفد معا في القيد والإعطاء، ويسمى العطاء صفدا لأنه يقيد. ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا. والجار والمجرور متعلق- بمقرنين- أو بمحذوف وقع حالا من ضميره أي مصفدين، وجوز أبو حيان كونه في موضع الصفة لمقرنين سَرابِيلُهُمْ أي قمصانهم جمع سربال مِنْ قَطِرانٍ هو ما يحلب من شجر الأبهل فيطبخ وتهنأ به الإبل الجربى فيحرق الجرب بما فيه من الحدة الشديدة وقد تصل حرارته إلى الجوف وهو أسود منتن يسرع فيه اشتعال النار حتى قيل: إنه أسرع الأشياء اشتعالا. وفي التذكرة أنه نوعان غليظ براق حاد الرائحة ويعرف بالبرقي، ورقيق كمد ويعرف بالسائل والأول من الشربين خاصة والثاني من الأرز والسدر ونحوهما والأول أجود وهو حار يابس في الثالثة أو الثانية، وذكر في الزفت أنه من أشجار كالأرز وغيره، وأنه إن سال بنفسه يقال زفت وإن كان بالصناعة فقطران، ويقال فيه: قطران بوزن سكران. وروي عن عمر. وعلي رضي الله تعالى عنهما أنهما قرآ به، وقطران بوزن سرحان ولم نقف على من قرأ بذلك، والجملة من المبتدأ والخبر في موضع النصب على الحالية من المجرمين أو من ضميرهم في مُقَرَّنِينَ أو من مُقَرَّنِينَ نفسه على ما قيل رابطها الضمير فقط كما في كلمته فوه إلى في أو مستأنفة، وأيّا ما كان ففي سَرابِيلُهُمْ تشبيه بليغ وذلك أن المقصود أنه تطلى جلود أهل النار بالقطران حتى يعود طلاؤه كالسرابيل وكأن ذلك ليجتمع عليهم الألوان الأربعة من العذاب لذعه وحرقه وإسراع النار في جلودهم واللون الموحش والنتن على أن التفاوت بين ذلك القطران وما نشاهده كالتفاوت بين النارين فكان ما نشاهده منهما أسماء مسمياتها في الآخرة فبكرمه العميم نعود وبكنفه الواسع نلوذ، وجوز أن تكون في الكلام استعارة تمثيلية بأن تشبه النفس الملتبسة بالملكات الرديئة كالكفر والجهل والعناد والغباوة بشخص لبس ثيابا من زفت وقطران، ووجه الشبه تحلى كل منهما بأمر قبيح مؤذ لصاحبه يستكره عند مشاهدته، ويستعار لفظ أحدهما للآخر، ولا يخفى ما في توجيه الاستعارة التمثيلية بهذا من المساهلة وهو ظاهر، على أن القول بهذه الاستعارة هنا أقرب ما يكون إلى كلام الصوفية، وقال بعضهم: يحتمل أن يكون القطران المذكور عين ما لا بسوه في هذه النشأة وجعلوه شعارا لهم من العقائد الباطلة والأعمال السيئة المستجلبة لفنون العذاب قد تجسدت في النشأة الآخرة بتلك الصورة المستتبعة لاشتداد العذاب، عصمنا الله تعالى من ذلك بلطفه وكرمه. وأنت تعلم أن التشبيه البليغ على هذا على حاله. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. وابن عباس. وأبو هريرة. وعكرمة. وقتادة. وجماعة من «قطران» على أنهما كلمتان منونتان أولاهما «قطر» بفتح القاف وكسر الطاء وهي النحاس مطلقا أو المذاب منه وثانيتهما «آن» بوزن عان بمعنى شديد الحرارة. قال الحسن: قد سعرت عليه جهنم منذ خلقت فتناهى حره وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ أي تعلوها وتحيط بها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 241 النار التي تسعر بأجسادهم المسربلة بالقطران، وتخصيص الوجوه بالحكم المذكور مع عمومه لسائر أعضائهم لكونها أعز الأعضاء الظاهرة وأشرفها كقوله تعالى: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الزمر: 24] ولكونها مجمع الحواس والمشاعر التي لم يستعملوها فيما خلقت له من إدراك الحق وتدبره، وهذا كما تطلع على أفئدتهم لأنها أشرف الأعضاء الباطنة ومحل المعرفة وقد ملؤوها بالجهالات أو لخلوها كما قيل: عن القطران المغني عن ذكر غشيان النار، ووجهه تخليتها عنه بأن ذلك لعله ليتعارفوا عند انكشاف اللهب أحيانا ويتضاعف عذابهم بالخزي على رؤوس الأشهاد. وقرئ برفع الوجوه ونصب «النار» كأنه جعل ورود الوجوه على النار غشيانا لها مجازا. وقرئ «تغشى» أي تتغشى بحذف إحدى التاءين، والجملة كما قال أبو البقاء نصب على الحال كالجملة السابقة. وفي الكشف وأفاد العلامة الطيبي أن- مقرنين- سرابيلهم من قطران- تغشى- أحوال من مفعول تَرَى جيء بها كذلك للترقي ولهذا جيء بالثانية جملة اسمية لأن سرابيل القطران الجامعة بين الأنواع الأربعة أفظع من الصفد، وأما تغشى فلتجديد الاستحضار المقصود في قوله تعالى: وَتَرَى لأن الثاني أهول والظاهر أن الثانيين منقطعان من حكم الرؤية لأن الأول في بيان حالهم في الموقف إلى أن يكب بهم في النار، والأخيرين لبيان حالهم بعد دخولها، وكأن الأول حرك من السامع أن يقول: وإذا كان هذا شأنهم وهم في الموقف فكيف بهم وهم في جهنم خالدون؟ فأجيب بقوله سبحانه: سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وأوثر الفعل المضارع في الثانية لاستحضار الحال وتجدد الغشيان حالا فحالا، وأكثر المعربين على عدم الانقطاع لِيَجْزِيَ اللَّهُ متعلق بمضمر أي يفعل بهم ذلك ليجزي سبحانه كُلَّ نَفْسٍ أي مجرمة بقرينة المقام ما كَسَبَتْ من أنواع الكفر والمعاصي جزاء أو وفاقا، وفيه إيذان بأن جزاءهم مناسب لأعمالهم، وجوز على هذا الوجه كون النفس أعم من المجرمة والمطيعة لأنه إذا خص المجرمون بالعقاب علم اختصاص المطيعين بالثواب، مع أن عقاب المجرمين وهم أعداؤهم جزاء لهم أيضا كما قيل: من عاش بعد عدوه ... يوما فقد بلغ المنى ويجوز على اعتبار العموم تعلق اللام- ببرزوا- على تقدير كونه معطوفا على تُبَدَّلُ والضمير للخلق ويكون ما بينهما اعتراضا فلا اعتراض أي برزوا للحساب ليجزي الله تعالى كل نفس مطيعة أو عاصية ما كسبت من خير أو شر إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ لأنه لا يشغله سبحانه فيه تأمل وتتبع ولا يمنعه حساب عن حساب حتى يستريح بعضهم عند الاشتغال بمحاسبة الآخرين فيتأخر عنهم العذاب، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد سريع الانتقام، وذكر المرتضى في درره وجوها أخر في ذلك. هذا بَلاغٌ أي ما ذكر من قوله سبحانه: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا إلى هنا، وجوز أن يكون الإشارة إلى القرآن وهو المروي عن ابن زيد أو إلى السورة والتذكير باعتبار الخبر وهو بَلاغٌ والكلام على الأول أبلغ فكأنه قيل: هذا المذكور آنفا كفاية في العظة والتذكير من غير حاجة إلى ما انطوى عليه السورة الكريمة أو كل القرآن المجيد من فنون العظات والقوارع، وأصل البلاغ بمعنى التبليغ وبهذا فسره الراغب في الآية، وذكر مجيئه بمعنى الكفاية في آية أخرى لِلنَّاسِ للكفار خاصة على تقدير اختصاص الإنذار بهم في قوله سبحانه: وَأَنْذِرِ النَّاسَ أو لهم وللمؤمنين كافة على تقدير شمولهم أيضا وإن كان ما شرح مختصا بالظالمين على ما قيل: وَلِيُنْذَرُوا بِهِ عطف على محذوف أي لينصحوا أو لينذروا به أو نحو ذلك فتكون اللام متعلقة بالبلاغ، ويجوز أن تتعلق بمحذوف وتقديره ولينذروا به أنزل أو تلي، وقال الماوردي: الواو زائدة، وعن المبرد هو عطف مفرد على مفرد أي هذا بلاغ وإنذار، ولعله تفسير معنى لا إعراب. وقال ابن عطية: أي هذا بلاغ للناس وهو لينذروا به فجعل ذلك خبرا لهو محذوفا، وقيل: اللام لام الأمر، قال بعضهم: وهو حسن لولا قوله سبحانه: وَلِيَذَّكَّرَ فإنه منصوب لا غير، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 242 وارتضى ذلك أبو حيان وقال: إن ما ذكر لا يخدشه إذ لا يتعين عطف لِيَذَّكَّرَ على الأمر بل يجوز أن يضمر له فعل يتعلق به، ولا يخفى أنه تكلف. وقرأ يحيى بن عمارة الذراع عن أبيه. وأحمد بن يزيد السلمي وَلِيُنْذَرُوا بفتح الياء والذال مضارع نذر بالشيء إذا علم به فاستعد له قالوا: ولم يعرف لنذر بمعنى علم مصدر فهو كعسى وغيرها من الأفعال التي لا مصادر لها، وقيل: إنهم استغنوا بأن والفعل عن صريح المصدر، وفي القاموس نذر بالشيء كفرح علمه فحذره وأنذره بالأمر إنذارا ونذرا ونذيرا أعلمه وحذره. وقرأ مجاهد وحميد بتاء مضمومة وكسر الذال وَلِيَعْلَمُوا بالنظر والتأمل بما فيه من الدلائل الواضحة التي هي إهلاك الأمم وإسكان آخرين مساكنهم وغيرهما مما تضمنه ما أشار إليه أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ لا شريك له أصلا، وتقديم الإنذار لأنه داع إلى التأمل المستتبع للعلم المذكور وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ أي ليتذكروا شؤون الله تعالى ومعاملته مع عباده ونحو ذلك فيرتدعوا عما يرديهم من الصفات التي يتصف بها الكفار ويتدرعوا بما يحظيهم لديه عزّ وجلّ من العقائد الحقة والأعمال الصالحة. وفي تخصيص التذكر بأولي الألباب إعلاء لشأنهم. وفي إرشاد العقل السليم أن في ذلك تلويحا باختصاص العلم بالكفار ودلالة على أن المشار إليه بهذا القوارع المسوقة لشأنهم لا كل السورة المشتملة عليها وعلى ما سيق للمؤمنين أيضا فإن فيه ما يفيدهم فائدة جديدة، وللبحث فيه محال، وفيه أيضا أنه حيث كان ما يفيده البلاغ من التوحيد وما يترتب عليه من الأحكام بالنسبة إلى الكفرة أمرا حادثا وبالنسبة إلى أولي الألباب الثبات على ذلك عبر عن الأول بالعلم وعن الثاني بالتذكر وروعي ترتيب الوجود مع ما فيه من الختم بالحسنى. وذكر القاضي بيض الله تعالى غرة أحواله أنه سبحانه ذكر لهذا البلاغ ثلاث فوائد هي الغاية والحكمة في إنزال الكتب. تكميل الرسل عليهم السلام للناس المشار إليه بالإنذار. واستكمالهم القوة النظرية التي منتهى كمالها ما يتعلق بمعرفة الله تعالى المشار إليه بالعلم، واستصلاح القوة العملية التي هي التدرع بلباس التقوى المشار إليه بالتذكر، والظاهر أن المراد بأولي الألباب أصحاب العقول الخالصة من شوائب الوهم مطلقا، ولا يقدح في ذلك ما قيل: إن الآية نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وقد ناسب مختتم هذه السورة مفتتحها وكثيرا ما جاء ذلك في سور القرآن حتى زعم بعضهم أن قوله تعالى: وَلِيُنْذَرُوا بِهِ معطوف على قوله سبحانه: لِتُخْرِجَ النَّاسَ وهو من البعد بمكان، نسأله سبحانه عزّ وجلّ أن يمن علينا بشآبيب العفو والغفران. هذا ومن باب الإشارة في الآيات: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً قال ابن عطاء: أراد عليه السلام أن يجعل سبحانه قلبه آمنا من الفراق والحجاب، وقيل: اجعل بلد قلبي ذا أمن بك عنك وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ من المرغوبات الدنية والمشتهيات الحسية. وقال جعفر رضي الله تعالى عنه: أراد عليه السلام لا تردني إلى مشاهدة الخلة ولا ترد أولادي إلى مشاهدة النبوة، وعنه أنه قال: أصنام الخلة خطرات الغفلة ولحظات المحبة، وفي رواية أخرى أنه عليه السلام كان آمنا من عبادة الأصنام في كبره وقد كسرها في صغره لكنه علم أن هوى كل إنسان صنمه فاستعاذ من ذلك. وقال الجنيد قدس سره: أي امنعني وبني أن نرى لأنفسنا وسيلة إليك غير الافتقار، وقيل: كل ما وقف العارف عليه غير الحق سبحانه فهو صنمه، وجاء النفس هو الصنم الأكبر رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بالتعلق بها والانجداب إليها والاحتجاب بها عنك سبحانك فَمَنْ تَبِعَنِي في طريق المجاهدة والخلة ببذل الروح بين يديك فَإِنَّهُ مِنِّي طينته من طينتي وقلبه من قلبي وروحه من روحي وسره من سري ومشربه في الخلة من مشربي وَمَنْ عَصانِي وفعل ما يقتضي الحجاب عنك فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فلا أدعو عليه وأفوض أمره إليك. قيل: إن هذا منه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 243 عليه السلام دعاء للعاصي بستر ظلمته بنوره تعالى ورحمته جل شأنه إياه بافاضة الكمال عليه بعد المغفرة. ومن كلام نبينا صلى الله عليه وسلم «اللهم اهد قومي فانهم لا يعلمون» . وفي أسرار التأويل أنه عليه السلام أشار بقوله: وَمَنْ عَصانِي إلى مقام الجمع ولذا لم يقل: «ومن عصاك» ويجوز أن يقال: إنما أضاف عصيانهم إلى نفسه لأن عصيان الخلق للخالق غير ممكن، وما من دابة إلا وربي آخذ بناصيتها فهم في كل أحوالهم مجيبون لداعي ألسنة مشيئته سبحانه وإرادته القديمة، وسئل عبد العزيز المكي لم لم يقل الخليل ومن عصاك؟ فقال لأنه عظم ربه عزّ وجلّ وأجله من أن يثبت أن أحدا يجترئ على معصيته سبحانه وكذا أجله سبحانه من أن يبلغ أحد ما مبلغ ما يليق بشأنه عز شأنه من طاعته حيث قال فَمَنْ تَبِعَنِي رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ قيل: إن من عادة الله تعالى أن يبتلي خليله بالعظائم لينزعه عن نفسه وعن جميع الخليقة لئلا يبقى بينه وبينه حجاب من الحدثان، فلذا أمر جل شأنه هذا الخليل أن يسكن من ذريته في وادي الحرم بلا ماء ولا زاد لينقطع إليه ولا يعتمد إلا عليه عزّ وجلّ، وناداه باسم الرب طمعا في تربية عياله وأهله بألطافه وإيوائهم إلى جوار كرامته رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ التي يصل العبد بها إليك ويكون مرآة تجليك فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ تميل يوصف الإرادة والمحبة ليسلكوهم إليك ويدلوهم عليك، قال ابن عطاء من انقطع عن الخلق بالكلية صرف الله تعالى إليه وجوه الخلق وجعل مودته في صدورهم ومحبته في قلوبهم، وذلك من دعاء الخليل عليه السلام لما قطع أهله عن الخلق والأسباب قل: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ قيل: أي ثمرات طاعتك وهي المقامات الرفيعة والدرجات الشريفة. وقال الواسطي: ثمرات القلوب وهي أنواع الحكمة ورئيس الحكمة رؤية المنة والعجز عن الشكر على النعمة وهو الشكر الحقيقي ولذلك قال: لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ أي يعلمون أنه لا يتهيأ لأحد أن يقوم بشكرك وثمرة الحكمة تزيل الأمراض عن القلوب كما أن ثمرة الأشجار تزيل أمراض النفوس. وقيل: أي ارزقهم الأولاد الأنبياء والصلحاء، وفيه إشارة إلى دعوته بسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم المعنى له بقوله: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا وأي الثمرات أشهى من أصفى الأصفياء وأتقى الأتقياء وأفضل أهل الأرض والسماء وحبيب ذي العظمة والكبرياء فهو عليه الصلاة والسلام ثمرة الشجرة الإبراهيمية وزهرة رياض الدعوة الخليلية بل هو صلى الله عليه وسلم ثمرة شجرة الوجود. ونور حديقة الكرم والجود. ونور حدقة كل موجود صلى الله عليه وسلم عليه إلى اليوم المشهود رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ قال الخواص: ما نخفي من حبك وما نعلن من شكرك. وقال ابن عطاء: ما نخفي من الأحوال وما نعلن من الآداب، وقيل: ما نخفي من التضرع في عبوديتك وما نعلن من ظاهر طاعتك في شريعتك، وأيضا ما نخفي من أسرار معرفتك وما نعلن من وظائف عبادتك، وأيضا ما نخفي من حقائق الشوق إليك في قلوبنا وما نعلن في غلبة مواجيدنا بإجراء العبرات وتصعيد الزفرات: وا رحمتا للعاشقين تكلفوا ... ستر المحبة والهوى فضاح بالسر إن باحوا تباح دماؤهم ... وكذا دماء البائحين تباح وإن هم كتموا تحدث عنهم ... عند الوشاة المدمع السحاح وقال السيد علي البندنيجي قدس سره: كتمت هوى حبيه خوف إذاعة ... فلله كم صب أضر به الذيع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 244 ولكن بدت آثاره من تأوهي ... إذا فاح مسك كيف يخفى له ضوع وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ فيعلم ما خفي وما علن وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ قيل: الظالم من تجاوز طوره وتبختر على بساط الأنانية زاعما أنه قد تضلع من ماء زمزم المحبة واستغرق في لجى بحر الفناء، توعده الله تعالى بتأخير فضيحته إلى يوم تشخص فيه أبصار سكارى المعرفة والتوحيد وهو يوم الكشف الأكبر حين تبدو أنوار سطوات العزة فيستغرقون في عظمته بحيث لا يقدرون على الالتفات إلى غيره فهناك يتبين الصادق من الكاذب: إذا اشتبكت دموع في خدود ... تبين من بكى ممن تباكى وقوله سبحانه: مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ شرح لأحوال أصحاب الابصار الشاخصة وهم سكارى المحبة على الحقيقة، قال ابن عطاء في: وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ كهذه صفة قلوب أهل الحق متعلقة بالله تعالى لا تقر إلا معه سبحانه ولا تسكن إلا إليه وليس فيها محل لغيره وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ طلبوا تدارك ما فات وذلك بتهذيب الباطن والظاهر والانتظام في سلوك الصادقين وهيهات ثم هيهات، ثم أجيبوا بما يقصم الظهر ويفصم عرى الصبر وهو قوله سبحانه: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ الآية يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ وذلك عند انكشاف أنوار حقيقة الوجود فيظهر هلاك كل شيء إلا وجهه. وقيل: الإشارة في الآية إلى تبدل أرض قلوب العارفين من صفات البشرية إلى الصفات الروحانية المقدسة بنور شهود جمال الحق وتبدل سموات الأرواح من عجز صفات الحدوث وضعفها عن أنوار العظمة بإفاضة الصفات الحقة، وقيل: تبدل أرض الطبيعة بأرض النفس عند الوصول إلى مقام القلب، وسماء القلب بسماء السر، وكذا تبدل أرض النفس بأرض القلب، وسماء السر بسماء الروح، وكذا كل مقام يعبره السالك يتبدل ما فوقه وما تحته كتبدل سماء التوكل في توحيد الأفعال بسماء الرضا في توحيد الصفات، ثم سماء الرضا بسماء التوحيد عند كشف الذات وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ بسلاسل الشهوات سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وهو قطران أعمالهم النتنة وَتَغْشى تستر وُجُوهَهُمُ النَّارُ في جهنم الحرمان وسعير الإذلال والاحتجاب عن رب الأرباب. هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ وهم علماء الحقيقة وأساطين المعرفة وعشاق الحضرة وأمناء خزائن المملكة، جعلنا الله تعالى وإياكم ممن ذكر فتذكر وتحقق في مقر التوحيد وتقرر بمنه سبحانه وكرمه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 245 الجزء الرابع عشر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 247 سورة الحجر أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم أنها نزلت بمكة وروي ذلك عن قتادة. ومجاهد، وفي مجمع البيان عن الحسن أنها مكية إلا قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر: 87] وقوله سبحانه: كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ [الحجر: 90، 91] ، وذكر الجلال السيوطي في الإتقان عن بعضهم استثناء الآية الأولى فقط ثم قال قلت: وينبغي استثناء قوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ [الحجر: 24] الآية لما أخرج الترمذي. وغيره في سبب نزولها وإنها في صفوف الصلاة وعلى هذا فقول أبي حيان ومثله في تفسير الخازن أنها مكية بلا خلاف الظاهر في عدم الاستثناء ظاهر في قلة التتبع، وهي تسع وتسعون آية، قال الداني: وكذا الطبرسي بالإجماع وتحتوي على ما قيل على خمس آيات نسختها آية السيف. ووجه مناسبتها لما قبلها أنها مفتتحة بنحو ما افتتح به السورة السابقة ومشتملة أيضا على شرح أحوال الكفرة يوم القيامة وودادتهم لو كانوا مسلمين، وقد اشتملت الأولى على نحو ذلك، وأيضا ذكر في الأول طرف من أحوال المجرمين في الآخرة، وذكر هنا طرف مما نال بعضا منهم في الدنيا، وأيضا قد ذكر سبحانه في كل مما يتعلق بأمر السموات والأرض ما ذكر، وأيضا فعل سبحانه نحو ذلك فيما يتعلق بإبراهيم عليه السلام، وأيضا في كل من تسلية نبينا صلى الله عليه وسلم ما فيه إلى غير ذلك مما لا يحصى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 249 الر قد تقدم الكلام فيه تِلْكَ اختار غير واحد أنه إشارة إلى السورة أي تلك السورة العظيمة الشأن آياتُ الْكِتابِ الكامل الحقيق باختصاص اسم الكتاب به على الإطلاق كما يشعر به التعريف أي بعض منه مترجم مستقل باسم خاص فالمراد به جميع القرآن أو جميع المنزل إذ ذاك وَقُرْآنٍ عظيم الشأن كما يشعر به التنكير مُبِينٍ مظهر في تضاعيفه من الحكم والأحكام أو لسبيل الرشد والغي أو فارق بين الحق والباطل والحلال والحرام أو ظاهر معانيه أو أمر إعجازه، فالمبين إما من المتعدي أو اللازم، وفي جمع وصفي الكتابية والقرآنية من تفخيم شأن القرآن ما فيه حيث أشير بالأول إلى اشتماله على صفات كمال جنس الكتب الإلهية فكأنه كلها، وبالثاني إلى كونه ممتازا عن غيره نسيج وحده بديعا في بابه خارجا عن دائرة البيان قرآنا غير ذي عوج ونحو هذا فاتحة سورة النمل خلا أنه أخر هاهنا الوصف بالقرآنية عن الوصف بالكتابية لما أن الإشارة إلى امتيازه عن سائر الكتب بعد التنبيه على انطوائه على كمالات غيره منها أدخل في المدح لئلا يتوهم من أول الأمر أن امتيازه عن غيره لاستقلاله بأوصاف خاصة به من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 250 غير اشتماله على نعوت كمال سائر الكتب الكريمة وعكس هناك نظرا إلى حال تقدم القرآنية على حال الكتابية قاله بعض المحققين. وجوز أن يراد بالكتاب اللوح المحفوظ وذكر أن تقديمه هنا باعتبار الوجود وتأخيره هناك باعتبار تعلق علمنا لأنا إنما نعلم ثبوت ذلك من القرآن. وتعقب بأن إضافة الآيات إليه تعكر على ذلك إذ لا عهد باشتماله على الآيات. والزمخشري جعل هنا الإشارة إلى ما تضمنته السورة والكتاب وما عطف عليه عبارة عن السورة. وذكر هناك أن الكتاب إما اللوح وإما السورة. وأما القرآن فآثر هاهنا أحد الأوجه هناك. قال في الكشف: لأن الكتاب المطلق على غير اللوح أظهر، والحمل على السورة أوجه مبالغة كما دل عليه أسلوب قوله تعالى: وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ [الرعد: 1] وليطابق المشار إليه فإنه إشارة إلى آيات السورة ثم قال: وإيثار الحمل على اتحاد المعطوف والمعطوف عليه في الصدق لأن الظاهر من إضافة الآيات ذلك. ولما كان في التعريف نوع من الفخامة وفي التنكير نوع آخر وكان الغرض الجمع عرف الكتاب ونكر القرآن هاهنا وعكس في النمل وقدم المعرف في الموضعين لزيادة التنويه ولما عقبه سبحانه بالحديث عن الخصوص هنالك قدم كونه قرآنا لأنه أدل على خصوص المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم للإعجاز، وتعقب تفسير ذلك بالسورة دون جميع القرآن أو المنزل إذ ذاك بأنه غير متسارع إلى الفهم والمتسارع إليه عند الإطلاق ما ذكر وعليه يترتب فائدة وصف الآيات بنعت ما أضيفت إليه من نعوت الكمال لا على جعله عبارة عن السورة إذ هي في الاتصاف بذلك ليست بتلك المرتبة من الشهرة حتى يستغني عن التصريح بالوصف على أنها عبارة عن جميع آياتها فلا بد من جعل تلك إشارة إلى كل واحدة منها، وفيه من التكلف ما لا يخفى. ثم إن الزمخشري بعد أن فسر المتعاطفين بالسورة أشار إلى وجه التغاير بينهما بقوله كأنه قيل: الكتاب الجامع للكمال والغرابة في البيان ورمز إلى أنه لما جعل مستقلا في الكمال والغرابة قصد قصدهما فعطف أحدهما على الآخر فالغرض من ذكر الذات في الموضعين الوصفان، وهذه فائدة إيثار هذا الأسلوب، ومن هذا عده من عده من التجريد قاله في الكشف. وقال الطيبي بعد أن نقل عن البغوي توجيه التغاير بين المتعاطفين بأن الكتاب ما يكتب والقرآن ما يجمع بعضه إلى بعض، فإن قلت: رجع المآل إلى أن الْكِتابِ- وَقُرْآنٍ وصفان لموصوف واحد أقيما مقامه فما ذلك الموصوف وكيف تقديره؟ فإن قدرته معرفة رفعه وَقُرْآنٍ مُبِينٍ وإن ذهبت إلى أنه نكرة أباه لفظ الْكِتابِ قلت: أقدره معرفة وَقُرْآنٍ مُبِينٍ في تأويل المعرفة لأن معناه البالغ في الغرابة إلى حد الإعجاز فهو إذا محدود بل محصور إلى آخر ما قال، وهو كلام خال عن التحقيق كما لا يخفى على أربابه، وقيل: المراد بالكتاب التوراة والإنجيل وبالقرآن الكتاب المنزل على نبينا صلى الله عليه وسلم، وأخرج ذلك ابن جرير عن مجاهد، وقتادة، وأمر العطف على هذا ظاهر جدا إلا أن ذلك نفسه غير ظاهر، وفي المراد بالإشارة عليه خفاء أيضا. وفي البحر أن الإشارة على هذا القول إلى آيات الكتاب وهو كما ترى ثم إنه سبحانه لما بين شأن الآيات لتوجيه المخاطبين إلى حسن تلقي ما فيها من الأحكام والقصص والمواعظ شرع جل شأنه في بيان المتضمن فقال عز قائلا: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا بما يجب الإيمان به لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ مؤمنين بذلك، وقيل: المراد كفرهم بالكتاب والقرآن وبكونه من عند الله تعالى وودادتهم الانقياد لحكمه والإذعان لأمره، وفيه إيذان بأن كفرهم إنما كان بالجحود، وفيه نظر، وهذه الودادة يوم القيامة عند رؤيتهم خروج العصاة من النار. أخرج ابن المبارك، وابن أبي شيبة، والبيهقي. وغيرهم عن ابن عباس. وأنس رضي الله تعالى عنهم أنهما تذاكرا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 251 هذه الآية فقال: هذا حيث يجمع الله تعالى بين أهل الخطايا من المسلمين والمشركين في النار فيقول المشركون: ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون فيغضب الله تعالى لهم فيخرجهم بفضل رحمته. وأخرج الطبراني وابن مردويه بسند صحيح عن جابر بن عبد الله قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ناسا من أمتي يعذبون بذنوبهم فيكونون في النار ما شاء الله تعالى أن يكونوا ثم يعيرهم أهل الشرك فيقولون: ما نرى ما كنتم فيه من تصديقكم نفعكم فلا يبقى موحد إلا أخرجه الله تعالى من النار ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية» . وأخرج غير واحد عن علي كرم الله تعالى وجهه. وأبي موسى الأشعري. وأبي سعيد الخدري نحو ذلك يرفعه كل إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، وروي ذلك عن كثير من السلف الصالح، فقول الزمخشري: إن القول به باب من الودادة بيت من السفاهة قعيدته عقيدته الشوهاء، وقال الضحاك: إن ذلك في الدنيا عند الموت وانكشاف وخامة الكفر لهم، وعن ابن مسعود أن الآية في كفار قريش ودوا ذلك يوم بدر حين رأوا الغلبة للمسلمين، وفي رواية عنه وعن أناس من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن ذلك حين ضربت أعناقهم فعرضوا على النار. وذكر ابن الأنباري أن هذه الودادة من الكفار عند كل حالة يعذب فيها الكافر ويسلم المسلم، «ورب» على كثرة وقوعها في كلام العرب لم تقع في القرآن إلا في هذه الآية، ويقال فيها رب بضم الراء وتشديد الباء وفتحها ورب بفتح الراء ورب بضمهما وربت بالضم وفتح الباء والتاء وربت بسكون التاء وربت بفتح الثلاثة وربت بفتح الأولين وسكون التاء وتخفيف الباء من هذه السبعة وربتا بالضم وفتح الباء المشددة ورب بالضم والسكون ورب بالفتح والسكون فهذه سبع عشرة لغة حكاها ما عدا ربتا ابن هشام في المغني وحكى أبو حيان إحدى عشر منها- ربتا- وإذا اعتبر ضم الاتصال بما والتجرد منها بلغت اللغات ما لا يخفى، وزعم ابن فضالة (1) في الهوامل والعوامل أنها ثنائية الوضع كقد وأن فتح الباء مخففة دون التاء ضرورة وأن فتح الراء مطلقا شاذ، وهي حرف حر خلافا للكوفية. والأخفش في أحد قوليه. وابن الطراوة زعموا أنها اسم مبني ككم واستدلوا على اسميتها بالإخبار عنها في قوله: إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن ... عارا عليك ورب قتل عار فرب عندهم مبتدأ وعار خبره، وتقع عندهم مصدرا كرب ضربة ضربت، وظرفا كرب يوم سرت، ومفعولا به كرب رجل ضربت، واختار الرضي اسميتها إلا أن إعرابها عنده رفع أبدا على أنها مبتدأ لا خبر له كما اختار ذلك في قولهم: أقل رجل يقول ذلك إلا زيدا، وقال: إنها إن كفت بما فلا محل لها حينئذ لكونها كحرف النفي الداخل على الجملة ومنع ذلك البصريون بأنها لو كانت اسما لجاز أن يتعدى إليها الفعل بحرف الجر فيقال برب رجل عالم مررت، وأن يعود عليها الضمير ويضاف إليها وجميع علامات الاسم منتفية عنها، وأجيب عن البيت بأن المعروف- وبعض- بدل رب، وإن صحت تلك الرواية فعار خبر مبتدأ محذوف أي هو عار كما صرح به في قوله: يا رب هيجا هي خير من دعة. والجملة صفة المجرور أو خبره إذ هو في موضع مبتدأ، ويرد قياسها على كم كما قال أبو علي: إنهم لم يفصلوا بينها وبين المجرور كما فصلوا بين كم وما تعمل فيه وفي مفادها أقوال: أحدها أنها للتقليل دائما وهو قول الأكثرين، وعد في البسيط منهم الخليل. وسيبويه. والأخفش. والمازني. والفارسي. والمبرد. والكسائي. والفراء. وهشام. وخلق آخرون. ثانيها أنها للتكثير دائما وعليه صاحب العين. وابن درستويه. وجماعة، وروي عن الخليل.   (1) هو أبو الحسن علي اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 252 ثالثها واختاره الجلال السيوطي وفاقا للفارابي وطائفة أنها للتقليل غالبا والتكثير نادرا. رابعها عكسه وجزم به في التسهيل واختاره ابن هشام في المغني. وخامسها أنها لهما من غير غلبة لأحدهما نقله أبو حيان عن بعض المتأخرين. سادسها أنها لم توضع لواحد منهما بل هي حرف إثبات لا يدل على تكثير ولا تقليل وإنما يفهم ذلك من خارج واختاره أبو حيان. سابعها أنها للتكثير في المباهاة وللتقليل فيما عداه وهو قول الأعلم. وابن السيد. ثامنها أنها لمبهم العدد وهو قول ابن الباذش وابن طاهر وتصدر وجوبا غالبا، ونحو قوله: تيقنت أن رب امرئ خيل خائنا ... أمين وخوان بخال أمينا وقوله: ولو علم الأقوام كيف خلفتهم ... لرب مفد في القبور وحامد يحتمل أن يكون كما قال الشمني ضرورة، وقال أبو حيان: المراد تصدرها على ما تتعلق به فلا يقال: لقيت رب رجل عالم، وذكروا أنها قد تسبق بألا كقوله: ألا رب مأخوذ بإجرام غيره ... فلا تسأمن هجران من كان أجرما وبيا صدر جواب شرط غالبا كقوله: فإن أمس مكروبا فيا رب فتية. ومن غير الغالب يا رب كاسية الحديث ولا تجر غير نكرة وأجاز بعضهم جرها المعرف بأل احتجاجا بقوله: ربما الجامل المؤبل فيهم ... وعناجيج بينهن المهار وأجاب الجمهور بأن الرواية بالرفع وإن صح الجر فأل زائدة، وفي وجوب نعت مجرورها خلف فقال المبرد. وابن السراج. والفارسي. وأكثر المتأخرين وعزى للبصريين يجب لإجرائها مجرى حرف النفي حيث لا تقع إلا صدرا ولا يقدم عليها ما يعمل في الاسم بعدها، وحكم حرف النفي أن يدخل على جملة فالأقيس في مجرورها أن يوصف بجملة لذلك، وقد يوصف بما يجري مجراها من ظرف أو مجرور أو اسم فاعل أو مفعول وجزم به ابن هشام في المعنى وارتضاه الرضي، وقال الأخفش. والفراء. والزجاج. وابن طاهر. وابن خروف. وغيرهم لا يجب وتضمنها القلة أو الكثرة يقوم مقام الوصف واختاره ابن مالك وتبعه أبو حيان ونظر في الاستدلال المذكور بما لا يخفى، وتجر مضافا إلى ضمير مجرورها معطوفا بالواو كرب رجل وأخيه ولا يقاس على ذلك عند سيبويه، وما حكاه الأصمعي من مباشرة للمضاف إلى الضمير حيث قال لأعرابية ألفلان أب أو أخ؟ فقالت: رب أبيه رب أخيه تريد رب أب له رب أخ له تقديرا للانفصال لكون أب وأخ من الأسماء التي يجوز الوصف بها فلا يقاس عليه اتفاقا، وتجر ضميرا مفردا مذكرا يفسره نكرة منصوبة مطابقة للمعنى الذي يقصده المتكلم غير مفصولة عنه وسمع جره في قوله: وربه عطب أنقذت من عطبه على نية من وهو شاذ، وجوز الكوفية مطابقة الضمير للنكرة المفسرة تثنية وجمعا وتأنيثا كما في قوله: ربها فتية دعوت إلى ما ... يورث الحمد دائما فأجابوا والأصح أن هذا الضمير معرفة جرى مجرى النكرة، واختار ابن عصفور تبعا لجماعة أنه نكرة وأن جرها إياها ليس قليلا ولا شاذا خلافا لابن مالك، وأنها زائدة في الإعراب لا المعنى، وإن محل مجرورها على حسب العامل لا لازم النصب بالفعل الذي بعد أو بعامل محذوف خلافا للزجاج ومتابعيه في قولهم: بذلك لما يلزم عليه من تعدي الفعل المتعدي بنفسه إلى مفعوله بالواسطة وهو لا يحتاج إليها فيعطف على محله كما يعطف على لفظه كقوله: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 253 وسن (1) كسنيق سناء وسنما ... ذعرت بمدلاح الهجير نهوض وأنها تتعلق كسائر حروف الجر وقال الرماني وابن طاهر لا تتعلق كالحرف الزائدة وإن التعلق بالعامل الذي يكون خبرا لمجرورها أو عاملا في موضعه أو مفسرا له قاله أبو حيان، وقال ابن هشام: قول الجمهور أنها معدية للعامل إن أرادوا المذكور فخطأ إنه يتعدى بنفسه أو محذوفا يقدر بحصل ونحوه كما صرح به جماعة ففيه تقدير ما معنى الكلام مستغنى عنه ولم يلفظ به في وقت، ثم على التعليق قال لكذة: حذفه لحن، والخليل وسيبويه نادر كقوله: ودوية قفر تمشى نعامها ... كمشي النصارى في خفاف اليرندج (2) أي قطعتها ويرد لكذة هذا وقولهم: رب رجل قائم ورب ابنة خير من ابن، وقوله: الا رب من تغتشه لك ناصح ... ومؤتمن بالغيب غير أمين والفارسي والجزولي كثير وبه جزم ابن الحاجب. ورابعها واجب كما نقله صاحب البسيط عن بعضهم وخامسها، ونقل عن ابن أبي الربيع يجب حذفه إن قامت الصفة مقامه وإلا جاز الأمران سواء كان دليل أم لا؟ ويجب عند المبرد. والفارسي. وابن عصفور، وهو المشهور كما قال أبو حيان: ورأى الأكثرين كونه ماضيا معنى، وقال ابن السراج: يأتي حالا، وابن مالك يأتي مستقبلا واختاره في البحر إلا أنه قال بقلته وكثرة وقوع الماضي، وأنشد له قول سليم القشيري: ومعتصم بالجبن من خشية الردى ... سيردى وغاز مشفق سيؤوب وقول هند: يا رب قائلة غدا ... يا لهف أم معاويه وجعل كابن مالك الآية من ذلك وتأولها الأكثرون بأنه وضع فيها المضارع موضع الماضي على حد ونفخ في الصور وتعقبه ابن هشام بأن فيه تكلفا لاقتضائه أن الفعل المستقبل عبر به عن ماض متجوز به عن المستقبل، وأجاب الشمني بأنه لا تكلف فيه لأنهم قالوا: إن هذه الحالة المستقبلة جعلت بمنزلة الماضي المتحقق فاستعمل معها ربما المختصة بالماضي وعدل إلى لفظ المضارع لأنه كلام من لا خلف في أخباره فالمضارع عنده بمنزلة الماضي فهو مستقبل في التحقيق ماض بحسب التأويل وهو كما ترى، وعن أبي حيان أنه أجاب عن بيت هند بأنه من باب الوصف بالمستقبل لا من باب تعلق رب بما بعدها وهو نظير قولك، رب مسيء اليوم يحسن غدا أي رب رجل يوصف بهذا الوصف وتأول الكوفيون كما في المطول الآية بأنها بتقدير كان أي ربما كان يود الذين كفروا فحذف لكثرة استعمال كان بعد ربما، وضعف ذلك أبو حيان بأن هذا ليس من مواضع إضمار كان، وفي جمع الجوامع وشرحه أن- ما- تزاد بعد رب فالغالب الكلف وإيلائها حينئذ الفعل الماضي لأن التكثير أو التقليل إنما يكون فيما عرف حده والمستقبل مجهول كقوله: ربما أوفيت في علم ... ترفعن ثوبي شمالات وقد يليها المضارع ك رُبَما يَوَدُّ الآية وقد يليها الجملة الاسمية نحو: ربما الجامل المؤبل فيهم. وقد لا تكف نحو:   (1) قوله وسن هو الثور الوحشي، وسنيق كقبيط بيت مجصص كما في القاموس والسنم بضم السين المهملة وفتح النون المشددة بقرة الوحش اه همع، وقوله بمدلاح إلخ وصف للفرس اه منه والمدلاح بالحاء المهملة كثير العرق كما في الدسوقي على المغني اه. [ ..... ] (2) اليرندج السواد يسود به الخف أو هو الزاج اه قاموس. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 254 ربما ضربة بسيف صقيل ... بين بصرى وطعنة نجلاء وقيل: يتعين بعدها الفعلية إذا كفت وإليه ذهب الفارسي وأول البيت على أن ما نكرة موصوفة بجملة حذف مبتدأها أي رب شيء هو الجامل، وقد يحذف الفعل بعدها كقوله: فذلك إن يلق الكريهة يلقها ... حميدا وإن يستغن يوما فربما وقد تلحق بها ما ولا تكف كقوله: ماويّ يا ربتما غارة ... شعواء كالكية بالميسم انتهى. وبنحو تأويل الفارسي البيت أول بعضهم الآية فقال: إن ما نكرة موصوفة بجملة يَوَدُّ إلى آخره والعائد محذوف، والفعل المتعلق به رب محذوف أي رب شيء يوده الذين كفروا تحقق وثبت ونحوه قول ابن أبي الصلت: ربما تجزع النفوس من الأمر ... له فرجة كحل العقال والتزم كون المتعلق محذوفا لأنها حينئذ لا يجوز تعلقها بيود ولا بد لها من فعل تتعلق به على ما صححه جمع، وأما على ما اختاره الرضي من كونها مبتدأ لا خبر له والمعنى قليل أو كثير وداد الذين كفروا فلا حاجة إليه، وهذا التأويل على ما قال السمرقندي أحد قولي البصريين، وتعقبه العلامة التفتازاني بأنه لا يخفى ما فيه من التعسف وبتر النظم الكريم أي قطع لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ عما قبله، ووجه التعسف أن المعنى على تقليل أو تكثير ودادهم لا على تقليل أو تكثير شيء إلا أن يراد رب شيء يودونه من حيث إنهم يودونه، والمختار عندي ما اختاره أبو حيان وكذا صاحب اللب من أن رب تدخل على الماضي والمضارع إلا أن دخولها على الماضي أكثر، ومن تتبع أشعار العرب رأى فيها مما دخلت فيه على المضارع ما يبعد ارتكاب التأويل معه كما لا يخفى على المنصف المتتبع واختلفوا في مفادها هنا فذهب جمع كثير إلى أنه التقليل وهو ظاهر أكثر الآثار حيث دلت على أن ودادهم ذلك عند خروج عصاه المسلمين من جهنم وبقائهم فيها. نعم زعم بعضهم أن الحق أن ما فيها محمول على شدة ودادهم إذ ذاك وأن نفس الوداد ليس مختصا بوقت دون وقت بل هو متقرر مستمر في كل آن يمر عليهم. ووجه الزمخشري الإتيان بأداة التقليل على هذا بأنه وارد على مذهب العرب في قولهم: لعلك ستندم على فعلك وربما ندم الإنسان على ما فعل ولا يشكون في تندمه ولا يقصدون تقليله ولكنهم أرادوا لو كان الندم مشكوكا فيه أو قليلا لحق عليك أن لا تفعل هذا الفعل لأن العقلاء يتحرزون من التعرض للغم المظنون كما يتحرزون من التعرض للغم المتيقن ومن القليل منه كما من الكثير، وكذلك المعنى في الآية لو كانوا يودون الإسلام مرة واحدة فبالحري أن يسارعوا إليه فكيف وهم يودونه في كل ساعة اه. والكلام عليه على ما قيل من الكناية الإيمائية وفي ذلك من المبالغة ما لا يخفى، قال ابن المنير: لا شك أن العرب تعبر عن المعنى بما يؤدي عكس مقصوده كثيرا، ومنه والله تعالى أعلم قَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ [الصف: 5] المقصود منه توبيخهم على أذاهم لموسى عليه السلام على توفر علمهم برسالته ومناصحته لهم، وقوله: قد أترك القرن مصفرا أنامله. فإنه إنما يتمدح بالإكثار من ذلك وقد عبر بقد المفيدة للتقليل، وقد اختلف توجيه علماء البيان لذلك فمنهم من وجهه بما ذكر عن الزمخشري من التنبيه بالأدنى على الأعلى، ومنهم من وجهه بأن المقصود في ذلك الإيذان بأن المعنى قد بلغ الغاية حتى كاد أن يرجع إلى الضد وذلك شأن كل ما بلغ نهايته أن يعود إلى عكسه، وقد أفصح المتنبي عن ذلك بقوله: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 255 ولجدت حتى كدت تبخل حائلا ... للمنتهى ومن السرور بكاء وكلا الوجهين يحمل الكلام على المبالغة بنوع من الإيقاظ إليها، والعمدة في ذلك على سياق الكلام لأنه إذا اقتضى مثلا تكثيرا فدخلت فيه عبارة يشعر ظاهرها بالتقليل استيقظ السامع لأن المراد المبالغة على إحدى الطريقتين المذكورتين، وقال في الكشف: الأصل في هذا الباب أن استعارة أحد الضدين للآخر تفيد المبالغة للتعكيس ولا تختص بالتهكم والتمليح على ما يوهمه ظاهر لفظ صاحب المفتاح في موضع فهو الذي عد المفازة من هذا القبيل لقصد التفاؤل ثم قد يختصر موقعها بفائدة زائدة كما ذكره الزمخشري في هذا المقام، وليس في ذلك كناية إيمائية وإنما ذلك من فوائد هذه الاستعارة وسيجيء إن شاء الله تعالى فيه كلام أتم بسطا في سورة التكوير اه. والحق أنه لا مانع من القول بالكناية الإيمائية كما لا يخفى، وقيل: إن التقليل بالنسبة إلى زمان ذهاب عقلهم من الدهشة بمعنى أنه تدهشهم أهوال القيامة فيبهتون فإن وجدت منهم إفاقة ما تمنوا ذلك، وظاهر صنيع العلامة التفتازاني في المطول اختياره، وجوز أن تكون مستعارة للتكثير والقول بالاستعارة له لا يحتاج إليه على القول المحكي عن صاحب العين ومن معه حسبما سمعت، وذكر ابن الحاجب أنها نقلت من التقليل إلى التحقيق كما تنقل قد إذا دخلت على المضارع منه إليه. ومفعول يَوَدُّ محذوف أي الإسلام بدلالة لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ بناء على أن لَوْ للتمني والجملة في موقع الحال أي قائلين لو كانوا مسلمين، وتقدير المفعول ما ذكرنا هو الذي ذهب إليه غير واحد، وقال الشهاب: تقديره النجاة ولا ينبغي تقدير الإسلام لأنه يصير تقديره يودوا الإسلام لو كانوا مسلمين وهو حشو وفيه نظر. وقال صاحب الفرائد: أن لَوْ كانُوا إلى آخره منزل منزلة المفعول. وتعقب بأنه غير ظاهر إذ ليس ذلك مما يعمل في الجمل إلا أن يكون بمعنى ذكروا التمني ويجري مجرى القول على مذهب بعض النحاة. والغيبة في حكاية ودادتهم كالغيبة في قولك: حلف بالله تعالى ليفعلن ولو قلت لأفلن لجاز، وعلى ذلك جاء قوله تعالى تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ [النمل: 49] بالنون والياء وإيثار الغيبة أكثر لئلا يلبس والتعليل بقلة التقدير ليس بشيء كما كشف ذلك في الكشف، وأنكر قوم ورود لَوْ للتمني، وقالوا ليست قسما برأسها وإنما هي الشرطية أشربت معنى التمني وعلى الأول الأصح لا جواب لها على الأصح. وقد نص على ذلك ابن الضائع وابن هشام الخضراوي، ونقل أنهما قالا تحتاج إلى جواب كجواب الشرط سهو وذكر أبو حيان أن الذي يظهر أنها لا بد لها من جواب لكنه التزم حذفه لإشرابها معنى التمني لأنه متى أمكن تقليل القواعد وجعل الشيء من باب المجاز كان أولى من تكثير القواعد وادعاء الاشتراك لأنه يحتاج إلى وضعين والمجاز ليس فيه إلا وضع واحد وهو الحقيقة، وقيل: إنها هنا امتناعية شرطية والجواب محذوف تقديره لفازوا ومفعول يَوَدُّ ما علمت، وزعم بعضهم مصدريتها فيما إذا وقعت بعد ما يدل على التمني فالمصدر حينئذ هو المفعول وهو على القول بأن ما نكرة موصوفة بدل منها كما في البحر. وقرأ عاصم. ونافع «ربما» بتخفيف الباء وعن أبي عمرو التخفيف والتشديد، وقرأ طلحة بن مصرف وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ربتما بزيادة تاء هذا، وإنما أطنبت الكلام في هذه الآية لا سيما فيما يتعلق- برب- لما أنه قد جرى لي بحث في ذلك مع بعض العظاميين فأبان عن جهل عظيم وحمق جسيم، ورأيته ورب الكعبة أجهل من رأيت من صغار الطلبة- برب- نعم له من العظاميين أمثال أصمهم الله تعالى وأعمى بالهم وقللهم ولا أكثر أمثالهم. ذَرْهُمْ أي اتركهم وقد استغنى غالبا عن ماضيه بماضيه وجاء قليلا وذر، وفي الحديث «ذروا الحبشة ما وذروكم» والمراد من الأمر التخلية بينهم وبين شهواتهم إذ لم تنفعهم النصيحة والانذار كأنه قيل: خلهم وشأنهم يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا بدنياهم، وفي تقديم الأكل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 256 إيذان بأن تمتعهم إنما هو من قبيل تمتع البهائم بالمآكل والمشارب، والفعل وما عطف عليه مجزوم في جواب الأمر، وأشار في الكشاف أن المراد المبالغة في تخليتهم حتى كأنه عليه السلام أمر أن يأمرهم بما لا يزيدهم إلا ندما، ووجهه المدقق صاحب الكشف فقال: أريد الأمر من حيث المعنى لأنه جعل أكلهم وتمتعهم الغاية المطلوبة من الأمر بالتخلية، والغايات المطلوبة إن صح الأمر بها كانت مأمورا بها بنفس الأمر وأبلغ من صريحه فإذا قلت: لازم سدة العالم تعلم منه ما ينجيك في الآخرة كان أبلغ من قولك: لازم وتعلم لأنك جعلت الأمر وسيلة الثاني فهو أشد مطلوبية وإن لم يصح جعلت مأمورا بها مجازا كقولك: اسلم تدخل الجنة، وما نحن فيه لما جعل غاية الأمر على التجوز صار مأمورا به على ما أرشدت إليه اه، وهو من النفاسة بمكان، وظن أن انفهام الأمر من تقدير لامه، قبل الفعل من بعض الأمر، وما في البحر من أنه إذا جعل ذَرْهُمْ أمرا بترك نصيحتهم وشغل باله صلى الله عليه وسلم بهم لا يترتب عليه الجواب لأنهم يأكلون ويتمتعون سواء ترك نصيحتهم أم لا وقوف في ساحل التحقيق كما لا يخفى على من غاص في لجة المعاني فاستخرج درر الأسرار واستظهر أنه أمر بترك قتالهم وتخلية سبيلهم وموادعتهم ثم قال: ولذلك صح أن يكون المذكور جوابا لأنه عليه الصلاة والسلام لو شغلهم بالقتال ومصالتة السيوف وإيقاع الحروب ما هنأهم أكل ولا تمتع ويدل على ذلك أن السورة مكية وهو كما ترى. ثم المراد على ما قيل دوامهم على ما هم عليه لا إحداث ما ذكر أو تمتعهم بلا استمتاع ما ينغص عيشهم والتمتع كذلك أمر حادث يصلح أن يكون مرتبا على تخليتهم وشأنهم فتأمل وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ويشغلهم التوقع لطول الأعمار وبلوغ الأوطار واستقامة الأحوال وأن لا يلقوا إلا خيرا في العاقبة والمآل عن الإيمان والطاعة أو عن التفكر فيما يصيرون إليه فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ سوء صنيعهم إذا عاينوا جزاءه ووخامة عاقبته أو حقيقة الحال التي ألجأتهم إلى التمني. وظاهر كلام الأكثرين أن المراد علم ذلك في الآخرة، وقيل: المراد سوف يعلمون عاقبة أمرهم في الدنيا من الذل والقتل والسبي وفي الآخرة من العذاب السرمدي، وهذا كما قيل مع كونه وعيدا أيما وعيد وتهديد غب تهديد تعليل للأمر بالترك، وفيه إلزام الحجة ومبالغة في الإنذار إذ لا يتحقق الأمر بالضد حسبما علمت إلا بعد تكرر الإنذار وتقرر الجحود والإنكار ومن أنذر فقد أعذر، وكذلك ما ترتب عليه من الأكل وما بعده، وفي الآية إشارة إلى أن التلذذ والتنعم وعدم الاستعداد للآخرة والتأهب لها ليس من أخلاق من يطلب النجاة، وجاء عن الحسن: ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل. وأخرج أحمد في الزهد. والطبراني في الأوسط. والبيهقي في شعب الإيمان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده لا أعلمه إلا رفعه قال: صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين ويهلك آخرها بالبخل والأمل. وفي بعض الآثار عن علي كرم الله تعالى وجهه: إنما أخشى عليكم اثنتين طول الأمل واتباع الهوى فإن طول الأمل ينسي الآخرة واتباع الهوى يصد عن الحق. وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ أي قرية من القرى بالخسف بها وبأهلها الكافرين كما فعل ببعضها أو بإخلائها عن أهلها بعد إهلاكهم كما فعل بآخرين إِلَّا وَلَها في ذلك الشأن كِتابٌ أجل مقدر مكتوب في اللوح مَعْلُومٌ لا ينسى ولا يغفل عنه حتى يتصور التخلف عنه بالتقدم والتأخر، وهذا شرع في بيان سر تأخير عذابهم. وكِتابٌ مبتدأ خبره الظرف والجملة حال من قَرْيَةٍ ولا يلزم تقدمها لكون صاحبها نكرة لأنها واقعة بعد النفي وهو مسوغ لمجيء الحال لأنه في معنى الوصف لا سيما وقد تأكد بكلمة مِنْ والمعنى ما أهلكنا قرية من القرى في حال من الأحوال إلا حال أن يكون لها كتاب معلوم لا نهلكها قبل بلوغه ولا نغفل عنه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 257 ليمكن مخالفته، أو مرتفع بالظرف والجملة كما هي حال أيضا أي ما أهلكنا قرية من القرى في حال من الأحوال إلا وقد كان لها في حق إهلاكها أجل مقدر لا يغفل عنه. وقال الزمخشري الجملة صفة- لقرية- والقياس أن لا يتوسط الواو بينهما كما في قوله تعالى: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ [الشعراء: 208] وإنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف كما يقال في الحال: جاءني زيد عليه ثوب وجاءني وعليه ثوب، ووافقه على ذلك أبو البقاء، وتعقبه في البحر بأنا لا نعلم أحدا قاله من النحاة، وهو مبني على أن ما بعد ألا يجوز أن يكون صفة، وقد صرح الأخفش. والفارسي بمنع ذلك، وقال ابن مالك: أن جعل ما بعد إلا صفة لما قبلها مذهب لم يعرف لبصري ولا كوفي فلا يلتفت إليه وأبطل القول بأن الواو توسطت لتأكيد اللصوق. ونقل عن منذر بن سعيد أن هذه الواو هي التي تعطي أن الحالة التي بعدها في اللفظ هي في الزمن قبل الحالة التي قبل الواو، ومنه قوله تعالى: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: 71، 73] واعتذر السكاكي بأن ذلك سهو ولا عيب فيه، ولم يرض بذلك صاحب الكشف وانتصر للزمخشري فقال: قد تكرر هذا المعنى منهم في هذا الكتاب فلا سهو كما اعتذر صاحب المفتاح، وإذا ثبت اقحام الواو كما عليه الكوفيون والقياس لا يدفعه لثبوته في الحال وفيما أضمر بعده الجار في نحو بعت الشاء شاة ودرهما وكم وكم، وهذه تدل على أن الاستعارة شائعة في الواو نوعية بل جنسية فلا نعتبر النقل الخصوصي ولا يكون من إثبات اللغة بالقياس لثبوت النقل عن نحارير الكوفة واعتضاده بالقياس، والمعنى ولا يبعد من صاحب المعاني ترجيح المذهب الكوفي إذا اقتضاه المقام كما رجحوا المذهب التميم على الحجازي (1) في باب الاستثناء عنده، ولا خفاء أن المعنى على الوصف أبلغ وأن هذا الوصف ألصق بالموصوف منه في قوله تعالى: إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ [الشعراء: 208] لأنه لازم عقلي وذلك عادي جرى عليه سنة الله تعالى اه. وفي الدر المصون أنه قد سبق الزمخشري إلى ما قاله ابن جني وناهيك به من مقتدى. قال بعض المحققين: إن الموصوف ليس القرية المذكورة وإنما هو قرية مقدرة وقعت بدلا من المذكورة على المختار فيكون ذلك بمنزلة كون الصفة لها أي ما أهلكنا قرية من القرى إلا قرية لها كتاب معلوم كما في قوله تعالى: ْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ [الغاشية: 6، 7] فإن لا يُسْمِنُ إلخ صفة لكن لا للطعام المذكور لأنه إنما يدل على انحصار طعامهم الذي لا يسمن ولا يغني من جوع في الضريع، وليس المراد ذلك بل للطعام المقدر بعد إِلَّا أي ليس لهم طعام من شيء من الأشياء إلا طعام لا يسمن إلخ فليس هناك الفصل بين الموصوف والصفة بإلا، وأما توسيط الواو وإن كان القياس عدمه فللإيذان بكمال الاتصال انتهى. ولا يخفى أنه لم يأت في أمر التوسيط بما يدفع عنه القال والقيل، وما ذكره من تقدير الموصوف بعد- إلا- يدفع حديث الفصل لكن نقل أبو حيان عن الأخفش أنه قال بعد منع الفصل بين الصفة والموصوف بالا: ونحو ما جاءني رجل إلا راكب تقديره إلا رجل راكب، وفيه قبح لجعلك الصفة كالاسم، ولعل الجواب عن هذا سهل. وقرأ ابن أبي عبلة إِلَّا لَها بإسقاط الواو، وهو على ما قيل يؤيد القول بزيادتها، ولما بين سبحانه أن الأمم المهلكة كان لكل منهم ومن غيرهم لهم كتاب لا يمكن التقدم عليه ولا التأخر عنه فقال عز قائلا: ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ من الأمم المهلكة وغيرهم- فمن- مزيدة   (1) وذلك أن بني تميم يجوزون الرفع في الاستثناء المنقطع وقد قال تعالى قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ والمعنى الصحيح فيه على الانقطاع وعلى الاتصال يحتاج إلى تكلف لصحة المعنى فافهم اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 258 للاستغراق، وقيل: إنها للتبعيض وليس بذاك أَجَلَها المكتوب في كتابها أي لا يجيء هلاكها قبل مجيء كتابها أولا تمضي أمة قبل مضي أجلها، فإن السبق كما نقل الإمام عن الخليل إذا كان واقعا على زماني فمعناه المجاوزة والتخليف فإذا قلت: سبق زيد عمرا فمعناه أنه جاوزه وخلفه وراءه وأن عمرا قصرا عنه ولم يبلغه وإذا كان واقعا على زمانه كان على عكس ذلك فإذا قلت سبق فلان عام كذا كان معناه مضى قبل إتيانه ولم يبلغه والسر في ذلك على ما في إرشاد العقل السليم أن الزمان يعتبر فيه الحركة والتوجه فما سبقه يتحقق قبل تحققه وأما الزماني فإنما يعتبر فيه الحركة والتوجه إلى ما سيأتي من الزمان فالسابق ما تقدم إلى المقصد، وإيراده بعنوان الأجل باعتبار ما يقتضيه من السبق كما ان إيراده بعنوان الكتاب باعتبار ما يوجبه من الإهلاك وَما يَسْتَأْخِرُونَ أي وما يتأخرون. وصيغة الاستفعال للإشعار بعجزهم عن ذلك مع طلبهم له، وإيثار صيغة المضارع في الفعلين بعد ما ذكر نفي الإهلاك بصيغة الماضي لأن المقصود بيان دوامهما فيما بين الأمم الماضية والباقية، وله نظائر في كتاب الكريم وإسنادهما إلى الأمة بعد إسناد الإهلاك إلى القرية لما أن السبق والاستئخار حال الأمة بدون القرية مع ما في الأمة من العموم لأهل تلك القرى وغيرهم ممن أخرت عقوباتهم إلى الآخرة، وتأخير عدم سبقهم مع كون المقام مقام المبالغة في بيان تحقق عذابهم إما باعتبار تقدم السبق في الوجود وإما باعتبار أن المراد بيان سر تأخير عذابهم مع استحقاقهم لذلك، وأورد الفعل على صيغة جمع المذكر رعاية لمعنى أُمَّةٍ مع التغليب كما روعي لفظها أولا مع رعاية الفواصل ولهذا حذف الجار والمجرور والجملة مبينة لما سبق ولذا فصلت، والمعنى أن تأخير عذابهم إلى يوم الودادة حسبما أشير إليه إنما هو لتأخير أجلهم المقدر لما يقتضيه من الحكم ومن جملة ذلك ما علم الله تعالى من إيمان بعض من يخرج منهم قاله شيخ الإسلام واستدل بالآية على أن كل من مات أو قتل فإنما هو ميت بأجله وقد بين ذلك الإمام. وَقالُوا شروع في بيان كفرهم بمن أنزل عليه الكتاب المتضمن للكفر به وبيان ما يؤول إليه حالهم، والقائل أهل مكة قال مقاتل: نزلت الآية في عبد الله بن أمية. والنضر بن الحرث. ونوفل بن خويلد. والوليد بن المغيرة وهم الذين قالوا له صلى الله عليه وسلم: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ أي القرآن، وخاطبوه عليه الصلاة والسلام بذلك مع أنهم الكفرة الذين لا يعتقدون نزول شيء استهزاء وتهكما وإشعارا بعلة الباطل في قولهم: إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ يعنون يا من يدعي مثل هذا الأمر العظيم الخارق للعادة إنك بسبب تلك الدعوى متحقق جنونك على أتم وجه، وهذا كما يقول الرجل لمن يسمع منه كلاما يستبعده: أنت مجنون، وقيل: حكمهم هذا لما يظهر عليه الصلاة والسلام من شبه الغشي حين ينزل عليه الوحي بالقرآن، والأول على ما قيل هو الأنسب بالمقام، وذهب بعضهم إلى أن المقول الجملة المؤكدة دون النداء أما هو فمن كلام الله تعالى تبرئة له عليه الصلاة والسلام عما نسبوه إليه من أول الأمر. وتعقب بأنه لا يناسب قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ إلخ فإنه كما سيأتي إن شاء الله تعالى رد لإنكارهم واستهزائهم، وقد يجاب بأن ذلك على هذا رد لما عنوه في ضمن قولهم المذكور لكن الظاهر كون الكل كلامهم. وقد سبقهم إلى نظيره فرعون عليه اللعنة بقوله في حق موسى عليه السلام: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء: 27] وتقديم الجار والمجرور على نائب الفاعل كما قيل لأن إنكارهم متوجه إلى كون النازل ذكرا من الله تعالى لا إلى كون المنزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد تسليم كون النازل منه تعالى كما في قوله سبحانه: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] فإن الإنكار هناك متوجه إلى كون المنزل عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام. وإيراد الفعل على صيغة المجهول لإيهام أن ذلك ليس بفعل له فاعل أو لتوجيه الإنكار إلى كون التنزيل عليه لا إلى إسناده إلى الفاعل. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما نزل عليه الذكر بتخفيف نُزِّلَ مبنيا للفاعل ورفع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 259 الذِّكْرُ على الفاعلية، وقرئ «يا أيها الذي ألقي عليه الذكر» . قال أبو حيان: وينبغي أن تجعل هذه القراءة تفسيرا لمخالفتها سواد المصحف لَوْ ما تَأْتِينا كلمة لَوْ ما كلولا تستعمل في أحد معنيين امتناع الشيء لوجود غيره والتخفيض وعند إرادة الثاني منها لا يليها إلا فعل ظاهر أو مضمر وعند إرادة الأول لا يليها إلا اسم ظاهر أو مقدر عند البصريين، ومنه قول ابن مقبل: لوما الحياء ولوما الدين عبتكما ... ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري وعن بعضهم أن الميم في لَوْ ما بدل من اللام في لولا، ومثله استولى واستومى وخاللته وخالمته فهو خلي وخلمي أي صديقي. وذكر الزمخشري أن لو تركب مع لاوما لمعنيين وهل لا تركب إلا مع لا وحدها للتحضيض، واختار أبو حيان فيهما البساطة وأن الميم ليست بدلا من اللام، وقال المالقي: إن لَوْ ما لا ترد إلا للتحضيض وهو محجوج بالبيت السابق، وأيّا ما كان فالمراد هنا التحضيض أي هلا تأتينا بِالْمَلائِكَةِ يشهدون لك ويعضدونك في الانذار كقوله تعالى حكاية عنهم: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [الفرقان: 7] أو يعاقبون على تكذيبك كما كانت تأتي الأمم المكذبة لرسلهم إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك إن قدرة الله تعالى على ذلك مما لا ريب فيه وكذا احتياجك إليه في تمشية أمرك إذ لا نصدقك في ذلك الأمر الخطير بدونه أو إن كنت من جملة تلك الرسل الصادقين الذين عذبت أممهم المكذبة لهم ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بالنون على بناء الفعل لضمير الجلالة من التنزيل، وهي قراءة حفص. والأخوين وابن مصرف وقرأ أبو بكر عن عاصم. ويحيى بن وثاب «تنزّل الملائكة» بضم التاء وفتح النون والزاي مبنيا للمفعول ورفع «الملائكة» على النيابة عن الفاعل وقرأ الحرميان وباقي السبعة «تنزل الملائكة» بفتح التاء والزاي على أن الأصل «تتنزل» بتاءين فحذفت إحداهما تخفيفا ورفع الملائكة على الفاعلية وإبقاء الفعل على ظاهره أولى من جعله بمعنى تنزل الثلاثي. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «ما نزل» ماضيا مخففا مبنيا للفاعل ورفع الملائكة على الفاعلية. والبيضاوي بنى تفسيره على أن الفعل ينزل بالياء التحتية مبنيا للفاعل وهو ضمير الله تعالى والْمَلائِكَةَ بالنصب على أنه مفعوله، واعترض عليه أنه لم يقرأ بذلك أحد من العشرة بل لم توجد هذه القراءة في الشواذ وهو خلاف ما سلكه في تفسيره، ولعله رحمه الله تعالى قدسها. وهذا الكلام مسوق منه سبحانه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم جوابا لهم عن مقالتهم المحكية وردا لاقتراحهم الباطل الصادر عن محض التعصب والعناد، ولشدة استدعاء ذلك للجواب قدم رده على ما هو جواب عن أولها أعني قوله سبحانه: إِنَّا نَحْنُ إلخ والعدول عن تطبيقه لظاهر كلامهم بصدد الاقتراح بأن يقال مثلا ما تأتيهم بهم للإيذان بأنهم قد اخطؤوا في الاقتراح وأن الملائكة لعلو رتبتهم أعلى من أن ينسب إليهم مطلق الإتيان الشامل للانتقال من أحد الأمكنة المتساوية إلى الآخر منها بل من الأسفل إلى الأعلى وأن يكون مقصد حركاتهم أولئك الكفرة وأن يدخلوا تحت ملكوت أحد من البشر وإنما الذي يليق بشأنهم النزول من مقامهم العالي وكون ذلك بطريق التنزيل من جناب الرب الجليل قاله شيخ الإسلام. وقيل: لعل هذا جواب لما عسى أن يخطر بخاطره الشريف عليه الصلاة والسلام حين طلبوا منه الإتيان بالملائكة من سؤال التنزيل رغبة في إسلامهم فيكون وجه ذكر التنزيل ظاهرا وهو غير ظاهر كما لا يخفى. إِلَّا بِالْحَقِّ أي إلا تنزيلا ملتبسا بالوجه الذي اقتضته الحكمة فالباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الصفة للمصدر المحذوف مستثنى استثناء مفرغا، وجوز فيه الحالية من الفاعل والمفعول. وجوز أبو البقاء أن تكون الباء للسببية متعلقة بننزل وإليه يشير كلام ابن عطية الآتي إن شاء الله تعالى والأول أولى ومقتضى الحكمة التشريعية والتكوينية على ما قيل أن تكون الملائكة المنزلون بصور البشر وتنزيلهم كذلك يوجب اللبس كما قال الله تعالى وَلَوْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 260 جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ [الأنعام: 9] وهذا إشارة إلى نفي ترتب الغرض وعدم النفع في ذلك، وقوله تعالى: وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ إشارة إلى حصول الضرر وترتب نقيض المطلوب وكأنه عطف على مقدر يقتضيه الكلام السابق كأنه قيل: ما ننزل الملائكة عليهم إلا بصور الرجال لأنه الذي تقتضيه الحكمة فيحصل اللبس فلا ينفعون وما كانوا إذا أنزلناهم منظرين أي ويتضررون بتنزيلهم لأنا نهلكهم لا محالة ولا نؤخرهم لأنه قد جرت عادتنا في الأمم قبلهم أنا لم نأتهم بآية اقترحوها إلا والعذاب في أثرها إن لم يؤمنوا وقد علمنا منهم ذلك والمقصود نفي أن يكون لاقتراحهم الإتيان بهم وجه على أتم وجه بالإشارة إلى عدم نفعه أولا والتصريح بضرره ثانيا، وقيل: يقدر المعطوف عليه لا يؤمنون كأنه قيل: ما ننزل الملائكة إلا بصور البشر لاقتضاء الحكمة ذلك فلا يؤمنون وما كانوا إذا منظرين، وفي النفس من هذا ومما قبله شيء. وقال بعض المحققين: إن المعنى ما ننزل الملائكة إلا ملتبسا بالوجه الذي يحق ملابسة التنزيل به مما تقتضيه الحكمة وتجري به السنة الإلهية، والذي اقترحوه من التنزيل لأجل الشهادة لديهم وهم- هم- ومنزلتهم في الحقائق منزلتهم مما لا يكاد يدخل تحت الصحة والحكمة أصلا فإن ذلك من باب التنزيل بالوحي الذي لا يكاد يفتح على غير الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام من أفراد كل المؤمنين فكيف على أمثال أولئك الكفرة اللئام، وإنما الذي يدخل في حقهم تحت الحكمة في الجملة هو التنزيل للتعذيب والاستئصال كما فعل بأضرابهم من الأمم السالفة ولو فعل ذلك لاستؤصلوا بالمرة وما كانوا إذا مؤخرين كدأب سائر الأمم المكذبة المستهزئة، ومع استحقاقهم لذلك قد جرى قلم القضاء بتأخير عذابهم إلى يوم القيامة حسبما أجمل في الآيات قبل، وحال حائل الحكمة يأباه تماديهم في الكفر والعناد- فما كانوا- إلخ جواب لشرط مقدر أي ولو أنزلناهم ما كانوا إلخ. واعترض بأن الأوفق بقوله تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا [الأنعام: 9] أن يكون الوجه الذي يحق ملابسة التنزيل به لمثل غرضهم كونهم بصور الرجال وذلك ليس من باب التنزيل بالوحي الذي لا يكاد يكون لهم أصلا فلا يتم كلامه، وفيه بحث كما لا يخفى، وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن مجاهد تفسير الحق هنا بالرسالة والعذاب، ووجهت الآية على ذلك نحو هذا التوجيه فقيل: المعنى ما ننزل الملائكة إلا بالرسالة والعذاب ولو نزلناهم عليهم ما كانوا منظرين لأن التنزيل عليهم بالرسالة مما لا يكاد فتعين أن يكون التنزيل بالعذاب، وذكر الماوردي الاقتصار على الرسالة، وروي عن الحسن الاقتصار على العذاب، وفي معنى ذلك ما روي عن ابن عباس من أن المعنى ما ننزل الملائكة إلا بالحق الذي هو الموت الذي لا يقع فيه تقديم ولا تأخير. وقال ابن عطية: الحق ما يجب ويحق من الوحي والمنافع التي أرادها الله تعالى لعباده، والمعنى ما ننزل الملائكة إلا بحق واجب من وحي ومنفعة لا باقتراحكم، وأيضا لو نزلنا لم تنظروا بعد ذلك بالعذاب لأن عادتنا إهلاك الأمم المقترحة إذا آتيناهم ما اقترحوه، وفيه ما فيه، وقال الزمخشري: المعنى ألا تنزلا ملتبسا بالحكمة والمصلحة ولا حكمة في أن تأتيكم عيانا تشاهدونهم ويشهدون لكم بصدق النبي صلى الله عليه وسلم لأنكم حينئذ مصدقون عن اضطرار، وهو مبني على أن الإنزال بصورهم الحقيقة، ومنه أخذ صاحب القيل المذكور أولا قيله. والبيضاوي جعل المنافي للحكمة إنزالهم بصور البشر حيث قال: لا حكمة في أن تأتيكم بصور تشاهدونها فإنه لا يزيدكم إلا لبسا. وقال بعضهم: أريد أن إنزال الملائكة لا يكون إلا بالحق وحصول الفائدة بإنزالهم وقد علم الله تعالى من حال هؤلاء الكفرة أنه لو أنزل إليهم الملائكة لبقوا مصرين على كفرهم فيصير إنزالهم عبثا باطلا ولا يكون حقا، وتعقب الأقوال الثلاثة البعض من المحققين بأنه مع إخلال كل من ذلك بفظيعة الآتي لا يلزم من فرض وقوع شيء من ذلك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 261 تعجيل العذاب الذي يفيده قوله سبحانه: وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ ومن الناس من تكلف لتوجيه اللزوم على بعض هذه الأقوال بما تكلف، واختار بعضهم كون المراد من الحق الهلاك والجملة بعد جواب سؤال مقدر فكأنه لما قيل: ما ننزل الملائكة إلا بالهلاك إذ هو الذي يحق لأمثالهم من المعاندين قيل: فليكن ذلك فأجيب بأنه لو فعلنا ما كانوا منظرين أي وهم قد كانوا منظرين كما أجمل فيما قبل من قوله سبحانه: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر: 3] وحاصل الجواب حينئذ على ما قيل أن ما طلبوه من الإتيان بالملائكة ليشهدوا بصدق النبي صلى الله عليه وسلم مما لا يكون لهم لأن ما اقتضته حكمتنا وجرت به عادتنا مع أمثالهم ليس إلا التنزيل بالهلاك دون الشهادة فإن الحكمة لا تقتضيه والعادة لم تجر فيه لأنه إن كان والملائكة بصورهم الحقيقية لم يحصل الإيمان بالغيب ولم يتحقق الاختيار الذي هو مدار التكليف وإن كان وهم بصور البشر حصل اللبس فكان وجوده كعدمه ولزم التسلسل، ويمنع من التنزيل بالهلاك كما فعل مع أضرابهم من المعاندين أنا جعلناهم منظرين فلو نزلنا الملائكة وأهلكناهم عاد ذلك بالنقض لما أبرمناه حسبما نعلم فيه من الحكم، وقيل: في توجيه الآية على تقدير كون اقتراحهم لإتيان الملائكة لتعذيبهم: إن المعنى إنا ما ننزل الملائكة للتعذيب إلا تنزيلا ملتبسا بما تقتضيه الحكمة ولو نزلناهم حسبما اقترحوا ما كان ذلك ملتبسا بما تقتضيه لأنها اقتضت تأخير عذابهم إلى يوم القيامة، وحيث كان في نسبة تنزيلهم للتعذيب إلى عدم موافقة الحكمة نوع إيهام لعدم استحقاقهم التعذيب عدل عما يقتضيه الظاهر إلى ما عليه النظم الكريم فكأنه قيل: لو نزلناهم ما كانوا منظرين وذلك غير موافق للحكمة، فتدبر جميع ذاك والله تعالى يتولى هداك، هذا ولفظة إِذاً قال في الكشاف: جواب وجزاء لأن الكلام جواب لهم وجزاء لشرط مقدر أي ولو نزلنا، وصرح بإفادتها هذا المعنى سيبويه إلا أن الشلوبيين حمل ذلك على الدوام وتكلف له، وأبو علي على الغالب، وقد تتمحض للجواب عنده، وهي حرف بسيط عند الجمهور، وذهب قوم إلى أنها اسم ظرف وأصلها إذا الظرفية لحقها التنوين عوضا من الجملة المضاف إليها ونقلت إلى الجزائية فبقي فيها معنى الربط والسبب وذهب الخليل إلى أنها حرف تركب من إذ وإن وغلب عليها حكم الحرفية ونقلت حركة الهمزة إلى الذال ثم حذفت والتزم هذا النقل فكان المعنى إذا قال القائل أزورك فقلت إذا أزورك قلت حينئذ زيارتي واقعة ولا يتكلم بهذا. وذهب أبو علي عمر بن عبد المجيد الزيدي إلى أنها مركبة من إذا وإن وكلاهما يعطي ما يعطي كل واحدة منهما فيعطي الربط كإذا والنصب كان ثم حذفت همزة إن ثم ألف إذا لالتقاء الساكنين، والظاهر أنه لو قدر في الكلام شرط كانت لمجرد التأكيد، وجعلوا من ذلك قوله تعالى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً [البقرة: 145] إلخ، ونقل عن الكافيجي أنه قال في مثل ذلك: ليست إذا هذه الكلمة المعهودة وإنما هي إذا الشرطية حذفت جملتها التي تضاف إليها وعوض عنها التنوين كما في يومئذ، وله سلف في ذلك فقد قال الزركشي في البرهان بعد ذكره: لإذا معنيين وذكر لها بعض المتأخرين معنى ثالثا وهو أن تكون مركبة من إذا التي هي ظرف زمان ماض ومن جملة بعدها تحقيقا أو تقديرا لكنها حذفت تخفيفا وأبدل منها التنوين كما في قولهم حينئذ، وليست هذه الناصبة للمضارع لأن تلك تختص به وهذه لا بل تدخل على الماضي نحو إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ [الإسراء: 10] وعلى الاسم نحو وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الشعراء: 42] ثم قال: وهذا المعنى لم يذكره النحويون لكنه قياس ما قالوه في إذ، وفي التذكرة لأبي حيان ذكر لي علم الدين أن القاضي تقي الدين بن رزين كان يذهب إلى أن تنوين إذا عوض من الجملة المحذوفة وليس قول نحوي، وقال الجوني: وأنا أظن أنه يجوز أن تقول لمن قال: أنا آتيك إذا أكرمك بالرفع على معنى إذا أتيتني أكرمك فحذفت أتيتني وعوضت التنوين فسقطت الألف لالتقاء الساكنين والنصب الذي اتفق عليه النحاة لحملها على غير هذا المعنى وهو لا ينفي الرفع إذا أريد بها ما ذكر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 262 وذكر الجلال السيوطي أن الإجماع في القرآن على كتابتها بالألف والوقف عليه دليل على أنها اسم منون لا حرف آخره نون خصوصا إذا لم تقع ناصبة للمضارع، فالصواب إثبات هذا المعنى لها كما جنح إليه شيخنا الكافيجي ومن سبق النقل عنه، وعلى هذا فالأولى حملها في الآية على ما ذكر، وقد ذكرنا فيما مضى بعضا من هذا الكلام فتذكر، ثم إنه تعالى رد انكارهم التنزيل واستهزاءهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وسلاه عليه الصلاة والسلام بقوله سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ أي نحن بعظم شأننا وعلو جانبنا نزلنا الذي أنكروه وأنكروا نزوله عليك وقالوا فيك لا دعائه ما قالوا وعملوا منزله حيث بنوا الفعل للمفعول إيماء إلى أنه أمر لا مصدر له وفعل لا فاعل له وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ أي من كل ما يقدح فيه كالتحريف والزيادة والنقصان وغير ذلك حتى إن الشيخ المهيب لو غير نقطة يرد عليه الصبيان ويقول له من كان: الصواب كذا ويدخل في ذلك استهزاء أولئك المستهزئين وتكذيبهم إياه دخولا أوليا، ومعنى حفظه من ذلك عدم تأثيره فيه وذبه عنه، وقال الحسن: حفظه بإبقاء شريعته إلى يوم القيامة، وجوز غير واحد أن يراد حفظه بالإعجاز في كل وقت كما يدل عليه الجملة الاسمية من كل زيادة ونقصان وتحريف وتبديل، ولم يحفظ سبحانه كتابا من الكتب كذلك بل استحفظها جلّ وعلا الربانيين والأحبار فوقع فيها ما وقع وتولى حفظ القرآن بنفسه سبحانه فلم يزل محفوظا أولا وآخرا، وإلى هذا أشار في الكشاف ثم سأل بما حاصله أن الكلام لما كان مسوقا لردهم وقد تم الجواب بالأول فما فائدة التذييل بالثاني؟ وإنما يحسن إذا كان الكلام مسوقا لإثبات محفوظية الذكر أولا وآخرا، وأجاب بأنه جيء به لغرض صحيح وأدمج فيه المعنى المذكور إماما هو أن يكون دليلا على أنه منزل من عند الله تعالى آية، فالأول وإن كان ردا كان كمجرد دعوى فقيل ولولا أن الذكر من عندنا لما بقي محفوظا عن الزيادة والنقصان كما سواه من الكلام، وذلك لأن نظمه لما كان معجزا لم يمكن زيادة عليه ولا نقص للإخلال بالاعجاز كذا في الكشف وفيه إشارة إلى وجه العطف وهو ظاهر. وأنت تعلم أن الإعجاز لا يكون سببا لحفظه عن إسقاط بعض السور لأن ذلك لا يخل بالإعجاز كما لا يخفى، فالمختار أن حفظ القرآن وإبقاءه كما نزل حتى يأتي أمر الله تعالى بالإعجاز وغيره مما شاء الله عزّ وجلّ، ومن ذلك توفيق الصحابة رضي الله تعالى عنهم لجمعه حسبما علمته أول الكاتب. واحتج القاضي بالآية على فساد قول بعض من الإمامية لا يعبأ بهم إن القرآن قد دخله الزيادة والنقصان، وضعفه الإمام بأنه يجري مجرى إثبات الشيء بنفسه لأن للقائلين بذلك أن يقولوا: إن هذه الآية من جملة الزوائد ودعوى الإعجاز في هذا المقدار لا بد لها من دليل. واحتج بها القائلون بحدوث الكلام اللفظي وهي ظاهرة فيه ومن العجب ما نقله عن أصحابه حيث قال: قال أصحابنا في هذه الآية دلالة على كون البسملة آية من كل سورة لأن الله تعالى قد وعد حفظ القرآن والحفظ لا معنى له إلا أن يبقى مصونا من الزيادة والنقصان فلو لم تكن البسملة آية من القرآن لما كان مصونا عن التغيير ولما كان محفوظا عن الزيادة، ولو جاز إن يظن بالصحابة أنهم زادوا لجاز أن يظن بهم أنهم نقصوا وذلك يوجب خروج القرآن عن كونه حجة اه، ولعمري إن تسمية مثل هذا بالخبال أولى من تسميته بالاستدلال، ولا يخفى ما في سبك الجملتين من الدلالة على كمال الكبرياء والجلالة وعلى فخامة شأن التنزيل، وقد اشتملتا على عدة من وجوه التأكيد ونَحْنُ ليس فصلا لأنه لم يقع بين اسمين وإنما هو إما مبتدأ أو توكيد لاسم إن، ويعلم ما قررنا أن ضمير لَهُ للذكر وإليه ذهب مجاهد وقتادة والأكثرون وهو الظاهر، وجوز الفراء وذهب إليه النزر أن يكون راجعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أي وإنا للنبي الذي أنزل عليه الذكر لحافظون من مكر المستهزئين كقوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] والمعول عليه الأول، وأخر هذا الجواب مع أنه رد لأول كلامهم الباطل لما أشرنا إليه فيما مر ولارتباطه بما يعقبه من قوله تعالى: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 263 وَلَقَدْ أَرْسَلْنا أي رسلا كما روي عن ابن عباس وإنما لم يذكر لظهور الدلالة عليه مِنْ قَبْلِكَ متعلق بأرسلنا أو بمحذوف وقع نعتا لمفعوله المحذوف أي رسلا كائنة من قبلك فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ أي فرقهم كما قال الحسن والكلبي، وإليه ذهب الزجاج، وهو وكذا أشياع جمع شيعة وهي والفرقة الجماعة المتفقة على طريقة ومذهب مأخوذ من شاع المتعدي بمعنى تبع لأن بعضهم يشايع بعضا ويتابعه، وتطلق الشيعة على الأعوان والأنصار، وأصل ذلك على ما قيل من الشياع بالكسر والفتح صغار الحطب يوقد به الكبار والمناسبة في ذلك نظرا للإطلاق الثاني ظاهرة وللإطلاق الأول أن التابع من حيث إنه تابع أصغر ممن يتبعه، وإضافته إلى الأولين من إضافة الموصوف إلى صفته عند الفراء ومن حذف الموصوف عند البصريين أي شيع الأمم الأولين، والجار والمجرور متعلق بأرسلنا. ومعنى إرسال الرسل في الشيع جعل كل منهم رسولا فيما بين طائفة منهم ليتابعوه في كل ما يأتي ويذر من أمور الدين وكأنه لو قيل- إلى- بدل فِي لم يظهر إرادة هذا المعنى، وقيل: إنما عدل عن إلى إليها للإعلام بمزيد التمكين، وزعم بعضهم أن الجار والمجرور متعلق بمحذوف هو صفة للمفعول المقدر أو حال ولا يخفى بعده. وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ حكاية حال ماضية كما قال الزمخشري لأن ما لا تدخل على مضارع إلا وهو في موضع الحال ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال وهو قول الأكثرين، وقال بعضهم: إن الأكثر دخول ما على المضارع مرادا به الحال وقد تدخل عليه مرادا به الاستقبال، وأنشد قول أبي ذؤيب: أودى بنيّ وأودعوني حسرة ... عند الرقاد وعبرة ما تقلع وقول الأعشى يمدح النبي صلى الله عليه وسلم: له نافلات ما يغبّ نوالها ... وليس عطاء اليوم مانعه غدا وقال تعالى: ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي [يونس: 15] ولعله المختار وإن كان ما هنا على الحكاية، والمراد نفي إتيان كل رسول لشيعته الخاصة به لا نفي إتيان كل رسول لكل واحدة من تلك الشيع جميعا أو على سبيل البدل أي ما أتى شيعة من تلك الشيع رسول خاص بها إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ كما يفعله هؤلاء الكفرة، والجملة- كما قال أبو البقاء- في محل النصب على أنها حال من ضمير المفعول في يأتيهم إن كان المراد بالإتيان حدوثه أو في محل الرفع أو الجر على أنها صفة رسول على لفظه أو موضعه لأنه فاعل، وتعقب جعلها صفة باعتبار لفظه بأنه يفضي إلى زيادة من الاستغراقية في الإثبات لمكان إِلَّا وتقدير العمل في النعت بعدها. وجوز أن تكون نصبا على الاستثناء وإن كان المختار الرفع على البدلية، وهذا كما ترى تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن هذه شنشنة جهال الأمم مع المرسلين عليهم السلام قبل، وحيث كان الرسول مصحوبا بكتاب من عند الله تعالى تضمن ذكر استهزائهم بالرسول استهزاءهم بالكتاب ولذلك قال سبحانه: كَذلِكَ أي مثل السلك الذي سلكناه في قلوب أولئك المستهزئين برسلهم وبما جاؤوا به نَسْلُكُهُ أي ندخله يقال: سلكت الخيط في الإبرة والسنان في المطعون أي أدخلت: وقرئ نَسْلُكُهُ و «سلك» و «أسلك» كما ذكر أبو عبيدة بمعنى واحد، والضمير عند جمع ومنهم الحسن على ما ذكره الغزنوي للذكر فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ أي أهل مكة أو جنس المجرمين فيدخلون فيه دخولا أوليا، ومعنى المثلية كونه مقرونا بالاستهزاء غير مقبول لما تقتضيه الحكمة، وحاصله إنه تعالى يلقي القرآن في قلوب المجرمين مستهزأ به غير مقبول لأنهم من أهل الخذلان ليس لهم استحقاق لقبول الحق كما ألقى سبحانه كتب الرسل عليهم السلام في قلوب شيعهم مستهزأ بها غير مقبولة لذلك، وصيغة المضارع لكون المشبه به مقدما في الوجود وهو السلك الواقع في شيع الأولين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 264 لا يُؤْمِنُونَ بِهِ الضمير للذكر أيضا، والجملة في موضع الحال من مفعول نَسْلُكُهُ أي غير مؤمن به، وهي إما مقدرة وإما مقارنة على معنى أن الإلقاء وقع بعده الكفر من غير توقف فهما في زمان واحد عرفا، ويجوز أن تكون بيانا للجملة السابقة فلا محل لها من الإعراب، قال في الكشف: وهو الأوجه لأن في طريقة الإبهام والتفسير لا سيما في هذا المقام ما يجل موقع الكلام. وفي إرشاد العقل السليم أنه قد جعل ضمير نَسْلُكُهُ للاستهزاء المفهوم من يَسْتَهْزِؤُنَ فتتعين البيانية إلا أن يجعل ضمير بِهِ له أيضا على أن الباء للملابسة أي يسلك الاستهزاء في قلوبهم حال كونهم غير مؤمنين بملابسة الاستهزاء، وقد ذهب إلى جواز إرجاع الضميرين إلى الاستهزاء ابن عطية إلا أنه جعل الباء للسببية، وكذا الفاضل الجلبي، ولا يخفى أن بعد ذلك يغني عن رده. وذهب البيضاوي إلى كون الضمير الأول للاستهزاء وضمير بِهِ للذكر وتفريق الضمائر المتعاقبة على الأشياء المختلفة إذ دل الدليل عليه ليس ببدع في القرآن، وجوز على هذا كون الجملة حالا من الْمُجْرِمِينَ ولا يتعين كونها حالا من الضمير ليتعين رجوعه للذكر، وذكر أن عوده على الاستهزاء لا ينافي كونها مفسرة بل يقويه إذ عدم الإيمان بالذكر أنسب بتمكن الاستهزاء في قلوبهم، وجعل الآية دليلا على أنه تعالى يوجد الباطل في قلوبهم ففيها رد على المعتزلة في قولهم: إنه قبيح فلا يصدر منه سبحانه، وكأنه رحمه الله تعالى ظن أن ما فعله الزمخشري من جعل الضميرين للذكر كان رعاية لمذهبه ففعل ما فعل، ولا يخفى أنه لم يصب المحز وغفل عن قولهم: الدليل إذا طرقه الاحتمال بطل به الاستدلال. وفي الكشف بعد كلام أن رجع الضمر إلى الاستهزاء أو الكفر مع ما فيه من تنافر النظم لا ينكره أهل الاعتزال إلا كإنكار سلك الذكر بصفة التكذيب والتأويل كالتأويل، وكأنهم غفلوا عما ذكره جار الله في الشعراء حيث أجاب عن سؤال إسناد سلك الذكر بتلك الصفة إلى نفسه جل وعلا بأن المراد تمكنه مكذبا في قلوبهم أشد التمكن كشيء جبلوا عليه ولخص المعنى هاهنا بأنه تعالى يلقيه في قلوبهم مكذبا لا أن التكذيب فعله سبحانه. نعم أخرج ابن أبي حاتم عن أنس. والحسن تفسير ضمير نَسْلُكُهُ إلى الشرك، وأخرج هو وابن جرير عن ابن زيد أنه قال في الآية: هم كما قال الله تعالى هو أضلهم ومنعهم الإيمان لكن هذا أمر وما نحن فيه آخر، واعترض بعضهم رجوع الضمير إلى الذِّكْرَ بأن نون العظمة لا تناسب ذلك فإنها إنما تحسن إذا كان فعل المعظم نفسه فعلا يظهر له أثر قوي وليس كذلك هنا فإنه تدافع وتنازع فيه. وأجاب بأن المقام إذا كان للتوبيخ يحسن ذلك، ولا يلزم أن تكون العظمة باعتبار القهر والغلبة فقد تكون باعتبار اللطف والإحسان. وتعقب ذلك الشهاب بقوله: لا يخفى أنه باعتبار القهر والغلبة يقتضي أن يؤثر ذلك في قلوبهم وليس كذلك لعدم إيمانهم به، وكذا باعتبار اللطف والإحسان يقتضي أن يكون سلكه في قلوبهم إنعاما عليهم فأي إنعام عليهم بما يقتضي الغضب فلا وجه لما ذكر، وأنت تعلم أنه إذا كان المراد سلك ذلك وتمكينه في قلوبهم مكذبا به غير مقبول فكون الإسناد باعتبار القهر والغلبة مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان، والأثر الظاهر القوي لذلك بقاؤهم على الكفر والإصرار على الضلال ولو جاءتهم كل آية، ولا يخفى ما في كَذلِكَ مما يناسب نون العظمة أيضا وقد مر التنبيه عليه غير مرة وَقَدْ خَلَتْ مضت سُنَّةُ طريقة الْأَوَّلِينَ والمراد عادة الله تعالى فيهم على أن الإضافة لأدنى ملابسة لا على أن الإضافة بمعنى في، والمراد بتلك العادة على تقدير أن يكون ضمير نَسْلُكُهُ للاستهزاء الخذلان وسلك الكفر في قلوبهم أن قد مضت عادته سبحانه وتعالى في الأولين ممن بعث إليهم الرسل عليهم السلام أن يخذلهم ويسلك الكفر والاستهزاء في قلوبهم، وعلى تقدير أن يكون للذكر الإهلاك، وعلى هذا قول الزمخشري أي مضت طريقتهم التي سنها الله تعالى في إهلاكهم حين كذبوا برسلهم والمنزل عليهم، وذكر أنه وعيد لأهل مكة على تكذيبهم، وإلى الأول ذهب الزجاج، وادعى الإمام أنه الأليق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 265 بظاهر اللفظ وبين ذلك الطيبي قائلا: إن التعريف في الْمُجْرِمِينَ للعهد، والمراد بهم المكذبون من قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم المذكورون بعد أن مثل ذلك السلك الذي سلكناه في قلوب أولئك المستهزئين المكذبين للرسل الماضين نسلكه في قلوب هؤلاء المجرمين فلك أسوة بالرسل الماضية مع أممهم المكذبة، ولست بأوحدي في ذلك وقد خلت سنة الأولين، والمقام يقتضي التقرير والتأكيد فيكون في هذا مزيد تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام، والوعيد بعيد لأنه لم يسبق لإهلاك الأمم ذكر، وإيثار ذلك لأنه أقرب إلى مذهب الاعتزال اه. وفيه غفلة عن مغزى الزمخشري، وقد تفطن لذلك صاحب الكشف ولله تعالى دره حيث قال: أراد أن موقع قَدْ خَلَتْ إلى آخره موقع الغاية في الشعراء أعني قوله تعالى هنالك: حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس: 88، 97، الشعراء: 201] . فإنهم لما شبهوا بهم قيل: لا يؤمنون وقد هلك من قبلهم ولم يؤمنوا فكذلك هؤلاء، ومنه يظهر أن الكلام على هذا الوجه شديد الملاءمة، وأما أن الوعيد بعيد لعدم سبق ذكر لإهلاك الأمم ففيه أن لفظ السنة مضافا إلى ما أضيف إليه ينبئ عن ذلك أشد الإنباء، ثم إنه ليس المقصود منه الوعيد على ما قررناه، وقد صرح أيضا بعض الأجلة أن الجملة استئنافية جيء بها تكملة للتسلية وتصريحا بالوعيد والتهديد، ثم ما ذهب إليه الزمخشري من المراد بالسنة مروي عن قتادة. فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عنه أنه قال في الآية: قد خلت وقائع الله تعالى فيمن خلا من الأمم. وعن ابن عباس أن المراد سنتهم في التكذيب، ولعل الإضافة على هذا على ظاهرها. وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أي على هؤلاء المقترحين المعاندين باباً مِنَ السَّماءِ ظاهره بابا ما لا بابا من أبوابها المعهودة كما قيل: فَظَلُّوا فِيهِ أي في ذلك الباب يَعْرُجُونَ يصعدون حسبما نيسره لهم فيرون ما فيها من الملائكة والعجائب طول نهارهم مستوضحين لما يرونه كما يفيده- ظلوا- لأنه يقال ظل يعمل كذا وإذا فعله في النهار حيث يكون للشخص ظل، وجوز في البحر كون ظل بمعنى صار وهو مع كونه خلاف الأصل مما لا داعي إليه، وأيّا ما كان فضمير الجمع للمقترحين، وهو الظاهر المروي عن الحسن وإليه ذهب الجبائي وأبو مسلم، وأخرج ابن جريج عن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه للملائكة وروي ذلك عن قتادة أيضا أي فظل الملائكة الذين اقترحوا إتيانهم يعرجون في ذلك الباب وهم يرونهم على أتم وجه. وقرأ الأعمش. وأبو حيوة «يعرجون» بكسر الراء وهي لغة هذيل في العروج بمعنى الصعود لَقالُوا لفرط عنادهم وغلوهم في المكابرة وتفاديهم عن قبول الحق: إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا أي سدت ومنعت من الإبصار حقيقة وما نراه تخيل لا حقيقة له، أخرجه ابن أبي حاتم وغيره عن مجاهد، وروي أيضا عن ابن عباس. وقتادة فهو من السكر بالفتح، وقال أبو حيان: بالكسر السد والحبس، وقال ابن السيد: السكر بالفتح سد الباب والنهر وبالكسر السد نفسه ويجمع على سكور، قال الرفاء: غناؤنا فيه ألحان السكور إذا ... قل الغناء ورنات النواعير ويشهد لهذا المعنى قراءة ابن كثير والحسن ومجاهد «سكرت أبصارنا» بتخفيف الكاف مبنيا للمفعول لأن سكر المخفف المتعدي اشتهر في معنى السد، وعن عمرو بن العلاء أن المراد حيرت فهو من السكر بالضم ضد الصحو، وفسروه بأنه حالة تعرض بين المرء وعقله، وأكثر ما يستعمل ذلك في الشراب وقد يعتري من الغضب والعشق، ولذا قال الشاعر: سكران سكر هوى وسكر مدامة ... أنّى يفيق فتى به سكران والتشديد في ذلك للتعدية لأن سكر كفرح لازم في الأشهر وقد حكى تعديه فيكون للتكثير والمبالغة، وأرادوا بذلك أنه فسدت أبصارنا واعتراها خلل في إحساسها كما يعتري عقل السكران ذلك فيختل إدراكه ففي الكلام على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 266 هذا استعارة وكذا على الأول عند بعض ويشهد لهذا المعنى قراءة الزهري «سكرة» بفتح السين وكسر الكاف مخففة مبنيا للفاعل لأن الثلاثي اللازم مشهور فيه ولأن سكر بمعنى سد المعروف فيه فتح الكاف. واختار الزجاج أن المعنى سكنت عن أبصار الحقائق من سكرت الريح تسكر سكرا إذا ركدت ويقال: ليلة ساكرة لا ريح فيها والتضعيف للتعدية ولهم أقوال أخر متقاربة في المعنى. وقرأ أبان بن تغلب وحملت لمخالفتها سواد المصحف على التفسير سحرت أبصارنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ قد سحرنا محمد صلى الله عليه وسلم كما قالوا ذلك عند ظهور سائر الآيات الباهرة، والظاهر على ما قال القطب إنهم أرادوا أولا سكرت أبصارنا لا عقولنا فنحن وإن تخيلنا هذه الأشياء بأبصارنا لكن نعلم بعقولنا أن الحال بخلاف ثم أضربوا عن الحصر في الأبصار وقالوا: بل تجاوز ذلك إلى عقولنا، وفسر الزمخشري الحصر بأن ذلك ليس إلا تسكيرا فأورد عليه بأن إِنَّما تفيد الحصر في المذكور آخرا وحينئذ يكون المعنى ما تقدم وهو مبني على أن تقديم المقصود على المقصور عليه لازم وخلافه ممتنع، وقد قال المحقق في شرح التخليص إنه يجوز إذا كان نفس التقديم يفيد الحصر كما في قولنا: إنما زيدا ضربت فإنه لقصر الضرب على زيد، وقال أبو الطيب: صفاته لم تزده معرفة ... لكنها لذة ذكرناها أي ما ذكرناها إلا لذة إلا أن هذا لا ينفع فيما نحن فيه. نعم نقل عن عروس الأفراح أن حكم أهل المعاني غير مسلم فإن قولك: إنما قمت معناه لم يقع إلا القيام فهو لحصر الفعل وليس بآخر ولو قصد حصر الفاعل لا نفصل، ثم أورد عدة أمثلة من كلام المفسرين تدل على ما ذكروه في المسألة، فالظاهر أن الزمخشري لا يرى ما قالوه مطردا وهم قد غفلوا عن مراده هنا قاله الشهاب، وما نقله عن عروس الأفراح في إنما قمت من أنه لحصر الفعل ولو كان لحصر الفاعل لا نفصل يخالفه ما في شرح المفتاح الشريفي من أنه إذا أريد حصر الفعل في الفاعل المضمر فإن ذكر بعد الفعل شيء من متعلقاته وجب انفصال الفاعل وتأخيره كما في قولك: إنما ضرب اليوم أنا، وكما في قول الفرزدق: أنا الذائد الحامي الذمار وإنما ... يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي وإن لم يذكر احتمل الوجوب طردا للباب وعدمه بأن يجوز الانفصال نظرا إلى المعنى والاتصال نظرا إلى اللفظ إذ لا فاصل لفظيا اه فإنه صريح في أن إنما قمت لحصر الفاعل وإن لم يجب الانفصال لكن اختار السعد في شرحه وجوب الانفصال مطلقا وحكم بأن الظاهر أن معنى إنما أقول ما أنا إلا أقوم كما نقله السمرقندي. وأبو حيان مع طائفة يسيرة من النحاة أنكروا إفادة إنما للحصر أصلا وليس بالمعول عليه عند المحققين لكنهم قالوا: إنها قد تأتي لمجرد التأكيد وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله. ووجه الشهاب الإضراب بعد أن قال هو جعل الأول في حكم المسكوت عنه دون النفي ويحتمل الثاني بأنه إضراب لأن هذا ليس بواقع في نفس الأمر بل بطريق السحر أو هو باعتبار ما تفيده الجملة من الاستمرار الذي دلت عليه الاسمية أي مسحوريتنا لا تختص بهذه الحالة بل نحن مستمرون عليها في كل ما يرينا من الآيات، هذا وفي هذه الآية من وصفهم بالعناد وتواطئهم على ما هم فيه من التكذيب والفساد ما لا يخفى، وفي ذلك تأكيد لما يفهم من الآية الأولى، وقد ذكر ابن المنير في المراد منها وجها بعيدا جدا فيما أرى فقال: المراد والله تعالى أعلم إقامة الحجة على المكذبين بأن الله تعالى سلك القرآن في قلوبهم وأدخله في سويدائها كما سلك في قلوب المؤمنين المصدقين فكذب به هؤلاء وصدق به هؤلاء كل على علم وفهم ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة ولئلا يكون للكفار على الله تعالى حجة بأنهم ما فهموا وجه الإعجاز كما فهمها من آمن فأعلمهم الله تعالى- وهم في مهلة وإمكان- أنهم ما كفروا إلا على علم معاندين باغين غير الجزء: 7 ¦ الصفحة: 267 معذورين ولذلك عقبه سبحانه بقوله تعالى: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ إلخ أي هؤلاء فهموا القرآن وعلموا وجوه إعجازه وولج ذلك في قلوبهم ووقر ولكنهم قوم سجيتهم العناد وسمتهم اللداد حتى لو سلك بهم أوضح السبل وأدعاها إلى الإيمان لقالوا بعد الإيضاح العظيم: إنما سكرت أبصارنا وسحرنا وما هذه إلا خيالات لا حقائق تحتها فأسجل سبحانه عليهم بذلك أنهم لا عذر لهم بالتكذيب من عدم سماع ووعي ووصول إلى القلوب وفهم كما فهم غيرهم من المصدقين لأن ذلك كان حاصلا لهم وليس بهم إلا العناد والإصرار لا غير اه فليتأمل والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل، ثم إنه تعالى لما ذكر حال منكري النبوة وكانت مفرعة على التوحيد ذكر دلائله السماوية والأرضية فقال عز قائلا: وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً إلخ وإلى هذا ذهب الإمام وغيره في وجه الربط. وقال ابن عطية: أنه سبحانه لما ذكر أنهم لو رأوا الآية المطلوبة في السماء لعاندوا وبقوا على ما هم فيه من الضلال عقب ذلك بهذه الآية كأنه جل شأنه قال: وإن في السماء لعبرا منصوبة غير هذه المذكورة وكفرهم بها وإعراضهم عنها إصرار منهم وعتو اهـ والظاهر أن الجعل بمعنى الخلق والإبداع فالجار والمجرور متعلق به، وجوز أن يكون بمعنى التصيير فهو متعلق بمحذوف على أنه مفعول ثان له وبروجا مفعوله الأول، والبروج جمع برج وهو لغة القصر والحصن وبذلك فسره هنا عطية، فقد أخرج عنه ابن أبي حاتم أنه قال: جعلنا قصورا في السماء فيها الحرس، وأخرج عن أبي صالح أن المراد بالبروج الكواكب العظام. وفي البحر عنه الكواكب السيارة وروى غير واحد عن مجاهد وقتادة أنها الكواكب من غير قيد. وروي عن ابن عباس تفسير ذلك بالبروج الاثني عشر المشهورة وهي ستة شمالية ثلاثة ربيعية وثلاثة صيفية وأولها الحمل وستة جنوبية ثلاثة خريفية وثلاثة شتائية وأولها الميزان وطول كل برج عندهم ل درجة وعرضه قف درجة ص منها في جهة الشمال ومثلها في جهة الجنوب وكأنها إنما سميت بذلك لأنها كالحصن أو القصر للكوكب الحال فيها وهي في الحقيقة أجزاء الفلك الأعظم وهو المحدد المسمى بلسانهم الفلك الأطلس وفلك الأفلاك وبلسان الشرع بعكسه ولهذا يسمى الشيخ الأكبر قدس سره الفلك الأطلس بفلك البروج والمشهور تسمية الفلك الثامن وهو فلك الثوابت به لاعتبارهم الانقسام فيه وكأن ذلك لظهور ما تتعين به الأجزاء من الصور فيه وإن كان كل منها منتقلا عما عينه إلى آخر منها لثبوت الحركة الذاتية للثوابت على خلاف التوالي وإن لم يثبتها لها لعدم الإحساس بها قدماء الفلاسفة كما لم يثبت الأكثرون حركتها على نفسها وأثبتها الشيخ أبو علي ومن تبعه من المحققين، وقد صرحوا بأن هذه الصور المسماة بالأسماء المعلومة توهمت على المنطقة وما يقرب منها من الجانبين من كواكب ثابتة تنظمها خطوط موهومة وقعت وقت القسمة في تلك الأقسام ونقل ذلك في الكفاية عن عامة المنجمين وأنهم إنما توهموا لكل قسم صورة ليحصل التفهيم والتعليم بأن يقال: الدبران مثلا عين الأسد. وتعقب ذلك بقوله: وهذا ليس بسديد عندي لأن تلك الصور لو كانت وهمية لم يكن لها أثر في أمثالها من العالم السفلي مع أن الأمر ليس كذلك فقد قال بطليموس في الثمرة. الصور التي في عالم التركيب مطيعة للصور الفلكية إذ هي في ذواتها على تلك الصور فأدركتها الأوهام على ما هي عليه وفيه بحث ثم هذه البروج مختلفة الآثار والخواص بل لكل جزء من كل منها وإن كان أقل من عاشرة بل أقل الأقل آثار تخالف آثار الجزء الآخر وكل ذلك آثار حكمة الله تعالى وقدرته عز وجل. وقد ذكر الشيخ الأكبر قدس سره في بعض كتبه أن آثار النجوم وأحكامها مفاضة عليها من تلك البروج المعتبرة في المحدد. وفي الفصل الثالث من الباب الحادي والسبعين والثلاثمائة من فتوحاته ما منه أن الله تعالى قسم الفلك الأطلس الجزء: 7 ¦ الصفحة: 268 اثني عشر قسما سماها بروجا وأسكن كل برج منها ملكا وهؤلاء الملائكة أئمة العالم وجعل لكل منهم ثلاثين خزانة تحتوي كل منها على علوم شتى يهبون منها للنازل بهم قدر ما تعطيه رتبته وهي الخزائن التي قال الله تعالى فيها: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الحجر: 21] وتسمى عند أهل التعاليم بدرجات الفلك والنازلون بها هم الجواري والمنازل وعيوقاتها من الثوابت والعلوم الحاصلة من تلك الخزائن الإلهية هي ما يظهر في عام الأركان من التأثيرات بل ما يظهر في مقعر فلك الثوابت إلى الأرض إلى آخر ما قال، وقد أطال قدس سره الكلام في هذا الباب وهو بمعزل عن اعتقاد المحدثين نقلة الدين عليهم الرحمة، ثم إن في اختلاف خواص البروج حسبما تشهد به التجربة مع ما اتفق عليه الجمهور من بساطة السماء أدل دليل على وجود الصانع المختار جل جلاله. وَزَيَّنَّاها أي السماء بما فيها من الكواكب السيارات وغيرها وهي كثيرة لا يعلم عددها إلا الله تعالى. نعم المرصود منها ألف ونيف وعشرون رتبوها على ستر مراتب وسموها اقدارا متزايدة سدسا حتى كان قطر ما في القدر الأول ستة أمثال ما في القدر السادس وجعلوا كل قدر على ثلاث مراتب وما دون السادس لم يثبتوه في المراتب بل إن كان كقطعة السحاب يسمونه سحابيا وإلا فمظلما، وذكر في الكفاية أن ما كان منها في القدر الأول فجرمه مائة وستة وخمسون مرة ونصف عشر الأرض. وجاء في بعض الآثار أن أصغر النجوم كالجبل العظيم واستظهر أبو حيان عود الضمير للبروج لأنها المحدث عنها والأقرب في اللفظ والجمهور على ما ذكرنا حذرا من انتشار الضمير لِلنَّاظِرِينَ أي بأبصارهم إليها كما قاله بعضهم لأنه المناسب للتزيين، وجوز أن يراد بالتزيين ترتيبها على نظام بديع مستتبعا للآثار الحسنة فيراد بالناظرين المتفكرون المستدلون بذلك على قدرة مقدرها وحكمة مدبرها جل شأنه وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ مطرود عن الخيرات، ويطلق الرجم على الرمي بالرجام وهي الحجارة، فالمراد بالرجيم المرمي بالنجوم، ويطلق أيضا على الإهلاك والقتل الشنيع، والمراد بحفظها من الشيطان إما منعه عن التعرض لها على الإطلاق والوقوف على ما فيها في الجملة فالاستثناء في قوله تعالى: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ متصل، وإما المنع عن دخولها والاختلاط مع أهلها على نحو الاختلاط مع أهل الأرض فهو حينئذ منقطع، وعلى التقديرين محل مَنِ النصب على الاستثناء، وجوز أبو البقاء. والحوفي كونه في محل جر على أنه بدل مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ بدل بعض من كل واستغنى عن الضمير الرابط بإلا. واعترض بأنه يشترط في البدلية أن تكون في كلام غير موجب وهذا الكلام مثبت. ودفع بأنه في تأويل المنفي أي لم نمكن منها كل شيطان أو نحوه وأورد أن تأويل المثبت في غير أبي ومتصرفاته غير مقيس ولا حسن فلا يقال مات القوم إلا زيد بمعنى لم يعيشوا، ولعل القائل بالبدلية لا يسم ذلك، وقد أولوا بالمنفي قوله تعالى: فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا [البقرة: 249] وقوله عليه الصلاة والسلام: «العالم هلكى إلا العالمون» الخبر وغير ذلك مما ليس فيه أبى ولا شيء من متصرفاته لكن الإنصاف ضعف هذه البدلية كما لا يخفى. وجوز أبو البقاء أيضا أن يكون في محل رفع على الابتداء والخبر جملة قوله تعالى: فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ وذكر أن الفاء من أجل أن مَنِ موصول أو شرط والاستراق افتعال من السرقة وهو أخذ الشيء بخفية شبه به خطفتهم اليسيرة من الملأ الأعلى وهو المذكور في قوله تعالى: إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ [الصافات: 10] والمراد بالسمع المسموع، والشهاب- على ما قال الراغب- الشعلة الساطعة من النار الموقدة ومن العارض في الجو ويطلق على الكوكب لبريقه كشعلة النار. وأصله من الشهبة وهي بياض مختلط بسواد وليست البياض الصافي كما يغلط فيه العامة فيقولون فرس أشهب للقرطاسي، والمراد- بمبين- ظاهر أمره للمبصرين ومعنى اتبعه تبعه عند الأخفش نحو ردفته وأردفته فليست الهمزة فيه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 269 للتعدية، وقيل: أتبعه أخص من تبعه لما قال الجوهري تبعت القوم تبعا وتباعة بالفتح إذا مشيت خلفهم أو مروا بك فمضيت معهم وأتبعت القوم على أفعلت إذا كانوا قد سبقوك فلحقتهم واستحسن الفرق بينهما الشهاب، ولما كان الاتباع محتملا للإهلاك وغيره اختلف العلماء في ذلك فحكى القرطبي عن ابن عباس أن الشهاب يجرح ويحرق ولا يقتل، وعن الحسن وطائفة أنه يقتل، وادعى أن الأول أصح، ونقل غير واحد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: إن الشياطين يركب بعضهم بعضا إلى السماء الدنيا يسترقون السمع من الملائكة عليهم السلام فيرمون بالكواكب فلا تخطئ أبدا فمنهم من تقتله ومنهم من تحرق وجهه أو جنبه أو يده أو حيث يشاء الله تعالى ومنهم من تخبله فيصير غولا فيضل الناس في البراري، ومما لا يعول عليه ما يروى من أن منهم من يقع في البحر فيكون تمساحا ومن الناس من طعن كما قال الإمام في أمر هذا الاستراق والرمي من وجوه. أحدها أن انقضاض الكواكب مذكور في كتب قدماء الفلاسفة وذكروا فيه أن الأرض إذا سخنت بالشمس ارتفع منها بخار يابس فإذا بلغ كرة النار التي دون الفلك احترق بها فتلك الشعلة هي الشهاب. وقد يبقى زمانا مشتعلا إذا كان كثيفا وربما حميت الأدخنة في برد الهواء للتعاقب فانضغطت مشتعلة، وجاء أيضا في شعر الجاهلية قال بشر بن أبي حازم: والعير يلحقها الغبار وجحشها ... ينقض خلفهما انقضاض الكوكب وقال أوس بن حجر: وانقض كالدريّ يتبعه ... نقع يثور تخاله طنبا إلى غير ذلك. وثانيها أن هؤلاء الشياطين كيف يجوز فيهم أن يشاهدوا ألوفا من جنسهم يسترقون السمع فيحترقون ثم إنهم مع ذلك يعودون لصنيعهم فإن من له أدنى عقل إذا رأى هلاك أبناء جنسه من تعاطي شيء مرارا امتنع منه. وثالثها أن يقال: إن ثخن السماء خمسمائة عام فهؤلاء الشياطين إن نفذوا في جرمها وخرقوها فهو باطل لنفي أن يكون لها فطور على ما قال سبحانه: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ [الملك: 3] وإن كانوا لا ينفذون فكيف يمكنهم سماع أسرار الملائكة عليهم السلام مع هذا البعد العظيم. ورابعها أن الملائكة عليهم السلام إنما اطلعوا على الأحوال المستقبلة إما لأنهم طالعوها من اللوح المحفوظ أو لأنهم تلقفوها بالوحي، وعلى التقديرين لم لم يسكتوا عن ذكرها حتى لا تتمكن الشياطين من الوقوف عليها؟. وخامسها أن الشياطين مخلوقون من النار والنار لا تحرق النار بل تقويها فكيف يعقل زجرهم بهذه الشهب؟. وسادسها أنكم قلتم: إن هذا القذف لأجل النبوة فلما دام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؟. وسابعها أن هذه الشهب إنما تحدث بقرب الأرض بدليل أنا نشاهد حركاتها ولو كانت قريبة من الفلك لما شاهدناها كما لم نشاهد حركات الأفلاك والكواكب، وإذا ثبت أنها تحدث بالقرب من الأرض فكيف يقال: إنها تمنع الشياطين من الوصول إلى الفلك؟. وثامنها أن هؤلاء الشياطين لو كان يمكنهم أن ينقلوا أخبار الملائكة عليهم السلام عن المغيبات إلى الكهنة فلم لم ينقلوا أسرار المؤمنين إلى الكفار حتى يتوصلوا بواسطة وقوفهم على أسرارهم إلى إلحاق الضرر بهم؟. وتاسعها لم لم يمنعهم الله تعالى من الصعود ابتداء حتى لا يحتاج في دفعهم إلى هذه الشهب؟ وقال بعضهم: أيضا: إن السماع إنما يفيدهم إذا عرفوا لغة الملائكة فلم لم يجعلهم الله سبحانه جاهلين بلغتهم لئلا يفيدهم السماع شيئا، وأيضا ان انقطع الهواء دون مقعر فلك القمر لم يحدث هناك صوت إذ هو من تموج الهواء والمفروض عدمه وإن لم ينقطع كان دون ذلك أصوات هائلة من تموج الهواء بحركة الأجرام العظيمة وهي تمنع من سماع أصوات الملائكة عليهم السلام في محاوراتهم ولا يكاد يظن أن أصواتهم في المحاورات تغلب هاتيك الأصوات لتسمع معها، وأيضا ليس في السماء الدنيا إلا القمر ولا نراه يرمي به وسائر السيارات فوق كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء: 33] والثوابت في الفلك الثامن والرمي بشيء من ذلك يستدعي خرق السماء وتشققها ليصل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 270 الشهاب إلى الشيطان وهو مما لا يكاد يقال. وأجاب الإمام عن الأول. أولا بأن الشهب لم تكن موجودة قبل البعثة وهذا قول ابن عباس، فقد روي عنه أنه قال: «كان الجن يصعدون إلى السماء فيستمعون الوحي فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها أشياء من عند أنفسهم فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم ولم يكن النجوم يرمى بها قبل ذلك فقال لهم إبليس: ما هذا إلا لأمر حدث» الخبر. وروي عن أبي بن كعب أنه قال: «لم يرم بنجم منذ رفع عيسى عليه السلام حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فرمى بها فرأت قريش (1) ما لم تر قبل فجعلوا يسيبون أنعامهم ويعتقون رقابهم يظنون أنه الفناء فبلغ ذلك كبيرهم فقال: لم تفعلون؟ فقالوا: رمي بالنجوم فقال: اعتبروا فإن تكن نجوم معروفة فهو وقت فناء الناس وإلا فهو أمر حدث فنظروا فإذا هي لا تعرف فأخبروه فقال: في الأمر مهلة وهذا عند ظهور نبي» الخبر، وكتب الأوائل قد توالت عليها التحريفات فلعل المتأخرين ألحقوا هذه المسألة بها طعنا في هذه المعجزة، وكذا الأشعار المنسوبة إلى أهل الجاهلية لعلها مختلفة عليهم. وثانيا وهو الحق بأنها كانت موجودة قبل البعثة لأسباب أخر ولا ننكر ذلك إلا أنه لا ينافي أنها بعد البعثة قد توجد بسبب دفع الشياطين وزجرهم. يروى أنه قيل للزهري: أكان يرمى في الجاهلية؟ قال: نعم قيل: أفرأيت قوله تعالى: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً [الجن: 9] قال: غلظ وشدد أمرها حيث بعث النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى نحو هذا يخرج ما روي عن ابن عباس. وأبي رضي الله تعالى عنهم إن صح. وعن الثاني بأنه إذا جاء القدر عمي البصر فإذا قضى الله تعالى على طائفة منهم الحرق لطغيانهم وضلالهم قيض لهم من الدواعي ما تقدم معه على الفعل المفضي إلى الهلاك. وعن الثالث بأن البعد بين الأرض والسماء خمسمائة عام فأما ثخن الفلك فإنه لا يكون عظيما. وعن الرابع بأنه روي عن الزهري (2) عن علي بن الحسين بن علي كرم الله تعالى وجهه عن ابن عباس قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من أصحابه إذ رمي بنجم فاستنار فقال عليه الصلاة والسلام: «ما كنتم تقولون في الجاهلية إذا حدث مثل هذا؟» قالوا: كنا نقول يولد عظيم أو يموت عظيم قال عليه الصلاة والسلام: «فإنها لا ترمى لموت أحد ولا لحياته ولكن ربنا تعالى إذا قضى الأمر في السماء سبحت حملة العرش ثم سبح أهل السماء وسبح أهل كل سماء حتى ينتهي التسبيح إلى هذه السماء ويستخير أهل السماء حملة العرش ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم ولا يزال ينتهي الخبر إلى هذه السماء فيتخطفه الجن فيرمون فما جاؤوا به فهو حق ولكنهم يزيدون فيه» . وعن الخامس بأن النار قد تكون أقوى من نار أخرى فالأقوى تبطل ما دونها. وعن السادس بأنه إنما دام لأنه عليه الصلاة والسلام أخبر ببطلان الكهانة فلو لم يدم هذا القذف لعادت الكهانة وذلك يقدح في خبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن بطلانها. وعن السابع بأن البعد على مذهبنا غير مانع من السماع فلعله سبحانه وتعالى أجرى عادته بأنهم إذا وقفوا في تلك المواضع سمعوا كلام الملائكة عليهم السلام. وعن الثامن بأنه لعل الله تعالى أقدرهم على استماع الغيوب من الملائكة وأعجزهم عن إيصال أسرار المؤمنين إلى الكفار. وعن التاسع بأنه عز وجل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وبهذا يجاب عن الأول فيما قيل. وأجيب عن الثاني بأنا نختار انقطاع الهواء والسماع عندنا بخلق الله تعالى ولا يتوقف على وجود الهواء وتموجه، وقد يختار عدم الانقطاع ويقال: إنه تعالى شأنه قادر على منع الهواء من التموج بحركة هاتيك الأجرام، وكذا هو سبحانه قادر على إسماعهم مع هاتيك الأصوات الهائلة السر وأخفى. وعن الثالث بأن كون الثوابت في الفلك الثامن هو الذي   (1) يروي أنه أول من فزع للرمي بالنجوم هذا الحي من ثقيف وأنهم جاؤا إلى رجل منهم يقال له عمرو بن أمية أحد بني علاج وكان أدهى العرب فقال لهم نحو ما ذكر في هذا الخبر اه منه. (2) وقد روى هذا الخبر مسلم اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 271 ذهب إليه الفلاسفة واحتجوا عليه بأن بعضها فيه فيجب أن يكون كلها كذلك، أما الأول فلأن الثوابت التي تكون قريبة من المنطقة تنكسف بالسيارات فوجب أن تكون الثوابت المنكسفة فوق السيارات الكاسفة، وأما الثاني فلأنها بأسرها متحركة حركة واحدة بطيئة كل مائة سنة أو أقل على الخلاف درجة فلا بد أن تكون مركوزة في كرة واحدة، وهو احتجاج ضعيف لأنه لا يلزم من كون بعض الثوابت فوق السيارات كون كلها هنا لأنه لا يبعد وجود كرة تحت كرة القمر وتكون في البطء مساوية لكرة الثوابت وتكون الكواكب المركوزة فيما يقارب القطبين مركوزة في هذه الكرة السفلية إذ لا يبعد وجود كرتين مختلفتين بالصغر والكبر مع كونهما متشابهتين في الحركة، وعلى هذا لا يمتنع أن تكون هذه النجوم في السماء الدنيا، وقد ذكر الجلال السيوطي وغيره أنه جاء في بعض الآثار أن الكواكب معلقة بسلاسل من نور بأيدي ملائكة في السماء الدنيا يسيرونها حيث شاء الله تعالى وكيف شاء إلا أن في صحة ذلك ما فيه، على أن ما ذكر في السؤال من أن ذلك يستلزم الخرق وهو مما لا يكاد يقال إما أن يكون مبنيا على القول بامتناع الخرق والالتئام على الفلك المحدد وغيره فقد تقرر فساد ذلك وحقق إمكان الخرق والالتئام بما لا مزيد عليه في غير كتاب من كتب الكلام، وإما أن يكون مبنيا على مجرد الاستبعاد فهو مما لا يفيد شيئا لأن أكثر الممكنات مستبعدة وهي واقعة ولا أظنك في مرية من ذلك بل قد يقال: نحن لا نلتزم أن الكوكب نفسه يتبع الشيطان فيحرقه، والشهاب ليس نصا في الكوكب لما علمت ما قيل في معناه وإن قيل: إنه بنفسه ينقض ويرمي الشيطان ثم يعود إلى مكان لظاهر إطلاق الرجوم على النجوم وقولهم رمي بالنجم مثلا. وكذا لا نلتزم القول بأنه ينفصل عن الكوكب شعلة كالقبس الذي يؤخذ من النار فيرمى بها كما قاله غير واحد لنحتاج في الجواب عن السؤال بما تقدم إذ يجوز أن يقال: إنه يؤثر حين كان بإذن الله تعالى هذه الشعلة المسماة بالشهاب ويحرق بها من شاء الله تعالى من الشياطين، وإطلاق الرجوم على النجوم وقولهم: رمي بالنجم يحتمل أن يكون مبينا على الظاهر للرائي كما في قوله تعالى في الشمس: تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ [الكهف: 86] وقال الإمام: إن هذه الشهب ليست هي الثوابت المركوزة في الفلك والإظهار نقصان كثير في أعدادها مع أنه لم يوجد نقصان أصلا. وأيضا إن في جعلها رجوما ما يوجب النقصان في زينة السماء بل هي جنس آخر غيرها يحدثها الله تعالى ويجعلها رجوما للشياطين، ولا يأباه قوله تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الملك: 5] حيث أفاد أن تلك المصابيح هي الرجوم بأعيانها لأنا نقول: كل نير يحصل في الجو العالي فهو مصباح لأهل الأرض إلا أن المصابيح منها باقية على وجه الدهر أمنة من التغير والفساد ومنها ما لا يكون كذلك والشهاب من هذا القسم وحينئذ يزول الاشكال انتهى. والجرح والتعديل بين القولين مفوضان إلى شهاب ذهنك الثقاب، وفي أجوبته السابقة رحمه الله تعالى ما لا يخفى ضعفه، وكذا شاهدة عليه بقلة الاطلاع على الأخبار الصحيح المشهورة، ألا ترى قوله في الجواب عن ثالث الأسئلة التسعة: إن البعد بين السماء والأرض خمسمائة عام وأما ثخن الفلك فإنه لا يكون عظيما فإنه مخالف لما نطقت به الشريعة وهذت به الفلسفة، أما مخالفته للأول فلأنه قد صح أن سمك كل سماء خمسائة عام كما صح أن بين السماء والأرض كذلك، وأما مخلفته للثاني فلأنه لم يقل أحد من الفلاسفة: أن بين السماء والأرض هذه المسافة التي ذكرها، والافلاك عندهم مخالفتة في الثخن، وقد بينوا ثخن كل بالفراسخ حسبما ذكر في كتب الأجرام والابعاد، وذكروا في ثخن المحدد ما يشهد بمزيد عظمة الله جل جلاله لكن لا مستند لهم قطعي في ذلك بل إن قولهم: لا فضل في الفلكيات مع كونه أشبه شيء بالخطابيات يعكر عليه. وقوله في الجواب عن السادس: إنه إنما دام لئلا يقدح انقطاعه في خبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن بطلان الكهانة فإنه مستلزم للدور إذ الظاهر أنه عليه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 272 الصلاة والسلام إنما أخبر بذلك لعلمه بدوام القذف المانع من تحقق ما تتوقف عليه الكهانة. وقوله في الجواب عن الخامس: إن النار قد تكون أقوى من نار أخرى فتبطلها ظاهر في أن الشياطين نار صرفة وليس كذلك بل الحق أنهم يغلب عليهم العنصر الناري وقد حصل لهم بالتركيب ولو مع غلبة هذا العنصر ما ليس للنار الصرفة وهو ظاهر. هذا ثم اعلم أنه يجوز أن يكون استراق السمع من الملائكة الذين عند السماء لا من الملائكة الذين بين كل سماء وسماء ليجيء حديث الثخن واستبعاد السماع معه، ويشهد لهذا ما رواه البخاري عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله تعالى عنهم قالت: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الملائكة تنزل في العنان وهو السحاب فتذكر الأمر قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهان فيكذبون مع الكلمة مائة كذبة من عند أنفسهم» ولا ينافيه ما رواه أيضا عن عكرمة أنه قال: «سمعت أبا هريرة يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أقضي الله تعالى الأمر في السماء ضربت الملائكة أجنحتها خضعانا لقوله سبحانه كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترق السمع» الخبر، إذ ليس فيه أكثر من سماع المسترق الكلمة بعد قول الملائكة عليهم السلام بعضهم لبعض، وعدم منافاة هذا لذاك ظاهر عند من ألقي السمع وهو شهيد، وأنه ليس في الآيات ما هو نص في أن ما نراه من الشهب لا يكون إلا لرمي شيطان يسترق بل غاية ما فيها أنه إذا استرق شيطان أتبعه شهاب ورمي بنجم وأين هذا من ذاك؟ نعم في خبر الزهري ما يحتاج معه إلى تأمل، وعلى هذا فيجوز أن يكون حدوث بعض ما نراه من الشهب لتصاعد البخار حسبما تقدم عن الفلاسفة، وكذا يجوز أن يكون صعود الشياطين للاستراق في كل سنة مثلا مرة، ولا يخفى نفع هذا في الجواب عن السؤال الثاني. ومن الناس من أجاب عنه بأنه لا يبعد أن يكون المسترقون صنفا من الشياطين تقتضي ذواتهم التصاعد نظير تصاعد الأبخرة، بل يجوز أن يكون أولئك الشياطين أبخرة تعلقت بها أنفس خبيثة على نحو ما ذكر الفلاسفة من أنه قد يتعلق بذوات الأذناب نفس فتغيب وتطلع بنفسها وفيه بحث. ونقل الإمام عن الجبائي أنه قال في الجواب عن ذلك: إن الحالة التي تعتريهم ليس لها موضع معين وإلا لم يذهبوا إليه وإنما يمنعون من المصير إلى مواضع الملائكة ومواضعها مختلفة فربما صاروا إلى موضعهم فتصيبهم الشهب وربما صاروا إلى غيره ولا يصادفون الملائكة فلا يصيبهم شيء فلما هلكوا في بعض الأوقات وسلموا في بعضها جاز أن يصيروا إلى موضع يغلب على ظنونهم أنها لا تصيبهم فيه كما يجوز فيمن يسلك البحر أن يسلكه في موضع يغلب على ظنه حصول النجاة فيه. وتعقبه بقوله: ولقائل أن يقول: إنهم إن صعدوا فإما أن يصلوا إلى مواضع الملائكة أو إلى غيرها فإن وصلوا إلى الأول احترقوا وإن إلى الثاني لم يظفروا بمقصود أصلا، فعلى كلا التقديرين المقصود غير حاصل فإذا حصلت هذه التجربة وثبت بالاستقراء أن الفوز بالمقصود محقق وجب أن يمتنعوا، وهذا بخلاف حال المسافر في البحر فإن الغالب على المسافرين فيه الفوز بالمقصود، ثم قال: فالأقرب في الجواب أن نقول: هذه الواقعة إنما تتفق في الندرة فلعلها لا تشتهر بسبب كونها نادرة فيما بين الشياطين اه. وأنت تعلم أن هذا لا يكاد يتم إلا مع القول بأنه ليس كل ما نراه من الشهب يحرق به الشياطين والأمر مع هذا القول سهل كما لا يخفى. وذكر البيضاوي أن استراق السمع خطفتهم اليسيرة من قطان السموات لما بينهم من المناسبة في الجوهر. أو بالاستدلال من أوضاع الكواكب وحركاتها، وذكر عند قوله تعالى: إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [الشعراء: 212] أن السمع مشروط بمشاركتهم في صفات الذات وقبول فيضان الحق والانتقاش بالصورة الملكوتية ونفوسهم خبيثة ظلمانية شريرة بالذات لا تقبل ذلك، ولا يخفى ما فيه، فإنه ظاهر في أن الاستراق يقتضي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 273 مناسبة الجوهر والسمع التام يقتضي المشاركة المذكورة وهو لا يتمشى على أصول الشرع، وفي أن تلقيهم يكون من الأوضاع الفلكية وهو مخالف لصريح النظم والأحاديث مع أنه يقتضي أن يكون قطان السماء بمعنى الكواكب وشمول مَنِ شياطين الانس من المنجمين وهو كما ترى. وذكر هو وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الشياطين كانوا لا يحجبون عن السموات فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث سموات ولما ولد النبي صلى الله عليه وسلم منعوا من السموات كلها اه. ومن الناس من ذهب أخذا ببعض الظواهر إلى أن المنع عند البعثة والله تعالى أعلم «بقي هاهنا إشكال» ذكره الإمام مع جوابه فقال: ولقائل أن يقول: إذا جوزتم في الجملة أن يصعد الشيطان إلى السماء ويسمع أخبار الغيوب من الملائكة عليهم السلام ثم يلقيها إلى الكهنة وجب أن يخرج الأخبار عن المغيبات عن كونه معجزا دالا على الصدق لأن كل غيب يخبر عنه الرسول عليه الصلاة والسلام يقوم فيه هذا الاحتمال، ولا يقال: إن الله تعالى أخبر أنهم عجزوا عن ذلك بعد مولده صلى الله عليه وسلم لأنا نقول: هذا المعجز لا يمكن إثباته إلا بعد القطع بكونه عليه الصلاة والسلام رسولا وبكون القرآن حقا والقطع بهذا لا يمكن إلا بواسطة المعجز، وكون الإخبار عن الغيوب معجزا لا يثبت إلا بعد إبطال هذا الاحتمال وحينئذ يلزم الدور وهو محال. ويمكن أن يجلب عنه بأنا نثبت كونه صلى الله عليه وسلم رسولا بسائر المعجزات ثم بعد العلم بثبوت ذلك نقطع بأن الله تعالى أعجز الشياطين عن تلقف الغيب بهذا الطريق وعند ذلك يصير الإخبار عن الغيوب معجزا ولا يلزم الدور اه فتدبر والله سبحانه ولي التوفيق وبيده أزمة التحقيق. وَالْأَرْضَ مَدَدْناها بسطناها، قال الحسن: أخذ الله تعالى طينة فقال لها: انبسطي فانبسطت، وعن قتادة أنه قال: ذكر لنا أن أم القرى مكة ومنها دحيت الأرض وبسطت، وعن ابن عباس أنه قال: بسطناها على وجه الماء، وقيل: يحتمل أن يكون المراد جعلناها ممتدة في الجهات الثلاث الطول والعرض والعمق، والظاهر أن المراد بسطها وتوسعتها ليحصل بها الانتفاع لمن حلها ولا يلزم من ذلك نفي كرويتها لما أن الكرة العظيمة لعظمها ترى كالسطح المستوي، ونسب الْأَرْضَ على الحذف على شريطة التفسير وهو في مثل ذلك أرجح من الرفع على الابتداء للعطف على الجملة الفعلية أعني قوله تعالى: وَلَقَدْ جَعَلْنا إلخ وليوافق ما بعده أعني قوله سبحانه: وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ أي جبالا ثوابت جمع راسية جمع رأس على ما قيل، وقد بين حكمة إلقاء ذلك فيها في قوله سبحانه: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [النحل: 15، لقمان: 10] . قال ابن عباس: إن الله تعالى لما بسط الأرض على الماء مالت كالسفينة فأرساها بالجبال الثقال لئلا تميل بأهلها، وقد تقدم الكلام في ذلك. وزعم بعضهم (1) أنه يجوز أن يكون المراد أنه تعالى فعل ذلك لتكون الجبال دالة على طرق الأرض ونواحيها فلا تميد الناس عن الجادة المستقيمة ولا يقعون في الضلال، ثم قال: وهذا الوجه ظاهر الاحتمال. وأنت تعلم أنه لا يسوغ الذهاب إليه مع وجود أخبار تأباه كالجبال وَأَنْبَتْنا فِيها أي في الأرض، وهي إما شاملة للجبال لأنها تعد منها أو خاصة بغيرها لأن أكثر النبات وأحسنه في ذلك. وجوز أن يكون الضمير للجبال والأرض بتأويل المذكورات مثلا أو للأرض بمعنى ما يقابل السماء بطريق الاستخدام، وعوده على الرواسي لقربها وحمل الإنبات على إخراج المعادن بعيد مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ أي مقدر بمقدار معين تقتضيه الحكمة فهو مجاز مستعمل في لازم معناه أو كناية أو من كل شيء مستحسن متناسب من قولهم: كلام موزون، وأنشد المرتضى في   (1) هو الإمام الرازي اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 274 درره لهذا المعنى قول عمر بن أبي ربيعة: وحديث ألذه وهو مما ... تشتهيه النفوس يوزن وزنا وقد شاع استعمال ذلك في كلام العجم والمولدين فيقولون: قوام موزون أي متناسب معتدل، أو ما له قدر واعتبار عند الناس في أبواب النعمة والمنفعة، وقال ابن زيد: المراد ما يوزن حقيقة كالذهب والفضة وغيرهما، ومِنْ كما في البحر للتبعيض، وقال الأخفش: هي زائدة أي كل شيء وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ ما تعيشون به من المطاعم والمشارب والملابس وغيرها مما يتعلق به البقاء وهي بياء صريحة. وقرأ الأعرج وخارجة عن نافع بالهمز، قال ابن عطية: والوجه تركه لأن الياء في ذلك عين الكلمة، والقياس في مثله أن لا يبدل همزة وإنما يبدل إذا كان زائدا كياء شمائل وخبائث. لكن لما كان الياء هنا مشابها للياء هناك في وقوعه بعد مدة زائدة في الجمع عومل معاملته على خلاف القياس وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ عطف على معايش أي وجعلنا لكم من لستم برازقيه من العيال والمماليك والخدم والدواب وما أشبهها على طريقة التغليب كما قال الفراء وغيره، وذكرهم بهذا العنوان لرد حسبان بعض الجهلة أنهم يرتزقون منهم أو لتحقيق أن الله تعالى يرزقهم وإياهم مع ما في ذلك من عظيم الامتنان، ويجوز عطفه على محل لَكُمْ وجوز الكوفيون ويونس والأخفش. وصححه أبو حيان العطف على الضمير المجرور وإن لم يعد الجار، والمعنى على التقديرين سواء أي وجعلنا لكم معايش ولمن لستم له برازقين، وقال الزجاج: إن مَنْ في محل نصب بفعل محذوف والتقدير وأعشنا من لستم إلخ أي أمما غيركم لأن المعنى أعشناكم، وقيل: إنه في محل رفع على الابتداء وخبره محذوف لدلالة المعنى عليه أي ومن لستم له برازقين جعلنا له فيها معايش وهو خلاف الظاهر، وقال أبو حيان: لا بأس به فقد أجازوا ضربت زيدا وعمرو بالرفع على الابتداء أي وعمرو ضربته فحذف الخبر لدلالة ما قبله عليه. وأخرج ابن المنذر وغيره عن مجاهد أن المراد ب مَنْ لَسْتُمْ إلخ الدواب والأنعام، وعن منصور الوحش، وعن بعضهم ذاك والطير- فمن- على هذه الأقوال لما لا يعقل وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِنْ نافية ومِنْ مزيدة للتأكيد وشَيْءٍ في محل الرفع على الابتداء أي ما شيء من الأشياء الممكنة فيدخل فيها ما ذكر دخولا أوليا والاقتصار عليه قصور. وزعم ابن جريج وغيره أن الشيء هنا المطر خاصة. إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ الظرف خبر للمبتدأ وخَزائِنُهُ مرتفع به على أنه فاعله لاعتماده أو مبتدأ والظرف خبره والجملة خبر للمبتدأ الأول، والخزائن جمع خزانة ولا تفتح وهي اسم للمكان الذي يحفظ فيه نفائس الأموال لا غير غلبت- على ما قيل- في العرف على ما للملوك والسلاطين من خزائن أرزاق الناس، شبهت مقدوراته تعالى الغائبة للحصر المندرجة تحت قدرته الشاملة في كونها مستورة عن علوم العالمين ومصونة عن وصول أيديهم مع وفور رغبتهم فيها وكونها متهيئة متأتية لإيجاده وتكوينه بحيث متى تعلقت الإرادة بوجودها وجدت بلا تأخر بنفائس الأموال المخزونة في الخزائن السلطانية فذكر الخزائن على طريقة الاستعارة التخييلية قاله غير واحد، وجوز أن يكون قد شبه اقتداره تعالى على كل شيء وإيجاده لما يشاء بالخزائن المودعة فيها الأشياء المعدة لأن يخرج منها ما شاء فذكر ذلك على سبيل الاستعارة التمثيلية، والمراد ما من شيء إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه، وقيل: الأنسب أنه مثل لعلمه تعالى بكل معلوم، ووجهه- على ما قيل- أنه يبقى شَيْءٍ على عمومه لشموله الواجب والممكن بخلاف القدرة ولأن عند أنسب بالعلم لأن المقدور ليس عنده إلا بعد الوجود. وتعقب بأن كون المقدورات في خزان القدرة ليس باعتبار الوجود الخارجي بل الوجود العلمي، وقال قوم: الخزائن على حقيقتها وهي الأماكن التي تحفظ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 275 فيها الأشياء وإن للريح مكانا وللمطر مكانا ولكل مكان حفظة من الملائكة عليهم السلام، ولا يخفى أنه لا يمكن مع تعميم الشيء وَما نُنَزِّلُهُ أي نوجد ما نكون شيئا من تلك الأشياء ملتبسا بشيء من الأشياء إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ أي إلا ملتبسا بمقدار معين تقتضيه الحكمة وتستدعيه المشيئة التابعة لها من بين المقدورات الغير المتناهية فإن تخصيص كل شيء بصفة معينة وقدر معين ووقت محدود دون ما عدا ذلك مع استواء الكل في الأشكال وصحة تعلق القدرة به لا بد له من حكمة تقتضي اختصاص كل من ذلك بما اختص به. وهذا لبيان سر عدم تكون الأشياء على وجه الكثرة حسبما هو في الخزائن، وهو إما عطف على مقدر أي ننزله وما ننزله إلا بقدر إلى آخره أو حال مما سبق أي عندنا خزائن كل شيء والحال أنا ما ننزله إلا بقدر إلى آخره، فالأول لبيان سعة القدرة، والثاني لبيان بالغ الحكمة قاله. مولانا شيخ الإسلام. وقرأ الأعمش «وما نرسله إلا» إلى آخره، وهي على ما في البحر قراءة تفسير لمخالفتها لسواد المصحف، والأولى في التفسير ما ذكرنا، وإنما عبر عن إيجاد ذلك وإنشائه بالتنزيل لما أنه بطريق التفضل من العالم العلوي إلى العالم السفلي وقيل: لما أن فيه إخراج الشيء مما تميل إليه ذاته من العدم إلى ما لا تميل إليه ذاته من الوجود، وهذا كما في قوله تعالى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [الزمر: 6] وقوله سبحانه: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ [الحديد: 25] وكأن من حمل الشيء على المطر غره ظاهر التنزيل فارتكب خلاف ظاهره وجدا، وكأنه لما كان ذلك بطريق التدريج عبر عنه بالتنزيل، وجيء بصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار. واستدل بعض القائلين يشيئية المعدوم على ذلك بهذه الآية، وقد بين وجهه والجواب عنه الإمام ونحن مع القائلين بالشيئية وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ عطف على جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وما بينهما اعتراض لتحقيق ما سبق وترشيح ما لحق، واللواقح جمع لاقح بمعنى حامل يقال: ناقة لاقح أي حامل، ووصف الرياح بذلك على التشبيه البليغ، شبهت الريح التي بالسحاب الماطر بالناقة الحامل لأنها حاملة لذلك السحاب أو للماء الذي فيه، وقال الفراء: إنها جمع لاقح على النسب كلابن وتامر أي ذات لقاح وحمل، وذهب إليه الراغب، ويقال لضدها ريح عقيم، وقال أبو عبيدة: لَواقِحَ أي ملاقح جمع ملقحة كالطوائح في قوله: لبيك يزيد ضارع لخصومة ... ومختبط مما تطيح الطوائح أي المطاوح جمع مطيحة، وهو من ألقح الفحل الناقة إذا ألقى ماءه فيها لتحمل، والمراد ملقحات للسحاب أو الشجر فيكون قد استعير اللقح لصب المطر في السحاب أو الشجر، وإسناده إليها على الأول حقيقة وعلى الثاني مجاز إذ الملقى في الشجر السحاب لا الريح والرياح اللواقح هي ريح الجنوب كما رواه ابن أبي الدنيا عن قتادة مرفوعا، وروى الديلمي بسند ضعيف عن أبي هريرة نحوه، وأخرج ابن جرير وغيره عن عبيد بن عمير قال: يبعث الله تعالى المبشرة فتقم الأرض قما ثم يبعث المثيرة فتثير السحاب فتجعله كسفا ثم يبعث المؤلفة فتؤلف بينه فيجعله ركاما ثم يبعث اللواقح فتلقحه فيمطر. وقرأ حمزة «وأرسلنا الريح» بالإفراد على تأويل الجنس فتكون في معنى الجمع فلذا صح جعل لَواقِحَ حالا منها وذلك كقولهم: أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض، ولا تخالف هذه القراءة ما قالوه في حديث «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا» من أن الرياح تستعمل للخير والريح للشر لما قال الشهاب من أن ذلك ليس من الوضع وإنما هو من الاستعمال وهو أمر أغلبي لا كلي فقد استعملت الريح في الخير أيضا نحو قوله تعالى: وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [يونس: 22] أو هو محمول على الإطلاق بأن لا يكون معه قرينة كالصفة والحال، وأما كون المراد بالخير الدعاء بطول العمر ليرى رياحا كثيرة فلا وجه له. فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ بعد ما أنشأنا بتلك الرياح سحابا ماطرا ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ جعلناه لكم سقيا تسقون به الجزء: 7 ¦ الصفحة: 276 مزارعكم ومواشيكم وهو على ما قيل أبلغ من سقيناكم لما فيه من الدلالة على جعل الماء معدا لهم ينتفعون به متى شاؤوا، وقد فرق بين أسقى وسقى غير واحد فقد قال الأزهري: العرب تقول لكل ما كان من بطون الأنعام أو من السماء أو من نهر جار أسقيته أي جعلت شربا له وجعلت له منه مسقى فإذا كان للشفة قالوا سقى ولم يقولوا أسقى، وقال أبو علي: يقال سقيته حتى روي وأسقيته نهرا جعلته شربا له، وربما استعملوا سقى بلا همزة كأسقى كما في قول لبيد يصف سحابا: أقول وصوته مني بعيد ... يحط اللث (1) من قلل الجبال سقى قومي بني نجد وأسقى ... نميرا والقبائل من هلال فإنه لا يريد بسقى قومي ما يروي عطاشهم ولكن يريد رزقهم سقيا لبلادهم يخصبون بها وبعيد أن يسأل لقومه ما يروي ولغيرهم ما يخصبون به، ولا يرد على قول الأزهري أنه لا يقال أسقي في سقيا الشفة قول ذي الرمة: وأسقيه حتى كاد مما أبثه ... يكلمني أحجاره وملاعبه قال الإمام: لأنه أراد بأسقيه أدعو له بالسقيا ولا يقال في ذلك كما قال أبو عبيد سوى أسقي، هذا وقد جاء الضمير هنا متصلا بعد ضمير منصوب متصل أعرف منه ومذهب سيبويه في مثل ذلك وجوب الاتصال. وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ نفى سبحانه عنهم ما أثبته لجنابه بقوله جل جلاله: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ كأنه قيل: نحن القادرون على إيجاده وخزنه في السحاب وإنزاله، وما أنتم على ذلك بقادرين، وقيل: المراد نفي حفظه أي وما أنتم له بحافظين في مجاريه عن أن يغور فلا تنتفعون به وعن سفيان أن المعنى وما أنتم له بمانعين لإنزاله من السماء وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي بإيجاد الحياة في بعض الأجسام القابلة لها وَنُمِيتُ بإزالتها عنها فالحياة صفة وجودية وهي كما قيل صفة تقتضي الحس والحركة الإرادية والموت زوال تلك الصفة، وقال بعضهم: إنه صفة وجودية تضاد الحياة لظاهر قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ [الملك: 2] وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك، وقد يعمم الإحياء والإماتة بحيث يشمل الحيوان والنبات مثل أن يقال: المراد إعطاء قوة النماء وسلبها، وتقديم الضمير للحصر، وهو إما توكيد للأول أو مبتدأ خبره الجملة بعده والمجموع خبر لإنا، وجوز كونه ضمير فصل ورده أبو البقاء بوجهين أحدهما أنه لا يدخل على الخبر الفعلي والثاني أن اللام لا تدخل عليه، وتعقب ذلك في الدر المصون بأن الثاني غلط فإنه ورد دخول اللام عليه في قوله تعالى: إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [آل عمران: 62] ودخوله على المضارع مما ذهب إليه الجرجاني وبعض النحاة، وجعلوا من ذلك قوله تعالى: إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ [البروج: 13] ولعل ذلك المجوز ممن يرى هذا الرأي والعجب من أبي البقاء فإنه رد ذلك هنا وجوزه في قوله تعالى: وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ [فاطر: 10] كما نقله في المغني. وَنَحْنُ الْوارِثُونَ أي الباقون بعد فناء الخلق قاطبة المالكون للملك عند انقضاء زمان الملك المجازي، الحاكمون في الكل أولا وآخرا أو ليس لأحد إلا التصرف الصوري والملك المجازي وفي هذا تنبيه على أن المتأخر ليس بوارث للمتقدم كما يتراءى من ظاهر الحال، وتفسير الوارث بالباقي مروي عن سفيان وغيره، وفسر بذلك في قوله عليه الصلاة والسلام: «اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا» وهو من باب الاستعارة وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ من مات وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ من هو حي لم يمت بعد أخرجه ابن أبي   (1) يقال ألث المطر إذا أقام أياما لا يقلع ولعل المراد باللث هنا المطر الدائم اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 277 حاتم وغيره عن ابن عباس، وفي رواية أخرى عنه المستقدمين آدم عليه السلام ومن مضى من ذريته والمستأخرين من في أصلاب الرجال، وروي مثله عن قتادة، وعن مجاهد المستقدمين من مضى من الأمم والْمُسْتَأْخِرِينَ أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: من تقدم ولادة وموتا ومن تأخر كذلك مطلقا وهو من المناسبة بمكان وروي عن الحسن أنه قال: من سبق إلى الطاعة ومن تأخر فيها، وروي عن معتمر أنه قال: بلغنا أن الآية في القتال فحدثت أبي فقال: لقد نزلت قبل أن يفرض القتال، فعلى هذا أخذ الجهاد في عموم الطاعة ليس بشيء، على أنه ليس في تفسير ذلك بالمستقدمين والمستأخرين فيها كمال مناسبة، والمراد من علمه تعالى بهؤلاء علمه سبحانه بأحوالهم، والآية لبيان كمال علمه جل وعلا بعد الاحتجاج على كمال قدرته تعالى فإن ما يدل عليها دليل عليه ضرورة أن القادر على كل شيء لا بد من علمه بما يصنعه وفي تكرير قوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْنَا ما لا يخفى من الدلالة على التأكيد. وأخرج أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم وصححه والبيهقي في سننه. وجماعة من طريق أبي الجوزاء عن ابن عباس قال: كانت امرأة تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم حسناء من أحسن الناس فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر فإذا ركع نظر من تحت إبطيه فأنزل الله تعالى الآية، وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن أبي الجوزاء أنه قال في الآية ولقد علمنا المستقدمين منكم في الصفوف في الصلاة ولم يذكر من حديث المرأة شيئا، قال الترمذي: هذا أشبه أن يكون أصح، وقال الربيع بن أنس: حرض النبي صلى الله عليه وسلم على الصف الأول في الصلاة فازدحم الناس عليه وكان بنو عذرة دورهم قاصية عن المسجد فقالوا: نبيع دورنا ونشتري دورا قريبة من المسجد فأنزل الله تعالى الآية، وأنت تعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومن هنا قال بعضهم: الأولى الحمل على العموم أي علمنا من اتصف بالتقدم والتأخر في الولادة والموت والإسلام وصفوف الصلاة وغير ذلك وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ للجزاء، وتوسيط الضمير قيل للحصر أي هو سبحانه يحشرهم لا غير، وقيل عليه: إنه في مثل ذلك يكون الفعل مسلم الثبوت والنزاع في الفاعل وهاهنا ليس كذلك فالوجه جعله لإفادة التقوى. وتعقب بأن هذا في القصر الحقيقي غير مسلم وتصدير الجملة بإن لتحقيق الوعد والتنبيه على ما سبق يدل على صحة الحكم، وفي الالتفات والتعرض لعنوان الربوبية إشعار بعلته، وفي الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم دلالة على اللطف به عليه الصلاة والسلام. وقرأ الأعمش «يحشرهم» بكسر الشين إِنَّهُ حَكِيمٌ بالغ الحكمة متقن في أفعاله. والحكمة عندهم عبارة عن العلم بالأشياء على ما هي عليه والإتيان بالأفعال على ما ينبغي عَلِيمٌ وسع علمه كل شيء، ولعل تقديم وصف الحكمة للإيذان باقتضائها للحشر والجزاء، وقد نص بعضهم على أن الجملة مستأنفة للتعليل وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ أي هذا النوع بأن خلقنا أصله وأول فرد من أفراده خلقا بديعا منطويا على خلق سائر أفراده انطواء إجماليا. مِنْ صَلْصالٍ أي طين يابس يصلصل أي يصوت إذا نقر. أخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة ونقله في الدر المصون عن أبي عبيدة ونقل عنه أبو حيان أنه قال: هو الطين المخلوط بالرمل وهو رواية عن ابن عباس، وفي رواية أخرى عنه أنه الطين المرقق الذي يصنع منه الفخار، وفي أخرى نحو الأول، وقيل: هو من صلصال إذ أنتن تضعيف صل يقال: صل اللحم وأصل إذا أنتن وهذا النوع من المضعف مصدر يفتح أوله ويكسر كالزلزال ووزنه عند جمهور البصريين فعلال، وقال الفراء: وكثير من النحويين فعفع كررت الفاء والعين ولا لام، وغلطهم في الدر المصون لأن أقل الأصول ثلاثة فاء وعين ولام، وقال بعض البصريين والكوفيين: فعفل ونسب أيضا إلى الفراء بل قيل هو المشهور عنه، وعن بعض آخر من الكوفيين أن وزنه فعل بتشديد العين والأصل صلل مثلا فلما اجتمع ثلاثة أمثال أبدل الثاني من جنس الجزء: 7 ¦ الصفحة: 278 إلقاء، وخص بعضهم هذا الخلاف بما إذا لم يختل المعنى بسقوط الثالث كلملم وكبكب فإنك تقول لم وكب فلو لم يصح المعنى بسقوطه نحو سمسم فلا خلاف في أصالة الجميع، وقال اليمني: ليس معنى قولهم: إن الأصل صلل أنه زيد فيه صاد بل هو رباعي كزلزل والاشتراك في أصل المعنى لا يقتضي أن يكون منه إذ الدليل دال على أن الفاء لا تزاد لكن زيادة الحرف تدل على زيادة المعنى، وذكر في البحر أن صلصال بمعنى مصلصل كالقضاض بمعنى المقضقض فهو مصدر بمعنى الوصف ومثله كثير. مِنْ حَمَإٍ من طين تغير واسود من مجاورة الماء ويقال للواحدة حمأة، قال الليث: بتحريك الميم ووهم في ذلك وقالوا: لا نعرف الحمأة في كلام العرب إلا ساكنة الميم وعلى هذا أبو عبيدة والأكثرون، والجار والمجرور في موضع الصفة لصلصال كما هو السنة الشائعة في الجار والمجرور بعد النكرة أي من صلصال كائن من حمإ، وقال الحوفي: هو بدل مما قبله بإعادة الجار فكأنه قيل خلقناه من حمإ مَسْنُونٍ أي مصور من سنة الوجه وهي صورته، وأنشد لذلك ابن عباس قول عمه حمزة يمدح النبي صلى الله عليه وسلم: أغر كأن البدر سنة وجهه ... جلا الغيم عنه ضوؤه فتبددا وأنشد غيره قول ذي الرمة: تريك سنة وجه غير مقرفة (1) ... ملساء ليس بها خال ولا ندب (2) أو مصبوب من سن الماء صبه ويقال شن بالشين أيضا أي مفرغ على هيئة الإنسان كما تفرغ الصور من الجواهر المذابة في القوالب، وقال قتادة ومعمر: المسنون المنتن، قيل: وهو من سننت الحجر على الحجر إذا حككته به فالذي يسيل بينهما سنين ولا يكون إلا منتنا، وقيل: هو من سننت الحديدة على المسن إذا غيرتها بالتحديد، وأصله الاستمرار في جهة من قولهم: هو على سنن واحد وهو صفة الحمإ، ويجوز أن يكون صفة لصلصال ولا ضير في تقدم الصفة الغير الصريحة على الصريحة، فقد قال الرضي: إذا وصفت النكرة بمفرد أو ظرف أو جملة قدم المفرد في الأغلب وليس بواجب خلافا لبعضهم، والدليل عليه قوله تعالى: وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ [الأنبياء: 50] لكنه يحتاج إلى نكتة لا سيما في كلام الله تعالى لأنه لا يعدل عن الأصل لغير مقتض، ولعل النكتة هاهنا مناسبة المقدم لما قبله في أن كلا منهما من جنس المادة، وقيل: إنما أخرت الصفة الصريحة تنبيها على أن ابتداء مسنونيته ليس في حال كونه صلصالا بل في حال كونه حمأ كأنه سبحانه أفرغ الحمأ فصور من ذلك تمثال إنسان أجوف فيبس حتى إذا نقر صوت ثم غيره طورا بعد طور حتى نفخ فيه من روحه فتبارك الله أحسن الخالقين، وقيل: المسنون المنسوب أي نسب إليه ذريته وهو كما ترى. وَالْجَانَّ هو أبو الجن كما روي عن ابن عباس ويجمع على جنان كحائط وحيطان وراع ورعيان قاله الطبرسي، وقيل: هو إبليس وروي عن الحسن وقتادة لكن في الدر المصون أنه هو أبو الجن، وقال ابن بحر: هو اسم لجنس الجن وتشعب الجنس لما كان من فرد واحد مخلوق من مادة واحدة كان الجنس مخلوقا منها. وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد «والجأن» بالهمز وانتصابه بفعل يفسره خَلَقْناهُ وهو هنا أقوى من الرفع للعطف على الجملة الفعلية مِنْ قَبْلُ أي من قبل خلق الإنسان، قيل: ومن هنا يظهر جواز كون الرماد بالمستقدمين أحد الثقلين وبالمستأخرين الآخر والخطاب بقوله تعالى: مِنْكُمْ للكل وهو بعيد غاية البعد. مِنْ نارِ السَّمُومِ أي الريح الحارة التي تقتل. وروي ذلك عن ابن عباس، وأكثر ما تهب في النهار وقد تهب   (1) من قرفت الجرح قشرته اه منه. (2) بالتحريك أثر الجرح اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 279 ليلا. وسميت سموما لأنها بلطفها تنفذ في مسام البدن ومنه السم القاتل، ويقال: سم يومنا يسم إذا هبت فيه تلك الريح، وقيل: السموم نار لا دخان لها ومنها تكون الصواعق، وروى ذلك أبو روق عن الضحاك عن ابن عباس فالإضافة من إضافة العام إلى الخاص، وقيل: السموم إفراط الحر والإضافة من إضافة الموصوف إلى الصفة، والمراد من النار المفرطة الحرارة، وقد جاء في بعض الآثار ما يدل على أن النار التي خلق منها الجان أشد حرارة من النار المعروفة. فقد أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «رؤيا المسلم جزء من سبعين جزءا من النبوة وهذه النار جزء من سبعين جزءا من السموم التي خلق منها الجان وتلا عليه الصلاة والسلام الآية» واستشكل الخلق من النار بأنه كيف تخلق الحياة فيها وهي بسيطة ليست متركبة من أجزاء مختلفة الطبع والحياة كالمزاج لا تكون إلا في المركبات وقد اشترط الحكماء فيها البنية المركبة. وأجيب بمنع ذلك لأنها إذا خلقت في المجردات كالملائكة على قول والعقول التي أثبتها الفلاسفة فبالطريق الأولى البسائط بل لا مانع أيضا أن تخلق في الأجزاء الفردة خلافا للمعتزلة حيث اشترطوا البنية المركبة من الجواهر وليس لهم سوى شبه أوهن من بين العنكبوت على أن ذلك غير وارد رأسا لأن معنى كون الجن مخلوقة من نار أنها الجزء الأعظم الغالب عليها كالتراب في الإنسان فليست بسيطة، وقال بعضهم: إن الجن أجسام هوائية أو نارية بمعنى أنهم يغلب عليهم ذلك وهم مركبون من العناصر الأربعة كالملائكة عليهم السلام على قول. ثم إن النقل الظاهر عن أكثر الفلاسفة إنكار الجن وليس ذلك مذهب جميعهم فقد ذهب جمع عظيم من قدمائهم إلى وجودهم وهو مذهب جمهور أرباب الملل وأصحاب الروحانيات ويسمونهم بالأرواح السفلية وزعموا أنهم أسرع إجابة من الأرواح الفلكية إلا أنها أضعف. نعم اختلف المثبتون فمنهم من زعم أنهم ليسوا أجساما ولا حالين فيها بل هم جواهر قائمة بأنفسها لكنها أنواع مختلفة بالماهية كاختلاف ماهيات الأعراض بعد استوائها في الحاجة إلى المحل فبعضها كريمة حرة محبة للخيرات وبعضها دنية خسيسة محبة للشرور ولا يعلم عدد أنواعهم إلا الله تعالى ولا يبعد أن يكون من أنواعها من يقدر على أفعال شاقة يعجز عنها قدرة البشر وكذا لا يبعد لكل نوع منها تعلق بنوع مخصوص من أجسام هذا العالم. ومن الناس من زعم أن هذه الأرواح البشرية والنفوس الناطقة إذا فارقت أبدانها وازدادت قوة وكمالا بسبب ما في ذلك العالم الروحاني من انكشاف الأسرار الروحانية فإذا اتفق حدوث بدن مشابه للبدن الذي فارقته فبسبب تلك المشابهة يحصل لتلك النفس المفارقة تعلق ما بهذا البدن وتصير معاونة لنفس ذلك البدن في أفعالها وتدبيرها لذلك البدن فإن اتفقت هذه الحالة في النفوس الخيرة سمي ذلك المعين ملكا وتلك الإعانة إلهاما، وإن اتفقت في النفوس الشريرة سمي ذلك المعين شيطانا وتلك الإعانة وسوسة، ومنهم من قال: إنهم أجسام لكن اختلفوا فقال بعضهم: هي مختلفة الماهية وإن اشتركت في صفة، وقال آخرون: إنها متساوية في تمام الماهية، وقد أطال الكلام في ذلك الإمام في تفسير سورة الجن، وذكر في تفسير هذه الآية أنهم اختلفوا في الجن فقال بعضهم: إنهم جنس غير الشياطين، والأصح أن الشياطين قسم من الجن، فكل من كان منهم مؤمنا فإنه لا يسمى بالشيطان، وكل من كان منهم كافرا سمي بهذا الاسم، والدليل على صحة ذلك أن لفظ الجن مشتق من الاستتار فكل من كان كذلك كان من الجن اه، وما ذكره من الأصح هو الذي ذهب إليه المعظم لكن ما ذكره من الدليل ضعيف. وقال وهب: إن من الجن من يولد له ويأكلون ويشربون بمنزلة الآدميين، ومنهم من هو بمنزلة الريح لا يتوالدون ولا يأكلون ولا يشربون وهم الشياطين. وذكر ابن عربي أن تناسل الجن بإلقاء الهواء في رحم الأنثى كما أن التناسل في البشر بإلقاء الماء في الرحم، وأنهم محصورون في اثنتي عشرة قبيلة أصولا ثم يتفرعون إلى أفخاذ، ويقع بينهم حروب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 280 وبعض الزوابع يكون عند حربهم، فإن الزوبعة تقابل ريحين تمنع كل صاحبتها أن تخترقها فيؤدي ذلك إلى الدور وما كل زوبعة حرب. وأخرج البيهقي في الأسماء وأبو نعيم والديلمي وغيرهم بإسناد صحيح- كما قال العراقي- عن أبي ثعلبة مرفوعا الجن ثلاثة أصناف فصنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء. وصنف حيات وكلاب. وصنف يحلون ويظعنون، وفي هذه القسمة عندي إشكال يظهر بالتدبر، ولعل حاصلها أن صنفا منهم يغلب عليهم الطيران في الهواء، وصنف يغلب عليهم الحل والارتحال، وصنف يغلب عليهم المكث والتوطن ببعض المواطن، وعبر عنهم بالحيات والكلاب لكثرة تشكلهم بذلك دون الصنفين الآخرين، فإنهم وإن جاز عليهم التشكل بالأشكال المختلفة لأنهم من الجن، وقد قالوا: إنهم قادرون على ذلك وإن نوزع فيه بأنه يستلزم أن لا تبقى ثقة بشيء. ورد بأن الله تعالى قد تكفل لهذه الأمة بعصمتها عن أن يقع فيها ما يترتب عليه الريبة في الدين ورفع الثقة بعالم وغيره فاستحال شرعا الاستلزام المذكور- إلا أنهم لا يكثر تشكلهم بذلك، وربما يقال: إن القدرة على التشكل إنما هي لصنف المتوطنين، وإثباتها في كلامهم للجن يكفي فيه صحتها باعتبار بعض الأصناف لكنه بعيد جدا فليتدبر حقه، وقد قال الهيتمي: إن رجال هذا الحديث وثقوا وفي بعضهم ضعف، فإن كان الحديث لذلك ضعيفا فلا قيل ولا قال والله تعالى أعلم بحقيقة الحال، وسيأتي إن شاء الله تعالى استيفاء الكلام في هذا المقام بعون الله تعالى الملك العلام، ثم إن مساق الآية الكريمة- على ما قيل- كما هو للدلالة على كمال قدرته تعالى شأنه وبيان بدء خلق الثقلين فهو للتنبيه على مقدمة يتوقف عليها إمكان الحشر وهي قبول المواد للجمع والإحياء فتدبر. وَإِذْ قالَ رَبُّكَ نصب بإضمار أذكر، وتذكير الوقت لما مر مرارا من أنه أدخل في تذكير ما وقع فيه، وفي التعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام إشعار بعلة الحكم وتشريف له صلى الله عليه وسلم أي أذكر وقت قوله تعالى: لِلْمَلائِكَةِ الظاهر أن المراد بهم ملائكة السماء والأرض، وزعم بعض الصوفية أن المراد بهم ملائكة الأرض ولا دليل له عليه إِنِّي خالِقٌ فيما سيأتي وفيه ما ليس في صيغة المضارع من الدلالة على أنه تعالى فاعل لذلك البتة من غير صارف ولا عاطف بَشَراً أي إنسانا، وعبر به عنه اعتبارا بظهور بشرته وهي ظاهر الجلد عكس الأدمة خلافا لأبي زيد حيث عكس وغلطه في ذلك أبو العباس. وغيره من الصوف والوبر ونحوهما، ولبعض أكابر الصوفية وجه آخر في التسمية سنذكره إن شاء الله تعالى في باب الإشارة، ويستوي فيه الواحد والجمع. وذكر الراغب أنه جاء جمع البشرة بشرا وأبشارا، وقيل: أريد جسما كثيفا يلاقي ويباشر أو جسما بادي البشرة ولم يرد إنسانا وإن كان هو إياه في الواقع، وبعض من قال إنه المراد قال: ليس هذا صيغة عين الحادثة وقت الخطاب بل الظاهر أن يكون قد قيل لهم: 7 ني خالق خلقا من صفته كيت وكيت ولكن اقتصر عند الحكاية على الاسم مِنْ صَلْصالٍ متعلق- بخالق- أو بمحذوف وقع صفة بَشَراً مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ تقدم تفسيره وإعرابه فتذكر فما في العهد من قدم فَإِذا سَوَّيْتُهُ فعلت فيه ما يصير به مستويا معتدلا مستعدا لفيضان الروح وقيل: صورته بالصور الإنسانية والخلقة البشرية وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي النفح في العرف إجراء الريح من الفم أو غيره في تجويف جسم صالح لإمساكها والامتلاء بها، والمراد هنا تمثيل إفاضة ما به الحياة بالفعل على المادة القابلة لها وليس هناك نفخ حقيقة. وقال حجة الإسلام: عبر بالنفخ الذي يكون سببا لاشتعال فتيلة القابل من الطين الذي تعاقبت عليه الأطوار حتى اعتدل واستوى واستعد استعدادا تاما بنور الروح كما يكون سببا لاشتعال الحطب القابل مثلا بالنار عن نتيجته ومسببه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 281 وهو ذلك الاشتعال. وقد يكنى بالسبب عن الفعل المستفاد الذي يحصل منه على سبيل المجاز وإن لم يكن الفعل المستفاد على صورة الفعل المستفاد منه. ثم هذا الروح عنده وكذا عند جماعة من المحققين ليس بجسم يحل البدن حلول الماء في الإناء مثلا، ولا هو عرض يحل القلب أو الدماغ حلول السواد في الأسود والعلم في العالم بل هو جوهر مجرد ليس داخل البدن ولا خارجه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه، ولهم على ذلك عدة أدلة. الدليل الأول: أن الإنسان يمكنه إدراك الأمور الكلية وذلك بارتسام صور المدركات في المدرك فمحل تلك الصور إن كان جسما فإما أن يحل غير منقسم أو منقسما، والأول محال لأن الذي لا ينقسم من الجسم طرف نقطي والنقطة تمتنع أن تكون محلا للصور العقلية لأنها مما لا يعقل حصول المزاج لها حتى يختلف حال استعدادها في القابلية وعدمها بل إن كانت قابلة للصور المذكورة وجب أن يكون ذلك القبول حاصلا أبدا ولو كان كذلك لكان المقبول حاصلا أبدا لما أن المبادي الفعالة المفارقة عامة الفيض فلا يتخصص إلا لاختلاف أحوال القوابل فلو كان القابل تام الاستعداد لكان المقبول واجب الحصول وحينئذ يكون جميع الأجسام ذوات النقط عاقلة، ويجب أيضا أن يبقى البدن بعد الموت عاقلا لبقاء محل الصور على استعداده وليس كذلك، والثاني أيضا محال لأن الحال في المنقسم منقسم فيلزم أن تكون تلك الصورة منقسمة أبدا وذلك محال لوجوه مقررة فيما بينهم. الدليل الثاني: ما عول عليه الشيخ وزعم أنه أجل ما عنده في هذا الباب وهو أنه يمكننا أن نعقل ذواتنا وكل من عقل ذاتا فله ماهية ذلك الذات فإذا لنا ماهية ذاتنا فلا يخلو إما أن يكون تعقلنا لذاتنا لأجل صورة أخرى مساوية لها تحصل فيها وإما أن لا يكون بل لأجل أن نفسها حاضرة لها، والأول محال لأنه يفضي إلى الجمع بين المثلين فتعين الثاني، وكل ما ذاته حاصل لذاته كان قائما بذاته، فإذن القوة العاقلة وهي الروح والنفس الناطقة قائمة بنفسها، وكل جسم أو جسماني فإنه غير قائم بنفسه، وأكثر تلامذته من الاعتراضات وأجاب عنها. الدليل الثالث: ما عول عليه أفلاطون وهو أنا نتخيل صورا لا وجود لها في الخارج ونميز بينها وبين غيرها فهذه الصور أمور وجودية ومحلها يمتنع أن يكون جسمانيا فإن جملة بدننا بالنسبة إلى الأمور المتخيلة لنا قليل من كثير فكيف ينطبق الصور العظيمة على المقادير الصغيرة؟ وليس يمكن أن يقال: إن بعض تلك الصور منطبعة في أبداننا وبعضها في الهواء المحيط بنا إذ الهواء ليس من جملة أبداننا ولا آلة لنفوسنا في أفعالها أيضا وهو ظاهر، فإذن محل هذه الصور شيء غير جسماني وذلك هو النفس الناطقة. الدليل الرابع: لو كان محل الإدراكات شيئا جسمانيا لصح أن يقوم ببعض ذلك الجسم علم وبالبعض الآخر جهل فيكون الشيء الواحد عالما جاهلا بشيء واحد في حالة واحدة. الدليل الخامس: أن الروح لو كان منطبعا في جسم مثل قلب أو دماغ لكان إما أن يعقل دائما ذلك الجسم أو لا يعقله كذلك أو يعقله في وقت دون وقت والأقسام باطلة فالقول بانطباعه باطل، وبيان ذلك أن تعقل الروح لذلك الجسم إما أن يكون لأجل أن الآلة حاضرة عنده أو لأن صورة أخرى من تلك الآلة تحصل له فإن كان الأول فالروح إن أمكنه إدراك تلك الآلة وإدراك نفس مقارنتها له فما دامت الآلة مقارنة وجب أن يعقلها الروح فيكون دائم الإدراك لتلك الآلة وإن امتنع على الروح إدراك الآلة وجب أن لا يدركها أبدا فظاهر أنه لو كان تعقل الروح لتلك الآلة لأجل المقارنة لوجب أن يعقلها دائما أو لا يعقلها كذلك وكلا القسمين باطلا، وأما إن كان تعقله لها لأجل حصول صورة أخرى منها فالروح إن كانت في تلك الآلة والصورة الثانية حاصلة فيه يكون الصورة الثانية للآلة حالة أيضا في الآلة لأن الحال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 282 في الحال في الشيء حال في ذلك الشيء فيلزم الجمع بين المثلين وإن لم يكن الروح في تلك الحالة بل مجردة فذلك المطلوب واستدل بغير ذلك أيضا. وقد ذكر الإمام في المباحث من الأدلة اثني عشر دليلا منها ما ذكر وأطال الكلام في ذلك جرحا وتعديلا وعول في إثبات هذا المطلب على غير ذلك فقال: والذي نعول عليه أن نقول: إن كل عاقل يجد من نفسه أنه الذي كان قبل فهويته إما أن تكون جسما وإما أن تكون قائمة بالجسم وإما أن لا تكون شيئا من الأمرين والأول بالباطل، أما أولا فلأن الإنسان قد يكون عالما بهويته عند ذهوله عن جملة أعضائه الظاهرة والباطنة، وأما ثانيا فلأن الأبعاض الجسمانية دائمة التحلل والتبدل لأن الأسباب المحالة من الحرارة الخارجية والداخلية والحركات النفسانية والبدنية مما لا تختص بجز دون جزء والبدن مركب من الأعضاء المركبة وهي مركبة من الأعضاء البسيطة مثل اللحم والعظم فيكون كل جزء من اللحم مثل الآخر في الاستعداد للتحلل فإذا كانت الأجزاء كلها متساوية في ذلك كانت نسبة المحللات إلى كل واحد من الأجزاء كنسبته إلى الجزاء الآخر فلم يكن عروض التحلل لبعض أولى من عروضه للبعض الآخر فثبت أن هوية الإنسان ليست جسما وليست أيضا قائمة بالجسم لأن القائم به يجب أن يتبدل عند تبدله لاستحالة انتقال الأعراض فكان يلزم أن لا يجد الإنسان من نفسه أنه الذي كان موجودا قبل، ولما كان هذا العلم من العلوم البديهية علمنا أن هوية الإنسان ليست جسما ولا محتاجة إليه فهو جوهر مجرد وهو المطلوب. ولا يلزم أن يكون لسائر الحيوانات هذا الجوهر لأنا وإن عرفنا أنها تعلم هويات أنفسها لكن لا نعرف أنها تعلم من أنفسها أنها هي التي كانت موجودة قبل ويمكن أن يحتج أيضا على هذا المطلب بأنا قد دللنا على أن المدرك بجميع أصناف الإدراكات لجميع المدركات شيء واحد في الإنسان فنقول ذلك المدرك إما أن يكون جسما أو قائما به ولا، والأول ظاهر الفساد لأن الجسم من حيث هو جسم لا يمكن أن يكون مدركا، والثاني أيضا باطل لأن تلك الصفة إما أن تكون قائمة بجميع أجزاء البدن أو ببعض دون بعض والأول باطل وإلا لكان كل جزء من أجزاء البدن مبصرا سامعا متخيلا متفكرا عاقلا وليس كذلك، وبطل أيضا أن يقال: إن بعض الأعضاء قامت به القوة المدركة لجميع هذه المدركات لأنه يلزم أن يكون في البدن عضو واحد سامع مبصر متخيل متفكر عاقل ولسنا نجد ذلك فينا، وبهذا ظهر أيضا فساد ما قيل: لعل القوة المدركة لجميع المدركات قائمة بجسم لطيف محصور في بعض الأعضاء لظهور أنا لا نجد من أبداننا موضعا مشتملا على هذا الجسم اللطيف السامع المبصر المتخيل المتفكر العاقل، وليس لأحد أن يقول: هب أنكم لا تعرفون هذا الموضع لكن ذلك لا يدل على عدمه لأنا نقول إنا قد دللنا على أنا السامعون المبصرون المتخيلون العاقلون فلو كان بعض الأجسام سواء كان جزءأ من البدن أو محصورا في جزء منه موصوفا بالقوة المتعلقة بجميع هذه المدركات لم يكن حقيقتنا وهويتنا إلا ذلك الجسم فلو لم نعرفه لكنا لا نعرف حقيقة أنفسنا وذلك باطل فثبت أن الموصوف بالقوة المدركة لجميع المدركات ليس جسما أصلا ولا قائما به فهو جوهر مجرد وهو المطلوب، وذكر هؤلاء الذاهبون إلى التجرد أنه متعلق بالبدن كتعلق العاشق عشقا جبليا إلهاميا بالمعشوق حتى أنه لا ينقطع ذلك التعلق ما دام البدن مستعدا لأن يتعلق به بل تعلق الروح أقوى من هذا التعلق بكثير وهو تعلق التدبير والتصريف وإضافته إلى ضميره تعالى في الآية لأنه سبحانه وتعالى خلقه من غير واسطة تجري مجرى الأصل والمادة أو للتشريف، وسئل حجة الإسلام عن ذلك فقال: لو نطقت الشمس وقالت: أفضت على الأرض من نوري يكون ذلك صدقا ويكون معنى النسبة أن النور الحاصل للأرض من جنس نور الشمس بوجه من الوجوه. وإن كان في غاية من الضعف بالنسبة إليه وقد عرفت أن الروح منزه عن الجهة والمكان وفي وقوته العلم بجميع الأشياء وذلك مضاهاة ومناسبة ولذلك خص بالإضافة وهذه المضاهاة ليست للجسمانيات أصلا، وليس لأحد أن يقول: إن في تنزيه الروح عن المكان وصفا له بصفة الله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 283 تعالى شأنه وتقدست صفاته بل بأخص صفاته سبحانه ويلزم من ذلك عدم التميز فقد قالوا: كما يستحيل اجتماع جسمين في مكان واحد يستحيل أن يجتمع اثنان لا في مكان لأنه إنما استحال اجتماع جسمين في مكان لأنه لو اجتمعا لم يتميز أحدهما عن الآخر فكذلك لو وجد اثنان كل واحد منهما ليس في مكان لم يحصل التميز والفرق بينهما ولذا قالوا: لا يجتمع سوادان في محل واحد حتى قيل المثلان كالضدين لأنا نقول: التميز غير منحصر بالمكان بل يكون به لجسمين في مكانين وبالزمان كسوادين في جوهر واحد في زمانين وبالحد والحقيقة كالأعراض المختلفة في محل واحد مثل الطعم واللوم والبرودة والرطوبة في جسم واحد فإن تميز كل منها عن الآخر بذاته لا بمكان ولا زمان ومثل ذلك العلم والإرادة والقدرة فإن تميز كل أيضا بذاته وإن كان الجميع لشيء واحد فإذا تصور أعراض مختلفة الحقائق في محل واحد فبأن يتصور أشياء مختلفة الحقائق بذواتها في غير مكان أولى، وكون الوجود لا في مكان أخص صفاته سبحانه في حيز المنع بل الأخص أنه جل شأنه قيوم أي قائم بذاته وكل ما سواه قائم به وأنه تبارك وتعالى موجود بذاته وكل ما سواه تعالى موجود لا بذاته بل ليس للأشياء من ذواتها إلا العدم وإنما لها الوجود من غيرها على سبيل العارية والوجود له سبحانه ذاتي غير مستعار فالقيومية ليس إلا لله عزّ وجلّ انتهى. وهذا الذي قالوه من تجرد الروح خلاف ما عليه جمهور أهل السنة. قال الشيخ عبد الرؤوف المناوي: قد خاض سائر الفرق غمرة الكلام في الروح فما ظفروا بطائل ولا رجعوا بنائل وفيها أكثر من ألف قول وليس فيها- على ما قال ابن جماعة- قول صحيح بل كلها قياسات وتجليات عقلية، وجمهور أهل السنة على أنها جسم لطيف يخالف الأجسام بالماهية والصفة متصرف في البدن حال فيه حلول الزيت في الزيتون والنار في الفحم يعبر عنه بأنا وأنت. وإلى ذلك ذهب إمام الحرمين، وقال اللقاني: جمهور المتكلمين على أنها جسم مخالف بالماهية للجسم الذي تتولد منه الأعضاء نوراني علوي خفيف حي لذاته نافذ في جوهر الأعضاء سار فيه سريان ماء الورد في الورد والنار في الفحم لا يتطرق إليه تبدل ولا انحلال بقاؤه في الأعضاء حياة وانفصاله عنها إلى عالم الأرواح موت. وزعم بعضهم أن الإنسان هو هذا الهيكل المحسوس وروحه عرض قائم به وعزاه بعض المتأخرين من المعاصرين إلى جمهور المتكلمين وجعله وامتناع اتحاد القابل والفاعل دليلا على إبطال كون العبد خالقا لأفعاله، وقد رد الإمام في التفسير ذلك الزعم وارتضى ما نقلناه عن الجمهور فقال: إنهم قالوا لا يجوز أن يكون الإنسان عبارة عن هذا الهيكل المحسوس (1) لأن أجزاءه أبدا في الذبول والنمو والزيادة والنقصان والاستكمال والذوبان ولا شك أن الإنسان من حيث هو- هو- أمر باق من أول عمره إلى آخره وغير الباقي غير الباقي فالمشار إليه عند كل أحد بقوله أنا وجب أن يكون مغايرا لهذا الهيكل. ثم اختلفوا عند ذلك في أن المشار إليه بأنا أي شيء هو؟ والأقوال فيه كثيرة إلى أن أسدها تحصيلا وتلخيصا أنها أجزاء جسمانية سارية في هذا الهيكل سريان الماء في الورد والدهن في السمسم ثم إن المحققين منهم قالوا إن الأجسام التي هي باقية من أول العمر إلى آخره مخالفة بالماهية لما تركب منه الهيكل وهي حية لذاتها مدركة لذاتها نورانية لذاتها فإذا خالطت ذلك وصارت سارية فيه صار مستنيرا بنورها متحركا بتحريكها ثم إنه أبدا في الذوبان والتحلل والتبدل وتلك الأجزاء لمخالفتها له بالماهية باقية بحالها وإذا فسد انفصلت عنه إلى عالم القدس إن كانت سعيدة أو عالم الآفات إن كانت شقية اه، ومنه يعلم بطلان الاستدلال على تجرد الروح بإبطال كون الإنسان عبارة   (1) وبه يرد على بعض المعاصرين أيضا تدبر اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 284 عن الهيكل المحسوس كما يقتضيه كلام صاحب الهياكل حسبما يدل عليه كلام شارحه الجلال حيث قال في الهيكل الثاني: أنت لا تغفل عن ذاتك أبدا وما جزء من أجزاء بدنك إلا تنساه أحيانا ولا يدرك الكل إلا بأجزائه فلو كنت أنت هذه الجملة ما كان يستمر شعورك بذاتك مع نسيانها فأنت وراء هذا البدن وقال الجلال: فلا تكون النفس جسما أصلا لأن غاية ذلك إثبات النفس وراء هذا البدن لا إثبات أنها مع ذلك مجردة لجواز أن تكون جسما لطيفا كما علمت. وزعم القاضي أن مذهب أكثر المتكلمين أن الروح عرض وأنها هي الحياة واختاره الأستاذ أبو إسحاق ولم يبال بلزوم قيام العرض بالعرض. واعترض هذا الزاعم القول بالجسمية بأنها لو كانت جسما لجاز عليها الحركة والسكون كسائر الأجسام فيلزم أن تكون كلها أرواحا ولوجب أن يكون للروح روح أخرى لا إلى نهاية، وفيه أنه إنما يلزم ما ذكر أن لو كان الجسم إنما كان روحا لكونه جسما وليس فليس فإنه إنما كان روحا لمعنى خصه الله تعالى به وقد علمت أن القائل بالجسمية يقول: إنه حي لذاته فلا يلزم التسلسل وبينه وبين الجسم عنده علاقة بحسب بخار لطيف يعبر عنه بالروح الحيواني، وعرفه في الهياكل بأنه جسم لطيف بخاري يتولد من لطائف الأخلاط وينبعث من التجويف الأيسر من القلب وينبث في البدن بعد أن يكتسب السلطان النوري من النفس الناطقة ولولا لطفه لما سرى وهو مطية تصرفات النفس ومتى انقطع انقطع تصرفها، وقال بعضهم: إنه اعتدال مزاج دم القلب والأمر في ذلك سهل، وذهب بعض المحققين إلى أن الروح تطلق على الروح التي ذكر أنها جسم لطيف سار في البدن سريان ماء الورد في الورد وهو غير الروح الحيواني وعلى أمر رباني شريف له إشراق على ذلك الجسم اللطيف ولعل ذلك هو سبب حياة الروح بالمعنى الأول وإدراكها ونورانيتها ويعبر عنه بالروح الأمري وهو المراد من الروح في قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ [الإسراء: 85] الآية، ويطلقون كثيرا على الروح بالمعنى الأول النفس الإنسانية وعليها بالمعنى الثاني النفس الناطقة والذي يقال فيه: إنه جوهر مجرد ليس جسما ولا جسمانيا ولا متصلا ولا منفصلا ولا داخل العالم ولا خارجه وأنه نور من أنوار الله تعالى القائمة لا في أين من الله عزّ وجلّ مشرقه وإليه سبحانه مغربه هو الروح بهذا الإطلاق، واختلفوا في أن حدوثها هل هو قبل الأبدان أو بعدها فقال حجة الإسلام: الحق أن الأرواح حدثت عند استعداد الجسد للقبول كما حدثت الصورة في المرآة بحدوث الصقالة وإن كان ذو الصورة سابق الوجود على الصقيل، وقد قال بذلك من الفلاسفة أرسطو ومتبعوه، واستدلوا عليه بأنها لو كانت موجودة قبل الأبدان فإما أن تكون واحدة أو كثيرة وعلى الأول إما أن تتكثر عند التعلق بالبدن أو لا فإن لم تتكثر كانت الروح الواحدة روحا لكل بدن ولو كان كذلك لكان ما علمه إنسان علمه الكل وما جهله جهله وذلك محال، وإن تكثرت لزم انقسام ما ليس له حجم وهو أيضا محال، وعلى الثاني لا بد أن يمتاز كل واحدة منها عن صاحبتها إما بالماهية أو لوازمها أو عوارضها، والأولان محالان لأن الأرواح متحدة بالنوع والواحد بالنوع يتساوى جميع أفراده بالذاتيات ولوازمها، وأما العوارض فحدوثها إنما هو بسبب المادة وهي هنا البدن فقبله لا مادة فلا يمكن أن يكون هناك عوارض مختلفة وبعد أن ساق حجة الإسلام الدليل على هذا الطرز قيل له: ما تقول في خبر «إن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجسام بألفي عام» ؟ وقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا أول الأنبياء خلقا وآخرهم بعثا وكنت نبيا وآدم بين الماء والطين» فقال رحمه الله تعالى: نعم هذا يدل بظاهره على تقدم وجود الروح على الجسد ولكن أمر الظواهر هين لسعة باب التأويل، وقد قالوا: إن البرهان القاطع لا يدرأ بالظاهر بل يؤول له الظاهر كما في ظواهر الكتاب والسنة في حق الله تعالى المنافية لما يدل عليه البرهان القطعي، وحينئذ يقال: لعل المراد من الأرواح في الخبر الأول الملائكة عليهم السلام وبالأجساد أجساد العالم من العرش والكرسي والسموات ونحوها، وإذا تفكرت في عظم هذه الأجساد لم تكد تستحضر أجساد الآدميين ولم تفهمها من مطلق لفظ الأجساد، ونسبة أرواح البشر إلى أرواح الملائكة عليهم السلام كنسبة أجسادهم إلى أجساد العالم ولو انفتح عليك باب معرفة أرواح الملائكة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 285 لرأيت الأرواح البشرية كسراج اقتبس من نار عظيمة طبقت العالم وتلك النار هي الروح الأخيرة من أرواح الملائكة. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: «أنا أول الأنبياء خلقا» فالخلق فيه بمعنى التقدير دون الإيجاد فإنه صلى الله عليه وسلم قبل أن يولد لم يكن مخلوقا موجودا ولكن الغايات سابقة في التقدير ولا حقة في الوجود، وهو معنى قوله الحكيم: أول الفكر آخر العمل، فالدار الكاملة أول الأشياء في حق المهندس مثلا تقديرا وآخرها وجودا وما يتقدم على وجودها من ضرب اللبن ونحوه وسيلة إليها ومقصود لأجلها، ولما كان المقصود من فطرة الآدميين إدراكهم لسعادة القرب من الحضرة الإلهية ولم يمكنهم ذلك إلا بتعريف الأنبياء عليهم السلام كانت النبوة مقصودة والمقصود كمالها وغايتها لا أولها وتمهيد أولها وسيلة إلى ذلك وكمالها به صلى الله عليه وسلم فلذلك كان أولا في التقدير وآخرا في الوجود، وقوله عليه الصلاة والسلام: «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين» إشارة إلى هذا أيضا وإنه لم يشأ سبحانه خلق آدم إلا لينتزع الصافي من ذريته ولم يزل يستصفي تدريجا إلى أن بلغ كمال الصفاء، ولا يفهم هذا إلا بأن يعلم أن للدار مثلا وجودين وجودا في ذهن المهندس حتى كأنه ينظر إلى صورتها ووجودا خارج الذهن مسببا عن الوجود الأول فهو سابق عليه لا محالة. وحينئذ يقال: إن الله تعالى يقدر أولا ثم يوجد على وفق التقدير ثانيا والتقدير يرسم في اللوح المحفوظ كما يرسم تقدير المهندس أولا في لوح أو قرطاس فتصير الدار موجودة بكمال صورتها نوعا من الوجود يكون سببا للوجود الحقيقي، وكما أن هذه الصورة ترتسم في لوح المهندس بواسطة القلم والقلم يجري على وفق العلم بل العلم يجريه كذلك تقرير صورة الأمور الإلهية ترتسم أولا في اللوح المحفوظ بواسطة القلم الإلهي والقلم يجري على وفق العلم السابق الأزلي، واللوح عبارة عن موجود قابل لنقش الصور، والقلم عبارة عن موجود منه تفيض الصور على اللوح وليس من شرطهما أن يكونا جسمين ولا يبعد أن يكون قلم الله تعالى ولوحه لائقين لأصبعه ويده وكل ذلك على ما يليق بذاته الإلهية ويقدس عن حقيقة الجسمية، وقد يقال: إنهما جوهران روحانيان أحدهما متعلم وهو اللوح والآخر معلم وهو القلم، وقد أشير إلى ذلك بقوله سبحانه: عَلَّمَ بِالْقَلَمِ [العلق: 4] فإذا فهمت معنيي الوجود فقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم قبل بالمعنى الأول منهما دون المعنى الثاني اه. واعترض على الاستدلال من وجوه منها ما هو جار على رأي الفلاسفة المستدلين بذلك أيضا ومنها ما لا اختصاص له برأيهم. الأول لم لا يجوز أن يقال: إنها كانت قبل الأبدان واحدة ثم تكثرت ولا يقال: الكل لو كان واحدا وكان قابلا للانقسام يلزم أن تكون وحدته اتصالية فيكون جسما لأنا نقول: مسلم أن كل ما وحدته اتصالية فإنه واحد قابل للانقسام ولا نسلم أن كل واحد قابل للانقسام فوحدته اتصالية لأن الموجبة الكلية لا تنعكس كنفسها. الثاني سلمنا أنها كانت متكثرة لكن لم قلتم لا بد أن يختص كل بصفة مميزة لأنه لو كان التميز للاختصاص بأمر ما لكان ذلك الأمر أيضا متميزا عن غيره فإما أن يكون تميزه بما به تميزه فيلزم الدور أو بثالث فيلزم التسلسل ولأن التميز لا يختص بشيء بعينه إلا بعد تميزه فلو كان تميز الشيء عن غيره باختصاصه بشيء لزم الدور. الثالث سلمنا أنه لا بد من مميز فلم لا يجوز أن يكون بذاتي، وبيانه ما بينوه من اختلاف النفوس بالنوع. الرابع سلمنا أنها لا تتميز بشيء من الذاتيات فلم لا يجوز أن تتميز بالعوارض قولكم: إن حدوثها بسبب المادة وهي هنا البدن ولا بدن فنقول لم لا يجوز أن يكون هناك بدن تتعلق به وقبله آخر وهكذا ولا مخلص من هذا إلا بإبطال التناسخ فتوقف حجة إثبات حدوث الأرواح على ذلك الإبطال مع أن الحكماء بنوا ذلك على الحدوث حيث قالوا بعد الفراغ من دليله: إذا ثبت حدوث النفس فلا بد وأن يكون لحدوثها سبب وذلك هو حدوث البدن فإذا حدث البدن وتعلقت به نفس على سبيل التناسخ وثبت أن حدوث النفس سبب لأن يحدث عن المبادئ المفارقة نفس أخرى فحينئذ يلزم اجتماع نفسين في بدن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 286 فيجيء الدور. الخامس سلمنا عدم تعلقها ببدن قبل لكن لم لا يجوز أن تكون موصوفة بعارض باعتباره كانت متميزة ثم يكون كل عارض بسبب عارض آخر لا إلى أول. السادس: المعارضة وهي أن الأرواح عند الفريقين باقية بعد المفارقة ولا يكون تمايزها بالماهية ولوازمها بل بالعوارض لكن الأرواح الهيولانية التي لم تكتسب شيئا من العوارض إذا فارقت لا يكون فيها شيء من العوارض سوى أنها كانت متعلقة بأبدان فإن كفى هذا القدر في وقوع التمايز فليكف أيضا كونها بحيث يحدث لها بعد التعلق بأبدان متمايزة، قولهم: لم لا يجوز أن تكون قبل واحدة فتكسرت، قلنا: لا يجوز لأن كل ما انقسم وجوب أن يكون جزؤه مخالفا لكله ضرورة أن الشيء مع غيره ليس هو لا مع غيره فتلك المخالفة إن كانت بالماهية أو لوازمها وجب أن يكون كل واحد من الأجزاء مخالفا للآخر بالماهية فتكون تلك الأجزاء قد كانت متميزة أبدا وكانت موجودة قبل التعلق. فهذه الأمور المتعلقة الآن بالأبدان كانت متميزة قبل التعلق بها وإن كانت المخالفة لا بالماهية ولا بلوازمها فلا بد أن يكون الجزء أصغر مقدارا من الكل وإلا لم يكن أحدهما أولى بأن يكون جزء الآخر من العكس، فثبت أن كل واحد قابل للانقسام فلا بد أن يكون ذا مقدار. سلمنا أن المجرد لا يمكن أن ينقسم بعد وحدته لكن تعينات تلك الأجزاء إنما تحدث بعد الانقسام الحاصل بعد التعلق بالبدن فيكون تعين كل واحد من تلك الأجزاء بعد التعلق بالبدن فيكون تعين كل واحدة من تلك النفوس من حيث هي حادثا وهو المطلوب. وقولهم: لم قلتم إن الامتياز لا يوجد إلا عند عند الاختصاص بوصف، قلنا: يجاب بنحو ما ذكروه في تشخص التشخص، وقولهم لم قلتم: إن النفوس لا يجوز أن تتمايز بالصفات المقومة؟ قلنا: هب أن الأمر كما قلتموه إلا أنا لا نعرف بالبديهة أن كل نوع من أنواعها فإنها مقولة على أشخاص عدة بالضرورة فإنا نعلم أنه ليس يجب أن يكون كل إنسان مخالفا لجميع الناس في الماهية، وإذا وجد في كل نوع من أنواعها شخص فقد تمت الحجة. وقولهم: إن هذه الحجة مبنية على إبطال التناسخ. قلنا: ليس كذلك. لأنا إذا وجدنا من النوع الواحد شخصين علمنا أن تلك الشخصية ليست معلولة لتلك الماهية لأن كل ما كان كذلك كان نوعه في شخصه، ولما لم يكن كذلك علمنا أن شخصيته ليست من لوازم ماهيته فهي إذن لعلة خارجية، وقد عرفت أن العلة هي المادة ومادة النفس هي البدن فإذن تعينها لا بد وأن يكون للتعلق ببدن معين فتكون لا محالة غير متعينة قبل ذلك البدن فهي معدومة قبله. وبهذا يظهر أن كل ما نوعه مقول على كثيرين بالفعل فهو محدث، فاتضح من هذا أنه متى سلم كون النفوس متحدة في النوع يلزم حدوثها وأنه لا يحتاج في ذلك إلى إبطال التناسخ ليجيء الدور السابق. قولهم: لم لا يجوز أن تكون موصوفة بعارض إلخ؟ قلنا: لا يجوز أن يكون امتيازها بذلك لأن النفس المعينة عن غيرها حكم معين لا بد له من علة معينة، وتلك العلة لا يمكن أن تكون حالة فيها لأن ذلك متوقف على امتيازها عن غيرها فلو توقف ذلك الامتياز على حلول ذلك الحال لزم الدور، فإذن تلك العلة أمر عائد إلى القابل وقبل البدن لا قابل فلا تميز. والمتكلمون يبطلون مثل ما ذكر بلزوم التسلسل الذي يبطله برهان التطبيق. وأما المعارضة فالجواب عنها بأن النفوس الهيولانية يتميز بعضها عن البعض أولا بسبب تعلقها بالقابل المعين ثم إنه يلزم من تعين كل واحد منها شعورها بذاتها الخاصة وقد بين أن شعور الشيء بذاته حالة زائدة على ذاته ثم إن ذلك الشعور يستمر فلا جرم يبقى الامتياز. والحاصل أن الامتياز لا بد وأن يحصل أولا بسبب آخر حتى يحصل لكل من النفوس شعور بذاته الخاص الجزء: 7 ¦ الصفحة: 287 وذلك السبب في النفوس الهيولانية تعلقها بالأبدان، وأما التي قبل الأبدان فلو تميزت لكان المميز سوى الشعور حتى يترتب هو عليه، وقد بين أنه ليس هناك مميز فلا جرم استحال حصول التميز وظهر الفرق والله تعالى الموفق. وقد استدل صاحب المعتبر على حدوثها بأنها لو كانت موجودة قبل الأبدان لكانت إما متعلقة بأبدان أخر أو لا والأول باطل لأنه قول بالتناسخ وهو باطل لأن أنفسنا لو كانت من قبل في بدن آخر لكنا نعلم الآن شيئا من الأحوال الماضية ونتذكر ذلك البدن وليس فليس، والثاني كذلك لأنها تكون حينئذ معطلة ولا معطل في الطبيعة وهو دليل بجميع مقدماته ضعيف جدا فلا تعتبره، وزعم قوم من قدماء الفلاسفة قدمها وأوردوا لذلك أمورا. الأول: أن كل ما يحدث فلا بد أن يكون له مادة تكون سببا لأن يصير أولى بالوجود بعد أن كان أولى بالعدم فلو كانت النفوس حادثة لكانت مادية وليس فليس. الثاني أنها لو كانت حادثة لكان حدوثها لحدوث الأبدان لكن الأبدان الماضية غير متناهية فالنفوس الآن غير متناهية لكن ذلك محال لكونها قابلة للزيادة والنقصان والقابل لهما متناه فهي الآن متناهية، فإذن ليس حدوث الأبدان علة لحدوثها فلا يتوقف صدورها عن عللها على حدوث أمر فتكون قديمة. الثالث: أنها لو لم تكن أزلية لم تكن أبدية لما ثبت أن كل كائن فاسد لكنها أبدية إجماعا فهي أزلية، ويرد عليهم أنه إن أريد بكونها مادية أن حدوثها يكون متوقفا على حدوث البدن فالأمر كذلك، وإن أريد به أنها تكون منطبعة في البدن فلم قلتم: إنه لو توقف حدوثها على حدوث البدن وجب أن تكون منطبعة فيه، وأيضا للمانع أن يمنع فساد لزوم كون النفوس الآن غير متناهية، والمقدمة القائلة إن كل قابل للزيادة والنقصان متناه ليست من الأوليات قطعا كما هو ظاهر فإذن لا تصح إلا ببرهان وهو لا يتقرر إلا فيما يحتمل الانطباق على ما بين في محله، وقولهم: لو لم تكن أزلية لم تكن أبدية قضية لا حجة لهم على تصحيحها فلا تقبل، ثم إن كون النفوس متحدة بالنوع مما قد صرح به جماعة من المتكلمين كالغزالي وغيره، وإليه ذهب الشيخ من الفلاسفة إلا أنه لم يأت لذلك بشبهة فضلا عن حجة واستدل غيره بأمور: الأول: أن النفوس مشتركة في أنها نفوس بشرية فلو انفصل بعضها عن بعض بمقوم ذاتي مع هذا الاشتراك لزم التركيب فكانت جسمانية. الثاني: أنا نرى الناس مشتركين في صحة العلم بالمعلومات، وفي صحة التخلق بالأخلاق فالنفوس متساوية في صحة اتصافها بالأفعال الإدراكية والتحريكية، وذلك يوجب أن تكون متساوية مطلقا لأنا لا نعقل من صفاتها إلا كونها مدركة ومتحركة بالإرادة وهي متساوية فيهما فهي إذن متساوية في جميع صفاتها المعقولة فلو اختلفت بعد ذلك لكان اختلافها في صفات غير معقولة، ولو فتحنا هذا الباب لزم تعذر الحكم بتماثل شيئين لجواز اختلافهما في غير معقول عندنا وذلك يؤدي إلى القدح في تماثل المتماثلات. الثالث: أنه بين في محله أن كل ماهية مجردة لا بد وأن تكون عاقلة لحقيقة ذاتها لكن نفس زيد مثلا مجردة فهي عاقلة لذلك ثم إنها لا تعقل إلا ماهية قوية على الإدراك والتحريك فإذن ماهيته هذا القدر وهو مشترك بينه وبين سائر النفوس بالأدلة التي ذكروها في بيان أن الوجود مشترك فيكون حينئذ تمام ماهيته مقولا على سائر النفوس، ويمتنع أن يكون هذا المشترك فصل مقوم في غيره إذ هو غير محتاج إليه في زيد إلى فصل يميزه عن غيره (1) فلا يحتاج في   (1) قوله فصل مقوم في غيره إذ هو غير محتاج إليه في زيد إلى فصل يميزه عن غيره هكذا بخطه اه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 288 غيره أيضا إلى فصل فإن الطبيعة الواحدة لا تكون محتاجة غنية معا، فثبت الاتفاق في النوع وهي أدلة واهية. أما الأول فلقائل أن يقول: لم لا يجوز أن هذه النفوس وإن كانت مختلفة بالنوع فهي غير متشاركة في الجنس فلا يلزم من ذلك الاختلاف كونها مركبة؟ والاشتراك في كونها نفوسا بشرية ونحوه يجوز أن يكون اشتراكا في أمور لازمة لجوهرها ولا تكون مقومة لها فتكون مختلفة في تمام ماهياتها، ومشتركة في اللوازم الخارجية مثل اشتراك الفصول المقومة لأنواع جنس واحد في ذلك الجنس فلا يلزم التركيب، ولو سلمنا أن هذه الأوصاف ذاتية فلم لا يجوز أن تكون النفوس مركبة في ماهياتها مع عدم كونها جسمانية فالسواد والبياض مثلا مندرجان تحت جنس وهو اللون فيكون كل منهما مركبا لا تركيبا جسمانيا، ومثل هذا يقال هنا كيف لا وقد قالوا: الجوهر مقول على النفس والجسم. وأما الثاني فمداره الاستقراء، ويضعف ذلك لوجهين: أحدهما: أنه لا يمكننا أن نحكم على كل إنسان بكونه قابلا لجميع المدركات. وثانيهما أنه لا يمكننا أن نحكم على النفس التي علمنا قبولها لصفة أنها قابلة لجميع الصفات كيف وضبط الصفات غير ممكن. وأما الثالث: فهو يقتضي أن يكون جميع المفارقات نوعا واحدا وهو مما لا سبيل إليه، وذهب شرذمة إلى اختلافها بالنوع، وهذا المعتبر عند صاحب المعتبر وطول الكلام في ذلك، وأحسن ما عول عليه في الاستدلال له اختلاف الناس في العلم والجهل والقوة والضعف والغضب والتحمل وغير ذلك فقال: ليس ذلك لاختلاف المزاج لما أنا نجد متساويين مزاجا مختلفين أخلاقا وبالعكس، وأيضا أن نفس النبي عليه الصلاة والسلام تبلغ قوتها إلى حيث تكون قوية على التصرف في هيولى هذا العالم ومعلوم أن ذلك ليس لقوة مزاجه فليس ذلك الاختلاف إلا لاختلاف الجواهر، وأنت تعلم أن هذا ليس في الحقيقة من البراهين بل هو من الإقناعات الضعيفة فتدبر جميع ما ذكرناه وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة للكلام في هذا المقام وهو لعمر الله تعالى طويل الذيل، وبالجملة أن الوقوف على حقيقة الروح أمر عسر والطريق إليه وعر، وقد جعل الله سبحانه ذلك من أعظم آياته الدالة على جلال ذاته وكمال صفاته فسبحانه من إله ما أجله ومن رب ما أكمله. فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ أمر للملائكة عليهم السلام بالسجود لآدم عليه السلام على وجه التحية والتعظيم أو لله تعالى وهو عليه السلام بمنزلة القبلة حيث ظهرت فيه تعاجيب آثار قدرته عزّ وجلّ كقول حسان: أليس أول من صلى لقبلتكم ... وأعلم الناس بالقرآن والسنن وفي أمرهم بالوقوع أي السقوط دليل على أن ليس المأمور به مجرد الانحناء كما قيل بل السجود بالمعنى المتبادر. فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ أي فخلقه فسواه فنفخ فيه من روحه فسجد له الملائكة كُلُّهُمْ بحيث لم يشذ منهم أحد أَجْمَعُونَ بحيث لم يتأخر في ذلك أحد منهم عن أحد بل أوقعوا الفعل مجتمعين في وقت واحد، هذا على ما ذهب إليه الفراء والمبرد من دلالة أجمعين على الاجتماع في وقت الفعل، وقال البصريون: إنها ككل لإفادة العموم مطلقا. ومن هنا منع تعاطفهما فلا يقال جاء القوم كلهم وأجمعون وردوا على ذلك بقوله تعالى حكاية عن إبليس: لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 82] لظهور أن لا اجتماع هناك. ورده في الكشف بأن الاشتقاق من الجمع يقتضيه لأنه ينصرف إلى أكمل الأحوال فإذا فهمت الإحاطة من لفظ آخر وهو كل لم يكن بد من كونه في وقت واحد وإلا كان لغوا، والرد بالآية منشؤه عدم تصور وجه الدلالة، ومنه يعلم وجه فساد النظر بأنه لو كان الأمر كذلك لكان حالا لا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 289 تأكيدا، فالحق في المسألة مع الفراء والمبرد وذلك هو الموافق لبلاغة التنزيل، وزعم البصريون أنه إنما أكد بتأكيدين للمبالغة في التعميم ومنع التخصيص. وزعم غير واحد أنه لا يؤكد بأجمع دون كل اختيارا والمختار وفاقا لأبي حيان جوازه لكثرة وروده في الفصيح ففي القرآن عدة آيات من ذلك وفي الصحيح «فله سلبه أجمع. فصلوا جلوسا أجمعون» ولعل منشأ الزعم وجوب تقديم كل عند الاجتماع، ويرده أن النفس يجب تقديمها على العين إذا اجتمعا مع جواز التأكيد بالعين على الانفراد، وما ذكروه من وجوب تقديم كل إنما هو بناء على ما علمت من الحق لرعاية البساطة والتركيب هذا. ثم إنه قد تقدم الكلام في تحقيق أن سجدوهم هذا هل ترتب على ما حكي من الأمر التعليقي كما يقتضيه هذه الآية الكريمة أو على الأمر التنجيزي كما يستدعيه بعض الآيات فتذكر. إِلَّا إِبْلِيسَ استثناء متصل إما لأنه كان جنيا مفردا مغمورا بألوف من الملائكة فعد منهم تغليبا وإما لأن من الملائكة جنسا يتوالدون يقال لهم جن وهو منهم وإما لأنه ملك لا جني، وقوله تعالى: كانَ مِنَ الْجِنِّ [الكهف: 50] مؤول كما ستعلمه إن شاء الله تعالى، وقوله سبحانه: أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ استئناف مبين لكيفية عدم السجود المفهوم من الاستثناء بناء على أنه من الإثبات نفي ومن النفي إثبات وهو الذي تميل إليه النفس فإن مطلق عدم السجود قد يكون مع التردد وبه علم أنه مع الإباء والاستكبار، وجوز أن يكون الاستثناء منقطعا فجملة أَبى إلخ متصلة بما قبلها، ووجه ذلك بأن إلا بمعنى لكن وإبليس اسمها، والجملة خبرها كذا قيل: وفي الهمع أن البصريين يقدرون المنقطع بلكن المشددة ويقولون: إنما يقدر بذلك لأنه في حكم جملة منفصلة عن الأولى فقولك: ما في الدار أحد إلا حمارا في تقدير لكن فيها حمارا على أنه استدراك يخالف ما بعد لكن فيها ما قبلها غير أنهم اتسعوا فأجروا إلا مجرى لكن لكن لما كانت لا يقع بعدها إلا المفرد بخلاف لكن فإنه لا يقع بعدها إلا كلام تام لقبوه بالاستثناء تشبيها بها إذا كانت استثناء حقيقة وتفريقا بينها وبين لكن، والكوفيون يقدرونه بسوى، وقال قوم منهم ابن يسعون: إلا مع الاسم الواقع بعدها في المنقطع يكون كلاما مستأنفا، وقال في قوله: وما بالربع من أحد إلا الاواري- إلا فيه بمعنى لكن الاواري اسم لها منصوب بها والخبر محذوف كأنه قال: لكن الأواري بالربع وحذف خبر إلا كما حذف خبر لكن في قوله ولكن زنجيا عظيم المشافر. اه. والظاهر منه أن البصريين وإن قدروه بلكن لا يعربونه هذا الإعراب فهو تقدير معنى لا تقدير إعراب، ولعل التوجيه السابق مبني على مذهب ابن يسعون إلا أنه لم يصرح فيه بورود الخبر مصرحا به، نعم صرح بعضهم بذلك وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة لهذا المبحث في هذه السورة فافهم، ووجه الانقطاع ظاهر لأن المشهور أنه ليس من جنس الملائكة عليهم السلام، والانقطاع- على ما قال غير واحد- يتحقق بعدم دخوله في المستثنى منه أو في حكمه، وما قيل: إنه حينئذ لا يكون مأمورا بالسجود فلا يلزم والاعتذار عنه بأن الجن كانوا مأمورين أيضا واستغني بذكر الملائكة عليهم السلام عنهم وأنه معنى الانقطاع وتوجه اللوم من ضيق العطن. قالَ استئناف مبني على سؤال من قال: فماذا قال الرب تعالى عند إبائه؟ فقيل قال سبحانه: يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أي أي سبب لك كما يقتضيه الجواب، وقوله تعالى: ما منعك أَلَّا تَكُونَ أي في أن لا تكون مَعَ السَّاجِدِينَ لما خلقت مع أنهم هم ومنزلتهم في الشرف منزلتهم، وكأن في صيغة الاستقبال إيماء إلى مزيد قبح حاله، ولعل التوبيخ ليس لمجرد تخلفه عن أولئك الكرام بل لأمور حكيت متفرقة إشعارا بأن كلّا منها كاف في التوبيخ وإظهار بطلان ما ارتكبه وشناعته، وقد تركت حكاية التوبيخ رأسا في غير سورة اكتفاء بحكايتها في موضع آخر، والظاهر أن قول الله تعالى له ذلك لم يكن بواسطة وهو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 290 منصب عال إذا كان على سبيل الإعظام والإجلال دون الإهانة والإذلال كما لا يخفى. قالَ استئناف على نحو ما تقدم لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ اللام لتأكيد النفي أي ينافي حالي ولا يستقيم مني أن أسجد لِبَشَرٍ جسماني كثيف خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ إشارة إجمالية إلى ادعاء خيريته وشرف مادته، وقد نقل عنه لعنه الله تعالى التصريح بذلك في آية أخرى، وقد عنى اللعين بهذا الوصف بيان مزيد خسة أصل من لم يسجد له وحاشاه وقد اكتفى في غير موضع بحكاية بعض ما زعمه موجبا للخسة، وفي عدوله عن تطبيق جوابه على السؤال روم للتفصي عن المناقشة وأنى له ذلك كأنه قيل: لم أمتنع عن الانتظام في سلك الساجدين بل عما لا يليق بشأني من السجود للمفضول، وقد أخطأ اللعين حيث ظن أن الفضل كله باعتبار المادة وما درى أنه يكون باعتبار الفاعل وباعتبار الصورة وباعتبار الغاية بل إن ملاك الفضل والكمال هو التخلي عن الملكات الردية والتحلي بالمعارف الربانية: فشمال والكأس فيها يمين ... ويمين لا كاس فيها شمال ولله تعالى در من قال: كن ابن من شئت واكتسب أدبا ... يغنيك مضمونه عن النسب إن الفتى من يقول ها أنا ذا ... ليس الفتى من يقول كان أبي على أن فيما زعمه من فضل النار على التراب منعا ظاهرا وقد تقدم الكلام في ذلك. قالَ استئناف كما تقدم أيضا فَاخْرُجْ مِنْها قيل: الظاهر أن الضمير للسماء وإن لم يجر لها ذكر، وأيد بظاهر قوله تعالى: فَاهْبِطْ مِنْها [الأعراف: 13] وقيل لزمرة الملائكة عليهم السلام ويلزم خروجه من السماء إذ كونه بانزوائه عنهم في جانب لا يعد خروجا في المتبادر وكفى به قرينة، وقيل: للجنة لقوله تعالى: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة: 35، الأعراف: 19] ولوقوع الوسوسة فيها ورد بأن وقوعها كان بعد الأمر بالخروج فَإِنَّكَ رَجِيمٌ مطرود من كل خير وكرامة فإن من يطرد يرجم بالحجارة فالكلام من باب الكناية، وقيل: أي شيطان يرجم بالشهب وهو وعيد بالرجم بها، وقد تضمن هذا الكلام الجواب عن شبهته حيث تضمن سوء حاله، فكأنه قيل: إن المانع لك عن السجود شقاوتك وسوء خاتمتك وبعدك عن الخير لا شرف عنصرك الذي تزعمه، وقيل: تضمنه ذلك لأنه علم منه أن الشرف بتشريف الله تعالى وتكريمه فبطل ما زعمه من رجحانه إذ أبعده الله تعالى وأهانه وقرب آدم عليه الصلاة والسلام وكرمه، وقيل: تضمنه للجواب بالسكوت كما قيل: جواب ما لا يرتضي السكوت، وفي تفسير الرجيم بالمرجوم بالشهب إشارة لطيفة إلى أن اللعين لما افتخر بالنار عذب بها في الدنيا فهو كعابد النار يهواها وتحرقه. وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ الإبعاد على سبيل السخط وذلك من الله تعالى في الآخرة عقوبة وفي الدنيا انقطاع من قبول فيضه تعالى وتوفيقه سبحانه، ومن الإنسان دعاء بذلك والظاهر أن المراد لعنة الله تعالى لقوله سبحانه: وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي [ص: 78] إِلى يَوْمِ الدِّينِ إلى يوم الجزاء، وفيه إشعار بتأخير جزائه إليه وإن اللعنة مع كمال فظاعتها ليست جزاء لفعله وإنما يتحقق ذلك يومئذ، وفيه من التهويل ما فيه، وجعل ذلك غاية أمد اللعنة قيل ليس لأنها تنقطع هنالك بل لأنه عند ذلك يعذب بما ينسى به اللعنة من أفانين العذاب فتصير هي كالزائل، وقيل: إنما غيا بذلك لأنه أبعد غاية يضربها الناس في كلامهم فهو نظير قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ [هود: 107، 108] على قول. وقال بعضهم: إن المراد باللعنة لعن الخلائق له لعنة الله تعالى عليه وذلك منقطع إذا نفخ في الصور وجاء يوم الدين دون لعن الله تعالى له وإبعاده إياه فإنه متصل إلى الأبد. قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي امهلني وأخرني ولا تمتني والفاء متعلقة بمحذوف مفهوم من الكلام أي إذ جعلتني رجيما فامهلني إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي آدم عليه السلام وذريته الجزء: 7 ¦ الصفحة: 291 للجزاء وأراد بذلك أن يجد فسحة لإغوائهم ويأخذ منهم ثأره، قيل: ولينجو من الموت إذ لا موت بعد البعث وهو المروي عن ابن عباس والسدي، وكأنه عليه اللعنة طلب تأخير موته لذلك ولم يكتف بما أشار إليه سبحانه في التغيي من التأخير لما أنه يمكن كون تأخير العقوبة كسائر من أخرت عقوباتهم إلى الآخرة من الكفرة. قالَ الرب سبحانه فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ أي من جملتهم ومنتظم في سلكهم قال بعض الأجلة: إن في ورود الجواب جملة اسمية مع التعرض لشمول ما سأله الآخرين على وجه يؤذن بكون السائل تبعا لهم في ذلك دليلا على أنه إخبار بالإنظار المقدر لهم لا لإنشاء إنظار خاص به وقع إجابة لدعائه أي أنك من جملة الذين أخرت آجالهم أزلا حسبما تقتضيه حكمة التكوين، فالفاء لربط الإخبار بالإنظار بالاستنظار كما في قوله: فإن ترحم فأنت لذاك أهل ... وإن تطرد فمن يرحم سواكا لا لربط نفس الإنظار به وأن استنظاره لتأخير الموت إذ به يتحقق كونه من جملتهم لا لتأخير العقوبة كما قيل، ونظمه في سلك من أخرت عقوبتهم إلى الآخرة في علم الله تعالى ممن سبق من الجن ولحق من الثقلين لا يلائم مقام الاستنظار مع الحياة ولأن ذلك التأخير معلوم من إضافة اليوم إلى الدين مع إضافته في السؤال إلى البعث انتهى، وقيل: إن الفاء متعلقة كالفاء الأولى بمحذوف والكلام إجابة له في الجملة أي إذ دعوتني فإنك من المنظرين إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ وهو وقت النفخة الأولى كما روي عن ابن عباس، وعليه الجمهور. ووصفه بالمعلوم إما على معنى أن الله تعالى استأثر بعلمه أو على معنى معلوم حاله وأنه يصعق فيه من في السموات ومن في الأرض إلا ما شاء الله تعالى، وقال آخرون: إنه عليه اللعنة أعطي مسؤوله كملا وليس إلا البقاء إلى وقت النفخة الأولى وهو آخر أيام التكليف والوقت المشارف للشيء المتصل به محدود منه فأول يوم الدين وأول يوم البعث كأنه من ذلك الوقت، واستظهر ذلك بأن الملعون عالم فلا يسأل ما يعلم أنه لا يجاب إليه وبأن ما في الأعراف لعدم ذكر الغاية فيه يدل على الإجابة واعترض على الأول بأنه غير بين ولا مبين وكونه على غالب الظن لا يجدي في مثله، وعلى الثاني بأن ترك الغاية في سورة الأعراف يحتمل أن يكون كترك الفاء في الاستنظار والانظار تعويلا على ما ذكر هاهنا وفي سورة ص فإن إيراد كلام واحد على أساليب متعددة غير عزيز في الكتاب العزيز. ومن الناس القائلين بالمغايرة من قال: إن المراد باليوم المعلوم اليوم الذي علم الله تعالى فيه انقضاء أجله وهو يوم خروج الدابة فإنها هي التي تقتله، وقد قدمنا نقل هذا القول عن بعض السلف وهو من الغرابة بمكان، وأغرب منه ما قيل: إنه هلك في بعض غزواته صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرنا قبل أن هذا مما لا يكاد يقبل بظاهره أصلا، والمشهور المعول عليه عند الجمهور هو ما ذكرناه من أنه يموت عند النفخة الأولى وبينها وبين النفخة الثانية التي يقوم فيها الخلق لرب العالمين أربعون سنة، ونقل عن الأحنف ابن قيس عليه الرحمة أنه قال: قدمت المدينة أريد أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه فإذا أنا بحلقة عظيمة وكعب الأحبار فيها يحدث وهو يقول: لما حضر آدم عليه السلام الوفاة قال: يا رب سيشمت بي عدوي إبليس إذا رآني ميتا وهو منتظر إلى يوم القيامة فأجيب أن يا آدم إنك سترد إلى الجنة ويؤخر اللعين إلى النظرة ليذوق ألم الموت بعدد الأولين والآخرين، ثم قال لملك الموت: صف لي كيف تذيقه الموت؟ فلما وصفه قال: يا رب حسبي فضج الناس وقالوا: يا أبا إسحاق كيف ذلك؟ فأبى وألحوا فقال: يقول الله سبحانه لملك الموت عقيب النفخة الأولى قد جعلت فيك قوة أهل السموات وأهل الأرضين السبع وإني اليوم ألبستك أثواب السخط والغضب كلها فابرز بغضبي وسطوتي على رجيمي إبليس فأذقه الموت واحمل عليه فيه مرارة الأولين والآخرين من الثقلين أضعافا مضاعفة وليكن معك من الزبانية سبعون ألفا قد امتلؤوا غيظا وغضبا وليكن مع كل منهم سلسلة من سلاسل جهنم وغل من أغلالها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 292 وانزع روحه المنتن بسبعين ألف كلاب من كلاليبها وناد مالكا ليفتح أبواب النيران فينزل الملك بصورة لو نظر إليها أهل السموات والأرضين لماتوا بغتة من هولها فينتهي إلى إبليس فيقول: قف لي يا خبيث لأذيقنك الموت كم من عمر أدركت وقرن أضللت وهذا هو الوقت المعلوم قال: فيهرب اللعين إلى المشرق فإذا هو بملك الموت بين عينيه فيهرب إلى المغرب فإذا هو به بين عينيه فيغوص البحار فيثير منها البخار فلا تقبله فلا يزال يهرب في الأرض ولا محيص له ولا ملاذ ثم يقوم في وسط الدنيا عند قبر آدم عليه السلام ويتمرغ في التراب من المشرق إلى المغرب ومن المغرب إلى المشرق حتى إذا كان في الموضع الذي أهبط فيه آدم عليه السلام وقد نصبت له الزبانية الكلاليب وصارت الأرض كالجمرة احتوشته الزبانية وطعنوه بالكلاليب فيبقى في النزع والعذاب إلى حيث يشاء الله تعالى، ويقال: آدم وحواء عليهما السلام اطلعا اليوم على عدوكما يذوق الموت فيطلعان فينظران إلى ما هو فيه من شدة العذاب فيقولان ربنا أتممت علينا نعمتك، وجاء في بعض الأخبار أنه حين لا يجد مفرا يأتي قبر آدم عليه السلام فيحثو التراب على رأسه وينادي يا آدم أنت أصل بليتي فيقال له: يا إبليس اسجد الآن لآدم عليه السلام فيرتفع عنك ما ترى فيقول: كلا لم أسجد له حيا فكيف أسجد له ميتا، وهذا إن صح يدل على أن اللعين من العناد بمكان لا تصل إلى غايته الأذهان. قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي أي بسبب إغوائك إياي لَأُزَيِّنَنَّ أي أقسم لأزينن لَهُمْ أي لذريته وهو مفهوم من السياق وإن لم يجر له ذكر، وقد جاء مصرحا به في قوله تعالى حكاية عن اللعين أيضا: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ [الإسراء: 62] ومفعول لَأُزَيِّنَنَّ محذوف أي المعاصي فِي الْأَرْضِ أي هذا الجرم المدحو وكأن اللعين أشار بذلك إلى أني أقدر على الاحتيال لآدم والتزيين له الأكل من الشجرة في السماء فأنا على التزيين لذريته في الأرض أقدر، ويجوز أنه أراد بالأرض الدنيا لأنها محل متاعها ودارها، وذكر أن هذا المعنى عرفي للأرض وأنها إنما ذكرت بهذا اللفظ تحقيرا لها، ولعل التقييد على ما قيل للإشارة إلى أن للتزيين محلّا يقوي قبوله أي لأزينن لهم المعاصي في الدنيا التي هي دار الغرور، وجوز أن يكون يراد بها هذا المعنى وينزل الفعل منزلة اللازم ثم يعدى بفي، وفي ذلك دلالة على أنها مستقر التزيين وأنه تمكن المظروف في ظرفه، ونحوه قول ذي الرمة: فإن تعتذر بالمحل من ذي ضروعها ... إلى الضيف يجرح في عراقيبها نصلي والمعنى لأحسنن الدنيا وأزيننها لهم حتى يشتغلوا بها عن الآخرة، وجوز جعل الباء للقسم و «ما» مصدرية أيضا أي أقسم بإغوائك إياي لأزينن، وإقسامه بعزة الله تعالى المفسرة بسلطانه وقهره لا ينافي إقسامه بهذا فإنه فرع من فروعها وأثر من آثارها فلعله أقسم بهما جميعا فحكى تارة قسمه بهذا وأخرى بذاك، وزعم بعضهم أن السببية أولى لأنه وقع في مكان آخر فَبِعِزَّتِكَ [ص: 82] والقصة واحدة والحمل على محاورتين لا موجب له ولأن القسم بالإغواء غير متعارف انتهى، وفيه نظر ظاهر فإن قوله: فَبِعِزَّتِكَ يحتمل القسمية أيضا، وقد صرح الطيبي بأن مذهب الشافعية أن القسم بالعزة والجلال يمين شرعا فالآية على الزاعم لا له. نعم إن دعواه عدم تعارف القسم بالإغواء مسلمة وهو عندي يكفي لأولوية السببية ولعدم التعارف مع عدم الإشعار بالتعظيم لا يعد القسم بها يمينا شرعا فإن القائلين بانعقاد القسم بصفة له تعالى يشترطون أن تشعر بتعظيم ويتعارف مثلها، وفي نسبة الإغواء إليه تعالى بلا إنكار منه سبحانه قول بأن الشر كالخير من الله عزّ وجلّ، وأول المعتزلة ذلك وقالوا: المراد النسبة إلى الغي كفسقته نسبته إلى الفسق لا فعلته أو أن المراد فعل به فعلا حسنا أفضى به لخبثه إلى الغي حيث أمره سبحانه بالسجود فأبى واستكبر أو أضله عن طريق الجنة وترك هدايته واللطف به واعتذروا عن إنظار الله تعالى إياه مع أنه مفض إلى الإغواء القبيح بأنه تعالى قد علم منه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 293 وممن اتبعه أنهم يموتون على الكفر ويصيرون إلى النار أنظر أم لم ينظر وأن في إنظاره تعريضا لمن خالفه لاستحقاق مزيد الثواب. وأنت تعلم أن في إنظار إبليس عليه اللعنة وتمكينه من الإغواء وتسليطه على أكثر بني آدم ما يأبى القول وجوب رعاية الأصلح المشهور عن المعتزلة، وأيضا من زعم أن حكيما أو غيره يحصر قوما في دار ويرسل فيها النار العظيمة والأفاعي القاتلة الكثيرة ولم يرد أذى أحد من أولئك القوم بالإحراق أو اللسع فقد خرج عن الفطرة البشرية. فحينئذ الذي تحكم به الفطرة أن الله تعالى أراد بالإنظار إضلال بعض الناس فسبحانه من إله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وتمسك بعض المعتزلة في تأويل ما تقدم بقوله: وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ حيث أفاد أن الإغواء فعله فلا ينبغي أن ينسب إلى الله تعالى، وأجيب بأن المراد به هنا الحمل على الغواية لا إيجادها وتأويل اللاحق للسابق أولى من العكس، وبالجملة ضعف الاستدلال ظاهر فلا يصلح ذلك متمسكا لهم أَجْمَعِينَ أي كلهم فهو لمجرد الإحاطة هنا. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ بفتح اللام وهو قراءة الكوفيين ونافع والحسن والأعرج أي الذين أخلصتهم لطاعتك وطهرتهم من كل ما ينافي ذلك، وكان الظاهر وإن منهم من لا أغويه مثلا، وعدل عنه إلى ما ذكر لكون الإخلاص والتمحض لله تعالى يستلزم ذلك فيكون من ذكر السبب وإرادة مسببه ولازمه على طريق الكناية وفيه إثبات الشيء بدليله فهو من التصريح به، وقرأ باقي السبعة والجمهور بكسر اللام أي الذين أخلصوا العمل لك ولم يشركوا معك فيه أحدا. قالَ الله سبحانه وتعالى: هذا صِراطٌ عَلَيَّ أي حق لا بد أن أراعيه مُسْتَقِيمٌ لا انحراف فيه فلا يعدل عنه إلى غيره، والإشارة إلى ما تضمنه الاستثناء وهو تخلص المخلصين من إغوائه وكلمة عَلَيَّ تستعمل للوجوب والمعتزلة يقولون به حقيقة لقولهم بوجوب الإصلاح عليه تعالى، وقال أهل السنة: إن ذلك وإن كان تفضلا منه سبحانه إلا أنه شبه بالحق الواجب لتأكد ثبوته وتحقق وقوعه بمقتضى وعده جل وعلا فجيء- بعلي- لذلك أو إلى ما تضمنه الْمُخْلَصِينَ بالكسر من الإخلاص على معنى أنه طريق يؤدي إلى الوصول إلي من غير اعوجاج وضلال وهو على نحو طريقك علي إذا انتهى المرور عليه، وإيثار حرف الاستعلاء على حرف الانتهاء لتأكيد الاستقامة والشهادة باستعلاء من ثبت عليه فهو أدل على التمكن من الوصول، وهو تمثيل فلا استعلاء لشيء عليه سبحانه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وليست عَلَيَّ فيه بمعنى إلي. نعم أخرج ابن جرير عن الحسن أنه فسرها بها، وأخرج عن زياد بن أبي مريم وعبد الله بن كثير أنهما قرآ «هذا صراط مستقيم» وقالا: «علي» هي إلي وبمنزلتها والأمر في ذلك سهل، وهي متعلقة بيمر مقدرا وصِراطٌ متضمن له فيتعلق به. وقال بعضهم: الإشارة إلى انقسامهم إلى قسمين أي ذلك الانقسام إلى غاو وغيره أمر مصيره إلي وليس ذلك لك، والعرب تقول: طريقك في هذا الأمر على فلان على معنى إليه يصير النظر في أمرك، وعن مجاهد وقتادة أن هذا تهديد للعين كما تقول لغيرك افعل ما شئت فطريقك علي أي لا تفوتني، ومثله على ما قال الطبرسي قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ [الفجر: 14] والمشار على هذا إليه ما أقسم مع التأكيد عليه، وأظهر هذه الأوجه على ما قيل هو الأول، واختار في البحر كونها إلى الإخلاص، وقيل: الأظهر أن الإشارة لما وقع في عبارة إبليس عليه اللعنة حيث قال: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ [الأعراف: 16] إلخ، ولا أدري ما وجه كونه أظهر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 294 وقرأ الضحاك وإبراهيم وأبو رجاء وابن سيرين ومجاهد وقتادة وحميد وأبو شرف مولى كندة ويعقوب، وخلق كثير «عليّ مستقيم» برفع «عليّ» وتنوينه أي عال لارتفاع شأنه إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ أي تسلط وتصرف بالإغواء والمراد بالعباد المشار إليهم بالمخلصين فالإضافة للعهد، والاستثناء على هذا في قوله تعالى: إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ منقطع واختار ذلك غير واحد، واستدل عليه بسقوط الاستثناء في الإسراء، وجوز أن يكون المراد بالعباد العموم والاستثناء متصل والكلام كالتقرير لقوله: إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ولذا لم يعطف على ما قبله، وتغيير الوضع لتعظيم المخلصين بجعلهم هم الباقين بعد الاستثناء. وفي الآية دليل لمن جوز استثناء الأكثر وإلى ذلك ذهب أبو عبيد والسيرافي وأكثر الكوفية، واختاره ابن خروف والشلوبين وابن مالك وأجاز هؤلاء أيضا استثناء النصف، وذهب بعض البصرية إلى أنه لا يجوز كون المستثنى قدر نصف المستثنى منه أو أكثر ويتعين كونه أقل من النصف واختاره ابن عصفور والآمدي وإليه ذهب أبو بكر الباقلاني من الأصوليين، وذهب البعض الآخر من علماء البلدين إلى أنه يجوز أن يكون المخرج النصف فما دونه ولا يجوز أن يكون أكثر وإليه ذهب الحنابلة، واتفق النحويون كما قال أبو حيان وكذا الأصوليون عند الإمام والآمدي خلافا لما اقتضاه نقل القرافي عن المدخل لابن طلحة على أنه لا يجوز أن يكون المستثنى مستغرقا للمستثنى منه، ومن الغريب نقل ابن مالك عن الفراء جواز له على ألف إلا ألفين، وقيل: إن كان المستثنى منه عددا صريحا يمتنع فيه استثناء النصف والأكثر وإن كان غير صريح لا يمتنعان، وتحقيق هذه المسألة في الأصول، والمذكور في بعض كتب العربية عن أبي حيان أنه قال: المستقرأ من كلام العرب إنما هو استثناء الأقل وجميع ما استدل به على خلافه محتمل التأويل وأنت تعلم أن الآية تدفع مع ما تقدم قول من شرط الأقل لما يلزم عليه من الفساد لأن استثناء الغاوين هنا يستلزم على ذلك أن يكونوا أقل من المخلصين الذين هم الباقون بعد الاستثناء من جنس العباد، واستثناء المخلصين هناك يستلزم أن يكونوا أقل من الغاوين الذين هم الباقون بعد الاستثناء من ذلك فيكون كل من المخلصين والغاوين أقل من نفسه وهو كما ترى. وأجاب بعضهم بأن المستثنى منه هنا جنس العباد الشامل للمكلفين وغيرهم ممن مات قبل أن يكلف ولا شك أن الغاوين أقل من الباقي منهم بعد الاستثناء وهم المخلصون ومن مات غير مكلف والمستثنى منه هناك المكلفون إذ هم الذين يعقل حملهم على الغواية والضلال إذ غير المكلف لا يوصف فعله بذلك والمخلصون أقل من الباقي منهم بعد الاستثناء أيضا ولا محذور في ذلك، وذكر بعضهم أن الكثرة والقلة الادعائيتين تكفيان لصحة الشرط فقد ذكر السكاكي في آخر قسم الاستدلال وكذا لا تقول لفلان علي ألف إلا تسعمائة وتسعين إلا وأنت تنزل ذلك الواحد منزلة الألف بجهة من الجهات الخطابية مع أنه ممن يشترط كون المستثنى أقل من الباقي اه، وظاهر كلام الأصوليين ينافيه، وجوز أن يكون الاستثناء منقطعا على تقدير إرادة الجنس أيضا ويكون الكلام تكذيبا للملعون فيما أوهم أن له سلطانا على من ليس بمخلص من عباده سبحانه فإن منتهى قدرته أن يغرهم ولا يقدر على جبرهم على اتباعه كما قال: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم: 22] . فحاصل المعنى أن من اتبعك ليس لك عليهم سلطان وقهر بل أطاعوك في الإغواء واتبعوك لسوء اختيارهم ولا يضر في الانقطاع دخول الغاوين في العباد بناء على ما قالوا من أن المعتبر في الاتصال والانقطاع الحكم، ويفهم كلام البعض أنه يجوز أن تكون الآية تصديقا له عليه اللعنة في صريح الاستثناء وتكذيبا في جعل الإخلاص علة للخلاص حسبما يشير إليه كلامه فإن الصبيان والمجانين خلصوا من إغوائه مع فقد هذه العلة. ومَنِ على جميع الأوجه المذكورة لبيان الجنس أي الذين هم الغاوون. واستدل الجبائي بنفي أن يكون له الجزء: 7 ¦ الصفحة: 295 سلطان على العباد على رد قول من يقول: إن الشيطان يمكنه صرع الناس وإزالة عقولهم، وقد تقدم الكلام في إنكار المعتزلة تخبط الشيطان والرد عليهم وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ الضمير لمن اتبع أو للغاوين ورجح الثاني بالقرب وظهور ملاءمته للضمير، والأول بأن اعتباره أدخل في الزجر عن اتباعه مع أن الثاني جيء به لبيانه وأَجْمَعِينَ توكيد للضمير، وجوز أن يكون حالا منه ويجعل على هذا الموعد مصدرا ميميا ليتحقق شرط مجيء الحال من المضاف إليه وهو كون المضاف مما يعمل عمل الفعل فإنهم اشترطوا ذلك أو كون المضاف جزء المضاف إليه أو كجزئه على ما ذكره ابن مالك وغيره ليتحد عامل الحال وصاحبها حقيقة أو حكما لكن يقدر حينئذ مضاف قبله لأن جهنم ليست عين الموعد بل محله فيقدر محل وعدهم أو مكانه، وليس بتأويل اسم المفعول كما وهم، وجوز أن يكون الموعد اسم مكان، وحينئذ لا يحتاج إلى تقدير المضاف إلا أن في جواز الحالية بحثا لأن اسم المكان لا يعمل عمل فعله كما حقق في النحو، وكون العامل معنى الإضافة وهو الاختصاص على القول بأنه الجار للمضاف إليه غير مقبول عند المحققين لأن ذلك من المعاني التي لا تنصب الحال، ولا يخفى ما في جعل جهنم موعدا لهم من التهكم والاستعارة فكأنهم كانوا على ميعاد، وفيه أيضا إشارة إلى أن ما أعد لهم فيها مما لا يوصف في الفظاعة لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ أي سبع طبقات ينزلونها بحسب مراتبهم في الغواية والمتابعة روي ذلك عن عكرمة وقتادة، وأخرج أحمد في الزهد والبيهقي في البعث وغيرهما من طرق عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: «أبواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض فيملأ الأول ثم الثاني ثم الثالث حتى تملأ كلها» . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها جهنم والسعير ولظى والحطمة وسقر والجحيم والهاوية وهي أسفلها، وجاء في ترتيبها عن الأعمش وابن جريج وغيرهما غير ذلك، وذكر السهيلي في كتاب الاعلام أنه وقع في كتب الرقائق أسماء هذه الأبواب ولم ترد في أثر صحيح وظاهر القرآن والحديث يدل على أن منها ما هو من أوصاف النار نحو السعير والجحيم والحطمة والهاوية ومنها ما هو علم للنار كلها نحو جهنم وسقر ولظى فلذا أضربنا عن ذكرها اه، وأقرب الآثار التي وقفنا عليها إلى الصحة فيما أظن ما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه لكثرة مخرجيه، وتحتاج جميع الآثار إلى التزام أن يقال: إن جهنم تطلق على طبقة مخصوصة كما تطلق على النار كلها، وقيل: الأبواب على بابها والمراد أن لها سبعة أبواب يدخلونها لكثرتهم والإسراع بتعذيبهم. والجملة- كما قال أبو البقاء- يجوز أن تكون خبرا ثانيا ويجوز أن تكون مستأنفة ولا يجوز أن تكون حالا من جهنم لأن إن لا تعمل في الحال لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ من الاتباع والغواة جُزْءٌ مَقْسُومٌ فريق معين مفروز من غيره حسبما يقتضيه استعداده، فباب للموحدين العصاة وباب لليهود وباب للنصارى وباب للصابئين وباب للمجوس وباب للمشركين وباب للمنافقين، وروي هذا الترتيب في بعض الآثار، وعن ابن عباس أن جهنم لمن ادعى الربوبية ولظى لعبدة النار والحطمة لعبدة الأصنام وسقر لليهود والسعير للنصارى والجحيم للصابئين والهاوية للموحدين العاصين، وروي غير ذلك، وبالجملة في تعيين أهلها كترتيبها اختلاف في الروايات. ولعل حكمة تخصيص هذا العدد انحصار مجامع المهلكات في المحسوسات بالحواس الخمس ومقتضيات القوة الشهوانية الغضبية أو أن أصول الفرق الداخلين فيها سبعة، وقرأ ابن القعقاع «جزّ» بتشديد الزاي من غير همز ووجهه أنه حذف الهمزة وألقى حركتها على الزاي ثم وقف بالتشديد ثم أجرى الوصل مجرى الوقف، وقرأ ابن وثاب «جزء» بضم الزاي والهمز «ومنهم» حال من «جزء» وجاء من النكرة لتقدمه ووصفها أو حال من ضميره في الجار والمجرور الواقع خبرا له، ورجح أن فيه سلامة مما في وقوع الحال من المبتدأ، والتزم بعضهم لذلك كون المرفوع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 296 فاعلا بالظرف ولا يجوز أن يكون حالا من الضمير في مَقْسُومٌ لأنه صفة جُزْءٌ فلا يصح عمله فيما قبل الموصوف، وكذا لا يجوز أن يكون صفة بابٍ لأنه يقتضي أن يقال منها، وتنزيل الأبواب منزلة العقلاء لا وجه له هنا كما لا يخفى والله تعالى أعلم. ومن باب الإشارة: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ فيه إشارة إلى ذم من كان همه بطنه وتنفيذ شهواته، قال أبو عثمان: أسوأ الناس حالا من كان همه ذلك فإنه محروم عن الوصول إلى حرم القرب وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ رموه وحاشاه صلى الله عليه وسلم بالجنون مشيرين إلى أن سببه دعواه عليه الصلاة والسلام نزول الذكر الذي لم تتسع له عقولهم. والإشارة في ذلك أنه لا ينبغي لمن لم يتسع عقله لما من الله سبحانه به على أوليائه من الأسرار أن يبادروهم بالإنكار ويرموهم بما لا ينبغي كما هو عادة كثير من المنكرين اليوم على الأولياء الكاملين حيث نسبوهم فيما تكلموا به من الأسرار الإلهية والمعارف الربانية إلى الجنون وزعموا أن ما تكلموا به من ذلك ترهات وأباطيل خيلت لهم من الرياضات، ولا أعني بالأولياء الكاملين سوى من تحقق لدى المنصفين موافقتهم للشرع فيما يأتون ويذرون دون الذين يزعمون انتظامهم في سلكهم وهم أولياء الشيطان وحزبهم حزبه كبعض متصوفة هذا الزمان فإن الزنادقة بالنسبة إليهم أتقياء موحدون كما لا يخفى على من سبر أحوالهم إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ قال ابن عطاء: أي إنا نزلنا هذا الذكر شفاء ورحمة وبيانا للهدى فينتفع به من كان موسوما بالسعادة منورا بتقديس السر عن دنس المخالفة وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ في قلوب أوليائنا فهي خزائن أسرارنا وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ أشار سبحانه إلى سماء الذات وبروج الصفات والجلال فيسير في ذلك القلب والسر والعقل والروح فيحصل للروح التوحيد والتجريد والتفريد وللعقل المعارف والكواشف وللقلب العشق والمحبة والخوف والرجاء والقبض والبسط والعلم والخشية والأنس والانبساط وللسر الفناء والبقاء والسكر والصحو وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إشارة إلى منع كشف جمال صفاته سبحانه وجلال ذاته عزّ وجلّ عن أبصار البطالين والمدعين والمبطلين الزائغين عن الحق إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ اختلس شيئا من سكان هاتيك الحضائر القدسية من الكاملين فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ نار التحير فهلك في بوادي التيه أو صار غولا يضل السائرين السالكين لتحصيل ما ينفعهم، وقيل الإشارة في ذلك: إنا جعلنا في سماء العقل بروج المقامات ومراتب العقول من العقل الهيولاني والعقل بالملكة والعقل بالفعل والعقل المستفاد وزيناها بالعلوم والمعارف للناظرين المتفكرين وحفظناها من شياطين الأوهام الباطلة إلا من اختطف الحكم العقلي باستراق السمع لقربه من أفق العقل فأتبعه شهاب البرهان الواضح فطرده وأبطل حكمه اه ولا يخفى ما في تزيين كل مرتبة من مراتب العقول المذكورة بالعلوم والمعارف للمتفكرين من النظر على من تفكر، وقيل: الإشارة إلى أنه تعالى جعل في سماء القلوب بروج المعارف تسير فيها سيارات الهمم، وجعلها زينة للناظرين إليها المطلعين عليها من الملائكة والروحانيين وحفظها من الشياطين فلو دنا إبليس أو جنوده من قلب عارف احترق بنور معرفته ورد خاسئا. وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ إشارة إلى أنه تعالى بسط بأنوار تجلي جماله وجلاله سبحانه أرض قلوب أوليائه حتى أن العرش وما حوى بالنسبة إليها كحلقة في فلاة بل دون ذلك بكثير، وفي الخبر «ما وسعني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن» ثم إنه تعالى لما تجلى عليها تزلزلت من هيبته فألقى عليها رواسي السكينة فاستقرت وأنبت فيها بمياه بحار زلال نور غيبه من جميع نباتات المعارف والكواشف والمواجيد والحالات والمقامات والآداب وكل من ذلك موزون بميزان علمه وحكمته. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 297 وقال بعضهم: نفوس العابدين أرض العبادة وقلوب العارفين أرض المعرفة وأرواح المشتاقين أرض المحبة، والرواسي الرجاء والخوف والرغبة والرهبة، والازدهار الأنوار التي أشرقت فيها من نور اليقين ونور العرفان ونور الحضور ونور الشهود ونور التوحيد إلى غير ذلك، وقيل: أشير بالأرض إلى أرض النفس أي بسطنا أرض النفس بالنور القلبي وألقينا فيها رواسي الفضائل وأنبتنا فيها كل شيء من الكمالات الخلقية والأفعال الإرادية والملكات الفاضلة والإدراكات الحسية معين مقدر بميزان الحكمة والعدل وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ بالتدابير الجزئية وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ ممن ينسب إليكم ويتعلق بكم، قال بعضهم: إن سبب العيش مختلف فعيش المريدين بيمن إقباله تعالى وعيش العارفين بلطف جماله سبحانه وعيش الموحدين بكشف جلاله جل جلاله. وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ أي ما من شيء إلا له عندنا خزانة في عالم القضاء وَما نُنَزِّلُهُ في عالم الشهادة إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ من شكل وقدر ووضع ووقت ومحل حسبما يقتضيه استعداده، قيل: إن الإشارة في ذلك إلى دعوة العباد إلى حقائق التوكل وقطع الأسباب والإعراض عن الأغيار، ومن هنا قال حمدون: إنه سبحانه قطع أطماع عبيده جل وعلا بهذه الآية فمن رفع بعد هذا حاجة إلى غيره تعالى شأنه فهو جاهل ملوم، وكان الجنيد قدس سره إذا قرأ هذه الآية يقول: فأين تذهبون؟ ويقال: خزائنه تعالى في الأرض قلوب العارفين وفيها جواهر الأسرار، ومنهم من قال: النفوس خزائن التوفيق والقلوب خزائن التحقيق والألسنة خزائن الذكر إلى غير ذلك وَأَرْسَلْنَا على القلوب الرِّياحَ النفحات الإلهية لَواقِحَ بالحكم والمعارف، قال ابن عطاء: رياح العناية تلقح الثبات على الطاعات ورياح الكرم تلقح في القلوب معرفة المنعم ورياح التوكل تلقح في النفوس الثقة بالله تعالى والاعتماد عليه، وكل من هذه الرياح تظهر في الأبدان زيادة وفي القلوب زيادة وشقي من حرمها فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ أي سماء الروح ماءً من العلوم الحقيقية فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وأحييناكم به وَما أَنْتُمْ لَهُ أي لذلك الماء بِخازِنِينَ لخلوكم عن العلوم قبل أن نعلمكم وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي القلوب بماء العلم والمشاهدة وَنُمِيتُ النفوس بالجد والمجاهدة، وقيل: نحيي بالعلم ونميت بالإفناء في الوحدة، وقيل: نحيي بمشاهدتنا قلوب المطيعين من موت الفراق ونميت نفوس المريدين بالخوف منا وقهر عظمتنا عن حياة الشهوات، وقال الواسطي: نحيي من نشاء بنا ونميت من نشاء عنا، وقال الوراق: نحيي القلوب بنور الإيمان ونميت النفوس باتباع الشيطان وقيل وقيل: وَنَحْنُ الْوارِثُونَ للوجود والباقون بعد الفناء وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وهم المشتاقون الطالبون للتقدم وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ وهم المنجذبون إلى عالم الحس باستيلاء صفات النفس الطالبون للتأخر عن عالم القدس وروضات الأنس، ومن هنا قال ابن عطاء: من القلوب قلوب همتها مرتفعة عن الأدناس والنظر إلى الأكوان ومنها ما هي مربوطة بها مقترنة بنجاستها لا تنفك عنها طرفة عين، وقيل: المستقدمين الطالبون كشف أنوار الجمال والجلال والمستأخرين أهل الرسوم الطالبون للحظوظ والأعراض، وقيل: الأولون هم أرباب الصحو الذين يتسارعون إذا دعو إلى الطاعة والآخرون سكارى التوحيد والمعرفة والمحبة، وقيل: الأولون هم الآخذون بالعزائم والآخرون هم الآخذون بالرخص، وقيل: غير ذلك وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فيه إشارة إلى عظم شأن آدم عليه السلام حيث أخبر سبحانه بخلقه قبل أن يخلقه، وسماه بشرا لأنه جل شأنه باشر خلقه بيديه، ولم يثن سبحانه اليد لأحد إلا له، وهو النسخة الإلهية الجامعة لصفات الجمال والجلال فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ أضاف سبحانه الروح إلى نفسه تشريفا لها وتعظيما لقدرها لما أنها سر خفي من أسراره جل وعلا، ولذا قيل: من عرف نفسه عرف ربه، وعلق تبارك شأنه الأمر بالسجود بالتسوية والنفخ لما أن أنوار الأسماء والصفات وسناء سبحات الذات إنما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 298 تظهر إذ ذاك، ولذا لما تم الأمر وجلدت (1) النسخة فظهرت أنوار الحق وقرئت سطور الأسرار استصغروا أنفسهم فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ لما أعمى الله تعالى عينه عن مشاهدة ما شاهدوه أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ولو شاهد ذلك لسجد كما سجدوا قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ غلط اللعين في زعمه أنه خير من آدم عليه السلام ولم يخطر في باله أيضا أن المحب الصادق يمتثل أمر محبوبه كيف كان، ومن هنا قيل: لو قال تيها قف على جمر الغضى ... لوقفت ممتثلا ولم أتوقف وقال بعض أهل الوحدة: إن الملعون ظن أنه مستحكم في توحيده حيث لم يسجد لغيره تعالى، وقد أخطأ أيضا لأنه لا غير هناك لأن في حقيقة جمع الجمع ترتفع الغيرية وتزول الاثنينية. وأنت تعلم أن هذا بمراحل عما يدل عليه كلامه وأن الغيرية إذا ارتفعت في هذا المقام ترتفع مطلقا فلا تبقى غيرية بين آدم وإبليس بل ولا بينهما وبين شخص من الأشخاص الخارجية والذهنية، ومن هنا قال قائلهم: ما آدم في الكون ما إبليس ... ما ملك سليمان وما بلقيس الكل عبارة وأنت المعنى ... يا من هو للقلوب مغناطيس وقال الحسين بن منصور: جحودي لك تقديس ... وعقلي فيك منهوس (2) فمن آدم إلاك ... ومن في البين إبليس وقد انتشر مثل هذا الكلام اليوم في الأسواق ومجالس الجهلة والفساق واتسع الخرق على الراقع وتفاقم الأمر وما له سوى الله تعالى من دافع قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ طريد عن ساحة القرب إذ القرب يقتضي الامتثال وكلما ازداد العبد قربا من ربه ازداد خضوعا وخشوعا وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ لم يرد سبحانه أنه بعد ذلك يحصل له القرب خلافا لبعض أهل الوحدة بل أراد جل وعلا بعض ما قدمناه. قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أي لأزينن لهم الشهوات في الجهة السفلية وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ الذين أخلصتهم لك واصطفيتهم لمحبتك أو المخلصين في طاعتهم لك ولا يلتفتون لأحد سواك، وفيه من مدح الإخلاص ما فيه، وفي الخبر «العالم هلكى إلا العالمون والعالمون هلكى إلا العاملون والعاملون هلكى إلا المخلصون والمخلصون على خطر» أي شرف عظيم كما ذكره السيد السند في بعض تعليقاته. إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ أي الذين يناسبونك في الغواية والبعد وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ عدد الحواس الخمس والقوتين الشهوية والغضبية وهاتان القوتان بابان عظيمان للضلالة المفضية إلى النار. أخرج ابن جرير عن يزيد بن قسيط قال: كانت للأنبياء عليهم السلام مساجد خارجة من قراهم فإذا أراد أحدهم أن يستنبئ ربه عن شيء خرج إلى مسجده فصلى ما كتب الله تعالى ثم سأل ما بدا   (1) هي كلمة مستعملة عند العامة يقولون جلدت الكتاب أي وضعت له جلدا وبهذا المعنى استعملت هنا جريا على المتعارف عندهم وإلا فقد قال بعض الأفاضل: جلدت الكتاب بمعنى أزلت جلده فليحفظ اه منه. (2) أصله القليل اللحم من الرجال اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 299 له فبينما نبي في مسجده إذ جاء إبليس حتى جلس بينه وبين القبلة فقال النبي: أعوذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم ثلاثا فقال إبليس: أخبرني بأي شيء تنجو مني؟ قال النبي: بل أخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم فأجد كل واحد منهما على صاحبه فقال النبي: إن الله تعالى يقول: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ قال إبليس: قد سمعت هذا قبل أن تولد قال النبي: ويقول الله تعالى وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف: 200، فصلت: 36] وإني والله تعالى ما أحسست بك قط إلا استعذت بالله تعالى منك قال إبليس: صدقت بهذا تنجو مني فقال النبي: أخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم قال: آخذه عند الغضب وعند الهوى لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ فيكون لكل باب فرقة تغلب عليها قوة ذلك الباب، نسأل الله تعالى أن يجيرنا منها بحرمة سيد ذوي الألباب صلى الله عليه وسلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 300 إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ أي مستقرون في ذلك خالدون فيه، والمراد بهم- على ما في الكشاف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- الذين اتقوا الكفر والفواحش ولهم ذنوب تكفرها الصلوات وغيرها، وفيه أن المتقي على الإطلاق من يتقي ما يجب اتقاؤه مما نهي عنه، ونقل الإمام عن جمهور الصحابة والتابعين وذكر أنه المنقول عن الخير أن المراد بهم الذين اتقوا الشرك ثم قال: وهذا هو الحق الصحيح، والذي يدل عليه أن المتقي هو الآتي بالتقوى مرة واحدة كما أن الضارب هو الآتي بالضرب مرة فليس من شرط صدق الوصف بكونه متقيا كونه آتيا بجميع أنواع التقوى، والذي يقرر ذلك أن الآتي بفرد واحد من أفراد التقوى يكون آتيا بالتقوى فإن الفرد مشتمل على الماهية بالضرورة وكل آت بالتقوى يجب أن يكون متقيا فالآتي بفرد يجب كونه متقيا، ولهذا قالوا: ظاهر الأمر لا يفيد التكرار فظاهر الآية يقتضي حصول الجنات والعيون لكل من اتقى عن ذنب واحد إلا أن الأمة مجمعة على أن التقوى عن الكفر شرط في حصول هذا الحكم، وأيضا هذه الآية وردت عقيب قول إبليس: إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ وعقيب قوله تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ فلذا اعتبر الإيمان في هذا الحكم فوجب أن لا يزاد فيه قيد آخر لأن تخصيص العام لما كان خلاف الظاهر، فكلما كان التخصيص أقل كان أوفق بمقتضى الأصل والظاهر فثبت أن الحكم المذكور يتناول جميع القائلين لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كانوا من أهل المعصية، وهذا تقرير بين وكلام ظاهر اه. وقد يقال: لا شبهة في أن السياق يدل على أن المتقين هم المخلصون السابق ذكرهم وأن المطلق يحمل على الكامل والكامل ما أشار إليه الزمخشري ولا بأس بالحمل عليه وقيل إنه الأنسب. وإخراج العصاة من النار ثابت بنصوص أخر، وكذا إدخال التائبين الجنة بل غيرهم أيضا فلا يلزم القائل بذلك القول بما عليه المعتزلة من تخليد أصحاب الكبائر كما لا يخفى، وأل للاستغراق وهو إما مجموعي فيكون لكل واحد من المتقين جنة وعين أو إفرادي فيكون لكل جنات وعيون، والمراد بالعيون يحتمل كما قيل أن يكون الأنهار المذكورة في قوله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ [محمد: 15] الآية، ويحتمل أن يكون منابع مغايرة لتلك الأنهار وهو الظاهر، وهل كل من المتقين مختص بعيونه أو ليس مختصا بل تجري من بعض إلى بعض احتمالان فإنه يمكن أن يكون لكل واحد عين وينتفع بها من في معيته، ويمكن أن تجري العين من بعضهم إلى بعض لأنهم مطهرون عن الحقد والحسد، وضم العين من عُيُونٍ هو الأصل وبه قرأ نافع وأبو عمرو وحفص وهشام وقرأ الباقون بالعكس وهو لمناسبة الياء. ادْخُلُوها أمر لهم بالدخول من قبله تعالى، وهو بتقدير القول على أنه حال أي وقد قيل لهم ادخلوها، فلا يرد أنه بعد الحكم بأنهم في الجنة كيف يقال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 301 لهم ادخلوها، وجوز أن يقدر مقولا لهم ذلك والمقارنة عرفية لاتصالهما، وقيل: يقدر يقال لهم فيكون مستأنفا، ووجه ذكر هذا الأمر بعد الحكم السابق بأنهم لما ملكوا جنات كثيرة كانوا كلما خرجوا من جنة إلى أخرى قيل لهم ادخلوها إلى آخره، وهو إنما يجري على تقدير أن يكون لكل جنات وبغير ذلك مما فيه دخل. وقرأ الحسن «أدخلوها» على أنه ماض مبني للمفعول من باب الأفعال والهمزة فيه للقطع، وأصل القياس أن لا يكسر التنوين قبلها إلا أن الحسن كسره على أصل التقاء الساكنين إجراء لهمزة القطع مجرى همزة الوصل في الإسقاط. وقرأ يعقوب في رواية رويس كذلك إلا أنه ضم التنوين بإلقاء حركة همزة القطع عليه، وعنه «أدخلوها» بفتح الهمزة عليه وكسر الخاء على أنه أمر للملائكة بإدخالهم إياها، وفتح في هذه القراءة التنوين بإلقاء فتحة الهمزة عليه وعلى القراءة بصيغة الماضي لا حاجة إلى تقدير القول، والفاعل عليها هو الله تعالى أي أدخلهم الله سبحانه إياها بِسَلامٍ أي ملتبسين به أي سالمين أو مسلما عليكم وعلى الأول يراد سلامتهم من الآفة والزوال في الحال، ويراد بالأمن في وقوله سبحانه: آمِنِينَ الأمن من طرو ذلك في الاستقبال فلا حاجة إلى تخصيص السلامة بما يكون جسمانيا والأمن بغيره وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ أي حقد، وأصله على ما قيل من الغلالة وهو ما يلبس بين الثوبين الشعار والدثار وتستعار للدرع كما يستعار الدرع لها، وقيل: قيل للحقد غل أخذا له من انغل في كذا وتغلل إذا دخل فيه، ومنه قيل للماء الجاري بين الشجر غلل، وقد يستعمل الغل فيما يضمر في القلب مما يذم كالحسد والحقد وغيرهما، وهذا النزع قيل في الدنيا، فقد أخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر عن كثير النوا قال: قلت لأبي جعفر إن فلانا حدثني عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما أن هذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر وعلي رضي الله تعالى عنهم (1) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ قال: والله إنها لفيهم أنزلت وفيمن تنزل إلا فيهم؟ قلت: وأي غل هو؟ قال: غل الجاهلية إن بني تيم وبني عدي وبني هاشم كان بينهم في الجاهلية فلما أسلم هؤلاء القوم تحابوا فأخذت أبا بكر الخاصرة فجعل علي كرم الله تعالى وجهه يسخن يده فيكوي بها خاصرة أبي بكر رضي الله تعالى عنه فنزلت هذه الآية، ويشعر بذلك على ما قيل ما أخرجه سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر والحاكم وغيرهم من طرق عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال لابن طلحة: إني لأرجو أن أكون أنا وأبوك من الذين قال الله تعالى: وَنَزَعْنا الآية فقال رجل من همذان: إن الله سبحانه أعدل من ذلك فصاح علي كرم الله تعالى وجهه عليه صيحة تداعى لها القصر، وقال: فمن إذن إن لم نكن نحن أولئك؟ وقيل: إن ذلك في الآخرة بعد دخول الجنة، فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق القاسم عن أبي أمامة قال: يدخل أهل الجنة الجنة على ما في صدورهم في الدنيا من الشحناء والضغائن حتى إذا تدانوا وتقابلوا على السرر نزع الله تعالى ما في صدورهم في الدنيا من غل. وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الكريم بن رشيد قال: ينتهي أهل الجنة إلى باب الجنة وهم يتلاحظون تلاحظ القيران فإذا دخلوها نزع الله تعالى ما في صدورهم من الغل، وقيل: فيها قبل الدخول، فقد أخرج ابن أبي حاتم أيضا عن الحسن قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يحيس أهل الجنة بعد ما يجوزون الصراط حتى يؤخذ لبعضهم من بعض ظلاماتهم في الدنيا ويدخلون الجنة وليس في قلوب بعضهم على بعض غل» . وهذا ونحوه يؤيد ما قاله الإمام في المتقين، وقيل: معنى الآية طهر الله تعالى قلوبهم من أن يتحاسدوا على الدرجات في الجنة ونزع سبحانه منها كل غل وألقى فيها التواد والتحاب، والآية ظاهرة في وجود الغل في صدورهم   (1) رأيت في بعض النسخ زيادة وعثمان رضي الله تعالى عنه وآخر الخبر لا يقتضيها فتأمل اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 302 قبل النزع فتأمل. إِخْواناً حال من الضمير فِي جَنَّاتٍ وهي حال مترادفة إن جعل ادْخُلُوها حالا من ذلك أيضا أو حال من فاعل ادْخُلُوها وهي مقدرة إن كان النزع في الجنة أو من ضمير آمِنِينَ أو الضمير المضاف إليه في صُدُورِهِمْ وجاز لأن المضاف بعض من ذلك وهي حال مقدرة أيضا، ويقال نحو ذلك في قوله تعالى: عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ويجوز أن يكونا صفتين- لإخوانا- أو حالين من الضمير المستتر فيه لأنه في معنى المشتق أي متصافيين، ويجوز أن يكون مُتَقابِلِينَ حالا من المستتر في عَلى سُرُرٍ سواء كان حالا أو صفة، وأبو حيان لا يرى جواز الحال من المضاف إليه إذا كان جزأه أو كجزئه ويخصه فيما إذا كان المضاف مما يعمل في المضاف إليه الرفع أو النصب، وزعم أن جواز ذلك في الصورتين السابقتين مما تفرد به ابن مالك. ولم يقف على أنه نقله في فتاويه عن الأخفش وجماعة وافقوه فيه، واختار كون إِخْواناً منصوبا على المدح والسرر بضمتين جمع سرير وهو معروف وأخذه من السرور إذ كان ذلك لأولي النعمة، وإطلاقه على سرير الميت للتشبيه في الصورة وللتفاؤل بالسرور الذي يلحق الميت برجوعه إلى جوار الله عزّ وجلّ وخلاصه من سجنه المشار إليه بما جاء في بعض الآثار «الدنيا سجن المؤمن» . وكلب وبعض بني تميم يفتحون الراء وكذا كل مضاعف فعيل، ويجمع أيضا على أسرة، وهي على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من ذهب مكللة باليواقيت والزبرجد والدر، وسعة كل كسعة ما بين صنعاء إلى الجابية. وفي كونهم على سرر إشارة إلى أنهم في رفعة وكرامة تامة. وروي عن مجاهد أن الأسرة تدور بهم حيثما داروا فهم في جميع أحوالهم متقابلون لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض، فالتقابل التواجه وهو نقيض التدابر، ووصفهم بذلك إشارة إلى أنهم على أشرف أحوال الاجتماع. وقيل: هو إشارة إلى أنهم يجتمعون ويتنادمون، وقيل: معنى مُتَقابِلِينَ متساوين في التواصل والتزاور. وفي بعض الأخبار أن المؤمن في الجنة إذا أراد أن يلقى أخاه المؤمن سار كل واحد منهم إلى صاحبه فيلتقيان ويتحدثان لا يَمَسُّهُمْ فِيها أي في تلك الجنات نَصَبٌ تعب ما إما بأن لا يكون لهم فيها ما يوجبه من السعي في تحصيل ما لا بد لهم منه لحصول كل ما يشتهونه من غير مزاولة عمل أصلا، وإما بأن لا يعتريهم ذلك وإن باشروا الحركات العنيفة لكمال قوتهم. وفي بعض الآثار أن قوة الواحد منهم قوة أربعين رجلا من رجال الدنيا والجملة استئناف نحوي أو بياني أو حال من الضمير في فِي جَنَّاتٍ أو من الضمير في إِخْواناً أو من الضمير في مُتَقابِلِينَ أو من الضمير في عَلى سُرُرٍ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ أي هم خالدون فيها. فالمراد استمرار النفي وذلك لأن إتمام النعمة بالخلود، وهذا متكرر مع آمِنِينَ إن أريد منه الأمن من زوالهم عن الجنة وانتقالهم منها، وارتكب ذلك للاعتناء والتأكيد وإن أريد به الأمن من زوال ما هم عليه من النعيم والسرور والصحة لا يتكرر، وبحث بعضهم في لزوم التكرار بأن الأمن من الشيء لا يستلزم عدم وقوعه كأمن الكفرة من مكر الله تعالى مثلا وأنه يجوز أن يكون المراد زوال أنفسهم بالموت لا الزوال عن الجنة، وتعقب بأن الثاني في غاية البعد فإنه لا يقال للميت: إنه فيها وإن دفن بها كالأول فإن الله تعالى إذا بشرهم بالأمن منه كيف يتوهم عدم وقوعه نَبِّئْ عِبادِي قيل: مطلقا، وقيل: الذين عبر عنهم بالمتقين أي أخبرهم أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ وهذا إجمال لما سبق من الوعد والوعيد وتأكيد له، وأَنَا إما مبتدأ أو تأكيد أو فصل، وهو إما مبتدأ أو فصل، وأن وما بعدها- قال أبو حيان:- ساد مسد مفعولي نَبِّئْ إن قلنا: إنها تعدت إلى ثلاثة ومسد واحد إن قلنا تعدت إلى اثنين، وفي ذكر المغفرة إشعار على ما قيل بأن ليس المراد بالمتقين من يتقي جميع الذنوب إذ لو أريد ذلك لم يكن لذكرها موقع، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 303 وقيل: إن ذكرها حينئذ لدفع توهم أن غير أولئك المتقين لا يكون في الجنة بأنه يدخلها وإن لم يتب لأنه تعالى الغفور الرحيم، وله وجه، وفي توصيف ذاته تعالى بالمغفرة والرحمة دون التعذيب حيث لم يقل سبحانه: وإني أنا المعذب المؤلم ترجيح لجانب الوعد على الوعيد وإن كان الأليم على ما قال غير واحد في الحقيقة صفة العذاب، وكذا لا يضر في ذلك الإضافة لأنها لا تقتضي حصول المضاف إليه بالفعل كما إذا قيل ضربي شديد فإنه يصح أن يراد منه ذاك شدبد إذا وقع ويكفي في الإضافة أدنى ملابسة، ويقوي أمر الترجيح الإتيان بالوصفين بصيغتي المبالغة، وكذا ما أخرج ابن جرير وابن مردويه من طريق عطاء بن أبي رباح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: اطلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الباب الذي منه بنو شيبة فقال: ألا أراكم تضحكون ثم أدبر حتى إذا كان عند الحجر رجع إلينا القهقرى فقال: إني لما خرجت جاء جبريل عليه السلام فقال: يا محمد إن الله تعالى يقول لم تقنط عبادي؟ نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ الآية، وتقديم الوعد أيضا يؤيد ذلك، وفيه إشارة إلى سبق الرحمة حسبما نطق به الخبر المشهور. ومع هذا كله في الآية ما تخشع منه القلوب، فقد أخرج عبد بن حميد وجماعة عن قتادة أنه قال في الآية: بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو يعلم العبد قدر عفو الله تعالى لما تورع من حرام ولو يعلم قدر عذابه لبخع نفسه» وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله سبحانه خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة فأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة فلو يعلم الكافر كل الذي عنده من رحمة لم ييأس من الرحمة ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله تعالى من العذاب لم يأمن من النار» ثم إنه تعالى لما ذكر الوعد والوعيد ذكر ما يحقق ذلك لما تضمنه من البشرى والإهلاك بقوله سبحانه: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ إلخ، وقيل: إنه تفصيل لما تضمنته الآية السابقة منهما لا من الوعيد فقط كما قيل، والمراد بضيف إبراهيم الملائكة عليهم السلام الذين بشروه بالولد وبهلك قوم لوط عليه السلام، وإنما سموا ضيفا لأنهم في صورة من كان ينزل به عليه السلام من الأضياف وكان لا ينزل به أحد إلا أضافه، وكان لقصره عليه السلام أربعة أبواب من كل جهة باب لئلا يفوته أحد، ولذا كان يكنى أبا الضيفان، واختلف في عددهم كما تقدم، وهو في الأصل مصدر والأفصح أن لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث للمثنى والمجموع والمؤنث فلا حاجة إلى تكلف إضمار أي اصحاب ضيف كما قاله النحاس وغيره، ولم يتعرض سبحانه لعنوان رسالتهم لأنهم لم يكونوا مرسلين إليه عليه السلام بل إلى قوم لوط عليه السلام كما يأتي إن شاء الله تعالى ذكره. وقرأ أبو حيوة «ونبيهم» بإبدال الهمزة ياء إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ نصب على أنه مفعول بفعل محذوف معطوف على نَبِّئْ أي واذكر وقت دخولهم عليه أو ظرف- لضيف- بناء على أنه مصدر في الأصل، وجوز أبو البقاء كونه ظرفا له بناء على أنه مصدر الآن مضاف إلى المفعول حيث كان التقدير أصحاب ضيف حسبما سمعته عن النحاس وغيره، وأن يكون ظرفا لخبر مضافا إلى ضَيْفِ أي خبر ضيف إبراهيم حين دخولهم عليه فَقالُوا عند ذلك: سَلاماً مقتطع من جملة محكية بالقول وليس منصوبا به أي سلمت سلاما من السلامة أو سلمنا سلاما من التحية، وقيل: هو نعت لمصدر محذوف تقديره فقالوا قولا سلاما قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ أي خائفون فإن الوجل اضطراب النفس لتوقع مكروه، وقوله عليه السلام هذا كان- عند غير واحد- بعد أن قرب إليهم العجل الحنيذ فلم يأكلوا منه، وكان العادة أن الضيف إذا لم يأكل مما يقدم له ظنوا أنه لم يجىء بخير، وقيل: كان عند ابتداء دخولهم حيث دخلوا عليه عليه الصلاة والسلام بغير إذن وفي وقت لا يطرق في مثله، وتعقب بأنه لو كان كذلك لأجابوا حينئذ بما أجابوا به الجزء: 7 ¦ الصفحة: 304 ولم يكن عليه السلام ليقرب إليهم الطعام، وأيضا قوله تعالى: فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً [هود: 70] ظاهر فيما تقدم ولعل هذا التصريح كان بعد الإيجاس. وقيل: يحتمل أن يكون القول هنا مجازا بأن يكون قد ظهرت عليه عليه الصلاة والسلام مخايل الخوف حتى صار كالقائل المصرح به، وإنما لم يذكر هنا تقريب الطعام اكتفاء بذكره في غير هذا الموضع كما لم يذكر رده عليه السلام السلام عليهم لذلك، وقد تقدم ما ينفعك هنا مفصلا في هود فتذكره. قالُوا لا تَوْجَلْ لا تخف وقرأ الحسن «لا توجل» بضم التاء مبنيا للمفعول من الإيجال، وقرئ «لا تواجل» من واجله بمعنى أوجله و «لا تأجل» بإبدال الواو ألفا كما قالوا تابة في توبة. إِنَّا نُبَشِّرُكَ استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل فإن المبشر لا يكاد يحوم حول ساحته خوف ولا حزن كيف لا وهي بشارة ببقائه وبقاء أهله في عافية وسلامة زمانا طويلا. بِغُلامٍ هو إسحاق عليه السلام لأنه قد صرح به في موضع آخر، وقد جعل سبحانه البشارة هنا لإبراهيم وفي آية أخرى لامرأته ولكل وجهة، ولعلها هنا كونها أوفق بإنباء العرب عما وقع لجدهم الأعلى عليه السلام، ولعله سبحانه لم يتعرض ببشارة يعقوب اكتفاء بما ذكر في سورة هود، والتنوين للتعظيم أي بغلام عظيم القدر عَلِيمٍ ذي علم كثير، قيل: أريد بذلك الإشارة إلى أنه يكون نبيا فهو على حد قوله تعالى: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا [الصافات: 112] قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي بذلك عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ وأثر في والاستفهام للتعجب، وعَلى بمعنى مع مثلها في قوله تعالى: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ [البقرة: 177] على أحد القولين في الضمير، والجار والمجرور في موضع الحال فيكون قد تعجب عليه السلام من بشارتهم إياه مع هذه الحال المنافية لذلك، ويجوز أن يكون الاستفهام للإنكار وعَلى على ما سمعت بمعنى أنه لا ينبغي أن تكون البشارة مع الحال المذكورة. وزعم بعض المنتمين إلى أهل العلم أن الأول جعل عَلى بمعنى في مثلها في قوله تعالى: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ [القصص: 15] وقوله سبحانه: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ [البقرة: 102] لوجهين الاستغناء عن التقدير وكون المصاحبة لصدقها بأول المس لا تنافي البشارة، وهو لعمري ضرب من الهذيان كما لا يخفى على إنسان ثم إنه عليه السلام زاد في ذلك فقال: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ أي فبأي أعجوبة تبشرون أو بأي شيء تبشرون فإن البشارة بما لا يقع عادة بشارة بغير شيء، وجوز أن تكون الباء للملابسة والاستفهام سؤال عن الوجه والطريقه أي تبشرون ملتبسين بأي طريقة ولا طريق لذلك في العادة. وقرأ الأعرج «بشرتمون» بغير همزة الاستفهام، وابن محيصن «الكبر» بضم الكاف وسكون الباء. وقرأ ابن كثير بكسر النون مشددة بدون ياء على إدغام نون الجمع في نون الوقاية والاكتفاء بالكسرة عن الياء. وقرأ نافع بكسر النون مخففة، واعترض على ذلك أبو حاتم بأن مثله لا يكون إلا في الشعر وهو مما لا يلتفت إليه، وخرج على حذف نون الرفع كما هو مذهب سيبويه استثقالا لاجتماع المثلين ودلالة بإبقاء نون الوقاية على الياء. وقيل: حذفت نون الوقاية وكسرت نون الرفع وحذفت الياء اجتزاء بالكسرة وحذفها كذلك كثير فصيح وقد قرئ به في مواضع عديدة، ورجح الأول بقلة المئونة واحتمال عدم حذف نون في هذه القراءة بأن يكون اكتفى بكسر نون الرفع من أول الأمر خلاف المنقول في كتب النحو والتصريف وإن ذهب إليه بعضهم. وقرأ الحسن كابن كثير إلا أنه أثبت الياء وباقي السبعة يقرؤون بفتح النون وهو نون الرفع. قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ أي بالأمر المحقق لا محالة أو باليقين الذي لا لبس فيه أو بطريقة هي حق، وهو أمر من له الأمر القادر على خلق الولد من غير أبوين فكيف بإيجاده من شيخ وعجوز فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ أي الآيين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 305 من خرق العادة لك فإن ظهور الخوارق على يد الأنبياء عليهم السلام كثير حتى لا يعد بالنسبة إليهم مخالفا للعادة، وكأن مقصده عليه السلام استعظام نعمته تعالى عليه في ضمن التعجب العادي المبني على سنة الله تعالى المسلوكة فيما بين عباده جلّ وعلا لا استبعاد ذلك بالنسبة إلى قدرته جل جلاله، فإنه عليه السلام بل النبي مطلقا أجل قدرا من ذلك، وينبئ عنه قول الملائكة عليهم السلام: فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ على ما فيه من المبالغة دون أن يقولوا: من الممترين ونحوه قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ استفهام إنكاري أي لا يقنط مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ أي الكفرة المخطئون طريق معرفة الله تعالى فلا يعرفون سعة رحمته وكمال علمه وقدرته سبحانه وتعالى، وهذا كقول ولده يعقوب: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ [يوسف: 87] ومراده عليه السلام نفي القنوط عن نفسه بأبلغ وجه أي ليس بي قنوط من رحمته تعالى وإنما الذي أقول لبيان منافاة حالي لفيضان تلك النعمة الجليلة علي، وفي التعرض لعنوان الربوبية والرحمة ما لا يخفى من الجزالة. وقرأ ابن وثاب وطلحة والأعمش وأبو عمرو في رواية «القنطين» والنحويان والأعمش «يقنط» بكسر النون، وباقي السبعة بفتحها، وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما والأشهب بضمها، وهو شاذ وماضيه مثله في التثليث. واستدل بالآية على تفسير «الضالين» بما سمعت لما سمعت من الآية على أن القنوط وهو- كما قال الراغب:- اليأس من الخير كفر، والمسألة خلافية، والشافعية على أن ذاك وكذا الأمن من المكر من الكبائر «للحديث الموقوف على ابن مسعود أو المرفوع من الكبائر الإشراك بالله تعالى واليأس من روح الله تعالى والأمن من مكر الله تعالى» وقال الكمال بن أبي شريف: العطف على الإشراك بمعنى مطلق الكفر يقتضي المغايرة فإن أريد باليأس إنكار سعة الرحمة الذنوب وبالأمن اعتقاد أنه لا مكر فكل منهما كفر اتفاقا لأنه رد للقرآن العظيم، وإن أريد استعظام الذنوب واستبعاد العفو عنها استبعادا يدخل في حد اليأس وغلبة الرجاء المدخل له في حد الأمن فهو كبيرة اتفاقا اه وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر. قالَ فَما خَطْبُكُمْ أي أمركم وشأنكم الخطير الذي لأجله أرسلتم سوى البشارة أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ لعله عليه السلام علم أن كمال المقصود ليس البشارة من مقالة لهم في أثناء المحاورة مطوية هنا، وتوسيط قالَ بين كلاميه عليه السلام مشيرا إلى أن هناك ما طوي ذكره، وخطابه لهم عليهم السلام بعنوان الرسالة بعد ما كان خطابه السابق مجردا عن ذلك مع تصديره بالفاء ظاهر في أن مقالتهم المطوية كانت متضمنة ما فهم منه ذلك فلا حاجة إلى الالتجاء أن علمه عليه السلام بأن كل المقصود ليس البشارة بسبب أنهم كانوا ذوي عدد والبشارة لا تحتاج إلى عدد ولذلك اكتفى بواحد في زكريا ومريم عليهما السلام ولا إلى أنهم بشروه في تضاعيف الحال لإزالة الوجل ولو كانت تمام المقصود لابتدءوا بها على أن فيما ذكر بحثا فقد قيل: إن التعذيب كالبشارة لا يحتاج أيضا إلى العدد ألا يرى أن جبريل عليه السلام قلب مدائنهم بأحد جناحيه، وأيضا يرد على قوله: ولذلك اكتفى إلخ أن زكريا عليه السلام لم يكتف في بشارته بواحد كما يدل عليه قوله تعالى: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى [آل عمران: 39] وأما مريم عليها السلام فإنما جاءها الواحد لنفخ الروح والهبة كما يدل عليه قوله: لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا [مريم: 19] وقوله تعالى: فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا [الأنبياء: 91، التحريم: 12] وأما التبشير فلازم لتلك الهبة وفي ضمنها وليست مقصودة بالذات، وأيضا يخدش قوله: ولو كانت تمام المقصود لابتدؤوا بها ما في قصة مريم عليها السلام قالت: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا [مريم: 18، 19] . فيجوز أن يكون قولهم: لا تَوْجَلْ تمهيدا للبشارة. وأجيب عن هذا بأنه لا ورود له لأن مريم عليها السلام الجزء: 7 ¦ الصفحة: 306 لنزاهة شأنها أول ما أبصرته متمثلا عاجلته بالاستعاذة فلم تدعه يبتدئ بالبشارة بخلاف ما نحن فيه، وعما تقدم بأن المعنى إن العادة الجارية بين الناس ذلك فيرسل الواحد للبشارة والجمع لغيرها من حرب وأخذ ونحو ذلك والله تعالى يجري الأمور للناس على ما اعتادوه فلا يرد قصة جبريل عليه السلام في ذلك وإن قيل: المراد بالملائكة في تلك الآية جبريل عليه السلام كقولهم فلان يركب الخيل ويلبس الثياب أي الجنس الصادق بالواحد من ذلك قاله بعض المحققين، وتعقب ما تقدم من كون العلم من كلام وقع في أثناء المحاورة وطوى ذكره بأنه بعيد وتوسيط قالَ والفاء والخطاب بعنوان الرسالة لا يقربه، أما الأول فلجواز أن يكون لما أن هناك انتقالا إلى بحث آخر ومثله كثير في الكلام، وأما الثاني فلجواز أن تكون فصيحة على معنى إذا تحقق هذا فأخبروني ما أمركم الذي جئتم له سوى البشرى؟، وأما الثالث فلجواز أن يقال: إنه عليه السلام لم يعلم بأنهم ملائكة مرسلون من الله تعالى إلا بعد البشارة ولم يك يحسن خطابهم بذلك عند الإنكار أو التعجب من بشارتهم، وكذا لا يحسن في الجواب كما لا يخفى على أرباب الأذواق السليمة بل قد يقال: إنه لا يحسن أيضا عند قوله: إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ على تقدير أن يكون علم عليه السلام ذلك قبل البشارة لما أن المقام هناك ضيق من أن يطال فيه الكلام بنحو ذلك الخطاب فتدبر. قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ هم قوم لوط عليه السلام، وجيء بهم بطريق التنكير ووصفوا بالإجرام استهانة بهم وذما لهم إِلَّا آلَ لُوطٍ قال الزمخشري: يجوز أن يكون استثناء من قوم بملاحظة الصفة فيكون الاستثناء منقطعا لأنهم ليسوا قوما مجرمين، واحتمال التغليب مع هذه الملاحظة ليتصل الاستثناء ليس مما يقتضيه المقام، ولو سلم فغير ضار فيما ذكر لأنه مبني على الحقيقة ولا ينافي صحة الاتصال على تقدير آخر، ويجوز أن يكون استثناء من الضمير المستتر في مُجْرِمِينَ فيكون الاستثناء متصلا لرجوع الضمير إلى القوم فقط فيكون الآل على الأول مخرجين من حكم الإرسال المراد به إرسال خاص وهو ما كان للإهلاك لا مطلق البعث لاقتضاء المعنى له، وقوله تعالى إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ خبر الأبناء على ما سمعت سابقا، وعن الرضي أن المستثنى المنقطع منتصب عند سيبويه بما قبل إلا من الكلام كما انتصب المتصل به وإن كانت إلا بمعنى لكن وأما المتأخرون من البصريين فلما رأوها بمعنى لكن قالوا إنها الناصبة بنفسها نصب لكن للأسماء وخبرها في الأغلب محذوف نحو جاءني القوم إلا حمارا أي لكن حمارا لم يجىء قالوا وقد يجيء خبرها ظاهرا نحو قوله تعالى إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ [يونس: 98] وقال الكوفيون إلا في ذلك بمعنى سوى والنصب بعدها في الانفصال كالنصب في الاتصال، وتأويل البصريين أولى لأن المستثنى المنقطع يلزم مخالفته لما قبله نفيا وإثباتا كما في لكن وفي سوى لا يلزم ذلك لأنك تقول: لي عليك ديناران سوى الدينار الفلاني وذلك إذا كان صفة، وأيضا معنى لكن الاستدراك، والمراد به فيها دفع توهم المخاطب دخول ما بعدها في حكم ما قبلها مع أنه ليس بداخل وهذا هو معنى الاستثناء المنقطع بعينه انتهى، وزعم بعضهم أن في كون إلا الاستثنائية تعمل عمل لكن خفاء من جهة العربية وقال: إنه في المعنى خبر وليس خبرا حقيقيا كما صرح به النحاة، ومما نقلناه يعلم ما فيه من النظر. نعم صرح الزمخشري بأن الجملة على تقدير الانقطاع جارية مجرى خبر لكن وهو ظاهر في أنها ليست خبرا في الحقيقة وذكر أنه إنما قال ذلك لأن الخبر محذوف أي لكن آل لوط ما أرسلنا إليهم والمذكور دليله لتلازمهما ولذا لم يجعله نفس الخبر بل جار مجراه، وفيه غفلة عن كونه مبنيا على ما نقل عن سيبويه، وزعم بعض أنه قال ذلك لأن الجملة المصدرة بأن يمتنع أن تكون خبرا للكن فليراجع، وقيل: قال ذلك لأن المذكور إلا لا لكن وهو كما ترى، وعلى تقدير الاتصال يكون الآل مخرجين من حكم المستثنى منه وهو الإجرام داخلين في حكم الإرسال بمعنى مطلقا فيكون الملائكة قد أرسلوا إليهم جميعا ليهلكوا هؤلاء وينجوا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 307 هؤلاء، وجملة إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ على هذا مستأنفة استئنافا بيانا كأن إبراهيم عليه السلام قال لهم حين قالوا: إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ فما حال آل لوط، فقالوا: إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ إلخ وقوله سبحانه: إِلَّا امْرَأَتَهُ على التقديرين عند جار الله مستثنى من الضمير المجرور في لمنجوهم ولم يجوز أن يكون من الاستثناء من الاستثناء في شيء قال: لأن ذلك إنما يكون فيما اتحد الحكم فيه كقوله المطلق أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين إلا واحدة والمقر لفلان على عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهما، وهاهنا قد اختلف الحكمان لأن آل لوط متعلق بأرسلنا أو بمجرمين وإِلَّا امْرَأَتَهُ تعلق- بمنجوهم- فأنى يكون استثناء من استثناء انتهى. وقد يتوهم أن الإرسال إذا كان بمعنى الإهلاك فلا اختلاف إذ التقدير إلا آل لوط لم نهلكهم فهو بمعنى منجوهم فيكون من الاستثناء من الاستثناء على أحد التقديرين. وأجاب عن ذلك صاحب التقريب بأن شرط الاستثناء المذكور أن لا يتخلل لفظ بين الاستثناءين متعدد يصلح أن يكون مستثنى منه وهاهنا قد تخلل لَمُنَجُّوهُمْ ولو قيل إلا آل لوط إلا امرأته لجاز ذلك وتعقب بأنه لا يدفع الشبهة لأن السبب حينئذ في امتناعه وجود الفاصل لا اختلاف الحكمين فلا وجه للتعبير به عنه، وفي الكشف المراد من اتحاد الحكم اتحاده شخصا وعددا فلا يرد أن الإرسال إذا كان بمعنى الإهلاك كان قوله سبحانه: إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ وقوله تعالى: إِلَّا آلَ لُوطٍ في معنى واحد فالاستثناء من الأول في المعنى، وإنما شرط الاتحاد لأن المتصل كاسمه لا يجوز تخلل جملة بين العصا ولحائها وكذلك في المنقطع وبه يتضح حال ما تقدم أتم اتضاح، وفيه أيضا، فإن قلت: لم لا يرجع الاستثناء إليهما؟ قلت: لأن الاستثناء متعلق بالجملة المستقلة والخلاف في رجوعه إلى الجملتين فصاعدا لا إلى جملة، وبعض جملة سابقة، هذا والمعنى مختلف في ذلك ومحل الخلاف الجمل المتعاطفة لا المنقطع بعضها عن بعض انتهى، والأمر كما ذكر في تعيين محل الخلاف، والمسألة قل من تعرض لها من النحاة وفيها مذاهب. الأول وهو الأصح وعليه ابن مالك أن الاستثناء يعود للكل إلا أن يقوم دليل على إرادة البعض كما في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ [النور: 6] الآية فإن إِلَّا الَّذِينَ فيه عائد إلى فسقهم وعدم قبول شهادتهم معالا إلى الجلد للدليل، ولا يضر اختلاف العامل لأن ذلك مبني على أن إلا هي العاملة الثاني أنه يعود للكل إن سيق الكل لغرض واحد نحو حبست داري على أعمامي ووقفت بستاني على أخوالي وسبلت سقايتي لجيراني إلا أن يسافروا وإلا فللأخيرة فقط نحو أكرم العلماء واحبس دارك على أقاربك وأعتق عبيدك إلا الفسقة منهم. الثالث إن كان العطف بالواو عاد للكل أو بالفاء أو ثم عاد للأخيرة وعليه ابن الحاجب، الرابع أنه خاص بالأخيرة واختاره أبو حيان. الخامس إن اتحد العامل فللكل أو اختلف فللأخيرة إذ لا يمكن حمل المختلفات في مستثنى واحد وعليه البهاباذي، وهو مبني على أن عامل المستثنى الأفعال السابقة دون إلا، هذا ويوهم كلام بعضهم أنه لو جعل الاستثناء من آلَ لُوطٍ لزم أن تكون امرأته غير مهلكة أو غير مجرمة وهو توهم فاحش لأن الاستثناء من آلَ لُوطٍ إن قلنا به بملاحظة الحكم عليهم بالإنجاء وعدم الإهلاك أو بعدم الإجرام والصلاح فتكون الامرأة محكوما عليها بالإهلاك أو الإجرام. ويرشدك إلى هذا ما ذكره الرضي فيما إذا تعدد الاستثناء وأمكن استثناء كل تال من متلوه نحو جاءني المكيون إلا قريشا إلا بني هاشم إلا بني عقيل حيث قال: لا يجوز في الموجب حينئذ في كل وتر إلا النصب على الاستثناء لأنه عن موجب، والقياس أن يجوز في كل شفع الإبدال والنصب على الاستثناء لأنه غير موجب والمستثنى منه مذكور، والكلام في وتر وشفع غير الموجب على عكس هذا، وهو مبني على ما ذهب إليه الجمهور من أن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي خلافا للكسائي حيث قال: إن المستثنى مسكوت عن نفي الحكم عنه أو ثبوته له، ولا دلالة في الكلام على شيء من ذلك، واستفادة الإثبات في كلمة التوحيد من عرف الشرع، وكما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 308 وقع الخلاف في هذه المسألة بين النحويين وقع بين الأئمة المجتهدين وتحقيق ذلك في محله. واختار ابن المنير كون إِلَّا آلَ لُوطٍ مستثنى من قَوْمٍ مُجْرِمِينَ على أنه منقطع قال: وهو أولى وأمكن لأن في استثنائهم من الضمير العائد على قوم منكرين بعدا من حيث إن موقع الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل المستثنى في حكم الأول، وهنا الدخول متعذر مع التنكير ولذلك قلما تجد النكرة يستثنى منها إلا في سياق نفي لأنها حينئذ تعم فيتحقق الدخول لولا الاستثناء، ومن ثمة لم يحسن رأيت قوما إلا زيدا وحسن ما رأيت أحدا إلا زيدا انتهى. ورد بأن هذا ليس نظير رأيت قوما إلا زيدا بل من قبيل رأيت قوما أساؤوا إلا زيدا فالوصف يعينهم ويجعلهم كالمحصورين، قال في همع الهوامع: ولا يستثنى من النكرة في الموجب ما لم تفد فلا يقال: جاء قوم إلا رجلا ولا قام رجال إلا زيدا لعدم الفائدة، فإن أفاد جاز نحو فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً [العنكبوت: 14] وقام رجال كانوا في دارك إلا رجلا، على أن المراد بالقوم أهل القرية كما صرح به في آية أخرى فهم معنى محصورون، ونقل المدقق عن السكاكي أنه صرح في آخر بحث الاستدلال من كتابه بأن الاستثناء من جمع غير محصور جائز على المجاز، مع أن بعض الأصوليين أيضا جوزوا الاستثناء من النكرة في الإيجاب وأطلقوا القول في ذلك. نعم المصرح به في كثير من كتب النحو نحو ما في الهمع. وزعم بعضهم أنه ينبغي أن يكون الاستثناء من الظاهر والضمير منقطعا، وعلل ذلك بأن الضمير في الصفة هو عين الموصوف المقيد بالصفة، وذكر الجلال السيوطي أن بعض الفضلاء رفع هذا مع عدة أسئلة نثرا ونظما إلى الكمال ابن الهمام ولم يذكر أنه أجاب عنها، والجواب عما زعمه هنا قد مرت إليه الإشارة، وأما الجواب عن سائر ما استشكله وسئل عنه الكمال فيغني عنه الاطلاع على السؤال فإنه مما يتعجب منه، ومن هنا قال الشهاب: أظن أن ابن الهمام إنما سكت عن جواب (1) ذلك لوضوح اندفاعه وأنه لا ينبغي أن يصدر عمن تحلى بحلية الفضل، نعم بعد كل حساب الذي ينساق إلى الذهن أن الاستثناء من الظاهر لكن الرضي أنه إذا اجتمع شيئان فصاعدا يصلحان لأن يستثنى منهما فهناك تفصيل فإما أن يتغايرا معنى أولا فإن تغايرا وأمكن اشتراكهما في ذلك الاستثناء بلا بعد اشتركا فيه نحو ما بر أب وابن إلا زيدا أي زيد أب بار وابن بار، فإن لم يمكن الاشتراك نحو فضل ابن أبا إلا زيدا أو كان بعيدا نحو ما ضرب أحد أحدا إلا زيدا فإن الأغلب مغايرة الفاعل للمفعول نظرنا فإن تعين دخول المستثنى في أحدهما دون الآخر فهو استثناء منه وليه أولا نحو ما فدى وصي نبيا إلا عليا كرم الله تعالى وجهه، وإن احتمل دخوله في كل واحد منهما فإن تأخر عنهما المستثنى فهو من الأخير نحو ما فضل ابن أبا إلا زيدا وكذا ما فضل أبا ابن إلا زيد لأن اختصاصه بالأقرب أولى لما تعذر رجوعه إليهما، وإن تقدمهما معا فإن كان أحدهما مرفوعا لفظا أو معنى فالاستثناء منه لأن مرتبته بعد الفعل فكأن الاستثناء وليه بعده نحو ما فضل إلا زيدا أبا ابن أو من ابن، وإن لم يكن أحدهما مرفوعا فالأول أولى به لقربه نحو ما فضلت إلا زيدا واحدا على أحد ويقدر للأخير عامل، وإن توسطهما فالمتقدم أحق به لأن أصل المستثنى تأخره عن المستثنى منه نحو ما فضل أبا إلا زيد ابن ويقدر أيضا للأخير عامل، وإن لم يتغايرا معنى اشتركا فيه، وإن اختلف العاملان فيهما نحو ما ضرب أحد وما قتل إلا خالدا لأن فاعل قتل ضمير أحد انتهى. وجزم ابن مالك فيما إذا تقدم شيئان مثلا يصلح كل منهما للاستثناء منه بأن الاستثناء من الأخير وأطلق القول في ذلك فليتأمل ذاك مع ما نحن فيه، وقال القاضي البيضاوي: إنه على الانقطاع يجوز أن يجعل إِلَّا امْرَأَتَهُ مستثنى   (1) وكلا الأمرين مذكور في حواشيه على البيضاوي فارجع إليها إن أردت ذلك اه منه. [ ..... ] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 309 من آلَ لُوطٍ أو من ضمير لَمُنَجُّوهُمْ وعلى الاتصال يتعين الثاني لاختلاف الحكمين اللهم إلا إذا جعلت جملة إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ معترضة انتهى، ومخالفته لما نقل عن الزمخشري ظاهرة حيث جوز الاستثناء من المستثنى في الانقطاع ومنعه الزمخشري مطلقا، وحيث جعل اختلاف الحكمين في الاتصال وأثبته الزمخشري مطلقا أيضا وبين اختلاف الحكمين بنحو ما بين به في كلام الزمخشري، ولم يرتض ذلك مولانا سري الدين وقال: المراد بالحكمين المفاد بطريق استثناء الثاني من الأول وهو على تقدير الاتصال إجرام الامرأة والحكم المقصود بالإفادة وهو الحكم عليها بالإهلاك وبين اتحاد هذا الحكم المقصود مع الحكم المفاد بالاستثناء على تقدير الانقطاع بأنه على ذلك التقدير تكون إلا بمعنى لكن وإِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ خبرا له ثابتا كالإخراج منه فيكون الحكم الحاصل من الاستثناء منه بعينه هو الحكم المقصود بالإفادة ويقال على تقدير الاتصال والاعتراض إن الحكمين وإن اختلفا ظاهرا إلا أنه لما كانت الجملة المعترضة كالبيان لما يقتضيه الاستثناء الأول كان في المعنى كأنه هو وصار الإخراج منه، كالإخراج منه وهذا بخلاف ما إذا كان استئنافا فإنه يكون منقطعا ويكون جوابا لسؤال مقدر ولا يتم الجواب بدون الاستثناء ولا يخلو عن الاعتراض. وقال بعضهم في توجيه الاستثناء على هذا: إن هناك حكمين الإجرام والإنجاء فيجر الثاني الاستثناء إلى نفسه كيلا يلزم الفصل إلا إذا جعل اعتراضا فإن فيه سعة حتى يتخلل بين الصفة وموصوفها فيجوز أن يكون استثناء من آلَ لُوطٍ ولذا جوز الرضي أن يقال: أكرم القوم والنحاة بصريون إلا زيدا، ويرد عليه أن كون الحكم المفاد بالاستثناء غير الحكم المقصود بالإفادة باقيا بحاله ولا يحتاج الأمر إلى ما سمعت وهو كما سمعت، والذي ينساق إلى الذهن ما ذكره الزمخشري. وفي الحواشي الشهابية أنه الحق دراية ورواية. أما الأول فلأن الحكم المقصود بالإخراج منه هو الحكم المخرج منه الأول والثاني حكم طارئ من تأويل إلا بلكن وهو أمر تقديري، وأما الثاني فلما ذكر في التسهيل من أنه إذا تعدد الاستثناء فالحكم المخرج منه حكم الأول، ومما يدل عليه أنه لو كان الاستثناء مفرغا في هذه الصورة كما إذا قلت: لم يبق في الدار إلا اليعافير أبقاها الزمان إلا يعفور صيد منها فإنه يتعين إعرابه بحسب العامل الأول كقولك: ما عندي إلا عشرة إلا ثلاثة، ثم إن كلامه مبني على أمر ومانع معنوي لا على عدم جواز تخلل كلام منقطع بين المستثنى والمستثنى منه كما قيل وإن كان مانعا أيضا كما صرح به الرضي فتدبر انتهى، فافهم ذاك والله سبحانه يتولى هداك. وقرأ الاخوان «لمنجوهم» بالتخفيف. قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ أي الباقين في عذاب الله تعالى كما أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أو الباقين مع الكفرة لتهلك معهم، وأصله من الغبرة وهي بقية اللبن في الضرع، وقرأ أبو بكر عن عاصم «قدرنا» بالتخفيف، وكسرت همزة «أن» لتعليق الفعل بوجود لام الابتداء التي لها صدر الكلام، وعلق مع أن التعليق في المشهور من خواص أفعال القلوب- قال الزمخشري- لتضمن فعل التقدير معنى العلم، ولذلك فسره العلماء تقدير الله تعالى أفعال العباد بالعلم، والمراد بتضمنه ذلك قيل المعنى المصطلح، وقيل: التجوز عن معناه الذي كأنه في ضمنه لأنه لا يقدر إلا ما يعلم ذكره المدقق توجيها لكلام الزمخشري، ثم قال: وليس ذلك من باب تضمين الفعل معنى فعل آخر في شيء حتى يعترض بأنه لا ينفع الزمخشري لبقاء معنى الفعلين. نعم هو على أصلهم من أنه كناية معلوم محقق لا مقدر مراد، وقال القاضي: جاز أن يقال: أجري مجرى القول لأن التقدير بمعنى القضاء قول، وأما أنا فلا أنكر على جار الله أن التعليق لتضمن معنى العلم وإنما أنكر نفي كونه مقدورا مرادا انتهى، وإنما أنكره لأنه اعتزال تأباه الظواهر، ومن هنا قال إبراهيم النخعي فيما أخرجه عنه ابن أبي حاتم: بيني وبين القدرية هذه الآية وتلاها. والظاهر أن هذا من كلام الملائكة عليهم السلام وإنما أسندوا ذلك إلى أنفسهم وهو فعل الله سبحانه لما لهم من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 310 الزلفى والاختصاص، وهذا كما يقول حاشية السلطان أمرنا ورسمنا بكذا والآمر هو في الحقيقة، وقيل: ولا يخفى بعده هو من كلام الله تعالى فلا يحتاج إلى تأويل قيل: وكذا لا يحتاج إليه إذا كان المراد بالتقدير العلم مجازا. فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ شروع في بيان إهلاك المجرمين وتنجية آل لوط، ووضع الظاهر موضع الضمير للإيذان بأن مجيئهم لتحقيق ما أرسلوا به من ذلك، وليس المراد به ابتداء مجيئهم بل مطلق كينونتهم عند آل لوط فإن ما حكي عنه عليه السلام بقوله تعالى قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ إنما قاله عليه السلام بعد اللتيا والتي حين ضاقت عليه الحيل وعيت به العلل ولم يشاهد من المرسلين عند مقاساة الشدائد ومعاناة المكائد من قومه الذين يريدون بهم ما يريدون ما هو المعهود والمعتاد من الإعانة والإمداد فيما يأتي ويذر عند تجشمه في تخليصهم إنكارا لخذلانهم وتركهم نصره في مثل المضايقة المعترية له بسببهم حيث لم يكونوا عليهم السلام مباشرين معه لأسباب المدافعة والممانعة حتى ألجأته إلى أن قال لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود: 80] حسبما فصل في سورة هود لا أنه عليه السلام قاله عند ابتداء ورودهم له على معنى أنكم قوم تنكركم نفسي وتنفر منكم فأخاف أن تطرقوني بشر كما قيل كيف لا وهم بجوابهم المحكي بقوله سبحانه قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ أي بالعذاب الذي كنت تتوعدهم به فيمترون ويشكون ويكذبونك فيه، قد قشروا العصا وبينوا له عليه السلام جلية الأمر فأنى يعتريه بعد ذلك المساءة وضيق الذرع قاله العلامة أبو السعود وهو كلام معقول. وجعل بَلْ إضرابا عما حسبه عليه السلام من ترك النصرة له والمعنى ما خذلناك وما خلينا بينك وبينهم بل جئناك بما يدمرهم من العذاب الذي كانوا يكذبونك فيه حين تتوعدهم به. وجعله غير واحد بعد أن فسر قوله عليه السلام: بما سمعت إضرابا عن موجب الخوف المذكور على معنى ما جئناك بما تنكرنا لأجله بل جئناك بما فيه فرحك وسرورك وتشفيك من عدوك وهو العذاب الذي كنت تتوعدهم به ويكذبونك، ولم يقولوا- بعذابهم- مع حصول الغرض ليتضمن الكلام الاستئناس من وجهين تحقق عذابهم وتحقق صدقه عليه السلام ففيه تذكير لما كان يكابد منهم منهم من التكذيب. قيل: وقد كنى عليه السلام عن خوفه ونفاره بأنهم منكرون فقابلوه عليه السلام بكناية أحسن وأحسن. ولا يمتنع فيما أرى حمل الكلام على الكناية على ما نقلناه عن العلامة أيضا، ولعل تقديم هذه المقاولة على ما جرى بينه وبين أهل المدينة من المجادلة- كما قال- للمسارعة إلى ذكر بشارة لوط عليه السلام بإهلاك قومه المجرمين وتنجية آل عقيب ذكر بشارة إبراهيم عليه السلام بهما، وحيث كان ذلك مستدعيا لبيان كيفية النجاة وترتيب مباديها أشير إلى ذلك اجمالا ثم ذكر فعل القوم وما فعل بهم، ولم يبال بتغيير الترتيب الوقوعي ثقة بمراعاته في موضع آخر، ونسبة المجيب بالعذاب إليه عليه السلام مع أنه نازل بالقوم بطريق تفويض أمره إليه كأنهم جاؤوه به وفوضوا أمره إليه ليرسله عليهم حسبما كان يتوعدهم به فالباء للتعدية، وجوز أن تكون للملابسة، وجوز الوجهان في الباء في قوله سبحانه: وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ أي بالأمر المحقق المتيقن الذي لا مجال للامتراء والشك فيه وهو عذابهم، عبر عنه بذلك تنصيصا على نفي الامتراء عنه، وجوز أن يراد بِالْحَقِّ الإخبار بمجيء العذاب المذكور. وقوله تعالى: وَإِنَّا لَصادِقُونَ تأكيد له أي أتيناك فيما قلنا بالخبر (1) الحق أي المطابق للواقع وإنا لصادقون في ذلك الخبر أو في كل خبر فيكون كالدليل على صدقهم فيه، وعلى الأول تأكيدا إثر تأكيد، ومن الناس من جوز   (1) ويجوز وصف الخبر بالحق وإن كان الأكثر وصفه بالصدق اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 311 كون الباء للملابسة وجعل الجار والمجرور في موضع الحال من ضمير المفعول، ولا يخفى حاله. فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ شروع في ترتيب مبادئ النجاة أي اذهب بهم في الليل. وقرأ الحجازيان بالوصل على أنه من سرى لا من أسرى كما في قراءة الجمهور وهما بمعنى على ما ذهب إليه أبو عبيدة وهو سير الليل. وقال الليث: يقال: أسرى في السير أول الليل وسرى في السير آخره، وروى صاحب الإقليد «فسر» من سار وحكاها ابن عطية وصاحب اللوامح عن اليماني وهو عام، وقيل: إنه مختص في السير بالنهار وليس مقلوبا من سرى. بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ بطائفة منه أو من آخره، ومن ذلك قوله: افتحي الباب وانظري في النجوم ... كم علينا من قطع ليل بهيم وقيل: هو بعد ما مضى منه شيء صالح، وفي الكلام تأكيد أو تجريد على قراءة الجماعة على ما قيل، وعلى قراءة «سر» لا شيء من ذلك، وسيأتي لهذا تتمة إن شاء الله تعالى. وحكى منذر بن سعيد أن فرقة قرأت «بقطع» بفتح الطاء. وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وكن على اثرهم تذودهم وتسرع بهم وتطلع على أحوالهم، ولعل إيثار الاتباع على السوق مع أنه المقصود بالأمر كما قيل للمبالغة في ذلك إذ السوق ربما يكون بالتقدم على بعض مع التأخر عن بعض ويلزمه عادة الغفلة عن حال المتأخر، والالتفات المنهي عنه بقوله تعالى: وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أي منك ومنهم أَحَدٌ فيرى ما وراء من الهول ما لا يطيقه أو فيصيبه العذاب فالالتفات على ظاهره، وجوز أن يكون المعنى لا ينصرف أحدكم ولا يتخلف لغرض فيصيبه ما يصيب المجرمين فالالتفات مجاز لأن الالتفات إلى الشيء يقتضي محبته وعدم مفارقته فيتخلف عنده، وذكر جار الله أنه لما بعث الله تعالى الهلاك على قومه ونجاه وأهله إجابة لدعوته عليهم وخرج مهاجرا لم يكن له بد من الاجتهاد في شكر الله تعالى وإدامة ذكره وتفريغ باله لذلك فأمر بأن يقدمهم لئلا يشتغل بم خلفه قلبه وليكون مطلعا عليهم وعلى أحوالهم فلا تفرط منهم التفاتة احتشاما منه ولا غيرها من الهفوات في تلك الحال المهولة المحذورة ولئلا يتخلف أحد منهم لغرض فيصيبه العذاب وليكون مسيره مسير الهارب الذي يقدم سربه ويفوت به، ونهوا عن الالتفات لئلا يروا ما ينزل بقومهم فيرقوا لهم وليوطنوا نفوسهم على المهاجرة ويطيبوها عن مساكنهم ويمضوا قدما غير ملتفتين إلى ما وراءهم كالذي يتحسر على مفارقة وطنه فلا يزال يلوي له أخادعه كما قال: تلفت نحو الحي حتى وجدتني ... وجعت من الإصغاء ليتا وأخذعا أو جعل النهي عن الالتفات كناية عن مواصلة السير وترك التواني والتوقف لأن من يتلفت لا بد له في ذلك من أدنى وقفة اه. قال المدقق: وخلاصة ذلك أن فائدة الأمر والنهي أن يهاجر عليه الصلاة والسلام على وجه يمكنه وأهله التشمر لذكر الله تعالى والتجرد لشكره وفيه مع ذلك إرشاد إلى ما هو أدخل في الحزم للسير وأدب المسافرة وما على الأمير والمأمور فيها وتنبيه على كيفية السفر الحقيقي وأنه أحق بقطع العوائق وتقديم العلائق وأحق وإشارة إلى أن الإقبال بالكلية على الله تعالى إخلاص فلله تعالى در التنزيل ولطائفه التي لا تحصى اه، وأنت تعلم أن كون الفائدة المهاجرة على وجه يمكن معه التشمر لذكر الله تعالى والتجرد لشكره غير متبادر كما لا يخفى، ولعله لذلك تركه بعض مختصري كتابه وإنما لم يستثن سبحانه إلا مرأة عن الإسراء أو الالتفات اكتفاء بما ذكر في موضع آخر وليس نحو ذلك بدعا في التنزيل وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ قيل: أي إلى حيث يأمركم الله تعالى المضي إليه وهو الشام على ما روي عن ابن عباس والسدي، وقيل: مصر وقيل: الأردن وقيل: موضع نجاة غير معين فعدى امْضُوا إلى حَيْثُ وتؤمرون إلى الضمير المحذوف على الاتساع. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 312 واعترض بأن هذا مسلم في تعدية تؤمرون إلى حيث فإن صلته وهي الباء محذوفة إذ الأصل تؤمرون به أي بمضيه فأوصل بنفسه وأما تعدية امْضُوا إلى حيث فلا اتساع فيها بل هي على الأصل لكونه من الظروف المبهمة إلا أن يجعل ما ذكر تغليبا، وأجيب بأن تعلق حَيْثُ بالفعل هنا ليس تعلق الظرفية ليتجه تعدي الفعل إليه بنفسه لكونه من الظروف المبهمة فإنه مفعول به غير صريح نحو سرت إلى الكوفة، وقد نص النحاة على أنه قد يتصرف فيه فالمحذوف ليس في بل إلى فلا إشكال اه، والمذكور في كتب العربية أن الأصل في حيث أن تكون ظرف مكان وترد للزمان قليلا عند الأخفش كقوله: للفتى عقل يعيش به ... حيث تهدي ساقه قدمه أراد حين تهدي، ولا تستعمل غالبا إلا ظرفا وندر جرها بالباء في قوله: كان منا بحيث يفكى الإزار وبإلى في قوله: إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم وبفي في قوله: فأصبح في حيث التقينا شريدهم ... طليق ومكتوف اليدين ومرعف وقال ابن مالك: تصرفها نادر، ومن وقوعها مجردة عن الظرفية قوله: إن حيث استقر من أنت راعيه ... حمى فيه عزة وأمان فحيث اسم إن، وقال أبو حيان: إنه غلط لأن كونها اسم إن فرع عن كونها تكون مبتدأ ولم يسمع في ذلك البتة بل اسم إن في البيت- حمى- وحيث- الخبر لأنه ظرف، والصحيح أنها لا تتصرف فلا تكون فاعلا ولا مفعولا به ولا مبتدأ اه، ونقل ابن هشام وقوعها مفعولا به عن الفارسي، وخرج عليه قوله تعالى: «الله أعلم حيث يجعل رسالته» وذكر أنها قد تخفض بمن وبغيرها وأنها لا تقع اسما لأن خلافا لابن مالك، وزعم الزجاج أنها اسم موصول، ومما ذكرنا يظهر حال التصرف فيها، واعترض ما ذكره المجيب بأنه وإن رفع به إشكال التعدي لكنه غير صحيح لأنهم قد صرحوا بأن الجمل المضاف إليها لا يعود منها ضمير إلى المضاف، قال نجم الأئمة: اعلم أن الظرف المضاف إلى الجملة لما كان ظرفا للمصدر الذي تضمنته الجملة لم يجز أن يعود من الجملة ضمير إليه فلا يقال: يوم قدم زيد فيه لأن الربط الذي يطلب حصوله حصل بإضافة الظرف إلى الجملة وجعله ظرفا لمضمونها فيكون كأنك قلت: يوم قدوم زيد فيه اه، و «حيث» على ما ذكروا تلزم في الغالب الإضافة إلى الجملة وكونها فعلية أكثر وإضافتها إلى مفرد قليلة نحو: بيض المواضي حيث ليّ العمائم وحيث سهيل طالعا، ولا يقاس على ذلك عند غير الكسائي، وأقل من ذلك عدم إضافتها لفظا بأن تضاف إلى محذوفة معوضا عنها ما كقوله: إذا ريدة من حيث ما نفحت له أي من حيث هبت وهي هنا مضافة للجملة بعدها فكيف يقدر الضمير في «يؤمرون» عائدا عليها، وقد نص بعضهم على أن حَيْثُ لا يصح عود الضمير عليها والذي في البحر أنها ظرف مكان مبهم تعدى إليها امْضُوا بنفسه كما تقول: قعدت حيث قعد زيد، والظاهر أن تعلق الفعل بها كما قال المجيب ليس تعلق الظرفية فلعل ذلك مبني على تضمين فعل صالح لأن يتعلق به الظرف المذكور كالحلول والتوطن وغيرهما. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 313 ونقل عن بعضهم القول بأن حَيْثُ هنا ظرف زمان أي امضوا حين أمرتم، والمراد بهذا الأمر ما سبق من قوله تعالى: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ورد بأن الظاهر على هذا أمرتم دون تُؤْمَرُونَ مع أن فيه استعمال حَيْثُ في أقل معنييها ورودا من غير موجب، وظاهر كلام بعض الأجلة أن المضارع مستعمل في مقام الماضي على المعنى الذي أشير إليه أولا وهو يقتضي تقدم أمر بالمضي إلى مكان فإن كان فصيغة المضارع لاستحضار الصورة، وإيثار المضي إلى ذلك على ما قيل دون الوصول إليه واللحوق به للإيذان بأهمية النجاة ولمراعاة المناسبة بينه وبين ما سلف من الغابرين. وَقَضَيْنا أي أوحينا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ مقضيا مثبتا فقضى مضمن معنى أوحى ولذا عدى تعديته، وجعل المضمن حالا كما أشرنا إليه أحد الوجهين المشهورين في التضمين وذلك مبهم يفسره أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ على أنه بدل منه كما قال الأخفش، وجوز أبو البقاء كونه بدلا من الأمر إذا جعل بيانا لذلك لا بدلا، وعن الفراء أن ذاك على إسقاط الباء أي بأن دابر إلخ، ولعل المشار إليه بذلك الأمر عليه الأمر الذي تضمنه قوله تعالى: وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ والباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال أي أوحينا ذلك الأمر المتعلق بنجاته ونجاة آله ملابسا لبيان حال قومه المجرمين من قطع دابرهم، وهو حسن إلا أنه لا يخلو عن بعد، وقرأ زيد بن علي، والأعمش رحمهم الله تعالى «إن» بكسر الهمزة وخرج على الاستئناف البياني كأنه قيل: ما ذلك الأمر؟ فقيل في جوابه: إن دابر إلخ أو على البدلية بناء على أن في الوحي معنى القول، قيل: ويؤيده قراءة عبد الله «وقلنا إن دابر» إلخ وهي قراءة تفسير لا قرآن لمخالفتها لسواد المصحف، والدابر الآخر وليس المراد قطع آخرهم بل استئصالهم حتى لا يبقى منهم أحد مُصْبِحِينَ أي داخلين في الصباح فإن الافعال يكون للدخول في الشيء نحو أتهم وأنجد. وهو من أصبح التامة حال من هؤُلاءِ وجاز بناء على أن المضاف بعضه، وقد قيل: بجواز مجيء الحال من المضاف إليه فيما كان المضاف كذلك، وليس العامل معنى الإضافة خلافا لبعضهم. وكونه اسم الإشارة توهم لأن الحال لم يقل أحد إن صاحبها يعمل فيها، وليس العامل معنى الإضافة خلافا لبعضهم، وكونه اسم الإشارة توهم لأن الحال لم يقل أحد إن صاحبها يعمل فيها، واختار أبو حيان كونه حالا من الضمير المستكن في مَقْطُوعٌ الراجع إلى دابِرَ وجاز ذلك مع الاختلاف افرادا وجمعا رعاية للمعنى لأن ذلك في معنى دابري هؤلاء فيتفق الحال وصاحبها جمعية. وقدر الفراء وأبو عبيد إذا كانوا مصبحين كما تقول: أنت راكبا أحسن منك ماشيا. وتعقب بأنه إن كان تقدير معنى فصيح وإن كان بيان إعراب فلا ضرورة تدعو إلى ذلك كما لا يخفى وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ شروع في حكاية ما صدر من القوم عند وقوفهم على مكان الأضياف من الفعل وما ترتب عليه مما أشير إليه أولا على سبيل الإجمال، وهذا مقدم وقوعا على العلم بهلاكهم كما سمعت والواو لا تدل على الترتيب، وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون هذا بعد العلم بذلك وما صدر منه عليه السلام من المحاورة معهم كان على جهة التكتم عنهم والإملاء لهم والتربص بهم، ولا يخفى أن كون المساءة وضيق الذرع من باب التكتم والإملاء أيضا مما يأبى عنه الطبع السليم، والمراد بالمدينة سذوم (1) وبأهلها أولئك القوم المجرمون، ولعل التعبير عنهم بذلك للإشارة إلى كثرتهم مع ما فيه من الإشارة إلى مزيد فظاعة فعلهم، فإن اللائق بأهل المدينة أن يكرموا الغرباء الواردين على مدينتهم ويحسنوا المعاملة معهم فهم عدلوا عن هذا اللائق مع من حسبوهم غرباء واردين إلى قصد الفاحشة إلى ما سبقهم بها أحد من العالمين وجاؤوا منزل لوط عليه   (1) بفتح السين على وزن فعول بفتح الفاء وذاله معجمة وروي إهماله، وقيل: إنه خطأ، وفي الصحاح والدال غير معجمة، وهو معرب ولذا قيل إنه بالإعجام بعد التعريب والإهمال قبله، وسميت هذه المدينة باسم ملك من بقايا اليونان وكان ظلوما غشوما وكان بمدينة سرمين من أرض قنسرين قاله الطبري اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 314 السلام يَسْتَبْشِرُونَ مستبشرين مسرورين إذ قيل لهم: إن عنده عليه السلام ضيوفا مردا في غاية الحسن والجمال فطمعوا قاتلهم الله تعالى فيهم قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي الضيف كما قدمنا في الأصل مصدر ضافه فيطلق على الواحد والجمع ولذا صح جعله خبرا- لهؤلاء-، وإطلاقه على الملائكة عليهم السلام بحسب اعتقاده عليه السلام لكونهم في زي الضيف، وقيل: بحسب اعتقادهم لذلك، والتأكيد ليس لإنكارهم ذلك بل لتحقيق اتصالهم به وإظهار اعتنائه بهم عليهم السلام وتشميره لمراعاة حقوقهم وحمايتهم عن السوء، ولذلك قال: فَلا تَفْضَحُونِ أي عندهم بأن تتعرضوا لهم بسوء فيعلموا أنه ليس لي عندكم قدر أولا تفضحوني بفضيحة ضيفي فإن من أسيء إلى ضيفه فقد أسيء إليه، يقال: فضحته فضحا وفضيحة إذا أظهر من أمره ما يلزمه به العار، ويقال: فضح الصبح إذا تبين للناس وَاتَّقُوا اللَّهَ في مباشرتكم لما يسوءني وَلا تُخْزُونِ أي لا تذلوني ولا تهينوني بالتعرض بالسوء لمن أجرتهم فهو من الخزي بمعنى الذل والهوان، وحيث كان التعرض لهم بعد أن نهاهم عنه بقوله: فَلا تَفْضَحُونِ أكثر تأثيرا في جانبه عليه السلام وأجلب للعار إليه إذ التعرض للجار قبل العلم ربما يتسامح فيه وأما بعد العلم والمناصبة بحمايته والذب عنه فذاك أعظم العار، عبر عليه السلام عما يعتريه من جهتهم بعد النهي المذكور بسبب لجاجهم ومجاهرتهم بمخالفته بالخزي وأمرهم بتقوى الله تعالى في ذلك، وجوز أن يكون ذلك من الخزاية وهي الحياء أي لا تجعلوني أستحيي من الناس بتعرضكم لهم بالسوء، واستظهر بعضهم الأول، وإنما لم يصرح عليه السلام بالنهي عن نفس تلك الفاحشة قيل: لأنه كان يعرف أنه لا يفيدهم ذلك، وقيل: رعاية لمزيد الأدب مع ضيفه حيث لم يصرح بما يثقل على سمعهم وتنفر عنه طباعهم ويرى الحر الموت ألذ طعما منه، وقال بعض الأجلة: المراد باتقوا الله أمرهم بتقواه سبحانه عن ارتكاب الفاحشة. وتعقب بأنه لا يساعد ذلك توسيطه بين النهيين المتعلقين بنفسه عليه السلام. وكذلك قوله تعالى: قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ أي عن إجارة أحد منهم وحيلولتك بيننا وبينه أو عن ضيافة أحد منهم، والهمزة للإنكار والواو على ما قال غير واحد للعطف على مقدر أي ألم نتقدم إليك ولم ننهك عن ذلك فإنهم كانوا يتعرضون لكل أحد من الغرباء بالسوء وكان عليه السلام ينهاهم عن ذلك بقدر وسعه ويحول بينهم وبين من يعرضون له وكانوا قد نهوه عن تعاطي مثل ذلك فكأنهم قالوا: ما ذكرت من الفضيحة والخزي إنما جاءك من قبلك لا من قبلنا إذ لولا تعرضك لما تتصدى له لما اعتراك، ولما رآهم لا يقلعون عما هم عليه قالَ هؤُلاءِ بَناتِي يعني نساء القوم أو بناته حقيقة. وقد تقدم الكلام في ذلك، واسم الإشارة مبتدأ وبَناتِي خبره، وفي الكلام حذف أي فتزوجوهن، وجوز أن يكون بَناتِي بدلا أو بيانا والخبر محذوف أي أطهر لكم كما في الآية الأخرى، وأن يكون هؤُلاءِ في موضع نصب بفعل محذوف أي تزوجوا بناتي، والمتبادر الأول. إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ شك في قبولهم لقوله فكأنه قال: إن فعلتم ما أقول لكم وما أظنكم تفعلون، وقيل: إن كنتم تريدون قضاء الشهوة فيما أحل الله تعالى دون ما حرم، والوجه الأول كما في الكشف أوجه. وفي الحواشي الشهابية أنه أنسب بالشك، ويفهم صنيع بعضهم ترجيح الثاني قيل لتبادره من الفعل، وعلى الوجهين المفعول مقدر، وجوز تنزيل الوصف منزلة اللازم، وجواب الشرط محذوف أي فهو خير لكم أو فاقضوا ذلك لَعَمْرُكَ قسم من الله تعالى بعمر نبينا صلى الله عليه وسلم على ما عليه جمهور المفسرين. وأخرج البيهقي في الدلائل وأبو نعيم وابن مردويه وغيرهم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: ما خلق الله تعالى وما ذرأ وما برأ نفسا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم وما سمعت الله سبحانه أقسم بحياة أحد غيره قال تعالى: لَعَمْرُكَ إلخ، وقيل: هو قسم من الملائكة عليهم السلام بعمر لوط عليه السلام، وهو مع مخالفته للمأثور محتاج لتقدير القول أي قالت الملائكة للوط عليهم السلام: لَعَمْرُكَ إلخ، وهو خلاف الأصل وإن كان سياق القصة شاهدا له وقرينة عليه، فلا يرد ما قاله صاحب الفرائد من أنه تقدير من غير ضرورة ولو ارتكب مثله لأمكن إخراج كل نص عن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 315 معناه بتقدير شيء فيرتفع الوثوق بمعاني النص، وأيّا ما كان- فعمرك- مبتدأ محذوف الخبر وجوبا أي قسمي أو يميني أو نحو ذلك، والعمر بالفتح والضم البقاء والحياة إلا أنهم التزموا الفتح في القسم لكثرة دوره فناسب التخفيف وإذا دخلته اللام التزم فيه الفتح وحذف الخبر في القسم، وبدون اللام يجوز فيه النصب والرفع وهو صريح، وهو مصدر مضاف للفاعل أو المفعول، وسمع فيه دخول الباء وذكر الخبر قليلا، وذكر أنه إذا تجرد من اللام لا يتعين للقسم، ونقل ذلك عن الجوهري، وقال ابن يعيش: لا يستعمل إلا فيه أيضا وجاء شاذا «عملي» وعدوه من القلب، وقال أبو الهيثم: معنى لَعَمْرُكَ لدينك الذي تعمر ويفسر بالعبادة، وأنشد: أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان أراد عبادتك الله تعالى فإنه يقال- على ما نقل عن ابن الأعرابي- عمرت ربي أي عبدته، وفلان عامر لربه أي عابد، وتركت فلانا يعمر ربه أي يعبده وهو غريب. وفي البيت توجيهات فقال سيبويه فيه: الأصل عمرتك الله تعالى تعميرا فحذف الزوائد من المصدر وأقيم مقام الفعل مضافا إلى مفعوله الأول، ومعنى عمرتك أعطيتك عمرا بأن سألت الله تعالى أن يعمرك فلما ضمن عمر معنى السؤال تعدى إلى المفعول الثاني- أعني الاسم الجليل- فهو على هذا منصوب، وأجاز الأخفش رفعه ليكون فاعلا أي عمرك الله سبحانه تعميرا، وجوز الرضي أن يكون- عمرك- فيه منصوبا على المفعول به لفعل محذوف أي أسأل الله تعالى عمرك وأسأل متعد إلى مفعولين، أو يكون المعنى أسألك بحق تعميرك الله تعالى أي اعتقادك بقاءه وأبديته تعالى فيكون انتصابه بحذف حرف القسم نحو الله لأفعلن، وهو مصدر محذوف الزوائد مضاف إلى الفاعل والاسم الجليل مفعول به له، ولا بأس بإضافة- عمر- إليه تعالى، وقد جاء مضافا كذلك قال الشاعر: إذا رضيت علىّ بنو قشير ... لعمر الله أعجبني رضاها وقال الأعشى: ولعمر من جعل الشهور علامة ... منها تبين نقصها وكمالها وزعم بعضهم أنه لا يجوز أن يقال: لعمر الله تعالى لأنه سبحانه أزلي أبدي، وكأنه توهم أن العمر لا يقال إلا فيما له انقطاع وليس كذلك، وجاء في كلامهم إضافته لضمير المتكلم، قال النابغة لعمري وما عمري عليّ بهين. وكره النخعي ذلك لأنه حلف بحياة المقسم، ولا أعرف وجه التخصيص فإن في لَعَمْرُكَ خطابا لشخص حلفا بحياة المخاطب وحكم الحلف بغير الله تعالى مقرر على أتم وجه في محله. وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما و «عمرك» بدون لام إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ أي لفي غوايتهم أو شدة غلمتهم التي أزالت عقولهم وتمييزهم بين خطئهم والصواب الذي يشار به إليهم يَعْمَهُونَ يتحيرون فكيف يسمعون النصح، وأصل العمه عمى البصيرة وهو مورث للحيرة وبهذا الاعتبار فسر بذلك، والضمائر لأهل المدينة، والتعبير بالمضارع بناء على المأثور في الخطاب لحكاية الحال الماضية، وقيل: ونسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الضمائر لقريش، واستبعده ابن عطية وغيره لعدم مناسبة السباق والسياق، ومن هنا قيل: الجملة اعتراض وجملة يَعْمَهُونَ حال من الضمير في الجار والمجرور، وجوز أن تكون حالا من الضمير المجرور في سَكْرَتِهِمْ والعامل السكرة أو معنى الإضافة، ولا يخفاك حاله، وقرأ الأشهب «سكرتهم» بضم السين، وابن أبي عبلة «سكراتهم» بالجمع، والأعمش «سكرهم» بغير تاء، وأبو عمرو في رواية الجهضمي «أنهم» بفتح الهمزة، قال أبو البقاء: وذلك على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 316 تقدير زيادة اللام، ومثله قراءة سعيد بن جبير «ألا إنهم ليأكلون الطعام (1) » بالفتح بناء على أن لام الابتداء إنما تصحب إن المكسورة الهمزة وكأن التقدير على هذه القراءة لعمرك قسمي على أنهم فافهم. فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ يعني صيحة هائلة، والتعريف للجنس، وقيل: صيحة جبريل عليه السلام فالتعريف للعهد وقال الإمام: ليس في الآية دلالة على هذا التعيين فإن ثبت بدليل قوي قيل به. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال في الآية: الصيحة مثل الصاعقة فكل شيء أهلك به قوم فهو صاعقة وصيحة مُشْرِقِينَ داخلين في وقت شروق الشمس، قال المدقق: والجمع بين- مصبحين ومشرقين- باعتبار الابتداء والانتهاء بأن يكون ابتداء العذاب عند الصبح وانتهاؤه عند الشروق وأخذ الصيحة قهرها إياهم وتمكنها منهم، ومنه الأخيذ الأسير، ولك أن تقول: مَقْطُوعٌ بمعنى يقطع عما قريب انتهى، وقيل: مُشْرِقِينَ حال مقدرة فَجَعَلْنا عالِيَها أي المدينة كما هو الظاهر. وجوز رجوعه إلى القرى وإن لم يسبق ذكرها والمراد بعاليها وجه الأرض وما عليه وهو المفعول الأول لجعل وسافِلَها الثاني له، وقد تقدم الكلام في ذلك وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ في تضاعيف ذلك حِجارَةً كائنة مِنْ سِجِّيلٍ من طين متحجر وهو في المشهور معرب سنك كل، وذهب أبو عبيد وطائفة إلى أنه عربي وأنه يقال فيه «سجين» بالنون واحتجوا بقول تميم بن مقبل: ضربا تواصى به الأبطال سجينا وهو كما ترى. وسئل الأصمعي عن معناه في البيت فقال: لا أفسره إذ كنت أسمع وأنا حدث- سخينا- بالخاء المعجمة أي سخنا وسجين بالجيم أيضا، وقيل: هو مأخوذ من السجل وهو الكتاب أي من طين كتب عليه أسماؤهم أو كتب الله تعذيبهم به، وقد مر الكلام في ذلك أيضا. إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر من القصة لَآياتٍ لعلامات يستدل بها على حقيقة الحق لِلْمُتَوَسِّمِينَ قال ابن عباس: للناظرين، وقال جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما: للمتفرسين، وقال مجاهد: للمعتبرين، وقيل غير ذلك وهي معان متقاربة. وفي البحر التوسم تفعل من الوسم وهو العلامة التي يستدل بها على مطلوب، وقال ثعلب: التوسم النظر من القرن إلى القدم واستقصاء وجوه التعريف، قال الشاعر: أو كلما وردت عكاظ قبيلة ... بعثوا إليّ عريفهم يتوسم وذكر أن أصله التثبت والتفكر مأخوذ من الوسم وهو التأثير بحديدة محماة في جلد البعير أو غيره، ويقال: توسمت فيه خيرا أي ظهرت علاماته لي منه، قال عبد الله بن رواحة في رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني توسمت فيك الخير أعرفه ... والله يعلم أني ثابت البصر والجار والمجرور في موضع الصفة لَآياتٍ أو متعلق به، وهذه الآية- على ما قال الجلال السيوطي- أصل في الفراسة، فقد أخرج الترمذي من حديث أبي سعيد مرفوعا «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى» ثم قرأ الآية وكان بعض المالكية يحكم بالفراسة في الأحكام جريا على طريق إياس بن معاوية وَإِنَّها أي المدينة المهلكة وقيل القرى لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ أي طريق ثابت يسلكه الناس ويرون آثارها وقيل: الضمير للآيات، وقيل: للحجارة، وقيل: للصيحة أي وإن الصيحة لبمرصد لمن يعمل عملهم لقوله تعالى: وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود: 83] ومُقِيمٍ قيل معلوم، وقيل: معتد دائم السلوك إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر من المدينة أو القرى أو في كونها بمرأى من   (1) سورة الفرقان، الآية: 20. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 317 الناس يشاهدونها عند مرورهم عليها لَآيَةً عظيمة لِلْمُؤْمِنِينَ بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فإنهم الذين يعرفون أن سوء صنيعهم هو الذي ترك ديارهم بلاقع، وأما غيرهم فيحملون ذلك على الاتفاق أو الأوضاع الفلكية، وافراد الآية بعد جمعها فيما سبق قيل لما أن المشاهد هاهنا بقية الآثار لا كل القصة كما فيما سلف، وقيل: للإشارة إلى أن المؤمنين يكفيهم آية واحدة وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ هم قوم شعيب عليه السلام والأيكة في الأصل الشجرة الملتفة واحدة الأيك، قال الشاعر: تجلو بقادمتي حمامة أيكة ... بردا أسف لثاته بالإثمد والمراد بها غيضة أي بقعة كثيفة الأشجار بناء على ما روي أن هؤلاء القوم كانوا يسكنون الغيضة وعامة شجرها الدوم- وقيل السدر- فبعث الله تعالى إليهم شعيبا فكذبوه فأهلكوا بما ستسمعه إن شاء الله تعالى، وقيل: بلدة كانوا يسكنونها، وإطلاقها على ما ذكر إما بطريق النقل أو تسمية المحل باسم الحال فيه ثم غلب عليه حتى صار علما، وأيد القول بالعلمية أنه قرئ في [الشعراء: 176، وص: 13] «ليكة» ممنوع الصرف، وإِنْ عند البصريين هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف واللام هي الفارقة، وعند الفراء هي النافية ولا اسم لها واللام بمعنى إلا، والمعول عليه الأول أي وأن الشأن كان أولئك القوم متجاوزين عن الحد فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ جازيناهم على جنايتهم السابقة بالعذاب والضمير لأصحاب الأيكة. وزعم الطبرسي أنه لهم ولقوم لوط وليس بذاك. روى غير واحد عن قتادة قال: ذكر لنا أنه جل شأنه سلط عليهم الحر سبعة أيام لا يظلهم منه ظل ولا يمنعهم منه شيء ثم بعث سبحانه عليهم سحابة فجعلوا يلتمسون الروح منها فبعث عليهم منها نارا فأكلتهم فهو عذاب يوم الظلة وَإِنَّهُما أي محلي قوم لوط وقوم شعيب عليهما السلام وإلى ذلك ذهب الجمهور، وقيل: الضمير للأيكة ومدين، والثاني وإن لم يذكر هنا لكن ذكر الأول يدل عليه لإرسال شعيب عليه الصلاة والسلام إلى أهلها. فقد أخرج ابن عساكر وغيره عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله تعالى إليهم شعيبا عليه السلام» ولا يخلو عن بعد بل قيل: إن القول الأول كذلك أيضا لأن الأخبار عن مدينة قوم لوط عليه السلام بأنها لَبِإِمامٍ مُبِينٍ أي لبطريق واضح يتكرر مع الاخبار عنها آنفا، بأنها لبسبيل مقيم على ما عليه أكثر المفسرين، وجمع غيرها معها في الأخبار لا يدفع التكرار بالنسبة إليها وكأنه لهذا قال بعضهم: الضمير يعود على لوط وشعيب عليهما السلام أي وإنهما لبطريق من الحق واضح. وقال الجبائي: الضمير لخبر هلاك قوم لوط وخبر هلاك قوم شعيب، والإمام اسم لما يؤتم به وقد سمي به الطريق واللوح المحفوظ ومطلق اللوح المعد للقراءة وزيج البناء ويراد به على هذا اللوح المحفوظ. وقال مؤرج الإمام: الكتاب في لغة حمير، والاخبار عنهما بأنهما في اللوح المحفوظ إشارة إلى سبق حكمه تعالى بهلاك القومين لما علمه سبحانه من سوء أفعالهم وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ يعني ثمود الْمُرْسَلِينَ حين كذبوا رسولهم صالحا عليه السلام، فإن من كذب واحدا من رسل الله سبحانه فكأنما كذب الجميع لاتفاق كلمتهم على التوحيد والأصول التي لا تختلف باختلاف الأمم والأعصار، وقيل: المراد بالمرسلين صالح عليه السلام ومن معه من المؤمنين على التغليب وجعل الأتباع مرسلين كما قيل: الخبيبون لخبيب بن الزبير وأصحابه، وقال الشاعر: قدني من نصر الخبيبين قدي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 318 والقول بأنه أنزل كل من الناقة وسقبها منزلة رسول لأنه كالداعي لهم إلى اتباع صالح عليه السلام فجمع بهذا الاعتبار لا اعتبار له أصلا فيما أرى. والحجر واد بين الحجاز والشام كانوا يسكنونه، قال الراغب: يسمى ما أحيط به الحجارة حجرا وبه سمي حجر الكعبة وديار ثمود، وقد نهى صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله تعالى عنهم كما في صحيح البخاري وغيره عن الدخول على هؤلاء القوم إلا أن يكونوا باكين حذرا من أن يصيبهم مثل ما أصابهم. وجاء عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن الناس عام غزوة تبوك استقوا من مياه الآبار التي كانت تشرب منها ثمود وعجنوا منها ونصبوا القدور باللحم فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإهراق القدور وأن يعلفوا الإبل العجين وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت ترد الناقة وَآتَيْناهُمْ آياتِنا من الناقة وسقبها وشربها ودرها. وذكر بعضهم أن في الناقة خمس آيات خروجها من الصخرة. ودنو نتاجها عند خروجها. وعظمها حتى لم تشبهها ناقة. وكثرة لبنها حتى يكفيهم جميعا، وقيل: كانت لنبيهم عليه السلام معجزات غير ما ذكر ولا يضرنا أنها لم تذكر على التفصيل، وهو على الإجمال ليس بشيء، وقيل: المراد بالآيات الأدلة العقلية المنصوبة لهم الدالة عليه سبحانه المبثوثة في الأنفس والآفاق وفيه بعد، وقيل: آيات الكتاب المنزل على نبيهم عليه السلام. وأورد عليه أنه عليه السلام ليس له كتاب مأثور إلا أن يقال: الكتاب لا يلزم أن ينزل عليه حقيقة بل يكفي كونه معه مأمورا بالأخذ بما فيه ويكون ذلك في حكم نزوله عليه، وقد يقال: بتكرار النزول حقيقة ولا يخفى قوة الإيراد، وقيل: يجوز أن يراد بالآيات ما يشمل ما بلغهم من آيات الرسل عليهم السلام، ومتى صح أن يقال: إن تكذيب واحد منهم في حكم تكذيب الكل فلم لم يصح أن يقال: إن ما يأتي به واحد من الآيات كأنه أتى به الكل وفيه نظر، وبالجملة الظاهر هو التفسير الأول فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ غير مقبلين على العمل بما تقتضيه، وتقديم المعمول لرعاية تناسب رؤوس الآي. وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ من نزول العذاب بهم، وقيل: من الموت لاغترارهم بطول الأعمار، وقيل: من الانعدام ونقب اللصوص وتحزيب الأعداء لمزيد وثاقتها، وقال ابن عطية: أصح ما يظهر لي في ذلك أنهم كانوا يأمنون عواقب الآخرة فكانوا لا يعملون بحسبها بل يعملون بحسب الأمن، وتفريع قوله تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ أظهر في تأييد الأول ووقع في سورة [الأعراف: 78، 91، 155] فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ووفق بينهما بأن الصيحة تفضي إلى الرجفة أو هي مجاز عنها، واستشكل التقييد- بمصبحين- مع ما روي في ترتيب أحوالهم بعد أن أوعدهم عليه السلام بنزول العذاب من أنه لما كانت ضحوة اليوم الرابع تحنطوا بالصبر وتكفنوا بالأنطاع فأتتهم صيحة من السماء فتقطعت لها قلوبهم، فإن هذا يقتضي أن أخذ الصيحة إياهم بعد الضحوة لا مصبحين. وأجيب بأنه إن صحت الرواية يحمل مُصْبِحِينَ على كون الصيحة في النهار دون الليل أو أطلق الصبح على زمان ممتد إلى الضحوة وقيل: يجمع بين الآية والخبر بنحو ما جمع به بين الآيتين آنفا، وفيه تأمل فتأمل. فَما أَغْنى عَنْهُمْ ولم يدفع عنهم ما نزل بهم ما كانُوا يَكْسِبُونَ من نحت البيوت الوثيقة أو منه ومن جمع الأموال والعدد بل خروا جاثمين هلكى- فما- الأولى نافية وتحتمل الاستفهام وما الثانية يحتمل أن تكون مصدرية وأن تكون موصولة واستظهره أبو حيان والعائد عليه محذوف أي الذي كانوا يكسبونه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 319 وفي الإرشاد أن الفاء لترتيب عدم الإغناء الخاص بوقت نزول العذاب حسبما كانوا يرجونه لا عدم الإغناء المطلق فإنه أمر مستمر، وفي الآية من التهم بهم ما لا يخفى. وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ أي إلا خلقا متلبسا بالحق والحكمة بحيث لا يلائم استمرار الفساد واستقرار الشرور، وقد اقتضت الحكمة إهلاك أمثال هؤلاء دفعا لفسادهم وإرشادا لمن بقي إلى الصلاح وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ولا بد فننتقم أيضا من أمثال هؤلاء، فالجملة الأولى إشارة إلى عذابهم الدنيوي والثانية إلى عقابهم الأخروي، وفي كلتا الجملتين من تسليته صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى مع تضمن الأولى الإشارة إلى وجه إهلاك أولئك بأنه أمر اقتضته الحكمة، وفي التفسير الكبير في وجه النظم أنه تعالى لما ذكر إهلاك الكفار فكأنه قيل: كيف يليق ذلك بالرحيم؟ فأجاب سبحانه بأنه إنما خلقت الخلق ليكونوا مشتغلين بالعبادة والطاعة فإذا تركوها وأعرضوا عنها وجب في الحكمة إهلاكهم وتطهير الأرض. وتعقبه المفسر بأنه إنما يستقيم على قول المعتزلة، ثم ذكر وجها آخر لذلك وهو أن المقصود من هذه القصة تصبير النبي صلى الله عليه وسلم على سفاهة قومه فإنه عليه الصلاة والسلام إذا سمع أن الأمم السالفة كانوا يعاملون أنبياءهم عليهم السلام بمثل هذه المعاملات الفاسدة هان عليه عليه الصلاة والسلام تحمل سفاهة قومه، ثم إنه تعالى لما بين إنزال العذاب على الأمم السالفة المكذبة قال له صلى الله عليه وسلم إن الساعة لآتية وإن الله تعالى ينتقم لك فيها من أعدائك ويجاريك وإياهم على حسناتك وسيئاتهم فإنه سبحانه ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا بالعدل والإنصاف فكيف يليق بحكمته إهمال أمرك، وإلى جواز تفسير الحق بالعدل ذهب شيخ الإسلام وأشار إلى أن الباء للسببية وإن المعنى ما خلقنا ذلك إلا بسبب العدل والإنصاف يوم الجزاء على الأعمال، وذكر أنه ينبئ عن ذلك الجملة الثانية ولعل جعل كل جملة إشارة إلى شيء حسبما أشرنا إليه أولى. واستدل بالأولى بعض الأشاعرة على أن أفعال العباد مطلقا مخلوقة له تعالى لدخولها فيما بينهما، وزعم بعض المعتزلة الرد بها على القائلين بذلك لأن المعاصي من الأفعال باطلة فإذا كانت مخلوقة له سبحانه لكانت مخلوقة بالحق والباطل لا يكون مخلوقا بالحق، وهو كلام خال عن التحقيق فَاصْفَحِ أي أعرض عن الكفرة المكذبين الصَّفْحَ الْجَمِيلَ وهو ما خلا عن عتاب على ما روى غير واحد عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما وفسر الراغب الصَّفْحَ نفسه بترك التثريب وذكر أنه أبلغ من العفو وفي أمره صلى الله عليه وسلم بذلك إشارة إلى أنه عليه الصلاة والسلام قادر على الانتقام منهم فكأنه قيل: أعرض عنهم وتحمل أذيتهم ولا تعجل بالانتقام منهم وعاملهم معاملة الصفوح الحليم، وحاصل ذلك أمره صلى الله عليه وسلم بمخالفتهم بخلق رضي وحلم وتأن بأن ينذرهم ويدعوهم إلى الله تعالى قبل القتال ثم يقاتلهم، وعلى هذا فالآية غير منسوخة، وعن ابن عباس وقتادة ومجاهد والضحاك أنها منسوخة بآية السيف، وكأنهم ذهبوا إلى أن المراد بها مداراتهم وترك قتالهم، وآثر هذا الأخير العلامة الطيبي قال: ليكون خاتمة القصص جامعة للتسلي والأمر بالمداراة وتخلصا إلى مشرع آخر وهو قوله تعالى الآتي: وَلَقَدْ إلى آخره ففيه حديث الإعراض عن زهرة الحياة الدنيا وهو من أعظم أنواع الضر لكن ذكر في الكشف أن الذي يقتضيه النظم أن قوله تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ إلى آخره جمع بين حاشيتي مفصل الآيات البرهانية والامتنانية ملخص منها مع زيادة مبالغة من الحصر ليقيه المحتج به إلى المعاندين ويتسلى به عن استهزاء الجاحدين وتمهيد لتطرية ذكر المقصود من كون الذكر كاملا في شأن الهداية وافيا بكل ما علق به من الغرض القائم له بحق الرعاية، ثم قال: ومنه يظهر أن الآية عطف على وَما خَلَقْنَا إلخ عطف الخاص على العام إشارة إلى أن أتم النعم وأحق دليل وأحق ما يتشفى به عن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 320 الغليل وإن من أوتيه لا يضره فقد شيء سواه ومن طلب الهوى في غيره ترك وهواه اه فتدبر إِنَّ رَبَّكَ الذي يبلغك إلى غاية الكمال هُوَ الْخَلَّاقُ لك ولهم ولسائر الأشياء على الإطلاق الْعَلِيمُ بأحوالك وأحوالهم وبكل شيء فلا يخفى عليه جل شأنه شيء مما جرى بينك وبينهم فحقيق أن تكل الأمور إليه ليحكم بينكم أو هو الذي خلقكم وعلم تفاصيل أحوالكم وقد علم سبحانه أن الصفح الجميل اليوم أصلح إلى أن يكون السيف أصلح، فهو تعليل للأمر بالصفح على التقديرين على ما قيل، وقال بعض المدققين: إنه على الأخير تذييل للأمر المذكور وعلى الأول لقوله سبحانه: إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما والجحدري والأعمش ومالك بن دينار «هو الخالق» وكذا في مصحف أبي. وعثمان رضي الله تعالى عنهما وهو صالح للقليل والكثير والْخَلَّاقُ مختص بالكثير والْعَلِيمُ أوفق به، وهو على ما قيل أنسب بما تقدم من قوله سبحانه: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً أي سبع آيات وهي الفاتحة وروي ذلك عن عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود وأبي جعفر وأبي عبد الله والحسن ومجاهد وأبي العالية والضحاك وابن جبير وقتادة رضي الله تعالى عنهم. وجاء ذلك مرفوعا أيضا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبيّ وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما، وقيل: سبع سور وهي الطول وروي ذلك أيضا عن عمر وابن عباس وابن مسعود وابن جبير ومجاهد وهي في رواية: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والأنفال وبراءة سورة واحدة، وفي أخرى عد براءة دون الأنفال السابعة، وفي أخرى عد يونس دونهما، وفي أخرى عد الكهف، وقيل: السبع آل حم، وقيل: سبع صحف من الصحف النازلة على الأنبياء عليهم السلام، على معنى أنه عليه الصلاة والسلام أوتي ما يتضمن سبعا منها وإن لم يكن بلفظها وهي الأسباع، وعن زياد بن أبي مريم هي أمور سبع: الأمر والنهي والبشارة والانذار وضرب الأمثال وتعداد النعم وأخبار الأمم، وأصح الأقوال الأول. وقد أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي ورفعوه، وقال أبو حيان: إنه لا ينبغي العدول عنه بل لا يجوز ذلك. وأورد على القول بأنها السبع الطول أن هذه السورة مكية وتلك السبع مدنية، وروي هذا عن الربيع، فقد أخرج البيهقي في الشعب وابن جرير وغيرهما أنه قيل له: إنهم يقولون: هي السبع الطول فقال: لقد أنزلت هذه الآية وما نزل من الطول شيء وأجيب بأن المراد بإيتائها إنزالها إلى السماء الدنيا ولا فرق بين المدني والمكي فيها. واعترض بأن ظاهر آتَيْناكَ يأباه، وقيل: إنه تنزيل للمتوقع منزلة الواقع في الامتنان ومثله كثير مِنَ الْمَثانِي بيان للسبع وهو- على ما قال في موضع من الكشاف- جمع مثنى بمعنى مردد ومكرر ويجوز أن يكون مثنى مفعل من التثنية بمعنى التكرير والإعادة كما في قوله تعالى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الملك: 4] أي كرة بعد كرة ونحو قولهم لبيك وسعديك وأراد كما في الكشف أنه جمع لمعنى التكرير والإعادة كما ثنى لذلك لكن استعمال المثنى في هذا المعنى أكثر لأنه أول مراتب التكرار ويحتمل أن يريد أن مثنى بمعنى التكرير والإعادة كما أن صريح المثنى كذلك في نحو كَرَّتَيْنِ ثم جمع مبالغة وقوله من التثنية إيضاح للمعنى لأنه من الثني بمعنى التثنية والأول أرجح نظرا إلى ظاهر اللفظ والثاني نظرا إلى الأصل وقال في موضع آخر: إنه من التثنية أو الثناء والواحدة مثناة أو مثنية بفتح الميم على ما في أكثر النسخ وإلا قيس على ما قال المدقق بحسب اللفظ أن ذلك مشتق من الثناء أو الثنى جمع مثنى مفعل منهما إما بمعنى المصدر جمع لما صير صفة أو بمعنى المكان في الأصل نقل إلى الوصف مبالغة نحو أرض مأسدة لأن محل الثناء يقع على سبيل المجاز على الثاني والمثنى عليه وكذلك محل الثني ولا بعد في باب العدل أن يكون منقولا عنه لا مخترعا ابتداء، وإطلاق ذلك على الفاتحة لأنها تكرر قراءتها في الصلاة وروي هذا عن الحسن وأبي عبد الله رحمهما الله تعالى وعن الزجاج لأنها تثنى بما يقرأ بعدها من القرآن وقيل ونسب إلى الحسن أيضا: لأنها نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة. وتعقب بأنها كانت مسماة بهذا الاسم قبل نزولها الثاني إذ السورة كما سمعت غير مرة مكية وقيل: لأن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 321 كثيرا من ألفاظها مكرر كالرحمن والرحيم وإياك والصراط وعليهم، وقيل: لاشتمالها على الثناء على الله تعالى والقولان كما ترى، وقيل ونسب إلى ابن عباس ومجاهد أن إطلاق المثاني على الفاتحة لأن الله سبحانه استثناها وادخرها لهذه الأمة فلم يعطها لغيرهم، وروي هذا الادخار في غيرها أيضا وفي غيرها أن ذلك لأنه تكرر قراءته وألفاظه أو قصصه ومواعظه أو لما فيه من الثناء عليه تعالى بما هو أهله جل شأنه أو لأنه مثنى عليه بالبلاغة والإعجاز أو يثنى بذلك على المتكلم به، وعن أبي زيد البلخي أن إطلاق المثاني على ذلك لأنه يثني أهل الشر عن شرهم فتأمل، وجوز أن يراد بالمثاني القرآن كله وأخرج ذلك ابن المنذر وغيره عن أبي مالك وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في توجيه إطلاقها عليه مع الاختلاف في الإفراد والجمع، وأن يراد بها كتب الله تعالى كلها- فمن- للتبعيض وعلى الأول للبيان وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ بالنصب عطف على سبعا فإن أريد بها الآيات أو السور أو الأمور السبع التي رويت عن زياد فهو من عطف الكل على الجزء بأن يراد بالقرآن مجموع ما بين الدفتين أو من عطف العام على الخاص بأن يراد به المعنى المشترك بين الكل والبعض وفيه دلالة على امتياز الخاص حتى كأنه غيره كما في عكسه وإن أريد بها الأسباع فهو من عطف أحد الوصفين على الآخر كما في قوله: إلى الملك القرم وابن الهمام. البيت، بناء على أن القرآن في نفسه الأسباع أي ولقد آتيناك ما يقال له السبع المثاني والقرآن العظيم، واختار بعضهم تفسير الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ كالسبع المثاني بالفاتحة لما أخرجه البخاري عن أبي سعيد بن المعلى قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» وفي الكشف كونهما الفاتحة أوفق لمقتضى المقام لما مر في تخصيص الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ [الحجر: 1] بالسورة وأشد طباقا للواقع فلم يكن إذ ذاك قد أوتي صلى الله عليه وسلم كله اه، وأمر العطف معلوم مما قبله. وقرأت فرقة «والقرآن» بالجر عطفا على الْمَثانِي، وأبعد من ذهب إلى أن الواو مقحمة والتقدير سبعا من المثاني القرآن العظيم لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ لا تطمع بنظرك طموح راغب ولا تدم نظرك إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ من زخارف الدنيا وزينتها أَزْواجاً مِنْهُمْ أصنافا من الكفرة اليهود والنصارى والمشركين، وقيل: رجالا مع نسائهم، والنهي قيل له صلى الله عليه وسلم وهو لا يقتضي الملابسة ولا المقاربة، وقيل: هو لأمته وإن كان الخطاب له عليه الصلاة والسلام، وأيد بما أخرجه ابن جرير. وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية: نهي الرجل أن يتمنى مال صاحبه نعم كان صلى الله عليه وسلم بعد نزول الآية شديد الاحتياط فيما تضمنته، فقد أخرج أبو عبيد. وابن المنذر عن يحيى بن أبي كثير أنه عليه الصلاة والسلام مر بإبل لحي يقال لهم بنو الملوح أو بنو المصطلق قد عنست في أبوالها وأبعارها من السمن فتقنع بثوبه ومر ولم ينظر إليها لقوله تعالى: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ الآية، ويعد نحو هذا الفعل من باب سد الذرائع. ومنهم من أيد الأول بهذا وبدلالة ظاهر السياق عليه، وحاصلها مع ما قبل قد أوتيت النعمة العظمى التي كل نعمة وإن عظمت فهي بالنسبة إليها حقيرة فعليك أن تستغني بذلك ولا ترغب في متاع الدنيا، وجعل من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» بناء على أن «يتغن» من الغنى المقصور كيستغني وليس مقصورا على الممدود، ويشهد لذلك ما في الحديث الصحيح في الخيل «وأما التي هي له ستر فرجل ربطها تغنيا وتعففا» وعن أبي بكر رضي الله تعالى عنه من أوتي القرآن فرأى أن أحدا أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي فقد صغر عظيما وعظم صغيرا. وقد أخرج ابن المنذر عن سفيان بن عيينة ما هو بمعناه، وقال العراقي: إن الخبر مروي لكن لم أقف على روايته عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه في شيء من كتب الحديث. وحكى بعضهم في سبب نزول الآية أنه وافت من بصرى وأذرعات سبع قوافل لقريظة والنضير في يوم واحد فيها أنواع من البر والطيب والجواهر فقال المسلمون: لو كانت لنا لتقوينا بها ولأنفقناها في سبيل الله تعالى فنزلت، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 322 فكأنه سبحانه يقول: قد أعطيتكم سبعا هي خير من سبع قوافل، وروي هذا عن الحسن بن الفضل. وتعقب بأنه ضعيف أو لا يصح لأن السورة مكية وقريظة والنضير كانوا بالمدينة فكيف يصح أن يقال ذلك وهو كما ترى. نعم روي أنه صلى الله عليه وسلم وافى بأذرعات سبع قوافل ليهود بني قريظة والنضير فيها إلخ وهو غير معروف، وقد قالوا: إنه لم يعهد سفره صلى الله عليه وسلم للشام، واستؤنس بخبر النزول على أن النهي معني به سيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام كالنهي في قوله تعالى: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ حيث إنهم لم يؤمنوا، وكان صلى الله عليه وسلم يود أن يؤمن كل من بعث إليه وشق عليه الصلاة والسلام لمزيد شفقته بقاء الكفرة على كفرهم ولذلك قيل له: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وكأن مرجع الجملة الأولى إلى النهي عن الالتفات إلى أموالهم ومرجع هذه الجملة إلى النهي عن الالتفات إليهم، وليس المعنى لا تحزن عليهم حيث إنهم المتمتعون بذلك فإن التمتع به لا يكون مدارا للحزن عليهم، وكون المعنى لا تحزن على تمتعهم بذلك فالكلام على حذف مضاف لا يخفى ما فيه من ارتكاب خلاف الظاهر من غير داع إليه وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ كناية عن التواضع لهم والرفق بهم، وأصل ذلك أن الطائر إذا أراد أن يضم فرخه إليه بسط جناحيه له، والجناحان من ابن آدم جانباه وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ أي المنذر الكاشف نزول عذاب الله تعالى ونقمه المخوفة بمن لم يؤمن كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ قيل: إنه متعلق بقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ إلخ على أن يكون في موضع نصب نعتا لمصدر من آتينا محذوف أي اتيناك سبعا من المثاني إيتاء كإنزالنا أنزلنا وهو في معنى أنزلنا عليك ذلك إنزالا كإنزالنا على أهل الكتاب الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ أي قسموه إلى حق وباطل حيث قالوا عنادا وعداوة: بعضه موافق للتوراة والإنجيل وبعضه باطل مخالف لهما، وتفسير الْمُقْتَسِمِينَ المذكورين بأهل الكتاب مما روي عن الحسن. وغيره، وفي الدر المنثور أخرج البخاري وسعد بن منصور والحاكم وابن مردويه من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية: هم أهل الكتاب جزؤوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه، وجاء ذلك مرفوعا أيضا، فقد أخرج الطبراني في الأوسط عن الحبر قال: «سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أرأيت قول الله تعالى: كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ قال عليه الصلاة والسلام: اليهود والنصارى قال: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ما عضين؟ قال صلى الله عليه وسلم: آمنوا ببعض وكفروا ببعض» أو اقتسموه لأنفسهم استهزاء به فقد روي عن عكرمة أن بعضهم كان يقول: سورة البقرة لي وبعضهم سورة آل عمران لي وهكذا، وجوز أن يراد بالمقتسمين أهل الكتاب ويراد من القرآن معناه اللغوي أي المقروء من كتبهم أي الذين اقتسموا ما قرؤوا من كتبهم وحرفوه وأقروا ببعض وكذبوا ببعض، وحمل توسط قوله تعالى: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلخ بين المتعلق والمتعلق على امداد ما هو المراد بالكلام من التسلية. وتعقب القول بهذا التعلق بأنه جل هذا المقام عن التشبيه فلقد أوتي صلى الله عليه وسلم ما لم يؤت أحد قبله ولا بعده مثله، وفي حمل القرآن على معناه اللغوي ما فيه، وقيل: هو متعلق بقوله تعالى: وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ لأنه في قوة الأمر بالإنذار كأنه قيل: أنذر قريشا مثل ما أنزلنا من العذاب على المقتسمين يعني اليهود هو ما جرى على قريظة. والنضير بأن جعل المتوقع كالواقع وقد وقع كذلك. وتعقب بأن المشبه به العذاب المنذر ينبغي أن يكون معلوما حال النزول وهذا ليس كذلك فيلغو التشبيه، وتنزيل المتوقع منزلة الواقع له موقع جليل من الاعجاز لكن إذا صادف مقاما يقتضيه كما في قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الفتح: 1] ونظائره، على أن تخصيص الاقتسام باليهود بمجرد اختصاص العذاب المذكور بهم مع شركتهم للنصارى في الاقتسام المتفرع على الموافقة والمخالفة، وفي الاقتسام بمعنى التحريف الشامل للكتابين بل تخصيص العذاب المذكور بهم مع كونه من نتائج الاقسام تخصيص من غير مخصص، وجوز أن يراد بالمقتسمين جماعة من قريش وهي اثنا عشر، وقال ابن السائب: ستة عشر رجلا حنظلة بن أبي سفيان وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن المغيرة وأبو جهل والعاص بن هشام وأبو قيس بن الوليد وقيس بن الفاكه وزهير بن أمية وهلال بن عبد الأسود الجزء: 7 ¦ الصفحة: 323 والسائب بن صيفي والنضر بن الحارث. وأبو البختري بن هشام وزمعة بن الحجاج وأمية بن خلف وأوس بن المغيرة، أرسلهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم ليقفوا على مداخل طرق مكة لينفروا الناس عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم فانقسموا على هاتيك المداخل يقول بعضهم: لا تغتروا بالخارج فإنه ساحر، ويقول الآخر: كذاب، والآخر: شاعر إلى غير ذلك من هذيانهم فأهلكهم الله تعالى يوم بدر وقبله بآفات، ويجعل الذين منصوبا- بالنذير- على أنه مفعوله الأول وكَما مفعوله الثاني أي أنذر المعضين الذين يجزئون القرآن إلى سحر وشعر وأساطير مثل ما أنزلنا على المقتسمين الذين اقتسموا مداخل مكة وهذوا مثل هذيانهم. وتعقب بأن فيه مع ما فيه من المشاركة لما سبق في عدم كون العذاب الذي شبه به العذاب المنذر واقعا ومعلوما للمنذرين أنه لا داعي إلى تخصيص وصف التعضية بهم وإخراج المقتسمين من بينهم مع كونهم أسوة لهم في ذلك فإن وصفهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما وصفوا به من السحر والشعر والكذب متفرع على وصفهم للقرآن بذلك وهل هو إلا نفس التعضية ولا إلى إخراجهم من حكم الإنذار، على أن ما نزل بهم من العذاب لم يكن من الشدة بحيث يشبه به عذاب غيرهم ولا مخصوصا بهم بل هو عام لكلا الفريقين وغيرهم، مع أن بعض من عد من المنذرين على قول كالوليد بن المغيرة والأسود وغيرهما قد هلكوا قبل مهلك أكثر المقتسمين يوم بدر، ولا إلى تقديم المفعول الثاني على الأول كما ترى، وقيل: إنه صفة لمفعول الذين أقيم مقامه بعد حذفه والمقتسمون هم القاعدون في مداخل الطرق كما حرر، أي النذير عذابا مثل العذاب الذي أنزلناه على المقتسمين. وتعقب أيضا بأن فيه مع ما مر أنه يقتضي أن يكون كَما أَنْزَلْنا من مقول الرسول صلى الله عليه وسلم وهو لا يصلح لذلك، واعتذر له بأنه كما يقول بعض خواص الملك أمرنا بكذا والآمر الملك كما تقدم غير بعيد أو حكاية لقول الله تعالى، وفيه من التعسف ما لا يخفى، وأيضا فيه إعمال الوصف الموصوف في المفعول وهو مما لا يجوز. وأجيب بأن الكوفية تجوزه والقائل بنى الكلام على ذلك أو أن المراد بالمفعول المفعول الغير الصريح وتقديره بعذاب وهو لا يمنع الوصف من العمل فيه، وقيل: المراد بالمقتسمين على تقدير الوصفية الرهط الذين تقاسموا على أن يبيتوا صالحا عليه السلام فأهلكهم الله تعالى، والاقتسام بمعنى التقاسم، ولا إشكال في التشبيه لأن عذابهم أمر محقق نطق به القرآن العظيم فيصح أن يقع مشبها به للعذاب المنذر، والموصول إما مفعول أول- للنذير- أو لما دل هو عليه من أنذر. وتعقب أيضا بأن فيه بعد إغماض العين عما في المفعولية من الخلاف أو الخفاء أنه لا يكون للتعرض لعنوان التعضية في حيز الصلة ولا لعنوان الاقتسام بالمعنى المزبور في حيز المفعول الثاني فائدة لما أن ذلك إنما يكون للإشعار بعلية الصلة والصفة للحكم الثابت للموصول والموصوف فلا يكون هناك وجه شبه يدور عليه تشبيه عذابهم بعذابهم خاصة لعدم اشتراكهم في السبب، فإن المعضين بمعزل من التقاسم على التبييت الذي هو السبب لهلاك أولئك مع أن أولئك بمعزل من التعضية التي هي السبب لهلاك هؤلاء ولا علاقة بين السببين مفهوما ولا وجودا تصحح وقوع أحدهما في جانب والآخر في جانب، واتفاق الفريقين على مطلق الاتفاق على الشرور المفهوم من الاتفاق على الشر المخصوص الذي هو التبييت المدلول عليه بالتقاسم غير مفيد إذ لا دلالة لعنوان التعضية على ذلك وإنما يدل عليه اقتسام المداخل، وجعل الموصول مبتدأ على أن خبره الجملة القسمية لا يليق بجزالة التنزيل وجلالة شأنه الجليل اه، وهذا الجعل مروي عن ابن زيد، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أخرجها البيهقي. وأبو نعيم في الدلائل ما يقتضيه، ومن هنا قيل بمنع عدم اللياقة، وبعض من يسلمها يقول: يجوز أن يكون الموصول صفة الْمُقْتَسِمِينَ مرادا بهم أولئك الرهط، ومعنى جعلهم القرآن عضين حكمهم بأنه مفترى وتكذيبهم به والمراد منه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 324 معناه اللغوي فيؤول إلى وصفهم بتكذيبهم بكتابهم وإعراضهم عن الإيمان به والعمل بما فيه ويوافق ما مر من قوله تعالى فيهم وفي قومهم: وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ [الحجر: 81] بناء على أن المراد بالآيات آيات الكتاب المنزل على نبيهم عليه السلام حسبما قيل به فيما سبق، وإن أبيت ذلك بناء على ما سمعت هنالك التزمنا كون الموصول مفعولا وقلنا: فائدة التعرض للعنوانين المذكورين على الوجه المذكور الإشارة إلى تفظيع أمر التكذيب وكونه في سببيته للعذاب كالاقتسام على قتل النبي، ويلتزم ما يشعر به هذا من أفظعية الاقتسام المزبور لأنه لا يكون إلا عن تكذيب ومزيد عداوة للنبي، وفيه بحث، وقيل: المصحح لوقوع أحد العنوانين في جانب والآخر في جانب أن التكذيب ينجر بزعم المكذبين إلى إبطال أمر النبي عليه الصلاة والسلام وإطفاء نوره وهو العلة الغائية لذلك والاقتسام المذكور كذلك وهو كما ترى، وقال أبو البقاء وليته لم يقل: كَما أَنْزَلْنا متعلق بقوله تعالى: مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وهو في موضع نصب نعتا لمصدر محذوف أي متعناهم تمتيعا كما أنزلنا، والمعنى نعمنا بعضهم كما عذبنا بعضهم. وذكر ابن عطية وغيره أنه يحتمل أن يكون المعنى قل إني أنا النذير المبين كما قد أنزلنا في الكتب أنك ستأتي نذيرا على المقتسمين أي أهل الكتاب، ومرادهم على ما قيل أن ما في كَما موصولة، والمراد من المشابهة المستفادة في الكاف الموافقة وهي مع ما في حيزها في محل النصب على الحالية من مفعول قُلْ أي قل هذا القول حال كونه كما أنزلنا على أهل الكتابين أي موافقا لذلك، والأنسب على هذا حمل الاقتسام على التحريف ليكون وصفهم بذلك تعريضا بما فعلوا من تحريفهم وكتمانهم لنعت النبي صلى الله عليه وسلم. وأنت تعلم أن فيه بعدا لكنه أولى بالنسبة إلى بعض ما تقدم، وقريب منه ما قيل: المعنى ولقد آتيناك سبعا من المثاني إيتاء موافقا للإيتاء الذي أنزلناه على أهل الكتابين وأخبرناهم به في كتبهم، وفيه ما فيه. وأما جعلها زائدة والمعنى أنا النذير المبين ما أنزلنا فحاله غني عن التنبيه عليه، وقال العلامة أبو السعود بعد نقل أقوال عقبها بما عقبها: والأقرب من الأقوال المذكورة أن كَما أَنْزَلْنا متعلق بقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ إلخ، وأن المراد بالمقتسمين أهل الكتابين، وأن الموصول مع صلته صفة مبينة لكيفية اقتسامهم ومحل الكاف النصب على المصدرية، وحديث جلالة المقام عن التشبيه من لوائح النظر الجليل. والمعنى لقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم إيتاء مماثلا لإنزال الكتابين على أهلهما، وعدم التعرض لذكر ما أنزل عليهم من الكتابين لأن الغرض بيان المماثلة بين الإيتاءين لا بين متعلقيهما، والعدول عن تطبيق ما في جانب المشبه به على ما في جانب المشبه بأن يقال: كما آتينا المقتسمين حسبما وقع في قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ إلخ للتنبيه على ما بين الإيتاءين من التنائي فإن الأول على وجه التكرمة والامتنان فشتان بينه وبين الثاني، ولا يقدح ذلك في وقوعه مشبها به فإن ذلك إنما هو لمسلميته عندهم. وتقدم وجوده على المشبه زمانا لا لمزية تعود إلى ذاته، ونظير ذلك ما قيل في الصلوات الإبراهيمية فليس في التشبيه إشعار بأفضلية المشبه به من المشبه فضلا عن إيهام ما تعلقب به الأول مما تعلق به الثاني، وإنما ذكروا بعنوان الاقتسام إنكارا لاتصافهم به مع تحقق ما ينفيه من الإنزال المذكور وإيذانا بأنهم كان من حقهم أن يؤمنوا بكله حسب إيمانهم بما أنزل عليهم بحكم الاشتراك في العلة والاتحاد في الحقيقة التي هي مطلق الوحي، وتوسيط قوله تعالى: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلخ لكمال اتصاله بما هو المقصود من بيان حال ما أوتي النبي صلى الله عليه وسلم. ولقد بين أولا علو شأنه ورفعة مكانه صلى الله عليه وسلم بحيث يستوجب اغتباطه عليه الصلاة والسلام بمكانه واستغناءه به عما سواه، ثم نهي عن الالتفات إلى زهرة الدنيا وعبر سبحانه عن إيتائها لأهلها بالتمتع المنبئ عن وشك زوالها عنهم، ثم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 325 عن الحزن لعدم إيمان المنهمكين فيها، وأمر بمراعاة المؤمنين والاكتفاء بهم عن غيرهم وبإظهار قوامه بمواجب الرسالة ومراسم النذارة حسبما فصل في تضاعيف ما أوتي من القرآن العظيم. ثم رجع إلى كيفية إتيانه على وجه أدمج فيه ما يزيح شبه المنكرين ويستنزلهم من العناد من بيان مشاركته لما لا ريب لهم في كونه وحيا صادقا، فتأمل والله تعالى عنده علم الكتاب اه وهو كلام ظاهر عليه مخايل التحقيق. وفي البحر بعد نقل أكثر هذه الأقوال: وهذه أقوال وتوجيهات مكلفة والذي يظهر لي أنه تعالى لما أمره صلى الله عليه وسلم بأن لا يحزن على من لم يؤمن وأمره عليه الصلاة والسلام بخفض جناحه للمؤمنين أمره صلى الله عليه وسلم أن يعلم المؤمنين وغيرهم أنه هو النذير المبين لئلا يظن المؤمنون أنهم لما أمر صلى الله عليه وسلم بخفض جناحه لهم خرجوا من عهدة النذارة فأمر صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم: إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ لكم ولغيركم كما قال سبحانه: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النازعات: 45] وتكون الكاف نعتا لمصدر محذوف، والتقدير وقل قولا مثل ما أنزلنا على المقتسمين أنك نذير لهم، فالقول للمؤمنين في النذارة كالقول للكفار المقتسمين لئلا يظن إنذارك للكفار مخالفا لإنذار المؤمنين بل أنت في وصف النذارة لهم بمنزلة واحدة تنذر المؤمن كما تنذر الكافر كما قال تعالى: إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (1) لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 188] اه بحروفه، وهو كما ترى ركيك لفظا ومعنى والله تعالى أعلم بمراده وعنده علم الكتاب، وعضين جمع عضه وأصلها عضوة بكسر العين وفتح الضاد بمعنى جزء فهو معتل اللام من عضاه بالتشديد جعله أعضاء وأجزاء فالمعنى جعلوا القرآن أجزاء. وقيل: العضه في لغة قريش السحر فيقولون للساحر: عاضه وللساحرة عاضهة، وفي حديث رواه ابن عدي في الكامل، وأبو يعلى في مسنده «لعن الله تعالى العاضهة والمستعضهة» وأراد صلى الله عليه وسلم الساحرة والمستسحرة أي المستعملة لسحر غيرها، وهو على هذا مأخوذ من عضهته فاللام المحذوفة هاء كما في شفة وشاة على القول بأن أصلهما شفهة وشاهة بدليل جمعهما على شفاه وشياه وتصغيرهما على شفيهة وشويهة. وعن الكسائي أنه من عضهه عضها وعضيهة رماه بالبهتان، قيل: وأخذ العضه بمعنى السحر من هذا لأن البهتان لا أصل له والسحر تخييل أمر لا حقيقة له، وذهب الفراء إلى أنه من العضاه وهي شجرة تؤذي كالشوك واختار بعضهم الأول، وجمع السلامة لجبر ما حذف منه كعزين وسنين وإلا فحقه أن لا يجمع جمع السلامة المذكر لكونه غير عاقل ولتغير مفرده ومثل هذا كثير مطرد، ومن العرب من يلزمه الياء ويجعل الإعراب على النون فيقول: عضينك كسنينك وهذه اللغة كثيرة في تميم وأسد، وفي التعبير عن تجزئة القرآن بالتعضية التي هي تفريق الأعضاء من ذي الروح المستلزم لإزالة حياته وإبطال اسمه دون مطلق التجزئة والتفريق اللذين ربما يوجدان فيما لا يضره التبعيض للتنصيص على قبح ما فعلوه بالقرآن العظيم فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ أي لنسألنّ يوم القيامة أصناف الكفرة مطلقا المقتسمين وغيرهم سؤال تقريع وتوبيخ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ في الدنيا من قول وفعل وترك فيدخل فيه ما ذكر من الاقتسام والتعضية دخولا أوليا أو لنجازينهم على ذلك، وعلى التقديرين لا منافاة بين هذه الآية وقوله تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن: 39] لأن المراد هنا حسبما أشرنا إليه إثبات سؤال التقريع والتوبيخ أو المجازاة بناء على أن السؤال مجاز عنها وهناك نفي سؤال الاستفهام لأنه تعالى عالم بجميع أعمالهم وروي هذا عن ابن عباس، وضعف هذا الإمام بأنه لا معنى لتخصيص نفي سؤال الاستفهام بيوم القيامة لأن ذلك السؤال محال عليه تعالى في كل وقت.   (1) وقع في الأصل بشير ونذير إلخ والتلاوة كما ذكرنا اه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 326 وأجيب بأنه بناء على زعمهم كقوله تعالى: وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً [إبراهيم: 21] فإنه يظهر لهم في ذلك اليوم أنه سبحانه لا يخفى عليه شيء فلا يحتاج إلى الاستفهام. وقيل: المراد لا سؤال يومئذ منه تعالى ولا من غيره بخلاف الدنيا فإنه ربما سأل غيره فيها. ورد بأن قوله: لأنه سبحانه عالم بجميع أعمالهم يأباه. واختار غير واحد في الجمع أن النفي بالنسبة إلى بعض المواقف والإثبات بالنسبة إلى بعض آخر، وسيأتي تمام الكلام في ذلك، واستظهر بعضهم عود الضمير في لَنَسْئَلَنَّهُمْ إلى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ للقرب، وجوز أن يعود على الجميع من مؤمن وكافر لتقدم ما يشعر بذلك من قوله سبحانه: وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ وما للعموم كما هو الظاهر، وأخرج ابن جرير: وغيره وعن أبي العالية أنه قال في الآية: يسأل العباد كلهم يوم القيامة عن خلتين عما كانوا يعبدون وعما أجابوا به المرسلين. وأخرج الترمذي وجماعة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يسألون عن قول لا إله إلا الله» وأخرجه البخاري في تاريخه، والترمذي من وجه آخر عن أنس موقوفا، وروي أيضا عن ابن عمر، ومجاهد، والمعنى على ما في البحر يسألون عن الوفاء بلا إله إلا الله والتصديق لمقالها بالأعمال، والفاء قيل لترتيب الوعيد على أعمالهم التي ذكر بعضها، وقيل: لتعليل النهي والأمر فيما سبق، وزعم أنها الفاء الداخلة على خبر الموصول كما في قولك: الذي يأتيني فله درهم مبني على أن الذين مبتدأ وقد علمت حال ذلك، وفي التعرض لوصف الربوبية مضافا إلى ضميره عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى من إظهار اللطف به صلى الله عليه وسلم فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ قال الكلبي: أي أظهره واجهر به يقال: صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارا، ومن ذلك قيل للفجر صديع (1) لظهوره. وجوز أن يكون أمرا من صدع الزجاجة وهو تفريق أجزائها أي افرق بين الحق والباطل، وأصله على ما قيل الإبانة والتمييز، والباء على الأول صلة وعلى الثاني سببية، و «ما» جوز أن تكون موصولة والعائد محذوف أي بالذي تؤمر به فحذف الجار فتعدى الفعل إلى الضمير فصار تؤمره ثم حذف، ولعل القائل بذلك لم يعتبر حذفه مجرورا لفقد شرط حذفه بناء على أنه يشترط في حذف العائد المجرور أن يكون مجرورا بمثلما جر به الموصول لفظا ومعنى ومتعلقا، وقيل: التقدير فاصدع بما تؤمر بالصدع به فحذفت الباء الثانية ثم الثالثة ثم لام التعريف ثم المضاف ثم الهاء، وهو تكلف لا داعي له ويكاد يورث الصداع، والمراد بما يؤمر به الشرائع مطلقا، وقول مجاهد: كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم إن المعنى اجهر بالقرآن في الصلاة يقتضي بظاهره التخصيص ولا داعي له أيضا كما لا يخفى، وأظهر منه في ذلك ما روي عن ابن زيد أن المراد بِما تُؤْمَرُ القرآن الذي أوحي إليه صلى الله عليه وسلم أن يبلغهم إياه، وأن تكون مصدرية أي فاصدع بمأموريتك وهو الذي عناه الزمخشري بقوله: أي بأمرك مصدر من المبني للمفعول، وتعقبه أبو حيان بأنه مبني على مذهب من يجوز أن يراد بالمصدر أن والفعل المبني للمفعول والصحيح أن ذلك لا يجوز. ورد بأن الاختلاف في المصدر الصريح هل يجوز انحلاله إلى حرف مصدري وفعل مجهول أم لا أما أن الفعل المجهول هل يوصل به حرف مصدري فليس محل النزاع، فإن كان اعتراضه على الزمخشري في تفسيره بالأمر وأنه كان ينبغي أن يقول بالمأمورية فشيء آخر سهل، ثم لا يخفى ما في الآية من الجزالة، وقال أبو عبيدة: عن رؤية ما في القرآن منها، ويحكى أن بعض العرب سمع قارئا يقرأها فسجد فقيل له في ذلك فقال: سجدت لبلاغة هذا الكلام، ولم يزل صلى الله عليه وسلم مستخفيا كما روي عن عبد الله بن مسعود قبل نزول ذلك فلما نزلت خرج هو وأصحابه عليه الصلاة والسلام وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ   (1) كما في قوله. كأن بياض غرته صديع. اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 327 أي لا تلتفت إلى ما يقولون ولا تبال بهم فليست الآية منسوخة، وقيل: هي من آيات المهادنة التي نسختها آية السيف، وأخرج ذلك ابن أبي حاتم وأبو داود في ناسخه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بك أو بك وبالقرآن كما روي عن ابن عباس بقمعهم وتدميرهم. أخرج الطبراني في الأوسط، والبيهقي وأبو نعيم كلاهما في الدلائل، وابن مردويه بسند حسن قال: المستهزءون الوليد بن المغيرة والأسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب والحارث بن عطيل السهمي والعاص بن وائل فأتاه جبريل عليه السلام فشكاهم إليه فأراه الوليد فأومأ جبريل عليه السلام ألى أكحله فقال صلى الله عليه وسلم: ما صنعت شيئا قال: كفيتكه، ثم أراه الأسود ابن المطلب فأوما إلى عينيه فقال: ما صنعت شيئا قال: كفيتكه. ثم أراه الأسود بن عبد يغوث فأومأ إلى رأسه فقال: ما صنعت شيئا قال: كفيتكه ثم أراه الحارث فأومأ إلى بطنه فقال: ما صنعت شيئا قال: كفيتكه، ثم أراه العاص بن وائل فأومأ إلى أخمصه فقال: ما صنعت شيئا قال: كفيتكه. فأما الوليد فمر برجل من خزاعة وهو يريش نبلا فأصاب أكحله فقطعها، وأما الأسود بن المطلب فنزل تحت سمرة فجعل يقول: يا بني ألا تدفعون عني قد هلكت أطعن بالشوك في عيني فجعلوا يقولون: ما نرى شيئا فلم يزل كذلك حتى عميت عيناه، وأما الأسود بن عبد يغوث فخرج في رأسه قروح فمات منها وأما الحارث فأخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج رجيعه من فيه فمات منه، وأما العاص فركب إلى الطائف فربض على شبرقة فدخل في أخمص قدمه شوكة فقتلته، وقال الكرماني في شرح البخاري: إن المستهزئين هم السبعة الذين ألقوا الأذى ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي كما جاء في حديث البخاري وهم: عمرو بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط، وعمارة بن الوليد، وفي الأعلام للسهيلي أنهم قذفوا بقليب بدر وعدهم بخلاف ما ذكر. وفي الدر المنثور وغيره روايات كثيرة مختلفة في عدتهم (1) وأسمائهم وكيفية هلاكهم وعد الشعبي منهم هبار بن الأسود. وتعقبه في البحر بأن هبارا أسلم يوم الفتح ورحل إلى المدينة فعده وهم، وهذا متعين إذا كانت كفايته عليه السلام إياهم بالإهلاك كما هو الظاهر، وقد ذكر الإمام نحو ما ذكرنا من اختلاف الروايات ثم قال: ولا حاجة إلى شيء من ذلك، والقدر المعلوم أنهم كانوا طائفة لهم قوة وشوكة لأن أمثالهم هم الذين يقدرون على مثل هذه السفاهة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في علو قدره وعظم منصبه، ودل القرآن على أن الله سبحانه أفناهم وأبادهم وأزال كيدهم. الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ أي اتخذوا إلها يعبدونه معه تعالى، وصيغة الاستقبال لاستحضار الحال الماضية، وفي وصفهم بذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهوين للخطب عليه عليه الصلاة والسلام بالإشارة إلى أنهم لم يقتصروا على الاستهزاء به صلى الله عليه وسلم بل اجترءوا على العظيمة التي هي الإشراك به سبحانه فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ما يأتون ويذرون وفيه من الوعيد ما لا يخفى. وفي البحر أنه وعيد لهم بالمجازاة على استهزائهم وشركهم في الآخرة كما جوزوا في الدنيا وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ من كلمات الشرك والاستهزاء، وتحلية الجملة بالتأكيد لإفادة تحقق ما تتضمنه من التسلية. وصيغة المضارع لإفادة استمرار العلم حسب استمرار متعلقه باستمرار ما يوجبه من أقوال الكفرة فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ فافزع إلى ربك فيما نابك من ضيق الصدر بالتسبيح ملتبسا بحمده أي قل: سبحان الله والحمد لله أو فنزهه عما يقولون حامدا له سبحانه على أن هداك للحق، فالتسبيح والحمد بمعناهما اللغوي كما أنهما على الأول بمعناهما العرفي أعني قول تينك الجملتين، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى من   (1) عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا ثمانية اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 328 اللطف به عليه الصلاة والسلام والإشعار بعلة الحكم أعني الأمر المذكور وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ أي المصلين ففيه التعبير عن الكل بالجزء. وهذا الجزء على ما ذهب إليه البعض أفضل الأجزاء لما صح من قوله صلى الله عليه وسلم «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» وليس هذا موضع سجدة خلافا لبعضهم. وفي أمره صلى الله عليه وسلم بما ذكر إرشاد له إلى ما يكشف به الغم الذي يجده كأنه قيل: افعل ذلك يكشف عنك ربك الغم والضيم الذي تجده في صدرك ولمزيد الاعتناء بأمر الصلاة جيء بالأمر بها كما ترى مغايرا للأمر السابق على هذا الوجه المخصوص. وفي ذلك من الترغيب فيها ما لا يخفى. وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا أحزنه أمر فزع إلى الصلاة. وصح «حبب لي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة» وذكر بعضهم أن في الآية إشارة إلى الترغيب بالجماعة فيها. وإن في عدم تقييد السجود بنحو له أو لربك إشارة إلى أنه مما لا يكاد يخطر بالبال إيقاعه لغيره تعالى فتدبر. وَاعْبُدْ رَبَّكَ دم على ما أنت عليه من عبادته سبحانه، قيل: وفي الإظهار بالعنوان السالف آنفا تأكيد لما سبق من إظهار اللطف به صلى الله عليه وسلم والإشعار بعلة الأمر بالعبادة حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ أي الموت كما روي عن ابن عمر والحسن وقتادة وابن زيد، وسمي بذلك لأنه متيقن اللحوق بكل حي، وإسناد الإتيان إليه للإيذان بأنه متوجه إلى الحي طالب للوصول إليه، والمعنى دم على العبارة ما دمت حيّا من غير إخلال بها لحظة، وقال ابن بحر: اليقين النصر على الكافرين الذي وعده صلى الله عليه وسلم، وأيا ما كان فليس المراد به ما زعمه بعض الملحدين مما يسمونه بالكشف والشهود، وقالوا: إن العبد متى حصل له ذلك سقط عنه التكليف بالعبادة وهي ليست إلا للمحجوبين، ولقد مرقوا بذلك من الدين وخرجوا من ربقة الإسلام وجماعة المسلمين. وذكر بعض الثقات أن هذا الأمر كان بعد الإسراء والعروج إلى السماء، أفترى أنه صلى الله عليه وسلم لم يتضح له ليلتئذ صبح الكشف والشهود ولم يمن عليه باليقين عظيم الكرم والجود؟ الله أكبر لا يتجاسر على ذلك من في قلبه مثقال ذرة من إيمان أو رزق حبة خردل من عقل ينتظم به في سلك الإنسان، وأيضا لم يزل صلى الله عليه وسلم ما دام حيا آتيا بمراسم العبادة قائما بأعباء التكليف لم ينحرف عن الجادة قدر حادة أفيقال: إنه لم يأته عليه الصلاة والسلام حتى توفي ذلك اليقين ولذلك بقي في مشاق التكليف إلى أن قدم على رب العالمين؟ لا أرى أحدا يخطر له ذلك بجنان ولو طال سلوكه في مهامه الضلالة وبان. نعم ذكر بعض العلماء الكرام في قوله تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ إلخ كلاما متضمنا شيئا مما يذكره الصوفية لكنه بعيد بمراحل عن مرام أولئك اللئام، ففي الكشف أنه تعالى بعد ما هدم قواعد جهالات الكفرة وأبرق وأرعد بما أظهر من صنيعه بالقائلين نحو مقالات أولئك الفجرة فذلك الكلام بقوله سبحانه: وَلَقَدْ نَعْلَمُ مؤكدا هذا التأكيد البالغ الصادر عن مقام تسخط بالغ وكبرياء لينفس عن حبيبه عليه الصلاة والسلام أشد التنفيس، ثم أرشد إلى ما هو أعلى من ذلك مما تأهله لمسامرة الجليس للجليس وقال تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ إشارة إلى التوجه إليه بالكلية والتجرد التام عن الأغيار والتحلي بصفات من توجه إليه بحسن القبول والافتقار إذ ذلك مقتضى التسبيح والحمد لمن عقلهما، ثم قال سبحانه: وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ دلالة على الاقتراب المضمر فيه لأن السجود غاية الذلة والافتقار وهو مظهر الفناء حتى نفسه وشرك البقاء بمن أمره بخمسه، وقوله تعالى شأنه: وَاعْبُدْ رَبَّكَ إلخ ظاهره ظاهر وباطنه يومي إلى أن السفر في الله تعالى لا ينقطع والشهود الذي عليه يستقر لا يحصل أبدا فما من طامة إلا وفوقها طامة. إذا تغيبت بدا ... وإن بدا غيبني وعن لسان هذا المقام رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: 114] اه، هذا ولا يخفى مما ذكره غير واحد من المفسرين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 329 مناسبة خاتمة هذه السورة لفاتحتها، وأن قوله سبحانه: وَلَقَدْ نَعْلَمُ إلخ في مقابلة وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ [الحجر: 6] والله تعالى أعلم وأحكم. ومن باب الإشارة فيما تقدم من الآيات: ما قالوه مما ملخصه نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أي أخبرهم بأني أغفر خطرات قلوب العارفين بعد إدراكهم مواضع خطرها وتداركهم ما هو مطلوب منهم وأرحمهم بأنواع الفيوضات وأوصلهم إلى أعلى المكاشفات والمشاهدات وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ وهو عذاب الاحتجاب والطرد عن الباب. وقال ابن عطاء: هذه الآية إرشاد له صلى الله عليه وسلم إلى كيفية الإرشاد كأنه قيل: أقم عبادي بين الخوف والرجاء ليصح لهم سبيل الاستقامة في الطاعة فإن من غلب عليه رجاؤه عطله ومن غلب عليه خوفه أقنطه وذكر بعضهم أن فيها إشارة إلى ترجيح جانب الخوف على الرجاء لأنه سبحانه أجرى وصفي الرحمة على نفسه عزّ وجلّ ولم يجر العذاب على ذلك السنن، وأنت تعلم أن المذكور في كثير من الكتب أنه ينبغي للإنسان أن يكون معتدل الرجاء والخوف إلا عند الموت فينبغي أن يكون رجاؤه أزيد من خوفه، وفي المقام كلام طويل يطلب من موضعه لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ قال النووي: أي بحياتك التي خصصت بها من بين العالمين، وقال القرشي: هذا قسم بحياة الحبيب صلى الله عليه وسلم. وإنما أقسم سبحانه بها لأنها كانت به تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ أي المتفرسين، وذكروا أن للفراسة مراتب فبعضها يحصل بعين الظاهر، وبعضها ما يدركه آذان العارفين مما ينطق به الحق بألسنة الخلق، وبعضها ما يبدو في صورة المتفرس من أشكال تصرف الحق سبحانه وإنطاقه وجوده له حتى ينطق جميع شعرات بدنه بألسنة مختلفة فيرى ويسمع من ظاهر نفسه ما يدل على وقوع الأمور الغيبية، وبعضها ما يحصل بحواس الباطن حيث وجدت بلطفها أوائل المغيبات باللائحة، وبعضها ما يحصل من النفس الأمارة بما يبدو فيها من التمني والاهتزاز وذلك سر محبته فإن الله تعالى إذا أراد فتح الغيب ألقى في النفس آثار بواديه إما محبوبة فتتمنى وإما مكروهة فتنفر ولا يعرف ذلك إلا رباني الصفة، وبعضها ما يحصل للقلب إما بالإلهام وإما بالكشف، وبعضها ما يحصل للعقل وذلك ما يقع من أثقال الوحي الغيبي عليه، وبعضها ما يحصل للروح بالواسطة وغير الواسطة، وبعضها ما يحصل لعين السر وسمعه، وبعضها ما يحصل في سر السر ظهور عرائس أقدار الغيبة ملتبسات بإشكال إلهية ربانية روحانية فيبصر تصرف الذات في الصفات ويسمع الصفات بوصف الحديث والخطاب من الذات بلا واسطة وهناك منتهى الكشف والفراسة. وسئل الجنيد رضي الله تعالى عنه عن الفراسة فقال: آيات ربانية تظهر في أسرار العارفين فتنطق ألسنتهم بذلك فتصادف الحق، ولهم في ذلك عبارات أخرى. فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ روى عمرو بن دينار عن محمد بن الحنفية عن أبيه علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: الصفح الجميل صفح لا توبيخ فيه ولا حقد بعده مع الرجوع إلى ما كان قبل ملابسة المخالفة، وقيل: الصفح الجميل مواساة المذنب برفع الخجل عنه ومداواة موضع آلام الندم في قلبه وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وهي الصفات السبعة أعني الحياة والعلم والقدرة والإرادة والبصر والسمع والكلام، ومعنى كونها مثاني أنها ثنى وكرر ثبوتها له صلى الله عليه وسلم، فكانت له عليه الصلاة والسلام أولا في مقام وجود القلب وتخلقه بأخلاقه واتصافه بأوصافه، وثانيا في مقام البقاء بالوجود الحقاني، وقيل: معنى كونها مثاني أنها ثواني الصفات القائمة بذاته سبحانه عزّ وجلّ ومواليدها، وجاء «لا زال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به» الحديث وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ وهو عندهم: الذات الجامع لجميع الصفات لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ إلى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 330 آخره. قال بعضهم في ذلك: غار الحق سبحانه عليه عليه الصلاة والسلام أن يستحسن من الكون شيئا ويعيره طرفه وأراد منه صلى الله عليه وسلم أن تكون أوقاته مصروفة إليه وحالاته موقوفة عليه وأنفاسه النفيسة حبيسة عنده، وكان صلى الله عليه وسلم كما أراد منه سبحانه ولذلك وقع في المحل الأعلى ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النجم: 17] فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ قد مر عن الكشف ما فيه مقنع لمن أراد الإشارة من المسترشدين، هذا وأسأل الله سبحانه أن يحفظنا من سوء القضا ويمن علينا بالتوفيق إلى ما يحب ويرضى بحرمة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم أجمعين ما جرى في تفسير كتاب الله تعالى قلم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 331 سورة النّحل وتسمى كما أخرج ابن أبي حاتم سورة النعم قال ابن الفرس: لما عدد الله تعالى فيها من النعم على عباده، وأطلق جمع القول بأنها مكية وأخرج ذلك ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم وأخرج النحاس من طريق مجاهد عن الحبر أنها نزلت بمكة سوى ثلاث آيات من آخرها فإنهن نزلن بين مكة والمدينة في منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد، وفي رواية عنه أنها كلها مكية إلا قوله تعالى: وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا [النحل: 95] إلى قوله سبحانه: بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 96، 97] وروى أمية الأزدي عن جابر بن زيد أن أربعين آية منها نزلت بمكة وبقيتها نزلت بالمدينة، وهي مائة وثمان وعشرون آية، قال الطبرسي وغيره: بلا خلاف، والذي ذكره الداني في كتاب العدد أنها تسعون وثلاث وقيل أربع وقيل خمس في سائر المصاحف، وتحتوي من المنسوخ قيل على أربع آيات بإجماع وعلى آية واحدة على مختلف فيها، وسيظهر لك حقيقة الأمر في ذلك إن شاء الله تعالى، ولما ذكر في آخر السورة السابقة المستهزءون المكذبون له صلى الله عليه وسلم ابتدئ هنا بعد قوله تعالى: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 332 بقوله عزّ وجلّ أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ المناسب لذلك على ما ذكر غير واحد في معناه وسبب نزوله. وفي البحر في بيان وجه الارتباط أنه تعالى لما قال فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: 92] كان ذلك تنبيها على حشرهم يوم القيامة وسؤالهم عما فعلوه في الدنيا فقيل: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فإن المراد به على قول الجمهور يوم القيامة، وذكر الجلال السيوطي أن آخر الحجر شديدة الالتئام بأول هذه فإن قوله سبحانه وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 99] الذي هو مفسر بالموت ظاهر المناسبة بقوله سبحانه هنا: أَتى أَمْرُ اللَّهِ وانظر كيف جاء في المتقدمة يَأْتِيَكَ بلفظ المضارع وفي المتأخرة أتى بلفظ الماضي لأن المستقبل سابق على الماضي كما تقرر في محله، والأمر واحد الأمور وتفسيره بيوم القيامة كما قال في البحر، وفسر بما يعمه وغيره من نزول العذاب الموعود للكفرة، وعن ابن جريج تفسيره بنزول العذاب فقط فقال: المراد بالأمر هنا ما وعد الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم من النصر والظفر على الأعداء والانتقام منهم بالقتل والسبي ونهب الأموال والاستيلاء على المنازل والديار، وأخرج ابن جرير وغيره عن الضحاك أن المراد به الأحكام والحدود والفرائض، وكأنه حمله على ما هو أحد الأوامر وفيما ذكره بعد إذ لم ينقل عن أحد أنه استعجل فرائض الله تعالى وحدوده سبحانه، والتعبير عن ذلك بأمر الله للتهويل والتفخيم، وفيه إيذان بأن تحققه في نفسه وإتيانه منوط بحكمه تعالى النافذ وقضائه الغالب، وإتيانه عبارة عن دنوه واقترابه على طريقة نظم المتوقع في سلك الواقع، وجوز أن يكون المراد إتيان مباديه فالماضي باق على حقيقته، ولعل ما أخرجه ابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه فسر الأمر بخروج النبي صلى الله عليه وسلم مؤيد لما ذكر وبعضهم أبقى الفعل على معناه الحقيقي وزعم أن المعنى أتى أمر الله وعدا فلا تستعجلوه وقوعا وهو كما ترى، وظاهر صنيع الكثير يشعر باختيار أن الماضي بمعنى المضارع على طريق الاستعارة بتشبيه المستقبل المتحقق بالماضي في تحقق الوقوع والقرينة عليه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 334 قوله سبحانه (1) فإنه لو وقع ما استعجل. وهو الذي يميل إليه القلب، والضمير المنصوب في تَسْتَعْجِلُوهُ على ما هو الظاهر عائد على الأمر لأنه هو المحدث عنه، وقيل: يعود على الله سبحانه أي فلا تستعجلوا الله تعالى بالعذاب أو بإتيان يوم القيامة كقوله تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ [الحج: 47، العنكبوت: 53، 54] وهو خلاف الظاهر، لكن قيل: إن ذلك أوفق بما بعد، والخطاب للكفرة خاصة ويدل عليه قراءة ابن جبير «فلا يستعجلوه» على صيغة نهي الغائب، واستعجالهم وإن كان بطريق الاستهزاء لكنه حمل على الحقيقة ونهوا بضرب من التهكم لا مع المؤمنين سواء أريد بأمر الله تعالى ما قدمنا أو العذاب الموعود للكفرة خاصة، أما الأول فلأنه لا يتصور من المؤمنين استعجال الساعة (2) أو ما يعمها من العذاب حتى يعمهم النهي عنه، وأما الثاني فلأن الاستعجال من المؤمنين حقيقة ومن الكفرة استهزاء فلا ينظمهما صيغة واحدة، والالتجاء إلى إرادة معنى مجازي يعمهما معا من غير أن يكون هناك نكتة سرية تعسف لا يليق بشأن التنزيل. وادعى بعضهم عموم الخطاب واستدل بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه لما نزل قوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [القمر: 1] قال الكفار فيما بينهم: إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما تعملون حتى تنظروا ما هو كائن، فلما تأخرت قالوا: ما نرى شيئا فنزلت اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ [الأنبياء: 1] فأشفقوا وانتظروا قربها فلما امتدت الأيام قالوا: يا محمد ما نرى شيئا مما تخوفنا به فنزلت أَتى أَمْرُ اللَّهِ فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع الناس رؤوسهم فلما نزل فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ اطمأنوا ثم قال صلى الله عليه وسلم: «بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بإصبعيه إن كادت لتسبقني» ولا دلالة فيه على ذلك لأن مناط اطمئنانهم إنما هو وقوفهم على أن المراد بالإتيان هو الإتيان الادعائي لا الحقيقي الموجب لاستحالة الاستعجال المستلزمة لامتناع النهي عنه لما أن النهي عن الشيء يقتضي إمكانه في الجملة، ومدار ذلك الوقوف إنما هو النهي عن الاستعجال المستلزم لإمكانه المقتضي عدم وقوع المستحيل بعد، ولا يختلف ذلك باختلاف المستعجل كائنا من كان بل فيه دلالة واضحة على عدم العموم لأن المراد بأمر الله إنما هو الساعة وصدور استعجالها عن المؤمنين مستحيل. نعم يجوز تخصيص الخطاب بهم على تقدير كون أمر الله تعالى العذاب الموعود للكفرة خاصة، لكن الذي يقضي به الإعجاز التنزيلي أنه خاص بالكفرة كذا قاله أبو السعود. وبحث فيه من وجوه، أما أولا فلأن الذي لا يتصور من المؤمنين الاستعجال بمعنى طلب الوقوع عاجلا لا عده عاجلا وسياق ما روي يدل على الأخير، فإنه لما سمعوا صدر الكلام حملوه على الظاهر فاضطربوا فقيل لهم: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ أي لا تعدوه عاجلا، على أن عدم تصور المعنى الأول أيضا منهم في حيز المنع لجواز أن يستعجلوه لتشفي صدورهم وإذهاب غيظ قلوبهم والاستهزاء بهم والضحك منهم، وأما ثانيا فلأن الجمع بين الحقيقة والمجاز لعله مذهب ذلك القائل، وأما ثالثا فلأن القول بكون القراءة على صيغة نهي الغائب دالة على أن الخطاب مخصوص بالكفرة ممنوع والسند ظاهر، وأما رابعا فلأن نفي دلالة ما روي على عموم الخطاب غير موجه لعموم لفظ الناس، وأما خامسا فلأن قوله: بل فيه دلالة واضحة على عدم العموم لأن المراد بأمر الله تعالى إنما هو الساعة إلى آخره، يرد عليه أنه لا دلالة فيه أصلا على عدم العموم فضلا أن تكون واضحة، وقد عرفت ما في قوله: وقد عرفت، وأما سادسا فلأن حصره المراد بالأمر في الساعة مخالف لما ذكره في تفسير قوله: أَتى أَمْرُ اللَّهِ حيث قال: أي الساعة أو ما يعمها   (1) قوله والقرينة عليه قوله سبحانه إلخ كذا بخطه ولعله سقط منه فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ مقول القول بدليل ما ذكره من التعليل اه. (2) قال تعالى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 335 وغيرها من العذاب فبعد هذا التصريح كيف يدعي ذلك الحصر؟، وفي بعض الأبحاث نظر. وقال بعض الفضلاء: قد يقال: إن المراد بالناس في الخبر المؤمنون لما في خبر آخر أخرجه ابن مردويه عن الحبر قال: «لما نزلت أَتى أَمْرُ اللَّهِ ذعر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلت فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ فسكنوا» . وهذا أيضا على ما قيل لا يقتضي كون الخطاب للمؤمنين لجواز أن يقال: إنهم لما سمعوا أول الآية ذعروا واضطربوا لظن أنه وقع فلما سمعوا خطاب الكفرة بقوله سبحانه: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ اطمأنت قلوبهم وسكنوا، وقد يورد على دعوى أن صدور استعجال الساعة من المؤمنين مستحيل أن ذلك حق لو كان استعجالهم على طرز استعجال الكفرة لها وليس ذلك بمسلم فإنه يجوز أن يراد باستعجالهم اضطرابهم وتهيؤهم لها المنزل منزلة الاستعجال الحقيقي، واستدل على كون الخطاب للكفرة بقوله سبحانه وتعالى: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ فإنه على ذلك التقدير يظهر ارتباطه بما قبله وذلك بأن يقال حينئذ: لما كان استعجالهم ذلك من نتائج إشراكهم المستتبع لنسبة الله تعالى إلى ما لا يليق به سبحانه من العجز والاحتياج إلى الغير واعتقادهم أن أحدا يحجزه عن إمضاء وعيده أو إنجاز وعده قيل بطريق الاستئناف ذلك على معنى تنزه وتقدس بذاته وجل عن إشراكهم المؤدي إلى صدور أمثال هذه الأباطيل عنهم أو عن أن يكون له شريك فيدفع ما أراد بهم بوجه من الوجوه وقد كانوا يقولون على ما في بعض الروايات: إن صح مجيء ذلك فالأصنام تخلصنا عنه بشفاعتها لنا، والتعبير بالمضارع للدلالة على تجدد إشراكهم واستمراره والالتفات إلى الغيبة للإيذان باقتضاء ذكر قبائحهم للإعراض عنهم وطرحهم عن رتبة الخطاب وحكاية شنائعهم للغير وهذا لا يتأتى على تقدير تخصيص الخطاب بالمؤمنين، وقيل في وجه الارتباط على ذلك التقدير: إنه تعالى لما نهاهم عن الاستعجال ذكر ما يتضمن أن إنذاره سبحانه واخباره تعالى للتخويف والإرشاد وأن قوله جل وعلا: أَتى أَمْرُ اللَّهِ إنما هو لذلك فيستعد كل أحد لمعاده ويشتغل قبل السفر بتهيئة زاده فلذلك عقب بذلك دون عطف، وقد أشار بعضهم إلى ارتباط ذلك باعتبار ما بعده فيكون ما ذكر مقدمة واستفتاحا له، وأيضا فإن قوله تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ تنبيه وإيقاظ لما يرد بعده من أدلة التوحيد اه، وأنت تعلم أن الارتباط على ما قرر أولا أظهر منه على هذا التقرير فافهم، ثم إن ما تحتمل الموصولية والمصدرية والاحتمال الثاني أظهر، ولا بد على الاحتمال الأول من اعتبار ما أشرنا إليه وإلا فلا يظهر التنزيه عن الشريك. وقرأ حمزة والكسائي «تشركون» بتاء الخطاب على وفق فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ وقرأ باقي السبعة والأعرج وأبو جعفر وأبو رجاء والحسن بياء الغيبة، وقد تقدم أن في الكلام حينئذ التفاتا وهو مبني على أن الخطاب السابق للكفرة أما إذا كان للمؤمنين أو لهم وللكفرة فلا يتحد معنى الضميرين حتى يكون التفات ولا التفات أيضا على قراءة «تشركون» بالتاء سواء كان الخطاب الأول للكفرة أو لهم وللمؤمنين. نعم في ذلك على تقدير عموم الخطاب تغليبان على ما قيل الأول تغليب المؤمنين على غيرهم في الخطاب والثاني تغليب غيرهم عليهم في نسبة الشرك، وعلى قراءة «يستعجلوه» ويُشْرِكُونَ بالتحتية فيهما لا التفات ولا تغليب يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ قيل هو إشارة إلى طريق علم الرسول صلى الله عليه وسلم بإتيان ما أوعد به وباقترابه إزاحة لاستبعاد اختصاصه عليه الصلاة والسلام بذلك، وقال في الكشف: التحقيق أن قوله سبحانه: أَتى أَمْرُ اللَّهِ تنبيه وإيقاظ ليكون ما يرد بعده ممكنا في نفس حاضرة ملقية إليه وهو تمهيد لما يرد من دلائل التوحيد وقوله تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إلخ تفصيل لما أجمل في قوله سبحانه وتعالى أيقظ أولا ثم نعى عليهم ما هم فيه من الشرك ثم أردفه بدلائل السمع والعقل، وقدم السمعي لأن صاحبه هو القائم بتحرير العقلي وتهذيبه أيضا فليس النظر إلى دليل السمع بل إلى من قام به من الملائكة والرسل عليهم السلام وهم القائمون بالأمرين جميعا فافهم. وأخذ سيبويه منه أن جعل يُنَزِّلُ حالا من ضمير يُشْرِكُونَ لا يطابق المقام البتة انتهى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 336 وما ذكره من أمر الحالية إشارة إلى الاعتراض على شيخه العلامة الطيبي حيث جعل ذلك أحد احتمالين في الجملة، ثانيهما كونها مستأنفة وهو الظاهر، وما أشار إليه من وجه الربط وادعى أنه التحقيق لا يخلو عما هو خلاف المتبادر، والتعبير بصيغة الاستقبال للإشارة إلى أن التنزيل عادة مستمرة له تعالى، والمراد بالملائكة عند الجمهور جبريل عليه السلام ويسمى الواحد بالجمع- كما قال الواحدي- إذا كان رئيسا، وعند بعض هو عليه السلام ومن معه من حفظة الوحي. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «ينزل» مخففا من الإنزال، وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما والأعمش وأبو بكر ينزل مشددا مبنيا للمفعول والملائكة بالرفع على أنه نائب الفاعل والجحدري كذلك إلا أنه خفف، وأبو العالية والأعرج والمفضل عن عاصم «تنزّل» بتاء فوقية مفتوحة وتشديد الزاي مبنيا للفاعل وقد حذف منه أحد التاءين وأصله تتنزل، وابن أبي عبلة «ننزل» بنون العظمة والتشديد، وقتادة بالنون والتخفيف، وفي هاتين القراءتين كما في البحر التفات بِالرُّوحِ أي الوحي كما أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس ويدخل في ذلك القرآن، وروي عن الضحاك والربيع بن أنس الاقتصار عليه، وأيّا ما كان فإطلاق «الروح» على ذلك بطريق الاستعارة المصرحة المحققة، ووجه الشبه أن الوحي يحيي القلوب الميتة بداء الجهل والضلال أو أنه يكون به قوام الدين كما أن بالروح يكون قوام البدن، ويلزم ذلك استعارة مكنية وتخييلية وهي تشبيه الجهل والضلال بالموت وضد ذلك بالحياة أو تشبيه الدين بإنسان ذي جسد وروح، وهذا كما إذا قلت: رأيت بحرا يغترف الناس منه وشمسا يستغيثون بها فإنه يتضمن تشبيه علم الممدوح بالماء العظيم والنور الساطع لكنه جاء من عرض فليس- كأظفار المنية- وليس غير كونه استعارة مصرحة، وجعل ذلك في الكشف من قبيل الاستعارة بالكناية وليس بذاك، والباء متعلقة بالفعل السابق أو بما هو خال من مفعوله أي ينزل الملائكة ملتبسين بالروح، وقوله سبحانه: مِنْ أَمْرِهِ بيان للروح المراد به الوحي، والأمر بمعنى الشأن واحد الأمور، ولا يخرج ذلك الروح من الاستعارة إلى التشبيه كما قيل في قوله تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة: 187] لما قالوا: من أن بينهما بونا بعيدا لأن نفس الفجر عين المشبه شبه بخيط، وليس مطلق الأمر بالمعنى السابق مشبها به ولذا بينت به الروح الحقيقية في قوله تعالى: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء: 85] كما تبين به المجازية، ولو قيل: يلقى أمره الذي هو الروح لم يخرج عن الاستعارة فليس وزان مِنْ أَمْرِهِ وزان مِنَ الْفَجْرِ وليس كل بيان مانعا من الاستعارة كما يتوهم من كلام المحقق في شرح التلخيص. وجوز أن يكون الجار والمجرور متعلقا بمحذوف وقع حالا من الروح على معنى حال كونه ناشئا ومبتدأ منه أو صفة له على رأي من جوز حذف الموصول مع بعض صلته أي بالروح الكائن من أمره أو متعلقا- بينزل- ومِنْ سببية أو تعليلية أو ينزل الملائكة بسبب أمره أو لأجله، والأمر على هذا واحد الأوامر، وعلى ما قبله قيل: فيه احتمالان. وذهب بعضهم إلى أن «الروح» هو جبريل عليه السلام وأيده بقوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء: 193] وجعل الباء بمعنى مع، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن «الروح» خلق من خلق الله تعالى كصور بني آدم لا ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد منهم، وروي ذلك عن ابن جريج وعليه حمل بعضهم ما في الآية هنا. وتعقب ذلك ابن عطية بأن هذا قول ضعيف لم يأت له سند يعول عليه، وأضعف منه بل لا يكاد يقدم عليه في الآية أحد ما روي عن مجاهد أن المراد بالروح أرواح الخلق لا ينزل ملك إلا ومعه روح من تلك الأرواح عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أي أن ينزل عليهم لا لاختصاصهم بصفات تؤهلهم لذلك. والآية دليل على أن النبوة عطائية كما هو المذهب الحق، ويرد بها أيضا على بعض المتصوفة القائلين بأنه لا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 337 حاجة للخلق إلى إرسال الرسل عليهم السلام قالوا: الرسل سوى الله تعالى وكل ما سواه سبحانه حجاب عنه جل شأنه فالرسل حجاب عنه تعالى وكل ما هو حجاب لا حاجة للخلق فالرسل لا حاجة إليهم، وهذا جهل ظاهر، ولعمري إنه زندقة وإلحاد، وفساده مثل كونه زندقة في الظهور، ويكفي في ذلك منع الكبرى القائلة بأن كل ما سواه سبحانه إلخ فإن الرسل وسيلة إلى الله تعالى والوصول إليه عز وجل لا حجاب، وهل يقبل ذو عقل أن نائب السلطان في بلاده حجاب عنه؟ وهب هذا القائل أمكنه الوصول إليه سبحانه بلا واسطة بقوة الرياضة والاستعداد والقابلية فالسواد الأعظم الذين لا يمكنهم ما أمكنه كيف يصنعون. وممن ينتظم في سلك هؤلاء الملحدين البراهمة فإنهم أيضا نفوا النبوة لكنهم استدلوا بأن العقل كاف فيما ينبغي أن يستعمله المكلف فيأتي بالحسن ويجتنب القبيح ويحتاط في المشتبه بفعل أو ترك، فالأنبياء عليهم السلام إما أن يأتوا بما يوافق العقل فلا حاجة معه إليهم أو بما يخالفه فلا التفات إليهم، وجوابه أن هذا مبني على القول بالحسن والقبح العقليين، وقد رفعت الأقلام وجفت الصحف وتم الأمر في إبطاله، وعلى تقدير تسليمه لا نسلم أن العقل يستقل بجميع ما ينبغي، ولا نسلم أيضا أنهم إن جاؤوا بما يوافق العقل لا حاجة إليهم لجواز أن يعرفوا المكلف بعض ما يخفى عليه مما ينبغي له أو يؤكدوا حكمه بحكمهم، ودليلان أقوى من دليل، ولا نسلم أيضا أنهم إن جاؤوا بما يخالف العقل لا يلتفت إليهم لجواز أن يخالفوه فيما يخفى عليه، على أن ذلك فرض محال لإجماع الناس على أن الشرع لا يأتي بخلاف العقل في نفس الأمر وإنما يأتي بما يقصر عن إدراكه بنفسه كوجوب صوم آخر يوم من رمضان وحرمة صوم أول يوم من شوال، وتمام الكلام في ذلك يطلب من محله أَنْ أَنْذِرُوا بدل من الروح على أن أَنْ هي التي من شأنها أن تنصب المضارع وصلت بالأمر كما وصلت به في قولهم: كتبت إليه بأن قم، ولا ضير في ذلك كما حقق في موضعه أي ينزلهم ملتبسين بطلب الإنذار منهم. وجوز ابن عطية وأبو البقاء وصاحب الغنيان كون أَنْ مفسرة فلا موضع لها من الإعراب، وذلك لما في تنزيل الملائكة بالوحي من معنى القول كأنه قيل: يقول بواسطة الملائكة لمن يشاء من عباده أن أنذروا، وجوز الزمخشري ذلك وكون أَنْ المخففة من المثقلة وأمر البدلية على حاله قال: والتقدير بأنه أنذروا أي بأن الشأن أقول لكم أنذروا. وتعقبه أبو حيان بأن جعلها مخففة وإضمار اسمها وهو ضمير الشأن وتقدير القول حتى يكون الخبر جملة خبرية تكلف لا حاجة إليه مع سهولة جعلها الثنائية التي من شأنها نصب المضارع، وفيه بحث، ففي الكشف أن تحقيق وصل الأمر بهذا الحرف ناصبة كانت أو مخففة وإضمار القول قد سلف إنما الكلام في إيثار المخففة هاهنا وفي يونس والناصبة في نوح وهي الأصل لقلة التقدير، وذلك لأن مقام المبالغة يقتضي إيثار المخففة، ولهذا جعل بدلا والمبدل منه ما عرف شأنه، وكذاك في يونس معناه أعجبوا من هذا الأمر المحقق وهو أن الشأن كذا، وأما في نوح فكلام ابتدائي، وجعلهم فائدة القول أن لا يقع الطلبي خبرا من ضيق العطن فذلك في ضمير الشأن غير مسلم لأنه متحد بما بعده وهو كما تقول: كلامي اضرب زيدا انتهى. وقرئ لينذروا والإنذار الإعلام كما قيل خلا أنه مختص بإعلام المحذور أي اعلموا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فالضمير للشأن وهو من خلاف مقتضى الظاهر، وفائدة تصدير الجملة به الإيذان من أول الأمر بفخامة مضمونها مع ما في ذلك من زيادة تقرير في الذهن، وأَنْ وما بعدها في موضع المفعول الثاني- لأنذروا- دون تقدير جار فيه والمفعول الأول محذوف. والمراد العموم أي أعلموا الناس أن الشأن الخطير هذا، ووجه انباء مضمونه عن المحذور بأنه ليس لذاته بل من حيث اتصاف المنذرين بما يضاده من الإشراك، ولا يشترط تحقق المحذور كالاتصاف المذكور بالفعل في تحقق ماهية الإنذار، وإن أبيت إلا الاشتراط فتحقق الاتصاف في بعض أفراد المنذرين لا سيما الأكثر بالفعل كاف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 338 وقال الراغب: الإنذار إخبار فيه تخويف كما أن التبشير إخبار فيه سرور وهو قريب مما تقدم، ومحصله على العبارتين التخويف، ومن هنا جوز بعضهم تفسيره بذلك وقدر المفعول الأول خاصا وأَنْ وما بعدها في موضع المفعول الثاني بتقدير الجار أي خوفوا أهل الكفر والمعاصي بأن الشأن الخطير هذا، وذلك كما جوز تفسيره بالإعلام، وجعل المفعول الأول عاما ولم يقدر جارا في الثاني، وذكر أن ذلك أصل معناه وأن تخصيصه بإعلام المحذور طارئ فإن أريد ذلك الأصل كان تعلقه بما بعده ظاهرا غاية الظهور، وإن أريد غيره احتاج إلى التوجيه، وقد علمته فيما إذا كان المفعول الأول عاما، والأمر فيما إذا كان خاصا بعد ذلك أظهر من أن يذكر. وذكر بعض الفضلاء أن الثابت في اللغة أن نذر بالشيء كفرح به فحذره وأنذره إذا أعلمه بما يحذره وليس فيها مجيئه بمعنى التخويف فأصله الإعلام مع التخويف فاستعملوه بكل من جزئي معنييه الإعلام والتخويف انتهى وفيه غفلة عما أشرنا إليه، وكأنه لهذا قيل: إنه لم يأت بشيء يعتد به فَاتَّقُونِ جعله أبو السعود خطابا للمستعجلين على طريقة الالتفات والفاء فصيحة أي إذا كان الأمر كما ذكر من جريان عادته تعالى بتنزيل الملائكة على من يشاء تنزيلهم عليه من عباده وأمر المنزل عليهم بأن ينذروا الناس بأنه تعالى لا شريك له في الألوهية فاتقون في الإخلال بمضمونه ومباشرة ما ينافيه وفروعه التي من جملتها الاستعجال والاستهزاء انتهى. وهو على ما يقتضيه الظاهر مبني على ما مال إليه من اختصاص الخطاب السابق بكفرة، وجعل بعضهم هذا الخطاب رجوعا أيضا إلى خطاب قريش لكنه متفرع على التوحيد، ووجه تفرعه عليه أنه سبحانه وتعالى إذا كان واحدا لم يتصور تخليص أحد لأحد من عذابه إذا أراد ذلك ولم يجوز جعله من جملة الموحى به على معنى أعلموهم قولي أن الشأن لا إله إلا أنا فاتقون أو خوفوهم بذلك معللا بأنه لو كان ذلك لقيل- إن- بالكسر لا بالفتح. وتعقب بمنع اللزوم فإن أن ليست بعد قول صريح أو مقدر وإنما ذكروا ذلك في بيان المعنى لتصويره، واختير أنه إذا كان الإنذار بمعنى التخويف فالظاهر دخول هذا الأمر في المنذر به لأنه هو المنذر به في الحقيقة وهو المقصود بالذكر، وإذا كان بمعنى الإعلام فالمقصود بالإعلام هو الجملة الأولى وهو متفرع عليها على طريق الالتفات، ولا يخلو عن مناقشة فتأمل، والذي يميل إليه القلب أن المجموع داخل في حيز الإنذار وهو مشتمل على التوحيد الذي هو منتهى كمال القوة العلمية والأمر بالتقوى التي هي أقصى كمال القوة العملية فإن النفوس البشرية لها نسبة إلى عالم الغيب تستعد بها لقبول الصور والتحلي بالمعارف والإدراكات من ذلك العالم، ونسبة إلى عالم الشهادة تستعد بها لأن تتصرف في أجسام هذا العالم ويسمى استعدادها الحاصل لها باعتبار النسبة الأولى قوة نظرية واستعدادها باعتبار النسبة الثانية قوة عملية، وأشرف كمالات القوة النظرية معرفة أن لا إله إلا الله تعالى، وأشرف كمالات القوة العملية الإتيان بالأعمال الصالحة الواقية عن خزي يوم القيامة. وقدم قوله تعالى: لا إِلهَ إِلَّا أَنَا على قوله سبحانه: فَاتَّقُونِ للإشارة إلى أن ما يستند إلى القوة النظرية أعلى كمالا مما يستند إلى القوة العملية، والكمال الإنساني باعتبار هاتين القوتين يسمى كمالا نفسانيا، وله كمالات أخر هي كمالاته البدنية وقواه الحيوانية، وقد فصل ذلك في موضعه. ثم إنه تعالى شرع في تحرير الدلائل العقلية الدالة على توحيده الذي هو المقصد الأعظم من بعثة الرسل عليهم السلام فقال عز قائلا: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ. وذكر بعض المحققين أنه تعالى شأنه وعظم برهانه قد استوفى أدلة التوحيد واتصاف ذاته الكريمة بصفات الجلال والإكرام على أسلوب بديع جمع فيه بين دلالة المصنوع على الصانع والنعمة على المنعم ونبه على أن كل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 339 واحد يكفي صارفا للمشركين عما هم فيه من الشرك وعليه مدار السورة الكريمة كلما بصرهم طائفة من البصائر ضمنها تبكيتهم وكفرانهم نعمتي الرعاية والهداية، وانظر إلى فاتحته ثم إلى خاتمته في قوله سبحانه: وَاصْبِرْ [النحل: 127] إلى آخر السورة بين لك بعض ما ضمن الكتاب الكريم من أسرار البلاغة وأنوار الإعجاز والمراد بالسماوات والأرض إما هذه الأجرام والأجسام المعلومة، وإما جهة العلو والسفل أي أوجد ذلك ملتبسا بما يحق له بمقتضى الحكمة فيدل على صانع حي عالم قادر مريد منفرد بالألوهية والربوبية والإلزام إمكان التمانع المستلزم لإمكان المحال حسبما بين في علم الكلام ولذا عقب هذا بقوله تعالى: تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ. وقرأ الأعمش «فتعالى» بالفاء، وما يحتمل أن تكون مصدرية أي تعالى وتقدس بذاته وأفعاله عن إشراكهم، وأن تكون موصولة على معنى تعالى عن شركة ما يشركونه من الباطل الذي لا يبدئ ولا يعيد، واستدل بالآية على أنه تعالى ليس من قبيل الأجرام والأجسام كما يقوله المجسمة، ووجه ذلك أنها تدل على احتياج الأجرام والأجسام إلى خالق سبحانه وتعالى لا يجانسها وإلا لاحتاج إليه فلا يكون خالقا، وبإرادة الجهتين يكون وجه الدلالة من الآية أظهر، وقرأ الكسائي «تشركون» بالتاء. خَلَقَ الْإِنْسانَ أي هذا النوع غير الفرد الأول منه مِنْ نُطْفَةٍ أصلها الماء الصافي ويعبر بها عن ماء الرجل أي أوجده من جماد لا حس له ولا حراك سيال لا يحفظ شكلا ولا وضعا فَإِذا هُوَ بعد الخلق من ذلك خَصِيمٌ منطيق مجادل عن نفسه مكافح للخصوم، وهو صيغة مبالغة، وقال الواحدي: بمعنى مخاصم، وفعيل بمعنى مفاعل معروف عندهم كالنسيب بمعنى المناسب والخليط بمعنى المخالط والعشير بمعنى المعاشر. مُبِينٌ مظهر للحجة لقن بها وقيل: المعنى أوجده من ذلك فإذا هو خصيم لخالقه سبحانه منكر لعظيم قدرته قائل: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس: 78] والأول أنسب بمقام الامتنان بإعطاء القدرة على الاستدلال بذلك على قدرته جل جلاله ووحدته، وبين الإمام وجه الاستدلال فقال بعد أن زعم أن الإنسان في الشرف بعد الأفلاك والكواكب وأشار إلى أنه لذلك عقب الاستدلال بخلق تلك بالاستدلال بخلقه: اعلم أن الإنسان مركب من نفس وبدن، وصدر الآية إشارة إلى الاستدلال ببدنه على وجود الصانع الحكيم وعجزها إشارة إلى الاستدلال بأحواله، وتقرير الأول أن يقال: إن النطفة إما أن تكون متشابهة الأجزاء أو مختلفتها فإن كان الأول لم يجز أن يكون المقتضي لتولد هذا البدن منها هو الطبيعة الحاصلة في جوهرها لأن تأثير الطبيعة بالذات والإيجاب فمتى عملت في مادة متشابهة الأجزاء وجب أن يكون عملها الكرية وحيث لم يكن الأمر فيما نحن فيه كذلك لظهور أن الأبدان ليست كرية علمنا أن المقتضي لها هو الفاعل الحكيم المختار، وإن كان الثاني قلنا: إنه يجب أن ينتهي تحليل تركيبها إلى أجزاء يكون كل واحد منها في نفسه جسما بسيطا وحينئذ لو كان المدبر لها قوة طبيعية لوجب أن يكون كل من تلك البسائط كرىّ الشكل فكان يلزم أن يكون الإنسان على شكل كرات مضمومة بعضها إلى بعض وحيث لم يكن لذلك علمنا أن المقتضي هو الفاعل المختار أيضا جل شأنه وأيضا أن النطفة رطبة سريعة الاستحالة فلا تحفظ الوضع فالجزء الذي هو مادة الدماغ يمكن حصوله في السفل والجزء الذي هو مادة القلب يمكن حصوله في الفوق فحيث كان الإنسان على هذا الترتيب المعين دائما مع إمكان غيره علمنا أن حدوثه على ذلك الترتيب ليس إلا بتدبير الفاعل المختار الحكيم. ولا يصح أن يقال: إن ذلك من تأثير النجوم والأوضاع الفلكية لأن تأثيراتها متشابهة على أنه قد بين بطلان كونها مؤثرة بغير ذلك في موضعه. وتقرير الثاني أن النفوس الإنسانية في أول الفطرة أقل فهما وذكاء وفطنة من نفوس سائر الحيوانات فإن فرخ الدجاجة حين خروجه من قشر البيضة يميز بين العدو والصديق فيهرب من الهرة ويلتجئ إلى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 340 الأم ويميز بين الغذاء الذي يوافقه والذي لا يوافقه وأما ولد الإنسان فإنه حين انفصاله من بطن أمه لا يميز بين العدو والصديق ولا بين الضار والنافع ثم إنه بعد كبره يقوى عقله ويعظم فهمه ويصير بحيث يقوى على معرفة الله تعالى وعلى معرفة أصناف المخلوقات العلوية والسفلية والاطلاع على كثير من أحوالها الدقيقة وعلى الخصومات والمباحثات فانتقال نفسه من تلك البلادة المفرطة إلى هذه الكياسة المفرطة لا بد وأن يكون بتدبير إله مختار حكيم ينقلها من نقصانها إلى كمالها ومن جهالتها إلى معرفتها بحسب الحكمة والاختيار، والثاني قيل: أنسب بمقام تعداد هنات الكفرة فإنه قد اشتمل من بيان جراءة من كفر على الله تعالى وعدم استحيائه منه سبحانه ووقاحته بتماديه في الكفر. وذكر بعضهم أنه يؤيد هذا الوجه قوله تعالى في سورة يس بعد ما ذكر مثله: قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ فإنه نص فيما ذكر فيكون صدر الآية للاستدلال وعجزها لتقرير الوقاحة، وتعقب بأنه ليس بشيء لأن مدار ما قبلها في تلك السورة على ذكر الحشر والنشر ومكابرتهم فيه بخلاف هذه ولكل مقام مقال، وأما كون الآية مسوقة لتقرير وقاحة الإنسان لانتفاء التنافي بين الاستدلال على الوحدانية والقدرة وتقرير وقاحة المنكرين ولذا جعل التتميم لما قبله تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ فعدم المنافي لا يقتضي وجود المناسب، وعندي لكل وجهة. وفي الكشف المعنيان ملائمان للمقام إلا أن في الثاني زيادة ملائمة مع قوله: تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ثم إنه أدمج فيه المعنى الأول، وروى الواحدي أن أبي بن خلف أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم رميم وقال: يا محمد أترى أن الله تعالى يحيي هذا بعد ما قد رم فنزلت نظير ما في آخر يس، والمشهور أن تلك هي النازلة في تلك القصة، ثم وجه التعقيب وإذا الفجائية في قوله سبحانه: فَإِذا هُوَ إلى آخره مع أن كونه خصيما مبينا بأي معنى أريد لم يعقب خلقه من نطفة إذ بينهما وسائط أنه بيان لأطواره إلى كمال عقله فالتعقيب باعتبار آخرها فلا وجه لتقدير الوسائط ولا للقول بأنه من باب التعبير عن حال الشيء بما يؤول إليه فافهم. وَالْأَنْعامَ وهي الأزواج الثمانية من الإبل، والبقر، والضأن، والمعز، قال الراغب: ولا يقال أنعام إلا إذا كان فيها إبل، وخصها بعضهم هنا بذلك وليس بشيء، والنصب على المفعولية لفعل مضمر يفسره قوله تعالى: خَلَقَها وهو أرجح من الرفع في مثل هذا الموضع لتقدم الفعلية وقرئ به في الشواذ أو على العطف على الإنسان وما بعد بيان ما خلق لأجله والذي بعده تفصيل لذلك، وقوله سبحانه: لَكُمْ إما متعلق- بخلقها- وقوله تعالى: فِيها خبر مقدم وقوله جل وعلا: دِفْءٌ مبتدأ مؤخر والجملة حال من المفعول أو الجار والمجرور الأول خبر للمبتدأ المذكور والثاني متعلق بما فيه من معنى الاستقرار، وقيل: حال من الضمير المستكن فيه العائد على المبتدأ، وقيل: حال من «دفء» إذ لو تأخر لكان صفة، وجوز أبو البقاء أن يكون الثاني هو الخبر والأول في موضع الحال من مبتدئه، وتعقبه أبو حيان بأن هذا لا يجوز لأن الحال إذا كان العامل فيها معنى لا يجوز تقديمها على الجملة بأسرها فلا يجوز قائما في الدار زيد فإن تأخرت الحال عن الجملة جازت بلا خلاف وإن توسطت فالأخفش على الجواز والجمهور على المنع، وجوز أبو البقاء أيضا أن يرتفع دِفْءٌ- بلكم- أو- بفيها- والجملة كلها حال من الضمير المنصوب، وتعقبه أبو حيان أيضا بأن ذلك لا يعد من قبيل الجملة بل هو من قبيل المفرد، ونقل أنهم جوزوا أن يكون لَكُمْ متعلقا- بخلقها- وجملة فيها دِفْءٌ استئناف لذكر منافع الانعام، واستظهر كون جملة لَكُمْ فِيها دِفْءٌ مستأنفة، ثم قال: ويؤيد الاستئناف فيها الاستئناف في مقابلتها أعني قوله تعالى: وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ فقابل سبحانه المنفعة الضرورية بالمنفعة الغير الضرورية، وإلى نحو ذلك ذهب القطب فاختار أن الكلام قد تم عند خَلَقَها لهذا العطف وخالفه في ذلك صاحب الكشف فقال: إن قوله تعالى: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 341 خَلَقَها لَكُمْ بناء على تفسير الزمخشري له بقوله: ما خلقها إلا لكم ولمصالحكم يا جنس الإنسان طرف من ترشيح المعنى الثاني في قوله سبحانه: فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ لما في الالتفات المشار إليه من الدلالة عليه، وأما الحصر المشار إليه بقوله: ما خلقها إلا لكم فمن اللام المفيدة للاختصاص سيما وقد نوع الخطاب بما يفيد زيادة التمييز والاختصاص، وهذا أولى من جعل لَكُمْ فِيها دِفْءٌ مقابل لَكُمْ فِيها جَمالٌ لإفادته المعنى الثاني وأبلغ على أنه يكون فِيها دِفْءٌ تفصيلا للأول وكرر لَكُمْ في الثاني لبعد العهد وزيادة التقريع اه، والحق في دعوى أولوية تعلق لَكُمْ بما قبله معه كما لا يخفى، والدفء اسم لما يدفأ به أي يسخن، وتقول العرب: دفئ يومنا فهو دفيء إذا حصلت فيه سخونة ودفئ الرجل دفاء ودفاء بالفتح والكسر ورجل دفآن وامرأة دفأى ويجمع الدفء على ادفاء، والمراد به ما يعم اللباس والبيت الذي يتخذ من أوبارها وأصوافها، وفسره ابن عباس فيما أخرجه عنه ابن جرير وغيره بالثياب. وأخرج عبد الرزاق وغيره عنه رضي الله تعالى عنه أيضا أنه نسل كل دابة، ونقله الأموي عن لغة بعض العرب والظاهر هو الأول. وقرأ الزهري وأبو جعفر «دفّ» بضم الفاء وشدها وتنوينها، ووجه ذلك في البحر بأنه نقل الحركة من الهمزة إلى الفاء وحذفت ثم شدد الفاء إجراء للوصول مجرى الوقف إذ يجوز تشديدها في الوقف. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «دف» بنقل الحركة والحذف دون تشديد، وفي اللوامح قرأ الزهري «دف» بضم الفاء من غير همزة وهي محركة بحركتها، ومنهم من يعوض عن هذه الهمزة فيشدد الفاء وهو أحد وجهي حمزة بن حبيب وقفا. واعترض بأن التشديد وقفا لغة مستقلة وإن لم يكن ثمة حذف من الكلمة الموقوف عليها ودفع بأنه إنما يكون ذلك إذا وقف على آخر حرف منها أما إذا وقف على ما قبل الآخر منها كقاض فلا. وَمَنافِعُ هي درها وركوبها والحراثة بها والنضح عليها وغير ذلك، وإنما عبر عنها بها ليشمل الكل مع أنه الأنسب بمقام الامتنان بالنعم، وقدم الدفء رعاية لأسلوب الترقي إلى الأعلى وَمِنْها تَأْكُلُونَ أي تأكلون ما يؤكل منها من اللحوم والشحوم ونحو ذلك- فمن- تبعيضية، والأكل إما على معناه المتبادر وإما بمعنى التناول الشامل للشرب فيدخل في العد الألبان، وجوز أن تكون من ابتدائية وأن تكون للتبعيض مجازا أو سببية أي تأكلون ما يحصل بسببها فإن الحبوب والثمار المأكولة تكتسب باكتراء الإبل مثلا وأثمان نتاجها وألبانها وجلودها والأول أظهر وأدخل ما يحصل من اكترائها من الإجارة التي يتوصل بها إلى مصالح كثيرة في المنافع، وتغيير النظم الجليل قيل للإيماء إلى أنها لا تبقى عند الأكل كما في السابق واللاحق فإن الدفء والمنافع التي أشرنا إليها والجمال يحصل منها وهي باقية على حالها ولذلك جعلت محال لها بخلاف الأكل، وتقديم الظرف للحصر على معنى أن الأكل منها هو المعتاد المعتمد في المعاش من بين سائر الحيوانات فلا يرد الأكل من الدجاج والبط وصيد البر والبحر فإنه من قبيل التفكه، وكذا لا يرد أكل لحم الخيل عند من أباحه لأنه ليس من المعتاد المعتمد أيضا، والحاصل أن الحصر إضافي وبذلك لا يرد أيضا أكل الخبز والبقول ونحوها، ويضم إلى هذا الوجه في التقديم رعاية الفواصل، وجعله لمجرد ذلك كما في الكشف قصور، وأبو حيان ينكر كون التقديم مطلقا للحصر فينحصر وجهه هنا حينئذ في الرعاية المذكورة. وَلَكُمْ فِيها مع ما ذكر من المنافع الضرورية جَمالٌ زينة في أعين الناس وعظمة ووجاهة عندهم، والمشهور إطلاقه على الحسن الكثير، ويكون في الصورة بحسن التركيب وتناسق الأعضاء وتناسبها، وفي الأخلاق باشتمالها على الصفات المحمودة وفي الأفعال بكونها ملائمة للمصلحة من درء المضرة وجلب المنفعة وهو في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 342 الأصل مصدر- جمل- بضم الميم ويقال للرجل جميل وجمال وجمال على التكثير وللمرأة جميلة وجملاء عند الكسائي وأنشد: فهي جملاء كبدر طالع ... بذت الخلق جميعا بالجمال ورأى بعضهم إطلاقه على التجمل فظن أنه مصدر بإسقاط الزوائد حِينَ تُرِيحُونَ أي تردونها بالعشي من المرعى إلى مراحها يقال: أراح الماشية إذا ردها إلى المراح وقتئذ وَحِينَ تَسْرَحُونَ تخرجونها غدوة من حظائرها ومبيتها إلى مسارحها ومراعيها يقال: سرحها يسرحها سرحا وسروحا وسرحت هي يتعدى ولا يتعدى، والفعل الأول وكذا الثاني متعد والمفعول محذوف لرعاية الفواصل، وتعيين الوقتين لأن ما يدور عليه أمر الجمال من تزين الأفنية وتجاوب ثغائها ورغائها إنما هو عند الذهاب والمجيء في ذينك الوقتين، وأما عند كونها في المسارح فتنقطع إضافتها الحسية إلى أربابها، وعند كونها في الحظائر لا يراها راء ولا ينظر إليها ناظر. وتقديم الإراحة على السرح مع أنها متأخرة في الوجود عنه لكونها أظهر منه في استتباع ما ذكر من الجمال وأتم في استجلاب الانس والبهجة إذ فيها حضور بعد غيبة وإقبال بعد ادبار على أحسن ما يكون ملأى البطون حافلة الضروع. وقرأ عكرمة والضحاك والجحدري «حينا» فيهما بالتنوين وفك الإضافة على أن كلتا الجملتين صفة لحينا قبلها والعائد محذوف كما في قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ [البقرة: 48، 123] أي حينا تريحون فيه وحينا تسرحون فيه، والعامل في حِينَ إما المبتدأ لأنه بمعنى التجمل كما قيل وإما خبره لما فيه من معنى الاستقرار. وجوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع صفة لجمال وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ أي أحمالكم الثقيلة جمع ثقل، وقيل أجسامكم كما قيل في قوله تعالى: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها [الزلزلة: 2] حيث فسرت الأثقال فيه بأجسام بني آدم. إِلى بَلَدٍ روي عن ابن عباس أنه اليمن والشام ومصر وكأنه نظر إلى أنها متاجر أهل مكة كما يؤذن به ما في تفسير الخازن عنه رضي الله تعالى عنه من أنه قال: يريد من مكة إلى اليمن وإلى الشام، وفي رواية أخرى عنه وعن الربيع بن أنس وعكرمة أنه مكة وكأنهم نظروا إلى أن أثقالهم وأحمالهم عند القفول من متاجرهم أكثر وحاجتهم إلى الحمولة أمس، والظاهر أنه عام لكل بلد سحيق وإلى ذلك ذهب أبو حيان، وجعل ما ورد من التعيين كالمذكور وكالذي نقله عن بعضهم من أنها مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم محمولا على التمثيل لا على أن المراد ذلك المعين دون غيره لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ واصلين إليه بأنفسكم مجردين عن الأقفال فضلا عن أن تحملوا على ظهوركم أثقالكم لو لم تكن الأنعام ولم تخلق إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ أي مشقتها وتعبها، وقيل: المعنى لم تكونوا بالغيه بها إلا بما ذكر وحذف بها لأن المسافر لا بدله من الأثقال، والمراد التنبيه على بعد البلد وأنه مع الاستعانة بها بحمل الأثقال لا تصلون إليه إلا بالمشقة، ولا يخفى أن الأول أبلغ. وقرأ مجاهد والأعرج وأبو جعفر وعمرو بن معين وابن أرقم «بشق» بفتح الشين وروي ذلك عن نافع وأبي عمرو وكلا ذلك لغة، والمعنى ما تقدم، وقيل: الشق بالفتح المصدر وبالكسر الاسم يعني المشقة وعلى الكسر بهذا المعنى جاء قوله: وذي إبل يسعى ويحسبها له ... أخي نصب من شقها ودؤوب فإنه أراد من مشقتها، وعن الفراء أن المفتوح مصدر من شق الأمر عليه شقا وحقيقته راجعة إلى الشق الذي هو الصدع والمكسور النصف يقال: أخذت شق الشاة أي نصفها، وجاء «اتقوا النار ولو بشق تمرة» والمعنى إلا بذهاب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 343 نصف الأنفس كأن الأنفس تذوب تعبا ونصبا لما ينالها من المشقة كما يقال لا تقدر على كذا إلا بذهاب جل نفسك أو قطعة من كبدك وهو من المجاز، وجوز بعضهم أن يكون على تقدير مضاف أي إلا بشق قوى الأنفس، والاستثناء مفرغ أي لم تكونوا بالِغِيهِ بشيء من الأشياء إلا بشق الأنفس، وجعل أبو البقاء الجار والمجرور في موضع الحال من الضمير المرفوع في بالغيه أي مشقوقا عليكم وضمير تَحْمِلُ للأنعام إلا أن الحمل المذكور باعتبار بعض أنواعها وهي الإبل ومثله كثير، ومن هنا يظهر ضعف استدلال بعضهم بهذا الاسناد على أن المراد بالأنعام فيما مر الإبل فقط، وتغيير النظم الكريم السابق الدال على كون الانعام مدارا للنعم إلى الفعلية المفيدة للحدوث قيل لعله للإشعار بأن هذه النعمة ليست في العموم بحسب المنشأ وبحسب المتعلق وفي الشمول للأوقات والاطراد في الأحيان المعهودة بمثابة النعم السالفة فإنها بحسب المنشأ خاصة كما سمعت بالإبل وبحسب المتعلق بالمتقلبين في الأرض للتجارة وغيرها في أحايين غير مطردة، وأما سائر النعم المعدودة فموجودة في جميع الأصناف وعامة لكافة المخاطبين دائما وفي عامة الأوقات اه. واحتج كما قال الإمام منكر وكرامات الأولياء بهذه الآية لأنها تدل على أن الإنسان لا يمكنه الانتقال من بلد إلى آخر إلا بشق الأنفس وحمل الأثقال على الجمال. ومثبتو الكرامات يقولون: إن الأولياء قد ينتقلون من بلد إلى آخر بعيد في زمان قليل من غير تعب وتحمل مشقة فكان ذلك على خلاف الآية فيكون باطلا وإذا بطلت في هذه الصورة بطلت في الجميع إذ لا قائل بالفرق. وأجاب بأنا نخصص عموم الآية بالأدلة الدالة على وقوع الكرامات اه. ولعل القائلين بعدم ثبوت طي المسافة للأولياء يستندون إلى هذه الآية لكن هؤلاء لا ينفون الكرامات مطلقا فلا يصح قوله إذ لا قائل بالفرق، ومن أنصف علم أن الاستدلال بها على هذا المطلب مما لا يكاد يلتفت إليه بناء على أنها مسوقة للامتنان ويكفي فيه وجود هذا في أكثر الأحايين لأكثر الناس فافهم إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ولذلك أسبغ عليكم النعم الجليلة ويسر لكم الأمور الشاقة العسيرة وَالْخَيْلَ هو كما قال غير واحد اسم جنس للفرس لا واحد له من لفظه كالإبل، وذكر الراغب أنه في الأصل يطل على الأفراس والفرسان، وهو عطف على الأنعام أي وخلق الخيل وَالْبِغالَ جمع بغل معروف وَالْحَمِيرَ جمع حمار كذلك ويجمع في القلة على أحمرة وفي الكثرة على حمر وهو القياس، وقرأ ابن أبي عبلة برفع «الخيل» وما عطف عليه لِتَرْكَبُوها تعليل لخلق المذكورات، والكلام في تعليل أفعال الله تعالى مبسوط في الكلام وَزِينَةً عطف على محل لِتَرْكَبُوها فهو مثله مفعول لأجله وتجريده عن اللام دونه لأن الزينة فعل الزائن وهو الخالق تعالى ففاعل الفعلين المعلل والمعلل به واحد بخلاف فاعل الركوب وفاعل المعلل به فشرط النصب الذي اشترطه من اشتراطه موجود في المعطوف دون المعطوف عليه قاله غير واحد، وذكر بعض المدققين أن في عدم مجيئها على سنن واحد دلالة على أن المقصود الأصلي الأول فجيء بالحروف الموضوعة لذلك وسيق لخطاب وأعيد الضمير للثلاثة في لِتَرْكَبُوها وجيء بالثاني تتميما ودلالة على أنه لما كان من مقاصدهم عد في معرض الامتنان وإلا فليس التزين بالعرض الزائل مما يقصده أهل الله تعالى وهم أهل الخطاب بالقصد الأول واعترض ما تقدم بأنه وإن ثبت اتحاد الفاعل لكن لم تتم به شروط صحة النصب لفقد شرط آخر منها وهو المقارنة في الوجود فإن الخلق متقدم على الزينة. وأجيب بأن ذلك على إرادة إرادة الزينة كما قيل في ضربت زيدا تأديبا أن التأديب بتأويل إرادته، وجوز أبو البقاء كون زِينَةً مصدرا لفعل محذوف أي ولتتزينوا بها زينة، وقال ابن عطية إنه مفعول به لفعل محذوف أي وجعلها زينة، وروى قتادة عن ابن عباس أنه قرأ «لتركبوها زينة» بغير واو، قال صاحب اللوامح إن زِينَةً حينئذ نصب على الحال من الضمير في خَلَقَها أو من الضمير في لِتَرْكَبُوها ولم يعين الضمير وعينه ابن عطية فقال هو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 344 المنصوب، وقال غير واحد تجوز الحالية من كل من الضميرين أي لتركبوها متزينين أو متزينا بها، وقال الزمخشري بعد حكاية القراءة: أي خلقها زينة لتركبوها، ومراده على ما قيل أن الزينة إما ثاني مفعولي- خلق- على إجرائه مجرى جعل أو هو حال عن المفعولات الثلاثة على الجمع، وجوز كونه مفعولا له لِتَرْكَبُوها وهو بمعنى التزين فلا يرد عليه اختلاف فاعل الفعلين قيل: وأما لزوم تخصيص الركوب المطلوب بكونه لأجل الزينة وكون الحكمة في خلقها ذلك وكون ذلك هو المقصود الأصلي لنا فلا ضير فيه لأن التجمل بالملابس والمراكب لا مانع منه شرعا وهو لا ينافي أن يكون لخلقها حكم أهم كالجهاد عليها وسفر الطاعات، وإنما خص لمناسبته لمقام الامتنان مع أن الزينة على ما قال الراغب ما لا يشين في الدنيا ولا في الآخرة، وأما ما يزين في حالة دون أخرى فهو من وجه شين اه فتأمل ولا تغفل. واستدل بالآية على حرمة أكل لحوم المذكورات لأن السوق في معرض الاستدلال بخلق هذه النعم منة على هذا النوع دلالة على التوحيد وسوء صنيع من يقابلها بالإشراك والحكيم لا يمن بأدنى النعمتين تاركا أعلاهما، كيف وقد ذكر أماما. وروى ابن جرير وغيره القول بكراهة أكل لحوم الخيل لهذه الآية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وروي عن أبي حنيفة عليه الرحمة أنه قال: رخص بعض العلماء في لحم الخيل فأما أنا فلا يعجبني أكله، وفي رواية أخرى أنه قال أكرهه والأولى تلوح إلى قوله بكراهة التنزيه والثانية تدل على التحريم بناء على ما روي عن أبي يوسف أنه سأله إذا قلت: في شيء أكرهه فما رأيك فيه؟ فقال: التحريم، وكأنه لهذا قال صاحب الهداية الأصح أن كراهة أكل لحمها تحريمية عند الإمام، وفي العمادية أنه رضي الله تعالى عنه رجع عن القول بالكراهة قبل موته بثلاثة أيام وعليه الفتوى، وقال صاحباه والإمام الشافعي رضي الله تعالى عنهم: لا بأس بأكل لحوم الخيل. وأجاب بعض الشافعية عن الاستدلال بالآية بمنع كون المذكور أدنى النعمتين بالنسبة إلى الخيل قال: ذلك لأن الآية وردت للامتنان عليهم على نحو ما ألفوه، ولا ينكر ذو أرب أن معظم الغرض من الخيل الركوب والزينة لا الأكل بخلاف النعم، وذكر أغلب المنفعتين وترك أدناهما ليس بدعا بل هو دأب اختصارات القرآن وذكره في الأول إن لم يصر حجة لنا في الاكتفاء مع التنبيه على أنه نزر في المقابل فلا يصير حجة علينا، فظهر أنه لا استدلال لا من عبارة الآية ولا من إشارتها. واستدلوا على الحل بما صح من حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية والبغال وأذن عليه الصلاة والسلام في لحم الخيل يوم خيبر، وفيه دليل عندهم على أن الآية لا تدل على التحريم لإفادته أن تحريم لحوم الحمر الأهلية إنما وقع عام خيبر كما هو الثابت عند أكثر المحدثين وهذه السورة مكية فلو علم التحريم مما فيها كان ثابتا قبله، وبحث فيه بأن السورة وإن كانت مكية يجوز كون هذه الآية مدنية، وفيه أن مثل ذلك يحتاج إلى الرواية ومجرد الجواز لا يكفي، وعورض حديث جابر بما أخرجه أبو عبيد وأبو داود والنسائي وابن المنذر عن خالد بن الوليد قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع وعن لحوم الخيل والبغال والحمير» والترجيح كما قال في الهداية للمحرم، لكن أنت تعلم أن هذا الخبر يوهي أمر الاستدلال لما أن خالدا قد أسلم بالمدينة والآية مكية فلو كان التحريم معلوما منها لما كان للنهي الذي سمعه كثير فائدة، والجملة الاستدلال بالآية على حرمة لحوم الخيل لا يسلم من العثار فلا بد من الرجوع في ذلك إلى الأخبار. والحكم عند تعارضها لا يخفى على ذوي الاستبصار، والذي أميل إليه الحل والله تعالى أعلم وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ أي ويخلق غير ذلك الذي فصله سبحانه لكم، والتعبير عنه بما ذكر لأن مجموعه غير معلوم ولا يكاد يكون معلوما فالكلام إجمالا لما عدا الحيوانات المحتاج غالبا احتياجا ضروريا أو غير ضروري، والعدول إلى صيغة الاستقبال للدلالة على الاستمرار والتجدد أو لاستحضار الصورة، ويجوز أن يكون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 345 إخبارا منه تعالى بأن له سبحانه ما لا علم لنا به من الخلائق ف ما لا تَعْلَمُونَ على ظاهره فقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن مما خلق الله تعالى لأرضا لؤلؤة بيضاء مسيرة ألف عام عليها جبل من ياقوتة حمراء محدق بها في تلك الأرض ملك قد ملأ شرقها وغربها له ستمائة رأس في كل رأس ستمائة وجه في كل وجه ستمائة ألف وستون ألف فم في كل فم ستون ألف لسان يثني على الله تعالى ويقدسه ويهلله ويكبره بكل لسان ستمائة ألف وستين ألف مرة فإذا كان يوم القيامة نظر إلى عظمة الله تعالى فيقول: وعزتك ما عبدتك حق عبادتك فذلك قوله تعالى: وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ وفي رواية أخرى عنه أن عن يمين العرش نهرا من نور مثل السموات السبع والأرضين السبع والبحار السبع يدخل فيه جبريل عليه السلام كل سحر فيغتسل فيزداد جمالا إلى جماله وعظما إلى عظمه ثم ينتفض فيخلق الله تعالى من كل قطرة تقع من ريشه كذا وكذا ألف ملك فدخل منهم كل يوم سبعون ألف ملك البيت المعمور وسبعون ألف ملك الكعبة لا يعودون إلى يوم القيامة. وروي هذا أيضا عن الضحاك ومقاتل وعطاء، ومما لا نعلمه أرض السمسمة التي ذكر عنها الشيخ الأكبر قدس سره ما ذكر، وجابرصا وجابلقا حسبما ذكر غير واحد، وإن زعمت ذلك من الخرافات كالذي ذكره عصرينا رئيس الطائفة الذين سموا أنفسهم بالكشفية ودعاهم أعداؤهم من الإمامية بالكشفية في غالب كتبه مما تضحك منه لعمر أبيك الثكلى ويتمنى العالم عند سماعه لمزيد حيائه من الجهلة نزوله إلى الأرض السفلى فاقنع بما جاء في الآثار، ولا يثنينك عنه شبه الفلاسفة إذا صح سنده فإنها كسراب بقيعة، والذي أظنه أنه ليس أحد من الكفار فضلا عن المؤمنين يشك في أن لله تعالى خلقا لا نعلمهم ليحتاج إلى إيراد الشواهد على ذلك، ويجوز أن يكون المراد بهذا الخلق الخلق في الجنة أي ويخلق في الجنة غير ما ذكر من النعم الدنيوية ما لا تعلمون أي ما ليس من شأنكم أن تعلموه، وهو ما أشير إليه بقوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» . وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ القصد مصدر بمعنى الفاعل، يقال: سبيل قصد وقاصد أي مستقيم كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك ولا يعدل عنه، فهو نحو نهر جار وطريق سائر وعَلَى للوجوب مجازا والكلام على حذف مضاف أي متحتم عليه تعالى متعين كالأمر الواجب لسبق الوعد بيان، وقيل: هداية الطريق المستقيم الموصل لمن سلكه إلى الحق هو التوحيد بنصب الأدلة وإرسال الرسل عليهم السلام وإنزال الكتب لدعوة الناس إليه، أو هو مصدر بمعنى الإقامة والتعديل وعَلَى على حالها المار إلا أنه لا حاجة إلى تقدير المضاف أي عليه سبحانه تقويم السبيل وتعديلها أي جعلها بحيث يصل سالكها إلى الحق على حد صغر البعوضة وكبر الفيل وحقيقته راجعة إلى ما ذكر من نصب الأدلة وإرسال الرسل عليهم السلام وإنزال الكتب. وجوز أن يكون القصد بمعنى القاصد أي المستقيم كما في التفسير الأول وعَلَى ليست للوجوب واللزوم والمعنى أن قصد للسبيل ومستقيمه موصل إليه تعالى ومار عليه سبحانه، وفيه تشبيه ما يدل على الله عز وجل بطريق مستقيم شأنه ذلك، وقد ذكر نحو هذا ابن عطية وهو كما ترى، وأل في السبيل للجنس عند كثير فهو شامل للمستقيم وغير، وإضافة القصد بمعنى المستقيم إليه من إضافة العام إلى الخاص، وإضافة الصفة إلى الموصوف خلاف الظاهر على ما قيل وقيل: أل للعهد. والمراد سبيل الشرع وقوله تعالى: وَمِنْها جائِرٌ أي عادل عن المحجة منحرف عن الحق لا يوصل سالكه إليه ظاهر في إرادة الجنس إذ البعضية إنما تتأتى على ذلك، فإن الجائر على إرادة العهد ليس من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 346 ذلك بل قسيمه، ومن أراده أعاد الضمير على المطلق الذي في ضمن ذلك المقيد أو على المذكور بتقدير مضاف أي ومن جنسها جائر، وقال ابن عطية: يحتمل أن يعود على سبيل الشرع، والمراد بهذا البعض فرق الضلالة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهو جائر عن قصد السبيل وزعم بعضهم أن الضمير يعود على الخلائق أي ومن الخلائق جائر عن الحق، وأيد بقراءة عيسى، ورويت عن ابن مسعود «ومنكم» وأخرجها ابن الأنباري في المصاحف عن علي كرم الله تعالى وجهه لكن بالفاء بدل الواو وليس بذاك، والتأنيث لأن السبيل تؤنث وتذكر، والجار والمجرور قيل خبر مقدم وجائِرٌ مبتدأ مؤخر، وقيل: هو في محل رفع بالابتداء إما باعتبار مضمونه وإما بتقدير الموصوف أي بعض السبيل أو بعض من السبيل جائر، والجملة على ما اختاره بعض المحققين اعتراضية جيء بها لبيان الحاجة إلى البيان أو التعديل بنصب الأدلة والإرسال والانزال الأمور المذكورة سابقا وإظهار جلالة قدر النعمة في ذلك، وذلك هو الهداية المفسرة بالدلالة على ما يوصل إلى المطلوب لا الهداية المستلزمة للاهتداء إليه فإن ذلك ليس على الله سبحانه أصلا بل هو مخل بحكمته كما يشير إليه قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ فإن معناه ولو شاء هدايتكم إلى ما ذكر من التوحيد هداية مستلزمة للاهتداء إليه لفعل ولكن لم يشأ لأن مشيئته تابعة للحكمة ولا حكمة في تلك المشيئة لما أن الذي يدور عليه فلك التكليف إنما هو الاختيار الذي عليه ترتب الأعمال التي بها يرتبط الجزاء، وقيد أَجْمَعِينَ للمنفي لا للنفي فيكون المراد سلب العموم لا عموم السلب، وذكر بعضهم أنه كان الظاهر أن يقال: وعلى الله قصد السبيل وجائرها أو وعليه جائرها إلا أنه عدل عنه إلى ما في النظم الكريم لأن الضلال لا يضاف إليه تعالى تأدبا فهو كقوله تعالى: الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7] . وزعم الزمخشري أن المخالفة بين أسلوبي الجملتين للإيذان بما يجوز إضافته من السبيلين إليه تعالى وما لا يجوز وعنى الإشارة إلى ما ذهب إليه إخوانه المعتزلة من عدم جواز إضافة الضلال إليه سبحانه لأنه غير خالقه وجعلوا الآية للمخالفة حجة لهم في هذه المخالفة. وأجاب بعض الجماعة بأن المراد على الله تعالى بحسب الفضل والكرم بيان الدين الحق والمذهب الصحيح فأما بيان كيفية الإغواء والإضلال فليس عليه سبحانه، وبحث فيه بأنه كما أن بيان الهداية وطريقها متحتم فكذا ضده وليس إرسال الرسل عليهم السلام وإنزال الكتب إلا لذلك. وقال ابن المنير: إن المخالفة بين الأسلوبين لأن سياق الكلام لإقامة الحجة على الخلق بأنه تعالى بين السبيل القاصد والجائر وهدى قوما اختاروا الهدى وأضل آخرين اختاروا الضلالة، وقد حقق أن كل فعل صدر على يد العبد فله اعتباران هو من حيث كونه موجودا مخلوق لله تعالى ومضاف إليه سبحانه بهذا الاعتبار، وهو من حيث كونه مقترنا باختيار العبد له وتيسره عليه يضاف إلى العبد وأن تعدد هذين الاعتبارين ثابت في كل فعل فناسب إقامة الحجة على العباد إضافة الهداية إلى الله تعالى باعتبار خلقه لها وإضافة الضلال إلى العبد باعتبار اختياره له. والحاصل أنه ذكر في كل واحد من الفعلين نسبة غير النسبة المذكورة في الآخر ليناسب ذلك إقامة الحجة ألا لله الحجة البالغة، وأنكر بعض المحققين أن يكون هناك تغيير الأسلوب لأمر مطلوب بناء على أن ذلك إنما يكون فيما اقتضى الظاهر سبكا معينا ولكن يعدل عن ذلك لنكتة أهم منه، وليس المراد من بيان قصد السبيل مجرد إعلام أنه مستقيم حتى يصح إسناد أنه جائر إليه تعالى فيحتاج إلى الاعتذار عن عدم ذلك على أنه لو أريد ذلك لم يوجد لتغيير الأسلوب نكتة، وقد بين ذلك في مواضع غير معدودة بل المراد نصب الأدلة للهداية إليه ولا إمكان لإسناد مثله إليه تعالى بالنسبة إلى الطريق الجائر بأن يقال: وجائرها حتى يصرف ذلك الإسناد منه تعالى إلى غيره سبحانه لنكتة ولا يتوهمه متوهم حتى يقتضي الحال دفع ذلك بأن يقال لا جائرها ثم يغير سبك النظم عنه لداعية أقوى منه، وذكر أن الجملة اعتراضية حسبما نقلناه سابقا، وهو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 347 كلام يلوح عليه مخايل التحقيق، بيد أن لقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يراد ببيان السبيل المستقيم وببيان السبيل الجائر نصب الأدلة الدالة على حقية الأول ليهتدي إليه وبطلان الثاني ليحذر ولا يعول عليه وهذا غير مجرد الإعلام الذي ذكره ونسبته إليه تعالى ممكنة بل قال بعضهم: إن الحق أن المعنى على الله تعالى بيان طريق الهداية ليهتدوا إليه وبيان غيرها ليحذروه لكن اكتفى بأحدهما للزوم الآخر له. وفي الكشف أن تغاير الأسلوبين على أصل أهل السنة واضح أيضا إذ لا منكر أن الأول هو المقصود لذاته فبيان طريق الضلالة إجمالا قدر ما يمتاز قصد السبيل منه في ضمن بيان قصد السبيل ضرورة وبيانه التفصيلي ليس مما لا بد من وقوعه ولا أن الوعد جرى به على مذهب اه فليتأمل، ثم إن الآية منادية على خلاف ما زعمه المعتزلة ومنهم الزجاج (1) من عدم استلزام تعلق مشيئته تعالى بشيء وجوده وقد التجئوا إلى التزام تفسيرها بالقسرية، وقال أبو علي منهم: المعنى لو شاء لهداكم إلى الثواب أو إلى الجنة بغير استحقاق وكل ذلك خلاف الظاهر كما لا يخفى. هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً شروع في نوع آخر من النعم الدالة على توحيده سبحانه، والمراد من الماء نوع منه وهو المطر، ومن السماء إما السحاب على سبيل الاستعارة أو المجاز المرسل، وإما الجرم المعروف والكلام على حذف مضاف أي من جانب السماء أو جهتها وحملها على ذلك بدون هذا يقتضيه ظاهر بعض الأخبار ولا أقول به، ومِنَ على كل تقدير ابتدائية وهو متعلق بما عنده، وتأخير المفعول الصريح عنه ليظمأ الذهن إليه فيتمكن أتم تمكن عند وروده عليه، وقوله تعالى: لَكُمْ يحتمل أن يكون خبرا مقدما، وقوله سبحانه: مِنْهُ في موضع الحال من قوله عز وجل: شَرابٌ أي ما تشربون وهو مبتدأ مؤخر أو هو فاعل بالظرف الأول والجملة صفة لماء ومِنَ تبعيضية وليس في تقديمها إيهام حصر، ومن توهمه قال: لا بأس به لأن جميع المياه العذبة المشروبة بحسب الأصل منه كما ينبئ عنه قوله تعالى: فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ [الزمر: 21] وقوله سبحانه: فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ [المؤمنون: 18] ويحتمل أن يكون متعلقا بما عنده ومِنْهُ شَرابٌ مبتدأ وخبر أو شراب فاعل بالظرف والجملة ومن كما تقدم. وتعقب بأن توسيط المنصوب بين المجرورين وتوسيط الثاني منهما بين الماء وصفته مما لا يليق بجزالة النظم الجليل وهو كذلك وَمِنْهُ شَجَرٌ أي نبات مطلقا سواء كان له ساق أم لا كما نقل عن الزجاج وهو حقيقة في الأول، ومن استعماله في الثاني قول الراجز: نعلفها اللحم إذا عز الشجر ... والخيل في إطعامها اللحم ضرر فإنه قيل: الشجر فيه بمعنى الكلأ لأنه الذي يعلف، وكذا فسره في النهاية بذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تأكلوا ثمن الشجر فإنه سحت» ولعل ذلك لأنه جاء في الحديث النهي عن منع فضل الماء كمنع فضل الكلأ وتشارك الناس في الماء والكلأ والنار، وأبقاه بعضهم على حقيقته ولم يجعله مجازا شاملا، ومِنَ إما للتبعيض مجازا لأن الشجر لما كان حاصلا بسقيه جعل كأنه منه كقوله: أسنمة الإبال في ربابه. يعني به المطر الذي ينبت به ما تأكله الإبل فتسمن أسنمتها، وإما للابتداء أي وكائن منه شجر، والأول أولى بالنسبة إلى ما قبله. وقال أبو البقاء هي سببية أي وبسببه إنبات شجر، ودل على ذلك يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وجوز ابن الأنباري   (1) فائدة هذا أن ابن عطية لم يعرف ذلك فقال إذ رأى تفسيره المشيئة بمشيئة القسر إن هذا تفسير أهل البدعة وقد وقع فيه من غير قصد اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 348 الوجهين الأولين على ما يقتضيه ظاهر قوله: الكلام على تقدير مضاف إما قبل الضمير أي من جهته أو من سقيه شجر وإما قبل شجر أي ومنه شراب شجر كقوله تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ [البقرة: 93] أي حبه اه وهو بعيد وإن قيل: الإضمار أولى من المجاز لا العكس الذي ذهب إليه البعض وصحح المساواة لاحتياج كل منهما إلى قرينة. فِيهِ تُسِيمُونَ أي ترعون يقال: أسام الماشية وسومها جعلها ترعى وسامت بنفسها فهي سائمة وسوام رعت حيث شاءت، وأصل ذلك على ما قال الزجاج السومة وهي كالسمة العلامة لأن المواشي تؤثر علامات في الأرض والأماكن التي ترعاها. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما تُسِيمُونَ بفتح التاء فإن سمع سام متعديا كان هو وأسام بمعنى وإلا فتأويل ذلك أن الكلام على حذف مضاف أي تسيم مواشيكم يُنْبِتُ أي الله عز وجل يقال نبت الشيء وأنبته الله تعالى فهو منبوت وقياس هذا منبت، وقيل: يقال أنبت الشجر لازما وأنشد الفراء: رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم ... قطينا بها حتى إذا أنبت البقل أي نبت، وكان الأصمعي ينكر مجيء أنبت بمعنى نبت. وقرأ أبو بكر «ننبت» بنون العظمة، والزهري «ينبّت» بالتشديد وهو للتكثير في قول، واستظهر أبو حيان أنه تضعيف التعدية. وقرأ أبي «ينبت» بفتح الياء ورفع المتعاطفات بعد على الفاعلية، وجملة ينبت لَكُمْ بِهِ أي بما أنزل من السماء الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ يحتمل أن تكون صفة أخرى- لماء- وأن تكون مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه قيل: وهل له منافع أخر؟ فقيل: ينبت لكم به إلخ، وإيثار صيغة الاستقبال للدلالة على التجدد والاستمرار وأن الإنبات سنته سبحانه الجارية على ممر الدهور أو لاستحضار الصورة لما فيها من الغرابة، وتقديم الظرفين على المفعول الصريح لما أشرنا إليه آنفا مع ما في تقديم أولهما من الاهتمام به لإدخال المسرة ابتداء، وتقديم الزرع على ما عداه قيل: لأنه أصل الأغذية وعمود المعاش وقوت أكثر العالم وفيه مناسبة للكلأ المرعى، ثم الزيتون لما فيه من الشرف من حيث إنه ادام من وجه وفاكهة من وجه، وقد ذكر الأطباء له منافع جمة، وذكر غير يسير منها في التذكرة، والظاهر من كلام اللغويين أنه اسم جنس جمعي واحده زيتونة وأنه يطلق على الشجر المخصوص وعلى ثمرته. واستظهر أن المراد به هنا الأول وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى تمام الكلام في ذلك، وأكثر ما ينبت في المواضع التي زاد عرضها على الميل واشتد بردها وكانت جبلية ذات تربة بيضاء أو حمراء، ثم النخيل على الأعناب لظهور دوامها بالنسبة إليها فإن الواحدة منها كثيرا ما تتجاوز مائة سنة وشجرة العنب ليست كذلك، نعم الزيتونة أكثر دواما منهما فإن الشجرة منه قد تدوم ألف سنة مع أن ثمرتها كثيرا ما يقتات بها حتى جاء في الخبر «ما جاع بيت وفيه تمر» وأكثر ما تنبت في البلاد الحارة اليابسة التي يغلب عليها الرمل كالمدينة المشرفة والعراق وأطراف مصر، وهي على ما قال الراغب جمع نخل وهو يطلق على الواحد والجمع ويقال للواحدة نخلة، وأما الأعناب فجمع عنبة بكسر العين وفتح النون والباء وقد جاءت ألفاظ مفردة على هذا الوزن غير قليلة. وقد ذكر في القاموس عدة منها، ونسب الجوهري إلى قلة الاطلاع في قوله: إن هذا البناء في الواحد نادر وجاء منه العنبة والتولة والحبرة والطيبة والخيرة ولا أعرف غير ذلك وذكر الجوهري أنه إن أردت جمعه في أدنى العدد جمعته بالتاء وقلت عنبات وفي الكثير عنب وأعناب اه، ولينظر هذا مع عدهم أفعالا من جموع القلة، ويطلق العنب كما قال الراغب على ثمرة الكرم وعلى الكرم نفسه، والظاهر أن المراد هو الثاني. وذكر أبو حيان في وجه تأخير الأعناب أن ثمرتها فاكهة محضة، وفيه أنه إن أراد بثمرتها العنب ما دام طريا قبل أن يقترب فيمكن أن يسلم وإن أراد به المتزبب فغير مسلم، وفي كلام كثير من الفقهاء في بحث زكاة الفطر أن في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 349 الزبيب اقتياتا بل ظاهر كلامهم أنه في ذلك بعد التمر وقبل الأرز، والباحث في هذا لا ينفي الاقتيات كما لا يخفى على الواقف على البحث، وفي جمع النَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ إشارة إلى أن ثمارها مختلفة الأصناف ففي التذكرة عند ذكر التمر أنه مختلف كثير الأنواع كالعنب حتى سمعت أنه يزيد على خمسين صنفا، وعند ذكر العنب أنه يختلف بحسب الكبر والاستطالة وغلظ القشر وعدم العجم وكثرة الشحم واللون والطعم وغير ذلك إلى أنواع كثيرة كالتمر اه، وأنا قد سمعت من والدي عليه الرحمة أنه سمع في مصر حين جاءها بعد عوده من الحج لزيارة أخيه المهاجر إليها لطلب العلم أن في نواحيها من أصناف التمر ما يقرب من ثلاثمائة صنف والعهدة على من سمع منه هذا، وللعلامة أبي السعود هنا ما يشعر ظاهره بالغفلة وسبحان من لا يغفل وكان الظاهر تقديم غذاء الإنسان لشرفه على غذاء ما يسام لكن قدم ذاك- على ما قال الإمام- للتنبيه على مكارم الأخلاق وأن يكون اهتمام الإنسان بمن تحت يده أقوى من اهتمامه بنفسه، والعكس في قوله تعالى: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ [طه: 54] للإيذان بأن ذلك ليس بلازم وإن كان من الأخلاق الحميدة، وهو على طبق ما ورد في الخبر «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» وقيل: لأن ذلك مما لا دخل للخلائق فيه ببذر وغرس فالامتنان به أقوى، وقيل: لأن أكثر المخاطبين من أصحاب المواشي وليس لهم زرع ولا شيء مما ذكر، وقال شهاب الدين في وجه ذلك. ولك أن تقول لما سبق ذكر الحيوانات المأكولة والمركوبة ناسب تعقيبها بذكر مشربها ومأكلها لأنه أقوى في الامتنان بها إذ خلقها ومعاشها لأجلهم فإن من وهب دابة مع علفها كان أحسن، كما قيل: من الظرف هبة الهدية مع الظرف اه ولا يخلو عن حسن. والأولى عليه أن يراد من قوله تعالى: لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ ما يشرب، وأما ما قيل: إن ما قدم من الغذاء للإنسان أيضا لكن بواسطة فإنه غذاء لغذائه الحيواني فلا يدفع السؤال لأنه يقال بعد: كان ينبغي تقديم ما كان غذاء له بغير واسطة، لا يقال: هذا السؤال إنما يحسن إذا كان المراد من المتعاطفات المذكورات ثمراتها لا ما يحصل منها الثمرات لأن ذلك ليس غذاء الإنسان لأنا نقول: ليس المقصود من ذكرها إلا الامتنان بثمراتها إلا أنها ذكرت على نمط سابقها المذكور في غذاء الماشية ويرشد إلى أن الامتنان بثمراتها قوله سبحانه: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وإرادة الثمرات منها من أول الأمر بارتكاب نوع من المجاز في بعضها لهذا إهمال لرعاية غير أمر يحسن له حملها على ما قلنا دون ذلك، منه يُنْبِتُ إذ ظاهره يقتضي التعلق بنفس الشجرة لا بثمرتها فليعمل بما يقتضيه في صدر الكلام وإن اقتضى آخره اعتبار نحو ما قيل في: غلفتها تبنا وماء باردا. كذا قيل وفيه تأمل، ومعنى بعضهم كون الإنبات مما يقتضي التعلق المذكور فقد قال سبحانه: فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا وَحَدائِقَ غُلْباً وَفاكِهَةً وَأَبًّا [عبس: 27- 31] وجوز أن لا يكون الملحوظ فيما عد مجرد الغذائية بل ما يعمها وغيرها على معنى ينبت به لنفعكم ما ذكر والنفع يكون بما فيه غذاء وغيره، ومِنْ للتبعيض والمعنى وينبت لكم بعض كل الثمرات، وإنما قيل ذلك لما في الكشاف وغيره من أن كل الثمرات لا تكون إلا في الجنة وإنما أنبت في الأرض بعض من كل للتذكرة، وقال بعض الأجلة: المراد بعض مما في بقاع الإمكان من ثمر القدرة الذي لم تجنه راحة الوجود، وهو أظهر وأشمل وأنسب بما تقدم لأنه سبحانه كما عقب ذكر الحيوانات المنتفع بها على التفصيل بقوله تعالى: وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ عقب ذكر الثمرات المنتفع بها بمثله إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من إنزال الماء وإنزال ما فصل لَآيَةً عظيمة دالة على تفرده تعالى بالإلهية لاشتماله على كمال العلم والقدرة والحكمة لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فإن من تفكر في أن الحبة والنواة تقع في الأرض وتصل إليها نداوة تنفذ فيها فينشق أسفلها فيخرج منه عروق تنبسط في الأرض وربما انبسطت فيها وإن كانت صلبة وينشق أعلاها وإن كانت منتسكسة في الوقوع فيخرج منها ساق فينمو فيخرج منه الأوراق والأزهار والحبوب والثمار المشتملة على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 350 أجسام مختلفة الأشكال والألوان والخواص والطبائع وعلى نواة قابلة لتوليد الأمثال على النمط المحرر لا إلى نهاية مع اتحاد الماء والأرض والهواء وغيرها بالنسبة إلى الكل علم أن من هذه آثاره لا يمكن أن يشبهه شيء في شيء من صفات الكمال فضلا عن أن يشاركه في أخص صفاته التي هي الألوهية واستحقاق العبادة أخس الأشياء كالجماد تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، ولله تعالى در من قال: تأمل في رياض الورد وانظر ... إلى آثار ما صنع المليك عيون من لجين شاخصات ... على أهدابها ذهب سبيك على قضب الزبرجد شاهدات ... بأن الله ليس له شريك وحيث كان استدلاله بما ذكر لاشتماله على أمر خفي محتاج إلى التفكر والتدبر لمن له نظر سديد ختم الآية بالتفكر وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ يتعاقبان خلفة لمنامكم واستراحتكم وسعيكم في مصالحكم من الإسامة وتعهد حال الزرع ونحو ذلك وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ يدأبان في سيرهما وإنارتهما أصالة وخلافة وأدائهما ما نيط بهما من تربية الأشجار والزروع وإنضاج الثمرات وتلوينها وغير ذلك من التأثيرات المترتبة عليهما بإذن الله تعالى حسبما يقوله السلف في الأسباب والمسببات، وليس المراد بتسخير ذلك للمخاطبين تمكينهم من التصرف به كيف شاؤوا كما في قوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا [الزخرف: 13] ونحوه بل تصريفه سبحانه لذلك حسبما يترتب عليه منافعهم ومصالحهم كأن ذلك تسخير لهم وتصرف من قبلهم حسب إرادتهم قاله بعض المحققين. وقال آخرون: إن أصل التسخير السوق قهرا ولا يصح إرادة ذلك لأن القهر والغلبة مما لا يعقل فيما لا شعور له من الجمادات كالشمس والقمر وعدم تعقله في نحو الليل والنهار أظهر من ذلك فهو هنا مجاز عن الإعداد والتهيئة لما يراد من الانتفاع، وفي ذلك إيماء إلى ما في المسخر من صعوبة المأخذ بالنسبة إلى المخاطبين. وذكر الإمام في المراد من التسخير نحو ما ذكر أولا ثم ذكر وجها آخر قال فيه: إنه لا يستقيم إلا على مذهب أصحاب الهيئة وهو أنهم يقولون: الحركة الطبيعية للشمس والقمر هي الحركة من المغرب إلى المشرق فالله تعالى سخر هذه الكواكب بواسطة حركة الفلك الأعظم من المشرق إلى المغرب فكانت هذه الحركة قسرية فلذا ورد فيها لفظ التسخير، وذكر أيضا أن حدوث الليل والنهار ليس إلا بسبب حركة الفلك الأعظم دون حركة الشمس وأما حركتها فهي سبب لحدوث السنة ولذا لم يكن ذكر الليل والنهار مغنيا عن ذكر الشمس اه ولا يعترض عليه بأن ما ذكره من قوله: إن حدوث الليل والنهار إلى آخره لا يتأتى في عرض تسعين لأن الليل والنهار لا يحصلان إلا بغروب الشمس وطلوعها وهي هناك لا تغرب ولا تطلع بحركة الفلك الأعظم بل بحركتها الخاصة ولذا كانت السنة يوما وليلة لما أن ذلك العرض غير مسكون وكذا ما يقرب منه فلا يدخل في حيز الامتنان. نعم في كلامه عند المتمسكين بأذيال الشريعة غير ذلك فلينظر وفي كون الشمس والقمر مما لا شعور لهما خلاف بين العلماء فذهب البعض إلى أنهما عالمان وهو الذي تقتضيه الظواهر وإليه ذهب الصوفية والفلاسفة، ولم أشعر بوقوع خلاف في أن الليل والنهار مما لا شعور لهما، نعم رأيت في البهجة القادرية عن القطب الرباني الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره العزيز أن الشهر أو الأسبوع يأتيه في صورة شخص فيخبره بما يحدث فيه من الحوادث، ولعل هذا على نحو ظهور القرآن يوم القيامة في صورة الرجل الشاحب وقوله لمن كان يحفظه: «أنا الذي أسهرتك في الدياجي وأظمأتك في الهواجر» وظهور الموت في صورة كبش أملح وذبحه بين الجنة والنار يوم القيامة كما جاء في الخبر، وعليك بالإيمان بما جاء عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم وأنت في الإيمان بغيره بالخيار، وإيثار صيغة الماضي قيل للدلالة على أن ذلك التسخير أمر واحد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 351 مستمر وإن تجددت آثاره وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ مبتدأ وخبر أي وسائر النجوم البيانية وغيرها في حركاتها وأوضاعها المتبدلة وغير المتبدلة وسائر أحوالها مسخرات لما خلقت له بخلقه تعالى وتدبيره الجاري على وفق مشيئته فالأمر واحد الأمور، وجوز أن يكون واحد الأوامر ويراد منه الأمر التكويني عند من لا يقول بإدراك النجوم، والمعنى أنها مسخرة لما خلقت له بقدرته تعالى وإيجاده، قيل: وحيث لم يكن عود منافع النجوم إليهم في الظهور بمثابة ما قبلها من الجديدين والنيرين لم ينسب تسخيرها إليهم بأداة الاختصاص بل ذكر على وجه يفيد أنها تحت ملكوته عز وجل من غير دلالة على شيء آخر، ولذلك عدل عن الجملة الفعلية الدالة على الحدوث إلا الاسمية المفيدة للدوام والاستمرار، وقرأ ابن عامر برفع الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أيضا فيكون المبتدأ الشمس والبواقي معطوفة عليه ومُسَخَّراتٌ خبر عن الجميع، ولا يتأتى على هذه القراءة ما قيل في وجه عدم نسبة تسخير ذلك إليهم بأداة الاختصاص كما لا يخفى، واعتبار عدم كون ظهور المنافع بمثابة السابق بالنظر إلى المجموع كما ترى. ومن الناس من قال في ذلك: إن المراد بتسخير الليل والنهار لهم نفعهم بهما من حيث إنهما وقتا سعى في المصالح واستراحة ومن حيث ظهور ما يترتب عليه منافعهم مما نيط به صلاح المكونات التي من جملتها ما فصل وأجمل مثلا كالشمس والقمر فيهما، ويؤول ذلك بالآخرة إلى النفع بذلك وهو معنى تسخيره لهم، فيكون تسخير الليل والنهار لهم متضمنا لتسخير ذلك لهم فحيث أفاده الكلام أولا استغنى عن التصريح به ثانيا وصرح بما هو أعظم شأنا منه وهو أن تلك الأمور لم تزل ولا تزال مقهورة تحت قدرته منقادة لإرادته ومشيئته سواء كنتم أو لم تكونوا فليتدبر، وقرأ الجمهور والنجوم- ومسخرات بالنصب فيهما وكذا فيما تقدم، وخرج ذلك على أن النُّجُومُ مفعول أول لفعل محذوف ينبئ عنه الفعل المذكور ومُسَخَّراتٌ مفعول ثان له، أي وجعل النجوم مسخرات، وجوز جعل- جعل- بمعنى خلق المتعدي لمفعول واحد- فمسخرات- حال، واستظهر أبو حيان كون النُّجُومُ معطوفا على ما قبله بلا إضمار ومُسَخَّراتٌ حينئذ قيل حال من الجميع على أن التسخير مجاز عن النفع أي نفعكم بها حال كونها مسخرات لما خلقت له مما هو طريق لنفعكم وإلا فالحمل على الظاهر دال على أن التسخير في حال التسخير بأمره ولا كذلك لتأخر الأول، وقيل: لذلك أيضا: إن المراد مستمرة على السخير بأمره الإيجادي لأن الأحداث لا يدل على الاستمرار، وجوز بعض أجلة المعاصرين أن يكون حالا موكدة بتقدير بِأَمْرِهِ متعلقا ب يَسْخَرْ والكلام من باب التنازع، وقبوله مفوض إليك، وقيل: هو مصدر ميمي كمسرح منصوب على أنه مفعول مطلق- لسخر- المذكور أولا وسخرها مسخرات على منوال ضربته ضربات، وجمع إشارة إلى اختلاف الأنواع، وفي إفادة تسخير ما ذكر إيذان بالجواب عما عسى يقال: إن المؤثر في تكوين النبات حركات الكواكب وأوضاعها فإن ذلك إن سلم فلا ريب في أنها ممكنة الذات والصفات واقعة على بعض الوجوه المحتملة فلا بد من موجد ضرورة احتياج الممكن في وجوده إلى مخصص لئلا يلزم من الوقوع على بعض الوجوه مع احتمال غيره ترجيح بلا مرجح مختار لما أن الإيجاب ينافي الترجيح واجب الوجود دفعا للدور أو التسلسل كذا قاله بعض الأجلة، واعترضه المولى العمادي بأنه مبني على حسبان ما ذكر أدلة الصانع تعالى وقدرته واختياره، وليس الأمر كذلك فإنه مما لا ينازع فيه الخصم ولا يتلعثم في قبوله قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ [العنكبوت: 61] وقال سبحانه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [العنكبوت: 63] الآية وإنما ذلك أدلة التوحيد من حيث إن من هذا شأنه لا يتوهم أن يشاركه شيء في شيء فضلا أن يشاركه الجماد في الألوهية اه، وتعقب بأن كون ما ذكر أدلة التوحيد لا يأبى أن يكون فيه إيذان بالجواب عما عسى يقال وأي ضرر في أن يساق شيء لأمر ويؤذن بأمر آخر، ولعمري لا أرى لهذا الاعتراض وجها بعد قول القائل في ذلك إيذان بالجواب عما عسى يقال إلخ حيث لم يبت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 352 القول وأقحم عسى في البين لكن للقائل كلام يدل دلالة ظاهرة على أنه اعتبر الأدلة المذكورة أدلة على وجود الصانع عز شأنه أيضا وقد سبقه في ذلك الإمام. إِنَّ فِي ذلِكَ أي التسخير المتعلق بما ذكر لَآياتٍ باهرة متكاثرة على ما يقتضيه المقام لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وحيث كانت هذه الآثار العلوية متعددة ودلالة ما فيها من عظيم القدرة والعلم والحكمة على الوحدانية أظهر جمع الآيات وعلقت بمجرد العقل من غير تأمل وتفكر كأنه لمزيد ظهورها مدركة ببداهة العقل بخلاف الآثار السفلية في ذلك كذا قالوا، وهو ظاهر على تقدير كون الاستدلال على الوحدانية لا على الوجود أيضا، وأما إذا كان الاستدلال على ذلك ففي دعوى الظهور المذكور بحث لانجرار الكلام على ذلك إلى إبطال التسلسل فكيف تكون الدلالة ظاهرة غير محوجة إلى فكر. وأجيب عنه بأن الاستدلال بالدور أو التسلسل إنما هو بعد التفكر في بدء أمرها وما نشأ منه من اختلاف أحوالها فافهم. وجوز أن يكون المراد لقوم يعقلون ذلك والمشار إليه نهاية تعاجيب الدقائق المودعة في العلويات المدلول عليها بالتسخير التي لا يتصدى لمعرفتها إلا المهرة الذين لهم نهاية الإدراك من أساطين علماء الحكمة وحينئذ قطع الآية بقوله سبحانه هنا: يَعْقِلُونَ للإشارة إلى احتياج ذلك إلى التفكر أكثر من غيره والأول أولى كما لا يخفى وَما ذَرَأَ أي خلق ومنه الذرية على قول والعطف عند بعض على النُّجُومُ رفعا ونصبا على أنه مفعول- لجعل- وما موصولة أي والذي ذرأه لَكُمْ فِي الْأَرْضِ من حيوان ونبات، وقيل: من المعادن ولا بأس في التعميم فيما أرى حال كونه مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ أي أصنافه كما قال جمع من المفسرين وهو مجاز معروف في ذلك، قال الراغب: الألوان يعبر بها عن الأجناس والأنواع يقال: فلان أتى بألوان من الحديث والطعام وكان ذلك لما أن اختلافها غالبا يكون باختلاف اللون، وقيل: المراد المعنى الحقيقي أي مختلفا ألوانه من البياض والسواد وغيرهما والأول أبلغ أي ذلك مسخر لله تعالى أو لما خلق له من الخواص والأحوال والكيفيات أو جعل ذلك مختلف الألوان والأصنام لتتمتعوا بأي صنف شئتم منه، وذهب بعضهم إلى أن الموصول معطوف على الليل وقيل عليه: إن في ذلك شبه التكرار بناء على أن اللام في لَكُمْ للنفع وقد فسر سَخَّرَ لَكُمُ لنفعكم فمآل المعنى نفعكم بما خلق لنفعكم فالأولى جعله في محل نصب بفعل محذوف أي خلق أو أنبت كما قاله أبو البقاء ويجعل مُخْتَلِفاً حالا من مفعوله واعتذر بأن الخلق للإنسان لا يستلزم التسخير لزوما عقليا، فإن الغرض قد يتخلف مع أن الإعادة لطول العهد لا تنكر. ورد بأنه غفلة عن كون المعنى نفعكم وما ذكر علاوة مبني على كون لَكُمْ متعلقة- بسخر- أيضا وهي عند ذلك الذاهب متعلقة كما هو الظاهر بذرأ وفي الحواشي الشهابية أن هذا ليس بشيء لأن التكرار لما ذكر وللتأكيد أمر سهل، وكون المعنى نفعكم لا يأباه مع أن هذه الآية سيقت كالفذلكة لما قبلها ولذا ختمت بالتذكر، وليس لمن يميز بين الشمال واليمين أن يقول: ما مبتدأ ومُخْتَلِفاً حال من ضميره المحذوف، وجملة قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ خبره والرابط اسم الإشارة على حد ما قيل في قوله تعالى: وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ [الأعراف: 26] كأنه قيل، وما ذرأه لكم في الأرض إن فيه لآية، وحاصله تعالى أن فيما ذرأ لآية لظهور مخالفة الآية عليه السباق والسياق بل عدم لياقته لأن يكون محملا لكلام الله تعالى الجليل أظهر من أن ينبه عليه، «و» ألوانه، على ألوان الاحتمالات مرفوع بمختلفا وقدر بعضهم ليصح رفعه به موصوفا وقال: أي صنفا مختلفا ألوانه وهو مما لا حاجة إليه كما يخفى على من له أدنى تدرب في علم النحو، ثم إن المشار إليه ما ذكر من التسخير ونحوه، وقيل: اختلاف الألوان وتنوين آية للتفخيم آية فخيمة بينة الدلالة على أن من هذا شأنه واحد لا ينبغي أن يشبهه شيء في شيء وختم الآية بالتذكر إما لما في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 353 الحواشي الشهابية من أنها كالفذلكة لما قبلها وإما للإشارة إلى أن الأمر ظاهر جدا غير محتاج إلا إلى تذكر ما عسى يغفل عنه من العلوم الضرورية، وقال بعضهم: يذكرون أن اختلاف طبائع ما ذكر وهيئاته وأشكاله مع اتحاد مادته يدل على الفاعل الحكيم المختار، وهو ظاهر في أن ما ذكر دليل على إثبات وجود الصانع كما أنه دليل على وحدانيته وهو الذي ذهب إليه الإمام واقتدى به غيره، ولم يرتضه شيخ الإسلام بناء على أن الخصم لا ينازع في الوجود وإنما ينازع في الوحدانية فجيء بما هو مسلم عنده من صفات الكمال للاستدلال به على ما يقتضيه ضرورة من وحدانيته تعالى واستحالة أن يشاركه شيء في الألوهية، وقال لبعضهم: لا مانع من أن يكون المراد الاستدلال بما ذكر من الآيات على مجموع الوجود والوحدانية والخصم ينكر ذلك وإن لم ينكر الوجود وكان في أخذ الوجود في المطلوب إشارة إلى أن القول به مع زعم الشركة في الألوهية مما لا يعتد به وليس بينه وبين عدم القول به كثير نفع فتدبر ذاك والله تعالى يتولى هداك وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ شروع في نوع آخر من النعم متعلق بالبحر إثر تفصيل النوع المتعلق بالبر، وجعله بعضهم عديلا لقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ فلذا جاء على أسلوبه جملة اسمية معرفة الجزأين، وما وقع في البين إما مترتب على ذلك الماء المنزل وإما متضمن لمصلحة ما يترتب عليه، والبحر على ما في البحر يشمل الملح والعذب، والمعنى جعل لكم ذلك بحيث تتمكنون من الانتفاع به بالركوب والغوص والاصطياد لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وهو السمك، والتعبير عنه باللحم مع كونه حيوانا للإشارة إلى قلة عظامه وضعفها في أغلب ما يصطاد للأكل بالنسبة إلى الأنعام الممتن بالأكل منها فيما سبق، وقيل: للتلويح بانحصار الانتفاع به في الأكل. ومن متعلق- بتأكلوا- أو حال مما بعده وهي ابتدائية، وجوز أن تكون تبعيضية والكلام على حذف مضاف أي من حيوانه، وحينئذ يجوز أن (1) من اللحم الطري لحم السمك كما يجوز أن يراد منه السمك والطري فعيل من طرو يطرو طراوة مثل سرو يسرو سراوة، وقال الفراء: من طرى يطري طراء وطراوة كشقي يشقى شقاء وشقاوة، والطراوة ضد اليبوسة، ووصفه بذلك للإشعار بلطافته والتنبيه إلى أنه ينبغي المسارعة إلى أكله فإنه لكونه رطبا مستعد للتغير فيسرع إليه الفساد والاستحالة، وقد قال الأطباء: إن تناوله بعد ذهاب طراوته من أضر الأشياء ففيه إدماج لحكم طبي، وهذا على ما قيل لا ينافي تقديده وأكله محللا كما توهم، وفي جعل البحر مبتدأ أكله على أحد الاحتمالين إيذان بالمسارعة أيضا. وزعم بعضهم أن في الوصف إيذانا أيضا بكمال قدرته تعالى في خلقه عذبا طريا في ماء مر لا يشرب، وفيه شيء لا يخفى، ولا يؤكل عندنا من حيوان البحر إلا السمك، ويؤيده تفسير اللحم به المروي عن قتادة وغيره وعن مالك وجماعة من أهل العلم اطلاق جميع ما في البحر، واستثنى بعضهم الخنزير والكلب والإنسان، وعن الشافعي أنه أطلق ذلك كله، ويوافقه ما أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال: هو (2) السمك وما في البحر من الدواب. نعم يكره عندنا أكل الطافي منه وهو الذي يموت حتف أنفه في الماء فيطفو على وجه الماء لحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم ما نضب الماء عنه فكلوا وما لفظه الماء فكلوا وما طفا فلا تأكلوا وهو مذهب جماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وميتة البحر في خبر «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» ما لفظه ليكون موته مضافا إليه لا ما مات فيه من غير آفة، وما قطع   (1) قوله: يجوز أن من اللحم إلخ كذا بخطه ولعله يجوز أن يراد من اللحم إلخ. (2) قوله. هو أي اللحم الطري اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 354 بعضه فمات يحل أكل ما أبين وما بقي لأن موته بآفة وما أبين من الحي فهو ميت وإن كان ميتا فميتته حلال، ولو وجد في بطن السمكة سمكة أخرى تؤكل لأن ضيق المكان سبب موتها، وكذا إذا قتلها طير الماء وغيره أو ماتت في حب ماء، وكذا إن جمع السمك في حظيرة لا يستطيع الخروج منه وهو يقدر على أخذه بغير صيد فمات فيها، وإن كان لا يؤخذ بغير صيد فلا خير في أكله لأنه لم يظهر لموته سبب، وإذا ماتت السمكة في الشبكة وهي لا تقدر على التخلص منها أو أكلت شيئا ألقاه في الماء لتأكل منه فماتت منه وذلك معلوم فلا بأس بأكلها لأن ذلك في معنى ما انحسر عنه الماء، وفي موت الحر والبرد روايتان إحداهما وهي مروية عن محمد يؤكل لأنه مات بسبب حادث وكان كما لو ألقاه الماء على اليبس والأخرى ورويت عن الإمام أنه لا يؤكل لأن الحر والبرد صفتان من صفة الزمان وليسا من أسباب الموت في الغالب، ولا بأس بأكل الجريث والمار ماهي، واشتهر عن الشيعة حرمة أكل الأول فليراجع، واستدل قتادة كما أخرج ابن أبي شيبة عنه بالآية على حنث من حلف لا يأكل لحما فأكل سمكا لما فيها من إطلاق اللحم عليه، وروي ذلك عن مالك أيضا. وأجيب بأن مبنى الإيمان على ما يتفاهمه الناس في عرفهم لا على الحقيقة اللغوية ولا على استعمال القرآن، ولذا لما أفتى الثوري بالحنث في المسألة المذكورة للآية وبلغ أبا حنيفة عليه الرحمة قال للسائل: ارجع واسأله عمن حلف لا يجلس على بساط فجلس على الأرض هل يحنث لقوله تعالى: جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً [نوح: 19] فقال له: كأنك السائل أمس؟ فقال: نعم، فقال: لا يحنث في هذا ولا في ذاك ورجع عما أفتى به أولا، والظاهر أن متمسك الإمام قد كان العرف وهو الذي ذهب إليه ابن الهمام لا ما في الهداية كما قال من أن القياس الحنث، ووجه الاستحسان أن التسمية القرآنية مجازية لأن منشأ اللحم الدم ولا دم في السمك لسكونه الماء مع انتقاضه بالألية فانها تنعقد من الدم ولا يحنث بأكلها. واعترض بأنه يجوز أن يكون في المسألة دليلان ليس بينهما تناف، وما ذكر من النقض مدفوع بأن المذكور كل لحم ينشأ من الدم ولا يلزم عكسه الكلي. وتعقب بأن إطلاق اللحم على السمك لغة لا شبهة فيه فينتقض الطرد والعكس فمراد المعترض الرد عليه بزيادة في الإلزام. نعم قد يقال: مراده بالمجاز المذكور أنه مجاز عرفي كالدابة إذا أطلقت على الإنسان فيرجع كلامه إلى ما قاله الإمام وحينئذ لا غبار عليه، وما ذكره بيان لوجه الاستعمال العرفي فلا يرد عليه شيء وهو كما ترى، وعلى طرز ما قاله الإمام يقال فيمن حلف لا يركب دابة فركب كافرا أنه لا يحنث مع أن الله سبحانه سمى الكافر دابة في قوله تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال: 55] وفي الكشاف بيانا لعدم إطلاق اللحم على السمك عرفا أنه إذا قال واحد لغلامه اشتر بهذه الدراهم لحما فجاء بالسمك كان حقيقا بالإنكار عليه أي وهو دليل على عدم إطلاق اللحم عليه في العرف فحيث كانت الايمان مبنية على العرف لم يحنث بأكله. واعترض بأنه لو قال لغلامه: اشتر لحما فاشترى لحم عصفور كان حقيقا بالإنكار مع الحنث بأكله. وتعقب بأن الإنكار إنما جاء من ندرة اشتراء مثله لأنه غير متعارف وفيما نحن فيه اشتراء السمك ولحمه متعارف فليس محل الإنكار إلا عدم إطلاق اللحم عليه وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً كاللؤلؤ والمرجان تَلْبَسُونَها أي تلبسها نساءكم وجهه ذلك بأنه أسند إلى الرجال لاختلاطهم بالنساء وكونهم متبوعين أو لأنهم سبب لتزينهن فإنهن يتزين ليحسن في أعين الرجال فكان ذلك زينتهم ولباسهم. وقال ابن المنير: ولله تعالى در مالك رضي الله تعالى عنه حيث جعل للزوج الحجر على زوجته فيما له بال من مالها، وذلك مقدر بالزائد على الثلث لحقه فيه بالتجمل، فانظر إلى مكنة حظ الرجال من مال النساء ومن زينتهن حتى جعل كحظ المرأة من مالها وزينتها فعبر عن حظه في لبسها بلبسه كما يعبر عن حظها سواء مؤيدا بالحديث المروي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 355 في الباب اه. ويفهم منه جواز اعتبار المجاز في الطرف، وصرح بذلك بعضهم وفسر «تلبسون» بتتمتعون وتتلذذون، ويجوز أن يكون المجاز في النقص وما أظهر في التفسير مراد في النظم، وقيل: الكلام على التغليب أو من باب بنو فلان قتلوا زيدا ففيه إسناد للبعض إلى الكل. وتعقب بأنه وجه لكلا الوجهين أما الأول فلعدم التلبس بالمسند وهو اللبس، وأما الثاني فلأنه لا يتم بدون المجاز في الطرف فلا وجه للعدول عن اعتباره على النحو السابق إلى هذا، وقال بعضهم: لا حاجة إلى كل ذلك فإنه لا مانع من تزين الرجال باللؤلؤ. وتعقب بأنه بعد تسليم أنه لا مانع منه شرعا مخالف للعادة المستمرة فيأباه لفظ المضارع الدال على خلافه، ولا يصح ما يقال: إن في البحر زمردا بحريا وبفرض الصحة يجيء هذا أيضا، ولعله لما أن النساء مأمورات بالحجاب وإخفاء الزينة عن غير المحارم أخفى التصريح بنسبة اللبس إليهن ليكون اللفظ كالمعنى واستدل أبو يوسف ومحمد عليهما الرحمة بالآية على أن اللؤلؤ يسمى حليا حتى لو حلف لا يلبس حليا فلبسه حنث. وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يقول: لا يحنث لأن اللؤلؤ وحده لا يسمى حليا في العرف وبائعه لا يقال له بائع الحلي كذا في أحكام الجصاص. واستدل بعضهم بالآية على أنه لا زكاة في حلي النساء، فأخرج ابن جرير عن أبي جعفر أنه سئل هل في حلي النساء صدقة؟ قال: لا هي كما قال الله تعالى: حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وهو كما ترى، ثم إن اللحم الطري يخرج من البحر العذب والبحر الملح والحلية إنما تخرج من الملح، وقيل: إن العذب يخرج منه لؤلؤ أيضا إلا أنه لا يلبس إلا قليلا والكثير التداوي به، ولم نر من ذكر ذلك في أكثر الكتب المصنفة لذكر مثل ذلك. وأخرج البزار عن أبي هريرة قال: كلم الله تعالى البحر الغربي وكلم البحر الشرقي فقال للبحر الغربي: إني حامل فيك عبادا من عبادي فما أنت صانع بهم؟ قال: أغرقهم. قال: بأسك في نواحيك وحرمه الحلية والصيد وكلم هذا البحر الشرقي فقال: إني حامل فيك عبادا من عبادي فما أنت صانع بهم؟ قال: أحملهم على يدي وأكون لهم كالوالدة لولدها فأثابه سبحانه الحلية والصيد، وأخرج نحو ذلك ابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن عمرو بن العاص عن كعب الأحبار، والله تعالى أعلم بصحة ذلك، وظاهر كلام الأكثرين حمل الْبَحْرَ في الآية على البحر الملح وهو مملوء من السمك بل قيل إن السمك يطلق على كل ما فيه من الحيوانات ولا يكون اللؤلؤ إلا في مواضع مخصوصة منه. وَتَرَى الْفُلْكَ السفن مَواخِرَ فِيهِ جواري فيه جمع ما خرة بمعنى جارية، وأصل المخر الشق يقال: مخر الماء الأرض إذا شقها وسميت السفن بذلك لأنها تشق الماء بمقدمها، وقال الفراء: هو صوت جري الفلك بالرياح وَلِتَبْتَغُوا عطف على تستخرجوا وما عطف عليه وما بينهما اعتراض لتمهيد مبادئ الابتغاء ودفع كونه باستخراج الحلية، وعدل عن نمط الخطاب السابق واللاحق- أعني خطاب الجمع إلى خطاب المفرد- المراد به كل من يصلح للخطاب إيذانا بأن ذاك غير مسوق مساقهما، وأجاز ابن الأنباري أن يكون معطوفا على علة محذوفة أي لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا، وأن يكون متعلقا بفعل محذوف أي فعل ذلك لتبتغوا، وهو تكلف يغني الله تعالى عنه. مِنْ فَضْلِهِ من سعة رزقه بركوبها للتجارة وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ تقومون بحق نعم الله تعالى بالطاعة والتوحيد، ولعل تخصيص هذه النعمة بالتعقيب بالشكر لأنها أقوى في باب الأنعام من حيث إنه جعل ركوب البحر مع كونه مظنة الهلاك لأن راكبيه كما قال عمر رضي الله تعالى عنه دود على عود سببا للانتفاع وحصول المعاش وهو من كمال النعمة لقطع المسافة الطويلة في زمن قصير مع عدم الاحتياج إلى الحل والترحال والحركة مع الاستراحة والسكون، وما أحسن ما قيل في ذلك: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 356 وإنا لفي الدنيا كركب سفينة ... نظن وقوفا والزمان بنا يسري وعدم توسيط الفوز بالمطلوب بين الابتغاء والشكر قيل للإيذان باستغنائه عن التصريح به وبحصولهما معا. واستدل بالآية على جواز ركوب البحر للتجارة بلا كراهة وإليه ذهب جماعة، وأخرج عبد الرزاق عن ابن عمر أنه كان يكره ركوب البحر إلا لثلاث غاز أو حاج أو معتمر وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أي جبالا ثوابت، وقد مر تمام الكلام في ذلك أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أي كراهة أن تميد أو لئلا تميد، والميد اضطراب الشيء العظيم، ووجه كون الإلقاء مانعا عن اضطراب الأرض بأنها كسفينة على وجه الماء والسفينة إذا لم يكن فيها أجرام ثقيلة تضطرب وتميل من جانب إلى جانب بأدنى شيء وإذا وضعت فيها أجرام ثقيلة تستقر فكذا الأرض لو لم يكن عليها هذه الجبال لاضطربت فالجبال بالنسبة إليها كالأجرام الثقيلة الموضوعة في السفينة بالنسبة إليها. وتعقبه الإمام لوجوه: الأول على مذهب الحكماء القائلين بأن حركة الأجسام أو سكونها لطبائعها أن الأرض أثقل من الماء فيلزم أن تغوص فيه لا أن تطفو أو ترسي بالجبال وهذا بخلاف السفينة فإنها متخذة من الخشب وبين أجزائه هواء يمنعه من السكون ويفضي به إلى الميد لولا الثقيل. والثاني على مذهب أهل الحق القائلين بأنه ليس للأجسام طبائع تقتضي السكون أو الحركة فما سكن ساكن وما تحرك متحرك في بر وبحر إلا بمحض قدرة الله تعالى وحده. والثاني أن إرساء الأرض بالجبال لئلا تميد وتبقى واقفة على وجه الماء إنما يعقل إذا كان الماء الذي استقرت على وجهه ساكنا وحينئذ يقال: إن سبب سكونه في حيزه المخصوص طبيعته المخصوصة فلم لا يقال في سكون الأرض في هذا الحيز إنه بسبب طبيعتها المخصوصة أيضا، وإن قلنا: إنه بمحض قدرته سبحانه فلم لم يقل: إن سكون الأرض أيضا كذلك فلا يعقل الإرساء بالجبال على التقديرين. والثالث أنه يجوز أن تميد الأرض بكليتها ولا تظهر حركتها ولا يشعر بها أهلها ويكون ذلك نظير حركة السفينة من غير شعور راكبها بها ولا يأبى الشعور بحركتها عند احتقان البخار فيها لأن ذلك يكون في قطعة صغيرة منها وهو يجري مجرى الاختلاج الذي يحصل في عضو معين من البدن، ثم قال: والذي عندي في هذا الموضع المشكل أن يقال: ثبت بالدلائل اليقينية أن الأرض كرة وثبت أن هذه الجبال على سطح الكرة جارية مجرى خشونات تحصل على وجه هذه الكرة وحينئذ نقول لو فرضنا أن هذه الخشونات ما كانت حاصلة بل كانت ملساء خالية عنها لصارت بحيث تتحرك على الاستدارة كالأفلاك لبساطتها أو تتحرك بأدنى سبب للتحريك فلما خلقت هذه الجبال وكانت كالخشونات على وجهها تفاوتت جوانبها وتوجهت الجبال بثقلها نحو المركز فصارت كالأوتاد لمنعها إياها عن الحركة المستديرة اه وقد تابع الإمام في هذا الحل العلامة البيضاوي، واعترض عليه بأنه لا وجه لما ذكره على مذهب أهل الحق ولا على مذهب الفلاسفة، أما الأول فلأن ذات شيء لا تقتضي تحركه وإنما ذلك بإرادة الله تعالى، وأما الثاني فلأن الفلاسفة لم يقولوا: إن حق الأرض أن تتحرك بالاستدارة لأن في الأرض ميلا مستقيما وما هو كذلك لا يكون فيه مبدأ ميل مستدير على ما ذكروا في الطبيعي. وأورد أيضا على منع الجبال لها من الحركة أنه قد ثبت في الهندسة أن أعظم جبل في الأرض وهو ما ارتفاعه فرسخان وثلث فرسخ إلى قطر الأرض نسبة خمس سبع عرض شعيرة إلى كرة قطرها ذراع ولا ريب في أن ذلك القدر من الشعيرة لا يخرج تلك الكرة عن الاستدارة بحيث يمنعها عن الحركة، وكذا حال الجبال بالنسبة إلى كرة الأرض، ثم قيل: الصحيح أن يقال خلق الله تعالى الأرض مضطربة لحكمة لا يعلمها إلا هو ثم أرساها بالجبال على جريان عادته في جعل الأشياء منوطة بالأسباب، وقال بعض المحققين في الجواب: إن المقصود أن الأرض من حيث كونها كرة حقيقية بسيطة مع قطع النظر عن كونها عنصرا كان حقها أحد الأمرين لأنها من تلك الحيثية إما ذو ميل مستدير الجزء: 7 ¦ الصفحة: 357 كالأفلاك فكان حقها حينئذ أن تتحرك مثلها على الاستدارة وإما ذو ميل مستقيم فحقها السكون لكنها تتحرك بأدنى قاسر، أما السكون فلأن الجسم الحاصل في الحيز الطبيعي لما يتحرك حركة طبيعية آنية لاستلزامها الخروج عن الحيز الطبيعي ولا يتصور من الأرض الحركة الإرادية لكونها عديمة الشعور، وأما التحرك بأدنى قاسر فيحكم به بالضرورة من له تخيل صحيح، واستوضح ذلك من كرة حقيقية على سطح حقيقي فإنها لا تماسه إلا بنقطة فبأدنى شيء ولو نفخة تتدحرج عن مكانها. نعم الواقع في نفس الأمر أحد الأمرين معينا وذكرهما توسيع للدائرة وهو أمر شائع فيما بينهم فيندفع قوله: وأما الثاني فلأن الفلاسفة إلخ، وأما قوله: إنه قد ثبت في الهندسة إلخ فجوابه أنهم قد صرحوا في كتب الهيئة بأن في كل إقليم ثلاثين جبلا بل أكثر فنسبة كل جبل وإن كانت كالنسبة المذكورة لكن يجوز أن يكون مجموعها مانعا عن حركتها كالحبل المؤلف من الشعرات المخالف حكمه حكم كل شعرة، على أن تلك النسبة باعتبار الحجم ومنعها عن حركتها باعتبار الثقل وثقل هذه الجبال يكاد أن يقاوم ثقل الأرض لأن الجبال أجسام صلبة حجرية والأرض رخوة متخلخلة كالكرة الخشبية التي ألزقت عليها حبات من حديد، وما يقال: من أن فيه غير ذلك ابتناء على قواعد الفلسفة فلا يطعن فيه لأن ذلك الابتناء غير مضر إن لم يخالف القواعد الشرعية كما فيما نحن فيه، واعترض على ما ادعى المعترض صحته بأنه يرد عليه ما أورده، وظني أنه بعد الوقوف على مراده لا يرد عليه شيء مما ذكر، ونحن قد أسلفنا نحوه وأطنبنا الكلام في هذا المقام ومنه يظهر ما هو الأوفق بقواعد الإسلام، ثم ما ذكره المجيب من أن المصرح به في كتب الهيئة أن في كل إقليم ثلاثين جبلا بل أكثر خلاف المشهور وهو أن في الإقليم الأول عشرين وفي الثاني سبعة وعشرين وفي الثالث ثلاثة وثلاثين وفي الرابع خمسة وخمسين وفي الخامس ثلاثين وفي كل من السادس والسابع أحد عشر والمجموع مائة وسبعة وثمانون جبلا على أن كلامه لا يخلو عن مناقشة فتدبر، ومعنى أَلْقى على ما نقل ابن عطية عن المتأولين خلق وجعل، واختار هو أنه أخص من ذلك وذلك أنه يقتضي أن الله سبحانه أوجد الجبال من محض قدرته واختراعه لا من الأرض ووضعها عليها وأيد بأخبار رووها في هذا المقام وقد تقدم بعضها، ولم يعد بعلى كما في قوله تعالى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه: 39] للإشارة إلى كمال الجبال ورسوخها وثباتها في الأرض حتى كأنها مسامير في ساحة وانظر هل تعد من الأرض فيحنث من حلف لا يجلس على الأرض إذا جلس عليها أم لا فلا يحنث لم يحضرني من تعرض لذلك، والظاهر الأول لعد العرف إياها منها وإن كان ظاهر هذه الآية كغيرها عدم العد، وقوله تعالى: وَأَنْهاراً عطف على رواسي والعامل فيه أَلْقى إلا أن تسلطه عليه باعتبار ما فيه من معنى الجعل والخلق أو تضمينه إياه، وعلى التقديرين لا إضمار وهو الذي اختاره غير واحد، وجوز أن يكون مفعولا به لفعل مضمر وليس إجماعا خلافا لابن عطية. أي وجعل أو خلق أنهارا نظير ما قيل في قوله: علفتها تبنا وماء باردا. وقدر أبو البقاء شق والعطف حينئذ من عطف الجمل وكأنه لما كان أغلب منابع الأنهار من الجبال ذكر الأنهار بعد ما ذكر الجبال، وقوله تعالى: وَسُبُلًا عطف على أَنْهاراً أي وجعل طرقا لمقاصدكم لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ لها فالتعليل بالنظر إلى قوله تعالى: وَسُبُلًا كما هو الظاهر، ويجوز أن يكون تعليلا بالنظر إلى جميع ما تقدم لأن تلك الآثار العظام تدل على بطلان الترك، وقيل: تدل على وجود فاعل حكيم ففي قوله تعالى: تَهْتَدُونَ تورية حينئذ وَعَلاماتٍ معالم يستدل بها السابلة من نحو جبل ومنهل ورائحة تراب، فقد حكي أن من الناس من يشم التراب فيعرف بشمه الطريق وإنها مسلوكة أو غير مسلوكة ولذا سميت المسافة مسافة أخذا لها من السوف بمعنى الشم، وأخرج ابن جرير، وغيره عن ابن عباس أنها معالم الطرق بالنهار. وعن الكلبي أنها الجبال وعن قتادة أنها النجوم، وقال ابن عيسى: المراد منها الأمور التي يعلم بها ما يراد من خط أو لفظ أو إشارة أو هيئة، والظاهر ما ذكر أولا وأغرب ما فسرت به وأبعده أن المراد منها حيتان طوال رقاق كالحيات في ألوانها وحركاتها تكون في بحر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 358 الهند الذي يسار إليه من اليمن، سميت بذلك لأنها إذا ظهرت كانت علامة للوصول إلى بلاد الهند وأمارة للنجاة وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ بالليل في البر والبحر، والمراد بالنجم الجنس فبينما الخنس وغيرها مما يهتدى به، وعن السدي تخصيص ذلك بالثريا والفرقدين وبنات نعش والجدي وعن الفراء تخصيصه بالجدي والفرقدين، وعن بعضهم أنه الثريا فإنه علم بالغلبة لها، ففي الحديث إذا طلح النجم ارتفعت العاهة، وقال الشاعر: حتى إذا ما استقر النجم في غلس ... وغودر البقل ملويّ ومحصود وعن ابن عباس أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: هو الجدي ولو صح هذا لا يعدل عنه، والجدي هو جدي الفرقد، وهو على ما في المغرب بفتح الجيم وسكون الدال والمنجمون يصغرونه فرقا بينه وبين البرج، وقيل: إنه كذلك لغة، واستدل على إرادة ما يعم ذلك بما في اللوامح أنه قرأ «وبالنجم» بضمتين وعن ابن وثاب أنه قرأ بضم فسكون فإن ذلك في القراءتين جمع كسقف وسقف ورهن ورهن والتسكين قيل للتخفيف، وقيل: لغة، والقول بأن ذلك جمع على فعل أولى مما قيل: إن أصله النجوم فحذفت الواو وزعم ابن عصفور أن قولهم: النجم من ضرورة الشعر وأنشد: إن الذي قضى بذا قاض حكم ... أن يرد الماء إذ غاب النجم وهو نظير قوله: حتى إذا ابتلت حلاقيم الحلق. والضمير يحتمل أن يكون عاما لكل سالك في البر والبحر من المخاطبين فيما تقدم، وتغيير التعبير للالتفات، وتقديم الجار والمجرور للفاصلة والضمير المنفصل للتقوى، ويحتمل أن يكون الضمير لقريش لأنهم كانوا كثيري الأسفار للتجارة مشهورين للاهتداء في مسايرهم بالنجم، وإخراج الكلام عن سنن الخطاب، وتقديم الجار والضمير للتخصيص كأنه قيل: وبالنجم خصوصا هؤلاء خصوصا يهتدون، فالاعتبار بذلك والشكر عليه بالتوحيد ألزم لهم وأوجب عليهم، وجعل بعضهم الآية أصلا لمراعاة النجوم لمعرفة الأوقات والقبلة والطرق فلا بأس بتعلم ما يفيد تلك المعرفة، لكن معرفة عين القبلة على التحقيق بالنجوم متعسر بل متعذر كما أفاده العلامة الرباني أبو العباس أحمد بن البناء لأنه إن اعتبر ذلك بما يسامت رؤوس أهل مكة من النجوم فليس مسقط العمود منه على بسيط مكة هو العمود الواقع منه على بسيط غيرها من المدن، وإن اعتبر بالجدي فلا يلزم من أن يكون في مكة على الكتف أو على المنكب أن يكون في غيرها كذلك إلا لمن يكون في دائرة السمت المارة برؤوس أهل مكة والبلد الآخر، وذلك مجهول لا يتوصل إليه إلا بمعرفة ما بين الطولين والعرضين وهو شيء اختلف في مقداره ولم يتعين الصحيح فيه، وقول من قال: إن ذلك يعرف بجعل المصلي مثلا الشمس بين عينيه إذا استوت في كبد السماء أطول يوم في السنة فمتى فعل ذلك فقد استقبل البيت إن أراد بكبد السماء فيه كبد سماء بلده فليس بصحيح لأن الشمس لا تستوي في كبد السماء في وقت واحد في بلدين متنائيين كثيرا، وإن أراد به كبد سماء مكة فلا يعلم ذلك في بلد آخر إلا بمعرفة ما بين البلدين في الطول، وقد سمعت ما في ذلك من الاختلاف، ويقال نحو هذا فيما يشبه ما ذكر بل قال قدس سره: إن معرفة ذلك على التحقيق بما يذكرونه من الدائرة الهندية ونحوها متعذر أيضا لأن مبنى جميع ذلك على معرفة الأطوال والعروض ودون تحقيق ذلك خرط القتاد، فلا ينبغي أن يكون الواجب على المصلي إلا تحري الجهة ومعرفة الجهة تحصل بالنجوم وكذا بغيرها مما هو مذكور في محله أَفَمَنْ يَخْلُقُ ما ذكر من المخلوقات البديعة أو يخلق كل شيء يريده كَمَنْ لا يَخْلُقُ شيئا ما جليلا أو حقيرا، وهو تبكيت للكفرة وإبطال لإشراكهم وعبادتهم غيره تعالى شأنه من الأصنام بإنكار ما يستلزمه ذلك من المشابهة بينه سبحانه وبينه بعد تعداد ما يقتضي ذلك اقتضاء ظاهرا، وتعقيب الهمزة بالفاء لتوجيه الإنكار إلى ترتب توهم المشابهة المذكورة على ما فعل سبحانه من الأمور الجزء: 7 ¦ الصفحة: 359 العظيمة الظاهرة الاختصاص به تعالى شأنه المعلومة كذلك فيما بينهم حسبما يؤذن به غير آية والاقتصار على ذكر الخلق من بين ما تقدم لكونه أعظمه وأظهره واستتباعه إياه أو لكون كل من ذلك خلقا مخصوصا أي أبعد ظهور اختصاصه سبحانه بمبدئية هذه الشؤون الواضحة الدالة على وحدانيته تعالى وتفرده بالألوهية واستحقاق العبادة يتصور المشابهة بينه وبين ما هو بمعزل عن ذلك بالمرة كما هو قضية إشراككم، وكان حق الكلام بحسب الظاهر في بادئ النظر أفمن لا يخلق كمن يخلق، لكن قيل: حيث كان التشبيه نسبة تقوم بالمنتسبين اختير ما عليه النظم الكريم مراعاة لحق سبق الملكة على العدم وتفاديا عن توسيط عدمها بينها وبين جزئياتها المفصلة قبلها وتنبيها على كمال قبح ما فعلوه من حيث إن ذلك ليس مجرد رفع أصنامهم عن محلها بل حط لمنزلة الربوبية إلى مرتبة الجماد ولا ريب أنه أقبح من الأول، والمراد بمن لا يخلق كل ما هذا شأنه من ذوي العلم كالملائكة وعيسى عليهم السلام وغيرهم كالأصنام، وأتى بمن تغليبا لذوي العلم على غيرهم مع ما فيه من المشاكلة أو ذوو العلم خاصة ويعرف منه حال غيرهم بدلالة النص، فإن من يخلق حيث لم يكن كمن لا يخلق وهو من جملة ذوي العلم فما ظنك بالجماد، وقيل: المراد به الأصنام خاصة، والتعبير بمن إما للمشاكلة أو بناء على ما عند عبدتهما، والأولى ما تقدم، ودخول الأصنام في حكم عدم المشابهة إما بطريق الاندراج أو بطريق الانفهام بدلالة النص على الطريق البرهاني قاله بعض المحققين. واستدل بالآية على بطلان مذهب المعتزلة في زعمهم أن العباد خالقون لأفعالهم. وقال الشهاب بعد أن قرر تقدير المفعول عاما على طرز ما ذكرنا: وجوز أن يكون العموم فيه مأخوذا من تنزيل الفعل منزلة اللازم أنه علم من هذا عدم توجه الاحتجاج بها على المعتزلة في إبطال قولهم بخلق العباد أفعالهم كما وقع في كتب الكلام لأن السلب الكلي لا ينافي الإيجاب الجزئي اه حسبما وجدناه في النسخ التي بأيدينا ولعلها سقيمة وإلا فلا أظن إلا كبوة جواد وهو ظاهر أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي ألا تلاحظون فلا تتذكرون ذلك فإنه لجلائه لا يحتاج إلى شيء سوى التذكر وهو مراجعة ما سبق تصوره وذهل عنه، وقدر بعضهم المفعول عدم المساواة، وذكر أنه لعدم سبقه حتى يتصور فيه حقيقة التذكر بأن يتصور ويذهل عنه جعل التذكر استعارة تصريحية للعلم به، وقيل: الاستعارة مكنية في المفعول المقدر وإثبات التذكر تخييل فتذكر. وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها تذكير اجمالي لنعمه تعالى بعد تعداد طائفة منها، وفصل ما بينهما بقوله تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ كما قيل للمبادرة إلى الزام الحجة والقام الحجر إثر تفصيل ما فصل من الأفاعيل التي هي أدلة التوحيد، ودلالتها عليه وإن لم تكن مقصورة على حيثية الخلق ضرورة ظهور دلالتها عليه من حيثية الإنعام أيضا لكنها حيث كانت من مستتبعات الحيثية الأولى استغني عن التصريح بها ثم بين حالها بطريق الإجمالي أي إن تعدوا نعمه تعالى الفائضة عليكم مما ذكر ومما يذكر لا تطيقوا حصرها وضبط عددها فضلا عن القيام بشكرها، وقد تقدم الكلام في تحقيق ذلك حسبما من الله تعالى به إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ حيث يستر ما فرط منكم من كفرانها والإخلال بالقيام بحقوقها ولا يعاجلكم بالعقوبة على ذلك رَحِيمٌ حيث يفيضها عليكم مع استحقاقكم للقطع والحرمان بما تأتون وما تذرون من أصناف الكفر والعصيان التي من جملتها المساواة بين الخالق وغيره، وكل من ذينك الستر والإفاضة وأيما نعمة، فالجملة تعليل للحكم بعدم الإحصاء، وتقديم المغفرة على الرحمة لتقدم التخلية على التحلية وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ أي تضمرونه من العقائد والأعمال وَما تُعْلِنُونَ أي تظهرونه منهما، وحذف العائد لمراعاة الفواصل أي يستوي بالنسبة إلى علمه سبحانه المحيط الأمران، وفي تقديم الأول على الثاني تحقيق للمساواة على أبلغ وجه، وفي ذلك من الوعيد والدلالة على اختصاصه تعالى بصفات الإلهية ما لا يخفى، أما الأول فلأن علم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 360 الملك القادر بمخالفة عبده يقتضي مجازاته، وكثيرا ما ذكر علم الله تعالى وقدرته وأريد ذلك، وأما الثاني فبناء على ما قيل: إن تقديم المسند إليه في مثل ذلك يفيد الحصر، ومن هنا قيل: إنه سبحانه أبطل شركهم للأصنام أولا بقوله تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ وأبطله ثانيا بقوله تبارك اسمه: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إلخ كأنه قيل: إنه تعالى عالم بذلك دون ما تشركون به فإنه لا يعلم ذلك بل لا يعلم شيئا أصلا فكيف يعد شريكا لعالم السر والخفيات. وفي الكشف أن في الجملة الأولى إشعارا بأنه تعالى وما كلفهم حق الشكر لعدم الإمكان وتجاوز سبحانه عن الممكن إلى السهل الميسور، وفي الثانية ما يشعر بأنهم قصروا في هذا الميسور أيضا فاستحقوا العتاب. وَالَّذِينَ يَدْعُونَ شروع في تحقيق أن آلهتهم بمعزل عن استحقاق العبادة وتوضيحه بحيث لا يبقى فيه شائبة ريب بتعداد أحوالها المنافية لذلك منافاة ظاهرة، وكأنها إنما شرحت مع ظهورها للتنبيه على كمال حماقة المشركين وأنهم لا يعرفون ذلك إلا بالتصريح أي والآلهة الذين تعبدونهم أيها الكفار مِنْ دُونِ اللَّهِ سبحانه لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً من الأشياء أصلا أي ليس من شأنهم ذلك، وذكر بعض الأجلة أن ذكر هذا بعد نفي التشابه والمشاركة للاستدلال على ذلك فكأنه قيل: هم لا يخلقون شيئا ولا يشارك من يخلق من لا يخلق فينتج من الثالث هم لا يشاركون من يخلق ويلزمه أن من يخلق لا يشاركهم فلا تكرار، وقيل عليه: إنه مبني على أن من يخلق ومن لا مجرى على غير معين، ويفهم من سابق كلام هذا البعض أنه بنى الكلام على أن الأول هو الله تعالى والثاني الأصنام، ويقتضي تقريره هناك عدم الحاجة إلى هذه المقدمة للعلم بها وكونها مفروغا عنها، فالوجه أن التكرار لمزاوجة قوله تعالى وَهُمْ يُخْلَقُونَ وتعقب بأن المصرح به العموم في الموضعين وأما التخصيص فيهما بما ذكر فلأن من يخلق عندنا مخصوص به تعالى في الخارج اختصاص الكوكب النهاري بالشمس وإن عم باعتبار مفهومه، ومن لا يخلق وإن عم ذهنا وخارجا فتفسيره بمن عبد لاقتضاء المقام له، ومقتضى التقرير ليس عدم الحاجة إلى المقدمة بل هو كونها في غاية الظهور بحيث لا يحتاج إلى إثباتها وهذا مصحح لكونها جزءا من الدليل، وإذا ظهر المراد بطل الإيراد اه، ولعل الأوجه في توجيه الذكر ما أشرنا إليه أولا، وحيث إنه لا تلازم أصلا بين نفي الخالقية وبين المخلوقية أثبت ذلك لهم صريحا على معنى شأنهم أنهم يخلقون إذ المخلوقية مقتضى ذواتهم لأنها ممكنة مفتقرة في وجودها وبقائها إلى الفاعل، وبناء الفعل للمفعول- كما قال بعض الأجلة- لتحقيق التضاد والمقابلة بين ما أثبت لهم وما نفي عنهم من وصف الخالقية والمخلوقية وللإيذان بعدم الحاجة إلى بيان الفاعل لظهور اختصاص بفاعله جل جلاله. ولعل تقديم الضمير هنا لمجرد التقوى، والمراد بالخلق منفيا ومثبتا المعنى المتبادر منه. وجوز أن يراد من الثاني النحت والتصوير بناء على أن المراد من الذين يدعونهم الأصنام، والتعبير عنهم بما يعبر عنه عن العقلاء لمعاملتهم إياهم معاملتهم، والتعبير عن ذلك بالخلق لرعاية المشاكلة، وفي ذلك من الإيماء بمزيد ركاكة عقول المشركين ما فيه حيث أشركوا بخالقهم مخلوقيهم، وإرادة هذا المعنى من الأول أيضا ليست بشيء إذ القدرة على مثل ذلك الخلق ليست مما يدور عليه استحقاق العبادة أصلا. وقرأ الجمهور بالتاء المثناة من فوق في «تسرون» و «تعلنون» و «تدعون» وهي قراءة مجاهد والأعرج وشيبة وأبي جعفر وهبيرة عن عاصم، وفي المشهور عنه أنه قرأ بالياء آخر الحروف في الأخير وبالتاء في الأولين، وقرئت الثلاثة بالياء في رواية عن أبي عمرو وحمزة، وقرأ الأعمش «والله يعلم الذي تبدون وما تكتمون والذين تدعون» إلخ بالتاء من فوق في الأفعال الثلاثة، وقرأ طلحة «ما تخفون» و «ما تعلنون» . و «تدعون» بالتاء كذلك، وحملت القراءتان على التفسير لمخالفتهما لسواد المصحف، وقرأ محمد اليماني الجزء: 7 ¦ الصفحة: 361 «يدعون» بضم الياء وفتح العين مبنيا للمفعول أي يدعونهم الكفار ويعبدونهم أَمْواتٌ خبر ثان للموصول أو خبر مبتدأ محذوف أي هم أموات، وصرح بذلك لما أن إثبات المخلوقية لهم غير مستدع لنفي الحياة عنهم لما أن بعض المخلوقين أحياء، والمراد بالموت على أن يكون المراد من المخبر عنه الأصنام عدم الحياة بلا زيادة عما من شأنه أن يكون حيا. وقوله سبحانه: غَيْرُ أَحْياءٍ خبر بعد خبر أيضا أو صفة أَمْواتٌ وفائدة ذكره التأكيد عند بعض، واختير التأسيس وذلك أن بعض ما لا حياة فيه قد تعتريه الحياة كالنطفة فجيء به للاحتراز عن مثل هذا البعض فكأنه قيل: هم أموات حالا وغير قابلين للحياة مآلا، وجوز أن يكون المراد من المخبر عنه بما ذكر ما يتناول جميع معبوداتهم من ذوي العقول وغيرهم فيرتكب في أَمْواتٌ عموم المجاز ليشمل ما كان له حياة ثم مات كعزيز أو سيموت كعيسى والملائكة عليهم الصلاة والسلام وما ليس من شأنه الحياة أصلا كالأصنام. وغَيْرُ أَحْياءٍ على هذا إذا فسر بغير قابلين للحياة يكون من وصف الكل بصفة البعض ليكون تأسيسا في الجملة وإذا اعتبر التأكيد فالأمر ظاهر، وجوز أن من أولئك المعبودين الملائكة عليهم الصلاة والسلام وكان أناس من المخاطبين يعبدونهم، ومعنى كونهم أمواتا أنهم لا بد لهم من الموت وكونهم غير أحياء غير تامة حياتهم والحياة التامة هي الحياة الذاتية التي لا يرد عليها الموت، وجوز في قراءة وَالَّذِينَ يَدْعُونَ بالياء آخر الحروف أن يكون الأموات هم الداعين، وأخبر عنهم بذلك تشبيها لهم بالأموات لكونهم ضلالا غير مهتدين، ولا يخفى ما فيه من البعد وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ الضمير الأول للآلهة والثاني لعبدتها، والشعور العلم أو مباديه، وقال الراغب: يقال شعرت أي أصبت الشعر، ومنه استعير شعرت كذا أي علمت علما في الدقة كإصابة الشعر، قيل: وسمي الشاعر شاعرا لفطنته ودقة معرفته، ثم ذكر أن المشاعر الحواس وأن معنى لا تشعرون لا تدركون بالحواس وأن لو قيل في كثير مما جاء فيه لا تشعرون لا تعقلون لم يجز إذ كثير مما لا يكون محسوسا يكون معقولا، وأَيَّانَ عبارة عن وقت الشيء ويقارب معنى متى، وأصله عند بعضهم أي أو أن أي أي وقت فحذف الألف ثم جعل الواو ياء وأدغم وهو كما ترى. وقرأ أبو عبد الرحمن «إيان» بكسر الهمزة وهي لغة قومه سليم، والظاهر أنّه معمول ليبعثون والجملة في موضع نصب- بيشعرون- لأنه معلق عن العمل أي ما يشعر أولئك الآلهة متى يبعث عبدتهم، وهذا من باب التهكم بهم بناء على إرادة الأصنام لأن شعور الجماد بالأمور الظاهرة بديهي الاستحالة عند كل أحد فكيف بما لا يعلمه إلا العليم الخبير. وفي البحر أن فيه تهكما بالمشركين وأن آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم ليجازوهم على عبادتهم إياهم، ولعل هذا جار على سائر الاحتمالات في الآلهة، وفيه تنبيه على أن البعث من لوازم التكليف لأنه للجزاء والجزاء للتكليف فيكون هو له وأن معرفة وقته لا بد منه في الألوهية، وقيل: ضميرا يَشْعُرُونَ ويُبْعَثُونَ للآلهة ويلزم من نفي شعورهم بوقت بعثهم نفي شعورهم بوقت بعث عبدتهم وهو الذي يقتضيه الظاهر، ومن جوز أن يكون المراد من الأموات الكفرة الضلال جعل ضميري الجمع هنا لهم، والكلام خارج مخرج الوعيد أي وما يشعر أولئك المشركون متى يبعثون إلى التعذيب، وقيل: الكلام تم عند قوله تعالى: وَما يَشْعُرُونَ وأَيَّانَ يُبْعَثُونَ ظرف لقوله سبحانه إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ على معنى أن الإله واحد يوم القيامة نظير مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: 4] قال أبو حيان: ولا يصح هذا القول لأن أيان إذ ذاك تخرج عما استقر فيها من كونها ظرفا إما استفهاما أو شرطا وتتمحض للظرفية بمعنى وقت مضافا للجملة بعده نحو وقت يقوم زيد أقوم، على أن هذا التعلق في نفسه خلاف الظاهر، والظاهر أن قوله سبحانه: إِلهُكُمْ تصريح بالمدعى وتلخيص للنتيجة غب إقامة الحجة فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وأحوالها التي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 362 من جملتها البعث وما يعقبه من الجزاء قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ للوحدانية جاحدة لها أو للآيات الدالة عليها وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ عن الاعتراف بها أو عن الآيات الدالة عليها، والفاء للإيذان بأن إصرارهم على الإنكار واستمرارهم على الاستكبار وقع موقع النتيجة للدلائل الظاهرة والبراهين القطعية فهي للسببية كما في قولك: أحسنت إلى زيد فإنه أحسن إلي، والمعنى أنه قد ثبت بما قرر من الدلائل والحجج اختصاص الإلهية به سبحانه فكان من نتيجة ذلك إصرارهم على الإنكار واستمرارهم على الاستكبار، وبناء الحكم على الموصول للإشعار بعلية ما في حيز الصلة له، فإن الكفر بالآخرة وبما فيها من البعث والجزاء على الطاعة بالثواب وعلى المعصية بالعقاب يؤدي إلى قصر النظر على العاجل وعدم الالتفات إلى الدلائل الموجب لإنكارها وإنكار موادها والاستكبار عن اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام والإيمان به، وأما الإيمان بها وبما فيها فيدعو لا محالة إلى الالتفات إلى الدلائل والتأمل فيها رغبة ورهبة فيورث ذلك يقينا بالوحدانية وخضوعا لأمر الله تعالى قاله بعض المحققين. ومن الناس من قال: المراد وهم مستكبرون عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعه، فيكون الإنكار إشارة إلى كفرهم بالله تعالى والاستكبار إشارة إلى كفرهم برسوله صلى الله عليه وسلم والأول أظهر، وإسناد الإنكار إلى القلوب لأنها محله وهو أبلغ من إسناده إليهم، ولعله إنما لم يسلك في إسناد الاستكبار مثل ذلك لأنه أثر ظاهر كما تشير إليه الآية بعد وقد قال بعض العلماء: كل ذنب يمكن التستر به وإخفاؤه إلا التكبر فإنه فسق يلزمه الإعلان لا جَرَمَ أي حق أو حقا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ من الإنكار وَما يُعْلِنُونَ من الاستكبار، وقال يحيى بن سلام والنقاش: المراد هنا بما يسرون تشاورهم في دار الندوة في قتل النبي عليه الصلاة والسلام، وهو كما ترى، وأيا ما كان فالمراد من العلم بذلك الوعيد بالجزاء عليه، وأن وما بعدها في تأويل مصدر مرفوع- بلا جرم- بناء على ما ذهب إليه الخليل وسيبويه والجمهور من أنها اسم مركب مع لا تركيب خمسة عشر وبعد التركيب صار معناها معنى فعل وهو حق فهي مؤولة بفعل. وأبو البقاء يؤولها بمصدر قائم مقامه وهو حقا، وقيل: مرفوع- بجرم- نفسها على أنها فعل ماض بمعنى ثبت ووجب ولا نافية لكلام مقدر تكلم به الكفرة كقوله سبحانه: فَلا أُقْسِمُ [القيامة: 1، البلد: 1] على وجه. وذهب الزجاج إلى أنه منصوب على المفعولية- لجرم- على أنها فعل أيضا لكن بمعنى كسب وفاعلها مستتر يعود إلى ما فهم من السياق ولا كما في القول السابق، وقيل: إنه خبر لا حذف منه حرف الجر وجَرَمَ اسمها، والمعنى لا صدأ ولا منع في أن الله يعلم إلخ، وقد مر تمام الكلام في ذلك. وقرأ عيسى الثقفي «إن» بكسر الهمزة على الاستئناف والقطع مما قبله على ما قال أبو حيان، ونقل عن بعضهم أنه قد يغني لا جَرَمَ عن القسم تقول: لا جرم لآتينك وحينئذ فتكون الحملة جواب القسم إِنَّهُ جل جلاله لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ أي مطلقا ويدخل فيه من استكبر عن التوحيد أو عن الآيات الدالة عليه دخولا أوليا، وجوز أن يراد به أولئك المستكبرون والأول أولى، وأيا ما كان فالاستفعال ليس للطلب مثله فيما تقدم، وجوز كونه عاما مع حمل الاستفعال على ظاهره من الطلب أي لا يحب من طلب الكبر فضلا عمن اتصف به، وقد فرق الراغب بين الكبر والتكبر والاستكبار بعد القول بأنها متقاربة، والحق أنه قد يستعمل بعضها موضع بعض، وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر ذلك آنفا وأظنه قد تقدم أيضا والجملة تعليل لما تضمنه الكلام السابق من الوعيد، والمراد من نفي الحب البغض وهو عند البعض مؤول بنحو الانتقام والتعذيب، والأخبار الناطقة بسوء حال المتكبر يوم القيامة كثيرة جدا. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أي لأولئك المستكبرين، وهو بيان لإضلالهم غب بيان ضلالهم، وقيل: الضمير لكفار قريش الذين كانوا- كما روي عن قتادة- يقعدون بطريق من يغدو على النبي صلى الله عليه وسلم ليطلع على جلية أمره فإذا مر بهم قال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 363 لهم: ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ على محمد عليه الصلاة والسلام قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي ما كتبه الأولون كما قالوا: اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ [الفرقان: 5] فالأساطير جمع اسطار جمع سطر فهو جمع الجمع وقال المبرد: جمع أسطورة كأرجوحة وأراجيح ومقصودهم من ذلك أنه لا تحقيق فيه، وقيل: القائل لهم بعض المسلمين ليعلموا ما عندهم وقيل: القائل بعضهم على سبيل التهكم وإلا فهو لا يعتقد إنزال شيء، ومثل هذا يقال في الجواب عن تسميته بالمنزل في الجواب بناء على تقدير المبتدأ فيه ذلك، ويجوز أن يسموه بما ذكر على الفرض والتسليم ليردوه كقوله هذا رَبِّي [الأنعام: 77، 78] وقيل: قدروه منزلا مجاراة ومشاكلة. وفي الكشاف أن ماذا منصوب- بأنزل- أي أي شيء أنزل ربكم أو مرفوع بالابتداء بمعنى أي شيء أنزله ربكم، فإذا نصبت فمعنى أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ما تدعون نزوله ذلك، وإذا رفعت فالمعنى المنزل ذلك كقوله تعالى: ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة: 219] فيمن رفع اه، وقد خفي تحقيق مرامه على بعض المحققين، فقد قال صاحب الفرائد: الوجه أن يكون مرفوعا بالابتداء بدليل رفع أَساطِيرُ فإن جواب المرفوع مرفوع وجواب المنصوب منصوب ولم يقرأ أحد هنا بالنصب. وقال صاحب التقريب: إن في كلام الزمخشري نظرا وبينه بما بينه وأجاب بما أجاب، وأطال الطيبي الكلام في ذلك، وقد أجاد صاحب الكشف في هذا المقام فقال: إن قوله أو مرفوع بالابتداء بمعنى أي شيء أنزله إيضاح وإلا فالمعنى ما الذي أنزله على المصرح به في المفصل إذ لا وجه لحذف الضمير من غير استطالة (1) مع أن اللفظ يحتمل النصب والرفع احتمالا سواء، وعلى ذلك يلوح الفرق بين التقديرين ظهورا بينا، فإن المنصوب وإن دل على ثبوت أصل الفعل وأن السؤال عن المفعول متقاعد عن دلالة المرفوع فقد علم أن الجملة التي تقع صلة للموصول حقها أن تكون معلومة للمخاطب وأين الحكم المسلم المعلوم من غيره، وإذا ثبت ذلك فليعلم أنه على تقديرين لم يطابق به الجواب لقوله في قالُوا خَيْراً [النحل: 30] طوبق به الجواب بخلاف أَساطِيرُ وقوله هنا كقوله تعالى ماذا يُنْفِقُونَ إلى آخره فيمن رفع تشبيه في العدول إلى الرفع لا وجهه فإن الجواب هنالك طبق السؤال بخلاف ما نحن فيه، وإنما قدر ما تدعون نزوله على تقدير النصب لأن السائل لم يكن معتقدا لإنزال محقق بل سئل عن تعيين ما سمع نزوله في الجملة فيكفي في رده إلى الصواب ما تدعون نزوله أساطير، وأما على تقدير الرفع فلما دل على أن الإنزال عنده محقق مسلم لا نزاع فيه وإنما السؤال عن التعيين للمنزل أجيب بأن ذلك المحقق عندك أساطير تهكما إذ من المعلوم أن المنزل لا يكون أساطير فبولغ في رده إلى الصواب بالتهكم به وأنه بت الحكم بالتحقيق في غير موضعه فأرى السائل أنه طوبق ولم يطابق في الحقيقة بل بولغ في الرد، ويشبه أن يكون الأول جوابا للسؤال فيما بينهم أو الوافدين، والثاني جوابا عن سؤال المسلمين على ما ذكر من الاحتمالين لا العكس على ما ظن، هذا هو الأشبه في تقرير قوله الموافق لما ذكره من بعد على ما مر. وجعل ما ذكره هنالك وجها ثالثا وأنه طوبق به الجواب هاهنا وتوجيه اختلاف التقديرين ادعاء ونزولا بما مهدناه وإن ذهب إليه الجمهور تكلف عنه غنى اه. وقرئ «أساطير» بالنصب كما نص عليه أبو حيان. وغيره فإنكار صاحب الفرائد من قلة الاطلاع لِيَحْمِلُوا متعلق- بقالوا- كما هو الظاهر أي قالوا ذلك لأن يحملوا أَوْزارَهُمْ أي آثامهم الخاصة بهم وهي آثام ضلالهم، وهو جمع وزر ويقال للثقل تشبيها بوزر الجبل، ويعبر بكل منهما عن الإثم كما في   (1) فيه تأمل فتأمل اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 364 هذه الآية، وقوله تعالى ليحملوا أثقالهم: كامِلَةً لم ينقص منها شيء ولم يكفر بنحو نكبة تصيبهم في الدنيا أو طاعة مقبولة فيها كما تكفر بذلك أوزار المؤمنين، وقال الإمام معنى ذلك أنه لا يخفف من عذابهم شيء بل يوصل إليهم بكليته، وفيه دليل على أنه تعالى قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين إذ لو كان هذا المعنى حاصلا للكل لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفار به فائدة، وحمل الأوزار مجاز عن العقاب عليها. وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم أنه بلغه أن الكافر يتمثل عمله في صورة أقبح ما خلق الله تعالى وجها وأنتنه ريحا فيجلس إلى جنبه كلما أفزعه شيء زاده وكلما يخاف شيئا زاده خوفا فيقول: بئس الصاحب أنت ومن أنت؟ فيقول: وما تعرفني؟ فيقول: لا. فيقول: أنا عملك كان قبيحا فلذلك تراني قبيحا وكان منتنا فلذلك تراني منتنا طاطئ إليّ أركبك فطالما ركبتني في الدنيا فيركبه وهو قوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ ظرف ليحملوا وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ أي وبعض أوزار من ضل بإضلالهم على معنى ومثل بعض أوزارهم- فمن- تبعيضية لأن مقابلته لقوله تعالى: كامِلَةً يعين ذلك. والمراد بهذا البعض حصة التسبب فالمضل والضال شريكان هذا يضله وهذا يطاوعه فيتحاملان الوزر وللضال أوزار غير ذلك وليست تلك محمولة، وقال الأخفش: إن مِنْ زائدة أي وأوزار الذين يضلونهم على معنى أنهم يعاقبون عقابا يكون مساويا لعقاب كل من اقتدى بهم، وإلى الزيادة ذهب أبو البقاء واعترض على التبعيض بأنه يقتضي أن المضل غير حامل كل أوزار الضال وهو مخالف للمأثور «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص ذلك من أوزارهم شيئا» وفيه أن المأثور يدل على التبعيض لا أن بينهما مخالفة كما لا يخفى، ولتوهم هذه المخالفة قال الواحدي: إن من للجنس أي ليحملوا من جنس أوزار الاتباع، وتعقبه أبو حيان بأن من التي لبيان الجنس لا تقدر بما ذكروا وإنما تقدر بقولنا الأوزار التي هي أوزار الذين يضلونهم فيؤول من حيث المعنى إلى قول الأخفش وإن اختلفا في التقدير، ولام لِيَحْمِلُوا للعاقبة لأن الحمل مترتب على فعلهم وليس باعثا ولا غرضا لهم، وعن ابن عطية أنها تحتمل أن تكون لام التعليل ومتعلقة بفعل مقدر لا بقالوا أي قدر صدور ذلك ليحملوا، ويجيء حديث تعليل أفعال الله تعالى بالأغراض وأنت تدري أن فيه خلافا. وجوز في البحر كونها لام الأمر الجازمة على معنى أن ذلك الحمل متحتم عليهم فيتم الكلام عند قوله سبحانه: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ والظاهر العاقبة، وصيغة الاستقبال في يُضِلُّونَهُمْ للدلالة على استمرار الإضلال أو باعتبار حال قولهم لا حال الحمل. بِغَيْرِ عِلْمٍ حال من المفعول كأنه قيل: يضلون من لا يعلم أنهم ضلال على الباطل، وفيه تنبيه على أن كيدهم لا يروج على ذي لب وإنما يقلدهم الجهلة الأغبياء وفيه زيادة تعيير لهم وذم إذ كان عليهم إرشاد الجاهلين لا إضلالهم، وقيل: إنه حال من الفاعل أي يضلون غير عالمين بأن ما يدعون إليه طريق الضلال، وقيل: المعنى حينئذ يضلون جهلا منهم بما يستحقونه من العذاب الشديد على ذلك الإضلال، ونقل القول بالحالية عن الفاعل بنحو هذا المعنى عن الواحدي، وزعم بعضهم أنه الوجه لا الحالية من المفعول، وأيد بأن التذييل بقوله تعالى: أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ وقوله سبحانه: مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ يقويه، وليس بذاك، وما ذكر ظن من هذا المؤيد أنه إذا جعل حالا من المفعول لم يكن له تعلق بما سيق له الكلام من حال المضلين وقد هديت إلى وجهه. ورجحه أبو حيان بأن المحدث عنه هو المسند إليه الإضلال على جهة الفاعلية فاعتباره ذا الحال أولى، ويرد عليه مع ما يعلم مما ذكر أن القرب يعارضه فلا يصلح مرجحا، وقيل: هو حال من ضمير الفاعل في قالُوا على معنى قالوا ذلك غير عالمين بأنهم يحملون يوم القيامة أوزار الضلال والإضلال وأيد بقوله تعالى: وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 365 حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ من حيث إن حمل ما ذكر من أوزار الضلال والإضلال من قبيل إتيان العذاب من حيث لا يشعرون، ويرده أن الحمل المذكور كما هو صريح الآية إنما هو يوم القيامة والعذاب المذكور إنما هو العذاب الدنيوي كما ستسمعه إن شاء الله تعالى وجوز أن يكون حالا من الفاعل والمفعول كما قال ذلك ابن جني في قوله: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ [مريم: 27] وهو خلاف الظاهر، واستدل بالآية على أن المقلد يجب عليه أن يبحث ويميز بين المحق والمبطل ولا يعذر بالجهل، وهو ظاهر على ما قدمناه من الوجه الأوجه أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ أي بئس شيئا يزرونه ويرتكبونه من الإثم فعلهم المذكور. قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وعيد لهم برجوع غائلة مكرهم عليهم كدأب من قبلهم من الأمم الخالية الذين أصابهم ما أصابهم من العذاب العاجل، والمكر صرف الغير عما يقصده بحيلة وهو هاهنا على ما قيل مجاز عن مباشرة أسبابه وترتيب مقدماته لأن ما بعد يدل على أنه لم يحصل الصرف، وجوز أن يرتكب فيه التجريد أي سووا منصوبات وحيلا ليخدعوا بها رسل الله عليهم الصلاة والسلام فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ أي من جهة الدعائم والعمد التي بنوا عليها بأن ضعضعت فمن ابتدائية والبنيان اسم مفرد مذكر، ونقل الراغب عن بعض اللغويين أنه جمع بنيانة مثل شعير وشعيرة وتمر وتمرة ونخل ونخلة وإن هذا النحو من الجمع يصح تذكيره وتأنيثه، وأصل الإتيان كما قال المجيء بسهولة وهو مستحيل بظاهره في حقه سبحانه ولذلك احتاج بعضهم إلى تقدير مضاف أي أمر الله تعالى وروي ذلك عن قتادة، وجعل ذلك في الكشاف من قبيل أتى عليه الدهر بمعنى أهلكه وأفناه، وحينئذ لا حاجة إلى تقدير المضاف. وقرئ «بنيتهم» وهو بمعنى بنائهم يقال بنيت أبني أبناء وبنية وبنى نعم كثيرا ما يعبر بالبنية عن الكعبة وقرأ جعفر بيتهم والضحاك «بيوتهم» فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ أي سقط عليهم سقف بنيانهم إذ لا يتصور له القيام بعد تهدم قواعده ومِنْ متعلق بخر وهي لابتداء الغاية أو متعلق بمحذوف على أنه حال من السقف مؤكدة، وقال ابن عطية وابن الأعرابي إن مِنْ فَوْقِهِمْ ليس بتأكيد لأن العرب تقول خر علينا سقف ووقع علينا حائط إذا انهدم في ملك القائل وإن لم يقع عليه حقيقة فهو لبيان أنهم كانوا تحته حين هدم. ومن الناس من زعم أن على بمعنى عن وهي للتعليل والكلام على تقدير مضاف أي خر من أجل كفرهم السقف وجيء بقوله تعالى: مِنْ فَوْقِهِمْ مع خر لدفع توهم أن يكون قد خروهم ليسوا تحته، ولا يخفى أنه تطويل من غير طائل بل كلام لا ينبغي أن يتفوه به فاضل والكلام تمثيل يعني أن حالهم في تسويتهم المنصوبات والحيل ليمكروا بها رسل الله تعالى عليهم الصلاة والسلام وإبطال الله إياها وجعلها سببا لهلاكهم كحال قوم بنوا بنيانا وعمدوه بالأساطين فأتى ذلك من قبل أساطينه بأن ضعضعت فسقط عليهم السقف وهلكوا تحته، ووجه الشبه أن ما نصبوه وخيلوه سبب التحصن والاستيلاء صار سبب البوار والفناء فالأساطين بمنزلة المنصوبات وانقلابها عليهم مهلكة كانقلاب تلك الحيل على أصحابها والبنيان ما كان زوروه وروجوا فيه تلك المنصوبات وتواطؤوا عليه من الرأي المدعم بالمكائد، ويشبه ذلك قولهم، من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا. ويقرب من هذا ما قيل إن المراد أحبط الله تعالى أعمالهم، وقيل الأمر مبني على الحقيقة، وذلك أن نمرود بن كنعان بنى صرحا ببابل ليصعد بزعمه إلى السماء ويعرف أمرها ويقاتل أهلها وأفرط في علوه فكان طوله في السماء على ما حكى النقاش وروي عن كعب فرسخين. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ووهب: كان ارتفاعه خمسة آلاف ذراع وعرشه ثلاثة آلاف ذراع فبعث الله تعالى عليه ريحا فهدمته وخر سقفه عليه وعلى أتباعه فهلكوا، وقيل: هدمه جبريل عليه السلام بجناحه ولما سقط تبلبلت الناس من الفزع فتكلّموا يومئذ بثلاث وسبعين لسانا فلذلك سميت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 366 بابل وكان لسان الناس قبل ذلك السريانية، ولا يخفى ما في هذا الخبر من المخالفة للمشهور لأن موجبه أن هلاك نمرود كان بما ذكر والمشهور أنه عاش بعد قصة الصرح وأهلكه الله تعالى ببعوضة وصلت لدماغه إظهارا لكمال خسته وعجزه وجازاه سبحانه من جنس عمله لأنه صعد إلى جهة السماء بالنسور فأهلكه الله تعالى بأخس الطيور، وما ذكر في وجه تسمية المكان المعروف ببابل هو المشهور، وفي معجم البلدان أن مدينة بابل يوراسف الجبار واشتق اسمها من المشتري لأن بابل باللسان البابلي الأول اسم للمشتري وأخربها الإسكندر، وما ذكر من أن اللسان كان قبل ذلك السريانية ذكره البغوي ونظر فيه الخازن بأن صالحا عليه السلام وقومه كانوا قبل وكانوا يتكلمون بالعربية وكان قبائل قبل إبراهيم عليه السلام مثل طسم وجديس يتكلمون بالعربية أيضا وقد يدفع بالعناية. وقال الضحاك: الآية إشارة إلى قوم لوط عليه السلام وما فعل بهم وبقراهم، والكلام أيضا مبني على الحقيقة واختار جماعة بناءه على التمثيل حسبما سمعت وعليه فالمراد على المختار من الذين كفروا من قبل ما يشمل جميع الماكرين الذين هدم عليهم بنيانهم وسقط في أيديهم وقرأ الأعرج السقف وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ومجاهد السَّقْفُ بضم السين فقط وكلاهما جمع سقف وفعل وفعل على ما قال أبو حيان محفوظان في جمع فعل وليسا مقيسين فيه ويجمع على سقوف وهو القياس. وقرأت فرقة السَّقْفُ بفتح السين وضم القاف وهي لغة في السقف، وذكر أن الأصل مضموم القاف وساكنه مخففة وكثر استعماله على عكس قولهم رجل بفتح فضم ورجل بفتح فسكون وهي لغة تميمية وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ بإتيانه منه بل يتوقعون إتيان مقابله مما يريدون ويشتهون، والمراد به العذاب العاجل، وفي عطف هذه الجملة على ما تقدم تهويل لأمر هلاكهم، ويدل على أن المراد به العاجل قوله سبحانه: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ أي يذلهم، والظاهر أن ضمائر الجمع- للذين مكروا- من قبل كأنه قيل: قد مكر الذين من قبلهم فعذبهم الله تعالى في الدنيا ثم يعذبهم في العقبى، وثُمَّ للإيماء إلى ما بين الجزاءين من التفاوت مع ما تدل عليه من التراخي الزماني، وتقديم الظرف على الفعل قيل لقصر الاخزاء على يوم القيامة، والمراد به ما بين بقوله سبحانه: وَيَقُولُ أي لهم تفضيحا وتوبيخا أَيْنَ شُرَكائِيَ إلى آخره، ولا شك أن ذلك لا يكون إلا في ذلك اليوم، وقال بعض المحققين: ليس التقديم لذلك بل لأن الأخبار بجزائهم في الدنيا مؤذن بأن لهم جزاء أخرويا فتبقى النفس مترقبة إلى وروده سائلة عنه بأنه ماذا مع تيقنها بأنه في الآخرة فسيق الكلام على وجه يؤذن بأن المقصود بالذكر جزاؤهم لا كونه في الآخرة، وذكر أيضا أن الجملة المذكورة عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي هذا الذي فهم من التمثيل من عذاب هؤلاء الماكرين القائلين في القرآن العظيم أساطير الأولين أو ما هو أعم منه، ومما ذكر من عذاب أولئك الماكرين من قبل جزاؤهم في الدنيا ويوم القيامة يخزيهم إلى آخره، ثم قال: والضمير إما للمغترين في حق القرآن الكريم أو لهم ولمن مثلوا بهم من الماكرين، وتخصيصه بهم يأباه السباق والسياق اه. وفيه من ارتكاب خلاف الظاهر ما فيه فليتأمل، وفسر بعضهم الاخزاء بما هو من روادف التعذيب بالنار لأنه الفرد الكامل وقد قال تعالى: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران: 192] وقيل عليه: إن قوله سبحانه: أَيْنَ شُرَكائِيَ إلى آخره يأباه لأنه قبل دخولهم النار. وأجيب بأن الواو لا تقتضي الترتيب، وأنت تعلم أن الأولى مع هذا حمله على مطلق الإذلال، وإضافة الشركاء إلى نفسه عز وجل لأدنى ملابسة بناء على زعمهم أنهم شركاء لله سبحانه عما يشركون فتكون الآية كقوله تعالى: أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام: 22] . وجوز أن يكون ما ذكر حكاية منه تعالى لإضافتهم فإنهم كانوا يضيفون ويقولون: شركاء الله تعالى، وفي ذلك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 367 زيادة في توبيخهم ليست في أين أصنامكم مثلا لو قيل، ولا يخفى أن هذا خزي وإهانة بالقول فإذا فسر الإخزاء فيما تقدم بالتعذيب بالنار كانت الآية مشيرة إلى خزيين فعلي وقولي، وأشير إلى الأول أولا لأنه أنسب بسابقه. وقرأ الجمهور «شركائي» ممدودا مهموزا مفتوح الياء، وفرقة كذلك إلا أنهم سكنوا الياء فتسقط في الدرج لالتقاء الساكنين، والبزي عن ابن كثير بخلاف عنه بالقصر وفتح الياء، وأنكر ذلك جماعة وزعموا أن هذه القراءة غير مأخوذ لأن قصر الممدود لا يجوز إلا ضرورة، وليس كما قالوا فإنه يجوز في السعة، وقد وجه أيضا بأن الهمزة المكسورة قبل الياء حذفت للتخفيف وليس كقصر الممدود مطلقا، مع أنه قد روي عن ابن كثير قصر التي في [القصص: 62، 74] ووَرائِي في [مريم: 5] ، وعن قنبل قصر أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى في [العلق: 7] فكيف يعد ذلك ضرورة. نعم قال أبو حيان: إن وقوعه في الكلام قليل فاعرف ذلك فقد غفل عنه كثير من الناس. الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ أي تخاصمون وتنازعون الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم في شأنهم وتزعمون أنهم شركاء حقا حين بينوا لكم ضد ذلك، وفسر بعضهم المشاقة بالمعاداة، وتفسيرها بالمخاصمة ليظهر تعلق فِيهِمْ به ولا يحتاج إلى جعل في للسببية أولى، وقيل: للمخاصمة مشاقة أخذا من شق العصا أو لكون كل من المتخاصمين في شق والمراد بالاستفهام استحضارها للشفاعة على طريق الاستهزاء والتبكيت، فإنهم كانوا يقولون: إن صح ما تقولون فالأصنام تشفع لنا، والاستفسار عن مكانتهم لا يوجب غيبتهم حقيقة بل يكفي في ذلك عدم حضورهم بالعنوان الذي كانوا يزعمون أنهم متصفون به فليس هناك شركاء ولا أماكنها. وقيل: إن ذلك يوجب الغيبة، ويقال: إنه يحال بينهم وبين شركائهم حينئذ ليتفقدوهم في ساعة علقوا الرجاء بها فيهم أو أنهم لما لم ينفعوهم فكأنهم غيب. ولا يحتاج إلى هذا بعد ما علمت على أنه أورد على قوله ليتفقدوهم إلى آخره أنه ليس بسديد، فإنه قد تبين للمشركين حقيقة الأمر فرجعوا عن ذلك الزعم الباطل فكيف يتصور منهم التفقد. وأجيب بأنه يجوز أن يغفلوا لعظم الهول عن ذلك فيتفقدوهم، ثم إن ما ذكر يقتضي حشر الأصنام وهو الذي يدل عليه كثير من الآيات كقوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98] وقوله سبحانه: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [البقرة: 24، التحريم: 6] على قول، ولا أرى مانعا من حمل الشركاء على معبوداتهم الباطلة بحيث تشمل ذوي العقول أيضا. وقرأ الجمهور «تشاقون» بفتح النون، ونافع بكسرها ورويت عن الحسن، ولا يلتفت إلى تضعيف أبي حاتم. وقرأت فرقة بتشديدها على أنه أدغم نون الرفع في نون الوقاية. والكسر على حذف ياء المتكلم والاكتفاء به أي تشاقونني. على أن مشاقة الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم كمشاقة الله تعالى شأنه ولولا ذلك لم يصح تعليق المشاقة به سبحانه. أما إذا كانت بمعنى المخاصمة فظاهر أنهم لم يخاصموا الله تعالى، وأما إذا كانت بمعنى العداوة فلأنهم لا يعتقدون أنهم أعداء لله تعالى: وأما قوله تعالى لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ [الممتحنة: 1] يعني المشركين فمؤول أيضا بغير شبهة قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ من أهل الموقف وهم الأنبياء عليهم السلام والمؤمنون الذين أوتوا علما بدلائل التوحيد وكانوا يدعونهم في الدنيا إلى التوحيد فيجادلونهم ويتكبرون عليهم، واقتصر يحيى بن سلام على المؤمنين والأمر فيه سهل، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم أنهم الملائكة عليهم السلام. ولم نقف على تقييده إياهم. وعن مقاتل أنهم الحفظة منهم. ويشعر كلام بعضهم بأنهم ملائكة الموت حيث أورد على القول بأنهم الملائكة أن الواجب حينئذ يتوفونهم مكان تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ وأنه يلزم منه الإبهام في موضع التعيين والتعيين في موضع الإبهام. وهو كما قال الشهاب في غاية السقوط، وقيل: المراد كل من اتصف بهذا العنوان من ملك وانسي وغير ذلك. والذي يميل إليه القلب السليم القول الأول أي يقول أولئك توبيخا للمشركين وإظهارا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 368 للشماتة بهم وتقريرا لما كانوا يعظونهم وتحقيقا لما أوعدوهم به. وإيثار صيغة الماضي للدلالة على تحقق وقوعه وتحتمه حسبما هو المعهود في إخباره تعالى كقوله سبحانه: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ [الأعراف: 44] . إِنَّ الْخِزْيَ الذلّ والهوان. وفسره الراغب بالذلّ الذي يستحى منه الْيَوْمَ منصوب بالخزي على رأي من يرى إعمال المصدر باللام كقوله: ضعيف النكاية أعداءه. أو بالاستقرار في الظرف الواقع خبرا لإن، وفيه فصل بين العامل والمعمول بالمعطوف إلا أنه مغتفر في الظرف. وأل للحضور أي اليوم الحاضر، وإيراده للإشعار بأنهم كانوا قبل ذلك في عزة وشقاق وَالسُّوءَ العذاب ومن الخزي به جعل ذكر هذا للتأكيد عَلَى الْكافِرِينَ بالله تعالى وآياته ورسله عليهم السلام الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ بتأنيث الفعل، وقرأ حمزة والأعمش «يتوفاهم» بالتذكير هنا وفيما سيأتي إن شاء الله تعالى، والوجهان شائعان في أمثال ذلك. وقرئ بإدغام تاء المضارعة في التاء بعدها ويجتلب في مثله حينئذ همزة وصل في الابتداء وتسقط في الدرج وإن لم يعهد همزة وصل في أول فعل مضارع. وفي مصحف عبد الله بتاء واحدة في الموضعين، وفي الوصول أوجه الإعراب الثلاثة: الجر على أنه صفة الْكافِرِينَ أو بدل منه أو بيان له، والنصب والرفع على القطع للذم وجوز ابن عطية كونه مرتفعا بالابتداء وجملة فَأَلْقَوُا خبره. وتعقبه أبو حيان بأن زيادة الفاء في البر لا تجوز هنا إلا على مذهب الأخفش في إجازته وزيادتها في الخبر مطلقا نحو زيد فقام أي قام، ثم قال: ولا يتوهم أن هذه الفاء هي الداخلة في خبر المبتدأ إذا كان موصولا وضمن معنى الشرط لأنها لا يجوز دخولها في مثل هذا الفعل مع صريح أداة الشرط فلا يجوز مع ما ضمن معناه اه بلفظه. ونقل شهاب عنه أنه قال: إن المنع مع ما ضمن معناه أولى. وتعقبه بأن كونه أولى غير مسلم لأن امتناع الفاء معه لأنه لقوته لا يحتاج إلى رابط إذ صح مباشرته للفعل وما تضمن معناه ليس كذلك، وكلامه الذي نقلناه لا يشعر بالأولوية فلعله وجد له كلاما آخر يشعر بها. واستظهر هو الجر على الوصفية ثم قال: فيكون ذلك داخلا في المقول، فإن كان القول يوم القيامة يكون تَتَوَفَّاهُمُ بصيغة المضارع حكاية للحال الماضية، وإن كان في الدنيا أي لما أخبر سبحانه أنه يخزيهم يوم القيامة ويقول جل وعلا لهم ما يقول قال أهل العلم: إن الخزي اليوم الذي أخبر الله تعالى أنه يخزيهم فيه والسوء على الكافرين يكون تَتَوَفَّاهُمُ على بابه، ويشمل من حيث المعنى من توفته ومن تتوفاه، وعلى ما ذكره ابن عطية يحتمل أن يكون الَّذِينَ إلى آخره من كلام الذين أوتوا العلم وأن يكون إخبارا منه تعالى، والظاهر أن القول يوم القيامة فصيغة المضارع لاستحضار صورة توفي الملائكة إياهم كما قيل آنفا لما فيها من الهول، وفي تخصيص الخزي والسوء بمن استمر كفره إلى حين الموت دون من آمن منهم ولو في آخر عمره، وفيه النديم لهم لا يخفى أي الكافرين المستمرين على الكفر إلى أن تتوفاهم الملائكة ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ أي حال كونهم مستمرين على الشرك الذي هو ظلم منهم لأنفسهم وأي ظلم حيث عرضوها للعذاب المقيم فَأَلْقَوُا السَّلَمَ أي الاستسلام كما قاله الأخفش وقال قتادة: الخضوع، ولا بعد بين القولين. والمراد عليهما أنهم أظهروا الانقياد والخضوع، وأصل الإلقاء في الأجسام فاستعمل في إظهارهم الانقياد وإشعارا بغاية خضوعهم وانقيادهم وجعل ذلك كالشيء الملقى بين يدي القاهر الغالب. والجملة قيل عطف على قوله تعالى: وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ وما بينهما جملة اعتراضية جيء بها تحقيقا لما حاق بهم من الخزي على رؤوس الأشهاد. وكان الظاهر فيلقون إلى آخره إلا أنه عبر بصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع أي يقول لهم سبحانه ذلك فيستسلمون وينقادون ويتركون المشاقة وينزلون عما كانوا عليه في الدنيا من الكبر وشدة الشكيمة، ولعله مراد من قال: إن الكلام قد تم عند قوله تعالى: أَنْفُسِهِمْ ثم عاد إلى حكاية حالهم يوم القيامة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 369 وقيل: عطف على قالَ الَّذِينَ وجوز أبو البقاء وغيره العطف على تَتَوَفَّاهُمُ واستظهره أبو حيان، لكن قال الشهاب: إنه إنما يتمشى على كون تَتَوَفَّاهُمُ بمعنى الماضي، وقد تقدم لك القول بأن الجملة خبر الَّذِينَ مع ما فيه. واعترض الأول بأن قوله تعالى: ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ إما أن يكون منصوبا بقول مضمر وذلك القول حال من ضمير ألقوا أي ألقوا السلم قائلين ما كنا إلى آخره أو تفسيرا للسلم الذي ألقوه بناء على أن المراد به القول الدال عليه بدليل الآية الأخرى فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ [النحل: 86] وأيّا ما كان فذلك العطف يقتضي وقوع هذا القول منهم يوم القيامة وهو كذب صريح ولا يجوز وقوعه يومئذ. وأجيب بأن المراد ما كنا عاملين السوء في اعتقادنا أي كان اعتقادنا أن عملنا غير سيىء، وهذا نظير ما قيل في تأويل قولهم وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] وقد تعقب بأنه لا يلائمه الرد عليهم ب بَلى إِنَّ اللَّهَ إلى آخره لظهور أنه لإبطال النفي ولا يقال: الرد على من جحد واستيقنت نفسه لأنه يكون كذبا أيضا فلا يفيد التأويل. ومن الناس من قال بجواز وقوع الكذب يوم القيامة، وعليه فلا إشكال، ولا يخفى أن هذا البحث جار على تقدير كون العطف على قالَ الَّذِينَ أيضا إذ يقتضي كالأول وقوع القول يوم القيامة وهو مدار البحث. واختار شيخ الإسلام عليه الرحمة العطف السابق وقال: إنه جواب عن قوله سبحانه أَيْنَ شُرَكائِيَ وأرادوا بالسوء الشرك منكرين صدوره عنهم، وإنما عبروا عنه بما ذكر اعترافا بكونه سيئا لا إنكارا لكونه كذلك مع الاعتراف بصدوره عنهم، ونفى أن يكون جوابا عن قول أولي العلم ادعاء لعدم استحقاقهم لما دهمهم من الخزي والسوء، ولعله متعين على تقدير العطف على قالَ الَّذِينَ إلى آخره، وإذا كان العطف على تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ كان الغرض من قولهم هذا الصادر منهم عند معاينتهم الموت استعطاف الملائكة عليهم السلام بنفي صدور ما يوجب استحقاق ما يعانونه عند ذلك، وقيل: المراد بالسوء الفعل السيئ أعم من الشرك وغيره ويدخل فيه الشرك دخولا أوليا أي ما كنا نعمل سوءا ما فضلا عن الشرك، ومِنْ على كل حال زائدة وسُوءٍ مفعول لنعمل بَلى رد عليهم من قبل الله تعالى أو من قبل أولي العلم أو من قبل الملائكة عليهم السلام، ويتعين الأخير على كون القول عند معاينة الموت ومعاناته أي بلى كنتم تعملون ما تعملون. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فهو يجازيكم عليه وهذا أوانه فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خطاب لكل صنف منهم أن يدخل بابا من أبواب جهنم، والمراد بها إما المنفذ أو الطبقة، ولا يجوز أن يكون خطابا لكل فرد لئلا يلزم دخول الفرد من الكفار من أبواب متعددة أو يكون لجهنم بعدد الافراد، وجوز أن يراد بالأبواب أصناف العذاب، فقد جاء إطلاق الباب على الصنف كما يقال: فلان ينظر في باب من العلم أي صنف منه وحينئذ لا مانع في كون الخطاب لكل فرد، وأبعد من قال: المراد بتلك الأبواب قبور الكفرة المملوءة عذابا مستدلا بما جاء «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار» خالِدِينَ فِيها حال مقدرة إن أريد بالدخول حدوثه، ومقارنة إن أريد به مطلق الكون، وضمير فِيها قيل: للأبواب بمعنى الطبقات، وقيل: لجهنم، والتزم هذا وكون الحال مقدرة من أبعد، وحمل الخلود على المكث الطويل للاستغناء عن هذا الالتزام وإن كان واقعا في كلامهم خلاف المعهود في القرآن الكريم فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ أي عن التوحيد، وذكرهم بعنوان التكبر للإشعار بعليته لثوائهم فيها، وقد وصف سبحانه الكفار فيما تقدم بالاستكبار وهنا بالتكبر، وذكر الراغب أنهما والكبر تتقارب فالكبر الحالة التي يتخصص بها الإنسان من أعجابه بنفسه، والاستكبار على وجهين: أحدهما أن يتحرى الإنسان ويطلب أن يصير كبيرا، وذلك متى كان على ما يحب وفي المكان الذي يحب وفي الوقت الذي يحب وهو محمود. والثاني أن يتشبع فيظهر من نفسه ما ليس له الجزء: 7 ¦ الصفحة: 370 وهو مذموم، والتكبر على وجهين أيضا: الأول أن تكون الأفعال الحسنة كثيرة في الحقيقة وزائدة على محاسن غيره، وعلى هذا وصف الله تعالى بالمتكبر. والثاني أن يكون متكلفا لذلك متشبعا وذلك في وصف عامة الناس، والتكبر على الوجه الأول محمود وعلى الثاني مذموم، والمخصوص بالذم محذوف أي جهنم أو أبوابها إن فسرت بالطبقات، والفاء عاطفة، واللام جيء بها للتأكيد اعتناء بالذم لما أن القوم ضالون مضلون كما ينبئ عنه قوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ وللتأكيد اعتناء بالمدح جيء باللام أيضا فيما بعد من قوله سبحانه: وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ لأن أولئك القوم على ضد هؤلاء هادون مهديون، وكأنه لعدم هذا المقتضي في آيتي الزمر والمؤمن لم يؤت باللام، وقيل: فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ وقيل: التأكيد متوجه لما يفهم من الجملة من أن جهنم مثواهم، وحيث إنه لم يفهم من الآيات قبل هنا فهمه منها قبل آيتي تينك السورتين جيء بالتأكيد هناك ولم يجئ به هنا اكتفاء بما هو كالصريح في إفادة أنها مثواهم مما ستسمعه إن شاء الله تعالى هناك. وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أي المؤمنين، وصفوا بذلك إشعارا بأن ما صدر عنهم من لجواب ناشئ من التقوى. ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً أي أنزل خيرا ف ماذا اسم واحد مركب للاستفهام بمعنى أي شيء محله النصب ب أَنْزَلَ وخَيْراً مفعول لفعل محذوف، وفي اختيار ذلك دليل على أنهم لم يتلعثموا في الجواب وأطبقوه على السؤال معترفين بالإنزال على خلاف الكفرة حيث عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا: هو أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ وليس من الإنزال في شيء. نعم قرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «خير» بالرفع- فما- اسم استفهام و «ذا» اسم موصول بمعنى الذي أي أي شيء الذي أنزله ربكم، وخَيْرٌ خبر مبتدأ محذوف فيتوافق جملتا الجواب والسؤال في كون كل منهما جملة اسمية، وجعل ماذا منصوبا على المفعولية كما مر ورفع خَيْرٌ على الخبرية لمبتدأ جائز إلا أنه خلاف الأولى، وفي الكشف أنه يظهر من الوقوف على مراد صاحب الكشاف في هذا المقام أن فائدة النصف مع أن الرفع أقوى دفع الالتباس ليكون نصا في المطلوب كما أوثر النصب في قوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر: 49] لذلك وينحل مراده من ذلك بالرجوع إلى ما نقلناه عنه سابقا والتأمل فيه فتأمل فإنه دقيق. هذا ولم نجد في السائل هنا خلافا كما في السائل فيما تقدم، والذي رأيناه في كثير مما وقفنا عليه من التفاسير أن السائل الوفد الذي كان سائلا أولا في بعض الأقوال المحكية هناك، وذكر أنه السائل في الموضعين كثير منهم ابن أبي حاتم، فقد أخرج عن السدي قال اجتمعت قريش فقالوا: إن محمدا صلى الله عليه وسلم رجل حلو اللسان إذا كلمه الرجل ذهب بعقله فانظروا أناسا من أشرافكم المعدودين المعروفة أنسابهم فابعثوهم في كل طريق من طرق مكة على رأس ليلة أو ليلتين فمن جاء يريده فردوه عنه فخرج ناس منهم في كل طريق فكان إذا أقبل الرجل وافدا لقومه ينظر ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم فينزل بهم قالوا له: يا فلان ابن فلان فيعرفه بنسبه ويقول: أنا أخبرك عن محمد صلى الله عليه وسلم هو رجل كذاب لم يتبعه على أمره إلا السفهاء والعبيد ومن لا خير فيه وأما شيوخ قومه وخيارهم فمفارقون له فيرجع أحدهم فذلك قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ فإذا كان الوافد ممن عزم الله تعالى له على الرشاد فقالوا له مثل ذلك قال: بئس الوافد أنا لقومي إن كنت جئت حتى إذا بلغت مسيرة يوم رجعت قبل أن ألقى هذا الرجل وأنظر ما يقول وآتي قومي ببيان أمره فيدخل مكة فيلقى المؤمنين فيسألهم ماذا يقول محمد صلى الله عليه وسلم فيقولون: خيرا إلخ، نعم يجوز عقلا أن يكون السائل بعضهم لبعض ليقوى ما عنده بجوابه أو لنحو ذلك كالاستلذاذ بسماع الجواب وكثيرا ما يسأل المحب عما يعلمه من أحوال محبوبه استلذاذا بمدامة ذكره وتشنيفا لسمعه بسني دره ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر ... ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 371 بل يجوز أيضا أن يكون السائل من الكفرة المعاندين وغرضه بذلك التلاعب والتهكم لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا أتوا بالأعمال الحسنة الصالحة فِي هذِهِ الدار الدُّنْيا حَسَنَةٌ مثوبة حسنة جزاء إحسانهم، والجار والمجرور متعلق بما بعده على معنى أن تلك الحسنة لهم في الدنيا، والمراد بها على ما روي عن الضحاك النصر والفتح، وقيل: المدح والثناء منه تعالى، وقال الإمام: يحتمل أن يكون فتح باب المكاشفات والمشاهدات والألطاف كقوله تعالى: «والذين اهتدوا زادهم هدى» وقيل: متعلق بما قبله، وحينئذ يحتمل أن يكون الكلام على تقدير مثله متعلقا بما بعد أولا بل تكون هذه الحسنة الواقعة مثوبة لإحسانهم في الدنيا في الآخرة، واقتصر بعضهم على هذا الاحتمال، والمراد بالحسنة حينئذ إما الثواب العظيم الذي أعده الله تعالى يوم القيامة للمحسنين وإما التضعيف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما لا يعلمه غيره جل وعلا، واختير كونه متعلقا بما بعد لأنه الأوفق بقوله سبحانه: وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ والكلام كما يشعر به كلام غير واحد على حذف مضاف أي ولثواب دار الآخرة أي ثوابهم فيها خير مما أوتوا في الدنيا من الثواب. وجوز أن يكون المعنى خير على الإطلاق فيجوز إسناد الخيرية إلى نفس دار الآخرة وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ أي دار الآخرة حذف لدلالة ما سبق عليه كما قاله ابن عطية والزجاج وابن الأنباري وغيرهم، وهذا كلام مبتدأ عدة منه تعالى للذين اتقوا على قولهم وهو في الوعد هاهنا نظير لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ في الوعيد فيما مر، وجوز أن يكون خَيْراً مفعول قالُوا وعمل فيه لأنه في معنى الجملة كقال قصيدة أو صفة مصدر أي قولا خيرا، وهذه الجملة بدل. فمحلها النصب أو مفسرة له فلا محل لها من الإعراب، وعلى التقديرين مقولهم في الحقيقة لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا إلا أن الله سبحانه سماه خيرا ثم حكاه كما تقول: قال فلان جميلا من قصدنا وجب حقه علينا، وعلى ما ذكر لا يكون دلالة النصب على ما مر لما أشير إليه هناك وإنما تكون من حيث شهادة الله تعالى بخيرية قولهم ويحتمل جعل ذلك كما الكشف مفعول أَنْزَلَ (1) ويكون تسميته خيرا من الله تعالى كما في قوله سبحانه: لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف: 9] ليشعر أول ما يقرع السمع بالمطابقة من غير نظر إلى فهم معناه، وأما قولهم لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا أي قالوا أنزل هذه المقالة فإن ما يفهم من المطابقة بعد تدبر المعنى، وزعم بعضهم أنه لا يجوز جعله منصوبا- بأنزل- لأن هذا القول ليس منزلا من الله تعالى، وفيه تفوت المطابقة حينئذ وهو كلام ناشئ من قلة التدبر. وفي البحر الظاهر أن لِلَّذِينَ إلخ مندرج تحت القول وهو تفسير للخير الذي أنزل الله تعالى في الوحي، وظاهره أنه وجه آخر غير ما ذكر وفيه رد على الزاعم أيضا، ولعل اقتصارهم على هذا من بين المنزل لأنه كلام جامع وفيه ترغيب للسائل، والمختار من هذه الأوجه عند جمع هو الأول بل قيل إنه الوجه. جَنَّاتُ عَدْنٍ خبر مبتدأ محذوف كما اختاره الزجاج وابن الأنباري أي هي جنات، وجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي لهم جنات أو هو المخصوص بالمدح يَدْخُلُونَها نعت لجنات عند الحوفي بناء على أن عَدْنٍ نكرة وكذلك تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وكلاهما حال عند غير واحد بناء على أنها علم. وجوزوا أن يكون جَنَّاتُ مبتدأ وجملة يَدْخُلُونَها خبره وجملة تجري إلخ حال، وقرأ زيد بن ثابت وأبو عبد الرحمن جنات بالنصب على الاشتغال أي يدخلون جنات عدن يدخلونها، قال أبو حيان. وهذه القراءة تقوي كون «جنات» مرفوعا مبتدأ والجملة بعده خبره، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «ولنعمة دار المتقين» بتاء مضمومة ودار مخفوضة فيكون «نعمة» مبتدأ مضافا إلى دار وجنات خبره. وقرأ إسماعيل بن جعفر عن نافع «يدخلونها» بالياء على الغيبة والفعل   (1) وقد نص سعد بن جلي على عدم المانع من جعله مفعول أنزل مقدرا اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 372 مبني للمفعول، ورويت عن أبي جعفر، وشيبة لَهُمْ فِيها أي في تلك الجنات ما يَشاؤُنَ الظرف الأول خبر- لما- والثاني حال منه، والعامل ما في الأول من معنى الحصول والاستقرار أو متعلق به لذلك أي حاصل لهم فيها ما يشاؤون من أنواع المشتهيات وتقديمه للاحتراز عن توهم تعلقه بالمشيئة أو لما مرّ غير مرة من أن تأخير ما حقه التقديم يوجب ترقب النفس إليه فيتمكن عند وروده فضل تمكن. وذكر بعضهم أن تقديم فيها للحصر وما للعموم بقرينة المقام فيفيد أن الإنسان لا يجد جميع ما يريده إلا في الجنة فتأمله. والجملة في موضع الحال نظير ما تقدم، وزعم أن لهم متعلق بتجري أي تجري من تحتها الأنهار لنفعهم وفِيها ما يَشاؤُنَ مبتدأ وخبر في موضع الحال لا يخفى حاله عند ذوي التمييز كَذلِكَ مثل ذلك الجزاء الأوفى يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ أي جنسهم فيشمل كل من يتقي من الشرك والمعاصي وقيل من الشرك ويدخل فيه المتقون المذكورون دخولا أوليا ويكون فيه بعث لغيرهم على التقوى أو المذكورين فيكون فيه تحسير للكفرة، قيل: وهذه الجملة تؤيد كون قوله سبحانه لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا عدة فإن جعل ذلك جزاء لهم ينظر إلى الوعد به من الله تعالى وإذا كان مقول القول لا يكون من كلامه تعالى حتى يكون وعدا منه سبحانه، وقيل: إنها تؤيد كون جَنَّاتُ خبر مبتدأ محذوف لا مخصوصا بالمدح لأنه إذا كان مخصوصا بالمدح يكون كالصريح في أن جَنَّاتُ عَدْنٍ جزاء للمتقين فيكون كَذلِكَ إلخ تأكيدا بخلاف ما إذا كان خبر مبتدأ محذوف فإنه لم يعلم صريحا أن جنات عدن جزاء للمتقين وفيه نظر وكذا في سابقه إلا أن في التعبير بالتأبيد ما يهون الأمر الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ نعت للمتقين وجوز قطعه، وقوله سبحانه: طَيِّبِينَ حال من ضميرهم، ومعناه على ما روي عن أبي معاذ طاهرين من دنس الشرك وهو المناسب لجعله في مقابلة ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ في وصف الكفرة بناء على أن المراد بالظلم أعظم أنواعه وهو الشرك لكن قيل عليه: إن ذكر الطهارة عن الشرك وحده لا فائدة فيه بعد وصفهم بالتقوى. وأجيب بأن فائدة ذلك الإشارة إلى أن الطهارة عن الشرك هي الأصل الأصيل. وفي إرشاد العقل السليم بعد تفسير الظلم بالكفر وتفسير طيبين بطاهرين عن دنس الظلم وجعله حالا قال: وفائدته الإيذان بأن ملاك الأمر في التقوى هو الطهارة عما ذكر إلى وقت توفيهم، ففيه حث للمؤمنين على الاستمرار على ذلك ولغيرهم على تحصيله. وقال مجاهد: المراد- بطيبين- زاكية أقوالهم وأفعالهم، وهو مراد من قال: طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصي وإلى هذا ذهب الراغب حيث قال الطيب من الإنسان من تعرى من نجاسة الجهل والفسق وقبائح الأعمال وتحلى بالعلم والإيمان ومحاسن الأعمال وإياهم قصد بقوله سبحانه: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ. وانتصر لذلك بأن وصفهم بأنهم متقون موعودون بالجنة في مقابلة الأعمال يقتضي ما ذكر، وحملوا الظلم فيما مر على ما يعم الكفر والمعاصي لأن ذلك مجاب بقولهم: ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ فلا تفوت المناسبة في جعل هذا مقابلا لذاك لكن في الاستدلال بما ذكر في الجواب على إرادة العام ما لا يخفى، والكثير على تفسير الطيب بالطاهر عن قاذورات الذنوب مطابق الذي لا خبث فيه، وقيل: المعنى فرحين ببشارة الملائكة عليهم السلام إياهم أو بقبض أرواحهم لتوجه نفوسهم بالكلية إلى حضرة القدس، فالمراد بالطيب طيب النفس وطيبها عبارة عن القبول مع انشراح الصدر يَقُولُونَ حال من الملائكة، وجوز أن يكون «الذين» مبتدأ خبره هذه الجملة أي قائلين أو قائلون لهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا يحيقكم بعد مكروه. قال القرطبي: وروى نحوه البيهقي عن محمد بن كعب القرظي إذا استدعيت نفس المؤمن جاءه ملك الموت عليه السلام فقال: السلام عليك يا ولي الله إن الله تعالى يقرأ عليك السلام وبشره بالجنة ادْخُلُوا الْجَنَّةَ التي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 373 أعدها الله تعالى لكم ووعدكم إياها وكأنها إنما لم توصف لشهرة أمرها. وفي إرشاد العقل السليم اللام للعهد أي جَنَّاتُ عَدْنٍ إلخ ولذلك جردت عن النعت وهو كما ترى، والمراد دخولهم فيها بعد البعث بناء على أن المتبادر الدخول بالأرواح والأبدان والمقصود من الأمر بذلك قبل مجيء وقته البشارة بالجنة على أتم وجه ويجوز أن يراد الدخول حين التوفي بناء على حمل الدخول على الدخول بالأرواح كما يشير إليه خبر «القبر روضة من رياض الجنة» وكون البشارة بذلك دون البشارة بدخول الجنة على المعنى الأول لا يمنع عن ذلك على أن لقائل أن يقول: إن البشارة بدخول الجنة بالأرواح متضمنة للبشارة بدخولها بالأرواح والأبدان عند وقته، وكون هذا القول كسابقه عند قبض الأرواح هو المروي عن ابن مسعود، وجماعة من المفسرين، وقال مقاتل والحسن: إن ذلك يوم القيامة، والمراد من التوفي وفاة الحشر أعني تسليم أجسادهم وإيصالها إلى موقف الحشر من توفي الشيء إذا أخذه وافيا، وجوز حمل التوفي على المعنى المتعارف مع كون القول يوم القيامة إما بجعل الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ يقولون مبتدأ وخبرا أو بجعل يقولون حالا مقدرة من الملائكة والَّذِينَ على حاله أولا وحال ذلك لا يخفى بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي بسبب ثباتكم على التقوى والطاعة بالذي كنتم تعملونه من ذلك، والباء للسببية العادية، وهي فيما في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم: «لن يدخل الجنة أحدكم بعمله» الحديث للسببية الحقيقية فلا تعارض بين الآية والحديث وبعضهم جعل الباء للمقابلة دفعا للتعارض لْ يَنْظُرُونَ أي ما ينتظر كفار مكة المار ذكرهم لَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ لقبض أرواحهم كما روي عن قتادة ومجاهد، وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب وطلحة والأعمش «يأتيهم» بالياء آخر الحروف وْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ أي القيامة كما روي عمن تقدم أيضا، وقال بعضهم: المراد به العذاب الدنيوي دونها لا لأن انتظارها يجامع انتظار إتيان الملائكة فلا يلائمه العطف بأو لا لأنها ليست نصا في العناد إذ يجوز أن يعتبر منع الخلو ويراد بإيرادها كفاية كل واحد من الأمرين في عذابهم بل لأن قوله تعالى فيما سيأتي إن شاء الله تعالى: لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فأصابهم الآية صريح في أن المراد به ما أصابهم من العذاب الدنيوي وفيه منع ظاهر، ويؤيد إرادة الأول التعبير- بيأتي- دون يأتيهم، وقيل: المراد بإتيان الملائكة إتيانهم للشهادة بصدق النبي صلى الله عليه وسلم أي ما ينتظرون في تصديقك إلا أن تنزل الملائكة تشهد بنبوتك فهو كقوله تعالى: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الأنعام: 8] والجمهور على الأول، وجعلوا منتظرين لذلك مجازا لأنه يلحقهم لحوق الأمر المنتظر كما قيل. واختير أن ذلك لمباشرتهم أسباب العذاب الموجبة له المؤدية إليه فكأنهم يقصدون إيتاءه ويتصدون لوروده، ولا يخفى ما في التعبير بالرب وإضافته إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من اللطف به عليه الصلاة والسلام، وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى وجه ربط الآيات ذلِكَ أي مثل ذلك الفعل من الشرك والتكذيب عَلَ الَّذِينَ خلوانْ قَبْلِهِمْ من الأمم ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ إذ أصابهم جزاء فعلهم لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالاستمرار على فعل القبائح المؤدي لذلك، قيل: وكان الظاهر أن يقال: ولكن كانوا هم الظالمين في سورة الزخرف لكنه أوثر ما عليه النظم الكريم لإفادة أن غائلة ظلمهم آئلة إليهم وعاقبته مقصورة عليهم مع استلزام اقتصار ظلم كل أحد على نفسه من حيث الوقوع اقتصاره عليه من حيث الصدور فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا أي أجزية أعمالهم السيئة على طريقة إطلاق اسم السبب على المسبب إيذانا بفظاعته، وقيل: الكلام على حذف المضاف. وتعقب بأنه يوهم أن لهم أعمالا غير سيئة والتزم ومثل ذلك بنحو صلة الأرحام، ولا يخفى أن المعنى ليس على التخصيص، والداعي إلى ارتكاب أحد الأمرين أن الكلام بظاهره يدل على أن ما أصابهم سيئة، وليس بها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 374 وقد يستغنى عن ارتكاب ذلك لما ذكر بأن ما يدل عليه الظاهر من باب المشاكلة كما في قوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: 4] كما في الكشاف وَحاقَ بِهِمْ أي أحاط بهم، وأصل معنى الحيق الإحاطة مطلقا ثم خص في الاستعمال بإحاطة الشر، فلا يقال: أحاطت به النعمة بل النقمة. وهذا أبلغ وأفظع من أصابهم ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي من العذاب كما قيل على أن ما موصولة عبارة عن العذاب، وليس في الكلام حذف ولا ارتكاب مجاز على نحو ما مر آنفا، وقيل: ما مصدرية وضمير بِهِ للرسول عليه الصلاة والسلام وإن لم يذكر، والمراد أحاط بهم جزاء استهزائهم بالرسول صلى الله عليه وسلم أو موصولة عامة للرسول عليه الصلاة والسلام وغيره وضمير بِهِ عائد عليها والمعنى على الجزاء أيضا، ولا يخفى ما فيه، وايا ما كان ف بِهِ متعلق- بيستهزئون- قدم للقاصلة، هذا ثم إن قوله تعالى: لْ يَنْظُرُونَ إلخ على ما في الكشف رجوع إلى عد ما هم فيه من العناد والاستشراء في الفساد وأنهم لا يقلعون عن ذلك كأسلافهم الغابرين إلى يوم التناد، وما وقع من أحوال أضدادهم في البين كان لزيادة التحسير والتبكيت والتخسير، وفيه دلالة على أن الحجة قد تمت وأنه صلى الله عليه وسلم أدى ما عليه من البلاغ المبين، وقوله تعالى: فَأَصابَهُمْ عطف على عَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مترتب إذ المعنى كذلك التكذيب والشرك فعل أسلافهم وأصابهم ما أصابهم، وفيه تحذير مما فعله هؤلاء وتذكير لقوله سبحانه: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النحل: 26] ولا يخفى حسن الترتب على ذلك لأن التكذيب والشرك تسببا لإصابة السيئات لمن قبلهم، وقوله سبحانه: ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ اعتراض واقع حاق موقعه، وجعل ذلك راجعا إلى المفهوم من قوله تعالى: لْ يَنْظُرُونَ أي كذلك كان من قبلهم مكذبين لزمتهم الحجة منتظرين فأصابهم ما كانوا منتظرين سديد حسن إلا أن معتمد الكلام الأول وهو أقرب مأخذا، ودلالةعَلَ عليه أظهر، فهذه فذلكة ضمنت محصل ما قابلوا به تلك النعم والبصائر وأدمج فيها تسليته صلى الله عليه وسلم والبشرى بقلب الدائرة على من تربص به وبأصحابه عليه الصلاة والسلام الدوائر وختمت بما يدل على أنهم انقطعوا فاحتجوا بآخر ما يحتج به المحجوج يتقلب عليه فلا يبصر إلا وهو مثلوج مشجوج وهو ما تضمنه قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ فهو من تتمة قوله سبحانه: لْ يَنْظُرُونَ ألا ترى كيف ختم بنحوه آخر مجادلاتهم في سورة [الأنعام: 148] في قوله سبحانه: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا وكذلك في سورة الزخرف ولا تراهم يتشبثون بالمشيئة إلا عند انخزال الحجة وقالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [فصلت: 14] ويكفي في الانقلاب ما يشير إليه قوله سبحانه: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ [الأنعام: 149] وفي إرشاد العقل السليم أن هذه الآية بيان لفن آخر من كفر أهل مكة فهم المراد بالموصول، والعدول عن الضمير إليه لتقريعهم بما في حيز الصلة وذمهم بذلك من أول الأمر، والمعنى لو شاء الله تعالى عدم عبادتنا لشيء غيره سبحانه كما تقول ما عبدنا ذلك نَحْنُ وَلا آباؤُنا الذين نهتدي بهم في ديننا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ من السوائب والبحائر وغيرها- فمن- الأولى بيانية والثانية زائدة لتأكيد الاستغراق وكذا الثالثة ونَحْنُ لتأكيد ضمير عَبَدْنا لا لتصحيح العطف لوجود الفاصل وإن كان محسنا له، وتقدير مفعول شاءَ عدم العبادة مما صرح به بعضهم، وكان الظاهر أن يضم إليه عدم التحريم. واعترض تقدير ذلك بأن العدم لا يحتاج إلى المشيئة كما ينبئ عنه قوله صلى الله عليه وسلم: «ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن» حيث لم يقل عليه الصلاة والسلام ما شاء الله تعالى كان وما شاء عدم كونه لم يكن بل يكفي فيه عدم مشيئة الوجود، وهو معنى قولهم: علة العدم عدم علة الوجود، فالأولى أن يقدر المفعول وجوديا كالتوحيد والتحليل وكامتثال ما جئت به والأمر في ذلك سهل. وفي تخصيص الإشراك والتحريم بالنفي لأنهما أعظم وأشهر ما هم عليه، وغرضهم من ذلك كما قال بعض الجزء: 7 ¦ الصفحة: 375 المحققين تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام والطعن في الرسالة رأسا، فإن حاصله أن ما شاء الله تعالى يجب وما لم يشأ يمتنع فلو أنه سبحانه شاء أن نوحده ولا نشرك به شيئا ونحلل ما أحله ولا نحرم شيئا مما حرمنا كما تقول الرسل وينقلونه من جهته تعالى لكان الأمر كما شاء من التوحيد ونفي الإشراك وتحليل ما أحله وعدم تحريم شيء من ذلك وحيث لم يكن كذلك ثبت أنه لم يشأ شيئا من ذلك بل شاء ما نحن عليه وتحقق أن ما تقوله الرسل عليهم السلام من تلقاء أنفسهم ورد الله تعالى عليهم بقوله سبحانه عز وجل: كَذلِكَ أي مثل ذلك الفعل الشنيع فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم أي أشركوا بالله تعالى وحرموا من دونه ما حرموا وجادلوا رسلهم بالباطل ليدحضوا به الحق فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ الذين أمروا بتبليغ رسالات الله تعالى وعزائم أمره ونهيه. إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي ليست وظيفتهم إلا الإبلاغ للرسالة الموضح طريق الحق والمظهر أحكام الوحي التي منها تحتم تعلق مشيئته تعالى باهتداء من صرف قدرته واختياره إلى تحصيل الحق لقوله تعالى: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [العنكبوت: 69] . وأما إلجاؤهم إلى ذلك وتنفيذ قولهم عليهم شاؤوا أو أبوا كما هو مقتضى استدلالهم فليس ذلك من وظيفتهم ولا من الحكمة التي يدور عليها فلك التكليف حتى يستدل بعدم ظهور آثاره على عدم حقيقة الرسل عليهم السلام أو على عدم تعلق مشيئة الله تعالى بذلك، فإن ما يترتب عليه الثواب والعقاب من الأفعال لا بد في تعلق مشيئته تعالى بوقوعه من مباشرتهم الاختيارية وصرف اختيارهم الجزئي إلى تحصيله وإلا لكان الثواب والعقاب اضطراريين والفاء على هذا للتعليل كأنه قيل كذلك فعل أسلافهم وذلك باطل فإن الرسل عليهم السلام ليس شأنهم إلا تبليغ الأوامر والنواهي لا تحقيق مضمونها قسرا والجاء اه، وكأني بك لا تبريه من تكلف. وهو متضمن للرد على الزمخشري فقد سلك في هذا المقام الغلو في المقال وعدل عن سنن الهدى إلى مهواة الضلال فذكر أن هؤلاء المشركين فعلوا ما فعلوا من القبائح ثم نسبوا فعلهم إلى الله تعالى وقالوا: لَوْ شاءَ اللَّهُ إلى آخره وهذا مذهب المجبرة بعينه كذلك فعل أسلافهم فلما نبهوا على قبح فعلهم وركوه على ربهم فهل على الرسل إلا أن يبلغوا الحق وأن الله سبحانه لا يشاء الشرك والمعاصي بالبيان والبرهان ويطلعوا على بطلان الشرك وقبحه وبراءة الله تعالى من أفعال العباد وأنهم فاعلوها بقصدهم وإرادتهم واختيارهم، والله تعالى باعثهم على جميلها وموفقهم له وزاجرهم عن قبيحها وموعدهم عليه إلى آخر ما قال مما هو على هذا المنوال، ولعمري أنه فسر الآيات على وفق هواه وهي عليه لا له لو تدبر ما فيها وحواه، وقد رد عليه غير واحد من المحققين وأجلة المدققين وبينوا أن الآية بمعزل عن أن تكون دليلا لأهل الاعتزال كما أن الشرطية لا تنتج مطلوب أولئك الضلال، وقد تقدم نبذة من الكلام في ذلك، ثم إن كون غرض المشركين من الشرطية تكذيب الرسل عليهم السلام هو أحد احتمالين في ذلك، قال المدقق في الكشف في نظير الآية: إن قولهم هذا إما لدعوى مشروعية ما هم عليه ردا للرسل عليهم السلام أو لتسليم أنهم على الباطل اعتذارا بأنهم مجبورون، والأول باطل لأن المشيئة تتعلق بفعلهم المشروع وغيره فما شاء الله تعالى أن يقع منهم مشروعا وقع كذلك وما شاء الله تعالى أن يقع لا كذلك وقع لا كذلك، ولا شك أن من توهم أن كون الفعل بمشيئته تعالى ينافي مجيء الرسل عليهم السلام بخلاف ما عليه المباشر من الكفر والضلال فقد كذب التكذيب كله وهو كاذب في استنتاج المقصود من هذه اللزومية، وظاهر الآية مسوق لهذا المعنى، والثاني على ما فيه حصول المقصود وهو الاعتراف بالبطلان باطل أيضا إذ لا جبر لأن المشيئة تعلقت بأن يشركوا اختيارا منهم والعلم تعلق كذلك ومثله في التحريم فهو يؤكد دفع العذر لا أنه يحققه، وذكر أن معنى فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ أن الذي على الرسل أن يبلغوا ويبينوا معالم الهدى بالإرشاد إلى تمهيد قواعد النظر والإمداد بأدلة السمع والبصر ولا عليهم من مجادلة من يريد أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 376 يدحض بباطله الحق الأبلج إذ بعد ذلك التبيين يتضح الحق للناظرين ولا تجدي نفعا مجادلة المعاندين، وجوز أن يكون قولهم هذا منعا للبعثة والتكليف متمسكين بأن ما شاء الله تعالى يجب وما لم يشأ يمتنع فما الفائدة فيهما أو إنكارا لقبح ما أنكر عليهم من الشرك والتحريم محتجين بأن ذلك لو كان مستقبحا لما شاء الله تعالى صدوره عنا أو لشاء خلافه ملجأ إليه، وأشير إلى جواب الشبهة الأولى بقوله سبحانه: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إلى آخره كأنه قيل: إن فائدة البعثة البلاغ الموضح للحق فإن ما شاء الله تعالى وجوده أو عدمه لا يجب ولا يمتنع مطلقا كما زعمتم بل قد يجب أو يمتنع بتوسط أسباب أخر قدرها سبحانه ومن ذلك البعثة فإنها تؤدي إلى هدى من شاء الله تعالى على سبيل التوسط، وأما الشبهة الثانية فقد أشير إلى جوابها في قوله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ من الأمم الخالية رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ هو كل ما يدعو إلى الضلالة، وقال الحسن: هو الشيطان، والمراد من اجتنابه اجتناب ما يدعو إليه. فَمِنْهُمْ أي من أولئك الأمم مَنْ هَدَى اللَّهُ إلى الحق من عبادته أو اجتناب الطاغوت بأن وفقهم لذلك وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ثبتت ووجبت إذ لم يوفقهم ولم يرد هدايتهم، ووجه الإشارة أن تحقق الضلال وثباته من حيث إنه وقع قسيما للهداية التي هي بإرادته تعالى ومشيئته كان هو أيضا كذلك. وأما أن إرادة القبيح قبيحة فلا يجوز اتصاف الله سبحانه بها فظاهر الفساد لأن القبيح كسب القبيح والاتصاف به لا إرادته وخلقه على ما تقرر في الكلام. وأنت تعلم أن كلتا الإشارتين في غاية الخفاء، ولينظر أي حاجة إلى الحصر وما المراد به على جعل فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إلى آخره مشيرا إلى جواب الشبهة الأولى. وقال الإمام: إن المشركين أرادوا من قولهم ذلك أنه لما كان الكل من الله تعالى كان بعثه الأنبياء عليهم السلام عبثا فنقول: هذا اعتراض على الله تعالى وجار مجرى طلب العلة في أحكامه تعالى وأفعاله وذلك باطل إذ لله سبحانه أن يفعل في ملكه ما يشاء ويحكم ما يريد، ولا يجوز أن يقال له لم فعلت هذا ولم لم تفعل ذاك. والدليل على أن الإنكار إنما توجه إلى هذا المعنى أنه تعالى صرح بهذا المعنى في قوله سبحانه: وَلَقَدْ بَعَثْنا إلى آخره حيث بين فيه أن سنته سبحانه في عباده إرسال الرسل إليهم وأمرهم بعبادته ونهيهم عن عبادة غيره، وأفاد أنه تعالى وإن أمر الكل ونهاهم إلا أنه جل جلاله هدى البعض وأضل البعض، ولا شك أنه إنما يحسن منه تعالى ذلك بحكم كونه إلها منزها عن اعتراضات المعترضين ومطالبات المنازعين، فكان إيراد هذا السؤال من هؤلاء الكفار موجبا للجهل والضلال والبعد عن الله المتعال، فثبت أن الله تعالى إنما ذم هؤلاء القائلين لأنهم اعتقدوا أن كون الأمر كذلك يمنع من جواز بعثة الرسل لا لأنهم كذبوا في قولهم ذلك، وهذا هو الجواب الصحيح الذي يعول عليه في هذا الباب، ومعنى فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إلى آخره أنه تعالى أمر الرسل عليهم السلام بالتبليغ فهو الواجب عليهم، وأما أن الإيمان هل يحصل أو لا يحصل فذاك لا تعلق للرسل به ولكن الله تعالى يهدي من يشاء بإحسانه ويضل من يشاء بخذلانه اه وهو كما ترى. ونقل الواحدي في الوسيط عن الزجاج أنهم قالوا ذلك على الهزو ولم يرتضه كثير من المحققين، وذكر بعضهم أن حمله على ذاك لا يلائم الجواب. نعم قال في الكشف عند قوله تعالى: وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ [الزخرف: 20] إنهم دفعوا قول الرسل عليهم السلام بدعوتهم إلى عبادته تعالى ونهيهم عن عبادة غيره سبحانه بهذه المقالة وهم ملزمون على مساق هذا القول لأنه إذا استند الكل إلى مشيئته تعالى فقد شاء إرسال الرسل وشاء دعوتهم إلى العباد وشاء جحودهم وشاء دخولهم النار، فالإنكار والدفع بعد هذا القول دليل على أنهم قالوه لا عن اعتقاد بل مجازفة، وقال في موضع آخر عند نظير الآية أيضا: إنهم كاذبون في هذا القول لجزمهم حيث لا ظن مطلقا فضلا عن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 377 العلم، وذلك لأن من المعلوم أن العلم بصفات الله تعالى فرع العلم بذاته والإيمان بها كذلك والمحتجون به كفرة مشركون مجسمون، وأطال الكلام في هذا المقام في سورة الزخرف. وذكر أن في كلامهم تعجيز الخالق بإثبات التمانع بين المشيئة وضد المأمور به فيلزم أن لا يريد إلا أمر به ولا ينهى إلا وهو لا يريده، وهذا تعجيز من وجهين إخراج بعض المقدورات عن أن يصير محلها وتضييق محل أمره ونهيه وهذا بعينه مذهب إخوانهم القدرية اه ويجوز أن يقال: إن المشركين إنما قالوا ذلك إلزاما بزعمهم حيث سمعوا من المرسلين وأتباعهم أن ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن وإلا فهم أجهل الخلق بربهم جل شأنه وصفاته إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الفرقان: 24] ومرادهم إسكات المرسلين وقطعهم عن دعوتهم إلى ما يخالف ما هم عليه والاستراحة عن معارضتهم فكأنهم قالوا: إنكم تقولون ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن فما نحن عليه مما شاءه الله تعالى وما تدعونا إليه مما لم يشأه وإلا لكان، واللائق بكم عدم التعرض لخلاف مشيئة الله تعالى، فإن وظيفة الرسول الجري على إرادة المرسل لأن الإرسال إنما هو لتنفيذ تلك الإرادة وتحصيل المراد بها، وهذا جهل منهم بحقيقة الأمر وكيفية تعلق المشيئة وفائدة البعثة، وذلك لأن مشيئته تعالى إنما تتعلق وفق علمه وعلمه إنما يتعلق وفق ما عليه الشيء في نفسه، فالله تعالى ما شاء شركهم مثلا إلا بعد أن علم ذلك وما علمه إلا وفق ما هو عليه في نفس الأمر فهم مشركون في الأزل ونفس الأمر إلا أنه سبحانه حين أبرزهم على وفق ما علم فيهم لو تركهم وحالهم كان لهم الحجة عليه سبحانه إذا عذبهم يوم القيامة إذ يقولون حينئذ: ما جاءنا من نذير فأرسل جل شأنه الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل فليس على الرسل إلا تبليغ الأوامر والنواهي لتقوم الحجة البالغة لله تعالى، فالتبليغ مراد الله تعالى من الرسل عليهم السلام لإقامة حجته تعالى على خلقه به، وليس مراده من خلقه إلا ما هم عليه في نفس الأمر خيرا كان أو شرا. وفي الخبر يقول الله تعالى: «يا عبادي إنما أعمالكم أحصيها لكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» ولا منافاة بين الأمر بشيء وإرادة غيره منه تعالى لأن الأمر بذلك حسبما يليق بجلاله وجماله، والإرادة حسبما يستدعيه في الآخرة الشيء في نفسه، وقد قرر الجماعة انفكاك الأمر عن الإرادة في الشاهد أيضا وذكر بعض الحنابلة الانفكاك أيضا لكن عن الإرادة التكوينية لا مطلقا، والبحث مفصل في موضعه، وإذا علم ذلك فاعلم أن قوله سبحانه: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ يتضمن الإشارة إلى ردهم كأنه قيل: ما أشرتم إليه من أن اللائق بالرسل ترك الدعوة إلى خلاف ما شاء الله تعالى منا والجري على وفق المشيئة والسكوت عنا باطل لأن وظيفتهم والواجب عليهم هو التبليغ وهو مراد الله تعالى منهم لتقوم به حجة الله تعالى عليكم لا السكوت وترك الدعوة، وفي قوله سبحانه: وَلَقَدْ بَعَثْنا إلخ إشارة يتفطن لها من له قلب إلى أن المشيئة حسب الاستعداد الذي عليه الشخص في نفس الأمر فتأمل فإن هذا الوجه لا يخلو عن بعد ودغدغة. والذي ذكره القاضي في قوله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا إلخ أنه بين فيه أن البعثة أمر جرت به السنة الإلهية في الأمم كلها سببا لهدي من أراد سبحانه اهتداءه وزيادة لضلال من أراد ضلاله كالغذاء الصالح ينفع المزاج السوي ويقويه ويضر المنحرف ويفنيه. وفي إرشاد العقل السليم أنه تحقيق لكيفية تعلق مشيئته تعالى بأفعال العباد بعد بيان أن الإلجاء ليس من وظائف الرسالة ولا من باب المشيئة المتعلقة بما يدور عليه فلك الثواب والعقاب من الأفعال الاختيارية، والمعنى أنا بعثنا في كل أمة رسولا يأمرهم بعبادة الله تعالى واجتناب الطاغوت فأمروهم فتفرقوا فمنهم من هداه الله تعالى بعد صرف قدرته واختياره الجزئي إلى تحصيل ما هدى إليه ومنهم من ثبت على الضلالة لعناده وعدم صرف قدرته إلى تحصيل الحق، والفاء في فَمِنْهُمْ نصيحة كما أشير إليه، وكان الظاهر في القسم الثاني- ومنهم من أضل الله- إلا أنه غير الأسلوب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 378 إلى ما في النظم الكريم للإشعار بأن ذلك لسوء اختيارهم كقوله تعالى: وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء: 80] وأَنِ يحتمل أن تكون مفسرة لما في البعث من معنى القول وأن تكون مصدرية بتقدير حرف الجر أي بأن اعبدوا الله فَسِيرُوا أيها المشركون المكذبون القائلون: لو شاء الله ما عبدنا من دونه فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ من عاد وثمود ومن سار سيرهم ممن حقت عليه الضلالة وقال كما قلتم لعلكم تعتبرون، وترتب الأمر بالسير على مجرد الإخبار بثبوت الضلالة عليهم من غير إخبار بحلول العذاب للإيذان بأن ذلك غني عن البيان، وفي عطف الأمر الثاني بالفاء إشعار بوجوب المبادرة إلى النظر والاستدلال المنقذين من الضلال إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. والحرص فرط الإرادة. وقرأ النخعي «وإن» بزيادة واو وهو والحسن وأبو حيوة «تحرص» بفتح الراء مضارع حرص بكسرها وهي لغة، والجمهور تَحْرِصْ بكسر الراء مضارع حرص بفتحها وهي لغة الحجاز فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ جواب للشرط على معنى فاعلم ذلك أو علة للجواب المحذوف أي أن تحرص على هداهم لم ينفع حرصك شيئا فإن الله تعالى لا يهدي من يضل، والمراد بالموصول قريش المعبر عنهم فيما مر بالذين أشركوا، ووضع الموصول موضع ضميرهم للتنصيص على أنهم ممن حقت عليهم الضلالة وللإشعار بعلة الحكم، ويجوز أن يراد به ما يشملهم ويدخلون فيه دخولا أوليا، ومعنى الآية على ما قيل: إنه سبحانه لا يخلق الهداية جبرا وقسرا فيمن يخلق فيه الضلالة بسوء اختياره ولا بد من نحو هذا التأويل لأن الحكم بدون ذلك مما لا يكاد يجهل، ومَنْ على هذا مفعول يَهْدِي كما هو الظاهر، وقيل: إن يهدي مضارع هدى بمعنى اهتدى فهو لازم ومَنْ فاعله وضمير الفاعل في يُضِلُّ لله تعالى والعائد محذوف أي من يضله، وقد حكي مجيء هدى بمعنى اهتدى الفراء. وقرأ غير واحد من السبعة والحسن والأعرج ومجاهد وابن سيرين والعطاردي ومزاحم الخراساني وغيرهم «لا يهدى» بالبناء للمفعول- فمن- نائب الفاعل والعائد وضمير الفاعل كما مر، وهذه القراءة أبلغ من الأولى لأنها تدل على أن من أضله الله تعالى لا يهديه كل أحد بخلاف الأولى فإنها تدل على أن الله تعالى لا يهديه فقط وإن كان من لم يهد الله فلا هادي له، وهذا- على ما قيل- إن لم نقل بلزوم هدى وأما إذا قلنا به فهما بمعنى إلا أن هذه صريحة في عموم الفاعل بخلاف تلك مع أن المتعدي هو الأكثر. وقرأت فرقة منهم عبد الله «لا يهدّي» بفتح الياء وكسر الهاء والدال وتشديدها، وأصله يهتدي فأدغم كقولك في يختصم يخصم. وقرأت فرقة أخرى «لا يهدي» بضم الياء وكسر الدال، قال ابن عطية: وهي ضعيفة، وتعقبه في البحر بأنه إذا ثبت هدى لازما بمعنى اهتدى لم تكن ضعيفة لأنه أدخل على اللازم همزة التعدية، فالمعنى لا يجعل مهتديا من أضله. وأجيب بأنه يحتمل أن وجه الضعف عنده عدم اشتهار أهدى المزيد. وقرئ «يضلّ» بفتح الياء، وفي مصحف أبي «فإن الله لا هادي لمن أضل» وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ينصرونهم في الهداية أو يدفعون العذاب عنهم وهو تتميم بإبطال ظن أن آلهتهم تنفعهم شيئا وضمير لهم عائد على معنى من وصيغة الجمع في الناصرين باعتبار الجمعية في الضمير فإن مقابلة الجمع بالجمع تفيد انقسام الآحاد على الآحاد لا لأن المراد نفي طائفة من الناصرين من كل منهم. ثم إن أول هذه الآيات ربما يوهم نصرة مذهب الاعتزال لكن آخرها مشتمل على الوجوه الكثيرة كما قال الإمام الدالة على نصرة مذهب أهل الحق، ولعل الأمر غني عن البيان ولله تعالى الحمد على ذلك وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ شروع في بيان فن آخر من أباطيلهم وهو إنكارهم البعث، وهو على ما في الكشاف وغيره عطف على قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا قيل: ولتضمن الأول إنكار التوحيد وهذا إنكار البعث وهما أمران عظيمان من الكفر والجهل حسن العطف بينهما، والضمير لأهل مكة أيضا أي حلفوا بالله جَهْدَ أَيْمانِهِمْ مصدر منصوب على الحال أي جاهدين في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 379 أيمانهم لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ وهو مبني على أن الميت يعدم ويفنى وأن البعث إعادة له وأنه يستحيل إعادة المعدوم، وقد ذهب إلى هذه الاستحالة الفلاسفة ولم يوافقهم في دعوى ذلك أحد من المتكلمين إلا الكرامية وأبو الحسين البصري من المعتزلة، واحتجوا عليها بما رده المحققون، وبعضهم ادعى الضرورة في ذلك وأن ما يذكر في بيانه تنبيهات عليه، فقد نقل الإمام عن الشيخ أبي علي بن سينا أنه قال: كل من رجع إلى فطرته السليمة ورفض عن نفسه الميل والتعصب شهد عقله الصريح بأن إعادة المعدوم بعينه ممتنعة وفي قسم هؤلاء الكفار على عدم البعث إشارة كما قال في التفسير إلى أنهم يدعون العلم الضروري بذلك. وأنت تعلم أنه إذا جوز إعادة المعدوم بعينه كما هو رأي جمهور المتكلمين فلا إشكال في لبعث أصلا. وأما إن قلنا بعدم جواز الإعادة لقيام القاطع على ذلك فقد قيل: نلتزم القول بعدم انعدام شيء من الأبدان حتى يلزم في البعث إعادة المعدوم وإنما عرض لها التفرق ويعرض لها في البعث الاجتماع فلا إعادة لمعدوم، وفيه بحث وإن أيد بقصة إبراهيم عليه السلام ومن هنا قال المولى ميرزاجان: لا مخلص إلا بأن يقال ببقاء النفس المجردة (1) وإن البدن المبعوث مثل البدن الذي كان في الدنيا وليس عينه بالشخص ولا ينافي هذا قانون العدالة إذ الفاعل هو النفس ليس إلا والبدن بمنزلة السكين بالنسبة إلى القطع فكما أن الأثر المترتب على القطع من المدح والذم والثواب والعقاب إنما هو للقاطع لا للسكين كذلك الأثر المترتب على أفعال الإنسان إنما هو للنفس وهي المتلذذة والمتألمة تلذذا أو تألما عقليا أو حسيا فليس يلزم خلاف العدالة، وأما الظواهر الدالة على عود ذلك الشخص بعينه فمؤولة لفرض القاطع الدال على الامتناع، وذلك بأن يقال: المراد إعادة مادته مع صورة كانت أشبه الصور إلى الصورة الأولى فتدبر وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة يس تحقيق هذا المطلب على أتم وجه. ونقل عن ابن الجوزي وأبي العالية أن هذه الآية نزلت لأن رجلا من المسلمين تقاضى دينا على رجل من المشركين فكان فيما تكلم به المسلم والذي أرجوه بعد الموت فقال المشرك: وإنك لتبعث بعد الموت وأقسم بالله لا يبعث الله من يموت فقص الله تعالى ذلك ورده أبلغ رد بقوله سبحانه: بَلى لإيجاب النفي أي بلى يبعثهم وَعْداً مصدر مؤكد لما دل عليه بَلى إذ لا معنى له سوى الوعد بالبعث والإخبار عنه، ويسمى نحو هذا مؤكدا لنفسه وجوز أن يكون مصدرا لمحذوف أي وعد ذلك وعدا عَلَيْهِ صفة وَعْداً والمراد وعدا ثابتا عليه إنجازه وإلا فنفس الوعد ليس ثابتا عليه، وثبوت الإنجاز لامتناع الخلف في وعده أو لأن البعث من مقتضيات الحكمة. حَقًّا صفة أخرى- لوعدا- وهي مؤكدة إن كان بمعنى ثابتا متحققا ومؤسسة إن كان بمعنى غير باطل أو نصب على المصدرية بمحذوف أي حق حقا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لجهلهم بشؤون الله تعالى من العلم والقدرة والحكمة وغيرها من صفات الكمال وبما يجوز عليه وما لا يجوز وعدم وقوفهم على سر التكوين والغاية القصوى منه وعلى أن البعث مما تقتضيه الحكمة لا يَعْلَمُونَ أنه تعالى يبعثهم، ونعى عليهم عدم العلم بالبعث دون العلم بعدمه الذي يزعمونه على ما يقتضيه ظاهر قسمهم ليعلم منه نعي ذاك بالطريق (2) . وجوز أن يكون للإيذان بأن ما عندهم بمعزل عن أن يسمى علما بل هو توهم صرف وجهل محض، وتقدير مفعول يَعْلَمُونَ ما علمت هو الأنسب بالسياق، وجوز أن يكون التقدير لا يعلمون أنه وعد عليه حق فيكذبونه   (1) بناء على تسليم وجود النفس المجردة وإلا فيكفي بقاء مادة البدن تدبر اه منه. [ ..... ] (2) قوله بالطريق هكذا بخطه ولعله بالطريق الأولى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 380 قائلين: لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [المؤمنون: 83، النمل: 68] لِيُبَيِّنَ لَهُمُ متعلق بما دل عليه بَلى وهو يبعثهم، والضمير لمن يموت الشامل للمؤمنين والكافرين إذ التبيين يكون للمؤمنين أيضا فإنهم وإن كانوا عالمين بذلك لكنه عند معاينة حقيقة الحال يتضح الأمر فيصل علمهم إلى مرتبة عين اليقين أي يبعثهم ليبين لهم بذلك وبما يحصل لهم بمشاهدة الأحوال كما هي ومعاينتها بصورها الحقيقية الشأن الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ (1) من الحق الشامل لجميع ما خالفوه مما جاء به الرسل المبعوثون فيهم ويدخل فيه البعث دخولا أوليا، والتعبير عن ذلك بالموصول للدلالة على فخامته وللإشعار بعلية ما ذكر في حيز الصلة للتبيين، وتقديم الجار والمجرور لرعاية رؤوس الآي وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله تعالى بالإشراك وإنكار البعث الجسماني وتكذيب الرسل عليهم السلام أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ في كل ما يقولونه ويدخل فيه قولهم: لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ دخولا أوليا. ونقل في البحر القول بتعلق لِيُبَيِّنَ إلخ بقوله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أي بعثناه ليبين لهم ما اختلفوا فيه وأنهم كانوا على الضلالة قبل بعثه مفترين على الله سبحانه الكذب ولا يخفى بعد ذلك وتبادر ما تقدم، وجعل التبيين والعلم المذكورين غاية للبعث كما في إرشاد العقل السليم باعتبار وروده في معرض الرد على المخالفين وابطال مقالة المعاندين المستدعي للتعرض لما يردعهم عن المخالفة ويأخذ بهم إلى الإذعان للحق فإن الكفرة إذا علموا أن تحقق البعث إذا كان لتبيين أنه حق وليعلموا أنهم كاذبون في إنكاره كان أزجر عن إنكاره وأدعى إلى الاعتراف به ضرورة أنه يدل على صدق العزيمة على تحقيقه كما تقول لمن ينكر أنك تصلي لأصلين رغما لأنفك وإظهارا لكذبك، ولأن تكرر الغايات أدل على وقوع المغيا بها وإلا فالغاية الأصلية للبعث باعتبار ذاته إنما هو الجزاء الذي هو الغاية القصوى للخلق المغيا بمعرفته عز وجل وعبادته، وإنما لم يذكر ذلك لتكرر ذكره في مواضع وشهرته، وفيه أنه إنما لم يدرج على الكفار بكذبهم تحت التبيين بأن يقال مثلا: وإن الذين كفروا كانوا كاذبين بل جيء بصيغة العلم لأن ذلك ليس مما يتعلق به التبيين الذي هو عبارة عن إظهار ما كان مبهما قبل ذلك بأن يخبر به فيختلف فيه كالبعث الذي نطق به القرآن فاختلف فيه المختلفون، وأما كذب الكافرين فليس من هذا القبيل، ويستفاد من تحقيقه في نظير ما هنا أنه لما كان مدلول الخبر هو الصدق والكذب احتمال عقلي وكان معنى تبيين الصدق إظهار ذلك المدلول وقطع احتمال نقيضه بعد ما كان محتملا له عقليا ناسب أن يعلق التبيين بالذي فيه يختلفون من الحق، وليس بين الصدق والحق كثير فرق، ولما كان الكذب أمرا حادثا لا دلالة الخبر عليه حتى يتعلق به التبيين والإظهار بل هو نقيض مدلوله فما يتعلق به يكون علما مستأنفا ناسب أن يعلق العلم بأنهم كانوا كاذبين فليتدبر. قيل: ولكون العلم بما ذكر من روادف ذلك التبيين قيل وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا دون وليجعل الذين كفروا عالمين، وخص الإسناد بهم حيث لم يقل وليعلموا أن الذين كفروا كانوا كاذبين تنبيها على أن الأهم علمهم وقيل: لم يقل ذلك لأن علم المؤمنين بما ذكر حاصل قبل ذلك أيضا. وتعقب بأن حصول مرتبة من مراتب العلم لا يأبى حصول مرتبة أعلا منها فلم لم يقل ذلك إيذانا بحصول هذه المرتبة من العلم لهم حينئذ، ولعل فيه غفلة عن مراد القائل، وجوز أن يراد من علم الكفرة بأنهم كانوا كاذبين تعذيبهم على كذبهم فكأنه قيل: ليظهر للمؤمنين والكافرين الحق وليعذب الكافرون على كذبهم فيما كانوا يقولونه من أنه تعالى لا يبعث من يموت ونحوه، وهذا كما يقال للجاني: غدا تعلم جنايتك، وحينئذ وجه تخصيص الاسناد بهم ظاهر، وهو كما ترى. وزعم بعض الشيعة أن الآية في   (1) في الأصل «فيه يختلفون» وبني عليه قوله الآتي وتقديم الجار والمجرور لرعاية رؤوس الآي ولكن التلاوة (يختلفون فيه) اه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 381 علي كرم الله تعالى وجهه والأئمة من بنيه رضي الله تعالى عنهم وأنها من أدلة الرجعة التي قال بها أكثرهم، وهو زعم باطل، والقول بالرجعة محض سخافة لا يكاد يقول بها من يؤمن بالبعث، وقد بين ذلك على أتم وجه في التحفة الاثني عشرية، ولعل النوبة تفضي إن شاء الله تعالى إلى بيانه، وما أخرجه ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه إنه قال: إن قوله تعالى وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ الآية نزلت في غير مسلم الصحة، وعلى فرض التسليم لا دليل فيه على ما يزعمونه من الرجعة بأن يقال إنه رضي الله تعالى عنه أراد أنها نزلت بسببي، ويكون رضي الله تعالى عنه هو الرجل الذي تقاضى دينا له على رجل من المشركين فقال ما قال كما مر عن ابن الجوزي وأبي العالية، وأخرجه عن أبي العالية عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم واستنبط الشيخ بهاء الدين من الآية دليلا على أن الكذب مخالفة الواقع ولا عبرة بالاعتقاد وهو ظاهر فافهم. إِنَّما قَوْلُنا استئناف لبيان التكوين على الإطلاق ابتداء أو إعادة بعد التنبيه على إنية البعث ومنه يعلم كيفيته- فما- كافة وقَوْلُنا مبتدأ، وقوله تعالى: لِشَيْءٍ متعلق به واللام للتبليغ كما في قولك: قلت لزيد قم فقام، وقال الزجاج: هي لام السبب أي لأجل إيجاد شيء، وتعقب بأنه ليس بواضح والمتبادر من الشيء هنا المعدوم وهو أحد إطلاقاته، وقد برهن الشيخ إبراهيم الكوراني عليه الرحمة على أن إطلاق الشيء على المعدوم حقيقة كإطلاقه على الموجود وألف في ذلك رسالة جليلة سماها جلاء الفهوم، ويعلم منها أن القول بذلك الإطلاق ليس خاصا بالمعتزلة كما هو المشهور، ولهذا أول هنا من لم يقف على التحقيق من الجماعة فقال: إن التعبير عنه بذلك باعتبار وجوده عند تعلق مشيئته تعالى به لا أنه كان شيئا قبل ذلك. وفي البحر نقلا عن ابن عطية أن في قوله تعالى: لِشَيْءٍ وجهين: أحدهما أنه لما كان وجوده حتما جاز أن يسمى شيئا وهو في حال العدم، والثاني أن ذلك تنبيه على الأمثلة التي ينظر فيها وأن ما كان منها موجودا كان مرادا وقيل له كن فكان فصار مثالا لما يتأخر من الأمور بما تقدم، وفي هذا مخلص من تسمية المعدوم شيئا اه، وفيه من الخفاء ما فيه، وأيّا ما كان فالتنوين للتنكير أي لشيء أي شيء كان مما عز وهان إِذا أَرَدْناهُ ظرف- لقولنا- أي وقت تعلق إرادتنا بإيجاده أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ في تأويل مصدر خبر للمبتدأ، واللام في لَهُ كاللام في لِشَيْءٍ فَيَكُونُ إما عطف على مقدر يفصح عنه الفاء وينسحب عليه الكلام أي فنقول ذلك فيكون، وإما جواب لشرط محذوف أي فإذا قلنا ذلك فهو يكون، وقيل: إنه بعد تقدير هو تكون الجملة خبرا لمبتدأ محذوف أي ما أردناه فهو يكون، وكان في الموضعين تامة، والذي ذهب إليه أكثر المحققين وذكره مقتصرا عليه شيخ الإسلام أنه ليس هناك قول ولا مقول له ولا أمر ولا مأمور حتى يقال: إنه يلزم أحد المحالين إما خطاب المعدوم أو تحصيل الحاصل أو يقال: إِنَّما مستدعية انحصار قوله تعالى في قوله تعالى: كُنْ وليس يلزم منه انحصار أسباب التكوين فيه كما يفيده قوله سبحانه: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] فإن المراد بالأمر الشأن الشامل للقول والفعل ومن ضرورة انحصاره في كلمة كن انحصار أسبابه على الإطلاق في ذلك بل إنما هو تمثيل لسهولة تأتي المقدورات حسب تعلق مشيئته تعالى وتصوير لسرعة حدوثها بما هو علم في ذلك من طاعة المأمور المطيع لأمر الآمر المطاع، فالمعنى إنما إيجادنا لشيء عند تعلق مشيئتنا به أن نوجده في أسرع ما يكون، ولما عبر عنه بالأمر الذي هو قول مخصوص وجب أن يعبر عن مطلق الإيجاد بالقول المطلق. وقيل: إن الكلام على حقيقته وبذلك جرت العادة الإلهية ونسب إلى السلف، وأجيب لهم عن حديث لزوم أحد المحذورين تارة بأن الخطاب تكويني ولا ضير في توجهه إلى المعدوم، وتعقب بأنه قول بالتمثيل وتارة بأن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 382 المعدوم ثابت في العلم ويكفي في صحة خطابه ذلك حتى أن بعضهم قال بأنه مرئي له تعالى في حال عدمه، وتعقب بما يطول، وأما حديث الانحصار فقالوا إن الأمر فيه هين، وقد مر بعض الكلام في هذا المقام. واحتج بعض أهل السنة بالآية بناء على الحقيقة على قدم القرآن قال: إنها تدل على أنه تعالى إذا أراد إحداث شيء قال له كن فلو كان كن حادثا لزم التسلسل وهو محال فيكون قديما ومتى قيل بقدم البعض فليقل بقدم الكل، وتعقب بأن كلمة إذا لا تفيد التكرار ولذا إذا قال لامرأته: إذا دخلت الدار فأنت طالق فدخلت مرات لا تطلق إلا طلقة واحدة فلا يلزم أن يكون كل محدث محدثا بكلمة كن فلا يلزم التسلسل على أن القول بقدم كُنْ ضروري البطلان لما فيه من ترتب الحروف، وكذا يقال في سائر الكلام اللفظي. وقال الإمام: إن الآية مشعرة بحدوث الكلام من وجوه: الأول أن قوله تعالى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ يقتضي كون القول واقعا بالإرادة وما كان كذلك فهو محدث، والثاني أنه علق القول بكلمة إِذا ولا شك أنها تدخل للاستقبال، والثالث أن قوله تعالى: أَنْ نَقُولَ لا خلاف في أنه ينبئ عن الاستقبال، والرابع أن قوله سبحانه كُنْ فَيَكُونُ كن فيه مقدمة على حدوث المكون ولو بزمان واحد والمقدم على المحدث كذلك محدث فلا بد من القول بحدوث الكلام. نعم إنها تشعر بحدوث الكلام اللفظي الذي يقول به الحنابلة ومن وافقهم ولا تشعر بحدوث الكلام النفسي. والأشاعرة في المشهور عنهم لا يدعون إلا قدم النفسي وينكرون قدم اللفظي، وهو بحث أطالوا الكلام فيه فليراجع. وما ذكر من دلالة إِذا ونَقُولَ على الاستقبال هو ما ذكره غير واحد، لكن نقل أبو حيان عن ابن عطية أنه قال: ما في ألفاظ هذه الآية من معنى الاستقبال والاستئناف إنما هو راجع إلى المراد لا إلى الإرادة، وذلك أن الأشياء المرادة المكونة في وجودها استئناف واستقبال لا في إرادة ذلك ولا في الأمر به لأن ذينك قديمان فمن أجل المراد عبر بإذا ونقول. وأنت تعلم أنه لا كلام في قدم الإرادة لكنهم اختلفوا في أنها هل لها تعلق حادث أم لا فقال بعضهم بالأول، وقال آخرون: ليس لها إلا تعلق أزلي لكن بوجود الممكنات فيما لا يزال كل في وقته المقدر له. فالله تعالى تعلقت إرادته في الأزل بوجود زيد مثلا في يوم كذا وبوجود عمرو في يوم كذا وهكذا، ولا حاجة إلى تعلق حادث في ذلك اليوم، وأما الأمر فالنفسي منه قديم واللفظي حادث عن القائلين بحدوث الكلام اللفظي. وأما الزمان فكثيرا ما لا يلاحظ في الأفعال المستندة إليه تعالى، واعتبر كان الله تعالى ولا شيء معه وخلق الله تعالى العالم ونحو ذلك ولا أرى هذا الحكم مخصوصا فيما إذا فسر الزمان بما ذهب إليه الفلاسفة بل يطرد في ذلك وفيما إذا فسر بما ذهب إليه المتكلمون فتأمل والله تعالى الهادي. وجعل غير واحد الآية لبيان إمكان البعث، وتقريره أن تكوين الله تعالى بمحض قدرته ومشيئته لا توقف له على سبق المواد والمدد وإلا لزم التسلسل، وكما أمكن له تكوين الأشياء ابتداء بلا سبق مادة ومثال أمكن له تكوينها إعادة بعده وظاهره أنه قول بإعادة المعدوم، وظواهر كثير من النصوص أن البعث بجمع الأجزاء المتفرقة، وسيأتي تحقيق ذلك كما وعدناك آنفا إن شاء الله تعالى. وقرأ ابن عامر والكسائي هاهنا وفي [يس: 82] فَيَكُونُ بالنصب، وخرجه الزجاج على العطف على نَقُولَ أي فإن يكون أو على أن يكون جواب كُنْ، وقد رد هذا الرضي وغيره بأن النصب في جواب الأمر مشروط بسببية مصدر الأول للثاني وهو لا يمكن هنا لاتحادهما فلا يستقيم ذاك، ووجه بأن مراده أنه نصب لأنه مشابه لجواب الأمر لمجيئه بعده وليس بجواب له من حيث المعنى لأنه لا معنى لقولك: قلت لزيد اضرب تضرب. وتعقب بأنه لا يخفى ضعفه وأنه يقتضي إلغاء الشرط المذكور، ثم قيل: والظاهر أن يوجه بأنه إذا صدر مثله عن البليغ على قصد التمثيل لسرعة التأثير بسرعة مبادرة المأمور إلى الامتثال يكون المعنى أن أقل لك اضرب تسرع إلى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 383 الامتثال فيكون المصدر المسبب عنه مسبوكا من الهيئة لا من المادة، ومصدر الثاني من المادة أو محصل المعنى وبه يحصل التغاير بين المصدرين ويتضح السببية والمسببية، وقال بعضهم: إن مراد من قال إن النصب للمشابهة لجواب الأمر أن فَيَكُونُ كما في قراءة الرفع معطوف على ما ينسحب عليه الكلام أو هو بتقدير فهو يكون خبر لمبتدأ محذوف إلا أنه نصب لهذه المشابهة، وفيه ما فيه وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ أي في حقه- ففي- على ظاهرها ففيه إشارة إلى أنها هجرة متمكنة تمكن الظرف في مظروفه فهي ظرفية مجازية أو لأجل رضاه- ففي- للتعليل كما في قوله صلى الله عليه وسلم: «إن امرأة دخلت النار في هرة» والمهاجرة في الأصل مصارمة الغير ومتاركته واستعملت في الخروج من دار الكفر إلى دار الإيمان أي والذين هجروا أوطانهم وتركوها في الله تعالى وخرجوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا أي من بعد ظلم الكفار إياهم. أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ظلمهم أهل مكة فخرجوا من ديارهم حتى لحق طوائف منهم بأرض الحبشة ثم بوأهم الله تعالى المدينة بعد ذلك حسبما وعد سبحانه بقوله جل وعلا: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً أي مباءة حسنة، وحاصله لننزلهم في الدنيا منزلا حسنا، وعن الحسن دارا حسنة، والتقدير الأول أظهر لدلالة الفعل عليه، والثاني أوفق بقوله تعالى: تَبَوَّؤُا الدَّارَ [الحشر: 9] ، وأيّا ما كان- فحسنة- صفة محذوف منصوب نصب الظروف، وجوز أن يكون مفعولا ثانيا لنبوئنهم على معنى لنعطينهم منزلة حسنة، وفسر ذلك بالغلبة على أهل مكة الذين ظلموهم وعلى العرب قاطبة، وقيل: هي ما بقي لهم في الدنيا من الثناء وما صار لأولادهم من الشرف، وعن مجاهد أن التقدير معيشة حسنة أي رزقا حسنا وقيل: التقدير عطية حسنة، والمراد بالعطية المعطى، ويفسر ذلك بكل شيء حسن ناله المهاجرون في الدنيا، وقدر بعضهم تبوئة حسنة فهو صفة مصدر محذوف، وقد تعتبر هذه التبوئة بحيث تشمل إعطاء كل شيء حسن صار للمهاجرين على نحو السابق. وفي البحر أن الظاهر أن انتصاب حَسَنَةً على المصدر على غير الصدر لأن معنى لنبوئنهم لنحسنن إليهم فحسنة بمعنى إحسانا، وعلى جميع التقادير الَّذِينَ هاجَرُوا مبتدأ وجملة لَنُبَوِّئَنَّهُمْ خبره. وجوز أبو البقاء أن يكون الَّذِينَ منصوب بفعل محذوف يفسره المذكور، والأول متعين عند أبي حيان قال: وفيه دليل على صحة وقوع الجملة القسمية خبرا للمبتدأ خلافا لثعلب، والذي ذهب إليه بعض المحققين أن الخبر في مثل ذلك «إنما هو جملة الجواب المؤكدة بالقسم وهي إخبارية لا إنشائية، واعترض على أبي البقاء في الوجه الثاني بأنه لا يجوز النصب بالفعل المحذوف إلا حيث يجوز للمذكور أن يعمل في ذلك المنصوب حتى يصح أن يكون مفسرا وما هنا ليس كذلك فإنه لا يجوز زيدا لأضربن فلا يجوز زيدا لأضربنه، والجار والمجرور متعلق بما عنده، وقيل: بمحذوف وقع حالا من حَسَنَةً هذا. ونقل عن ابن عباس أن الآية نزلت في صهيب وبلال وعمار وخباب وعابس وجبير وأبي جندل بن سهيل أخذهم المشركون فجعلوا يعذبونهم ليردوهم عن الإسلام، فأما صهيب فقال لهم: أنا رجل كبير إن كنت معكم لم أنفعكم وإن كنت عليكم لم أضركم فافتدى منهم بماله وهاجر فلما رآه أبو بكر رضي الله تعالى عنه قال: ربح البيع يا صهيب وقال عمر رضي الله تعالى عنه: نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه، والجمهور على ما روي عن قتادة بل قال ابن عطية: إنه الصحيح، ولم نجد لهذا الخبر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما سندا يعول عليه. وذكر العلامة الشيخ بها الدين السبكي في شرح التلخيص كغيره من المحدثين مثل الحافظ العلامة زين الدين عبد الرحيم العراقي وولده الفقيه الحافظ أبي زرعة وغيرهما فيما نسب لعمر رضي الله تعالى عنه فيه من قوله: نعم العبد صهيب إلى آخره أنا لم نجده في شيء من كتب الحديث بعد الفحص الشديد، وهذا يوقع شبهة قوية في صحة ذلك. نعم في الدر المنثور، أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في هؤلاء الذين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 384 هاجروا: هم قوم من أهل مكة هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ظلمهم ثم قال: وظلمهم الشرك، لكن يقتضي هذا بظاهره أنه رضي الله تعالى عنه كان يقرأ «ظلموا» بالبناء للفاعل. وأورد على الخبرين أنه قيل: إن السورة مكية إلا ثلاث آيات في آخرها فإنها مدنية، ويلتزم إذا صح الخبر الذهاب إلى أن فيها مدنيا غير ذلك، أو القول بأن المراد من المكي ما نزل في حق أهل مكة، أو أن هذه الآية لم تنزل بالمدينة وأن المكي ما نزل بغيرها، أو القول بأن ذلك من الإخبار بالشيء قبل وقوعه، والكل كما ترى، ولا يرد على القول الأول الذي عليه الجمهور أنه مخالف للقول المشهور في السورة لأن هجرة الحبشة كانت قبل هجرة المدينة فلا مانع من كون الآية مكية بالمعنى المشهور عليه، لكن قيل: إن قتادة القائل بما تقدم قائل بأن هذه الآية إلى آخر السورة مدنية وهو آب عما ذكر، ومن هنا حمل بعضهم ما نقل عنه سابقا على أن نزولها كان بين الهجرتين بالمدينة، ولا يمكن الجمع بين هذه الأقوال أصلا، والذي ينبغي أن يعول عليه أن السورة مكية إلا الآيات ليست هذه منها بل هي مكية نزلت بين الهجرتين فيمن ذكره الجمهور، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال، وقال بعضهم: إن الذين هاجروا عام في المهاجرين كائنا من كان فيشمل أولهم وآخرهم وكان هذا من قائله اعتبار لعموم اللفظ لا لخصوص السبب كما هو المقرر عندهم. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه، وعبد الله رضي الله تعالى عنه. ونعيم بن ميسرة. والربيع بن خيثم- لنثوينهم- بالثاء المثلثة من أثوى المنقول بهمزة التعدية من ثوى بالمكان أقام فيه، قال في البحر: وانتصاب (حسنة) على تقدير إثواءة حسنة أو على نزع الخافض أي في حسنة أي دار حسنة أو منزلة حسنة ولا مانع على ما قيل من اعتبار تضمين الفعل معنى نعطيهم كما أشير إليه أولا. واستدل بالآية على أحد الأقوال على شرف المدينة وشرف إخلاص العمل لله تعالى وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أي أجر أعمالهم المذكورة في الدار الآخرة أَكْبَرُ مما يعجل لهم في الدنيا. أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عمر بن الخطاب أنه كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاء يقول له: خذ بارك الله تعالى لك هذا ما وعدك الله تعالى في الدنيا وما أخر لك في الآخرة أفضل ثم يقرأ هذه الآية، وقيل: المراد أكبر من أن يعلمه أحد قبل مشاهدته، ولا يخفى ما في مخالفة أسلوب هذا الوعد لما قبله من المبالغة لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الضمير للكفرة الظالمين أي لو علموا أن الله تعالى يجمع لهؤلاء المهاجرين خير الدارين لوافقوهم في الدين، وقيل: هو للمهاجرين أي لو علموا ذلك لزادوا في الاجتهاد ولما تألموا لما أصابهم من المهاجرة وشدائدها ولازدادوا سرورا. وفي المعالم لا يجوز ذلك لأن المهاجرين يعلمونه ودفع بأن المراد علم المشاهدة وليس الخبر كالمعاينة أو المراد العلم التفصيلي. وجوز أن يكون الضمير للمتخلفين عن الهجرة يعني لو علم المتخلفون عن الهجرة ما للمهاجرين من الكرامة لوافقوهم. الَّذِينَ صَبَرُوا على ما نالهم من الظلم ولم يرجعوا القهقرى وعلى مفارقة الوطن وهو حرم الله سبحانه المحبوب لكل مؤمن فضلا عمن كان مسقط رأسه وعلى احتمال الغربة بين أناس أجانب في النسب لم يألفهم وعلى غير ذلك، ومحل الموصول النصب بتقدير أعني أو الرفع بتقدير- هم- ويجوز أن يكون تابعا للذين هاجروا بدلا أو بيانا أو نعتا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ منقطعين إليه معرضين عمن سواه مفوضين إليه الأمر كله كما يفيده حذف متعلق التوكل، وقيل: تقديم الجار والمجرور المؤذن بالحصر وكونه لرعاية الفواصل غير متعين، وصيغة الاستقبال إما للاستمرار أو لاستحضار تلك الصورة البديعة، والجملة إما معطوفة على الصلة أو حال من ضمير صبروا. وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ رد لقريش حيث أنكروا رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: الله تعالى أعظم أن يكون رسوله بشرا هلا بعث إلينا ملكا أي جرت السنة الإلهية حسبما اقتضته الحكمة بأن لا نبعث للدعوة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 385 العامة إلا بشرا نوحي إليهم بواسطة الملك في الأغلب الأوامر والنواهي ليبلغوها، ويحترز بالدعوة العامة عن بعث الملك للأنبياء عليهم السلام للتبليغ أو لغيرهم كبعثه لمريم للبشارة، وبالأغلب بعض أقسام الوحي مما لم يكن بواسطة الملك كما يشير إليه قوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ [الشورى: 51] وقرأ الجمهور «يوحى» بالياء وفتح الحاء. وفرقة بالياء وكسرها وعبد الله والسلمي وطلحة. وحفص بالنون وكسرها. وفي ذلك من تعظيم أمر الوحي ما لا يخفى. ولما كان المقصود من الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم تنبيه الكفار على مضمونه صرف الخطاب إليهم فقيل فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ أي أهل الكتاب من اليهود والنصارى قاله ابن عباس والحسن والسدي وغيرهم، وتسمية الكتاب تعلم مما سيأتي إن شاء الله تعالى، وعن مجاهد تخصيصه بالتوراة لقوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ [الأنبياء: 105] فأهله اليهود. قال في البحر والمراد من لم يسلم من أهل الكتاب لأنهم الذين لا يتهمون عند أهل مكة في إخبارهم بأن الرسل عليهم السلام كانوا رجالا فاخبارهم بذلك حجة عليهم، والمراد كسر حجتهم وإلزامهم وإلا فالحق واضح في نفسه لا يحتاج فيه إلى أخبار هؤلاء، وقد أرسل المشركون بعد نزولها إلى أهل يثرب يسألونهم عن ذلك، وقال الأعمش وابن عيينة وابن جبير: المراد من أسلم منهم كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي رضي الله تعالى عنهما وغيرهما. ويضعفه أن قول من أسلم لا حجة فيه على الكفار ومنه يعلم ضعف ما قاله أبو جعفر. وابن زيد من أن المراد الذكر القرآن لأن الله تعالى سماه ذكرا في مواضع منها ما سيأتي إن شاء الله تعالى قريبا، وأهل الذكر على هذا المسلمون مطلقا، وخصهم بعض الإمامية بالأئمة أهل البيت احتجاجا بما رواه جابر. ومحمد بن مسلم منهم عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه قال: نحن أهل الذكر، وبعضهم فسر الذكر بالنبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: ذِكْراً رَسُولًا [الطلاق: 10، 11] على قول، ويقال على مقتضى ما في البحر: كيف يقنع كفار أهل مكة بخبر أهل البيت في ذلك وليسوا بأصدق من رسول الله عندهم وهو عليه الصلاة والسلام المشهور فيما بينهم بالأمين، ولعل ما رواه ابن مردويه منا موافقا بظاهره لمن زعمه ذلك البعض من الإمامية عن أنس قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الرجل ليصلي ويصوم ويحج ويعتمر وإنه لمنافق قيل: يا رسول الله بماذا دخل عليه النفاق؟ قال: يطعن على إمامه وإمامه من قال الله تعالى في كتابه: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إلى آخره» مما لا يصح، وأنا أقول يجوز أن يراد من أهل الذكر أهل القرآن وإن قال أبو حيان ما قال وستعلم وجهه قريبا إن شاء الله تعالى المنان، وقال الرماني والزجاج، والأزهري: المراد بأهل الذكر علماء أخبار الأمم السالفة كائنا من كان فالذكر بمعنى الحفظ كأنه قيل: اسألوا المطلعين على أخبار الأمم يعلموكم بذلك إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ وجواب إن إما محذوف لدلالة ما قبله عليه أي فاسألوا، وإما نفس ما قبله بناء على جواز تقدم الجواب على الشرط. واستدل بالآية على أنه تعالى لم يرسل امرأة ولا صبيا ولا ينافيه نبوة عيسى عليه السلام في المهد فإن النبوة أعم من الرسالة ولا يقتضي صحة القول بنبوة مريم أيضا لأن غايته نفي رسالة المرأة، ولا يلزم من ذلك إثبات نبوتها، وذهب إلى صحة نبوة النساء جماعة وصحح ذلك ابن السيد، ولا ينافي ما دلت عليه الآية من نفي إرسال الملائكة عليهم السلام قوله تعالى: جاعل الملائكة رسلا لأن المراد جاعلهم رسلا إلى الملائكة أو إلى الأنبياء عليهم السلام لا للدعوة العامة وهو المدعى كما علمت فالرسول إما بالمعنى المصطلح أو بالمعنى اللغوي، وقال الجبائي: إن الملائكة عليهم السلام لم يبعثوا إلى الأنبياء عليهم السلام إلا ممثلين بصور الرجال ورد بما روي أن نبينا صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام على صورته التي هو عليها مرتين وهو وارد على الحصر المقتضي للعموم فلا يرد عليه أنه لا دلالة فيما روى على رؤية من قبل نبينا عليه الصلاة والسلام لجبريل عليه السلام على صورته مع أنه إذا ثبت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 386 ولم يثبت أنه من خصوصياته عليه الصلاة والسلام فلا مانع من ثبوته لغيره قاله الشهاب، وذكر أنه نقل الإمام عن القاضي أن مراد الجبائي أنهم لم يبعثوا إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بحضرة أممهم إلا وهم على صور الرجال كما روي أن جبريل عليه السلام حضر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بمحضر من أصحابه في صورة دحية الكلبي وفي صورة سراقة وفي صورة أعرابي لم يعرفوه. واستدل بها أيضا على وجوب المراجعة للعلماء فيما لا يعلم. وفي الإكليل للجلال السيوطي أنه استدل بها على جواز تقليد العام في الفروع وانظر التقييد بالفروع فإن الظاهر العموم لا سيما إذا قلنا إن المسألة المأمورين بالمراجعة فيه والسؤال عنها من الأصول، ويؤيد ذلك ما نقل عن الجلال المحلي أنه يلزم غير المجتهد عاميا كان أو غيره التقليد للمجتهد لقوله تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ والصحيح أنه لا فرق بين المسائل الاعتقادية وغيرها وبين أن يكون المجتهد حيا أو ميتا اه. وصحيح هو وغيره امتناع التقليد على المجتهد مطلقا سواء كان له قاطع أو لا وسواء كان مجتهدا بالفعل أو له أهلية الاجتهاد، ومقتضى كلامهم أنه لا فرق بين تقليد أحد أئمة المذاهب الأربع وتقليد غيره من المجتهدين نعم ذكر العلامة ابن حجر، وغيره أنه يشترط في تقليد الغير أن يكون مذهبه مدونا محفوظ الشروط والمعتبرات فقول السبكي: إن مخالف الأربعة كمخالف الإجماع محمول على ما لم يحفظ ولم تعرف شروطه وسائر معتبراته من المذاهب التي انقطع حملتها وفقدت كتبها كمذهب الثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى وغيرهم، ثم إن تقليد الغير بشرطه إنما يجوز في العمل وأما للإفتاء والقضاء فيتعين أحد المذاهب الأربع، واستشكل الفرق العلامة ابن قاسم العبادي، وأجيب بأنه يحتمل أن يكون الفرق أنه يحتاط فيهما لتعديهما ما لا يحتاط في العمل فيتركان لأدنى محذور ولو محتملا، ونظير ذلك ما ذكره بعض الشافعية في القولين المتكافئين أنه لا يفتى ولا يقضى بكل مهما لاحتمال كونه مرجوحا ويجوز العلم به وذكر الإمام أن من الناس من جوز التقليد للمجتهد لهذه الآية فقال: لما لم يكن أحد المجتهدين عالما وجب عليه الرجوع إلى المجتهد العالم لقوله تعالى: فَسْئَلُوا الآية فإن لم يجب فلا أقل من الجواز، وأيد ذلك بأن بعض المجتهدين نقلوا مذاهب بعض الصحابة وأقروا الحكم عليه، والصحيح ما سمعت أولا، وما ذكر ليس بتقليد بل هو من باب موافقة الاجتهاد الاجتهاد. واحتج بها أيضا نفاة القياس فقالوا: المكلف إذا نزلت به واقعة فإن كان عالما بحكمها لم يجز له القياس وإلا وجب عليه سؤال من كان عالما بها بظاهر الآية ولو كان القياس حجة لما وجب عليه السؤال لأجل أنه يمكنه استنباط ذلك الحكم بالقياس، فثبت أن تجويز العمل بالقياس يوجب ترك العمل بظاهر الآية فوجب أن لا يجوز. وأجيب بأنه ثبت جواز العمل بالقياس بإجماع الصحابة والإجماع أقوى من هذا الدليل. وقال بعضهم: إذا كان المكلف ممن يقدر على القياس كان ممن يعلم فلا يجب عليه السؤال فتأمل. بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ أي بالمعجزات والكتب، والأولى للدلالة على الصدق، والثانية لبيان الشرائع والتكاليف. وانحرف عن الحق من فسرهما بما هو مصطلح أهل الحرف. والجار المجرور متعلق بمقدر يدل عليه ما قبله وقع جوابا عن سؤال من قال: بم أرسلوا؟ فقيل: أرسلوا بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ. وجوز الزمخشري والحوفي تعلقه- بأرسلنا- السابق داخلا تحت حكم الاستثناء مع رِجالًا أي وما أرسلنا إلا رجالا بالبينات وهو في معنى قولك: ما أرسلنا جماعة من الجماعات بشيء من الأشياء إلا رجالا بالبينات، ومثل ما ضربت إلا زيدا بسوط، وهو مبني على ما جوزه بعض النحاة من جواز أن يستثنى بأداة واحدة سيئان دون عطف وأنه يجري في الاستثناء المفرغ، وأكثر النحاة على منعه كما صرح به صاحب التسهيل وغيره. وقال في الكشف: والحق أنه لا يجوز لأن إلا من تتمة ما دخلت عليه كالجزء منه وللزوم الإلباس. أو وجوب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 387 أن يكون جميع ما يقع بعد إلا محصورا وأن يجب نحو ما ضرب إلا زيدا عمرا إذا أريد الحصر فيهما ولا يكون فرق بين هذا وذاك، وكل ذلك ظاهر الانتفاء. والزمخشري جوز ذلك وصرح به في مواضع من كشافه، واستدل عليه بأن أصل ما ضربت إلا زيدا بسوط ضربت زيدا بسوط وأراد أن زيادة ما وإلا ليست إلا تأكيدا فلتؤكد لما كان أصل الكلام عليه، وهو حسن لولا أن الاستعمال والقياس آبيان، وقال بعضهم: إنه متعلق به فمن غير دخوله مع رجالا تحت حكم الاستثناء على أن أصله وما أرسلنا بالبينات والزبر إلا رجالا. وتعقب بأنه لا يجوز على مذهب البصريين حيث لا يجيزون أن يقع بعد إلا مستثنى أو مستثنى منه أو تابعا وما ظن من غير الثلاثة معمولا لما قبل إلا قدر له عامل، وأجاز الكسائي أن يقع معمولا لما قبلها منصوب كما ضرب إلا زيد عمرا، ومخفوض كما مر إلا زيد بعمرو ولا يعذب إلا الله بالنار، ومرفوع كما ضرب إلا زيدا عمرو، ووافقه ابن الأنباري في المرفوع، والأخفش في الظرف والجار والحال، فما ذكر مبني على مذهب الكسائي والأخفش، لكن قال الشهاب: إنه خلاف ظاهر الكلام وإخراج له عن سنن الانتظام وأكثر النحاة على أنه ممنوع، وجوز أن يكون متعلقا بما رفع صفة- لرجالا- أي رجالا ملتبسين بالبينات ولم يقع حالا منه، قيل: لأنه نكرة متقدمة، نعم قيل: بجواز وقوعه حالا من ضمير الرجال في إِلَيْهِمْ وقيل: يجوز كونه حالا من رِجالًا لأنه نكرة موصوفة، واختار أبو حيان مجيء الحال من النكرة بلا مسوغ كثيرا قياسا ونقله عن سيبويه وإن كان دون الاتباع في القوة. وجوز أيضا تعلقه- بنوحي- وقوله سبحانه: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ اعتراض على الوجوه المتقدمة أو غير الأول، وتصدير الجملة المعترضة بالفاء صرح به في التسهيل وغيره، وما نقل من منعه ليس بثبت، ثم إذا كان اعتراضا متخللا بين مقصوري حرف الاستثناء معناه فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون أنا أرسلنا رجالا بالبينات وعلى الوصفية إن كنتم لا تعلمون أنهم رجالا متلبسون بالبينات، وعلى هذا يقدر الاعتراض مناسبا لما تخلل بينهما، وأشبه إلا وجه أن يكون على كلامين ليقع الاعتراض موقعه اللائق به لفظا ومعنى قاله في الكشف. وجوز أن يتعلق- بتعلمون- فلا اعتراض، وفي الشرط معنى التبكيت والإلزام كما في قول الأجير: إن كنت عملت لك فأعطني حقي، فإن الأجير لا يشك في أنه عمل وإنما أخرج الكلام مخرج الشك لأن ما يعامل به من التسويف معاملة من يظن بأجيره أنه لم يعمل، فهو في ذلك يلزمه مقتضى ما اعترف به من العمل ويبكته بالتقصير مجهلا إياه، فكذا ما هنا لا يشك أن قريشا لم يكونوا من علم البينات والزبر في شيء فيقول: إن كون الرسل عليهم السلام رجالا أمر مكشوف لا شبهة فيه فاسألوا أهل الذكر إن لم تكونوا من أهله يبين لكم يريد أن إنكاركم وأنتم لا تعلمون ليس بسديد وإنما السبيل أن تسألوا من أهل الذكر لا أن تنكروا قولهم، فإنكاركم مناف لما تقتضيه حالكم من السؤال فهو تبكيت (1) من حيث الاعتراف بعدم العلم وسبيل الجاهل سؤال من يعلم لا إنكاره، قاله في الكشف أيضا، ثم قال: ولا أخص أهل الذكر بأهل الكتابين ليشمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولو خص لجاز لأنهم موافقون في ذلك فانكارهم انكارهم، ثم التبكيت متوجه إلى العدول عن السؤال إلى الإنكار سألوا أولا انتهى. ومنه يعلم جواز أن يراد بأهل الذكر أهل القرآن، وما ذكر أبو حيان في تضعيفه من أنه لا حجة في إخبارهم ولا إلزامهم ناشئ من عدم الوقوف على هذا التحقيق الأنيق، وهذا ظاهر على تقدير تعلق بِالْبَيِّناتِ- بيعلمون- والباء على هذا التقدير سببية والمفعول محذوف عند بعض، وزعم آخر أنها زائدة والبينات هي المفعول، فافهم ذاك، والله تعالى يتولى هداك   (1) وزعم بعضهم أن التبكيت إنما جاء من (إن) فتدبر اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 388 وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ أي القرآن وهو من التذكير إما بمعنى الوعظ أو بمعنى الإيقاظ من سنة الغفلة وإطلاقه على القرآن إما لاشتماله على ما ذكر ولأنه سبب له، ومنه يعلم وجه تسمية التوراة ونحوها ذكرا، وقيل: المراد بالذكر العلم وليس بذاك لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ كافة ويدخل فيهم أهل مكة دخولا أوليا ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ في ذلك الذكر من الأحكام والشرائع وغير ذلك من أحوال القرون المهلكة بافانين العذاب حسب أعمالهم مع أنبيائهم عليهم السلام الموجبة لذلك على وجه التفصيل بيانا شافيا كما ينبئ عنه صيغة التفعيل في الفعلين لا سيما بعد ورود الثاني أولا على صيغة الأفعال، وعن مجاهد أن المراد بهذا التبيين تفسير المحمل وشرح ما أشكل إذا هما المحتاجان للتبيين، وأما النص والظاهر فلا يحتاجان إليه. وقيل: المراد به إيقافهم على حسب استعداداتهم المتفاوتة على ما خفي عليهم من أسرار القرآن وعلومه التي لا تكاد تحصى، ولا يختص ذلك بتبيين الحرام والحلال وأحوال القرون الخالية والأمم الماضية، واستأنس له بما أخرجه الحاكم وصححه عن حذيفة قال: «قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما أخبرنا فيه بما يكون إلى يوم القيامة عقله منا من عقله ونسيه من نسيه» وهذا في معنى ما ذكر غير واحد أن التبيين أعم من التصريح بالمقصود ومن الإرشاد إلى ما يدل عليه، ويدخل فيه القياس وإشارة النص ودلالته وما يستنبط منه من العقائد والحقائق والأسرار، ولعل قوله عز وجل: وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ إشارة إلى ذلك أي وطلب إن يتأملوها فينتبهوا للحقائق وما فيه من العبر ويحترز عما يؤدي إلى ما أصاب الأولين من العذاب، وقال بعض المعتزلة: أي وإرادة أن يتفكروا في ذلك فيعلموا الحق ثم قال: وفيه دلالة على أن الله تعالى إرادة من جميع الناس التفكر والنظر المؤدي إلى المعرفة بخلاف ما يقول أهل الجبر، ونحن في غنى عن تقدير الإرادة بتقدير الطلب، ومن قدرها منا أراده منها، وإلا ورد عليه عدم تأمل البعض ولعله الأكثر، وهي لا ينفك المراد عنها على المذهب الحق فلا بد من العدول عنه إلى مقابله، وقيل: أراد تعلقها بالبعض وهو المتأمل لا بالكل، وأيد بعضهم إرادة الصحابة أو ما يشملهم والنبي صلى الله عليه وسلم من أهل الذكر فيما تقدم بذكر هذه الآية بعده وليس بذي أيد أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ هم عند أكثر المفسرين أهل مكة الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وراموا ضد أصحابه رضي الله تعالى عنهم عن الإيمان، وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وغيرهما عن مجاهد أنهم نمروذ بن كنعان وقومه، وعمم بعضهم فقال: هم الذين احتالوا لهلاك الأنبياء عليهم السلام، وتعقب بأن المراد تحذير أهل مكة عن إصابة ما أصاب الأولين من فنون العذاب المعدودة فالمعول عليه ما عند الأكثر، و «السيئات» نعت لمصدر محذوف أي مكروا المكرات السيئات التي قصت عنهم أو مفعول به للفعل المذكور على تضمينه معنى فعل متعد كعمل أي عملوا السيئات ماكرين فقوله تعالى أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ مفعول لأمن أو السَّيِّئاتِ مفعول لأمن بتقدير مضاف أو تجوز أي عقاب السيئات أو على أن السَّيِّئاتِ بمعنى العقوبات التي تسوءهم، وأَنْ يَخْسِفَ بدل من ذلك وعلى كل حال فالفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه النظم الكريم أي أنزلنا إليك الذكر لتبين لهم مضمونه الذي من جملته انباء الأمم المهلكة بفنون العذاب ويتفكروا في ذلك ألم يتفكروا فأمن الذين مكروا السيئات إلخ على توجيه الإنكار إلى المعطوفين أو أتفكروا فأمنوا على توجيهه إلى المعطوف، وقيل: هو للعطف على مقدر ينبئ عنه الصلة أي أمكروا فأمن الذين مكروا السيئات إلخ، وخسف يستعمل لازما ومتعديا يقال:- كما قال الراغب- خسفه الله تعالى وخسف هو وكلا الاستعمالين محتمل هنا، فالباء إما للتعدية أو للملابسة والْأَرْضَ إما مفعول به أو نصب بنزع الخافض أي فأمن الذي مكروا السيئات أن يغيبهم الله تعالى في الأرض أو يغيبها بهم كما فعل بقارون أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أي من الجهة التي لا شعور لهم بمجيء العذاب منها كجهة مأمنهم أو الجهة التي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 389 يرجون إتيان ما يشتهون منها، وقال البيضاوي أي بغتة من جانب السماء كما فعل بقوم لوط، وكأن التخصيص بجانب السماء لأن ما يجيء منه لا يشعر به غالبا بخلاف ما يجيء من الأرض فإنه محسوس في الأكثر، ولعل اعتباره أوفق بالمقابلة، ويحتمل أن يكون مراده بما من جانب السماء ما لا يكون على يد مخلوق سواء نشأ من الأرض أو السماء كما قيل. دعها سماوية تجري على قدر. فيكون مجازا، لكن قيل عليه: إنه لا يلائم المثال وإن كان لا يخصص أَوْ يَأْخُذَهُمْ أي العذاب أو الله تعالى رجح الأول بالقرب والثاني بكثرة إسناد الأخذ إليه تعالى في القرآن العظيم مع أنه جل شأنه هو الفاعل الحقيقي له. فِي تَقَلُّبِهِمْ أي حركتهم إقبالا وإدبارا، والمراد على ما أخرجه ابن جرير. وغيره عن قتادة، وروي عن ابن عباس في أسفارهم، وحمله على ذلك- قال الإمام- مأخوذ من قوله تعالى: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ [آل عمران: 196] أو المراد في حال ما يتقلبون في قضاء مكرهم والسعي في تنفيذه، وقيل: المراد في حال تقلبهم على الفرش يمينا وشمالا، وهو في معنى ما جاء في رواية عن ابن عباس أيضا في منامهم، ولا أراه يصح. وقال الزجاج: المراد ما يعم سائر حركاتهم في أمورهم ليلا أو نهارا والجمهور على الأول والأخذ في الأصل جوز الشيء وتحصيله، والمراد به القهر والإهلاك، والجار والمجرور إما في موضع الحال أو متعلق بالفعل قبله والأول أولى نظرا إلى أنه الظاهر في نظيره الآتي إن شاء الله تعالى لكن الظاهر فيما قبله الثاني فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ بفائتين الله تعالى بالهرب والفرار على ما يوهمه حال التقلب والسير أو ما هم بممتنعين كما يوهمه مكرهم وتقلبهم فيه، والفاء قيل: لتعليل الأخذ أو لترتيب عدم الإعجاز عليه دلالة على شدته وفظاعته حسبما قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» والجملة الاسمية للدلالة على دوام النفي والتأكيد يعود إليه أيضا. أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ أي مخافة وحذر من الهلاك والعذاب بأن يهلك قوما قبلهم أو يحدث حالات يخاف منها غير ذلك كالرياح الشديدة والصواعق والزلازل فيتخوفوا فيأخذهم بالعذاب وهم متخوفون ويروى نحوه عن الضحاك، وهو على ما قال الزمخشري ويقتضيه كلام ابن بحر خلاف قوله تعالى: مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. وقال غير واحد من الأجلة: على أن ينقصهم شيئا فشيئا في أنفسهم وأموالهم حتى يهلكوا من تخوفته إذا تنقصته، وروي تفسيره بذلك عن ابن عباس ومجاهد والضحاك أيضا. وذكر الهيثم بن عدي أن التنقص بهذا المعنى لغة أزدشنوءة، ويروى أن عمر رضي الله تعالى عنه قال على المنبر ما تقولون فيها أي الآية والتخوف منها؟ فسكتوا فقام شيخ من هذيل فقال: هذه لغتنا التخوف التنقص فقال: هل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ فقال: نعم قال شاعرنا أبو كبير يصف ناقته: تخوف الرحل منها تامكا قردا (1) ... كما تخوف عود النبعة السفن فقال عمر رضي الله تعالى عنه: عليكم بديوانكم لا تضلوا قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم، والجار والمجرور قال أبو البقاء: في موضع الحال من الفاعل أو المفعول في يأخذهم. وقال الخفاجي: الظاهر أنه حال من المفعول وكأنه أراد على تفسيري التخوف ويتخوف من الجزع به على التفسير الثاني، والمراد من ذكر هذه المتعاطفات بيان قدرة الله تعالى على إهلاكهم بأي وجه كان لا الحصر، ثم إن   (1) قوله: تامكا أي سناما، وقوله: قردا أي متراكما والنبعة شجر يتخذ منه القسيّ، والسفن بفتح السين والفاء المبرد اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 390 بعضهم اعتبر في التقابل بينهما أن المراد بخسف الأرض بهم إهلاكهم من تحتهم وبإتيان العذاب من حيث لا يشعرون إهلاكهم من فوقهم وحيث قوبلا بإهلاكهم في تقلبهم وأسفارهم كان المعتبر فيهما سكونهم في مساكنهم وأوطانهم والمقابلة بين أخذهم على تخوف على المعنى الأول والأخذ بغتة المشعر به من حيث لا يشعرون ظاهرة، واعتبر عدم الشعور في الأخذ في التقلب والخسف لقرينة الأخذ على تخوف على ذلك المعنى وحمل سائرها على عذاب الاستئصال دون الأخذ على تخوف على المعنى الثاني ومجمل القول في ذلك أنه اعتبر في كل اثنين من الأربعة منع الجمع لكن بعد أن يراد بالعام منهما للمقابلة ما عدا الخاص سواء كان بين الإثنين عموم من وجه أو مطلقا. وذكر الإمام، وابن الخازن في حاصل الآية أنه تعالى خوفهم بخوف يحصل في الأرض بعذاب ينزل من السماء أو بآفات تحدث دفعة أو بآفات تأتي قليلا إلى أن يأتي الهلاك على آخرهم، وكان الظاهر في الآية أن يقال: أو يعذبهم من حيث لا يشعرون ليناسب ما قبله وما بعده بناء على أن إسناد الفعل فيهما إليه تعالى وما قبله فقط بناء على أن إسناد الفعل فيما بعد إلى العذاب مع كونه أخصر مما في النظم الجليل لكنه عدل عنه إلى ذلك لكونه أبلغ في التخويف وأدل على استحقاق العذاب من حيث إن فيه إشعارا بأن هناك عذابا موجودا مهيئا لا يحتاج إلا إلى الإتيان دون الإحداث وليس في- يعذبهم- إشعار كذلك على أن ما في النظم الجليل أبعد من أن يتوهم فيه معنى غير صحيح كما يتوهم في البدل المفروض حيث يتوهم فيه أنه سبحانه يعذبهم من حيث لا يشعرون بالعذاب وهو كما ترى. وحيث كانت حالتا التقلب والتخوف مظنة للهرب عبر عن إصابة العذاب فيهما بالأخذ وعن إصابته حالة الغفلة المنبئة عن السكون بالإتيان وجيء بفي مع التقلب وبعلى مع التخوف قيل: لأن في التقلب حركتين فكان الشخص المتقلب بينهما ولا كذلك التخوف، وقيل لما كان التقلب شاغلا الإنسان بسائر جوارحه حتى كأنه محيط به وهو مظروف فيه جيء بنفي معه، والتخوف أي المخافة إنما يقوم بعضو من أعضائه فقط وهو القلب المحيط به بدن الإنسان فلذا جيء بعلى معه، وقيل: إن على بمعنى مع كما في قوله تعالى: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ [البقرة: 177] أي يأخذهم مصاحبين لذلك ولما كان التخوف نفسه نوعا من العذاب لما فيه من تألم القلب ومشغولية الذهن وكان الأخذ مشيرا إلى نوع آخر من العذاب أيضا جيء بعلى التي بمعنى مع ليكون المعنى يعذبهم مع عذابهم ولم يعتبر ذلك مع التقلب مرادا به الإقبال والإدبار في الأسفار والمتاجر مع أنه جاء «السفر قطعة من العذاب» لأنهم لا يعدون ذلك عذابا وفي القلب من هذا شيء فتدبر وتأمل فأسرار كتاب الله تعالى لا تحصى فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ جعله ابن بحر تعليلا للأخذ على تخوف بناء على أن المراد به أخذهم على حدوث حالات يخاف منها كالرياح الشديدة والصواعق والزلازل لا بغتة فإن في ذلك امتداد وقت ومهلة يمكن فيها التلافي فكأنه قيل: أو يأخذهم على تخوف ولا يفاجئهم لأنه سبحانه رؤوف رحيم وذلك أنسب برأفته ورحمته جلّ وعلا، وجوز أن يكون تعليلا لذلك على المعنى الأخير فإن في تنقصهم شيئا بعد شيء دون أخذهم دفعة إمهالا في الجملة وهو مطلقا من آثار الرحمة، وقيل: هو تعليل لما يفهم من الآية من أنه سبحانه قادر على إهلاكهم بأي وجه كان لكنه تعالى لم يفعل، وقيل: هو كالتعليل للأمن المستفهم عنه، والتعبير بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير الخطاب من آثار رحمته جلّ شأنه. أَوَلَمْ يَرَوْا الهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام. والرؤية بصرية مؤدية إلى التفكر والضمير للذين مكروا السيئات أي ألم ينظر هؤلاء الماكرون ولم يروا متوجهين إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ. وقيل: الضمير للناس الشامل لأولئك وغيرهم والإنكار بالنسبة إليهم وقرأ السلمي والأعرج والإخوان «أو لم تروا» بتاء الخطاب جريا على أسلوب قوله تعالى: «فإن ربكم» كما أن الجمهور قرؤوا بالياء جريا على أسلوب قوله تعالى: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 391 «أفأمن الذين مكروا» وذكر الخفاجي وغيره أن قراءة التاء على الالتفات أو تقدير قل أو الخطاب فيها عام للخلق و «ما» موصولة مبهمة، وقوله تعالى: مِنْ شَيْءٍ بيان لها لكن باعتبار صفته وهي قوله تعالى: يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ فهي المبينة في الحقيقة والموصوف توطئة لها وإلا فأي بيان يحصل به نفسه، والتفيؤ تفعل من فاء يفيء فيئا إذا رجع وفاء لازم وإذا عدي فبالهمزة أو التضعيف كأفاءه الله تعالى وفيأه فتفيأ وتفيا مطاوع له لازم، وقد استعمله أبو تمام متعديا في قوله من قصيدة يمدح بها خالد بن يزيد الشيباني: طلبت ربيع ربيعه الممهى لها ... وتفيأت ظلّا له ممدودا ويحتاج ذلك إلى نقل من كلام العرب، والظلال جمع ظل وهو في قول ما يكون بالغداة وهو ما لم تنله الشمس والفيء ما يكون بالعشي وهو ما انصرفت عنه الشمس وأنشدوا له قول حميد بن ثور يصف سرحة وكنّى (1) بها عن امرأة: فلا الظل من برد الضحى تستطيعه ... ولا الفيء من برد العشيّ تذوق ونقل ثعلب عن رؤبة ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وظل وما لم تكن عليه فهو ظل فالظل أعم من الفيء، وقيل: هما مترادفان يطلق كل منهما على ما كان قبل الزوال وعلى خلافه، وأنشد أبو زيد للنابغة الجعدي: فسلام الإله يغدو عليهم ... وفيوء الفردوس ذات الضلال والمشهور أن الفيء لا يكون إلا بعد الزوال، ومن هنا قال الأزهري: إن تفيؤ الظلال رجوعها بعد انتصاف النهار، وقال أبو حيان: إن الاعتبار من أول النهار إلى آخره، وإضافة الضلال إلى ضمير المفرد لأن مرجعه وإن كان مفردا في اللفظ لكنه كثير في المعنى، ونظير ذلك أكثر من أن يحصى، والمعنى أو لم يروا الأشياء التي ترجع وتتنقل ظلالها عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ والمراد بها الأشياء الكثيفة من الجبال والأشجار وغيرها سواء كان جمادا أو انسابا على ما عليه بعض المفسرين، وخصها بعضهم بالجمادات التي لا يظهر لظلالها أثر سوى التفيؤ بواسطة الشمس على ما ستعلمه إن شاء الله تعالى دون ما يشمل الحيوان الذي يتحرك ظله بتحركه، وكلا القولين على تقدير كون مِنْ بيانية كما سمعت وذهب بعض المحققين إلى العموم لكنه جعل من ابتدائية متعلقة- بخلق- المراد بما خلقه من شيء عالم الأجسام المقابل لعالم الروح والأمر الذي لم يخلق من شيء بل وجد بأمر كُنْ كما قال سبحانه: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: 54] ، ولا يخفى بعده، واعترض أيضا بأن السموات والجن من عالم الأجسام والخلق ولا ظل لها ومقتضى عموم ما أنه لا يخلو شيء منها عنه بخلاف ما إذا جعلت من بيانية و «يتفيؤ» صفة شيء مخصصة له. ورد بأن جملة يَتَفَيَّؤُا حينئذ ليست صفة- لشيء- إذ المراد إثبات ذلك لما خلق من شيء لإله وليس صفة- لما- لتخالفهما تعريفا وتنكيرا بل هي مستأنفة لإثبات أن له ظلالا متفيئة وعموم «ما» لا يجوب أن يكون المعنى لكل منه هذه الصفة. وتعقب بأنه إن أريد أنه لا يقتضي العموم ظاهرا فممنوع وإن أريد أنه يحتمل فلا يرد ردا لأنه مبني على الظاهر المتبادر، والمراد باليمين والشمائل على ما قيل جانبا الشيء استعارة من يمين الإنسان وشماله أو مجازا من إطلاق   (1) حيث يقول: أبى الله إلا أن سرحة مالك ... على كل أفنان العضاه تروق اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 392 المقيد على المطلق أي ألم يروا الأشياء التي لها ظلال متفيئة عن جانبي كل واحد منها ترجع من جانب إلى جانب بارتفاع الشمس وانحدارها أو باختلاف مشارقها ومغاربها فإن لها مشارق ومغارب بحسب مداراتها اليومية حال كون الظلال سُجَّداً لِلَّهِ أي منقادة له تعالى جارية على ما أراد من الامتداد والتقلص وغيرهما غير ممتنعة عليه سبحانه فيما سخرها له وهو المراد بسجودها، وقد يفسر باللصوق في الأرض أي حال كونها لاصقة بالأرض على هيئة الساجد، وقوله تعالى: وَهُمْ داخِرُونَ حال من ضمير «ظلاله» الراجع إلى شيء، والجمع باعتبار المعنى وصح مجيء الحال من المضاف إليه لأنه كالجزء، وإيراد الصيغة الخاصة بالعقلاء لما أن الدخور من خصائصهم فإنه التصاغر والذل، قال ذو الرمة: فلم يبق إلا داخر في مخيس (1) ... ومنحجر في غير أرضك في حجر فالكلام على الاستعارة أو لأن في جملة ذلك من يعقل فغلب، ووجه التعبير بهم يعلم مما ذكر، ويجوز أن يعتبر وجهه أولا ويجعل ما بعده جاريا على المشاكلة له أي والحال أن أصحاب تلك الضلال ذليلة منقادة لحكمه تعالى، ووصفها بالدخور مغن عن وصف ظلالها به، وجوز كون سُجَّداً والجملة حالين من الضمير أي ترجع ظلال تلك الأجرام حال كون تلك الأجرام منقادة له تعالى داخرة فوصفها بهما مغن عن وصف ظلالها بهما. والمراد بالسجود أيضا الانقياد سواء كان بالطبع أو بالقسر أو بالإرادة، فلا يرد على احتمال أن يكون المراد ب ما خَلَقَ شاملا للعقلاء وغيرهم كيف يكون سُجَّداً حالا من ضميره وسجود العقلاء غير سجود غيرهم. وحاصل ما أشرنا إليه أن ذلك من عموم المجاز، والأمر على احتمال أن يراد من ذاك الجمادات ظاهر، وزعم بعضهم أن السجود حقيقة مطلقا وهو الوقوع على الأرض على قصد العبادة ويستدعي ذلك الحياة والعلم لتقصد العبادة، وليس بشيء كما لا يخفى، ثم إن قلنا على هذا الوجه: إن الواو حالية كما أشير إليه فالحالان مترادفتان، وتعدد الحال جائز عند الجمهور، ومن لم يجوز جعل الثانية بدل اشتمال أو بدل كل من كل كما فصله السمين، وإن قلنا: إنها عاطفة فلا تكون الحال مترادفة بل متعاطفة، وقال أبو البقاء: سُجَّداً حال من الظلال وَهُمْ داخِرُونَ حال من الضمير في سُجَّداً ويجوز أن يكون حالا ثانية معطوفة اه، وفيه القول بالتداخل وهو محتمل على تقدير كون سُجَّداً حالا من ضمير ظِلالُهُ والوجه الأول هو المختار عند الزمخشري، ورجحه في الكشف فقال: إن انقياد الظل وذي الظل مطلوب، ألا ترى إلى قوله تعالى: وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ [الرعد: 15] فجاعلهما حالا من الضمير في ظِلالُهُ مقصر، وفيه تكميل حسن لما وصف الظلال بالسجود وصف أصحابها بالدخور الذي هو أبلغ لأنه انقياد قهري مع صفة المنقاد، ولم يجعل حالا من الراجع إلى الموصول في خَلَقَ اللَّهُ إذ المعنى على تصوير سجود الظل وذيه وتقارنهما في الوجود لا على مقارنة الخلق والدخور، والعامل في الحال الثاني يَتَفَيَّؤُا على ما قال ابن مالك في قوله تعالى: بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [البقرة: 135] اه، ومنه يعلم ما في إعراب أبي البقاء. نعم إن في هذا الوجه بعدا لفظيا والأمر فيه هين، وأما جعل وَهُمْ داخِرُونَ حالا من ضمير يَرَوْا فمما لا يصح بحال كما لا يخفى. هذا وذكر الإمام في اليمين والشمال قولين غير ما تقدم. الأول أن المراد بهما المشرق والمغرب تشبيها لهما بيمين الإنسان وشماله فإن الحركة اليومية آخذة من المشرق وهوى أقوى الجانبين فهو اليمين والجانب الآخر الشمال   (1) أي سجن اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 393 فالظلال في أول النهار تبتدئ من الشرق واقعة على الربع الغربي من الأرض وعند الزوال تبتدئ من الغرب واقعة على الربع الشرقي منها. والثاني يمين البلد وشماله، وذلك أن البلدة التي يكون عرضها أقل من مقدار الميل الكلي وهو «كجل يز أو كحله» (1) على اختلاف الأرصاد فإن في الصيف تحصل الشمس على يمين تلك البلدة وحينئذ تقع الأظلال على يسارها وفي الشتاء بالعكس، ولا يخفى ما في الثاني فإنه مختص بقطر مخصوص والكلام ظاهر في العموم، وقيل: المراد باليمين والشمال يمين مستقبل الجنوب وشماله، وعَنِ كما قال الحوفي متعلقة ب يَتَفَيَّؤُا وقال أبو البقاء: متعلقة بمحذوف وقع حالا، وقيل: هي اسم بمعنى جانب فتكون في موضع نصب على الظرفية. ولهم في توحيد الْيَمِينِ وجمع الشَّمائِلِ- وهو جمع غير قياسي- كلام طويل. فقيل: إن العرب إذا ذكرت صيغتي جمع عبرت عن إحداهما بلفظ المفرد كقوله تعالى: جَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام: 1] وخَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ [البقرة: 7] وقيل: إذا فسرنا اليمين بالمشرق كان النقطة التي هي مشرق الشمس واحدة بعينها فكانت اليمين واحدة، وأما الشمائل فهي عبارة عن الانحرافات الواقعة في تلك الأضلال بعد وقوعها على الأرض وهي كثيرة فلذلك عبر عنها بصيغة الجمع، وقيل: اليمين مفرد لفظا لكنه جمع معنى فيطابق الشمائل من حيث المعنى، وقال الفراء: إنه يحتمل أن يكون مفردا وجمعا فإن كان مفردا ذهب إلى واحد من ذوات الظلال وإن كان جمعا ذهب إلى كلها لأن ما خلق الله لفظه واحد ومعناه الجمع، وقال الكرماني: يحتمل أن يراد بالشمائل الشمال والقدام والخلف لأن الظل يفيء من الجهات كلها فبدأ باليمين لأن ابتداء التفيؤ منها أو تيمنا بذكرها، ثم جمع الباقي على لفظ الشمال لما بين الشمال واليمين من التضاد، ونزل الخلف والقدام منزلة الشمال لما بينهما وبين اليمين من الخلاف، وهو قريب من الأول، وتعقب بأن فيه جمع اللفظ باعتبار حقيقته ومجازه وفي صحته مقال، وقيل: المراد باليمين يمين الواقف مستقبل المشرق ويسمى الجنوب وبالشمال شماله فكأنه قيل: يتفيؤ ظلاله عن الجنوب إلى الشمال إلى الجنوب ولما كان غالب المعمورة شمالي وظلالها كذلك جمع الشمال ولم يجمع اليمين، وهو كما ترى، ونقل أبو حيان عن استاذه أبي الحسن علي بن الصائغ أنه أفرد وجمع بالنظر إلى الغايتين لأن ظل الغداة يضمحل حتى لا يبقى منه إلا اليسير فكأنه في جهة واحدة، وهو في العشي على العكس لاستيلائه على جميع الجهات فلحظت الغايتان. هذا من جهة المعنى وأما من جهة اللفظ فجمع الثاني ليطابق سُجَّداً المجاور له شمالا كما أفرد الأول ليطابق ضمير ظِلالُهُ المجاور له يمينا، ولا يخفى ما في التقديم والتأخير من حسن رعاية الأصل والفرع أيضا. فحصل في الآية مطلقة اللفظ للمعنى جهة المشرق وبالشمال جهة المغرب، وهو أنه لما كانت الجهة الأولى مطلع النور والجهة الثانية مغربة ومظهر الظلمة أفرد ما يدل على الجهة الأولى كما أفرد النُّورِ في كل القرآن، وجمع ما يدل على الجهة الثانية كما جمع الظلمة كذلك وإفراده النور وجمع الظلمة تقدم الكلام فيهما، وقد يقال: إن جمع الظلال مع إفراد ما قبله وما بعده لأن الظل ظلمة حاصلة من حجب الكثيف الشمس مثلا عن أن يقع ضوؤها على ما يقابله فجمعت الظلال كما جمعت الظلمات، ولا يعكر على هذا أنه جمعت المشارق في القرآن كالمغارب إذ كثيرا ما يرتكب أمر لنكتة في مقام ولا يرتكب لها في مقام آخر، وآخر أيضا وهو أنه لما كان اليمين عبارة عن جهة المشرق وهو مبدأ الظل وحده مناسبة لتوحيد المبدأ الحقيقي وهو الله تعالى ولا كذلك جهة المغرب، ولا يناسب رعاية نحو هذا في الشمال كما يرشدك إلى ذلك و «كلتا يديه يمين» ويعين على ملاحظة المبدئية نسبة   (1) يساوي في حساب الجمل: 167. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 394 الخلق إليه تعالى، وآخر أيضا وهو أن الظل الجائي من جهة المشرق لا يتعلق به أمر شرعي والجائي من جهة المغرب يتعلق به ذلك، فإن صلاة الظهر يدخل وقتها بأول حدوثه من تلك الجهة بزوال الشمس عن وسط السماء، ووقت العصر بصيرورته مثل الشاخص أو مثليه بعد ظل الزوال إن كان كما في الآفاق المائلة، ووقت المغرب بشموله البسيطة بغروب الشمس، وما ألطف وقوع سُجَّداً بعد الشَّمائِلِ على هذا وآخر أيضا وهو أوفق بباب الإشارة وسيأتي فيه إن شاء الله تعالى الفتاح، وبعد لمسلك الذهن اتساع فتأمل فلعل ما ذكرته لا يرضيك. وقد بين الإمام أن اختلاف الظلال دليل على كونها منقادة لله تعالى خاضعة لتقديره وتدبيره سبحانه، ثم قال: فإن قيل لم لا يجوز أن يقال اختلافها معلل باختلاف الشمس؟ قلنا: قد دللنا على أن الجسم لا يكون متحركا لذاته فلا بد أن يكون تحركه من غيره ولا بد من الاستناد بالآخرة إلى واجب الوجود جل شأنه فيرجع أمر اختلاف الظلال إليه تعالى على هذا التقدير. وأنت تعلم أنه لا ينبغي أن يتردد في أن السبب الظاهري للظلال هو الشمس ونحوها وكثافة الشاخص، نعم في كون ذلك مستندا إليه تعالى في الحقيقة ابتداء أو بالواسطة خلاف، ومذهب السلف غير خفي عليك فقد أشرنا إليه غير مرة فتذكره إن لم يكن على ذكر منك، ثم الظاهر أن المراد بالظلال الظلال المبسوطة وتسمى المستوية، ويجوز أن يراد بها ما يشمل الظلال المعكوسة فإنها أيضا تتفيؤ عن اليمين والشمائل فاعرف ذلك ولا تغفل، وقرأ أبو عمرو، وعيسى. ويعقوب «تتفيؤ» بالتاء على التأنيث، وأمر التأنيث والتذكير في الفعل المسند لمثل الجمع المذكور ظاهر. وقرأ عيسى «ظلله» وهو جمع ظلة كحلة وحلل قال صاحب اللوامح: الظلة بالضم الغيم وأما بالكسر فهو الفيء والأول جسم والثاني عرض، فرأى عيسى أن التفيؤ الذي هو الرجوع بالأجسام أولى، وأما في العامة فعلى الاستعارة اه، ويلوح منه القول بالقراءة بالرأي، ومن الناس من فسر الظلال في قراءة العامة بالأشخاص لتكون على نحو قراءة عيسى، وأنشدوا لاستعمال الظلال في ذلك قول عبدة: إذا نزلنا نصبنا ظل أخبية ... وفار للقوم باللحم المراجيل فإنه إنما تنصب الأخبية لا الظل الذي هو الفيء، وقول الآخر: يتبع أفياء الظلال عشية فإنه أراد أفياء الأشخاص. وتعقب ذلك الراغب بأنه لا حجة فيما ذكر فإن قوله: رفعنا ظل أخبية معناه رفعنا الأخبية فرفعنا به ظلها فكأنه رفع الظل، وقوله: أفياء الظلال فالظلال فيه عام والفيء خاص والإضافة من إضافة الشيء إلى جنسه، وقال بعضهم: المراد من الظلة في قراءة عيسى الظل الذي يشبه الظلة، والمراد بها شيء كهيئة الصفة في الانتفاع به وقيل: الكلام في تلك القراءة على حذف مضاف أي ظلال ظلله، وتفسر الظلة بما هو كهيئة الصفة، والمتبادر من الظل حينئذ الظل المعكوس. ثم إنه تعالى بعد أن ذكر ما ذكر أردفه بما يفيده تأكيدا مع زيادة سجود ما لا ظل له فقال سبحانه وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أو أنه سبحانه بعد ما بين سجود الظلال وذويها من الأجرام السفلية الثابتة في أحيازها ودخورها له سبحانه شرع في شأن سجود المخلوقات المتحركة بالإرادة سواء كانت لها ظلال أم لا؟ فقال عز من قائل ما قال، والمراد بالسجود على ما ذكره غير واحد الانقياد سواء كان انقيادا لإرادته وتأثيرها طبعا أو انقيادا لتكليفه وأمره طوعا ليصح إسناده إلى عامة أهل السموات والأرض من غير جمع بين الحقيقة والمجاز ولكون الآية آية سجدة لا بد من دلالتها على السجود المتعارف ولو ضمنا، والاسم الجليل متعلق- بيسجد- والتقدير لإفادة القصر وهو ينتظم القلب والإفراد إلا أن الأنسب بحال المخاطبين قصر الأفراد كما يؤذن به الجزء: 7 ¦ الصفحة: 395 قوله تعالى: وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ أي له تعالى وحده ينقاد ويخضع جميع ما في السموات وما في الأرض مِنْ دابَّةٍ بيان لما فيهما بناء على أن الدبيب هو الحركة الجسمانية سواء كان في أرض أو سماء، والملائكة أجسام لطيفة غير مجردة وتقييد الدبيب بكونه على وجه الأرض لظهوره أو لأنه أصل معناه وهو عام هنا بقرينة المبين، وقوله سبحانه: وَالْمَلائِكَةُ عطف على محل الدابة المبين به وهو الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف لأن مِنْ البيانية لا تكون ظرفا لغوا وهو من عطف الخاص على العام إفادة لعظم شأن الملائكة عليهم السلام، وجوز أن يكون من عطف المباين بناء على أن يراد بما في السموات الجسمانيات ويلتزم القول بتجرد الملائكة عليهم السلام فلا يدخلون فيما في السموات لأن المجردات ليست في حيز وجهة وبعضهم استدل بالآية على تجرد الملائكة بناء على أن ما في السموات وما في الأرض بين أحدهما بالدابة والآخر بالملائكة والأصل في التقابل التغاير، والدابة المتحركة حركة جسمانية فلا يكون مقابلها من الأجسام وأن الجسم لا بد فيه من حركة جسمانية، ولا يخفى أنه دليل اقناعي إذ يحتمل كونه تخصيصا بعد تعميم كما سمعت آنفا أو هو بيان لما في الأرض، والدابة اسم لما يدب على الأرض والْمَلائِكَةُ عطف على ما في السموات وهو تكرير له وتعيين إجلالا وتعظيما، وذكر غير واحد أنه من عطف الخاص على العام لذلك أيضا، وجوز أن يراد مما في السموات الخلق الذين يقال لهم الروح ويلتزم القول بأنهم غير الملائكة عليهم السلام فيكون من عطف المباين أو هما بيان لما في الأرض، والمراد بالملائكة عليهم السلام ملائكة يكونون فيها كالحفظة والكرام الكاتبين ولا يراد بالدابة ما يشملهم، و «ما» إذا قلنا: إنها مختصة بغير العقلاء كما يشهد له خبر ابن الزبعري فاستعمالها هنا في العقلاء وغيرهم للتغليب، وأما إن قلنا: إن وضعها لأن تستعمل في غير العقلاء وفيما يعم العقلاء وغيرهم كالشبح المرئي الذي لا يعرف أنه عاقل أولا فإنه يطلق عليه ما حقيقة فالأمر على ما قيل غير محتاج إلى تغليب، وفي أنوار التنزيل إن ما لما استعمل للعقلاء كما استعمل لغيرهم كان استعماله حيث اجتمع القبيلان أولى من إطلاق من تغليبا، وفي الكشاف إنه لو جيء بمن لم يكن فيه دليل على التغليب فكان متناولا للعقلاء خاصة فجيء بما هو صالح للعقلاء وغيرهم إرادة العموم وهو جواب عن سبب اختيار ما على من، وحاصله على ما في الكشف إن من للعقلاء والتغليب مجاز فلو جيء بغير قرينة تعين الحقيقة والمقام يقتضي التعميم فجيء بما يعم وهو ما، وأراد أن لا دليل في اللفظ، وقرينة العموم في السابق لا تكفي لجواز تخصيصهم من البين بعد التعميم على أن اقتضاء المقام العموم وما في التغليب من الخصوص كاف في العدول انتهى. وقيل بناء على أن ما مختصة بغير العقلاء ومن مختصة بالعقلاء: إن الإتيان بما وارتكاب التغليب أوفق بتعظيم الله تعالى من الإتيان بمن وارتكاب ذلك فليفهم وَهُمْ أي الملائكة مع علو شأنهم لا يَسْتَكْبِرُونَ عن عبادته تعالى شأنه والسجود له، وتقديم الضمير ليس للقصر، والسين ليست للطلب وقيل: له على معنى لا يطلبون ذلك فضلا عن فعله والاتصاف به. وإذا قلنا إن صيغة المضارع للاستمرار التجددي فالمراد استمرار النفي. والجملة إما حال من فاعل يَسْجُدُ مسندا إلى الملائكة أو استئناف للإخبار عنهم، بذلك، وإنما لم يجعل الضمير- لما- لاختصاصه بأولى العلم وليس المقام مقام التغليب، وخالف في ذلك بعضهم فجعله لها وكذا الضمير في قوله سبحانه: يَخافُونَ رَبَّهُمْ وممن صرح بعود الضمير فيه على ما أبو سليمان الدمشقي، وقال أبو حيان: إنه الظاهر، وذهب ابن السائب ومقاتل إلى ما قلنا أي يخافون مالك أمرهم مِنْ فَوْقِهِمْ إما متعلق- بيخافون- وخوف ربهم كناية عن خوف عذابه أو الكلام على تقدير مضاف هو العذاب على ما هو الظاهر أو متعلق بمحذوف وقع حالا من رَبَّهُمْ أي كائنا من فوقهم، ومعنى كونه سبحانه فوقهم قهره وغلبته لأن الفوقية المكانية مستحيلة بالنسبة إليه تعالى، ومذهب السلف قد أسلفناه لك وأظنه على ذكر منك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 396 والجملة حال من الضمير في لا يَسْتَكْبِرُونَ وجوز أن تكون بيانا لنفي الاستكبار وتقريرا له لأن من خاف الله تعالى لم يستكبر عن عبادته، واختاره ابن المنير وقال: إنه الوجه ليس إلا لئلا يتقيد الاستكبار وليدل على ثبوت هذه الصفة أيضا على الإطلاق، ولا بد أن يقال على تقدير الحالية: إنها حال غير منتقلة وقد جاءت في الفصيح بل في أفصحه على الصحيح، وفي اختيار عنوان الربوبية تربية للمهابة وإشعار بعلة الحكم. وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ أي ما يؤمرون به من الطاعات والتدبيرات وإيراد الفعل مبنيا للمفعول جرى على سنن الجلالة وإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بالفاعل لاستحالة استناده إلى غيره سبحانه، واستدل بالآية على أن الملائكة مكلفون مدارون بين الخوف والرجاء، أما دلالتها على التكليف فلمكان الأمر، وأما على الخوف فهو أظهر من أن يخفى، وأما على الرجاء فلاستلزام الخوف على ما قيل، وقيل: إن اتصافهم بالرجاء لأن من خدم أكرم الأكرمين كان من الرجاء بمكان مكين، وزعم بعضهم أن خوفهم ليس إلا خوف إجلال ومهابة لا خوف وعيد وعذاب، ويرده، قوله تعالى: وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 28، 29] ولا ينافي ذلك عصمتهم، وقال الإمام: الأصح أن ذلك الخوف خوف الإجلال، وذكر أنه نقل عن ابن عباس واستدل له بقوله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] وفي القلب منه شيء، والحق أن الآية لا تصلح دليلا لكون الملائكة أفضل من البشر. واستدل بها فرقة على ذلك من أربعة أوجه ذكرها الإمام ولم يتعقبها بشيء لأنه ممن يقول بهذه الأفضلية، وموضع تحقيق ذلك كتب الكلام. هذا ومن باب الإشارة في الآيات: أَتى أَمْرُ اللَّهِ وهو القيامة الكبرى التي يرتفع فيها حجب التعينات ويضمحل السوي، ولما كان صلى الله عليه وسلم مشاهدا لذلك في عين الجمع قال أَتى ولما كان ظهورها على التفصيل بحيث تظهر للكل لا يكون إلا بعد حين قال: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ لأن هذا ليس وقت ظهوره، ثم أكد شهوده لوجه الله تعالى وفناء الخلق في القيامة: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ بإثبات وجود الغير، ثم فصل ما شاهد في عين الجمع لكونه في مقام الفرق بعد الجمع لا يحتجب بالوحدة عن الكثرة ولا بالعكس فقال: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ وهو العلم الذي تحيا به القلوب عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وهم المخلصون له أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ وقال بعضهم: أي خوفوا الخلق من الخواطر الرديئة الممزوجة بالنظر إلى غيري وخوفهم من عظيم جلالي، وهذا وحي تبليغ وهو مخصوص بالمرسلين عليهم السلام، وذكروا أن الوحي إذا لم يكن كذلك غير مخصوص بهم بل يكون للأولياء أيضا الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا [فصلت: 30] وقد روي عن بعض أئمة أهل البيت أن الملائكة تزاحمهم في مجالسهم، ثم إنه تعالى عدد الصفات وفصل النعم فقال: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إلخ، وفي قوله سبحانه: وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إلخ إشارة كما نقل عن الجنيد قدس سره إلى أنه ينبغي لمن أراد البلوغ إلى مقصده أن يكون أول أمره وقصده الجهد والاجتهاد ليوصله بركة ذلك إلى مقصوده، وذكروا أن المحمولين من العباد إلى المقاصد أصناف وكذا المحول عليه، فمحمول بنور الفعل، ومحمول بنور الصفة، ومحمول بنور الذات، فالمحمول بنور الفعل يكون بلده مقام الخوف والرجاء ومحلته صدق اليقين وداره مربع الشهود، والمحمول بنور الصفة يكون بلده مقام المعرفة ومحلته صفو الخلة وداره دار المودة، والمحول بنور الذات يكون بلده التوحيد ومحلته الفناء وداره البقاء، وهذه الأصناف للسالك، وأما المجذوب فمحول على مطية الفضل إلى بلد المشاهدة، وفي قوله سبحانه: وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ تحيير للإفهام وتعجيز أي تعجيز عن أن تدرك الملك العلام وقال بعضهم: إن فيها تعليما للوقوف عند ما لا يدركه العقل من آثار الصنع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 397 وفنون العلم وعدم مقابلة ذلك الإنكار حيث أخبر سبحانه أنه يخلق ما لا يعلم بمقتضى القوى البشرية المعتادة وإنما يعلم بقوة إلهية وعناية صمدية، ألا ترى الصوفية الذين منّ الله تعالى عليهم بما من كيف علموا عوالم عظيمة نسبة عالم الشهادة إليها كنسبة الذرة إلى الجبل العظيم، وممن زعم الانتظام في سلكهم كالكفشية الملقبين أنفسهم بالكشفية من ذكر من ذلك أشياء لا يشك العاقل في أنها لا أصل لها بل لو عرض كلامهم في ذلك على الأطفال أو المجانين لم يشكوا في أنه حديث خرافة صادر عن محض التخيل، وأنا أسأل الله تعالى أن لا يبتلي مسلما بمثل ما ابتلاهم، وقد عزمت حين رأيت بعض كتبهم التي ألفها بعض معاصرينا منهم مما اشتمل على ذلك على أن أصنع نحو ما صنعوا مقابلة للباطل بمثله لكن منعني الحياء من الله والاشتغال بخدمة كلامه سبحانه والعلم بأن تلك الخرافات لا تروج إلا عند من سلب منه الإدراك والتحقق بالجمادات، وقال الواسطي في الآية: المعنى يخلق فيكم من الأفعال ما لا تعلمون أنها لكم أم عليكم وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ أي السبيل القصد وهو التوحيد وَمِنْها جائِرٌ وهو ما عدا ذلك وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ لكنه لم يشأ لعدم استعدادكم ولتظهر صفات جماله وجلاله سبحانه: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ وهم الأوتاد أرباب التمكين أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أي تضطرب، ومن الكلام المشهور على الألسنة لو خلت قلبت وَأَنْهاراً وهم العلماء الذين تحيا بفرات علومهم أشجار القلوب وَسُبُلًا وهم المرشدون الداعون إليه تعالى وَعَلاماتٍ وهي الآيات الآفاقية والأنفسية وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ وهي الأنوار التي تلوح للسالك من عالم الغيب. وقال بعضهم: ألقى في أرض القلوب رواسي العلوم الغيبية والمعارف السرمدية وأجرى فيها أنهار أنوار المعرفة والمكاشفة والمحبة والشوق والعشق والحكمة والفطنة وأوضح سبلا للأرواح والعقول والأسرار، فسبيل الأرواح إلى أنوار الصفات، وسبيل العقول إلى أنوار الآيات، وسبيل الأسرار إلى أنوار الذات، والسبل في الحقيقة غير متناهية، ومن كلامهم الطرق إلى الله تعالى بعدد أنفاس الخلائق. والعلامات في الظاهر أنوار الأفعال للعموم، وأخص العلامات في العالم الأولياء، والنجوم أهل المعارف الذين يسبحون في أفلاك الديمومية بأرواحهم وقلوبهم وأسرارهم من اقتدى بهم يهتدي إلى مقصوده الأبدي، وفي الحديث «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» والمراد بهم خواصهم ليتأتى الخطاب، ويجوز أن يراد كلهم والخطاب لنا ولا مانع من ذلك على مشرب القوم وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ما أعظمها آية في النهي على من يستغيث بغير الله تعالى من الجمادات والأموات ويطلب منه ما لا يستطيع جلبه لنفسه أو دفعه عنها. وقال بعض أكابر السادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم: إن الاستغاثة بالأولياء محظورة إلا من عارف يميز بين الحدوث والقدم فيستغيث بالولي لا من حيث نفسه بل من حيث ظهور الحق فيه فإن ذلك غير محظور لأنه استغاثة بالحق حينئذ، وأنا أقول إذا كان الأمر كذلك فما الداعي للعدول عن الاستغاثة بالحق من أول الأمر؟ وأيضا إذا ساغت الاستغاثة بالولي من هذه الحيثية فلتسغ الصلاة والصوم وسائر أنواع العبادة له من تلك الحيثية أيضا، ولعل القائل بذلك قائل بهذا. بل قد رأيت لبعضهم ما يكون هذا القول بالنسبة إليه تسبيح ولا يكاد يجري قلمي أو يفتح فمي بذكره، فالطريق المأمون عند كل رشيد الاستغاثة والاستعانة على الله عز وجل فهو سبحانه الحي القادر العالم بمصالح عباده، فإياك والانتظام في سلك الذين يرجون النفع من غيره تعالى الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ ذكروا أن السابقين الموحدين يتوفاهم الله تعالى بذاته، وأما الأبرار والسعداء فقسمان، فمن ترقى عن مقام النفس بالتجرد وصل إلى مقام القلب بالعلوم والفضائل يتوفاهم ملك الموت، ومن كان في مقام النفس من العباد والصلحاء والزهاد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 398 المتشرعين الذين لم يتجردوا عن علائق البدن بالتحلية والتخلية تتوفاهم ملائكة الرحمة، وأما الأشرار الأشقياء فتتوفاهم ملائكة الرحمة، وأما الأشرار الأشقياء فتتوفاهم الملائكة أيضا ولكن ملائكة العذاب ويتشكلون لهم على صورة أخلاقهم الذميمة كما يتشكل ملائكة الرحمة لمن تقدم على صورة أخلاقهم الحسنة الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ طابت نفوسهم في خدمة مولاها وطابت قلوبهم في محبة سيدها وطابت أرواحهم بطيب مشاهدة ربها وطابت أسرارهم بطيب الأنوار، وقيل: طيبة أبدانهم وأرواحهم بملازمة الخدمة وترك الشهوات. وقيل: طيبة أرواحهم بالموت لكونه باب الوصال وسبب الحياة الأبدية وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ قالوه إلزاما بزعمهم للموحدين وما دروا أنه حجة عليهم لأنه تعالى لا يشاء إلا ما يعلم ولا يعلم إلا ما عليه الشيء في نفسه فلولا أنهم في نفس الأمر مشركون ما شاء الله تعالى ذلك فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ هم أهل القرآن المتخلقون بأخلاقه القائمون بأمره ونهيه الواقفون على ما أودع فيه من الأسرار والغيوب وقليل ما هم فالمراد بالذكر القرآن كما في قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ. وفيه إشارة إلى أن الله تعالى لم يظهر مكنونات أسرار كتابه إلا لنبيه صلى الله عليه وسلم فهو عليه الصلاة والسلام الأمين المؤتمن على الأسرار. وقد أشار سبحانه له عليه الصلاة والسلام بتبيين ذلك وقد فعل ولكن على حسب القابليات- لا تمنعوا الحكمة عن أهلها فتظلموهم ولا تمنحوها غير أهلها فتظلموها- ولا تودع الأسرار إلا عند الأحرار. وذلك لأنها أمانة وإذا أودعت عند غيرهم لم يؤمن عليها من الخيانة. وخيانتها افشاؤها وإفشاؤها خطر عظيم. ولذا قيل: من شاوروه فأبدى السر مشتهرا ... لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا وجانبوه فلم يسعد بقربهم ... وأبدلوه مكان الأنس إيحاشا لا يصطفون مذيعا بعض سرهم ... حاشا ودادهم من ذاكم حاشا أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ أي ذات وحقيقة مخلوقة أية ذات كانت يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ قيل: أي يتمثل صوره ومظاهره عَنِ الْيَمِينِ جهة الخير وَالشَّمائِلِ جهات الشرور، ولما كانت جهة اليمين إشارة إلى جهة الخير الذي لا ينسب إلا إليه تعالى وحد اليمين ولما كانت جهة الشمال إشارة إلى جهة الشر الذي لا ينبغي أن ينسب إليه تعالى كما يرشد إليه قوله: والشر ليس إليك ولكن ينسب إلى غيره سبحانه وكان في الغير تعدد ظاهر جمع الشمال. وقيل في وجه الأفراد والجمع: إن جميع الموجودات تشترك في نوع من الخير لا تكاد تفيء عنه وهو العشق فقد برهن ابن سينا على سريان قوة العشق في كل واحد من الهويات ولا تكاد تشترك في شر كذلك فما تفيء عنه من الشر لا يكون إلا متعددا فلذا جمع الشمال ولا كذلك ما تفيء عنه من الخير فلذا أفرد اليمين فليتأمل وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ينقاد ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ أي موجود يدب ويتحرك من العدم إلى الوجود وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ لا يمتنعون عن الانقياد والتذلل لأمره يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ لأنه القاهر المؤثر فيهم وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ طوعا وانقيادا، والله تعالى الهادي سواء السبيل. ثم إنه تعالى بعد ما بين أن جميع الموجودات، خاضعة منقادة له تعالى أردف ذلك بحكاية نهيه سبحانه وتعالى للمكلفين عن الإشراك فقال عز قائلا: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 399 وَقالَ اللَّهُ عطفا على قوله سبحانه: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ وجوز أن يكون معطوفا على وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ وقيل: إنه معطوف على ما خَلَقَ اللَّهُ على أسلوب: علفتها تبنا وماء باردا أي أو لم يروا إلى ما خلق الله ولم يسمعوا إلى ما قال الله ولا يخفى تكلفه، وإظهار الفاعل وتخصيص لفظة الجلالة بالذكر للإيذان بأنه تعالى متعين الألوهية وإنما المنهي عنه هو الإشراك به لا أن المنهي عنه هو مطلق اتخاذ الهين بحيث يتحقق الانتهاء عنه برفض أيهما كان، ولم يذكر المقول لهم للعموم أي قال تعالى لجميع المكلفين بواسطة الرسل عليهم السلام: لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ المشهور أن اثْنَيْنِ وصف لإلهين وكذا «واحد» في قوله سبحانه: إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ صفة لإله، وجيء بهما للإيضاح والتفسير لا للتأكيد وإن حصل. وتقرير ذلك أن لفظ «إلهين» حامل لمعنى الجنسية أعني الإلهية ومعنى العدد أعني الاثنينية وكذا لفظ «إله» حامل لمعنى الجنسية والوحدة، والغرض المسوق له الكلام في الأول النهي عن اتخاذ الإثنين من الإله لا عن اتخاذ جنس الإله، وفي الثاني اثبات الواحد من الإله لا إثبات جنسه فوصف «إلهين» باثنين «وإله» بواحد إيضاحا لهذا الغرض وتفسيرا له، فإنه قد يراد بالمفرد الجنس نحو نعم الرجل زيد. وكذا المثنى كقوله: فإن النار بالعودين تذكى ... وإن الحرب أولها الكلام الجزء: 7 ¦ الصفحة: 401 وإلى هذا ذهب صاحب الكشاف، وما يفهم منه أنه تأكيد فمعناه أنه محقق ومقرر من المتبوع فهو تأكيد لغوي لا أنه مؤكد أمر المتبوع في النسبة أو الشمول ليكون تأكيدا صناعيا كيف وهو إنما يكون بتقرير المتبوع بنفسه أو بما يوافقه معنى أو بألفاظ محفوظة، فما قيل: إن مذهبه إن ذلك من التأكيد الصناعي ليس بشيء إذ لا دلالة في كلامه عليه. وقد أورد السكاكي الآية في باب عطف البيان مصرحا بأنه من هذا القبيل فتوهم منه بعضهم أنه قائل بأن ذلك عطف بيان صناعي، وهو الذي اختاره العلامة القطب في شرح المفتاح نافيا كونه وصفا، واستدل على ذلك بأن معنى قولهم: الصفة تابع يدل على معنى في متبوعه أنه تابع ذكر ليدل على معنى في متبوعه على ما نقل عن ابن الحاجب، ولم يذكر اثْنَيْنِ وواحِدٌ للدلالة على الاثنينية والوحدة اللتين في متبوعهما فيكونا وصفين بل ذكرا للدلالة على أن القصد من متبوعهما إلى أحد جزئيه أعني الاثنينية والوحدة دون الجزء الآخر أعني الجنسية، فكل منهما تابع غير صفة يوضح متبوعه فيكون عطف بيان لا صفة. وقال العلامة الثاني: ليس في كلام السكاكي ما يدل على أنه عطف بيان صناعي لجواز أن يريد أنه من قبيل الإيضاح والتفسير وإن كان وصفا صناعيا، ويكون إيراده في ذلك المبحث مثل إيراد كل رجل عارف وكل إنسان حيوان في بحث التأكيد ومثل ذلك عادة له. وتعقب العلامة الأول بأنه إن أريد أنه لم يذكر إلا ليدل على معنى في متبوعه فلا يصدق التعريف على شيء من الصفة لأنها البتة تكون لتخصيص أو تأكيد أو مدح أو نحو ذلك وإن أريد أنه ذكر ليدل على هذا المعنى ويكون الغرض من دلالته عليه شيئا آخر كالتخصيص والتأكيد وغيرهما فيجوز أن يكون ذكر اثنين اثْنَيْنِ وواحِدٌ للدلالة على الاثنينية والوحدة ويكون الغرض من هذا بيان المقصود وتفسيره، كما أن الدابر في أمس الدابر ذكر ليدل على معنى الدبور والغرض منه التأكيد بل الأمر كذلك عند التحقيق، ألا ترى أن السكاكي جعل من الوصف ما هو كاشف وموضح ولم يخرج بهذا عن الوصفية. وأجيب بأنا نختار الشق الثاني ونقول: مراد العلامة من قوله: ذكر ليدل على معنى في متبوعه أن يكون المقصود من ذكر الدلالة على حصول المعنى في المتبوع ليتوسل بذلك إلى التخصيص أو التوضيح أو المدح أو الذم إلى غير ذلك وذكر اثْنَيْنِ وواحِدٌ ليس للدلالة على حصول الاثنينية والوحدة في موصوفيهما بل تعيين المقصود من جزئيهما فلا يكونان صفة، وذكر الدابر ليدل على حصول الدبور في الأمس ثم يتوسل بذلك إلى التأكيد وكذا في الوصف الكاشف بخلاف ما نحن فيه فتدبره فإنه غامض، ولم يجوز العلامة الأول البدلية فقال: وإما أنه ليس ببدل فظاهر لأنه لا يقوم مقام المبدل منه. ونظر فيه العلامة الثاني بأنا لا نسلم أن البدل يجب صحة قيامه مقام المبدل منه فقد جعل الزمخشري «الجن» في قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الأنعام: 100] بدلا من شُرَكاءَ ومعلوم أنه لا معنى لقولنا وجعلوا لله الجن. ثم قال: بل لا يبعد أن يقال: الأولى أنه بدل لأنه المقصود بالنسبة إذ النهي عن اتخاذ الاثنين من الإله على ما مر تقريره. وتعقب بأن الرضي قد ذكر أنه لما لم يكن البدل معنى في المتبوع حتى يحتاج إلى المتبوع كما احتاج الوصف ولم يفهم معناه من المتبوع كما فهم ذلك في التأكيد جاز اعتباره مستقلا لفظا أي صالحا لأن يقوم مقام المتبوع اه. ولا يخفى أن صحة إقامته بهذا المعنى لا تقتضي أن يتم معنى الكلام بدونه حتى يرد ما أورد وقيل: إن ذكر «اثنين» للدلالة على منافاة الاثنينية للألوهية وذكر الوحدة للتنبيه على أنها من لوازم الألوهية. وجعل ذلك بعضهم من روادف الدلالة على كون ما ذكر مساق النهي والإثبات وهو الظاهر وإن قيل فيه ما قيل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 402 وزعم بعضهم أن تَتَّخِذُوا متعد إلى مفعولين وأن اثْنَيْنِ مفعوله الأول وإِلهَيْنِ مفعوله الثاني والتقدير لا تتخذوا اثنين إلهين، وقيل: الأول مفعول أول والثاني ثان، وقيل إِلهَيْنِ مفعوله الأول. واثْنَيْنِ باق على الوصفية والتوكيد والمفعول الثاني محذوف أي معبودين، ولا يخفى ما في ذلك، وإثبات الوحدة له تعالى مع أن المسمى المعين لا يتعدد بمعنى أنه لا مشارك له في صفاته وألوهيته فليس الحمل لغوا، ولا حاجة لجعل الضمير للمعبود بحق المفهوم من الجلالة على طريق الاستخدام كما قيل، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه في سورة الإخلاص. وفي التعبير بالضمير الموضوع للغائب التفات من التكلم إلى الغيبة على رأي السكاكي المكتفي بكون الأسلوب الملتفت عنه حق الكلام وإن لم يسبق الذكر على ذلك الوجه، وإما قوله تعالى: فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ففيه التفات من الغيبة إلى التكلم على مذهب الجمهور أيضا، والنكتة فيه بعد النكتة العامة أعني الإيقاظ وتطرية الإصغاء المبالغة في التخويف والترهيب فإن تخويف الحاضر مواجهة أبلغ من تخويف الغائب سيما بعد وصفه بالوحدة والألوهية المقتضية للعظمة والقدرة التامة على الانتقام. والفاء في فَإِيَّايَ واقعة في جواب شرط مقدور و «إياي» مفعول لفعل محذوف يقدر مؤخرا يدل عليه فَارْهَبُونِ أي إن رهبتم شيئا فإياي ارهبوا، وقول ابن عطية: إن «إياي» منصوب بفعل مضمر تقديره فارهبوا إياي فارهبون ذهول عن القاعدة النحوية، وهي أنه إذا كان المعمول ضميرا منفصلا والفعل متعد إلى واحد هو الضمير وجب تأخر الفعل نحو إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة: 5] ولا يجوز أن يتقدم إلا في ضرورة نحو قوله: إليك حتى بلغت إياكا وعطف المفسر المذكور على المفسر المحذوف بالفاء لأن المراد رهبة بعد رهبة، وقيل: لأن المفسر حقه أن يذكر بعد المفسر، ولا يخفى فصل الضمير وتقديمه من الحصر أي ارهبوني لا غير فإنا ذلك الإله الواحد القادر على الانتقام وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عطف على قوله سبحانه: إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ أو على الخبر أو مستأنف جيء به تقريرا لعلة انقياد ما فيهما له سبحانه خاصة وتحقيقا لتخصيص الرهبة به تعالى، وتقدم الظرف لتقوية ما في اللام من معنى التخصيص، وكذا يقال فيما بعد أي له تعالى وحده ما في السموات والأرض وملكا وَلَهُ وحده الدِّينُ أي الطاعة والانقياد كما هو أحد معانيه. ونقل عن ابن عطية وغيره واصِباً أي واجبا لازما لا زوال له لما تقرر أنه سبحانه الإله وحده الحقيق بأن يرهب، وتفسير واصِباً بما ذكر مروى عن ابن عباس. والحسن. وعكرمة. ومجاهد والضحاك. وجماعة وأنشدوا لأبي الأسود الدؤلي: لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه ... يوما بذم الدهر أجمع واصبا وقال ابن الأنباري: هو من الوصب بمعنى التعب أو شدته، وفاعل للنسب كما في قوله: وأضحى فؤادي به فاتنا أي ذا وصب وكلفة، ومن هنا سمي الدين تكليفا، وقال الربيع بن أنس: واصِباً خالصا، ونقل ذلك أيضا عن الفراء، وقيل: الدين الملك والواصب الدائم، ويبعد ذلك قول أمية بن الصلت: وله الدين واصبا له الم ... لك وحمد له على كل حال وقيل: الدين الجزاء والواصب كما في سابقه أي له تعالى الجزاء دائما لا ينقطع ثوابه للمطيع وعقابه للعاصي، وأيا ما كان فنصب واصِباً على أنه حال من ضمير الدِّينُ المستكن في الظرف والظرف عامل فيه أو حال من الدِّينُ والظرف هو العامل على رأي من يرى جواز اختلاف العامل في الحال والعامل في صاحبها. واستدل بالآية الجزء: 7 ¦ الصفحة: 403 على أن أفعال العباد مخلوقة له تعالى أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ الهمزة للإنكار والفاء للتعقيب أي أبعد ما تقرر من تخصيص جميع الموجودات للسجود به تعالى وكون ذلك كله له سبحانه ونهيه عن اتخاذ الإلهين وكون الدين له واصبا المستدعي ذلك لتخصيص التقوى به تعالى تتقون غيره، والمنكر تقوى غير الله تعالى لا مطلق التقوى ولذا قدم الغير، وأولى الهمزة لا للاختصاص حتى يرد أن إنكار تخصيص التقوى بغيره سبحانه لا ينافي جوازها، وقيل: يصح أن يعتبر الاختصاص بالإنكار فيكون التقديم لاختصاص الإنكار لا لإنكار الاختصاص. وفي البحر أن هذا الاستفهام يتضمن التوبيخ والتعجب أي بعد ما عرفتم من وحدانيته سبحانه وأن ما سواه له ومحتاج إليه كيف تتقون وتخافون غيره وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ أي أي شيء يلابسكم ويصاحبكم من نعمة أي نعمة كانت فهي منه تعالى- فما- موصولة مبتدأ متضمنة معنى الشرط ومن الله خبرها والفاء زائدة في الخبر لذلك التضمن ومِنْ نِعْمَةٍ بيان للموصول وبِكُمْ صلته، وأجاز الفراء وتبعه الحوفي أن تكون ما شرطية وفعل الشرط محذوف أي وما يكن بكم من نعمة إلخ. واعترضه أبو حيان بأنه لا يحذف فعل الشرط إلا بعد إن خاصة في موضعين باب الاشتغال نحو وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ [التوبة: 6] وأن تكون إن الشرطية متلوة بلا النافية وقد دل على الشرط ما قبله كقوله: فطلقها فلست لها بكفء ... وإلا يعل مفرقك الحسام وحذفه في غير ما ذكر ضرورة كقوله: قالت بنات العم يا سلمى وإن ... كان فقيرا معدما قالت وإن وقوله: أينما الريح تميّلها تمل وأجيب بأن الفراء لا يسلم هذا فما أجازه مبني على مذهبه. واستشكل أمر الشرطية على الوجهين من حيث إن الشرط لا بد أن يكون سببا للجزاء كما تقول: إن تسلم تدخل الجنة فإن الإسلام سبب لدخول الجنة وهنا على العكس، فإن الأول وهو استقرار النعمة بالمخاطبين لا يستقيم أن يكون سببا للثاني وهو كونها من الله من جهة كونه فرعا عنه. وأجاب في إيضاح المفصل بأن الآية جيء بها لإخبار قوم استقرت بهم نعم جهلوا معطيها أو شكوا فيه أو فعلوا ما يؤدي إلى أن يكونوا شاكين فاستقرارها مجهولة أو مشكوكة سبب للإخبار بكونها من الله تعالى فيتحقق أن الشرط والمشروط فيها على حسب المعروف من كون الأول سببا والثاني مسببا، وقد وهم من قال: إن الشرط قد يكون مسببا. وفي الكشف أن الشرط والجزاء ليسا على الظاهر فإن الأول ليس سببا للثاني بل الأمر بالعكس لكن المقصود نه تذكيرهم وتعريفهم فالاتصال سبب العلم بكونها من الله تعالى، وهذا أولى مما قدره ابن الحاجب من أنه سبب الإعلام بكونها منه لأنه في قوم استقرت بهم النعم وجهلوا معطيها أو شكوا فيه، ألا ترى إلى ما بني عليه بعد كيف دل على أنهم عالمون بأنه سبحانه المنعم ولكن يضطرون إليه عند الإلجاء ويكفرون بعد الإنجاء انتهى. وفيه أنه يدفع ما ذكره بأن علمهم نزل لعدم الاعتداد به وفعلهم ما ينافيه منزلة الجهل فأخبروا بذلك كما تقول لمن توبخه: أما أعطيتك كذا أما وأما ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ مساسا يسيرا فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ تتضرعون في كشفه لا إلى غيره كما يفيد تقديم الجار والمجرور، والجؤار في الأصل صياح الوحش واستعمل في رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة، قال الأعشى يصف راهبا: يداوم من صلوات المليك ... طورا سجودا وطورا جؤارا وقرأ الزهري «تجرون» بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على الجيم، وفي ذكر المساس المنبئ عن أدنى إصابة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 404 وإيراده بالجملة الفعلية المؤذنة بالحدوث مع ثم الدالة على وقوعه بعد برهة من الدهر وتحلية الضُّرُّ بلام الجنس المفيدة لمساس أدنى ما ينطلق عليه اسم الجنس مع إيراده النعمة بالجملة الاسمية المؤذنة بالدوام والتعبير عن ملابستها للمخاطبين بباء المصاحبة وإيراد ما المعربة عن العموم على احتماليها ما لا يخفى من الجزالة والفخامة. ولعل إيراد «إذا» دون- أن- للتوسل به إلى تحقق وقوع الجواب قاله المولى أبو السعود، وفيه ما يعرف مع الجواب عنه بأدنى تأمل، وكان الظاهر على ما قيل أن يقال بعد أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ: وما يصيبكم ضر إلا منه ليقوى انكار اتقاء غيره سبحانه لكن ذكر النفع الذي يفهم بواسطته الضر واقتصر عليه إشارة إلى سبق رحمته وعمومها وبملاحظة هذا المعنى قيل: يظهر ارتباط «وما بكم من نعمة فمن الله» بما قيله، وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى ما يتعلق بذلك، واستدل بالآية على أن لله تعالى نعمة على الكافر وعلى أن الإيمان مخلوق له تعالى. ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ أي رفع ما مسكم من الضر إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ أي يتجدد إشراكهم به تعالى بعبادة غيره سبحانه، والخطاب في الآية إن كان عاما- فمن- للتبعيض والفريق الكفرة، وإن كان خاصا بالمشركين كما استظهره في الكشف- فمن- للبيان على سبيل التجريد ليحسن وإلا فليس من مواقعه كما قيل، والمعنى إذا فريق هم أنتم يشركون وجوز على هذا الاحتمال في الخطاب كون- من- تبعيضية أيضا لأن من المشركين من يرجع عن شركه إذا شاهد ضرا شديدا كما يدل عليه قوله تعالى: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ [لقمان: 32] على تقدير أن يفسر الاقتصاد بالتوحيد لا بعدم الغلو في الكفر، وإِذا الأولى شرطية والثانية فجائية والجملة وبعدها جواب الشرط، واستدل أبو حيان باقترانها بإذا الفجائية على أن إذا الشرطية ليس العامل فيها الجواب لأنه لا يعمل ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها، وبِرَبِّهِمْ متعلق- بيشركون- والتقديم لمراعاة رؤوس الآي، والتعرض لوصف الربوبية للإيذان بكمال قبح ما ارتكبوه من الإشراك الذي هو غاية في الكفران. وثُمَّ قال في إرشاد العقل السليم: ليست لتمادي زمان مساس الضر ووقوع الكشف بعد برهة مديدة بل للدلالة على تراخي رتبة عليه من مفاجآت الإشراك فإن ترتبها على ذلك في أبعد غاية من الضلال. وفي الكشف متعقبا صاحب الكشاف بأنه لم يذكر وجه الكلام في قوله تعالى: ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ ثُمَّ إِذا كَشَفَ وهو على وجهين والله تعالى أعلم. أحدهما أن يكون قوله سبحانه وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ من تتمة السابق على معنى إنكار اتقاء غير الله تعالى وقد علموا أن كل ما يتقلبون فيه من نعمته فهو سبحانه القادر على سلبها، ثم أنكر عليهم تخصيصهم بالجؤار عند الضر في مقابلة تخصيص غيره بالاتقاء ثم إشراكهم به تعالى كفرانا لتلك النعمة وجيء بثم لتفاوت الإنكارين فإن اتقاء غير المنعم أقرب من الأعراض عنه وهو متقلب في نعمه ثم اللجأ إلى هذا المكفور به وحده عند الحاجة، وأبعد منه الإعراض ولم يجف قدمه من ندى النجاة. والثاني أن يكون جملة مستقلة واردة للتقريع وثُمَّ في الأول لتراخي الزمان إشعارا بأنهم غمطوا تلك النعم ولم يزالوا عليه إلى وقت الإلجاء، وفيه الإشعار بتراخي الرتبة أيضا على سبيل الإشارة وفي الثاني لتراخي الرتبة وحده، اه وهو كلام نفيس، وللطيبي كلام طويل في هذا المقام إن أردته فارجع إليه. وقرأ الزهري «ثم إذا كاشف» وفاعل هنا بمعنى فعل، وفي الآية ما يدل على أن صنيع أكثر العوام اليوم من الجؤار إلى غيره تعالى ممن لا يملك لهم بل ولا لنفسه نفعا ولا ضرا عند إصابة الضر لهم وإعراضهم عن دعائه تعالى عند ذلك بالكلية سفه عظيم وضلال جديد لكنه أشد من الضلال القديم، ومما تقشعر منه الجلود وتصعر له الخدود الكفرة أصحاب الأخدود فضلا عن المؤمنين باليوم الموعود إن بعض المتشيخين قال لي وأنا صغير: إياك ثم إياك أن تستغيث الجزء: 7 ¦ الصفحة: 405 بالله تعالى إذا خطب دهاك فإن الله تعالى لا يعجل في إغاثتك ولا يهمه سوء حالتك وعليك بالاستغاثة بالأولياء السالفين فإنهم يعجلون في تفريج كربك ويهمهم سوء ما حل بك فمج ذلك سمعي وهمي دمعي وسألت الله أن يعصمني والمسلمين من أمثال هذا الضلّال المبين، ولكثير من المتشيخين اليوم كلمات مثل ذلك لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ من نعمة الكشف عنهم، فالكفر بمعنى كفران النعمة واللام لام العاقبة والصيرورة، وهي استعارة تبعية فإنه لما لم ينتج كفرهم وإشراكهم غير كفران ما أنعم الله تعالى به عليهم جعل كأنه علة غائية له مقصودة منه، وجوز أن يكون الكفر بمعنى الجحود أي إنكار كون تلك النعمة من الله تعالى واللام هي اللام، والمعنيان متقاربان فَتَمَتَّعُوا أمر تهديد كما هو أحد معاني الأمر المجازية عند الجمهور كما يقول السيد لعبده افعل ما تريد، والالتفات إلى الخطاب للإيذان بتناهي السخط. وقرأ أبو العالية «فيمتّعوا» بضم الياء التحتية ساكن الميم مفتوح التاء مضارع متع مخففا مبنيا للمفعول وروى ذلك مكحول الشامي عن أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو معطوف يكفروا على أن يكون الأمران عرضا لهم من الإشراك، ويجوز أن يكون لام لِيَكْفُرُوا لام الأمر والمقصود منه التهديد بتخليتهم وما هم فيه لخذلانهم، فالفاء واقعة في جواب الأمر وما بعدها منصوب بإسقاط النون، ويجوز جزمه بالعطف أيضا كما ينصب بالعطف إذا كانت اللام جارة فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة أمركم وما ينزل بكم من العذاب، وفيه وعيد شديد حيث لم يذكر المفعول إشعارا بأنه لا يوصف. وقرأ أبو العالية أيضا «يعلمون» بالياء التحتية وروى ذلك مكحول عن أبي رافع أيضا وَيَجْعَلُونَ قيل معطوف على يُشْرِكُونَ وليس بشيء، وقيل: لعله عطف على ما سبق بحسب المعنى تعدادا لجناياتهم أي يفعلون ما يفعلون، مما قص عليك ويجعلون لِما لا يَعْلَمُونَ أي لآلهتهم التي لا يعلمون أحوالها وإنها لا تضر ولا تنفع على أن ما موصولة والعائد محذوف وضمير الجمع للكفار أو لآلهتهم التي لا علم لها بشيء إنها جماد على أن ما موصولة أيضا عبارة عن الآلهة، وضمير يَعْلَمُونَ عائد عليه، ومفعول يَعْلَمُونَ مترك لقصد العموم، وجوز أن ينزل منزلة اللازم أي ليس من شأنهم العلم، وصيغة جمع العقلاء لوصفهم الآلهة بصفاتهم، ويجوز أن تكون ما مصدرية وضمير الجمع للمشركين واللام تعليلية لا صلة الجعل كما في الوجهين الأولين، وصلته للعلم بها أي يجعلون لآلهتهم لأجل جهلهم نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ من الحرث والأنعام وغيرهما مما ذرأ تقربا إليها تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ سؤال توبيخ وتقريع في الآخرة، وقيل: عند عذاب القبر، وقيل: عند القرب من الموت عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ من قبل بأنها آلهة حقيقة بأن يتقرب إليها، وفي تصدير الجملة بالقسم وصرف الكلام من الغيبة إلى الخطاب المنبئ عن كمال الغضب من شدة الوعيد ما لا يخفى. وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ هم خزاعة وكنانة كانوا يقولون: الملائكة بنات الله تعالى وكأنهم لجهلهم زعموا تأنيثها وبنوتها، وقال الإمام: أظن أنهم أطلقوا عليها البنات لاستتارها عن العيون كالنساء ولهذا لما كان قرص الشمس يجري مجرى المستتر عن العيون بسبب ضوئه الباهر ونوره القاهر أطلقوا عليه لفظ التأنيث. ولا يرد على ذلك أن الجن كذلك لأنه لا يلزم في مثله الاطراد، وقيل: أطلقوا عليها ذلك للاستتار مع كونها في محل لا تصل إليه الأغياء فهي كبنات الرجل اللاتي يغار عليهن فيسكنهن في محل أمين ومكان مكين، والجن وإن كانوا مستترين لكن لا على هذه الصورة، وهذا أولى مما ذكره الإمام، وأما عدم التوالد فلا يناسب ذلك. سُبْحانَهُ تنزيه وتقديس له تعالى شأنه عن مضمون قوله ذلك أو تعجيب من جراءتهم على التفوه بمثل تلك العظيمة، وهو في المعنى الأول حقيقة وفي الثاني مجاز. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 406 وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ يعني البنين وما مفروع المحل على أنه مبتدأ والظرف المقدم خبره والجملة حالية وسبحانه اعتراض في حاق موقعه، وجوز الفراء. والحوفي أنه في محل نصب معطوف على الْبَناتِ كأنه قيل: ويجعلون لهم ما يشتهون. واعترض عليه الزجاج وغيره بأنه مخالف للقاعدة النحوية وهي أنه لا يجوز تعدي فعل المضمر المتصل المرفوع بالفاعلية وكذا الظاهر إلى ضميره المتصل سواء كان تعديه بنفسه أو بحرف الجر إلا في باب ظن وما ألحق به من فقد وعدم فلا يجوز زيد ضربه بمعنى ضرب نفسه ولا زيد مر به أي مر هو بنفسه ويجوز زيد ظنه قائما وزيد فقده وعدمه فلو كان مكان الضمير اسما ظاهرا (1) كالنفس نحو زيد ضرب نفسه أو ضميرا منفصلا نحو زيد ما ضرب إلا إياه وما ضرب زيد إلا إياه جاز، فإذا عطف «ما» على الْبَناتِ أدى إلى تعدية فعل المضمر المتصل وهو واو يَجْعَلُونَ إلى ضميره المتصل وهو هم المجرور باللام في غير ما استثني وهو ممنوع عند البصريين ضعيف عند غيرهم فكان حقه أن يقال- لأنفسهم- وأجيب بأن الممتنع إنما هو تعدي الفعل بمعنى وقوعه عليه أو على ما جر بالحرف نحو زيد مر به فإن المرور واقع بزيد وما نحن فيه ليس من هذا القبيل فإن الجعل ليس واقعا بالجاعلين بل بما يشتهون، ومحصله- كما قال الخفاجي- المنع في المتعدي بنفسه مطلقا والتفصيل في المتعدي بالحرف بين ما قصد الإيقاع عليه وغيره فيمتنع في الأول دون الثاني لعدم ألف إيقاع المرء بنفسه. وأبو حيان اعترض القاعدة بقوله تعالى: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ [مريم: 25] . وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ [القصص: 32] والعلامة البيضاوي أجاب بوجه آخر وهو أن الامتناع إنما هو إذا تعدى الفعل أولا لا ثانيا وتبعا فإنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع، ومنهم من خص ذلك بالمتعدي بنفسه وجوز في المتعدي بالحرف كما هنا وارتضاه الشاطبي في شرح الألفية، وقال الخفاجي: هو قوي عندي لكن لا يخفى أن العطف هنا بعد هذا القيل والقال يؤدي إلى جعل الجعل بمعنى يعم الزعم والاختيار وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى أي أخبر بولادتها، وأصل البشارة الإخبار بما يسر لكن لما كانت ولادة الأنثى تسوءهم حملت على مطلق الأخبار، وجوز أن يكون ذلك بشارة باعتبار الولادة بقطع النظر عن كونها وقيل: إنه بشارة حقيقة بالنظر إلى حال المبشر به في نفس الأمر، وأيّا ما كان فالكلام على تقدير مضاف كما أشرنا إليه ظَلَّ وَجْهُهُ أي صار مُسْوَدًّا من الكآبة والحياة من الناس، وأصل معنى ظل أقام نهارا على الصفة التي تسند إلى الاسم، ولما كان التبشير قد يكون في الليل وقد يكون في النهار فسر بما ذكر وقد تلحظ الحالة الغالبة بناء على أن أكثر الولادات يكون بالليل ويتأخر اخبار المولود له إلى النهار خصوصا بالأنثى فيكون ظلوله على ذلك الوصل طول النهار واسوداد الوجه كناية عن العبوس والغم والفكرة والنفرة التي لحقته بولادة الأنثى، قيل: إذا قوي الفرح انبسط روح القلب من داخله ووصل إلى الأطراف لا سيما إلى الوجه لما بين القلب والدماغ من التعلق الشديد فيرى مشرقا متلألئا، وإذا قوي الغم انحصر الروح إلى باطن القلب ولم يبق له أثر قوي في ظاهر الوجه فيربد ويتغير ويصفر ويسود ويظهر فيه أثر الأرضية، فمن لوازم الفرح استنارة الوجه وإشراقه ومن لوازم الغم والحزن إرداءه واسوداده فلذلك كني عن الفرح بالاستنارة وعن الغم بالاسوداد، ولو قيل بالمجاز لم يبعد بل قال بعضهم «إنه الظاهر» والظاهر أن وَجْهُهُ اسم ظل ومُسْوَدًّا خبره، وجوز كون الاسم ضميرا لأحد ووجهه بدلا منه ولو رفع مُسْوَدًّا على أن وَجْهُهُ مبتدأ وهو خبر له والجملة خبر ظَلَّ صح لكنه لم يقرأ بذلك هنا وَهُوَ كَظِيمٌ أي مملوء غيظا وأصل الكظم مخرج النفس يقال: أخذ بكظمه إذا أخذ بمخرج نفسه، ومنه كظم الغيظ لاخفائه وحبسه عن الوصول إلى مخرجه.   (1) قوله اسما ظاهرا وقوله بعده أو ضميرا منفصلا كذا بخطه فليتأمل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 407 وفعيل إما بمعنى مفعول كما أشير إليه أو صيغة مبالغة، والظاهر أن ذلك الغيظ على المرأة حيث ولدت اثنى ولم تلد ذكرا، ويؤيده ما روى الأصمعي أن امرأة ولدت بنتا سمتها الذلفاء فهجرها زوجها فانشدت: ما لأبي الذلفاء لا يأتينا ... يظل في البيت الذي يلينا يحرد أن لا نلد البنينا ... وإنما نأخذ ما يعطينا والفقير قد رأيت من طلق زوجته لأن ولدت أنثى، والجملة في موضع الحال من الضمير في ظَلَّ وجوز أبو البقاء أن يكون حالا من وجه، وجوز غيره أيضا حاليته من ضمير مُسْوَدًّا يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ يستخفي من قومه مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ عرفا وهو الأنثى، والتعبير عنهما- بما- لاسقاطها بزعمهم عن درجة العقلاء، والجملة مستأنفة أو حال على الأوجه السابقة في وهو كظيم إلا كونه من وجهه، والجاران متعلقان- بيتوارى- ومِنَ الأولى ابتدائية، والثانية تعليلية أي يتوارى من أجل ذلك، ويروى أن بعض الجاهلية يتوارى في حال الطلق فإن أخبر بذكر ابنته أو بأنثى حزن وبقي متواريا أياما يدبر فيها ما يصنع أَيُمْسِكُهُ أيتركه ويربيه عَلى هُونٍ أي ذل، والجار والمجرور في موضع الحال من الفاعل ولذا قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: معناه أيمسكه مع رضاه بهوان نفسه وعلى رغم أنفه، وقيل: حال من المفعول به أي أيمسك المبشر به وهو الأنثى مهانا ذليلا، وجملة أَيُمْسِكُهُ معمولة لمحذوف معلق بالاستفهام عنها وقع حالا من فاعل يَتَوارى أي محدثا نفسه متفكرا في أن يتركه أَمْ يَدُسُّهُ يخفيه فِي التُّرابِ والمراد يئده ويدفنه حيا حتى يموت وإلى هذا ذهب السدي. وقتادة. وابن جريج وغيرهم، وقيل: المراد إهلاكه سواء كان بالدفن حيا أم بأمر آخر فقد كان بعضهم يلقي الأنثى من شاهق. روي أن رجلا قال: يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما أجد حلاوة الإسلام منذ أسلمت، وقد كانت لي في الجاهلية بنت وأمرت امرأتي أن تزينها وأخرجتها فلما انتهيت إلى واد بعيد القعر ألقيتها فقالت يا أبت قتلتني فكلما ذكرت قولها لم ينفعني شيء فقال صلى الله عليه وسلم: «ما في الجاهلية فقد هدمه الإسلام وما في الإسلام يهدمه الاستغفار» وكان بعضهم يغرقها، وبعضهم يذبحها إلى غير ذلك، ولما كان الكل إماتة تفضي إلى الدفن في التراب قيل: أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ وقيل: المراد اخفاؤه عن الناس حتى لا يعرف كالمدسوس في التراب، وتذكير الضميرين للفظ ما. وقرأ الجحدري بالتأنيث فيهما عودا على قول سبحانه: بِالْأُنْثى أو على معنى ما. وقرئ بتذكير الأول وتأنيث الثاني، وقرأ الجحدري أيضا، وعيسى «هوان» بفتح الهاء وألف بعد الواو، وقرئ «على هون» بفتح الهاء وإسكان الواو وهو بمعنى الذل أيضا، ويكون بمعنى الرفق واللين وليس بمراد، وقرأ الأعمش «على سوء» وهي عند أبي حيان تفسير لا قراءة لمخالفتها السواد أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ حيث يجعلون لمن تنزه عن الصحابة والولد ما هذا شأنه عندهم والحال أنهم يتحاشون عنه ويختارون لأنفسهم البنين، فمدار الخطأ جعلهم ذلك لله تعالى شأنه مع إبائهم إياه لا جعلهم البنين لأنفسهم ولا عدم جعلهم له سبحانه، وجوز أن يكون مداره التعكيس كقوله تعالى: تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى [النجم: 22] ، وقال ابن عطية: هذا استقباح منه تعالى شأنه لسوء فعلهم وحكمهم في بناتهم بالإمساك على هون أو الوأد مع أن رزق الجميع على الله سبحانه فكأنه قيل: ألا ساء ما يحكمون في بناتهم وهو خلاف الظاهر جدا، وروى الأول عن السدي وعليه الجمهور، والآية ظاهرة في ذم من يحزن إذا بشر بالأنثى حيث أخبرت أن ذلك فعل الفكرة، وقد أخرج ابن جرير. وغيره عن قتادة أنه قال في قوله سبحانه: وَإِذا بُشِّرَ إلخ هذا صنيع مشركي العرب أخبركم الله تعالى بخبثه فأما المؤمن فهو حقيق أن يرضى بما قسم الله تعالى له وقضاء الله تعالى خير من قضاء المرء لنفسه، ولعمري ما ندري أي خبر لرب جارية خير لأهلها من غلام، وإنما أخبركم الله عز وجل بصنيعهم لتجتنبوه ولتنتهوا عنه. واستدل القاضي بالآية على بطلان مذهب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 408 القائلين بنسبة أفعال العباد إليه تعالى لأن في ذلك إضافة فواحش لو أضيفت إلى أحدهم أجهد نفسه في البراءة منها والتباعد عنها قال: فحكم هؤلاء القائلين مشابه لحكم هؤلاء المشركين بل أعظم لأن إضافة البنات إليه سبحانه إضافة لقبيح واحد وهو أسهل من إضافة كل القبائح والفواحش إليه عز وجل. وأجيب عن ذلك بأنه لما ثبت بالدليل استحالة الصحابة والولد عليه سبحانه أردفه عز وجل بذكر هذا الوجه الإقناعي وإلا فليس كل ما قبح منا في العرف قبح منه تعالى، ألا ترى أن رجلا لو زين إماءه وعبيده وبالغ في تحسين صورهم وصورهن ثم بالغ في تقوية الشهوة فيهم وفيهن ثم جمع بين الكل وأزال الحائل والمانع وبقي ينظر ما يحدث بينهم من الوقاع وغيره عد من أسفه السفهاء وعد صنيعه أقبح كل صنيع مع أن ذلك لا يقبح منه تعالى بل قد صنعه جل جلاله فعلم أن التعويل على مثل هذه الوجوه المبنية على العرف إنما يحسن إذا كانت مسبوقة بالدلائل القطعية، وقد ثبت بها امتناع الولد عليه سبحانه فلا جرم حسنت تقويتها لهذه الوجوه الإقناعية، وأما أفعال العباد فقد ثبت بالدلائل القاطعة أن خالقها هو الله تعالى فكيف يمكن إلحاق أحد البابين بالآخر لولا سوء التعصب لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ممن ذكرت قبائحهم مَثَلُ السَّوْءِ صفة السوء التي هي كالمثل في القبح وهي الحاجة إلى الولد ليقوم مقامهم بعد موتهم ويبقى به ذكرهم، وإيثار الذكور للاستظهار، ووأد البنات لدفع العار أو خشية الإملاق على حسب اختلاف أغراض الوائدين المنادي كل واحد من ذلك بالعجز والقصور والشح البالغ. وعن ابن عباس مَثَلُ السَّوْءِ النار، وأظنه لا يصح عنه رضي الله تعالى عنه، ومنه ابن عطية حمل المثل على الصفة وقال: إنه لا يضطر إليه لأنه خروج عن اللفظ بل هو على بابه، وذلك أنهم قالوا: إن البنات لله سبحانه فقد جعلوا لله عز وجل مثلا فإن البنات من البشر وكثرة البنات أمر مكروه عندهم ذميم فهو المثل السوء الذي أخبر الله تعالى بأنه لهم، وليس في البنات فقط بل لما جعلوا له تعالى البنات جعله هو سبحانه لهم على الإطلاق في كل سوء ولا غاية أبعد من عذاب النار اه، وهو أشبه عندي بالرطانة كما لا يخفى ووضع الموصول موضع الضمير للإشعار بأن مدار اتصافهم بتلك القبائح هو الكفر بالآخرة وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى أي الصفة العجيبة الشأن التي هي مثل في العلو مطلقا وهو الوجوب الذاتي والغنى المطلق والجود الواسع والنزاهة عن صفات المخلوقين ويدخل فيه علوه تعالى عما يقول (1) علوا كبيرا. وأخرج ابن جرير. وغيره عن قتادة أن المثل الأعلى شهادة على لا إله إلا الله وهو رواية عن ابن عباس. والذي أخرجه عنه البيهقي في الأسماء والصفات وغيره هو لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] . وَهُوَ الْعَزِيزُ المنفرد بكمال القدرة على كل شيء ومن ذلك مؤاخذتهم بقبائحهم، وقيل: هو الذي لا يوجد له نظير الْحَكِيمُ الذي يفعل كل ما يفعل بمقتضى الحكمة البالغة. وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ الظالمين مطلقا، وقيل: بالكفر والمؤاخذة مفاعلة من فاعل بمعنى فعل وهو الظاهر، وقال ابن عطية: هي مجاز كأن العبد يأخذ حق الله تعالى بمعصيته والله تعالى يأخذ منه بعاقبته وكذا الحال في مؤاخذة الخلق بعضهم بعضا بِظُلْمِهِمْ أي بسبب كفرهم ومعاصيهم بناء على الظلم فعل ما لا ينبغي ووضعه في غير موضعه وقد يخص بالكفر والتعدي على الغير ويدخل فيه ما عد من القبائح، وهذا تصريح بما أفاده قوله تعالى: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وإيذان بأن ما أتاه هؤلاء الكفرة من القبائح قد تناهى إلى أمد لا غاية وراءه ما تَرَكَ عَلَيْها أي على الأرض المدلول عليها بالناس وبقوله تعالى: مِنْ دَابَّةٍ بناء على شهرة كون الدبيب في الأرض أي ما ترك عليها شيئا من الدواب أصلا بل أهلكها بالمرة، أما الظالم فبظلمه وأما غيره فبشؤم ذلك فقد قال سبحانه: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَ   (1) قوله عما يقول كذا بخطه والظاهر «عما يقولون» إلخ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 409 الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: 25] وأخرج البيهقي في الشعب وغيره عن أبي هريرة أنه سمع رجلا يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه فقال: بلى والله إن الحبارى لتموت هزلا في وكرها من ظلم الظالم، وأخرج أيضا هو فيه وغيره عن ابن مسعود قال: كاد الجعل أن يعذب في جحره بذنب ابن آدم ثم قرأ الآية، وأخرج أحمد في الزهد عنه أنه قال: ذنوب ابن آدم قتلت الجعل في جحره ثم قال: أي والله زمن غرق قوم نوح عليه السلام، وقيل: المراد من دابة ظالمة على أن التنوين للنوع وهو مخصوص بالكفار والعصاة من الأنس، وقيل: منهم ومن الجن، وقيل: المراد الدابة الظالمة الفاعلة لما ينبغي شرعا أو عرفا فيدخل بعض الدواب إذا ضر غيره، وقالت فرقة منهم ابن عباس: المراد بالدابة المشرك فقد قال تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال: 55] وقال الجبائي: الدابة على عمومها فتشمل سائر الحيوانات، والمراد بالناس الظالمون مطلقا ووجه الملازمة أنه تعالى لو آخذهم بما كسبوا من كفر أو معصية لعجل هلاكهم وحينئذ لا يبقى لهم نسل، ومن المعلوم أن لا أحد إلا وفي آبائه من يستحق العقاب وإذا هلكوا جميعا وبطل نسلهم لا يبقى أحد من الناس وحينئذ يهلك الدواب لأنها مخلوقة لمنافع العباد ومصالحهم كما يشعر به قوله تعالى: خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة: 29] وبتخصيص الناس يسقط الاستدلال بالآية على عدم عصمة الأنبياء عليهم السلام، وقال بعض المحققين: لا حاجة إلى التخصيص في ذلك والآية من باب بنو تميم قتلوا قتيلا لتظافر الأدلة والنصوص على عصمة الأنبياء عليهم السلام. فلا يقال: الأصل الحمل على الحقيقة. واستدل بعضهم للتخصيص بقوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ [فاطر: 32] وألا يفسد التقسيم، وقد يقال: إنه ما أحد إلا وهو متصف بظلم إلا أن مراتبه مختلفة فحسنات الأبرار سيئات المقربين، والعصمة التي تدعى للأنبياء عليهم السلام إنما هي العصمة مما يعد ذنبا بالنسبة إلى غيرهم وأما العصمة مما يعد ذنبا بالنسبة إلى مقامهم ومرتبتهم فلا تدعى لهم إذ قد وقع ذلك منهم كما يشهد به كثير من الآيات، وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أن الله تعالى يؤاخذني وعيسى ابن مريم بذنوبنا- وفي لفظ- بما جنت هاتان الإبهام والتي تليها لعذبنا ما يظلمنا شيئا» نعم إنه لا يقال لنبي هو ظالم ولا للأنبياء عليهم السلام هم ظالمون ويقال الناس ظالمون وهذا نظير قولهم: لا يقال لله سبحانه خالق القردة والخنازير ويقال هو خالق كل شيء، ورب شيء يجوز تبعا ولا يجوز استقلالا، وأمر التقسيم هين عند المتأمل فليتأمل، ومن الناس من احتج بالآية على أن أصل المضمار الحرمة إذ لو كان الضرر مشروعا فإما أن يكون مشروعا على وجه يكون جزاء على جرم أولا وكلا القسمين باطل، أما الأول فللآية وذلك من وجهين. الأول أنها لمكان لو تقتضي أن تعالى ما آخذ الناس بظلمهم وأنه ترك على ظهرها دابة. الثاني أن مقتضى المؤاخذة عدم ترك دابة على ظهرها ونحن نشاهد أنه سبحانه قد ترك كثيرا من الدواب فيجب القطع بأنه تعالى لم يؤاخذ بالظلم، وأما الثاني فباطل بالإجماع فثبت بمقتضى آية تحريم المضار، ويؤكد ذلك آيات أخر وأخبار وحينئذ يقال: إذا وقعت حادثة مشتملة على الضرر من جميع الوجوه فإن وجدنا نصا يدل على كونه مشروعا قضينا به تقديما للخاص على العام وإلا قضينا بالحرمة بناء على الأصل الذي قرر. واستدل بها المعتزلة على أن العباد خالقون لأفعالهم ووجه مع رده غنى عن البنيان وَلكِنْ لا يؤاخذهم بذلك بل يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى سماه سبحانه وعينه لأعمالهم أو لعذابهم كي يتوالدوا أو يكثر عذابهم فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ المسمى لا يَسْتَأْخِرُونَ عنه ساعَةً أقل مدة وَلا يَسْتَقْدِمُونَ عليه، وقد مر الكلام في نظيرها وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ أي يثبتون له سبحانه وينسبون إليه بزعمهم ما يَكْرَهُونَ الذي يكرهونه لأنفسهم من البنات، والتعبير- بما- عند أبي حيان على إرادة النوع، وهذا على ما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 410 سمعت تكرير لما سبق تثنية للتقريع وتوطئة لقوله تعالى: وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أي يجعلون لله تعالى ما يجعلون ومع ذلك تصف ألسنتهم الكذب وهو أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى أي العاقبة الحسنى عند الله عز وجل ولا يتعين إرادة الجنة. وعن بعضهم أن المراد بها ذلك بناء على أن منهم من يقر بالبعث وهذا بالنسبة لهم أو أنه على الفرض والتقدير كما روي أنهم قالوا: إن كان محمد صلى الله عليه وسلم صادقا في البعث فلنا الجنة بما نحن عليه، قيل: وهو المناسب لقوله تعالى الآتي: لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ لظهور دلالته على أنهم حكموا لأنفسهم بالجنة، فلا يرد أنهم كيف قالوا ذلك وهم منكرون للبعث، وعن مجاهد أنهم يرادوا بالحسنى البنين وليس بذاك وقال بعض المحققين: المراد- بما يكرهون- أعم مما تقدم فيشمل البنات وقد علم كراهتهم لها وإثباتها لله تعالى بزعمهم والشركاء في الرياسة فإن أحدهم لا يرضى أن يشرك في ذلك ويزعم الشريك له سبحانه والاستخفاف برسل الله تعالى عليهم السلام فإنهم يغضبون لو استخف برسول لهم أرسلوه في أمر لغيرهم ويستخفون برسل الله تعالى عليهم السلام وأراذل الأموال فإنهم كانوا إذا رأوا ما عينوه لله تعالى من أنعامهم أزكى بدلوه بما لآلهتهم وإذا رأوا ما لآلهتهم أزكى تركوه لها ولو فعل نحو ذلك معهم غضبوا، وعلى هذا يفسر الجعل بما يعم الزعم والاختيار وما تعم القلاء وغيرهم ولا يخلو الكلام عن نوع تكرير، والمراد من تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ يكذبون وهو من بليغ الكلام وبديعه، ومثله قولهم: عينها تصف السحر أي ساحرة وقدها يصف الهيف أي هيفاء، وقول أبي العلاء المعري: سرى برق المعرة بعد وهن ... فبات برامة يصف الكلالا وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا تمام الكلام في ذلك، والظاهر أن الْكَذِبَ مفعول تَصِفُ وأَنَّ لَهُمُ بدل منه أو بتقدير بأن لهم ولما حذفت الباء صار في موضع نصب عند سيبويه، وعند الخليل هو في موضع جر، وجوز أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف كما أشرنا إليه في بيان المعنى، وجوز أبو البقاء كون الْكَذِبَ بدلا- مما يكرهون- وهو كما ترى. وقرأ الحسن. ومجاهد باختلاف أَلْسِنَتُهُمُ بإسقاط التاء وهي لغة تميم، واللسان يذكر ويؤنث قيل: ويجمع المذكر على ألسنة نحو حمار وأحمرة والمؤنث على ألسن كذراع واذرع. وقرأ معاذ بن جبل. وبعض أهل الشام «الكذب» بثلاث ضمات وهو جمع كذوب كصبر وصبور وهو مقيس. وقيل: جمع كاذب نحو شارف وشرف وهو غير مقيس، ورفعه على أنه صفة الألسنة أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى حينئذ مفعول تَصِفُ لا جَرَمَ أي حقا أَنَّ لَهُمُ مكان ما زعموه من الحسنى النَّارَ التي ليس وراء عذابها عذاب وهو علم في السوأى، وكلمة لا رد لكلام وجَرَمَ بمعنى كسب وأَنَّ لَهُمُ في موضع نصب على المفعولية أي كسب ما صدر منهم إن لهم ذلك. وإلى هذا ذهب الزجاج، وقال قطرب: جَرَمَ بمعنى ثبت ووجب وإن لهم في موضع رفع على الفاعلية له، وقيل: لا جَرَمَ بمعنى حقا وأَنَّ لَهُمُ فاعل حق المحذوف، وقد مر تمام الكلام في ذلك وحلا. وقرأ الحسن. وعيسى بن عمر «إن لهم» بكسر الهمزة وجعل الجملة جواب قسم أغنت عنه لا جَرَمَ وكذا قرآ بالكسر في قوله تعالى: وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ أي مقدمون معجل بهم إليها على ما روي عن الحسن. وقتادة من افرطته إلى كذا قدمته وهو معدى بالهمزة من فرط إلى كذا تقدم إليه ومنه أنا «فرطكم على الحوض» أي متقدمكم وكثيرا ما يقال للمتقدم إلى الماء لإصلاح نحو دلو فارط وفرط، وأنشدوا للقطامي: واستعجلونا وكانوا من صحابتنا ... كما تعجل فرّاط لوراد وقال مجاهد، وابن جبير، وابن أبي هند: أي متركون في النار منسيون فيها أبدا من أفرطت فلانا خلفي إذا تركته ونسيته، وقرأ ابن عباس. وابن مسعود وأبو رجاء، وشيبة ونافع. وأكثر أهل المدينة مُفْرَطُونَ بكسر الراء اسم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 411 فاعل من أفرط اللازم إذا تجاوز أي مجاوز والحد في معاصي الله تعالى. وقرأ أبو جعفر «مفرّطون» بتشديد الراء وكسرها من فرط في كذا إذا قصر أي مقصرون في طاعة الله تعالى، وعنه أنه قرأ «مفرّطون» بتشديد الراء وفتحها من فرطته المعدى بالتضعيف من فرط بمعنى تقدم أي مقدمون إلى النار. تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما كان يناله من جهالات قومه الكفرة ووعيد لهم على ذلك، ولا يخفى ما في ذلك من عظيم التأكيد أي أرسلنا رسلا إلى أمم من قبل أمتك أو من قبل إرسالك إلى هؤلاء فدعوهم إلى الحق فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ القبيحة فلم يتركوها ولم يمتثلوا دعوة الرسل عليهم السلام، وقد تقدم الكلام في نسبة التزيين إلى الشيطان فَهُوَ وَلِيُّهُمُ أي قرين الأمم وبئس القرين أو متولي اغوائهم وصرفهم عن الحق الْيَوْمَ أي يوم زين الشيطان أعمالهم فيه، وهو وإن كان ماضيا واليوم المعرف معروف في زمان الحال كالآن لكان صور بصورة الحال ليستحضر السامع تلك الصورة العجيبة ويتعجب منها، وسمى مثل ذلك حكاية الحال الماضية وهو استعارة من الحضور الخارجي للحضور الذهني أو المراد باليوم مدة الدنيا لأنها كالوقت الحاضر بالنسبة للآخرة وهي شاملة للماضي والآتي وما بينهما أي فهو وليهم في الدنيا وَلَهُمْ في الأخرى عَذابٌ أَلِيمٌ وهو عذاب النار، وقد ورد إطلاق اليوم على مدتها كثيرا فهو مجاز متعارف وليس فيه حكاية لما مضى أو يوم القيامة الذي فيه عذابهم لكن صور بصورة الحال استحضارا له كما في الوجه الأول إلا أنه حكاية آتية وفي الأول حكاية حال ماضية وليس من مجاز الأول، والولي على هذا بمعنى الناصر أي لا ناصر لهم في ذلك اليوم غيره وهو نفي للناصر على أبلغ وجه على حد قوله: وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس ولا يجوز أن يكون بمعنى المتولي للإغواء إذا لا إغواء ثمة ولا بمعنى القرين لأنه في الدرك الأسفل من النار، وجوز بعضهم باعتبار أنه معهم في النار في الجملة ولا يضر اختلافهم في الدركات، والظاهر أن ضمائر الجمع كلها للأمم كما أشرنا إليه في بعضها، وجوز الزمخشري أن يكون ضمير وَلِيُّهُمُ المضاف إليه لقريش لا للأمم والْيَوْمَ بمعنى الزمان الذي وقع فيه الخطاب أي زين الشيطان للكفرة المتقدمين أعمالهم فهو ولي هؤلاء لأنهم منهم. وأن يكون الضمير للمتقدمين، والكلام على حذف مضاف أي ولي أمثالهم، والمراد من الأمثال قريش. وتعقب ذلك أبو حيان بأن فيه بعدا لاختلاف الضمائر من غير داع إليه ولا إلى تقدير المضاف. ورد بأن لفظ اليوم داع إليه، وقال الطيبي: إن الوجه وعليه النظم الفائق لأن في تصدير القسمية بقوله تعالى: تَاللَّهِ بعد إنكارهم الرسالة وتعداد قبائحهم الإشعار بأن ما ذكر كالتسلية فكأنه قيل: إن الأمم الخالية مع الرسالة السالفة لم تزل على هذه الوتيرة فلك أسوة بالرسل عليهم السلام وقومك خلف لتلك الأمم فلا تهتم لذلك فإن ربك ينتقم لك منهم في الدنيا والآخرة فاشتغل أنت بتبليغ ما أنزل إليك وتقرير أنواع الدلائل المنصوبة على الوحدانية وبالتنبيه على إقامة على نعم الله تعالى المتظاهرة اه. وقال في الكشف: لا ترجيح لهذا الوجه من حيث التسلي إذ الكل مفيد لذلك على وجه بين وإنما الترجيح للوجه الصائر إلى استحضار الحال لما فيه من مزيد التشفي اه، والحق أن ما ذكره الزمخشري غير ظاهر وما قيل: إن لفظ الْيَوْمَ داع إليه في حيز المنع، وقصارى ما يقال: وجود القرينة المصححة لا المرجحة هذا. وذكر في الكشف في بيان ربط الآيات أن قوله سبحانه: وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ إلى هذا الموضع فن آخر من كفرانهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 412 وتعداد قبائحهم، وجاز أن يكون من تتمة سابقه على منوال وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل: 53] إلا أنه بنى على الغيبة دلالة على أنه فن آخر، وهذا قريب المتناول، وجاز أن يجعل عطفا على قوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ فإن ما وقع من الكلام بعده من تتمته اعتراضا واستطرادا كأنه قيل: ذاك معتقدهم في المعاد وهذا في المبتدأ وهم فيما بين ذلك متدينون بهذا الدين القويم ومع اختلاف العقيدة في المبدأ والمعاد يدعون أن لهم الحسنى فيحق لهم ضد ذلك حقا ثم قال: وقوله تعالى وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ شديد الملائمة على هذا الوجه قوله سبحانه هنالك: لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ [النحل: 39] ، ولقوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44] وفيه أن من استبان له الهدى بهذا البيان استغنى عن ذلك البيان حيث لا ينفعه إلا العلم بكذبه وهذا أنسب لتأليف النظم اه. وأنت تعلم أن احتمال العطف بعيد، والمراد بالكتاب القرآن فإنه الحقيق بهذا الاسم، والاستثناء مفرغ من أعم العلل أي ما أنزلناه عليك لعلة من العلل إلا لتبين لهم اختلفوا فيه من البعث وقد كان فيهم من يؤمن به وأشياء من التحليل والتحريم والإقرار والإنكار ومقتضى رجوع الضمائر السابقة إلى الأمم السالفة أن يرجع ضمير إليهم واخْتَلَفُوا إليهم أيضا لكن منع عنه عدم تأتي تبيين الذي اختلفوا فيه لهم فمنهم من جعله راجعا إلى قريش لأن البحث فيهم ومنهم من جعله راجعا إلى الناس مطلقا لعدم اختصاص ذلك بقريش ويدخلون فيه دخولا أوليا. وَهُدىً وَرَحْمَةً عظيمين لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ خصهم بالذكر لكونهم المغتنمين آثاره. والاسمان- قال أبو حيان: - في موضع نصب على أنهما مفعول من أجله والناصب أَنْزَلْنا ولما اتحد الفاعل في العلة والمعلول وصل الفعل لهما بنفسه، ولما لم يتحد في لِتُبَيِّنَ لأن فاعل الإنزال هو الله تعالى لا الرسول عليه الصلاة والسلام وصلت العلة بالحرف. وقال الزمخشري: هما معطوفان على محل لِتُبَيِّنَ وهو ليس بصحيح لأن محله ليس نصبا فيعطف منصوب عليه، ألا ترى أنه لو نصب لم يجز لاختلاف الفاعل اه. وتعقب بأن معنى كونه في محل نصب أنه في محل لو خلا من الموانع ظهر نصبه وهو هنا كذلك لمن تأمل فقوله ليس بصحيح لأن محله ليس نصبا ليس على ما ينبغي. وقال الحلبي: إن ذلك ممنوع إذ لا خلاف في أن محل الجار والمجرور والنصب ولذا أجازوا مررت بزيد وعمرا بالعطف على المحال وللخفاجي هاهنا كلام إن أردته فارجع إليه وراجع، ولعله إنما قدمت علة التبيين على علتي الهدى والرحمة لتقدمه في الوجه في الوجود عليهما وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً تقدم الكلام في مثله، وهذا على ما قيل تكرير لما سبق تأكيدا لمضمونه وتوحيدا لما يعقبه من أدلة التوحيد فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بما أنبت به فيها من أنواع النباتات بَعْدَ مَوْتِها بعد يبسها فالإحياء والموت استعارة للإنبات واليابس، وليس المراد إعادة اليابس بل إنبات مثله، والفاء للتعقيب العادي فلا ينافيه ما بين المتعاطفين من المهلة، ونظير ذلك تزوج فولد له ولد، والآية دليل لمن قال: إن المسببات بالأسباب لا عندها ومن قال به أول إِنَّ فِي ذلِكَ أي في إنزال الماء من السماء وإحياء الأرض ميتة لَآيَةً وأية آية دالة على وحدته سبحانه وعلمه وقدرته وحكمته جل شأنه، والإشارة بما يدل على البعد إما لتعظيم المشار إليه أو لعدم ذكره صريحا لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ قال المولى ابن الكمال: أريد بالسمع القبول كما في سمع الله لمن حمده أي لقوم يتأملون فيها ويعقلون وجه دلالتها ويقبلون مدلولها، وإنما خص كونها آية لهم لأن غيرهم لا ينتفع بها وهذا كالتخصيص في قوله تعالى: هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 52] وربما قررناه تبين وجه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 413 العدول عن- يبصرون- إلى يَسْمَعُونَ انتهى، وقال الخفاجي: اللائق بالمقام ما ذكره الشيخان وبيانه أنه تعالى لما ذكر أنه أرسل إلى الأمم السالفة رسلا وكتبا فكفروا بها فكان لهم خزي في الدنيا والآخرة عقبه بأنه أرسله صلى الله عليه وسلم بسيد الكتب فكان عين الهدى والرحمة لمن أرسل إليه إشارة إلى أن مخالفة أمته لمن قبلهم تقربهم من سعادة الدارين وتبشيرا له عليه الصلاة والسلام بكثرة متابعيه وقلة مناويه وأنهم سيدخلون في دينه أفواجا أفواجا ثم أتبع ذلك على سبيل التمثيل لإنزاله تلك الرحمة التي أحيت من موتة الضلال إنزال الأمطار التي أحيت موات الأرض وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا ولولا هذا لكان قوله تعالى: وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً كالأجنبي عما قبله وبعده، وقوله سبحانه: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً إلخ تتميم لقوله تعالى: وَما أَنْزَلْنا إلخ وللمقصود بالذات منه فالمناسب يَسْمَعُونَ لا يبصرون ولو كان تتميما لملاصقة من الإنبات لم يكن- ليسمعون- بمعنى يقبلون مناسبة أيضا، ثم قال: ومن لم يقف على محط نظرهم قال في جوابه: يمكن أن يحمل على يسمعون قولي والله أنزل إلخ فإنه مذكر وحامل على تأمل مدلوله انتهى، وفي قوله عقبه: بأنه أرسله صلى الله عليه وسلم بسيد الكتب فكان عين الهدى والرحمة إشارة إلخ خفاء كما لا يخفى، ومتى كان تتميما لقوله تعالى: وَما أَنْزَلْنا إلخ لم يظهر جعل المشار إليه ما سمعت وهو الظاهر، وفي البحر أنه تعالى لما ذكر إنزال الكتاب للتبيين كان القرآن حياة للأرواح وشفاء لما في الصدور من علل العقائد ولذلك ختم بقوله سبحانه لقوم يؤمنون أي يصدقون والتصديق محله القلب ذكر سبحانه إنزال المطر الذي هو حياة الأجسام وسبب بقائها ثم أشار سبحانه بإحياء الأرض بعد موتها إلى إحياء القلوب بالقرآن كما قال تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الأنعام: 122] فكما تصير الأرض خضرة بالنبات نضرة بعد همودها كذلك القلب يحيا بالقرآن بعد أن كان ميتا بالجهل ولذلك ختم تعالى بقوله سبحانه: يَسْمَعُونَ أي يسمعون هذا التشبيه المشار إليه والمعنى سماع انصاف وتدبر، ولملاحظة هذا المعنى والله تعالى أعلم لم يختم سبحانه- بلقوم يبصرون- وإن كان إنزال المطر مما يبصر ويشاهد انتهى. وفيه أيضا من التكلف ما فيه، وأقول: لعل الأظهر أن المشار إليه ما ذكر من الإنزال والإحياء والسماع على ظاهره والكلام تتميم لملاصقه والعدول عن يبصرون إلى يَسْمَعُونَ للإشارة إلى ظهور هذا المعتبر فيه وأنه لا يحتاج إلى نظر ولا تفكر وإنما يحتاج المنبه إلى أن يسمع القول فقط، ويكفي في ربط الآية بما قبلها تشارك الكتاب والمطر في الإحياء لكن في ذاك إحياء القلوب وفي هذا إحياء الأرض الجدوب فتأمل وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً أي معبرا يعبر به من الجهل إلى العلم، وأصل معنى العبر والعبور والتجاوز من محل إلى آخر، وقال الراغب: العبور مختص بتجاوز الماء بسباحة ونحوها، والمشهور عمومه فاطلاق العبرة على ما يعتبر به لما ذكر لكنه صار حقيقة في عرف اللغة؟ والتنكير للتفخيم أي لعبرة عظيمة نُسْقِيكُمْ استئناف بياني كأنه قيل كيف العبرة فيها؟ فقيل: نسقيكم مِمَّا فِي بُطُونِهِ ومنهم من قدر هنا مبتدأ وهو هي نسقيكم ولا حاجة إليه، وضمير بُطُونِهِ للأنعام وهو اسم جمع واسم الجمع يجوز تذكيره وإفراده باعتبار لفظه وتأنيثه وجمعه باعتبار معناه، ولذا جاء الوجهين في القرآن وكلام العرب كذا قيل. ونقل عن سيبويه أنه عد الأنعام مفردا وكلامه رحمه الله تعالى متناقض ظاهرا فإنه قال في باب ما كان على مثال مفاعل ومفاعيل ما نصه: وأما أجمال وفلوس فإنها تنصرف وما أشبهها لأنها ضارعت الواحد، ألا ترى أنك تقول: أقوال وأقاويل وأعراب وأعاريب وأيد وإياد فهذه الأحرف تخرج إلى مفاعل ومفاعيل كما يخرج الواحد إليه إذا فسر للجمع، وأما مفاعل ومفاعيل فلا يكسر فيخرج الجمع إلى بناء غير هذا لأن هذا هو الغاية فلما ضارعت الواحد صرفت، ثم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 414 قال: وكذلك الفعول لو كسرت مثل الفلوس فإنك تخرجه إلى فعائل كما تقول جدود وجدائد وركوب وركائب. ولو فعلت ذلك بما فعل ومفاعيل لم يجاوز هذا البناء، ويقوي ذلك أن بعض العرب تقول: أتى للواحد فيضم الألف، وأما أفعال فقد يقع للواحد ومن العرب من يقول هو الأنعام قال جل ثناؤه نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ وقال أبو الخطاب سمعت العرب تقول: هذا ثوب أكياس انتهى. وقال رحمه الله تعالى في باب ما لحقته الزوائد من بنات الثلاثة وليس في الكلام أفعيل ولا أفعول ولا أفعال ولا أفعل ولا أفعال إلا أن تكسر عليه أسماء للجمع انتهى، وقد اضطرب الناس في التوفيق بين كلاميه فذهب أبو حيان إلى تأويل الأول وإبقاء الثاني على ظاهره من أن أفعالا لا يكون من أبنيته المفرد فحمل قوله أولا وأما أفعال فقد يقع للواحد إلخ: على أن بعض العرب قد يستعمله فيه مجازا كالأنعام بمعنى النعم كما قال الشاعر: تركنا الخيل والنعم المفدى ... وقلنا للنساء بها أقيمي وليس مراده أنه مفرد صيغة ووضعا بدليل ما صرح به في الموضع الآخر من أنه لا يكون إلا جمعا. واعترض عليه بأن مقصود سيبويه بما ذكره أولا الفرق بين صيغتي منتهى الجموع وأفعال وفعول حيث منع الصرف للأول دون الثاني بوجوه: منها أن الأولين لا يقعان على الواحد بخلاف الآخيرين كما أوضحه فلو لم يكن وقوع أفعال على الواحد بالوضع لم يحصل الفرق فلا يتم المقصود. نعم لا كلام في تدافع كلاميه، وأيضا لو كان كذلك لم يختص ببعضهم، وأيضا إن التجوز بالجمع عن الواحد يصح في كل جمع حتى صيغتي منتهى الجموع. وتعقبه الخفاجي بقوله: والحق أنه لا تدافع بين كلاميه فإنه فرق بين صيغتي منتهى الجموع والصيغتين الأخيرتين بأن الأولتين لا تجمعان والأخيرتان تجمعان فأشبهتا الآحاد ثم قوى ذلك بأن قوما من العرب استعملت أتى وهو على وزن فعول مفردا حقيقة، ومنهم من استعمل الأنعام وهو على وزن أفعال كذلك، وقد أشار إلى أن ذلك لغة نادرة ببعض، ومن ما ذكره بعد بناء على اللغة المتداولة، وقوله: إن مقصوده أولا الفرق بوجوه لا وجه له كما يعرفه حملة الكتاب انتهى، ويعلم منه أن رجوع الضمير المفرد المذكر إلى الأنعام عند سيبويه باعتبار أنه مفرد على لغة بعض العرب ومن قال: إنه جمع نعم جعل الضمير للبعض أما المقدر أي بعض الأنعام أو المفهوم منها أو للأنعام باعتبار بعضها وهو الإناث التي يكون اللبن منها أو لواحده كما في قول ابن الحاجب: المرفوعات هو ما اشتمل على علم الفاعلية أو له على المعنى لأن أل الجنسية تسوي بين المفرد والجمع في المعنى فيجوز عود ضمير كل منهما على الآخر. وفي البحر أعاد الضمير مذكرا مراعاة الجنس لأنه إذا صح وقوع المفرد الدال على الجنس مقام جمعه حجاز عوده عليه مذكرا كقولهم هو أحسن الفتيان وأبتله لأنه يصح هو أحسن فتى وإن كان هذا لا ينقاس عند سيبويه وقيل جمع التكثير فيما لا يعقل يعامل معاملة الجماعة ومعاملة الجمع فيعود الضمير عليه مفردا كقوله: فيها خطوط من سواد وبلق ... كأنه في الجلد توليع البهق وهو في القرآن سائغ ومنه قوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ [المدثر: 54، 55] فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي [الأنعام: 78] ولا يكون هذا إلا في التأنيث المجازي فلا يجوز جاريتك ذهب. واعترض بأنه كيف جمع- نعم- وهي تخصيص بالإبل والإنعام تقال للبقر والإبل والغنم مع أنه لو اختص كان مساويا. وأجيب بأن من يراه جمعا له يخص الأنعام أو يعمم النعم ويجعل التفرقة ناشئة من الاستعمال ويجعل الجمع للدلالة على تعدد الأنواع. وقرأ ابن مسعود بخلاف عنه. والحسن، وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما. وابن عامر. ونافع. أبو بكر. وأهل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 415 المدينة نُسْقِيكُمْ بفتح النون هنا وفي المؤمنين على أن مضارع سقى وهو لغة في أسقى عند جمع وأنشدوا قول لبيد: سقى قومي بني مجد وأسقي ... نميرا والقبائل من هلال وقال بعض: يقال سقيته لشفته وأسقيته لماشيته وأرضه، وقيل: سقاه بمعنى رواه بالماء وأسقاه بمعنى جعله شرابا معدا له، وفيه كلام بعد فتذكر. وقرأ أبو رجا «يسقيكم» بالياء مضمومة والضمير عائد على الله تعالى. وقال صاحب اللوامح: ويجوز أن يكون عائدا على النعم وذكر لأن النعم مما يذكر ويؤنث، والمعنى وإن لكم في الأنعام نعما يسقيكم أي يجعل لكم سقيا. وهو كما ترى. وقرأت فرقة منهم أبو جعفر «تسقيكم» بالتاء الفوقية مفتوحة قال ابن عطية: وهي قراءة ضعيفة انتهى، ولم يبين وجه ضعفها، وكأنه والله تعالى أعلم عنى به اجتماع التأنيث في «تسقيكم» والتذكير في بُطُونِهِ وغفل أن مثل ذلك لا يعد ضعفا لأن التأنيث والتذكير باعتبار وجهين. مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً الفرث على ما في الصحاح السرجين ما دام في الكرش والجمع فروث. وفي البحر كثيف ما يبقى من المأكول في الكرش أو المعي، وبَيْنِ تقتضي متعددا وهو هنا الفرث والدم فيكون مقتضى ظاهر النظم توسط اللبن بينهما، وروى ذلك الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إن البهيمة إذا اعتلفت وأنضج العلف في كرشها كان أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دما. وروي نحوه عن ابن جبير فالبينية على حقيقتها وظاهرها وتعقب ذلك الإمام الرازي بقوله: ولقائل أن يقول: اللبن والدم لا يتولدان في الكرش والدليل عليه الحس فإن الحيوانات تذبه دائما ولا يرى في كرشها شيء من ذلك ولو كان تولد ما ذكر فيه لوجب أن يشاهد في بعض الأحوال والشيء الذي دلت المشاهدة على فساده لم يجز المصير إليه بل الحق أن الحيوان إذا تناول الغذاء وصل إلى معدته وإلى كرشه إن كان من الأنعام وغيرها فإذا طبخ وحصل الهضم الأول فيه فما كان منه صافيا انجذب إلى الكبد وما كان كثيفا نزل إلى الأمعاء ثم ذلك الذي يحصل في الكبد ينضج ويصير دما وذلك هو الهضم الثاني ويكون ذلك مخلوطا بالصفراء والسوداء وزيادة المائية، أما الصفراء فتذهب إلى المرارة والسوداء إلى الطحال والماء إلى الكلية ومنها إلى المثانة، وأما ذلك الدم فإنه يدخل في الأوردة والعروق النابتة من الكبد وهناك يحصل الهضم الثالث، وبين الكبد والضرع عروق كثيرة فينصب الدم من تلك العروق إلى الضرع، والضرع لحم غددي رخو أبيض فيقلب الله تعالى الدم فيه إلى صورة اللبن، لا يقال: إن هذه المعنى حاصلة في الحيوان الذكر فلم لم يحصل منه اللبن لأنا نقول: الحكمة الإلهية اقتضت تدبير كل شيء على الوجه اللائق به الموافق لمصلحته فأوجبت أن يكون مزاج الذكر حارا يابسا ومزاج الأنثى باردا رطبا فإن الولد إنما يتولد في داخل بدن الأنثى فكان اللائق بها اختصاصها بالرطوبة لتصير مادة للتولد وسببا لقبول التمدد فتتسع للولد، ثم إن تلك الرطوبة بعد انفصال الجنين تنصب إلى الضرع فتصير مادة لغذائه كما كانت كذلك قبل في الرحم، ومن تدبر في بدائع صنع الله تعالى فيما ذكر من الاخلاط والألبان وإعداد مقارها ومجاريها والأسباب المولدة لها وتسخير القوى المتصرفة فيها كل وقت على ما يليق به اضطر إلى الاعتراف بكمال علمه سبحانه وقدرته وحكمته وتناهي رأفته ورحمته: حكم حارت البرية فيها ... وحقيق بأنها تحتار وحاصل ما ذكروه أنه إذا ورد الغذاء الكرش انطبخ فيه وتميزت منه أجزاء لطيفة تنجذب إلى الكبد فينطبخ فيها فيحصل الدم فتسري أجزاء منه إلى الضرع ويستحيل لبنا بتدبير الحكيم العليم، وحينئذ فالمراد أن اللبن إنما يحصل من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 416 بين أجزاء الفرث ثم من بين أجزاء الدم فالبينية على هذا مجازية وفي إرشاد العقل السليم وغيره لعل المراد بما روي (1) عن ابن عباس أن أوسطه يكون مادة اللبن وأعلاه مادة الدم الذي يغذو البدن فإن عدم تكونهما في الكرش مما لا ريب فيه والداعي إلى ذلك مخالفة ما يقتضيه الظاهر للحس ولما ذكره الحكماء أهل التشريح. ويؤيد ما ذكروه ما أخبرني به من أثق به من أنه قد شاهد خروج الدم من الضرع بعد اللبن عند المبالغة في الحلب والله تعالى أعلم، ومِنْ الأولى تبعيضية لما أن اللبن بعض ما في بطون الأنعام لأنه مخلوف من بعض أجزاء الدم المتولد من الأجزاء اللطيفة التي في الفرث حسبما سمعت، وهي متعلقة- بنسقيكم- ومِنْ الثانية ابتدائية وهي أيضا متعلقة- بنسقيكم- فإن بين الدم والفرث المحل الذي يبتدأ منه الاسقاء وتعلقهما بعامل واحد لاختلاف مدلوليهما ولَبَناً مفعول ثان- لنسقيكم- وتقديم ذلك عليه لما مر مرارا من أن تقديم ما حقه التأخير يبعث للنفس شوقا إلى المؤخر موجبا لفضل تمكنه عند وروده عليها لا سيما إذا كان المقدم متضمنا لوصف مناف لوصف المؤخر كالذي نحن فيه، فإن بين وصفي المقدم والمؤخر تنافيا وتنائيا بحيث لا يتراءى نارهما فإن لذلك مما يزيد الشوق والاستشراف إلى المؤخر، وجوز أن يكون مِنْ بَيْنِ حالا من لَبَناً قدم عليه لتنكيره وللتنبيه على أنه موضع العبرة. وجوز أن تكون مِنْ الأولى ابتدائية كالثانية فيكون مِنْ بَيْنِ بدل اشتمال مما تقدم خالِصاً مصفى عما يصحبه من الأجزاء الكثيفة بتضييق مخرجه أو صافيا لا يستصحبه لون الدم ولا رائحة الفرث سائِغاً لِلشَّارِبِينَ سهل المرور في حلقهم لدهنيته. أخرج ابن مردويه عن يحيى بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما شرب أحد لبنا فشرق إن الله تعالى يقول لبنا خالصا سائغا للشاربين» . وقرأت فرقة «سيّغا» بتشديد الياء. وقرأ عيسى بن عمر «سيغا» مخففا من سيغ كهين المخفف من هين واستدل بالآية على طهارة لبن المأكول وإباحة شربه، وقد احتج بعض من يرى على أن المني طاهر على من جعله نجسا لجريه في مسلك البول بها أيضا وأنه ليس بمستنكر أن يسلك مسلك البول وهو طاهر كما خرج اللبن من بين فرث ودم طاهرا. وفي التفسير الكبير قال أهل التحقيق: اعتبار حدوث اللبن كما يدل على وجود الصانع المختار يدل على إمكان الحشر والنشر، وذلك لأن هذا العشب الذي يأكله الحيوان إنما يتولد من الماء والأرض فخالق العالم دبر تدبيرا انقلب به لبنا ثم دبر تدبيرا آخر حدث من ذلك اللبن الدهن والجبن، وهذا يدل على أنه تعالى قادر على أن يقلب هذه الأجسام من صفة إلى صفة ومن حالة إلى حالة فإذا كان كذلك لم يمتنع أيضا أن يكون قادرا على أن يقلب أجزاء أبدان الأموات إلى صفة الحياة والعقل كما كانت قبل ذلك فهذا الاعتبار يدل من هذا الوجه على أن البعث والقيامة أمر ممكن غير ممتنع. وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ متعلق بمحذوف تقديره ونسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب أي من عصيرهما، وحذف لدلالة نُسْقِيكُمْ قبله عليه، وقوله تعالى: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً بيان وكشف عن كنه الاسقاء أو- بتتخذون- ومِنْهُ من تكرير الظرف للتأكيد كما في قولك زيد في الدار فيها أو خبر لمحذوف صفته تَتَّخِذُونَ أي ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه وضمير مِنْهُ عائد إلى على المضاف المقدر أو على الثمرات المؤولة بالثمر لأنه جمع معرف أريد به الجنس، وفائدة الصيغة الإشارة إلى تعداد الأنواع أو على ثمر المقدر، و «السكر» الخمر قال الأخطل:   (1) أي أن صح اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 417 بئس الصحاة وبئس الشرب شربهم ... إذا جرى فيهم المزاء (1) والسكر وهو في الأصل مصدر سكر سكرا وسكرا نحو رشد رشدا ورشدا. واستشهد له بقوله: وجاؤونا بهم سكر علينا ... فأجلى اليوم والسكران صاحي وفسروا الرزق الحسن بالخل والرب والتمر والزبيب وغير ذلك، وإليه ذهب صاحب الكشاف وقد ذكر في توجيه إعرابها ما ذكرناه، وقدم الوجه الأول من أوجهه الثلاثة وهو ظاهر في ترجيحه وصرح به الطيبي وبينه بما بينه، وأخر الثالث وهو ظاهر في أنه دون أخويه. وفي الكشف بعد نقل كلامه في الوجه الأول فيه إضمار العصير وأنه لا يصلح عطفا في الظاهر على السابق لأنه لا يصلح بيانا للعبرة في الأنعام، وفيه أن تَتَّخِذُونَ لا يصلح كشفا عن كنه الإسقاء كيف وقد فسر الرزق الحسن بالتمر والزبيب أيضا وأي مدخل للعصير وأين هذا البيان من البيان بقوله تعالى: نُسْقِيكُمْ ليجعل مدركا لترجيحه فهذا وجه مرجوح مؤول بأنه عطف على مجموع السابق، وأوثر الفعلية لمكان قربه من نُسْقِيكُمْ وقوله تعالى تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً تم البيان عنده ثم أتي بفائدة زائدة، وأظهر الأوجه ما ذكر آخرا أي ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخدون ليكون عطفا للاسمية على الاسمية أعني قوله تعالى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً ولما لم يكن العبرة فيه كالأول اكتفي بكونه عطفا على ما هو عبرة ولم يصرح، وأفيد بالتبعيض أن من ثمراتها ما يؤكل قبل الإدراك وما يتلف ويأكل الوحوش وغير ذلك اه، وما ذكره في التأويل من بيان البيان عند سَكَراً محوج إلى جعل رِزْقاً معمولا لعامل آخر ولا يخفى بعده، والظاهر أنه لا ينكره، وما ذكره من الوجه الأظهر ذكره الحوفي كصاحبه، ولا يرد عليه أن فيه حذف الموصوف بالجملة لأن ذلك إذا كان الموصوف بعضا من مجرور من أو في المقدم عليه مطرد نحو منا أقام ومنا ظعن أراد فريق، وقد يحذف موصوفا بالجملة في غير ذلك كقول الراجز: ما لك عندي غير سهم وحجر ... وغير كبداء شديد الوتر جادت بكفّي كان من أرمى البشر أراد رجل نعم قال الطبري: التقدير ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه، وتعقبه أبو حيان بأن ذلك لا يجوز على مذهب البصريين وكأنه اعتبر ما موصولة وحذف الموصول مع إبقاء الصلة لا يجوز عنهم، ولعلهم يفرقون بين الموصول والموصوف فيما ذكر، وقال العلامة ابن كمال في بعض رسائله: لا وجع لما اختاره صاحب الكشاف يغني به تعليق الجار- بنسقيكم- محذوفا وتقدير العصير مضافا لأنه حينئذ لا يتناول المأكول وهو أعظم صنفي ثمراتهما يعني النخيل والأعناب والمقام مقام الامتنان ومقتضاه استيعاب الصنفين ثم قال: والعجب منه وممن اتبعه كالبيضاوي كيف اتفقوا على تفسير الرزق الحسن بما ينتظم التمر والزبيب ومع ذلك يقولون: إن المعنى ومن عصيرهما تتخذون سكرا ورزقا حسنا فإنه لا انتظام بين هذين الكلامين فالوجه أن يتعلق الجار- بتتخذون- ويكون منه تكرير الظرف للتأكيد اه وهو الذي استظهره أبو حيان وقد سبقت الإشارة إلى الاعتراض بما تعجب منه مع الجواب بما فيه بعد، ونقل عنه أنه جعله متعلقا بما في الاسقاء من معنى الإطعام أي نطعمكم من ثمرات النخيل والأعناب لينتظم المأكول منهما والمشروب المتخذ من عصيرهما. وفيه من البعد ما فيه.   (1) هو نوع من الأشربة اه عنه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 418 وأنت تعلم أن تقدير العصير على الوجه الأول عند من يراه لازم، وتقديره على الوجه الثاني جائز عند ذاك أيضا ولا يجوز عند المعترض. واختار أبو البقاء تعليقه بخلق لكم أو جعل وليس بذاك، وقيل: إنه معطوف على الأنعام على معنى ومن ثمرات النخيل والأعناب عبرة وَتَتَّخِذُونَ بيان لها وهو غير الوجه الذي استظهره صاحب الكشف وكان الظاهر- في- بدل من وضمير مِنْهُ لا يتعين فيه ما سمعت كما لا يخفى عليك بعد أن أحطت خبرا بما قيل في ضمير بُطُونِهِ وتفسير «السكر» بالخمر هو المروي عن ابن مسعود. وابن عمر. وأبي رزين. والحسن. ومجاهد. والشعبي. والنخعي. وابن أبي ليلى. وأبي ثور. والكلبي. وابن جبير مع خلق آخرين، والآية نزلت في مكة والخمر إذ ذاك كانت حلالا يشربها البر والفاجر وتحريمها إنما كان بالمدينة اتفاقا واختلفوا في أنه قبل أحد أو بعدها والآية المحرمة لها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة: 90] على ما ذهب إليه جمع فما هنا منسوخ بها، وروى ذلك غير واحد ممن تقدم كالنخعي وأبي ثور وابن جبير، وقيل: نزلت قبل ولا نسخ بناء على ما روي عن ابن عباس أن «السكر» هو الخل بلغة الحبشة أو على ما نقل عن أبي عبيدة أن «السكر» المطعوم المتفكه به كالنقل وأنشده: جعلت اعراض الكرام سكرا وتعقب بأن كون السكر في ذلك بمعنى الخمر أشبه منه بالطعام، والمعنى أنه لشغفه بالغيبة وتمزيق الأعراض جرى ذلك عنده مجرى الخمر المسكرة، وكأنه لهذا قال الزجاج: إن قول أبي عبيدة لا يصح، وفيه أن المعروف في الغيبة جعلها نقلا ولذا قيل: الغيبة فاكهة القراء، وإلى عدم النسخ ذهب الحنفيون وقالوا: المراد بالسكر ما لا يسكر من الأنبذة، واستدلوا عليه بأن الله تعالى امتنّ على عباده بما خلق لهم من ذلك ولا يقع الامتنان إلا بمحلل فيكون ذلك دليلا على جواز شرب ما دون المسكر من النبيذ فإذا انتهى إلى السكر لم يجز وعضدوا هذا من السنة بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حرم الله تعالى الخمر بعينها القليل منها والكثير والسكر (1) من كل شراب» أخرجه الدارقطني، وإلى حل شرب النبيذ ما لم يصل إلى الإسكار ذهب إبراهيم النخعي: وأبو جعفر الطحاوي وكان إمام أهل زمانه. وسفيان الثوري وهو من تعلم وكان عليه الرحمة يشربه كما ذكر ذلك القرطبي في تفسيره. والبيضاوي بعد أن فسر «السكر» بالخمر تردد في أمر نزولها فقال: إلا أن الآية إن كانت سابقة على تحريم الخمر فدالة على كراهيتها وإلا فجامعة بين العتاب والمنة، ووجه دلالتها على الكراهية بأن الخمر وقعت في مقابلة الحسن وهو مقتضى لقبحها والقبيح لا يخلو عن الكراهة وإن خلا عن الحرمة، واعترض عليه بأن تردده هنا في سبقها على تحريم الخمر ينافي ما في سورة البقرة حيث ساق الكلام على القطع أنه جزم في أول هذه السورة بأنها مكية إلا ثلاث آيات من آخرها. وفي الكشاف بعد أن فسر «السكر» أيضا بما ذكر قال: وفيه وجهان: أحدهما أن تكون منسوخة، والثاني أن يجمع بين العتاب والمنة، ونقل صاحب الكشف أن القول بكونها منسوخة الأقاويل، ثم قال: وفي الآية دليل على قبح تناولها تعريضا من تقييد المقابل بالحسن، وهذا وجه من ذهب إلى أنه جمع بين العتاب والمنة، وعلى الأول يكون رمزا إلى أن السكر وإن كان مباحا فهو مما يحسن اجتنابه اه. واستدل ابن كمال على نزولها قبل التحريم أن المقام لا يحتمل العتاب فإن مساق الكلام على ما دل عليه سياقه ولحاقه في تعداد النعم العظام، وذكر أن كلام الزمخشري ومن تبعه ناشئ عن الغفلة عن هذا، ولعل عدم وصف «السكر» بما وصف به ما بعده لعلم الله تعالى أنه سيكون رجسا يحكم   (1) بضم السين اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 419 الشرع بتحريمه. وجوز الزمخشري أن يجعل السكر رزقا حسنا كأنه قيل: تتخذون منه ما هو مسكر ورزق حسن أي على أن العطف من عطف الصفات. وأنت تعلم أن العطف ظاهره المغايرة. هذا ولما كان اللبن نعمة عظيمة لا دخل لفعل الخلق فيه إضافة سبحانه لنفسه بقوله تعالى: نُسْقِيكُمْ بخلاف اتخاذ السكر وقد صرح بذلك في البحر فتأمل إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً باهرة لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم بالنظر والتأمل بالآيات فالفعل منزل منزلة اللازم، قال أبو حيان: ولما كان مفتتح الكلام وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً ناسب الختم بقوله سبحانه:- يعقلون- لأنه لا يعتبر إلا ذوو العقول. وأنا أقول: إذا كان في الآية إشارة إلى الحط من أمر السكر ففي الختم المذكور تقوية لذلك وله في النفوس موقع وأي موقع حيث إن العقار كما قيل للعقول عقال: إذا دارها بالأكف السقاة ... لخطابها أمهروها العقولا فافهم ذاك والله تعالى يتولى هداك وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ألهمها وألقى في روعها وعلمها بوجه لا يعلمه إلا اللطيف الخبير وفسر بعضهم الإيحاء إليها بتسخيرها لما أريد منها، ومنعوا أن يكون المراد حقيقة الإيحاء لأنه إنما يكون للعقلاء وليس النحل منها. نعم يصدر منها أفعال ويوجد فيها أحوال يتخيل بها أنها ذوات عقول وصاحبة فضل بمقصر عنه الفحول، فتراها يكون بينها واحد كالرئيس هو أعظمها جثة يكون نافذ الحكم على سائرها والكل يخدمونه ويحملون عنه وسمي اليعسوب والأمير، وذكروا أنها إذا نفرت عن وكرها ذهبت بجمعيتها إلى موضع آخر فإذا أرادوا عودها إلى وكرها ضربوا لها الطبول وآلات الموسيقى ورودها بواسطة تلك الألحان إلى وكرها، وهي تبني البيوت المسدسة من أضلاع متساوية والعقلاء لا يمكنهم ذلك إلا بآلات مثل المسطرة والفرجار وتختارها على غيرها من البيوت المشكلة بأشكال أخر كالمثلثات والمربعات والمخمسات وغيرها، وفي ذلك سر لطيف فإنهم قالوا: ثبت في الهندسة أنها لو كانت مشكلة بأشكال أخر يبقى فيما بينها بالضرورة فرج خالية ضائعة ولها أحوال كثيرة عجيبة غير ذلك قد شاهدها كثير من الناس وسبحان من أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. والصوفية على ما ذكره الشعراني في غير موضع لا يمنعون إرادة الحقيقة، وقد أثبتوا في سائر الحيوانات رسلا وأنبياء والشرع يأبى ذلك. وذهب بعض حكماء الإشراق إلى ثبوت النفس الناطقة لجميع الحيوانات وأكاد أسلم لهم ذلك ولم نسمع عن أحد غير الصوفية القول بما سمعت عنهم، والنحل جنس واحده نحلة ويؤنث في لغة الحجاز ولذلك قال سبحانه: أَنِ اتَّخِذِي وقرأ ابن وثاب «النحل» بفتحتين وهو يحتمل أن يكون لغة وأن يكون اتباعا لحركة النون، وأَنِ إما مصدرية بتقدير باء الملابسة أي بأن اتخذي أو تفسيرية وما بعدها مفسر للإيحاء لأن فيه باعتبار معناه المشهور معنى القول دون حروفه، وذلك كاف في جعلها تفسيرية: وقد غفل عن ذلك أبو حيان أو لم يعتبره فقال: إن ذلك نظرا لأن الوحي هنا بمعنى الإلهام إجماعا وليس في الإلهام معنى القول مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً أو كارا، وأصل البيت مأوى الإنسان واستعمل هنا في الوكر الذي تبنيه النحل لتعسل فيه تشبيها له بما يبنيه الإنسان لما فيه من حسن الصنعة القسمة كما سمعت: وقرئ «بيوتا» بكسر الباء لمناسبة الياء وإلا فجمع فعل على فعول بالضم. وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ أي يعرشه الناس أي يرفعه من الكروم كما روي عن ابن زيد وغيره أو السقوف كما نقل عن الطبري أو أعم منهما كما قال البعض، ومِنَ في المواضع الثلاثة للتبعيض بحسب الأفراد وبحسب الأجزاء فإن النحل لا يبني في كل شجر وكل جبل وكل ما يعرش ولا في كل مكان من ذلك، وبعضهم قال: إن مِنَ للتبعيض بحسب الأفراد فقط، والمعنى الآخر معلوم من خارج لا من مدلول مِنَ إذ لا يجوز استعمالها فيهما ولمولانا ابن كمال تأليف مفرد في المسألة فليراجع، وأيّا ما كان ففيه مع ما يأتي قريبا إن شاء الله تعالى من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 420 البديع صنعة الطباق، وتفسير البيوت بما تبنيه هو الذي ذهب إليه غير واحد، وقال أبو حيان: الظاهر أنها عبارة عن الكوى التي تكون في الجبال وفي متجوف الأشجار والخلايا التي يصنعها ابن آدم للنحل والكوى التي تكون في الحيطان، ولما كان النحل نوعين منه من مقره في الجبال والغياض ولا يتعهده أحد ومنه ما يكون في بيوت الناس ويتعهد في الخلايا ونحوها شمل الأمر بالاتخاذ البيوت النوعين. ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي من جميعها، وهي جمع ثمرة محركة حمل الشجرة، وأخذ بظاهر ذلك ابن عطية فقال: إنما تأكل النوار من الأشجار، ويقال الثمرة للشجرة أيضا كما في القاموس، قيل: وهو المناسب هنا إذ التخصيص بحمل الشجر خلاف الواقع لعموم أكلها للأوراق والأزهار والثمار. وتعقب بأنه لا يخفى أن إطلاق الثمرة على الشجرة مجاز (1) غير معروف وكونها تأكل من غيرها غير معلوم وغير مناف للاقتصار على أكل ما ينبت فيها والعموم في كل على ما يشير إليه كلام البعض عرفي، وجوز أن يكون مخصوصا بالعادة أي كلي من كل ثمرة تشتهينها، وقيل: للتكثير، قال الخفاجي: ولو أبقي على ظاهره أيضا جاز لأنه لا يلزم من الأمر بالأكل من جميع الثمرات الأكل منها لأن الأمر للتخلية والإباحة، وأيّا ما- فمن- للتبعيض. وقال الإمام: رأيت في كتب الطب أنه تعالى دبر هذا العالم على وجه يحدث في الهواء ظل لطيف في الليالي ويقع على أوراق الأشجار فقد تكون تلك الأجزاء لطيفة صغيرة متفرقة على الأوراق والأزهار وقد تكون كثيرة بحيث يجتمع منها أجزاء محسوسة وهذا مثل الترنجبين فإنه ظل ينزل من الهواء ويجتمع على الأطراف في بعض البلدان، وأما القسم الأول فهو الذي ألهم الله تعالى النحل حتى تلتقطه من الأزهار وأوراق الأشجار بأفواهها وتغتذي به فإذا شبعت التقطت بأفواهها مرة أخرى شيئا من تلك الأجزاء وذهبت به إلى بيوتها ووضعته هناك كأنها تحاول أن تدخر لنفسها غذاءها فالمجتمع من ذلك هو العسل، ومن الناس من يقول: إن النحل تأكل من الأزهار الطيبة والأوراق العطرة أشياء ثم إنه تعالى يقلب تلك الأجسام في داخل بدنها عسلا ثم تقيئه، والقول الأول أقرب إلى العقل وأشد مناسبة للاستقراء، فإن طبيعة الترنجبين قريبة من العسل في الطعم والشكل ولا شك أنه ظل يحدث في الهواء ويقع على أطراف الأشجار والأزهار فكذا هاهنا، وأيضا فنحن نشاهد أن النحل تتغذى بالعسل حتى إنا إذا أخرجنا العسل من بيوتها تركنا لها بقية منه لغذائها، وحينئذ فكلمة من لابتداء الغاية اه. وأنت تعلم أن ظاهر كُلِي يؤيد القول الثاني وهو أشد تأييدا له من تأييد مشابهة الترنجبين للعسل في الطعم والشكل للقول الأول لا سيما وطبيعة العسل والترنجبين مختلفة، فقد ذكر بعض أجلة الأطباء أن العسل حار في الثالثة يابس في الثانية والترنجبين حار في الأولى رطب في الثانية أو معتدل. نعم لتلك المشابهة يطلق عليها اسم العسل فإن ترنجبين فارسي معناه عسل رطب لا طل الندا كما زعم وإن قالوا: هو في الحقيقة طل يسقط على العاقول بفارس ويجمع كالمن، ويجلب من التكرور شيء يسمى بلسانهم طنيط أشبه الأشياء به في الصورة والفعل لكنه أغلظ، والأمر في مشاهدة تغذيها بالعسل سهل فإنه ليس دائميا، وينقل عن بعض الطيور التي تكمن شتاء التغذي بالرجيع. ويؤيد المشهور ما روي عن الأمير علي كرم الله تعالى وجهه في تحقير الدنيا: أشرف لباس ابن آدم فيه لعاب دودة وأشرف شرابه رجيع نحل، وجاء عنه كرم الله تعالى وجهه أيضا أما العسل فونيم ذباب، وحمله على التمثيل خلاف الظاهر وعلى ذلك نظمت الأشعار فقال المعري: والنحل يجني المر من زهر الربا ... فيعود شهدا في طريق رضابه   (1) يبعد هذا ذكره في القاموس اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 421 وقال الحريري: تقول هذا مجاج النحل تمدحه ... وإن ترد ذمه قيء الزنابير (1) وأخبرني من أثق به أنه شاهد كثيرا حملها لأوراق الأزهار بفمها إلى بيوتها وهو مما يستأنس به للأكل، وسيأتي إن شاء الله تعالى أيضا ما يؤيده، فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ أي طرقه سبحانه راجعة إلى بيوتك بعد الأكل، فالمراد بالسبل مسالكها في العود، ويحكى أنها ربما أجدب عليها ما حولها فانتجعت الأماكن البعيدة للمرعى (2) ثم تعود إلى بيوتها لا تضل عنها، وفي إضافة السبل إلى الرب المضاف إلى ضميرها إشارة إلى أنه سبحانه هو المهيء لذلك والميسر له والقائم بمصالحها ومعايشها، وقيل: المراد من السبل طرق الذهاب إلى مظان ما تأكل منه، وحينئذ فمعنى كُلِي اقصدي الأكل، وقيل: السبل مجاز عن طرق العمل وأنواعها أي فاسلكي الطرق التي ألهمك ربك في عمل العسل، وقيل: مجاز عن طرق إحالة الغذاء عسلا، و «اسلكي» متعد من سلكت الخيط في الإبرة سلكا لا لازم من سلك في الطريق سلوكا، ومعوله محذوف أي فاسلكي ما أكلت في مسالكه التي يستحيل فيها بقدرته النور المر عسلا من أجوافك. وتعقب بأن السلك في تلك المسالك ليس فيه لها اختيار حتى تؤمر به فلا بد أن يكون الأمر تكوينيا، ورد بأنه ليس بشيء لأن الإدخال باختيارها فلا يضره كون الإحالة المترتبة عليه ليست اختيارية وهو ظاهر فليس كما زعم ذُلُلًا أي مذللة ذللها الله تعالى وسهلها لك فهو جمع ذلول حال من السبل وروي هذا عن مجاهد. وجعل ابن عبد السلام وصف السبل بالذلل دليلا على أن المراد بالسبل مسالك الغذاء لا طرق الذهاب أو الإياب قال: لأن النحل تذهب وتؤوب في الهواء وهو ليس طرقا ذللا لأن الدلول هو الذي يذلل بكثرة الوطء والهواء ليس كذلك وفيه نظر. وقال قتادة: أي مطيعة منقادة فهو حال من الضمير في فَاسْلُكِي يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها استئناف عدل به عن خطاب النحل إلى الكلام مع الناس لبيان ما يظهر منها من تعاجيب صنع الله تعالى التي هي موضع عبرتهم بعد ما أمرت بما أمرت شَرابٌ يعني العسل، وسمي بذلك لأنه مما يشرب حتى قيل: إنه لا يقال: أكلت عسلا وإنما يقال: شربت عسلا، وكأنه سبحانه إنما لم يعبر بالإخراج مسندا إليه تعالى اكتفاء بإسناد الإيحاء بالمبادي إليه جل شأنه وفيه إيذان بعظيم قدرته عز وجل بحيث إن ما يشعر بإرادة الشيء كاف في حصوله. ومِنْ لابتداء الغاية، وذكر سبحانه مبدأ الغاية الأولى وهي البطون ولم يذكر سبحانه مبدأ الغاية الأخيرة والجمهور على أنه يخرج من أفواهها، وزعم بعضهم أنه أبلغ في القدرة، وبيت الحريري على ذلك وكذا قول الحسن: لباب البر بلعاب النحل بخالص السمن ما عابه مسلم، وقيل: من أدبارها وهو ظاهر ما روى عن يعسوب المؤمنين كرم الله تعالى وجهه. وقال آخرون: لا ندري إلا ما ذكره الله تعالى. وحكي أن سليمان عليه السلام. والإسكندر. وأرسطو صنعوا لها بيوتا من زجاج لينظروا إلى كيفية صنيعها وهل يخرج العسل من فيها أم من غيره فلم تضع من العسل شيئا حتى لطخت باطن الزجاج بالطين بحيث يمنع المشاهدة، وقال بعضهم: المراد بالبطون الأفواه، وسمي الفم بطنا لأنه في حكمه ولأنه مما يبطن ولا يظهر، وهذا تأويل من ذهب إلى أنها تلتقط الذرات الصغيرة من الطل وتدخرها في بيوتها وهو العسل. وأنت تعلم أن الظاهر من البطن الجارحة المعروفة فالآية تؤيد القول المشهور في تكون العسل. وفي الكشف   (1، 2) في نسخة وإن ذممت تقل قيء الزنابير اه منه. [ ..... ] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 422 أن في قوله تعالى: ثُمَّ كُلِي إشارة إلى أن لمعدة النحل في ذلك تأثيرا وهو المختار عند المحققين من الحكماء، ومن جعل العسل نباتيا محضا وفسر البطون بأفواه النحل فليت شعري ماذا يصنع بقوله سبحانه: ثُمَّ كُلِي وأجيب بأنّه يفسر الأكل بالالتقاط وهو كما ترى أن دفع الفساد لا يدفع الاستبعاد، ومن الناس من زعم أنها تجتني زهرا وطلا فالمجتنى من الزهر نفسه يكون عسلا والمجتنى من الطل يكون موما (1) والعقل يجوز العكس ولعله أقرب من ذلك مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ بالبياض والصفرة والحمرة والسواد إما لمحض إرادة الصانع الحكيم جل جلاله وإما لاختلاف المرعى أو لاختلاف الفصل أو لاختلاف سن النحل، فالأبيض لفتيها والأصفر لكهلها والأحمر لمسنها والأسود للطاعن في ذلك جدا. وتعقب بأنه مما لا دليل عليه، وقد سألت جمعا ممن أثق بهم قد اختبروا أحوالها فذكروا أنهم قد استقرؤوا وسبروا فرأوا أقوى الأسباب الظاهرة لاختلاف الألوان اختلاف السن بل قال بعضهم: ما علمنا لذلك سببا إلا هذا بالاستقراء، وحينئذ يكون ما ذكر مؤيدا للقول المشهور في تكون العسل كما لا يخفى على من له أدنى ذوق. فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ ما بنفسه كما في الأمراض البلغمية أو مع غيره كما في سائر الأمراض إذ قلما يكون معجون لا يكون فيه عسل فله دخل في أكثر ما به الشفاء من المعاجين والتراكيب، وقيل عليه: إن دخوله في ذلك لا يقتضي أن يكون له دخل في الشفاء بل عدم الضرر إذ قيل: إن إدخاله في التراكيب لحفظها ولذا ناب عنه في ذلك السكر، والذي رأيناه في كثير من كتب الطب أنه يحفظ قوى الأدوية طويلا ويبلغها منافعها، ولا يخفى على المنصف أن ما يحفظ القوى ويبلغ منافع الدواء يصدق عليه أن له دخلا في الشفاء، ولم يشتهر أن السكر ينوب منابه في ذلك. وفي البحر أن العسل موجود كثيرا في أكثر البلاد وأما السكر فمختص به بعض البلاد وهو محدث مصنوع للبشر، ولم يكن فيما تقدم من الأزمان يجعل في الأدوية والأشربة إلا العسل اه، وفي شرح الشمائل أنه عليه الصلاة والسلام لم يأكل السكر، وذكر غير واحد أنه ليس المراد بالناس هنا العموم لأن كثيرا من الأمراض لا يدخل في دوائها العسل كأمراض الصفراء فإنه مضر للصفراوي، ولو يسلم أن السكنجبين الذي الذي هو خل وعسل كما ينبئ عنه أصل معناه نافع له، والنافع نوع آخر من السكنجبين فإنه ثقل إلى ما ركب من حامض وحلو، وله أنواع كثيرة ألفت في جمعها الرسائل حتى قالوا بحرمة تناوله عليه وإنما المراد بالناس الذين ينجع العسل في أمراضهم، والتنوين في شِفاءٌ إما للتعظيم أي شفاء أي شفاء، وإما للتبعيض أي فيه بعض الشفاء فلا يقتضي أن كل شفاء به ولا أن كل أحد يستشفي به. ولا يرد أن اللبن أيضا كذلك بل قلما يوجد شيء من العقاقير إلا وفيه شفاء للناس بهذا المعنى لما قيل: إن التنصيص على هذا الحكم فيه لإفادة ما يكاد يستبعد من اشتمال ما يخرج على اختلاف ألوانه من هذه الدود التي هي أشبه شيء بذوات السموم ولعلها ذات سم أيضا فإنها تلسع وتؤلم وقد يرم الجلد من لسعها وهو ظاهر في أنها ذات سم على شِفاءٌ لِلنَّاسِ ويفهم من ظاهر بعض الآثار أن الكلام على عمومه. فقد أخرج حميد ابن زنجويه عن نافع ان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان لا يشكو قرحة ولا شيئا إلا جعل عليه عسلا حتى الدمل إذا كان به طلاه عسلا فقلنا له: تداوي الدمل بالعسل فقال: أليس الله تعالى يقول فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ؟. وأنت تعلم أنه لا بأس بمداواة الدمل بالعسل فقد ذكر الأطباء أنه ينقي الجروح ويدمل ويأكل اللحم الزائد   (1) قوله يكون موما هذه لفظة تركية ومعناها بالعربية الشمع اه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 423 والحق أنه لا مساغ للعموم إذ لا شك في وجود مرض لا ينفع فيه العسل، والآثار المشعرة بالعموم الله تعالى أعلم بصحتها. وأما ما أخرجه أحمد. والبخاري. ومسلم. وابن مردويه «عن أبي سعيد الخدري أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أخي استطلق بطنه فقال: اسقه عسلا فسقاه عسلا ثم جاء فقال: سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا قال: اذهب فاسقه عسلا فسقاه عسلا ثم جاء فقال: ما زاده إلا استطلاقا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق الله تعالى وكذب بطن أخيك اذهب فاسقه عسلا فذهب فسقاه فبرأ» فليس صريحا في العموم لجواز أن يكون عليه الصلاة والسلام قد علمه الله سبحانه أن داء هذا المستطلق مما يشفى بالعسل فإن بعض الاستطلاق قد يشفى بالعسل، ففي طبقات الأطباء أنه إنما قال صلى الله عليه وسلم ذلك لأنه علم أن في معدة المريض رطوبات لزجة غليظة قد أزلقت معدته فكلما مر به شيء من الأدوية القابضة لم يؤثر فيه والرطوبات باقية على حالها والأطعمة تزلق عنها فيبقى الإسهال فلما تناول العسل جلا تلك الرطوبات وأحدرها فكثر الإسهال أولا بخروجها وتوالي ذلك حتى نفذت الرطوبة بأسرها فانقطع إسهاله وبرئ، فقوله صلى الله عليه وسلم: «صدق الله تعالى» يعني بالعلم الذي عرف نبيه عليه الصلاة والسلام به، وقوله «كذب بطن أخيك» يعني ما كان يظهر من بطنه من الإسهال وكثرته بطريق العرض وليس هو بإسهال ومرض حقيقي فكان بطنه كاذبا اه. وقال بعضهم: المراد- بصدق الله تعالى- صدق سبحانه في أن العسل فيه الشفاء، وقوله عليه الصلاة والسلام: «كذب بطن أخيك» من المشاكلة الضدية كقولهم: من طالت لحيته تكوسج عقله، وهو على الأول استعارة مبنية على تشبيه البطن بالكاذب في كون ما ظهر من إسهالها ليس بأمر حقيقي وإنما هو لما عرض لها، وعلى ذلك قول الأطباء: زحير كاذب وزحير صادق. وأنكر بعضهم هذا النوع من المشاكلة وقال: إنها ليست معروفة وإنه إنما عبر به لأن بطنه كأنه كذب قوله الله تعالى بلسان حاله وهو ناشئ من قلة الاطلاع. وقد وقع نظير هذه القصة في زمن المأمون، وذلك أن ثمامة العبسي وكان من خواصه مرض بالإسهال فكان يقوم في اليوم والليلة مائة مرة وعجز الأطباء عن علاجه فعالجه يزيد بن يوحنا طبيب المأمون بالمسهل أيضا فبرئ وكان قد ظن الأطباء أنه يموت بسبب ذلك ولا يبقى لغده، وذكر الطبيب حين سأله المأمون عن وجه الحكمة فيما فعل فذكر أنه كان في جوف الرجل كيموس فاسد فلا يدخله غذاء ولا دواء إلا أفسده فعلمت أنه لا علاج له إلا قلع ذلك بالإسهال، ومنه يعلم أن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم كان من معجزاته الدالة على علمه بدقائق الطب من غير تعليم، وكذا يعلم أن ما طعن به بعض الملحدين ومن في قلبه مرض من أنه كيف يداوي الإسهال بالعسل وهو مسهل باتفاق الأطباء ناشئ عن الجهل بالدقائق وعدم الوقوف على الحقائق. ونقل عن مجاهد. والضحاك. والفراء، وابن كيسان وهو رواية عن ابن عباس. والحسن أن ضمير فِيهِ للقرآن والمراد أن في القرآن شفاء لأمراض الجهل والشرك وهدى ورحمة، واستحسن ذلك ابن النحاس. وقال القاضي أبو بكر العربي: أرى هذا القول لا يصح نقله عن هؤلاء ولو صح نقلا لم يصح عقلا فإن سياق الكلام كله للعسل ليس للقرآن فيه ذكر، ورجوع الضمير للكتاب في قوله سبحانه: وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ مما لا يكاد يقوله أمثال هؤلاء الكرام والعلماء الأعلام. نعم كون القرآن شفاء مما لا كلام فيه، وقد أخرج الطبراني. وغيره عن ابن مسعود «عليكم بالشفاءين العسل والقرآن» هذا. وقدم سبحانه الأخبار عن إنزال الماء لما أن الماء أتم نفعا وأعظم شأنا وهو أصل أصيل لتكون اللبن وما بعده، ثم ذكر اللبن لأنه يحتاج إليه أكثر من غيره مما ذكر بعده، وقد يستغنى بشربه عن شرب الماء كما شاهدنا ذلك من بعض متزهدي زماننا فقد ترك شرب الماء عدة من السنين مكتفيا بشرب اللبن، وسمعنا نحو ذلك عن بعض رؤساء الأعراب، وهو الدليل على الفطرة ولذلك اختاره صلى الله عليه وسلم حين أسري به وعرض عليه مع الخمر والعسل، ثم الخمر لأنها أقرب إلى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 424 الماء من العسل فإنها ماء العنب ولم يعهد جعلها إداما كالعسل فإنه كثيرا ما يؤدم به الخبز ويؤكل، وبينها وبين اللبن نوع مشابهة من حيث إن كلا منهما يخرج من بين أجزاء كثيفة وما أشبه ثقله بالفرث، وإذا لوحظ السوغ في اللبن وعدمه في الخمر بناء على ما يقولون: إنها ليست سهلة المرور في الحلق ولذا يقطب شاربها عند الشرب وقد يغص بها كان بينهما نوع من التضاد، ويحسن إيقاع الضد بعد الضد كما يحسن إيقاع المثل بعد المثل، وإذا لوحظ مآل أمرهما شرعا رأيت أن الخمر لم يسغ شربها بعد نزول الآية فيه وشرب اللبن لم يزل سائغا وبذلك يقوى التضاد، ويقويه أيضا أن اللبن يخرج من بطن حيوان ولا دخل لعمل البشر فيه والخمر ليست كذلك، وأما ذكر الرزق الحسن بعد الخمر وتقديمه على العسل فالوجه فيه ظاهر جدا، ولعل ما اعتبرناه في وجه تقديم الخمر على العسل وذكره بعد اللبن أقوى مما يصح اعتباره في العسل وجها لتقديمه على الخمر وذكره بعد اللبن، فلا يرد أن في كل جهة تقديما فاعتبارها في أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح، وقد جاء ذكر الماء واللبن والخمر والعسل في وصف الجنة على هذا الترتيب قال تعالى: فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد: 15] فتأمل فلمسلك الذهن اتساع والله تعالى أعلم بأسرار كتابه. إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور من آثار قدرة الله تعالى لَآيَةً عظيمة لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فإن من تفكر في اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة والأفعال العجيبة التي مرت الإشارة إليها وخروج هذا الشراب الحلو المختلف الألوان وتضمنه الشفاء جزم قطعا أن لها ربا حكيما قادرا ألهمها ما ألهم وأودع فيها ما أودع، ولما كان شأنها في ذلك عجيبا يحتاج إلى مزيد تأمل ختم سبحانه الآية بالتفكر. ومن بدع تأويلات الرافضة على ما في الكشاف أن المراد بالنحل علي كرم الله تعالى وجهه وقومه. وعن بعضهم أنه قال عند المهدي: إنما النحل بنو هاشم يخرج من بطونهم العلم فقال له رجل: جعل الله تعالى طعامك وشرابك مما يخرج من بطونهم فضحك المهدي وحدث به المنصور فاتخذوه أضحوكة من أضاحيكهما، وستسمع إن شاء الله تعالى ما يقوله الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم في باب الإشارة، ثم إنه سبحانه لما ذكر من عجائب أحوال ما ذكر من الماء والنبات والأنعام والنحل أشار إلى بعض عجائب أحوال البشر من أول عمره إلى آخره وتطوراته بين ذلك فقال عز قائلا: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ حسبما تقتضيه مشيئته تعالى المبنية على الحكم البالغة بآجال مختلفة، والقرينة على إرادة ذلك قوله سبحانه: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ولذا قيل: إنه معطوف على مقدر أي فمنكم من تعجل وفاته ومنكم إلخ، وأَرْذَلِ الْعُمُرِ أخسه وأحقره وهو وقت الهرم الذي تنقص فيه القوى وتفسد الحواس ويكون حال الشخص فيه كحالة وقت الطفولية من ضعف العقل والقوة. ومن هنا تصور الرد فهذا كقوله تعالى: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ [يس: 68] ففيه مجاز، وأخرج ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه أن «أرذل العمر» خمس وسبعون سنة وعن قتادة أنه تسعون، وقيل: خمس وتسعون واختار جمع تفسيره بما سبق وهو يختلف باختلاف الأمزجة فرب معمر لم تنتقص قواه ومنتقص القوى لم يعمر، ولعل التقييد بسن مخصوص مبني على الأغلب عند من قيد. والخطاب إن كان للموجودين وقت النزول فالتعبير بالماضي والمستقبل فيه ظاهر، وإن كان عاما فالمضي بالنسبة إلى وقت وجودهم والاستقبال بالنسبة إلى الخلق، وعلى التقدير الظاهر أن مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ يعم المؤمن مطلقا والكافر، وقيل: إنه مخصوص بالكافر والمسلم لا يرد إلى أرذل العمر لقوله تعالى: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [التين: 5، 6] وأخرج ابن المنذر. وغيره عن عكرمة أنه قال: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر، والمشاهدة تكذب كلا القولين فكم رأينا مسلما قارئ القرآن قد رد إلى ذلك، والاستدلال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 425 بالآية على خلافه فيه نظر، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم كما أخرجه البخاري. وابن مردويه عن أنس «أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة الدجال وفتنة المحيا والممات» . لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً اللام للصيرورة والعاقبة وهي في الأصل للتعليل وكي مصدرية والفعل منصوب بها والمنسبك مجرور باللام والجار والمجرور متعلق- بيرد.، وزعم الحوفي أن اللام لام كي دخلت على كي للتوكيد وليس بشيء، والعلم بمعنى المعرفة، والكلام كناية عن غاية النسيان أي ليصير نساء بحيث إذا كسب علما في شيء لم ينشب أن ينساه ويزل عنه علمه من ساعته يقول لك: من هذا؟ فتقول: فلان فما يلبث لحظة إلا سألك عنه، وقيل: المراد لئلا يعلم زيادة علم على علمه، وقيل: لئلا يعقل من بعد عقله الأول شيئا فالعلم بمعنى العقل لا بمعناه الحقيقي كما في سابقه، وفيه دلالة على وقوفه وأنه لا يقدر على علم زائد، والوجه المعتمد الأول، ونصب- شيئا- على المصدرية أو المفعولية، وجوز فيه التنازع بين يعلم وعلم، وكون مفعول- علم- محذوفا لقصد العموم أي لا يعلم شيئا ما بعد علم أشياء كثيرة إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بكل شيء ومن ذلك وجه الحكمة في الخلق والتوفي والرد إلى أرذل العمر قَدِيرٌ على كل شيء ومنه ما يشاؤه سبحانه من ذلك، وقيل: عليم بمقادير أعماركم قدير على كل شيء يميت الشاب النشيط ويبقي الهرم الفاني، وفيه تنبيه على أن تفاوت الآجال ليس إلا بتقدير قادر حكيم رتب الأبنية وعدل الأمزجة على قدر معلوم ولو كان ذلك مقتضى القطائع لما بلغ هذا المبلغ، وقيل: إنه تعالى لما ذكر ما يعرض في الهرم من ضعف القوى والقدرة وانتفاء العلم ذكر أنه جل شأنه مستمر على العلم الكامل والقدرة الكاملة لا يتغيران بمرور الأزمان كما يتغير علم البشر وقدرتهم، ويفيد الاستمرار الجملة الاسمية، والكمال صيغة فعيل، وقدم صفة العلم لتجاوز انتفاء العلم عن المخاطبين مع أن تعلق صفة العلم بالشيء أول لتعلقه صفة القدرة به، ولا يخفى عليك ما هو الأولى من الثلاثة فدبر. وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ أي جعلكم متفاوتين فيه فأعطاكم منه أفضل مما أعطى مماليككم فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا فيه على غيرهم وهم الملاك بِرَادِّي أي بمعطي رِزْقِهِمْ الذي رزقهم إياه عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ على مماليكهم الذين هم شركاؤهم في المخلوقية والمرزوقية فَهُمْ أي الملاك الذين فضلوا والمماليك فِيهِ أي في الرزق سَواءٌ لا تفاضل بينهم، والجملة اسمية واقعة موقع فعل منصوب في جواب النفي أي لا يردونه عليهم فيستووا فيه ويشتركوا، وجوز أن تكون في تأويل فعل مرفوع معطوف على قوله تعالى: بِرَادِّي أي لا يردونه عليهم فلا يستوون، والمراد بذلك توبيخ الذين يشركون به سبحانه بعض مخلوقاته وتقريعهم والتنبيه على كمال قبح فعلهم كأنه قيل: إنكم لا ترضون بشركة عبيدكم لكم بشيء لا يختص بكم بل يعمكم وإياهم من الرزق الذي هم أسوة لكم في استحقاقه وهم أمثالكم في البشرية والمخلوقية لله عز سلطانه فما بالكم تشركون به سبحانه وتعالى فيما لا يليق إلا به جل وعلا من الألوهية والمعبودية الخاصة بذاته تعالى لذاته بعض مخلوقاته الذي هو بمعزل عن درجة الاعتبار، وهو على ما صرح به جماعة على شاكلة قوله تعالى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ [الروم: 28] يعنون بذلك أنه مثل ضرب لكمال قباحة ما فعلوه، وفي قوله أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ قرينة- كما قيل- على ذلك، وكذا في قوله تعالى: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ على مقدر وهي داخلة في الحقيقة على الفعل أعني يَجْحَدُونَ ولتضمن الجحود معنى الكفر جيء بالباء في معموله المقدم عليه للاهتمام أو لإبهام الاختصاص مبالغة أو لرعاية رؤوس الآي، والمراد بالنعمة قيل الرزق وقيل ولعله الأولى: ما يشمله وغيره من النعم الفائضة عليهم منه سبحانه أي يشركون به تعالى فيجحدون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 426 نعمته تعالى حيث يفعلون ما يفعلون من الإشراك فإن ذلك يقتضي أن يضيفوا ما أفيض عليهم من الله تعالى من النعم إلى شركائهم ويجحدوا كونهم من عنده جل وعلا، وجوز كون المراد بنعمة الله تعالى ما أنعم سبحانه به من إقامة الحجج وإيضاح السبل وإرسال الرسل عليهم السلام ولا نعمة أجل من ذلك، فمعنى جحودهم ذلك إنكاره وعدم الالتفات إليه، وصيغة الغيبة لرعاية فَمَا الَّذِينَ وقرأ أبو بكر عن عاصم. وأبو عبد الرحمن والأعرج بخلاف عنه «تجحدون» بالتاء على الخطاب رعاية لبعضكم، هذا وجوز أن يكون معنى الآية أن الله تعالى فضل بعضا على بعض في الرزق وأن المفضلين لا يردون من رزقهم على من دونهم شيئا وإنما أنا رازقهم فالمالك والمملوك في أصل الرزق سواء وإن تفاوتا كما وكيفا، والمراد النهي عن الإعجاب والمن اللذين هما مقدمتا الكفران. والعطف على مقدر أيضا أي أيعجبون ويمنون فيجحدون نعمة الله تعالى عليهم، وقيل: التقدير ألا يفهمون فيجحدون واختار في الكشاف أن المعنى أنه سبحانه جعلكم متفاوتين في الرزق فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم وهم بشر مثلكم وإخوانكم وكان ينبغي أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم حتى تساووا في الملبس والمطعم كما يحكى عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه أنه سمع رسول الله يقول: «إنما هم إخوانكم فاكسوهم مما تلبسون وأطعموهم مما تطعمون» فما رؤي عبده بعد ذلك إلا ورداؤه رداؤه وإزاره إزاره من غير تفاوت، وحاصله إن الله تعالى فضلكم على أمثالكم فكان عليكم أن تردوا من ذلك الفضل عليهم شكرا لنعمته تعالى لتكونوا سواء في ذلك الفضل ويبقى لكم فضل الإفضال والتفضل. فالآية حث على حسن الملكة وأدمج أنهم وعبيدهم مربوبون بنعمته تعالى ذلك مع تقلبهم فيها ليكون تمهيدا لكفرانهم نعمه سبحانه السوابغ إلى أن جعلوا له عز وجل أندادا لا تملك لنفسها ضرا ولا نفعا فعبدوها عبادته تعالى أو أشد وأسد، وفي ذلك من البعد ما فيه، والعطف فيه على مقدر أيضا كألا يعرفون ذلك فيجحدون. وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من جنسكم ونوعكم وهو مجاز في ذلك، والأشهر من معاني النفس الذات ولا يستقيم هنا كغيره فلذا ارتكب المجاز وهو إما في المفرد أو الجمع، واستدل بذلك بعضهم على أنه لا يجوز للإنسان أن ينكح من الجن أَزْواجاً لتأنسوا بها وتقيموا بذلك مصالحكم ويكون أولادكم أمثالكم. وأخرج غير واحد عن قتادة أن هذا خلق آدم وحواء عليهما السلام فإن حواء خلقت من نفسه عليه السلام، وتعقب بأنه لا يلائمه جمع الأنفس والأزواج، وحمله على التغليب تكلف غير مناسب للمقام وكذا كون المراد منهما بعض الأنفس وبعض الأزواج وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ أي منها فوضع الظاهر موضع الضمير للإيذان بأن المراد جعل لكم منكم من زوجه لا من زوج غيره بَنِينَ وبأن نتيجة الزواج هو التوالد وَحَفَدَةً جمع حافد ككاتب وكتبة، وهو من قولهم: حفد يحفد حفدا وحفودا وحفدانا إذا أسرع في الخدمة والطاعة، وفي الحديث «إليك نسعى ونحفد» وقال جميل: حفد الولائد حولهن وأسلمت ... بأكفهن أزمة الأجمال وقد ورد الفعل لازما ومتعديا كقوله: يحفدون الضيف في أبياتهم ... كرما ذلك منهم غير ذل وجاء في لغة- كما قال أبو عبيدة- أحفد أحفادا، وقيل: الحفد سرعة القطع، وقيل: مقاربة الخطو، والمراد بالحفدة على ما روي عن الحسن. والأزهري وجاء في رواية عن ابن عباس واختاره ابن العربي أولاد الأولاد، وكونهم من الأزواج حينئذ بالواسطة، وقيل: البنات عبر عنهن بذلك إيذانا بوجه المنة فانهن في الغالب يخدمن في البيوت أتم خدمة، وقيل: البنون والعطف لاختلاف الوصفين البنوة والخدمة، وهو منزل منزلة تغاير الذات، وقد مر نظيره فيكون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 427 ذلك امتنانا بإعطاء الجامع لهذه الوصفين الجليلين فكأنه قيل: وجعل لكم منهن أولادا هم بنون وهم حافدون أي جامعون بين هذين الأمرين، ويقرب منه ما روي عن ابن عباس من أن البنين صغار الأولاد والحفدة كبارهم، وكذا ما نقل عن مقاتل من العكس، وكأن ابن عباس نظر إلى أن الكبار أقوى على الخدمة (1) ومقاتل نظر إلى أن الصغار أقرب للانقياد لها وامتثال الأمر بها واعتبر الحفد بمعنى مقاربة الخط، وقيل: أولاد المرأة من الزوج الأول، وأخرجه ابن جرير. وابن أبي حاتم عن ابن عباس. وأخرج الطبراني والبيهقي في سننه والبخاري في تاريخه والحاكم وصححه عن ابن مسعود أنهم الأختان وأريد بهم- على ما قيل- أزواج البنات ويقال لهم أصهار، وأنشدوا: فلو أن نفسي طاوعتني لأصبحت ... لها حفد مما يعد كثير ولكنها نفس عليّ أبية ... عيوني لأصهار اللئام تدور والنصب على هذا بفعل مقدر أي وجعل لكم حفدة لا بالعطف على بَنِينَ لأن القيد إذا تقدم يعلق بالمتعاطفين وأزواج البنات ليسوا من الأزواج، وضعف بأنه لا قرينة على تقدير خلاف الظاهر وفيه دغدغة لا تخفى. وقيل: لا مانع من العطف بأن يراد بالأختان أقارب المرأة كأبيها وأخيها لا أزواج البنات فإن إطلاق الأختان عليه إنما هو عند العامة وأما عند العرب فلا كما في الصحاح، وتجعل مِنْ سببية ولا شك أن الأزواج سبب لجعل الحفدة بهذا المعنى وهو كما ترى. وتعقب تفسيره بالأختان والربائب بأن السياق للامتنان ولا يمتن بذلك. وأجيب أن الامتنان باعتبار الخدمة ولا يخفى أنه مصحح لا مرجح. وقيل: الحفدة هم الخدم والأعوان وهو المعنى المشهور له لغة. والنصب أيضا بمقدر أي وجعل لكم خدما يحفدون في مصالحكم ويعينونكم في أموركم. وقال ابن عطية بعد نقل عدة أقوال في المراد من ذلك: وهذه الأقوال مبنية على أن كل أحد جعل له من زوجته بنون وحفدة ولا يخفى أن باعتبار الغالب، ويحتمل أن يحمل قوله تعالى: مِنْ أَزْواجِكُمْ على العموم والاشتراك أي جعل من أزواج البشر البنين والحفدة ويستقيم على هذا الحفدة على مجراها في اللغة إذ البشر بجملتهم لا يستغني أحدهم عن حفدة اه، وحينئذ لا يحتاج إلى تقدير لكن لا يخفى أن فيه بعدا، وتأخير المنصوب في الموضعين عن المجرور لما مكر غير مرة من التشويق، وتقديم المجرور باللام على المجرور بمن لإيذان من أول الأمر بعود منفعة الجعل إليهم إمدادا للتشويق وتقوية له. وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي اللذائذ وهو معناها اللغوي، وجوز مجوز أن يراد بالطيب ما هو متعارف في لسان الشرع وهو الحلال. وتعقبه أبو حيان بأن المخاطبين بهذا الكفار وهم لا شرع لهم فتفسيره بذلك غير ظاهر، وأجيب بأنهم مكلفون بالفروع كالأصول فيوجد في حقهم الحلال والحرام، وأيضا هم مرزوقون بكثير من الحلال الذي أكلوا بعضه ولا يلزم اعتقادهم للحل ونحوه، ومن للتبعيض لأن ما رزقوه بعض من كل الطيبات فإن ما في الدنيا منها بأسره أنموذج لما في الآخرة إذ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وما في الدنيا لم يصل كثير منه إليهم، والظاهر على ما ذكرنا عموم الطيبات للنبات والثمار والحبوب والأشربة والحيوان، وقيل: المراد بها ما أتي من غير نصب، وقيل: الغنائم، وليس بشيء. أَفَبِالْباطِلِ وهو منفعة الأصنام وبركتها وما ذاك إلا وهم باطل لم يتوصلوا إليه بدليل ولا أمارة، والجار   (1) هنا بياض بالأصل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 428 والمجرور متعلق بقوله تعالى: يُؤْمِنُونَ وقدم للحصر فيفيد أن ليس لهم إيمان إلا بذلك كأنه شيء معلوم مستيقن وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ المشاهدة المعاينة التي لا شبهة فيها لذي عقل وتمييز مما ذكر ومما لا تحيط به دائرة البيان هُمْ يَكْفُرُونَ أي يستمرون على الكفر بها والإنكار لها كما ينكر المحال الذي لا يتصوره العقول وذلك بإضافتها إلى أصنامهم، وقيل: الباطل ما يسول لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة وغيرهما ونعمة الله تعالى ما أحل لهم. والآية على هذا ظاهرة لتعلق بقوله سبحانه: وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فقط دون ما قبله أيضا والظاهر تعلقها بهما، ومن ذلك يظهر حال من أخرجه ابن المنذر عن ابن جريج من أن الباطل الشيطان ونعمة الله تعالى محمد صلى الله عليه وسلم، وما ذكرناه قد صرح بأكثره الزمخشري، واستفادة الحصر من التقديم ظاهرة، وأما كأنه شيء معلوم مستيقن فمستفاد من حصرهم الإيمان فيما ذكر لأن ذلك شأن المؤمن به لا سيما وقد حصروا، وأيضا المقابلة بالمشاهد المحسوس أعني نعمة الله تعالى دلت على تعكيسهم فيدل على أنهم جعلوا الموهوم بمنزلة المتيقن وبالعكس، والفاء التي للتعكيس شديدة الدلالة على هذا الأمر والحمل على أنها للعطف على محذوف ليس بالوجه كذا في الكشف، وفيه رد على ما قيل إن في كلا التركيبين تأكيدا وتخصيصا، أما التخصيص فيهما فمن تقديم المعمول، وأما التأكيد في الأول فلأن الفاء تستدعي معطوفا عليه تقديره أيكفرون بالحق ويؤمنون بالباطل والكفر بالحق مستلزم للإيمان بالباطل فقد تكرر الإيمان بالباطل والتكرير يفيد التأكيد، وأما التأكيد في الثاني فمن بناء يَكْفُرُونَ على هم المفيد لتقوى الحكم، وجعل كلام الزمخشري مشيرا إلى ذلك كله فتدبر. وما ذكر من أن تقديم الجار في التركيبين للتخصيص مما صرح به غير واحد، والعلامة البيضاوي جوز ذلك لكنه أقحم الإيهام هنا نظير ما فعلناه فيما سلف آنفا. ووجه ذلك بأن المقام ليس بمقام تخصيص حقيقة إذ لا اختصاص لإيمانهم بالباطل ولا لكفرانهم بنعم الله سبحانه ولم يقحمه في تفسير نظير ذلك في العنكبوت فإن وجه بأنهم إذا آمنوا بالبال كان إيمانهم بغيره بمنزلة العدم وإن النعم كلها من الله تعالى إما بالذات أو بالواسطة فليس كفرانهم إلا لنعمه سبحانه كما قيل لا يشكر الله من لا يشكر الناس بقي المخالفة. وأجيب بأنه إذا نظر للواقع فلا حصر فيه وإن لوحظ ما ذكر يكون الحصر ادعائيا وهو معنى الإيهام للمبالغة فلا تخالف، وجوز أن يكون التقديم للاهتمام لأن المقصود بالإنكار الذي سيق له الكلام تعلق كفرانهم بنعمة الله تعالى واعتقادهم للباطل لا مطلق الإيمان والكفران، وأن يكون لرعاية الفواصل وهو دون النكتتين، والالتفات إلى الغيبة للإيذان باستيجاب حالهم للإعراض عنهم وصرف الخطاب إلى غيرهم من السامعين تعجيبا لهم مما فعلوه. وفي البحر أن السلمي قرأ «تؤمنون» بالتاء على الخطاب وأنه روى ذلك عن عاصم، والجملة فيما بعده على هذا كما استظهره في البحر مجردا عن الكفرة غير مندرج في التقريع. هذا بقي أنه وقع في [العنكبوت: 67] أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ بدون ضمير ووقع هنا ما سمعت بالضمير، وبين الخفاجي سر ذلك بأنه لما سبق في هذه السورة قوله تعالى: فَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أي يكفرون كما مر فلو ذكر ما نحن فيه بدون الضمير لكانت الآية تكرارا بحسب الظاهر فأتى بالضمير الدال على المبالغة والتأكيد ليكون ترقيا في الذم بعيدا عن اللغوية، ثم قال: وقيل إنه أجري على عادة العباد إذا أخبروا عن أحد بمنكر يجدون موجدة فيخبروا عن حاله الأخرى بكلام آكد من الأول، ولا يخفى أن هذا إنما ينفع إذا سئل لم قيل: أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ بدون ضمير وقيل: وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ به، وأما في الفرق بين ما هنا وما هناك فلا، وقيل: آيات العنكبوت استمرت على الغيبة فلم يحتج إلى زيادة ضمير الغائب وأما الآية التي نحن فيها فقد سبق قبلها مخاطبات كثيرة فلم يكن بد من ضمير الغائب المؤكد لئلا يلتبس بالخطاب، وتخصيص هذه بالزيادة دون أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ مع أنها الأولى بها بحسب الظاهر لتقدمها لئلا يلزم زيادة الفاصلة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 429 الأولى على الثانية. واعترض عليه بأنه لا يخفى أنه لا مقتضى للزوم الغيبة ولا لبس لو ترك الضمير. وقد يقال: إنما لم يؤت في آية العنكبوت بالضمير ويبنى الفعل عليه إفادة للتقوى استغناء بتكرر ما يفيد كفر القوم بالنعم مع قربه من تلك الآية عن ذلك، على أنه قد تقدم هناك ما تستمد منه الجملتان أتم استمداد وإن كان فيه نوع بعد ومغايرة ما وذلك قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ [العنكبوت: 52] ولما لم تكن آية النحل فيما ذكر بهذه المرتبة جيء فيها بما يفيد التقوى، أو يقال: إنه لما كان سرد النعم هنا على وجه ظاهر في وصولها إليهم والامتنان بها عليهم كان ذلك أوفق بأن يؤتى بما يفيد كفرهم بها على وجه يشعر باستبعاد وقوعه منهم فجيء بالضمير فيه ولما لم يكن ما هنالك كذلك لم يؤت فيه بما ذكر، ولعل التعبير هنا- بيكفرن- وفيما قبل يَجْحَدُونَ لأن ما قبل كان مسبوقا على ما قيل بضرب مثل لكمال قباحة ما فعلوه والجحود أوفق بذلك لما أن كمال القبح فيه أتم ولا كذلك فيما البحث فيه كذا قيل فافهم والله تعالى بأسرار كتابه أعلم وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قال أبو حيان: هو استئناف إخبار عن حالهم في عبادة الأصنام وفيه تبيين لقوله تعالى: أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وقال بعض أجلة المحققين: لعله عطف على يَكْفُرُونَ داخل تحت الإنكار التوبيخي أي أيكفرون بنعمة الله ويعبدون من دونه سبحانه ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً أي ما لا يقدر أن يرزقهم شيئا لا من السموات مطرا ولا من الأرض نباتا- فرزقا- مصدر، وشَيْئاً نصب على المفعولية له وإلى ذلك ذهب أبو علي. وغيره. وتعقبه ابن الطراوة بأن الرزق هو المرزوق كالرعي والطحن والمصدر إنما هو الرزق بفتح الراء كالرعي والطحن. ورد عليه بأن مكسور الراء مصدر أيضا كالعلم وسمع ذلك فيه فصح أن يعمل في المفعول، وقيل: هو اسم مصدر والكوفي يجوز عمله في المفعول- فشيئا- مفعوله على رأيهم، وجوز أن يكون بمعنى مرزوق وشَيْئاً بدل منه أي لا يملك لهم شيئا. وأورد عليه السمين. وأبو حيان أنه غير مفيد إذ من المعلوم أن الرزق من الأشياء والبدل يأتي لأحد شيئين البيان والتأكيد وليسا بموجودين هنا. وأجيب بأن تنوين شَيْئاً للتقليل والتحقير فإن كان تنوين رِزْقاً كذلك هو مؤكد وإلا فمبين وحينئذ فيصح فيه أن يكون بدل بعض أو كل ولا إشكال. وجوز أن يكون شَيْئاً مفعولا مطلقا ليملك أي لا يملك شيئا من الملك ومِنَ السَّماواتِ إما متعلق بقوله تعالى: لا يَمْلِكُ أو بمحذوف وقع صفة- لرزقا- أي رزقا كائنا منهما، واطلاق الرزق على المطر لأنه ينشأ عنه. وَلا يَسْتَطِيعُونَ جوز أن يكون عطفا على صلة ما وأن يكون مستأنفا للإخبار عن حال الآلهة، واستطاع متعد ومفعوله محذوف هو ضمير الملك أي لا يستطيعون أن يملكوا ذلك ولا يمكنهم، فالكلام تتميم لسابقه وفيه من الترقي ما فيه فلا يكون نفي استطاعة الملك بعد نفي ملك الرزق غير محتاج إليه، وإن جعل المفعول ضمير الرزق كما جوزه في الكشاف يكون هذا النفي تأكيدا لما قبله. وأورد عليه أنه قد قرر في المعاني أن حرف العطف لا يدخل مبين المؤكد والمؤكد لما بينها من كمال الاتصال. ودفع بأن ذلك غير مسلم عند النحاة وليس مطلقا عند أهل المعاني ألا ترى قوله تعالى: كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ [النبأ: 4، 5] نعم يرد عليه حديث أن التأسيس خير من التأكيد، وجوز ولعله الأولى أن يكون الفعل منزلا منزلة اللازم فيكون المراد نفي الاستطاعة عنهم مطلقا على حد يعطي ويمنع فالمعنى أنهم أموات لا قدرة لهم أصلا فيكون تذييلا للكلام السابق، وفيه ما فيه على الوجه الأول وزيادة. وجمع الضمير فيه وتوحيده في لا يَمْلِكُ لرعاية جانب اللفظ أولا والمعنى ثانيا فإن «ما» مفرد بمعنى الآلهة ومثل هذه الرعاية وارد في الفصيح وإن أنكره بعضهم لما يلزمه من الإجمال بعد البيان المخالف للبلاغة فإنه مردود كما بين في محله، وقد روعي أيضا في التعبير حال معبوداتهم في نفس الأمر فإنها أحجار وجمادات فعبر عنها- بما- الجزء: 7 ¦ الصفحة: 430 الموضوعة في المشهور لغير العالم وحالها باعتبار اعتقادهم فيها أنها آلهة فعبر عنها بضمير الجمع الموضوع لذوي العلم، هذا إذا كان المراد بما الأصنام، ولا يخفى عليك الحال إذا كان المراد بها المعبودات الباطلة مطلقا ملكا كانت أو بشرا أو حجرا أو غيرها. وجوز أن يكون ضمير الجمع عائدا على الكفار كضمير يَعْبُدُونَ وما على المعنى المشهور فيها على معنى أنهم مع كونهم أحياء متصرفين في الأمور لا يستطيعون من ذلك شيئا فكيف بالجماد الذي لا حس له، فجملة لا يَسْتَطِيعُونَ معترضة لتأكيد نفي الملك عن الآلهة والمفعول محذوف كما أشير إليه، وهذا وإن كان خلاف الظاهر لكنه سالم عن مخالفة المشهور في العود على المعنى بعد مراعاة اللفظ فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ التفات إلى الخطاب للإيذان بالاهتمام بشأن النهي، والفاء للدلالة على ترتيب النهي على ما عدد من النعم الفائضة عليهم منه تعالى وكون آلهتهم بمعزل من أن يملكوا لهم رزقا فضلا عما فضل، والأمثال جمع مثل كعلم، والمراد من الضرب الجعل فكأنه قيل: فلا تعجلوا لله تعالى الأمثال والأكفاء فالآية كقوله تعالى: «فلا تجعلوا لله أندادا» وهذا ما يقتضيه ظاهر كلام ابن عباس، وفقد أخرج ابن جرير. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال في الآية: يقول سبحانه لا تجعلوا معي إلها غيري فإنه لا إله غيري. وجعل كثير الأمثال جمع مثل بالتحريك، والمراد من ضرب المثل لله سبحانه الإشراك والتشبيه به جل وعلا من باب الاستعارة التمثيلية، ففي الكشف أن الله تعالى جعل المشرك به الذي يشبهه تعالى بخلقه بمنزلة ضارب المثل فإن المشبه المخذول يشبه صفة بصفة وذاتا بذات كما أن ضارب المثل كذلك فكأنه قيل: ولا تشركوا بالله سبحانه، وعدل عنه إلى المنزل دلالة على التعميم في النهي عن التشبيه وصفا وذاتا، وفي لفظ الْأَمْثالَ لمن لا مثال له أصلا نعي عظيم عليهم بسوء فعلهم، وفيه إدماج أن الأسماء توقيفية وهذا هو الظاهر لدلالة الفاء وعدم ذكر ضرب مثل منهم سابقا، وهذا الوجه هو الذي اختاره الزمخشري وكلام الحبر رضي الله تعالى عنه لا يأباه فقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ تعليل للنهي أي إنه تعالى يعلم كنه ما تفعلون وعظمه وهو سبحانه معاقبكم عليه أعظم العقاب وأنتم لا تعلمون كنهه وكنه عقابه فلذا صدر منكم وتجاسرتم عليه. وجوز أن يكون المراد النهي عن قياس الله تعالى على غيره بجعل ضرب المثل استعارة للقياس، فإن القياس إلحاق شيء بشيء وهو عند التحقيق تشبيه مركب بمركب، والفرق بينه وبين الوجه السابق قليل، وأمر التعليل على حاله. وجوز الزمخشري وغيره أن يكون المراد النهي عن ضرب الأمثال لله سبحانه حقيقة والمعنى فلا تضربوا لله تعالى الأمثال التي يضربها بعضكم لبعض إن الله تعالى يعلم كيف تضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون، ووجه التعليل ظاهر، واللام على سائر الأوجه متعلقة- بتضربوا- وزعم ابن المنير تعلقها- بالأمثال- فيما إذا كان المراد التمثيل للإشراك والتشبيه ثم قال: كأنه قيل فلا تمثلوا الله تعالى ولا تشبهوه، وتعلقها- بتضربوا- على هذا الوجه ثم قال كأنه قيل فلا تمثلوا لله تعالى الأمثال فإن ضرب المثل إنما يستعمل من العالم لغير العالم ليبين له ما خفي عنه والله تعالى هو العالم وأنتم لا تعلمون فتمثيل غير العالم للعالم عكس للحقيقة، وليس بشيء والمعنى الذي ذكره على تقدير تعلقه بالفعل خلاف ما يقتضيه السياق وإن كان التعليل عليه أظهر، ومن هنا قال العلامة المدقق في الكشف في ذلك بعد أن قال إنه نهى عن ضرب الأمثال حقيقة: كأنه أريد المبالغة في أن لا يلحدوا في أسمائه تعالى وصفاته فإنه إذا لم يجز ضرب المثل والاستعارات يكفي فيها شبه ما والإطلاق لتلك العلاقة كاف فعدم جواز إطلاق الأسماء من غير سبق تعليم منه وإثبات الصفات أولى وأولى، ووجه ربط قوله تعالى: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 431 ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا إلخ على هذا عند المدقق أنه تعالى بعد أن نهاهم عن ضرب الأمثال له سبحانه ضرب مثلا دل به على أنهم ليسوا أهلا لذلك وإنهم إذا كانوا على هذا الحد من المعرفة والتقليد أو المكابرة فليس لهم إلى ضرب الأمثال المطابقة المستدعي ذكاء وهداية سبيل، وقال غيره في ذلك ولعله أظهر منه إنه تعالى لما ذكر أنه يعلم كيف تضرب الأمثال وأنهم لا يعلمون علمهم كيف تضرب الأمثال في هذا الباب فقال تعالى: ضَرَبَ إلخ. ووجه الربط على ما تقدم من أن النهي عن الإشراك أنه سبحانه لما نهاهم عن ضرب المثل الفعلي وهو الإشراك عقبه بالكشف لذي البصيرة عن فساد ما ارتكبوه بقوله سبحانه: ضَرَبَ إلخ أي أورد وذكر ما يستدل به على تباين الحال بين جنابه تعالى شأنه وبين ما أشركوه به سبحانه وينادي بفساد ما هم عليه نداء جليا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ بدل من مثلا وتفسير له والمثل في الحقيقة حالته العارضة له من المملوكية والعجز التام ويحسبها ضرب نفسه مثلا ووصف العبد بالمملوكية للتمييز عن الحر لاشتراكهما في كونهما عبدا الله تعالى، وقد أدمج فيه على ما قيل إن الكل عبيد له تعالى وبعدم القدرة لتمييزه عن المكاتب والمأذون اللذين لهما تصرف في الجملة، وفي إبهام المثل أولا ثم بيانه بما ذكر ما لا يخفى من الجزالة وَمَنْ رَزَقْناهُ مَنْ نكرة موصوفة على ما استظهره الزمخشري ليطابق عَبْداً فإنه أيضا نكرة موصوفة وإلى ذلك ذهب أبو البقاء، وقال الحوفي: هي موصولة واستظهره أبو حيان، وزعم بعضهم أن ذلك لكون استعمالها موصولة أكثر من استعمالها موصوفة، والأول مختار الأكثرين أي حرا رزقناه بطريق الملك والالتفات إلى التكلم للاشعار باختلاف حال ضرب المثل والرزق، وفي اختيار ضمير العظمة تعظيم لأمر ذلك الرزق ويزيد ذلك تعظيما قوله سبحانه: مِنَّا أي من جنابنا الكبير المتعالي رِزْقاً حَسَناً حلالا طيبا أو مستحسنا عند الناس مرضيا ويؤخذ منه على ما قيل كونه كثيرا بنا على أن القلة التي هي أخت العدم لا حسن في ذاتها فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ تفضلا وإحسانا، والفاء لترتب الإنفاق على الرزق كأنه قيل: ومن رزقناه منا رزقا حسنا فأنفق وإيثار المنزل من الجملة الاسمية الفعلية الخبر للدلالة على ثبات الإنفاق واستمرار التجددي سِرًّا وَجَهْراً أي حال السر وحال الجهر أو انفاق سر وانفاق جهر والمراد بيان عموم إنفاقه للأوقات وشموله إنعامه لمن يجتنب عن قبوله جهرا. وجوز أن يكون وصفه بالكثرة مأخوذا من هذا بناء أن المراد منه كيف يشاء وهو يدل على أنحاء التصرف وسعة المتصرف منه، وتقديم السر على الجهر للإيذان بفضله عليه، وقد مر الكلام في ذلك والعدول عن تطبيق القرينتين بأن يقال: وحرا مالكا للأموال مع كونه أدل على تباين الحال بينه وبين قسيمه لما في إرشاد العقل السليم من توخي تحقيق الحق بأن الأحرار أيضا تحت ربقة عبوديته تعالى وأن مالكيتهم لما يملكونه ليست إلا بأن يرزقهم الله تعالى إياه من غير أن يكون لهم مدخل في ذلك مع محاولة المبالغة في الدلالة على ما قصد بالمثل من تباين الحال بين الممثلين فإن العبد المملوك حيث لم يكن مثل العبد المالك فما ظنك بالجماد ومالك الملك خلاق العالمين هَلْ يَسْتَوُونَ جمع الضمير وإن تقدمه اثنان وكان الظاهر- يستويان- للإيذان بأن المراد بما ذكر من اتصف بالأوصاف المذكورة من الجنسين المذكورين لا فردان معينان منهما وإن أخرج ابن عساكر. وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الآية نزلت في هشام بن عمرو وهو الذي ينفق ماله سرا وجهرا وفي عبده أبي الجوزاء الذي كان ينهاه والله تعالى أعلم بصحته. وقيل نزلت في عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه وعبد له ولا يصح إسناده كما في البحر، وفيه أنه يحتمل أن يكون الجمع باعتبار أن المراد- بمن- الجمع وأن يكون باعتبار عود الضمير على العبيد والأحرار وإن لم يجر لهما ذكر لدلالة «عبد مملوك» وَمَنْ رَزَقْناهُ عليهما، والمعول عليه ما ذكر أولا، والمعنى هل يستوي العبيد والأحرار الموصوفون بما ذكر من الصفات مع أن الفريقين سيان في البشرية والمخلوقية لله سبحانه وأن ما ينفقه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 432 الأحرار ليس مما لهم دخل في إيجاده ولا تملكه بل هو مما أعطاه الله تعالى إياهم فحيث لم يستو الفريقان فما ظنكم برب العالمين حيث تشركون به ما لا ذليل أذل منه وهو الأصنام، وقيل: إن هذا تمثيل للكافر المخذول والمؤمن الموفق شبه الأول بمملوك لا تصرف له لأنه لإحباط عمله وعدم الاعتداد بأفعاله واتباعه لهواه كالعبد المنقاد الملحق بالبهائم بخلاف المؤمن الموفق، وجعله تمثيلا لذلك مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقتادة ولا تعيين أيضا وإن قيل: إن الآية نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه. وأبي جهل، على أن أبا حيان قال إنه لا يصح إسناد ذلك، هذا ثم اعلم أنهم اختلفوا في العبد هل يصح له ملك أم لا قال في الكشاف: المذهب الظاهر أنه لا يصح وبه قال الشافعي، وقال ابن المنير على ما لخصه في الكشف من كلام طويل إنه يصح له الملك عند مالك: وظاهر الآية تشهد له لأنه أثبت له العجز بقوله تعالى: مَمْلُوكاً ثم نفي القدرة العارضة بتمليك السيد بقوله سبحانه: لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وليس المعنى القدرة على التصرف لأن مقابله وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً والحمل على إخراج المكاتب مع شذوذه إيجاز مع إخلال كما قال إمام الحرمين رحمه الله تعالى في «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها» الحمل على المكاتبة بعيد لا يجوز والمأذون لم يخرج لما مر من أن المراد بالقدرة ما هو، وليس لقائل أن يقول: إنه صفة لازمة موضحة فالأصل في الصفات التقيد اه. وتعقبه المدقق بقوله: والجواب أن المعنى على نفي القدرة عن التصرف فالآية واردة في تمثيل حال الأصنام به تعالى عن ذلك علوا كبيرا وكلما بولغ في حال عجز المشبه به وكمال المقابل دل في المشبه به أيضا على ذلك فالذي يطابق المقام القدرة على التصرف وهو في مقابلة قوله تعالى: يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً وما ذكره لا حاصل له ولا إخلال في إخراج المكاتب لشمول اللفظ مع أن المقام مقام مبالغة فما يتوهم دخوله بوجهه ينبغي أن ينفى وأين هذا مما نقله عن إمام الحرمين اه. واستدل بالآية أيضا على أن العبد لا يملك الطلاق أيضا وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقد أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال: ليس للعبد طلاق إلا بإذن سيده وقرأ الآية وقد فصلت أحكام العبيد في حكم الفقه على أتم وجه الْحَمْدُ لِلَّهِ أي كله له سبحانه لا يستحقه أحد غيره تعالى لأنه جل شأنه المولى للنعم وإن ظهرت على أيدي بعض الوسائط فضلا عن استحقاق العبادة. وفيه إرشاد إلى ما هو الحق من أن ما يظهر على يد من ينفق فيما ذكر راجع إليه تعالى كما لوح به رَزَقْناهُ وقال غير واحد هذا حمد على ظهور المحجة وقوة هذه الحجة بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ما ذكر فيضيفون نعمه تعالى إلى غيره ويعبدونه لأجلها أو لا يعلمون ظهور ذلك وقوة ما هنالك فيبقون على شركهم وضلالهم، ونفي العلم عن أكثرهم للإشعار بأن بعضهم يعلمون ذلك وإنما لم يعملوا بموجبه عنادا وقيل: المراد بالأكثر الكل فكأنه قيل: هم لا يعلمون، وقيل: ضمير هم للخلق والأكثر هم المشركون، وكلا القولين خلاف الظاهر. وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا أي مثلا آخر يدل على ما يدل عليه المثل السابق على وجه أظهر وأوضح، وأبهم ثم بين بقوله تعالى: رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لما تقدم والبكم الخرس المقارن للخلقة ويلزمه الصمم فصاحبه لا يفهم لعدم السمع ولا يفهم غيره لعدم النطق، والإشارة لا يعتد بها لعدم تفهيمها حق التفهيم لكل أحد فكأنه قيل: أحدهما أخرس أصم لا يفهم ولا يفهم لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ من الأشياء المتعلقة بنفسه أو غيره بحدس أو فراسة لسوء فهمه وإدراكه وَهُوَ كَلٌّ ثقيل وعيال عَلى مَوْلاهُ على من يعوله ويلي أمره، وهذا بيان لعدم قدرته على إقامة مصالح نفسه بعد ذكر عدم قدرته مطلقا، وقوله سبحانه: أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ أي حيثما يرسله مولاه في أمر لا يأت بنجح وكفاية مهم، بيان لعدم قدرته على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 433 مصالح مولاه. وقرأ عبد الله في رواية «توجهه» على الخطاب، وقرأ علقمة. وابن رئاب. ومجاهد. وطلحة وهي رواية أخرى عن عبد الله «يوجه» بالبناء للفاعل والجزم، وخرج على أن الفاعل يعود على المولى والمفعول محذوف وهو ضمير الأبكم أي يوجهه، ويجوز أن يكون ضمير الفاعل عائدا على الأبكم ويكون الفعل لازم وجه بمعنى توجه، وعلى ذلك جاء قول الأضبط بن قريع السعدي: أينما أوجه ألق سعدا وعن علقمة وعائشة وابن وثاب أيضا «يوجه» بالجزم والبناء للمفعول، وفي رواية أخرى عن علقمة. وطلحة أنهما قرءا «يوجه» بكسر الجيم وضم الهاء، قال صاحب اللوامح: فإن صح ذلك فالهاء التي هي لام الفعل محذوفة فرارا من التضعيف أو لم يرد- بأينما- الشرط، والمراد أينما هو يوجه وقد حذف منه ضمير المفعول به فيكون حذف الياء من آخر «يأت» للتخفيف، وتعقبه أبو حيان بأن أين لا تخرج عن الشرط أو الاستفهام. ونقل عن أبي حاتم أن هذه القراءة ضعيفة لأن الجزم لازم، ثم قال: والذي توجه به هذه القراءة أن أَيْنَما شرط حملت على إذا بجامع ما اشتركا فيه من الشرط ثم حذفت ياء يَأْتِ تخفيفا أو جزم على توهم أنه جيء بأينما جازمة كقراءة من قرأ- إنه من يتقي ويصبر- في أحد الوجهين، ويكون معنى يوجه يتوجه كما مر آنفا هَلْ يَسْتَوِي هُوَ أي ذلك الأبكم الموصوف بتلك الصفات المذكورة وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ومن هو منطيق فهم ذو رأي ورشد يكفي الناس في مهماتهم وينفعهم بحثهم على العدل الجامع لمجامع الفضائل وَهُوَ في نفسه مع ما ذكر من نفعه الخاص والعام عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ لا يتوجه إلى مطلب إلا ويبلغه بأقرب سعي، فالجملة حالية مبنية لكماله في نفسه ولما كان ذلك مقدما على تكميل الغير أتى بها اسمية فإنها تشعر بذلك مع الثبوت إلى مقارنة ذي الحال. فلا يقال: الأنسب تقديمها في النظم الكريم، ومقابلة تلك الصفات الأربع بهذين الوصفين لأنهما كمال ما يقابلها ونهايته فاختير آخر صفات الكامل المستدعية لما ذكر وأزيد حيث جعل هاديا مهديا، وتغيير الأسلوب حيث لم يقل: والآخر يأمر بالعدل الآية لمراعاة الملاءمة بينه وبين ما هو المقصود من بيان التباين بين الفريقين، ويقال هنا كما قيل في المثل السابق: إنه حيث لم يستو الفريقان في الفضل والشرف مع استوائهما في الماهية والصورة فلأن يحكم بأن الصنم الذي لا ينطق ولا يسمع وهو عاجز لا يقدر على شيء كل على عابده يحتاج إلى أن يحمله ويضعه ويمسح عنه الأذى إذا وقع عليه ويخدمه وإن وجهه إلى أي مهم من مهماته لا ينفعه ولا يأت له به لا يساوي رب العالمين وهو- هو- في استحقاق المعبودية أحرى وأولى، وقيل: هذا تمثيل للمؤمن والكافر فالأبكم هو الكافر ومن يأمر بالعدل هو المؤمن، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وإيّا ما كان فليس المراد- برجلين- رجلان معينان بل رجلان متصفان بما ذكر من الصفات مطلقا، وما روي من أن الأبكم أبو جهل والآمر بالعدل عمار أو الأبكم أبي بن خلف والآمر عثمان بن مظعون فقال أبو حيان: لا يصح إسناده، وما أخرج ابن جرير. وابن عساكر. وغيرهما عن ابن عباس أنه قال: نزلت هذه الآية وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ إلخ في عثمان بن عفان ومولى له كافر وهو أسيد بن أبي العيص كان يكره الإسلام وكان عثمان ينفي عليه ويكفله ويكفيه المئونة وكان الآخر ينهاه عن الصدقة والمعروف فنزلت فيهما فبعد تحقق صحته لا يضرنا في إرادة الموصوفين مطلقا بحيث يدخل فيهما من ذكر فقد صرحوا بأن خصوص السبب لا ينافي العموم. هذا وقد اقتصر شيخ الإسلام على كون الغرض من التمثيلين نفي المساواة بينه جل جلاله وبين ما يشركون، وهو دليل على أنه مختاره ثم قال: اعلم أن كلا الفعلين ليس المراد بهما حكاية الضرب الماضي بل المراد إنشاؤه بما ذكر عقيبه، ولا يبعد أن يقال: إن الله تعالى ضرب مثلا بخلق الفريقين على ما هما عليه فكان خلقهما كذلك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 434 للاستدلال بعدم تساويهما على امتنان التساوي بينه سبحانه وتعالى وبين ما يشركون فيكون كل من الفعلين حكاية للضرب الماضي اه، ولا يخفى أنه لا كلام في حسن اختياره لكن في النفس من قوله لا يبعد شيء. وَلِلَّهِ تعالى خاصة لا لأحد غيره استقلالا ولا اشتراكا غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي جميع الأمور الغائبة عن علوم المخلوقين بحيث لا سبيل لهم إلى إدراكها حسا ولا فهمها عقلا، ومعنى الإضافة إليهما التعلق بهما إما باعتبار الوقوع فيهما حالا أو مآلا وإما باعتبار الغيبة عن أهلهما، ولا حاجة إلى تقدير هذا المضاف. والمراد بيان الاختصاص به تعالى من حيث المعلومية وحسبما ينبئ عنه عنوان الغيبة لا من حيث المخلوقية والمملوكية وإن كان الأمر كذلك في نفس الأمر، وفيه- كما في إرشاد العقل السليم- إشعار بأن علمه تعالى حضوري وأن تحقق الغيوب في نفسها بالنسبة إليه سبحانه وتعالى ولذلك لم يقل تعالى: ولله علم غيب السموات والأرض، وقيل: المراد بغيب السموات والأرض ما في قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ [لقمان: 34] الآية، وقيل: يوم القيامة، ولا يخفى أن القول بالعموم أولى. وَما أَمْرُ السَّاعَةِ التي هي أعظم ما وقع فيه المماراة من الغيوب المتعلقة بالسماوات والأرض من حيث الغيبة عن أهلهما أو ظهور آثارها فيهما عند وقوعها أي وما شأنها في سرعة المجيء إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أي كرجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها. وفي البحر اللمح النظر بسرعة يقال: لمحه لمحا ولمحانا إذا نظره بسرعة أَوْ هُوَ أي أمرها أَقْرَبُ أي من ذلك وأسرع بأن يقع في بعض أجزاء زمانه فإن رجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها وإن قصر حركة أينية لها هوية اتصالية منطبقة على زمان له هو كذلك قابل للانقسام إلى أبعاض هي أزمنة أيضا بل بأن يقع فيما يقال له آن وهو جزء غير منقسم من أجزاء الزمان كآن ابتدائية الحركة، و «أو» قال الفراء: بمعنى بل. ورده في البحر بأن بل للإضراب وهو لا يصح هنا بقسميه، أما الإبطال فلأنه يؤول إلى أن الحكم السابق غير مطابق فيكون الإخبار به كذبا والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك، وأما الانتقال فلأنه يلزمه التنافي بين الإخبار بكونه مثل لمح البصر وكونه أقرب فلا يمكن صدقهما معا ويلزم الكذب المحال أيضا. وأجيب باختبار الثاني ولا تنافي بين تشبيهه في السرعة بما هو غاية ما يتعارفه الناس في بابه وبين كونه في الواقع أقرب من ذلك، وهذا بناه على أن الغرض من التشبيه بيان سرعته لا بيان مقدار زمان وقوعه وتحديده. وأجيب أيضا بما يصححه بشقيه وهو أنه ورد على عادة الناس يعني أن أمرها إذا سئلتم عنها أن يقال فيه: وهو كلمح البصر ثم يضرب عنه إلى ما هو أقرب. وقيل: هي للتخيير. ورده في البحر أيضا بأنه إنما يكون في المحظورات كخذ من مالي دينارا أو درهما أو في التكليفات كآية الكفارات. وأجيب بأن هذا مبني على مذهب ابن مالك من أن أَوْ تأتي للتخيير وأنه غير مختص بالوقوع بعد الطلب بل يقع في الخبر ويكثر في التشبيه حتى خصه بعضهم به. وفي شرح الهادي اعلم أن التخيير والإباحة مختصان بالأمر إذ لا معنى لهما في الخبر كما أن الشك والإبهام مختصان بالخبر. وقد جاءت الإباحة في غير الأمر كقوله تعالى: كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً إلى قوله سبحانه: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ [البقرة: 17- 19] أي بأي هذين شبهت فأنت مصيب وكذا إن شبهت بهما جميعا، ومثله في الشعر كثير، وقيل: إن المراد تخيير المخاطب بعد فرض الطلب والسؤال فلا حاجة إلى البناء على ما ذكر، وهو كما ترى، وزعم بعضهم أن التخيير مشكل من جهة أخرى وهي أن أحد الأمرين من كونه كلمح البصر أو أقرب غير مطابق للواقع فكيف يخبر الله تعالى بين ما لا يطابقه، وفيه أن المراد التخيير في التشبيه وأي ضرر في عدم وقوع المشبه به بل قد يستحسن فيه عدم الوقوع كما في قوله: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 435 أعلام ياقوت نشر ... ن على رماح من زبرجد وقال ابن عطية: هي للشك على بابها على معنى أنه لو اتفق أن يقف على أمرها شخص من البشر لكانت من السرعة بحيث يشك هل هو كلمح البصر أو أقرب. وتعقبه في البحر أيضا بأن الشك بعيد لأن هذا إخبار من الله تعالى عن أمر الساعة والشك مستحيل عليه سبحانه أي فلا بد أن يكون ذلك بالنسبة إلى غير المتكلم، وفي ارتكابه بعد، ويدل على أن هذا مراده تعليله البعد بالاستحالة فليس اعتراضه مما يقضي منه العجب كما توهم، وقال الزجاج: هي للإبهام وتعقب بأنه لا فائدة في إبهام أمرها في السرعة وإنما الفائدة في إبهام وقت مجيئها. وأجيب بأن المراد أنه يستبهم على من يشاهد سرعتها هل هي كلمح البصر أو أقل فتدبر. والمأثور عن ابن جريج أنها بمعنى بل وعليه كثيرون، والمراد تمثيل سرعة مجيئها واستقرابه على وجه المبالغة، وقد كثر في النظم مثل هذه المبالغة، ومنه قول الشاعر: قالت له البرق وقالت له الري ... ح جميعا وهما ما هما أأنت تجري معنا قال إن ... نشطت أضحكتكما منكما إن ارتداد الطرف قد فته ... إلى المدى سبقا فمن أنتما وقيل: المعنى وما أمر إقامة الساعة المختص علمها به سبحانه وهي إماتة الأحياء وإحياء الأموات من الأولين والآخرين وتبديل صور الأكوان أجمعين وقد أنكرها المنكرون وجعلوها من قبيل ما لا يدخل تحت دائرة الإمكان في سرعة الوقوع وسهولة التأتي إلا كلمح البصر أو هو أقرب على ما مر من الأقوال في أَوْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ومن جملة الأشياء أن يجيء بها في أسرع ما يكون فهو قادر على ذلك، وتقول على الثاني: ومن جملة ذلك أمر إقامتها فهو سبحانه قادر عليه فالجملة في موضع التعليل. وفي الكشف على تقدير عموم الغيب وشموله لجميع ما غاب في السموات والأرض إن قوله تعالى: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ كالمستفاد من الأول وهو كالتمهيد له أي يختص به علم كل غيب الساعة وغيرها فهو الآتي بها للعلم والقدرة، ولهذا عقب بقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ إلخ، وأما إذا أريد بالغيب الساعة فهو ظاهر اه. ولا يخفى الحال على القول بأن المراد بالغيب ما في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ [لقمان: 34] الآية، وعلى القول الأخير في الغيب يكون ذكر الساعة من وضع الظاهر موضع الضمير لتقوية مضمون الجملة. وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ عطف على قوله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً [النحل: 72] منتظم معه في سلك أدلة التوحيد، ويفهم من قول العلامة الطيبي أنه تعالى عقب قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ بقوله جل وعلا: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ إلخ معطوفا بالواو إيذانا بأن مقدوراته تعالى لا نهاية لها والمذكور بعض منها أن العطف على قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ إلخ، والذي تنبسط له النفس هو الأول. والأمهات بضم الهمزة (1) وفتح الهمزة جمع أم والهاء فيه مزيدة وكثر زيادتها فيه وورد بدونها، والمعنى في الحالين واحد، وقيل: ذو الزيادة للأناسي والعاري عنها للبهائم، ووزن المفرد فعل لقولهم الأمومة، وجاء بالهاء كقول قصي بن كلاب عليهما الرحمة:   (1) قوله: وفتح الهمزة كذا بخط المؤلف ولعله سبق قلم وصوابه وفتح الميم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 436 أمهتي خندف والياس أبي وهو قليل، وأقل من ذلك زيادة الهاء في الفعل كما قيل في إهراق، وفيه بحث فارجع إلى الصحاح وغيره. وقرأ حمزة بكسر الهمزة والميم هنا، وفي الزمر، والنجم. والروم، والكسائي بكسر الميم فيهن والأعمش بحذف الهمزة وكسر الميم، وابن أبي ليلى بحذفها وفتح الميم، قال أبو حاتم: حذف الهمزة رديء ولكن قراءة ابن أبي ليلى أصوب، وكانت كذلك على ما في البحر لأن كسر الميم إنما هو لإتباعها حركة الهمزة فإذا كانت الهمزة محذوفة زال الإتباع بخلاف قراءة ابن أبي ليلى فإنه أقر الميم على حركتها لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً في موضع الحال وشَيْئاً منصوب على المصدرية أو مفعول تَعْلَمُونَ، والنفي منصب عليه، والعلم بمعنى المعرفة أي غير عارفين شيئا أصلا من حق المنعم وغيره، وقيل: شيئا من منافعكم، وقيل: مما قضى عليكم من السعادة أو الشقاوة، وقيل: مما أخذ عليكم من الميثاق في أصلاب آبائكم، والظاهر العموم ولا داعي إلى التخصيص. وعن وهب يولد المولود خدرا إلى سبعة أيام لا يدرك راحة ولا ألما. وادعى بعضهم أن النفس لا تخلو في مبدأ الفطرة عن العلم الحضوري وهو علمها بنفسها إذ المجرد لا يغيب عن ذاته أصلا، فقد قال الشيخ في بعض تعليقاته عند إثبات تجرد النفس: إنك لا تغفل عن ذاتك أصلا حال من الأحوال ولو في حال النوم والسكر، ولو جوز أن يغفل عن ذاته في بعض الأحوال حتى لا يكون بينه وبين الجماد في هذه الحالة فرق فلا يجدي هذا البرهان معه، وقال بهمنيار في التحصيل في فصل العقل والمعقول: ثم إن النفس الإنسانية تشعر بذاتها فيجب أن يكون وجودها عقليا فيكون نفس وجودها نفس إدراكها ولهذا لا تعزب عن ذاتها البتة، ومثله في الشفاء، وأنت تعلم أن عدم الخلو مبني على مقدمات خفية كتجرد النفس الذي أنكره الطبيعيون عن آخرهم وإن كل مجرد عالم ولا يتم البرهان عليه، وأيضا ما نقل من أن علم النفس بذاتها عين ذاتها لا ينافي أن يكون لكون الذات علما بها شرط فما لم يتحقق ذلك لا شرط لم تكن الذات علما بها كما أن لكون المبدأ الفياض خزانة لمعقولات زيد مثلا شرطا إذا تحقق تحقق وإلا فلا، ويؤيد ذلك أن علم النفس بصفاتها أيضا نفس صفاتها عندهم ومع ذلك يجوز الغفلة عن الصفة في بعض الأحيان كما لا يخفى. وأيضا إذا قلنا: إن حقيقة الذات غير غائبة عنها، وقلنا: إن ذلك علم بها يلزم أن يكون حقيقة النفس المجردة معلومة لكل أحد ومن البين أنه ليس كذلك، على أن المحقق الطوسي قد منع قولهم: إنك لا تغفل عن ذاتك أبدا، وقال: إن المغمى عليه ربما غفل عن ذاته في وقت الإغماء، ومثله كثير من الأمراض النفسانية، ومن العجائب أن بعض الأجلة ذكر أن المراد بخلوها في مبدأ الفطرة خلوها حال تعلقها بالبدن، وقال: إنه لا ينافي ذلك ما قاله الشيخ من أن الطفل يتعلق بالثدي حال التولد بإلهام فطري لأن حال التعلق سابق على ذلك وذلك بعد أن ذكر أن الخلو في مبدأ الفطرة إنما يظهر لذوي الحدس بملاحظة حال الطفل وتجارب أحواله ووجه العجب ظاهر فافهم ولا تغفل. وتفسير العلم بالمعرفة مما ذهب إليه غير واحد، وفي أمالي العز لا يجوز أن يجعل باقيا على بابه ويكون شَيْئاً مصدرا أي لا تعلمون علما لوجهين. الأول أنه يلزم حذف المفعولين وهو خلاف الأصل. الثاني أنه لو كان باقيا على بابه لكان الناس يعلمون المبتدأ الذي هو أحد المفعولين قبل الخروج من البطون وهو محال لاستحالة العلم على من لم يولد، بيان ذلك أنا إذا قلنا: علمت زيدا مقيما يجب أن يكون العلم بزيد متقدما قبل هذا العلم وهذا العلم إنما يتعلق بإقامته، وكذلك إذا قلت: ما علمت زيدا مقيما فالذي لم يعلم هو إقامة زيد وأما هو فمعلوم وذلك مستفاد من جهة الوضع فحيث أثبت العلم أو نفي فلا بد أن يكون الأول معلوما فيتعين حمل العلم على المعرفة اه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 437 ويعلم منه عدم استقامة جعل العلم على بابه، وشَيْئاً مفعوله الأول والمفعول الثاني محذوف. وقوله تعالى: وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ يحتمل أن يكون جملة ابتدائية ويحتمل أن يكون معطوفا على الجملة الواقعة خبرا والواو لا تقتضي الترتيب، ونكتة تأخيره أن السمع ونحوه من آلات الإدراك إنما يعتد به إذا أحس وأدرك وذلك بعد الإخراج، وجعل إن تعدى لواحد بأن كان بمعنى خلق- لكم- متعلق به وإن تعدى لاثنين بأن كان بمعنى صير فهو مفعوله الثاني، وتقديم الجار والمجرور على المنصوبات لما مر غير مرة. والمعنى جعل لكم هذه الأشياء آلات تحصلون بها العلم والمعرفة بأن تحسوا بمشاعركم جزئيات الأشياء وتدركوها بأفئدتكم وتنتبهوا لما بينها من المشاركات والمباينات بتكرير الإحساس فيحصل لكم علوم بديهية تتمكنون بالنظر فيها من تحصيل العلوم الكسبية، وهذا خلاصة ما ذكره الإمام في هذا المقام ومستمد ما ذهب إليه الكثير من الحكماء من أن النفس في أول أمرها خالية عن العلوم فإذا استعملت الحواس الظاهرة أدركت بالقوة الوهمية أمورا جزئية بمشاركات ومباينات جزئية بينها فاستعدت لأن يفيد عليها المبدأ الفياض المشاركات الكلية، ويثبتون للنفس أربع مراتب. مرتبة العقل الهيولاني. ومرتبة العقل بالملكة. ومرتبة العقل بالفعل ومرتبة العقل المستفاد، ويزعمون أن النفس لا تدرك الجزئي المادي، ولهم في هذا المقام كلام طويل وبحث عريض. وأهل السنة يقولون: إن النفس تدرك الكلي والجزئي مطلقا باستعمال المشاعر وبدونه كما فصل في محله، وتحقيق هذا المطلب بما له وما عليه يحتاج إلى بسط كثير، وقد عرض والمستعان بالحي القيوم جل جلاله وعم نواله من الحوادث الموجبة لاختلال أمر الخاصة والعامة ما شوش ذهني وحال بين تحقيق ذلك وبيني، أسأل الله سبحانه أن يمن علينا بما يسر الفؤاد وييسر لنا ما يكون عونا على تحصيل المراد وبالجملة المأثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في هذه الآية أنه قال: يريد سبحانه أنه جعل لكم ذلك لتسمعوا مواعظ الله تعالى وتبصروا ما أنعم الله تعالى به عليكم من إخراجكم من بطون أمهاتكم إلى أن صرتم رجالا وتعقلوا عظمته سبحانه. وقيل المعنى جعل لكم السمع لتسمعوا به نصوص الكتاب والسنة التي هي دلائل سمعية لتستدلوا بها على ما يصلحكم في أمر دينكم والأبصار لتبصروا بها عجائب مصنوعاته تعالى وغرائب مخلوقاته سبحانه فتستدلوا بها على وحدانيته جل وعلا. والافئدة لتعقلوا بها معاني الأشياء التي جعلها سبحانه دلائل لكم، والسمع والأبصار على هذين القولين على ظاهرهما ولم نر من جوز إخراجهما عن ذلك. وجوز أن يراد بهما الحواس الظاهرة على الأول، والأفئدة جمع فؤاد وهو وسط القلب وهو من القلب كالقلب من الصدر، وهذا الجمع على ما في الكشاف من جموع القلة الجارية مجرى جموع الكثرة والقلة إذا لم يرد في السماع غيرهما كما جاء شسوع في جمع شسع لا غير فجرى ذلك المجرى، وقال الزجاج: لم يجمع فؤاد على أكثر العدد وربما قيل: أفئدة وفئدان كما قيل: أغربة وغربان في جمع غراب، وفي التفسير الكبير لعل الفؤاد إنما جمع على بناء القلة تنبيها على أن السمع والبصر كثير وأما الفؤاد فقليل لأنه إنما خلق للمعارف الحقيقية والعلوم اليقينية وأكثر الخلق ليس لهم ذلك بل يكونون مشتغلين بالأفعال البهيمية والصفات السبعية فكأن فؤادهم ليس بفؤاد فلذا ذكر في جمعه جمع القلة اه، ويرد عليه الأبصار فإنه جمع قلة أيضا. وفي البحر بعد نقله أنه قول هذياني ولولا جلالة قائله لم نسطره في الكتب وإنما يقال في هذا ما قاله الزمخشري مما ذكر سابقا إلا أن قوله: لم يجيء في جمع شسع إلا شسوع ليس بصحيح بل جاء فيه اشساع جمع قلة على قلة اه فاحفظ ولا تغفل. وزعم بعضهم أن الفؤاد إنما يدرك ما ليس بمحدود بنحو أين وكيف وكم وغير ذلك وإن لكل مدرك قوة مدركة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 438 له تناسبه لا يمكن أن يدرك بغيرها على نحو المحسوسات الظاهرة من الأصوات والألوان والطعوم ونحوها والحواس الظاهرة من السمع والبصر والذوق إلى غير ذلك وهو كما ترى. وإفراد السمع باعتبار أنه مصدر في الأصل، وقيل: إنما أفرد وجمع الأبصار للإشارة إلى أن مدركاته نوع واحد ومدركات البصر أكثر من ذلك وتقديمه لما أنه طريق تلقي الوحي أو لأن إدراكه أقدم من إدراك البصر، وقيل: لأن مدركاته أقل من مدركاته، والخلاف في الأفضل منهما شهير وقد مر، وتقديمها على الأفئدة المشار بها إلى العقل لتقدم الظاهر على الباطن أو لأن لهما مدخلا في إدراكه في الجملة بل هما من خدمه والخدم تتقدم بين يدي السادة، وكثير من السنن أمر بتقديمه على فروض العبادة أو لأن مدركاتهما أقل قليل بالنسبة إلى مدركاته كيف لا ومدركاته لا تكاد تحصى وإن قيل: إن للعقل حدا ينتهي إليه كما أن للبصر حدا كذلك، واستأنس بعضهم بذكر ما يشير إليه فقط دون ضم ما يشير إلى سائر المشاعر الباطنة إليه لنفي الحواس الخمس الباطنة التي أثبتها الحكماء بما لا يخلو عن كدر، وتفصيل الكلام في محله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ كي تعرفوا ما أنعم سبحانه به عليكم طورا غب طور فتشكروه، وقيل: المعنى جعل ذلك كي تشكروه تعالى باستعمال ما ذكر فيما خلق لأجله أَلَمْ يَرَوْا وقرأ حمزة. وابن عامر. وطلحة. والأعمش، وابن هرمز الم تروا بالتاء الفوقية على أنه خطاب العامة، والمراد بهم جميع الخلق المخاطبون قبل في قوله تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا على أن المخاطب من وقع في قوله تعالى: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بتلوين الخطاب لأنه المناسب للاستفهام الإنكاري ولذا جعل قراءة الجمهور بياء الغيبة باعتبار غيبة يَعْبُدُونَ ولم يجعلوا ذلك التفاتا وحينئذ فالإنكار باعتبار اندراجهم في العامة، والرؤية بصرية أي ألم ينظروا إِلَى الطَّيْرِ جمع طائر كركب وراكب ويقع على الواحد أيضا وليس بمراد ويقال في الجمع أيضا طيور وأطيار مُسَخَّراتٍ مذللات للطيران، وفيه إشارة إلى أن طيرانها ليس بمقتضى طبعها فِي جَوِّ السَّماءِ أي في الهواء المتباعد من الأرض واللوح والسكاك أبعد منه، وقيل: الجو مسافة ما بين السماء والأرض والجو لغة فيه، وإضافته إلى السماء لما أنه في جانبها من الناظر ولإظهار كمال القدرة، وعن السدي تفسير الجو بالجوف وفسرت السماء على هذا بجهة العلو والطير قد يطير في هذه الجهة حتى يغيب عن النظر ولم يعلم منتهى ارتفاعه في الطيران إلا الله تعالى، وعن كعب أن الطير لا ترتفع أكثر من اثني عشر ميلا. ما يُمْسِكُهُنَّ في الجو عن الوقوع إِلَّا اللَّهُ عز وجل بقدرته الواسعة فإنّ ثقل جسدها ورقة الهواء يقتضيان سقوطها ولا علاقة من فوقها ولا دعامة من تحتها، والجملة إما حال من الضمير المستتر في مُسَخَّراتٍ أو من الطَّيْرِ وإما مستأنفة إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكر من التسخير في الجو والإمساك فيه، وقيل: المشار إليه ما اشتملت عليه هذه الآية والتي قبلها لَآياتٍ دالة على كمال قدرته جل شأنه لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي من شأنهم أن يؤمنوا، وخص ذلك بهم لأنهم المنتفعون به، واقتصر الإمام على جعل المشار إليه ما في هذه الآية قال: وهذا دليل على كمال قدرة الله تعالى وحكمته سبحانه فإنه جل شأنه خلق الطائر خلقة معها يمكنه الطيران أعطاه جناحا يبسطه مرة ويكنه أخرى مثل ما يعمل السابح في الماء وخلق الجو خلقة معها يمكن الطيران خلقه خلقة لطيفة يسهل بسببها خرقه والنفاذ فيه ولولا ذلك لما كان الطيران ممكنا اه. وكذا المولى أبو السعود قال: إن في ذلك الذي ذكر من تسخير الطير للطيران بأن خلقها خلقة تتمكن بها منه بأن جعل لها أجنحة خفيفة وأذنابا كذلك وجعل أجسادها من الخفة بحيث إذا بسطت أجنحتها وأذنابها لا يطيق ثقلها أن يخرق ما تحتها من الهواء الرقيق القوام وتخرق ما بين يديها من الهواء لأنها لا تلاقيه بحجم كبير لآيات ظاهرة، وذكر أن تسخيرها بما خلق لها من الأجنحة والأسباب المساعدة. وتعقب ذلك أبو حيان بقوله: والذي نقوله إنه كان يمكن الطائر أن يطير ولو لم يخلق له جناح وإنه كان يمكنه خرق الشيء الكثيف وذلك بقدرة الله تعالى ولا نقول: إنه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 439 لولا الجناح ولطف الجو والآلات ما أمكن الطيران اه وأنا لا أظن أن أحدا ينفي الإمكان الذاتي للطيران بدون الجناح مثلا لكن لا يبعد نفيه بدون لطف المطار والكثير متى خرق كان المطار لطيفا فافهم. واستدل بالآية على أن العبد خالق لأفعاله، وأولها القاضي وهو ارتكاب لخلاف الظاهر لغير دليل. وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ معطوف على ما مر، وتقديم لَكُمْ على ما بعده للتشويق والإيذان من أول الأمر بأن هذا الجعل لمنفعتهم، وقوله تعالى: مِنْ بُيُوتِكُمْ تبيين لذلك المجعول المبهم في الجملة وتأكيد لما سبق من التشويق والإضافة للعهد أي من بيوتكم المعهود التي تبنونها من الحجر والمدر والأخشاب سَكَناً فعل بمعنى مفعول كنقض وأنشد الفراء: جاء الشتاء ولما أتخذ سكنا ... يا ويح نفسي من حفر القراميص وليس بمصدر كما ذهب إليه ابن عطية أي موضعا تسكنون فيه وقت إقامتكم، وجوز أن يكون المعنى تسكنون إليه من غير أن ينتقل من مكانه أي جعل بعض بيوتكم بحيث تسكنون إليه وتطمئنون به. وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً أي بيوتا أخر مغايرة لبيوتكم المعهودة وهي القباب المتخذة من الأدم والظاهر أنه لا يندرج في هذه البيوت البيوت المتخذة من الشعر والصوف والوبر، وقال ابن سلام وغيره: بالاندراج لأنها من حيث إنها ثابتة على جلودها يصدق عليها أنها من جلودها. واعترض بأن مِنْ على الأول تبعيضية وعلى إرادة البيوت التي من الشعر ونحوه ابتدائية. فإذا عمم ذلك يلزم استعمال المشترك في معنييه وأجيب بأن القائل بذلك لعله يرى جواز هذا الاستعمال، وممن قال بذلك البيضاوي وهو شافعي. وقيل: الجلود مجاز عن المجموع تَسْتَخِفُّونَها أي تجدونها خفيفة سهلة المأخذ فالسين ليست للطلب بل للوجدان كأحمدته وجدته محمودا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وقت ترحالكم في النقض والحمل وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ ووقت نزولكم وإقامتكم في مسايركم حسبما يتفق في الضرب والبناء، وجوز أن يكون المعنى تجدونها خفيفة في أوقات السفر وفي أوقات الحضر، واختار ابن المنير الأول وقال: إنه التفسير لأن المنة في خفتها في السفر أتم وأقوى إذ لا يهم المقيم أمرها، قال في الكشف: وهو حق، وقال بعض الفضلاء: ينبغي أن يكون الثاني أولى للعموم فإن حالتي السفر اندرجتا في يوم ظعنكم حيث أريد به مقابل الحضر والخفة على المقيم نعمة في حقه أيضا فإنه يضربها وقد ينقلها من مكان إلى مكان قريب لداع يدعو إليه فالأولى أن لا تخلو الآية عن التعرض لذلك اه ولا يخفى أن الاندراج ظاهر إن أريد بالظعن مقابل الحضر وأما إذا أريد به مقابل النزول كما سمعت فغير ظاهر. نعم يجوز إرادة ذلك، وقرأ الحرميان. وأبو عمرو «ظعنكم» بفتح العين. وباقي السبعة بسكونها وهما لغتان والفتح على ما في المعالم أجزلهما، وقيل: الأصل الفتح والسكون تخفيف لأجل حرف الحلق كالشعر والشعر. وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها عطف على قوله تعالى: ومِنْ جُلُودِ والضمير للأنعام على وجه التنويع أي وجعل لكم من أصواف الضأن وأوبار الإبل وأشعار المعز أَثاثاً أي متاع البيت كالفرش وغيرها كما قال المفضل، قال الفراء: لا واحد له من لفظه كما أن المتاع كذلك ولو جمعت قلت: أأثثة في القليل وأثث في الكثير. وقال أبو زيد: واحدة أثاثة وأصله- كما قال الخليل- من قولهم: أثث النبات والشعر وهو أثيث إذا كثر قال امرؤ القيس: وفرع يزين المتن أسود فاحم ... أثيث كقنو النخلة المتعثكل ونصبه على أنه معطوف على بُيُوتاً مفعول جعل فيكون مما عطف فيه جار ومجرور مقدم ومنصوب على مثلهما نحو ضربت في الدار زيدا وفي الحجرة عمرا وهو جائز وليس بمستقبح كما زعم في الإيضاح. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 440 وجوز أن يكون نصبا على الحال فيكون من عطف الجار والمجرور فقط على مثله أي وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها حال كونها أثاثا. وتعقبه السمين بأن المعنى ليس على هذا وهو ظاهر. وَمَتاعاً أي شيثا يتمتع به وينتفع في المتجر والمعاش قاله المفضل، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المتاع الزينة، وقال الخليل: الأثاث والمتاع واحد، والعطف لتنزيل تغاير اللفظ منزلة تغاير المعنى كما في قوله: وألفى قولها كذبا ومينا. والأول أولى إِلى حِينٍ إلى انقضاء حاجاتكم منه، وعن مقاتل إلى بلى ذلك وفنائه وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إلى الموت، والكلام في ترتيب المفاعيل مثله فيما مر غير مرة. وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ من غير صنع منكم ظِلالًا أشياء تستظلون بها من الغمام والشجر والجبال وغيرها وهو الذي يقتضيه الظاهر وروي ذلك عن قتادة، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد الاقتصار على الغمام، وعن الزجاج وقتادة أيضا الاقتصار على الشجر، وعن ابن قتيبة الاقتصار على الشجر والجبال ولعل كل ذلك من باب التمثيل، وعن ابن السائب أن المراد ظلال البيوت وهو كما ترى، ومن سبحانه بما ذكر لأن تلك الديار كانت غالبة الحرارة وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً مواضع تستكنون فيها من الغيران ونحوها، والواحد كن وأصله السترة من أكنه وكنه أي ستره ويجمع على أكنان وأكنة. وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ جمع سربال وهو كل ما يلبس أي جعل لكم لباسا من القطن والكتان والصوف وغيرها تَقِيكُمُ الْحَرَّ خصه بالذكر كما قال المبرد اكتفاء بذكر أحد الضدين عن الآخر أعني البرد، ولم يخص هو بالذكر اكتفاء لأن وقاية الحر أهم عندهم لما مر آنفا. وقال بعضهم: من الرأس خص الحر بالذكر لأن وقايته أهم. وتعقب دعوى الأهمية بأنه يبعدها ذكر وقاية البرد سابقا في قوله تعالى: لَكُمْ فِيها دِفْءٌ ثم قيل: وهذا وجه الاقتصار على الحر هنا لتقدم ذكر خلافه ثمت. واعترض بأنا لا نسلم أن إثبات الدفء هناك يبعد دعوى الأهمية بل في تغاير الأسلوبين ما يشعر بهذه الأهمية، وقال الزجاج: خص الحر بالذكر لأن ما يقي من الحر يقي من البرد، وذكر ذلك الزمخشري بعد ذكر الأهمية، وقال في الكشف: هو الوجه، وتخصيص الحر بالذكر لما قدمه في الوجه الأول يعني الأهمية، وما قيل: من أولوية الأول لقوله تعالى: مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا فليس بشيء لأنه تعالى عقبه بقوله سبحانه مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً كيف وهو في مقام الاستيعاب اه، وصاحب القيل هو ابن المنير، وقد اعترض أيضا على قوله: إن ما يقي من الحر يقي من البرد بأنه خلاف المعروف فإن المعروف أن وقاية الحر رقيق القمصان ورفيعها ووقاية البرد ضده ولو لبس الإنسان في كل واحد من الفصلين القيظ والشتاء لباس الآخر لعد من الثقلاء اه فتدبر. وَسَرابِيلَ من الجواشن والدروع تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ أي البأس الذي يصل من بعضكم إلى بعض في الحروب من الضرب والطعن، وقال بعضهم: أصل البأس الشدة وأريد به هنا الحرب، والكلام على حذف مضاف أي أذى بأسكم، وعلى الأول لا حاجة إليه وقد رجح لذلك كَذلِكَ أي مثل ذلك الإتمام للنعمة في الماضي يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ في المستقبل، ومن هنا قيل: كما أحسن الله فيما مضى ... كذلك يحسن فيما بقي أو مثل هذا الإتمام البالغ يتم نعمته عليكم، وإفراد النعمة إما لأن المراد بها المصدر أو لإظهار أن ذلك بالنسبة إلى جناب الكبرياء شيء قليل. وقرأ ابن عباس «تتم» بتاء مفتوحة و «نعمته» الرفع على الفاعلية وإسناد التمام إليها على الاتساع، وعنه أيضا رضي الله تعالى عنه «نعمه» بصيغة الجمع لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ أي إرادة أن تنظروا فيما أسبغ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 441 عليكم من النعم فتعرفوا حق منعمها فتؤمنوا به تعالى وحده وتذروا ما كنتم به تشركون على أن الإسلام بمعناه المعروف أي رديف الإيمان، ويجوز أن يكون بمعناه اللغوي وهو الاستسلام والانقياد أي لعلكم تستسلمون له سبحانه وتنقادون لأمره عز وجل، وأيّا ما كان فهو موضوع موضع سببه كما أشير إليه أو مكنى به عنه. وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «تسلمون» بفتح التاء واللام من السلامة أي تشكرون فتسلمون من العذاب أو تنظرون فيها فتسلمون من الشرك، وقيل: تسلمون من الجراح بلبس تلك السرابيل، ولا بأس أن يفسر ذلك بالسلامة من الآفات مطلقا ليشمل آفة الحر والبرد، والأقرب إلى معنى قراءة الجمهور التفسير الثاني. هذا وفي بعض الآثار أن أعرابيا سمع قوله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً إلى آخر الآيتين فقال عند كل نعمة: اللهم نعم فلما سمع قوله سبحانه: لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ اللهم هذا فلا فنزلت فَإِنْ تَوَلَّوْا فعل ماض على طريقة الالتفات من الخطاب إلى الغيبة وتوجيه الكلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسلية له عليه الصلاة والسلام أي فإن داموا على التولي والإعراض وعدم قبول ما ألقي إليهم من البينات فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي فلا يضرك لأن وظيفتك هي البلاغ الموضح أو الواضح وقد فعلته بما لا مزيد عليه فهو من باب وضع السبب موضع المسبب، وقال ابن عطية: تقدير المعنى إن أعرضوا فلست بقادر على خلق الإيمان في قلوبهم فإنما عليك البلاغ لا خلق الإيمان، وجوز أن يكون تَوَلَّوْا مضارعا حذفت إحدى تاءيه وأصله تتولوا فلا التفات لكن قيل عليه: إنه لا يظهر حينئذ ارتباط الجزاء بالشرط إلا بتكلف ولذا لم يلتفت إليه بعض المحققين، وفي التعبير بصيغة التفعيل إشارة كما قيل إلى أن الفطرة الأولى داعية إلى الإقبال على الله تعالى والإعراض لا يكون إلا بنوع تكلف ومعالجة يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ استئناف لبيان أن تولي المشركين وإعراضهم عن الإسلام ليس لعدم معرفتهم نعمة الله سبحانه أصلا فإنهم يعرفونها أنها من الله تعالى ثُمَّ يُنْكِرُونَها بأفعالهم حيث لم يفردوا منعمها بالعبادة فكأنهم لم يعبدوه سبحانه أصلا وذلك كفران منزل منزلة الإنكار. وأخرج ابن جرير وغيره عن مجاهد أنه قال: إنكارهم إياها قولهم: ورثناها من آبائنا، وأخرج هو وغيره أيضا عن عون بن عبد الله أنه قال: إنكارهم إياها أن يقول الرجل: لولا فلان أصابني كذا وكذا ولولا فلان لم أصب كذا وكذا وفي لفظ إنكارها إضافتها إلى الأسباب. وقيل: قولهم هي بشفاعة آلهتهم عند الله تعالى، وحكى صاحب الغنيان يعرفونها في الشدة ثم ينكرونها في الرخاء، وقيل: يعرفونها بقلوبهم ثم ينكرونها بألسنتهم. وأخرج ابن المنذر وغيره عن السدي أنه قال النعمة هنا محمد صلى الله عليه وسلم ورجح ذلك الطبري أي يعرفون أنه عليه الصلاة والسلام نبي بالمعجزات ثم ينكرون ذلك ويجحدونه عنادا، وفي لفظ ابن أبي حاتم أنه قال هذا في حديث أبي جهل والأخنس حين سأل الأخنس أبا جهل عن محمد صلى الله عليه وسلم فقال: هو نبي. ومعنى ثُمَّ الاستبعاد الإنكار بعد المعرفة لأن حق من عرف النعمة الاعتراف بها وأداء حقها لا إنكارها، وإسناد المعرفة والإنكار المتفرع عليها إلى ضمير المشركين على الإطلاق من باب إسناد حال البعض إلى الكل فإن بعضهم ليسوا كذلك كما هو ظاهر قوله سبحانه: وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ أي المنكرون بقلوبهم غير المعترفين بما ذكر، والحكم عليهم بمطلق الكفر المؤذن بالكمال من حيث الكمية لا ينافي كمال الفرقة الأولى من حيث الكيفية كذا قيل، وجوز أن يكون الإسناد السالف على ظاهره والمراد أن أكثرهم المصرون الثابتون على كفرهم إلى يوم يلقونه فالتعبير بالأكثر لعلمه تعالى أن منهم من يؤمن، وقيل: المعنى وأكثرهم الجاحدون عنادا، والتعبير بالأكثر إما لأن بعضهم لم يعرف الحق لنقصان عقله وعدم اهتدائه إليه أو لعدم نظره في الأدلة نظرا يؤدي إلى المطلوب أو لأنه لم يقم عليه الحجة لكونه لم يصل إلى حد المكلفين لصغر ونحوه وإما لأنه يقام مقام الكل فتأمل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 442 وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ جماعة من الناس شَهِيداً يشهد لهم بالإيمان والطاعة وعليهم بالكفر والعصيان، والمراد به كما روى ابن المنذر. وغيره عن قتادة نبي تلك الأمة ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي في الاعتذار كما قال سبحانه: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات: 34، 35] والظاهر أنهم يستأذنون في ذلك فلا يؤذن لهم، ويحتمل أنهم لا استئذان منهم ولا إذن إذ لا حجة لهم حتى تذكر ولا عذر حتى يعتذر. وقال أبو مسلم: المعنى لا يسمع كلامهم بعد شهادة الشهداء ولا يلتفت إليه كما في قول عدي بن زيد: في سماع يأذن الشيخ له ... وحديث مثل ما ذي مشار وقيل: لا يؤذن لهم في الرجوع إلى دار الدنيا، والأول مروي عن ابن عباس وأبي العالية وثم للدلالة على أن ابتلاءهم بعدم الأذن المنبئ عن الاقناط الكلي وذلك عند ما يقال لهم. اخسئوا فيها ولا تكلمون أشد من ابتلائهم بشهادة الأنبياء عليهم السلام فهي للتراخي الرتبي وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي لا يطلب منهم أن يزيلوا عتب ربهم أي غضبه بالتوبة والعمل الصالح إذ الآخرة دار الجزاء لا دار العمل والرجوع إلى الدنيا مما لا يكون، وقول الزمخشري: أي لا يقال لهم: ارضوا ربكم تفسير باللازم، وقيل: المعنى ولا يطلب رضاهم في أنفسهم بالتلطف بهم من استعتبه كأعتبه إذا أعطاه العتبى وهي الرضا وأيّا ما كان فالمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار، وانتصاب الظرف على ما قال الحوفي. وغيره بمحذوف تقديره اذكر وقدره بعضهم خوفهم وهو في ذلك مفعول به، وقيل: وهو نصب على الظرفية بمحذوف أي يوم نبعث يحيق بهم ما يحيق، وقال الطبري: هو معطوف على ظرف محذوف العامل فيه ينكرونها أي ثم ينكرونها اليوم ويوم نبعث من كل أمة شهيدا فيشهد عليهم ويكذبهم وليس بشيء وتجري هذه الاحتمالات في قوله تعالى: وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ أي الذي يستوجبونه بظلمهم وهو عذاب جهنم، والمراد من الذين ظلموا الذين كفروا وكان الظاهر الضمير إلا أنه أقيم المظهر مقامه للنعي عليهم بما ذكر في حيز الصلة وتعليق الرؤية بالعذاب للمبالغة، وقيل: المراد به جهنم نفسها مجازا، ويراد بضميره في قوله تعالى: فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ معناه الحقيقي على سبيل الاستخدام وليس بذاك وهذه الجملة قيل: مستأنفة، وقيل: جواب إذا بتقدير فهو لا يخفف لأن المضارع مثبتا كان أو منفيا إذا وقع جواب إذا لا يقترن بالفاء، واستظهره ذلك أبو حيان ونقل عن الحوفي القول بأنه جواب وأنه العامل في إِذا ثم قال: وقد تقدم لنا أن ما تقدم فاء الجواب في غير أما لا يعمل فيما قبله وبينا أن العامل في إِذا الفعل الذي يليها كسائر أدوات الشرط وإن كان ليس قول الجمهور وتعقب الخفاجي القول بالجوابية بأنه محتاج إلى ما سمعت من التقدير وهو مع كونه خلاف الأصل مناف للغرض في تغاير الجملتين في النظم يعني قوله تعالى: فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وقوله سبحانه: وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أي يمهلون وهو أن عدم التخفيف واقع بعد رؤية العذاب فلذا لم يؤت بجملة اسمية بخلاف عدم الإمهال فإنه ثابت لهم في تلك الحالة اه. وفي كلام الزمخشري كما في الكشف إشعار بأن الناصب المحذوف لإذا بغتهم وإنه هو الجواب حيث قال بعد أن بين وجه انتصاب اليوم وكذلك إذا رأوا العذاب بغتهم وثقل عليهم فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون كقوله تعالى: بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ [الأنبياء: 40] الآية، وفيه إشعار أيضا بأن عدم التخفيف والإنظار يدل على إثقاله ومباغته كما صرح به في الآية الأخرى حيث أبت الإتيان بغتة والبهت الذي هو الإثقال وزيادة ورتب عليه «فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون» ومثل هذه الفاء فصيحة عنده فافهم، وفي التفسير الكبير قال المتكلمون إن العذاب يجب أن يكون خالصا عن شوائب النفع وهو المراد بقوله تعالى: فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ ويجب أن يكون دائميا وهو المراد من قوله سبحانه: وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ وفيه نظر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 443 وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ الذين كانوا يزعمونهم شركاء لله سبحانه وتعالى ويعبدونهم معه عز وجل والمراد بهم كل من اتخذوه شريكا له جبل وعلا من صنم ووثن وشيطان وآدمي وملك وإضافتهم إلى ضمير المشركين لهذا الاتخاذ، وقيل: أريد بهم معبوداتهم الباطلة كما تقدم. والإضافة إليهم لأنهم جعلوا لهم نصيبا من أموالهم وأنعامهم، واقتصر بعضهم على الأصنام ولعل التعميم أولى، وقال الحسن: شركاؤهم الشياطين شركوهم في الأموال والأولاد، وقيل: شركوهم في الكفر أي كفروا مثل كفرهم، وقيل: شركوهم في وبال ذلك حيث حملوهم عليه قالُوا أي بألسنتهم وقيل: ختم الله تعالى على أفواههم وأنطق جوارحهم فقالت عنهم رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ أي نعبدهم ونطيعهم ولعلهم قالوا ذلك طمعا في توزيع العذاب بينهم. واعترض بأنه لا يناسب تفسير الشركاء بالأصنام وفيه أنها تجيء على حالة يعقل معها عذابها فلا بأس في ذلك سواء فسرت الشركاء بالأصنام فقط أو بما يعمها وغيرها، وقال أبو مسلم: مقصودهم من ذلك إحالة الذنب على الشركاء ظنا منهم أن ذلك ينجيهم من عذاب الله تعالى أو ينقص من عذابهم شيئا. وتعقبه القاضي بأنه بعيد لأن الكفار يعلمون علما ضروريا في الآخرة أن العذاب سينزل بهم ولا نصرة ولا فدية ولا شفاعة، وأورد نحوه على ما ذكرنا بناء على أنهم يعلمون ضروريا أيضا أنه لا يحمل أحد من عذابهم شيئا. وأجيب بأنه على تقدير تسليم حصول العلم الضروري لهم بذلك إذ ذاك يجوز أن يدهشوا فيغفلوا عن ذلك فيقولوا ما يقولون طامعين فيما ذكر وهو نظير قولهم: «ربنا خفف عنا يوما من العذاب. يا مالك ليقض علينا ربك. ربنا أخرجنا نعمل صالحا» إلى غير ذلك مما لهم على ضروري عند بعضهم بأنه لا يكون. وقيل: القوم مع علمهم بأن ما يرجونه ويطمعون فيه لا يحصل لهم أصلا وعدم غفلتهم عن ذلك تغلبهم أنفسهم بمقتضى الطبيعة لشدة ما هم فيه والعياذ بالله تعالى حتى تعلق آمالها بالمحال، وقيل: قالوا ذلك اعترافا بأنهم كانوا مخطئين في عبادتهم. وتعقب بأنه لا يناسب قوله تعالى: «من دونك» وفيه تأمل. نعم قوله تعالى: فَأَلْقَوْا أي شركاؤهم إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ أظهر ملاءمة للأول فإن تكذيبهم إياهم فيما قالوا ظاهر في كونه للمدافعة والتخلص عن غائلة مضمونه والظاهر أن التكذيب راجع إلى دعوى أنهم كانوا يعبدونهم أو يطيعونهم من دون الله تعالى ومرادهم على ما قيل: إنكم ما عبدتمونا حقيقة وإنما عبدتم أشياء تصورتموها بأذهانكم الفاسدة وزعمتم أنا هاتيك الأشياء وهيهات هيهات ليس بيننا وبينها جهة جامعة ولا علاقة نافعة، وقيل: إنما كذبوهم وقد كانوا يعبدونهم لأن الأوثان ما كانوا راضين بعبادتهم لهم فكأن عبادتهم لم تكن عبادة لهم كما قالت الملائكة عليهم السلام: «بل كانوا يعبدون الجن» يعنون أن الجن هم الذين كانوا راضين بعبادتهم لا نحن، والشياطين وإن كانوا راضين بعبادتهم لهم لكنهم لم يكونوا حاملين لهم على وجه القسر والإلجاء كما قال إبليس: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم: 22] فكأنهم قالوا: ما عبدتمونا حقيقة وإنما عبدتم أهواءكم، وقيل: يجوز أن يكون الشياطين كاذبين في إخبارهم بكذب من عبدهم كما كذب إبليس عليه اللعنة في قوله: إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ [إبراهيم: 22] وجوز أن يكون التكذيب راجعا إلى أنهم شركاء لله سبحانه لا إلى أنهم كانوا يعبدونهم ومرادهم تنزيه الله جل وعلا عن الشريك في ذلك الموقف، وخص هذا بعضهم بتقدير إرادة الشياطين من الشركاء فافهم، والظاهر أن قائل هذا جميع الشركاء ولا يمنع من ذلك تفسيره بما يعم الأصنام إذ لا بعد في أن ينطقها الله تعالى الذي أنطق كل شيء بذلك، وجوز على التعميم أن يكون القائل بعضهم وهو من يعقل منهم وكان الظاهر- فقالوا لهم إنكم لكاذبون- إلا أنه عدل إلى ما في النظم الكريم للإشارة إلى أنهم قالوا ذلك لهم على وجه الإفصاح بحيث يدرك ويمتاز عن غيره، وفيه من الإشعار بالحرص على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 444 تكذيبهم ما فيه، ويؤيد ذلك تأكيدهم الملة الدالة على تكذيبهم أتم تأكيد، وهي في موضع البدل من القول كما قال الإمام أي ألقوا إليهم أنكم لكاذبون وَأَلْقَوْا أي الذين أشركوا، وقيل: هم وشركاؤهم جميعا، والأكثرون على الأول إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ الاستسلام والانقياد لحكمه تعالى العزيز الغالب بعد الإباء والاستكبار في الدنيا فلم يكن لهم إذ ذاك حيلة ولا دفع. وروى يعقوب عن أبي عمرو وأنه قرأ «السّلم» بإسكان اللام، وقرأ مجاهد السلم بضم السين واللام وَضَلَّ عَنْهُمْ ضاع وبطل ما كانُوا يَفْتَرُونَ من الله سبحانه شركاء وأنهم ينصرونهم ويشفعون لهم حين سمعوا ما سمعوا. هذا ومن باب الإشارة في الآيات: ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ بنسبة ذلك إلى غيره سبحانه ورؤيته منه لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ من النعمة بالغفلة عن منعمها فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وبال ذلك أو فسوف تعلمون بظهور التوحيد أن لا تأثير لغيره تعالى في شيء وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ فيعتقدون فيه من الجهالات ما يعتقدون وهو السوي نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ فيقولون هو أعطاني كذا ولو لم يعطني لكان كذا وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ الإشارة فيه على ما في أسرار القرآن إلى ما تشربه الأرواح مما يحصل في العقول الصافية بين النفس والقلب من زلال بحر المشاهدة وهناك منازل اعتبار المعتبرين، والإشارة في قوله تعالى: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً على ما في أيضا إلى ما تتخذه الأرواح والأسرار من ثمرات نخيل القلوب وأعناب العقول من خمر المحبة والأنس الآخذة بها إلى حضيرة القدس: ولو نضحوا منها ثرى قبر ميت ... لعادت إليه الروح وانتعش الجسم وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ قيل أي نحل الأرواح أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ أي جبال أنوار الذات بُيُوتاً مقار لتسكنين فيها وَمِنَ الشَّجَرِ أي ومن أشجار أنوار الصفات وَمِمَّا يَعْرِشُونَ أنوار عروش الأفعال ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي من ثمرات تلك الأشجار الصفاتية ونور بهاء الأنوار الذاتية وأزهار الأنوار الإفعالية فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ وهي صحارى قدسه تعالى وبراري جلاله جل شأنه ذُلُلًا منقادة لما أمرت به يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ وهو شراب معرفته تعالى بقدم جلاله وعز بقائه وتقدس ذاته سبحانه مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ باختلاف الثمرات فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ لكل مريض المحبة وسقيم الإلفة ولديغ الشوق، وقيل: الإشارة بالنحل إلى الذين هم في مبادي السلوك من أرباب الاستعداد، ومن هنا قال الشيخ الأكبر قدس سره في مولانا ابن الفارض قدس سره حين سئل عنه: نحلة تدندن حول الحمى أمرهم الله تعالى أولا أن يتخذوا مقار من العقائد الدينية التي هي كالجبال في الرسوخ، الثبات ومن العبادات الشرعية التي هي كالشجر في التشعب ومن المعاملات المرضية التي هي كالعروش في الارتفاع ثم يسلكوا سبله سبحانه وطرقه الموصلة إليه جل شأنه من تهذيب الباطن والمراقبة والفكر ونحو ذلك متذللين خاضعين غير معجبين، وفي ذلك إشارة إلى أن السلوك إنما يصح بعد تصحيح العقائد ومعرفة الأحكام الشرعية ليكون السالك على بصيرة في أمره وإلا فهو كمن ركب متن عمياء وخبط خبط عشواء، ومتى سلك على ذلك الوجه حصل له الفوز بالمطلوب وتفجرت ينابيع الحكمة من قلبه وصار ما يقذف به قلبه كالعسل شفاء من علل الشهوات وأمراض النفس لا سيما مرض التثبط والتكاسل عن العبادة وهو المرض البلغمي. وقال أبو بكر الوراق: النحلة لما اتبعت الأمر وسلكت سبل ربها على ما أمرت به جعل لعابها شفاء للناس كذلك المؤمن إذا اتبع الأمر وحفظ السر وأقبل على ربه عز وجل جعل رؤيته وكلامه ومجالسته شفاء للخلق فمن نظر إليه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 445 اعتبر ومن سمع كلامه اتعظ ومن جالسه سعد انتهى. وفي الآية إشارة أيضا إلى أنه تعالى قد يودع الشخص الحقير الشيء العزيز فإنه سبحانه أودع النحل وهي من أحقر الحيوانات وأضعفها العسل وهو من ألذ المذوقات وأحلاها فلا ينبغي التقيد بالصور والاحتجاب بالهيئات، وفي الحديث «رب أشعث أغبر ذي طمرين لو اقسم على الله تعالى لأبره» وعن يعسوب المؤمنين على كرم الله تعالى وجهه لا تنظر إلى من قال وانظر إلى ما قال وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ قيل الإشارة فيه إلى تفاوت أرزاق السالكين فرزق بعضهم طاعات، وبعض آخر مقامات وبعض حالات وبعض مكاشفات وبعض مشاهدات وبعض معرفة وبعض محبة وبعض توحيد إلى غير ذلك، وذكروا أن رزق الأشباح العبودية ورزق الأرواح رؤية أنوار الربوبية ورزق العقول الأفكار ورزق القلوب الأذكار ورزق الأسرار حقائق العلوم الغيبية المكشوفة لها في مجالس القرب ومشاهدة الغيب فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ لتقدسه تعالى عن الأوهام والإشارات والعبارات وتنزهه سبحانه عن درك الخليقة فإن الخلق لا يدرك إلا خلقا، ولذا قال علي كرم الله تعالى وجهه: إنما تحد الأدوات أنفسها وتشير الآلات إلى نظائرها فلا يعرف الله تعالى إلا الله عز وجل وعلل النهي بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً محبا لغير الله تعالى ولا شك أن المحب أسير بيد المحبوب لا يقدر على شيء لأنه مقيد بوثاق المحبة وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فجعلناه محبا لنا مقبلا بقلبه علينا متجردا عما سوانا وآتيناه من لدنا علما فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وذلك من النعم الباطنة وَجَهْراً وذلك من النعم الظاهرة وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا استعداد فيه للنطق وهو مثل المشرك لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ لعدم استطاعته وقصور قوته للنقص اللازم لاستعداده وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ لعجزه بالطبع عن تحصيل حاجة أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ لعدم استعداده وشرارته بالطبع فلا يناسب إلا الشر الذي هو العدم هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وهو الموحد القائم بالله تعالى الفاني عن غيره، والعدل على ما قيل: ظل الوحدة في عالم الكثيرة وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صراط العزيز الحميد الذي عليه خاصته تعالى من أهل البقاء بعد الفناء الممدود على نار الطبيعة لأهل الحقيقة يمرون عليه كالبرق اللامع وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ علم مراتب الغيوب أو ما غاب من حقيقتهما أو ما خفي فيهما من أمر القيامة الكبرى وَما أَمْرُ السَّاعَةِ أي القيامة الكبرى بالقياس إلى الأمور الزمانية إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ وهو بناء على التمثيل وإلا فقد قيل: إن أمر الساعة ليس بزماني وما كان كذلك يدركه من يدركه لا في الزمان إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ومن ذلك أمر الساعة وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً الآية، قال في أسرار القرآن: أخبر سبحانه أنه أخرجهم من بطون الأقدار وأرحام العدم وأصلاب المشيئة على نعت الجهل لا يعلمون شيئا من أحكام الربوبية وأمور العبودية وأوصاف الأزل فالبسهم أسماعا من نور سمعه وكساهم أبصارا من نور بصره وأودع في قلوبهم علوم غيبته لعلهم يشكرونه انتهى. وهو ظاهر في أن المراد بالأفئدة القلوب. وذكر بعض من أدركناه من المرتاضين في كتابه الفوائد وشرحه أن مشاعر الإنسان الصدر، والمراد به الخيال والنفس الكلية التي هي محل الصور العلمية كلية أو جزئية فهو محل العلم المقابل للجهل، والقلب وهو محل المعاني واليقين بالنسب الحكمية ويقابله الشك والريب، والفؤاد وهو محل المعارف الإلهية المجرد عن جميع الصور والنسب والأوضاع والإشارات والجهات والأوقات ويقابلها الإنكار وهو أعلى المشاعر، ونور الله تعالى المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى» وهو الوجود لأنه الجهة العليا من الإنسان أعني وجهه من جهة ربه وبه يعرف الله تعالى وهو في الإنسان بمنزلة الملك في المدينة والقلب بمنزلة الوزير له انتهى، وله أيضا كلام الجزء: 7 ¦ الصفحة: 446 في الأم وكذا في الأب غير ما ذكر، وذلك أنه يطلق الأب على المادة والأم على الصورة، وزعم أن قول الصادق رضي الله تعالى عنه: إن الله تعالى خلق المؤمنين من نوره وصبغهم في رحمته فالمؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمه أبوه النور وأمه الرحمة إشارة إلى ذلك وأن ما اصطلح عليه المتقدمون والحكماء من أن الأب هو الصورة والأم هي المادة وأن الصورة إذا نكحت المادة تولد عنهما الشيء توهما منهم أن النشور والخلق في بطن المادة بعيدة من جهة المناسبة إلى آخر ما قال فتفطن وإياك أن تعدل عن الطريق السوي أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ فيه إشارة إلى تسخير طير القوى الروحانية والنفسانية من الفكر والعقل النظري والعملي بل الوهم والتخيل في فضاء عالم الأرواح ما يُمْسِكُهُنَّ من غير تعلق بمادة لا اعتماد على جسم ثقيل إِلَّا اللَّهُ عز وجل وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا وهو ما يستظل به من وهج نار الحاجة فالماء ظل للعطشان والطعام ظل للجيعان (1) وكل ما يقوم بحاجة شخص ظل له، وفي الخبر السلطان ظل الله تعالى في الأرض يأوي إليه كل مظلوم، وقيل: الظلال الأولياء يستظل بهم المريدون من شدة حر الهجران ويأوون إليهم من قهر الطغيان، وقد يؤول قوله تعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً بنحو هذا فما أشبه الأولياء بالجبال وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ فيه إشارة إلى ما جعل للعارفين من سرابيل روح الأنس لئلا يحترقوا بنيران القدس وأشار تعالى بقوله جل جلاله: وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ إلى ما من به من المعرفة والمحبة ليدفع بذلك كيد الشياطين والنفوس كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ تنقادون لأمره سبحانه في العبودية وتخضعون لعز الربوبية، قال ابن عطاء: تمام النعمة السكون إلى المنعم، وقال حمدون: تمامها في الدنيا المعرفة وفي الآخرة الرؤية، وقال أبو محمد الحريري: تمامها خلو القلب من الشرك الخفي وسلامة النفس من الرياء والسمعة يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ وهي هداية النبي أو وجوده بقوة الفطرة ثُمَّ يُنْكِرُونَها لعنادهم وغلبة صفات نفوسهم وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ لشهادة فطرهم بحقيقته وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا في الاعتذار عن التخلف عن دعوته إذ لا عذر لهم وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ لأنهم قد حق عليهم القول بمقتضى استعدادهم نسأل الله تعالى العفو والعافية وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ قيل: هذا في الموقف الثاني حين تضعف غواشي أنفسهم المظلمة وترق حجبها الكثيفة وأما في الموقف الأول حين قوة هيئات الرذائل وشدة شكيمة النفس في الشيطنة فلا يستسلمون كما يشير إليه قوله تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وقيل: المستسلمون بعض والحالفون بعض فافهم والله تعالى أعلم.   (1) قوله الجيعان كذا بالأصل وحقه «جوعان» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 447 الَّذِينَ كَفَرُوا في أنفسهم وَصَدُّوا غيرهم عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بمنع من يريد الإسلام عنه وبحمل من استخفوه على الكفر فالصد عن السبيل أعم من المنع عنه ابتداء وبقاء كذا قيل: والظاهر الأول، والظاهر أن الموصول مبتدأ وقوله تعالى: زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ خبره، وجوز ابن عطية كون الموصول بدلا من فاعل يَفْتَرُونَ ويكون زِدْناهُمْ مستأنفا، وجوز بعضهم كون الأول نصبا على الذم أو رفعا عليه فيضمر الناصب والمبتدأ وجوبا وزِدْناهُمْ بحاله، وهذه الزيادة إما بالشدة أو بنوع آخر من العذاب والثاني هو المأثور، فقد أخرج ابن مردويه. والخطيب (1) عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك فقال: «عقارب أمثال النخل الطوال ينهشونهم في جهنم» وروى نحوه الحاكم وصدمه. والبيهقي. وغيره عن ابن مسعود. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال: إن أهل النار إذا جزعوا من حرها استغاثوا بضحضاح في النار فإذا أتوه تلقاهم عقارب كأنهن البغال الدهم وأفاعي كأنهن البخاتي فتضربهم فذلك الزيادة، وعن ابن عباس أنها أنهار من صفر مذاب يسيل من تحت العرش يعذبون بها، وعن الزجاج يخرجون من حر النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة برده إلى النار بِما كانُوا يُفْسِدُونَ متعلق- بزدناهم- أي زدناهم عذابا فوق العذاب الذي يستحقونه بكفرهم بسبب   (1) في تالي التلخيص اه منه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 449 استمرارهم على الإفساد وهو الصد عن السبيل، وجوز أن يفسر ذلك بما هو أعم من الكفر والصد، والمعنى زدناهم عذابا فوق عذابهم الذي يستحقونه بمجرد الكفر والصد بسبب استمرارهم على هذين الأمرين القبيحين، ووجه ذلك أن البقاء على المعصية يومين مثلا أقبح من البقاء عليها يوما والبقاء ثلاثة أيام أقبح من البقاء يومين وهكذا، ومن هنا قالوا: الإصرار على الصغيرة كبيرة، وقيل: إن أهل جهنم يستحقون من العذاب مرتبة مخصوصة هي ما يكون لهم أول دخولها والزيادة عليها إنما هي لحفظها إذ لو لم تزد لألفوها وطابت أنفسهم بها كمن وضع يده في ماء حار مثلا فإنه يجد أول زمان وضعها ما لا يجده بعد مضي ساعة وهو كما ترى. وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ وهو كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نبيهم الذي بعث فيهم في الدنيا، ومعنى كونه مِنْ أَنْفُسِهِمْ أنه منهم، وذلك ليكون أقطع للمعذرة، ولا يرد لوط عليه السلام فإنه لما تأهل فيهم وسكن معهم عد منهم أيضا، وقال ابن عطية: يجوز أن يبعث الله تعالى شهداء من الصالحين مع الأنبياء عليهم السلام، وقد قال بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم: إذا رأيت أحدا على معصية فانهه فإن أطاعك وإلا كنت شهيدا عليه يوم القيامة، وذكر الإمام في الآية قولين الأول أن كل نبي شاهد على قومه كما تقدم، والثاني إن كل قرن وجمع يحصل في الدنيا فلا بد أن يحصل فيهم من يكون شهيدا عليهم ولا بد أن لا يكون جائزا الخطأ وإلا لاحتاج إلى آخر وهكذا فيلزم التسلسل، ووجود الشهيد كذلك في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ظاهر وأما بعده فلا بد في كل عصر من أقوام تقوم الحجة بقولهم وهم قائمون مقام الشهيد المعصوم، ثم قال: وهذا يقتضي أن يكون إجماع الأمة حجة انتهى، وإلى أنه لا بد في كل عصر ممن يكون قوله حجة على أهل عصره ذهب الجبائي وأكثر المعتزلة، قال الطبرسي في مجمع البيان: ومذهبهم يوافق مذهب أصحابنا يعني الشيعة وإن خالفه في أن ذلك الحجة من هو. وأنت تعلم أن الاستدلال بالآية على هذا المطلب ضعيف، وتحقيق الكلام في ذلك يطلب من محله. وقال الأصم: المراد بالشهيد أجزاء من الإنسان، وذلك أنه تعالى ينطق عشرة أجزاء منه وهي الأذنان والعينان والرجلان واليدان والجلد واللسان فتشهد عليه لأنه سبحانه قال في صفة الشهيد من أنفسهم. وتعقبه القاضي وغيره بأن كونه شهيدا على الأمة يقتضي أن يكون غيرهم. وأيضا قوله تعالى: فِي كُلِّ أُمَّةٍ يأبى ذلك إذ لا يصح وصف آحاد الأعضاء بأنها من الأمة وأيضا مقابلة ذلك بقوله سبحانه: وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ يبعد ما ذكر كما لا يخفى، والمراد بهؤلاء أمته صلى الله عليه وسلم عند أكثر المفسرين، ولم يستبعد أن يكون المراد بهم ما يشمل الحاضرين وقت النزول وغيرهم إلى يوم القيامة فإن أعمال أمته عليه الصلاة والسلام تعرض عليه بعد موته. فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم ومماتي خير لكم تعرض على أعمالكم فما رأيت من خير حمدت الله عليه وما رأيت من شر استغفرت الله تعالى لكم» بل جاء أن أعمال العبد تعرض على أقاربه من الموتى، فقد أخرج ابن أبي الدنيا عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تفضحوا أمواتكم بسيئات أعمالكم فإنها تعرض على أوليائكم من أهل القبور» وأخرج أحمد عن أنس مرفوعا «إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من الأموات فإن كان خيرا استبشروا وإن كان غير ذلك قالوا: اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا» وأخرجه أبو داود من حديث جابر بزيادة «وألهمهم أن يعملوا بطاعتك» . وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي الدرداء أنه قال: «إن أعمالكم تعرض على موتاكم فيسرون ويساؤون» فكان أبو الدرداء يقول عنه ذلك: اللهم إني أعوذ بك أن يمقتني خالي عبد الله بن رواحة إذا لقيته يقول ذلك في سجوده. والنبي صلى الله عليه وسلم لأمته بمنزلة الوالد بل أولى، ولم أقف على عرض أعمال الأمم السابقة على أنبيائهم بعد الموت ولم أر من تعرض الجزء: 7 ¦ الصفحة: 450 لذلك لا نفيا ولا إثباتا، فإن قيل: إنها تعرض فأمر الشهادة مما لا غبار عليه في نبي لم يبعث في أمته خلوهم عنه نبي آخر، وإن قيل: إنها لا تعرض احتاج أمر الشهادة إلى الفحص عن وجود أمر يفيد العلم المصحح لها أو التزام أن الشهيد ليس هو النبي وحده كما سمعت فيما سبق، ثم إن حديث العرض على نبينا عليه الصلاة والسلام يشكل عليه حديث «ليذادن عن الحوض أقوام» الخبر، وقد ذكر ذلك المناوي ولم يجب عنه، وقد أجبت عنه في بعض تعليقاتي فتأمل، وقيل: المراد بهم شهداء الأمم وهم الأنبياء عليهم السلام لعلمه عليه الصلاة والسلام بعقائدهم واستجماع شرعه لقواعدهم لا الأمة لأن كونه صلى الله عليه وسلم شهيدا على أمته علم مما تقدم فالآية مسوقة لشهادته عليه الصلاة والسلام على الأنبياء صلى الله عليه وسلم فتخلو عن التكرار. ورد بأن المراد بشهادته عليهم الصلاة والسلام على أمته تزكيته وتعديله لهم بعد أن يشهدوا على تبليغ الأنبياء عليهم السلام حسبما علموه من كتابهم وهذا لم يعلم مما مر ليكون تكرارا وهو الوارد في الحديث، وقد ذكره غير واحد في تفسير قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة: 143] وعَلى لا مضرة فيها وإن ضرت فالضرر مشترك. نعم لم يفهم مما قبل شهادة هذه الأمة على تبليغ الأنبياء عليهم السلام ليظهر كون هذه الشهادة للتزكية كما في آية البقرة، ولعل الأمر في ذلك سهل. وفي إرشاد العقل السليم أن قوله تعالى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ تكرير لما سبق تثنية للتهديد، والمراد بهؤلاء الأمم وشهداؤهم، وإيثار لفظ المجيء على البعث لكمال العناية بشأنه صلى الله عليه وسلم، وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع انتهى. وتعقب بأن حمل هؤُلاءِ على ما ذكر خلاف الظاهر، وجوز أن يكون إيثار المجيء على البعث للإيذان بالمغايرة بين الشهادتين بناء على أن شهادته صلى الله عليه وسلم على أمته للتزكية ولا كذلك شهادة سائر الأنبياء عليهم السلام على أممهم. والظرف معمول لمحذوف كما مر، والمراد به يوم القيامة وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ الكامل في الكتابية الحقيق بأن يخص به اسم الجنس، وهذا- على ما في البحر- استئناف أخبار وليس داخلا مع ما قبله لاختلاف الزمانين. وجوز غير واحد كونه حالا بتقدير قد، وذكر بعض الأفاضل أن قوله تعالى: وَجِئْنا بِكَ إلخ إن كان كلاما مبتدأ غير معطوف على قوله سبحانه: نَبْعَثُ وشَهِيداً حالا مقدرة فلا إشكال في الحالية وإن كان عطفا عليه، والتعبير بالماضي لما عرف في أمثاله، فمضمون الجملة الحالية متقدم بكثير فلا يتمشى التأويل الذي ذكروه في تصحيح كون الماضوية حالا هنا، ففي صحة كونه حالا كلام إلا أن يبنى على عدم جريان الزمان عليه سبحانه وتعالى. وتعقب بأنه ليس بشيء لأن قوله سبحانه: تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ يدخل فيه العقائد والقواعد بالدخول الأولى، وذلك مستمر إلى البعث وما بعده، ولا حاجة إلى ما قيل من أن المعنى بحيث أو بحال أنا كما نزلنا عليك وتلك الحيثية ثابتة له سبحانه وتعالى إلى الأبد انتهى، وفيه نظر. وزعم بعضهم أن الجملة حال من ضمير الرفع في الفعل العامل في الظرف أي خوفهم ذلك اليوم وقد نزلنا عليك الكتاب، وهو كما ترى والأسلم الاستئناف والتبيان مصدر يدل على التكثير على ما روى ثعلب عن الكوفيين. والمبرد عن البصريين، قال سلامة الأنباري في شرح المقامات: كل ما ورد من المصادر عن العرب على تفعال فهو بفتح التاء إلا لفظتين وهما تبيان وتلقاء، وقال ابن عطية: هو اسم وليس بمصدر، وهذه الصيغة أيضا في الأسماء قليلة، فعن ابن مالك أنه قال في نظم الفرائد: جاء على تفعال بالكسر وهو غير مصدر رجل تكلام وتلقام وتلعاب وتمساح للكذاب وتضراب للناقة القريبة بضراب الفحل وتمراد لبيت الحمام وتلفاف لثوبين ملفوفين وتجفاف لما تجلل به الجزء: 7 ¦ الصفحة: 451 الفرس وتهواء لجزء ماض من الليل وتنبال للقصير اللئيم وتعشار وتبراك لموضعين، وزاد ابن جعوان تمثال وتيفاق لموافقة الهلال، واقتصر أبو جعفر النحاس في شرح المعلقات على أقل من ذلك فقال: ليس في كلام العرب على تفعال إلا أربعة أسماء وخامس مختلف فيه يقال تبيان ويقال لقلادة المرأة تقصار وتعشار وتبراك والخامس تمساح وتمسح أكثر وافصح انتهى، والمعروف أن تِبْياناً مصدر وليس باسم وإن قيل: إن قول أكثر النحويين، وجوز الزجاج فيه الفتح في غير القرآن، والمراد من كل شيء على ما ذهب إليه جمع ما يتعلق بأمور الدين أي بيانا بليغا لكل شيء يتعلق بذلك ومن جملته أحوال الأمم من أنبيائهم عليهم السلام، وكذا ما أخبرت به هذه الآية من بعث الشهداء وبعثه عليه الصلاة والسلام، فانتظام الآية بما قبلها ظاهر، والدليل على تقدير الوصف المخصص للشيء المقام وأن بعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما هي لبيان الدين، ولذا أجيب السؤال عن الأهلة بما أجيب، وقال صلى الله عليه وسلم: «أنتم أعلم بأمور دنياكم» وكون الكتاب تبيانا لذلك باعتبار أن فيه نصا على البعض وإحالة للبعض الآخر على السنة حيث أمر باتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل فيه: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النجم: 3] وحثا على الإجماع في قوله سبحانه: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء: 115] الآية فإنها على ما روي عن الشافعي وجماعة دليل الإجماع، وقد رضي صلى الله عليه وسلم لأمته باتباع أصحابه حيث قال عليه الصلاة والسلام. «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضّوا عليها بالنواجذ» . وقد اجتهدوا وقاسوا ووطؤوا طرق الاجتهاد فكانت السنة والإجماع والقياس مستندة إلى تبيان الكتاب، وقال بعض: كل للتكثير والتفخيم كما في قوله تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها [الأحقاف: 25] إذ يأبى الإحاطة والتعميم ما في التبيان من المبالغة في البيان وأن من أمور الدين تخصيصا لا يقتضيه المقام. ورد الثاني بما سمعت آنفا والأول بأن المبالغة بحسب الكمية لا الكيفية كما قيل في قوله تعالى: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] إنه من قولك: فلان ظالم لعبده وظلام لعبيده، ومنه قوله سبحانه: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ [البقرة: 27، آل عمران: 192، المائدة: 72] وقال بعضهم: لكل من القولين وجهة والمرجح للأول إبقاء كل على حقيقتها في الجملة، وتعقب بأنه يرجح الثاني إبقاء شَيْءٍ على العموم وسلامته من التقدير الذي هو خلاف الأصل ومن المجاز على قول. نعم ذهب أكثر المفسرين إلى اعتبار التخصيص وروي ذلك عن مجاهد. وقال الجلال المحلي في الرد على من لم يجوز تخصيص السنة بالكتاب: إنه يدل على الجواز قوله تعالى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وإن خص من عمومه ما خص بغير القرآن، وتوجيه كونه تبيانا لكل ما يتعلق بالدين بما تقدم هو الذي يقتضيه كلام غير واحد من الأجلة. فعن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال مرة بمكة: سلوني عما شئتم أخبركم عنه من كتاب الله تعالى فقيل له: ما تقول في المحرم يقتل الزنبور؟ فقال: بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] وحدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن حراش عن حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» وحدثنا سفيان عن مسعر بن كدام عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه أمر بقتل المحرم الزنبور، وروى البخاري عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال: «لعن الله تعالى الواشمات والمتوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله تعالى» فقالت له امرأة في ذلك فقال: ما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله تعالى فقالت له: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه أما قرأت «وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا» قالت: بلى. قال: فإنه عليه الصلاة والسلام قد نهى عنه. وذهب بعضهم إلى ما يقتضيه ظاهر الآية غير قائل بالتخصيص ولا بأن كل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 452 للتكثير فقال: ما من شيء من أمر الدين والدنيا إلا يمكن استخراجه من القرآن وقد بين فيه كل شيء بيانا بليغا واعتبر في ذلك مراتب الناس في الفهم فرب شيء يكون بيانا بليغا ولا يكون كذلك لآخرين بل قد يكون بيانا لواحد ولا يكون بيانا لآخر فضلا عن كون البيان بليغا أو غير بليغ وليس هذا إلا لتفاوت قوى البصائر، ونظير ذلك اختلاف مراتب الإحساس لتفاوت قوى الأبصار، وقيل: معنى كونه تبيانا أنه كذلك في نفسه وهو لا يستدعي وجود مبين له فضلا عن تشارك الجميع في تحقق هذا الوصف بالنسبة إليهم بأن يفهموا حال كل شيء منه على أتم وجه، ونظير ذلك الشمس فإنها منيرة في حد ذاتها وإن لم يكن هناك مستنير أو ناظر، ويغني عن هذا الاعتبار اعتبار أن المبالغة بحسب الكمية لا الكيفية، ويؤيد القول بالظاهر أن الشيخ الأكبر قدس سره وغيره قد استخرجوا منه ما لا يحصى من الحوادث الكونية. وقد رأيت جدولا حرفيا منسوبا إلى الشيخ كتب عليه أنه يعرف منه حوادث أهل المحشر، وآخر كتب عليه أنه يعرف منه حوادث أهل الجنة، وآخر كتب عليه أنه يعرف منه حوادث أهل النار وكل ذلك على ما يزعمون مستخرج من الكتاب الكريم، ومثل هذا الجفر الجامع المنسوب إلى أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه فإنهم قالوا: إنه جامع لما شاء الله تعالى من الحوادث الكونية وهو أيضا مستخرج من القرآن العظيم. وقد نقل الجلال السيوطي عن المرسي أنه قال: جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم به ثم رسول الله خلافا استأثر به سبحانه ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم مثل الخلفاء الأربعة ومثل ابن عباس وابن مسعود حتى قال الأول: لو ضاع لي عقال بعد لوجدته في كتاب الله تعالى ثم ورث عنهم التابعون لهم بإحسان ثم تقاصرت الهمم وفترت العزائم وتضاءل أهل العلم وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه فنوعوا علومه وقامت كل طائفة بفن من فنونه، وقيل: لا يخلو الزمان من عارف بجميع ذلك وهو الوارث المحمدي ويسمى الغوث وقطب الأقطاب والمظهر الأتم ومظهر الاسم الأعظم إلى غير ذلك، ويرد على هؤلاء القائلين حديث التأبير وقوله صلى الله عليه وسلم: «أنتم أعلم بأمور دنياكم» وأجيب بأنه يحتمل أن يكون ذلك منه صلى الله عليه وسلم قبل نزوله ما يعلم منه عليه الصلاة والسلام حال التأبير، ويحتمل أن يكون بعد النزول وقال ذلك صلى الله عليه وسلم قبل الرجوع إليه والنظر فيه ولو رجع ونظر لعلم فوق ما علموا فأعلميتهم بأمور دنياهم إنما جاءت لكون علمهم بذلك لا يحتاج إلى الرجوع والنظر وعلمه عليه الصلاة والسلام يحتاج إلى ذلك وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم «لو استقبلت ما استدبرت لما سقت الهدى» مع أن سوق الهدى من الأمور الدينية، وقد قالوا: إن القرآن العظيم تبيان لها، وهذا يرد عليهم لولا هذا الجواب فتأمل فالبحث بعد غير خال عن القيل والقال، وقال بعضهم: إن الأمور إما دينية أو دنيوية والدنيوية لا اهتمام للشارع بها إذ لم يبعث لها والدينية إما أصلية أو فرعية والاهتمام بالفرعية دون الاهتمام بالأصلية فإن المطلوب أولا بالذات من بعثة الأنبياء عليهم السلام هو التوحيد وما أشبهه بل المطلوب من خلق العباد هو معرفته تعالى كما يشهد له قوله سبحانه: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] بناء على تفسير كثير العبادة بالمعرفة، وقوله تعالى في الحديث القدسي المشهور على الألسنة المصحح من طريق الصوفية: «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف» والقرآن العظيم قد تكفل ببيان الأمور الدينية الأصلية على أتم وجه فليكن المراد من كل شيء ذلك، ولا يحتاج هذا إلى توجيه كونه تبيانا إلى ما احتاج إليه حمل كل شيء على أمور الدين مطلقا من قولنا: إنه باعتبار أن فيه نصا على البعض وإحالة للبعض الآخر على السنة إلخ، واختار بعض المتأخرين إن كل شيء على ظاهره إلا أن المراد بالتبيان التبيان على سبيل الإجمال وما من شيء إلا بين في الكتاب حاله إجمالا، ويكفي في ذلك بيان بعض أحواله والمبالغة باعتبار الكمية لا الكيفية على ما علمت سابقا، ولو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 453 حمل التبيان على ما يعم الإجمال والتفصيل مع اعتبار المبين لهم واعتبر التوزيع جاز أيضا فليتدبر، ونصب تِبْياناً على الحال كما قال أبو حيان. وجوز أن يكون مفعولا من أجله أي نزلنا عليك الكتاب لأجل التبيان وَهُدىً وَرَحْمَةً للجميع بقرينة قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] وحرمان الكفرة من جهة تفريطهم وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ خاصة، وجوز صرف الجميع لهم لأنهم المنتفعون بذلك أو لأنه الهداية الدلالة الموصولة والرحمة الرحمة التامة. إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ أي فيما نزله عليك تبيانا لكل شيء، وإيثار صيغة الاستقبال فيه وفيما بعده لإفادة التجدد والاستمرار بِالْعَدْلِ أي بمراعاة التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط وهو رأس الفضائل كلها يندرج تحته فضيلة القوة العقلية الملكية من الحكمة المتوسطة بين الجهبذة والبلادة، وفضيلة القوة الشهوية البهيمية من العفة المتوسطة بين الخلاعة والجمود، وفضيلة القوة الغضبية السبعية من الشجاعة المتوسطة بين التهور والجبن. فمن الحكم الاعتقادية التوحيد المتوسط بين التعطيل ونفي الصنائع كما تقوله الدهرية والتشريك كما تقوله الثنوية والوثنية، وعليه اقتصر ابن عباس في تفسير العدل على ما رواه عنه البيهقي في الأسماء والصفات. وابن جرير. وابن المنذر. وغيرهم، وضم إليه بعضهم القول بالكسب المتوسط بين محض الجبر والقدر. ومن الحكم العملية التعبد بأداء الواجبات المتوسط بين الباطلة وترك العمل لزعم أنه لا فائدة فيه إذ الشقي والسعيد متعينان في الأزل كما ذهب إليه بعض الملاحدة والترهب بترك المباحات تشبيها بالرهبان. ومن الحكم الخلقية الجود المتوسط بين البخل والتبذير. وعن سفيان بن عيينة أن العدل استواء السريرة والعلانية في العمل. وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: دعاني عمر بن عبد العزيز فقال لي: صف لي العدل فقلت بخ سألت عن أمر جسيم كن لصغير الناس أبا ولكبيرهم ابنا وللمثل منهم أخا وللنساء كذلك وعاقب الناس على قدر ذنوبهم وعلى قدر أجسادهم ولا تضربن لغضبك سوطا واحدا فتكون من العادين، ولعل اختيار ذلك لأنه الأوفق بمقام السائل وإلا فما تقدم في تفسيره أولى وَالْإِحْسانِ أي إحسان الأعمال والعبادة أي الإتيان بها على الوجه اللائق، وهو إما بحسب الكيفية كما يشير إليه ما رواه البخاري من قوله صلى الله عليه وسلم: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» أو بحسب الكمية كالتطوع بالنوافل الجابرة لما في الواجبات من النقص، وجوز أن يراد بالإحسان المتعدي بإلى لا المتعدي بنفسه فإنه يقال: أحسنه وأحسن إليه أي الإحسان إلى الناس والتفضل عليهم، فقد أخرج ابن النجار في تاريخه من طريق العكلي عن أبيه قال: مر علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه بقوم يتحدثون فقال: فيم أنتم؟ فقالوا: نتذاكر المروءة فقال: أو ما كفاكم الله عز وجل ذاك في كتابه إذ يقول: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ فالعدل الإنصاف والإحسان التفضل فما بقي بعد هذا، وأعلى مراتب الإحسان على هذا الإحسان إلى المسيء وقد أمر به نبينا صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن أبي حاتم عن الشعبي قال: قال عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام: إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك، وابن عباس رضي الله تعالى عنهما بعد ما فسر العدل بالتوحيد فسر الإحسان بأداء الفرائض، وفيه اعتبار الإحسان متعديا بنفسه، وقيل: العدل أن ينصف وينتصف والإحسان أن ينصف ولا ينتصف وقيل العدل في الأفعال والإحسان في الأقوال. وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى أي إعطاء الأقارب حقهم من الصلة والبر، وهذا داخل في العدل أو الإحسان وصرح به اهتماما بشأنه، والظاهر أن المراد بذي القربى ما يعم سائر الأقارب سواء كانوا من جهة الأم أو من جهة الأب، وهذا هو المراد بذوي الأرحام الذين حث الشارع صلى الله عليه وسلم على صلتهم على الأصح، وقيل: ذوو الأرحام الأقارب من جهة الأم، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 454 وذكر الطبرسي أن المروي عن أبي جعفر أن المراد من ذي القربى هنا قرابته صلى الله عليه وسلم المرادون في قوله سبحانه: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى. وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ الإفراط في متابعة القوة الشهوية كالزنا مثلا، وفسر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الفحشاء به، ولعله تمثيل لا تخصيص وَالْمُنْكَرِ ما ينكر على متعاطيه من الإفراط في إظهار القوة الغضبية، وعن ابن عباس. ومقاتل تفسيره بالشرك، وعن ابن السائب أنه ما وعد عليه بالنار، وعن ابن عيينة أنه مخالفة السريرة للعلانية، وقيل: ما لا يوجب الحد في الدنيا لكن يوجب العذاب في الآخرة. وقال الزمخشري: ما تنكره العقول. وتعقبه ابن المنير فقال: إنه لفتة إلى الاعتزال ولو قال: المنكر ما أنكره الشرع لوافق الحق لكنه لا يدع بدعة المعتزلة في التحسين والتقبيح بالعقل، وقال في الكشف بعد قوله: ما تنكره العقول أي بعد رده إلى قوانين الشرع فالإنكار بالعقل بالضرورة، وإنما الخلاف في مأخذه والمقصود أن ما يمكن أن يجري على المذهبين لا يحق المحاقة فيه وهو كالتعريض بابن المنير، واستظهر أبو حيان أن المنكر أعم من الفحشاء قال: لاشتماله على المعاصي والرذائل، وعلى (1) أولا ليس الأمر كذلك وسيأتي إن شاء الله تعالى وَالْبَغْيِ الاستعلاء والاستيلاء على الناس والتجبر عليهم، وهو من آثار القوة الوهمية الشيطانية التي هي حاصلة من رذيلتي القوتين المذكورتين الشهوانية والغضبية، وأصل معنى البغي الطلب ثم اختص بطلب التطاول بالظلم والعدوان، ومن ثم فسر بما فسر وبذلك فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وتخصيص كل من المتعاطفات الثلاثة المنهي عنها بالإشارة إلى قوة من القوى الثلاثة مما ذهب إليه غير واحد. واعترض بأن ذلك مما لا دليل عليه، وقال بعضهم: المنكر أعم الثلاثة باعتبار أن المراد به ما ينكره الشرع ويقبحه من الأقوال أو الأفعال سواء عظم قبحه ومفسدته أم لا وسواء كان متعديا إلى الغير أم لا، وأن المراد بالفحشاء ما عظم قبحه من ذلك، ومنه قيل لمن عظم قبحه في البخل فاحش، وعلى ذلك حمل الراغب قول الشاعر: أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي ... عقيلة مال الفاحش المتشدد والبغي التطاول بالظلم والعدوان ففي الآية عطف العام على الخاص وعطف الخاص على العام، وقيل: المراد بالفحشاء مقابل العدل ويفسر بما خرج عن سنن الاعتدال إلى جانب الإفراط، وبالمنكر ما يقابل ما فيه الإحسان ويفسر بما أتى به على غير الوجه اللائق بل على وجه ينكر ويستقبح وبالبغي ما يقابل إيتاء ذي القربى ويفسر بما فسر ويكون قد قوبل في الآية الأمر بالنهي وكل من المأمور به بكل من المنهي عنه وجمع بين الآمر والنهي مع أن الأمر بالشيء نهي عن ضده والنهي عن الشيء أمر بضده لمزيد الاهتمام والاعتناء. والإمام الرازي قد أطال الكلام في هذا المقام وذكر أن ظاهر الآية يقتضي المغايرة بين الثلاثة المأمور بها ويقتضي أيضا المغايرة بين الثلاثة المنهي عنها وشرع في بيان المغايرة بين الأول ثم قال: والحاصل أن العدل عبارة عن القدر الواجب من الخيرات والإحسان عبارة عن الزيادة في الطاعات بحسب الكمية وبحسب الكيفية وبحسب الدواعي والصوارف وبحسب الاستغراق في شهود مقام العبودية والربوبية، ويدخل في تفسيره العظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلقه سبحانه، ومن الظاهر أن الشفقة على الخلق أقسام كثيرة أشرفها وأجلها صلة الرحم لا جرم أنه سبحانه أفرده بالذكر، ثم شرع في بيان المغايرة بين الأخيرة وقال: تفصيل القول في ذلك أنه تعالى أودع في النفس البشرية قوى أربعة وهي الشهوانية البهيمية والغضبية السبعية والوهمية   (1) محل هذا البياض كلمة مقطوعة في نسخة المؤلف وهو من كلام المؤلف وليس من كلام أبي حيان ولعلها ما فسر به. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 455 الشيطانية والعقلية الملكية، وهذه الأخيرة لا يحتاج الإنسان إلى تهذيبها لأنها من جوهر الملائكة عليهم السلام ونتائج الأرواح القدسية العلوية وإنما المحتاج إلى التهذيب الثلاثة قبلها، ولما كانت الأولى أعني القوة الشهوانية إنما ترغب في تحصيل اللذات الشهوانية وكان هذا النوع مخصوصا باسم الفحش- ألا ترى أنه تعالى سمى الزنا فاحشة- أشار إلى تهذيبها بقوله سبحانه: وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ المراد منه المنع من تحصيل الذات الشهوانية الخارجة عن إذن الشريعة، ولما كانت الثانية أعني القوة الغضبية السبعية تسعى أبدا في إيصال الشر والبلاء والإيذاء إلى سائر الناس أشار سبحانه إلى تهذيبها بنهيه تعالى عن المنكر إذ لا شك أن الناس ينكرون تلك الحالة فالمنكر عبارة عن الإفراط الحاصل في آثار القوة الغضبية، ولما كانت الثالثة أعني القوة الوهمية الشيطانية تسعى أبدا في الاستعلاء على الناس والترفع وإظهار الرياسة والتقدم أشار سبحانه إلى تهذيبها بالنهي عن البغي إذ لا معنى له إلا التطاول والترفع على الناس، ثم قال: ومن العجائب في هذا الباب أن العقلاء قالوا: أخس هذه القوى الثلاث الشهوانية وأوسطها الغضبية وأعلاها الوهمية، والله تعالى راعى هذا الترتيب فبدأ سبحانه بذكر الفحشاء التي هي نتيجة القوة الشهوانية ثم بالمنكر الذي هو نتيجة القوة الغضبية ثم بالبغي الذي هي نتجية القوة الوهمية اه. وما تقدم عن غير واحد مأخوذ من هذا، ولينظر هل يثبت بما قرره دليل التخصيص فيندفع الاعتراض السابق أم لا، ثم إن الظاهر عليه أن عطف البغي على ما قبله كعطف إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى على ما قبله. وبالجملة أن الآية كما أخرج البخاري في الأدب. والبيهقي في شعب الإيمان. والحاكم وصححه عن ابن مسعود أجمع آية للخير والشر، وأخرج البيهقي عن الحسن نحو ذلك، وأخرج الباوردي. وأبو نعيم في معرفة الصحابة عن عبد الملك بن عمير قال: بلغ أكتم بن صيفي مخرج رسول الله فأراد أن يأتيه فأتى قومه فانتدب رجلان فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: نحن رسل أكتم يسألك من أنت وما جئت به؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا محمد بن عبد الله ورسوله ثم تلا عليهم هذه الآية إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ إلخ قالوا: ردد علينا هذا القول فردده عليه الصلاة والسلام عليهم حتى حفظوه فأتيا أكتم فأخبراه فلما سمع الآية قال: إني لأراه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن مذامها فكونوا في هذا الأمر رأسا ولا تكونوا فيه أذنابا. وقد صارت هذه الآية أيضا كما أخرج أحمد والطبراني والبخاري في الأدب عن ابن عباس سبب استقرار الإيمان في قلب عثمان بن مظعون ومحبته للنبي صلى الله عليه وسلم ولجمعها ما جمعت أقامها عمر بن عبد العزيز حين آلت الخلافة إليه مقام ما كان بنو أمية غضب الله تعالى عليهم يجعلونه في أواخر خطبهم من سب علي كرم الله تعالى وجهه ولعن كل من بغضه وسبه وكان ذلك من أعظم مآثره رضي الله تعالى عنه، وقال غير واحد: لو لم يكن في القرآن غير هذه الآية الكريمة لكفت في كونه تبيانا لكل شيء وهدى. ولعل إيرادها عقيب قوله تعالى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ للتنبيه عليه فإنها إذا نظر إلى أنها قد جمعت ما جمعت مع وجازتها استيقظت عيون البصائر وتحركت للنظر فيما عداها وأخرج أحمد عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت عند رسول الله جالسا إذ شخص بصره فقال: أتاني. جبريل عليه السلام فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع إن الله يأمر إلخ. واستدل بها على أن صيغة تتناول الواجب والمندوب وموضوعها القدر المشترك وتحقيق ذلك في الأصول. يَعِظُكُمْ أي ينبهكم بما يأمر وينهى سبحانه أحسن تنبيه، وهو إما استئناف وإما حال من الضمير في الفعلين لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ طلبا لأن تتعظوا بذلك وتنتبهوا. وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ قال قتادة. ومجاهد: نزلت فيما كان من تحالف الجاهلية في أمر بمعروف أو نهي عن منكر، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مزيدة بن جابر أنها نزلت في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم كان من أسلم بايع على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 456 الإسلام. وظاهره أنها في البيعة على الإسلام مطلقا، فالمراد بعهد الله تلك البيعة كما نص عليه غير واحد. واعترض بأن الظاهر أنه عام في كل موثق وهو الي يقتضيه كلام ميمون بن مهران، وسبب النزول ليس من المخصصات، ولذا قالوا: الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وأجيب بأن قرينة التخصيص قوله تعالى فيما قبل: إن الَّذِينَ كَفَرُوا بالآية، وفيه نظر، وقال الأصم: المراد به الجهاد وما فرض في الأموال من حق ولا يلائمه قوله تعالى: إِذا عاهَدْتُمْ وقيل: المراد به النذر، وقيل: اليمين: وتعقب ذلك الإمام بأنه حينئذ يكون قوله تعالى. وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها تكرارا لأن الوفاء بالعهد والمنع من النقض متقاربان لأن الأمر بالفعل يستلزم النهي عن الترك، وإذا حمل العهد على العموم بحيث دخل تحته اليمين كان هذا من باب تخصيص بعض الإفراد بالذكر للاعتناء به وبعض من فسر العهد بالبيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمل الأيمان على ما وقع عند تلك البيعة، وجوز بعضهم حملها على مطلق الأيمان. وفي الحواشي السعدية أن الظاهر أن المراد بها الأشياء المحلوف عليها كما في قوله عليه الصلاة والسلام: «ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه» لأنه لو كان المراد ذكر اسم الله تعالى كان عين التأكيد لا المؤكد فلم يكن محل ذكر العطف كما تقرر في المعاني ورد بأن المراد بها العقد لا المحلوف عليه لأن النقض إنما يلائم العقد ولا ينافي ذلك قوله تعالى: بَعْدَ تَوْكِيدِها لأن المراد كون العقد مؤكدا بذكر الله تعالى لا بذكر غيره كما يفعله العامة الجهلة فالمعنى أن ذلك النهي لما ذكر لا عن نقض الحلف بغير الله تعالى وقال الواحدي: إن قوله سبحانه: بَعْدَ تَوْكِيدِها لإخراج لغو اليمين نحو لا والله بلى والله بناء على أن المعنى بعد توكيدها بالعزم والعقد ولغو اليمين ليست كذلك. ثم إذا حمل الإيمان على مطلقها فهو- كما قال الإمام- عام دخله التخصيص بالحديث السابق الدال على أنه متى كان الصلاح في نقض اليمين جاز نقضها. وتعقب بأن فيه تأملا لأن الحظر لو لم يكن باقيا لما احتيج إلى الكفارة الساترة للذنب. وأجيب بأن وجوب الكفارة بطريق الزجر إذ أصل الإيمان الانعقاد ولو محظوره فلا ينافي لزوم موجبها، وجوز أن يقال: إن ذلك للإقدام على الحلف بالله تعالى في غير محله فليتأمل، والتوكيد التوثيق، ومنه أكد بقلب الواو همزة على ما ذهب إليه الزجاج وغيره، من النحاة، وذهب آخرون إلى أن وكد وأكد لغتان أصليتان لأن الاستعمالين في المادة متساويان فلا يحسن القول بأن الواو بدل من الهمزة كما في الدر المصون وهو الذي اختاره أبو حيان. وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا أي شاهدا رقيبا فإن الكفيل مراع لحال المكفول به رقيب عليه واستعمال الكفيل في ذلك إما من باب الاستعارة أو المجاز المرسل والعلاقة اللزوم. والظاهر أن جعلهم مجاز أيضا لأنهم لما فعلوا ذلك والله تعالى مطلع عليهم فكأنهم جعلوه سبحانه شاهد قاله الخفاجي ثم قال: ولو أبقي الكفيل على ظاهره وجعل تمثيلا لعدم تخلصهم من عقوبته وإنه يسلمهم لها كما يسلم الكفيل من كفله كما يقال: من ظلم فقد أقام كفيلا بظلمه تنبيها على أنه لا يمكنه التخلص من العقوبة كما ذكره الراغب لكان معنى بليغا جدا فتدبر. والظاهر أن الجملة في موضع الحال من فاعل تَنْقُضُوا وجوز أن تكون حالا من فاعل المصدر وإن كان محذوفا، وقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ أي من النقض فيجازيكم على ذلك في وضع التعليل للنهي السابق، وقال الخفاجي: إنه كالتفسير لما قبله وَلا تَكُونُوا فيما تصنعون من النقض كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مصدر بمعنى المفعول أي مغزولها، والفعل منه غزل يغزل بكسر الزاي، والنقض ضد الإبراء، وهو في الجرم فك أجزائه بعضها من بعض، وقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ متعلق بنقضت على أنه ظرف له لا حال و الجزء: 7 ¦ الصفحة: 457 من- زائدة مطردة في مثله أي كالمرأة التي نقضت غزلها من بعد إبرامه وإحكامه. أَنْكاثاً جمع نكث بكسر النون وهو ما ينكث فتله وانتصابه قيل على إنه حال مؤكدة من غَزْلَها وقيل: على أنه مفعول ثان لنقض لتضمنه معنى جعل، وجوز الزجاج كون النصب المصدرية لأن نَقَضَتْ بمعنى نكثت فهو ملاق لعامله في المعنى. وقال في الكشف: إن جعله مفعولا على التضمين أولى من جعله حالا أو مصدرا، وفي الإتيان به مجموعا مبالغة وكذلك في حذف الموصوفة ليدل على الخرقاء الحمقاء وما أشبه ذلك، وفي الكشاف ما يشير إلى اعتبار التضمين حيث قال: أي لا تكونوا كالمرأة التي أنحت على غزلها بعد أن أحكمته فجعلته أنكاثا، وفي قوله: أنحت- على ما قال القطب- إشارة إلى أن نَقَضَتْ مجاز عن أرادت النقض على حد قوله تعالى: «إذا قمتم إلى الصلاة» وذكر أنه فسر بذلك جمعا بين القصد والفعل ليدل على حماقتها واستحقاقها اللوم بذلك فإن نقضها لو كان من غير قصد لم تستحق ذلك ولأن التشبيه كلما كان أكثر تفصيلا كان أحسن، ولا يخفى ما في اعتبار التضمين وهذا المجاز من التكلف وكأنه لهذا قيل: إن اعتبار القصد لأن المتبادر من الفعل الاختياري وفي الكشف خرج ذلك المعنى من قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ فإن نقض المبرم لا يكون إلا بعد إنحاء بالغ وقصد تام ولم يرد بالموصول امرأة بعينها بل المراد من هذه صفته ففي الآية حال الناقض بحال الناقض في أخس أحواله تحذيرا منه وإن ذلك ليس من فعل العقلاء وصاحبه داخل في عداد حمقى النساء، وقيل: المراد امرأة معلومة عند المخاطبين كانت تغزل فإذا برمت غزلها تنقضه وكانت تسمى خرقاء مكة، قال ابن الأنباري: كان اسمها ربطة بنت عمرو المرية تلقب الحفراء، وقال الكلبي. ومقاتل: هي امرأة من قريش اسمها ربطة بنت سعد التيمي اتخذت مغزلا قدر ذراع وصنارة مثل أصبع وفلكه عظيمة على قدرها فكانت تغزل هي وجوارها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بكر بن حفص قال: كانت سعيدة الأسدية مجنونة تجمع الشعر والليف فنزلت هذه الآية وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها ورورى ابن مردويه عن ابن عطاء أنها شكت جنونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلبت أن يدعو لها بالمعافاة فقال لها عليه الصلاة والسلام «إن شئت دعوت فعافاك الله تعالى وإن شئت صبرت واحتسبت ولك الجنة» فاختارت الصبر والجنة، وذكر عطاء أن ابن عباس أراه إياها، وعن مجاهد هذا فعل نساء نجد تنقض إحداهن غزلها ثم تنفشه فتغزله بالصوف، وإلى عدم التعيين ذهب قتادة عليه الرحمة تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ حال من الضمير في لا تَكُونُوا أو في الجار والمجرور الواقع موقع الخبر. وجوز أن يكون خبر تكونوا وكَالَّتِي نقضت في موضع الحال وهو خلاف الظاهر، وقال الإمام: الجملة مستأنفة على سبيل الاستفهام الإنكاري أن أتتخذون، والدخل في الأصل ما يدخل الشيء ولم يكن منه ثم كني به عن الفساد والعداوة المستبطنة كالدغل، وفسره قتادة بالغدر والخيانة، ونصبه على أنه مفعول ثان، وقيل: على المفعولية من أجله، وفائدة وقوع الجملة حالا الإشارة إلى وجه الشبه أي لا تكونوا مشبهين بامرأة هذا شأنها متخذين أيمانكم وسيلة للغدر والفساد بينكم أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ أي بأن تكون جماعة هِيَ أَرْبى أي أزيد عددا وأوفر مالا مِنْ أُمَّةٍ أي من جماعة أخرى، والمعنى لا تغدروا بقوم بسبب كثرتهم وقلتهم بل حافظوا على أيمانكم معهم، وأخرج ابن جرير. وابن المنذر. وغيرهما عن مجاهد أنه قال: كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعز فينقضون حلفهم ويحالفون الذين هم أعز فنهوا عن ذلك لا تغدروا بجماعة بسبب أن تكون جماعة أخرى أكثر منها وأعز بل عليكم الوفاء بالأيمان والمحافظة عليها وإن قل من خلفتم له وكثر الآخر وجوز في «تكون» أن تكون تامة وناقصة وفي- هي- أن يكون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 458 مبتدأ وعمادا «فأربى» إما مرفوع أو منصوب وأنت تعلم أن البصريين لا يجوزون كون هِيَ عماد التنكير أُمَّةٌ. وزعم بعض الشيعة أن هذه الآية قد حرفت وأصلها أن تكون أئمة هي أزكى من أئمتكم ولعمري قد ضلوا سواء السبيل إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ الضمير المجرور عائد إما على المصدر المنسبك من أَنْ تَكُونَ أو على المصدر المنفهم من أَرْبى وهو الربو بمعنى الزيادة، وقول ابن جبير. وابن السائب. ومقاتل يعني بالكثرة مرادهم منه هذا واكتفوا ببيان حاصل المعنى، وظن ابن الأنباري أنهم أرادوا أن الضمير راجع إلى نفس الكثرة لكن لما كان تأنيثها غير حقيقي صح التذكير وهو كما ترى، وقيل: إنه لأربى لتأويله بالكثير، وقيل للأمر بالوفاء المدلول عليه بقوله تعالى- وأوفوا- إلخ ولا حاجة إلى جعله منفهما من النهي عن الغدر بالعهد واختار بعضهم الأول لأنه أسرع تبادرا أي يعاملكم معاملة المختبر بذلك الكون لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله تعالى وبيعة رسوله عليه الصلاة والسلام أم تغترون بكثرة قريش وشوكتهم وقلة المؤمنين وضعفهم بحسب ظاهر الحال وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فيجازيكم بأعمالكم ثوابا وعقابا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أيها الناس أُمَّةً واحِدَةً متفقة على الإسلام وَلكِنْ لا يشاء ذلك رعاية للحكمة بل يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ إضلاله بأن يخلق فيه الضلال حسبما يصرف اختياره التابع لاستعداده له وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ هدايته حسبما يصرف اختياره التابع لاستعداده لتحصيلها وَلَتُسْئَلُنَّ جميعا يوم القيامة سؤال محاسبة ومجازاة لا سؤال استفسار وتفهم عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تستمرون على عمله في الدنيا بقدركم المؤثرة بإذن الله تعالى، والآية ظاهرة في أن مشيئة الله تعالى لا سلام الخلق كلهم ما وقعت وأنه سبحانه إنما شاء منهم الافتراق والاختلاف، فإيمان وكفر وتصديق وتكذيب ووقع الأمر كما شاء جل وعلا، والمعتزلة ينكرون كون الضلال بمشيئته تعالى ويزعمون أنه سبحانه إنما شاء من الجميع الإيمان ووقع خلاف ما شاء عز شأنه وأجاب الزمخشري عن الآية بأن المعنى لو شاء على طريقة الإلجاء والقسر لجعلكم أمة واحدة مسلمة فإنه سبحانه قادر على ذلك لكن اقتضت الحكمة أن يضل ويخذل من يشاء ممن علم سبحانه أنه يختار الكفر ويصمم عليه ويهدي من يشاء بأن يلطف بمن علم أنه يختار الإيمان، والحاصل أنه تعالى بنى الأمر على الاختيار وعلى ما يستحق به اللطف والخذلان والثواب والعقاب ولم ينبه على الإجبار الذي لا يستحق به شيء ولو كان العبيد مضطرين للهداية والضلال لما أثبت سبحانه لهم عملا يسئلون عنه بقوله: وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اه، وللعسكري نحوه، وقد قدمنا لك غير مرة أن المذهب الحق على ما بينه علامة المتأخرين الكوراني وألف فيه عدة رسائل أن للعبد قدرة مؤثرة بإذن الله تعالى لا إنه لا قدرة له أصلا كما يقول الجبرية ولا أن له قدرة مقارنة غير مؤثرة كما هو المشهور عند الأشعري ولا أن له قدرة مؤثرة وإن لم يؤذن لله تعالى كما يقول المعتزلة وإن له اختيارا أعطيه بعد طلب استعداده الثابت في علم الله تعالى له فللعبد في هذا المذهب اختيار والعبد مجبور فيه بمعنى أنه لا بد من أن يكون له لأن استعداده الأزلي الغير المجعول قد طلبه من الجواد المطلق والحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها والإثابة والتعذيب إنما يترتبان على الاستعداد للخير والشر الثابت في نفس الأمر والخير والشر يدلان على ذلك نحو دلالة الأثر على المؤثرة والغاية على ذي الغاية وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ومن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه. وقال ابن المنير: إن أهل السنة عن الإجبار بمعزل لأنهم يثبتون للعبد قدرة واختيارا وأفعالا وهم مع ذلك يوحدون الله تعالى حق توحيده فيجعلون قدرته سبحانه هي الموجدة والمؤثرة وقدرة العبد مقارنة فحسب وبذلك يميز بين الاختياري والقسري وتقوم حجة الله تعالى على عباده اه وهذا هو المشهور من مذهب الأشعرية وهو كما ترى، وسيأتي ان شاء الله تعالى تمام الكلام في هذا المقام وما فيه من النقض والإبرام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 459 وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ قالوا هو تصريح بالنهي عن اتخاذ الأيمان دخلا بعد التضمين لأن الاتخاذ المذكور فيما سبق وقع قيدا للمنهي عنه فكان منهيا عنه ضمنا تأكيدا ومبالغة في قبح المنهي عنه وتمهيدا لقوله تعالى: فَتَزِلَّ قَدَمٌ عن محجة الحق بَعْدَ ثُبُوتِها عليها ورسوخها فيها بالإيمان، وقيل ما تقدم كان نهيا عن الدخول في الحلف ونقض العهد بالقلة والكثرة وما هنا نهي عن الدخل في الأيمان التي يراد بها اقتطاع الحقوق فكأنه قيل: لا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم لتتوصلوا بذلك إلى قطع حقوق المسلمين. وقال أبو حيان: لم يتكرر النهي فإن ما سبق إخبار بأنهم اتخذوا أيمانهم دخلا معللا بشيء خاص وهو أن تكون أمة هي أربى من أمة وجاء النهي المستأنف الإنشائي عن اتخاذ الإيمان دخلا على العموم فيشمل جميع الصور من الحلف في المبايعة وقطع الحقوق المالية وغير ذلك. ورد بأن قيد المنهي عنه فليس إخبارا صرفا ولا عموم في الثاني لأن قوله تعالى: فَتَزِلَّ إلخ إشارة إلى العلة السابقة إجمالا على أنه قد يقال إن الخاص مذكور في ضمن العام أيضا فلا محيص عن التكرار أيضا ولو سلم ما ذكره فتأمل، ونصب- تزل- بأن مضمرة في جواب النهي لبيان ما يترتب عليه ويقتضيه، قال في البحر: وهو استعارة للوقوع في أمر عظيم لأن القدم إذا زلت انقلب الإنسان من حال خير إلى حال شر، وتوحيد القدم وتنكيرها- كما قال الزمخشري- للإيذان بأن زلل قدم واحدة أي قدم كانت عزت أو هانت محذور عظيم فكيف بأقدام، وقال أبو حيان: إن الجمع تارة يلحظ فيه المجموع من حيث هو مجموع وتارة يلحظ فيه كل فرد فرد وفي الأول يكون الإسناد معتبرا فيه الجمعية وفي الثاني يكون الإسناد مطابقا للفظ الجمع كثيرا فيجمع ما أسند إليه ومطابقا لكل فرد فيفرد كقوله تعالى: وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً [يوسف: 31] فأفرد المتكأ لما لوحظ في لَهُنَّ كل واحدة منهن ولو جاء مرادا به الجمعية أو على الكثير في الوجه الثاني لجمع وعلى هذا ينبغي أن يحمل قوله: فإني وجدت الضامرين متاعهم ... يموت ويفنى فارضخي من وعائيا أي كل ضامر، ولذا أفرد الضمير في يموت ويفنى، ولما كان المعنى هنا لا يتخذ كل واحد منكم جاء فَتَزِلَّ قَدَمٌ مراعاة لهذا المعنى. ثم قال سبحانه وَتَذُوقُوا السُّوءَ مراعاة للمجموع أو للفظ الجمع على الوجه الكثير إذا قلنا: إن الإسناد لكل فرد فرد فتكون الآية قد تعرضت للنهي عن اتخاذ الأيمان دخلا باعتبار المجموع وباعتبار كل فرد ودل على ذلك بإفراد قَدَمٌ وجمع الضمير في وَتَذُوقُوا. وتعقب بأن ما ذكره الزمخشري نكتة سرية وهذا توجيه للأفراد من جهة العربية فلا ينافي النكتة المذكورة، والمراد من السوء العذاب الدنيوي من القتل والأسر والنهب والجلاء غير ذلك مما يسوء ولا يخفى ما في تَذُوقُوا من الاستعارة بِما صَدَدْتُمْ بسبب صدودكم وإعراضكم أو صد غيركم ومنعه عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الذي ينتظم الوفاء بالعهود والأيمان فإن من نقض البيعة وارتد جعل ذلك سنة لغيره يتبعه فيها من بعده من أهل الشقاء والإعراض عن الحق فيكون صادا عن السبيل. وجعل هذه بعضهم دليلا أن الآية فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كما ترى وَلَكُمْ في الآخرة عَذابٌ عَظِيمٌ لا يعلم عظمه إلا الله تعالى وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ المراد به عند كثير بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإيمان والاشتراء مجاز عن الاستبدال لمكان قوله تعالى: ثَمَناً قَلِيلًا فإن الثمن مشتري به أي لا تأخذوا بمقابلة عهده تعالى عوضا يسيرا من الدنيا، قال الزمخشري: كان قوم ممن أسلم بمكة زين لهم الشيطان لجزعهم مما رأوا من غلبة قريش واستضعافهم المسلمين وإيذائهم لهم ولما كانوا يعدونهم من المواعيد إن رجعوا أن ينقضوا ما بايعوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فثبتهم الله تعالى بهذه الآية ونهاهم عن أن يستبدلوا ذلك بما وعدوهم به من عرض الدنيا، وقال ابن عطية: هذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 460 نهي عن الرشا وأخذ الأموال على ترك ما يجب على الآخذ فعله أو فعل ما يجب عليه تركه، فالمراد بعهد الله تعالى ما يعم ما تقدم وغيره ولا يخفى حسنه إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ أي ما أخباه وادخره لكم في الدنيا والآخرة هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ من ذلك الثمن القليل إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي إن كنتم من أهل العلم والتمييز، فالفعل منزل منزلة اللازم، وقى: متعد والمفعول محذوف وهو فضل ما بين العوضين والأول أبلغ ومستغن عن التقدير، وفي التعبير بإن ما لا يخفى، والجملة تعليل للنهي على طريقة التحقيق كما أن قوله تعالى: ما عِنْدَكُمْ إلخ تعليل للخيرية بطريق الاستئناف أي ما تتمتعون به من نعيم الدنيا بل الدنيا وما فيها جميعا يَنْفَدُ ينقضي ويفنى وإن جم عدده وطال مدده، يقال: نفد بكسر العين ينفد بفتحها نفادا ونفودا إذا ذهب وفني، وأما نفذ بالذال المعجمة فبفتح العين ومضارعه ينفذ بضمها وَما عِنْدَ اللَّهِ من خزائن رحمته الدنيوية والأخروية باقٍ لا نفاد له أما الأخروية فظاهر، وأما الدنيوية فحيث كانت موصولة بالأخروية ومستتبعة لها فقد انتظمت في سلك الباقيات الصالحات. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أن المراد بما عند الله في الموضعين الثواب الأخروي واختاره بعض الأئمة، وفي إيثار الاسم على صيغة المضارع من الدلالة على الدوام ما لا يخفى. ورد بالآية على جهم بن صفوان حيث زعم أن نعيم الجنة منقطع. وقوله تعالى: وَلَنَجْزِيَنَّ بنون العظمة وهي قراءة عاصم. وابن كثير على طريقة الالتفات من الغيبة إلى التكلم تكرير للوعد المستفاد من قوله سبحانه: إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ على نهج التوكيد القسمي مبالغة في الحمل على الثبات على العهد. وقرأ باقي السبعة بالياء فلا التفات. والعدول عما يقتضيه ظاهر الحال من أن يقال: ولنجزينكم- بالنون أو بالياء- أجركم بأحسن ما كنتم تعلمون للتوسل إلى التعرض لاعمالهم والاشعار بعليتها للجزاء أي والله لنجزين الَّذِينَ صَبَرُوا على العهد أو على أذية المشركين ومشاق الإسلام التي من جملتها الوفاء بالعهود وإن وعد المعاهدون على نقضها بما وعدوا أَجْرَهُمْ مفعول لَنَجْزِيَنَّ أي نعطينهم أجرهم الخاص بهم بمقابلة صبرهم بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ وهو الصبر فإنه من الأعمال القلبية، والكلام على حذف مضاف أي لنجزينهم بجزاء صبرهم، وكان الصبر أحسن الأعمال لاحتياج جميع التكاليف إليه فهو رأسها قاله أبو حيان. وفي إرشاد العقل السليم إنما أضيف الأحسن إلى مذاكر للإشعار بكمال حسنه كما في قوله: وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ [آل عمران: 148] لا لإفادة قصر الجزاء على الأحسن منه دون الحسن فإن ذلك مما لا يخطر ببال أحد لا سيما بعد قوله تعالى: «أجرهم» فالإضافة للترغيب. وجوز أن يكون المعنى لنجزينهم بحسب أحسن أفراد أعمالهم أي لنعطينهم بمقابلة الفرد الأدنى من أعمالهم ما نعطيه بمقابلة الفرد الأعلى منها من الأجر الجزيل لا أنا نعطي الأجر بحسب أفرادها المتفاوتة في مراتب الحسن بأن نجزي الحسن منها بالحسن والأحسن بالأحسن، وفيه ما لا يخفى من العدة الجميلة باغتفار ما عسى يعتريهم في تضاعيف الصبر من بعض جزع ونظمه في سلك الصبر الجميل، وأن يكون أحسن صفة جزاء محذوفا والإضافة على معنى من التفضيلية أي لنجزينهم بجزاء أحسن من أعمالهم، وكونه أحسن لمضاعفته، وقيل: المراد بالأحسن ما ترجح فعله على تركه كالواجبات والمندوبات أو بما ترجح تركه أيضا (1) كالمحرمات والمكروهات والحسن ما لم يترجح فعله ولا تركه وهو لا يثاب عليه. وتعقبة في الإرشاد بأنه لا يساعده مقام الحث على الثبات على ما هم عليه من الأعمال الحسنة المخصوصة والترغيب في تحصيل ثمراتها بل التعرض لإخراج بعض أعمالهم من مدارية الجزاء   (1) في أصل المصنف سقط لفظ «تركه» وزدناه من تفسير أبي السعود لأنه منقول عنه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 461 من قبيل تحجير الرحمة الواسعة في مقام توسيع حماها. وقيل: المراد بالأحسن النفل، وكان أحسن لأنه لم يحتم بل يأتي الإنسان به مختارا غير ملزم، وإذا علمت المجازاة على النفل الذي هو أحسن علمت المجازاة على الفرض الذي هو حسن، ولا يخفى أنه ليس بحسن أصلا مَنْ عَمِلَ صالِحاً أي عملا صالحا أي عمل كان، وهذا- كما قيل- شروع في تحريض كافة المؤمنين على كل عمل صالح غب ترغيب طائفة منهم في الثبات على ما هم عليه من عمل صالح مخصوص دفعا لتوهم الأجر الموفور بهم وبعملهم، وقوله تعالى: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى دفع لتوهم تخصيص مَنْ بالذكور لتبادرهم من ظاهر لفظ مَنْ فإنه مذكر وعاد عليه ضميره وإن شمل النوعين وضعا على الأصح، واستدل عليه بما رواه الترمذي من قوله صلى الله عليه وسلم: «من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله تعالى إليه» وقول أم سلمة: «فكيف تصنع النساء بذيولهن» الحديث فإن أم سلمة رضي الله تعالى عنها فهمت دخول النساء في مَنْ وأقرها على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأنهم أجمعوا على أنه لو قال: من دخل داري فهو حر فدخلها الإماء عتقن، وبعضهم يستدل على ذلك أيضا بهذه الآية إذ لولا تناوله الأنثى وضعا لما صح أن يبين بالنوعين. وفي الكشف كان الظاهر تناوله للذكور من حيث إن الإناث لا يدخلن في أكثر الأحكام والمحاورات وإن كان التناول على طريق التعميم والتغليب حاصلا لكن لما أريد التنصيص ليكون أغبط للفريقين ونصا في تناولهما بين بذكر النوعين اه، والقول الأصح أن التناول لا يحتاج إلى التغليب، وتمام الكلام في ذلك في كتاب الأصول، وقوله تعالى: وَهُوَ مُؤْمِنٌ في موضع الحال من فاعل عَمِلَ وقيد به إذ لا اعتداد بأعمال الكفرة الصالحة في استحقاق الثواب إجماعا، واختلف في ترتب تخفيف العقاب عليها. فقال بعضهم: لا يترتب أيضا لقوله تعالى: وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ [النحل: 85] وقوله تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان: 23] . وقال الإمام: إن إفادة العمل الصالح لتخفيف العقاب غير مشروطة بالإيمان لقوله تعالى: «فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره» وحديث أبي طالب أنه أخف الناس عذابا بالمحبة وحمايته النبي صلى الله عليه وسلم. وفي البحر أن قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة: 7] مخصص بهذه الآية ونحوها أو يراد- بمثقال ذرة- مثقال ذرة من إيمان كما جاء فيمن يخرج من النار من عصاة المؤمنين، وقال الكرماني: إن تخفيف العذاب عن أبي طالب ليس جزاء لعمله بل هو لرجاء غيره أو هو من خصائص نبينا عليه الصلاة والسلام، وقال بعضهم: الإيمان شرط لترتب التخفيف على الأعمال الصالحة إذا كانت مما يتوقف صحتها على النية التي لا تصح من كافر وليس شرطا للترتب عليها إذا لم تكن كذلك، وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام في هذا المقام، وإيثار الجملة الاسمية لإفادة وجوب دوام الإيمان ومقارنته للعمل الصالح في ترتب قوله تعالى: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً إلخ، والمراد بالحياة الطيبة الحياة التي تكون في الجنة إذ هناك حياة بلا موت وغنى بلا فقر وصحة بلا سقم وملك بلا هلك وسعادة بلا شقاوة، أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن الحسن قال: ما تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة، وروي نحوه عن مجاهد. وقتادة. وابن زيد، ولله تعالى در من قال: لا طيب للعيش ما دامت منغصة ... لذاته بادكار الموت والهرم وقال شريك: هي حياة تكون في البرزخ فقد جاء «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار» . وقال غير واحد: هي في الدنيا وأريد بها حياة تصحبها القناعة والرضا بما قسمه الله تعالى له وقدره، فقد أخرج البيهقي في الشعب. والحاكم وصححه وابن أبي حاتم وغيرهم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه فسرها بذلك وقال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو اللهم قنعني بما رزقتني وبارك لي فيه واخلف على كل غائبة لي بخير» وجاء القناعة مال لا ينفد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 462 وقال أبو بكر الوراق: هي حياة تصحبها حلاوة الطاعة، وأخرج عبد الرزاق. وغيره عن ابن عباس أنه سئل عن ذلك فقال: الحياة الطيبة الرزق الحلال، وروي عن الضحاك. ووجه بعضهم طيب هذه الحياة بأنه لا يترتب عليها عقاب بخلاف الحياة بالرزق الحرام فقد جاء «أيما لحم نبت من سحت فالنار أولى به» وهو كما ترى، وقيل: غير ذلك وأولى الأقوال على تقدير أن يكون ذلك في الدنيا تفسيرها بما يصحبه القناعة. قال الواحدي: إن تفسيرها بذلك حسن مختار فإنه لا يطيب في الدنيا إلا عيش القانع وأما الحريص فإنه أبدا في الكد والعناء، وقال الإمام: إن عيش المؤمن في الدنيا أطيب من عيش الكافر لوجوه: الأول أنه لما عرف أن رزقه إنما حصل بتدبير الله تعالى وأنه سبحانه محسن كريم لا يفعل إلا الصواب كان راضيا بكل ما قضاه وقدره وعرف أن مصلحته في ذلك، وأما الجاهل فلا يعرف هذه الأصول فكان أبدا في الحزن والشقاء. الثاني أن المؤمن يستحضر أبدا في عقله أنواع المصائب والمحن ويقدر وقوعها ويجد نفسه راضية بذلك فعند الوقوع لا يستعظمها بخلاف الجاهل فإنه غافل عن تلك المعارف فعند وقوع المصائب يعظم تأثيرها في قلبه. الثالث أن المؤمن منشرح بنور معرفة الله تعالى والقلب إذا كان مملوءا بالمعرفة لم يتسع للأحزان الواقعة بسبب أحوال الدنيا وأما الجاهل فقلبه خال عن المعرفة متفرغ للأحزان من المصائب الدنيوية، الرابع أن المؤمن عارف أن خيرات الحياة الجسمانية خسيسة فلا يعظم فرحه بوجدانها ولا غمه بفقدانها والجاهل لا يعرف سعادة أخرى تغايرها فيعظم فرحه بوجدانها وغمة بفقدانها. الخامس أن المؤمن يعلم أن خيرات الدنيا واجبة التغير سريعة الزوال ولولا تغيرها وانقلابها ما وصلت إليه فعند وصولها إليه لا يتعلق بها قلبه ولا يعانقها معانقة العاشق فلا يحزنه فواتها والجاهل بخلاف اه، وللبحث فيه مجال. وأورد على التفسير المختار أن بعض من عمل صالحا وهو مؤمن لم يرزق القناعة بل قد ابتلي بالقنوع، وأجيب بأن المراد بالمؤمن من كمل إيمانه أو يقال: المراد- بمن عمل صالحا- من كان جميع عمله صالحا. وقال البيضاوي في بيان ترتب إحيائه حياة طيبة: إنه إن كان معسرا فظاهر وإن كان موسرا فطيب عيشه بالقناعة والرضى بالقسمة وتوقع الأجر العظيم في الآخرة أي على تخلف بعض مراداته عنه وضنك عيشه فقال الخفاجي: إن هذه الأمور لا بد من وجود بعضها في المؤمن والأخير- يعني توقع الأجر في الآخرة- عام شامل لكل مؤمن فلا يرد عليه أن هذا لا يوجد في كل من عمل صالحا حتى يؤول المؤمن بمن كمل إيمانه إلى آخر ما سمعت. وتعقب بأن القناعة هي الرضا بالقسم كما في القاموس وغيره وتوقع الأجر العظيم لا يوجد بدون ذلك وكيف يحصل الأجر على تخلف المراد وضنك العيش مع الجزع وعدم الرضا، وكلامه ظاهر في تحقق هذا التوقع وإن لم يكن هناك قناعة ورضا ولا يكاد يقع هذا من مؤمن عارف فلا بد من التأويل. وبحث بعضهم فيه أيضا بأن كمال الإيمان لا يكون بدون الرضا وكذا كون جميع الأعمال صالحة لا يوجد بدونه لأن الأعمال تشمل القلبية والقالبية والرضا من النوع الأول. والمراد من فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً لنعطينه ما تطيب به حياته. فيؤول معنى الآية حينئذ على تقدير أن يراد القناعة والرضا من رضي بالقسمة وفعل كذا وكذا وهو مؤمن أو من عمل صالحا وهو راض بالقسمة متصف بكذا وكذا مما فيه كمال الإيمان فلنعطينه الرضا بالقسمة الذي تطيب به حياته ويتضمن من رضي بالقسمة فلنعطينه الرضا بالقسمة الذي تطيب به حياته وهو كما ترى وفيه ما لا يخفى. نعم تفسير الحياة الطيبة بما يكون في الجنة سالم عن هذا القيل والقال، ويراد بها ما سلمت من توهم الموت والهرم وحلو الألم والسقم فيكون قوله تعالى: «فلنحيينه حياة طيبة» إشارة إلى درء المفاسد، وقوله سبحانه: وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 463 بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ إشارة إلى جلب المصالح ولكون الأول أهم قدم فليتأمل، وكأن المراد ولنجزينهم إلخ حسبما يفعل بالصابرين فليس في الآية شائبة تكرار كما زعم الطبرسي، والجمع في الضمائر العائدة إلى الموصول لمراعاة جانب المعنى كما أن الإفراد فيما سلف لرعاية جانب اللفظ، وإيثار ذلك على العكس بناء على كون الإحياء حياة طيبة في الدنيا وجزاء الأجر في الآخرة لما أن وقوع الجزاء بطريق الاجتماع المناسب للجمعية ووقوع ما في حيز الصلة وما يترتب عليه بطريق الافتراق والتعاقب الملائم للأفراد، وقيل بناء على كون ذلك في الآخرة: إن الجمع والإفراد لما تقدم، وكذا إيثار ذلك على العكس فيما عدا ضمير «لنحيينه» وإما في ضميره فلما أن الإحياء حياة طيبة بمعنى ما سلمت مما تقدم أمر واحد في الجميع لا يتفاوت فيه أهل الجنة فكأنهم في ذلك شيء واحد، ولما لم يكن الجزاء كذلك وكان أهل الجنة فيه متفاوتين جيء بضمير الجمع معه فتأمل كل ذلك. وروي عن نافع أنه قرأ «وليجزينهم» بالياء على الالتفات من التكلم إلى الغيبة. قال أبو حيان: وينبغي أن يكون ذلك على تقدير قسم ثان لا معطوفا علي فَلَنُحْيِيَنَّهُ فيكون من عطف جملة قسمية على مثلها وكلتاهما محذوفتان، ولا يكون من عطف جواب على مثله لتغاير الإسناد وإفضاء الثاني إلى إخبار المتكلم عن نفسه إخبار الغائب وذلك لا يجوز، وعلى هذا لا يجوز زيد قال لأضربن هند أو لينفينها تريد ولينفينها زيد فإن جعلته على إضمار قسم ثان جاز أي وقال زيد لينفينها لأن في هذا التركيب حكاية المعنى وحكاية اللفظ، ومن الثاني وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى [التوبة: 107] ومن الأول يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا [التوبة: 174] ولو حكى اللفظ قيل ما قلنا اه. واستدل بالآية على أن الإيمان مغاير للعمل الصالح مغايرة الشرط للمشروط. هذا وإذ قد انتهى الأمر إلى مدار الجزاء وهو صلاح العمل وحسنه رتب عليه بالفاء الإرشاد إلى ما به يحسن العمل الصالح، ويخلص عن شوب الفساد فقيل: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أي إذا أردت قراءة القرآن فاسأله عز جاره أن يعيذك مِنَ وساوس الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ كيلا يوسوسك في القراءة فالقراءة مجاز مرسل عن إرادتها إطلاقا لاسم المسبب على السبب، وكيفية الاستعاذة عند الجمهور من القراء وغيرهم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لتظافر الروايات على أنه صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ كذلك. وروى الثعلبي والواحدي أن ابن مسعود قرأ عليه الصلاة والسلام فقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم فقال له صلى الله عليه وسلم: «يا ابن أم عبد قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأنيه جبريل عن القلم عن اللوح المحفوظ» نعم أخرج أبو داود. والبيهقي عن عائشة رضي الله عنها في ذكر الإفك قالت «جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكشف عن وجهه وقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم إن الذين جاؤوا بالإفك» الآية، وأخرجا عن سعيد إنه قال «كان رسول الله عليه الصلاة والسلام إذا قام من الليل فاستفتح الصلاة قال: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك ثم يقول أعوذ بالله السميع العليم» إلخ وبذلك أخذ من استعاذ كذلك، وفي الهداية الأولى أن يقول: أستعيذ بالله ليوافق القرآن ويقرب أعوذ بالله من الشيطان الرجيم اه، والمختار ما سمعت أولا لأن لفظ استعذ طلب العوذة وقوله: «أعوذ» امتثال مطابق لمقتضاه. والقرب من اللفظ مهدر، ويكفي لأولوية ما عليه الجمهور مجيئه في المأثور: وقال بعض أصحابنا: لا ينبغي أن يزيد المتعوذ السميع العليم لأنه ثناء وما بعد التعوذ محل القراءة لا محل الثناء وفيه أن هذا بعد تسليم الخبرين السابقين غير سديد على أنه ليس في ذلك إتيان بالثناء بعد التعوذ بل إتيان به في أثنائه كما لا يخفى، والأمر بها للندب عندهم، وأخرج عبد الرزاق في المصنف وابن المنذر عن عطاء وروي عن الثوري أنها واجبة لكل قراءة في الصلاة أو غيرها لهذه الآية فحملا الأمر فيها على الوجوب نظرا إلى أنه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 464 حقيقة فيه، وعدم صلاحية كونها لدفع الوسوسة في القراءة صارفا عنه بل يصح شرع الوجوب معه، وأجيب بأنه خلاف الإجماع، ويبعد منهما أن يبتدعا قولا خارقا له من بعد علمهما بأن ذلك لا يجوز فالله تعالى أعلم بالصارف على قول الجمهور، وقد يقال: هو تعليمه صلى الله عليه وسلم الأعرابي الصلاة ولم يذكرها عليه الصلاة والسلام. وقد يجاب بأن تعليمه إياها بتعليمه ما هو من خصائصها وهي ليست من واجباتها بل من واجبات القراءة أو إن كونها تقال عند القراءة كان ظاهرا معهودا فاستغنى عن ذكرها، وفيه أنه لا يتأتى على ما ستسمع قريبا إن شاء الله تعالى من قول أبي يوسف عليه الرحمة. وقال الخفاجي: إن حمل الأمر على الندب لما روي من ترك النبي صلى الله عليه وسلم لها، وإذا ثبت هذا كفى صارفا ومذهب ابن سيرين. والنخعي وهو أحد قولي الشافعي أنها مشروعة في القراءة في كل ركعة لأن الأمر معلق على شرط فيتكرر بتكرره كما في قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا [المائدة: 6] وأيضا حيث كانت مشروعة في الركعة الأولى فهي مشروعة في غيرها من الركعات قياسا للاشتراك في العلة، ومذهب أبي حنيفة- وهو القول الآخر للشافعي- أنها مشروعة في الأول فقط لأن قراءة الصلاة كلها كقراءة واحدة، وقيل: إنها عند الإمام أبي حنيفة للصلاة ولذا لا تكرر، والمذكور في الهداية وغيرها أنها عند الإمام أبي حنيفة للصلاة ولذا لا تكرر، والمذكور في الهداية وغيرها أنها عند الإمام ومحمد للقراءة دون الثناء حتى يأتي بها المسبوق دون المقتدى، وقال أبو يوسف: إنها للثناء وفي الخلاصة أنه الأصح، وتظهر ثمرة الخلاف في ثلاثة مسائل ذكرت فيها فما ذكره صاحب القيل لم نعثر عليه في كتب الأصحاب، ومالك لا يرى التعوذ في الصلاة المفروضة ويراه في غيرها كقيام رمضان، والمروي عنه في غير الصلاة فيما سمعت من بعض مقلديه وعن أبي هريرة. وابن سيرين. وداود. وحمزة من القراء أن الاستعاذة عقب القراء أخذ بظاهر الآية. وللجمهور ما رواه أئمة القراءة مسندا عن نافع عن جبير بن مطعم أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول قبل القراءة: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» : قال في الكشف، دل الحديث على أن التقديم هو السنة فبقي سببية القراءة لها، والفاء في فَاسْتَعِذْ دلت على السببية فلتقدر الإرادة ليصح، وأيضا الفراغ عن العمل لا ينساب الاستعاذة من العدو وإنما يناسبها الشروع فيه والتوسط فلتقدر ليكونا- أي القراءة والاستعاذة- مسببتين عن سبب واحد لا يكون بينهما مجرد الصحبة الاتفاقية التي تنافيها الفاء، وإليه أشار صاحب المفتاح بقوله بقرينة الفاء والسنة المستفيضة انتهى. ومنه يعلم أن ما قيل من أن الفاء لا دلالة فيها على ما ذكر وأن إجماعهم على صحة هذا المجاز يدل على أن القرينة المانعة عن إرادة الحقيقة ليس بشرط فيه ليس بشيء وكذا القول بالفرق بين هذه الآية وقوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا [المائدة: 6] إلخ بأن ثمة دليلا قائما على المجاز فترك الظاهر له بخلاف ما نحن فيه، والظاهر أن المراد بالشيطان إبليس وأعوانه، وقيل: هو عام في كل متمرد عات من جن وإنس، وتوجيه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخصيص قراءة القرآن من بين الأعمال الصالحة بالاستعاذة عند إرادتها للتنبيه على أنها لغيره عليه الصلاة والسلام وفي سائر الأعمال الصالحة أهم فإنه صلى الله عليه وسلم حيث أمر بها عند قراءة القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فما الظن بمن عداه عليه الصلاة والسلام فيما عدا القراءة من الأعمال إِنَّهُ الضمير للشأن أو للشيطان لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ تسلط واستيلاء عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي إليه تعالى لا إلى غيره سبحانه يفوضون أمورهم وبه يعوذون فالمراد نفي التسلط بعد الاستعاذة فتكون الجملة تعليلا للأمر بها أو لجوابه المنوي أي أن يعذك ونحوه. وقال البعض: المراد نفي ذلك مطلقا، قال أبو حيان: وهو الذي يقتضيه ظاهر الأخبار وتعقب بأنه إذا لم يكن له الجزء: 7 ¦ الصفحة: 465 تسلط فلم أمروا بالاستعاذة منه. وأجيب بأن المراد نفي ما عظم من التسلط. وقد أخرج ابن جرير. وغيره عن سفيان الثوري أنه قال في الآية: ليس له سلطان على أن يحملهم على ذنب لا يغفر لهم والاستعاذة من المحتقرات فهم لا يطيعون أوامره ولا يقبلون وساوسه إلا فيها يحتقروته على ندور وغفلة فأمروا بالاستعاذة منه لمزيد الاعتناء بحفظهم، وقد ذهب إلى هذا البيضاوي ثم قال: فذكر السلطنة بعد الأمر بالاستعاذة لئلا يتوهم منه أن له سلطانا. وفي الكشف أن هذه الجملة جارية مجرى البيان للاستعاذة المأمور بها وأنه لا يكفي فيها مجرد القول الفارغ عن اللجأ إلى الله تعالى واللجأ إنما هو بالإيمان أولا والتوكل ثانيا، وأيا ما كان فوجه ترك العطف ظاهر وإيثار صيغة الماضي في الصلة الأولى للدلالة على التحقيق كما أن اختيار صيغة الاستقبال في الثانية لإفادة الاستمرار التجددي، وفي التعرض لوصف الربوبية تأكيد لنفي السلطان عن المؤمنين المتوكلين. إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ أي يجعلونه واليا عليهم فيحبونه ويطيعونه ويستجيبون دعوته فالمراد بالسلطان التسلط والولاية بالدعوة المستتبعة للاستجابة لا ما يعم ذلك والتسلط بالقسر والإلجاء فإن في جعل التولي صلة «ما» يفصح بنفي إرادة التسلط القسري فإن المقسور بمعزل عنه بهذا المعنى، وقد نفي هذا أيضا عن الكفرة في قوله تعالى حكاية عن اللعين: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ [إبراهيم: 22] فاستجبتم لي وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ أي بسبب الشيطان وإغوائه إياهم مُشْرِكُونَ بالله تعالى، وقيل: أي باشراكهم الشيطان مشركون بالله تعالى، وجوز أن يكون الضمير للرب تعالى شأنه والباء للتعدية، وروي ذلك عن مجاهد ورجح الأول باتحاد الضمائر فيه مع تبادره إلى الذهن، وفي إرشاد العقل السليم ما يشعر باختيار الأخير، وذكر فيه أيضا أن قصر سلطان اللعين على المذكورين غب نفيه عن المؤمنين المتوكلين دليل على أنه لا واسطة في الخارج بين التوكل على الله تعالى وتولي الشيطان وإن كان بينهما واسطة في المفهوم وإن من لم يتوكل عليه تعالى ينتظم في سلك من يتولى الشيطان من حيث لا يحتسب إذ به يتم التعليل، ففيه مبالغة في الحمل على التوكل والتحذير عن مقابله. وإيثار الجملة الفعلية الاستقبالية في الصلة الأولى لما مر آنفا والاسمية في الثانية للدلالة على الثبات، وتكرير الموصول للاحتراز عن توهم كون الصلة الثانية حالية مفيدة لعدم دخول غير المشركين من أولياء الشيطان تحت سلطانه. وتقديم الأولى على الثانية التي هي بمقابلة الصلة الأولى فيما سلف لرعاية المقارنة بينها وبين ما يقابلها من التوكل على الله تعالى ولو روعي الترتيب السابق لا نفصل كل من القرينتين عما يقابلها اه، لما كان كل من الإيمان والتولي منشأ لما بعده قدم عليه، وتقديم الجار والمجرور لرعاية الفواصل وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ أي إذا نزلنا آية من القرآن مكان آية منه وجعلناها بدلا منها بأن نسخناها بها، والظاهر على ما في البحر أن المراد نسخ اللفظ والمعنى، ويجوز أن يراد نسخ المعنى مع بقاء اللفظ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ من المصالح فكل من الناسخ والمنسوخ منزل حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة فإن كل وقت له مقتضى غير مقتضى الآخر فكم من مصلحة تنقلب مفسدة في وقت آخر لانقلاب الأمور الداعية إليها، ونرى الطبيب الحاذق قد يأمر المريض بشربة ثم بعد ذلك ينهاه عنها ويأمره بضدها، وما الشرائع إلا مصالح للعباد وأدوية لأمراضهم المعنوية فتختلف حسب اختلاف ذلك في الأوقات وسبحان الحكيم العليم، والجملة إما معترضة لتوبيخ الكفرة والتنبيه على فساد رأيهم، وفي الالتفات إلى الغيبة مع الاسناد إلى الاسم الجليل ما لا يخفى من تربية المهابة وتحقيق معنى الاعتراض أو حالية كما قال أبو البقاء وغيره، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «ينزل» من الإنزال قالُوا أي الكفرة الجاهلون بحكمة النسخ إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ متقول على الله تعالى تأمر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 466 بشيء ثم يبدو لك فتنهى عنه، وقد بالغوا قاتلهم الله تعالى في نسبة الافتراء إلى حضرة الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم حيث وجهوا الخطاب إليه عليه الصلاة والسلام وجاؤوا بالجملة الاسمية مع التأكيد بإنما، وحكاية هذا القول عنهم هاهنا للإيذان بأنه كفرة ناشئة من نزغات الشيطان وأنه وليهم. وفي الكشف أن وجه ذكره عقيب الأمر بالاستعاذة عند القراءة أنه باب عظيم من أبوابه يفتن به الناقصين يوسوس إليهم البداء والتضاد وغير ذلك بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي لا يعلمون شيئا أصلا أو لا يعلمون أن في التبديل المذكور حكما بالغة، وإسناد هذا الحكم إلى أكثرهم لما أن منهم من يعلم ذلك وإنما ينكر عنادا. والآية دليل على نسخ القرآن بالقرآن وهي ساكتة عن نفي نسخه بغير ذلك مما فصل في كتب الأصول قُلْ نَزَّلَهُ أي القرآن المدلول عليه بالآية، وقال الطبرسي: أي الناسخ المدلول عليه بما تقدم رُوحُ الْقُدُسِ يعني جبريل عليه السلام وأطلق عليه ذلك من حيث إنه ينزل بالقدس من الله تعالى أي مما يطهر النفوس من القرآن والحكمة والفيض الإلهي، وقيل: لطهره من الأدناس البشرية، والإضافة عند بعض للاختصاص كما في رَبِّ الْعِزَّةِ [الصافات: 180] وجعلها بعض المحققين من إضافة الموصوف للصفة على جعله نفس القدس مبالغة نحو- خبر سوء ورجل صدق- على ما ارتضاه الرضي، ومثل ذلك حاتم الجود وسحبان الفصاحة وخالف في ذلك صاحب الكشف مختارا أنها للاختصاص، ولا يخفى ما في صيغة التفعيل بناء على القول بأنها تفيد التدريج من المناسبة لمقتضى المقام لما فيها من الإشارة إلى أنه أنزل دفعات على حسب المصالح مِنْ رَبِّكَ في إضافة الرب إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من الدلالة على تحقيق إفاضة آثار الربوبية عليه عليه الصلاة والسلام ما ليس في إضافته إلى ياء المتكلم المنبئة عن التلقين المحض كما في إرشاد العقل السليم، وكأنه اعتناء بأمر هذه الدلالة لم يقل من ربكم على أن في ترك خطابهم من حط قدرهم ما فيه، ومِنْ لابتداء الغاية مجازا بِالْحَقِّ أي ملتبسا بالحكمة المقتضية له بحيث لا يفارقها ناسخا كان أو منسوخا لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا أي على الإيمان بما يجب الإيمان به لما فيه من الحجج القاطعة والأدلة الساطعة أو على الإيمان بأن كلامه تعالى فإنهم إذا سمعوا الناسخ وتدبروا ما فيه من رعاية المصالح رسخت عقائدهم واطمأنت به قلوبهم، وأول بعضهم الآية على هذا الوجه بقوله: ليبين ثباتهم وتعقب بأنه لا حاجة إليه إذ التثبيت بعد النسخ لم يكن قبله فإن نظر إلى مطلق الإيمان صح. وقرئ لِيُثَبِّتَ من الأفعال. وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ عطف على محل لِيُثَبِّتَ عند الزمخشري ومن تابعه وهو نظير زرتك لأحدثك وإجلالا لك أي تثبيتا وهداية وبشارة، وتعقب بأنه إذا اعتبر الكل فعل المنزل على الإسناد المجازي لم يكن للفرق بإدخال اللام في البعض والترك في البعض وجه ظاهر، وكذا إذا اعتبر فعل الله تعالى كما هو كذلك على الحقيقة وإذا اعتبر البعض فعل المنزل ليتحد فاعل المصدر وفاعل الفعل المعلل به فيترك اللام له والبعض الآخر فعل الله تعالى ليختلف الفاعل فيؤتى باللام لم يكن لهذا التخصيص وجه ظاهر أيضا ويفوت به حسن النظم. وقال الخفاجي يوجه ترك اللام في المعطوف دون المعطوف عليه مع وجود شرط الترك فيهما بأن المصدر المسبوك معرفة على ما تقرر في العربية والمفعول له الصريح وإن لم يجب تنكيره كما عزي للرياشي فخلافه قليل كقوله: واغفر عوراء الكريم ادخاره. ففرق بينهما تفننا وجريا على الأفصح فيهما، والنكتة فيه أن التثبيت أمر عارض بعد حصول المثبت عليه فاختير فيه صيغة الحدوث مع ذكر الفاعل إشارة إلى أنه فعل لله تعالى مختص به بخلاف الهداية والبشارة فإنهما يكونان بالواسطة، وقيل: إن وجود الشرط مجوز لا موجب والاختيار مرجح مع ما في ذلك من فائدة بيان جواز الوجهين، وفيه أنه لا يصلح وجها عند التحقيق، وقد اعترض أبو حيان هنا بما تقدم في الكلام على قوله تعالى: لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً [النحل: 64] ، وذكر أنه لا يمتنع أن يكون العطف على المصدر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 467 المنسبك لأنه مجرور فيكون هُدىً وَبُشْرى مجرورين، وجوز أبو البقاء أن يكونا مرفوعين على أنهما خبرا مبتدأ محذوف أي وهو هدى وبشرى، والجملة في موضع الحال من الهاء في نَزَّلَهُ. والمراد بالمسلمين الذين آمنوا، والعدول عن ضميرهم لمدحهم بكلا العنوانين، وفسر بعضهم الإسلام بمعناه اللغوي فقيل: إن ذلك ليفيد بعد توصيفهم بالإيمان، والظاهر أن لِلْمُسْلِمِينَ قيد للهدى والبشرى ولم أر من تعرض لجواز كونه قيدا للبشرى فقط كما تعرض لذلك في قوله تعالى: هُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 89] على ما سمعت هناك. وفي هذه الآية على ما قالوا تعريض لحصول أضداد الأمور المذكورة لمن سوى المذكورين من الكفار من حيث إن قوله تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ جواب لقولهم: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ فيكفي فيه قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ فالزيادة لمكان التعريض وقال الطيبي إن نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ بدل نزله الله فيه زيادة تصوير في الجواب وزيد قوله تعالى بِالْحَقِّ لينبه على دفع الطعن بألطف الوجوه ثم نعى قبيح أفعالهم بقوله تعالى: لِيُثَبِّتَ إلخ تعريضا بأنهم متزلزلون ضالون موبخون منذرون بالخزي والنكال واللعن في الدنيا والآخرة وأن عذابهم في خلاف ذلك ليزيد في غيظهم وحنقهم، وفي الكلام ما هو قريب من الأسلوب الحكيم اه فتأمل. وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ غير ما نقل عنهم من المقالة الشنعاء إِنَّما يُعَلِّمُهُ أي يعلم النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، وهو الذي يقتضيه ظاهر كلام قتادة. ومجاهد. وغيرهما واختير كون الضمير للقرآن ليوافق ضمير أَنْزَلَهُ أي يقولون إنما يعلم القرآن النبي عليه الصلاة والسلام بَشَرٌ على طريق البت مع ظهور أنه نزله روح القدس عليه عليه الصلاة والسلام، وتأكيد الجملة لتحقيق ما تتضمنه من الوعيد، وصيغة الاستقبال لإفادة استمرار العلم بحسب الاستمرار التجددي في متعلقه فإنهم مستمرون على التفوه بتلك العظيمة، وفي البحر أن المعنى على المضي فالمراد علمنا وعنوا بهذا البشر قيل: جبرا الرومي غلام عامر بن الحضرمي وكان قد قرأ التوراة والإنجيل وكان صلى الله عليه وسلم يجلس إليه إذا آذاه أهل مكة فقالوا ما قالوا. وروي ذلك عن السدي، وقيل: مولى لحويطب بن عبد العزى اسمه عائش أو يعيش كان يقرأ الكتب وقد أسلم وحسن إسلامه قاله الفراء. والزجاج، وقيل: أبا فكيهة مولى لامرأة بمكة قيل اسمه يسار وكان يهوديا قاله مقاتل. وابن جبير إلا أنه لم يقل كان يهوديا. وأخرج آدم بن أبي إياس. والبيهقي. وجماعة عن عبد الله بن مسلم الحضرمي قال: كان لنا عبدان نصرانيان من أهل عين التمر يقال لأحدهما يسار وللآخر جبر وكانا يصنعان السيوف بمكة وكانا يقرآن الإنجيل فربما مر بهما النبي صلى الله عليه وسلم وهما يقرءان فيقف ويستمع فقال المشركون: إنما يتعلم منهما، وفي بعض الروايات أنه قيل لأحدهما إنك تعلم محمدا صلى الله عليه وسلم فقال لا بل هو يعلمني، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: كان بمكة غلام أعجمي روي لبعض قريش يقال له بلعام وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمه الإسلام فقالت قريش: هذا يعلم محمدا عليه الصلاة والسلام من جهة الأعاجم وأخرج ابن جرير. وابن المنذر عن الضحاك أنه سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه، وضعف هذا بأن الآية مكية وسلمان أسلم بالمدينة، وكونها إخبارا بأمر مغيب لا يناسب السباق، ورواية أنه أسلم بمكة واشتراه أبو بكر رضي الله تعالى عنه وأعتقه بها قيل ضعيفة لا يعول عليها كاحتمال أن هذه الآية مدنية. وقد أخبرني من أثق به عن بعض النصارى أنه قال له: كان نبيكم صلى الله عليه وسلم يتردد إليه في غار حراء رجلان نصراني ويهودي يعلمانه، ولم أجد هذا عن أحد من المشركين وهو كذب بحت لا منشأ له وبهت محض لا شبهة فيه، وإنما لم يصرح باسم من زعموا أنه يعلمه عليه الصلاة والسلام مع أنه أدخل في ظهور كذبهم للإيذان بأن مدار خطئهم ليس بنسبته صلى الله عليه وسلم إلى التعلم من شخص معين بل من البشر كائنا من كان مع كونه عليه الصلاة والسلام معدنا لعلوم الأولين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 468 والآخرين لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ اللسان مجاز مشهور عن التكلم، والإلحاد الميل يقال: لحد وألحد إذا مال عن القصد، ومنه لحد القبر لأنه حفرة مائلة عن وسطه، والملحد لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلها، والأعجمي الغير البين، قال أبو الفتح الموصلي: تركيب ع ج م في كلام العرب للإبهام والإخفاء وضد البيان والإيضاح، ومنه قولهم: رجل أعجم وامرأة عجماء إذا كانا لا يفصحان وعجم الزبيب سمي بذلك لاستتارة واختفائه ويقال للبهيمة العجماء لأنه لا توضح ما في نفسها وسموا صلاتي الظهر والعصر العجماوين لأن القراءة فيهما سر وأما قولهم: أعجمت الكتاب فمعناه أزلت عجمته كأشكيت زيدا أزلت شكواه، والأعجمي والأعجم الذي في لسانه عجمة من العجم كان أو من العرب، ومن ذلك زياد الأعجم وكان عربيا في لسانه لكنة وكذاك حبيب الأعجمي تلميذ الحسن البصري قدر الله تعالى سرهما على ما رأيته في بعض التواريخ. والمراد من الَّذِي على القول بتعدد من زعموا نسبة التعليم إليه الجنس ومفعول يُلْحِدُونَ محذوف أي تكلم الذي يميلون قولهم عن الاستقامة إليه أي ينسبون التعليم إليه غير بيّن لا يتضح المراد منه. وظاهر كلام ابن عطية أن اللسان على معناه الحقيقي وهو الجارحة المعروفة. وقرأ الحسن «اللسان الذي» بتعريف اللسان بأل ووصفه بالذي. وقرأ حمزة والكسائي وعبد الله بن طلحة والسلمي والأعمش «يلحدون» بفتح الياء والحاء من لحد، وألحد ولحد لغتان فصيحتان مشهورتان وَهذا القرآن الكريم لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ذو بيان وفصاحة على ما يشعر به وصفه- بمبين- بعد وصفه- بعربي- والكلام على حذف مضاف عند ابن عطية أي سرد لسان أو نطق لسان، والجملتان مستأنفتان عند الزمخشري لإبطال طعنهم، وجوز أبو حيان أن يكونا حالين من فاعل يَقُولُونَ ثم قال: وهو أبلغ من الإنكار أي يقولون هذا والحال أن علمهم بأعجمية هذا البشر وعربية هذا القرآن كان ينبغي أن يمنعهم عن مثل تلك المقالة كقولك: أتشتم فلانا وهو قد أحسن إليك وإنما ذهب الزمخشري إلى الاستئناف لأن مجيء الاسمية حالا بدون واو شاذ عنده، وهو مذهب مرجوح تبع فيه الفراء إذ مجيئها كذلك في كلام العرب أكثر من أن يحصى اه، وتقرير الابطال- كما قال العلامة البيضاوي- يحتمل وجهين: أحدهما أن ما يسمعه من ذلك البشر كلام أعجمي لا يفهمه هو ولا أنتم والقرآن عربي تفهمونه بأدنى تأمل فكيف يكون ما تلقفه منه. وثانيهما هب أنه تعلم منه المعنى باستماع كلامه ولكن لم يلقف منه اللفظ لأن ذلك أعجمي وهذا عربي والقرآن كما هو معجز باعتبار المعنى فهو معجز من حيث اللفظ مع أن العلوم الكثيرة التي في القرآن لا يمكن تعلمها إلا بملازمة معلم فائق في تلك العلوم مدة متطاوله فكيف تعلم جميع ذلك من غلام سوقي سمع منه بعض المنقولات بكلمات أعجمية لعله لم يعرف معناها، وحاصل ذلك منع تعلمه عليه الصلاة والسلام منه مع سنده ثم تسليمه باعتبار المعنى إذ لفظه مغاير للفظ ذلك بديهية فيكفي دليلا له ما أتى به من اللفظ المعجز ويمكن تقريره بنحو هذا على سائر الأقوال السابقة في البشر، وقال الكرماني: المعنى أنتم أفصح الناس وأبلغهم وأقدرهم على الكلام نظما ونثرا وقد عجزتم وعجز جميع العرب عن الإتيان بمثله فكيف تنسبونه إلى أعجمي ألكن وهو كما ترى، وبالجملة التشبث في أثناء الطعن بمثل هذه الخرافات الركيكة دليل قوي على كمال عجزهم فقد راموا اجتماع اليوم والأمس واستواء السها والشمس: فدعهم يزعمون الصبح ليلا ... أيعمى الناظرون عن الضياء إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ أي يصدقون بأنها من عنده تعالى بل يقولون فيها ما يقولون يسمونها تارة افتراء وأخرى أساطير معلمة من البشر، وقيل: المراد بالآيات المعجزات الدالة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم ويدخل فيها الآيات القرآنية دخولا أوليا والأول على ما قيل أوفق بالمقام. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 469 لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ قيل: أي إلى الجنة بل يسوقهم إلى النار كما يشير إليه قوله تعالى: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. وقال بعض المحققين: المعنى لا يهديهم إلى ما ينجيهم من الحق لما يعلم من سوء استعدادهم، وقال في البحر: أي لا يخلق الإيمان في قلوبهم، وهذا عام مخصوص فقد اهتدى قوم كفروا بآيات الله تعالى، وقال الجلبي: المعنى أن سبب عدم إيمانهم هو أنه تعالى لا يهديهم لختمه على قلوبهم أو لا يهديهم سبحانه مجازاة لعدم إيمانهم بأن تلك الآيات من عنده تعالى، وقال العسكري: يجوز أن يكون المعنى أنهم إن لم يؤمنوا بهذه الآيات لم يهتدوا، والمراد- بلا يهديهم الله- لا يهتدون فإنه إنما يقال هدى الله تعالى فلانا على الإطلاق إذا اهتدى هو وأما من لم يقبل الهدى فإنه يقال فيه: إن الله تعالى هداه فلم يهتد كما قال تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [فصلت: 17] وقيل: المعنى إن الذين لا يصرفون اختيارهم إلى الإيمان بآياته تعالى لا يخلقه سبحانه في قلوبهم، وقال ابن عطية: المفهوم من الوجود أن الذين لا يهديهم الله تعالى لا يؤمنون بآياته ولكنه قدم وأخر تتميما لتقبيح حالهم وللتشنيع بخطئهم كما في قوله تعالى: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5] ويؤدي مؤدى التقديم والتأخير ما ذكره الجلبي أولا والأكثر لا يخلو عن دغدغة. وقال القاضي: أقوى ما قيل في الآية ما ذكر أولا، وكونه تفسيرا للمعتزلة مناسبا لأصولهم فيه نظرا، وأيا ما كان فالمراد من الآية التهديد والوعيد لأولئك الكفرة على ما هم عليه من الكفر بآيات الله تعالى ونسبة رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الافتراء والتعلم من البشر بعد إماطة شبهتهم ورد طعنهم، وقولهم سبحانه: إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ تمهيد لكونهم هم المفترون وقلب عليهم بعد أن حقق بالبيان البرهاني براءة ساحته صلى الله عليه وسلم عن لوث الافتراء، وقوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ إشارة إلى قريش القائلين: إنما أنت مفتر وهو تصريح بعد التعريض ليكون كالوشم عليهم، وهذا الأسلوب أبلغ من أن يقال: أنتم معشر قريش مفترون لما أشير إليه، وإقامة الدليل على أنهم كذلك وأن من زنوه به لا يجوز أن يتعلق بذيله نشب منه أي إنما يليق افتراء الكذب بمن لا يؤمن لأنه لا يترقب عقابا عليه وقريش كذلك فهم الكاذبون أو إشارة إلى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فيستمر الكلام على وتيرة واحدة، والمعنى أن الكاذب بالحقيقة هذا الكاذب على ما قرروه في قوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة: 5 وغيرها] واللام للجنس وهو شهادة عليهم بالكمال في الافتراء، فالكذب في الحقيقة مقيد بالكذب بآيات الله تعالى، وأطلق إشعارا بأن لا كذب فوقه ليكون كالحجة على كمال الافتراء أو الكذب غير مقيد على هذا الوجه على معنى أنهم الذين عادتهم الكذب فلذلك اجترءوا على تكذيب آيات الله تعالى دلالة على أن ذلك لا يصدر إلا ممن لهج بالكذب قيله، ويدل على اعتبار هذا المعنى التعبير بالجملة الاسمية ولذا عطفت على الفعلية، وفيه قلب حسن وإشارة إلى أن قريشا لما كان من عادتهم الكذب أخذوا يكذبون بآيات الله تعالى ومن أتى بها، ثم لم يرضوا بذلك حتى نسبوا من شهدوا له بالأمانة والصدق إلى الافتراء. وموضع الحسن الإيماء إلى سبق حالتي النبي صلى الله عليه وسلم وقريش أو الكذب مقيد على هذا الوجه أيضا بما نسبوا إليه عليه الصلاة والسلام من الافتراء، والَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ على هذا المراد به قريش من إقامة الظاهر مقام المضمر، وإيثار المضارع على الماضي دلالة على استمرار عدم إيمانهم وتجدده عقب نزول كل آية واستحضارا لذلك وهذا الوجه مرجوح بالنسبة إلى السوابق، وقد ذكر هذه الأوجه صاحب الكشاف وقد حررها بما ذكر المولى المدقق في كشفه، والحصر في سائرها غير حقيقي، ولا استدراك في الآية لا سيما على الأول منها، وهي من الكلام المنصف في بعضها. وتعلقها بقوله سبحانه حكاية عنهم: إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ لأنها كما سمعت لرده، وتوسيط ما وسط لما لا يخفى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 470 من شدة اتصاله بالرد الأول مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ أي بكلمة الكفر مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ به تعالى. وهذا بحسب الظاهر ابتداء كلام لبيان حال من كفر بآيات الله تعالى بعد ما آمن بها بعد بيان حال من لم يؤمن بها رأسا ومَنْ موصولة محلها الرفع على الابتداء والخبر محذوف لدلالة «فعليهم غضب» الآتي عليه وحذف مثل ذلك كثير في الكلام، وجوز أيضا الرفع وكذا النصب على القطع لقصد الذم أي هم أو أذم من كفر والقطع للذم والمدح وإن تعورف في النعت، ومَنْ لا يوصف بها لكن لا مانع من اعتباره في غيره كالبدل وقد نص عليه سيبويه. نعم قال أبو حيان: إن النصب على الذم بعيد. وأجاز الحوفي والزمخشري كونها بدلا من الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وقوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ اعتراض بينهما. واعترضه أبو حيان. وغيره بأنه يقتضي أن لا يفتري الكذب إلا من كفر بعد إيمانه والوجود يقتضي أن من يفتري الكذب هو الذي لا يؤمن مطلقا وهم أكثر المفترين. وأيضا البدل هو المقصود والآية سيقت للرد على قريش وهم كفار أصليون. ووجه ذلك الطيبي بأن يراد بقوله تعالى: «من بعد إيمانه» من بعد تمكنه منه كقوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى [البقرة: 16] وذكر أن فيه ترشيحا لطريق الاستدراج وتحسيرا لهم على ما فاتهم من التصديق وما اقترفوه من نسبته عليه الصلاة والسلام إلى الافتراء وفيه كما في الكشف أن قوله سبحانه: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ لا يساعد عليه، وحمل التمكن منه على ما هو أعم من التمكن في إحداثه وبقائه لا يخفى ما فيه. وقال المدقق: الأولى في التوجيه أن يجعل المعنى من وجد الكفر فيما بينهم تغييرا على الارتداد أيضا وأن من وجد فيهم هذه الخصلة لا يبعد منه الافتراء ويجعل ذلك ذريعة إلى أن ينعى عليهم ما كانوا يفعلونه مع المؤمنين من المثلة ويدمج فيه الرخصة بإجراء كلمة الكفر على اللسان على سبيل الإكراه وتفاوت ما بين صاحب العزيمة والرخصة، ولا يخفى ما فيه أيضا وأنه غير ملائم لسبب النزول، وقال الخفاجي: لك أن تقول: الأقرب أن يبقى الكلام على ظاهره من غير تكلف وأن هذا تكذيب لهم على أبلغ وجه كما يقال لمن قال: إن الشمس غير طالعة في يوم صاح هذا ليس بكذب لأن الكذب يصدر فيما قد تقبله العقول ويكون هذا على تقدير أن يكون المراد في لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ لا يهديهم إلى الحق فالله تعالى لما لم يهدهم إلى الحق والصدق وختم على حواسهم نزلوا منزلة من لم يعرفه حتى يساعده لسانه على النطق به فقبح إنكارهم له أجل من أن يسمى كذبا وإنما يكذب من تعمد ذلك ونطق به مرة، فتكون الآية الأولى للرد على قريش صريحا والأخرى دلالة على أبلغ وجه انتهى، ولعمري إنه نهاية في التكلف، ومثل هذا الابدال الابدال من أُولئِكَ والابدال من الْكاذِبُونَ وقد جوزهما الزمخشري أيضا وجوز الحوفي الأخير أيضا ولم يجوز الزجاج غيره. وجوز غير واحد كون مَنْ شرطية مرفوعة المحل على الابتداء واستظهره في البحر والجواب محذوف لدلالة الآتي عليه كما سمعت في الوجه الأول، والكلام في خبر من الشرطية مشهور، وظاهر صنيع الزمخشري اختيار الابدال وهو عندي غريب منه. وفي الكشف أن كون مَنْ شرطية مبتدأ وجه ظاهر السداد إلا أن الذي حمل جار الله على إيثار كون مَنْ بدلا طلب الملاءمة بين أجزاء النظم الكريم لا أن يكون ابتداء بيان حكم، ولا يخفى ما في هذا العذر من الوهن، والظاهر أن استثناء مَنْ أُكْرِهَ أي على التلفظ بالكفر بأمر يخاف منه على نفسه أو عضو من أعضائه- من كفر- استثناء متصل لأن الكفر التلفظ بما يدل عليه سواء طابق الاعتقاد أولا. قال الراغب: يقال كفر فلان إذا اعتقد الكفر ويقال إذا أظهر الكفر وإن لم يعتقد، فيدخل هذا المستثنى في المستثنى منه المذكور، وقيل: مستثنى من الخبر الجواب المقدر، وقيل: مستثنى مقدم من قوله تعالى فَعَلَيْهِمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 471 غَضَبٌ وليس بذاك، والمراد إخراجه من حكم الغضب والعذاب أو الذم وقوله سبحانه: وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ حال من المستثنى، والعالم- كما في إرشاد العقل السليم- هو الكفر الواقع بالإكراه لا نفس الإكراه لأن مقارنة اطمئنان القلب بالإيمان للإكراه لا تجدي نفعا وإنما المجدي مقارنته للكفر الواقع به أي إلا من كفر بإكراه أو إلا من أكره فكفر والحال أن قلبه مطمئن بالإيمان لم تتغير عقيدته، وأصل معنى الاطمئنان سكون بعد انزعاج، والمراد هنا السكون والثبات على ما كان عليه بعد إزعاج الإكراه، وإنما لم يصرح بذلك العامل إيماء إلى أنه ليس بكفر حقيقة. واستدل بالآية على أن الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار ليس ركنا فيه كما قيل. واعترض بأن من جعله ركنا لم يرد أنه ركن حقيقي لا يسقط أصلا بل أنه دال على الحقيقة التي هي التصديق إذ لا يمكن الاطلاع عليها فلا يضره عند سقوطه لنحو الإكراه والعجز فتأمل. وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً أي اعتقده وطاب به نفسا وصَدْراً على معنى صدره إذ البشر في عجز عن شرح صدر غيره، ونصبه- كما قال الإمام- على أنه مفعول به- لشرح- وجوز بعضهم كونه على التمييز، ومَنْ إما شرطية أو موصولة لكن إذا جعلت شرطية- قال أبو حيان- لا بد من تقدير مبتدأ قبلها لأن لكن لا تليها الجمل الشرطية، والتقدير هنا ولكن هم من شرح بالكفر صدرا أي منهم ومثله قوله: ولكن متى يسترفد القوم أرفد. أي ولكن أنا متى تسترفد إلخ. وتعقب بأنه تقدير غير لازم، وقوله تعالى: فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ جواب الشرط على تقدير شرطية مَنْ وهي على التقديرين مبتدأ وهذا خبرها على تقدير الموصولية وكذا على تقدير الشرطية في رأي والخلاف مشهور، وجعله بعضهم خبرا لمن هذه ولمن الأولى للاتحاد في المعنى إذ المراد- بمن كفر- الصنف الشارح بالكفر صدرا. وتعقبه في البحر بأن هاهنا جملتين شرطيتين وقد فصل بينهما بأداة الاستدراك فلا بد لكل واحدة منهما من جواب على حدة فتقدير الحذف أحرى في صناعة الإعراب. وقد ضعفوا مذهب أبي الحسن في ادعائه أن قوله تعالى: فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ [الواقعة: 91] وقوله سبحانه: فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ [الواقعة: 89] جواب- لأما- ولأن هذا وهما أداتا شرط تلي إحداهما الأخرى، ويبعد بهذا عندي جعله خبرا لهما على تقدير الموصولة والاستدراك من الإكراه على ما قيل ووجه بأن قوله تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ يوهم أن المكره مطلقا مستثنى مما تقدم، وقوله سبحانه: وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ لا ينفي ذلك الوهم فاحتيج إلى الاستدراك لدفعه وفيه بحث ظاهر، وقيل: المراد مجرد التأكيد كما في نحو ذلك: لو جاء زيد لأكرمتك لكنه لم يجئ. وأنت تعلم ما في ذلك فتأمل جدا، وتنوين غَضَبٌ للتعظيم أي غضب عظيم لا يكتنه كنهه كائن مِنَ اللَّهِ جل جلاله وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ لعظم جرمهم فجوزوا من جنس عملهم، وفي اختيار الاسم الجليل من تربية المهابة وتقوية تعظيم العذاب ما فيه، والجمع في الضميرين المجرورين لمراعاة جانب المعنى كما أن الافراد في المستكن في الصلة لرعاية جانب اللفظ. روي أن قريشا أكرهوا عمارا وأبويه ياسرا وسمية على الارتداد فأبوا فربطوا سمية بين بعيرين وجيء بحربة في قبلها وقالوا إنما أسلمت من أجل الرجال فقتلوها وقتلوا ياسرا وهما أول قتيلين في الإسلام، وأما عمار فأعطاهم بلسانه ما أكرهوه عليه فقيل يا رسول الله إن عمارا كفر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا إن عمارا مليء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه فأتى عمار رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو يبكي فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه وقال: مالك ان عادوا فعد لهم بما قلت، وفي رواية أنهم أخذوه فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير ثم تركوه فلما أتى رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: ما وراءك؟ قال: شر ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالإيمان قال صلى الله عليه وسلم إن عادوا فعد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 472 فنزلت هذه الآية، وكأن الأمر بالعود في الرواية الأولى للترخيص بناء على ما قال النسفي إنه أدنى مراتبه وكذا الأمر في الرواية الثانية إن اعتبر مقيدا بما قيد به في الرواية الأولى، وأما إن اعتبر مقيدا بطمأنينة القلب كما في الهداية أي عد إلى جعلها نصب عينيك وأثبت عليها فالأمر للوجوب، والآية دليل على جواز التكلم بكلمة الكفر عند الإكراه وإن كان الأفضل أن يتجنب عن ذلك إعزازا للدين ولو تيقن القتل كما فعل ياسر وسمية وليس ذلك من إلقاء النفس إلى التهلكة بل هو كالقتل في الغزو كما صرحوا به. وقد أخرج ابن أبي شيبة عن الحسن وعبد الرازق في تفسيره عن معمر أن مسيلمة أخذ رجلين فقال لأحدهما: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله قال: فما تقول في؟ فقال: أنت أيضا فخلاه وقال للآخر: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله قال: فما تقول في؟ فقال: أنا أصم فأعاد عليه ثلاثا فأعاد ذلك في جوابه فقتله فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهما فقال: أما الأول فقد أخذ برخصة الله تعالى. وأما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئا له. وفي أحكام الجصاص أنه يجب على المكره على الكفر إخطار أنه لا يريده فإن لم يخطر بباله ذلك كفر. وفي شرح المنهاج لابن حجر لا توجد ردة مكره على مكفر قلبه مطمئن بالإيمان للآية، وكذا إن تجرد قلبه عنهما فيما يتجه ترجيحه لإطلاقهم أن المكره لا يلزمه التورية فافهم، وقال القاضي: يجب على المكره تعريض النفس للقتل ولا يباح له التلفظ بالكفر لأنه كذب وهو قبيح لذاته فيقبح على كل حال ولو جاز أن يخرج عن القبح لرعاية بعض المصالح لم يمتنع أن يفعل الله سبحانه الكذب لها وحينئذ لا يبقى وثوق بوعده تعالى ووعيده لاحتمال أنه سبحانه فعل الكذب لرعاية المصلحة التي لا يعلمها إلا هو، ورده ظاهر. وهذا الخلاف فيما إذا تعين على المكره إما التزام الكذب وإما تعريض النفس للتلف وإلا فمتى أمكنه نحو التعريض أو إخراج الكلام على نية الاستفهام الإنكاري لم يجب عليه تعريض النفس لذلك إجماعا. واستدل بإباحة التلفظ بالكفر عند الإكراه على إباحة سائر المعاصي عنده أيضا وفيه بحث، فقد ذكر الإمام أن من المعاصي ما يجب فعله عند الإكراه كشرب الخمر وأكل الميتة ولحم الخنزير فإن حفظ النفس عن الفوات واجب فحيث تعين الأكل سبيلا ولا ضرر فيه لحيوان ولا إهانة لحق الله تعالى وجب لقوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ومنها ما يحرم كقتل إنسان محترم أو قطع عضو من أعضائه وفي وجوب القصاص على المكره قولان للشافعي عليه الرحمة، وذكر أن من الأفعال ما لا يقبل الإكراه ومثل بالزنا لأن الإكراه يوجب الخوف الشديد وذلك يمنع من انتشار الآلة فحيث دل الزنا في الوجود علمنا أنه وقع بالاختيار لا على سبيل الإكراه، وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله ذلِكَ إشارة إلى الكفر بعد الإيمان أو الوعيد الذي تضمنه قوله تعالى: فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ أو المذكور من الغضب والعذاب بِأَنَّهُمُ أي بسبب أن الشارحين صدورهم بالكفر اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا أي آثروها وقدموها ولتضمن الاستحباب معنى الإيثار قيل عَلَى الْآخِرَةِ فعدي بعلى، والمراد على ما في البحر أنهم فعلوا فعل المستحبين ذلك والا فهم غير مصدقين بالآخرة. وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي إلى الإيمان وإلى ما يوجب الثبات عليه، وقيل: إلى الجنة. ورده الإمام وفسر بعضهم الهداية المنفية بهداية القسر أي لا يهدي هداية قسر وإلجاء ونسب إلى المعتزلة الْقَوْمَ الْكافِرِينَ أي في علمه تعالى المحيط فلا يعصمهم تعالى عن الزيغ وما يؤدي إليه من الغضب والعذاب، ولولا أحد الأمرين إما إيثار الحياة الدنيا على الآخرة وإما عدم هداية الله تعالى إياهم بأن آثروا الآخرة على الدنيا أو بأن هداهم الله سبحانه لما كان ذلك لكن كلاهما لا يكون لأنه خلاف ما في العلم بالأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر وقال البعض: لكن الثاني مخالف للحكمة والأول مما لا يدخل تحت الوقوع وإليه الإشارة بقوله سبحانه: أُولئِكَ أي الموصوفون بما ذكر الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ فلم تفتح لإدراك الحق واكتساب ما يوصل إليه، واستظهر أبو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 473 حيان كون ذلك إشارة إلى ما استحقوه من الغضب والعذاب، وقال: إن قوله تعالى استحبوا إشارة إلى الكسب وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ إشارة إلى الاختراع فجمعت الآية الأمرين وذلك عقيدة أهل السنة فافهم، وقد تقدم للكلام على الطبع وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ أي الكاملون في الغفلة إذ لا غفلة أعظم من الغفلة عن تدبر العواقب والنظر في المصالح، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: غافلون عما يراد منهم في الآخرة. لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ إذ ضيعوا رؤوس أموالهم وهي أعمارهم وصرفوها فيما لا يفضي إلا إلى العذاب المخلد ولله تعالى من قال: إذا كان رأس المال عمرك فاحترس ... عليه من الانفاق في غير واجب ووقع في آية أخرى الْأَخْسَرُونَ [هود: 22، النمل: 5] وذلك لاقتضاء المقام على ما لا يخفى على الناظر فيه أو لأنه وقع في الفواصل هنا اعتماد الألف كالكافرين والغافلين فعبر به لرعاية ذلك وهو أمر سهل، وتقدم الكلام في لا جَرَمَ فتذكره فما في العهد من قدم ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا إلى دار الإسلام وهم عمار وأضرابه أي لهم بالولاية والنصر لا عليهم كما يقتضيه ظاهر أعمالهم السابقة فالجار والمجرور في موضع الخبر لإن، وجوز أن يكون خبرها محذوفا لدلالة خبر إن الثانية عليه، والجار والمجرور متعلق بذلك المحذوف، وقال أبو البقاء: الخبر هو الآتي وإن الثانية واسمها تكرير للتأكيد ولا تطلب خبرا من حيث الإعراب، والجار والمجرور متعلق بأحد المرفوعين على الأعمال، وقيل: بمحذوف على جهة البيان كأنه قيل: أعني للذين أي الغفران وليس بشيء، وقيل: لا خبر لأن هذه في اللفظ لأن خبر الثاني أغنى عنه وليس بجيد كما لا يخفى وثُمَّ للدلالة على تباعد رتبة حالهم هذه عن رتبة حالهم التي يفيدها الاستثناء من مجرد الخروج عن حكم الغضب والعذاب لا عن رتبة حال الكفرة مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا أي عذبوا على الارتداد، وأصل الفتن إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته ثم تجوز به عن البلاء وتعذيب الإنسان. وقرأ ابن عامر «فتنوا» مبنيا للفاعل، وهو ضمير المشركين عند غير واحد أي عذبوا المؤمنين كالحضرمي أكره مولاه جبرا حتى ارتد ثم أسلما وهاجرا أو وقعوا في الفتنة فإن فتن جاء متعديا ولازما وتستعمل الفتنة فيما يحصل عند العذاب. وقال أبو حيان: الظاهر أن الضمير عائد على الذين هاجروا والمعنى فتنوا أنفسهم بما أعطوا المشركين من القول كما فعل عمار أو لما كانوا صابرين على الإسلام وعذبوا بسبب ذلك صاروا كأنهم عذبوا أنفسهم ثُمَّ جاهَدُوا الكفار وَصَبَرُوا على مشاق الجهاد أو على ما أصابهم من المشاق مطلقا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها أي المذكورات من الفتنة والهجرة والجهاد والصبر، وهو تصريح بما أشعر به بناء الحكم على الموصول من علية الصلة. وجوز أن يكون الضمير للفتنة المفهومة من الفعل السابق ويكون ما ذكر بيانا لعدم إخلال ذلك بالحكم، وقال ابن عطية: يجوز أن يكون للتوبة والكلام يعطيها وإن لم يجر لها ذكر صريح لَغَفُورٌ لما فعلوا من قبل رَحِيمٌ ينعم عليهم مجازاة لما صنعوا من بعد، وفي التعرض لعنوان الربوبية في الموضعين إيماء إلى علة الحكم وما في إضافة الرب إلى ضميره عليه الصلاة والسلام مع ظهور الأثر في الطائفة المذكورة إظهار لكمال اللطف به صلى الله عليه وسلم بأن إفاضة آثار الربوبية عليهم من المغفرة والرحمة بواسطة عليه الصلاة والسلام ولكونهم أتباعا له. هذا وكون الآية في عمار واضرابه رضي الله تعالى عنهم مما ذكره غير واحد، وصرح ابن إسحاق بأنها نزلت فيه وفي عياش بن أبي ربيعة والوليد بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد، وتعقبه ابن عطية بأن ذكر عمار في ذلك غير قويم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 474 فإنه أرفع طبقة هؤلاء، وهؤلاء ممن شرح بالكفر صدرا فتح الله تعالى لهم باب التوبة في آخر الآية، وذكر أن الآية مدنية وأنه لا يعلم في ذلك خلافا، ونقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت فكتب بها المسلمون إلى من كان أسلم بمكة إن الله تعالى قد جعل لكم مخرجا فخرجوا فلحقهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل، وأخرج ذلك ابن مردويه، وفي رواية أنهم خرجوا واتبعوا وقاتلوا فنزلت، وأخرج هذا ابن المنذر وغيره عن قتادة، فالمراد بالجهاد قتالهم لمتبعيهم، وأخرج ابن جرير عن الحسن. وعكرمة أنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح الذي كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأزله الشيطان فلحق بالكفار فأمر به النبي عليه الصلاة والسلام أن يقتل يوم فتح مكة فاستجار له عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه فأجاره النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد نزلت فيه وفي أشباهه كما صرح به في بعض الروايات، وفسروا فُتِنُوا على هذا بفتنهم الشيطان وأزلهم حتى ارتدوا باختيارهم، وما ذكره ابن عطية فيمن ذكر مع عمار غير مسلم، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن عياشا رضي الله تعالى عنه كان أخا أبي جهل لأمه وكان يضربه سوطا وراحلته سوطا ليرتد عن الإسلام. وفي التفسير الخازني أن عياشا وكان أخا أبي جهل من الرضاعة، وقيل: لأمه. وأبا جندل بن سهل بن عمرو. وسلمة بن هشام. والوليد بن المغيرة. وعبد الله بن سلمة الثقفي فتنهم المشركون وعذبوهم فأعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرهم ثم إنهم بعد ذلك هاجروا وجاهدوا والآية نزلت فيهم، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ نصب على الظرفية- برحيم- وقيل: على أنه مفعول به لا ذكر محذوفا، ورجح الأول بارتباط النظم عليه ومقابلته لقوله تعالى: فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ ولا يضر تقييد الرحمة بذلك اليوم لأن الرحمة في غيره تثبت بالطريق الأولى، والمراد بهذا اليوم يوم القيامة تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها تدافع وتسعى في خلاصها بالاعتذار ولا يهمها شأن غيرها من ولد ووالد وقريب. أخرج أحمد في الزهد. وجماعة عن كعب قال: كنت عند عمر ابن الخطاب فقال: خوفنا يا كعب فقلت: يا أمير المؤمنين أو ليس فيكم كتاب الله تعالى وحكمة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بلى ولكن خوفنا قلت: يا أمير المؤمنين لو وافيت يوم القيامة بعمل سبعين نبيا لازدرأت عملك مما ترى قال: زدنا قلت: يا أمير المؤمنين إن جهنم لتزفر زفرة يوم القيامة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا خرّ جاثيا على ركبتيه حتى إن إبراهيم خليله ليخر جاثيا على ركبتيه فيقول: رب نفسي نفسي لا أسألك اليوم إلا نفسي فأطرق عمر مليا قلت: يا أمير المؤمنين أو ليس تجدون هذا في كتاب الله؟ قال: كيف؟ قلت: قول الله تعالى في هذه الآية: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ إلخ، وجعل بعضهم هذا القول هو الجدال ولم يرتضه ابن عطية، والحق أنه ليس فيه إلا الدلالة على عدم الاهتمام بشأن الغير وهو بعض ما تدل عليه الآية وعن ابن عباس أن هذه المجادلة بين الروح والجسد يقول الجسد: بك نطق لساني وأبصرت عيني ومشت رجلي ولولاك لكنت خشبة ملقاة وتقول الروح: أنت كسبت وعصيت لا أنا وأنت كنت الحامل وأنا المحمول فيقول الله تعالى: أضرب لكما مثلا أعمى حمل ومقعدا إلى بستان فأصابا من ثماره فالعذاب عليكما، والظاهر عدم صحة هذا عن هذا الحبر وهو أجل من أن يحمل المجادلة في الآية على ما ذكر. وضمير نَفْسِها عائد على النفس الأولى فكأنه قيل: عن نفس النفس، وظاهره إضافة الشيء إلى نفسه، فوجه بأن النفس الأولى هي الذات والجملة أي الشخص بأجزائه كما في قولك، نفس كريمة ونفس مباركة، والثانية عينها أي التي تجري مجرى التأكيد ويدل على حقيقة الشيء وهويته بحسب المقام، والفرق بينهما أن الأجزاء ملاحظة في الأول دون الثاني، والأصل هو الثاني لكن لعدم المغايرة في الحقيقة بين الذات وصاحبها استعمل بمعنى الصاحب ثم أضيف الذات إليه، فوزان كُلُّ نَفْسٍ وزان قولك: كل أحد كذا في الكشف، وفي الفرائد المغايرة شرط بين المضاف إليه لامتناع النسبة بدون المنتسبين فلذلك قالوا: يمتنع إضافة الشيء إلى نفسه إلا أن المغايرة قبل الإضافة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 475 كافية وهي محققة هاهنا لأنه لا يلزم من مطلق النفس نفسك ويلزم من نفسك مطلق النفس فلما أضيف ما لا يلزم أن يكون نفسك إلى نفسك صحت الإضافة وإن اتحدا بعد الإضافة، ولذا جاز عين الشيء وكله ونفسه بخلاف أسد الليث وحبس المنع ونحوهما، وقال ابن عطية: النفس الأولى هي المعروفة والثانية هي البدن، وقال العسكري: الإنسان يسمى نفسا تقول العرب: ما جاءني إلا نفس واحدة أي إنسان واحدة، والنفس في الحقيقة لا تأتي لأنها هي الشيء الذي يعيش به الإنسان فتأمل ففي النفس من بعض ما قالوه شيء، والظاهر أن السؤال والجواب المشهورين في- كل رجل وضيعته- يجريان هاهنا فتفطن. وفي البحر إنما لم تجىء- تجادلها عنها- بدل تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها لأن الفعل إذا لم يكن من باب ظن وفقد لا يتعدى ظاهرا كان فاعله أو مضمرا إلى ضميره المتصل فلا يقال. ضربتها هند أو هند ضربتها وإنما يقال: ضربت نفسها هند وهند ضربت نفسها، وتأنيث تَأْتِي مع إسناده إلى كُلُّ وهو مذكر لرعاية المعنى، وكذا يقال فيما بعد، وعلى ذلك جاء قوله: جادت عليها كل عين ثرة ... فتركن كل حديقة كالدرهم وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ أي تعطى وافيا كاملا ما عَمِلَتْ أي جزاء عملها أو الذي عملته إن خيرا فخيرا وإن شرا بطريق اطلاق اسم السبب على المسبب إشعارا بكمال الاتصال بين الأجزية والأعمال، والإظهار في مقام الإضمار لزيادة التقرير وللإيذان باختلاف وقتي المجادلة والتوفية وإن كانتا في يوم واحد. وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ بزيادة العقاب أو بالعقاب بغير ذنب وقيل: بنقص أجورهم. وتعقب بأنه علم من السابق. وأجيب بأن القائل به لعله أراد بجزاء ما علمت العقاب، وعلى تقدير إرادة الأعم فهذا تكرار للتأكيد ووجه ضمير الجمع ظاهر وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً أي أهل قرية وذلك إما بإطلاق القرية وإرادة أهلها وإما بتقدير مضاف، وانتصابه على أنه مفعول أول- لضرب- على تضمينه معنى الجعل، وأخر لئلا يفصل الثاني بين الموصوف وصفته وما يترتب عليها، وتأخيره عن الكل مخل بتجاوب أطراف النظم الجليل وتجاذبه، ولأن تأخير ما حقه التقديم مما يورث النفس شوقا لوروده لا سيما إذا كان في المقدم ما يدعو إليه كما هنا فيتمكن عند وروده فضل تمكن، وعن الزجاج أن النصب على البدلية والأصل عنده ضرب الله مثلا مثل قرية فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، والمراد بالقرية إما قرية محققة من قرى الأولين، وإما مقدرة ووجود المشبه به غير لازم، ولم يجوز ذلك أبو حيان لمكان وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ وأنت تعلم أنه غير مانع. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس ومجاهد أنها مكة، وروي هذا عن ابن زيد وقتادة وعطية، وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن سليم بن عمر قال: صحبت حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي خارجة من مكة إلى المدينة فأخبرت أن عثمان قد قتل فرجعت وقالت: ارجعوا بي فوالذي نفسي بيده إنها للقرية التي قال الله تعالى وتلت ما في الآية، ولعلها أرادت أنها مثلها ويمكن حمل ما روي عن الخبر ومن معه على ذلك، والمعنى جعلها الله تعالى مثلا لأهل مكة أو لكل قوم أنعم الله تعالى عليهم فأبطرتهم النعمة ففعلوا ما فعلوا فجوزوا بما جوزوا، ودخل فيهم أهل مكة دخولا أوليا. ولعله المختار كانَتْ آمِنَةً قيل: ذات أمن لا يأتي عليها ما يوجب الخوف كما يأتي على بعض القرى من إغارة أهل الشر عليها وطلب الإيقاع بها مُطْمَئِنَّةً ساكنة قارة لا يحدث فيها ما يوجب الانزعاج كما يحدث في بعض القرى من الفتن بين أهاليها ووقوع بعضهم في بعض فإنها قلما تأمن من إغارة شرير عليها وهيهات هيهات أن ترى شخصين متصادقين فيها: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 476 والمرء يخشى من أبيه وابنه ... ويخونه فيها أخوه وجاره وقيل: يفهم من كلام بعضهم أن الاطمئنان أثر الأمن ولازمه من حيث إن الخوف يوجب الانزعاج وينافي الاطمئنان، وفي البحر أنه زيادة في الأمن يَأْتِيها رِزْقُها أقواتها رَغَداً واسعا مِنْ كُلِّ مَكانٍ من جميع نواحيها، وغير أسلوب هذه الصفة عما تقدم إلى ما ترى لما أن إتيان الرزق متجدد وكونها آمنة مطمئنة ثابت مستمر، وذكر الإمام أن الآية تضمنت ثلاث نعم جمعها قولهم: ثلاثة ليس لها نهايه ... الأمن والصحة والكفاية فآمنة إشارة إلى الأمن ومُطْمَئِنَّةً إلى الصحة ويَأْتِيها رِزْقُها إلخ إلى الكفاية، وجعل سبب الاطمئنان ملاءمة هواء البلد لأمزجة أهله وفيه تأمل فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ جمع نعمة كشدة وأشد على ترك الاعتداد بالتاء لأن المطرد جمع فعل على أفعل لا فعلة، وقال الفاضل اليمنى: اسم جمع للنعمة، وقطرب جمع نعم بضم النون كبؤس وأبؤس، والنعم عنده بمعنى النعيم، وحمل على ذلك قولهم: هذا يوم طعم ونعم، وعند غيره بمعنى النعمة، والمراد بالنعم ما تضمنته الآية قبل ولعله في قوة نعم كثيرة بل هو كذلك، وفي إيثار جمع القلة إيذان بأن كفران نعم قليلة أوجبت هذا العذاب فما ظنك بكفران نعم كثيرة فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ شبه أثر الجوع والخوف وضررهما الغاشي باللباس بجامع الإحاطة والاشتمال فاستعير له اسمه وأوقع عليه الإذاقة المستعارة للإصابة، وأوثرت للدلالة على شدة التأثير التي تفوت لو استعملت الإصابة، وبينوا العلامة بأن المدرك من أثر الضرر شبه بالمدرك من طعم المر البشع من باب استعارة محسوس لمعقول لأن الوجدانيات لزت في قرن العقليات، وكذا يقال في الأول، ولشيوع استعمال الاذاقة في ذلك وكثرة جريانها على الألسنة جرت مجرى الحقيقة ولذا جعل إيقاعها على اللباس تجريدا، فإن التجريد إنما يحسن أو يصح بالحقيق أو ما ألحق بها من المجاز الشائع، فلا فرق في هذا بين أذاقها إياه وأصابها به، وإنما لم يقل: فكساها إيثارا للترشيح لئلا يفوت ما تفيده الاذاقة من التأثير والإدراك وطعم الجوع لما في اللباس من الدلالة على الشمول. وصاحب المفتاح حمل اللباس على انتفاع اللون ورثاثة الهيئة اللازمين للجوع والخوف، والاستعارة حينئذ من باب الاستعارة المحسوس للمحسوس، وما ذكر أولا أولى إذ لا يجل موقع الاذاقة وتكون الإصابة أبلغ موقعا. ونقل عن الأصحاب أن لفظ اللباس عندهم تخييل، وبين ذلك بأن يشبه الجوع والخوف في التأثير بذي لباس قاصد للتأثير مبالغ فيه فيخترع له صورة كاللباس ويطلق عليها اسمه واعترض بأن ذلك لا يلائم بلاغة القرآن العظيم لأن الجوع إذا شبه بالمؤثر القاصد الكامل فيما تولاه ناسب أن تخترع له صورة ما يكون آلة للتأثير لا صورة اللباس الذي لا مدخل له فيه، وتعقب بأن صاحب المفتاح يرى أن التخييلية مستعملة في أمر وهمي توهمه المتكلم شبيها بمعناه الحقيقي فاللباس إذا كان تخييلا يجوز أن يكون المراد به أمرا مشتملا على الجوع اشتمال اللباس كالقحط ومشتملا على الخوف كإحاطة العدو فلا وجه لقوله: صورة اللباس مما لا دخل له في التأثير، والقول بأنه لا يناسب مع الفاعل إلا ذكر الآلة للتأثير مما لم يصرح به أحد من القوم ولا يتأتى التزامه في كل مكنية، ألا تراك لو قلت: مسافة القريض ما زال يطويها حتى نزل ببابه على تشبيه المدح بمسافر ثبت له المسافة تخييلا وما بعده ترشيح كانت استعارة حسنة وليس قرينتها آلة لذلك الفاعل بل أمر من لوازمه، ومثله كثير في كلام البلغاء انتهى. وأنت تعلم أن هذا على ما فيه لا يفيد عند صحيح التخيل تميز ما نقل عن الأصحاب على ما ذكر أولا ولا مساواته له، والمشهور أن في لِباسَ استعارتين تصريحية ومكنية، وبين ذلك بأن شبه ما غشي الإنسان عند الجوع والخوف من أثر الضرر من حيث الاشتمال باللباس فاستعير له اسمه ومن حيث الكراهة بالطعم المر البشع فيكون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 477 استعارة مصرحة نظر إلى الأول ومكنية إلى الثانية وتكون الاذاقة تخييلا، وفيه بحث مشهور بين الطلبة، وجوز أن يكون لباس الْجُوعِ كلجين الماء أي أذاقها الله الجوع الذي هو في الإحاطة كاللباس، والأول أيضا أولى، ومثل ذلك قول كثير: غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا ... غلقت لضحكته رقاب المال فإنه استعار الرداء للمعروف لأنه يصون عرض صاحبة صون الرداء. لما يلقي عليه وأضاف إليه الغمر وهو في وصف المعروف استعارة جرت مجرى الحقيقة وحقيقته من الغمرة وهي معظم الماء وكثرته، وتقديم «الجوع» الناشئ من فقدان الرزق على الْخَوْفِ المترتب على زوال الأمن المقدم فيما تقدم على إتيان الرزق لكونه أنسب بالاذاقة أو لمراعاة المقارنة بين ذلك وبين إتيان الرزق. وفي مصحف أبي «لباس الخوف والجوع» بتقديم الخوف، وكذا قرأ عبد الله إلا أنه لم يذكر اللباس وعد ذلك أبو حيان تفسيرا لا قراءة، وروى العباس عن أبي عمرو أنه قرأ «والخوف» بالنصب عطفا على لِباسَ وجعله الزمخشري على حذف مضاف وإقامة المضاف مقامه أي ولبسا الخوف. وقال صاحب اللوامح: يجوز أن يكون نصبه بإضمار فعل، وفي مقابلة ما تقدم بالجوع والخوف فقط ما يشير إلى عد الأمن والاطمئنان كالشيء الواحد وإلا فكان الظاهر فاذاقها الله لباس الجوع والخوف والانزعاج بِما كانُوا يَصْنَعُونَ فيما قبل أو على وجه الاستمرار وهو الكفران المذكور، وما موصولة والعائد محذوف أي يصنعونه، وجوز أن تكون مصدرية والباب على الوجهين بسببية والضميران قيل: عائدان على- أهل- المقدر المضاف إلى القرية بعد ما عادت الضمائر السابقة إلى لفظها، وقيل: عائدات إلى القرية مرادا بها أهلها. وفي إرشاد العقل السليم أسند ما ذكر إلى أهل القرية تحقيقا للأمر بعد إسناد الكفران إليها وإيقاع الإذاقة عليها إرادة للمبالغة، وفي صيغة الصنعة إيذان بأن كفران الصنيعة صنعة راسخة لهم وسنة مسلوكة وَلَقَدْ جاءَهُمْ من تتمة التمثيل، والضمير فيه عائد على من عاد إليه الضميران قبله، وجيء بذلك لبيان أن ما صنعوه من كفران الله تعالى لم يكن مزاحمة منهم لقضية العقل فقط بل كان ذلك معارضة لحجة الله تعالى على الخلق أيضا أي ولقد جاء أهل تلك القرية رَسُولٌ مِنْهُمْ أي من جنسهم يعرفونه بأصله ونسبه فأخبرهم بوجوب الشكر على النعمة وأنذرهم بسوء عاقبة ما هم عليه فَكَذَّبُوهُ في رسالته أو فيما أخبرهم به مما ذكر، فالفاء فصيحة وعدم ذكر ما أفصحت عنه للإيذان بمفاجأتهم بالتكذيب من غير تلعثم فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ المستأصل لشأفتهم غب ما ذاقوا منه ما سمعت وَهُمْ ظالِمُونَ أي حال التباسهم بالظلم وهو الكفران والتكذيب غير مقلعين عنه بما ذاقوا من المقدمات الزاجرة عنه، وفيه دلالة على تماديهم في الكفر والعناد وتجاوزهم في ذلك كل حد معتاد. وترتيب أخذ العذاب على تكذيب الرسول جرى على سنة الله تعالى حسبما يرشد إليه قوله سبحانه: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] وبه يتم التمثيل فإن حال أهل مكة سواء ضرب المثل لهم خاصة أولهم ولمن سار سيرتهم كافة أشبه بحال أهل تلك القرية من الغراب بالغراب فقد كانوا في حرم آمن يتخطف الناس من حولهم ولا يمر ببالهم طيف من الخوف ولا يزعج قطا قلويهم مزعج وكانت تجبى إليه ثمرات كل شيء ولقد جاءهم رسول منهم وأي رسول تحار في إدراك سمو مرتبة العقول صلى الله عليه وسلم ما اختلف الدبور والقبول فانذرهم وحذرهم فكفروا بأنعم الله تعالى وكذبوه عليه الصلاة والسلام فأذاقهم الله تعالى لباس الجوع والخوف حيث أصابهم بدعائه صلى الله عليه وسلم «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف» ما أصابهم من جدب شديد وأزمة ما عليها مزيد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 478 فاضطروا إلى أكل الجيف والكلاب الميتة والعظام المحروقة والعلهز وهو طعام يتخذ في سني المجاعة من الدم والوبر وكان أحدهم ينظر إلى السماء فيرى شبه الدخان من الجوع وقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كانوا يغيرون على مواشيهم وعيرهم وقوافلهم ثم أخذهم يوم بدر ما أخذهم من العذاب هذا ما اختاره شيخ الإسلام وقال: إنه الذي يقتضيه المقام ويستدعيه النظام، وأما ما أجمع عليه أكثر أهل التفسير من أن الضمير في قوله تعالى: «ولقد جاءهم» لأهل مكة والكلام انتقال إلى ذكر حالهم صريحا بعد ذكر مثلهم وأن المراد بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم وبالعذاب ما أصابهم من الجدب ووقعة بدر فبمعزل عن التحقيق كيف لا وقوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ مفرع على نتيجة التمثيل وصد لهم عما يؤدي إلى مثل عاقبته، والمعنى وإذا قد استبان لكم حال من كفر بأنعم الله تعالى وكذب رسوله وما حل بهم بسبب ذلك من اللتيا والتي أولا وآخرا فانتهوا عما أنتم عليه من كفران النعم وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم كيلا يحل بكم ما حل بهم واعرفوا حق نعم الله تعالى وأطيعوا الرسول عليه الصلاة والسلام في أمره ونهيه فكلوا من رزق الله تعالى حال كونه حَلالًا طَيِّباً وذروا ما تفترون من تحريم البحائر ونحوها وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ واعرفوا حقها ولا تقاتلوها بالكفران. والفاء في المعنى داخلة على الأمر بالشكر وإنما دخلت على الأمر بالأكل لكون الأكل ذريعة إلى الشكر فكأنه قيل: فاشكروا نعمة الله غب أكلها حلالا طيبا وقد أدمج فيه النهي عن زعم الحرمة ولا ريب في أن هذا إنما يتصور حين كان العذاب المستأصل متوقعا بعد وقد تمهدت مبادية وأما بعد ما وقع فمن ذا الذي يحذر ومن ذا الذي يؤمر بالأكل والشكر وحمل قوله تعالى: فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ على الأخبار بذلك قبل الوقوع يأباه التصدي لاستصلاحهم بالأمر والنهي وإن لم يأباه التعبير بالماضي لأن استعماله في المستقبل المتحقق الوقوع مجازا كثير. وتوجيه خطاب الأمر بالأكل إلى المؤمنين مع أن ما يتلوه من خطاب النهي متوجه إلى الكفار كما فعل الواحدي قال: فكلوا أنتم يا معشر المؤمنين مما رزقكم الله تعالى من الغنائم مما لا يليق بشأن التنزيل اه. وتعقب بأنه بعد ما فسر العذاب بالعذاب المستأصل للشأفة كيف يراد به ما وقع في بدر وما بقي منهم أضعاف ما ذهب وإن كان مثل ذلك كافيا في الاستئصال فليكن المحذر والمأمور الباقي منهم، وما ذكره عن الواحدي من توجيه خطاب الأمر بالأكل للمؤمنين رواه الإمام عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ثم نقل عن الكلبي ما يستدعي أن الخطاب لأهل مكة حيث قال: إن رؤساء مكة كلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جهدوا وقالوا: عاديت الرجال فما بال الصبيان والنساء وكانت الميرة قد قطعت عنهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن في الحمل إليهم فحمل الطعام إليهم فقال الله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ إلخ ثم قال: والقول ما قال ابن عباس يدل عليه قوله تعالى فيما بعد: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ إلخ يعني أنكم لما آمنتم وتركتم الكفر فكلوا الحلال الطيب وهو الغنيمة واتركوا الخبائث وهو الميتة والدم اه. وفي التفسير الخازني أن كون الخطاب للمؤمنين من أهل المدينة هو الصحيح فإن الصحيح أن الآية مدنية كما قال مقاتل وبعض المفسرين، والمراد بالقرية مكة وقد ضربها الله تعالى لأهل المدينة يخوفهم ويحذرهم أن يصنعوا مثل صنيعهم فيصيبهم ما أصابهم من الجوع والخوف ويشهد لصحة ذلك أن الخوف المذكور في الآية كان من البعوث والسرايا التي كانت يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول جميع المفسرين لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يؤمر بالقتال وهو بمكة وإنما أمر به وهو بالمدينة فكان صلى الله عليه وسلم يبعث البعوث إلى مكة يخوفهم بذلك وهو بالمدينة، والمراد بالعذاب ما أصابهم من الجوع والخوف وهو أولى من أن يراد به القتل يوم بدر، والظاهر أن قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَهُمْ إلخ عنده كما هو عند الجمهور انتقال من التمثيل بهم إلى التصريح بحالهم الداخلة فيه وليس من تتمته فإنه على ما قيل خلاف المتبادر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 479 إلى الفهم. نعم كون خطاب النهي فيما بعد للمؤمنين بعيد غاية البعد، وجعله للكفار مع جعل خطاب الأمر السابق للمؤمنين بعد أيضا لكن دون ذلك. وادعى أبو حيان أن الظاهر أن خطاب النهي كخطاب الأمر للمكلفين كلهم، ونقل كون خطاب للنهي لهم عن العسكري، وكونه للكفار عن الزمخشري وابن عطية والجمهور، ولعل الأولى ما ذكره شيخ الإسلام إلا أن تقييد العذاب بالمستأصل ودعوى أن حال أهل مكة كحال أهل تلك القرية حذو القذة بالقذة من غير تفاوت بينهما ولو في خصلة فذة لا يخلو عن شيء من حيث إن أهل مكة لم يستأصلوا فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ تطيعون أو إن صح زعمكم إنكم تقصدون بعبادة الآلهة عبادته سبحانه ومن قال: إن الخطاب للمؤمنين أبقى هذا على ظاهره أي إن كنتم تخصونه تعالى بالعبادة، والكلام خارج مخرج التهييج. إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ تعليل لحل ما أمرهم بأكله مما رزقهم، والحصر إضافي على ما قال غير واحد أي إنما حرم أكل هذه الأشياء دون ما تزعمون من البحائر والسوائب ونحوها فلا ينافي تحريم غير المذكورات كالسباع والحمر الأهلية، وقيل: الحصر على ظاهره والسباع ونحوها لم تحرم قبل وإنما حرمت بعد وليس الحصر إلا بالنظر إلى الماضي، وقال الإمام: إنه تعالى حصر المحرمات في الأربع في هذه السورة وفي سورة [الأنعام: 145] بقوله سبحانه: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً إلخ وهما مكيتان وحصرها فيها أيضا في البقرة وكذا في [المائدة: 1] فإنه تعالى قال فيها أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فأباح الكل إلا ما يتلى عليهم، وأجمعوا على أن المراد بما يتلى هو قوله تعالى في تلك السورة: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [المائدة: 3] وما ذكره تعالى من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع داخل في الميتة وما ذبح على النصب داخل فيما أهل به لغير الله، فثبت أن هذه السور الأربع دالة على حصر المحرمات في هذه الأربع، وسورتا النحل والأنعام مكيتان وسورتا البقرة والمائدة مدنيتان، والمائدة من آخر ما نزل بالمدينة فمن أنكر حصر التحريم في الأربع إلا ما خصه الإجماع والدلائل القاطعة كان في محل أن يخشى عليه لأن هذه السور دلت على أن حصر المحرمات فيها كان مشروعا ثابتا في أول أمر مكة وآخرها وأول المدينة وآخرها، وفي إعادة البيان قطع للأعذار وإزالة للشبه اه نتفطن ولا تغفل فَمَنِ اضْطُرَّ أي دعته ضرورة المخمصة إلى تناول شيء من ذلك غَيْرَ باغٍ على مضطر آخر وَلا عادٍ متعد قدر الضرورة وسد الرمق فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي لا يؤاخذه سبحانه بذلك فأقيم سببه مقامه، ولتعظيم أمر المغفرة والرحمة جيء بالاسم الجليل، وقدسها شيخ الإسلام فظن أن الآية فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام: 145] فبين سر التعرض لوصف الربوبية والإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم وسبحان من لا يسهو. واستدل بالآية على أن الكافر مكلف بالفروع، ثم إنه تعالى أكد ما يفهم من الحصر بالنهي عن التحريم والتحليل بالأهواء فقال عز قائلا: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ إلخ، ولا ينافي ذلك العطف كما لا يخفى، واللام صلة القول مثلها في قوله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ [البقرة: 154] وقولك: لا تقل للنبيذ إنه حلال، ومعناها الاختصاص، و «ما» موصولة والعائد محذوف أي لا تقولوا في شأن الذي تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة في قولكم ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا [الأنعام: 139] من غير ترتب ذلك الوصف على ملاحظة وفكر فضلا عن استناده إلى وحي أو قياس مبني عليه بل مجرد قول باللسان. الْكَذِبَ منتصب على أنه مفعول به- لتقولوا- وقوله سبحانه: هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ بدل منه بدل كل، وقيل: منصوب بإضمار أعني، وقيل: الْكَذِبَ منتصب على المصدرية وهذا مقول القول. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 480 وجوز أن يكون بدل اشتمال، وجوز أن يكون الْكَذِبَ مقول القول المذكور ويضمر قول آخر بعد الوصف واللام على حالها أي لا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم فتقول هذا حلال وهذا حرام، والجملة مبينة ومفسرة لقوله تعالى: تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ كما في قوله سبحانه: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 54] وجوز أن لا يضمر القول على المذهب الكوفي وأن يقدر قائله على أن المقدر حال من الألسنة، ويجوز أن يكون اللام للتعليل وما مصدرية والْكَذِبَ مفعول الوصف وهذا حَلالٌ إلخ مقول القول أي لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لأجل وصف ألسنتكم الكذب، وإلى هذا ذهب الكسائي. والزجاج، وحاصله لا تحلوا ولا تحرموا لمجرد وصف ألسنتكم الكذب وتصويرها له وتحقيقها لماهيته كأن ألسنتهم لكونها منشأ للكذب ومنبعا للزور شخص عالم بكنهه ومحيط بحقيقته يصفه للناس ويعرفه أوضح وصف وأبين تعريف، ومثل هذا وارد في كلام العرب والعجم تقول: له وجه يصف الجمال وريق يصف السلاف وعين تصف السحر، وتقدم بيت المعري، وقد بولغ في الآية من حيث جعل قولهم كذبا ثم جعل اللسان الناطقة بتلك المقالة ينبوعه مصورة إياه بصورته التي هو عليها وهو من باب الاستعارة بالكتابة وجعله بعضهم من باب الإسناد المجازي نحو نهاره صائم كأن ألسنتهم لكونها موصوفة بالكذب صارت كأنها حقيقته ومنبعه الذي يعرف منه حتى كأنه يصفه ويعرفه كقوله: أضحت يمينك من جود مصورة ... لا بل يمينك منها صور الجود وقرأ الحسن وابن يعمر وطلحة والأعرج وابن أبي إسحاق وابن عبيد ونعيم بن ميسرة «الكذب» بالجر، وخرج على أن يكون بدلا من ما مع مدخولها، وجعله غير واحد صفة- لما- المصدرية مع صلتها. وتعقبة أبو حيان بأن المصدر المسبوك من ما أو ان أو كي مع الفعل معرفة كالمضمر لا يجوز نعته فلا يقال: أعجبني أن تقوم السريع كما يقال: أعجبني قيامك السريع، وليس لكل مقدر حكم المنطوق به وإنما يتبع بذلك كلام العرب. وقرأ معاذ. وابن أبي عبلة. وبعض أهل الشام «الكذب» بضم الثلاثة صفة للألسنة وهو جمع كذوب كصبور وصبر، قال صاحب اللوامح: أو جمع كذاب بكسر الكاف وتخفيف الذال مصدر كالقتال وصف به مبالغة وجمع فعل ككتاب وكتب أو جمع كاذب كشارف وشرف. وقرأ مسلمة بن محارب كما قال ابن عطية أو يعقوب كما قال صاحب اللوامح ونسب قراءة معاذ ومن معه إلى مسلمة «الكذب» بضمتين والنصب، وخرج على أوجه. الأول إن ذلك منصوب على الشتم والذم وهو نعت للألسنة مقطوع. الثاني مفعول به- لتصف- أو تَقُولُوا والمراد الكلم الكواذب: الثالث أنه مفعول مطلق- لتصف- من معناه على أنه جمع كذاب المصدر، وأعرب هذا حَلالٌ إلخ على ما مر ولا إشكال في إبداله لأنه كلم باعتبار مواده وكلاما ظاهرا لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ اللام لام العاقبة والصيرورة وللتعليل لأن ما صدر منهم ليس لأجل الافتراء على الله تعالى بل لأغراض أخر ويترتب على ذلك ما ذكر، وإلى هذا ذهب الزمخشري وجماعة، وقال بعضهم: يجوز أن تكون للتعليل ولا يبعد قصدهم لذلك كما قالوا: وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها [الأعراف: 28] وفي البحر أنه الظاهر ولا يكون ذلك على سبيل التوكيد للتعليل السابق على احتمال كون اللام للتعليل وما مصدرية لأن في هذا التنبيه على من افتروا الكذب عليه وليس فيما مر بل فيه إثبات الكذب مطلقا ففي إشارة إلى أنهم لتمرنهم على الكذب اجترءوا على الكذب على الله تعالى فنسبوا ما حللوا وحرموا إليه سبحانه. وقال الواحدي: إن لِتَفْتَرُوا بدل من لِما تَصِفُ إلخ لأن وصفهم الكذب هو افتراء على الله تعالى، وهو على ما في البحر أيضا على تقدير كون ما مصدرية لأنها إذا جعلت موصولة لا تكون اللام للتعليل ليبدل من ذلك ما يفهم التعليل، وقيل: لا مانع من التعليل على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 481 تقدير الموصولية فعند قصد التعليل يجوز الإبدال، وحاصل معنى الآية على ما نص عليه العسكري لا تسموا ما لم يأتكم حله ولا حرمته عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم حلالا ولا حراما فتكونوا كاذبين على الله تعالى لأن مدار الحل والحرمة ليس إلا حكمه سبحانه، ومن هنا قال أبو نضرة: لم أزل أخاف الفتيا منذ سمعت آية النحل إلى يومي هذا. وقال ابن العربي: كره مالك وقوم أن يقول المفتي هذا حلال وهذا حرام في المسائل الاجتهادية وإنما يقال ذلك فيما نص الله تعالى عليه، ويقال في مسائل الاجتهاد: إني أكره كذا وكذا ونحو ذلك فهو أبعد من أن يكون فيه ما يتوهم منه الافتراء على الله سبحانه إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ في أمر من الأمور لا يُفْلِحُونَ لا يفوزون بمطلوب مَتاعٌ قَلِيلٌ أي منفعتهم التي قصدوها بذلك الافتراء منفعة قليلة منقطعة عن قريب- فمتاع- خبر مبتدأ محذوف وقَلِيلٌ صفته والجملة استئناف بياني كأنه لما نفي عنهم الفوز بمطلوب قيل: كيف ذلك وهم قد تحصل لهم منفعة بالافتراء؟ فقيل: ذاك متاع قليل لا عبرة به ويرجع الأمر بالآخرة إلى أن المراد نفي الفوز بمطلوب يعتد به، وإلى كون مَتاعٌ خبر مبتدأ محذوف ذهب أبو البقاء إلا أنه قال: أي بقاؤهم متاع قليل ونحو ذلك. وقال الحوفي: مَتاعٌ قَلِيلٌ مبتدأ وخبر، وفيه أن النكرة لا يبتدأ بها بدون مسوغ وتأويله بمتاعهم ونحوه بعيد وَلَهُمْ في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ لا يكتنه كنهه وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا خاصة دون غيرهم من الأولين حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ أي من قبل نزول هذه الآية وذلك في قوله تعالى في سورة [الأنعام: 146] وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ الآية، والظاهر أن مِنْ قَبْلُ متعلق- بقصصنا- وجوز تعليقه- بحرمنا- والمضاف إليه المقدر ما مر أيضا. ويحتمل أن يقدر مِنْ قَبْلُ تحريم ما حرم على أمتك، وهو أولى على ما قيل، وجوز أن يكون الكلام من باب التنازع، وهذا تحقيق لما سلف من حصر المحرمات فيما فصل بإبطال ما يخالف من فرية اليهود وتكذيبهم في ذلك، فإنهم كانوا يقولون: لسنا أول من حرمت عليه وإنما كانت محرمة على نوح. وإبراهيم. ومن بعدهما حتى انتهى الأمر إلينا وَما ظَلَمْناهُمْ بذلك التحريم وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث فعلوا ما عوقبوا عليه بذلك حسبما نعى عليهم قوله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء: 160] الآية، وفيه تنبيه على الفرق بينهم وبين غيرهم في التحريم وإنه كما يكون للمضرة يكون للعقوبة. ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ هو ما يسيء صاحبه من كفر أو معصية ويدخل فيه الافتراء على الله تعالى، وعن ابن عباس أنه الشرك، والتعميم أولى بِجَهالَةٍ أي بسببها، على معنى أن الجهالة السبب الحامل لهم على العمل كالغيرة الجاهلية الحاملة على القتل وغير ذلك، وفسرت الجهالة بالأمر الذي لا يليق، وقال ابن عطية: هي هنا تعدي الطور وركوب الرأس لا ضد العلم، ومنه ما جاء في الخبر «اللهم أعوذ بك من أن أجهل أو يجهل علي» وقول الشاعر: ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا نعم كثيرا ما تصحب هذه الجهالة التي هي بمعنى ضد العلم، وفسرها بعضهم بذلك وجعل الباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال أي ملتبسين بجهالة غير عارفين بالله تعالى وبعقابه أو غير متدبرين في العواقب لغلبة الشهوة عليهم ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد ما عملوا ما عملوا، والتصريح به مع دلالة ثُمَّ عليه للتوكيد والمبالغة وَأَصْلَحُوا أي أصلحوا أعمالهم أو دخلوا في الصلاح، وفسر بعضهم الإصلاح بالاستقامة على التوبة إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها أي التوبة كما قال غير واحد، ولعل الإصلاح مندرج في التوبة وتكميل لها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 482 وقال أبو حيان: الضمير عائد على المصادر المفهومة من الأفعال السابقة أي من بعد عمل السوء والتوبة والإصلاح، وقيل: يعود على الجهالة، وقيل: على السوء على معنى المعصية وليس بذاك لَغَفُورٌ لذلك السوء رَحِيمٌ يثبت على طاعته سبحانه فعلا وتركا، وتكرير إِنَّ رَبَّكَ لتأكيد الوعد وإظهار كمال العناية بإنجازه، والتعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم مع ظهور الأثر في التائبين للإيماء إلى أن إفاضة آثار الربوبية من المغفرة والرحمة عليهم بتوسطه صلى الله عليه وسلم وكونهم من أتباعه كما مر عن قريب، والتقييد بالجهالة قيل: لبيان الواقع لأن كل من يعمل السوء لا يعمله إلا بجهالة. وقال العسكري: ليس المعنى أنه تعالى يغفر لمن يعمل السوء بجهالة ولا يغفر لمن عمله بغير جهالة بل المراد أن جميع من تاب فهذه سبيله، وإنما خص من يعمل السوء بجهالة لأن أكثر من يأتي الذنوب يأتيها بقلة فكر في عاقبة الأمر أو عند غلبة الشهوة أو في جهالة الشباب فذكر الأكثر على عادة العرب في مثل ذلك، وعلى القوانين لا مفهوم للقيد إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أي كان عنده عليه السلام من الخير ما كان عند أمة وهي الجماعة الكثيرة، فإطلاقها عليه عليه السلام لاستجماعه كمالات لا تكاد توجد إلا متفرقة في أمة جمة: وليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد وهو صلى الله عليه وسلم رئيس الموحدين وقدوة المحققين الذي نصب أدلة التوحيد ورفع أعلامها وخفض رايات الشرك وجزم ببواتر الحجج هامها، وقال مجاهد: سمي عليه السلام أمة لانفراده بالإيمان في وقته مدة ما، وفي صحيح البخاري أنه عليه السلام قال لسارة: ليس على الأرض اليوم مؤمن غيري وغيرك، وذكر في القاموس أن من معاني الأمة من هو على الحق مخالف لسائر الأديان، والظاهر أنه مجاز بجعله كأنه جميع ذلك العصر لأن الكفرة بمنزلة العدم، وقيل: الأمة هنا فعلة بمعنى مفعول كالرحلة بمعنى المرحول إليه، والنخبة بمعنى المنتخب من أمه إذا قصده أو اقتدى به أي كان مأموما أو مؤتما به فإن الناس كانوا يقصدونه للاستفادة ويقتدون بسيرته. وقال ابن الأنباري: هذا مثل قول العرب: فلان رحمة وعلامة ونسابة يقصدون بالتأنيث التناهي في المعنى الموصوف به. وإيراد ذكره عليه السلام عقيب تزييف مذاهب المشركين من الشرك والطعن في النبوة وتحريم ما أحل الله تعالى للإيذان بأن حقية دين الإسلام وبطلان الشرك وفروعه أمر ثابت لا ريب فيه. وفي ذلك أيضا رد لقريش حيث يزعمون أنهم على دينه، وقيل: إنه تعالى لما بين حال المشركين وأجرى ذكر اليهود بين طريقة إبراهيم عليه السلام ليظهر الفرق بين حاله وحال المشركين وحال اليهود قانِتاً لِلَّهِ مطيعا له سبحانه قائما بأمره تعالى حَنِيفاً مائلا عن كل دين باطل إلى الدين الحق غير زائل عنه. وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ في أمر من أمور دينهم أصلا وفرعا، صرح بذلك مع ظهوره قيل: ردا على كفار قريش في قولهم: نحن على ملة أبينا إبراهيم، وقيل: لذلك وللرد على اليهود المشركين بقولهم: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: 30] في افترائهم وزعمهم أنه عليه السلام كان على ما هم عليه كقوله تعالى: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران: 67] إذ به ينتظم أمر إيراد التحريم والسبت سابقا ولا حقا. شاكِراً لِأَنْعُمِهِ صفة ثالثة لأمة- والجار والمجرور متعلق- بشاكرا- كما هو الظاهر، وأوثر صيغة جمع القلة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 483 قيل: للإيذان بأنه عليه السلام لا يخل بشكر النعمة القليلة فكيف بالكثيرة وللتصريح بأنه عليه السلام على خلاف ما هم عليه من الكفران بأنعم الله تعالى حسبما أشير إليه بضرب المثل، وقيل: إن جمع القلة هنا مستعار لجمع الكثرة ولا حاجة إليه. وفي بعض الآثار أنه عليه السلام كان لا يتغدى إلا مع ضيف فلم يجد ذات يوم ضيفا فأخر غداءه فإذا هو بفوج من الملائكة عليهم السلام في صورة البشر فدعاهم إلى الطعام فخيلوا أن بهم جذاما فقال: الآن وجبت مؤاكلتكم شكرا لله تعالى على أنه عافاني مما ابتلاكم به، وجوز أبو البقاء كون الجار والمجرور متعلقا بقوله تعالى: اجْتَباهُ وهو خلاف الظاهر. وجعل بعضهم متعلق هذا محذوفا أي اختاره واصطفاه للنبوة، وأصل الاجتباء الجمع على طريق الاصطفاء، ويطلق على تخصيص الله تعالى العبد بفيض إلهي يتحصل له منه أنواع من النعم بلا سعي منه ويكون للأنبياء عليهم السلام ومن يقاربهم وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل إليه تعالى وهو ملة الإسلام وليس نتيجة هذه الهداية- كما في إرشاد العقل السليم- مجرد اهتدائه عليه السلام بل مع إرشاد الخلق أيضا إلى ذلك والدعوة إليه بمعونة قرينة الاجتباء. وجوز بعضهم كون إِلى صِراطٍ متعلقا- باجتباه وهداه- على التنازع، والجملة إما حال بتقدير قد على المشهور وإما خبر ثاني لإن، وجوز أبو البقاء الاستئناف أيضا وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً بأن حببه إلى الناس حتى إن جميع أهل الأديان يتولونه ويثنون عليه عليه السلام حسبما سأل بقوله: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء: 84] وروي هذا عن قتادة وغيره، وعن الحسن الحسنة النبوة، وقيل: الأولاد الأبرار على الكبر وقيل: المال يصرفه في وجوه الخير والبر، وقيل: العمر الطويل في السعة والطاعة- فحسنة- على الأول بمعنى سيرة حسنة وعلى ما بعده عطية أو نعمة حسنة كذا قيل: وجوز في الجميع أن يراد عطية حسنة، والالتفات إلى التكلم لإظهار كمال الاعتناء بشأنه وتفخيم مكانه عليه السلام وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ داخل في عدادهم كائن معهم في الدرجات العلى من الجنة حسبما سأل بقوله: وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف: 101، الشعراء: 83] وأراد بهم الأنبياء عليهم السلام ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ وهي على ما روي عن قتادة الإسلام المعبر عنه آنفا بالصراط المستقيم، وفي رواية أخرى عنه أنها جميع شريعته إلا ما أمر صلى الله عليه وسلم بتركه، وفي التفسير الخازني حكاية هذا عن أهل الأصول، وعن ابن عمرو بن العاص أنها مناسك الحج. وقال الإمام: قال قوم إن النبي صلى الله عليه وسلم كان على ملة إبراهيم وشريعته وليس له شرع متفرد به بل بعث عليه الصلاة والسلام لإحياء شريعة إبراهيم لهذه الآية، فحملوا الملة على الشريعة أصولا وفروعا وهو قول ضعيف، والمراد من مِلَّةَ إِبْراهِيمَ التوحيد ونفي الشرك المفهوم من قوله تعالى: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فإن قيل: إنه صلى الله عليه وسلم إنما نفى الشرك وأثبت التوحيد للأدلة القطعية فلا يعد ذلك متابعة فيجب حمل الملة على الشرائع التي يصح حصول المتابعة فيها، قلنا: يجوز أن يكون المراد الأمر بمتابعته في كيفية الدعوة إلى التوحيد وهي أن يدعو إليه بطريق الرفق والسهولة وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى بأنواع كثيرة على ما هو الطريقة المألوفة في القرآن اه. وتعقبه أبو حيان بأنه لا يحتاج إليه لأن المعتقد الذي تقتضيه دلائل العقول لا يمتنع أن يوحي ليتضافر المعقول والمنقول على اعتقاده، ألا ترى قوله تعالى: قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [الأنبياء: 108] كيف تضمن الوحي بما اقتضاه الدليل العقلي، فلا يمتنع أن يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم عليه السلام بنفي الشرك والتوحيد وإن كان ذلك مما ثبت عنده عليه الصلاة والسلام بالدليل العقلي ليتضافر الدليلان العقلي والنقلي على هذا المطلب الجليل، وآخر بأنه ظاهر في حمل الملة على كيفية الجزء: 7 ¦ الصفحة: 484 الدعوة ولا شك أن ذلك ليس داخلا في مفهومها فإنها ما شرعه الله تعالى لعباده على لسان الأنبياء عليهم السلام من أمللت الكتاب إذا أمليته وهي الدين بعينه لكن باعتبار الطاعة له، وتحقيقه أن الوضع الإلهي مهما نسب إلى من يؤديه عن الله تعالى يسمى ملة ومهما نسب إلى من يقيمه يسمى دينا، قال الراغب: الفرق بينها وبين الدين أنها لا تضاف إلا للنبي صلى الله عليه وسلم الذي يسند إليه ولا تكاد توجد مضافة إلى الله تعالى ولا إلى آحاد أمة النبي عليه السلام ولا تستعمل إلا في جملة الشرائع دون آحادها ولا كذلك الدين، وأكثر المفسرين على أن المراد بها هنا أصول الشرائع، ويحمل عليه ما روي عن قتادة أولا ولا بأس بما روي عنه ثانيا. واستدلال بعض الشافعية على وجوب الختان وما كان من شرعه عليه السلام ولم يرد به ناسخ مبني على ذلك كما لا يخفى. وما روي عن ابن عمرو بن العاص ذكره في البحر والذي أخرجه ابن المنذر والبيهقي في الشعب. وجماعة عنه أنه قال: صلى جبريل عليه السلام بإبراهيم الظهر والعصر بعرفات ثم وقف حتى إذا غابت الشمس دفع به ثم صلى المغرب والعشاء بجمع ثم صلى به الفجر كأسرع ما يصلي أحد من المسلمين ثم وقف به حتى إذا كان كأبطأ ما يصلي أحد من المسلمين دفع به ثم رمى الجمرة ثم ذبح وحلق ثم أفاض به إلى البيت فطاف به فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ ولعل ما ذكر أولا مأخوذ منه. وأنت تعلم أنه ليس نصا فيه ولا أظن أن أحدا يوافق على تخصيص ملته عليه السلام بمناسك الحج. وأَنِ تفسيرية أو مصدرية ومر الكلام في وصلها بالأمر، وثُمَّ قيل: للتراخي الزماني لظهور أن أيامه صلى الله عليه وسلم بعد أيامه عليه السلام بكثير، واختار المحققون أنها للتراخي الرتبي لأنه أبلغ وأنسب بالمقام. قال الزمخشري: إن في ثُمَّ هذه إيذانا بأنه أشرف ما أوتي خليل الله عليه السلام من الكرامة وأجل ما أوتي من النعمة اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملته وتعظيما لمنزلة نبينا عليه الصلاة والسلام وإجلالا لمحله، أما الأول فمن دلالة ثم على تباين هذا المؤتى وسائر ما أوتي عليه السلام من الرتب والمآثر، وأما الثاني فمن حيث إن الخليل مع جلالة محله عند الله تعالى أجل رتبته أن أوحى إلى الحبيب اتباع ملته، وفي لفظ أَوْحَيْنا ثم الأمر باتباع الملة لا اتباع إبراهيم عليه السلام ما يدل كما في الكشف على أنه صلى الله عليه وسلم ليس بتابع له بل هو مستقل بالأخذ عمن أخذ إبراهيم عليه السلام عنه حَنِيفاً حال من إبراهيم المضاف إليه لما أن المضاف لشدة اتصاله به جرى منه مجرى البعض فعد بذلك من قبيل رأيت وجه هند قائمة. ونقل ابن عطية عن مكي عدم جواز كونه حالا منه معللا ذلك بأنه مضاف إليه، وتعقبه بقوله: ليس كما قال لأن الحال قد يعمل فيها حروف الخفض إذا عملت في ذي الحال نحو مررت بزيد قائما، وفي كلا الكلامين بحث لا يخفى. ومنع أبو حيان مجيء الحال من المضاف إليه في مثل هذه الصورة أيضا وزعم أن الجواز فيها مما تفرد به ابن مالك والتزم كون حَنِيفاً حالا من مِلَّةَ لأنها والدين بمعنى أو من الضمير في اتَّبِعْ وليس بشيء ولم يتفرد بذلك ابن مالك بل سبقه إليه الأخفش وتبعه جماعة وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بل كان قدوة المحققين وهذا تكرير لما سبق لزيادة تأكيد وتقرير لنزاهته عليه السلام عما هم عليه من عقد وعمل، وقوله تعالى: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ بمعنى إنما فرض تعظيمه والتخلي للعبادة وترك الصيد فيه تحقيق لذلك النفي الكلي وتوضيح له بإبطال ما عسى يتوهم كونه قادحا في الكلية فإن اليهود كانوا يزعمون أن السبت من شعائر الإسلام وأن إبراهيم عليه السلام كان محافظا عليه أي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 485 ليس السبت من شرائع إبراهيم وشعائر ملته عليه السلام التي أمرت باتباعها حتى يكون بينه وبين بعض المشركين علاقة في الجملة، وإنما شرع ذلك لبني إسرائيل بعد مدة طويلة، وإيراد الفعل مبنيا للمفعول جرى على سنن الكبرياء وإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بالفاعل لاستحالة الإسناد إلى الغير. وقرأ أبو حيوة «جعل» بالبناء للفاعل، وعن ابن مسعود والأعمش أنهما قرءا «إنما أنزلنا السبت» وهو على ما قال أبو حيان تفسير معنى لا قراءة لمخالفة ذلك سواد المصحف، والمستفيض عنهما أنهم قرءا كالجماعة إنما جعل السبت عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ على نبيهم حيث أمرهم بالجمعة فاختاروا السبت وهم اليهود. أخرج الشافعي في الأم والشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم يعني الجمعة فاختلفوا فيه فهدانا الله تعالى له فالناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد» وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: أمر موسى عليه السلام اليهود بالجمعة وقال: تفرغوا لله تعالى في كل سبعة أيام يوما واحدا وهو يوم الجمعة ولا تعملوا فيه شيئا من أعمالكم فأبوا أن يقبلوا ذلك وقالوا: لا نريد إلا اليوم الذي فرغ الله تعالى فيه من الخلق وهو يوم السبت فجعل عليهم وشدد فيه الأمر ثم جاء عيسى عليه السلام بالجمعة فقالت النصارى: لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا فاتخذوا الأحد وكأنهم إنما اختاروه لأنه مبتدأ الخلق، واختار هذا الإمام وحمل «في» على التعليل أي اختلفوا على نبيهم لأجل ذلك اليوم، وقال الخفاجي: معنى اخْتَلَفُوا فِيهِ خالفوا جميعهم نبيهم فهو اختلاف بينهم وبين نبيهم، وظاهر الأخبار يقتضي أنه عين لهم أولا يوم الجمعة، وقال القاضي عياض: الظاهر أنه فرض عليهم تعظيم يوم الجمعة بغير تعيين ووكل إلى اجتهادهم فاختلفت أحبارهم في تعيينه ولم يهدهم الله تعالى له وفرض على هذه الأمة مبينا ففازوا بفضيلته ولو كان منصوصا عليه لم يصح أن يقال اخْتَلَفُوا بل يقال خالفوا، وقال الإمام النووي: يمكن أن يكونوا أمروا صريحا ونص عليه فاختلفوا فيه هل يلزم تعيينه أم لهم إبداله فأبدلوه وغلطوا في إبداله، وقال الواحدي: قد أشكل أمر هذا الاختلاف على كثير من المفسرين حتى قال بعضهم: معنى اختلافهم في السبت أن بعضهم قال هو أعظم الأيام حرمة لأن الله تعالى فرغ من خلق الأشياء فيه، وقال الآخرون: أعظمها حرمة الأحد لأن الله سبحانه ابتدأ الخلق فيه وهذا غلط لأن اليهود لم يكونوا فرقتين في السبت وإنما اختار الأحد النصارى بعدهم بزمان وقيل: المراد اختلفوا فيما بينهم في شأنه ففضلته فرقة منهم على الجمعة ولم ترض بها وفضلت أخرى الجمعة عليه ومالت إليها بناء على ما روي من أن موسى عليه السلام جاءهم بالجمعة فأبى أكثرهم إلا السبت ورضي شرذمة منهم بها فأذن الله تعالى لهم في السبت وابتلاهم بتحريم الصيد فيه فأطاع أمر الله تعالى الراضون بالجمعة فكانوا لا يصيدون وأعقابهم لم يصبروا عن الصيد فمسخهم الله تعالى قردة دون أولئك المطيعين، والتفسير الأول تفسير رئيس المفسرين وترجمان القرآن وحبر الأمة المروي من طرق صحيحة عن أفضل النبيين وأعلم الخلق بمراد رب العالمين صلى الله عليه وسلم وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ أي المختلفين يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أي يقضي بينهم بالمجازاة على اختلافهم على نبيهم ومخالفتهم له في ذلك أو يفصل ما بين الفريقين منهم من الخصومة والاختلاف فيجازي كل فريق بما يستحقه من الثواب والعقاب، وفيه على هذا إيماء إلى أن ما وقع في الدنيا من مسخ أحد الفريقين وإنجاء الآخر بالنسبة إلى ما سيقع في الآخرة شيء لا يعتد به، وعبر عن الفرض بالجعل موصولا بكلمة عَلَى للإيذان بتضمنه للتشديد والابتلاء المؤدي إلى العذاب، وعن اليهود بالاسم الموصول بالاختلاف إشارة إلى علة ذلك، وقيل: المعنى إنما جعل وبال ترك تعظيم السبت وهو المسخ كائنا أو واقعا على الذين اختلفوا فيه أي أحلوا الصيد فيه تارة وحرموه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 486 أخرى وكان حتما عليهم أن يتفقوا على تحريمه حسبما أمر الله تعالى به وروي ذلك عن قتادة، وفسر الحكم بينهم بالمجازاة باختلاف أفعالهم بالإحلال تارة والتحريم أخرى. ووجه إيراد ذلك هاهنا بأنه أريد منه إنذار المشركين وتهديدهم بما في مخالفة الأنبياء عليهم السلام من الوبال كما ذكرت القرية التي كفرت بأنعم الله تعالى تمثيلا لذلك. واعترض بأن توسيط ذلك لما ذكر بين حكاية أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم عليه السلام وبين أمره صلى الله عليه وسلم بالدعوة إليها كالفصل بين الشجر ولحائه. وأجيب بأن فيه حثا على إجابة الدعوة التي تضمنها الكلام السابق وأمر بها في الكلام اللاحق فللمتوسط نسبة إلى الطرفين تخرجه من أن يكون الفصل به كالفصل بين الشجر ولحائه وهو كما ترى. واعترض أيضا بأن كلمة بَيْنَهُمْ تحكم بأن المراد بالحكم هو فصل ما بين الفريقين من الاختلاف دون المجازاة باختلاف أفعالهم بالإحلال تارة والتحريم أخرى. ويرد هذا أيضا على تفسيره بالقضاء بالمجازاة على اختلافهم جميعهم على نبيهم ومخالفتهم له فيما جاءهم به، وقد فسر بذلك على التفسير المأثور عن ترجمان القرآن، ومنهم من فسره عليه بما فسر به على التفسير المروي عن قتادة فيرد عليه أيضا ما ذكر مع ما في ضمنه من القول باختلاف الاختلافين معنى، والظاهر اتحادهما. وأجاب بعضهم عن الاعتراض بمنع حكم كلمة «بينهم» بما تقدم فتأمل، وتفسير السبت باليوم المخصوص هو الظاهر الذي ذهب إليه الكثير، وجوز كونه مصدر سبتت اليهود إذا عظمت سبتها، قيل: ويجوز على هذا أن يكون في الآية استخدام ادْعُ أي من بعثت إليهم من الأمة قاطبة فحذف المفعول دلالة على التعميم، وجوز أن يكون المراد افعل الدعوة تنزيلا له منزلة اللازم للقصد إلى إيجاد نفس الفعل إشعارا بأن عموم الدعوة غني عن البيان وإنما المقصود الأمر بإيجادها على وجه مخصوص. وتعقب بأن ذلك لا يناسب المقام كما لا يناسب قوله تعالى: وَجادِلْهُمْ. إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ إلى الإسلام الذي عبر عنه تارة بالصراط المستقيم وأخرى بملة إبراهيم عليه السلام. وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى. بِالْحِكْمَةِ بالمقالة المحكمة وهي الحجة القطعية المزيحة للشبه وقريب من هذا ما في البحر أنها الكلام الصواب الواقع من النفس أجمل موقع وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وهي الخطابات المقنعة والعبر النافعة التي لا يخفى عليهم أنك تناصحهم بها وَجادِلْهُمْ ناظر معانديهم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ بالطريقة التي هي أحسن طرق المناظرة والمجادلة من الرفق واللين واختيار الوجه الأيسر واستعمال المقدمات المشهورة تسكينا لشغبهم وإطفاء للهبهم كما فعله الخليل عليه السلام. واستدل- كما قيل- أرباب المعقول بالآية على أن المعتبر في الدعوة من بين الصناعات الخمس إنما هو البرهان والخطابة والجدل حيث اقتصر في الآية على ما يشير إليها، وإنما تفاوتت طرق دعوته عليه الصلاة والسلام لتفاوت مراتب الناس، فمنهم خواص وهم أصحاب نفوس مشرقة قوية الاستعداد لإدراك المعاني قوية الانجذاب إلى المبادئ العالية مائلة إلى تحصيل اليقين على اختلاف مراتبه وهؤلاء يدعون بالحكمة بالمعنى السابق. ومنهم عوام أصحاب نفوس كدرة ضعيفة الاستعداد شديدة الألف بالمحسوسات قوية التعلق بالرسوم والعادات قاصرة عن درجة البرهان لكن لا عناد عندهم وهؤلاء يدعون بالموعظة الحسنة بالمعنى المتقدم. ومنهم من يعاند ويجادل بالباطل ليدحض به الحق لما غلب عليه من تقليد الأسلاف ورسخ فيه من العقائد الباطلة فصار بحيث لا تنفعه المواعظ والعبر بل لا بد من إلقامه الحجر بأحسن طرق الجدال لتلين عريكته وتزول شكيمته وهؤلاء الذين أمر صلى الله عليه وسلم بجدالهم بالتي هي أحسن، وإنما لم تعتبر المغالطة والشعر لأن فائدة المغالطة تغليط الجزء: 7 ¦ الصفحة: 487 الخصم والاحتراز عن تغليطه إياه ومرتبة الرسول عليه الصلاة والسلام تنافي أن يغلط وتتعالى أن يغلط، والشعر وإن كان مفيدا للخواص والعوام فإن الناس في باب الإقدام والإحجام أطوع للتخييل منهم للتصديق إلا أن مداره على الكذب ومن ثمة قيل: الشعر أكذبه أعذبه فلا يليق بالصادق المصدوق كما يشهد به قوله تعالى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ [يس: 69] لا يقال: الشعر الذي هو أحد الصناعات قياس مؤلف من مقدمات مخيلة والشعر الذي مداره على الكذاب وهو الكلام الموزون المقفى وهو الذي نفى تعليمه عنه صلى الله عليه وسلم لما قيل: كون الشعر مذموما ليس لكونه كلاما موزونا مقفى بل لاشتماله على تخيلات كاذبة فهما من واد واحد ذكر ذلك بعض المتأخرين، وقد ذهب غير واحد إلى أن فيها إشارة إلى تفاوت مراتب المدعوين إلا أنه خالف في بعض ما تقدم، ففي الكشف بعد أن ذكر أن كلام الزمخشري يدل على أنه عليه الصلاة والسلام ينبغي أن يجمع في الدعوة بين الثلاث فيكون الكلام في نفسه حسن التأليف منتجا لما علق به من الغرض ومع ذلك مقصودا به المناصحة لمن خوطب به ويكون المتكلم حسن الخلق في ذلك معلما ناصحا شفيقا رفيقا ما نصه: والأحسن على ما ذهب إليه المحققون أنه تعميم للدعوة حسب مراتب المدعوين في الفهم والاستعداد، فمن دعى بلسان الحكمة ليفاد اليقين العياني أو البرهاني هم السابقون، ومن دعى بالموعظة الحسنة وهي الإقناعات الحكمية لا الخطابات المشهورة طائفة دون هؤلاء، ومن دعى بالمجادلة الحسنة هم عموم أهل الإسلام والكفار أيضا اه، ولا أرى ما يوجب نفي أن يكون المراد بالموعظة الحسنة الخطابات المشهورة، وكونها مركبة من مقدمات مظنونه أو مقبولة من شخص معتقد فيه ولا يليق بالنبي صلى الله عليه وسلم استعمال الظنيات أو أخذ كلام الغير والدعوة به هو الموجب لذلك لا يخفى ما فيه فتدبره. وذكر الإحسائي رئيس الفرقة الطاهرة في زماننا المسماة بالكشفية في كتابه شرح الفوائد ما محصله أن المدعوين من المكلفين ثلاثة أنواع، وكذا الأدلة التي أشارت إليها الآية فإن كانوا من الحكماء العقلاء والعلماء النبلاء فدعوتهم إلى الحق الذي يريده الله تعالى منهم من معرفته بدليل الحكمة وهو الدليل الذوقي العياني الذي يلزم منه العلم الضروري بالمستدل عليه لأنه نوع من المعاينة كقولنا في رد من زعم أن حقائق الأشياء كانت كامنة في ذاته تعالى بنحو أشرف ثم أفاضها إنه لا بد وأن يكون لذاته سبحانه قبل الإفاضة حال مغاير لما بعدها سواء كان التغير في نفس الذات أو فيما هو في الذات فإن حصل التغير في الذات لزم حدوثها وإن حصل فيما هو في الذات- أعني حقائق الأشياء الكامنة- لزم أن تكون الذات محلا للمتغير المختلف ويلزم من ذلك حدوثها. وكقولنا في إثبات أنه سبحانه أظهر من كل شيء: إن كل أثر يشابه صفة مؤثرة وأنه قائم بفعله قيام صدور كالأشعة بالنيرات والكلام بالمتكلم، فالأشياء هي ظهور الواجب بها لها لأنه سبحانه لا يظهر بذاته وإلا لاختلفت حالتاه، ولا يكون شيء أشد ظهورا من الظاهر في ظهوره لأن الظاهر أظهر من ظهوره وإن كان لا يمكن التوصل إلى معرفته إلا بظهوره مثل القيام فإن القائم أظهر في القيام من القيام والقاعد أظهر في القعود من القعود وإن كان لا يمكن التوصل إلى معرفتهما إلا بالقيام والقعود فتقول: يا قائم ويا قاعد، والمعنى لك إنما هو القائم والقاعد لا القيام والقعود لأنه بظهوره لك بذلك غيب عليك مشاهدته وإن التفت إليه احتجب عنك القائم والقاعد، وهو آلة لمعرفة المعارف الحقية كالتوحيد وما يلحق به، ومستنده الفؤاد وهو نور الله تعالى المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى» والنقل من الكتاب والسنة، وشرطه الذي يتوقف عليه فتح باب النور ثلاثة أشياء. أحدها أن تنصف ربك وتقبل منه سبحانه قوله ولا تتبع شهوة نفسك. وثانيها أن تقف عند بيانك وتبينك وتبيينك على قوله تعالى: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا [الإسراء: 36] وثالثها أن تنظر في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 488 تلك الأحوال أعني البيان وما بعده بعينه تعالى وهي العين التي هي وصف نفسه لك أعني وجودك من حيث كونه أثرا ونورا لا بعينك التي هي أنت من حيث- إنك أنت- أنت فإنك لا تعرف بهذه العين إلا الحادثات المحتاجة الفانية. وإن كانوا من العلماء ذوي الألباب وأرباب القلوب فدعوتهم إلى الحق الذي يريده سبحانه منهم من اليقين الحقيقي في اعتقاداتهم بدليل الموعظة الحسنة وهي الدليل العقلي اليقيني الذي يلزم منه اليقين في الإيمان به سبحانه وبغيره مما أمرهم بالإيمان به وهو آلة لعلم الطريقة وتهذيب الأخلاق وعلم اليقين والتقوى، وهذه العلوم وإن كانت قد تستفاد من غيره ولكن بدون ملاحظته لا يوقف على اليقين والاطمئنان الذي هو أصل علم الأخلاق، ومستنده القلب والنقل، وشرط صحته والانتفاع به اتصاف عقلك به بأن تلزم ما ألزمك به ولا تظلمه وهو كقوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ [فصلت: 52] وقوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الأحقاف: 10] إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة، وإن كانوا من العلماء أصحاب الرسوم كالمتكلمين ونظائرهم فدعوتهم إلى الحق الذي يريده سبحانه منهم من اليقين الرسمي بمقتضى طبيعتهم القاصرة بدليل المجادلة بالتي هي أحسن وهي الدليل العلمي القطعي الذي يلزم منه العلم فيما ذكر وهو آلة لعلم الشريعة، ومستنده العلم والنقل، وشرطه إنصاف الخصم بأن يقيمه على النحو المقرر في علم الميزان، وقد ذكره العلماء في كتبهم الأصولية والفروعية بل لا يكاد يسمع منهم غير هذا الدليل وهو محل المناقشات والمعارضات، وأما الدليلان الأولان فليس فيهما مناقشة ولا معارضة فإذا اعترض عليهما معترض فقد اعترض فيهما بغيرهما اه المراد منه وهو كما ترى، وإنما ذكرته لتعلم حال المرءوس من حال الرئيس، ولقد رأيت مشايخ هذه الطائفة يتكلمون بما هو كشوك القنافذ ويحسبونه كريش الطواويس، وجوز أن يراد بالحكمة والموعظة الحسنة القرآن المجيد فإنه جامع لكلا الأمرين فكأنه قيل: ادع بالقرآن الذي هو حكمة وموعظة حسنة وقيل غير ذلك، ومنه أن الحكمة النبوة وليس من الحكمة، وفسر بعضهم المجادلة الحسنة بالإعراض عن أذاهم وادعى أن الآية منسوخة بآية السيف، والجمهور على أنها محكمة وأن معنى الآية ما تقدم، ولكون الحكمة أعلى الدلائل وأشرافها والمدعوين به الكاملين الطالبين للمعارف الإلهية والعلوم الحقيقية وقليل ما هم جيء بها أولا، ولكون الجدل أدنى الدلائل إذ ليس المقصود منه سوى إلزام الخصم وإفحامه ولا يستعمل إلا مع الناقصين الذين تغلب عليهم المشاغبة والمخاصمة وليسوا بصدد تحصيل هاتيك العلوم ذكر أخيرا، ولكون الموعظة الحسنة دون الحجة وفوق الجدل والمدعوين بها المتوسطين الذين لم يبلغوا في الكمال حد الحكماء المحققين ولم يكونوا في النقصان بمرتبة أولئك المشاغبين وسطت بين الأمرين، وكأنه إنما لم يقل: ادع إلى سبيل بالحكمة والموعظة والجدال الأحسن لما أن الجدال ليس من باب الدعوة بل المقصود منه غرض آخر مغاير لها وهو الإلزام والإفحام كما قاله الإمام فليفهم. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ الذي أمرك بدعوة الخلق إليه وأعرض عن قبوله. وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ إليه وهو تعليل لما ذكر أولا من الأمرين كأنه قيل: اسلك في الدعوة والمناظرة الطريقة المذكورة وما عليك غير ذلك وأما حصول الهداية والضلال والمجازاة عليهما فإلى الله سبحانه لا إلى غيره إذ هو أعلم بمن يبقى على الضلال وبمن يهتدي إليه فيجازي كلا منهما ما يستحقه كذا قيل. واعترض بأن دلالة الآية على المجازاة مسلمة وأما أن حصول الهداية والضلالة ليس لغيره تعالى فالآية لا تدل عليه أصلا. وأجيب بأنه إذا انحصر علم الهداية والضلالة فيه تعالى علم أنه لا يكون لغيره سبحانه علمهما فكيف يكون له حصولهما فالقول بعدم دلالة الآية على ذلك غير سديد، وقيل: المعنى اسلك في الدعوة والمناظرة الطريقة المذكورة فإنه تعالى هو أعلم بحال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 489 من لا يرعوي عن الضلال لسوء اختياره وبحال من يصير أمره إلى الاهتداء لما فيه من الخير فما شرعه لك في الدعوة هو الذي تقتضيه الحكمة فإنه كاف في هداية المهتدين وإزالة عذر الضالين، وقيل: المعنى إنما عليك البلاغ فلا تلح عليهم إن أبوا بعد الإبلاغ مرة أو مرتين مثلا فإن ربك هو أعلم بهم فمن كان فيه خير كفته النصيحة اليسيرة ومن لا خير فيه عجزت عنه الحيل. وتقديم الضالين لأن الكلام فيهم، وإيراد الضلال بصيغة الفعل الدال على الحدوث لما أنه تغيير لفطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها وإعراض عن الدعوة وذلك أمر عارض بخلاف الاهتداء الذي هو عبارة عن الثبات على الفطرة والجريان على موجب الدعوة ولذلك جيء به على صيغة الاسم المنبئ عن الثبات، وجملة هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ قيل: عطف على جملة إِنَّ رَبَّكَ إلخ أو على خبر إن وتكرير هُوَ أَعْلَمُ للتأكيد والإشعار بتباين حال المعلومين ومآلهما من العقاب والثواب وهو في الجملة الأولى ضمير فصل للتخصيص كما هو ظاهر كلام البعض أو للتقوية كما قيل، ولا يخفى ما في التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من اللطافة. وَإِنْ عاقَبْتُمْ أي إن أردتم المعاقبة فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ أي مثل ما فعل بكم وقد عبر عنه بالعقاب على طريقة إطلاق اسم المسبب على السبب نحو كما تدين تدان على نهج المشاكلة، وقال الخفاجي: إن العقاب في العرف مطلق العذاب ولو ابتداء وفي أصل اللغة المجازاة على عذاب سابق فإن اعتبر الثاني فهو مشاكلة وإن اعتبر الأول فلا مشاكلة، وعلى الاعتبارين صيغة المفاعلة ليست للمشاركة، والآية نزلت في شأن التمثيل بحمزة رضي الله تعالى عنه يوم أحد، فقد صح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة يوم استشهد فنظر إلى منظر لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه ونظر إليه قد مثل به فقال: رحمة الله تعالى عليك فإنك كنت ما علمت وصولا للرحم فعولا للخيرات ولولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أتركك حتى يحشرك الله تعالى من أرواح شتى أما والله لأمثلن بسبعين منهم مكانك فنزل جبريل عليه السلام والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بخواتيم النحل وَإِنْ عاقَبْتُمْ إلى آخرها فكفر عليه الصلاة والسلام عن يمينه وأمسك عن الذي أراد وصبر، فهي على هذا مدنية. وذهب النحاس إلى أنها مكية وليست في شأن التمثيل بحمزة رضي الله تعالى عنه واختاره بعضهم لما يلزم على ذلك من عدم الارتباط المنزه عنه كلام رب العزة جل شأنه إذ لا مناسبة لتلك القضية لما قبل، وأما على القول بأنها مكية فوجه الارتباط أنه لما أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بالدعوة وبين طريقها أشار إليه عليه الصلاة والسلام وإلى من يتابعه بمراعاة العدل مع من يناصبهم والمماثلة فإن الدعوة لا تكاد تنفك عن ذلك كيف لا وهي موجبة لصرف الوجوه عن القبل المعبودة وإدخال الأعناق في قلادة غير معهودة قاضية عليهم بفساد ما يأتون وما يذرون وبطلان دين استمرت عليه آباؤهم الأولون وقد ضاقت بهم الحيل وعيت بهم العلل وسدت عليهم طرق المحاجة والمناظرة وارتجت دونهم أبواب المباحثة والمحاورة. وترددت في صدورهم الأنفاس ووقعوا في حيص بيص يضربون أخماسا في أسداس لا يجدون إلا الأسنة مركبا ويختارون الموت الأحمر دون دين الإسلام مذهبا، وإلى الأول ذهب جمهور المفسرين ووقع ذلك في صحيح البخاري بل قال القرطبي: إنه مما أطبق عليه المفسرون، وما ذكر من لزوم عدم الارتباط عليه ليس بشيء، فإن التنبيه على تلك القضية للإشارة إلى أن الدعوة لا تخلو من مثل ذلك وأن المجادلة تنجر إلى المجالدة فإذا وقعت فاللائق ما ذكر فلا فرق في الارتباط بحسب المآل بين أن تكون مكية وأن تكون مدنية، وخصوص السبب لا ينافي عموم المعنى، فالمعول عليه عدم العدول عما قاله الجمهور. وقرأ ابن سيرين: «وإن عقبتم فعقبوا» بتشديد القافين أي وإن قفيتم بالانتصار فقفوا بمثل ما فعل بكم غير متجاوزين عنه. واستدل بالآية على أن للمقتص أن يفعل بالجاني مثل ما فعل في الجنس والقدر وهذا مما لا خلاف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 490 فيه. وأما اتحاد الآلة بأن يقتل بحجر من قتل به وبسيف من قتل به مثلا فذهب إليه بعض الأئمة، ومذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه لا قود إلا بالسيف، ووجه ذلك مع أن الآية ظاهرة في خلافه أن القتل بالحجر ونحوه مما لا يمكن مماثلة مقداره شدة وضعفا فاعتبرت مماثلة في القتل وإزهاق الروح والأصل في ذلك السيف كما ذكره الرازي في أحكامه. وذكر بعضهم أنه اختلف في هذه الآية فأخذ الشافعي بظاهرها، وأجاب الحنفية بأن المماثلة في العدد بأن يقتل بالواحد واحد لأنها نزلت لقول النبي صلى الله عليه وسلم لأمثلن بسبعين منهم لما قتل حمزة ومثل به كما سمعت فلا دليل فيها، وقال الواحدي: إنها منسوخة كغيرها من المثلة وفيه كلام في شروح الهداية. وفي تقييد الأمر بقوله سبحانه: وَإِنْ عاقَبْتُمْ حث على العفو تعريضا لما في «إن» الشرطية من الدلالة على عدم الجزم بوقوع ما في حيزها فكأنه قيل: لا تعاقبوا وإن عاقبتم إلخ كقول طبيب لمريض سأله عن أكل الفاكهة إن تأكل الفاكهة فكل الكمثرى، وقد صرح بذلك على الوجه الآكد فقيل: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ أي عن المعاقبة بالمثل لَهُوَ أي لصبركم ذلك على اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة: 8] خَيْرٌ من الانتصار بالمعاقبة لِلصَّابِرِينَ أي لكم إلا أنه عدل عنه إلى ما في النظم الجليل مدحا لهم وثناء عليهم بالصبر، وفيه إرشاد إلى أنه إن صبرتم فهو شيمتكم المعروفة فلا تتركوها إذا في هذه القضية أو وصفا لهم بصفة تحصل لهم إذا صبروا عن المعاقبة فهو على حد من قتل قتيلا وهو الظاهر من اللفظ، وفيه ترغيب في الصبر بالغ، ويجوز عود الضمير إلى مطلق الصبر المدلول عليه بالفعل، والمراد بالصابرين جنسهم فيدخل هؤلاء دخولا أوليا، ثم إنه تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم صريحا بما ندب إليه غيره تعريضا من الصبر لأنه عليه الصلاة والسلام أولى الناس بعزائم الأمور لزيادة علمه بشؤونه سبحانه ووثوقه به تعالى فقال تعالى: وَاصْبِرْ على ما أصابك من جهتهم من فنون الآلام والأذية وعاينت من اعراضهم بعد الدعوة عن الحق بالكلية وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ استثناء مفرغ من أعم الأشياء أي وما صبرك ملابسا ومصحوبا بشيء من الأشياء إلا بذكر الله تعالى والاستغراق بمراقبة شؤونه والتبتل إليه سبحانه بمجامع الهمة، وفيه من تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وتهوين مشاق الصبر عليه وتشريفه ما لا مزيد عليه أو إلا بمشيئته المبنية على حكم بالغة مستتبعة لعواقب حميدة فالتسلية من حيث اشتماله على غايات جليلة قاله شيخ الإسلام. وقال غير واحد: أي إلا بتوفيقه ومعونته فالتسلية من حيث تيسير الصبر وتسهيله ولعل ذلك أظهر مما تقدم. وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي على الكافرين وكفرهم بك وعدم متابعتهم لك نحو فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [المائدة: 68] وقيل: على المؤمنين وما فعل بهم من المثلة يوم أحد وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ بفتح الضاد، وقرأ ابن كثير بكسرها وروي ذلك عن نافع، ولا يصح على ما قال أبو حيان عنه وهما لغتان كالقول والقيل أي لا تكن في ضيق صدر وحرج وفيه استعارة لا تخفى ولا داعي إلى ارتكاب القلب، وقال أبو عبيدة: الضيق بالفتح مخفف ضيق كهين وهين أي لا تك في أمر ضيق. ورده أبو علي كما في البحر بأن الصفة غير خاصة بالموصوف فلا يجوز ادعاء الحذف ولذلك جاز مررت بكاتب وأمته بآكل. وتعقب بالمنع لأنه إذا كانت الصفة عامة وقدر موصوف عام فلا مانع منه مِمَّا يَمْكُرُونَ أي من مكرهم بك فيما يستقبل فالأول كما في إرشاد العقل السليم نهي عن التألم بمطلوب من جهتهم فات والثاني نهي عن التألم بمحذور من جهتهم آت، وفيه أن النهي عنهما مع أن انتفاءهما لمن لوازم الصبر المأمور به لزيادة التأكيد وإظهار كمال العناية بشأن التسلية وإلا فهل يخطر ببال من توجه إلى الله تعالى بشراشره متنزها عن كل ما سواه سبحانه من الشواغل شيء مطلوب فينهى عن الحزن بفواته، وقيل: يمكرون بمعنى مكروا، وإنما عبر بالمضارع استحضارا للصورة الماضية، والأول نهي عن الحزن على سوء حالهم في أنفسهم من اتصافهم بالكفر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 491 والإعراض عن الدعوة والثاني نهي عن الحزن على سوء حالهم معه صلى الله عليه وسلم من إيذائهم له بالتمثيل بأحبابه ونحوه والمراد من النهيين محض التسلية لا حقية النهي، وأن تعلم أن الظاهر إبقاء المضارع على حقيقته فتأمل. إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا تعليل لما سبق من الأمر والنهي، والمراد بالمعية الولاية الدائمة التي لا يحول حول صاحبها شيء من الجزع والحزن وضيق الصدر وما يشعر به دخول كلمة مَعَ من متبوعية المتقين من حيث إنهم المباشرون للتقوى، والمراد بها هنا أعلى مراتبها أعني التنزه عن كل ما يشغل السر عن الحق سبحانه والتبتل إليه تعالى بالكلية لأن ذلك هو المورث لولايته عز وجل المقرونة ببشارة أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس: 62] والمعنى أن الله تعالى ولي الذين تبتلوا إليه سبحانه بالكلية وتنزهوا عن كل ما يشغل سرهم عنه عز وجل فلم يخطر ببالهم شيء من مطلوب أو محذور فضلا عن الحزن عليه فواتا أو وقوعا وهو المعنى بما به الصبر المأمور به على أول الاحتمالات السالفة وبذلك يحصل التقريب ويتم التعليل وإلا فمجرد التوقي عن المعاصي لا يكون مدارا لشيء من العزائم المرخص في تركها فكيف بالصبر المشار إليه ورديفيه وإنما مداره المعنى المذكور فكأنه قيل: إن الله مع الذين صبروا، وإنما أوثر عليه ما في النظم الكريم مبالغة في الحث على الصبر بالتنبيه على أنه من خصائص أجل النعوت الجليلة وروادفه كما أن قوله تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ للإشعار بأنه من باب الإحسان الذي فيه يتنافس المتنافسون على ما يؤذن بذلك قوله تعالى: وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [هود: 115] وقد نبه سبحانه على أن كلا من الصبر والتقوى من قبيل الإحسان بقوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف: 90] وحقيقة الإحسان الإتيان بالأعمال على الوجه اللائق، وقد فسره صلى الله عليه وسلم بأن تعبد الله تعالى كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وتكرير الموصول للإيذان بكفاية كل من الصلتين في ولايته سبحانه من غير أن تكون إحداهما تتمة للأخرى، وإيراد الأولى فعلية للدلالة على الحدوث كما أن إيراد الثانية اسمية لإفادة كون مضمونها شيمة راسخة لهم، وتقديم التقوى على الإحسان لما أن التخلية مقدمة على التحلية، والمراد بالموصولين إما جنس المتقين والمحسنين ويدخل عليه الصلاة والسلام في زمرتهم دخولا أوليا إما هو صلى الله عليه وسلم وأشياعه رضي الله تعالى عنهم وعبر بذلك عنهم مدحا لهم وثناء عليهم بالنعتين الجميلين، وفيه رمز إلى أن صنيعه عليه الصلاة والسلام مستتبع لاقتداء الأمة به كقول من قال لابن عباس رضي الله تعالى عنهما عند التعزية: اصبر نكن بك صابرين وإنما ... صبر الرعية عند صبر الراس قال كل ذلك في إرشاد العقل السليم، وإلى كون الجملة في موضع التعليل لما سبق ذهب العلامة الطيبي حيث قال: إنه تعالى لما أمر حبيبه بالصبر على أذى المخالفين ونهاه عن الحزن على عنادهم وابائهم الحق وعما يلحقه من مكرهم وخداعهم علل ذلك بقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ إلخ أي لا تبال بهم وبمكرهم لأن الله تعالى وليك ومحبك وناصرك ومبغضهم وخاذلهم، وعمم الحكم إرشادا للاقتداء به عليه الصلاة والسلام، وفيه تعريض بالمخالفين وبخذلانهم كما صرح به في قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ [محمد: 11] وذكر أن إيراد الجملة الثانية اسمية وبناء مُحْسِنُونَ على هُمْ على سبيل التقوى مؤذن باستدامة الإحسان واستحكامه وهو مستلزم لاستمرار التقوى لأن الإحسان إنما يتم إذا لم يعد إلى ما كان عليه من الإساءة، وإليه الإشارة بما ورد «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» وما ذكر من حمل التقوى على أعلى مراتبها غير متعين، وما ذكره في بيانه لا يخلو عن نظر كما لا يخفى على المتأمل، وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وغيرهم عن الحسن أنه قال في الآية: اتقوا فيما حرم الله تعالى عليهم وأحسنوا فيما افترض عليهم، ويوهم كلام بعضهم أن الجملة في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 492 موضع التعليل للأمر بالمعاقبة بالمثل حيث قال: إن المعنى إن الله بالعون والرحمة والفضل مع الذين خافوا عقاب الله تعالى وأشفقوا منه فشفقوا على خلقه بعد الإسراف في المعاقبة، وفسر الإحسان بترك الإساءة كما قيل. ترك الإساءة إحسان وإجمال. ولا يخفى ما فيه من البعد، وقد اشتملت هذه الآيات على تعليم حسن الأدب في الدعوة وترك التعدي والأمر بالصبر على المكروه مع البشارة للمتقين المحسنين، وقد أخرج سعيد بن منصور. وابن جرير. وغيرهما عن هرم بن حيان أنه قيل له حين الاحتضار: أوص فقال: إنما الوصية من المال ولا مال لي وأوصيكم بخواتيم سورة النحل هذا. ومن باب الإشارة في الآيات: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ أي مما كان وما يكون فيفرق به بين المحق والمبطل والصادق والكاذب والمتبع والمبتدع، وقيل: كل شيء هو النبي صلى الله عليه وسلم كما قيل إنه عليه الصلاة والسلام الإمام في قوله سبحانه: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ [يس: 12] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ قال السيادي: العدل رؤية المنة منه تعالى قديما وحديثا، والإحسان الاستقامة بشرط الوفاء إلى الأبد، وقيل: العدل أن لا يرى العبد فاترا عن طاعة مولاه مع عدم الالتفات إلى العوض، وإيتاء ذي القربى الإحسان إلى ذوي القرابة في المعرفة والمحبة والدين فيخدمهم بالصدق والشفقة ويؤدي إليهم حقهم، والفحشاء الاستهانة بالشريعة، والمنكر الإصرار على الذنب كيفما كان، والبغي ظلم العباد، وقيل: الفحشاء إضافة الأشياء إلى غيره تعالى ملكا وإيجادا وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ المأخوذ عليكم في عالم الأرواح بالبقاء على حكمه وهو الإعراض عن الغير والتجرد عن العلائق والعوائق في التوجه إليه تعالى إذا عاهدتم أي تذكرتموه بإشراق نور النبي صلى الله عليه وسلم عليكم وتذكيره إياكم قال النصراباذي: العهود مختلفة فعهد العوام لزوم الظواهر وعهد الخواص حفظ السرائر وعهد خواص الخواص التخلي من من الكل لمن له الكل ما عِنْدَكُمْ من الصفات ينفد لمكان الحدوث وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ لمكان القدم فالعبد الحقيقي من كان فانيا من أوصافه باقيا بما عند الله تعالى كذا في أسرار القرآن مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى أي عملا يوصله إلى كماله الذي يقتضيه استعداده وَهُوَ مُؤْمِنٌ معتقد للحق اعتقادا جازما فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً أي حياة حقيقية لا موت بعدها بالتجرد عن المواد البدنية والانخراط في سلك الأنوار القدسية والتلذذ بكمالات الصفات ومشاهدات التجليات الإفعالية والصفاتية وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ من جنات الصفات والأفعال بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ إذ عملهم يناسب صفاتهم التي هي مبادئ أفعالهم وأجرهم يناسب صفات الله تعالى التي هي مصادر أفعاله فانظر كم بينهما من التفاوت في الحسن، ويقال: الحياة الطيبة ما تكون مع المحبوب ومن هنا قيل: كل عيش ينقضي ما لم يكن ... مع مليح ما لذاك العيش ملح ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ قال سهل هو إشارة إلى الذين رجعوا القهقرى في طريق سلوكهم ثم عادوا أي إن ربك للذين هجروا قرناء السوء من بعد أن ظهر لهم منهم الفتنة في صحبتهم ثم جاهدوا أنفسهم على ملازمة أهل الخير ثم صبروا معهم على ذلك ولم يرجعوا إلى ما كانوا عليه في الفتنة لساتر عليهم ما صدر منهم منعم عليهم بصنوف الانعام، وقيل: إن ربك للذين هاجروا أي تباعدوا عن موطن النفس بترك المألوفات والمشتهيات من بعد ما فتنوا بها بحكم النشأة البشرية ثم جاهدوا في الله تعالى بالرياضات وسلوك طريقه سبحانه بالترقي في المقامات والتجريد عن التعلقات وصبروا عما تحب النفس وعلى ما تكرهه بالثبات في السير إن ربك لغفور يستر غواشي الصفات النفسانية رحيم بإفاضة الكمال والصفات القدسية الجزء: 7 ¦ الصفحة: 493 ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا للنفس المستعدة القابلة لفيض القلب الثابتة في طريق اكتساب الفضائل الآمنة من خوف فواتها المطمئنة باعتقادها يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً من العلوم والفضائل والأنوار مِنْ كُلِّ مَكانٍ من جميع جهات الطرق البدنية كالحواس والجوارح والآلات ومن جهة القلب فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ ظهرت بصفاتها بطرا وإعجابا بزينتها ونظرا إلى ذاتها ببهجتها وبهائها فاحتجبت بصفاتها الظلمانية عن تلك الأنوار ومالت إلى الأمور السفلية وانقطع إمداد القلب عنها وانقلبت المعاني الواردة عليها من طرق الحس هيئات غاسقة من صور المحسوسات التي انجذبت إليها فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ بانقطاع مدد المعاني والفضائل والأنوار من القلب والخوف من زوال مقتنياتها من الشهوات والمألوفات بِما كانُوا يَصْنَعُونَ من كفران أنعم الله تعالى وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ أي من جنسهم وهي القوة الفكرية فَكَذَّبُوهُ بما ألقى إليهم من المعاني المعقولة والآراء الصادقة فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ أي عذاب الحرمان والاحتجاب وَهُمْ ظالِمُونَ في حالة ظلمهم وترفعهم عن طريق الفضيلة ونقصهم لحقوق صاحبهم إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً لاجتماع ما تفرق في غيره من الصفات الكاملة فيه وكذا كل نبي ولذا جاء في الخبر على ما قيل لو وزنت بأمتي لرجحت بهم قانِتاً لِلَّهِ مطيعا له سبحانه على أكمل وجه حَنِيفاً مائلا عن كل ما سواه تعالى وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بنسبة شيء إلى غيره سبحانه شاكِراً لأنعمه مستعملا لها على ما ينبغي اجْتَباهُ اختاره بلا واسطة عمل لكونه من الذين سبقت لهم الحسنى فتقدم كشوفهم على سلوكهم وَهَداهُ بعد الكشف إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو مقام الإرشاد والدعوة ينعون به مقام الفرق بعد الجمع وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وهي الذكر الجميل والملك العظيم والنبوة وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ قيل أي في عالم الأرواح لَمِنَ الصَّالِحِينَ المتمكنين في مقام الاستقامة وقيل أي يوم القيامة لمن الصالحين للجلوس على بساط القرب والمشاهدة بلا حجاب وهذا لدفع توهم أن ما أوتيه في الدنيا ينقص مقامه في العقبى كما قيل إن مقام الولي المشهور دون الولي الذي في زوايا الحمول، وإليه الإشارة بقولهم: الشهرة آفة، وقد نص على ذلك الشعراني في بعض كتبه إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وهم اليهود واختاروه لأنه اليوم الذي انتهت به أيام الخلق فكان بزعمهم أنسب لترك الأعمال الدنيوية وهو على ما قال الشيخ الأكبر قدس سره في الفتوحات يوم الأبد الذي لا انقضاء له فليله في جهنم ونهاره في الجنة واختيار النصارى ليوم الأحد لأنه أول يوم اعتنى الله تعالى فيه بخلق الخلق فكان بزعمهم أولى بالتفرغ لعبادة الله تعالى وشكره سبحانه، وقد هدى الله تعالى لما هو أعظم من ذلك وهو يوم الجمعة الذي أكمل الله تعالى به الخلق وظهرت فيه حكمة الاقتداء بخلق الإنسان الذي خلق على صورة الرحمن فكان أولى بأن يتفرغ فيه الإنسان للعبادة والشكر من ذينك اليومين وسبحان من خلق فهدى وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ لما في ذلك من قهر النفس الموجب لترقيها إلى أعلى المقامات وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ قيل: الصبر أقسام: صبر لله تعالى. وصبر في الله تعالى. وصبر مع الله تعالى. وصبر عن الله تعالى. وصبر بالله تعالى، فالصبر بالله تعالى هو من لوازم الإيمان وأول درجات الإسلام وهو حبس النفس عن الجزع عند فوات مرغوب أو وقوع مكروه وهو من فضائل الأخلاق الموهوبة من فضل الله تعالى لأهل دينه وطاعته المقتضية للثواب الجزيل. والصبر في الله تعالى هو الثبات في سلوك طريق الحق وتوطين النفس على المجاهدة بالاختيار وترك المألوفات واللذات وتحمل البليات وقوة العزيمة في التوجه إلى منبع الكمالات وهو من مقامات السالكين يهبه الله تعالى لمن يشاء من أهل الطريقة، والصبر مع الله تعالى هو لأهل الحضور والكشف عند التجرد عن ملابس الأفعال والصفات والتعرض لتجليات الجمال والجلال وتوارد واردات الأنس والهيبة فهو بحضور القلب لمن كان له قلب والاحتراس عن الغفلة والغيبة عند التلوينات بظهور النفس، وهو أشق على النفس من الضرب على الهام وإن كان لذيذا جدا، والصبر عن الله تعالى هو لأهل العيان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 494 والمشاهدة من العشاق المشتاقين المتقلبين في أطوار التجلي والاستتار المنخلعين عن الناسوت المتنورين بنور اللاهوت ما بقي لهم قلب ولا وصف كلما لاح لهم نور من سبحات أنوار الجمال احترقوا وتفانوا وكلما ضرب لهم حجاب ورد وجودهم تشويقا وتعظيما ذاقوا من ألم الشوق وحرقة الفرقة ما عيل به صبرهم وتحقق موتهم، والصبر بالله تعالى هو لأهل التمكين في مقام الاستقامة الذين أفناهم الله تعالى بالكلية وما ترك عليهم شيئا من بقية الآنية والاثنينية ثم وهب لهم وجودا من ذاته حتى قاموا به وفعلوا بصفاته وهو من أخلاق الله تعالى ليس لأحد فيه نصيب، ولهذا بعد أن أمر سبحانه به نبيه صلى الله عليه وسلم بين له عليه الصلاة والسلام إنك لا تباشره إلا بي ولا تطيقه إلا بقوتي ثم قال سبحانه له صلى الله عليه وسلم: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ فالكل مني وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ لانشراح صدرك بي إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا بقاياهم وفنوا فيه سبحانه وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ بشهود الوحدة في الكثرة وهؤلاء الذين لا يحجبهم الفرق عن الجمع ولا الجمع عن الفرق ويسعهم مراعاة الحق والخلق، وذكر الطيبي أن التقوى في الآية بمنزلة التوبة للعارف والإحسان بمنزلة السير والسلوك في الأحوال والمقامات إلى أن ينتهي إلى محو الرسم والوصول إلى مخدع الأنس، هذا والله سبحانه الهادي إلى سواء السبيل فنسأله جل شأنه أن يهدينا إليه ويوفقنا للعلم النافع لديه ويفتح لنا خزائن الأسرار ويحفظنا من شر الأشرار بحرمة القرآن العظيم والرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأكمل التسليم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 495 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سورة الإسراء وتسمى الإسراء وسبحان أيضا وهي كما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس. وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم مكية وكونها كذلك بتمامها قول الجمهور، وقال صاحب الغنيان بإجماع، وقيل الآيتين وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ [الإسراء: 73] وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ [الإسراء: 76] وقيل إلا أربعا هاتان وقوله تعالى: وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ [الإسراء: 60] وقوله سبحانه: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ [الإسراء: 80] وزاد مقاتل قوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ [الإسراء: 107] الآية. وعن الحسن إلا خمس آيات وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ [الإسراء: 33] الآية وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى [الإسراء: 32] الآية أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ [الإسراء: 57] الآية أَقِمِ الصَّلاةَ [الإسراء: 78] الآية وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ [الإسراء: 26] الآية، وقال قتادة: إلا ثماني آيات وهي قوله تعالى: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ إلى آخرهن، وقيل غير ذلك، وهي مائة وعشر آيات عند الجمهور وإحدى عشرة عند الكوفيين وكان صلّى الله تعالى عليه وسلّم كما أخرج أحمد. والترمذي وحسنه. والنسائي. وغيرهم عن عائشة يقرؤها والزمر كل ليلة، وأخرج البخاري. وابن الضريس وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قال في هذه السورة والكهف ومريم وطه والأنبياء هن من العتاق الأول وهن من تلادي، وهذا وجه في ترتيبها، ووجه اتصال هذه بالنحل- كما قال الجلال السيوطي- أنه سبحانه لما قال في آخرها إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ [النحل: 124] ذكر في هذه شريعة أهل السبت التي شرعها سبحانه لهم في التوراة فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: إن التوراة كلها في خمس عشرة آية من سورة بني إسرائيل، وذكر تعالى فيها عصيانهم وإفسادهم وتخريب مسجدهم واستفزازهم النبي صلّى الله عليه وسلّم وإرادتهم إخراجه من المدينة وسؤالهم إياه عن الروح ثم ختمها جل شأنه بآيات موسى عليه السلام التسع وخطابه مع فرعون وأخبر تعالى أن فرعون أراد أن يستفزهم من الأرض فأهلك وورث بنو إسرائيل من بعده وفي ذلك تعريض بهم أنهم سينالهم ما نال فرعون حيث أرادوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم ما أراد هو بموسى عليه السلام وأصحابه، ولما كانت هذه السورة مصدّرة بقصة تخريب المسجد الأقصى افتتحت بذكر إسراء المصطفى صلّى الله عليه وسلّم تشريفا له بحلول ركابه الشريف جبرا لما وقع من تخريبه. وقال أبو حيان في ذلك: إنه تعالى لما أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بالصبر ونهاه عن الحزن على الكفرة وضيق الصدر من مكرهم وكان من مكرهم نسبته صلّى الله عليه وسلّم إلى الكذب والسحر والشعر وغير ذلك مما رموه وحاشاه به عقب ذلك بذكر شرفه وفضله وعلو منزلته عنده عز شأنه، وقيل: وجه ذلك اشتمالها على ذكر نعم منها خاصة ومنها عامة وقد ذكر في سورة النحل من النعم ما سميت لأجله سورة النعم واشتمالها على ذكر شأن القرآن العظيم كما اشتملت تلك وذكر سبحانه هناك في النحل يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ [النحل: 69] وذكر هاهنا في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3 القرآن وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء: 82] وذكر سبحانه في تلك أمره بإيتاء ذي القربى وأمر هنا بذلك مع زيادة في قوله سبحانه: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً [الإسراء:26] وذلك بعد أن أمر جل وعلا بالإحسان بالوالدين اللذين هما منشأ القرابة إلى غير ذلك مما لا يحصى فليتأمل والله تعالى الموفق. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4 سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ سبحان هنا على ما ذهب إليه بعض المحققين مصدر سبح تسبيحا بمعنى نزه تنزيها لا بمعنى قال سبحان الله نعم جاء التسبيح بمعنى القول المذكور كثيرا حتى ظن بعضهم أنه مخصوص بذلك وإلى هذا ذهب صاحب القاموس في شرح ديباجة الكشاف، وجعل سبحان مصدر سبح مخففا وليس بذاك، وقد يستعمل علما للتنزيه فيقطع عن الإضافة لأن الأعلام لا تضاف قياسا ويمنع من الصرف للعلمية والزيادة واستدل على ذلك بقول الأعشى: قد قلت لما جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر وقال الرضي: لا دليل على علميته لأنه أكثر ما يستعمل مضافا فلا يكون علما وإذا قطع فقد جاء منونا في الشعر كقوله: سبحانه ثم سبحانا نعوذ به ... وقبلنا سبح الجوديّ والجمد وقد جاء باللام كقوله: «سبحانك اللهم ذو السبحان» ولا مانع من أن يقال في البيت الذي استدلوا به: حذف المضاف إليه وهو مراد للعلم به وأبقي المضاف على حاله مراعاة لأغلب أحواله أي التجرد عن التنوين كقوله: «خالط من سلمى خياشيم وفا» انتهى، وظاهر كلام الزمخشري أنه علم للتسبيح دائما وهو علم جنس لأن علم الجنس كما يوضع للذوات يوضع للمعاني فلا تفصيل عنده، وانتصر له صاحب الكشف فقال: إن ما ذهب إليه العلامة هو الوجه لأنه إذا ثبتت العلمية بدليلها فالإضافة لا تنافيها وليست من باب- زيد المعارك- لتكون شاذة بل من باب- حاتم طيء وعنترة عبس- وذكر أنه يدل على التنزيه البليغ وذلك من حيث الاشتقاق من السبح وهو الذهاب والأبعاد في الأرض ثم ما يعطيه نقله إلى التفعيل ثم العدول عن المصدر إلى الاسم الموضوع له خاصة لا سيما وهو علم يشير إلى الحقيقة الحاضرة في الذهن وما فيه من قيامه مقام المصدر مع الفعل فإن انتصابه بفعل متروك الإظهار ولهذا لم يجز استعماله إلا فيه تعالى أسماؤه وعظم كبرياؤه، وكأنه قيل: ما أبعد الذي له هذه القدرة عن جميع النقائص فلا يكون اصطفاؤه لعبده الخصيص به إلا حكمة وصوابا انتهى. وأورد على ما ذكره أولا أن من منع إضافة العلم قياسا لم يفرق بين إضافة وإضافة فإن ادعى أن بعض الأعلام اشتهرت بمعنى كحاتم بالكرم فيجوز في نحوه الإضافة لقصد التخصيص ودفع العموم الطارئ فما نحن فيه ليس من هذا القبيل كما لا يخفى، وما ذكر من دلالته على التنزيه من جميع النقائص هو الذي يشهد له المأثور، ففي العقد الفريد عن طلحة قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن تفسير سبحان الله فقال: تنزيه لله تعالى عن كل سوء. وقال الطيبي في قول الزمخشري: إنه دل على التنزيه البليغ عن جميع القبائح التي يضيفها إليه أعداء الله تعالى إن ذلك مما يأباه مقام الإسراء إباء العيوف الورود وهو مزيف بل معناه التعجب كما قال في النور الأصل في ذلك أن يسبح الله تعالى عند رؤية العجيب من صنائعه ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه وليس بشيء، ففي الكشف أن التنزيه لا ينافي التعجب كما توهم واعترض، وجعله مدارا والتعجب تبعا هاهنا هو الوجه بخلاف آية النور، وذكر بعضهم أن الظاهر من كلام الكشاف في مواضع أنه لا يرتضي الجمع بين التنزيه والتعجب للمنافاة بينهما بل لأن كلا منهما معنى مستقل فالجمع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5 بينهما جمع بين معنى المشترك، وعلى الجمع فالوجه ما ذكر أنه الوجه فافهم، وقيل إن سبحان ليس علما أصلا بلا تفصيل ففيه ثلاثة مذاهب، وذكر بعضهم أنه في الآية على معنى الأمر أي نزهوا الله تعالى وبرئوه من جميع النقائص ويدخل فيها العجز عما بعد أو من العجز عن ذلك، والمتبادر اعتبار المضارع، والإسراء السير بالليل خاصة كالسري فأسرى وسرى بمعنى (1) وليست همزة أسرى للتعدية كما قال أبو عبيدة، وقال ابن عطية: الهمزة للتعدية والمفعول محذوف أي أسرى ملائكته بعبده، قال في البحر: وإنما احتاج إلى هذه الدعوى لاعتقاد أنه إذا كان أسرى بمعنى سرى لزم من كون الباء للتعدية مشاركة الفاعل للمفعول وهذا شيء ذهب إليه المبرد فإذا قلت: قمت بزيد يلزم منه قيامك وقيام زيد عنده وإذا جعلت الباء كالهمزة لا يلزم ذلك كما لا يخفى، وقال أيضا: يحتمل أن يكون أسرى بمعنى سرى على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه والأصل أسرى ملائكته وهو مبني على ذلك الاعتقاد أيضا، وقال الليث: يقال أسرى لأول الليل وسرى لآخره وأما سار فالجمهور على أنه عام لا اختصاص له بليل أو نهار. وقيل إنه مختص بالنهار وليس مقلوبا من سري، وإيثار لفظة العبد للإيذان بتمحضه صلّى الله عليه وسلّم في عبادته سبحانه وبلوغه في ذلك غاية الغايات القاصية ونهاية النهايات النائية حسبما يلوح به مبدأ الإسراء ومنتهاه، والعبودية على ما نص عليه العارفون أشرف الأوصاف وأعلى المراتب وبها يفتخر المحبون كما قيل: لا تدعني إلا بيا عبدها ... فإنه أشرف أسمائي وقال آخر: بالله إن سألوك عني قل لهم ... عبدي وملك يدي وما أعتقته وعن أبي القاسم سليمان الأنصاري أنه قال: لما وصل النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الدرجات العالية والمراتب الرفيعة أوحى الله تعالى إليه يا محمد بم نشرفك؟ قال: بنسبتي إليك بالعبودية فأنزل الله تعالى (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) وجاء قولوا عبد الله ورسوله، وقيل إن في التعبير به هنا دون حبيبه مثلا سدا لباب الغلو فيه صلّى الله عليه وسلّم كما وقع للنصارى في نبيهم عليه السلام، وذكروا أنه لم يعبر الله تعالى عن أحد بالعبد مضافا إلى ضمير الغيبة المشار به إلى الهوية إلا النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي ذلك من الإشارة ما فيه، ومن تأمل أدنى تأمل ما بين قوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ وقوله تعالى وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا [الأعراف: 143] ظهر له الفرق التام بين مقام الحبيب ومقام الكليم صلّى الله عليه وسلّم وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا في هذه السورة ما يفهم منه الفرق أيضا فلا تغفل، وإضافة سُبْحانَ إلى الموصول المذكور للإشعار بعلية ما في حيز الصلة للمضاف فإن ذلك من أدلة كمال قدرته وبالغ حكمته وغاية تنزهه تعالى عن صفات النقص، وقوله تعالى لَيْلًا ظرف لأسرى، وفائدته الدلالة بتنكيره على تقليل مدة الإسراء وأنها بعض من أجزاء الليل ولذلك قرأ عبد الله. وحذيفة «من الليل» أي بعضه كقوله تعالى وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ [الإسراء: 79] . واعترض بأن البعضية المستفادة من التبعيضية هي البعضية في الأجزاء والبعضية المستفادة من التنكير البعضية في الأفراد والجزئيات فكيف يستفاد من التنكير أن الإسراء كان في بعض من أجزاء الليل فالصواب أن تنكيره لدفع توهم أن الإسراء كان في ليال أو لإفادة تعظيمه كما هو المناسب للسياق والسباق أي ليلا أي ليل دنا فيه المحب إلى المحبوب وفاز في مقام الشهود بالمطلوب. وأجاب عن ذلك بعض الكاملين بما لا يخفى نقصه. وقال بعض المحققين: إن ما ذكر قد نص عليه الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز ولا يرد عليه الاعتراض ابتداء.   (1) ويقال أسراه وأسرى به كأخذ الخطام وأخذ به اهـ منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 6 وتحقيقه على ما صرح به الفاضل اليمني نقلا عن سيبويه. وابن مالك أن الليل والنهار إذا عرفا كانا معيارا للتعميم وظرفا محدودا فلا تقول صحبته الليلة وأنت تريد ساعة منها إلا أن تقصد المبالغة كما تقول أتاني أهل الدنيا لناس منهم بخلاف المنكر فإنه لا يفيد ذلك فلما عدل عن تعريفه هنا علم أنه لم يقصد استغراق السري له وهذا هو المراد من البعضية المذكورة ولا حاجة إلى جعل الليل مجازا عن بعضه كما أنك إذا قلت جلست في السوق وجلوسك في بعض أماكنه لا يكون فيه السوق مجازا كما لا يخفى، وقد أشار إلى هذا المدقق في الكشف، وقيل: المراد بتنكيره أنه وقع في وسطه ومعظمه كما يقال جاءني فلان بليل أي في معظم ظلمته فيفيد البعضية أيضا، وينافيه ما سيأتي إن شاء الله تعالى في الحديث، وزعم أن ذكر لَيْلًا للتأكيد أو تجريد الإسراء وإرادة مطلق السير منه ناشىء من قلة البضاعة كما لا يخفى. وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان حكمة كون الإسراء ليلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ. الظاهر أن المراد به المسجد المشهور بين الخاص والعام بعينه وكان صلّى الله عليه وسلّم إذ ذاك في الحجر منه، فقد أخرج الشيخان والترمذي والنسائي من حديث أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينا أنا في الحجر- وفي رواية- في الحطيم بين النائم واليقظان إذ أتاني آت فشق ما بين هذه إلى هذه فاستخرج قلبي فغسله ثم أعيد ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض يقال له البراق فحملت عليه» الحديث، وفي بعض الروايات أنه جاءه جبريل وميكائيل عليهما السلام وهو مضطجع في الحجر بين عمه حمزة وابن عمه جعفر فاحتملته الملائكة عليهم السلام وجاؤوا به إلى زمزم فألقوه على ظهره وشق جبريل صدره من ثغرة نحره إلى أسفل بطنه (1) بغير آلة ولا سيلان دم ولا وجود ألم ثم قال لميكائيل: ائتني بطست من ماء زمزم فأتاه به فاستخرج قلبه الشريف وغسله ثلاث مرات ثم أعاده إلى مكانه وملأه إيمانا وحكمة وختم عليه ثم خرج به إلى باب المسجد فإذا بالبراق مسرجا ملجما فركبه الخبر ، ويعلم منه الجمع بين ما ذكر من أنه عليه الصلاة والسلام كان إذ ذاك في الحجر وما قيل إنه كان بين زمزم والمقام، وقيل: المراد به الحرم وأطلق عليه لإحاطته به فهو مجاز بعلاقة المجاورة الحسية والإحاطة أو لأن الحرم كله محل للسجود ومحرم ليس يحل فهو حقيقة لغوية والنكتة في هذا التعبير مطابقة المبدأ المنتهي. وكان صلّى الله عليه وسلّم إذ ذاك في دار فاختة (2) أم هانىء (3) بنت أبي طالب فقد أخرج النسائي عن ابن عباس وأبو يعلى في مسنده والطبراني في الكبير من حديثها أنه صلّى الله عليه وسلّم كان نائما في بيتها بعد صلاة العشاء فأسري به ورجع من ليلته وقص القصة عليها، وقال مثل لي النبيون فصليت بهم ثم خرج إلى المسجد وأخبر به قريشا فمن مصفق وواضع يده على رأسه تعجبا وإنكارا وارتد أناس ممن آمن به عليه الصلاة والسلام وسعى رجال إلى أبي بكر فقال: إن كان قال ذلك لقد صدق قالوا تصدقه على ذلك قال: إني أصدقه على أبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء غدوة أو روحة فسمي الصديق، وكان في القوم من يعرف بيت المقدس فاستنعتوه إياه فجلى له فطفق ينظر إليه وينعته لهم فقالوا: أما النعت فقد أصاب فيه فقالوا: أخبرنا عن عيرنا فهي أهم إلينا هل لقيت منها شيئا؟ قال: نعم مررت بعير بني فلان وهي بالروحاء وقد أضلوا بعيرا لهم وهم في طلبه وفي رحالهم قدح من ماء فعطشت فأخذته وشربته ووضعته كما كان فاسألوا هل وجدوا الماء في القدح حين رجعوا؟ قالوا: هذه آية قال: ومررت بعير بني فلان وفلان راكبان قعودا فنفر بعيرهما مني فانكسر   (1) ذكر السفيري أنه عليه السلام شقة بمنقاره فإنه عليه السلام جاءه في صورة كركرى والله تعالى أعلم بصحة الخبر اهـ منه. (2) وقيل: في شعب أبي طالب اهـ منه. (3) وقال ابن إسحاق هند اهـ منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 7 فاسألوهما عن ذلك قالوا: هذه آية أخرى، ثم سألوه عن العدة والأحمال والهيئات فمثلت له العير فأخبرهم عن كل ذلك وقال: تقدم (1) يوم كذا مع طلوع الشمس وفيها فلان وفلان يقدمها جمل أورق عليه غرارتان مخيطتان قالوا: وهذه آية أخرى فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية فجعلوا ينظرون متى تطلع الشمس فيكذبوه إذ قال قائل: هذه الشمس قد طلعت وقال آخر: هذه العير قد أقبلت يقدمها بعير أورق فيها فلان وفلان كما قال فلم يؤمنوا وقالوا: هذا سحر مبين قاتلهم الله أنى يؤفكون. وفي بعض الآثار أن أم هانىء قالت: فقدته صلّى الله عليه وسلّم وكان نائما عندي فامتنع مني النوم مخافة أن يكون عرض له بعض قريش ويقال إنه تفرقت بنو عبد المطلب يلتمسونه ووصل العباس إلى ذي طوى وهو ينادي يا محمد يا محمد فأجابه صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا ابن أخي أعييت قومك أين كنت؟ قال: ذهبت إلى بيت المقدس قال: من ليلتك قال: نعم قال: هل أصابك الأخير؟ قال ما أصابني الأخير وقيل: غير ذلك. وكما اختلف في مبدأ الإسراء اختلف في سنته فذكر النووي في الروضة أنه كان بعد النبوة بعشر سنين وثلاثة أشهر، وفي الفتاوى أنه كان سنة خمس أو ست من النبوة، ونقل عنه الفاضل الملا أمين العمري في شرح ذات الشفاء الجزم بأنه كان في السنة الثانية عشرة من المبعث. وعن ابن حزم دعوى الإجماع على ذلك، وضعف ما في الفتاوى بأن خديجة رضي الله تعالى عنها لم تصل الخمس وقد ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين. وقيل كان قبل الهجرة بسنة وخمسة أشهر، وقيل ثلاثة أشهر، ووقع في حديث شريك بن أبي نمرة عن أنس أنه كان قبل أن يوحى إليه صلّى الله عليه وسلّم وقد خطأه غير واحد في ذلك، ونقل الحافظ عبد الحق في كتابه الجمع بين الصحيحين حديث شريك الواقع فيه ذلك بطوله، ثم قال: هذا الحديث بهذا اللفظ من رواية شريك عن أنس قد زاد فيه زيادة مجهولة وأتى بألفاظ غير معروفة. وقد روي حديث الإسراء عن أنس جماعة من الحفاظ المتقنين والأئمة المشهورين كابن شهاب. وثابت البناني وقتادة فلم يأت أحد منهم بما أتى به شريك، وشريك ليس بالحافظ عند أهل الحديث. وأجاب عن ذلك محيي السنة وغيره بما ستسمعه إن شاء الله تعالى، وكذا اختلف في شهره وليلته فقال النووي في الفتاوى: كان في شهر ربيع الأول، وقال في شرح مسلم تبعا للقاضي عياض: إنه في شهر ربيع الآخر، وجزم في الروضة بأنه في رجب، وقيل: في شهر رمضان، وقيل: في شوال، وكان على ما قيل الليلة السابعة والعشرين من الشهر وكانت ليلة السبت كما نقله ابن الملقن عن رواية الواقدي، وقيل: كانت ليلة الجمعة لمكان فضلها وفضل الإسراء، ورد بأن جبرائيل عليه السلام صلّى بالنبي صلّى الله عليه وسلّم أول يوم بعد الإسراء الظهر ولو كان يوم الجمعة لم يكن فرضها الظهر قاله محمد بن عمر السفيري، وفيه أن العمري ذكر في شرح ذات الشفاء أن الجمعة والجنازة وجبتا بعد الصلوات الخمس، وفي شرح المنهاج للعلامة ابن حجر إن صلاة الجمعة فرضت بمكة ولم تقم بها لفقد العدد أو لأن شعارها الإظهار وكان صلّى الله عليه وسلّم بها مستخفيا، وأول من أقامها بالمدينة قبل الهجرة أسعد بن زرارة بقرية على ميل من المدينة. ونقل الدميري عن ابن الأثير أنه قال: الصحيح عندي أنها كانت ليلة الاثنين واختاره ابن المنير، وفي البحر قيل إن الإسراء كان في سبع عشرة من شهر ربيع الأول والرسول صلّى الله عليه وسلّم ابن إحدى وخمسين سنة وتسعة أشهر وثمانية وعشرين يوما، وحكى أنها ليلة السابع والعشرين من شهر ربيع الآخر عن الجرمي، وهي على ما نقل السفيري عن الجمهور أفضل الليالي حتى ليلة القدر مطلقا، وقيل هي أفضل بالنسبة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى أمته عليه الصلاة والسلام   (1) رأيت في بعض الكتب أنه يوم الأربعاء اهـ منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 8 فهي أفضل مطلقا نعم لم يشرع التعبد فيها والتعبد في ليلة القدر مشروع إلى يوم القيامة والله تعالى أعلم. واختلف أيضا أنه في اليقظة أو في المنام فعن الحسن أنه في المنام. وروي ذلك عن عائشة ومعاوية رضي الله تعالى عنهما، ولعله لم يصح عنها كما في البحر، وكانت رضي الله تعالى عنها إذ ذاك صغيرة ولم تكن زوجته عليه الصلاة والسلام، وكان معاوية كافرا يومئذ، واحتج لذلك بقوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء: 60] لأن الرؤيا تختص بالنوم لغة، ووقع في حديث شريك المتقدم ما يؤيده، وذهب الجمهور إلى أنه في اليقظة ببدنه وروحه صلّى الله عليه وسلّم والرؤيا تكون بمعنى الرؤية في اليقظة كما في قول الراعي يصف صائدا: وكبر للرؤيا وهش فؤاده ... وبشر قلبا كان جما بلاله وقال الواحدي: إنها رؤية اليقظة ليلا فقط وخبر شريك لا يعول عليه على ما نقل عن عبد الحق، وقال النووي: وأما ما وقع في رواية عن شريك وهو نائم وفي أخرى عنه بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان فقد يحتج به من يجعلها رؤيا نوم ولا حجة فيه إذ قد يكون ذلك أول وصول الملك إليه وليس في الحديث ما يدل على كونه صلّى الله عليه وسلّم نائما في القصة كلها. واحتج الجمهور لذلك بأنه لو كان مناما ما تعجب منه قريش ولا استحالوه لأن النائم قد يرى نفسه في السماء ويذهب من المشرق إلى المغرب ولا يستبعده أحد، وأيضا العبد ظاهر في الروح والبدن، وذهبت طائفة منهم القاضي أبو بكر. والبغوي إلى تصديق القائلين بأنه في المنام والقائلين بأنه في اليقظة وتصحيح الحديثين في ذلك بأنّ الإسراء كان مرتين إحداهما في نومه صلّى الله عليه وسلّم قبل النبوة فأسرى بروحه توطئة وتيسيرا لما يضعف عنه قوى البشر وإليه الإشارة بقوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ثم أسرى بروحه وبدنه بعد النبوة قال في الكشف: وهذا هو الحق وبه يحصل الجمع بين الأخبار. وحكى المازري في شرح مسلم قولا رابعا جمع به بين القولين فقال: كان الإسراء بجسده صلّى الله عليه وسلّم في اليقظة إلى بيت المقدس فكانت رؤية عين ثم أسرى بروحه الشريفة عليه الصلاة والسلام منه إلى ما فوقه فكانت رؤيا قلب ولذا شنع الكفار عليه الصلاة والسلام قوله: أتيت بيت المقدس في ليلتي هذه ولم يشنعوا عليه قوله فيما سوى ذلك ولم يتعجبوا منه لأن الرؤيا ليست محل التعجب، وليس معنى الإسراء بالروح الذهاب يقظة كالانسلاخ الذي ذهب إليه الصوفية والحكماء فإنه وإن كان خارقا للعادة ومحلا للتعجب أيضا إلا أنه أمر لا تعرفه العرب ولم يذهب إليه أحد من السلف، والأكثر على أن المعراج كالإسراء بالروح والبدن ولا استحالة في ذلك فقد ثبت بالهندسة أن مساحة قطر جرم الأرض ألفان وخمسمائة وخمسة وأربعون فرسخا ونصف فرسخ وأن مساحة قطر كرة الشمس خمسة أمثال ونصف مثل لقطر جرم الأرض وذلك أربعة عشر ألف فرسخ وأن طرف قطرها المتأخر يصل موضع طرفه المتقدم في ثلثي دقيقة فتقطع الشمس بحركة الفلك الأعظم أربعة عشر ألف فرسخ في ثلثي دقيقة من ساعة مستوية. وذكر الإمام في الأربعين أن الأجسام متساوية في الذوات والحقائق فوجب أن يصح على كل واحد منها ما يصح على غيره من الأعراض لأن قابلية ذلك العرض إن كان من لوازم تلك الماهية فأينما حصلت حصل لزم حصول تلك القابلية فوجب أن يصح على كل منها ما يصح على الآخر، وإن لم يكن من لوازمها كان من عوارضها فيعود الكلام فإن سلم وإلا دار أو تسلسل وذلك محال فلا بد من القول بالصحة المذكورة والله تعالى قادر على جميع الممكنات فيقدر على أن يخلق مثل هذه الحركة السريعة في بدن النبي صلّى الله عليه وسلّم أو فيما يحمله، وقال العلامة البيضاوي: الاستحالة مدفوعة بما ثبت في الهندسة أن ما بين طرفي قرص الشمس ضعف ما بين طرفي كرة الأرض مائة ونيفا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 9 وستين مرة ثم إن طرفها الأسفل يصل موضع طرفها الأعلى في أقل من ثانية إلى آخر ما قال، وما ذكرناه هو الصواب في التعبير فإن المقدمتين اللتين ذكرهما ممنوعتان، أما الأولى بأن النسبة التي ذكرها إنما هي نسبة جرم الشمس إلى جرم الأرض كما برهنوا عليه في باب مقادير الأجرام والأبعاد من كتب الهيئة لكنهم قالوا جرم الشمس مثل جرم الأرض مائة وستة وستين مرة وربع مرة وثمن مرة. والعلامة جعل ذلك نسبة القطر إلى القطر لأنه المتبادر مما بين الطرفين، وإرادة الجرم منه خلاف الظاهر جدا، وكان يكفيه لو أراد ذلك أن يقول: قرص الشمس ضعف كرة الأرض فأي معنى لما زاده، وأما الثانية فإن أراد بالثانية الثانية من دقيقة الدرجة الفلكية التي هي ستون دقيقة فمنعها بما حرره العلامة القطب الشيرازي في نهاية الإدراك حيث قال: مقدار الدرجة الواحدة من مقعر الفلك الأطلس بالأميال 9343593 ميلا فالفلك الأعلى يقطع فيما مقداره من الزمان جزء واحد من خمسة عشر جزءا من ساعة مستوية وهو ثلث خمسها هذا المقدار من الأميال فإذا تحرك مقدار دقيقة وهي جزء من تسعمائة جزء من ساعة مستوية كان قدر قطعه من المسافة 155718 ميلا وسدس ميل وخمس ربع أو ربع خمس ميل، ولأن حين ما يبدو قرن الشمس إلى أن تطلع بالتمام يكون بقدر ما يعد واحد من واحد إلى ثلاثمائة فبمقدار ما يعد ثلاثين يتحرك الفلك 155718 ميلا وهو ألف وسبعمائة واثنان وثلاثون فرسخا من مقعره والله تعالى أعلم بما يتحرك محدبه حينئذ فسبحان الله تعالى ما أعظم شأنه اه. وحاصل ذلك أن الفلك الأعظم يتحرك من ابتداء طلوع جرم الشمس إلى أن يطلع بتمامه سدس درجة وهو عشر دقائق من ستين دقيقة من درجة فلكية ومقدار مساحة هذه الدقائق 519600 أي خمسمائة ألف وتسعة عشر ألفا وستمائة فرسخ وإذا جعلنا هذه الدقائق ثواني كانت ستمائة ثانية فأين الأقل من ثانية. وإن أراد بالثانية الثانية من دقيقة الساعة التي هي ربع الدرجة الفلكية فسدس الدرجة هاهنا يكون ثلثي دقيقة وإذا جعلنا ثلثي الدقيقة ثواني كانا أربعين ثانية وهذه الثواني الستمائة بعينها إلا أن المنجمين لما جعلوا الساعة ستين دقيقة تسهيلا للحساب والساعة عبارة عن خمسة عشر درجة فلكية اقتضى أن تكون الدرجة الفلكية وكل ثانية من ثواني دقيقة الساعة بخمسة عشر ثانية من ثواني دقيقة الدرجة الفلكية فالخلاف بين ثواني دقائق الدرجة الفلكية وثواني دقيقة الساعة اعتبار لفظي وأجاب عبد الرحمن الكردي الشهير بالفاضل بأن الثانية جزء من ستين جزءا من دقيقة والدقيقة قد تطلق على جزء من ستين جزءا من درجة وقد تطلق على جزء من ستين جزءا من ساعة وقد تطلق على جزء من ستين جزءا من يوم بليلته، ومراد العلامة البيضاوي من الثانية الثانية الثالثة لا الثانية الأولى وهو ظاهر ولا الثانية الثانية كما ذهب إليه سعدي جلبي وتبعه ابن صدر الدين، وفيه أنه يفهم منه أن الفلكيين قد يقسمون اليوم بليلته إلى ستين دقيقة كما يقسمونها إلى الساعات والدرجات والدقائق قسمة يتميز بها أجزاء الزمان ولم يقل بذلك أحد منهم وإنما ذكر ذلك بعضهم تسهيلا لمعرفة الكسر الزائد على الأيام التامة من السنة لتعرف منه السنة الكبيسة في ثلاث سنين أو أربع سنين وهو بمعزل عما نحن فيه من قطع المسافة البعيدة بالزمان القليل ولو سلمنا ما زعمه كان ناقصا من مدة حركة الفلك الأعظم من ابتداء طلوع قرص الشمس إلى انتهائه وهو ثلثا دقيقة هما أربعون ثانية وذلك جزء من تسعين جزءا من ساعة مستوية كما حرره العلامة الشيرازي، وما ذكره من أن الثانية من دقيقة اليوم بليلته عبارة عن أربعة وعشرين ثانية من ثواني دقيقة الساعة، وهي أقل من ثلثي دقيقة بستة عشر ثانية خطأ على خطأ تلك أذن قسمة ضيزى، نعم قد أصاب في الرد على الفاضلين وقد أخطأ الفاضل الأول في غير ذلك في هذا المقام كما لا يخفى على من وقف على كلامه وكان له أدنى اطلاع، على كتب القوم، ولتداول هذا المبحث بين الطلبة وعدم وجدانهم من يبل غليلهم تعرضنا له بما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 10 نرجو أن يبل به الغليل، هذا والعلماء درجات والله تعالى الموفق لفهم الدقائق فتأمل مرة وثانية وثالثة فلعل الله سبحانه أن يفتح عليك غير ذلك، وما ذكر من تساوي الأجسام مبني على ما قيل على تركبها من الجواهر الفردة وفيه خلاف النظام والفلاسفة، والبحث في ذلك طويل، ولا يستدل على الاستحالة بلزوم الخرق والالتئام، وقد برهنوا على استحالة ذلك لأنا نقول: إن برهانهم على ذلك أوهن من بيت العنكبوت كما بين في محله، ولم تتعرض الآية لأنه صلّى الله عليه وسلّم كان في الإسراء به محمولا على شيء لكن صحت الأخبار بأنه عليه الصلاة والسلام أسري به على البراق إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وهو بيت المقدس، ووصفه بالأقصى أي الأبعد بالنسبة إلى من بالحجاز، وقال غير واحد: إنه سمي به لأنه أبعد المساجد التي تزار من المسجد الحرام وبينهما نحو من أربعين ليلة، وقيل: لأنه ليس وراءه موضع عبادة فهو أبعد مواضعها، وقال ابن عطية: يحتمل أن يراد بالأقصى البعيد دون مفاضلة بينه وبين ما سواه وهو بعيد في نفسه للزائرين، وقيل المراد بعده عن الأقذار والخبائث. واختلف في ركوب جبريل عليه السلام معه فقيل: ركب خلفه عليه الصلاة والسلام. والصحيح أنه لم يركب بل أخذ بركابه وميكائيل يقود البراق. واختلف أيضا في استمراره عليه عليه الصلاة والسلام في عروجه إلى السماء فقيل: عرج عليه، والصحيح أنه نصب له معراج فعرج عليه، وجاء في وصفه وعظمه ما جاء، ووهم الحافظ ابن كثير كما قال الحلبي القائلين ومنهم صاحب الهمزية إن عروجه صلّى الله عليه وسلّم على البراق. ومن الأكاذيب المشهورة أنه صلّى الله عليه وسلّم لما أراد العروج صعد على صخرة بيت المقدس وركب البراق فمالت الصخرة وارتفعت لتلحقه فأمسكتها الملائكة ففي طرف منها أثر قدمه الشريف وفي الطرف الآخر أثر أصابع الملائكة عليهم السلام فهي واقفة في الهواء قد انقطعت من كل جهة لا يمسكها إلا الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض سبحانه وتعالى، وذكر العلائي في تفسيره أنه كان للنبي عليه الصلاة والسلام ليلة الإسراء خمسة مراكب، الأول البراق إلى بيت المقدس، الثاني المعراج منه إلى السماء الدنيا، الثالث أجنحة الملائكة منها إلى السماء السابعة، الرابع جناح جبريل عليه السلام منها إلى سدرة المنتهى، الخامس الرفرف منها إلى قاب قوسين، ولعل الحكمة في الركوب إظهار الكرامة وإلا فالله سبحانه وتعالى قادر على أن يوصله إلى أي موضع أراد في أقل من طرفة عين، وقيل لم يكن إلا البراق من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى والمعراج منه إلى حيث شاء الله تعالى وقد كان له عشر مراقي سبعة إلى السموات والثامن إلى السدرة والتاسع إلى المستوي الذي سمع فيه صريف الأقلام والعاشر إلى العرش والله تعالى أعلم. ومن العجائب ما سمعته عن الطائفة الكشفية والعهدة على الراوي أن للروح جسدين جسد من عالم الغيب لطيف لا دخل للعناصر فيه وجسد من عالم الشهادة كثيف مركب من العناصر والنبي صلّى الله عليه وسلّم حين عرج به ألقى كل عنصر من عناصر الجسد العنصري في كرته فما وصل إلى تلك القمر حتى ألقى جميع العناصر ولم يبق معه إلا الجسد اللطيف فرقى به حيث شاء الله تعالى، ثم لما رجع عليه الصلاة والسلام رجع إليه ما ألقاه واجتمع فيه ما تفرق منه، ولعمري أنه حديث خرافة لا مستند له شرعا ولا عقلا. وذكر مولانا عبد الرحمن الدشتي ثم الجامي أن المعراج إلى العرش بالروح والجسد وإلى ما وراء ذلك بالروح فقط وأنشد بالفارسية: جو رفرف شد مشرف از وجودش ... كرفت از دست رفرف عرش زودش بدست عرش تن جون خرقه بگذاشت ... علم بر لا مكان بي خرقه افراشت كلى برد ندا زين دهليزه يست ... بدان دركاه والا دست بر دست جهت را مهره از ششدر رهانيد ... مكانرا مركب از تنكي جهانيد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 11 مكاني يافت خالي از مكان نيز ... كه تن محرم نبود آنجا وجان نيز ولم أقف على مستند له من الآثار وكأنه لاحظ أن العروج فوق العرش بالجسد يستدعي مكانا، وقد تقرر عند الحكماء أن ما وراء العرش لا خلا ولا ملا وبه تنتهي الأمكنة وتنقطع الجهات، وقال بعضهم: أمر المعراج أجل من أن يكيف وماذا عسى يقال سوى أن المحب القادر الذي لا يعجزه شيء دعا حبيبه الذي خلقه من نوره إلى زيارته وأرسل إليه من أرسل من خواص ملائكته فكان جبريل هو الآخذ بركابه وميكائيل الآخذ بزمام دابته إلى أن وصل إلى ما وصل ثم تولى أمره سبحانه بما شاء حتى حصل فأي مسافة تطول على ذلك الحبيب الرباني وأي جسم يمتنع عن الخرق لذلك الجسد النوراني: جز بحزوى فثم عالم لطف ... من بقايا أجساده الأرواح ومن تأمل في العين وإحساسها بالقريب والبعيد ولو كان فاقدها وذكر له حالها لأنكر ذلك إنكارا ما عليه مزيد، وكذا في غير ذلك من آثار قدرة الله تعالى الظاهرة في الأنفس والآفاق والواقع على جلالة قدرها الاتفاق لم يسعه إلا تسليم ما نطقت به الآيات وصحت به الروايات، ويشبه كلام هذا البعض ما قاله بعض شعراء الفرس إلا أن فيه ميلا إلى مذهب أهل الوحدة وهو قوله: قصه بيرنگ معراج از من بيدل مپرس ... قطره دريا كشت وبيغمر نميدانم چهـ شد والظاهر أن المسافة التي قطعها عليه الصلاة والسلام في مسيره كانت باقية على امتدادها. ويؤيد ذلك ما ذكره الثعلبي في تفسيره في وصف البراق أنه إذا أتى واديا طالت يداه وقصرت رجلاه وإذا أتى عقبة طالت رجلاه وقصرت يداه وكانت المسافة في غاية الطول، ففي حقائق الحقائق كانت المسافة من مكة إلى المقام الذي أوحى الله تعالى فيه إلى نبيه عليه الصلاة والسلام ما أوحى قدر ثلاثمائة ألف سنة، وقيل: خمسين ألفا، وقيل غير ذلك، وأنه ليس هناك طي مسافة على نحو ما يثبته الصوفية وبعض الفقهاء للأولياء كرامة، وجهل بعض الحنفية مثبتيه لهم وكفرهم آخرون وليس له وجه ظاهر، وربما يلزم مثبتيه القول بتداخل الجواهر والفلاسفة والمتكلمون سوى النظام يحيلونه ويبرهنون على استحالته، وادعى بعضهم الضرورة في ذلك وقالوا: المنع مكابرة، وقد أثبت الصوفية للأولياء نشر الزمان ولهم في ذلك حكايات عجيبة والله تعالى أعلم بصحتها، ولم أر من تعرض لذلك من المتشرعين وهو أمر وراء عقولنا المشوبة بالأوهام، ومثله في ذلك قول من قال: الأزل والأبد نقطة واحدة الفرق بينهما بالاعتبار، وليس لفهم ذلك عندي إلا المتجردون من جلابيب أبدانهم وقليل ما هم، وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الإشارة حكاية إنكار طي المسافة أيضا وذكر ما فيه والله تعالى الموفق. وإنما أسرى به صلّى الله عليه وسلّم ليلا لمزيد الاحتفال به عليه الصلاة والسلام فإن الليل وقت الخلوة والاختصاص ومجالسة الملوك ولا يكاد يدعو الملك لحضرته ليلا إلا من هو خاص عنده وقد أكرم الله تعالى فيه قوما من أنبيائه عليهم السلام بأنواع الكرامات وهو كالأصل للنهار، وأيضا لاهتداء فيه للمقصد أبلغ من الاهتداء في النهار، وأيضا قالوا: إن المسافر يقطع في الليل ما لا يقطع في النهار ومن هنا جاء عليكم بالدلجة فإن الأرض تطوي بالليل ما لا تطوي بالنهار، وأيضا أسرى به ليلا ليكون ما يعرج إليه من عالم النور المحض أبعد عن الشبه بما يعرج منه من عالم الظلمة وذلك أبلغ في الإعجاب. وقال ابن الجوزي في ذلك: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم سراج والسراج لا يوقد إلا ليلا وبدر وكذا مسير البدر في الظلم إلى غير ذلك من الحكم التي لا يعلمها إلا الله تعالى، ثم إن الآية ليست نصا في دخوله عليه الصلاة والسلام المسجد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 12 الأقصى إلا أن الأخبار الصحيحة نص في ذلك، وقوله سبحانه: الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ صفة مدح وفيها إزالة اشتراك عارض، وبركته بما خص به من كونه متعبد الأنبياء عليهم السلام وقبلة لهم وكثرة الأنهار والأشجار حوله، وفي الحديث أنه تعالى بارك فيما بين العريش إلى الفرات وخص فلسطين بالتقديس. وقيل: بركته أن جعل سبحانه مياه الأرض كلها تنفجر من تحت صخرته والله تعالى أعلم بصحة ذلك، وهو أحد المساجد الثلاث التي تشد إليها الرحال، والأربع التي يمنع من دخولها الدجال فقد أخرج أحمد في المسند أن الدجال يطوف الأرض إلا أربعة مساجد مسجد المدينة ومسجد مكة والأقصى والطور والصلاة فيه مضاعفة فقد أخرج أحمد أيضا، وأبو داود وابن ماجة عن ميمونة مولاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنها قالت: يا نبي الله أفتنا في بيت المقدس قال: أرض المحشر والمنشر ائتوه وصلوا فيه فإن صلاة فيه بألف صلاة. وفي رواية لأحمد عن بعض نسائه عليه الصلاة والسلام أنها قالت: يا رسول الله فإن لم تستطع إحدانا أن تأتيه قال: إذا لم تستطع إحداكن أن تأتيه فلتبعث إليه زيتا يسرج فيه فإن من بعث إليه بزيت يسرج فيه كان كمن صلى فيه، وروى بعضه أبو داود ، وهو ثاني مسجد وضع في الأرض لخبر أبي ذر قلت: يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أولا؟ قال: المسجد الحرام قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى قلت: كم بينهما قال: أربعون سنة ثم أينما أدركتك الصلاة فصل فإن الفضل فيه ، وقد أسسه يعقوب عليه السلام بعد بناء إبراهيم عليه السلام الكعبة بما ذكر في الحديث وجدده سلمان أو أتم تجديد أبيه عليهما السلام بعد ذلك بكثير، والكلام فيما يتعلق بذلك مفصل في محله لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا أي لنرفعه إلى السماء حتى يرى ما يرى من العجائب العظيمة. فقد صح أنه صلّى الله عليه وسلّم عرج به من صخرة بيت المقدس كما تقدم واجتمع في كل سماء مع نبي من الأنبياء عليهم السلام كما في صحيح البخاري وغيره، واطلع عليه الصلاة والسلام على أحوال الجنة والنار ورأى من الملائكة ما لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى. ونقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه عليه الصلاة والسلام رأى ليلة المعراج في مملكة الله تعالى خلقا كهيئة الرجال على خيل بلق شاكين السلاح طول الواحد منهم ألف عام والفرس كذلك يتبع بعضهم بعضا لا يرى أولهم ولا آخرهم فقال يا جبريل من هؤلاء؟ فقال: ألم تسمع قوله تعالى: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر: 31] فأنا أهبط وأصعد أراهم هكذا يمرون لا أدري من أين يجيئون ولا إلى أين يذهبون ، وقد صلى صلّى الله عليه وسلّم بالأنبياء عليهم السلام في بيت المقدس، قال في العقائق: وكانت صلاته عليه الصلاة والسلام بهم ركعتين قرأ في الأولى قل يا أيها الكافرون وفي الثانية الإخلاص وقال بعضهم: كانت دعاء وذكر أن الأنبياء كانوا سبعة صفوف ثلاثة منهم مرسلون وأن الملائكة عليهم السلام صلت معهم وهذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام كما قال القاضي زكريا في شرح الروض، والحكمة في ذلك أن يظهر أنه إمام الكل عليه الصلاة والسلام، وهل صلى بأرواحهم خاصة أو بها مع الأجساد فيه خلاف، وكذا اختلف في أنه صلّى الله عليه وسلّم صلى بهم قبل العروج أو بعده فصحح الحافظ ابن كثير أنه بعده وصحح القاضي عياض وغيره أنه قبله، وجاء في رواية أنه عليه الصلاة والسلام صلى في كل سماء ركعتين يؤم أملاكها، وكان الإسراء والعروج في بعض ليلة واحدة وكان رجوعه صلّى الله عليه وسلّم على ما كان ذهابه عليه ولم يعين مقدار ذلك البعض، وكيفما كان فوقوع ما وقع فيه من أعجب الآيات وأغرب الكائنات، وفي بعض الآثار أنه صلّى الله عليه وسلّم لما رجع وجد فراشه لم يبرد من أثر النوم ، وقيل: إن غصن شجرة أصابه بعمامته في ذهابه فلما رجع وجده بعد يتحرك، وزعم بعضهم أن ليلة الإسراء غير ليلة المعراج وظاهر الآية على ما سمعت يقتضي أنهما في ليلة واحدة وإنما أسري به صلّى الله عليه وسلّم أولا إلى بيت المقدس وعرج به ثانيا منه ليكون وصوله إلى الأماكن الشريفة على التدريج فإن شرف بيت المقدس دون شرف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 13 الحضرة التي عرج إليها على ما قيل، وقيل: توطينا له عليه الصلاة والسلام لما في المعراج من الغرابة العظيمة التي ليست في الإسراء وإن كان غريبا أيضا، وقيل: لتتشرف به أرض المحشر ذهابا وإيابا، وقيل: لأن باب السماء الذي يقال مصعد الملائكة عليهم السلام على مقابلة صخرة بيت المقدس فقد نقل عن كعب الأحبار أنه قال: إن لله تعالى بابا مفتوحا من سماء الدنيا إلى بيت المقدس ينزل منه كل يوم سبعون ألف ملك يستغفرون لمن أتى بيت المقدس وصلى فيه فأسرى به صلّى الله عليه وسلّم إلى هناك أولا ثم عرج به ليكون صعوده على الاستواء، وقيل: إن أسطوانات المسجد قالت ربنا حصل لنا من كل نبي حظ وقد اشتقنا إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم فارزقنا لقاءه فبدىء بالإسراء به إلى المسجد تعجيلا للإجابة، وقيل: غير ذلك. وعبر بمن الدالة على التبعيض لأن إراءة جميع آيات الله تعالى لعدم تناهيها مما لا تكاد تقع ولو قيل آياتنا لتبادر الكل، وربما يستعان بالمقام على إرادته واستشكل بأنه كيف يرى نبينا صلّى الله عليه وسلّم بعض الآيات ويرى إبراهيم عليه السلام ملكوت السماوات والأرض كما نطق به قوله تعالى: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأنعام: 75] وفرق بين الحبيب والخليل، وأجيب بأن بعض الآيات المضافة إليه تعالى أشرف وأعظم من ملكوت السموات والأرض كما قال تعالى: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى [النجم: 18] ، وقال الخفاجي: السؤال غير وارد لأن ما رآه إبراهيم عليه السلام ما فيها من الدلائل والحجج وليس ذلك مقاوما للمعراج فتأمل. وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون معنى الآية لنرى محمدا صلّى الله عليه وسلّم للناس آية من آياتنا أي ليكون عليه الصلاة والسلام آية في أنه يصنع الله تعالى ببشر هذا الصنع، ويندفع بهذا السؤال المذكور إلا أنه احتمال في غاية البعد، ثم لا يخفى أنه ليس في الآية إشارة إلى أنه صلّى الله عليه وسلّم رأى ربه ليلة الإسراء إذ لا يصدق عليه تعالى أنه من آياته بل لا يصدق سبحانه أنه آية، نعم مثبتو الرؤية يحتجون بغير ذلك، وسيأتي إن شاء الله تعالى، وكذا ليست الآية نصا في المعراج بل هي نص في الإسراء دونه إذ يجوز حمل بعض الآيات على ما حصل له صلّى الله عليه وسلّم في الإسراء فقط بل قال بعضهم: ليس في الآيات مطلقا ما هو نص في ذلك، من هنا قالوا: الإسراء إلى بيت المقدس قطعي ثبت بالكتاب فمن أنكره فهو كافر والمعراج ليس كذلك فمن أنكره فليس بكافر بل مبتدع وكأنه سبحانه إنما لم يصرح به كما صرح بالإسراء رحمة بالقاصرين على ما قيل، وفي التفسير الخازني أن فائدة ذكر المسجد الأقصى فقط دون السماء أنه لو ذكر صعوده عليه الصلاة والسلام لاشتد إنكارهم لذلك فلما أخبر أنه أسري به إلى بيت المقدس وبأن لهم صدقة فيما أخبر به من العلامات التي فيه وصدقوه عليها أخبر بعد ذلك بمعراجه إلى السماء فكان الإسراء كالتوطئة للمعراج اه وهذا ظاهر في الخبر الوارد في هذا الباب لا في الآية لأنه لم يخبر فيها بالمعراج كما أخبر فيها بالإسراء دلالة، وقيل: إن الإشارة بعد ذلك التصريح كافية فتدبر، وصرف الكلام من الغيبة التي في قوله سبحانه سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ إلى صيغة المتكلم المعظم في بارَكْنا «ونريه آياتنا» لتعظيم البركات والآيات لأنها كما تدل على تعظيم مدلول الضمير تدل على عظم ما أضيف إليه وصدر عنه كما قيل إنما يفعل العظيم العظيم، وقد ذكروا لهذا التلوين نكتة خاصة وهي أن قوله تعالى: الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا يدل على مسيره عليه الصلاة والسلام من عالم الشهادة إلى عالم الغيب فهو بالغيبة أنسب وقوله تعالى: بارَكْنا حَوْلَهُ دل على إنزال البركات فيناسب تعظيم المنزل والتعبير بضمير العظمة متكفل بذلك، وقوله سبحانه: لِنُرِيَهُ على معنى بعد الاتصال وعز الحضور فيناسب التكلم معه، وأما الغيبة فلكونه صلّى الله عليه وسلّم إذ ذاك ليس من عالم الشهادة ولذا قيل إن فيه إعادة إلى مقام السر والغيبوبة من هذا العالم والغيبة بذلك أليق وقوله تعالى: مِنْ آياتِنا عود إلى التعظيم كما سبقت الإشارة إليه، وأما الغيبة في قوله عز وجل: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 14 إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ على تقدير كون الضمير له تعالى كما هو الأظهر وعليه الأكثر فليطابق قوله تعالى: بِعَبْدِهِ ويرشح ذلك الاختصاص بما يوقع هذا الالتفات أحسن مواقعه وينطبق عليه التعليل أتم انطباق إذا لمعنى قربه وخصه بهذه الكرامة لأنه سبحانه مطلع على أحواله عالم باستحقاقه لهذا المقام، قال الطيبي: إنه هو السميع لأقوال ذلك العبد البصير بأفعاله بكونها مهذبة خالصة عن شوائب الهوى مقرونة بالصدق والصفا مستأهلة للقرب والزلفى، وأما على تقدير كون الضمير للنبي صلّى الله عليه وسلّم كما نقله أبو البقاء عن بعضهم وقال: أي السميع لكلامنا البصير لذاتنا، وقال الجلبي: إنه لا يبعد، والمعنى عليه إن عبدي الذي شرفته بهذا التشريف هو المستأهل له فإنه السميع لأوامري ونواهي العامل بهما البصير الذي ينظر بنظرة العبرة في مخلوقاتي فيعتبر أو البصير بالآيات التي أريناه إياها كقوله تعالى ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النجم: 17] فقيل لمطابقة الضمائر العائدة عليه وكذا لما عبر به عنه من قوله سبحانه: «عبده» ، وقيل: للإشارة إلى اختصاصه صلّى الله عليه وسلّم بالمنح والزلفى وغيبوبة شهوده في عين بي يسمع وبي يبصر، ولا يمتنع إطلاق السميع والبصير على غيره تعالى كما توهم لا مطلقا ولا هنا، قال الطيبي: ولعل السر في مجىء الضمير محتملا للأمرين الإشارة إلى أنه صلّى الله عليه وسلّم إنما رأى رب العزة وسمع كلامه به سبحانه كما في الحديث المشار إليه آنفا فافهم تسمع وتبصر، وتوسيط ضمير الفصل إما لأن سماعه تعالى بلا إذن وبصره بلا عين على نحو لا يشاركه فيه تعالى أحد وإما للإشعار باختصاصه صلّى الله عليه وسلّم بتلك الكرامة. وزعم ابن عطية أن قوله تعالى: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وعيد للكفار على تكذيبهم النبي صلّى الله عليه وسلّم في أمر الإسراء أي إنه هو السميع لما تقولون أيها المكذبون البصير بما تفعلون فيعاقبكم على ذلك. وقرأ الحسن «ليريه» بياء الغيبة ففي الآية حينئذ أربع التفاتات وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة وَجَعَلْناهُ أي الكتاب وهو الظاهر أو موسى عليه السلام هُدىً عظيما لِبَنِي إِسْرائِيلَ متعلق بهدى أو بجعل واللام تعليلية والواو استئنافية أو عاطفة على جملة سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى لا على أَسْرى كما نقله في البحر عن العكبري. وحكى نظيره عن ابن عطية لبعده وتكلفه، وعقب آية الإسراء بهذه استطرادا تمهيدا لذكر القرآن، والجامع أن موسى عليه السلام أعطى التوراة بمسيره إلى الطور وهو بمنزلة معراجه لأنه منح ثمت التكليم وشرف باسم الكليم وطلب الرؤية مدمجا فيه تفاوت ما بين الكتابين ومن أنزلا عليه وإن شئت فوازن بين أَسْرى بِعَبْدِهِ وآتَيْنا مُوسَى وبين هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ ويَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9] أَلَّا تَتَّخِذُوا أي أي لا تتخذوا على أن أن تفسيرية ولا ناهية، والتفسير كما قال أبو البقاء لما تضمنه الكتاب من الأمر والنهي، وقيل لمحذوف أي آتينا موسى كتابة شيء هو لا تتخذوا، والكتاب وإن كان المراد به التوراة فهو مصدر في الأصل، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر. وجوز في البحر أن تكون أن مصدرية والجار قبلها محذوف ولا نافية أي لئلا تتخذوا، وقيل يجوز أن تكون أن وما بعدها في موضع البدل من الْكِتابَ وجوز أبو البقاء أن تكون زائدة ولا تَتَّخِذُوا معمول لقول محذوف ولا فيه للنهي أي قلنا لا تتخذوا. وتعقبه أبو حيان بأن هذا الموضع ليس من مواضع زيادة أن. وكذا جوز أن تكون لا زائدة كما في قوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف: 12] والتقدير كراهة أن تتخذوا ولا يخفى ما فيه. وقرأ ابن عباس ومجاهد وعيسى وأبو رجاء وأبو عمرو من السبعة أن لا تتخذوا بياء الغيبة، وجعل غير واحد أن على ذلك مصدرية ولم يذكروا فيها احتمال كونها مفسرة، وقال شيخ زاده: لا وجه لأن تكون أن مفسرة على القراءة بياء الغيبة لأن ما في حيز المفسرة مقول من حيث المعنى والذي يلقى إليه القول لا بد أن يكون مخاطبا كما لا وجه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 15 لكونها مصدرية على قراءة الخطاب لأن بني إسرائيل غيب فتأمل. والجار عندهم على كونها مصدرية محذوف أي لأن لا يتخذوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا أي ربا تكلون إليه أموركم غيري فالوكيل فعيل بمعنى مفعول وهو الموكول إليه أي المفوض إليه الأمور وهو الرب، قال ابن الجوزي: قيل للرب وكيل لكفايته وقيامه بشؤون عباده لا على معنى ارتفاع منزلة الموكل وانحطاط أمر الوكيل ومِنْ سيف خطيب ودون بمعنى غير وقد صرح بمجيئها كذلك في غير موضع وهي مفعول ثان لتتخذوا ووَكِيلًا الأول. وجوز أن تكون من تبعيضية واستظهر الأول، والمراد النهي عن الإشراك به تعالى: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ نصب على الاختصاص أو على النداء والمراد الحمل على التوحيد بذكر إنعامه تعالى عليهم في تضمن إنجاء آبائهم من الغرق في سفينة نوح عليه السلام حين ليس لهم وكيل يتوكلون عليه سواه تعالى، وخص مكي النداء بقراءة الخطاب قال: من قرأ «يتخذوا» بياء الغيبة يبعد معه النداء لأن الياء للغيبة والنداء للخطاب فلا يجتمعان إلا على بعد ونعم ما قال، وقول بعضهم: ليس كما زعم إذ يجوز أن ينادي الإنسان شخصا ويخبر عن أحد فيقول: يا زيد ينطلق بكر وفعلت كذا يا زيد ليفعل عمرو كيت وكيت إن كما زعم لا يدفع البعد الذي ادعاه مكي. وجوز أن يكون أحد مفعولي تَتَّخِذُوا ووَكِيلًا الآخر هو لكونه فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه الواحد المذكر وغيره فلا يرد أنه كيف يجوز أن يكون مفعولا ثانيا والمفعول الثاني خبر معنى وهو غير مطابق هنا ومِنْ دُونِي حال منه ومِنْ يجوز أن تكون ابتدائية. وجوز أيضا أن يكون بدلا من وَكِيلًا لأن المبدل منه ليس في حكم الطرح من كل الوجوه أي لا تتخذوا من دوني ذرية من حملنا والمراد نهيهم عن اتخاذ عزيز. وعيسى عليهما السلام ونحوهما أربابا. وفي التعبير بما ذكر إيماء إلى علة النهي من أوجه، أحدها تذكير النعمة في إنجاء آبائهم كما ذكر، والثاني تذكير ضعفهم، وحالهم المحوج إلى الحمل، والثالث أنهم أضعف منهم لأنهم متولدون منهم، وفي إيثار لفظ الذرية الواقعة على الأطفال والنساء في العرف الغالب مناسبة تامة لما ذكر، وجوز أبو البقاء كونه بدلا من مُوسَى وهو بعيد جدا. وقرأت فرقة «ذرّيّة» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو ذرية ولا بعد فيه كما توهم أو على البدل من ضمير «يتخذوا» قال أبو البقاء: على القراءة بياء الغيبة، وقال ابن عطية ولا يجوز هذا على القراءة بتاء الخطاب لأن ضمير المخاطب لا يبدل منه الاسم الظاهر، وتعقبه أبو حيان في البحر بأن المسألة تحتاج إلى تفصيل وذلك أنه إن كان في بدل بعض من كل وبدل اشتمال جاز بلا خلاف وإن كان في بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة إن كان يفيد التوكيد جاز بلا خلاف أيضا نحو مررت بكم صغيركم وكبيركم وإن لم يفد التوكيد فمذهب جمهور البصريين المنع ومذهب الأخفش والكوفيين الجواز وهو الصحيح لوجود ذلك في لسان العرب. وقد استدل على صحته في شرح التسهيل، وقرأ زيد بن ثابت وأبان ابن عثمان وزيد بن علي ومجاهد في رواية بكسر ذال «ذرية» وفي رواية أخرى عن مجاهد أنه قرأ بفتحها، وعن زيد بن ثابت أيضا أنه قرأ «ذريّة» بفتح الذال وتخفيف الراء وتشديد الياء على وزن فعلية كمطية إِنَّهُ أي نوحا عليه السلام كانَ عَبْداً شَكُوراً كثير الشكر في مجامع حالاته. وأخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الشعب والحاكم وصححه عن سلمان الفارسي قال: كان نوح عليه السلام إذا لبس ثوبا أو طعم طعاما حمد الله تعالى فسمي عبدا شكورا، وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن إبراهيم قال: شكره عليه السلام أن يسمي إذا أكل ويحمد الله تعالى إذا فرغ. وأخرج ابن مردويه عن معاذ بن أنس الجهني عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنما سمى الله تعالى نوحا عبدا شكورا لأنه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 16 كان إذا أمسى وأصبح قال: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ» [الروم: 17، 18] وأخرج البيهقي وغيره عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن نوحا لم يقم عن خلاء قط إلا قال: الحمد لله الذي أذاقني لذته وأبقى في منفعته وأذهب عني أذاه» وهذا من جملة شكره عليه السلام. وفي هذه الجملة إيماء بأن إنجاء من معه عليه السلام كان ببركة شكره وحث للذرية على الاقتداء به وزجر لهم عن الشرك الذي هو أعظم مراتب الكفر، وهذا وجه ملاءمتها لما تقدم، وقال الزمخشري: يجوز أن يقال ذلك عن ذكره على سبيل الاستطراد وحينئذ فلا يطلب ملاءمته مع ما سبق له الكلام إلا من حيث إنه كان من شأن من ذكر أعني نوحا عليه السلام، وقيل ضمير إِنَّهُ عائد على موسى عليه السلام والجملة مسوقة على وجه التعليل إما لإيتاء الكتاب أو لجعله عليه السلام هدى بناء على أن ضمير جَعَلْناهُ له أو للنهي عن الاتخاذ وفيه بعد فتدبر. وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أي أعلمناهم، وزاد الراغب وأوحينا إليهم وحيا جزما، وصرح غير واحد بتضمن القضاء معنى الإيحاء ولهذا عدي بإلى، والوحي إليهم إعلامهم ولو بالواسطة، وقيل إلى بمعنى على وروي ذلك أيضا عن ابن عباس: قال أي قضينا عليهم فِي الْكِتابِ أي التوراة أو الجنس بدليل قراءة أبي العالية وابن جبير «الكتب» بصيغة الجمع والظاهر الأول على الأول واللوح المحفوظ على الأخير، وأخرج ابن المنذر والحاكم عن طاوس قال: كنت عند ابن عباس ومعنا رجل من القدرية فقلت: إن أناسا يقولون لا قدر قال: أو في القوم أحد منهم، قلت: لو كان ما كنت تصنع به؟ قال: لو كان فيهم أحد منهم لأخذت برأسه ثم قرأت عليه وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ جواب قسم محذوف، وحذف متعلق القضاء أيضا للعلم به، والتقدير وقضينا إلى بني إسرائيل بفسادهم وعلوهم والله لتفسدن إلخ ويكون هذا تأكيدا لتعلق القضاء، ويجوز جعله جواب قَضَيْنا بإجراء القضاء مجرى القسم فيتلقى بما يتلقى به نحو قضاء الله تعالى لأفعلن كذا. والمراد بالأرض الجنس أو أرض الشام وبيت المقدس. وقرأ ابن عباس ونصر بن علي وجابر بن زيد «لتفسدنّ» بضم التاء وفتح السين مبنيا للمفعول أي يفسدكم غيركم فقيل من الضلال، وقيل من الغلبة. وقرأ عيسى «لتفسدنّ» بفتح التاء وضم السين على معنى لتفسدن بأنفسكم بارتكاب المعاصي مَرَّتَيْنِ منصوب على أنه مصدر لَتُفْسِدُنَّ من غير لفظه، والمراد إفسادتين أولاهما على ما نقل السدي عن أشياخه قتل زكريا عليه السلام وروي ذلك عن ابن عباس. وابن مسعود وذلك أنه لما مات صديقة ملكهم تنافسوا على الملك وقتل بعضهم بعضا ولم يسمعوا من زكريا فقال الله تعالى له: قم في قومك أوح على لسانك فلما فرغ ممّا أوحي عليه عدوا عليه ليقتلوه فهرب فانفلقت له شجرة فدخل فيها وأدركه الشيطان فأخذ هدية من ثوبه فأراهم إياها فوضعوا المنشار في وسط الشجرة حتى قطعوه في وسطها. وقيل سبب قتله أنهم اتهموه بمريم عليها السلام قيل قالوا: حين حملت ضيع بنت سيدنا حتى زنت فقطعوه بالمنشار في الشجرة، وقال ابن إسحق: هي قتل شعيا عليه السلام وقد بعث بعد موسى عليه السلام فلما بلغهم الوحي أرادوا قتله فهرب فقتل وهو صاحب الشجرة وزكريا عليه السلام مات موتا ولم يقتل. وفي الكشاف أولاهما قتل زكريا وحبس أرميا والآخرة قتل يحيى وقصد قتل عيسى عليهما السلام، وهذا فيمن جعل هلاك زكريا قبل يحيى عليهما السلام وهو رواية ابن عساكر في تاريخه عن علي كرم الله تعالى وجهه ، ثم ضم ذلك مع حبس أرميا في قرن غير سديد لأن أرميا كان في زمن بختنصر وبينه وبين زكريا أكثر من مائتي سنة. واختار بعضهم وقيل: إنه الحق أن الأولى تغيير التوراة وعدم العمل بها وحبس أرميا وجرحه إذ وعظهم وبشرهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 17 بنبينا صلّى الله عليه وسلّم وهو أول من بشر به عليه الصلاة والسلام بعد بشارة التوراة، والأخرى قتل زكريا ويحيى عليهما السلام، ومن قال: إن زكريا مات في فراشه اقتصر على يحيى عليه السلام، واختلف في سبب قتله فعن ابن عباس وغيره أن سبب ذلك أن ملكا أراد أن يتزوج من لا يجوز له تزوجها فنهاه يحيى عليه السلام وكان الملك قد عود تلك المرأة أن يقضي لها كل عيد ما تريد منه فعلمتها أمها أن تسأله دم يحيى في بعض الأعياد فسألته فأبى فألحت عليه فدعا بطست فذبحه فيه فبدرت قطرة على الأرض فلم تزل تغلي حتى قتل عليها سبعون ألفا. وقال الربيع بن أنس: إن يحيى عليه السلام كان حسنا جميلا جدا فراودته امرأة الملك عن نفسه فأبي فقالت لا بنتها: سلي أباك رأس يحيى فسألته فأعطاها إياه، وقال الجبائي: إن الله تعالى ذكر فسادهم في الأرض مرتين ولم يبين ذلك فلا يقطع بشيء مما ذكر وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً لتستكبرن عن طاعة الله تعالى أو لتغلبن الناس بالظلم والعدوان وتفرطن في ذلك إفراطا مجاوزا للحد، وأصل معنى العلو الارتفاع وهو ضد السفل وتجوز به عن التكبر والاستيلاء على وجه الظلم. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «عليا كبيرا» بكسر العين واللام والياء المشددة، قال في البحر: والتصحيح في فعول المصدر أكثر بخلاف الجمع فإن الإعلال فيه هو المقيس وشذ التصحيح نحو لهو ومهو خلافا للفراء إذ جعل ذلك قياسا فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما أي أولى مرّتي الإفساد. والوعد بمعنى الموعود مراد به العقاب كما في البحر وفي الكلام تقدير أي فإذا حان وقت حلول العقاب الموعود، وقيل الوعد بمعنى الوعيد وفيه تقدير أيضا، وقيل بمعنى الوعد الذي يراد به الوقت أي فإذا حان موعد عقاب أولاهما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ أرسلنا لمؤاخذتكم بتلك الفعلة عِباداً لَنا وقال الزمخشري: خلينا بينهم وبين ما فعلوا ولم نمنعهم وفيه دسيسة اعتزال، وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون الله تعالى أرسل إلى ملك أولئك العباد رسولا يأمره بغزو بني إسرائيل فتكون البعثة بأمر منه تعالى. وقرأ الحسن وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهم «عبيدا» أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ذوي قوة وبطش في الحروب، وقال الراغب: البؤس والبأس والبأساء الشدة والمكروه إلا أن البؤس في الفقر والحرب أكثر والبأس والبأساء في النكاية، ومن هنا قيل: إن وصف البأس بالشديد مبالغة كأنه قيل: ذوي شدة شديدة كظل ظليل ولا بأس فيه، وقيل إنه تجريد وهو صحيح أيضا. واختلف في تعيين هؤلاء العباد فعن ابن عباس وقتادة هم جالوت الجزري وجنوده، وقال ابن جبير وابن إسحاق هم سنجاريب ملك بابل وجنوده، وقيل هم العمالقة، وفي الأعلام للسهيلي هم بختنصر عامل لهراسف أحد ملوك الفرس الكيانية على بابل والروم وجنوده بعثوا عليهم حين كذبوا أرميا وجرحوه وحبسوه قيل وهو الحق. فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ أي ترددوا وسطها لطلبكم. قال الراغب: جاسوا الديار توسطوها وترددوا بينها ويقاربه حاسوا وداسوا، وقرأ «حاسوا» بالحاء أبو السمال وطلحة، وقرىء أيضا «تجوسوا» بالجيم على وزن تكسورا. وقال أبو زيد: الجوس والحوس طلب الشيء باستقصاء، وخِلالَ اسم مفرد ولذا قرأ الحسن «خلل» ويجوز أن يكون خلال جمع خلل كجبال جمع جبل، ويشير كلام أبي السعود إلى اختياره وكلام البيضاوي إلى اختيار الأول. وَكانَ أي وعد أولاهما وَعْداً مَفْعُولًا محتم الفعل فضمير كانَ للوعد السابق، وقيل: للجوس المفهوم من جاسوا والجمهور على أن في هذه البعثة خرب هؤلاء العباد بيت المقدس ووقع القتل الذريع والجلاء والأسر في بني إسرائيل وحرقت التوراة، وعن ابن عباس ومجاهد أنه لم يكن ذلك وإنما جاس الغازون خلال الديار وانصرفوا بدون قتال ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ أي الدولة والغلبة، وأصل معنى الكر العطف والرجوع، وإطلاق الكرة على ما ذكر مجاز شائع كما يقال تراجع الأمر، ولام لكم للتعدية، وقيل: للتعليل، وقوله تعالى عَلَيْهِمْ أي الذين فعلوا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 18 بكم ما فعلوا متعلق بالكرة لما فيها من معنى الغلبة أو حال منها، وجوز تعلقه برددنا، وهذا على ما في البحر إخبار منه تعالى في التوراة لبني إسرائيل إلا أنه جعل رَدَدْنا موضع نرد لتحقق الوقوع، وكان بين البعث والرد على ما قيل مائة سنة وذلك بعد أن تابوا ورجعوا عما كانوا عليه. واختلف في سبب ذلك فروي أن اردشير بهمن بن إسفنديار بن كشتاسف بن لهراسف لما ورث الملك من جده كشتاسف ألقى الله تعالى في قلبه الشفقة على بني إسرائيل فرد أسراءهم الذين أتى بهم بختنصر إلى بابل وسيرهم إلى أرض الشام وملك عليهم دانيال فاستولوا على من كان فيها من أتباع بختنصر، وجعل بعضهم من آثار هذه الكرة قتل بختنصر ولم يثبت. وفي البحران ملكا غزا أهل بابل وكان بختنصر قد قتل من بني إسرائيل أربعين ألفا ممن يقرأ التوراة وأبقى عنده بقية في بابل فلما غزاهم ذلك الملك وغلب عليهم تزوج امرأة من بني إسرائيل فطلبت منه أن يرد بني إسرائيل إلى ديارهم ففعل وبعد مدة قامت فيهم الأنبياء ورجعوا إلى أحسن ما كانوا، وقيل: رد الكرة بأن سلط الله تعالى داود عليه السلام فقتل جالوت. وتعقب بأنه يرده قوله تعالى: وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ إلخ فإن المراد به بيت المقدس وداود عليه السلام ابتدأ بناءه بعد قتل جالوت وإيتائه النبوة ولم يتمه وأتمه سليمان عليه السلام فلم يكن قبل داود عليه السلام مسجد حتى يدخلوه أول مرة، ودفع بأن حقيقة المسجد الأرض لا البناء ويحمل قوله تعالى: دَخَلُوهُ على الاستخدام وهو كما ترى، والحق أن المسجد كان موجودا قبل داود عليه السلام كما قدمنا. وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ كثيرة بعد ما نهبت أموالكم وَبَنِينَ بعد ما سبيت أولادكم وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً مما كنتم من قبل أو من أعدائكم، والنفير على ما قال أبو مسلم كالنافر من ينفر مع الرجل من عشيرته وأهل بيته، وقال الزجاج: يجوز أن يكون جمع نفر ككلب وكليب وعبد وعبيد وهم المجتمعون للذهاب إلى العدو، وقيل: هو مصدر أي أكثر خروجا إلى الغزو كما في قول الشاعر: فأكرم بقحطان من والد ... وحمير أكرم بقوم نفيرا ويروى بالحميريين أكرم نفيرا، وصحح السهيلي أنه اسم جمع لغلبته في المفردات وعدم اطراد مفرده. إِنْ أَحْسَنْتُمْ أعمالكم سواء كانت لازمة لأنفسكم أو متعدية للغير أي عملتموها على الوجه المستحسن اللائق أو فعلتم الإحسان أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ أي لنفعها بما يترتب على ذلك من الثواب وَإِنْ أَسَأْتُمْ أعمالكم لازمة كانت أو متعدية بأن عملتموها على غير الوجه اللائق أو فعلتم الإساءة فَلَها أي فالإساءة عليها لما يترتب على ذلك من العقاب فاللام بمعنى على كما في قوله: فخر صريعا لليدين وللفم، وعبر بها لمشاكلة ما قبلها. وقال الطبري: هي بمعنى إلى على معنى فإساءتها راجعة إليها، وقيل: إنها للاستحقاق كما في قوله تعالى لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [البقرة: 10 وغيرها] . وفي الكشاف أنها للاختصاص. وتعقب بأنه مخالف لما في الآثار من تعدى ضرر الإساءة إلى غير المذنب اللهم إلا أن يقال: إن ضرر هؤلاء القوم من بني إسرائيل لم يتعدهم، وفيه أنه تكلف لا يحتاج إليه لأن الثواب والعقاب الأخرويين لا يتعديان وهما المراد هنا، وقيل: اللام للنفع كالأولى لكن على سبيل التهكم، وتعميم الإحسان ومقابله بحيث يشملان المتعدي واللازم هو الذي استظهره بعض المحققين وفسر الإحسان بفعل ما يستحسن له ولغيره والإساءة بضد ذلك وقال: إنه أنسب وأتم ولذا قيل إن تكرير الإحسان في النظم الكريم دون الإساءة إشارة إلى أن جانب الإحسان أغلب وأنه إذا فعل ينبغي تكراره بخلاف ضده، وجاء عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: ما أحسنت إلى أحد ولا أسأت إليه وتلا الآية ، ووجه مناسبتها لما قبلها على ما قال القطب أنه لما عصوا سلط الله تعالى عليهم من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 19 قصدهم بالنهب والأسر ثم لما تابوا وأطاعوا حسنت حالهم فظهر أن إحسان الأعمال وإساءتها مختص بهم، والآية تضمنت ذلك وفيها من الترغيب بالإحسان والترهيب من الإساءة ما لا يخفى فتأمل. فَإِذا جاءَ وَعْدُ المرة الْآخِرَةِ من مرّتي افسادكم لِيَسُوؤُا متعلق بفعل حذف لدلالة ما سبق عليه وهو جواب إذا أي بعثناهم ليسوءوا وُجُوهَكُمْ أي ليجعل العباد المبعوثون آثار المساءة والكآبة بادية في وجوهكم فإن الأعراض النفسانية تظهر فيها فيظهر بالفرح النضارة والإشراق وبالحزن والخوف الكلوح والسواد فالوجوه على حقيقتها، قيل ويحتمل أن يعبر بالوجه عن الجملة فإنهم ساؤوهم بالقتل والنهب والسبي فحصلت الإساءة للذوات كلها ويؤيده قوله تعالى: وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها ويحتمل أن يراد بالوجوه ساداتهم وكبراؤهم أهو هو كما ترى. واختير هذا على ليسوؤكم مع أنه أحضر وأظهر إشارة إلى أنه جمع عليه ألم النفس والبدن المدلول عليه بقوله تعالى: وَلِيُتَبِّرُوا إلخ، وقيل: فَإِذا جاءَ هنا مع كونه من تفصيل المجمل في قوله سبحانه: لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ فالظاهر فإذا جاء وإذا جاء للدلالة على أن مجيء وعد عقاب المرة الآخرة لم يتراخ عن كثرتهم واجتماعهم دلالة على شدة شكيمتهم في كفران النعم وإنهم كلما ازدادوا عدة وعدة زادوا عدوانا وعزة إلى أن تكاملت أسباب الثروة والكثرة فاجأهم الله عز وجل على الغرة نعوذ بالله سبحانه من مباغتة عذابه. وقرأ أبو بكر وابن عامر وحمزة «ليسؤ» على التوحيد والضمير لله تعالى أو للوعد أو للبعث المدلول عليه بالجزاء المحذوف، والإسناد مجازي على الأخيرين وحقيقي على الأول، ويؤيده قراءة علي كرم الله تعالى وجهه. وزيد بن علي والكسائي «لنسوء» بنون العظمة فإن الضمير لله تعالى لا يحتمل غير ذلك، وقرأ أبي «لنسؤن» بلام الأمر ونون العظمة أوله ونون التوكيد الخفيفة آخره ودخلت لام الأمر على فعل المتكلم كما في قوله تعالى: وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ [العنكبوت: 12] وجواب إذا على هذه القراءة هو الجملة الإنشائية على تقدير الفاء لأنها لا تقع جوابا بدونها، وعن علي كرم الله تعالى وجهه أيضا «لنسوءن» و «ليسوءن» بالنون والياء أولا ونون التوكيد الشديدة آخرا ، واللام في ذلك لام القسم والجملة جواب القسم سادة مسد جواب إذا واللام في قوله تعالى وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ لام كي والجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور قبله وهو متعلق ببعثنا المحذوف أيضا وجوز أن يتعلق بمحذوف غيره فيكون العطف من عطف جملة على أخرى، وعلى القراءة بلام الأمر أو لام القسم فيما تقدم يجوز أن تكون اللام لام الأمر وأن تكون لام كي، والمراد بالمسجد بيت المقدس وهو مفعول يدخلوا، وفي الصحاح أن الصحيح في نحو دخلت البيت إنك تريد دخلت إلى البيت فحذف حرف الجر فانتصب البيت انتصاب المفعول به، وتحقيقه في محله كَما دَخَلُوهُ أي دخولا كائنا كدخولهم إياه أَوَّلَ مَرَّةٍ فهو في موضع النعت لمصدر محذوف، وجوز أن يكون حالا أي كائنين كما دخلوه، وأَوَّلَ منصوب على الظرفية الزمانية، والمراد من التشبيه على ما في البحر أنهم يدخلونه بالسيف والقهر والغلبة والإذلال، وفيه أيضا أن هذا يبعد قول من ذهب إلى أن أولى المرتين لم يكن فيها قتال ولا قتل ولا نهب وَلِيُتَبِّرُوا أي يهلكوا، وقال قطرب: يهدموا وأنشد قول الشاعر: وما الناس إلا عاملان فعامل ... يتبر ما يبني وآخر رافع وقال بعضهم: الهدم إهلاك أيضا، وأخرج ابن المنذر وغيره عن سعيد بن جبير أن التتبير كلمة نبطية. ما عَلَوْا أي الذي غلبوه واستولوا عليه فما اسم موصول والعائد محذوف وهو إما مفعول أو مجرور على ما قيل، وجوز أن تكون ما مصدرية ظرفية أي ليتبروا مدة دوامهم غالبين قاهرين تَتْبِيراً فظيعا لا يوصف. واختلف في تعيين هؤلاء العباد المبعوثين بعد أن ذكروا قتل يحيى عليه السلام في الإفساد الأخير فقال غير الجزء: 8 ¦ الصفحة: 20 واحد: إنهم بختنصر وجنوده، وتعقبه السهيلي بأنه لا يصح لأن قتل يحيى بعد رفع عيسى عليهما السلام وبختنصر كان قبل عيسى عليه السلام بزمن طويل، وقيل الإسكندر وجنوده، وتعقبه أيضا بأن بين الإسكندر وعيسى عليه السلام نحوا من ثلاثمائة سنة (1) ثم قال لكنه إذا قيل: إن إفسادهم في المرة الأخيرة بقتل شعيا جاز أن يكون المبعوث عليهم بختنصر ومن معه لأنه كان حينئذ حيا، وروي عن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما أن الذي غزاهم ملك خردوش وتولى قتلهم على دم يحيى عليه السلام قائد له فسكن. وفي بعض الآثار أن صاحب الجيش دخل مذبح قرابينهم فوجد فيه دما يغلي فسألهم عنه فقالوا دم قربان لم يقبل منا فقال: ما صدقتموني فقتل عليه ألوفا منهم فلم يهدأ الدم ثم قال: إن لم تصدقوني ما تركت منكم أحدا فقالوا: إنه دم يحيى عليه السلام فقال: بمثل هذا ينتقم ربكم منكم ثم قال: يا يحيى قد علم ربي وربك ما أصاب قومك من أجلك فاهدأ بإذن الله تعالى قبل أن لا أبقي أحدا منهم فهدأ، واختار في الكشف- وقال هو الحق- إن المبعوث عليهم في المرة الثانية بيردوس من ملوك الطوائف وكأنه هو خردوش الذي مر آنفا فقد ذكر أنه ملك بابل من ملوك الطوائف. وقيل: اسمه جوزور وهؤلاء الملوك ظهروا بعد قتل الإسكندر دارا واستيلائه على ملك الفرس، وكان ذلك بصنع الإسكندر متبعا فيه رأى معلمه أرسطو، وعدتهم تزيد على سبعين ملكا، ومدة ملكهم على ما في بعض التواريخ خمسمائة واثنتا عشرة سنة، وحصل اجتماع الفرس بعد هذه المدة على أردشير بن بابك طوعا وكرها وكان أحد ملوك الطوائف على إصطخر، وعلى هذا يكون الملك المبعوث لفساد بني إسرائيل بقتل يحيى عليه السلام من أواخر ملوك الطوائف كما لا يخفى، ويكون بين هذا البعث والبعث الأول على القول بأن المبعوث بختنصر وأتباعه مدة متطاولة، ففي بعض التواريخ أن قتل الإسكندر دارا بعد بختنصر بأربعمائة وخمس وثلاثين سنة وبعد مضي نحو ثلاثمائة سنة من غلبة الإسكندر ولد المسيح عليه السلام، ولا شك أن قتل يحيى عليه الصلاة والسلام بعد الولادة بزمان والبعث بعد القتل كذلك فيكون بين البعثين ما يزيد على سبعمائة وخمس وثلاثين سنة، والذي ذهب إليه اليهود أن المبعوث أولا بختنصر وكان في زمن أرميا عليه السلام وقد أنذرهم مجيئه صريحا بعد أن نهاهم عن الفساد وعبادة الأصنام كما نطق به كتابه فحبسوه في بئر وجرحوه وكان تخريبه لبيت المقدس في السنة التاسعة عشر من حكمه وبين ذلك وهبوط آدم ثلاثة آلاف وثلاثمائة وثماني وثلاثين سنة وبقي خرابا سبعين سنة، ثم إن أسبيانوس قيصر الروم وجه وزيره طوطوز إلى خرابه فخربه سنة ثلاثة آلاف وثمانمائة وثمانية وعشرين فيكون بين البعثين عندهم أربعمائة وتسعون سنة، وتفصيل الكلام في ذلك في كتبهم والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. ونعم ما قيل إن معرفة الأقوام المبعوثين بأعيانهم وتاريخ البعث ونحوه مما لا يتعلق به كبير غرض إذ المقصود أنه لما كثرت معاصيهم سلط الله تعالى عليهم من ينتقم منهم مرة بعد أخرى. وظاهر الآية يقتضي اتحاد المبعوثين أولا وثانيا، ومن لا يقول بذلك يجعل رجوع الضمائر للعباد على حد رجوع الضمير للدرهم في قولك: عندي درهم ونصفه فافهم. عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ بعد البعث الثاني إن تبتم وانزجرتم عن المعاصي وَإِنْ عُدْتُمْ للإفساد بعد الذي تقدم منكم عُدْنا للعقوبة فعاقبناكم في الدنيا بمثل ما عاقبناكم به في المرتين الأوليين، وهذا من المقضي لهم في الكتاب أيضا وكذا الجملة الآتية، وقد عادوا بتكذيب النبي صلّى الله عليه وسلّم وقصدهم قتله فعاد الله تعالى بتسليطه عليه الصلاة   (1) ذكر الدميري في حياة الحيوان أنه ثلاثمائة وثلاث سنين في بعض التواريخ وثلاث عشر سنة اه منه. [ ..... ] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 21 والسلام عليهم فقتل قريظة وأجلى بني النضير وضرب الجزية على الباقين وقيل عادوا فعاد الله تعالى بأن سلط عليهم الأكاسرة ففعلوا بهم ما فعلوا من ضرب الأتاوة ونحو ذلك والأول مروي عن الحسن وقتادة، والتعبير بأن للإشارة إلى أنه لا ينبغي أن يعودوا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً قال ابن عباس وغيره: أي سجنا وأنشد في البحر قوله لبيد: ومقامة غلب الرقاب كأنهم (1) ... جن على باب الحصير قيام فإن كان اسما للمكان المعروف فهو جامد لا يلزم تأنيثه وتذكيره، وإن كان بمعنى حاصر أي محيط بهم وفعيل بمعنى فاعل يلزم مطابقته فعدم المطابقة هنا إما لأنه على النسب كلابن وتامر أي ذات حصر وعلى ذلك خرج قوله تعالى: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [المزمل: 18] أي ذات انفطار أو لحمله على فعيل بمعنى مفعول وقيل التذكير على تأويل جهنم بمذكر، وقيل لأن تأنيثها ليس بحقيقي نقل ذلك أبو البقاء وهو كما ترى. وأخرج ابن المنذر وغيره عن الحسن أنه فسر ذلك بالفراش والمهاد، قال الراغب: كأنه جعل الحصير المرمول وأطلق عليه ذلك لحصر بعض طاقاته على بعض فحصير على هذا بمعنى محصور وفي الكلام التشبيه البليغ، وجاء الحصير بمعنى السلطان وأنشد الراغب في ذلك البيت السابق ثم قال: وتسميته بذلك إما لكونه محصورا نحو محجب وإما لكونه حاصرا أي مانعا لمن أراد أن يمنعه من الوصول إليه اه وحمل ما في الآية على ذلك مما لم أر من تعرض له والحمل عليه في غاية البعد فلا ينبغي أن يحمل عليه وإن تضمن معنى لطيفا يدرك بالتأمل، وكان الظاهر أن يقال لكم بدل للكافرين إلا أنه عدل عنه تسجيلا على كفرهم بالعود وذما لهم بذلك وإشعارا بعلة الحكم إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ الذي آتيناكه، وهذا متعلق بصدر السورة كما مرت الإشارة إليه، وفي الإشارة بهذا تعظيم لما جاء به النبي المجتبى صلّى الله عليه وسلّم يَهْدِي أي الناس كافة لا فرقة مخصوصة منهم كدأب الكتاب الذي آتيناه موسى عليه السلام لِلَّتِي أي للطريقة التي هِيَ أَقْوَمُ أي أقوم الطرق وأسدها أعني ملة الإسلام والتوحيد فللتي صفة لموصوف حذف اختصارا وقدره بعضهم الحالة أو الملة، وأيما قدرت لم تجد مع الإثبات ذوق البلاغة الذي تجده مع الحذف لما في الإبهام من الدلالة على أنه جرى الوادي وطم على القرى، وأَقْوَمُ أفعل تفضيل على ما أشار إليه غير واحد. وقال أبو حيان: الذي يظهر من حيث المعنى أنه لا يراد به التفضيل إذ لا مشاركة بين الطريقة التي يهدي لها القرآن وغيرها من الطرق في مبدأ الاشتقاق لتفضل عليه فالمعنى للتي هي قيمة أي مستقيمة كما قال الله تعالى فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ [البينة: 3] وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة: 5] اه. وإلى ذلك ذهب الإمام الرازي وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ بما في تضاعيفه من الأحكام والشرائع. وقرأ عبد الله وطلحة وابن وثاب والإخوان وَيُبَشِّرُ بالتخفيف مضارع بشر المخفف وجاء بشرته وبشرته وأبشرته الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الأعمال الصَّالِحاتِ التي شرحت فيه أَنَّ لَهُمْ أي بأن لهم بمقابلة أعمالهم أَجْراً كَبِيراً بحسب الذات وبحسب التضعيف عشرا فصاعدا، وفسر ابن جريج الأجر الكبير وكذا الرزق الكريم في كل القرآن بالجنة وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وأحكامها المشروحة فيه من البعث والحساب والجزاء من الثواب والعقاب الروحانيين والجسمانيين، وتخصيص الآخرة بالذكر من بين سائر ما لم يؤمن به الكفرة لكونها معظم ما أمروا الإيمان به ولمراعاة التناسب بين أعمالهم وجزائها الذي أنبأ عنه قوله تعالى: أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً وهو عذاب جهنم أي أعددنا وهيأنا لهم فيما كفروا به وأنكروا وجوده من الآخرة عذابا مؤلما، وهو أبلغ في الزجر لما أن إتيان   (1) المقامة: الجماعة وعلى ذلك قوله: وفيهم مقامات حسان وجوههم اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 22 العذاب من حيث لا يحتسب أفظع وأفجع، ولعل أهل الكتاب داخلون في هذا الحكم لأنهم لا يقولون بالجزاء الجسماني ويعتقدون في الآخرة أشياء لا أصل لها فلم يؤمنوا بالآخرة وأحكامها المشروحة في هذا القرآن حقيقة الإيمان فافهم. والعطف على أن لهم أجرا كبيرا فيكون إعداد العذاب الأليم للذين لا يؤمنون بالآخرة مبشرا به كثبوت الأجر الكبير للمؤمنين الذين يعملون الصالحات، ومصيبة العدو سرور يبشر به فكأنه قيل يبشر المؤمنين بثوابهم وعقاب أعدائهم، ويجوز أن تكون البشارة مجازا مرسلا بمعنى مطلق الإخبار الشامل للإخبار بما فيه سرور وللإخبار بما ليس كذلك، وليس فيه الجمع بين معنى المشترك أو الحقيقة والمجاز حتى يقال: إنه من عموم المجاز وإن كان راجعا لهذا أو العطف على يُبَشِّرُ أو يَهْدِي بإضمار يخبر فيكون من عطف الجملة على الجملة، ولا يخفى ما في الآية من ترجيح الوعد على الوعيد. ونبه سبحانه على ما في البحر بوصف المؤمنين بالذين يعملون الصالحات على الحالة الكاملة لهم ليتحلى المؤمن بذلك وأنت تعلم أنه إن فسر الأجر الكبير بالجنة فهو ثابت للمؤمن العامل وللمؤمن المفرط إذ أصل الإيمان متكفل بدخول الجنة فضلا من الله تعالى ورحمة، نعم ما أعد للعامل في الجنة أعظم مما أعد للمفرط، وإن فسر بما أعده الله تعالى في الآخرة من الجنة والدرجات العلى وأنواع الكرامات فيها التي لا يتكفل بها مجرد الإيمان فظاهر أن ذلك غير ثابت للمؤمن المفرط فلا بد من التوصيف ولا يلزم منه عدم دخول المفرط الجنة، نعم يلزم منه أن لا يثبت له الأجر الكبير بالمعنى السابق، والآيات التي يفهم منها دخوله الجنة كثيرة ولعل هذه الآية يفهم منها ذلك واقتضى المقام عدم التصريح بحكمه، وفي الكشاف أنه تعالى ذكر المؤمنين الأبرار والكفار ولم يذكر الفسقة لأن الناس حينئذ إما مؤمن تقي وإما مشرك وأصحاب المنزلة بين المنزلتين إنما حدثوا بعد ذلك. وتعقبه أبو حيان بأنه مكابرة فقد وقع في زمان الرسول صلّى الله عليه وسلّم من بعض المؤمنين هفوات وسقطات بعضها مذكور في القرآن وبعضها مذكور في الأحاديث الصحيحة اه. والمقرر في الأصول أن الأكثر على عدالة الصحابة ومن طرأ له منهم قادح كسرقة وزنا عمل بمقتضاه، ثم ما ذكره من المنزلة بين المنزلتين الظاهر أنه أراد به ما ذهب إليه إخوانه المعتزلة من أن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر وإذا مات من غير توبة خلد في النار وقد رد ذلك في علم الكلام فتدبر. وقوله تعالى: وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ قال شيخ الإسلام: بيان لحال المهدي إثر بيان حال الهادي وإظهار لما بينهما من التباين والمراد بالإنسان الجنس أسند إليه حال بعض أفراده وهو الكافر، وإليه يشير كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو حكى عنه حاله في بعض أحيانه كما يقتضيه ما روي عن الحسن ومجاهد فالمعنى على الأول أن القرآن يدعو الإنسان إلى الخير الذي لا خير فوقه من الأجر الكبير ويحذره من الشر الذي لا شر وراءه من العذاب الأليم وهو أي بعض أفراده أعني الكافر يدعو لنفسه بما هو الشر من العذاب المذكور إما بلسانه حقيقة كدأب من قال منهم اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال: 32] ومن قال فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الأعراف: 70] إلى غير ذلك مما حكي عنهم، وإما بأعمالهم السيئة المفضية إليه الموجبة له مجازا كما هو ديدن كلهم، وبعضهم جعل الدعاء باللسان مجازا أيضا عن الاستعجال استهزاء. دُعاءَهُ أي دعاء كدعائه فحذف الموصوف وحرف التشبيه وانتصب المجرور على المصدرية وهو مراد من قال: مثل دعائه بِالْخَيْرِ المذكور فرضا لا تحقيقا فإنه بمعزل عن الدعاء به، وفيه رمز إلى أنه اللائق بحاله. وَكانَ الْإِنْسانُ أي من أسند إليه الدعاء المذكور من أفراده عَجُولًا يسارع إلى طلب كل ما يخطر بباله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 23 متعاميا عن ضرره أو مبالغا في العجلة يستعجل الشر والعذاب وهو آتيه لا محالة ففيه نوع تهكم به، وعلى تقدير حمل الدعاء على أعمالهم تجعل العجولية على اللج والتمادي في استيجاب العذاب بتلك الأعمال، والمعنى على الثاني أن القرآن يدعو الإنسان إلى ما هو خير وهو في بعض أحيانه كما عند الغضب يدعه ويدعو الله تعالى لنفسه وأهله وماله بما هو شر وكان الإنسان بحسب جبلته عجولا ضجرا لا يتأنى إلى أن يزول عنه ما يعتريه. أخرج الواقدي في المغازي عن عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل عليها بأسير وقال لها: احتفظي به قالت: فلهوت مع امرأة فخرج ولم أشعر فدخل النبي صلّى الله عليه وسلّم فسأل عنه فقلت: والله لا أدري وغفلت عنه فخرج فقال: قطع الله يدك ثم خرج عليه الصلاة والسلام فصاح به فخرجوا في طلبه حتى وجدوه ثم دخل عليّ فرآني وأنا أقلب يدي فقال: ما لك؟ قلت انتظر دعوتك فرفع يديه وقال: اللهم إنما أنا بشر آسف وأغضب كما يغضب البشر فأيما مؤمن أو مؤمنة دعوتك عليه بدعوة فاجعلها له زكاة وطهرا» أو يدعو بما هو شر ويحسبه خيرا وكان الإنسان عجولا غير مستبصر لا يتدبر في أموره حق التدبر ليتحقق ما هو خير حقيق بالدعاء به وهو شر جدير بالاستعاذة منه اه مع بعض زيادة وتغيير. واختار إرادة الكافر من الإنسان الأول بعض المحققين وذكر في وجه ربط الآيات أنه تعالى لما شرح ما خص به نبيه صلّى الله عليه وسلّم من الإسراء وإيتاء موسى عليه السلام التوراة وما فعله بالعصاة المتمردين من تسليط البلاء عليهم كان ذلك تنبيها على أن طاعة الله تعالى توجب كل خير وكرامة ومعصيته سبحانه توجب كل بلية وغرامة لا جرم قال: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي إلخ ثم عطف عليه وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ إلخ بجامع دليل العقل والسمع أو نعمتي الدين والدنيا، وأما اتصال قوله تعالى: وَيَدْعُ الْإِنْسانُ إلخ فهو أنه سبحانه لما وصف القرآن حتى بلغ به الدرجة القصوى في الهداية أتى بذكر من أفرط في كفران هذه النعمة العظمى قائلا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ إلخ. ومثل هذا ما قيل إنه تعالى بعد أن وصف القرآن بما وصف ذم قريشا بعدم سؤالهم الهداية به وطلبهم إنزال الحجارة عليهم أو إيتاء العذاب الأليم إن كان حقا، وفي الكشف أن قوله تعالى: وَيَدْعُ الْإِنْسانُ إلخ بيان أن القرآن يهديهم للتي هي أقوم ويأبون إلا التي هي ألوم وهو وجه للربط مطلقا وكل ما ذكروه في ذلك متقارب. ويرد على حمل الدعاء على الدعاء بالأعمال والعجولية على اللج والتمادي في استيجاب العذاب بتلك الأعمال (1) خلاف المتبادر كما لا يخفى، وفسر بعضهم الإنسان الثاني بآدم عليه السلام لما أخرج ابن جرير. وابن المنذر وغيرهما عن سلمان الفارسي قال: أول ما خلق الله تعالى من آدم عليه السلام رأسه فجعل ينظر وهو يخلق وبقيت رجلاه فلما كان بعد العصر قال: يا رب أعجل قبل الليل فذلك قوله تعالى: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا، وروي نحوه عن مجاهد وروى القرطبي والعهدة عليه أنه لما وصلت الروح لعينيه نظر إلى ثمار الجنة فلما دخلت جوفه اشتهاها فوثب عجلا إليها فسقط، ووجه ارتباط وَكانَ الْإِنْسانُ إلخ على هذا القول إفادته أن عجلته بالدعاء لغيره أو لعدم تأمله من شأنه وأنه موروث له من أصله وشنشنة يعرفها من أخزم فهو اعتراض تذييل وكلام تعليلي والأولى إرادة الجنس وإن كان ألفاظ الآية لا تنبو عن إرادة آدم عليه السلام كما زعم أبو حيان ثم إن الباء في الموضعين على ظاهرها صلة الدعاء، وقيل: إنها بمعنى في والمعنى يدعو في حالة الشر والضر كما كان يدعو في حالة الخير فالمدعو به ليس الشر والخير، وقيل: إنها للسببية أي يدعو بسبب ذلك وكلا القولين (2) مخالفين للظاهر لا بعول عليهما، واستدل بالآية على بعض الاحتمالات   (1) قوله بتلك الأعمال خلاف إلخ كذا بخطه ولعله أنه خلاف إلخ كما هو ظاهر. (2) قوله مخالفين إلخ كذا بخطه ولعله مخالفان إلخ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 24 على المنع من دعاء الرجل على نفسه أو على ماله أو على أهله وقد جاء النهي عن ذلك صريحا في بعض الأخبار. فقد أخرج أبو داود والبزار عن جابر قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا تدعوا على أنفسكم لا تدعوا على أولادكم على أموالكم لئلا توافقوا من الله تعالى ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم وبه يرد على ما قيل من أن الدعاء بذلك لا يستجاب فضلا من الله تعالى وكرما. واستشكل بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم دعا على أهله كما سمعت في حديث الواقدي، وأجيب عن ذلك بأنه كان للزجر وإن كان وقت الغضب وقد اشترط صلّى الله عليه وسلّم على ربه سبحانه في مثل ذلك أن يكون رحمة فقد صح أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إني اشترطت على ربي فقلت إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر وأغضب كما يغضب البشر فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن تجعلها له طهورا وزكاة وقربة» وذكر النووي في جواب ما يقال: إن ظاهر الحديث أن الدعاء ونحوه كان بسبب الغضب ما قال المازري من أنه يحتمل أنه صلّى الله عليه وسلّم أراد أن دعاءه وسبه ونحوهما كان مما يخير فيه بين أمرين أحدهما هذا الذي فعله والثاني زجره بأمر آخر فحمله الغضب لله تعالى على أحد الأمرين المخير فيهما وليس ذلك خارجا عن حكم الشرع، والمراد من قوله عليه الصلاة والسلام ليس لها بأهل ليس لها بأهل عند الله تعالى وفي باطن الأمر ولكنه في الظاهر مستوجب لذلك، وقد يستدل على ذلك بأمارات شرعية وهو مأمور صلّى الله عليه وسلّم بالحكم بالظاهر والله تعالى يتولى السرائر، وقيل: إن ما وقع منه عليه الصلاة والسلام من الدعاء ونحوه ليس بمقصود بل هو مما جرت به عادة العرب في وصل كلامها بلا نية كتربت يمينك وعقرى حلقى لكن خاف صلّى الله عليه وسلّم أن يصادف شيء من ذلك إجابة فسأل ربه سبحانه وتعالى ورغب إليه في أن يجعل ذلك زكاة وقربة، نعم في ذكر حديث الواقدي ونحوه كالحديث الذي ذكره البيضاوي في المقام الذي ذكر فيه لا يخلو عن شيء فتأمل، ثم إن القياس إثبات الواو في يَدْعُ الإنسان إذ لا جازم تحذف له لكن نقل القرآن العظيم كما سمع ولم يتصرف فيه الناقل بمقدار فهمه وقوة عقله وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ هذا على ما قيل شروع في بيان بعض ما ذكر من الهداية بالإرشاد إلى مسلك الاستدلال بالآيات والدلائل الآفاقية التي كل واحدة منها برهان نير لا ريب فيه ومنهاج بين لا يضل من ينتحيه فإن الجعل المذكور وما عطف عليه وإن كانا من الهدايات التكوينية لكن الأخبار بذلك من الهدايات القرآنية المنبهة على تلك الهدايات. وذكر الإمام في وجه الربط وجوها، الأول أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة ما أوصل إلى الخلق من نعم الدين وهو القرآن أتبعه ببيان ما أوصل إليهم من نعم الدنيا فقال سبحانه: وَجَعَلْنَا إلخ، وكما أن القرآن ممتزج من المحكم والمتشابه كذلك الزمان مشتمل على الليل والنهار وكما أن المقصود من التكليف لا يتم إلا بذكر المحكم والمتشابه فكذلك الزمان لا يكمل الانتفاع به إلا بالنهار والليل، الثاني أنه تعالى وصف الإنسان بكونه عجولا أي منتقلا من صفة إلى صفة ومن حالة إلى حالة بين (1) أن كل أحوال العالم كذلك وهو الانتقال من النور إلى الظلمة وبالضد وانتقال نور القمر من الزيادة إلى النقصان وبالضد، الثالث نحو ما نقلناه أولا ولعله الأولى، وتقديم الليل لمراعاة الترتيب الوجودي إذ منه ينسلخ النهار وفيه تظهر غرر الشهور العربية ولترتيب غاية النهار عليها بلا واسطة، ومما يزيد تقديم الليل حسنا افتتاح السورة بقوله سبحانه سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا والجعل على ما نقل عن السمين بمعنى التصيير متعد لاثنين أو بمعنى الخلق متعد لواحد وآيَتَيْنِ حال مقدرة. واستشكل الأول الكرماني بأنه يستدعي أن يكون الليل والنهار موجودين على حالة ثم انتقلا منها إلى أخرى   (1) قوله «إلى حالة بين» إلخ كذا بخطه ولعله إما وصف إلخ بين بقرينة ما سبق في الوجه قبله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 25 وليس كذلك، ودفع بأنه من باب- ضيق فم الركية- وهو مجاز معروف واستظهر هذا أبو حيان، والمعنى جعلنا الملوين بهيئاتهما وتعاقبهما واختلافهما في الطول والقصر على وتيرة عجيبة آيتين تدلان على أن لهما صانعا حكيما قادرا عليما ويهديان إلى ما هدى إليه القرآن الكريم من الإسلام والتوحيد. فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ الإضافة هنا وفيما بعد إما بيانية كما في إضافة العدد إلى المعدود نحو أربع نسوة أي محونا الآية التي هي اللّيل أي جعلنا الليل ممحو الضوء مطموسه مظلما لا يستبين فيه شيء كما لا يستبين ما في اللوح الممحو وإلى ذلك ذهب صاحب الكشاف. وروي عن مجاهد وهو على نحو- ضيق فم الركية- والفاء تفسيرية لأن المحو المذكور وما عطف عليه ليسا مما يحصل عقيب جعل الجديدين آيتين بل هما من جملة ذلك الجعل ومتمماته، وقيل معنى محو الليل إزالة ظلمته بالضوء، ورجح بأن فيه إبقاء المحو على حقيقته وهو إزالة الشيء الثابت وليس فيما ذكره الزمخشري ذلك ولا ينبغي العدول عن الحقيقة بلا ضرورة. وتعقب بأنه يكفي ما بعده قرينة على تلك الإرادة فإن محو الليل في مقابله جعل النهار مبصرا، وعلى ما ذكر من المعنى الحقيقي لا يتعلق بمحو الليل فائدة زائدة على ما بعده، وقيل عليه إن الظلمة هي الأصل والنور طارئ فكون الليل مخلوقا مطموس الضوء مفروغ عنه فالمراد بيان أن الله تعالى خلق الزمان ليلا مظلما ثم جعل بعضه نهارا بأحداث الإشراق لفائدة ذكرها سبحانه، وكون محو الليل في مقابلة جعل النهار مضيئا لا يوجب حمله على المجاز لفائدة بيان إبقاء بعض الزمان على إظلامه وجعل بعضه مضيئا اه ولا يخفى ما فيه من التكلف وأن المقام لا يلائمه فالمعول عليه ما في الكشاف. وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ أي الآية التي هي النهار مُبْصِرَةً أي مضيئة فهو مجاز بعلاقة السببية أو الإسناد مجازي كما في- نهاره صائم- والمراد يبصر أهلها أو الصيغة للنسب أي ذات إبصارهم أو هي من أبصره المتعدي أي جعله مبصرا ناظرا والإسناد إلى النهار مجازي أيضا من الإسناد إلى السبب العادي والفاعل الحقيقي هو الله تعالى أو من باب أفعل المراد به غير من أسند إليه كأضعف الرجل إذا كانت دوابه ضعافا وأجبن إذا كان أهله جبناء فأبصرت الآية بمعنى صار أهلها بصراء. وروي ذلك عن أبي عبيدة وهو معنى وضعي لا مجازي. وقرأ قتادة وعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما «مبصرة» بفتح الميم والصاد وهو مصدر أقيم مقام غيره وكثر مثل ذلك في صفات الأمكنة كأرض مسبعة ومكان مضبة وإما إضافة لأمية وآيتا الليل والنهار نيراهما القمر والشمس ويحتاج حينئذ في قوله تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ إلى تقدير مضاف في الأول والثاني أي جعلنا نيري الليل والنهار آيتين أو جعلنا الليل والنهار ذوي آيتين أن جعل جعل متعديا إلى مفعولين والليل والنهار هو المفعول الأول وآيتين الثاني، فإن عكس كما استظهره أبو حيان وجعل الليل والنهار نصبا على الظرفية في موضع المفعول الثاني أي جعلنا في الليل والنهار آيتين وهما النيران لا يحتاج إلى تقدير كما إذا جعل الجعل متعديا لواحد والليل والنهار منصوبان على الظرفية كما جوزه المعربون. ومحو آية الليل وهي القمر على ما تدل عليه الآثار إزالة ما ثبت لها من النور يوم خلقت، فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في الآية أنه قال: كان القمر يضيء كما تضيء الشمس وهو آية الليل فمحى فالسواد الذي في القمر أثر ذلك المحو. وأخرج عبد بن حميد وغيره عن عكرمة أنه قال: خلق الله تعالى نور الشمس سبعين جزءا ونور القمر سبعين سبعين جزءا فمحى من نور القمر تسعة وستين جزءا فجعله مع نور الشمس فالشمس على مائة وتسعة وثلاثين جزءا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 26 والقمر على جزء واحد، وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: كانت شمس بالليل وشمس بالنهار فمحى الله تعالى شمس الليل فهو المحو الذي في القمر، وأخرج البيهقي في دلائل النبوة. وابن عساكر عن سعيد المقبري أن عبد الله بن سلام سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن السواد الذي في القمر فقال: كانا شمسين وقال قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ فالسواد الذي رأيت هو المحو ، وفي حديث طويل أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه بسند واه عن ابن عباس مرفوعا أن الله تعالى خلق شمسين من نور عرشه فأرسل جبريل عليه السلام فأمر جناحه على وجه القمر وهو يومئذ شمس ثلاث مرات فطمس عنه الضوء وبقي فيه النور وذلك قوله تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ الآية إلى غير ذلك من الآثار، والفاء على هذا للتعقيب. وجعل آية النهار وهي الشمس مبصرة على نحو ما تقدم فتبصر، وقيل محو القمر أما خلقه كمدا مطموس النور غير مشرق بالذات على ما ذكره أهل الهيئة من أنه غير مضيء في نفسه بل نوره مستفاد من ضوء الشمس فالفاء تفسيرية كما مر وإما نقص ما استفاده من الشمس شيئا فشيئا بحسب الرؤية والإحساس إلى أن ينمحق على ما هو معنى المحو فالفاء للتعقيب، وذكر الإمام في محوه قولين، أحدهما نقص نوره قليلا قليلا إلى المحاق، وثانيهما جعله ذا كلف ثم قال: حمله على الوجه الأول أولى لأن اللام في الفعلين بعد متعلق بما هو المذكور قبل وهو محو آية الليل وجعل آية النهار مبصرة، ومحو آية الليل إنما يؤثر في ابتغاء فضل الله تعالى إذا حملنا محو القمر على زيادة نور القمر ونقصانه لأن سبب حصول هذه الآية مختلف باختلاف أحوال نور القمر وأهل التجارب أثبتوا أن اختلاف أحوال القمر في مقادير النور له أثر عظيم في أحوال هذا العالم ومصالحه مثل أحوال البحار في المد والجزر ومثل أحوال البحرانات على ما يذكره الأطباء في كتبهم، وأيضا بسبب زيادة نور القمر ونقصانه يحصل الشهور وبسبب معاودة الشهور يحصل السنون العربية المبنية على رؤية الهلال كما قال سبحانه وَلِتَعْلَمُوا إلخ اه. وأنت تعلم أنه متى دل أثر صحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ما ذكرناه أولا لا ينبغي أن يدعي أن غيره أولى، وهو لعمري وجه لا كلف فيه عند من له عين مبصرة، وللفلاسفة في هذا المحو المرئي في وجه القمر كلام طويل لا بأس بأن تحيط به خبرا فنقول: ذكر الإمام في المباحث الشرقية أن امتناع بعض المواضع في وجه القمر عن قبول الضوء التام إما أن يكون بسبب خارج عن جرم القمر أو غير خارج عنه فإن كان بسبب خارج فإما أن يكون لمثل ما يعرض للمرايا من وقوع أشباح الأشياء فيها فإذا رؤيت تلك الأشياء لم تر براقة فكذلك القمر لما تصورت فيه أشباح الجبال والبحار وجب أن لا ترى تلك المواضع في غاية الاستنارة، وإما أن يكون ذلك بسبب ساتر والأول باطل، أما أولا فلأن الأشباح لا تنحفظ هيئتها مع حركة المرآة وبتقدير سكونها لا تستقر تلك الأشباح فيها عند اختلاف مقامات الناظرين والآثار التي في وجه القمر ليست كذلك، وأما ثانيا فلأن القمر ينعكس الضوء عنه إلى البصر وما كان كذلك لم يصلح للتخييل، وأما ثالثا فلأنه كان يجب أن تكون تلك الآثار كالكرات لأن الجبال في الأرض كتضريس أو خشونة في سطح كرة وليس لها من المقدار قدر ما يؤثر في كرية الأرض فكيف لاشباحها المرئية في المرآة. وأما إن كان ذلك بسبب ساتر فذلك الساتر إما أن يكون عنصريا أو سماويا والأول باطل، أما أولا فلأنه كان يجب أن يكون المواضع المتسترة من جرم القمر مختلفة باختلاف مقامات الناظرين، وأما ثانيا فلأن ذلك الساتر لا يكون هواء صرفا ولا نارا صرفة لأنهما شفافان فلا يحجبان بل لا بد وأن يكون مركبا إما بخارا وإما دخانا وذلك لا يكون مستمرا، وأما إن كان الساتر سماويا فهو الحق وذلك إنما يكون لقيام أجسام سماوية قريبة المكان جدا من القمر وتكون من الصغر بحيث لا يرى كل واحد منها بل جملتها على نحو مخصوص من الشكل وتكون إما عديمة الضوء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 27 أولها ضوء أضعف من ضوء القمر فترى في حالة إضاءته مظلمة، وأما إن كان ذلك بسبب عائد إلى ذات القمر فلا يخلو إما أن يكون جوهر ذلك الموضع مساويا لجواهر المواضع المستنيرة من القمر في الماهية أو لا يكون فإن لم يكن كان ذلك لارتكاز أجرام سماوية مخالفة بالنوع للقمر في جرمه كما ذكرناه قبل وهو قريب منه. وإما أن تكون تلك المواضع مساوية الماهية لجرم القمر فحينئذ يمتنع اختصاصها بتلك الآثار إلا بسبب خارجي لكنه قد ظهر لنا أن الأجرام السماوية لا تتأثر بشيء عنصري وبذلك أبطل قول من قال: إن ذلك المحو بسبب انسحاق عرض القمر من مماسة النار، أما أولا فلأن ذلك يوجب أن يتأدى ذلك في الأزمان الطويلة إلى العدم والفساد بالكلية والأرصاد المتوالية مكذبة لذلك، وأيضا القمر غير مماس للنار لأنه مفرق في فلك تدويره الذي هو في حامله الذي بينه وبين النار بعد بعيد بدليل أن النار لو كانت ملاقية لحامله لتحركت بحركته إلى المشرق وليس كذلك لأن حركات الشهب في الأكثر لا تكون إلا إلى جهة المغرب وتلك الحركة تابعة لحركة النار والحركة المستديرة ليست للنار بذاتها فإنها مستقيمة الحركة فذلك لها بالعرض تبعا لحركة الكل فبطل ما قالوه اه. وذكر الآمدي في أبكار الأفكار زيادة على ما يفهم مما ذكر من الأقوال وهي أن منهم من قال: إن ما يرى خيال لا حقيقة له، ورده بأنه لو كان كذلك لاختلف الناظرون فيه ومنهم من قال: إنه السواد الكائن في القمر في الجانب الذي لا يلي الشمس، ورده بأنه لو كان كذلك لما رئي متفرقا، ومنهم من قال: إنه وجه القمر فإنه مصور بصورة وجه الإنسان وله عينان وحاجبان وأنف وفم، ورده بأنه مع بعده يوجب أن يكون فعل الطبيعة عندهم معطلا عن الفائدة لأن فائدة الحاجبين عندهم دفع أذى العرق عن العينين وفائدة الأنف الشم وفائدة الفم دخول الغذاء وليس للقمر ذلك، وقد رد عليهم رحمة الله تعالى عليه سائر ما ذكروه. وذكر الإمام في التفسير أن آخر ما ذكره الفلاسفة في ذلك أنه ارتكز في وجه القمر أجسام قليلة الضوء مثل ارتكاز الكواكب في أجرام الأفلاك ولما كانت تلك الأجرام أقل ضوءا من جرم القمر لا جرم شوهدت في وجهه كالكلف في وجه الإنسان وفي ارتكازها في بعض أجزائه دون بعض مع كونه متشابه الأجزاء عندهم دليل على الصانع المختار كما أن في تخصيص بعض أجزائه بالنور القوي وبعضها بالنور الضعيف مع تشابه الأجزاء دليلا على ذلك. ومثل هذا التخصيص في الدلالة تخصيص بعض جوانب الفلك الذي هو عندهم أيضا جرم بسيط متشابه الأجزاء بارتكاز الكواكب فيه دون البعض الآخر. وزعم بعض أهل الآثار أنه مكتوب في وجه القمر لا إله إلا الله، وقيل لفظ جميل، وقيل غير ذلك وأن المحو المرئي هو تلك الكتابة ولا يعول على شيء من ذلك، نعم مكتوب على كل شيء لا إله إلا الله وكذا جميل ولكن ذلك بمعنى آخر كما لا يخفى. ونقل لي عن أهل الهيئة الجديدة أنهم يزعمون أن القمر كالأرض فيه الجبال والوهاد والأشجار والبحار وأنهم شاهدوا ذلك في أرصادهم وأن المواضع التي لا يرى فيها محو هي البحار والتي فيها محو هي أرض غير مستوية وزعموا أنه لو وصل أحد إلى القمر لرأى الأرض كذلك ومن هنا قالوا: لا يبعد أن يكون معمورا بخلائق هو عمارة الأرض بل قالوا: إن جميع الكواكب مثله في ذلك قياسا عليه وإن كانت لا يرى فيها لمزيد بعدها ما يرى فيه وبعيد من الحكمة أن يعمر الله تعالى الأرض بالخلق على صغرها ويترك أجساما عظيمة أكثرها أعظم من الأرض خالية بلا خلق على كبرها وهم منذ غرهم القمر تشبثوا بحباله في عمل الحيل للعروج إليه فصنعوا سفنا زئبقية فعرجوا فيها فقبل أن يصلوا إلى كرة البخار انتفخت أجسامهم وضلت كما ضلت من قبل أفهامهم فانقلبوا صاغرين وهبطوا خاسئين، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 28 وأنت تعلم أن كلامهم في هذا الباب مخالف لأصول الفلسفة ولا برهان لهم عليه سوى السفه ومنشؤه محض أنهم رأوا شيئا في القمر ولم يتحققوه وظنوه ما ظنوه وأي مانع من أن يكون قد جعل الله تعالى المحو على وجه يتخيل فيه ذلك بل لا مانع على أصولنا من أن يقال: قد جعل الله تعالى في القمر أجراما تشبه ما حسبوه لكن لم يرد في ذلك شيء عن الصادق صلّى الله عليه وسلّم وهو الذي عرج به إلى قاب قوسين أو أدنى، وما ذكروه من أنه بعيد من الحكمة أن يعمر الله تعالى الأرض إلخ يلزم عليه أن يكون ما بين الكواكب ككواكب الدب الأكبر مثلا معمورا بالخلائق كالأرض أيضا فله أوسع منها بأضعاف مضاعفة وهم لا يقولون به على أنا نقول قد جاء «أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك راكع أو ساجد» فيجوز أن يكون على جرم القمر ملائكة يعبدون الله تعالى بما شاء وكيف شاء بل يجوز أن يكون عند كل ذرة من ذراته ملك كذلك وهذا نوع من العمارة بالخلق، والأحسن عند من عز عليه وقته عدم الالتفات إلى مثل هذه الخرافات وتضييع الوقت في ردها والله سبحانه الموفق، ثم ما تقدم من أن المحو نقص ما استفاده القمر من الشمس شيئا فشيئا فيه القول بأن نور القمر مستفاد من نور الشمس وقد عد الجل من العلماء ذلك في الحدسيات وذكروا أن الشمس مضيئة بنفسها وكلا الأمرين مما ذكره الفلاسفة وليس له في الشرع مستند يعول عليه، وقد نقله الآمدي وتعقبه فقال: ذكروا أن الشمس نيرة بنفسها وما المانع من كونها سوداء الجرم والله تعالى يخلق فيها النور في أوقات مشاهدتنا لها، وأن تكون مستنيرة من كواكب أخرى فوقها وهي مستورة عنا ببعض الأجرام السماوية المظلمة كما يحدث للشمس في حالة الكسوف، وإن سلمنا أنها نيرة بنفسها فلا نسلم أن نور القمر مستفاد منها وما المانع من كون الرب تعالى يخلق فيه النور في وقت دون وقت أو أن يكون مع كونه مركوزا في فلكه دائرا على مركز نفسه وأحد وجهيه نير والآخر مظلم كما كان بعض أجزاء الفلك شفافا وبعضها نيرا وهو متحرك بحركة مساوية لحركة فلكه ويكون وجهه المضيء عند مقابلة الشمس وهو الذي يلينا ويكون الزيادة والنقصان فيما يظهر لنا على حسب بعده وقربه من الشمس فلا يكون مستنيرا من الشمس اه. وأورد أنه إذا ضم الخسوف إلى الزيادة والنقصان قربا وبعدا لا يتم ما ذكره وصح ما ذكروه من الاستفادة. وأجيب بأنه ما المانع من أن يكون الخسوف لحيلولة جرم علوي بيننا وبينه لا لحيلولة الأرض بينه وبين الشمس فلا بد لنفي ذلك من دليل فافهم والله تعالى أعلم وهو المتصرف في ملكه كيفما يشاء لِتَبْتَغُوا متعلق بقوله تعالى: وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ وفي الكلام مقدر أي جعلنا آية النهار مبصرة لتطلبوا لأنفسكم فيه. فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ أي رزقا إذ لا يتسنى ذلك في الليل، وفي التعبير عن الرزق بالفضل وعن الكسب بالابتغاء والتعرض لصفة الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى الكمال شيئا فشيئا دلالة كما قال شيخ الإسلام: على أن ليس للعبد في تحصيل الرزق تأثير سوى الطلب وإنما الإعطاء إلى الله سبحانه لا بطريق الوجوب عليه تعالى بل تفضلا بحكم الربوبية، ومعنى تأثير الطلب على نحو تأثير الأسباب العادية فإنه من جملتها ولا توقف حقيقة للرزق عليه، وفي الخبر يطلبك رزقك كما يطلبك أجلك ، ولله تعالى در القائل: لقد علمت وما الإسراف من خلقي ... أن الذي هو رزقي سوف يأتيني أسعى إليه فيعييني تطلبه ... ولو قعدت أتاني لا يعنيني وَلِتَعْلَمُوا متعلق كما قيل بكلا الفعلين أعني محو آية الليل وجعل آية النهار مبصرة لا بأحدهما فقط إذ لا يكون ذلك بانفرداه مدارا للعلم المذكور أي لتعلموا بتفاوت الجديدين أو نيريهما ذاتا من حيث الإظلام والإضاءة مع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 29 تعاقبهما أو حركاتهما وأوضاعهما وسائر أحوالهما عَدَدَ السِّنِينَ التي يتعلق بها غرض على لإقامة مصالحكم الدينية والدنيوية وَالْحِسابَ أي الحساب المتعلق بما في ضمنها من الأوقات أي الأشهر والليالي والأيام وغير ذلك مما نيط به شيء من المصالح المذكورة، ونفس السنة من حيث تحققها مما ينتظمه الحساب وإنما الذي يتعلق به العد طائفة منها وتعلقه في ضمن ذلك بكل واحدة منها ليس من حيثية التحقق والتحصل من عدة أشهر حصل كل واحدة منها من عدة أيام حصل كل واحد منها من طائفة من الساعات مثلا فإن ذلك من وظيفة علم الحساب بل من حيث إنها فرد من طائفة السنين المعدودة بعدها أي نفسها من غير أن يعتبر في ذلك تحصيل شيء معين كما حقق ذلك شيخ الإسلام. وقيل المعنى لِتَعْلَمُوا باختلافهما وتعاقبهما على نسق واحد أو بحركاتهما عدد السنين إلخ المراد بالحساب جنسه أي الجاري في المعاملات كالإجارات والبيوع المؤجلة وغير ذلك وذكر بعضهم أن الظاهر المناسب أن المراد لتعلموا بالليل فإن عدد السنين الشرعية والحساب الشرعي يعلمان به غالبا أو بالقمر لقوله تعالى: في الأهلة قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ البقرة: 189] وأنت تعلم أن السنين شمسية وقمرية وبكل منهما العمل فلو قيل إحدى الآيتين مبينة لأحدهما والأخرى للآخر لا محذور فيه، وكون الشرع معولا على أحدهما لا يضر، وتقديم العدد على الحساب من أن الترتيب بين متعلقيهما على ما سمعت أولا وجودا وعدما على العكس للتنبيه من أول الأمر على أن متعلق الحساب ما في تضاعيف السنين من الأوقات أو لأن العلم المتعلق بعدد السنين علم إجمالي بما تعلق به الحساب تفصيلا أو لأن العلم المتعلق بالأول أقصى المراتب فكان جديرا بالتقديم في مقام الامتنان أو لأن العدد نازل من الحساب منزلة البسيط من المركب بناء على ما حقق من أن الحساب إحصاء ماله كمية منفصلة بتكرير أمثاله من حيث يتحصل بطائفة معينة منها حد معين منه له اسم خاص وحكم مستقل والعدد إحصاؤه بمجرد تكرير أمثاله من غير أن يتحصل شيء كذلك ولهذا وكون السنين مما لم يعتبر فيها حد معين له اسم خاص وحكم مستقل أضيف (1) إليها العدد وعلق الحساب بما عداها فتدبر. وَكُلَّ شَيْءٍ تفتقرون إليه في معاشكم ومعادكم سوى ما ذكر من جعل الليل والنهار آيتين وما يتبعه من المنافع الدينية والدنيوية وهو منصوب بفعل يفسره قوله تعالى: فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا وهذا من باب الاشتغال ورجح النصب لتقدم جملة فعلية، وجوز أن يكون معطوفا على الْحِسابَ وجملة فَصَّلْناهُ صفة شيء، وهو بعيد معنى. والتفصيل من الفصل بمعنى القطع والمراد به الإبانة التامة وجيء بالمصدر للتأكيد. فالمعنى بينا كل شيء في القرآن الكريم بيانا بليغا لا التباس معه كقوله تعالى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89] فظهر كونه هاديا للتي هي أقوم ظهورا بينا. وَكُلَّ إِنسانٍ منصوب على حد كُلَّ شَيْءٍ أي وألزمنا كلّ إنسان مكلف أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ أي عمله الصادر منه باختياره حسبما قدر له خيرا كان أو شرا كأنه طار إليه من عش الغيب ووكر القدر، وفي الكشاف أنهم كانوا يتفاءلون بالطير ويسمونه زجرا فإذا سافروا ومر بهم طير زجروه فإن مر بهم سانحا بأن مر من جهة اليسار إلى اليمين تيمنوا وإن مر بارحا بأن مر من جهة اليمين إلى الشمال تشاءموا ولذا سمي تطيرا فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر استعير استعارة تصريحية لما يشبههما من قدر الله تعالى وعمل العبد لأنه سبب للخير والشر.   (1) قوله أضيف أضيف كذا بخطه وليست الأولى بضرورية كما لا يخفى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 30 ومنه طائر الله تعالى لا طائرك أي قدر الله جل شأنه الغالب الذي ينسب إليه الخير والشر لا طائرك الذي تتشاءم به وتتيمن، وقد كثر فعلهم ذلك حتى فعلوه بالظباء أيضا وسائر حيوانات الفلا وسموا كل ذلك تطيرا كما في البحر، وتفسيره بالعمل هنا مروي عن ابن عباس ورواه البيهقي في شعب الأيمان عن مجاهد وذهب إليه غير واحد وفسره بعضهم بما وقع للعبد في القسمة الأزلية الواقعة حسب استحقاقه في العلم الأزلي من قولهم: طار إليه سهم كذا، ومن ذلك فطار لنا من القادمين عثمان بن مظعون أي ألزمنا كل إنسان نصيبه وسهمه الذي قسمناه له في الأزل فِي عُنُقِهِ تصوير لشدة اللزوم وكمال الارتباط وعلى ذلك جاء قوله: إن لي حاجة إليك فقال: بين أذني وعاتقي ما تريد وتخصيص العنق لظهور ما عليه من زائن كالقلائد والأطواق أو شائن كالأغلال والأوهاق ولأنه العضو الذي يبقى مكشوفا يظهر ما عليه وينسب إليه التقدم والشرف ويعبر به عن الجملة وسيد القوم، فالمعنى ألزمناه غله بحيث لا يفارقه أبدا بل يلزمه لزوم القلادة والغل لا ينفك عنه بحال. وأخرج ابن مردويه عن حذيفة بن أسيد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن النطفة التي يخلق منها النسمة تطير في المرأة أربعين يوما وأربعين ليلة فلا يبقى منها شعر ولا بشر ولا عرق ولا عظم إلا دخلته حتى إنها لتدخل بين الظفر واللحم فإذا مضى أربعون ليلة وأربعون يوما أهبطها الله تعالى إلى الرحم فكانت علقة أربعين يوما وأربعين ليلة ثم تكون مضغة أربعين يوما وأربعين ليلة فإذا تمت لها أربعة أشهر بعث الله تعالى إليها ملك الأرحام فيخلق على يده لحمها ودمها وشعرها وبشرها ثم يقول سبحانه صور فيقول: يا رب أصور أزائد أم ناقص أذكر أم أنثى أجميل أم ذميم أجعد أم سبط أقصير أم طويل أأبيض أم آدم أسوي أم غير سوي فيكتب من ذلك ما يأمر الله تعالى به ثم يقول: أي رب أشقي أم سعيد؟ فإن كان سعيدا نفخ فيه بالسعادة في آخر أجله وإن كان شقيا نفخ فيه بالشقاوة في آخر أجله ثم يقول: أكتب أثرها ورزقها ومصيبتها وعملها بالطاعة والمعصية فيكتب من ذلك ما يأمره الله تعالى ثم يقول الملك: يا رب ما أصنع بهذا الكتاب فيقول: سبحانه علقه في عنقه إلى قضائي عليه» فذلك قوله تعالى: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ. ولا يخفى أن الظاهر من هذا الخبر أن ذكر العنق ليس للتصوير المذكور وأن الطائر عبارة عن الكتاب الذي كتب فيه ما كتب. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن أنس أنه فسره بذلك صريحا، وباب المجاز واسع، ونحن نؤمن بالحديث إذا صح ونفوض كيفية ما دل عليه إلى اللطيف الخبير جل جلاله، والظاهر منه أيضا عدم تقييد الإنسان بالمكلف، ويؤيد ذلك ما أخرجه أبو داود في كتاب القدر وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال في الآية: ما من مولود يولد إلا وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد، وآخر الآية ظاهر في التقييد. وقرأ مجاهد والحسن وأبو رجاء «طيره» وقرىء «عنقه» بسكون النون وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ والبعث للحساب كِتاباً هي صحيفة عمله، ونصبه على أنه مفعول نُخْرِجُ وجوز أن يكون حالا من مفعول لنخرج محذوف وهو ضمير عائد على الطائر أي نخرجه له حال كونه كتابا، ويعضد ذلك قراءة يعقوب ومجاهد، وابن محيصن «ويخرج» بالياء مبنيا للفاعل من خرج يخرج ونصب كِتاباً فإن فاعله حينئذ ضمير الطائر وكتابا حال منه والأصل توافق القراءتين، وكذا قراءة أبي جعفر «ويخرج» بالياء مبنيا للمفعول من أخرج ونصب كِتاباً أيضا، ووجه كونها عاضدة أن في يخرج حينئذ ضميرا مستترا هو ضمير الطائر وقد كان مفعولا، واحتمال أن يكون لَهُ نائب الفاعل فلا تعضد لا يلتفت إليه لأن إقامة غير المفعول مع وجوده مقام الفاعل ضعيفة وليس ثمة ما يكون كتابا حالا منه فيتعين ما ذكر كما قاله ابن يعيش في شرح المفصل، وعنه أيضا أنه قرىء «يخرج» بالبناء للمفعول أيضا ورفع «كتاب» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 31 على أنه نائب الفاعل وقرأ الحسن «يخرج» بالبناء للفاعل من الخروج ورفع «كتاب» على الفاعلية، وقرأت فرقة ويخرج بالياء من الإخراج مبنيا للفاعل وهو ضمير الله تعالى وفيه التفات من التكلم إلى الغيبة. وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عن هارون قال في قراءة أبي بن كعب «وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه يقرأه يوم القيامة كتابا» يَلْقاهُ أي يلقى الإنسان أو يلقاه الإنسان مَنْشُوراً غير مطوي لتمكن قراءته وفيه إشارة إلى أن ذلك أمر مهيأ له غير مغفول عنه. وجملة يَلْقاهُ صفة كتابا ومَنْشُوراً حال من ضميره، وجوز أن يكونا صفتين له، وفي تقدم الوصف بالجملة على الوصف بالمفرد وهو خلاف الظاهر، وقرأ ابن عامر وأبو جعفر والجحدري والحسن بخلاف عنه «يلقاه» بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف من لقيته كذا أي يلقى الإنسان إياه. وأخرج ابن جرير عن الحسن أنه قال: يا ابن آدم بسطت لك صحيفة ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك في قبرك حتى تجيء يوم القيامة فتخرج لك اقْرَأْ كِتابَكَ بتقدير يقال له ذلك، وهذه الجملة إما صفة أو حال أو مستأنفة، والظاهر أن جملة قوله تعالى: كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً من جملة مقول القول المقدر، وكفى فعل ماض وبنفسك فاعله والباء سيف خطيب وجاء إسقاطها ورفع الاسم كما في قوله: كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا. وقوله: ويخبرني عن غائب المرء هديه ... كفى الهدي عما غيب المرء مخبرا ولم تلحق الفعل علامة التأنيث وإن كان مثله تلحقه كقوله تعالى: ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ [الأنبياء: 6] وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ [الأنعام: 4] قيل لأن الفاعل مؤنث مجازي ولا يشفي الغليل لأن فاعل ما ذكر من الأفعال مؤنث مجازي مجرور بحرف زائد أيضا وقد لحق فعله علامة التأنيث وغاية الأمر في مثل ذلك جواز الإلحاق وعدمه ولم يحفظ كما في البحر الإلحاق في كفى إذا كان الفاعل مؤنثا مجرورا بالباء الزائدة، ومن هنا قيل إن فاعل كفى ضمير يعود على الاكتفاء أي كفى هو أي الاكتفاء بنفسك، وقيل هو اسم فعل بمعنى اكتف والفاعل ضمير المخاطب والباء على القولين ليست بزائدة، ومرضى الجمهور ما قدمناه، والتزام التذكير عندهم على خلاف القياس. ووجه بعضهم ذلك بكثرة جر الفاعل بالباء الزائدة حتى إن إسقاطها منه لا يوجد إلا في أمثلة معدودة فانحطت رتبته عن رتبة الفاعلين فلم يؤنث الفعل له، وهذا نحو ما قيل في مر بهند وقيل غير ذلك، والْيَوْمَ ظرف لكفى وحَسِيباً تمييز كقوله تعالى: وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النساء: 69] وقولهم: لله تعالى دره فارسا، وقيل: حال وعليك متعلق به قدم لرعاية الفواصل وعدي بعلى لأنه بمعنى الحاسب والعاد وهو يتعدى بعلى كما تقول عدد عليه قبائحه، وجاء فعيل الصفة من فعل يفعل بكسر العين في المضارع كالصريم بمعنى الصارم وضريب القداح بمعنى ضاربها إلا أنه قليل أو بمعنى الكافي فتجوز به عن معنى الشهيد لأنه يكفي المدعي ما أهمه فعدي بعلى كما يعدى الشهيد، وقيل هو بمعنى الكافي من غير تجوز لكنه عدي تعدية الشهيد للزوم معناه له كما في أسد عليّ، وهو تكلف بارد، وتذكيره وهو فعيل بمعنى فاعل وصف للنفس المؤنثة معنى لأن الحساب والشهادة مما يغلب في الرجال فأجرى ذلك على أغلب أحواله فكأنه قيل كفى بنفسك رجلا حسيبا أو لأن النفس مؤولة بالشخص كما يقال ثلاثة أنفس أو لأن فعيل المذكور محمول على فعيل بمعنى فاعل والظاهر أن المراد بالنفس الذات فكأنه قيل كفى بك حسيبا عليك. وجعل بعضهم في ذلك تجريدا فقيل: إنه غلط فاحش، وتعقب بأن فيه بحثا فإن الشاهد يغاير المشهود عليه فإن اعتبر كون الشخص في تلك الحال كأنه شخص آخر كان تجريدا لكنه لا يتعلق به غرض هنا. وعن مقاتل أن المراد بالنفس الجوارح فإنها تشهد على العبد إذا أنكر وهو خلاف الظاهر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 32 وعن الحسن أنه كان إذا قرأ الآية قال: يا ابن آدم أنصفك والله من جعلك حسيب نفسك، والظاهر أنه يقال ذلك للمؤمن والكافر، وما أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي من أن الكافر يخرج له يوم القيامة كتاب فيقول: رب إنك قضيت أنك لست بظلام للعبيد فاجعلني أحاسب نفسي فيقال له اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الآية لا يدل على أنه خاص بالكافر كما لا يخفى، ويقرأ في ذلك اليوم كما روي عن قتادة من لم يكن قارئا في الدنيا. وجاء أن المؤمن يقرأ أولا سيئاته وحسناته في ظهر كتابه يراها أهل الموقف ولا يراها هو فيغبطونه عليها فإذا استوفى قراءة السيئات وظن أنه قد هلك رأى في آخرها هذه سيئاتك قد غفرناها لك فيتبلج وجهه ويعظم سروره ثم يقرأ حسناته فيزداد نورا وينقلب إلى أهله مسرورا ويقول هاؤم اقرأوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه. وأما الكافر فيقرأ أولا حسناته وسيئاته في ظهر كتابه يراها أهل الموقف فيتعوذون من ذلك فإذا استوفى قراءة الحسنات وجد في آخرها هذه حسناتك قد رددناها عليك وذلك قوله تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان: 23] فيسود وجهه ويعظم كربه ثم يقرأ سيئاته فيزداد بلاء على بلاء وينقلب بمزيد خيبة وشقاء ويقول: يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ [الحاقة: 25، 26] جعلنا الله تعالى ممن يقرأ فيرقى لا ممن يقرأ فيشقى بمنه وكرمه هذا وفسر بعضهم الكتاب بالنفس المنتقشة بآثار الأعمال ونشره وقراءته بظهور ذلك له ولغيره، وبيانه أن ما يصدر عن الإنسان خيرا أو شرا يحصل منه في الروح أثر مخصوص وهو خفي ما دامت متعلقة بالبدن مشتغلة بواردات الحواس والقوى فإذا انقطعت علاقتها قامت قيامته لانكشاف الغطاء باتصالها بالعالم العلوي فيظهر في لوح النفس نقش أثر كل ما عمله في عمره وهو معنى الكتابة والقراءة، ولا يخفى أن هذا منزع صوفي حكمي بعيد من الظهور قريب من البطون، وفيه حمل القيامة على القيامة الصغرى وهو خلاف الظاهر أيضا، والروايات ناطقة بما يفهم من ظاهر الآية نعم ليس فيها نفي انتقاش النفس بآثار الأعمال وظهور ذلك يوم القيامة فلا مانع من القول بالأمرين، ومن هنا قال الإمام: إن الحق أن الأحوال الظاهرة التي وردت فيها الروايات حق وصدق لا مرية فيها واحتمال الآية لهذه المعاني الروحانية ظاهر أيضا والمنهج القويم والصراط المستقيم هو الإقرار بالكل ونعم ما قال غير أن كون ذلك الاحتمال ظاهر غير ظاهر، وقال الخفاجي: ليس في هذا ما يخالف النقل وقد حمل عليه ما روي عن قتادة من أنه يقرأ في ذلك اليوم من لم يكن قارئا ولا وجه لعده مؤيدا له، وأنت تعلم أن حمل كلام قتادة على ذلك تأويل أيضا ولعل قتادة وأمثاله من سلف الأمة لا يخطر لهم أمثال هذه التأويلات ببال والكلام العربي كالجمل الأنوف والله تعالى أعلم بحقائق الأمور. وفي كيفية النظم ثلاثة أوجه ذكرها الإمام. الأول أنه تعالى لما قال: وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا تضمن أن كل ما يحتاج إليه من دلائل التوحيد والنبوة والمعاد قد صار مذكورا وإذا كان كذلك فقد أزيحت الأعذار وأزيلت العلل فلا جرم كل من ورد عرصة القيامة فقد ألزمناه طائره في عنقه، الثاني أنه تعالى لما بين أنه سبحانه أوصل إلى الخلق أصناف الأشياء النافعة لهم في الدين والدنيا مثل آيتي الليل والنهار وغيرهما فكأنه كان منعما عليهم بوجوه النعم وذلك يقتضي وجوب اشتغالهم بخدمته تعالى وطاعته فلا جرم كل من ورد عرصة القيامة يكون مسؤولا عن أقواله وأعماله، الثالث أنه تعالى بين أنه ما خلق الخلق إلا لعبادته كما قال: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] فلما شرح أحوال الشمس والقمر والنهار والليل كان إنما خلقت (1) هذه الأشياء لتنتفعوا بها فتصيروا متمكنين من الاشتغال بطاعتي وإذا كان   (1) قوله كان إنما خلقت إلخ كذا بخطه والذي في تفسير الفخر الرازي والليل والنهار كان المعنى إني إنما إلخ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 33 كذلك فكل من ورد عرصة القيامة سألته هل أتى بتلك الطاعة أو تمرد وعصى اه، وقد يقال وجه الربط أن فيما تقدم شرح حال كتاب الله تعالى المتضمن بيان النافع والضار من الأعمال وفي هذا شرح حال كتاب العبد الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من تلك الأعمال إلا أحصاها وحسنه وقبحه تابع للأخذ بما في الكتاب الأول وعدمه فمن أخذ به فقد هدى ومن أعرض عنه فقد غوى، وقوله تعالى: مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ فذلكة لما تقدم من كون القرآن هاديا للتي هي أقوم وللزوم الأعمال لأصحابها أي من اهتدى بهدايته وعمل بما في تضاعيفه من الأحكام وانتهى عما نهاه عنه فإنما تعود منفعة الاهتداء به إلى نفسه لا تتخطاه إلى غيره ممن لم يهتد وَمَنْ ضَلَّ عما يهتديه إليه فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أي فإنما وبال ضلاله عليها لا على من لم يباشره حتى يمكن مفارقة العمل صاحبه وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى تأكيد للجملة الثانية أي لا تحمل نفس حاملة للوزر وزر نفس أخرى حتى يمكن تخلص النفس الثانية عن وزرها ويختل ما بين العامل وعمله من التلازم، وخص التأكيد بالجملة الثانية قطعا للأطماع الفارغة حيث كانوا يزعمون أنهم إن لم يكونوا على الحق فالتبعة على أسلافهم الذين قلدوهم. وروي عن ابن عباس أنها نزلت في الوليد بن المغيرة لما قال: اكفروا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وعلى أوزاركم، ولا ينافي هذه الآية ما يدل عليه قوله تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها [النساء: 85] وقوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل: 25] من حمل الغير وزر الغير وانتفاعه بحسنته وتضرره بسيئته لأنه في الحقيقة انتفاع بحسنة نفسه وتضرر بسيئته فإن جزاء الحسنة والسيئة اللتين يعملهما العامل لازم له وإنما يصل إلى من يشفع جزاء شفاعته لا جزاء أصل الحسنة والسيئة وكذلك جزاء الضلال مقصور على الضالين وما يحمله المضلون إنما هو جزاء الإضلال لا جزاء الضلال قاله شيخ الإسلام، ولهذه الآية طعنت عائشة رضي الله تعالى عنها في صحة خبر ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه فإن فيه أخذ الإنسان بجرم غيره وهو خلاف ما نطقت به الآية. وأجيب بأن الحديث محمول على ما إذا أوصى الميت بذلك فيكون ذلك التعذيب من قبيل جزاء الإضلال، وقيل: المراد بالميت المحتضر مجازا وبالتعذيب التعذيب في الدنيا أي إن المحتضر يتألم ببكاء أهله عليه فلا ينبغي أن يبكوا، ولها أيضا منع جماعة من قدماء الفقهاء صرف الدية على العاقلة لما فيه من مؤاخذة الإنسان بفعل غيره، وأجيب بأن ذلك تكليف واقع على سبيل الابتداء وإلا فالمخطىء نفسه ليس بمؤاخذ على ذلك الفعل فكيف يؤاخذ غيره عليه، واستدل بها الجبائي على أن أطفال المشركين لا يعذبون وإلا كانوا مؤاخذين بذنب آبائهم وهو خلاف ظاهر الآية، وزعم بعضهم أنها نزلت فيهم وليس بصحيح، نعم أخرج ابن عبد البر في التمهيد بسند ضعيف عن عائشة قالت: سألت خديجة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أولاد المشركين فقال: هم من آبائهم ثم سألته بعد ذلك فقال: الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين ثم سألته بعد ما استحكم الإسلام فنزلت ولا تزر وازرة وزر أخرى فقال: هم على الفطرة أو قال في الجنة ، والمسألة خلافية وفيها مذاهب فقال الأكثرون: هم في النار تبعا لآبائهم واستدل لذلك بما أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن عائشة أيضا قالت سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ولدان المسلمين أين هم؟ قال: في الجنة وسألته عن ولدان المشركين أين هم؟ قال: في النار قلت: يا رسول الله لم يدركوا الأعمال ولم تجر عليهم الأقلام قال: ربك أعلم بما كانوا عاملين والذي نفسي بيده إن شئت أسمعتك تضاغيهم في النار، وفيه أن هذا الخبر قد ضعفه ابن عبد البر فلا يحتج به، نعم صح أنه صلّى الله عليه وسلّم سئل عن أولاد المشركين فقال: الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين وليس فيه تصريح الجزء: 8 ¦ الصفحة: 34 بأنهم في النار وحقيقة لفظه الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين لو بلغوا ولم يبلغوا والتكليف لا يكون إلا بالبلوغ. وأخرج الشيخان وأصحاب السنن. وغيرهم عن ابن عباس قال: حدثني الصعب بن جثامة قلت: يا رسول الله إنا نصيب في البيات من ذراري المشركين، قال: هم منهم ، وهو عند المخالفين محمول على أنهم منهم في الأحكام الدنيوية كالاسترقاق. وتوقفت طائفة فيهم ومن هؤلاء أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه، وقيل فيهم من يدخل الجنة ومن يدخل النار لما أخرج الحكيم الترمذي في النوادر عن عبد الله بن شداد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاه رجل فسأله عن ذراري المشركين الذين هلكوا صغارا فوضع رأسه ساعة ثم قال: أين السائل؟ فقال: ها أنا ذا يا رسول الله فقال: إن الله تبارك وتعالى إذا قضى بين أهل الجنة والنار ولم يبق غيرهم عجوا فقالوا: اللهم ربنا لم تأتنا رسلك ولم نعلم شيئا فأرسل إليهم ملكا والله تعالى أعلم بما كانوا عاملين فقال: إني رسول ربكم إليكم فانطلقوا فاتبعوا حتى أتوا النار فقال إن الله تعالى يأمركم أن تقتحموا فيها فاقتحمت طائفة منهم ثم خرجوا من حيث لا يشعر أصحابهم فجعلوا في السابقين المقربين ثم جاءهم الرسول فقال إن الله تعالى يأمركم أن تقتحموا في النار فاقتحمت طائفة أخرى ثم أخرجوا من حيث لا يشعرون فجعلوا في أصحاب اليمين ثم جاء الرسول فقال: إن الله تعالى يأمركم أن تقتحموا في النار فقالوا: ربنا لا طاقة لنا بعذابك فأمر بهم فجمعت نواصيهم وأقدامهم ثم القوا في النار. وذهب المحققون إلى أنهم من أهل الجنة وهو الصحيح ويستدل له بأشياء منها الآية على ما سمعت عن الجبائي، ومنها حديث إبراهيم الخليل عليه السلام حين رآه النبي صلّى الله عليه وسلّم في الجنة وحوله أولاد الناس قالوا: يا رسول الله وأولاد المشركين قال: وأولاد المشركين رواه البخاري في صحيحه ، ومنها ما أخرجه الحكيم الترمذي أيضا في النوادر وابن عبد البر عن أنس قال: سألنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أولاد المشركين فقال: هم خدام أهل الجنة. ومنها الآية الآتية حيث أفادت أن لا تعذيب قبل التكليف ولا يتوجه على المولود التكليف ويلزمه قول الرسول عليه الصلاة والسلام حتى يبلغ، ولم يخالف أحد في أن أولاد المسلمين في الجنة إلا بعض من لا يعتد به فإنه توقف فيهم لحديث عائشة توفي صبي من الأنصار فقلت: طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه فقال صلّى الله عليه وسلّم: أو غير ذلك يا عائشة إن الله تعالى خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وأجاب العلماء عنه بأنه لعله عليه الصلاة والسلام نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون لها دليل قاطع كما أنكر على سعد بن أبي وقاص في قوله: أعطه إني لأراه مؤمنا قال أو مسلما الحديث، ويحتمل أنه صلّى الله عليه وسلّم قال ذلك قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة فلما علم قال ذلك في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله تعالى الجنة بفضله ورحمته إياهم» إلى غير ذلك من الأحاديث، وقال القاضي: دلت الآية على أن الوزر ليس من فعله تعالى لأنه لو كان كذلك لا متنع أن يؤاخذ العبد به كما لا يؤاخذ بوزر غيره ولأنه كان يجب ارتفاع الوزر أصلا لأن الوازر إنما يوصف بذلك إذا كان مختارا يمكنه التحرز ولهذا المعنى لا يوصف الصبي بذلك، وأنت تعلم أن هذا إنما ينتهض على الجبرية لا على الجماعة القائلين لا جبر ولا تفويض وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ بيان للعناية الربانية إثر بيان اختصاص آثار الهداية والضلال بأصحابها وعدم حرمان المهتدي من ثمرات هدايته وعدم مؤاخذة النفس بجناية غيرها أي وما صح وما استقام منا بل استحال في سنتنا المبنية على الحكم البالغة أو ما كان في حكمنا الماضي وقضائنا السابق أن نعذب أحدا بنوع ما من العذاب دنيويا كان أو أخرويا على فعل شيء أو ترك شيء أصليا كان أو فرعيا حَتَّى نَبْعَثَ إليه رَسُولًا يهدي إلى الحق ويردع عن الضلال ويقيم الحجج الجزء: 8 ¦ الصفحة: 35 ويمهد الشرائع أو حتى نبعث رسولا كذلك تبلغه دعوته سواء كان مبعوثا إليه أم لا على ما ستعلمه إن شاء الله تعالى من الخلاف، وهذا غاية لعدم صحة وقوع العذاب في وقته المقدر له لا لعدم وقوعه مطلقا كيف والأخروي لا يمكن وقوعه عقيب البعث والدنيوي لا يحصل إلا بعد تحقق ما يوجبه من الفسق والعصيان، ألا يرى إلى قوم نوح عليه السلام كيف تأخر عنهم ما حل بهم زهاء ألف سنة، وألزم المعتزلة القائلون بالوجوب العقلي قبل البعثة بهذه الآية لأنه تعالى نفى فيها التعذيب مطلقا قبل البعثة وهو من لوازم الوجوب بشرط ترك الواجب عندهم إذ لا يجوزون العفو فينتفي الوجوب قبل البعثة لانتفاء لازمه، ومحصوله أنه لو كان وجوب عقلي لثبت قبل البعثة ولا شبهة في أن العقلاء كانوا يتركون الواجبات حينئذ فيلزم أن يكونوا معذبين قبلها وهو باطل بالآية. وتعقب بأنه إنما يتم إذا أريد بالعذاب ما يشمل الدنيوي والأخروي كما أشير إليه لكن المناسب لما بعد أن يراد عذاب الاستئصال في الدنيا ولا يلزم من انتفاء العذاب الدنيوي قبل البعث انتفاء الوجوب لأن لازم الوجوب عندهم هو العذاب الأخروي، وأجيب بعد تسليم أن المناسب لما بعد أن يراد العذاب الدنيوي بأن الآية لما دلت على أنه لا يليق بحكمته إيصال العذاب الأدنى على ترك الواجب قبل التنبيه ببعثة الرسول فدلالتها على عدم إيصال العذاب الأكبر على تركه قبل ذلك أولى، وأورد الأصفهاني في شرح المحصول على من استدل بالآية على نفي الوجوب العقلي قبل البعثة أمورا، الأول أن المراد بالرسول فيها العقل، الثاني أنا سلمنا أن المراد النبي المرسل لكن الآية دلت على نفي تعذيب المباشرة قبل البعثة ولا يلزم منه نفي مطلق التعذيب. الثالث أنا سلمنا ذلك لكن ليس في الآية دلالة على نفي التعذيب قبلها عن كل الذنوب، الرابع أنا سلمنا الدلالة لكن لا يلزم من نفي المؤاخذة انتفاء الاستحقاق لجواز سقوط المؤاخذة بالمغفرة، ثم أجاب عن الأول بأن حقيقة الرسول هو النبي المرسل والأصل في الكلام الحقيقة، وعن الثاني بأن من شأن عظيم القدر التعبير عن نفي التعذيب مطلقا بنفي المباشرة، وعن الثالث بما أشرنا إليه من أن تقدير الكلام وما كنا معذبين أحدا ويلزم من ذلك انتفاء تعذيب كل واحد من الناس وذلك هو المطلوب لأن الخصم لا يقول به. وعن الرابع بأن الآية تدل على انتفاء التعذيب قبل البعثة وانتفاؤه قبلها ظاهرا يدل على عدم الوجوب قبلها فمن ادعى أن الوجوب ثابت وقد وقع التجاوز بالمغفرة فعليه البيان اه، وأنت تعلم أنه إذا كان الاستدلال إلزاميا كما قال به غير واحد لا يرد الأمر الرابع أصلا لأن المعتزلة لا يجوزون العفو عن تارك الواجب العقلي، وقد أشرنا إلى ذلك، نعم قال المراغي في شرح منهاج الأصول للقاضي: لا حاجة إلى جعل الدليل إلزاميا بل يجوز إتمامه على تقدير جواز العفو أيضا بأن يقال وقوع العذاب وإن لم يكن لازما للوجوب لكن عدم الأمن من وقوعه لازم له ضرورة إذ يجوز العقاب على ترك الواجب عندنا وإن لم يجب وهذا اللازم أعني عدم الأمن منتف لدلالة الآية على عدم وقوعه فينتفي الملزوم. ورد ذلك أولا بمنع أن عدم الأمن من وقوع العذاب من لوازم ترك الواجب مطلقا بل عدم الأمن إذا لم يتيقن عدم وقوع العذاب بدليل آخر، وأما ثانيا فبأن انتفاء عدم الأمن إنما هو بالآية إذ قبل ورودها كان العقاب جائزا ولا شك أن انتفاءه بها انتفاء بالعفو لأن معنى العفو عدم العقاب والآية تدل عليه فلم يتم الدليل على تقدير جواز العفو وهو كما ترى، وقيل: نجعل اللازم جواز العقاب فيتم الدليل تحقيقا لأن جواز العفو لا ينافي جواز العقاب. ورد بأن الملازمة القائلة بأنه لو كان الوجوب ثابتا قبل الشرع لعذب تارك الواجب وإن كانت مسلمة حينئذ لكن بطلان التالي ممنوع لأن الآية إنما تدل على نفي وقوع العذاب لا على نفي جوازه. وفيه أن معنى ما كنا معذبين ما سمعت وهو يدل على نفي الجواز، وقد كثر استعمال هذا التركيب في ذلك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 36 كقوله تعالى: وَما كُنَّا ظالِمِينَ [الشعراء: 209] «وما كنا لاعبين» (1) إلى غير ذلك ولو أريد نفي الوقوع لقيل وما نعذب حتى نبعث رسولا. وضعف الإمام الاستدلال بالآية بأنه لو لم يثبت الوجوب العقلي لم يثبت الوجوب الشرعي البتة وهذا باطل فذاك باطل. قال: بيان الملازمة من وجوه، أحدها أنه إذا جاء الشارع وادعى كونه نبيا من عند الله تعالى وأظهر المعجزة فهل يجب على المستمع استماع قوله والتأمل في معجزته أو لا يجب فإن لم يجب فقد بطل القول بالنبوة وإن وجب فإما أن يجب بالشرع أو بالعقل فإن وجب بالعقل فقد ثبت الوجوب العقلي وإن وجب بالشرع فهو باطل لأن ذلك الشارع إما أن يكون هو ذلك المدعي أو غيره والأول باطل لأنه يرجع حاصل الكلام إلى أن يقول ذلك الرجل الدليل: على أنه يجب قبول قولي أني أقول يجب قبول قولي وهذا إثبات للشيء بنفسه، وإن كان غيره كان الكلام فيه كما في الأول ولزم إما الدور أو التسلسل وهما محالان. وثانيها أن الشرع إذا جاء وأوجب بعض الأفعال وحرم بعضها فلا معنى للإيجاب والتحريم إلا أن يقول لو تركت كذا أو فعلت كذا لعاقبتك، فنقول: أما أن يجب عليه الاحتراز عن العقاب أو لا يجب فإن لم يجب لم يتقرر معنى الوجوب البتة وإن وجب فإما أن يجب بالعقل أو بالسمع فإن وجب بالعقل فهو المقصود وإن وجب بالسمع لم يتقرر معنى الوجوب إلا بسبب ترتيب العقاب عليه وحينئذ يعود التقسيم الأول ويلزم التسلسل وهو محال. وثالثها أن مذهب أهل السنة أنه يجوز من الله تعالى العفو عن العقاب على ترك الواجب وإذا كان كذلك كانت ماهية الوجوب حاصلة مع عدم العقاب فلم يبق إلا أن يقال: إن ماهية الوجوب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من العقاب وهذا الخوف حاصل بمحض العقل فثبت أن ماهية الوجوب إنما تحصل بسبب هذا الخوف وأن هذا الخوف حاصل بمجرد العقل فلزم أن يقال: الوجوب حاصل بمجرد العقل، فإن قالوا: ماهية الوجوب إنما تتقرر بسبب حصول الذم قلنا: إنه تعالى إذا عفا فقد سقط الذم فعلى ماهية الوجوب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من الذم وذلك حاصل بمحض العقل فثبت بهذه الوجوه أن الوجوب العقلي لا يمكن دفعه اه. وتعقبه العبادي بأنه يمكن الجواب عن الأول بأنه إذا أظهر المعجزة على دعواه أنه رسول ثبت صدقه كما تقرر في محله فيجب قبول قوله في كل ما يخبر عن الله تعالى من غير لزوم محذور من إثبات الشيء بنفسه أو الدور أو التسلسل، وإن كان ثبوت ما أخبر بالشرع بمعنى أن ثبوته بإخبار من ثبتت رسالته بالمعجزة عن الله تعالى بذلك وليس حاصل الكلام على هذا أنه يقول: الدليل على أنه يجب قبول قولي أني أقول يجب قولي حتى يلزم ما يلزم بل حاصله أنه يقول: يجب قبول قولي لأنه ثبت أني رسول الله تعالى فيجب صدقي وتصديقي في كل ما أدعيه، وليس في هذا شيء من المحاذير السابقة، وقد صرح السيد السند في شرح المواقف بأنه يثبت الشرع وتجب المتابعة بمجرد دعوى الرسالة مع اقتران المعجزة وتمكن المبعوث إليه العاقل من النظر وإن لم ينظر، وذكر أنه حينئذ لا يجوز للمكلف الاستمهال ولو استمهل لم يجب الإمهال لجريان العادة بإيجاب العلم عقيب النظر الذي هو متمكن منه فعلم أنه بمجرد دعوى الرسالة مع ما ذكر يثبت الوجوب بإخباره وهو ثبوت الشرع لأن معنى الثبوت به هو الثبوت بالإخبار عن الله تعالى حقيقة أو حكما وعلى هذا لا يتأتى الترديد الذي ذكره بقوله لأن ذلك الشرع إما أن يكون إلخ فليتأمل، وعن الثاني بأن وجوب الاحتراز عن العقاب ليس أمرا أجنبيا عن وجوب كذا حتى يتوجه عليه الترديد الذي ذكره بل هو   (1) نصّ الآية: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ [الأنبياء. 16] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 37 نفس وجوب كذا أو لازمه إذ الاحتراز ليس إلا بالإتيان بكذا الذي هو الواجب فوجوب الاحتراز أما وجوب كذا أو لازمه فوجوبه بوجوبه فلا يلزم الترديد المذكور، وعن الثالث بأنه إن أراد بقوله إن ماهية الواجب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من العقاب أن حصول الواجب في الخارج بالإتيان به إنما هو بسبب حصول الخوف فليس الكلام فيه ومع ذلك أنا لا نسلم أن الإتيان بالواجب متوقف على حصول الخوف وإن أراد أن تحقق وجوب الواجب أي تعلق وجوبه بالمكلف الذي هو التكليف التنجيزي متوقف على حصول الخوف المذكور فهو ممنوع كما هو ظاهر اه فتدبر. وأنت تعلم أن الاستدلال بالآية على تقدير تمامه لا يختص بالمعتزلة بل يشاركهم في ذلك أحد فريقي الحنفية من أهل السنة وهم الماتريدية وعامة مشايخ سمرقند لأنهم وإن لم يقولوا كالمعتزلة بأن العقل حاكم بالحسن والقبح اللذين أثبتوهما جميعا لكنهم قالوا: إن العقل آلة للعلم بهما فيخلقه الله تعالى عقيب نظر العقل نظرا صحيحا وأوجبوا الإيمان بالله تعالى وتعظيمه وحرموا نسبة ما هو شنيع إليه سبحانه حتى روي عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه قال: لو لم يبعث الله تعالى رسولا لوجب على الخلق معرفته، وقد صرح غير واحد من علمائهم بأن العقل حجة من حجج الله تعالى ويجب الاستدلال به قبل ورود الشرع، واحتجوا في ذلك بما أخبر الله تعالى به عن إبراهيم عليه السلام من قوله لأبيه وقومه إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنعام: 74] حيث قال ذلك ولم يقل أوحي إلي ومن استدلاله بالنجوم ومعرفة الله تعالى بها وجعلها حجة على قومه وكذاك كل الرسل حاجوا قومهم بحجج العقل كما ينبىء عنه قوله تعالى: قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [إبراهيم: 10] الآية بقوله تعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ [المؤمنون: 117] الآية حيث لم يقل ومن يدع مع الله إلها آخر بعد ما أوحى إليه أو بلغته الدعوة وبقوله سبحانه خبرا عن أهل النار وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير حيث أخبروا أنهم صاروا في النار لتركهم الانتفاع بالسمع والعقل. وفيه أنهم لو انتفعوا بالعقول في معرفة الصانع قبل ورود الشرع لم يصيروا في النار وبأن الحجج السمعية لم تكن حججا إلا باستدلال عقلي، وبأن دعاء جميع الكفرة إلى دين الإسلام واجب على الأمة ومعلوم أن الدهرية لا يحتج عليهم بكلام الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام فلم يبق إلا حجج العقول إلى غير ذلك، وحينئذ يقال لهم: لو وجب على الخلق معرفة الله تعالى والإيمان به قبل بعثة رسول لزم تعذيب الكافر قبلها لإخباره تعالى بأنه لا يغفر الشرك به وقد نفى التعذيب في الآية فلا وجوب ضرورة انتفاء الملزوم بانتفاء اللازم على نهج ما فعل مع المعتزلة، والإمام الرازي بعد أن ضعف الاستدلال بالآية وأثبت الوجوب العقلي ذكر في الآية وجهين، الأول حمل الرسول على العقل، والثاني تخصيص العموم بأن يقال المراد وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ في الأعمال التي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالشرع إلا بعد مجيء الشرع ثم قال: والذي نرتضيه ونذهب إليه أن مجرد العقل سبب في أن يجب علينا فعل ما ينتفع به وترك ما يتضرر به ويمتنع أن يحكم العقل عليه تعالى بوجوب فعل أو ترك فعل اه. وأنت تعلم ما قيل من حمل الرسول على العقل وهو خلاف استعمال القرآن الكريم، ويبعده توبيخ الخزنة الكفار بقولهم أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ [غافر: 50] ولم يقولوا أو لم تكونوا عقلاء، وحمل الرسول فيه على العقل مما لا يرتضيه العقل، واعتذر هو عن التخصيص بأنه وإن كان عدولا عن الظاهر إلا أنه يجب المصير إليه إذا قام الدليل عليه وقد قام بزعمه. وأبو منصور الماتريدي ومتبعوه حملوا الآية على نفي تعذيب الاستئصال في الدنيا، وذهب هؤلاء إلى تعذيب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 38 أهل الفترة بترك الإيمان والتوحيد وهم كل من كان بين رسولين ولم يكن الأول مرسلا إليهم ولا أدركوا الثاني، واعتمد القول بتعذيبهم النووي في شرح مسلم فقال: إن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان في النار وليس في هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة فإن هؤلاء كانت بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الرسل عليهم السلام والظاهر أن النووي يكتفي في وجوب الإيمان على كل أحد ببلوغه دعوة من قبله من الرسل وإن لم يكن مرسلا إليه فلا منافاة بين حكمه بأنهم أهل فترة بالمعنى السابق وحكمه بأن الدعوة بلغتهم خلافا للآبي في زعمه ذلك، نعم إنما تلزم المنافاة لو ادعى أن من تقدمهم من الرسل مرسل إليهم وليس فليس. وإلى ذلك ذهب الحليمي فقال في منهاجه: إن العاقل المميز إذا سمع أية دعوة كانت إلى الله تعالى فترك الاستدلال بعقله على صحتها وهو من أهل الاستدلال والنظر كان بذلك معرضا عن الدعوة فكفر ويبعد أن يوجد شخص لم يبلغه خبر أحد من الرسل على كثرتهم وتطاول أزمان دعوتهم ووفور عدد الذين آمنوا بهم واتبعوهم والذين كفروا بهم وخالفوهم فإن الخبر قد يبلغ على لسان المخالف كما يبلغ على لسان الموافق (1) ولو أمكن أن يكون لم يسمع قط بدين ولا دعوة نبي ولا عرف أن في العالم من يثبت إلها ولا نرى أن ذلك يكون فأمره على الاختلاف في أن الإيمان هل يجب بمجرد العقل أو لا بد من انضمام النقل، وهذا صريح في ثبوت تكليف كل أحد بالإيمان بعد وجود دعوة أحد من الرسل وإن لم يكن رسولا إليه، وبالغ بعضهم في اعتماد ذلك حتى قال: فمن بلغته دعوة أحد من الرسل عليهم السلام بوجه من الوجوه فقصر في البحث عنها فهو كافر من أهل النار فلا تغتر بقول كثير من الناس بنجاة أهل الفترة مع أخبار النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن آباءهم الذين مضوا في الجاهلية في النار اه. والذي عليه الأشاعرة من أهل الكلام والأصول والشافعية من الفقهاء أن أهل الفترة لا يعذبون وأطلقوا القول في ذلك، وقد صح تعذيب جماعة من أهل الفترة، وأجيب بأن أحاديثهم آحاد لا تعارض القطع بعدم التعذيب قبل البعثة، وبأنه يجوز أن يكون تعذيب من صح تعذيبه منهم لأمر مختص به يقتضي ذلك علمه الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم نظير ما قيل في الحكم بكفر الغلام الذي قتله الخضر عليه السلام مع صباه، وقيل إن تعذيب هؤلاء المذكورين في الأحاديث مقصور على من غير وبدل من أهل الفترة بما لا يعذر به كعبادة الأوثان وتغيير الشرائع كما فعل عمرو بن لحي ولا يخفى أن هذا لا يوافق إطلاق هؤلاء الأئمة ولا القول بأنه لا وجوب إلا بالشرع ولو أمكن أن يكون من ثبت تعذيبه من اتباع من بقي شرعه إذ ذاك كعيسى عليه السلام لم يبق أشكال أصلا، واستدل بعض من يقول بتعذيبهم مطلقا بما أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول والطبراني وأبو نعيم عن معاذ بن جبل عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلا وبالهالك في الفترة وبالهالك صغيرا فيقول الممسوخ عقلا: يا رب لو آتيتني عقلا ما كان من آتيته عقلا بأسعد بعقله مني ويقول الهالك في الفترة: يا رب لو أتاني منك عهد ما كان من أتاه منك عهد بأسعد بعهدك مني ويقول الهالك صغيرا: يا رب لو آتيتني عمرا ما كان من آتيته عمرا بأسعد بعمره مني فيقول لهم الرب تبارك وتعالى: فاذهبوا فادخلوا جهنم ولو دخلوها ما ضرتهم شيئا فتخرج عليهم قوابص من نار يظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله تعالى من شيء فيرجعون سراعا ويقولون: يا ربنا خرجنا وعزتك نريد دخولها فخرجت علينا قوابص من نار ظننا أن قد أهلكت ما خلق الله تعالى من شيء ثم يأمرهم ثانية فيرجعون لذلك ويقولون كذلك فيقول الرب تعالى خلقتكم على علمي وإلى علمي تصيرون يا   (1) قال البغوي في التهذيب: من لم تبلغه الدعوة لا يجوز قتله قبل أن يدعى إلى الإسلام فإن قتل قبل أن يدعى وجب على قاتله الدية والكفارة وقال التاج السبكي لا يجب القصاص على قاتله على الصحيح، وعند أبي حنيفة لا يجب الضمان بقتله اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 39 نار ضميهم فتأخذهم النار» وبعض الأخبار يقتضي أن منهم من يعذب ومنهم من لا يعذب. فقد أخرج أحمد وابن راهويه وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أربعة يحتجون يوم القيامة رجل أصم لا يسمع شيئا ورجل أحمق ورجل هرم ورجل مات في فترة فأما الأصم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئا وأما الأحمق فيقول: رب جاء الإسلام والصبيان يحذفونني بالبعر وأما الهرم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب ما أتاني لك رسول فيأخذ سبحانه مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم رسولا أن ادخلوا النار فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما ومن لم يدخلها سحب إليها . وأخرج قاسم بن أصبغ والبزار وأبو يعلى وابن عبد البر في التمهيد عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يؤتى يوم القيامة بأربعة بالمولود والمعتوه ومن مات في الفترة والشيخ الهرم الفاني كلهم يتكلم بحجته فيقول الرب تبارك وتعالى لعنق من جهنم: ابرزي ويقول لهم: إني كنت أبعث إلى عبادي رسلا من أنفسهم وإني رسول نفسي إليكم فيقول لهم: ادخلوا هذه فيقول من كتب عليه الشقاء: يا رب أتدخلناها ومنها كنا نفر وأما من كتب له السعادة فيمضي فيقتحم فيها فيقول الرب تعالى: قد عاينتموني فعصيتموني فأنتم لرسلي أشد تكذيبا ومعصية فيدخل هؤلاء الجنة وهؤلاء النار» إلى غير ذلك من الأخبار، ويحتج بها من قال بانقسام ذراري المشركين بل وذراري المؤمنين وفي القلب من صحتها شيء وإن قال في الإصابة: إنها وردت من عدّة طرق وعلى تقدير صحتها فمعارضها أصح منها، والذي يميل إليه القلب أن العقل حجة في معرفة الصانع تعالى ووحدته وتنزهه عن الولد سبحانه قبل ورود الشرع للأدلة السابقة وغيرها وإن كان في بعضها ما يقال وإرسال الرسل وإنزال الكتب رحمة منه تعالى أو أن ذلك لبيان ما لا ينال بالعقول من أنواع العبادات والحدود فلا يرد أنه لو كان العقل حجة ما أرسل الله تعالى رسولا ولا كتفى به. وقيل في جوابه: لما كان أمر البعث والجزاء مما يشكل مع العقل وحده إلا بعظيم تأمل فيه حرج يعذر الإنسان بمثله ولا إيمان بدونه بعث الله تعالى الرسل عليهم السلام لبيان ما به تتمة الدين لا لنفس معرفة الخالق فإنها تنال ببداية العقول فالبعرة تدل على البعيرة والأثر على المسير فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج ألا تدل على اللطيف الخبير. وأيضا إن الله تعالى لم يدعنا ورسولا من أول الأمر إلى آخره والحجة كانت قائمة بالواحد كما بقيت بمحمد صلّى الله عليه وسلّم إلى يوم القيامة ولم يدل ذلك على أن الأول لم يكن حجة كافية، وكذلك لم يدعنا سبحانه والبيان بآية واحدة بل من علينا جل شأنه بآيات متكررة ولا يدل ذلك أن الآية الواحدة لم تكن حجة كافية. وقوله تعالى خبرا عن قول الخزنة لأهل النار: أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ [غافر: 50] توبيخ بالأظهر وهو لا يدل على أن الآخر ليس بحجة، وقوله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [المائدة: 165] على معنى لئلا يكون لهم احتجاج بزعمهم بأن يقولوا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا [طه: 134] ، وقوله تعالى: ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها (1) غافِلُونَ [الأنعام: 131] محمول على الإهلاك بعذاب الاستئصال في الدنيا على تكذيب الرسل وأما جزاء الكفر فالنار في العقبى، وكذا يقال في الآية التي نحن فيها لكثرة ما يدعو إليه فلا عذر لمن لم يعرف ربه سبحانه من أهل الفترة إذا كان عاقلا مميزا متمكنا من النظر والاستدلال لا سيما إذا بلغته دعوة رسول من الرسل عليهم السلام ولا يكاد يوجد من لم تبلغه كما سمعت عن الحليمي وقيل: بوجوده في أمريقا (2) وهي   (1) وفسرت الغفلة بغفلة إهمال الحجة، وقيل: غافلون بسبب خفائها تأمل اه منه. (2) الذي رأيته في بعض كتب المتأخرين أن أول من كشف عنها أماريكوس القبطان وبه سميت ثم قيل فيها: أمريكا تخفيفا اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 40 المسماة بيكي دنيا قبل أن يظفر بها في حدود الألف بعد الهجرة كرشتوفيل المشهور بقلوبنو فإن أهلها على ما بلغنا إذ ذاك لم يسمعوا بدعوة رسول أصلا، ثم المفهوم من كلام الأجلة أن النزاع إنما هو بالنسبة لأحكام الإيمان بالله تعالى بخلاف الفروع فلا خلاف في أنها لا تثبت إلا في حق من بلغته دعوة من أرسل إليه وهو الظاهر، نعم ما اتفق عليه الملل من الفروع هل هو كالإيمان حتى يجري فيه النزاع المتقدم فيه نظر، وأما الإيمان بنبينا صلّى الله عليه وسلّم فليس بواجب على من لم تبلغه دعوته إذ ليس للعقل في ذلك مجال كما لا يخفى على ذي عقل بل قال حجة الإسلام الغزالي. الناس بعد بعثته عليه الصلاة والسلام أصناف: صنف لم تبلغهم دعوته ولم يسمعوا به أصلا فأولئك مقطوع لهم بالجنة، وصنف بلغتهم دعوته وظهور المعجزة على يده وما كان عليه صلّى الله عليه وسلّم من الأخلاق العظيمة والصفات الكريمة ولم يؤمنوا به كالكفرة الذين بين ظهرانينا فأولئك مقطوع لهم بالنار، وصنف بلغتهم دعوته عليه الصلاة والسلام وسمعوا به لكن كما يسمع أحدنا بالدجال وحاشا قدره الشريف صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك فهؤلاء أرجو لهم الجنة إذ لم يسمعوا ما يرغبهم في الإيمان به اه، ولعل القطع بالجنة للأولين ورجاءها للآخرين إنما يكونان إذا كانوا مؤمنين بالله تعالى وأما إذا لم يكونوا كذلك فهم على الخلاف، ثم إن مسألة عدم الوجوب قبل ورود الشرع إنما يتم الاستدلال عليه بالآية عند المستدلين بها كما قال الأصفهاني إذا كان المقصود تحصيل غلبة الظن فيها فإن كانت علمية فلا يمكن إثباتها بالدلائل الظنية، وفيها عندهم نوع اكتفاء أي وما كنا معذبين ولا مثيبين حتى نبعث رسولا، قالوا: واستغنى عن ذكر الثواب بذكر مقابله من العذاب ولم يعكس لأنه أظهر منه في تحقق معنى التكليف فتأمل. وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً بيان لكيفية وقوع العذاب بعد البعثة، وليس المراد بالإرادة الإرادة الأزلية المتعلقة بوقوع المراد في وقته المقدر له أصلا إذ لا يقارنها الجزاء الآتي، ولا تحققها بالفعل إذ لا يتخلف عنه المراد بل دنو وقته كما في قوله تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النحل: 1] أي إذا دنا وقت تعلق إرادتنا بإهلاكها بأن نعذب أهلها بما ذكر من عذاب الاستئصال الذي بينا أنه لا يصح منا قبل البعثة أو بنوع مما ذكرنا شأنه من مطلق العذاب أعني عذاب الاستئصال لما لهم من الظلم والمعاصي دنوا تقتضيه الحكمة من غير أن يكون له حد معين أَمَرْنا بالطاعة كما أخرجه ابن جرير وغيره عن ابن عباس وسعيد بن جبير على لسان الرسول المبعوث إلى أهلها مُتْرَفِيها متنعميها وجباريها وملوكها، وخصهم بالذكر مع توجه الأمر إلى الكل لأنهم أئمة الفسق ورؤساء الضلال وما وقع من سواهم باتباعهم ولأن توجه الأمر إليهم آكد، ويدل على تقدير الطاعة إن فسق وعصى متقاربان بحسب اللغة وإن خص الفسق في الشرع بمعصية خاصة وذكر الضد يدل على الضد كما أن ذكر النظير يدل على النظير فذكر الفسق والمعصية يدل على تقدير الطاعة كما قيل في قوله تعالى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] فيكون نحو أمرته فأساء إلي أي أمرته بالإحسان بقرينة المقابلة بينهما المعتضدة بالعقل الدال على أنه لا يؤمر بالإساءة كما لا يؤمر بالفسق، والنقل كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ [الأعراف: 28] ، وجوز أن ينزل الفعل منزلة اللازم كما في يعطي ويمنع أي وجهنا الأمر. فَفَسَقُوا فِيها أي خرجوا عن الطاعة وتمردوا، واختار الزمخشري أن الأصل أمرناهم بالفسق ففسقوا إلا أنه يمتنع إرادة الحقيقة للدليل فيحمل على المجاز إما بطريق الاستعارة التمثيلية بأن يشبه حالهم في تقلبهم في النعم مع عصيانهم وبطرهم بحال من أمر بذلك أو بطريق الاستعارة التمثيلية بأن يشبه حالهم في تقلبهم في النعم مع عصيانهم وبطرهم بحال من أمر بذلك أو بطريق الاستعارة التصريحية التبعية بأن يشبه إفاضة النعم المبطرة لهم وصبها عليهم بأمرهم بالفسق بجامع الحمل عليه والتسبب له ويتمم أمر الاستعارة في الصورتين بما لا يخفى، وقيل: الأمر استعارة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 41 للحمل والتسبب لاشتراكهما في الإفضاء إلى الشيء وآثر أن تقدير أمرناهم بالطاعة ففسقوا غير جائز لزعمه أنه حذف ما لا دليل عليه بل الدليل قائم على خلافه لأن قولهم أمرته فقام وأمرته فقعد لا يفهم منه إلا الأمر بالقيام والقعود ولو أردت خلاف ذلك كنت قد رمت من مخاطبك علم الغيب، ولا نقض بنحو قولهم: أمرته فعصاني أو فلم يمتثل أمري لأنه لما كان منافيا للأمر علم أنه لا يصلح قرينة للمحذوف فيكون الفعل في ذلك من باب يعطي ويمنع. واعترض بأنه لم لا يجوز أن يكون من قبيل أمرته فعصاني لما سمعت من تقارب فسق وعصى وبأن قرينة إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ لم لا تكفي في تقدير وجهنا الأمر فوجد منهم الفسق لا أن يقدر متعلق الأمر ثم لم لا يجوز أن يكون التعقيب بالضد قرينة للضد الآخر ونحوه أكثر من أن يحصى، وأجاب في الكشف عن ذلك فقال: الجواب عن الأولين أن صاحب الكشاف منع أن يراد أمرنا بالطاعة وأما أن يراد توجيه الأمر فلم يمنعه من هذا المسلك بل المانع أن تخصيص المترفين حينئذ يبقى غير بين الوجه وكذلك التقييد بزمان إرادة الإهلاك فإن أمره تعالى واقع في كل زمان ولكل أحد ولظهوره لم يتعرض له، وعن الثالث أن شهرة الفسق في أحد معنييه تمنع من عده مقابلا بمعنى العصيان على أن ما ذكرنا من نبو المقام عن الإطلاق قائم في التقييد بالطاعة، وفيه قول بسلامة الأمير ونظر بعين الرضا وغفلة عن وجه التخصيص الذي ذكرناه وهو بين لا غبار عليه، وكذا وجه التقييد بالزمان المذكور، والحق أن ما ذكره الزمخشري من الحمل وجه جميل إلا أن عدم ارتضائه ما روته الثقات عن ترجمان القرآن وغيره من تقدير الطاعة مع ظهور الدليل ومساعدة مقام الزجر عن الضلال والحث على الاهتداء لا وجه له كما لا يخفى على من له قلب. وحكى أبو حاتم عن أبي زيد أن أَمَرْنا بمعنى كثرنا واختاره الفارسي، واستدل أبو عبيدة على صحة هذه اللغة بما أخرجه أحمد وابن أبي شيبة في مسنديهما والطبراني في الكبير من حديث سويد بن هبيرة «خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة» أي كثيرة النتاج، وأمر كما قيل من باب ما لزم وعدي باختلاف الحركة فيقال أمرته بفتح الميم فأمر بكسرها وهو نظير شتر الله تعالى عينه فشترت وجدع أنفه فجدع وثلم سنه فثلمت، وقيل: إن المكسور يكون متعديا أيضا وأنه قرأ به الحسن ويحيى بن يعمر وعكرمة، وحكى ذلك النحاس وصاحب اللوامح عن ابن عباس وأن رد الفراء له غير ملتفت إليه لصحة النقل، وفي الكشف أن أمر بمعنى كثر كثير وأما أمرته المتعدي فقال الزمخشري في الفائق ما معناه: ما عول هذا القائل إلا على ما جاء في الخبر أعني مهرة مأمورة وما هو إلا من الأمر الذي هو ضد النهي وهو مجاز أيضا كما في الآية كأن الله تعالى قال لها كوني كثيرة النتاج فكانت فهي إذن مأمورة على خلاف منهية، وقيل: أصله مومرة فعدل عنه إلى مأمورة لطلب الازدواج مثل قوله صلّى الله عليه وسلّم «مأزورات غير مأجورات» حيث لم يقل موزورات. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن أبي إسحاق وأبو رجاء وعيسى بن عمر وعبد الله بن أبي زيد والكلبي «آمرنا» بالمد وكذلك جاء عن ابن عباس والحسن وقتادة وأبي العالية وابن هرمز وعاصم وابن كثير وأبي عمرو ونافع وهو اختيار يعقوب ومعناه عند الجميع كثرنا وبذلك أيد التفسير السابق على القراءة المشهورة. وقرأ ابن عباس وأبو عثمان النهدي والسدي وزيد بن علي وأبو العالية «أمّرنا» بالتشديد، وروي ذلك أيضا عن علي والحسن والباقر رضي الله تعالى عنهم. وعاصم وأبي عمرو، ومعناه على هذه القراءة قيل كثرنا أيضا، وقيل: بمعنى وليناهم وجعلناهم أمراء واللازم من ذلك أمر (1) بالضم إلحاقا له بالسجايا أي صار أميرا والمراد به من يؤمر ويؤتمر به سواء كان ملكا أم لا على أنه لا محذور لو أريد به الملك أيضا خلافا للفارسي لأن القرية إذا ملك عليها مترف ففسق   (1) أمر مثلث والتقييد بالضم لأنه حينئذ يتعين لهذا المعنى قائلهم اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 42 ثم آخر ففسق وهكذا كثر الفساد وتوالى الكفر ونزل بهم العذاب على الآخر من ملوكهم فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ أي كلمة العذاب السابق بحوله أو بظهور معاصيهم أو بانهماكهم فيها فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً لا يكتنه كنهه ولا يوصف، والتدمير هو الإهلاك مع طمس الأثر وهدم البناء، والآية تدل على إهلاك أهل القرية على أتم وجه وإهلاك جميعهم لصدور الفسق منهم جميعا فإن غير المترف يتبعه عادة لا سيما إذا كان المترف من علماء السوء، ومن هنا قيل: المعنى وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها واتبعهم غيرهم فحق عليها القول الآية، وقيل: هلاك الجميع لا يتوقف على التبعية فقد قال سبحانه: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: 25] وصح عن أم المؤمنين زينب بنت جحش «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل عليها فدعا يقول لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها قالت زينب: قلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال: نعم إذا كثر الخبث» هذا والظاهر أن أَمَرْنا جواب إذا ولا تقديم ولا تأخير في الآية والإشكال المشهور فيها على هذا التقدير من أنها تدل على أنه سبحانه يريد إهلاك قوم ابتداء فيتوسل إليه بأن يأمرهم فيفسقون فيهلكهم وإرادة ضرر الغير ابتداء من غير استحقاق الإضرار كالاضرار كذلك مما ينزه عنه تعالى لمنافاته للحكمة قد مرت الإشارة إلى جوابه، وأجاب عنه بعضهم بأن في الآية تقديما وتأخيرا والأصل إذا أمرنا مترفي قرية ففسقوا فيها أردنا إهلاكها فحق عليها القول، ونظيره على ما قيل قوله تعالى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [النساء: 102] وآخرون بأن قوله تعالى: أَمَرْنا إلخ في موضع الصفة لقرية وجواب إذا محذوف للاستغناء عنه بما في الكلام من الدلالة عليه كما قيل في قوله تعالى: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها إلى قوله سبحانه: وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ [الزمر: 71- 47] وقول الهذلي وهو آخر قصيدة: حتى إذا أسلكوهم في قتائدة (1) ... شلا كما تطرد الجمالة الشردا وقيل في الجواب عن ذلك غير ذلك فتدبر. وَكَمْ أَهْلَكْنا أي كثيرا ما أهلكنا مِنَ الْقُرُونِ تمييز- لكم- والقرن على ما قال الراغب القوم المقترنون في زمان واحد، وعن عبد الله بن أبي أوفى هو مدة مائة وعشرين سنة، وعن محمد بن القاسم المازني وروي مرفوعا أنه مائة سنة ، وجاء أنه صلّى الله عليه وسلّم دعا لرجل فقال: عش قرنا فعاش مائة سنة أو مائة وعشرين ، وعن الكلبي أنه ثمانون سنة، وعن ابن سيرين أنه أربعون سنة مِنْ بَعْدِ نُوحٍ من بعد زمنه عليه السلام كعاد وثمود ومن بعدهم ممن قصت أحوالهم في القرآن العظيم ومن لم تقص، وخص نوح عليه السلام بالذكر ولم يقل من بعد آدم لأنه أول رسول آذاه قومه فاستأصلهم العذاب ففيه تهديد وإنذار للمشركين ولظهور حال قومه لم ينظموا في القرون المهلكة على أن ذكره عليه السلام رمز إلى ذكرهم، ومن الأولى للتبيين لا زائدة والثانية لابتداء الغاية فلذا جاز اتحاد متعلقهما، وقال الحوفي: من الثانية بدل من الأولى وليس بجيد. وَكَفى بِرَبِّكَ أي كفى ربك وقد تقدم الكلام مفصلا آنفا في مثل هذا التركيب بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً محيطا بظواهرها وبواطنها فيعاقب عليها، وتقديم الخبير لتقدم متعلقه من الاعتقادات والنيات التي هي مبادئ الأعمال الظاهرة تقدما وجوديا، وقيل تقدما رتبيا لأن العبرة بما في القلب كما يدل عليه «إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم ونياتكم» وإنما الأعمال بالنيات ونية المؤمن خير من عمله إلى غير ذلك أو   (1) قتائدة اسم عقبة اه صحاح. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 43 لعمومه من حيث يتعلق بغير المبصرات أيضا، والجار والمجرور متعلق بخبيرا بصيرا على سبيل التنازع. وقال الحوفي: متعلق بكفى وهو وهم، وفي تذييل ما تقدم بما ذكر إشارة على ما قيل إلى أن البعث والأمر وما يتلوهما من فسقهم ليس لتحصيل العلم بما صدر عنهم من الذنوب فإن ذلك حاصل قبل ذلك وإنما هو لقطع الأعذار وإلزام الحجة من كل وجه. وفي الكشاف أنه سبحانه نبه بقوله تعالى: وَكَفى بِرَبِّكَ إلخ على أن الذنوب هي الأسباب المهلكة لا غير، وبيانه كما في الكشف أنه جل شأنه لما عقب إهلاكهم بعلمه بالذنوب علما أتم دل على أنه تعالى جازاهم بها وإلا لم ينتظم الكلام، وأما الحصر فلأن غيرها لو كان له مدخل كان الظاهر ذكره في معرض الوعيد ثم لا يكون السبب تاما ويكون الكلام ناقصا عن أداء المقصود فلزم الحصر وهو المطلوب ولا أرى كلامه خاليا عن دسيسة اعتزال تظهر بالتأمل ولعله لذلك لم يتعرض له العلامة البيضاوي مَنْ كانَ يُرِيدُ أي بعلمه كما أخرجه ابن أبي حاتم عن الضحاك الْعاجِلَةَ فقط من غير أن يريد معها الآخرة كما ينبىء عنه الاستمرار المستفاد من زيادة كانَ هنا مع الاقتصاد على مطلق الإرادة في قسميه وقيل لو لم يقيد صدق على مريد العاجلة والآخرة والقسمة تنافي الشركة، ودلالة الإرادة على ذلك لأنها عقد القلب بالشيء وخلوص همه فيه ليس بذاك، والمراد بالعاجلة الدار الدنيا كما روي عن الضحاك أيضا وبإرادتها إرادة ما فيها من فنون مطالبها كقوله تعالى: وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا [الشورى: 20] وجوز أن يراد الحياة العاجلة كقوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها [هود: 15] ورجح الأول بأنه أنسب بقوله تعالى: عَجَّلْنا لَهُ فِيها أي في تلك العاجلة فإن تلك الحياة واستمرارها من جملة ما عجل فالأنسب في ذلك كلمة من كما في قوله عز وجل وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها [آل عمران: 145] ما نَشاءُ أي ما نشاء تعجيله له من نعيمها لا كل ما يريد. لِمَنْ نُرِيدُ تعجيل ما نشاء له، وقال أبو إسحاق الفزاري: أي لمن نريد هلكته ولا يدل عليه لفظ في الآية، والجار والمجرور بدل من الجار والمجرور السابق أعني له فلا يحتاج إلى رابط لأنه في بدل المفردات أو المجرور بدل من الضمير المجرور بإعادة العامل وتقديره لمن نريد تعجيله له منهم، والضمير راجع إلى من وهي موصولة أو شرطية وعلى التقديرين هي منبئة عن الكثرة فهو بدل بعض من كل، وعن نافع أنه قرأ «ما يشاء» بالياء فقيل الضمير فيه لله تعالى فيتطابق القراءتان، وقيل هو لمن فيكون مخصوصا بمن أراد الله تعالى به ذلك كنمروذ وفرعون ممن ساعده الله تعالى على ما أراده استدراجا له، واستظهر هذا بأنه يلزم أن يكون على الأول التفات ووقوع الالتفات في جملة واحدة إن لم يكن ممنوعا فغير مستحسن كما فصله في عروس الأفراح، وتقييد المعجل والمعجل له بما ذكر من المشيئة والإرادة لما أن الحكمة التي يدور عليها فلك التكوين لا تقتضي وصول كل طالب إلى مرامه ولا استيفاء كل واصل لما يطلبه بتمامه، وليس المراد بأعمالهم في قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ [هود: 15] أعمال كلهم ولا كل أعمالهم، وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر، وذكر المشيئة في أحدهما والإرادة في الآخر إن قيل بترادفهما تفنن. ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ مكان ما عجلنا له جَهَنَّمَ يَصْلاها يقاسي حرها كما قال الخليل أو يدخلها كما قيل، والجملة كما قال أبو البقاء حال من الهاء في لَهُ وقال أبو حيان: إنها حال من جَهَنَّمَ وهي مفعول أول لجعلنا ولَهُ الثاني. وجوز أن تكون الجملة مستأنفة وقال صاحب الغينان: مفعول جعلنا الثاني محذوف والتقدير مصيرا أو جزاء ولا حاجة إلى ذلك مَذْمُوماً حال من فاعل يصلي وهو من الذم ضد المدح وفعله ذم وذمته ذيما وذأمته ذأما بمعناه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 44 مَدْحُوراً أي مطرودا مبعدا من رحمة الله تعالى، قال الإمام: إن العقاب عبارة عن مضرة مقرونة بالإهانة والذم بشرط أن تكون دائمة وخالية عن المنفعة فقوله تعالى: جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها إشارة إلى المضرة العظيمة ومَذْمُوماً إشارة إلى الإهانة والذم ومَدْحُوراً إشارة إلى البعد والطرد من رحمته تعالى فيفيد ذلك أن تلك المضرة خالية عن شوب النفع والرحمة وتفيد كونها دائمة وخالية عن التبدل بالراحة والخلاص اه، ولا يخفى أن هذا ظاهر في أن الآية تدل على الخلود وحينئذ يتعين عندنا أن يكون ذلك المريد من الكفرة، وفي إرشاد العقل السليم من كان يريد أي بأعماله التي يعملها سواء كان ترتب المراد عليها بطريق الجزاء كأعمال البر أو بطريق ترتب المعلولات على العلل كالأسباب أو بأعمال الآخرة فالمراد بالمريد على الأول المكفرة وأكثر الفسقة وعلى الثاني أهل الرباء والنفاق والمهاجر للدنيا والمجاهد للغنيمة، وأنت تعلم أن إدراج الفاسق والمهاجر للدنيا والمجاهد للغنيمة إذا كان مؤمنا في التمثيل على القول بدلالة الآية على الخلود مما لا يستقيم على أصولنا نعم يصح على أصول المعتزلة، وقد أدرج الزمخشري الفاسق في ذلك ودسائس الاعتزال منه عامله الله تعالى بعدله أكثر من أن تحصى، وظاهر كلام أبي حيان اختيار كون المريد من الكفرة حيث قال: العاجلة هي الدنيا ومعنى إرادتها إيثارها على الآخرة ولا بد من تقدير محذوف دل عليه المقابل في قوله تعالى: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ إلخ أي من كان يريد العاجلة وسعى لها سعيها وهو كافر عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد، وقيل المراد من كان يريد العاجلة بعمل الآخرة كالمنافق والمرائي والمجاهد للغنيمة والذكر والمهاجر للدنيا إلى آخر ما قال فحكي غير القول الأول الذي يكون يتعين عليه كون المريد من الكفرة بعد أن قدمه بقيل، ويؤيده تفسير كثير من كان يريد العاجلة بمن كان همه مقصورا عليها لا يريد غيرها أصلا فإن ذلك مما لا يكاد يصدق على مؤمن فاسق فإنه لو لم يكن له إرادة للآخرة ما آمن بها، وعلى القول بدخول الفاسق ونحوه ممن لا يحكم له عندنا بالخلود يمنع القول بدلالة الآية على الخلود ويقال لمن أدخل النار مبعد عن رحمة الله تعالى ما دام فيها فيصدق على الفاسق ما دام فيها كما يصدق على الكافر المخلد. وزعم بعضهم أن المريد هو المنافق الذي يغزو مع المسلمين للغنيمة لا للثواب فإن الآية نزلت فيه، وفيه أنه يأبى ذلك ما سبق من أن السورة مكية غير آيات معينة ليست هذه منها على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فافهم وَمَنْ أَرادَ الظاهر على طبق ما مر عن الضحاك أن يراد بعمله أيضا الْآخِرَةَ أي الدار الآخرة وما فيها من النعيم المقيم وَسَعى لَها سَعْيَها أي الذي يحق ويليق بها كما تنبىء عنه الإضافة الاختصاصية سواء كان السعي مفعولا به على أن المعنى عمل عملها أو مصدرا مفعولا مطلقا ويتحقق ذلك بالإتيان بما أمر الله تعالى والانتهاء عما نهى سبحانه عنه فيخرج من يتعبد من الكفرة بما يخترعه من الآراء ويزعم أنه يسعى لها وفائدة اللام سواء للأجل أو للاختصاص اعتبار النية والإخلاص لله تعالى في العمل، واختار بعضهم ولا يخلو عن حسن أنه لا حاجة إلى ما اعتبره الضحاك بل الأولى عدم اعتباره لمكان «وسعى لها سعيها» وحينئذ لا يعتبر فيما سبق أيضا ويكون في الآية على هذا من تحقير أمر الدنيا وتعظيم شأن الآخرة ما لا يخفى على من تأمل. وَهُوَ مُؤْمِنٌ إيمانا صحيحا لا يخالطه قادح، وإيراد الإيمان بالجملة الحالية للدلالة على اشتراط مقارنته لما ذكر في حيز مَنْ فلا تنفع إرادة ولا سعي بدونه وفي الحقيقة هو الناشئ عنه إرادة الآخرة والسعي للنجاة فيها وحصول الثواب، وعن بعض المتقدمين من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله: إيمان ثابت ونية صادقة وعمل مصيب وتلا هذه الآية فَأُولئِكَ إشارة إلى مَنْ بعنوان اتصافه بما تقدم، وما في ذلك من معنى البعد للإشعار بعلو درجتهم وبعد منزلتهم، والجمعية لمراعاة جانب المعنى إيماء إلى أن الإثابة المفهومة من الخبر تقع على وجه الاجتماع أي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 45 فأولئك الجامعون لما مر من الخصال الحميدة أعني إرادة الآخرة والسعي الجميل لها والإيمان كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً مثابا عليه مقبولا عنده تعالى بحسن القبول، وفسر بعضهم السعي هاهنا بالعمل الذي يعبر عنه بفعل فيشمل جميع ما تقدم وهذا غير السعي السابق، وقال بعضهم: هو هو وعلق المشكورية به دون قرينيه إشعارا بأنه العمدة فيها، وأصل السعي كما قال الراغب المشي السريع وهو دون العدو ويستعمل للجد في الأمر خيرا كان أو شرا وأكثر ما يستعمل في الأفعال المحمودة قال الشاعر: إن أجز علقمة بن سعد سعيه ... لا أجزه ببلاء يوم واحد كُلًّا التنوين فيه على المشهور عند النحاة عوض عن المضاف إليه لا تنوين تمكين أي كل الفريقين وهو مفعول نُمِدُّ مقدم عليه أي نزيد مرة بعد مرة بحيث يكون الآنف مددا للسالف وما به الإمداد ما عجل لأحدهما من العطايا العاجلة وما أعد للآخر من العطايا الآجلة المشار إليها بمشكورية السعي وإنما لم يصرح به تعويلا على ما سبق تصريحا وتلويحا واتكالا على ما لحق عبارة وإشارة، وقوله تعالى: هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ بدل من كُلًّا بدل كل على جهة التفصيل أي نمد هؤلاء المعجل لهم وهؤلاء المشكور سعيهم فإن الإشارة متعرضة لذات المشار إليه بما له من العنوان لا للذات فقط كالإضمار ففيه تذكير لما به الإمداد وتعيين للمضاف إليه المحذوف دفعا لتوهم كونه أفراد الفريق الأخير المريد للخير الحقيق بالإسعاف فقط وتأكيد للقصر المستفاد من تقديم المفعول، وقوله تعالى: مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ أي من معطاه الواسع الذي لا تناهي له فهو اسم مصدر واقع موقع اسم المفعول متعلق بنمد مغن عن ذكر ما به الإمداد ومنبه على أن الإمداد المذكور ليس بطريق الاستيجاب بالسعي والعمل بل بمحض التفضل كما قيل: وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ أي دنيويا كان أو أخرويا. والإظهار في موضع الإضمار لمزيد الاعتناء بشأنه والإشعار بعليته للحكم مَحْظُوراً ممنوعا عمن يريده بل هو فائض على من قدر له بموجب المشيئة المبنية على الحكمة وإن وجد فيه ما يقتضي الحظر كالكفر، وهذا في معنى التعليل لشمول الإمداد للفريقين، والتعرض لعنوان الربوبية للإشعار بمبدئيتها لكل من الإمداد وعدم الحظر. انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ كيف في محل النصب بفضلنا على الحال وليست مضافة للجملة كما توهم، والجملة بتمامها في محل نصب بانظر وهو معلق هنا، والمراد كما قال شيخ الإسلام توضيح ما مر من الإمداد وعدم محظورية العطاء بالتنبيه على استحضار مراتب أحد العطاءين والاستدلال بها على مراتب الآخر أي انظر بنظر الاعتبار كيف فضلنا بعضهم على بعض فيما أمددناهم من العطايا الآجلة وتفاوت أهلها على طريقة الاستدلال بحال الأدنى على حال الأعلى كما أفصح عنه قوله تعالى: وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا أي أكبر من درجات الدنيا وتفضيلها لأن التفاوت فيها بالجنة ودرجاتها العالية لا يقادر قدرها ولا يكتنه كنهها. وفي بعض الآثار أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن بين أعلى أهل الجنة وأسفلهم درجة كالنجم يرى في مشارق الأرض ومغاربها وقد أرضى الله تعالى الجميع فما يغبط أحد أحدا» وعن الضحاك الأعلى يرى فضله على من هو أسفل منه والأسفل لا يرى أن فوقه أحدا، وصح أن الله تعالى أعد لعباده الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وروى ابن عبد البر في استيعاب عن الحسن قال: حضر جماعة من الناس باب عمر رضي الله تعالى عنه وفيهم سهيل بن عمرو القرشي وكان أحد الأشراف في الجاهلية وأبو سفيان بن حرب وأولئك المشايخ من قريش فأذن لصهيب وبلال وأهل بدر وكان يحبهم وكان قد أوصى لهم فقال أبو سفيان: ما رأيت كاليوم قط إنه ليؤذن لهؤلاء العبيد ونحن جلوس لا يلتفت إلينا فقال سهيل: وكان أعقلهم أيها القوم إني والله قد أرى الذي وجوهكم فإن كنتم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 46 غضابا فاغضبوا على أنفسكم دعي القوم ودعيتم فأسرعوا وأبطأتم أما والله لما سبقوكم به من الفضل أشد عليكم فوتا من بابكم هذا الذي تنافسون عليه، وفي الكشاف أنه قال: إنما أتينا من قبلنا أنهم دعوا ودعينا فأسرعوا وأبطأنا وهذا باب عمر فكيف التفاوت في الآخرة ولئن حسدتموهم على باب عمر لما أعد الله تعالى لهم في الجنة أكبر وقرىء «أكثر تفضيلا» بالثاء المثلثة، هذا وجوز أن يراد بما به الإمداد العطايا العاجلة فقط، وحمل القصر المذكور على دفع توهم اختصاصها بالفريق الأول فإن تخصيص إرادتهم لها ووصولهم إليها بالذكر من غير تعرض لبيان النسبة بينها وبين الفريق الثاني إرادة ووصولا مما يوهم اختصاصها بالأولين فالمعنى كل الفريقين نمد بالعطايا العاجلة لا من ذكرنا إرادته لها فقط من الفريق الأول من عطاء ربك الواسع وما كان عطاؤه الدنيوي محظورا من أحد ممن يريد وممن يريد غيره انظر كيف فضلنا في ذلك العطاء بعض كل من الفريقين على بعض آخر منهما وللآخرة إلخ، وإلى نحو هذا ذهب الحسن وقتادة فقد روي عنهما أنهما قالا: في معنى الآية إن الله تعالى يرزق في الدنيا مريدي العاجلة الكافرين ومريدي الآخرة المؤمنين ويمد الجميع بالرزق، وذكر الرزق من بين ما به الإمداد قيل على سبيل التمثيل، وقيل تخصيص لدلالة السياق. وجوز أن يكون المراد به معناه اللغوي فيتناول الجاه ونحوه كما يقال السعادة أرزاق، واعتبر الجمهور عدم المحظورية بالنسبة إلى الفريق الأول تحقيقا لشمول الإمداد له حيث قالوا: لا يمنعه من عاص لعصيانه. واعترض بأنه يقتضي كون القصر لدفع توهم اختصاص الإمداد الدنيوي بالفريق الثاني مع أنه لم يسبق في الكلام ما يوهم ثبوته له فضلا عن إيهام اختصاصه وفيه تأمل، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن معنى مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ من الطاعات ويمد بها مريد الآخرة والمعاصي ويمد بها مريد العاجلة فيكون العطاء عبارة عما قسم الله تعالى للعبد من خير أو شر، وأنت تعلم أنه يبعد غاية البعد إرادة المعاصي من العطاء ولعل نسبة ذلك للحبر غير صحيحة فلا تغفل واعلم أن التقسيم الذي تضمنته الآية غير حاصر وذلك غير مضر والتقسيم الحاصر أن كل فاعل إما أن يريد بفعله العاجلة فقط أو يريد الآخرة فقط أو يريدهما معا أو لم يرد شيئا والقسمان الأولان قد علم حكمهما من الآية، والقسم الثالث ينقسم إلى ثلاثة أقسام لأنه إما تكون إرادة الآخرة أرجح أو تكون مرجوحة أو تكون الإرادتان متعادلتين، وفي قبول العمل في القسم الأول بحث عند الإمام قال: يحتمل عدم القبول لما روي عن رب العزة جل شأنه: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشركه» . ويمكن أن يقال: إذا كانت إرادة الآخرة راجحة على إرادة الدنيا تعارض المثل بالمثل فيبقى القدر الزائد خالصا للآخرة فيجب كونه مقبولا، وإلى عدم القبول ذهب العز بن عبد السلام، ومال إلى القول بأصل الثواب حجة الإسلام الغزالي حيث قال: لو كان اطلاع الناس مرجحا أو مقويا لنشاطه ولو فقد لم تترك العبادة ولو انفرد قصد الرياء لما أقدم فالذي نظنه والعلم عند الله تعالى أنه لا يحبط أصل الثواب ولكنه يعاقب على مقدار قصد الرياء ويثاب على مقدار قصد الثواب، وهذا ظاهر في أن الرياء ولو محرما لا يمنع أصل الثواب عنده إذا كان باعث العبادة أغلب، وذكر ابن حجر أن الذي يتجه ترجيحه أنه متى كان المصاحب بقصد العبادة رياء مباحا لم يقتض إسقاط ثوابها من أصله بل يثاب على مقدار قصد العبادة وإن ضعف أو محرما اقتضى سقوطه من أصله للأخبار، وقوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة: 7] قد لا يعكر على ذلك لأن تقصيره بقصد المحرم اقتضى سقوط قصد الأجر فلم تبق له ذرة من خير فلم تشمله الآية، واتفقوا على عدم قبول ما ترجح فيه باعث الدنيا أو كان الباعثان فيه متساويين، وخص الغزالي الأحاديث الدالة بظاهرها على عدم القبول مطلقا بهذين القسمين، وتمام الكلام في هذا المقام في الزواجر عن اقتراف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 47 الكبائر، وأما القسم الرابع عند القائلين بأن صدور الفعل من القادر يتوقف على حصول الداعي فهو ممتنع الحصول والذين قالوا إنه لا يتوقف قالوا ذلك الفعل لا أثر له في الباطن وهو محرم في الظاهر لأنه عبث والله تعالى أعلم. ومن باب الإشارة في الآيات سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا فيه أربع إشارات إشارة التقديس بسبحان فهو تنزيه له تعالى عن اللواحق المادية والنقائص التشبيهية وعن جميع ما يرتسم في الأذهان، وإشارة الغيرة بعدم ذكر الاسم الظاهر من أسمائه الحسنى عزت أسماؤه وكذا بعدم ذكر اسمه صلّى الله عليه وسلّم. وإشارة الغيب بذكر ضمير الغائب، وإشارة السر بذكر الليل فإنه محل السر والنجوى، وعن بعض الأكابر لولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا، وذكر غير واحد إن في اختيار عنوان العبودية إشارة إلى أنها أعلى المقامات وقد أشير إلى ذلك فيما سلف، وأصلها الذل والخضوع وحيث إن الذل لشيء لا يكون إلا بعد معرفته دلت العبودية لله تعالى على معرفته سبحانه وكمالها على كمالها، ومن هنا فسر ابن عباس قوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] بقوله: إلا ليعرفون وهي تسعة وتسعون سهما بعدد الأسماء الإلهية التي من أحصاها دخل الجنة لكل اسم إلهي عبودية مختصة به يتعبد له من يتعبد من المخلوقين ولم يتحقق بهذا المقام على كماله مثل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكان عبدا محضا زاهدا في جميع الأحوال التي تخرجه عن مرتبة العبودية وشهد الله تعالى له بأنه عبد مضاف إليه من حيث هويته هنا واسمه الجامع في قوله سبحانه وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ [الجن: 19] ولما أمر صلّى الله عليه وسلّم بتعريف مقامه يوم القيامة قيد ذلك فقال عليه الصلاة والسلام «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» بالراء أو الزاي على اختلاف الروايتين وهي لما علمت من معناها لا يمكن أن تكون نعتا إلهيا أصلا بل هي صفة خاصة لا اشتراك فيها فقد قال أبو يزيد البسطامي: ما وجدت شيئا يتقرب به إليه تعالى إذ رأيت كل نعت يتقرب به للألوهية فيه مدخل فقلت: يا رب بماذا أتقرب إليك؟ قال: تقرب إلي بما ليس لي قلت: يا رب وما الذي ليس لك؟ قال: الذلة والافتقار. وذكر أن العبد مع الحق في حال عبوديته كالظل مع الشخص في مقابلة السراج كلما قرب إلى السراج عظم الظل ولا قرب من الله تعالى إلا بما هو لك وصف أخص لا له سبحانه وكلما بعد عن السراج صغر الظل فإنه ما يبعدك عن الحق إلا خروجك عن صفتك التي تستحقها وطمعك في صفته تعالى، كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار وهما صفتان لله تعالى: وذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان: 49] وهما كذلك وإلى هذا أشار صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «أعوذ بك منك» وأول بعضهم الليل بظلمة الغواشي البدنية والتعلقات الطبيعية وقال: إن الترقي والعروج لا يكون إلا بواسطة البدن وقد صرحوا بأنه صلّى الله عليه وسلّم أسري به وكذا عرج يقظة لم يفارق بدنه إلا أن العارف الجامي قال: إن ذلك إلى المحدد ثم ألقي البدن هناك وقد تقدم ذلك، وفي أسرار القرآن أنه عليه الصلاة والسلام أسري به من رؤية أفعاله إلى رؤية صفاته ومن رؤية صفاته إلى رؤية ذاته فرأى الحق بالحق وكانت صورته روحه وروحه عقله وعقله قلبه وقلبه سره وكأنه أراد أنه صلّى الله عليه وسلّم حصل له هذا الإسراء وإلا فإرادة أن الإسراء الذي في الآية هو هذا مما لا ينبغي. ولا يخفى أن الإسراء غير المعراج نعم قد يطلقون الإسراء على المعراج بل قيل إنهما إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، وقد ذكروا أن لجميع الوارثين معراجا إلا أنه معراج أرواح لا أشباح وإسراء أسرار لا أسوار ورؤية جنان لا عيان وسلوك ذوق وتحقيق لا سلوك مسافة وطريق إلى سموات معنى لا مغنى، وهذا المعراج متفاوت حسب تفاوت مراتب الرجال، وقد ذكر الشيخ الأكبر قدس سره في معراجه ما يحير الألباب ويقضي منه العجب العجاب ولم يستبعد ذلك منه بناء على أنه ختم الولاية المحمدية عندهم، ومن عجائب ما اتفق في زماننا أن رجلا يدعى بعبد السلام نائب القاضي في بغداد وكان جسورا على الحكم بالباطل شرع في ترجمة معراج الشيخ قدس سره بالتركية مع شرح بعض الجزء: 8 ¦ الصفحة: 48 مغلقاته ولم يكن من خبايا هاتيك الزوايا فقبل أن يتم مرامه ابتلي والعياذ بالله تعالى بآكلة في فمه فأكلته إلى أذنيه فمات وعرج بروحه إلى حيث شاء الله تعالى نسأل الله سبحانه العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، ونقل عن الشيخ قدس سره أن الإسراء وقع له صلّى الله عليه وسلّم ثلاثين مرة، وفي كلام الشيخ عبد الوهاب الشعراني أن إسراءاته عليه الصلاة والسلام كانت أربعا وثلاثين واحد منها بجسمه والباقي بروحه، وقد صرحوا أن الأول من خصائصه صلّى الله عليه وسلّم. وفي الخصائص الصغرى وخص عليه الصلاة والسلام بالإسراء وما تضمنه من خرق السموات السبع والعلو إلى قاب قوسين ووطئه مكانا ما وطئه نبي مرسل ولا ملك مقرب وأن قطع المسافة الطويلة في الزمن القصير مما يكون كرامة للولي، والمشهور تسمية ذلك بطي المسافة وهو من أعظم خوارق العادات وأنكر ثبوته للأولياء الحنفية ومنهم ابن وهبان قال: ومن لولي قال طي مسافة ... يجوز جهول ثم بعض يكفر وهذا منهم مع قولهم إذا ولد لمغربي ولد من امرأته المشرقية مثلا يلحق به وإن لم يلتقيا ظاهرا غريب، والكتب ملأى من حكايات الثقات هذه الكرامة لكثير من الصالحين، وكأن مجهل قائلها بنى تجهيله على أن في ذلك قولا بتداخل الجواهر وقد أحاله المتكلمون خلافا للنظام وبرهنوا على استحالته بما لا مزيد عليه، وادعى بعضهم الضرورة في ذلك، وأنت تعلم أن قطع المسافة الطويلة في الزمن القصير لا يتوقف على تداخل الجواهر لجواز أن يكون بالسرعة كما قالوا في الإسراء فليثبت للأولياء على هذا النحو على أن الكرامات كالمعجزات مجهولة الكيفية فنؤمن بما صح منها ونفوض كيفيته إلى من لا يعجزه شيء سبحانه وتعالى، ومثل طي المسافة ما يحكونه من نشر الزمان وأنا مؤمن ولله تعالى الحمد بما يصح نقله من الأمرين والمكفر جهول والمجهل ليس برسول والله تعالى الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب وأول المسجد الحرام بمقام القلب المحترم عن أن يطوف به مشركو القوى البدنية ويرتكب فيه فواحشها وخطاياها، والمسجد الأقصى بمقام الروح الأبعد من العالم الجسماني لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا أي آيات صفاتنا من جهة أنها منسوبة إلينا ونحن المشاهدون بها وإلا فأصل مشاهدة الصفات في مقام القلب عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا قال سهل: أي إن عدتم إلى المعصية عدنا إلى المغفرة وإن عدتم إلى الإعراض عنا عدنا إلى الإقبال عليكم وإن عدتم إلى الفرار منا عدنا إلى أخذ الطريق عليكم لترجعوا إلينا. وقال الوراق: إن عدتم إلى الطاعة عدنا إلى التيسير والقبول، وقيل: غير ذلك إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ الآية أي إن هذا القرآن يعرف أهله بنوره أقوم الطرق إلى الله تعالى وهو طريق الطاعة والاقتداء بمن أنزل عليه عليه الصلاة والسلام فإنه لا طريق يوصل إلا ذلك ولله تعالى در من قال: وأنت باب الله أي امرئ ... أتاه من غيرك لا يدخل وذكروا أن القرآن يرشد بظاهره إلى معاني باطنه وبمعاني باطنه إلى نور حقيقته وبنور حقيقته إلى أصل الصفة وبالصفة إلى الذات فطوبى لمن استرشد بالقرآن فإنه يدله على الله تعالى وقد أحسن من قال: إذا نحن أدلجنا وأنت أمامنا ... كفى لمطايانا بنورك هاديا ويبشر أهله الذين يتبعونه أن لهم أجر المشاهدة وكشفها بلا حجاب وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا فيه إشارة إلى أدب من آداب الدعاء وهو عدم الاستعجال فينبغي للسالك أن يصبر حتى يعرف ما يليق بحاله فيدعو به، وقال سهل: أسلم الدعوات الذكر وترك الاختيار لأن في الذكر الكفاية وربما يسأل الإنسان ما فيه هلاكه ولا يشعر، وفي الأثر يقول الله تعالى شأنه من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيه أفضل ما أعطي السائلين وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ أي ليل الكون وظلمة البدن وَالنَّهارَ أي نهار الإبداع والروح آيَتَيْنِ يتوصل بهما إلى معرفة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 49 الذات والصفات فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ بالفساد والفناء وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً منيرة باقية بكمالها تبصر بنورها الحقائق لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وهو كمالكم الذي تستعدونه وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ أي لتحصوا عدد المراتب والمقامات من بدايتكم إلى نهايتكم بالترقي فيها وحساب أعمالكم وأخلاقكم وأحوالكم فتبدلوا السيء من ذلك بالحسن وَكُلَّ شَيْءٍ من العلوم والحكم فَصَّلْناهُ بنور عقولكم الفرقانية الحاصلة لكم عند الكمال تفصيلا لا إجمال فيه كما في مرتبة العقل القرآني الحاصل عند البداية وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ الآية تقدم ما يصلح أن يكون من باب الإشارة فيها وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا للصوفية في هذا الرسول كغيرهم قولان، فمنهم من قال إنه رسول العقل، ومنهم من قال رسول الشرع وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها الآية فيها إشارة إلى أنه سبحانه إذا أراد أن يخرب قلب المريد سلط عليه عساكر هوى نفسه وجنود شياطينه فيخرب بسنابك خيول الشهوات وآفات الطبعيات نعوذ بالله تعالى من ذلك مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ لكدورة استعداده وغلبة هواه وطبيعته عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً عن ذوي العقول مَدْحُوراً في سخط الله تعالى وقهره وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ لصفاء استعداده وسلامة فطرته وَسَعى لَها سَعْيَها اللائق بها وهو السعي على سبيل الاستقامة وما ترتضيه الشريعة، وقال بعضهم: السعي إلى الدنيا بالأبدان والسعي إلى الآخرة بالقلوب والسعي على الله تعالى بالهمم وَهُوَ مُؤْمِنٌ ثابت الإيمان لا تزعزعه عواصف الشبه فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً مقبولا مثابا عليه، وعن أبي حفص أن السعي المشكور ما لم يكن مشوبا برياء ولا بسمعة ولا برؤية نفس ولا بطلب عوض بل يكون خالصا لوجهه تعالى لا يشاركه في ذلك شيء فلا تغفل كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ لا تأثير لإرادتهم وسعيهم في ذلك وإنما هي معرفات وعلامات لما قدرنا لهم من العطاء، ورأيت في الفتوحات المكية أن هذه الآية نحو قوله تعالى: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها [الشمس: 8] وهو نحو ما تقدم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقد سمعت ما فيه وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً عن أحد مطيعا كان أو عاصيا لأن شأنه تعالى شأنه الإفاضة حسبما تقتضيه الحكمة انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ في الدنيا بمقتضى المشيئة والحكمة وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا فهناك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر رزقنا الله تعالى وإياكم ذلك أنه سبحانه الجواد المالك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 50 لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الخطاب للرسول صلّى الله عليه وسلّم والمراد به أمته على حد إياك أعني فاسمعي يا جارة أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب على حد وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا [الأنعام: 27، 30] فَتَقْعُدَ بالنصب على النهي، والقعود قيل بمعنى المكث كما تقول هو قاعد في أسوأ حال أي ماكث ومقيم سواء كان قائما أم جالسا، وقيل بمعنى العجز والعرب تقول: ما أقعدك عن المكارم أي ما أعجزك عنها، وقيل: بمعنى الصيرورة من قولهم: شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة أي صارت، وتعقب هذا أبو حيان بأن مجيء قعد بمعنى صار مقصور عند الأصحاب على هذا المثل ولا يطرد، وقال بعضهم: إن اطرد فإنما يطرد في مثل الموضع الذي استعملته العرب فيه أولا يعني القول المذكور فلا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 52 يقال: قعد كاتبا بمعنى صار بل قعد كأنه سلطان لكونه مثل قعدت كأنها حربة، ولعل من فسر القعود هنا بمعنى الصيرورة ذهب مذهب الفراء فإنه كما قال أبو حيان وغيره يقول باطراد ذلك وجعل منه قول الراجز المذكور في البحر والحواشي الشهابية ولا حجة فيه. وحكى الكسائي قعد لا يسأل حاجة إلا قضاها واستعمال البغداديين على هذا، ثم إنهم اختلفوا في القعود بمعنى العجز فقيل هو مجاز من القعود ضد القيام كالمقعد بمعنى العاجز عن القيام ثم تجوز به عن مطلق العجز، وقيل هو كناية عن العجز فإن من أراد أخذ شيء يقوم له ومن عجز قعد وأما القعود بمعنى الزمانة فحقيقة والإقعاد مجاز كأن مرضه أقعده وجعل هذا القعود بمعنى المكث حقيقة، وتعقب بأن فيه نظرا إلا أن يريد حقيقة عرفية لا لغوية لأنه ضد القيام وإذا جعل القعود هنا بمعنى العجز فالفعل لازم ومتعلقه محذوف أي فتعجز عن الفوز بالمقصود مثلا ومَذْمُوماً مَخْذُولًا إما خبران لتقعد على القول الأخير وإما حالان مترادفان أي فتقعد جامعا على نفسك الخذلان من الله تعالى والذم من الملائكة والمؤمنين أو من ذوي العقول حيث اتخذت محتاجا مفتقرا مثلك لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا إلها ونسبت إليه ما لا يصلح له وجعلته شريكا لمن له الكمال الذاتي وهو الذي خلقك ورزقك وأنعم عليك على ما عداه، وجوز أبو حيان أن يراد بالقعود حقيقته لأن من شأن المذموم المخذول أن يقعد حائرا متفكرا وهو من باب التعبير بالحال الغالبة، وفي الآية إشعار بأن الموحد جامع بين المدح والنصرة وَقَضى رَبُّكَ أخرج ابن جرير وابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال: أي أمر أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ أي بأن لا تعبدوا إلخ على أن مصدرية والجار قبلها مقدر ولا نافية والمراد النهي، ويجوز أن تكون ناهية كما مر ولا ينافيه التأويل بالمصدر كما أسلفناه أو أي لا تعبدوا إلخ على أن أن مفسرة لتقدم ما تضمن معنى القول دون حروفه ولا ناهية لا غير، وجوز بعضهم أن تكون أن مخففة واسمها ضمير شأن محذوف ولا ناهية أيضا وهو كما ترى وجوز أبو البقاء أن تكون أن مصدرية ولا زائدة والمعنى الزم ربك عبادته وفيه أن الاستثناء يأبى ذلك وفي الكشاف تفسير قضى بأمر أمرا مقطوعا به وجعل ذلك غير واحد من باب التضمين وجعل المضمن أصلا والمتضمن قيدا وقال بعضهم: أراد أن القضاء مجاز عن الأمر المبتوت الذي لا يحتمل النسخ ولو كان ذلك من التضمين لكان متعلق القضاء الأمر دون المأمور به وإلا لزم أن لا يعبد أحد غير الله تعالى فيحتاج إلى تخصيص الخطاب بالمؤمنين فيرد عليه بأن جميع أوامر الله تعالى بقضائه فلا وجه للتخصيص. وتعقب بأن ما ذكر متوجه لو أريد بالقضاء أخو القدر أما لو أريد به معناه اللغوي الذي هو البت والقطع المشار إليه فلا يرد ما ذكره، ثم إن لزوم أن لا يعبد أحد غير الله تعالى ادعاه ابن عباس فيما يروى للقضاء من غير تفصيل، فقد أخرج أبو عبيد وابن منيع وابن المنذر وابن مردويه من طريق ميمون بن مهران عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: أنزل الله تعالى هذا الحرف على لسان نبيكم «ووصى ربك ألا تعبدوا إلا إياه» فلصقت إحدى الواوين بالصاد فقرأ الناس وَقَضى رَبُّكَ ولو نزلت على القضاء ما أشرك به أحد، وأخرج مثل ذلك عنه جماعة من طريق سعيد بن جبير وابن أبي حاتم من طريق الضحاك ورويت هذه القراءة عن ابن مسعود وأبي بن كعب رضي الله تعالى عنهما أيضا وهذا إن صح عجيب من ابن عباس لاندفاع المحذور بحمل القضاء على الأمر ولا أقل كما هو مروي عنه أيضا نعم قيل إن ذلك معنى مجازي للقضاء وقيل إنه حقيقي، وفي مفردات الراغب القضاء فصل الأمر قولا كان أو فعلا وكل منهما إلهي وبشري فمن القول الإلهي قوله تعالى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ أي أمر ربك إلى آخر ما قال، ثم إن هذا الأمر عند البعض بمعنى مطلق الطلب ليتناول طلب ترك العبادة لغيره تعالى، ويغني عن هذا التجوز كما قيل إن معنى لا تعبدوا غيره اعبدوه وحده فهو أمر باعتبار لازمه، وإنما اختير ذلك للإشارة إلى أن التخلية بترك ما سواه مقدمة مهمة هنا، وأمر سبحانه أن لا يعبدوا غيره تعالى لأن العبادة غاية التعظيم وهي لا تليق إلا لمن كان في غاية العظمة منعما بالنعم العظام الجزء: 8 ¦ الصفحة: 53 وما غير الله تعالى كذلك، وهذا وما عطف عليه من الأعمال الحسنة كالتفصيل للسعي للآخرة. وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي وبأن تحسنوا بهما أو أحسنوا بهما إحسانا، ولعله إذا نظر إلى توحيد الخطاب فيما بعد قدر وأحسن بالتوحيد أيضا، والجار والمجرور متعلق بالفعل المقدر وهو الذي ذهب إليه الزمخشري ومنع تعلقه بالمصدر لأن صلته لا تتقدم عليه، وعلقه الواحدي به فقال الحلبي: إن كان المصدر منحلا بأن والفعل فالوجه ما ذهب إليه الزمخشري وإن جعل نائبا عن الفعل المحذوف فالوجه ما قاله الواحدي، ومذهب الكثير من النحاة جواز تقديم معموله إذا كان ظرفا مطلقا لتوسعهم فيه والجار والمجرور أخوه. إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما إما مركبة من إن الشرطية وما المزيدة لتأكيدها. قال الزمخشري: ولذا صح لحوق النون المؤكدة للفعل ولو أفردت إن لم يصح لحوقها واختلف في لحاقها بعد الزيادة فقال أبو إسحاق بوجوبه، وعن سيبويه القول بعدم الوجوب ويستشهد له بقول أبي حية النميري: فإما ترى لمتي هكذا ... قد أدرك الفتيات الخفارا وعليه قول ابن دريد: أما ترى رأسي حاكى لونه ... طرة صبح تحت أذيال الدجى ومعنى عِنْدَكَ في كنفك وكفالتك، وتقديمه على المفعول مع أن حقه التأخير عنه للتشويق إلى وروده فإنه مدار تضاعف الرعاية والإحسان، وأَحَدُهُما فاعل للفعل، وتأخيره عن الظرف والمفعول لئلا يطول الكلام به وبما عطف عليه وكِلاهُما معطوف عليه. وقرأ حمزة والكسائي «إما يبلغان» فأحدهما على ما في الكشاف بدل من ألف الضمير لا فاعل والألف علامة التثنية على لغة أكلوني البراغيث فإنه رد بأن ذلك مشروط بأن يسند الفعل المثنى نحو قاما أخواك أو لمفرق بالعطف بالواو خاصة على خلاف فيه نحو قاما زيد وعمرو وما هنا ليس كذلك. واستشكلت البدلية بأن أَحَدُهُما على ذلك بدل بعض من كل لا كل من كل لأنه ليس عينه وكِلاهُما معطوف عليه فيكون بدل كل من كل لكنه خال عن الفائدة على أن عطف بدل الكل على غيره مما لم نجده. وأجيب بأنا نسلم أنه لم يفد البدل زيادة على المبدل منه لكنه لا يضر لأنه شأن التأكيد ولو سلم أنه لا بد من ذلك ففيه فائدة لأنه بدل مقسم كما قاله ابن عطية فهو كقوله: فكنت كذي رجلين رجل صحيحة ... وأخرى رمى فيها الزمان فشلت وتعقب بأنه ليس من البدل المذكور لأنه شرطه العطف بالواو وأن لا يصدق المبدل منه على أحد قسميه وهنا قد صدق على أحدهما، وبالجملة هذا الوجه لا يخلو عن القيل والقال، وعن أبي علي الفارسي أن أَحَدُهُما بدل من ضمير التثنية وكِلاهُما تأكيد للضمير، وتعقب بأن التأكيد لا يعطف على البدل كما لا يعطف على غيره وبأن أحدهما لا يصلح تأكيدا للمثنى ولا غيره فكذا ما عطف عليه وبأن بين إبدال بدل البعض منه وتوكيده تدافعا لأن التأكيد يدفع إرادة البعض منه، ومن هنا قال في الدر المصون: لا بد من إصلاحه بأن يجعل أحدهما بدل بعض من كل ويضمر بعده فعل رافع لضمير تثنية وكِلاهُما توكيد له والتقدير أو يبلغان كلاهما وهو من عطف الجمل حينئذ لكن فيه حذف المؤكد وإبقاء تأكيده وقد منعه بعض النحاة وفيه كلام في مفصلات العربية، ولعل المختار إضمار فعل لم يتصل به ضمير التثنية وجعل كِلاهُما فاعلا له فإنه سالم عما سمعت في غيره ولذا اختاره في البحر، وتوحيد ضمير الخطاب في عِنْدَكَ وفيما بعده مع أن ما صرح به فيما سبق على الجمع للاحتراز عن التباس المراد وهو نهي كل أحد عن تأفيف والديه ونهرهما فإنه لو قوبل الجمع بالجمع أو التثنية بالتثنية لم يحصل ذلك، وذكر أنه وحد الخطاب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 54 في لا تَجْعَلْ للمبالغة وجمع في أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ لأنه أوفق لتعظيم أمر القضاء فَلا تَقُلْ لَهُما أي لواحد منهما حالتي الانفراد والاجتماع أُفٍّ هو اسم صوت ينبىء عن التضجر أو اسم فعل هو أتضجر واسم الفعل بمعنى المضارع وكذا بمعنى الماضي قليل والكثير بمعنى الأمر وفيه نحو من أربعين لغة والوارد من ذلك في القراءات سبع ثلاث متواترة وأربع شاذة. فقرأ نافع وحفص بالكسر والتنوين وهو للتنكير فالمعنى أتضجر تضجرا ما وإذا لم ينون دل على تضجر مخصوص، وقرأ ابن كثير وابن عامر بالفتح دون تنوين، والباقون بالكسر دون تنوين وهو على أصل التقاء الساكنين والفتح للخفة ولا خلاف بينهم في تشديد الفاء، وقرأ نافع في رواية عنه بالرفع والتنوين، وأبو السمال بالضم للاتباع من غير تنوين، وزيد بن علي رضي الله تعالى عنه بالنصب والتنوين، وابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالسكون، ومحصل المعنى لا تتضجر مما يستقذر منهما وتستثقل من مؤنهما، والنهي عن ذلك يدل على المنع من سائر أنواع الإيذاء قياسا جليا لأنه يفهم بطريق الأولى ويسمى مفهوم الموافقة ودلالة النص وفحوى الخطاب، وقيل يدل على ذلك حقيقة ومنطوقا في عرف اللغة كقولك: فلان لا يملك النقير والقطمير فإنه يدل كذلك على أنه لا يملك شيئا قليلا أو كثيرا، وخص بعض أنواع الإيذاء بالذكر في قوله تعالى: وَلا تَنْهَرْهُما للاعتناء بشأنه والنهر كما قال الراغب الزجر بإغلاظ، وفي الكشاف النهي والنهر والنهم أخوات أي لا تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك. وقال الإمام: المراد من قوله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ المنع من إظهار الضجر القليل والكثير والمراد من قوله سبحانه وَلا تَنْهَرْهُما المنع من إظهار المخالفة في القول على سبيل الرد عليهما والتكذيب لهما ولذا روعي هذا الترتيب وإلا فالمنع من التأفيف يدل على المنع من النهر بطريق الأولى فيكون ذكره بعده عبثا فتأمل. وَقُلْ لَهُما بدل التأفيف والنهر قَوْلًا كَرِيماً أي جميلا لا شراسة فيه، قال الراغب: كل شيء يشرف في بابه فإنه يوصف بالكرم، وجعل ذلك بعض المحققين من وصف الشيء باسم صاحبه أي قولا صادرا عن كرم ولطف ويعود بالآخرة إلى القول الجميل الذي يقتضيه حسن الأدب ويستدعيه النزول على المروءة مثل أن يقول يا أبتاه ويا أماه ولا يدعوهما بأسمائهما فإنه من الجفاء وسوء الأدب، وليس القول الكريم مخصوصا بذلك كما يوهمه اقتصار الحسن فيما أخرجه عنه ابن أبي حاتم عليه فإنه من باب التمثيل، وكذا ما أخرج عن زهير بن محمد أنه قال فيه: إذا دعواك فقل لبيكما وسعديكما. وأخرج هو وابن جرير وابن المنذر عن أبي الهداج أنه قال: قلت لسعيد بن المسيب كل ما ذكر الله تعالى في القرآن من بر الوالدين فقد عرفته إلا قوله سبحانه: وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً ما هذا القول الكريم، فقال ابن المسيب قول العبد المذنب للسيد الفظ. وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ أي تواضع لهما وتذلل وفيه وجهان. الأول أن يكون على معنى جناحك الذليل ويكون جَناحَ الذُّلِّ بل خفض الجناح تمثيلا في التواضع وجاز أن يكون استعارة في المفرد وهو الجناح ويكون الخفض ترشيحا تبعيا أو مستقلا، الثاني أن يكون من قبيل قول لبيد: وغداة ريح قد كشفت وقرة ... إذ أصبحت بيد الشمال زمامها فيكون في الكلام استعارة مكنية وتخييلية بأن يشبه الذل بطائر منحط من علو تشبيها مضمرا ويثبت له الجناح تخييلا والخفض ترشيحا فإن الطائر إذا أراد الطيران والعلو نشر جناحيه ورفعهما ليرتفع فإذا ترك ذلك خفضهما، وأيضا هو إذا رأى جارحا يخافه لصق بالأرض وألصق جناحيه وهي غاية خوفه وتذلله، وقيل المراد بخفضهما ما يفعله إذا ضم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 55 فراخه للتربية وأنه أنسب بالمقام، وفي الكشف أن في الكلام استعارة بالكناية ناشئة من جعل الجناح الذل ثم المجموع كما هو مثل في غاية التواضع ولما أثبت لذله جناحا أمره بخفضه تكميلا وما عسى يختلج في بعض الخواطر من أنه لما أثبت لذله جناحا فالأمر برفع ذلك الجناح أبلغ في تقوية الذل من خفضه لأن كمال الطائر عند رفعه فهو ظاهر السقوط إذا جعل المجموع تمثيلا لأن الغرض تصوير الذل كأنه مشاهد محسوس، وأما على الترشيح فهو وهم لأن جعل الجناح المخفوض للذل يدل على التواضع وأما جعل الجناح وحده فليس بشيء ولهذا جعل تمثيلا فيما سلف. وقرأ سعيد بن جبير «من الذل» بكسر الذال وهو الانقياد وأصله في الدواب والنعت فالمذلول وأما الذل بالضم فأصله في الإنسان وهو ضد العز والنعت منه ذليل مِنَ الرَّحْمَةِ أي من فرط رحمتك عليهما فمن ابتدائية على سبيل التعليل، قال في الكشف: ولا يحتمل البيان حتى يقال لو كان كذا لرجعت الاستعارة إلى التشبيه إذ جناح الذل ليس من الرحمة أبدا بل خفض جناح الذل جاز أن يقال إنه رحمة وهذا بين، واستفادة المبالغة من جعل جنس الرحمة مبدأ للتذلل فإنه لا ينشأ إلا من رحمة تامة، وقيل من كون التعريف للاستغراق وليس بذاك، وإنما احتاجا إلى ذلك لافتقارهما إلى من كان أفقر الخلق إليهما واحتياج المرء إلى من كان محتاجا إليه غاية الضراعة والمسكنة فيحتاج إلى أشد رحمة، ولله تعالى در الخفاجي حيث يقول: يا من أتى يسأل عن فاقتي ... ما حال من يسأل من سائله ما ذلة السلطان إلا إذا ... أصبح محتاجا إلى عامله وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما وادع الله تعالى أن يرحمهما برحمته الباقية وهي رحمة الآخرة ولا تكتف برحمتك الفانية وهي ما تضمنها الأمر والنهي السالفان، وخصت الرحمة الأخروية بالإرادة لأنها الأعظم المناسب طلبه من العظيم ولأن الرحمة الدنيوية حاصلة عموما لكل أحد وجوز أن يراد ما يعم الرحمتين، وأيا ما كان فهذه الرحمة التي في الدعاء قيل إنها مخصوصة بالأبوين المسلمين، وقيل عامة منسوخة بآية النهي عن الاستغفار، وقيل عامة ولا نسخ لأن تلك الآية بعد الموت وهذه قبله ومن رحمة الله تعالى لهما أن يهديهما للإيمان فالدعاء بها مستلزم للدعاء به ولا ضير فيه، والقول بالنسخ أخرجه البخاري في الأدب المفرد. وأبو داود وابن جرير وابن المنذر من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كَما رَبَّيانِي الكاف للتشبيه، والجار والمجرور صفة مصدر مقدر أي رحمة مثل تربيتهما لي أو مثل رحمتهما لي على أن التربية رحمة، وجوز أن يكون لهما الرحمة والتربية معا وقد ذكر أحدهما في أحد الجانبين والآخر في الآخر كما يلوح به التعرض لعنوان الربوبية في مطلع الدعاء كأنه قيل: رب ارحمهما وربهما كما رحماني وربياني صَغِيراً وفيه بعد. وجوز أن تكون الكاف للتعليل أي لأجل تربيتهما لي وتعقب بأنه مخالف لمعناها المشهور مع إفادة التشبيه ما أفاده التعليل، وقال الطيبي: إن الكاف لتأكيد الوجود كأنه قيل رب ارحمهما رحمة محققة مكشوفة لا ريب فيها كقوله تعالى: مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ [الذاريات: 23] قال في الكشف وهو وجه حسن وأما الحمل عليّ أن ما المصدرية جعلت حينا أي ارحمهما في وقت أحوج ما يكونان إلى الرحمة كوقت رحمتهما علي في حال الصغر وأنا كلحم علي وضم وليس ذلك إلا في القيامة والرحمة هي الجنة والبت بأن هذا هو التحقيق فليت شعري الاستقامة وجهه في العربية ارتضاه أم لطباقه للمقام وفخامة معناه اه، وهو كما أشار إليه ليس بشيء يعول عليه، والظاهر أن الأمر للوجوب فيجب على الولد أن يدعو لوالديه بالرحمة، ومقتضى عدم إفادة الأمر التكرار أنه يكفي في الامتثال مرة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 56 واحدة، وقد سئل سفيان كم يدعو الإنسان لوالديه في اليوم مرة أو في الشهر أو في السنة؟ فقال: نرجو أن يجزيه إذا دعا لهما في آخر التشهدات كما أن الله تعالى قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ [الأحزاب: 56] فكانوا يرون التشهد يكفي في الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم وكما قال سبحانه: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ [البقرة: 203] ثم يكبرون في أدبار الصلاة، هذا وقد بالغ عز وجل في التوصية بهما من وجوه لا تخفى ولو لم يكن سوى أن شفع الإحسان إليهما بتوحيده سبحانه ونظمهما في سلك القضاء بهما معا لكفى، وقد روى ابن حبان والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم (1) قال «رضا الله تعالى في رضا الوالدين وسخط الله تعالى في سخط الوالدين» وصح أن رجلا جاء يستأذن النبي صلّى الله عليه وسلّم في الجهاد معه فقال: أحي والداك؟ قال: نعم قال: ففيهما فجاهد، وجاء أنه عليه الصلاة والسلام قال: «لو علم الله تعالى شيئا أدنى من آلاف لنهى عنه فليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة وليعمل البار ما شاء أن يعمل فلن يدخل النار» . ورأى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما رجلا يطوف بالكعبة حاملا أمه على رقبته فقال: يا ابن عمر أتراني جزيتها؟ قال: لا ولا بطلقة واحدة ولكنك أحسنت والله تعالى يثيبك على القليل كثيرا. وروى مسلم وغيره «لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه» وروى البيهقي في الدلائل والطبراني في الأوسط والصغير بسند فيه من لا يعرف عن جابر قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إن أبي أخذ مالي فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «فاذهب فأتني بأبيك فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن الله تعالى يقرئك السلام ويقول: إذا جاءك الشيخ فسله عن شيء قاله في نفسه ما سمعته أذناه فلما جاء الشيخ قال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما بال ابنك يشكوك تريد أن تأخذ ماله؟ قال: سله يا رسول الله هل أنفقته إلا على عماته وخالاته أو على نفسي فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ايه دعنا من هذا أخبرني عن شيء قلته في نفسك ما سمعته أذناك فقال الشيخ: والله يا رسول الله ما يزال الله تعالى يزيدنا بك يقينا لقد قلت في نفسي شيئا ما سمعته أذناي فقال: قل وأنا أسمع فقال: قلت: غذوتك مولودا ومنتك يافعا تعل بما أجني عليك وتنهل إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا ساهرا أتملل كأني أنا المطروق دونك بالذي طرقت به دوني فعيني تهمل تخاف الردى نفسي عليك وإنها لتعلم أن الموت وقت مؤجل فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما كنت فيها أؤمل جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل فليتك إذ لم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل تراه معدا للخلاف كأنه برد على أهل الصواب موكل قال: فحينئذ أخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم بتلابيب ابنه وقال: «أنت ومالك لأبيك» والأم مقدمة في البر على الأب فقد روى الشيخان يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أبوك» . ولا يختص البر بالحياة بل يكون بعد الموت أيضا، فقد روى ابن ماجة «يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ فقال: نعم الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإيفاء عهدهما من بعدهما وصلة الرحم   (1) ورجح الترمذي وقفه اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 57 التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما» ورواه ابن حبان في صحيحه بزيادة «قال الرجل: ما أكثر هذا يا رسول الله وأطيبه قال: فاعمل به» . وأخرج البيهقي عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن العبد ليموت والداه أو أحدهما وإنه لهما لعاق فلا يزال يدعو لهما ويستغفر لهما حتى يكتبه الله تعالى بارا، وأخرج عن الأوزاعي قال: بلغني أن من عق والديه في حياتهما ثم قضى دينا إن كان عليهما واستغفر لهما ولم يستسب لهما كتب بارا ومن بر والديه في حياتهما ثم لم يقض دينا إن كان عليهما ولم يستغفر لهما واستسب لهما كتب عاقا» وأخرج هو أيضا وابن أبي الدنيا عن محمد بن النعمان يرفعه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من زار قبر أبويه أو أحدهما في كل جمعة غفر له وكتب برا» . وروى مسلم أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لقيه رجل بطريق مكة فسلم عليه ابن عمر وحمله على حمار كان يركبه وأعطاه عمامة كانت على رأسه فقال ابن دينار فقلت له: أصلحك الله تعالى إنهم الأعراب وهم يرضون باليسير فقال: إن أبا هذا كان ودا لعمر بن الخطاب وإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه» . وأخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي بردة رضي الله تعالى عنه قال: قدمت المدينة فأتاني عبد الله بن عمر فقال: أتدري لم أتيتك؟ قال: قلت لا قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من أحب أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه من بعده» وإنه كان بين أبي عمر وبين أبيك إخاء وود فأحببت أن أصل ذلك. وقد ورد في فضل البر ما لا يحصى كثرة من الأحاديث، وصح عد العقوق من أكبر الكبائر وكونه منها هو ما اتفقوا عليه وظاهر كلام الأكثرين بل صريحه أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون الوالدان كافرين وإن يكونا مسلمين، والتقييد بالمسلمين في الحديث الحسن أنه صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الكبائر فقال: تسع أعظمهن الإشراك وقتل النفس المؤمنة بغير حق والفرار من الزحف وقذف المحصنة والسحر وأكل مال اليتيم وأكل الربا وعقوق الوالدين المسلمين، إما لأن عقوقهما أقبح والكلام هناك في ذكر الأعظم على أحد التقديرين في عطف وقتل المؤمن وما بعده وإما لأنهما ذكرا للغالب كما في نظائر أخر. وللحليمي هاهنا تفصيل مبني على رأي له ضعيف وهو أن العقوق كبيرة فإن كان معه نحو سب ففاحشة وإن كان عقوقه هو استثقاله لأمرهما ونهيهما والعبوس في وجوهما والتبرم بهما مع بذل الطاعة ولزوم الصمت فصغيرة فإن كان ما يأتيه من ذلك يلجئهما إلى أن ينقبضا فيتركا أمره ونهيه ويلحقهما من ذلك ضرر فكبيرة. وبينهم في حد العقوق خلاف ففي فتاوى البلقيني مسألة قد ابتلي الناس بها واحتيج إلى بسط الكلام عليها وإلى تفاريعها ليحصل المقصود في ضمن ذلك وهي السؤال عن ضابط الحد الذي يعرف به عقوق الوالدين إذ الإحالة على العرف من غير مثال لا يحصل المقصود إذ الناس تحملهم أغراضهم على أن يجعلوا ما ليس بعرف عرفا فلا بد من مثال ينسج على منواله وهو أنه مثلا لو كان له على أبيه حق شرعي فاختار أن يرفعه إلى الحاكم ليأخذ حقه منه ولو حبسه فهل يكون ذلك عقوقا أولا؟ أجاب هذا الموضع قال فيه بعض الأكابر: إنه يعسر ضبطه وقد فتح الله تعالى بضابط أرجو من فضل الفتاح العليم أن يكون حسنا فأقول: العقوق لأحد الوالدين هو أن يؤذيه بما لو فعله مع غيره كان محرما من جملة الصغائر فينتقل بالنسبة إليه إلى الكبائر أو أن يخالف أمره أو نهيه فيما يدخل منه الخوف على الولد من فوت نفسه أو عضو من أعضائه ما لم يتهم الوالد في ذلك أو أن يخالفه في سفر يشق على الوالد وليس بفرض على الولد أو في غيبة طويلة فيما ليس بعلم نافع ولا كسب فيه أو فيه وقيعة في العرض لها وقع. وبيان هذا الضابط أن قولنا: أن يؤذي الولد أحد والديه بما لو فعله مع غير والديه كان محرما فمثاله لو شتم غير الجزء: 8 ¦ الصفحة: 58 أحد والديه أو ضربه بحيث لا ينتهي الشتم أو الضرب إلى الكبيرة فإنه يكون المحرم المذكور إذا فعله الولد مع أحد والديه كبيرة، وخرج بقولنا أن يؤذي ما لو أخذ فلسا أو شيئا يسيرا من مال أحد والديه فإنه لا يكون كبيرة وإن كان لو أخذه من مال غير والديه بغير طريق معتبرا كان حراما لأن أحد الوالدين لا يتأذى بمثل ذلك لما عنده من الشفقة والحنو فإن أخذ مالا كثيرا بحيث يتأذى المأخوذ منه من الوالدين بذلك فإنه يكون كبيرة في حق الأجنبي فكذلك هنا لكن الضابط فيما يكون حراما صغيرة بالنسبة إلى غير الوالدين، وخرج بقولنا: ما لو فعله مع غير أحد الوالدين كان محرما نحو ما إذا طالب بدين فإن هذا لا يكون عقوقا لأنه إذا فعله مع غير الوالدين لا يكون محرما فافهم ذلك فإنه من النفائس، وأما الحبس فإن فرعناه على جواز حبس الوالد بدين الولد كما صححه جماعة فقد طلب ما هو جائز فلا عقوق وإن فرعنا على منع حبسه المصحح عند آخرين فالحاكم إذا كان معتقده ذلك لا يجيب إليه ولا يكون الولد بطلب ذلك عاقا إذا كان معتقدا الوجه الأول فإن اعتقد المنع وأقدم عليه كان كما لو طلب حبس من لا يجوز حبسه من الأجانب لاعسار ونحوه فإذا حبسه الولد واعتقاده المنع كان عاقا لأنه لو فعله مع غير والده حيث لا يجوز كان حراما، وأما مجرد الشكوى الجائزة والطلب الجائز فليس من العقوق في شيء، وقد شكا بعض ولد الصحابة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم ينهه عليه الصلاة والسلام وهو الذي لا يقر على باطل، وأما إذا نهر أحد والديه فإنه إذا فعل ذلك مع غير الوالدين وكان محرما كان في حق أحد الوالدين كبيرة وإن لم يكن محرما، وكذا أف فإن ذلك يكون صغيرة في حق أحد الوالدين ولا يلزم من النهي عنهما والحال ما ذكر أن يكونا من الكبائر وقولنا أو أن يخالف أمره ونهيه فيما يدخل منه الخوف إلخ أردنا به السفر للجهاد ونحوه من الأسفار الخطرة لما يخاف من فوات نفس الولد أو عضو من أعضائه لشدة تفجع الوالدين على ذلك، وقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من حديث عبد الله بن عمرو في الرجل الذي جاء يستأذن النبي صلّى الله عليه وسلّم للجهاد أنه عليه الصلاة والسلام قال له: أحي والداك؟ قال: نعم قال: ففيهما فجاهد ، وفي رواية ارجع إليهما ففيهما المجاهدة ، وفي أخرى جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان فقال: ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما، وفي إسناده عطاء بن السائب لكن من رواية سفيان عنه. وروى أبو سعيد الخدري أن رجلا هاجر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: هل لك أحد باليمن؟ قال: أبواي قال: أذنا لك قال: لا قال: فارجع فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما. ورواه أبو داود وفي إسناده من اختلف في توثيقه، وقولنا: ما لم يتهم الوالد في ذلك أخرجنا به ما لو كان الوالد كافرا فإنه لا يحتاج الولد إلى إذنه في الجهاد ونحوه، وحيث اعتبرنا إذن الوالد فلا فرق بين أن يكون حرا أو عبدا، وقولنا: أو أن يخالفه في سفر إلخ أردنا به السفر لحج التطوع حيث كان فيه مشقة وأخرجنا بذلك حج الفرض وإذا كان فيه ركوب البحر يجب ركوبه عند غلبة السلامة فظاهر الفقه أنه لا يجب الاستئذان ولو قيل بوجوبه لما عند الوالد من الخوف في ركوب البحر وإن غلبت السلامة لم يكن بعيدا، وأما سفره للعلم المتعين أو لفرض الكفاية فلا منع منه وإن كان يمكنه التعلم في بلده خلافا لمن اشترط ذلك لأنه قد يتوقع في السفر فراغ قلب وإرشاد أستاذ ونحو ذلك فإن لم يتوقع شيئا من ذلك احتاج إلى الاستئذان وحيث وجبت النفقة للوالد على الولد وكان في سفره تضييع للواجب فللوالد المنع، وأما إذا كان الولد بسفره يحصل وقيعة في العرض لها وقع بأن يكون أمرد ويخاف من سفره تهمة فإنه يمنع من ذلك وذلك في الأنثى أولى، وأما مخالفة أمره ونهيه فيما لا يدخل على الولد فيه ضرر بالكلية وإنما هو مجرد إرشاد للولد فلا تكون عقوقا وعدم المخالفة أولى اه كلام البلقيني «وذكر بعض المحققين» أن العقوق فعل ما يحصل منه لهما أو لأحدهما إيذاء ليس بالهين عرفا. ويحتمل أن العبرة بالمتأذي لكن لو كان الوالد مثلا في غاية الحمق أو سفاهة العقل فأمر أو نهى ولده بما لا يعد مخالفته فيه في العرف عقوقا لا يفسق ولده بمخالفته حينئذ لعذره وعليه فلو كان متزوجا بمن يحبها فأمره بطلاقها ولو لعدم عفتها فلم يمتثل أمره لا إثم عليه، نعم الأفضل طلاقها امتثالا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 59 لأمر والده، فقد روى ابن حبان في صحيحه أن رجلا أتى أبا الدرداء فقال: إن أبي لم يزل بي حتى زوجني امرأة وإنه الآن يأمرني بفراقها قال: ما أنا بالذي آمرك أن تعق والديك ولا بالذي آمرك أن تطلق زوجتك غير أنك إن شئت حدثتك بما سمعت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سمعته يقول: «الوالد أوسط أبواب الجنة» فحافظ على ذلك إن شئت أو دع، وروى أصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه وقال الترمذي حديث حسن صحيح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال كان تحتي امرأة أحبها وكان عمر يكرهها فقال لي طلقها فأبيت فأتى عمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكر ذلك له فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: طلقها ، وكذا سائر أوامره التي لا حامل لها إلا ضعف عقله وسفاهة رأيه ولو عرضت على أرباب العقول لعدوها متساهلا فيها ولرأوا أنه لا إيذاء بمخالفتها ثم قال: هذا هو الذي يتجه في تقرير الحد. وتعقب ما نقل عن البلقيني بأن تخصيصه العقوق بفعل المحرم الصغيرة بالنسبة للغير فيه وقفة بل ينبغي أن المدار على ما ذكر من أنه لو فعل معه ما يتأذى به تأذيا ليس بالهين عرفا كان كبيرة وإن لم يكن محرما لو فعله مع الغير كأن يلقاه فيقطب في وجهه أو يقدم عليه في ملأ فلا يقوم إليه ولا يعبأ به ونحو ذلك مما يقضي أهل العقل والمروءة من أهل العرف بأنه مؤذ إيذاء عظيما فتأمل. ثم إن السبب في تعظيم أمر الوالدين أنهما السبب الظاهري في إيجاده وتعيشه ولا يكاد تكون نعمة أحد من الخلق على الولد كنعمة الوالدين عليه، لا يقال عليه: إن الوالدين إنما طلبا تحصيل اللذة لأنفسهما فلزم منه دخول الولد في الوجود ودخوله في عالم الآفات والمخافات فأي إنعام لهما عليه، وقد حكي أن واحدا من المتسمين بالحكمة كان يضرب أباه ويقول: هو الذي أدخلني في عالم الكون والفساد وعرضني للموت والفقر والعمى والزمانة، وقيل لأبي العلاء المعري ولم يكن ذا ولد: ما نكتب على قبرك فقال: اكتبوا عليه: هذا جناه أبي عليّ ... وما جنيت على أحد وقال في ترك التزوج وعدم الولد: وتركت فيهم نعمة العدم التي ... سبقت وصدت عن نعيم العاجل ولو إنهم ولدوا لنالوا شدة ... ترمي بهم في موبقات الآجل وقال ابن رشيق: قبح الله لذة لشقانا ... نالها الأمهات والآباء نحن لولا الوجود لم نألم الفق ... د فإيجادنا علينا بلاء وقيل للإسكندر: أستاذك أعظم منة عليك أم والدك؟ فقال: الأستاذ أعظم منة لأنه تحمل أنواع الشدائد والمحن عند تعليمي حتى أوقفني على نور العلم وأما الوالد فإنه طلب تحصيل لذة الوقاع لنفسه فأخرجني إلى عالم الكون والفساد لأنا نقول: هب أنه في أول الأمر كان المطلوب لذة الوقاع إلا أن الاهتمام بإيصال الخيرات ودفع الآفات من أول دخول الولد في الوجود إلى وقت بلوغه الكبر أعظم من جميع ما يتخيل من جهات الخيرات ودفع الآفات من أول دخول الولد في الوجود إلى وقت بلوغه الكبر أعظم من جميع ما يتخيل من جهات الخيرات والمبرات، وقد يقال: لو كان الإدخال في عالم الكون والفساد والتعريض للأكدار والأنكاد دافعا لحق الوالدين لزم أن يكون دافعا لحق الله تعالى لأنه سبحانه الفاعل الحقيقي، وأيضا يعارض ذلك التعريض للنعيم المقيم والثواب العظيم كما لا يخفى على ذي العقل السليم، ولعمري أن إنكار حقهما إنكار لأجل الأمور ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ من قصد البر إليهما وانعقاد ما يجب من التوقير لهما، وهو على ما قيل تهديد على أن يضمر لهما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 60 كراهة واستثقالا، وفي الكشف أنه كالتعليل لما أكد عليهم من الإحسان إلى الوالدين بأن الله تعالى أعلم بما في ضمائرهم من ذلك فمجازيهم على حسبه، والظاهر أنه وعد لمن أضمر البر ووعيد لغيره لكن غلب ذلك الجانب لأن الكلام بالأصالة فيه إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ قاصدين الصلاح والبر دون العقوق والفساد فَإِنَّهُ تعالى شأنه كانَ لِلْأَوَّابِينَ أي الراجعين إليه تعالى التائبين عما فرط منهم مما لا يكاد يخلو من البشر غَفُوراً لما وقع منهم من نوع تقصير أو أذية، وهذا كما في الكشف تيسير بعد التأكيد والتعسير مع تضييق وتحذير وذلك أنه شرط في البادرة التي تقع على الندرة قصد الصلاح وعبر عنه بنفس الصلاح ولم يصرح بصدورها بل رمز إليه بقوله تعالى: فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً لدلالة المغفرة على الذنب والأواب أيضا فإن التوبة عن ذنب يكون بشرط قصد الصلاح وأن يتوب عنه مع ذلك التوبة البالغة، وهو استئناف ثان يقتضيه مقام التأكيد والتشديد كأنه قيل: كيف نقوم بحقهما وقد يندر بوادر؟ فقيل إذا بنيتم الأمر على الأساس وكان المستمر ذلك ثم اتفق بادرة من غير قصد إلى المساءة فلطف الله تعالى يحجز دون عذابه قائما بالكلاءة، وكون الآية في البادرة تكون من الرجل إلى والديه مروي عن ابن جبير، وجوز أن تكون عامة لكل تائب ويندرج الجاني على أبويه التائب من جنايته اندراجا أوليا وَآتِ ذَا الْقُرْبى أي ذا القرابة منك حَقَّهُ الثابت له، قيل ولعل المراد بذي القربى المحارم وبحقهم النفقة عليهم إذا كانوا فقراء عاجزين عن الكسب عما ينبىء عنه قوله تعالى: وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ فإن المأمور به في حقهما المساواة المالية أي وآتهما حقهما مما كان مفترضا بمكة بمنزلة الزكاة وكذا النهي عن التبذير وعن الإفراط في القبض والبسط فإن الكل من التصرفات المالية، واستدل بعضهم بالآية على إيجاب نفقة المحارم المحتاجين وإن لم يكونوا أصلا كالوالدين ولا فرعا كالولد، والكلام من باب التعميم بعد التخصيص فإن ذا القربى يتناول الوالدين لغة وإن لم يتناوله عرفا فلذا قالوا في باب الوصية المبنية على العرف: لو أوصى لذوي قرابته لا يدخلان، وفي المعراج عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من قال لأبيه قريبي فقد عقه، والغرض من ذلك تناول غيرهما من الأقارب والتوصية بشأنه. وفي الكشف أن الحق أن إيتاء الحق عام والمقام يقتضي الشمول فيتناول الحق المالي وغيره من الصلة وحسن المعاشرة فلا تنتهض الآية دليلا على إيجاب نفقة المحارم، وتعقب أن قوله تعالى: حَقَّهُ يشعر باستحقاق ذلك لاحتياجه مع أنه إذا عم دخل فيه المالي وغيره فكيف لا تنتهض الآية دليلا وأنا ممن يقول بالعموم وعدم اختصاص ذي القربى بذي القرابة الولادية، والعطف وكذا ما بعده لا يدل على تخصيص قطعا فتدبر، وقيل: المراد بذي القربى أقارب الرسول صلّى الله عليه وسلّم وروي ذلك عن السدي، وأخرج ابن جرير عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما أنه قال لرجل من أهل الشام: أقرأت القرآن؟ قال: نعم قال: أفما قرأت في بني إسرائيل فآت ذا القربى حقه؟ قال: وإنكم القرابة الذي أمر الله تعالى أن يؤتى حقه؟ قال: نعم ، ورواه الشيعة عن الصادق رضي الله تعالى عنه وحقهم توقيرهم وإعطاؤهم الخمس ، وضعف بأنه لا قرينة على التخصيص، وأجيب بأن الخطاب قرينة وفيه نظر، وما أخرجه البزار وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري من أنه لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاطمة فأعطاها فدكا لا يدل على تخصيص الخطاب به عليه الصلاة والسلام على أن القلب من صحة الخبر شيء بناء على أن السورة مكية وليست هذه الآية من المستثنيات وفدك لم تكن إذ ذاك تحت تصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بل طلبها رضي الله تعالى عنها ذلك إرثا بعد وفاته عليه الصلاة والسلام كما هو المشهور يأبى القول بالصحة كما لا يخفى وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً نهى عن صرف المال إلى من لا يستحقه فإن التبذير إنفاق في غير موضعه مأخوذ من تفريق البذر وإلقائه في الأرض كيفما كان من غير تعهد لمواقعه، وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 61 ابن مسعود أنه قال: التبذير إنفاق المال في غير حقه، وفي مفردات الراغب وغيره أن أصله إلقاء البذر وطرحه ثم استعير لتضييع المال، وعد من ذلك بعضهم تشييد الدار ونحوه، وفرق الماوردي بينه وبين الإسراف بأن الإسراف تجاوز في الكمية وهو جهل بمقادير الحقوق والتبذير تجاوز في موقع الحق وهو جهل بالكيفية وبمواقعها وكلاهما مذموم والثاني أدخل في الذم. وفسر الزمخشري التبذير هنا بتفريق المال فيما لا ينبغي وإنفاقه على وجه الإسراف، وذكر أن فيه إشارة إلى أن التبذير شامل للإسراف في عرف اللغة ويراد منه حقيقة وإن فرق بينهما بما فرق، وفي الكشف بعد نقل الفرق والنص على أن الثاني أدخل في الذم أن الزمخشري لم يغب ذلك عليه لأن الاشتقاق يرشد إليه وإنما أراد أنه في الآية يتناول الإسراف أيضا بطريق الدلالة إذ لا يفترقان في الأحكام لا سيما وقد عقبه سبحانه بالحث على الاقتصاد المناسب لاعتبار الكمية المرشد إلى إرادته من النص، وتعقب بأنه إذا كان التبذير أدخل في الذم من الإسراف كيف يتناوله بطريق الدلالة والنهي عن الإسراف فيما بعد يبعد إرادته هاهنا فتأمل. إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ تعليل للنهي عن التبذير ببيان أنه يجعل صاحبه ملزوزا في قرن الشياطين، والإخوان جمع أخ والمراد به الممائل مجازا أي إنهم مماثلون لهم في صفات السوء التي من جملتها التبذير أو الصديق والتابع مجازا أيضا أي إنهم أصدقاؤهم وأتباعهم فيما ذكر من التبذير والصرف في المعاصي فإنهم كانوا ينحرون الإبل ويتياسرون عليها ويبذرون أموالهم في السمعة وسائر ما لا خير فيه من المناهي والملاهي أو القرين كما سبق أيضا أي أنهم قرناؤهم في النار على سبيل الوعيد. وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً من تتمة التعليل أي مبالغا في كفران نعمه تعالى لأن شأنه صرف جميع ما أعطاه الله تعالى من القوى والقدر إلى غير ما خلقت له من أنواع المعاصي والإفساد في الأرض وإضلال الناس وحملهم على الكفر بالله تعالى وكفران نعمه الفائضة عليهم وصرفها إلى غير ما أمر الله تعالى به. وفي تخصيص هذا الوصف بالذكر من بين صفاته القبيحة إيذان بأن التبذير الذي هو عبارة عن صرف نعم الله تعالى إلى غير مصرفها من باب الكفران المقابل للشكر الذي هو صرفها إلى ما خلقت له، وفي التعرض لعنوان الربوبية إشعار بكمال عتوه كما لا يخفى. ويشعر كلام بعضهم بجواز حمل الكفر هنا على ما يقابل الإيمان وليس بذاك. وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ أي عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل على ما هو الظاهر، وقيل عن السائلين مطلقا، والإعراض في الأصل إظهار العرض أي الناحية فمعنى أعرض عنه ولى مبديا عرضه، والمراد به هنا حقيقته على ما قيل بناء على ما روي من أنه صلّى الله عليه وسلّم كان إذا سئل شيئا ليس عنده صرف وجهه الشريف وسكت فنزلت وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها والخطاب عام له صلّى الله عليه وسلّم ولغيره والمراد بالرحمة على ما أخرج ابن جرير عن ابن عباس ومجاهد والضحاك الرزق، ونصب ابْتِغاءَ على أنه مفعول له. قال في الكشف قد أقيم ابتغاء الرزق مقام فقدانه وفيه لطف فكان ذلك الإعراض لأجل السعي لهم وهو من وضع المسبب موضع السبب كما أوضحه في الكشاف، وقد يفسر الابتغاء بالانتظار ويجوز جعله في موضع الحال من ضمير تُعْرِضَنَّ أي مبتغيا، وجعله حالا من الضمير المجرور بعيد. وجوز أن يكون الإعراض كناية عن عدم النفع وترك الإعطاء لأنه لازمه عرفا والابتغاء مجازا عن عدم الاستطاعة والتعلق أيضا بالشرط وأيد ذلك بما أخرجه سعيد بن منصور. وابن المنذر عن عطاء الخراساني قال: جاء ناس من مزينة يستحملون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا» ظنوا ذلك من غضب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 62 رسول الله عليه الصلاة والسلام عليهم فأنزل الله سبحانه: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ الآية وفسر الرحمة بالفيء لكن أنت تعلم أن هذا غير ظاهر بناء على ما سمعت من أن هذه السورة مكية والآية المذكورة ليست من المستثنيات، وكأنه لهذا قيل: إن المعنى إن ثبت وتحقق في المستقبل أنك أعرضت عنهم في الماضي ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل إلخ والمراد سببية الثبوت للأمر بالقول فتأمل. وجوز أن يتعلق ابْتِغاءَ بجواب الشرط أعني قوله تعالى: فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً أي إما تعرضن عنهم فقل لهم ذلك ابتغاء رحمة من ربك، وقدم هذا الوجه على سائر الأوجه الزمخشري واعترض بأن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها في غير باب إما وما يلحق بها. وأجيب بأنه ذكره على المذهب الكوفي المجوز للعمل مطلقا أو أراد التعلق المعنوي فيضمر ما ينصبه ويجعل المذكور جاريا مجرى التفسير، والإعراض على هذا على حقيقته، واحتمال كونه كناية مختص بتعلقه بالشرط على ما زعمه الطيبي والحق عدم الاختصاص كما لا يخفى. وجملة تَرْجُوها على سائر الأوجه يحتمل أن تكون وصفا لرحمة وأن تكون حالا من الفاعل ومِنْ رَبِّكَ متعلق بترجوها. وجوز أن يكون صفة لرحمة، والميسور اسم مفعول من يسر الأمر بالبناء للمجهول مثل سعد الرجل ومعناه السهل أي فقل لهم قولا سهلا لينا وعدهم وعدا جميلا، قال الحسن: أمر أن يقول لهم نعم وكرامة وليس عندنا اليوم فإن يأتنا شيء نعرف حقكم، وقيل الميسور مصدر وجعل صفة مبالغة أو بتقدير مضاف أي قولا ذا ميسور أي يسر والمراد به القول المشتمل على الدعاء باليسر مثل أغناكم الله تعالى ويسر لكم، وفسره ابن زيد برزقنا الله تعالى وإياكم بارك الله تعالى فيكم. وتعقب ذلك بأن الميسور معناه ذا يسر ولهذا وقع صفة لقول فأي ضرورة في أن يجعل مصدرا ثم يؤول بذا ميسور، ودفع بأنه إذا أريد القول المشتمل على الدعاء لا يكون القول حينئذ ميسورا بل ميسر لما أرادوه. وميسور مصدرا مما ثبت في اللغة من غير تكلف فجعله صفة مبالغة أو بتقدير مضاف له وجه وجيه وفيه تأمل. والحق أن اعتباره مصدرا خلاف الظاهر، وفي الآية على القول الأخير دلالة على أن الدعاء للسائل مما لا بأس به، وعن الإمام مالك رحمه الله تعالى أنه كان لا يرى أن يقال للسائل إذا لم يعط شيئا: رزقك الله تعالى ونحوه قائلا إن ذلك مما يثقل عليه ويكره سماعه ولا ينبغي أن يذكر اسم الله تعالى لمن لا يهش له، ولعمري إنه مغزى بعيد، وأفاد بعضهم أن في الآية دليلا على النهي عن الإعراض بالمعنى الأول فإن المعنى إن أردت الإعراض عنهم فقل لهم قولا ميسورا ولا تعرض وله وجه وجيه لا يخفى على من له بصر حديد. واستشكل العز بن عبد السلام جعل ابْتِغاءَ من متعلقات الشرط بأنا مأمورون بالرد الجميل إن انتظرنا شيئا يحصل لنا أو لم ننتظر. وأجاب بأن المراد بالقول الميسور الوعد بالعطاء فيكون مفاد الآية لا تعدوا إلا إذا كنتم على رجاء من حصول ما تعدون به فالتقييد بالابتغاء في غاية المناسبة للشرط لأنه لا يحسن الوعد عند عدم الرجاء لما أنه يؤدي إلى الإخلاف وهو كما ترى. وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ تمثيلان لمنع الشحيح وإسراف المبذر زجرا لهما عنهما وحملا على ما بينهما من الاقتصاد والتوسط بين الإفراط والتفريط وذلك هو الجود الممدوح فخير الأمور أوساطها وأخرج أحمد وغيره عن ابن عباس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما عال من اقتصد» وأخرج البيهقي عن ابن عمر قال قال رسول الله عليه الصلاة والسلام «الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة» وفي رواية عن أنس مرفوعا «التدبير نصف المعيشة والتودد نصف العقل والهم نصف الهرم وقلة العيال أحد اليسارين» وكان يقال حسن التدبير مع العفاف خير الجزء: 8 ¦ الصفحة: 63 من الغنى مع الإسراف فَتَقْعُدَ مَلُوماً أي فتصير ملوما عند الله تعالى وعند الناس مَحْسُوراً نادما مغموما أو منقطعا بك لا شيء عندك من حسره السفر أعياه وأوقفه حتى انقطع عن رفقته، قال الراغب: يقال للمعيي حاسر ومحسور أما الحاسر فتصور أنه قد حسر بنفسه قواه وأما المحسور فتصور أن التعب قد حسره وهذا بيان قبح الإسراف المفهوم من النهي الأخير، وبين في أثره لأن غائلة الإسراف في آخره وحيث كان قبح الشح المفهوم من النهي الأول مقارنا له معلوما من أول الأمر روعي ذلك في التصوير بأقبح الصور ولم يسلك فيه مسلك ما بعده كذا قيل، وفي أثر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أخرجه عنه ابن جرير وابن أبي حاتم ما يقتضيه، وقال بعض المحققين: الأولى أن يكون ذلك بيانا لقبح الأمرين ويعتبر التوزيع «فتقعد» منصوب في جواب النهيين والملوم راجع إلى قوله تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ كما قيل: إن البخيل ملوم حيثما كانا والمحسور راجع إلى قوله سبحانه: وَلا تَبْسُطْها وليس ببعيد. وفي الكشاف عن جابر: «بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس إذ أتاه صبي فقال: إن أمي تستكسيك درعا فقال: من ساعة إلى ساعة يظهر فعد إلينا فذهب إلى أمه فقالت: قل له إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك فدخل صلّى الله عليه وسلّم داره ونزع قميصه وأعطاه وقعد عريانا وأذن بلال وانتظر فلم يخرج عليه الصلاة والسلام إلى الصلاة فنزلت» وأنت تعلم أنه يأبى هذا كون السورة مكية والآية ليست من المستثنيات ولعل الخبر لم يثبت فعن ولي الدين العراقي أنه لم يجده في شيء من كتب الحديث أي بهذا اللفظ وإلا فقد أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: جاء غلام إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن أمي تسألك كذا وكذا فقال: ما عندنا اليوم شيء قال: فتقول لك اكسني قميصك فخلع عليه الصلاة والسلام قميصه فدفعه إليه وجلس في البيت حاسرا فنزلت، وأخرج ابن أبي حاتم عن المنهال ابن عمرو نحوه وليس في شيء منهما حديث أذان بلال وما بعده، وقيل: إنه عليه الصلاة والسلام أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وعيينة بن حصن الفزاري فجاء عباس بن مرداس فأنشأ يقول: أتجعل نهبي ونهب العبي د بين عيينة والأقرع وما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في مجمع وما كنت دون امرئ منهما ومن يخفض اليوم لم يرفع فقال صلّى الله عليه وسلّم: يا أبا بكر اقطع لسانه عني أعطه مائة من الإبل وكانوا جميعا من المؤلفة قلوبهم فنزلت ، وفيه الإباء السابق كما لا يخفى، وكذا ما أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر عن سيار أبي الحكم قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بزمن العراق وكان معطاء كريما فقسمه بين الناس فبلغ ذلك قوما من العرب فقالوا: نأتي النبي صلّى الله عليه وسلّم نسأله فوجدوه قد فرغ منه فأنزل الله تعالى الآية. إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ تعليل لقوله سبحانه وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ إلخ كأنه قيل: إن أعرضت عنهم لفقد الرزق فقل لهم قولا ميسورا ولا تهتم لذلك فإن ذلك ليس لهوان منك عليه تعالى بل لأن بيده جل وعلا مقاليد الرزق وهو سبحانه يوسعه على بعض ويضيقه على بعض حسبما تتعلق به مشيئته التابعة للحكمة فما يعرض لك في بعض الأحيان من ضيق الحال الذي يحوجك إلى الإعراض ليس إلا لمصلحتك فيكون قوله تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ إلخ معترضا تأكيدا لمعنى ما تقتضيه حكمته عز وجل من القبض والبسط، وقوله تعالى: إِنَّهُ سبحانه كانَ لم يزل ولا يزال بِعِبادِهِ جميعهم خَبِيراً عالما بسرهم بَصِيراً عالما بعلنهم فيعلم من مصالحهم ما يخفى عليهم تعليل لسابقه، وجوز أن يكون ذلك تعليلا للأمر بالاقتصاد المستفاد من النهيين إما على معنى أن البسط والقبض أمران مختصان بالله تعالى وأما أنت فاقتصد واترك ما هو مختص به جل وعلا أو على معنى أنكم إذا تحققتم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 64 شأنه تعالى شأنه وأنه سبحانه يبسط ويقبض وأمعنتم النظر في ذلك وجدتموه تعالى مقتصدا فاقتصدوا أنتم واستنوا بسنته، وجعله بعضهم تعليلا لجميع ما مر وفيه خفاء كما لا يخفى، وجوز كونه تعليلا للنهي الأخير على معنى أنه تعالى يبسط ويقبض حسب مشيئته فلا تبسطوا على من قدر عليه رزقه وليس بشيء. وجوز أيضا كونه تمهيدا لقوله سبحانه: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ واستبعد بأن الظاهر حينئذ فلا. الإملاق الفقر كما روي عن ابن عباس وأنشد له قول الشاعر: وإني على الإملاق يا قوم ماجد ... أعد لأضيافي الشواء المصهبا وظاهر اللفظ النهي عن جميع أنواع قتل الأولاد ذكورا كانوا أو إناثا مخافة الفقر والفاقة لكن روي أن من أهل الجاهلية من كان يئد البنات مخافة العجز عن النفقة عليهن فنهى في الآية عن ذلك فيكون المراد بالأولاد البنات وبالقتل الوأد، والخشية في الأصل خوف يشوبه تعظيم، قال الراغب: وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه. وقرىء بكسر الخاء، والظاهر أن هذا النهي معطوف على ما تقدم من نظيره، وجوز الطبرسي أن يكون عطفه على قوله سبحانه: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وحينئذ فيحتمل أن يكون الفعل منصوبا بأن كما في الفعل السابق. نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ضمان لرزقهم وتعليل للنهي المذكور بإبطال موجبه في زعمهم أي نحن نرزقهم لا أنتم فلا تخافوا الفقر بناء على علمكم بعجزهم عن تحصيل رزقهم، وتقديم ضمير الأولاد على ضمير المخاطبين على عكس ما وقع في سورة الأنعام للإشعار بأصالتهم في إفاضة الرزق، وعارض هذه النكتة هناك تقدم ما يستدعي الاعتناء بشأن المخاطبين من الآيات كذا قيل. وجوز المولى شيخ الإسلام كون ذلك لأن الباعث على القتل هناك الإملاق الناجز ولذلك قيل من إملاق وهاهنا الإملاق المتوقع ولذلك قيل: خشية إملاق فكأنه قيل: نرزقهم من غير أن ينقص من رزقكم شيء فيعتريكم ما تخشونه وإياكم أيضا رزقا إلى رزقكم. إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً تعليل آخر ببيان أن المنهي عنه في نفسه منكر عظيم لما فيه من قطع التناسل وقطع النوع، والخطأ كالإثم لفظا ومعنى وفعلهما من باب علم وقرأ أبو جعفر وابن ذكوان عن عامر (خطأ) بفتح الخاء والطاء من غير مد، وخرج ذلك الزجاج على وجهين، الأول أن يكون اسم مصدر من أخطأ يخطىء إذا لم يصب أي إن قتلهم كان غير صواب، والثاني أن يكون لغة في الخطأ بمعنى الإثم مثل مثل ومثل وحذر وحذر فمن استشكل هذه القراءة بأن الخطأ ما لم يتعمد وليس هذا محله فقد نادى على نفسه بقلة الاطلاع. وقرأ ابن كثير «خطاء» بكسر الخاء وفتح الطاء والمد وخرج على وجهين أيضا. الأول أن يكون لغة في الخطء بمعنى الإثم مثل دبغ ودباغ ولبس ولباس، والثاني أن يكون مصدر خاطأ يخاطىء خطاء مثل قاتل يقاتل قتالا. قال أبو علي الفارسي: وإن كنا لم نجد خاطأ لكن وجد تخطأ مطاوعه فدلنا عليه وذلك في قولهم: تخطأت النبل أحشاءه، وأنشد محمد بن السوي في وصف كماءة كما في مجمع البيان: وأشعث قد ناولته أحرش الفري ... أدرت عليه المدجنات الهواضب تخطأه القناص حتى وجدته ... وخرطومه في منقع الماء راسب والمعنى على هذا إن قتلهم كان عدولا عن الحق والصواب فقول أبي حاتم إن هذه القراءة غلط غلط. وقرأ الحسن «خطاء» بفتح الخاء والطاء مع المد وهو اسم مصدر أخطى كالعطاء اسم مصدر أعطى، وقرأ الزهري وأبو رجاء «خطأ» بكسر الخاء وفتح الطاء وألف في آخره مبدلة من الهمزة وليس من قصر الممدود لأنه ضرورة لا داعي إليه، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 65 وفي رواية عن ابن عامر أنه قرأ «خطا» كعصا وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى بمباشرة مباديه القريبة أو البعيدة فضلا عن مباشرته، والنهي عن قربانه على خلاف ما سبق ولحق للمبالغة في النهي عن نفسه ولأن قربانه داع إلى مباشرته، وفسره الراغب بوطء المرأة من غير عقد شرعي، وجاء فيه المد والقصر وإذا مد يصح أن يكون مصدر المفاعلة، وتوسيط النهي عنه بين النهي عن قتل الأولاد والنهي عن قتل النفس المحرمة مطلقا كما قال شيخ الإسلام باعتبار أنه قتل للأولاد لما أنه تضييع للأنساب فإن من لم يثبت نسبه ميت حكما. إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً فعلة ظاهرة القبح زائدته وَساءَ سَبِيلًا أي وبئس السبيل سبيلا لما فيه من اختلال أمر الأنساب وهيجان الفتن، وقد روى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» وجاء في غير رواية أنه إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان فكان فوق رأسه كالظلة فإن تاب ونزع رجع إليه وهو من الكبائر، وفاحشة مطلقا على ما أجمع عليه المحققون بل في الحديث الصحيح أنه بحليلة الجار من أكبر الكبائر، وزعم الحليمي أنه فاحشة إن كان بحليلة الجار أو بذات الرحم أو بأجنبية في شهر رمضان أو في البلد الحرام وكبيرة وإن كان مع امرأة الأب أو حليلة الابن أو مع أجنبية على سبيل القهر والإكراه وإذا لم يوجب حدا يكون صغيرة، ولا يخفى رده وضعف مبناه، والآية ظاهرة في أنه فاحشة مطلقا نعم أفحش أنواعه الزنا بحليلة الجار، وقال بعضهم: أعظم الزنا على الإطلاق الزنا بالمحارم فقد صحح الحاكم أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «من وقع على ذات محرم فاقتلوه وزنا الثيب أقبح من زنا البكر بدليل اختلاف حديهما، وزنا الشيخ لكمال عقله أقبح من زنا الشاب، وزنا الحر والعالم لكمالهما أقبح من زنا القن والجاهل، وهل هو أكبر من اللواط أم لا؟ فيه خلاف وفي الإحياء أنه أكبر منه لأن الشهوة داعية إليه من الجانبين فيكثر وقوعه ويعظم الضرر، ومنه اختلاط الأنساب بكثرته، وقد يعارض بأن حده أغلظ بدليل قول مالك وآخرين برجم اللوطي ولو غير محصن بخلاف الزاني. وقد يجاب بأن المفضول قد يكون فيه مزية، وفيه ما فيه. وبالغ بعضهم فقال: إنه مطلقا يلي الشرك في الكبر، والأصح أن الذي يلي الشرك هو القتل ثم الزنا، وخبر الغيبة أشد من ثلاثين زنية في الإسلام الظاهر كما قال ابن حجر الهيتمي أنه لا أصل له، نعم روى الطبراني والبيهقي وغيرهما الغيبة أشد من الزنا إلا أن له ما يبين معناه وهو ما رواه ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ عن جابر وأبي سعيد رضي الله تعالى عنهما إياكم والغيبة فإن الغيبة أشد من الزنا إن الرجل ليزني فيتوب الله تعالى عليه وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه فعلم منه أن أشدية الغيبة من الزنا ليست على الإطلاق بل من جهة أن التوبة الباطنة المستوفية لجميع شروطها من الندم من حيث المعصية والإقلاع وعزم أن لا يعود مع عدم الغرغرة وطلوع الشمس من مغربها مكفرة لإثم الزنا بمجردها بخلاف الغيبة فإن التوبة وإن وجدت فيها هذه الشروط لا تكفرها بل لا بد وأن ينضم إليها استحلال صاحبها مع عفوه فكانت الغيبة أشد من هذه الحيثية لا مطلقا فلا يعكر الحديث على الأصح، وعلم منه أيضا أن الزنا لا يحتاج في التوبة منه إلى استحلال وهو ما صرح به غير واحد من المحققين وهو مع ذلك من الحقوق المتعلقة بالآدمي كيف لا وهو من الجناية على الأعراض والأنساب. ومعنى قولهم إن الزنا لا يتعلق به حق آدمي أي من المال ونحوه وعدم اشتراط الاستحلال لا يدل على أنه ليس من الحقوق المتعلقة بالآدمي مطلقا، وإنما لم يشترط الاستحلال لما يترتب على ذكره من زيادة العار والظن الغالب بأن نحو الزوج أو القريب إذا ذكر له ذلك يبادر إلى قتل الزاني أو المزني بها أو إلى قتلهما معا ومع ما ذكر كيف يمكن القول باشتراطه، وقد صرح بنحو ذلك حجة الإسلام الغزالي في منهاج العابدين فقال في ضمن تفصيل قال الأذرعي: إنه في غاية الحسن والتحقيق أما الذنب في الحرم فإن خنته في أهله وولده فلا وجه للاستحلال والإظهار لأنه يولد فتنة وغيظا بل تتضرع إلى الله سبحانه ليرضيه عنك ويجعل له خيرا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 66 كثيرا في مقابلته فإن أمنت الفتنة والهيج وهو نادر فتستحل منه، وقد قال الأذرعي في مواضع في الحسد والتوبة منه: ويشبه أن يحرم الإخبار به إذا غلب على ظنه أن لا يحلله وأنه يتولد منه عداوة وحقد وأذى للمخبر، ثم قال: ويجوز أن ينظر إلى المحسود فإن كان حسن الخلق بحيث يظن أنه يحلله تعين أخباره ليخرج من ظلامته بيقين وأن غلب على ظنه أن إخباره يجر شرا وعداوة حرم إخباره قطعا وإن تردد فالظاهر ما ذكره النووي من عدم الوجوب والاستحباب فإن النفس الزكية نادرة وربما جر ذلك شرا وعداوة وإن حلله بلسانه اه، فإذا كان هذا في الحسد مع سهولته عند أكثر الناس وعدم مبالاتهم به ومن ثم أطلق النووي عدم الإخبار فقال: المختار بل الصواب أنه لا يجب إخبار المحسود بل لا يستحب ولو قيل يكره لم يبعد فما بالك في الزنا المستلزم أن الزوج والقريب يقتل فيه بمجرد التوهم فكيف مع التحقق ويعلم من الأخبار أن ثمرات الزنا قبيحة منها أنه يورد النار والعذاب الشديد وأنه يورث الفقر وذهاب البهاء وقصر العمر وأنه يؤخذ بمثله من ذرية الزاني، ولما قيل لبعض الملوك ذلك أراد تجربته بابنة له وكانت غاية في الحسن فأنزلها مع امرأة وأمرها أن لا تمنع أحدا أراد التعرض لها بأي شيء شاء وأمرها بكشف وجهها فطافت بها في الأسواق فما مرت على أحد إلا وأطرق حياء وخجلا منها فلما طافت بها المدينة كلها ولم يمد أحد نظره إليها رجعت بها إلى دار الملك فلما أرادت الدخول أمسكها إنسان وقبلها ثم ذهب عنها فأدخلتها على الملك وذكرت له القصة فسجد شكرا وقال: الحمد لله تعالى ما وقع مني في عمري قط إلا قبلة وقد قوصصت بها نسأل الله سبحانه أن يعصمنا وذرارينا ومن ينسب إلينا من الفواحش ما ظهر منها وما بطن بحرمة النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقرأ أبي بن كعب كما أخرجه عنه ابن مردويه «ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا إلا من تاب فإن الله كان غفورا رحيما» فذكر لعمر رضي الله تعالى عنه فأتاه فسأله فقال أخذتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وليس لك عمل إلا الصفق بالنقيع وهذا إن صح كان قبل العرضة الأخيرة وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ أي حرمها الله تعالى، والمراد حرم قتلها بأن عصمها بالإسلام أو بالعهد إِلَّا بِالْحَقِّ متعلق بلا تقتلوا والباء للسببية والاستثناء مفرغ أي لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق، ويجوز أن يكون حالا من الفاعل أو المفعول أي لا تقتلوا إلا ملتبسين بالحق أو لا تقتلوها إلا ملتبسة بالحق، وجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف أي لا تقتلوها قتلا ما إلا قتلا ملتبسا بالحق والأول أظهر، وأما تعلقه بحرم فبعيد وإن صح، وفسر الحق بما رواه الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود لا يحل دم امرئ يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيب الزاني والتارك لدينه المفارق للجماعة ، ونقض الحصر بدفع الصائل فإن ذلك ربما أدى إلى القتل، ودفع بأن المراد ما يكون بنفسه مقصودا به القتل وما ذكر المقصود به الدفع وقد يفضي إليه في الجملة، والحق عدم انحصار الحق فيما ذكر وهو في الخبر ليس بحقيقي، وقد ذهب الشافعية إلى أن ترك الصلاة كسلا مبيح للقتل وكذا اللواطة عند جمع من الأجلة. وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً بغير حق يوجب قتله أو يبيحه للقاتل حتى أنه لا يعتبر إباحته لغير القاتل فقد نص علماؤنا أن من عليه القصاص إذا قتله غير من له القصاص يقتص له ولا يفيده قول الولي أنا أمرته بذلك إلا أن يكون الأمر ظاهرا فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ لمن يلي أمره من الوارث أو السلطان عند عدم الوارث، واقتصار البعض على الأول رعاية للأغب سُلْطاناً أي تسلطا واستيلاء على القاتل بمؤاخذته بأحد أمرين القصاص أو الدية، وقد تتعين الدية كما في القتل الخطأ والمقتول خطأ مقتول ظلما بالمعنى الذي أشير إليه وإن قلنا لا إثم في الخطأ لحديث «رفع عن أمتي الخطأ» وشرع الكفارة فيه لعدم التثبت واجتناب ما يؤدي إليه فليتأمل. واستدل بتفسير الولي بالوارث على أن للمرأة دخلا في القصاص. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 67 وقال القاضي إسماعيل: لا تدخل لأن لفظه مذكر فَلا يُسْرِفْ أي الولي فِي الْقَتْلِ أي فلا يتجاوز الحد المشروع فيه بأن يقتل اثنين مثلا والقاتل واحد كعادة الجاهلية فإنهم كانوا إذا قتل منهم واحد قتلوا قاتله وقتلوا معه غيره، ومن هنا قال مهلهل: كل قتيل في كليب غره ... حتى ينال القتل آل مره وإلى هذا ذهب ابن جبير وأخرجه المنذر من طريق أبي صالح عن ابن عباس أو بأن يقتل غير القاتل ويترك القاتل. وروي هذا عن زيد بن أسلم فقد أخرج البيهقي في سننه عنه أن الناس في الجاهلية إذا قتل من ليس شريفا شريفا لم يقتلوه به وقتلوا شريفا من قومه فنهى عن ذلك أو بأن يزيد على القتل المثلة كما قيل. وأخرج ابن جرير وغيره عن طلق بن حبيب أنه قال: لا يقتل غير قاتله ولا يمثل به، وقيل بأن يقتل القاتل والمشروع عليه الدية، وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن قتادة أنه قال في الآية: من قتل بحديدة قتل بحديدة ومن قتل بخشبة قتل بخشبة ومن قتل بحجر قتل بحجر ولا يقتل غير القاتل. وفيه القول بأن القتل بالمثقل يوجب القصاص وهو خلاف مذهبنا. وقرأ حمزة والكسائي «فلا تسرف» بالخطاب للولي التفاتا، وقرأ أبو مسلم صاحب الدولة «فلا يسرف» بالرفع على أنه خبر في معنى الأمر وفيه مبالغة ليست في الأمر إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً تعليل للنهي، والضمير للولي أيضا على معنى أنه تعالى نصره بأن أوجب القصاص أو الدية وأمر الحكام بمعونته في استيفاء حقه فلا يبغ ما وراء حقه ولا يخرج من دائرة إمرة الناصر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أن الضمير للمقتول على معنى أن الله تعالى نصره في الدنيا بأخذ القصاص أو الدية وفي الأخرى بالثواب فلا يسرف وليه في شأنه، وجوز أن يعود على الذي أسرف به الولي أي إنه تعالى نصره بإيجاب القصاص والتعزيز والوزر على من أسرف في شأنه، وقيل ضمير يسرف للقاتل أي مريد القتل ومباشرة ابتداء ونسبه في الكشاف إلى مجاهد، والضميران في التعليل عائدان على الولي أو المقتول، وأيد بقراءة أبي «فلا تسرفوا» لأن القاتل متعدد في النظم في قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا والأصل توافق القراءتين، ولم تعينه لأن الولي عام في الآية فهو في معنى الأولياء فيجوز جمع ضميره بهذا الاعتبار ويكون التفاتا، وتوافق القراءتين ليس بلازم، والمعنى فلا يسرف على نفسه في شأن القتل بتعريضها للهلاك العاجل والآجل. وفي الكشف أنه ردع للقاتل على أسلوب وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [البقرة: 179] والنهي عن الإسراف لتصوير أن القتل بغير حق كيف ما قدر إسراف، ومعناه فلا يقتل بغير حق وأنت تعلم أن هذا الوجه غير وجيه فلا ينبغي التعويل عليه، وهذه الآية كما أخرج غير واحد عن الضحاك أول آية نزلت في شأن القتل وقد علمت أن الأصح أنه أكبر الكبائر بعد الشرك، وكون القتل العمد العدوان من الكبائر مجمع عليه، وعد شبه العمد منها هو ما صرح به الهروي وشريح الروياني، وأما الخطأ فالصواب أنه ليس بمعصية فضلا عن كونه ليس بكبيرة فليحفظ وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ نهى عن قربانه لما ذكر سابقا من المبالغة في النهي عن التعرض له وللتوسل إلى الاستثناء بقوله تعالى: إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي إلا بالخصلة والطريقة التي هي أحسن الخصال والطرائق وهي حفظه واستثماره حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ غاية لجواز التصرف على الوجه الأحسن المدلول عليه بالاستثناء لا للوجه المذكور فقط، والأشد قيل جمع شد كالأضر جمع ضر والشد القوة وهو استحكام قوة الشباب والسن كما أن شد النهار ارتفاعه، قال عنترة: عهدي به شد النهار كأنما ... خضب البنان ورأسه بالعظلم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 68 وقيل هو جمع شدة مثل نعمة وأنعم، وقال بعض البصريين، هو واحد مثل الآنك: والمراد ببلوغه الأشد بلوغه إلى حيث يمكنه بسبب عقله ورشده القيام بمصالح ماله ثم التصرف بمال اليتيم بنحو الأكل على غير الوجه المأذون فيه من الكبائر، وتردد ابن عبد السلام بتقييده بنصاب السرقة فقال في القواعد: قد نص الشرع على أن شهادة الزور وأكل مال اليتيم من الكبائر فإن وقعا في مال خطير فهو ظاهر وإن وقعا في مال حقير كزبيبة وتمرة فيجوز أن يجعلا من الكبائر فطاما عن جنس هذه المفسدة كالقطرة من الخمر وإن لم تتحقق المفسدة ويجوز أن يضبط ذلك بنصاب السرقة اه. وقد يفرق بينهما بأن في شهادة الزور مع الجراءة على انتهاك حرمة المال المعصوم جراءة على الكذب في الشهادة بخلاف القليل من مال اليتيم فلا يستبعد التقييد به بخلافها كذا قيل. والحق أن الآيات والأخبار الواردة في وعيد أكل مال اليتيم مطلقة فتتناول القليل والكثير فلا يجوز تخصيصها إلا بدليل سمعي وحيث لا دليل كذلك فالتخصيص غير مقبول فالوجه أنه لا فرق بين أكل القليل وأكل الكثير في كونه كبيرة يستحق فاعله الوعيد الشديد، نعم الشيء التافه الذي تقتضي العادة بالمسامحة به لا يبعد كون أكله ليس من الكبائر والله تعالى أعلم، وقد توصل القضاة اليوم إلى أكل مال اليتيم في صورة حفظه عاملهم الله تعالى بعد له وأذاق خائنهم في الدارين جزاء فعله وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ما عاهدتم الله تعالى عليه من التزام تكاليفه وما عاهدتم عليه غيركم من العباد ويدخل في ذلك العقود. وجوز أن يكون المراد ما عاهدكم الله تعالى عليه وكلفكم به، والإيفاء بالعهد والوفاء به هو القيام بمقتضاه والمحافظة عليه وعدم نقضه واشتقاق ضده وهو الغدر يدل على ذلك وهو الترك ولا يكاد يستعمل إلا بالباء فرقا بينه وبين الإيفاء الحسي كإيفاء الكيل والوزن إِنَّ الْعَهْدَ أظهر في مقام الإضمار إظهارا لكمال العناية بشأنه وقيل دفعا لتوهم عود الضمير إلى الإيفاء المفهوم من أَوْفُوا كانَ مَسْؤُلًا أي مسؤولا عنه على حذف الجار وجعل الضمير بعد انقلابه مرفوعا مستكنا في اسم المفعول ويسمى الحذف والإيصال وهو شائع. وجوز أن يكون الكلام على حذف مضاف أي إن صاحب العهد كان مسؤولا، وقيل لا حذف أصلا والكلام على التخييل كأنه يقال للعهد لم نكثت وهلا وفى بك تبكيتا للناكث كما يقال للموؤدة بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير: 9] وقد يعتبر فيه الاستعارة الكنية والتخييلية، وزعم بعضهم أنه يجوز أن يجعل العهد متمثلا على هيئة من يتوجه عليه السؤال كما تجسم الحسنات والسيئات لتوزن. وجوز أن يكون مَسْؤُلًا بمعنى مطلوبا من سألت كذا إذا طلبت، وإسناد المطلوبية إليه مجاز والمراد مطلوب عدم إضاعته، ويجوز أن يكون في الكلام مضاف محذوف ارتفع الضمير واستتر بعد حذفه، والأصل ما أشرنا إليه وقد سمعت آنفا أن مثل ذلك شائع، وليس في ذلك تعليل الشيء بنفسه فإن المآل إلى أن يقال: أوفوا بالعهد فإن عدم إضاعته لم تزل مطلوبة من كل أحد فتطلب منكم أيضا، ثم إن الإخلال بالوفاء بالعهد على ما تقتضيه الأحاديث الصحيحة قيل كبيرة، وقد جاء عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه وعد من الكبائر نكث الصفقة أي الغدر بالمعاهد بل صرح شيخ الإسلام العلائي بأنه جاء في الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه سماه كبيرة، وقال بعض المحققين: إن في إطلاق كون الإخلال المذكور كبيرة نظرا بناء على أن العهد هو التكليفات الشرعية فإن من الإخلال ما يكون كبيرة ومنه ما يكون صغيرة وينظر في ذلك إلى حال المكلف به، ولعل من قال: إن الإخلال بالعهد كبيرة أراد بالعهد مبايعة الإمام وبالإخلال بذلك نقض بيعته والخروج عليه لغير موجب ولا تأويل ولا شبهة في أن ذلك كبيرة فليتأمل وَأَوْفُوا الْكَيْلَ أتموه ولا تخسروه إِذا كِلْتُمْ أي وقت كيلكم للمشترين، وتقييد الأمر به لما أن التطفيف يكون هناك، وأما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 69 وقت الاكتيال على الناس فلا حاجة إلى الأمر بالتعديل قال تعالى: إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ [المطففين: 2] الآية وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ هو القبان على ما روي عن الضحاك ويقال له القرسطون بلغة أهل الشام كما قال الأزهري، وقال الزجاج: هو الميزان صغيرا كان أو كبيرا من موازين الدراهم وغيرها، وقال الليث: هو أقوم الموازين، وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أنه العدل، وعن الحسن أنه الحديد وهو رومي معرب كما قال ابن دريد لفقد مادته في العربية، وقيل: إنه عربي وروي القول بتعريبه وأنه الميزان في اللغة الرومية عن ابن جبير وجماعة، وقيل: هو مركب من كلمتين القسط وهو العدل وطاس وهو كفة الميزان لكنه حذف أحد الطاءين لأن التركيب محل تخفيف وهو كما ترى، وعلى القول بأنه رومي معرب وهو الصحيح لا يقدح استعماله في القرآن في عربيته المذكورة في قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [يوسف: 2] لأنه بعد التعريب والسماع في فصيح الكلام يصير عربيا فلا حاجة إلى إنكار تعريبه أو ادعاء التغليب أو أن المراد عربي الأسلوب. وقد قرأه الكوفيون بكسر القاف والباقون بضمها، وقد تبدل السين الأولى صادا كما أبدلت الصاد سينا في الصراط الْمُسْتَقِيمِ أي العدل السوي، وهو يبعد تفسير القسطاس بالعدل، ولعل الاكتفاء باستقامته عن الأمر بإيفاء الوزن كما قال شيخ الإسلام لما أن عند استقامته لا يتصور الجور غالبا بخلاف الكيل فإنه كثيرا ما يقع التطفيف مع استقامة الآلة كما أن الاكتفاء بإيفاء الكيل عن الأمر بتعديله لما أن إيفاءه لا يتصور بدون تعديل المكيال وقد أمر بتقويمه أيضا في قوله تعالى: أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ ذلِكَ أي إيفاء الكيل والوزن بالقسطاس المستقيم خَيْرٌ في الدنيا لأنه سبب لرغبة الناس في معاملة فاعله وجلب الثناء الجميل عليه وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي عاقبة لما يترتب عليه من الثواب في الآخرة، والتأويل تفعيل من آل إذا رجع وأصله رجوع الشيء إلى الغاية المرادة منه علما كما في قوله تعالى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران: 7] أو فعلا كما في قوله سبحانه يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ [الأعراف: 53] وقول الشاعر: وللنوى قبل يوم البين تأويل، وقيل: المراد ذلك خير في نفسه لأنه أمانة وهي صفة كمال وأحسن عاقبة في الدنيا لأنه سبب لميل القلوب والرغبة في المعاملة والذكر الجميل بين الناس ويفضي ذلك إلى الغنى وفي الآخرة لأنه سبب للخلاص من العذاب والفوز بالثواب، وقيل: أحسن تأويلا أي أحسن معنى وترجمة، ثم إن إيفاء الكيل والوزن واجب إجماعا ونقص ذلك من الكبائر مطلقا على ما يقتضيه الوعيد الشديد لفاعله الوارد في الآيات والأحاديث الصحيحة ولا فرق بين القليل والكثير، نعم قال بعضهم: إن التطفيف بالشيء التافه الذي يسامح به أكثر الناس ينبغي أن يكون صغيرة، فإن قلت: ذكروا في الغصب أن غصب ما دون ربع دينار لا يكون كبيرة وقضيته أن يكون التطفيف كذلك قلت قيل ذلك مشكل فلا يقاس عليه بل حكي الإجماع على خلافه. وقال الأذرعي: إنه تحديد لا مستند له انتهى، وعلى التنزيل فقد يفرق بأن الغصب ليس مما يدعو قليله إلى كثيره لأنه إنما يكون على سبيل القهر والغلبة بخلاف التطفيف فتعين التنفير عنه بأن كلا من قليله وكثيره كبيرة أخذا مما قالوه في شرب القطرة من الخمر من أنه كبيرة وأن لم يوجد فيها مفسدة الخمر لأن قليله يدعو إلى كثيره، ومثل التطفيف في الكيل والوزن النقص في الذرع ولا يكاد يسلم كيال أو وزان أو ذراع في هذه الأعطار من نقص الأمن عصمه الله تعالى وَلا تَقْفُ ولا تتبع، وأصل معنى قفا اتبع قفاه ثم استعمل في مطلق الاتباع وصار حقيقة فيه. وقرىء «ولا تقفوا» بإثبات حرف العلة مع الجازم وهو شاذ، وقرىء أيضا «ولا تقف» بضم القاف وسكون الفاء كتقل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 70 على أنه أجوف مجزوم بالسكون وماضيه قاف يقال قاف أثره يقوفه إذا قصه واتبعه ومنه القيافة وأصلها ما يعلم من الإقدام وأثرها، وعن أبي عبيدة أن قاف مقلوب قفا كجذب وجبذ. وتعقب بأن الصحيح خلافه. ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي لا تتبع ما لا علم لك به من قول أو فعل، وحاصله يرجع إلى النهي عن الحكم بما لا يكون معلوما ويندرج في ذلك أمور. وكل من المفسرين اقتصر على شيء فقيل المراد نهي المشركين عن القول في الإلهيات والنبوات تقليدا للأسلاف واتباعا للهوى، وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن محمد بن الحنفية أن المراد النهي عن شهادة الزور، وقيل: المراد النهي عن القذف ورمي المحصنين والمحصنات ومن ذلك قول الكميت: ولا أرمي البريء بغير ذنب ... ولا أقفو الحواصن إن رمينا وروى البيهقي في شعب الإيمان وأبو نعيم في الحلية من حديث معاذ بن أنس «من قفا مؤمنا بما ليس فيه- يريد شينه به- حبسه الله تعالى على جسر جهنم حتى يخرج مما قال» وقيل: المراد النهي عن الكذب، أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة أنه قال في الآية: لا تقل سمعت ولم تسمع ورأيت ولم تر، واختار الإمام العموم قال: إن اللفظ عام يتناول الكل فلا معنى للتقييد، واحتج بالآية نفاة القياس لأنه قفو للظن وحكم به. وأجيب بأنهم أجمعوا على الحكم بالظن والعمل به في صور كثيرة فمن ذلك الصلاة على الميت ودفنه في مقابر المسلمين وتوريث المسلم منه بناء على أنه مسلم وهو مظنون والتوجه إلى القبلة في الصلاة وهو مبني على الاجتهاد بأمارات لا تفيد إلا الظن وأكل الذبيحة بناء على أنها ذبيحة مسلم وهو مظنون والشهادة فإنها ظنية وقيم المتلفات وأروش الجنايات فإنها لا سبيل إليها إلا الظن، ومن نظر ولو بمؤخر العين رأى أن جميع الأعمال المعتبرة في الدنيا من الأسفار وطلب الأرباح والمعاملات إلى الآجال المخصوصة والاعتماد على صداقة الأصدقاء وعداوة الأعداء كلها مظنونة وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «نحن نحكم بالظاهر والله تعالى يتولى السرائر» فالنهي عن اتباع ما ليس بعلم قطعي مخصوص بالعقائد وبأن الظن قد يسمى علما كما في قوله تعالى: إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ [الممتحنة: 10] فإن العلم بإيمانهن إنما يكون بإقرارهن وهو لا يفيد إلا الظن، وبأن الدليل القاطع لما دل على وجوب العمل بالقياس كان ذلك الدليل دليلا على أنه متى حصل ظن أن حكم الله تعالى في هذه الصورة يساوي حكمه في محل النص فأنتم مكلفون بالعمل على وفق ذلك الظن فها هنا الظن واقع في طريق الحكم وأما ذلك الحكم فهو معلوم متيقن. وأجاب النفاة عن الأول بأن قوله تعالى: لا تَقْفُ الآية عام دخله التخصيص فيما يذكرون فيه العمل بالظن فيبقى العموم فيما وراءه على أن بين ما يذكرونه من الصور وبين محل النزاع فرقا لأن الأحكام المتعلقة بالأول مختصة بأشخاص معينين في أوقات معينة فالتنصيص على ذلك متعذر فاكتفى بالظن للضرورة بخلاف الثاني فإن الأحكام المثبتة بالأقيسة كلية معتبرة في وقائع كلية وهي مضبوطة والتنصيص عليها ممكن فلم يجز الاكتفاء فيها بالظن، وعن الثاني بأن المغايرة بين العلم والظن مما لا شبهة فيه ويدل عليها قوله تعالى: هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [الأنعام: 148] والمؤمن هو المقر وذلك الإقرار هو العلم فليس في الآية تسمية الظن علماء وعن الثالث بأنه إنما يتم لو ثبت حجية القياس بدليل قاطع وليس فليس، وأحسن ما يمكن أن يقال في الجواب على ما قال الإمام أن التمسك بالآية تمسك بعام مخصوص وهو لا يفيد إلا الظن فلو دلت على أن التمسك بالظن غير جائز لدلت على أن التمسك بها غير جائز فالقول بحجيتها يفضي إلى نفيه وهو باطل، وللمجيب أن يقول نعلم بالتواتر الظاهر من دين النبي صلّى الله عليه وسلّم أن التمسك بآيات القرآن حجة في الشريعة. ويمكن أن يجاب عن هذا بأن كون العام المخصوص حجة غير معلوم بالتواتر فتأمل إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ أي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 71 كل هذه الأعضاء وأشير إليها بأولئك على القول بأنها مختصة بالعقلاء تنزيلا لها منزلتهم لما كانت مسؤولة عن أحوالها شاهدة على أصحابها. وقال بعضهم: إنها غالبة في العقلاء وجاءت لغيرهم من حيث إنها اسم جمع لذا وهو يعم القبيلين ومن ذلك قول جرير على ما رواه غير واحد: ذم المنازل بعد منزلة اللوى ... والعيش بعد أولئك الأيام وعلى هذا لا حاجة إلى التنزيل وارتكاب الاستعارة فيما تقدم كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا كل الضمائر ضمائر «كل» أي كان كل من ذلك مسؤولا عن نفسه فيقال له: هل استعملك صاحبك فيما خلقت له أم لا؟ وذلك بعد جعله أهلا للخطاب والسؤال. وجوز أن يكون ضمير عَنْهُ لكل وما عداه للقافي فهناك التفات إذ الظاهر كنت عنه مسؤولا. وقال الزمخشري: عَنْهُ نائب فاعل مَسْؤُلًا فهو مسند إليه ولا ضمير فيه نحو غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7] . ورده أبو البقاء وغيره بأن القائم مقام الفاعل حكمه حكمه في أنه لا يجوز تقدمه على عامله كأصله. وذكر أنه حكى ابن النحاس الإجماع على عدم جواز تقديم القائم مقام الفاعل إذا كان جارا ومجرورا فليس ذلك نظير غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وليس لقائل أن يقول: إنه على رأي الكوفيين في تجويزهم تقديم الفاعل إلا أن ينازع في صحة الحكاية، ونقل عن صاحب التقريب أنه إنما جاز تقديم عَنْهُ مع أنه فاعل لمحا لأصالة ظرفيته لا لعروض فاعليته ولأن الفاعل لا يتقدم لالتباسه بالمبتدأ ولا التباس هاهنا ولأنه ليس بفاعل حقيقة اه. والإنصاف أنه مع هذا لا يقال لما ذهب إليه شيخ العربية إنه غلط. وذكر في شرح نحو المفتاح أنه مرتفع بمضمر يفسره الظاهر، وجوز إخلاء المفسر عن الفاعل إذا لم يكن فعلا معللا بأصالة الفعل في رفع الفاعل فلا يجوز خلوه عنه بخلاف اسمي الفاعل والمفعول تشبيها بالجوامد. وتعقبه في الكشف بأن فيه نظرا نقلا وقياسا أما الأول فلتفرده به، وأما الثاني فلأن الاحتياج إليه من حيث إنه إذا جرى على شيء لا بد من عائد إليه ليرتبط به ويكون هو الذات القائم هو بها إن كان فاعلا أو ملابسا لتلك الذات وليس كالجوامد في ارتباطها بالسوابق بنفس الحمل لأنها لا تدل على معنى متعلق بذات فالوجه أن يقال حذف الجار واستتر الضمير بعده في الصفة، وقد سمعت عن قرب أن هذا من باب الحذف والإيصال وأنه شائع، وجوز أن يكون مرفوع مَسْؤُلًا المصدر وهو السؤال وعَنْهُ في محل النصب. وسأل ابن جني أبا علي عن قولهم: فيك يرغب وقال لا يرتفع بما بعده فأين المرفوع؟ فقال: المصدر أي فيك يرغب الرغب بمعنى تفعل الرغبة كما في قولهم: يعطي يمنع أي يفعل الإعطاء والمنع، وجوز أن يكون اسم كان أو فاعله ضمير كُلُّ محذوف المضاف أي كان صاحبه عنه مسؤولا أو كان عنه مسؤولا صاحبه فيقال له لم استعملت السمع فيما لا يحل ولم صرفت البصر إلى كذا والفؤاد إلى كذا؟ وقرأ الجراح العقيلي «والفواد» بفتح الفاء وإبدال الهمزة واوا، وتوجيهها أنه أبدلت الهمزة واوا لوقوعها مع ضمة في المشهور ثم فتحت الفاء تخفيفا وهي لغة في ذلك، ولا عبرة بإنكار أبي حاتم لها، واستدل بالآية على أن العبد يؤاخذ بفعل القلب كالتصميم على المعصية والأدواء القلبية كالحقد والحسد والعجب وغير ذلك نعم صرحوا بأن الهم بالمعصية من غير تصميم لا يؤاخذ به للخبر الصحيح في ذلك. ثم إن اتباع الظن يكون كبيرة ويكون صغيرة حسب أنواعه وأصنافها ومنه ما هو أكبر الكبائر كما لا يخفى نسأل الله تعالى أن يعصمنا عن جميع ذلك. وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أي فخرا وكبرا قاله قتادة، وقال الراغب: المرح شدة الفرح والتوسع فيه والأول الجزء: 8 ¦ الصفحة: 72 أنسب، وهو مصدر وقع موقع الحال والكلام في مثله إذا وقع حالا أو خبرا أو صفة شائع، وجوز أن يكون منصوبا على المصدرية لفعل محذوف أي تمرح مرحا وأن يكون مفعولا له أي لأجل المرح، وقرىء «مرحا» بكسر الراء عن أنه صفة مشبهة ونصبه على الحالية لا غير، قيل وهذه القراءة باعتبار الحكم أبلغ من قراءة المصدر المفيد للمبالغة بجعله عين المرح نظير ما قيل في زيد عدل لأن الوصف واقع في حيز النهي الذي هو في معنى النفي ونفى أصل الاتصاف أبلغ من نفي زيادته ومبالغته لأنه ربما يشعر ببقاء أصله في الجملة، وجعل المبالغة راجعة إلى النفي دون المنفي كما قيل في قوله تعالى: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] بعيد هنا، والقول بأن الصفة المشبهة تدل على الثبوت فلا يقتضي نفي ذلك نفي أصله كما قيل في المصدر مغالطة نشأت من عدم معرفة معنى الثبوت في الصفة فإن المراد به أنها لا تدل على تجدد وحدوث لا أنها تدل على الدوام، والأخفش فضل القراءة بالمصدر لما فيه من التأكيد ولم ينظر إلى أن ذلك في الإثبات لا في النفي أو ما في حكمه وأورد على ما قيل إن فيه تفضيل القراءة الشاذة على المتواترة وهو كما ترى. ولذا فضل بعضهم القراءة بالمصدر كالأخفش وجعل المبالغة المستفادة منه راجعة إلى النهي ومنع كون ذلك بعيدا، وقيل إذا جعل التقدير في المتواترة ذا مرح تتحد مع الشاذة وتعقب بأن ذا مرح أبلغ من مرحا صفة لما فيه من الدلالة على أنه صاحب مرح وملازم له كأنه مالك إياه وفيه توقف كما لا يخفى، والتقييد بالأرض لا يصح أن يقال للاحتراز عن المشي في الهواء أو على الماء لأن هذا خارق ولا يحترز عنه بل للتذكير بالمبدأ والمعاد وهو أردع عن المشي مشية الفاخر المتكبر وادعى لقبول الموعظة كأنه قيل: لا تمش فيما هو عنصرك الغالب عليك الذي خلقت منه وإليه تعود والذي قد ضم من أمثالك كثيرا مشية الفاخر المتكبر، وقيل للتنصيص على أن النهي عن المشي مرحا في سائر البقع والأماكن لا يختص به أرض دون أرض، والأول ألطف. إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ تعليل للنهي وفيه تهكم بالمختال أي إنك لن تقدر أن تجعل فيها خرقا بدوسك وشدة وطأتك وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ التي عليها طُولًا بتعاظمك ومد قامتك فأين أنت والتكبر عليها إذا التكبر إنما يكون بكثرة القوة وعظم الجثة وكلاهما مفقود فيك أو أنك لن تقدر على ذلك فأنت أضعف من كل واحد من هذين الجمادين فكيف يليق بك التكبر، وقال بعض المحققين: مآل النهي والتعليل لا تفعل ذلك فإنه لا جدوى فيه وهو وجه حسن، ونصب طُولًا على أنه تمييز، وجوز أن يكون مفعولا له، وقبل: يشير كلام بعضهم إلى أنه منصوب على نزع الخافض وهو بمعنى التطاول أي لن تبلغ الجبال بتطاولك ولا يخفى بعده، وإيثار الإظهار على الإضمار حيث لم يقل لن تخرقها لزيادة الإيقاظ والتقريع، ثم إن الاختيال في المشي كبيرة كما تدل عليه الأحاديث الصحيحة وهذا فيما عدا بين الصفين أما بينهما فهو مباح لخبر صح فيه، ويكفي ما في الآية من التهكم والتقريع زاجرا لمن اعتاده حيث لا يباح ككثير من الناس اليوم. وفي الانتصاف قد حفظ الله تعالى عوام زماننا من هذه المشية وتورط فيها قراؤنا وفقهاؤنا بينا أحدهم قد عرف مسألتين أو أجلس بين يديه طالبين أو نال طرفا من رياسة الدنيا إذ هو يمشي خيلاء ولا يرى أنه يطاول الجبال ولكن يرى أنه يحك بيافوخه عنان السماء كأنهم على هذه الآية لا يمرون أو يمرون عليها وهم عنها معرضون اه. وإذا كان هذا حال قراء زمانه وفقهائه فماذا أقول أنا في قراء زماني وفقهائهم سوى لا كثّر الله تعالى أمثالهم ولا ابتلانا بشيء من أفعالهم وجعلها أفعى لهم كُلُّ ذلِكَ المذكور في تضاعيف الأوامر والنواهي السابقة من الخصال المنحلة إلى نيف وعشرين كانَ سَيِّئُهُ وهو ما نهى عنه منها من الجعل مع الله سبحانه إلها آخر وعبادة غيره تعالى والتأفيف والنهر والتبذير وجعل اليد مغلولة إلى العنق وبسطها كل البسط وقتل الأولاد خشية إملاق وقتل النفس التي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 73 حرم الله تعالى إلا بالحق وإسراف الولي في القتل وقفو ما ليس بمعلوم والمشي في الأرض مرحا فالإضافة لامية من إضافة البعض إلى الكل عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً أي مبغضا وإن كان مرادا له تعالى بالإرادة التكوينية وإلا لما وقع كما يدل عليه قوله صلّى الله عليه وسلّم ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن وغير ذلك، وليست هذه الإرادة مرادفة أو ملازمة للرضا ليلزم اجتماع الضدين الإرادة المذكورة والكراهة كما يزعمه المعتزلة، وهذا تتميم لتعليل الأمور المنهي عنها جميعا، ووصف ذلك بمطلق الكراهة مع أن أكثره من الكبائر للإيذان بأن مجرد الكراهة عنده تعالى كافية في وجوب الكف عن ذلك، وتوجيه الإشارة إلى الكل ثم تعيين البعض دون توجيهها إليه ابتداء لما قيل: من أن البعض المذكور ليس بمذكور جملة بل على وجه الاختلاط لنكتة اقتضته، وفيه إشعار بكون ما عداه مرضيا عنده سبحانه وإنما لم يصرح بذلك إيذانا بالغنى عنه، وقيل اهتماما بشأن التنفير عن النواهي لما قالوا من أن التخلية أولى من التحلية ودرء المفاسد أهم من جلب المصالح، وجوز أن تكون الإضافة بيانية وذلِكَ إما إشارة إلى جميع ما تقدم ويؤخذ من المأمورات أضدادها وهي منهي عنها كما في قوله تعالى: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الأنعام: 151] بعد قوله سبحانه قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام: 151] وإما إشارة إلى ما نهى عنه صريحا فقط. وقرأ الحجازيان والبصريان «سيئة» بفتح الهمزة وهاء التأنيث والنصب على أنه خبر كان، والإشارة إلى ما نهى عنه صريحا وضمنا أو صريحا فقط، ومَكْرُوهاً قيل بدل من سَيِّئُهُ والمطابقة بين البدل والمبدل منه غير معتبرة. وضعف بأن بدل المشتق قليل، وقيل: صفة سَيِّئُهُ محمولة على المعنى فإنها بمعنى سيئا وقد قرىء به أو أن السيئة قد زال عنها معنى الوصفية وأجريت مجرى الجوامد فإنها بمعنى الذنب أو تجري الصفة على موصوف مذكر أي أمرا مكروها، وقيل: إنه خبر لكان أيضا ويجوز تعدد خبرها على الصحيح، وقيل: حال من المستكن في كانَ أو في الظرف بناء على جعله صفة سَيِّئُهُ لا متعلقا بمكروها فيستتر فيه ضميرها، والحال على هذا مؤكدة. وأنت تعلم أن ضمير السيئة المستتر مؤنث فجعل مكروها حالا منه كجعله صفة سَيِّئُهُ في الاحتياج إلى التأويل. وإضماره مذكرا في قوله: ولا أرض أبقل أبقالها لا يخفى ما فيه. وعن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه قرأ: «شأنه» ذلِكَ المتقدم في التكاليف المفصلة مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ أي بعض منه أو من جنسه مِنَ الْحِكْمَةِ التي هي علم الشرائع أو معرفة الحق سبحانه لذاته والخير للعمل به أو الأحكام المحكمة التي لا يتطرق إليها النسخ والفساد، وفي الكشاف عن ابن عباس هذه الثماني عشرة آية يعني من لا تَجْعَلْ فيما مر إلى مَلُوماً مَدْحُوراً بعد كانت في ألواح موسى عليه السلام وهي عشر آيات في التوراة، وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن التوراة كلها في خمس عشرة آية من بني إسرائيل ثم تلا وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وهذا أعظم مدحا للقرآن الكريم مما في الكشاف، ومِنَ إما متعلقة بأوحى على أنها تبعيضية أو ابتدائية وإما بمحذوف وقع حالا من الموصول أو عائده المحذوف أي من الذي أوحاه إليك ربك كائنا من الحكمة، وجوز أن يكون الجار والمجرور بدلا من ما وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الخطاب نظير الخطاب السابق كرر للتنبيه على أن التوحيد مبدأ الأمر ومنتهاه وأنه رأس كل حكمة وملاكها، ورتب عليه أولا ما هو عائدة الشرك في الدنيا حيث قال فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا [الإسراء: 22] ورتب عليه هاهنا نتيجته في العقبى فقيل فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً من جهة نفسك ومن جهة غيرك مَدْحُوراً مبعدا من رحمة الله تعالى. وفي التفسير الكبير الفرق بين المذموم والملوم أن المذموم هو الذي يذكر أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح ومنكر والملوم هو الذي يقال له لم فعلت هذا الفعل وما الذي حملك عليه وما استفدت منه إلا إلحاق الضرر بنفسك. ومن هذا يعلم أن الذم يكون أولا واللوم آخرا، والفرق بين المخذول الجزء: 8 ¦ الصفحة: 74 والمدحور أن المخذول عبارة عن الضعيف يقال تخاذلت أعضاؤه أي ضعفت، والمراد به من تركت إعانته وفوض إلى نفسه والمدحور المطرود والمراد به المهان والمستخف به انتهى. وفي إيراد الإلقاء مبنيا للمفعول جرى على سنن الكبرياء وازدراء بالمشرك وجعل له كخشبة يأخذها من كان فيلقيها في التنور، هذا وقد وحد الخطاب في بعض هذه الأوامر والنواهي وجمع في بعض آخر منها ولم يظهر لي سر اختيار كل من التوحيد والجمع فيما اختير فيه على وجه يسلم من القيل والقال ويهش له كمل الرجال، وقد ذكرت ذلك لبعض أحبابي من أجلة المحققين ورؤساء المدرسين وطلبت منه أن يحرر ما يظهر له حيث إني محقق كماله وفضله فكتب ما نصه أقول معترفا بالقصور محترزا عن الغرور متعذرا بالقول المأثور المأمور معذور يخطر على خاطر الفقير لتغيير أسلوب الخطاب وجوه تسعة لا تدخل في الحساب. الأول الإشعار بانقسام هذه التكاليف إلى أقسام ثلاثة قسم أهل الكل خوطب به الأمة مرتين مرة تصريحا بخطاب أنفسهم ومرة تعريضا بخطاب رسولهم صلّى الله عليه وسلّم وهذا الأهم هو التوحيد، وقسم مهم جدا لكن دون الأول خوطبوا به واحدة تصريحا وهو أمور سبعة، الأول مطلق الإحسان بالوالدين فإن انتفاءه بأن لا يحسن إليهما أصلا من أشد مراتب العقوق، والثاني ترك قتل الأولاد، والثالث الزنا، والرابع ترك قتل النفس المحرمة إلا بالحق، والخامس ترك التصرف في مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، والسادس الإيفاء بالعهد، والسابع الوزن بالقسطاس المستقيم. وقسم ثالث دون الأولين في المهمية خوطبوا به واحدة تعريضا وهو أيضا أمور أحد عشر. الأول ترك قول أف للوالدين، والثاني ترك النهر فإن التأفيف والنهر من أهون مراتب العقوق بخلاف ترك الإحسان مطلقا، والثالث قول القول الكريم لهما، والرابع خفض الجناح من الرحمة، والخامس الدعاء برحمة الله تعالى وهذه الثلاثة تركها ليس كترك مطلق الإحسان مثلا والسادس ترك إيتاء حق ذي القربى والمساكين وابن سبيل وظاهر أن عدم القيام بإيتاء مجموع الحقوق الثلاثة أهون من ترك الأمور المذكورة في القسم الثاني، والسابع ترك التبذير والثامن قول القول الميسور، والتاسع العدل في المنع والعطاء، والعاشر ترك القفو لما ليس به علم الصادق على القول بموجب الظن مثلا، والحادي عشر ترك المشي مرحا وترك واحد من هذه الخمسة أيها كان لا يبلغ ترك واحد من الأمور المكلف بها المذكورة في القسم الثاني كما لا يخفى. والثاني من تلك الوجوه الإيماء باقتران خطاب الأمة في النهي عن كبائر خطيرة مثلا بخطابه صلّى الله عليه وسلّم عما ليس في خطرها إلى أن الذنوب تزداد عظما بعظم مرتكبها فرضا كما يدل عليه آية لَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ [الإسراء: 74، 75] وكريمة يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب: 30] وكما اشتهر أن حسنات الأبرار سيئات المقربين وأن المقربين على خطر عظيم لكن لم تراع هذه النكتة في النهي عن الشرك إشارة إلى أنه في غاية العظم بحيث لا ينبغي أن يتصور في عظمه ازدياد وتفاوت الأفراد، أو نقول: لما عارضت هذه النكتة نكتة أخرى رجحت لكونها بالرعاية أحرى وهي الإشارة إلى أن الشرك كان عند الله سبحانه عظيما فكرر الخطاب بالنهي عنه تخصيصا وتعميما، وهكذا نقول في عدم رعاية نكتة الوجوه الآتية في التكليف بالتوحيد ولا نعيد. والثالث من تلك الوجوه التنبيه بتعميم الخطاب في النهي عن بعض المعاصي والأمر ببعض الطاعات على أن فتنة فعل تلك المعاصي وترك تلك الطاعات لا تصيب الذين ظلموا خاصة. والرابع منها الإشارة بتعميم الخطاب فيما عمم فيه من المنهيات والمأمورات إلى أن تلك المنهيات كما يجب على كل مكلف الانكفاف عنها يجب عليه كف الغير بحيث لو تركه لكان كفاعلها في أنه اقترف كبيرة نهى عنها نهي تلك المنهيات وإلى أن تلك المأمورات كما يجب على الكل أداؤها يجب إجبار التارك على أداؤها بحيث لو لم يجبر لكان كتاركها في أنه ترك واجبا أمر به أمر تلك المأمورات وبتخصيص الخطاب فيما خصص فيه إلى أنه ليس بتلك المثابة فإنه وإن وجب إجبار الغير على بعض تكاليفه لكن عسى أن لا يكون تركه كبيرة والخامس الرمز بتوحيد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 75 الخطاب فيما وحد فيه أن تلك الطاعة لا تصدر إلا من الآحاد لأنها لا يوفي حقها إلا المتورعون الصالحون وقليل ما هم بخلاف غيرها فإنه مضبوط. والسادس الإشعار بأن التكاليف التي خوطب بها النبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد أمته لا يقوم بها حق القيام إلا هو أو من يقتدي بأنواره ويقتفي لآثاره ويسعى في اتباع سننه القويم ويجتهد في التخلق بخلقه الكريم بخلاف غيرها مما خوطبوا به صريحا فإنها تأتي من أغلبهم. والسابع أنه صرف الخطاب عنه صلّى الله عليه وسلّم في النهي عن قتل الأولاد والزنا وقتل النفس المحرمة إلا بالحق والتصرف في مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن إشارة إلى أن تلك الشنائع لا يأتيها النبي عليه الصلاة والسلام وإن لم ينه عنها لأن فطرته وفطنته وسلامة طبعه اللطيف واستقامة مزاجه الشريف كانت كافية في كفه عنها، وكذا صرف عنه الخطاب في الأمر بالإحسان بالوالدين والإيفاء بالعهد والوزن بالقسطاس المستقيم إشارة إلى أنه صلّى الله عليه وسلّم يأتي بهذه الأمور وإن لم يؤمر بها لأن ترك مطلق الإحسان بالوالدين لو بلغا لديه الكبر مثلا يلزمه من الفظاظة وغلظة القلب وجفاء الطبع ما كان يأباه طبيعته صلّى الله عليه وسلّم وكذا الغدر والتطفيف كانا تأباهما أخلاقه الكريمة لكن خوطب بالنهي عن الشرك لأنه ليس للطبع والخلق في التوحيد والشرك دخل. والثامن أنه تعالى إجلالا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم لم يخاطبه بنهيه عن فواحش قتل الولد والزنا وقتل النفس بغير حق لئلا يوهم أنه كان وحاشاه يأتيها قبل النهي، وكذا لم يخاطبه بأمر بالإيفاء بالعهد والوزن بالقسطاس المستقيم لئلا يوهم أنه كان وحاشاه يتركها قبل هذا، وهذا الإيهام ادعى للاعتناء بدفعه من الإيهام فيما خوطب به وحده، وخوطب بالنهي عن الشرك لأن معهودية دعوته صلّى الله عليه وسلّم للخاص والعام مدى الليالي والأيام كفته هذا الإيهام. والتاسع لعل التكاليف التي خوطب صلّى الله عليه وسلّم بها كترك القفو لما ليس له به علم وترك المشي في الأرض مرحا لم تكن في غير دينه من سائر الأديان أو لم تكن مصرحا بها منصوصا عليها في الكتب السماوية ما عدا القرآن فوجه الخطاب إليه وحده تلويحا بأنها من خصائص دينه أو بأن التصريح بها والتنصيص عليها من خصائص كتابه، ويؤيد هذا الوجه قوله تعالى بعد النهي عن القفو بلا علم والمشي مرحا «ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة» ثم إني لا أدعي في هذا بل وفي سائر الوجوه البت والجزم ولا أقفو ما ليس لي به علم بل أقول هذا خطر ببالي الكسير والعلم عند اللطيف الخبير اه. ويرد على قوله في الأول فإن انتفاءه بأن لا يحسن إليهما أصلا من أشد مراتب العقوق أن العقوق الذي هو كبيرة فعل ما يتأذى به من فعل معه من الوالدين تأذيا ليس بالهين عرفا كما سمعت وعدم الإحسان أصلا قد لا يكون من ذلك، قال العلامة ابن حجر في أثناء الكلام على الفرق بين العقوق وقطع الرحم إنه لو فرض أن قريبه لم يصل إليه إحسان ولا إساءة قط لم يفسق بذلك لأن الأبوين إذا فرض ذلك في حقهما من غير أن يفعل معهما ما يقتضي التأذي العظيم لغناهما مثلا لم يكن كبيرة فأولى بقية الأقارب اه. وكأنه أحسن الله تعالى إليه ظن أنه إذا تحقق عدم الإحسان تحققت الإساءة وهو بمعزل عن الصواب، ويرد أيضا على قوله: وظاهر أن عدم القيام بإيتاء مجموع الحقوق الثلاثة أهون من ترك الأمور المذكورة في القسم الثاني أنه إن أراد أنه أهون من ترك مجموع تلك الأمور فلا شك إن بعض ما عده في القسم الثالث كالوزن بالقسطاس المستقيم ترك القيام به أهون من ترك مجموع التكليفات فما معنى هذا التخصيص وإن أراد أنه أهون من ترك كل واحد من ترك الأمور المذكورة فهو ممنوع كيف لا ويكون في ذلك قطيعة رحم وقاطعها ملعون في كتاب الله تعالى في ثلاثة مواضع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 76 وروى أحمد بإسناد صحيح أن من أربا الربا الاستطالة بغير حق وإن هذه الرحم شجنة من الرحمن فمن قطعها حرم الله تعالى عليه الجنة ومنع زكاة أيضا وقد قال تعالى في حم السجدة وهي مكية كهذه السورة وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ [فصلت: 6، 7] وإن نوقش فيما ذكر قلنا: إن عدم القيام بإيتاء ما ذكر صادق على منع حقوق ثلاثة أصناف ولا شك أن منع ذي الحق حقه ظلم له فيتعدد الظلم فيما نحن فيه ولا أظن أن ذلك أهون من التطفيف وإن كان ظلما أيضا: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على القلب من وقع الحسام المهند ومما ذكرنا يعلم أن قوله ظاهر غير ظاهر، ويرد أيضا على قوله: وترك واحد من هذه الخمسة إلخ أن قوله سبحانه وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ نهي على ما اختاره الإمام عن كبائر لا شك في أن بعضها أعظم بكثير من بعض ما في القسم الثاني كالقول في الإلهيات والنبوات نحو ما يقوله المشركون تقليدا للأسلاف واتباعا للهوى وإن أبيت إلا تخصيصه ببعض ما قاله المفسرون ونقله الإمام مما هو أهون أفراده كالكذب قيل لك إن في كونه أهون من انتفاء الإحسان مطلقا مع كونه قد لا يكون كبيرة منعا ظاهرا كما لا يخفى. وكذا في كون المشي مرحا دون كل واحد من الأمور السابقة بحث. وقد أخرج الشيخان «بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مرجل مختال في مشيته إذ خسف الله تعالى به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة» وروى أحمد وابن ماجة والحاكم «ما من رجل يتعاظم في نفسه ويختال في مشيته إلا لقي الله تعالى وهو عليه غضبان» وصح «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» إلى غير ذلك من الأحاديث التي لم يجىء مثلها فيمن لم يحسن إلى والديه نعم جاء ذلك فيمن عق والديه، وبين عقوقهما وعدم الإحسان إليهما عموم وخصوص مطلق وعلى هذا فلا يخفى حال كما لا يخفى، ويرد على الوجه الثاني على ما فيه أنه غير واف بالغرض، وعلى الثالث أنه مجرد دعوى لم تساعدها الآثار، نعم ورد في بعض ما ذكر أن فتنته لا تصيب الظالم فقط ما يؤيده، ومن ذلك ما أخرجه البيهقي وغيره «يا معشر المهاجرين خصال خمس إن ابتليتم بهن ونزلت بكم أعوذ بالله تعالى أن تدركوهن لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا المطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا ولا نقضوا عهد الله تعالى وعهد رسوله صلّى الله عليه وسلّم إلا سلط الله تعالى عليهم عدوا من غيرهم فيأخذوا بعض ما في أيديهم وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله تعالى إلا جعل الله تعالى بأسهم بينهم» وإن كان في عدم إيتاء المسكين وابن السبيل حقهما منع الزكاة فأمر الإيماء المذكور ولا يخفى حاله فإن الأخبار قد تظافرت بعموم شؤم ذلك، فقد صح «ما منع قوم الزكاة إلا حبس الله تعالى عنهم القطر» وفي رواية صحيحة «إلا ابتلاهم الله تعالى بالسنين» إلى غير ذلك، ويرد على الوجه الرابع أن بعضهم قد أطلق القول بأن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كبيرة. وصرح صاحب العدة بأن الغيبة نفسها صغيرة وترك النهي عنها كبيرة، وقال بعض المتأخرين: ونقله الجلال البلقيني ينبغي أن يفصل في النهي عن المنكر فيقال: إن كان كبيرة فالسكوت عليه مع إمكان دفعه كبيرة وإن كان صغيرة فالسكوت عليه صغيرة، ويقاس ترك المأمور بهذا إذا قلنا: إن الواجبات تتفاوت وهو الظاهر اه. وقد علمت أن فيما وحد الخطاب فيه من الأوامر ما تركه كبيرة ومن النواهي ما فعله كذلك فلم يتحقق ما رجا سلمه الله تعالى على أن في تعبيره بالإجبار فيما عبر فيه ما لا يخفى، ويرد على الخامس أن في كون الطاعات التي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 77 وحد فيها الخطاب لا تصدر إلا من الآحاد لأنها لا يوفي حقها إلا المتورعون منعا ظاهرا فإن أكثر الناس صالحهم وطالحهم لا يمشي في الأرض مرحا ومثل ذلك الدعاء للوالدين بالرحمة فإنا نسمعه على أتم وجه من كثير ممن لا يعرف الورع أي شيء هو، وكذا في قوله: بخلاف غيرها فإنه مضبوط فإن ترك التصرف في مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ممن له ولاية عليه أمر شاق لا يكاد يقوم به إلا الأفراد، قال في رد المحتار حاشية الدر المختار: لا ينبغي للموصى إليه أن يقبل لصعوبة العدل جدا، ومن هنا قال أبو يوسف: الدخول في الوصاية أول مرة غلط وثاني مرة خيانة وثالث مرة سرقة، ومن هذا يعمل ما في الوجه السادس، ويرد على السابع أيضا أن المشي في الأرض مرحا كالأمور التي صرف الخطاب في النهي عنها عنه صلّى الله عليه وسلّم في أن فطرته وفطنته وسلامة طبعه اللطيف واستقامة مزاجه الشريف كافية في الكف عنه فإن الكبر من البشر لا ينشأ إلا عن جهل وبلادة وقد جبل عليه الصلاة والسلام على أكمل ما يكون من التواضع بل وسائر الصفات التي هي كمال في النوع الإنساني ويؤيد ذلك قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4] مع أنه لم يصرف الخطاب فيه وأنه حيث اعتبر الفطنة في الكافي عن الكف لم ينفعه الاعتذار عن توحيد الخطاب في النهي عن الشرك بما اعتذر به فإن للفطنة دخلا تاما في التوحيد كما لا يخفى على فطن، ويرد على قوله في الثامن: وهذا الإيهام إلخ منع ظاهر فلا يخفى حاله كما لا يخفى، ويرد على التاسع أنه لا يساعده نقل ولا عقل بل جاء في النقل ما يخالفه كما سمعت عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وإن اعتبر النهي عن الشرك من تلك التكليفات فهو كاف في تزييف هذا الوجه لأن النهي عن الشرك جاء به كل رسول ونطق به كل كتاب وما ذكره مؤيدا لغرضه بمعزل عن التأييد، هذا وبقيت إيرادات أخر على هذه الوجوه أعرضنا عنها وتركناها للذكي الفطن حذرا من التطويل فتأمل ذاك والله يتولى هداك. أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً خطاب للقائلين بأن الملائكة بنات الله سبحانه، والإصفاء بالشيء جعله خالصا، والهمزة للإنكار وهي داخلة على مقدر على أحد الرأيين والفاء للعطف على ذلك المقدر أي أفضلكم على جنابه فخصكم بأفضل الأولاد على وجه الخلوص وآثر لذاته أخسها وأدناها، والتعرض لعنوان الربوبية لتشديد النكير وتأكيده، وعبر بالإناث إظهارا للخسة. وقال شيخ الإسلام: أشير بذكر الملائكة عليهم السلام وإيراد الإناث مكان البنات إلى كفرة لهم أخرى وهي وصفهم لهم عليهم السلام بالأنوثة التي هي أخس صفات الحيوان كقوله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف: 19] وفي الكشف أنه تعالى لما نهى عن الشرك ودل على فساده أتى بالفاء الواصلة وأنكر عليهم ذلك دليلا على مكان التعكيس وأنهم بعد ما عرفوا أنه سبحانه بريء من الشريك بدليل العقل والسمع نسبوا إليه تعالى ما هو شرك ونقص وازدراء بمن اصطفاه من عباده فيا له من كفرة شنيعة ولذا قيل: إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ بمقتضى مذهبكم الباطل قَوْلًا عَظِيماً لا يقادر قدره في استتباع الإثم وخرقه لقضايا العقول بحيث لا يجترىء عليه ذو عقل حيث تجعلونه سبحانه من قبيل الأجسام السريعة الزوال المحتاجة إلى بقاء النوع بالتوالد وليس كمثله شيء وهو الواحد القهار الباقي بذاته ثم تضيفون إليه تعالى ما تكرهون من أخس الأولاد وتفضلون عليه سبحانه أنفسكم بالبنين ثم تصفون الملائكة عليهم السلام بما تصفون. وَلَقَدْ صَرَّفْنا من التصريف وهو كثرة صرف الشيء من حال إلى حال، ومفعوله هنا محذوف للعلم به أي صرفناه أي هذا المعنى والمراد عبرنا عنه بعبارات وقررناه بوجوه من التقريرات فِي هذَا الْقُرْآنِ العظيم أي في مواضع منه فالمراد بالقرآن مجموع التنزيل وجوز أن يراد به البعض المشتمل على إبطال إضافة البنات إليه سبحانه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 78 ومفعول صَرَّفْنا محذوف أيضا أي صرفنا القول المشتمل على إبطال الإضافة المذكورة في هذا المعنى، وإيقاع القرآن على المعنى وجعله ظرفا للقول إما بإطلاق اسم المحل على الحال لما اشتهر أن الألفاظ قوالب المعاني أو بالعكس كما يقال الباب الفلاني في كذا وهذه الآية في تحريم كذا أي في بيانه، ويجوز تنزيل الفعل منزلة اللازم وتعديته بفي كما في قوله: يجرح في عراقيبها نصلي. أي أوقعنا التصريف فيه. وقرىء «صرفنا» بالتخفيف والصرف كالتصريف إلا في التكثير لِيَذَّكَّرُوا أي ليتذكروا ويتعظوا ويطمئنوا له فإن التكرار يقتضي الإذعان واطمئنان النفس وَما يَزِيدُهُمْ ذلك التصريف إِلَّا نُفُوراً عن الحق وإعراضا عنه وهو تعكيس. وقرأ حمزة والكسائي هنا وفي لِيَذَّكَّرُوا [الفرقان: 50] من الذكر الذي هو بمعنى التذكر ضد النسيان والغفلة، والتذكر على القراءة الأولى بمعنى الاتعاظ كما أشير إليه، والالتفات إلى الغيبة للإيذان باقتضاء الحال أن يعرض عنهم ويحكي للسامعين هناتهم قُلْ في إظهار بطلان ذلك من جهة أخرى لَوْ كانَ مَعَهُ سبحانه وتعالى في الوجود آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ أي المشركون قاطبة. وقرأ حمزة والكسائي وخلف بالتاء ثالث الحروف خطابا لهم والأمران في مثل هذا المقام شائعان، وذلك أنه إذا أمر أحد بتبليغ كلام لأحد فالمبلغ له في حال تكلم الآمر غائب ويصير مخاطبا عند التبليغ فإذا لو حظ الأول حقه الغيبة وإذا لو حظ الثاني حقه الخطاب وكذا قرؤوا فيما بعد. وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم هنا بالتاء وهناك بالياء آخر الحروف على أنه تنزيه منه سبحانه لنفسه ابتداء من غير أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله لهم، والكاف في محل النصب على أنها نعت لمصدر محذوف أي كونا مشابها لما يقولون والمراد بالمشابهة على ما قيل الموافقة والمطابقة. إِذاً لَابْتَغَوْا جواب عن قولهم: إن مع الله سبحانه آلهة وجزاء للو أي لطلب الآلهة إِلى ذِي الْعَرْشِ أي إلى من له الملك والربوبية على الإطلاق سَبِيلًا بالمغالبة والممانعة كما اطردت العادة بين الملوك، وهي إشارة إلى برهان التمانع كقوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] وذلك بتصوير قياس استثنائي استثنى فيه نقيض التالي لينتج نقيض المقدم المطلوب، وسيأتي إن شاء الله تعالى تقريره في محله، وإلى هذا ذهب سعيد ابن جبير كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم، وعن مجاهد وقتادة أن المعنى إذا لطلبوا الزلفى إليه تعالى والتقرب بالطاعة لعلمهم بعلوه سبحانه عليهم وعظمته وهذا كقوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ [الإسراء: 57] وهو إشارة إلى قياس اقتراني هكذا لو كان كما زعمتم آلهة لتقربوا إليه تعالى وكل من كان كذلك ليس إلها فهم ليسوا بآلهة. قيل ولَوْ على الأول امتناعية وعلى هذا شرطية، والقياس مركب من مقدمتين شرطية اتفاقية وحملية. واختار المحققون الوجه الأول لأنه الأظهر الأنسب بقوله سبحانه: سُبْحانَهُ فإنه ظاهر في أن المراد بيان أنه يلزم ما يقولونه محذور عظيم من حيث لا يحتسبون. وأما ابتغاء السبيل إليه تعالى بالتقرب فليس مما يختص بهذا التقدير ولا مما يلزمهم من حيث لا يشعرون بل هو أمر يعتقدونه رأسا أي ينزه بذاته تنزيها حقيقا به سبحانه وَتَعالى متباعدا عَمَّا يَقُولُونَ من العظيمة التي هي أن يكون معه تعالى آلهة وأن يكون له بنات عُلُوًّا أي تعاليا فهو مصدر من غير فعله كقوله تعالى أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17] كَبِيراً بعيد الغاية بل لا غاية وراءه كيف لا وأنه تعالى في أقصى غايات الوجود وهو الوجوب الذاتي وما يقولونه من أن معه آلهة وأن له أولادا في أدنى مراتب العدم وهو الامتناع الذاتي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 79 وقيل لأنه تعالى في أعلى مراتب الوجود وهو كونه واجب الوجود والبقاء لذاته واتخاذ الولد من أدنى مراتبه فإنه من خواص ما يمتنع بقاؤه. وتعقب بأن ما يقولونه ليس مجرد اتخاذ الولد بل مع ما سمعت ولا ريب في أن ذلك ليس بداخل في حد الإمكان فضلا عن دخوله تحت الوجود، وكونه من أدنى مراتب الوجود إنما هو بالنسبة إلى من من شأنه ذلك، واعتذر بأنه من باب التنبيه بحال الأدنى على حال الأعلى ولا يخفى أن ذكر العلو بعد عنوانه بذي العرش في أعلى مراتب البلاغة تُسَبِّحُ بالفوقانية وهي قراءة أبي عمرو والأخوين وحفص، وقرأ الباقون بالتحتانية لأن تأنيث الفاعل مجازي مع الفصل وقرىء «سبحت» لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ أي من الملائكة والثقلين وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ من الأشياء حيوانا كان أو نباتا أو جمادا إِلَّا يُسَبِّحُ ملتبسا بِحَمْدِهِ تعالى، والمراد من التسبيح الدلالة بلسان الحال أي تدل بإمكانها وحدوثها دلالة واضحة على وجوب وجوده تعالى ووحدته وقدرته وتنزهه من لوازم الإمكان وتوابع الحدوث كما يدل الأثر على مؤثره ففي الكلام استعارة تبعية كما في نطقت الحال. وجوز أن يعتبر فيه استعارة تمثيلية ولا يأبى حمل التسبيح على ذلك قوله تعالى: وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ بناء على أن كثيرا من العقلاء فهم تلك الدلالة لما أن الخطاب للمشركين والكفرة لا للناس على العموم لأنه تقدم ذكر قبائحهم من نسبتهم إليه تعالى شأنه ما لا يليق بحلاله فإن الله سبحانه وصف ذاته بالنزاهة عنه وبالغ فيه ما بالغ ثم عقبه بما ذكر دلالة على أن كل الأكوان شاهدة بتلك النزاهة مبالغة على مبالغة فلو كان الخطاب مع غير هؤلاء المنكرين وأضرابهم لم يتلاءم الكلام ويخرج عن النظام. وقوله تعالى إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً تذييل من تتمة الإنكار على الوجه الأبلغ أي إنه سبحانه حليم ولذلك لم يعاجلكم بالعقوبة لإخلالكم بالنظر الصحيح الموصل إلى التوحيد ولو تبتم ونظرتم لغفر لكم ما صدر منكم من التقصير فإنه غفور لمن يتوب، وظن ابن المنير أن هذا التذييل يأبى كون الخطاب للمشركين قال: لأنه سبحانه لا يغفر لهم ولا يتجاوز عن جهلهم وإشراكهم، والظاهر أن المخاطب المؤمنون وعدم فقههم للتسبيح الصادر من الجمادات كناية والله تعالى أعلم عن عدم العمل بمقتضى ذلك فإن الإنسان لو تيقظ حق التيقظ إلى أن النملة والبعوضة وكل ذرة من ذرات الكون يقدس الله تعالى وينزهه ويشهد بحلاله وكبريائه وقهره وعمر خاطره بهذا الفهم لشغله ذلك عن الطعام فضلا عن فضول الأفعال والكلام والعاكف على الغيبة التي هي فاكهتنا في زماننا لو استشعر حال إفاضته فيها أن كل ذرة من ذرات لسانه الذي يلقلقه في سخط الله تعالى عليه مشغولة مملوءة بتقديس الله تعالى وتسبيحه وتخويف عقابه وإنذار جبروته وتيقظ لذلك حق التيقظ لكاد يبكم بقية عمره، فالظاهر أن الآية إنما وردت خطابا على الغالب من أحوال الغافلين وإن كانوا مؤمنين اه، وليس بسديد لخروج الكلام على ذلك من النظام، ووجه التذييل ما سمعت فلا إباء كما لا يخفى على ذوي الأفهام. وجوز أن يراد بالتسبيح الدلالة على تنزيه الباري سبحانه عن لوازم الإمكان وتوابع الحدوث مطلقا سواء كانت حالية أو مقالية على أنه من عموم المجاز أو بالجمع بين المعنى الحقيقي والمجازي على رأي من يجوزه فتسبيح بعض قالي وتسبيح بعض آخر حالي. وتعقبه بأنه لا يلائمه لا تَفْقَهُونَ لأن من ذلك التسبيح ما يفقهه المشركون وغيرهم وهو التسبيح القالي. وأجيب بأن المشركين لعدم تدبرهم له وانتفاعهم به كان فهمهم بمنزلة العدم أو أنهم لعدم فهمهم بعض المراد من التسبيح جعلوا ممن لا يفهم الجميع تغليبا. وذهب بعض الظاهرية وارتضاه الراغب وقال في تفسير الخازن إنه الأصح على أن التسبيح على معناه الحقيقي فالكل يسبح بلسان القال حتى الجمادات ولم يرتض الجزء: 8 ¦ الصفحة: 80 ذلك الإمام لأن هذا التسبيح لا يحصل إلا مع العلم وهو مما لا يتصور في الجماد لفقد شرطه العقلي وهو الحياة ولو لم يكن ذلك شرطا عقليا لا نسد باب العلم بكونه سبحانه وتعالى حيا وأيضا التذييل السابق يأبى ذلك لدلالته على أن عدم فقه التسبيح المذكور جرم ولا شك أن عدم فقه تسبيح الجمادات بألفاظها ليس بجرم وإنما الجرم عدم فقه دلالتها للغفلة وقصور النظر ومن تتبع الأحاديث والآثار رأى فيها ما يشهد بما ذهب إليه هذا البعض شهادة لا تكاد تقبل التأويل فقد صح سماع تسبيح الحصا في كفه صلّى الله عليه وسلّم. وأخرج أبو الشيخ عن أنس قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بطعام ثريد فقال: إن هذا الطعام يسبح فقالوا: يا رسول الله وتفقه تسبيحه؟ قال: نعم ثم قال لرجل أدن هذه القصعة من هذا الرجل فأدناها فقال: نعم يا رسول الله هذا الطعام يسبح فقال: أدنها من آخر فأدناها منه فقال: يا رسول الله هذا الطعام يسبح ثم قال: ردها فقال رجل: يا رسول الله لو أمرّت على القوم جميعا فقال: لا إنها لو سكتت عند رجل لقالوا: من ذنب ردها فردها. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: كنا أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم نعد الآيات بركة وأنتم تعدونها تخويفا بينما نحن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليس معنا ماء فقال لنا: اطلبوا من معه فضل ماء فأتى بماء فوضعه في إناء ثم وضع يده فيه فجعل الماء يخرج من بين أصابعه ثم قال: حي على الطهور المبارك والبركة من الله تعالى فشربنا منه قال عبد الله: كنا نسمع صوت الماء وتسبيحه وهو يشرب. وأخرج أحمد وابن مردويه عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إن نوحا عليه السلام لما حضرته الوفاة قال لابنيه: آمر كما بسبحان الله وبحمده فإنها صلاة كل شيء وبها يرزق كل شيء، وأخرج أحمد عن معاذ بن أنس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه مر على قوم وهم وقوف على دواب لهم ورواحل فقال لهم: اركبوها سالمة ودعوها سالمة ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق فرب مركوبة خير من راكبها وأكثر ذكر الله تعالى منه ، وأخرج النسائي وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عمر قال: نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن قتل الضفدع وقال نقيقها تسبيح. وأخرج ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن أنس بن مالك قال: ظن داود عليه السلام في نفسه أن أحدا لم يمدح خالقه بما مدحه وإن ملكا نزل وهو قاعد في المحراب والبركة إلى جانبه فقال يا داود افهم إلى ما تصوت به الضفدع فأنصت داود فإذا الضفدع تمدحه بمدحة لم يمدحه بها فقال له الملك: كيف ترى يا داود أفهمت ما قالت؟ قال: نعم قال: ماذا قالت؟ قالت: قال سبحانك وبحمدك منتهى علمك يا رب قال داود: لا والذي جعلني نبيه إن لم أمدحه بهذا. وأخرج أحمد في الزهد وأبو الشيخ عن شهر بن حوسب من حديث طويل أن داود عليه السلام أتى البحر في ساعة فصلى فنادته ضفدعة يا داود إنك حدثت نفسك أنك قد سبحت في ساعة ليس يذكر الله تعالى فيها غيرك وإني في سبعين ألف ضفدع كلها قائمة على رجل نسبح الله تعالى ونقدسه. وأخرج الخطيب عن أبي ضمرة قال: كنا عند علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما فمر بنا عصافير يصحن فقال: أتدرون ما تقول هذه العصافير؟ قلنا: لا قال: أما إني ما أقول أنا نعلم الغيب ولكن سمعت أبي يقول سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه يقول سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إن الطير إذا أصبحت سبحت ربها وسألته قوت يومها وإن هذه تسبح ربها وتسأله قوت يومها. وأخرج ابن راهويه في مسنده من طريق الزهري قال: أتى أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه بغراب وافر الجناحين فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ما صيد صيد ولا عضدت عضاه ولا قطعت وشيجة إلا بقلة التسبيح. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 81 وأخرج أبو نعيم في الحلية، وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما صيد من صيد ولا وشج من وشج إلا بتضييعه التسبيح. وأخرج أبو الشيخ عن أبي الدرداء وابن مردويه عن ابن مسعود مثل ذلك مرفوعا أيضا. وأخرج أبو الشيخ عن الحسن لولا ما غم عليكم من تسبيح ما معكم من البيوت ما تقاررتم. وأخرج ابن أبي حاتم عن لوط بن أبي لوط قال: «بلغني أن تسبيح سماء الدنيا سبحان ربي الأعلى والثاني سبحانه وتعالى والثالثة سبحانه وبحمده والرابعة سبحانه لا حول ولا قوة إلا به والخامسة سبحان محيي الموتى وهو على كل شيء قدير والسادسة سبحان الملك القدوس والسابعة سبحان الذي ملأ السموات السبع والأرضين السبع عزة ووقارا» إلى ما لا يكاد يحصى من الأخبار والآثار وهي بمجموعها متعاضدة في الدلالة على أن التسبيح قالي كما لا يخفى وهو مذهب الصوفية، وذكروا أن السالك عند وصوله إلى بعض المقامات يسمع تسبيح الأشياء بلغات شتى. وقد روي عن بعض السلف سماعه لتسبيح بعض الجمادات، واختلف القائلون بهذا التسبيح فقال بعضهم: بثبوته للاشياء مطلقا، وقيل إن التراب يسبح ما لم يبتل فإذا ابتل ترك التسبيح وإن الخرزة تسبح ما لم ترفع من موضعها فإذا رفعت تركت وإن الورقة تسبح ما دامت على الشجرة فإذا سقطت تركت (1) وإن الثوب يسبح ما لم يتسخ فإذا اتسخ ترك وإن الوحش والطير تسبح إذا صاحت وإذا سكتت تركت، وعلى هذا ما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن شوذب قال: جلس الحسن مع أصحابه على مائدة فقال بعضهم: هذه المائدة تسبح الآن فقال الحسن: كلا إنما ذاك كل شيء على أصله. وأخرج عن السدي أنه قال: ما من شيء على أصله الأول لم يمت إلا وهو يسبح بحمده تعالى، ولعله أراد بالموت خروجه عن أصله الأول. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن قتادة أنه قال في الآية: كل شيء فيه الروح يسبح من شجرة وحيوان، وكون الشجرة ذات روح مبني على قول الناس فيها إذا يبست ماتت، واستثنى بعضهم بعض الحيوانات من عموم كل شيء لما أخرجه أبو الشيخ عن ابن عباس أنه قال كل شيء يسبح إلا الحمار والكلب. ولا أرى لاستثناء ما ذكر وجها وفي القلب من صحة الرواية عن الحبر شيء، وكذا للتقييد بعد أن لم تكن الجمادية مانعة عن التسبيح والأخبار الظاهرة في عدم التقييد أكثر، ولا أظن أن لما يخالفها امتيازا عليها في الصحة. ويشكل على هذا القول ما تقدم عن الإمام من إباء التذييل عنه وعدم وجود العلم الذي يستدعيه التسبيح القالي في الجمادات، وتفصى بعضهم عن هذا بالتزام أن لكل شيء حياة وعلما لائقين به ولا يطلع على حقيقة ذلك إلا الله تعالى اللطيف الخبير فكل ما في العالم عند هذا الملتزم حي عالم لكنه متفاوت المراتب في العلم والحياة. ونقل الشعراني عن الخواص أنه قال: كل جماد يفهم الخطاب ويتألم كما يتألم الحيوان، وقال الشيخ الأكبر قدس سره: إن المسمى بالجماد والنبات له عندنا أرواح بطنت عن إدراك غير الكشف إياها في العادة فالكل عندنا حي ناطق غير أن هذا المزاج الخاص يسمى إنسانا لا غير بالصورة ووقع التفاصل بين الخلائق في المزاج والكل يسبح الله تعالى كما نطقت الآية به ولا يسبح إلا حي عاقل عالم عارف بمسبحه، وقد ورد أن المؤذن يشهد له مدى صوته من   (1) وفيه خبر عن عائشة رضي الله تعالى عنها رواه الخطيب في تاريخ مرفوعا اه منه. [ ..... ] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 82 رطب ويابس ، والشرائع والنبوات مشحونة بما هو من هذا القبيل ونحن زدنا مع الإيمان بالأخبار الكشف إلى آخر ما قال. واستدل بعضهم في هذا المقام بما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال في دعائه للحمى: يا أم ملدم إن كنت آمنت بالله تعالى فلا تأكلي اللحم ولا تشربي الدم ولا تفوري من الفم وانتقلي إلى من يزعم أن مع الله تعالى آلهة أخرى فإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلّى الله عليه وسلّم ، وجاء عن السجاد رضي الله تعالى عنه في الصحيفة في مخاطبة القمر ما هو ظاهر في أن له شعورا واستفاض عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كتب للنيل كتابا يخاطبه فيه بما يخاطبه وضرب الأرض بالدرة حين تزلزلت وقال لها: إني أعدل عليك، وكم وكم في الأخبار نحو ذلك قيل ولا داعي لتأويلها إذ لا أحد يقول: إن شعور الجمادات كشعور الحيوانات الظاهرة بحيث يدركه كل أحد حتى يكون العمل بظاهر اللفظ خلاف حس العقلاء فيجب ارتكاب التأويل والتجوز، ومن علم عظم قدرة الله عز وجل وأنه سبحانه لا يعجزه شيء وأن المخلوقين على اختلاف مراتبهم لا سيما المنغمسين في أو حال العلائق والعوائق الدنيوية والمسجونين في سجن الطبيعة الدنية لم يقفوا على عشر العشر مما أودع في عالم الإمكان ونقش بيد الحكمة على برود الأعيان سلم ما جاء به الصادق عليه الصلاة والسلام وإن خالف ما عنده نسب القصور إلى نفسه قرب فكر يظنه المرء حقا وهو من الأوهام كما لا يخفى على من أنصف ولم يتعسف. وعلى هذا الذي ذكروه لا تحتاج إعادة ضمير ذوي العلم في تَسْبِيحَهُمْ على ما تقدم إلى توجيه وتفصي آخر عن الأول بأن قوله تعالى إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً متعلق بقوله سبحانه سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ ولا يخفى ما في التفصي، ولعل الأولى فيه أن يلتزم حمل التسبيح على ما هو الأعم من الحالي والقالي ويثبت كلا النوعين لكل شيء، والتذييل باعتبار القصور في فقه الآخر، ويشكل أيضا أن من أفراد من نسب إليه التسبيح الجحد فضلا عن الساكت فالحمل على المجاز واجب. وأجيب بأن استثناء أولئك معلوم بقرينة السباق واللحاق، وزعم من زعم أن الجاحد مقدس أيضا وأنشدوا للحلاج: جحودي لك تقديس ... وعقلي فيك منهوس فما آدم إلاك ... وما في الكون إبليس وأنت تعلم أن مثل هذا الحلج والندف صار سببا لما لاقى من الحتف فماذا عسى أقول سوى حسبنا الله ونعم الوكيل. وقرىء لا يفقهون على صيغة المبني للمفعول من باب التفعيل وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ الناطق بالتسبيح والتنزيه ودعوتهم إلى العمل بما فيه جَعَلْنا بقدرتنا ومشيئتنا المبنية على الحكم الخفيفة. بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وهم المشركون المتقدم ذكرهم، وأوثر الموصول على الضمير ذما لهم بما في حيز الصلة ويتم به مع ما سبق الإشارة إلى كفرهم بالمبدأ والمعاد. وفي إرشاد العقل السليم إنما خص بالذكر كفرهم بالآخرة من بين سائر ما كفروا به من التوحيد ونحوه دلالة على أنها معظم ما أمروا بالإيمان به في القرآن وتمهيدا لما سينقل عنهم من إنكار البعث واستعجاله ونحو ذلك اه، وفي كون الآخرة معظم ما أمروا بالإيمان به في القرآن تردد وربما يدعى أن ذلك هو التوحيد فالأولى الاقتصار على أنه للتمهيد حِجاباً يحجبهم من أن يدركوك على ما أنت عليه من النبوة وجلالة القدر ولذلك اجترءوا على التفوه بالعظيمة وهي قولهم: «إن تتبعون إلا رجلا مسحورا» وأصل الحجاب كالحجب المنع من الوصول فهو مصدر وقد أريد به الوصف أي حاجبا مَسْتُوراً أي ذا ستر فهو للنسب كرجل مرطوب ومكان مهول وجارية مغنوجة ومنه وَعْدُهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 83 مَأْتِيًّا [مريم: 61] وكذا سيل مفعم بفتح العين والأكثر مجيء فاعل لذلك كلابن وتامر، وجوز أن يكون الإسناد مجازيا كما اشتهر في المثال الأخير، وعن الأخفش أن مفعول يرد بمعنى فاعل كميمون ومشؤوم بمعنى يأمن وشائم كما أن فاعل يرد بمعنى مفعول كماء دافق فمستور بمعنى ساتر أو مستورا عن الحس فهو على ظاهره ويكون بيانا لأنه حجاب معنوي لا حسي أو مستورا في نفسه بحجاب آخر فيكون إيذانا بتعدد الحجب أو مستورا كونه حجابا حيث لا يدرون أنهم لا يدرون، وقيل: إنه على الحذف والإيصال أي مستورا به الرسول صلّى الله عليه وسلّم. وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أغطية جمع كنان، والمراد بمعونة المقام التكثير أي أكنة كثيرة. أَنْ يَفْقَهُوهُ مفعول له بتقدير مضاف أي كراهة يقفوا على كنهه ويعرفوا أنه من عند الله تعالى أو مفعول به لفعل مقدر مفهوم من الجملة أو من أَكِنَّةً لا أن جَعَلْنا أو شيئا مما ذكر قد ضمنه كما يتوهم أي منعناهم فقهه والوقوف على كنهه وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً صمما وثقلا عظيما مانعا من سماعه اللائق به فإنهم كانوا يسمعونه من غير تدبر، وهذه كما قال بعض المحققين تمثيلات معربة عن كمال جهلهم بشؤون النبي صلّى الله عليه وسلّم وفرط نبو قلوبهم عن فهم القرآن الكريم ومج أسماعهم له جيء بها بيانا لعدم فقههم فصيح المقال إثر بيان عدم فقههم دلالة الحال وفيه إيذان بأن ما تضمنه القرآن من التسبيح في غاية الظهور بحيث لا يتصور عدم فهمه إلا لمانع قوي يعتري المشاعر فيبطلها وتنبيه على أن حالهم هذه أقبح من حالهم السابقة، وحمل الآية على ما ذكر من لم يجعل التسبيح فيما سبق لفظيا وعلى جعله لفظيا لا يحسن حملها على ذلك كما لا يخفى، هذا وقال بعضهم: المراد بالحجاب ما يحجبهم عن فهم ما يقرؤه عليه الصلاة والسلام فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال: الحجاب المستور أكنة على قلوبهم أن يفقهوه وأن ينتفعوا به وإلى ذلك ذهب الزجاج، وتعقب بأنه لا يلائم بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ إلخ إلا بتقدير مضافين أي جعلنا بين فهم قراءتك، وأيضا يلزم عليه التكرار من غير فائدة جديدة، وأجيب بأن الظاهر أنه لا يقدر فيه وإنما يلزم لو كان حقيقة وهذا تمثيل لهم في عدم إسماع الحق بمن كان وراء جدار وحجاب كما أن الأكنة كذلك، وأما حديث التكرار من غير فائدة فمدفوع بأن قوله تعالى: وَجَعَلْنا إلخ تصريح بما اقتضاه نفي فصيح المقال بعد نفي فهم دلالة الحال من كونهم مطبوعين على الضلال ولا يخفى على المنصف أولوية ما تقدم. وعن الجبائي أن المراد بالحجاب ما يحجبهم عن إيذاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم وذلك أنهم كانوا يقصدونه إذا قرأ ليؤذوه فآمنه الله تعالى وذكر له عليه الصلاة والسلام أنه جل شأنه جعل بينه وبينهم حجابا عند القراءة فلا يمكنهم الوصول إليه، وهو عندي مما لا بأس به وأن ذكره في معرض التفصي عن استدلال أصحابنا بالآية على أن الله تعالى يمنع عن الإيمان من شاء كما يهدي إليه من شاء نعم هو دون الأول عند من يتأمل. وقيل: المراد حجاب منعهم رؤية شخص النبي صلّى الله عليه وسلّم وذاته الكريمة. فقد أخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي معا في الدلائل عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما قالت: لما نزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [المسد: 1] أقبلت العوراء أم جميل ولها ولولة وفي يدها فهر وهي تقول: مذمما أبينا ودينه قلينا وأمره عصينا ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس، وأبو بكر إلى جنبه فقال أبو بكر: لقد أقبلت هذه وأنا أخاف أن تراك فقال: إنها لن تراني، وقرأ قرآن اعتصم به كما قال تعالى: «وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا» فجاءت حتى قامت على أبي بكر فلم تر النبي عليه الصلاة والسلام فقالت: يا أبا بكر بلغني أن صاحبك هجاني فقال أبو بكر: لا ورب هذا البيت ما هجاك فانصرفت وهي تقول: قد علمت قريش أني بنت سيدها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 84 وجاء في رواية أنها حين ولت ذاهبة قال أبو بكر: يا رسول الله إنها لم ترك فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: حال بيني وبينها جبريل عليه السلام ، وذكر الإمام أنه كان صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد تلاوة القرآن تلا قبلها ثلاث آيات قوله تعالى: في سورة [الكهف: 57] وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً. وقوله سبحانه في [النحل: 108] أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وقوله جل وعلا في سورة [حم الجاثية: 23] أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ الآية فكان الله تعالى يحجبه ببركات هذه الآيات عن عيون المشركين وهو المراد من قوله سبحانه وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا إلخ واحتج أصحابنا بذلك على أنه يجوز أن تكون الحاسة سليمة ويكون المرئي حاضرا مع أنه لا يرى بسبب أن الله تعالى يخلق في العين مانعا يمنع من الرؤية قالوا: إن النبي عليه الصلاة والسلام كان حاضرا أو حواس الكفار سليمة وكانوا لا يرونه وقد أخبر سبحانه أن ذلك لأجل أنه جعل بينه عليه الصلاة والسلام وبينهم حجابا مستورا ولا معنى للحجاب المستور إلا المعنى الذي يخلقه في عيونهم ويكون مانعا لهم من الرؤية انتهى، وقال بعض المحققين: إن حمل الحجاب على ما روي من حديث أسماء مما لا يقبله الذوق السليم ولا يساعده النظم الكريم، وكأنه أراد أن حمله في الآية على الحجاب المانع من الرؤية كذلك فهو وارد على ما نقل عن الإمام أيضا ويعلم منه حال احتجاج الأصحاب مع ما يرد على قولهم فيه ولا معنى للحجاب إلخ من أنه مخالف لما في الرواية السابقة التي ذكر فيها حيلولة جبريل عليه السلام والخبر الذي أخرجه الدارقطني وغيره عن ابن عباس أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: كان بيني وبينها ملك يسترني بجناحيه متى ذهبت فإن كلا الخبرين ظاهر في أن المانع لم يكن في عيونهم بل هو إما جبريل عليه السلام أو ملك آخر حال بينه صلّى الله عليه وسلّم وبينهم فلم يروه لكن يبقى الكلام في أن منع اللطيف الرؤية خلاف العادة أيضا وهو بحث آخر فليتدبر، ثم إن ما روي عن أسماء ليس نصا في أن الحجاب في الآية هو الحجاب المانع عن الرؤية كما لا يخفى على من أمعن النظر وهذا القول إنما يحتاج إليه أن اعتبر تصحيح الحاكم أو نص على صحته من اعتبر تصحيحه من المحدثين أما إذا لم يكن ذلك فأمره سهل، وجعل الزمخشري ما تقدم حكاية لما قالوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ على معنى جعلنا على زعمهم ولم يرتضه شيخ الإسلام لأن قصدهم بذلك إنما هو الإخبار بما اعتقدوه في حق القرآن والنبي صلّى الله عليه وسلّم جهلا وكفرا من اتصافهم بأوصاف مانعة من التصديق والإيمان ككون القرآن سحرا وشعرا وأساطير وقس عليه حال النبي عليه الصلاة والسلام لا الأخبار بأن هناك أمرا وراء ما أدركوه قد حال بينهم وبين إدراكه حائل من قبلهم، ولا ريب في أن ذلك المعنى مما لا يكاد يلائم المقام انتهى، وقد يقال: حيث كان الكلام مسوقا لتعداد قبائحهم والإنكار عليهم فالملاءمة مما لا ريب فيها، نعم اختيار الزمخشري هذا الوجه مما لا يخلو عن دسيسة اعتزالية ولا أظنها تخفى عليك وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ أي غير مقرون بذكره ذكر شيء من آلهتهم التي يزعمونها كما كانوا يقولون بالله تعالى واللات مثلا ويصدق هذا بذكره سبحانه مع نفي الآلهة، ووَحْدَهُ عند الزمخشري مصدر الثلاثي يقال وحده يحده وحدا وحدة كوعده يعده وعدا وعدة وهو ساد مسدا لحال بمعنى واحدا، وقيل: هو مصدر أوحد على حذف الزوائد وأصله إيجاد، ومذهب سيبويه أنه ليس بمصدر بل هو اسم موضوع موضع المصدر وهو إيحاد الموضوع موضع الحال وهو موحد. ومذهب يونس أنه منصوب على الظرفية، وتحقيق الأقوال فيه في الرفدة كما قدمنا، وذكر أنه على الحالية إذا وقع بعد فاعل ومفعول كما هنا جاز كونه حالا من كل منهما أي وإذا ذكرت ربك موحدا له أو موحدا بالذكر وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ هربوا أو نفروا نُفُوراً فهو مفعول مطلق منصوب بولوا لتقارب معناهما. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 85 وجوز أن يكون مفعولا لأجله أي ولوا لأجل النفور والانزعاج وأن يكون حالا على أنه جمع نافر أي ولوا نافرين من ذلك والضمير للمشركين الذين لا يؤمنون بالآخرة، وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس ما ظاهره أنه للشياطين ولا يكاد يصح عن الحبر إلا بتأويل نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ أي ملتبسين به من اللغو والاستخفاف والهزء بك وبالقرآن. يروى أنه عليه الصلاة والسلام كان يقوم عن يمينه رجلان من عبد الدار وعن يساره رجلان منهم فيصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار ، ويجوز أن تكون الباء للسببية أو بمعنى اللام أي نحن أعلم بما يستمعون بسببه أو لأجله من الهزء وهي متعلقة بيستمعون، وجعلها على ظاهرها على معنى أيستمعون بقلوبهم أم بظاهر أسماعهم غير ظاهر، والباء الأولى متعلقة بأعلم، وأفعل التفضيل في العلم والجهل يتعدى بالباء وفي سوى ذلك يتعدى باللام فيقال هو أكسى للفقراء مثلا، والمراد من كونه تعالى أعلم بذلك الوعيد لهم. إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ظرف لأعلم لا مفعول به، وفائدته كما قال شيخ الإسلام تأكيد الوعيد بالأخبار بأنه كما يقع الاستماع المزبور منهم يتعلق به العلم لا أن العلم المستفاد هناك من أحد، وليس المراد تقييد علمه تعالى بذلك الوقت وكذا قوله تعالى: وَإِذْ هُمْ نَجْوى لكن من حيث تعلقه بما به التناجي المدلول عليه بسياق النظم. والمعنى نحن أعلم بما يستمعون به مما لا خير فيه مما سمعت وبما يتناجون به فيما بينهم، وجوز أن يكون الأول ظرفا ليستمعون والثاني ظرفا ليتناجون، والمعنى نحن أعلم بما به الاستماع وقت استماعهم من غير تأخير وبما به التناجي وقت تناجيهم والأول أظهر، ونَجْوى مصدر مرفوع على الخبرية وفي ذلك ما في زيد عدل، ويجوز أن يعتبر جمع نجى كقتلى وقتيل أي إذ هم متناجون إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ بدل من إذ الثانية وبيان لما يتناجون به فهو غير ما يستمعون به لا معمول لا ذكر محذوفا كما قيل. والظَّالِمُونَ من المظهر الذي أقيم مقام المضمر للدلالة على أن تناجيهم باب من الظلم أي يقول كل منهم للآخرين عند تناجيهم إِنْ تَتَّبِعُونَ أي ما تتبعون إن وجد منكم الإتباع فرضا، وجوز أن يكون المعنى ما تتبعون باللغو والهزء إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً أي سحر فجن فهو كقولهم: إن هو إلا رجل مجنون، وقيل: جعل له سحر يتوصل بلطفه ودقته إلى ما يأتي به ويدعيه فهو في معنى قولهم ساحر، وجعل بعضهم مَسْحُوراً بمعنى ساحرا كمستور بمعنى ساتر، وعن أبي عبيدة أن مسحورا بمعنى جعل له سحر أو ذا سحر (1) أي رئة، ومن هذا قول امرئ القيس: أرانا موضعين لأمر غيب ... ونسحر بالطعام وبالشراب وأراد نغذى، وقول لبيد أو أمية بن أبي الصلت: فإن تسألينا فيم نحن فإننا ... عصافير من هذا الأنام المسحر وكنوا بذلك عن كونه بشرا يتنفس ويأكل ويشرب لا يمتاز عنهم بشيء يقتضي اتباعه على زعمهم الفاسد، ولا يخفى ما فيه من البعد حتى قال ابن قتيبة: لا أدري ما الذي حمل أبا عبيدة على هذا التفسير المستكره مع أن السلف فسروه بالوجوه الواضحة. وقال ابن عطية: إنه لا يناسب قوله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ أي مثلوك فقالوا تارة شاعر وتارة ساحر وتارة مجنون مع علمهم بخلافه فَضَلُّوا في جميع ذلك عن منهاج الحاجة فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا طريقا ما إلى طعن يمكن أن يقبله أحد فيتهافتون ويخبطون ويأتون بما لا يرتاب في بطلانه من سمعه أو إلى سبيل الحق والرشاد، وفيه من الوعيد وتسلية الرسول صلّى الله عليه وسلّم ما لا يخفى.   (1) قوله أو ذا سحر بتثليث السين وسكون الحاء وقد تفتح الرئة اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 86 وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً عطف على ضَرَبُوا ولما عجب من ضربهم الأمثال عطف عليه أمرا آخر يعجب منه أيضا. وفي الكشف الأظهر أن يكون هذا إلى تمام المقالات الثلاث تفسيرا لضربوا لك الأمثال ألا ترى إلى قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا وتفسيره بمثلوك غير ظاهر بل الظاهر مثلوا لك، ولا خفاء أن تجاوب الكلام على ما ذكرنا أتم، وذلك أنه لما ذكر استهزاءهم به صلّى الله عليه وسلّم وبالقرآن عجبه من استهزائهم بمضمونه من البعث دلالة على أنه أدخل في التعجب لأن العقل أيضا يدل عليه ولكن على سبيل الإجمال، وأما على تفسير ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ بمثلوك فوجهه أن يكون معطوفا على قوله سبحانه فَضَلُّوا لأنه باب من أبواب الضلال أو على مقدر دل عليه كيف ضربوا لأن معناه مثلوك وقالوا شاعر ساحر مجنون وقالوا: أَإِذا كُنَّا إلخ اه. ولا يخفى أنه على التفسير الذي اختاره يكون قالُوا معطوفا على ضَرَبُوا أيضا عطفا تفسيريا لكن الظاهر فيه حينئذ الفاء وأنه لا يحتاج على ما ذكرنا إلى تكلف العطف على مقدر والارتباط عليه لا يقصر عن الارتباط الذي ذكره، وعطفه على فَضَلُّوا مما لا يحسن لعدم ظهور دخوله معه في حيز الفاء، والاعتراض على التفسير بمثلوك بأنهم ما مثلوه عليه الصلاة والسلام بالشاعر والساحر مثلا بل قالوا تارة كذا وأخرى كذا، وأيضا كان الظاهر أن يقال فيك بدل لك ليس بشيء لأن ما ذكروه على طريق التشبيه لتقريعه صلّى الله عليه وسلّم وعجزهم عن معارضته، ولَكَ أظهر من فيك لأنه عليه الصلاة والسلام الممثل له، هذا وأقول: انظر هل ثم مانع من عطف قالُوا على يَقُولُ الظَّالِمُونَ وجعل هذا القول مما يتناجون به أيضا وإعلانهم به أحيانا لا يمنع من هذا الجعل وكذا اختلاف المتعاطفين ماضوية ومضارعية لا يمنع من العطف، نعم يحتاج إلى نكتة ولا أظنها تخفى فتدبر. والرفات ما تكسر وبلي من كل شيء، وكثر بناء فعال في كل ما تحطم وتفرق كدقاق وفتات. وأخرج ابن جرير وغيره عن مجاهد أنه التراب وهو قول الفراء، وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس أنه الغبار، وقال المبرد: هو كل شيء مدقوق مبالغ في دقه وهي أقوال متقاربة، والهمزة للاستفهام الإنكاري مفيدة لكمال الاستبعاد والاستنكار للبعث بعد ما آل الحال إلى هذا المآل كأنهم قالوا: إن ذلك لا يكون أصلا. ومنشؤه أن بين غضاضة الحي وطراوته المقتضية للاتصال المقتضي للحياة وبين يبوسة الرميم المقتضية للتفرق المقتضي لعدم الحياة تنافيا، وإِذا هنا كما في الدر المصون متمحضة للظرفية والعامل فيها ما دل عليه. قوله تعالى إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لأنفسه لأن إن لها الصدر فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها، وكذا الاستفهام وإن كان تأكيدا مع كون الاستفهام بالفعل أولى وهو نبعث أو نعاد وهو مصب الإنكار، وتقييده بالوقت المذكور لتقوية إنكار البعث بتوجيهه إليه في حالة منافية له وإلا فالظاهر من حالهم أنهم منكرون للإحياء بعد الموت وإن كان البدن على حاله. وجوز أن تكون شرطية وجوابها مقدر أي نبعث أو نحوه وهو العامل فيها. وقيل الشرط والمعنى انبعث وقد كنا رفاتا في وقت وهو مذهب لبعض النحويين غير مشهور ولا معول عليه، وتحلية الجملة بأن واللام لتأكيد الإنكار لا لإنكار التأكيد كما عسى يتوهم من ظاهر النظم، وليس مدار إنكارهم كونهم ثابتين في المبعوثية بالفعل في حال كونهم عظاما ورفاتا كما يتراءى من ظاهر الجملة الاسمية بل كونهم بعرضية ذلك واستعدادهم له، ومرجعه إلى إنكار البعث بعد تلك الحالة، وفيه من الدلالة على غلوهم في الكفر وتماديهم في الضلال ما لا مزيد عليه قاله بعض المحققين خَلْقاً جَدِيداً نصب بمبعوثين على أنه مفعول مطلق له من غير لفظ فعله أو حال على أن الخلق بمعنى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 87 المخلوق ووحد لاستواء الواحد في المصدر وإن أريد منه اسم المفعول أي مخلوقين قُلْ جوابا لهم وتقريبا لما استبعدوه. كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً رد سبحانه قوله كُونُوا على قولهم كنا فهو من باب المشاكلة والمقابلة بالجنس، ومعنى الأمر كما قيل الاستهانة كما في قول موسى عليه السلام أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ [يونس: 58، الشعراء: 43] وجعله صاحب الإيضاح أمر إهانة والفاضل الطيبي أمر تسخير كما في قوله تعالى: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ [البقرة: 65، الأعراف: 166] لكنه قال: إنه على الفرض، وفي الكشف أنه غير ظاهر ولو جعل من باب كن فلانا على معنى أنت فلان من استعمال الطلب في معنى الخبر أي أنتم حجارة ولستم عظاما ومع ذلك تبعثون لا محالة. لكان وجها قويما، وبحث فيه الشهاب بأنه كيف يقال أنتم حجارة على أنه خبر وهو غير مطابق للواقع فلا بد من قصد الإهانة وعدم المبالاة وجعل الأمر مجازا عن الخبر والخبر خبر فرضي وليس فيه ما يدل على الفرض كان ولو الشرطيتين فهو مما لا يخفى بعده وليس بأقرب مما استبعده فالصواب أنه للإهانة كما جنح إليه صاحب الإيضاح فتدبر، والحجارة جمع حجر كأحجار وهو معروف وكذا الحديد وهو مفرد وجمعه حدائد وحديدات. والظاهر أن المراد كونوا من هذين الجنسين أَوْ خَلْقاً أي مخلوقا آخر مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ أي مما يستبعد عندكم قبوله الحياة لكونه أبعد شيء منها وتعيينه مفوض إليكم فإن الله تعالى لا يعجزه إحياؤكم لتساوي الأجسام في قبول الأعراض فكيف إذا كنتم عظاما بالية وقد كانت موصوفة بالحياة قبل والشيء أقبل لما عهد فيه مما لم يعهد، وقال مجاهد: الذي يكبر السموات والأرض والجبال. وأخرج ابن جرير وجماعة عن ابن عباس. وابن عمر والحسن، وابن جبير أنهم قالوا: ما يكبر في صدورهم الموت فإنه ليس شيء أكبر في نفس ابن آدم من الموت، والمعنى لو كنتم مجسمين من نفس الموت لأعادكم فضلا عن أصل لا يضاد الحياة إن لم يقتضها، وفيه مبالغة حسنة وإن كان اللفظ غير ظاهر فيه فَسَيَقُولُونَ لك: مَنْ يُعِيدُنا مع ما بيننا وبين الإعادة من مثل هذه المباعدة والمباينة قُلِ لهم تحقيقا للحق وإزاحة للاستبعاد وإرشادا إلى طريقة الاستدلال الَّذِي فَطَرَكُمْ أي القادر العظيم الذي اخترعكم أَوَّلَ مَرَّةٍ من غير مثال يحتذيه ولا أسلوب ينتحيه وكنتم ترابا ما شم رائحة الحياة أليس الذي يقدر على ذلك بقادر على أن يفيض الحياة على العظام البالية ويعيدها إلى حالها المعهودة بلى إنه سبحانه على كل شيء قدير، والموصول مبتدأ خبره يعيدكم المحذوف لدلالة السؤال عليه أو فاعل به أو خبر مبتدأ محذوف على اختلاف في الأولى كما فصل في محله. وأَوَّلَ مَرَّةٍ ظرف فطركم فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ أي سيحر كونها نحوك استهزاء كما روي عن ابن عباس وأنشد عليه قول الشاعر: أتنغض لي يوم الفخار وقد ترى ... خيولا عليها كالأسود ضواريا ومثله قول الآخر: أنغض نحوي رأسه وأقنعا ... كأنه يطلب شيئا أطمعا وفي القاموس نغض كنصر وضرب نغضا ونغوضا ونغضانا ونغضا محركتين تحرك واضطرب كأنغض وحرك كأنغض، وفسر الفراء الإنغاض بتحريك الرأس بارتفاع وانخفاض، وقال أبو الهيثم: من أخبر بشيء فحرك رأسه إنكارا له فقد أنغض رأسه فكأنه سيحركون رؤوسهم إنكارا وَيَقُولُونَ استهزاء مَتى هُوَ أي ما ذكرته من الإعادة، وجوز أن يكون الضمير للعود أو البعث المفهوم من الكلام قُلِ لهم عَسى أَنْ يَكُونَ ذلك قَرِيباً فإن ما هو محقق الجزء: 8 ¦ الصفحة: 88 إتيانه قريب، ولم يعين زمانه لأنه من المغيبات التي لا يطلع عليها غيره تعالى ولا يطلع عليها سبحانه أحدا، وقيل: قربه لأن ما بقي من زمان الدنيا أقل مما مضى منه وانتصاب قَرِيباً على أنه خبر كان الناقصة واسمها ضمير يعود على ما أشير إليه، وجوز أن يكون منصوبا على الظرفية والأصل زمانا قريبا فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه فانتصب انتصابه وكان على هذا تامة وفاعلها ذلك الضمير أي عسى أن يقع ذلك في زمان قريب وأن يكون في تأويل مصدر منصوب وقع خبرا لعسى واسمها ضمير يعود على ما عاد عليه اسم يكون، وجوز أن يكون مرفوعا بعسى وهي تامة لا خبر لها أي عسى كونه قريبا أو في وقت قريب. واعترض بأن عسى للمقاربة فكأنه قيل: قرب أن يكون قريبا ولا فائدة فيه، وأجيب بأن نجم الأئمة لم يثبت معنى المقاربة في عسى لا وضعا ولا استعمالا، ويدل له ذكر قَرِيباً بعدها في الآية فلا حاجة إلى القول بأنها جردت عنه فالمعنى يرجى ويتوقع كونه قريبا يَوْمَ يَدْعُوكُمْ منصوب بفعل مضمر أي اذكروا أو بدل من قَرِيباً على أنه ظرف أو متعلق بيكون تامة بالاتفاق وناقصة عند من يجوز أعمال الناقصة في الظروف أو بتبعثون محذوفا أو بضمير المصدر المستتر في يكون أو عسى العائد على العود مثلا بناء على مذهب الكوفيين المجوزين أعمال ضمير المصدر كما في قوله: وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجم وجعله بدلا من الضمير المستتر بدل اشتمال ولم يرفع لأنه إذا أضيف إلى مثل هذه الجملة قد يبنى على الفتح تكلف وادعاء ظهوره مكابرة، والدعاء قيل: مجاز عن البعث وكذا الاستجابة في قوله تعالى: فَتَسْتَجِيبُونَ مجاز عن الانبعاث أي يوم يبعثكم فتنبعثون فلا دعاء ولا استجابة وهو نظير قوله تعالى: كُنْ فَيَكُونُ [البقرة: 117 وغيرها] في أنه لا خطاب ولا مخاطب في المشهور، وتجوز بالدعاء والاستجابة عن ذلك للتنبيه على السرعة والسهولة لأن قوله: قم يا فلان أمر سريع لأبطء فيه ومجرد النداء ليس كمزاولة الإيجاد بالنسبة إلينا، وعلى أن المقصود الإحضار للحساب والجزاء فإن دعوة السيد لعبده إنما تكون لاستخدامه أو للتفحص عن أمره والأول منتف لأن الآخرة لا تكليف فيها فتعين الثاني، وقال الإمام وأبو حيان: يدعوكم بالنداء الذي يسمعكم وهو النفخة الأخيرة كما قال سبحانه يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ [ق: 41] الآية، ويقال إن إسرافيل عليه السلام وفي رواية جبرائيل عليه السلام ينادي على صخرة بيت المقدس أيتها الأجسام البالية والعظام النخرة والأجزاء المتفرقة عودي كما كنت. وأخرج أبو داود وابن حبان عن أبي الدرداء أنه قال: «قال صلّى الله عليه وسلّم إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فحسنوا أسماءكم» لعل هذا عند الدعاء للحساب وهو بعد البعث من القبور، واقتصر كثير على التجوز السابق فقيل إن فيه إشارة إلى امتناع الحمل على الحقيقة لما يلزم من الحمل عليها خطاب الجماد وهو الأجزاء المتفرقة ولو لم تمتنع إرادة الحقيقة لكان ذلك كناية عن البعث والانبعاث لا مجازا والمجوز لإرادتها يقول إن الدعوة بالأمر التكويني وهو مما يوجه إلى المعدوم وقد قال جمع به في قول كن ولم يتجوزوا في ذلك وأما أنه لو لم تمتنع إرادة الحقيقة لكان كناية لا مجازا فأمر سهل كما لا يخفى فتدبر. بِحَمْدِهِ حال من ضمير المخاطبين وهم الكفار كما هو الظاهر، والباء للملابسة أي فتستجيبون ملتبسين بحمده أي حامدين له تعالى على كمال قدرته، وقيل المراد معترفين بأن الحمد له على النعم لا تنكرون ذلك لأن المعارف هناك ضرورية. وأخرج عبد بن حميد وغيره عن ابن جرير أنه قال: يخرجون من قبورهم وهم يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 89 ولا بعد في صدور ذلك من الكافر يوم القيامة وإن لم ينفعه وحمل الزمخشري ذلك على المجاز والمراد المبالغة في انقيادهم للبعث كقولك لمن تأمره بركوب ما يشق عليه فيتأبى ويمتنع ستركبه وأنت حامد شاكر يعني أنك تحمل عليه وتقسر قسرا حتى إنك تلين لين المسمح الراغب فيه الحامد عليه فكأنه قيل: منقادين لبعثه انقياد الحامدين له وتعلق الجار بيدعوكم ليس بشيء، وعن الطبري أن بِحَمْدِهِ معترض بين المتعاطفين اعتراضه بين اسم إن وخبرها في قوله: فإني بحمد الله لا ثوب فاجر ... لبست ولا من غدرة أتقنع ويكون الكلام على حد قولك لرجل وقد خصمته في مسألة أخطأت بحمد الله تعالى فكان الرسول عليه الصلاة والسلام قال: عسى أن يكون البعث قريبا يوم تدعون فتقومون بخلاف ما تعتقدون اليوم وذلك بحمد الله سبحانه على صدق خبري ، وملخصه يكون ذلك على خلاف اعتقادكم والحمد لله تعالى، ولا يخفى أنه معنى متكلف لا يكاد يفهم من الكلام ونحن في غنى عن ارتكابه والحمد لله، وقيل: الخطاب للمؤمنين وانقطع خطاب الكافرين عند قوله تعالى: قَرِيباً فيستجيبون حامدين له سبحانه على إحسانه إليهم وتوفيقه إياهم للإيمان بالبعث، وأخرج الترمذي والطبراني وغيرهما عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في منشرهم وكأني بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن» وفي رواية عن أنس مرفوعا «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة عند الموت ولا في القبور ولا في الحشر وكأني بأهل لا إله إلا الله قد خرجوا من قبورهم ينفضون رؤوسهم من التراب يقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن» وقيل: الخطاب للفريقين وكلهم يقولون ما روي عن ابن جبير. وَتَظُنُّونَ الظاهر أنه عطف على (تستجيبون) وإليه ذهب الحوفي وغيره، وقال أبو البقاء: هو بتقدير مبتدأ والجملة في موضع الحال أي وأنتم تظنون إِنْ لَبِثْتُمْ أي ما لبثتم في القبور إِلَّا قَلِيلًا كالذي مر على قرية أو ما لبثتم في الدنيا كما روى غير واحد عن قتادة، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يستقلّون لبثهم بين النفختين فإنه يزال عنهم العذاب في ذلك البين ولذا يقولون مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا [يس: 52] وقيل يستقلون لبثهم في عرصة القيامة لما أن عاقبة أمرهم الدخول إلى النار، وهذا في غاية البعد كما لا يخفى، والظن يحتمل أن يكون على بابه ويحتمل أن يكون بمعنى اليقين وهو معلق عن العمل بأن النافية وقل من ذكرها من أدوات التعليق قاله أبو حيان وانتصاب قَلِيلًا على أنه نعت لزمان محذوف أي إلا زمانا قليلا، وجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف أي لبثا قليلا ودلالة الفعل على مصدره دلالة قوية وَقُلْ لِعِبادِي أي المؤمنين فالإضافة لتشريف المضاف يَقُولُوا عند محاورتهم مع المشركين الَّتِي أي الكلمة أو العبارة التي هِيَ أَحْسَنُ ولا يخاشنوهم كقوله تعالى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت: 46] ومقول فعل الأمر محذوف أي قل لهم قولوا التي هي أحسن يقولوا ذلك فجزم يقولوا لأنه جواب الأمر وإلى هذا ذهب الأخفش، ولكون المقول لهم هم المؤمنون المسارعون لامتثال أمر الله تعالى وأمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم بمجرد ما يقال لهم لم يكن غبار في هذا الجزم. وقال الزجاج: إن يقولوا هو المقول وجزمه بلام الأمر محذوفة أي قل لهم ليقولوا التي إلخ. وقال المازني: إنه المقول أيضا إلا أنه مضارع مبني لحلوله محل المبني وهو فعل الأمر، والمعنى قل لعبادي قولوا التي هي أحسن وهو كما ترى، ومقول يقولوا الَّتِي وإذا أريد به الكلمة حملت على معناها الشامل للكلام. إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ أي يفسد ويهيج الشر بين المؤمنين والمشركين بالمخاشنة فلعل ذلك يؤدي إلى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 90 تأكد العناد وتمادي الفساد فالجملة تعليل للأمر السابق، وقرأ طلحة «ينزغ» بكسر الزاي، قال أبو حاتم: لعلها لغة والقراءة بالفتح، وقال صاحب اللوامح: الفتح والكسر لغتان نحو يمنح ويمنح إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ قدما لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً ظاهر العداوة فهو من أبان اللازم والجملة تعليل لما سبق من أن الشيطان ينزغ بينهم رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ بالتوفيق للإيمان أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ بالإماتة على الكفر، وهذا تفسير التي هي أحسن والجملتان اعتراض بينهما والخطاب فيه للمشركين فكأنه قيل: قولوا لهم هذه الكلمة وما يشاكلها وعلقوا أمرهم على مشيئة الله تعالى ولا تصرحوا بأنهم من أهل النار فإنه مما يهيجهم على الشر مع أن الخاتمة مجهولة لا يعلمها غيره تعالى فلعله سبحانه يهديهم إلى الإيمان، والظاهر أن أو للانفصال الحقيقي. وقال الكرماني: هي للإضراب ولذا كررت معها أن، وقال ابن الأنباري: دخلت أو هنا لسعة الأمرين عند الله تعالى ويقال لها المبيحة كالتي في قولهم جالس الحسن أو ابن سيرين فإنهم يعنون قد وسعنا لك الأمر وهو كما ترى وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا أي موكولا ومفوضا إليك أمرهم تقسرهم على الإسلام وتجبرهم عليه إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً [البقرة: 119، فاطر: 24] فدارهم ومر أصحابك بمداراتهم وتحمل أذيتهم وترك المشاقة معهم، وهذا قبل نزول آية السيف وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وبأحوالهم الظاهرة والباطنة فيختار منهم لنبوته وولايته من يشاء ممن تراه حكمته أهلا لذلك وهو رد عليه إذ قالوا: بعيد أن يكون يتيم ابن أبي طالب نبيا وأن يكون العراة الجوع كصهيب وبلال وخباب وغيرهم أصحابه دون أن يكون ذلك من الأكابر والصناديد. وذكر من في السموات لإبطال قولهم لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ [الفرقان: 21] وذكر من في الأرض لرد قولهم: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] فلا يدل تخصيصهما بالذكر وتعلقهما بأعلم بعلى اختصاص أعلميته تعالى بما ذكر فما قاله أبو علي من أن الجار متعلق بعلم محذوفا ولا يجوز تعلقه بأعلم لاقتضائه أنه سبحانه ليس بأعلم بغير ذلك ناشىء عن عدم العلم بما ذكرنا على أن أبا حيان أنكر تعدي علم بالباء وإنما يتعدى لواحد بنفسه في مثل هذا الموضع وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ بالفضائل النفسانية والمزايا القدسية وإنزال الكتب السماوية لا بكثرة الأموال والأتباع وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً بيان لحيثية تفضيله عليه الصلاة والسلام وأنه بإيتائه الزبور لا بإيتائه الملك والسلطنة وفيه إيذان بتفضيل نبينا صلّى الله عليه وسلّم فإن كونه عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء وأمته خير الأمم مما تضمنه الزبور وقد أخبر سبحانه عن ذلك بقوله عز قائلا: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء: 105] يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وأمته ونص بعضهم أن هذا من باب التلميح نحو قصة المنصور وقد وعد الهذلي بعدة فنسيها فلما حجا وأتيا المدينة قال له يوما وهو يسايره يا أمير المؤمنين هذا بيت عاتكة الذي يقول: فيه الأحوص يا بيت عاتكة الذي أتغزل ففطن لمراده حيث قال ذلك ولم يسأله وعلم أنه يشير إلى قوله في هذه القصيدة: وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مذق اللسان يقول ما لا يفعل فأنجز عدته، والزبور في الأصل وصف للمفعول كالحلوب أو مصدر كالقبول، نعم هذا الوزن في المصادر قليل والأكثر ضم الفاء وبه قرأ حمزة وجعله بعضهم على هذه القراءة جمع زبر بكسر الزاي بمعنى مزبور ثم جعل علما للكتاب المخصوص وليس فيه من الأحكام شيء. أخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس قال: الزبور ثناء على الله عز وجل ودعاء وتسبيح، وأخرج هو وابن جرير عن قتادة قال: كنا نحدث أن الزبور دعاء علمه داود عليه السلام وتحميد وتمجيد لله عز وجل ليس فيه حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 91 والذي تدل عليه بعض الآثار اشتماله على بعض النواهي والأوامر، فقد روى ابن أبي شيبة أنه مكتوب فيه أني أنا الله لا إله إلا أنا ملك الملوك قلوب الملوك بيدي فأيما قوم كانوا على طاعة جعلت الملوك عليهم رحمة وأيما قوم كانوا على معصية جعلت الملوك عليهم نقمة فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك ولا تتوبوا إليهم وتوبوا إلى أعطف قلوبهم عليكم ، والمزامير التي يفهم منها الأمر والنهي كثيرة فيه كما لا يخفى على من رآه، ومع هذا الفرق بينه وبين التوراة ظاهر، ودخول أل عليه في بعض الآيات للمح الأصل وذلك لا ينافي العلمية كما في العباس والفضل. وجوز أن يكون نكرة غير علم ونكر ليفيد أنه بعض من الكتب الإلهية أو من مطلق الكتب ولا إشكال أيضا في دخول أل عليه أي آتيناه زبورا من الزبر وجوز أن يكون مختصا بكتاب داود عليه السلام وليس بعلم بل من غلبة اسم الجنس وهو كالقرآن يطلق على المجموع وعلى الأجزاء، وتقدم إفادة التنكير للبعضية في قوله تعالى: لَيْلًا فيجوز أن يكون المراد هنا آتيناه بعضا من الزبور فيه ذكره صلّى الله عليه وسلّم، هذا ووجه ربط الآيات بما تقدم على هذا التفسير على ما في الكشف أنه تعالى لما أرشد نبيه صلّى الله عليه وسلّم إلى جواب الكفار بجده في استهزائهم وتوقره في استخفافهم ليكون أغيظ لهم وأشجى لحلوقهم أرشده إلى أن يحمل أصحابه أيضا على ذلك وأن يستنوا بسنته وعلل ذلك بما اعترض به من أن الشيطان ينزغه يحمل على المخاشنة فعلى العاقل الحازم أن لا يغتر بوساوسه كيف وقد تبين له أنه عدو مبين، وقوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا متعلق بجميع السابق من قوله تعالى: قُلْ كُونُوا المشتمل على مجادلته بالتي هي أحسن وَقُلْ لِعِبادِي المشتمل على حملهم عليها إلى قوله سبحانه: أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وقوله عز وجل: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من تتمة إن تتبعون إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً فإنهم طعنوا فيه وحاشاه تارة بأنه شاعر ساحر مجنون وأخرى بنحو لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] ولو كان خيرا ما سبقونا إليه فأجيب عن الأول بما أجيب وعن الثاني بقوله سبحانه: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ وجوز أن يكون الخطاب في قوله تعالى: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ إلخ للمؤمنين وروي ذلك عن الكلبي وأخرج الأول ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج والمعنى أنه تعالى إن يشأ يرحمكم أيها المؤمنون في الدنيا بإنجائكم من الكفرة ونصركم عليهم أو إن يشأ يعذبكم بتسليطهم عليكم والمراد بالتي هي أحسن المجادلة الحسنة فكأنه تعالى لما ذكر الحجة اليقينية في صحة المعاد أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول للمؤمنين إذا أردتم إيراد الحجة على المخالفين فاذكروا الدلائل بالطريق الأحسن وهو أن لا يكون ذلك ممزوجا بالشتم والسب لأنه لو اختلط به لا يبعد أن يقابل بمثله فيزداد الغضب ويهيج الشر فلا يحصل المقصود وأشار سبحانه إلى ذلك بقوله عز قائلا: إِنَّ الشَّيْطانَ إلخ وضمير بينهم أما للكفار أو للفريقين وروى أن المشركين أفرطوا في إيذاء المؤمنين فشكوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت وقيل شتم عمر رجل فهم رضي الله تعالى عنه به فأمره الله تعالى بالعفو. قال في الكشف إنه على هذين القولين الكلمة التي هي أحسن نحو يهديكم الله تعالى وليست مفسرة بربكم أعلم بكم وقوله سبحانه: إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ تعليل للأمر بالاحتمال بأن المخاشنة من فعل الشيطان والخطاب في قوله تعالى: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ للمؤمنين وفيه حث على المداراة أي فداروهم لأن ربكم أعلم بكم وبما يصلح لكم من أوامر إن يشأ يرحمكم بقبول أوامره ونواهيه أو إن يشأ يعذبكم بآبائكم أو إن يشأ يرحمكم بالملاينة والتراحم لأنه سبب السلامة عن أذى الكفار أو إن يشأ يعذبكم بمخاشنتكم في غير إبانها وما أرسلناك عليهم وكيلا فهؤلاء المؤمنون وهم أتباعك أولى وأولى بأن لا يكونوا وكيلا عليهم ثم قال والأول أوفق لتأليف النظم وفي إفادة رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ الحث على ما قرر تكلف ما اه، وقيل: المراد من عبادي الكفار وحيث كان المقصود من الآيات الدعوة لا يبعد أن يعبر عنهم بذلك ليصير سببا لجذب قلوبهم وميل طباعهم إلى قبول الدين الجزء: 8 ¦ الصفحة: 92 الحق فكأنه قيل قل يا محمد لعبادي الذين أقروا بكونهم عبادا لي يقولوا التي هي أحسن وهي الكلمة الحقة الدالة على التوحيد وإثبات القدرة على البعث وعرفهم أنه لا ينبغي لهم أن يصروا على المذهب الباطل تعصبا للأسلاف فإن ذلك من الشيطان وهو للإنسان عدو مبين فلا ينبغي أن يلتفت إلى قوله، والمراد من الأمر بالقول الأمر باعتقاد ذلك وذكر القول لما أنه دليل الاعتقاد ظاهرا ثم قال لهم سبحانه: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ بالهداية أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ بالإماتة على الكفر إلا أن تلك المشيئة غائبة عنكم فاجتهدوا أنتم في طلب الدين الحق ولا تصروا على الباطل لئلا تصيروا محرومين عن السعادات الأبدية والخيرات السرمدية، ثم قال سبحانه: وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا أي لا تشدد الأمر عليهم ولا تغلظ لهم بالقول، والمقصود من كل ذلك إظهار اللين والرفق لهم عند الدعوة لأنه أقرب لحصول المقصود، ثم إنه تعالى عمم علمه بقوله: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ إلخ ويحسن على هذا ما روي عن ابن عباس وأخرجه ابن أبي حاتم عن ابن سيرين من تفسير الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ بلا إله إلا الله ونقل ذلك ابن عطية عن فرقة من العلماء ثم قال: ويلزم عليه أن يراد بعبادي جميع الخلق لأن جميعهم مدعو إلى قول لا إله إلا الله ويجيء قوله سبحانه: إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ غير مناسب إلا على معنى ينزغ خلالهم وأثناءهم ويفسر النزغ بالوسوسة والإملال ولا يخفى أنه في حيز المنع، وما ذكر من الدليل لا يتم إلا إذا لم يكن للتخصيص نكتة، وهي هاهنا ظاهرة ويكون قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ إلخ كالاستدلال على حقية ما دعاهم إليه من التوحيد وربطه بما تقدم على ما ذكرناه أولا لا أظنه يخفى، والزعم بتثليث الزاي قريب من الظن ويقال إنه القول المشكوك فيه ويستعمل بمعنى الكذب حتى قال ابن عباس: كل ما ورد في القرآن زعم فهو كذب وقد يطلق على القول المحقق والصدق الذي لا شك فيه. فقد أخرج مسلم من حديث أنس أن رجلا من أهل البادية- واسمه ضمام بن ثعلبة- جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا محمد أتانا رسولك فزعم أنك تزعم أن الله تعالى أرسلك قال صدق الحديث فإن تصديق النبي عليه الصلاة والسلام إياه مع قوله زعم وتزعم دليل على ما قلنا. وورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: زعم جبريل عليه السلام كذا، وقد أكثر سيبويه وهو إمام العربية في كتابه من قوله: زعم الخليل زعم أبو الخطاب يريد بذلك القول المحقق وقد نقل ذلك جماعات من أهل اللغة وغيرهم ونقله أبو عمر الزاهد في شرح الفصيح عن شيخه أبي العباس ثعلب عن العلماء باللغة من الكوفيين والبصريين، وهو مما يتعدى إلى مفعولين وقد حذفا هاهنا أو ما يسد مسدهما جائز والخلاف في حذف أحدهما، والظاهر أن المراد من الموصول كل من عبد من دون الله سبحانه من العقلاء. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبخاري والنسائي والطبراني وجماعة عن ابن مسعود قال: كان نفر من الإنس يعبدون نفرا من الجن فأسلم النفر من الجن وتمسك الإنسيون بعبادتهم فنزلت هذه الآية، وكان هؤلاء الإنس من العرب كما صرح به في رواية البيهقي وغيره عنه، وفي أخرى التصريح بأنهم من خزاعة، وفي رواية ابن جرير أنه قال: كان قبائل من العرب يعبدون صنفا من الملائكة يقال لهم الجن ويقولون هم بنات الله سبحانه فنزلت الآية. وعن ابن عباس أنها نزلت في الذين أشركوا بالله تعالى فعبدوا عيسى وأمه «عزيرا والشمس والقمر والكواكب وعلى هذا ففي الآية على ما في البحر تغليب العاقل على غيره، ومتى صح أدراج الشمس والقمر والكواكب على سبيل التغليب بناء على أنها ليست من ذوي العلم فليدرج سائر ما عبد الباطل من الأصنام ويرتكب التغليب، وتعقب بأن ما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى من ابتغاء الوسيلة ورجاء الرحمة والخوف من العذاب يؤيد إرادة العقلاء كعيسى وعزير عليهما السلام الجزء: 8 ¦ الصفحة: 93 بناء على أن الأصنام لا يعقل منها ذلك، وارتكاب التغليب هناك أيضا خلاف الظاهر جدا، والدعاء كالنداء لكن النداء قد يقال إذا قيل: يا أو أيا أو نحوهما من غير أن يضم إليه الاسم والدعاء لا يكاد يقال إلا إذا كان معه الاسم نحو يا فلان وقد يستعمل كل منهما موضع الآخر، والمراد ادعوهم لكشف الضر الذي هو أولى من جلب النفع وأهم وتوجه القلب إلى من يكشفه أكمل وأتم. فَلا يَمْلِكُونَ فلا يستطيعون بأنفسهم كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ كالمرض والفقر والقحط وغيرها وَلا تَحْوِيلًا ولا نقله منكم إلى غيركم ممن لم يعبدهم أو ولا تبديله بنوع آخر ومن لا يملك ذلك لا يستحق العبادة إذ شرط استحقاقها القدرة الكاملة التامة على دفع الضر وجلب النفع ولا تكون كذلك إذا كانت مفاضة من الغير، وكأن المراد من نفي ملكهم ذلك نفي قدرتهم التامة الكاملة عليه وكون قدرة الآلهة الباطلة مفاضة منه تعالى مسلم عند الكفرة لأنهم لا ينكرون أنها مخلوقة لله تعالى بجميع صفاتها وأن الله سبحانه أقوى وأكمل صفة منها، وبهذا يتم الدليل ويحصل الإفحام وإلا فنفي قدرة نحو الجن والملائكة الذين عبدوا من دون الله تعالى مطلقا على كشف الضر مما لا يظهر دليله فإنه إن قيل: هو أنا نرى الكفرة يتضرعون إليهم ولا تحصل لهم الإجابة عورض بأنا نرى أيضا المسلمين يتضرعون إلى الله تعالى ولا تحصل لهم الإجابة، وقد يقال: المراد نفي قدرتهم على ذلك أصلا ويحتج له بدليل الأشعري على استناد جميع الممكنات إليه عز وجل ابتداء. وفسر بعضهم الضر هنا بالقحط بناء على ما روي أن المشركين أصابهم قحط شديد أكلوا فيه الكلاب والجيف فاستغاثوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم ليدعو لهم فنزلت، وأنت تعلم أن هذا لا يوجب التخصيص. واستدل بهذه الرواية على أن نفي الاستطاعة مطلقا عن آلهتهم كان إذ ذاك مسلما عندهم وإلا لما تركوها واستغاثوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم ليدعو لهم وفيه نظر فانظر وتدبر. أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ أي أولئك الآلهة الذين يدعونهم ويسمونهم آلهة أو يدعونهم وينادونهم لكشف الضر عنهم يَبْتَغُونَ يطلبون باجتهاد لأنفسهم إِلى رَبِّهِمُ ومالك أمرهم الْوَسِيلَةَ القربة بالطاعة والعبادة فضمير يدعون للمشركين وضمير يَبْتَغُونَ للمشار إليهم، وقال ابن فورك: الضمير أن للمشار إليهم والمراد بهم الأنبياء الذين عبدوا من دون الله تعالى، ومفعول يَدْعُونَ محذوف أي يدعون الناس إلى الحق أو يدعون الله سبحانه ويتضرعون إليه جل وعلا، وعلى هذا لا يتعين كون المراد بهم الأنبياء عليهم السلام كما لا يخفى وهو كما ترى. وقرأ ابن مسعود وقتادة «تدعون» بالتاء ثالثة الحروف وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «يدعون» بالياء آخر الحروف مبنيا للمفعول، وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه «إلى ربك» بكاف الخطاب، واسم الإشارة مبتدأ والموصول أو بيان والخبر جملة يَبْتَغُونَ أو الموصول هو الخبر ويبتغون حال أو بدل من الصلة، وقوله تعالى: أَيُّهُمْ أَقْرَبُ فيه وجوه من الإعراب فالزمخشري ذكر وجهين، الأول كون أي موصولة بدلا من ضمير يَبْتَغُونَ بدل بعض من كل وهي إما معربة أو مبنية على اختلاف الرأيين أي أولئك المعبودون يطلب من هو أقرب منهم الوسيلة إلى الله تعالى بطاعته فكيف بالأبعد وليس فيه إلا حذف صدر الصلة والتقدير أيهم هو أقرب وهو مما لا بأس، ولا ينافي ذلك جمع يَرْجُونَ ويَخافُونَ فيما بعد لعدم اختصاص ما ذكر بالأقرب أو لكون الأقرب متعددا، والثاني كون أي استفهامية وهي مبتدأ وأَقْرَبُ خبرها والجملة في محل نصب بيبتغون وضمن معنى يحرصون فكأنه قيل يحرصون أيهم يكون أقرب إلى الله تعالى وذلك بالطاعة وازدياد الخير والصلاح، قيل واعتبر التضمين ليصح التعليق فإنه مختص بأفعال القلوب خلافا ليونس الجزء: 8 ¦ الصفحة: 94 وقال الطيبي: لا بد من تقدير حرف الجر لأن حرص تتعدى بعلى كقوله تعالى: إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ [النحل: 37] ولا بد من تأويل الإنشاء بأن يقال يحرصون على ما يقال فيه أيهم أقرب إلى الله تعالى بسببه من الطاعة، ويتعلق حينئذ قوله تعالى: إِلى رَبِّهِمُ بأقرب وهو كما ترى. وقال صاحب الكشف في تحقيق هذا الوجه: إن المطالب إذا كانت مشتركة اقتضت التسارع إليها في العادة وهو نفس الحرص أو ما لا ينفك عنه فناسب أن يضمن الابتغاء معنى الحرص لا سيما وبعده استفهام لا يحسن موقعه دون تضمينه لأن قولك أيهم أقرب إلى فلان بكذا سؤال عن مميز أحدهم عن الباقين بما يتقرب به زيادة فضيلة مع الاستواء في أصل التقرب فإذا ورد استئنافا بعد فعل صالح لأن يكون معلوله وجب تقديره ذلك لأنك إذا قلت هؤلاء يحرصون على الهدى كان كلاما جاريا على الظاهر وإذا قلت هؤلاء يحرصون أيهم يكون أهدى أفاد أن حرصهم ذلك على الهدى مع مغالبة بعضهم بعضا فيه فيكون أتم في وصفهم بالحرص عليه. ووجه الإفادة أنه تعقيبه على وجه التعليل وكأن كل واحد يسأل نفسه أهو أهدى أم غيره أي هو أشد حرصا عليه أم غيره إذ لا معنى لهذا السؤال عن النفس إلا الحث وتعرف أن ثمت تقصيرا في ذلك أو لا، وعلى هذا لو قلت يحرصون على الهدى أيكم يكون أهدى عد مستهجنا لأن الاستئناف سد مسد صلته كما في أمرته فقام ولو شاء ربك لآمن وود لو أنه أحسن وكم وكم، فعلى هذا الطلب واقع على الوسيلة وهي الطاعة والحرص على الأقربية بها والازدياد منها ولا يمكن أن يستغني عن يحرصون بإجراء أَيُّهُمْ أَقْرَبُ مجرى التعليل ليبتغون على ما أشير إليه لأن أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لا يصلح جوابا فارقا بين الطالبين وغيرهم إنما هو فارق بين الطالبين أعني المتقربين بعضهم مع بعض وهو يناسب الحرص والشغف ولأن صلة الطلب أعني الوسيلة مذكورة وقد عرفت أن الاستئناف مغن عن ذلك والجمع مستهجن اه. ولعمري لم يبق في القوس منزعا في تحقيقه لكن الوجه مع هذا متكلف، وجوز الحوفي والزجاج أن يكون أَيُّهُمْ أَقْرَبُ مبتدأ وخبر الجملة في محل نصب بينظرون أي يفكرون، والمعنى ينظرون أيهم أقرب فيتوسلون به وكأن المراد يتوسلون بدعائه وإلا ففي التوسل بالذوات ما فيه. وتعقب ذلك في البحر بأن في إضمار الفعل المعلق نظرا ومع ذا هو وجه غير ظاهر، وجوز أبو البقاء كون أَيُّهُمْ أَقْرَبُ جملة استفهامية في موضع نصب بيدعون وكون أي موصولة بدلا من ضمير يَدْعُونَ وتعقب الأول بأن فيه تعليق ما ليس بفعل قلبي والجمهور على منعه، وأما الثاني فقال أبو حيان: فيه الفصل بين الصلة ومعمولها بالجملة الحالية لكنه لا يضر لأنها معمولة للصلة، وأنت إذا نظرت في المعنى على هذا لم ترض أن تحمل الآية عليه، وقوله تعالى: وَيَرْجُونَ عطف على يبتغون أي يبتغون القربة بالعبادة ويتوقعون رَحْمَتَهُ تعالى وَيَخافُونَ عَذابَهُ كدأب سائر العباد فأين هم من ملك كشف الضر فضلا عن كونهم آلهة إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً حقيقا بأن يحذره ويحترز عنه كل أحد من الملائكة والرسل عليهم السلام وغيرهم، والجملة تعليل لقوله سبحانه: وَيَخافُونَ عَذابَهُ وفي تخصيصه بالتعليل زيادة تحذير للكفرة من العذاب، وتقديم الرجاء على الخوف لما أن متعلقه أسبق من متعلقه ففي الحديث القدسي «سبقت رحمتي غضبي» وفي اتحاد أسلوبي الجملتين إيماء إلى تساوي رجاء أولئك الطالبين للوسيلة إليه تعالى بالطاعة والعبادة وخوفهم، وقد ذكر العلماء أنه ينبغي للمؤمن ذلك ما لم يحضره الموت فإذا حضره الموت ينبغي أن يغلّب رجاءه على خوفه، وفي الآية دليل على أن رجاء الرحمة وخوف العذاب مما لا يخل بكمال العابد، وشاع عن بعض العابدين أنه قال: لست أعبد الله تعالى رجاء جنته ولا خوفا من ناره والناس بين قادح لمن يقول ذلك ومادح، والحق التفصيل وهو أن من قاله إظهارا للاستغناء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 95 عن فضل الله تعالى ورحمته فهو مخطئ كافر، ومن قاله لاعتقاد أن الله عز وجل أهل للعبادة لذاته حتى لو لم يكن هناك جنة ولا نار لكان أهلا لأن يعبد فهو محقق عارف كما لا يخفى. وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ الظاهر العموم لأن إن نافية ومن زائدة لاستغراق الجنس أي وما من قرية من القرى إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ بإماتة أهلها حتف أنوفهم أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً بالقتل وأنواع البلاء، وروي هذا عن مقاتل وهو ظاهر ما روي عن مجاهد وإليه ذهب الجبائي وجماعة، وروي عن الأول أنه قال: الهلاك للصالحة والعذاب للطالحة، وقال أيضا: وجدت في كتاب الضحاك بن مزاحم في تفسيرها أما مكة فتخربها الحبشة وتهلك المدينة بالجوع والبصرة بالغرق والكوفة بالترك والجبال بالصواعق والرواجف، وأما خراسان فهلاكها ضروب ثم ذكر بلدا بلدا. وروي عن وهب بن منبه أن الجزيرة آمنة من الخراب حتى تخرب أرمينية وأرمينية آمنة حتى تخرب مصر ومصر آمنة حتى تخرب الكوفة ولا تكون الملحمة الكبرى حتى تخرب الكوفة فإذا كانت الملحمة الكبرى فتحت قسطنطينية على يد رجل من بني هاشم وخراب الأندلس من قبل الزنج وخراب إفريقية من قبل الأندلس وخراب مصر من انقطاع النيل واختلاف الجيوش فيها وخراب العراق من الجوع وخراب الكوفة من قبل عدو يحصرهم ويمنعهم الشرب من الفرات وخراب البصرة من قبل العراق وخراب الأبلة من عدو يحصرهم برا وبحرا وخرابا الري من الديلم وخراب خراسان من قبل النبت وخراب النبت من قبل الصين وخراب الهند واليمن من قبل الجراد والسلطان وخراب مكة من الحبشة وخراب المدينة من قبل الجوع، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «آخر قرية من قرى الإسلام خرابا المدينة» كذا نقله العلامة أبو السعود وما في كتاب الضحاك وكذا ما روي عن وهب لا يكاد يعول عليه، وما روي عن أبي هريرة مقبول وقد رواه عنه بهذا اللفظ النسائي ورواه أيضا الترمذي بنحوه وقال حسن غريب ورواه أبو حيان بلفظ «آخر قرية في الإسلام خرابا المدينة» وفي البحور الزاخرة أن سبب خرابها أن بعض أهلها يخرجون مع المهدي إلى الجهاد ثم ترجف بمنافقيها وترميهم إلى الدجال ويهاجر بعض المخلصين إلى بيت المقدس عند إمامهم، ومن بقي منهم تقبض الريح الطيبة روحه فتبقى خاوية، ويأبى كونها سبب خرابها الجوع حسبما سمعت عن الضحاك وابن منبه ظاهر ما أخرجه الشيخان «لتتركن المدينة على خير ما كانت مذللة ثمارها لا يغشاها إلا العوافي الطير والسباع وآخر من يحشر راعيان من مزينة» الحديث. وأخرج الإمام أحمد بسند رجاله ثقات «المدينة يتركها أهلها وهي مرطبة قالوا: فمن يأكلها؟ قال: السباع والعوافي» وما ذكر من أن مكة تخربها الحبشة ثابت في الصحيحين وغيرهما لكن بلفظ «يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة» وفي حديث حذيفة مرفوعا «كأني أنظر إلى حبشي أحمر الساقين أزرق العينين أفطس الأنف كبير البطن وقد صف قدميه على الكعبة هو وأصحاب له ينقضونها حجرا حجرا ويتداولونها بينهم حتى يطرحوها في البحر» وفي حديث أحمد عن أبي هريرة أنه تجيء الحبشة فيخربونه أي البيت خرابا لا يعمر بعده أبدا ، نعم اختلف في أنه متى يكون ذلك؟ فقيل: زمن عيسى عليه السلام، وقيل حين لا يبقى على الأرض من يقول الله وهو آخر الآيات، ومال إلى ذلك السفاريني، وظاهر ما تقدم في المدينة من الأخبار بأنها آخر قرى الإسلام خرابا يقتضي أن خراب مكة قبلها والله تعالى أعلم. وما ذكر في خبر ابن منبه من أن مصر آمنة حتى تخرب الكوفة إن صح يقتضي أن الكوفة تعمر ثم تخرب وإلا فهي قد خربت منذ مئات من السنين وبقيت إلى الآن خرابا، ومصر آمنة عامرة على أحسن حال اليوم وبعمارتها حسبما يقتضيه الخبر جاءت آثار عديدة كما لا يخفى على من طالع الكتب المؤلفة في أمارات الساعة وأخبار المهدي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 96 والسفياني إلا أن في أكثرها للمنقر مقالا. وزعم البوني وإضرابه أنها تعمر في أواخر القرن الثالث عشر وقد أخذوا ذلك من كلام الشيخ محيي الدين قدس سره، وأنت تعلم أنه أشبه شيء بالهندية ولا يكاد يعد من اللغة العربية، وما ذكر من أن خراب العراق من الجوع يعم بغداد فإنها قاعدته. وقال القاضي عياض في الشفاء: روي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «تبنى مدينة بين دجلة ودجيل وقطربل والصراة تنقل إليها الخزائن يخسف بها» يعني بغداد وهذا صريح في أن هلاكها بالخسف لا بالجوع لكن ذكر المحدثون أن في سند الخبر مجهولا، ثم الظاهر على هذا التفسير أن قوله تعالى: أَوْ مُعَذِّبُوها إلخ مقيد بمثل ما قيد به المعطوف عليه فيكون كل من الإهلاك والتعذيب قبل يوم القيامة أي في الزمان القريب منه وقد شاع استعمال ذلك بهذا المعنى وستسمعه قريبا إن شاء الله تعالى في الحديث وإنكاره مكابرة غير مسموعة وكأنه سبحانه بعد أن ذكر من شأن البعث والتوحيد ما ذكر ذكر بعض ما يكون قبل يوم البعث مما يدل على عظمته سبحانه وفيه تأييد لما ذكر قبله، وقد صح أنه بعد موت عيسى عليه السلام تجيء ريح باردة من قبل الشام فلا تبقي على وجه الأرض أحدا في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته فيبقى شرار الناس وعليهم تقوم الساعة، وجاء في غير ما خبر ما يصيب الناس قبل قيامها من العذاب، فمن ذلك ما أخرجه الطبراني وابن عساكر عن حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه لتقصدنكم نار هي اليوم خامدة في واد يقال له برهوت يغشى الناس فيها عذاب أليم تأكل الأنفس والأموال تدور الدنيا كلها في ثمانية أيام تطير طيران الريح والسحاب حرها بالليل أشد من حرها بالنهار ولها بين السماء والأرض دوي كدوي الرعد القاصف قيل: يا رسول الله أسليمة يومئذ على المؤمنين والمؤمنات؟ قال: وأين المؤمنون والمؤمنات الناس يومئذ شر من الحمر يتسافدون كما يتسافد البهائم وليس فيهم رجل يقول مه مه إلى غير ذلك من الأخبار، ولا يبعد بعد أن اعتبر العموم في القرية حمل الإهلاك والتعذيب على ما تضمنته تلك الأخبار من إماتة المؤمنين بالريح وتعذيب الباقين من شرار الناس بالنار المذكورة، وصح أنها تسوقهم إلى المحشر وورد أنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك وأنه تلقى الآفة على الظهر حتى لا تبقى ذات ظهر حتى إن الرجل ليعطى الحديقة المعجبة بالشارف ذات القتب ليفر عليها، وكون ذلك قبل يوم القيامة هو المعول عليه وقد اعتمده الحافظ ابن حجر وصوبه القاضي عياض وذهب إليه القرطبي والخطابي وجاء مصرحا به في بعض الأحاديث، فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعا ستخرج نار من حضرموت أو من بحر حضرموت قبل يوم القيامة تحشر للناس الحديث ولا يبعد أن يعذبوا بغير ذلك أيضا بل في الآثار ما يقتضيه كانَ ذلِكَ أي ما ذكر من الإهلاك والتعذيب فِي الْكِتابِ أي في اللوح المحفوظ كما روي عن إبراهيم التيمي وغيره مَسْطُوراً مكتوبا، وذكر غير واحد أنه ما من شيء إلا بين فيه بكيفياته وأسبابه الموجبة له ووقته المضروب له. واستشكل العموم بأنه يقتضي عدم تناهي الأبعاد وقد قامت البراهين النقلية والعقلية على خلاف ذلك فلا بد أن يقال بالتخصيص بأن يحمل الشيء على ما يتعلق بهذه النشأة أو نحو ذلك، وقال بعضهم بالعموم إلا أنه التزم كون البيان على نحو يجتمع مع التناهي فاللوح المحفوظ في بيانه جميع الأشياء الدنيوية والأخروية وما كان وما يكون نظير الجفر الجامع في بيانه لما يبينه، وقد رأيت أنا صحيفة للشيخ الأكبر قدس سره ادعى أنه يعلم منها ما يقع في أرض المحشر يوم القيامة وأخرى ادعى أنه يعلم منها أسماء أهل الجنة والنار وأسماء آبائهم وأخرى ادعى أنه يعلم منها الحوادث التي تكون في الجنة، وقبول هذه الدعاوى وردها مفوض إليك، وفسر بعضهم الكتاب بالقضاء السابق ففي الكلام تجوز لا يخفى. هذا وذهب أبو مسلم إلى أن المراد ما من قرية من قرى الكفار واختاره المولى أبو السعود وجعل الآية بيانا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 97 لتحتم حلول عذابه تعالى بمن لا يحذره أثر بيان أنه حقيق بالحذر وأن أساطين الخلق من الملائكة والنبيين عليهم السلام على حذر من ذلك، وذكر أن المعنى ما من قرية من قرى الكفار إلا نحن مخربوها البتة بالخسف بها أو بإهلاك أهلها بالمرة لما ارتكبوا من عظائم الموبقات المستوجبة لذلك أو معذبو أهلها عذابا شديدا لا يكتنه كنهه والمراد به ما يعم البلايا الدنيوية من القتل والسبي ونحوهما والعقوبات الأخروية مما لا يعلمه إلا الله تعالى حسبما يفصح عنه إطلاق التعذيب عما قيد به الإهلاك من قبلية يوم القيامة ولا يخص بالبلايا الدنيوية كيف وكثير من القرى العاتية العاصية قد أخرت عقوبتها إلى يوم القيامة، ثم إنه يحتمل أن يقال في وجه الربط على تقدير التخصيص: أنه سبحانه بعد أن أشار إلى أن الكفرة المخاطبين في بلاء وضرّ وأنّ آلهتهم لا يملكون كشف ذلك عنهم، ولا تحويله أشار إلى أن مثل ذلك لا بد وأن يصيب الكفرة ولا يملك أحد كشفه ولا تحويله عنهم، وهذا ظاهر بناء على ما تقدم عن البعض في سبب النزول الذي بسببه فسر الضر بالقحط فتأمل. وفي اختيار صيغة الفاعل في الموضعين وإن كانت بمعنى المستقبل من الدلالة على التحقق والتقرر ما فيه، والتقييد بيوم القيامة لأن الإهلاك يومئذ غير مختص بالقرى الكافرة ولا هو بطريق العقوبة وإنما هو لانقضاء عمر الدنيا، ثم قال: إن تعميم القرية لا يساعده السباق ولا السباق اه وفيه تأمل. ومن الناس من رجحه على ما سبق بأن فيه حمل الإهلاك على ما يتبادر منه وهو ما يكون عن عقوبة ولا كذلك فيما سبق. وأجيب بأن ذلك سهل فقد استعمل في مقام التخويف فيما لم يكن عن عقوبة كقوله تعالى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ أي الآيات التي اقترحتها قريش، فقد أخرج أحمد والنسائي والحاكم وصححه والطبراني وغيرهم عن ابن عباس قال: سأل أهل مكة النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأن ينحي عنهم الجبال فيزرعوا فقيل له: إن شئت أن تستأني بهم وإن شئت أن تؤتيهم الذي سألوا فإن كفروا أهلكوا كما أهلكت من قبلهم من الأمم فقال عليه الصلاة والسلام: لا بل استأني بهم فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وأن ما بعدها في تأويل مصدر منصوب على أنه مفعول منع على ما صرح به الطبرسي أو منصوب بنزع الخافض كما قيل: لتعدي الفعل إلى مفعوله الثاني بالحرف كما في قوله تعالى: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء: 141] أي وما منعنا الإرسال أو من الإرسال بالآيات إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا أي بجنسها الْأَوَّلُونَ من الأمم السابقة المقترحة، والاستثناء مفرغ من أعم الأشياء وأن وما بعدها في تأويل مصدر فاعل منع أي ما منعنا شيء من الأشياء إلا تكذيب الأولين. وزعم أبو البقاء أنه على تقدير مضاف أي إلا إهلاك تكذيب الأولين، ولا حاجة إليه عند الآخرين. والمنع لغة كف الغير وقسره عن فعل يريد أن يفعله ولاستحالة ذلك في حقه سبحانه لاستلزامه العجز المحال المنافي للربوبية قالوا: إنه هنا مستعار للصرف وأن المعنى وما صرفنا عن إرسال الآيات المقترحة إلا تكذيب الأولين المقترحين المستتبع لاستئصالهم فإنه يؤدي إلى تكذيب الآخرين المقترحين بحكم اشتراكهم في العتو والعناد وهو مفض إلى أن يحل بهم مثل ما حل بهم بحكم الشركة في الجريرة والفساد وجريان السنة الإلهية والعادة الربانية بذلك وفعل ذلك بهم مخالف لما كتب في لوح القضاء بمداد الحكمة من تأخير عقوبتهم، وحاصله أنا تركنا إرسال الآيات لسبق مشيئتنا تأخير العذاب عنهم لحكم نعلمها، واستشعر بعضهم من الصرف نوع محذور فجعل المنع مجازا عن الترك. وتعقب بأنه لا يصح مع كون الفاعل التكذيب لأن التارك هو الله تعالى. وأجيب بأن دعوى لزوم اتحاد الفاعل في المعنى الحقيقي والمستعار له مما لم يقم عليه دليل بل الظاهر خلافه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 98 وذكر بعض المحققين ولله تعالى أبوه وإن نوقش أن تكذيب الأولين المستتبع للاستئصال والمستلزم لتكذيب الآخرين المفضي لحلول الوبال مناف لإرسال الآيات المقترحة لتعين التكذيب المستدعي لما ينافي الحكمة في تأخير عقوبة هذه الأمة فعبر عن تلك المنافاة بالمنع على نهج الاستعارة إيذانا بتعاضد مبادئ الإرسال لا كما زعموا من عدم إرادته تعالى لتأييد رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالمعجزات وهو السر في إيثار الإرسال على الإيتاء لما فيه من الإشعار بتداعي الآيات إلى النزول لولا أن تمسكها يد التقدير، وإسناد المنع إلى تكذيب الأولين لا إلى علمه تعالى بما سيكون من المقترحين الآخرين كما في قوله تعالى: لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال: 23] لإقامة الحجة عليهم بإبراز الأنموذج وللإيذان بأن مدار عدم الإجابة إلى إيتاء مقترحهم ليس إلا صنيعهم، ثم حكمة التأخير قيل إظهار مزيد شرف النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقيل العناية بمن سيولد من بعضهم من المؤمنين وبمن سيؤمن منهم، وينبغي أن يزاد في كل إلى غير ذلك مثلا وإلا فلا حصر، وقيل معنى الآية إنا لا نرسل الآيات المقترحة لعلمنا بأنهم لا يؤمنون عندها كما لم يؤمن بها من اقترحوها قبلهم فيكون إرسالها عبثا لا فائدة فيه والحكيم لا يفعله، وأنت تعلم أنه إذا كان إرسال المقترح إذا لم يؤمن عنده المقترح عبثا لا يفعله الحكيم أشكل فعله من أول مرة على أن ما روي في سبب النزول يقتضي التفسير الأول كما لا يخفى وفسرت الآيات بالمقترحة لأن ما بها إثبات دعوى الرسالة من مقتضيات الإرسال وما زاد على ذلك ولم يكن عن اقتراح لطف من الملك المتعال وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ عطف على ما يفصح عنه النظم الكريم كأنه قيل: وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون حيث أتيناهم ما اقترحوا على أنبيائهم عليهم السلام من الآيات الباهرة فكذبوها وآتينا ثمود الناقة باقتراحهم على نبيهم صالح عليه السلام وأخرجناها لهم من الصخرة مُبْصِرَةً على صيغة اسم الفاعل حال من الناقة، والمراد ذات إبصار أو ذات بصيرة يبصرها الغير ويتبصر بها فالصيغة للنسب أو جاعلة الناس ذوي بصائر على أنه اسم فاعل من أبصره والهمزة للتعدية أي جعله ذا بصيرة وإدراك ويحتمل أن يكون إسناد الأبصار إليها مجازا وهو في الحقيقة حال من يشاهدها وقرأ قوم «مبصرة» بزنة اسم المفعول أي يبصرها الناس ولا خفاء في ذلك. وقرأ قتادة «مبصرة» بفتح الميم والصاد أي محل إبصار بجعل الحامل على الشيء بمنزلة محله نحو الولد مبخلة مجبنة. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «مبصرة» بزنة اسم الفاعل والرفع على إضمار مبتدأ أي هي مبصرة، وقرأ الجمهور ثَمُودَ ممنوعا من الصرف، وقال هارون: أهل الكوفة ينونون في كل وجه وقال أبو حاتم لا تنون العامة، والعلماء بالقرآن ثَمُودَ في وجه من الوجوه وفي أربعة مواطن ألف مكتوبة ونحن نقرؤه بغير ألف اه. وهو كما قال الراغب عجمي، وقيل عربي وترك صرفه لكونه اسم قبيلة، وهو فعول من الثمد وهو الماء القليل الذي لا مادة له ومنه قيل: فلان مثمود ثمدته النساء أي قطعن مادة مائه لكثرة غشيانه لهن ومثمود إذا كثر عليه السؤال حتى نفدت مادة ماله وصحح كثير عربيته أي آتينا تلك القبيلة الناقة فَظَلَمُوا بِها أي فكفروا بها وجحدوا كونها من عند الله تعالى لتصديق رسوله أو فكفروا بها ظالمين أي لم يكتفوا بمجرد الكفر بها بل فعلوا بها ما فعلوا من العقر أو ظلموا أنفسهم وعرضوها للهلاك بسبب عقرها. ولعل تخصيص إيتائها بالذكر لما أن ثمود عرب مثل أهل مكة المقترحين وأن لهم من العلم بحالهم ما لا مزيد عليه حيث يشاهدون آثار هلاكهم لقرب ديارهم منهم ورودا وصدورا، وجوز أن يكون ذلك لأن الناقة من جهة أنها حيوان أخرج من الحجر أوضح دليل على تحقق مضمون قوله تعالى: قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً [الإسراء: 50] إلخ والأول أقرب وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً أي لمن أرسلت عليهم، والمراد بها إما المقترحة فالتخويف بالاستئصال لإنذارها به في عادة الله تعالى أي ما نرسلها إلا تخويفا من العذاب المستأصل كالطليعة له فإن لم يخافوا فعل بهم ما فعل، وإما غيرها كآيات القرآن والمعجزات فالتخويف بعذاب الآخرة دون العذاب الدنيوي بالاستئصال أي ما نرسلها إلا تخويفا وإنذارا بعذاب الآخرة. واستظهر أبو حيان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 99 كون المراد بها الآيات التي معها إمهال كالخسوف والكسوف وشدة الرعد والبرق والرياح والزلازل وغور ماء العيون وزيادتها على الحد حتى يغرق منها بعض الأرضين، وعد الحسن من ذلك الموت الذريع أي ما نرسلها إلا تخويفا مما هو أعظم منها. أخرج ابن جرير عن قتادة قال: إن الله تعالى يخوف الناس بما شاء من آياته لعلهم يعتبون أو يذكرون ويرجعون، وذكر ابن عطية أن آيات الله تعالى المعتبر بها ثلاثة أقسام، قسم عام في كل شيء. ففي كل شيء له آية، تدل على أنه واحد وهناك فكرة العلماء، وقسم معتاد كالرعد والكسوف وهناك فكرة الجهلة، وقسم خارق للعادة وقد انقضى بانقضاء النبوة وإنما يعتبر اليوم بتوهم مثله وتصوره اه. وفيه غفلة عن الكرامة فإن أهل السنة يثبتونها للولي في كل عصر، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب، وجوز على الوجه الأول أن تكون حالا من ضمير ظلموا أي فظلموا بها ولم يخافوا العاقبة والحال إنا ما نرسل بالآيات التي هي من جملتها إلا تخويفا من العذاب الذي يعقبها فنزل بهم ما نزل، ونصب تَخْوِيفاً على أنه مفعول له. وجوز أن يكون حالا أي مخوفين، والباء في الموضعين سيف خطيب، و (الآيات) مفعول نرسل أو للملابسة والمفعول محذوف أي ما نرسل نبيا ملتبسا بها، وقيل إنها للتعدية وأن أرسل يتعدى بنفسه وبالباء. ورد بأنه لم ينقل عن أحد من الثقات، قال الخفاجي: ولا حجة في قول كثير: لقد كذب الواشون ما بحت عندهم ... بسرّ ولا أرسلتهم برسول لاحتمال الزيادة فيه أيضا مع أن الرسول فيه بمعنى الرسالة فهو مفعول مطلق والكلام في دخولها على المفعول به، ولا يخفى أن جعل الرسول مفعولا به وزيادة الباء فيه مما لا يقدم عليه فاضل وَإِذْ قُلْنا أي واذكر زمان قولنا بواسطة الوحي لَكَ يا محمد إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ أي علما كما رواه غير واحد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه فلا يخفى عليه سبحانه شيء من أحوالهم وأفعالهم الماضية والمستقبلة من الكفر والتكذيب. وقوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ إلى آخر الآية تنبيه على تحققها بالاستدلال عليها بما صدر عنهم عند مجيء بعض الآيات لاشتراك الكل في كونها أمورا خارقة للعادات منزلة من جناب رب العزة جل مجده لتصديق رسوله عليه الصلاة والسلام فتكذيبهم ببعضها يدل على تكذيب الباقي كما أن تكذيب الأولين بغير المقترحة يدل على تكذيبهم بالمقترحة، والمراد بالرؤيا ما عاينه صلّى الله عليه وسلّم ليلة أسري به من العجائب السماوية والأرضية كما أخرجه البخاري والترمذي والنسائي وجماعة عن ابن عباس وهي عند كثير بمعنى الرؤية مطلقا وهما مصدر رأى مثل القربى والقرابة. وقال بعض: هي حقيقة في رؤيا المنام ورؤيا اليقظة ليلا والمشهور اختصاصها لغة بالمنامية وبذلك تمسك من زعم أن الإسراء كان مناما وفي الآية ما يرد عليه، والقائلون بهذا المشهور الذاهبون إلى أنه كان يقظة كما هو الصحيح قالوا: إن التعبير بها إما مشاكلة لتسميتهم له رؤيا أو جار على زعمهم كتسمية الأصنام آلهة فقد روي أن بعضهم قال له صلّى الله عليه وسلّم لما قص عليهم الإسراء لعله شيء رأيته في منامك أو على التشبيه بالرؤيا لما فيها من العجائب أو لوقوعها ليلا أو لسرعتها أي وما جعلنا الرؤيا التي أريناكها عيانا مع كونها آية عظيمة وأية آية وقد أقمت البرهان على صحتها إلا فتنة افتتن بها الناس حتى ارتد بعض من أسلم منهم وَالشَّجَرَةَ عطف على الرُّؤْيَا أي وما جعلنا الشجرة الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ إلا فتنة لهم أيضا. والمراد بها كما روى البخاري وخلق كثير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما شجرة الزقوم، والمراد بلعنها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 100 لعن طاعميها من الكفرة كما روي عنه أيضا، ووصفها بذلك من المجاز في الإسناد وفيه من المبالغة ما فيه أو لعنها نفسها ويراد باللعن معناه اللغوي وهو البعد فهي لكونها في أبعد مكان من الرحمة وهو أصل الجحيم الذي تنبت فيه ملعونة حقيقة. وأخرج ابن المنذر عن الحبر أنها وصفت بالملعونة لتشبيه طلعها برؤوس الشياطين والشياطين ملعونون. وقيل تقول العرب لكل طعام مكروه ضار: ملعون، وروي في جعلها فتنة لهم أنه لما نزل في أمرها في الصافات وغيرها ما نزل. قال أبو جهل وغيره: هذا محمد صلّى الله عليه وسلّم يتوعدكم بنار تحرق الحجارة ثم يقول ينبت فيها الشجر وما نعرف الزقوم إلا بالتمر بالزبد، وأمر أبو جهل جارية له فأحضرت تمرا وزبدا وقال لأصحابه ترقموا. وافتتن بهذه المقالة أيضا بعض الضعفاء ولقد ضلوا في ذلك ضلالا بعيدا حيث كابروا قضية عقولهم فإنهم يرون النعامة تبتلع الجمر وقطع الحديد المحماة الحمر فلا تضرها والسمندل يتخذ من وبره مناديل تلقى في النار إذا اتسخت فيذهب الوسخ وتبقى سالمة، ومن أمثالهم في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار. وعن ابن عباس أنها الكشوث المذكورة في قوله تعالى: كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ [إبراهيم: 26] ولعنها في القرآن وصفها فيه بما سمعت في هذه الآية ومر آنفا ما مر عن العرب، والافتتان بها أنهم قالوا عند سماع الآية: ما بال الحشائش تذكر القرآن، والمعمول عليه عند الجمهور رواية الصحيح عن الحبر. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وَالشَّجَرَةَ بالرفع على الابتداء وحذف الخبر أي والشجرة الملعونة في القرآن كذلك وَنُخَوِّفُهُمْ بذلك ونظائره من الآيات فإن الكل للتخويف، وإيثار صيغة الاستقبال للدلالة على الاستمرار التجددي. وقرأ الأعمش «ويخوفهم» بالياء آخر الحروف فَما يَزِيدُهُمْ التخويف إِلَّا طُغْياناً تجاوزا عن الحد كَبِيراً لا يقادر قدره فلو أرسلنا بما اقترحوه من الآيات لفعلوا بها فعلهم بإخوانها وفعل بهم ما فعل بأمثالهم وقد سبقت كلمتنا بتأخير العقوبة العامة إلى الطامة الكبرى هذا فيما أرى هو الأوفق بالنظم الكريم واختاره في إرشاد العقل السليم. وعن الحسن ومجاهد وقتادة وأكثر المفسرين تفسير الإحاطة بالقدرة، والكلام مسوق لتسلية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عما عسى يعتريه من عدم الإجابة إلى إنزال الآيات المقترحة لمخالفتها للحكمة من نوع حزن من طعن الكفرة حيث كانوا يقولون: لو كنت رسولا حقا لأتيت بهذه المعجزة كما أتى بها من قبلك من الأنبياء عليهم السلام فكأنه قيل اذكر وقت قولنا لك إن ربك اللطيف بك قد أحاط بالناس فهم في قبضة قدرته لا يقدرون على الخروج من ربقة مشيئته فهو يحفظك منهم فلا تهتم بهم وامض لما أمرتك به من تبليغ الرسالة ألا ترى أن الرؤيا التي أريناك من قبل جعلناها فتنة للناس مورثة للشبهة مع أنها ما أورثت ضعفا لأمرك وفتورا في حالك وبعضهم حمل الإحاطة على الإحاطة بالعلم إلا أنه ذكر في حاصل المعنى ما يقرب مما ذكر فقال: أي إنه سبحانه عالم بالناس على أتم وجه فيعلم قصدهم إلى إيذائك إذا لم تأتهم بما اقترحوا ويعصمك منهم فامض على ما أنت فيه من التبليغ والإنذار ألا ترى إلخ. ولا يخفى أن ذكر الرب مضافا إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم وأمره عليه الصلاة والسلام بذكر ذلك القول أنسب بكون الآية مسوقة لتسليته على الوجه الذي نقل، وذكر التخويف وأنه ما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا أوفق بما فسرت به الآية أولا، وادعى بعضهم أنه لا يخلو عن نوع تسلية، وقيل: الإحاطة هنا الإهلاك كما في قوله تعالى: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ [الكهف: 42] والناس قريش ووقت ذلك الإهلاك يوم بدر، وعبر عنه بالماضي مع كونه منتظرا حسبما ينبىء عنه قوله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 101 تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر: 45] وقوله سبحانه: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ [آل عمران: 12] وغير ذلك لتحقق الوقوع، وأولت الرؤيا بما رآه صلّى الله عليه وسلّم في المنام من مصارعهم كما صرح به في بعض الروايات، وصح أنه صلّى الله عليه وسلّم لما ورد ماء بدر كان يقول: والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم وهو يضع يده الشريفة على الأرض هاهنا وهاهنا ويقول: هذا مصرع فلان هذا مصرع فلان ، وهو ظاهر في كون ذلك مناما. ويروى أن قريشا سمعت بما أوحي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في شأن بدر وما أري في منامه من مصارعهم فكانوا يضحكون ويسخرون وهو المراد بالفتنة، وبما رآه عليه الصلاة والسلام أنه سيدخل مكة وأخبر أصحابه فتوجه إليها فصده المشركون عام الحديبية وإليه ذهب أبو مسلم والجبائي، واعتذر عن كون ما ذكر مدنيا بأنه يجوز أن يكون الوحي بإهلاكهم وكذا الرؤيا واقعا بمكة وذكر الرؤيا وتعيين المصارع واقعين بعد الهجرة ويلزم منه أن يكون الافتتان بذلك بعد الهجرة وأن يكون ازديادهم طغيانا متوقعا غير واقع عند نزول الآية وكل ذلك خلاف الظاهر. وأخرج ابن جرير عن سهل بن سعد قال: رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بني أمية ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك فما استجمع ضاحكا حتى مات عليه الصلاة والسلام وأنزل الله تعالى هذه الآية وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا إلخ. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن سعيد بن المسيب قال: رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بني أمية على المنابر فساءه ذلك فأوحى الله تعالى إليه إنما هي دنيا أعطوها فقرت عينه وذلك قوله تعالى: وَما جَعَلْنَا إلخ. وأخرج ابن أبي حاتم عن يعلى بن مرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: رأيت بني أمية على منابر الأرض وسيملكونكم فتجدونهم أرباب سوء واهتم عليه الصلاة والسلام لذلك فأنزل الله سبحانه وَما جَعَلْنَا الآية» وأخرج عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «رأيت ولد الحكم بن أبي العاص على المنابر كأنهم القردة وأنزل الله تعالى في ذلك وَما جَعَلْنَا إلخ والشجرة الملعونة الحكم وولده» وفي عبارة بعض المفسرين هي بنو أمية. وأخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت لمروان بن الحكم: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لأبيك وجدك: إنكم الشجرة الملعونة في القرآن» فعلى هذا معنى إحاطته تعالى بالناس إحاطة أقداره بهم، والكلام على ما قيل على حذف مضاف أي وما جعلنا تعبير الرؤيا أو الرؤيا فيه مجاز عن تعبيرها، ومعنى جعل ذلك فتنة للناس جعله بلاء لهم ومختبرا وبذلك فسره ابن المسيب، وكان هذا بالنسبة إلى خلفائهم الذين فعلوا ما فعلوا وعدلوا عن سنن الحق وما عدلوا وما بعده بالنسبة إلى ما عدا خلفاءهم منهم ممن كان عندهم عاملا وللخبائث عاملا أو ممن كان من أعوانهم كيفما كان، ويحتمل أن يكون المراد ما جعلنا خلافتهم وما جعلناهم أنفسهم إلا فتنة، وفيه من المبالغة في ذمهم ما فيه، وجعل ضمير نُخَوِّفُهُمْ على هذا لما كان له أولا أو للشجرة باعتبار أن المراد بها بنو أمية ولعنهم لما صدر منهم من استباحة الدماء المعصومة والفروج المحصنة وأخذ الأموال من غير حلها ومنع الحقوق عن أهلها وتبديل الأحكام والحكم بغير ما أنزل الله على نبيه عليه الصلاة والسلام إلى غير ذلك من القبائح العظام والمخازي الجسام التي لا تكاد تنسى ما دامت الليالي والأيام، وجاء لعنهم في القرآن إما على الخصوص كما زعمته الشيعة أو على العموم كما نقول فقد قال سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [الأحزاب: 57] وقال عز وجل فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ [محمد: 22، 23] إلى آيات أخر ودخولهم في عموم ذلك يكاد يكون دخولا أوليا لكن لا يخفى أن هذا لا يسوغ عند أكثر أهل السنة لعن واحد منهم بخصوصه فقد صرحوا أنه لا يجوز لعن كافر بخصوصه ما لم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 102 يتحقق موته على الكفر كفرعون ونمرود فكيف من ليس كافرا، وادعى السراج البلقيني جواز لعن العاصي المعين ونور دعواه بحديث الصحيحين «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان لعنها الملائكة حتى تصبح» . وقال ولده الجلال بحثت مع والدي في ذلك باحتمال أن يكون لعن الملائكة لها بالعموم بأن يقول: لعن الله تعالى من باتت مهاجرة فراش زوجها ولو استدل لذلك بخبر مسلم أنه صلّى الله عليه وسلّم مر بحمار وسم بوجهه فقال: لعن الله تعالى من فعل هذا لكان أظهر إذ الإشارة بهذا صريحة في لعن معين إلا أن يؤول بأن المراد فاعل جنس ذلك لا فاعل هذا المعين وفيه ما فيه واستدل بعض من وافقه لذلك أيضا بما صح أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «اللهم العن رعلا وذكوان وعصية عصوا الله تعالى ورسوله» فإن فيه لعن أقوام بأعيانهم وأجيب بأنه يجوز أنه عليه الصلاة والسلام علم موتهم أو موت أكثرهم على الكفر فلم يلعن إلا من علم موته عليه وهو كما ترى، ولا يخفى أن تفسير الآية بما ذكر غير ظاهر الملاءمة للسياق والله تعالى أعلم بصحة الأحاديث، وقيل الشجرة الملعونة مجاز عن أبي جهل وكان فتنة وبلاء على المسلمين لعنه الله تعالى، وقيل مجاز عن اليهود الذين تظاهروا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولعنهم في القرآن ظاهر، وفتنتهم أنهم كانوا ينتظرون بعثته عليه الصلاة والسلام فلما بعث كفروا به وقالوا: ليس هو الذي كنا ننتظره فثبطوا كثيرا من الناس بمقالتهم عن الإسلام وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ تذكير لما جرى منه تعالى من الأمر ومن الملائكة من الامتثال والطاعة من غير تثبط وتحقيق لمضمون قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ إلخ، أما إن كان المراد من الموصول الملائكة فظاهر، وإما إن كان غيرهم فللمقايسة، وفيه إشارة إلى عاقبة أولئك الذين عاندوا الحق واقترحوا الآيات وكذبوا الرسول عليه الصلاة والسلام فإنهم داخلون في الذرية الذين احتنكهم إبليس عليه اللعنة واتبعوه إتباع الظل لذويه دخولا أوليا ومشاركون له في العناد أتم مشاركة حتى قالوا إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال: 32] فوجه مناسبة الآية لما قبلها ظاهر، وقيل الوجه مشابهة قريش الذين كذبوا النبي صلّى الله عليه وسلّم لإبليس في أن كلّا منهما حمله الحسد والكبر على ما صدر منه أي واذكر وقت قولنا للملائكة اسْجُدُوا لِآدَمَ تحية وتكريما له عليه السلام، وقيل المعنى اجعلوه قبلة سجودكم لله تعالى فَسَجَدُوا من غير تلعثم امتثالا لأمره تعالى إِلَّا إِبْلِيسَ لم يكن من الساجدين وكان معدودا في عدادهم مندرجا تحت الأمر بالسجود قالَ استئناف بياني كأنه قيل فما كان منه بعد التخلف، فأجيب بأنه قال أي بعد أن وبخ بما وبخ مما قصه الله سبحانه في غير هذا الموضع على سبيل الإنكار والتعجب أَسْجُدُ وقد خلقتني من نار لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً نصب على نزع الخافض أي من طين كما صرح به في آية أخرى، وجوز الزجاج كونه حالا من العائد المحذوف والعامل خَلَقْتَ فيكون المعنى أأسجد لمن كان في وقت خلقه طينا فالطينية وإن كانت مقدمة على خلقه إنسانا لكنها مقارنة لابتداء تعلقه به، والزمخشري أيضا كونه حالا من نفس الموصول والعامل حينئذ أَأَسْجُدُ على معنى أأسجد له وهو طين أي أصله طين، قال في الكشف: وهو أبلغ لأنه مؤيد لمعنى الإنكار وفيه تحقير له عليه السلام وحاشاه بجعله نفس ما كان عليه لم تزل عنه تلك الذلة وليس في جعله حالا من العائد هذه المبالغة، وأنت تعلم أن الحالية على كل حال خلاف الظاهر لكون الطين جامدا ولذا أوله بعضهم بمتأصلا، وجوز الزجاج أيضا وتبعه ابن عطية كونه تمييزا ولا يظهر ذلك، وذكر الخلق مع أنه يكفي في المقصود أن يقال: لمن كان من طين أدخل في المقصود مع أنه فيه على ما قيل إيماء إلى علة أخرى وهي أنه مخلوق والسجود إنما هو للخالق تعالى مجده. قالَ أي إبليس، وفي إعادة الفعل بين كلامي اللعين إيذان بعدم اتصال الثاني بالأول وعدم ابتنائه عليه بل على غيره وقد ذكر ذلك في مواضع أخرى أي قال بعد طرده من المحل الأعلى ولعنه واستنظاره وإنظاره أَرَأَيْتَكَ هذَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 103 الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ الكاف حرف خطاب مؤكد لمعنى التاء قبله وهو من التأكيد اللغوي فلا محل له من الإعراب، ورأى علمية فتتعدى إلى مفعولين وهذَا مفعولها الأول والموصول صفته والمفعول الثاني محذوف لدلالة الصلة عليه، وهذا الإنشاء مجاز عن إنشاء آخر ومن هنا تسمعهم يقولون: المعنى أخبرني عن هذا الذي كرمته علي لم كرمته علي وأنا أكرم منه، والعلاقة ما بين العلم والإخبار من السببية والمسببية واللازمية والملزومية، وجملة لم كرمته واقعة على ما نص عليه أبو حيان موقع المفعول الثاني، وذهب بعض النحاة إلى أن رأى بصرية فتتعدى إلى واحد واختاره الرضي، ويجعلون الجملة الاستفهامية المذكورة مستأنفة. وقال الفراء: الكاف ضمير في محل نصب أي أرأيت نفسك وهو كما تقول: أتدبرت آخر أمرك فإني صانع كذا، وهذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ مبتدأ وخبر وقد حذف منه الاستفهام أي أهذا إلخ، وقال بعضهم بهذا إلا أنه جعل الكاف حرف خطاب مؤكد أي أخبرني أهذا من كرمته عليّ، وقال ابن عطية: الكاف حرف كما قيل لكن معنى أرأيتك أتأملت كأن المتكلم ينبه المخاطب على استحضار ما يخاطبه به عقيبه، وكونه بمعنى أخبرني قول سيبويه. والزجاج وتبعهما الحوفي والزمخشري وغيرهما، وزعم ابن عطية أن ذلك حيث يكون استفهام ولا استفهام في الآية. وأنت تعلم أن المقرر في أرأيت بمعنى أخبرني أن تدخل على جملة ابتدائية يكون الخبر فيها استفهاما مذكورا أو مقدرا فمجرد عدم وجوده لا يأبى ذلك، وأيّا ما كان فاسم الإشارة للتحقير، والمراد من التكريم التفضيل. وجملة لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ استئناف وابتداء كلام واللام موطئة للقسم وجوابه لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ. وفي البحر لو ذهب ذاهب إلا أن هذا مفعول أول لأرأيتك بمعنى أخبرني والمفعول الثاني الجملة القسمية المذكورة لانعقادهما مبتدأ وخبرا قبل دخول أرأيتك لذهب مذهبا حسنا إذ لا يكون في الكلام على هذا إضمار وهو كما ترى، والمراد من أخرتني أبقيتني حيا أو أخرت موتي، ومعنى لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ لأستولين عليهم استيلاء قويا من قولهم: حنك الدابة واحتنكها إذا جعل في حنكها الأسفل حبلا يقودها به. وأخرج هذا ابن جرير وغيره عن ابن عباس وإليه ذهب الفراء أو لأستأصلنهم وأهلكنهم بالإغواء من قولهم: احتنك الجراد الأرض إذا أهلك نباتها وجرد ما عليها واحتنك فلان مال فلان إذا أخذه وأكله، وعلى ذلك قوله: نشكو إليك سنة قد أجحفت جهدا إلى جهد بنا فأضعفت واحتنكت أموالنا وأجلفت. وكأنه مأخوذ من الحنك وهو باطن أعلى الفم من داخل المنقار فهو اشتقاق من اسم عين، واختار هذا الطبري والجبائي وجماعة، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال يقول لأضلنهم وهو بيان لخلاصة المعنى، وهذا كقول اللعين لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: 39] إِلَّا قَلِيلًا منهم وهو العباد المخلصون الذين جاء استثناؤهم في آية أخرى جعلنا الله تعالى وإياكم منهم. وعلم اللعين تسني هذا المطلب له حتى ذكره مؤكدا إما بواسطة التلقي من الملائكة سماعا وقد أخبرهم الله تعالى به أو رأوه في اللوح المحفوظ أو بواسطة استنباطه من قولهم أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [البقرة: 30] مع تقرير الله تعالى له أو بالفراسة لما رأى فيه من قوة الوهم والشهوة والغضب المقتضية لذلك، ولا يبعد أن يكون استثناء القليل بالفراسة أيضا وكأنه لما رأى أن المانع من الاستيلاء في القليل مشتركا بينه وبين آدم عليه السلام ذكره من أول الأمر، وعن الحسن أنه ظن ذلك لأنه وسوس إلى آدم وغره حتى كان ما كان فقاس الفرع على الأصل وهو مشكل لأن هذا القول كان قبل الوسوسة التي كان بسببها ما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 104 كان، ومن زعم أنه كان هناك وسوستان فعليه البيان ولا يأتي به حتى يؤوب القارظان أو يسجد لآدم عليه السلام الشيطان. قالَ الله سبحانه وتعالى: اذْهَبْ ليس المراد به حقيقة الأمر بالذهاب ضد المجيء بل المراد تخليته وما سولته نفسه إهانة له كما تقول لمن يخالفك: افعل ما تريد، وقيل: يجوز أن يكون من الذهاب ضد المجيء فمعناه حينئذ كمعنى قوله تعالى: فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [الحجر: 34، ص: 77] ، وقيل: هو طرد وتخلية ويلزم على ظاهره الجمع بين الحقيقة والمجاز والقائل ممن يرى جوازه ويدل على أنه ليس المراد منه ضد المجيء تعقيبه بالوعيد في قوله سبحانه: فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ وضل عن الحق فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ أي جزاؤك وجزاؤهم فغلب المخاطب على الغائب رعاية لحق المتبوعية، وجوز الزمخشري وتبعه غير واحد أن يكون الخطاب للتابعين على الالتفات من غيبة المظهر إلى الخطاب، وتعقبه ابن هشام في تذكرته فقال: عندي أنه فاسد لخلو الجواب أو الخبر عن الرابط فإن ضمير الخطاب لا يكون رابطا وأجيب بأنه مؤول بتقدير فيقال لهم: إن جهنم جزاؤكم، ورد بأنه يخرج حينئذ عن الالتفات، وقال بعض المحققين: إن ضمير الخطاب إن سلم أنه لا يكون عائدا لا نسلم أنه إذا أريد به الغائب التفاتا لا يربط به لأنه ليس بأبعد من الربط بالاسم الظاهر فاحفظ. جَزاءً مَوْفُوراً أي مكملا لا يدخر منه شيء كما قال ابن جبير من فر كعد لصاحبك عرضه فرة أي كمل لصاحبك عرضه، وعلى ذلك قوله: ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفره ومن لا يتق الشتم يشتم وجاء وفر لازما نحو وفر المال يفر وفورا أي كمل وكثر، وانتصب جَزاءً على المصدر بإضمار تجزون أو تجازون فإنهما بمعنى وهذا المصدر لهما. وجوز أبو حيان وغيره كون العامل فيه جَزاؤُكُمْ بناء على أن المصدر ينصب المفعول المطلق، وجوز كونه حالا موطئة لصفتها التي هي حال في الحقيقة ولذا جاءت جامدة كقوله تعالى: قُرْآناً عَرَبِيًّا [يوسف:، طه: 113، الزمر: 28، فصلت: 3، الشورى: 7، الزخرف: 3] ولا حاجة لتقدير ذوي فيه حينئذ وصاحب الحال مفعول تجزونه محذوفا والعالم الفعل، وقيل إنه حال من فاعله بتقدير ذوي جزاء، وقال الطيبي: قيل المعنى ذوي جزاء ليكون حالا عن ضمير المخاطبين ويكون المصدر عاملا وإلا فالعامل مفقود ثم قال: الأظهر أنه حال مؤكدة لمضمون الجملة نحو زيد حاتم جوادا، وفي الكشف أن هذا متعين وليس الأول بالوجه، ومثله جعله حالا عن الفاعل، وقيل هو تمييز ولا يقبل عند ذويه وَاسْتَفْزِزْ أي واستخف يقال استفزه إذا استخفه فخدعه وأوقعه فيما أراده منه، وأصل معنى الفز القطع ومنه تفزز الثوب إذا انقطع ويقال للخفيف فز ولذا سمي به ولد البقرة الوحشية كما في قول زهير: إذا استغاث بشيء فز غيطلة ... خاف العيون فلم تنظر به الحشك والواو على ما في البحر للعطف على اذهب، والمراد من الأمر التهديد وكذا من الأوامر الآتية، ويمنع من إرادة الحقيقة أن الله تعالى لا يأمر بالفحشاء مَنِ اسْتَطَعْتَ أي الذي استطعت أن تستفزه مِنْهُمْ فمن موصول مفعول اسْتَفْزِزْ ومفعول اسْتَطَعْتَ محذوف هو ما أشرنا إليه. واختار أبو البقاء كون من استفهامية في موضع نصب باستطعت وهو خلاف الظاهر جدا ولا داعي إلى ارتكابه بِصَوْتِكَ أي بدعائك إلى معصية الله تعالى ووسوستك، وعبر عن الدعاء بالصوت تحقيرا له حتى كأنه لا معنى له كصوت الحمار. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 105 وأخرج ابن المنذر وابن جرير وغيرهما عن مجاهد تفسيره بالغناء والمزامير واللهو والباطل، وذكر الغزنوي أنه آدم عليه السلام أسكن ولد هابيل أعلى جبل وولد قابيل أسفله وفيهم بنات حسان فزمر الشيطان فلم يتمالكوا أن انحدروا واقترنوا وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ أي صح عليهم من الجلبة وهي الصياح قاله الفراء وأبو عبيدة، وذكر أن جلب وأجلب بمعنى. وقال الزجاج: أجلب على العدو جمع عليه الخيل. وقال ابن السكيت: جلب عليه أعان عليه، وقال ابن الأعرابي: أجلب على الرجل إذا توعده الشر وجمع عليه الجمع، وفسر بعضهم أَجْلِبْ هنا بأجمع فالباء في قوله تعالى: بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ مزيدة كما في لا يقرأن بالسور وقرأ الحسن «وآجلب» بوصل الألف وضم اللام من جلب ثلاثيا، والخيل يطلق على الأفراس حقيقة ولا واحد له من لفظه، وقيل إن واحده خائل لاختياله في مشيه وعلى الفرسان مجازا وهو المراد هنا، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم في بعض غزواته لأصحابه رضي الله تعالى عنهم «يا خيل الله اركبي» والرجل بكسر الجيم فعل بمعنى فاعل فهو صفة كحذر بمعنى حاذر يقال: فلان يمشي رجلا أي غير راكب. وقال صاحب اللوامح: هو بمعنى الرجال يعني أنه مفرد أريد به الجمع لأنه المناسب للمقام وما عطف عليه، وبهذا قرأ حفص وأبو عمر في رواية والحسن، وظاهر الآية يقتضي أن للعين خيلا ورجلا وبه قال جمع فقيل هم من الجن، وقيل منهم ومن الإنس وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ومجاهد وقتادة قالوا: إن له خيلا ورجلا من الجن والإنس فما كان من راكب يقاتل في معصية الله تعالى فهو من خيل إبليس وما كان من راجل يقاتل في معصية الله تعالى فهو من رجل إبليس، وقال آخرون: ليس للشيطان خيل ولا رجالة وإنما هما كناية عن الأعوان والأتباع من غير ملاحظة لكون بعضهم راكبا وبعضهم ماشيا. وجوز بعضهم أن يكون استفزازه بصوته واجلابه بخيله ورجله تمثيلا لتسلطه على من يغويه فكأن مغوارا وقع على قوم فصوت بهم صوتا يزعجهم من أماكنهم وأجلب عليهم بجنده من خيالة ورجالة حتى استأصلهم، ومراده أن يكون في الكلام استعارة تمثيلية ولا يضر فيها اعتبار مجاز أو كناية في المفردات فلا تغفل. وقرأ الجمهور «رجلك» بفتح الراء وسكون الجيم وهو اسم جمع راجل كركب وراكب لا جمع لغلبة هذا الوزن في المفردات، وقرىء «رجل» بفتح الراء وضم الجيم وهو مفرد كما في قراءة حفص وقد جاءت ألفاظ من الصفة المشبهة على فعل وفعل كسرا وضما كحدث وندس وغيرهما. وقرأ عكرمة وقتادة «رجالك» كنبالك، وقرى «رجالك» ككفارك وكلاهما جمع رجلان وراجل كما في الكشف، وفي بعض نسخ الكشاف أنه قرىء «رجّالك» بفتح الراء وتشديد الجيم على أن أصله رجالة فحذف تاؤه تخفيفا وهي نسخة ضعيفة وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ بحملهم على كسبها مما لا ينبغي وصرفها فيما لا ينبغي. وقيل بحملهم على صرفها في الزنا، وعن الضحاك بحملهم على الذبح للآلهة، وعن قتادة بحملهم على تسييب السوائب وبحر البحائر والتعميم أولى وَالْأَوْلادِ بالحث على التوصل إليهم بالأسباب المحرمة وارتكاب ما لا يرضي الله تعالى فيهم. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المشاركة في الأولاد حملهم على تسميتهم بعبد الحرث. وعبد شمس، وفي رواية حملهم على أن يرغبوهم في الأديان الباطلة ويصبغوهم بغير صبغة الإسلام. وفي أخرى حملهم على تحصيلهم بالزنا، وأخرى تزيين قتلهم إياهم خشية الإملاق أو العار، وقيل حملهم على أن يرغبوهم في القتال وحفظ الشعر المشتمل على الفحش والحرف الخسيسة الخبيثة، وعن مجاهد أن الرجل إذا لم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 106 يسم عند الجماع فالجان ينطوي على إحليله فيجامع معه وذلك هي المشاركة في الأولاد، والأولى ما ذكرنا. وَعِدْهُمْ المواعيد الباطلة كشفاعة الآلهة ونفع الأنساب الشريفة من لم يطع الله تعالى أصلا وعدم خلود أحد في النار لمنافاة ذلك عظم الرحمة وطول أمل البقاء في الدنيا ومن الوعد الكاذب وعده إياهم أنهم إذا ماتوا لا يبعثون وغير ذلك مما لا يحصى كثرة، ثم هذا من قبيل المشاركة في النفس كما في البحر. وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً اعتراض بين ما خوطب به الشيطان لبيان حال مواعيده والالتفات إلى الغيبة لتقوية معنى الاعتراض مع ما فيه من صرف الكلام عن خطابه وبيان حاله للناس ومن الإشعار بعلية شيطنته للغرور وهو تزيين الخطأ بما يوهم أنه صواب ويقال: غر فلانا إذا أصاب غرته أي غفلته ونال منه ما يريد، وأصل ذلك على ما قال الراغب من الغر وهو الأثر الظاهر من الشيء، ونصبه على أنه وصف مصدر محذوف أي وعدا غرورا على الأوجه التي في رجل عدل. وجوز أن يكون مفعولا من أجله أي وما يعدهم ويمينهم ما لا يتم ولا يقع إلا لأن يغرهم والأول أظهر. وذكر الإمام في سبب كون وعد الشيطان غرورا لا غير أنه إنما يدعو إلى أحد ثلاثة أمور قضاء الشهوة. وإمضاء الغضب وطلب الرياسة والرفعة ولا يدعو البتة إلى معرفة الله تعالى وخدمته وتلك الأشياء الثلاثة ليست لذائذ في الحقيقة بل دفع آلام وإن سلم أنها لذائذ لكنها خسيسة يشترك فيها الناقص والكامل بل الإنسان والكلب ومع ذلك وهي وشيكة الزوال ولا تحصل إلا بمتاعب كثيرة ومشاق عظيمة ويتبعها الموت والهرم واشتغال البال بالخوف من زوالها والحرص على بقائها، ولذات البطن والفرج منها لا تتم إلا بمزاولة رطوبات متعفنة مستقذرة فتزيين ذلك لا يكاد يكون إلا بما هو أكذب من دعوى اجتماع النقيضين وهو الغرور. إِنَّ عِبادِي الإضافة للتعظيم فتدل على تخصيص العباد بالمخلصين كما وقع التصريح به في الآية الأخرى ولقرينة كون الله تعالى وكيلا لهم يحميهم من شر الشيطان فإن من هو كذلك لا يكون إلا عبدا مكرما مختصا به تعالى، وكثيرا ما يقال لمن يستولي عليه حب شيء فينقاد له عبد ذلك الشيء ومنه عبد الدينار والدرهم وعبد الخميصة وعبد بطنه، ومن هنا يقال لمن يتبع الشيطان عبد الشيطان فلا حاجة إلى القول بأن في الكلام صفة محذوفة أي إن عبادي المخلصين. وزعم الجبائي أن عِبادِي عام لجميع المكلفين وليس هناك صفة محذوفة لكن ترك الاستثناء اعتمادا على التصريح به في موضع آخر وليس بشيء، وفي هذه الإضافة إيذان بعلة ثبوت الحكم في قوله سبحانه: لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ أي تسلط وقدرة على إغوائهم، وتأكيد الحكم مع اعتراف الخصم به لمزيد الاعتناء. وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا لهم يتوكلون عليه جل وعلا ويستمدون منه تعالى في الخلاص عن إغوائك فيحميهم سبحانه منه، والخطاب في هذه الجملة قيل للشيطان كما في الجملة السابقة ففي التعرض لوصف الربوبية المنبئة عن المالكية المطلقة والتصرف الكلي مع الإضافة إلى ضميره إشعار بكيفية كفايته تعالى لهم وحمايته إياهم منه أعني سلب قدرته على إغوائهم، وقيل للنبي عليه الصلاة والسلام أو للإنسان كأنه لما بين سبحانه من حال الشيطان ما بين صار ذلك لحصول الخوف في القلوب فقال سبحانه: وَكَفى بِرَبِّكَ أيها النبي أو أيها الإنسان وكيلا فهو جل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 107 جلاله يدفع كيد الشيطان ويحفظ منه، والقلب يميل إلى عدم كونه خطابا للشيطان وإن كان في السابق له. واستدل بالآية على أن المعصوم من عصمه الله تعالى وإن الإنسان لا يمكنه أن يحترز بنفسه عن مواقع الضلال وإلا لقيل وكفى بالإنسان وكيلا لنفسه، هذا وهاهنا سؤالان ذكرهما الإمام مع جوابيهما، الأول أن إبليس هل كان عالما بأن الذي تكلم معه بهذه التهديدات هو إله العالم أو لم يكن عالما فإن كان الأول فكيف يصر الوعيد الشديد بقوله سبحانه: فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً مانعا له من المعصية مع أنه سمعه من الله جل جلاله من غير واسطة، وإن كان الثاني فكيف قال: أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ والجواب لعله كان شاكا في الكل وكان يقول في كل قسم ما يخطر بباله على سبيل الظن، وأقول لا يخفى ما في هذا الجواب. والحق فيه أنه كان جازما بأن الذي تكلم معه بذلك هو إله العالم جل وعلا إلا أنه غلبت عليه شقوته التي استعدت لها ذاته فلم يصر الوعيد مانعا له ولدا حين تنصب لهلاكه الحبائل إذا جاء وقته ويعاين من العذاب ما يعاين وتضيق عليه الأرض بما رحبت فيقال له: اسجد اليوم لآدم عليه السلام لتنجو لا يسجد ويقول: لم أسجد له حيا فكيف أسجد له ميتا كما ورد في بعض الآثار ، وليس هذا بأعجب من حال الكفار الذين يعذبون يوم القيامة أشد العذاب على كفرهم ويطلبون العود ليؤمنوا حيث أخبر الله تعالى بأنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه. وربما يقال: إن اللعين مع هذا الوعيد له أمل بالنجاة، فقد حكي أن مولانا عبد الله التستري سأل الله تعالى أن يريه إبليس فرآه فسأله هل تطمع في رحمة الله تعالى؟ فقال: كيف لا أطمع فيها والله سبحانه يقول: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف: 156] وأنا شيء من الأشياء فقال التستري: ويلك إن الله تعالى قيد في آخر الآية فقال إبليس له: ويحك ما أجهلك القيد لك لا له، ولعله يزعم أن آيات الوعيد مطلقا مقيدة بالمشيئة وإن لم تذكر كما يقوله بعض الأشاعرة في آيات الوعيد للعصاة من المؤمنين. السؤال الثاني ما الحكمة في أن الله تعالى أنظره إلى يوم القيامة ومكنه من الوسوسة؟ والحكيم إذا أراد أمرا وعلم أن له مانعا يمنع من حصوله لا يسعى في تحصيل ذلك المانع، والجواب أما على مذهبنا فظاهر، وأما المعتزلة فقال الجبائي منهم: إن الله تعالى علم أن الذين يكفرون عند وسوسة إبليس يكفرون بتقدير أن لا يوجد وحينئذ لم يكن في وجوده مزيد مفسدة، وقال أبو هاشم: لا يبعد أن يحصل من وجوده مزيد مفسدة إلا أنه تعالى أبقاه تشديدا للتكليف على الخلق ليستحقوا بذلك مزيد الثواب، وأنا أقول: إن إبليس ليس مانعا مما يريده الله جل مجده وتعالى جده فما شاء الله سبحانه كان وما لم يشأ لم يكن والله تبارك وتعالى خلق الخلق طبق علمه وعلم به طبق ما هو عليه في نفسه فافهم والله تعالى أعلم. رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ مبتدأ وخبر، وقيل الموصول صفة رَبُّكُمُ وهو صفة لقوله تعالى الَّذِي فَطَرَكُمْ أو بدل منه وذلك جائز وإن تباعد ما بينهما اه، وفيه ما فيه، وأصل الإزجاء السوق حالا بعد حال والمراد به الإجزاء وكأن اختياره عليه لما أنه أدل منه على القسر وهو أوفق بالمقام وأعظم في الأنعام أي هو سبحانه وتعالى القادر الحكيم الذي يجري لنفعكم السفن في البحر بالريح اللينة وبالآلات حسبما جرت به عادته تعالى لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ تصريح بالنفع أي لتطلبوا من رزقه الذي هو فضل من قبله سبحانه أو من الربح الذي هو جل شأنه معطيه، ومن تبعيضية وتفسير الفضل بالحج أو الغزو غير مناسب، وهذا تذكير لبعض النعم التي هي دلائل التوحيد الذي هو المراد الأصلي من البعثة وتمهيد لذكر توحيدهم عند مساس الضر تكملة لما مر من قوله سبحانه: فَلا يَمْلِكُونَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 108 الآية إِنَّهُ كانَ أزلا وأبدا بِكُمْ رَحِيماً حيث هيأ لكم ما تحتاجون إليه وسهل عليكم ما يعسر من مباديه، وهذا تذليل فيه تعليل لما سبق من الإزجاء والابتغاء للفضل، وصيغة الرحيم كما في إرشاد العقل السليم للدلالة على أن المراد بالرحمة الرحمة الدنيوية والنعمة العاجلة المنقسمة إلى الجليلة والحقيرة، وهو مبني على اختصاص الرحيم بالدنيا كما هو المشهور، وعليه يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا، وقيل بعدم الاختصاص وعليه يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما. وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ خوف الغرق بعصف الريح وتقاذف الأمواج ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ أي ذهب عن خواطركم كل من تدعونه وترجون نفعه فلا تذكرونه إِلَّا إِيَّاهُ جل وعلا فإنكم تذكرونه وحده سبحانه لا تذكرون سواه ولا يخطر ببالكم غيره تعالى لكشف ما حل بكم من الضر استقلالا أو اشتراكا فالمراد بضلالهم غيبتهم عن الفكر لا عن النظر والحس لأنه أمر معلوم من قولهم: ضل عنه كذا إذا نسيه، وفي الكشف هو من ضل عنه كذا إذا ضاع ولا حاجة إلى تضمين أو من ضله فلان ذهب عنه فلم يقدر عليه ذكره الأزهري وأنشد: والسائل المبتغي كرائمها ... يعلم أني تضلني عللي أي تفارقني وتذهب عني فلا أتعلل بعلة وهذا أظهر، نعم الضلال راجع إلى الذكر لا بمعنى إضماره فإنه ركيك يقال ضل عن خاطري كذا إذا لم تذكره فإنه ضلال له لا أنه ضلال ذكره ولا تقول ضل عن خاطري ذكره وكذلك ضلني الأمر اه، والدعاء في هذا على ظاهره والاستثناء متصل بناء على أن ما عبارة عن المدعوين مطلقا وأنهم كانوا يدعون الله تعالى وغيره في الحوادث، وإن كانت ما عبارة عن آلهتهم الباطلة فقط وإنهم كانوا في حالة السراء يدعونها وحدها كما يدل عليه ظاهر ما بعد فالاستثناء منقطع، وفسر الدعاء على هذا بدعاء العبادة واللجأ. وقال أبو حيان: الظاهر الانقطاع لأنه تعالى لم يندرج في من تدعون إذ المعنى ضلت آلهتهم أي معبوداتهم وهم لا يعبدون الله تعالى. وتعقب بأن مقتضى كونهم مشركين أنهم يعبدونه سبحانه أيضا لكن على طريق الإشراك بل قولهم ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: 3] كما قص سبحانه عنهم يقتضي أنه جل مجده المعبود الحقيقي عندهم، وقد يقال: إن الشارع أسقط مثل هذه العبادة عن درجة الاعتبار فهم غير عابدين الله جل وعلا شرعا بل قيل إنهم غير عابدين لغة أيضا لأن العبادة لغة غاية الخضوع والتذلل ولا يتحقق ذلك مع الشركة ولو على الوجه الذي زعموه فتأمل. وجوز غير واحد أن يكون المعنى ضل من تدعونه عن إغاثتكم إلا إياه تعالى، والضلال فيه إما بمعنى الغيبة أو بمعنى عدم الاهتداء منه كأنه قيل ضل عن محجة الصواب في إنقاذكم ولم يقدر على ذلك، وأمر الاستثناء من الاتصال والانقطاع ومبنى كل على حاله، والزمخشري جوز أن يكون المعنى ضل من تدعون من الآلهة عن إغاثتكم ولكن الله تعالى هو الذي ترجونه وجعل الاستثناء عليه منقطعا فقيل إن ذلك لتخصيصه المدعوين بالآلهة. وفي الكشف لعل الوجه فيه أنه تعالى ما كانوا يدعونه أي دعاء العبادة واللجأ إلا في تلك الحالة وأما في حالة السراء فيخصون آلهتهم بالدعاء، والتحقيق أن الضلال بهذا المعنى لم يتناول الحق سبحانه لأن معناه ضل المدعوون وغابوا عن إغاثتهم ولا يراد غابوا وحضر جل وعلا بل المراد ولكن رجوا أن يغيثهم ولا يخذلهم فعل المدعوين على حسبانهم وهذا هو الوجه إن شاء الله تعالى اه. ومبنى التحقيق لا يخفى على المتدرب في علم النحو، هذا ومن اللطائف أن بعض الناس قال لبعض الأئمة: أثبت لي وجود الله تعالى ولا تذكر لي الجوهر والعرض فقال له: هل ركبت البحر؟ قال: نعم قال: فهل عصفت الريح؟ قال: نعم قال: فهل أشرفت بك السفينة على الغرق؟ قال: نعم قال: فهل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 109 يئست من نفع من في السفينة ونحوهم من المخلوقين لك وإنجائهم مما أنت فيه إياك؟ قال نعم: فهل بقي قلبك متعلقا بشيء غير أولئك؟ قال: نعم قال: ذلك هو الله عز وجل فاستحس ذلك. فَلَمَّا نَجَّاكُمْ من الضر وأوصلكم إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ عن ذكره تعالى بعد أن كنتم غير ذاكرين إلا إياه سبحانه أو أعرضتم عن توحيده جل وعلا أو عن شكره عز وجل بتوحيده وطاعته سبحانه أو توغلتم في التوسع في كفران النعمة على أنه من العرض مقابل الطول وجعل كناية عن ذلك كما في قول ذي الرمة: عطاء فتى تمكن في المعالي ... فأعرض في المكارم واستطالا وكأنه أريد أعرضتم واستطلتم في الكفران إلا أنه استغنى بذكر العرض عن ذكر الطول للزومه له. وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً كالتعليل للإعراض وهو بيان لحكم الجنس ويعلم منه حكم أولئك المخاطبين وفيه لطافة حيث أعرض سبحانه عن خطابهم بخصوصهم وذكر أن جنس الإنسان مجبول على الكفران فلما أعرضوا أعرض الله سبحانه عنهم. أَفَأَمِنْتُمْ الهمزة للإنكار على معنى أنه لا ينبغي الأمن، والفاء للعطف على محذوف متوسط بينها وبين الهمزة أي أنجوتم فأمنتم وهو مذهب بعض النحويين، واختار بعضهم أن الهمزة مقدمة من تأخير لأصالتها في الصدارة والعطف على ما قبله، وجملة كانَ الْإِنْسانُ إلخ معترضة بين المتعاطفين ولا حذف في مثل ذلك وهو مذهب الأكثرين لكن لا يظهر تسبب الإنكار للأمن على ما قبل على ما يقتضيه هذا المذهب بل الظاهر ترتبه على النجاة فقط ولا مدخل للإعراض في تسبب الإنكار، والحق عندي في أمثال ذلك ما فيه استقامة المعنى من غير تكلف ولا يتعين التزام أحد المذهبين وإن أدى إلى التكلف فإنه تعصب محض، والخطاب لمن تقدم أفأمنتم أيها المعرضون عند النجاة أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ الذي هو مأمنكم أي أن يغيبه الله تعالى ويذهب به في أعماق الأرض مصاحبا بكم أي وأنتم عليه على أن الباء للمصاحبة والجار والمجرور في موضع الحال، وجوز أن تكون الباء للسببية والجار والمجرور متعلق بما عنده أي أن يغيبه سبحانه بسببكم وتعقب بأنه لا يلزم من قلبه بسببهم أن يكونوا مهلكين مخسوفا بهم. وأجيب بأنه حيث كان المراد من جانب البر جانبه الذي هم فيه استلزم خسفه هلاكهم ولولا هذا لم يكن في التوعد به فائدة، ونصب جانِبَ في الوجهين على أنه مفعول به ليخسف. وفي الدر المصون أنه منصوب على الظرفية وحينئذ يجوز كون الباء للتعدية على معنى أفأمنتم أن يغيبكم في ذلك. وفي القاموس خسف الله تعالى بفلان الأرض غيبه فيها، والظاهر أنه بيان للمعنى اللغوي للفظ، وفي ذكر الجانب تنبيه على أنهم عند ما وصلوا الساحل أعرضوا أو ليكون المعنى أن الجوانب والجهات متساوية بالنسبة إلى قدرته سبحانه وقهره وسلطانه فله في كل جانب برا كان أو بحرا سبب مرصد من أسباب الهلكة فليس جانب البحر وحده مختصا بذلك بل إن كان الغرق في جانب البحر ففي جانب البر ما هو مثله وهو الخسف لأنه تغييب تحت التراب كما أن الغرق تغييب تحت الماء فعلى العاقل أن يخاف من الله تعالى في جميع الجوانب وحيث كان. والأول على تقدير أن يراد بجانب البر طرفه مما يلي البحر وهو الساحل، وهذا على احتمال أن يراد به ما يشتمل جميع جوانبه. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «نخسف» بنون العظمة وكذا في الأربعة التي بعده. أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ من فوقكم حاصِباً أخرج ابن المنذر عن ابن عباس أنه قال: هو مطر الحجارة، أي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 110 مطرا يحصبكم أي يرميكم بالحصباء وهو صغار الحجارة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة أنه فسر الحاصب بالحجارة نفسها ولعله حينئذ صيغة نسبة أي ذا حصب ويراد منه الرمي، وقال الفراء: الحاصب الريح التي ترمي بالحصباء، وقال الزجاج: هو التراب الذي فيه الحصباء والصيغة عليه صيغة نسبة أيضا، وجاء بمعنى ما تناثر من دقاق الثلج والبرد، ومنه قول الفرزدق: مستقبلين شمال الشام تضربهم ... بحاصب كنديف القطن منثور وبمعنى السحاب الذي يرمي بهما، واختار الزمخشري ومن تبعه تفسير الفراء والظاهر أن الكلام عليه على حقيقته فالمعنى أو إن لم يصبكم بالهلاك من تحتكم بالخسف أصابكم به من فوقكم بريح يرسلها عليكم فيها الحصباء يرجمكم بها فيكون أشد عليكم من الغرق في البحر، ويقال نحو هذا على سائر تفاسير الحاصب، وقال الخفاجي في وصف الريح بالرمي بالحصباء: إنه عبارة عن شدتها، وذكرها إشارة إلى أنهم خافوا إهلاك الريح في البحر فقيل إن شاء أهلككم بالريح في البر أيضا، ولا أدري ما المانع من إرادة الظاهر والشدة تلزم الرمي المذكور عادة والإشارة هي الإشارة ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا تكلون إليه أموركم فيحفظكم من ذلك أو يصرفه عنكم غيره جل وعلا فإنه لأراد لأمره الغالب جل جلاله أَمْ أَمِنْتُمْ أي بل أأمنتم أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ أي في البحر الذي نجاكم منه فأعرضتم بركوب الفلك لا في الفلك لأنها مؤنثة وأوثرت كلمة في على كلمة إلى المنبئة عن مجرد الانتهاء للدلالة على استقرارهم فيه تارَةً أُخْرى أي مرة غير المرة الأولى، وهو منصوب على الظرفية ويجمع على تارات وتير كما في قوله: يقوم تارات ويمشي تيرا وربما حذفوا منه الهاء كقوله: بالويل تارا والثبور تارا وإسناد الإعادة إليه تعالى مع أن العود باختيارهم ومما ينسب إليهم وإن كان مخلوقا له سبحانه كسائر أفعالهم باعتبار خلق الدواعي فيهم الملجئة إلى ذلك، وفيه إيماء إلى كمال شدة هول ما لا قوة في التارة الأولى بحيث لولا الإعادة ما عادوا فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ وأنتم في البحر قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ وهي الريح الشديدة التي تقصف ما تمر به من الشجر ونحوه أو التي لها قصيف وهو الصوت الشديد كأنها تتقصف أي تتكسر.. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: القاصف من الريح الريح التي تغرق، وقيل: الريح المهلكة في البر حاصب والريح المهلكة في البحر قاصف والعاصف كالقاصف كما روي عن عبد الله بن عمرو، وفي رواية عن ابن عباس تفسير القاصف بالعاصف، وقرأ أبو جعفر «من الرياح» بالجمع فَيُغْرِقَكُمْ الله سبحانه بواسطة ما ينال فلككم من القاصف، وقرأ أبو جعفر «فتغرقكم» بالتاء ثالثة الحروف على أن الفعل مسند إلى الريح، والحسن، وأبو رجاء «فيغرّقكم» بالياء آخر الحروف وفتح الغين وشد الراء، وفي رواية عن أبي جعفر كذلك إلا أنه بالتاء لا الياء، وقرأ حميد بالنون وإسكان الغين وإدغام القاف في الكاف ورويت عن أبي عمرو وابن محيصن بِما كَفَرْتُمْ أي بسبب كفركم السابق وهو إعراضهم عند الإنجاء في المرة الأولى، وقيل: بسبب كفركم الذي هو دأبكم دائما ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً أي نصيرا كما روي عن ابن عباس أو ثائرا يطلبنا بما فعلنا انتصارا منا أو دركا للنار من جهتنا فهو كقوله تعالى: فَسَوَّاها وَلا يَخافُ عُقْباها [الشمس: 14، 15] كما روي عن مجاهد، وضمير بِهِ قيل للإرسال، وقيل: للإغراق، وقيل: لهما باعتبار ما وقع ونحوه كما أشير إليه وكأنه سبحانه لما جعل الغرق بين الإعادة إلى البحر انتقاما في مقابلة الكفر عقبه تعالى بنفي وجدان التبييع فكأنه قيل ننتقم من غير أن يقوم لنصركم فهو وعيد على وعيد وجعل ما قبل من شق العذاب كمس الضر في البحر عقبه بنفي وجدان الوكيل فكأنه قيل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 111 لا تجدون من تتكلون عليه في دفعه غيره تعالى لقوله سبحانه: ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ وهذا اختيار صاحب الكشف فلا تغفل وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ أي جعلناهم قاطبة برهم وفاجرهم ذوي كرم أي شرف ومحاسن جمة لا يحيط بها نطاق الحصر، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كرمهم سبحانه بالعقل، وفي رواية بتناولهم الطعام بأيديهم لا بأفواههم كسائر الحيوانات. وعن الضحاك بالنطق، وعن عطاء بتعديل القامة وامتدادها، وعن زيد بن أسلم بالمطاعم واللذات، وعن يمان بحسن الصورة، وعن ابن جرير بالتسلط على غيرهم من الخلق وتسخيره لهم، وعن محمد بن كعب بجعل محمد صلّى الله عليه وسلّم منهم. وقيل: بخلق الله تعالى أباهم آدم بيديه، وقيل: بتدبير المعاش والمعاد، وقيل: بالخط، وقيل: باللحية للرجل والذؤابة للمرأة، وقيل وقيل والكل في الحقيقة على سبيل التمثيل ومن ادعى الحصر في واحد كابن عطية حيث قال: إنما التكريم بالعقل لا غير فقد ادعى غلطا ورام شططا وخالف صريح العقل وصحيح النقل ولذا استدل الإمام الشافعي بالآية على عدم نجاسة الآدمي بالموت وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ على أكباد رطبة وأعواد يابسة من الدواب والسفن فهو من حملته على كذا إذا أعطيته ما يركبه ويحمله فالمحمول عليه مقدر بقرينة المقام. وقيل: المراد من حملهم في البر والبحر جعلهم قارين فيهما بأن لم يخسف بهم الأرض ولم يغرقهم بالماء، والأول انسب بالتكريم إذ لا يثبت لشيء من الحيوانات سواهم بخلاف الثاني وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي فنون النعم وضروب المستلذات مما يحصل بصنعهم وبغير صنعهم من المأكولات والملبوسات والمفروشات والمقتنيات وغير ذلك وَفَضَّلْناهُمْ قيل: أي بالتكريم المذكور عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا عظيما، والمراد أن ذلك مخصوص بهم بالنسبة إلى الكثير فلم يكرم الكثير كما كرموا، وبحث الإمام في هذا المقام بأنه تعالى قال أولا: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وقال سبحانه هنا وَفَضَّلْناهُمْ فلا بد من فرق بين التكريم والتفضيل لئلا يلزم التكرار. والأقرب في ذلك أن يقال: إنه تعالى فضل الإنسان على سائر الحيوانات بأمور خلقية طبيعية ذاتية مثل العقل والنطق والخط والصورة الحسنة والقامة المديدة ثم إنه عز وجل عرضه بواسطة العقل والفهم لاكتساب العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة فالأول هو التكريم والثاني هو التفضيل فكأنه قيل فضلناهم بالتعريض لاكتساب ما فيه النجاة والزلفى بواسطة ما كرمناهم به من مبادئ ذلك فعليهم أن يشكروا ويصرفوا ما خلق لهم لما خلق له فيوحدوا الله تعالى ولا يشركوا به شيئا ويرفضوا ما هم عليه من عبادة غيره عز وجل، ويقال نحو هذا عى ما سبق أيضا بقليل تغيير، وقال الطيبي: قد كرر في الآية ما ينبىء عن غاية المدح من ذكر الكرامة والتفضيل وتسخير الأشياء على سبيل الترقي كأنه قيل: ولقد كرمنا بني آدم بكرامة أبيهم عليه السلام ثم سخرنا لهم الأشياء ورزقناهم من الطيبات ثم فضلناهم تفضيلا أي تفضيل ولذا عقب بها قوله سبحانه: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا إلخ وهو لبيان كرامة أبيهم وما توسط بينهما من الآيات كالاستطراد والاعتراض إلى آخر ما قال، ويعلم منه دفع التكرار وإن لم يسقه لذلك الغرض، وفيه تخصيص التكريم، وكذا فيما قيل إن التكريم بالنعم التي يصح بها التكليف والتفضيل بالتكليف الذي عرضهم به للمنازلة الرفيعة، والمراد بالكثير من عدا الملائكة عليهم السلام عند الكثير ومنهم الزمخشري وزعم أن الآية صريحة في تفضيل الملك على البشر وشنع على أهل السنة تشنيعا أقذع فيه. والحق أنها لا تصلح للاحتجاج على التفضيل المتنازع فيه، ففي الكشف أن الظاهر من سياق الآية أنه حث للإنسان على الشكر وعلى أن لا يشرك به تعالى حيث ذكر ما في البر والبحر من حسن كلاءته سبحانه له وضمن فيه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 112 أنه جلا وعلا هداهم إلى الفلك وصنعته وما يترتب عليه من الفوائد في قوله سبحانه: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ الآيات فقال عز وجل وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ أي هذا النوع من بين سائر الأنواع باصطناعات خصصناهم بها فذكر تعالى منها حملهم في البر والبحر ورزقهم من الطيبات وتفضيلهم على كثير من المخلوقات وهذا التفضيل لا يراد منه عظم الدرجة وزيادة القربة عند الله تعالى وهو المتنازع فيه لأن الحكم للنوع من حيث هو وذكر الله تعالى لذلك موجبات تعم الصالح والطالح فسواء دخل في هذا الكثير الملائكة أو لم يدخل لم يدل على الأفضلية بالمعنى المذكور فلا يصلح لاحتجاج إحدى الطائفتين اه. ثم إن على فرض أن التفضيل بالمعنى المتنازع فيه لا تدل الآية على أن الملك أفضل من البشر إلا بطريق المفهوم وفي حجيته خلاف، وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنه لا يقول به على أنه يدل على أنهم فضلوا على الكثير ولم يفضلوا على مقابله وهو يحتمل المساواة وتفضيل المقابل فليس نصا في مذهب الزمخشري. وجعل الطيبي من بيانية كما في قولك بذلت له العريض من جاهي أي فضلناهم على الكثيرين الذين خلقناهم من ذوي العقول كما هو الظاهر من (من) وهم منحصرون في الملك والجن والبشر فحيث خرج البشر لأن الشيء لا يفضل على نفسه بقي الملك والجن فيكون المراد بيان تفضيل البشر عليهم جميعا وهو الذي يقتضيه مقام المدح فإن الآية مسوقة له وإذا جعلت للتبعيض كان مِمَّنْ خَلَقْنا بدلا أي فضلناهم على بعض المخلوقين. وذكر البعض في هذا المقام يدل على تعظيم المفضل عليه كما قرر في قوله تعالى وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ [البقرة: 253] وأي مدح لبني آدم وإثبات للفضل والكرامة بالجملة القسمية إذا جعلوا مفضلين على الجن والشياطين على أن صفة الكثرة إذا جعلت مخصصة لإخراج البعض كانت الملائكة أولى من الجن والشياطين لأنهم هم الموصوفون بالكثرة كما تدل عليه الأخبار الكثيرة كخبر أطيط السماء وخبر نزول قطرات المطر وخبر ما يدخل البيت المعمور في كل يوم من الملائكة إلى غير ذلك، وإليه ينظر قول صاحب التقريب إنه يحتمل أن يراد بكثير ممن خلقنا الملائكة إذ هم كثير من العقلاء المخلوقين اه. وتعقب بأن ما ذكره من حمل من خَلَقْنا على تعميم ذوي العقول مقبول فإن تفضيلهم على غير ذوي العقول حينئذ آت من طريق مفهوم الموافقة فلا حاجة إلى ارتكاب خلاف الظاهر واعتبار تغليبهم ليعمهم وغيرهم لكن حمل من على البيان غير مقبول فإنه بعيد جدا لأن قيد الكثرة يضيع عليه حمل من على التعميم التغليبي أو الوضعي ولأن استعماله في التبعيض شائع أينما وقع في التنزيل واستعمالات الفصحاء وهو أكثر تعسفا من حمله على الغاية في قوله تعالى (1) فامسحوا برؤوسكم وأرجلكم منه على ما ذكره الزمخشري فيه وأنه إذا قوبل بشيء آخر دل على القلة في المقابل كما في قوله تعالى فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ [الحديد: 26] فإنه صرح بأنه يدل على أن الغلبة للفساق للمقابلة أما ورد ابتداء (2) فربما كان الأكثر خلاف ذلك كما في قوله تعالى: فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ [النمل: 15] فقوله إن صفة الكثرة إذا جعلت مخصصة إلخ كلام لم يصدر عن ثبت، ولهذه النكتة قال صاحب التقريب: يحتمل دلالة على أنه مرجوح. هذا ثم إن مسألة التفضيل مختلف فيها بين أهل السنة، فمنهم من ذهب إلى تفضيل الملائكة وهو مذهب ابن   (1) قوله فامسحوا برؤوسكم وأرجلكم منه كذا في نسخة المؤلف والتلاوة فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه. (2) قوله وأما ورد ابتداء كذا في نسخة المؤلف ولعله وأما إذا ورد إلخ فتأمل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 113 عباس رضي الله تعالى عنهما واختيار الزجاج على ما رواه الواحدي في البسيط، ومنهم من فصل فقال: إن الرسل من البشر أفضل مطلقا ثم الرسل من الملائكة على من سواهم من البشر والملائكة ثم عموم الملائكة على عموم البشر وهذا ما عليه أصحاب الإمام أبي حنيفة عليه الرحمة وكثير من الشافعية والأشعرية، ومنهم من عمم تفضيل الكمل من نوع الإنسان نبيا كان أو وليا، ومنهم من فضل الكروبيين من الملائكة مطلقا ثم الرسل من البشر ثم الكمل منهم ثم عموم الملائكة على عموم البشر. وهذا ما عليه الإمام الرازي وبه يشعر كلام الغزالي في مواضع عديدة في كتبه، ومن هذا يعلم أن إطلاق القول بأن أهل السنة يفضلون البشر على الملك ليس على ما ينبغي، وهذه المسألة ومسألة تفضيل الأئمة ليستا مما يبدع الذاهب إلى أحد طرفيهما على ما في الكشف إذ لا يرجع إلى أصل في الاعتقاد ولا يستند إلى قطعي بعد أن يسلم من الطعن وما يخل بتعظيم في المسألتين لكن المشهور في مسألة تفضيل الأئمة أن القول بخلاف ما استقر عليه رأي أهل السنة ابتداع ومن أنصف قال بما في الكشف فهذر الزمخشري على من خالفه محض جهالة إذا لم يكن بتلك الغاية فكيف وهو قد بلغ فيه من السفاهة غايتها ومن البذاذة نهايتها وسيرى جزاء ذلك. يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ شروع في بيان تفاوت أحوال بني آدم في الآخرة بعد بيان حالهم في الدنيا، ويَوْمَ مفعول به لفعل محذوف أي اذكر يوم ندعو إلخ. وجوز ابن عطية وغيره أن يكون ظرفا لفعل يدل عليه لا يُظْلَمُونَ ولم يجعل ظرفا له بناء على أن الفاء لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ولو ظرفا، وجوز أيضا أن يكون مبتدأ وهو مبني لإضافته إلى غير متمكن والخبر جملة فَمَنْ أُوتِيَ إلخ ويقدر للربط فيها فيه وفيه أن المنقسم إلى متمكن وغير متمكن هو الاسم لا الفعل وما في حيزه هنا فعل مضارع على أن بناء أسماء الظروف المضافة إلى جملة هو أحد ركنيها بناء على مذهب الكوفيين والبصريين لا يجوزون ذلك ومع هذا هو تخريج متكلف. وجوز أيضا كونه ظرفا لفضلناهم قال: وتفضيل البشر على سائر الحيوانات يوم القيامة بيّن وبه قال بعض النحاة إلا أنه قال: فضلناهم بالثواب، وفيه أنه أي تفضيل للبشر ذلك اليوم والكفار منهم أخس من كل شيء إلا أن يقال: يكفي في تفضيل الجنس تفضيل بعض أفراده ألا ترى صحة الرجال أفضل من النساء مع أن من النساء من هي أفضل من بعض الرجال بمراتب، وأيضا إذا أريد التفضيل بالثواب لا يصح إخراج الملائكة لأن جنس البشر يثابون والملائكة عليهم السلام لا يثابون كما هو مقرر في محله، ثم إنهم يشاركهم في الثواب الجن لأن مؤمنيهم يثابون كما يثاب البشر عند بعض، وقيل إن ثوابهم دون ثوابهم لأنهم لا يرون الله تعالى في الجنة عند من قال: إن الله تعالى يرى فيها فالبشر مفضلون عليهم في الثواب من هذه الجهة، وقيل ظرف يَقْرَؤُنَ أو ما دل عليه، وفيه أنهم لا يقرؤون كتابهم وقت الدعوة. وأجيب بأن المراد بيوم يدعون وقت طويل وهو اليوم الآخر الذي يكون فيه ما يكون ويبقى في جعله ظرفا للمذكور حديث الفاء. وقال الفراء: هو ظرف لنعيدكم محذوفا، وقيل ظرف ليستجيبون، وقيل هو بدل من يَوْمَ يَدْعُوكُمْ وقيل العامل فيه ما دل عليه قوله سبحانه مَتى هُوَ [الإسراء: 51] وهي أقوال في غاية الضعف، وأقرب الأقوال وأقواها ما ذكرناه أولا. والإمام المقتدى به والمتبع عاقلا كان أو غيره، والجار والمجرور متعلق بندعو أي ندعو كل أناس من بني آدم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 114 الذين فعلنا بهم في الدنيا ما فعلنا من التكريم وما عطف عليه بمن ائتموا به من نبي أو مقدم في الدين أو كتاب أو دين فيقال: يا أتباع فلان يا أهل دين كذا أو كتاب كذا. وأخرج ابن مردويه عن علي كرّم الله تعالى وجهه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الآية: يدعى كل قوم بإمام زمانهم كتاب ربهم وسنة نبيهم ، وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر. وغيرهما عن ابن عباس أنه قال: إمام هدى وإمام ضلالة. وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: بإمامهم بكتاب أعمالهم فيقال: يا أصحاب كتاب الخير يا أصحاب كتاب الشر وروي ذلك عنه أبي العالية والربيع، والحسن ، وقرىء «بكتابهم» ولعل وجه كون ذلك إمامهم أنهم متبعون لما يحكم به من جنة أو نار، وقال الضحاك وابن زيد: هو كتابهم الذي نزل عليهم. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والخطيب في تاريخه عن أنس أنه قال: هو نبيهم الذي بعث إليهم. واختار ابن عطية كغيره عموم الإمام لما ذكر في الآثار، وقيل: المراد القوى الحاملة لهم على عقائدهم وأفعالهم كالقوة النظرية والعملية والقوة الغضبية والشهوية سواء كانت الشهوة شهوة النقود أو الضياع أو الجاه والرياسة ولاتباعهم لها دعيت إماما، وهو مع كونه غير مأثور بعيد جدا فلا يقتدى بقائله وإن كان إماما. وفي الكشاف أن من بدع التفاسير أن الإمام جمع أم كخف وخفاف وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم وأن الحكمة في الدعاء بهن دون الآباء رعاية حق عيسى عليه السلام وشرف الحسن والحسين ولا يفضح أولاد الزنا، وليت شعري أيهما أبدع أصحة تفسيره أم بهاء حكمته انتهى، وهو مروي عن محمد بن كعب. ووجه عدم قبوله على ما في الكشف، أما أولا فلأن إمام جمع أم غير شائع وإنما المعروف الأمهات. وأما ثانيا فلأن رعاية حق عيسى عليه السلام في امتيازه بالدعاء بالأم فإن خلقه من غير أب كرامة له لا غض منه ليجبر بأن الناس أسوته في انتسابهم إلى الأمهات، وإظهار شرف الحسنين بدون ذلك أتم فإن أباهما خير من أمهما مع أن أهل البيت كحلقة مفرغة، وأما افتضاح أولاد الزنا فلا فضيحة إلا للامهات وهي حاصلة دعي غيرهم بالأمهات أو بالآباء ولا ذنب لهم في ذلك حتى يترتب عليه الافتضاح انتهى، وما ذكر من عدم شيوع الجمع المذكور بين، وأما الطعن في الحكمة فقد تعقب فإن حاصلها إنه لو دعي جميع الناس بآبائهم ودعي عيسى عليه السلام بأمه لربما أشعر بنقص فروعي تعظيمه عليه السلام ودعي الجميع بالأمهات وكذا روعي تعظيم الحسنين رضي الله تعالى عنهما لما أن في ذلك بيان نسبهما من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولو نسبا إلى أبيهما كرّم الله تعالى وجهه لم يفهم هذا وإن كان هو هو رضي الله تعالى عنه، وفي ذلك أيضا ستر على الخلق حتى لا يفتضح أولاد الزنا فإنه لو دعي الناس بآبائهم ودعوا هم بأمهاتهم علم أنهم لا نسبة لهم إلى آباء يدعون بهم وفيه تشهير لهم ولو دعوا بآباء لم يعرفوا بهم في الدنيا وإن لم ينسبوا إليهم شرعا كان كذلك، وعلى هذا يسقط ما في الكشف، وعندي أن القائل بذلك لا يكاد يقول به من غير أن يتمسك بخبر لأنه خلاف ما ينساق إلى الأذهان على اختلاف مراتبها ولا تكاد تسلم حكمته عن وهن ولا يصلح العطار ما أفسد الدهر. ولعل الخبر إن كان ليس بالصحيح ويعارضه ما قدمناه غير بعيد من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم» والله تعالى أعلم، وما ذكر من تعلق الجار بما عنده هو الظاهر الذي ذهب إليه الجمهور، وجوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا أي مصحوبين بإمامهم، ثم إن الداعي إما الله عز وجل وإما الملك وهو الذي تشعر به الآثار فإسناد الفعل إليه تعالى مجاز. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 115 وقرأ مجاهد «يدعو» بالياء آخر الحروف أي يدعو الله تعالى أو الملك، والحسن في رواية «يدعى» بالبناء للمفعول ورفع كُلَّ على النيابة عن الفاعل، وفي رواية أخرى «يدعوا» بضم الياء وفتح العين بعدها واو ورفع كُلَّ وخرجت على وجهين فإن الظاهر يدعون بإثبات النون التي هي علامة الرفع الأول إن الواو ليست ضمير جمع ولا علامته وإنما هي حرف من نفس الكلمة وكانت ألفا والأصل يدعى كما في القراءة الأخرى وقلبت الألف واوا على لغة من يقول في أفعى وهي الحية أفعو، وهذه اللغة مخصوصة بالوقف على المشهور فيكون قد أجري هنا الوصل مجرى الوقف. ونقل عن سيبويه أن قلب الألف في الآخر واوا لغة مطلقا، والثاني أن الواو ضمير أو علامة كما في يتعاقبون فيكم ملائكة والنون محذوفة كما في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تؤمنوا حتى تحابوا وكما تكونوا يولّى عليكم» في قول، وكذا في قول الشاعر: أبيت أسرى وتبيتي تدلكي ... وجهك بالعنبر والمسك الذكي وكأنها لكونها علامة إعراب عوملت معاملة حركته في إظهارها تارة وتقديرها أخرى، ولا فرق في كونها علامة إعراب بين أن تكون الواو ضميرا وأن تكون علامة جمع على الصحيح، والظاهر أن حذفها في مثل ما ذكر شاذ لا ضرورة وإلا فلا يصح هذا التخريج في الآية، وفي توجيه رفع كُلَّ على هذه القراءة الأقوال في توجيه الرفع في أمثاله وهي مشهورة في كتب النحو فَمَنْ أُوتِيَ يومئذ من أولئك المدعوين كِتابَهُ صحيفة أعمالهم والله سبحانه أعلم بحقيقتها بِيَمِينِهِ إبانة لخطر الكتاب المؤتى وتشريفا لصاحبه وتبشيرا له من أول الأمر بما في مطاويه فَأُولئِكَ إشارة إلى من باعتبار معناه وكأنه أشير بذلك إلى أنهم حزب مجتمعون على شأن جليل، وقيل فيه إشعار بأن قراءتهم لكتبهم على وجه الاجتماع لا على وجه الانفراد كما في حال الإيتاء، وأكثر الأخبار ظاهرة في أن حال القراءة كحال الإيتاء، نعم جاء من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنه يؤتى العبد كتابه بيمينه فيقرأ سيئاته ويقرأ الناس حسناته ثم يحول الصحيفة فيعول الله تعالى حسناته فيقرؤها الناس فيقولون ما كان لهذا العبد من سيئة. ويحتمل أن يكون كل من يؤتى كتابه بيمينه بعد أن يقرأه منفردا يأتي أصحابه ويقول هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ [الحاقة: 19] فيجتمعون عليه ويقرؤونه ويقرؤه هو أيضا معهم تلذذا به لكن لم نجد في ذلك أثرا ومع هذا لا يجدي نفعا فيما أراد القائل، وفي إلحاق اسم الإشارة علامة البعد إشارة إلى رفعة درجات المشار إليهم أي أولئك المختصون بتلك الكرامة التي يشعر بها إيتاء الكتاب باليمين يَقْرَؤُنَ ولو لم يكونوا قارئين في الدنيا كِتابَهُمْ الذي أوتوه باليمين ليذكروا أعمالهم ويقفوا على تفاصيلها فيحاسبوا عليها. وقيل يقرؤونه تبجحا بما سطر فيه من الحسنات المستتبعة لفنون الكرامات، والإظهار في مقام الإضمار لمزيد الاعتناء وَلا يُظْلَمُونَ أي لا ينقصون من أجور أعمالهم المرتسمة في كتبهم بل يؤتونها مضاعفة فَتِيلًا أي قدر فتيل وهو القشر الذي في شق النواة سمي بذلك لأنه على هيئة الشيء المفتول، وقيل هو ما تفتله بين أصابعك من خيط أو وسخ ويضرب به المثل في الشيء الحقير، ثم إن الذي يسرع إلى الذهن أن فاعل الإيتاء الملائكة عليهم السلام يعطون السعيد بعد أن يدعى كتابه بيمينه فيقرؤه فيحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا. لكن أخرج العقيلي عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الكتب كلها تحت العرش فإذا كان يوم القيامة يبعث الله تعالى ريحا فتطيرها إلى الأيمان والشمائل وأول خط فيها اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء: 14] وهو ظاهر في أن فاعل الإيتاء ليس الملك إلا أن الخبر يحتاج إلى تنقير فإني لست من صحته على يقين. نعم جاء في حديث أخرجه الإمام أحمد عن عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: «قلت يا رسول الله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 116 هل يذكر الحبيب حبيبه يوم القيامة؟ قال: أما عند ثلاث فلا إلى أن قال وعند تطاير الكتب» وهو مؤيد بظاهره الخبر السابق والله تعالى أعلم. وجاء في بعض الآثار أن أول من يؤتى كتابه بيمينه من هذه الأمة أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد وأول من يؤتى كتابه بشماله أخوه الأسود سود الله تعالى وجهه بعد أن يمد يمينه ليأخذه بها فيخلعها ملك ، وسبب ذلك مذكور في السير وَمَنْ كانَ من المدعوين المذكورين فِي هذِهِ الدنيا التي فعل بهم فيها من التكريم والتفضيل ما فعل أَعْمى لا يهتدي إلى طريق نجاته من النظر إلى ما أولاه مولاه جل علاوه والقيام بحقوقه وشكره سبحانه بما ينبغي له عز شأنه من الإيمان والعمل فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ التي عبر عنها- بيوم ندعو أَعْمى لا يهتدي أيضا إلى ما ينجيه ولا يظفر بما يجديه لأن العمى الأول موجب للثاني وهو في الموضعين مستعار من آفة البصر. وجوز أن يكون أَعْمى الثاني أفعل تفضيل من عمى البصيرة وهو من العيوب الباطنة التي يجوز أن يصاغ منها أفعل التفضيل كالأحمق والأبله، وبنى على ذلك إمالة أبي عمرو الأول وتفخيمه الثاني وبيان أن الألف في الأول آخر الكلمة كما ترى وتحسن الإمالة في الأواخر وهي في الثاني على تقديره كونه أفعل تفضيل كأنها في وسط الكلمة لأن أفعل المذكور غير معرف باللام ولا مضاف لا يستعمل بدون من الجارة للمفضل عليه ملفوظة أو مقدرة وهو معها في حكم الكلمة الواحدة ولا تحسن الإمالة فيها ولا تكثر كما في المتطرفة. وقد صرح بذلك أبو علي في الحجة فلا يرد إمالة «أدنى من ذلك» و «الكافرين» وأن حمزة والكسائي وأبا بكر يميلون الأعمى في الموضعين ولا حاجة إلى أن يقال: إنهم لا يرونه أفعل تفضيل أو أن الإمالة فيما يرونه كذلك للمشاكلة. وقال بعض المحققين: إنه لما أريد افتراق معنى الأعمى في الموضعين افترق اللفظان إمالة وتفخيما، وفخم الثاني لأن ما يدل على زيادة المعنى أولى بالتفخيم مع عدم حسن الإمالة فيه حسنها في الأول، ولا يظن بأبي عليّ أنه يقول بامتناع الإمالة وإنما يقول بأولوية التفخيم. وقال بعضهم: إن كان العمى فيما يكون للبصر وما يكون للبصيرة حقيقة فلا إشكال، وإن كان حقيقة في الأول وتجوز به عن الثاني ففيه إشكال إلا أن يقال: إنه ألحق بما وضع لذلك وقد منعه آخرون لأن العلة وهي الإلباس بالوصف موجودة فيه فتدبر، وقوى هذا التأويل بعطف قوله تعالى: وَأَضَلُّ سَبِيلًا منه في الدنيا لزوال الاستعداد وعدم إمكان تدارك ما فات، وهذا بعينه هو الذي أوتي كتابه بشماله بدلالة حال ما سبق من الفريق المقابل له، ولعل العدول إلى هذا العنوان للإيذان بالعلة الموجبة كما في قوله تعالى: وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ [الواقعة: 92] بعد قوله سبحانه: وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ [الواقعة: 90] وللرمز إلى علة حال الفريق الأول وفي ذلك ما هو من قبيل الاحتباك حيث ذكر في أحد الجانبين المسبب وفي الآخر السبب ودل بالمذكور في كل منهما على المتروك في الآخر تعويلا على شهادة العقل، وجعله ابن المنير مقابلا للقسم الأول على معنى فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فهو الذي يتبصره ويقرؤه ومن كان في الدنيا أعمى غير متبصر في نفسه ولا ناظر في معاده فهو في الآخرة كذلك غير متبصر في كتابه بل أعمى عنه أو أشد عمى مما كان في الدنيا على اختلاف التأويلين وهو خلاف الظاهر. ويشعر أيضا بأن من كان في الدنيا أعمى عن السلوك في طريق نجاته لا يقرأ في الآخرة كتابه وهو خلاف المصرح به في الآيات والأحاديث، نعم فرق بين القراءتين ولعل الآية تشعر بالفرق وإن لم تقرر المقابلة بما ذكر هذا وعن أبي مسلم تفسير أَعْمى الثاني بأعمى العين ولا تجوز أي من كان في الدنيا أعمى القلب فهو في الآخرة أعمى العين أي يحشر كذلك عقوبة له على ضلالته في الدنيا وهو كقوله تعالى: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى [طه: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 117 124] الآية، وتأول فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق: 22] بالعلم والمعرفة، وعنه أيضا تجويز أن يكون العمى عبارة عما يلحقه من الغم المفرط كأنه قيل من كان في الدنيا ضالا فهو في الآخرة مغموم جدا فإن من لا يرى إلا ما يسوءه والأعمى سواء، وهذا كما يقال: فلان سخين العين وهو كما ترى. وقيل إن هذه إشارة إلى النعم المذكورة قبل على معنى من كان أعمى غير متبصر في هذه النعم وقد عاينها فهو في شأن الآخرة التي لم يعاينها أعمى وأضل سبيلا، واستند في ذلك إلى ما أخرجه الفريابي. وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: جاء نفر من أهل اليمن إلى ابن عباس فسأله رجل منهم أرأيت قوله تعالى: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى فقال ابن عباس: لم تصل المسألة اقرأ ما قبلها رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ [الإسراء: 66] حتى بلغ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا ثم قال: من كان أعمى عن هذه النعم التي قد رأى وعاين فهو في أمر الآخرة التي لم ير ولم يعاين أعمى وأضل سبيلا. وفي رواية أخرى أخرجها عنه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة من طريق الضحاك أنه قال في الآية: يقول تعالى من كان في الدنيا أعمى عما رأى من قدرتي من خلق السماء والأرض والجبال والبحار والناس والدواب وأشباه هذا فهو عما وصفت له في الآخرة أعمى وأضل سبيلا يقول سبحانه أبعد حجة. وروى أبو الشيخ عن قتادة نحوه، ولا يخفى أن كلا التأويلين بعيد جدا وإن كان الثاني دون الأول في البعد ولا أظن الحبر يقول ذلك والله تعالى أعلم. «ومن باب الإشارة في الآيات» قَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ قالت الوجودية من الصوفية: إنه تعالى سبق قضاؤه أن لا يعبد سواه فكل عابد إنما يعبد الله سبحانه من حيث يدري ومن حيث لا يدري فإنه جل شأنه الأول والآخر والظاهر والباطن والأعيان الثابتة ما شمت رائحة الوجود ولا تشمه أبدا، ومما ينسبونه إلى زين العابدين رضي الله تعالى عنه ويزعمون أنه مشير إلى مدعاهم قوله: إني لأكتم من علمي جواهره ... كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا وقد تقدم في هذا أبو حسن ... إلى الحسين وأوصى قبله الحسنا فرب جوهر علم لو أبوح به ... لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا ولاستحل رجال مسلمون دمي ... يرون أقبح ما يأتونه حسنا قالوا: إنه رضي الله تعالى عنه عنى بهذا الجوهر الذي لو باح به لقيل له: أنت ممن يعبد الوثن علم الوحدة إذ منه يعلم أن الوثن وكذا غيره مظهر له جل وعلا وليس في الدار غيره ديار، وقد مر عن قرب ما نقل عن الحلاج ومثله كثير للشيخ الأكبر قدس سره ولغيره عربا وعجما وهو عفا الله تعالى عنه قد فتح بابا في هذا المطلب لا يسد إلى أن يأتي أمر الله عز وجل وكأنه أوصى إليه بأن يبوح وينثر هاتيك الجواهر بين الأصاغر والأكابر كما أوصى إلى الحسنين بأن يكتما من ذلك ما علما، وفي بعض كتبه قدس سره ما هو صريح في أنه مأمور فإن صح ذلك فهو معذور، وأنا لا أرى عذرا لمن يقفو أثره في المقال مع مباينته له في الحال فإن هذا المطلب أجل من أن يحصل لغريق الشهوات وأسير المألوفات ورهين العادات ولله تعالى در من قال: تقول نساء الحي تطمع أن ترى ... محاسن ليلى مت بداء المطامع وكيف ترى ليلى بعين ترى بها ... سواها وما طهرتها بالمدامع وتطمع منها بالحديث وقد جرى ... حديث سواها في خروق المسامع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 118 ولا يخفى أنه على تأويل الصوفية هذه الآية لا يكون قوله تعالى: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً داخلا فيما قضى إذ لا يسمعهم أن يقولوا إن كل أحد محسن بوالديه من حيث يدري ومن حيث لا، ويفهم من كلام بعض المتصوفة أن هذا إيصاء بالإحسان إلى الشيخ أيضا، وعليه فيحتمل أن يكون تثنية الوالدين كما في قولهم: القلم أحد اللسانين وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ قيل: ذو القربى إشارة إلى الروح لأنها كانت قبل في القربة والمشاهدة ثم هبطت حيث هبطت، والمسكين إشارة إلى العقل لأنه عاجز عن تحصيل العلم بحقيقة ربه سبحانه، وابن السبيل إشارة إلى القلب لأنه يتقلب في سبل السلوك إلى ملك الملوك، وحق الروح المشاهدة، والعقل الفكر، والقلب الذكر، وقيل: الأول إشارة إلى إخوان المعرفة الذين وصلوا معالي المقامات وحقهم ذكر ما يزيد تمكينهم، والثاني إشارة إلى العاشقين الذين سكنهم عشق مولاهم عن طلب ما سواه وحقهم ذكر ما يزيد عشقهم، والثالث إشارة إلى السالكين سبل الطلب الممتطين نجائب الهمة وحقهم ذكر ما يزيد رغبتهم ويهون مشقتهم وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فيه إشارة للمشايخ كيف يكونون مع المريدين أي لا يبخل على المريد بنشر فضائل المعرفة وحقائق القربة ولا تذكر شيئا لا يتحمل فيهلك وكن بين بين وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ الذي أخذ منكم قبل خلق الأشباح وهو أن توحدوه تعالى ولا تشركوا به شيئا. وقال يحيى بن معاذ: لربك عليك عهود ظاهرا وباطنا فعهد على الأسرار أن لا تشاهد سواه جل جلاله، وعهد على الروح أن لا تفارق مقام القربة، وعهد على القلب أن لا يفارق الخوف، وعهد على النفس أن لا تترك شيئا من الفرائض، وعهد على الجوارح أن تلازم الأدب وتترك المخالفات وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ قيل فيه إشارة للمشايخ أيضا أن لا ينقصوا المستعدين ما يقتضيه استعدادهم من الفيوضات القلبية، وفي قوله تعالى: وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ إشارة لهم أن يعرضوا أعمال المريدين القلبية والقالبية على الشريعة فهي القسطاس المستقيم وكفتاها الحظر والإباحة وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ الآية فيه إشارة إلى بعض ما يلزم السالك من التثبت والاحتياط والكف عن الدعاوى العاطلة تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ الآية وقد علمت ما عند الصوفية في تسبيح الأشياء من أنه قال إلا أنه لا يسمعه إلا من فاز بقرب النوافل أو من أشرق عليه شيء من أنواره كالذين سمعوا تسبيح الحصى في مجلس سيد الكاملين صلّى الله عليه وسلّم، والتسبيح الحالي مما لا ينكره أحد من المسلمين، وقرره بعض الصوفية بأن لكل شيء خاصية ليست لغيره وكما لا يخصه دون ما عداه فهو يشتاقه ويطلبه إذا لم يكن حاصلا له ويحفظه ويحبه إذا حصل فهو بإظهار خاصيته ينزه الله تعالى من الشريك وإلا لم يكن متوحدا فيها فلسان حاله يقول أوحده على ما وحدني وبطلب كماله ينزهه سبحانه عن صفات النقص كأنه يقول يا كامل كملني وبإظهار كماله كأنه يقول كملني الكامل المكمل وعلى هذا القياس، وحينئذ يقال: تسبحه السماوات بالكمال والتأثير والربوبية وبأنه كل يوم هو في شأن ونحو ذلك، والأرض بالخلاقية والرزاقية والرحمة إلى غير ذلك، والملائكة بالعلم والقدرة والتجرد عن المادة على القول بأنهم أرواح مجردة وهكذا وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً من الجهل وعمى القلب فلا يرون حقيقتك القدسية ولا يدركون منك إلا الصورة البشرية، وإنما خص ذلك بوقت قراءة القرآن مع أنهم في كل وقت هم أجهل الخلق به صلّى الله عليه وسلّم لأن في ذلك الوقت يظهر إشراق أنوار الصفات عليه الصلاة والسلام فإذا كانوا محجوبين إذ ذاك كانوا في غيره من الأوقات أحجب وأحجب وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً من الغشاوات الطبيعية والهيئات البدنية أَنْ يَفْقَهُوهُ فإن القرآن كلامه تعالى وهو أحد صفاته وإذا لم يعرفوا نبيه صلّى الله عليه وسلّم لم يعرفوه عز وجل وإذا لم يعرفوه سبحانه لم يعرفوا صفاته تعالى فلم يعرفوا كلامه سبحانه وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً لرسوخ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 119 أوساخ التعلقات فيها يمنعهم عن سماع القراءة وهذا ناشىء من جهلهم بأفعاله تعالى وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً لتشتت أهوائها وتفرق همهم في عبادة آلهتهم المتنوعة فلا تناسب الوحدة بواطنهم يَوْمَ يَدْعُوكُمْ للقيام من القبور فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ حامدين له تعالى مجده بلسان القال أو بلسان الحال حيث أظهر فيكم الحياة بعد الموت ونحو ذلك. وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ في القبور أو في الدنيا إِلَّا قَلِيلًا لذهولكم عن ذلك الزمان أو لاستقصاركم الدنيا بالنسبة إلى الآخرة رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ فيه إشارة إلى أن المشيئة تابعة للعلم فمن علم سبحانه أهليته للرحمة شاء تعالى رحمته فرحمه ومن علم جل وعلا أهليته للعذاب شاء عذابه فعذبه، ولا يخفى ما في تقديم شق مشيئته الرحمة من تقوية الأمل أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ أي يدعونهم الكفار ويعبدونهم يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ أي يطلب الأقرب منهم الوسيلة إلى الله تعالى فكيف بغير الأقرب والوسيلة في الأصل الواسطة التي يتوسل ويتقرب بها إلى الشيء وهي هنا الطاعة كما تقدم. وقيل هي كرمه تعالى القديم وإحسانه عز وجل العميم، وقيل هي الشفاعة يوم القيامة، ولما كان مقام الوسيلة بهذا المعنى خاصا بنبينا صلّى الله عليه وسلّم أطلقوا الوسيلة عليه الصلاة والسلام، وفسرها بذلك هنا بعض الصوفية فكل من عبد من دون الله تعالى من عيسى وعزير والملائكة عليهم السلام وسيلتهم إلى الله تعالى نبينا صلّى الله عليه وسلّم بل هو عليه الصلاة والسلام وسيلة سائر الموجودات والواسطة بينهم وبين الله تعالى في إفاضته سبحانه الوجود وكذا سائر ما أفيض عليهم وأحظى الخلق بوساطته الأنبياء عليهم السلام فإنهم أشعة أنواره وعكوسات آثاره وهو النور الحق والنبي المطلق وكان نبيا وآدم بين الماء والطين وقد تلقى الأنبياء منه من وراء حجاب الأرحام والأصلاب وظهروا إذ كان محتجبا ظهور الكواكب في الليل فلما بزغت شمس النبوة المطلقة من أفق الظهور غابوا ونسخت أحكامهم على نحو غيبوبة الكواكب وانمحاق أنوارها وأضوائها عند طلوع الشمس من تحت الحجاب منخلعة عن الجلباب وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ لعلمهم بجماله وجلاله والرجاء والخوف جناحا من يطير إلى حضرة القدس وروضة الأنس ومن عطل أحدهما تعطل عن الطيران وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ إلى قوله سبحانه وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا فيه إشارة إلى اختلاف مراتب تمكن الشيطان من إغواء بني آدم فمن كان منهم ضعيف الاستعداد استفزه واستخفه بصوته فأغواه بوسوسة وهمس بل هاجسة ولمة، ومن كان قوي الاستعداد فإن كان خالصا عن شوائب الغيرية أو عن شوائب الصفات النفسانية لم يتمكن من إغوائه وهذا هو المراد بقوله تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وإن لم يكن خالصا فإن كان منغمسا في الشواغل الحسية منهمكا في الأمور الدنيوية شاركه في أمواله وأولاده وحرضه على إشراكهم بالله تعالى في المحبة وسول له التمتع والتكاثر والتفاخر بهم ومناه الأماني الكاذبة وزين له الآمال الفارغة، وإن لم ينغمس فإن كان عالما بتسويلاته أجلب عليه بخيله ورجله أي مكر بأنواع الحيل وكاده بصنوف الفتن وأفتاه بأن تحصيل أنواع الحطام والملاذ من جملة مصالح المعاش وغره بعلمه وحمله على الإعجاب به وأمثال ذلك حتى أضله على علم، وإن لم يكن عالما بل كان عابدا متنسكا أغواه بالوعد وغره برؤية الطاعة وتزكية النفس وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ الآية قيل كرمهم تعالى بأن خلق أباهم آدم على صورة الرحمن وجعل لهم ذلك بحكم الوراثة وأن الولد سر أبيه وفضلهم على الكثير بأن جعل لهم من النعم ما يستغرق العد وجوز أن يقال: تكريمهم بأن بسط موائد الأنعام لهم وجعل من عداهم طفيليا، وتفضيلهم بما ذكر في التكريم أولا وفيه احتمالات أخر يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ أي نناديهم بنسبتهم إلى من كانوا يقتدون به في الدنيا لأنه المستعلى محبتهم إياه على سائر محباتهم فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 120 أي من جهة العقل الذي هو أقوى جانبيه فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ ويأخذون أجور أعمالهم المكتوبة فيه وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا أدنى شيء حقير من ذلك وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى عن الاهتداء إلى الحق فهو في الآخرة أعمى أيضا وَأَضَلُّ سَبِيلًا لبطلان الكسب هناك وهذا الذي يؤتى كتابه بشماله أي من جهة النفس التي هي أضعف جانبيه إلا أنه عبر عنه بما ذكر لما قدمنا، والله تعالى هو الهادي إلى سواء السبيل، ثم إنه عز وجل لما عدد نعمه على بني آدم ثم ذكر حالهم في الآخرة وانقسامهم إلى قسمين سعداء وأشقياء أتبع ذلك بذكر بعض مساوئ بعض الأشقياء في الدنيا من المكر والخداع والتلبيس على سيد أهل السعادة المقطوع له بالعصمة صلّى الله عليه وسلّم وفي ذلك إشارة إلى أنهم داخلون فيمن عمي عن الاهتداء في الدنيا دخولا أوليا فقال سبحانه وتعالى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 121 وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ قيل نزلت في ثقيف قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: لا ندخل في أمرك حتى تعطينا خصالا نفتخر بها على العرب لا نعشر ولا نحشر ولا ننحني في الصلاة وكل ربا لنا فهو لنا وكل ربا علينا فهو موضوع عنا وأن تمتعنا باللات سنة وأن تحرم وادينا كما حرمت مكة فإن قالت العرب: لم فعلت ذلك؟ فقل: إن الله تعالى أمرني، وروى ذلك الثعلبي عن ابن عباس ولم يذكر له سندا. وقال العراقي فيه: إنا لم نجده في كتب الحديث ونقله الزمخشري بزيادة، ونقل غيره أنهم طلبوا ثلاث خصال عدم التجبية في الصلاة وكسر أصنامهم بأيديهم وتمتيعهم باللات سنة من غير أن يعبدوها بل ليأخذوا ما يهدى لها فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا خير في دين لا ركوع فيه ولا سجود» وأما كسر أصنامكم بأيديكم فذلك لكم وأما الطاغية اللات فإني غير الجزء: 8 ¦ الصفحة: 122 ممتعكم بها» وقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: ما بالكم آذيتم رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه لا يدع الأصنام في أرض العرب فما زالوا به حتى أنزل الله تعالى الآية. وأخرج ابن أبي إسحق وابن مردويه وغيرهما عنه رضي الله تعالى عنه أن أمية بن خلف. وأبا جهل. ورجالا من قريش أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: تعال فتمسح بآلهتنا وندخل معك في دينك وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشتد عليه فراق قومه ويحب إسلامهم فرق لهم فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى قوله سبحانه: نَصِيراً، وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن باذان عن جابر بن عبد الله مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن جبير بن نفير أن قريشا أتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا له: إن كنت أرسلت إلينا فاطرد الذين اتبعوك من سقّاط الناس ومواليهم لنكون نحن أصحابك فنزلت ، وقيل: إنهم قالوا له عليه الصلاة والسلام: اجعل لنا آية رحمة آية عذاب. وآية عذاب آية رحمة حتى نؤمن بك فنزلت. وفي ذلك روايات أخر مختلفة أيضا وفي بعضها ما لا يصح نسبته إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم ولا يكاد يؤول وذلك يدل على الوضع والتفسير لا يتوقف على شيء من ذلك، وأيّا ما كان فضمير الجمع للكفار وهم إما ثقيف أو قريش، وإِنْ مخففة من المثقلة واسمها ضمير شان مقدر واللام هي الفارقة بين المخففة وغيرها أي إن الشان قاربوا في ظنهم أن يوقعوك في الفتنة صار فيك عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ من الأوامر والنواهي والوعد والوعيد لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ لتتقول علينا غير الذي أوحيناه إليك مما اقترح عليك ثقيف من تحريم وج مثلا أو قريش من جعل آية الرحمة آية عذاب وبالعكس، وقيل: المعنى لتحل محل المفتري علينا لأنك إن اتبعت أهواءهم أو همت أنك تفعل ذلك عن وحينا لأنك رسولنا فكنت كالمفتري. وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا أي لو فعلت ليتخذنك صديقا لهم، وكان المراد ليكونن بينك وبينهم مخالة وصداقة وهم أعداء الله تعالى فمخالتهم تقتضي الانقطاع عن ولايته عز وجل كما قيل: إذا صافى صديقك من تعادي ... فقد عاداك وانقطع الكلام وقيل: الخليل هذا من الخلة بمعنى الحاجة أي لاتخذوك فقيرا محتاجا إليهم وهو كما ترى وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ أي لولا تثبيتنا إياك على ما أنت عليه من الحق بعصمتنا لك لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا من الركون الذي هو أدنى ميل، وأصله الميل إلى ركن، وذكروا. نه إذا أطلق يقع على أدنى الميل، ونصب شَيْئاً على المصدرية أي لولا ذلك لقاربت أن تميل إليهم شيئا يسيرا من الميل اليسير لقوة خدعهم وشدة احتيالهم لكن أدركتك العصمة فمنعتك من أن تقرب أدنى الأدنى من الميل إليهم فضلا عن نفس الميل إليهم، وهذا صريح في أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يهم بإجابتهم ولم يكد، وبه يرد على من زعم أنه عليه الصلاة والسلام هم فمنعه نزول الآية وكأنه غره ظواهر بعض الروايات في بيان سبب النزول كرق في رواية ابن إسحاق ومن معه عن الحبر ولا يخفى أن في قوله سبحانه إِلَيْهِمْ دون إلى إجابتهم ما يقوي الدلالة على أنه عليه الصلاة والسلام بمعزل عن الإجابة في أقصى الغايات، وهذا الذي ذكر في معنى الآية هو الظاهر المتبادر للأفهام وذهب ابن الأنباري إلى أن المعنى لقد كادوا أن يخبروا عنك أنك ركنت إليهم ونسب فعلهم إليه عليه الصلاة والسلام مجازا واتساعا كما تقول للرجل كدت تقتل نفسك أي كاد الناس يقتلونك بسبب ما فعلت وهو من الألغاز المستغنى عنه. واستدل بالآية على أن العصمة بتوفيق الله تعالى وعنايته. وقرأ قتادة وابن أبي إسحق وابن مصرف «تركن» بضم الكاف مضارع ركن بفتحها وهو على قراءة الجمهور الجزء: 8 ¦ الصفحة: 123 مضارع ركن بكسر الكاف، وقيل: بفتحها أيضا وجعل ذلك من تداخل اللغتين إِذاً أي لو قاربت أن تركن إليهم أدنى ركنة لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ أي مضاعف الحياة وهو صفة محذوف والإضافة على معنى في أو للملابسة أي عذابا مضاعفا في الحياة، والمراد بها الحياة الدنيا لأنه المتبادر عند إطلاق لفظها وكذا يقال في قوله تعالى: وَضِعْفَ الْمَماتِ أي وعذابا ضعفا في الممات، والمراد به ما يشمل العذاب في القبر وبعد البعث، واستسهل بعض المحققين أن يكون التقدير من أول الأمر لأذقناك ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات وتكون الإضافة لامية والقرينة على تقدير العذاب لَأَذَقْناكَ والمعنى لو قاربت ما ذكرنا لنضاعفن لك العذاب المعجل للعصاة في الحياة الدنيا والعذاب المؤجل لهم بعد الموت. وقيل المراد بالحياة حياة الآخرة وبعذاب الممات ما يكون في القبر وأمر الإضافة والتقدير على حاله، والمعنى لو قاربت لنضاعفن لك عذاب القبر وعذاب يوم القيامة المدخرين للعصاة، وفي هذه الشرطية إجلال عظيم بمكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتنبيه على أن الأقرب أشد خطرا وذلك أنه أوعد بضعف العذاب على مقاربة أدنى ركون وقد وضع عنا الركون ما لم يصدقه العمل، ونظير ذلك من وجه ما جاء في نسائه عليه الصلاة والسلام من قوله تعالى: يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب: 30] وذكر في وجه مضاعفة جزاء خطأ الخطير أنه يكون سببا لارتكاب غيره مثله والاحتجاج به فكأنه سن ذلك وقد جاء «من سن سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» وعلى هذا يضاعف عذاب الخطير في خطئه أضعافا مضاعفة، ولا يلزم من إثبات الضعف الواحد نفي الضعف المتعدد، وقيل الضعف من أسماء العذاب وأنشدوا على ذلك قوله: لمقتل مالك إذ بان مني ... أبيت الليل في ضعف أليم وذكر بعضهم أن الضعف ليس من أسماء العذاب وضعا لكنه يعبر به عنه لكثرة وصف العذاب به كما في قوله تعالى: عَذاباً ضِعْفاً [الأعراف: 38، ص: 61] وزعم أن ذلك مراد القائل والله تعالى أعلم، واللام في لَأَذَقْناكَ ولَاتَّخَذُوكَ لام القسم على ما نص عليه الحوفي، والماضي في الموضعين واقع موقع المضارع الدال عليه اللام، والنون على ما نص عليه أبو حيان وأشرنا إليه فيما سبق ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً يدفع العذاب أو يرفعه عنك، روي عن قتادة أنه لما نزل قوله تعالى: وَإِنْ كادُوا إلى هنا قال صلّى الله عليه وسلّم: اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين ، وينبغي للمؤمن إذا تلا هذه الآية أن يجثو عندها ويتدبرها وأن يستشعر الخشية وازدياد التصلب في دين الله تعالى ويقول كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم وَإِنْ كادُوا أي أهل مكة كما روي عن ابن عباس وقتادة وغيرهما لَيَسْتَفِزُّونَكَ ليزعجونك ويستخفونك بعداوتهم ومكرهم مِنَ الْأَرْضِ أي الأرض التي أنت فيها وهي أرض مكة لِيُخْرِجُوكَ أي ليتسببوا إلى خروجك مِنْها وكان هذا الاستفزاز بما فعلوا من حصره صلّى الله عليه وسلّم في الشعب والتضييق عليه عليه الصلاة والسلام ووقع ذلك بعد نزول الآية كما في البحر وصار سببا لخروجه صلّى الله عليه وسلّم مهاجرا. وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ أي إن استفزوك فخرجت لا يبقون خِلافَكَ أي بعدك وبه قرأ عطاء بن رباح واستحسن أنها تفسير لا قراءة لمخالفتها سواد المصحف وأنشدوا: عفت الديار خلافهم فكأنما ... بسط الشواطب بينهن حصيرا وقرأ أهل الحجاز وأبو بكر وأبو عمرو «خلفك» بغير ألف والمعنى واحد واللفظان في الأصل من الظروف المكانية فتجوز فيهما واستعملا للزمان وقد اطرد إضافتهما كقبل وبعد إلى أسماء الأعيان على حذف مضاف يدل عليه ما قبله أي لا يلبثون خلف استفزازك وخروجك إِلَّا قَلِيلًا أي إلا زمانا قليلا، وجوز أن يكون التقدير إلا لبثا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 124 قليلا والمعنيان متقاربان، واختير التقدير الأول لأن التوسع أعني إقامة الوصف مقام الموصوف بالظروف أشبه، وهذا وعيد لهم بإهلاك مجموعهم من حيث هو مجموع بعد خروجه صلّى الله عليه وسلّم بقليل وتحقق بإفناء البعض في بدر لا سيما وقد كانوا صناديدهم والرؤوس، وأنت تعرف أن معظم الشيء يقام مقام كله، وكان الزمان القليل على ما روى ابن أبي حاتم عن السدي ثمانية عشر شهرا، ويجوز أن يفسر الإخراج بالإكراه على الخروج والوعيد بإهلاك كل واحد منهم أي لو أخرجوك لاستؤصلوا على بكرة أبيهم لكن لم يقع المقدم لأن الإكراه على الخروج مباشرة وقد خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مهاجرا بأمر ربه عز وجل فلم يقع التالي وهذا هو التفسير المروي عن مجاهد قال: أرادت قريش ذلك ولم تفعل لأنه سبحانه أراد استبقاءها وعدم استئصالها ليسلم منها ومن أعقابها من يسلم فأذن لرسوله عليه الصلاة والسلام بالهجرة فخرج بإذنه لا بإخراج قريش وقهرهم، والإخراج في قوله تعالى وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ [محمد: 13] محمول على المعنى الأول، وكذا في قول ورقة: يا ليتني كنت جذعا إذ يخرجك قومك وقوله عليه الصلاة والسلام «أو مخرجيّ هم» فلم تتضمن الآية وكذا الخبر إثبات إخراج قلنا بنفيه هنا، والقول بأنه يلزم على هذا التناقض بين هذه الآية والآية السابقة بناء على تفسير الإخراج فيها بالتسبب إلى الخروج لأن كاد تدل على مقاربته لا حصوله وهذه الآية دلت على حصوله مجاب عنه بأن قصارى ما دلت عليه الآية السابقة على التفسير الأول قرب حصول الاستفزاز منهم ليتسببوا به إلى خروجه صلّى الله عليه وسلّم وأنه لم يكن حاصلا وقت نزول الآية لا أنه لا يكون حاصلا أبدا ليناقض حصوله بعد. وحكى الزجاج أن استفزازهم ما أجمعوا عليه في دار الندوة من قتله صلّى الله عليه وسلّم والمراد من الأرض وجه البسيطة مطلقا، وقال أبو حيان: المراد ما على هذا الدنيا، وقيل ضمير كادُوا وما بعده لليهود، فقد أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل. وابن عساكر عن عبد الرحمن بن غنم قال: إن اليهود أتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا إن كنت نبيا فالحق بالشام فإنها أرض المحشر وأرض الأنبياء فصدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما قالوا فغزا غزوة تبوك لا يريد إلا الشام فلما بلغ تبوك أنزل الله تعالى وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ- إلى- تَحْوِيلًا وأمره بالرجوع إلى المدينة وقال فيها محياك وفيها مماتك ومنها تبعث، وفي رواية أنهم قالوا: يا أبا القاسم إن الشام أرض مقدسة وهي أرض الأنبياء فلو خرجت إليها لآمنا بك وقد علمنا أنك تخاف الروم فإن كنت نبيا فاخرج إليها فان الله تعالى سيحميك كما حمى غيرك من الأنبياء فخرج عليه الصلاة والسلام بسبب قولهم وعسكر بذي الحليفة وأقام ينتظر أصحابه فنزلت هذه الآية فرجع صلّى الله عليه وسلّم ثم إنه عليه الصلاة والسلام قتل منهم بني قريظة وأجلى بني النضير بقليل. وتعقب بأنه ضعيف لم يقع في سيرة ولا كتاب يعتمد عليه، وذو الحليفة ليس في طريق الشام من المدينة وكيفما كان يكون المراد من الأرض عليه المدينة، وقيل أرض العرب، وكأن من ذهب إلى أن هذه الآية مدنية يستند إلى ما ذكر من الروايات، وقد صرح الخفاجي بأن هذا المذهب غير مرضي والله تعالى أعلم. وقرأ عطاء «لا يلبّثون» بضم الياء وفتح اللام والباء مشددة. وقرأ يعقوب كذلك إلا أنه كسر الباء وقرأ أبي «وإذا لا يلبثوا» بحذف النون وكذا في مصحف عبد الله، وتوجيه الإثبات والحذف أن النحويين عدوا من جملة شروط عمل إذن كونها في أول الجملة فعلى قراءة الحذف تكون الجملة معطوفة على جملة لَيَسْتَفِزُّونَكَ وهي خبر كاد فيكون الشرط منخرما لتوسطها حينئذ في الكلام لكون ما بعدها خبر كاد كالمعطوف هو عليه، وعلى قراءة الإثبات تكون الجملة معطوفة على جملة وَإِنْ كادُوا فيتحقق الشرط والعطف لا يضر في ذلك، ووجه أبو حيان الإهمال بأن لا يَلْبَثُونَ جواب قسم محذوف أي والله إن استفزوك فخرجت لا يلبثون وقد توسطت إذا بين القسم المقدر والفعل فأهملت ثم قال ويحتمل أن يكون لا يلبثون خبرا لمبتدأ محذوف يدل عليه المعنى تقديره وهم إذا لا يلبثون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 125 فتكون إذا واقعة بين المبتدأ وخبره ولذلك ألغيت وكلا التوجيهين ليس بوجيه كما لا يخفى. سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا نصب على المصدرية أي سننّا سنة من إلخ وهي أن لا ندع أمة تستفز رسولها لتخرجه من بين ظهرانيها تلبث بعده إلا قليلا فالسنة لله عز وجل وأضيفت للرسل عليهم السلام لأنها سنت لأجلهم، ويدل على ذلك قوله سبحانه وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا حيث أضاف السنة إليه تعالى، وقال الفراء: انتصب سُنَّةَ على إسقاط الخافض أي كسنة فلا يوقف على قوله تعالى: قَلِيلًا فالمراد تشبيه حاله صلّى الله عليه وسلّم بحال من قبله لا تشبيه الفرد بفرد من ذلك النوع وجوز أبو البقاء أن يكون مفعولا به لفعل محذوف أي اتبع سنة إلخ كما قال سبحانه فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] والأنسب بما قبل ما قبل، وكأنه اعتبر الأوامر بعد وهو خلاف ما عليه عامة المفسرين، والتحويل التغيير أي لا تجد لما أجرينا به العادة تغييرا أي لا يغيره أحد. والمراد من نفي الوجدان هنا وفيما أشبهه نفي الوجود ودليل نفي وجود من يغير عادة الله تعالى أظهر من الشمس في رابعة النهار، وللإمام كلام في هذا المقام لا يخلو عن بحث، ثم أنه تعالى بعد أن ذكر كيد الكفار وسلى نبيه عليه الصلاة والسلام بما سلى أمره أن يقبل على شأنه من عبادة ربه تعالى شأنه ووعده بما يغبطه عليه كل الخلق ويتضمن ذلك إرشاده إلى أن لا يشغل قلبه بهم أو أنه سبحانه بعد أن قدم القول في الإلهيات والمعاد والنبوات أمر بأشرف العبادات بعد الإيمان وهي الصلاة فقال جل وعلا أَقِمِ الصَّلاةَ أي المفروضة لِدُلُوكِ الشَّمْسِ أي لزوالها عن دائرة نصف النهار وهو المروي عن عمر بن الخطاب وابنه وابن عباس في رواية، وأنس وأبي برزة الأسلمي والحسن والشعبي وعطاء ومجاهد، ورواه الإمامية عن أبي جعفر. وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما وخلق آخرين، وأخرج ابن جرير. وإسحاق بن راهويه في مسنده وابن مردويه في تفسيره. والبيهقي في المعرفة عن أبي مسعود عقبة بن عامر قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاني جبريل عليه السلام لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر ، وقيل لغروبها (1) وهو المروي عندنا عن علي كرم الله تعالى وجهه ، وأخرجه ابن مردويه والطبراني والحاكم وصححه، وغيرهم عن ابن مسعود، وابن المنذر وغيره عن ابن مسعود، وروى عن زيد بن أسلم والنخعي والضحاك والسدي، وإليه ذهب الفراء وابن قتيبة، وأنشد لذي الرمة: مصابيح ليست باللواتي يقودها ... نجوم ولا بالأفلاك الدوالك وأصل مادة د ل ك تدل على الانتقال ففي الزوال انتقال من دائرة نصف النهار إلى ما يليها وفي الغروب انتقال من دائرة الأفق إلى ما تحتها وكذا في الدلك المعروف انتقال اليد من محل إلى آخر بل كل ما أوله دال ولام مع قطع النظر عن آخره يدل على ذلك كدلج بالجيم من الدلجة وهي سير الليل وكذا دلج بالدلو إذا مشى بها من رأس البئر للمصب ودلح بالحاء المهملة إذا مشى مشيا متثاقلا ودلع بالعين المهملة إذا أخرج لسانه ودلف بالفاء إذا مشى مشية المقيد وبالقاف إذا أخرج المائع من مقره ووله إذا ذهب عقله وفيه انتقال معنوي إلى غير ذلك، وهذا المعنى يشمل كلا المعنيين السابقين وإن قيل إن الانتقال في الغروب أتم لأنه انتقال من مكان إلى مكان ومن ظهور إلى خفاء وليس في الزوال إلا الأول، وقيل إن الدلوك مصدر مزيد مأخوذ من المصدر المجرد أعني الدلك المعروف وهو أظهر في الزوال لأن من نظر إلى الشمس حينئذ يدلك عينه ويكون على هذا في دلوك الشمس تجوز عن دلوك ناظرها، وقد يستأنس في ترجيح القول الأول مع ما سبق بأن أول صلاة صلاها النبي صلّى الله عليه وسلّم نهار ليلة الإسراء الظهر، وقد صح أن   (1) أخرجه ابن أبي شيبة، وابن المنذر وابن أبي حاتم اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 126 جبريل عليه السلام ابتدأ بها حين علم النبي عليه الصلاة والسلام كيفية الصلاة في يومين، وقال المبرد: دلوك الشمس من لدن زوالها إلى غروبها فالأمر بإقامة الصلاة لدلوكها أمر بصلاتين الظهر والعصر، وعلى القولين الآخرين أمر بصلاة واحدة الظهر أو العصر، واللام للتاقيت متعلقة بأقم وهي بمعنى بعد كما في قول متمم بن نويرة يرثي أخاه: فلما تفرقنا كأني ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا ومنه كتبته لثلاث خلون من شهر كذا وتكون بمعنى عند أيضا، وقال الواحدي: هي للتعليل لأن دخول الوقت سبب لوجوب الصلاة إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ أي إلى شدة ظلمته كما قال الراغب وغيره وهو وقت العشاء. وأخرج ابن الأنباري في الوقف عن ابن عباس أن نافع بن الأرزق قال له: أخبرني ما الغسق؟ فقال: دخول الليل بظلمته وأنشد قول زهير بن أبي سلمى: ظلت تجود يداها وهي لاهية ... حتى إذا جنح الإظلام والغسق وقال النضر بن شميل: غسق الليل دخول أوله، قال الشاعر: إن هذا الليل قد غسقا ... واشتكيت الهم والأرقا وهو عنده وقت المغرب، وروي ذلك عن مجاهد، وأصله من السيلان يقال غسقت العين تغسق إذا هملت بالماء كأن الظلمة تنصب على العالم، وقيل: المراد من غسق الليل ما يعم وقتي المغرب والعشاء وهو ممتد إلى الفجر كما أن المراد بدلوك الشمس ما يعم وقتي الظهر والعصر ففي الآية بدخول الغاية تحت المعيا وبضم ما بعد إشارة إلى أوقات الصلوات الخمس، واختاره جماعة من الشيعة واستدلوا بها على أن وقت الظهر موسع إلى غروب الشمس ووقت المغرب موسع إلى انتصاف الليل وهي أحد أدلة الجمع في الحضر بلا عذر الذي ذهبوا إليه وأبدوا ذلك مما رواه العياشي بإسناده عن عبيدة، وزرارة عن أبي عبد الله أنه قال في هذه الآية: إن الله تعالى افترض أربع صلوات أول وقتها من زوال الشمس إلى انتصاف الليل منها صلاتان أول وقتهما من عند زوال الشمس إلى غروبها إلا أن هذه قبل هذه ومنها صلاتان أول وقتهما غروب الشمس إلى انتصاف الليل إلا أن هذه قبل هذه وهو مرتضى المرتضى في أوقات الصلاة ، والمعتمد عليه عند جمهور المفسرين أن دلوك الشمس وقت الظهر وغسق الليل وقت العشاء كما ينبىء عنه إقحام الغسق وعدم الاكتفاء بإلى الليل، والجار والمجرور متعلق بأقم، وأجاز أبو البقاء تعلقه بمحذوف وقع حالا من الصلاة أي ممدودة إلى الليل والأول أولى وليس المراد بإقامة الصلاة فيما بين هذين الوقتين على وجه الاستمرار بل إقامة كل صلاة في وقتها الذي عين لها ببيان جبريل عليه السلام الثابت في الروايات الصحيحة التي لم يروها- من شهد- أحد من الأئمة الطاهرين بزندقتهم ونجاسة بواطنهم كما أن أعداد ركعات كل صلاة موكولة إلى بيانه عليه الصلاة والسلام، ولعل الاكتفاء ببيان المبدأ والمنتهى في أوقات الصلاة من غير فصل بينها لما أن الإنسان فيما بين هذه الأوقات على اليقظة فبعضها متصل ببعض بخلاف وقت العشاء والفجر فإنه باشتغاله فيما بينهما بالنوم عادة ينقطع أحدهما عن الآخر ولذلك فصل وقت الفجر عن سائر الأوقات، ثم إن المستدل من الشيعة بالآية لا يتم له الاستدلال بها على جواز الجمع بين صلاتي الظهر والعصر، وبين صلاتي المغرب والعشاء ما لم يضم إلى ذلك شيئا من الأخبار فإنها إذا لم يضم إليها ذلك أولى بأن يستدل بها على جواز الجمع بين الأربعة جميعها لا بين الاثنتين والاثنتين ولا يخفى ما في الاستدلال بها على هذا المطلب ولذا لم يرتضه أبو جعفر منهم، نعم ما ذهبوا إليه مما يؤيده ظواهر بعض الأحاديث الصحيحة كحديث ابن عباس وهو في صحيح مسلم صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الظهر والعصر جمعا بالمدينة ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 127 وفي رواية أنه صلّى الله عليه وسلّم صلى ثمانيا جميعا وسبعا جميعا من غير خوف ولا سفر. واختلف في تأويله فمنهم من أوله بأنه جمع بعذر المطر والجمع بسبب ذلك تقديما وتأخيرا مذهب الشافعي في القديم وتقديما فقط في الجديد بالشرط المذكور في كتبهم، وخص مالك جواز الجمع بالمطر في المغرب والعشاء، وهذا التأويل مشهور عن جماعة من الكبار المتقدمين وهو ضعيف لما في صحيح مسلم عنه أيضا جمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر، وكون المراد ولا مطر كثير لا يرتضيه ذو إنصاف قليل والشذوذ غير مسلم، ومنهم من أوله بأنه كان في غيم فصلى صلّى الله عليه وسلّم الظهر ثم انكشف الغيم وبان أن أول وقت العصر دخل فصلاها، وفيه أنه وإن كان فيه أدنى احتمال في الظهر والعصر إلا أنه لا احتمال في المغرب والعشاء، ومنهم من أوله بأنه عليه الصلاة والسلام أخر الأولى إلى آخر وقتها فصلاها فيه فلما فرغ منها دخل وقت الثانية فصلاها فصارت الصورة صورة جمع، وفيه أنه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل، ويرده أيضا ما صح عن عبد الله بن شقيق قال: خطبنا ابن عباس يوما بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم وجعل الناس يقولون: الصلاة الصلاة فجاء رجل من بني تميم فجعل لا يفتر ولا ينثني الصلاة الصلاة فقال ابن عباس: أتعلمني بالسنة لا أم لك رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء قال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء فأتيت أبا هريرة فسألته فصدق مقالته، ومنهم من قال: هو محمول على الجمع بعذر المرض أو نحوه مما هو في معناه من الأعذار وهذا قول الإمام أحمد والقاضي حسين من الشافعية واختاره منهم الخطابي والمتولي والروياني. وقال النووي: هو المختار في التأويل ومذهب جماعة من الأئمة جواز الجمع في الحضر للحاجة لمن لا يتخذه عادة وهو قول ابن سيرين وأشهب من أصحاب مالك وحكاه الخطابي عن القفال الشاشي الكبير من أصحاب الإمام الشافعي، وعن أبي إسحق المروزي، وعن جماعة من أصحاب الحديث واختاره ابن المنذر ويؤيده ظاهر ما صح عن ابن عباس ورواه مسلم أيضا أنه لما قال: جمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر قيل له: لم فعل ذلك؟ فقال: أراد أن لا يخرج أحدا من أمته وهو من الحرج بمعنى المشقة فلم يعلله بمرض ولا غيره، ويعلم مما ذكرنا أن قول الترمذي في آخر كتابه ليس في كتابي حديث أجمعت الأمة على ترك العمل به إلا حديث ابن عباس في الجمع بالمدينة من غير خوف ولا مطر وحديث قتل شارب الخمر في المرة الرابعة ناشىء من عدم التتبع. نعم ما قاله في الحديث الثاني صحيح فقد صرحوا بأنه حديث منسوخ دل الإجماع على نسخه. وقال ابن الهمام: إن حديث ابن عباس معارض بما في مسلم من حديث ليلة التعريس أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة أن يؤخر الصلاة حتى يدخل وقت صلاة أخرى» وللبحث في ذلك مجال. ومذهب الإمام أبي حنيفة عدم جواز جمع صلاتي الظهر والعصر في وقت إحداهما والمغرب والعشاء كذلك مطلقا إلا بعرفات فيجمع فيها بين الظهر والعصر بسبب النسك وإلا بمزدلفة فيجمع فيها بين المغرب والعشاء بسبب ذلك أيضا واستدل بما استدل. وفي الصحيحين وسنن أبي داود وغيره ما لا يساعده على التخصيص، وأنت تعلم أن الاحتياط فيما ذهب إليه الإمام رضي الله تعالى عنه فالمحتاط لا يخرج صلاة الظهر مثلا عن وقتها المتيقن الذي لا خلاف فيه إلى وقت فيه خلاف، وقد صرح غير واحد بأنه إذا وقع التعارض يقدم الأحوط وتعارض الأخبار في هذا الفصل مما لا يخفى على المتتبع، هذا وزعم بعضهم أن المراد بالصلاة المأمور بإقامتها صلاة المغرب والتحديد المذكور بيان لمبدأ وقتها ومنتهاه على أن الغاية خارجة واستدل به على امتداده إلى غروب الشفق وهو خلاف ما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 128 ذهب إليه الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه في الجديد من أنه ينقضي بمضي قدر زمن وضوء وغسل وتيمم، وطلب خفيف وإزالة خبث مغلظ يعم البدن والثوب والمحل وستر عورة واجتهاد في القبلة وأذان وإقامة وألحق بهما سائر سنن الصلاة المتقدمة كتعمم وتقمص ومشي لمحل الجماعة وأكل جائع حتى يشبع وسبع ركعات ولعل الزمان الذي يسع كل هذا يزيد على زمن ما بين غروب الشمس وغروب الشفق أي شفق كان في أكثر الإعراض، ثم لا يخفى أنه إذا كان المراد من غسق الليل وقت العشاء وفسر الغسق باجتماع الظلمة وشدتها كان ذلك مؤيدا لما في ظاهر الرواية عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه من أن أول وقت العشاء حين يغيب الشفق بمعنى البياض الذي يعقب الخمرة في الأفق الغربي لأن الظلمة لا تجتمع ولا تشتد ما لم يغب، ولا يأبى ذلك أن الأحاديث الصحيحة صريحة في أن أول وقتها حين يغيب الشفق وهو اللغة الحمرة المعلومة لأن تفسيره بالبياض قد جاء أيضا، وروي ذلك عن أبي بكر الصديق وعمر ومعاذ بن جبل وعائشة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ورواه عبد الرازق عن أبي هريرة وعن عمر بن عبد العزيز، وبه قال الأوزاعي والمزني وابن المنذر والخطابي، واختاره المبرد وثعلب، وما رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أول وقت العشاء حين يغيب الأفق» ظاهر في كون الشفق البياض إذ لا غيبوبة للأفق إلا بسقوطه نعم ذهب صاحباه إلى أنه الحمرة وهو (1) قول ابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم، ورواه أسد بن عمرو عن الإمام أيضا لكنه خلاف ظاهر الرواية عنه، والصحيح المفتي به عندنا ما جاء في ظاهر الرواية، وقد نص على ذلك المحقق ابن الهمام والعلامة قاسم وابن نجيم وغيرهما، وما قاله الإمام أبو المفاخر من أن الإمام رجع إلى قولهما وقال إنه الحمرة لما ثبت عنده من حمل عامة الصحابة إياه على ذلك وعليه الفتوى وتبعه المحبوبي وصدر الشريعة ليس بشيء لأن الرجوع لم يثبت ودون إثباته مع نقل الكافة عن الكافة خلافه خرط القتاد، وكذا دعوى حمل عامة الصحابة خلاف المنقول كما سمعت حتى أن البيهقي لم يرو أن الشفق الحمرة إلا عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما. وما رواه الدارقطني عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «الشفق الحمرة فإذا غاب وجبت الصلاة» قال البيهقي والنووي فيه الصحيح أنه موقوف على ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ومثل هذا الاختلاف الاختلاف في أول وقت العصر فقال الإمام: هو إذا صار ظل كل شيء مثليه بعد ظل الزوال وقالا: إذا صار ظل كل شيء مثله بعد ظل الزوال، وفتوى المحققين على قوله رحمة الله تعالى عليه بل قال ابن نجيم: إن الإفتاء بغيره لا يجوز وقد أطال الكلام في ذلك في رسالته رفع الغشاء عن وقتي العصر والعشاء وَقُرْآنَ الْفَجْرِ عطف على مفعول «أقم» أو نصب على الإغراء كما قال الزجاج وأبو البقاء والجمهور على الأول، والمراد بقرآن الفجر صلاته كما روي عن ابن عباس ومجاهد، وسميت قرآنا أي قراءة لأنها ركنها كما سميت ركوعا وسجودا وهذه حجة على ابن علية. والأصم في زعمهما أن القراءة ليست بركن في الصلاة قاله في الكشاف ورد بأن ذلك لا يدل على الركنية لجواز كون مدار التجوز كون القراءة مندوبة فيها وفي الكشف أنه مدفوع بأن العلاقة المعتبرة في إطلاق غير الصلاة وإرادة الصلاة هي علاقة الكل والجزء بدليل النظائر وهاهنا إذ ورد تجوزا فحمله على معلوم النظير من الاستقراء واجب على أن الندبية لا تصلح علاقة معتبرة إلا بالتكلف، وجعل، سبح بمعنى صلى لأن التسبيح بمعنى التنزيه البالغ والمصلى مسبح قولا بقراءة الفاتحة بل بالتكبير الواجب بالاتفاق وفعلا أيضا بالركوع والسجود مثلا الدالين على كمال التعظيم والتبجيل فهو الركن كله لا لأن التسبيح بمعنى   (1) أي في رواية اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 129 قول سبحان الله ليقال تجوز عن الصلاة بما هو مندوب فيها. وتعقب بأن الاكتفاء بعلاقة الندبية التي يقول بها الأصم وابن علية لا تكلف فيه فإن القرآن جزء من الصلاة الكاملة فيكون ذلك كالنظائر بلا ضرر ولا ضير، وبأن مذهبهما في التكبير غير معلوم فدعوى الاتفاق غير مسلمة منه ولو كان كما ذكره لكان الوجوب كافيا في علاقة أخرى وهي اللزوم وفيه بحث، وأبقى الجصاص القرآن على حقيقته وقال في الآية دلالة على وجوب القراءة في صلاة الفجر لأن التقدير فيها وأقم قرآن الفجر والأمر للوجوب ولا قراءة في ذلك الوقت واجبة إلا في الصلاة وزعم أن كون المعنى صلوا الفجر غلط من وجهين الأول أنه صرف عن الحقيقة بغير دليل، والثاني أن فَتَهَجَّدْ بِهِ فيما بعد يأباه إذ لا معنى للتهجد بصلاة الفجر، وفيه أن الدليل قائم وهو أَقِمِ لاشتهار أَقِمِ الصَّلاةَ دون أقم القراءة وضمير بِهِ فيما بعد يجوز أن يرجع إلى القرآن بمعناه الحقيقي استخداما وهو أكثر من أن يحصى ثم متى دلت الآية على وجوب القراءة في صلاة الفجر نصا كان ثبوت وجوبها في غيرها من الصلاة قياسا، وذكر بعضهم أن في التعبير عن صلاة الفجر بخصوصها بما ذكر إشارة إلى أنه يطلب فيها من تطويل القراءة ما لم يطلب في غيرها وهو حسن، وقال الإمام: إن في الآية دلالة على أنه يسن التغليس في صلاة الفجر لأنه أضيف فيها القرآن إلى الفجر على معنى أقم قرآن الفجر والأمر للوجوب والفجر أول طلوع الصبح لانفجار ظلمة الليل عن نور الصباح حينئذ ولذلك سمي الفجر فجرا فيقتضي ذلك وجوب إقامة صلاة الفجر أول الطلوع وحيث أجمع على عدم وجوب ذلك بقي الندب لأن الوجوب عبارة عن رجحان مانع الترك فإذا منع مانع من تحقق الوجوب كالإجماع هنا وجب أن يرتفع المنع من الترك وأن يبقى أصل الرجحان حتى تقل مخالفة الدليل. وأنت تعلم ما للعلماء من الخلاف في الباقي بعد رفع الوجوب، وما ذكر قول في المسألة لكنه لا يفيد المطلوب لأن صلاة الفجر اسم للصلاة المخصوصة سواء وقعت بغلس أم اسفار، والأخبار الصحيحة تدل على سنية الأسفار بها كخبر الترمذي وهو كما قال: حسن صحيح «أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر» وحمله على تبين الفجر حتى لا يكون شك في طلوعه ليس بشيء إذ ما لم يتبين لا يحكم بجواز الصلاة فضلا عن إصابة الأجر المفاد بآخر الخبر ولو حمل أعظم فيه على عظيم ورد أن المناسب في التعليل فإنه لا تصح الصلاة بدونه على أنه على ما فيه ينفيه رواية الطحاوي أسفروا بالفجر فكلما أسفرتم فهو أعظم الأجر أو لأجوركم أو كما قال، وروي بسنده الصحيح عن إبراهيم قال: ما اجتمع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على شيء ما اجتمعوا على التنوير، ومحال نظرا إلى علو شأنهم أن يجتمعوا على خلاف ما فارقهم عليه حبيبهم رسول الله عليه الصلاة والسلام. وفي الصحيحين عن ابن مسعود وما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلى صلاة لميقاتها إلا صلاتين صلاة المغرب والعشاء بجمع وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها مع أنه كان بعد الفجر كما يفيده لفظ البخاري فيكون المراد قبل ميقاتها الذي اعتاد الأداء فيه، والظاهر أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يعتاد التغليس إلا أنه فعله يومئذ ليمتد الوقوف، ونحن نقول بسنيته بفجر جمع لهذا الحديث. وخبر عائشة رضي الله تعالى عنها «كان صلّى الله عليه وسلّم يصلي الصبح بغلس فتشهد معه نساء ملتفعات بمروطهن ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس» حمل الغلس فيه بعض أصحابنا على غلس داخل المسجد، ويأباه قولها: ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس إذ لا يمكن حمل هذا الغلس المانع من معرفتهن في طريق رجوعهن إلى بيوتهن على غلس داخل المسجد، وكون المراد ما يعرفهن أحد في داخل المسجد من الغلس خلاف الظاهر على تقدير جعل الجملة حالا من ضمير يرجعن. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 130 والظاهر ما أشرنا إليه، وكذا جعل الجملة حالا من نساء أو صفة لها كأنه قيل فتشهد معه نساء ملتفعات بمروطهن ما يعرفهن أحد من الغلس ثم يرجعن إلى بيوتهن، وقيل كان ذلك في يوم غيم، ويبعده كان فإنها شائعة الاستعمال فيما كان يداوم عليه عليه الصلاة والسلام، وقيل هو منسوخ كما يدل عليه اجتماع الصحابة على التنوير، ويبعد ذلك أن النسخ يقتضي سابقية وجود المنسوخ، وقول ابن مسعود: ما رأيت إلخ يفيد أن لا سابقية له. وقال بعضهم: ترجح في الأخبار المتعارضة هنا رواية الرجال خصوصا مثل ابن مسعود فإن الحال أكشف لهم في صلاة الجماعة فتأمل. وذكر الطحاوي أن الذي ينبغي الدخول في الفجر وقت التغليس والخروج وقت الأسفار، وهو قول الإمام أبي حنيفة وصاحبيه وهو خلاف ما يذكره الأصحاب عنهم من البدء والختم في الأسفار وهو الذي يفيده حديث الترمذي وغيره والله تعالى أعلم، ثم إن صلاة الفجر وإن كانت إحدى الصلوات الخمس التي فرضت ليلة الإسراء عليه صلّى الله عليه وسلّم وعلى أمته ودلت هذه الآية على وجوب إقامتها كذلك إلا أنه عليه الصلاة والسلام لم يصلها صبح تلك الليلة لعدم العلم بكيفيتها حينئذ وإنما علم الكيفية بعد. وقد قدمنا قريبا أن البداءة وقعت في صلاة الظهر إشارة إلى أن دينه عليه الصلاة والسلام سيظهر على الأديان ظهورها على بقية الصلوات، ونوه سبحانه هنا بشأن صلاة الفجر بقوله عز وجل: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ حيث لم يقل سبحانه إنه كانَ مَشْهُوداً أخرج أحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي والحاكم وصححاه وجماعة عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال في تفسير ذلك: تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار، وفي الصحيحين عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر ثم قال أبو هريرة: «اقرؤوا إن شئتم وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً» . والمراد بهؤلاء الملائكة الكتبة والحفظة فتنزل ملائكة النهار وتصعد ملائكة الليل وتلتقي الطائفتان في ذلك الوقت، وكذا تلتقي الطائفتان وأمر النزول والصعود على العكس وقت العصر كما جاء في الآثار، وهذا مما يعكر على الإمام في زعمه أن هذا أيضا دليل قوي على أن التغليس أفضل من التنوير لأن الإنسان إذا شرع في الصلاة من أول الصبح يكون ملائكة الليل حاضرين لبقاء الظلمة فإذا امتدت الصلاة بسبب ترتيل القراءة وتكثيرها زالت الظلمة وظهر الضوء وحضر ملائكة النهار فإنه يلزمه على هذا البيان الذي لا يروج إلا على الصبيان القول بأن تأخير صلاة العصر إلى أن يزول الضوء وتظهر الظلمة وهو لا يقول به بل لا يقول به أحد. وهل الطائفة التي تشهد اليوم مثلا تشهد غدا أو كل يوم تشهد طائفة أخرى لم تشهد قبل ولا تشهد بعد فيه خلاف، وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى فيما يتعلق بذلك. وقيل يشهد الكثير من المصلين في العادة، وقيل من حقه أن تشهده الجماعة الكثيرة، وقيل تشهده وتحضر فيه شواهد القدرة من تبدل الضياء بالظلمة والانتباه بالنوم الذي هو أخو الموت، وهو احتمال أبداه الإمام وبسط الكلام فيه، ثم قال: وهذا المراد من قوله تعالى إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً ثم ذكر احتمال كون المراد مشهودا بالجماعة الكثيرة وبسط الكلام أيضا في تحقيقه، وأنت تعلم أنه لا وجه للحصر المدلول عليه بقوله: وهذا هو المراد، ثم إبداء ذلك الاحتمال على أنه بعد ما صح تفسير النبي صلّى الله عليه وسلّم له بما سمعت لا ينبغي أن يقال في غيره هذا هو المراد، ولا يخفى ما في هذه الجملة من الترغيب والحث على الاعتناء بأمر صلاة الفجر لأن العبد في ذلك الوقت مشيع كراما ومتلقى كراما فينبغي أن يكون على أحسن حال يتحدث به الراحل ويرتاح له النازل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 131 وَمِنَ اللَّيْلِ قيل أي وعليك بعض الليل، وظاهره أنه من باب الإغراء كما نقل عن الزجاج وأبي البقاء في قوله تعالى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ وتعقبه أبو حيان بأن المغرى به لا يكون حرفا، ولا يجدي نفعا كون من للتبعيض لأن ذلك لا يجعلها اسما ألا ترى إجماع النحاة على أن واو مع حرف وإن قدرت بمع، وأجيب بأنه يحتمل أن يكون القائل بذلك قائلا باسمية مِنَ في مثل ذلك كما قالوا باسمية الكاف في نحو فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل: 5] وعن في نحو من عن يمين تارة وشمالي وعلى نحو من عليه، وكذا القائل بأن ذلك نصب على الظرفية بمقدر أي وقم بعض الليل، واختار الحوفي أن من متعلقة بفعل دل عليه معنى الكلام أي وأسهر من الليل فالفاء في قوله تعالى: فَتَهَجَّدْ بِهِ إما عاطفة على ذلك المقدر أو مفسرة بناء على أنه من أسلوب وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة: 40] وفي الكشف أن الإغراء هو الظاهر هاهنا بخلافه فيما تقدم لأن النصب على التفسير والصلات مختلفة لا يتضح كل الاتضاح، ومعنى الإغراء من السابق واللاحق تتعاضد الأدلة عليه، وفيه منع ظاهر، والتهجد على ما نقل عن الليث الاستيقاظ من النوم للصلاة ويطلق على نفس الصلاة بعد القيام من النوم ليلا يقال: تهجد أي صلى في الليل بعد الاستيقاظ وكذا هجد وهذا يقتضي سابقية النوم في تحقق التهجد فلو لم ينم وصلى ما شاء لا يقال له تهجد، وهو المروي عن مجاهد والأسود وعلقمة وغيرهم، وقال المبرد: هو السهر للصلاة أو لذكر الله تعالى، وقيل: السهر للطاعة وظاهره عدم اشتراط سابقية النوم في تحققه، والمشهور أن ذلك يسمى قياما وما بعد النوم يسمى تهجدا، وأغرب الحجاج بن عمرو المازني فإنه روي عنه أنه قال: أيحسب أحدكم إذا قام من الليل فصلى حتى يصبح أنه قد تهجد إنما التهجد الصلاة بعد الرقاد ثم صلاة أخرى بعد رقدة ثم صلاة أخرى بعد رقدة هكذا كانت صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا أقول: إن تخلل النوم بين الصلوات جاء في صحيح مسلم من رواية حصين عن حبيب بن أبي ثابت، وهي مما استدركها الدارقطني على مسلم لاضطرابها فقد قال وروي عنه على سبعة أوجه وخالف فيه الجمهور يعني الخبر الذي فيه تخلل النوم، والكثير من الروايات ليس فيه ذلك فليحفظ. واشترط أن لا تكون الصلاة إحدى الخمس فلو نام عن العشاء ثم قام فصلاها لا يسمى متهجدا ولا ضرر في كونها واجبة كأن نام عن الوتر ثم قام إليها، وفي القاموس الهجود النوم كالتهجد وتهجد استيقظ كهجد ضد، وقال ابن الأعرابي: هجد الرجل صلى من الليل وهجد نام بالليل، وقال أبو عبيدة: الهاجد النائم والمصلي، وفي مجمع البيان أنه يقال هجدته إذا أنمته، وعليه قول لبيد: قلت هجدنا فقال طال السرى ونقل عن ابن برزخ أنه يقال: هجدته إذا أيقظته ومصدر هذا التهجيد، وصرح في القاموس بأنه من الأضداد أيضا. وذكر بعضهم أن المعروف في كلام العرب كون الهجود بمعنى النوم وفسر التهجد بترك الهجود أي النوم على أن التفعل للسلب كالتأثم والتحنث وهو مأخذ من فسره بالاستيقاظ، ويجوز أن يقال: إن التفعل للتكلف أي تكلف الهجود بمعنى اليقظة، ورجح هذا بأن مجيء التفعل للتكلف أكثر من مجيئه للسلب. وعورض بأن استعمال الهجود في اليقظة مختلف في ثبوته وإن ثبت فهو أقل من استعماله في النوم، والضمير المجرور في بِهِ للقرآن من حيث هو لا بقيد إضافته إلى الفجر، واستدل بذلك على تطويل القراءة في صلاة التهجد، وقد صرح العلماء بندب ذلك، وفي صحيح مسلم من حديث حذيفة «صليت وراء النبي صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت يركع عند المائة ثم مضى فقلت يصلي بها في ركعة فمضى فقلت يركع بها ثم افتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها يقرأ مترسلا إذا مر بآية تسبيح سبح» الخبر ويجوز أن يكون للبعض المفهوم من قوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ والباء للظرفية أي فتهجد في ذلك البعض. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 132 وقال ابن عطية: هو عائد على الوقت المقدر في النظم الكريم أي قم وقتا من الليل فتهجد فيه نافِلَةً لَكَ فريضة زائدة على الصلوات الخمس المفروضة خاصة بك دون الأمة، ولعله الوجه في تأخير ذكرها عن ذكر صلاة الفجر مع تقدم وقتها على وقتها، واستدل به على أن ما أمر به صلّى الله عليه وسلّم فأمته مأمورون به أيضا إلا أن يدل دليل على الاختصاص كما هنا ويدل على أن المراد ما ذكر ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في ذلك يعني خاصة للنبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بقيام الليل وكتب عليه لكن صحح النون أنه نسخ عنه عليه الصلاة والسلام فرضية التهجد ونقله أبو حامد من الشافعية وقالوا إنه الصحيح. وقيل الخطاب في لَكَ له صلّى الله عليه وسلّم والمراد هو وأمته على حد الخطاب في أَقِمِ الصَّلاةَ فيما سبق أي فريضة زائدة على الصلوات الخمس لنفعكم ففيه دليل على فرضية التهجد عليه عليه الصلاة والسلام وعلى أمته لكن نسخ ذلك في حق الأمة وبقي في حقه عليه الصلاة والسلام بناء على ما أخرجه ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: نسخ قيام الليل إلا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أو ونسخ في حقه صلّى الله عليه وسلّم أيضا بناء على الصحيح، وهو خلاف الظاهر جدا، ويجوز أن يراد بالنافلة الفضيلة إما لأنه عليه الصلاة والسلام فضل على أمته بوجوبها وأن نسخ بعد أو لأنها فضيلة له صلّى الله عليه وسلّم وزيادة في درجاته وليست بالنسبة إليه مكفرة للذنوب وسادّة للخلل الواقع في الفرائض كما أنها وسائر النوافل بالنسبة إلى الأمة كذلك لكونه عليه الصلاة والسلام قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وفرائضه وسائر تعبداته واقعة على الوجه الأكمل. وقد أخرج هذا الأخير البيهقي في الدلائل وابن جرير وغيرهما عن مجاهد، وابن أبي حاتم عن قتادة، وابن المنذر عن الحسن، واستحسنه الإمام، وضعفه الطبري، وجوز ابن عطية عموم الخطاب كما سمعت آنفا إلا أنه حمل نافلة على تطوعا وليس بشيء أيضا، وربما يختلج في بعض الأذهان بناء على ما تقدم عن أبي البقاء في قوله تعالى: سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا من أنه بتقدير اتبع سنة كما قال سبحانه: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] احتمال أن يكون قوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ إلخ بيانا للاتباع المأمور به، وهو متضمن للأمر بالصلوات الخمس، وقد كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يصلونها على ما يدل قول جبريل عليه السلام في خبر تعليمه عليه الصلاة والسلام كيفية الصلاة بعد صلاته الخمس: هذا وقت الأنبياء من قبلك فإنه ظاهر في أنهم عليهم السلام كانوا يصلونها، غاية ما في الباب أنه على القول بأنها لم تجتمع لغير نبينا صلّى الله عليه وسلّم وهو الصحيح يحتمل أن المراد أنه وقتهم على الإجمال وإن اختص من اختص منهم بوقت، حيث ورد أن الصبح لآدم، والظهر لداود، وفي رواية لإبراهيم، والعصر لسليمان، وفي رواية ليونس، والمغرب ليعقوب، وفي رواية لعيسى، والعشاء ليونس، وفي رواية لموسى عليهم السلام إلا أن ذلك لا يضر بل هو أنسب بالأمر باتباع سنة جميعهم، وقد استدل الإمام على أنه صلّى الله عليه وسلّم أفضل من سائر الأنبياء عليهم السلام بقوله تعالى: «فبهداهم اقتده» من جهة أنه عليه الصلاة والسلام أمر بالاقتداء بهدي جميعهم وامتثل ذلك فكان عنده من الهدى ما عند الجميع فيكون أفضل من كل واحد منهم، وحينئذ يقال معنى كون ذلك نافلة له عليه الصلاة والسلام أنه زائد على الصلوات الخمس خاص به صلّى الله عليه وسلّم دون سائر الأنبياء عليهم السلام المأمور باتباع سنتهم، وهو مما لا ينبغي أن يلتفت إليه ويعول عليه بل اللائق به أن يجعل من قبيل حديث النفس وتخيلها بحرا من مسك موجه الذهب فإن فساده تأصيلا وتفريعا مما لا يخفى على من له أدنى مسكة وأقل اطلاع، والله تعالى العاصم من الزلل والحافظ من الخطأ والخطل، وانتصاب نافِلَةً إما على المصدرية بتقدير تنفل وقدر الحوفي نفلناك أو بجعل تهجد بمعنى تنفل أو بجعل نافلة بمعنى تهجدا، فإن ذلك عبادة زائدة، وإما على الحال من الضمير الراجع إلى القرآن أي حال كونه صلاة نافلة كما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 133 قال أبو البقاء، وإما على المفعول لتهجد كما جوزه الحوفي إذا كان بمعنى صل، وجعل الضمير المجرور للبعض المفهوم، أو للوقت المقدر أي فصل فيه نافلة لك عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ الذي يبلغك إلى كمالك اللائق بك من بعد الموت الأكبر لما انبعثت من الموت الأصغر بالصلاة والعبادة، فالمعنى على التعليل والتهوين لمشقة قيام الليل حتى زعم بعضهم أن عسى بمعنى كي، وهو وهم بل هي كما قال أهل المعاني للأطماع، ولما كان إطماع الكريم إنسانا بشيء ثم حرمانه منه غرورا والله عز وجل أجل وأكرم من أن يغر أحدا فيطمعه في شيء ثم لا يعطيه قالوا هي للوجوب منه تعالى مجده على معنى أن المطمع به يكون ولا بد للوعد، وقيل هي على بابها للترجي لكن يصرف إلى المخاطب أي لتكن على رجاء من أن يبعثك ربك مَقاماً مَحْمُوداً وهي تامة وأَنْ يَبْعَثَكَ فاعلها ورَبُّكَ فاعله ومَقاماً كما قال جمع منصوب على الظرفية إما على إضمار فعل الإقامة أو على تضمين الفعل المذكور ذلك أي عسى أن يبعثك فيقيمك مقاما أي في مقام، أو يقيمك في مقام محمود باعثا إذ لا يصح أن يعمل في مثل هذا الظرف إلا فعل فيه معنى الاستقرار خلافا للكسائي، واستظهر في البحر كونه معمولا ليبعثك، وهو مصدر من غير لفظ الفعل لأن نبعث بمعنى نقيم تقول أقيم من قبره، وبعث من قبره. وجوز أبو البقاء وغيره كونه حالا بتقدير مضاف أي نبعثك ذا مقام، وقيل يجوز أن يكون مفعولا به ليبعثك على تضمينه معنى نعطيك، وجوز أبو حيان أن تكون عسى ناقصة ورَبُّكَ الفاعل على تقدير أن ينتصب مَقاماً بمحذوف لا يبعث لئلا يلزم الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي، وتنكير مَقاماً للتعظيم، والمراد بذلك المقام مقام الشفاعة العظمى في فصل القضاء حيث لا أحد إلا وهو تحت لوائه صلّى الله عليه وسلّم فقد أخرج البخاري وغيره عن ابن عمر قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إن الشمس لتدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم فيقول لست بصاحب ذلك ثم موسى فيقول كذلك ثم محمد فيشفع فيقضي الله تعالى بين الخلق فيمشي حتى يأخذ بحلقة باب الجنة فيومئذ يبعثه الله تعالى مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم» . وأخرج الترمذي وحسنه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر ويبدي لواء الحمد ولا فخر وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر فيفزع الناس ثلاث فزعات فيأتون آدم فيقولون أنت أبونا فاشفع لنا إلى ربك فيقول إني أذنبت ذنبا أهبطت منه إلى الأرض ولكن ائتوا نوحا فيأتون نوحا فيقول إني دعوت على أهل الأرض دعوة فأهلكوا ولكن اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم فيقول ائتوا موسى (1) فيقول إني قتلت نفسا ولكن ائتوا عيسى فيقول إني عبدت من دون الله تعالى ولكن ائتوا محمدا فيأتوني فأنطلق معهم فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها فيقال من هذا فأقول محمد فيفتحون لي ويقولون مرحبا فأخر ساجدا فيلهمني الله تعالى من الثناء والحمد والمجد فيقال ارفع رأسك سل تعط واشفع تشفع وقل يسمع لقولك فهو المقام المحمود الذي قال الله تعالى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً. وجاء في بعض الروايات أنه عليه الصلاة والسلام يسجد أربع سجدات أي كسجود الصلاة كما هو الظاهر تحت العرش فيجاب لما فزعوا إليه، وذكر الغزالي في الدرة الفاخرة أن بين إتيانهم نبيا وإتيانهم ما بعده ألف سنة ولا أصل له كما قال الحافظ ابن حجر، وقيل هو مقام الشفاعة لأمته صلّى الله عليه وسلّم لما أخرجه أحمد والترمذي والبيهقي في الدلائل   (1) قوله فيقول ائتوا موسى إلخ كذا في نسخة المؤلف وعبارة صحيح الترمذي فيقول إني كذبت ثلاث كذبات ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما منها كذبة إلا ما حل بها عن دين الله ولكن ائتوا موسى فيأتون موسى فيقول إلخ . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 134 عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه سئل عن المقام المحمود في الآية فقال: «هو المقام الذي شفع فيه لأمتي» وأجاب من ذهب إلى الأول بأنه يحتمل أن يكون المراد المقام الذي أشفع فيه أولا لأمتي فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أيضا من حديث طويل في الشفاعة فيه فزع الناس إلى آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام واعتذار كل منهم ما عدا عيسى عليه السلام بذنب أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «فيأتوني- يعني الناس- بعد من علمت من الأنبياء عليهم السلام فيقولون يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء وقد غفر الله تعالى لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي ثم يفتح الله تعالى علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي ثم يقال يا محمد ارفع رأسك سل تعطه واشفع تشفع فأرفع رأسي فأقول أمتي يا رب فيقال يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب» ومن الناس من فسره بمقام الشفاعة في موقف الحشر حيث يعترف الجميع بالعجز أعم من أن تكون عامة كالشفاعة لفصل القضاء أو خاصة كالشفاعة لبعض عصاة أمته صلّى الله عليه وسلّم في العفو عنهم، والاقتصار على أحد الأمرين في بعض الأخبار لنكتة اقتضاها الحال ولكل مقام مقال، وحمل هذا الشفاعة للأمة في خبر أبي هريرة المتقدم على الشفاعة لبعض عصاتهم في الموقف قبل دخولهم النار وإلا فلو أريد الشفاعة لهم بعد الحساب ودخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار كما روي عن أبي سعيد لم يتيسر الجمع بين الروايات إلا بأن يقال: المقام المحمود هو مقام الشفاعة أعم من أن تكون في الموقف عامة وخاصة وأن تكون بعد ذلك ويكون الاقتصار لنكتة، وقد جاء تفسيره بمقام الشفاعة مطلقا، فقد أخرج ابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص قال: سئل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن المقام المحمود فقال: هو الشفاعة ، وأخرج ابن جرير عن وهب عن أبي هريرة «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: المقام المحمود الشفاعة» . وأخرج ابن جرير والطبراني وابن مردويه من طرق عن ابن عباس أنه فسره بذلك، ثم الشفاعة من حيث هي وإن شاركه فيها صلّى الله عليه وسلّم غيره من الملائكة والأنبياء عليهم السلام وبعض المؤمنين إلا أن الشفاعة الكاملة والأنواع الفاضلة لا تثبت لغيره عليه الصلاة والسلام، وقد أوصل بعضهم الشفاعة المختصة به صلّى الله عليه وسلّم إلى عشر وذكره بعض شراح البخاري فليراجع، ووصف المقام بأنه محمود على ما ذكر باعتبار أن النبي صلّى الله عليه وسلّم يحمد فيه على أنعامه الواصل إلى الخاص والعام من أصناف الأنام. وأخرج النسائي والحاكم وصححه وجماعة عن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال: «يجمع الناس في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر حفاة عراة كما خلقوا قياما لا تكلم نفس إلا بإذنه فينادي يا محمد فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس إليك والمهدي من هديت وعبدك بين يديك وبك وإليك لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت» فهذا المقام المحمود وأخرج الطبراني عن ابن عباس أنه قال في الآية: يجلسه فيما بينه وبين جبريل عليه السلام ويشفع لأمته فذلك المقام المحمود. وأخرج ابن جرير عن مجاهد أنه قال: المقام المحمود أن يجلسه معه على عرشه، وأنت تعلم أن الحمد على أكثر ما في هذه الروايات مجاز عند من يقول: إنه مختص بالثناء على الأنعام، وأما عند من يقول بعدم الاختصاص فلا مجاز، وتعقب الواحدي القول بأن المقام المحمود إجلاسه صلّى الله عليه وسلّم عز وجل على العرش بعد ذكر روايته عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بأنه قول رذل موحش فظيع لا يصح مثله عن ابن عباس، ونص الكتاب ينادي بفساده من وجوه، الأول أن البعث ضد الإجلاس يقال بعث الله تعالى الميت إذا أقامه من قبره وبعثت البارك والقاعد فانبعث فتفسيره به تفسير الضد بالضد، الثاني لو كان جالسا سبحانه وتعالى على العرش لكان محدودا متناهيا فيكون محدثا تعالى عن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 135 ذلك علوا كبيرا، الثالث أنه سبحانه قال مَقاماً ولم يقل مقعدا والمقام موضع القيام لا القعود، الرابع أن الحمقى والجهال يقولون: إن أهل الجنة كلهم يجلسون معه تعالى ويسألهم عن أحوالهم الدنياوية فلا مزية له صلّى الله عليه وسلّم بإجلاسه معه عز وجل الخامس أنه إذا قيل: بعث السلطان فلانا يفهم منه أنه أرسله إلى قوم لإصلاح مهماتهم ولا يفهم منه أنه أجلسه مع نفسه انتهى. وأبو عمر لم يطلع إلا على رواية ذلك عن مجاهد فقال: إن مجاهدا وإن كان أحد الأئمة بتأويل القرآن حتى قيل: إذا جاءك التأويل عن مجاهد فحسبك إلا أن له قولين مهجورين عند أهل العلم، أحدهما تأويل المقام المحمود بهذا الإجلاس، والثاني تأويل إلى ربها ناظرة بانتظار الثواب. وذكر النقاش عن أبي داود السجستاني أنه قال: من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متهم فما زال أهل العلم يحدثون به، قال ابن عطية: أراد من أنكره على تأويله فهو متهم وقد يؤول قوله صلّى الله عليه وسلّم يجلسني معه على رفع محله وتشريفه على خلقه كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ [الأعراف: 206] وقوله سبحانه: حكاية ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً [التحريم: 11] وقوله تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: 69] إلى غير ذلك مما هو كناية عن المكانة لا عن المكان. وأنت تعلم أنه لا ينبغي لمجاهد ولا لغيره أن يفسر المقام المحمود بالإجلاس على العرش حسبما سمعت من غير أن يثبت عنده ذلك الإجلاس في خبر كخبر الديلمي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قوله سبحانه: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ إلخ يجلسني معه على السرير» فإن تمسك المفسر بهذا أو نحوه لم يناظر إلا بالطعن في صحته وبعد إثبات الصحة لا مجال للمؤن إلا التسليم، وما ذكره الواحدي لا يستلزم عدم الصحة فكم وكم من حديث نصوا على صحته ويلزم من ظاهره المحال كحديث أبي سعيد الخدري المشتمل على رؤية المؤمنين الله عز وجل ثم إتيانه إياهم في أدنى صورة من التي رأوه فيها، وقوله تعالى لهم: أَنَا رَبُّكُمْ [الأنبياء: 92] وقولهم نعوذ بالله تعالى منك حتى يكشف لهم عن ساق فيسجدون ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة وهو في الصحيحين، وحديث لقيط بن عامر المشتمل على قوله صلّى الله عليه وسلّم: «تلبثون ما لبثتم ثم يتوفى نبيكم ثم تلبثون ما لبثتم ثم تبعث الصائحة- لعمر إلهك- لا تدع على ظهرها شيئا إلا مات والملائكة الذين مع ربك عز وجل فأصبح ربك يطوف في الأرض وخلت عليه البلاد» الحديث ، وقد رواه أئمة السنة في كتبهم وتلقوه بالقبول وقابلوه بالتسليم والانقياد إلى ما لا يحصى من هذا القبيل، ومذاهب المحدثين وأهل الفكر من العلماء في الكلام على ذلك مما لا تخفى، ومتى أجريت هناك فلتجر هنا فالكل قريب من قريب. والصوفية يقولون: إن لله عز وجل الظهور فيما يشاء على ما يشاء وهو سبحانه في حال ظهوره باق على إطلاقه حتى عن قيد الإطلاق فإنه العزيز الحكيم ومتى ظهر جل وعلا في صورة أجريت عليه سبحانه أحكامها من حيث الظهور فيوصف عز مجده عندهم بالجلوس ونحوه من تلك الحيثية وينحل بذلك أمور كثيرة إلا أنه مبني على ما دون إثباته خرط القتاد ويرد على ما ذكره الواحدي في الوجه الثالث أن المقام وإن كان في الأصل بمعنى محل القيام إلا أنه شاع في مطلق المحل ويطلق على الرتبة والشرف، وعلى ما ذكره في الوجه الأول أنه ليس هناك إلا تفسير المقام المحمود بالإجلاس لا تفسير البعث بالإجلاس نعم فيه مسامحة، والمراد أن إحلاله في المحل المحمود هو إجلاسه على العرش، وهذا المعنى يتأتى بإبقاء البعث على معناه وتقدير فيقيمك بمعنى فيحلك وبتفسيره بالإقامة بمعنى الإحلال، وقد يقال: لا مسامحة والمراد من المقام الرتبة، والبعث متضمن معنى الإعطاء أي عسى يعطيك ربك رتبة محمودة وهي إجلاسه إياك على عرشه باعثا، وما ذكره في الوجه الثاني حق لو أريد من الجلوس على العرش ظاهره أن أريد معنى آخر فلا نسلم اللازم وباب التأويل واسع، وقد أول الجزء: 8 ¦ الصفحة: 136 الإجلاس معه على رفع المحل والتشريف وهو مقول بالتشكيك فمتى صح أن أهل الجنة كلهم يجلسون معه آمنا به مع إثبات المزية للرسول صلّى الله عليه وسلّم فاندفع ما ذكره في الوجه الرابع، ويرد على ما في الوجه الخامس أن الإجلاس معه لم يفهم من مجرد البعث وما ادعى أحد ذلك فكون بعث السلطان فلانا يفهم منه أنه أرسله إلى قوم لإصلاح مهماتهم ولا يفهم منه أنه أجلسه مع نفسه لا يضرنا كما لا يخفى على منصف. وبالجملة كل ما قيل أو يقال لا يصغى إليه إن صح التفسير عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لكن يبقى حينئذ أنه يلزم التعارض بين ظواهر الروايات، ومن هنا قال بعضهم: المراد بالمقام المحمود ما ينتظم كل مقام يتضمن كرامة له صلّى الله عليه وسلّم، والاقتصار في بعض الروايات على بعض لنكتة نحو ما مر، ووصفه بكونه محمودا إما باعتبار أنه صلّى الله عليه وسلّم يحمد لله تعالى عليه أبلغ الحمد أو باعتبار أن كل من يشاهده يحمده ولم يشترط أن يكون الحمد في مقابلة النعمة ويدخل في هذا كل مقام له صلّى الله عليه وسلّم محمود في الجنة. وكذا يدخل فيه ما جوز مفتي الصوفية سيدي شهاب الدين السهروردي أن يكون المقام المحمود وهو إعطاؤه عليه الصلاة والسلام مرتبة من العلم لم تعط لغيره من الخلق أصلا فإنه ذكر في رسالة له في العقائد أن علم عوام المؤمنين يكون يوم القيامة كعلم علمائهم في الدنيا ويكون علم العلماء إذ ذاك كعلم الأنبياء عليهم السلام ويكون علم الأنبياء كعلم نبينا صلّى الله عليه وسلّم ويعطى نبينا عليه الصلاة والسلام من العلم ما لم يعط أحد من العالمين ولعله المقام المحمود ولم أر ذلك لغيره عليه الرحمة والله تعالى أعلم. ثم هذا الاختلاف في المقام المحمود هنا لم يقع فيه في دعاء الأذان بل ادعى العلامة ابن حجر الهيتمي أنه فيه مقام الشفاعة العظمى لفصل القضاء اتفاقا فتأمل في هذا المقام والله تعالى ولي الإنعام والإفهام. وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ أي إدخالا مرضيا جيدا لا يرى فيه ما يكره، والإضافة للمبالغة. وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ نظير الأول واختلف في تعيين المراد من ذلك فأخرج الزبير بن بكار عن زيد بن أسلم أن المراد إدخال المدينة والإخراج من مكة ويدل عليه ما قيل قوله تعالى: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ إلخ. وأيد بما أخرجه أحمد والطبراني والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وجماعة عن ابن عباس قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم بمكة ثم أمر بالهجرة فأنزل الله تعالى عليه وَقُلْ رَبِّ الآية، وبدأ بالإدخال لأنه الأهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه الإدخال في القبر والإخراج منه وأيد بذكره بعد البعث، وقيل إدخال مكة ظاهرا عليها بالفتح وإخراجه صلّى الله عليه وسلّم منها آمنا من المشركين، وقيل إخراجه من المدينة وإدخال مكة بالفتح، وقال محمد بن المنكدر: إدخاله الغار وإخراجه منه، وقيل الإدخال في الجنة والإخراج من مكة، وقيل الإدخال في الصلاة والإخراج منها، وقيل الإدخال في المأمورات والإخراج عن المنهيات وقيل الإدخال فيما حمله صلّى الله عليه وسلّم من أعباء النبوة وأداء الشرع وإخراجه منه مؤديا لما كلفه من غير تفريط، وقيل الإدخال في بحار التوحيد والتنزيه والإخراج من الاشتغال بالدليل إلى معرفة المدلول والتأمل في الآثار إلى الاستغراق في معرفة الواحد القهار. وقيل وقيل والأظهر أن المراد إدخاله عليه الصلاة والسلام في كل ما يدخل فيه ويلابسه من مكان أو أمر وإخراجه منه فيكون عاما في جميع الموارد والمصادر واستظهر ذلك أبو حيان وفي الكشف أنه الوجه الموافق لظاهر اللفظ والمطابق لمقتضى النظم فسابقه ولا حقه لا يختصان بمكان دون آخر، وكفاك قوله تعالى وَاجْعَلْ لِي إلخ شاهد صدق على إيثاره. وقرأ قتادة وأبو حيوة وحميد وإبراهيم بن أبي عبلة «مدخل» و «مخرج» بفتح الميم فيهما، قال صاحب اللوامح: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 137 وهما مصدران من دخل وخرج لكنهما جاءا من معنى أدخلني وأخرجني السابقين دون لفظهما ومثل ذلك أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17] ويجوز أن يكونا اسمي مكان وانتصابهما على الظرفية، وقال غيره من المحققين: هما مصدران منصوبان على تقدير فعلين ثلاثيين إذ مصدر المزيدين مضموم الميم كما في القراءة المتواترة أي أدخلني فادخل مدخل صدق وأخرجني فاخرج مخرج صدق. وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً أي حجة تنصرني على من خالفني وهو مراد مجاهد بقوله حجة بينة، وفي رواية أخرى عنه أنه كتاب يحوي الحدود والأحكام وعن الحسن أنه أريد التسلط على الكافرين بالسيف وعلى المنافقين بإقامة الحدود، وقريب ما قيل إن المراد قهرا وعزا تنصر به الإسلام على غيره. وزعم بعضهم أنه فتح مكة، وقيل السلطان أحد السلاطين الملوك فكأن المراد الدعاء بأن يكون في كل عصر ملك ينصر دين الله تعالى، قيل وهو ظاهر ما أخرجه البيهقي في الدلائل والحاكم وصححه عن قتادة قال: أخرجه الله تعالى من مكة مخرج صدق وأدخله المدينة مدخل صدق وعلم نبي الله أنه لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان فسأل سلطانا نصيرا لكتاب الله تعالى وحدوده وفرائضه فإن السلطان عزة من الله عز وجل جعلها بين أظهر عباده لولا ذلك لأغار بعضهم على بعض وأكل شديدهم ضعيفهم وفيه نظر، وفعيل على سائر الأوجه مبالغ في فاعل. وجوز أن يكون في بعضها بمعنى مفعول، والحق أن المراد من السلطان كل ما يفيده الغلبة على أعداء الله تعالى وظهور دينه جل شأنه ووصفه بنصيرا للمبالغة وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ الإسلام والدين الثابت الراسخ. والجملة عطف على جملة قُلْ أولا واحتمال أنها من مقول القول الأول لما فيها من الدلالة على الاستجابة في غاية البعد. وَزَهَقَ الْباطِلُ أي زال واضمحل ولم يثبت الشرك والكفر وتسويلات الشيطان من زهقت نفسه إذا خرجت من الأسف، وعن قتادة أن الحق القرآن والباطل الشيطان، وعن ابن جريج أن الأول الجهاد والثاني الشرك وعن مقاتل الحق عبادة الله تعالى والباطل عبادة الشيطان وهذا قريب مما ذكرنا. إِنَّ الْباطِلَ كائنا ما كان كانَ زَهُوقاً مضمحلا غير ثابت الآن أو فيما بعد أو مطلقا لكونه كان لم يكن، وصيغة فعول للمبالغة. أخرج الشيخان وجماعة عن ابن مسعود قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلّم مكة وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب فجعل يطعنها بعود في يده وقول جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد، وفي رواية الطبراني في الصغير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلّم جاء ومعه قضيب فجعل يهوي به إلى كل صنم منها فيخر لوجهه فيقول جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً حتى مر عليها كلها. وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أي ما هو في تقديم دينهم واستصلاح نفوسهم كالدواء الشافي للمرضى، ومِنَ للبيان وقدم اهتماما بشأنه، وأنكر أبو حيان جواز التقديم واختار هنا كون من لابتداء الغاية وهو إنكار غير مسموع فيفيد أن كل القرآن كذلك. وفي الخبر من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله تعالى أو للتبعيض ومعناه على ما في الكشف وننزل ما هو شفاء أي تدرج في نزوله شفاء فشفاء وليس معناه أنه منقسم إلى ما هو شفاء وليس بشفاء والمنزل الأول كما وهم الحوفي فأنكر جواز إرادة التبعيض وإنما المعنى أن ما لم ينزل بعد ليس بشفاء للمؤمنين لعدم الاطلاع وأن كل ما ينزل فهو شفاء لداء خاص يتجدد نزول الشفاء كفاء تجدد الداء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 138 وفيه أيضا أن هذا الوجه أوفق لمقتضى المقام ولا يخفى عليك بعده ولذا اختير في توجيه التبعيض أنه باعتبار الشفاء الجسماني وهو من خواص بعض دون بعض ومن البعض الأول الفاتحة وفيها آثار مشهورة، وآيات الشفاء وهي ست وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [التوبة: 14] شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ [يونس: 57] ، فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ [النحل: 69] وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء: 80] قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ [فصلت: 44] . قال السبكي: وقد جربت كثيرا، وعن القشيري أنه مرض له ولد أيس من حياته فرأى الله تعالى في منامه فشكى له سبحانه ذلك فقال له: اجمع آيات الشفاء واقرأها عليه أو اكتبها في إناء واسقه فيه ما محيت به ففعل فشفاه الله تعالى، والأطباء معترفون بأن من الأمور والرقى ما يشفي بخاصية روحانية كما فصله الأندلسي في مفرداته، وكذا داود في الجلد الثاني من تذكرته، ومن ينكر لا يعبأ به، نعم اختلف العلماء في جواز نحو ما صنعه القشيري عن الرؤيا وهو نوع من النشرة وعرفوها بأنها أن يكتب شيء من أسماء الله تعالى أو من القرآن ثم يغسل بالماء ثم يمسح به المريض أو يسقاه فمنع ذلك الحسن والنخعي ومجاهد، وروى أبو داود من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلّم سئل عن النشرة فقال: هي من عمل الشيطان ، وأجاز ذلك ابن المسيب، والنشرة التي قال فيها صلى الله عليه وسلّم ما قال هي النشرة التي كانت تفعل في الجاهلية وهي أنواع، منها ما يفعله أهل التعزيم في غالب الإعصار من قراءة أشياء غير معلومة المعنى ولم تثبت في السنة أو كتابتها وتعليقها أو سقيها، وقال مالك: لا بأس بتعليق الكتب التي فيها أسماء الله تعالى على أعناق المرضى على وجه التبرك بها إذا لم يرد معلقها بذلك مدافعة العين، وعنى بذلك أنه لا بأس بالتعليق بعد نزول البلاء رجاء الفرج والبر. كالرقي التي وردت السنة بها من العين، وأما قبل النزول ففيه بأس وهو غريب، وعند ابن المسيب يجوز تعليق العوذة من كتاب الله تعالى في قصبة ونحوها وتوضع عند الجماع، وعند الغائط ولم يقيد بقبل أو بعد، ورخص الباقر في العوذة تعلق على الصبيان مطلقا، وكان ابن سيرين لا يرى بأسا بالشيء من القرآن يعلقه الإنسان كبيرا أو صغيرا مطلقا، وهو الذي عليه الناس قديما وحديثا في سائر الأمصار لكن توجيه التبعيض بما ذكر لا يساعده قوله سبحانه: وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً أي لا يزيد القرآن كله أو كل بعض منه الكافرين المكذبين به الواضعين للأشياء في غير موضعها مع كونه في نفسه شفاء لما في الصدور من أدواء الريب وأسقام الأوهام إلا خسارا أي هلاكا بكفرهم وتكذيبهم وزيادتهم من حيث إنهم كلما جددوا الكفر والتكذيب بالآية النازلة تدريجا ازدادوا بذلك هلاكا، وفسر بعضهم الخسار بالنقصان، ورجح أبو السعود الأول بأن ما بهم من داء الكفر والضلال حقيق بأن يعبر عنه بالهلاك لا بالنقصان المنبئ عن حصول بعض مبادئ الإسلام فيهم، وفيه كما قال إيماء إلا أن ما بالمؤمنين من الشبه والشكوك المعترية لهم في أثناء الاهتداء والاسترشاد بمنزلة الأمراض، وما بالكفرة من الجهل والعناد بمنزلة الموت والهلاك، وإسناد الزيادة المذكورة إلى القرآن مع أنهم المزدادون في ذلك لسوء صنيعهم باعتبار كونه سببا لذلك، وفيه تعجيب من أمره من حيث كونه مدارا للشفاء والهلاك: كماء صار في الأصداف درا ... وفي ثغر الأفاعي صار سما هذا وربما يقال: إن انقسام القرآن إلى ما هو شفاء من أدواء الريب وإسقام الوهم وإلى ما ليس كذلك مما لا ينبغي أن يكون فيه ريب لأن الشافي من أدواء الريب إنما هو الأدلة كالآيات الدالة على بطلان الشرك وثبوت الوحدانية له تعالى وكالآيات الدالة على إمكان الحشر الجسماني وليس كل آيات القرآن كذلك فإن منه ما هو أمر بصلاة وصوم وزكاة ومنه ما هو نهي عن قتل وزنى وسرقة ونحو ذلك وهو لا يشفي به أدواء الريب وإسقام الوهم وكذا آيات الجزء: 8 ¦ الصفحة: 139 القصص، نعم فيما ذكر نفع غير الشفاء من تلك الأدواء فهو رحمة وحينئذ يقال في الآية حذف أي ننزل من القرآن ما هو شفاء وما هو رحمة على معنى ننزل من القرآن آيات هي شفاء وآيات هي رحمة. وفيه أن الريب غير مختص فيما يتعلق بالله عز وجل وبإمكان الحشر بل يكون أيضا في الرسالة وصدقه صلى الله عليه وسلّم في دعواها، وما من آية في القرآن إلا وهي مستقلة أو لها دخل في الشفاء من ذلك الداء لما فيها من الإعجاز وكذا ما من آية إلا وفيها نفع من جهة أخرى فكل آية رحمة كما أن كلها شفاء لكن كونه رحمة بالنسبة إلى كل واحد واحد من المؤمنين إذ كل مؤمن ينتفع به نوعا من الانتفاع وكونه شفاء بالفعل بالنسبة إلى من عرض له شيء من أدواء الريب وأسقام الوهم وليس كل المؤمنين كذلك، والقول بأن كلا كذلك في أول الإيمان غير مسلم ولا يحتاج إليه كما لا يخفى. والإمام عمم شفائيته وقد أحسن فقال: هو شفاء للأمراض الروحانية وهي نوعان: اعتقادات باطلة وأخلاق مذمومة فلاشتماله على الدلائل الحقة الكاشفة عن المذاهب الباطلة في الإلهيات والنبوات والمعاد والقضاء والقدر المبينة لبطلانها يشفي عن النوع الأول من الأمراض ولاشتماله على تفاصيل الأخلاق المذمومة وتعريف ما فيها من المفاسد والإرشاد إلى الأخلاق الفاضلة والأعمال المحمودة يشفي عن النوع الآخر، والشفاء إشارة إلى التخلية والرحمة إشارة إلى التحلية ولأن الأولى أهم من الثانية قدم الشفاء على الرحمة فتأمل والله تعالى الموفق. وقرأ البصريان «ننزل» بالنون والتخفيف، وقرأ مجاهد بالياء والتخفيف ورواها المروزي عن حفص. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «شفاء ورحمة» بنصبهما، قال أبو حيان: ويتخرج ذلك على أنهما حالان والخبر للمؤمنين والعامل في الحال ما في الجار والمجرور من الفعل، ونظير ذلك وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67] في قراءة نصب «مطويات» وقول الشاعر: رهط ابن كوز محقبى أدراعهم ... فيهم ورهط ربيعة بن حذار ثم قال: وتقديم الحال على العامل فيه من الظرف لا يجوز إلا عند الأخفش، ومن منع جعله منصوبا على إضمار أعني، وأنت تعلم أن من يجوز مجيء الحال من المبتدأ لا يحتاج إلى ذلك وَإِذا أَنْعَمْنا بالصحة والسعة ونحوهما عَلَى الْإِنْسانِ أي جنسه فيكفي في صحة الحكم وجوده في بعض الأفراد ولا يضر وجود نقيضه في البعض الآخر، وقيل المراد به الوليد بن المغيرة أَعْرَضَ عن ذكرنا كأنه مستغن عنا فضلا عن القيام بمواجب شكرنا وَنَأى بِجانِبِهِ لوى عطفه عن طاعتنا وولاها ظهره، وأصل معنى النأي البعد وهو تأكيد للإعراض بتصوير صورته فهو أوفى بتأدية المراد منه، ومثله يجوز عطفه لإيهام المغايرة بينهما وهو أبلغ من ترك العطف على ما بين في محله، على أن ما ذكره أهل المعاني من أن التأكيد يتعين فيه ترك العطف لكمال الاتصال غير مسلم، والجانب على ظاهره والمراد ترك ذلك، ويجوز أن يكون كناية عن الاستكبار فإن ثنى العطف من أفعال المستكبرين ولا يبعد أن يراد بالجانب النفس كما يقال جاء من جانب فلان كذا أي منه وهو كناية أيضا كما يعبر بالمقام والمجلس عن صاحبه، وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان «وناء» هنا وفي [فصلت: 51] فقيل ذلك من باب القلب ووضع العين محل اللام كراء ووراء، وقيل لا قلب وناء بمعنى نهض كما في قوله: حتى إذا ما التأمت مفاصله ... وناء في شق الشمال كاهله أي نهض متوكئا على شماله، وفسر نهض هنا بأسرع والكلام على تقدير مضاف أي أسرع بصرف جانبه، وقيل: معناه تثاقل عن أداء الشكر فعل المعرض وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ من مرض أو فقر أو نازلة من النوازل كانَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 140 يَؤُساً شديد اليأس من رحمتنا لأنه لم يحسن معاملتنا في الرخاء حتى يرجو فضلنا في الشدة، وفي إسناد المساس إلى الشر بعد إسناد الأنعام إلى ضميره تعالى إيذان بأن الخير مراد بالذات والشر ليس كذلك لأن ذلك هو الذي يقتضيه الكرم المطلق والرحمة الواسعة وإلى ذلك الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلّم «اللهم إن الخير بيديك والشر ليس إليك» وللفلاسفة ومن يحذو حذوهم في ذلك بحث طويل لا بأس بالاطلاع عليه ليؤخذ منه ما صفا ويترك منه ما كدر قالوا: إن الأول تعالى تام القدرة والحكمة والعلم كامل في جميع أفاعيله لا يتصور بخله بإفاضة الخيرات وليس الداعي له لذلك إلا علمه بوجوه الخير ومصالح الغير الذي هو عين ذاته كسائر صفاته وأما النقائص والشرور الواقعة في ضرب من الممكنات وعدم وصولها إلى كمالها المتصور في حقها فهي لقصور قابلياتها ونقص استعداداتها لا من بخل الحق تعالى مجده عن ذلك. وقصور القابلية ينتهي في الآخرة إلى لوازم الماهيات الإمكانية ومنبعها الإمكان وتحقيق ذلك أن الشر يطلق عرفا على معنيين: أحدهما ما هو عدم كالفقر والجهل البسيط وهذا على ضربين: الأول عدم محض ليس بإزاء الوجود الذي يطلبه طباع الشيء ولا مما يمكن حصوله له من الكمالات والخيرات كقصور الممكن عن الوجود الواجبي والوجوب الذاتي وقصور بعض الممكنات عن بعض كقصور الأجسام عن النفوس فالخير الذي يقابل هذا منحصر في الواجب تعالى إذ له الكمال المطلق والوجود الحق بلا جهة إمكانية بوجه من الوجوه وما عداه من المهيئات المعروضة للوجود لا يخلو من شوب شرية ما وظلمة ما على تفاوت إمكاناتهم حسب تفاوت طبقاتهم في البعد عن ينبوع الوجود ومطلع نور الخير والجود، وهذا الشر منبعه الإمكان الذاتي، والثاني ما يكون عدم ما يطلبه الشيء أو ما يمكن حصوله له من الكمالات ولا يتصور هذا في غير الماديات إذ الإبداعيات يكون وجودها على أكمل ما يتصور في حقها فلا يكون لها شرية بهذا المعنى وما عداها من المتعلقة بالمادة لا تخلو من شرية على تفاوت إمكاناتها الاستعدادية بحسب تفاوت مراتبها في التعلق بالهيولى وهذا الشر منبعه الهيولى ومنبعها الإمكان إذ لولاه ما صدرت من مصدرها فآل الشر إلى الإمكان كما سمعت أولا. وثانيهما ما يمنع الشيء عن الوصول إلى الخير الممكن في حقه من الوجود أو كمال الوجود كالبرد والحر المفسدين للثمار والمطر المانع للقصار عن تبييض الثياب والأخلاق الذميمة المانعة للنفس عن وصولها إلى كمالها العقلي كالبخل والإسراف والجهل المركب والسفاهة والأفعال الذميمة كالزنا والسرقة والنميمة وأشباه ذلك من الآلام والغموم وغير ذلك من الأشياء الوجودية لكن يتبعها إعدام، وإطلاق الشر عندهم على المعنى الأول حقيقة وعلى الثاني مجاز لأن الشر الحقيقي لا ذات له بل هو إما عدم ذات أو عدم كمال لذات، والبرهان عليه أنه لو كان أمرا وجوديا فلا يخلو إما أن يكون شرا لنفسه أو لغيره والأول باطل وإلا لما وجد إذ الشيء لا يقتضي لذاته عدمه أو عدم كماله كيف وجميع الأشياء طالبة لكمالاتها لا مقتضية لعدمها مع أنه لو اقتضى كان الشر ذلك العدم لا نفسه وكذا الثاني لأن كونه لغيره إما لأنه لعدم ذلك الغير أو لأنه لعدم بعض كمالاته فإنه لو لم يكن معدما لشيء أصلا لا لوجوده ولا لكمال وجوده لم يكن شرا لذلك الشيء ضرورة أن كل ما لا يوجب عدم شيء ولا عدم كمال له لا يكون شرا له فإذا ليس الشر إلا عدم ذلك الشيء أو عدم كماله لا نفس الأمر الوجودي المعدم بل هو في ذاته من الكمالات النفسانية أو الجسمانية كالظلم فإنه وإن كان شرا بالقياس إلى المظلوم وإلى النفس الناطقة التي كمالها في تسخير قواها وكسرها لكنه خير بالقياس إلى القوة الغضبية التي كمالها بالانتقام، وكذا الإحراق كمال للنار وشر لمن يتضرر به فعلم أن الشر إما عدم ذات أو عدم كمال لها فالوجود من حيث إنه وجود خير محض والعدم من حيث إنه عدم شر محض، ثم إنك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 141 قد علمت أن الشر الذي هو بمعنى العدم منه ما هو من لوازم الماهيات التي لا علة لها ومنه ما لا يكون من هذا القبيل بل قد يلحق الماهيات لا من ذاتها فلا بد له من علة والكلام ليس في الأول الذي لا لمية له إذ قد تقرر أنه ليس للماهيات في كونها ممكنة ولا في حاجتها إلى علة لوجودها علة ولا لقصور الممكن عن الواجب بذاته ولا لتفاوت مراتب هذا النقصان في الماهيات علة بل إنما ذلك لاختلاف الماهيات في حدود ذاتها لا لأمر خارج عنها كيف ولو كان النقص في جميعها متشابها لكانت الماهيات ماهية واحدة بل الكلام في الثاني وهو عدم ما هو من الأمور الزائدة على مقتضى النوع كالجهل بالفلسفة للإنسان مثلا فإن ذلك ليس شرا له لأجل كونه إنسانا بل لأجل أنه فقد لما اقتضاه شخص مستعد له مشتاق إليه من حيث إنه وجد فيه هذا الاستحقاق والاشتياق الذي لا صلاح في أن يعم. وهذا الشر إنما يوجد في الأشياء على سبيل الندرة فكل ما وجد فهو خير محض أو خيره أكثر من شره، وأما ما يكون شرا محضا أو مستولي الشرية أو متساوي الطرفين فمما لا وجود له أصلا حتى يحتاج فيه إلى منشأ سوى الواجب تعالى الذي هو خير محض لا يوجد منه شر أصلا كما توهمه كفرة المجوس، ثم كل ما كان خيرا محضا أو كان خيره أكثر يصدر من الواجب بمقتضى أن من شأنه إفاضة الخير لأن ترك الأول شر محض وترك الثاني شر غالب، وعالم العناصر من القسم الثاني فإن إيجابه للشرور على الوجه النادر ولا تسوغ عناية المبدع ورحمة الجواد إهماله وإلا لزم خير كثير لشر قليل وهو شر كثير على أنها إنما تكون للنفع في أشياء لو لم تخلق لخلق سربال الوجود وقصر رداء الجود وبقي في كتم العدم عوالم كثيرة ونفائس جمة غفيرة فمن هذه الحيثية يكون ذلك الشر القليل مقتضيا بالذات وهي مع ذلك إنما توجد تحت كرة القمر في بعض جوانب الأرض التي هي حقيرة بل لا شيء بالنسبة إلى ما عند ربك سبحانه وتكون لبعض الأشخاص في بعض الأوقات وليست أيضا شرورا بالنسبة إلى نظام الكل فإذا تصورت ذرة الشر في أبحر أشعة شمس الخير لا يضرها بل يزيدها بهاء وجمالا وضياء وكمالا كالشامة السوداء على الصورة المليحة البيضاء يزيدها حسنا وملاحة وإشراقا وصباحة. ولا يخفى أن هذا إنما يتم على القول بأنه تعالى لا يمكن أن تكون إرادته متساوية النسبة إلى الشيء ومقابله بلا داع ومصلحة كما هو مذهب الأشاعرة وإلا فقد يقال: إن الفاعل للكل إذا كان مختارا فله أن يختار أيما شاء من الخيرات والشرور لكن الحكماء وأساطين الإسلام قالوا: إن اختياره تعالى أرفع من هذا النمط وأمور العالم منوطة بقوانين كلية وأفعاله تعالى مربوطة بحكم ومصالح جلية وخفية. وقول الإمام: إن الفلاسفة لما قالوا بالإيجاب والجبر في الأفعال فخوضهم في هذا المبحث من جملة الفضول والضلال لأن السؤال بلم عن صدورها غير وارد كصدور الإحراق من النار لأنه يصدر عنها لذاتها ناشىء من التعصب لأن محققيهم يثبتون الاختيار وليس صدور الأفعال من الله تعالى عندهم صدور الإحراق من النار، وبعد فرض التسليم بحثهم عن كيفية وقوع الشر في هذا العالم لأجل أن الباري تبارك اسمه خير محض بسيط عندهم ولا يجوزون صدور الشر عما لا جهة شرية فيه أصلا فيلزم عليهم في بادىء النظر إثبات ما افترته الثنوية من مبدأين خيري وشري فتخلصوا عن ذلك بذلك البحث فهو فضل لا فضول، وبالجملة ما يصدر عنه تعالى إما ما هو بريء بالكلية عن الشر وإما ما يلزمه شر قليل وفي تركه شر كثير ولا يصدر عنه تعالى ذلك أيضا في حق شخص إلا بعد طلب ماهيته له في نفسها كما يشير إليه قوله تعالى: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: 50] إلى غير ذلك من الآيات. وفي الإشارات وشروحها كلام طويل يتعلق بهذا المقام ولعل فيما ذكرنا كفاية لذوي الأفهام. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 142 هذا ثم إنه سبحانه بعد أن ذكر حال القرآن بالنسبة إلى المؤمنين وإلى الكافرين وبين حال الكافر في حالي الإنعام ومقابله ذكر ما يصلح جوابا لم يقول: لم كان الأمر كذلك؟ فقال عز قائلا: قُلْ كُلٌّ أي واحد من المؤمن والكافر والمعرض والمقبل والراجي والقانط يَعْمَلُ عمله عَلى شاكِلَتِهِ أي على مذهبه وطريقته التي تشاكل حاله وما هو عليه في نفس الأمر وتشابهه في الحسن والقبح من قولهم طريق ذو شواكل أي طرق تتشعب منه وهو مأخوذ من الشكل بفتح الشين أي المثل والنظير ويقال لست من شكلي ولا شاكلتي وأما الشكل بكسر الشين فالهيئة يقال جارية حسنة الشكل أي الهيئة، وظاهر عبارة القاموس أن كلا من الشكل والشكل يطلق على المثل والهيئة. وهذا التفسير مروي عن الفراء والزجاج واختاره الزمخشري وغيره لقوله تعالى: فَرَبُّكُمْ الذي برأكم متخالفين أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا أسد طريقا وأبين منهاجا وفسر مجاهد الشاكلة بالطبيعة على أنها من شكلت الدابة إذا قيدتها أي على طبيعته التي قيدته لأن سلطان الطبيعة على الإنسان ظاهر وهو ضابط له وقاهر. وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومثل ذلك في المأخذ تفسير بعضهم بالعادة ومن مشهور كلامهم العادات قاهرات، وكذا تفسير ابن زيد لها بالدين وكلا التفسيرين دون الأولين. ولعل الدين هنا بمعنى الحال وهو أحد معانيه. وجوز الإمام وغيره أن يكون المراد أن كل أحد يفعل على وفق ما شاكل جوهر نفسه ومقتضى روحه فإن كانت نفسا مشرقة حرة طاهرة علوية صدرت عنه أفعال فاضلة كريمة وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ [الأعراف: 58] وإن كانت نفسا كدرة نذلة خبيثة ظلمانية سفلية صدرت عنه أفعال خسيسة فاسدة وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً [الأعراف: 58] واختار أن النفوس الناطقة البشرية مختلفة الماهية ولذا اختلفت آثارها، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى قريبا، ولا يرد أن خسة الأفعال وشرافتها إذا كانتا تابعتين لخسة النفس وشرافتها وهما أمران خلقيان لا مدخل لاختيار فيهما فعلام المدح والذم والثواب والعقاب لأنهم قالوا: إن ذلك لأمر ذاتي وهو حسن استعداد النفس في نفسها وسوء استعدادها أيضا في نفسها ولا تثاب النفس ولا تعاقب إلا لاستعدادها في الأزل وطلبها لذلك بلسان حالها والمشهور إطلاق القول بأن ذلك غير مجعول وإنما المجعول وجوده وإبرازه على طبق ما هو عليه في نفسه فاعملوا فكل ميسر لما خلق له ومن وجد خيرا فليحمد الله تعالى ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه وقال بعض: إنه مجعول بالجعل البسيط على معنى أنه أثر الفيض الأقدس الذي هو مقتضى ذاته عز وجل بطريق الإيجاب ويجري نحو هذا في الوجهين الأولين. وقال بعض المتأخرين (1) من فلاسفة الإسلام المتصدين للجمع برأيهم بين الشريعة والفلسفة إن ذات الإنسان بحسب الفطرة الأصلية لا تقتضي إلا الطاعة واقتضاؤها للمعصية بحسب العوارض الغريبة الجارية مجرى المرض والخروج عن الحالة الطبيعية فيكون ميلها للمعصية مثل ميل منحرف المزاج الأصلي إلى أكل الطين، وقد ثبت في الحكمة أن الطبيعة بسبب عارض غريب تحدث في جسم المريض مزاجا خاصا يسمى مرضا فالمرض من الطبيعة بتوسط العارض الغريب كما أن الصحة منها، وفي الحديث القدسي «إني خلقت عبادي كلهم حنفاء وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم» ، وفي الأثر «كل مولود يولد على فطرة الإسلام ثم أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» أي بواسطة الشياطين أو المراد بهم ما يعم شياطين الإنس والجن أو الشياطين كناية عن العوارض الغريبة فالخلق لو لم يحصل لهم مس من الشيطان ما عصو أو لبقوا على فطرتهم لكن مسهم الشيطان ففسدت عليهم فطرتهم الأصلية   (1) هو الملا صدر الدين الشيرازي صاحب الأسفار لا صاحب حواشي شرح التجريد المشهور حاله مع ملا جلال اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 143 فاقتضوا أشياء منافية لهم مضادة لجوهرهم البهي الإلهي من الهيئات الظلمانية ونسوا أنفسهم وما جبلوا عليه: ولولا المزعجات من الليالي ... ما ترك القطا طيب المنام ولذا احتاجوا إلى رسل يبلغونهم آيات الله تعالى ويسنون لهم ما يذكرهم عهد ذواتهم من نحو الصلاة والصيام والزكاة وصلة الأرحام ليعودوا إلى فطرتهم الأصلية ومقتضى ذاتهم البهية ويعتدل مزاجهم ويتقوم اعوجاجهم، ولذا قيل: الأنبياء أطباء وهم أعرف بالداء والدواء، ثم إن ذلك المرض الذي عرض لذواتهم والحالة المنافية التي قامت بهم لولا أن وجدوا من ذواتهم قبولا لعروضهما لهم ورخصة في حلوقهما بهم لم يكونا يعرضان ولا يلحقان فإذا كان مما تقتضيه ذواتهم أن تلحقهم أمور منافية مضادة لجواهرهم فإذا لحقتهم تلك الأمور اجتمعت فيها جهتان الملاءمة والمنافاة أما كونها ملائمة فلكون ذواتهم اقتضتها، وأما كونها منافية فلأنها اقتضتها على أن تكون منافية لهم فلو لم تكن منافية لم يكن ما فرض مقتضى لها بل أمرا آخر، وانظر إلى طبيعة (2) التي تقتضي يبوسة حافظة لأي شكل كان حتى صارت ممسكة للشكل القسري المنافي لكرويتها الطبيعية ومنعت عن العود إليها فعروض ذلك الشكل للأرضية لكونها مقسورة من وجه ومطبوعة من وجه فالإنسان عند عروض مثل هذا المنافي ملتذ متألم سعيد شقي ملتذ ولكن لذته ألمه سعيد ولكن سعادته شقاوته وهذا لعمرك أمر عجيب لكنه أوضح بنمط غريب، ومن تأمل وأنصف ظهر له أن لا ملخص لكثير من الشبهات في هذا الفصل إلا بالذهاب إلى القول بالاستعداد الأزلي وأن لكل شيء حالة في نفسه مع قطع النظر عن سائر الاعتبارات لا يفاض عليه إلا هي لئلا يلزم انقلاب العلم جهلا وهو من أعظم المستحيلات والإثابة والتعذيب تابعان لذلك فسبحان الحكيم المالك فتثبت فكم قد زلت في هذا المقام أقدام أعلام كالأعلام نسأل الله تعالى أن ينور أفهامنا ويثبت أقدامنا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ثم اعلم أنه روي عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه قال: لم أر في القرآن أرجى من هذه الآية لا يشاكل بالعبد إلا العصيان ولا يشاكل بالرب إلا الغفران قال ذلك حين تذاكروا القرآن. فقال عمر: لم أر آية أرجى من التي فيها غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ [غافر: 3] قدم الغفران قبل قبول التوبة، وقال عثمان: لم أر آية أرجى من نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الحجر: 49] . وقال علي كرم الله تعالى وجهه: لم أر أرجى من يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزمر: 53] الآية، وقيل في الأرجى غير ذلك وسيمر عليك إن شاء الله تعالى لكن ما قاله الصديق لا يتأتى إلا على تقدير أن يراد كل أحد مطلقا يعمل على شاكلته فافهم. وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ الظاهر عند المنصف أن السؤال كان عن حقيقة الروح الذي هو مدار البدن الإنساني ومبدأ حياته لأن ذلك من أدق الأمور التي لا يسع أحدا إنكارها ويشرئب كل إلى معرفتها وتتوفر دواعي العقلاء إليها وتكل الأذهان عنها ولا تكاد تعلم إلا بوحي، وزعم ابن القيم أن المسئول عنه الروح الذي أخبر الله تعالى عنه في كتابه أنه يقوم يوم القيامة مع الملائكة عليهم السلام قال لأنهم إنما يسألونه عليه الصلاة والسلام عن أمر لا يعرف إلا بالوحي وذلك هو الروح الذي عند الله تعالى لا يعلمه الناس، وأما أرواح بني آدم فليست من الغيب إلى آخر ما قال وقد أطال، وفي البحور الزاخرة أن هذا هو الذي عليه أكثر السلف بل كلهم، والحق ما ذكرنا وهو الذي عليه الجمهور كما نص   (2) قوله: إلى طبيعة التي تقتضي إلخ كذا في نسخة المؤلف وفيه حذف الموصوف والأصل إلى طبيعة الأرض التي تقتضي إلخ وانظر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 144 عليه في البحر. وغيره، نعم ما زعمه ابن القيم مروي عن بعض السلف فقد أخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن ابن عباس أنه قال: الروح خلق من خلق الله تعالى وصورهم على صورة بني آدم وما ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد من الروح ثم تلا يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ [النبأ: 38] . وأخرج أبو الشيخ وغيره من طريق عطاء عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال في الروح المسئول عنه: هو ملك واحد له عشرة آلاف جناح جناحان منها ما بين المشرق والمغرب له ألف وجه لكل وجه لسان وعينان وشفتان يسبح الله تعالى بذلك إلى يوم القيامة. وأخرج هو وغيره أيضا عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال فيه: هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه لكل وجه منها سبعون ألف لسان لكل لسان منها سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها يخلق الله تعالى من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة . وتعقب هذا بأنه لا يصح عن علي كرم الله تعالى وجهه وطعن الإمام في ذلك بما طعن. وأخرج ابن الأنباري في كتاب الأضداد عن مجاهد أنه قال: الروح خلق من الملائكة عليهم السلام لا يراهم الملائكة كما لا ترون أنتم الملائكة. وأخرج أبو الشيخ عن سلمان أنه قال: الإنس والجن عشرة أجزاء فالإنس جزء والجن تسعة أجزاء والملائكة والجن عشرة أجزاء فالجن من ذلك جزء والملائكة تسعة والملائكة والروح عشرة أجزاء فالملائكة من ذلك جزء والروح تسعة أجزاء والروح والكروبيون عشرة أجزاء فالروح من ذلك جزء والكروبيون تسعة أجزاء، وقال الحسن وقتادة: الروح هو جبرائيل عليه السلام وقد سمي روحا في قوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشعراء: 193، 194] والسؤال عن كيفية نزوله وإلقائه الوحي إليه عليه الصلاة والسلام، وقال بعضهم هو القرآن وقد سمي روحا في قوله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: 52] وقيل غير ذلك. وزعم بعضهم أن السؤال عن حدوث الروح بالمعنى الأول وقدمه وليس بشيء كما ستسمع إن شاء الله تعالى. وضمير يسألون لليهود فقد أخرج الشيخان. وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: كنت أمشي مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في خرب المدينة وهو متكىء على عسيب فمر بقوم من اليهود فقال بعضهم لبعض سلوه عن الروح وقال بعضهم: لا تسألوه فسألوه فقالوا: يا محمد ما الروح؟ فما زال متوكئا على العسيب فظننت أنه يوحى إليه فلما نزل الوحي قال وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ الآية ، وقال بعضهم: لقريش لما أخرج أحمد. والنسائي والترمذي. والحاكم وصححاه وابن حبان وجماعة عن ابن عباس قال قالت قريش لليهود أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل فقالوا سلوه عن الروح فسألوه فنزلت وَيَسْئَلُونَكَ إلخ. وفي السير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن قريشا بعثت النضر بن الحارث. وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة وقالوا لهم سلوهم محمدا فإنهم أهل كتاب عندهم من العلم ما ليس عندنا فخرجا حتى قدما المدينة فسألوهم فقالوا سلوه عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح فإن أجاب عنها أو سكت فليس بنبي وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبي فجاؤوا وسألوه فبين لهم صلّى الله عليه وسلّم قضيتين وأبهم أمر الروح وهو مبهم في التوراة، والآية على هذا وما قبله مكية وعلى خبر الصحيحين مدنية وجمع بعضهم بين ذلك بأن الآية نزلت مرتين فتدبر، وأيا ما كان فوجه تعقيب ما تقدم بها إن فسر الروح بالقرآن ظاهر ملائم لقوله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ ولما بعده من الامتنان عليه وعلى متبعيه بحفظه في الصدور والبقاء وكذلك إن فسر بجبرائيل عليه السلام، وأما على قول الجمهور فقد ورد معترضا دلالة على خسار الظالمين وضلالهم وأنهم مشتغلون عن تدبر الكتاب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 145 والانتفاع به إلى التعنت بسؤال ما اقتضت الحكمة سد طريق معرفته، ويقال نحو هذا على القول المروي عن بعض السلف قُلِ الرُّوحُ أظهر في مقام الإضمار إظهارا لكمال الاعتناء مِنْ أَمْرِ رَبِّي كلمة مِنْ تبعيضية، وقيل: بيانية والأمر واحد الأمور بمعنى الشأن والإضافة للاختصاص العلمي لا الإيجادي إذ ما من شيء إلا وهو مضاف إليه عز وجل بهذا المعنى، فيها من تشريف المضاف ما لا يخفى كما في الإضافة الثانية من تشريف المضاف إليه أي هي من جنس ما استأثر الله تعالى بعلمه من الأسرار الخفية التي لا تكاد تدركها عيون عقول البشر. وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا لا يمكن تعلقه بأمثال ذلك، وهذا على ما قيل ترك للبيان ونهي لهم عن السؤال. أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن عطاء بن يسار قال: نزلت هذه الآية بمكة فلما هاجر صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة أتاه أحبار يهود فقالوا: يا محمد ألم يبلغنا عنك أنك تقول وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا أفعنيتنا أم قومك قال: كلا قد عنيت قالوا: فإنك تتلو أنا أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هي في علم الله تعالى قليل وقد آتاكم الله تعالى ما إن عملتم به انتفعتم فأنزل الله تعالى وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ- إلى قوله سبحانه- إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [لقمان: 27- 28] وكأنه صلّى الله عليه وسلّم أشار إلى أن المراد في الآية- تبيانا لكل شيء- من الأمور الدينية ولا شك أنها أقل قليل بالنسبة إلى معلومات الله تعالى التي لا نهاية لها، وبهذا يرد على القائل بالعموم الحقيقي. وفي رواية النسائي وابن حبان والترمذي والحاكم وصححاها أن اليهود قالوا حين نزلت الآية: أوتينا علما كثيرا أوتينا التوراة ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا فأنزل الله تعالى: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ [الكهف: 109] الآية ، ولا يخفى أن هذا أيضا لا يلزم منه التناقض لأن الكثرة والقلة من الأمور الإضافية فالشيء يكون قليلا بالنسبة إلى ما فوقه وكثيرا بالنسبة إلى ما تحته فما في التوراة قليل بالنسبة إلى ما في علم الله تعالى شأنه كثير بالنسبة إلى أمر آخر، وفي رواية أخرجها ابن مردويه عن عكرمة أنه صلّى الله عليه وسلّم لما قال ذلك قال اليهود: نحن مختصون بهذا الخطاب فقال: بل نحن وأنتم فقالوا: ما أعجب شأنك ساعة تقول: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة: 269] وساعة تقول: هذا فنزل وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ إلخ، ولا يلزم منه التناقض أيضا على نحو ما تقدم بأن يقال: الحكمة الإنسانية أن يعلم من الخير ما تسعه القوة البشرية بل ما ينتظم به أمر المعاش والمعاد وهو قليل بالنسبة إلى معلوماته تعالى كثير بالنسبة إلى غيرها، وإلى تعميم الخطاب بحيث يشمل الناس أجمعين ذهب ابن جريج كما أخرجه عنه ابن جرير. وابن المنذر لكن يعكر على القول بالعموم ظاهر قراءة ابن مسعود والأعمش «وما أوتوا» فإنه يقتضي الاختصاص بالسائلين، والحديث الأخير الذي هو نص فيه قال العراقي: إنه غير صحيح، والحديث الأول الله تعالى أعلم بحاله، وقال غير واحد: معنى كون الروح من أمره تعالى أنه من الإبداعيات الكائنة بالأمر التكويني من غير تحصل من مادة وتولد من أصل كالجسد الإنساني فالمراد من الأمر واحد الأوامر أعني كن والسؤال عن الحقيقة والجواب إجمالي، ومآله أنا لروح من عالم الأرض مبدعة من غير مادة لا من عالم الخلق وهو من الأسلوب الحكيم كجواب موسى عليه السلام سؤال فرعون إياه ما رب العالمين إشارة إلى أن كنه حقيقته مما لا يحيط به دائرة إدراك البشر وإنما الذي يعلم هذا المقدار الإجمالي المندرج تحت ما استثني بقوله تعالى: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا أي إلا علما قليلا تستفيدونه من طرق الحواس فإن تعقل المعارف النظرية إنما هو في الأكثر من إحساس الجزئيات ولذلك قيل: من فقد حسا فقد فقد علما، ولعل أكثر الأشياء لا يدركه الحس لكونه غير محسوس أو محسوسا منع من إحساسه مانع كالغيبة مثلا وكذا لا يدرك شيئا من عرضياته ليرسمه بها فضلا عن أن ينتقل منها الفكر إلى الذاتيات الجزء: 8 ¦ الصفحة: 146 ليقف على الحقيقة، وظاهر كلام بعضهم أن الوقوف على كنه الروح غير ممكن فلا فرق عنده بين الجوابين. وفرق الخفاجي بأن بيان كنه الروح ممكن بخلاف كنه الذات الأقدس، وفي الكشف أن سبيل معرفة الروح إزالة الغشاء عن أبصار القلوب باجتلاء كحل الجواهر من كلام علام الغيوب فهو عند المكتحلين أجلى جلي وعند المشتغلين أخفى خفي، ويشكل على هذا ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عبد الله بن بريدة قال: لقد قبض النبي صلّى الله عليه وسلّم وما يعلم الروح، ولعل عبد الله هذا يزعم أنها يمتنع العلم بها وإلا فلم يقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى علم كل شيء يمكن العلم به كما يدل عليه ما أخرجه الإمام أحمد والترمذي وقال: حديث صحيح وسبيل البخاري عنه فقال: حديث حسن صحيح عن معاذ رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إني قمت من الليل فصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي حتى استثقلت فإذا أنا بربي عز وجل في أحسن صورة فقال: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى قال: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري رب قال: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى قلت لا أدري رب قلت لا أدري رب فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين صدري وتجلى لي كل شيء وعرفت» الحديث (1) و «رأيت» يعلم في الخبر السابق في بعض الكتب مضبوطا بالبناء للمفعول والروح مضبوطا بالرفع والإشكال على ذلك أوهن إلا أنه خلاف الظاهر. ويفهم من كلام بعض متأخري الصوفية أنه يمتنع الوقوف على حقيقة الروح بل ذكر هذا البعض أن حقيقة جميع الأشياء لا يوقف عليها وهو مبني على ما لا يخفى عليك ورده أو قبوله مفوض إليك. ثم إن لي في هذا الوجه وقفة فإن الظاهر أن إطلاق عالم الأمر على الكائن من غير تحصل من مادة وتولد من أصل وإطلاق عالم الخلق على خلافه محض اصطلاح لا يعرف للعرب ولا يعرفونه، وفي الاستدلال عليه بقوله تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: 54] ما لا يخفى على منصف، هذا وذكر الإمام أن السؤال عن الروح يقع على وجوه كثيرة وليس في قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ما يدل على وجه منها إلا أن الجواب المذكور لا يليق إلا بوجهين منها الأول كونه سؤالا عن الماهية: والثاني كونه سؤالا عن القدم والحدوث، وحاصل الجواب على الأول أنها جوهر بسيط مجرد محدث بأمر الله تعالى وتكوينه وتأثيره إفادة الحياة للجسد ولا يلزم (2) من عدم العلم بحقيقته المخصوصة فإن أكثر حقائق الأشياء ماهياتها مجهولة ولم يلزم من كونها مجهولة نفيها ويشير إليه وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ومبنى هذا أيضا الفرق بين عالم الأمر وعالم الخلق وقد سمعت ما فيه، وحاصل الجواب على الثاني أنه حادث حصل بفعل الله تعالى وتكوينه وإيجاده، وجعل قوله تعالى: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا احتجاجا على الحدوث بمعنى أن الأرواح في مبدأ الفطرة تكون خالية عن العلوم والمعارف ثم يحصل فيها ذلك فلا تزال في تغير من حال إلى حال وهو من أمارات الحدوث، وأنت تعلم أن حمل السؤال على ما ذكر وجعل الجواب إخبارا بالحدوث مع عدم ملاءمته لحال السائلين لا يساعده التعرض لبيان قلة علمهم فإن ما سألوا عنه مما يفي به علمهم حينئذ وقد أخبر عنه وجعل ذلك احتجاجا على الحدوث من أعجب الحوادث كما لا يخفى على ذي روح والله تعالى أعلم. وهاهنا أبحاث لا بأس بإيرادها: البحث الأول في شرح مذاهب الناس في حقيقة الإنسان، وظاهر كلام الإمام أن الاختلاف في حقيقته عين الاختلاف في حقيقة الروح، وفي القلب من ذلك ما فيه فذهب جمهور المتكلمين إلى أنه عبارة عن هذه البنية المحسوسة والهيكل المجسم المحسوس وهو الذي يشير إليه الإنسان بقوله أنا وأبطل ذلك   (1) وشرح هذا الحديث الحافظ ابن رجب الحنبلي في رسالة وطبعناها والحمد لله. (2) قوله ولا يلزم إلخ كذا بخط مؤلفه وانظر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 147 الإمام يسبع عشرة حجة نقلية وعقلية لكن للبحث في بعضها مجال، منها ما تقدم من أن أجزاء البنية متغيرة زيادة ونقصانا وذبولا ونموا والعلم الضروري قاض بأن الإنسان من حيث هو أمر باق من أول العمر إلى آخره وغير الباقي غير الباقي، ومنها أن الإنسان قد يعتريه ما يشغله عن الالتفات إلى أجزاء بنيته كلا وبعضا ولا يغفل عن نفسه المعينة بدليل أنه يقول مع ذلك الشاغل فعلت وتركت مثلا وغير المعلوم غير المعلوم. ومنها أنه قد توجد البنية المخصوصة وحقيقة الإنسان غير حاصلة فإن جبريل عليه السلام كثيرا ما رؤي في صورة دحية الكلبي وإبليس عليه اللعنة رؤي في صورة شيخ نجدي وقد تنتفي البنية مع بقاء حقيقة الإنسان فإن الممسوخ مثلا قردا باقية حقيقته مع انتفاء البنية المخصوصة وإلا لم يتحقق مسخ بل إماتة لذلك الإنسان وخلق قرد، ومنها أنه جاء في الخبر أن الميت إذا حمل على النعش رفرف روحه فوق النعش ويقول: يا أهلي. ويا ولدي لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي جمعت المال من حله ومن غير حله ثم تركته لغيري فالهناء له والتبعة علي فاحذروا مثل ما حل بي فصرح صلّى الله عليه وسلّم بأن هناك شيئا ينادي غير المحمول كان الأهل أهلا له وكان الجامع للمال من الحلال والحرام وليس ذلك إلا الإنسان إلى غير ذلك مما ذكره في تفسيره، وقيل: إن الإنسان هو الروح الذي في القلب، وقيل: إنه جزء لا يتجزأ في الدماغ، وقيل: إنه أجزاء نارية مختلطة بالأرواح القلبية والدماغية وهي المسماة بالحرارة الغريزية، وقيل: هو الدم الحال في البدن، وقيل وقيل إلى نحو ألف قول والمعول عليه عند المحققين قولان، الأول أن الإنسان عبارة عن جسم نوراني علوي حي متحرك مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس سار فيه سريان الماء في الورد والدهن في الزيتون والنار في الفحم لا يقبل التحلل والتبدل والتفرق والتمزق مفيد للجسم المحسوس الحياة وتوابعها ما دام صالحا لقبول الفيض لعدم حدوث ما يمنع من السريان كالأخلاط الغليظة ومتى حدث ذلك حصل الموت لانقطاع السريان والروح عبارة عن ذلك الجسم واستحسن هذا الإمام فقال هو مذهب قوي وقول شريف يجب التأمل فيه فإنه شديد المطابقة لما ورد في الكتب الإلهية من أحوال الحياة والموت، وقال ابن القيم في كتابه- الروح: إنه الصواب ولا يصح غيره وعليه دل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقل والفطرة وذكر له مائة دليل وخمسة أدلة فليراجع. الثاني أنه ليس بجسم ولا جسماني وهو الروح وليس بداخل العالم ولا خارجه ولا متصل به ولا منفصل عنه ولكنه متعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف وهو قول أكثر الإلهيين من الفلاسفة. وذهب إليه جماعة عظيمة من المسلمين منهم الشيخ أبو القاسم الراغب الأصفهاني وحجة الإسلام أبو حامد الغزالي ومن المعتزلة معمر بن عباد السلمي ومن الشيعة الشيخ المفيد ومن الكرامية جماعة ومن أهل المكاشفة والرياضة أكثرهم وقد قدمنا لك الأدلة على ذلك، ومن أراد الإحاطة بذلك فليرجع إلى كتب الشيخين أبي علي وشهاب الدين المقتول وإلى كتب الإمام الرازي كالمباحث المشرقية وغيره، وللشيخ الرئيس رسالة مفردة في ذلك سماها بالحجج الغر أحكمها وأتقنها ما يبتني على تعقل النفس لذاتها وابن القيم زيف حججه في كتابه وهو كتاب مفيد جدا يهب للروح روحا ويورث للصدر شرحا، واستدل الإمام على ذلك في تفسيره بالآية المذكورة فقال: إن الروح لو كان جسما منتقلا من حالة إلى حالة ومن صفة إلى صفة لكان مساويا للبدن في كونه متولدا من أجسام اتصفت بصفات مخصوصة بعد أن كانت موصوفة بصفات أخر فإذا سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنه وجب أن يبين أنه جسم كان كذا ثم صار كذا وكذا حتى صار روحا مثل ما ذكر في كيفية تولد البدن أنه كان نطفة ثم علقة ثم مضغة فلما لم يقل ذلك وقال. هو من أمر ربي بمعنى أنه لا يحدث ولا يدخل في الوجود إلا لأجل أن الله تعالى قال له كن فيكون دل ذلك على أنه جوهر ليس من جنس الأجسام بل هو جوهر قدسي مجرد، ولا يخفى أن ذلك من الإقناعيات الخطابية وهي كثيرة في هذا الباب، منها قوله تعالى: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 148 وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الحجر: 29، ص: 72] وقوله سبحانه: وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ [النساء: 171] فإن هذه الإضافة مما تنبه على شرف الجوهر الإنسي وكونه عريا عن الملابس الحسية، ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: «أنا النذير العريان» ففيه إلى تجرد الروح عن علائق الأجرام، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن وفي رواية «على صورته» ، وقوله عليه الصلاة والسلام: «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» ففي ذلك إيذان بشرف الروح وقربه من ربه قربا بالذات والصفات مجردا عن علائق الأجرام وعوائق الأجسام إلى غير ذلك مما لا يحصى وهو على هذا المنوال وللبحث فيه مجال أي مجال، وكان ثابت بن قرة يقول: إن الروح متعلق بأجسام سماوية نورانية لطيفة غير قابلة للكون والفساد والتفرق والتمزق وتلك الأجسام سارية في البدن وهي ما دامت سارية كان الروح مدبرا للبدن وإذا انفصلت عنه انقطع التعلق، وهو قول ملفق وأنا لا أستبعده. «البحث الثاني في اختلاف الناس في حدوث الروح وقدمه» أجمع المسلمون على أنه حادث حدوثا زمانيا كسائر أجزاء العالم إلا أنهم اختلفوا في أنه هل هو حادث قبل البدن أم بعده فذهب طائفة إلى الحدوث قيل منهم محمد بن نصر المروزي. وأبو محمد بن حزم الظاهري وحكاه إجماعا وقد افترى، واستدل لذلك بما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» قال ابن الجوزي في تبصرته: قال أبو سليمان الخطابي معنى هذا الحديث الأخبار عن كون الأرواح مخلوقة قبل الأجساد، وزعم ابن حزم أنها في برزخ وهو منقطع العناصر فإذا استعد جسد لشيء منها هبط إليه وأنها تعود إلى ذلك البرزخ بعد الوفاة ولا دليل لهذا من كتاب أو سنة. وبعضهم استدل على ذلك بخبر خلق الله تعالى الأرواح قبل الأجساد بألفي عام، وتعقبه ابن القيم بأنه لا يصح إسناده، وذهب آخرون منهم حجة الإسلام الغزالي إلى الحدوث بعد، ومن أدلة ذلك كما قال ابن القيم الحديث الصحيح «إن خلق ابن آدم يجمع في بطن أمه أربعين يوما دما ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح» ووجه الاستدلال أن الروح لو كان مخلوقا قبل لقيل، ثم يرسل إليه الملك بالروح فيدخله فيه، وصرح في روضة المحبين ونزهة المشتاقين باختيار هذا القول فقال إن القول بأن الأرواح خلقت قبل الأجساد قول فاسد وخطأ صريح، والقول الصحيح الذي دل عليه الشرع والعقل أنها مخلوقة مع الأجساد وأن الملك ينفخ الروح أي يحدثه بالنفخ في الجسد إذا مضى على النطفة أربعة أشهر ودخلت في الخامس، ومن قال إنها مخلوقة قبل فقد غلط، وأقبح منه قول من قال إنها قديمة انتهى، وفيه تأمل، ويوافق مذهب الحدوث قوله تعالى: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [المؤمنون: 14] فليفهم. وذهب أفلاطون ومن تقدمه من الفلاسفة إلى قدم الروح وذهب المعلم الأول إلى حدوثها مع حدوث البدن المستعد له كما ذهب إليه بعض الإسلاميين، وقد تقدم الكلام في استدلال كل جرحا وتعديلا، ويقال هنا: إن المعلم الأول قائل كغيره من الفلاسفة بتجرد الروح المسماة بالنفس الناطقة عندهم عن المادة فكيف يسعه القول بحدوثها مع قولهم كل حادث زماني يحتاج إلى مادة، وأجيب بأن المادة هاهنا أعم من المحل والمتعلق به والبدن مادة للنفس بهذا المعنى، وأنت تعلم أن استعداد الشيء للشيء لا يكون إلا فيما إذا كان ذلك مقترنا به لا مباينا عنه فالأولى أن يقال: إن البدن الإنساني لما استدعي لمزاجه الخاص صورة مدبرة له متصرفة فيه أي أمرا موصوفا بهذه الصفة من حيث هو كذلك وجب على مقتضى جود الواهب الفياض وجود أمر يكون مبدأ للتدابير الإنسية والأفاعيل البشرية ومثل هذا الأمر لا يمكن إلا أن يكون ذاتا مدركة للكليات مجردة في ذاتها فلا محالة قد فاض عليه حقيقة النفس لا من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 149 حيث إن البدن استدعاها بل من حيث عدم انفكاكها عما استدعاه فالبدن استدعى باستعداده الخاص أمرا ماديا وجود المبدأ الفياض أفاد جوهرا قدسيا وكما أن الشيء الواحد قد يكون على ما قرروه جوهرا وعرضا باعتبارين كذلك يكون أمر واحد مجردا وماديا باعتبارين فالنفس الإنسانية مجردة ذاتا مادية فعلا فهي من حيث الفعل من التدبير والتحريك مسبوقة باستعداد البدن مقترنة به وأما من حيث الذات والحقيقة فمنشأ وجودها وجود المبدأ الواهب لا غير فلا يسبقها من تلك الحيثية استعداد البدن ولا يلزمها الاقتران في وجودها به ولا يلحقها شيء من مثالب الماديات إلا بالعرض. ويمكن تأويل ما نقل عن أفلاطون في باب قدم النفس إلى هذا بوجه لطيف كذا قاله بعض صدور المتأخرين فتأمله. «البحث الثالث» اختلف الناس في الروح والنفس هل هما شيء واحد أم شيئان فحكى ابن زيد عن أكثر العلماء أنهما شيء واحد فقد صح في الأخبار إطلاق كل منهما على الآخر وما أخرجه البزار بسند صحيح عن أبي هريرة رفعه «أن المؤمن ينزل به الموت ويعاين ما يعاين يود لو خرجت نفسه والله تعالى يحب لقاءه وأن المؤمن تصعد روحه إلى السماء فتأتيه أرواح المؤمنين فيستخبرونه عن معارفه من أهل الدنيا» الحديث ظاهر في ذلك. وقال ابن حبيب: هما شيئان فالروح هو النفس المتردد في الإنسان والنفس أمر غير ذلك لها يدان ورجلان ورأس وعينان وهي التي تلتذ وتتألم وتفرح وتحزن وإنها هي التي تتوفى في المنام وتخرج وتسرح وترى الرؤيا وييقى الجسد دونها بالروح فقط لا يلتذ ولا يفرح حتى تعود، واحتج بقوله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ [الزمر: 42] الآية، وحكى ابن منده عن بعضهم أن النفس طينية نارية والروح نورية روحانية، وعن آخر أن النفس ناسوتية والروح لاهوتية، وذكر أن أهل الأثر على المغايرة وأن قوام النفس بالروح والنفس صورة العبد والهوى والشهوة والبلاء معجون فيها ولا عدو أعدى لا بن آدم من نفسه لا تريد إلا الدنيا ولا تحب إلا إياها، والروح تدعو إلى الآخرة وتؤثرها، وظاهر كلام بعض محققي الصوفية القول بالمغايرة ففي منتهى المدارك للمحقق الفرغاني أن النفس المضافة إلى الإنسان عبارة عن بخار ضبابي منبعث من باطن القلب الصنوبري حامل لقوة الحياة متجنس بأثر الروح الروحانية المرادة بقوله تعالى: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الحجر: 29، ص: 72] الثابت تعينها في عالم الأروح وأثرها واصل إلى هذا البخار الحامل للحياة فالنفس إذن أمر مجتمع من البخار ووصف الحياة وأثر الروح الروحانية وهذه النفس يحكم تجنسها بأثر الروح الروحانية متعينة لتدبير البدن الإنساني قابلة لمعالي الأمور وسفاسفها كما قال سبحانه وتعالى: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها [الشمس: 8] والروح الروحانية أمر لا يكتنه والحق أنهما قد يتحدان إطلاقا وقد يتغايران، وابن القيم اعتمد ما عليه الأكثرون من الاتحاد ذاتا، وذكر غير واحد أنه هو الذي عليه الصوفية بيد أنهم قالوا: إن النفس هي الأصل في الإنسان فإذا صقلت بالرياضة وأنواع الذكر والفكر صارت روحا ثم قد تترقى إلى أن تصير سرا من أسرار الله تعالى. وتفصيل الكلام حينئذ في هذا المقام أن للنفس مراتب تترقى فيها، الأولى تهذيب الظاهر باستعمال النواميس الإلهية من القيام والصيام وغيرهما، الثانية تهذيب الباطن عن الملكات الردية والأخلاق الدنية، الثالثة تحلي النفس بالصور القدسية، الرابعة فناؤها عن ذاتها وملاحظتها جلال رب العالمين جل جلاله، ويقال في كيفية الترقي في هذه المراتب أن الإنسان أول ما يولد فهو كباقي الحيوانات لا يعرف إلا الأكل والشرب ثم بالتدريج يظهر له باقي صفات النفس من الشهوة والغضب والحرص والحسد وغير ذلك من الهيآت التي هي نتائج الاحتجاب والبعد من معدن الجود والصفات الكمالية ثم إذا تيقظ من سنة الغفلة وقام من نوم الجهل وبان له أن وراء هذه اللذات البهيمية لذات أخر وفوق هذه المراتب مراتب أخر كمالية يتوب عن اشتغاله بالمنهيات الشرعية وينيب إلى الله تعالى بالتوجه إليه فيشرع في ترك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 150 الفضول الدنيوية طلبا للكمالات الأخروية ويعزم عزما تاما ويتوجه إلى السلوك إلى ملك الملوك من مقام نفسه فيهاجر منه ويقع في الغربة ويا طوبى للغرباء وإن قيل: إنما الغربة للأحرار ذبح ثم إذا دخل في الطريق يزهد عن كل ما يعوقه عن مقصوده ويصده عن معبوده فيتصف بالورع والتقوى والزهد الحقيقي ثم يحاسب نفسه دائما في أقواله وأفعاله ويتهمها في كل ما تأمر به وإن كان عبادة فإنها مجبولة على حب الشهوات ومطبوعة على الدسائس الخفيات فلا ينبغي أن يأمنها ويكون على ثقة منها. يحكى عن بعض الأكابر أن نفسه لم تزل تأمره بالجهاد وتحثه عليه فاستغرب ذلك ثم فطن أنها تريد أن تستريح من نصب القيام والصيام بالموت فلم يجبها إلى ذلك فإذا خلص منها وصفا وقته وطاب عيشه بما يجده في طريق المحبوب يتنور باطنه ويظهر له لوامع أنوار الغيب وينفتح له باب الملكوت وتلوح منه لوائح مرة بعد أخرى فيشاهد أمورا غيبية في صور مثالية فإذا ذاق شيئا منها يرغب في العزلة والخلوة والذكر والمواظبة على الطهارة والعبادة والمراقبة والمحاسبة ويعرض عن الملاذ الحسية كلها ويفرغ القلب عن محبتها فيتوجه باطنه إلى الحق تعالى بالكلية فيظهر له الوجد والسكر والشوق والعشق والهيمان ويجعله فانيا عن نفسه غافلا عنها فيشاهد الحقائق السرية والأنوار الغيبية فيتحقق بالمشاهدة والمعاينة والمكاشفة ويظهر له أنوار حقيقية تارة وتختفي أخرى حتى يتمكن ويتخلص من التلوين وينزل عليه السكينة الروحية والطمأنينة الإلهية ويصير ورود هذه البوارق والأحوال له ملكة فيدخل في عوالم الجبروت ويشاهد العقول المجردة والأنوار القاهرة من الملائكة المقربين والمهيمين ويتحقق بأنوارهم فيظهر له أنوار سلطان الأحدية وسواطع العظمة والكبرياء الإلهية فتجعله هباء منثورا ويندك حيئنذ جبال إنيته فيخر لله تعالى خرورا ويتلاشى في التعين الذاتي ويضمحل وجوده في الوجود الإلهي وهذا مقام الفناء والمحو وهو غاية السفر الأول للسالكين فإن بقي في الفناء والمحو ولم يجىء إلى البقاء والصحو صار مستغرقا في عين الجمع محجوبا بالحق عن الخلق لا يزيغ بصره عن مشاهدة جماله عز شأنه وأنوار ذاته وجلاله فاضمحلت الكثرة في شهوده واحتجب التفصيل عن وجوده وذلك هو الفوز العظيم، وفوق ذلك مرتبة يرجع فيها إلى الصحو بعد المحو وينظر إلى التفصيل في عين الجمع ويسع صدره الحق والخلق فيشاهد الحق في كل شيء ويرى كل شيء بالحق على وجه لا يوجب التكثر والتجسم وهو طور وراء طور العقل، ووقع في عبارة بعضهم أنه قد يصير العارف متخلقا بأخلاق الله تعالى بالحقيقة لا بمعنى صيرورة صفاته تعالى عرضا قائما بالنفس فإن هذا مما لا يتصور أبدا، والقول به خروج عن الشريعة والطريقة والحقيقة بل بمعنى علاقة أخرى أتم من علاقتها مع الصفات الكونية البدنية وغيرها لا تعلم حقيقتها، ولعل مرادهم بالمرتبة التي تترقى إليها النفس فتكون سرا من أسرار الله تعالى هي هذه المرتبة والاطلاع عليها يحتاج إلى سلوك طريقة الأبرار ولا يتم بمجرد الأنظار والأفكار والله تعالى الموفق للسلوك والمتفضل بالغنى على الصعلوك. «البحث الرابع» اختلف الناس في الروح هل تموت أم لا؟ فذهبت طائفة إلى أنها تموت لأنها نفس وكل نفس ذائقة الموت وقد دل الكتاب على أنه لا يبقى إلا الله تعالى وحده وهو يستدعي هلاك الأرواح كغيرها من المخلوقات وإذا كانت الملائكة عليهم السلام يموتون فالأرواح البشرية أولى، وأيضا أخبر سبحانه عن أهل النار أنهم يقولون أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [غافر: 11] ولا تحقق الإماتتان إلا بإماتة البدن مرة وإماتة الروح أخرى. وقالت طائفة: إنها تموت للأحاديث الدالة على نعيمها وعذابها بعد المفارقة إلى أن يرجعها الله تعالى إلى الجسد، وإن قلنا بموتها لزم انقطاع النعيم والعذاب، والصواب أن يقال: موت الروح هو مفارقتها الجسد فإن أريد بموتها هذا القدر فهي ذائقة الموت وإن أريد أنها تعدم وتضمحل فهي لا تموت بل تبقى مفارقة ما شاء الله تعالى ثم تعود إلى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 151 الجسد وتبقى معه في نعيم أو عذاب أبد الآبدين ودهر الداهرين وهي مستثناة ممن يصعق عند النفخ في الصور على أن الصعق لا يلزم منه الموت والهلاك ليس مختصا بالعدم بل يتحقق بخروج الشيء عن حد الانتفاع به ونحو ذلك، وما ذكر في تفسير الإماتتين غير مسلم، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام فيه. وإلى أنها لا تموت بموت البدن ذهبت الفلاسفة أيضا، واحتج الشيخ عليه بأن قال: قد ثبت أن النفس يجب حدوثها عند حدوث البدن فلا يخلو إما أن يكونا معا في الوجود أو لأحدهما تقدم على الآخر فإن كانا معا فلا يخلو إما أن يكونا معا في الماهية أولا في الماهية والأول باطل وإلا لكانت النفس والبدن متضايفين لكنهما جوهران هذا خلف وإن كانت المعية في الوجود فقط من غير أن يكون لأحدهما حاجة في ذلك الوجود إلى الآخر فعدم كل واحد منهما يوجب عدم تلك المعية إما لا يوجب عدم الآخر وإما إن كان لأحدهما حاجة في الوجود إلى الآخر فلا يخلو إما أن يكون المقدم هو النفس أو البدن فإن كان المقدم في الوجود هو النفس فذلك التقدم إما أن يكون زمانيا أو ذاتيا والأول باطل لما ثبت أن النفس ليست موجودة قبل البدن، وأما الثاني فباطل أيضا لأن كل موجود يكون وجوده معلول شيء كان عدمه معلول عدم ذلك الشيء إذ لو انعدم ذلك المعلول مع بقاء العلة لم تكن تلك العلة كافية في إيجابها فلا تكون العلة علة بل جزء من العلة هذا خلف فإذا لو كان البدن معلولا لا متنع عدم البدن إلا لعدم النفس، والتالي بطلان البدن قد ينعدم لأسباب أخر مثل سوء المزاج أو سوء التركيب أو تفرق الاتصال فبطل أن تكون النفس علة للبدن، وباطل أيضا أن يكون البدن علة للنفس لأن العلل كما عرف أربع ومحال أن يكون البدن علة فاعلية للنفس فإنه لا يخلو إما أن يكون علة فاعلية لوجود النفس بمجرد جسميته أو لأمر زائد على جسميته والأول باطل وإلا لكان كل جسم كذلك، والثاني باطل أما أولا فلما ثبت أن الصور المادية إنما تفعل بواسطة الوضع وكل ما لا يفعل إلا بواسطة الوضع استحال أن يفعل أفعالا مجردة عن الحيز والوضع وأما ثانيا فلأن الصور المادية أضعف من المجرد القائم بنفسه والأضعف لا يكون سببا للأقوى ومحال أن يكون البدن علة قابلية لما ثبت أن النفس مجردة مستغنية عن المادة، ومحال أن يكون علة صورية للنفس أو تمامية فإن الأمر أولى أن يكون بالعكس فإذا ليس بين البدن والنفس علاقة واجبة الثبوت أصلا فلا يكون عدم أحدهما علة لعدم الآخر. فإن قيل: ألستم جعلتم البدن علة لحدوث النفس؟ فنقول: قد بين أن الفاعل إذا كان منزها عن التغير ثم صدر عنه الفعل بعد أن كان غير صادر فلا بد وأن يكون لأجل أن شرط الحدوث قد حصل في ذلك الوقت دون ما قبله ثم إن ذلك الشرط لما كان شرطا للحدوث فقط وكان غنيا في وجوده عن ذلك الشيء استحال أن يكون عدم ذلك الشرط مؤثرا في عدم ذلك الشيء، ثم لما اتفق أن كان ذلك الشرط مستعدا لأن يكون آلة للنفس في تحصيل الكمالات والنفس لذاتها مشتاقة إلى الكمال لا جرم حصل للنفس شوق طبيعي إلى التصرف في ذلك البدن والتدبير فيه على الوجه الأصلح ومثل ذلك لا يمكن أن يكون عدمه علة لعدم ذلك الحادث بل ذهب الفلاسفة إلى استحالة انعدام النفس وبرهنوا على ذلك بما برهنوا وعندنا لا استحالة في ذلك. «البحث الخامس في تمايز الأرواح بعد مفارقتها الأبدان» نص ابن القيم على أن كل روح تأخذ من بدنها صورة تتميز بها عن غيرها وأن تمايز الأرواح أعظم من تمايز الأبدان إلا أنه زعم أنه لا يمكن التمايز بينها على القول بأنها جوهر مجرد عن المادة وفيه نظر فإن القائلين بذلك قائلون بالتمايز أيضا باعتبار ما يحصل لها من التعلق بالبدن أو بنحو آخر من التمايز، وذكر الشيخ إبراهيم الكوراني في بعض رسائله أن الأرواح بعد مفارقتها أبدانها المخصوصة تتعلق بأبدان أخر مثالية حسبما يليق بها وإلى ذلك الإشارة بالطير الخضر في حديث الشهداء ففي صحيح مسلم عن ابن مسعود أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 152 أرواح الشهداء في أجواف طير خضر، وأخرج سعيد بن منصور عن مكحول عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أن ذراري المؤمنين أرواحهم في عصافير في شجر في الجنة أي إنها تكون في أبدان على تلك الصور، ويؤيد ذلك رواية ابن ماجة عن ابن مسعود أرواح الشهداء عند الله تعالى كطير خضر ، وفي لفظ عن كعب أرواح الشهداء طير خضر ، ولفظ ابن عمر في صورة طير بيض ، وفي رواية علي بن عثمان اللاحقي عن مكحول أن ذراري المؤمنين أرواحهم عصافير في الجنة، وعلى هذا يكون إنكار قوم من المتكلمين خبر في أجواف طير وكذا خبر في عصافير لما في ذلك من تعلق روحين في بدن واحد وقد قالوا باستحالته ناشئا من عدم التأمل والتثبت لأنه على ما قررنا لا يكون للطائر روح غير روح الشهيد على أنه لو بقي الخبر على ظاهره لم يلزم محال لجواز أن تكون الروح في جوف الطير على نحو كون الجنين في بطن أمه فتدبر. «البحث السادس في مستقر الأرواح بعد مفارقة الأبدان» الذي دلت عليه الأخبار أن مستقر الأرواح بعد المفارقة مختلف فمستقر أرواح الأنبياء عليهم السلام في أعلى عليين وصح أن آخر كلمة تكلم بها صلّى الله عليه وسلّم اللهم الرفيق الأعلى وهو يؤيد ما ذكر، ومستقر أرواح الشهداء في الجنة ترد من أنهارها وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، وروي في أرواح أطفال المؤمنين ما هو قريب من ذلك، وروى ابن المبارك عن كعب قال: جنة المأوى جنة فيها طير خضر ترعى فيها أرواح الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا، ولعل هذا كما قال ابن رجب في عوام الشهداء وما تقدم في خواصهم أو لعل هذا في شهداء الآخرة كالغريق والمبطون إلى غير ذلك، وأما مستقر أرواح سائر المؤمنين فقيل في الجنة أيضا وهو نص الإمام الشافعي، وقد أخرج الإمام مالك عن كعب بن مالك مرفوعا «إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله تعالى في جسده حين يبعثه» ورواه الإمام أحمد في مسنده وخرجه النسائي من طريق مالك وخرجه ابن ماجة ورواه خلق كثير ، وروى ابن منده من حديث أم بشر مرفوعا ما هو نص في أن مستقر أرواح المؤمنين نحو مستقر أرواح الشهداء ، وقال وهب بن منبه: إن لله تعالى في السماء السابعة دارا يقال لها البيضاء يجتمع فيها أرواح المؤمنين ومستقر أرواح الكفار في سجين، وفي حديث أم بشر أن أرواح الكفار في حواصل طير سود تأكل من النار وتشرب من النار وتأوي إلى جحر في النار يقولون ربنا لا تلحق بنا إخواننا ولا تؤتنا ما وعدتنا ، وقيل: مستقر أرواح الموتى أفنية قبورهم، وحكى هذا ابن حزم عن عامة أهل الحديث، واستدل له بعضهم بحديث ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار يقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله تعالى» وبأنه صلّى الله عليه وسلّم حين زار الموتى قال «السلام عليكم دار قوم مؤمنين» ورجح ابن عبد البر أن مستقر أرواح ما عدا الشهداء بأفنية القبور، وفيه أنه إن أريد أن الأرواح لا تفارق الأفنية فهو خطأ يرده نصوص الكتاب والسنة وإن أريد أنها تكون هناك وقتا من الأوقات كما روي عن مجاهد الأرواح على القبور سبعة أيام من يوم دفن الميت أولها إشراق على قبورها وهي في مقرها فهو حق لكن لا يقال مستقرها أقنية القبور، وعول بعض المحققين على أن الأرواح حيث كانت لها اتصال لا يعلم حقيقته إلا الله تعالى وبذلك ترد السلام وتعرف المسلم ويعرض عليها مقعدها من الجنة أو النار، وقال بعضهم: لا مانع من انتقالها من مستقرها وعودها إليه في أسرع وقت حيث يشاء الله تعالى ذلك، نعم جاء في حديث البراء بن عازب ما يدل على أن أرواح المؤمنين تستقر في الأرض ولا تعود إلى السماء بعد عرضها حيث قال فيه في صفة قبض روح المؤمن فإذا انتهى إلى العرش كتب كتابه في عليين ويقول الرب تعالى شأنه: ردوا عبدي إلى مضجعه فإني وعدتهم أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى ، وفي لفظ ردوا روح عبدي إلى الأرض فإني الجزء: 8 ¦ الصفحة: 153 وعدتهم أن أردهم فيها ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مِنْها خَلَقْناكُمْ [طه: 55] الآية لكن قال الحافظ ابن رجب: إن حديث البراء وحده لا يعارض الأحاديث الكثيرة المصرحة بأن الأرواح في الجنة لا سيما الشهداء، وقوله تعالى: مِنْها خَلَقْناكُمْ إلخ باعتبار الأبدان، وقالت طائفة: مستقر الأرواح مطلقا في السماء الدنيا عن يمين آدم عليه السلام وعن شماله ويدل عليه ما في الصحيحين عن أبي ذر من حديث المعراج ففيه لما فتح علونا السماء الدنيا فإذا رجل قاعد على يمينه أسودة وعلى يساره أسودة فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى فقال مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح قلت لجبريل من هذا قال آدم وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه وأهل اليمين ثم أهل الجنة والأسودة التي عن شماله أهل النار . ويجاب بأن المراد أنه عليه السلام يرى هذين الصنفين من جهة يمينه وجهة شماله وهو يجامع كون أرواح كل فريق في مستقرها من الجنة والنار فقد رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم الجنة والنار في صلاة الكسوف وهو في الأرض والجنة ليست فيها ورآهما وهو في السماء والنار ليست فيها، وفي حديث لأبي هريرة في الإسراء ما يؤيد ما قلنا. والنسفي في بحر الكلام جعل الأرواح على أربعة أقسام أرواح الأنبياء عليهم السلام تخرج من جسدها ويصير مثل صورتها مثل المسك والكافور وتكون في الجنة تأكل وتشرب وتتنعم وتأوي بالليل إلى قناديل معلقة تحت العرش، وأرواح الشهداء تخرج من جسدها وتكون في أجواف طير خضر في الجنة تأكل وتتنعم وتأوي إلى قناديل كأرواح الأنبياء. عليهم السلام، وأرواح المطيعين من المؤمنين بربض الجنة لا تأكل ولا تتمتع ولكن تنظر إلى الجنة، وأرواح العصاة منهم تكون بين السماء والأرض في الهواء، وأما أرواح الكفار ففي سجين في جوف طير سود تحت الأرض السابعة وهي متصلة بأجسادها فتعذب الأرواح وتتألم من ذلك الأجساد اه. وما ذكره في أرواح المطيعين مخالف لما صح من أنها تتمتع في الجنة. وفي الإفصاح أن المنعم من الأرواح على جهات مختلفة منها ما هو طائر في شجر الجنة ومنها ما هو في حواصل طير خضر ومنها ما يأوي إلى قناديل تحت العرش ومنها ما هو في حواصل طير بيض ومنها ما هو في حواصل طير كالزرازير، ومنها ما هو في أشخاص صور من صور الجنة ومنها ما هو في صورة تخلق من ثواب أعمالهم ومنها ما تسرح وتتردد إلى جثتها وتزورها ومنها ما تتلقى أرواح المقبوضين وممن سوى ذلك ما هو في كفالة ميكائيل عليه السلام ومنها ما هو في كفالة آدم عليه السلام ومنها ما هو في كفالة إبراهيم عليه السلام اه، قال القرطبي: وهذا قول حسن يجمع الأخبار حتى لا تتدافع وارتضاه الجلال السيوطي. وأخرج ابن أبي الدنيا عن مالك قال: بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت وهو إن صح ليس على إطلاقه. وقيل في مستقر الأرواح غير ذلك حتى زعم بعضهم أن مستقرها لعدم المحض وهو مبني على أنها من الإعراض وهي الحياة وهو قول باطل عاطل فاسد كاسد يرده الكتاب والسنة والإجماع والعقل السليم، ويعجبني في هذا الفصل ما ذكره الإمام العارف ابن برجان في شرح أسماء الله تعالى الحسنى حيث قال: والنفس مبراة من باطن ما خلق منه الجسم وهي روح الجسم وأوجد تبارك وتعالى الروح من باطن ما برأ منه النفس وهو للنفس بمنزلة النفس للجسم والنفس حجابه والروح يوصف بالحياة بإحياء الله تعالى شأنه له وموته خمود إلا ما شاء الله تعالى يوم خمود الأرواح والجسم يوصف بالموت حتى يحيى بالروح وموته مفارقة الروح إياه وإذا فارق هذا العبد الروحاني الجسم صعد به فإن كان مؤمنا فتحت له أبواب السماء حتى يصعد إلى ربه عز وجل فيؤمر بالسجود فيسجد ثم يجعل حقيقته النفسانية تعمر السفل من قبره إلى حيث شاء الله تعالى من الجو وحقيقته الروحانية تعمر العلو من السماء الدنيا إلى السابعة في سرور ونعيم ولذلك لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم موسى عليه السلام قائما في قبره يصلي وإبراهيم عليه السلام تحت الشجرة قبل صعوده إلى السماء الدنيا ولقيهما في السموات العلى فتلك أرواحهما وهذه نفوسهما وأجسادهما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 154 في قبورهما، وإن كان شقيا لم يفتح له فرمي من علو إلى الأرض اه، وفيه القول بالمغايرة بين الروح والنفس، وبهذا التحقيق تندفع معارضات كثيرة واعتراضات وفيرة، ويعلم أن حديث ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام ليس نصا في أن الروح على القبر إذ يفهم منه أن الذي في القبر حقيقته النفسانية المتصلة بالروح اتصالا لا يعلم كنهه إلا الله تعالى. وللروح مع ذلك أحوالا وأطوارا لا يعلمها إلا الله تعالى فقد تكون مستغرقة بمشاهدة جمال الله تعالى وجلاله سبحانه ونحو ذلك وقد تصحو عن ذلك الاستغراق وهو المراد برد الروح في خبر «ما من أحد يسلم علي إلا رد الله تعالى روحي فأرد عليه السلام» والذي ينبغي أن يعول عليه مع ما ذكر أن الأرواح وإن اختلف مستقرها بمعنى محلها الذي أعطيته بفضل الله تعالى جزاء عملها لكن لها جولانا في ملك الله تعالى حيث شاء جل جلاله ولا يكون إلا بعد الأذن وهي متفاوتة في ذلك حسب تفاوتها في القرب والزلفى من الله تعالى حتى إن بعض الأرواح الطاهرة لتظهر فيراها من شاء الله تعالى من الأحياء يقظة وأن أرواح الموتى تتلاقى وتتزاور وتتذاكر وقد تتلاقى أرواح الأموات والأحياء مناما ولا ينكر ذلك إلا من يجعل الرؤيا خيالات لا أصل لها وذلك لا يلتفت إليه لكن لا ينبغي أن يبنى على ذلك حكم شرعي لاحتمال عدم الصحة وإن قامت قرينة عليها، وما صح من أن ثابت بن قيس بن شماس خرج مع خالد بن الوليد إلى حرب مسيلمة فاستشهد رضي الله تعالى عنه وكان عليه درع نفيسة فمر به رجل من المسلمين فأخذها فبينا رجل من الجند نائم إذ أتاه ثابت في منامه فقال له: أوصيك بوصية فإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه إني لما قتلت أمس مر بي رجل من المسلمين فأخذ درعي ومنزله في أقصى الناس وعند خبائه فرس يستن في طوله وقد كفى على الدرع برمة وفوق البرمة رحل فأت خالدا فمره أن يبعث إلي درعي فيأخذها وإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقل له: إن علي من الدين كذا وكذا وفلان من رقيقي عتيق فأتى الرجل خالدا فأخبره فبعث إلى الدرع وأتى بها وحدث أبا بكر رضي الله تعالى عنه برؤياه فأجاز وصيته، وقد ذكر ذلك ابن عبد البر وغيره مجاب عنه بأن ذلك كان بإجازة الوارث وهي بنته لغلبة ظن صدق الرؤيا بما قام من القرينة ولو لم تجز لم يسغ لأبي بكر رضي الله تعالى عنه ذلك بمجرد الرؤيا، وقيل: إن أبا بكر لم ير الرد ففعل ذلك من حصة بيت المال، ومثل هذه القصة قصة مصعب بن جثامة وعوف بن مالك وقد ذكرها ابن القيم في كتاب الروح وهي أغرب مما ذكر بكثير، وربما يؤذن لأرواح بعض الناس في زيارة أهليهم كما ورد في بعض الآثار وبعض الأرواح تحبس في قبرها أو حيث شاء الله تعالى عن مقامها كروح من يموت وعليه دين استدانه في محرم لا مطلقا كما هو المشهور، وتحقيقه في شرح الشمائل للعلامة ابن حجر ثم اعلم أن اتصال الروح بالبدن لا يختص بجزء دون جزء بل هي متصلة مشرقة على سائر أجزائه وإن تفرقت وكان جزء بالمشرق وجزء بالمغرب، ولعل هذا الإشراق على الأجزاء الأصلية لأنها التي يقوم بها الإنسان من قبره يوم القيامة على ما اختاره جمع، واعلم أيضا أن الروح على القول بتجردها لا مستقر لها بل لا يقال إنها داخل العالم أو خارجه كما سمعت وإنما المستقر حينئذ للبدن الذي تتعلق به، وقد نص بعض الصوفية على أنه لا مانع من أن تتعلق نفس ببدنين فأكثر بل هو واقع عندهم، وذكر بعضهم أن أحد البدنين هو البدن الأصلي والآخر مثالي يظهر للعيان على وجه خرق العادة، وقال آخر: إن الآخر من باب تطور الروح وظهورها بصورة على نحو ظهور جبريل عليه السلام بصورة دحية الكلبي وظهور القرآن لحافظه بصورة الرجل الشاحب يوم القيامة، والفلاسفة قالوا لا يجوز أن تتعلق نفس واحدة بأبدان كثيرة لأنه يلزم أن يكون معلوم أحدها معلوم الآخر ومجهول أحدها مجهول الآخر ومعلوم أن الأمر ليس كذلك، ولا يخفى أن هذا الدليل يدل على أن كل إنسانين يعلم أحدهما ما لا يعلم الآخر فإن نفسهما متغايرتان فلم لا يجوز وجود إنسانين يتعلق ببدنهما نفس واحدة ويكون كل ما علمه أحدهما علمه الآخر لا محالة وما يجهله أحدهما يكون مجهولا للآخر لا بد لعدم الجواز من دليل، وعلى ما ذكره الجزء: 8 ¦ الصفحة: 155 هؤلاء الصوفية يجوز أن تتعلق الروح ببدن في الجنة وببدن آخر حيث شاء الله تعالى بل يجوز أن تظهر في صور شتى في أماكن متعددة على حد ما قالوه في جبريل عليه السلام أنه في حال ظهوره في صورة دحية أو أعرابي غيره بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يفارق سدرة المنتهى، وأنت تعلم ما يقولون في تجلي الله تعالى في الصور وسمعت خبر «إن الله تعالى خلق آدم على صورته» ومن هنا قالوا: من عرف نفسه فقد عرف ربه فافهم الإشارة ولعمري هي عبارة، ثم إن أرواح سائر الحيوانات من البهائم ونحوها قيل: تكون بعد المفارقة في الهواء ولا اتصال لها بالأبدان، وقيل: تعدم ولا يعجز الله تعالى شيء، ومن الناس من قال: إن كان للحيوانات حشر يوم القيامة كما هو المشهور الذي تقتضيه ظواهر الآيات والأخبار فالأولى أن يقال ببقاء أرواحها في الهواء أو حيث شاء الله تعالى وإن لم يكن لها حشر كما ذهب إليه الغزالي وأول الظواهر فالأولى أن يقال بانعدامها، هذا وبقيت أبحاث كثيرة تركناها لضيق القفص واتساع دائرة الغصص، ولعل فيما ذكرناه هنا مع ما ذكرناه فيما قبل كفاية لأهل البداية وهداية لمن ساعدته العناية والله عز وجل ولي الكرم والجود، ومنه سبحانه بدء كل شيء وإليه جل وعلا يعود. وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ من القرآن الذي هو شفاء ورحمة للمؤمنين والذي ثبتناك عليه حين كادوا يفتنونك عنه إلى غير ذلك من أوصافه التي يشعر بها السياق، وإنما عبر عنه بالموصول تفخيما لشأنه ووصفا له بما في حيز الصلة ابتداء إعلاما بحاله من أول الأمر وبأنه ليس من قبيل كلام المخلوق، واللام الأولى موطئة للقسم «ولنذهبن» جوابه النائب مناب جزاء الشرط فهو مغن عن تقديره وليس جزاء لدخول اللام عليه وهو ظاهر وبذلك حسن حذف مفعول المشيئة، والمراد بالذهاب به محوه عن المصاحف والصدور وهو أبلغ من الأفعال، ويراد على هذا من القرآن على ما قيل صورته من أن تكون في نقوش الكتابة أو في الصور التي في القوة الحافظة ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ أي القرآن عَلَيْنا وَكِيلًا أي متعهدا وملتزما استرداده بعد الذهاب به كما يلتزم الوكيل ذلك فيما يتوكل عليه حال كونه متوقعا أن يكون محفوظا في السطور والصدور كما كان قبل فالوكيل مجاز عما ذكر. إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ استثناء منقطع على ما اختاره ابن الأنباري وابن عطية وغيرهما وهو مفسر بلكن في المشهور، والاستدراك على ما صرح به الطيبي وغيره، واقتضاه ظاهر كلام جمع عن قوله تعالى: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ وقال في الكشف: إنه ليس استدراكا عن ذلك فإن المستثنى منه وَكِيلًا وهذا من المنقطع الممتنع إيقاعه موقع الاسم الأول الواجب فيه النصب في لغتي الحجاز وتميم كما في قوله تعالى: لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [هود: 43] إلا من رحم في رأي، وقولهم: لا تكونن من فلان إلا سلاما بسلام فقد صرح الرضي وغيره بأن الفريقين يوجبون النصب ولا يجوزون الإبدال في المنقطع فيما لا يكون قبله اسم يصح حذفه، وكون ما نحن فيه من ذلك ظاهر لمن له ذوق، والمعنى ثم بعد الإذهاب لا تجد من يتوكل علينا بالاسترداد ولكن رحمة من ربك تركته غير منصوب فلم تحتج إلى من يتوكل للاسترداد مأيوس عنه بالفقدان المدلول عليه بلا تجد، والتغاير المعنوي بين الكلامين من دلالة الأول على الإذهاب ضمنا والثاني على خلافه حاصل وهو كاف فافهم، ويفهم صنيع البعض اختيار أنه استثناء متصل من وَكِيلًا أي لا تجد وكيلا باسترداده إلا الرحمة فإنك تجدها مستردة، وأنت تعلم أن شمول الوكيل للرحمة يحتاج إلى نوع تكلف. وقال أبو البقاء: إن رَحْمَةً نصب على أنه مفعول له والتقدير حفظناه عليك للرحمة، ويجوز أن يكون نصبا على أنه مفعول مطلق أي ولكن رحمناك رحمة اه وهو كما ترى، والآية على تقدير الانقطاع امتنان بإبقاء القرآن بعد الامتنان بتنزيله، وذكروا أنها على التقدير الآخر دالة على عدم الإبقاء فالمنة حينئذ إنما هي في تنزيله، ولا يخفى ما فيه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 156 من الخفاء وما يذكر في بيانه لا يروي الغليل، والآية ظاهرة في أن مشيئة الذهاب به غير متحققة وأن فقدان المسترد إلا الرحمة إنما هو على فرض تحقق المشيئة لكن جاء في الأخبار أن القرآن يذهب به قبل يوم القيامة، فقد أخرج البيهقي والحاكم وصححه وابن ماجة بسند قوي عن حذيفة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدرى ما صيام ولا صدقة ولا نسك ويسري على كتاب الله تعالى في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية ويبقى الشيخ الكبير والعجوز يقولون أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله فنحن نقولها. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن عمر قالا: خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا أيها الناس ما هذه الكتب التي بلغني أنكم تكتبونها مع كتاب الله تعالى يوشك أن يغضب الله تعالى لكتابه فيسري عليه ليلا لا يترك في قلب ولا ورق منه حرف إلا ذهب به فقيل: يا رسول الله فكيف بالمؤمنين والمؤمنات؟ قال: من أراد الله تعالى به خيرا أبقى في قلبه لا إله إلا الله» وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال: يسري على كتاب الله تعالى فيرفع إلى السماء فلا يبقى في الأرض آية من القرآن ولا من التوراة والإنجيل والزبور فينزع من قلوب الرجال فيصبحون في الضلالة لا يدرون ما هم فيه. وأخرج الديلمي عن ابن عمر مرفوعا لا تقوم الساعة حتى يرجع القرآن من حيث جاء له دوي حول العرش كدوي النحل فيقول الله عز وجل: ما لك؟ فيقول منك خرجت وإليك أعود أتلى ولا يعمل بي وأخرج محمد بن نصر نتحوه موقوفا على عبد الله بن عمرو بن العاص ، وأخرج غير واحد عن ابن مسعود أنه قال: سيرفع القرآن من المصاحف والصدور، ثم قرأ وَلَئِنْ شِئْنا الآية ، وفي البهجة أنه يرفع أولا من المصاحف ثم يرفع لأعجل زمن من الصدور والذاهب به هو جبريل عليه السلام كما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده فيا لها من مصيبة ما أعظمها وبلية ما أوخمها فإن دلت الآية على الذهاب به فلا منافاة بينها وبين هذه الأخبار وإذا دلت على إبقائه فالمنافاة ظاهرة إلا أن يقال: إن الإبقاء لا يستلزم الاستمرار ويكفي فيه إبقاؤه إلى قرب قيام الساعة فتدبر، ومما يرشد إلى أن سوق الآية للامتنان قوله تعالى: إِنَّ فَضْلَهُ كانَ لم يزل ولا يزال عَلَيْكَ كَبِيراً ومنه إنزال القرآن واصطفاؤه على جميع الخلق وختم الأنبياء عليهم السلام به وإعطاؤه المقام المحمود إلى غير ذلك وقال أبو سهل: (1) إلى أنها سيقت لتهديد غيره صلّى الله عليه وسلّم بإذهاب ما أوتوا ليصدهم عن سؤال ما لم يؤتوا كعلم الروح وعلم الساعة. وقال صاحب التحرير: يحتمل أن يقال: إنه صلّى الله عليه وسلّم لما سئل عن الروح وذي القرنين وأهل الكهف وأبطأ عليه الوحي شق عليه ذلك وبلغ منه الغاية فأنزل الله تعالى هذه الآية تسكينا له صلّى الله عليه وسلّم والتقدير أيعز عليك تأخر الوحي فإنا إن شئنا ذهبنا بما أوحينا إليك جميعه فسكن ما كان يجده صلّى الله عليه وسلّم وطاب قلبه انتهى، وكلا القولين كما ترى. قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ أي اتفقوا عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ المنعوت بما لا تدركه العقول من النعوت الجليلة الشأن من البلاغة وحسن النظم وكمال المعنى، وتخصيص الثقلين بالذكر لأن المنكر لكونه من عند الله تعالى منهما لا من غيرهما والتحدي إنما كان معهما وإن كان النبي صلّى الله عليه وسلّم مبعوثا إلى الملك كما هو مبعوث إليهما لا لأن غيرهما قادر على المعارضة فإن الملائكة عليهم السلام على فرض تصديهم لها وحاشاهم إذ هم معصومون لا يفعلون إلا ما يؤمرون عاجزون كغيرهم لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ أي هذا القرآن وأوثر الإظهار على إيراد الضمير الراجع إلى المثل المذكور احترازا عن أن يتوهم أن له مثلا معينا وإيذانا بأن المراد نفي الإتيان بمثل ما أي لا يأتون   (1) قوله وقال أبو سهل إلى أنها كذا في نسخة المؤلف والأولى وذهب أبو سهل إلخ كما هو ظاهر اه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 157 بكلام مماثل له فيما ذكر من الصفات الجليلة الشأن وفيهم العرب العرباء أرباب البراعة والبيان، وقيل: المراد تعجيز الإنس وذكر الجن مبالغة في تعجيزهم لأنهم إذا عجزوا عن الإتيان بمثله ومعهم الجن القادرون على الأفعال المستغربة فهم عن الإتيان بمثله وحدهم أعجز وليس بذاك، وقيل: يجوز أن يراد من الجن ما يشمل الملائكة عليهم السلام وقد جاء إطلاق الجن على الملائكة كما في قوله تعالى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [الصافات: 158] نعم الأكثر استعماله في غير الملائكة عليهم السلام ولا يخفى أنه خلاف الظاهر، وزعم بعضهم أن الملائكة عليهم السلام حيث كانوا وسائط في إتيانه لا ينبغي إدراجهم إذ لا يلائمه حينئذ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وفيه أنه ليس المراد نفي الإتيان بمثله من عند الله تعالى في شيء ممن أسند إليهم الفعل، وجملة «لا يأتون» جواب القسم الذي ينبىء عنه اللام الموطئة وساد مسد جزاء الشرط ولولاها لكان لا يَأْتُونَ جزاء الشرط وإن كان مرفوعا بناء على القول بأن فعل الشرط إذا كان ماضيا يجوز الرفع في الجواب كما في قول زهير: وإن أتاه خليل يوم مسغبة ... يقول لا غائب مالي ولا حرم لأن أداة الشرط إذا لم تؤثر في الشرط ظاهرا مع قربه جاز أن لا تؤثر في الجواب مع بعده، وهذا القول خلاف مذهب سيبويه ومذهب الكوفيين والمبرد كما فصل في موضعه، ولا يجوز عند البصريين مع وجود هذه اللام جعل المذكور جواب الشرط خلافا للفراء، وأما قول الأعشى: لئن منيت بنا عن غب معركة ... لا تلفنا عن دماء الخلق ننتفل فاللام ليست الموطئة بل هي زائدة على ما قيل فافهم، وحيث كان المراد بالاجتماع على الإتيان بمثل القرآن مطلق الاتفاق على ذلك سواء كان التصدي للمعارضة من كل واحد منهم على الانفراد أو من المجموع بأن يتألبوا على تلفيق كلام واحد بتلاحق الأفكار وتعاضد الأنظار قال سبحانه: وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً أي معينا في تحقيق ما يتوخونه من الإتيان بمثله، والجملة عطف على مقدر أي لا يأتون بمثله لو لم يكن بعضهم لبعض ظهيرا ولو كان إلخ وهي في موضع الحال كالجملة المحذوفة، والمعنى لا يأتون بمثله على كل حال مفروض ولو في مثل هذه الحال المنافية لعدم الإتيان به فضلا عن غيرها وفيه رد لليهود أو قريش في زعمهم الإتيان بمثله، فقد روي أن طائفة من الأولين قالوا: أخبرنا يا محمد بهذا الحق الذي جئت به أحق من عند الله تعالى فإنا لا نراه متناسقا كتناسق التوراة فقال صلّى الله عليه وسلّم لهم: أما والله إنكم لتعرفونه أنه من عند الله تعالى قالوا: إنا نجيئك بمثل ما تأتي به فأنزل الله تعالى هذه الآية. وفي رواية أن جماعة من قريش قالوا له صلّى الله عليه وسلّم: جئنا بآية غريبة غير هذا القرآن فإنا نحن نقدر على المجيء بمثله فنزلت ، ولعل مرادهم بهذه الآية الغريبة ما تضمنه الآيات بعد وهي قوله تعالى: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ إلخ وحينئذ قيل يمكن أن تكون هذه الآية مع الآيات الأخر رد لجميع ما عنوه بهذا الكلام إلا أنه ابتدأ برد قولهم: نحن نقدر إلخ اهتماما به فإن قولهم ذلك منشا طلبهم الآية الغريبة. وفي إرشاد العقل السليم أن في هذه الآية حسم أطماعهم الفارغة في روم تبديل بعض آياته ببعض ولا مساغ لكونها تقريرا لما قبلها من قوله تعالى: ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا كما قيل لكن لا لما قيل من أن الإتيان بمثله أصعب من استرداد عينه ونفي الشيء إنما يقرره نفي ما دونه دون نفي ما فوقه لأن أصعبية الاسترداد بغير أمره تعالى من الإتيان المذكور مما لا شبهة فيه بل لأن الجملة القسمية ليست مسوقة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بل إلى المكابرين من قبله عليه الصلاة والسلام انتهى، ومنه يعلم ما في قول بعضهم في وجه التقرير: أن عدم قدرة الثقلين على رده بعد إذهابه مساو لعدم قدرتهم على مثله لأن رده بعينه غير ممكن لعدم وصولهم إلى الله تعالى شأنه فلم يبق إلا رده بمثله فصرح بنفيه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 158 تقريرا له من النظر وعدم الجدوى، هذا واستدل صاحب الكشاف بإعجاز القرآن على حدوثه إذ لو كان قديما لم يكن مقدورا فلا يكون معجزا كالمحال، وتعقبه في الكشف بأنه لا نزاع في حدوث النظم وإن تحاشى أهل السنة من إطلاق المخلوق عليه للإيهام وهو المعجز إنما النزاع في المعبر بهذه العبارة المعجزة وهو المسمى بالكلام النفسي فهو استدلال لا ينفعه وذكر نحوه ابن المنير. وقال صاحب التقريب: الجواب منع الملازمة إذ مصحح المقدورية الإمكان وهو حاصل لا الحدوث وأيضا المعجز لفظه ولا يقال بقدمه والقديم كلام النفس ولا يقال بإعجازه وأيضا سلمنا أن القديم لا يقدر البشر على عينه لكن لم لا يقدر على مثله، واختار العلامة الطيبي هذا الأخير في الجواب، وقد ذكرنا في المقدمات من الكلام ما ينفعك في هذا المقام فتدبر والله تعالى ولي الأنعام ومسدد الأفهام. وَلَقَدْ صَرَّفْنا كررنا ورددنا على أساليب مختلفة توجب زيادة تقرير ورسوخ لِلنَّاسِ أهل مكة وغيرهم كما هو الظاهر فِي هذَا الْقُرْآنِ المنعوت بما ذكر من النعوت الفاضلة مِنْ كُلِّ مَثَلٍ من كل معنى بديع هو في الحسن والغرابة واستجلاب النفوس كالمثل ومفعول صَرَّفْنا على ما استظهره أبو حيان محذوف أي البيان وقدره البينات والعبر ومن لابتداء الغاية وجوز ابن عطية أن تكون سيف خطيب فكل هو المفعول وهذا مبني على مذهب الكوفيين والأخفش لأنهم يجوزون زيادة من في الإيجاب دون جمهور البصريين. وقرأ الحسن «صرفنا» بتخفيف الراء وقراءة الجمهور أبلغ، وأيّا ما كان فالمراد فعلنا ذلك للناس ليذعنوا ويتلقوه بالقبول فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً أي جحودا وفسر به لثبوت الصدق بأصل الإعجاز، والمراد بالناس المذكورون أولا وأوثر الإظهار على الإضمار تأكيدا وتوضيحا، والمراد بالأكثر قيل: من كان في عهده صلّى الله عليه وسلّم من المشركين وأهل الكتاب. واستظهر في البحر أنهم أهل مكة بدليل أن الضمائر الآتية لهم ونصب كُفُوراً على أنه مفعول أبى والاستثناء مفرغ وصح ذلك هنا مع أنه مشروط بتقدم النفي فلا يصح ضربت إلا زيدا لأن أبى قريب من معنى النفي فهو مؤول به فكأنه قيل ما قبل أكثرهم إلا كفورا وفيه من المبالغة ما ليس في أبوا الإيمان لأن فيه زيادة على أنهم لم يرضوا بخصلة سوى الكفر من الإيمان والتوقف في الأمر ونحو ذلك وأنهم بالغوا في عدم الرضا حتى بلغوا مرتبة الإباء، وإنما لم يجز ذلك في الإثبات لفساد المعنى إذ لا قرينة على تقدير أمر خاص والعموم لا يصح إذ لا يمكن في المثال أن تضرب كل أحد إلا زيدا فإن صح العموم في مثال جاز التفريغ في غير تأويل بنفي فيجوز صليت إلا يوم كذا إذ يجوز أن تصلي كل يوم غيره، وجوز أن تكون الآية من هذا القبيل بأن يكون المراد أبوا كل شيء فيما اقترحوه إلا كفورا وَقالُوا عند ظهور عجزهم ووضوح مغلوبيتهم بالإعجاز التنزيلي وغيره من المعجزات الباهرة متعللين بما لا تقتضي الحكمة وقوعه من الأمور ولا توقف لثبوت المدعى عليه وبعضه من المحالات العقلية لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ بالتخفيف من باب نصر المتعدي وبذلك قرأ الكوفيون أي تفتح، وقرأ باقي السبعة «تفجر» من فجر مشددا والتضعيف للتكثير لا للتعدية. وقرأ الأعمش وعبد الله بن مسلم بن يسار «تفجر» من أفجر رباعيا وهي لغة في فجر لَنا مِنَ الْأَرْضِ أي أرض مكة لقلة مياهها فالتعريف عهدي يَنْبُوعاً مفعول من نبع الماء كيعبوب من عب الماء إذا زخر وكثر موجه فالياء زائدة للمبالغة، والمراد عينا لا ينضب ماؤها، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أن الينبوع هو النهر الذي يجري من العين، والأول مروي عن مجاهد وكفى به أَوْ تَكُونَ لَكَ خاصة جَنَّةٌ بستان تستر أشجارها ما تحتها من العرصة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 159 مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ خصوهما بالذكر لأنهما كانا الغالب في هاتيك النواحي مع جلالة قدرهما فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ أي تجريها خِلالَها نصب على الظرفية أي وسط تلك الجنة وأثنائها تَفْجِيراً كثيرا والمراد إما إجراء الأنهار خلالها عند سقيها أو إدامة إجرائها كما ينبىء الفاء أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ الجرم المعلوم كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً جمع كسفة كقطعة وقطع لفظا ومعنى وهو حال من السماء والكاف في كَما في محل النصب على أنه صفة مصدر محذوف أي إسقاطا مماثلا لما زعمت يعنون بذلك قوله تعالى: أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ [سبأ: 9] وزعم بعضهم أنهم يعنون ما في هذه السورة من قوله تعالى: أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً وليس بشيء، وقيل: إن المعنى كما زعمت أن ربك إن شاء فعل وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى في خبر ابن عباس، وقرأ مجاهد «يسقط السماء» بياء الغيبة ورفع «السماء» وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب «كشفا» بسكون السين في جميع القرآن إلا في الروم وابن عامر إلا في هذه السورة ونافع وأبو بكر في غيرهما، وحفص فيما عدا الطور في قوله. وفي النشر أنهم اتفقوا على إسكان السين في الطور وهو إما مخفف من المفتوح لأن السكون من الحركة مطلقا كسدر وسدر أو هو فعل صفة بمعنى مفعول كالطحن بمعنى المطحون أي شيئا مكسوفا أي مقطوعا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أي مقابلا كالعشير والمعاشر وأرادوا كما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس عيانا وهذا كقولهم «لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا» وفي رواية أخرى عن الحبر والضحاك تفسير القبيل بالكفيل أي كفيلا بما تدعيه يعنون شاهدا يشهد لك بصحة ما قلته وضامنا يضمن ما يترتب عليه وهو على الوجهين حال من الجلالة وحال الملائكة محذوفة لدلالة الحال المذكورة عليها أي قبلاء كما حذف الخبر في قوله: ومن يك أمسى في المدينة رحله ... فإني وقيار بها لغريب وذكر الطبرسي عن الزجاج أنه فسر قبيلا بمقابلة ومعاينة، وقال إن العرب تجريه في هذا المعنى مجرى المصدر فلا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث فلا تغفل، وعن مجاهد القبيل الجماعة كالقبيلة فيكون حالا من الملائكة، وفي الكشف جعله حالا من الملائكة لقرب اللفظ وسداد المعنى لأن المعنى تأتي بالله تعالى وجماعة من الملائكة لا تأتي بهما جماعة ليكون حالا على الجمع إذ لا يراد معنى المعية معه تعالى ألا ترى إلى قوله سبحانه حكاية عنهم «أو نرى ربنا» والقرآن يفسر بعضه بعضا انتهى، وقرأ الأعرج «قبلا» من المقابلة وهذا يؤيد التفسير الأول. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ من ذهب كما روي عن ابن عباس وقتادة وغيرهما، وأصله الزينة وإطلاقه على الذهب لأن الزينة به أرغب وأعجب، وقرأ عبد الله «من ذهب» وجعل ذلك في البحر تفسيرا لا قراءة لمخالفته سواد المصحف أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ أي تصعد في معارجها فحذف المضاف يقال رقي في السلم والدرجة والظاهر أن السماء هنا المظلة، وقيل: المراد المكان العالي وكل ما ارتفع وعلا يسمى سماء قال الشاعر: وقد يسمى سماء كل مرتفع ... وإنما الفضل حيث الشمس والقمر وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ أي لأجل رقيك فيها وحده أو لن نصدق رقيك فيها حَتَّى تُنَزِّلَ منها عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ بلغتنا على أسلوب كلامنا وفيه تصديقك قُلْ تعجبا من شدة شكيمتهم وفرط حماقتهم سُبْحانَ رَبِّي أو قل ذلك تنزيها لساحة الجلال عما لا يكاد يليق بها من مثل هذه الاقتراحات التي تضمنت ما هو من أعظم المستحيلات كإتيان الله تعالى على الوجه الذي اقترحوه أو عن طلب ذلك، وفيه تنبيه على بطلان ما قالوه. وقرأ ابن كثير وابن عامر «قال سبحان ربي» أي قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا كسائر الرسل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 160 عليهم السلام وكانوا لا يأتون قومهم إلا بما يظهره الله تعالى على أيديهم حسبما تقتضيه الحكمة من غير تفويض إليهم فيه ولا تحكم منهم عليه سبحانه، وبَشَراً خبر كان ورَسُولًا صفته وهو معتمد الكلام وكونه بشرا توطئة لذلك ردا لما أنكروه من جواز كون الرسول بشرا ودلالة على أن الرسل عليهم السلام من قبل كانوا كذلك ولهذا قال الزمخشري هل كنت إلا رسولا كسائر الرسل بشرا مثلهم، وزعم بعض أن ذكر بَشَراً ليس للتوطئة فإن طلب القوم منه عليه الصلاة والسلام ما طلبوه يحتمل أن يكون طلب أن يأتي به بقدرة نفسه صلّى الله عليه وسلّم ويحتمل أن يكون طلب أن يأتي به بقدرة الله تعالى فذكر بَشَراً لنفي أن يأتي بذلك بقدرة نفسه كأنه قال: هل كنت إلا بشرا والبشر لا قدرة له على الإتيان بذلك، وذكر رسولا لنفي أن يأتي به بقدرة الله تعالى كأنه قيل هل كنت إلا رسولا والرسول لا يتحكم على ربه سبحانه. وتعقب بأن هذا مع ما فيه من مخالفة لآثار كما ستعلمه قريبا إن شاء الله تعالى ظاهر في جعل الاسمين خبرين وهو مما يأباه الذوق السليم، وقال الخفاجي: إن كون الاسمين خبرين غير متوجه لأنه يقتضي استقلالها وأنهم أنكروا كلا منهما حتى رد عليهم بذلك ولم ينكر أحد بشريته صلّى الله عليه وسلّم، وتعقب بأنهم لما طلبوا منه عليه الصلاة والسلام ما لا يتأتى من البشر كالرقي في السماء كانوا بمنزلة من أنكر بشريته وهو كما ترى. وجوز بعضهم كون بشرا حالا من النكرة وسوغ ذلك تقدمه عليها وهو ركيك لأنه يقتضي أن له صلّى الله عليه وسلّم حالا آخر غير البشرية ولا يقول بذلك أحد اللهم إلا أن يكون من الوجودية. هذا والظاهر اتحاد القائل لجميع ما تقدم ويحتمل عدم الاتحاد بأن يكون بعض اقترح شيئا وبعض آخر اقترح آخر لكن نسب القول إلى الجميع لرضا كل بما اقترح الآخر. وأخرج سعيد بن منصور، وغيره عن ابن جبير أن قوله تعالى: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ إلخ نزل في عبد الله ابن أبي أمية وهو ظاهر في أنه القائل ولا يعكر عليه ضمير الجمع لما أشرنا إليه، وأخرج ابن إسحاق. وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب والأسود بن المطلب وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف وناسا آخرين اجتمعوا بعد غروب الشمس عند الكعبة فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه حتى تعذروا فيه فبعثوا إليه فجاءهم صلّى الله عليه وسلّم سريعا وهو يظن أنهم قد بدا لهم في أمره بداء وكان عليهم حريصا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم حتى جلس إليهم فقالوا: يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنعذرك وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء وعبت الدين وسفهت الأحلام وشتمت الآلهة وفرقت الجماعة فما بقي من قبيح إلا وقد جثته فيما بيننا وبينك فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سودناك علينا وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك بذلنا أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه أو نعذر فيك فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما بي ما تقولون ما جئتكم بما جثتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله تعالى بعثني إليكم رسولا وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله تعالى بيني وبينكم فقالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلادا ولا أقل مالا ولا أشد عيشا منا فاسأل ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا وليجر فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا من قد مضى من آياتنا وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخا صدوقا فنسألهم عما تقول حق هو أم باطل فإن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 161 صنعت ما سألناك وصدقوك صدقناك وعرفنا به منزلتك عند الله تعالى وأنه بعثك رسولا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما بهذا بعثت إنما جئتكم من عند الله تعالى بما بعثني به فقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله تعالى بيني وبينكم قالوا فإن لم تفعل لنا هذا فخذ لنفسك فاسأل ربك أن يبعث ملكا يصدقك بما تقول فيراجعنا عنك وتسأله أن يجعل لك جنانا كنوزا وقصورا من ذهب وفضة ويغنك عما نراك تبتغي فإنك تقول بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعرف منزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم فقال صلّى الله عليه وسلّم: ما أنا بفاعل ما أنا بالذي يسأل ربه هذا وما بعثت إليكم بهذا ولكن الله تعالى بعثني بشيرا ونذيرا فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله تعالى بيني وبينكم قالوا: فتسقط السماء كما زعمت أن ربك إن شاء فعل فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ذلك إلى الله تعالى إن شاء فعل بكم ذلك فقالوا: يا محمد فاعلم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب فيتقدم إليك ويعلمك ما تراجعنا به ويخبرك مما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا فقد أعذرنا إليك يا محمد أما والله لا نتركك وما فعلت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا وقال قائلهم: لن نؤمن لكن حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا فلما قالوا ذلك قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنهم وقام معه عبد الله بن أبي أمية فقال: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ثم سألوك لأنفسهم أمورا يتعرفوا بها منزلتك من الله تعالى فلم تفعل ثم سألوك أن تعجل ما يخوفهم به من العذاب فو الله لا نؤمن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم نرقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي معك بنسخة منشورة معك بأربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول وايم الله لو فعلت ذلك لظننت أني لأصدقك ثم انصرف وانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهله حزينا آسفا لما فاته مما كان طمع فيه من قومه حين دعوه ولما رأى من مباعديهم فأنزل عليه هذه الآيات وقوله تعالى: كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ [الرعد: 30] الآية وقوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [الرعد: 31] الآية اه والله تعالى أعلم. وَما مَنَعَ النَّاسَ أي الذين حكيت أباطيلهم أَنْ يُؤْمِنُوا مفعول منع وقوله تعالى: إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى ظرف منع أو يؤمنوا أي ما منعهم وقت مجيء الوحي المقرون بالمعجزات المستدعية للإيمان أن يؤمنوا بالقرآن وبنبوتك أو ما منعهم أن يؤمنوا وقت مجيء ما ذكر إِلَّا أَنْ قالُوا فاعل منع أي إلا قولهم: أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا منكرين أن يكون رسول الله عليه الصلاة والسلام من جنس البشر وليس المراد أن هذا القول صدر عن بعض فمنع آخرين بل المانع هو الاعتقاد الشامل للكل المستتبع لهذا القول منهم. وإنما عبر عنه بالقول إيذانا بأنه مجرد قول يقولونه بأفواههم من غير أن يكون له مفهوم ومصداق، وحصر المانع فيما ذكر مع أن لهم موانع شتى لما أنه معظمها أو لأنه هو المانع بحسب الحال أعني عند سماع الجواب بقوله تعالى: هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا إذ هو الذي يتشبثون به حينئذ من غير أن يخطر ببالهم شبهة أخرى من شبههم الواهية، وفيه على هذا إيذان بكمال عنادهم حيث يشير إلى أن الجواب المذكور مع كونه حاسما لمواد شبههم مقتضيا للإيمان يعكسون الأمر ويجعلونه مانعا قاله بعض المحققين، وظاهر ذلك أن القوم لا يقولون برسالة أحد من الرسل المشهورين كإبراهيم وموسى عليهما السلام أصلا، وصرح بعضهم بأنهم لم ينكروا إرسال غيره صلّى الله عليه وسلّم منهم وبأن قولهم هذا كان تعنتا وهذا خلاف الظاهر هنا، ولعل القوم كانوا في ريب وتردد لا يستقيمون على حال فتدبر. والظاهر أن الآية إخبار منه عز مجده عن الأمر المانع إياهم عن الإيمان، ويظهر من كلام ابن عطية أن هذا الكلام الجزء: 8 ¦ الصفحة: 162 منه عليه الصلاة والسلام قاله على معنى التوبيخ والتلهف وحاشا من له أدنى ذوق من أن يذهب إلى ذلك قُلْ لهم أولا من قبلنا تبيينا للحكمة وتحقيقا للحق المزيح للريب لَوْ كانَ أي لو وجد فِي الْأَرْضِ بدل البشر مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ كما يمشي البشر ولا يطيرون إلى السماء فيسمعوا من أهلها ويعلموا ما يجب علمه مُطْمَئِنِّينَ ساكنين مقيمين فيها، وقال الجبائي أي مطمئنين إلى الدنيا ولذاتها غير خائفين ولا متعبدين بشرع لأن المطمئن من زال الخوف عنه لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا يعلمهم ما لا تستقل قدرهم بعلمه ليسهل عليهم الاجتماع به والتلقي منه وأما عامة البشر فلا يسهل عليهم ذلك لبعد ما بين الملك وبينهم فلا يبعث إليهم وإنما يبعث إلى خواصهم لأن الله تعالى قد وهبهم نفوسا زكية وأيدهم بقوى قدسية وجعل لهم جهتين جهة ملكية بها من الملك يستفيضون وجهة بشرية بها على البشر يفيضون، وجعل كل البشر كذلك مخل بالحكمة، وأنزل الملك عليهم على وجه يسهل التلقي منه بأن يظهر لهم بصورة بشر كما ظهر جبريل عليه السلام مرارا في صورة دحية الكلبي. وقد صح أن أعرابيا جاء وعليه أثر السفر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان وغيرها فأجابه عليه الصلاة والسلام بما أجابه ثم انصرف ولم يعرفه أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم فقال صلّى الله عليه وسلّم هذا جبريل جاءكم يعلمكم أمر دينكم مما لا يجدي نفعا لأولئك الكفرة كما قال تعالى جده وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ [الأنعام: 9] وقيل علة تنزيل الملك عليهم أن الجنس إلى الجنس إلى الجنس أميل وهو به آنس، ولعل الأول أولى وإن زعم خلافه. وحكى الطبرسي عن بعضهم أنه قال في الآية: إن العرب قالوا كنا ساكنين مطمئنين فجاء محمد صلّى الله عليه وسلّم فأزعجنا وشوش علينا أمرنا فبين سبحانه أنه لو كان ملائكة مطمئنين لأوجبت الحكمة إرسال الرسل إليهم ولم يمنع اطمئنانهم الإرسال فكذلك الناس لا يمنع كونهم مطمئنين إرسال الرسل إليهم، وأنت تعلم أن هذا بمراحل عن السياق ولا يصح فيه أثر كما لا يخفى على المتتبع. ونصب مَلَكاً يحتمل أن يكون على الحالية من رسولا الواقع مفعولا لنزلنا وسوغ ذلك التقدم، ويحتمل أن يكون على المفعولية لنزلنا ورسولا صفة له، وكذا الكلام في قوله تعالى أبعث الله بشرا رسولا، ورجع غير واحد الأول بأنه أكثر موافقة للمقام وأنسب، ووجه ذلك القطب وصاحب التقريب بأنه على الحالية يفيد المقصود بمنطوقه وعلى الوصفية يفيد خلاف المقصود بمفهومه، أما الأول فلأن منطوقه ابعث الله تعالى رسولا حال كونه بشرا لا ملكا ولنزلنا عليهم رسولا حال كونه ملكا لا بشرا وهو المقصود، وأما الثاني فلأن التقييد بالصفة يفيد أبعث الله تعالى بشرا مرسلا لا بشرا غير مرسل ولنزلنا عليهم ملكا مرسلا لا ملكا غير مرسل وهو خلاف المقصود بل غير مستقيم، وقال صاحب الكشف تبعا لشيخه العلامة الطيبي في ذلك: لأن التقديم إزالة عن موضعه الأصلي دلالة على أنه مصب الإنكار في الأول أعني أبعث الله بشرا رسولا فيدل على أن البشرية منافية لهذا الثابت- أعني الرسالة- كما تقول أضربت قائما زيدا ولو قلت أضربت زيادا قائما أو القائم لم يفد تلك الفائدة لأن الأول يفيد أن المنكر ضربه قائما لا الضرب مطلقا، والثاني يفيد أن المنكر ضرب زيد لاتصافه بهذه الصفة المانعة ولا يفيد أن أصل الضرب حسن ومسلم والجهة منكرة هذا إن جعل التقديم للحصر وإن جعل للاهتمام دل على كونه مصب الإنكار وإن لم يدل على ثبوت مقابله، وعلى التقديرين فائدة التقديم لائحة اه، وهو أكثر تحقيقا. واستشكل بعضهم هذه الآية بأنها ظاهرة في أنه إنما يرسل إلى كل قبيل ما يناسبه ويجانسه كالبشر للبشر والملك للملك ولا يرسل إلى قبيل مالا يناسبه ولا يجانسه وهو ينافي كونه صلّى الله عليه وسلّم مرسلا إلى الجن كالإنس إجماعا معلوما من الدين بالضرورة فيكفر منكره ومن نازع في ذلك وهم وأجيب بمنع كونها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 163 ظاهرة في ذلك بل قصارى ما تدل عليه أن القول أنكروا أن يبعث الله تعالى إلى البشر بشرا وزعموا أنه يجب أن يكون المبعوث إليهم ملكا ومرامهم نفي أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم مبعوثا إليهم فأجيبوا بما حاصله أن الحكمة تقتضي بعث الملك إلى الملائكة لوجود المناسبة المصححة للتلقي لا إلى عامة البشر لانتفاء تلك المناسبة فأمر الوجوب الذي يزعمونه بالعكس وليس في هذا أكثر من الدلالة على أن أمر البعث منوط بوجود المناسبة فمتى وجدت صح البعث ومتى لم توجد لا يصح البعث وأنها موجودة بين الملك والملك لا بينه وبين عامة البشر كالمنكرين المذكورين وهذا لا ينافي بعثته صلّى الله عليه وسلّم إلى الجن لأنه عليه الصلاة والسلام متى صح فيه المناسبة المصححة للاجتماع مع الملك والتلقي منه صح فيه المناسبة المصححة للاجتماع مع الجن والإلقاء إليهم كيف لا وهو عليه الصلاة والسلام نسخة الله تعالى الجامعة وآيته الكبرى الساطعة وإذا قلنا إن اجتماعه عليه الصلاة والسلام بالجن وإلقاءه عليهم بعد تشكلهم له فأمر المناسبة أظهر وليس تشكل الملك لو أرسل إلى البشر بمجد لما سمعت آنفا، ويقال نحو هذا في إرساله صلّى الله عليه وسلّم إلى الملائكة لما فيه عليه الصلاة والسلام من قوة الإلقاء إليهم كالتلقي منهم، وإلى كونه عليه الصلاة والسلام مرسلا إليهم ذهب من الشافعية تقي الدين السبكي والبارزي والجلال المحلي في خصائصه، ومن الحنابلة ابن تيمية وابن مفلح في كتاب الفروع، ومن المالكية عبد الحق وقال ابن تيمية: لا نزاع بين العلماء في جنس تكليفهم بالأمر والنهي. وقال إبراهيم اللقاني: لا شك في ثبوت أصل التكليف بالطاعات العملية في حقهم وأما نحو الإيمان فهو فيهم ضروري فيستحيل تكليفهم به، وقال السبكي في فتاويه: الجن مكلفون بكل شيء من هذه الشريعة لأنه إذا ثبت أنه عليه الصلاة والسلام مرسل إليهم كما هو مرسل إلى الإنس وأن الدعوة عامة والشريعة كذلك لزمتهم جميع التكاليف التي توجد فيهم أسبابها لا أن يقوم دليل على تخصيص بعضها فنقول: إنه يجب عليهم الصلاة والزكاة إن ملكوا نصابا بشرطه والحج وصوم رمضان وغيرها من الواجبات ويحرم عليهم كل حرام في الشريعة بخلاف الملائكة فإنا لا نلتزم أن هذه التكاليف كلها ثابتة في حقهم إذا قلنا بعموم الرسالة إليهم بل يحتمل ذلك ويحتمل الرسالة في شيء خاص اه. ولا مانع من أن يكلفهم كلهم بما جاءه من ربه جل جلاله بواسطة بعضهم على أنه ليس كل ما جاء به عليه الصلاة والسلام حاصلا بوساطة الملك فيمكن أن يكون ما كلفوا به لم يكن بوساطة أحد منهم، وأنكر بعضهم إرساله صلّى الله عليه وسلّم إليهم وبعدم الإرسال إليهم جزم الحليمي والبيهقي من الشافعية ومحمود بن حمزة الكرمائي في كتابه العجائب والغرائب من الحنفية بل نقل البرهان النسفي والفخر الرازي في تفسيريهما الإجماع عليه وجزم به من المتأخرين زين الدين العراقي في نكته على ابن الصلاح والجلال المحلي في شرح جمع الجوامع وصريح آية لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان: 1] إذ العالم ما سوى الله تعالى وصفاته، وخبر مسلم أرسلت إلى الخلق كافة يؤيد المذهب الأول، نعم استدل أهل هذا المذهب بما استدلوا به وفيه ما فيه، وقد ادعى بعض الناس أن الآية تؤيد مذهبهم لأنه تعالى خص فيها الملك بالإرسال إلى الملائكة فيتعين أن يكون هو الرسول إليهم لا البشر سواء كان بينه وبينهم مناسبة أم لا وقد سمعت ما نقل عن العلامة القطب وصاحب التقريب من أن المراد لنزلنا عليهم رسولا حال كونه ملكا لا بشرا، وأجيب بأنه بعد إرخاء العنان لا تدل الآية إلا على تعيين إرسال الملك إلى الملائكة إذا كانوا في الأرض يمشون مطمئنين بدل البشر ولا يلزم منه أن لا يصح إرسال البشر إليهم إذا لم يكونوا كذلك لجواز أن يكون حكمة التعيين في الصورة الأولى سوى المناسبة المترتب عليها سهولة الاجتماع والتلقي شيء آخر لا يوجد في الصورة الثانية وذلك أنه إذا كان أهل الأرض ملائكة وأرسل إليهم بشر له قوة الإلقاء إليهم والإفاضة عليهم، نحو إرسال رسل البشر عليهم السلام إليهم صعب بحسب الطبع على ذلك الرسول بقاؤه معهم زمنا يعتد بهم كما يبقى رسل البشر مع البشر كذلك إلا أن يجعل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 164 مشاركا لهم فيما جبلوا عليه ويلحق بهم وهو أشبه شيء بإخراجه عن الطبيعة البشرية بالمرة فيكون العدول عن إرسال ملك إلى إرساله أشبه شيء بالعبث المنافي للحكمة اه فتدبر. فلعل الله سبحانه يمن عليك بما يروي الغليل وتأمل في جميع ما تقدم فلعلك توفق بعون الله تعالى إلى الجرح والتعديل قُلْ لهم ثانيا من جهتك بعد ما قلت لهم من قبلنا ما قلت وبينت لهم ما تقتضيه الحكمة في البعثة ولم يرفعوا إليه رأسا كَفى بِاللَّهِ عز وجل وحده شَهِيداً على أني قد أديت ما علي من مواجب الرسالة أكمل أداء وإنكم فعلتم ما فعلتم من التكذيب والعناد، وقيل شهيدا على أني رسول الله تعالى إليكم بإظهار المعجزة على وفق دعواي، ورجح الأول بأنه أوفق بقوله تعالى: بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وكذا بقوله سبحانه تعليلا للكفاية إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ أي الرسل والمرسل إليهم خَبِيراً بَصِيراً أي محيطا بظواهرهم وبواطنهم فيجازيهم على ذلك، وزعم الخفاجي أن الثاني أوفق بالسباق منه إذ يكون الكلام عليه كالسابق ردا لإنكارهم أن يكون الرسول بشرا وإلى ذلك ذهب الإمام وأن كون الأول أوفق بقوله تعالى إِنَّهُ كانَ إلخ لا وجه له لأن معناه التهديد والوعيد بأنه سبحانه يعلم ظواهرهم وبواطنهم وأنهم إنما ذكروا هذه الشبهة للحسد وحب الرياسة والاستنكاف عن الحق وفيه من التسلية لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم ما فيه، وأنت تعلم أن إنكار كون الأول أوفق بذلك مما لا وجه له لظهور خلافه، ولا ينافيه تضمن الجملة الوعيد والتسلية، وأيضا يبقى أمر أوفقيته بيني وبينكم في البين ومع ذلك في تصدير الكلام بقل نوع تأييد لإرادة الأول كما لا يخفى على الذكي، هذا وإنما لم يقل سبحانه بيننا تحقيقا للمفارقة وإبانة للمباينة، ونصب شَهِيداً أما على الحال أو على التمييز وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ كلام مبتدأ غير داخل في حيز قُلْ يفصل ما أشار إليه الكلام السابق من مجازاة العباد لما أن علمه تعالى في مثل هذا الموضع مستعمل بمعنى المجازاة أي من يهد الله تعالى إلى الحق فَهُوَ الْمُهْتَدِ إليه وإلى ما يؤدي إليه من الثواب أو المهتدي إلى كل مطلوب والأكثرون حذفوا ياء المهتدي وَمَنْ يُضْلِلْ يخلق فيه الضلال لسوء اختياره وقبح استعداده كهؤلاء المعاندين فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ أي أنصارا مِنْ دُونِهِ عز وجل يهدونهم إلى طريق الحق أو إلى طريق يوصلهم إلى مطالبهم الدنيوية والأخروية أو إلى طريق النجاة من العذاب الذي يستدعيه ضلالهم على معنى لن تجد لأحد منهم وليا على ما يقتضيه قضية مقابلة الجمع بالجمع من انقسام الآحاد على الآحاد على ما هو المشهور وقيل قال سبحانه: أَوْلِياءَ مبالغة لأن الأولياء إذا لم تنفعهم فكيف الولي الواحد، وضمير لَهُمْ عائد على من باعتبار معناه كما أن (هو) عائد عليه باعتبار لفظه فلذا أفرد الضمير تارة وجمع أخرى. وفي إيثار الإفراد والجمع فيما أوثرا فيه تلويح بوحدة طريق الحق وقلة سالكيه وتعدد سبل الضلال وكثرة الضلال، وذكر أبو حيان وتبعه بعضهم أن الجملة الثانية من المواضع التي جاء فيها الحمل على المعنى ابتداء من غير أن يتقدمه الحمل على اللفظ وهي قليلة في القرآن. وتعقب ذلك الخفاجي بأنه لا وجه له فإنه حمل فيها الضمير على اللفظ أولا إذ في قوله تعالى يُضْلِلْ ضمير محذوف مفردا ذو تقديره يضلله على الأصل وهو راجع إلى لفظ من فلا يقال إنه لم يتقدمه حمل على اللفظ ثم قال: وأغرب من ذلك ما قيل إنه قد يقال إن الحمل على اللفظ قد تقدمه في قوله سبحانه مَنْ يَهْدِ اللَّهُ وإن كان في جملة أخرى اه. وفيه أن وجهه جعل أبي حيان من مفعول يُضْلِلْ كما نص عليه في البحر وكذا نص على أنها في الجملة الأولى مفعول «يهد» وحينئذ ليس هناك ضمير مفرد محذوف كما لا يخفى فتفطن، وجوز كون الجملتين داخلتين في حيز قُلْ لمجيء ومن بالواو، وقوله تعالى: وَنَحْشُرُهُمْ أوفق بالأول وفيه التفات من الغيبة إلى التكلم للإيذان لكمال الاعتناء بأمر الحشر، وعلى الاحتمال الثاني يجعل حكاية الجزء: 8 ¦ الصفحة: 165 لما قاله الله تعالى عليه الصلاة والسلام يَوْمَ الْقِيامَةِ حين يقومون من قبورهم عَلى وُجُوهِهِمْ في موضع الحال من الضمير المنصوب أي كائنين عليها إما مشيا بأن يزحفون منكبين عليها ويشهد له ما أخرجه الشيخان وغيرهما عن أنس قال قيل يا رسول الله كيف يحشر الناس على وجوههم؟ قال الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم ، والمراد كيف يحشر هذا الجنس على الوجه لأن ذلك خاص بالكفار وغيرهم يحشر على وجه آخر. فقد أخرج أبو داود والترمذي وحسنه وابن جرير وغيرهم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف صنف مشاة أي على العادة وصنف ركبان وصنف على وجوههم قيل يا رسول الله وكيف يمشون على وجوههم قال: إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم أنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك، وإما سحبا بأن تجرهم الملائكة منكبين عليها كقوله تعالى يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ [القمر: 48] ويشهد له ما أخرجه أحمد والنسائي والحاكم وصححه عن أبي ذر أنه تلا هذه الآية وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ إلخ فقال: حدثني الصادق المصدوق صلّى الله عليه وسلّم أن الناس يحشرون يوم القيامة على ثلاثة أفواج فوج طاعمين كاسين راكبين وفوج يمشون ويسعون وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم ، وأخرج أحمد والنسائي والترمذي وحسنه عن معاوية بن حيدة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إنكم تحشرون رجالا وركبانا وتجرون على وجوهكم» وليطلب وجه الجمع فإن لم يوجد فالمعول عليه ما شهد له حديث الشيخين، ولا تعين الآية أعني قوله تعالى: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ الثاني لأن القرآن يفسر بعضهم بعضا لأنها في حالهم بعد دخول النار وما هنا في حالهم قبل فتغايرا، وزعم بعضهم أن الكلام على المجاز وذلك كما يقال للمنصرف خائبا عن أمر مهموما انصرف على وجهه فالمراد ونحرهم يوم القيامة مهمومين خائبين، وكأن الداعي لهذا الارتكاب أنه قد روي عن ابن عباس حمل الأحوال الآنية على المجاز وحينئذ تكون جميع الأحوال على طراز واحد ولا يخفى عليك فإياك أن تلتفت إلى تأويل نطقت السنة النبوية بخلافه ولا تعبأ بقوم يفعلون ذلك عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا أحوال من الضمير المستكن في الجار والمجرور الواقع حالا أولا وفي إرشاد العقل السليم أنها أحوال من الضمير المجرور في الحال السابقة، والأول أبعد عن القيل والقال، وجوز أبو البقاء كون ذلك بدلا من تلك الحال وهو كما ترى. واستظهر أبو حيان كون المراد مما ذكر حقيقته ويكون ذلك في مبدأ الأمر ثم يرد الله تعالى إليهم أبصارهم ونطقهم وسمعهم فيرون النار ويسمعون زفيرها وينطقون بما حكى الله تعالى عنهم في غير موضع. نعم قد يختم على أفواههم في البين، وقيل هو على المجاز على معنى أنهم لفرط الحيرة والذهول يشبهون أصحاب هذه الصفات أو على معنى أنهم لا يرون شيئا يسرهم ولا يسمعون كذلك ولا ينطقون بحجة كما أنهم كانوا في الدنيا لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق ولا يسمعونه وأخرج ذلك ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس وروي أيضا عن الحسن فنزل ما يقولونه ويسمعونه ويبصرونه منزلة العدم لعدم الانتفاع به، ولا يعكر عليه أن بعض الآيات يدل على سلب بعض القوى عنهم لاختلاف الأوقات، وقيل عميا عن النظر إلى ما جعل الله تعالى لأوليائه بكما عن الكلام معه سبحانه صما عما مدح الله تعالى به أولياءه، وقيل يحصل لهم ذلك حقيقة بعد قوله تعالى لهم اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: 108] وعلى هذا تكون الأحوال مقدرة كقوله تعالى مَأْواهُمْ أي مستقرهم جَهَنَّمُ على تقدير جعله حالا ويحتمل أن يكون استئنافا، وقوله سبحانه كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً يحتمل أيضا الاستئناف ويحتمل أن يكون حالا من جهنم كما قال أبو البقاء، وجعل العامل في الحال معنى المأوى، وقال الطبرسي: هو حال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 166 منها لأنها توضع (1) متلظ ومتسعر ولولا ذلك ما جعل حالا منها. وجوز جعله حالا مما جعلت الجملة الأولى منه لكن بعد اعتبارها في النظم والرابط الضمير المنصوب في زِدْناهُمْ وهو كما ترى والاستئناف أقل مؤنة، والخبو وكذا الخبو بضمتين وتشديد وهما مصدرا خبت النار سكون اللهب قال في البحر: يقال خبت النار تخبو إذا سكن لهبها وخمدت إذا سكن جمرها وضعف وهمدت إذا طفئت جملة، وقال الراغب: خبت النار سكن لهبها وصار عليها خباء من رماد أي غشاء، وفي القاموس تفسير خبت بسكنت وطفئت وتفسير طفئت بذهب لهبها وفيه مخالفة لما في البحر والأكثرون على ما فيه، ومن الغريب ما أخرجه ابن الأنباري عن أبي صالح من تفسير خَبَتْ في الآية بحميت وهو خلاف المشهور والمأثور، والسعير اللهب، والمعنى كلما سكن لهبها بأن أكلت جلودهم ولحومهم ولم يبق ما تتعلق به النار وتحرقه زدناهم لهبا وتوقدا بأن أعدناهم على ما كانوا فاستعرت النار بهم وتوقدت، أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية إن الكفرة وقود النار فإذا أحرقتهم فلم يبق شيء صارت جمرا تتوهج فذلك خبوها فإذا بدلوا خلقا جديدا عاودتهم، ولعل ذلك على ما قاله بعض الأجلة عقوبة لهم على إنكارهم الإعادة بعد الإفناء بتكررها مرة بعد الأخرى ليروها عيانا حيث لم يروها برهانا كما يفصح عنه ما بعد. واستشكل ما ذكر بأن قوله تعالى: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها [النساء: 56] يدل على أن النار لا تتجاوز عن إنضاجهم إلى إحراقهم وإفنائهم فيعارض ذلك، وأجاب بعضهم بأن تبديلهم جلودا غيرها بإحراقها وإفنائها وخلق غيرها فكأنه قيل كلما نضجت جلودهم أحرقناها وأفنيناها وخلقنا لهم غيرها، وبعض بأن المراد كلما نضجت جلودهم كمال النضج بأن يبلغ شيها إلى حد لو بقيت عليه لا يحس صاحبها بالعذاب وهو مرتبة الاحتراق بدلناهم إلخ ويدل على ذلك قوله تعالى: لِيَذُوقُوا الْعَذابَ [النساء: 56] ، وقال الخفاجي: أجيب بأنه يجوز أن يحصل لجلودهم تارة النضج وتارة الإفناء أو كل منهما في حق قوم على أنه لا سد لباب المجاز بأن يجعل النضج عبارة عن مطلق تأثير النار إذ لا يحصل في ابتداء الدخول غير الإحراق دون النضج اه. ولا يخفى ما في قوله بأن يجعل النضج: عبارة عن مطلق تأثير النار من المساهلة، وفي قوله: إذ لا يحصل إلخ منع ظاهر، وذكر أنه أورد على الجواب الأول أن كلمة كلما تنافيه وفيه بحث فتأمل، وربما يتوهم أن بين هذه الآية وقوله تعالى: لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ [البقرة: 162، آل عمران: 88] تعارضا لأن الخبو يستلزم التخفيف وهو مدفوع بأن الخبو سكون اللهب كما سمعت، واستلزامه تخفيف عذاب النار ممنوع، على أنا لو سلمنا الاستلزام، فالعذاب الذي لا يخفف ليس منحصرا بالعذاب بالنار والإيلام بحراراتها وحينئذ فيمكن أن يعوض ما فات منه بسكون اللهب بنوع آخر من العذاب مما لا يعلمه إلا الله تعالى. وذكر الإمام أن قوله سبحانه زِدْناهُمْ سَعِيراً يقتضي ظاهره أن الحالة الثانية أزيد من الحالة الأولى فتكون الحالة الأولى تخفيفا بالنسبة إلى الحالة الثانية، وأجاب بأنه حصل في الحالة الأولى خوف حصول الثانية فكان العذاب شديدا، ويحتمل أن يقال: لما عظم العذاب صار التفاوت الحاصل في أثنائه غير مشعور به نعوذ بالله تعالى منه اه، وقد يقال: ليس في الآية أكثر من ازدياد توقدهم ولعله لا يستلزم ازدياد عذابهم، والمراد من الآية كلما أحرقوا أعيدوا إلا أنه عبر بما عبر للمبالغة، ويشير إلى كون المراد ذلك قوله تعالى: زِدْناهُمْ دون زدناها فتدبر ذلِكَ أي العذاب المفهوم من قوله سبحانه كلما خبت زدناهم سعيرا أو إلى جميع ما ذكر من حشرهم على وجوههم عميا وبكما وصما إلخ، والمفهوم مما ذكرنا مندرج فيه   (1) قوله توضع متلظ كذا بخط مؤلفه ولعل لفظ موضع سقط من العبارة كما هو ظاهر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 167 جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ أي بسبب أنهم كَفَرُوا بِآياتِنا القرآنية والآفاقية الدالة على صحة الإعادة دلالة واضحة أو على صحة ما أرسلناك به مطلقا فيشمل ما ذكر، وذلِكَ مبتدأ وجزاؤهم خبره والظرف متعلق به، وحوز أن يكون جَزاؤُهُمْ مبتدأ ثانيا والظرف خبره والجملة خبر لذلك، وأن يكون جَزاؤُهُمْ بدلا من ذلك أو بيانا والخبر هو الظرف، وقيل ذلك خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك وما بعده مبتدأ وخبر، وليس بشيء وَقالُوا منكرين أشد الإنكار أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً هو في الأصل كما قال الراغب كالفتات ما تكسر وتفرق من التبن والمراد هنا بالين متفرقين أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً إما مصدر مؤكد من غير لفظه أي لمبعوثون بعثا جديدا وإما حال أي مخلوقين مستأنفين. أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي ألم يتفكروا ولم يعلموا أن الله تعالى الذي قدر على خلق هذه الأجرام والأجسام الشديدة العظيمة التي بعض ما تحويه البشر قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ من الأنس أي ومن هو قادر على ذلك كيف لا يقدر على إعادتهم وهي أهون عليه جل وعلا، وقال بعض المحققين: مثل هنا مثلها في- مثلك لا يبخل- أي قادر على أن يخلقهم، والمراد بالخلق الإعادة كما عبر عنها أو لا بذلك حيث قيل خَلْقاً جَدِيداً ولا يخلو عن بعد، وزعم بعضهم أن المراد قادر على أن يخلق عبيدا آخرين يوحدونه تعالى، ويقرون بكمال حكمته وقدرته ويتركون ذكر هذه الشبهات الفاسدة كقوله تعالى: وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ [فاطر: 16] وقوله سبحانه: وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ [التوبة: 39] وفيه أنه لا يلائم السياق كما لا يخفى على ذوي الأذواق، ثم اعلم أن ظاهر الآية أن الكفرة أنكروا إعادتهم يوم القيامة على معنى جمع أجزائهم المتفرقة وعظامهم المتفتتة وتاليفها وإفاضة الحياة عليها كما كانت في الدنيا فهو الذي عنوه بقولهم أإنا لمبعوثون خلقا جديدا بعد قولهم أئذا كنا عظاما ورفاتا فرد عليهم بإثبات ذلك بطريق برهاني، وعلى هذا تكون الآية أحد أدلة من يقول: إن الحشر بإعادة أجزاء الأبدان التي تتفرق كأبدان ما عدا الأنبياء عليهم السلام ومن لم يعمل خطيئة قط والمؤذنين احتسابا ونحوهم ممن حرمت أجسادهم على الأرض كما جاء في الأخبار وجمعها بعد تفرقها وعنوا بذلك الأجزاء الأصلية وهي الحاصلة في أول الفطرة حال نفخ الروح وهي عندهم محفوظة من أن تصير جزءا لبدن آخر فضلا عن أن تصير جزءا أصليا له، والذاهبون إلى هذا هم الأقل وحكاه الآمدي بصيغة قيل لكن رجحه الفخر الرازي وذكر أن الأكثر على أن الله سبحانه يعدم الذوات بالكلية ثم يعيدها وقال: إنه الصحيح، وكذا قال البدر الزركشي، وذكر اللقاني أنه قول أهل السنة والمعتزلة القائلين بصحة الفناء والعدم على الأجسام بل بوقوعه وإن اختلفوا في أن ذلك هل هو بحدوث ضد أو بانتفاء شرط أو بلا ولا فذهب إلى الأخير القاضي من أهل السنة وأبو الهذيل من المعتزلة قالا: إن الله تعالى يعدم ما يريد إعدامه على نحو إيجاده إياه فيقول له عند أبي الهذيل افن فيفنى كما يقول له كن فيكون. وذهب جمهور المعتزلة إلى الأول فقالوا: إن فناء الجوهر بحدوث ضد له وهو الفناء ثم اختلفوا فذهب ابن الأخشيد إلى أن الله تعالى يخلق الفناء في جهة من جهات الجواهر فتعدم الجواهر بأسرها، وقال ابن شبيب: أنه تعالى يحدث في كل جوهر بعينه فناء يقتضي عدم الجوهر في الزمان الثاني وذهب أبو علي وأبو هاشم واتباعهما إلى أن الله تعالى يعدم الجوهر بخلق فناء لا في محل معين منه ثم اختلفا فقال أبو علي وأتباعه: إن الله سبحانه يخلق فناء واحدا لا في محل فيفني به الجواهر بأسرها وقال أبو هاشم وأتباعه إنه تعالى يخلق لكل جوهر فناء لا في محل. وذهب إمام الحرمين وأكثر أهل السنة وبشر المريسي والكعبي من المعتزلة إلى الثاني ثم اختلفوا في تعيين الشرط فقال بشر: إنه بقاء يخلقه سبحانه لا في محل فإن لم يخلقه عدم الجوهر. وقال الأكثر والكعبي: إنه بقاء قائم بالجوهر يخلقه جل وعلا فيه حالا فحالا فإذا لم يخلقه تعالى فيه انتفى الجوهر. وقال إمام الحرمين: إنه الأعراض التي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 168 يجب اتصاف الجسم بها فإن الله تعالى شأنه يخلقها في الجسم حالا فحالا فمتى لم يخلقها سبحانه فيه انعدم. وقال النظام: إنه خلق الله تعالى الجوهر حالا فحالا فإن الجواهر عنده لا بقاء لها بل هي متجددة بتجدد الأعراض فإذا لم يوالي عز مجده على الجوهر خلقه فني، وأنت تعلم أن أكثر هذه الأقاويل من قبيل الأباطيل سيما القول بأن الفناء أمر محقق في الخارج ضد للبقاء قائم بنفسه أو بالجوهر وكون البقاء موجودا لا في محل، ولعل وجه البطلان غني عن البيان. واحتجوا لهذا المذهب بقوله سبحانه كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] وقوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرحمن: 26] وأجابوا عن الآية بأن الكفار اكتفوا بأقل اللازم وأرادوا المبالغة في الإنكار لأنه إذا لم يمكن بزعمهم الحشر بعد كونهم عظاما ورفاتا فعدم إمكانه بعد فنائهم بالمرة أظهر وأظهر، وفيه أن هلاك كل شيء خروجه عن صفاته المطلوبة منه والتفرق كذلك فيقال له هلاك ويسمى أيضا فناء عرفا فالاحتجاج بالآيتين غير تام وإن ما قالوه في الجواب عن الآية خلاف الظاهر. ولا يرد عليهم أن إعادة المعدوم محال لما ذكره الفلاسفة من الأدلة لما ذكره المسلمون في إبطالها، ومن الناس من قال: إن عجب الذنب لا يفنى وإن فني ما عداه من أجزاء البدن لحديث الصحيحين «ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب منه خلق الخلق يوم القيامة» . وفي رواية مسلم «كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب منه خلق ومنه يركب» وصحح المزني أنه يفنى أيضا وتأول الحديث بأن المراد منه أن كل الإنسان يبلى بالتراب ويكون سبب فنائه إلا عجب الذنب فإن الله تعالى يفنيه بلا تراب كما يميت ملك الموت بلا ملك موت، والخلق منه والتركيب يمكن أن يكون بعد إعادته فليس ما ذكر نصا في بقائه، ووافقه على ذلك ابن قتيبة، وأنت تعلم أن ظواهر الأخبار تدل على عدم فنائه مطلقا، وتوقف بعض العلماء عن الجزم بأحد المذهبين السابقين في كيفية الحشر. وقال السعد: إنه الحق وهو اختيار إمام الحرمين وفي المواقف وشرحه للسيد السند هل يعدم الله تعالى الأجزاء البدنية ثم يعيدها أو يفرقها ويعيد فيها التأليف الحق أنه لم يثبت في ذلك شيء فلا جزم فيه نفيا ولا إثباتا لعدم الدليل على شيء من الطرفين. وقال حجة الإسلام الغزالي في كتاب الاقتصاد: فإن قيل ما تقولون هل تعدم الجواهر والأعراض ثم يعادان جميعا أو تعدم الأعراض دون الجواهر ثم تعاد الأعراض فقط؟ قلنا كل ذلك ممكن، والحق أنه ليس في الشرع دليل قاطع على تعيين أحد الأمرين الممكنين. وقال بعضهم: الحق وقوع الأمرين جميعا إعادة ما انعدم بعينه وإعادة ما تفرق بإعراضه وهو حسن، والكلام في هذا المقام طويل جدا ولعل الله سبحانه وتعالى يمن علينا باستيفائه ولو في مواضع متعددة. وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا وهو ميقات إعادتهم وحشرهم أو موتهم وهو على هذا اسم جنس لأن لكل أحد أجلا للموت يخصه، وقد جاء إطلاق الأجل على الموت ووجهه أنه يطلق على مدة الحياة وعلى آخرها والموت مجاور لذلك لا رَيْبَ فِيهِ أي لا ينبغي الريب فيه والإنكار لمن تدبره أو النفي على ظاهره، والجملة معطوفة على أَوَلَمْ يَرَوْا وهي وإن كانت إنشائية وفي عطف الإخبارية عليها مقال مؤولة بخبرية والعطف على الصلة فيما مر متعذر للفصل بخبر أن. وكذا على ما بعد أن المصدرية لفظا ومعنى والمعنى كما في الكشف وغيره قد علموا بدليل العقل أن الله تعالى قادر على إعادتهم وقد جعل أجلا لها لا ريب فيه فلا بد منها أي إذا كان ذلك ممكنا في نفسه واجب الوقوع بخبر الصادق لا يبقى للإنكار معنى فإن كان الأجل بمعنى ميقات إعادتهم أي يوم القيامة لقولهم أَإِذا كُنَّا عِظاماً الجزء: 8 ¦ الصفحة: 169 وَرُفاتاً وهو الظاهر فهو واضح، وإن كان بمعنى الموت فوجهه أنهم قد علموا إمكانه وأنهم ميتون لا محالة منسلخون من هذه الحياة وأنه لا بد لهم من جزاء فلم يخلقوا عبثا ولم يتركوا سدى ففيم الإنكار، وكأنه قد اكتفى بالموت عما بعده لأنه أول القيامة ومن مات فقد قامت قيامته فالعطف في التقدير على قد علموا، ويعلم من هذا التقرير أن الجامع بين الجملتين لصحة العطف في غاية القوة. وزعم القطب أن الأولى العطف على ما بعد أن المصدرية أما أولا فلأنه أقرب، وأما ثانيا فلأن جعل الأجل يدخل حينئذ تحت قدرته تعالى وتحت علمهم بخلاف ما إذا عطف على قوله سبحانه «أو لم يروا» إلخ ولا يخفى ما فيه على من استدارت كرة فكره على محور التحقيق فَأَبَى الظَّالِمُونَ الذين كفروا بالآيات وقالوا ما قالوا، ووضع الظاهر موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بالظلم وتجاوز الحد بالمرة إِلَّا كُفُوراً أي جحودا. قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ أي خزائن نعمه التي أفاضها على كافة الموجودات فالرحمة مجاز عن النعم والخزائن استعارة تحقيقية أو تخييلية، وأَنْتُمْ على ما ذهب إليه الحوفي. والزمخشري. وأبو البقاء. وابن عطية وغيرهم فاعل لفعل محذوف يفسره المذكور لأن لو يمتنع أن يليها الاسم والأصل لو تملكون تملكون فلما حذف الفعل انفصل الضمير، ومثل ذلك قول حاتم وقد أسر فلطمته جارية لو ذات سوار لطمتني، وقول الملتمس: ولو غير أخوالي أرادوا نقيصتي ... جعلت لهم فوق العرانين ميسما وفائدة الحذف والتفسير على ما قيل الإيجاز فإنه بعد قصد التوكيد لو قيل تملكون تملكون لكان إطنابا وتكرارا بحسب الظاهر، والمبالغة لتكرير الإسناد أو لتكرير الشرط فإنه يقتضي تكرر ترتب الجزاء عليه والدلالة على الاختصاص وذلك بناء على أن أَنْتُمْ بعينه ضمير تَمْلِكُونَ المؤخر فهو في المعنى فاعل مقدم وتقديم الفاعل المعنوي يفيد الاختصاص إذا ناسب المقام فيفيد الكلام حينئذ ترتب الإمساك، وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى المراد منه على تفردهم بملك الخزائن ويعلم منه ترتبه على ملكها بالاشتراك بالطريق الأولى، وإلى تخريج مثل هذا التركيب على هذا الطرز ذهب البصريون بيد أن أبا الحسن بن الصائغ وغيره صرحوا بأنهم يمنعون إيلاء لو فعلا مضمرا في الفصيح ويجيزونه في الضرورة وفي نادر كلام، ولعل شعر المتلمس ومثل حاتم عندهم من ذلك والحق خلاف ذلك. وقال أبو الحسن علي بن فضالة المجاشعي: إن التقدير لو كنتم أنتم تملكون، وظاهره أن أنتم عنده توكيد للضمير المحذوف مع الفعل وليس بشيء، وقال أبو الحسن بن الصائغ: إن الأصل لو كنتم تملكون فحذفت كان وحدها وانفصل الضمير فهو عنده اسم لكان محذوفة وجملة تَمْلِكُونَ خبرها وعلى هذا تخرج نظائره. قال أبو حيان بعد نقل ما تقدم: وهذا التخريج أحسن لأن حذف كان بعد لو معهود في لسان العرب، ولا يخفى أن الكلام على ما سمعت أولا أفيد وإن كان الظاهر أن الإمساك على هذا يكون على استمرار الملك، والمراد من الإمساك البخل وذلك لأن البخل إمساك خاص فلما حذف المفعول ووجه إلى نفس الفعل بمعنى لفعلتم الإمساك جعل كناية عن أبلغ أنواعه وأقبحها، وإلى كونه كناية عما ذكر ذهب صاحب الفرائد وغيره. وجوز أن يكون مضمنا معنى البخل وتعقب بأنه ليس بشيء لفظا ومعنى، وعلى ما ذكرنا يتخرج قولهم للبخيل ممسك خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ أي مخافة الفقر كما أخرجه ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس وروي نحوه عن قتادة وإليه ذهب الراغب قال: يقال أنفق فلان إذا افتقر، وأبو عبيدة قال: أنفق وأملق وأعدم وأصرم بمعنى واحد، وقال بعضهم: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 170 الإنفاق بمعناه المعروف وهو صرف المال، وفي الكلام مقدر أي خشية عاقبة الإنفاق. وجوز أن يكون مجازا عن لازمه وهو النفاد، ونصب خَشْيَةَ على أنه مفعول له، وجعله مصدرا في موضع الحال كما جوزه أبو البقاء خلاف الظاهر، وقد بلغت هذه الآية في الوصف بالشح الغاية القصوى التي لا يبلغها الوهم حيث أفادت أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله تعالى التي لا تتناهى وانفردوا بملكها من غير مزاحم أمسكوها من غير مقتض إلا خشية الفقر، وإن شئت فوازن بقول الشاعر: ولو أن دارك أنبتت لك أرضها ... إبرا يضيق بها فناء المنزل وأتاك يوسف يستعيرك ابرة ... ليخيط قد قميصه لم تفعل مع أن فيه من المبالغات ما يزيد على العشرة ترى التفاوت الذي لا يحصر، وجعل غير واحد الخطاب فيها عاما فيقتضي أن يكون كل واحد من الناس بخيلا كما هو ظاهر ما بعد مع أنه أثبت لبعضهم الإيثار مع الحاجة. وأجيب بأن ذلك بالنسبة إلى الجواد الحقيقي والفياض المطلق عز مجده فإن الإنسان إما ممسك أو منفق والإنفاق لا يكون إلا لغرض للعاقل كعوض مالي أو معنوي كثناء جميل أو خدمة واستمتاع كما في النفقة على الأهل أو نحو ذلك وما كان لعوض كان مبادلة لا مبادلة أو هو بالنظر إلى الأغلب وتنزيل غيره منزلة العدم كما قيل: عدنا في زماننا ... عن حديث المكارم من كفى الناس شره ... فهو في جود حاتم وهذا الجواب عندي أولى من الأول وعلى ذلك يحمل قوله تعالى: وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً مبالغا في البخل، وجاء القتر بمعنى تقليل النفقة وهو بإزاء الإسراف وكلاهما مذموم ويقال قترت الشيء واقترته وقترته أي قللته وفلان مقتر فقير، وأصل ذلك كما قال الراغب من القتار والقتر وهو الدخان الساطع من الشواء والعود ونحوهما فكأن المقتر والمقتر هو الذي يتناول من الشيء قتاره، وقيل الخطاب لأهل مكة الذين اقترحوا ما اقترحوا من الينبوع والأنهار وغيرها، والمراد من الإنسان كما في القول الأول الجنس ولا شك في أن جنس الإنسان مجبول على البخل لأن مبنى أمره الحاجة، وقيل الإنسان وعليه الإمام، ووجه ارتباط الآية بما قبلها على تخصيص الخطاب أن أهل مكة طلبوا ما طلبوا من الينبوع والأنهار لتكثر أقواتهم وتتسع عليهم فبيّن سبحانة أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله تعالى لبخلوا وشحوا ولما قدموا على إيصال النفع لأحد، والمراد التشنيع عليهم بأنهم في غاية الشح ويقترحون ما يقترحون أو المراد أن صفتهم هذه فلا فائدة في إسعافهم بما طلبوا كذا قال العسكري وغيره فالآية عندهم مرتبطة بقوله تعالى وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء: 90] ويكفي على العموم اندراج أهل مكة فيه. وقال أبو حيان: المناسب في وجه الارتباط أن يقال: إنه عليه الصلاة والسلام قد منحه الله تعالى ما لم يمنحه لأحد من النبوة والرسالة إلى الإنس والجن فهو صلّى الله عليه وسلّم أحرص الناس على إيصال الخير إليهم وإنقاذهم من الضلال يثابر على ذلك ويخاطر بنفسه في دعائهم إلى الله تعالى ويعرض ذلك على القبائل وأحياء العرب سمحا بذلك لا يطلب منهم أجرا وهؤلاء أقرباؤه لا يكاد يجيب منهم أحد إلا الواحد بعد الواحد قد لجوا في عناده وبغضائه فلا يصل منهم إلا الأذى فنبه تعالى شأنه بهذه الآية على سماحته عليه الصلاة والسلام وبذل ما آتاه الله تعالى وعلى امتناع هؤلاء أن يصل منهم شيء من الخير إليه صلّى الله عليه وسلّم فهي قد جاءت مبينة للباين ما بينه عليه الصلاة والسلام وبينهم من حرصه على نفعهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 171 وعدم إيصال شيء من الخير منهم إليه اه. فالارتباط بين الآية وبين مجموع الآيات السابقة من حيث إنها تشعر بحرصه صلّى الله عليه وسلّم على هدايتهم ولعمري إن هذا مما يأباه الذوق السليم والذهن المستقيم. ويحتمل أن يكون وجه الارتباط اشتمالها على ذمهم بالشح المفرط كما أن ما قبلها مشتمل على ذمهم بالكفر كذلك وهما صفتان سيئتان ضرر أحداهما قاصر وضرر الأخرى متعد فتأمل فلمسلك الذهن اتساع والله تعالى أعلم بمراده، ولما حكى سبحانه عن قريش ما حكى من العنت والعناد مع رسوله صلّى الله عليه وسلّم سلاه تعالى جده بما جرى لموسى عليه السلام مع فرعون وما صنع سبحانه بفرعون وقومه فقال عز قائلا: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ ظاهر السياق والنظائر يقتضيان كون المعنى تسع أدلة وواضحات الدلالة على نبوة موسى عليه السلام وصحة ما جاء به من عند الله تعالى ولا ينافيه أنه قد أوتي من ذلك ما هو أكثر مما ذكر لأن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد كما حقق في الأصول وإلى هذا ذهب غير واحد إلا أنه اختلف في تعيين هذه التسع ففي بعض التفاسير هي كما في التوراة العصا ثم الدم ثم الضفادع ثم القمل ثم موت البهائم ثم برد كنار أنزل مع نار مضطرمة أهلكت ما مرت به من نبات وحيوان ثم جراد ثم ظلمة ثم موت عم كبار الآدميين وجميع الحيوانات. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والسنين ونقص من الثمرات، وروي ذلك عن مجاهد والشعبي وقتادة وعكرمة. وتعقب هذا بأن السنين والنقص من الثمرات آية واحدة كما روي عن الحسن. ورد بأنه ليس بالحسن إذ ظاهر قوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ [الأعراف: 130] يقتضي المغايرة فيحمل الأول على الجدب في بواديهم والثاني على النقصان في مزارعهم أو على نحو ذلك وقد تقدم الكلام فيه فلا ضير في عدهما آيتين. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم في رواية أخرى عن الحبر أنها يده عليه السلام ولسانه وعصاه والبحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وفي الكشاف عنه رضي الله تعالى عنه أنها العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم والحجر والبحر والطور الذي نتقه الله تعالى على بني إسرائيل. وتعقبه في الكشف بقوله فيه: إن الحجر والطور ليسا من الآيات المذهوب بها إلى فرعون وقال تعالى: فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ [النمل: 12] وذكر سبحانه في هذه السورة لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ والإشارة إلى الآيات ثم قال: والجواب جاز أن يكون التسع البينات بعضا منها غير البعض من تلك التسع وليس في هذه الآية أن الكل لفرعون وقومه وأما الإشارة فإلى البعض بالضرورة لأن الكل إنما حصلت على التدريج وفلق البحر لم يكن في معرض التحدي بل عند ما حق الهلاك اه، ولا يخلو عن ارتكاب خلاف الظاهر، وما روي عن ابن عباس أولا لائح الوجه ما فيه أشكال ونسبه في الكشاف إلى الحسن وهو خلاف ما وجدناه في الكتب التي يعول عليها في أمثال ذلك، وروي أن عمر بن عبد العزيز عليه الرحمة سأل محمد بن كعب عن هذه الآيات فعد ما عد وذكر فيه الطمس فقال عمر: كيف يكون الفقيه إلا هكذا ثم قال: يا غلام أخرج ذلك الجراب فأخرجه فنفضه فإذا بيض مكسور بنصفين وجوز مكسور وفوم وحمص وعدس كلها حجارة هذا وظاهر بعض الأخبار يقتضي خلاف ذلك. فقد أخرج أحمد والبيهقي والطبراني والنسائي وابن ماجة والترمذي وقال حسن صحيح والحاكم وقال صحيح الجزء: 8 ¦ الصفحة: 172 لا نعرف له علة وخلق آخرون عن صفوان بن عسال «أن يهوديين قال. أحدهما لصاحبه: انطلق بنا إلى هذا النبي نسأله فأتياه صلّى الله عليه وسلّم فسألاه عن قول الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فقال عليه الصلاة والسلام: لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله تعالى إلا بالحق ولا تسرقوا ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا ولا تمشوا ببريء إلى سلطان ليقتله ولا تقذفوا محصنة ولا تفروا من الزحف» . وفي رواية «أو قال لا تفروا من الزحف- شك شعبة- وعليكم يا يهود خاصة أن لا تعتدوا في السبت فقبلا يديه ورجليه وقالا نشهد إنك نبي» الخبر ، ومن هنا قيل المراد بالآيات الأحكام، وقال الشهاب الخفاجي: إنه التفسير الصحيح، ووجه إطلاقها عليها بأنها علامات على السعادة لمن امتثلها والشقاوة لغيره، وقيل أطلقت عليها لأنها نزلت في ضمن آيات بمعنى عبارات دالة على المعاني نحو آيات الكتاب فيكون من قبيل إطلاق الدال وإرادة المدلول، وقيل لا ضير أن يراد على ذلك بالآيات العبارات الإلهية الدالة على تلك الأحكام من حيث إنها دالة عليها، وفيه وكذا في سابقة القول بإطلاق الآيات على ما أنزل على غير نبينا صلّى الله عليه وسلّم من العبارات الإلهية كإطلاقها على ما أنزل عليه عليه الصلاة والسلام منها. واستشكل بأن الآيات في الرواية التي لا شك فيها عشرة وما في الآية المسئول عنها تسع، وأجيب بأن الأخير فيها أعني لا تعتدوا في السبت ليس من الآيات لأن المراد بها أحكام عامة ثابتة في الشرائع كلها وهو ليس كذلك ولذا غير الأسلوب فيه فهو تذييل للكلام وتتميم له بالزيادة على ما سألوه صلّى الله عليه وسلّم، وفي الكشف أنه من الأسلوب الحكيم لأنه عليه الصلاة والسلام لما ذكر التسع العامة في كل شريعة ذكر خاصا بهم ليدل على إحاطة علمه صلّى الله عليه وسلّم بالكل وهو حسن وليس الأسلوب الحكيم فيه بالمعنى المشهور فإطلاق القول بأنه ليس من الأسلوب الحكيم كما فعل الخفاجي ليس في محله. وقال بعض الأجلة: إن هذه الأشياء لا تعلق لها بفرعون وإنما أوتيها بنو إسرائيل ولعل جوابه صلّى الله عليه وسلّم بما ذكر لما أنه المهم للسائل وقبوله لما أنه كان في التوراة مسطورا وقد علم أنه ما علمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا من جهة الوحي اه. وتعقب بأنا لا نسلم أنه يجب في الآيات المذكورة في الآية أن تكون مما له تعلق بفرعون وما بعد ليس نصا في ذلك نعم هو كالظاهر فيه لكن كثيرا ما تترك الظواهر للأخبار الصحيحة سلمنا أنه يجب أن يكون لها تعلق لكن لا نسلم أن تلك الأحكام لا تعلق لها لجواز أن يكون كلها أو بعضها مما خوطب به فرعون وبنو إسرائيل جميعا لا بد لنفي ذلك من دليل، وكأن حاصل ما أراد من قوله لعل جوابه صلّى الله عليه وسلّم إلخ أن ذلك الجواب من الأسلوب الحكيم بأن يكون موسى عليه السلام قد أوتي تسع آيات بينات بمعنى المعجزات الواضحات وهي المرادة في الآية وأوتي تسعا أخرى بمعنى الأحكام وهي غير مرادة إلا أن الجواب وقع عنها لما ذكر وهو كما ترى فتأمل. فمؤيدات كل من التفسيرين أعني تفسير الآيات بالأدلة والمعجزات وتفسيرها بالأحكام متعارضة وأقوى ما يؤيد الثاني الخبر فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ وقرأ جمع «فسل» والظاهر أنه خطاب لنبينا صلّى الله عليه وسلّم والسؤال بمعناه المشهور إلا أن الجمهور على أنه خطاب لموسى عليه السلام، والسؤال إما بمعنى الطلب أو بمعناه المشهور لقراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأخرجها أحمد في الزهد وابن المنذر وابن جرير وغيرهم عن ابن عباس فسأل على صيغة الماضي بغير همز كقال وهي لغة قريش فإنهم يبدلون الهمزة المتحركة وذلك لأن هذه القراءة دلت على أن السائل موسى عليه السلام وأنه مستعقب عن الإيتاء فلا يجوز أن يكون فاسأل خطابا للنبي صلّى الله عليه وسلّم لئلا تتخالف القراءتان ولا بد إذ ذاك من إضمار لئلا يختلفا خبرا وطلبا أي فقلنا له اطلبهم من فرعون وقل له أرسل معي بني إسرائيل أو اطلب منهم أن يعاضدوك وتكون قلوبهم وأيديهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 173 معك أو سلهم عن إيمانهم وعن حال دينهم واستفهم منهم هل هم ثابتون عليه أو اتبعوا فرعون ويتعلق بالقول بالمضمر قوله تعالى: إِذْ جاءَهُمْ وهو متعلق بسأل على قراءته صلّى الله عليه وسلّم والدليل على ذلك المضمر في اللفظ قوله تعالى: فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ لأنه لو كان فاسأل خطابا لنبينا عليه الصلاة والسلام لانفك النظم وأيضا لا يظهر استعقابه ولا تسببه عن إيتاء موسى عليه السلام نعم جعل الذاهبون إلى الأول فاسأل اعتراضا من باب زيد فاعلم فقيه والفاء تكون للاعتراض كالواو وعلى ذلك قوله: واعلم فعلم المرء ينفعه ... أن سوف يأتي كل ما قدرا وهذا الوجه مستغن عن الإضمار وإِذْ جاءَهُمْ متعلق عليه بآتينا ظرفا ولا يصح تعلقه بسل إذ ليس سؤاله صلّى الله عليه وسلّم في وقت مجيء موسى عليه السلام، قال في الكشف: والمعنى فاسأل يا محمد مؤمني أهل الكتاب عن ذلك إما لأن تظاهر الأدلة أقوى، وإما من باب التهييج والإلهاب، وإما للدلالة على أنه أمر محقق عندهم ثابت في كتابهم وليس المقصود حقيقة السؤال بل كونهم أعني المسئولين من أهل علمه ولهذا يؤمر مثلك بسؤالهم وهذا هو الوجه الذي يحمل به موقع الاعتراض، وجوز أن يكون منصوبا باذكر مضمرا على أنه مفعول به وجاز على هذا أن لا يجعل فَسْئَلْ اعتراضا ويجعل اذكر بدلا عن اسأل لما سمعت من أن السؤال ليس على حقيقته وكذا جوز أن يكون منصوبا كذلك بيخبروك مضمرا وقع جواب الأمر أي سلهم يخبروك إذ جاءهم. ولا يجوز على هذا الاعتراض، نعم يجوز الاعتراض على هذا بأن أخبر يتعدى بالباء أو عن لا بنفسه فيجب أن يقدر بدل الإخبار الذكر ونحوه مما يتعدى بنفسه وإما جعله ظرفا له غير صحيح إذ الإخبار غير واقع في وقت المجيء، واعترض أيضا بأن السؤال عن الآيات والجواب بالإخبار عن وقت المجيء أو ذكره لا يلائمه. ويمكن الجواب بأن المراد يخبروك بذلك الواقع وقت مجيئه لهم أو يذكروا ذلك لك وهو كما ترى، وبعضهم جوز تعلقه بيخبروك على أن إذ للتعليل، وعلى هذا يجوز تعلقه باذكر، والمعنى على سائر احتمالات كون الخطاب لنبينا عليه الصلاة والسلام إذ جاء آباءهم إذ بنو إسرائيل حينئذ هم الموجودون في زمانه صلّى الله عليه وسلّم وموسى عليه السلام ما جاءهم فالكلام إما على حذف مضاف أو على ارتكاب نوع من الاستخدام، والاحتمالات على تقدير جعل الخطاب لمن يسمع هي الاحتمالات التي سمعت على تقدير جعله لسيد السامعين عليه الصلاة والسلام. والفاء في فَقالَ على سائر الاحتمالات والأوجه فصيحة والمعنى إذ جاءهم فذهب إلى فرعون وادعى النبوة وأظهر المعجزة وكيت وكيت فقال: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً سحرت فاختل عقلك ولذلك اختل كلامك وادعيت ما ادعيت وهو كقوله: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء: 27] . وقال الفراء والطبري: مسحورا بمعنى ساحرا على النسب أو حقيقة وهو يناسب قلب العصا ونحوه على تفسير الآيات بالمعجزات قالَ موسى عليه السلام ردا لقوله المذكور لَقَدْ عَلِمْتَ يا فرعون ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ أي الآيات التسع أو بعضها والإشارة إلى ذلك بما ذكر على حد قوله على إحدى الروايتين والعيش بعد أولئك الأيام. وقد مر إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي خالقهما ومدبرهما، وحاصل الرد أن علمك بأن هاتيك الآيات من الله تعالى إذ لا يقدر عليها سواه تعالى يقتضي أني لست بمسحور ولا ساحر وأن كلامي غير مختل لكن حب الرياسة حملك على العناد في التعرض لعنوان الربوبية إيماء إلى ان إنزالها من آثار ذلك، وفي البحر ما أحسن إسناد إنزالها إلى رب السموات والأرض إذ هو عليه السلام لما سأله فرعون في أول محاورته فقال له: وما رب العالمين؟ قال: رب السموات والأرض تنبيها على نقصه وأنه لا تصرف له في الوجود فدعواه الربوبية دعوى مستحيل فبكته وأعلمه أنه يعلم آيات الله تعالى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 174 ومن أنزلها ولكنه مكابر معاند كقوله تعالى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النمل: 14] وخاطبه بذلك على سبيل التوبيخ أي أنت بحال من يعلم هذه أو هي من الوضوح بحيث تعلمها وليس خطابه على جهة إخباره عن علمه أو العلم بعلمه ليكون إفادة لازم الخبر كقولك لمن حفظ التوراة حفظت التوراة. وقرأ علي كرم الله تعالى وجه وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما والكسائي «لقد علمت» بضم التاء فيكون موسى عليه السلام قد أخبر عن نفسه أنه ليس بمسحور كما زعم عدو الله تعالى وعدوه بل هو يعلم أن ما أنزل تلك الآيات إلا خالق السموات والأرض ومدبرهما، وروي عن الأمير كرم الله تعالى وجهه أنه قال: والله ما علم عدو الله تعالى ولكن موسى عليه السلام هو الذي علم، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يصح لأنه رواه كلثوم المرادي وهو مجهول وكيف يقول ذلك باب مدينة العلم كرم الله تعالى وجهه، ووجه نسبة العلم إليه ظاهر. وقد ذكر الجلال السيوطي في الدر المنثور أن سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم أخرجوا عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان يقرأ بالضم ويقول ذلك ولم يتعقبه بشيء، ولعل هذا المجهول الذي ذكره أبو حيان في أسانيدهم والله تعالى أعلم. وجملة ما أَنْزَلَ إلخ معلق عنها سادة (1) مسد عَلِمْتَ وقوله تعالى: بَصائِرَ حال من هؤلاء والعامل فيه أنزل المذكور عند الحوفي وأبي البقاء وابن عطية وما قبل إلا يعمل فيما بعدها إذا كان مستثنى منه أو تابعا له وقد نص الأخفش والكسائي على جواز ما ضرب هندا إلا زيد ضاحكة ومذهب الجمهور عدم الجواز فإن ورد ما ظاهره ذلك أول عندهم على إضمار فعل يدل عليه ما قبل والتقدير هنا أنزلها بصائر أي بينات مكشوفات تبصرك صدقي على أنه جمع بصيرة بمعنى مبصرة أي بينة وتطلق البصائر على الحجج بجعلها كأنها بصائر العقول أي ما أنزلها إلا حججا وأدلة على صدقي وتكون بمعنى العبرة كما ذكره الراغب، هذا ولا يخفى عليك أنه إذا كان المراد من الآيات التسع ما اقتضاه خبر صفوان السابق يجوز أن تكون هؤُلاءِ إشارة إلى ما أظهره عليه السلام من المعجزات ويعتبر إظهار ذلك فيما يفصح عنه الفاء الفصيحة وإن أبيت إلا جعلها إشارة إلى الآيات المذكورة بذلك المعنى لتحقق جميعها من أول الأمر وثبوتها وقت المحاورة وشدة ملاءمة الإنزال لها احتجت إلى ارتكاب نوع تكلف فيما لا يخفى عليك وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً أي هالكا كما روي عن الحسن ومجاهد على أنه من ثبر اللازم بمعنى هلك، ومفعول فيه للنسب بناء على أنه يأتي له من اللازم والمتعدي، وفسره بعضهم بمهلكا وهو ظاهر، وعن الفراء أنه قال: أي مصروفا عن الخير مطبوعا على الشر من قولهم: ما ثبرك عن هذا أي ما منعك وإليه يرجع ما أخرجه الطستي عن ابن عباس من تفسيره بملعونا محبوسا عن الخير. وأخرج الشيرازي في الألقاب وابن مردويه من طريق ميمون بن مهران عنه رضي الله تعالى عنه تفسيره بناقص العقل، وفي معناه تفسير الضحاك بمسحور قال: رد موسى عليه السلام بمثل ما قال له فرعون مع اختلاف اللفظ، وأخرج ابن أبي الدنيا في ذم الغضب عن أنس بن مالك أنه سئل عن مَثْبُوراً في الآية فقال: مخالفا ثم قال: الأنبياء عليهم السلام (2) من أن يلعنوا أو يسبوا، وأنت تعلم أن هذا معنى مجازي له وكذا ناقص العقل ولا داعي إلى ارتكابه، وما   (1) قوله مسد علمت كذا بخط مؤلفه وسقط منه مضاف والأصل مسد مفعولي علمت. (2) قوله الأنبياء عليهم السلام من أن يلعنوا إلخ كذا بخطه ولعل فيه سقطا من قلمه والأصل الأنبياء عليهم السلام مبرؤون من أن يلعنوا إلخ أو نحو ذلك وفي الدر المنثور الأنبياء أكرم من أن تلعن أو تسب. [ ..... ] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 175 ذكره الإمام مالك فيه ما فيه، نعم قيل: إن تفسيره بهالكا ونحوه مما فيه خشونة ينافي قوله تعالى خطابا لموسى وهارون عليهما السلام: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً [طه: 44] وأشار أبو حيان إلى جوابه بأن موسى عليه السلام كان أولا يتوقع من فرعون المكروه كما قال: إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى [طه: 45] فأمر أن يقول له قولا لينا فلما قال سبحانه له: لا تَخَفْ [طه: 21، 68 وغيرها] وثق بحماية الله تعالى فصال عليه صولة المحمي وقابله من الكلام بما لم يكن ليقابله به قبل ذلك، وفيه كلام ستطلع عليه إن شاء الله تعالى في محله، وبالجملة التفسير الأول أظهر التفاسير ولا ضير فيه لا سيما مع تعبير موسى عليه السلام بالظن ثم إنه عليه السلام قد قارع ظنه بظنه وشتان ما بين الظنين فإن ظن فرعون إفك مبين وظن موسى عليه السلام يحوم حول اليقين. وقرأ أبي، وابن كعب «وإن أخالك يا فرعون لمثبورا» على إن المخففة واللام الفارقة، وأخال بمعنى أظن بكسر الهمزة في الفصيح وقد تفتح في لغة كما في القاموس. فَأَرادَ فرعون أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ أي موسى وقومه، وأصل الاستفزاز الإزعاج وكنى به عن إخراجهم مِنَ الْأَرْضِ أي أرض مصر التي هم فيها أو من جميع الأرض ويلزم إخراجهم من ذلك قتلهم واستئصالهم وهو المراد فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً أي فعكسنا عليه مكره حيث أراد ذلك لهم دونه فكان له دونهم فاستفز بالإغراق هو وقومه وهذا التعكيس أظهر من الشمس على الثاني وظاهر على الأول لأنه أراد إخراجهم من مصر فأخرج هو أشد الإخراج بالإهلاك والزيادة لا تضر في التعكيس بل تؤيده. وَقُلْنا على لسان موسى عليه السلام مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد فرعون على معنى من بعد إغراقه أو الضمير للإغراق المفهوم من الفعل السابق أي من بعد إغراقه وإغراق من معه لِبَنِي إِسْرائِيلَ الذين أراد فرعون استفزازهم اسْكُنُوا الْأَرْضَ التي أراد أن يستفزكم منها وهي أرض مصر، وهذا ظاهر أن ثبت أنهم دخلوها بعد أن خرجوا منها واتبعهم فرعون وجنوده وأغرقوا وإن لم يثبت فالمراد من بني إسرائيل ذرية أولئك الذين أراد فرعون استفزازهم، واختار غير واحد أن المراد من الأرض الأرض المقدسة وهي أرض الشام فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ أي الكرة أو الحياة أو الساعة أو الدار الآخرة، والمراد على جميع ذلك قيام الساعة جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً أي مختلطين أنتم وهم ثم نحكم بينكم ونميز سعداء كم من أشقيائكم وأصل اللفيف الجماعة من قبائل شتى فهو اسم جمع كالجميع ولا واحد له أو هو مصدر شامل للقليل والكثير لأنه يقال لف لفا ولفيفا، والمراد منه ما أشير إليه، وفسره ابن عباس بجميعا وكيفما كان فهو حال من الضمير المجرور في بكم، ونص بعضهم على أن في بِكُمْ تغليب المخاطبين على الغائبين، والمراد بهم وبكم وما ألطفه مع لَفِيفاً وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ عود إلى شرح حال القرآن الكريم فهو مرتبط بقوله تعالى لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ [الإسراء: 88] الآية وهكذا طريقة العرب في كلامها تأخذ في شيء وتستطرد منه إلى آخر ثم إلى آخر ثم تعود إلى ما ذكرته أولا والحديث شجون فضمير الغائب للقرآن وأبعد من ذهب إلى أنه لموسى عليه السلام، والآية مرتبطة بما عندها، والإنزال فيها كما في قوله تعالى: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ [الحديد: 25] وقد حمله بعضهم على هذا المعنى فيما قبل أو للآيات التسع وذكر على المعنى أو للوعد المذكور آنفا، والظاهر أن الباء في الموضعين للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال من ضمير القرآن واحتمال أن يكون أولا حالا من ضميره تعالى خلاف الظاهر، والمراد بالحق الأول على ما قيل الحكمة الإلهية المقتضية لإنزاله وبالثاني ما اشتمل عليه من العقائد والأحكام ونحوها أي ما أنزلناه إلا ملتبسا بالحق المقتضي لإنزاله وما نزل إلا ملتبسا بالحق الذي اشتمل عليه، وقيل الباء الأولى للسببية متعلقة بالفعل بعد والثانية للملابسة، وقيل هما للسببية فيتعلقان بالفعل وقال أبو سليمان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 176 الدمشقي: الحق الأول التوحيد والثاني الوعد والوعيد والأمر والنهي، وقيل الحق في الموضعين الأمر المحفوظ الثابت، والمعنى ما أنزلناه من السماء إلا محفوظا بالرصد من الملائكة وما نزل على الرسول إلا محفوظا بهم من تخليط الشياطين، وحاصله أنه محفوظ حال الإنزال وحال النزول وما بعده لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وأبعد من جوز كون المراد بالحق الثاني النبي صلّى الله عليه وسلّم ومعنى نزوله به نزوله عليه وحلوله عنده من قولهم نزل بفلان ضيف، وعلى سائر الأوجه لا تخفى فائدة ذكر الجملة الثانية بعد الأولى، وما يتوهم من التكرار مندفع ونحا الطبري إلى أن الجملة الثانية توكيد للأولى من حيث المعنى لأنه يقال أنزلته فنزل وأنزلته فلم ينزل إذا عرض له مانع من النزول فجاءت الجملة الثانية مزيلة لهذا الاحتمال وتحاشى بعضهم من إطلاق التوكيد لما بين الإنزال والنزول من المغايرة وادعى أنه لو كانت الثانية توكيدا للأولى لما جاز العطف لكمال الاتصال وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً للمطيع بالثواب وَنَذِيراً للعاصي من العقاب فلا عليك إلا التبشير والإنذار لا هداية الكفرة المقترحين وإكراههم على الدين ولعل الجملة لتحقيق حقية بعثته صلّى الله عليه وسلّم إثر تحقيق حقيقة القرآن ونصب ما بعد إلا على الحال. وَقُرْآناً نصب بفعل مضمر يفسره قوله تعالى فَرَقْناهُ فهو من باب الاشتغال ورجع النصب على الرفع العطف على الجملة الفعلية ولو رفع على الابتداء في غير القرآن جاز إلا أنه لا بد له من ملاحظة مسوغ عند من لا يكتفي في صحة الابتداء بالنكرة بحصول الفائدة وعلى هذا أخرجه الحوفي. وقال ابن عطية: هو مذهب سيبويه، وقال الفراء: هو منصوب بأرسلناك أي ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً وقرآنا كما تقول رحمة لأن القرآن رحمة، ولا يخفى أنه إعراب متكلف لا يكاد يقوله فاضل، ومما يقضي منه العجب ما جوزه ابن عطية من نصبه بالعطف على الكاف في أَرْسَلْناكَ. وقال أبو البقاء: وهو دون الأول وفوق ما عداه إنه منصوب بفعل مضمر دل عليه آتَيْنا السابق أو أَرْسَلْناكَ وجملة فَرَقْناهُ في موضع الصفة له أي آتيناك قرآنا فرقناه أي أنزلناه منجما مفرقا أو فرقنا فيه بين الحق والباطل فحذف الجار وانتصب مجروره على أنه مفعول به على التوسع كما في قوله: ويوما شهدناه سليما وعامرا وروي ذلك عن الحسن، وعن ابن عباس بينّا حلاله وحرامه، وقال الفراء: أحكمناه وفصلناه كما في قوله تعالى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان: 4] وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وأبي وعبد الله وأبو رجاء وقتادة والشعبي وحميد وعمر بن قائد وزيد بن علي وعمرو بن ذر وعكرمة والحسن بخلاف عنه «فرقّناه» بشد الراء ومعناه كالمخفف أي أنزلناه مفرقا منجما بيد أن التضعيف للتكثير في الفعل وهو التفريق، وقيل فرق بالتخفيف يدل على فصل متقارب وبالتشديد على فصل متباعد والأول أظهر، ولما كان قوله تعالى الآتي عَلى مُكْثٍ يدل على كثرة نجومه كانت القراءتان بمعنى، وقيل معناه فرقنا آياته بين أمر ونهي وحكم وأحكام ومواعظ وأمثال وقصص وأخبار مغيبات أتت وتأتي والجمهور على الأول. وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن الأنباري وغيرهما عن ابن عباس قال: نزل القرآن جملة واحدة من عند الله تعالى من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا فنجمته السفرة على جبريل عليه السلام عشرين ليلة ونجمه جبريل عليه السلام على النبي صلّى الله عليه وسلّم عشرين سنة ، وفي رواية أنه أنزل ليلة القدر في رمضان ووضع في بيت العزة في السماء الدنيا ثم أنزل نجوما في عشرين ، وفي رواية في ثلاث وعشرين سنة وفي أخرى في خمس وعشرين ، وهذا الاختلاف على ما في البحر مبني على الاختلاف في سنة صلّى الله عليه وسلّم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 177 وأخرج ابن الضريس من طريق قتادة عن الحسن كان يقول: أنزل الله القرآن على نبي الله صلّى الله عليه وسلّم في ثماني عشرة سنة ثمان سنين بمكة وعشر بعد ما هاجر. وتعقبه ابن عطية بأنه قول مختل لا يصح عن الحسن، واعتمد جمع أن بين أوله وآخره ثلاثا وعشرين سنة وكان ينزل به جبريل عليه السلام على ما قيل خمس آيات خمس آيات، فقد أخرج البيهقي في الشعب عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات فإن جبريل عليه السلام كان ينزل به خمسا خمسا. وأخرج ابن عساكر من طريق أبي نضرة قال: كان أبو سعيد الخدري يعلمنا القرآن خمس آيات بالغداة وخمس آيات بالعشي ويخبر أن جبريل عليه السلام نزل به خمس آيات خمس آيات، وكان المراد في الغالب فإنه قد صح أنه نزل بأكثر من ذلك وبأقل منه. وقرأ أبي وعبد الله «فرقناه عليك» لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ أي تؤدة وتأنّ فإنه أيسر للحفظ وأعون على الفهم وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل أي تطاول في المدة وتقضيها شيئا فشيئا، والظاهر تعلق لتقرأه بفرقناه وعلى الناس بتقرأه وعلى مكث به أيضا إلا أن فيه تعلق حرفي جر بمعنى بمتعلق واحد. وأجيب بأن تعلق الثاني بعد اعتبار تعلق الأول به فيختلف المتعلق، وفي البحر لا يبالى بتعلق هذين الحرفين بما ذكر لاختلاف معناهما لأن الأول في موضع المفعول به والثاني في موضع الحال أي متمهلا مترسلا، ولما في ذلك من القيل والقال اختار بعضهم تعلقه بفرقناه، وجوز الخفاجي تعلقه بمحذوف أي تفريقا أو فرقا على مكث أو قراءة على مكث منك كمكث تنزيله، وجعله أبو البقاء في موضع الحال من الضمير المنصوب في فرقناه أي متمكثا، ومن العجيب قول الحوفي أنه بدل من عَلَى النَّاسِ وقد تعقبه أبو حيان بأنه لا يصح لأن عَلى مُكْثٍ من صفات القارئ أو من صفات المقروء وليس من صفات الناس ليكون بدلا منهم، والمكث مثلث الميم وقرىء بالضم والفتح ولم يقرأ بالكسر وهو لغة قليلة، وزعم ابن عطية إجماع القراء على الضم. وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا على حسب الحوادث والمصالح فذكر هذا بعد قوله تعالى: فَرَقْناهُ إلخ مفيد وذلك لأن الأول دال على تدريج نزوله ليسهل حفظه وفهمه من غير نظر إلى مقتض لذلك وهذا أخص منه فإنه دال على تدريجه بحسب الاقتضاء قُلْ للذين كفروا آمِنُوا بِهِ أي بالقرآن أَوْ لا تُؤْمِنُوا أي به على معنى أن إيمانكم به وعدم إيمانكم به سواء لأن إيمانكم لا يزيده كمالا وعدم إيمانكم لا يورثه نقصا. إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ أي العلماء الذين قرؤوا الكتب السالفة من قبل تنزل القرآن وعرفوا حقيقة الوحي وأمارات النبوة وتمكنوا من تمييز الحق والباطل والمحق والمبطل أو رأوا نعتك ونعت ما أنزل إليك إِذا يُتْلى أي القرآن عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ الخرور السقوط بسرعة، والأذقان جمع ذقن وهو مجتمع اللحيين ويطلق على ما ينبت عليه من الشعر مجازا وكذا يطلق على الوجه تعبيرا بالجزء عن الكل قيل وهو المراد وروي عن ابن عباس فكأنه قيل يسقطون بسرعة على وجوههم سُجَّداً تعظيما لأمر الله تعالى أو شكرا لإنجاز ما وعد به في تلك الكتب من بعثتك والظاهر أن هنا خروا وسجودا على الحقيقة، وقيل: لا شيء من ذلك وإنما المقصود أنهم ينقادون لما سمعوا ويخضعون له كمال الانقياد والخضوع فأخرج الكلام على سبيل الاستعارة التمثيلية، وفسر الخرور للأذقان بالسقوط على الوجوه الزمخشري ثم قال: وإنما ذكر الذقن لأنه أول ما يلقى الساجد به الأرض من وجهه، وقيل: فيه نظر لأن الأول هو الجبهة والأنف ثم وجه بأنه إذا ابتدأ الخرور فأقرب الأشياء من وجهه إلى الأرض هو الذقن، وكأنه أريد أول ما يقرب من اللقاء، وجوز أن تبقى الأذقان على حقيقتها والمراد المبالغة في الخشوع وهو تعفير اللحى على التراب أو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 178 أنه ربما خروا على الذقن كالمغشى عليهم لخشية الله تعالى، وقيل: لعل سجودهم كان هكذا غير ما عرفناه وهو كما ترى. وقال صاحب الفرائد المراد المبالغة في التحامل على الجبهة والأنف حتى كأنهم يلصقون الأذقان بالأرض وهو وجه حسن جدا واللام على ما نص عليه الزمخشري للاختصاص وذكر أن المعنى جعلوا أذقانهم للخرور واختصوها به. ومعنى هذا الاختصاص على ما في الكشف أن الخرور لا يتعدى الأذقان إلى غيرها من الأعضاء المقابلة وحقق ذلك بما لا مزيد عليه واعترض القول بالاختصاص بأنه مخالف لما سبق من قوله: إن الذقن أول ما يلقي الساجد به الأرض وأجيب بما أجيب وتعقبه الخفاجي بأنه مبني على أن الاختصاص الذي تدل عليه اللام بمعنى الحصر وليس كذلك وإنما هو بمعنى تعلق خاص ولو سلّم فمعنى الاختصاص بالذقن الاختصاص بجهته ومحاذيه وهي جهة السفل ولا شك في اختصاصه به إذ هو لا يكون لغيره يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يقعون على الأرض عند التحقيق، والمراد تصوير تلك الحالة كما في قوله: فخر صريعا لليدين وللفم فتأمل. واختار بعضهم كون اللام بمعنى على، وزعم بعض عود ضميري بِهِ وقَبْلِهِ على النبي صلّى الله عليه وسلّم ويأباه السباق واللحاق، وأخرج ابن المنذر وابن جرير أن ضمير يُتْلى لكتابهم ولا يخفى حاله والظاهر أن الجملة الاسمية داخلة في حيز قُلْ وهي تعليل لما يفهم من قوله تعالى: آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا من عدم المبالاة بذلك أي إن لم تؤمنوا به فقد آمن به أحسن إيمان من هو خير منكم، ويجوز أن لا تكون داخلة في حيز قل بل هي تعليل له على سبيل التسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم كأنه قيل تسل بإيمان العلماء عن إيمان الجهلة ولا تكترث بإيمانهم وأغراضهم وقد ذكر كلا الوجهين الكشاف قال في الكشف والحاصل أن المقصود التسلي والازدراء وعدم المبالاة المفيد للتوبيخ والتقريع مفرع عليه مدمج أو بالعكس والصيغة في الثاني أظهر والتعليل بقوله سبحانه إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ في الأول. وقال ابن عطية يتوجه في الآية معنى آخر وهو أن قوله سبحانه: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إنما جاء للوعيد والمعنى افعلوا أي الأمرين شئتم فسترون ما تجازون به ثم ضرب لهم المثل على جهة التقريع بمن تقدم من أهل الكتاب أي إن الناس لم يكونوا كما أنتم في الكفر بل كان الذين أوتوا التوراة والإنجيل والزبور والكتب المنزلة إذا يتلى عليهم ما أنزل عليهم خشعوا وآمنوا اه، وهو بعيد جدا ولا يخلو عن ارتكاب مجاز. وربما يكون في الكلام عليه استخدام وَيَقُولُونَ أي في سجودهم أو مطلقا سُبْحانَ رَبِّنا عن خلف وعده أو عما يفعل الكفرة من التكذيب إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا إن مخففة من المثقلة واسمها ضمير شأن واللام فارقة أي إن الشأن هذا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ كرر الخرور للأذقان لاختلاف السبب فإن الأول لتعظيم أمر الله تعالى أو الشكر لإنجاز الوعد والثاني لما أثر فيهم من مواعظ القرآن، والجار والمجرور إما متعلق بما عنده أو بمحذوف وقع حالا مما قبل أو مما بعد أي ساجدين، وجملة يَبْكُونَ حال أيضا أي باكين من خشية الله تعالى، ولما كان البكاء ناشئا من الخشية الناشئة من التفكر الذي يتجدد جيء بالجملة الفعلية المفيدة للتجدد، وقد جاء في مدح البكاء من خشيته تعالى أخبار كثيرة فقد أخرج الحكيم الترمذي عن النضر بن سعد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لو أن عبدا بكى في أمة لأنجى الله تعالى تلك الأمة من النار ببكاء ذلك العبد وما من عمل إلا له وزن وثواب إلا الدمعة فإنها تطفئ بحورا من النار وما اغرورقت عين بمائها من خشية الله تعالى إلا حرم الله تعالى جسدها على النار فإن فاضت على خده لم يرهق وجهه قتر ولا ذلة» وأخرج أيضا عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله تعالى وعين باتت تحرس في سبيل الله تعالى» وأخرج هو والنسائي ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 179 صلّى الله عليه وسلّم: «لا يلج النار رجل بكى من خشية الله تعالى حتى يعود اللبن في الضرع ولا اجتمع على عبد غبار في سبيل الله تعالى ودخان جهنم» زاد النسائي في منخريه ومسلم أبدا ، وينبغي أن يكون ذلك حال العلماء فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن عبد الأعلى التيمي أنه قال: إن من أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق أن قد أوتي من العلم ما لا ينفعه لأن الله تعالى نعت أهل العلم فقال وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ أي القرآن بسماعهم خُشُوعاً لما يزيدهم علما ويقينا بأمر الله تعالى على ما حصل عندهم من الأدلة. قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أخرج ابن جرير وابن مروديه عن ابن عباس قال: صلى صلّى الله عليه وسلّم بمكة ذات يوم فدعا الله تعالى فقال في دعائه: يا الله يا رحمن فقال المشركون: انظروا إلى هذا الصابىء ينهانا أن ندعو إلهين وهو يدعو إلهين فنزلت، وعن الضحاك أنه قال: قال أهل الكتاب للرسول صلّى الله عليه وسلّم: إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثر الله تعالى في التوراة هذا الاسم فنزلت ، والمراد على الأول التسوية بين اللفظين بأنهما عبارتان عن ذات واحد وإن اختلف الاعتبار والتوحيد إنما هو للذات الذي هو المعبود وهو يلائم قوله تعالى فيما بعد وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وعلى الثاني التسوية في حسن الإطلاق والإفضاء إلى المقصود فإن أهل الكتاب فهموا أحسنية الرحمن لكونه أحب إليه تعالى إذ أكثر ذكره في كتابهم وكأن حكمة ذلك أن موسى عليه السلام كان غضوبا كما دلت عليه الآثار فأكثر له من ذكر الرحمن ليعامل أمته بمزيد الرحمة لأن الأنبياء عليهم السلام يتخلقون بأخلاق الله تعالى، قال القاضي البيضاوي: وهذا أجوب لقوله تبارك اسمه أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى لأن توصيف الأسماء بالحسنى يفهم منه أن المقول لهم ذلك يظنون أحسنية اسم من اسم لا التغاير، وقال صاحب الكشف: الغرض على الوجهين التسوية بين اللفظين في الحسن والاختلاف إنما هو بأن الاستواء في الحسن رد لمن قال: إنك لتقل إلخ بأن الإتيان بأحد الحسنين كاف أو لمن قال: ينهانا أن ندعو إلهين وهو يدعو بأن الاختلاف بين اللفظين الدالين على كماله تعالى لا بين كاملين فالأجوبية ممنوعة انتهى. وتعقب بأن أنسبية التوصيف بالحسنى للثاني ظاهرة مما لا تكاد تنكر، ووجه الطيبي الأجوبية بأن اعتراض اليهود كان تعبيرا للمسلمين على ترجيح أحد الاسمين على الآخر واعتراض المشركين كان تعبيرا على الجمع بين اللفظين، وقوله تعالى: «أيّا ما تدعوا» يطابق الرد على اليهود لأن المعنى أي اسم من الاسمين دعوتموه فهو حسن وهو لا ينطبق على اعتراض المشركين ثم قال: هذا مسلم إذا كان أو للتخيير ويجوز أن تكون للإباحة والانطباق حينئذ ظاهر فإن المشركين حظروا الجمع بين الاسمين فيكون ردهم بإباحة الجمع بين الأسماء المتكاثرة فضلا عن الجمع بين الاسمين على أن الجواب بالتخيير في الرد على أهل الكتاب غير مطابق لأنهم اعترضوا بالترجيح. وأجيب بالتسوية لأن أو تقتضيها، وكان الجواب العتيد أن يقال: إنما رجحنا الله على الرحمن في الذكر لأنه جامع لجميع صفات الكمال بخلاف الرحمن، وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى تتمة الكلام فيما يتعلق بهذا. ومنع الأجوبية أيضا الجلبي بأن تقديم الخبر في قوله تعالى: فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يقتضي أجوبية الأول إذ معناه هذه الأسماء لله تعالى لا لغيره كما زعم المشركون إلا أن يقال أو للتخيير وهو غير مسلم بل يتعين كونها للإباحة لأنها كما قال الرضي وغيره يجوز الجمع فيها بين المتعاطفين والاقتصار على أحدهما وفي التخيير لا يجوز الجمع وهو هنا جائز. ودفع بأن المعنى لله تعالى أسماء متفقة في الحسن لأنها لا تختلف مدلولاتها بالذات بخلاف غيره سبحانه فإن أسماءه تختلف فالقصر إذا كان بأن لم يكن التقديم لمجرد التشويق ناظر إلى الوصف لا للأسماء وهذا لا يتوقف على تسليم التخيير، ثم إنه لا مانع من إرادته بل أي تقتضيه لأنها لأحد الشيئين فإذا قلت لأحد: أي الأمرين الجزء: 8 ¦ الصفحة: 180 تفعل فافعل لم تأمره بفعلهما بل بفعل أحدهما وأما الدلالة على جواز الجمع فمن خارج النظم ودلالة العقل لأنهم إذا لم يتنافيا جاز الجمع بينهما، ومن هنا تعلم أنه لا حاجة إلى حمل التخيير في كلام من عبر به على غير الاصطلاح المشهور الذي هو اصطلاح النحاة فيه إذا قوبل بالإباحة بأن يقال: مراده به التسوية بين الاسمين في الدلالة على ذات واحدة وسواء فيه الإفراد والجمع، قال في التلويح: وفي التخيير قد يجوز الجمع بحكم الإباحة الأصلية وهذا يسمى التخيير على سبيل الإباحة اه. والظاهر أن الحق مع مانع الأجوبية والقائل بالإباحة فتدبر، والدعاء على ما اختاره أبو حيان وجماعة بمعنى النداء، وقال الزمخشري: هو بمعنى التسمية لا بمعنى النداء وهو يتعدى إلى مفعولين تقول دعوته زيدا ثم يترك أحدهما استغناء عنه فتقول دعوت زيدا، والأصل على ما قيل أن يتعدى إلى الثاني بالباء لكنه يتسع فيحذف الباء والمفعول الآخر هنا محذوف أي سموه بهذا الاسم أو بهذا الاسم وكذا يقال في الدعاء الثاني، وعلل ذلك بأنه لو حمل على الحقيقة المشهورة يلزم إما الاشتراك إن تغاير مدلولا الاسمين أو عطف الشيء على نفسه بأو وهو إنما يجوز بالواو إن اتحدا، وبحث فيه بأنا نختار الثاني ولا يلزم ما ذكر لأنه قصد اللفظ كما تقول نادي النبي صلّى الله عليه وسلّم بمحمد أو بأحمد مع أن اختلاف مفهوميهما يكفي لصحته، وما روي في سبب النزول أو لا ينادي على ما قيل على إرادة النداء، وقيل إن كانت الآية ردا على المشركين فهو بمعنى التسمية وإن كانت ردا على اليهود فهو بمعنى النداء وجعل الطيبي لذلك تفسير الزمخشري إياه بالتسمية مؤذنا بميله إلى أنها رد على المشركين وفي ذلك تأمل، وأَيًّا اسم شرط جازم منصوب بتدعوا وجازم له فهو عامل ومعمول من جهتين والتنوين عوض عن المضاف إليه المحذوف والتقدير أي هذين الاسمين وما حرف مزيد للتأكيد، وقيل إنها اسم شرط مؤكد به. وقرأ طلحة بن مصرف من بدل ما وخرج على زيادتها على مذهب الكسائي أو جعلها أداة شرط والجمع بين أداتي الشرط كالجمع بين حرفي الجر في قوله: فاصبحن لا يسألنني عن بما به شاذ، وجملة فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى واقعة موقع جواب الشرط وهي في الحقيقة تعليل له، وكأن أصل الكلام أيّا ما تدعوه به فهو حسن لأن له سبحانه الأسماء الحسنى اللاتي منها هذان، وفي العدول عن حق الجواب إقامة الشيء بدليله وفيه مبالغة لا تخفى، وهذا التقدير ظاهر على القول الثاني في سبب النزول ويقدر على القول الأول فيه فمدلوله واحد ونحوه، ولا حاجة إلى ذلك بل يقدر على القولين فهو حسن على ما سمعت عن صاحب الكشف. وقال الطيبي وقد حمل أو على الإباحة وجعل الخطاب للمشركين: التقدير قل سموا ذاته المقدسة بالله وبالرحمن فهما سيان في استصواب التسمية بهما فبأيهما سميته فأنت مصيب وإن سميته بهما جميعا فأنت أصوب لأن له الأسماء الحسنى وقد أمرنا سبحانه بأن ندعوه بها في قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها فجواب الشرط الأول قولنا فأنت مصيب ودل على الشرط الثاني وجوابه قوله تعالى: فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى والآية على هذا فن من فنون الإيجاز الذي هو من حلية التنزيل، وعلى تقدير فهو حسن حسبما سمعت أولا من باب الإطناب اه وهو كما ترى. ونقل في البحر أن منهم من وقف على أَيًّا على معنى أي اللفظين تدعوه به جاز ثم استأنف فقال ما تدعو فله الأسماء الحسنى. وتعقبه بأن هذا لا يصح لأن ما لا يطلق على آحاد ذوي العلم ولأن الشرط يقتضي عموما وهو لا يصح هنا، وضمير فَلَهُ عائد على المسمى أو المنادى المفهوم من الكلام والقرينة عقلية وهي أن الأسماء تكون للمسمى وللمنادى لا للاسم واللفظ المنادى به، وسيأتي إن شاء الله تعالى عن محيي الدين قدس سره غير ذلك في باب الإشارة، ووصف الأسماء بالحسنى لدلالتها على ما هو جامع لجميع صفات الكمال بحيث لا يشذ منها شيء وما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 181 هو من صفات الجلال والجمال والإكرام، هذا واعلم أن الظاهر مما روي عن اليهود أنهم لا ينكرون حسن سائر أسمائه تعالى وإنما يزعمون أن الرحمن منها أحب أسمائه تعالى إليه وأعظمها وأشرفها لكثرة ذكره تعالى إياه في التوراة واختلاف أسمائه عزت أسماؤه في الشرف والعظم مما ذهب إليه المسلمون أيضا. ويدل عليه تخصيصه صلّى الله عليه وسلّم بعض الأسماء بأنه الاسم الأعظم فقد روي «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سمع رجلا يدعو وهو يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فقال عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده لقد سأل الله تعالى باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال: اسم الله تعالى في هاتين الآيتين وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ [البقرة: 163] وفاتحة آل عمران الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ونص حجة الإسلام الغزالي في أوائل كتابه المقصد الأسنى على أن الله أعظم الأسماء التسعة والتسعين لأنه دال على الذات الجامعة لصفات الإلهية كلها وسائر الأسماء لا يدل آحادها إلا على آحاد المعاني من علم أو قدرة أو فعل أو غيره ولأنه أخص الأسماء إذ لا يطلقه أحد على غيره تعالى لا حقيقة ولا مجازا وسائر الأسماء قد يسمى به غيره عز وجل كالقادر والعليم والرحيم وغيرها، واسمه تعالى الرحمن لا يسمى به غيره تعالى أيضا وهو من هذا الوجه قريب من اسم الله سبحانه وإن كان مشتقا من الرحمة قطعا ولذا جمع عز وجل بينهما في قوله سبحانه قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ اه. وقال في أواخره: فإن قيل ما بال تسعة وتسعين من أسمائه تعالى اختصت بأن من أحصاها دخل الجنة مع أن الكل أسماء الله تعالى فنقول: الأسامي يجوز أن تتفاوت فضيلتها لتفاوت معانيها في الجلالة والشرف فتكون تسعة وتسعون منها تجمع أنواعا من المعاني المنبئة عن الجلال لا يجمع ذلك غيرها مختص بزيادة شرف انتهى، وقال الإمام الرازي في هذه الآية: تخصيص هذين الاسمين يعني الله والرحمن بالذكر يدل على أنهما أشرف من سائر الأسماء، وتقديم اسم الله على اسم الرحمن يدل على قولنا: الله أعظم الأسماء إلى غير ذلك مما ذكره غير واحد من الأجلة، والآية إنما تصلح بحسب الظاهر ردا لما فهمه اليهود إذا كان المراد منها نفي التفاوت الذي زعموه وحينئذ يقع التعارض بينها وبين ما يدل على التفاوت من الأخبار، وقد يجعل هذا وجها لاختيار كون سبب النزول قول المشركين ولعل أثره أصح، وما نقلناه فيما سبق عن العلامة الطيبي مؤيد لما قلناه، واحتج الجبائي بالآية على أنه تعالى ليس خالق الظلم وإلا لصح اشتقاق اسم له سبحانه منه وحينئذ يبطل ما دلت عليه الآية من كون أسمائه تعالى بأسرها حسنى. وأجيب بمنع الملازمة لأن الظلم ليس صفته عز وجل وكونه خالقا له لا يصح الاشتقاق منه وإلا لصح الاشتقاق من الطول والقصر والسواد والبياض لأنه تعالى خالق لذلك بالإتفاق، نعم لا ينبغي أن يقال لله تبارك وتعالى خالق القبيح للزوم الأدب معه سبحانه ويقال خالق كل شيء. وما هو من أسمائه جلت أسماؤه الخالق لا خالق كذا فافهم سلك الله تعالى بنا وبك الطريق الأقوم. وهذه الآية على ما قيل من آيات الحفظ بناء على ما أخرج البيهقي في الدلائل من طريق نهشل بن سعيد عن الضحاك عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال في قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ إلى آخر الآية هو أمان من السرق وأن رجلا من المهاجرين تلاها حين أخذ مضجعه فدخل عليه سارق فجمع ما في البيت وحمله والرجل ليس بنائم حتى انتهى إلى الباب فوجده مردودا فوضع الكارة وفعل ذلك ثلاث مرات فضحك صاحب الدار ثم قال: إني أحصنت بيتي وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن حبان وغيرهم عن ابن عباس قال: نزلت ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم مختف بمكة فكان إذا صلى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 182 بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمع ذلك المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به فقال الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن وَلا تُخافِتْ بِها عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك وابتغ بين ذلك سبيلا يقول بين الجهر والمخافتة، وظاهره أن المراد بالصلاة القراءة التي هي أحد أجزائها مجازا، ويجوز أن يكون الكلام على تقدير مضاف أي بقراءة صلاتك، والظاهر أن المراد بالقراءة ما يعم البسملة وغيرها وبعض الأخبار يفيد ظاهره تخصيصها بالبسملة، فقد أخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن سعيد قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يرفع صوته ببسم الله الرحمن الرحيم وكان مسيلمة قد تسمى بالرحمان فكان المشركون إذا سمعوا ذلك من النبي عليه الصلاة والسلام قالوا: قد ذكر مسيلمة إله اليمامة ثم عارضوه بالمكاء والتصدية والصفير فأنزل الله تعالى هذه الآية ، ولا يخفى على هذه الرواية أشدية مناسبة الآية لما قبلها. وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع قال: كان أبو بكر إذا صلى من الليل خفض صوته جدا وكان عمر إذا صلى من الليل رفع صوته جدا فقال عمر: يا أبا بكر لو رفعت من صوتك شيئا وقال أبو بكر: يا عمر لو خفضت من صوتك شيئا فأتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاخبراه بأمرهما فأنزل الله تعالى الآية فأرسل عليه الصلاة والسلام إليهما فقال: يا أبا بكر ارفع من صوتك شيئا وقال لعمر اخفض من صوتك شيئا ، وفي رواية أنه قيل لأبي بكر: لم تصنع هذا؟ فقال: أناجي ربي وقد عرف حاجتي، وقيل لعمر: لم تصنع هذا؟ قال: أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان، وأمر التجوز أو حذف المضاف على هذا مثله على الأول وكذا على ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن المعنى لا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بها كلها وابتغ بين ذلك سبيلا بالجهر في بعض كالمغرب والعشاء والمخافتة في بعض كما فيما عدا ذلك. وقيل الصلاة بمعنى الدعاء لما أخرج الشيخان وغيرهما عن عائشة قالت: إنما نزلت هذه الآية وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها في الدعاء، وأخرج نحوه ابن أبي شيبة عن مجاهد، وروي ذلك عن ابن عباس أيضا ابن جرير وابن المنذر وجماعة وكانوا يجهرون بأللهم ارحمني، وأخرجوا عن عبد الله بن شداد أن أعرابا من بني تميم كانوا إذا سلم النبي صلّى الله عليه وسلّم قالوا: أي جهرا اللهم ارزقنا إبلا وولدا فنزلت ، وفي رواية أخرى عن عائشة أن الصلاة هنا التشهد وكان الأعراب كما نقل عن ابن سيرين يجهرون بتشهدهم فنزلت، وقيل الصلاة على حقيقتها الشرعية فقد أخرج ابن عساكر عن الحسن أنه قال: المعنى لا تصل الصلاة رياء ولا تدعها حياء، وروى نحوه ابن أبي حاتم والطبراني عن ابن عباس أيضا، والأكثرون على التفسير المروي عنه أولا، والمخافتة إسرار الكلام بحيث لا يسمعه المتكلم، ومن هنا قال ابن مسعود كما أخرجه عنه ابن أبي شيبة وابن جرير: لم يخافت من اسمع أذنيه، وخفت وهو من باب ضرب وخافت بمعنى يقال خفت يخفت خفتا وخفوتا وخافت مخافتة إذا أسر وأخفى، والتعبير عن الأمر الوسط بالسبيل باعتبار أنه أمر يتوجه إليه المتوجهون ويؤمه المقتدون ويوصلهم إلى المطلوب، وقد جاء عن عبد الله بن الشخير وأبي قلابة خير الأمور أوساطها، والآية على ما يقتضيه كلام الأكثرين محكمة، وقيل منسوخة بناء على ما أخرجه ابن مردويه وابن أبي حاتم عن ابن عباس من أنه صلّى الله عليه وسلّم أمر بمكة بالتوسط بأن لا يجهر جهرا شديدا ولا يخفض حتى لا يسمع أذنيه فلما هاجر إلى المدينة سقط ذلك، وقيل هي منسوخة بقوله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً [الأعراف: 55] وهو كما ترى، ولا يخفى عليك حكم رفع الصوت بالقراءة فوق الحاجة وحكم المخافتة بالمعنى الذي سمعته المسطوران في كتب الفقه فراجعها إن لم يكن ذلك على ذبر منك، وأخرج ابن أبي داود في المصاحف عن أبي رزين قال قرأ عبد الله «ولا تخافت بصوتك ولا تعال به» وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً رد على اليهود والنصارى وبني مليح حيث قالوا: عزيز ابن الله والمسيح ابن الله تعالى والملائكة بنات الله سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا، ونفي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 183 اتخاذ الولد ظاهر في نفي التبني ويعلم منه نفي أن يكون له سبحانه ولد الصلب من باب أولي، وقد نفي ذلك صريحا في قوله تعالى لَمْ يَلِدْ [الإخلاص: 3] وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ظاهره أنه رد على الثنوية وهم المشركون في الربوبية، ويجوز أن يكون كناية عن نفي الشركة في الألوهية فيكون ردا على الوثنية وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ أي ناصر ومانع له سبحانه من الذل لا عتزازه تعالى بنفسه فمن صلة لولي وضمن معنى المنع والنصر أو لم يوال تعالى أحدا من أجل مذلة فالولاية بمعنى المحبة على أصلها ومن تعليلية، وليس المعنى على الوجهين نفي الذل والنصر في الأول والموالاة والذل في الثاني على أسلوب- لا يهتدي بمناره- بل المراد أنه تعالى إذا اتخذ عبدا له وليا فذلك محض الاصطناع في شأن العبد لا أن هناك حاجة، وكذلك نصر الله تعالى كمال للناصر لا أن ثمة حاجة ألا ترى إلى قوله سبحانه: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ [محمد: 7] وإلى هذا ذهب صاحب الكشف وهو حسن، وجعل ذلك على الوجهين الفاضل الطيبي من ذاك الأسلوب، وفي الحواشي الشهابية في بيان ثاني الوجهين أن المراد نفي أن يكون له تعالى مولى يلتجىء هو سبحانه إليه، وأما الولي الذي يوصف به المؤمن فليس الولاية فيه بهذا المعنى بل بمعنى من يتولى أمره لمحبته له تفضلا منه عز وجل ورحمة فغاير بين الولايتين، ولعل الحق مع صاحب الكشف، ومن عجيب ما قيل إن مِنَ الذُّلِّ في موضع الصفة لولي ومن فيه للتبعيض وأن الكلام على حذف مضاف أي لم يكن له ولي من أهل الذل والمراد بهم اليهود والنصارى، ولعمري إنه لا ينبغي أن يلتفت إليه. وربما يتوهم أن المقام مقام التنزيه لا مقام الحمد لأنه يكون على الفعل الاختياري وبه وما ذكر من الصفات العدمية ويدفع بأنه لاق وصفه تعالى بما ذكر بكلمة التحميد لأنه يدل على نفي الإمكان المقتضي للاحتياج وإثبات أنه تعالى الواجب الوجود لذاته الغني عما سواه المحتاج إليه ما عداه فهو الجواد المعطي لكل قابل ما يستحق فهو تعالى المستحق للحمد دون غيره عز وجل، وهذا الذي عناه الزمخشري وقال في الكشف: لك أن تتخذ نفي هذه الصفات وهي ذرائع منع المعروف أما الولد فلأنه مبخلة، وأما الشريك فلأنه مانع من التصرف كيف يشاء، وأما الاحتياج إلى من يعتز به أو يذب عنه فاظهر رديفا لإثبات أضدادها على سبيل الكناية وهو وجه حسن ولو حمل الكلام على ظاهره أيضا لكان له وجه وذلك لأن قول القائل الحمد لله فيه ما ينبىء أن الإلهية تقتضي الحمد فإذا قلت الحمد لله المنزه عن النقائص مثلا يكون قد قويت معنى الإلهية المفهومة من اللفظ فيكون وصفا لائقا مؤيدا لا ستحقاقه تعالى الحمد من غير نظر إلى مدخلية الوصف في الحمد بالاستقلال وهذا بين مكشوف إلا أن الزمخشري حاول أن ينبه على مكان الفائدة الزائدة اه. وتعقب بأن ما ذكره من أن في الحمد لله ما ينبىء أن الإلهية تقتضي الحمد لا يتم على مذهب مانعي الاشتقاق في الاسم الكريم وفيه تأمل. والآية على ما قال العلامة الطيبي من التقسيم الحاصر لأن المانع من إيتاء النعم إما فوقه سبحانه وتعالى أو دونه أو مثله عز وجل فبنى الكلام على الترقي وبدىء من الأدون وختم بالأعلى فنفى الكل فمنه ولد الكثرة وله القل والدق والجل تعالى كبرياؤه وعظمت نعماؤه، ولدلالة ما تقدم على أنه تعالى هو الكامل وما عداه ناقص استحق التكبير ولذا عطف عليه قوله سبحانه وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً والتكبير أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال، وفي الأمر بذلك بعد ما تقدم مؤكدا بالمصدر المنكر من غير تعيين لما يعظم به تعالى إشارة إلى أنه مما لا تسعه العبارة ولا تفي به القوة البشرية وإن بالغ العبد في التنزيه والتمجيد واجتهد في العبادة والتحميد فلم يبق إلا الوقوف بإقدام المذلة في حضيض القصور والاعتراف بالعجز عن القيام بحقه جل وعلا وإن طالت القصور، وروى غير واحد أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يعلم الغلام من بني عبد المطلب إذا أفصح الحمد لله إلى آخر الآية سبع مرات وسماها عليه الصلاة والسلام الجزء: 8 ¦ الصفحة: 184 كما أخرج أحمد والطبراني عن معاذ آية العز ، وأخرج أبو يعلى وابن السني عن أبي هريرة قال: خرجت أنا ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويدي في يده فأتى على رجل رث الهيئة فقال: أي فلان ما بلغ بك ما أرى قال: السقم والضر قال صلّى الله عليه وسلّم: ألا أعلمك كلمات تذهب عنك السقم والضر توكلت على الحي الذي لا يموت الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا الآية فأتى عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد حسنت حالته فقال: مهيم. فقال: لم أزل أقول الكلمات التي علمتني. وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الفرج والبيهقي في الأسماء والصفات عن إسماعيل بن أبي فديك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما كربني أمر إلا مثل لي جبريل عليه السلام فقال: يا محمد قل: توكلت على الحي الذي لا يموت والحمد لله الذي لم يتخذ ولدا» إلى آخر الآية، وأخرج ابن السني والديلمي عن فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعليها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لها إذا أخذت مضجعك فقولي: «الحمد لله الكافي سبحان الله الأعلى حسبي الله وكفى ما شاء الله قضى سمع الله لمن دعا ليس من الله ملجأ ولا وراء الله ملتجى توكلت على ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم، الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا- إلى وكبره تكبيرا ثم قال- صلّى الله عليه وسلّم: ما من مسلم يقرأها عند منامه ثم ينام وسط الشياطين والهوام فتضره» هذا وما ألطف المناسبة بين ابتداء هذه السورة، وهذا الختام وليس ذلك بدعا في كلام اللطيف العلام «ومن باب الإشارة في الآيات» وإن كادوا ليفتنونك إلى آخره تنبيه لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم عن الوقوع فيما يخل بحفظ شرائط المحبة وفيه إشارة إلى إيصاله إلى مقام التمكين أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ الآية، ذكر أن الصلاة على خمسة أقسام صلاة المواصلة والمناغاة في مقام الخفي وصلاة المشاهدة في مقام الروح وصلاة المناجاة في مقام السر وصلاة الحضور في مقام القلب وصلاة المطاوعة والانقياد في مقام النفس، فدلوك الشمس إشارة إلى زوال شمس الوحدة عن الاستواء على وجود العبد بالفناء المحض فإنه لا صلاة في حال الاستواء إذ لا وجود للعبد حينئذ ولا شعور له بنفسه، وإنما تجب بالزوال وحدوث ظل وجود العبد سواء عند الاحتجاب بالخلق وهو حالة الفرق قبل الجمع أو عند البقاء وهو حالة الفرق بعد الجمع، وغسق الليل إشارة إلى غسق ليل النفس وقرآن الفجر إشارة إلى قرآن فجر القلب، وأدل الصلوات وألطفها صلاة المواصلة وأفضلها صلاة الشهود المشار إليها بصلاة العصر وأخفها صلاة السر المشار إليها بصلاة المغرب وأشدها تثبيتا للنفس صلاة النفس المشار إليها بصلاة العشاء وأزجرها للشيطان صلاة الحضور المشار إليها بالفجر إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً أي تشهده ملائكة الليل والنهار وهذا إشارة إلى نزول صفات القلب وأنوارها وذهاب صفات النفس وزوالها، وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ أي زيادة على الفرائض الخمس خاصة بك قيل لكونه علامة مقام النفس فيجب تخصيصه بزيادة الطاعة لزيادة احتياج هذا المقام إلى الصلاة بالنسبة إلى سائر المقامات، وقيل إنما خص صلّى الله عليه وسلّم بالتهجد لأن الليل وقت خلوة المحب بالحبيب وهو عليه الصلاة والسلام الحبيب الأعظم، والخليل المكرم عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً وهو مقام إلحاق الناقص بالكامل والكامل بالأكمل وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي حضرة الوحدة في عين الجمع مُدْخَلَ صِدْقٍ إدخالا مرضيا بلا آفة زيغ البصر إلى الالتفات إلى الغير أصلا وَأَخْرِجْنِي إلى فضاء الكثرة عند الرجوع إلى التفصيل بالوجود الموهوب الحقاني مُخْرَجَ صِدْقٍ سالما من آفة التلوين والانحراف عن جادة الاستقامة وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً حجة ناصرة بالتثبيت والتمكين وَقُلْ إذا زالت نقطة الغين عن العين جاءَ الْحَقُّ أي ظهر الوجود الثابت وهو الوجود الواجبي وَزَهَقَ الْباطِلُ وهو الوجود الإمكاني، ففي الحديث الصحيح أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 185 ويقال الحق العلم والباطل الجهل والحق ما بدا من الإلهام والباطل هواجس النفس ووساوس الشيطان. وقال فارس: كل ما يحملك على سلوك سبيل الحقيقة فهو حق وكل ما يحجبك ويفرق عليك وقتك فهو باطل وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ من أمراض الصفات الذميمة وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بالغيب يفيدهم الكمالات والفضائل العظيمة فالأول إشارة إلى التخلية والثاني إلى التحلية، ويقال هو شفاء من داء الشك الضعفاء المؤمنين ومن داء النكرة للعارفين ومن وجع الاشتياق للمحبين ومن داء القنوط للمريدين والقاصدين، وأنشدوا: وكتبك حولي لا تفارق مضجعي ... وفيها شفاء للذي أنا كاتم وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ الباخسين حظوظهم من الكمال بالميل إلى الشهوات النفسانية إِلَّا خَساراً بزيادة ظهور أنفسهم بصفاتها من إنكار ونحوه وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ فاحتجب بالنعمة عن المنعم ولم يشكر وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً لجهله بعظيم قدرة الله تعالى ولم يصبر قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ على طريقته التي تشاكل استعداده وكل إناء بالذي فيه يرشح وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي أي من عالم الإبداع وهو عالم الذوات المقدسة عن الشكل واللون والجهة والأين فلا يمكن إدراك المحجوبين لها وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا وهو علم المحسوسات مَنْ يَهْدِ اللَّهُ بنوره بمقتضى العناية الأزلية فَهُوَ الْمُهْتَدِ دون غيره وَمَنْ يُضْلِلْ بمنع ذلك النور عنه فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ من دونه تعالى يهدونه أو يحفظونه من قهره عز وجل وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ لا نجذابهم إلى الجهة السفلية عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا لأنها أحوال تناسب أحوالهم في الدنيا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً لعلمهم بحقيته، ووقوفهم على ما أودع فيه من الأسرار وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ لعظمته أو شوقا لمنزله وحبا للقائه، قال أبو يعقوب السوسي: البكاء على أنواع: بكاء من الله تعالى وهو أن يبكي خوفا مما جرى به القلم في الفاتحة ويظهر في الخاتمة وبكاء على الله عز وجل وهو أن يبكي تحسرا على ما يفوته من الحق تعالى، وبكاء لله تبارك وتعالى وهو أن يبكي عند ذكره سبحانه وذكر وعده ووعيده وبكاء بالله تعالى وهو أن يبكي بلا حظ منه في بكائه، وقال القاسم: البكاء على وجوه بكاء الجهال على ما جهلوا وبكاء العلماء على ما قصروا وبكاء الصالحين مخافة الفوت وبكاء الأئمة مخافة السبق وبكاء الفرسان من أرباب القلوب للهيبة والخشية ولا بكاء للموحدين، وفي الآية إشارة ما إلى السماع ولا أشرف من سماع القرآن فهو الروح والريحان قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ قيل دعاء الله بالفناء في الذات ودعاء الرحمن بالفناء في الصفة وصفة الرحمانية هي أم الصفات وبها استوى سبحانه على عرشه، ومن ذلك يعلم أنه ليس المراد من الإيجاد إلا رحمة الموجودين أَيًّا ما تَدْعُوا أي أيّا ما طلبت من هذين المقامين فَلَهُ تعالى في هذين المقامين الْأَسْماءُ الْحُسْنى لا لك إذ لست هناك بموجود أما في الفناء في الذات فظاهر وأما في الفناء في الصفة المذكورة فلأن الرحمن لا يصلح اسما لغير تلك الذات ولا يمكن ثبوت تلك الصفة لغيرها، ولا يخفى عليك أن ضمير له على هذا التأويل عائد على ما عاد إليه على التفسير. وفي الفتوحات المكية أنه تعالى جعل الأسماء الحسنى لله كما هي للرحمن غير أن الاسم له معنى وصورة فيدعى الله بمعنى الاسم ويدعى الرحمن بصورته لأن الرحمن هو المنعوت بالنفس وبالنفس ظهرت الكلمات الإلهية في مراتب الخلاء الذي ظهر فيه العالم فلا ندعوه إلا بصورة الاسم وله صورتان صورة عندنا من أنفاسنا وتركيب حروفنا وهي التي ندعوه بها وهي أسماء الأسماء الإلهية وهي كالخلع عليها ونحن بصورة هذه الأسماء مترجمون عن الأسماء الإلهية ولها صور من نفس الرحمن من كونه قائلا ومنعوتا بالكلام وخلف تلك الصور المعاني التي هي كالأرواح للأسماء الإلهية التي يذكر الحق بها نفسه وهي من نفس الرحمن فله الأسماء الحسنى وأرواح تلك الصور هي التي لاسم الله خارجة عن حكم النفس لا تنعت بالكيفية الجزء: 8 ¦ الصفحة: 186 وهي لصور الأسماء النفسية الرحمانية كالمعاني للحروف، ولما علمنا هذا وأمرنا بأن ندعوه سبحانه وخيرنا بين الاسمين الجليلين فإن شئنا دعوناه بصور الأسماء النفسية الرحمانية وهي الهمم الكونية التي في أرواحنا وإن شئنا دعوناه بالأسماء التي من أنفاسنا بحكم الترجمة فإذا تلفظنا بها أحضرنا في نفوسنا أما الله فننظر المعنى وأما الرحمن فننظر صورة الاسم الإلهي النفسي الرحماني كيفما شئنا فعلنا فإن دلالة الصورتين منا ومن الرحمن على المعنى واحد سواء علمنا ذلك أو لم نعلمه اه، وهو كلام يعسر فهمه إلا على من شاء الله تعالى بيد أنه ليس فيه حمل الدعاء على ما سمعت وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً فضلا عن أن يكون له سبحانه ولد بطريق التولد وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ فلا مدخل لغيره تعالى في ملكية شيء على الحقيقة وما يوجد بسبب ليس السبب إلا آلة له ولا تملك الآلة شيئا بل لا شيء إلا وهو صنعه تعالى على الحقيقة والسرير مثلا وإن أضيف إلى النجار من حيث الصنعة إلا أنه في الحقيقة آلة كالقدوم ولا يضاف العمل إلى الآلة على الحقيقة كذا قيل، وللشيخ قدس سره كلام في هذا المقام يفصح عن بعض هذا ذكره في الباب الثامن والتسعين بعد المائة فارجع إليه وتدبر، وكذا له كلام في هذا المقام يفصح عن بعض هذا ذكره في الباب الثامن التسعين بعد المائة فارجع إليه وتدبر، وكذا له كلام في قوله سبحانه وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ لكن يغني عنه ما قدمناه وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً قال بعضهم: تكبيره تعالى أن تعلم أنك لا تطيق أن تكبره إلا به، وقال ابن عطاء تكبيره عز وجل بتعظيم منته وإحسانه في القلب بالعلم بالتقصير في الشكر وكيف يوفي أحد شكره تعالى ونعمه جل وعلا لا تحصى وآلاؤه لا تستقصى، هذا وقد تم بفضل الله تعالى تفسير هذه السورة الكريمة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 187 سورة الكهف : ويقال سورة أصحاب الكهف كما في حديث أخرجه ابن مردويه، وروى البيهقي من حديث ابن عباس مرفوعا أنها تدعى في التوراة الحائلة تحول بين قارئها وبين النار إلا أنه قال: إنه منكر وهي مكية كلها في المشهور واختاره الدابي، وروي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهما، وعدها بعضهم من السور التي نزلت جملة لما أخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: نزلت سورة الكهف جملة معها سبعون ألفا من الملائكة، وفي رواية أخرى عن ابن عباس أنها مكية إلا قوله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ [الكهف: 28] الآية فمدني، وروي ذلك عن قتادة، وقال مقاتل: هي مكية إلا أولها إلى جُرُزاً [الكهف: 8] وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا [الكهف: 107] إلى آخرها فمدني، وهي مائة وإحدى عشرة آية عند البصريين ومائة وعشرة عند الكوفيين ومائة وست عند الشاميين ومائة وخمس عند الحجازيين، ووجه مناسبة وضعها بعد الإسراء على ما قيل افتتاح تلك بالتسبيح وهذه بالتحميد وهما مقترنان في الميزان وسائر الكلام نحو فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [الحجر: 98، النصر: 3] فسبحان الله وبحمده وأيضا تشابه اختتام تلك وافتتاح هذه فإن في كل منهما حمدا، نعم فرق بينهما بأن الحمد الأول ظاهر في الحمد الذاتي والحمد المفتتح به في هذه يدل على الاستحقاق الغير الذاتي، وقال الجلال السيوطي في ذلك: أن اليهود أمروا المشركين أن يسألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ثلاثة أشياء عن الروح وعن قصة أصحاب الكهف وعن قصة ذي القرنين، وقد ذكر جواب السؤال الأول في آخر السورة الأولى وجواب السؤالين الآخرين في هذه فناسب اتصالهما، ولم تجمع الأجوبة الثلاثة في سورة لأنه لم يقع الجواب عن الأول بالبيان فناسب أن يذكر وحده في سورة، واختيرت سورة الإسراء لما بين الروح وبين الإسراء من المشاركة بأن كلا منهما مما لا يكاد تصل إلى حقيقته العقول، وقيل: إنما ذكر هناك لما أن الإسراء متضمن العروج إلى المحل الأرفع والروح متصفة بالهبوط من ذلك المحل ولذا قال ابن سينا فيها: هبطت إليك من المحل الأرفع ... ورقاء ذات تعزز وتمنع ثم قال: ظهر لي وجه آخر وهو أنه تعالى لما قال في تلك وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 85] والخطاب لليهود استظهر على ذلك بقصة موسى نبي بني إسرائيل مع الخضر عليهما السلام التي كان سببها ذكر العلم والأعلم وما دلت عليه من كثرة معلومات الله تعالى التي لا تحصى فكانت هذه السورة كإقامة الدليل لما ذكر من الحكم في تلك السورة. وقد ورد في الحديث أنه لما نزل وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا قالت اليهود: قد أوتينا التوراة فيها علم كل شيء فنزل قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي [الكهف: 109] الآية فتكون هذه السورة من هذه الجهة جوابا عن شبهة الخصوم فيما قرر في تلك، وأيضا لما قال سبحانه هناك فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً [الإسراء: 104] شرح ذلك هنا وبسطه بقوله سبحانه فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ [الكهف: 98] إلى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 189 قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً [الكهف: 99، 100] اه، وللمناسبة أوجه أخر تظهر بأدنى تأمل، وأما فضلها فمشهور. وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عمر مرفوعا من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء يضيء له إلى يوم القيامة وغفر له ما بين الجمعتين. وروى غير واحد عن أبي سعيد الخدري من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق، وكان الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما كما أخرج أبو عبيد والبيهقي عن أم موسى يقرأها كل ليلة. وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن مغفل مرفوعا البيت الذي تقرأ فيه سورة الكهف لا يدخله شيطان تلك الليلة وإلى سنية قراءتها يوم الجمعة وكذا ليلتها ذهب غير واحد من الأئمة وقالوا بندب تكرار قراءتها. وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان وجماعة عن أبي الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنة الدجال» ، وفي رواية أخرى عنه رواها أحمد. ومسلم والنسائي وابن حبان أيضا قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال» . وأخرج الترمذي وصححه عنه مرفوعا «أن من قرأ ثلاث آيات من أول الكهف عصم» إلخ، وجاء في حديث أخرجه ابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعا «أن من قرأ الخمس الأواخر منها عند نومه بعثه الله تعالى أي الليل شاء» وقد جربت ذلك مرارا فليحفظ والله تعالى الموفق. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 190 الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ محمد صلّى الله عليه وسلّم الْكِتابَ الكامل الغني عن الوصف بالكمال المعروف بذلك من بين سائر الكتب الحقيق باختصاص اسم الكتاب به، وهو إما عبارة عن جميع القرآن ففيه تغليب الموجود على المترقب وإما عبارة عن الجميع المنزل حينئذ فالأمر ظاهر. وفي وصفه تعالى بالموصول إشعار بعلية ما في حيز الصلة لاستحقاق الحمد الدال عليه اللام على ما صرح به ابن هشام وغيره وإيذان بعظم شأن التنزيل الجليل كيف لا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 191 وهو الهادي إلى الكمال الممكن في جانبي العلم والعمل وفي التعبير عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالعبد مضافا إلى ضميره تعالى من الإشارة إلى تعظيمه عليه الصلاة والسلام، وكذا تعظيم المنزل عليه ما فيه، وفيه أيضا إشعار بأن شأن الرسول أن يكون عبدا للمرسل لا كما زعمت النصارى في حق عيسى عليه السلام وتأخير المفعول الصريح عن الجار والمجرور مع أن حقه التقديم عليه ليتصل به قوله تعالى: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ أي للكتاب عِوَجاً أي شيئا من العوج باختلال اللفظ من جهة الإعراب ومخالفة الفصاحة وتناقض المعنى وكونه مشتملا على ما ليس بحق أو داعيا لغير الله تعالى والعوج وكذا العوج الانحراف والميل عن الاستقامة إلا أنه قيل هو بكسر العين ما يدرك بفتح العين وبفتح العين ما يدرك بفتح العين (1) فالأول الانحراف عن الاستقامة المعنوية التي تدرك بالبصيرة كعوج الدين والكلام، والثاني الانحراف عن الاستقامة الحسية التي تدرك بالبصر كعوج الحائط. والعود أورد عليه قوله تعالى في شأن الأرض لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طه: 107] فإن الأرض محسوسة واعوجاجها وكذا استقامتها مما يدرك بالبصر فكان ينبغي على ما ذكر فتح العين، وأجيب بأنه لما أريد به هنا ما خفي من الاعوجاج حتى احتاج إثباته إلى المقاييس الهندسية المحتاجة إلى إعمال البصيرة الحق بما هو عقلي صرف فأطلق عليه ذلك لذلك وتعقب بأن لا ترى ظاهر في أن المنفي ما يدرك بالبصر فيحتاج إلى أن يراد به الإدراك، وعن ابن السكيت أن المكسور أعم من المفتوح. واختار المرزوقي في شرح الفصيح أنه لا فرق بينهما قَيِّماً أي مستقيما كما أخرجه ابن المنذر عن الضحاك وروي أيضا عن ابن عباس، والمراد مما قيل إنه لا خلل في لفظه ولا في معناه، والمراد من هذا أنه معتدل لا إفراط فيما اشتمل عليه من التكاليف حتى يشق على العباد ولا تفريط فيه بإهمال ما يحتاج إليه حتى يحتاج إلى كتاب آخر كما قال سبحانه ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 38] ولذا كان آخر الكتب المنزل على خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام، وقيل المراد منه ما أريد مما قبله وذكره للتأكيد. وقال الفراء: المراد قيما على سائر الكتب السماوية شاهدا بصحتها. وقال أبو مسلم: المراد قيما بمصالح العباد متكفلا بها وببيانها لهم لاشتماله على ما ينتظم به المعاش والمعاد وهو على هذين القولين تأسيس أيضا لا تأكيد فكأنه قيل كتابا صادقا في نفسه مصدقا لغيره أو كتابا خاليا عن النقائص حاليا بالفضائل وقيل المراد على الأخير أنه كامل في نفسه ومكمل لغيره، ونصبه بمضمر أي جعله قيما على أن الجملة مستأنفة أو جعله قيما على أنها معطوفة على ما قبل إلا أنه قيل إن حذف حرف العطف مع المعطوف تكلف وكان حفص يسكت على عِوَجاً سكتة خفيفة ثم يقول قَيِّماً. واختار غير واحد أنه على الحال من الضمير في لَهُ أي لم يجعل له عوجا حال كونه مستقيما ولا عوج فيه على ما سمعت أولا من معنى المستقيم إذ محصله أنه تعالى صانه عن الخلل في اللفظ والمعنى حال كونه مستقيما ولا عوج فيه على ما سمعت أولا من معنى المستقيم إذ محصله أنه تعالى صانه عن الخلل في اللفظ والمعنى حال كونه خاليا عن الإفراط والتفريط، وكذا على القولين الأخيرين، نعم قيل: إن جعله حالا من الضمير مع تفسير المستقيم بالخالي عن العوج ركيك. وتعقبه بعضهم بأنه تندفع الركاكة بالحمل على الحال المؤكدة كما في قوله تعالى: ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ   (1) ما الأولى نافية وما الثانية موصولة اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 192 [التوبة: 25] وفيه بحث، وجوز أن يكون حالا من الكتاب، واعترض بأنه يلزم حينئذ العطف قبل تمام الصلة لأن الحال بمنزلة جزء منها، وأجيب بأنه يجوز أن يجعل وَلَمْ يَجْعَلْ إلخ من تتمة الصلة الأولى على أنه عطف بياني حيث قال تعالى أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ الكامل في بابه عقبه بقوله سبحانه وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً فحينئذ لا يكون الفصل قبل تمام الصلة، وهو نظير قوله تعالى وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ [البقرة: 217] على قول. وأيضا يجوز أن يكون الواو في وَلَمْ يَجْعَلْ للحال والجملة بعده حال من الْكِتابَ كقيما واختاره الأصبهاني. وقال أبو حيان: إن ذاك على مذهب من يجوز وقوع حالين من ذي حال واحد بغير عطف وكثير من أصحابنا على منعه، وقال آخر: إن قياس قول الفارسي في الخبر أنه لا يتعدد مختلفا بالإفراد والجملية أن يكون الحال كذلك. وأجيب بأنه غير وارد إذ ما ذكره الفارسي خلاف مذهب الجمهور مع أنه قياس مع الفارق فلا يسمع، وكذا ما ذكره أبو حيان عن الكثير خلاف المعول عليه عند الأكثر، نعم فرارا من القيل والقال جعل بعضهم الواو للاعتراض والجملة اعتراضية، وفي الكلام تقديم وتأخير والأصل الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا، وروي القول بالتقديم والتأخير عن ابن عباس ومجاهد، وذكر السمين أن ابن عباس حيث وقعت جملة معترضة في النظم يجعلها مقدمة من تأخير، ووجه ذلك بأنها وقعت بين لفظين مرتبطين فهي في قوة الخروج من بينهما، ولما كان قَيِّماً يفيد استقامة ذاتية أو ثابتة لكونه صفة مشبهة وصيغة مبالغة، وما من شيء كذلك إلا وقد يتوهم فيه أدنى عوج ذكر قوله تعالى: وَلَمْ يَجْعَلْ إلخ للاحتراس، وقدم للاهتمام كما في قوله: ألا يا اسلمي يا دار مي على البلا ... ولا زال منهلا بجرعائك القطر ومن هنا يعلم أن تفسير القيم بالمستقيم بالمعنى المتبادر، وأن قول الزمخشري فائدة الجمع بينه وبين نفي العوج التأكيد فرب مستقيم مشهود له بالاستقامة ولا يخلو من أدنى عوج عند السبر والتصفح غير ذي عوج عند السبر والتصفح، وأنه لا يرد قول الإمام إن قوله تعالى: لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً يدل على كونه مكملا في ذاته، وقوله سبحانه: قَيِّماً يدل على كونه مكملا لغيره، فثبت بالبرهان العقلي أن الترتيب الصحيح كما ذكره الله تعالى وأن ما ذكروه من التقديم والتأخير فاسد يمتنع العقل من الذهاب إليه انتهى. ولعمري أن هذا الكلام لا ينبغي من الإمام إن صح عنده أن القول المذكور مروي عن ابن عباس ومجاهد، فإن الأول ترجمان القرآن وناهيك به جلالة ومعرفة بدقائق اللسان، وقد قيل في الثاني إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك، وقال صاحب حل العقد: يمكن أن يكون قيما بدلا من قوله تعالى: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قال أبو حيان: ويكون حينئذ بدل مفرد من جملة كما قالوا في عرفت زيدا أبو من هو إنه بدل جملة من مفرد، وفي جواز ذلك خلاف، هذا وزعم بعضهم أن ضمير لَهُ عائد على عَبْدِهِ وحينئذ لا يتأتى جميع التخاريج الإعرابية السابقة، وقرأ أبان بن ثعلب «قيما» بكسر القاف وفتح الياء المخففة، وفي بعض مصاحف الصحابة «ولم يجعل له عوجا لكنه قيما» وحمل ذلك على أنه تفسير لا قراءة لِيُنْذِرَ متعلق بانزل واللام للتعليل، واستدل به من قال بتعليل أفعال الله تعالى بالأغراض كالسلف والماتريدية، ومن يأبى ذلك يجعلها لام العاقبة، وزعم الحوفي أنه متعلق بقيما وليس بقيم، والفاعل ضمير الجلالة، وكذا في الفعلين المعطوفين عليه، وجوز أن يكون الفاعل في الكل ضمير الكتاب أو ضميره صلّى الله عليه وسلّم، وأنذر يتعدى لمفعولين قال تعالى: نْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً [النبأ: 40] وحذف هنا المفعول الأول واقتصر على الثاني، وهو قوله تعالى: بَأْساً شَدِيداً إيذانا بأن ما سيق له الكلام هو المفعول الثاني، وأن الأول ظاهر لا حاجة إلى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 193 ذكره وهو الذين كفروا بقرينة ما بعد، والمراد الذين كفروا بالكتاب، والظاهر أن المراد من البأس الشديد عذاب الآخرة لا غير، وقيل يحتمل أن يندرج فيه عذاب الدنيا مِنْ لَدُنْهُ أي صادرا من عنده تعالى نازلا من قبله بمقابلة كفرهم فالجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة ثانية للبأس، ولدن هنا بمعنى عند كما روي عن قتادة، وذكر الراغب أنه أخص منه لأنه يدل على ابتداء نهاية نحو أقمت عنده من لدن طلوع الشمس إلى غروبها، وقد يوضع موضع عند. وقال بعضهم: إن «لدن» أبلغ من عند وأخص وفيه لغات، وقرأ أبو بكر عن عاصم بإشمام الدال بمعنى تضعيف الصوت بالحركة الفاصلة بين الحرفين فيكون إخفاء لها وبكسر النون لالتقاء الساكنين وكسر الهاء للإتباع، ويفهم من كلام بعضهم أنه قرأ بالإسكان مع الإشمام بمعنى الإشارة إلى الحركة بضم الشفتين مع انفراج بينهما فاستشكل في الدر المصون. وغيره بأن هذا الإشمام إنما يتحقق في الوقف على الآخر وكونه في الوسط كما هنا لا يتصور، ولذا قيل: إنه يؤتى به هنا بعد الوقف على الهاء. ودفع الاعتراض بأنه لا يدل حينئذ على حركة الدال وقد علل به بأنه متعين إذ ليس في الكلمة ما يصلح أن يشار إلى حركته غيرها، ولا يخفى ما فيه، وما قدمناه حاسم لمادة الإشكال، وقرأ الجمهور بضم الدال والهاء وسكون النون إلا أن ابن كثير يصل الهاء بواو وغيره لا يصل وَيُبَشِّرَ بالنصب عطف على ينذر وقرىء شاذا بالرفع. وقرأ حمزة والكسائي «ويبشر» بالتخفيف الْمُؤْمِنِينَ أي المصدقين بالكتاب كما يشعر به وكذا بما تقدم ذكر ذلك بعد الامتنان بإنزال الكتاب الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أي الأعمال الصالحة التي بينت في تضاعيفه، وإيثار صيغة الاستقبال في الصلة للإشعار بتجدد العمل واستمراره، وإجراء الموصول على موصوفه المذكور لما أن مدار قبول العمل الإيمان أَنَّ لَهُمْ أي بأن لهم بمقابلة إيمانهم وعملهم المذكور أَجْراً حَسَناً هو كما قال السدي وغيره الجنة وفيها من النعيم المقيم والثواب العظيم ما فيها، ويؤيد كون المراد به الجنة ظاهر قوله تعالى ماكِثِينَ فِيهِ أي مقيمين في الأجر أَبَداً من غير انتهاء لزمان مكثهم. ونصب ماكِثِينَ على الحال من الضمير المجرور في لَهُمْ والظرفان متعلقان به، وتقديم الإنذار على التبشير لإظهار كمال العناية بزجر الكفار عما هم عليه مع مراعاة تقديم التخلية على التحلية، وتكرير الإنذار بقوله تعالى وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً متعلقا بفرقة خاصة ممن عمه الإنذار السابق من مستحقي البأس الشديد للإيذان بكمال فظاعة حالهم لغاية شناعة كفرهم وضلالهم كما ينبىء عنه ما بعد أي وينذر من بين هؤلاء الكفرة المتفوهين بمثل هاتيك العظيمة خاصة وهم العرب القائلون الملائكة بنات الله تعالى واليهود القائلون عزير ابن الله سبحانه والنصارى القائلون المسيح ابن الله عز وجل، وترك إجراء الموصول على الموصوف كما في قوله تعالى: وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ إلخ للإيذان بكفاية ما في حيز الصلة في الكفر على أقبح الوجوه وإيثار صيغة الماضي في الصلة للدلالة على تحقق صدور تلك الكلمة القبيحة عنهم فيما سبق، وجعل بعضهم المفعول المحذوف فيما سلف عبارة عن هذه الطائفة، وفي الآية صنعة الاحتباك حيث حذف من الأول ما ذكر فيما بعد وهو المنذر وحذف مما بعد ما ذكر في الأول وهو المنذر به. وتعقب بأنه يؤدي إلى خروج سائر أصناف الكفرة عن الإنذار والوعيد. وأجيب بأنه يعلم إنذار سائر الأصناف ودخولهم في الوعيد من باب الأولى لأن القول بالتبني وإن كبر كلمة دون الإشراك وفيه نظر، وقدر ابن عطية العالم وأبو البقاء العباد فيعم المؤمنين أيضا، وتعقب بأن التعميم يقتضي حمل الإنذار على معنى مجرد الأخبار بالأمر الضار من غير اعتبار حلول المنذر به على المنذر كما في قوله تعالى: أَنْ أَنْذِرِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 194 النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا [يونس: 2] وهو يفضي إلى خلو النظم الكريم عن الدلالة على حلول البأس الشديد على من عدا هذه الفرقة فتأمل. ما لَهُمْ بِهِ أي باتخاذه سبحانه وتعالى ولدا مِنْ عِلْمٍ مرفوع المحل على الابتداء أو الفاعلية لاعتماد الظرف، ومن مزيدة لتأكيد النفي والجملة حالية أو مستأنفة لبيان حالهم في مقالهم أي ما لهم بذلك شيء من العلم أصلا لا لإخلالهم بطريق العلم مع تحقق المعلوم أو إمكانه بل لا ستحالته في نفسه ومعها لا يستقيم تعلق العلم، واستظهر كون ضمير بِهِ عائدا على الولد وعدم العلم وكذا خال الجملة على ما سمعت، وزعم المهدوي أن الجملة على هذا صفة لولدا وليس بشيء، وجوز أن يعود على القول المفهوم من قالُوا أي ليس قولهم ذلك ناشئا عن علم وتذكر ونظر فيما يجوز عليه تعالى وما يمتنع، وقال الطبري: هو عائد على الله تعالى على معنى ليس لهم علم بما يجوز عليه تعالى وما يمتنع وَلا لِآبائِهِمْ الذين قالوا مثل ذلك ناسبين التبني إليه عز وجل، والتعرض لنفي العلم عنهم لأنهم قدورة هؤلاء كَبُرَتْ كَلِمَةً أي عظمت مقالتهم هذه في الكفر والافتراء لما فيها من نسبته تعالى إلى ما لا يكاد يليق بكبريائه جل وعلا، وكبر وكذا كل ما كان على وزن فعل موضوعا على الضم كظرف أو محولا إليه من فعل أو فعل ذهب الأخفش والمبرد إلى إلحاقه بباب التعجب فالفاعل هنا ضمير يرجع إلى قوله تعالى: اتَّخَذَ إلخ بتأويل المقالة، وكَلِمَةً نصب على التمييز وكأنه قيل ما أكبرها كلمة وقوله تعالى تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ صفة كَلِمَةً تفيد استعظام اجترائهم على النطق بها وإخراجها من أفواههم فإن كثيرا مما يوسوس به الشيطان وتحدث به النفس لا يمكن أن يتفوه به بل يصرف عنه الفكر فكيف بمثل هذا المنكر. وذهب الفارسي وأكثر النحاة إلى إلحاقه بباب نعم وبئس فيثبت له جميع أحكامه ككون فاعله معرفا بأل أو مضافا إلى معرف بها أو ضميرا مفسرا بالتمييز، ومن هنا جوز أن يكون الفاعل هنا ضمير كَلِمَةً وهي أيضا تمييز والجملة صفتها ولا ضير في وصف التمييز في باب نعم وبئس، وجوز أبو حيان وغيره أن تكون صفة لمحذوف هو المخصوص بالذم أي كبرت كلمة كلمة خارجة من أفواههم، وظاهر كلام الأخفش تغاير المذهبين. وفي التسهيل أنه من باب نعم وبئس وفيه معنى التعجب. والمراد به هنا تعظيم الأمر في قلوب السامعين وهذا ظاهر في أنه لا تغاير بينهما وإليه يميل كلام بعض الأئمة. وقيل نصبت على الحال ولا يخفى حاله. وتسمية ذلك كلمة على حد تسمية القصيدة بها. وقرىء «كبرت» بسكون الباء وهي لغة تميم، وجاء في نحو هذا الفعل ضم العين وتسكينها ونقل حركتها إلى الفاء. وقرأ الحسن وابن يعمر وابن محيصن والقواس عن ابن كثير كلمة بالرفع على الفاعلية والنصب أبلغ وأوكد. واستدل النظام على أن الكلام جسم بهذه الآية لوصفه فيها بالخروج الذي هو من خواص الأجسام وأجيب بأن الخارج حقيقة هو الهواء الحامل له وإسناده إلى الكلام الذي هو كيفية مجاز وتعقب بأن النظام القائل بجسمية الكلام يقول هو الهواء المكيف لا الكيفية واستدلاله على ذلك مبني على الأصل هو الحقيقة إلا أن الخلاف لفظي لا ثمرة فيه إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً أي ما يقولون في ذلك الشأن إلا قولا كذبا لا يكاد يدخل تحت إمكان الصدق أصلا والضمير أن لهم ولآبائهم فَلَعَلَّكَ باخِعٌ أي قاتل نَفْسَكَ وفي معناه ما في صحيح البخاري مهلك. والأول مروي عن مجاهد. والسدي وابن جبير وابن عباس وأنشد لابن الأزرق إذ سأله قول لبيد بن ربيعة: لعلك يوما إن فقدت مزارها ... على بعده يوما لنفسك باخع وفي البحر عن الليث بخع الرجل نفسه بخعا وبخوعا قتلها من شدة الوجد وأنشد قول الفرزدق: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 195 ألا أيهذا الباخع الوجد (1) نفسه ... لشيء نحته عن يديه المقادر وهو من بخع الأرض بالزراعة أي جعلها ضعيفة بسبب متابعة الزراعة كما قال الكسائي، وذكر الزمخشري أن البخع أن يبلغ الذبح البخاع بالباء وهو عرق مستبطن القفا، وقد رده ابن الأثير وغيره بأنه لم يوجد في كتب اللغة والتشريح لكن الزمخشري ثقة في هذا الباب واسع الاطلاع، وقرىء «باخع نفسك» بالإضافة وهي خلاف الأصل في اسم الفاعل إذا استوفى شروط العمل عند الزمخشري، وأشار إليه سيبويه في الكتاب. وقال الكسائي: العمل والإضافة سواء، وزعم أبو حيان أن الإضافة أحسن من العمل عَلى آثارِهِمْ أي من بعدهم. يعني من بعد توليهم عن الإيمان وتباعدهم عنه. أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والنضر بن الحارث. وأمية بن خلف والعاصي بن وائل والأسود بن المطلب وأبا البختري في نفر من قريش اجتمعوا وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد كبر عليه ما يرى من خلاف قومه إياه وإنكارهم ما جاء به من النصيحة فأحزنه حزنا شديدا فأنزل الله تعالى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ إلخ، ومنه يعلم أن ما ذكرنا أوفق بسبب النزول من كون المراد من بعد موتهم على الكفر. إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ الجليل الشأن، وهو القرآن المعبر عنه في صدر السورة بالكتاب، ووصفه بذلك لو سلم دلالته على الحدوث لا يضر الأشاعرة وأضرابهم القائلين: بأن الألفاظ حادثة، وإن شرطية، والجملة بعدها فعل الشرط، والجواب محذوف ثقة بدلالة ما سبق عليه عند الجمهور، وقيل الجواب فلعلك إلخ المذكور، وهو مقدم لفظا مؤخر معنى، والفاء فيه فاء الجواب، وقرىء «أن لم يؤمنوا» بفتح همزة أن على تقدير الجار أي لأن، وهو متعلق بباخع على أنه علة له. وزعم غير واحد أنه لا يجوز إعماله على هذا إذ هو اسم فاعل وعمله مشروط بكونه للحال أو الاستقبال، ولا يعمل وهو للمضي، وإن الشرطية تقلب الماضي بواسطة لَمْ إلى الاستقبال بخلاف أن المصدرية فإنها تدخل على الماضي الباقي على مضيه إلا إذا حمل على حكاية الحال الماضية لاستحضار الصورة للغرابة. وتعقبه بعض الأجلة بأنه لا يلزم من مضي ما كان علة لشيء مضيه، فكم من حزن مستقبل على أمر ماض سواء استمر أو لا فإذا استمر فهو أولى لأنه أشد نكاية فلا حاجة إلى الحمل على حكاية الحال. ووجه ذلك في الكشف بأنه إذا كانت علة البخع عدم الإيمان فإن كانت العلة قد تمت فالمعلول كذلك ضرورة تحقق المعلول عند العلة التامة، وإن كانت بعد فكمثل ضرورة أنه لا يتحقق بدون تمامها، وتعقب بأنه غير مسلم، لأن هذه ليست علة تامة حقيقية حتى يلزم ما ذكر، وإنما هي منشأ وباعث فلا يضر تقدمها، وقيل إنه تفوت المبالغة حينئذ في وجده صلّى الله عليه وسلّم على توليهم لعدم كون البخع عقبه بل بعده بمدة بخلاف ما إذا كان للحكاية، وتعقب أيضا بأنه لا وجه له بل المبالغة في هذا أقوى لأنه إذا صدر منه لأمر مضى فكيف لو استمر أو تجدد؟ ولعل في الآية ما يترجح له البقاء على الاستقبال فتدبر، وانتصاب قوله تعالى: أَسَفاً بباخع على أنه مفعول من أجله. وجوز أن يكون حالا من الضمير فيه بتأويل متأسفا لأن الأصل في الحال الاشتقاق وأن ينتصب على أنه مصدر   (1) قال أبو عبيدة كان ذو الرمة ينشد الوجد بالرفع وقال الأصمعي إنما هو الوجد بالفتح اه فيكون نصبه على أنه مفعول لأجله ونحته مخفف نحته اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 196 فعل مقدر أي تأسف أسفا، والأسف على ما نقل عن الزجاج المبالغة في الحزن والغضب. وقال الراغب: الأسف الحزن والغضب معا وقد يقال لكل منهما على الانفراد، وحقيقته ثوران دم القلب شهوة الانتقام فمتى كان على من دونه انتشر فصار غضبا ومتى كان على ما فوقه انقبض فصار حزنا، ولذلك سئل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن الحزن والغضب فقال: مخرجهما واحد واللفظ مختلف فمن نازع من يقوى عليه أظهره غيظا وغضبا ومن نازع من لا يقوى عليه أظهره حزنا وجزعا، وبهذا النظر قال الشاعر: فحزن كل أخي حزن أخو الغضب وإلى كون الأسف أعم من الحزن والغضب وكون الحزن على من لا يملك ولا هو تحت يد الآسف والغضب على من هو في قبضته وملكه ذهب منذر بن سعد وفسر الأسف هنا بالحزن بخلافه في قوله تعالى: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ [الزخرف: 55] وإذا استعمل الأسف مع الغضب يراد به الحزن على ما قيل في قوله تعالى: وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً [الأعراف: 150] وجعل كل منهما فيه بالنسبة إلى بعض من القوم، وعن قتادة تفسير الأسف هنا بالغضب، وفي رواية أخرى بالحزن، وفي صحيح البخاري تفسيره بالندم. وعن مجاهد تفسيره بالجزع، وأهل الحزن أكثر، ولعل للترجي وهو الطمع في الوقوع أو الإشفاق منه، وهي هنا استعارة أي وصلت إلى حالة يتوقع منك الناس ذلك لما يشاهد من تأسفك على عدم إيمانهم. وقال العسكري: هي هنا موضوعة موضع النهي كأنه قيل لا تبخع نفسك، وقيل موضع الاستفهام، وجعله ابن عطية إنكاريا على معنى لا تكن كذلك، والقول بمجيء لعل للاستفهام قول كوفي، والذي يظهر أنها هنا للإشفاق الذي يقصد به التسلي والحث على ترك التحزن والتأسف، ويمكن أن يكون مراد العسكري ذلك، وفي الآية عند غير واحد استعارة تمثيلية وذلك أنه مثل حاله صلّى الله عليه وسلّم في شدة الوجد على إعراض القوم وتوليهم عن الإيمان بالقرآن وكمال الحزن عليهم بحال من يتوقع منه إهلاك نفسه إثر فوت ما يحبه عند مفارقة أحبته تأسفا على مفارقتهم وتلهفا على مهاجرتهم ثم قيل ما قيل، وهو أولى من اعتبار الاستعارة المفردة التبعية في الأطراف. وجوز أن تكون من باب التشبيه لذكر طرفيه وهما النبي صلّى الله عليه وسلّم وباخع بأن يشبه عليه الصلاة والسلام لشدة حرصه على الأمر بمن يريد قتل نفسه لفوات أمر وهو كما ترى. إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ الظاهر عموم ما جميع ما لا يعقل أي سواء كان حيوانا أو نباتا أو معدنا أي جعلنا جميع ما عليها من غير ذوي العقول زِينَةً لَها تتزين به وتتحلى وهو شامل لزينة أهلها أيضا وزينة كل شيء يحسبه بالحقيقة وإنما هو زينة لأهلها، وقيل لا يدخل في ذلك ما فيه إيذاء من حيوان ونبات، ومن قال بالعموم قال: لا شيء مما على الأرض إلا وفيه جهة انتفاع ولا أقل من الاستدلال به على الصانع ووحدته، وخص بعضهم ما بالأشجار والأنهار، وآخر بالنبات لما فيه من الأزهار المختلفة الألوان والمنافع، وآخر بالحيوان المختلف الأشكال والمنافع والأفعال، وآخر بالذهب والفضة والرصاص والنحاس والياقوت والزبرجد واللؤلؤ والمرجان والألماس وما يجري مجرى ذلك من نفائس الأحجار. وقالت فرقة: أريد بها الخضرة والمياه والنعم والملابس والثمار، ولعمري إنه تخصيص لا يقبله الخواص على العموم وقيل إن ما هنا لمن يعقل والمراد بذلك على ما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير والحسن وجاء في رواية عن ابن عباس الرجال، وعلى ما أخرج أبو نصر السجزي في الإبانة عن ابن عباس العلماء وعلى ما روي عكرمة الخلفاء والعلماء والأمراء، وأنت تعلم أن جعل ما لمن يعقل مع إرادة ما ذكر بعيد جدا، ولعل أولئك الأجلة أرادوا من ما العقلاء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 197 وغيرهم تغليبا للأكثر على غيره وما على الأرض بهذا المعنى ليس إلا بعض العناصر الأربعة والمواليد الثلاثة وأشرف ذلك المواليد وأشرفها نوع الإنسان وهو متفاوت الشرف بحسب الأصناف فيمكن أن يكون ما ذكروه من باب الاقتصار على بعض أصناف هذا الأشرف لداع لذلك أصناف وقد يقال: المراد بما عموم ما لا يعقل ومن يعقل فيدخل من توجه إليه التكليف وغيره ولا ضير في ذلك فإن للمكلف جهتين جهة يدخل بها تحت الزينة وجهة يدخل بها تحت الابتلاء المشار إليه بقوله تعالى لِنَبْلُوَهُمْ وقد نص سبحانه على بعض المكلفين بأنهم زينة في قوله تعالى: الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا [الكهف: 46] ومن هنا يعلم ما في قول القاضي الأولى أن لا يدخل المكلف لأن ما على الأرض ليس زينة لها بالحقيقة وإنما هو زينة لأهلها لغرض الابتلاء فالذي له الزينة يكون خارجا عن الزينة، ونصب زِينَةً على أنه مفعول ثان للجعل إن حمل على معنى التصيير أو على أنه حال أو مفعول له كما قال أبو البقاء وأبو حيان إن حمل على معنى الإبداع، واللام الأولى إما متعلقة به أو متعلقة بمحذوف وقع صفة له أي زينة كائنة لها واللام الثانية متعلقة بجعلنا والكلام على هذا وجعل زينة مفعولا له نحو قمت إجلالا لك لتقابلني بمثل ذلك، وضمير الجمع عائد على سكان الأرض من المكلفين المفهوم من السياق. وجوز أن يعود على ما على تقدير أن تكون للعقلاء، والابتلاء في الأصل الاختبار، وجوز ذلك على الله سبحانه هشام بن الحكم بناء على جهله وزعمه أنه عز وجل لا يعلم الحوادث إلا بعد وجودها لئلا يلزم نفي قدرته تعالى على الفعل أو الترك، ورده أهل السنة في محله وقالوا: إنه تعالى يعلم الكليات والجزئيات في الأزل، وأولوا هذه الآية أن المراد ليعاملهم معاملة من يختبرهم أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فنجازي كلا بما يليق به وتقتضيه الحكمة وحسن العمل الزهد في زينة الدنيا وعدم الاغترار بها وصرفها على ما ينبغي والتأمل في شأنها وجعلها ذريعة إلى معرفة خالقها والتمتع بها حسبما أذن الشرع وأداء حقوقها والشكر على ما أوتي منها لا اتخاذها وسيلة إلى الشهوات والأغراض الفاسدة كما تفعله الكفرة وأصحاب الأهواء، ومراتب الحسن متفاوتة وكلما قوي الزهد مثلا كان أحسن، وسأل ابن عمر رضي الله تعالى عنهما النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الأحسن عملا كما أخرج ذلك ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم في التاريخ فقال عليه الصلاة والسلام «أحسنكم عقلا (1) وأورع عن محارم الله تعالى وأسرعكم في طاعته سبحانه» . وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال: أحسنهم عملا أشدهم للدنيا تركا، وأخرج نحوه عن سفيان الثوري وذكر بعضهم أن الأحسن من زهد وقنع من الدنيا بزاد المسافر ووراءه حسن وهو من استكثر من حلالها وصرفه في وجوهه وقبيح من احتطب حلالها وحرامها وأنفقه في شهواته، وكلام النبي صلّى الله عليه وسلّم في بيان الأحسن أحسن وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر: 7] وإيراد صيغة التفضيل مع أن الابتلاء شامل للفريقين باعتبار أعمالهم المنقسمة إلى الحسن والقبيح أيضا لا إلى الحسن والأحسن فقط للإشعار بأن الغاية الأصلية للجعل المذكور إنما هو ظهور كمال إحسان المحسنين، وأي أما استفهامية فهي مرفوعة بالابتداء وأحسن خبرها، والجملة في محل نصب بفعل الابتلاء ولما فيه من معنى العلم باعتبار عاقبته كالسؤال والنظر ومكان الاستفهام علق عن العمل، وإما موصولة بمعنى الذي فهي مبنية على الضم محلها النصب على أنها بدل من ضمير النصب في لِنَبْلُوَهُمْ وأحسن خبر مبتدأ محذوف والجملة صلة لها والتقدير لنبلو الذي هو أحسن عملا. ويفهم من البحر أن مذهب سيبويه في أي إذا أضيفت وحذف صدر صلتها كما هنا جواز البناء لا وجوبه، وتحقيق الكلام في مذهبه لا يخلو عن إشكال، وأفعل التفضيل باق على الصحيح   (1) قوله في الحديث وأورع كذا بخط مؤلفه وما في الدر المنثور «أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله» إلخ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 198 على حقيقته كما أشرنا إليه والمفضل عليه محذوف والتقدير كما قال أبو حيان لنبلوهم أيهم أحسن عملا ممن ليس أحسن عملا وَإِنَّا لَجاعِلُونَ فيما سيأتي عند تناهي عمر الدنيا ما عَلَيْها مما جعلناه زينة، والإظهار في مقام الإضمار لزيادة التقرير، وجوز غير واحد أن يكون هذا أعم مما جعل زينة ولذا لم يؤت بالضمير، والجعل هنا بمعنى التصيير أي مصيرون ذلك صَعِيداً أي ترابا جُرُزاً أي لا نبات فيه قاله قتادة، وقال الراغب: الصعيد وجه الأرض، وقال أبو عبيدة هو المستوي من الأرض وروي ذلك عن السدي وقال الزجاج: هو الطريق الذي لا نبات فيه، وأخرج ابن أبي حاتم أن الجرز الخراب، والظاهر أنه ليس معنى حقيقيا والمعنى الحقيقي ما ذكرناه، وقد ذكره غير واحد من أئمة اللغة، وفي البحر يقال جرزت الأرض فهي مجروزة إذا ذهب نباتها بقحط أو جراد وأرضون أجراز لا نبات فيها ويقال سنة جرز وسنون أجراز لا مطر فيها وجرز الأرض الجراد والشاة والإبل إذا أكلت ما عليها ورجل جروز أكول أو سريع الأكل وكذا الأنثى قال الشاعر: إن العجوز خبة جروزا ... تأكل كل ليلة قفيزا وفي القاموس أرض جرز (1) وجرز وجرز وجرز لا تنبت أو أكل نباتها أو لم يصبها مطر وفي المثل لا ترضى شانئة إلا بجرزة أي بالاستئصال، والمراد تصيير ما على الأرض ترابا ساذجا بعد ما كان يتعجب من بهجته النظار وتستلذ بمشاهدته الأبصار، وظاهر الآية تصيير ما عليها بجميع أجزائه كذلك وذلك إنما يكون بقلب سائر عناصر المواليد إلى عنصر التراب ولا استحالة فيه لوقوع انقلاب بعض العناصر إلى بعض اليوم، وقد يقال إن هذا جار على العرف فإن الناس يقولون صار فلان ترابا إذا اضمحل جسده ولم ييق منه أثر إلا التراب. وحديث انقلاب العناصر مما لا يكاد يخطر لهم ببال وكذا زعم محققي الفلاسفة بقاء صور العناصر في المواليد ويوشك أن يكون تركب المواليد من العناصر أيضا كذلك وهذا الحديث لا تكاد تسمعه عن السلف الصالح والله تعالى أعلم، ووجه ربط هاتين الآيتين بما قبلهما على ما قاله بعض المحققين إن قوله تعالى إِنَّا جَعَلْنا إلخ تعليل لما في لعل من معنى الإشفاق وقوله سبحانه: وَإِنَّا لَجاعِلُونَ إلخ تكميل للتعليل، وحاصل المعنى لا تحزن بما عاينت من القوم من تكذيب ما أنزلنا عليك من الكتاب فإنا قد جعلنا ما على الأرض من فنون الأشياء زينة لها لنختبر أعمالهم فنجازيهم بحسبها وإنا لمفنون ذلك عن قريب ومجازون بحسب الأعمال وفي معنى ذلك ما قيل إنه تسكين له عليه الصلاة والسلام كأنه قيل: لا تحزن فإنا ننتقم لك منهم وظاهر كلام بعضهم جعل ما يفهم من أول السورة تعليلا للإشفاق حيث قال المعنى لا يعظم حزنك بسبب كفرهم فإنا بعثناك منذرا ومبشرا وأما تحصيل الإيمان في قلوبهم فلا قدرة لك عليه قيل ولا يضر جعل ما ذكر تعليلا لذلك أيضا لأن العلل غير حقيقية، وقيل: في وجه الربط إن ما تقدم تضمن نهيه صلّى الله عليه وسلّم عن الحزن وهذا تضمن إرشاده إلى التخلق ببعض أخلاقه تعالى كأنه قيل إني خلقت الأرض وزينتها ابتلاء للخلق بالتكاليف ثم إنهم يتمردون ويكفرون ومع ذلك لا أقطع عنهم نعمي فأنت أيضا يا محمد لا تترك الاشتغال بدعوتهم بعد أن لا تأسف عليهم، والجملة الثانية لمجرد التزهيد في الميل إلى زينة الأرض ولا يخفى عليك بعد هذا الربط بل لا يكاد ينساق الذهن إليه فتألم أَمْ حَسِبْتَ خطاب لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم والمقصود غيره كما ذهب إليه غير واحد، وأَمْ منقطعة مقدرة ببل التي هي للانتقال من كلام إلى آخر لا للإبطال وهمزة الاستفهام عند الجمهور وببل وحدها عند بعض، وقيل: هي هنا بمعنى الهمزة والحق الأول أي بل أحسبت أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا في بقائهم   (1) قوله أرض جرز إلخ الأول على وزن كتب جمع كتاب، والثاني كقفل، والثالث كسهم، والرابع كسبب اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 199 على الحياة ونومهم مدة طويلة من الدهر مِنْ آياتِنا أي من بين دلائلنا الدالة على القدرة والألوهية عَجَباً أي آية ذات عجب وضعا له موضع المضاف أو وصفا لذلك بالمصدر مبالغة. وهو خبر لكانوا ومِنْ آياتِنا حال منه كما هو قاعدة نعت النكرة إذا تقدم عليها، وجوز أبو البقاء أن يكون عَجَباً ومِنْ آياتِنا خبرين وإن يكون عَجَباً حالا من الضمير في الجار والمجرور وليس بذاك، والمعنى أن قصتهم وإن كانت خارقة للعادة ليست بعجيبة بالنسبة إلى سائر الآيات التي من جملتها ما تقدم، ومن هنا يعلم وجه الربط، وفي الكشف أنه تعالى ذكر من الآيات الكلية وإن كان لتسليته صلّى الله عليه وسلّم وأنه لا ينبغي أن تبخع نفسه على آثارهم فالمسترشد يكفيه أدنى إشارة والزائغ لا تجدي فيه آيات النذارة والبشارة ما يشتمل على أمهات العجائب وعقبه سبحانه بقوله أَمْ حَسِبْتَ إلخ يعني أن ذلك أعظم من هذا فمن لا يتعجب من ذلك لا ينبغي أن يتعجب من هذا وأريد من الخطاب غيره صلّى الله عليه وسلّم لأنه كان يعرف من قدرته تعالى ما لا يتعاظمه لا الأول ولا الثاني فأنكر اختلافهم في حالهم تعجبا وإضرابهم عن مثل تلك الآيات البينات والاعتراض عليه بأن الإضراب عن الكلام الأول إنما يحسن إذا كان الثاني أغرب ليحصل الترقي، وإيثار أن الهمزة للتقرير وهو قول آخر في الآية لذلك غير قادح لأن تعجبهم عن هذا دون الأول هو المنكر وهو الأغرب فافهم، وبأن المنكر ينبغي أن يكون مقررا عند السامع معلوما عنده، وهذا ابتداء إعلام منه تعالى على ما يعرف من سبب النزول. كذلك لأن الإنكار من تعجبهم ويكفي في ذلك معرفتها إجمالا وكانت حاصلة كيف وقد علمت أنه راجع إلى الغير أعني أصحاب الكتاب الذين أمروا قريشا بالسؤال وكانوا عالمين، ثم إنه مشترك الإلزام لأن التقرير أيضا يقتضي العلم بل أولى انتهى، وقال الطبري: المراد إنكار ذلك الحسبان عليه عليه الصلاة والسلام على معنى لا يعظم ذلك عندك بحسب ما عظمه عليك السائلون من الكفرة فإن سائر آيات الله تعالى أعظم من قصتهم وزعم أن هذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن إسحاق وفي القلب منه شيء، وقيل: المراد من الاستفهام إثبات أنهم عجب كأنه قيل أعلم أنهم عجب كما تقول أعلمت أن فلانا فعل كذا أي قد فعل فاعله. والمقصود بالخطاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيضا وليس بشيء، وزعم الطيبي أن الوجه أن يجري الكلام على التسلي والاستفهام على التنبيه ويقال: إنه عليه الصلاة والسلام لما أخذه من الكآبة والأسف من إباء القوم عن الإيمان ما أخذه قيل له ما قيل وعلل بقوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنا إلى آخره على معنى أنا جعلنا ذلك لنختبرهم وحين لم تتعلق إرادتنا بإيمانهم تشاغلوا به عن آياتنا وشغلوا عن الشكر وبدلوا الإيمان بالكفران فلم نبال بهم وإنا لجاعلون أبدانهم جرزا لأسيافكم كما إنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا ألا ترى إلى أولئك الفتيان كيف اهتدوا وفروا إلى الله تعالى وتركوا زينة الدنيا وزخرفها فأووا إلى الكهف قائلين رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً وكما تعلقت الإرادة بإرشادهم فاهتدوا تتعلق بإرشاد قوم من أمتك يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين اه، ويكاد يكون أعجب من قصة أهل الكهف فتأمل، والحسبان إما بمعنى الظن أو بمعنى العلم وقد استعمل بالمعنيين، والكهف النقب المتسع في الجبل فإن لم يكن واسعا فهو غار، وأخرج ابن أبي حاتم أنه غار الوادي، وعن مجاهد أنه فرجة بين الجبلين، وعن أنس هو الجبل وهو غير مشهور في اللغة، والرقيم اسم كلبهم على ما روي عن أنس (1) والشعبي وجاء في رواية عن ابن جبير ويدل عليه قول أمية بن أبي الصلت: وليس بها إلا الرقيم مجاورا ... وصيدهمو والقوم في الكهف هجدا   (1) رواه عنه ابن أبي حاتم اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 200 وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن جبير أنه لوح من حجارة كتبوا فيه قصة أصحاب الكهف وأمرهم ثم وضع على باب الكهف، وقيل لوح من حجارة كتب فيه أسماؤهم وجعل في سور المدينة وروي ذلك عن السدي. وقيل لوح من رصاص كتب فيه شأنهم ووضع في تابوت من نحاس في فم الكهف وقيل لوح من ذهب كتب فيه ذلك وكان تحت الجدار الذي أقامه الخضر عليه السلام، وروي عن ابن عباس أنه كتاب كان عندهم فيه الشرع الذي تمسكوا به من دين عيسى عليه السلام، وقيل من دين قبل عيسى عليه السلام فهو لفظ عربي وفعيل بمعنى مفعول. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس أنه واد دون فلسطين قريب من أيلة والكهف على ما قيل في ذلك الوادي فهو من رقمة الوادي أي جانبه، وأخرجاهما وجماعة من طريق أخر عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: لا أدري ما الرقيم وسألت كعبا فقال: اسم القرية التي خرجوا منها، وعلى جميع هذه الأقوال يكون أصحاب الكهف والرقيم عبارة عن طائفة واحدة، وقيل إن أصحاب الرقيم غير أصحاب الكهف وقصتهم في الصحيحين وغيرهما. فقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي وابن المنذر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «بينما ثلاثة نفر ممن كان قبلكم يمشون إذ أصابهم مطر فأووا إلى غار فانطبق عليهم فقال بعضهم لبعض: إنه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلا الصدق فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه فقال واحد منهم: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجير عمل على فرق من أرز فذهب وتركه وإني عمدت إلى ذلك الفرق فزرعته فصار من أمره أني اشتريت منه بقرا وأنه أتاني يطلب أجره فقلت اعمد إلى تلك البقر فسقها فقال لي: إنما لي عندك فرق من أرز فقلت: اعمد إلى تلك البقر فإنها من ذلك الفرق فساقها فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا فانساخت عنهم الصخرة فقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران فكنت آتيهما كل ليلة بلبن غنم لي فأبطأت عليهما ليلة فجئت وقد رقدا وأهلي وعيالي يتضاغون من الجوع فكنت لا أسقيهم حتى يشرب أبواي فكرهت أن أوقظهما وكرهت أن أدعهما فيستكينا لشربتهما فلم أزل أنتظر حتى طلع الفجر فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا فانساخت عنهم الصخرة حتى نظروا إلى السماء. فقال الآخر: اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي ابنة عم من أحب الناس إلي وإني راودتها عن نفسها فأبت إلا أن آتيها بمائة دينار فطلبتها حتى قدرت فأتيتها بها فدفعتها إليها فأمكنتني من نفسها فلما قعدت بين رجليها قالت: اتق الله تعالى ولا تفض الخاتم إلا بحقه فقمت وتركت المائة دينار فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا ففرج الله تعالى عنهم فخرجوا» وروي نحو ذلك عن بن عباس وأنس والنعمان بن بشير كل يرفعه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، والرقيم على هذا بمعنى محل في الجبل، وقيل بمعنى الصخرة، وقيل بمعنى الجبل، ويكون ذكر ذلك تلميحا إلى قصتهم وإشارة إلى أنه تعالى لا يضيع عمل أحد خيرا أو شرا فهو غير مقصود بالذات، ولا يخفى أن ذلك بعيد عن السياق، وليس في الأخبار الصحيحة ما يضطرنا إلى ارتكابه فتأمل إِذْ أَوَى معمول عَجَباً أو كانُوا أو اذكر مقدرا، ولا يجوز أن يكون ظرفا لحسبت لأن حسبانه لم يكن في ذلك الوقت أي حين التجأ الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ واتخذوه مأوى ومكانا لهم، والفتية جمع قلة لفتى، وهو كما قال الراغب وغيره الطري من الشبان ويجمع أيضا على فتيان، وقال ابن السراج: إنه اسم جمع وقال غير واحد انه جمع فتى كصبي وصبية، ورجح بكثرة مثله، والمراد بهم أصحاب الكهف، وإيثار الإظهار على الإضمار لتحقيق ما كانوا عليه في أنفسهم من حال الفتوة، فقد روي أنهم كانوا شبانا من أبناء أشراف الروم وعظمائهم مطوقين مسورين بالذهب ذوي ذوائب ، وقيل لأن صاحبية الكهف من فروع التجائهم إلى الكهف، فلا يناسب اعتبارها معهم قبل بيانه، والظاهر مع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 201 الضمير اعتبارها، وليس الأمر كذلك مع هذا الظاهر وإن كانت أل فيه للعهد فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ أي من عندك رَحْمَةً عظيمة أو نوعا من الرحمة فالتنوين للتعظيم أو للنوع، و «من» للابتداء متعلق بآتنا، ويجوز أن يتعلق بمحذوف وقع حالا من رحمة قدم عليها لكونها نكرة ولو تأخر لكان صفة لها، وفسرت الرحمة بالمغفرة والرزق والأمن والأولى تفسيرها بما يتضمن ذلك وغيره، وفي ذكر مِنْ لَدُنْكَ إيماء إلى أن ذلك من باب التفضل لا الوجوب فكأنهم قالوا ربنا تفضل علينا برحمة وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا الذي نحن عليه من مهاجرة الكفار والمثابرة على طاعتك، وقرأ أبو جعفر وشيبة والزهري «وهيي» بياءين من غير همز يعني أنهم أبدلوا الهمزة الساكنة ياء، وفي كتاب ابن خالويه قرأ الأعشى عن أبي بكر عن عاصم «وهيّ» بلا همز انتهى. وهو يحتمل أن يكون قد أبدل الهمزة ياء وأن يكون حذفها، والأول إبدال قياسي، والثاني مختلف فيه أينقاس حذف الحرف المبدل من الهمزة في الأمر والمضارع المجزومين أم لا، وأصل التهيئة إحداث الهيئة وهي الحالة التي يكون عليها الشيء محسوسه أو معقوله ثم استعمل في إحضار الشيء وتيسيره أي يسر لنا من أمرنا رَشَداً إصابة للطريق الموصل إلى المطلوب واهتداء إليه، وقرأ أبو رجاء «رشدا» بضم الراء وإسكان الشين والمعنى واحد إلا أن الأوفق بفواصل الآيات قراءة الجمهور، وإلى اتحاد المعنى ذهب الراغب قال: الرشد بفتحتين خلاف الغي ويستعمل استعمال الهداية وكذا الرشد بضم فسكون. وقال بعضهم: الرشد أي بفتحتين كما في بعض النسخ المضبوطة أخص من الرشد لأن الرشد بالضم يقال في الأمور الدنيوية والأخروية والرشد يقال في الأمور الأخروية لا غير اه، وفيه مخالفة لما ذكره ابن عطية فإنه قال: إن هذا الدعاء منهم كان في أمر دنياهم وألفاظه تقتضي ذلك وقد كانوا على ثقة من رشد الآخرة ورحمتها، وينبغي لكل مؤمن أن يجعل دعاءه في أمر دنياه لهذه الآية فإنها كافية. ويحتمل أن يراد بالرحمة رحمة الآخرة اه، نعم فيما قاله نظر، والأولى جعل الدعاء عاما في أمر الدنيا والآخرة وإن كان تعقيبه بما بعد ظاهرا في كونه خاصا في أمر الأولى واللام ومن متعلقان بهيء فإن اختلف معناهما بأن كانت الأولى للأجل والثانية ابتدائية فلا كلام، وإن كانتا للأجل احتاجت صحة التعلق إلى الجواب المشهور. وتقديم المجرورين على المفعول الصريح لإظهار الاعتناء بهما وإبراز الرغبة في المؤخر وكذا الكلام في تقديم مِنْ لَدُنْكَ على رحمة على تقدير تعلقه بآتنا، وتقديم المجرور الأول على الثاني للإيذان من أول الأمر بكون المسئول مرغوبا فيه لديهم، وقيل الكلام على التجريد وهو إن ينتزع من أمر ذي صفة آخر مثله مبالغة كأنه بلغ إلى مرتبة من الكمال بحيث يمكن أن يؤخذ منه آخر كرأيت منك أسدا أي اجعل أمرنا كله رشدا. فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ أي ضربنا عليها حجابا يمنع السماع فالمفعول محذوف كما في قولهم: بنى على امرأته والمراد أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الأصوات بأن يجعل الضرب على الآذان كناية عن الإنامة الثقيلة وإنما صلح كناية لأن الصوت والتنبيه طريق من طرق إزالة النوم فسد طريقه يدل على استحكامه وأما الضرب على العين وإن كان تعلقه بها أشد فلا يصلح كناية إذ ليس المبصرات من طرق إزالته حتى يكون سد الأبصار كناية ولو صلح كناية فعن ابتداء النوم لا النومة الثقيلة. واعترض القطب جعله كناية عما ذكر بما لا يخفى رده وخرج الآية على الاستعارة المكنية بأن يقال شبه الإنامة الثقيلة بضرب الحجاب على الآذان ثم ذكر ضربنا وأريد أنمنا وهو وجه فيها، وجوز أن تكون من باب الاستعارة التمثيلية واختاره بعض المحققين. ومن الناس من حمل الضرب على الآذان على تعطيلها كما في قولهم ضرب الأمير على يد الرعية أي منعهم عن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 202 التصرف. وتعقب بأنه مع عدم ملاءمته لما سيأتي إن شاء الله تعالى من البعث لا يدل على إرادة النوم مع أنه المراد قطعا. وأجيب بأنه يمكن أن يكون مراد الحامل التوصل بذلك إلى إرادة الإنامة فافهم. والضرب إما من ضربت القفل على الباب أو من ضربت الخباء على ساكنه، والفاء هنا مثلها في قوله تعالى: فَاسْتَجَبْنا لَهُ [الأنبياء: 76] بعد قوله سبحانه إِذْ نادى [الأنبياء: 76] فإن الضرب المذكور وما يترتب عليه من التقليب ذات اليمين وذات الشمال والبعث وغير ذلك من آثار استجابة دعائهم السابق فِي الْكَهْفِ ظرف لضربنا وكذا قوله عز وجل: سِنِينَ ولا مانع من ذلك لا سيما وقد تغايرا بالمكانية والزمانية عَدَداً أي ذوات عدد على أنه مصدر وصف بالتأويل الشائع، وقيل إنه صفة بمعنى معدودة، وقيل إنه مصدر لفعل مقدر أي تعد عددا، والعدد على ما قال الراغب وغيره قد يراد به التكثير لأن القليل لا يحتاج إلى العد غالبا وقد يذكر للتقليل في مقابلة ما لا يحصى كثرة كما يقال بغير حساب وهو هنا يحتمل الوجهين والأول هو الأنسب بإظهار كمال القدرة والثاني هو الأليق بمقام إنكار كون القصة عجبا من بين سائر الآيات العجيبة فإن مدة لبثهم وإن كثرت في نفسها فهي كبعض يوم عند الله عز وجل. وفي الكشف أن الكثرة تناسب نظرا إلى المخاطبين والقلة تناسب نظرا إلى المخاطب اه، وقد خفي على العز ابن عبد السلام أمر هذا الوصف وظن أنه لا يكون للتكثير وأن التقليل لا يمكن هاهنا وهو غريب من جلالة قدره وله في أماليه أمثال ذلك. وللعلامة ابن حجر في ذلك كلام ذكره في الفتاوي الحديثية لا أظنه شيئا. ثُمَّ بَعَثْناهُمْ أي أيقظناهم وأثرناهم من نومهم لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أي منهم وهم القائلون لبثنا يوما أو بعض يوم والقائلون: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ [الكهف: 19] وقيل أحد الحزبين الفتية الذين ظنوا قلة زمان لبثهم، والثاني أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم وكان عندهم تاريخ غيبتهم، وزعم ابن عطية أن هذا قول جمهور المفسرين وعن ابن عباس أن أحد الحزبين الفتية والآخر الملوك الذين تداولوا ملك المدينة واحدا بعد واحد وعن مجاهد: الحزبان قوم أهل الكهف حزب منهم مؤمنون وحزب كافرون، وقال الفراء: الحزبان مؤمنان كانوا في زمنهم، واختلفوا في مدة لبثهم، وقال السدي: الحزبان كافران، والمراد بهما اليهود والنصارى الذي علموا قريشا سؤال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أهل الكهف وقال ابن حرب: الحزبان الله سبحانه وتعالى، والخلق كقوله تعالى: أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة: 140] والظاهر هو الأول لأن اللام للعهد ولا عهد لغير من سمعت أَحْصى أي ضبط فهو فعل ماض وفاعله ضمير أَيُّ واختار ذلك الفارسي والزمخشري، وابن عطية، وما في قوله تعالى: لِما لَبِثُوا مصدرية، والجار والمجرور حال مقدم عن قوله تعالى: أَمَداً وهو مفعول أَحْصى والأمد على ما قال الراغب: مدة لها حد، والفرق بينه وبين الزمان أن الأمد يقال: باعتبار الغاية بخلاف الزمان فإنه عام في المبدأ والغاية، ولذلك قال بعضهم: المدى والأمد يتقاربان، وليس اسما للغاية حتى يكون إطلاقه على المدة مجازا كما أطلقت الغاية، عليها في قولهم: ابتداء الغاية وانتهاؤها، أي ليعلم أيهم أحصى مدة كائنة للبثهم، والمراد من إحصائها ضبطها من حيث كميتها المنفصلة العارضة لها باعتبار قسمتها إلى السنين وبلوغها من تلك الحيثية إلى مراتب الأعداد كما يرشدك إليه كون المدة عبارة عما سبق من السنين، وليس المراد ضبطها من حيث كميتها المتصلة الذاتية فإنه لا يسمى إحصاء، وقيل إطلاق الأمد على المدة مجاز وحقيقته غاية المدة. ويجوز إرادة ذلك بتقدير المضاف أي لنعلم أيهم ضبط غاية لزمان لبثهم وبدونه أيضا فإن اللبث عبارة عن الكون المستمر المنطبق على الزمان المذكور فباعتبار الامتداد العارض له بسببه يكون له أمد وغاية لا محالة لكن ليس المراد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 203 ما يقع غاية ومنتهى لذلك الكون المستمر باعتبار كميته المتصلة العارضة له بسبب انطباقه على الزمان الممتد بالذات، وهو آن انبعاثهم من نومهم فإن معرفته من تلك الحيثية لا تخفى على أحد ولا تسمى إحصاء أيضا، بل باعتبار كميته المنفصلة العارضة له بسبب عروضها لزمانه المنطبق هو عليه باعتبار انقسامه إلى السنين ووصوله إلى مرتبة معينة من مراتب العدد، والفرق بين هذا وما سبق أن ما تعلق به الإحصاء في الصورة السابقة نفس المدة المنقسمة إلى السنين فهو مجموع ثلاثمائة وتسع سنين وفي الصورة الأخيرة منتهى تلك المدة المنقسمة إليها أعني التاسعة بعد الثلاثمائة وتعلق الإحصاء بالأمد بالمعنى الأول ظاهر، وأما تعلقه به بالمعنى الثاني فباعتبار انتظامه لما تحته من مراتب العدد، واشتماله عليها انتهى. وأنت تعلم أن ظاهر كلام الراغب وهو- هو- في اللغة يقتضي أن الأمد حقيقة في المدة وأنه في الغاية مجاز وأن توجيه إرادة الغاية هنا بما ذكر تكلف لا يحتاج إليه على تقدير كون ما مصدرية. نعم يحتاج إليه على تقدير جعلها موصولة حذف عائدها من الصلة أي لنعلم أيهم أحصى أمدا كائنا للذي لبثوه أي لبثوا فيه من الزمان. وقيل ما لبثوا في موضع المفعول له وجيء بلام التعليل لكونه غير مصدر صريح وغير مقارن أيضا وليس بذاك. وقيل اللام مزيدة وما موصولة وهي المفعول به وعائدها محذوف أي أَحْصى الذي لبثوه والمراد الزمان الذي لبثوا فيه، وأَمَداً على هذا تمييز للنسبة مفسر لما في نسبة المفعول من الإبهام محول عن المفعول وأصله أحصى أمد الزمان الذي لبثوا فيه. وزعم أنه لا يصح أن يكون تمييزا للنسبة لأنه لا بد أن يكون محولا عن الفاعل ولا يمكن ذلك هنا ليس بشيء لأن اللابدية في حيز المنع. والذي تحقق في المعتبرات كشروح التسهيل وغيرها أنه يكون محولا عن المفعول ك فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً [القمر: 12] كما يكون محولا عن الفاعل كتصبب زيد عرقا ولو جعل تمييزا لما كان تمييزا لمفرد. ولم يقل أحد باشتراط التحويل فيه أصلا. وجوز في ما على هذا التقدير أن تكون مصدرية وهو بعيد، وضعف القول بزيادة اللام هنا بأنها لا تزاد في مثل ذلك. واختار الزجاج والتبريزي كون أَحْصى أفعل تفضيل لأنه الموافق لما وقع في سائر الآيات الكريمة نحو أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً إلى غير ذلك مما لا يحصى ولأن كونه فعلا ماضيا يشعر بأن غاية البعث هو العلم بالإحصاء المتقدم على البعث لا بالإحصاء المتأخر عنه وليس كذلك، واعترض أولا بأن بناء أفعل التفضيل من غير الثلاثي المجرد ليس بقياس وما جاء منه شاذ كأعدى من الجرب وأفلس من ابن المدلق، وأجيب بأن في بناء أفعل من ذلك ثلاثة مذاهب الجواز مطلقا وهو ظاهر كلام سيبويه والمنع مطلقا وما ورد شاذ لا يقاس عليه وهو مذهب أبي علي، والتفصيل بين أن تكون الهمزة للنقل فلا يجوز أو لغيره كأشكل الأمر وأظلم الليل فيجوز وهو اختيار ابن عصفور فلعلهما يريان الجواز مطلقا كسيبويه أو التفصيل كابن عصفور، والهمزة في أَحْصى ليست للنقل، وثانيا بأن أَمَداً حينئذ إن نصب على أنه مفعول به فإن كان بمضمر كما في قول العباس بن مرداس: فلم أر مثل الحي حيا مصبحا ... ولا مثلنا لما التقينا فوارسا أكر وأحمى للحقيقة منهم ... وأضرب منا بالسيوف القوانسا لزم الوقوع فيما فرا منه حيث لم يجعلا المذكور فعلا ثم قدرا وإن كان به فليس صالحا لذلك، وإن نصب يلبثوا لا يكون المعنى سديدا لأن الضبط لمدة اللبث وأمده لا للبث في الأمد، ولا يقال: فليكن نظير قولكم أيكم أضبط لصومه في الشهر أي لأيام صومه والمعنى أيهم أضبط لأيام اللبث أو ساعاته في الأمد ويراد به جميع المدة لما قيل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 204 يعضل حينئذ تنكير أَمَداً والاعتذار بأنهم ما كانوا عارفين بتحديده يوما أو شهرا أو سنة فنكر على أنه سؤال أما عن الساعات والأيام أو الأشهر غير سديد لأنه معلوم أنه أمد زمان اللبث فليعرف إضافة أو عهدا ويكون الاحتمال على حاله، ووجه أبو حيان نصبه بأنه على إسقاط حرف الجر وهو بمعنى المدة والأصل لما لبثوا من أمد ويكون من أمد تفسيرا لما أبهم في لفظ ما كقوله تعالى ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ [البقرة: 106] ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ [فاطر: 2] ولما سقط الحرف وصل إليه الفعل وهو كما ترى، وتعقب منع صلاحية أفعل لنصب المفعول به بأنه قول البصريين دون الكوفيين فلعل الإمامين سلكا مذهب الكوفيين فجعلا أَحْصى أفعل تفضيل وأَمَداً مفعولا له، والحق أن الذاهب إلى كون أحصى أفعل تفضيل جعل أمدا تمييزا وهو يعمل في التمييز على الصحيح والقول بأن التمييز يجب كونه محولا عن الفاعل قد ميزت حاله، وثالثا بأن توهم الأشعار بأن غاية البعث هو العلم بالإحصاء المتقدم عليه مردود بأن صيغة الماضي باعتبار حال الحكاية ولا يكاد يتوهم من ذلك الإشعار المذكور، ورابعا بأنه يلزم حينئذ أن يكون أصل الإحصاء متحققا في الحزبين إلا أن بعضهم أفضل والبعض الآخر أدنى مع أنه ليس كذلك، وفي الكشف أن قول الزجاج ليس بذلك المردود إلا أن ما آثره الزمخشري أحق بالإيثار لفظا ومعنى أما الأول فظاهر، وأما الثاني فلأنه تعالى حكى تساؤلهم فيما بينهم وأنه عن العارف لا عن الأعرف وغيرهم أولى به انتهى فافهم، وأي استفهامية مبتدأ وما بعدها خبرها وقد علقت نعلم عن العمل كما هو شأن أدوات الاستفهام في مثل هذا الوضع وهذا جار على احتمالي كون أَحْصى فعلا ماضيا وكونه أفعل تفضيل، وجوز جعل أي موصولة ففي البحر إذا قلنا بأن أَحْصى أفعل تفضيل جاز أن تكون أي موصولا مبنيا على مذهب سيبويه لوجود شرط جواز البناء فيه وهو كون أي مضافة حذف صدر صلتها والتقدير لنعلم الفريق الذي هو أحصى لما لبثوا أمدا من الذين لم يحصوا وإذا كان فعلا ماضيا امتنع ذلك لأنه حينئذ لم يحذف صدر صلتها لوقوع الفعل مع فاعله صلة فلا يجوز بناؤها لفوات تمام الشرط وهو حذف صدر الصلة انتهى. وقرأ الزهري «ليعلم» بالياء على إسناد الفعل إليه تعالى بطريق الالتفات، وأيّا ما كان فالعلم غاية للبعث وليس ذلك على ظاهره وإلا تكن الآية دليلا لهشام على ما يزعمه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا فقيل هو غاية بجعله مجازا عن الإظهار والتمييز، وقيل: المراد ليتعلق علمنا تعلقا حاليا مطابقا لتعلقه أولا تعلقا استقباليا كما في قوله تعالى: لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ [البقرة: 143] واعترضه بعض الأجلة بأن بعث هؤلاء الفئة لم يترتب عليه تفرقهم إلى المحصي وغيره حتى يتعلق بهما العلم تعلقا حاليا أو الإظهار والتمييز ويتسنى نظم شيء من ذلك في سلك الغاية كما ترتب على تحويل القبلة انقسام الناس إلى متبع ومنقلب فصح تعلق العلم الحالي والإظهار بكل من القسمين وإنما الذي ترتب على ذلك تفرقهم إلى مقدر تقديرا غير مصيب ومفوض العلم إلى الله عز وجل وليس في شيء منهما إحصاء أصلا، ثم قال: إن جعل ذلك غاية بحمل النظم الكريم على التمثيل المبني على جعل العلم عبارة عن الاختبار مجازا بإطلاق اسم المسبب على السبب وليس من ضرورة الاختبار صدور الفعل المختبر به عن المختبر قطعا بل قد يكون لإظهاره عجزه عنه على سنن التكاليف التعجيزية كقوله تعالى: فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ [البقرة: 258] وهو المراد هنا فالمعنى بعثناهم لنعاملهم معاملة من يختبرهم أيهم أحصى لما لبثوا أمدا فيظهر لهم عجزهم ويفوضوا ذلك إلى العليم الخبير ويتعرفوا حالهم وما صنع الله تعالى بهم من حفظ أبدانهم فيزدادوا يقينا بكمال قدرته تعالى وعلمه ويستبصروا به أمر البعث ويكون ذلك لطفا لمؤمني زمانهم وآية بينة لكفارهم، وقد اقتصرها هنا من تلك الغايات الجليلة على مبدئها الصادر عنه سبحانه وفيما سيأتي إن شاء الله تعالى على ما صدر عنهم من التساؤل المؤدي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 205 إليها وهذا أولى من تصوير التمثيل بأن يقال بعثناهم بعث من يريد أن يعلم إذ ربما يتوهم منه استلزام الإرادة لتحقق المراد فيعود المحذور فيصار إلى جعل إرادة العلم عبارة عن الاختبار فاختبر واختر انتهى. وتعقبه الخفاجي بأن ما ذكره مع تكلفه وقلة جدواه غير مستقيم لأن الاختيار الحقيقي لا يتصور ممن أحاط بكل شيء علما فحيث وقع جعلوه مجازا عن العلم أو ما يترتب عليه فلزمه بالآخرة الرجوع إلى ما أنكره واختار جعل العلم كناية عن ظهور أمرهم ليطمئن بازدياد الإيمان قلوب المؤمنين وتنقطع حجة المنكرين وعلم الله تعالى حيث تعذر إرادة حقيقته في كتابه تعالى جعل كناية عن بعض لوازمه المناسبة لموقعه والمناسب هنا ما ذكر، ثم قال: وإنما علق العلم بالاختلاف في أمده أي المفهوم من أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا لأنه ادعى لإظهاره وأقوى لانتشاره. وفي الكشف توجيها لما في الكشاف أراد أن العلم مجاز عن التمييز والإظهار كأنه قيل لنظهره ونميز لهم العارف بأمد ما لبثوا ولينظر من هذا العارف فإنه لا يجوز أن يكون أحدا منهم لأنهم بين مفوض ومقدر غير مصيب، والفرق بين ما في الكشف وما ذكره الخفاجي لا ينفى على بصير وما في الكشف أقل مؤنة منه. وتصوير التمثيل بأن يقال: بعثناهم بعث من يريد أن يعلم أحسن عندي من التصوير الأول، والتوهم المذكور مما لا يكاد يلتفت إليه فتدبر جدا. وقرىء «ليعلم» مبنيا للفاعل من الإعلام وخرج ذلك على أن الفاعل ضميره تعالى والمفعول الأول محذوف لدلالة المعنى عليه وأَيُّ الْحِزْبَيْنِ إلخ من المبتدأ والخبر في موضع مفعولي نعلم الثاني والثالث، والتقدير ليعلم الله الناس أي الحزبين إلخ، وإذا جعل العلم عرفانيا كانت الجملة في موضع مفعولي نعلم الثاني فقط وهو ظاهر. وقرىء «ليعلم» بالبناء للمفعول وخرج على أن نائب الفاعل محذوف أي ليعلم الناس. والجملة بعد أما في موضع المفعولين أو المفعول حسبما سمعت، وقال بعضهم: إن الجملة هي النائب عن الفاعل وهو مذهب كوفي ففي البحر البصريون لا يجوز كون الجملة فاعلا ولا نائبا عنه وللكوفيين مذهبان، أحدهما أنه يجوز الإسناد إلى الجملة مطلقا، والثاني أنه لا يجوز إلا إذا كان المسند مما يصح تعليقه وتحقيق ذلك في محله. نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ شروع في تفصيل ما أجمل فيما سلف أي نحن نخبرك بتفصيل خبرهم الذي له شأن وخطر بِالْحَقِّ أما صفة لمصدر محذوف أو حال من ضمير نَقُصُّ أو من نَبَأَهُمْ أو صفة له على رأي من يرى جواز حذف الموصول مع بعض الصلة أي نقص قصصا ملتبسا بالحق أو نقصه ملتبسين به أو نقص نبأهم ملتبسا به أو نبأهم الملتبس به، ولعل في التقييد بِالْحَقِّ إشارة إلى أن في عهده صلّى الله عليه وسلّم من يقص نبأهم لكن لا بالحق. وفي الكشف بعد نقل شعر أمية بن أبي الصلت السابق ما نصه وهذا يدل على أن قصة أصحاب الكهف كانت من علم العرب وإن لم يكونوا عالميها على وجهها، ونبؤهم حسبما ذكره ابن إسحاق وغيره أنه مرج أهل الإنجيل وعظمت فيهم الخطايا وطغت ملوكهم فعبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت وفيهم بقايا على دين المسيح عليه السلام متمسكين بعبادة الله تعالى وتوحيده وكان ممن فعل ذلك من ملوكهم وعتا عتوا كبيرا دفيانوس وفي رواية دقيوس فإنه غلا غلوا شديدا فجلس خلال الديار والبلاد وأكثر فيها الفساد وقتل من خالفه من المتمسكين بدين المسيح عليه السلام وكان يتتبع الناس فيخيرهم بين القتل وعبادة الأوثان فمن رغب في الحياة الدنيا انقاد لأمره وامتثله ومن آثر عليها الحياة الأبدية لم يبال بأي قتلة قتله فكان يقتل أهل الإيمان ويقطع أجسادهم ويجعلها على سور المدينة وأبوابها فلما رأى الفتية ذلك وكانوا عظماء مدينتهم واسمها على ما في بعض الروايات أفسوس وفي بعضها طرسوس، وقيل كانوا من خواص الملك قاموا فتضرعوا إلى الله عز وجل واشتغلوا بالصلاة والدعاء فبينما هم كذلك دخل عليهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 206 الشرط فاخذوهم وأعينهم تفيض من الدمع ووجوههم معفرة بالتراب وأحضروهم بين يدي الجبار فقالوا لهم: ما منعكم أن تشهدوا الذبح لآلهتنا وخيرهم بين القتل وعبادة الأوثان فقالوا: إن لنا إلها ملأ السموات والأرض عظمته وجبروته لن ندعو من دونه أحدا ولن نقر بما تدعونا إليه أبدا فاقض ما أنت قاض وأول من قال ذلك أكبرهم مكسلمينا فأمر الجبار فنزع ما عليهم من الثياب الفاخرة وأخرجهم من عنده وخرج هو إلى مدينة أخرى قيل هي نينوى لبعض شأنه وأمهلهم إلى رجوعه وقال: ما يمنعني أن أعجل عقوبتكم إلا أني أراكم شبانا فلا أحب أن أهلككم حتى أجعل لكم أجلا تتأملون فيه وترجعون إلى عقولكم فإن فعلتم فيها وإلا أهلكتكم فلما رأوا خروجه اشتوروا فيما بينهم واتفقوا على أن يأخذ كل منهم نفقة من بيت أبيه فيتصدق ببعضها ويتزود بالباقي وينطلقوا إلى كهف قريب من المدينة يقال له بنجلوس ففعلوا ما فعلوا وأووا إلى الكهف فلبثوا فيه ليس لهم عمل إلا الصلاة والصيام والتسبيح والتحميد وفوضوا أمر نفقتهم إلى فتى منهم اسمه يمليخا فكان إذا أصبح يتنكر ويدخل المدينة ويشتري ما يهمهم ويتجسس ما فيها من الأخبار ويعود إليهم فلبثوا على ذلك إلى أن قدم الجبار مدينتهم فتطلبهم وأحضر آباءهم فاعتذروا بأنهم عصوهم ونهبوا أموالهم وبذروها في الأسواق وفروا إلى الجبل وكان يمليخا إذ ذاك في المدينة فرجع إلى أصحابه وهو يبكي ومعه قليل طعام فأخبرهم بما شاهد من الهول ففزعوا إلى الله تعالى وخروا له سجدا ثم رفعوا رؤوسهم وجلسوا يتحدثون في أمرهم فبينما هم كذلك إذ ضرب الله عز وجل على آذانهم فناموا ونفقتهم عند رؤوسهم وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد فأصابه ما أصابهم فخرج الجبار في طلبهم بخيله ورجله فوجدوهم قد دخلوا الكهف فأمر بإخراجهم فلم يطق أحد أن يدخله فلما ضاق بهم ذرعا قال قائل منهم: أليس لو كنت قدرت عليهم قتلتهم؟ قال: بلى قال: فابن عليهم باب الكهف ودعهم يموتوا جوعا وعطشا وليكن كهفهم قبرا لهم ففعل ثم كان من شأنهم ما قص الله تعالى عز وجل. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا في مملكة ملك من الجبابرة يدعو الناس إلى عبادة الأوثان فلما رأوا ذلك خرجوا من تلك المدينة فجمعهم الله تعالى على غير ميعاد فجعل بعضهم يقول لبعض: أين تريدون أين تذهبون؟ فجعل بعضهم يخفي عن بعض لأنه لا يدري هذا علام خرج هذا ولا يدري هذا علام خرج هذا فأخذوا العهود والمواثيق أن يخبر بعضهم بعضا فإن اجتمعوا على شيء وإلا كتم بعضهم بعضا فاجتمعوا على كلمة واحدة فقالوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ- إلى- مِرفَقاً ثم انطلقوا حتى دخلوا الكهف فضرب الله تعالى على آذانهم فناموا وفقدوا في أهلهم فجعلوا يطليونهم فلم يظفروا بهم فرفع أمرهم إلى الملك فقال: ليكونن لهؤلاء القوم بعد اليوم شأن ناس خرجوا لا ندري أين ذهبوا في غير جناية ولا شيء يعرف فدعا بلوح من رصاص فكتب فيه أسماءهم ثم طرح في خزانته ثم كان من شأنهم ما قصه الله سبحانه وتعالى. وكانوا على ما أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر صيارفة. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن وهب بن منبه قال: جاء رجل من حواري عيسى عليه السلام إلى مدينة أصحاب الكهف فأراد أن يدخلها فقيل على بابها صنم لا يدخل أحد إلا سجد له فكره أن يدخل فأتى حماما قريبا من المدينة وأجر نفسه من صاحبه فكان يعمل فيه ورأى صاحب الحمام البركة والرزق وجعل يسترسل إليه وعلقه فتية من أهل المدينة فجعل يخبرهم عن خبر السماء وخبر الآخرة حتى آمنوا وكانوا على مثل حاله في حسن الهيئة وكان يشترط على صاحب الحمام أن الليل لي ولا تحول بيني وبين الصلاة إذا حضرت حتى جاء ابن الملك بامرأة يدخل بها الحمام فعيره الحواري فقال: أنت ابن الملك وتدخل مع هذه الامرأة التي صفتها كذا وكذا فاستحيا فذهب فرجع مرة أخرى فسبه وانتهره فلم يلتفت حتى دخل ودخلت معه فباتا في الحمام جميعا فماتا فيه فأتى الملك فقيل له: قتل ابنك صاحب الحمام فالتمس فلم يقدر عليه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 207 وهرب من كان يصحبه والتمس الفتية فخرجوا من المدينة فمروا بصاحب لهم في زرع له وهو على مثل أمرهم فذكروا له أنهم التمسوا فانطلق معهم حتى أواهم الليل إلى كهف فدخلوا فيه فقالوا نبيت هاهنا الليلة ثم نصبح إن شاء تعالى فنرى رأينا فضرب على آذانهم فخرج الملك بأصحابه يتبعونهم حتى وجدوهم قد دخلوا الكهف فكلما أراد الرجل منهم أن يدخله أرعب فلم يطق أن يدخل فقال للملك قائل: ألست لو قدرت عليهم قتلتهم؟ قال: بلى قال: فابن عليهم باب الكهف ودعهم يموتوا عطشا وجوعا ففعل ثم كان ما كان، وروي غير ذلك والأخبار في تفصيل شأنهم مختلفة. وفي البحر لم يأت في الحديث الصحيح كيفية اجتماعهم وخروجهم ولا معول إلا على ما قص الله تعالى من نبئهم إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ استئناف مبني على السؤال من قبل المخاطب وتقدم الكلام آنفا في الفتية آمَنُوا بِرَبِّهِمْ أي بسيدهم والناظر في مصالحهم، وفيه التفات من التكلم إلى الغيبة، وأوثر للإشعار بعلية وصف الربوبية لإيمانهم ولما صدر عنهم من المقالة حسبما سيحكي عنهم. وَزِدْناهُمْ هُدىً بالتثبيت على الإيمان والتوفيق للعمل الصالح والانقطاع إلى الله تعالى والزهد في الدنيا. وفي التحرير المراد زدناهم ثمرات هدى أو يقينا قولان وما حصلت به الزيادة امتثال المأمور وترك المنهي أو إنطاق الكلب لهم بأنه على ما هم عليه من الإيمان أو إنزال ملك عليهم بالتبشير والتثبيت وإخبارهم بظهور نبي من العرب يكون به الدين كله لله تعالى فآمنوا به صلّى الله عليه وسلّم قبل بعثه اه. ولا يلزم من القول بإنزال ملك عليهم بذلك القول بنبوتهم كما لا يخفى. وفي زِدْناهُمْ التفات من الغيبة إلى التكلم الذي عليه سبك النظم الكريم سباقا وسياقا، وفيه من تعظيم أمر الزيادة ما فيه وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ قويناها بالصبر فلم تزحزحها عواصف فراق الأوطان وترك الأهل والنعيم والأخوان ولم يزعجها الخوف من ملكهم الجبار ولم يرعها كثرة الكفار، وأصل الربط الشد المعروف واستعماله فيما ذكر مجاز كما قال غير واحد. وفي الأساس ربطت الدابة شددتها برباط والمربط الحبل، ومن المجاز ربط الله تعالى على قلبه صبره ورابط الجأش. وفي الكشف لما كان الخوف والتعلق يزعج القلوب عن مقارها ألا ترى إلى قوله تعالى وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الأحزاب: 10] قيل في مقابله ربط قلبه إذا تمكن وثبت وهو تمثيل. وجوز بعضهم أن يكون في الكلام استعارة مكنية تخييلية، وعدي الفعل بعلى وهو متعد بنفسه لتنزيله منزلة اللازم كقوله: يجرح في عراقيبها نصلي إِذْ قامُوا متعلق بربطنا، والمراد بقيامهم انبعاثهم بالعزم على التوجه إلى الله تعالى ومنابذة الناس كما في قولهم: قام فلان إلى كذا إذا عزم عليه بغاية الجد، وقريب منه ما قيل المراد به انتصابهم لإظهار الدين. أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم أنهم خرجوا من المدينة فاجتمعوا وراءها على غير ميعاد فقال رجل منهم: هو أشبههم إني لأجد في نفسي شيئا ما أظن أحدا يجده قالوا: ما تجد؟ قال: أجد في نفسي أن ربي رب السموات والأرض فقالوا أيضا: نحن كذلك فقاموا جميعا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وقد تقدم آنفا عن ابن عباس القول باجتماعهم على غير ميعاد أيضا إلا أنه قال: إن بعضهم أخفى حاله عن بعض حتى تعاهدوا فاجتمعوا على كلمة فقالوا ذلك. وقال صاحب الغنيان المراد به وقوفهم بين يدي الجبار دقيانوس، وذلك أنهم قاموا بين يديه حين دغاهم إلى عبادة الأوثان فهددهم بما هددهم فبينما هم بين يديه تحركت هرة وقيل فأرة ففزع الجبار منها فنظر بعضهم إلى بعض الجزء: 8 ¦ الصفحة: 208 فلم يتمالكوا أن قالوا ذلك غير مكترثين به، وقيل المراد قيامهم لدعوة الناس سرا إلى الإيمان. وقال عطاء: المراد قيامهم من النوم وليس بشيء، ومثله ما قيل إن المراد قيامهم على الإيمان، وما أحسن ما قالوا فإن ربوبيته تعالى للسموات والأرض تقتضي ربوبيته لما فيهما وهم من جملته أي اقتضاء، وأردفوا دعواهم تلك بالبراءة من إله غيره عز وجل فقالوا: لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً وجاؤوا بلن لأن النفي بها أبلغ من النفي بغيرها حتى قيل إنه يفيد استغراق الزمان فيكون المعنى لا نعبد أبدا من دونه إلها أي معبودا آخر لا استقلالا ولا اشتراكا قيل وعدلوا عن قولهم ربا إلى قولهم «إلها» للتنصيص على رد المخالفين حيث كانوا يسمون أصنامهم آلهة، وللإشعار بأن مدار العبادة وصف الألوهية، وللإيذان بأن ربوبيته تعالى بطريق الألوهية لا بطريق المالكية المجازية. وقد يقال: إنهم أشاروا بالجملة الأولى إلى توحيد الربوبية، وبالجملة الثانية إلى توحيد الألوهية وهما أمران متغايران وعبدة الأوثان لا يقولون بهذا ويقولون بالأول وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25، الزمر: 38] وحكى سبحانه عنهم أنهم يقولون: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: 3] وصح أنهم يقولون أيضا: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. وجاؤوا بالجملة الأولى مع أن ظاهر القصة كونهم بصدد ما تشير إليه الجملة الثانية من توحيد الألوهية لأن الظاهر أن قومهم إنما أشركوا فيها وهم إنما دعوا لذلك الإشراك دلالة على كمال الإيمان، وابتدؤوا بما يشير إلى توحيد الربوبية لأنه أول مراتب التوحيد، والتوحيد الذي أقرت به الأرواح في عالم الذر يوم قال لها سبحانه: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: 172] وفي ذكر ذلك أولا وذكر الآخر بعده تدرج في المخالفة فإن توحيد الربوبية يشير إلى توحيد الألوهية بناء على أن اختصاص الربوبية به عز وجل علة لاختصاص الألوهية واستحقاق المعبودية به سبحانه وتعالى، وقد ألزم جل وعلا الوثنية القائلين باختصاص الربوبية بذلك في غير موضع، ولكون الجملة الأولى لكونها مشيرة إلى توحيد الربوبية مشيرة إلى توحيد الألوهية قيل إن في الجملة الثانية تأكيدا لها فتأمل، ولا تعجل بالاعتراض. والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من النكرة بعده، ولو أخر لكان صفة أي لن ندعو إلها كائنا من دونه تعالى لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً أي قولا ذا شطط أي بعد عن الحق مفرط أو قولا هو عين الشطط والبعد المفرط عن الحق على أنه وصف بالمصدر مبالغة ثم اقتصر على الوصف مبالغة على مبالغة، وجوز أبو البقاء كون «شططا» مفعولا به لقلنا، وفسره قتادة بالكذب، وابن زيد بالخطا، والسدي بالجور، والكل تفسير باللازم، وأصل معناه ما أشرنا إليه لأنه من شط إذا أفرط في البعد، وأنشدوا: شط المراد بحزوى وانتهى الأمل وفي الكلام قسم مقدر واللام واقعة في جوابه، «وإذا» حرف جواب وجزاء فتدل على شرط مقدر أي لو دعونا وعبدنا من دونه إلها والله لقد قلنا إلخ، واستلزام العبادة القول لما أنها لا تعرى عن الاعتراف بألوهية المعبود، والتضرع إليه، وفي هذا القول دلالة على أن الفتية دعوا لعبادة الأصنام وليموا على تركها، وهذا أوفق بكون قيامهم بين يدي الملك هؤُلاءِ هو مبتدأ وفي اسم الإشارة تحقير لهم قَوْمُنَا عطف بيان له لا خبر لعدم إفادته ولا صفة لعدم شرطها والخبر قوله تعالى اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ تعالى شأنه آلِهَةً أي عملوها ونحتوها لهم. قال الخفاجي: فيفيد أنهم عبدوها ولا حاجة إلى تقديره كما قيل بناء على أن مجرد العمل غير كاف في المقصود، وتفسير الاتخاذ بالعمل أحد احتمالين ذكرهما أبو حيان، والآخر تفسيره بالتصيير فيتعدى إلى مفعولين أحدهما «آلهة» والثاني مقدر، وجوز أن يكون «آلهة» هو الأول و «من دونه» هو الثاني وهو كما ترى، وأيّا ما كان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 209 فالكلام إخبار فيه معنى الإنكار لا إخبار محض بقرينة ما بعده ولأن فائدة الخبر معلومة لَوْلا يَأْتُونَ تحضيض على وجه الإنكار والتعجيز إذ يستحيل أن يأتوا عَلَيْهِمْ بتقدير مضاف أي على ألوهيتهم أو على صحة اتخاذهم لها آلهة بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ بحجة ظاهرة الدلالة على مدعاهم فإن الدين لا يؤخذ إلا به، واستدل به على أن ما لا دليل عليه من أمثال ما ذكر مردود فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بنسبة الشريك إليه تعالى عن ذلك علوا كبيرا، وقد مر تحقيق المراد من هذا التركيب، وهذه المقالة يحتمل أن يكونوا قالوها بين يدي الجبار تبكيتا له وتعجيزا وتأكيدا للتبرّي من عبادة ما يدعوهم إليه بأسلوب حسن ويحتمل أن يكونوا قالوها فيما بينهم لما عزموا عليه وخبر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما السابق نص في أن هذه المقالة وما قبلها وما بعدها إلى مِرفَقاً مقولة فيما بينهم، ودعوى أنه إذا كان المراد من القيام فيما مر قيامهم بين يدي الجبار يتعين كون هذه المقالة صادرة عنهم بعد خروجهم من عنده غير مسلمة كما لا يخفى، نعم ينبغي أن يكون قوله تعالى: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ مقولا فيما بينهم مطلقا خاطب به بعضهم بعضا. وفي مجمع البيان عن ابن عباس أن قائله يمليخا، والاعتزال تجنب الشيء بالبدن أو بالقلب وكلا الأمرين محتمل هنا، والتعزل بمعناه ومن ذلك قوله: يا بيت عاتكة الذي أتعزل ... حذر العدا وبه الفؤاد موكل و «ما» يحتمل أن تكون موصولة وأن تكون مصدرية، والعطف في الاحتمالين على الضمير المنصوب، والظاهر أن الاستثناء فيهما متصل، ويقدر على الاحتمال الثاني مضاف في جانب المستثنى ليتأتى الاتصال أي وإذ اعتزلتموهم واعتزلتم الذين يعبدونهم إلا الله تعالى أو إذا اعتزلتموهم واعتزلتم عبادتهم إلا عبادة الله عز وجل، وتقدير مستثنى منه على ذلك الاحتمال لذلك نحو عبادتهم لمعبوديهم تكلف، ويحتمل أن يكون منقطعا، وعلى الأول يكون القوم عابدين الله تعالى وعابدين غيره كما جاء ذلك في بعض الآثار. أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم عن عطاء الخراساني أنه قال: كان قوم الفتية يعبدون الله تعالى ويعبدون معه آلهة شتى فاعتزلت الفتية عبادة تلك الآلهة ولم تعتزل عبادة الله تعالى. وعلى الثاني يكونون عابدين غيره تعالى فقط، قيل وهذا هو الأوفق بقوله تعالى أولا: هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً فتأمل. وجوز أن تكون ما نافية والاستثناء مفرغ والجملة إخبار من الله تعالى عن الفتية بالتوحيد معترضة بين إذ وجوابه أعني قوله تعالى: فَأْوُوا أي التجثوا إِلَى الْكَهْفِ ووجه الاعتراض على ما في الكشف أن قوله تعالى: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ فأووا معناه وإذا اجتنبتم عنهم وعما يعبدون فأخلصوا له العبادة في موضع تتمكنون منه فدل الاعتراض على أنهم كانوا صادقين وأنهم أقاموا بما وصى به بعضهم بعضا فهو يؤكد مضمون الجملة. وإلى كون فَأْوُوا جواب إذ ذهب الفراء، وقيل: إنه دليل الجواب أي وإذ اعتزلتموهم اعتزالا اعتقاديا فاعتزلوهم اعتزالا جسمانيا أو إذا أردتم الاعتزال الجسماني فافعلوا ذلك. واعترض كلا القولين بأن إذ بدون ما لا تكون للشرط، وفي همع الهوامع أن القول بأنها تكون له قول ضعيف لبعض النحاة أو تسامح لأنها بمعناه فهي هنا تعليلية أو ظرفية وتعلقها قيل بأووا محذوفا دل عليه المذكور لا به لمكان الفاء أو بالمذكور والظرف يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره، وقال أبو البقاء: إذ ظرف لفعل محذوف أي وقال بعضهم لبعض، وظاهره أنه عنى بالفعل المحذوف قال وأقول: هو من أعجب العجائب. وفي مصحف ابن مسعود كما أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة «وما يعبدون من دون الله» وقال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 210 هارون: في بعض المصاحف «وما يعبدون من دوننا» وهذا يؤيد الاعتراض، وفي البحر أن ما في المصحفين تفسير لا قراءة لمخالفته سواد الإمام. وزعم أن المتواتر عن ابن مسعود ما فيه يَنْشُرْ لَكُمْ يبسط لكم ويوسع عليكم رَبُّكُمْ مالك أمركم الذي هداكم للإيمان مِنْ رَحْمَتِهِ في الدارين وَيُهَيِّئْ يسهل لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ الذي أنتم بصدده من الفرار بالدين والتوجه التام إلى الله تعالى مِرفَقاً ما ترتفقون وتنتفعون به، وهو مفعول يُهَيِّئْ ومفعول يَنْشُرْ محذوف أي الخير ونحوه مِنْ أَمْرِكُمْ على ما في بعض الحواشي متعلق بيهيىء ومن لابتداء الغاية أو للتبعيض، وقال ابن الأنباري: للبدل والمعنى يهيىء لكم بدلا عن أمركم الصعب مرفقا كما في قوله تعالى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ [التوبة: 38] وقوله: فليت لنا من ماء زمزم شربة ... مبردة باتت على طهيان وجوز أن يكون حالا من مِرفَقاً فيتعلق بمحذوف، وتقديم لَكُمْ لما مر مرارا من الإيذان من أول الأمر بكون المؤخر من منافعهم والتشويق إلى وروده، والظاهر أنهم قالوا هذا ثقة بفضل الله تعالى وقوة في رجائهم لتوكلهم عليه سبحانه ونصوع يقينهم فقد كانوا علماء بالله تعالى. فقد أخرج الطبراني وابن المنذر وجماعة عن ابن عباس قال: ما بعث الله تعالى نبيا إلا وهو شاب ولا أوتي العلم عالم إلا وهو شاب وقرأ قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ [الأنبياء: 60] وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ [الكهف: 60] وإِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وجوز أن يكونوا قالوه عن أخبار نبي في عصرهم به وأن يكون بعضهم نبيا أوحى إليه ذلك فقاله، ولا يخفى أن ما ذكر مجرد احتمال من غير داع. وقرأ أبو جعفر والأعرج وشيبة وحميد وابن سعدان ونافع وابن عامر وأبو بكر في رواية الأعشى والبرجمي والجعفي عنه وأبو عمرو في رواية هارون «مرفقا» بفتح الميم وكسر الفاء ولا فرق بينه وبين ما هو بكسر الميم وفتح الفاء معنى على ما حكاه الزجاج وثعلب فإن كلا منهما يقال في الأمر الذي يرتفق به وفي الجارحة، ونقل مكي عن الفراء أنه قال: لا أعرف في الأمر وفي اليد وفي كل شيء إلا كسر الميم، وأنكر الكسائي أن يكون المرفق من الجارحة إلا بفتح الميم وكسر الفاء وخالفه أبو حاتم وقال: المرفق بفتح الميم الموضع كالمسجد، وقال أبو زيد: هو مصدر جاء على مفعل كالمرجع، وقيل: هما لغتان فيما يرتفق به وأما من اليد فبكسر الميم وفتح الفاء لا غير، وعن الفراء أن أهل الحجاز يقولون: «مرفقا» بفتح الميم وكسر الفاء فيما ارتفقت به ويكسرون مرفق الإنسان، وأما العرب فقد يكسرون الميم منهما جميعا اه. وأجاز معاذ فتح الميم والفاء، هذا واستدل بالآية على حسن الهجرة لسلامة الدين وقبح المقام في دار الكفر إذا لم يمكن المقام فيها إلا بإظهار كلمة الكفر وبالله تعالى التوفيق. وَتَرَى الشَّمْسَ بيان لحالهم بعد ما أووا إلى الكهف ولم يصرح سبحانه به تعويلا على ما سبق من قوله تعالى: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ وما لحق من إضافة الكهف إليهم وكونهم في فجوة منه، وجوز أن يكون إيذانا بعدم الحاجة إلى التصريح لظهور جريانهم على موجب الأمر لكونه صادرا عن رأي صائب وقد حذف سبحانه وتعالى أيضا جملا أخرى لا تخفى، والخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو لكل أحد ممن يصلح له وهو للمبالغة في الظهور وليس المراد الإخبار بوقوع الرؤية بل الإنباء بكون الكهف لو رأيته ترى الشمس إِذا طَلَعَتْ تزاور أي تتنحى وأصله تتزاور بتاءين فحذف أحدهما تخفيفا وهي قراءة الكوفيين الأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وخلف وابن سعدان وأبي عبيدة وأحمد بن جبير الأنطاكي ومحمد بن عيسى الأصبهاني، وقرأ الحرميان وأبو عمرو «تزّاور» بفتح التاء وتشديد الزاي، وأصله أيضا تتزاور إلا أنه أدغمت التاء في الزاي بعد قلبها زايا، وقرأ ابن أبي إسحاق وابن عامر وقتادة وحميد ويعقوب عن العمري الجزء: 8 ¦ الصفحة: 211 «تزور» كتحمر وهو من بناء الأفعال من غير العيوب والألوان، وقد جاء ذلك نادرا وقرأ جابر والجحدري وأبو رجاء والسختياني وابن أبي عبلة ووردان عن أبي أيوب «تزوار» كتحمار وهو في البناء كسابقه، وقرأ ابن مسعود. وأبو المتوكل «تزوئّر» بهمزة قبل الراء المشددة كتطمئن، ولعله إنما جيء بالهمزة فرارا من التقاء الساكنين وإن كان جائزا في مثل ذلك مما كان الأول حرف مد والثاني مدغما في مثله وكلها من الزور بفتحتين مع التخفيف وهو الميل، وقيده بعضهم بالخلقي، والأكثرون على الإطلاق ومنه الأزور المائل بعينه إلى ناحية ويكون في غير العين قال ابن أبي ربيعة: وجنبي خيفة القرم أزور وقال عنتزه: فازور من وقع القنا بلبانه ... وشكا إلى بعبرة وتحمحم وقال بشر بن أبي حازم: تؤم بها الحداة مياه نخل ... وفيها عن أبانين ازورار ومنه زاره إذا مال إليه، والزور أي الكذب لميله عن الواقع وعدم مطابقته، وكذا الزور بمعنى الصنم في قوله: جاؤوا بزوريهم وجئنا بالأصم وقال الراغب: إن الزور بتحريك الواو ميل في الزور بتسكينها وهو أعلى الصدر، والأزور المائل الزور أي الصدر وزرت فلانا تلقيته بزوري أو قصدت زوره نحو وجهته أي قصدت وجهه، والمشهور ما قدمناه، وحكي عن أبي الحسن أنه قال: لا معنى لتزور في الآية لأن الازورار الانقباض، وهو طعن في قراءة ابن عامر ومن معه بما يوجب تغيير الكنية، وبالجملة المراد إذا طلعت تروغ وتميل عَنْ كَهْفِهِمْ الذي آووا إليه فالإضافة لأدنى ملابسة ذاتَ الْيَمِينِ أي جهة ذات يمين الكهف عند توجه الداخل إلى قعره أي جانبه الذي يلي المغرب أو جهة ذات يمين الفتية ومآله كسابقه، وهو نصب على الظرفية. قال المبرد: في المقتضب ذات اليمين وذات الشمال من الظروف المتصرفة كيمينا وشمالا. وَإِذا غَرَبَتْ أي تراها عند غروبها تَقْرِضُهُمْ أي تعدل عنهم، قال الكسائي: يقال قرضت المكان إذا عدلت عنه ولم تقر به ذاتَ الشِّمالِ أي جهة ذات شمال الكهف أي جانبه الذي يلي المشرق، وقال غير واحد: هو من القرض بمعنى القطع تقول العرب: قرضت موضع كذا أي قطعته. قال ذو الرمة: إلى طعن يقرضن أقواز (1) مشرف ... شمالا وعن إيمانهن الفوارس والمراد تتجاوزهم وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ أي في متسع من الكهف، وهي على ما قيل من الفجا وهو تباعد ما بين الفخذين يقال رجل أفجى وامرأة فجواء، وتجمع على فجاء وفجا وفجوات. وحاصل الجملتين أنهم كانوا لا تصيبهم الشمس أصلا فتؤذيهم وهم في وسط الكهف بحيث ينالهم روح الهواء، ولا يؤذيهم كرب الغار ولا حر الشمس، وذلك لأن باب الكهف كما قال عبد الله بن مسلم وابن عطية كان في مقابلة بنات نعش وأقرب المشارق والمغارب إلى محاذاته مشرق رأس السرطان ومغربه والشمس إذا كان مدارها مداره تطلع مائلة عنه مقابلة لجانبه الأيمن، وهو الذي يلي المغرب، وتغرب محاذية لجانبه الأيسر فيقع شعاعها على جنبه، وتحلل عفونته وتعدل هواه ولا تقع عليهم فتؤذي أجسادهم وتبلي ثيابهم، ولعل ميل الباب إلى جانب المغرب كان أكثر ولذلك وقع التزاور على كهفهم والقرض على أنفسهم وقال الزجاج: ليس ذلك لما ذكر بل لمحض صرف الله تعالى الشمس بيد قدرته عن   (1) القوز بالقاف والزاي المعجمة الكثيب الصغير، ويروى أجواز، والمشرف اسم رملة معروفة، والفوارس رمال معروفة بالدهناء اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 212 أن تصيبهم على منهاج خرق العادة كرامة لهم وجيء بقوله تعالى: وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ حالا مبينة لكون ما ذكر أمرا بديعا كأنه قيل ترى الشمس تميل عنهم يمينا وشمالا ولا تحوم حولهم مع كونهم في متسع من الكهف معرض لإصابتها لولا أن كفها عنهم كف التقدير، واحتج عليه بقوله تعالى ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ حيث جعل ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من التزاور والقرض في الطلوع والغروب يمينا وشمالا، ولا يظهر كونه آية على القول السابق ظهوره على قوله فإن كونه آية دالة على كمال قدرة الله تعالى وحقية التوحيد وكرامة أهله عنده سبحانه على هذا أظهر من الشمس في رابعة النهار. وكان ذلك قبل سد باب الكهف على ما قيل، وقال أبو علي: معنى تقرضهم تعطيهم من ضوئها شيئا ثم تزول سريعا وتسترد ضوءها فهو كالقرض يسترده صاحبه، وحاصل الجملتين عنده أن الشمس تميل بالغدوة عن كهفهم وتصيبهم بالعشي إصابة خفيفة، ورد بأنه لم يسمع للقرض بهذا المعنى فعل ثلاثي ليفتح حرف المضارعة، واختار بعضهم كون المراد ما ذكر إلا أنه جعل تقرضهم من القرض لهم وأن المعنى وإذا غربت تقطع لهم من ضوئها شيئا، والسبب لاختياره ذلك توهمه أن الشمس لو لم تصب مكانهم أصلا لفسد هواؤه وتعفن ما فيه فيصير ذلك سببا لهلاكهم وفيه ما فيه، وأكثر المفسرين على أنهم لم تصبهم الشمس أصلا وإن اختلفوا في منشأ ذلك. واختار جمع أنه لمحض حجب الله تعالى الشمس على خلاف ما جرت به العادة قالوا: والإشارة تؤيد ذلك أتم تأييد والاستبعاد مما لا يلتفت إليه لا سيما فيما نحن فيه فإن شأن أصحاب الكهف كله على خلاف العادة. وبعض من ذهب إلى أن المنشأ كون باب الكهف في مقابلة بنات نعش جعل ذلك إشارة إلى إيوائهم إلى كهف هذا شأنه وبعض آخر جعله إشارة إلى حفظ الله تعالى إياهم في ذلك الكهف المدة الطويلة وآخر جعله إشارة إلى اطلاعه سبحانه رسوله صلّى الله عليه وسلّم على أخبارهم. واعترض على الأخيرين بأنه لا يساعدهما إيراد ذلك في تضاعيف القصة، وجعله بعضهم إشارة إلى هدايتهم إلى التوحيد ومخالفتهم قومهم وآباءهم وعدم الاكتراث بهم وبملكهم مع حداثتهم وإيوائهم إلى كهف شأنه ذلك ولا يخلو عن حسن وإليه أميل والله تعالى أعلم. وقرئ «يقرضهم» بالياء آخر الحروف ولعل الضمير عائد على غروب الشمس. وقال أبو حيان: أي يقرضهم الكهف مَنْ يَهْدِ اللَّهُ من يدله سبحانه دلالة موصولة إلى الحق ويوفقه لما يحبه ويرضاه فَهُوَ الْمُهْتَدِ الفائز بالحظ الأوفر في الدارين، والمراد إما الثناء على أصحاب الكهف والشهادة لهم بإصابة المطلوب والاخبار بتحقق ما أملوه من نشر الرحمة وتهيئة المرفق أو التنبيه على أن أمثال هذه الآيات كثيرة ولكن المشفع بها من وفقه الله تعالى للتأمل فيها والاستبصار بها فالمراد بمن إما الفتية أو ما يعمهم وغيرهم وفيه ثناء عليهم أيضا وهو كما ترى. وجعله بعضهم ثناء على الله تعالى لمناسبة قوله سبحانه وَزِدْناهُمْ هُدىً وربطنا وملاءمة قوله عز وجل وَمَنْ يُضْلِلْ يخلق فيه الضلال لصرف اختياره إليه فَلَنْ تَجِدَ لَهُ أبدا وإن بالغت في التتبع والاستقصاء وَلِيًّا ناصرا مُرْشِداً يهديه إلى الحق ويخلصه من الضلال لاستحالة وجوده في نفسه لا أنك لا تجده مع وجوده أو إمكانه إذ لو أريد مدحهم لا كتفى بقوله تعالى «فهو المهتد» وفيه أنه لا يطابق المقام والمقابلة لا تنافي المدح بل تؤكده ففيه تعريض بأنهم أهل الولاية والرشاد لأن لهم الولي المرشد، ولعل في الآية صنعة الاحتباك. وَتَحْسَبُهُمْ بفتح السين. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي بكسرها أي تظنهم، والخطاب فيه كما فيما سبق. والظاهر أن هذا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 213 إخبار مستأنف وليس على تقدير شيء، وقيل في الكلام حذف والتقدير ولو رأيتهم تحسبهم أَيْقاظاً جمع يقظ بكسر القاف كأنكاد ونكد كما في الكشاف وبضمها كأعضاد وعضد كما في الدر المصون. وفي القاموس رجل يقظ كندس وكتف فحكى اللغتين ضم العين وكسرها وهو اليقظان ومدار الحسبان انفتاح عيونهم على هيئة الناظر كما قال غير واحد. وقال ابن عطية: يحتمل أن يحسب الرائي ذلك لشدة الحفظ الذي كان عليهم وقلة التغير وذلك لأن الغالب على النيام استرخاء وهيئات يقتضيها النوم فإذا لم تكن لنائم يحسبه الرائي يقظان وإن كان مسدود العينين ولو صح فتح أعينهم بسند يقطع العذر كان أبين في هذا الحسبان. وقال الزجاج: مداره كثرة تقلبهم، واستدل عليه بذكر ذلك بعد، وفيه أنه لا يلائمه وَهُمْ رُقُودٌ جمع راقد أي نائم، وما قيل إنه مصدر أطلق على الفاعل واستوى فيه القليل والكثير كركوع وقعود لأن فاعلا لا يجمع على فعول مردود لأنه نص على جمعه كذلك النحاة كما صرح به في المفصل والتسهيل، وهذا تقرير لما لم يذكر فيما سلف اعتمادا على ذكره السابق من الضرب على آذانهم وَنُقَلِّبُهُمْ في رقدتهم كثيرا ذاتَ الْيَمِينِ أي جهة تلي أيمانهم وَذاتَ الشِّمالِ أي جهة تلي شمائلهم كيلا تأكل الأرض ما عليها من أبدانهم كما أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر عن ابن جبير، واستبعد ذلك وقال الإمام: إنه عجيب فإن الله تعالى الذي قدر على أن يبقيهم أحياء تلك المدة الطويلة هو عز وجل قادر على حفظ أبدانهم أيضا من غير تقليب، وأجيب بأنه اقتضت حكمته تعالى أن يكون حفظ أبدانهم بما جرت به العادة وإن لم نعلم وجه تلك الحكمة، ويجري نحو هذا فيما قيل في التزاور وأخيه، وقيل يمكن أن يكون تقليبهم حفظا لما هو عادتهم في نومهم من التقلب يمينا وشمالا اعتناء بشأنهم. وقيل يحتمل أن يكون ذلك إظهارا لعظيم قدرته تعالى في شأنهم حيث جمع تعالى شأنه فيهم الإنامة الثقيلة المدلول عليها بقوله تعالى: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ [الكهف: 11] والتقليب الكثير، ومما جرت به العادة أن النوم الثقيل لا يكون فيه تقلب كثير، ولا يخفى بعده. واختلف في أوقات تقليبهم فأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا يقلبون في كل ستة أشهر مرة، وأخرج غير واحد عن أبي عياض نحوه، وقيل يقلبون في كل سنة مرة، وذلك يوم عاشوراء، وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أن التقليب في التسع سنين الضميمة ليس فيما سواها، وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن هذا التقليب في رقدتهم الأولى يعني الثلاثمائة سنة، وكانوا يقلبون في كل عام مرة ولم يكن في مدة الرقدة الثانية يعني التسع. وتعقب الإمام ذلك بأن هذه التقديرات لا سبيل للعقل إليها ولفظ القرآن لا يدل عليها وما جاء فيها خبر صحيح انتهى. فظاهر الآية يدل على الكثرة لمكان المضارع الدال على الاستمرار التجددي مع ما فيه من التثقيل، والظاهر أن وَنُقَلِّبُهُمْ إخبار مستأنف، وجوز الطيبي بناء على ما سمعت عن الزجاج كون الجملة في موضع الحال وهو كما ترى، وقرىء «ويقلبهم» بالياء آخر الحروف مع التشديد والضمير لله تعالى، وقيل للملك. وقرأ الحسن فيما حكى الأهوازي في الإقناع «ويقلبهم» بياء مفتوحة وقاف ساكنة ولام مخففة، وقرأ فيما حكى ابن جني «وتقلبهم» على المصدر منصوبا، ووجهه أنه مفعول لفعل محذوف يدل عليه «وتحسبهم» أي وترى أو تشاهد تقلبهم، وروي عنه أيضا أنه قرأ كذلك إلا أنه رفع، وهو على الابتداء كما قال أبو حاتم والخبر ما بعد أو محذوف أي آية عظيمة أو من آيات الله تعالى، وحكى ابن خالويه هذه القراءة عن اليماني وذكر أن عكرمة قرأ «وتقلبهم» بالتاء ثالثة الحروف مضارع قلب مخففا، ووجه بأنه على تقدير وأنت تقلبهم وجعل الجملة حالا من فاعل تَحْسَبُهُمْ وفي إشارة إلى قوة اشتباههم بالإيقاظ بحيث إنهم يحسبون إيقاظا في حال سبر أحوالهم وقلبهم ذات اليمين وذات الشمال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 214 وَكَلْبُهُمْ الظاهر أنه الحيوان المعروف النباح، وله أسماء كثيرة أفرد لها الجلال السيوطي رسالة، قال كعب الأحبار: هو كلب مروا به فتبعهم فطردوه فعاد ففعلوا ذلك مرارا. فقال لهم: ما تريدون مني لا تخشوا جانبي أنا أحب أحياء الله تعالى فناموا وأنا أحرسكم ، وروي عن ابن عباس أنه كلب راع مروا به فتبع دينهم وذهب معهم وتبعهم الكلب، وقال عبيد بن عمير: هو كلب صيد أحدهم، وقيل: كلب غنمه ولا بأس في شريعتنا باقتناء الكلب لذلك وأما فيما عداه وما عدا ما ألحق به فمنهي عنه، ففي البخاري عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما من اقتنى كلبا ليس بكلب صيد أو ماشية نقص كل يوم من عمله قيراطان، وفي رواية قيراط، واختلف في لونه فأخرج ابن أبي حاتم من طريق سفيان قال: قال لي رجل بالكوفة يقال له عبيد وكان لا يتهم بكذب رأيت كلب أصحاب الكهف أحمر كأنه كساء أنبجاني، وأخرج عن كثير النواء قال: كان الكلب أصفر، وقيل كان أنمر (1) وروي ذلك عن ابن عباس، وقيل غير ذلك، وفي اسمه فأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قطمير، وأخرج عن مجاهد أنه قطمورا، وقيل ريان، وقيل ثور، وقيل غير ذلك، وهو في الكبر على ما روي عن ابن عباس فوق القلطي ودون الكردي. وأخرج ابن أبي حاتم عن عبيد أنه قال رأيته صغيرا زينينا. قال الجلال السيوطي: يعني صينيا، وفي التفسير الخازني تفسير القلطي بذلك، وزعم بعضهم أن المراد بالكلب هنا الأسد وهو على ما في القاموس أحد معانيه. وقد جاء أنه صلّى الله عليه وسلّم دعا على كافر بقوله: اللهم سلط عليه كلبا من كلابك فافترسه أسد وهو خلاف الظاهر، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال: قلت لرجل من أهل العلم زعموا أن كلبهم كان أسدا فقال: لعمر الله ما كان أسدا ولكنه كان كلبا أحمر خرجوا به من بيوتهم يقال: له قطمورا وأبعد من هذا زعم من ذهب إلى أنه رجل طباخ لهم تبعهم أو أحدهم قعد عند الباب طليعة لهم، نعم حكى أبو عمرو الزاهدي غلام ثعلب أنه قرىء «وكالبهم» بهمزة مضمومة بدل الباء وألف بعد الكاف من كلأ إذا حفظ. ولا يبعد فيه أن يراد الرجل الربيئة لكن ظاهر القراءة المتواترة يقتضي إرادة الكلب المعروف منه أيضا وإطلاق ذلك عليه لحفظه ما استحفظ عليه وحراسته إياه. وقيل في هذه القراءة إنها تفسير أو تحريف، وقرأ جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه «وكالبهم» بباء موحدة وزنة اسم الفاعل والمراد صاحب كلبهم كما تقول لابن وتامر أي صاحب لبن وتمر وجاء في شأن كلبهم أنه يدخل الجنة يوم القيامة. فعن خالد ابن معدان ليس في الجنة من الدواب إلا كلب أصحاب الكهف وحمار بلعم، ورأيت في بعض الكتب أن ناقة صالح وكبش إسماعيل أيضا في الجنة ورأيت أيضا أن سائر الحيوانات المستحسنة في الدنيا كالظباء والطواويس وما ينتفع به المؤمن كالغنم تدخل الجنة على كيفية تليق بذلك المكان وتلك النشأة وليس فيما ذكر خبر يعول عليه فيما أعلم نعم في الجنة حيوانات مخلوقة فيها، وفي خبر يفهم من كلام الترمذي صحته التصريح بالخيل منها والله تعالى أعلم. وقد اشتهر القول بدخول هذا الكلب الجنة حتى إن بعض الشيعة يسمون أبناءهم بكلب علي ويؤمل من سمي بذلك النجاة بالقياس الأولوي على ما ذكر وينشد: فتية الكهف نجا كلبهم ... كيف لا ينجو غدا كلب علي ولعمري إن قبله علي كرم الله تعالى وجهه كلبا له نجا ولكن لا أظن يقبله لأنه عقور باسِطٌ ذِراعَيْهِ مادهما، والذراع من المرفق إلى رأس الأصبع الوسطى ونصب ذِراعَيْهِ على أنه مفعول باسِطٌ وعمل مع أنه بمعنى الماضي واسم الفاعل لا يعمل إذا كان كذلك لأن المراد حكاية الحال الماضية. وذهب الكسائي وهشام وأبو جعفر   (1) أي فيه نمرة بيضاء ونمرة سوداء اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 215 ابن مضاء إلى جواز عمل اسم الفاعل كيفما كان فلا سؤال ولا جواب بِالْوَصِيدِ بموضع الباب ومحل العبور من الكهف وأنشدوا: بأرض فضاء لا يسد وصيدها ... علي ومعروفي بها غير منكر وهو المراد بالفناء في التفسير المروي عن ابن عباس ومجاهد وعطية، وقيل بالعتبة والمراد بها ما يحاذي ذلك من الأرض لا المتعارف، فلا يقال إن الكهف لا باب له ولا عتبة على أنه لا مانع من ذلك. وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن جبير أن الوصيد الصعيد وليس بذاك وذكروا في حكمة كونه بالوصيد غيرنا ومعهم أن الملائكة عليهم السلام لا تدخل بيتا فيه كلب وقد يقال: إن ذلك لكونه حارسا كما يشير إليه ما أخرجه ابن المنذر عن ابن جريج قال: باسط ذراعيه بالوصيد يمسك عليهم باب الكهف وكان فيما قيل يكسر أذنه اليمنى وينام عليها إذا قلبوا ذات اليمين، ويكسر أذنه اليسرى وينام عليها إذا قلبوا ذات الشمال، والظاهر أنه نام كما ناموا لكن أخرج ابن أبي حاتم عن عبد الله بن حميد المكي أنه جعل رزقه في لحس ذراعيه فإنه كالظاهر أنه لم يستغرق نومه كما استغرق نومهم لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لو عاينتهم وشاهدتهم وأصل الاطلاع الوقوف على الشيء بالمعاينة والمشاهدة، وقرأ ابن وثاب والأعمش «لو اطلعت» بضم الواو تشبيها لها بواو الضمير فإنها قد تضم إذا لقيها ساكن نحو رموا السهام وروي أن ذلك عن شيبة وأبي جعفر. لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً أي لأعرضت بوجهك عنهم وأوليتهم كشحك، ونصب فِراراً إما على المصدر لوليت إذ التولية، والفرار من واد واحد فهو كجلست قعودا أو لفررت محذوفا، وإما على الحالية بتأويله باسم الفاعل أو بجعله من باب فإنما هي إقبال وإدبار، وإما على أنه مفعول لأجله أي لرجعت لأجل الفرار وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً أي خوفا يملا الصدر، ونصب على أنه مفعول ثان، ويجوز أن يكون تمييزا وهو محول عن الفاعل، وكون الخوف يملأ مجاز في عظمه مشهور كما يقال في الحسن إنه يملأ العيون. وفي البحر أبعد من ذهب إلى أنه تمييز محول عن المفعول كما في قوله تعالى شأنه: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً [القمر: 12] لأن الفعل لو سلط عليه ما تعدى إليه تعدي المفعول به بخلاف ما في الآية، وسبب ما ذكر أن الله عز وجل ألقى عليهم من الهيبة والجلال ما ألقى، وقيل سببه طول شعورهم وأظفارهم وصفرة وجوههم وتغير أطمارهم وقيل: إظلام المكان وإيحاشه. وتعقب ذلك أبو حيان بأن القولين ليسا بشيء لأنهم لو كانوا بتلك الصفة أنكروا أحوالهم ولم يقولوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ولأن الذي بعث إلى المدينة لم ينكر إلا المعالم والبناء لا حال نفسه ولأنهم بحالة حسنة بحيث لا يفرق الرائي بينهم وبين الإيقاظ وهم في فجوة موصوفة بما مر فكيف يكون مكانهم موحشا اه. وأجيب بأنهم لا يبعد عدم تيقظهم لحالهم فإن القائم من النوم قد يذهل عن كثير من أموره ويدعى استمرار الغفلة في الرسول وإنكاره للمعالم لا ينافي إنكار الناس لحاله وكونه على حالة منكرة لم يتنبه لها، وأيضا يجوز أنهم لم يطلعوا على حالهم ابتداء فقالوا: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ثم تنبهوا له فقالوا: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ، وأيضا يجوز أن يكون هذا الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم وذلك الحال إنما حدث بعد انتباههم الذي بعثوا فيه رسولهم إلى المدينة، وعلى هذا لا يضر عدم إنكار الرسول حال نفسه لأنه لم يحدث له ما ينكر بعد، وإيحاش المكان يجوز أن يكون حدث بعد على هذا أيضا، وذلك بتغيره بمرور الزمان اه، ولا يخفى على منصف ما في هذه الأجوبة فالذي ينبغي أن يعول عليه أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 216 السبب في ذلك ما ألقى الله تعالى عليهم من الهيبة وهم في كهفهم وأن شعورهم وأظفارهم إن كانت قد طالت فهي لم تطل إلى حد ينكره من يراه، واختار بعض المفسرين أن الله تعالى لم يغير حالهم وهيئتهم أصلا ليكون ذلك آية بينة، والخطاب هنا كالخطاب فيما سبق، وعلى احتمال أن يكون له صلّى الله عليه وسلّم يلزم أن يكونوا باقين على تلك الحالة التي توجب فرار المطلع عليهم ومزيد رعبه إلى ما بعد نزول الآية فمن لا يقول به لا يقول به. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: غزونا مع معاوية غزوة المضيق نحو الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف الذين ذكر الله تعالى في القرآن فقال معاوية: لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم فقال له ابن عباس: ليس ذلك لك قد منع الله تعالى ذلك من هو خير منك فقال: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً فقال معاوية: لا أنتهي حتى أعلم علمهم فبعث رجالا وقال: اذهبوا فادخلوا الكهف وانظروا فذهبوا فلما دخلوه بعث الله تعالى عليهم ريحا فأخرجتهم، قيل وكأن معاوية إنما لم يجر على مقتضى كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ظنا منه تغير حالهم عما كانوا عليه أو طلبا لعلمهم مهما أمكن. وأخرج ابن أبي حاتم عن شهر بن حوشب قال: كان لي صاحب ماض شديد النفس فمر بجانب الكهف فقال: لا أنتهي حتى أنظر إليهم فقيل له: لا تفعل أما تقرأ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ إلخ فأبى إلا أن ينظر فأشرف عليهم فابيضت عيناه وتغير شعره وكان يخبر الناس بأن عدتهم سبعة، وربما يستأنس بمثل هذه الأخبار لوجودهم اليوم بل لبقائهم على تلك الحالة التي لا يستطاع معها الوقوف على أحوالهم وفي ذلك خلاف. فحكى السهيلي عن قوم القول به، وعن ابن عباس إنكاره فقد أخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن عكرمة أن ابن عباس غزا مع حبيب بن مسلمة فمروا بالكهف فإذا فيه عظام فقال رجل هذه عظام أهل الكهف فقال ابن عباس: لقد ذهبت عظامهم منذ أكثر من ثلاثمائة سنة، ولا يخفى ما بين هذا الخبر والخبر السابق عنه بل والآخر أيضا من المخالفة، والذي يميل القلب إليه عدم وجودهم اليوم وإنهم إن كانوا موجودين فليسوا على تلك الحالة التي أشار الله تعالى إليها وأن الخطاب الذي في الآية لغير معين وأن المراد منها الأخبار عن أنهم بتلك الحالة في ذلك الوقت، وما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أصحاب الكهف أعوان المهدي» على تقدير صحته لا يدل على وجودهم اليوم على تلك الحالة وأنه عليه الصلاة والسلام على القول بعموم الخطاب ليس من الأفراد المعينة به لأنه صلّى الله عليه وسلّم اطلع على ما هو أعظم منهم من ملكوت السموات والأرض، ومن جعله صلّى الله عليه وسلّم معينا قال: المراد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا بحكم جري العادة والطبيعة البشرية وعدم ترتب الجزاء على اطلاعه صلّى الله عليه وسلّم على ما هو أعظم منهم أمر خارق للعادة ومنوط بقوة ملكية بل بما هو فوقها أو المراد لو اطلعت عليهم بنفسك من غير أن نطلعك عليهم لوليت منهم فرارا إلخ واطلاعه عليه الصلاة والسلام على ما اطلع عليه كان باطلاع الله عز وجل إياه وفرق بين الإطلاعين. يحكى أن موسى عليه السلام وجعه بطنه فشكى إلى ربه سبحانه فقال له: اذهب إلى نبات كذا في موضع كذا فكل منه فذهب وأكل فذهب ما كان يجد ثم عاوده ذلك بعد سنوات فذهب إلى ذلك النبات فأكل منه فلم ينتفع به فقال يا رب أنت أعلم وجعني بطني في سنة كذا فأمرتني أن أذهب إلى نبات كذا فذهبت فأكلت فانتفعت ثم عاودني ما كنت أجد فذهبت إلى ذلك وأكلت فلم أنتفع فقال سبحانه: أتدري يا موسى ما سبب ذلك؟ قال: لا يا رب قال: السبب أنك في المرة الأولى ذهبت منا إلى النبات وفي المرة الثانية ذهبت من نفسك إليه . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 217 ومما يستهجن من القول ما يحكى عن بعض المتصوفة أنه سمع قارئا يقرأ هذه الآية فقال: لو اطلعت أنا ما وليت منهم فرارا وما ملئت منهم رعبا. وما نقل عن بعضهم من الجواب بأن مراد قائله إثبات مرتبة الطفولية لنفسه فإن الطفل لا يهاب الحية مثلا إذا رآها ولا يفرق بينها وبين الحبل على تقدير تسليم أن مراده ذلك لا يدفع الاستهجان، وذلك نظير قول من قال سبحانه وتعالى لا يعلم الغيب على معنى أنه لا غيب بالنسبة إليه عز وجل ليتعلق به علمه، ولنعم ما قال عمر رضي الله تعالى عنه: كلموا الناس بما يفهمون أتريدون أن يكذب الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم. هذا وقرأ ابن عباس والحرميان وأبو حيوة وابن أبي عبلة «ولملئت» بتشديد اللام والهمزة، وقرأ أبو جعفر وشيبة بتشديد اللام وقلب الهمزة ياء وقرأ الزهري بالتخفيف والقلب وقرأ أبو جعفر وعيسى «رعبا» بضم العين وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ أي كما أنمناهم هذه الإنامة الطويلة وهي المفهومة مما مر أيقظناهم فالمشبه الإيقاظ والمشبه به الإنامة المشار إليها ووجه الشبه كون كل منهما آية دالة على كمال قدرته الباهرة عز وجل. لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ أي ليسأل بعضهم بعضا فيترتب عليه ما فصل من الحكم البالغة وجعل علة للبعث المعلل بما سبق فيما سبق قيل من حيث إنه من أحكامه المترتبة عليه والاقتصار على ذكره لاستتباعه لسائر آثاره، وجعل غير واحد اللام للعاقبة، واستظهره الخفاجي وادعى أن من فعل ذلك لاحظ أن الغرض من فعله تعالى شأنه إظهار كمال قدرته لا ما ذكر من التساؤل فتأمل. قالَ استئناف لبيان تساؤلهم قائِلٌ مِنْهُمْ قيل هو كبيرهم مكسلمينا، وقيل صاحب نفقتهم يمليخا كَمْ لَبِثْتُمْ أي كم يوما أقمتم نائمين، وكأنه قال ذلك لما رأى من مخالفة حالهم لما هو المعتاد في الجملة، وقيل راعهم ما فاتهم من الصلاة فقالوا ذلك: قالُوا أي قال بعضهم: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ أو للشك كما قاله غير واحد، والمراد لم نتحقق مقدار لبثنا أي لا ندري أن مدة ذلك هل هي مقدار مدة يوم أو مقدار مدة بعض يوم منه، والظاهر أنهم قالوا ذلك لأن لوثة النوم لم تذهب من بصرهم وبصيرتهم فلم ينظروا إلى الأمارات، وهذا مما لا غبار عليه سواء كان نومهم وانتباههم جميعا أو أحدهما في النهار أم لا، والمشهور أن نومهم كان غدوة وانتباههم كان آخر النهار، وقيل فلم يدروا أن انتباههم في اليوم الذي ناموا فيه أم في اليوم الذي بعده فقالوا ما قالوا، واعترض بأن ذلك يقتضي أن يكون التردد في بعض يوم ويوم وبعض، ومن هنا قيل إن أو للإضراب، وذلك أنهم لما انتبهوا آخر النهار وكانوا في جوف الغار ولوثة النوم لم تفارقهم بعد قالوا قبل النظر لَبِثْنا يَوْماً ثم لما حققوا أن الشمس لم تغرب بعد قالوا: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ وأنت تعلم أن الظاهر أنها لك والاعتراض مندفع بإرادة ما سمعت منه، نعم هو في ذلك مجاز، وحكى أبو حيان أنها للتفصيل على معنى قال بعضهم: لبثنا يوما، وقال آخرون: لبثنا بعض يوم وقول كل مبنى على غالب الظن على ما قيل فلا يكون كذبا ولا يخفى أن القول بأنها للتفصيل مما لا يكاد يذهب إليه الذهن، ولا حاجة إلى بناء الأمر على غالب الظن لنفي أن يكون كذبا بناء على ما ذكرنا من أن المراد لم نتحقق مقداره كما ذكره أهل المعاني في قول النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد سلم سهوا من صلاة رباعية فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ قال: كل ذلك لم يكن قالُوا أي قال بعض آخر منهم استدلالا أو إلهاما رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ أي أنتم لا تعلمون مدة لبثكم، وإنما يعلمها الله سبحانه، وهذا رد منهم على الأولين على أحسن ما يكون من مراعاة حسن الأدب وبه كما قيل يتحقق التحزب إلى الحزبين المعهودين فيما سبق، وقيل قائل القولين متحد لكن الحالة مختلفة. وتعقب بأنه لا يساعده النظم الكريم فإن الاستئناف في الحكاية والخطاب في المحكي يقضي بأن الكلام جار الجزء: 8 ¦ الصفحة: 218 على منهاج المحاورة والمجاوبة وإلا لقيل ثم قالوا ربنا أعلم بما لبثنا فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ أي واحدا منكم ولم يقل واحدكم لإيهامه إرادة سيدكم فكثيرا ما يقال جاء واحد القوم ويراد سيدهم بِوَرِقِكُمْ أي بدراهمكم المضروبة كما هو مشهور بين اللغويين، وقيل الورق الفضة مضروبة أو غير مضروبة، واستدل عليه بما وقع في حديث عرفجة أنه لما قطع أنفه اتخذ أنفا من ورق فانتن فاتخذ أنفا من ذهب فإن الظاهر أنه أطلق فيه الورق على غير المضروب من الفضة، وقول الأصمعي كما حكى عنه القتيبي الورق في الحديث بفتح الراء، والمراد به الورق الذي يكتب فيه لأن الفضة لا تنتن لا يعول عليه والمنتن الذي ذكره لا صحة له، وقرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر والحسن والأعمش واليزيدي ويعقوب في رواية، وخلف وأبو عبيد وابن سعدان «بورقكم» بإسكان الراء، وقرأ أبو رجاء بكسر الواو وإسكان الراء وإدغام القاف في الكاف، وكذا إسماعيل عن ابن محيصن، وعنه أيضا أنه قرأ كذلك إلا أنه كسر الراء لئلا يلزم التقاء الساكنين على غير حده كما في الرواية الأخرى، وبهذا اعترض عليها، وأجيب بأن ذلك جائز وواقع في كلام العرب لكن على شذوذ، وقد قرىء «نعما» بسكون العين والإدغام، وما قيل إنه لا يمكن التلفظ به قيل عليه إنه سهو، وحكى الزجاج أنه قرىء بكسر الواو وسكون الراء من غير إدغام. وقرأ على كرم الله تعالى وجهه «بوارقكم» على وزن فاعل جعله اسم جمع كباقر وحامل، ووصف الورق بقوله تعالى: هذِهِ يشعر بأن القائل أحضرها ليناولها بعض أصحابه وإشعاره بأنه ناولها إياه بعيد، وفي حملهم لها دليل على أن التأهب لأسباب المعاش لمن خرج من منزله بحمل النفقة ونحوها لا ينافي التوكل على الله تعالى كما في الحديث «اعقلها وتوكل» نعم قال بعض الأجلة: إن توكل أبي وقاص وأبي مسلم الخولاني بالجيوش على متن البحر ودخول تميم في الغار التي خرجت منه نار الحرة ليردها بأمر عمر رضي الله تعالى عنه. وقد نص الإمام أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة على جواز دخول المفاوز بغير زاد وترك التكسب والتطبب لمن قوي يقينه وتوكله، وفسر الإمام أحمد التوكل بقطع الاستشراف باليأس من المخلوقين، واستدل عليه بقول إبراهيم عليه السلام حين عرض له جبريل عليه السلام يوم ألقي في النار وقال له: ألك حاجة؟ أما إليك فلا ، وليس طرح الأسباب سبيل توكل الخواص عند الصوفية فقط كما يشعر به كلام بعض الفضلاء بل جاء عن غيرهم أيضا إِلَى الْمَدِينَةِ المعهودة وهي المدينة التي خرجوا منها قيل وتسمى الآن طرسوس وكان اسمها يوم خرجوا منها أفسوس، وبهذا يجمع بين الروايتين السابقتين، وكان هذا القول صدر منهم إعراضا عن التعمق في البحث وإقبالا على ما يهمهم بحسب الحال كما ينبىء عنه الفاء، وذكر بعضهم أن ذلك من باب الأسلوب الحكيم كقوله: أتت تشتكي عندي مزاولة القرى ... وقد رأت الضيفان ينحون منزلي فقلت كأني ما سمعت كلامها ... هم الضيف جدي في قراهم وعجلي فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً أي أحل فإن أهل المدينة كانوا في عهدهم يذبحون للطواغيت كما روى سعيد بن منصور وغيره عن ابن عباس، وفي رواية أخرى أنهم كانوا يذبحون الخنازير، وقال الضحاك: إن أكثر أموالهم كانت مغصوبة فأزكى من الزكاة وأصلها النمو والزيادة وهي تكون معنوية أخروية وحسية دنيوية وأريد بها الأولى لما في توخي الحلال من الثواب وحسن العاقبة، وقال ابن السائب. ومقاتل: أي أطيب فإن كان بمعنى أحل لأنه يطلق عليه رجع إلى الأول وإن كان بمعناه المتبادر فالزيادة قيل حسية دنيوية، وقال عكرمة: أي أكثر. وقال يمان بن ريان: أي أرخص، وقال قتادة: أي أجود وهو أجود، وعليه وكذا على سابقيه على ما قيل تكون الزيادة حسية دنيوية أيضا زعم بعضهم أنهم عنوا بالأزكى الأرز وقيل التمر وقيل الزبيب، وحسن الظن بالفتية يقتضي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 219 أنهم تحروا الحلال، والنظر يحتمل أن يكون من نظر القلب وأن يكون من نظر العين، وأي استفهام مبتدأ وأَزْكى خبره والجملة معلق عنها الفعل للاستفهام. وجوز أن يكون أي موصولا مبنيا مفعولا لينظر وأَزْكى خبر مبتدأ محذوف هو صدر الصلة وضمير أيها إما للمدينة والكلام على تقدير مضاف أي أي أهلها وإما للمدينة مرادا بها أهلها مجازا، وفي الكلام استخدام ولا حذف، وإما لما يفهم من سياق الكلام كأنه قيل فلينظر أي الأطعمة أو المأكل أزكى طعاما فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ أي من ذلك الأزكى طعاما فمن لابتداء الغاية أو التبعيض، وقيل الضمير للورق فيكون من للبدل، ثم إن الفتية إن لم يكن تحروا الحلال سابقا فليكن مرادهم بالرزق هنا الحلال وإن لم يكن مختصا به عندنا. واستدل بالآية وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يعلم منه ما فيه على صحة الوكالة والنيابة. قال ابن العربي: وهي أقوى آية في ذلك وفيها كما قال الكيا دليل على جواز خلط دراهم الجماعة والشراء بها والأكل من الطعام الذي بينهم بالشركة وإن تفاوتوا في الأكل نعم لا بأس للأكول أن يزيد حصته من الدراهم وَلْيَتَلَطَّفْ أي وليتكلف اللطف في المعاملة كيلا تقع خصومة تجر إلى معرفته أو ليتكلف اللطف في الاستخفاء دخولا وخروجا، وقيل ليتكلف ذلك كي لا يغبن فيكون قوله تعالى: وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً أي لا يفعلن ما يؤدي إلى شعور أحد من أهل المدينة بكم تأسيسا على هذا وهو على الأولين تأكيد للأمر بالتلطف وتفسيره بما ذكر من باب الكناية نحو لا أرينك هاهنا وفسره الإمام بلا يخبرن بكم أحدا فهو على ظاهره، وقرأ الحسن «وليتلطّف» بكسر لام الأمر، وعن قتيبة الميال «وليتلطف» بضم الياء مبنيا للمفعول. وقرأ هو وأبو صالح ويزيد بن القعقاع «ولا يشعرن بكم أحد» ببناء الفعل للفاعل ورفع أحد على أنه الفاعل إِنَّهُمْ تعليل لما سبق من الأمر والنهي والضمير للأهل المقدر في أيها أو للكفار الذي دل عليه المعنى على ما اختاره أبو حيان، وجوز أن يعود على (أحد) لأنه عام فيجوز أن يجمع ضميره كما في قوله تعالى: فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الحاقة: 47] . إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ أي يطلعوا عليكم ويعلموا بمكانكم أو يظفروا بكم، وأصل معنى ظهر صار على ظهر الأرض، ولما كان ما عليها يشاهد ويتمكن منه استعمل تارة في الإطلاع، وتارة في الظفر والغلبة وعدي بعلى، وقرأ زيد بن علي «يظهروا» بضم الياء مبنيا للمفعول يَرْجُمُوكُمْ إن لم تفعلوا ما يريدونه منكم وثبتم على ما أنتم عليه، والظاهر أن المراد القتل بالرجم بالحجارة، وكان ذلك عادة فيما سلف فيمن خالف في أمر عظيم إذ هو أشفى للقلوب وللناس فيه مشاركة. وقال الحجاج: المراد الرجم بالقول أي السب، وهو للنفوس الأبية أعظم من القتل أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ أي يصيروكم إليها ويدخلوكم فيها مكرهين، والعود في الشيء بهذا المعنى لا يقتضي التلبس به قبل وروي هذا عن ابن جبير، وقيل العود على ظاهره، وهو رجوع الشخص إلى ما كان عليه، وقد كان الفتية على ملة قومهم أولا، وإيثار كلمة في على كلمة إلى، قال بعض المحققين للدلالة على الاستقرار الذي هو أشد كراهة، وتقديم احتمال الرجم على احتمال الإعادة لأن الظاهر من حالهم هو الثبات على الدين المؤدي إليه، وضمير الخطاب في المواضع الأربعة للمبالغة في حمل المبعوث على ما أريد منه والباقين على الاهتمام بالتوصية فإن إمحاض النصح أدخل في القبول واهتمام الإنسان بشأن نفسه أكثر وأوفر. وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً أي إن دخلتم فيها حقيقة ولو بالكره والإلجاء لن تفوزوا بخير لا في الدنيا ولا في الآخرة، ووجه الارتباط على هذا أن الإكراه على الكفر قد يكون سببا لا ستدراج الشيطان إلى استحسانه والاستمرار عليه، وبما ذكر سقط ما قيل إن إظهار الكفر بالإكراه مع إبطان الإيمان معفو في جميع الأزمان فكيف رتب عليه عدم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 220 الفلاح أبدا، ولا حاجة إلى القول بأن إظهار الكفر مطلقا كان غير جائز عندهم، ولا إلى حمل يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ على يميلوكم إليها بالإكراه وغيره فتدبر، ثم إن الفتية بعثوا أحدهما وكان على ما قال غير واحد يمليخا فكان ما أشار الله تعالى إليه بقوله سبحانه وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ أي كما أنمناهم وبعثناهم فالإشارة إلى الإنامة والبعث والإفراد باعتبار ما ذكر ونحوه. وقال العز بن عبد السلام في أماليه: الإشارة إلى البعث المخصوص وهو البعث بعد تلك الإنامة الطويلة، وأصل العثور كما قال الراغب السقوط للوجه يقال عثر عثورا وعثارا إذا سقط لوجهه، وعلى ذلك قولهم في المثل الجواد لا يكاد يعثر، وقولهم من سلك الجدد أمن العثار ثم تجوز به في الاطلاع على أمر من غير طلبه. وقال الإمام المطرزي: لما كان كل عاثر ينظر إلى موضع عثرته ورد العثور بمعنى الاطلاع والعرفان فهو في ذلك مجاز مشهور بعلاقة السببية وإن أوهم ذكر اللغويين له أنه حقيقة في ذلك، وجعله الغوري حقيقة في الاطلاع على أمر كان خفيا وأمر التجوز على حاله، ومفعول أَعْثَرْنا الأول محذوف لقصد العموم أي وكذلك أطلعنا الناس عليهم. وقال أبو حيان: أهل مدينتهم لِيَعْلَمُوا أي الذين أطلعناهم عليهم بما عاينوا من أحوالهم العجيبة أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ أي وعده سبحانه وتعالى بالبعث على أن الوعد بمعناه المصدري ومتعلقه مقدر أو موعوده تعالى شأنه الذي هو البعث على أن المصدر مؤول باسم المفعول المراد موعوده المعهود، ويجوز أن يراد كل وعده تعالى أو كل موعوده سبحانه ويدخل في ذلك ما ذكر دخولا أوليا حَقٌّ صادق لا خلف فيه أو ثابت متقحق سيقع ولا بد قيل لأن نومهم الطويل المخالف للمعتاد وانتباههم كالموت والبعث. وَأَنَّ السَّاعَةَ أي القيامة التي هي في لسان الشرع عبارة عن وقت بعث الخلائق جميعا للحساب والجزاء. لا رَيْبَ فِيها أي ينبغي أن لا يرتاب الآن في إمكان وقوعها لأنه لا يبقى بيد المرتابين في ذلك بعد النظر والبحث سوى الاستناد إلى الاستبعاد وعلمهم بوقوع ذلك الأمر الغريب والحال العجيب الذي لو سمعوه ولم يتحققوا وقوعه لاستبعدوه وارتابوا فيه ارتيابهم في ذلك يكسر شوكة ذلك الاستبعاد ويهدم ذلك الاستناد فينبغي حينئذ أن لا يرتابوا. وقال بعض المحققين في توجيه ترتب العلم بما ذكر على الاطلاع: إن من شاهد أنه جل وعلا توفي نفوسهم وأمسكها ثلاثمائة سنة وأكثر حافظا أبدانها من التحلل والتفتت ثم أرسلها إليها لا يبقى معه شائبة شك في أن وعده تعالى حق وأنه تعالى يبعث من في القبور فيرد عليهم أرواحهم فيحاسبهم ويجازيهم بحسب أعمالهم اه. وأنت تعلم أن في استفادة العلم بالمحاسبة والمجازاة من الإطلاع على حال القوم نظرا. واعترض بأن المطلوب في البعث إعادة الأبدان بعد تفرق أجزائها وما في القصة طول حفظ الأبدان وأين هذا من ذلك؟ والقول بأنه متى صح طول حفظ الأبدان المحتاجة إلى الطعام والشراب صح قدرته سبحانه على إعادتها بعد تفرق أجزائها بطريق الأولى غير مسلم. وأجيب بأن طول الحفظ المذكور يدل على قدرته تعالى على ما ذكر بطريق الحدس فليتدبر. ولعل الأظهر توجيه الترتب بما ذكره أولا، وتوضيحه أن حال الفتية حيث ناموا في تلك المدة المديدة والسنين العديدة وحبست عن التصرف نفوسهم وتعطلت مشاعرهم وحواسهم من غير تصاعد أبخرة شراب وطعام أو نزول علل وأسقام وحفظت أبدانهم عن التحلل والتفتت وأبقيت على ما كانت عليه من الطراوة والشباب في سالف الأعوام حتى رجعت الحواس والمشاعر إلى حالها وأطلقت النفوس من عقالها وأرسلت إلى تدبير أبدانها والتصرف في خدامها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 221 وأعوانها فرأت الأمر كما كان والأعوان هم الأعوان ولم تنكر شيئا عهدته في مدينتها ولم تتذكر طول حبسها عن التصرف في سرير سلطنتها، وحال الذين يقومون من قبورهم بعد ما تعطلت مشاعرهم وحبست نفوسهم ثم لما أطلقت وجدت ربوعا عامرة ومنازل كأنها لم تكن دائرة قائلين قبل أن يكشر عن أنيابه العنا من بعثنا من مرقدنا في الغرابة من صقع واحد ولا ينكر ذلك إلا جاهل أو معاند، ووقوع الأول يزيل الارتياب في إمكان وقوع الثاني حيث كان مستندا إلى الاستبعاد في الحقيقة كما سمعت فيما قبل لبطلان أدلة النافين للحشر الجسماني، نعم في ترتب العلم بأن البعث سيقع لا محالة على نفس الإطلاع على حال الفتية خفاء فإن الظاهر أن العلم المذكور إنما يترتب على إخبار الصادق بوقوعه وعلى إمكانه في نفسه لكن لما كان الاطلاع المذكور سببا للعلم بالإمكان وكان كالجزء الأخير من العلة بالنسبة للكفار الذين بلغهم خبر الصادق قيل بترتب العلم بذلك عليه، وكذا في ترتب العلم بأن كل ما وعده الله تعالى حق على نفس الاطلاع خفاء ولم أر من تعرض لتوجيهه من الفضلاء فتأمل، ثم لا يخفى أن ذكر قوله تعالى: وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها بعد قوله سبحانه أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ على التفسير الذي سمعت مما لا غبار عليه وليس ذلك من ذكر الإمكان بعد الوقوع ليلغو كما زعمه من زعمه. وقال بعضهم: إن الظاهر أن يفسر قوله تعالى أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ بأن كل ما وعده سبحانه متحقق ويجعل قوله تعالى وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها تخصيصا بعد تعميم على معنى لا ريب في تحققها وهو وجه في الآية إلا أن في دعوى الظهور مقالا فلا تغفل إِذْ يَتَنازَعُونَ ظرف لأعثرنا عليهم قدم عليه الغاية إظهارا لكمال العناية بذكرها. وجوز أبو جيان وأبو البقاء وغيرهما كونه ظرفا لِيَعْلَمُوا وتعقب بأنه يدل على أن التنازع يحدث بعد الإعثار مع أنه ليس كذلك، وبأن التنازع كان قبل العلم وارتفع به فكيف يكون وقته وقته، وللمناقشة في ذلك مجال. وجوز أن يكون ظرفا لحق أو لوعد وهو كما ترى. وأصل التنازع التجاذب ويعبر به عن التخاصم، وهو باعتبار أصل معناه يتعدى بنفسه وباعتبار التخاصم يتعدى بفي كقوله تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ [النساء: 59] وضمير يَتَنازَعُونَ لما عاد عليه ضمير لِيَعْلَمُوا أي وكذلك أعثرنا على أصحاب الكهف الناس أو أهل مدينتهم حين يتنازعون بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ويتخاصمون فيه ليرتفع الخلاف ويتبين الحق، وضمير أَمْرَهُمْ قيل عائد أيضا على مفعول أَعْثَرْنا والمراد بالأمر البعث، ومعنى إضافته إليهم اهتمامهم بشأنه والوقوف على حقيقة حاله. وقد اختلفوا فيه فمن مقربه وجاحد وقائل يقول تبعث الأرواح دون الأجساد وآخر يقول ببعثهما معا كما هو المذهب الحق عند المسلمين. روي أنه بعد أن ضرب الله تعالى على آذان الفتية ومضى دهر طويل لم يبق أحد من أمتهم الذين اعتزلوهم وجاء غيرهم وكان ملكهم مسلما فاختلف أهل مملكته في أمر البعث حسبما فصل فشق ذلك على الملك فانطلق فلبس المسوح وجلس على الرماد ثم دعا الله عز وجل فقال: أي رب قد ترى اختلاف هؤلاء فابعث لهم آية تبين لهم فقيض الله تعالى راعي غنم أدركه المطر فلم يزل يعالج ما سد به دقيانوس باب الكهف حتى فتحه وأدخل غنمه فلما كان الغد بعثوا من نومهم فبعثوا أحدهم ليشتري لهم طعاما فدخل السوق فجعل ينكر الوجوه ويعرف الطرق ورأى الإيمان ظاهرا بالمدينة فانطلق وهو مستخف حتى أتى رجلا يشتري منه طعاما فلما نظر الورق أنكرها حيث كانت من ضرب دقيانوس كأنها إخفاف الربع فاتهمه بكنز وقال: لتدلني عليه أو لأرفعنك إلى الملك فقال: هي من ضرب الملك أليس ملككم فلانا؟ فقال الرجل: لا بل ملكنا فلان وكان اسمه يندوسيس فاجتمع الناس وذهبوا به إلى الملك وهو خائف فسأله عن شأنه فقص عليه القصة وكان قد سمع أن فتية خرجوا على عهد دقيانوس فدعا مشيخة أهل مدينته وكان رجل منهم عنده أسماؤهم وأنسابهم فسأله فأخبره بذلك وسأل الفتى فقال: صدق ثم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 222 قال الملك: أيها الناس هذه آية بعثها الله تعالى لكم ثم خرج هو وأهل المدينة ومعهم الفتى فلما رأى الملك الفتية اعتنقهم وفرح بهم ورآهم جلوسا مشرقة وجوههم لم تبل ثيابهم فتكلموا معه وأخبروه بما لقوا من دقيانوس فبينما هم بين يديه قالوا له: نستودعك الله تعالى والسلام عليك ورحمة الله تعالى حفظك الله تعالى وحفظ ملكك ونعيذك بالله تعالى من شر الإنس والجن ثم رجعوا إلى مضاجعهم فتوفاهم الله تعالى فقام الملك إليهم وجعل ثيابه عليهم وأمر أن يجعل كل منهم في تابوت من ذهب فلما كان الليل ونام أتوه في المنام فقالوا: أردت أن تجعل كلا منا في تابوت من ذهب فلا تفعل ودعنا في كهفنا فمن التراب خلقنا وإليه نعود فجعلهم في توابيت من ساج وبنى على باب الكهف مسجدا. ويروى أن الفتى لما أتي به إلى الملك قال: من أنت؟ قال: أنا رجل من أهل هذه المدينة وذكر أنه خرج أمس أو منذ أيام وذكر منزله وأقواما لم يعرفهم أحد وكان الملك قد سمع أن فتية قد فقدوا في الزمان الأول وأن أسماءهم مكتوبة على لوح في الخزانة فدعا باللوح ونظر في أسمائهم فإذا هو من أولئك القوم فقال الفتى: وهؤلاء أصحابي فركب القوم ومن معه فلما أتوا باب الكهف قال الفتى: دعوني حتى أدخل على أصحابي فأبشرهم فإنهم إذا رأوكم معي رعبوا فدخل فبشرهم وقبض الله تعالى أرواحهم وعمي على الملك ومن معه أثرهم فلم يهتدوا إليهم فبنوا عليهم مسجدا وكان وقوفهم على حالهم بأخبار الفتى وقد اعتمدوا صدقه وهذا هو المراد بالإعثار عليهم، وروي غير ذلك، وقيل: ضمير أَمْرَهُمْ للفتية والمراد بالأمر الشأن والحال الذي كان قبل الإعثار أي وكذلك أعثرنا الناس على أصحاب الكهف حين تذاكرهم بينهم أمرهم وما جرى لهم في عهد الملك الجبار من الأحوال والأهوال، ولعلهم قد تلقوا ذلك من الأساطير وأفواه الرجال لكنهم لم يعرفوا هل بقوا أحياء أم حل بهم الفناء، والفاء في قوله تعالى: فَقالُوا ابْنُوا بناء على القول الأول فصيحة بلا ريب على دأب اختصارات القرآن كأنه قيل: وكذلك أعثرنا الناس على أصحاب الكهف حين تنازعهم في أمر البعث فتحققوا ذلك وعلموا أن هؤلاء آية من آياتنا فتوفاهم الله تعالى بعد أن حصل الغرض من الإعثار فقالوا ابْنُوا إلى آخره، وكذلك على القول الثاني كأنه قيل وكذلك أعثرنا الناس على. أصحاب الكهف حين تذاكرهم أمرهم وما جرى لهم في عهد الملك الجبار ولم يكونوا عارفين بما هم عليه فوقفوا من أحوالهم على ما وقفوا واتضح لهم ما كانوا قد جهلوا فتوفاهم الله تعالى بعد أن حصل الغرض من الإعثار فقالوا ابْنُوا إلى آخره أي قال بعضهم ابنوا عَلَيْهِمْ أي على باب كهفهم بُنْياناً نصب على أنه مفعول به، وهو كما قال الراغب واحد لا جمع له، وقال أبو البقاء: هو جمع بنيانة كشعير وشعيرة، وقيل: هو نصب على المصدرية، وهذا القول من البعض عند بعض كان عن اعتناء بالفتية وذلك أنهم ضنوا بتربتهم فطلبوا البناء على باب كهفهم لئلا يتطرق الناس إليهم. وجوزوا في قوله تعالى: رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ بعد القول بأنه اعتراض أن يكون من كلام المتنازعين المعثرين كأنهم تذاكروا أمرهم وتناقلوا الكلام في أنسابهم وأحوالهم ومدة لبثهم فلما لم يهتدوا إلى حقيقة ذلك فوضوا العلم إلى الله تعالى علام الغيوب، وأن يكون من كلامه سبحانه ردا للخائضين في أمرهم إما من المعثرين أو ممن كان في عهده صلّى الله عليه وسلّم من أهل الكتاب وحينئذ يكون فيه التفات على أحد المذهبين، وقيل: ضمير «أمرهم» للفتية والمراد بالأمر الشأن والحال الذي كان بعد الإعثار على أن المعنى إذ يتنازعون بينهم تدبير أمرهم وحالهم حين توفوا كيف يفعلون بهم وبماذا يجلون قدرهم أو إذ يتنازعون بينهم أمرهم من الموت والحياة حيث خفي عليهم ذلك بعد الإعثار فلم يدروا هل ماتوا أو ناموا كما في أول مرة، وعلى هذا تكون إِذْ معمولا لاذكر مضمرا أو ظرفا لقوله تعالى: قالَ الَّذِينَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 223 غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً ويكون قوله تعالى: فَقالُوا معطوفا على يَتَنازَعُونَ وإيثار صيغة الماضي للدلالة على أن هذا القول ليس مما يستمر ويتجدد كالتنازع. وصرح بعض الأجلة أن الفاء على أول المعنيين للتعقيب وعلى ثانيهما فصيحة كأنه قيل: اذكر حين يتنازعون في أنهم ماتوا أو ناموا ثم فرغوا من التنازع في ذلك واهتموا بإجلال قدرهم وتشهير أمرهم فقالوا ابْنُوا إلى آخره، وذكر الزمخشري احتمال كون ضمير أَمْرَهُمْ للمعثرين وأن المراد من أمرهم أمر دينهم وهو البعث واحتمال كون الضمير للفتية، والمعنى حينئذ إذ يتذاكر الناس بينهم أمر أصحاب الكهف ويتكلمون في قصتهم وما أظهر الله تعالى من الآية فيهم أو إذ يتنازعون بينهم تدبير أمرهم حين توفوا كيف يخفون مكانهم وكيف يسدون الطريق إليهم، وجعل إذ في الأوجه ظرفا لأعثرنا. وذكر صاحب الكشف أن الفاء على الأول فصيحة لا محالة وعلى الأخيرين للتعقيب، أما على الثاني منهما فظاهر، وأما على الأول فلأنهم لما تذاكروا قصتهم وحالهم وما أظهر الله تعالى من الآية فيهم قالوا: دعوا ذلك وابنوا عليهم بنيانا أي خذوا فيما هو أهم إلى آخر ما قال، واحتمال جعل الفاء فصيحة على هذا الأول غير بعيد، وتعلق الظرف بأعثرنا على الوجهين الأخيرين وكذا على ما نقلناه آنفا ليس بشيء لأن إعثارهم ليس في وقت التنازع فيما ذكر بل قبله. وجعل وقت التنازع ممتدا يقع في بعضه الإعثار وفي بعضه التنازع تعسف لا يخفى مع أنه لا مخصص لإضافته إلى التنازع وهو مؤخر في الوقوع. وحكي في البحر أن ضمير لِيَعْلَمُوا عائد على أصحاب الكهف، والمراد أعثرنا عليهم ليزدادوا علما بأن وعد الله حق إلى آخره، وجعل ذلك غاية للإعثار بواسطة وقوفهم بسببه على مدة لبثهم بما تحققوه من تبدل القرون، وجعل إِذْ يَتَنازَعُونَ على هذا ابتداء أخبار عن القوم الذين بعثوا في عهدهم، وخص الأمر المتنازع فيه بأمر البناء والمسجد، ويختار حينئذ تعلق الظرف باذكر، ولا يخفى أن جعل ذلك الضمير للفتية وإن دعا لتأويل يعلموا بما سمعت ليس ببعيد الإرادة من النظم الكريم إذا قطع النظر عن الأمور الخارجية كالآثار، ولم يذهب أحد فيما أعلم إلى احتمال كون الضمائر في قوله تعالى: إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ عائدة على الفتية كضمير يعلموا، وإِذْ ظرف أَعْثَرْنا والمراد بالأمر المتنازع مقدار زمن لبثهم وتنازعهم فيه قول بعضهم لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ وقول الآخر ردا عليه رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ وحيث لم يتضح الحال ولم يحصل الإجماع على مقدار معلوم كان التنازع في حكم الباقي فكان زمانه ممتدا فصح أن يكون ظرفا للإعثار وضمير فَقالُوا للمعثرين والفاء فصيحة أي وكذلك أعثرنا الناس على الفتية وقت تنازعهم في مدة لبثهم ليزدادوا علما بالبعث فكان ما كان وصار لهم بين الناس شأن أي شأن فقالوا ابْنُوا إلى آخره. وكأن ذلك لما فيه من التكلف مع عدم مساعدة الآثار إياه، ثم ما ذكر من احتمال كون رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ من كلامه سبحانه جيء به لرد المتنازعين من المعثرين لا يخلو عن بعد، وأما الاحتمال الأخير فبعيد جدا، والظاهر أنه حكاية عن المعثرين وهو شديد الملاءمة جدا لكون التنازع في أمرهم من الموت والحياة، والذي يقتضيه كلام كثير من المفسرين أن غرض الطائفتين القائلين ابْنُوا إلى آخره والقائلين لَنَتَّخِذَنَّ إلى آخره تعظيمهم وإجلالهم، والمراد من الذين غلبوا على أمرهم كما أخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن قتادة الولاة، ويلائمه لَنَتَّخِذَنَّ دون اتخذوا بصيغة الطلب المعبر بها الطائفة الأولى فإن مثل هذا الفعل تنسبه الولاة إلى أنفسها، وضمير أَمْرَهُمْ هنا قيل للموصول المراد به الولاة، ومعنى غلبتهم على أمرهم أنهم إذا أرادوا أمرا لم يتعسر عليهم ولم يحل بينه وبينهم أحد كما قيل في قوله تعالى: وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ [يوسف: 21] . وذكر بعض الأفاضل أن الضمير لأصحاب الكهف، والمراد بالذين غلبوا قيل الملك المسلم، وقيل أولياء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 224 أصحاب الكهف وقيل رؤساء البلد لأن من له الغلبة في هذا النزاع لا بد أن يكون أحد هؤلاء، والمذكور في القصة أن الملك جعل على باب الكهف مسجدا وجعل له في كل سنة عيدا عظيما. وعن الزجاج أن هذا يدل على أنه لما ظهر أمرهم غلب المؤمنون بالبعث لأن المساجد إنما تكون للمؤمنين به انتهى. ويبعد الأول التعبير بما يدل على الجمع، والثاني إن أريد من الأولياء الأولياء من حيث النسب كما في قولهم أولياء المقتول أنه لم يوجد في أثر أن لأصحاب الكهف حين بعثوا أولياء كذلك. وفسر غير واحد الموصول بالملك والمسلمين ولا بعد في إطلاق الأولياء عليهم كما في قوله تعالى: الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التوبة: 71] ويدل هذا على أن الطائفة الأولى لم تكن كذلك، وقد روي أنها كانت كافرة وأنها أرادت بناء بيعة أو مصنع لكفرهم فمانعهم المؤمنون وبنوا عليهم مسجدا. وظاهر هذا الخبر أن المسجد مقابل البيعة، وما أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير من أن الملك بنى عليهم بيعة فكتب في أعلاها أبناء الأراكنة أبناء الدهاقين ظاهر في عدم المقابلة، ولعله الحق لأنه لا يصح أن يراد بالمسجد هنا ما يطلق عليه اليوم من مصلى المحمديين بل المراد به معبد المؤمنين من تلك الأمة وكانوا على ما سمعت أولا نصارى وإن كان في المسألة قول آخر ستسمعه إن شاء الله تعالى قريبا ومعبدهم يقال له بيعة، وظاهر ما تقدم أن المسجد اتخذ لأن يعبد الله تعالى فيه من شاء. وأخرج أبو حاتم عن السدي أن الملك قال: لأتخذن عند هؤلاء القوم الصالحين مسجدا فلأعبدن الله تعالى فيه حتى أموت، وعن الحسن أنه اتخذ ليصلي فيه أصحاب الكهف إذا استيقظوا، وهذا مبني على أنهم لم يموتوا بل ناموا كما ناموا أولا وإليه ذهب بعضهم بل قيل إنهم لا يموتون حتى يظهر المهدي ويكونوا من أنصاره ولا معول على ذلك وهو عندي أشبه شيء بالخرافات. ثم لا يخفى أنه على القول بأن الطائفة الأولى الطالبة لبناء البنيان عليهم إذا كانت كافرة لم تكن غاية الإعثار متحققة في جميع المعثرين، ولا يتعين كون رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ مساقا لتنظيم أمر أصحاب الكهف، ولعل تلك الطائفة لم تتحقق حالهم وأنهم ناموا تلك المدة ثم بعثوا فطلبت انطماس الكهف عليهم وأحالت أمرهم إلى ربهم سبحانه والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. وقرأ الحسن وعيسى الثقفي غلبوا بضم الغين وكسر اللام على أن الفعل مبني للمفعول، ووجه بذلك بأن طائفة من المؤمنين المعثرين أرادت أن لا يبني عليهم شيء ولا يتعرض لموضعهم وطائفة أخرى منهم أرادت البناء وأن لا يطمس الكهف فلم يمكن للطائفة الأولى منعها ووجدت نفسها مغلوبة فقالت: إن كان بنيان ولا بد فلنتخذن عليهم مسجدا. هذا واستدل بالآية على جواز البناء على قبور الصلحاء واتخاذ مسجد عليها وجواز الصلاة في ذلك، وممن ذكر ذلك الشهاب الخفاجي في حواشيه على البيضاي وهو قول باطل عاطل فاسد كاسد، فقد روى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لعن الله تعالى زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج» ومسلم «ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد فإني أنهاكم عن ذلك» وأحمد عن أسامة وهو والشيخان والنسائي عن عائشة، ومسلم عن أبي هريرة «لعن الله تعالى اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» وأحمد والشيخان والنسائي «إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق يوم القيامة» وأحمد والطبراني «إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء ومن يتخذ القبور مساجد» وعبد الرزاق «من شرار أمتي من يتخذ القبور مساجد» وأيضا «كانت بنو إسرائيل اتخذوا القبور مساجد فلعنهم الله تعالى» إلى غير ذلك من الأخبار الصحيحة والآثار الصريحة. وذكر ابن حجر في الزواجر أنه وقع في كلام بعض الشافعية عد اتخاذ القبور مساجد والصلاة إليها واستلامها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 225 والطواف بها ونحو ذلك من الكبائر، وكأنه أخذ ذلك مما ذكر من الأحاديث، ووجه اتخاذ القبر مسجدا واضح لأنه عليه الصلاة والسلام لعن من فعل ذلك في قبور الأنبياء عليهم السلام وجعل من فعل ذلك بقبور الصلحاء شرار الخلق عند الله تعالى يوم القيامة ففيه تحذير لنا، واتخاذ القبر مسجدا معناه الصلاة عليه أو إليه وحينئذ يكون قوله والصلاة إليها مكررا إلا أن يراد باتخاذها مساجد الصلاة عليها فقط، نعم إنما يتجه هذا الأخذ إن كان القبر قبر معظم من نبي أو ولي كما أشارت إليه رواية «إذا كان فيهم الرجل الصالح» ومن ثم قال أصحابنا: تحرم الصلاة إلى قبور الأنبياء والأولياء تبركا وإعظاما فاشترطوا شيئين أن يكون قبر معظم وأن يقصد الصلاة إليها، ومثل الصلاة عليه التبرك والإعظام، وكون هذا الفعل كبيرة ظاهر من الأحاديث، وكأنه قاس عليه كل تعظيم للقبر كإيقاد السرج عليه تعظيما له وتبركا به والطواف به كذلك وهو أخذ غير بعيد سيما وقد صرح في بعض الأحاديث المذكورة بلعن من اتخذ على القبر سراجا فيحمل قول الأصحاب بكراهة ذلك على ما إذا لم يقصد به تعظيما وتبركا بذي القبر. وقال بعض الحنابلة: قصد الرجل الصلاة عند القبر متبركا به عين المحادة لله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم وإبداع دين لم يأذن به الله عز وجل للنهي عنها ثم إجماعا فإن أعظم المحرمات وأسباب الشرك الصلاة عندها واتخاذها مساجد أو بناؤها عليها، وتجب المبادرة لهدمها وهدم القباب التي على القبور إذ هي أضر من مسجد الضرار لأنها أسست على معصية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأنه عليه الصلاة والسلام نهي عن ذلك وأمر بهدم القبور المشرفة، وتجب إزالة كل قنديل وسراج على قبر ولا يصح وقفه ولا نذره اه. وفي المنهاج وشرحه للعلامة المذكور ويكره تجصيص القبر والبناء عليه في حريمه وخارجه في غير المسبلة إلا إن خشي نبش أو حفر سبع أو هدم سيل ويحرم البناء في المسبلة، وكذا تكره الكتابة عليه للنهي الصحيح عن الثلاثة سواء كتابة اسمه وغيره في لوح عند رأسه أو في غيره، نعم بحث الأذرعي حرمة كتابة القرآن لتعريضه للامتهان بالدوس والتنجيس بصديد الموتى عند تكرر الدفن ووقوع المطر، وندب كتابة اسمه لمجرد التعريف به على طول السنين لا سيما قبور الأنبياء والصالحين لأنه طريق للإعلام المستحب. ولما روي الحاكم النهي قال: ليس العمل عليه الآن فإن أئمة المسلمين من المشرق والمغرب مكتوب على قبورهم فهو عمل أخذ به الخلف عن السلف. ويرد بمنع هذه الكلية وبفرضها فالبناء على قبورهم أكثر من الكتابة عليها في المقابر المسبلة كما هو مشاهد لا سيما بالحرمين ومصر ونحوها وقد علموا بالنهي عنه فكذا هي، فإن قلت: هو إجماع فعلي فهو حجة كما صرحوا به قلت: ممنوع بل هو أكثري فقط إذ لم يحفظ ذلك حتى عن العلماء الذين يرون منعه، وبفرض كونه إجماعا فعليا فمحل حجيته كما هو ظاهر إنما هو عند صلاح الأزمنة بحيث ينفذ فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد تعطل ذلك منذ أزمنة. ولو بني نفس القبر لغير حاجة مما مر كما هو ظاهر أو نحو تحويط أو قبة عليه في مقبرة مسبلة كأرض موات اعتادوا الدفن فيها أو موقوفة لذلك بل هي أولى هدم وجوبا لحرمته كما في المجموع لما فيه من التضييق مع أن البناء يتأبد بعد انمحاق الميت فيحرم الناس تلك البقعة، وهل من البناء ما اعتيد من جعل أربعة أحجار مربعة محيطة بالقبر مع لصق كل رأس منها برأس الآخر بجص محكم أولا لأنه لا يسمى بناء عرفا؟ والذي يتجه الأول لأن العلة من التأبيد موجودة هنا، وقد أفتى جمع بهدم كل ما بقرافة مصر من الأبنية حتى قبة الإمام الشافعي عليه الرحمة التي بناها بعض الملوك، وينبغي لكل أحد هدم ذلك ما لم يخش منه مفسدة فيتعين الرفع للإمام أخذا من كلام ابن الرفعة في الصلح انتهى. وفي صحيح مسلم عن أبي الهياج الأسدي قال: قال لي علي كرم الله تعالى وجهه أبعثك على ما بعثني عليه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 226 رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته، قال ابن الهمام في فتح القدير: وهو محمول على ما كانوا يفعلونه من تعلية القبور بالبناء الحسن العالي، والأحاديث وكلام العلماء المنصفين المتبعين لما ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وجاء عن السلف الصالح أكثر من أن يحصى، لا يقال: إن الآية ظاهرة في كون ما ذكر من شرائع من قبلنا وقد استدل بها فقد روي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «من نام عن صلاة أو نسيها» الحديث ثم تلا قوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: 14] وهو مقول لموسى عليه السلام وسياقه الاستدلال. واحتج محمد على جواز قسمة الماء بطريق المهيأة بقوله تعالى لَها شِرْبٌ [الشعراء: 155] الآية وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ [القمر: 28] وأبو يوسف على جري القود بين الذكر والأنثى بآية وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ [المائدة: 45] والكرخي على جريه بين الحر والعبد والمسلم والذمي بتلك الآية الواردة في بني إسرائيل إلى غير ذلك لأنا نقول: مذهبنا في شرع من قبلنا وإن كان إنه يلزمنا على أنه شريعتنا لكن لا مطلقا بل إن قصه الله تعالى علينا بلا إنكار وإنكار رسوله صلّى الله عليه وسلّم كإنكاره عز وجل، وقد سمعت أنه عليه الصلاة والسلام لعن الذين يتخذون المساجد على القبور، على أن كون ما ذكر من شرائع من قبلنا ممنوع، وكيف يمكن أن يكون اتخاذ المساجد على القبور من الشرائع المتقدمة مع ما سمعت من لعن اليهود والنصارى حيث اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. والآية ليست كالآيات التي ذكرنا آنفا احتجاج الأئمة بها وليس فيها أكثر من حكاية قول طائفة من الناس وعزمهم على فعل ذلك وليست خارجة مخرج المدح لهم والحض على التأسي بهم فمتى لم يثبت أن فيهم معصوما لا يدل فعلهم فضلا عن عزمهم على مشروعية ما كانوا بصدده، ومما يقوي قلة الوثوق بفعلهم القول بأن المراد بهم الأمراء والسلاطين كما روي عن قتادة. وعلى هذا لقائل أن يقول: إن الطائفة الأولى كانوا مؤمنين عالمين بعدم مشروعية اتخاذ المساجد على القبور فأشاروا بالبناء على باب الكهف وسده وكف كف التعرض عن أصحابه فلم يقبل الأمراء منهم وغاظهم ذلك حتى أقسموا على اتخاذ المسجد، وكان الأولين إنما لم يشيروا بالدفن مع أن الظاهر أنه هو المشروع إذ ذاك في الموتى كما أنه هو المشروع عندنا فيهم لعدم تحققهم موتهم، ومنعهم من تحقيقه أنهم لم يقدروا كما أخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن وهب بن منبه على الدخول عليهم لما أفيض عليهم من الهيبة ولهذا قالوا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ وإن أبيت إلا حسن الظن بالطائفة الثانية فلك أن تقول: إن اتخاذهم المسجد عليهم ليس على طرز اتخاذ المساجد على القبور المنهي عنه الملعون فاعله وإنما هو اتخاذ مسجد عندهم وقريبا من كهفهم، وقد جاء التصريح بالعندية في رواية القصة عن السدي ووهب، ومثل هذا الاتخاذ ليس محظورا إذ غاية ما يلزم على ذلك أن يكون نسبة المسجد إلى الكهف الذي هم فيه كنسبة المسجد النبوي إلى المرقد المعظم صلّى الله عليه وسلّم، ويكون قولهم لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ على هذا لمشاكلة قول الطائفة ابْنُوا عَلَيْهِمْ وإن شئت قلت: إن ذلك الاتخاذ كان على الكهف فوق الجبل الذي هو فيه، وفي خبر مجاهد أن الملك تركهم في كهفهم وبنى على كهفهم مسجدا وهذا أقرب لظاهر اللفظ كما لا يخفى، وهذا كله إنما يحتاج إليه على القول بأن أصحاب الكهف ماتوا بعد الإعثار عليهم وأما على القول بأنهم ناموا كما ناموا أولا فلا يحتاج إليه على ما قيل، وبالجملة لا ينبغي لمن له أدنى رشد أن يذهب إلى خلاف ما نطقت به الأخبار الصحيحة والآثار الصريحة معولا على الاستدلال بهذه الآية فإن ذلك في الغواية غاية وفي قلة النهي نهاية، ولقد رأيت من يبيح ما يفعله الجهلة في قبور الصالحين من أشرافها وبنائها بالجص والآجر وتعليق القناديل عليها والصلاة إليها والطواف بها واستلامها والاجتماع عندها في أوقات مخصوصة إلى غير ذلك محتجا بهذه الآية الكريمة وبما جاء في بعض روايات القصة من جعل الملك لهم في كل سنة عيدا وجعله إياهم في توابيت من ساج ومقيسا البعض على البعض وكل ذلك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 227 محادة لله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم وإبداع دين لم يأذن به الله عز وجل. ويكفيك في معرفة الحق تتبع ما صنع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قبره عليه الصلاة والسلام وهو أفضل قبر على وجه الأرض بل أفضل من العرش، والوقوف على أفعالهم في زيارتهم له والسلام عليه عليه الصلاة والسلام فتتبع ذاك وتأمل ما هنا وما هناك والله سبحانه وتعالى يتولى هداك. ثم اعلم أنهم اختلفوا في تعيين موضع المسجد والكهف وقد مرت عليك بعض الأقوال. وفي البحر أن في الشام كهفا فيه موتى ويزعم مجاوروه أنهم أصحاب الكهف وعليهم مسجد وبناء يسمى الرقيم ومعهم كلب رمة، وبالأندلس في جهة غرناطة بقرب قرية تسمى لوشة كهف فيه موتى ومعهم كلب رمة وأكثرهم قد انجرد لحمه وبعضهم متماسك وقد مضت القرون السالفة ولم نجد من علم شأنهم ويزعم ناس أنهم أصحاب الكهف قال ابن عطية. دخلت عليهم فرأيتهم سنة أربع وخمسمائة وهم بهذه الحالة وعليهم مسجد وقريب منهم بناء رومي يسمى الرقيم كأنه قصر مخلق قد بقي بعض جدرانه وهو في فلاة من الأرض خربة وبأعلى حصن غرناطة مما يلي القبلة آثار مدينة قديمة يقال لها مدينة دقيوس وجدنا في آثارها غرائب انتهى، وحين كنا بالأندلس كان الناس يزورون هذا الكهف ويذكرون أنهم يغلطون في عدتهم إذا عدوهم وأن معهم كلبا ويرحل الناس إلى لوشة لزيارتهم، وأما ما ذكره من المدينة القديمة فقد مررت عليها مرارا لا تحصى وشاهدت فيها حجارة كبارا، ويترجح كون ذلك بالأندلس لكثرة دين النصارى بها حتى أنها هي بلاد مملكتهم العظمى ولأن الإخبار بما هو في أقصى مكان من أرض الحجاز أغرب وأبعد أن يعرف إلا بوحي من الله تعالى انتهى. وما تقدم من خبر ابن عباس ومعاوية يضعف ما ادعي ترجحه لأن معاوية لم يدخل الأندلس، وتسمية الأندلسيين نصارى الأندلس بالروم في نثرهم ونظمهم ومخاطبة عامتهم كما في البحر أيضا لا يجدي نفعا، وقد عول الكثير على أن ذلك في طرسوس والله تعالى أعلم. سَيَقُولُونَ الضمير فيه وفي الفعلين بعد كما اختاره ابن عطية وبعض المحققين لليهود المعاصرين له صلّى الله عليه وسلّم الخائضين في قصة أصحاب الكهف، وأيد بذلك قول الحسن وغيره: إنهم كانوا قبل بعث موسى عليه السلام لدلالته أن لهم علما في الجملة بأحوالهم وهو يستلزم أن يكون لهم ذكر في التوراة وفيه ما فيه. والظاهر أن هذا إخبار بما لم يكن واقعا بعد كأنه قيل سيقولون إذا قصصت قصة أصحاب الكهف أو إذا سئلوا عن عدتهم هم ثَلاثَةٌ أي ثلاثة أشخاص رابِعُهُمْ أي جاعلهم أربعة بانضمامه إليهم كَلْبُهُمْ فثلاثة خبر مبتدأ محذوف ورابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ مبتدأ وخبر ولا عمل لاسم الفاعل لأنه ماض والجملة مي موضع النعت لثلاثة والضميران لها لا للمبتدأ ومن ثم استغنى عنه بالحذف وإلا كان الظاهر أن يقال: هم ثلاثة وكلب لكن بما أريد اختصاصها بحكم بديع الشأن عدل إلى ما ذكر لينبه بالنعت الدال على التفضلة والتمييز على أن أولئك الفتية ليسوا مثل كل ثلاثة اصطحبوا، ومن ثم قرن الله تعالى في كتابه العزيز أخس الحيوانات ببركة صحبتهم مع زمرة المتبتلين إليه المعتكفين في جواره سبحانه وكذا يقال فيما بعد، وإلى هذا الإعراب ذهب أبو البقاء واختاره العلامة الطيبي وهو الذي أشار إلى ما أشير إليه من النكتة ونظم في سلكها مع الآية حديث «ما ظنك باثنين الله تعالى ثالثهما» فأوجب ذلك أن شنع بعض أجلة الأفاضل عليه حتى أوصله إلى الكفر ونسبه إليه، ولعمري لقد ظلمه وخفي عليه مراده فلم يفهمه، ولم يجوز ابن الحاجب كون الجملة في موضع النعت كما لم يجوز هو ولا غيره كأبي البقاء جعلها حالا وجعلها خبرا بعد خبر للمبتدأ المحذوف، وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام في ذلك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 228 وتقدير تمييز العدد أشخاص أولى من تقديره رجال لأنه لا تصير الثلاثة الرجال أربعة بكلبهم لاختلاف الجنسين، وعدم اشتراط اتحاد الجنس في مثل ذلك يأباه الاستعمال الشائع مع كونه خلاف ما ذكره النحاة. والقول بأن الكلب بشرف صحبتهم ألحق بالعقلاء تخيل شعري. وقرأ ابن محيصن «ثلاثة» بإدغام الثاء في التاء تقول أبعث تلك وحسن ذلك لقرب مخرجهما وكونهما مهموسين وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ عطف على سَيَقُولُونَ والمضارع وإن كان مشتركا بين الحال والاستقبال إلا أن المراد منه هنا الثاني بقرينة ما قبله فلذا اكتفي عن السين فيه وإذا عطفته على مدخول السين دخل معه في حكمها واختص بالاستقبال بواسطتها لكن قيل إن العطف على ذلك تكلف. وقرأ شبل بن عباد عن ابن كثير «خمسة» بفتح الميم وهو كالسكون لغة فيها نظير الفتح والسكون في العشرة. وقرأ ابن محيصن بكسر الخاء والميم وبإدغام التاء في السين وعنه أيضا إدغام التنوين في السين بغير غنة رَجْماً بِالْغَيْبِ أي رميا بالخبر الغائب الخفي عنهم الذي لا مطلع لهم عليه وإتيانا به أو ظنا بذلك، وعلى الأول استعير الرجم وهو الرمي بالحجارة التي لا تصيب غرضا ومرمى للمتكلم من غير علم وملاحظة بعد تشبيهه به. وفي الكشف أنه جعل الكلام الغائب عنهم علمه بمنزلة الرجام المرمي به لا يقصد به مخاطب معين ولو قصد لأخطأ لعدم بنائه على اليقين كما أن الرجام قلما يصيب المرجوم على السداد بخلاف السهم ونحوه ولهذا قالوا: قذفا بالغيب ورجما به ولم يقولوا رميا به، وأما الرمي في السب ونحوه فالنظر إلى تأثيره في عرض المرمي تأثير السهم في الرمية انتهى. وعلى الثاني شبه ذكر أمر من غير علم يقيني واطمئنان قلب بقذف الحجر الذي لا فائدة في قذفه ولا يصيب مرماه ثم استعير له وضع الرجم موضع الظن حتى صار حقيقة عرفية فيه. وفي الكشف أيضا أنه لما كثر استعمال قولهم: رجما بالظن فهموا من المصدر معناه دون النظر إلى المتعلق فقالوا رجما بالغيب أي ظنا به وعلى ذلك جاء قول زهير: وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجم حيث أراد المظنون، وانتصاب رَجْماً هنا على الوجهين إما على الحالية من الضمير في الفعلين أي راجمين أو على المصدرية منهما فإن الرجم والقول واحد. وفي البحر أنه ضمن القول معنى الرجم أو من محذوف مستأنف أو واقع موقع الحال من ضمير الفعلين معا أي يرجمون رجما، وجوز أبو حيان كونه منصوبا على أنه مفعول من أجله أي يقولون ذلك لرميهم بالغيب أو لظنهم بذلك أي الحامل لهم على القول هو الرجم بالغيب وهو كما ترى. وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ المراد الاستقبال أيضا، والكلام في عطفه كالكلام في عطف سابقه، والجملة الواقعة بعد العدد في موضع الصفة له كالجملتين السابقتين على ما نص عليه الزمخشري، ولم يجعل الواو مانعة عن ذلك بل ذكر أنها الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل على الواقعة حالا عن المعرفة في قولك: جاءني رجل ومعه آخر ومررت بزيد وفي يده سيف ومنه قوله عز وجل وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ [الحجر: 4] وفائدتها توكيد لصوق الصفة بالموصوف والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر وهي التي أذنت هنا بأن قائلي ما ذكر قالوه عن ثبات علم وطمأنينة نفس ولم يرجموا بالظن كما رجم غيرهم فهو الحق دون القولين الأولين، والدليل على ذلك أنه سبحانه وتعالى أتبعهما قوله تبارك اسمه رَجْماً بِالْغَيْبِ واتبع هذا قوله عز وجل قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ أي أقوى وأقدم في العلم بها ما يَعْلَمُهُمْ أي ما يعلم عدتهم على ما ينساق إلى الذهن نظرا إلى المقام إِلَّا قَلِيلٌ وعلى إيذان الواو بما ذكر يدل كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقد روي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 229 أنه قال: حين وقعت الواو انقطعت العدة أي لم يبق بعدها عدة عاد يلتفت إليها، وثبت أنهم سبعة وثامنهم كلبهم على القطع والبتات. وقد نص عطاء على أن هذا القليل من أهل الكتاب، وقيل من البشر مطلقا وهو الذي يقتضيه ما أخرجه الطبراني في الأوسط بسند صحيح عن ابن عباس أنه قال: أنا من أولئك القليل، وأخرجه عنه غير واحد من طرق شتى، وأخرج نحوه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود. وزعم بعضهم أن المراد إلا قليل من الملائكة عليهم السلام لا يرتضيه أحد من البشر، والمثبت في هذا الاستثناء هو العالمية وذلك لا يضر في كون الأعلمية له عز وجل، هذا وإلى كون الواو كما ذكر الزمخشري ذهب ابن المنير وقال بعد نقله: وهو الصواب لا كالقول بأنها واو الثمانية فإن ذلك أمر لا يستقر لمثبته قدم ورد ما ذكروه من ذلك، وسيأتي إن شاء الله تعالى في موضعه التنبيه عليه. وقال أبو البقاء: الجملة إذا وقعت صفة للنكرة جاز أن يدخلها الواو وهذا هو الصحيح في إدخال الواو في ثامنهم واعترض على ذلك غير واحد فقال أبو حيان: كون الواو تدخل على الجملة الواقعة صفة دالة على لصوق الصفة بالموصوف وعلى ثبوت اتصاله بها شيء لا يعرفه النحويون بل قرروا أنه لا تعطف الصفة التي ليست بجملة على صفة أخرى إلا إذا اختلفت المعاني حتى يكون العطف دالا على المغايرة، وأما إذا لم تختلف فلا يجوز العطف، هذا في الأسماء المفردة، وأما الجمل التي تقع صفة فهي أبعد من أن يجوز ذلك فيها. وقد ردوا على من ذهب إلى أن قول سيبويه: وأما ما جاء بالمعنى وليس باسم ولا فعل إلى أن وليس باسم إلخ صفة لمعنى وأن الواو دخلت في الجملة بأن ذلك ليس من كلام العرب وليس من كلامهم مررت برجل ويأكل على تقدير الصفة، وأما قوله تعالى إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ فالجملة فيه حالية ويكفي ردا لقول الزمخشري أنا لا نعلم أحدا من علماء النحو ذهب إليه اه. وقال صاحب الفرائد: دخول الواو بين الصفة والموصوف غير مستقيم لاتحاد الصفة والموصوف ذاتا وحكما وتأكيدا للصوق يقتضي الاثنينية مع أنا نقول: لا نسلم أن الواو تفيد التأكيد وشدة اللصوق غاية ما في الباب أنها تفيد الجمع والجمع ينبىء عن الاثنينية واجتماع الصفة والموصوف ينبىء عن الاتحاد بالنظر إلى الذات. وقد ذكر صاحب المفتاح أن قول من قال: إن الواو في قوله تعالى وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ داخلة بين الصفة والموصوف سهو منه (1) وإنما هي واو الحال وذو الحال قَرْيَةٍ وهي موصوفة أي وما أهلكنا قرية من القرى إلا ولها إلخ، وأما جاءني رجل ومعه آخر ففيه وجهان، أحدهما أن يكون جملتين متعاطفتين وثانيهما أن يكون آخر معطوفا على رجل أي جاءني رجل ورجل آخر معه، وعدل عن جاءني رجلان ليفهم أنهما جاءا مصاحبين، وأما الواو في مررت بزيد وفي مررت بزيد وفي يده سيف فإنما جاز دخولها بين الحال وذيها لكون الحال في حكم جملة بخلاف الصفة بالنسبة إلى الموصوف فإن جاء زيد راكبا في حكم جاء وهو راكب بخلاف جاء زيد الراكب فافهمه. سلمنا أنها داخلة بين الصفة والموصوف لتأكيد اللصوق لكن الدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر غير مسلم وأين الدليل عليه؟ وكون الواو هي التي آذنت بأن القول المذكور عن ثبات علم وطمأنينة نفس في غاية البعد، والقول بأن الاتباع يدل على ذلك إن أريد منه أنه يدل على إيذان الواو بما ذكر فبطلانه ظاهر وإن أريد منه أنه يدل على   (1) الحكم بأنه سهو سهو فقد تكرر من الزمخشري مع بسط وتفصيل فتدبر ما قلنا ولا تعجل اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 230 صدق قائلي القول الأخير وعدم صدق قائلي القولين الأولين فمسلم أن اتباع القولين الأولين برجما بالغيب يدل على عدم الصدق دلالة لا شبهة فيها لكن لا نسلم أن عدم اتباع القول الأخير به واتباعه بما اتبع يدل على ذلك وإن سلمنا فهو يدل دلالة ضعيفة، ولا نسلم أيضا دلالة كلام ابن عباس على ما ذكر والظاهر أنه علم أن القول الأخير صادق من الصادق المصدوق صلّى الله عليه وسلّم وأن مراده من قوله حين وقعت الواو انقطعت العدة أن الذي هو صدق ما وقعت الواو فيه وانقطعت العدة به، فالحق أن الواو واو عطف والجملة بعده معطوفة على الجملة قبله. وانتصر العلامة الطيبي للزمخشري وأجاب عما اعترض به عليه فقال: اعلم أنه لا بد قبل الشروع في الجواب من تبيين المقصود تحريرا للبحث فالواو هنا ليست على الحقيقة ولا يعتبر في المجاز النقل الخصوصي بل المعتبر فيه اعتبار نوع العلاقة، وذكروا أن المجاز في عرف البلاغة أولى من الحقيقة وأبلغ وأن مدار علم البيان الذوق السليم الذي هو أنفع من ذوق التعليم ولا يتوقف على التوقيف وليس ذلك كعلم النحو، والمجاز لا يختص بالاسم والفعل بل قد يقع في الحروف. وقد نقل شارح اللباب عن سيبويه أن الواو في قولهم: بعت الشاة ودرهما بمعنى الباء، وتحقيقه أن الواو للجمع والباء للإلصاق وهما من واد واحد فسلك به طريق الاستعارة وكم وكم، وإذا علم ذلك فليعلم أن معنى قوله: فائدتها توكيد لصوق الصفة بالموصوف أن للصفة نوع اتصال بالموصوف فإذا أريد توكيد اللصوق وسط بينهما الواو ليؤذن أن هذه الصفة غير منفكة عن الموصوف وإليه الإشارة فيما بعد من كلامه، وأن الحال في الحقيقة صفة لا فرق إلا بالاعتبار ألا ترى أن صفة النكرة إذا تقدمت عليها وهي بعينها تصير حالا ولو لم يكونا متحدين لم يصح ذلك، ثم إن قولك: جاءني رجل ومعه آخر وقولك: مررت بزيد ومعه آخر لما كانا سواء في الصورة اللهم إلا في اعتبار المعرفة والنكرة كان حكمهما سواء في الواو وهو مراد الزمخشري من إيراد المثالين لا كما فهم بعضهم، وأما قول الفراهيدي في تعليل امتناع دخول الواو بين الصفة والموصوف لاتحادهما ذاتا وحكما وهو مناف لما يقتضيه دخول الواو من المغايرة فمبني على أن الواو عاطفة لأنها هي التي تقتضي المغايرة كما قال السكاكي وقد بين وجه مجازه لمجرد الربط. وأما قوله في جاءني رجل ومعه آخر إنه جملتان فهو كما تراه، وأما قوله: إن جاء زيد راكبا في حكم جاء زيد وهو راكب فمن المعكوس فإن الأصل في الحال الافراد كما يدل عليه كلام ابن الحاجب وغيره من الأعيان، وأما تسليمه الدخول لتأكيد اللصوق ومنه الدلالة على أن الاتصاف أمر ثابت مستقر فمن العجائب فكيف يسلم التأكيد ولا يسلم فائدته، ويدفع الاعتراضات الباقية أن ما استند إليه الزمخشري ليس من باب الأدلة اليقينية بل هي من باب الأمارات وتكفي في هذه المقامات، وقال ابن الحاجب: لا يجوز أن يكون رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وسادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ صفة لما قبل ولا حالا لعدم العامل مع عدم الواو، ويجوز أن يكون كل منهما خبرا بعد خبر للمبتدأ المحذوف والأخبار إذا تعددت جاز في الثاني منها الاقتران بالواو وعدمه، وهذا إن سلم أن المعنى في الجمل واحد أما إذا قيل إن قوله تعالى: وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ استئناف منه سبحانه لا حكاية عنهم فيفهم أن القائلين سبعة أصابوا ولا يلزم أن يكون خبرا بعد خبر، ويقويه ذكر رَجْماً بِالْغَيْبِ قبل الثالثة فدل على أنها مخالفة لما قبلها في الرجم بالغيب فتكون صدقا البتة إلا أن هذا الوجه يضعف من حيث إن الله تعالى قال ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فلو جعل وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ تصديقا منه تعالى لمن قال سبعة لوجب أن يكون العالم بذلك كثيرا فإن أخبار الله تعالى صدق فدل على أنه لم يصدق منهم أحد، وإذا كان كذلك وجب أن تكون الجملة كلها متساوية في المعنى، وقد تعذر أن تكون الأخيرة وصفا فوجب أن يكون الجميع كذلك انتهى ويفهم أن الواو هي المانعة من الوصفية والداء هو الداء فالدواء هو الدواء. وقوله: وإذا كان كذلك وجب إلخ كلام بمراحل عن مقتضى البلاغة لأن في كل اختلاف فوائد والبليغ من ينظر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 231 إلى تلك الفوائد لا من يرده إلى التطويل والحشو في الكلام، وأيضا لا بد من قول صادق من الأقوال الثلاثة لينطبق قوله تعالى: ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ مع قوله سبحانه: رَجْماً بِالْغَيْبِ لأنه قد اندفع به القولان الأولان فيكون الصادق هذا. وتعقيبه به أمارة على صدقه وذلك مفقود على ما ذهب إليه السائل، ومع هذا أين طلاوة الكلام وأين اللطف الذي تستلذه الأفهام. وما ذكره من لزوم كون العالم بذلك كثيرا على تقدير كون وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ استئنافا منه تعالى لأن اخبار الله تعالى صدق لا يخلو عن بحث لأن المصدق حينئذ هم المسلمون وهم قليل بالنسبة إلى غيرهم، ولا اختصاص للقليل بما دون العشرة وإن أخرج ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه أنه قال: كل قليل في القرآن فهو دون العشرة فإن ذلك في حيز المنع ودون إثباته التعب الكثير، على أنه يمكن أن يقال: المراد قلة العالمين بذلك قبل تصديقه تعالى، ولا يبعد أن يكونوا قليلين في حد أنفسهم من المسلمين كانوا أو من أهل الكتاب أو منهما، نعم القول بالاستئناف مما لا ينبغي أن يلتفت إليه وإن ذهب إليه بعض المفسرين. هذا ووافق في الانتصار جماعة منهم سيد المحققين وسند المدققين فقال: الظاهر أن قوله تعالى: وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ صفة لسبعة كما يشهد به أخواه، وأيضا ليس سبعة في حكم الموصوفة كما قيل في قرية في قوله تعالى وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ [الحجر: 4] حتى يصح الحمل على الحال اتفاقا، ولا شك أن معنى الجمع يناسب معنى اللصوق وباب المجاز مفتوح فلتحمل هذه الواو عليه تأكيدا للصوق الصفة بالموصوف فتكون هذه أيضا فرعا للعاطفة كالتي بمعنى مع والحالية والاعتراضية. وأيد ذلك أيضا بما روي عن ابن عباس وأورد على تعليل منعه للحالية بعدم كون النكرة في حكم الموصوفة أنه لا ينحصر مسوغ مجيء الحال من النكرة في كونها موصوفة أو في حكم الموصوفة كما في الآية التي ذكرها فقد ذكر في المغني أن من المسوغات اقتران الجملة الحالية بالواو فليحفظ. وقد وافق ابن مالك الرادين له فقال في شرح التسهيل: ما ذهب إليه صاحب الكشاف من توسط الواو بين الصفة والموصوف فاسد من خمسة أوجه، أحدها: أنه قاس في ذلك الصفة على الحال وبينهما فروق كثيرة لجواز تقدم الحال على صاحبها وجواز تخالفهما في الإعراب والتعريف والتنكير وجواز إغناء الواو عن الضمير في الجملة الحالية وامتناع ذلك في الواقعة نعتا فكما ثبت مخالفة الحال الصفة في هذه الأشياء ثبتت مخالفتها إياها بمقارنة الواو الجملة الحالية وامتناع ذلك في الجملة النعتية، الثاني أن مذهبه في هذه المسألة لا يعرف بين البصريين والكوفيين فوجب أن لا يلتفت إليه، الثالث أنه معلل بما لا يناسب وذلك أن الواو تدل على الجمع بين ما قبلها وما بعدها وذلك مستلزم لتغايرهما وهو ضد لما يراد من التوكيد فلا يصح أن يقال لعاطف مؤكد، الرابع أن الواو فصلت الأول من الثاني ولولاها لتلاصقا فكيف يقال إنها أكدت لصوقها، الخامس أن الواو لو صلحت لتأكيد لصوق الموصوف بالصفة لكان أولى المواضع بها موضعا لا يصلح للحال بخلاف جملة تصلح في موضعها الحال اه، ويعلم ما فيه بالتأمل الصادق فيما تقدم. والعجب مما ذكره في الوجه الرابع فهو توهم يستغرب من الأطفال فضلا عن فحول الرجال فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك. وقال بعضهم: إن ضمائر الأفعال الثلاثة للخائضين في قصة أصحاب الكهف في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم من أهل الكتاب والمسلمين لا على وجه إسناد كل من الأفعال إلى كلهم بل إلى بعضهم فالقول الأول لليهود على ما أخرجه ابن أبي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 232 حاتم عن السدي، وقيل لسيد من سادات نصارى العرب النجرانيين وكان يعقوبيا وكان قد وفد مع جماعة منهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجرى ذكر أصحاب الكهف فذكر من عدتهم ما قصه الله تعالى شأنه، ولعل التعبير بضمير الجمع لموافقة من معه إياه في ذلك، والقول الثاني على ما روي عن السدي أيضا النصارى ولم يقيدهم وقيل العاقب ومن معه من نصارى نجران وكانوا وافدين أيضا وكان نسطوريا (1) والقول الثالث لبعض المسلمين، وكأنه عز اسمه لما حكى الأقوال قبل أن تقال على ذلك لقنهم الحق وأرشدهم إليه بعدم نظم ذلك القول في سلك الرجم بالغيب كما فعل بأخويه وتغيير سبكه بإقحام الواو وتعقيبه بما عقبه به على ما سمعت من كون ذلك أمارة على الحقية، والمراد بالقليل على هذا من وقفه الله تعالى للاسترشاد بهذه الأمارات كابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقد مر غير بعيد أنه عد من ذلك وذكر ما ظاهره الاستشهاد بالواو. وقيل إنهم علموا تلك العدة من وحي غير ما ذكر بأن يكون قد أخبرهم صلّى الله عليه وسلّم بذلك عن إعلام الله تعالى إياه به. وتعقبه بأنه لو كان كذلك لما خفي على الحبر ولما احتاج إلى الاستشهاد ولكان المسلمون أسوة له في العلم بذلك. وأجيب بأنه لا مانع من وقوف الحبر على الخبر مع جماعة قليلة من المسلمين، ولا يلزم من إخباره صلّى الله عليه وسلّم بشيء وقوف جميع الصحابة عليه فكم من خبر تضمن حكما شرعيا تفرد بروايته عنه عليه الصلاة والسلام واحد منهم رضي الله تعالى عنهم فما ظنك بما هو من باب القصص التي لم تتضمن ذلك، واستشهاده رضي الله تعالى عنه نصا لا ينافي الوقوف بل قد يجامعه بناء على ما وقفت عليه آنفا فهو ليس نصا في عدم الوقوف. وقد أورد على القول بأن منشأ العلم التلقن من هذا الوحي لما تضمن من الإمارات أنه يلزم من ذلك كون الصحابة السامعين للآية أسوة لابن عباس في العلم نحو ما ذكره المتعقب بل لأنهم العرب الذين أرضعوا ثدي البلاغة في مهد الفصاحة وأشرقت على آفاق قلوبهم وصفحات أذهانهم من مطالع إيمانهم الاستوائية أنوار النبوة المفاضة من شمس الحضرة الأحدية وقلما تنزل آية ولا تلقي عصاها في رباع أسماعهم لوفور رغبتهم في الاستماع ومزيد حرصه صلّى الله عليه وسلّم على إسماعهم، ومتى فهم الزمخشري واضرابه من هذه الآية ما فهموا فلم لم يفهم أصحابه عليه الصلاة والسلام ذلك وهم هم أيخطر ببال من له أدنى عقل أن الإعجام شعروا وأكثر أولئك العرب لم يشعروا؟ أم كيف يتصور تجلي أسرار بلاغة القرآن لمن لا يعرف إعجازه إلا بعد المشقة وتحجب عمن يعرف ذلك بمجرد السليقة؟ ولا يكاد يدفع هذا الإيراد إلا بالتزام أن السامعين لهذه الآية قليلون لأنها نزلت في مكة وفي المسلمين هناك قلة مع عدم تيسر الاجتماع لهم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكذا اجتماع بعضهم مع بعض نحو تيسر ذلك في المدينة أو بالتزام القول بأن الملتفتين إلى ما فيها من الشواهد كانوا قليلين وهذا كما ترى. وقيل إن الضمائر لنصارى نجران تناظروا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في عدد أصحاب الكهف فقالت الملكانية الجملة الأولى واليعقوبية الجملة الثانية والنسطورية الجملة الثالثة، ويروى هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو أولى من القول السابق المحكي عن بعضهم. وقال الماوردي واستظهره أبو حيان: إن الضمائر للمتنازعين في حديثهم قبل ظهورهم عليهم فيكون قد أخبر سبحانه نبيه صلّى الله عليه وسلّم بما كان من اختلاف قومهم في عددهم، ولا يخفى أنه يبعد هذا القول من حكاية تلك الأقوال بصيغة   (1) نسبة إلى نسطور كان زمن الفترة كما في الكامل وليس هو الذي في زمن المأمون كما توهم ليحتاج إلى التكلف في الجواب كما فعل في الكشف اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 233 الاستقبال مع تعقيبها بقوله تعالى قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ وقد تقدم رواية أن القوم حين أتوا باب الكهف مع المبعوث لاشتراء الطعام قال: دعوني أدخل إلى أصحابي قبلكم فدخل وعمي على القوم أثرهم، وفي رواية أنهم كلما أراد أن يدخل عليهم أحد منهم رعبوا فتركوا وبني عليهم مسجد، فلو قيل على هذا: إن الضمائر للمعثرين اختلفوا في عددهم لعدم تمكنهم من رؤيتهم والاجتماع معهم فقالت كل طائفة منهم ما قالت، ولعل الطائفة الأخيرة استخبرت الفتى فأخبرها بتلك العدة فصدقته وأخذت كلامه بالقبول وتأيد بما عندهم من أخبار أسلافهم فقالت ذلك عن يقين ورجمت الطائفتان المتقدمتان لعدم ثبوت ما يفيد العلم عندهما ولعلهما كانتا كافرتين لم يبعد بعد ما نقل عن الماوردي فتدبر. ومن غريب ما قيل: إن الضمير في يَقُولُونَ سَبْعَةٌ لله عز وجل والجمع للتعظيم. وأسماؤهم على ما صح عن ابن عباس مكسلمينا ويمليخا ومرطولس وثبيونس ودردونس وكفاشيطيطوس ومنطنواسيس وهو الراعي والكلب اسمه قطمير، وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه أن أسماءهم يمليخا ومكشيلينيا ومثلينيا وهؤلاء أصحاب يمين الملك ومرنوش ودبرنوش وشاذنوش وهؤلاء أصحاب يساره وكان يستشير الستة والسابع الراعي، ولم يذكر في هذه الرواية اسمه، وذكر فيها أن اسم كلبهم قطمير ، وفي صحة نسبة هذه الرواية لعلي كرم الله تعالى وجهه مقال، وذكر العلامة السيوطي في حواشي البيضاوي أن الطبراني روى ذلك عن ابن عباس في معجمه الأوسط بإسناد صحيح. والذي في الدر المنثور رواية الطبراني في الأوسط بإسناد صحيح ما قدمناه عن ابن عباس والله تعالى أعلم. وقد سموا في بعض الروايات بغير هذه الأسماء، وذكر الحافظ ابن حجر في شرح البخاري أن في النطق بأسمائهم اختلافا كثيرا ولا يقع الوثوق من ضبطها. وفي البحر أن أسماء أصحاب الكهف أعجمية لا تنضبط بشكل ولا نقط والسند في معرفتها ضعيف، وذكروا لها خواصا فقال النيسابوري عن ابن عباس: إن أسماء أصحاب الكهف تصلح للطلب والهرب وإطفاء الحريق تكتب في خرقة ويرمى بها في وسط النار ولبكاء الطفل تكتب وتوضع تحت رأسه في المهد وللحرث تكتب على القرطاس ويرفع على خشب منصوب في وسط الزرع وللضربان وللحمى المثلثة والصداع والغنى والجاه والدخول على السلاطين تشد على الفخذ اليمنى ولعسر الولادة تشد على الفخذ الأيسر ولحفظ المال والركوب في البحر والنجاة من القتل انتهى، ولا يصح ذلك عن ابن عباس ولا عن غيره من السلف الصالح، ولعله شيء افتراه المتزيون بزي المشايخ لأخذ الدراهم من النساء وسخفة العقول، وأنا أعد هذا من خواص أسمائهم فإنه صحيح مجرب. وقرىء «وثامنهم كالبهم» أي صاحب كلبهم. واستدل بعضهم بهذه القراءة على أنهم ثمانية رجال وأول القراءة المواترة بأنها على حذف مضاف أي وصاحب كلبهم وهو كما ترى فَلا تُمارِ الفاء لتفريع النهي على ما قبله، والمماراة على ما قال الراغب المحاجة فيما فيه مرية أي تردد، وأصل ذلك من مريت الناقة إذا مسحت ضرعها للحلب، وفسرها غير واحد بالمجادلة وهي المحاجة مطلقا أي إذا قد وقفت على أن في الخائضين مخطئا ومصيبا فلا تجادلهم فِيهِمْ أي في شأن الفتية إِلَّا مِراءً ظاهِراً غير متعمق فيه وذلك بالاقتصار على ما تعرض له الوحي المبين من غير تجهيل لجميعهم فإن فيهم مصيبا وإن قل ولا تفضيح وتعنيف للجاهل منهم فإن ذلك مما يخل بمكارم الأخلاق التي بعثت لإتمامها. وقال ابن زيد: المراد الظاهر القول لهم ليس كما تعلمون. وحكى الماوردي أن المراء الظاهر ما كان بحجة ظاهرة، وقال ابن الأنباري: هو جدال العالم المتيقن بحقيقة الخبر، وقال ابن بحر: هو ما يشهده الناس، وقال التبريزي: المراد من الظاهر الذاهب بحجة الخصم يقال ظهر إذا ذهب، وأنشد: وتلك شكاة ظاهر عنك عارها. أي ذاهب وَلا تَسْتَفْتِ ولا تطلب الفتيا فِيهِمْ في شأنهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 234 مِنْهُمْ من الخائضين أَحَداً فإن فيما أفتيناك غنى عن الاستفتاء فيحمل على التفتي المنافي لمكارم الأخلاق إذ الحال لا تقتضي تطيب الخواطر أو نحو ذلك، وقيل: المعنى لا ترجع إليهم في شأن الفتية ولا تصدق القول الثالث من حيث صدوره منهم بل من حيث التلقي من الوحي، وقيل: المعنى إذ قد عرفت جهل أصحاب القولين فلا تجادلهم في شأنهم إلا جدالا ظاهرا قدر ما تعرض له الوحي من وصفهم بالرجم بالغيب ولا تستفت فيهم من أولئك الطائفتين أحدا لاستغنائك بما أوتيت مع أنهم لا علم لهم بذلك وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ أي لأجل شيء تعزم عليه إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ الشيء غَداً أي فيما يستقبل من الزمان مطلقا وهو تأكيد لما يدل عليه اسم الفاعل بناء على أنه حقيقة في الاستقبال ويدخل فيه الغد بمعنى اليوم الذي يلي يومك وهو المتبادر دخولا أوليا، فإن الآية نزلت حين سألت قريش النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين فقال عليه الصلاة والسلام: غدا أخبركم ولم يستثن فأبطأ عليه صلّى الله عليه وسلّم الوحي خمسة عشر يوما على ما روي عن ابن إسحاق ، وقيل: ثلاثة أيام، وقيل: أربعين يوما فشق ذلك عليه الصلاة والسلام وكذبته قريش وحاشاه. وجوز غير واحد أن يبقى على المعنى المتبادر وما بعده بذلك المعنى يعلم بطريق دلالة النص. وتعقب بأن ما بعده ليس بمعناه في مناط النهي وهو احتمال المانع فإن الزمان إذا اتسع قد ترتفع فيه الموانع أو تخف وليس بشيء لأن المانع شامل للموت واحتمال في الزمان الواسع أقوى. إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ استثناء متعلق بالنهي على ما اختاره جمع من المحققين، وقول ابن عطية اغترارا برد الطبري إنه من الفساد بحيث كان الواجب أن لا يحكى خروج عن الإنصاف، وهو مفرغ من أعم الأحوال. وفي الكلام تقدير باء للملابسة داخلة على أن والجار والمجرور في موضع الحال أي لا تقولن ذلك في حال من الأحوال إلا حال ملابسته بمشيئة الله عز وجل بأن تذكر، قال في الكشف: إن التباس القول بحقيقة المشيئة محال فبقي أن يكون بذكرها وهو إن شاء الله تعالى ونحوه مما يدل على تعليقه الأمور بمشيئة الله تعالى. ورد بما يصلح أن يكون تأييدا لا ردا، وجوز أن يكون المستثنى منه أعم الأوقات أي لا تقولن ذلك في وقت من الأوقات إلا في وقت مشيئة الله تعالى ذلك القول منك، وفسرت المشيئة على هذا بالإذن لأن وقت المشيئة لا يعلم إلا بإعلامه تعالى به وإذنه فيه فيكون مآل المعنى لا تقولن إلا بعد أن يؤذن لك بالقول. وجوز أيضا أن يكون الاستثناء منقطعا، والمقصود منه التأبيد أي ولا تقولن ذلك أبدا، ووجه ذلك في الكشف بأنه نهي عن القول إلا وقت مشيئة الله تعالى وهي مجهولة فيجب الانتهاء أبدا، وأشار إلى أنه هو مراد الزمخشري لا ما يتوهم من جعله مثل قوله تعالى: وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الأعراف: 89] من أن التأبيد لعدم مشيئته تعالى فعل ذلك غدا لقبحه كالعود في ملة الكفر لأن القبح فيما نحن فيه على إطلاقه غير مسلم، والتخصيص بما يتعلق بالوحي على معنى لا تقولن فيما يتعلق بالوحي إني أخبركم به إلا أن يشاء الله تعالى والله تعالى لم يشأ أن تقوله من عندك فإذا لا تقولنه أبدا يأباه النكرة في سياق النهي المتضمن للنفي والتقييد بالمستقبل، وأن قوله: فاعِلٌ ذلِكَ غَداً أي مخبر عن أمر يتعلق بالوحي غدا غير مؤذن بأن قوله في الغد يكون من عنده لا عن وحي فالتشبيه في أن الاستثناء بالمشيئة استعمل في معرض التأبيد وإن كان وجه الدلالة مختلفا أخذا من متعلق المشيئة تارة ومن الجهل بها أخرى، ولا يخفى أن الظاهر في الآية الوجه الأول وأن أمته صلّى الله عليه وسلّم وهو في الخطاب الذي تضمنته سواء مخصوصا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، ولا يجوز أن يكون الاستثناء متعلقا بقوله تعالى: إِنِّي فاعِلٌ بأن يكون استثناء مفرغا مما في حيزه من أعم الأحوال أو الأوقات لأنه حينئذ إما أن تعتبر تعلق المشيئة بالفعل فيكون المعنى إني فاعل في كل حال أو في كل وقت إلا في حال أو وقت الجزء: 8 ¦ الصفحة: 235 مشيئة الله تعالى الفعل وهو غير سديد أو يعتبر تعلقها بعدمه فيكون المعنى إني فاعل في كل حال أو في كل وقت إلا في حال أو وقت مشيئة الله مشيئة الله تعالى عدم الفعل، ولا شبهة في عدم مناسبته للنهي بل هو أمر مطلوب. وقال الخفاجي: إذا كان الاستثناء متعلقا بأني فاعل والمشيئة متعلقة بالعدم صار المعنى إني فاعل في كل حال إلا إذا شاء الله تعالى عدم فعلي وهذا لا يصح النهي عنه، أما على مذهب أهل السنة فظاهر، وأما على مذهب المعتزلة فلأنهم لا يشكون في أن مشيئة الله تعالى لعدم فعل العبد الاختياري إذا عرضت دونه بإيجاد ما يعوق عنه من الموت ونحوه منعت عنه وإن لم تتعلق عندهم بإيجاده وإعدامه، وكذا لا يصح النهي إذا كانت المشيئة متعلقة بالفعل في المذهبين، فما قيل: إن تعلق الاستثناء بما ذكر صحيح والمعنى عليه النهي عن أن يذهب مذهب الاعتزال في خلق الأعمال فيضيفها لنفسه قائلا إن لم تقترن مشيئة الله تعالى بالفعل فأنا فاعله استقلالا فإن اقترنت فلا يخفى ما فيه على نبيه فتأمل. وقد شاع الاعتراض على المعتزلة في زعمهم أن المعاصي واقعة من غير إرادة الله تعالى ومشيئته وأنه تعالى لا يشاء إلا الطاعات بأنه لو كان كذلك لوجب فيما إذا قال: الذي عليه دين لغيره قد طالبه به والله لأعطينك حقك غدا إن شاء الله تعالى أن يكون حانثا إذا لم يفعل لأن الله تعالى قد شاء ذلك لكونه طاعة وإن لم يقع فتلزمه الكفارة عن يمينه ولم ينفعه الاستثناء كما لو قال: والله لأعطينك إن قام زيد فقام ولم يفعل، وفي التزام الحنث في ذلك خروج عن الإجماع. وقد أجاب عنه المرتضى بأن للاستثناء الداخل في الكلام وجوها مختلفة فقد يدخل في الأيمان والطلاق والعتاق وسائر العقود وما يجري مجراها من الأخبار وهذا يقتضي التوقف عن إمضاء الكلام والمنع من لزوم ما يلزم به ويصير له الكلام كأنه لا حكم له، ويصح في هذا الوجه الاستثناء في الماضي فيقال: قد دخلت الدار إن شاء الله تعالى ليخرج بذلك من أن يكون خبرا قاطعا أو يلزم به حكم، ولا يصح في المعاصي لأن فيه إظهار الانقطاع إلى الله تعالى والمعاصي لا يصلح ذلك فيها قال: وهذا الوجه أحد محتملات الآية، وقد يدخل في الكلام ويراد به التسهيل والاقدار والتخلية والبقاء على ما هو عليه من الأحوال وهذا هو المراد إذا دخل في المباحات وهو ممكن في الآية، وقد يدخل لمجرد غرض الانقطاع إلى الله تعالى ويكون على هذا غير معتد به في كون الكلام صادقا أو كاذبا وهو أيضا ممكن في الآية، وقد يدخل ويراد به اللطف والتسهيل وهذا يختص بالطاعات ولا يصح أن تحمل الآية عليه لأنها تتناول كل ما لم يكن قبيحا. وقول المديون السابق إن قصد به هذا المعنى لا يلزم منه الحنث إذا لم يفعل، ويدين المديون. وغيره إن ادعى قصد ما لا يلزمه فيه شيء فلا ورود لما اعترضوا به، والإنصاف أن الاعتراض ليس بشيء والرد عليهم غني عن مثل ذلك، هذا ثم اعلم أن إطلاق الاستثناء على التقييد بإن شاء الله تعالى بل على التقييد بالشرط مطلقا ثابت في اللغة والاستعمال كما نص عليه السيرافي في شرح الكتاب. وقال الراغب: الاستثناء دفع ما يوجبه عموم سابق كما في قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً [الأنعام: 145] إلخ أو دفع ما يوجبه اللفظ كقوله: امرأته طالق إن شاء الله تعالى انتهى. وفي الحديث «من حلف على شيء فقال: إن شاء الله تعالى فقد استثنى» فما قيل: إن كلمة إن شاء الله تعالى تسمى استثناء لأنه عبر عنها هنا بقوله سبحانه: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ليس بسديد فكذا ما قيل: إنها أشبهت الاستثناء في التخصيص فأطلق عليها اسمه كذا قال الخفاجي، ولا يخفى أن في الحديث نوع إباء لدعوى أن إطلاق الاستثناء على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 236 التقييد بإن شاء الله تعالى لغوي لأنه صلّى الله عليه وسلّم لم يبعث لإفادة المدلولات اللغوية بل لتبليغ الأحكام الشرعية فتذكر. وَاذْكُرْ رَبَّكَ تعالى أي مشيئة ربك فالكلام على حذف مضاف، وذكر مشيئة تعالى على ما يدل عليه ما قبل أن يقال إن شاء الله تعالى، وقد قال ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين نزلت إِذا نَسِيتَ أي إذا فرط منك نسيان ذلك ثم تذكرته فإنه ما دام ناسيا لا يؤمر بالذكر وهو أمر بالتدارك عند التذكر سواء قصر الفصل أم طال. وقد أخرج ابن جرير والطبراني وابن المنذر وغيرهم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يرى الاستثناء ولو بعد سنة ويقرأ الآية، وروي ذلك عن أئمة أهل البيت رضي الله تعالى عنهم وهو رواية عن الإمام أحمد عليه الرحمة، وأخرج ابن المنذر عن ابن جبير في رجل حلف ونسي أن يستثني قال: له ثنياه إلى شهر، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عمرو بن دينار عن عطاء أنه قال: من حلف على يمين فإن الثنيا حلب ناقة قال: وكان طاوس يقول ما دام في مجلسه، وأخرج ابن أبي حاتم أيضا عن إبراهيم قال: يستثني ما دام في كلامه، وعامة الفقهاء على اشتراط اتصال الاستثناء في عدم الحنث ولو صح جواز الفصل وعدم تأثيره في الأحكام لا سيما إلى الغاية المروية عن ابن عباس لما تقرر إقرار ولا طلاق ولا عتاق ولم يعلم صدق ولا كذب. ويحكى أنه بلغ المنصور أن أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه خالف ابن عباس في هذه المسألة فاستحضره لينكر عليه فقال له أبو حنيفة: هذا يرجع إليك أنك تأخذ البيعة بالأيمان أفترضى أن يخرجوا من عندك فيستثنوا فيخرجوا عليك فاستحسن كلامه. ومن غريب ما يحكى أن رجلا من علماء المغرب أحب أن يرى علماء بغداد ويتحقق مبلغ علمهم فشد الرحل للاجتماع معهم فدخل بغداد من باب الكرخ فصادف رجلين يمشيان أمامه يبيعان البقل في أطباق على رؤوسهما فسمع أحدهما يقول لصاحبه: يا فلان إني لأعجب من ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كيف جوز فصل الاستثناء، وقال بعدم تأثيره في الأحكام ولو كان الأمر كما يقول لأمر الله تعالى نبيه أيوب عليه السلام بالاستثناء لئلا يحنث فإنه أقل مؤنة مما أرشده سبحانه إليه بقوله تعالى: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ [ص: 44] وليس بين حلفه وأمره بما ذكره أكثر من سنة فرجع ذلك الرجل إلى بلده واكتفى بما سمع ورأى فسئل كيف وجدت علماء بغداد؟ فقال: رأيت من يبيع البقل على رأسه في الطرقات من أهلها بلغ مبلغا من العلم يعترض به على ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فما ظنك بأهل المدارس المنقطعين لخدمة العلم والإنصاف أن هذا الاعتراض على علامة يستكثر ممن يبيع البقل والله تعالى أعلم بصحة النقل، لا يقال: إن ظاهر الآية على ما سمعت يطابق ما ذهب إليه الحبر وإلا لم يكن للتدارك معنى وكذا ما جاء في الخبر لما قالوا: إن التدارك فيما يرجع إلى تفويض العبد يحصل بذكره بعد التنبه أما في التأثير في الحكم حتى يخرجه عن الجزم فليست الآية مسوقة له ولا دالة عليه بوجه. وقال بعضهم: إن ذلك من خصائصه صلّى الله عليه وسلّم فله عليه الصلاة والسلام أن يستثني ولو بعد حين بخلاف غيره. فقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والطبراني في الكبير بسند متصل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية: إذا نسيت الاستثناء فاستثن إذا ذكرت ثم قال: هي خاصة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وليس لأحدنا أن يستثني إلا في صلة يمين، وقيل ليس في الآية والخبر أن الاستثناء المتدارك من القول السابق بل من مقدر مدلول به عليه والتقدير في الآية كلما نسيت ذكر الله تعالى اذكره حين التذكر إن شاء الله تعالى، وفي الحديث لا أنسى المشيئة بعد اليوم ولا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 237 أتركها إن شاء الله تعالى أو أقول إن شاء الله تعالى إذا قلت إني فاعل أمرا فيما بعد ، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر جدا. وجوز أن يكون المعنى واذكر ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت الاستثناء، والمراد من ذلك المبالغة في الحث عليه بإيهام أن تركه من الذنوب التي يجب لها التوبة والاستغفار، وقيل المعنى واذكر ربك وعقابه إذا تركت بعض ما أمرك به ليبعثك ذلك على التدارك، وحمل النسيان على الترك مجاز لعلاقة السببية والمسببية أو اذكر ربك إذا عرض لك نسيان ليذكرك المنسي، ونَسِيتَ على هذا منزل منزلة اللازم، ولا يخفى بعد ارتباط الآية على هذين المعنيين بما سبق. وحمل قتادة الآية على أداء الصلاة المنسية عند ذكرها فإذا أراد أن المراد من الآية واقض الصلاة المنسية إذ ذكرتها فهو كما ترى وأمر الارتباط كما في سابقه، وإن أراد أنها تدل على الأمر بقضاء الصلاة المنسية عند ذكرها لما أنها دلت على الأمر بذكر الاستثناء المنسي، وأمر الصلاة أشد والاهتمام بها أعظم فالأمر أسهل ولكن ظاهر كلامهم أنه أراد الأول. وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهما عن عكرمة أنه قال في الآية: أي اذكر ربك إذا غضبت، ووجه تفسير النسيان بالغضب أنه سبب للنسيان، وأمر هذا القول نظير ما مر. وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي أي يوفقني لِأَقْرَبَ مِنْ هذا أي لشيء أقرب وأظهر من نبأ أصحاب الكهف من الآيات والدلائل الدالة على نبوتي رَشَداً إرشادا للناس ودلالة على ذلك. وإلى هذا ذهب الزجاج، وقد فعل ذلك عز وجل حيث آتاه من الآيات البينات ما هو أعظم من ذلك وأبين كقصص الأنبياء عليهم السلام المتباعدة أيامهم والحوادث النازلة في الأعصار المستقبلة إلى قيام الساعة، وكأنه تهوين منه عز وجل لأمر قصة أصحاب الكهف كما هونه جل وعلا أولا بقوله سبحانه «أم حسبت» إلخ، وهو متعلق بمجموع القصة، وعطفه بعض الأفاضل على العامل في قوله تعالى: «إذ أوى الفتية إلى الكهف» كأنه قيل اذكر إذ أوى الفتية إلخ وقل عسى أن يهديني ربي لما هو أظهر من ذلك دلالة على نبوتي. وقال الجبائي: هو متعلق بقوله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إلى آخره والمعنى عنده ادع ربك سبحانه وتعالى إذا نسيت شيئا أن يذكرك إياه وقل إن لم يذكرك سبحانه عسى أن يهديني لشيء أقرب من المنسي خيرا ومنفعة «فهذا» إشارة إلى المنسي والرشد الخير والمنفعة و (أقرب) على معناه الحقيقي، ولا يخفى أن هذا أقرب من جهة المتعلق وأبعد من جهات، وقيل: إنه متعلق بالمتعاطفات قبله وهذا إشارة إلى ما تضمنته من الخير أمرا ونهيا كأنه قيل افعل كذا ولا تفعل كذا وأطمع من ربك أن يهديك لأقرب مما أرشدت إليه في ضمن ما سمعت من الأمر والنهي خيرا ومنفعة، وقد هدى صلّى الله عليه وسلّم في ضمن ما أنزل عليه عليه الصلاة والسلام بعد ذلك من الأوامر والنواهي إلى ما هو أقرب من ذلك منفعة ولا يكاد يحصى وهو كما ترى، ولعله على علاته أقرب مما نقل عن الجبائي، وقال ابن الأنباري: معنى الآية عسى أن يعرفني ربي جواب مسائلكم قبل الوقت الذي حددته لكم ويعجل لي من جهته الرشاد، ولا يكاد يستفاد هذا المعنى من الآية، وعلى فرض الاستفادة تكون نظير استفادة المعاني المرادة من المعميات ويجل كتاب الله تعالى الكريم عن ذلك. وأخرج البيهقي من طريق المعتمر بن سليمان قال: سمعت أبي يحدث عن رجل من أهل الكوفة أنه كان يقول: إذا نسي الإنسان الاستثناء فتوبته أن يقول عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً وحكاه أبو حيان عن محمد الكوفي المفسر، والظاهر أنه الرجل الذي ذكره المعتمر، وهو قول لا دليل عليه وَلَبِثُوا فِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 238 كَهْفِهِمْ أحياء مضروبا على آذانهم ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً وهي جملة مستأنفة مبينة كما قال مجاهد لما أجمل في قوله تعالى فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً [الكهف: 11] واختار ذلك غير واحد، قال في الكشف: فعلى هذا قوله تعالى قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا تقرير لكون المدة المضروب فيها على آذانهم هي هذه المدة كأنه قيل قل الله أعلم بما لبثوا وقد أعلم فهو الحق الصحيح الذي لا يحوم حوله شك قط، وفائدة تأخير البيان التنبيه على أنهم تنازعوا في ذلك أيضا لذكره عقيب اختلافهم في عدة أشخاصهم وليكون التذييل بقل الله أعلم محاكيا للتذييل بقوله سبحانه قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ وللدلالة على أنه من الغيب الذي أخبر به عليه الصلاة والسلام ليكون معجزا له، ولو قيل: فضربنا على آذانهم سنين عددا وأتى به مبينا أولا لم يكن فيه هذه الدلالة البتة، فهذه عدة فوائد والأصل الأخيرة انتهى، ويحتاج على هذا إلى بيان وجه العدول عن المتبادر وهو ثلاثمائة وتسع سنين مع أنه أخصر وأظهر فقيل هو الإشارة إلى أنها ثلاثمائة بحساب أهل الكتاب واعتبار السنة الشمسية وثلاثمائة وتسع بحساب العرب واعتبار السنة القمرية فالتسع مقدار التفاوت، وقد نقله بعضهم عن علي كرم الله تعالى وجهه. واعترض بأن دلالة اللفظ على ما ذكر غير ظاهرة مع أنه لا يوافق ما عليه الحساب والمنجمون كما قاله الإمام لأن السنة الشمسية ثلاثمائة وخمس وستون يوما وخمس ساعات وتسع وأربعون دقيقة على مقتضى الرصد الإيلخاني والسنة القمرية ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوما وثمان ساعات وثمان وأربعون دقيقة فيكون التفاوت بينهما عشرة أيام وإحدى وعشرين ساعة ودقيقة واحدة وإذا كان هذا تفاوت سنة كان تفاوت مائة ألف يوم وسبعة وثمانين يوما وثلاث عشرة ساعة وأربع دقائق وهي ثلاثة سنين وأربعة وعشرون يوما وإحدى عشرة ساعة وست عشرة دقيقة فيكون تفاوت ثلاثمائة سنة تسع سنين وثلاثا وسبعين يوما وتسع ساعات وثمانيا وأربعين دقيقة (1) ولذا قيل إن روايته عن علي كرم الله تعالى وجهه لم تثبت. وبحث فيه الخفاجي بأن وجه الدلالة فيه ظاهر لأن المعنى لبثوا ثلاثمائة سنة على حساب أهل الكتاب الذين علموا قومك السؤال عن شأنهم وتسعا زائدة على حساب قومك الذين سألوك عن ذلك، والعدول عن الظاهر يشعر به، ودعوى أن التفاوت تسع سنين مبنية على التقريب لأن الزائد لم يبلغ نصف سنة بل ولا فصلا من فصولها فلم يعبأ به، وكون التفاوت تسعا تقريبا جار على سائر الأقوال في مقدار السنة الشمسية والسنة القمرية إذ التفاوت في سائرها لا يكاد يبلغ ربعا فضلا عن نصف، وقال الطيبي في توجيه العدول: إنه يمكن أن يقال: لعلهم لما استكملوا ثلاثمائة سنة قربوا من الانتباه ثم اتفق ما أوجب بقاءهم نائمين تسع سنين. وتعقب بأن هذا يقتضي أن يكون المراد وازدادوا نوما أي قوي نومهم في تسع سنين ولا يخفى ما فيه. وقال أيضا: يجوز أن يكون أهل الكتاب قد اختلفوا في مدة لبثهم كما اختلفوا في عدتهم فجاء قوله تعالى: وَلَبِثُوا إلخ رافعا للاختلاف مبينا للحق ويكون وَازْدَادُوا تِسْعاً تقريرا ودفعا للاحتمال نظير الاستثناء في قوله تعالى فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً وسيجيء بيانه إن شاء الله تعالى ولا يخلو عن حسن. وقيل إنهم انتبهوا قليلا ثم ردوا إلى حالتهم الأولى فلذا ذكر الازدياد وهو الذي يقتضية ما أخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة المار في قوله تعالى وَنُقَلِّبُهُمْ إلخ وهو فيما أرى أقرب مما تقدم من حديث السنين الشمسية والقمرية. وقال جمع: إن الجملة من كلام أهل الكتاب فهي من مقول سَيَقُولُونَ السابق وما بينهما اعتراض ونسب ذلك إلى ابن عباس، فقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن الرجل ليفسر الآية يرى   (1) وإذا اعتبر هذا سنين شمسية كان تسع سنين إلا أربعة وعشرين يوما وإحدى عشرة ساعة وإحدى وعشرين دقيقة اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 239 أنها كذلك فيهوي أبعد ما بين السماء والأرض ثم تلا وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ الآية ثم قال: كم لبث القوم؟ قالوا: ثلاثمائة وتسع سنين فقال: لو كانوا لبثوا كذلك لم يقل الله تعالى قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا ولكنه سبحانه حكى مقالة القوم فقال تعالى سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ إلى قوله تعالى رَجْماً بِالْغَيْبِ فأخبر أنهم لا يعلمون وقال: سيقولون لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا ولعل هذا لا يصح عن الحبر رضي الله تعالى عنه فقد صح عنه القول بأن عدة أصحاب الكهف سبعة وثامنهم كلبهم مع أنه تعالى عقب القول بذلك بقوله سبحانه قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ولا فرق بينه وبين قوله تعالى قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا فلم دل هذا على الرد ولم يدل ذاك. نعم قرأ ابن مسعود «قالوا لبثوا كهفهم» وهو يقتضي أن يكون من كلام الخائضين في شأنهم إلا أن التعقيب بقوله تعالى قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا كتعقيب القول الثالث في العدة بما سمعت في عدم الدلالة على الرد. والظاهر أن ضمير وَازْدَادُوا على هذا القول لأصحاب الكهف كما أنه كذلك على القول السابق، وقال الخفاجي: إن الضمير عليه لأهل الكتاب بخلافه على الأول، ويظهر فيه وجه العدول عن ثلاثمائة وتسع سنين لأن بعضهم قال: لبثوا ثلاثمائة وبعضهم قال: إنه أزيد بتسعة اه. ولا يخفى ما فيه، وعلى القولين الظاهر أن بِما لَبِثُوا إشارة إلى المدة السابق ذكرها، وزعم بعضهم أنه إشارة إلى المدة التي بعد الاطلاع عليهم إلى زمن الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهو كما ترى، وقيل إنه تعالى لما قال وَازْدَادُوا تِسْعاً كانت التسع مبهمة لا يدري أنها سنون أم شهور أم أيام أم ساعات واختلف في ذلك بنو إسرائيل فأمر صلّى الله عليه وسلّم برد العلم إليه عز وجل في التسع فقط اه وليس بشيء فإنه إذا سبق عدد مفسر وعطف عليه ما لم يفسر حمل تفسيره على السابق فعندي مائة درهم وعشرة ظاهر في وعشرة دراهم وليس بمجمل كما لا يخفى. هذا ونصب تِسْعاً على أنه مفعول ازْدَادُوا وهو مما يتعدى إلى واحد، وقال أبو البقاء: إن زاد يتعدى إلى اثنين وإذا بني على افتعل تعدى إلى واحد، وظاهر كلام الراغب وغيره أن زاد قد تتعدى إلى واحد يقال: زدته كذا فزاد هو وازداد كذا، ووجه ذلك ظاهر فلا تغفل، والجمهور على أن سِنِينَ في القراءة بتنوين «مائة» منصوب لكن اختلفوا في توجيه ذلك فقال أبو البقاء وابن الحاجب: هو منصوب على البدلية من ثَلاثَ مِائَةٍ. وقال الزمخشري: على أنه عطف بيان لثلاثمائة، وتعقبه في البحر بأنه لا يجوز على مذهب البصريين. وادعى بعضهم أنه أولى من البدلية لأنها تستلزم أن لا يكون العدد مقصودا، ويؤيده ما أخرجه ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك قال: لما نزلت هذه الآية وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ قيل: يا رسول الله أياما أم أشهرا أم سنين؟ فأنزل الله تعالى سنين. وجوز ابن عطية الوجهين، وقيل: على التمييز، وتعقب بأنه يلزم عليه الشذوذ من وجهين، وستعلم وجهه قريبا إن شاء الله تعالى، وبما نقل في المفصل عن الزجاج أنه يلزم أن يكونوا لبثوا تسعمائة سنة، قال ابن الحاجب: ووجهه أنه فهم من لغتهم أن مميز المائة واحد من مائة كما إذا قلت مائة رجل فرجل واحد من المائة فلو كان سنين تمييزا لكان واحدا من ثلاثمائة وأقل السنين ثلاثة فكان كأنه قيل ثلاثمائة ثلاث سنين فيكون تسعمائة سنة. ويرد بأن ما ذكر مخصوص بما إذا كان التمييز مفردا وأما إذا كان جمعا فالقصد فيه كالقصد في وقوع التمييز جمعا في نحو ثلاثة أثواب مع أن الأصل في الجميع الجمع، وإنما عدلوا إلى المفرد لعلة كما بين في محله فإذا استعمل التمييز جمعا استعمل على الأصل، وما قال إنما يلزم لو كان ما استعمل جمعا استعمل كما استعمل المفرد فأما إذا استعمل الجمع على أصله في ما وضع له العدد فلا انتهى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 240 وقد صرح الخفاجي أن ذلك كتقابل الجمع بالجمع، وجوز الزجاج كون سِنِينَ مجرورا على أنه نعت مِائَةٍ وهو راجع في المعنى إلى جملة العدد كما في قول عنترة: فيها اثنتان وأربعون حلوبة ... سودا كخافية الغراب الأسحم حيث جعل سودا نعتا لحلوبة وهي في المعنى نعت لجملة العدد، وقال أبو علي: لا يمتنع أن يكون الشاعر اعتبر حلوبة جمعا وجعل سودا وصفا لها وإذا كان المراد به الجمع فلا يمتنع أن يقع تفسيرا لهذا الضرب من العدد من حيث كان على لفظ الآحاد كما يقال عشرون نفرا وثلاثون قبيلا. وقرأ حمزة والكسائي وطلحة ويحيى والأعمش والحسن وابن أبي ليلى وخلف وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جبير الأنطاكي «ثلاثمائة سنين» بإضافة مائة إلى سنين وما نقل عن الزجاج يرد هنا أيضا ويرد بما رد به هناك، ولا وجه لتخصيص الإيراد بنصب سنين على التمييز فإن منشأ اللزوم على فرض تسليمه كونه تمييزا وهو متحقق إذا جر أيضا وجر تمييز المائة بالإضافة أحد الأمرين المشهورين فيه استعمالا، وثانيهما كونه مفردا ولكون الإفراد مشهورا في الاستعمال أطلق عليه الأصل فهو أصل بحسب الاستعمال، ولا ينافي هذا قول ابن الحاجب: إن الأصل في التمييز مطلقا الجمع كما سمعت آنفا لأنه أراد أنه الأصل المرفوض قياسا نظرا إلى أن المائة جمع كثلاثة وأربعة ونحوهما كذا في الكشف، وقد يخرج عن الاستعمال المشهور فيأتي مفردا منصوبا كما في قوله: إذا عاش الفتى مائتين عاما ... فقد ذهب اللذاذة والفتاء وقد يأتي جمعا مجرورا بالإضافة كما في الآية على قراءة الكسائي وحمزة ومن معهما لكن قالوا: إن الجمع المذكور فيها قد أجري مجرى العاري عن علامة الجمع لما أن العلامة فيه ليست متمحضة للجمعية لأنها كالعوض عن لام مفرده المحذوفة حتى أن قوما لا يعربونه بالحروف بل يجرونه مجرى حين، ولم أجد فيما عندي من كتب العربية شاهدا من كلام العرب لإضافة المائة إلى جمع، وأكثر النحويين يوردون الآية على قراءة حمزة والكسائي شاهدا لذلك وكفى بكلام الله تعالى شاهدا. وقرأ أبي «ثلاثمائة سنة» بالإضافة والإفراد كما هو الاستعمال الشائع وكذا في مصحف ابن مسعود، وقرأ الضحاك «ثلاثمائة سنون» بالتنوين ورفع سنون على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي سنون، وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية اللؤلؤي عنه «تسعا» بفتح التاء وهو لغة فيه فاعلم والله تعالى أعلم لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي جميع ما غاب فيهما وخفي من أحوال أهلهما فالغيب مصدر بمعنى الغائب والخفي جعل عينه للمبالغة واللام للاختصاص العلمي أي له تعالى ذلك علما ويلزم منه ثبوت علمه سبحانه بسائر المخلوقات لأن من علم الخفي علم غيره بالطريق الأولى. أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ صيغتا تعجب والهاء ضميره تعالى، والكلام مندرج تحت القول فليس التعجب منه سبحانه ليقال ليس المراد منه حقيقته لاستحالته عليه تعالى بل المراد أن ذلك أمر عظيم من شأنه أن يتعجب منه كما قيل ولا يمتنع صدور التعجب من بعض صفاته سبحانه وأفعاله عز وجل حقيقة من غيره تعالى. وفي الحديث ما أحلمك عمن عصاك وأقربك ممن دعاك وأعطفك على من سألك، ولهم في هذه المسألة كلام طويل فليرجع إليه من أراده، ولابن هشام رسالة في ذلك، وأيّا ما كان ففيه إشارة إلى أن شأن بصره تعالى وسمعه عز وجل وهما صفتان غير راجعتين إلى صفة العلم خارج عما عليه بصر المبصرين وسمع السامعين فإن اللطيف والكثيف والصغير والكبير والجلي والخفي والسر والعلن على حد سواء في عدم الاحتجاب عن بصره وسمعه تبارك وتعالى بل من الناس من قال: إن المعدوم والموجود في ذلك سواء وهو مبني على شيئية المعدوم والخلاف في ذلك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 241 معلوم ولعل تقديم ما يدل على عظم شأن بصره عز وجل لما أن ما نحن بصدده من قبيل المبصرات والأصل أبصر وأسمع والهمزة للصيرورة لا للتعدية أي صار ذا بصر وصار ذا سمع ولا يقتضي ذلك عدم تحققهما له تعالى تعالى عن ذلك علوا كبيرا، وفيهما ضمير مستتر عائد عليه سبحانه ثم حولا إلى صيغة الأمر وبرز الضمير الفاعل لعدم لياقة صيغة الأمر لتحمل ضمير الغائب وجر بالباء الزائدة فكان له محلان الجر لمكان الباء والرفع لمكان كونه فاعلا، ولكونه صار فضلة صورة أعطي حكمها فصح حذفه من الجملة الثانية مع كونه فاعلا والفاعل لا يجوز حذفه عندهم، ولا تكاد تحذف هذه الباء في هذا الموضع إلا إذا كان المتعجب منه أن وصلتها نحو أحسن أن تقول، وهذا الفعل لكونه ماضيا معنى قيل إنه مبني على فتح مقدر منع من ظهوره مجيئه على صورة الأمر وهذا مذهب س في هذا التركيب، قال الرضي: وضعف ذلك بأن الأمر بمعنى الماضي مما لم يعهد بل جاء الماضي بمعنى الأمر كما في حديث اتقى الله امرؤ فعل خيرا يثب عليه ، وبأن صار ذا كذا قليل ولو كان ما ذكر منه لجاز ألحم بزيد وأشحم بزيد، وبان زيادة الباء في الفاعل قليل والمطرد زيادتها في المفعول. وتعقب بأن كون الأمر بمعنى الماضي مما لم يعهد غير مسلم ألا ترى أن كفى به بمعنى اكتف به عند الزجاج وقصد بهذا النقل الدلالة على أنه قصد به معنى إنشائي وهو التعجب، ولم يقصد ذلك من الماضي لأن الإنشاء أنسب بصيغة الأمر منه لأنه خبر في الأكثر، وبأن كثرة أفعل بمعنى صار ذا كذا لا تخفى على المتتبع، وجواز ألحم بزيد على معنى التعجب لازم ولا محذور فيه وعلى معنى آخر غير لازم، نعم ما ذكر من قلة زيادة الباء في الفاعل مما لا كلام فيه، والإنصاف أن مذهب س في هذه المسألة لا يخلو عن تعسف. ومذهب الأخفش وعزاه الرضي إلى الفراء أن أفعل في نحو هذا التركيب أمر لفظا ومعنى فإذا قلت أحسن بزيد فقد أمرت كل واحد بأن يجعل زيدا حسنا ومعنى جعله كذلك وصفه به فكأنك قلت صفه بالحسن كيف شئت فإن فيه منه كل ما يمكن أن يكون في شخص كما قال الشاعر: لقد وجدت مكان القول ذا سعة ... فإن وجدت لسانا قائلا فقل وهذا المعنى مناسب للتعجب بخلاف تقدير س، وأيضا همزة الجعل أكثر من همزة صار ذا كذا وإن لم يكن شيء منهما على ما قال الرضي قياسا مطردا، واعتبر الفاعل ضمير المأمور وهو كل أحد لأن المراد أنه لظهور الأمر يؤمر كل أحد لا على التعيين بوصفه بما ذكر، ولم يتصرف في أفعل على هذا المذهب فيسند إلى مثنى أو مجموع أو مؤنث لما ذكروا من علة كون فعل للتعجب غير متصرف وهي مشابهته الحروف في الإنشاء وكون كل لفظ من ألفاظه صار علما لمعنى من المعاني، وإن كان هناك جملة فالقياس أن لا يتصرف فيه احتياطا لتحصيل الفهم كأسماء الأعلام فلذا لم يتصرف في نعم وبئس في الأمثال، وسهل ذلك هنا انمحاء معنى الأمر فيه كما انمحى معنى الجعل وصار لمحض إنشاء التعجب ولم يبق فيه معنى الخطاب، والباء زائدة في المفعول، وأجاز الزجاج أن تكون الهمزة للصيرورة فتكون الباء للتعدية أي صيره ذا حسن، ثم إنه اعتذر لبقاء أحسن في الأحوال على صورة واحدة لكون الخطاب لمصدر الفعل أي يا حسن أحسن بزيد وفيه تكلف وسماجة. وأيضا نحن نقول أحسن بزيد يا عمرو ولا يخاطب شيئان في حالة إلا أن يقول: معنى خطاب الحسن قد انمحى، وثمرة الخلاف بين س وغيره تظهر فيما إذا اضطر إلى حذف الباء فعلى مذهب س يلزم رفع مجروره وعلى غيره يلزم نصبه، هذا وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون معنى الآية: أبصر بدين الله تعالى وأسمع به أي بصر بهدى الله تعالى وسمع به فترجع الهاء إما على الهدى وإما على الاسم الجليل ونقل ذلك عن ابن الأنباري وليس بشيء. وقرأ عيسى «أبصر به وأسمع» بصيغة الماضي فيهما وخرج الجزء: 8 ¦ الصفحة: 242 ذلك أبو حيان على أن المراد الإخبار لا التعجب، والضمير المجرور لله تعالى أي أبصر عباده بمعرفته سبحانه وأسمعهم، وجوز أن يكون أَبْصِرْ أفعل تفضيل وكذا أَسْمِعْ وهو منصوب على الحالية من ضمير له وضمير بِهِ عائد على الغيب وليس المراد حقيقة التفضيل بل عظم شأن بصره تعالى وسمعه عز وجل، ولعل هذا أقرب مما ذكره أبو حيان، وحاصل المعنى عليه أنه جل شأنه يعلم غيب السموات والأرض بصيرا به وسميعا على أتم وجه وأعظمه ما لَهُمْ أي لأهل السموات والأرض المدلول عليه بذكرهما مِنْ دُونِهِ تعالى مِنْ وَلِيٍّ من يتولى أمورهم وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ في قضائه تعالى أَحَداً كائنا من كان ولا يجعل له فيه مدخلا، وقيل يحتمل أن يعود الضمير لأصحاب الكهف وإضافة حكم للعهد على معنى ما لهم من يتولى أمرهم ويحفظهم غيره سبحانه ولا يشرك في حكمه الذي ظهر فيهم أحدا من الخلق. وجوز ابن عطية أن يعود على معاصري رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الكفار المشاقين له عليه الصلاة والسلام وجعل الآية اعتراضا بتهديد، وقيل: يحتمل أن يعود على معنى مؤمني أهل السموات والأرض. والمراد أنهم لن يتخذوا من دونه تعالى وليا، وقيل: يعود على المختلفين في مدة لبث أصحاب الكهف أي لا يتولى أمرهم غير الله تعالى فهم لا يقدرون بغير إقداره سبحانه فكيف يعلمون بغير إعلامه عز وجل والكل كما ترى، ثم لا يخفى عليك أن ما في النظم الكريم أبلغ في نفي الشريك من أن يقال من ولي ولا شريك. وقرأ مجاهد «ولا يشرك» بالياء آخر الحروف والجزم، قال يعقوب: لا أعرف وجه ذلك، ووجه بعضهم بأنه سكن بنية الوقف. وقرأ ابن عامر والحسن وأبو رجاء وقتادة والجحدري وأبو حيوة وزيد وحميد بن الوزير عن يعقوب والجعفي واللؤلؤي عن أبي بكر «ولا تشرك» بالتاء ثالث الحروف والجزم على أنه نهي لكل أحد عن الشرك لا نهي له صلّى الله عليه وسلّم ولو جعل له عليه الصلاة والسلام لجعل تعريضا بغيرة كقوله: إياك أعني واسمعي يا جارة. فيكون مآله إلى ذلك، وجوز أن يكون الخطاب له صلّى الله عليه وسلّم ويجعل معطوفا على لا تَقُولَنَّ والمعنى لا تسأل أحدا عما لا تعرفه من قصة أصحاب الكهف ولبثهم واقتصر على ما يأتيك في ذلك من الوحي أو لا تسأل أحدا عما أخبرك الله تعالى به من نبأ مدة لبثهم واقتصر على بيانه سبحانه ولا يخفى ما فيه من كثرة مخالفة الظاهر وإن كان أشد مناسبة لقوله تعالى: وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ ووجه الربط على القراءة المشهورة حسبما تقدم من تفسيرها أنه سبحانه لما ذكر قصة أصحاب الكهف وكانت من المغيبات بالإضافة إليه صلّى الله عليه وسلّم ودل اشتمال القرآن عليها على أنه وحي معجز من حيثية الاشتمال وإن كانت جهة إعجازه غير منحصرة في ذلك أمره جل شأنه بالمواظبة على درسه بقوله سبحانه وَاتْلُ إلخ وهو أمر من التلاوة بمعنى القراءة أي لازم تلاوة ذلك على أصحابك أو مطلقا ولا تكترث بقول من يقول لك ائت بقرآن غير هذا أو بدله، وجوز أن يكون اتْلُ أمرا من التلو بمعنى الاتباع أي اتبع ما أوحي إليك والزم العمل به، وقيل وجه الربط أنه سبحانه لما نهاه عن المراء المتعمق فيه وعن الاستفتاء أمره سبحانه بأن يتلو ما أوحي إليه من أمرهم فكأنه قيل اقرأ ما أوحي إليك من أمرهم واستغن به ولا تتعرض لأكثر من ذلك أو اتبع ذلك وخذ به ولا تتعمق في جدالهم ولا تستفت أحدا منهم فالكلام متعلق بما تقدم من النواهي، والمراد بما أوحي إلخ هو الآيات المتضمنة شرح قصة أصحاب الكهف، وقيل: متعلق بقوله تعالى: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا أي قل لهم ذلك واتل عليهم أخباره عن مدة لبثهم فالمراد بما أوحي إلخ ما تضمن هذا الإخبار، وهذا دون ما قبله بكثير بل لا ينبغي أن يلتفت إليه، والمعول عليه أن المراد بما أوحي ما هو أعم مما تضمن القصة وغيره من كتابه تعالى. لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ لا يقدر أحد على تبديلها وتغييرها غيره وأما هو سبحانه فقدرته شاملة لكل شيء يمحو ما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 243 يشاء ويثبت، ويعلم مما ذكر اندفاع ما قيل: إن التبديل واقع لقوله تعالى: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً [النحل: 101] ، والظاهر عموم الكلمات الأخبار وغيرها، ومن هنا قال الطبرسي: المعنى لا مغير لما أخبر به تعالى ولا لما أمر والكلام على حذف مضاف أي لا مبدل لحكم كلماته انتهى، لكن أنت تعلم أن الخبر لا يقبل التبديل أي النسخ فلا تتعلق به الإرادة حتى تتعلق به القدرة لئلا يلزم الكذب المستحيل عليه عز شأنه. ومنهم من خص الكلمات بالإخبار لأن المقام للإخبار عن قصة أصحاب الكهف وعليه لا يحتاج إلى تخصيص النكرة المنفية لما سمعت من حال الخبر، وقول الإمام: إن النسخ في الحقيقة ليس بتبديل لأن المنسوخ ثابت في وقته إلى وقت طريان الناسخ فالناسخ كالمغاير فكيف يكون تبديلا توهم لا يقتدى به. ومن الناس من خص الكلمات بمواعيده تعالى لعباده الموحدين فكأنه قيل اتل ما أوحي إليك ولا تبال بالكفرة المعاندين فإنه قد تضمن من وعد الموحدين ما تضمن ولا مبدل لذلك الوعد، ومآله اتل ولا تبال فإن الله تعالى ناصرك وناصر أصحابك وهو كما ترى وإن كان أشد مناسبة لما بعد، والضمير على ما يظهر من مجمع البيان للكتاب، ويجوز أن يكون للرب تعالى كما هو الظاهر في الضمير في قوله سبحانه: وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً أي ملجأ تعدل إليه عند إلمام ملمة، وقال الإمام في البيان والإرشاد: وأصله من الالتحاد بمعنى الميل، وجوز الراغب فيه أن يكون اسم مكان وأن يكون مصدرا، وفسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هنا بالمدخل في الأرض وأنشد عليه حين سأله نافع بن الأرزق قول خصيب الضمري: يا لهف نفسي ولهف غير مجدية ... عني وما عن قضاء الله ملتحد ولا داعي فيه لتفسيره بالمدخل في الأرض ليلتجأ إليه، ثم إذا كان المعنى بالخطاب سيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم فالكلام مبني على الفرض والتقدير إذ هو عليه الصلاة والسلام بل خلص أمته لا تحدثهم أنفسهم بطلب ملجأ غيره تعالى، نسأله سبحانه أن يجعلنا ممن التجأ إليه وعول في جميع أموره عليه فكفاه جل وعلا ما أهمه وكشف عنه غياهب كل غمه. هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ قد تقدم أن مقام العبودية لا يشابهه مقام ولا يدانيه ونبينا صلّى الله عليه وسلّم في أعلى مراقيه، وقد ذكر أن العبد الحقيقي من كان حرا عن الكونين وليس ذاك إلا سيدهما صلّى الله عليه وسلّم وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً قد تقدم في التفسير أن الضمير المجرور عائد على الْكِتابَ وجعله بعض أهل التأويل عائدا على عَبْدِهِ أي لم يجعل له عليه الصلاة والسلام انحرافا عن جنابه وميلا إلى ما سواه وجعله مستقيما في عبوديته سبحانه، وجعل الأمر في قوله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ أمر تكوين لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وهو بأس الحجاب والبعد عن الجناب وذلك أشد العذاب كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين: 15] وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ [الإسراء: 9] وهي الأعمال التي أريد بها وجه الله تعالى لا غير، وقيل العمل الصالح التبري من الوجود بوجود الحق أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً وهي رؤية المولى ومشاهدة الحق بلا حجاب فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً فيه إشارة إلى مزيد شفقته صلّى الله عليه وسلّم واهتمامه وحرصه على موافقة المخالفين وانتظامهم في سلك الموافقين إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ من الأنهار والأشجار والجبال والمعادن والحيوانات زِينَةً لَها أي لأهلها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فيجعل ذلك مرآة لمشاهدة أنوار جلاله وجماله سبحانه عز وجل، وقال ابن عطاء: حسن العمل الإعراض عن الكل، وقال الجنيد: حسن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 244 العمل اتخاذ ذلك عبرة وعدم الاشتغال به. وقال بعضهم: أهل المعرفة بالله تعالى والمحبة له هم زينة الأرض وحسن العمل النظر إليهم بالحرمة. وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً كناية عن ظهور فناء ذلك بظهور الوجود الحقاني والقيامة الكبرى أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً قال الجنيد قدس الله سره: أي لا تتعجب منهم فشأنك أعجب من شأنهم حيث أسري بك ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وبلغ بك سدرة المنتهى وكنت في القرب كقاب قوسين أو أدنى ثم ردك قبل انقضاء الليل إلى مضجعك. إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ قيل هم فتيان المعرفة الذين جبلوا على سجية الفتوة، وفتوتهم إعراضهم عن غير الله تعالى فأووا إلى الكهف الخلوة به سبحانه فَقالُوا حين استقاموا في منازل الأنس ومشاهد القدس وهيجهم ما ذاقوا إلى طلب الزيادة والترقي في مراقي السعادة رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً معرفة كاملة وتوحيدا عزيزا وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً بالوصول إليك والفناء فيك فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً كناية عن جعلهم مستغرقين فيه سبحانه فانين به تعالى عما سواه ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً إشارة إلى ردهم إلى الصحو بعد السكر والبقاء بعد الفناء، ويقال أيضا: هو إشارة إلى الجلوة بعد الخلوة وهما قولان متقاربان نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ الإيمان العلمي وَزِدْناهُمْ هُدىً بأن أحضرناهم وكاشفناهم وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ سكناها عن التزلزل بما أسكنا فيها من اليقين فلم يسنح فيها هواجس التخمين ولا وساوس الشياطين، ويقال أيضا: رفعناها من حضيض التلوين إلى أوج التمكين. إِذْ قامُوا بنا لنا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مالك أمرهما ومدبرهما فلا قيام لهما إلا بوجوده المفاض من بحار جوده لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً إذ ما من شيء إلا وهو محتاج إليه سبحانه فلا يصلح لأن يدعى لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً كلاما بعيدا عن الحق مفرطا في الظلم، واستدل بعض المشايخ بهذه الآية على أنه ينبغي للسالكين إذا أرادوا الذكر وتحلقوا له أن يقوموا فيذكروا قائمين، قال ابن الغرس: وهو استدلال ضعيف لا يقوم به المدعي على ساق. وأنت تعلم أنه لا بأس بالقيام والذكر لكن على ما يفعله المتشيخون اليوم فإن ذلك لم يكن في أمة من الأمم ولم يجىء في شريعة نبينا صلّى الله عليه وسلّم بل لعمري أن تلك الحلق حبائل الشيطان وذلك القيام قعود في بحبوحة الخذلان وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ أي وإذ خرجتم عن صحبة أهل الهوى وأعرضتم عن السوي فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ فاخلوا بمحبوبكم يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ مطوي معرفته وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً ما تنتفعون به من أنوار تجلياته ولطائف مشاهداته، قال بعض العارفين: العزلة عن غير الله تعالى توجب الوصلة بالله عز وجل بل لا تحصل الوصلة إلا بعد العزلة ألا ترى كيف كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتجنب بغار حراء حتى جاءه الوحي وهو فيه وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ لئلا يكثر الضوء في الكهف فيقل معه الحضور، فقد ذكروا أن الظلمة تعين على الفكر وجمع الحواس، ومن هنا ترى أهل الخلوة يختارون لخلوتهم مكانا قليل الضياء ومع هذا يغمضون أعينهم عند المراقبة. وفي أسرار القرآن أن في الآية إشارة إلى أن الله تعالى حفظهم عن الاحتراق في السبحات فجعل شمس الكبرياء تزاور عن كهف قربهم ذات يمين الأزل وذات شمال الأبد وهم في فجوة وصال مشاهدة الجمال والجلال محروسون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 245 محفوظون عن قهر سلطان صرف الذات الأزلية التي تتلاشى الأكوان في أول بوادي إشراقها. وفي الحديث «حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره» وقيل: في تأويله إن شمس الروح أو المعرفة والولاية إذا طلعت من أفق الهداية وأشرقت في سماء الواردات وهي حالة السكر وغلبة الوجد لا تنصرف في خلوتهم إلى أمر يتعلق بالعقبى وهو جانب اليمين وإذا غربت أي سكنت تلك الغلبة وظهرت حالة الصحو لا تلتفت همم أرواحهم إلى أمر يتعلق بالدنيا وهو جانب الشمال بل تنحرف عن الجهتين إلى المولى وهم في فراغ عما يشغلهم عن الله تعالى. وذكر أن فيه إشارة إلى أن نور ولايتهم يغلب نور الشمس ويرده عن الكهف كما يغلب نور المؤمن نار جهنم وليس هذا بشيء وإن روي عن ابن عطاء مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ الذي رفعت عنه الحجب ففاز بما فاز وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً لأنه لا يخذله سبحانه إلا لسوء استعداده ومتى فقد الاستعداد تعذر الإرشاد وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ إشارة إلى أنهم مع الخلق بأبدانهم ومع الحق بأرواحهم، وقال ابن عطاء: هم مقيمون في الحضرة كالنومى لا علم لهم بزمان ولا مكان أحياء موتى صرعى مفيقون نومى منتبهون وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ أي ننقلهم من عالم إلى عالم وقال ابن عطاء: نقلبهم في حالتي القبض والبسط والجمع والفرق، وقال آخر: نقلبهم بين الفناء والبقاء والكشف والاحتجاب والتجلي والاستتار، وقيل في الآية إشارة إلى أنهم في التسليم كالميت في يد الغاسل وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ قال أبو بكر الوراق: مجالسة الصالحين ومجاورتهم غنيمة وإن اختلف الجنس ألا ترى كيف ذكر الله سبحانه كلب أصحاب الكهف معهم لمجاورته إياهم. وقيل أشير بالآية إلى أن كلب نفوسهم نائمة معطلة عن الأعمال، وقيل يمكن أن يراد أن نفوسهم صارت بحيث تطيعهم جميع الأحوال وتحرسهم عما يضرهم لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ أي لو اطلعت من حيث أنت على ما ألبستهم من لباس قهر ربوبيتي وسطوات عظمتي لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ أي من رؤية ما عليهم من هيبتي وعظمتي فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً كما فر موسى كليمي من رؤية عصاه حين قلبتها حية وألبستها ثوبا من عظمتي وهيبتي، وهذا الفرار حقيقة منا لأنه من عظمتنا الظاهرة في هاتيك المرآة كذا قرره غير واحد وروي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه. وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ رددناهم إلى الصحو بعد السكر لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ لأنهم كانوا مستغرقين لا يعرفون اليوم من الأمس ولا يميزون القمر من الشمس، وقيل: إنهم استقلوا أيام الوصال وهكذا شأن عشاق الجمال فسنة الوصل في سنتهم سنة وسنة الهجر سنة، ويقال: مقام المحب مع الحبيب وإن طال قصير وزمان الاجتماع وإن كثر يسير إذ لا يقضى من الحبيب وطر وإن فني الدهر ومر ولا يكاد يعد المحب الليال إذا كان قرير العين بالوصال كما قيل: أعد الليالي ليلة بعد ليلة ... وقد عشت دهرا لا أعد اللياليا ثم إنهم لما رجعوا من السكر إلى الصحو ومن الروحانية إلى البشرية طلبوا ما يعيش به الإنسان واستعملوا حقائق الطريقة وذلك قوله تعالى: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ والإشارة فيه أولا إلى أن اللائق بطالبي الله تعالى ترك السؤال، ويرد به على المتشيخين الذين دينهم وديدنهم السؤال وليته كان من الحلال. وثانيا إلى أن اللائق بهم أن لا يختص أحدهم بشيء دون صاحبه ألا ترى كيف قال قائلهم بِوَرِقِكُمْ هذِهِ فأضاف الورق إليهم جملة وقد كان فيما يروي فيهم الراعي ولعله لم يكن له ورق. وثالثا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 246 إلى أن اللائق بهم استعمال الورع ألا ترى كيف طلب القائل الأزكى وهو على ما في بعض الروايات الأجل، ولذلك قال ذو النون: العارف من لا يطفىء نور معرفته نور ورعه، والعجب أن رجلا من المتشيخين كان يأخذ من بعض الظلمة دنانير مقطوعا بحرمتها فقيل له في ذلك فقال: نعم هي جمرات ولكن تطفئ حرارة جوع السالكين، ومع هذا وأمثاله له اليوم مرقد يطوف به من يزور وتوقد عليه السرج وتنذر له النذور، ورابعا إلى أنه ينبغي لهم التواصي بحسن الخلق وجميل الرفق ألا ترى كيف قال قائلهم وَلْيَتَلَطَّفْ بناء على أنه أمر بحسن المعاملة مع من يشتري منه. وقال بعض أهل التأويل: إنه أمر باختيار اللطيف من الطعام لأنهم لم يأكلوا مدة فالكثيف يضر بأجسامهم، وقيل: أرادوا اللطيف لأن أرواحهم من عالم القدس ولا يناسبها إلا اللطيف، وعن يوسف بن الحسين أنه كان يقول: إذا اشتريت لأهل المعرفة شيئا من الطعام فليكن لطيفا وإذا اشتريت للزهاد والعباد فاشتر كل ما تجد لأنهم بعد في تذليل أنفسهم، وقال بعضهم: طعام أهل المجاهدات وأصحاب الرياضات ولباسهم الخشن من المأكولات والملبوسات والذي بلغ المعرفة فلا يوافقه إلا كل لطيف، ويروى عن الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس الله سره أنه كان في آخر أمره يلبس ناعما ويأكل لطيفا. وعندي أن التزام ذلك يخل بالكمال، وما يروى عن الشيخ قدس سره وأمثاله إن صح يحتمل أن يكون أمرا اتفاقيا، وعلى فرض أنه كان عن التزام يحتمل أنه كان لغرض شرعي وإلا فهو خلاف المأثور عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وعن كبار أصحابه رضي الله تعالى عنهم، فقد بين في الكتب الصحيحة حالهم في المأكل والملبس وليس فيها ما يؤيد كلام يوسف بن الحسين وأضرابه والله تعالى أعلم وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً أي من الأغيار المحجوبين عن مطالعة الأنوار والوقوف على الأسرار إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ بأحجار الإنكار أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ التي اجتمعوا عليها ولم ينزل الله تعالى بها من سلطان وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً لأن الكفر حينئذ يكون كالكفر الإبليسي وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إرشاد إلى محض التجريد والتفريد، ويحكى عن بعض كبار الصوفية أنه أمر بعض تلامذته بفعل شيء فقال: أفعله إن شاء الله تعالى فقال له الشيخ بالفارسية ما معناه: يا مجنون فإذا من أنت، والآية تأبى هذا الكلام غاية الإباء وفيه على مذهب أهل الوحدة أيضا ما فيه، وقيل الآية نهي عن أن يحبر صلّى الله عليه وسلّم عن الحق بدون إذن الحق سبحانه. ففيه إرشاد للمشايخ إلى أنه لا ينبغي لهم التكلم بالحقائق بدون الإذن ولهم أمارات للإذن يعرفونها. وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ قيل أي إذا نسيت الكون بأسره حتى نفسك فإن الذكر لا يصفو إلا حينئذ، وقيل إذا نسيت الذكر، ومن هنا قال الجنيد قدس سره: حقيقة الذكر الفناء بالمذكور عن الذكر، وقال قدس سره في قوله تعالى: وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً إن فوق الذكر منزلة هي أقرب منزلة من الذكر وهي تجديد النعوت بذكره سبحانه لك قبل أن تذكره جل وعلا وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً زعم بعض أهل التأويل أن مجموع ذلك خمس وعشرون سنة واعتبر السنة التي في الآية شهرا وهو زعم لا داعي إليه إلا ضعف الدين ومخالفة جماعة المسلمين وإلا فأي ضرر في إبقاء ذلك على ظاهره وهو أمر ممكن أخبر به الصادق، ومما يدل على إمكان هذا اللبث أن أبا علي بن سينا ذكر في باب الزمان من الشفاء أن أرسطو ذكر أنه عرض لقوم من المتألهين حالة شبيهة بحالة أصحاب الكهف قال أبو علي: ويدل التاريخ على أنهم قبل أصحاب الكهف انتهى. وفي الآية على ما قيل إشارة إلى أن المريد الذي يربيه الله سبحانه بلا واسطة المشايخ يصل في مدة مديدة وسنين عديدة والذي يربيه جل جلاله بواسطتهم يتم أمره في أربعينيات وقد يتم في أيام معدودات، وأنا أقول لا حجر على الله سبحانه وقد أوصل جل وعلا كثيرا من عباده بلا واسطة في سويعات لَهُ تعالى شأنه غَيْبُ السَّماواتِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 247 عالم العلو وَالْأَرْضِ عالم السفل ولا يخفى أن عنوان الغيبة إنما هو بالنسبة إلى المخلوقين وإلا فلا غيب بالنسبة إليه جل جلاله ومن هنا قال بعضهم: إنه سبحانه لا يعلم الغيب بمعنى أنه لا غيب بالنسبة إليه تعالى ليتعلق به العلم لكن أنت تعلم أنه لا يجوز التكلم بمثل هذا الكلام وإن أول بما أول لما فيه ظاهرا من مصادمة الآيات. وإلى الله تعالى نشكو أقواما ألغزوا الحق وفتنوا بذلك الخلق أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ أي ما أبصره تعالى وما أسمعه لأن صفاته عين ذاته ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ إذ لا فعل لأحد سواه تعالى وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً لكمال قدرته سبحانه وعجز غيره عز شأنه، هذا والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 248 وَاصْبِرْ نَفْسَكَ أي احبسها وثبتها يقال صبرت زيدا أي حبسته، وفي الحديث النهي عن صبر الحيوان أي حبسه للرمي، واستعمال ذلك في الثبات على الأمر وتحمله توسع، ومنه الصبر بمعناه المعروف، ولم يجعل هذا منه لتعدي هذا ولزومه مَعَ الَّذِينَ أي مصاحبة مع الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ أي يعبدونه دائما، وشاع استعمال مثل هذه العبارة للدوام وهي نظير قولهم: ضرب زيد الظهر والبطن يريدون به ضرب جميع بدنه، وأبقى غير واحد الغداة والعشي على ظاهرهما ولم يرد عموم الأوقات أي يعبدونه في طرفي النهار، وخصا بالذكر لأنهما محل الغفلة والاشتغال بالأمور، والمراد بتلك العبادة قيل ذكر الله تعالى وروي ذلك من طريق مغيرة عن إبراهيم، وقيل: قراءة القرآن، وروي ذلك عن عبيد الله بن عبد الله بن عدي بن الخيار، وأخرج الحكيم الترمذي عن ابن جبير أن المراد بها المفاوضة في الحلال والحرام. وعن ابن عمر ومجاهد هي شهود الصلوات الخمس، وعن قتادة شهود صلاة الصبح والعصر، وفيما تقدم ما يؤيد ثاني الأقوال وفيما بعد ما يؤيد ظاهره أولها فتدبر جدا، والمراد بالموصول فقراء الصحابة عمار وصهيب وسلمان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 249 وابن مسعود وبلال وأضرابهم قال كفار قريش كأمية بن خلف وغيره من صناديد أهل مكة لو أبعدت هؤلاء عن نفسك لجالسناك فإن ريح جبابهم تؤذينا فنزلت الآية، وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإيمان عن سلمان قال: جاءت المؤلفة قلوبهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عيينة بن بدر والأقرع بن حابس فقالوا: يا رسول الله لو جلست في صدر المجلس وتغيبت عن هؤلاء وأرواح جبابهم يعنون سلمان وأبا ذر وفقراء المسلمين وكانت عليهم جباب الصوف جالسناك أو حدثناك وأخذنا عنك فأنزل الله تعالى وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ إلى قوله سبحانه أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً يتهددهم بالنار، وروى أبو الشيخ عن سلمان أنها لما نزلت قام رسول الله عليه الصلاة والسلام يلتمسهم حتى أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله تعالى فقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي معكم الحياة والممات. والآية على هذا مدنية وعلى الأول مكية، قال أبو حيان: وهو أصح لأن السورة مكية، وأقول: أكثر الروايات تؤيد الثاني وعليه تكون الآيات مستثناة من حكم السورة وكم مثل ذلك، وقد أخرج ما يؤيد الأول ابن مردويه من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ولعل الآيات بعد تؤيده أيضا، والتعبير عن أولئك بالموصول لتعليل الأمر بما في حيز الصلة من الخصلة الداعية إلى إدامة الصحبة. وقرأ ابن عامر «بالغدوة» وخرج ذلك على ما ذكره سيبويه والخليل من أن بعض العرب ينكر غدوة فيقول: جاء زيد غدوة بالتنوين، على أن الرضي قال: إنه يجوز استعمالها نكرة اتفاقا، والمشهور أن الأكثر استعمالها علم جنس ممنوعا من الصرف فلا تدخل عليها أل لأنه لا يجتمع في كلمة تعريفان، ومتى أريد إدخالها عليها قصد تنكيرها فأدخلت كما قصد تنكير العلم الشخصي في قوله: وقد كان منهم صاحب وابن عمه ... أبو جندل والزيد زيد المعارك والقراءة المذكورة مخرجة على ذلك، واختار بعض المحققين التخريج الأول وقال: إنه أحسن دراية ورواية لأن التنكير في العلم الشخصي ظاهر وأما في الجنسي ففيه خفاء لأنه شائع في إفراده قبل تنكيره فتنكيره إنما يتصور بترك حضوره في الذهن الفارق بينه وبين النكرة، وهو خفي فلذا أنكره الفناري في حواشيه على التلويح في تنكير رجب علم الشهر انتهى، وللبحث فيه محالّ. وهذه الآية كما في البحر أبلغ من التي في الأنعام وهي قوله تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ بذلك الدعاء وَجْهَهُ أي رضاه سبحانه وتعالى دون الرياء والسمعة بناء على ما قاله الإمام السهيلي من أن الوجه إذا أضيف إليه تعالى يراد به الرضا والطاعة المرضية مجازا لأن من رضي على شخص يقبل عليه ومن غضب يعرض عنه، وقيل: المراد بالوجه الذات والكلام على حذف مضاف. وقيل: هو بمعنى التوجه، والمعنى يريدون التوجه إليه تعالى والزلفى لديه سبحانه، والأول أولى، والجملة في موضع الحال من فاعل «يدعون» أي يدعون مريدين ذلك. وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ أي لا تصرف عيناك النظر عنهم إلى أبناء الدنيا، والمراد النهي عن احتقارهم وصرف النظر عنهم لرثاثة حالهم إلى غيرهم فعدا بمعنى صرف المتعدي إلى مفعول بنفسه وإلى آخر بعن، قال في القاموس يقال: عداه عن الأمر عدوا وعدوانا صرفه، واختار هذا أبو حيان وهو الذي قدر المفعول كما سمعت وقد تتعدى عدا إلى مفعول واحد بعن كما تتعدى إليه بنفسها فتكون بمعنى جاوز وترك قال في القاموس: يقال عدا الأمر وعنه جاوزه وتركه، وجوز أن يكون معنى الآية على ذلك كأنه قيل لا تتركهم عيناك، وقيل: إن عدا حقيقة معناه تجاوز كما صرح به الراغب والتجاوز لا يتعدى بعن إلا إذا كان بمعنى العفو كما صرحوا به أيضا وهو هنا غير مراد فلا بد من تضمين عدا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 250 معنى نبا وعلا في قولك: نبت عنه عينه وعلت عنه عينه إذا اقتحمته ولم تعلق به، وهو الذي ذهب إليه الزمخشري ثم قال: لم يقل ولا تعدهم عيناك أو ولا تعل عيناك عنهم وارتكب التضمين ليعطي الكلام مجموع معنيين وذلك أقوى من إعطاء معنى فذ ألا ترى كيف رجع المعنى إلى قولك: ولا تقحمهم عيناك مجاوزتين إلى غيرهم، وتعقبه أبو حيان بأن التضمين لا ينقاس عند البصريين وإنما يذهب إليه عند الضرورة، أما إذا أمكن إجراء اللفظ على مدلوله الوضعي فإنه يكون أولى، واعترض أيضا ما قيل: بأنه لا يلزم من اتحاد الفعلين في المعنى اتحادهما في التعدية فلا يلزم من كون عدا بمعنى تجاوز أن يتعدى كما يتعدى ليقال: إن التجاوز لا يتعدى بعن إلا إذا كان بمعنى العفو وهو غير مراد، فلا بد من تضمين عدا معنى فعل متعد بعن، ويكفي كلام القاموس مستندا لمن خالف الزمخشري فتدبر ولا تغفل. وقرأ الحسن «ولا تعد عينيك» بضم التاء وسكون العين وكسر الدال المخففة من أعداه ونصب العينين، وعنه وعن عيسى والأعمش أنهم قرؤوا «ولا تعد عينيك» بضم التاء وفتح العين وتشديد الدال المكسورة من عداه يعديه ونصب العينين أيضا، وجعل الزمخشري، وصاحب اللوامح الهمزة والتضعيف للتعدية. وتعقب ذلك في البحر بأنه ليس بجيد بل الهمزة والتضعيف في هذه الكلمة لموافقة أفعل وفعل للفعل المجرد وذلك لأنه قد أقر الزمخشري بأنها قبل ذينك الأمرين متعدية بنفسها إلى واحد وعديت بعن للتضمين فمتى كان الأمران للتعدية لزم أن تتعدى إلى اثنين مع أنها لم تتعد في القراءتين المذكورتين إليهما. تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي تطلب مجالسة من لم يكن مثلهم من الأغنياء وأصحاب الدنيا، والجملة على القراءة المتواترة حال من كاف عَيْناكَ وجازت الحال منه لأنه جزء المضاف إليه، والعامل على ما قيل معنى الإضافة وليس بشيء. وقال في الكشف: العامل الفعل السابق كما تقرر في قوله تعالى بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [البقرة: 135] ولك أن تقول: هاهنا خاصة العين مقحمة للتأكيد ولا يبعد أن يجعل حالا من الفاعل، وتوحيد الضمير إما لاتحاد الإحساس أو للتنبيه على مكان الإقحام أو للاكتفاء بأحدهما عن الآخر أو لأنهما عضو واحد في الحقيقة، واستبشاع إسناد الإرادة إلى العين مندفع بأن إرادتها كناية عن إرادة صاحبها ألا ترى إلى ما شاع من نحو قولهم: يستلذه العين أو السمع وإنما المستلذ الشخص على أن الإرادة يمكن جعلها مجازا عن النظر للهو لا للعبر اه. ولا يخفى أن فيه عدولا عن الظاهر من غير داع، وقول بعضهم: إنه لا يجوز مجيء الحال من المضاف إليه في مثل هذا الموضع لاختلاف العامل في الحال وذيها لا يصلح داعيا لظهور ضعفه، ثم الظاهر أنه لا فرق في جواز كون الجملة حالا من المضاف إليه أو المضاف على تقدير أن يفسر تَعْدُ بتجاوز وتقدير أن تفسر بتصرف. وخص بعضهم كونها حالا من المضاف إليه على التقدير الأول وكونها حالا من المضاف على التقدير الثاني ولعله أمر استحساني، وذلك لأن في أول الكلام على التقدير الثاني إسناد ما هو من الأفعال الاختيارية ليس إلا وهو الصرف إلى العين فناسب إسناد الإرادة إليها في آخره ليكون أول الكلام وآخره على طرز واحد مع رعاية ما هو الأكثر في أحوال الأحوال من مجيئها من المضاف دون المضاف إليه، وتضمن ذلك عدم مواجهة الحبيب صلّى الله عليه وسلّم بإسناد إرادة الحياة الدنيا إليه صريحا وإن كانت مصب النهي، وليس في أول الكلام ذلك على التقدير الأول إذ الظاهر أن التجاوز ليس من الأفعال الاختيارية لا غير بل يتصف به المختار وغيره، مع أن في جعل الجملة حالا من الفاعل على هذا التقدير مع قول بعض المحققين إن المتجاوز في الحقيقة هو النظر احتياجا إلى اعتبار الشيء وتركه في كلام واحد، وليس لك أن تجعله استخداما بأن تريد من العينين أولا النظر مجازا وتريد عند عود ضمير تُرِيدُ منهما الحقيقة لأن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 251 التثنية تأبى ذلك، وإن اعتبر ذلك أولا وآخرا ولم يترك احتيج إلى مؤن لا تخفى على المتأمل فتأمل وتدبر، وهي على القراءتين الشاذتين حال من فاعل الفعل المستتر أي لا تعد أو لا تعد عينيك عنهم مريدا ذلك وَلا تُطِعْ في تنحية الفقراء عن مجلسك مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ أي جعلنا قلبه غافلا عَنْ ذِكْرِنا لبطلان استعداده للذكر بالمرة كأولئك الذين يدعونك إلى طرد الفقراء فإنهم غافلون عن ذكرنا على خلاف ما عليه أولئك الفقراء من الدعاء في الغداة والعشي، وفيه تنبيه على أن الباعث لهم إلى استدعاء الطرد غفلة قلوبهم عن جناب الله تعالى شأنه وملاحظة المعقولات وانهما كه (1) في الحسيات حتى خفي عليه أن الشرف بحلية النفس لا بزينة الجسد. ومعنى الذكر ظاهر وفسره المفضل بالقرآن. والآية ظاهرة في مذهب أهل السنة، وأولها المعتزلة فقيل المراد أغفلنا قلبه بالخذلان وهذا هو التأويل المشهور عندهم في أمثال ذلك وحاله معلوم عندك، وقيل: المراد صادفناه غافلا كما في قولهم: سألناكم فما أفحمناكم وقاتلناكم فما أجبناكم. وتعقب بأنه لا ينبغي أن يتجرأ على تفسير فعل أسنده الله تعالى إليه بالمصادفة التي تفهم وجدان الشيء بغتة عن جهل سابق وعدم علم، وقيل: المراد نسبناه إلى الغفلة كما في قول الكميت: وطائفة قد أكفروني بحبكم ... وطائفة قالوا مسيء ومذنب وهو كما ترى، وقال الرماني: (2) المراد لم نسم قلبه بالذكر ولم نجعله من القلوب التي كتبنا فيها الإيمان كقلوب المؤمنين من قولهم: أغفل فلان أبله إذا تركها غفلا من غير سمة وعلامة بكى ونحوه، ومنه إغفال الخط لعدم إعجامه فالإغفال المذكور استعارة لجعل ذكر الله تعالى الدال على الإيمان به كالسمة لأنه علامة للسعادة كما جعل ثبوت الإيمان في القلب بمنزلة الكتابة، وهو تأويل رقيق الحاشية لطيف المعنى وإن كان خلاف الظاهر فهو مما لا بأس به لمن لم يكن غرضه منه الهرب من مذهب أهل السنة، واحتج بعضهم على أنه ليس المراد ظاهر الآية بقوله سبحانه: وَاتَّبَعَ هَواهُ في طلب الشهوات حيث أسند اتباع الهوى إلى العبد فيدل على أنه فعله لا فعل الله تعالى ولو كان ذلك فعل الله سبحانه والإسناد مجازي لقيل فاتبع بالفاء السببية لتفرعه عليه. وأجيب بأن فعل العبد لكونه بكسبه وقدرته، وخلق الله تعالى يجوز إسناده إليه بالاعتبار الأول وإلى الله تعالى بالثاني، والتنصيص على التفريع ليس بلازم فقد يترك لنكتة كالقصد إلى الإخبار به استقلالا لأنه أدخل في الذم وتفويضا إلى السامع في فهمه ولا حاجة إلى تقدير فقيل واتبع هواه. وقرأ عمر بن فائد وموسى الاسواري وعمرو بن عبيد «أغفلنا» بفتح الفاء واللام «قلبه» بالرفع على أنه فاعل أغفلنا، وهو على هذه القراءة من أغفله إذا وجده غافلا، والمراد ظننا وحسبنا غافلين عن ذكرنا له ولصنيعه بالمؤاخذة بجعل ذكر الله تعالى له كناية عن مجازاته سبحانه، واستشكل النهي عن إطاعة أولئك الغافلين في طرد أولئك المؤمنين بأنه ورد أنهم أرادوا طردهم ليؤمنوا فكان ينبغي تحصيل إيمانهم بذلك، وغاية ما يلزم ترتب نفع كثير وهو إيمان أولئك الكفرة على ضرر قليل وهو سقوط حرمة أولئك البررة وفي عدم طردهم لزم ترتب ضرر عظيم وهو بقاء أولئك الكفرة على كفرهم على نفع قليل.   (1) قوله وانهما كه إلى قوله حتى خفي عليه كذا بإفراد الضمير في خط المؤلف وفي أبي السعود ضمير انهما كه راجع إلى قوله الباعث له فغير المصنف له بلهم فحصل ما حصل. (2) وقد كان معتزليا فليحفظ اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 252 ومن قواعد الشرع المقررة تدفع المفسدة الكبرى بالمفسدة الصغرى، وأجيب بأنه سبحانه علم أن أولئك الكفرة لا يؤمنون إيمانا حقيقيا بل إن يؤمنوا يؤمنوا إيمانا ظاهريا ومثله لا يرتكب له إسقاط حرمة أولئك الفقراء الأبرار فلذا جاء النهي عن الإطاعة. وقد يقال: يحتمل أن يكون الله تعالى قد علم أن طرد أولئك الفقراء السابقين إلى الإيمان المنقطعين لعبادة الرحمن وكسر قلوبهم وإسقاط حرمتهم لجلب الأغنياء وتطييب خواطرهم يوجب نفرة القلوب وإساءة الظن برسوله صلّى الله عليه وسلّم فربما يرتد من هو قريب عهد بإسلام ويقل الداخلون في دينه بعد ذلك عليه الصلاة والسلام. وذلك ضرر عظيم فوق ضرر بقاء شرذمة من الكفار على الكفر فلذا نهى جل وعلا عن إطاعة من أغفل قلبه واتبع هواه وَكانَ أَمْرُهُ في اتباع الهوى وترك الإيمان فُرُطاً أي ضياعا وهلاكا، قاله مجاهد أو متقدما على الحق والصواب نابذا له وراء ظهره من قولهم: فرس فرط أي متقدم للخيل وهو في معنى ما قاله ابن زيد مخالفا للحق، وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون الفرط بمعنى التفريط والتضييع أي كان أمره الذي يجب أن يلزم ويهتم به من الدين تفريطا، ويحتمل أن يكون بمعنى الإفراط والإسراف أي كان أمره وهواه الذي هو سبيله إفراطا وإسرافا، وبالإسراف فسره مقاتل، والتعبير عن صناديد قريش المستدعين طرد فقراء المؤمنين بالموصول للإيذان بعلية ما في حيز الصلة للنهي عن الإطاعة وَقُلِ لأولئك الذين أغفلنا قلوبهم عن الذكر واتبعوا هواهم الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ خبر مبتدأ محذوف أي هذا الذي أوحي إليّ الحق ومِنْ رَبِّكُمْ حال مؤكدة أو خبر بعد خبر والأول أولى، والظاهر أن قوله تعالى: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ من تمام القول المأمور به فالفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها بطريق التهديد أي عقيب تحقيق أن ذلك حق لا ريب فيه لازم الاتباع من شاء أن يؤمن به ويتبعه فليفعل كسائر المؤمنين ولا يتعلل بما لا يكاد يصلح للتعلل ومن شاء أن يكفر به وينبذه وراء ظهره فليفعل، وفيه من التهديد وإظهار الاستغناء عن متابعتهم التي وعدوها في طرد المؤمنين وعدم المبالاة بهم وبإيمانهم وجودا وعدما ما لا يخفى. وجوز أن يكون الْحَقُّ مبتدأ خبره مِنْ رَبِّكُمْ واختار الزمخشري هنا الأول، قال في الكشف: ووجه إيثار الحذف أن المعنى عليه أتم التئاما لأنه لما أمره سبحانه بالمداومة على تلاوة هذا الكتاب العظيم الشأن في جملة التالين له حق التلاوة المريدين وجهه تبارك وتعالى غير ملتفت إلى زخارف الدنيا فمن أوتي هذه النعمة العظمى فله بشكرها اشتغال عن كل شاغل ذيله لإزاحة الأعذار والعلل بقوله سبحانه وَقُلِ إلخ أي هذا الذي أوحي هو الحق فمن شاء فليدخل في سلك الفائزين بهذه السعادة ومن شاء فليكن في الهالكين انهماكا في الضلالة، أما لو جعل مبتدأ فالتعريف إن كان للعهد رجع إلى الأول مع فوات المبالغة وإن كان للجنس على معنى جميع الحق من ربكم لا من غيره ويشمل الكتاب شمولا أوليا لم يطبق المفصل إذ ليس ما سيق له الكلام كونه منه تعالى لا غير بل كونه حقا لازم الاتباع لا غير اه. وهو كلام يلوح عليه مخايل التحقيق ويشعر ظاهره بحمل الدعاء على ثاني الأقوال فيه وكون المشار إليه الكتاب مطلقا لا المتضمن الأمر بصبر النفس مع المؤمنين وترك الطاعة للغافلين كما جوزه ابن عطية، وعلى تقدير أن يكون الحق مبتدأ قيل المراد أنه القرآن كما كان المراد من المشار إليه على تقدير كونه خبرا وهو المروي عن مقاتل، وقال الضحاك: هو التوحيد، وقال الكرماني: الإسلام والقرآن. وقال مكي: المراد به التوفيق والخذلان أي قل التوفيق والخذلان من عند الله تعالى يهدي من يشاء فيوفقه فيؤمن ويضل من يشاء فيخذله فيكفر ليس إليّ من ذلك شيء وليس بشيء كما لا يخفى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 253 وجوز أن يكون قوله سبحانه فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ إلخ تهديدا من جهته تعالى غير داخل تحت القول المأمور به فالفاء لترتيب ما بعدها من التهديد على نفس الأمر أي قل لهم ذلك وبعد ذلك من شاء أن يؤمن به أو أن يصدقك فيه فليفعل ومن شاء أن يكفر به أو أن يكذبك فيه فليفعل، وعلى الوجهين ليس المراد حقيقة الأمر والتخيير وهو ظاهر. وذكر الخفاجي أن الأمر بالكفر غير مراد وهو استعارة للخذلان والتخلية بتشبيه حال من هو كذلك بحال المأمور بالمخالفة ووجه الشبه عدم المبالاة والاعتناء، وهذا كقول كثير: أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة واستدل المعتزلة بالآية على أن العبد مستقل في أفعاله موجد لها لأنه علق فيها تحقق الإيمان والكفر على محض مشيئته لأن المتبادر من الشرط أنه علة تامة للجزاء فدل على أنه مستقل في إيجادهما ولا فرق بين فعل وفعل فهو الموجد لكل أفعاله. وأجيب بأنا لو فرضنا أن مشيئة العبد مؤثرة وموجدة للأفعال لا يتم المقصود لأن العقل والنقل يدلان على توقفها على مشيئة الله تعالى وإرادته، أما الأول فلأنهم قالوا: لو لم تتوقف على ذلك لزم الدور أو التسلسل، وأما الثاني فلأنه سبحانه يقول وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الإنسان: 30، التكوير: 29] ومع هذا التوقف لا يتم أمر الاستقلال ويثبت أن العبد مضطر في صورة مختار وهو مذهب الأشاعرة، وفي الاحياء لحجة الإسلام فإن قلت: إني أجد في نفسي وجدانا ضروريا أني إن شئت الفعل قدرت عليه وإن شئت الترك قدرت عليه فالفعل والترك بي لا بغيري قلت: هب أنك تجد من نفسك هذا المعنى ولكن هل تجد من نفسك أنك إن شئت مشيئة الفعل حصلت تلك المشيئة أو لم تشأ تلك المشيئة لم تحصل لأن العقل يشهد بأنه يشاء الفعل لا لسبق مشيئة أخرى على تلك المشيئة وإذا شاء الفعل وجب حصول الفعل من غير مكنة واختيار فحصول المشيئة في القلب أمر لازم وترتب الفعل على حصول المشيئة أيضا أمر لازم وهذا يدل على أن الكل من الله تعالى انتهى. وبعضهم يكتفي في إثبات عدم الاستقلال بثبوت توقف مشيئة العبد على مشيئة الله تعالى وتمكينه سبحانه بالنص ولا يذكر حديث لزوم الدور أو التسلسل لما فيه من البحث، وتمام الكلام في ذلك في كتب الكلام، وستذكر إن شاء الله تعالى طرفا لائقا منه في الموضع اللائق به، وقال السدي: هذه الآية منسوخة بقوله سبحانه وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ولعله أراد أن لا يراد المتبادر منها للآية المذكورة وإلا فهو قول باطل، وحكى ابن عطية عن فرقة أن فاعل شاءَ في الشرطيتين ضميره تعالى، واحتج له بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية: من شاء الله تعالى له الإيمان آمن ومن شاء له الكفر كفر. والحق أن الفاعل ضمير مِنْ والرواية عن الحبر أخرجها ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات فإذا صحت يحتمل أن يكون ذلك القول لبيان أن من شاء الإيمان هو من شاء الله تعالى له الإيمان ومن شاء الكفر هو من شاء الله سبحانه له ذلك لا لبيان مدلول الآية وتحقيق مرجع الضمير، ويؤيد ذلك قوله في آخر الخبر الذي أخرجه الجماعة وهو قوله تعالى وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [التكوير: 29] والله تعالى أعلم وقرأ أبو السمال قعنب وَقُلِ الْحَقُّ بفتح اللام حيث وقع، قال أبو حاتم: وذلك رديء في العربية، وعنه أيضا ضم اللام حيث وقع كأنه اتباع لحركة القاف، وقرأ أيضا الْحَقُّ بالنصب وخرجه صاحب اللوامح على تقدير قل القول الحق ومِنْ رَبِّكُمْ قيل حال أي كائنا من ربكم، وقيل: صفة أي الكائن من ربكم وفيه بحث. وقرأ الحسن وعيسى الثقفي «فليؤمن» و «ليكفر» بكسر لام الأمر فيهما إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ للكافرين بالحق بعد ما جاء من الله سبحانه، والتعبير عنهم بالظالمين للتنبيه على أن مشيئة الكفر واختياره تجاوز عن الحد ووضع للشيء في غير موضعه، والجملة تعليل للأمر بما ذكر من التخيير التهديدي، وجعلها من جعل فَمَنْ شاءَ إلخ تهديدا من قبله تعالى تأكيدا للتهديد وتعليلا لما يفيده من الزجر عن الكفر. وجوز كونها تعليلا لما يفهم من ظاهر التخيير من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 254 عدم المبالاة بكفرهم وقلة الاهتمام بشأنهم، وأَعْتَدْنا من العتاد وهو في الأصل ادخار الشيء قبل الحاجة إليه، وقيل: أصله أعددنا فأبدل من إحدى الدالين تاء والمعنى واحد أي هيأنا لهم ناراً عظيمة عجيبة أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها أي فسطاطها، شبه به ما يحيط بهم من لهبها المنتشر منها في الجهات ثم استعير له استعارة مصرحة والإضافة قرينة والإحاطة ترشيح، وقيل: السرادق الحجزة التي تكون حول الفسطاط تمنع من الوصول إليه، ويطلق على الدخان المرتفع المحيط بالشيء وحمل عليه بعضهم ما في الآية وهو أيضا مجاز كإطلاقه على اللهب، وكلام القاموس يوهم أنه حقيقة، والمروي عن قتادة تفسيره بمجموع الأمرين اللهب والدخان. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه حائط من نار، وحكى الكلبي أنه عنق يخرج من النار فيحيط بالكفار، وحكى القاضي الماوردي أنه البحر المحيط بالدنيا يكون يوم القيامة نارا ويحيط بهم، واحتج له بما أخرجه أحمد والبخاري في التاريخ وابن أبي حاتم وصححه والبيهقي في البعث وآخرون عن يعلى بن أمية أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن البحر هو من جهنم ثم تلا ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها والسرادق قال الراغب: فارسي معرب وليس من كلامهم اسم مفرد ثالثه ألف وبعده حرفان انتهى، وقد أصاب في دعوى التعريب فإن عامة اللغويين على ذلك، وأما قوله: وليس من كلامهم إلخ فيكذبه ورود علابط وقرامص وجنادف وحلاحل وكلها بزنة سرادق ومثل ذلك كثير والغفلة مع تلك الكثرة من هذا الفاضل بعيدة فلينظر ما مراده، ثم إنه معرب سرايرده أي ستر الديوان، وقيل: سراطاق أي طاق الديوان وهو أقرب لفظا إلا أن الطاق معرب أيضا وأصله تا أو تاك، وقال أبو حيان وغيره: معرب سرادر وهو الدهليز ووقع في بيت الفرزدق: تمنيتهم حتى إذا ما لقيتهم ... تركت لهم قبل الضراب السرادقا ويجمع كما قال سيبويه بالألف والتاء وإن كان مذكرا فيقال سرادقات، وفسره في النهاية بكل ما أحاط بموضع من حائط أو مضرب أو خباء، وأمر إطلاقه على اللهب أو الدخان أو غيرهما مما ذكر على هذا ظاهر. وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا من العطش بقرينة قوله تعالى: يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ وقيل: مما حل بهم من أنواع العذاب، والمهل على ما أخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس وابن جبير ماء غليظ كدردي الزيت، وفيه حديث مرفوع فقد أخرج أحمد والترمذي وابن حبان والحاكم وصحصحه والبيهقي وآخرون عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله تعالى: كَالْمُهْلِ قال: كعكر الزيت فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه فيه ، وقال غير واحد: هو ما أذيب من جواهر الأرض، وقيل: ما أذيب من النحاس، وأخرج الطبراني وابن المنذر وابن جرير عن ابن مسعود أنه سئل عنه فدعا بذهب وفضة فإذا به فلما ذاب قال: هذا أشبه شيء بالمهل الذي هو شراب أهل النار لونه لون السماء غير أن شراب أهل النار أشد حرا من هذا. وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن مجاهد أنه القيح والدم الأسود، وقيل: هو ضرب من القطران، وقوله سبحانه: يُغاثُوا إلخ خارج مخرج التهكم بهم كقول بشر بن أبي حازم: غضبت تميم (1) أن تقتل عامرا ... يوم النسار فأعتبوا بالصيلم يَشْوِي الْوُجُوهَ ينضجها إذا قدم ليشرب من فرط حرارته حتى أنه يسقط جلودها كما سمعت في الحديث، فالوجوه جمع وجه وهو العضو المعروف، والظاهر أنه المراد لا غير، وقيل: عبر بالوجوه عن جميع أبدانهم والجملة صفة ثانية لماء والأولى كَالْمُهْلِ أو حال منه كما في البحر لأنه قد وصف أو حال من المهل كما قال أبو البقاء.   (1) في نسخة حنيفة اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 255 وظاهر كلام بعضهم جواز كونها في موضع الحال من الضمير المستتر في الكاف لأنها اسم بمعنى مشابه فيستتر الضمير فيها كما يستتر فيه وفيه ما لا يخفى من التكلف لأنها ليست صفة مشتقة حتى يستتر فيها ولم يعهد مشتق على حرف واحد قاله الخفاجي. وذكر أن أبا علي الفارسي منع في شرح الشواهد جعل ذؤابتي في قول الشاعر: رأتني كأفحوص القطاة ذؤابتي. مرفوعا بالكاف لكونها بمنزل مثل وقال: إن ذلك ليس بالسهل لأن الكاف ليست على ألفاظ الصفات. وجوز أن تكون في موضع الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور، وقيل: يجوز أن يكون مراد ذلك البعض إلا أنه تسامح بِئْسَ الشَّرابُ ذلك الماء الذي يغاثون به وَساءَتْ النار مُرْتَفَقاً أي متكأ كما قال أبو عبيدة وروي عن السدي، وأصل الارتفاق كما قيل الاتكاء على مرفق اليد. قال في الصحاح يقال: بات فلان مرتفقا أي متكئا على مرفق يده، وقيل: نصب المرفق تحت الخد فمرتفقا اسم مكان ونصبه على التمييز، قال الزمخشري: وهذا لمشاكلة قوله تعالى: «وحسنت مرتفقا» وإلا فلا ارتفاق لأهل النار ولا اتكاء إلا أن يكون من قوله: إني أرقت فبتّ الليل مرتفقا ... كأن عيني فيها الصاب مذبوح أي فحينئذ لا يكون من المشاكلة ويكون الكلام على حقيقته بأن يكون لأهل النار ارتفاق فيها أي اتكاء على مرافق أيديهم كما يفعله المتحزن المتحسر، وقد ذكر في الكشف أن الاتكاء على الحقيقة كما يكون للتنعم يكون للتحزن. وتعقب بأن ذلك وإن أمكن عقلا إلا أن الظاهر أن العذاب أشغلهم عنه فلا يتأتى منهم حتى يكون الكلام حقيقة لا مشاكلة. وجوز أن يكون ذلك تهكما أو كناية عن عدم استراحتهم. وروي عن ابن عباس أن المرتفق المنزل. وأخرج ذلك ابن أبي حاتم عن قتادة، وفي معناه قول ابن عطاء: المقر وقول العتبي: المجلس، وقيل موضع الترافق أي ساءت موضعا للترافق والتصاحب، وكأنه مراد مجاهد في تفسيره بالمجتمع فإنكار الطبري أن يكون له معنى مكابرة. وقال ابن الأنباري: المعنى ساءت مطلبا للرفق لأن من طلب رفقا من جهنم عدمه، وجوز بعضهم أن يكون المرتفق مصدرا ميميا بمعنى الارتفاق والاتكاء إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا في محل التعليل للحث على الإيمان المنفهم من التخيير كأنه قيل وللذين آمنوا، ولعل تغيير السبك للإيذان بكمال تنافي حالي الفريقين أي إن الذين آمنوا بالحق الذي يوحى إليك وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ حسبما بين في تضاعيفه. إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا وقرأ عيسى الثقفي «لا نضّيّع» بالتضعيف، وعلى القراءتين الجملة خبر إن الثانية وخبر إن الأولى الثانية بما في حيزها والرابط ضمير محذوف تقديره من أحسن عملا منهم، ولا يرد أنه يقتضي أن منهم من أحسن ومنهم من لم يحسن لأن ذلك على تقدير كون من تبعيضية وليس بمتعين لجواز كونها بيانية ولو سلم فلا بأس به فإن الإحسان زيادة الإخلاص الوارد في حديث الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، لكن يبقى على هذا حكم من لم يحسن بهذا المعنى منهم أو الرابط الاسم الظاهر الذي هو المبتدأ في المعنى على ما ذهب إليه الأخفش من جعله رابطا فإن من أحسن عملا في الحقيقة هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات. واعترض بأنه يأباه تنكير عَمَلًا لأنه للتقليل. وأجيب بأنه غير متعين لذلك إذ النكرة قد تعم في الإثبات ومقام المدح شاهد صدق أو الرابط عموم من بناء على أن العموم قد يكون رابطا كما في زيد نعم الرجل على قول وفيه مناقشة ظاهرة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 256 ولعل الأولى كون الخبر جملة قوله تعالى أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ وجملة إِنَّا إلخ معترضة، ونحو هذا من الاعتراض كما قال ابن عطية وغيره قوله: إن الخليفة إن الله ألبسه ... سربال ملك به ترجى الخواتيم وأنت تعلم أن الاعتراض فيه غير متعين أيضا، وعلى الاحتمال السابق يحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة لبيان الأجر ويحتمل أن تكون خبرا بعد خبر على مذهب من لا يشترط في تعدد الأخبار كونها في معنى خبر واحد وهو الحق أي أولئك المنعوتون بالنعوت الجليلة لهم جنات إقامة على أن العدن بمعنى الإقامة والاستقرار يقال عدن بالمكان إذا قام فيه واستقر ومنه المعدن لاستقرار الجواهر فيه. وعن ابن مسعود عدن جنة من الجنان وهي بطنانها، ووجه إضافة الجنان إليها بأنها لسعتها كأن كل ناحية منها جنة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وهم في الغرفات آمنون يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ من الأولى للابتداء والثانية للبيان، والجار والمجرور في موضع صفة لأساور، وهذا ما اختاره الزمخشري وغيره. وجوز أبو البقاء في الأولى أن تكون زائدة في المفعول على قول الأخفش، ويدل عليه قوله تعالى وَحُلُّوا أَساوِرَ [الإنسان: 21] وأن تكون بيانية أي شيئا أو حليا من أساور. وجوز غيره فيها أن تكون تبعيضية واقعة موقع المفعول كما جوز هو وغيره ذلك في الثانية، وجوز فيها أيضا أن تتعلق بيحلون وهو كما ترى، والأساور جمع أسورة جمع سوار بالكسر والضم وهو ما في الذراع من الحلي وهو عربي، وقال الراغب: معرب دستواره، وقيل جمع أسوار جمع سوار وأصله أساوير فخفف بحذف يائه فهو على القولين جمع الجمع، ولم يجعلوه من أول الأمر جمع سوار لما رأوا أن فعالا لا يجمع على أفاعل في القياس، وعن عمرو بن العلاء أن الواحد أسوار، وأنشد ابن الأنباري: والله لولا صبية صغار ... كأنما وجوههم أقمار تضمهم من العتيك دار ... أخاف أن يصيبهم إقتار أو لاطم ليس له أسوار ... لما رآني ملك جبار ببابه ما وضح النهار وفي القاموس السوار ككتاب وغراب القلب كالأسوار والجمع أسورة وأساور وأساورة وسور وسؤور وهو موافق لما نقل عن أبي العلاء. ونقل ذلك أيضا عن قطرب وأبي عبيدة، ونكرت لتعظيم حسنها من الإحاطة، وقد أخرج ابن مردويه عن سعد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو أن رجلا من أهل الجنة اطلع فبدت أساوره لطمس ضوءه ضوء الشمس كما تطمس ضوء النجوم» وأخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي في البعث عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو أن أدنى أهل الجنة حلية عدلت حليته بحليته أهل الدنيا جميعا لكان ما يحليه الله تعالى به في الآخرة أفضل من حلية أهل الدنيا جميعا» وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة قال: «إن أهل الجنة يحلون أسورة من ذهب ولؤلؤ وفضة هي أخف عليهم من كل شيء إنما هي نور» وأخرج الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الضوء» وأخرج أبو الشيخ، وغيره عن كعب الأحبار قال «إن لله تعالى ملكا- وفي رواية- في الجنة ملك لو شئت أن أسميه أسميته يصوغ حلي أهل الجنة من يوم خلق إلى أن تقوم الساعة ولو أن حليا منها أخرج لرد شعاع الشمس» والسؤال بأن لبس الرجال الأساور عيب في الدنيا فكيف يحلونها في الآخرة مندفع بأن كونه عيبا إنما هو بين قوم لم يعتادوه لا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 257 مطلقا ولا أظنك في مرية من أن الشيء قد يكون عيبا بين قوم ولا يكون عيبا بين آخرين، وليس فيما نحن فيه أمر عقلي يحكم بكونه عيبا في كل وقت وفي كل مكان وبين كل قوم، وإن التزمت أن فيه ذلك فقد حليت نفسك بحلية الجهل وخرجت من ربقة العقل، هذا وقرأ أبان عن عاصم «من أسورة» بحذف ألف وزيادة هاء وهو أحد الجموع لسوار كما سمعت وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً لأن الخضرة أحسن الألوان والنفس تنبسط بها أكثر من غيرها، وروي في أثر أنها تزيد في ضوء البصر، وقيل: ثلاثة مذهبة للحزن الماء والخضرة والوجه الحسن، والظاهر أن لباسهم غير منحصر فيما ذكر إذ لهم فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وأخرج ابن أبي حاتم عن سليم بن عامر أن الرجل يكسى في الساعة الواحدة سبعين ثوبا وأن أدناها مثل شقيق النعمان، وقيل يحتمل الانحصار ولهم فيها ما تشتهي الأنفس لا يأباه لجواز أنهم لا يشتهون ولا تلذ أعينهم سوى ذلك من الألوان، والتنكير لتعريف أنها لا يكاد يوصف حسنها. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن كعب قال: لو أن ثوبا من ثياب أهل الجنة نشر اليوم في الدنيا لصعق من ينظر إليه وما حملته أبصارهم. وقرأ أبان عن عاصم وابن أبي حماد عن أبي بكر «ويلبسون» بكسر الباء مِنْ سُنْدُسٍ قال الجواليقي: هو رقيق الديباج بالفارسية فهو معرب، وفي القاموس هو ضرب من البزيون أو ضرب من رقيق الديباج معرب بلا خلاف، وقال الليث: لم يختلف أهل اللغة والمفسرون في أنه معرب، وأنت تعلم أن فيه خلاف الشافعي عليه الرحمة، والقول بأنه ليس من أهل اللغة والمفسرين في النفس منه شيء، وقال شيد له: هو رقيق الديباج بالهندية، وواحدة على ما نقل عن ثعلب سندسة. وزعم بعضهم: أن أصله سندي وكان هذا النوع من الديباج يجلب من السند فأبدلت الياء سينا كما فعل في سادي فقيل سادس، وهو كلام لا يروج إلا على سندي أو هندي. ويحكى أن جماعة من أهل الهند من بلد يقال له بروج بالجيم الفارسية، وكانوا يتكلمون بلغة تسمى سنسكريت جاؤوا إلى الإسكندر الثاني بهدية من جملتها هذا الديباج ولم يكن رآه فقال: ما هذا؟ فقالوا: سندون بالنون في آخره فغيرته الروم إلى سندوس ثم العرب إلى سندس فهو معرب قطعا من ذلك اللفظ الذي أطلقته أولئك الجماعة عليه، لكن لا جرم في أنه اسم له في الأصل بلغتهم أو اسم للبلدة المجلوب هو منها أطلق عليه كما في أسماء كثير من الأمتعة اليوم والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. وَإِسْتَبْرَقٍ أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة وعكرمة أنه غليظ الديباج، وقال ابن بحر: هو ديباج منسوج بذهب وفي القاموس هو الديباج الغليظ أو ديباج يعمل بالذهب أو ثياب حرير صفاق نحو الديباج أو قدة حمراء كأنها قطع الأوتار اه، والذي عليه الأكثرون من المفسرين واللغويين الأول، وهو كما أخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك معرب استبره وهي كلمة عجمية ومعناها الغليظ، والمشهور أنه يقال للغليظ بالفارسية استبر بلا هاء، وقال ابن قتيبة: هو رومي عرب وأصله استبره فأبدلوا الهاء قافا، ووقع في شعر المرقش قال: تراهن يلبسن المشاعر مرة ... وإستبرق الديباج طورا لباسها وقال ابن دريد: هو سرياني عرب وذكر من أصله ما ذكروا، وقيل: أصله استفره بحرف بعد التاء بين الفاء والباء الموحدة، وادعى بعضهم أن الإستبرق الديباج الغليظ الحسن في اللغة العربية والفارسية ففيه توافق اللغتين، ونقل عن الأزهري أنه استصوب هذا، ويجمع على أباريق ويصغر كما في القاموس وغيره على أبيرق، وقرأ ابن محيصن «وإستبرق» بوصل الهمزة وفتح القاف حيث وقع جعله كما يقتضيه ظاهر كلام ابن خالويه فعلا ماضيا على وزن استفعل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 258 من البريق إلا أن استفعل فيه موافق للمجرد الذي هو برق، وظاهر كلام الأهوازي في الإقناع أنه وحده قرأ كذلك وجعله اسما ممنوعا من الصرف ولم يجعله فعلا ماضيا. وقال صاحب اللوامح: قرأ ابن محيصن «وإستبرق» بوصل الهمزة في جميع القرآن مع التنوين فيجوز أنه حذف الهمزة تخفيفا على غير قياس، ويجوز أنه جعله كلمة عربية من برق الثوب يبرق بريقا إذا تلألأ بجدته ونضارته فيكون وزنه استفعل من ذلك فلما سمي به عامله معاملة الفعل في وصل الهمزة ومعاملة المتمكن من الأسماء في الصرف والتنوين، وأكثر التفاسير على أنه عربي وليس بمستعرب انتهى، ولا يخفى أنه مخالف للنقلين السابقين، ويمكن أن يقال: إن لابن محيصن قراءتين فيه الصرف والمنع منه فنقل بعض قراءة وبعض آخر أخرى لكن ذكر ابن جني أن قراءة فتح القاف سهو أو كالسهو، قال أبو حيان: وإنما قال ذلك لأن جعله اسما ومنعه من الصرف لا يجوز أنه غير علم فتكون سهوا وقد أمكن جعله فعلا ماضيا فلا تكون سهوا انتهى. وفي الجمع بين السندس والإستبرق إشعار ما بأن لأولئك القوم في الجنة ما يشتهون، ونكرا لتعظيم شأنهما وكيف لا وهما وراء ما يشاهد من سندس الدنيا وإستبرقها بل وما يتخيل من ذلك، وقد أخرج البيهقي عن أبي الخير مرثد بن عبد الله قال: في الجنة شجرة تنبت السندس منه تكون ثياب أهل الجنة. وأخرج الطيالسي والبخاري في التاريخ والنسائي وغيرهم عن ابن عمر قال: قال رجل: يا رسول الله أخبرنا عن ثياب أهل الجنة أخلقا تخلق أم نسجا تنسج؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: بل يتشقق عنها ثمر الجنة ، وظاهره أنها من سندس كانت أو من إستبرق كذلك، وقدمت التحلية على اللباس لأن الحلي في النفس أعظم وإلى القلب أحب وفي القيمة أغلى وفي العين أحلى، وبنى فعله للمفعول إشعارا بأنهم لا يتعاطون ذلك بأنفسهم وإنما يفعله الخدم كما قال الشاعر: غرائر في كن وصون ونعمة ... يحلين ياقوتا وشذرا مفقرا وكذلك سائر الملوك في الدنيا يلبسهم التيجان ونحوها من العلامات المرصعة بالجواهر خدمهم، وأسند اللبس إليهم لأن الإنسان يتعاطى ذلك بنفسه خصوصا إذا كان فيه ستر العورة، وقيل: بني الأول للمفعول والثاني للفاعل إشارة إلى أن التحلية تفضل من الله تعالى واللبس استحقاقهم، وتعقب بأن فيه نزغة اعتزالية ويدفع بالعناية مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ جمع أريكة كما قال غير واحد وهو السرير في الحجلة فإن لم يكن فيها فلا يسمى أريكة. وأخرج ذلك البيهقي عن ابن عباس، وقال الراغب: الأريكة حجلة على سرير وتسميتها بذلك إما لكونها في الأرض متخذة من أراك وهو شجر معروف أو لكونها مكانا للإقامة من قولهم أرك بالمكان أروكا، وأصل الأروك الإقامة على رعي الأراك ثم تجوز به في غيره من الإقامات، وروي تفسيرها بذلك عن عكرمة. وقال الزجاج: الأرائك الفرش في الحجال والظاهر أنها على سائر الأقوال عربية، وحكى ابن الجوزي في فنون الأفنان أنها السرر بالحبشية، وأيّا ما كان فالكلام على ما قاله بعض المحققين كناية عن تنعمهم وترفههم فإن الاتكاء على الأرائك شأن المتنعمين المترفهين، والآثار ناطقة بأنهم يتكئون ويتنعمون، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن الهيثم بن مالك الطائي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إن الرجل ليتكىء المتكأ مقدار أربعين سنة ما يتحول منه ولا يمله يأتيه ما اشتهت نفسه ولذت عينه» وأخرج ابن المنذر وجماعة عن ابن عباس أن على الأرائك فرشا منضودة في السماء مقدار فرسخ. وقرأ ابن محيصن «علرائك» بنقل حركة الهمزة إلى لام التعريف وإدغام لام عَلَى فيها فيحذف ألف عَلَى لتوهم سكون لام التعريف، ومثله قول الشاعر: فما أصبحت عارض نفسي برية يريد على الأرض. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 259 نِعْمَ الثَّوابُ ذلك الذي وعدوا به من الجنة ونعيمها وَحَسُنَتْ أي الأرائك أو الجنات مُرْتَفَقاً متكأ، وقد تقدم آنفا الكلام فيه وَاضْرِبْ لَهُمْ للمؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي والكفرة الذين طلبوا طردهم مَثَلًا رَجُلَيْنِ مفعولان لأضرب ثانيهما أولهما لأنه المحتاج إلى التفصيل والبيان قاله بعضهم، وقد مر تحقيق هذا المقام فتذكر، والمراد بالرجلين إما رجلان مقدران على ما قيل وضرب المثل لا يقتضي وجودهما وإما رجلان موجودان وهو المعول عليه، فقيل هما إخوان من بني إسرائيل أحدهما كافر اسمه فرطوس، وقيل اسمه قطفير والآخر مؤمن اسمه يهوذا في قول ابن عباس. وقال مقاتل: اسمه يمليخا، وعن ابن عباس أنهما ابنا ملك من بني إسرائيل أنفق أحدهما ماله في سبيل الله تعالى وكفر الآخر واشتغل بزينة الدنيا وتنمية ماله، وروي أنهما كانا حدادين كسبا مالا وروي أنهما ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فتشاطراها فاشترى الكافر أرضا بألف فقال المؤمن: اللهم أنا أشتري منك أرضا في الجنة بألف فتصدق به ثم بنى أخوه دارا بألف فقال: اللهم إني أشتري منك دارا في الجنة بألف فتصدق به ثم تزوج أخوه امرأة بألف فقال: اللهم إني جعلت ألفا صداقا للحور فتصدق به ثم اشترى أخوه خدما ومتاعا بألف فقال: اللهم إني أشتري منك الولدان المخلدين بألف فتصدق به ثم أصابته حاجة فجلس لأخيه على طريقه فمر به في حشمه فتعرض له فطرده ووبخه على التصدق بماله، وقيل: هما أخوان من بني مخزوم كافر هو الأسود بن الأسد ومؤمن هو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد، والمراد ضربهما مثلا للفريقين المؤمنين والكافرين لا من حيث أحوالهما المستفادة مما ذكر آنفا من أن للمؤمنين في الآخرة كذا وللكافرين فيها كذا بل من حيث عصيان الكفرة مع تقلبهم في نعم الله تعالى وطاعة المؤمنين مع مكابدتهم مشاق الفقر أي اضرب لهم مثلا من حيثية العصيان مع النعمة والطاعة مع الفقر حال رجلين جَعَلْنا لِأَحَدِهِما وهو الكافر جَنَّتَيْنِ بستانين لم يعين سبحانه مكانهما إذ لا يتعلق بتعيينه كبير فائدة. وذكر إبراهيم بن القاسم الكاتب في كتابه عجائب البلاد أن بحيرة تنيس كانت هاتين الجنتين فجرى ما جرى ففرقهما الله تعالى في ليلة واحدة، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يعلم منه قول آخر، والجملة بتمامها تفسير للمثل فلا موضع لها من الإعراب، ويجوز أن تكون في موضع الصفة لرجلين فموضعها النصب مِنْ أَعْنابٍ من كروم متنوعة فالكلام على ما قيل إما على تقدير مضاف وإما الأعناب فيه مجاز عن الكروم وهي أشجار العنب، والمفهوم من ظاهر كلام الراغب أن العنب مشترك بين الثمرة والكرم وعليه فيراد الكروم من غير حاجة إلى التقدير أو ارتكاب المجاز، والداعي إلى إرادة ذلك أن الجنة لا تكون من ثمر بل من شجر وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ أي جعلنا النخل محيطة بهما مطيفة بحفافيهما أي جانبيهما مؤزرا بها كرومهما يقال حفه القوم إذا طافوا به وحففته بهم إذا جعلتهم حافين حوله فتزيده الباء مفعولا آخر كقولك غشيته به وَجَعَلْنا بَيْنَهُما وسطهما زَرْعاً لتكونا جامعتين للأقوات والفواكه متواصلتي العمارة على الهيئة الرائقة والوضع الأنيق. كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها ثمرها وبلغ مبلغا صالحا للأكل، وكِلْتَا اسم مفرد اللفظ مثنى المعنى عند البصريين وهو المذهب المشهور ومثنى لفظا ومعنى عند البغداديين وتاؤه منقلبة عن واو عند سيبويه فأصله كلوي فالألف فيه للتأنيث. ويشكل على هذا إعرابه بالحروف بشرطه، ويجاب بما أجيب به عن الإشكال في الأسماء الخمسة. وعند الجرمي الألف لام منقلبة عن أصلها والتاء زائدة للتأنيث. ويرد عليه أنه لا يعرف فعتل وأن التاء لا تقع حشوا ولا بعد ساكن صحيح وعلى المشهور يجوز في ضميره مراعاة لفظه ومراعاة معناه وقد روعي الأول هنا والثاني فيما بعد. وفي مصحف عبد الله «كلا الجنتين آتي» بصيغة التذكير لأن تأنيث الجنتين مجازي ثم قرأ «آتت» فأنث لأنه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 260 ضمير مؤنث، ولا فرق بين حقيقيه ومجازيه فالتركيب نظير قولك: طلع الشمس وأشرقت وقال: إن عبد الله قرأ «كل الجنتين آتي أكله» فذكر وأعاد الضمير على كل. وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ أي لم تنقص من أكلها شَيْئاً من النقص على خلاف ما يعهد في سائر البساتين فإن الثمار غالبا تكثر في عام وتقل في عام وكذا بعض الأشجار تأتي بالثمار في بعض الأعوام دون بعض، وجوز أن يكون تَظْلِمْ متعديا وشَيْئاً مفعوله والمآل واحد وَفَجَّرْنا خِلالَهُما أي فيما بين كلتا الجنتين نَهَراً ليدوم شربهما ويزيد بهاؤهما، قال يحيى بن أبي عمرو الشيباني: وهذا النهر هو النهر هو المسمى بنهر أبي فرطس وهو على ما قال ابن أبي حاتم نهر مشهور في الرملة، وقيل المعنى فجرنا فيما بين كل من الجنتين نهرا على حدة فيكون هناك نهران على هذا ولا يخفى أنه خلاف الظاهر، وتشديد فجر قيل للمبالغة في سعة التفجير، وقال الفراء: لأن النهر ممتد فكأنه أنهار. وقرأ الأعمش وسلام ويعقوب وعيسى بن عمر «فجرنا» بالتخفيف على الأصل، وقرأ أبو السمال والعياض بن غزوان وطلحة بن سليمان «نهرا» بسكون الهاء وهو لغة جارية فيه وفي نظائره، ولعل تأخير ذكر التفجير عن ذكر الإيتاء مع أن الترتيب الخارجي على العكس للإيذان باستقلال كل من إيتاء الأكل وتفجير النهر في تكميل محاسن الجنتين كما في قصة البقرة ونحوها ولو عكس لا نفهم أن المجموع خصلة واحدة بعضها مترتب على بعض فإن إيتاء الأكل متفرع على السقي عادة، وفيه إيماء إلى أن إيتاء الأكل لا يتوقف على السقي كقوله تعالى: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ [النور: 35] قاله شيخ الإسلام وَكانَ لَهُ أي للأحد المذكور وهو صاحب الجنتين ثَمَرٌ أنواع المال كما في القاموس. وغيره ويقال: ثمر إذا تمول، وحمله على حمل الشجر كما فعل أبو حيان وغيره غير مناسب للنظم. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن عامر وحمزة والكسائي وابن كثير ونافع وقراء المدينة «ثمر» بضم الثاء والميم، وكذا في «بثمره» الآتي وهو جمع ثمار بكسر الثاء جمع ثمر بفتحتين فهو جمع الجمع ومعناه على نحو ما تقدم أي أموال كثيرة من الذهب والفضة والحيوان وغيرها، وبذلك فسره ابن عباس وقتادة وغيرهما، وقال مجاهد يراد به الذهب والفضة خاصة، وقرأ الأعمش وأبو رجاء وأبو عمرو بضم الثاء وإسكان الميم تخفيفا هنا وفيما بعد والمعنى على ما سمعت، وقرأ أبو رجاء في رواية «ثمر» بالفتح والسكون. وفي مصحف أبي وحمل على التفسير «وآتيناه ثمرا كثيرا» فَقالَ لِصاحِبِهِ المؤمن، والمراد بالصاحب المعنى اللغوي فلا ينافي هذا العنوان القول بأنهما كانا أخوين خلافا لمن وهم وَهُوَ أي القائل يُحاوِرُهُ أي يحاور صاحبه فالجملة في موضع الحال من القائل، والمحاورة مراجعة الكلام من حار إذا رجع أي يراجعه الكلام في إنكاره البعث وإشراكه بالله تعالى، وجوز أن تكون الجملة حالا من صاحبه فضمير هُوَ عائد عليه وضمير صاحبه عائد على القائل أي والصاحب المؤمن يراجع بالوعظ والدعوة إلى الله عز وجل ذلك الكافر القائل له أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً حشما وأعوانا، وقيل: أولادا ذكورا، وروي ذلك عن قتادة ومقاتل، وأيد بمقابلته- بأقل منك مالا وولدا- وتخصيص الذكور لأنهم الذين ينفرون معه لمصالحه ومعاونته، وقيل: عشيرة ومن شأنهم أنهم ينفرون مع من هو منهم، واستدل بذلك على أنه لم يكن أخاه لأن العشيرة مشتركة بينهما وملتزم الأخوة لا يفسر بذلك، ونصب مالًا ونَفَراً على التمييز وهو على ما قيل محول عن المبتدأ، والظاهر أن المراد من أفعل التفضيل معناه الحقيقي وحينئذ يرد بذلك ما في بعض الروايات من أن الأخ المؤمن بقي بعد التصدق بماله فقيرا محتاجا فسأل أخاه الكافر ولم يعطه ووبخه على التصدق وَدَخَلَ جَنَّتَهُ أي كل ما هو جنة له يتمتع بها بناء على أن الإضافة للاستغراق والعموم فتفيد ما أفادته التثنية مع زيادة وهي الإشارة إلى أنه لا جنة له غير ذلك ولا حظ له في الجنة التي وعد المتقون وإلى هذا ذهب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 261 الزمخشري وهو معنى لطيف دق تصوره على أبي حيان فتعقبه بما تعقبه. واختار الإفراد لأن الدخول لا يمكن أن يكون في الجنتين معا في وقت واحد وإنما يكون في واحدة واحدة وهو خال عما أشير إليه من النكتة. وكذا ما قيل إن الافراد لاتصال إحداهما بالأخرى، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال في قوله تعالى: جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ إلخ الجنة البستان فكان له بستان واحد وجدار واحد وكان بينهما نهر فلذلك كان جنتين وسماه سبحانه جنة من قبل الجدار المحيط به وهو كما ترى، والذي يدل عليه السياق والمحاورة أن المراد ودخل جنته مع صاحبه وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ جملة حالية أي وهو ضار لنفسه بكفره حيث عرضها للهلاك وعرض نعمتها للزوال أو واضع الشيء في غير موضعه حيث كان اللائق به الشكر والتواضع لا ما حكي عنه. قالَ استئناف مبني على سؤال نشأ من ذكر دخول جنته حال ظلمه لنفسه كأنه قيل فماذا قال إذ ذاك؟ فقيل قال: ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ أي تهلك وتفنى يقال باد يبيد بيدا وبيودا وبيدودة إذا هلك هذِهِ أي الجنة أَبَداً أي طول الحياة فالمراد بالتأبيد طول المكث لا معناه المتبادر، وقيل يجوز أن يكون أراد ذلك لأنه لجهله وإنكاره قيام الساعة ظن عدم فناء نوعها وإن فني كل شخص من أشجارها نحو ما يقوله الفلاسفة القائلون بقدم العالم في الحركات الفلكية وليس بشيء، وقيل ما قصد إلا أن هذه الجنة المشاهدة بشخصها لا تفنى على ما يقوله الفلاسفة على المشهور في الأفلاك أنفسها وكأن حب الدنيا والعجب بها غشي على عقله فقال ذلك وإلا فهو مما لا يقوله عاقل وهو مما لا يرتضيه فاضل، وقيل هذِهِ إشارة إلى الأجرام العلوية والأجسام السفلية من السموات والأرض وأنواع المخلوقات أو إشارة إلى الدنيا والمآل واحد والظاهر ما تقدم، وأيّا ما كان فلعل هذا القول كان منه بمقابلة موعظة صاحبه وتذكيره بفناء جنتيه ونهيه عن الاغترار بهما وأمره بتحصيل الصالحات الباقيات، ولعله خوفه أيضا بالساعة فقال له: وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً أي كائنة فيما سيأتي فالقيام الذي هو من صفات الأجسام مجاز عن الكون والتحقق لكنه جار في العرف مجرى الحقيقة وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي بالبعث عند قيامها كما زعمت لَأَجِدَنَّ حينئذ خَيْراً مِنْها أي من هذه الجنة. وقرأ ابن الزبير وزيد بن علي وأبو بحرية وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن وحميد وابن مناذر ونافع وابن كثير وابن عامر «منهما» بضمير التثنية وكذا في مصاحف مكة والمدينة والشام أي من الجنتين مُنْقَلَباً أي مرجعا وعاقبة لفناء الأولى وبقاء الأخرى على زعمك، وهو تمييز محول من المبتدأ على ما نص عليه أبو حيان، ومدار هذا الطمع واليمين الفاجرة اعتقاد أنه تعالى إنما أولاه ما أولاه في الدنيا لاستحقاقه الذاتي وكرامته عليه سبحانه وهذا كقوله تعالى حكاية وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى [فصلت: 50] ولم يدر أن ذلك استدراج، وكأنه لسبق ما يشق عليه فراقه وهي الجنة التي ظن أنها لا تبيد جاء هنا رُدِدْتُ ولعدمه فيما سيأتي بعد إن شاء الله تعالى من آية حم المذكورة جاء رُجِعْتُ فليتأمل. قالَ لَهُ صاحِبُهُ استئناف كما سبق وَهُوَ يُحاوِرُهُ جملة حالية كالسابقة، وفائدتها التنبيه من أول الأمر على أن ما يتلوها كلام معتنى بشأنه مسوق للمحاورة. وقرأ أبي وحمل ذلك على التفسير «وهو يخاصمه» أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ أي في ضمن خلق أصلك منه وهو آدم عليه السلام لما أن خلق كل فرد من أفراد البشر له حظ من خلقه عليه السلام إذ لم تكن فطرته الشريفة مقصورة على نفسه بل كانت أنموذجا منطويا على فطرة سائر أفراد الجنس انطواء إجماليا مستتبعا لجريان آثارها على الكل فإسناد الخلق من تراب إلى ذلك الكافر حقيقة باعتبار أنه مادة أصله، وكون ذلك مبنيا على صحة قياس الجزء: 8 ¦ الصفحة: 262 المساواة خيال واه، وقيل خلقك منه لأنه أصل مادتك إذ ماء الرجل يتولد من أغذية راجعة إلى التراب فالإسناد مجاز من إسناد ما للسبب إلى المسبب فتدبر. ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ هي مادتك القريبة فالمخلوق واحد والمبدأ متعدد، ونقل أنه ما من نطفة قدر الله تعالى أن يخلق منها بشرا إلا وملك موكل بها يلقي فيها قليلا من تراب ثم يخلق الله تعالى منها ما شاء من ذكر أو أنثى. وتعقبه في البحر بأنه يحتاج إلى ثبوت صحته، وأنا أقول: غالب ظني أني وقفت على تصحيحه لكن في تخريج الآية عليه كلام لا يخفى ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا عدلك وكملك إنسانا ذكرا وأصل معنى التسوية جعل الشيء سواء أي مستويا كما فيما تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ [النساء: 42] ثم إنه يستعمل تارة بمعنى الخلق والإيجاد كما في قوله تعالى وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها [الشمس: 6] فإذا قرن بالخلق والإيجاد كما هنا فالمراد به الخلق على أتم حال وأعدله حسبما تقتضيه الحكمة بدون إفراط ولا تفريط، ونصب رَجُلًا على ما قال أبو حيان على الحال وهو محوج إلى التأويل. وقال الحوفي: نصب على أنه مفعول ثان لسوى، والمراد ثم جعلك رجلا، وفيه على ما قيل تذكير بنعمة الرجولية أي جعلك ذكرا ولم يجعلك أنثى. والظاهر أن نسبة الكفر بالله تعالى إليه لشكه في البعث وقوله ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً والشاك في البعث كما في الكشف كافر من أوجه الشك في قدرته تعالى وفي أخباره سبحانه الصدق وفي حكمته ألا ترى إلى قوله عز وجل أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون: 115] وهذا هو الذي يقتضيه السياق لأن قوله أَكَفَرْتَ إلخ وقع ردا لقوله ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً ولذلك رتب الإنكار بخلقه من تراب ثم من نطفة الملوح بدليل البعث وعليه أكثر المفسرين ونوقشوا فيه. وقال بعضهم: الظاهر أنه كان مشركا كما يدل عليه قول صاحبه تعريضا به لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً وقوله يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً وليس في قوله لَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي ما ينافيه لأنه على زعم صاحبه كما مر مع أن الإقرار بالربوبية لا ينافي الإشراك فعبدة الأصنام مقرون بها وهم مشركون فالمراد بقوله أَكَفَرْتَ أأشركت اه، وسيأتي إن شاء الله تعالى بعض ما يتعلق به. وقرأ ثابت البناني وحمل ذلك على التفسير كنظائره المتقدمة ويلك أكفرت لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي أصله لكن أنا وقد قرأ به أبي والحسن، وحكى ابن عطية ذلك عن ابن مسعود فنقل حركة همزة أنا إلى نون لكن فحذفت الهمزة ثم حذفت الحركة ثم أدغمت النون في النون، وقيل حذفت الهمزة مع حركتها ثم أدغم أحد المثلين في الآخر وهو أقرب مسافة إلا أن الحذف المذكور على خلاف القياس، وقد جاء الحذف والإدغام في قوله: وترمينني بالطرف أي أنت مذنب ... وتقلينني لكنّ إياك لا أقلي فإنه أراد لكن أنا لا أقليك، وهو أولى من جعلهم التقدير لكنه إياك على حذف ضمير الشأن، وأبعد منه جعل الأصل لكنني إياك على حذف اسم لكن كما في قوله: فلو كنت ضبيّا عرفت قرابتي ... ولكن زنجيّ عظيم المشافر أي لكنك مع نون الوقاية، وبإثبات الألف آخرا في الوقف وحذفها في الوصل كما هو الأصل في أنا وقفا ووصلا قرأ الكوفيون وأبو عمرو وابن كثير ونافع في رواية ورش وقالون، وأبدلها هاء في الوقف أبو عمرو في رواية فقال «لكنه» ذكره ابن خالويه، وقال ابن عطية: روى هارون عن أبي عمرو «لكنه هو الله ربي» بضمير لحق لكن. وقرأ ابن عامر وزيد بن علي والحسن والزهري بإثبات الألف وقفا ووصلا وهو رواية عن نافع ويعقوب وأبي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 263 عمرو وورش وأبي جعفر وأبي بحرية، وجاء ذلك على لغة بني تميم فإنهم يثبتون ألف أنا في الأصل اختيارا وأما غيرهم فيثبتها فيه اضطرارا، وقال بعضهم: إن إثباتها في الوصل غير فصيح لكنه حسن هنا لمشابهة أنا بعد حذف همزته لضميرنا المتصل ولأن الألف جعل عوضا عن الهمزة المحذوفة فيه. وقيل أثبتت إجراء للوصل مجرى الوقف وفي إثباتها دفع اللبس بلكن المشددة، ومن إثباتها وصلا قول الشاعر: أنا شيخ العشيرة فاعرفوني ... حميدا قد تذريت السناما وفي رواية الهاشمي عن أبي جعفر حذفها وصلا ووقفا، وروي ذلك أيضا عن أبي عبلة وأبي حيوة وأبي بحرية، وقرأ «لكننا» بحذف الهمزة وتخفيف النونين، و «لكن» في جميع هذه القراءات حرف استدراك لا عمل له وأنا مبتدأ أول وهُوَ ضمير الشأن مبتدأ ثان واللَّهُ رَبِّي مبتدأ وخبر، والجملة خبر ضمير الشأن وهي غنية عن الرابط وجملة ضمير الشأن وخبره خبر المبتدأ الأول والرابط ضمير المتكلم المضاف إليه، والتركيب نظير قولك: هند هو زيد ضاربها، وجوز أن يكون هُوَ مبتدأ ثانيا والاسم الجليل بدلا منه ورَبِّي خبره والجملة خبر المبتدأ الأول والرابط الياء أيضا. وفي البحر أن هُوَ ضمير الشأن وثم قول محذوف أي لكن أنا أقول هو الله ربي، ويجوز أن يعود على الذي خَلَقَكَ أي لكن أنا أقول الذي خلقك الله ربي فخبره الاسم الجليل ورَبِّي نعت أو عطف بيان أو بدل انتهى، ثم جوز عدم تقدير القول واقتصر على جعل هُوَ ضمير الشأن حينئذ حسبما سمعت، ولا يخفى أن احتمال تقدير القول بعيد في هذه القراءة ولعل احتمال كون الاسم الجليل بدلا أقرب معنى من كونه خبرا وعود الضمير على الذي خلقك، وجوز أبو علي كون- نا- ضمير الجماعة كالتي في خرجنا وضربنا ووقع الإدغام لاجتماع المثلين إلا أنه أريد بها ضمير المعظم نفسه فوحد رَبِّي على المعنى ولو اتبع اللفظ لقيل ربنا ولا يخفى ما فيه من البعد، وقال ابن عطية في الآية: يجوز أن تكون لكن هي العاملة من أخوات إن واسمها محذوف وحذفه فصيح إذا دل عليه الكلام والتقدير لكن قولي هو الله ربي، لكن ذلك إنما يتم لو قرىء بحذف الألف وقفا ووصلا وأنا لا أعرف أحدا قرأ بذلك انتهى، وأنت قد عرفت من قرأ به، وقد ذكر غيرهم قرؤوا أيضا أبو القاسم يوسف بن علي الهذلي في كتابه الكامل في القراءات لكن لا أظنك تستحسن التخريج على ذلك وقرأ عيسى الثقفي «لكن هو الله» بسكون نون لكن، وحكاه ابن خالويه عن ابن مسعود والأهوازي عن الحسن وإعرابه ظاهر جدا. وقرىء «لكن أنا هو الله لا إله إلا هو ربي» ويعلم إعرابه مما مر، وخرج أبو حيان قراءة أبي عمرو على رواية هارون على أن يكون «هو» تأكيدا لضمير النصب في «لكنه» وجعله عائدا على «الذي خلقك» ثم قال: ويجوز أن يكون فصلا لوقوعه بين معرفتين، ولا يجوز أن يكون ضمير شأن لأنه لا عائد حينئذ على اسم لكن من الجملة الواقعة خبرا انتهى، ويا ليت شعري ما الذي منعه من تجويز أن يكون ضمير لكنه للشأن ويكون هُوَ مبتدأ عائدا على الذي خَلَقَكَ والاسم الجليل خبره ورَبِّي نعتا أو عطف بيان أو بدل والجملة خبر ضمير الشأن المنصوب بلكن أو يكون هُوَ مبتدأ والاسم الجليل بدلا منه ورَبِّي خبرا والجملة خبر الضمير. هذا وقوله وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً عطف على إحدى الجملتين والاستدراك على أَكَفَرْتَ وملخص المعنى لمكان الاستفهام الذي هو للتقرير على سبيل الإنكار أنت كافر بالله تعالى لكني مؤمن موحد. وللتغاير الظاهر بين الجملتين وقعت لكن موقعها فقد قالوا: إنها تقع بين كلامين متغايرين نحو زيد حاضر لكن عمرو غائب، وإلى كون المعنى ما ذكر ذهب الزمخشري وغيره، وذكر في الكشف أن فيه إشارة إلى أن الكفر بالله تعالى يقابله الإيمان والتوحيد فجاز أن يستدرك بكل منهما وبهما معا أي كما هنا فإن الإيمان مفاد أنا هو الله ربي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 264 والتوحيد مفاد لا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً وأنت تعلم أيضا أن الشرك كثيرا ما يطلق على مطلق الكفر وجعلوا منه قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: 48، 116] وإنه يمكن أن يكون الغرض من مجموع الكلام إثبات الإيمان على الوجه الأكيد، ولعل شرك صاحبه الذي عرض به في الجملة الثانية كما صرح به غير واحد بهذا المعنى. وقيل الشرك فيه بالمعنى المتبادر وإثباته لصاحبه تعريضا باعتبار أنه لما أنكر البعث فقد عجز الباري جل جلاله ومن عجزه سبحانه وتعالى فقد سواه بخلقه تعالى في العجز وهو شرك، وقيل باعتبار أنه لما اغتر بدنياه وزعم الاستحقاق الذاتي وأضاف ما أضاف لنفسه كان كأنه أشرك فعرض به المؤمن بما عرض فكأنه قال: لكن أنا مؤمن ولا أرى الغنى والفقر إلا من الله تعالى يفقر من يشاء ويغني من يشاء ولا أرى الاستحقاق الذاتي على خلاف ما أنت عليه والإنصاف أن كلا من القولين تكلف، وقيل في الكلام تعريض بشرك صاحبه ولا يلزم أن يكون مدلولا عليه بكلامه السابق بل يكفيه ثبوت كونه مشركا في نفس الأمر وفيما بعد ما هو ظاهر فيه فتأمل، ثم اعلم أن ما تضمنته الآية ذكر جليل. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أسماء بنت عميس قالت: علمني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلمات أقولهن عند الكرب الله ربي لا أشرك به شيئا. وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ حض على القول وتوبيخ على تركه، وتقديم الظرف على المحضض عليه للإيذان بتحتم القول في آن الدخول من غير ريث للقصر، وجاز تقديمه لذلك وجعله فاصلا بين لَوْلا وفعلها لتوسعهم في الظروف أي هلا قلت عند ما دخلتها ما شاءَ اللَّهُ أي الأمر ما شاء الله أو ما شاء الله تعالى كائن على أن ما موصولة مرفوعة المحل إما على أنها خبر مبتدأ محذوف أو على أنها مبتدأ محذوف الخبر. ويجوز أن تكون شرطية في محل نصب بشاء والجواب محذوف أي أي شيء شاء الله تعالى كان، وأيّا ما كان فالمراد تحضيضه على الاعتراف بأن جنته وما فيها بمشيئة الله تعالى إن شاء أبقاها وإن شاء أبادها، ودلالة الجملة على العموم الداخل فيه ما ذكر دخولا أوليا على التقدير الأول لأن تعريف الأمر للاستغراق، والجملة على هذا تفيد الحصر وأما على غيره فقيل لأن ما شرطية أو موصولة وهي في معنى الشرط والشرط وما في معناه يفيد توقف وجود الجزاء على ما في حيزه فيفيد عدمه عند عدمه فيكون المعنى ما شاء كان وإن لم يشأ لم يكن، ولا غبار على ذلك عند من يقول بمفهوم الشرط، وقدر بعضهم في الثاني من احتمالي الموصولة ما شاء الله هو الكائن حتى تفيد الجملة ما ذكر وليس بشيء كما لا يخفى. وزعم القفال من المعتزلة أن التقدير هذا ما شاءه الله تعالى والإشارة إلى ما في الجنة من الثمار ونحوها، وهذا كقول الإنسان إذا نظر إلى كتاب مثلا: هذا خط زيد، ومراده نفي دلالة الآية على العموم ليسلم له مذهب الاعتزال، وكذلك فعل الكعبي والجبائي حيث قالا: الآية خاصة فيما تولى الله تعالى فعله ولا تشمل ما هو من فعل العباد ولا يمتنع أن يحصل في سلطانه سبحانه ما لا يريد كما يحصل فيه ما ينهى عنه، ولا يخفى على من له ذوق سليم وذهن مستقيم أن المنساق إلى الفهم العموم وكم للمعتزلة عدول عن ذلك لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ من مقول القول أيضا أي هلا قلت ذلك اعترافا بعجزك وإقرارا بأن ما تيسر لك من عمارتها وتدبير أمرها إنما هو بمعونته تعالى وإقداره جل جلاله، وقد تضمنت هذه الآية ذكرا جليلا أيضا، فقد أخرج أحمد عن أبي هريرة قال: «قال لي نبي الله صلّى الله عليه وسلّم ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة تحت العرش؟ قلت: نعم قال: أن تقول لا قوة إلا بالله قال عمرو بن ميمون قلت لأبي هريرة: لا حول ولا قوة إلا بالله فقال: لا إنها في سورة الكهف ولولا إذ دخلت» الآية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 265 وأخرج ابن أبي حاتم عن عمرو بن مرة قال: «إن من أفضل الدعاء قول الرجل ما شاء الله» ، وأخرج أبو يعلى وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ما أنعم الله تعالى على عبد نعمة في أهل أو مال أو ولد فيقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله إلا دفع الله تعالى عنه كل آفة حتى تأتيه منيته وقرأ ولولا إذ دخلت» إلخ. وأخرج ابن أبي حاتم من وجه آخر عن أنس قال: من رأى شيئا من ماله فأعجبه فقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يصب ذلك المال آفة أبدا وقرأ الآية، وأخرجه البيهقي في الشعب عن أنس مرفوعا. وأخرج ابن أبي حاتم عن مطرف قال: كان مالك إذا دخل بيته يقول: ما شاء الله قلت لمالك: لم تقول هذا؟ قال: ألا تسمع الله تعالى يقول وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ ونقل عن ابن العربي أن مالكا يستدل بالآية على استحباب ما تضمنته من الذكر لكل من دخل منزله. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن عروة أنه كان إذا رأى من ماله شيئا يعجبه أو دخل حائطا من حيطانه قال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله ويتأول قول الله تعالى وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ الآية، ويفهم من بعض الروايات استحباب قول ذلك عند رؤية ما يعجب مطلقا سواء كان له أو لغيره وأنه إذا قال ذلك لم تصبه عين الإعجاب إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً إلخ أَنَا توكيد للضمير المنصوب على المفعولية في تَرَنِ وقد أقيم ضمير الرفع مقام ضمير النصب، والرؤية إن كانت علمية فأقل مفعول ثان وإن كانت بصرية فهو حال من المفعول، ويجوز أن يكون أَنَا فصلا وحينئذ يتعين أن تكون الرؤية علمية لأن الفصل إنما يقع بين مبتدأ وخبر في الحال أو في الأصل. وقرأ عيسى بن عمر «أقلّ» بالرفع فيكون أَنَا مبتدأ وأَقَلَّ خبره والجملة في موضع المفعول الثاني على الأول من احتمالي الرؤية أو الحال على الثاني منهما ومالًا وَوَلَداً تمييز على القراءتين وما فيهما من الاحتمال، وقوله: فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ قائم مقام جواب الشرط أي إن ترن كذلك فلا بأس عسى ربي إلخ، وقال كثير: هو جواب الشرط، والمعنى إن ترني أفقر منك فأنا أتوقع من صنيع الله تعالى أن يقلب ما بي وما بك من الفقر والغنى فيرزقني لإيماني جنة خيرا من جنتك ويسلبك بكفرك نعمته ويخرب جنتك، وقيد بعضهم هذا الإيتاء بقوله: في الآخرة، وقال آخر: في الدنيا أو في الآخرة، وظاهر ما ذكر أنه في الدنيا كالإرسال في قوله وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ أي عذابا كما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس. وأخرج الطستي عنه أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله تعالى: حُسْباناً فقال: نارا وأنشد له قول حسان: بقية معشر صبت عليهم ... شآبيب من الحسبان شهب وأخرج ذلك ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن الضحاك أيضا، وقال الزمخشري: هو مصدر كالبطلان والغفران بمعنى الحساب والمراد به المحسوب والمقدر أي مقدرا قدره الله تعالى وحسبه وهو الحكم بتخريبها، والظاهر أن إطلاقه على الحكم المذكور مجاز والزجاج جعل الحسبان بمعنى الحساب أيضا إلا أنه قدر مضافا أي عذاب حساب وهو حساب ما كسبت يداه، ولا يخفى أنه يجوز أن يراد من الحسبان بهذا المعنى العذاب مجازا فلا يحتاج إلى تقدير مضاف. وظاهر عبارة القاموس وكذا ما روي أولا عن ابن عباس أن إطلاق الحسبان على العذاب حقيقة، ويمكن على ما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 266 قيل أن يكون إطلاقه على النار باعتبار أنها من العذاب أو من المقدر، ونقل الزمخشري أن حُسْباناً جمع حسبانة وهي المرماة أي ما يرمى به كالسهم والصاعقة وأريد بها هنا الصواعق، وقيل أعم من ذلك أي يرسل عليها مرامي من عذابه إما بردا وإما حجارة وإما غيرهما مما يشاء فَتُصْبِحَ لذلك صَعِيداً أي أرضا زَلَقاً ليس فيها نبات قاله الحسن وأخرجه ابن أبي حاتم عن السدي قيل وأصل معنى الزلق الزلل في المشي لوحل ونحوه لكن لما كان ذلك فيما لا يكون فيه نبت ونحوه مما يمنع منه تجوز به أو كني عنه، وعبر بالمصدر عن المزلقة مبالغة، وقيل الزلق من زلق رأسه بمعنى حلقه والكلام على التشبيه أي فتصبح أرضا ملساء ليس فيها شجر ولا نبات كالرأس الذي حلق وفيه بعد، وقيل المراد بالزلق المزلقة بالمعنى الحقيقي الظاهر، والمعنى فتصبح أرضا لا نبات فيها ولا يثبت فيها قدم، وحاصله فتصبح مسلوبة المنافع حتى منفعة المشي عليها فتكون وحلا لا تنبت ولا يثبت عليها قدم، وظاهر صنيع أبي حيان اختياره، وقال مجاهد: أي فتصبح رملا هائلا أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً أي غائرا في الأرض، والتعبير بالمصدر للمبالغة نظير ما مر. فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ أي للماء الغائر طَلَباً تحركا وعملا في رده وإخراجه، والمراد نفي استطاعة الوصول إليه فعبر عنه بنفي الطلب إشارة إلى أنه غير ممكن والعاقل لا يطلب مثله، وقيل ضمير لَهُ للماء مطلقا لا للماء المخصوص أي فلن تستطيع لماء لها بدل ذلك الماء الغائر طلبا، وهو الذي يقتضيه كلام الماوردي إلا أنه خلاف الظاهر. والظاهر أن يُصْبِحَ عطف على (تصبح) وحينئذ لا بد أن يراد بالحسبان ما يصلح ترتب الأمرين عليه عادة كالحكم الإلهي بالتخريب إذ ليس كل آفة سماوية يترتب عليها إصباح الجنة صعيدا زلقا يترتب عليها وا صباح مائها غورا، وجوز أن يكون العطف على يُرْسِلَ وحينئذ يجوز أن يراد بالحسبان أي معنى كان من المعاني السابقة، وعلى هذا يكون المؤمن قد ترجى هلاك جنة صاحبه الكافر إما بآفة سماوية أو بآفة أرضية وهو غور مائها فيتلف كل ما فيها من الشجر والزرع لكنه لم يصرح بما يترتب على الغور من الضرر والخراب، ولعل ذلك لظهوره والاكتفاء بالإشارة إليه بقوله فَلَنْ إلخ. وتعقب بأنه لا يخفى أنه لا فساد في هذا العطف لا لفظا ولا معنى إلا أنه كان الظاهر أن يقال: أو يجعل ماءها غورا أو نحو ذلك مما فيه إسناد الفعل إلى الله تعالى ولا يظهر للعدول إلى ما في النظم الكريم وجه فتأمل، ثم إن أكثر العلماء على أن قوله إِنْ تَرَنِ إلخ في مقابلة قول الكافر أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا إلخ وكأنهم عنوا المقابلة في الجملة لا المقابلة التامة أما إذا لم يتحد المراد بالنفر والولد فظاهر، وأما إذا اتحد بأن فسر النفر بالولد فلأن هناك أمرين أكثرية وأعزية ولم يذكر هنا إلا مقابل أحدهما وهو الأقلية المنسوبة في المعنى إلى المال والولد، نعم قيل: إن أقلية الولد قد تستلزم الأذلية والأكثرية قد تستلزم الأعزية كما يشاهد في عرب البادية. هذا وكان الظاهر أن يتعرض في الجزاء لأمر الولد كما تعرض لأمر المال بأن يقال وعسى أن يؤتيني خيرا من ولدك ويصيبهم ببلاء فيصبحوا هلكى أو نحو ذلك. وأجيب بأنه إنما لم يتعرض لذلك إشارة إلى استيلاء حب المال على قلب ذلك الكافر وأنه يكفي في نكايته وإغاظته تلف جنته وإعطاء صاحبه المؤمن خيرا منها. وقيل: إنما لم يتعرض لذلك لما فيه من ترجي هلاك من لم يصدر منه مكالمة ومحاورة ولم ينقل عنه مقاومة ومفاخرة لمجرد إغاظة كافر حاور وكاثر وفاخر وتركه أفضل للكامل وأكمل للفاضل، والدعاء على الكفرة وذراريهم الصادر من بعض الأنبياء عليهم السلام ليس من قبيل هذا الترجي كما لا يخفى على المتأمل وحيث أراد ترك هذا الترجي ترك ترجي الولد لنفسه تبعا له أو لكونه غير مهم له، وقيل: إنه ترجاه في قوله: خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ لأن المراد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 267 شيئا خيرا من جنتك والنكرة قد تعم بمعونة المقام فيندرج الولد وليس بشيء. وقيل: أراد ما هو الظاهر أي جنة خيرا من جنتك إلا أن الخيرية لا تتم من دون الولد إذ لا تكمل لذة بالمال لمن لا ولد له فترجى جنة خير من تلك الجنة متضمن لترجي ولد خير من أولئك الولد ولم يترج هلاك ولده ليكون بقاؤهم بعد هلاك جنته حملا عليه، ولا يخفى أنه لا يتبادر إلى الذهن من خيرية الجنة إلا خيريتها فيما يعود إلى كونها جنة من كثرة الأشجار وزيادة الثمار وغزارة مياه الأنهار ونحو ذلك، وفي قوله: ليكون إلخ منع ظاهر، وقيل: لم يترج الولد اكتفاء بما عنده منهم فإن كثرة الأولاد ليس مما يرغب فيه الكاملون وفيه نظر، وقيل: إنه لم يقرن ترجي إيتاء الولد مع ترجي إيتاء الجنة لأن ذلك الإيتاء المترجى في الآخرة وهي ليست محلا لإيتاء الولد لانقطاع التولد هناك، ولا يخفى أن هذا بعد تسليم أنه لا يؤتى الولد لمن شاءه في الآخرة ليس بشيء، وقيل: يمكن أن يكون ترجي الولد في قوله: خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ بناء على أنه أراد من جنته جميع ما متع به من الدنيا وتكون الضمائر بعدها عائدة عليها بمعنى البستان على سبيل الاستخدام وهو كما ترى فتدبر، والله تعالى أعلم بأسرار كتابه وأخبر. وقرأت فرقة «غؤورا» بضم الغين وهمزة بعدها وواو بعدهما وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ أهلك أمواله المعهودة من جنتيه وما فيهما، وهو مأخوذ من إحاطة العدو وهي استدارته به من جميع جوانبه استعملت في الاستيلاء والغلبة ثم استعملت في كل هلاك، وذكر الخفاجي أن في الكلام استعارة تمثيلية شبه إهلاك جنتيه بما فيهما بإهلاك قوم حاط بهم عدو وأوقع بهم بحيث لم ينج أحد منهم، ويحتمل أن تكون الاستعارة تبعية، وبعض يجوز كونها تمثيلية تبعية انتهى. وجعل ذلك من باب الكناية أظهر والعطف على مقدر كأنه قيل: فوقع بعض ما ترجى وأحيط إلخ وحذف لدلالة السباق والسياق عليه، واستظهر أن الإهلاك كان ليلا لقوله تعالى فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ ويحتمل أن تكون أصبح بمعنى صار فلا تدل على تقييد الخبر بالصباح، ويجري هذان الأمران في تصبح ويصبح السابقين، ومعنى تقليب الكفين على ما استظهره أبو حيان أن يبدي بطن كل منهما ثم يعوج يده حتى يبدو ظهر كل يفعل ذلك مرارا، وقال غير واحد: هو أن يضع باطن إحداهما على ظهر الأخرى ثم يعكس الأمر ويكرر ذلك، وأيّا ما كان فهو كناية عن الندم والتحسر وليس ذلك من قولهم: قلبت الأمر ظهرا لبطن كما في قول عمرو بن ربيعة: وضربنا الحديث ظهرا لبطن ... وأتينا من أمرنا ما اشتهينا فإن ذلك مجاز عن الانتقال من بعض الأحاديث إلى بعض، ولكونه كناية عن الندم عدي بعلى في قوله تعالى: عَلى ما أَنْفَقَ فِيها فالجار والمجرور ظرف لغو متعلق بيقاب كأنه قيل فأصبح يندم على ما أنفق، ومنه يعلم أنه يجوز في الكناية إن تعدى بصلة المعنى الحقيقي كما في قولهم: بنى عليها وبصلة المعنى الكنائي كما هنا فيجوز بنى بها ويكون القول بأنه غلط غلط. ويجوز أن يكون الجار والمجرور ظرفا مستقرا متعلقه خاص وهو حال من ضمير «يقلب» أي متحسرا على ما أنفق وهو نظرا إلى المعنى الكنائي حال مؤكدة على ما قيل لأن التحسر والندم بمعنى، وقال بعضهم: إن التحسر الحزن وهو أخص من الندم فليراجع، وأيّا ما كان فلا تضمين في الآية كما توهم. وقرىء «تقلب كفاه» أي تتقلب، ولا يخفى عليك أمر الجار والمجرور على هذا، وما إما مصدرية أي على إنفاقه في عمارتها، وإما موصولة أي على الذي أنفقه في عمارتها من المال، ويقدر على هذا مضاف إلى الموصول من الأفعال الاختيارية إذا كان متعلق الجار يُقَلِّبُ مرادا منه يندم لأن الندم إنما يكون على الأفعال الاختيارية، ويعلم من هذا وجه تخصيص الندم على ما أنفق بالذكر دون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 268 هلاك الجنة، وقيل: لعل التخصيص لذلك ولأن ما أنفق في عمارتها كان ما يمكن صيانته عن طوارق الحدثان وقد صرفه إلى مصالحها رجاء أن يتمتع بها أكثر مما يتمتع به وكان يرى أنه لا تنالها أيدي الردى ولذلك قال ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً [الكهف: 35] فلما ظهر له أنها مما يعتريه الهلاك ندم على ما صنع بناء على الزعم الفاسد من إنفاق ما يمكن ادخاره في مثل هذا الشيء السريع الزوال انتهى، والظاهر أن إهلاكها واستئصال نباتها وأشجارها كان دفعيا بآفة سماوية ولم يكن تدريجيا بإذهاب ما به النماء وهو الماء، فقد قال الخفاجي: إن الآية تدل على وقوع استئصال نباتها وأشجارها عاجلا بآفة سماوية صريحا لقوله تعالى فَأَصْبَحَ بالفاء التعقيبية والتحسر إنما يكون لما وقع بغتة فتأمل وَهِيَ أي الجنة من الأعناب المحفوفة بنخل خاوِيَةٌ أي ساقطة، وأصل الخواء كما قيل الخلاء يقال خوى بطنه من الطعام يخوي خوى وخواء إذا خلا. وفي القاموس خوت الدار تهدمت وخوت وخويت خيا وخويا وخواء وخواية خلت من أهلها، وأريد السقوط هنا لتعلق قوله تعالى: عَلى عُرُوشِها بذلك، والعروش جمع عرش وهو هنا ما يصنع من الأعمدة لتوضع عليه الكروم، وسقوط الجنة على العروش لسقوطها قبلها، ولعل ذلك لأنه قد أصاب الجنة من العذاب ما جعلها صعيدا زلقا لا يثبت فيها قائم، ولعل تخصيص حال الكروم بالذكر دون النخل والزرع إما لأنها العمدة وهما من متمماتها وإما لأن ذكر هلاكها على ما قيل مغن عن ذكر هلاك الباقي لأنها حيث هلكت وهي مسندة بعروشها فهلاك ما عداها بالطريق الأولى وإما لأن الإنفاق في عمارتها أكثر، ثم هذه الجملة تبعد ما روي من أن الله تعالى أرسل عليها نارا فأحرقتها وغار ماؤها إلا أن يراد منها مطلق الخراب، وحينئذ يجوز أن يراد من هِيَ الجنة بجميع ما اشتملت عليه وَيَقُولُ عطف على يُقَلِّبُ وجوز أبو البقاء وغيره أن يكون حالا من الضمير المستتر فيه بتقدير وهو يقول لأن المضارع المثبت لا يقترن بالواو الحالية إلا شذوذا. يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً كأنه تذكر موعظة أخيه وعلم أنه إنما أتى من قبل شركه فتمنى لو لم يكن مشركا فلم يصبه ما أصابه، قيل ويحتمل أن يكون توبة من الشرك وندما عليه فيكون تجديدا للإيمان لأن ندمه على شركه فيما مضى يشعر بأنه آمن في الحال فكأنه قال: آمنت بالله تعالى الآن وليت ذلك كان أولا، لكن لا يخفى أن مجرد الندم على الكفر لا يكون إيمانا وإن كان الندم على المعصية قد يكون توبة إذا عزم على أن لا يعود وكان الندم عليها من حيث كونها معصية كما صرح به في المواقف، وعلى فرض صحة قياسه بها لم يتحقق هنا من الكافر ندم عليه من حيث هو كفر بل بسبب هلاك جنتيه، والآية فيما بعد ظاهرة أيضا في أنه لم يتب عما كفر به وهو إنكار البعث، والقول بأنه إنما لم تقبل توبته عن ذلك لأنها كانت عند مشاهدة البأس والإيمان إذ ذاك غير مقبول غير مقبول إذ غاية ما في الباب أنه إيمان بعد مشاهدة إهلاك ماله وليس في ذلك سلب الاختيار الذي هو مناط التكليف لا سيما إذا كان ذلك الإهلاك للإنذار، نعم إذا قيل إن هذا حكاية لما يقوله الكافر يوم القيامة كما ذهب إليه بعض المفسرين كان وجه عدم القبول ظاهرا إذ لا ينفع تجديد الإيمان هناك بالاتفاق وَلَمْ تَكُنْ لَهُ وقرأ الاخوان ومجاهد وابن وثاب والأعمش وطلحة وأيوب وخلف وأبو عبيد وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير «يكن» بالياء التحتية لأن المرفوع به أعني قوله تعالى فِئَةٌ غير حقيقي التأنيث والفعل مقدم عليه وقد فصل بينهما بالمنصوب، وقد روعي في قوله سبحانه يَنْصُرُونَهُ المعنى فأتى بضمير الجمع. وقرأ ابن أبي عبلة «ولم تكن له فئة تنصره» مراعاة للفظ فقط، والمراد من النصرة لازمها وهو القدرة عليها أي لم تكن له فئة تقدر على نصره إما بدفع الهلاك قبل وقوعه أو برد المهلك بعينه على القول بجواز إعادة المعدوم بعينه أو برد مثله على القول بعدم جواز ذلك مِنْ دُونِ اللَّهِ فإنه سبحانه وتعالى القادر على نصره وحده، وارتكب المجاز لأنه لو أبقى ذلك على ظاهره لاقتضى نصرة الله تعالى إياه لأنه إذا قيل: لا ينصر زيدا أحد دون بكر فهم منه نصرة بكر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 269 له في العرف وليس ذلك بمراد بل المراد ما سمعت، وحاصله لا يقدرون على نصره إلا الله تعالى القدير وَما كانَ في نفسه مُنْتَصِراً ممتنعا بقوته عن انتقام الله تعالى منه هُنالِكَ أي في ذلك المقام وتلك الحال التي وقع فيها الإهلاك الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ أي النصرة له تعالى وحده لا يقدر عليها أحد فالجملة تقرير وتأكيد لقوله تعالى وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ إلخ، أو ينصر فيها أولياءه المؤمنين على الكفرة كما نصر سبحانه بما فعل بالكافر أخاه المؤمن فالولاية بمعنى النصرة على الوجهين إلا أنها على الأول مطلقة أو مقيدة بالمضطر ومن وقع به الهلاك وعلى هذا مقيدة بغير المضطر وهم المؤمنون، ويعضد أن المراد نصرتهم قوله تعالى: هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً أي عاقبة لأوليائه، ووجه ذلك أن الآية ختمت بحال الأولياء فيناسب أن يكون ابتداؤها كذلك. وقرأ الأخوان والأعمش وابن وثاب وشيبة وابن غزوان عن طلحة وخلف وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير «الولاية» بكسر الواو وهي والولاية بالفتح بمعنى واحد عند بعض أهل اللغة كالو كالة والوكالة والوصاية والوصاية، وقال الزمخشري: هي بالفتح النصرة والتولي وبالكسر السلطان والملك أي هنالك السلطان له عز وجل لا يغلب ولا يمتنع منه ولا يعبد غيره كقوله تعالى: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت: 65] فتكون الجملة تنبيها على أن قوله يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ إلخ كان عن اضطرار وجزع عما دهاه ولم يكن عن ندم وتوبة، وحكي عن أبي عمرو والأصمعي أنهما قالا: إن كسر الواو لحن هنا لأن فعالة إنما تجيء فيما كان صنعة ومعنى متقلدا كالكتابة والإمارة والخلافة وليس هنا تولي أمر إنما هي الولاية بالفتح بمعنى الدين بالكسر ولا يعول على ذلك. واستظهر أبو حيان كون هُنالِكَ إشارة إلى الدار الآخرة أي في تلك الدار الولاية لله الحق ويناسب قوله تعالى: هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً ويكون كقوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16] والظاهر على جميع ذلك أن الوقف على مُنْتَصِراً وقوله تعالى: هُنالِكَ إلخ ابتداء كلام، وحينئذ فالولاية مبتدأ ولِلَّهِ الخبر والظرف معمول الاستقرار والجملة مفيدة للحصر لتعريف المسند إليه واقتران الخبر بلام الاختصاص كما قرر في «الحمد لله رب العالمين» وقال أبو البقاء: يجوز أن يكون «هنالك» خبر «الولاية» أو الولاية مرفوعة به و «لله» يتعلق بالظرف أو بالعامل فيه أو بالولاية، ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا منها. وقال بعضهم: إن الظرف متعلق بمنتصرا والإشارة إلى الدار الآخرة، والمراد الإخبار بنفي أن ينتصر في الآخرة بعد نفي أن تكون له فئة تنصره في الدنيا. والزجاج جعله متعلقا بمنتصرا أيضا إلا أنه قال: وما كان منتصرا في تلك الحالة، والْحَقِّ نعت للاسم الجليل. وقرأ الاخوان وحميد والأعمش وابن أبي ليلى وابن مناذر واليزيدي وابن عيسى الأصبهاني الحق بالرفع على أنه صفة الْوَلايَةُ وجوز أبو البقاء أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هي أو هو الحق وأن يكون مبتدأ وهو خبره وقرأ أبي «هنالك الولاية الحق لله» بتقديم الْحَقِّ ورفعه وهو يرجح كون الْحَقِّ نعتا للولاية في القراءة السابقة. وقرأ أبو حيوة وزيد بن علي وعمرو بن عبيد وابن أبي عبلة وأبو السمال ويعقوب عن عصمة عن أبي عمرو «الحق» بالنصب على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة والناصب له عامل مقدر كما في قولك: هذا عبد الله حقا، ويحتمل أنه نعت مقطوع. وقرأ الحسن والأعمش وحمزة وعاصم وخلف «عقبا» بسكون القاف والتنوين، وعن عاصم «عقبى» بألف التأنيث المقصور على وزن رجعى، والجمهور بضم القاف والتنوين والمعنى في الكل ما تقدم. وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي اذكر لهم ما يشبهها في زهرتها ونضارتها وسرعة زوالها لئلا يغتروا بها ولا يضربوا عن الآخرة صفحا بالمرة أو اذكر لهم صفتها العجيبة التي هي في الغرابة كالمثل وبينها لهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 270 كَماءٍ استئناف لبيان المثل أي هي كماء أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ وجوزوا أن يكون مفعولا ثانيا لا ضرب على أنه بمعنى صير. وتعقب بأن الكاف تنبو عنه إلا أن تكون مقحمة. ورد بأنه مما لا وجه لأن المعنى صير المثل هذا اللفظ فالمثل بمعنى الكلام الواقع فيه التمثل. وقال الحوفي: الكاف متعلقة بمحذوف صفة لمصدر محذوف أي ضربا كماء وليس بشيء. فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ أي فاشتبك وخالط بعضه بعضا لكثرته وتكاثفه بسبب كثرة سقي الماء إياه أو المراد فدخل الماء في النبات حتى روي ورف، وكان الظاهر في هذا المعنى فاختلط بنبات الأرض لأن المعروف في عرف اللغة والاستعمال دخول الباء على الكثير الغير الطارئ وإن صدق بحسب الوضع على كل من المتداخلين أنه مختلط ومختلط به إلا أنه اختير ما في النظم الكريم للمبالغة في كثرة الماء حتى كأنه الأصل الكثير ففي الكلام قلب مقبول فَأَصْبَحَ ذلك النبات الملتف إثر بهجته ونضارته هَشِيماً أي يابسا متفتتا، وهو فعيل بمعنى مفعول، وقيل جمع هشيمة وأصبح بمعنى صار فلا يفيد تقييد الخبر بالصباح كما في قوله: أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا وقيل هي على ظاهرها مفيدة لتقييد الخبر بذلك لأن الآفات السماوية أكثر ما تطرق ليلا. وتعقب بأنه ليس في الآية ما يدل على أن اتصافه بكونه هشيما لآفة سماوية بل المراد بيان ما يؤول إليه بعد النضارة من اليبس والتفتت كقوله تعالى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى [الأعلى: 4، 5] تَذْرُوهُ الرِّياحُ أي تفرقه كما قال أبو عبيدة، وقال الأخفش: ترفعه، وقال ابن كيسان: تجيء به وتذهب، وقرأ ابن مسعود «تذريه» من أذرى رباعيا وهو لغة في ذرى وقرأ زيد بن علي والحسن والنخعي والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وابن محيصن وخلف وابن عيسى وابن جرير «تذروه الريح» بالإفراد، وليس المشبه به نفس الماء بل هو الهيئة المنتزعة من الجملة وهي حال النبات المنبت بالماء يكون أخضر مهتزا ثم يصير يابسا تطيره الرياح حتى كأنه لم يكن، وعبر بالفاء في الآية للإشعار بسرعة زواله وصيرورته بتلك الصفة فليست فصيحية، وقيل هي فصيحية والتقدير فزها ومكث مدة فأصبح هشيما وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الأشياء التي من جملتها الإنشاء والإفناء مُقْتَدِراً كامل القدرة. الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا بيان لشأن ما كانوا يفتخرون به من محسنات الحياة الدنيا كما افتخر الأخ الكافر بما افتخر به من ذلك إثر بيان شأن نفسها بما مر من المثل، وتقديم المال على البنين مع كونهم أعز منه عند أكثر الناس لعراقته فيما نيط به من الزينة والإمداد وغير ذلك. وعمومه بالنسبة إلى الإفراد والأوقات فإنه زينة وممد لكل أحد من الآباء والبنين في كل وقت وحين وأما البنون فزينتهم وإمدادهم إنما يكون بالنسبة إلى من بلغ الأبوة ولأن المال مناط لبقاء النفس والبنون لبقاء النوع ولأن الحاجة إليه أمس من الحاجة إليهم ولأنه أقدم منهم في الوجود ولأنه زينة بدونهم من غير عكس فإن من له بنون بلا مال فهو في أضيق حال ونكال كذا في إرشاد العقل السليم، والزينة مصدر وأطلق على ما يتزين به للمبالغة ولذلك أخبر به عن أمرين وإضافتها إلى الحياة الدنيا اختصاصية، وجوز أن تكون على معنى في والمعنى أن ما يفتخرون به من المال والبنين شيء يتزين به في الحياة الدنيا وقد علم شأنها في سرعة الزوال وقرب الاضمحلال فما الظن بما هو من أوصافها التي شأنها أن تزول قبل زوالها. وذكر أن هذا إشارة إلى ما يرد افتخارهم بالمال والبنين كأنه قيل: المال والبنون زينة الحياة الدنيا وكل ما كان زينة الحياة الدنيا فهو سريع الزوال ينتج المال والبنون سريعا الزوال، أما الصغرى فبديهية وأما الكبرى فدليلها يعلم مما مر من بيان شأن نفس الحياة الدنيا ثم يقال: المال والبنون سريعا الزوال وكل ما كان سريع الزوال يقبح بالعاقل أن يفتخر به ينتج المال والبنون يقبح بالعاقل أن يفتخر بهما وكلتا المتقدمين لا خفاء فيها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 271 وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ أخرج سعيد بن منصور وأحمد وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «استكثروا من الباقيات الصالحات قيل وما هي يا رسول الله، قال: التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد ولا حول ولا قوة إلا بالله» وأخرج الطبراني وابن شاهين في الترغيب وابن مردويه عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله هن الباقيات الصالحات وهن يحططن الخطايا كما تحط الشجرة ورقها وهن من. كنوز الجنة، وجاء تفسيرها بما ذكر في غير ذلك من الأخبار عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأخرج وابن المنذر وابن أبي شيبة عن ابن عباس تفسيرهما بما ذكر أيضا لكن بدون الذكر الأخير. وأخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر في رواية أخرى عنه تفسيرها بالصلوات الخمس ، وأخرج ابن مردويه وابن المنذر وابن أبي حاتم في رواية أخرى عنه أيضا تفسيرها بجميع أعمال الحسنات ، وفي معناه ما أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن قتادة أنها كل ما أريد به وجه الله تعالى، وعن الحسن وابن عطاء أنها النيات الصالحة واختار الطبري وغيره ما في الرواية الأخيرة عن ابن عباس ويندرج فيها ما جاء في ما ذكر من الروايات وغيرها. وادعى الخفاجي أن كل ما ذكر في تفسيرها غير العام ذكر على طريق التمثيل، ويبعد ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم وهن الباقيات المفيد للحصر بعد التنصيص على ما لا عموم فيه فتأمل، وأيّا ما كان فالباقيات صفة لمقدر كالكلمات أو الأعمال وإسناد الباقيات إلى ذلك مجاز أي الباقي ثمرتها وثوابها بقرينة ما بعد فهي صفة جرت على غير ما هي له بحسب الأصل أو هناك مقدر مرفوع بالوصف مضاف إلى ضمير الموصوف استتر الضمير المجرور وارتفع بعد حذفه وكذا تدخل أعمال فقراء المؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه دخولا أوليا فإن لهم من كل نوع من أنواع الخيرات الحظ الأوفر، والكلام متضمن للتنويه بشأنهم وحط قدر شانئهم فكأنه قيل ما افتخر به أولئك الكفرة من المال والبنين سريع الزوال لا ينبغي أن يفتخر به وما جاء به أولئك المؤمنون خَيْرٌ من ذلك عِنْدَ رَبِّكَ أي في الآخرة، وهو بيان لما يظهر فيه آثار خيريتها بمنزلة إضافة الزينة إلى الحياة الدنيا لأفضليتها من المال والبنين مع مشاركة الكل في الأصل إذ لا مشاركة لهما في الخيرية في الآخرة، وقيل: معنى عند ربك في حكمه سبحانه وتعالى: ثَواباً جزاء وأجرا، وقيل: نفعا. وَخَيْرٌ أَمَلًا حيث ينال بها صاحبها في الآخرة ما يؤمله بها في الدنيا وأما المال والبنون فليس لصاحبهما ذلك، وتكرير خَيْرٌ للمبالغة، وقيل: لها وللإشعار باختلاف جهتي الخيرية وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ منصوب باذكر مضمرا أي اذكر يوم نقلع الجبال من أماكنها ونسيرها في الجو كالسحاب كما ينبىء عنه قوله تعالى: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ [النمل: 88] ، وقيل: نسير أجزاءها بعد أن يجعلها هباء منبثا والكلام على هذا على حذف مضاف، وجوز أن يكون التسيير مجازا عن الإذهاب والإفناء بذكر السبب وإرادة المسبب أي واذكر يوم نذهب بها وننسفها نسفا فيكون كقوله تعالى: وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا [الواقعة: 5، 6] واعترض كلا الأمرين بأن صيرورة الجبال هباء منبثا وإذهابها بعد تسييرها فقد ذكر بعض المحققين أخذا من الآيات أنه أولا تنفصل الجبال عن الأرض وتسير في الجو ثم تسقط فتصير كثيبا مهيلا ثم هباء منبثا، والظاهر هنا أول أحوال الجبال ولا مقتضى للصرف عن الظاهر، ثم المراد بذكر ذلك تحذير المشركين ما فيه من الدواهي التي هي أعظم من ثالثة الأثافي، وجوز أبو حيان وغيره كون يَوْمَ ظرفا للفعل المضمر عند قوله تعالى: قَدْ جِئْتُمُونا إلخ أي قلنا يوم كذا لقد جئتمونا، وفيه ما ستعلمه إن شاء الله تعالى هناك، وغير واحد كونه معطوفا على ما قبله من قوله تعالى: عِنْدَ رَبِّكَ فهو معمول خَيْرٌ أي الباقيات الصالحات خير عند ربك ويوم القيامة وحينئذ يتعين أن يكون المراد من عند الجزء: 8 ¦ الصفحة: 272 ربك في حكمه تعالى كما قيل به، وقرأ ابن عامر وابن كثير وأبو عمرو والحسن وشبل وقتادة وعيسى والزهري وحميد وطلحة واليزيدي والزبيري عن رجاله عن يعقوب «تسير الجبال» برفع الجبال وبناء تسير بالتاء ثالثة الحروف للمفعول جريا على سنن الكبرياء وإيذانا بالاستغناء عن الإسناد إلى الفاعل لتعينه، وعن الحسن أنه قرأ كذلك إلا أنه جاء بالياء آخر الحروف بدل التاء، وقرأ أبي سيرت الجبال بالماضي المبني للمفعول ورفع الجبال، وقرأ ابن محيصن ومحبوب عن أبي عمرو «تسير الجبال» بالمضارع المفتتح بالتاء المثناة من فوق المبني للفاعل ورفع الجبال وَتَرَى الْأَرْضَ خطاب لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم أو لكل أحد ممن يتأتى منه الرؤية أي وترى جميع جوانب الأرض بارِزَةً بادية ظاهرة أما ظهور ما كان منها تحت الجبال فظاهر، وأما ما عداه فكانت الجبال تحول بينه وبين الناظر قبل ذلك أو تراها بارزة لذهاب جميع ما عليها من الجبال والبحار والعمران والأشجار وإنما اقتصر على زوال الجبال لأنه يعلم منه زوال ذلك بطريق الأولى، وقيل: إسناد البروز إلى الأرض مجاز، والمراد ترى أهل الأرض بارزين من بطنها وهو خلاف الظاهر. وقرأ عيسى «وترى الأرض» ببناء الفعل للمفعول ورفع الأرض وَحَشَرْناهُمْ أي جمعناهم إلى الموقف من كل أوب بعد أن أقمناهم من قبورهم ولم يذكر لظهور إرادته، وعلى ما قيل يكون ذلك مذكورا، وإيثار الماضي بعد «نسير» و «ترى» للدلالة على تحقق الحشر المتفرع على البعث الذي ينكره المنكرون وعليه يدور أمر الجزاء وكذا الكلام فيما عطف عليه منفيا وموجبا، وقال الزمخشري: هو للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير والبروز ليعاينوا تلك الأهوال والعظائم كأنه قيل وحشرناهم قبل ذلك اه. واعترض بأن في بعض الآيات مع الأخبار ما يدل على أن التسيير والبروز عند النفخة الأولى وفساد نظام العالم والحشر وما عطف عليه عند النفخة الثانية فلا ينبغي حمل الآية على معنى وحشرناهم قبل ذلك لئلا تخالف غيرها فليتأمل، ثم لا يخفى أن التعبير بالماضي على الأول مجاز وعلى هذا حقيقة لأن المضي والاستقبال بالنظر إلى الحكم المقارن له لا بالنسبة لزمان التكلم، والجملة عليه كما في الكشف وغيره تحتمل العطف والحالية من فاعل نُسَيِّرُ. وقال أبو حيان: الأولى جعلها حالا على هذا القول، وأوجبه بعضهم وعلله بأنها لو كانت معطوفة لم يكن مضى بالنسبة إلى التسيير والبروز بل إلى زمان التكلم فيحتاج إلى التأويل الأول، ثم قال: وتحقيقه أن صيغ الأفعال موضوعة لأزمنة التكلم إذا كانت مطلقة فإذا جعلت قيودا لما يدل على زمان كان مضيها وغيره بالنسبة إلى زمانه اه وليس بشيء، والحق عدم الوجوب، وتحقيق ذلك أن الجمل التي ظاهرها التعاطف يجوز فيها التوافق والتخالف في الزمان فإذا كان في الواقع كذلك فلا خفاء فيه وإن لم يكن فلا بد للعدول من وجه، فإن كان أحدهما قيدا للآخر وهو ماض بالنسبة إليه فهو حقيقة ووجهه ما ذكر ولا تكون الجملة معطوفة حينئذ، فإن عطفت وجعل المضي بالنسبة لأحد المتعاطفين فلا مانع منه وهل هو حقيقة أو مجاز محل تردد، والذي يحكم به الإنصاف اختيار قول أبي حيان من أولوية الحالية على ذلك، والقول بأنه لا وجه له لا وجه له، وحينئذ يقدر قد عند الأكثرين أي وقد حشرناهم فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً أي لم نترك، يقال غادره وأغدره إذا تركه ومنه الغدر الذي هو ترك الوفاء، والغدير الذي هو ماء يتركه السيل في الأرض. وقرىء «يغادر» بالياء التحتية على أن الضمير لله تعالى على طريق الالتفات. وقرأ قتادة «تغادر» بالتاء الفوقية على أن الضمير للأرض كما في قوله تعالى: وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ [الانشقاق: 4] وجوز أبو حيان كونه للقدرة، وقرأ أبان بن يزيد عن عاصم كذلك أو بفتح الدال مبنيا للمفعول ورفع «أحد» على النيابة عن الفاعل، وقرأ الضحاك «نغدر» بضم النون وإسكان الغين وكسر الدال عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ أحضروا محل حكمه وقضائه عز وجل فيهم فًّا مصطفين أو مصفوفين. فقد أخرج ابن منده في التوحيد عن معاذ بن جبل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله تعالى ينادي يوم القيامة يا عبادي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 273 أنا الله لا إله إلا أنا أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأسرع الحاسبين أحضروا حجتكم ويسروا جوابا فإنكم مسؤولون محاسبون يا ملائكتي أقيموا عبادي صفوفا على أطراف أنامل أقدامهم للحساب» وفي الحديث الصحيح «يجمع الله تعالى الأولين والآخرين في صعيد واحد صفوفا يسمعهم الداعي وينفذهم البصر» الحديث بطوله، وقيل تقام كل أمة وزمرة صفا. وفي بعض الأخبار أهل الجنة يوم القيامة مائة وعشرون صفا أنتم منها ثمانون، وقيل لا عرض بالمعنى المعروض ولا اصطفاف والكلام خارج مخرج الاستعارة التمثيلية شبهت حالهم في حشرهم بحال جند عرضوا على السلطان ليأمر فيهم بما يأمر، وقيل إن فيه استعارة تبعية بتشبيه حشرهم بعرض هؤلاء، ومعنى فًّا سواء كان داخلا في الاستعارة التمثيلية أو كان ترشيحا غير متفرقين ولا مختلطين فلا تعرض فيه لوحدة الصف وتعدده. ولا حاجة إلى أن يقال: إنه مفرد أريد به الجمع لكونه مصدرا أي صفوفا أو يقال: إن الأصل صفاصفا، على أن هذا مع بعده يرد عليه أن ما يدل على التعدد بالتكرار كبابا بابا وصفا صفا لا يجوز حذفه، هذا والحق أن إنكار الاصطفاف مما لا وجه له بعد إمكانه وصحة الإخبار فيه، ولعل ما فسرنا به الآية مما لا غبار عليه، وفي الالتفات إلى الغيبة وبناء الفعل للمفعول مع التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم من تربية المهابة والجري على سنن الكبرياء وإظهار اللطف به عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى، وقيل في قوله تعالى: لى رَبِّكَ إشارة إلى غضب الله تعالى عليهم وطردهم عن ديوان القبول بعدم جريهم على معرفتهم لربوبيته عز وجل قَدْ جِئْتُمُونا خطاب للكفار المنكرين للبعث على إضمار القول، ويكون حالا مما تقدم فيقدر قائلين أو نقول إن كان حالا من فاعل (حشرنا) أو قائلا أو يقول إن كان من بِّكَ أو مقولا لهم أو يقال لهم إن كان من ضعيررِضُوا. وقد يقدر فعلا كقلنا أو نقول لا محل لجملته، وجوز تعلق «يوم» السابق به على هذا التقدير دون تقدير الحالية. قال الخفاجي: لأنه يصير كغلام زيد ضاربا على أن ضاربا حال من زيد ناصبا لغلام ومثله تعقيد غير جائز لا لأن ذلك قبل الحشر وهذا بعده ولا لأن معمول الحال لا يتقدم عليها كما يتوهم، ثم قال: وأما ما أورد على تعلقه بالفعل في التقدير الثاني من أنه يلزم منه أن هذا القول هو المقصود أصالة فتخيل أغنى عن الرد أنه لا محذور فيه اه، والحق أن تعلقه بالقول المقدر حالا أو غيره مما لا يرتضيه الطبع السليم والذهن المستقيم، ولا يكاد يجوز مثل هذا التركيب على تقدير الحالية وإن قلنا بجواز تقدم معمول الحال عليها فتدبر، والمراد من مجيئهم إليه تعالى مجيئهم إلى حيث لا حكم لأحد غيره سبحانه من المعبودات الباطلة التي تزعم فيها عبدتها النفع والضر وغير ذلك نظير ما قالوا في قوله تعالى «ملك يوم الدين» ما خَلَقْناكُمْ نعت لمصدر محذوف أي مجيئا كائنا كمجيئكم عند خلقنا لكم وَّلَ مَرَّةٍ أو حال من الضمير المرفوع في ئْتُمُونا أي كائنين كما خلقناكم أول مرة حفاة عراة غرلا أو ما معكم شيء مما تفتخرون به من الأموال والأنصار لقوله تعالى: لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام: 94] . وجوز أن يكون المراد أحياء كخلقتكم الأولى، والكلام عليه إعرابا كما تقدم لكن يخالفه في وجه التشبيه وذاك كما قيل أوفق بما قبل وهذا بقوله تعالى: لْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً وهو إضراب وانتقال من كلام إلى كلام كلاهما للتوبيخ والتقريع، والموعد اسم زمان وأن مخففة من المثقلة فصل بينها وبين خبرها بحرف النفي لكونه جملة فعلية فعلها متصرف غير دعاء وفي ذلك يجب الفصل بأحد الفواصل المعلومة إلا فيما شذ، والجعل إما بمعنى التصيير فالجار والمجرور مفعوله الثاني ووْعِداً مفعوله الأول، وإما بمعنى الخلق والإيجاد فالجار والمجرور في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 274 موضع الحال من مفعوله وهووْعِداً أي زعمتم في الدنيا أنه لن نجعل لكم وقتا ينجز فيه ما وعدنا من البعث وما يتبعه. وَوُضِعَ الْكِتابُ عطف على رِضُوا داخل تحت الأمور الهائلة التي أريد بذكر وقتها تحذير المشركين كما مر، وإيراد صيغة الماضي للدلالة على التقرر والمراد من الكتاب كتب الأعمال فأل فيه للاستغراق، ومن وضعه إما جعل كل كتاب في يد صاحبه اليمين أو الشمال وإما جعل كل في الميزان، وجوز أن يكون المراد جعل الملائكة تلك الكتب في البين ليحاسبوا المكلفين بما فيها، وعلى هذا يجوز أن يكون المراد بالكتاب كتابا واحدا بأن تجمع الملائكة عليهم السلام صحائف الأعمال كلها في كتاب وتضعه في البين للمحاسبة ولكن لم أجد في ذلك أثرا، نعم قال اللقاني في شرح قوله في جوهرة التوحيد: وواجب أخذ العباد الصحفا ... كما من القرآن نصا عرفا جزم الغزالي بما قيل إن صحف العباد ينسخ ما في جميعها في صحيفة واحدة انتهى، والظاهر أن جزم الغزالي وأضرابه بذلك لا يكون إلا عن أثر لأن مثله لا يقال من قبل الرأي كما هو الظاهر، وقيل: وضع الكتاب كناية عن إبراز محاسبة الخلق وسؤالهم فإنه إذ أريد محاسبة العمال جيء بالدفاتر ووضعت بين أيديهم ثم حوسبوا فأطلق الملزوم وأريد لازمه، ولا يخفى أنه لا داعي إلى ذلك عندنا وربما يدعو إليه إنكار وزن الأعمال. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وَوُضِعَ الْكِتابُ ببناء وضع للفاعل وإسناده إلى ضميره تعالى على طريق الالتفات ونصب الكتاب على المفعولية أي ووضع الله الكتاب فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ قاطبة فيدخل فيهم الكفرة المنكرون للبعث دخولا أوليا، والخطاب نظير ما مر مُشْفِقِينَ خائفين مِمَّا فِيهِ أي الكتاب من الجرائم والذنوب لتحققهم ما يترتب عليها من العذاب وَيَقُولُونَ عند وقوفهم على ما في تضاعيفه نقيرا وقطميرا يا وَيْلَتَنا نداء لهلكتهم التي هلكوها من بين الهلكات فإن الويلة كالويل الهلاك ونداؤها على تشبيهها بشخص يطلب إقباله كأنه قيل يا هلاك أقبل فهذا أوانك ففيه استعارة مكنية تخييلية وفيه تقريع لهم وإشارة إلى أنه لا صاحب لهم غير الهلاك وقد طلبوه ليهلكوا ولا يروا العذاب الأليم. وقيل: المراد نداء من بحضرتهم كأنه قيل: يا من بحضرتنا انظروا هلكتنا، وفيه تقدير يفوت به تلك النكتة. مالِ هذَا الْكِتابِ أي أي شيء له؟ والاستفهام مجاز عن التعجب من شأن الكتاب، ولام الجر رسمت في الإمام مفصولة، وزعم الطبرسي أنه لا وجه لذلك، وقال البقاعي: إن في رسمها كذلك إشارة إلى أن المجرمين لشدة الكرب يقفون على بعض الكلمة، وفي لطائف الإشارات وقف على ما أبو عمرو والكسائي ويعقوب والباقون على اللام والأصح الوقف على ما لأنها كلمة مستقلة، وأكثرهم لم يذكر فيها شيئا اه. وأنت تعلم أن الرسم العثماني متبع ولا يقاس عليه ولا يكاد يعرف وجهه وفي حسن الوقف على ما أو اللام توقف عندي. وقوله تعالى: لا يُغادِرُ أي لا يترك صَغِيرَةً أي هنة صغيرة وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها أي إلا عدها وهو كناية عن الإحاطة جملة حالية محققة لما في الجملة الاستفهامية من التعجب أو استئنافية مبنية على سؤال نشأ من التعجب كأنه قيل ما شأن هذا الكتاب حتى يتعجب منه؟ فقيل: لا يُغادِرُ صَغِيرَةً إلخ. وعن ابن جبير تفسير الصغيرة بالمسيس والكبيرة بالزنا، وأخرج ابن أبي الدنيا في ذم الغيبة وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية: الصغيرة التبسم بالاستهزاء بالمؤمنين والكبيرة القهقهة بذلك، وعلى هذا يحمل إطلاق ابن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 275 مردويه في الرواية عنه رضي الله تعالى عنه تفسير الصغيرة بالتبسم والكبيرة بالضحك ويندفع استشكال بعض الفضلاء ذلك ويعلم منه أن الضحك على الناس من الذنوب. وعن عبد الله بن زمعة رضي الله تعالى عنه أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم يخطب ويعظهم في ضحكهم من الريح الخارج بصوت وقال: علام يضحك أحدكم مما يفعل؟ بل ذكر بعض علمائنا أن من الضحك ما يكفر به الضاحك كالضحك على كلمة كفر، وقيده بعضهم بما إذا قدر على أن يملك نفسه وإلا فلا يكفر، وتمام الكلام في ذلك في محله، وكان الظاهر لا يغادر كبيرة ولا صغيرة بناء على ما قالوا من أن الترقي في الإثبات يكون من الأدنى إلى الأعلى وفي النفي على عكس ذلك إذ لا يلزم من فعل الأدنى فعل الأعلى بخلاف النفي لكن قال المحققون: هذا إذا كان على ظاهره فإن كان كناية عن العموم كما هنا وقولك ما أعطاني قليلا ولا كثيرا جاز تقديم الأدنى على الأعلى في النفي كما فصله ابن الأثير في المثل السائر، وفي البحر قدمت الصغيرة اهتماما بها، وروي عن الفضيل أنه كان إذا قرأ الآية قال: ضجوا والله من الصغائر قبل الكبائر، وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال في الآية: اشتكى القوم كما تسمعون الإحصاء ولم يشتك أحد ظلما فإياكم والمحقرات من الذنوب فإنها تجمع على صاحبها حتى تهلكه. وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا في الدنيا من السيئات أو جزاء ذلك حاضِراً مسطورا في كتاب كل منهم أو عتيدا بين أيديهم نقدا غير مؤجل، واختير المعنى الأخير وإن كان فيه ارتكاب خلاف الظاهر لأن الكلام عليه تأسيس محض وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً بما لم يعمله أي منهم أو منهم ومن غيرهم، والمراد أنه عز وجل لا يتجاوز الحد الذي حده في الثواب والعقاب وإن لم يجب ذلك عليه تعالى عقلا، وتحقيقه أنه تعالى وعد بإثابة المطيع والزيادة في ثوابه وبتعذيب العاصي بمقدار جرمه من غير زيادة وأنه قد يغفر له ما سوى الكفر وأنه لا يعذب بغير جناية فهو سبحانه وتعالى لا يجاوز الحد الذي حده ولا يخالف ما جرت عليه سنته الإلهية فلا يعذب أحدا بما لم يعمله ولا ينقص ثواب ما عمله مما أمر به وارتضاه ولا يزيد في عقابه الملائم لعمله الذي نهي عنه ولم يرتضه، وهذا مما أجمع عليه المسلمون وإن اختلفوا في أن امتناع وقوع ما نفي هل هو سمعي أو عقلي فذهب إلى الأول أهل السنة وإلى الثاني المعتزلة، وهل تسمية تلك المجاوزة ظلما حقيقة أم لا؟ قال الخفاجي: الظاهر أنها حقيقة، وعليه لا حاجة إلى أن يقال: المراد بالآية أنه سبحانه لا يفعل بأحد ما يكون ظلما لو صدر من العباد كالتعذيب بلا ذنب فإنه لو صدر من العباد يكون ظلما ولو صدر منه سبحانه لا يكون كذلك لأن جل شأنه مالك الملك متصرف في ملكه كيف يشاء فلا يتصور في شأنه تعالى شأنه ظلم أصلا بوجه من الوجوه عند أهل السنة، وأنت تعلم أن هذا هو المشهور لدى الجمهور لا ما اقتضاه التحقيق فتأمل والله تعالى ولي التوفيق. واستدل بعموم الآية على أن أطفال المشركين لا يعذبون وهو القول المنصور وقد أسلفنا ولله تعالى الحمد ما يؤيده من الأخبار وَإِذْ قُلْنا أي اذكر وقت قولنا لِلْمَلائِكَةِ كلهم كما هو الظاهر، واستثنى بعض الصوفية الملائكة المهيمين، وبعض آخر ملائكة السماء مطلقا وزعم أن المقول له ملائكة الأرض. اسْجُدُوا لِآدَمَ سجود تحية وإكرام أو اسجدوا لجهته على معنى اتخذوه قبلة لسجودكم لله تعالى، وقد مر تمام الكلام في ذلك فَسَجَدُوا كلهم أجمعون امتثالا للأمر إِلَّا إِبْلِيسَ لم يكن من الساجدين بل أبى واستكبر، وقوله تعالى: كانَ مِنَ الْجِنِّ كلام مستأنف سيق مساق التعليل لما يفيده استثناء اللعين من الساجدين، وقيل: حال من المستثنى وقد مقدرة والرابط الضمير وهو اختيار أبي البقاء، والأول ألصق بالقلب فكأنه قيل ما له لم يسجد؟ فقيل كان أصله جنيا، وهذا ظاهر في أنه ليس من الملائكة نعم كان معهم ومعدودا في عدادهم، فقد أخرج ابن جرير عن سعد بن مسعود قال: كانت الملائكة تقاتل الجن فسبي إبليس وكان صغيرا فكان مع الملائكة فتعبد بالسجود معهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 276 وأخرج نحوه عن شهر بن حوشب ، وهو قول كثير من العلماء حتى قال الحسن فيما أخرجه عنه ابن المنذر وابن أبي حاتم: قاتل الله تعالى أقواما زعموا أن إبليس من الملائكة والله تعالى يقول: كانَ مِنَ الْجِنِّ وأخرج عنه ابن جرير وابن الأنباري في كتاب الأضداد وأبو الشيخ في العظمة أنه قال: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين وإنه لأصل الجن كما أن آدم عليه السلام أصل الإنس، وفيه دلالة على أنه لم يكن قبله جن كما لم يكن قبل آدم عليه السلام إنس، وفي القلب من صحته ما فيه. وأقرب منه إلى الصحة ما قاله جماعة من أنه كان قبله جن إلا أنهم هلكوا ولم يكن لهم عقب سواه فالجن والشياطين اليوم كلهم من ذريته فهو في الجن كنوح عليه السلام في الإنس على ما هو المشهور، وقيل: كان من الملائكة والجن قبيلة منهم، وقد أخرج هذا ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس، وفي رواية أخرى عنه رضي الله تعالى عنهما أن إبليس كان من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة وكان خازنا على الجنان وكان له سلطان السماء الدنيا وكان له مجمع البحرين بحر الروم وبحر فارس وسلطان الأرض فرأى أن له بذلك عظمة وشرفا على أهل السماء فوقع في نفسه كبر لم يعلم به أحد إلا الله تعالى قلما أمر بالسجود ظهر كبره الذي في نفسه فلعنه الله تعالى إلى يوم القيامة ، وكان على ما رواه عنه قتادة يقول: لو لم يكن من الملائكة لم يؤمر بالسجود وأجيب عن هذا بما أشرنا إليه آنفا وبغيره مما لا يخفى، وإلى ذلك ذهب ابن جبير، وقد روى عنه جماعة أنه قال: الجن في الآية حي من الملائكة لم يزالوا يصوغون حلي أهل الجنة حتى تقوم الساعة، وفي رواية أخرى عنه أن معنى كانَ مِنَ الْجِنِّ كان من خزنة الجنان وهو تأويل عجيب، ومثله ما أخرجه أبو الشيخ في العظمة عن قتادة أن معنى كونه من الجن أنه أجن عن طاعة الله تعالى أي ستر ومنع، ورواية الكثير عنه أنه قائل بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل: هو من الملائكة ومعنى كانَ مِنَ الْجِنِّ صار منهم بالمسخ، وقيل: معنى ذلك أنه عد منهم لموافقته إياهم في المعصية حيث إنهم كانوا من قبل عاصين فبعثت طائفة من الملائكة عليهم السلام لقتالهم، وأنت تعلم أنه يشق الجواب على من ادعى أن إبليس من الملائكة مع دعواه عصمتهم، ولا بد أن يرتكب خلاف الظاهر في هذه الآية، نعم مسألة عصمتهم عليهم السلام خلافية ولا قاطع في العصمة كما قال العلامة التفتازاني. وقد ذكر القاضي عياض أن طائفة ذهبوا إلى عصمة الرسل منهم والمقربين عليهم السلام ولم يقولوا بعصمة غيرهم، وإذا ذهب مدعي كون إبليس من الملائكة إلى هذا لم يتخلص من الاعتراض إلا بزعم أنه لم يكن من المقربين ولا تساعده الآثار على ذلك، ويبقى عليه أيضا أن الآية تأبى مدعاه، وكذا لو ذهب إلى ما نقل عن بعض الصوفية من أن ملائكة الأرض لم يكونوا معصومين وكان إبليس عليه اللعنة منهم فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أي فخرج عن طاعته سبحانه كما قال الفراء، وأصله من فسق الرطب إذا خرج عن قشره، وسموا الفأرة فاسقة لخروجها من جحرها من البابين ولهذا عدي بعن كما في قول رؤبة: يهوين في نجد وغورا غائرا ... فواسقا عن قصدها جوائرا والظاهر أن الفسق بهذا المعنى مما تكلمت به العرب من قبل، وقال أبو عبيدة: لم نسمع ذلك في شيء من أشعار الجاهلية ولا أحاديثها وإنما تكم به العرب بعد نزول القرآن، ووافقه المبرد على ذلك فقال: الأمر على ما ذكره أبو عبيدة، وهي كلمة فصيحة على ألسنة العرب، وكأن ما ذكره الفراء بيان لحاصل المعنى إذ ليس الأمر بمعنى الطاعة أصلا بل هو إما بمعنى المأمور به وهو السجود وخروجه عنه بمعنى عدم اتصافه به، وإما قوله تعالى: اسْجُدُوا وخروجه عنه مخالفته له، وكون حاصل المعنى ذلك على المعنيين ظاهر، وقيل: عَنْ للسببية كما في قولهم كسوته عن عري وأطعمته عن جوع أي فصار فاسقا كافرا بسبب أمر الله تعالى الملائكة المعدود هو في عدادهم إذ لولا ذلك الأمر ما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 277 تحقق إباء. وإلى ذلك ذهب قطرب إلا أنه قال: أي ففسق عن رده أمر ربه، ويحتمل أن يكون تقدير معنى وأن يكون تقدير إعراب وجوز على تقدير السببية أن يراد بالأمر المشيئة أي ففسق بسبب مشيئة الله تعالى فسقه ولولا ذلك لأطاع. والأظهر ما ذكر أولا، والفاء سببية عطفت ما بعدها على قوله تعالى «كان من الجن» وأفادت تسبب فسقه عن كونه من الجن إذ شأنهم التمرد لكدورة مادتهم وخباثة ذاتهم والذي خبث لا يخرج إلا نكدا وإن كان منهم من أطاع وآمن، وجوز أن يكون العطف على ما يفهم من الاستثناء كأنه قيل: فسجدوا إلا إبليس أبى عن السجود ففسق، وتفيد حينئذ تسبب فسقه عن إبائه وتركه السجود. وقيل: إنها هنا غير عاطفة إذ لا يصح تعليل ترك السجود وإبائه عنه بفسقه عن أمر ربه تعالى. قول الرضي: والفاء التي لغير العطف وهي التي تسمى فاء السببية لا تخلو أيضا من معنى الترتيب وتختص بالجمل وتدخل على ما هو جزاء مع تقدم كلمة الشرط وبدونها انتهى. وليس بشيء لأنه يكفي لصحة ترتب الثاني تسببه كما في فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ [القصص: 15] كما صرح به في التسهيل وهنا كذلك، والتعرض لعنوان الربوبية المنافية للفسق لبيان قبح ما فعله، والمراد من الأمر بذكر وقت القصة ذكر القصة نفسها لما فيها من تشديد النكير على المتكبرين المفتخرين بأنسابهم وأموالهم المستنكفين عن الانتظام في سلك فقراء المؤمنين ببيان أن ذلك من صنع إبليس وأنهم في ذلك تابعون لتسويله كما ينبىء عنه ما يأتي إن شاء الله تعالى، ومنه يعلم وجه الربط، وجوز أن يكون وجهه أنه تعالى لما بين حال المغرور بالدنيا والمعرض عنها وكان سبب الاغترار بها حب الشهوات وتسويل الشيطان زهدهم سبحانه أولا بزخارف الدنيا بأنها عرضة الزوال وشيكة الانتقال والباقيات الصالحات خير ثوابا وأحسن أملا من أنفسها وأعلاها ثم نفرهم عن الشيطان بتذكير ما بينهم من العداوة القديمة، واختار أبو حيان في وجهه أنه سبحانه لما ذكر يوم القيامة والحشر وذكر خوف المجرمين مما سطر في كتبهم وكان إبليس اللعين هو الذي حملهم على المعاصي واتخاذ الشركاء ناسب ذكر إبليس والتنفير عنه تبعيدا عن المعاصي وعن امتثال ما يوسوس به ويدعو إليه. وأيّا ما كان فلا يعد ذكر هذه القصة هنا مع ذكرها قبل تكرارا لأن ذكرها هنا لفائدة غير الفائدة التي ذكرت لها فيما قبل وهكذا ذكرها في كل موضع ذكرت فيه من الكتاب الجليل. ومثل هذا يقال في كل ما هو تكرار بحسب الظاهر فيه. ولا يخفى أن أكثر المكررات ظاهرا مختلفة الأساليب متفاوتة الألفاظ والعبارات وفي ذلك من الأسرار الإلهية ما فيه فلا يستزلنك الشيطان. أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي الهمزة للإنكار والتعجيب والفاء للتعقيب، والمراد إما إنكار أن يعقب اتخاذه وذريته أولياء العلم بصدور ما صدر منه مع التعجب من ذلك، وإما تعقيب إنكار الاتخاذ المذكور والتعجيب منه إعلام الله تعالى بقبح صنيع اللعين فتأمل، والظاهر أن المراد من الذرية الأولاد فتكون الآية دالة على أن له أولادا وبذلك قال جماعة، وقد روي عن ابن زيد أن الله تعالى قال لإبليس: إني لا أخلق لآدم ذرية إلا ذرأت لك مثلها فليس يولد لآدم ولد إلا ولد معه شيطان يقرن به ، وعن قتادة أنه قال: إنه ينكح وينسل كما ينسل بنو آدم. وذكر في البحر أن من القائلين بذلك أيضا الضحاك والأعمش والشعبي. ونقل عن الشعبي أنه قال: لا تكون ذرية إلا من زوجة فيكون قائلا بالزوجة، والذي في الدر المنثور برواية ابن المنذر عنه أنه سئل عن إبليس هل له زوجة؟ فقال: إن ذلك لعرس ما سمعت به، وأخرج ابن أبي الدنيا في المكائد وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال: ولد إبليس خمسة ثبر وهو صاحب المصائب والأعور وداسم لا أدري ما يعملان ومسوط وهو صاحب الصخب وزلبنور وهو الذي يفرق بين الناس ويبصر الرجل عيوب أهله. وفي رواية أخرى عنه أن الأعور صاحب الزنا ومسوط صاحب أخبار الكذب يلقيها على أفواه الناس ولا يجدون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 278 لها أصلا وراسم صاحب البيوت إذا دخل الرجل بيته ولم يسم دخل معه وإذا أكل ولم يسم أكل معه وزلبنور صاحب الأسواق وكان هؤلاء الخمسة من خمس بيضات باضها اللعين، وقيل إنه عليه اللعنة يدخل ذنبه في دبره فيبيض فتنفلق البيضة عن جماعة من الشياطين. وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان أن جميع ذريته من خمس بيضات باضها قال: وبلغني أنه يجتمع على مؤمن واحد أكثر من ربيعة ومضر والله تعالى أعلم بصحة هذه الأخبار، وقال بعضهم: لا ولد له، والمراد من الذرية الأتباع من الشياطين، وعبر عنهم بذلك مجازا تشبيها لهم بالأولاد، وقيل ولعله الحق إن له أولادا وأتباعا، ويجوز أن يراد من الذرية مجموعها معا على التغليب أو الجمع بين الحقيقة والمجاز عند من يراه أو عموم المجاز. وقد جاء في بعض الأخبار أن ممن ينسب إليه بالولاد من آمن بنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ونبينا صلّى الله عليه وسلّم وهو هامة رضي الله تعالى عنه وسبحان من يخرج الحي من الميت، ولا يلزمنا أن نعلم كيفية ولادته فكثير من الأشياء مجهول الكيفية عندنا ونقول به فليكن من هذا القبيل إذا صح الخبر فيه. واستدل ما في ملكيته بظاهر الآية حيث أفادت أنه له ذرية والملائكة ليس لهم ذلك. ولمدعيها أن يقول: بعد تسليم حمل الذرية على الأولاد. إنه بعد أن عصى مسخ وخرج عن الملكية فصار له أولاد ولم تفد الآية أن له أولادا قبل العصيان والاستدلال بها لا يتم إلا بذلك، وقوله تعالى: مِنْ دُونِي في موضع الحال أي أفتتخذونهم أولياء مجاوزين عني إليهم وتستبدلونهم بي فتطيعونهم بدل طاعتي وَهُمْ أي والحال أن إبليس وذريته لَكُمْ عَدُوٌّ أي أعداء كما في قوله تعالى: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ [الشعراء: 77] وقوله تعالى: هُمُ الْعَدُوُّ [المنافقون: 4] وإنما فعل به ذلك تشبيها بالمصادر نحو القبول والولوع، وتقييد الاتخاذ بالجملة الحالية لتأكيد الإنكار وتشديده فإن مضمونها مانع من وقوع الاتخاذ ومناف له قطعا: ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدوا له ما من صداقته بد بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ الواضعين للشيء في غير موضعه بَدَلًا أي من الله سبحانه، وهو نصب على التمييز وفاعل بِئْسَ ضمير مستتر يفسره هو والمخصوص بالذم محذوف أي بئس البدل من الله تعالى للظالمين إبليس وذريته، وفي الالتفات إلى الغيبة مع وضع الظالمين موضع ضمير المخاطبين من الإيذان بكمال السخط والإشارة إلى أن ما فعلوه ظلم قبيح ما لا يخفى. ما أَشْهَدْتُهُمْ استئناف مسوق لبيان عدم استحقاق إبليس وذريته للاتخاذ المذكور في أنفسهم بعد بيان الصوارف عن ذلك من خباثة الأصل والفسق والعداوة أي ما أحضرت إبليس وذريته. خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ حيث خلقتهما قبل خلقهم وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ أي ولا أشهدت بعضهم خلق بعض كقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: 29] فكلا ضميري الجمع المنصوب والمجرور عائد على إبليس وذريته وهم المراد بالمضلين في قوله تعالى: وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً وإنما وضع ذلك موضع ضميرهم ذما لهم وتسجيلا عليهم بالإضلال وتأكيدا لما سبق من إنكار اتخاذهم أولياء، والعضد في الأصل ما بين المرفق إلى الكتف ويستعار للمعين كاليد وهو المراد هنا ولكونه نكرة في سياق النفي عم، وفسر بالجمع والإفراد لرؤوس الآي، وقيل إنما لم يجمع لأن الجميع في حكم الواحد في عدم الصلاحية للاعتضاد أي وما كنت متخذهم أعوانا في شأن الخلق أو في شأن من شؤوني حتى يتوهم شركتهم في التولي فضلا عن الاستبدال الذي لزم فعلهم بناء على الشركة في بعض أحكام الربوبية، وإرجاع ضمير أَنْفُسِهِمْ إلى إبليس وذريته قد قال به كل من ذهب إلى إرجاع ضمير الجزء: 8 ¦ الصفحة: 279 أَشْهَدْتُهُمْ إليهم، وعلل ذلك العلامة شيخ الإسلام بقوله حذرا من تفكيك الضميرين ومحافظة على ظاهر لفظ الأنفس ثم قال: ولك أن ترجع الضمير الثاني إلى الظالمين ويلتزم التفكيك بناء على عود المعنى إليه فإن نفي إشهاد الشياطين الذين يتولونهم هو الذي يدور عليه إنكار اتخاذهم أولياء بناء على أن أدنى ما يصحح التولي حضور الولي خلق المتولي وحيث لا حصول لا مصحح للتولي قطعا، وأما إشهاد بعض الشياطين خلق بعض منهم فليس من مداراته الإنكار المذكور في شيء على أن إشهاد بعضهم خلق بعض إن كان مصححا لتولي الشاهد بناء على دلالته على كماله باعتبار أن له مدخلا في خلق المشهود في الجملة فهو مخل بتولي المشهود بناء على قصوره عمن شهد خلقه فلا يكون نفي الإشهاد المذكور متمحضا في نفي الكمال المصحح للتولي عن الكل وهو المناط للإنكار المذكور. وفي الآية تهكم بالكفار وإيذان بكمال ركاكة عقولهم وسخافة آرائهم حيث لا يفهمون هذا الأمر الجلي الذي لا يكاد يشتبه على البله والصبيان فيحتاجون إلى التصريح به، وإيثار نفي الإشهاد على نفي شهودهم ونفي اتخاذهم أعوانا على نفي كونهم كذلك للإشعار بأنهم مقهورون تحت قدرته تعالى تابعون لمشيئته سبحانه وإرادته عز وجل بمعزل من استحقاق الشهود والمعونة من تلقاء أنفسهم من غير إحضار واتخاذ وإنما قصارى ما يتوهم فيهم أن يبلغوا ذلك المبلغ بأمر الله جل جلاله ولم يكد ذلك يكون اه. وهو كلام يلوح عليه مخايل التحقيق لكن قيل عليه يجوز أن يراد من السموات والأرض ما يشمل أهلها وكثيرا ما يراد منهما ذلك فيدخل فيه الكفار فتفيد الآية نفي إشهاد الشياطين خلقهم الذي من مداراته الإنكار المذكور من غير حاجة إلى التزام التفكيك الذي هو خلاف المتبادر، وظاهر كلامه وكذا كلام كثير حمل الإشهاد المنفي على حقيقته. وجوز أن يراد به المشاورة مجازا وهو الذي يقتضيه ظاهر ما في البحر ولا مانع على هذا أن يراد من السموات والأرض ما يشمل أهلهما فكأنه قيل ما شاورتهم في خلق أحد لا الكفار ولا غيرهم فما بال هؤلاء الكفار يتولونهم وأدنى ما يصحح التولي كون الولي ممن يشاور في أمر المتولي أو أمر غيره ويكون نفي اتخاذهم أعوانا مطلقا في شيء من الأشياء بعد نفي مشاورتهم في الخلق ليؤدي الكلام ظاهرا عموم نفي مدخليتهم بوجه من الوجوه رأيا وإيجادا وغير ذلك في شيء من الأشياء، ولعل الآية حينئذ نظير قوله تعالى: لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها من وجه، وقيل قد يراد من نفي الإشهاد في جانب المعطوف نفي المشاورة ومنه نفي أن يكونوا خلقوا حسب مشيئتهم ومنه نفي أن يكونوا خلقوا كاملين فإنه يقال خلق كما شاء بمعنى خلق كاملا قال الشاعر: خلقت مبرأ من كل عيب ... كأنك قد خلقت كما تشاء وعلى هذا يكون في الخلق من أشهد خلق نفسه بمعنى أنه خلق كاملا، ولا يخفى ما فيه، وقد يكتفى بدلالة ذلك على أن نفي الكمال بأقل من هذه المئونة فافهم. وزعم أن الكاملين شهدوا حقيقة خلق أنفسهم بمعنى أنهم رأوا وهم أعيان ثابتة خلقهم أي إفاضة الوجود الخارجي الذي لا يتصف به المعدوم عليهم لا أرى أن كاملا يقدم عليه أو يصغي إليه، وقال الإمام بعد حكاية القول برجوع الضميرين إلى الشياطين: الأقرب عندي عودهما على الكفار الذين قالوا للرسول صلّى الله عليه وسلّم إن لم تطرد عن مجلسك هؤلاء الفقراء لم نؤمن بك فكأنه تعالى قال: إن هؤلاء الذين أتوا بهذا الاقتراح الفاسد والتعنت الباطل ما كانوا شركائي في تدبير العالم بدليل أني ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم ولا اعتضدت بهم في تدبير الدنيا والآخرة بل هم كسائر الخلق فلم أقدموا على هذا الاقتراح الفاسد؟، ونظيره أن من اقترح عليك اقتراحات عظيمة فإنك تقول له لست بسلطان البلد حتى نقبل منك هذه الاقتراحات الهائلة فلم تقدم عليها، والذي يؤكد هذا أن الضمير يجب عوده على أقرب المذكورات وهو في الآية- أولئك الكفار- لأنهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 280 المراد بالظالمين في قوله تعالى: بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا انتهى. وقيل المعنى على تقدير عود الضميرين على أولئك الكفرة إن هؤلاء الظالمين جاهلون بما جرى به القلم في الأزل من أحوال السعادة وضدها لأنهم لم يكونوا شاهدين خلق العالم فكيف يمكنهم أن يحكموا بحسن حالهم عند الله تعالى وبشرفهم ورفعتهم عند الخلق وبأضداد هذه الأحوال للفقراء، وقيل المعنى عليه ما أشهدتهم خلق ذلك وما أطلعتهم على أسرار التكوين وما خصصتهم بخصائص لا يحويها غيرهم حتى يكونوا قدوة للناس فيؤمنوا بإيمانهم كما يزعمون فلا تلتفت إلى قولهم طمعا في نصرتهم للدين فإنه لا ينبغي لي أن أعتضد لديني بالمضلين، ويعضده قراءة أبي جعفر والجحدري والحسن وشيبة وَما كُنْتُ بفتح التاء خطابا له صلّى الله عليه وسلّم، والمعنى ما صح لك الاعتضاد بهم، ولعل وصف أولئك الظالمين بالإضلال لما أن قصدهم بطرد الفقراء تنفير الناس عنه صلّى الله عليه وسلّم وهو إضلال ظاهر وقيل كل ضال مضل لأن الإضلال إما بلسان القال أو بلسان الحال والثاني لا يخلو عنه ضال، وقيل الضميران للملائكة، والمعنى ما أشهدتهم ذلك ولا استعنت بهم في شيء بل خلقتهم ليعبدوني فكيف يعبدون، ويرده وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً إلا أن يقال: هو نفي لاتخاذ الشياطين أعوانا فيستفاد من الجملتين نفي صحة عبادة الفريقين، وقال ابن عطية: الضميران عائدان على الكفار وعلى الناس بالجملة فتتضمن الآية الرد على طوائف من المنجمين وأهل الطبائع والأطباء ومن سواهم ممن يخوض خوضهم، وإلى هذا ذهب عبد الحق الصقلي وذكره بعض الأصوليين انتهى. ويقال عليه في الجملة الأخيرة نحو ما قيل فيها آنفا. واستدل بها على أنه لا ينبغي الاستعانة بالكافر وهو في أمور الدين كجهاد الكفار وقتال أهل البغي مما ذهب إليه بعض الأئمة ولبعضهم في ذلك تفصيل، وأما الاستعانة بهم في أمور الدنيا فالذي يظهر أنه لا بأس بها سواء كانت في أمر ممتهن كنزح الكنائف أو في غيره كعمل المنابر والمحاريب والخياطة ونحوها، ولعل أفرض اليهودي أو الكلب قد مات في كلام الفاروق رضي الله تعالى عنه لعد ما استخدم فيه من الأمور الدينية أو هو مبني على اختيار تفصيل في الأمور الدنيوية أيضا. وقد حكى الشيعة أن عليا كرم الله تعالى وجهه قال حين صمم على عزل معاوية وأشار عليه ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بإبقائه على عمله إلى أن يستفحل أمر الخلافة: يمنعني من ذلك قوله تعالى: وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً فلا أتخذ معاوية عضدا أبدا، وهو كذب لا يعتقده إلا ضال مضل. وقرأ أبو جعفر وشيبة والسختياني وعون العقيلي وابن مقسم «ما أشهدناهم» بنون العظمة: وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه «متخذا المضلين» على اعمال اسم الفاعل وقرأ الحسن وعكرمة «عضدا» بسكون الضاد ونقل حركتها إلى العين وقرأ عيسى «عضدا» بسكون الضاد للتخفيف كما قالوا في رجل وسبع رجل وسبع بالسكون وهي لغة عن تميم، وعنه أيضا أنه قرأ بفتحتين. وقرأ شيبة وأبو عمرو في رواية هارون وخارجة والخفاف وأبي زيد «عضدا» بضمتين، وروي ذلك عن الحسن أيضا، وكذا روي عنه أيضا أنه قرأ بفتحتين، وهو على هذا إما لغة في العضد كما في البحر ولم يذكره في القاموس وإما جمع عاضد كخدم جمع خادم من عضده بمعنى قواه وأعانه فحينئذ لا استعارة. وقرأ الضحاك «عضدا» بكسر العين وفتح الضاد ولم نجد ذلك من لغاته، نعم في القاموس عد عضد ككتف منها وهو عكس هذه القراءة وَيَوْمَ يَقُولُ أي الله تعالى للكفار توبيخا وتعجيزا بواسطة أو بدونها. وقرأ الأعمش وطلحة ويحيى وابن أبي ليلى وحمزة وابن مقسم «نقول» بنون العظمة، والكلام على معنى اذكر أيضا أي واذكر يوم يقول نادُوا للشفاعة لكم شُرَكائِيَ الَّذِينَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 281 زَعَمْتُمْ أي زعمتموهم شفعاء، والإضافة باعتبار ما كانوا يزعمون أيضا فإنهم كانوا يزعمون أنهم شركاء كما يزعمون أنهم شفعاء، وقد جوز غير واحد هنا أن يكون الكلام بتقدير زعمتموهم شركاء، والمراد بهم إبليس وذريته، وجعلهم بدلا فيما تقدم مبني على ما لزم من فعل عبدتهم المطيعين لهم فيما وسوسوا به أو كل ما عبد من دون الله تعالى. وقرأ ابن كثير «شركاي» مقصورا مضافا إلى الياء فَدَعَوْهُمْ أي نادوهم للإغاثة، وفيه بيان بكمال اعتنائهم بإغاثتهم على طريق الشفاعة إذ معلوم أن لا طريق إلى المدافعة فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ فلم يغيثوهم إذ لا إمكان لذلك قيل وفي إيراده مع ظهوره تهكم بهم وإيذان بأنهم في الحماقة بحيث لا يفهمونه إلا بالتصريح به. وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ أي بين الداعين والمدعوين مَوْبِقاً اسم مكان من وبق وبوقا كوثب وثوبا أو وبق وبقا كفرح فرحا إذا هلك أي مهلكا يشتركون فيه وهو النار، وجاء عن ابن عمر وأنس ومجاهد أنه واد في جهنم يجري بدم وصديد، وعن عكرمة أنه نهر في النار يسيل نارا على حافتيه حيات أمثال البغال الدهم فإذا ثارت إليهم لتأخذهم استغاثوا بالاقتحام في النار منها، وتفسير الموبق بالمهلك مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعن مجاهد وغيرهما، وعن الحسن تفسيره بالعداوة فهو مصدر أطلق على سبب الهلاك وهو العداوة كما أطلق التلف على البغض المؤدي إليه في قول عمر رضي الله تعالى عنه: لا يكن حبك كلفا ولا بغضك تلفا. وعن الربيع بن أنس تفسيره بالمحبس، ومعنى كون الموبق على سائر تفاسيره بينهم شموله لهم وكونهم مشتركين فيه كما يقال جعلت المال بين زيد وعمرو فكأنه ضمن جَعَلْنا معنى قسمنا وحينئذ لا يمكن إدخال عيسى وعزير والملائكة عليهم السلام ونحوهم في الشركاء على القول الثاني. وقال بعضهم: معنى كون الموبق أي المهلك أو المحبس بينهم أنه حاجز واقع في البين، وجعل ذلك بينهم حسما لأطماع الكفرة في أن يصل إليهم ممن دعوه للشفاعة. وجاء عن بعض من فسره بالوادي أنه يفرق الله تعالى به بين أهل الهدى وأهل الضلالة، وعلى هذا لا مانع من شمول المعنى الثاني للشركاء لأولئك الأجلة. وقال الثعالبي في فقه اللغة: الموبق بمعنى البرزخ البعيد على أن وبق بمعنى هلك أيضا أي جعلنا بينهم أمدا بعيدا يهلك فيه الأشواط لفرط بعده، وعليه أيضا يجوز الشمول المذكور لأن أولئك الكرام عليهم السلام في أعلى الجنان وهؤلاء اللئام في قعر النيران، ولا يخفى على من له أدنى تأمل الحال فيما إذا أريد بالموبق العداوة. وبَيْنَهُمْ على جميع ما ذكر ظرف وهو مفعول ثان لجعل إن جعل بمعنى صير ومَوْبِقاً مفعوله الأول، وإن جعل بمعنى خلق كان الظرف متعلقا به أو بمحذوف وقع صفة لمفعوله قدم عليه لرعاية الفواصل فتحول حالا. وقال الفراء والسيرافي: البين هنا بمعنى الوصل فإنه يكون بمعناه كما يكون بمعنى الفراق وهو مفعول أول لجعلنا ومَوْبِقاً بمعنى هلاكا مفعوله الثاني، والمعنى جعلنا تواصلهم في الدنيا هلاكا يوم القيامة. وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ وضع المظهر في مقام المضمر تصريحا بإجرامهم وذما لهم بذلك. والرؤية بصرية، وجاء عن أبي سعيد الخدري كما أخرجه عنه أحمد وابن جرير والحاكم وصححه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن الكافر ليرى جهنم من مسير أربعين سنة فَظَنُّوا أي علموا كما أخرجه عبد الرزاق، وجماعة عن قتادة، وهو الظاهر من حالهم بعد قول الله تعالى ذلك واستغاثتهم بشركائهم وعدم استجابتهم لهم وجعل الموبق بينهم. وقيل الظن على ظاهره وهم لم يتيقنوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها أي مخالطوها واقعون فيها لعدم يأسهم من رحمة الله تعالى قبل دخولهم فيها، وقيل إنهم لما رأوها من بعيد كما سمعت في الحديث ظنوا أنها تخطفهم في الحال فإن اسم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 282 الفاعل موضوع للحال فالمتيقن أصل الدخول والمظنون الدخول حالا وفي مصحف عبد الله «ملاقوها» وكذلك قرأ الأعمش وابن غزوان عن طلحة، واختير جعلها تفسيرا لمخالفتها سواد المصحف، وعن علقمة أنه قرأ «ملافّوها» بالفاء مشددة من لف الشيء وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً أي مكانا ينصرفون إليها. قال أبو كبير الهذلي: أزهير هل عن شيبة بن مصرف ... أم لا خلود لباذل متكلف فهو اسم مكان، وجوز أن يكون اسم زمان، وكذا جوز أبو البقاء وتبعه غيره أن يكون مصدرا أي انصرافا، وفي الدر المصون أنه سهو فإنه جعل مفعل بكسر العين مصدرا من صحيح مضارعه يفعل بالكسر وقد نصوا على أن مصدره مفتوح العين لا غير واسم زمانه ومكان مكسورها، نعم إن القول بأنه مصدر مقبول في قراءة زيد بن على رضي الله تعالى عنهما «مصرفا» بفتح الراء وَلَقَدْ صَرَّفْنا كررنا وأوردنا على وجوه كثيرة من النظم فِي هذَا الْقُرْآنِ الجليل الشأن لِلنَّاسِ لمصلحتهم ومنفعتهم مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي كل مثل على أن- من- سيف خطيب على رأي الأخفش والمجرور مفعول صَرَّفْنا أو مثلا من كل مثل على أن من أصلية والمفعول موصوف الجار والمجرور المحذوف، وقيل المفعول مضمون مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي بعض كل جنس مثل، وأيّا ما كان فالمراد من المثل إما معناه المشهور أو الصفة الغريبة التي هي في الحسن واستجلاب النفس كالمثل، والمراد أنه تعالى نوع ضرب الأمثال وذكر الصفات الغريبة وذكر من كل جنس محتاج إليه داع إلى الإيمان نافع لهم مثلا لا أنه سبحانه ذكر جميع أفراد الأمثال، وكأن في الآية حذفا أو هي على معنى ولقد فعلنا ذلك ليقبلوا فلم يفعلوا. وَكانَ الْإِنْسانُ بحسب جبلته أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا أي أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدل، وهو كما قال الراغب وغيره المنازعة بمفاوضة القول، والأليق بالمقام أن يراد به هنا الخصومة بالباطل والمماراة وهو الأكثر في الاستعمال. وذكر غير واحد أنه مأخوذ من الجدل وهو الفتل والمجادلة الملاواة لأن كلا من المتجادلين يلتوي على صاحبه، وانتصابه على التمييز، والمعنى أن جدل الإنسان أكثر من جدل كل مجادل وعلل بسعة مضطربه فإنه بين أوج الملكية وحضيض البهيمية فليس له في جانبي التصاعد والتسفل مقام معلوم. والظاهر أنه ليس المراد إنسانا معينا، وقيل المراد به النضر بن الحارث، وقيل ابن الزبعرى، وقال ابن السائب: أبي بن خلف وكان جداله في البعث حين أتي بعظم قد رم فقال: أيقدر الله تعالى على إعادة هذا وفته بيده؟ والأول أولى، ويؤيده ما أخرجه الشيخان وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي كرم الله تعالى وجهه «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم طرقه وفاطمة ليلا فقال: ألا تصليان فقلت يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله تعالى إن شاء أن يبعثنا بعثنا فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع إلي شيئا ثم سمعته يضرب فخذه ويقول وكان الإنسان أكثر شيء جدلا فإنه ظاهر في حمل الإنسان على العموم، ولا شبهة في صحة الحديث إلا أن فيه إشكالا يعرف بالتأمل، ولا يدفعه ما ذكره النووي حيث قال: المختار في معناه أنه صلّى الله عليه وسلّم تعجب من سرعة جوابه وعدم موافقته له على الاعتذار بهذا ولهذا ضرب فخذه، وقيل قال صلّى الله عليه وسلّم ذلك تسليما لعذرهما وإنه لا عتب اه فتأمل وَما مَنَعَ النَّاسَ قال ابن عطية وغيره: المراد بهم كفار قريش الذين حكيت أباطيلهم، وما نافية. وزعم بعضهم وهو من الغرابة بمكان أنها استفهامية أي أي شيء منعهم أَنْ يُؤْمِنُوا أي من إيمانهم بالله تعالى وترك ما هم فيه من الإشراك إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى أي القرآن العظيم الهادي إلى الإيمان بما فيه من فنون المعاني الموجبة له أو الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وإطلاق الهدى على كل للمبالغة وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ بالتوبة عما فرط منهم من أنواع الذنوب التي من جملتها مجادلتهم الحق بالباطل، وفائدة ذكر هذا بعد الإيمان التعميم على ما قيل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 283 واستدل به من زعم أن الإيمان إذا لم ينضم إليه الاستغفار لا يجب ما قبله وهو خلاف ما اقتضته الظواهر. وقال بعضهم: لا شك أن الإيمان مع الاستغفار أكمل من الإيمان وحده فذكر معه لتفيد الآية ما منعهم من الاتصاف بأكمل ما يراد منهم، ولا يخفى أنه ليس بشيء، وقيل ذكر الاستغفار بعد الإيمان لتأكيد أن المراد منه الإيمان الذي لا يشوبه نفاق فكأنه قيل ما منعهم أن يؤمنوا إيمانا حقيقيا إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ وهم من أهلك من الأمم السالفة، وإضافة السنة إليهم قيل لكونها جارية عليهم وهي في الحقيقة سنة الله تعالى فيهم، والمراد بها الإهلاك بعذاب الاستئصال، وإذا فسرت السنة بالهلاك لم تحتج لما ذكر، وأن وما بعدها في تأويل المصدر وهو فاعل مَنَعَ والكلام بتقدير مضاف أي ما منعهم من ذلك إلا طلب الهلاك في الدنيا قاله الزجاج، وجوز صاحب الفينان تقدير انتظار أي ما منعهم إلا انتظار الهلاك، وقدر الواحدي تقدير أي ما منعهم إلا تقدير الله تعالى إتيان الهلاك عليهم، وقال: إن الآية فيمن قتل ببدر وأحد من المشركين، ويأباه بحسب الظاهر كون السورة مكية إلا ما استثني، والداعي لتقدير المضاف أنه لو كان المانع من إيمانهم واستغفارهم نفس إتيان الهلاك كانوا معذورين وأن عذاب الآخرة المعد للكفار المراد من قوله تعالى: أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا منتظر قطعا، يميل لأن زمان إتيان العذاب متأخر عن الزمان الذي اعتبر لإيمانهم واستغفارهم فلا يتأتى ما نعيته منهما. واعترض تقدير الطلب بأن طلبهم سنة الأولين لعدم إيمانهم وهو لمنعهم عن الإيمان فلو كان منعهم للطلب لزم الدور. ودفع بأن المراد بالطلب سببه وهو تعنتهم وعنادهم الذي جعلهم طالبين للعذاب بمثل قولهم: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال: 32] إلخ. وتعقب بأن فيهم من ينكر حقية الإسلام كما أن فيهم المعاند، ولا يظهر وجه كون الطلب ناشئا عن إنكار الحقية وكذا لا يظهر كونه ناشئا عن العناد واعترض أيضا بأن عدم الإيمان متقدم على الطلب مستمر فلا يكون الطلب مانعا. وأجيب بأن المتقدم على الطلب هو عدم الإيمان السابق وليس الطلب بمانع منه بل هو مانع مما تحقق بعد وهو كما ترى، وقيل المراد من الطلب الطلب الصوري اللساني لا الحقيقي القلبي فإن من له أدنى عقل لا يطلب الهلاك والعذاب طلبا حقيقيا قلبيا ومن الطلب الصوري منشؤه وما هو دليل عليه وهو تكذيب النبي صلّى الله عليه وسلّم بما أوعد به من العذاب والهلاك من لم يؤمن بالله عز وجل فكأنه قيل ما منعهم من الإيمان بالله تعالى الذي أمر به النبي عليه الصلاة والسلام إلا تكذيبهم إياه بما أوعده على تركه، ولا يخلو عن دغدغة. وقيل الحق أن الآية على تقدير الطلب من قولك لمن يعصيك أنت تريد أن أضربك وهو على تنزيل الاستحقاق منزلة الطلب فكأنه قيل ما منعهم من ذلك إلا استحقاق الهلاك الدنيوي أو العذاب الأخروي. وتعقب بأن عدم الإيمان والاتصاف بالكفر سبب للاستحقاق المذكور فيكون متقدما عليه ومتى كان الاستحقاق مانعا منه انعكس أمر التقدم والتأخر فيلزم اتصاف الواحد بالشخص بالتقدم والتأخر وأنه باطل. وأجيب بمنع كون عدم الإيمان سببا للاستحقاق في الحقيقة وإنما هو سبب صوري والسبب الحقيقي سوء استعداداتهم وخباثة ماهياتهم في نفس الأمر، وهذا كما أنه سبب للاستحقاق كذلك هو سبب للاتصاف بالكفر، وإن شئت فقل: هو مانع من الإيمان، ومن هنا قيل إن المراد من الطلب الطلب بلسان الاستعداد وإن مآل الآية ما منعهم من ذلك إلا استعداداتهم وطلب ماهياتهم لضده، وذلك لأن طلب استعداداتهم للهلاك أو العذاب المترتب على الضد استعداد للضد وطلب له، وربما يقال بناء على هذا إن المفهوم من الآيات أن الكفار لو لم يأتهم رسول ينبههم من سنة الغفلة يحتجون لو عذبوا بعدم إتيانه فيقولون منعنا من الإيمان أنه لم يأتنا رسول ومآله منعنا من ذلك الغفلة ولا يجدون حجة أبلغ من ذلك وأنفع في الخلاص، وأما سوء الاستعداد وخباثة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 284 الذات فبمراحل من أن يحتجوا به ويجعلوه مانعا فلا بعد في أن يقدر الطلب ويراد منه ظاهره وتكون الآية من قبيل قوله: ولا عيب فيهم البيت. والمراد نفى أن يكون لهم مانع من الإيمان والاستغفار بعد مجيء الرسول صلّى الله عليه وسلّم يصلح أن يكون حجة لهم أصلا كأنه قيل لا مانع لهم من أن يؤمنوا أو يستغفروا ربهم ولا حجة بعد مجيء الرسول الذي بلغ ما بلغ من الهدى إلا طلب ما أوعدوا به من إتيان الهلاك الدنيوي أو العذاب الأخروي حيث إن ذلك على فرض تحققه منهم لا يصلح للمانعية والحجية لم يبق مانع وحجة عندهم أصلا انتهى. ولا يخفى أنه بعد الإغضاء عما يرد عليه بعيد وإنكار ذلك مكابرة، والأولى تقدير التقدير وهو مانع بلا شبهة إلا أن القائلين بالاستعداد حسبما تعلم يجعلون منشأه الاستعداد، وفي معناه تقدير الإرادة أي إرادته تعالى وعليه اقتصر العز ابن عبد السلام، ودفع التنافي بين الحصر المستفاد من هذه الآية والحصر المستفاد من قوله تعالى: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا [الإسراء: 94] بأن الحصر الأول في المانع الحقيقي فإن إرادة الله تعالى هي المانعة على الحقيقة والثاني في المانع العادي وهو استغراب بعث بشر رسول لأن المعنى وما منع الناس أن يؤمنوا إلا استغراب ذلك، وقد تقدم في الإسراء ما ينفعك في الجمع بين الحصرين فتذكر فما في العهد من قدم وادعى الإمام تعدد الموانع وأن المراد من الآية فقدان نوع منها فقال: قال الأصحاب إن العلم بعدم إيمانهم مضاد لوجود إيمانهم فإذا كان ذلك العلم قائما كان المانع قائما، وأيضا حصول الداعي إلى الكفر قائم وإلا لما حصل لأن حصول الفعل الاختياري بدون الداعي محال ووجود الداعي إلى الكفر مانع من حصول الإيمان فلا بد أن يقال: المراد فقدان الموانع المحسوسة انتهى فليتأمل فيه. والقبل بضمتين جمع قبيل وهو النوع أي أو يأتيهم العذاب أنواعا وألوانا أو هو بمعنى قبلا بكسر القاف وفتح الباء كما قرأ به غير واحد أي عيانا فإن أبا عبيدة حكاهما معا بهذا المعنى وأصله بمعنى المقابلة فإذا دل على المعاينة، ونصبه على الحال فإن كان حالا من الضمير المفعول فمعناه معاينين بكسر الياء أو بفتحها أو معاينين للناس ليفتضحوا، وإن كان من العذاب فمعناه معاينا لهم أو للناس. وقرأت طائفة «قبلا» بكسر القاف وسكون الباء وهو كما في البحر تخفيف قبل على لغة تميم. وذكر ابن قتيبة والزمخشري أنه قرئ «قبلا» بفتحتين أي مستقبلا. وقرأ أبي بن كعب وابن غزوان عن طلحة «قبيلا» بقاف مفتوحة وباء مكسورة بعدها ياء ساكنة أي عيانا ومقابلة وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إلى الأمم متلبسين بحال من الأحوال إِلَّا حال كونهم مُبَشِّرِينَ للمؤمنين بالثواب وَمُنْذِرِينَ للكفرة والعصاة بالعقاب ولم نرسلهم ليقترح عليهم الآيات بعد ظهور المعجزات ويعاملوا بما لا يليق بشأنهم وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ باقتراح ذلك والسؤال عن قصة أصحاب الكهف ونحوها تعنتا وقولهم لهم ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا [يس: 15] وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [المؤمنون: 24] إلى غير ذلك، وتقييد الجدال بالباطل لبيان المذموم منه فإنه كما مر غير بعيد عام لغة لا خاص بالباطل ليحمل ما ذكر على التجريد، والمراد به هنا معناه اللغوي وما يطلق عليه اصطلاحا مما يصدق عليه ذلك لِيُدْحِضُوا أي ليزيلوا ويبطلوا بِهِ أي بالجدال الْحَقَّ الذي جاءت به الرسل عليهم السلام، وأصل الإدحاض الإزلاق والدحض الطين الذي يزلق فيه قال الشاعر: وردت ونجى اليشكري حذاره ... وحاد كما حاد البعير عن الدحض وقال آخر: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 285 أبا منذر رمت الوفاء وهبته ... وحدت كما حاد البعير المدحض واستعماله في إزالة الحق قيل من استعمال ما وضع للمحسوس في المعقول، وقيل لك أن تقول فيه تشبيه كلامهم بالوحل المستكره كقول الخفاجي: أتانا بوحل لأفكاره ... ليزلق أقدام هدى الحجج وَاتَّخَذُوا آياتِي التي أيدت بها الرسل سواء كانت قولا أو فعلا وَما أُنْذِرُوا أي والذي أنذروه من القوارع الناعية عليهم العقاب والعذاب أو إنذارهم هُزُواً أي استهزاء وسخرية. وقرأ حمزة «هزأ» بالسكون مهموزا وقرأ غيره وغير حفص من السبعة بضمتين مهموزا وهو مصدر وصف به للمبالغة وقد يؤول بما يستهزأ به وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ الأكثرون على أن المراد بها القرآن العظيم لمكان أَنْ يَفْقَهُوهُ فالإضافة للعهد. وجوز أن يراد بها جنس الآيات ويدخل القرآن العظيم دخولا أوليا، والاستفهام إنكاري في قوة النفي، وحقق غير واحد أن المراد نفى أن يساوي أحد في الظلم من وعظ بآيات الله تعالى فَأَعْرَضَ عَنْها فلم يتدبرها ولم يتعظ بها، ودلالة ما ذكر على هذا بطريق الكناية وبناء الأظلمية على ما في حيز الصلة من الإعراض للإشعار بأن ظلم من يجادل في الآيات ويتخذها هزوا خارج عن الحد وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ أي عمله من الكفر والمعاصي التي من جملتها المجادلة بالباطل والاستهزاء بالحق، ونسيان ذلك كناية عن عدم التفكر في عواقبه، والمراد مِمَّنْ عند الأكثرين مشركو مكة. وجوز أن يكون المراد منه المتصف بما في حيز الصلة كائنا من كان ويدخل فيه مشركو مكة دخولا أوليا، والضمير في قوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ لهم على الوجهين، ووجه الجمع ظاهر، والجملة استئناف بياني كأنه قيل ما علة الإعراض والنسيان؟ فقيل علته أنا جعلنا على قلوبهم أَكِنَّةً أي أغطية جمع كنان، والتنوين على ما يشير إليه كلام البعض للتكثير أَنْ يَفْقَهُوهُ الضمير المنصوب عند الأكثرين للآيات، وتذكيره وإفراده باعتبار المعنى المراد منها وهو القرآن. وجوز أن يكون للقرآن لا باعتبار أنه المراد من الآيات وفي الكلام حذف والتقدير كراهة أن يفقهوه، وقيل لئلا يفقهوه أي فقها نافعا وَفِي آذانِهِمْ أي وجعلنا فيها وَقْراً نقلا أن يسمعوه سماعا كذلك وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً أي مدة التكليف كلها، وإِذاً جزاء وجواب كما حقق المراد منه في موضعه فتدل على نفي اهتدائهم لدعوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم بمعنى أنهم جعلوا ما يجب أن يكون سبب وجود الاهتداء سببا في انتفائه، وعلى أنه جواب للرسول عليه الصلاة والسلام على تقدير قوله صلّى الله عليه وسلّم ما لي لا أدعوهم حرصا على اهتدائهم وإن ذكر له صلّى الله عليه وسلّم من أمرهم ما ذكر رجاء أن تنكشف تلك الأكنة وتمزق بيد الدعوة فقيل وإن تدعهم إلخ قاله الزمخشري. وفي الكشف في بيان ذلك أما الدلالة فصريح تخلل إِذاً يدل على ذلك لأن المعنى إذن لو دعوت وهو من التعكيس بلا تعسف، وأما أنه جواب على الوجه المذكور فمعناه أنه صلّى الله عليه وسلّم نزل منزلة السائل مبالغة في عدم الاهتداء المرتب على كونهم مطبوعا على قلوبهم فلا ينافي ما آثروه من أنه على تقدير سؤال لم لم يهتدوا؟ فإن السؤال على هذا الوجه أوقع اه، وهو كلام نفيس به ينكشف الغطا ويؤمن من تقليد الخطأ ويستغني به المتأمل عما قيل: إن تقدير ما لي لا أدعوهم يقتضي المنع من دعوتهم فكأنه أخذ من مثل قوله تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا [النجم: 29] وقيل أخذ من قوله تعالى عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً وقيل من قوله سبحانه «إن تدعهم» هذا ولا يخفى عليك المراد من الهدى وقد يراد منه القرآن فيكون من إقامة الظاهر مقام الضمير، ولعل إرادة ذلك هنا ترجح إرادة القرآن في الهدى السابق، والله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 286 تعالى أعلم. والآية في أناس علم الله تعالى موافاتهم على الكفر من مشركي مكة حين نزولها فلا ينافي الأخبار بالطبع وأنهم لا يؤمنون تحقيقا ولا تقليدا إيمان بعض المشركين بعد النزول، واحتمال أن المراد جميع المشركين على معنى وإن تدعهم إلى الهدى جميعا فلن يهتدوا جميعا وإنما يهتدي بعضهم كما ترى. واستدلت الجبرية بهذه الآية على مذهبهم والقدرية بالآية التي قبلها، قال الإمام: وقل ما تجد في القرآن آية لأحد هذين الفريقين إلا ومعها آية للفريق الآخر وما ذلك إلا امتحان شديد من الله تعالى ألقاه الله تعالى على عباده ليتميز العلماء الراسخون من المقلدين. وَرَبُّكَ الْغَفُورُ مبتدأ وخبر وقوله تعالى ذُو الرَّحْمَةِ أي صاحبها والموصوف بها خبر بعد خبر، قال الإمام: وإنما ذكر لفظ المبالغة في المغفرة دون الرحمة لأن المغفرة ترك الإضرار والرحمة إيصال النفع وقدرة الله تعالى تتعلق بالأول لأنه ترك مضار لا نهاية لها ولا تتعلق بالثاني لأن فعل ما لا نهاية له محال. وتعقبه النيسابوري بأنه فرق دقيق لو ساعده النقل على أن قوله تعالى: ذُو الرَّحْمَةِ لا يخلو عن مبالغة وفي القرآن غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة: 173 وغيرها] بالمبالغة في الجانبين كثيرا وفي تعلق القدرة بترك غير المتناهي نظر لأن مقدراته تعالى متناهية لا فرق بين المتروك وغيره اه، وقيل عليه إنهم فسروا الغفار بمريد إزالة العقوبة عن مستحقها والرحيم بمريد الأنعام على الخلق وقصد المبالغة من جهة في مقام لا ينافي تركها في آخر لعدم اقتضائه لها، وقد صرحوا بأن مقدوراته تعالى غير متناهية وما دخل منها في الوجود متناه ببرهان التطبيق اه، وهو كلام حسن اندفع به ما أورد على الإمام. وزعمت الفلاسفة أن ما دخل في الوجود من المقدورات غير متناه أيضا ولا يجري فيه برهان التطبيق عندهم لاشتراطهم الاجتماع والترتب، ولعمري لقد قف شعري من ظاهر قول النيسابوري إن مقدوراته تعالى متناهية فإن ظاهره التعجيز تعالى الله سبحانه عما يقوله الظالمون علوا كبيرا ولكن يدفع بالعناية فتدبر، ثم إن تحرير نكتة التفرقة بين الخبرين هاهنا على ما قاله الخفاجي إن المذكور بعد عدم مؤاخذتهم بما كسبوا من الجرم العظيم وهو مغفرة عظيمة وترك التعجيل رحمة منه تعالى سابقة على غضبه لكنه لم يرد سبحانه إتمام رحمته عليهم وبلوغها الغاية إذ لو أراد جل شأنه ذلك لهداهم وسلمهم من العذاب رأسا، وهذه النكتة لا تتوقف على حديث التناهي وعدم التناهي الذي ذكره الإمام وإن كان صحيحا في نفسه كما قيل، والاعتراض عليه بأنه يقتضي عدم تناهي المتعلقات في كل ما نسب إليه تعالى بصيغ المبالغة وليس بلازم إذ يمكن أن تعتبر المبالغة في المتناهي بزيادة الكمية وقوة الكيفية ولو سلم ما ذكر لزم عدم صحة صيغ المبالغة في الأمور الثبوتية كرحيم ورحمن ولا وجه له مدفوع بأن ما ذكره نكتة لوقوع التفرقة بين الأمرين هنا بأنه اعتبرت المبالغة في جانب الترك دون مقابله لأن الترك عدمي يجوز فيه عدم التناهي بخلاف الآخر ألا ترى أن ترك عذابهم دال على ترك جميع أنواع العقوبات في العاجل وإن كانت غير متناهية كذا قيل وفيه نظر. وربما يقال في توجيه ما قاله النيسابوري من أن ذو الرحمة لا يخلو عن المبالغة: إن ذلك إما لاقتران الرحمة بأل فتقيد الرحمة الكاملة أو الرحمة المعهودة التي وسعت كل شيء. وإما لذو فإن دلالته على الاتصاف في مثل هذا التركيب فوق دلالة المشتقات عليه ولا يكاد يدل سبحانه على اتصافه تعالى بصفة بهذه الدلالة إلا وتلك الصفة مرادة على الوجه الأبلغ وإلا فما الفائدة في العدول عن المشتق الأخصر الدال على أصل الاتصاف كالراحم مثلا إلى ذلك، ولا يعكر على هذا أن المبالغة لو كانت مرادة فلم عدل عن الأخصر أيضا المفيد لها كالرحيم أو الرحمن إلى ما ذكر لجواز أن يقال: إنه أريد أن لا تقيد الرحمة المبالغ فيها بكونها في الدنيا أو في الآخرة وهذان الاسمان يفيدان التقييد على المشهور ولذا عدل عنهما إلى ذو الرحمة، وإذا قلت: هما مثله في عدم التقييد قيل: إن دلالته على المبالغة أقوى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 287 من دلالتهما عليها بأن يدعى أن تلك الدلالة بواسطة أمرين لا يعدلهما في قوة الدلالة ما يتوسط في دلالة الاسمين الجليلين عليها، وعلى هذا يكون ذو الرحمة أبلغ من كل واحد من الرحمن والرحيم وإن كانا معا أبلغ منه ولذا جيء بهما في البسملة دونه، ومن أنصف لم يشك في أن قولك فلان ذو العلم أبلغ من قولك فلان العليم من حيث إن الأول يفيد أنه صاحب ماهية العلم ومالكها ولا كذلك الأخيران، وحينئذ يكون التفاوت بين الخبرين في الآية بأبلغية الثاني ووجه ذلك ظاهر فإن الرحمة أوسع دائرة من المغفرة كما لا يخفى، والنكتة فيه هاهنا مزيد إيناسه صلّى الله عليه وسلّم بعد أن أخبره سبحانه بالطبع على قلوب بعض المرسل إليهم وآيسه من اهتدائهم مع علمه جل شأنه بزيد حرصه عليه الصلاة والسلام على ذلك وهو السر في إيثار عنوان الربوبية مضافا إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم انتهى. وهو كلام واقف في أعراف الرد والقبول في النظر الجليل، ومن دقق علم ما فيه من الأمرين، وإنما قدم الوصف الأول لأن التخلية قبل التحلية أو لأنه أهم بحسب الحال والمقام إذ المقام على ما قاله المحققون مقام بيان تأخير العقوبة عنهم بعد استيجابهم لها كما يعرب عنه قوله تعالى: لَوْ يُؤاخِذُهُمْ أي لو يريد مؤاخذتهم بِما كَسَبُوا أي فعلوا، وكسب الأشعري لا تفهمه العرب، وما إما مصدرية أي بكسبهم وإما موصولة أي بالذي كسبوه من المعاصي التي من جملتها ما حكي عنهم من مجادلتهم بالباطل وإعراضهم عن آيات ربهم وعدم المبالاة بما اجترحوا من الموبقات لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ لاستيجاب أعمالهم لذلك، قيل وإيثار المؤاخذة المنبئة عن شدة الأخذ بسرعة على التعذيب والعقوبة ونحوهما للإيذان بأن النفي المستفاد من مقدم الشرطية متعلق بوصف السرعة كما ينبىء عنه تاليها، وإيثار صيغة الاستقبال وإن كان المعنى على المضي لإفادة أن انتفاء تعجيل العذاب لهم بسبب استمرار عدم إرادة المؤاخذة فإن المضارع الواقع موقع الماضي يفيد استمرار الفعل فيما مضى بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ وهو يوم بدر أو يوم القيامة على أن الموعد اسم زمان، وجوز أن يكون اسم مكان والمراد منه جهنم، والجملة معطوفة على مقدر كأنه قيل لكنهم ليسوا مؤاخذين بغتة بل لهم موعد لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا قال الفراء: أي منجى يقال وألت نفس فلان نحت وعليه قول الأعشى: وقد أخالس رب الدار غفلته ... وقد يحاذر مني ثم ما يئل وقال ابن قتيبة: هو الملجأ يقال وأل فلان إلى كذا يئل وألا ووءولا إذا لجأ والمعنى واحد والفرق إنما هو بالتعدي بإلى وعدمه، وتفسيره بالملجأ مروي عن ابن عباس، وفسره مجاهد بالمحرز، والضحاك بالمخلص والأمر في ذلك سهل، وهو على ما قاله أبو البقاء: يحتمل أن يكون اسم زمان وأن يكون اسم مكان، والضمير المجرور عائد على الموعد كما هو الظاهر، وقيل: على العذاب وفيه من المبالغة ما فيه لدلالته على أنهم لا خلاص لهم أصلا فإن من يكون ملجأه العذاب كيف يرى وجه الخلاص والنجاة. وأنت تعلم أن أمر المبالغة موجود في الظاهر أيضا وقيل: يعود على الله تعالى وهو مخالف للظاهر مع الخلو عن المبالغة، وقرأ الزهري «موّلا» بتشديد الواو من غير همز ولا ياء، وقرأ أبو جعفر عن الحلواني عنه «مولا» بكسر الواو خفيفة من غير همز ولا ياء أيضا وَتِلْكَ الْقُرى أي قرى عاد وثمود وقوم لوط وأشباههم، والكلام على تقدير مضاف أي أهل القرى لقوله تعالى: أَهْلَكْناهُمْ والإشارة لتنزيلهم لعلمهم بهم منزلة المحسوس، وقدر المضاف في البحر قبل تِلْكَ وكلا الأمرين جائز، وتلك يشار بها للمؤنث من العقلاء وغيرهم، وجوز أن تكون القرى عبارة عن أهلها مجازا، وأيّا ما كان فاسم الإشارة مبتدأ والْقُرى صفته والوصف بالجامد في باب الإشارة مشهور والخبر جملة أَهْلَكْناهُمْ واختار أبو حيان كون «القرى» هو الخبر والجملة حالية كقوله تعالى: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً [النمل: 52] وجوز أن تكون «تلك» منصوبا بإضمار فعل يفسره ما بعده أي وأهلكنا تلك القرى أهلكناهم لَمَّا ظَلَمُوا أي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 288 حين ظلمهم كما فعل مشركو مكة ما حكي عنهم من القبائح، وترك المفعول إما لتعميم الظلم أو لتنزيله منزلة اللازم أي لما فعلوا الظلم، ولَمَّا عند الجمهور ظرف كما أشير إليه وليس المراد به الحين المعين الذي عملوا فيه الظلم بل زمان ممتد من ابتداء الظلم إلى آخره. وقال أبو الحسن بن عصفور: هي حرف، ومما استدل به على حرفيتها هذه الآية حيث قال: إنها تدل على أن علة الإهلاك الظلم والظرف لا دلالة له على العلية، واعترض بأن قولك أهلكته وقت الظلم يشعر بعلية الظلم وإن لم يدل الظرف نفسه على العلية، وقيل لا مانع من أن يكون ظرفا استعمل للتعليل. وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ لهلاكهم مَوْعِداً وقتا معينا لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون فمفعل الأول مصدر والثاني اسم زمان، والتعيين من جهة أن الموعد لا يكون إلا معينا وإلا فاسم الزمان مبهم والعكس ركيك. وزعم بعضهم أن المهلك على هذه القراءة وهي قراءة حفص في الرواية المشهورة عنه- أعني القراءة بفتح الميم وكسر اللام- من المصادر الشاذة كالمرجع والمحيض وعلل ذلك بأن المضارع يهلك بكسر اللام وقد صرحوا بأن مجيء المصدر الميمي مكسورا فيما عين مضارعه مكسورة شاذ، وتعقب بأنه قد صرح في القاموس بأن هلك جاء من باب ضرب ومنع وعلم فكيف يتحقق الشذوذ فالحق أنه مصدر غير شاذ وهو مضاف للفاعل ولذا فسر بما سمعت، وقيل: إن هلك يكون لازما ومتعديا فعن تميم هلكني فلان فعلى تعديته يكون مضافا للمفعول، وأنشد أبو علي في ذلك:- ومهمه هالك من تعرجا- أي مهلكه، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يتعين ذلك في البيت بل قد ذهب بعض النحويين إلى أن هالكا فيه لازم وأنه من باب الصفة المشبهة والأصل هالك من تعرجا بجعل من فاعلا لهالك ثم أضمر في هالك ضمير مهمه وانتصب من على التشبيه بالمفعول ثم أضيف من نصب، والصحيح جواز استعمال الموصول في باب الصفة المشبهة، وقد ثبت في أشعار العرب قال عمرو بن أبي ربيعة: أسيلات أبدان دقاق خصورها ... وثيرات ما التفت عليها الملاحف وقرأ حفص وهارون وحماد ويحيى عن أبي بكر بفتح الميم واللام، وقراءة الجمهور بضم الميم وفتح اللام وهو مصدر أيضا، وجعله اسم مفعول على معنى وجعلنا لمن أهلكناه منهم في الدنيا موعدا ننتقم فيه منه أشد انتقام وهو يوم القيامة أو جهنم لا يخفى ما فيه، والظاهر أن الآية استشهاد على ما فعل بقريش من تعيين الموعد ليعتبروا ولا يغتروا بتأخير العذاب عنهم، وهي ترجح حمل الموعد فيما سبق على يوم بدر فتدبر والله تعالى أعلم وأخبر. «ومن باب الإشارة في الآيات» وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ أمر بصحبة الفقراء الذين انقطعوا لخدمة مولاهم، وفائدتها منه عليه الصلاة والسلام تعود عليهم وذلك لأنهم عشاق الحضرة وهو صلّى الله عليه وسلّم مرآتها وعرش تجليها ومعدن أسرارها ومشرق أنوارها فمتى رأوه صلّى الله عليه وسلّم عاشوا ومتى غاب عنهم كئبوا وطاشوا، وأما صحبة الفقراء بالنسبة إلى غيره صلّى الله عليه وسلّم ففائدتها تعود إلى من صحبهم فهم القوم لا يشقى بهم جليسهم، وقال عمرو المكي: صحبة الصالحين والفقراء الصادقين عيش أهل الجنة يتقلب معهم جليسهم من الرضا إلى اليقين ومن اليقين إلى الرضا، ولأبي مدين من قصيدته المشهورة التي خمسها الشيخ محيي الدين قدس سره: ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا ... هم السلاطين والسادات والأمرا فاصحبهم وتأدب في مجالسهم ... وخل حظك مهما قدموك ورا واستغنم الوقت واحضر دائما معهم ... واعلم بأن الرضا يختص من حضرا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 289 ولازم الصمت إلا إن سئلت فقل ... لا علم عندي وكن بالجهل مستترا إلى أن قال: وإن بدا منك عيب فاعترف وأقم ... وجه اعتذارك عما فيك منك جرا وقل عبيدكم أولى بصفحكم ... فسامحوا وخذوا بالرفق يا فقرا هم بالتفضل أولى وهو شيمتهم ... فلا تخف دركا منهم ولا ضررا وعنى بهؤلاء السادة الصوفية وقد شاع إطلاق الفقراء عليهم لأن الغالب عليهم الفقر بالمعنى المعروف وفقرهم مقارن للصلاح وبذلك يمدح الفقر، وأما إذا اقترن بالفساد فالعياذ بالله تعالى منه فمتى سمعت الترغيب في مجالسة الفقير فاعلم أن المراد منه الفقير الصالح، والآثار متظافرة في الترغيب في ذلك فعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما موقوفا تواضعوا وجالسوا المساكين تكونوا من كبار عبيد الله تعالى وتخرجوا من الكبر، وفي الجامع الجلوس مع الفقراء من التواضع وهو من أفضل الجهاد، وفي رواية أحبوا الفقراء وجالسوهم، ومن فوائد مجالستهم أن العبد يرى نعمة الله تعالى عليه ويقنع باليسير من الدنيا ويأمن في مجالستهم من المداهنة والتملق وتحمل المن وغير ذلك، نعم إن مجالستهم خلاف ما جبلت عليه النفس ولذا عظم فضلها، وقيل: إن في قوله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ إلخ دون ودم مع الذين إلخ إشارة إلى ذلك ولكن ذلك بالنسبة إلى غيره صلّى الله عليه وسلّم فإن نفسه الشريفة فطرت على أحسن فطرة وطبعت على أحسن طبيعة. وقال بعض أهل الأسرار: إنما قيل: واصبر نفسك دون واصبر قلبك لأن قلبه الشريف صلّى الله عليه وسلّم كان مع الحق فأمر صلّى الله عليه وسلّم بصحبة الفقراء جهرا بجهر واستخلص سبحانه قلبه له سرا بسر تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي تطلب مجالسة الأشراف والأغنياء وأصحاب الدنيا وهي مذمومة مع الميل إليهم والتواضع لغناهم، وقد جاء في الحديث «من تذلل لغني لأجل غناه ذهب ثلثا دينه فليتق الله تعالى في الثلث الآخر» ومضار مجالستهم كثيرة، ولا تخفى على من علم فوائد مجالسة الفقراء، وأدناها ضررا تحمل منهم فإنه قلما يسلم الغني من المن على جليسه الفقير ولو بمجرد المجالسة وهو حمل لا يطاق، ومن نوابغ الزمخشري طعم الآلاء أحلى من المن وهي أمر من الآلاء عند المن، وقال بعض الشعراء: لنا صاحب ما زال يتبع بره ... بمن وبذل المن بالبر لا يسوى تركناه لا بغضا ولا عن ملالة ... ولكن لأجل المن يستعمل السلوى وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً نهي عن إطاعة المحجوبين الغافلين وكانوا في القصة يريدون طرد الفقراء وعدم مجالسة النبي صلّى الله عليه وسلّم لهم لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فلا يطاع عند أهل الإشارة الغافل المحجوب في كل شيء فيه هوى النفس، وعدوا من إطاعته التواضع له فإنه يطلبه حالا وإن لم يفصح به مقالا وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ قالوا: فيه إشارة إلى عدم كتم الحق وإن أدى إلى إنكار المحجوبين وإعراض الجاهلين، وعد من ذلك في أسرار القرآن كشف الأسرار الإلهية وقال: إن العاشق الصادق لا يبالي تهتك الأسرار عند الأغيار ولا يخاف لومة لائم ولا يكون في قيد إيمان الخلق وإنكارهم فإن لذة العشق بذلك أتم ألا ترى قول القائل: ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر ... ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 290 وبح باسم من أهوى ودعني من الكنى ... فلا خير في اللذات من دونها ستر ولا يخفى أن هذا خلاف المنصور عند الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم فإنهم حافظوا على كتم الأسرار عن الأغيار وأوصوا بذلك، ويكفي حجة في هذا المطلب ما نسب إلى زين العابدين رضي الله تعالى عنه وهو: إني لأكتم من علمي جواهره ... كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا وقد تقدم في هذا أبو حسن ... إلى الحسين ووصى قبله الحسنا فرب جوهر علم لو أبوح به ... لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا ولا ستحل رجال مسلمون دمي ... يرون أقبح ما يأتونه حسنا نعم المغلوب وكذا المأمور معذور وعند الضرورة يباح المحظور، وما أحسن قول الشهاب القتيل: وا رحمتا للعاشقين تكلفوا ... ستر المحبة والهوى فضاح بالسر إن باحوا تباح دماؤهم ... وكذا دماء البائحين تباح وإذا هم كتموا يحدث عنهم ... عند الوشاة المدمع السحاح وما ذكر أولا يكون مستمسكا في الذب عن الشيخ الأكبر قدس سره وأضرابه فإنهم لم يبالوا في كشف الحقائق التي يدعونها بكونه سببا لضلال كثير من الناس وداعيا للإنكار عليهم، وقد استدل بعض بالآية في الرد عليهم بناء على أن المعنى الحق ما يكون من جهته تعالى وما جاؤوا به ليس من جهته سبحانه لأنه لا تشهد له آية ولا يصدقه حديث ولا يؤيده أثر. وأجيب بأن ذلك ليس إلا من الآيات والأحاديث إلا أنه لا يستنبط منها إلا بقوة قدسية وأنوار إلهية فلا يلزم من عدم فهم المنكرين لها من ذلك لحرمانهم تلك القوة واحتجابهم عن هاتيك الأنوار عدم حقيتها فكم من حق لم تصل إليه أفهامهم. واعترض بأنه لو كان الأمر كذلك لظهر مثل تلك الحقائق في الصدر الأول فإن أرباب القوى القدسية والأنوار الإلهية فيه كثيرون والحرص على إظهار الحق أكثر، وأجيب بأنه يحتمل أن يكون هناك مانع أو عدم مقتض لإظهار ما أظهر من الحقائق، وفيه نوع دغدغة ولعله سيأتيك إن شاء الله تعالى ما عسى أن ينفعك هنا، وبالجملة أمر الشيخ الأكبر وأضرابه قدس الله تعالى أسرارهم فيما قالوا ودونوا عندي مشكل لا سيما أمر الشيخ فإنه أتى بالداهية الدهياء مع جلالة قدره التي لا تنكر، ولذا ترى كثيرا من الناس ينكرون عليه ويكرون، وما ألطف ما قاله فرق جنين العصابة الفاروقية والراقي في مراقي التنزلات الموصلية في قصيدته التي عقد اكسيرها في مدح الكبريت الأحمر فغدا شمسا في آفاق مدائح الشيخ الأكبر وهو قوله: ينكر المرء منه أمرا فينها ... هـ نهاه فينكر الانكارا تنثني عنه ثم تثني عليه ... ألسن تشبه الصحاة سكارى يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ قيل هي إشارة إلى أنهم يحلون حقائق التوحيد الذاتي ومعاني التجليات العينية الأحدية وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً إشارة إلى أنهم متصفون بصفات بهيجة حسنة نضرة موجبة للسرور مِنْ سُنْدُسٍ الأحوال والمواهب وعبر عنها بالسندس لكونها ألطف وَإِسْتَبْرَقٍ الأخلاق والمكاسب، وعبر عنها بالاستبرق لكونها أكثف مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ قيل أي أرائك الأسماء الإلهية وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ إلخ فيه من تسلية الفقراء المتوكلين على الله تعالى وتنبيه الأغنياء المغرورين ما فيه، وقال النيسابوري: الرجلان هما النفس الكافرة والقلب المؤمن جَعَلْنا لِأَحَدِهِما وهو النفس جَنَّتَيْنِ هما الهوى والدنيا مِنْ أَعْنابٍ الشهوات وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ حب الرياسة وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً من التمتعات البهيمية وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 291 القوى البشرية والحواس وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ من أنواع الشهوات وَهُوَ يُحاوِرُهُ أي يجاذب النفس أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا أي ميلا وَأَعَزُّ نَفَراً من الأوصاف المذمومة وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ في الاستمتاع بجنة الدنيا على وفق الهوى لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها قال ذلك غرورا بالله تعالى وكرمه فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها من العمر وحسن الاستعداد انتهى. وقد التزم هذا النمط في أكثر الآيات ولا بدع فهو شأن كثير من المؤولين هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً قال ابن عطاء: للطالبين له سبحانه لا للجنة وَخَيْرٌ عُقْباً للمريدين وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ قيل هي المحبة الدائمة والمعرفة الكاملة والأنس بالله تعالى والإخلاص في توحيده سبحانه والانفراد به جل وعلا عن غيره فهي باقية للمتصف بها وصالحة لا اعوجاج فيها وهي خير المنازل، وقد تفسر بما يعمها وغيرها من الأعمال الخالصة والنيات الصادقة وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً قال ابن عطاء: دل سبحانه بهذا على إظهار جبروته وتمام قدرته وعظيم عزته ليتأهب العبد لذلك الموقف ويصلح سريرته وعلانيته لخطاب ذلك المشهد وجوابه عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا إخبار عن جميع بني آدم وإن كان المخاطب في قوله سبحانه لْ زَعَمْتُمْ إلخ بعضهم، ذكر أنه يعرض كل صنف صفا، وقيل الأنبياء عليهم السلام صف والأولياء صف وسائر المؤمنين صف والمنافقون والكافرون صف وهم آخر الصفوف فيقال لهم قَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ على وصف الفطرة الأولية عاجزين منقطعين إليه سبحانه وَوُضِعَ الْكِتابُ أي الكتب فيوضع كتاب الطاعات للزهاد والعباد وكتاب الطاعات والمعاصي للعموم وكتاب المحبة والشوق والعشق للخصوص، ولبعضهم: وأودعت الفؤاد كتاب شوق ... سينشر طيه يوم الحساب وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً قال أبو حفص: أشد آية في القرآن على قلبي هذه الآية ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ قيل أي ما أشهدتهم أسرار ذلك والدقائق المودعة فيه وإنما أشهد سبحانه ذلك أحباءه وأولياءه وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا لأنه مظهر الأسماء المختلفة والعالم الأصغر الذي انطوى فيه العالم الأكبر، هذا والله تعالى أعلم بأسرار كتابه وَإِذْ قالَ مُوسى هو ابن عمران نبي بني إسرائيل عليه السلام على الصحيح، فقد أخرج الشيخان والترمذي والنسائي وجماعة من طريق سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إن نوفا (1) البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس موسى صاحب بني إسرائيل فقال: كذب عدو الله ثم ذكر حديثا طويلا فيه الإخبار عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما هو نص في أنه موسى بني إسرائيل، وإلى إنكار ذلك ذهب أيضا أهل الكتاب وتبعهم من تبعهم من المحدثين والمؤرخين وزعموا أن موسى هنا هو موسى بن ميشا بالمعجمة ابن يوسف بن يعقوب، وقيل: موسى بن إفرائيم بن يوسف وهو موسى الأول، قيل وإنما أنكره أهل الكتاب لإنكارهم تعلم النبي من غيره. وأجيب بالتزام أن التعلم من نبي ولا غضاضة في تعلم نبي من نبي. وتعقب بأنه ولو التزموا ذلك وسلموا نبوة الخضر عليه السلام لا يسلمون أنه موسى بن عمران لأنهم لا تسمح أنفسهم بالقول بتعلم نبيهم الأفضل   (1) هو ابن فضالة ابن امرأة كعب، وقيل: ابن أخيه والمشهور الأول وهو من أصحاب أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه، وبكال قيل بضم الباء حي من اليمن. وعن المبرد البكالي بكسر الباء نسبة إلى بكالة من اليمن، وفي شرح مسلم للنووي البكالي ضبطه الجمهور بكسر الموحدة وتخفيف الكاف ورواه بعضهم بفتحها وتشديد الكاف قال القاضي: وهذا ضبط أكثر الشيوخ وأصحاب الحديث والصواب الأول وهو قول المحققين وهو منسوب إلى بني بكال بطن من حمير وقيل: من همدان اه منه. [ ..... ] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 292 ممن ليس مثله في الفضل فإن الخضر عليه السلام على القول بنبوته بل القول برسالته لم يبلغ درجة موسى عليه السلام، وقال بعض المحققين: ليس إنكارهم لمجرد ذلك بل لذلك ولقولهم إن موسى عليه السلام بعد الخروج من مصر حصل هو وقومه في التيه وتوفي فيه ولم يخرج قومه منه إلا بعد وفاته والقصة تقتضي خروجه عليه السلام من التيه لأنها لم تكن وهو في مصر بالإجماع، وتقتضي أيضا الغيبة أياما ولو وقعت لعلمها كثير من بني إسرائيل الذين كانوا معه ولو علمت لنقلت لتضمنها أمرا غريبا تتوفر الدواعي على نقله فحيث لم يكن لم تكن. وأجيب بأن عدم سماح نفوسهم بالقول بعلم نبيهم عليه السلام ممن ليس مثله في الفضل أمر لا يساعده العقل وليس هو إلا كالحمية الجاهلية إذ لا يبعد عقلا تعلم الأفضل الأعلم شيئا ليس عنده ممن هو دونه في الفضل والعلم. ومن الأمثال المشهورة قد يوجد في الأسقاط ما لا يوجد في الأسفاط، وقالوا: قد يوجد في المفضول ما لا يوجد في الفاضل، وقال بعضهم: لا مانع من أن يكون قد أخفى الله سبحانه وتعالى علم المسائل التي تضمنتها القصة عن موسى عليه السلام على مزيد علمه وفضله لحكمة ولا يقدح ذلك في كونه أفضل وأعلم من الخضر عليه السلام وليس بشيء كما لا يخفى، وبأنه سيأتي إن شاء الله تعالى قريبا القول بأن القصة كانت بعد أن ظهر موسى عليه السلام على مصر مع بني إسرائيل واستقر بعد هلاك القبط فلا إجماع على أنها لم تكن بمصر، نعم اليهود لا يقولون باستقرارهم في مصر بعد هلاك القبط وعليه كثير منا وحينئذ يقال: إن عدم خروج موسى عليه السلام من التيه غير مسلم، وكذلك اقتضاء ذلك الغيبة أياما لجواز أن يكون على وجه خارق للعادة كالتيه الذي وقعوا فيه وكنتق الجبل عليهم وغير ذلك من الخوارق التي وقعت فيهم، وقد يقال: يجوز أن يكون عليه السلام خرج وغاب أياما لكن لم يعلموا أنه عليه السلام ذهب لهذا الأمر وظنوا أنه ذهب يناجي ويتعبد ولم يوقفهم على حقيقة غيبته بعد أن رجع لعلمه بقصور فهمهم فخاف من حط قدره عندهم فهم القائلون اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف: 138] وأَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النساء: 135] وأوصى فتاه بكتم ذلك عنهم أيضا، ويجوز أن يكون غاب عليه السلام وعلموا حقيقة غيبته لكن لم يتناقلوها جيلا بعد جيل لتوهم أن فيها شيئا مما يحط من قدره الشريف عليه السلام فلا زالت نقلتها تقل حتى هلكوا في وقت بختنصر كما هلك أكثر حملة التوراة، ويجوز أن يكون قد بقي منهم أقل قليل إلى زمن نبينا صلّى الله عليه وسلّم فتواصوا على كتمها وإنكارها ليوقعوا الشك في قلوب ضعفاء المسلمين ثم هلك ذلك القليل ولم تنقل عنه، ولا يخفى أن باب الاحتمال واسع وبالجملة لا يبالى بإنكارهم بعد جواز الوقوع عقلا واخبار الله تعالى به ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فإن الآية ظاهرة في ذلك، ويقرب من هذا الإنكار إنكار النصارى تكلم عيسى عليه السلام في المهد وقد قدمنا أنه لا يلتفت إليه بعد إخبار الله تعالى به فعليك بكتاب الله تعالى ودع عنك الوساوس. وإِذْ نصب على المفعولية باذكر محذوفا والمراد قل قال موسى لِفَتاهُ يوشع بن نون بن إفرائيم بن يوسف عليه السلام فإنه كان يخدمه ويتعلم منه ولذا أضيف إليه، والعرب تسمي الخادم فتى لأن الخدم أكثر ما يكونون في سن الفتوّة، وكان فيما يقال ابن أخت موسى عليه السلام، وقيل: هو أخو يوشع عليه السلام، وأنكر اليهود أن يكون له أخ، وقيل: لعبده فالإضافة للملك وأطلق على العبد فتى لما في الحديث الصحيح «ليقل أحدكم فتاي وفتاتي ولا يقل عبدي وأمتي» وهو من آداب الشريعة، وليس إطلاق ذلك بمكروه خلافا لبعض بل خلاف الأولى، وهذا القول مخالف للمشهور وحكم النووي بأنه قول باطل وفي حل تملك النفس في بني إسرائيل كلام، ومثله في البطلان القول الثاني لمنافاة كل الأخبار الصحيحة لا أَبْرَحُ من برح الناقص كزال يزال أي لا أزال أسير فحذف الخبر اعتمادا على قرينة الحال إذ كان ذلك عند التوجه إلى السفر واتكالا على ما يعقبه من قوله حَتَّى أَبْلُغَ إذ الغاية لا بد لها من مغيا والمناسب لها هنا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 293 السير وفيما بعد أيضا ما يدل على ذلك وحذف الخبر فيها قليل كما ذكره الرضي، ومنه قول الفرزدق: فما برحوا حتى تهادت نساؤهم ... ببطحاء ذي قار عياب اللطائم وقال أبو حيان: نص أصحابنا على أن حذف خبر كان وأخواتها لا يجوز وإن دل الدليل على حذفه إلا ما جاء في الشعر من قوله: لهفي عليك كلهفة من خائف ... يبغي جوارك حين ليس مجير أي حين ليس في الدنيا، وجوز الزمخشري وأبو البقاء أن يكون الأصل لا يبرح سيري حتى أبلغ فالخبر متعلق حتى مع مجرورها فحذف المضاف إليه (1) وهو سير فانقلب الضمير من البروز والجر إلى الرفع والاستتار وانقلب الفعل من الغيبة إلى التكلم، قيل وكذا الفعل الواقع في الخبر وهو أَبْلُغَ كأن أصله يبلغ ليحصل الربط والإسناد مجازي وإلا يخل الخبر من الرابط إلا أن يقدر حتى أبلغ به أو يقال إن الضمير المستتر في كائن يكفي للربط أو أن وجود الربط بعد التغيير صورة يكفي فيه وإن كان المقدر في قوة المذكور، وعندي لا لطف في هذا الوجه وإن استلطفه الزمخشري. وجوز أيضا أن يكون أَبْرَحُ من برح التام كزال يزول فلا يحتاج إلى خبر، نعم قيل لا بد من تقدير مفعول ليتم المعنى أي لا أفارق ما أنا بصدده حتى أبلغ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ وتعقبه في البحر بأنه يحتاج إلى صحة نقل. والمجمع الملتقى وهو اسم مكان، وقيل مصدر وليس بذاك، والبحران بحر فارس والروم كما روي عن مجاهد وقتادة وغيرهما، وملتقاهما مما يلي المشرق، ولعل المراد مكان يقرب فيه التقاؤهما وإلا فهما لا يلتقيان إلا في البحر المحيط وهما شعبتان منه. وذكر أبو حيان أن مجمع البحرين على ما يقتضيه كلام ابن عطية مما يلي بر الشام، وقالت فرقة منهم محمد ابن كعب القرظي: هو عند طنجة حيث يجتمع البحر المحيط والبحر الخارج منه من دبور إلى صبا، وعن أبي أنه بإفريقية، وقيل البحران الكر والرس بأرمينية وروي ذلك عن السدي، وقيل بحر القلزم وبحر الأزرق، وقيل هما بحر ملح وبحر عذب وملتقاهما في الجزيرة الخضراء في جهة المغرب، وقيل هما مجاز عن موسى والخضر عليهما السلام لأنهما بحرا علم، والمراد بملتقاهما مكان يتفق فيه اجتماعهما، وهو تأويل صوفي والسياق ينبو عنه وكذا قوله تعالى حَتَّى أَبْلُغَ إذ الظاهر عليه أن يقال حتى يجتمع البحران مثلا. وقرأ الضحاك وعبد الله بن مسلم بن يسار مَجْمَعَ بكسر الميم الثانية، والنضر عن ابن مسلم مَجْمَعَ بالكسر لكلا الحرفين وهو شاذ على القراءتين لأن قياس اسم المكان والزمان من فعل يفعل بفتح العين فيهما الفتح كما في قراءة الجمهور أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً عطف على أَبْلُغَ وأو لأحد الشيئين، والمعنى حتى يقع إما بلوغي المجمع أو مضي حقبا أي سيري زمانا طويلا. وجوز أن تكون أو بمعنى إلا والفعل منصوب بعدها بأن مقدرة والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا زلت أسير في كل حال حتى أبلغ إلا أن أمضي زمانا أتيقن معه فوات المجمع، ونقل أبو حيان جواز أن تكون بمعنى إلى وليس بشيء لأنه يقتضي جزمه ببلوغ المجمع بعد سيره حقبا وليس بمراد، والحقب بضمتين ويقال بضم فسكون وبذلك قرأ   (1) قوله فحذف المضاف إليه كذا بخطه والأولى المضاف وهو سير إلخ اه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 294 الضحاك اسم مفرد وجمعه كما في القاموس أحقب وأحقاب، وفي الصحاح أن الحقب بالضم يجمع على حقاب مثل قف وقفاف، وهو على ما روي عن ابن عباس وجماعة من اللغويين الدهر وروي عن ابن عمر وأبي هريرة أنه ثمانون سنة، وعن الحسن أنه سبعون، وقال الفراء: إنه سنة بلغة قريش وقال أبو حيان: الحقب السنون واحدها حقبة قال الشاعر: فإن تنأ عنها حقبة لا تلاقها ... فإنك مما أحدثت بالمجرب اه وما ذكره من أن الحقب السنون ذكره غير واحد من اللغويين لكن قوله واحدها حقبة فيه نظر لأن ظاهر كلامهم أنه اسم مفرد وقد نص على ذلك الخفاجي ولأن الحقبة جمع حقب بكسر ففتح، قال في القاموس: الحقبة بالكسر من الدهر مدة لا وقت لها والسنة وجمعه حقب كعنب وحقوب كحبوب، واقتصر الراغب والجوهري على الأول، وكان منشأ عزيمة موسى عليه السلام على ما ذكر ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث ابن عباس عن أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن موسى عليه السلام قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم؟ فقال: أنا فعتب الله تعالى عليه إذ لم يرد العلم إليه سبحانه فأوحى الله تعالى إليه أن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك» الحديث، وفي رواية أخرى عنه عن أبي أيضا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن موسى بني إسرائيل سأل ربه فقال: اي رب إن كان في عبادك أحد هو أعلم مني فدلني عليه فقال له: نعم في عبادي من هو أعلم منك ثم نعت له مكانه وأذن له في لقيه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والخطيب وابن عساكر من طريق هارون عن أبيه عن ابن عباس قال: سأل موسى عليه السلام ربه سبحانه فقال: اي رب أي عبادك أحب إليك؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني قال: فأي عبادك أقضى؟ قال: الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى قال: فأي عبادك أعلم؟ قال: الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى قال: وكان حدث موسى نفسه أنه ليس أحد أعلم منه فلما أن قيل له الذي يبتغي علم الناس إلى علمه قال: يا رب فهل في الأرض أحد أعلم مني؟ قال: نعم قال: فأين هو؟ قيل له: عند الصخرة التي عندها العين فخرج موسى يطلبه حتى كان ما ذكر الله تعالى. ثم إن هذه الأخبار لا دلالة فيها على وقوع القصة في مصر أو في غيرها، نعم جاء في بعض الروايات التصريح بكونها في مصر، فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس قال: لما ظهر موسى عليه السلام وقومه على مصر أنزل قومه بمصر فلما استقرت بهم البلد أنزل الله تعالى أن ذكرهم بأيام الله تعالى فخطب قومه فذكر ما آتاهم الله تعالى من الخير والنعم وذكرهم إذ أنجاهم الله تعالى من آل فرعون وذكرهم هلاك عدوهم وما استخلفهم الله سبحانه في الأرض وقال كلم الله تعالى نبيكم تكليما واصطفاني لنفسه وأنزل علي محبة منه وآتاكم من كل شيء ما سألتموه فنبيكم أفضل أهل الأرض وأنتم تقرءون التوراة فلم يترك نعمة أنعمها الله تعالى عليهم إلا عرفهم إياها فقال له رجل من بني إسرائيل: فهل على الأرض أعلم منك يا نبي الله؟ قال: لا فبعث الله تعالى جبريل عليه السلام إلى موسى عليه السلام فقال: إن الله تعالى يقول وما يدريك أين أضع علمي بلى إن على ساحل البحر رجلا أعلم منك ثم كان ما قص الله سبحانه ، وأنكر ذلك ابن عطية فقال: ما يرى قط أن موسى عليه السلام أنزل قومه بمصر إلا في هذا الكلام وما أراه يصح بل المتظافر أن موسى عليه السلام توفي في أرض التيه قبل فتح ديار الجبارين اه وما ذكره من عدم إنزال موسى عليه السلام قومه بمصر هو الأقرب إلى القبول عندي وإن تعقب الخفاجي كلامه بعد نقله بقوله فيه نظر، ثم إن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 295 الأخبار المذكورة ظاهرة في أن العبد الذي أرشد إليه موسى عليه السلام كان أعلم منه، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك فَلَمَّا بَلَغا الفاء فصيحة أي فذهبا يمشيان إلى مجمع البحرين فلما بلغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما أي البحرين، والأصل في بين النصب على الظرفية. وأخرج عن ذلك بجره (1) بالإضافة اتساعا والمراد مجمعهما، وقيل: مجمعا في وسطهما فيكون كالتفصيل لمجمع البحرين، وذكر أن هذا يناسب تفسير المجمع بطنجة أو إفريقية إذ يراد بالمجمع متشعب بحر فارس والروم من المحيط وهو هناك، وقيل: بين اسم بمعنى الوصل، وتعقب بأن فيه ركاكة إذ لا حسن في قولك مجمع وصلهما، وقيل إن فيه مزيد تأكيد كقولهم جد جده وجوز أن يكون بمعنى الافتراق أي موضع اجتماع افتراق البحرين أي البحرين المفترقين، والظاهر أن ضمير التثنية على الاحتمالين للبحرين. وقال الخفاجي: يحتمل على احتمال أن يكون بمعنى الافتراق عوده لموسى والخضر عليهما السلام أي وصلا إلى موضع وعد اجتماع شملهما فيه، وكذا إذا كان بمعنى الوصل انتهى، وفيه ما لا يخفى، ومَجْمَعَ على سائر الاحتمالات اسم مكان، واحتمال المصدرية هنا مثله فيما تقدم نَسِيا حُوتَهُما الذي جعل فقدانه أمارة وجدان المطلوب، فقد صح أن الله تعالى حين قال لموسى عليه السلام: إن لي بمجمع البحرين من هو أعلم قال موسى: يا رب فكيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم فأخذ حوتا وجعله في مكتل ثم انطلق وانطلق معه فتاه حتى إذا أتيا الصخرة وكانت عند مجمع البحرين وضعا رؤوسهما فناما واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر ، والظاهر نسبة النسيان إليهما جميعا وإليه ذهب الجمهور، والكلام على تقدير مضاف أي نسيا حال حوتهما إلا أن الحال الذي نسيه كل منهما مختلف فالحال الذي نسيه موسى عليه السلام كونه باقيا في المكتل أو مفقودا والحال الذي نسيه يوشع عليه السلام ما رأى من حياته ووقوعه في البحر، وهذا قول بأن يوشع شاهد حياته وفيه خبر صحيح، ففي حديث رواه الشيخان، وغيرهما أن الله تعالى قال لموسى: خذ نونا ميتا فهو حيث ينفخ فيه الروح فأخذ ذلك فجعله في مكتل فقال لفتاه: لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت قال: ما كلفت كثيرا فبينما هما في ظل صخرة إذا اضطرب الحوت حتى دخل البحر وموسى نائم فقال فتاه: لا أوقظه حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره. وفي حديث رواه مسلم، وغيره أن الله تعالى قال له: آية ذلك أن تزود حوتا (2) مالحا فهو حيث تفقده ففعل حتى إذا انتهيا إلى الصخرة انطلق موسى يطلب ووضع فتاه الحوت على الصخرة فاضطرب ودخل البحر فقال فتاه: إذا جاء نبي الله تعالى حدثته فأنساه الشيطان، وزعم بعض أن الناسي هو الفتى لا غير نسي أن يخبر موسى عليه السلام بأمر الحوت، ووجه نسبة النسيان إليهما بأن الشيء قد ينسب إلى الجماعة وإن كان الذي فعله واحدا منهم، وما ذكر هنا نظير نسي القوم زادهم إذا نسيه متعهد أمرهم، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي نسي أحدهما والمراد به الفتى وهو كما ترى، وسبب حياة هذا الحوت على ما في بعض الروايات عن ابن عباس أنه كان عند الصخرة ماء الحياة من شرب منه خلد ولا يقاربه ميت إلا حيي فأصاف شيء منه الحوت فحيي، وروي أن يوشع عليه السلام توضأ من ذلك الماء فانتضح شيء منه على الحوت فعاش ، وقيل: إنه لم يصبه سوى روح الماء وبرده فعاش بإذن الله تعالى وذكر هذا الماء وأنه ما   (1) والإضافة بيانية أو لامية. (2) في رواية مملحا وفي أخرى مليحا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 296 أصاب منه شيء إلا حيي وأن الحوت أصاب منه جاء في صحيح البخاري فيما يتعلق بسورة الكهف أيضا لكن ليس فيه أنه من شرب منه خلد كما في بعض الروايات السابقة. ويشكل على هذا البعض أنه روي أن يوشع شرب منه أيضا مع أنه لم يخلد اللهم إلا أن يقال: إن هذا لا يصح والله تعالى أعلم، ثم إن هذا الحوت كان على ما سمعت فيما مر مالحا وفي رواية مشويا، وفي بعض أنه كان في جملة ما تزوداه وكانا يصيبان منه عند العشاء والغداء فأحياه الله تعالى وقد أكلا نصفه فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً مسلكا كالسرب وهو النفق فقد صح من حديث الشيخين والترمذي والنسائي وغيرهم أن الله تعالى أمسك عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق ، والمراد به البناء المقوس كالقنطرة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن الحبر جعل الحوت لا يمس شيئا من البحر إلا ييس حتى يكون صخرة، وهذا وكذا ما سبق من الأمور الخارقة للعادة التي يظهرها سبحانه على من شاء من أنبيائه وأوليائه، ونقل الدميري بقاء أثر الخارق الأول قال: قال أبو حامد الأندلسي رأيت سمكة بقرب مدينة سبتة من نسل الحوت الذي تزوده موسى وفتاه عليهما السلام وأكلا منه وهي سمكة طولها أكثر من ذراع وعرضها شبر واحد جنبيها شوك وعظام وجلد رقيق على أحشائها ولها عين واحدة ورأسها نصف رأس من رآها من هذا الجانب استقذرها وحسب أنها مأكولة ميتة ونصفها الآخر صحيح والناس يتبركون بها ويهدونها إلى الأماكن البعيدة انتهى. وقال أبو شجاع في كتاب الطبري: أتيت به فرأيته فإذا هو شق حوت وليس له إلا عين واحدة، وقال ابن عطية: وأنا رأيته أيضا وعلى شقه قشرة رقيقة ليس تحتها شوكة، وفيه مخالفة لما في كلام أبي حامد، وأنا سألت كثيرا من راكبي البحار ومتتبعي عجائب الآثار فلم يذكروا أنهم رأوا ذلك ولا أهدي إليهم في مملكة من الممالك فلعل أمره إن صح كل من الإثبات والنفي صار اليوم كالعنقاء كانت فعدمت والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. والفاء على ما يقتضيه كلامهم فصيحة أي فحيي وسقط في البحر فاتخذ، وقدر بعضهم المعطوف عليه الذي تفصح عنه الفاء بالواو على خلاف المألوف ليدفع به الاعتراض على كون الحال الذي نسيه يوشع ما رأى من حياته ووقوعه في البحر بأن الفاء تؤذن بأن نسيانه عليه السلام كان قبل حياته ووقوعه في البحر واتخاذه سربا فلا يصح اعتبار ذلك في الحال المنسي، وأجيب بأن المعتبر في الحال هو الحياة والوقوع في البحر أنفسهما من غير اعتبار أمر آخر والواقع بعدهما من حيث ترتب عليهما الاتخاذ المذكور فهما من حيث أنفسهما متقدمان على النسيان ومن حيث ترتب الاتخاذ متأخران وهما من هذه الحيثية معطوفان على نسيا بالفاء التعقيبية، ولا يخفى أنه سيأتي في الجواب إن شاء الله تعالى ما يأبى هذا الجواب إلا أن يلتزم فيه خلاف المشهور بين الأصحاب فتدبر، وانتصاب سَرَباً على أنه مفعول ثان لاتخذ وفِي الْبَحْرِ حال منه ولو تأخر كان صفة أو من السبيل، ويجوز أن يتعلق باتخذ، وفِي في جميع ذلك ظرفية. وربما يتوهم من كلام ابن زيد حيث قال: إنما اتخذ سبيله في البر حتى وصل إلى البحر فعام على العادة أنها تعليلية مثلها في أن امرأة دخلت النار في هرة فكأنه قيل فاتخذ سبيله في البر سربا لأجل وصوله إلى البحر، وواقفه في كون اتخاذ السرب في البر قوم، وزعموا أنه صادف في طريقه في البر حجرا فنقبه، ولا يخفى أن القول بذلك خلاف ما ورد في الصحيح مما سمعت والآية لا تكاد تساعده، وجوز أن يكون مفعولا اتخذ سَبِيلَهُ وفِي الْبَحْرِ وسربا حال من السبيل وليس بذاك، وقيل حال من فاعل اتخذ وهو بمعنى التصرف والجولان من قولهم فحل سارب أي مهمل يرعى حيث شاء، ومنه قوله تعالى: وَسارِبٌ بِالنَّهارِ [الرعد: 10] وهو في تأويل الوصف أي اتخذ ذلك في البحر متصرفا، ولا يخفى أنه نظير سابقه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 297 فَلَمَّا جاوَزا أي ما فيه المقصد من مجمع البحرين، صح أنهما انطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان الغد وارتفع النهار أحس موسى عليه السلام بالجوع فعند ذلك قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا وهو الطعام الذي يؤكل، أول النهار والمراد به الحوت على ما ينبئ عنه ظاهر الجواب وقيل سارا ليلتهما إلى الغد فقال ذلك. لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً أي تعبا وإعياء، وهذا إشارة إلى سفرهم الذي هم ملتبسون به ولكن باعتبار بعض أجزائه، فقد صح أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «لم يجد موسى شيئا من النصب حتى جاوز المكان الذي أمر به» وذكر أنه يفهم من الفحوى، والتخصيص بالذكر أنه لم ينصب في سائر أسفاره والحكمة في حصول الجوع والتعب له حين جاوز أن يطلب الغداء فيذكر الحوت فيرجع إلى حيث يجتمع بمراده، وعن أبي بكر غالب بن عطية والد أبي عبد الحق المفسر قال: سمعت أبا الفضل الجوهري يقول في وعظه: مشى موسى إلى المناجاة فبقي أربعين يوما لم يحتج إلى طعام ولما مشى إلى بشر لحقه الجوع في بعض يوم، والجملة في محل التعليل للأمر بإيتاء الغداء إما باعتبار أن النصب إنما يعتري بسبب الضعف الناشئ عن الجوع، وإما باعتبار ما في أثناء التغدي من استراحة ما، وقرأ عبد الله بن عبيد بن عمير «نصبا» بضمتين، قال صاحب اللوامح: وهي إحدى اللغات الأربع في هذه الكلمة قالَ أي فتاه، والاستئناف بياني كأنه قيل فما صنع الفتى حين قال له موسى عليه السلام ما قال؟ فقيل قال أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ أي التجأنا إليها وأقمنا عندها، وجاء في بعض الروايات الصحيحة أن موسى عليه السلام حين قال لفتاه: لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً قال: قد قطع الله عنك النصب ، وعلى هذا فيحتمل أنه بعد أن قال ذلك قال أَرَأَيْتَ إلخ، قال شيخ الإسلام: وذكر الإواء إلى الصخرة مع أن المذكور فيما سبق بلوغ مجمع البحرين لزيادة تعيين محل الحادثة فإن المجمع محل متسع لا يمكن تحقيق المراد بنسبة الحادثة إليه ولتمهيد العذر فإن الإواء إليها والنوم عندها مما يؤدي إلى النسيان عادة انتهى. وهذا الأخير إنما يتم على بعض الروايات من أنهما ناما عند الصخرة، وذكر أن هذه الصخرة قريبة من نهر الزيت وهو نهر معين عنده كثير من شجر الزيتون، وأَ رَأَيْتَ قيل بمعنى أخبرني وتعقبه أبو حيان بأنها إذا كانت كذلك فلا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 298 بد لها من أمرين كون الاسم المستخبر عنه معها ولزوم الجملة التي بعدها الاستفهام وهما مفقودان هنا، ونقل هو وناظر الجيش في شرح التسهيل عن أبي الحسن الأخفش أنه يرى أن أرأيت إذا لم ير بعدها منصوب ولا استفهام بل جملة مصدرة بالفاء كما هنا مخرجة عن بابها ومضمنة معنى أما أو تنبه فالفاء جوابها لا جواب إذ لأنها لا تجازى إلا مقرونة بما بلا خلاف فالمعنى أما أو تنبه إذ أوينا إلى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وقال شيخ الإسلام: الرؤية مستعارة للمعرفة التامة والمشاهدة الكاملة، ومراده بالاستفهام تعجيب موسى عليه السلام مما اعتراه هناك من النسيان مع كون ما شاهده من العظائم التي لا تكاد تنسى، وقد جعل فقدانه علامة لوجدان المطلوب وهذا أسلوب معتاد بين الناس يقول أحدهم لصاحبه إذا نابه خطب: أرأيت ما نابني يريد بذلك تهويله وتعجيب صاحبه منه وأنه مما لا يعهد وقوعه ولا استخباره عن ذلك كما قيل، والمفعول محذوف اعتمادا على ما يدل عليه من قوله فَإِنِّي إلخ وفيه تأكيد للتعجيب وتربية لاستعظام المنسي اه. وفيه من القصور ما فيه. والزمخشري جعله استخبارا فقال: إن يوشع عليه السلام لما طلب منه موسى عليه السلام الغداء ذكر ما رأى من الحوت وما اعتراه من نسيانه إلى تلك الغاية فدهش فطفق يسأل عن سبب ذلك كأنه قال: أرأيت ما دهاني إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت فحذف ذلك اه، وفيه إشارة إلى أن مفعول أَرَأَيْتَ محذوف وهو إما الجملة الاستفهامية إن كانت ما في ما دهاني للاستفهام وإما نفس ما إن كانت موصولة، وإلى أن إذ ظرف متعلق بدهاني وهو سبب لما بعد الفاء في فَإِنِّي وهي سببية، ونظير ذلك قوله تعالى: وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ [الأحقاف: 11] فإن التقدير وإذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم فسيقولون إلخ وهو قول بأن أرأيت بمعنى أخبرني وقد سمعت ما قيل عليه، وفي تقديره أيضا على الاحتمال الثاني ما في حذف الموصول مع جزء الصلة بناء على أن فَإِنِّي نَسِيتُ من تتمتها، وعلى العلات ليس المراد من الاستخبار حقيقته بل تهويل الأمر أيضا. ثم لا يخفى إن رأى إن كانت بصرية أو بمعنى عرف احتاجت إلى مفعول واحد والتقدير عند بعض المحققين أأبصرت أو أعرفت حالي إذ أوينا وفيه تقليل للحذف ولا يخفى حسنه، وإن كانت علمية احتاجت إلى مفعولين وعلى هذا قال أبو حيان: يمكن أن تكون مما حذف منه المفعولان اختصارا والتقدير أرأيت أمرنا إذ أوينا ما عاقبته، وإيقاع النسيان على اسم الحوت دون ضمير الغداء مع أنه المأمور بإيتائه قيل للتنبيه من أول الأمر على أنه ليس من قبيل نسيان زاده في المنزل وأن ما شاهده ليس من قبيل الأحوال المتعلقة بالغداء من حيث هو غداء وطعام بل من حيث هو حوت كسائر الحيتان مع زيادة وقيل للتصريح بما في فقده إدخال السرور على موسى عليه السلام مع حصول الجواب فقد تقدم رواية أنه قال له: لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت، ثم الظاهر أن النسيان على حقيقته وهو ليس متعلقا بذات الحوت بل بذكره. وجوز أن يكون مجازا عن الفقد فيكون متعلقا بنفس الحوت، والأكثرون على الأول أي نسيت أن أذكر لك أمر الحوت وما شاهدت من عجيب أمره وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ لعله شغله بوساوس في الأهل ومفارقة الوطن فكان ذلك سببا للنسيان بتقدير العزيز العليم وإلا فتلك الحال مما لا تنسى. وقال بعضهم: إن يوشع كان قد شاهد من موسى عليه السلام المعجزات القاهرات كثيرا فلم يبق لهذه المعجزة وقع عظيم لا يؤثر معه الوسوسة فنسي. وقال الإمام: إن موسى عليه السلام لما استعظم علم نفسه أزال الله تعالى عن قلب صاحبه هذا العلم الضروري تنبيها لموسى عليه السلام على أن العلم لا يحصل إلا بتعليم الله تعالى وحفظه على القلب والخاطر، وأنت تعلم أنه لو جعل الله تعالى المشاهد الناسي هو موسى عليه السلام كان أتم في التنبيه، وقد يقال: إنه أنسي تأديبا له بناء على ما تقدم من أن موسى عليه السلام لما قال له: لا أكلفك إلخ قال له ما كلفت كثيرا حيث استسهل الأمر ولم يظهر الالتجاء فيه إلى الله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 299 تعالى بأن يقول: أخبرك إن شاء الله تعالى، وفيه أيضا عتاب لموسى عليه السلام حيث اعتمد عليه في العلم بذهاب الحوت فلم يحصل له حتى نصب، ثم إن هذه الوسوسة لا تضر بمقام يوشع عليه السلام وإن قلنا إنه كان نبيا وقت وقوع هذه القصة. وقال بعض المحققين: لعله نسي ذلك لاستغراقه في الاستبصار وانجذاب شراشره إلى جناب القدس بما اعتراه من مشاهدة الآيات الباهرة، وإنما نسبه إلى الشيطان مع أن فاعله الحقيقي هو الله تعالى والمجازي هو الاستغراق المذكور هضما لنفسه بجعل ذلك الاستغراق والانجذاب لشغله عن التيقظ للموعد الذي ضربه الله تعالى بمنزلة الوساوس ففيه تجوز باستعارة الشيطان لمطلق الشاغل، وفي الحديث «إنه ليغان على قلبي فاستغفر الله تعالى في اليوم سبعين مرة» أو لأن عدم احتمال القوة للجانبين واشتغالها بأحدهما عن الآخر يعد من نقصان صاحبها وتركه المجاهدات والتصفية فيكون قد تجوز بذلك عن النقصان لكونه سببه، وضم حفص الهاء في «أنسانيه» وهو قليل في مثل هذا التركيب قلة النسيان في مثل هذه الواقعة، والجمهور على الكسر وأمال الكسائي فتحة السين. وقوله تعالى: أَنْ أَذْكُرَهُ بدل اشتمال من الهاء أي ما أنساني ذكره لك إلا الشيطان، قيل وفي تعليق الفعل بضمير الحوت أولا وبذكره له ثانيا على طريق الإبدال المنبئ عن تنحيته المبدل منه إشارة إلى أن متعلق النسيان ليس نفس الحوت بل ذكر أمره. وفي مصحف عبد الله وقراءته «أن أذكركه» ، وفي إيثار أن والفعل على المصدر نوع مبالغة لا تخفى. وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً الظاهر الذي عليه أكثر المفسرين أن مجموعه كلام يوشع وهو تتمة لقوله فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وفيه إنباء عن طرف آخر من أمره وما بينهما اعتراض قدم عليه للاعتناء بالاعتذار كأنه قيل حيي واضطرب ووقع في البحر واتخذ سبيله فيه سبيلا عجبا، فسبيله مفعول أول لاتخذ وفِي الْبَحْرِ حال منه وعَجَباً مفعول ثان، وفي ذكر السبيل ثم إضافته إلى ضمير الحوت ثم جعل الظرف حالا من المضاف تنبيه إجمالي على أن المفعول الثاني من جنس الأمور الغريبة، وفيه تشويق للمفعول الثاني وتكرير مفيد للتأكيد المناسب للمقام، فهذا التركيب في إفادة المراد أو في لحق البلاغة من أن يقال واتخذ في البحر سبيلا عجبا، وجوز أن يكون فِي الْبَحْرِ حالا من عَجَباً وأن يكون متعلقا باتخذ، وأن يكون المفعول الثاني له وعَجَباً صفة مصدر محذوف أي اتخاذا عجبا وهو كون مسلكه كالطاق والسرب، وجوز أيضا على احتمال كون الظرف مفعولا ثانيا أن ينصب عَجَباً بفعل منه مضمر أي أعجب عجبا، وهو من كلام يوشع عليه السلام أيضا تعجب من أمر الحوت بعد أن أخبر عنه، وقيل إن كلام يوشع عليه السلام قد تم عند الْبَحْرِ وقول أعجب عجبا كلام موسى عليه السلام كأنه قيل: وقال موسى: أعجب عجبا من تلك الحال التي أخبرت بها، وأنت تعلم أنه لو كان كذلك لجيء، بالجملة الآتية بالواو العاطفة على هذا المقدر، وقيل: يحتمل أن يكون المجموع من كلامه عز وجل وحينئذ يحتمل وجهين، أحدهما أن يكون إخبارا منه تعالى عن الحوت بأنه اتخذ سبيله في البحر عجبا للناس، وثانيهما أن يكون إخبارا منه سبحانه عن موسى عليه السلام بأنه اتخذ سبيل الحوت في البحر عجبا يتعجب منه، وعَجَباً على هذا مفعول ثان ولا ركاكة في تأخير قالَ الآتي عنه على هذا لأن استئناف لبيان ما صدر منه عليه السلام بعد، ويؤيد كونه من كلام يوشع عليه السلام قراءة أبي حيوة «واتخاذ» بالنصب على أنه معطوف على المنصوب في أَذْكُرَهُ قالَ أي موسى عليه السلام ذلِكَ الذي ذكرت من أمر الحوت ما كُنَّا نَبْغِ أي الذي كنا نطلبه من حيث إنه أمارة للفوز بما هو المطلوب بالذات، وقرىء «نبغ» بغير ياء في الوصل وإثباتها أحسن وهي قراءة أبي عمرو والكسائي ونافع، وأما الوقف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 300 فالأكثر فيه طرح الياء اتباعا لرسم المصحف، وأثبتها في الحالين ابن كثير فَارْتَدَّا أي رجعا عَلى آثارِهِما الأولى، والمراد طريقهما الذي جاءا منه قَصَصاً أي يقصانه قصصا أي يتبعانها اتباعا فهو من قص أثره إذا اتبعه كما هو الظاهر، ونصبه على أنه مفعول لفعل مقدر من لفظه، وجوز أن يكون حالا مؤولا بالوصف أي مقتصين حتى أتيا الصخرة التي فقد الحوت عندها. فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا الجمهور على أنه الخضر بفتح الخاء وقد تكسر وكسر الضاد وقد تسكن، وقيل اليسع، وقيل اليأس، وقيل ملك من الملائكة وهو قول غريب باطل كما في شرح مسلم، والحق الذي تشهد له الأخبار الصحيحة هو الأول، والخضر لقبه ولقب به كما أخرج البخاري وغيره عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأنه جلس على فروة (1) بيضاء فإذا هي تهتز من خلفه خضراء. وأخرج ابن عساكر وجماعة عن مجاهد أنه لقب بذلك لأنه إذا صلى اخضر ما حوله ، وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة أن ذلك لأنه كان إذا جلس في مكان اخضر ما حوله وكانت ثيابه خضرا ، وأخرج عن السدي أنه إذا قام بمكان نبت العشب تحت رجليه حتى يغطي قدميه ، وقيل لإشراقه وحسنه، والصواب كما قال النووي الأول، وكنيته أبو العباس واسمه بليا بموحدة مفتوحة ولام ساكنة وياء مثناة تحتية، وفي آخره ألف قيل ممدودة، وقيل ابليا بزيادة همزة في أوله، وقيل عامر، وقيل أحمد ووهاه ابن دحية بأنه لم يسمع قبل نبينا صلّى الله عليه وسلّم أحد من الأمم السالفة بأحمد، وزعم بعضهم أن اسم الخضر اليسع وأنه إنما سمي بذلك لأن علمه وسع ست سموات وست أرضين ووهاه ابن الجوزي، وأنت تعلم أنه باطل لا واه، ومثله القول بأن اسمه الياس، واختلفوا في أبيه فأخرج الدارقطني في الأفراد، وابن عساكر من طريق مقاتل بن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس أنه ابن آدم لصلبه، وأخرج ابن عساكر عن سعيد بن المسيب أن أمه رومية وأباه فارسي، ولم يذكر اسمه وذكر أن الياس أخوه من هذه الأم وهذا الأب، وأخرج أيضا عن أسباط عن السدي أنه ابن ملك من الملوك وكان منقطعا في عبادة الله تعالى وأحب أبوه أن يزوجه فأبى ثم أجاب فزوجه بامرأة بكر فلم يقربها سنة ثم بثيب فلم يقربها ثم فر فطلبه فلم يقدر عليه ثم تزوجت امرأته الأولى وكانت قد آمنت وهي ماشطة امرأة فرعون، ولم يذكر أيضا اسم أبيه، وقيل إنه ابن فرعون على ما قيل إنه أبوه وسبحان من يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، وأخرج أبو الشيخ في العظمة وأبو نعيم في الحلية عن كعب الأحبار أنه ابن عاميل وأنه ركب في نفر من أصحابه حتى بلغ بحر الهند وهو بحر الصين فقال: يا أصحابي دلوني فدلوه في البحر أياما وليالي ثم صعد فقال: استقبلني ملك فقال لي: أيها الآدمي الخطاء إلى أين ومن أين؟ فقلت: أردت أن أنظر عمق هذا البحر فقال لي: كيف وقد أهوى رجل من زمان داود عليه السلام، ولم يبلغ ثلث قعره حتى الساعة وذلك ثلاثمائة سنة، وأظنك لا تشك بكذب هذا الخبر وإن قيل حدث عن البحر ولا حرج وقيل هو ابن العيص. وقيل هو ابن كليان بكاف مفتوحة ولام ساكنة وياء مثناة تحتية بعدها ألف ونون. وقال ابن قتيبة في المعارف: قال وهب بن منبه إنه ابن ملكان بفتح الميم وإسكان اللام ابن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح عليه السلام. ولم يصح عندي شيء من هذه الأقوال بيد أن صنيع النووي عليه الرحمة في شرح مسلم يشعر باختيار أنه بليا بن ملكا وهو الذي عليه الجمهور والله تعالى أعلم. وصح من حديث البخاري وغيره أنهما رجعا إلى الصخرة وإذا رجل مسجى بثوب قد جعل طرفه تحت رجليه   (1) هي وجه الأرض اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 301 وطرفه الآخر تحت رأسه. وفي صحيح مسلم فأتيا جزيرة فوجد الخضر قائما يصلي على طنفسة خضراء على كبد البحر ، وقال الثعلبي: انتهيا إليه وهو نائم على طنفسة خضراء على وجه الماء وهو مسجى بثوب أخضر . وقيل إن سبيل الحوت عاد حجرا فلما جاءا إليه مشيا عليه حتى وصلا إلى جزيرة فيها الخضر، وصح أنهما لما انتهيا إليه سلم موسى فقال الخضر: وإني بأرضك السلام. فقال: أنا موسى. فقال: موسى بني إسرائيل قال: نعم، وروي أنه لما سلم عليه وهو مسجى عرفه أنه موسى فرفع رأسه فاستوى جالسا وقال: وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل فقال موسى: وما أدراك بي ومن أخبرك أني نبي بني إسرائيل؟ فقال: الذي أدراك بي ودلك عليّ ثم قال: يا موسى أما يكفيك أن التوراة بيدك وأن الوحي يأتيك؟ قال موسى: إن ربي أرسلني إليك لأتبعك وأتعلم من علمك ، والتنوين في عَبْداً للتفخيم والإضافة في عِبادِنا للتشريف والاختصاص أي عبدا جليل الشأن ممن اختص بنا وشرف بالإضافة إلينا. آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا قيل المراد بها الرزق الحلال والعيش الرغد، وقيل العزلة عن الناس وعدم الاحتياج إليهم وقيل طول الحياة مع سلامة البنية، والجمهور على أنها الوحي والنبوة وقد أطلقت على ذلك في مواضع من القرآن، وأخرج ذلك ابن أبي حاتم عن ابن عباس، وهذا قول من يقول بنبوته عليه السلام وفيه أقوال ثلاثة، فالجمهور على أنه عليه السلام نبي وليس برسول، وقيل هو رسول، وقيل هو ولي وعليه القشيري وجماعة، والمنصور ما عليه الجمهور. وشواهده من الآيات والأخبار كثيرة وبمجموعها يكاد يحصل اليقين، وكما وقع الخلاف في نبوته وقع الخلاف في حياته اليوم فذهب جمع إلى أنه ليس بحي اليوم، وسئل البخاري عنه وعن الياس عليهما السلام هل هما حيان؟ فقال: كيف يكون هذا وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم أي قبل وفاته بقليل لا يبقى على رأس المائة ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد ، والذي في صحيح مسلم عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل موته ما من نفس منفوسة يأتي عليها مائة سنة وهي يومئذ حية وهذا أبعد عن التأويل، وسئل عن ذلك غيره من الأئمة فقرأ وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [الأنبياء: 34] . وسئل عنه شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: لو كان الخضر حيا لوجب عليه أن يأتي إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ويجاهد بين يديه ويتعلم منه. وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض فكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا معروفين بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم فأين كان الخضر حينئذ؟. وسئل إبراهيم الحربي عن بقائه فقال: من أحال على غائب لم ينتصف منه وما ألقى هذا بين الناس إلا الشيطان. ونقل في البحر عن شرف الدين أبي عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي القول بموته أيضا. ونقله ابن الجوزي عن علي بن موسى الرضا رضي الله تعالى عنهما أيضا . وكذا عن إبراهيم بن إسحاق الحربي، وقال أيضا: كان أبو الحسين بن المنادي يقبح قول من يقول إنه حي. وحكى القاضي أبو يعلى موته عن بعض أصحاب محمد وكيف يعقل وجود الخضر ولا يصلي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجمعة والجماعة ولا يشهد معه الجهاد مع قوله عليه الصلاة والسلام «والذي نفسي بيده لو كان موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبعني» وقوله عز وجل وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 81] وثبوت أن عيسى عليه السلام إذا نزل إلى الأرض يصلي خلف إمام هذه الأمة ولا يتقدم عليه في مبدأ الأمر، وما أبعد فهم من يثبت وجود الخضر عليه السلام وينسى ما في طي إثباته من الإعراض عن هذه الشريعة ثم قال: وعندنا من المعقول وجوه على عدم حياته، أحدها أن الذي قال بحياته قال: إنه ابن آدم عليه السلام لصلبه وهذا فاسد لوجهين، الأول أنه يلزم أن يكون عمره اليوم ستة آلاف سنة أو أكثر ومثل هذا بعيد في العادات في حق البشر. والثاني الجزء: 8 ¦ الصفحة: 302 أنه لو كان ولده لصلبه أو الرابع من أولاده كما زعموا أنه وزير ذي القرنين لكان مهول الخلقة مفرط الطول والعرض، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «خلق آدم طوله ستون ذراعا فلم يزل الخلق ينقص بعده» وما ذكر أحد ممن يزعم رؤية الخضر أنه رآه على خلقة عظيمة وهو من أقدم الناس، والوجه الثاني أنه لو كان الخضر قبل نوح عليه السلام لركب معه في السفينة ولم ينقل هذا أحد. الثالث أن العلماء اتفقوا على أن نوحا عليه السلام لما خرج من السفينة مات من معه ولم يبق غير نسله ودليل ذلك قوله سبحانه وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ [الصافات: 77] . الرابع أنه لو صح بقاء بشر من لدن آدم إلى قرب خراب الدنيا لكان ذلك من أعظم الآيات والعجائب وكان خبره في القرآن مذكورا في مواضع لأنه من آيات الربوبية وقد ذكر سبحانه عز وجل من استحياه ألف سنة إلا خمسين عاما وجعله آية فكيف لا يذكر جل وعلا من استحياه أضعاف ذلك، الخامس أن القول بحياة الخضر قول على الله تعالى بغير علم وهو حرام بنص القرآن، أما المقدمة الثانية فظاهرة، وأما الأولى فلأن حياته لو كانت ثابتة لدل عليها القرآن أو السنة أو إجماع الأمة فهذا كتاب الله تعالى فأين فيه حياة الخضر؟ وهذه سنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم فأين فيها ما يدل على ذلك بوجه، وهؤلاء علماء الأمة فمتى أجمعوا على حياته، السادس أن غاية ما يتمسك به في حياته حكايات منقولة يخبر الرجل بها أنه رأى الخضر فيالله تعالى العجب هل للخضر علامة يعرفه بها من رآه؟ وكثير من زاعمي رؤيته يغتر بقوله أنا الخضر ومعلوم أنه لا يجوز تصديق قائل ذلك بلا برهان من الله تعالى فمن أين للرائي أن المخبر له صادق لا يكذب؟ السابع أن الخضر فارق موسى بن عمران كليم الرحمن ولم يصاحبه وقال هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الكهف: 78] فكيف يرضى لنفسه بمفارقة مثل موسى عليه السلام ثم يجتمع بجهلة العباد الخارجين عن الشريعة الذين لا يحضرون جمعة ولا جماعة ولا مجلس علم وكل منهم يقول: قال لي الخضر جاءني الخضر أوصاني الخضر- فيا عجبا له يفارق الكليم ويدور على صحبة جاهل لا يصحبه إلا شيطان رجيم سبحانك هذا بهتان عظيم. الثامن أن الأمة مجمعة على أن الذي يقول أنا الخضر لو قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: كذا وكذا لم يلتفت إلى قوله ولم يحتج به في الدين ولا مخلص للقائل بحياته عن ذلك إلا أن يقول: إنه لم يأت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ولا بايعه أو يقول: إنه لم يرسل إليه وفي هذا من الكفر ما فيه، التاسع أنه لو كان حيا لكان جهاده الكفار ورباطه في سبيل الله تعالى ومقامه في الصف ساعة وحضوره الجمعة والجماعة وإرشاد جهلة الأمة أفضل بكثير من سياحته بين الوحوش في القفار والفلوات إلى غير ذلك، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما له وما عليه. وشاع الاستدلال بخبر لو كان الخضر حيا لزارني وهو كما قال الحفاظ خبر موضوع لا أصل له ولو صح لأغنى عن القيل والقال ولا نقطع به الخصام والجدال وذهب جمهور العلماء إلى أنه حي موجود بين أظهرنا وذلك متفق عليه عند الصوفية قدست أسرارهم قاله النووي، ونقل عن الثعلبي المفسر أن الخضر نبي معمر على جميع الأقوال محجوب عن أبصار أكثر الرجال، وقال ابن الصلاح: هو حي اليوم عند جماهير العلماء والعامة معهم في ذلك وإنما ذهب إلى إنكار حياته بعض المحدثين واستدلوا على ذلك بأخبار كثيرة منها ما أخرجه الدارقطني في الأفراد وابن عساكر عن الضحاك عن ابن عباس أنه قال: الخضر ابن آدم لصلبه ونسيء له في أجله حتى يكذب الدجال ومثله لا يقال من قبل الرأي، ومنها ما أخرجه ابن عساكر عن ابن إسحاق قال: حدثنا أصحابنا أن آدم عليه السلام لما حضره الموت جمع بنيه فقال: يا بني إن الله تعالى منزل على أهل الأرض عذابا فليكن جسدي معكم في المغارة حتى إذا هبطتم فابعثوا بي وادفنوني بأرض الشام فكان جسده معهم فلما بعث الله تعالى نوحا ضم ذلك الجسد وأرسل الله تعالى الطوفان على الأرض فغرقت الجزء: 8 ¦ الصفحة: 303 زمانا فجاء نوح حتى نزل بابل وأوصى بنيه الثلاثة أن يذهبوا بجسده إلى المغار الذي أمرهم أن يدفنوه به فقالوا: الأرض وحشة لا أنيس بها ولا نهتدي الطريق ولكن كف حتى يأمن الناس ويكثروا فقال لهم نوح: إن آدم قد دعا الله تعالى أن يطيل عمر الذي يدفنه إلى يوم القيامة فلم يزل جسد آدم حتى كان الخضر هو الذي تولى دفنه فأنجز الله تعالى له ما وعده فهو يحيا إلى ما شاء الله تعالى له أن يحيا ، وفي هذا سبب طول بقائه وكأنه سبب بعيد وإلا فالمشهور فيه أنه شرب من عين الحياة حين دخل الظلمة مع ذي القرنين وكان على مقدمته، ومنها ما أخرجه الخطيب وابن عساكر عن علي رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه قال: بينا أنا أطوف بالبيت إذا رجل متعلق بأستار الكعبة يقول: يا من لا يشغله سمع عن سمع ويا من لا تغلطه المسائل ويا من لا يتبرم بإلحاح الملحين أذقني برد عفوك وحلاوة رحمتك قلت: يا عبد الله أعد الكلام قال: أسمعته؟ قلت: نعم قال: والذي نفس الخضر بيده- وكان هو الخضر- لا يقولهن عبد دبر الصلاة المكتوبة إلا غفرت ذنوبه وإن كانت مثل رمل عالج وعدد المطر وورق الشجر. ومنها ما نقله الثعلبي عن ابن عباس قال: قال علي كرم الله تعالى وجهه: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما توفي وأخذنا في جهازه خرج الناس وخلا الموضع فلما وضعته على المغتسل إذا بهاتف يهتف من زاوية البيت بأعلى صوته لا تغسلوا محمدا فإنه طاهر طهر فوقع في قلبي شيء من ذلك وقلت: ويلك من أنت فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم بهذا أمرنا وهذه سنته وإذا بهاتف آخر يهتف بي من زاوية البيت بأعلى صوته غسلوا محمدا فإن الهاتف الأول كان إبليس الملعون حسد محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن يدخل قبره مغسولا فقلت: جزاك الله تعالى خيرا قد أخبرتني بأن ذلك إبليس فمن أنت؟ قال: أنا الخضر حضرت جنازة محمد صلّى الله عليه وسلّم ، ومنها ما أخرجه الحاكم في المستدرك عن جابر قال: لما توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واجتمع الصحابة دخل رجل أشهب اللحية جسيم صبيح فتخطى رقابهم فبكى ثم التفت إلى الصحابة فقال: إن في الله تعالى عزاء من كل مصيبة وعوضا من كل فائت وخلفا من كل هالك فإلى الله تعالى فأنيبوا وإليه تعالى فارغبوا ونظره سبحانه إليكم في البلاء فانظروا فإنما المصاب من لم يجبر فقال أبو بكر وعلي رضي الله تعالى عنهما: هذا الخضر عليه السلام ومنها ما أخرجه ابن عساكر أن الياس والخضر يصومان شهر رمضان في بيت المقدس ويحجان في كل سنة ويشربان من زمزم شربة تكفيهما إلى مثلها من قابل ، ومنها ما أخرجه ابن عساكر أيضا والعقيلي والدارقطني في الأفراد عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: يلتقي الخضر والياس كل عام في الموسم فيحلق كل واحد منهما رأس صاحبه ويتفرقان عن هذه الكلمات باسم الله ما شاء الله لا يسوق الخير إلا الله ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله. ومنها ما أخرجه ابن عساكر بسنده عن محمد بن المنكدر قال: بينما عمر بن الخطاب يصلي على جنازة إذا بهاتف يهتف من خلفه لا تسبقنا بالصلاة يرحمك الله تعالى فانتظره حتى حق بالصف الأول فكبر عمر وكبر الناس معه فقال الهاتف: إن تعذبه فكثيرا عصاك وإن تغفر له ففقير إلى رحمتك فنظر عمر وأصحابه إلى الرجل فلما دفن الميت وسوي عليه التراب قال: طوبى لك يا صاحب القبر ان لم تكن عريفا أو جابيا أو خازنا أو كاتبا أو شرطيا فقال عمر: خذوا لي الرجل نسأله عن صلاته وكلامه هذا عمن هو فتوارى عنهم فنظروا فإذا أثر قدمه ذراع فقال عمر: هذا والله الذي حدثنا عنه النبي صلّى الله عليه وسلّم. والاستدلال بهذا مبني على أنه عنى بالمحدث عنه الخضر عليه السلام إلى غير ذلك. وكثير مما ذكر وإن لم يدل على أنه حي اليوم بل يدل على أنه كان حيا في زمنه صلّى الله عليه وسلّم ولا يلزم من حياته إذ ذاك حياته اليوم إلا أنه يكفي في رد الخصم إذ هو ينفي حياته إذ ذاك كما ينفي حياته اليوم، نعم إذا كان عندنا من يثبتها إذ ذاك وينفيها الآن لم ينفع ما ذكر معه لكن ليس عندنا من هو كذلك، وحكايات الصالحين من التابعين والصوفية في الاجتماع به والأخذ عنه في سائر الأعصار أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر. نعم أجمع المحدثون القائلون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 304 بحياته عليه السلام على أنه ليس له رواية عن النبي صلّى الله عليه وسلّم كما صرح به العراقي في تخريج أحاديث الأحياء. وهذا خلاف ما عند الصوفية فقد ادعى الشيخ علاء الدين استفادة الأحاديث النبوية عنه بلا واسطة. وذكر السهروردي في السر المكتوم أن الخضر عليه السلام حدثنا بثلاثمائة حديث سمعه من النبي صلّى الله عليه وسلّم شفاها، واستدل بعض الذاهبين إلى حياته الآن بالاستصحاب فإنه قد تحققت من قبل بالدليل فتبقى على ذلك إلى أن يقوم الدليل على خلافها ولم يقم. وأجابوا عما استدل به الخصم مما تقدم. فأجابوا عما ذكره البخاري من الحديث الذي لا يوجب نفي حياته في زمانه صلّى الله عليه وسلّم وإنما يوجب بظاهره نفيها بعد مائة سنة من زمان القول بأنه لم يكن حينئذ على ظهر الأرض بل كان على وجه الماء. وبأن الحديث عام فيما يشاهده الناس بدليل استثناء الملائكة عليهم السلام وإخراج الشيطان، وحاصله انخرام القرن الأول، نعم هو نص في الرد على مدعي التعمير كرتن بن عبد الله الهندي التبريزي الذي ظهر في القرن السابع وادعى الصحبة وروى الأحاديث. وفيه أن الظاهر ممن على ظهر الأرض من هو من أهل الأرض ومتوطن فيها عرفا ولا شك أن هذا شامل لمن كان في البحر ولو لم يعد من في البحر ممن هو على ظهر الأرض لم يكن الحديث نصا في الرد على رتن وأضرابه لجواز أن يكونوا حين القول في البحر بل متى قبل هذا التأويل خرج كثير من الناس من عموم الحديث، وضعف العموم في قوله تعالى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فاطر: 45] ولينظر في قول من قال: يحتمل أنه كان وقت القول في الهواء ففيه أيضا ما لا يخفى على الناظر. ويرد على الجواب الثاني أن الخضر لو كان موجودا لكان ممن يشاهده الناس كما هو الأمر المعتاد في البشر، وكونه عليه السلام خارجا عن ذلك لا يثبت إلا بدليل وأنى هو فتأمل، وأجابوا عما قاله الشيخ ابن تيمية بأن وجوب الإتيان ممنوع فكم من مؤمن به صلّى الله عليه وسلّم في زمانه لم يأته عليه الصلاة والسلام فهذا خير التابعين أويس القرني رضي الله تعالى عنه لم يتيسر له الإتيان والمرافقة في الجهاد ولا التعلم من غير واسطة وكذا النجاشي رضي الله تعالى عنه. على أنا نقول: إن الخضر عليه السلام كان يأتيه ويتعلم منه صلّى الله عليه وسلّم لكن على وجه الخفاء لعدم كونه مأمورا بإتيان العلانية لحكمة إلهية اقتضت ذلك. وأما الحضور في الجهاد فقد روى ابن بشكوال في كتاب المستغيثين بالله تعالى عن عبد الله بن المبارك أنه قال: كنت في غزوة فوقع فرسي ميتا فرأيت رجلا حسن الوجه طيب الرائحة قال: أتحب أن تركب فرسك؟ قلت: نعم فوضع يده على جبهة الفرس حتى انتهى إلى مؤخره وقال: أقسمت عليك أيتها العلة بعزة عزة الله وبعظمة الله وبجلال جلال الله وبقدرة قدرة الله وبسلطان سلطان الله وبلا إله إلا الله وبما جرى به القلم من عند الله وبلا حول ولا قوة إلا بالله إلا انصرفت فوثب الفرس قائما بإذن الله تعالى وأخذ الرجل بركابي وقال: اركب فركبت ولحقت بأصحابي فلما كان من غداة غد وظهرنا على العدو فإذا هو بين أيدينا فقلت: ألست صاحبي بالأمس؟ قال: بلى فقلت: سألتك بالله تعالى من أنت؟ فوثب قائما فاهتزت الأرض تحته خضراء فقال: أنا الخضر فهذا صريح في أنه قد يحضر بعض المعارك، وأما قوله صلّى الله عليه وسلّم في بدر: «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض» فمعناه لا تعبد على وجه الظهور والغلبة وقوة الأمة وإلا فكم من مؤمن كان بالمدينة وغيرها ولم يحضر بدرا، ولا يخفى أن نظم الخضر عليه السلام في سلك أويس القرني والنجاشي وأضرابهما ممن لم يمكنه الإتيان إليه صلّى الله عليه وسلّم بعيد عن الإنصاف وإن لم نقل بوجوب الإتيان عليه عليه السلام، وكيف يقول منصف بإمامته صلّى الله عليه وسلّم لجميع الأنبياء عليهم السلام واقتداء جميعهم به ليلة المعراج ولا يرى لزوم الإتيان على الخضر عليه السلام والاجتماع معه صلّى الله عليه وسلّم مع أنه لا مانع له من ذلك بحسب الظاهر، ومتى زعم أحد أن نسبته إلى نبينا صلّى الله عليه وسلّم كنسبته إلى موسى عليه السلام فليجدد إسلامه، ودعوى أنه كان يأتي ويتعلم خفية لعدم أمره بذلك علانية الجزء: 8 ¦ الصفحة: 305 لحكمة إلهية مما لم يقم عليها الدليل، على أنه لو كان كذلك لذكره صلّى الله عليه وسلّم ولو مرة وأين الدليل على الذكر؟ وأيضا لا تظهر الحكمة في منعه عن الإتيان مرة أو مرتين على نحو إتيان جبريل عليه السلام في صورة دحية الكلبي رضي الله تعالى عنه، وإن قيل إن هذه الدعوى مجرد احتمال، قيل لا يلتفت إلى مثله إلا عند الضرورة ولا تتحقق إلا بعد تحقق وجوده إذ ذاك بالدليل ووجوده كوجوده عندنا، وأما ما روي عن ابن المدرك فلا نسلم ثبوته عنه، وأنت إذا أمعنت النظر في ألفاظ القصة استبعدت صحتها، ومن أنصف يعلم أن حضوره عليه السلام يوم قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لسعد رضي الله تعالى عنه: ارم فداك أبي وأمي كان أهم من حضوره مع ابن المبارك، واحتمال أنه حضر ولم يره أحد شبه شيء بالسفسطة، وأما ما ذكروه في معنى الحديث فلقائل أن يقول: إنه بعيد فمن الظاهر منه نفي أن يعبد سبحانه إن أهلك تلك العصابة مطلقا على معنى أنهم إن أهملوا والإسلام غض ارتد الباقون ولم يكد يؤمن أحد بعد فلا يعبده سبحانه أحد من البشر في الأرض حينئذ، وقد لا يوسط حديث الارتداد بأن يكون المعنى اللهم إن تهلك هذه العصابة الذين هم تاج رأس الإسلام استولى الكفار على سائر المسلمين بعدهم فأهلكوهم فلا يعبدك أحد من البشر حينئذ، وأيّا ما كان فالاستدلال بالحديث على عدم وجود الخضر عليه السلام له وجه، فإن أجابوا عنه بأن المراد نفي أن يشاهد من يعبده تعالى بعد والخضر عليه السلام لا يشاهد ورد عليه ما تقدم. وأجابوا عن الاستدلال بقوله تعالى: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [الأنبياء: 34] بأن المراد من الخلد الدوام الأبدي والقائلون بوجوده اليوم لا يقولون بتأبيده بل منهم من يقول: إنه يقاتل الدجال ويموت، ومنهم من يقول: إنه يموت زمان رفع القرآن، ومنهم من يقول: إنه يموت في آخر الزمان ومراده أحد هذين الأمرين أو ما يقاربهما. وتعقب بأن الخلد بمعنى الخلود وهو على ما يقتضيه ظاهر قوله تعالى خالِدِينَ فِيها أَبَداً [النساء: 57 وغيرها] حقيقة في طول المكث لا في دوام البقاء فإن الظاهر التأسيس لا التأكيد، وقد قال الراغب: كل ما يتباطأ عنه التغير والفساد تصفه العرب بالخلود كقولهم للأثافي خوالد وذلك لطول مكثها لا لدوامها وبقائها انتهى. وأنت تعلم قوة الجواب لأن المكث الطويل ثبت لبعض البشر كنوح عليه السلام. وأجابوا عما نقل عن ابن الجوزي من الوجوه العقلية، أما عن الأول من وجهي فساد القول بأنه ابن آدم عليه السلام بعد تسليم صحة الرواية فبأن البعد العادي لا يضر القائل بتعميره هذه المدة المديدة لأن ذلك عنده من خرق العادات، وأما على الثاني فبأن ما ذكر من عظم خلقة المتقدمين خارج مخرج الغالب وإلا فيأجوج ومأجوج من صلب يافث بن نوح وفيهم من طوله قدر شبر كما روي في الآثار، على أنه لا بدع في أن يكون الخضر عليه السلام قد أعطى قوة التشكل والتصور بأي صورة شاء كجبريل عليه الصلاة والسلام، وقد أثبت الصوفية قدست أسرارهم هذه القوة للأولياء ولهم في ذلك حكايات مشهورة، وأنت تعلم أن ما ذكر عن يأجوج ومأجوج من أن فيهم من طوله قدر شبر بعد تسليمه لقائل أن يقول فيه: إن ذلك حين يفتح السد وهو في آخر الزمان ولا يتم الاستناد بحالهم إلا إذا ثبت أن فيهم من هو كذلك في الزمن القديم، وما ذكر من إعطائه من قوة التشكل احتمال بعيد وفي ثبوته للأولياء خلاف كثير من المحدثين. وقال بعض الناس: لو أعطى أحد من البشر هذه القوة لأعطيها صلّى الله عليه وسلّم يوم الهجرة فاستغنى بها عن الغار وجعلها حجابا له عن الكفار، وللبحث في هذا مجال. وعن الثاني من الوجوه بأنه لا يلزم من عدم نقل كونه في السفينة إن قلنا بأنه عليه السلام كان قبل نوح عليه السلام عدم وجوده لجواز أنه كان ولم ينقل مع أنه يحتمل أن يكون قد ركب ولم يشاهد وهذا كما ترى. وقال بعض الناس: إذا كان احتمال إعطاء قوة التشكل قائما عند القائلين بالتعمير فليقولوا: يحتمل أنه عليه السلام قد تشكل فصار في غاية من الطول بحيث خاض في الماء ولم يحتج إلى الركوب في السفينة على نحو ما يزعمه أهل الخرافات في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 306 عوج بن عوق، وأيضا هم يقولون: له قدرة الكون في الهواء فما منعهم من أن يقولوا بأنه يحتمل أنه لم يركب وتحفظ عن الماء بالهواء كما قالوا باحتمال أنه كان في الهواء في الجواب عن حديث البخاري، وأيضا ذكر بعضهم عن العلامي في تفسيره أن الخضر يدور في البحار يهدي من ضل فيها والياس يدور في الجبال يهدي من ضل فيها هذا دأبهما في النهار وفي الليل يجتمعان عند سد يأجوج ومأجوج يحفظانه فلم لم يقولوا: إنه عليه السلام بقي في البحر حين ركب غيره السفينة ولعلهم إنما لم يقولوا ذلك لأن ما ذكر قد روى قريبا منه الحارث بن أبي أسامة في مسنده عن أنس مرفوعا ولفظه «إن الخضر في البحر والياس في البر يجتمعان كل ليلة عند الردم الذي بناه ذو القرنين» الخبر ، وقد قالوا: إن سنده واه أو لأنهم لا يثبتون له هذه الخدمة الإلهية في ذلك الوقت، ويوشك أن يقولوا في إعطائه قوة التشكل والكون في الهواء كذلك. وعن الثالث بأنه لا نسلم الاتفاق على أنه مات كل أهل السفينة ولم يبق بعد الخروج منها غير نسل نوح عليه السلام والخصر في الآية إضافي بالنسبة إلى المكذبين بنوح عليه السلام. وأيضا المراد أنه مات كل من كان ظاهرا مشاهدا غير نسله عليه السلام بدليل أن الشيطان كان أيضا في السفينة. وأيضا المراد من الآية بقاء ذريته عليه السلام على وجه التناسل وهو لا ينفي بقاء من عداهم من غير تناسل ونحن ندعي ذلك في الخضر على أن القول بأنه كان قبل نوح عليهما السلام قول ضعيف والمعتمد كونه بعد ذلك ولا يخفى ما في بعض ما ذكر من الكلام. وعن الرابع بأنه لا يلزم من كون تعميره من أعظم الآيات أن يذكر في القرآن العظيم كرات، وإنما ذكر سبحانه نوحا عليه السلام تسلية لنبينا صلّى الله عليه وسلّم بما لاقى من قومه في هذه المدة مع بقائهم مصرين على الكفر حتى أغرقوا ولا توجد هذه الفائدة في ذكر عمر الخضر عليه السلام لو ذكر، على أنه قد يقال: من ذكر طول عمر نوح عليه السلام تصريحا يفهم تجويز عمر أطول من ذلك تلويحا. وتعقب بأن لنا أن نعود فنقول: لا أقل من أن يذكر هذا الأمر العظيم في القرآن العظيم مرة لأنه من آيات الربوبية في النوع الإنساني، وليس المراد أنه يلزم عقلا من كونه كذلك ذكره بل ندعي أن ذكر ذلك أمر استحساني لا سيما وقد ذكر تعمير عدو الله تعالى إبليس عليه اللعنة فإذا ذكر يكون القرآن مشتملا على ذكر معمر من الجن مبعد وذكر معمر من الإنس مقرب ولا يخفى حسنه، وربما يقال: إن فيه أيضا إدخال السرور على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وبأن التجويز المذكور في حيز العلاوة مما لا كلام فيه إنما الكلام في الوقوع ودون إثباته الظفر بماء الحياة، وأجاب بعضهم بأن في قوله تعالى: آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا إشارة إلى طول عمره عليه السلام على ما سمعت عن بعض في تفسيره. ورد بأن تفسيره بذلك مبني على القول بالتعمير فإن قبل قبل وإلا فلا، وعن الخامس بأنا نختار أنه ثابت بالسنة وقد تقدم لك طرف منها. وتعقب بما نقله عن القارئ عن ابن قيم الجوزية أنه قال: إن الأحاديث التي يذكر فيها الخضر عليه السلام وحياته كلها كذب ولا يصح في حياته حديث واحد ومن ادعى الصحة فعليه البيان، وقيل: يكفي في ثبوته إجماع المشايخ العظام وجماهير العلماء الأعلام. وقد نقل هذا الإجماع ابن الصلاح والنووي وغيرهما من الأجلة الفخام، وتعقب بأن إجماع المشايخ غير مسلم فقد نقل الشيخ صدر الدين إسحاق القونوي في تبصرة المبتدي وتذكرة المنتهي أن وجود الخضر عليه السلام في عالم المثال. وذهب عبد الرزاق الكاشي إلى أن الخضر عبارة عن البسط والياس عن القبض، وذهب بعضهم إلى أن الخضرية رتبة يتولاها بعض الصالحين على قدم الخضر الذي كان في زمان موسى عليهما السلام، ومع وجود هذه الأقوال لا يتم الإجماع، وكونها غير مقبولة عند المحققين منهم لا يتممه أيضا، وإجماع جماهير العلماء على ما نقل ابن الصلاح الجزء: 8 ¦ الصفحة: 307 والنووي مسلم لكنه ليس الإجماع الذي هو أحد الأدلة الشرعية والخصم لا يقنع إلا به وهو الذي نفاه فأنى بإثباته، ولعل الخصم لا يعتبر أيضا إجماع المشايخ قدست أسرارهم إجماعا هو أحد الأدلة، وعن السادس بأن له علامات عند أهله ككون الأرض تخضر عند قدمه وأن طول قدمه ذراع وربما يظهر منه بعض خوارق العادات بما يشهد بصدقه، على أن المؤمن يصدق بقوله بناء على حسن الظن به، وقد شاع بين زاعمي رؤيته عليه السلام أن من علاماته أن إبهام يده اليمنى لا عظم فيه وأن بؤبؤ إحدى عينيه يتحرك كالزئبق، وتعقب بأنه بأي دليل ثبت أن هذه علاماته قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين. والذي ثبت في الحديث الصحيح أنه إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز من خلفه خضراء وأين فيه ثبوت ذلك له دائما، وكون طول قدمه ذراعا إنما جاء في خبر محمد بن المنكدر السابق عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ولا نسلم صحته، على أن زاعمي رؤيته يزعمون أنهم يرونه في صور مختلفة ولا يكاد يستقر له عليه السلام قدم على صورة واحدة، وظهور الخوارق مشترك بينه وبين غيره من أولياء الأمة فيمكن أن يظهر ولي خارقا ويقول: أنا الخضر مجازا لأنه على قدمه أو لاعتبار آخر ويدعوه لذلك داع شرعي، وقد صح في حديث الهجرة أنه صلّى الله عليه وسلّم لما قيل له ممن القوم؟ قال: من ما فظن السائل أن ما اسم قبيلة ولم يعن صلّى الله عليه وسلّم إلا أنهم خلقوا من ماء دافق، وقد يقال للصوفي: إن أنا الخضر مع ظهور الخوارق لا تيقن منه أن القائل هو الخضر بالمعنى المتبادر في نفس الأمر لجواز أن يكون ذلك القائل ممن هو فان فيه لاتحاد المشرب، وكثيرا ما يقول الفاني في شيخه أنا فلان ويذكر اسم شيخه، وأيضا متى وقع من بعضهم قول: أنا الحق وما في الجبة إلا الله لم يبعد أن يقع أنا الخضر، وقد ثبت عن كثير منهم نظما ونثرا قول: أنا آدم أنا نوح أنا إبراهيم أنا موسى أنا عيسى أنا محمد إلى غير ذلك مما لا يخفى عليك وذكروا له محملا صحيحا عندهم فليكن قول: أنا الخضر ممن ليس بالخضر على هذا الطرز، ومع قيام هذا الاحتمال كيف يحصل اليقين؟ وحسن الظن لا يحصل منه ذلك. وعن السابع بأنا لا نسلم اجتماعه بجهلة العباد الخارجين عن الشريعة ولا يلتفت إلى قولهم فالكذابون الدجالون يكذبون على الله تعالى وعلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم فلا يبعد أن يكذبوا على الخضر عليه السلام ويقولوا قال وجاء إنما القول باجتماعه بأكابر الصوفية والعباد المحافظين على الحدود الشرعية فإنه قد شاع اجتماعه بهم حتى أن منهم من طلب الخضر مرافقته فأبى، وروي ذلك عن علي الخواص رحمة الله تعالى عليه في سفر حجه، وسئل عن سبب إبائه فقال: خفت من النقص في توكلي حيث اعتمد على وجوده معي. وتعقب بأن اجتماعه بهم واجتماعهم به يحتمل أن يكون من قبيل ما يذكرونه من اجتماعهم بالنبي صلّى الله عليه وسلّم واجتماعه عليه الصلاة والسلام بهم، وذلك أن الأرواح المقدسة قد تظهر متشكلة ويجتمع بها الكاملون من العباد، وقد صح أنه صلّى الله عليه وسلّم رأى موسى عليه السلام قائما يصلي في قبره ورآه في السماء ورآه يطوف بالبيت. وادعى الشيخ الأكبر قدس سره الاجتماع مع أكثر الأنبياء عليهم السلام لا سيما مع إدريس عليه السلام فقد ذكر أنه اجتمع به مرارا وأخذ منه علما كثيرا بل قد يجتمع الكامل بمن لم يولد بعد كالمهدي، وقد ذكر الشيخ الأكبر أيضا اجتماعه معه، وهذا ظاهر عند من يقول: إن الأزل والأبد نقطة واحدة والفرق بينهما بالاعتبار عند المتجردين عن جلابيب أبدانهم، ولعل كثرة هذا الظهور والتشكل من خصوصيات الخضر عليه السلام، ومع قيام هذا الاحتمال لا يحصل يقين أيضا بأن الخضر المرئي موجود في الخارج كوجود سائر الناس فيه كما لا يخفى. ومما يبنى على اجتماعه عليه السلام بالكاملين من أهل الله تعالى بعض طرق إجازتنا بالصلاة البشيشية فإني الجزء: 8 ¦ الصفحة: 308 أرويها من بعض الطرق عن شيخي علاء الدين علي أفندي الموصلي عن شيخه ووالده صلاح الدين يوسف أفندي الموصلي عن شيخه خاتمة المرشدين السيد علي البندنيجي عن نبي الله تعالى الخضر عليه السلام عن الولي الكامل الشيخ عبد السلام بن بشيش قدس سره. وعن الثامن بأنا لا نسلم أن القول بعدم إرساله صلّى الله عليه وسلّم إليه عليه السلام كفر، وبفرض أنه ليس بكفر هو قول باطل إجماعا، ونختار أنه أتى وبايع لكن باطنا حيث لا يشعر به أحد وقد عده جماعة من أرباب الأصول في الصحابة، ولعل عدم قبول روايته لعدم القطع في وجوده وشهوده في حال رؤيته وهو كما ترى. وعن التاسع بأنه مجازفة في الكلام فإنه من أين يعلم نفي ما ذكره من حضور الجهاد وغيره عن الخضر عليه السلام مع أن العالم بالعلم اللدني لا يكون مشتغلا إلا بما علمه الله تعالى في كل مكان وزمان بحسب ما يقتضي الأمر والشأن، وتعقب بأن النفي مستند إلى عدم الدليل فنحن نقول به إلى أن يقوم الدليل ولعله لا يقوم حتى يقوم الناس لرب العالمين، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في العلم اللدني والعالم به، وبالجملة قد ظهر لك حال معظم أدلة الفريقين وبقي ما استدل به البعض من الاستصحاب. وأنت تعلم أنه حجة عند الشافعي والمزني وأبي بكر الصيرفي في كل شيء نفيا وإثباتا ثبت تحققه بدليل ثم وقع الشك في بقائه إن لم يقع ظن بعدمه، وأما عندنا وكذا عند المتكلمين فهو من الحجج القاصرة التي لا تصلح للإثبات وإنما تصلح للدفع بمعنى أن لا يثبت حكم وعدم الحكم مستند إلى عدم دليله والأصل في العدم الاستمرار حتى يظهر دليل الوجود فالمفقود يرث عنده لا عندنا لأن الإرث من باب الإثبات فلا يثبت به ولا يورث لأن عدم الإرث من باب الدفع فيثبت به، ويتفرع على هذا الخلاف فروع أخر ليس هذا محل ذكرها، وإذا كان حكم الاستصحاب عندنا ما ذكر فاستدلال الحنفي به على إثبات حياة الخضر عليه السلام اليوم وأنها متيقنة لا يخلو عن شيء بل استدلال الشافعي به على ذلك أيضا كذلك بناء على أن صحة الاستدلال به مشروط بعدم وقوع ظن بالعدم فإن العادة قاضية بعدم بقاء الآدمي تلك المدة المديدة والأحقاب العديدة، وقد قيل: إن العادة دليل معتبر ولولا ذلك لم يؤثر خرق العادة بالمعجزة في وجوب الاعتقاد والاتباع فإن لم تفد يقينا بالعدم فيما نحن فيه أفادت الظن به فلا يتحقق شرط صحة الاستدلال، وعلى هذا فالمعول عليه الخالص من شوب الكدر الاستدلال بأحد الأدلة الأربعة وقد علمت حال استدلالهم بالكتاب والسنة وما سموه إجماعا، وأما الاستدلال بالقياس هنا فمما لا يقدم عليه عاقل فضلا عن فاضل «ثم اعلم» بعد كل حساب أن الأخبار الصحيحة النبوية والمقدمات الراجحة العقلية تساعد القائلين بوفاته عليه السلام أي مساعدة وتعاضدهم على دعواهم أي معاضدة، ولا مقتضى للعدول عن ظواهر تلك الأخبار إلا مراعاة ظواهر الحكايات المروية والله تعالى أعلم بصحتها عن بعض الصالحين الأخيار وحسن الظن ببعض السادة الصوفية فإنهم قالوا بوجوده إلى آخر الزمان على وجه لا يقبل التأويل السابق، ففي الباب الثالث والسبعين من الفتوحات المكية اعلم أن لله تعالى في كل نوع من المخلوقات خصائص وصفوة، وأعلى الخواص فيه من العباد الرسل عليهم السلام ولهم مقام الرسالة والنبوة والولاية والإيمان فهم أركان بيت هذا النوع، والرسول أفضلهم مقاما وأعلاهم حالا بمعنى أن المقام الذي أرسل منه أعلى منزلة عند الله تعالى من سائر المقامات وهم الأقطاب والأئمة والأوتاد الذين يحفظ الله تعالى بهم العالم ويصون بهم بيت الدين القائم بالأركان الأربعة الرسالة والنبوة والولاية والإيمان، والرسالة هي الركن الجامع وهي المقصودة من هذا النوع فلا يخلو من أن يكون فيه رسول كما لا يزال دين الله تعالى، وذلك الرسول هو القطب الذي هو موضع نظر الحق وبه يبقى النوع في هذه الدار ولو كفر الجميع، ولا يصح هذا الاسم على إنسان إلا أن يكون ذا جسم طبيعي وروح ويكون موجودا في هذا النوع في هذه الدار بجسده وروحه يتغذى، وهو مجلي الحق من آدم عليه السلام إلى يوم القيامة، ولما توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد ما قرر الدين الذي لا ينسخ والشرع الذي لا يبدل، ودخل الرسل كلهم عليهم السلام في ذلك الدين وكانت الأرض لا تخلو من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 309 رسول حسي بجسمه لأنه قطب العالم الإنساني وإن تعدد الرسل كان واحد منهم هو المقصود أبقى الله تعالى بعد وفاته عليه الصلاة والسلام من الرسل الأحياء بأجسادهم في هذه الدار أربعة إدريس والياس وعيسى والخضر عليهم السلام، والثلاثة الأول متفق عليهم والأخير مختلف فيه عند غيرنا لا عندنا فأسكن سبحانه إدريس في السماء الرابعة، وهي وسائر السموات السبع من الدار الدنيا لأنها تتبدل في الدار الأخرى كما تتبدل هذه النشأة الترابية منا بنشأة أخرى، وأبقى الآخرين في الأرض فهم كلهم باقون بأجسامهم في الدار الدنيا، وكلهم الأوتاد، واثنان منهم الإمامان، وواحد منهم القطب الذي هو موضع نظر الحق من العالم، وهو ركن الحجر الأسود من أركان بيت الدين، فما زال المرسلون ولا يزالون في هذه الدار إلى يوم القيامة وإن كانوا على شرع نبينا صلّى الله عليه وسلّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وبالواحد منهم يحفظ الله تعالى الإيمان وبالثاني الولاية وبالثالث النبوة وبالرابع الرسالة وبالمجموع الدين الحنيفي، والقطب من هؤلاء لا يموت أبدا أي لا يصعق. وهذه المعرفة لا يعرفها من أهل طريقتنا إلا الأفراد الأمناء، ولكل واحد منهم من هذه الأمة في كل زمان شخص على قلبه مع وجودهم ويقال لهم النواب، وأكثر الأولياء من عامة أصحابنا لا يعرفون إلا أولئك النواب ولا يعرفون أولئك المرسلين، ولذا يتطاول كل واحد من الأمة لنيل مقام القطبية والإمامية والوتدية فإذا خصوا بها عرفوا أنهم نواب عن أولئك المرسلين عليهم السلام. ومن كرامة نبينا صلّى الله عليه وسلّم أن جعل من أمته وأتباعه رسلا وإن لم يرسلوا فيهم من أهل هذا المقام الذي منه يرسلون وقد كانوا أرسلوا، فلهذا صلى صلّى الله عليه وسلّم ليلة الإسراء بالأنبياء عليهم السلام لتصح له الإمامة على الجميع حيا بجسمانيته وجسمه، فلما انتقل عليه الصلاة والسلام بقي الأمر محفوظا بهؤلاء الرسل عليهم السلام، فثبت الدين قائما بحمد الله تعالى وإن ظهر الفساد في العالم إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، وهذه نكتة فاعرف قدرها فإنك لا تراها في كلام أحد غيرنا. ولولا ما ألقى عندي من إظهارها ما أظهرتها لسر يعلمه الله تعالى ما أعلمنا به. ولا يعرف ما ذكرناه إلا نوابهم دون غيرهم من الأولياء، فاحمدوا الله تعالى يا إخواننا حيث جعلكم الله تعالى ممن قرع سمعه أسرار الله تعالى المخبوءة في خلقه التي اختص بها من شاء من عباده، فكونوا لها قابلين وبها مؤمنين ولا تحرموا التصديق بها فتحرموا خيرها انتهى. وعلم منه القول برسالة الخضر عليه السلام وهو قول مرجوح عند جمهور العلماء والقول بحياته وبقائه إلى يوم القيامة وكذا بقاء عيسى عليه السلام، والمشهور أنه بعد نزوله إلى الأرض يتزوج ويولد له ويتوفى ويدفن في الحجرة الشريفة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولينظر ما وجه قوله قدس سره بإبقاء عيسى عليه السلام في الأرض وهو اليوم في السماء كإدريس عليه السلام، ثم إنك إن اعتبرت مثل هذه الأقوال وتلقيتها بالقبول لمجرد جلالة قائلها وحسن الظن فيه فقل بحياة الخضر عليه السلام إلى يوم القيامة، وإن لم تعتبر ذلك وجعلت الدليل وجودا وعدما مدارا للقبول والرد ولم تغرك جلالة القائل إذ كل أحد يؤخذ من قوله ويرد ما عدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: لا تنظر إلى من قال وانظر ما قال فاستفت قلبك بعد الوقوف على أدلة الطرفين وما لها وما عليها ثم اعمل بما يفتيك. وأنا أرى كثيرا من الناس اليوم بل في كثير من الأعصار يسمون من يخالف الصوفية في أي أمر ذهبوا إليه منكرا ويعدونه سيىء العقيدة ويعتقدون بمن يوافقهم ويؤمن بقولهم الخير، وفي كلام الصوفية أيضا نحو هذا فقد نقل الشيخ الأكبر قدس سره في الباب السابق عن أبي يزيد البسطامي قدس سره أنه قال لأبي موسى الدبيلي: يا أبا موسى إذا رأيت من يؤمن بكلام أهل هذه الطريقة فقل له يدعو لك فإنه مجاب الدعوة، وذكر أيضا أنه سمع أبا عمران موسى بن عمران الإشبيلي يقول لأبي القاسم بن عفير الخطيب وقد أنكر ما يذكر أهل الطريقة يا أبا القاسم لا تفعل فإنك إن فعلت هذا جمعنا بين حرمانين لا ندري ذلك من نفوسنا ولا نؤمن به من غيرنا وما ثم دليل يرده ولا قادح يقدح فيه شرعا أو عقلا انتهى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 310 ويفهم منه أن ما يرده الدليل الشرعي أو العقلي لا يقبل وهو الذي إليه أذهب وبه أقول، وأسأل الله تعالى أن يوفقني وإياك لكل ما هو مرضي لديه سبحانه ومقبول، والتنوين في قوله تعالى: رَحْمَةً للتفخيم وكذا في قوله سبحانه: وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً أي علما لا يكتنه كنهه ولا يقادر قدره وهو علم الغيوب وأسرار العلوم الخفية، وذكر لَدُنَّا قيل لأن العلم من أخص صفاته تعالى الذاتية وقد قالوا: إن القدرة لا تتعلق بشيء ما لم تتعلق الإرادة وهي لا تتعلق ما لم يتعلق العلم فالشيء يعلم أولا فيراد فتتعلق به القدرة فيوجد. وذكر أنه يفهم من فحوى مِنْ لَدُنَّا أو من تقديمه على عِلْماً اختصاص ذلك بالله تعالى كأنه قيل علما يختص بنا ولا يعلم إلا بتوقيفنا، وفي اختيار عَلَّمْناهُ على آتيناه من الإشارة إلى تعظيم أمر هذا العلم ما فيه، وهذا التعليم يحتمل أن يكون بواسطة الوحي المسموع بلسان الملك وهو القسم الأول من أقسام الوحي الظاهري كما وقع لنبينا صلّى الله عليه وسلّم في أخباره عن الغيب الذي أوحاه الله تعالى إليه في القرآن الكريم، وأن يكون بواسطة الوحي الحاصل بإشارة الملك من غير بيان بالكلام وهو القسم الثاني من ذلك ويسمى بالنفث كما في حديث إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله تعالى واجملوا في الطلب والإلهام على ما يشير إليه بعض عبارات القوم من هذا النوع، ويثبتون له ملكا يسمونه ملك الإلهام، ويكون للأنبياء عليهم السّلام ولغيرهم بالإجماع، ولهم في الوقوف على المغيبات طرق تتشعب من تزكية الباطن. والآية عندهم أصل في إثبات العلم اللدني، وشاع إطلاق علم الحقيقة والعلم الباطن عليه ولم يرتض بعضهم هذا الإطلاق، قال العارف بالله تعالى الشيخ عبد الوهاب الشعراني عليه الرحمة في كتابة المسمى بالدرر المنثورة في بيان زبد العلوم المشهورة ما لفظه: وأما زبدة علم التصوف الذي وضع القوم فيه رسائلهم فهو نتيجة العمل بالكتاب والسنة فمن عمل بما علم تكلم بما تكلموا وصار جميع ما قالوه بعض ما عنده لأنه كلما ترقى العبد في باب الأدب مع الله تعالى دق كلامه على الافهام، حتى قال بعضهم لشيخه: إن كلام أخي فلان يدق على فهمه فقال: لأن لك قميصين وله قميص واحد فهو أعلى مرتبة منك، وهذا هو الذي دعا الفقهاء ونحوهم من أهل الحجاب إلى تسمية علم الصوفية بالعلم الباطن وليس ذلك بباطن إذ الباطن إنما هو علم الله تعالى وأما جميع ما علمه الخلق على اختلاف طبقاتهم فهو من العلم الظاهر لأنه ظهر للخلق فاعلم ذلك انتهى. والحق أن إطلاق العلم الباطن اصطلاحا على ما وقفوا عليه صحيح ولا مشاحة في الاصطلاح، ووجهه أنه غير ظاهر على أكثر الناس ويتوقف حصوله على القوة القدسية دون المقدمات الفكرية وإن كان كل علم يتصف بكونه باطنا وكونه ظاهرا بالنسبة للجاهل به والعالم به، وهذا كإطلاق العلم الغريب على علم الأوفاق والطلسمات والجفر وذلك لقلة وجوده والعارفين به فاعرف ذلك. وزعم بعضهم أن أحكام العلم الباطن وعلم الحقيقة مخالفة لأحكام الظاهر وعلم الشريعة وهو زعم باطل عاطل وخيال فاسد كاسد، وسيأتي إن شاء الله تعالى نقل نصوص القوم فيما يرده وأنه لا مستند لهم في قصة موسى والخضر عليهما السّلام. وقرأ أبو زيد عن أبي عمرو «لدنا» بتخفيف النون وهي إحدى اللغات في لدن قالَ لَهُ مُوسى استئناف مبني على سؤال نشأ من السياق كأنه قيل فما جرى بينهما من الكلام؟ فقيل: قال له موسى عليه السّلام هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ استئذان منه عليه السّلام في اتباعه له بشرط التعليم، ويفهم ذلك من عَلى فقد قال الأصوليون: إن على قد تستعمل في معنى يفهم منه كون ما بعدها شرطا لما قبلها كقوله تعالى: يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ [الممتحنة: 12] أي بشرط عدم الإشراك، وكونها للشرط بمنزلة الحقيقة عند الفقهاء كما في التلويح لأنها في أصل الوضع للإلزام والجزاء لازم للشرط، ويلوح بهذا أيضا كلام الفناري في بدائع الأصول وهو ظاهر في أنها ليست حقيقة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 311 في الشرط، وذكر السرخسي أنه معنى حقيقي لها لكن النحاة لم يتعرضوا له، وقد تردد السبكي في وروده في كلام العرب، والحق أنه استعمال صحيح يشهد به الكتاب حقيقة كان أو مجازا ولا ينافي انفهام الشرطية تعلق الحرف بالفعل الذي قبله كما قالوا فيما ذكرنا من الآية كما أنه لا ينافيه تعلقه بمحذوف يقع حالا كما قيل به هنا فيكون المعنى هل اتبعك باذلا تعليمك إياي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً أي علما ذا رشد وهو إصابة الخير وقرأ أبو عمرو والحسن والزهري وأبو بحرية وابن محيصن وابن مناذر ويعقوب وأبو عبيد واليزيدي «رشدا» بفتحتين وأكثر السبعة بالضم والسكون وهما لغتان كالبخل والبخل، ونصبه في الأصل على أنه صفة للمفعول الثاني لتعلمني ووصف به للمبالغة لكن أقيم مقامه بعد حذفه والمفعول الثاني لعلمت الضمير العائد على ما الموصولة أي من الذي علمته، والفعلان مأخوذان من علم المتعدي إلى مفعول واحد، وجوز أن يكون مِمَّا عُلِّمْتَ هو المفعول الثاني لتعلمني و «رشدا» بدل منه وهو خلاف الظاهر، وأن يكون رُشْداً مفعولا له لأتبعك أي هل أتبعك لأجل إصابة الخير فيتعين أن يكون المفعول الثاني لتعلمني مِمَّا عُلِّمْتَ لتأويله ببعض ما علمت أو علما مما علمت، وأن يكون مصدرا بإضمار فعله أي أرشد رشدا والجملة استئنافية والمفعول الثاني مِمَّا عُلِّمْتَ أيضا. واستشكل طلبه عليه السّلام التعليم بأنه رسول من أولي العزم فكيف يتعلم من غيره والرسول لا بد أن يكون أعلم أهل زمانه، ومن هنا قال نوف وأضرابه: إن موسى هذا ليس هو ابن عمران وإن كان ظاهر إطلاقه يقتضي أن يكون إياه. وأجيب بأن اللازم في الرسول أن يكون أعلم في العقائد وما يتعلق بشريعته لا مطلقا ولذا قال نبينا صلّى الله عليه وسلّم «أنتم أعلم بأمور دنياكم» فلا يضر في منصبه أن يتعلم علوما غيبية وأسرارا خفية لا تعلق لها بذلك من غيره لا سيما إذا كان ذلك الغير نبيا أو رسولا أيضا كما قيل في الخضر عليه السّلام، ونظير ما ذكر من وجه تعلم عالم مجتهد كأبي حنيفة والشافعي رضي الله تعالى عنهما علم الجفر مثلا ممن دونه فإنه لا يخل بمقامه، وإنكار ذلك مكابرة. ولا يرد على هذا أن علم الغيب ليس علما ذا رشد أي إصابة خير وموسى عليه السّلام كان بصدد تعلم علم يصيب به خيرا لقوله تعالى: قل لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ [الأعراف: 188] وقال بعضهم: اللازم كون الرسول أعلم من أمته والخضر عليه السّلام نبي لم يرسل إليه ولا هو مأمور باتباع شريعته فلا ينكر تفرده بما لم يعلمه غيره، ولا يخفى أنه على هذا ليس الخضر عليه السّلام من بني إسرائيل لأن الظاهر إرسال موسى عليه السّلام إليهم جميعا كذا قيل. ثم إن الذي أميل إليه أن لموسى عليه السّلام علما بعلم الحقيقة المسمى بالعلم الباطن والعلم اللدني إلا أن الخضر أعلم به منه وللخضر عليه السّلام سواء كان نبيا أو رسولا علما بعلم الشريعة المسمى بالعلم الظاهر إلا أن موسى عليه السّلام أعلم به منه فكل منهما أعلم من صاحبه من وجه، ونعت الخضر عليه السّلام في الأحاديث السابقة بأنه أعلم من موسى عليه السّلام ليس على معنى أنه أعلم منه من كل وجه بل على معنى أنه أعلم من بعض الوجوه وفي بعض العلوم لكن لما كان الكلام خارجا مخرج العتب والتأديب أخرج على وجه ظاهره العموم، ونظير هذا آيات الوعيد على ما قيل من أنها مقيدة بالمشيئة لكنها لم تذكر لمزيد الإرهاب، وأفعل التفضيل وإن كان للزيادة في حقيقة الفعل إلا أن ذلك على وجه يعم الزيادة في فرد منه، ويدل على ذلك صحة التقييد بقسم خاص كما تقول زيد أعلم من عمرو في الطب وعمرو أعلم منه في الفلاحة، ولو كان معناه الزيادة في مطلق العلم كان قولك زيد أعلم من عمرو مستلزما لأن لا يكون عمرو أعلم منه في شيء من العلوم فلا يصح تفضيل عمرو عليه في علم الفلاحة، وإنكار صدق الأعلم المطلق مع صدق المقيد التزام لصدق المقيد بدون المطلق، وقد جاء إطلاق أفعل التفضيل والمراد منه التفضيل من وجه على ما ذكره الشيخ ابن الحاجب في أمالي القرآن ضمن عداد الأوجه في حل الإشكال المشهور في قوله تعالى: وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها [الزخرف: 48] من أن المراد إلا هي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 312 أكبر من أختها من وجه ثم قال: وقد يكون الشيئان كل واحد منهما أفضل من الآخر من وجه، وقد أشبع الكلام في هذا المقام مولانا جلال الدين الدواني فيما كتبه على الشرح الجديد للتجريد وحققه بما لا مزيد عليه، ومما يدل على أن لموسى عليه السّلام علما ليس عند الخضر عليه السّلام ما أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من حديث ابن عباس مرفوعا أن الخضر عليه السّلام قال: يا موسى إني على علم من علم الله تعالى علمنيه لا تعلمه أنت وأنت على علم من علم الله تعالى علمك الله سبحانه لا أعلمه ، وأنت تعلم أنه لو لم يكن قوله تعالى لموسى عليه السّلام المذكور في الأحاديث السابقة إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك على معنى أعلم في بعض العلوم بل كان على معنى أعلم في كل العلوم أشكل الجمع بينه وبين ما ذكرنا من كلام الخضر عليه السّلام، ثم على ما ذكرنا ينبغي أن يراد من العلم الذي ذكر الخضر أنه يعلمه هو ولا يعلمه موسى عليهما السّلام بعض علم الحقيقة ومن العلم الذي ذكر أنه يعلمه موسى ولا يعلمه هو عليهما السّلام بعض علم الشريعة، فلكل من موسى والخضر عليهما السّلام علم بالشريعة والحقيقة إلا أن موسى عليه السّلام أزيد بعلم الشريعة والخضر عليه السّلام أزيد بعلم الحقيقة، ولكن نظرا للحالة الحاضرة كما ستعلم وجهه إن شاء الله تعالى وعدم علم كل ببعض ما عند صاحبه لا يضر بمقامه. وينبغي أن يحمل قول من قال كالجلال السيوطي ما جمعت الحقيقة والشريعة إلا لنبينا صلّى الله عليه وسلّم ولم يكن للأنبياء إلا أحدهما على معنى أنها ما جمعت على الوجه الأكمل إلا له صلّى الله عليه وسلّم ولم يكن للأنبياء عليهم السّلام على ذلك الوجه إلا أحدهما، والحمل على أنهما لم يجمعا على وجه الأمر بالتبليغ إلا لنبينا صلّى الله عليه وسلّم فإنه عليه الصلاة والسّلام مأمور بتبليغ الحقيقة كما هو مأمور بتبليغ الشريعة لكن للمستعدين لذلك لا يخلو عن شيء ويفهم من كلام بعض الأكابر أن علم الحقيقة من علوم الولاية وحينئذ لا بد أن يكون لكل نبي حظ منه ولا يلزم التساوي في علومها. ففي الجواهر والدرر قلت للخواص عليه الرحمة: هل يتفاضل الرسل في العلم؟ فقال: العلم تابع للرسالة فإنه ليس عند كل رسول من العلم إلا بقدر ما تحتاج إليه أمته فقط فقلت له: هذا من حيث كونهم رسلا فهل حالهم من حيث كونهم أولياء كذلك؟ فقال: لا قد يكون لأحدهم من علوم الولاية ما هو أكثر من علوم ولاية أولي العزم من الرسل الذين هم أعلى منهم انتهى، وأنا أرى أن ما يحصل لهم من علم الحقيقة بناء على القول بأنه من علوم الولاية أكثر مما يحصل للأولياء الذين ليسوا بأنبياء، ولا تراني أفضل وليا ليس بنبي في علم الحقيقة على ولي هو نبي ولا أقول بولاية الخضر عليه السّلام دون نبوته، وقائلو ذلك يلزمهم ظاهرا القول بأن ما عنده من علم الحقيقة مع كونه وليا أكثر مما عند موسى عليه السّلام منه إن أثبتوا له عليه السّلام شيئا من ذلك مع كونه نبيا ولكنهم لا يرون في ذلك حطا لقدر موسى عليه السالم، وظاهر كلام بعضهم أنه عليه السّلام لم يؤت شيئا من علم الحقيقة أصلا ومع هذا لا ينحط قدره عن قدر الخضر عليهما السّلام إذ له جهات فضل أخر، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ما يقوله الذاهبون إلى ولايته عليه السّلام. ثم ما أراه أنا ولله تعالى الحمد أبعد عن القول بما نقل عن بعض الصوفية من أن الولاية مطلقا أفضل من نبوة وإن كان الولي لا يبلغ درجة النبي، وهو مردود عند المحققين بلا تردد، نعم قد يقع تردد في نبوة النبي وولايته أيهما أفضل؟ فمن قائل بأن نبوته أفضل من ولايته، ومن قائل بأن ولايته أفضل. واختار هذا بعض العرفاء معللا له بأن نبوة التشريع متعلقة بمصلحة الوقت والولاية لا تعلق لها بوقت دون وقت وهي في النبي على غاية الكمال. والمختار عندي الأول. وقد ضل الكرامية في هذا المقام فزعموا أن الولي قد يبلغ درجة النبي بل أعلى. ورده ظاهر. والاستدلال له بما في هذه القصة بناء على القول بولاية الخضر عليه السّلام ليس بشيء كما لا يخفى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 313 هذا ولا يخفى على من له أدنى ذوق بأساليب الكلام ما راعاه موسى عليه السّلام في سوق كلامه على علو مقامه من غاية التواضع مع الخضر عليه السّلام ونهاية الأدب واللطف، وقد عد الإمام من ذلك أنواعا كثيرة أوصلها إلى اثني عشر نوعا إن أردتها فارجع إلى تفسيره. وسيأتي إن شاء الله عز وجل ما تدل عليه هذه الآية في سرد ما تدل عليه آيات القصة بأسرها مما ذكر في كتب الحديث وغيرها. قالَ أي الخضر لموسى عليهما السّلام إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً نفي لأن يصبر معه على أبلغ وجه حيث جيء بإن المفيدة للتأكيد وبلن ونفيها آكد من نفي غيرها، وعدل عن لن تصبر إلى لَنْ تَسْتَطِيعَ المفيد لنفي الصبر بطريق برهاني لأن الاستطاعة مما يتوقف عليه الفعل فيلزم من نفيه نفيه، ونكر صَبْراً في سياق النفي وذلك يفيد العموم أي لا تصبر معي أصلا شيئا من الصبر، وعلل ذلك بقوله: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً إيذانا بأنه عليه السّلام يتولى أمورا خفية المراد منكرة الظواهر والرجل الصالح لا سيما صاحب الشريعة لا يتمالك أن يشمئز عند مشاهدتها وكأنه علم مع ذلك حدة موسى عليه السّلام ومزيد غيرته التي أوصلته إلى أن أخذ برأس أخيه يجره، ونصب خُبْراً على التمييز المحول عن الفاعل والأصل ما لم يحط به خبرك، وهو من خبر الثلاثي من باب نصر وعلم ومعناه عرف، وجوز أن يكون مصدرا وناصبه تُحِطْ لأنه يلاقيه في المعنى لأن الإحاطة تطلق إطلاقا شائعا على المعرفة فكأنه قيل لم تخبره خبرا وقرأ الحسن وابن هرمز «خبرا» بضم الباء. واستدلوا بالآية كما قال الإمام وغيره على أن الاستطاعة لا تحصل قبل الفعل قالوا: لو كانت الاستطاعة حاصلة قبل حصول الفعل لكانت الاستطاعة على الصبر حاصلة قبل حصول الصبر فيكون نفيها كذبا وهو باطل فتعين أن لا تكون قبل الفعل. وأجاب الجبائي بأن المراد من هذا القول أنه يثقل عليك الصبر كما يقال في العرف إن فلانا لا يستطيع أن يرى فلانا وأن يجالسه إذا كان يثقل عليه ذلك. وتعقبه الإمام بأنه عدول عن الظاهر وأيد الاستدلال بما أيد، والإنصاف أن الاستدلال بها على ما ذكر غير ظاهر لأن المراد ليس إلا نفي الصبر بنفي ما يتوقف هو عليه أعني الاستطاعة وهذا حاصل سواء كانت حاصلة قبل أو مقارنة، ثم إن القول بأن الاستطاعة قبل الفعل ليس خاصا بالمعتزلة بل المفهوم من كلام الشيخ إبراهيم الكوراني أنه مذهب السلف أيضا وتحقيق ذلك في محله قالَ موسى عليه السّلام سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً معك غير معترض عليك وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً عطف على صابِراً والفعل يعطف على المفرد المشتق كما في قوله تعالى: صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ [الملك: 19] بتأويل أحدهما بالآخر، والأولى فيما نحن فيه التأويل في جانب المعطوف أي ستجدني صابرا وغير عاص، وفي وعد هذا الوجدان من المبالغة ما ليس في الوعد بنفس الصبر وترك العصيان أو على سَتَجِدُنِي والجملة على الأول في محل نصب لأنها معطوفة على المفعول الثاني للوجدان، وعلى الثاني لا محل لها من الإعراب على ما في الكشاف. واستشكل بأن الظاهر أن محلها النصب أيضا لتقدم القول. وأجيب بأن مقول القول هو مجموع المعطوف والمعطوف عليه فلا يكون لأجزائه محل باعتبار الأصل، وقيل: مراد الزمخشري بيان حال العطف في القول المحكي عن موسى عليه السّلام، وقيل: مراده أنه ليس مؤولا بمفرد كما في الأول، وقيل: إنه مبني على أن مقول القول محذوف وهذه الجملة مفسرة له، والظاهر الجواب الأول، وأول الوجهين في العطف هو الأولى لما عرفت ولظهور تعلق المعطوف بالاستثناء عليه. وذكر المشيئة إن كان للتعليق فلا إشكال في عدم تحقق ما وعد به. ولا يقال: إنه عليه السّلام أخلف وعده وإن كان للتيمن، فإن قلنا: إن الوعد كالوعيد إنشاء لا يحتمل الصدق والكذب أو أنه مقيد بقيد يعلم بقرينة المقام كأن أردت أو إن لم يمنع مانع شرعي أو غيره فكذلك لا إشكال، وإن قلنا: إنه خبر وإنه ليس على نية التقييد جاء الإشكال ظاهرا فإن الخلف حينئذ كذب وهو غير لائق مقام النبوة لمنافاته الجزء: 8 ¦ الصفحة: 314 العصمة، وأجيب بأن ما صدر منه عليه السّلام في المرتين الأخيرتين كانا نسيانا كما في المرة الأولى ولا يضر مثل هذا الخلف بمقام النبوة لأن النسيان عذر. وتعقب بأنه لا نسلم النسيان في المرتين الأخيرتين ففي البخاري وشرحه لابن حجر وكانت الأولى نسيانا والثانية شرطا والثالثة عمدا، وفي رواية والثانية عمدا والثالثة فراقا، وقال بعضهم: لك أن تقول: لم يقع منه عليه السّلام ما يخل بمقامه لأن الخلف في المرة الأولى معفو عنه وحيث وقع لم تكن الأخيرتان خلفا وفيه تأمل، وقال القشيري: إن موسى عليه السّلام وعد من نفسه بشيئين بالصبر وقرنه بالمشيئة فصبر فيما كان من الخضر عليه السّلام من الفعل وبأن لا يعصيه فأطلق ولم يقرنه بالمشيئة فعصاه حيث قال: فلا تسألني فكان يسأله فما قرنه بالاستثناء لم يخلف فيه وما أطلقه وقع فيه الخلف انتهى، وهو مبني على أن العطف على سَتَجِدُنِي وقد علمت أنه خلاف الأولى، وأيضا المراد بالصبر الثبات والإقرار على الفعل وعدم الاعتراض كما ينبىء عنه المحاورة الآتية وهو لم يتحقق منه عليه السّلام، وأيضا يبقى الكلام في الخلف كما لا يخفى، وأنت تعلم أنه يبعد من حال موسى عليه السّلام القطع بالصبر وعدم عصيان الأمر بعد أن أشار له الخضر عليه السّلام أنه سيصدر منه أمور منكرة مخالفة لقضية شريعته فلا يبعد منه اعتبار التعليق في الجملتين، ولم يأت به بعدهما بل وسطه بين مفعولي الوجدان من الجملة الأولى لمزيد الاعتناء بشأنه، وبه يرتفع الإشكال من غير احتياج إلى القيل والقال، وفيه دليل على أن أفعال العبد بمشيئته تعالى لأنه إذا صدر بعض الأفعال الاختيارية بمشيئته سبحانه لزم صدور الكل بها إذ لا قائل بالفرق. والمعتزلة اختاروا أن ذكر المشيئة للتيمن وهو لا يدل على ما ذكر، وقال بعض المحققين: إن الاستدلال جار أيضا على احتمال التيمن لأنه لا وجه للتيمن بما لا حقيقة له، وقد أشار إلى ذلك الإمام أيضا فافهم، وقد استدل بالآية على أن الأمر للوجوب وفيه نظر، ثم إن الظاهر أنه لم يرد بالأمر مقابل النهي بل أريد مطلق الطلب وحاصل الآية نفى أن يعصيه في كل ما يطلبه قالَ الخضر عليه السّلام فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي أذن له عليه السّلام في الاتباع بعد اللتيا والتي، والفاء لتفريع الشرطية على ما مر من وعد موسى عليه السّلام بالصبر والطاعة. فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ تشاهده من أفعالي فضلا عن المناقشة والاعتراض حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً أي حتى أبتدئك ببيانه، والغاية على ما قيل مضروبة لما يفهم من الكلام كأنه قيل أنكر بقلبك على ما أفعل حتى أبينه لك أو هي لتأبيد ترك السؤال فإنه لا ينبغي السؤال بعد البيان بالطريق الأولى، وعلى الوجهين فيها إيذان بأن كل ما يصدر عنه فله حكمة وغاية حميدة البتة، وقيل: حتى للتعليل وليس بشيء. وقرأ نافع وابن عامر «فلا تسألنّي» بالنون المثقلة مع الهمز، وعن أبي جعفر «فلا تسلني» بفتح السين واللام والنون المثقلة من غير همز، وكل القراء كما قال أبو بكر بياء في آخره، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في حذف الياء خلاف غريب فَانْطَلَقا أي موسى والخضر عليهما السّلام ولم يضم يوشع عليه السّلام لأنه في حكم التبع، وقيل رده موسى عليه السّلام إلى بني إسرائيل، أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس مرفوعا أنهما انطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت بهما سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهما بغير نول ، وفي رواية أبي حاتم عن الربيع بن أنس أن أهل السفينة ظنوا أنهم لصوص لأن المكان كان مخوفا فأبوا أن يحملوهم فقال كبيرهم: إني أرى رجالا على وجوههم النور لأحملنهم فحملهم حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ أل فيها لتعريف الجنس إذ لم يتقدم عهد في سفينة مخصوصة، وكانت على ما في بعض الروايات سفينة جديدة وثيقة لم يمر بهما من السفن سفينة أحسن منها ولا أجمل ولا أوثق، وكانت أيضا على ما يدل عليه بعض الروايات الصحيحة من سفن صغار يحمل بها أهل هذا الساحل إلى أهل الساحل الآخر، وفي رواية أبي حاتم أنها كانت ذاهبة إلى أيلة، وصح أنهما حين ركبا جاء عصفور حتى وقع على حرف السفينة ثم نقر في البحر فقال له الخضر: ما نقص علمي وعلمك من علم الله تعالى إلا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 315 مثل ما نقص هذا العصفور من البحر ، وهو جار مجرى التمثيل واستعمال الركوب في أمثال هذه المواقع بكلمة فِي مع تجريده عنها في مثل قوله تعالى: لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً [النحل: 8] على ما يقتضيه تعديته بنفسه قد مرت الإشارة إلى وجهه في قوله تعالى وَقالَ ارْكَبُوا فِيها [هود: 41] وقيل إن ذلك لإرادة معنى الدخول كأنه قيل حتى إذا دخلا في السفينة خَرَقَها صح أنهما لما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواحها بالقدوم فقال له موسى عليه السّلام: قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها ، وصح أيضا أنه عليه السّلام خرقها ووتد فيها وتدا . وقيل قلع لوحين مما يلي الماء. وفي رواية عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعا أنهما لما ركبا واطمأنا فيها ولججت بهما مع أهلها أخرج مثقابا له ومطرقة ثم عمد إلى ناحية منها فضرب فيها بالمنقار حتى خرقها ثم أخذ لوحا فطبقه عليها ثم جلس عليها يرقعها . وهذه الرواية ظاهرة في أن خرقه إياها كان حين وصولها إلى لج البحر وهو معظم مائه، وفي الرواية عن الربيع أن أهل السفينة حملوهما فساروا حتى إذا شارفوا على الأرض خرقها، ويمكن الجمع بأن أول العزم كان وهي في اللج وتمام الفعل كان وقد شارفت على الأرض، وظاهر الأخبار يقتضي أنه عليه السّلام خرقها وأهلها فيها وهو ظاهر قوله تعالى قالَ موسى أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها سواء كانت اللام للعاقبة بناء على أن موسى عليه السّلام حسن الظن بالخضر أو للتعليل بناء على أنه الأنسب بمقام الإنكار، وبعضهم لم يجوز هذا توهما منه أن فيه سوء أدب وليس كذلك بل يوشك أن يتعين كونها للتعليل لأن الظاهر بناء الجواب عليه كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى. وفي حديث أخرجه عبد بن حميد ومسلم وابن مردويه قال: فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة فخرج من كان فيها وتخلف ليخرقها فقال له موسى: تخرقها لتغرق أهلها فقال له الخضر ما قص الله تعالى. وهذا ظاهر في أنه عزم على الحرق فاعترض عليه موسى عليه السّلام وهو خلاف ما تقتضيه الآية. فإن أول بأنه بتقدير وتخلف ليخرقها فخرقها وأن تعبير موسى عليه السّلام بالمضارع استحضارا للصورة أو قيل بأنه وقع من الخضر عليه السّلام أولا تصميم على الخرق وتهيئة لأسبابه وثانيا خرق بالفعل ووقع من موسى عليه السّلام اعتراض على الأول أولا وعلى الثاني ثانيا فنقل في الحديث أول ما وقع من كل في هذه المادة وفي الآية ثاني ما وقع من كل فيها بقي بين ظاهر الحديث وظاهر الآية مخالفة أيضا على ما قيل من حيث إن الأول يقتضي أن أهل السفينة لم يكونوا فيها إذ خرقت والثاني يقتضي أنهم كانوا فيها حينئذ، وأجيب أنه ليس في الحديث أكثر من أنهم خرجوا منها وتخلف للخرق وليس فيه أنهم خرجوا فخرقها فيمكن أن يكون عليه السّلام تخلف للخرق إذ خرجوا لكنه لم يفعله إلا بعد رجوعهم إليها وحصولهم فيها، وأنت تعلم أنه ينافي هذا ما قيل في وجه الجمع بين الرواية عن سعيد والرواية عن الربيع وبالجملة الجمع بين الأخبار الثلاثة وبينها وبين الآية صعب، وقال بعضهم في ذلك: إنه يحتمل أن السفينة لما لججت بهم صادفوا جزيرة في اللج فخرجوا لبعض حوائجهم وتخلف الخضر عازما على الخرق ومعه موسى عليه السّلام فأحس منه ذلك فعجل بالاعتراض ثم رجع أهلها وركبوا فيها والعزم هو العزم فأخذ عليه السّلام في مباشرة ما عزم عليه ولم يشعر موسى عليه السّلام حتى تم وقد شارفت على الأرض، ولا يخفى ما في ذلك من البعد، وذكر بعضهم أن ظاهر الآية يقتضي أن خرقه إياها وقع عقب الركوب لأن الجزاء يعقب الشرط. وأجيب بأن ذلك ليس بلازم وإنما اللازم تسبب الجزاء عن الشرط ووقوعه بعده ألا تراك تقول: إذا خرج زيد على السلطان قتله وإذا أعطيت السلطان قصيدة أعطاك جائزة مع أنه كثيرا ما لا يعقب القتل الخروج والإعطاء الإعطاء وقد صرح ابن الحاجب بأنه لا يلزم وقوع الشرط والجزاء في زمان واحد فيقال: إذا جئتني اليوم أكرمك غدا، وعلى ذلك قوله تعالى: أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا [مريم: 66] ومن التزم ذلك كالرضي جعل الزمان المدلول عليه بإذا ممتدا وقدر في الآية المذكورة «أئذا ما مت وصرت رميما» وعليه أيضا لا يلزم التعقيب، نعم قال بعضهم: إن خبر لما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 316 قد قلع لوحا من ألواحها يدل على تعقيب الخرق للركوب، وأيضا جعل غاية انطلاقهما مضمون الجملة الشرطية يقتضي ذلك إذ لو كان الخرق متراخيا عن الركوب لم يكن غاية الانطلاق مضمون الجملة لعدم انتهائه به. وأجيب بأن المبادرة التي دل عليها الخبر عرفته بمعنى أنه لم تمض أيام ونحوه، وبأنه لا مانع من كون الغاية أمرا ممتدا ويكون انتهاء المغيا بابتدائه كقولك: ملك فلان حتى كانت سنة كذا ملكه فتأمل. ثم إن في القلب من صحة رواية الربيع شيئا والله تعالى أعلم بصحتها، والظاهر أن أهل السفينة لم يروه لما باشر خرقها وإلا لما مكنوه وقد نص على ذلك علي القاري وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي العالية من طريق حماد ابن زيد عن شعيب بن الحبحاب أنه قال: كان الخضر عبدا لا تراه إلا عين من أراد الله تعالى أن يريه إياه فلم يره من القوم إلا موسى عليه السّلام ولو رآه القوم لحالوا بينه وبين خرق السفينة وكذا بينه وبين قتل الغلام، وليس هذا بالمرفوع والله تعالى أعلم بصحته، نعم سيأتي إن شاء الله تعالى قريبا عن الربيع أيضا أنهم علموا بعد ذلك أنه الفاعل، والظاهر أيضا أن موسى عليه السّلام لم يرد إدراج نفسه الشريفة في قوله لِتُغْرِقَ أَهْلَها وإن كان صالحا لأن يدرج فيه بناء على أن المراد من أهلها الراكبين فيها. وقرأ الحسن وأبو رجاء «لتغّرق» بالتشديد لتكثير المفعول، وقرأ حمزة والكسائي وزيد بن علي والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وخلف وأبو عبيد وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني «ليغرق أهلها» على إسناد الفعل إلى الأهل، وكون اللام على هذه القراءة للعاقبة ظاهر جدا لَقَدْ جِئْتَ أتيت وفعلت شَيْئاً إِمْراً أي داهيا منكرا من أمر الأمر بمعنى كثر قاله الكسائي فأصله كثير، والعرب كما قال ابن جني في سر الصناعة تصف الدواهي بالكثرة، وهو عند بعضهم في الأصل على وزن كبد فخفف قيل ولم يقل أمرا إمرا مع ما فيه من التجنيس لأنه تكلف لا يلتفت إلى مثله في الكلام البليغ كما صرح به الإمام المرزوقي في شرح قول السموأل: يقرب حب الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول ردا لاختيار بعضهم رواية يقصر حب الموت، وأيد ذلك بقول أبي ذؤيب الهذلي وشيك الفصول بعيد القفول حيث أمكن له أن يقول بطيء القفول ولم يقل، وربما يقال هنا: إنه لم يقل ذلك لما ذكر مع إيهامه خلاف المراد وقصوره عن درجة ما في النظم الجليل من زيادة التفظيع، وفي الرواية عن الربيع أن موسى عليه السّلام لما رأى من الخضر ما رأى امتلأ غضبا وشد عليه ثيابه وأراد أن يقذف الخضر عليه السّلام في البحر فقال أردت هلاكهم فستعلم أنك أول هالك وجعل كلما ازداد غضبا استعر البحر وكلما سكن كان البحر كالدهن، وأن يوشع بن نون قال له: ألا تذكر العهد والميثاق الذي جعلت على نفسك، وأن الخضر عليه السّلام أقبل عليه يذكره ما قاله من قبل قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وهو متضمن للإنكار على عدم وقوع الصبر منه عليه السّلام فأدركه عند ذلك الحلم قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ اعتذار بنسيان الوصية على أبلغ وجه كأن نسيانه أمر محقق عند الخضر عليه السّلام لا يحتاج أن يفيده إياه استقلالا وإنما يلتمس منه ترك المؤاخذة به فما مصدرية والباء صلة المؤاخذة أي لا تؤاخذ بنسياني وصيتك في ترك السؤال عن شيء حتى تحدث لي منه ذكرا، والتمس ترك المؤاخذة بالنسيان لأن الكامل قد يؤاخذ به وهي مؤاخذة بقلة التحفظ التي أدت إليه كما وقعت لأول ناس وهو أول الناس وإلا فالمؤاخذة به نفسه لا تصح لأنه غير مقدور، وقيل: الباء للسببية وهي متعلقة بالفعل، والنسيان وإن لم يكن سببا قريبا للمؤاخذة بل السبب القريب لها هو ترك العمل بالوصية لكنه سبب بعيد لأنه لولاه لم يكن الترك، وجوز أن تكون متعلقة بمعنى النهي كما قيل في بِنِعْمَةِ رَبِّكَ من قوله تعالى: ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [القلم: 2] إنه متعلق بمعنى النفي فيكون النسيان سببا للنهي عن المؤاخذة بترك العمل بالوصية، وزعم بعضهم تعين كونها للملابسة ويجوز في ما أن تكون موصولة وأن تكون موصوفة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 317 أي لا تؤاخذني بالذي أو بشيء نسيته وهو الوصية لكن يحتاج هذا ظاهرا إلى تقدير مضاف أي بترك ما نسيته لأن المؤاخذة بترك الوصية أي ترك العمل بها لا بنفس الوصية. وقيل قد لا يحتاج إلى تقدير المضاف فإن الوصية سبب للمؤاخذة إذ لولاها لم يكن ترك العمل ولا المؤاخذة، ونظير ذلك ما قيل في قوله تعالى: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف: 50] ثم كون ما ذكر اعتذارا بنسيان الوصية هو الظاهر وقد صح في البخاري أن المرة الأولى كانت نسيانا. وزعم بعضهم أنه يحتمل أنه عليه السّلام لم ينس الوصية وإنما نهى عن مؤاخذته بالنسيان موهما أن ما صدر منه كان عن نسيانها مع أنه إنما عنى نسيان شيء آخر، وهذا من معاريض الكلام التي يتقي بها الكذب مع التوسل إلى الغرض كقول إبراهيم عليه السّلام: هذه أختي وإني سقيم، وروى هذا ابن جرير عن أبي بن كعب وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وجوز أن يكون النسيان مجازا عن الترك أي لا تؤاخذني بما تركت من وصيتك أول مرة وَلا تُرْهِقْنِي لا تغشني ولا تحملني مِنْ أَمْرِي وهو اتباعه إياه عُسْراً أي صعوبة وهو مفعول ثان لترهقني، والمراد لا تعسر علي متابعتك ويسرها علي بالإغضاء وترك المناقشة، وقرأ أبو جعفر «عسرا» بضمتين فَانْطَلَقا الفاء فصيحة أي فقبل عذره فخرجا من السفينة فانطلقا يمشيان على الساحل كما في الصحيح، وفي رواية أنهما مرا بقرية حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً يزعمون كما قال البخاري أن اسمه جيسور بالجيم وروي بالحاء، وقيل اسمه جنبتور وقيل غير ذلك، وصح أنه كان يلعب مع الغلمان وكانوا على ما قيل عشرة وأنه لم يكن فيهم أحسن ولا أنظف منه فأخذه فَقَتَلَهُ أخرج البخاري في رواية أنه عليه السّلام أخذ برأسه من أعلاه فاقتلعه بيده ، وفي رواية أخرى أنه أخذه فأضجعه ثم ذبحه بالسكين ، وقيل ضرب رأسه بالجدار حتى قتله، وقيل رضه بحجر، وقيل ضربه برجله فقتله، وقيل أدخل أصبعه في سرته فاقتلعها فمات، وجمع بين الروايات الثلاثة الأول بأنه ضرب رأسه بالجدار أولا ثم أضجعه وذبحه ثم اقتلع رأسه، وربما يجمع بين الكل وفي كلا الجمعين بعد، والظاهر أن الغلام لم يكن بالغا لأنه حقيقة الغلام الشائعة في الاستعمال وإلى ذلك ذهب الجمهور، وقيل كان بالغا شابا، وقد أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن عبد العزيز أنه كان ابن عشرين سنة، والعرب تبقي على الشاب اسم الغلام، ومنه قول ليلى الأخيلية في الحجاج: شفاها من الداء الذي قد أصابها ... غلام إذا هز القناة سقاها وقوله: تلق ذباب السيف عني فإنني ... غلام إذا هو جيت لست بشاعر وقيل هو حقيقة في البالغ لأن أصله من الاغتلام وهو شدة الشبق وذلك إنما يكون فيمن بلغ الحلم، وإطلاقه على الصبي الصغير تجوز من باب تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه، ويؤيد قول الأولين قوله تعالى قالَ أي موسى عليه السّلام أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً أي طاهرة من الذنوب فإن البالغ قلما يزكو من الذنوب. وقد جاء في حديث عن ابن جبير عن ابن عباس مرفوعا تفسير زكية بصغيرة وهو تفسير باللازم، ومن قال كان بالغا قال: وصفه عليه السّلام بذلك لأنه لم يره أذنب فهو وصف ناشىء من حسن الظن، واستدل على كونه بالغا بقوله تعالى: بِغَيْرِ نَفْسٍ أي بغير حق قصاص لك عليها وأجاب النووي والكرماني بأن المراد التنبيه على أنه قتله بغير حق إلا أنه خص حق القصاص بالنفي لأنه الأنسب بمقام القتل أو أن شرعهم كان إيجاب القصاص على الصبي، وقد نقل المحدثون كالبيهقي في كتاب المعرفة أنه كان في شرعنا كذلك قبل الهجرة. وقال السبكي: قبل أحد ثم نسخ، والجار والمجرور- قال أبو البقاء- متعلق بقتلت كأنه قيل أي قتلت نفسا بلا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 318 حق، وجوز أن يتعلق بمحذوف أي قتلا بغير نفس، وأن يكون في موضع الحال أي قتلها ظالما لها أو مظلومة وقرأ ابن عباس والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن وحميد والزهري ونافع واليزيدي وابن مسلم وزيد وابن بكير عن يعقوب ورويس عنه أيضا وأبو عبيد وابن جبير الأنطاكي وابن كثير وأبو عمرو «زاكية» بتخفيف الياء وألف بعد الزاي، و «زكية» بالتشديد من غير ألف كما قرأ زيد بن علي والحسن والجحدري وابن عامر والكوفيون أبلغ من ذلك لأنه صفة مشبهة دالة على الثبوت مع كون فعيل المحول من فاعل- كما قال أبو حيان- يدل على المبالغة، وفرق أبو عمرو بين زاكية وزكية بأن زاكية بالألف هي التي لم تذنب قط وزكية بدون الألف هي التي أذنبت ثم غفرت. وتعقب بأنه فرق غير ظاهر لأن أصل معنى الزكاة النمو والزيادة فلذا وردت للزيادة المعنوية وأطلقت على الطهارة من الآثام ولو بحسب الخلقة والابتداء كما في قوله تعالى: لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا [مريم: 19] فمن أين جاءت هذه الدلالة ثم وجه ذلك بأنه يحتمل أن تكون لكون زاكية بالألف من زكي اللازم وهو يقتضي أنه ليس بفعل آخر وأنه ثابت له في نفسه وزكية بمعنى مزكاة فإن فعيلا قد يكون من غير الثلاثي كرضيع بمعنى مراضع، وتطهير غيره له من الذنوب إنما يكون بالمغفرة وقد فهمه من كلام العرب فإنه امام العربية واللغة فتكون بهذا الاعتبار زاكية بالألف أبلغ وأنسب بالمقام بناء على أنه يرى أن الغلام لم يبلغ الحلم ولذا اختار القراءة بذلك وإن كان كل من القراءتين متواترا عنه صلّى الله عليه وسلّم، وهذا على ما قيل لا ينافي كون زكية بلا ألف أبلغ باعتبار أنها تدل على الرفع وهو أقوى من الدفع فافهم، وأيّا ما كان فوصف النفس بذلك لزيادة تفظيع ما فعل. وقد أخرج ابن مردويه عن أبي بن كعب أن الخضر عليه السّلام لما قتل الغلام ذعر موسى عليه السّلام ذعرة منكرة قال: أقتلت نفسا زكية بغير نفس لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً منكرا جدا، قال الإمام: المنكر ما أنكرته العقول ونفرت عنه النفوس وهو أبلغ في تقبيح الشيء من الأمر، وقيل بالعكس، وقال الراغب: المنكر الدهاء والأمر الصعب الذي لا يعرف، ولهذه الأبلغية قال بعضهم المراد شيئا أنكر من الأول، واختار الطيبي أنه دون الأمر وقال: إن الذي يقتضيه النظم أنه ذكر الأغلظ ثم تنزل إلى الأهون فقتل النفس أهون من الخرق لما فيه من إهلاك جماعة وأغلظ من إقامة الجدار بلا أجرة، وقال في الكشف: الظاهر أبلغية النكر أما بحسب اللفظ فظاهر ألا ترى كيف فسر الشاعر أي في قوله: لقد لقي الأقران (1) مني نكرا ... داهية دهياء إذا امرا النكر بداهية من صفتها كيت وكيت وجعل الإمر بعض أوصافها، وأما بحسب الحقيقة فلأن خرق السفينة تسبب إلى الهلاك وهذا مباشرة على أن ذلك لم يكن سببا مفضيا، وقول من قال: إنه تنزل استدلالا بأن إقامة الجدار أهون من القتل ليس بشيء لأنه حكي على ترتيب الوجود لا تنزل فيه ولا ترقي وإنما يلاحظ ذلك بالنسبة إلى ما ذيل انتهى، وروي القول بالأبلغية عن قتادة، ومما يؤيد ذلك ما حكاه القرطبي عن صاحب العرس والعرائس أن موسى عليه السّلام حين قال للخضر عليه السّلام ما قال غضب الخضر واقتلع كتف الصبي الأيسر وقشر اللحم عنه وإذا مكتوب فيه كافر لا يؤمن بالله تعالى أبدا، وبنى وجه تغيير النظم الجليل على أقبحية القتل فقيل: إنما غير النظم إلى ما ترى لأن القتل أقبح والاعتراض عليه أدخل وأحق فكان الاعتراض جدير بأن يجعل عمدة الكلام، وهو مبني على أن الحكم في الكلام الشرطي هو الجزاء والشرط قيد له بمنزلة الحال عند أهل العربية، وتحقيق ذلك في المطول وحواشيه. وكان العطف بالفاء التعقيبية ليفيد أن القتل وقع عقيب اللقاء من غير ريث كما يشعر به الاعتراض إذ لو مضى   (1) قوله مني نكرا في نسخة منكم بدل مني اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 319 زمان بين اللقاء والقتل أمكن نظرا للأمور العادية اطلاع الخضر فيه من حاله على ما لم يطلع عليه موسى عليه السّلام فلا يعترض عليه هذا الاعتراض، ولا يضر في هذا ادعاء أن الخرق أيضا كذلك لأن المقصود توجيه اختيار الفاء دون الواو أو ثم بعد توجيه اختيار أصل العطف بأن ذلك يتأتى جعل الاعتراض عمدة، والحاصل أنه لما كان الاعتراض في القصة الثانية معتنى بشأنه وأهم جعل جزاء لإذا الشرطية وبعد أن تعين للجزائية لذلك لم يكن بد من جعل القتل من جملة الشرط بالعطف، واختيرت الفاء من بين حروفه ليفاد التعقيب، ولما لم يكن الاعتراض في القصة الأولى مثله في الثانية جعل مستأنفا وجعل الخرق جزاء. وزعم التاشكندي جواز كون الاعتراضين في القصتين مستأنفين والجزاء فيهما فعل الخضر عليه السّلام إلا أنه لا بد من تقدير قد في الجزاء الثاني لأن الماضي المثبت الغير المقترن بها لفظا أو تقديرا لا يصلح للجزائية. واعتبر هذا في الثانية ولم يعتبر مثله في الأول لأن القتل أقبح فهو جدير بأن يؤكد ولا كذلك الخرق. وتعقبه بعض الفضلاء بأن الفاء الجزائية لا يجوز أن تدخل على الماضي المثبت إلا بتقدير قد لتحقق تأثير حرف الشرط فيه بأن يقلب معناه إلى الاستقبال فلا حاجة إلى الرابطة في كونه جوابا، وأما بتقدير قد فتدخل الفاء لعدم تأثير حرف الشرط فيه فهو محتاج إلى الرابطة فقوله تعالى: خَرَقَها وكذلك قوله سبحانه: فَقَتَلَهُ لكونهما مستقبلين بالنسبة إلى ما قبلهما يقعان جزاء بلا حاجة إلى ربط الفاء الجزائية فلا مجال في الثاني لجعل الفاء جزائية وكذا لا مجال في الأول لفرض تقدير قد لاصطلاح إدخال الفاء عليه فتدبر فإنه لا يخلو عن شيء. وقال مير بادشاه في الرد على ذلك: إن الذوق السليم يأبى عن تقدير قد لو جعل القتل جزاء لعدم اقتضاء المقام إياها كيف وقد سبق الخرق جزاء بدونها وقد علم أنه يصدر عن الخضر عليه السّلام ما لا يستطيع المتشرع أن يصبر عليه وما المحتاج إلى التحقيق إلا اعتراض موسى عليه السّلام ثانيا بعد ما سلف منه من الكلام وكونه عليه السّلام مرسلا منه تعالى للتعلم، وفيه إعراض عن بيان النكتة في التحقيق وعدم التفات إليها وغفلة على ما قال بعض الفضلاء عن موضع الفاء الجزائية وتقدير قد، ولعل الحق أن يقال: إن التقدير وإن جاز خلاف الظاهر جدا، وزعم أيضا أنه يمكن أن يقال في بيان إخراج القصتين على ما أخرجنا عليه أن لقاء الغلام سبب للشفقة والرفق لا القتل فلذا لم يحسن جعله جزاء وجعل جزاء الشرط وركوب السفينة قد يكون سببا لخرقها فلذا جعل جزاء، وفيه أن للخصم أن يمنع الفرق ويقول: كما أن لقاء الغلام سبب للرفق لا القتل كذلك ركوب السفينة سبب لحفظها وصيانتها لا الخرق كيف وسلامتها سبب لسلامة الخضر عليه السّلام ظاهرا، ومن الأمثال العامية لا ترم في البئر التي تشرب منها حجرا، وإذا سلم له أن يقول: إن لقاء الغلام سبب للرفق لا للقتل فالقتل أغرب والاعتراض عليه أدخل فالاعتراض جدير بأن يجعل جزاء فيؤول الأمر في بيان النكتة إلى نحو ما تقدم والأمر في هذا سهل كما لا يخفى. وقال شيخ الإسلام في وجه التغيير: إن صدور الخوارق عن الخضر عليه السّلام خرج بوقوعه مرة مخرج العادة واستأنست النفس به كاستئناسها بالأمور العادية فانصرفت عن ترقب سماعه إلى ترقب سماع حال موسى عليه السّلام هل يحافظ على مراعاة شرطه بموجب وعده عند مشاهدة خارق آخر أو يسارع إلى المناقشة كما في المرة الأولى فكان المقصود إفادة ما صدر عنه عليه السّلام فجعل الجزاء اعتراضه دون ما صدر عن الخضر عليهما السّلام ولله تعالى در شأن التنزيل، وأما ما قيل من أن القتل أقبح والاعتراض عليه أدخل فكان جديرا بأن يجعل عمدة الكلام فليس الجزء: 8 ¦ الصفحة: 320 من رفع الشبهة في شيء بل هو مؤيد لها فإن كون القتل أقبح من مبادئ قلة صدوره عن المؤمن العاقل وندرة وصول خبره إلى الأسماع وذلك مما يستدعي جعله مقصودا وكون الاعتراض عليه أدخل من موجبات كثرة صدوره عن كل عاقل فضلا عن النبي وذلك لا يقتضي جعله كذلك انتهى، وتعقب بأن ما ذكره من النكتة على تقدير تسليمه لا يضر من بينها بما تقدم إذ لا تزاحم في النكات، وأما اعتراضه فقوله مما يستدعي جعله مقصودا إن أراد أنه مقصود في نفسه فليس بصحيح وإن أراد أنه مقصود بأن يعترض عليه ويمنع منه فهذا يقتضي جعل الاعتراض جزاء كما مر، وأما كونه من موجبات كثرة صدوره عن كل عاقل فمقتض للاهتمام بالاعتراض عليه. وأنت تعلم أن الشيء كلما ندر كان الإخبار به وإفادته السامع أوقع في النفس وأن الأخبار الغريبة يهتم بإفادتها ما لا يهتم بإفادة غير الغريبة إذ العالم بالغريب قليل بخلاف العالم بغيره وإنكار ذلك مكابرة فمراد الشيخ أن كون القتل أقبح من مبادئ قلة صدوره عن المؤمن العاقل وندرة وصول خبره إلى الأسماع وذلك مما يستدعي جعله مقصودا بالإفادة كما هو شأن الأمور القليلة الصدور النادرة الوقوع وكون الاعتراض عليه أدخل من موجبات كثرة الصدور وذلك لا يقتضي أن يعامل كذلك، وعلى هذا لا غبار على ما ذكره عند المنصف، ثم إن ما ذكره من النكتة يتأتى على القول بأن القتل أقبح من الخرق وعلى القول بالعكس أيضا وهذا بخلاف ما تقدم فإنه كان مبنيا على أقبحية القتل فمن لا يقول بها يحتاج في بيان النكتة إلى غير ذلك، وقد رجح بذلك على ما تقدم، واستأنس له أيضا بأن مساق الكلام من أوله لشرح حال موسى عليه السّلام فجعل اعتراضه عمدة الكلام أوفق بالمساق إلا أنه عدل عن ذلك في قصة الخرق وجعل ما صدر عن الخضر عليه السّلام عمدة دون اعتراضه لأن النفس لما سمعت وصف الخضر ظمأت لسماع ما يصدر منه فبل غليلها وجعل ما صدر عنه مقصودا بالإفادة لأنه مطلوب للنفس وهي منتظرة إياه ثم بعد أن سمعت ذلك وسكن أوامها سلك بالكلام مسلكه الأول وقصد بالإفادة حال من سبق الكلام من أوله لشرح حاله، ولا يخفى أن هذا قول بأن الأصل نظرا إلى السوق أن تكون القصة الأولى على طرز القصة الثانية إلا أنه عدل عن ذلك لما ذكر، والخروج عن الأصل يتقدر بقدر الحاجة فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة: 173] وهو مخالف لما يفهم من كلام الشيخ في الجملة فافهم والله تعالى أعلم. وقرأ نافع وأبو بكر وابن ذكوان وأبو جعفر وشيبة وطلحة ويعقوب وأبو حاتم نُكْراً بضمتين حيث كان منصوبا. (1)   (1) تم الجزء الخامس عشر ويليه إن شاء الله تعالى الجزء السادس عشر وأوله قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 321 الجزء السادس عشر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 323 بسم الله الرحمن الرحيم قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً زيادة لَكَ لزيادة المكافحة على رفض الوصية وقلة التثبت والصبر لما تكرر منه الاشمئزاز والاستنكار ولم يرعو بالتذكير حتى زاد في النكير في المرة الثانية. قالَ أي موسى عليه السّلام إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ تفعله من الأعاجيب بَعْدَها أي بعد هذه المرة أو بعد هذه المسألة فَلا تُصاحِبْنِي وقرأ عيسى ويعقوب «فلا تصحبني» بفتح التاء من صحبه أي فلا تكن صاحبي، وعن عيسى أيضا «فلا تصحبني» بضم التاء وكسر الحاء من أصحبه ورواها سهل عن أبي عمرو أي فلا تصحبني إياك ولا تجعلني صاحبك، وقدر بعضهم المفعول الثاني علمك وليس بذاك. وقرأ الأعرج «فلا تصحبنّي» بفتح التاء والباء وشد النون، والمراد المبالغة في النهي أي فلا تكن صاحبي البتة، وهذا يؤيد كون المراد من النهي فيما لا تأكيد فيه التحريم، والمراد به الحزم بالترك والمفارقة لا الترخيص على معنى إن سألتك بعد فأنت مرخص في ترك صحبتي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً أي وجدت عذرا من قبلي، وقال النووي: معناه قد بلغت إلى الغاية التي تعذر بسببها في فراقي حيث خالفتك مرة بعد مرة. وصح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: رحمة الله علينا وعلى موسى لو صبر على صاحبه لرأى العجب لكن أخذته من صاحبه ذمامة فقال ذلك ، وقرأ نافع وعاصم «من لدني» بتخفيف النون وهي حجة على س في منعه ذلك، والأكثرون على أنه حذف نون الوقاية وأبقى النون الأصلية المكسورة على ما هو القياس في الأسماء المضافة من أنها لا تلحقها نون الوقاية كوطني ومقامي، وقيل: إنه يحتمل أن يكون المذكور نون الوقاية والمضاف إنما هو- لد- بلا نون لغة في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 325 لدن فلا حذف أصلا وتعقب بأن نون الوقاية إنما هي في المبني على السكون لتقيه الكسر ولد- بلا نون مضموم. ورد بأنه لا مانع من أن يقال: إنها وقته من زوال الضم وأشم شعبة الضم في الدال وروي عن عاصم أنه سكنها، وقال مجاهد: سوء غلط، ولعله أراد رواية وإلا فقد ذكروا أن لد بالفتح والسكون لغة في لدن، وقرأ عيسى «عذرا» بضم الذال ورويت عن أبي عمرو وعن أبي «عذري» بالإضافة إلى ياء المتكلم. فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ الجمهور على أنها أنطاكية وحكاه الثعلبي عن ابن عباس، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق قتادة عنه أنها برقة وهي كما في القاموس اسم لمواضع، وفي المواهب أنها قرية بأرض الروم والله تعالى أعلم، وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن السدي أنها باجروان وهي أيضا اسم لمتعدد إلا أنه ذكر بعضهم أن المراد بها قرية بنواحي أرمينية، وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين أنها الأبلة بهمزة وباء موحدة ولام مشددة، وقيل: قرية على ساحل البحر يقال لها ناصرة وإليها تنسب النصارى قال في مجمع البيان وهو المروي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه ، وقيل: قرية في الجزيرة الخضراء من أرض الأندلس، قال ابن حجر: والخلاف هنا كالخلاف في مجمع البحرين ولا يوثق بشيء منه، وفي الحديث أتيا أهل قرية لئاما اسْتَطْعَما أَهْلَها في محل الجر على أنه صفة لقرية، وجواب إذا قالَ الآتي إن شاء الله تعالى وسلك بذلك نحو ما سلك في القصة الثانية من جعل الاعتراض عمدة الكلام للنكتة التي ذكرها هناك شيخ الإسلام، وذهب أبو البقاء وغيره إلى أنه هو الجواب والآتي مستأنف نظير ما في القصة الأولى، والوصفية مختار المحققين كما ستعلمه إن شاء الله تعالى. وهاهنا سؤال مشهور وقد نظمه الصلاح الصفدي ورفعه إلى الإمام تقي الدين السبكي فقال: أسيدنا قاضي القضاة ومن إذا ... بدا وجهه استحى له القمران ومن كفه يوم الندى ويراعه ... على طرسه بحران يلتقيان ومن إن دجت في المشكلات مسائل ... جلاها بفكر دائم اللمعان رأيت كتاب الله أعظم معجز ... لأفضل من يهدى به الثقلان ومن جملة الإعجاز كون اختصاره ... بإيجاز ألفاظ وبسط معاني ولكنني في الكهف أبصرت آية ... بها الفكر في طول الزمان عناني وما هي إلا استطعما أهلها فقد ... نرى استطعماهم مثله ببيان فما الحكمة الغراء في وضع ظاهر ... مكان ضمير إن ذاك لشان فأرشد على عادات فضلك حيرتي ... فما لي إلى هذا الكلام يدان فأجاب السبكي بأن جملة اسْتَطْعَما محتملة لأن تكون في محل جر صفة لقرية وأن تكون في محل نصب صفة لأهل وأن تكون جواب إذا ولا احتمال لغير ذلك، ومن تأمل علم أن الأول متعين معنى وأن الثاني والثالث وإن احتملتهما الآية بعيدان عن مغزاها، أما الثالث فلأنه يلزم عليه كون المقصود الإخبار بالاستطعام عند الإتيان وأن ذلك تمام معنى الكلام، ويلزمه أن يكون معظم قصدهما أو هو طلب الطعام مع أن القصد هو ما أراد ربك مما قص بعد وإظهار الأمر العجيب لموسى عليه السّلام، وأما الثاني فلأنه يلزم عليه أن تكون العناية بشرح حال الأهل من حيث هم هم ولا يكون للقرية أثر في ذلك ونحن نجد بقية الكلام مشيرا إليها نفسها فيتعين الأول ويجب فيه اسْتَطْعَما أَهْلَها ولا يجوز استطعماهم أصلا لخلو الجملة عن ضمير الموصوف. وعلى هذا يفهم من مجموع الآيات أن الخضر عليه السّلام فعل ما فعل في قرية مذموم أهلها وقد تقدم منهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 326 سوء صنيع من الآباء عن حق الضيف مع طلبه وللبقاع تأثير في الطباع ولم يهم فيها مع أنها حرية بالإفساد والإضاعة بل باشر الإصلاح لمجرد الطاعة ولم يعبأ عليه السّلام بفعل أهلها اللئام، وينضاف إلى ذلك من الفوائد أن الأهل الثاني يحتمل أن يكونوا هم الأولون أو غيرهم أو منهم ومن غيرهم، والغالب أن من أتى قرية لا يجد جملة أهلها دفعة بل يقع بصره أولا على البعض ثم قد يستقريهم فلعل هذين العبدين الصالحين لما أتيا قدر الله تعالى لهما استقراء الجميع على التدريج ليتبين به كمال رحمته سبحانه وعدم مؤاخذته تعالى بسوء صنيع بعض عباده، ولو قيل استطعماهم تعين إرادة الأولين فأتى بالظاهر إشعارا بتأكيد العموم فيه وأنهما لم يتركا أحدا من أهلها حتى استطعماه وأبى ومع ذلك قوبلوا بأحسن الجزاء، فانظر إلى هذه الأسرار كيف احتجبت عن كثير من المفسرين تحت الأستار حتى أن بعضهم لم يتعرض لشيء، وبعضهم ادعى أن ذلك تأكيد، وآخر زعم ما لا يعول عليه حتى سمعت عن شخص أنه قال: إن العدول عن استطعماهم لأن اجتماع الضميرين في كلمة واحدة مستثقل وهو قول يحكى ليرد فإن القرآن والكلام الفصيح مملوء من ذلك ومنه ما يأتي في الآية، ومن تمام الكلام فيما ذكر أن استطعما إن جعل جوابا فهو متأخر عن الإتيان وإذا جعل صفة احتمل أن يكون الإتيان قد اتفق قبل هذه المرة وذكر تعريفا وتنبيها على أنه لم يحملهما على عدم الإتيان لقصد الخير فهذا ما فتح الله تعالى علي والشعر يضيق عن الجواب وقد قلت: لأسرار آيات الكتاب معاني ... تدق فلا تبدو لكل معاني وفيها لمرتاض لبيب عجائب ... سنا برقها يعنو له القمران إذا بارق منها لقلبي قد بدا ... هممت قرير العين بالطيران سرورا وإبهاجا وصولا على العلا ... كأني علا فوق السماك مكاني فما الملك والأقران ما البيض ما القنا ... وعندي وجوه أسفرت بتهاني وهاتيك منها قد أبحتك سرها ... فشكرا لمن أولاك حسن بياني أرى استطعما وصفا على قرية جرى ... وليس لها (1) والنحو كالميزان صناعته تقضي بأن استتار ما ... يعود عليه ليس في الإمكان وليس جوابا لا ولا صف أهلها ... فلا وجه للإضمار والكتمان وهذي ثلاث ما سواها بممكن ... تعين منها واحد فسباني ورضت بها فكري إلى أن تمخضت ... به زبدة الأحقاب منذ زمان وإن حياتي في تموج أبحر ... من العلم في قلبي يمد لساني إلى آخر ما تحمس به، وفيه من المناقشة ما فيه. وقد اعترض بعضهم بأنه على تقدير كون الجملة صفة للقرية يمكن أن يؤتى بتركيب أخصر مما ذكر بأن يقال: فلما أتيا قرية استطعما أهلها فما الداعي إلى ذكر الأهل أولا على هذا التقدير، وأجيب بأنه جيء بالأهل للإشارة إلى أنهم قصدوا بالإتيان في قريتهم وسألوا فمنعوا ولا شك أن هذا أبلغ في اللؤم وأبعد عن صدور جميل في حق أحد منهم فيكون صدور ما صدر من الخضر عليه السّلام غريبا جدا، لا يقال: ليكن التركيب كذلك وليكن على الإرادة الأهل تقديرا أو تجوزا كما في قوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] لأنا نقول: إن الإتيان ينسب للمكان كأتيت عرفات ولمن فيه كأتيت أهل بغداد فلو لم يذكر كان فيه تفويتا   (1) أي صفة جرت على غير من هي له اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 327 للمقصود، وليس ذلك نظير ما ذكر من الآية لامتناع سؤال نفس القرية عادة، واختار الشيخ عز الدين علي الموصلي في جواب الصفدي أن تكرار الأهل والعدول عن استطعماهم إلى اسْتَطْعَما أَهْلَها للتحقير وهو أحد نكات إقامة الظاهر مقام الضمير وبسط الكلام في ذلك نثرا وقال نظما: سألت لماذا استطعما أهلها أتى ... عن استطعماهم إن ذاك لشان وفيه اختصار ليس ثم ولم تقف ... على سبب الرجحان منذ زمان فهاك جوابا رافعا لنقابه ... يصير به المعنى كرأي عيان إذا ما استوى الحالان في الحكم رجح ... الضمير وأما حين يختلفان بأن كان في التصريح إظهار حكمة ... كرفعة شأن أو حقارة جاني كمثل أمير المؤمنين يقول ذا ... وما نحن فيه صرحوا بأمان وهذا على الإيجاز والبسط جاء في ... جوابي منثورا بحسن بيان وذكر في النثر وجها آخر للعدول وهو ما نقله السبكي ورده، وقد ذكره أيضا النيسابوري وهو لعمري كما قال السبكي، ويؤول إلى ما ذكر من أن الإظهار للتحقير قول بعض المحققين: إنه للتأكيد المقصود منه زيادة التشنيع وهو وجه وجيه عند كل نبيه، ومن ذلك قوله تعالى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [البقرة: 59] الآية ومثله كثير في الفصيح، وقال بعضهم: إن الأهلين متغايران فلذا جيء بهما معا، وقولهم: إذا أعيد المذكور أولا معرفة كان الثاني عين الأول غير مطرد وذلك لأن المراد بالأهل الأول البعض إذ في ابتداء دخول القرية لا يتأتى عادة إتيان جميع أهلها لا سيما على ما روي من أن دخولهما كان قبل غروب الشمس وبالأهل الثاني الجميع لما ورد أنهما عليهما السلام كانا يمشيان على مجالس أولئك القوم يستطعمانهم فلو جيء بالضمير لفهم أنهما استطعما البعض، وعكس بعضهم الأمر فقال: المراد بالأهل الأول الجميع ومعنى إتيانهم الوصول إليهم والحلول فيما بينهم وهو نظير إتيان البلد وهو ظاهر في الوصول إلى بعض منه والحلول فيه وبالأهل الثاني البعض إذ سؤال فرد فرد من كبار أهل القرية وصغارهم وذكورهم وإناثهم وأغنيائهم وفقرائهم مستبعد جدا والخبر لا يدل عليه ولعله ظاهر في أنهما استطعما الرجال، وقد روي عن أبي هريرة والله تعالى أعلم بصحة الخبر أنه قال: أطعمتهما امرأة من بربر بعد أن طلبا من الرجال فلم يطعموهما فدعيا لنسائهم ولعنا رجالهم فلذا جيء بالظاهر دون الضمير، ونقل مثله عن الإمام الشافعي عليه الرحمة في الرسالة. وأورد عليهما أن فيهما مخالفة لما هو الغالب في إعادة الأول معرفة، وعلى الثاني أنه ليس في المغايرة المذكورة فيه فائدة يعتد بها، ولا يورد هذا على الأول لأن فائدة المغايرة المذكورة فيه زيادة التشنيع على أهل القرية كما لا يخفى. واختار بعضهم على القول بالتأكيد أن المراد بالأهل في الموضعين الذين يتوقع من ظاهر حالهم حصول الغرض منهم ويحصل اليأس من غيرهم باليأس منهم من المقيمين المتوطنين في القرية، ومن لم يحكم العادة يقول: إنهما عليهما السلام أتوا الجميع وسألوهم لما أنهما على ما قيل قد مستهما الحاجة فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما بالتشديد وقرأ ابن الزبير والحسن وأبو رجاء وأبو رزين وأبو محيصن وعاصم في رواية المفضل وأبان بالتخفيف من الإضافة يقال ضافه إذا كان له ضيفا وأضافه وضيفه أنزله وجعله ضيفا، وحقيقة ضاف مال من ضاف السهم عن الهدف يضيف ويقال أضافت الشمس للغروب وتضيفت إذا مالت، ونظيره زاره من الازورار، ولا يخفى ما في التعبير بالإباء من الإشارة إلى مزيد لؤم القوم لأنه كما قال الراغب شدة الامتناع، ولهذا لم يقل: فلم يضيفوهما مع أنه أخصر فإنه دون ما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 328 في النظم الجليل في الدلالة على ذمهم، ولعل ذلك الاستطعام كان طلبا للطعام على وجه الضيافة بأن يكونا قد قالا: إنا غريبان فضيفونا أو نحو ذلك كما يشير إليه التعبير بقوله تعالى: فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما دون فأبوا أن يطعموهما مع اقتضاء ظاهر اسْتَطْعَما أَهْلَها إياه، وإنما عبر باستطعما دون استضافا للإشارة إلى أن جل قصدهما الطعام دون الميل بهما إلى منزل وإيوائهما إلى محل. وذكر بعضهم أن في فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما من التشنيع ما ليس في أبوا أن يطعموهما لأن الكريم قد يرد السائل المستطعم ولا يعاب كما إذا رد غريبا استضافه بل لا يكاد يرد الضيف إلا لئيم، ومن أعظم هجاء العرب فلان يطرد الضيف، وعن قتادة شر القرى التي لا يضاف فيها الضيف ولا يعرف لابن السبيل حقه. وقال زين الدين الموصلي: إنما خص سبحانه الاستطعام بموسى والخضر عليهما السلام والضيافة بالأهل لأن الاستطعام وظيفة السائل والضيافة وظيفة المسئول لأن العرف يقضي بذلك فيدعو المقيم القادم إلى منزله يسأله ويحمله إليه انتهى، وهو كما ترى. ومما يضحك منه العقلاء ما نقله النيسابوري وغيره أن أهل تلك القرية لما سمعوا نزول هذه الآية استحيوا وأتوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بحمل من ذهب فقالوا: يا رسول الله نشتري بهذا الذهب أن تجعل الباء من (أبوا) تاء فأبى عليه الصلاة والسلام، وبعضهم يحكي وقوع هذه القصة في زمن علي كرم الله تعالى وجهه ولا أصل لشيء من ذلك، وعلى فرض الصحة يعلم منه قلة عقول أهل القرية في الإسلام كما علم لؤمهم من القرآن والسنة من قبل فَوَجَدا عطف كما قال السبكي على أَتَيا فِيها جِداراً روي أنهما التجئا إليه حيث لم يجدا مأوى وكانت ليلتهما ليلة باردة وكان على شارع الطريق يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ أي يسقط وماضيه انقض على وزن انفعل نحو انجر والنون زائدة لأنه من قضضته بمعنى كسرته لكن لما كان المنكسر يتساقط قيل الانقضاض السقوط، والمشهور أنه السقوط بسرعة كانقضاض الكوكب والطير، قال صاحب اللوامح: هو من القضة وهي الحصى الصغار، ومنه طعام قضض إذا كان في حصى فعلى هذا المعنى يريد أن يتفتت فيصير حصى انتهى. وذكر أبو علي في الإيضاح أن وزنه أفعل من النقض كأحمر، وقال السهيلي في الروض هو غلط وتحقيق ذلك في محله. والنون على هذا أصلية، والمراد من إرادة السقوط قربه من ذلك على سبيل المجاز المرسل بعلاقة تسبب إرادة السقوط لقربه أو على سبيل الاستعارة بأن يشبه قرب السقوط بالإرادة لما فيهما من الميل، ويجوز أن يعتبر في الكلام استعارة مكنية وتخييلية، وقد كثر في كلامهم إسناد ما يكون من أفعال العقلاء إلى غيرهم ومن ذلك قوله: يريد الرمح صدر أبي براء ... ويعدل عن دماء بني عقيل وقول حسان رضي الله تعالى عنه: إن دهرا يلف شملي بحمل ... لزمان يهم بالإحسان وقول الآخر: أبت الروادف والثدي لقمصها ... مس البطون وأن تمس ظهورا وقول أبي نواس: فاستنطق العود قد طال السكوت به ... لا ينطق اللهو حتى ينطق العود إلى ما لا يحصى كثرة حتى قيل: إن من له أدنى اطلاع على كلام العرب لا يحتاج إلى شاهد على هذا المطلب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 329 ونقل بعض أهل أصول الفقه عن أبي بكر محمد بن داود الأصبهاني أنه ينكر وقوع المجاز في القرآن فيؤول الآية بأن الضمير في يريد للخضر أو لموسى عليهما السلام، وجوز أن يكون الفاعل الجدار وأن الله تعالى خلق فيه حياة وإرادة والكل تكلف وتعسف تغسل به بلاغة الكلام. وقال أبو حيان: لعل النقل لا يصح عن الرجل وكيف يقول ذلك وهو أحد الأدباء الشعراء الفحول المجيدين في النظم والنثر، وقرأ أبي «ينقض» بضم الياء وفتح القاف والضاد مبنيا للمفعول، وفي حرف عبد الله وقراءة الأعمش «يريد لينقض» كذلك إلا أنه منصوب بأن المقدرة بعد اللام وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وعكرمة وخليد بن سعد ويحيى ابن يعمر «ينقاص» بالصاد المهملة مع الألف ووزنه ينفعل اللازم من قصته فانقاص إذا كسرته فانكسر، وقال ابن خالويه: تقول العرب: انقاصت السن إذا انشقت طولا، قال ذو الرمة يصف ثور وحش: يغشى الكناس بروقيه ويهدمه ... من هائل الرمل منقاص ومنكثب وفي الصحاح قيص السن سقوطها من أصلها وأنشد قول أبي ذؤيب: فراق كقيص السن فالصبر إنه ... لكل أناس عثرة وحبور وقال الأموي: انقاصت البر انهارت، وقال الأصمعي: المنقاص المنقعر والمنقاض بالضاد المعجمة المنشق طولا، وقال أبو عمرو: هما بمعنى واحد. وقرأ الزهري «ينقاض» بألف وضاد معجمة، والمشهور تفسيره بينهدم. وذكر أبو علي أن المشهور عن الزهري أنه ينقاص بالمهملة فَأَقامَهُ مسحه بيده فقام كما روي عن ابن عباس وابن جبير، وقال القرطبي إنه هو الصحيح وهو أشبه بأحوال الأنبياء عليهم السلام واعترض بأنه غير ملائم لما بعد إذ لا يستحق بمثله الأجر، ورد بأن عدم استحقاق الأجر مع حصول الغرض غير مسلم ولا يضره سهولته على الفاعل، وقيل: أقامه بعمود عمده به، وقال مقاتل: سواه بالشيد، وقيل هدمه وقعد يبنيه. وأخرج ابن الأنباري في المصاحف عن أبي بن كعب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قرأ «فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فهدمه ثم قعد يبنيه» وكان طول هذا الجدار إلى السماء على ما نقل النووي عن وهب بن منبه مائة ذراع، ونقل السفيري عن الثعلبي أنه كان سمكه مائتي ذراع بذراع تلك القرية وكان طوله على وجه الأرض خمسمائة ذراع وكان عرضه خمسين ذراعا وكان الناس يمرون تحته على خوف منه قالَ موسى عليه السلام لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً تحريضا للخضر عليه السّلام وحثا على أخذ الجعل والأجرة على ما فعله ليحصل لهما بذلك الانتعاش والتقوى بالمعاش فهو سؤال له لم لم يأخذ الأجرة واعتراض على ترك الأخذ فالمراد لازم فائدة الخبر إذ لا فائدة في الإخبار بفعله، وقيل: لم يقل ذلك حثا وإنما قاله تعريضا بأن فعله ذلك فضول وتبرع بما لم يطلب منه من غير فائدة ولا استحقاق لمن فعل له مع كمال الاحتياج إلى خلافه، وكان الكليم عليه السّلام لما رأى الحرمان ومساس الحاجة والاشتغال بما لا يعني لم يتمالك الصبر فاعترض، واتخذ افتعل فالتاء الأولى أصلية والثانية تاء الافتعال أدغمت فيها الأولى ومادته تخذ لا أخذ وإن كان بمعناه لأن فاء الكلمة لا تبدل إذا كانت همزة أو ياء مبدلة منها، ولذا قيل إن ايتزر خطأ أو شاذ وهذا شائع في فصيح الكلام، وأيضا إبدالها في الافتعال لو سلم لم يكن لقولهم تخذ وجه وهذا مذهب البصريين، وقال غيرهم: إنه الاتخاذ افتعال من الأخذ ولا يسلم ما تقدم، ويقول: المدة العارضة تبدل تاء أيضا، ولكثرة استعماله هنا أجروه مجرى الأصلي وقالوا تخذ ثلاثيا جريا عليه وهذا كما قالوا: تقى من اتقى. وقرأ عبد الله والحسن وقتادة وأبو بحرية وابن محيصن وحميد واليزيدي ويعقوب وأبو حاتم وابن كثير وأبو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 330 عمرو «لتخذت» بتاء مفتوحة وخاء مكسورة أي لأخذت، وأظهر ابن كثير ويعقوب وحفص الذال وأدغمها باقي السبعة قالَ الخضر عليه السّلام هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ على إضافة المصدر إلى الظرف اتساعا، وأين الحاجب يجعل الإضافة في مثله على معنى في وقد تقدم ما ينفعك هنا فتذكر. وقرأ ابن أبي عبلة «فراق بيني» بالتنوين ونصب بين على الظرفية، وأعيد بين وإن كان لا يضاف إلى لمتعدد لأنه لا يعطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار، قال أبو حيان: والعدول عن بيننا لمعنى التأكيد والإشارة إلى الفراق المدلول عليه بقوله قبل فَلا تُصاحِبْنِي والحمل مفيد لأن المخبر عنه الفراق باعتبار كونه في الذهن والخبر الفراق باعتبار أنه في الخارج كما قيل أو إلى الوقت الحاضر أي هذا الوقت وقت فراقنا أو إلى الاعتراض الثالث أي هذا الاعتراض سبب فراقنا حسبما طلبت، فوجه تخصيص الفراق بالثالث ظاهر. وقال العلامة الأول: إنما كان هذا سبب الفراق دون الأولين لأن ظاهرهما منكر فكان معذورا بخلاف هذا فإنه لا ينكر الإحسان للمسيء بل يحمد. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في وجهه أن قول موسى عليه السّلام في السفينة والغلام كان لله تعالى، وفي هذا لنفسه لطلب الدنيا فكان سبب الفراق، وحكى القشيري نحوه عن بعضهم. ورد ذلك في الكشف بأنه لا يليق بجلالتهما ولعل الخبر عن الحبر غير صحيح، ونقل في البحر عن أرباب المعاني أن هذه الأمور التي وقعت لموسى مع الخضر حجة على موسى عليه السّلام وذلك أنه لما أنكر خرق السفينة نودي يا موسى أين كان تدبيرك هذا وأنت في التابوت مطروحا في اليم؟ ولما أنكر قتل الغلام قيل له أين إنكارك هذا ووكز القبطي والقضاء عليه؟ ولما أنكر إقامة الجدار نودي أين هذا من رفعك الحجر لبنتي شعيب عليه السّلام بدون أجرة؟ ورأيت أنا في بعض الكتب أن الخضر عليه السّلام قال: يا موسى اعترضت علي بخرق السفينة وأنت ألقيت ألواح التوراة فتكسرت واعترضت علي بقتل الغلام وأنت وكزت القبطي فقضي عليه واعترضت علي بإقامة الجدار بلا أجر وأنت سقيت لبنتي شعيب أغنامهما بلا أجر فمن فعل نحو ما فعلت لن يعترض علي ، والظاهر أن شيئا من ذلك لا يصح والفرق ظاهر بين ما صدر من موسى عليه السّلام وما صدر من الخضر وهو أجل من أن يحتج على صاحب التوراة بمثل ذلك كما لا يخفى. وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي في شعب الإيمان وابن عساكر عن أبي عبد الله وأظنه الملطي قال: لما أراد الخضر أن يفارق موسى قال له: أوصني قال: كن نفاعا ولا تكن ضرارا كن بشاشيا ولا تكن غضبانا ارجع عن اللجاجة ولا تمش من غير حاجة ولا تعير أمرا بخطيئته وابك على خطيئتك يا ابن عمران وأخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر عن يوسف بن أسباط قال: بلغني أن الخضر قال لموسى لما أراد أن يفارقه: يا موسى تعلم العلم لتعمل به ولا تعلمه لتحدث به، وبلغني أن موسى قال للخضر: ادع لي فقال الخضر: يسر الله تعالى عليك طاعته والله تعالى أعلم بصحة ذلك أيضا. سَأُنَبِّئُكَ وقرأ ابن أبي وثاب «سانبيك» بإخلاص الياء من غير همز، والسين للتأكيد لعدم تراخي الإنباء أي أخبرك البتة بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً والظاهر أن هذا لم يكن عن طلب من موسى عليه السّلام، وقيل: إنه لما عزم الخضر على فراقه أخذ بثيابه وقال: لا أفارقك حتى تخبرني بما أباح لك فعل ما فعلت ودعاك إليه فقال سَأُنَبِّئُكَ والتأويل رد الشيء إلى مآله، والمراد به هنا المآل والعاقبة إذ هو المنبأ به دون التأويل بالمعنى المذكور، وما عبارة عن الأفعال الصادرة من الخضر عليه السّلام وهي خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار، ومآلها خلاص السفينة من اليد الغاصبة وخلاص أبوي الغلام من شره مع الفوز بالبدل الأحسن واستخراج اليتيمين للكنز، وفي جعل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 331 الموصول عدم استطاعة موسى عليه السّلام للصبر دون أن يقال بتأويل ما فعلت أو بتأويل ما رأيت ونحوهما نوع تعريض به عليه السّلام وعتاب، ويجوز أن يقال: إن ذلك لاستشارة مزيد توجهه وإقباله لتلقي ما يلقى إليه، وصَبْراً مفعول تستطع وعليه متعلق به وقدم رعاية للفاصلة. أَمَّا السَّفِينَةُ التي خرقها فَكانَتْ لِمَساكِينَ لضعفاء لا يقدرون على مدافعة الظلمة جمع مسكين بكسر الميم وفتحها ويجمع على مساكين ومسكينون وهو الضعيف العاجز، ويشمل هذا ما إذا كان العجز لأمر في النفس أو البدن ومن هنا قيل سموا مساكين لزمانتهم وقد كانوا عشرة خمسة منهم زمنى وإطلاق مساكين عليهم على هذا من باب التغليب، وهذا المعنى للمسكين غير ما اختلف الفقهاء في الفرق بينه وبين الفقير وعليه لا تكون الآية حجة لمن يقول: إن المسكين من يملك شيئا ولا يكفيه لأن هذا المعنى مقطوع فيه النظر عن المال وعدمه. وقد يفسر بالمحتاج وحينئذ تكون الآية ظاهرة فيما يدعيه القائل المذكور، وادعى من يقول: إن المسكين من لا شيء له أصلا وهو الفقير عند الأول أن السفينة لم تكن ملكا لهم بل كانوا أجراء فيها، وقيل: كانت معهم عارية واللام للاختصاص لا للملك ولا يخفى أن ذلك خلاف الظاهر ولا يقبل بلا دليل، وقيل: إنهم نزلوا منزلة من لا شيء له أصلا وأطلق عليهم المساكين ترحما. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه لِمَساكِينَ بتشديد السين جمع تصحيح لمساك فقيل: المعنى لملاحين، وقيل: المساك من يمسك رجل السفينة وكانوا يتناوبون ذلك، وقيل: المساكون دبغة المسوك وهي الجلود واحدها مسك ولعل إرادة الملاحين أظهر يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ أي يعملون بها فيه ويتعيشون بما يحصل لهم، وإسناد العمل إلى الكل على القول بأن منهم زمنى على التغليب أو لأن عمل الوكلاء بمنزلة عمل الموكلين فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها أي أجعلها ذات عيب بالخرق ولم أرد إغراق من بها كما حسبت ولإرادة هذا المعنى جيء بالإرادة ولم يقل فأعبتها. وهذا ظاهر في أن اللام في الاعتراض للتعليل ويحتاج حملها على العاقبة إلى ارتكاب خلاف الظاهر هنا كما لا يخفى على المتأمل وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ أي أمامهم وبذلك قرأ ابن عباس وابن جبير وهو قول قتادة وأبي عبيدة وابن السكيت والزجاج، وعلى ذلك جاء قول لبيد: أليس ورائي إن تراخت منيتي ... لزوم العصا تحنى عليها الأصابع وقول سوار بن المضرب السعدي: أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي ... وقومي تميم والفلاة ورائيا وقول الآخر: أليس ورائي أن أدب على العصا ... فيأمن أعدائي ويسأمني أهلي وفي القرآن كثير أيضا، ولا خلاف عند أهل اللغة في مجيء وراء بمعنى أمام وإنما الخلاف في غير ذلك، وأكثرهم على أنه معنى حقيقي يصح إرادته منها في أي موضع كان وقالوا: هي من الأضداد، وظاهر كلام البعض أن لها معنى واحدا يشمل الضدين فقال ابن الكمال نقلا عن الزمخشري: إنها اسم للجهة التي يواريها الشخص من خلف أو قدام، وقال البيضاوي ما حاصله: إنه في الأصل مصدر ورا يرئي كقضا يقضي وإذا أضيف إلى الفاعل يراد به المفعول أعني المستور وهو ما كان خلفا وإذا أضيف إلى المفعول يراد به الفاعل أعني الساتر وهو ما كان قداما. ورد عليه بقوله تعالى: ارْجِعُوا وَراءَكُمْ [الحديد: 13] فإن وراء أضيفت فيه إلى المفعول والمراد بها الخلف. وقال الفراء: لا يجوز أن يقال للرجل بين يديك هو وراءك وكذا في سائر الأجسام وإنما يجوز ذلك في المواقيت من الليالي والأيام وقال أبو علي: إنما جاز استعمال وراء بمعنى أمام على الاتساع لأنها جهة مقابلة لجهة فكانت كل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 332 واحدة من الجهتين وراء الأخرى إذا لم يرد معنى المواجهة ويجوز ذلك في الأجرام التي لا وجه لها مثل حجرين متقابلين كل واحد منهما وراء الآخر، وقيل: أي خلفهم كما هو المشهور في معنى وراء. واعترض بأنه إذا كان خلفهم فقد سلموا منه، وأجيب بأن المراد أنه خلفهم مدرك لهم ومارّ بهم أو بأن رجوعهم عليه واسمه على ما يزعمون هدد بن بدد وكان كافرا، وقيل: جلندي بن كركر ملك غسان، وقيل: مفواد بن الجلند ابن سعيد الأزدي وكان بجزيرة الأندلس يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ أي صالحة وقد قرأ كذلك أبي بن كعب، ولو أبقي العموم على ظاهره لم يكن للتعييب فائدة غَصْباً من أصحابها، وانتصابه على أنه مصدر مبين لنوع الأخذ، والظاهر أنه كان يغصب السفن من أصحابها ثم لا يردها عليهم، وقيل: كان يسخرها ثم يردها، والفاء في فَأَرَدْتُ للتفريع فيفيد أن سبب إرادة التعييب كونها لقوم مساكين عجزة لكن لما كانت مناسبة هذا السبب للمسبب خفية بين ذلك بذكر عادة الملك في غصب السفن، ومآل المعنى أما السفينة فكانت لقوم مساكين عجزة يكتسبون بها فأردت بما فعلت إعانتهم على ما يخافونه ويعجزون عن دفعه من غصب ملك وراءهم عادته غصب السفن الصالحة، وذكر بعضهم أن السبب مجموع الأمرين المسكنة والغصب إلا أنه وسط التفريع بين الأمرين وكان الظاهر تأخيره عنهما للغاية به من حيث إن ذلك الفعل كان هو المنكر المحتاج إلى بيان تأويله وللإيذان بأن الأقوى في السببية هو الأمر الأول ولذلك لم يبال بتخليص سفن سائر الناس مع تحقق الجزء الأخير من السبب ولأن في تأخيره فصلا بين السفينة وضميرها مع توهم رجوعه إلى الأقرب فليفهم، وظاهر الآية أن موسى عليه السّلام ما علم تأويل هذا الفعل قبل. ويشكل عليه ما جاء عن الربيع أن الخضر عليه السّلام بعد أن خرق السفينة وسلمت من الملك الظالم أقبل على أصحابها فقال: إنما أردت الذي هو خير لكم فحمدوا رأيه وأصلحها لهم كما كانت فإنه ظاهر في أنه عليه السّلام أوقفهم على حقيقة الأمر، والظاهر أن موسى عليه السّلام كان حاضرا يسمع ذلك، وقد يقال: إن هذا الخبر لا يعول عليه واحتمال صحته مع عدم سماع موسى عليه السّلام مما لا يلتفت إليه وَأَمَّا الْغُلامُ الذي قتله فَكانَ أَبَواهُ أي أبوه وأمه ففيه تغليب واسم الأب على ما في الإتقان كأزير والأم سهوا، وفي مصحف أبي وقراءة ابن عباس «وأما الغلام فكان كافرا وكان أبواه» مُؤْمِنَيْنِ والمعنى على ذلك في قراءة السبعة إلا أنه ترك التصريح بكفره إشعارا بعدم الحاجة إلى الذكر لظهوره واستدل بتلك القراءة من قال: إن الغلام كان بالغا لأن الصغير لا يوصف بكفر وإيمان حقيقيين. وأجاب النووي عن ذلك بوجهين، الأول أن القراءة شاذة لا حجة فيها، الثاني أنه سماه بما يؤول إليه لو عاش وفي صحيح مسلم أن الغلام طبع يوم طبع كافرا وأول بنحو هذا وكذا ما مر من خبر صاحب العرس والعرائس لكن في صحته توقف عندي لأنه ربما يقتضي بظاهره علم موسى عليه السّلام بتأويل القتل قبل الفراق، وعلى ما سمعت من التأويل لا يرد شيء مما ذكر على القول المنصور في الأطفال وهو أنهم مطلقا في الجنة على أنه قيل الكلام في غير من أخبر الصادق بأنه كافر، وقرأ أبو سعيد الخدري والجحدري «فكان أبواه مؤمنان» وخرجه الزمخشري وابن عطية وأبو الفضل الرازي على أن في كان ضمير الشأن، والجملة في موضع الخبر لها، وأجاز أبو الفضل أن يكون مؤمنان على لغة بني الحارث بن كعب فيكون منصوبا، وأجاز أيضا أن يكون في كان ضمير الْغُلامُ والجملة في موضع الخبر. فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما فخفنا خوفا شديدا أن يغشى الوالدين المؤمنين لو بقي حيا طُغْياناً مجاوزة للحدود الإلهية وَكُفْراً بالله تعالى وذلك بأن يحملهما حبه على متابعته كما روي عن ابن جبير، ولعل عطف الكفر على الطغيان لتفظيع أمره، ولعل ذكر الطغيان مع أن ظاهر السياق الاقتصار على الكفر ليتأتى هذا التفظيع أو ليكون المعنى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 333 فخشينا أن يدنس إيمانهما أولا ويزيله آخرا، ويلتزم على هذا القول بأن ذلك أشنع وأقبح من إزالته بدون سابقية تدنيس وفسر بعض شراح البخاري الخشية بالعلم فقال: أي علمنا أنه لو أدرك وبلغ لدعا أبويه إلى الكفر فيجيبانه ويدخلان معه في دينه لفرط حبهما إياه، وقيل: المعنى خشينا أن يغشيهما طغيانا عليهما وكفرا لنعمتهما عليه من تربيتهما إياه وكونهما سببا لوجوده بسبب عقوقه وسوء صنيعه فيلحقهما شر وبلاء، وقيل: المعنى خشينا أن يغشيهما ويقرن بإيمانهما طغيانه وكفره فيجتمع في بيت واحد مؤمنان وطاغ كافر، وفي بعض الآثار أن الغلام كان يفسد وفي رواية يقطع الطريق ويقسم لأبويه أنه ما فعل فيقسمان على قسمه ويحميانه ممن يطلبه، واستدل بذلك من قال: إنه كان بالغا، والذاهب إلى صغره يقول إن ذلك لا يصح ولعل الحق معه، والظاهر أن هذا من كلام الخضر عليه السّلام أجاب به موسى عليه السّلام من جهته، وجوز الزمخشري أن يكون ذلك حكاية لقول الله عز وجل والمراد فكر هنا بجعل الخشية مجازا مرسلا عن لازمها وهو الكراهة على ما قيل، قال في الكشف: وذلك لاتحاد مقام المخاطبة كان سؤال موسى عليه السّلام منه تعالى والخضر عليه السّلام بإذن الله تعالى يجيب عنه وفي ذلك لطف ولكن الظاهر هو الأول انتهى، وقيل: هو على هذا الاحتمال بتقدير فقال الله: خشينا والفاء من الحكاية وهو أيضا بعيد ولا يكاد يلائم هذا الاحتمال الآية بعد إلا أن يجعل التعبير بالظاهر فيها التفاتا، وفي مصحف عبد الله وقراءة أبي فخاف ربك والتأويل ما سمعت. وقال ابن عطية: إن الخوف والخشية كالترجي بلعل ونحوها الواقع في كلامه تعالى مصروف إلى المخاطبين وإلا فالله جل جلاله منزه عن كل ذلك فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ بأن يرزقهما بدله ولدا خيرا منه زَكاةً قال ابن عباس: أي دينا وهو تفسير باللازم والكثير قالوا: أي طهارة من الذنوب والأخلاق الرديئة، وفي التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إليهما ما لا يخفى من الدلالة على إرادة وصول الخير إليهما وَأَقْرَبَ رُحْماً أي رحمة، قال رؤبة ابن العجاج: يا منزل الرحم على إدريسا ... ومنزل اللعن على إبليسا وهما مصدران كالكثر والكثرة، والمراد أقرب رحمة عليهما وبرا بهما واستظهر ذلك أبو حيان، ولعل وجهه كثرة استعمال المصدر مبنيا للفاعل مع ما في ذلك هنا من موافقة المصدر قبله، وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطية أن المعنى هما به أرحم منهما بالغلام، ولعل المراد على هذا أنه أحب إليهما من ذلك الغلام إما لزيادة حسن خلقه أو خلقه أو الاثنين معا، وهذا المعنى أقرب للتأسيس من المعنى الأول على تفسير المعطوف عليه بما سمعت إلا أنه يؤيد ذلك التفسير ما أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنهما أبدلا جارية ولدت نبيا، وقال الثعلبي: إنها أدركت يونس بن متى فتزوجها نبي من الأنبياء فولدت نبيا هدى الله تعالى على يده أمة من الأمم، وفي رواية ابن المنذر عن يوسف بن عمر أنها ولدت نبيين، وفي رواية أخرى عن ابن عباس وجعفر الصادق رضي الله تعالى عنهما أنها ولدت سبعين نبيا ، واستبعد هذا ابن عطية وقال: لا يعرف كثرة الأنبياء عليهم السّلام إلا في بني إسرائيل ولم تكن هذه المرأة منهم وفيه نظر ظاهر، ووجه التأييد أن الجارية بحسب العادة تحب أبويها وترحمهما وتعطف عليهما وتبر بهما أكثر من الغلام قيل: أبدلهما غلاما مؤمنا مثلهما، وانتصاب المصدرين على التمييز والعامل ما قبل كل من أفعل التفضيل، ولا يخفى ما في الإبهام أولا ثم البيان ثانيا من اللطف ولذا لم يقل: فأردنا أن يبدلهما ربهما أزكى منه وأرحم على أن في خير زكاة من المدح ما ليس في أزكى كما يظهر بالتأمل الصادق. وذكر أبو حيان أن أفعل ليس للتفضيل هنا لأنه لا زكاة في ذلك الغلام ولا رحمة. وتعقب بأنه كان زكيا طاهرا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 334 من الذنوب بالفعل إن كان صغيرا وبحسب الظاهر إن كان بالغا فلذا قال موسى عليه السّلام «نفسا زكية» وهذا في مقابلته فخير من زكاة من هو زكي في الحال والمآل بحسب الظاهر والباطن ولو سلم فالاشتراك التقديري يكفي في صحة التفضيل وأن قوله: ولا رحمة قول بلا دليل انتهى. وقال الخفاجي: إن الجواب الصحيح هنا أن يكتفي بالاشتراك التقديري لأن الخضر عليه السّلام كان عالما بالباطن فهو يعلم أنه لا زكاة فيه ولا رحمة فقوله: إنه لا دليل عليه لا وجه له، وأنت تعلم أن الرحمة على التفسير الثاني مما لا يصح نفيها لأنها مدار الخشية فافهم، والظاهر أن الفاء للتفريع فيفيد سببية الخشية للإرادة المذكورة ويفهم من تفريع القتل، ولم يفرعه نفسه مع أنه المقصود تأويله اعتمادا على ظهور انفهامه من هذه الجملة على ألطف وجه، وفيها إشارة إلى رد ما يلوح به كلام موسى عليه السّلام من أن قتله ظلم وفساد في الأرض. وقرأ نافع وأبو عمرو وأبو جعفر وشيبة وحميد والأعمش وابن جرير «يبدّلهما» بالتشديد. وقرأ ابن عامر وأبو جعفر في رواية ويعقوب وأبو حاتم «رحما» بضم الحاء، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «رحما» بفتح الراء وكسر الحاء. وَأَمَّا الْجِدارُ المعهود فَكانَ لِغُلامَيْنِ قيل: إنهما أصرم وصريم يَتِيمَيْنِ صغيرين مات أبوهما وهذا هو الظاهر لأن يتم بني آدم بموت الأب، وفي الحديث «لا يتم بعد بلوغ» وقال ابن عطية: يحتمل أنهما كانا بالغين والتعبير عنهما بما ذكر باعتبار ما كان على معنى الشفقة عليهما ولا يخفى أنه بعيد جدا فِي الْمَدِينَةِ هي القرية المذكورة فيما سبق، ولعل التعبير عنها بالمدينة هنا لإظهار نوع اعتداد بها باعتداد ما فيها من اليتيمين وما هو من أهلها وهو أبوهما الصالح. ولما كان سوق الكلام السابق على غير هذا المساق عبر بالقرية فيه وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما مال مدفون من ذهب وفضة كما أخرجه البخاري في تاريخه والترمذي والحاكم وصححه من حديث أبي الدرداء وبذلك قال عكرمة وقتادة، وهو في الأصل مصدر ثم أريد به اسم المفعول. قال الراغب: الكنز جعل المال بعضه على بعض وحفظه وأصله من كنزت التمر في الوعاء، واستشكل تفسير الكنز بما ذكر بأن الظاهر أن الكانز له أبوهما لاقتضاء لَهُما له إذا لا يكون لهما إلا إذا كان إرثا أو كانا قد استخرجاه والثاني منتف فتعين الأول وقد وصف بالصلاح، ويعارض ذلك ما جاء في ذم الكانز. وأجيب بأن المذموم ما لم تؤد منه الحقوق بل لا يقال لما أديت منه كنز شرعا كما يدل عليه عند القائلين بالمفهوم حديث كل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم بصدد بيان الأحكام الشرعية لا المفاهيم اللغوية لأنها معلومة للمخاطبين ولا يعتبر في مفهومه اللغوي المراد هنا شيء من الإخراج وعدمه، والوصف بالصلاح قرينة على أنه لم يكن من الكنز المذموم، ومن قال: إن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 335 الكنز حرام مطلقا ادعى أنه لم يكن كذلك في شرع من قبلنا، واحتج عليه بما أخرجه الطبراني عن أبي الدرداء في هذه الآية قال: أحلت لهم الكنوز وحرمت عليهم الغنائم وأحلت لنا الغنائم وحرمت علينا الكنوز. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة نحو ذلك وفيه فلا يعجبن الرجل فيقول: ما شأن الكنز حل لمن قبلنا وحرم علينا فإن الله تعالى يحل من أمره ما يشاء ويحرم ما يشاء وهي السنن والفرائض تحل لأمة وتحرم على أخرى، وأخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس أنه قال: ما كان ذهبا ولا فضة ولكن كان صحف علم وروي ذلك أيضا عن ابن جبير، وأخرج ابن مردويه من حديث علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعا والبزار عن أبي ذر كذلك، والخرائطي عن ابن عباس موقوفا أنه كان لوحا من ذهب مكتوبا فيه عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها لا إله إلا الله محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم . وفي رواية عطاء عن ابن عباس أنه مكتوب في أحد شقيه بسم الله الرحمن الرحيم عجبت إلخ، في الشق الآخر أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي خلقت الخير والشر فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه والويل لمن خلقته للشر وأجريته على يديه وجمع بعضهم بأن المراد بالكنز ما يشمل جميع ذلك بناء على أنه المال المدفون مطلقا، وكل من المذكورات مال كان مدفونا إلا أنه اقتصر في كل من الروايات على واحد منها وفيه أنه على بعده يأباه ظاهر قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما كان ذهبا ولا فضة وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً الظاهر أنه الأب الأقرب الذي ولدهما، وذكر أن اسمه كاشح وأن اسم أمهما دهنا، وقيل: كان الأب العاشر، وعن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أنه كان الأب السابع. وأيّا ما كان ففي الآية دلالة على أن صلاح الآباء يفيد العناية بالأبناء، وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وابن أبي حاتم عن خيثمة قال: قال عيسى عليه السّلام طوبى لذرية المؤمن ثم طوبى لهم كيف يحفظون من بعده وتلا خيثمة هذه الآية. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن وهب قال: إن الله تعالى ليحفظ بالعبد الصالح القبيل من الناس، وعن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما أنه قال لبعض الخوارج في كلام جرى بينهما بم حفظ الله تعالى مال الغلامين؟ قال بصلاح أبيهما قال فأبي وجدي خير منه فقال الخارجي أنبأنا الله تعالى: أنكم قوم خصمون، وذكر من صلاح هذا الرجل أن الناس كانوا يضعون عنده الودائع فيردها إليهم كما وضعوها ، ويروى أنه كان سباحا فَأَرادَ رَبُّكَ مالكك ومدبر أمورك، ففي إضافة الرب إلى ضمير موسى عليه السّلام دون ضميرهما تنبيه له على تحتم كمال الانقياد والاستسلام لإرادته سبحانه ووجوب الاحتراز عن المناقشة فيما وقع بحسبهما التي يشم منها طلب ما يحصل به تربية البدن وتدبيره أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما قيل أي الحلم وكمال الرأي، وفي الصحاح القوة وهو ما بين ثماني عشر إلى ثلاثين وهو واحد جاء على بناء الجمع مثل آنك ولا نظير لهما، ويقال: هو جمع لا واحد له من لفظه مثل آسال وأبابيل وعباديد ومذاكير، وكان سيبويه يقول: واحده شده وهو حسن في المعنى لأنه يقال بلغ الغلام شدته ولكن لا يجمع فعلة على أفعل، وأما أنعم فإنما هو جمع نعم من قولهم يوم بؤس ويوم نعم، وأما قول من قال: واحده شد مثل كلب وأكلب أو شد مثل ذئب وأذؤب فإنما هو قياس كما يقولون في واحد الأبابيل أبول قياسا على عجول وليس هو شيء يسمع من العرب. وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما من تحت الجدار ولولا أني أقمته لا نقض وخرج الكنز من تحته قبل اقتدارهما على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 336 حفظه والانتفاع به وذكروا أن اليتيمين كانا غير عالمين بالكنز ولهما وصي يعلم به لكنه كان غائبا والجدار قد شارف فلو سقط لضاع فلذا أقامه رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ مفعول له لأراد وأقيم الظاهر مقام الضمير، وليس مفعولا له ليستخرجا لاختلاف الفاعل وبعضهم أجاز ذلك لعدم اشتراطه الاتحاد أو جعل المصدر من المبني للمفعول وأجاز أن يكون النصب على الحال وهو من ضمير يَسْتَخْرِجا بتأويل مرحومين، والزمخشري النصب على أنه مفعول مطلق لأراد فإن إرادة ذلك رحمة منه تعالى. واعترض بأنه إذا كان أراد ربك بمعنى رحم كانت الرحمة من الرب لا محالة فأي فائدة في ذكر قوله تعالى مِنْ رَبِّكَ وكذا إذا كان مفعولا له وقيل: في الكلام حذف والتقدير فعلت ما فعلت رحمة من ربك فهو حينئذ مفعول له بتقدير إرادة أو رجاء رحمة ربك أو منصوب بنزع الخافض والرحمة بمعنى الوحي أي برحمة ربك ووحيه فيكون قوله وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي أي عن رأيي واجتهادي تأكيدا لذلك ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من العواقب المنظومة في سلك البيان، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجته في الفخامة تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ أي تستطع وهو مضارع اسطاع بهمز الوصل وأصله استطاع على وزن استفعل ثم حذف تاء الافتعال تخفيفا وبقيت الطاء التي هي أصل. وزعم بعضهم أن السين عوض قلب الواو ألفا والأصل أطاع ولا حاجة تدعو إلى أن المحذوف هي الطاء التي هي فاء الفعل ثم دعوى أنهم أبدلوا من تاء الافتعال طاء لوقوعها بعد السين ويقال تستتيع بإبدال الطاء تاء وتستيع بحذف تاء الافتعال فاللغات أربع كما قال ابن السكيت، وما ألطف حذف أحد المتقاربين وبقاء الآخر في آخر هذا الكلام الذي وقع عنده ذهاب الخضر عن موسى عليهما السّلام. وقال بعض المحققين: إنما خص هذا بالتخفيف لأنه لما تكرر في القصة ناسب تخفيف الأخير، وتعقب بأن ذلك مكرر أيضا وذاك أخف منه فلم لم يؤت به، وفيه أن الفرق ظاهر بين هذا وذلك، وقيل: إنما خص بالتخفيف للإشارة إلى أنه خف على موسى عليه السّلام ما لقيه ببيان سببه، وتعقب بأنه يبعده أنه في الحكاية لا المحكي وأنت تعلم هذا وكذا ما ذكرناه زهرة لا تتحمل الفرك والتأويل بالمعنى السابق الذي ذكر أنه المراد أي ذلك مآل وعاقبة الذي لم تستطع عَلَيْهِ صَبْراً من الأمور التي رأيت فيكون إنجازا للتنبئة الموعودة، وجوز أن تكون الإشارة إلى البيان نفسه فيكون التأويل بمعناه المشهور، وعلى كل حال فهو فذلكة لما تقدم، وفي جعل الصلة غير ما مر تكرير للتنكير وتشديد للعتاب، قيل: ولعل إسناد الإرادة أولا إلى ضمير المتكلم وحده أنه الفاعل المباشر للتعييب، وثانيا إلى ضمير المتكلم ومعه غيره لأن إهلاك الغلام بمباشرته وفعله وتبديل غيره موقوف عليه وهو بمحض فعل الله تعالى وقدرته فضمير- نا- مشترك بين الله تعالى والخضر عليه السّلام، وثالثا إلى الله تعالى وحده لأنه لا مدخل له عليه السّلام في بلوغ الغلامين. واعترض توجيه ضمير الجمع بأن اجتماع المخلوق مع الله تعالى في ضمير واحد لا سيما ضمير المتكلم فيه من ترك الأدب ما فيه. ويدل على ذلك ما جاء من أن ثابت بن قيس بن شماس كان يخطب في مجلسه صلّى الله عليه وسلّم إذا وردت وفود العرب فاتفق أن قدم وفد تميم فقام خطيبهم وذكر مفاخرهم ومآثرهم فلما أتم خطبته قام ثابت وخطب خطبة قال فيها من يطع الله عز وجل ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: بئس خطيب القوم أنت ، وصرح الخطابي أنه عليه الصلاة والسّلام كره منه ما فيه من التسوية، وأجيب بأنه قد وقع نحو ذلك في الآيات والأحاديث، فمن ذلك قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب: 56] فإن الظاهر أن ضمير يُصَلُّونَ عَلَى راجع إلى الله تعالى وإلى الملائكة. وقوله صلّى الله عليه وسلّم في حديث الإيمان: «أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما» ولعل ما كرهه صلّى الله عليه وسلّم من ثابت أنه وقف على قوله يعصهما: لا التسوية في الضمير، وظاهر هذا أنه لا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 337 كراهة مطلقا في هذه التسوية وهو أحد الأقوال في المسألة. وثانيها ما ذهب إليه الخطابي أنها تكره تنزيها، وثالثها ما يفهمه كلام الغزالي أنها تكره تحريما، وعلى القول بالكراهة التنزيهية استظهر بعضهم أنها غير مطردة فقد تكره في مقام دون مقام. وبني الجواب عما نحن فيه على ذلك فقال: لما كان المقام الذي قام فيه ثابت مقام خطابة وإطناب وهو بحضرة قوم مشركين والإسلام غض طري كره صلّى الله عليه وسلّم التسوية منه فيه وأما مثل هذا المقام الذي القائل فيه والمخاطب من عرفت وقصد فيه نكتة وهو عدم استقلاله فلا كراهة للتسوية فيه. وخص بعض الكراهة بغير النبي صلّى الله عليه وسلّم وحينئذ يقوى الجواب عما ذكر لأنه إذا جازت للنبي صلّى الله عليه وسلّم فهو في كلام الله تعالى وما حكاه سبحانه بالطريق الأولى. وخلاصة ما قرر في المسألة أن الحق أنه لا كراهة في ذلك في كلام الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم كما أشير إليه في شروح البخاري، وأما في حق البشر فلعل المختار أنه مكروه تنزيها في مقام دون مقام، هذا وأنا لا أقول باشتراك هذا الضمير بين الله تعالى والخضر عليه السّلام لا لأن فيه ترك الأدب بل لأن الظاهر أنه كضمير (خشينا) والظاهر في ذاك عدم الاشتراك لأنه محوج لارتكاب المجاز على أن النكتة التي ذكروها في اختيار التشريك في ضمير أردنا لا تظهر في اختياره في ضمير فَخَشِينا لأنه لم يتضمن الكلام الأول فعلين على نحو ما تضمنهما الكلام الثاني فتدبر، وقيل في وجه تغاير الأسلوب: إن الأول شر فلا يليق إسناده إليه سبحانه وإن كان هو الفاعل جل وعلا، والثالث خير فأفرد إسناده إلى الله عز وجل. والثاني ممتزج خبره وهو تبديله بخير منه وشره وهو القتل فأسند إلى الله تعالى وإلى نفسه نظرا لهما. وفيه أن هذا الإسناد في فَخَشِينا أيضا وأين امتزاج الخير والشر فيه، وجعل النكتة في التعبير ينافيه مجرد الموافقة لتاليه ليس بشيء كما لا يخفى، وقيل: الظاهر أنه أسند الإرادة في الأولين إلى نفسه لكنه تفنن في التعبير فعبر عنها بضمير المتكلم مع الغير بعد ما عبر بضمير المتكلم الواحد لأن مرتبة الانضمام مؤخرة عن مرتبة الانفراد مع أن فيه تنبيها على أنه من العظماء في علوم الحكمة فلم يقدم على هذا القتل إلا لحكمة عالية بخلاف التعييب، وأسند فعل الإبدال إلى الله تعالى إشارة إلى استقلاله سبحانه بالفعل وأن الحاصل للعبد مجرد مقارنة إرادة الفعل دون تأثير فيه كما هو المذهب الحق انتهى، وأنت تعلم أن الإبدال نفسه مما ليس لإرادة العبد مقارنة له أصلا وإنما لها مقارنة للقتل الموقوف هو عليه على أن في هذا التوجيه بعد ما فيه. وفي الانتصاف لعل إسناد الأول إلى نفسه خاصة من باب الأدب مع الله تعالى لأن المراد ثم عيب فتأدب عليه السّلام بأن نسب الإعابة إلى نفسه، وأما إسناد الثاني إلى- نا- فالظاهر أنه من باب قول خواص الملك أمرنا بكذا ودبرنا كذا وإنما يعنون أمر الملك العظيم. ودبر ويدل على ذلك قوله في الثالث: فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وهو كما ترى، وقيل: اختلاف الأسلوب لاختلاف حال العارف بالله سبحانه فإنه في ابتداء أمره يرى نفسه مؤثرة فلذا أسند الإرادة أولا إلى نفسه ثم يتنبه إلى أنه لا يستقل بالفعل بدون الله تعالى فلذا أسند إلى ذلك الضمير ثم يرى أنه لا دخل له وأن المؤثر والمريد إنما هو الله تعالى فلذا أسنده إليه سبحانه فقط وهذا مقام الفناء ومقام كان الله ولا شيء معه وهو الآن كما كان، وتعقب بأنه إن أريد أن هذه الأحوال مرت على الخضر عليه السّلام واتصف بكل منها أثناء المحاورة فهو باطل وكيف يليق أن يكون إذ ذاك ممن يتصف بالمرتبة الثانية فضلا عن المرتبة الأولى وهو الذي قد أوتي من قبل العلم اللدني. وإن أريد أنه عبر تعبير من اتصف بكل مرتبة من تلك المراتب وإن كان هو عليه السّلام في أعلاها فإن كان ذلك تعليما لموسى عليه السّلام فموسى عليه السّلام أجل من أن يعلمه الخضر عليه السّلام مسألة خلق الأعمال، وإن كان تعليما لغيره عليه السّلام فليس المقام ذلك المقام على تقدير أن يكون هناك غير يسمع منه هذا الكلام وإن أريد أنه عبر في المواضع الثلاثة بأسلوب مخصوص من هاتيك الأساليب إلا أنه سبحانه عبر في كل موضع بأسلوب فتعددت الأساليب في حكايته الجزء: 8 ¦ الصفحة: 338 تعالى القصة لنا تعليما وإشارة إلى هاتيك المراتب وإن لم يكن كلام الخضر عليه السّلام كذلك فالله تعالى أجل وأعظم من أن ينقل عن أحد كلاما لم يقله أو لم يقل ما بمعناه فالقول بذلك نوع افتراء عليه سبحانه. والذي يخطر ببال العبد الفقير أنه روعي في الجواب حال الاعتراض وما تضمنه وأشار إليه فلما كان الاعتراض الأول بناء (1) على أن لام لِتُغْرِقَ للتعليل متضمنا إسناد إرادة الإغراق إلى الخضر عليه السّلام وكان الإنكار فيه دون الإنكار فيما يليه بناء على ما اختاره المحققون من أن نُكْراً أبلغ من إِمْراً ناسب أن يشرح بإسناد إرادة التعييب إلى نفسه المشير إلى نفي إرادة الإغراق عنها التي يشير كلام موسى عليه السّلام إليها وأن لا يأتي بما يدل على التعظيم أو ضم أحد معه في الإرادة لعدم تعظيم أمر الإنكار المحوج لأن يقابل بما يدل على تعظيم إرادة خلاف ما حسبه عليه السّلام وأنكره. ولما كان الاعتراض الثاني في غاية المبالغة والإنكار هناك في نهاية الإنكار ناسب أن يشير إلى أن ما اعترض عليه وبولغ في إنكاره قد أريد به أمر عظيم ولو لم يقع لم يؤمن من وقوع خطب جسيم فلذا أسند الخشية والإرادة إلى ضمير المعظم نفسه أو المتكلم ومعه غيره فإن في إسناد الإرادة إلى ذلك تعظيما لأمرها وفي تعظيمه تعظيم أمر المراد وكذا في إسناد الخشية إلى ذلك تعظيم أمرها، وفي تعظيمه تعظيم أمر المخشي. وربما يقال بناء على إرادة الضم منا: إن في ذلك الإسناد إشارة إلى أن ما يخشى وما يراد قد بلغ في العظم إلى أن يشارك موسى عليه السّلام في الخشية منه، وفي إرادته الخضر لا أن يستقل بإنكار ما هو من مبادئ ذلك المراد وبه ينقطع عن الأصلين عرق الفساد، ولما كان الاعتراض الثالث هينا جدا حيث كان بلفظ لا تصلب فيه ولا إزعاج في ظاهره وخافيه ومع هذا لم يكن على نفس الفعل بل على عدم أخذ الأجرة عليه ليستعان بها على إقامة جدار البدن وإزالة ما أصابه من الوهن فناسب أن يلين في جوابه المقام ولا ينسب لنفسه استقلالا أو مشاركة شيئا ما من الأفعال فلذا أسند الإرادة إلى الرب سبحانه وتعالى ولم يكتف بذلك حتى أضافه إلى ضميره عليه السّلام، ولا ينافي ذلك تكرير النكير والعتاب لأنه متعلق بمجموع ما من أولا من ذلك الجناب، هذا والله تعالى أعلم بحقيقة أسرار الكتاب وهو سبحانه الموفق للصواب، واستدل بقوله: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي القائلون بنبوته عليه السّلام وهو ظاهر في ذلك، واحتمال أن يكون هناك نبي أمره بذلك عن وحي كما زعمه القائلون بولايته احتمال بعيد على أنه ليس في وصفه بقوله تعالى: آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً على هذا كثير فائدة بل قد يقال: أي فائدة في هذا العلم اللدني إذا احتاج في إظهار العجائب لموسى عليه السّلام إلى توسيط نبي مثله، وقال بعضهم: كان ذلك عن إلهام ويلزمه القول بأن الإلهام كان حجة في بعض الشرائع وأن الخضر من المكلفين بتلك الشريعة وإلا فالظاهر أن حجيته ليست في شريعة موسى عليه السّلام وكذا هو ليس بحجة في شريعتنا على الصحيح، ومن شذ وقال بحجيته اشترط لذلك أن لا يعارضه نص شرعي فلو أطلع الله تعالى بالإلهام بعض عباده على نحو ما اطلع عليه الخضر عليه السّلام من حال الغلام لم يحل له قتله، وما أخرجه الإمام أحمد عن عطاء أنه قال: كتب نجدة الحروري إلى ابن عباس يسأله عن قتل الصبيان فكتب إليه إن كنت الخضر تعرف الكافر من المؤمن فاقتلهم إنما قصد به ابن عباس كما قال السبكي المحاجة والإحالة على ما لم يمكن قطعا لطمعه في الاحتجاج بقصة الخضر وليس مقصوده رضي الله تعالى عنه أنه إن حصل ذلك يجوز القتل فما قاله اليافعي في روضه من أنه لو أذن الله تعالى لبعض عباده أن يلبس ثوب حرير مثلا وعلم الإذن يقينا فلبسه لم يكن منتهكا للشرع وحصول اليقين له من حيث حصوله للخضر بقتله للغلام إذ هو ولي لا نبي على الصحيح انتهى عثرة يكاد أن لا   (1) ويوشك أن يكون هذا من قبيل. وكلت للخل كما كال لي. على وفاء الكيل أو بخسه اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 339 يقال لصاحبها لعا لأن مظنة حصول اليقين اليوم الإلهام وهو ليس بحجة عند الأئمة ومن شذ اشترط ما اشترط، وحصوله بخبر عيسى عليه السّلام إذا نزل متعذر لأنه عليه السّلام ينزل بشريعة نبينا صلّى الله عليه وسلّم ومن شريعته تحريم لبس الحرير على الرجال إلا للتداوي وما ذكره من نفي نبوة الخضر لا يعول عليه ولا يلتفت إليه، وممن صرح بأن الإلهام ليس بحجة من الصوفية الإمام الشعراني وقال: قد زل في هذا الباب خلق كثير فضلوا وأضلوا، ولنا في ذلك مؤلف سميته حد الحسام في عنق من أطلق إيجاب العمل بالإلهام وهو مجلد لطيف انتهى، وقال أيضا في كتابه المسمى بالجواهر والدرر: قد رأيت من كلام الشيخ محيي الدين قدس سره ما نصه اعلم أنا لا نعني بملك الإلهام حيث أطلقناه إلا الدقائق الممتدة من الأرواح الملكية لا نفس الملائكة فإن الملك لا ينزل بوحي على غير قلب نبي أصلا ولا يأمر بأمر إلهي جملة واحدة فإن الشريعة قد استقرت وتبين الفرض والواجب وغيرهما فانقطع الأمر الإلهي بانقطاع النبوة والرسالة وما بقي أحد يأمره الله تعالى بأمر يكون شرعا مستقلا يتعبد به أبدا لأنه إن أمره بفرض كان الشارع قد أمر به وإن أمره بمباح فلا يخلو إما أن يكون ذلك المباح المأمور به صار واجبا أو مندوبا في حقه فهذا عين نسخ الشرع الذي هو عليه حيث صير المباح الشرعي واجبا أو مندوبا وإن أبقاه مباحا كما كان فأي فائدة للأمر الذي جاء به ملك الإلهام لهذا المدعي فإن قال: لم يجئني ملك الإلهام بذلك وإنما أمرني الله تعالى بلا واسطة قلنا: لا يصدق في مثل ذلك وهو تلبيس من النفس، فإن ادعى أن الله سبحانه كلمه كما كلم موسى عليه السّلام فلا قائل به، ثم إنه تعالى لو كلمه ما كان يلقي إليه في كلامه إلا علوما وأخبارا لا أحكاما وشرعا ولا يأمره أصلا انتهى. وقد صرح الإمام الرباني مجدد الألف الثاني قدس سره العزيز في المكتوبات في مواضع عديدة بأن الإلهام لا يحل حراما ولا يحرم حلالا ويعلم من ذلك أنه لا مخالفة بين الشريعة والحقيقة والظاهر والباطن وكلامه قدس سره في المكتوبات طافح بذلك، ففي المكتوب الثالث والأربعين من الجلد الأول إن قوما مالوا إلى الإلحاد والزندقة يتخيلون أن المقصود الأصلي وراء الشريعة حاشا وكلا ثم حاشا وكلا نعوذ بالله سبحانه من هذا الاعتقاد السوء فكل من الطريقة والشريعة عين الآخر لا مخالفة بينهما بقدر رأس الشعيرة وكل ما خالف الشريعة مردود وكل حقيقة ردتها الشريعة فهي زندقة، وقال في أثناء المكتوب الحادي والأربعين من الجلد الأول أيضا في مبحث الشريعة والطريقة والحقيقة: مثلا عدم نطق اللسان بالكذب شريعة ونفي خاطر الكذب عن القلب إن كان بالتكلف والتعمل فهو طريقة وإن تيسر بلا تكلف فهو حقيقة ففي الجملة الباطن الذي هو الطريقة والحقيقة مكمل الظاهر الذي هو الشريعة فالسالكون سبيل الطريقة والحقيقة إن ظهر منهم في أثناء الطريق أمور ظاهرها مخالف للشريعة ومناف لها فهو من سكر الوقت وغلبة الحال فإذا تجاوزوا ذلك المقام ورجعوا إلى الصحو ارتفعت تلك المنافاة بالكلية وصارت تلك العلوم المضادة بتمامها هباء منثورا. وقال نفعنا الله تعالى بعلومه في أثناء المكتوب السادس والثلاثين من الجلد الأول أيضا: للشريعة ثلاثة أجزاء علم وعمل وإخلاص فما لم تتحقق هذه الأجزاء لم تتحقق الشريعة وإذا تحققت الشريعة حصل رضا الحق سبحانه وتعالى وهو فوق جميع السعادات الدنيوية والأخروية ورضوان من الله أكبر فالشريعة متكفلة بجميع السعادات ولم يبق مطلب وراء الشريعة فالطريقة والحقيقة اللتان امتاز بهما الصوفية كلتاهما خادمتان للشريعة في تكميل الجزء الثالث الذي هو الإخلاص فالمقصود منهما تكميل الشريعة لا أمر آخر وراء ذلك إلى آخر ما قال، وقال عليه الرحمة في أثناء المكتوب التاسع والعشرين من الجلد المذكور بعد تحقيق كثير: فتقرر أن طريق الوصول إلى درجات القرب الإلهي جل شأنه سواء كان قرب النبوة أو قرب الولاية منحصر في طريق الشريعة التي دعا إليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصار مأمورا بها في آية الجزء: 8 ¦ الصفحة: 340 قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف: 108] وآية قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران: 31] تدل على ذلك أيضا وكل طريق سوى هذا الطريق سوى هذا الطريق ضلال ومنحرف عن المطلوب الحقيقي وكل طريقة ردتها الشريعة فهي زندقة، وشاهد ذلك آية وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً [الأنعام: 153] وآية فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ [يونس: 32] وآية وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً [آل عمران: 85] وحديث «خط لنا النبي صلّى الله عليه وسلّم» الخبر ، وحديث «كل بدعة ضلالة» وأحاديث أخر إلى آخر ما قال عليه رحمة الملك المتعال، وقال قدس سره في معارف الصوفية: اعلم أن معارف الصوفية وعلومهم في نهاية سيرهم وسلوكهم إنما هي علوم الشريعة لا أنها علوم أخر غير علوم الشريعة، نعم يظهر في أثناء الطريق علوم ومعارف كثيرة ولكن لا بد من العبور عنها، ففي نهاية النهايات علومهم علوم العلماء وهي علوم الشريعة والفرق بينهم وبين العلماء أن تلك العلوم بالنسبة إلى العلماء نظرية واستدلالية وبالنسبة إليهم تصير كشفية وضرورية. وقال أيضا: اعلم أن الشريعة والحقيقة متحدان في الحقيقة ولا فرق بينهما إلا بالإجمال والتفصيل وبالاستدلال والكشف بالغيب والشهادة وبالتعمل وعدم التعمل وللشريعة من ذلك الأول وللحقيقة الثاني وعلامة الوصول إلى حقيقة حق اليقين مطابقة علومه ومعارفه لعلوم الشريعة ومعارفها وما دامت المخالفة موجودة ولو أدنى شعرة فذلك دليل على عدم الوصول، وما وقع في عبارة بعض المشايخ من أن الشريعة قشر والحقيقة لب فهو وإن كان مشعرا بعدم استقامة قائله ولكن يمكن أن يكون مراده أن المجمل بالنسبة إلى المفصل حكمه حكم القشر بالنسبة إلى اللب وان الاستدلال بالنسبة إلى الكشف كذلك، والأكابر المستقيمة أحوالهم لا يجوزون الإتيان بمثل هذه العبارات الموهمة إلى غير ذلك من عباراته الشريفة التي لا تكاد تحصى. وقال سيدي القطب الرباني الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره: جميع الأولياء لا يستمدون إلا من كلام الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم ولا يعملون إلا بظاهرهما، وقال سيد الطائفة الجنيد قدس سره: الطرق كلها مسدودة إلا على من اقتفى أثر الرسول عليه الصلاة والسّلام. وقال أيضا: من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث لا يقتدى به في هذا العلم لأن علمنا مقيد بالكتاب والسنة، وقال السري السقطي: التصوف اسم لثلاثة معان وهو لا يطفىء نور معرفته نور ورعه ولا يتكلم بسر باطن في علم ينقضه عليه ظاهر الكتاب ولا تحمله الكرامات على هتك محارم الله، وقال أيضا قدس سره: من ادعى باطن علم ينقضه ظاهر حكم فهو غالط. وقال أبو الحسين النوري: من رأيته يدعي مع الله تعالى حالة تخرجه عن جد العلم الشرعي فلا تقربه ومن رأيته يدعي حالة لا يشهد لها حفظ ظاهر فاتهمه على دينه، وقال أبو سعيد الخراز: كل فيض باطن يخالفه ظاهر فهو باطل. وقال أبو العباس أحمد الدينوري: لسان الظاهر لا يغير حكم الباطن، وفي التحفة لابن حجر قال الغزالي: من زعم أن له مع الله تعالى حالا أسقط عنه نحو الصلاة أو تحريم شرب الخمر وجب قتله وإن كان في الحكم بخلوده في النار نظر وقتل مثله أفضل من قتل مائة كافر لأن ضرره أكثر انتهى، ولا نظر في خلوده لأنه مرتد لاستحلاله ما علمت حرمته أو نفيه وجوب ما علم وجوبه ضرورة فيهما، ومن ثم جزم في الأنوار بخلوده انتهى. وقال في الإحياء: من قال إن الباطن يخالف الظاهر فهو إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان إلى غير ذلك. وفي رسالة القشيري طرف منه، والذي ينبغي أن يعلم أن كلام العارفين المحققين وإن دل على أنه لا مخالفة بين الشريعة والطريقة والحقيقة في الحقيقة لكنه يدل أيضا على أن في الحقيقة كشوفا وعلوما غيبية ولذا تراهم يقولون: علم الحقيقة هو العلم اللدني، وعلم المكاشفة، وعلم الموهبة، وعلم الأسرار، والعلم المكنون وعلم الوراثة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 341 إلا أن هذا لا يدل على المخالفة فإن الكشوف والعلوم الغيبية ثمرة الإخلاص الذي هو الجزء الثالث من أجزاء الشريعة فهي بالحقيقة مترتبة على الشريعة ونتيجة لها ومع هذا لا تغير تلك الكشوف والعلوم الغيبية حكما شرعيا ولا تقيد مطلقا ولا تطلق مقيدا خلافا لما توهمه ساجقلي زاده حيث قال في شرح عبارة الاحياء السابقة آنفا: يريد الغزالي من الباطن ما ينكشف لعلماء الباطن من حل بعض الأشياء لهم مع أن الشارع حرمه على عباده مطلقا فيجب أن يقال: إنما انكشف حله لهم لما انكشف لهم من سبب خفي يحلله لهم وتحريم الشارع تعالى ذلك على عباده مقيد بانتقاء انكشاف السبب المحلل لهم فمن انكشف له ذلك السبب حل له ومن لا فلا لكن الشارع سبحانه حرّمه على عادة على الإطلاق وترك ذلك القيد لندرة وقوعه إذ من ينكشف له قليل جدا مثاله انكشاف محل خرق السفينة وقتل الغلام للخضر عليه السّلام فحل له بذلك الانكشاف الخرق والقتل وحلهما له مخالف لإطلاق نهي النبي صلّى الله عليه وسلّم أمته عن الضرر وعن قتل الصبي لكنهما مقيدان فالأول مقيد بما إذا لم يعلم هناك غاصب مثلا والثاني بما إذا لم يعلم أن الصبي سيصير ضالا مضلا لكن الشارع ترك القيدين لندرة وقوعهما واعتمادا على فهم الراسخين في العلم إياهما إلى آخر ما قال فإن النصوص السابقة تنادي بخلافه كما سمعت، ثم إن تلك الغيوب والمكاشفات بل سائر ما يحصل للصوفية من التجليات ليست من المقاصد بالذات ولا يقف عندها الكامل ولا يلتفت إليها، وقد ذكر الإمام الرباني قدس سره في المكتوب السادس والثلاثين المتقدم نقل بعضه أنها تربي بها أطفال الطريق وأنه ينبغي مجاوزتها والوصول إلى مقام الرضا الذي هو نهاية مقامات السلوك والجذبة وهو عزيز لا يصل إليه إلا واحد من ألوف، ثم قال: إن الذين هم قليلو النظر يعدون الأحوال والمواجيد من المقامات والمشاهدات والتجليات من المطالب فلا جرم بقوا في قيد الوهم والخيال وصاروا محرومين من كمالات الشريعة كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ [الشورى: 13] انتهى، ويعلم منه أن الكاملين في الشريعة يعبرون على ذلك ولا يلتفتون إليه ولا يعدونه مقصدا وجل مقصدهم تحصيل مقام الرضا، وعلى هذا يخرج بيت المثنوي حيث يقول: زان طرف كه عشق من افزود درد ... بو حنيفة شافعي درسي نكرد وقد يحجب الكامل عن جميع ذلك ويلحق من هذه الحيثية بعوام الناس، ويعلم مما ذكر أن موسى عليه السّلام أكمل من الخضر وأعلمية الخضر عليه السّلام بعلم الحقيقة كانت بالنسبة إلى الحالة الحاضرة فإن موسى عليه السّلام عبر على ذلك ولم يقف عنده لأنه في مقام التشريع، ولعل طلبه التعليم كان بالأمر ابتلاء له بسبب تلك الفلتة، وقد ذكروا أن الكامل كلما كان صعوده أعلا كان هبوطه أنزل وكلما كان هبوطه أنزل كان في الإرشاد أكمل في الإفاضة أتم لمزيد المناسبة حينئذ بين المرشد والمسترشد، ولهذا قالوا فيما يحكى: إن الحسن البصري وقف على شط نهر ينتظر سفينة فجاء حبيب العجمي فقال له: ما تنتظر؟ فقال: سفينة فقال: أي حاجة إلى السفينة أما لك يقين؟ فقال الحسن: أما لك علم؟ ثم عبر حبيب على الماء بلا سفينة ووقف الحسن أن الفضل للحسن فإنه كان جامعا بين علم اليقين وعين اليقين وعرف الأشياء كما هي وفي نفس الأمر جعلت القدرة مستورة خلف الحكمة والحكمة في الأسباب وحبيب صاحب سكر لم ير الأسباب فعومل برفعها، ومن هنا يظهر سر قلة الخوارق في الصحابة مع قول الإمام الرباني: إن نهاية أويس سيد التابعين بداية وحشي قاتل حمزة يوم أسلم فما الظن بغير أويس مع غير وحشي، وأنا أقول: إن الكامل وإن كان من علمت إلا أن فوقه الأكمل وهو من لم يزل صاعدا في نزوله ونازلا في صعوده وليس ذلك إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولولا ذلك ما أمد العالم العلوي والسفلي، وهذا مرجع الحقيقة والشريعة له عليه الصلاة والسّلام على الوجه الأتم كما أشرنا إليه سابقا والحمد لله تعالى على أن جعلنا من أمته وذريته، ولا يعكر على ما ذكرنا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 342 ما قاله الإمام الغزالي في الاحياء وهو أن علم الآخرة قسمان علم مكاشفة وعلم معاملة أما علم المكاشفة فهو علم الباطن وهو غاية العلوم وهو علم الصديقين والمقربين وهو عبارة عن نور يظهر في القلب عند تطهيره وتزكيته من الصفات المذمومة وينكشف بذلك ما كان يسمع من قبل أسمائها ويتوهم لها معان مجملة غير متضحة فتتضح إذ ذاك حتى تحصل المعرفة بذات الله تعالى وبصفاته التامات وبأفعاله وبحكمته في خلق الدنيا والآخرة انتهى. لأن المراد أن ذلك من علم الباطن الذي هو علم الحقيقة وهذا البعض لا يمكن أن يخلو منه نبي كيف ورتبة الصديقين دون رتبة الأنبياء عليهم السّلام كما قرروه في آية فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء: 69] ومما ذكرنا من عدم المخالفة بين الشريعة والحقيقة يعلم ما في كلام البلقيني في دفع ما استشكله من قول الخضر لموسى عليهما السّلام: «إني على علم» الحديث السابق حيث زعم أنه يدل بظاهره على امتناع تعليم العلمين معا مع أنه لا يمتنع، وأجاب بأن علم الكشوف والحقائق ينافي علم الظاهر فلا ينبغي للعالم الحاكم بالظاهر أن يعلم الحقائق للتنافي وكذا لا ينبغي للعالم بالحقيقة أن يعلم العلم الظاهر الذي ليس مكلفا به وينافي ما عنده عن الحقيقة، ولعمري لقد أخطأ فيما قال وبالحق تعرف الرجال وكأنه لم يعتمد عليه فأردفه بجواب آخر هو خلاف الظاهر. وأنت تعلم أنه لا حاجة إلى شيء من ذلك والاستشكال من ضعف النظر، ثم إن قصة الخضر عليه السّلام لا تصلح حجة لمن يزعم المخالفة بين العلمين فإن أعظم ما يشكل فيها قتل الغلام لكونه طبع كافرا وخشي من بقائه حيا ارتداد أبويه وذلك أيضا شريعة لكنها مخصوصة به عليه السّلام لأنه كما قال العلامة السبكي: أوحي إليه أن يعمل بالباطن وخلاف الظاهر الموافق للحكمة فلا إشكال فيه وإن علم من شريعتنا أنه لا يجوز لأحد كائنا من كان قتل صغير لا سيما بين أبوين مؤمنين وكيف يجوز قتله بسبب لم يحصل والمولود لا يوصف بكفر حقيقي ولا إيمان حقيقي واتفاق الشرائع في الأحكام مما لم يذهب إليه أحد من الأنام فضلا عن العلماء الأعلام وهذا ظاهر على القول بنبوته، وأما على القول بولايته فيقال: إن عمل الولي بالإلهام كان إذ ذاك شرعا أو كما قيل إنه أمر بذلك على يد نبي غير موسى عليه السّلام، وأما إقامة الجدار بلا أجر فلا إشكال فيها لأنها إحسان وغاية ما يتخيل أنه للمسيء فليكن كذلك ولا ضير فإنه من مكارم الأخلاق، وأما خرق السفينة لتسلم من غصب الظالم فقد قالوا: إنه مما لا بأس به حتى قال العز بن عبد السّلام: إنه إذا كان تحت يد الإنسان مال يتيم أو سفيه أو مجنون وخاف عليه أن يأخذه ظالم يجب عليه تعييبه لأجل حفظه وكان القول قول من عيب مال اليتيم ونحوه إذ نازعه اليتيم ونحوه بعد الرشد ونحوه في أنه فعله لحفظه على الأوجه كما قاله القاضي زكريا في شرح الروض قبيل باب الوديعة. ونظير ذلك ما لو كان تحت يده مال يتيم مثلا وعلم أنه لو لم يبذل منه شيئا لقاض سوء لانتزعه منه وسلمه لبعض الخونة وأدى ذلك إلى ذهابه فإنه يجب عليه أن يدفع إليه شيئا ويتحرى في أقل ما يمكن إرضاؤه به ويكون القول قوله أيضا، وقال بعضهم: قصارى ما تدل عليه القصة ثبوت العلم الباطن وهو مسلم لكن إطلاق الباطن عليه إضافي كما تقدم، وكان في قوله صلّى الله عليه وسلّم «إن من العلم كهيئة المكنون لا يعرفه إلا العلماء بالله تعالى فإذا قالوه لا ينكره إلا أهل الغرة بالله تعالى» إشارة إلى ذلك، والمراد بأهل الغرة علماء الظاهر الذين لم يؤتوا ذلك، وبعض مثبتيه يستدلون بقول أبي هريرة: حفظت من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعاءين من العلم فأما أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا البلعوم، واستدل به أيضا على المخالفة بين العلمين. وأنت تعلم أنه يحتمل أن يكون أراد بالآخر الذي لو بثه لقتل علم الفتن وما وقع من بني أمية وذم النبي صلّى الله عليه وسلّم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 343 لأناس معينين منهم ولا شك أن بث ذلك في تلك الأعصار يجر إلى القتل، وعلى تسليم أنه أراد به العلم الباطن المسمى بعلم الحقيقة لا نسلم أن قطع البلعوم منه على بثه لمخالفته للعلم الظاهر في نفس الأمر بل لتوهم من بيده الحل والعقد والأمر والنهي من أمراء ذلك الزمان المخالفة فافهم، واستدل العلماء بما في القصة حسبما ذكره شراح الحديث وغيرهم على استحباب الرحلة للعلم وفضل طلبه واستحباب استعمال الأدب مع العالم واحترام المشايخ وترك الاعتراض عليهم وتأويل ما لا يفهم ظاهره من أفعالهم وحركاتهم وأقوالهم والوفاء بعهودهم والاعتذار عند مخالفتهم وعلى جواز اتخاذ الخادم في السفر وحمل الزاد فيه وأنه لا ينافي التوكل ونسبة النسيان ونحوه من الأمور المكروهة إلى الشيطان مجازا وتأدبا عن نسبتها إلى الله تعالى واعتذار العالم إلى من يريد الأخذ عنه في عدم تعليمه مما لا يحتمله طبعه وتقديم المشيئة في الأمر واشتراط المتبوع على التابع وعلى أن النسيان غير مؤاخذ به وأن للثلاث اعتبارا في التكرار ونحوه على جواز ركوب السفينة وفيه الحكم بالظاهر حتى يتبين خلافه لإنكار موسى عليه السّلام وعلى جواز أن يطلب الإنسان الطعام عند احتياجه إليه وعلى أن صنع الجميل لا يترك ولو مع اللئام وجواز أخذ الأجر على الأعمال وأن المسكين لا يخرج عن المسكنة بملك آلة يكتسب بها أو بشيء لا يكفيه وأن الغصب حرام وأنه يجوز دفن المال في الأرض وفيه إثبات كرامات الأولياء على قول من يقول: الخضر ولي إلى غير ذلك مما يظهر للمتتبع أو للمتأمل، وبالجملة قد تضمنت هذه القصة فوائد كثيرة ومطالب عالية خطيرة فأمعن النظر في ذاك والله سبحانه يتولى هداك. «ومن باب الإشارة في الآيات» على ما ذكره بعض أهل الإشارة فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا فيه إشارة إلى أن لله تعالى خواص أضافهم سبحانه إليه وقطعهم عن غيره وأخص خواصه عز وجل من أضافه إلى الاسم الجليل وهو اسم الذات الجامع لجميع الصفات أو إلى ضمير الغيبة الراجع إليه تعالى وليس ذاك إلا حبيبه الأكرم صلّى الله عليه وسلّم آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وهي مرتبة القرب منه عز وجل وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً وهو العلم الخاص الذي لا يعلم إلا من جهته تعالى، وقال ذو النون: العلم اللدني هو الذي يحكم على الخلق بمواقع التوفيق والخذلان. وقال الجنيد قدس سره: هو الاطلاع على الأسرار من غير ظن فيه ولا خلاف واقع لكنه مكاشفات الأنوار عن مكنون المغيبات ويحصل للعبد إذا حفظ جوارحه عن جميع المخالفات وأفنى حركاته عن كل الإرادات وكان شبحا بين يدي الحق بلا تمني ولا مراد، وقيل: هو علم يعرف به الحق سبحانه أولياءه ما فيه صلاح عباده. وقال بعضهم: هو علم غيبي يتعلق بعالم الأفعال وأخص منه الوقوف على بعض سر القدر قبل وقوع واقعته وأخص من ذلك علم الأسماء والنعوت الخاصة وأخص منه علم الذات. وذكر بعض العارفين أن من العلوم ما لا يعلمه إلا النبي، واستدل له بقوله صلّى الله عليه وسلّم في حديث المعراج كما ذكره القسطلاني في مواهبه وغيره «وسألني ربي فلم أستطع أن أجيبه فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها فأورثني علم الأولين والآخرين وعلمني علوما شتى ثم أخذ علي كتمانه إذ علم أنه لا يقدر على حمله أحد غيري وعلم خيرني فيه وعلمني القرآن فكان جبريل عليه السّلام يذكرني به وعلم أمرني بتبليغه إلى العام والخاص من أمتي» انتهى، ولله تعالى علم استأثر به عز وجل لم يطلع عليه أحدا من خلقه قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً قاله عن ابتلاء إلهي كما قدمنا، وقال فارس كما في أسرار القرآن: إن موسى عليه السّلام كان أعلم من الخضر فيما أخذ عن الله تعالى والخضر كان أعلم من موسى فيما وقع إلى موسى عليه السّلام، وقال أيضا: إن موسى كان باقيا بالحق والخضر كان فانيا بالحق قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً الجزء: 8 ¦ الصفحة: 344 قيل: علم الخضر أن موسى عليه السّلام أكرم الخلق على الله تعالى في زمانه وأنه ذو حدة عظيمة ففزع من صحبته لئلا يقع منه معه ما لا يليق بشأنه. وقال بعضهم: آيسه من نفسه لئلا يشغله صحبته عن صحبة الحق قال: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً قال بعضهم: لو قال كما قال الذبيح عليه السّلام: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ لوفق للصبر كما وفق الذبيح، والفرق أن كلام الذبيح أظهر في الالتجاء وكسر النفس حيث علق بمشيئة الله تعالى وجدانه واحدا من جماعة متصفين بالصبر ولا كذلك كلام موسى عليه السّلام فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها سلكا طريق السؤال الذي يتعلق بذل النفس في الطريقة وهو لا ينافي التوكل وكذا الكسب قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً كأنه عليه السّلام أراد دفع ما أحوجهما إلى السؤال من أولئك اللئام وفيه نظر إلى الأسباب وهو من أحوال الكاملين كما مر في حكاية الحسن البصري وحبيب، ففي هذا إشارة إلى أنه أكمل من الخضر عليهما السّلام قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ أي حسبما أردت، وقال النصرابادي: لما علم الخضر بلوغ موسى إلى منتهى التأديب وقصور علمه عن علمه قال ذلك لئلا يسأله موسى بعد عن علم أو حال فيفتضح. وقيل: خاف أن يسأله عن أسرار العلوم الربانية الصفاتية الذاتية فيعجز عن جوابه فقال ما قال وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً قيل: كان حسن الوجه جدا وكان محبوبا في الغاية لوالديه فخشي فتنتهما به، والآية من المشكل ظاهرا لأنه إن كان قد قدر الله تعالى عليهما الكفر فلا ينفعهما قتل الولد وإن لم يكن قدر سبحانه ذلك فلا يضرهما بقاؤه، وأجيب بأن المقدر بقاؤهما على الإيمان إن قتل وقتله ليبقيا على ذلك. وقيل إن المقدر قد يغير ولا يلزم من ذلك سوى التغير في تعلق صفته تعالى لا في الصفة نفسها ليلزم التغير فيه عز وجل، وقد تقدم الكلام في ذلك عند قوله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ [الرعد: 39] . واستشكل أيضا بأن المحذور يزول بتوفيقه للإيمان فما الحاجة إلى القتل، وأجيب بأن الظاهر أنه غير مستعد لذلك فهو مناف للحكمة وكأن الخضر عليه السّلام رأى فيما قال نوع مناقشة فتخلص من ذلك بقوله: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي أي بل فعلته بأمر الله عز وجل ولا يسأل سبحانه عما أمر وفعل ولعل قوله لموسى عليه السّلام ما قال حين نقر العصفور في البحر سد لباب المناقشة فيما أمر الله تعالى شأنه، ولعل علم مثل هذه المسائل من العلم الذي استأثر الله سبحانه به وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ [البقرة: 255] وأول بعضهم مجمع البحرين بمجمع ولاية الشيخ وولاية المريد والصخرة بالنفس والحوت بالقلب المملح بملح حب الدنيا وزينتها والسفينة بالشريعة وخرقها بهدم الناموس في الظاهر مع الصلاح في الباطن وإغراق أهلها بإيقاعهم في بحار الضلال والغلام بالنفس الأمارة وقتله بذبحه بسيف الرياضة والقرية بالجسد وأهلها بالقوى الإنسانية من الحواس واستطعامهم بطلب أفاعيلها التي تختص بها وإباء الضيافة بمنعها إعطاء خواصها كما ينبغي لكلالها وضعفها والجدار بالتعلق الحائل بين النفس الناطقة وعالم المجردات وإرادة الانقضاض بمشارفة قطع العلائق وإقامته بتقوية البدن والرفق بالقوى والحواس ومشيئة اتخاذ الأجر بمشيئة الصبر على شدة الرياضة لنيل الكشوف وإفاضة الأنوار والمساكين بالعوام والبحر الذي يعملون فيه ببحر الدنيا والملك بالشيطان والسفن التي يغصبها العبادات الخالية عن الانكسار والذل والخشوع والأبوين المؤمنين بالقلب والروح والبدل الخير بالنفس المطمئنة والملهمة والكنز بالكمالات النظرية والعلمية والأب الصالح بالعقل المفارق الذي كمالاته بالفعل وبلوغ الأشد بوصولهما بتربية الشيخ وإرشاده إلى المرتبة الكاملة وهذا ما اختاره النيسابوري، واختار غيره تأويلا آخر هو أدهي منه، هذا والله تعالى الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ كان السؤال على وجه الامتحان والسائلون في المشهور قريش بتلقين اليهود، وقيل: اليهود أنفسهم وروي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 345 ذلك عن السدي، وأكثر الآثار تدل على أن الآية نزلت بعد سؤالهم فالتعبير بصيغة الاستقبال لاستحضار الصورة الماضية لما أن في سؤالهم على ذلك الوجه مع مشاهدتهم من أمره صلّى الله عليه وسلّم ما شاهدوا نوع غرابة، وقيل: للدلالة على استمرارهم على السؤال إلى ورود الجواب، وبعض الآثار يدل على أن الآية نزلت قبل، فعن عقبة بن عامر قال: إن نفرا من أهل الكتاب جاؤوا بالصحف أو الكتب فقالوا لي: استأذن لنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لندخل عليه فانصرفت إليه عليه الصلاة والسّلام فأخبرته بمكانهم فقال صلّى الله عليه وسلّم: ما لي ولهم يسألونني عما لا أعلم إنما أنا عبد لا علم لي إلا ما علمني ربي ثم قال: ائتني بوضوء أتوضأ به فأتيته فتوضأ ثم قام إلى مسجد في بيته فركع ركعتين فانصرف حتى بدا السرور في وجهه ثم قال: اذهب فأدخلهم ومن وجدت بالباب من أصحابي فأدخلتهم فلما رآهم النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إن شئتم أخبرتكم بما سألتموني عنه وإن شئتم غير ذلك فافعلوا ، والجمهور على الأول ولم تثبت صحة هذا الخبر. واختلف في ذي القرنين فقيل: هو ملك أهبطه الله تعالى إلى الأرض وآتاه من كل شيء سببا وروي ذلك عن جبير بن نفير، واستدل على ذلك بما أخرجه ابن عبد الحكم وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في كتاب الأضداد وأبو الشيخ عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه سمع رجلا ينادي بمنى يا ذا القرنين فقال له عمر: ها أنتم قد سميتم بأسماء الأنبياء فما لكم وأسماء الملائكة، وهذا قول غريب بل لا يكاد يصح، والخبر على فرض صحته ليس نصا في ذلك إذ يحتمل ولو على بعد أن يكون المراد أن هذا الاسم من أسماء الملائكة عليهم السّلام فلا تسموا به أنتم وإن تسمى به بعض من قبلكم من الناس. وقيل: هو عبد صالح ملكه الله تعالى الأرض وأعطاه العلم والحكمة وألبسه الهيبة ولا نعرف من هو وذكر في تسميته بذي القرنين وجوه: الأول أنه دعا إلى طاعة الله تعالى فضرب على قرنه الأيمن فمات ثم بعثه الله تعالى فدعا فضرب على قرنه الأيسر فمات ثم بعثه الله تعالى فسمي ذا القرنين وملك ما ملك وروي هذا عن علي كرم الله تعالى وجهه ، والثاني أنه انقرض في وقته قرنان من الناس، الثالث أنه كانت صفحتا رأسه من نحاس وروي ذلك عن وهب بن منبه، الرابع أنه كان في رأسه قرنان كالظلفين وهو أول من لبس العمامة ليسترهما وروي ذلك عن عبيد بن يعلى، الخامس أنه كان لتاجه قرنان، السادس أنه طاف قرني الدنيا أي شرقها وغربها وروي ذلك مرفوعا، السابع أنه كان له غديرتان وروي ذلك عن قتادة ويونس بن عبيد، الثامن أنه سخر له النور والظلمة فإذا سرى يهديه النور من أمامه وتمتد الظلمة من ورائه، التاسع أنه دخل النور والظلمة، العاشر أنه رأى في منامه كأنه صعد إلى الشمس وأخذ بقرنيها. الحادي عشر أنه يجوز أن يكون قد لقب بذلك لشجاعته كأنه ينطح أقرانه كما لقب أزدشير بهمن بطويل اليدين لنفوذ أمره حيث أراد، ولا يخفى أنه يبعد عدم معرفة رجل مكن له ما مكن في الأرض وبلغ من الشهرة ما بلغ في طولها والعرض، وأما الوجوه المذكورة في وجه تسميته ففيها ما لا يكاد يصح ولعله غير خفي عليك وقيل: هو فريدون بن اثفيان بن جمشيد خامس ملوك الفرس الفيشدادية وكان ملكا عادلا مطيعا لله تعالى. وفي كتاب صور الأقاليم لأبي زيد البلخي أنه كان مؤيدا بالوحي. وفي عامة التواريخ أنه ملك الأرض وقسمها بين بنيه الثلاثة ايرج وسلم وتور فأعطى ايرج العراق والهند والحجاز وجعله صاحب التاج، وأعطى سلم الروم وديار مصر والمغرب، وأعطى تور الصين والترك والمشرق، ووضع لكل قانونا تحكم به وسميت القوانين الثلاثة سياسة فهي معربة سي ايسا أي ثلاثة قوانين، ووجه تسميته ذا القرنين أنه ملك طرفي الدنيا أو طول أيام سلطنته فإنها كانت على ما في روضة الصفا خمسمائة سنة أو عظم شجاعته وقهره الملوك. ورد بأنه قد أجمع أهل التاريخ على أنه لم يسافر لا شرقا ولا غربا وإنما دوخ له البلاد كاوه الأصفهاني الحداد الذي مزق الله تعالى على يده ملك الضحاك وبقي رئيس العساكر إلى أن مات، ويلزم على هذا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 346 القول أيضا أن يكون الخضر عليه السّلام على مقدمته بناء على ما اشتهر أنه عليه السّلام كان على مقدمة ذي القرنين ولم يذكر ذلك أحد من المؤرخين. وأجيب بأن من يقول: إنه الإسكندر يثبت جميع ما ثبت للإسكندر في الآيات والأخبار ولا يبالي بعدم ذكر المؤرخين لذلك وهو كما ترى، وقيل: هو إسكندر اليوناني ابن فيلقوس، وقيل: قلفيص، وقيل: قليص. وقال ابن كثير: هو ابن فيليس بن مصريم بن هرمس بن ميطون بن رومي بن ليطي بن يونان بن يافث بن نون بن شرخون بن تونط بن يوفيل بن رومي بن الأصغر بن العزيز بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السّلام وكان سرير ملكه مقدونيا وهي بلدة من بلاد الروم غربي دار السلطنة السنية قسطنطينية المحمية بينهما من المسافة قدر خمسة عشر يوما أو نحو ذلك عند مدينة شيروز، وقول ابن زيدون: إنها مصر وهم، وهو الذي غلب دارا الأصغر واستولى على ملك الفرس وكان مولده في السنة الثالثة عشرة من ملك دارا الأكبر. وزعم بعضهم أنه أبوه وذلك أنه تزوج بنت فيلقوس فلما قربها وجد منها رائحة منكرة فأرسلها إلى أبيها وقد حملت بالإسكندر فلما وضعته بقي في كفالة أبيها فنسب إليه، وقيل: إن دارا الأكبر تزوج ابنة ملك الزنج هلابي فاستخبث ريحها فأمر أن يحتال لذلك فكانت تغتسل بماء السندروس فأذهب كثيرا من ذفرها ثم عافها وردها إلى أهلها فولدت الإسكندر وكان يسمى الإسكندروس. ويدل على أنه ولده أنه لما أدرك دارا الأصغر بن دارا الأكبر وبه رمق وضع رأسه في حجره وقال له: يا أخي أخبرني عمن فعل هذا بك لأنتقم منه وهو زعم باطل. وقوله: يا أخي من باب الإكرام ومخاطبة الأمثال. وإنما سمي ذا القرنين لملكه طرفي الأرض أو لشجاعته واستدل لهذا القول بأن القرآن دل على أن الرجل بلغ ملكه إلى أقصى المغرب وأقصى المشرق وجهة الشمال وذلك تمام المعمور من الأرض وسئل هذا الملك يجب أن يبقى ذكره مخلدا والملك الذي اشتهر في كتب التواريخ أنه بلغ ملكه إلى هذا الحد ليس إلا هذا الإسكندر، وذلك لأنه لما مات أبوه جمع ملوك الروم والمغرب وقهرهم وانتهى إلى البحر الأخضر ثم عاد إلى مصر وبني الإسكندرية ثم دخل الشام وقصد بني إسرائيل وورد بيت المقدس وذبح في مذبحه ثم انعطف إلى أرمينية وباب الأبواب ودانت له العراقيون والقبط والبربر واستولى على دارا وقصد الهند والصين وغزا الأمم البعيدة ورجع إلى خراسان وبنى المدن الكثيرة ورجع إلى العراق ومرض بشهرزور ومات بها، وقيل: مات برومية المدائن ووضعوه في تابوت من ذهب وحملوه إلى الإسكندرية وعاش اثنين وثلاثين سنة ومدة ملكه اثنتا عشرة سنة. وقيل: عاش ستا وثلاثين ومدة ملكه ست عشرة سنة، وقيل: غير ذلك، فلما ثبت بالقرآن أن ذا القرنين ملك أكثر المعمورة وثبت بالتواريخ أن الذي هذا شأنه هو الإسكندر وجب القطع بأن المراد بذي القرنين هو الإسكندر كذا ذكره الإمام ثم قال: وهذا القول هو الأظهر للدليل المذكور إلا أن فيه إشكالا قويا وهو أنه كان تلميذ أرسطو الحكيم المقيم بمدينة أنينة أسلمه إليه أبوه فأقام عنده خمس سنين وتعلم منه الفلسفة وبرع فيها وكان على مذهبه فتعظيم الله تعالى إياه يوجب الحكم بأن مذهب أرسطو حق وذلك مما لا سبيل إليه. وأجيب بأنا لا نسلم أنه كان على مذهبه في جميع ما ذهب إليه والتلمذه على شخص لا توجب الموافقة في جميع مقالات ذلك الشخص ألا ترى كثرة مخالفة الإمامين لشيخهما الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه فيحتمل أن يكون مخالفا له فيما يوجب الكفر، وفي ذبحه في مذبح بيت المقدس دليل على أنه لم يكن يرى جميع ما يراه الحكماء، ولا يخفى أنه احتمال بعيد، والمشهور أنه كان قائلا بما يقوله الحكماء والذبح المذكور غير متحقق والاستدلال به ضعيف، وقيل: إن قوله بذلك وتمذهبه بمذهب أرسطو لا يوجب كفره إذ ذاك فإنه كان مقرا بالصانع تعالى شأنه معظما له غير عابد سواه من صنم أو غيره كما يدل عليه ما نقله الشهرستاني أن الحكماء تشاوروا في أن يسجدوا له إجلالا وتعظيما فقال: لا يجوز السجود الجزء: 8 ¦ الصفحة: 347 لغير بادئ الكل ولم يكن مبعوثا إليه رسول فإنه كان قبل مبعث عيسى عليه السّلام بنحو ثلاثمائة سنة وكان الأنبياء عليهم السّلام إذ ذاك من بني إسرائيل ومبعوثين إليهم ولم يكن هو منهم فكان حكمه حكم أهل الفترة. وتعقب بأنه على تسليم ذلك لا يحسم مادة الإشكال لأن الله تعالى لا يكاد يعظم من حكمه حكم أهل الفترة مثل هذا التعظيم الذي دلت عليه الآيات والأخبار، وأيضا الثالث في التواريخ أن الإسكندر المذكور كان أرسطو بمنزلة الوزير عنده وكان يستشيره في المهمات ويعمل برأيه ولم يذكر فيها أنه اجتمع مع الخضر عليه السّلام فضلا عن اتخاذه إياه وزيرا كما هو المشهور في ذي القرنين. واعترض أيضا بأن إسكندر المذكور لم يتحقق له سفر نحو المغرب في كتب التواريخ المعتبرة وقد نبه على ذلك كاتب جلبي عليه الرحمة، وقيل: هو الإسكندر الرومي وهو متقدم على اليوناني بكثير ويقال له: ذو القرنين الأكبر، واسمه قيل: مرزبان بن مردبة من ولد يافث بن نوح عليه السّلام وكان أسود، وقيل: اسمه عبد الله بن الضحاك، وقيل: مصعب بن عبد الله بن قينان بن منصور بن عبد الله بن الأزد بن عون بن زيد بن كهلان بن سبا بن يعرب بن قحطان، وجعل بعضهم هذا الخلاف في اسم ذي القرنين اليوناني بعد أن نقل القول بأن اسمه الإسكندر بن فيلقوس، وذكر في اسم الرومي ونسبه ما نقل سابقا عن ابن كثير. وذهب بعض المحققين إلى أن الإسكندر اليوناني والإسكندر الرومي كلاهما يطلقان على غالب دارا الأصغر والتاريخ المشهور بالتاريخ الرومي ويسمى أيضا السرياني والعجمي ينسب إليه في المشهور وأوله (1) شروق يوم الاثنين من أول سنة من سني ولايته عند ابن البناء ومن أول السنة السابعة وهي سنة خروجه لتملك البلاد كما في زيج الصوفي أو من أول السنة التي مات فيها كما في المبادئ والغايات، وبعض المحققين ينسبه إلى سولونس بن الطبوخوس الذي أمر ببناء أنطاكية وهو الذي صححه ابن أبي الشكر، وتوقف بعضهم كالغ بك عن نسبته إلى أحدهما لتعارض الأدلة، ونفى بعضهم أن يكون في الزمن المتقدم بين الملوك إسكندران. وزعم أنه ليس هناك إلا الإسكندر الذي غلب دارا واستولى على ملك فارس وقال: إن ذا القرنين المذكور في القرآن العظيم يحتمل أن يكون هو ويحتمل أن يكون غيره، والذي عليه الكثير أن المسمى بالإسكندر بين الملوك السالفة اثنان بينهما نحو ألفي سنة وأن أولهما هو المراد بذي القرنين ويسميه بعضهم الرومي وبعضهم اليوناني وهو الذي عمر دهرا طويلا فقيل: عمر ألفا وستمائة سنة، وقيل: ألفي سنة، وقيل: ثلاثة آلاف سنة ولا يصح في ذلك شيء، وذكر أبو الريحان البيروني المنجم في كتابه المسمى بالآثار الباقية عن القرون الخالية أن ذا القرنين هو أبو كرب سمي ابن عمير بن أفريقيس الحميري وهو الذي افتخر به تبع اليماني حيث قال: قد كان ذو القرنين جدي مسلما ... ملكا علا في الأرض غير مفند بلغ المغارب والمشارق يبتغي ... أسباب ملك من حكيم مرشد فرأى مغيب الشمس عند غروبها ... في عين ذي خلب وثأط حرمد ثم قال: ويشبه أن يكون هذا القول أقرب لأن الأدواء كانوا من اليمن كذي المنار وذي نواس وذي رعين وذي يزن وذي جدن، واختار هذا القول كاتب جلبي وذكر أنه كان في عصر إبراهيم عليه السّلام وأنه اجتمع معه في مكة المكرمة وتعانقا وأن شهرة بلوغ ملك الإسكندر اليوناني تلميذ أرسطو الغاية القصوى في كتب التواريخ كما ذكر   (1) قوله وأوله إلخ وقع استطرادا اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 348 الإمام دون هذا إنما هي لقرب زمان اليوناني بالنسبة إليه فإن بينهما نحو ألفي سنة وتواريخ هاتيك الأعصار قد أصابها إعصار ولم يبق ما يعول عليه ويرجع في حل المشكلات إليه، وربما يقال: إن عدم شهرة من ذكر تقوي كونه المسئول عنه إذ غرض اليهود من السؤال الامتحان وذلك إنما يحسن فيما خفي أمره ولم يشهر إذ الشهرة لا سيما إذا كانت تامة مظنة العلم وإلى كون ذي القرنين في زمان إبراهيم عليه السّلام ذهب غير واحد، وقد ذكر الأزرقي أنه أسلم على يده عليه السّلام وطاف معه بالكعبة وكان ثالثهما إسماعيل عليه السّلام، وروي أنه حج ماشيا فلما سمع إبراهيم عليه السّلام بقدومه تلقاه ودعا له وأوصاه بوصايا، وقيل: أتي بفرس ليركب فقال: لا أركب في بلد فيه الخليل فعند ذلك سخر له السحاب ومد له في الأسباب وبشره إبراهيم عليه السّلام بذلك فكانت السحابة تحمله وعساكره وجميع آلتهم إذا أرادوا غزو قوم وهؤلاء لم يصرحوا بأن ذا القرنين هذا هو الحميري الذي ذكر لكن مقتضى كلام كاتب جلبي أنه هو. وذكر أنه يمكن أن يكون إسكندر لقبا لمن ذكر معربا عن الكسندر ومعناه في اللغة اليونانية آدمي جيد، وربما يقال: إن من قال: اسم الإسكندر مصعب بن عبد الله بن قينان بن منصور إلى آخر النسب السابق المنتهي إلى قحطان عنى هذا الرجل الحميري لا الرومي ولا اليوناني لكن وهم الناقل لأنه لم يقل أحد بأن الروم من أبناء قحطان وكذا اليونان، نعم ذكر يعقوب بن إسحاق الكندي أن يونان أخو قحطان ورد عليه أبو العباس الناشئ في قصيدته حيث قال: أبا يوسف إني نظرت فلم أجد ... على الفحص رأيا صح منك ولا عقدا وصرت حكيما عند قوم إذا امرؤ ... بلاهم جميعا لم يجد عندهم عهدا أتقرن إلحادا بدين محمد ... لقد جئت شيئا يا أخا كندة إدّا وتخلط يونانا بقحطان ضلة ... لعمري لقد باعدت بينهما جدا والمذكور في كتب التواريخ أن ملوك اليمن إلى أن غلبت الحبشة عليها من أبناء قحطان. وأورد على هذا القول في ذي القرنين أنه لم يوجد في كتب التواريخ المعتبرة سمي بن عمير بن أفريقيس في عداد ملوك اليمن والمذكور إنما هو شمر بصيغة فعل الماضي من التشمير بن أفريقيس ولم يذكروا بينه وبين أفريقيس عميرا وقد ذكر بعضهم فيه أنه ذو القرنين وقالوا: إنه يقال له شمر يرعش لارتعاش كان فيه فلعل سمي محرف عن شمر وابن عمير محرف من يرعش، وقد ذكروا في أبيه أفريقيس أنه غزا نحو المغرب في أرض البربر حتى أتى طنجة ونقل البربر من أرض فلسطين ومصر والساحل إلى مساكنهم اليوم وأنه هو الذي بنى إفريقية وبه سميت وكان ملكه مائة وأربعا وستين سنة، وفيه أنه خرج نحو العراق وتوجه نحو الصين وأنه قلع المدينة التي تسمى اليوم سمرقند وقالوا: إنها معرب شمركند وإلى ذلك يشير دعبل الخزاعي بقوله يفتخر بملوك اليمن: هم كتبوا الكتاب بباب مرو ... وباب الشاس كانوا الكاتبينا وهم سموا بشمر سمرقندا ... وهم غرسوا هناك النابتينا وأنه إنما لقب بذي القرنين لذؤابتين كانتا له وكان ملكه على ما قال ابن قتيبة مائة وسبعا وثلاثين سنة وعلى ما قال المسعودي ثلاثا وخمسين سنة وعلى ما قال غيرهما سبعا وثمانين سنة، ثم إن هذا لم يكن بأبي كرب وإنما المكنى به على ما رأيناه في بعض التواريخ أسعد بن كليكرب ويقال له تبع الأوسط ويذكر أنه آمن بنبينا صلّى الله عليه وسلّم قبل مبعثه وفي ذلك يقول: شهدت على أحمد أنه ... رسول من الله باري النسم فلو مد عمري إلى عمره ... لكنت وزيرا له وابن عم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 349 وذكروا أنه كان شديد الوطأة كثير الغزو فمله قومه فأغروا ابنه حسان على قتله فقتله، ولا يخفى أن كلا هذين الشخصين لا يصح أن يكون المراد بذي القرنين الذي ذكر أنه لقي إبراهيم عليه السّلام أما الأول فلأنهم ذكروا أنه ملك بعد ياسر ينعم بن عمرو وملك ياسر بعد بلقيس زوجة سليمان عليه السّلام وكان عمها فكيف يتصور أن يكون هذا ذاك مع بعد زمان ما بين إبراهيم وسليمان عليهما السّلام. وأما الثاني فلأنه بعد هذا بكثير مع أنه لم يطلق عليه أحد ذا القرنين ولا نسب إليه غزوا في مشارق الأرض ومغاربها ورأيت في بعض الكتب أن في زمن منوجهر بن ايرج بن أفريدون بعث موسى عليه السّلام وكان ملك اليمن في زمانه شمر أبا الملوك وكان في طاعته انتهى، وعليه أيضا لا يمكن أن يكون شمر هذا هو ذا القرنين السابق وهو ظاهر وإذا أسقطت جميع هذه الأقوال عن الاعتبار بناء على ما قيل إن أخبار ملوك اليمن مضطربة لا يكاد يوقف على روايتين متفقين فيها واعتبرت القول بأنه كان في زمن إبراهيم عليه السّلام ملك منهم هو ذو القرنين بناء على حسن الظن بقائل ذلك أشكل الأمر من وجه آخر وهو أن كتب التواريخ قاطبة ناطقة بأن فريدون كان في زمان إبراهيم عليه السّلام وأنه قسم المعمورة بين بنيه الثلاثة حسبما تقدم فكيف يتسنى مع هذا القول بأن ذا القرنين رجل من ملوك اليمن كان في ذلك الزمان أيضا، ويجيء نحو هذا الإشكال إذا قلنا إن ذا القرنين هو أحد الإسكندرين اليوناني والرومي وقلنا بأنه كان في زمن إبراهيم عليه السّلام أيضا، والحاصل أن القول بأن فريدون كان في ذلك الزمان وكان مالكا المعمورة كما في عامة تواريخ الفرس يمنع القول بأن ذا القرنين في ذلك الزمان غيره بل القول بوجود أحد الثلاثة من فريدون وذي القرنين التبعي وأحد الإسكندرين في ذلك الزمان وملكه المعمورة يمنع من القول بوجود غيره منهم في ذلك الزمان وملكه المعمورة أيضا، واستشكل كون ذي القرنين أيا كان من هؤلاء الثلاثة في زمان إبراهيم عليه السّلام بأن نمرود كان في زمانه أيضا، وقد جاء ملك الدنيا مؤمنان وكافران أما المؤمنان فسليمان عليه السّلام وذو القرنين وأما الكافران فنمرود وبختنصر ولا مخلص من ذلك على تقدير صحة الخبر إلا بأن يقال كان زمان إبراهيم عليه السّلام ممتدا ووقع ملكهما الدنيا متعاقبا وهو كما ترى. ورأيت في بعض الكتب القول بأن ذا القرنين ملك نمرود وينحل به الإشكال. وقال بعضهم: الذي تقتضيه كتب التواريخ عدم صحة الخبر أو تأويله إذ ليس في شيء منها عموم ملك سليمان عليه السّلام أو ملك نمرود أو بختنصر والظاهر عدم الصحة. واستشكل أيضا كونه في ذلك الزمان بأنه لم يذكر في التوراة كما يدعيه اليهود اليوم كافة ويبعد ذلك غاية البعد على تقدير وجوده فالظاهر من عدم ذكره عدم كونه موجودا، وأجيب بأنا لا نسلم عدم ذكره، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن السدي أن اليهود قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: يا محمد إنك إنما تذكر إبراهيم وموسى وعيسى والنبيين لأنك سمعت ذكرهم منا فأخبرنا عن نبي لم يذكره الله تعالى في التوراة إلا في مكان واحد قال: ومن هو؟ قالوا: ذو القرنين الخبر بل الظاهر من سؤالهم أن له ذكرا في كتابهم وإنكارهم اليوم ذلك لا يلتفت إليه على أن ما ذكر في الاستشكال مجرد استبعاد ولا يخفى أنه ليس مانعا قويا، هذا وبالجملة لا يكاد يسلم في أمر ذي القرنين شيء من الأقوال عن قيل وقال، وكأني بك بعد الاطلاع على الأقوال وما لها وما عليها تختار أنه الإسكندر بن فليقوس غالب دارا وتدعي أنه يقال له اليوناني كما يقال له الرومي وأنه كان مؤمنا بالله تعالى لم يرتكب مكفرا من عقد أو قول أو فعل وتقول إن تلمذته على أرسطو لا تمنع من ذلك: فموسى الذي رباه جبريل كافر ... وموسى الذي رباه فرعون مرسل وقد تتلمذ الأشعري على المعتزلة ورئيس المعتزلة على الحسن، وقد خالف أرسطو أفلاطون في أكثر المسائل وكان تلميذه، والقول بأن أرسطو كان بمنزلة الوزير عنده وكان يستشيره في المهمات ويعمل برأيه لا يدل على اتباعه له في سائر اعتقاداته فإن ذلك على تقدير ثبوته إنما هو في الأمور الملكية لا المسائل الاعتقادية على أن الملا صدر الدين الجزء: 8 ¦ الصفحة: 350 الشيرازي ذكر أن أرسطو كان حكيما عابدا موحدا قائلا بحدوث العالم ودثوره المشار إليه بقوله تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ وما شاع عنه في أمر العالم توهم ناشىء من عدم فهم كلامه ومثله في ذلك سائر أساطين الحكماء ولا نسلم عدم سفره نحو المغرب ولا ثبوت أن الخضر كان وزير ذي القرنين، وإن اشتهر ليقدح عدم كونه وزيرا عنده في كونه ذا القرنين وقيل: إنه كان وزيرا عند ملك يقال له ذو القرنين أيضا لكنه غير هذا ووقع الاشتباه في ذلك، وقيل: يمكن أن يكون عليه السّلام في جملة الحكماء الذين معه وكان كالوزير عنده لا يقدح في ذلك استشارة غيره في بعض الأمور وكان مشتهرا إذ ذاك بالحكمة دون النبوة، وفي الأعصار القديمة كانوا يسمون النبي حكيما ولعله كان مشتهرا أيضا باسم آخر وعدم تعرض المؤرخين لشيء من ذلك لا يدل على العدم، وقيل لا نسلم عدم التعرض بل قولهم إن الخضر كان وزير ذي القرنين قول بأنه كان وزير الإسكندر المذكور عند القائل بأنه ذو القرنين ولا يمنع من ذلك كون الخضر على الأصح نبيا والإسكندر ليس كذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى قريبا عن الجمهور لأن المراد من وزارته له تدبير أموره ونصرته ولا ضرر في نصرة نبي وتدبيره أمور ملك صالح غير نبي وهو واقع في بني إسرائيل وإن لم تختر ما ذكر فإن اخترت أنه من ملوك اليمن أو إسكندر آخر يلزمك إما القول بأنه لم يكن في زمن إبراهيم عليه السّلام وإما القول بأنه كان في زمنه بعد نمرود أو معه إلا أنه تحت إمرته ولم يكن فريدون إذ ذاك ويلزمك طي الكشح عن كتب التواريخ كما يلزمك على أتم وجه لو اخترت أنه فريدون. والأقرب عندي لإلزام أهل الملل والنحل الضالين الذين يشق عليهم نبذ كتب التواريخ وعدم الالتفات إلى ما فيها بالكلية مع كثرتها وانتشارها في مشارق الأرض ومغاربها وتباين أديان مؤلفيها واختلاف أعصارهم اختيار أنه الإسكندر بن فليفوس غالب دارا: وما علي إذا ما قلت معتقدي ... دع الجهول يظن الجهل عدوانا واليهود قاطبة على هذا لكنهم لعنهم الله تعالى وقعوا في الإسكندر ونسبوه أقبح نسبة مع أنهم يذكرون أنه أكرمهم حين جاء إلى بيت المقدس وعظم أحبارهم والله تعالى أعلم، ثم إن السؤال ليس عن ذات ذي القرنين بل عن شأنه فكأنه قيل ويسألونك عن شأن ذي القرنين قُلْ لهم في الجواب سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً الخطاب للسائلين والهاء لذي القرنين ومن تبعيضية، والمراد من أنبائه وقصصه، والجار والمجرور صفة ذكرا قدم عليه فصار حالا، والمراد بالتلاوة الذكر وعبر عنه بذلك لكونه حكاية عن جهة الله عز وجل أي سأذكر لكم نبأ مذكورا من أنبائه، ويجوز أن يكون الضمير له تعالى ومن ابتدائية ولا حذف والتلاوة على ظاهرها أي سأتلو عليكم من جهته سبحانه وتعالى في شأنه ذكرا أي قرآنا، والسين للتأكيد والدلالة على التحقق المناسب لتقدم تأييده صلّى الله عليه وسلّم وتصديقه بإنجاز وعده أي لا أترك التلاوة البتة كما في قوله: سأشكر عمرا إن تراخت منيتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلت لا للدلالة على أن التلاوة ستقع فيما يستقبل كما قيل لأن هذه الآية ما نزلت بانفرادها قبل الوحي بتمام القصة بل موصولة بما بعدها ريثما سألوه عليه الصلاة والسّلام، وقوله تعالى: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ شروع في تلاوة الذكر المعهود حسبما هو الموعود، والتمكين هاهنا الأقدار وتمهيد الأسباب يقال مكنه ومكن له كنصحته ونصحت له وشكرته وشكرت له وفرق بينهما بأن معنى الأول جعله قادرا ومعنى الثاني جعل له قدرة وقوة ولتلازمهما في الوجود وتقاربهما في المعنى يستعمل كل منهما في محل الآخر وهكذا إذا كان التمكين مأخوذا من المكان بناء على توهم ميمه أصلية، والمعنى أنا جعلنا له مكنة وقدرة على التصرف في الأرض من حيث التدبير والرأي وكثرة الجنود والهيبة والوقار، وقيل: تمكينه في الأرض من حيث إنه سخر له السحاب ومد له في الأسباب وبسط له النور فكان الليل والنهار الجزء: 8 ¦ الصفحة: 351 عليه سواء وفي ذلك أثر ولا أراه يصح، وقيل: تمكينه بالنبوة وإجراء المعجزات، وروى القول بنبوته أبو الشيخ في العظمة عن أبي الورقاء عن علي كرم الله تعالى وجهه وإلى ذلك ذهب مقاتل ووافقه الضحاك ويعارضه ما أخرجه ابن عبد الحكم في فتوح مصر وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف وابن أبي عاصم في السنة وابن مردويه من طريق أبي الفضل أن ابن الكواء سأل عليا كرم الله تعالى وجهه عن ذي القرنين أنبيا كان أم ملكا؟ قال: لم يكن نبيا ولا ملكا ولكن كان عبدا صالحا أحب الله تعالى فأحبه ونصح الله تعالى فنصحه ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال: ذو القرنين بلغ السدين وكان نذيرا ولم أسمع بحق أنه كان نبيا، وإلى أنه ليس بنبي ذهب الجمهور وتوقف بعضهم لما أخرجه عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما أدري أتبع كان لعينا أم لا وما أدري أذو القرنين كان نبيا أم لا؟ وما أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا؟» وأنت تعلم أن هذا النفي لم يكن ليستمر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيمكن أن يكون درى عليه الصلاة والسّلام فيما بعد أنه لم يكن نبيا كما يدل عليه ما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه فإنه لم يكن يقول ذلك إلا عن سماع، ويشهد لذلك ما أخرجه ابن مردويه عن سالم بن أبي الجعد قال: سئل علي كرم الله تعالى وجهه عن ذي القرنين أنبي هو؟ فقال: سمعت نبيكم صلّى الله عليه وسلّم يقول هو عبد ناصح الله تعالى فنصحه وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أراده من مهمات ملكه ومقاصده المعلقة بسلطانه سَبَباً أي طريقا يوصله إليه وهو كل ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة لا العلم فقط وإن وقع الاقتصار عليه في بعض الآثار، ومن بيانية والمبين سببا وفي الكلام مضاف مقدر أي من أسباب كل شيء، والمراد بذلك الأسباب العادية، والقول بأنه يلزم على التقدير المذكور أن يكون لكل شيء أسباب لا سبب وسببان ليس بشيء، وجوز أن يكون من تعليلية فلا تقدير واختاره بعضهم فتأمل، واستدل بعض من قال بنبوته بالآية على ذلك وليس بشيء كما لا يخفى فَأَتْبَعَ بالقطع والفاء فصيحة والتقدير فأراد بلوغ المغرب فاتبع سَبَباً يوصله إليه، ولعل قصد بلوغ المغرب ابتداء لأنه أقرب إليه وقيل: لمراعاة الحركة الشمسية وليس ذلك لكون جهة المغرب أفضل من جهة المشرق كما زعمه بعض المغاربة فإنه كما قال الجلال السيوطي لا قطع بتفضيل إحدى الجهتين على الأخرى لتعارض الأدلة. وقرأ نافع وابن كثير «فاتبع» بهمزة الوصل وتشديد التاء وكذا فيما يأتي واستظهر بعضهم أنهما بمعنى ويتعديان لمفعول واحد، وقيل: إن اتبع بالقطع يتعدى لاثنين والتقدير هنا فاتبع سببا سببا آخر أو فاتبع أمره سببا كقوله تعالى: وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً [القصص: 42] ، وقال أبو عبيد اتبع بالوصل في السير وأتبع بالقطع معناه اللحاق كقوله تعالى: فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ [الصافات: 10] وقال يونس: «اتبع» بالقطع للمجد المسرع الحثيث الطلب واتبع بالوصل إنما يتضمن مجرد الانتقال والاقتفاء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 352 حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ أي منتهى الأرض من جهة المغرب بحيث لا يتمكن أحد من مجاوزته ووقف كما هو الظاهر على حافة البحر المحيط الغربي الذي يقال له أوقيانوس وفيه الجزائر المسماة بالخالدات التي هي مبدأ الأطوال على أحد الأقوال وَجَدَها أي الشمس تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ أي ذات حمأة وهي الطين الأسود من حمئت البئر تحمأ حمأ إذا كثرت حمأتها. وقرأ عبد الله وطلحة بن عبيد الله وعمرو بن العاص وابنه عبد الله وابن عمر ومعاوية والحسن وزيد بن علي وابن عامر وحمزة والكسائي «حامية» بالياء أي حارة، وأنكر هذه القراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أول ما سمعها، فقد أخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عثمان بن أبي حاضر أن ابن عباس ذكر له أن معاوية قرأ «في عين حامية» فقال له: ما نقرؤها إلا حَمِئَةٍ فسأل معاوية عبد الله بن عمرو كيف تقرأها؟ فقال: كما قرأتها فقلت: في بيتي نزل القرآن فأرسل إلى كعب فقال له: أين تجد الشمس تغرب في التوراة فقال كعب: سل أهل العزيمة فإنهم أعلم بها وأما أنا فإني لم أجد الشمس تغرب في التوراة في ماء وطين وأشار بيده إلى المغرب، قال ابن أبي حاضر: لو أني عند كما أيدتك بكلام تزاد به بصيرة في حَمِئَةٍ، قال ابن عباس: وما هو؟ قلت: قول تبع فيما ذكر به ذا القرنين في كلفه بالعلم واتباعه إياه قد كان ذو القرنين إلى آخر الأبيات الثلاثة السابقة ومحل الشاهد قوله: فرأى مغيب الشمس عند غروبها ... في عين ذي خلب وثأط حرمد فقال ابن عباس: ما الخلب؟ قال: ابن أبي حاضر الطين بكلامهم فقال: فما الثأط؟ قال: الحمأة فقال: فما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 353 الحرمد؟ قال: الأسود فدعا ابن عباس غلاما فقال: اكتب ما يقول هذا الرجل ولا يخفى أنه ليس بين القراءتين منافاة قطعية لجواز كون العين جامعة بين الوصفين بأن تكون ذات طين أسود وماؤها حار ولجواز كون القراءة بالياء أصلها من المهموز قلبت همزته ياء لانكسار ما قبلها وإن كان ذلك إنما يطرد إذا كانت الهمزة ساكنة كذا قيل: وتعقب بأنه يأباه ما جرى بين ابن عباس ومعاوية. وأجيب بأنه إذا سلم صحته فمبناه السماع والتحكيم لترجيح إحدى القراءتين، وظاهر ما سمعت ترجيح قراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وكأن رجوع معاوية لقراءة ابن عباس على ما ذكره القرطبي كان لذلك. نعم ما أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه والحاكم وصححه عن أبي ذر قال: كنت ردف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو على حمار فرأى الشمس حين غربت فقال: أتدري حيث تغرب؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: فإنها تغرب في عين حامية غير مهموزة يوافق قراءة معاوية ويدل على أن فِي عَيْنٍ متعلق بتغرب كما هو الظاهر، وقول بعض المتعسفين بأنه متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل وَجَدَها مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، وكأن الذي دعاه إلى القول بذلك لزوم إشكال على الظاهر فإن جرم الشمس أكبر من جسم الأرض بأضعاف مضاعفة فكيف يمكن دخولها في عين ماء في الأرض، وهو مدفوع بأن المراد وجدها في نظر العين كذلك إذ لم ير هناك إلا الماء لا أنها كذلك حقيقة وهذا كما أن راكب البحر يراها كأنها تطلع من البحر وتغيب فيه إذا لم ير الشط والذي في أرض ملساء واسعة يراها أيضا كأنها تطلع من الأرض وتغيب فيها، ولا يرد على هذا أنه عبر يوجد والوجدان يدل على الوجود لما أن وجد يكون بمعنى رأى كما ذكره الراغب فليكن هنا بهذا المعنى، ثم المراد بالعين الحمئة إما عين في البحر أو البحر نفسه وتسميته عينا مما لا بأس به خصوصا وهو بالنسبة لعظمة الله تعالى كقطرة وإن عظم عندنا. وزعم بعض البغدادين أن فِي بمعنى عند أي تغرب عند عين، ومن الناس من زعم أن الآية على ظاهرها ولا يعجز الله تعالى شيء، ونحن نقر بعظم قدرة الله عز وجل ولا نلتفت إلى هذا القول، ومثله ما نقله الطرطوشي من أنها يبلعها حوت بل هذا كلام لا يقبله إلا الصبيان ونحوهم فإنها قد تبقى طالعة في بعض الآفاق ستة أشهر وغاربة كذلك كما في أفق عرض تسعين وقد تغيب في مقدار ساعة ويظهر نورها من قبل المشرق في بعض العروض كما في بلغاريا في بعض أيام السنة فالشمس على ما هو الحق لم تزل سائرة طالعة على قوم غاربة على آخرين بحسب آفاقهم بل قال إمام الحرمين: لا خلاف في ذلك، ويدل على ما ذكر ما أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس قال الشمس بمنزلة الساقية تجري بالنهار في السماء في فلكها فإذا غربت جرت الليل في فلكها تحت الأرض حتى تطلع من شرقها وكذلك القمر، وكذا ما أخرجه ابن عساكر عن الزهري أن خزيمة بن حكيم السلمي سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن سخونة الماء في الشتاء وبرده في الصيف فقال: إن الشمس إذا سقطت تحت الأرض سارت حتى تطلع من مكانها فإذا طال الليل كثر لبثها في الأرض فيسخن الماء لذلك فإذا كان الصيف مرت مسرعة لا تلبث تحت الأرض لقصر الليل فثبت الماء على حاله باردا، ولا يخفى أن هذا السير تحت الأرض تختلف فيه الشمس من حيث المسامتة بحسب الآفاق والأوقات فتسامت الأقدام تارة ولا تسامتها أخرى فما أخرجه أبو الشيخ عن الحسن قال: إذا غربت الشمس دارت في فلك السماء مما يلي دبر القبلة حتى ترجع إلى المشرق الذي تطلع منه وتجري منه في السماء من شرقها إلى غربها ثم ترجع إلى الأفق مما يلي دبر القبلة إلى شرقها كذلك هي مسخرة في فلكها وكذلك القمر لا يكاد يصح. ويشكل على ما ذكر ما أخرجه البخاري عن أبي ذر قال: كنت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في المسجد عند غروب الشمس فقال: يا أبا ذر أتدري أين تغرب الشمس؟ قلت الله ورسوله أعلم قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت الجزء: 8 ¦ الصفحة: 354 العرش فذلك قوله تعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها [يس: 38] . وأجيب بأن المراد أنها تذهب تحت الأرض حتى تصل إلى غاية الانحطاط وهي عند وصولها دائرة نصف النهار في سمت القدم بالنسبة إلى أفق القوم الذين غربت عنهم وذلك الوصول أشبه شيء بالسجود بل لا مانع أن تسجد هناك سجودا حقيقيا لائقا بها فالمراد من تحت العرش مكانا مخصوصا مسامتا لبعض أجزاء العرش وإلا فهي في كل وقت تحت العرش وفي جوفه، وهذا مبني على أنه جسم كريّ محيط بسائر الأفلاك والفلكيات وبه تحدد الجهات وهذا قول الفلاسفة، وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة طه ما يتعلق بذلك، وعلى ما ذكر فالمراد بمستقرها محل انتهاء انحطاطها فهي تجري عند كل قوم لذلك المحل ثم تشرع في الارتفاع، وقال الخطابي: يحتمل أن يكون المراد باستقرارها تحت العرش أنها تستقر تحته استقرارا لا نحيط به نحن وليس في سجودها كل ليلة تحت العرش ما يعيق عن دورانها في سيرها انتهى، وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام في ذلك في سورة يس، وبالجملة لا يلزم على هذا التأويل خروج الشمس عن فلكها الممثل بل ولا عن خارج المركز وإن اختلف قربها وبعدها من العرش بالنسبة إلى حركتها في ذلك الخارج. نعم ورد في بعض الآثار ما يدل على خروجها عن حيزها، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الشمس إذا غربت رفع بها إلى السماء السابعة في سرعة طيران الملائكة وتحبس تحت العرش فتستأذن من أين تؤمر بالطلوع ثم ينطلق بها ما بين السماء السابعة وبين أسفل درجات الجنان في سرعة طيران الملائكة فتنحدر حيال المشرق من سماء إلى سماء فإذا وصلت إلى هذه السماء فذلك حين ينفجر الصبح فإذا وصلت إلى هذا الوجه من السماء فذلك حين تطلع الشمس وهو وإن لم تأباه قواعدنا من شمول قدرة الله تعالى سائر الممكنات وعدم امتناع الخرق والالتئام على الفلك مطلقا إلا أنه لا يتسنى مع تحقق غروبها عند قوم وطلوعها عند آخرين وبقائها طالعة نحو ستة أشهر في بعض العروض إلى غير ذلك مما لا يخفى فلعل الخبر غير صحيح. وقد نص الجلال السيوطي على أن أبا الشيخ رواه بسند واه ثم إن الظاهر على رواية البخاري ورواية ابن أبي شيبة ومن معه أن أبا ذر رضي الله تعالى عنه سئل مرتين إلا أنه رد العلم في الثانية إلى الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم طلبا لزيادة الفائدة ومبالغة في الأدب مع الرسول عليه الصلاة والسّلام والله تعالى أعلم. وَوَجَدَ عِنْدَها أي عند تلك العين على ساحل البحر قَوْماً لباسهم على ما قيل: جلود السباع وطعامهم ما لفظه البحر، قال وهب بن منبه: هم قوم يقال لهم: ناسك لا يحصيهم كثرة إلا الله تعالى. وقال أبو زيد السهيلي: هم قوم من نسل ثمود كانوا يسكنون جابرسا وهي مدينة عظيمة لها اثنا عشر بابا ويقال لها بالسريانية: جرجيسا، وروي نحو ذلك عن ابن جريج، وزعم ابن السائب أنه كان فيهم مؤمنون وكافرون، والذي عليه الجمهور أنهم كانوا كفارا فخيره الله تعالى بين أن يعذبهم بالقتل وأن يدعوهم إلى الإيمان وذلك قوله تعالى: قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ بالقتل من أول الأمر وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً أي أمرا ذا حسن على حذف المضاف أو على طريقة الوصف بالمصدر للمبالغة وذلك بالدعوة إلى الحق والإرشاد إلى ما فيه الفوز بالدرجات ومحل إن مع صلته إما الرفع على الابتداء أو على الخبر وإما النصب على المفعولية إما تعذيبك واقع أو إما أمرك تعذيبك أو إما تفعل أو توقع تعذيبك وهكذا الحال في الاتخاذ، وقدم التعذيب لأنه الذي يستحقونه في الحال لكفرهم، وفي التعبير- بإما أن تتخذ فيهم حسنا- دون إما أن تدعوهم مثلا إيماء إلى ترجيح الشق الثاني، واستدل بالآية من قال بنبوته، والقول عند بعضهم بواسطة ملك وعند آخرين كفاحا ومن لم يقل بنبوته قال: كان الخطاب بواسطة نبي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 355 في ذلك العصر أو كان ذلك إلهاما لا وحيا بعد أن كان ذلك التخيير موافقا لشريعة ذلك النبي. وتعقب هذا بأن مثل هذا التخيير المتضمن لإزهاق النفوس لا يجوز أن يكون بالإلهام دون الإعلام وإن وافق شريعة، ونقض ذلك بقصة إبراهيم عليه السّلام في ذبح ابنه بالرؤيا وهي دون الإلهام، وفيه أن رؤيا الأنبياء عليهم السّلام وإلهاماتهم وحي كما بين في محله، والكلام هنا على تقدير عدم النبوة وهو ظاهر. وقال علي بن عيسى: المعنى قلنا يا محمد قالوا أي جنده الذين كانوا معه يا ذا القرنين فحذف القول اعتمادا على ظهور أنه ليس بنبي وهو من التكلف بمكان، وقريب منه دعوى أن القائل العلماء الذين معه قالوه عن اجتهاد ومشاورة له بذلك ونسبه الله تعالى إليه مجازا، والحق أن الآية ظاهرة الدلالة في نبوته ولعلها أظهر في ذلك من دلالة قوله تعالى: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي على نبوة الخضر عليه السّلام، وكأن الداعي إلى صرفها عن الظاهر الأخبار الدالة على خلافها، ولعل الأولى في تأويلها أن يقال: كان القول بواسطة نبي. قالَ ذو القرنين لذلك النبي أو لمن عنده من خواصه بعد أن تلقى أمره تعالى مختارا للشق الأخير من شقي التخيير حسبما أرشد إليه أَمَّا مَنْ ظَلَمَ نفسه ولم يقبل دعوتي وأصر على ما كان عليه من الظلم العظيم الذي هو الشرك فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ بالقتل، والظاهر أنه كان بالسيف، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: كان عذابه أن يجعلهم في بقر من صفر ثم يوقد تحتهم النار حتى يتقطعوا فيها وهو بعيد عن الصحة، وأتى بنون العظمة على عادة الملوك، وإسناد التعذيب إليه لأنه السبب الآمر، ودعوى صدور ذلك منه بالذات في غاية البعد، وقيل: أراد من الضمير الله تعالى ونفسه والإسناد باعتبار الخلق والكسب وهو أيضا بعيد مع ما فيه من تشريك الله تعالى مع غيره في الضمير وفيه من الخلاف ما علمت ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ في الآخرة فَيُعَذِّبُهُ فيها عَذاباً نُكْراً أي منكرا فظيعا وهو العذاب في نار جهنم، ونصب عَذاباً على أنه مصدر يعذبه، وقيل: تنازع فيه هو ونعذبه والمراد بالعذاب النكر نظرا إلى الأول ما روي عن السدي وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى. وفي قوله إِلى رَبِّهِ دون إليك دلالة على أن الخطاب السابق لم يكن بطريق الوحي إليه وإن مقاولته كانت مع النبي أو مع خواصه وَأَمَّا مَنْ آمَنَ بموجب دعوتي وَعَمِلَ عملا صالِحاً حسبما يقتضيه الإيمان فَلَهُ في الدارين جَزاءً الْحُسْنى أي فله المثوبة الحسنى أو الفعلة الحسنى أو الجنة جزاء على أن جزاء مصدر مؤكد لمضمون الجملة قدم على المبتدأ اعتناء به أو منصوب بمضمر أي يجزى بها جزاء، والجملة حالية أو معترضة بين المبتدأ والخبر المتقدم عليه أو هو حال أي مجزيا بها، وتعقب ذلك أبو الحسن بأنه لا تكاد العرب تتكلم بالحال مقدما إلا في الشعر، وقال الفراء: هو نصب على التمييز. وقرأ ابن عباس ومسروق «جزاء» منصوبا غير منون، وخرج ذلك المهدوي على حذف التنوين لالتقاء الساكنين، وخرجه غيره على أنه حذف للإضافة والمبتدأ محذوف لدلالة المعنى عليه أي فله الجزاء جزاء الحسنى. وقرأ عبد الله بن أبي إسحاق بالرفع والتنوين على أنه المبتدأ والْحُسْنى بدله والخبر الجار والمجرور. وقرأ غير واحد من السبعة بالرفع بلا تنوين، وخرج على أنه مبتدأ مضاف، قال أبو علي: والمراد على الإضافة جزاء الخلال الحسنة التي أتاها وعملها أو المراد بالحسنى الجنة والإضافة كما في دار الآخرة. وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا أي مما نأمر به يُسْراً أي سهلا ميسرا غير شاق، وتقديره ذا يسر وأطلق عليه المصدر مبالغة، وقرأ أبو جعفر «يسرا» بضمتين حيث وقع هذا، وقال الطبري: المراد من اتخاذ الحسن الأسر فيكون قد خير بين القتل والأسر، والمعنى إما أن تعذب بالقتل وإما أن تحسن إليهم بإبقاء الروح والأسر، وما حكي من الجواب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 356 على هذا الوجه قيل من الأسلوب الحكيم لأن الظاهر أنه تعالى خيره في قتلهم وأسرهم وهم كفار فقال أما الكافر فيراعى فيه قوة الإسلام وأما المؤمن فلا يتعرض له إلا بما يجب. وفي الكشف أنه روعي فيه على الوجهين نكتة بتقديم ما منّ الله تعالى في جانب الرحمة دلالة على أن ما منّه تابع وتتميم وما منّه في جانب العذاب رعاية لترتيب الوجود مع الترقي ليكون أغيظ، وكأنه حمل فَلَهُ إلخ على معنى فله من الله تعالى إلخ وهو الظاهر، وجوز حمل إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ على التوزيع دون التخيير، والمعنى على ما قيل: ليكن شأنك معهم أما التعذيب. وأما الإحسان فالأول لمن بقي على حاله والثاني لمن تاب فتأمل. ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً أي طريقا راجعا من مغرب الشمس موصلا إلى مشرقها حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ يعني الموضع الذي تطلع عليه الشمس أولا من معمورة الأرض أي غاية الأرض المعمورة من جهة المشرق. وقرأ الحسن وعيسى وابن محيصن «مطلع» بفتح اللام ورويت عن ابن كثير وأهل مكة وهو عند المحققين مصدر ميمي والكلام على تقدير مضاف أي مكان طلوع الشمس والمراد مكانا تطلع عليه، وقال الجوهري: إنه اسم مكان كمكسور اللام فالقراءتان متفقتان من غير تقدير مضاف، وقد صرح بعض أئمة التصريف أن المطلع جاء في المكان والزمان فتحا وكسرا، وما آثره المحققون مبني على أنه لم يرد في كلام الفصحاء بالفتح إلا مصدرا ولا حاجة إلى تخريج القرآن على الشاذ لأنه قد يخل بالفصاحة، وقال أبو حيان: إن الكسر سماع في أحرف معدودة وهو مخالف للقياس فإنه يقتضي أن يكون مضارعه تطلع بكسر اللام، وكان الكسائي يقول: هذه لغة ماتت في كثير من لغات العرب يعني ذهب من يقول من العرب تطلع بكسر اللام وبقي مطلع بكسرها في اسم الزمان والمكان على ذلك القياس انتهى فافهم، ثم إن الظاهر من حال ذي القرنين وكونه قد أوتي من كل شيء سببا أنه بلغ مطلع الشمس في مدة قليلة، وقيل: بلغه في اثنتي عشرة سنة وهو خلاف الظاهر إلا أن يكون أقام في أثناء سيره فإن طول المعمورة يقطعه بأقل من هذه المدة بكثير السائر على الاستقامة كما لا يخفى على العارف بالمساحة وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن ابن جريج قال: حدثت عن الحسن عن سمرة بن جندب قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الآية لم نجعل لهم من دونها سترا بناء لم يبن فيها بناء قط كانوا إذا طلعت الشمس دخلوا أسرابا لهم حتى تزول الشمس ، وأخرج جماعة عن الحسن وذكر أنه حديث سمرة أن أرضهم لا تحمل البناء فإذا طلعت الشمس تغوروا في المياه فإذا غابت خرجوا يتراعون كما تراعى البهائم ، وقيل: المراد لا شيء لهم يسترهم من اللباس والبناء، وهم على ما قيل قوم من الزنج، وقيل: من الهنود، وعن مجاهد من لا يلبس الثياب من السودان عند مطلع الشمس أكثر من أهل الأرض، وعن بعضهم خرجت حتى جاوزت الصين فسألت عن هؤلاء فقالوا: بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة فبلغتهم فإذا أحدهم يفرش إحدى أذنيه ويلبس الأخرى ومعي صاحب يعرف لسانهم فقالوا له: جئتنا تنظر كيف تطلع الشمس فبينما نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصلة فغشي علي ثم أفقت وهم يمسحونني بالدهن فلما طلعت الشمس على الماء إذا هي فوق الماء كهيئة الزيت فأدخلونا سربا لهم فلما ارتفع النهار خرجوا إلى البحر يصطادون السمك ويطرحونه في الشمس فينضج لهم انتهى. وأنت تعلم أن مثل هذه الحكايات لا ينبغي أن يلتفت إليها ويعول عليها وما هي إلا أخبار عن هيان بن بيان يحكيها العجائز وأمثالهن لصغار الصبيان، وعن وهب بن منبه أنه يقال لهؤلاء القوم منسك، وظاهر الآية لوقوع النكرة فيها في سياق النفي يقتضي أنهم ليس لهم ما يسترهم أصلا وذلك ينافي أن يكون لهم سرب ونحوه، وأجيب بأن ألفاظ العموم لا تتناول الصور النادرة فالمراد نفي الساتر المتعارف والسرب ونحوه ليس منه، وأنت تعلم أن عدم التناول الجزء: 8 ¦ الصفحة: 357 أحد قولين في المسألة، وقال ابن عطية: الظاهر أن نفي جعل ساتر لهم من الشمس عبارة عن قربها إليهم وتأثيرها بقدرة الله تعالى فيهم ونيلها منهم ولو كانت لهم أسراب لكان لهم ستر كثيف انتهى، وحينئذ فالنكرة على عمومها، وأنا أختار ذلك إلى أن تثبت صحة أحد الأخبار السابقة. كَذلِكَ خبر مبتدأ محذوف أي أمر ذي القرنين ذلك، والمشار إليه ما وصف به قبل من بلوغ المغرب والمشرق وما فعله، وفائدة ذلك تعظيمه وتعظيم أمره أو أمره فيهم كأمره في أهل المغرب من التخيير والاختيار، ويجوز أن يكون صفة مصدر محذوف لوجد أي وجدها تطلع وجدانا كوجدانها تغرب في عين حمئة أو صفة مصدر محذوف لنجعل أي لم نجعل لهم سترا جعلا كائنا كالجعل الذي لكم فيما تفضلنا به عليكم من الألبسة الفاخرة والأبنية العالية، وفيه أنه لا يتبادر إلى الفهم أو صفة «سترا» والمعنى عليه كسابقه، وفيه ما فيه أو صفة قَوْمٍ أي على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب عليه الشمس في الكفر والحكم أو معمول بلغ أي بَلَغَ مغربها كما بلغ مطلعها. وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ من الجنود والآلات وأسباب الملك خُبْراً علما تعلق بظواهره وخفاياه ويفيد هذا على الأول زيادة تعظيم الأمر وأنه وراء ما وصف بكثير مما لا يحيط به الأعلم اللطيف الخبير، وهو على الأخير تأويل لما قاسى في السير إلى أن بلغ فيكون المعنى وقد أحطنا بما لاقاه وحصل له في أثناء سيره خبرا أو تعظيم للسبب الموصل إليه في قوله تعالى فأتبع سببا حتى إذا بلغ أي أحطنا بما لديه من الأسباب الموصلة إلى هذا الموضع الشاسع مما لم نؤت غيره وهذا كما في الكشف أظهر من التهويل، وعلى الثاني تتميم يفيد حسن اختياره أي أحطنا بما لديه من حسن التلقي وجودة العمل خبرا، وعلى الثالث لبيان أنه كذلك في رأي العين وحقيقته لا يحيط بعلمها غير الله تعالى، وعلى الرابع والخامس تذييل للقصة أو بالقصتين فلا يأباهما كما توهم، وعلى السادس تتميم يؤكد أنه سن بهم سنته فيمن وجدهم في مغرب الشمس ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً طريقا ثالثا معترضا بين المشرق والمغرب آخذا من مطلع الشمس إلى الشمال حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ أي الجبلين، قال في القاموس: السد الجبل والحاجز وإطلاق السد عليه لأنه سد فجا من الأرض، وقيل: إطلاق ذلك عليه هنا لعلاقة المجاورة وليس بذاك، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر ويعقوب بضم السين، والمعنى على ما قال الكسائي واحد، وقال الخليل، وس: السد بالضم الاسم وبالفتح المصدر، وقال ابن أبي إسحاق: الأول ما رأته عيناك والثاني ما لا تريانه، وقال عكرمة وأبو عمرو ابن العلاء وأبو عبيدة: الأول ما كان من خلق الله تعالى لا دخل لصنع البشر فيه والثاني ما كان لصنع البشر دخل فيه، ووجه دلالة المضموم على ذلك أنه بمعنى مفعول ولكونه لم يذكر فاعله فيه دلالة على تعينه وعدم ذهاب الوهم إلى غيره فيقتضي أنه هو الله تعالى، وأما دلالة المفتوح على أنه من عمل العباد فللاعتبار بدلالة الحدوث وتصوير أنه ها هو ذا يفعله فليشاهد، وهذا يناسب ما فيه مدخل العباد على أنه يكفي فيه فوات ذلك التفخيم، وأنت تعلم أن القراءة بهما ظاهرة في توافقهما وعدم ذكر الفاعل والحدوث أمران مشتركان، وعكس بعضهم فقال: المفتوح ما كان من خلقه تعالى إذ المصدر لم يذكر فاعله والمضموم ما كان بعمل العباد لأنه بمعنى مفعول والمتبادر منه ما فعله العباد وضعفه ظاهر، وانتصاب بَيْنَ على المفعولية لأنه مبلوغ وهو من الظروف المتصرفة ما لم يركب مع آخر مثله، وقيل: إنه ظرف والمفعول به محذوف وهو ما أراده أو نحوه، وهذان السدان فيما يقرب من عرض تسعين من جهة الشمال وهو المراد بآخر الجر بياء في كتاب حزقيال عليه السّلام، وقد ذكر بعض أحبار اليهود أن يأجوج ومأجوج في منتهى الشمال حيث لا يستطيع أحد غيرهم السكنى فيه وهم في زاوية من ذلك لكنهم لم يتحقق عندهم أنهم فيما يلي المشرق من الشمال أو فيما يلي المغرب منه، وهذا موافق لما ذكرناه في موضع السدين وهو الذي مال إليه كاتب الجزء: 8 ¦ الصفحة: 358 جلبي، وقيل: هما جبلا أرمينية وأذربيجان ونسب ذلك إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وإليه يميل صنيع البيضاوي. وتعقب بأنه توهم ولعل النسبة إلى الحبر غير صحيحة، وكان من يزعم ذلك يزعم أن سد ذي القرنين هو السد المشهور في باب الأبواب وهو مع استلزامه أن يكون يأجوج ومأجوج الخزر والترك خلاف ما عليه المؤرخون فإن باني ذلك السد عندهم كسرى أنوشروان، وقيل: أسفنديار وهو أيضا لم يبق إلى الآن بل خرب من قبل هذا بكثير، وزعم أن السد ويأجوج ومأجوج هناك وأن الكل قد تلطف بحيث لا يرى كما يراه عصرينا رئيس الطائفة المسماة بالكشفية السيد كاظم الرشتي ضرب من الهذيان وإحدى علامات الخذلان. وقال ابن سعيد: إن ذلك الموضع حيث الطول مائة وثلاثة وستون درجة والعرض أربعون درجة، وفيه أن في هذا الطول والعرض بلاد الخنا والجين وليس هناك يأجوج ومأجوج، نعم هناك سد عظيم يقرب من مائتين وخمسين ساعة طولا لكنه ليس بين السدين ولا بانيه ذو القرنين ولا يكاد يصدق عليه ما جاء في وصف سده، ويمنع من القول بذلك أيضا ما لا يخفى، وقيل: هما بموضع من الأرض لا نعلمه وكم فيها من أرض مجهولة ولعله قد حال بيننا وبين ذلك الموضع مياه عظيمة، ودعوى استقراء سائر البراري والبحار غير مسلمة، ويجوز العقل أن يكون في البحر أرض نحو أمريقا لم يظفر بها إلى الآن وعدم الوجدان لا يستلزم عدم الوجود وبعد إخبار الصادق بوجود هذين السدين وما يتبعهما يلزمنا الإيمان بذلك كسائر ما أخبر به من الممكنات والالتفات إلى كلام المنكرين ناشىء من قلة الدين وَجَدَ مِنْ دُونِهِما أي السدين قَوْماً أمة من الناس قيل هم الترك، وزعم بعضهم أن القوم كانوا من الجان وهو زعم باطل لا بعيد كما قال أبو حيان. لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا من أقوال أتباع ذي القرنين أو من أقوال من عداهم لغرابة لغتهم وبعدها عن لغات غيرهم وعدم مناسبتها لها مع قلة فطنتهم إذ لو تقاربت فهموها ولو كثرت فطنتهم فهموا ما يراد من القول بالقرائن فتعلموه، والظاهر إبقاء القول على معناه المتبادر. وزعم بعضهم أن الزمخشري جعله مجازا عن الفهم مطلقا أو عما من شأنه أن يقال ليشمل الإشارة ونحوها حيث قال: أي لا يكادون يفهمونه إلا بجهد ومشقة من إشارة ونحوها، وفيه نظر، والظاهر أنه فهم من نفي يكاد إثبات الفهم لهم لكن يعسر وهو بناء على قول بعضهم: إن نفيها إثبات وإثباتها نفي وليس بالمختار. وقرأ الأعمش وابن أبي ليلى وخلف وابن عيسى الأصبهاني وحمزة والكسائي «يفقهون» من الأفعال أي لا يكادون يفهمون الناس لتلعثمهم وعدم تبيينهم الحروف قالُوا أي بواسطة مترجمهم مترجمهم فإسناد القول إليهم مجاز، ولعل هذا المترجم كان من قوم بقرب بلادهم، ويؤيد ذلك ما وقع في مصحف ابن مسعود قال: الذين من دونهم أو بالذات على أن يكون فهم ذي القرنين كلامهم وإفهامهم إياهم من جملة ما آتاه الله تعالى من الأسباب، وقال بعضهم: لا يبعد أن يقال القائلون قوم غير الذين لا يفهمون قولا ولم يقولوا ذلك على طريق الترجمة لهم وأيد بما في مصحف ابن مسعود. وأيّا ما كان فلا منافاة بين لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا. وقالوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ قبيلتان من ولد يافث بن نوح عليه السّلام وبه جزم وهب بن منبه وغيره واعتمده كثير من المتأخرين. وقال الكسائي في العرائس: إن يافث سار إلى المشرق فولد له هناك خمسة أولاد جومر وبنرش وأشار واسقويل ومياشح فمن جومر جميع الصقالبة والروم وأجناسهم ومن مياشح جميع أصناف العجم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 359 ومن أشار يأجوج ومأجوج وأجناسهم ومن اسقويل جميع الترك ومن بنرش الفقجق واليونان. وقيل: كلاهما من الترك وروي ذلك عن الضحاك، وفي كلام بعضهم أن الترك منهم لما أخرجه ابن جرير وابن مردويه من طريق السدي من أثر قوي الترك سرية من سرايا يأجوج ومأجوج خرجت فجاء ذو القرنين فبنى السد فبقوا خارجين عنه، وفي رواية عبد الرزاق عن قتادة أن يأجوج ومأجوج ثنتان وعشرون قبيلة بنى ذو القرنين السد على إحدى وعشرين وكانت واحدة منهم خارجة للغزو فبقيت خارجة وسميت الترك لذلك» وقيل: يأجوج من الترك ومأجوج من الديلم، وقيل من الجيل، وعن كعب الأحبار أن يأجوج ومأجوج من ولد آدم عليه السّلام من غير حواء وذلك أنه عليه السّلام نام فاحتلم فامتزجت نطفته في التراب فخلق منها يأجوج ومأجوج، ونقل النووي في فتاواه القول بأنهم أولاد آدم عليه السّلام من غير حواء عن جماهير العلماء. وتعقب دعوى الاحتلام بأن الأنبياء عليهم السّلام لا يحتلمون، وأجيب بأن المنفي الاحتلام بمن لا تحل لهم فيجوز أن يحتلموا بنسائهم فلعل احتلام آدم عليه السّلام من القسم الجائز، ويحتمل أيضا أن يكون منه عليه السّلام إنزال من غير أن يرى نفسه أنه يجامع كما يقع كثيرا لأبنائه، واعترض أيضا بأنه يلزم على هذا أنهم كانوا قبل الطوفان ولم يهلكوا به، وأجيب بأن عموم الطوفان غير مجمع عليه فلعل القائل بذلك ممن لا يقول بعمومه وأنا أرى هذا القول حديث خرافة، وقال الحافظ ابن حجر: لم يرد ذلك عن أحد من السلف إلا عن كعب الأحبار، ويرده الحديث المرفوع أنهم من ذرية نوح عليه السّلام ونوح من ذرية حواء قطعا. وكأنه عنى بالحديث غير ما روي عن أبي هريرة مرفوعا ولد لنوح. سام وحام ويافث فولد لسام العرب وفارس والروم وولد لحام القبط والبربر والسودان وولد ليافث يأجوج ومأجوج والترك والصقالبة فإنه صرح أنه ضعيف، وفي التوراة في السفر الأول في الفصل العاشر التصريح بأن يأجوج من أبناء يافث. وزعم بعض اليهود أن مأجوج اسم للأرض التي كان يسكنها يأجوج وليس اسما لقبيلة وهو باطل بالنص، والظاهر أنهما اسمان أعجميان فمنع صرفهما للعلمية والعجمة وقيل عربيان من أج الظليم إذا أسرع وأصلهما الهمزة كما قرأ عاصم والأعمش ويعقوب في رواية وهي لغة بني أسد ووزنهما مفعول، وبناء مفعول من ذلك مع أنه لازم لتعديه بحرف الجر. وقيل إن كان ما ذكر منقولا فللتعدي وإن كان مرتجلا فظاهر، وقال الأخفش: إن جعلنا ألفهم أصلية فيأجوج يفعول ومأجوج مفعول كأنه من أجيج النار، ومن لم يهمزهما جعلها زائدة فياجوج من يججت وماجوج من مججت، وقال قطرب: في غير الهمز ماجوج فاعول من المج ويأجوج فاعول من اليج، وقال أبو الحسن علي بن عبد الصمد السخاوي: الظاهر أنه عربي وأصله الهمز وتركه على التخفيف. وهو إما من الأجة وهو الاختلاف كما قال تعالى: وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ [الكهف: 99] أو من الأج وهو سرعة العدو قال تعالى وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ [الأنبياء: 96] أو من الأجة وهي شدة الحر أو من أج الماء ياج أجوجا إذا كان ملحا مرا انتهى. وعلة منع الصرف على القول بعربيتهما العلمية والتأنيث باعتبار القبيلة. وقرأ العجاج ورؤية ابنه «آجوج» بهزة بدل الياء. وربما يقال جوج بلا همزة ولا ياء في غير القرآن وجاء بهذا اللفظ في كتاب حزقيال عليه السّلام مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أي في أرضنا بالقتل والتخريب وسائر وجوه الإفساد المعلوم من البشر، وقيل بأخذ الأقوات وأكلها. روي أنهم كانوا يخرجون أيام الربيع فلا يتركون شيئا أخضر إلا أكلوه ولا يابسا إلا احتملوه، وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن حبيب الأوصافي أنه قال: كان فسادهم أنهم يأكلون الناس، واستدل بإسناد مفسدون إلى يأجوج ومأجوج على أن أقل الجمع اثنان وليس بشيء أصلا فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً أي جعلا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 360 من أموالنا. والفاء لتفريع العرض على إفسادهم في الأرض. وقرأ الحسن والأعمش وطلحة وخلف وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني وابن جبير الأنطاكي وحمزة والكسائي «خراجا» بألف بعد الراء وكلاهما بمعنى واحد كالنول والنوال. وقيل الخرج المصدر أطلق على الخراج والخراج الاسم لما يخرج. وقال ابن الأعرابي: الخرج على الرؤوس بقال: أد خراج أرضك وقال ثعلب: الخرج أخص من الخراج. وقيل: الخرج المال يخرج مرة والخراج الخرج المتكرر وقيل الخرج ما تبرعت به والخراج ما لزمك إداؤه عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا حاجزا يمنعهم من الوصول إلينا. وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر سدا بضم السين. قالَ ما مَكَّنِّي بالإدغام، وقرأ بن كثير وحميد بالفك أي الذي مكنني فِيهِ رَبِّي وجعلني فيه سبحانه مكينا قادرا من الملك والمال وسائر الأسباب خَيْرٌ أي مما تريدون أن تبذلوه إلى من الخرج فلا حاجة بي إليه فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أي بما يتقوى به على المقصود من الآلات كزبر الحديد أو من الناس أو الأعم منهما، والفاء لتفريع الأمر بالإعانة على خيرية ما مكنه الله تعالى فيه من مالهم أو على عدم قبول خرجهم أَجْعَلْ جواب الأمر بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ تقديم إضافة الظرف إلى ضمير المخاطبين على إضافته إلى ضمير يأجوج ومأجوج لإظهار كمال العناية بمصالحهم كما راعوه في قولهم بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ رَدْماً أي حاجزا حصينا وحجابا متينا وهو أكبر من السد وأوثق يقال: ثوب مردم أي فيه رقاع فوق رقاع، ويقال: سحاب مردم أي متكاثف بعضه فوق بعض، وذكر أن أصل معناه سد الثلمة بالحجارة ونحوها، وقيل: سد الخلل مطلقا، ومنه قول عنترة: هل غادر الشعراء من متردم ثم أطلق على ما ذكر، وقيل: هو والسد بمعنى، ويؤيد الأول ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: هو كأشد الحجاب وعليه يكون قد وعدهم بالإسعاف بمرامهم فوق ما يرجونه وهو اللائق بشأن الملوك آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ جمع زبرة كغرف في غرفة وهي القطعة العظيمة، وأصل الزبر الاجتماع ومنه زبرت الكتاب جمعت حروفه وزبرة الأسد لما اجتمع على كاهله من الشعر، وأخرج الطستي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن زُبَرَ الْحَدِيدِ فقال: قطعة وأنشد قول كعب بن مالك: تلظى عليهم حين شد حميها ... بزبر الحديد والحجارة شاجر وطلب إيتاء الزبر لا ينافي أنه لم يقبل منهم شيئا لأن المراد من الإيتاء المأمور به الإيتاء بالثمن أو مجرد المناولة والإيصال وإن كان ما آتوه له لا إعطاء ما هو لهم فهو معونة مطلوبة، وعلى تسليم كون الإيتاء بمعنى الإعطاء لا المناولة يقال: إن إعطاء الآلة للعمل لا يلزمه تملكها ولو تملكها لا يعد ذلك جعلا فإنه إعطاء المال لا إعطاء مثل هذا، وينبىء عن أن المراد ليس الإعطاء قراءة أبي بكر عن عاصم «ردما ائتوني» بكسر التنوين ووصل الهمزة من أتاه بكذا إذ جاء به له وعلى هذه القراءة نصب زُبُراً بنزع الخافض أي جيئوني بزبر الحديد وتخصيص زبر الحديد بالذكر دون الصخور والحطب ونحوهما لما أن الحاجة إليها أمس إذ هي الركن القوي في السد ووجودها أعز. وقرأ الحسن «زبر» بضم الباء كالزاي حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ في الكلام حذف أي فأتوه إياها فأخذ يبني شيئا فشيئا حتى إذا جعل ما بين جانبي الجبلين من البنيان مساويا لهما في العلو فبين مفعول ساوى وفاعله ضمير ذي القرنين، وقيل: الفاعل ضمير السد المفهوم من الكلام أي فأتوه إياها فأخذ يسد بها حتى إذا ساوى السد الفضاء الذي بين الصدفين ويفهم من ذلك مساواة السد في العلو للجبلين، والصدف كما أشرنا إليه جانب الجبل وأصله على ما قيل: الميل، ونقل في الكشف أنه لا يقال للمنفرد صدف حتى يصادفه الآخر ثم قال: فهو من الأسماء المتضايفة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 361 كالزوج وأمثاله، وقال أبو عبيدة: وهو كل بناء عظيم مرتفع ولا يخفى أنه ليس بالمراد هنا. وزعم بعضهم أن المراد به هنا الجبل وهو خلاف ما عليه الجمهور. وقرأ قتادة سوى من التسوية. وقرأ ابن أبي أمية عن أبي بكر عن عاصم «سووي» بالبناء للمجهول، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والزهري ومجاهد والحسن «الصدفين» بضم الصاد والدال وهي لغة حمير كما أن فتحهما في قراءة الأكثرين لغة تميم، وقرأ أبو بكر وابن محيصن وأبو رجاء وأبو عبد الرحمن «الصدفين» بضم فسكون. وقرأ ابن جندب بفتح فسكون، وروي ذلك عن قتادة، وفي رواية أخرى عنه أنه قرأ بضم ففتح وهي قراءة أبان عن عاصم، وقرأ الماجشون بفتح فضم. قالَ للعملة انْفُخُوا أي بالكيران في زبر الحديد الموضوعة بين الصدفين ففعلوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ أي جعل المنفوخ فيه ناراً أي كالنار في الحرارة والهيئة فهو من التشبيه البليغ، وإسناد الجعل المذكور إلى ذي القرنين مع أنه فعل الفعلة للتنبيه على أنه العمدة في ذلك وهم بمنزلة الآلة قالَ الذين يتولون أمر النحاس من الإذابة وغيرها، وقيل لأولئك النافخين قال لهم بعد أن نفخوا في ذلك حتى صار كالنار وتم ما أراده منهم أولا آتُونِي من الذين يتولون أمر النحاس أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً أي آتوني قطرا أفرغ عليه قطرا فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه، وبه تمسك البصريون على أن إعمال الثاني في باب التنازع أولى إذ لو كان قِطْراً مفعول آتُونِي لأضمر مفعول أُفْرِغْ وحذفه وإن جاز لكونه فضلة إلا أنه يوقع في لبس. والقطر كما أشرنا إليه النحاس المذاب وهو قول الأكثرين، وقيل: الرصاص المذاب، وقيل: الحديد المذاب وليس بذاك، وقرأ الأعمش وطلحة وحمزة وأبو بكر بخلاف عنه «ائتوني» بهمزة الوصل أي جيئوني كأنه يستدعيهم للإغاثة باليد عند الإفراغ، وإسناد الإفراغ إلى نفسه للسر الذي وقفت عليه آنفا، وكذا الكلام في قوله اجعل وقوله ساوى على أحد القولين فَمَا اسْطاعُوا بحذف تاء الافتعال تخفيفا وحذرا عن تلاقي المتقاربين في المخرج وهما الطاء والتاء. وقرأ حمزة وطلحة بإدغام التاء في الطاء وفيه جمع بين الساكنين على غير حده ولم يجوزه أبو علي وجوزه جماعة، وقرأ الأعشى عن أبي بكر «فما اصطاعوا» بقلب السين صادا لمجاورة الطاء، وقرأ الأعمش «فما استطاعوا» بالتاء من غير حذف والفاء فصيحة أي ففعلوا ما أمروا به من إيتاء القطر أو الإتيان فأفرغ عليه فاختلط والتصق بعضه ببعض فصار جبلا صلدا فجاء يأجوج ومأجوج وقصدوا أن يعلوه وينقبوه فما اسطاعوا أَنْ يَظْهَرُوهُ (1) أي يعلوه ويرقوا فيه لارتفاعه وملاسته، قيل: كان ارتفاعه مائتي ذراع، وقيل: ألف وثمانمائة ذراع وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً لصلابته وثخانته. قيل: وكان عرضه خمسين ذراعا وكان أساسه قد بلغ الماء وقد جعل فيه الصخر والنحاس المذاب وكانت زبر الحديد للبناء فوق الأرض، ولا يخفى أن إفراغ القطر عليها بعد أن أثرت فيها حرارة النار حتى صارت كالنار مع ما ذكروا من أن امتداد السد في الأرض مائة فرسخ لا يتم إلا بأمر إلهي خارج عن العادة كصرف تأثير حرارة النار العظيمة عن أبدان المباشرين للأعمال وإلا فمثل تلك الحرارة عادة مما لا يقدر حيوان على أن يحوم حولها ومثل ذلك النفخ في هاتيك الزبر العظيمة الكثيرة حتى تكون نارا، ويجوز أن يكون كل من الأمرين بواسطة آلات غريبة أو أعمال أوتيها هو أو أحد ممن معه لا يكاد أحد يعرفها اليوم، وللحكماء المتقدمين بل والمتأخرين أعمال عجيبة يتوصلون إليها بآلات   (1) قيل أي يظهروا عليه فحذف الجار وأوصل الفعل اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 362 غريبة تكاد تخرج عن طور العقل وهذا مما لا شبهة فيه فليكن ما وقع لذي القرنين من ذلك القبيل، وقيل: كان بناؤه من الصخور مرتبطا بعضها ببعض بكلاليب من حديد ونحاس مذاب في تجاويفها بحيث لم يبق هناك فجوة أصلا. وأخرج ابن جرير، وابن مردوية عن أبي بكرة الشفي أن رجلا قال: يا رسول الله قد رأيت سد يأجوج ومأجوج قال: انعته لي قال كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء، قال: قد رأيته ، والظاهر أن الرؤية بصرية لا منامية وهو أمر غريب إن صح الخبر، وأما ما ذكره بعضهم من أن الواثق بالله العباسي أرسل سلاما الترجمان للكشف عن هذا السد فذهب جهة الشمال في قصة تطول حتى رآه ثم عاد، وذكر له من أمره ما ذكر فثقات المؤرخين على تضعيفه، وعندي أنه كذب لما فيه مما تأبى عنه الآية كما لا يخفى على الواقف عليه تفصيلا. ولا يخفى لطف الإتيان بالتاء في استطاعوا هنا قالَ أي ذو القرنين لمن عنده من أهل تلك الديار وغيرهم هذا إشارة إلى السد، وقيل: إلى تمكنه من بنائه والفضل للمتقدم ليتحد مرجع الضمير المتأخر أي هذا الذي ظهر على يدي وحصل بمباشرتي من السد الذي شأنه ما ذكر من المتانة وصعوبة المنال رَحْمَةٌ أي إثر رحمة عظيمة وعبر عنه بها للمبالغة مِنْ رَبِّي على كافة العباد لا سيما على مجاوريه وكون السد رحمة على العباد ظاهر وإذا جعلت الإشارة إلى التمكن فكونه رحمة عليهم أنه سبب لذلك، وربما يرجح المتقدم أيضا باحتياج المتأخر إلى هذا التأويل وإن كان الأمر فيه سهلا، وفي الأخبار عنه بما ذكر إيذان على ما قيل بأنه ليس من قبيل الآثار الحاصلة بمباشرة الخلق عادة بل هو إحسان إلهي محض وإن ظهر بالمباشرة، وفي التعرض لوصف الربوبية تربية معنى الرحمة، وقرأ ابن أبي عبلة «هذه رحمة» بتأنيث اسم الإشارة وخرج على أنه رعاية للخبر أو جعل المشار إليه القدرة والقوة على ذلك فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي أي وقت وعده تعالى فالكلام على حذف مضاف والإسناد إلى الوعد مجاز وهو لوقته حقيقة، ويجوز أن يكون الوعد بمعنى الموعود وهو وقته أو وقوعه فلا حذف ولا مجاز في الإسناد بل هناك مجاز في الطرف، والمراد من وقت ذلك يوم القيامة، وقيل: وقت خروج يأجوج ومأجوج. وتعقب بأنه لا يساعده النظم الكريم والمراد بمجيئه ما ينتظم مجيئه ومجيء مباديه من خروجهم وخروج الدجال ونزول عيسى عليه السّلام ونحو ذلك لا دنو وقوعه فقط كما قال الزمخشري وغيره فإن بعض الأمور التي ستحكى تقع بعد مجيئه حتما جَعَلَهُ أي السد المشار إليه مع متانته ورصانته دَكَّاءَ بألف التأنيث الممدودة والموصوف مؤنث مقدر أي أرضا مستوية، وقال بعضهم: الكلام على تقدير مضاف أي مثل دكاء وهي ناقة لا سنام لها ولا بد من التقدير لأن السد مذكر لا يوصف بمؤنث، وقرأ غير الكوفيين دكا على أنه مصدر دككته وهو بمعنى المفعول أي مدكوكا مسوى بالأرض أو على ظاهره والوصف به للمبالغة، والنصب على أنه مفعول ثان لجعل وهي بمعنى صير، وزعم ابن عطية أنها بمعنى خلق وليس بشيء. وهذا الجعل وقت مجيء الوعد بمجيء بعض مباديه وفيه بيان لعظم قدرته تعالى شأنه بعد بيان سعة رحمته عز وجل وكان علمه بهذا الجعل على ما قيل من توابع علمه بمجيء الساعة إذ من مبادئها دك الجبال الشامخة الراسخة ضرورة أنه لا يتم بدونها واستفادته العلم بمجيئها ممن كان في عصره من الأنبياء عليهم السّلام، ويجوز أن يكون العلم بجميع ذلك بالسماع من النبي وكذا العلم بمجيء وقت خروجهم على تقدير أن يكون ذلك مرادا من الوعد يجوز أن يكون عن اجتهاد ويجوز أن يكون عن سماع. وفي كتاب حزقيال عليه السّلام الاخبار بمجيئهم في آخر الزمان من آخر الجر بياء في أمم كثيرة لا يحصيهم إلا الله تعالى وإفسادهم في الأرض وقصدهم بيت المقدس وهلاكهم عن آخرهم في بريته بأنواع من العذاب وهو عليه السّلام قبل إسكندر غالب دارا فإذا كان هو ذا القرنين فيمكن أن يكون وقف على ذلك فأفاده علما بما ذكر والله تعالى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 363 أعلم، ثم إن في الكلام حذفا أي وهو يستمر إلى آخر الزمان فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وَكانَ وَعْدُ رَبِّي أي وعده سبحانه المعهود أو كل ما وعد عز وجل به فيدخل فيه ذلك دخولا أوليا حَقًّا ثابتا لا محالة واقعا البتة وهذه الجملة تذييل من ذي القرنين لما ذكره من الجملة الشرطية وتأكيد لمضمونها وهو آخر ما حكي من قصته، وقوله عز وجل وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ كلام مسوق من جنابه سبحانه وتعالى وضمير الجمع المجرور عند بعض المحققين للخلائق، والترك بمعنى الجعل وهو من الأضداد، والعطف على قوله تعالى: جَعَلَهُ دَكًّا وفيه تحقيق لمضمونه، ولا يضر في ذلك كونه محكيا عن ذي القرنين أي جعلنا بعض الخلائق يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ جاء الوعد بمجيء بعض مبادئه يَمُوجُ فِي بَعْضٍ آخر منهم، والموج مجاز عن الاضطراب أي يضطربون اضطراب البحر يختلط إنسهم وجنهم من شدة الهول وروي هذا عن ابن عباس، ولعل ذلك لعظائم تقع قبل النفخة الأولى، وقيل: الضمير للناس والمراد وجعلنا بعض الناس يوم إذ جاء الوعد بخروج يأجوج ومأجوج يموج في بعض آخر لفزعهم منهم وفرارهم وفيه بعد وقيل: الضمير للناس أيضا، والمراد وجعلنا بعض الناس يوم إذ تم السد يموج في بعضهم للنظر إليه والتعجيب منه ولا يخفى أن هذا يتعجب منه. وقال أبو حيان: الأظهر كون الضمير ليأجوج ومأجوج أي وتركنا بعض يأجوج ومأجوج يموج في بعض آخر منهم حين يخرجون من السد مزدحمين في البلاد وذلك بعد نزول عيسى عليه السّلام، ففي صحيح مسلم من حديث النواس ابن سمعان بعد ذكر الدجال وهلاكه بباب لد على يده عليه السّلام ثم يأتي عيسى عليه السّلام قوما قد عصمهم الله تعالى من الدجال فيمسح وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة فبينما هم كذلك إذ أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السّلام أني قد أخرجت عبادا لي لإيذان لأحد بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور ويبعث الله تعالى يأجوج ومأجوج فيخرجون على الناس فينشفون الماء ويتحصن الناس منهم في حصونهم ويضمون إليهم مواشيهم فيشربون مياه الأرض حتى إن بعضهم ليمر بالنهر فيشربون ما فيه حتى يتركوه يبسا حتى إن من يمر من بعدهم ليمر بذلك النهر فيقول قد كان هاهنا ماء مرة ويحصر عيسى نبي الله وأصحابه حتى يكون رأس الثور ورأس الحمار لأحدهم خيرا من مائة دينار وفي رواية مسلم وغيره فيقولون: لقد قتلنا من في الأرض هلم نقتل من في السماء فيرمون نشابهم إلى السماء فيردها الله تعالى عليهم مخضوبة دما للبلاء والفتنة فيرغب نبي الله وأصحابه إلى الله تعالى فيرسل عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى ، وفي رواية داود كالنغف في أعناقهم فيصبحون موتى كموت نفس واحدة لا يسمع لهم حس فيقول المسلمون: ألا رجل يشري لنا نفسه فينظر ما فعل هذا العدو فيتجرد رجل منهم محتسبا نفسه قد وطنها على أنه مقتول فينزل فيجدهم موتى بعضهم على بعض فينادي يا معشر المسلمين ألا أبشروا إن الله عز وجل قد كفاكم عدوكم فيخرجون من مداينهم وحصونهم فيسرحون مواشيهم فما يكون لها مرعى إلا لحومهم فتشكر أحسن ما شكرت عن شيء ويهبط نبي الله عيسى عليه السّلام وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون فيها موضع شبر إلا ملاءه زهمهم ونتنهم فيستغيثون بالله تعالى فيبعث الله سبحانه ريحا يمانية غبراء فتصير على الناس غما ودخانا ويقع عليهم الزكمة ويكشف ما بهم بعد ثلاثة أيام وقد قذفت الأرض جيفهم في البحر، وفي رواية فيرغب نبي الله عيسى عليه السّلام وأصحابه إلى الله عز وجل فيرسل طيرا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله تعالى، وفي رواية فترميهم في البحر- وفي أخرى في النار ولا منافاة كما يظهر بأدنى تأمل- ثم يرسل الله عز وجل مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة ثم يقال للأرض: انبتي ثمرتك وردي بركتك فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها ويبارك في الرسل حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس ويوقد المسلمون من قسي يأجوج ومأجوج ونشابهم وأترستهم سبع سنين، ولعل الله تعالى يحفظ ذلك في الأودية ومواضع السيول زيادة في سرور الجزء: 8 ¦ الصفحة: 364 المسلمين أو يحفظها حيث هلكوا ولا يلقيها معهم حيث شاء ولا يعجز الله تعالى شيء، والحديث يدل على كثرتهم جدا، ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن حبان في صحيحه عن ابن مسعود مرفوعا أن يأجوج ومأجوج أقل ما يترك أحدهم من صلبه ألفا من الذرية . وحمله بعضهم على طول العمر. وفي البحر أنه قد اختلف في عددهم وصفاتهم ولم يصح في ذلك شيء. وأعجب ما روي في ذلك قول مكحول الأرض مسيرة مائة عام ثمانون منها يأجوج ومأجوج وهي أمتان كل أمة أربعمائة ألف أمة لا تشبه أمة الأخرى وهو قول باطل، ومثله ما روي عن أبي الشيخ عن أبي أمامة الدنيا سبعة أقاليم فليأجوج ومأجوج ستة وللباقي إقليم واحد وهو كلام من لا يعرف الأرض ولا الأقاليم. نعم أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه من طريق البكالي عن ابن عمر أن الله تعالى جزأ الإنس عشرة أجزاء فتسعة منهم يأجوج ومأجوج وجزء سائر الناس إلا أني لم أقف على تصحيحه لغير الحاكم وحكم تصحيحه مشهور ويعلم مما تقدم ومما سيأتي إن شاء الله تعالى بطلان ما يزعمه بعض الناس من أنهم التتار الذين أكثروا الفساد في البلاد وقتلوا الأخيار والأشرار. ولعمري إن ذلك الزعم من الضلالة بمكان وإن كان بين يأجوج ومأجوج وأولئك الكفرة مشابهة تامة لا تخفى على الواقفين على أخبار ما يكون وما كان أبطال ما يزعمه بعض الناس من أنهم التتار وَنُفِخَ فِي الصُّورِ الظاهر أن المراد النفخة الثانية لأنه المناسب لما بعد. ولعل عدم التعرض لذكر النفخة الأولى لأنها داهية عامة ليس فيها حالة مختصة بالكفار، وقيل: لئلا يقع الفصل بين ما يقع في النشأة الأولى من الأحوال والأهوال وبين ما يقع منها في النشأة الآخرة. والصور قرن جاء في الآثار من وصفه ما يدهش العقول. وقد صح عن أبي سعيد الخدري أنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن وحنا جبينه وأصغى سمعه ينتظر أن يؤمر فينفخ» . وزعم أبو عبيدة أنه جمع صورة وأيد بقراءة الحسن «الصّور» بفتح الواو فيكون لسورة وسور ورد ذلك أظهر من أن يخفى، ولذلك قال أبو الهيثم على ما نقل عنه الإمام القرطبي: من أنكر أن يكون الصور قرنا فهو كمن أنكر العرش والصراط والميزان وطلب لها تأويلات. وذكر أن الأمم مجمعة على أن النافخ فيه إسرافيل عليه السّلام فَجَمَعْناهُمْ أي الخلائق بعد ما تفرقت أوصالهم وتمزقت أجسادهم في صعيد واحد للحساب والجزاء جَمْعاً أي جمعا عجيبا لا يكتنه كنهه وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ أظهرناها وأبرزناها يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ جمعنا الخلائق كافة لِلْكافِرِينَ منهم حيث جعلناها بحيث يرونها ويسمعون لها تغيظا وزفيرا عَرْضاً أي عرضا فظيعا هائلا لا يقادر قدره. وتخصيص العرض بهم مع أنها بمرأى من أهل الجمع قاطبة لأن ذلك لأجلهم خاصة الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ وهم في الدنيا فِي غِطاءٍ كثيف وغشاوة غليظة محاطة بذلك من جميع الجوانب عَنْ ذِكْرِي عن الآيات المؤدية لأولي الأبصار المتدبرين فيها إلى ذكرى بالتوحيد والتمجيد. فالذكر مجاز عن الآيات المذكورة من باب إطلاق المسبب وإرادة السبب. وفيه أن من لم ينظر نظرا يؤدي به إلى ذكر التعظيم كأنه لا نظر له البتة وهذا فائدة التجوز. وقيل: الكلام على حذف مضاف أي عن آيات ذكرى وليس بذاك، ويجوز أن يكون المراد بالأعين البصائر القلبية، والمعنى كانت بصائرهم في غطاء عن أن يذكروني على وجه يليق بشأني أو عن ذكرى الذي أنزلته على الأنبياء عليهم السّلام، ويجوز أن يخص بالقرآن الكريم وَكانُوا مع ذلك لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً نفي لسماعهم على أتم وجه ولذا عدل عن وكانوا صما الأخصر إليه. والمراد أنهم مع ذلك كفاقدي حاسة السمع بالكلية وهو مبالغة في تصوير إعراضهم عن سماع ما يرشدهم إلى ما ينفعهم بعد تصوير تعاميهم عن الآيات المشاهدة بالأبصار فلا حاجة إلى تقدير لذكرى المراد منه القرآن أو مطلق الشرائع الإلهية فإنه بعد تخصيص الذكر المذكور في النظم الكريم أولا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 365 بالآيات المشاهدة لا يصير قرينة على هذا الحذف. قال ابن هشام في المغني: إن الدليل اللفظي لا بد من مطابقته للمحذوف معنى فلا يصح زيد ضارب وعمرو أي ضارب على أن الأول بمعناه المعروف والثاني بمعنى مسافر. وتقدير ذلك وإرادة معنى الآيات منه مجازا لتحقق الآيات في ضمن الكلام المعجز لا يخفى حاله وحال إرادة الآيات ثم إرادة الكلام المعجز منها مجازا بعد المجاز أظهر، وقال بعض المحققين: إن تقدير ذلك إنما هو بقرينة قوله تعالى سمعا وأن الكافرين هذا حالهم لا بقرينة ذكر الذكر قبل ليجيء كلام ابن هشام، ولا يخفى أنه لا كلام في تقدير الذكر بمعنى القرآن أو الشرائع الإلهية إذا أريد من الذكر المذكور ذلك. والمصول نعت الكافرين أو بدل منه أو بيان جيء به لذمهم بما في حيز الصلة وللإشعار بعليته لإصابة ما أصابهم من عرض جهنم لهم أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي كفروا بي كما يعرب عنه قوله تعالى عِبادِي والحسبان بمعنى الظن، وقد قرأ عبد الله «أفظن» والهمزة للإنكار والتوبيخ على معنى إنكار الواقع واستقباحه، والفاء للعطف على مقدر يفصح عنه الصلة على توجيه الإنكار والتوبيخ وإلى المعطوفين جميعا على ما اختاره شيخ الإسلام. والمعنى أكفروا بي مع جلالة شأني فحسبوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي من الملائكة وعيسى ونحوهم عليهم السّلام من المقربين كما تشعر به الإضافة فإن الأكثر أن تكون في مثل هذا اللفظ لتشريف المضاف. واقتصر قتادة في المراد من ذلك على الملائكة، والظاهر إرادة ما يعمهم وغيرهم ممن ذكرنا واختاره أبو حيان وغيره، وروي عن ابن عباس أن المراد منه الشياطين وفيه بعد ولعل الرواية لا تصح. وعن مقاتل أن المراد الأصنام وهو كما ترى، وجوز بعض المحققين أن يراد ما يعم المذكورين والأصنام وسائر المعبودات الباطلة من الكواكب وغيرها تغليبا، ولعل المقام يقتضي أن لا تكون الإضافة فيه للتشريف أي أفظنوا أن يتخذوا عبادي الذين هم تحت ملكي وسلطاني مِنْ دُونِي أي مجاوزين لي أَوْلِياءَ أي معبودين أو أنصارا لهم من بأسي، وما في حيز صلة أن قيل ساد مسد مفعولي حسب أي أفحسبوا أنهم يتخذونهم أولياء. وكان مصب الإنكار أنهم يتخذونهم كذلك إلا أنه أقحم الحسبان للمبالغة، وقيل: المراد ما ذكر على معنى أن ذلك ليس من الاتخاذ في شيء لما أنه إنما يكون من الجانبين والمتخذون بمعزل عن ولايتهم لقولهم سبحانك أنت ولينا من دونهم، وقيل: إن وما بعدها في تأويل مصدر مفعول أول لحسب والمفعول الثاني محذوف أي أفحسبوا اتخاذهم نافعهم أو سببا لرفع العذاب عنهم أو نحو ذلك. وهو مبني على تجويز حذف أحد المفعولين في باب علم وهو مذهب بعض النحاة، وتعقب بأن فيه تسليما لنفس الاتخاذ واعتدادا به في الجملة والأولى ما خلا عن ذلك. هذا وفي الكشف أن التحقيق أن قوله تعالى: فَحَسِبَ معطوف على كانت وكانوا دلالة على أن الحسبان ناشىء عن التعامي والتصام وأدخل عليه همزة الإنكار ذما على ذم وقطعا له عن المعطوف عليهما لفظا لا معنى للإيذان بالاستقلال المؤكد للذم كأنه قيل لا يزيلون ما بهم من مرضى الغشاوة والصمم ويزيدون عليهما الحسبان المترتب عليهما. وقوله تعالى الَّذِينَ كَفَرُوا من وضع الظاهر مقام المضمر زيادة للذم انتهى. وفي إرشاد العقل السليم بعد نقل ما ذكر إلى قوله كأنه قيل إلخ أنه يأبى ذلك ترك الإضمار والتعرض لوصف آخر غير التعامي والتصام على أنهما أخرجا مخرج الأحوال الجبلية لهم ولم يذكرا من حيث إنهما من أفعالهم الاختيارية الحادثة كحسبانهم ليحسن تفريعه عليهما. وأيضا فإنه دين قديم لهم لا يمكن جعله ناشئا عن تصامهم عن كلام الله عز وجل. وتخصيص الإنكار بحسبانهم المتأخر عن ذلك تعسف لا يخفى انتهى، ولا يخلو عن بحث فتأمل. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وزيد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم والشافعي عليه الرحمة ويحيى بن يعمر ومجاهد وعكرمة وقتادة ونعيم بن ميسرة والضحاك وابن أبي ليلى وابن محيصن وأبو حيوة ومسعود بن صالح الجزء: 8 ¦ الصفحة: 366 وابن كثير ويعقوب بخلاف عنهما أَفَحَسِبَ بإسكان السين وضم الباء مضافا إلى الذين وخرج ذلك على أن حسب مبتدأ وهو بمعنى محسب أي كافي وأَنْ يَتَّخِذُوا خبره أي أفكافيهم اتخاذهم عبادي من دوني أولياء. وفيه دلالة على غاية الذم لأنه جعل ذلك مجموع عدتهم يوم الحساب وما يكتفون به عن سائر العقائد والفضائل التي لا بد منها للفائز في ذلك اليوم. وجعل الزمخشري المصدر المتحصل من أن والفعل فاعلا لحسب لأنه اعتمد على الهمزة واسم الفاعل إذا اعتمد ساوى الفعل في العمل، واعترض عليه أبو حيان بأن حسب مؤول باسم الفاعل وما ذكر مخصوص بالوصف الصريح. ثم أشار إلى جوابه بأن سيبويه أجاز في مررت برجل خير منه أبوه وبرجل سواء عليه الخير والشر وبرجل أب له صاحبه وبرجل إنما رجل هو وبرجل حسبك من رجل الرفع بالصفات المؤولة، وذكر أنهم أجازوا في مررت برجل أبي عشرة أبوه ارتفاع أبوه بأبي عشرة لأنه في معنى والد عشرة وحينئذ فلا كلام فيما ذكر الزمخشري إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ أي هيأناها وهو ظاهر في أنها مخلوقة اليوم لِلْكافِرِينَ المعهودين عدل عن الإضمار ذما لهم وإشعارا بأن ذلك الاعتداد بسبب كفرهم المتضمن لحسبانهم الباطل نُزُلًا أي شيئا يتمتعون به عند ورودهم وهو ما يقام به للنزيل أي الضيف مما حضر من الطعام واختار هذا جماعة من المفسرين. وفي ذلك على ما قيل تخطئة لهم في حسبانهم وتهكم به حيث كان اتخاذهم إياهم أولياء من قبيل اعتاد العتاد وإعدادا لزاد ليوم المعاد فكأنه قيل إنا اعتدنا لهم مكان ما أعدوا لأنفسهم من العدة والذخر جهنم عدة، وفي إيراد النزل إيماء إلى أن لهم وراء جهنم من العذاب ما هي أنموذج له، ولا يأبى ذلك قوله تعالى جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ لأن المراد هناك أنها جزاؤهم بما فيها فافهم، وقال الزجاج: النزل موضع النزول، وروي ذلك عن ابن عباس، وقيل: هو جمع نازل ونصبه على الحال. وقرأ أبو حيوة وأبو عمرو بخلاف عنه «نزلا» بسكون الزاي قُلْ يا محمد هَلْ نُنَبِّئُكُمْ خطاب للكفرة، وإذا حمل الاستفهام على الاستئذان كان فيه من التهكم ما فيه، والجمع في صيغة المتكلم قيل لتعيينه من أول الأمر وللإيذان بمعلومية النبأ للمؤمنين أيضا بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا نصب على التمييز، وجمع مع أن الأصل في التمييز الإفراد والمصدر شامل للقليل والكثير كما ذكر ذلك النحاة للإيذان بتنوع أعمالهم وقصد شمول الخسران لجميعها، وقيل: جمع لأن ما ذكره النحاة إنما هو إذا كان المصدر باقيا على مصدريته أما إذا كان مؤولا باسم فاعل فإنه يعامل معاملته وهنا عمل بمعنى عامل فجمع على أعمال والمراد عاملين والصفة تقع تمييزا نحو لله تعالى دره فارسا، وزعم بعضهم أن أعمالا جمع عامل، وتعقب بأن جمع فاعل على أفعال نادر وقد أنكره بعض النحاة في غير ألفاظ مخصوصة كأشهاد جمع شاهد، وقيل: جمع عمل ككتف بمعنى ذو عمل كما في القاموس وهو كما ترى، وزعم بعض المتأخرين أنه إذا اعتبر أعمالا بمعنى عاملين كان الأخسرين بمعنى الخاسرين لأن التمييز إذا كان صفة كان عبارة عن المنتصب عنه متحدا معه بالذات محمولا عليه بالمواطأة حتى إن النحاة صرحوا بأنه تجعل الحال أيضا وهو خبر عن ذي الحال معنى ومن البين أن أفعل التفضيل يمتنع أن يتحد مع اسم الفاعل لمكان الزيادة فحيث وقع اسم الفاعل تمييزا وانتصب بأفعل وجب أن يكون بمعنى فاعل ليتحدا، وتعقبه بعضهم بأن أفعل لا يكون مع اللام مجردا عن معنى التفضيل كما أنه لا يكون مجردا عنه مع الإضافة وإنما يكون ذلك إذا كان مع من كما صرح به ابن مالك في التسهيل وذكره الرضي، ولا يخفى عليك ما في جميع ذلك من النظر، والحق أن الجمعية ليست إلا لما ذكر أولا، نعم ذكر أبو البقاء أنه جمع لكونه منصوبا على أسماء الفاعلين وأول ذلك بأنه أراد باسم الفاعل المعنى اللغوي وأراد أنه جمع ليفيد التوزيع على أنه لا يخلو عن شيء، ثم إن هذا على ما في إرشاد العقل السليم بيان لحال الكفرة باعتبار ما صدر عنهم من الأعمال الحسنة في أنفسها وفي حسبانهم أيضا حيث كانوا معجبين بها واثقين بنيل ثوابها ومشاهدة آثارها غب بيان أحوالهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 367 باعتبار أعمالهم السيئة في أنفسها مع كونها حسنة في حسبانهم الَّذِينَ ضَلَّ أي ضاع وبطل بالكلية عند الله عز وجل سَعْيُهُمْ في إقامة تلك الأعمال فِي الْحَياةِ الدُّنْيا متعلق بسعي لا بضل لأن بطلان سعيهم غير مختص بالدنيا. قيل: المراد بهم أهل الكتابين وروي ذلك عن ابن عباس وسعد بن أبي وقاص ومجاهد ويدخل في الأعمال حينئذ ما عملوه من الأحكام المنسوخة المتعلقة بالعبادات، وقيل: الرهبان الذين يحبسون أنفسهم في الصوامع ويحملونها على الرياضات الشاقة، وقيل الصابئة، وسأل ابن الكواء عليا كرم الله تعالى وجهه عنهم فقال: منهم أهل حروراء يعني الخوارج ، واستشكل بأن قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلخ يأباه لأنهم لا ينكرون البعث وهم غير كفرة، وأجيب بأن من اتصالية فلا يلزم أن يكونوا متصلين بهم من كل الوجوه بل يكفي كونهم على الضلال مع أنه يجوز أن يكون كرم الله تعالى وجهه معتقدا لكفرهم، واستحسن أنه تعريض بهم على سبيل التغليظ لا تفسير للآية، والمذكور في مجمع البيان أن العياشي روى بسنده أن ابن الكواء سأل أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه عن أهل هذه الآية فقال: أولئك أهل الكتاب كفروا بربهم وابتدعوا في دينهم فحبطت أعمالهم وما أهل النهر منهم ببعيد ، وهذا يؤيد الجواب الأول، وأخبر أن المراد ما يعم سائر الكفرة، ومحل الموصول الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف لأنه جواب للسؤال كأنه قيل من هم؟ فقيل الذين إلخ، وجوز أن يكون في محل جر عطف بيان على (الأخسرين) وجوز أن يكون نعتا أو بدلا وأن يكون منصوبا على الذم على أن الجواب ما سيأتي إن شاء الله تعالى من قوله سبحانه أُولئِكَ الَّذِينَ إلخ. وتعقب بأنه يأبى ذلك أن صدره ليس منبئا عن خسران الأعمال وضلال السعي كما يستدعيه مقام الجواب والتفريع الأول وإن دل على هبوطها لكنه ساكت عن أنباء بما هو العمدة في تحقيق معنى الخسران من الوثوق بترتب الربح واعتقاد النفع فيما صنعوا على أن التفريع الثاني مما يقطع ذلك الاحتمال رأسا إذ لا مجال لإدراجه تحت الأمر بقضية نون العظمة والجواب عن ذلك لا يتم إلا بتكلف فتأمل وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً الإحسان الإتيان بالأعمال على الوجه اللائق وهو حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي أي يعتقدون أنهم يعملون ذلك على الوجه اللائق لإعجابهم بأعمالهم التي سعوا في إقامتها وكابدوا في تحصيلها، والجملة حال من فاعل ضَلَّ أي ضل سعيهم المذكور والحال أنهم يحسنون في ذلك وينتفعون بآثاره أو من المضاف إليه في سَعْيُهُمْ لكونه في محل الرفع أي بطل سعيهم والحال أنهم إلخ، والفرق بين الوجهين أن المقارن لحال حسبانهم المذكور في الأول ضلال سعيهم، وفي الثاني نفس سعيهم قيل، والأول أدخل في بيان خطئهم، ولا يخفى ما بين يحسبون ويحسنون من تجنيس التصحيف ومثل ذلك قول البحتري: ولم يكن المغتر بالله إذ سرى ... ليعجز والمعتز بالله طالبه أُولئِكَ كلام مستأنف من جنابه تعالى مسوق لتكميل تعريف الأخسرين وتبيين خسرانهم وضلال سعيهم وتعيينهم بحيث ينطبق التعريف على المخاطبين غير داخل تحت الأمر كما قيل أي أولئك المنعوتون بما ذكر من ضلال السعي والحسبان المذكور الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ بدلائله سبحانه الداعية إلى التوحيد الشاملة للسمعية والعقلية، وقيل: بالقرآن والأول أولى، والتعرض لعنوان الربوبية لزيادة تقبيح حالهم في الكفر المذكور وَلِقائِهِ هو حقيقة في مقابلة الشيء ومصادفته وليس بمراد، والأكثرون على أنه كناية عن البعث والحشر وما يتبع ذلك من أمور الآخرة أي لم يؤمنوا بذلك على ما هو عليه، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي لقاء عذابه تعالى وليس بذاك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 368 فَحَبِطَتْ بكسر الباء، وقرأ ابن عباس وأبو السمال بفتحها، والفاء للتفريع أي فحبطت لذلك أَعْمالُهُمْ المعهودة حبوطا كليا فَلا نُقِيمُ لَهُمْ أي لأولئك الموصوفين بما مر من حبوط الأعمال يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً أي فنزدري بهم ونحتقرهم ولا نجعل لهم مقدارا واعتبارا لأن مدار الاعتبار والاعتناء الأعمال الصالحة وقد حبطت بالمرة وحيث كان هذا الازدراء والاحتقار من عواقب حبوط الأعمال عطف عليه بطريق التفريع وأما ما هو من أجزية الكفر فسيجيء إن شاء الله تعالى بعد ذلك، وزعم بعضهم أن حقه على هذا أن يعطف بالواو عطف أحد المتفرعين على الآخر لأن منشأ ازدرائهم الكفر لا الحبوط وبه اعترض على ذلك وهو ناشىء من فرط الذهول كما لا يخفى أو لا نضع لأجل وزن أعمالهم ميزانا لأنها قد حبطت وصارت هباء منثورا. ونفي هذا بعد الإخبار بحبوطها من قبيل التأكيد بخلاف النفي على المعنى الأول ولذلك رجح عليه وليس من الاعتزال في شيء، وقرأ مجاهد وعبيد بن عمير فلا يقيم بالياء لتقدم قوله تعالى: بِآياتِ رَبِّهِمْ وعن عبيد أيضا فلا يقيم بفتح ياء المضارعة كأنه جعل قام متعديا، وعن مجاهد وابن محيصن ويعقوب بخلاف عنهم فلا يقوم لهم يوم القيامة وزن على أن يقوم مضارع قام اللازم و «وزن» فاعله. ذلِكَ بيان لمآل كفرهم وسائر معاصيهم إثر بيان أعمالهم المحبطة بذلك وهو خبر مبتدأ محذوف أي الأمر والشأن ذلك. وقوله عز وجل جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ جملة مفسرة له فلا محل لها من الإعراب، وجوز أن يكون ذلِكَ مبتدأ وجَزاؤُهُمْ بدل منه بدل اشتمال أو بدل كل من كل إن كانت الإشارة إلى الجزاء الذي في الذهن وجَهَنَّمُ خبره. والتذكير وإن كان الخبر مؤنثا لأن المشار إليه الجزاء ولأن الخبر في الحقيقة للبدل. وأن يكون ذلِكَ مبتدأ وجَزاؤُهُمْ خبره وجَهَنَّمُ عطف بيان للخبر والإشارة إلى جهنم الحاضرة في الذهن، وأن يكون مبتدأ وجَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ مبتدأ وخبر خبر له والعائد محذوف والإشارة إلى كفرهم وأعمالهم والتذكير باعتبار ما ذكر أي ذلك جزاؤهم به جهنم، وتعقب بأن العائد المجرور إنما يكثر حذفه في مثل ذلك إذا جر بحرف بتبعيض أو ظرفية أو جر عائد قبله بمثل ما جر به كقوله: فالذي تدعي به أنت مفلح. أي به. وجوز أبو البقاء أن يكون ذلِكَ مبتدأ وجَزاؤُهُمْ بدل أو عطف بيان وجَهَنَّمُ بدل من جزاء أو خبر مبتدأ محذوف أي هو جهنم وقوله تعالى: بِما كَفَرُوا خبر ذلِكَ وقال بعد أن ذكر من وجوه الإعراب ما ذكر: إنه لا يجوز أن يتعلق الجار بجزاؤهم للفصل بينهما بجهنم، وقيل: الظاهر تعلقه به ولا يضر الفصل في مثل ذلك. وهو تصريح بأن ما ذكر جزاء لكفرهم المتضمن لسائر القبائح التي أنبأ عنها قوله تعالى المعطوف على كفروا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً أي مهزوا بهما فإنهم لم يقنعوا بمجرد الكفر بالآيات والرسل عليهم السّلام بل ارتكبوا مثل تلك العظيمة أيضا. وجوز أن تكون الجملة مستأنفة وهو خلاف الظاهر، والمراد من الآيات قيل المعجزات الظاهرة على أيدي الرسل عليهم السّلام والصحف الإلهية المنزلة عليهم الصلاة والسّلام إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بيان بطريق الوعد لمآل الذين اتصفوا بأضداد ما اتصف به الكفرة أثر بيان مآلهم بطريق الوعيد أي إن الذين آمنوا بآيات ربهم ولقائه سبحانه وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ من الأعمال كانَتْ لَهُمْ فيما سبق من حكم الله تعالى ووعده فالمضي باعتبار ما ذكر. وفيه على ما قال شيخ الإسلام إيماء إلى أن أثر الرحمة يصل إليهم بمقتضى الرأفة الأزلية بخلاف ما مر من جعل جهنم للكافرين نزلا فإنه بموجب ما حدث من سوء اختيارهم، وقيل: يجوز أن يكون ما وعدوا به لتحققه نزل منزلة الماضي فجيء بكان إشارة إلى ذلك. ولم يقل اعتدنا لهم كما قيل فيما مر للإشارة إلى أن أمر الجنات لا يكاد يتم بل لا يزال ما فيها يزداد فإن اعتاد الشيء وتهيئته يقتضي تمامية أمره وكماله، وقد جاء في الآثار أنه يغرس للمؤمن بكل تسبيحة يسبحها شجرة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 369 في الجنة، وقيل: التعبير بما ذكر أظهر في تحقق الأمر من التعبير بالاعتاد ألا ترى أنه قد تهيأ دار لشخص ولا يسكنها ولا يخلو عن لطف فافهم. جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ أخرج ابن المنذر وإن أبي حاتم عن مجاهد أن الفردوس هو البستان بالرومية، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه الكرم بالنبطية وأصله فرداسا، وأخرج ابن أبي شيبة وغيره عن عبد الله بن الحارث أن ابن عباس سأل كعبا عن الفردوس فقال: جنة الأعناب بالسريانية، وقال عكرمة: هي الجنة بالحبشية، وقال القفال: هي الجنة الملتفة بالأشجار، وحكى الزجاج أنها الأودية التي تنبت ضروبا من النبات، وقال المبرد: هي فيما سمعت من العرب الشجر الملتف والأغلب عليه العنب، ونص الفراء على أنه عربي أيضا ومعناه البستان الذي فيه كرم وهو مما يذكرّ ويؤنث، وزعم بعضهم أنها لم تسمع في كلام العرب إلا في قول حسان: وإن ثواب الله كل موحد ... جنان من الفردوس فيها يخلد وهو لا يصح فقد قال أمية بن أبي الصلت: كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة ... فيها الفراديس ثم الفوم والبصل وجاء في شعر جرير في أبيات يمدح بها خالد بن عبد الله القسري حيث قال: وإنا لنرجو أن نرافق رفقة ... يكونون في الفردوس أول وارد ومما سمعه أهل مكة قبل إسلام سعد قول هاتف: أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا ... على الله في الفردوس منية عارف والحق أن ذكرها في شعر الإسلاميين كثير وفي شعر الجاهليين قليل، وأخرج البخاري ومسلم وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنها تفجر أنهار الجنة» وعن أبي عبيدة بن الجراح مرفوعا الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين ما بين السماء والأرض والفردوس أعلى الجنة فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس ، وروي عن كعب أنه ليس في الجنة أعلى من جنة الفردوس وفيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر . وصح أن أهل الفردوس ليسمعون أطيط العرش. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري مرفوعا الفردوس مقصورة الرحمن وكل ذلك لا ينافي كون الفردوس في اللغة البستان كما توهم إذ لا مانع من أن يكون أعلى الجنة بستانا لكنه لكونه في غاية السعة أطلق على كل قطعة منه جنة فقيل جنات الفردوس كذا قيل. واستشكل بأن الآية حينئذ تفيد أن كل المؤمنين في الفردوس المشتمل على جنات وهذا لا يصح على القول بأن الفردوس أعلى الدرجات إذ لا شبهة في تفاوت مراتبهم، وكون المراد بالذين آمنوا وعملوا الصالحات طائفة مخصوصة من مطلق المؤمنين مع كونه في مقابلة الكافرين ليس بشيء. وقال أبو حيان: الظاهر أن معنى جنات الفردوس بساتين حول الفردوس ولذا أضيفت الجنات إلى الفردوس. وأنت تعلم أن هذا لا يشفي الغليل لما أن الآية حينئذ تفيد أن جميع المؤمنين في جنات الفردوس ومن المعلوم أن منهم من هو في الفردوس. وقيل: الأمر كما ذكر أبو حيان إلا أنه يلتزم الاستخدام في الآية بأن يراد مطلق الجنات فيما بعد، وفيه مع كونه خلاف الظاهر ما لا يخفى. وقيل المراد من جنات الفردوس جميع الجنات والإضافة إلى الفردوس التي هي أعلاها باعتبار اشتمالها عليها ويكفي في الإضافة هذه الملابسة، ولعلك تختار أن الفردوس في الآثار بمعنى وفي الآية بمعنى آخر وتختار من معانيه ما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 370 تكلف في الإضافة فيه كالشجر الملتف ونحوه، وظاهر بيت حسان وبيت أمية شاهد على أن للفردوس معنى غير ما جاء في الآثار فليتدبر. واعلم أنه استشكل أيضا ما جاء من أمر السائل بسؤال الفردوس لنفسه مع كونه أعلى الجنة بخبر أحمد عن أبي هريرة مرفوعا «إذا صليتم علي فاسألوا الله تعالى لي الوسيلة أعلى درجة في الجنة لا ينالها إلا رجل واحد وأرجو أن أكون أنا هو» وأجيب بأنه لا مانع من انقسام الدرجة الواحدة إلى درجات بعضها أعلى من بعض وتكون الوسيلة عبارة عن أعلى درجات الفردوس التي هي أعلى درجات الجنان، ونظير ذلك ما قيل في حد الإعجاز فتذكر، وقيل المراد من الدرجة في حديث الوسيلة درجة المكانة لا المكان بخلافها فيما تقدم فلا إشكال، والجار والمجرور متعلق بمحذوف على أنه حال من قوله تعالى نُزُلًا أو على أنه بيان كما في سعيا لك وخبر كان في الوجهين نُزُلًا أو على أنه الخبر ونُزُلًا من حال من جَنَّاتُ فإن جعل بمعنى ما يهيأ للنازل فالمعنى كانت لهم ثمار جنات الفردوس نزلا أو جعلت نفس الجنات نزلا مبالغة في الإكرام وفيه إيذان بأنها عند ما أعد الله تعالى لهم على لسان النبوة من قوله تعالى «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» بمنزلة النزل بالنسبة إلى الضيافة، وإن جعلت بمعنى المنزل فالمعنى ظاهر خالِدِينَ فِيها نصب على الحالية وهي مقدرة عند البعض وحقق أنها حال مقارنة والمعتبر في المقارنة زمان الحكم وهو كونهم في الجنة وهم بعد حصولهم فيها مقارنون له إذ لا آخر له فتأمل ولا تغفل لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا هو- كما قال ابن عيسى وغيره- مصدر كالعوج والصغر والعود في قوله: عادني حبها عودا أي لا يطلبون عنها تحولا إذ لا يتصور أن يكون شيء أعز عندهم وأرفع منها حتى تنازعهم إليه أنفسهم وتطمح عنه أبصارهم وإن تفاوتت درجاتهم، والحاصل أن المراد من عدم طلب التحول عنها كونها أطيب المنازل وأعلاها، وقال ابن عطية: كأنه اسم جمع وكأن واحده حوالة ولا يخفى بعده، وقال الزجاج عن قوم: هو بمعنى الحيلة في التنقل وهو ضعيف متكلف، وجوز أن يراد نفي التحول والانتقال على أن يكون تأكيدا للخلود لأن عدم طلب الانتقال مستلزم للخلود فيؤكده أو لأن الكلام على حد ولا ترى الضب بها ينجحر أي لا يتحولون عنها فيبغوه، وقيل في وجه التأكيد: إنهم إذا لم يريدوا الانتقال لا ينتقلون لعدم الإكراه فيها وعدم إرادة النقلة عنها فلم يبق إلا الخلود إذ لا واسطة بينهما كما قيل، والجملة حال من صاحب خالدين أو من ضميره فيه فتكون حالا متداخلة، وفيها إيذان بأن الخلود لا يورثهم مللا قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ أي جنس البحر مِداداً هو في الأصل اسم لكل ما يمد به الشيء واختص في العرف لما تمد به الدواة من الحبر لِكَلِماتِ رَبِّي أي معدا لكتابة كلماته تعالى، والمراد بها كما روي عن قتادة معلوماته سبحانه وحكمته عز وجل لَنَفِدَ الْبَحْرُ مع كثرته ولم يبق منه شيء لتناهيه قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي لعدم تناهيها وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً عونا وزيادة لأن مجموع المتناهيين متناه بل جميع ما يدخل في الوجود على التعاقب أو الاجتماع متناه ببرهان التطبيق وغيره من البراهين، وهذا كلام من جهته تعالى شأنه غير داخل في الكلام الملقن جيء به لتحقيق مضمونه وتصديق مدلوله على أتم وجه، والواو لعطف الجملة على نظيرتها المستأنفة المقابلة لها المحذوفة لدلالة المذكور عليها دلالة واضحة أي لنفد البحر قبل أن تنفد كلماته تعالى لو لم نجىء بمثله مددا ولو جئنا بمثله مددا، والكلام في جواب لَوْ مشهور وليس قوله تعالى قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ للدلالة على أن ثم نفادا في الجملة محققا أو مقدرا لأن المراد منه لنفد البحر وهي باقية إلا أنه عدل إلى المنزل لفائدة المزاوجة وإن ما لا ينفد عند العقول العامية ينفد دون نفادها وكلما فرضت من المد فكذلك والمثل للجنس شائع على أمثال كثيرة تفرض كل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 371 منها مددا، وهذا كما في الكشف أبلغ من وجه من قوله تعالى: وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ [لقمان: 27] . وذلك أبلغ من وجه آخر وهو ما في تخصيص هذا العدد من النكتة ولم يرد تخصيص العدة ثم فيه زيادة تصوير لما استقر في عقائد العامة من أنها سبعة حتى إذا بالغوا فيما يتعذر الوصول إليه قالوا هو خلف سبعة أبحر، وفي إضافة الكلمات إلى اسم الرب المضاف إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم في الموضعين من تفخيم المضاف وتشريف المضاف إليه ما لا يخفى، وإظهار البحر والكلمات في موضع الإضمار لزيادة التقرير، ونصب مَدَداً على التمييز كما في قوله: فإن الهوى يكفيكه مثله صبرا وجوز أبو الفضل الرازي نصبه على المصدر على معنى ولو أمددنا بمثله إمدادا وناب المدد عن الإمداد على حد ما قيل في قوله تعالى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17] وفيه تكلف. وقرأ حمزة، والكسائي وعمرو بن عبيد والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى «قبل أن ينفد» بالياء آخر الحروف، وقرأ السلمي «أن تنفّد» بالتشديد على تفعل على المضي وجاء كذلك عن عاصم وأبي عمرو فهو مطاوع نفد مشددا نحو كسرته فتكسر. وقرأ الأعرج «بمثله مددا» بكسر الميم على أنه جمع مدة وهو ما يستمده الكاتب فيكتب به، وقرأ ابن مسعود وابن عباس ومجاهد والأعمش بخلاف والتيمي وابن ميحصن وحميد والحسن في رواية وأبو عمرو كذلك. وحفص كذلك أيضا «مدادا» بألف بين الدالين وكسر الميم. وسبب النزول أن حي بن أخطب كما رواه الترمذي عن ابن عباس قال: في كتابكم وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة: 269] ثم تقرءون وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 85] ومراده الاعتراض بأنه وقع في كتابكم تناقض بناء على أن لا حكمة هي العلم وأن الخير الكثير هو عين الحكمة لا آثارها وما يترتب عليها لأن الشيء الواحد لا يكون قليلا وكثيرا في حالة واحدة فالآية جواب عن ذلك بالإرشاد إلى أن القلة والكثرة من الأمور الإضافية فيجوز أن يكون الشيء كثيرا في نفسه وهو قليل بالنسبة إلى شيء آخر فإن البحر مع عظمته وكثرته خصوصا إذا ضم إليه أمثاله قليل بالنسبة إلى كلماته عز وجل، وقيل سبب ذلك أن اليهود قالوا للرسول صلّى الله عليه وسلّم: كيف تزعم أنك نبي الأمم كلها ومبعوث إليها وإنك أعطيت من العلم ما يحتاجه الناس، وقد سئلت عن الروح فلم تجب فيه؟ ومرادهم الاعتراض بالتناقض بين دعواه عليه الصلاة والسلام وحاله في زعمهم بناء على أن العلم بحقيقة الروح مما يحتاجه الناس وأنه صلّى الله عليه وسلّم لم يفده عبارة ولا إشارة والجواب عن هذا منع كون العلم بحقيقة الروح مما يحتاجه الناس في أمر دينهم المبعوث له الأنبياء عليهم السلام والقائل «أنتم أعلم بأمور دنياكم» لا يدعي علم ما يحتاجه الناس مطلقا، وأنت تعلم أن الآية لا تكون جوابا عما ذكر على تقدير صحة كون ذلك سبب النزول إلا بضم الآية الآتية إليها ومع هذا يحتاج ذلك إلى نوع تكلف قُلْ بعد أن بينت شأن كلماته عز شأنه إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ لا أدعي الإحاطة بكلماته جل وعلا يُوحى إِلَيَّ من تلك الكلمات أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ وإنما تميزت عنكم بذلك، وأن المفتوحة وأن كفت بما في تأويل المصدر القائم مقام فاعل يُوحى والاقتصار على ما ذكر لأنه ملاك الأمر، والقصر في الموضعين بناء على القول بإفادة إنما بالكسر وإنما بالفتح الحصر من قصر الموصوف على الصفة قصر قلب والمقصور عليه في الأول أَنَا والمقصور البشرية مثل المخاطبين، وهو على ما قيل مبني على تنزيلهم لاقتراحهم عليه عليه الصلاة والسلام ما لا يكون من بشر مثلهم منزلة من يعتقد خلافه أو على تنزيلهم منزلة من ذكر لزعمهم أن الرسالة التي يدعيها صلّى الله عليه وسلّم مبرهنة بالبراهين الساطعة تنافي ذلك، وقيل إن المقصود بأن يقصر عليه الإيحاء إليه صلّى الله عليه وسلّم على معنى أنه صلّى الله عليه وسلّم مقصور على إيحاء ذلك إليه لا يتجاوزه إلى عدم الإيحاء كما يزعمون، والمقصور الثاني إِلهُكُمْ أي معبودكم الحق والمقصور عليه الوحدانية المعبر عنها بإله واحد أي لا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 372 يتجاوز معبودكم بالحق تلك الصفة التي هي الوحدانية أي الوحدة في الألوهية إلى صفة أخرى كالتعدد فيها الذي تعتقدونه أيها المشركون. وزعم بعضهم أن القصر في الثاني من قصر الصفة على الموصوف قصر أفراد وأن المقصور الألوهية مصدر إلهكم والمقصور عليه هو الله تعالى المعبر عنه بإله واحد ولا يخفى ما فيه من التكلف والعدول عما هو الأليق. ومما يوضح ما ذكرنا أنه لو قيل إنما إلهكم واحد لم يكن إلا من قصر الموصوف على الصفة فزيادة إله للتوطئة للوصف بواحد والإشارة إلى أن المراد الوحدة في الألوهية لا تغير ذلك. وأما جعله من قصر الصفة على الموصوف قصر إفراد على أن الله تعالى هو المقصور عليه والوحدانية هي المقصور فباطل قطعا لأن قصر الصفة على الموصوف كذلك إنما يخاطب به من يعتقد اشتراك الصفة بين موصوفين كما تقرر في محله وهذا الاعتقاد لا يتصور هنا من عاقر لبداهة استحالة اشتراك موصوفين في الوحدانية أي الوحدة في الألوهية وما يوهم إرادة هذا القصر من كلام الزمخشري في نظير هذه الآية مؤول كما لا يخفى على المنصف، وجوز أن يكون من قصر التعيين وليس بذاك فتأمل جميع ذلك والله تعالى يتولى هداك فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ الرجاء طمع حصول ما فيه مسرة في المستقبل ويستعمل بمعنى الخوف وأنشدوا: إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ... وحالفها في بيت نوب عوامل ولقاء الرب سبحانه هنا قيل مثل للوصول إلى العاقبة من تلقى ملك الموت والبعث والحساب والجزاء مثلت تلك الحال بحال عبد قدم على سيده بعد عهد طويل وقد اطلع مولاه على ما كان يأتي ويذر فإما أن يلقاه ببشر وترحيب لما رضي من أفعاله أو بضد ذلك لما سخطه منها فالمعنى على هذا، وحمل الرجاء على المعنى الأول من كان يأمل تلك الحال وأن يلقى فيها الكرامة من ربه تعالى والبشري فَلْيَعْمَلْ لتحصيل ذلك والفوز به عَمَلًا صالِحاً وقيل هو كناية عن البعث وما يتبعه والكلام على حذف مضاف أي من كان يؤمل حسن البعث فليعمل إلخ، وقيل لا حذف، والمراد من توقع البعث فليعمل صالحا أي إن ذلك العمل مطلوب ممن يتوقع البعث فكيف من يتحققه، وقيل: اللقاء على حقيقته والكلام على حذف مضاف أيضا أي من كان يؤمل لقاء ثواب ربه فليعمل إلخ، وقيل المراد منه رؤيته سبحانه أي من كان يؤمل رؤيته تعالى يوم القيامة وهو راض عنه فليعمل إلخ، وجوز أن يكون الرجاء بمعنى الخوف على معنى من خاف سوء لقاء ربه أو خاف لقاء جزائه تعالى فليعمل إلخ، وتفسير الرجاء بالطمع أولى، وكذا كون المرجو الكرامة والبشرى، وعلى هذا فإدخال الماضي على المستقبل للدلالة على أن اللائق بحق العبد الاستمرار والاستدامة على رجاء الكرامة من ربه فكأنه قيل فمن استمر علم رجاء كرامته تعالى فليعمل عملا صالحا في نفسه لائقا بذلك المرجو كما فعله الذين آمنوا وعملوا الصالحات وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً إشراكا جليا كما فعله الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه ولا إشراكا خفيا كما يفعله أهل الرياء ومن يطلب بعمله دنيا، واقتصر ابن جبير على تفسير الشرك بالرياء وروي نحوه عن الحسن، وصح في الحديث تسميته بالشرك الأصغر، ويؤيد إرادة ذلك تقديم الأمر بالعمل الصالح على هذا النهي فإن وجهه حينئذ ظاهر إذ يكون الكلام في قوة قولك من كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا في نفسه ولا يراه بعمله أحدا فيفسده. وكذا ما روي من أن جندب بن زهير قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إني أعمل العمل لله تعالى فإذا اطلع عليه سرني فقال لي: إن الله تعالى لا يقبل ما شورك فيه فنزلت الآية تصديقا له صلّى الله عليه وسلّم ، نعم لا يأبى ذلك إرادة العموم كما لا يخفى، وقد تظافرت الأخبار أن كل عمل لغرض دنيوي لا يقبل، فقد أخرج الجزء: 8 ¦ الصفحة: 373 أحمد ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم يرويه عن ربه تعالى أنه قال: «أنا خير الشركاء فمن عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا بريء منه وهو للذي أشرك» . وأخرج البزار والبيهقي عن أنس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تعرض أعمال بني آدم بين يدي الله عز وجل يوم القيامة في صحف مختمة فيقول الله تعالى ألقوا هذا واقبلوا هذا فتقول الملائكة يا رب والله ما رأينا منه إلا خيرا فيقول سبحانه إن عمله كان لغير وجهي ولا أقبل اليوم من العمل إلا ما أريد به وجهي» ، وأخرج أحمد والنسائي وابن حبان والطبراني والحاكم وصححه عن يحيى بن الوليد بن عبادة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من غزا وهو لا ينوي في غزاته إلا عقالا فله ما نوى» ، وأخرج أبو داود والنسائي والطبراني بسند جيد عن أبي أمامة قال: «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر ما له فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا شيء له فأعادها ثلاث مرار يقول رسول الله عليه الصلاة والسلام: لا شيء له ثم قال: إن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا وابتغى به وجهه» إلى غير ذلك من الأخبار. واستشكل كون السرور بالعمل إشراكا فيه محبطا له مع أن الإتيان به ابتداء كان بإخلاص النية كما يدل عليه إني أعمل العمل لله تعالى. وأجيب بما أشار إليه في الأحياء من أن العمل لا يخلو إذا عمل من أن ينعقد من أوله إلى آخره على الإخلاص من غير شائبة رياء وهو الذهب المصفى أو ينعقد من أوله إلى آخره على الرياء وهو عمل محبط لا نفع فيه أو ينعقد من أول أمره على الإخلاص ثم يطرأ عليه الرياء وحينئذ لا يخلو طروه عليه من أن يكون بعد تمامه أو قبله والأول غير محبط لا سيما إذا لم يتكلف إظهاره إلا أنه إذا ظهرت رغبة وسرور تام بظهوره يخشى عليه لكن الظاهر أنه مثاب عليه والثاني وهو المراد هنا فإن كان باعثا له على العمل ومؤثرا فيه فسد ما قارنه وأحبطه ثم سرى إلى ما قبله. وأخرج ابن منده وأبو نعيم في الصحابة وغيرهما من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كان جندب بن زهير إذا صلى أو صام أو تصدق فذكر بخير ارتاح له فزاد في ذلك لمقالة الناس وفيه نزل قوله تعالى: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا الآية ولا شك أن العمل الذي يقارن ذلك محبط. وذكر بعضهم قد يثاب الرجل على الإعجاب إذا اطلع على عمله، فقد روى الترمذي وغيره عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «أن رجلا قال: يا رسول الله إني أعمل العمل فيطلع عليه فيعجبني فقال عليه الصلاة والسلام لك أجران أجر السر وأجر العلانية» وهذا محمول على ما إذا كان ظهور عمله لأحد باعثا له على عمل مثله والاقتداء به فيه ونحو ذلك ولم يكن إعجابه بعمله ولا بظهوره بل بما يترتب عليه من الخير ومثله دفع سوء الظن ولذا قيل ينبغي لمن يقتدي به أن يظهر أعماله الحسنة، والظاهر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم علم حال كل من هذا الرجل وجندب بن زهير فأجاب كلا على حسب حاله، وما ألطف جوابه عليه الصلاة والسلام لجندب كما لا يخفى على الفطن. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في شعب الأيمان عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: أنزلت الآية في المشركين الذين عبدوا مع الله تعالى إلها غيره وليست في المؤمنين وهو ظاهر في أنه حمل الشرك على الجلي، وأنه تعلم أنه لا يظهر حينئذ وجه تقديم الأمر بالعمل الصالح على النهي عن الشرك المذكور إلا بتكلف فلعل العموم أولى وإن كان الشرك أكثر شيوعا في الشرك الجلي. ويدخل في العموم قراءة القرآن للموتى بالأجرة فلا ثواب فيها للميت ولا للقارئ أصلا وقد عمت البلوى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 374 بذلك والناس عنه غافلون وإذا نبهوا لا يتنبهون فإنا لله تعالى وإنا إليه راجعون وقد بالغ في العموم من جعل الاستعانة في الطاعات كالوضوء شركا منهيا عنه فقد قال الراغب في المحاضرات: إن علي بن موسى الرضا رضي الله تعالى عنهما كان عند المأمون فلما حضر وقت الصلاة رأى الخدم يأتونه بالماء والطست فقال الرضا رضي الله تعالى عنه: لو توليت هذا بنفسك فإن الله تعالى يقول: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ولعل المراد بالنهي هذا مطلق طلب الترك ليعم الحرام والمكروه، والظاهر أن الفاء للتفريع على قصر الوحدانية عليه تعالى، ووجه ذلك على أن كون الإله الحق واحدا يقتضي أن يكون في غاية العظمة والكمال واقتضاء ذلك عمل الطامع في كرامته عملا صالحا وعدم الإشراك بعبادته مما لا شبهة فيه كذا قيل، وقيل الأمر بالعمل الصالح متفرع على كونه تعالى إلها والنهي عن الشرك متفرع على كون الإله واحدا، وجعل هذا وجها لتقديم الأمر على النهي على ما روي عن ابن عباس وهو كما ترى، وقيل: التفريع على مجموع ما تقدم فليفهم، ووضع الظاهر موضع الضمير في الموضعين مع التعرض لعنوان الربوبية لزيادة التقرير وللإشعار بعلية العنوان للأمر والنهي ووجوب الامتثال فعلا وتركا. وقرأ أبو عمرو في رواية الجعفي «ولا تشرك» بالتاء الفوقية على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ويكون قوله تعالى: «بربه» التفاتا أيضا من الخطاب إلى الغيبة، هذا وعن معاوية بن أبي سفيان أن هذه الآية «فمن كان يرجو» إلخ آخر آية نزلت وفيه كلام والحق خلافه والله تعالى أعلم. «ومن باب الإشارة في الآيات» قيل ذو القرنين إشارة إلى القلب، وقيل: إلى الشيخ الكامل ويأجوج ومأجوج إشارة إلى الدواعي والهواجس الوهمية والوساوس والنوازع الخيالية، وقيل: إشارة إلى القوى والطبائع والأرض إشارة إلى البدن وهكذا فعلوا في باقي ألفاظ القصة وراموا التطبيق بين ما في الآفاق وما في الأنفس ولعمري لقد تكلفوا غاية التكلف ولم يأتوا بما يشرح الخاطر ويسر الناظر، ولعل الأولى أن يقال: الإشارة في القصة إلى إرشاد الملوك لاستكشاف أحوال رعاياهم وتأديب مسيئهم والإحسان إلى محسنهم وإعانة ضعفائهم ودفع الضرر عنهم وعدم الطمع بما في أيديهم وإن سمحت به أنفسهم لمصلحتهم. وقد يقال: فيها إشارة إلى اعتبار الأسباب. وقال الأشاعرة: الأسباب في الحقيقة ملغاة وعلى هذا قول شيخهم يجوز لأعمى الصين أن يرى بقعة أندلس ومذهب السلف أنها معتبرة وإن لم يتوقف عليها فعل الله تعالى عقلا وتحقيق هذا المطلب في محله، وقوله تعالى: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً إشارة إلى المرائين على ما في أسرار القرآن ومنهم الذين يجلسون في الخانقاه لأجل نظر الخلق وصرف وجوه الناس إليهم واصطياد أهل الدنيا بشباك حيلهم وذكر من خسرانهم في الدنيا افتضاحهم فيها وإظهار الله تعالى حقيقة حالهم للناس. ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم وأما خسرانهم في الآخرة فالطرد عن الحضرة والعذاب الأليم. وقوله تعالى: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ إشارة إلى جهة مشاركته صلّى الله عليه وسلّم للناس وجهة امتيازه ولولا تلك المشاركة ما حصلت الإفاضة ولولا ذلك الامتياز ما حصلت الاستفاضة. وقد أشار مولانا جلال الدين القونوي قدس سره إلى ذلك بقوله: كفت بيغمبر كه أصحابي نجوم ... ره روانرا شمع وشيطان رارجوم هر كسى را كر نظر بوادي زدور ... كو كرفتي ز آفتاب جرخ نور كي ستاره حاجتي بوادي ذليل ... كي بدي بر نور خورشيدا ودليل ماه ميكو يد بابر وخاك في ... من بشر من مثلكم يوحى إلى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 375 جون شما تاريك بودم در نهاد ... وحي خورشيد دم جنين نوري بداد ظلمتي دارم به نسبت با شموس ... نور دارم بهر ظلمات نفوس زان ضعيفم تا تو بابي أوري ... كه ني مردي آفتاب انوري هذا ونسأل الله تعالى بحرمة نبيه المكرم المعظم صلّى الله عليه وسلّم أن يوفقنا لما يرضيه ويوفقنا على أسرار كتابه الكريم ومعانيه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 376 سورة مريم المشهور تسميتها بذلك ورويت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقد أخرج الطبراني وأبو نعيم والديلمي من طريق أبي بكر ابن عبد الله بن أبي مريم الغساني عن أبيه عن جده قال: أتيت رسول الله عليه الصلاة والسلام فقلت: ولدت لي الليلة جارية فقال: والليلة أنزلت علي سورة مريم ، وجاء فيما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تسميتها بسورة «كهيعص» وهي مكية كما روي عن عائشة وابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم، وقال مقاتل: هي كذلك إلا آية السجدة فإنها مدنية نزلت بعد مهاجرة المؤمنين إلى الحبشة، وفي الإتقان استثناء قوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم: 71] أيضا، وهي عند العراقيين والشاميين ثمان وتسعون آية وعند المكيين تسع وتسعون وللمدنيين قولان، ووجه مناسبتها لسورة الكهف اشتمالها على نحو ما اشتملت عليه من الأعاجيب كقصة ولادة يحيى. وقصة ولادة عيسى عليهما السلام ولهذا ذكرت بعدها، وقيل إن أصحاب الكهف يبعثون قبل الساعة ويحجون مع عيسى عليه السلام حين ينزل ففي ذكر هذه السورة بعد تلك مع ذلك إن ثبت ما لا يخفى من المناسبة، ويقوى ذلك ما قيل أنهم من قومه عليه السّلام وقيل غير ذلك. كهيعص أخرج ابن مردويه عن الكلبي أنه سئل عن ذلك فحدث عن أبي صالح عن أم هانىء عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال كاف هاد عالم صادق، واختلفت الروايات عن ابن عباس، ففي رواية أنه قال: كاف من كريم وها من هاد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 377 ويا من حكيم وعين من عليم وصاد من صادق، وفي رواية أنه قال: كبير هاد أمين عزيز صادق، وفي أخرى أنه قال: هو قسم أقسم الله تعالى به وهو من أسماء الله تعالى، وفي أخرى أنه كان يقول: كهيعص وحم ويس وأشباه هذا هو اسم الله تعالى الأعظم، ويستأنس له بما أخرجه عثمان بن سعيد الدارمي وابن ماجه وابن جرير عن فاطمة بنت علي قالت: كان علي كرم الله تعالى وجهه: يقول يا كهيعص اغفر لي ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود وناس من الصحابة أنهم قالوا كهيعص هو الهجاء المقطع الكاف من الملك والهاء من الله والياء والعين من العزيز والصادق من المصور. وأخرج أيضا عن محمد بن كعب نحو ذلك إلا أنه لم يذكر الياء، وقال الصاد من الصمد. وأخرج أيضا عن الربيع بن أنس أنه قال في ذلك: يا من يجير ولا يجار عليه، وأخرج عبد الرزاق وعبد ابن حميد عن قتادة أنه اسم من أسماء القرآن، وقيل: إنه اسم للسورة وعليه جماعة، وقيل حروف مسرودة على نمط التعديد ونسب إلى جمع من أهل التحقيق، وفوض البعض علم حقيقة ذلك إلى حضرة علام الغيوب. وقد تقدم تمام الكلام في ذلك وأمثاله في أول سورة البقرة فتذكر، وقرأ الجمهور كاف بإسكان الفاء، وروي عن الحسن ضمها وأمال نافع هاويا بين اللفظين وأظهر دال صاد ولم يدغمها في الذال بعد وعليه الأكثرون. وقرأ الحسن بضم الهاء وعنه أيضا ضم الياء وكسر الهاء، وعن عاصم ضم الياء وعنه أيضا كسرهما، وعن حمزة فتح الهاء وكسر الياء، قال أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد بن الحسن المقري الرازي في كتاب اللوامح: إن الضم في هذه الأحرف ليس على حقيقته وإلا لوجب قلب ما بعدهن من الألفات واوات بل المراد أن ينحى هذه الألفات نحو الواو على لغة أهل الحجاز وهي التي تسمى ألف التفخيم ضد الإمالة، وهذه الترجمة كما ترجموا عن الفتحة الممالة المقربة من الكسر بالكسر لتقريب الألف بعدها من الياء انتهى، ووجه الإمالة والتفخيم أن هذه الألفات لما لم يكن لها أصل حملوها على المنقلبة عن الواو تارة، وعن الياء أخرى فيجوز الأمران دفعا للتحكم. وقرأ أبو جعفر بتقطيع هذه الحروف وتخليص بعضها من بعض واقتضى ذلك إسكان أخرهن، والتقاء الساكنين مغتفر في باب الوقف، وأدغم أبو عمرو دال صاد في الذال بعد وقرأ حفص عن عاصم وفرقة بإظهار النون من عين، والجمهور على إخفائها. واختلف في إعرابه فقيل على القول بأن كل حرف من اسم من أسمائه تعالى لا محل لشيء من ذلك ولا للمجموع من الإعراب، وقيل: إن كل حرف على نية الإتمام خبر لمبتدأ محذوف أي هو كاف هو هاد وهكذا أو الأول على نية الإتمام كذلك والبواقي خبر بعد خبر. وعلى ما روي عن الربيع قيل: هو منادي وهو اسم من أسمائه تعالى معناه الذي يجير ولا يجار عليه. وقيل لا محل له من الإعراب أيضا وهو كلمة تقال في موضع نداء الله تعالى بذلك العنوان مثل ما يقال مهيم في مقام الاستفسار عن الحال وهو كما ترى، وعلى القول بأنه حروف مسرودة على نمط التعديد قالوا: لا محل له من الأعراب وقوله تعالى ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ على هذه الأقوال خبر مبتدأ محذوف أي هذا المتلو ذِكْرُ إلخ. ويقال على الأخير المؤلف من جنس هذه الحروف المبسوطة مرادا به السورة ذِكْرُ إلخ. وقيل مبتدأ خبره محذوف أي فيما يتلى عليك ذِكْرُ إلخ، وعلى القول بأنه اسم للسورة قيل محله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هذا كهيعص أي مسمى به. وإنما صحت الإشارة إليه مع عدم جريان ذكره لأنه باعتبار كونه على جناح الذكر صار في حكم الحاضر المشاهد كما قيل في قولهم هذا ما اشترى فلان. وفي ذِكْرُ وجهان كونه خبرا لمبتدأ محذوف وكونه مبتدأ خبره محذوف، وقيل محله الرفع على أنه مبتدأ وذِكْرُ إلخ خبره أي المسمى به ذكر إلخ فإن ذكر ذلك لما كان مطلع السورة الكريمة ومعظم ما انطوت هي عليه جعلت كأنها نفس ذكره أو الإسناد باعتبار الاشتمال أو هو بتقدير مضاف أي ذو ذكر إلخ أو بتأويل مذكور فيه رحمة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 378 ربك، وعلى القول بأنه اسم للقرآن قيل المراد بالقرآن ما يصدق على البعض ويراد به السورة والإعراب هو الإعراب وحينئذ لا تقابل بين القولين. وقيل المراد ما هو الظاهر وهو مبتدأ خبره ذِكْرُ إلخ والإسناد باعتبار الاشتمال أو التقدير أو التأويل وقوله تعالى عَبْدَهُ مفعول لرحمة ربك على أنها مفعول لما أضيف إليه وهو مصدر مضاف لفاعله موضوع هكذا بالتاء لا أنها للوحدة حتى تمنع من العمل لأن صيغة الوحدة ليست الصيغة التي اشتق منها الفعل ولا الفعل دال على الوحدة فلا يعمل المصدر لذلك عمل الفعل إلا شذوذا كما نص عليه النحاة، وقيل مفعول للذكر على أنه مصدر أضيف إلى فاعله على الاتساع، ومعنى ذكر الرحمة بلوغها وإصابتها كما يقال ذكرني معروفك أي بلغني، وقوله عز وجل زَكَرِيَّا بدل منه بدل كل من كل أو عطف بيان له أو نصب بإضمار أعني. وقوله تعالى شأنه إِذْ نادى رَبَّهُ ظرف لرحمة ربك وقيل لذكر على أنه مضاف لفاعله لا على الوجه الأول لفساد المعنى وقيل: هو بدل اشتمال من زَكَرِيَّا كما قوله تعالى وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا [مريم: 16] . وقرأ الحسن وابن يعمر كما حكاه أبو الفتح «ذكّر» فعلا ماضيا مشددا و «رحمة» بالنصب على أنه كما في البحر مفعول ثان لذكر والمفعول الأول محذوف و «عبده» مفعول لرحمة وفاعل «ذكّر» ضمير القرآن المعلوم من السياق أي ذكر القرآن الناس أن رحم سبحانه عبده، ويجوز أن يكون فاعل «ذكّر» ضمير كهيعص بناء على أن المراد منه القرآن ويكون مبتدأ والجملة خبره، وأن يكون الفاعل ضميره عز وجل أي ذكر الله تعالى الناس ذلك، وجوز أن يكون رَحْمَتِ رَبِّكَ مفعولا ثانيا والمفعول الأول هو عَبْدَهُ والفاعل ضميره سبحانه أي ذكر الله تعالى عبده رحمته أي جعل العبد يذكر رحمته، وإعراب زَكَرِيَّا كما مر، وجوز أن يكون مفعولا لرحمة والمراد بعبده الجنس كأنه قيل ذكر عباده رحمته زكريا وهو كما ترى، ويجوز على هذا أن يكون الفاعل ضمير القرآن، وقيل يجوز أن يكون الفاعل ضميره تعالى والرحمة مفعولا أولا و «عبده» مفعولا ثانيا ويرتكب المجاز أي جعل الله تعالى الرحمة ذاكرة عبده، وقيل «رحمة» نصب بنزع الخافض أي ذكر برحمة، وذكر الداني عن أبي يعمر أنه قرأ «ذكر» على الأمر والتشديد و «رحمة» بالنصب أي ذكر الناس رحمة أو برحمة ربك عبده زكريا. وقرأ الكلبي «ذكر» فعلا ماضيا خفيفا و «رحمة ربك» بالنصب على المفعولية لذكر و «عبده» بالرفع على الفاعلية له. وزكريا عليه السّلام من ولد سليمان بن داود عليهما السّلام، وأخرج الحاكم وصححه عن ابن مسعود أنه آخر أنبياء بني إسرائيل وهو ابن آزر بن مسلم من ذرية يعقوب، وأخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس أنه ابن دان وكان من أبناء الأنبياء الذين يكتبون الوحي في بيت المقدس، وأخرج أحمد وأبو يعلى والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعا أنه عليه السّلام كان نجارا. وجاء في اسمه خمس لغات أولها المد وثانيها القر وقرئ بهما في السبع وثالثها زكري بتشديد الياء. ورابعها زكرى بتخفيفها وخامسها زكر كقلم وهو اسم أعجمي، والنداء في الأصل رفع الصوت وظهوره وقد يقال لمجرد الصوت بل لكل ما يدل على شيء وإن لم يكن صوتا على ما حققه الراغب، والمراد هنا إذ دعا ربه نِداءً أي دعاء خَفِيًّا مستورا عن الناس لم يسمعه أحد منهم حيث لم يكونوا حاضريه وكان ذلك على ما قيل في جوف الليل، وإنما أخفى دعاءه عليه السّلام لأنه أدخل في الإخلاص وأبعد عن الرياء وأقرب إلى الخلاص عن لائمة الناس على طلب الولد لتوقفه على مبادئ لا يليق به تعاطيها في أوان الكبر والشيخوخة وعن غائلة مواليه، وعلى ما ذكرنا لا منافاة بين النداء وكونه خفيا بل لا منافاة بينهما أيضا إذا فسر النداء برفع الصوت لأن الخفاء غير الخفوت ومن رفع صوته في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 379 مكان ليس بمرأى ولا مسمع من الناس فقد أخفاه، وقيل: هو مجاز عن عدم الرياء أي الإخلاص ولم ينافه النداء بمعنى رفع الصوت لهذا. وفي الكشف أنه الأشبه أنه كناية مع إرادة الحقيقة لأن الخفاء في نفسه مطلوب أيضا لكن المقصود بالذات الإخلاص، وقيل مستورا عن الناس بالمخافتة، ولا منافاة بناء على ارتكاب المجاز أو بناء على أن النداء لا يلزمه رفع الصوت ولذا قيل: يا من ينادي بالضمير فيسمع وكان نداؤه عليه السّلام كذلك لما مر آنفا أو لضعف صوته بسبب كبره كما قيل الشيخ صوته خفات وسمعه تارات، قيل: كان سنه حينئذ ستين سنة، وقيل خمسا وستين، وقيل سبعين، وقيل خمسا وسبعين، وقيل ثمانين، وقبل خمسا ثمانين، وقيل اثنتين وتسعين، وقيل تسعا وتسعين، وقيل مائة وعشرين وهو أوفق بالتعليل المذكور. وزعم بعضهم أنه أشير إلى كون النداء خفيا ليس فيه رفع بحذف حرفه في قوله تعالى قالَ رَبِّ والجملة تفسير للنداء وبيان لكيفيته فلا محل لها من الإعراب إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي أي ضعف، وإسناد ذلك إلى العظم لما أنه عماد البدن ودعام الجسد فإذا أصابه الضعف والرخاوة تداعى ما وراءه وتساقطت قوته ففي الكلام كناية مبنية على تشبيه مضمر في النفس أو لأنه أشد أجزائه صلابة وقواما وأقلها تأثرا من العلل فإذا وهن كان ما وراءه أوهن، ففي الكلام كناية بلا تشبيه، وأفرد- على ما قاله العلامة الزمخشري وارتضاه كثير من المحققين- لأن المفرد هو الدال على معنى الجنسية والقصد إلى أن هذا الجنس الذي هو العمود والقوام وأشد ما تركب منه الجسد قد أصابه الوهن ولو جمع لكان القصد إلى معنى آخر وهو أنه لم يهن منه بعض عظامه ولكن كلها حتى كأنه وقع من سامع شك في الشمول والإحاطة لأن القيد في الكلام ناظر إلى نفي ما يقابله وهذا غير مناسب للمقام، وقال السكاكي: إنه ترك جمع الْعَظْمُ إلى الأفراد لطلب شمول الوهن العظام فردا فردا ولو جمع لم يتعين ذلك لصحة وهنت العظام عند حصول الوهن لبعض منها دون كل فرد وهو مسلك آخر مرجوح عند الكثير وتحقيق ذلك في موضعه، وعن قتادة أنه عليه السّلام اشتكى سقوط الأضراس ولا يخفى أن هذا يحتاج إلى خبر يدل عليه فإن انفهامه من الآية مما لا يكاد يسلم، ومِنِّي متعلق بمحذوف هو حال من العظم، ولم يقل- عظمي- مع أنه أخصر لما في ذلك من التفصيل بعد الإجمال ولأنه أصرح في الدلالة على الجنسية المقصودة هنا، وتأكيد الجملة لإبراز كمال الاعتناء بتحقيق مضمونها. وقرأ الأعمش «وهن» بكسر الهاء، وقرىء بضمها أيضا وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً شبه الشيب في البياض والإنارة بشواظ النار وانتشاره في الشعر وفشوه فيه وأخذه منه كل مأخذ باشتعالها ثم أخرجه مخرج الاستعارة، ففي الكلام استعارتان تصريحية تبعية في اشْتَعَلَ ومكنية في الشيب، وانفكاكها عن التخييلية مما عليه المحققون من أهل المعاني على أنه يمكن على بعد القول بوجود التخييلية هنا أيضا. وتكلف بعضهم لزعمه عدم جواز الانفكاك وعدم ظهور وجود التخييلية إخراج ما في الآية مخرج الاستعارة التمثيلية وليس بذاك، وأسند الاشتعال إلى محل الشعر ومنبته وأخرج مخرج التمييز للمبالغة وإفادة الشمول فإن اسناد معنى إلى ظرف ما اتصف به زمانيا أو مكانيا يفيد عموم معناه لكل ما فيه في عرف التخاطب فقولك: اشتعل بيته نارا يفيد احتراق جميع ما فيه دون اشتعل نار بيته. وزعم بعضهم أن شَيْباً نصب على المصدرية لأن معنى اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شاب، وقيل هو حال أي شائبا وكلا القولين لا يرتضيهما كامل كما لا يخفى، واكتفى باللام عن الإضافة لأن تعريف العهد المقصود هنا يفيد ما تفيده، ولما كان تعريف الْعَظْمُ السابق للجنس كما علمت لم يكتف به وزاد قوله مِنِّي وبالجملة ما أفصح هذه الجملة وأبلغها، ومنها أخذ ابن دريد قوله: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 380 واشتعل المبيض في مسوده ... مثل اشتعال النار في جزل النساء وعن أبي عمرو أنه أدغم السين في الشين وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا أي لم أكن بدعائي إياك خائبا في وقت من أوقات هذا العمر الطويل بل كلما دعوتك استجبت لي، والجملة معطوفة على ما قبلها، وقيل حال من ياء المتكلم إذ المعنى واشتعل رأسي وهو غريب، وهذا توسل منه عليه السّلام بما سلف منه تعالى من الاستجابة عند كل دعوة إثر تمهيد ما يستدعي الرحمة من كبر السن وضعف الحال فإنه تعالى بعد ما عود عبده الإجابة دهرا طويلا لا يكاد يخيبه أبدا لا سيما عند اضطراره وشدة افتقاره، وفي هذا التوسل من الإشارة إلى عظم كرم الله عز وجل ما فيه. وقد حكى أن حاتما الطائي، وقيل معن بن زائدة أتاه محتاج فسأله وقال: أنا الذي أحسنت إليه وقت كدا فقال: مرحبا بمن توسل بنا إلينا وقضى حاجته، وقيل المعنى ولم أكن بدعائك إياي إلى الطاعة شقيا بل كنت ممن أطاعك وعبدك مختصا فالكاف على هذا فاعل والأول أظهر وأولى وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والتعرض في الموضعين لوصف الربوبية المنبئة عن إفاضة ما فيه صلاح المربوب مع الإضافة إلى ضميره عليه السّلام لا سيما توسيطه بين كان وخبرها لتحريك سلسلة الإجابة بالمبالغة في التضرع. وقد جاء في بعض الآثار أن العبد إذا قال في دعائه: يا رب قال الله تعالى له: لبيك عبدي . وروي أن موسى عليه السّلام قال يوما في دعائه: يا رب فقال الله سبحانه وتعالى له: لبيك يا موسى فقال موسى: أهذا لي خاصة فقال الله تبارك وتعالى: لا ولكن لكل من يدعوني بالربوبية ، وقيل: إذا أراد العبد أن يستجاب له دعاؤه فليدع الله تعالى بما يناسبه من أسمائه وصفاته عز وجل وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ هم عصبة الرجل على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. ومجاهد، وعن الأصم أنهم بنو العم وهم الذين يلونه في النسب. وقيل: من يلي أمره من ذوي قرابته مطلقا، وكانوا على سائر الأقوال شرار بني إسرائيل فخاف عليه السّلام أن لا يحسنوا خلافته في أمته، والجملة عطف على قوله إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي مترتب مضمونها على مضمونة فإن ضعف القوى وكبر السن من مبادئ خوفه عليه السّلام من يلي أمره بعد موته حسبما يدل عليه قوله مِنْ وَرائِي فإن المراد منه بإجماع من علمنا من المفسرين من بعد موتي، والجار والمجرور متعلق بمحذوف ينساق إليه الذهن أي خفت فعل الموالي من ورائي أو جور المولى وقد قرىء كما في إرشاد العقل السليم كذلك، وجوز تعلقه بالموالي ويكفي في ذلك وجود معنى الفعل فيه في الجملة، فقد قالوا: يكفي في تعلق الظرف رائحة الفعل ولا يشترط فيه أن يكون دالا على الحدوث كاسم الفاعل والمفعول حتى يتكلف له ويقال: إن اللام في الموالي على هذا موصول والظرف متعلق بصلته وإن مولى مخفف مولى كما قيل في معنى أنه مخفف معنى فإنه تعسف لا حاجة إليه، نعم قالوا في حاصل المعنى على هذا: خفت الذين يلون الأمر من ورائي، ولم يجوز الزمخشري تعلقه بخفت لفساد المعنى، وبين ذلك في الكشف بأن الجار ليس صلة الفعل لتعديه إلى المحذور بلا واسطة فتعين أن يكون للظرفية على نحو خفت الأسد قبلك أو من قبلك وحينئذ يلزم أن يكون الخوف ثابتا بعد موته وفساده ظاهر وبعضهم رأى جواز التعلق بناء على أن كون المفعول في ظرف مصحح لتعلق ذلك الظرف بفعله كقولك: رميت الصيد في الحرم إذا كان الصيد فيه دون رميك والظاهر عدم الجواز فافهم، وقال ابن جني: هو حال مقدرة من الْمَوالِيَ وعن ابن كثير أنه قرأ «ومن وراي» بالقصر وفتح الياء كعصاي. وقرأ الزهري «الموالي» بسكون الياء. وقرأ عثمان بن عفان وابن عباس وزيد بن ثابت وعلي بن الحسين وولداه محمد بن وزيد وسعيد بن العاص وابن جبير وأبو يعمر وشبيل بن عزرة والوليد بن مسلم لابن عامر «خفّت» بفتح الخاء والفاء مشددة وكسر تاء التأنيث «الموالي» بسكون الياء على أن «خفت» من الخفة ضد الثقل ومعنى مِنْ وَرائِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 381 كما تقدم: والمراد وأني قل الموالي وعجزوا عن القيام بأمور الدين من بعدي أو من الخفوف بمعنى السير السريع ومعنى مِنْ وَرائِي من قدامي وقبلي، والمراد وأني مات الموالي القادرون على إقامة مراسم الملة ومصالح الأمة وذهبوا قدامي ولم يبق منهم من به تقوى واعتضاد فيكون محتاجا إلى العقب لعجز مواليه عن القيام بعده بما هو قائم به أو لأنهم ماتوا قبله فبقي محتاجا إلى من يعتضد به، وتعلق الجار والمجرور على الوجه الثاني بالفعل ظاهر، وأما على الوجه الأول فإن لوحظ أن عجزهم وقلتهم سيقع بعده لا أنه واقع وقت دعائه صح تعلقه بالفعل أيضا وإن لم يكن كذلك تعلق بغير ذلك. وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً أي لا تلد من حين شبابها إلى شيبها، فالعقر بالفتح والضم العقم، ويقال عاقر للذكر والأنثى فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ كلا الجارين متعلق بهب واللام صلة له ومن لابتداء الغاية مجازا، وتقديم الأول لكون مدلوله أهم عنده، وجوز تعلق الثاني بمحذوف وقع حالا من المفعول الآتي. وتقدم الكلام في لدن، والمراد أعطني من محض فضلك الواسع وقدرتك الباهرة بطريق الاختراع لا بواسطة الأسباب العادية، وقيل المراد أعطني من فضلك كيف شئت وَلِيًّا أي ولدا من صلبي وهو الظاهر، ويؤيده قوله تعالى في سورة آل عمران حكاية عنه عليه السّلام قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً [آل عمران: 38] وقيل إنه عليه السّلام طلب من يقوم مقامه ويرثه ولدا كان أو غيره، وقيل: أنه عليه السّلام أيس أن يولد له من امرأته فطلب من يرثه ويقوم مقامه من سائر الناس وكلا القولين لا يعول عليه. وزعم الزمخشري أن مِنْ لَدُنْكَ تأكيد لكونه وليا مرضيا ولا يخفى ما فيه. وتأخير المفعول عن الجارين لإظهار كمال الاعتناء بكون الهبة له على ذلك الوجه البديع مع ما فيه من التشويق إلى المؤخر ولأن فيه نوع طول بما بعده من الوصف فتأخيرهما عن الكل وتوسيطهما بين الموصوف والصفة مما لا يليق بحزالة النظم الكريم، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن ما ذكره عليه السّلام من كبر السن وضعف القوى وعقر المرأة موجب لانقطاع رجائه عليه السّلام عن حصول الولد بتوسط الأسباب العادية واستيهابه على الوجه الخارق للعادة. وقيل لأن ذلك موجب لانقطاع رجائه عن حصول الولد منها وهي في تلك الحال واستيهابه على الوجه الذي يشاؤه الله تعالى، وهو مبني على القول الثاني في المراد من فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا والأول أولى. ولا يقدح فيما ذكر أن يكون هناك داع آخر إلى الإقبال على الدعا من مشاهدته عليه السّلام للخوارق الظاهرة في حق مريم كما يعرب عنه قوله تعالى هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ الآية. وعدم ذكره هاهنا للتعويل على ما ذكر هنالك كما أن عدم ذكر مقدمة الدعاء هنالك للاكتفاء بذكرها هاهنا، والاكتفاء بما ذكر في موطن عما ترك في موطن آخر من السنن التنزيلية، وقوله يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ صفة لوليا كما هو المتبادر من الجملة الواقعة بعد النكرات، ويقال: ورثه وورث منه لغتان كما قيل، وقيل من للتعبيض لا للتعدية، وآل الرجل خاصته الذين يؤل إليه أمرهم للقرابة أو الصحبة أو الموافقة في الدين، ويعقوب على ما روي عن السدي هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم فإن زكريا من ولد هارون وهو من ولد لاوي ابن يعقوب وكان متزوجا بأخت مريم بنت عمران وهي من ولد سليمان بن داود عليهما السّلام وهو من ولد يهوذ بن يعقوب أيضا. وقال الكلبي ومقاتل: هو يعقوب بن ماثان وأخوه عمران بن ماثان أبو مريم. وقيل: هو أخو زكريا عليه السّلام والمراد من الوراثة في الموضعين العلم على ما قيل. وقال الكلبي: كان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وملوكهم وكان زكريا عليه السّلام رئيس الأحبار يومئذ فأراد أن يرثه ولده الحبورة ويرث من بني ماثان ملكهم فتكون الوراثة مختلفة في الموضعين وأيد ذلك بعدم اختيار العطف على الضمير المنصوب والاكتفاء بيرث الأول، وقيل الوراثة الأولى وراثة النبوة والثانية وراثة الملك فتكون مختلفة أيضا إلا أن قوله وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا أي مرضيا عندك قولا وفعلا، وقيل راضيا والأول أنسب يكون على هذا تأكيدا لأن النبي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 382 شأنه أن يكون كذلك، وعلى ما قلنا يكون دعاء بتوفيقه للعمل كما أن الأول متضمن للدعاء بتوفيقه للعلم فكأنه طلب أن يكون ولده عالما عاملا، وقيل: المراد اجعله مرضيا بين عبادك أي متبعا فلا يكون هناك تأكيد مطلقا، وتوسيط رَبِّ بين مفعولي الجعل على سائر الأوجه للمبالغة في الاعتناء بشأن ما يستدعيه. واختار السكاكي أن الجملتين مستأنفتان استئنافا بيانيا لأنه يرد أنه يلزم على الوصفية أن لا يكون قد وهب لزكريا عليه السّلام من وصف لهلاك يحيى عليه السّلام قبل هلاكه لقتل يحيى عليه السّلام قبل قتله. وتعقب ذلك في الكشف بأنه مدفوع بأن الروايات متعارضة والأكثر على هلاك زكريا قبله عليهما السّلام، ثم قال: وأما الجواب بأنه لا غضاضة في أن يستجاب للنبي بعض ما سأل دون بعض ألا ترى إلى دعوة نبينا صلّى الله عليه وسلّم في حق أمته حيث قال عليه الصلاة والسّلام: «وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها» وإلى دعوة إبراهيم عليه السّلام في حق أبيه فإنما يتم لو كان المحذور ذلك وإنما المحذور لزوم الخلف في خبره تعالى فقد قال سبحانه وتعالى في [الأنبياء: 84، 88، 90] فَاسْتَجَبْنا لَهُ وهو يدل على أنه عليه السّلام أعطى ما سأل من غير تفرقة بين بعض وبعض وكذلك سياق الآيات الأخر. ولك أن تستدل بظاهر هذه الآية على ضعف رواية من زعم أن يحيى هلك قبل أبيه عليهما السّلام، وأما الإيراد بأن ما اختير من الحمل على الاستئناف لا يدفع المحذور لأنه وصل معنوي فليس بشيء لأن الوصل ثابت ولكنه غير داخل في المسئول لأنه بيان العلة الباعثة على السؤال ولا يلزم أن يكون علة السؤال مسؤولة انتهى. وأجاب بعضهم بأنه حيث كان المراد من الوراثة هنا وراثة العلم لا يضر هلاكه قبل أبيه عليهما السّلام لحصول الغرض وهو أخذ ذلك وإفاضته على الغير بحيث تبقى آثاره بعد زكريا عليه السّلام زمانا طويلا ولا يخفى أن المعروف بقاء ذات الوارث بعد الموروث عنه. وقرأ أبو عمرو والكسائي والزهري والأعمش وطلحة واليزيدي وابن عيسى الأصفهاني وابن محيصن وقتادة بجزم الفعلين على أنهما جواب الدعاء والمعنى أن تهب لي ذلك يرثني إلخ، والمراد أنه كذلك في ظني ورجائي، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. وابن عباس وجعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهم والحسن وابن يعمر والجحدري وأبو حرب بن أبي الأسود وأبو نهيك «يرثني» بالرفع «وأرث» فعلا مضارعا من ورث وخرج ذلك على أن المعنى يرثني العلم وأرث أنا به الملك من آل يعقوب وذلك بجعل وراثة الولي الملك وراثة لزكريا عليه السّلام لأن رفعة الولد للوالد والواو لمطلق الجمع، وقال بعضهم: والواو للحال والجملة حال من أحد الضميرين، وقال صاحب اللوامح: فيه تقديم ومعناه فهب لي وليا من آل يعقوب يرثني النبوة إن مت قبله وأرثه ماله إن مات قبلي وفيه ما ستعلمه إن شاء الله تعالى قريبا، ونقل عن علي كرم الله تعالى وجهه، وجماعة أنهم قرأوا «يرثني وأرث» برفع وأرث بزنة فاعل على أنه فاعل يرثني على طريقة التجريد كما قال أبو الفتح، وغيره أي يرثني ولي من ذلك الولي أو به فقد جرد من الولي وليا كما تقول رأيت منه أو به أسدا، وعن الجحدري أنه قرأ «وأرث» بإمالة الواو، وقرأ مجاهد «أو يرث» تصغير وأرث وأصله ويرث بواوين الأولى فاء الكلمة الأصلية والثانية بدل ألف فاعل لأنها تقلب واوا في التصغير كضو يرب ولما وقعت الواو مضمومة قبل أخرى في أوله قلبت همزة كما تقرر في التصريف ونقل عنه أنه قال التصغير لصغره فإنه عليه السّلام لما طلبه في كبره علم ولو حدسا أنه يرثه في صغر سنه، وقيل: للمدح وليس بذاك. هذا واستدل الشيعة بالآية على أن الأنبياء عليهم السّلام تورث عنهم أموالهم لأن الوراثة حقيقية في وراثة المال ولا داعي إلى الصرف عن الحقيقة، وقد ذكر الجلال السيوطي في الدر المنثور عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وأبي صالح أنهم قالوا في الآية: يرثني مالي وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن أنه صلّى الله عليه وسلّم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 383 قال في الآية: يرحم الله تعالى أخي زكريا ما كان عليه من ورثة وفي رواية ما كان عليه ممن يرث ماله ، وقال بعضهم: إن الوراثة ظاهرة في ذلك ولا يجوز هاهنا حملها على وراثة النبوة لئلا يلغو قوله: وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ولا على وراثة العلم لأنه كسبي والموروث حاصل بلا كسب. ومذهب أهل السنة أن الأنبياء عليهم السّلام لا يرثون مالا ولا يورثون لما صح عندهم من الأخبار. وقد جاء ذلك أيضا من طريق الشيعة فقد روي الكليني في الكافي عن أبي البختري عن أبي عبد الله جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن العلماء ورثة الأنبياء وذلك أن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا وإنما ورثوا أحاديث من أحاديثهم فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ بحظ وافر ، وكلمة إنما مفيدة للحصر قطعا باعتراف الشيعة، والوراثة في الآية محمولة على ما سمعت ولا نسلم كونها حقيقة لغوية في وراثة المال بل هي حقيقة فيما يعم وراثة العلم والمنصب والمال وإنما صارت لغلبة الاستعمال في عرف الفقهاء مختصة بالمال كالمنقولات العرفية ولو سلمنا أنها مجاز في ذلك فهو مجاز متعارف مشهور خصوصا في استعمال القرآن المجيد بحيث يساوي الحقيقة، ومن ذلك قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا [فاطر: 32] وقوله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ [الأعراف: 169] وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ [الشورى: 14] وقوله تعالى: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [الأعراف: 128] وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [آل عمران: 180] قولهم لا داعي إلى الصرف عن الحقيقة قلنا: الداعي متحقق وهي صيانة قول المعصوم عن الكذب ودون تأويله خرط القتاد، والآثار الدالة على أنهم يورثون المال لا يعول عليها عند النقاد، وزعم البعض أنه لا يجوز حمل الوراثة هنا على وراثة النبوة لئلا يلغو قوله: وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا قد قدمنا ما يعلم منه ما فيه. وزعم أن كسبية الشيء تمنع من كونه موروثا ليس بشيء فقد تعلقت الوراثة بما ليس بكسبي في كلام الصادق، ومن ذلك أيضا ما رواه الكليني في الكافي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: إن سليمان ورث داود وإن محمدا صلّى الله عليه وسلّم ورث سليمان عليه السّلام فإن وراثة النبي صلّى الله عليه وسلّم سليمان عليه السّلام لا يتصور أن تكون وراثة غير العلم والنبوة ونحوهما، ومما يؤيد حمل الوراثة هنا على وراثة العلم ونحوه دون المال أنه ليس في الأنظار العالية والهمم العلياء للنفوس القدسية التي انقطعت من تعلقات هذا العالم المتغير الفاني واتصلت بالعالم الباقي ميل للمتاع الدنيوي قدر جناح بعوضة لا سيما جناب زكريا عليه السّلام فإنه كان مشهورا بكمال الانقطاع والتجرد فيستحيل عادة أن يخاف من وراثة المال والمتاع الذي ليس له في نظره العالي أدنى قدر أو يظهر من أجله الكلف والحزن والخوف ويستدعي من حضرة الحق سبحانه وتعالى ذلك النحو من الاستدعاء وهو يدل على كمال المحبة وتعلق القلب بالدنيا، وقالت الشيعة: إنه عليه السّلام خاف أن يصرف بنو عمه ماله بعد موته فيما لا ينبغي فطلب له الوارث المرضي لذلك، وفيه أن ذلك مما لا يخاف منه إذ الرجل إذا مات وانتقل ماله بالوراثة إلى آخر صار المال مال ذلك الآخر فصرفه على ذمته صوابا أو خطأ ولا مؤاخذة على الميت من ذلك الصرف بل لا عتاب أيضا مع أن دفع هذا الخوف كان ميسرا له عليه السّلام بأن يصرفه قبل موته ويتصدق به كله في سبيل الله تعالى ويترك بني عمه الأشرار خائبين لسوء أحوالهم وقبح أفعالهم. وللأنبياء عليهم السّلام عند الشيعة خبر بزمن موتهم وتخيير فيه فما كان له خوف موت الفجأة أيضا فليس قصده عليه السّلام من مسألة الولد سوى إجراء أحكام الله تعالى وترويج الشريعة وبقاء النبوة في أولاده فإن ذلك موجب لتضاعف الأجر إلى حيث شاء الله تعالى من الدهر، ومن أنصف لم يتوقف في قبول ذلك والله تعالى الهادي لأقوم المسالك. يا زَكَرِيَّا على إرادة القول أي قيل له أو قال الله تعالى يا زكريا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لكن لا بان يخاطبه سبحانه وتعالى بذلك بالذات بل بواسطة الملك كما يدل عليه آية أخرى على أن يحكي عليه السّلام العبارة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 384 عنه عز وجل على نهج قوله تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزمر: 53] الآية وهذا جواب لندائه عليه السّلام ووعد بإجابة دعائه كما يفهمه التعبير بالبشارة دون الإعطاء أو نحوه وما في الوعد من التراخي لا ينافي التعقيب في قوله تعالى: فَاسْتَجَبْنا لَهُ الآية لأنه تعقيب عرفي كما في تزوج فولد له ولأن المراد بالاستجابة الوعد أيضا لأن وعد الكريم نقد، والمشهور أن هذا القول كان إثر الدعاء ولم يكن بين البشارة والولادة إلا أشهر، وقيل: إنه رزق الولد بعد أربعين سنة من دعائه، وقيل: بعد ستين. والغلام الولد الذكر، وقد يقال للأنثى: غلامة كما قال: تهان لها الغلامة والغلام وفي تعيين اسمه عليه السّلام تأكيد للوعد وتشريف له عليه السّلام، وفي تخصيصه به حسبما يعرف عنه قوله تعالى: لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا أي شريكا له في الاسم حيث لم يسم أحد قبله بيحيى على ما روي عن ابن عباس وقتادة والسدي وابن أسلم مزيد تشريف وتفخيم له عليه السّلام، وهذا كما قال الزمخشري شاهد على أن الأسماء النادرة التي لا يكاد الناس يستعملونها جديرة بالأثرة وإياها كانت العرب تنحى في التسمية لكونها أنبه وأنوه وأنزه عن النبز حتى قال القائل في مدح قوم: شنع الأسامي مسبلي أزر ... حمر تمس الأرض بالهدب وقيل للصلت بن عطاء: كيف تقدمت عند البرامكة وعندهم من هو آدب منك؟ فقال: كنت غريب الدار غريب الاسم خفيف الجرم شحيحا بالأشلاء فذكر مما قدمه كونه غريب الاسم وأخرج أحمد في الزهد وابن المنذر وغيرهما عن مجاهد أن سَمِيًّا بمعنى شبيها وروي عن عطاء وابن جبير مثله أي لم نجعل له شبيها حيث أنه لم يعص ولم يهم بمعصية، فقد أخرج أحمد والحكيم والترمذي في نوادر الأصول والحاكم وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من أحد من ولد آدم إلا وقد أخطأ أو هم بخطيئة إلا يحيى بن زكريا عليهما السّلام لم يهم بخطيئة ولم يعملها» والأخبار في ذلك متظافرة، وقيل: لم يكن له شبيه لذلك ولأنه ولد بين شيخ فان وعجوز عاقر. وقيل لأنه كان كما وصف الله تعالى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين فيكون هذا إجمالا لذلك وإنما قيل للشبيه سمي لأن المتشابهين يتشاركان في الاسم، ومن هذا الإطلاق قوله تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم: 65] لأنه الذي يقتضيه التفريع، والأظهر أنه اسم أعجمي لأنه لم تكن عادتهم التسمية بالألفاظ العربية فيكون منعه الصرف على القول المشهور في مثله للعلمية والعجمة، وقيل أنه عربي ولتلك العادة مدخل في غرابته وعلى هذا فهو منقول من الفعل كيعمر ويعيش وقد سموا بيموت وهو يموت بن المزرع بن أخت الجاحظ ووجه تسميته بذلك على القول بعربيته قيل الإشارة بأنه يعمر، وهذا في معنى التفاؤل بطول حياته، وكان في ذلك إشارة إلى أنه عليه السّلام يرث حسبما سأل زكريا عليه السّلام، وقيل: سمي بذلك لأنه حي به رحم أمه، وقيل لأنه حي بين شيخ فان وعجوز عاقر، وقيل لأنه يحيا بالحكمة والعفة، وقيل لأنه يحيا بإرشاد الخلق وهدايتهم، وقيل لأنه يستشهد والشهداء أحياء، وقيل غير ذلك، ثم لا يخفى أنه على العربية والعجمة يختلف الوزن والتصغير كما بين في محله. قالَ استئناف مبني على السؤال كأنه قيل فماذا قال عليه السّلام حينئذ؟ فقيل قال رَبِّ ناداه تعالى بالذات مع وصول خطابه تعالى إليه بواسطة الملك للمبالغة في التضرع والمناجاة والجد في التبتل إليه عز وجل، وقيل لذلك والاحتراز عما عسى يوهم خطابه للملك من توهم أن علمه تعالى بما يصدر عنه متوقف على توسطه كما أن علم البشر بما يصدر عنه تعالى متوقف على ذلك في عامة الأوقات، ولا يخفى أن الاقتصار على الأول أولى أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ كلمة أَنَّى بمعنى كيف أو من أين، وكان أما تامة وأنى واللام متعلقان بها، وتقديم الجار على الفاعل لما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 385 مر غير مرة أي كيف أو من أين يحدث لي غلام، ويجوز أن يتعلق اللام بمحذوف وقع حالا من غُلامٌ أي أنى يحدث كائنا لي غلام أو ناقصة واسمها ظاهر وخبرها إما أنى ولِي متعلق بمحذوف كما مر أو هو الخبر وأنى نصب على الظرفية، وقوله تعالى وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً حال من ضمير المتكلم بتقدير قد وكذا قوله تعالى وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا حال منه مؤكدة للاستبعاد إثر تأكيد، ومن للابتداء العلي، والعتى من عتي يعتو اليبس والقحول في المفصال والعظام. وقال الراغب: هو حالة لا سبيل إلى إصلاحها ومداوتها، وقيل إلى رياضتها وهي الحالة المشار إليها بقول الشاعر: ومن العناء رياضة الهرم. وأصله عتوو كقعود فاستثقل توالي الضمتين والواوين فكسرت التاء فانقلبت الأولى ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ثم انقلبت الثانية أيضا لاجتماع الواو والياء وسبق إحداهما بالسكون وكسرت العين اتباعا لما بعدها أي كانت امرأتي عاقرا لم تلد في شبابها وشبابي فكيف وهي الآن عجوز وقد بلغت أنا من أجل كبر السن يبسا وقحولا أو حالة لا سبيل إلى إصلاحها وقد تقدم لك الأقوال في مقدار عمره عليه السّلام إذ ذاك. وأما عمر امرأته فقد قيل إنه كان ثماني وتسعين. وجوز أن تكون مِنَ للتبعيض أي بلغت من مدارج الكبر ومراتبه ما يسمى عتيا، وجعلها بعضهم بيانية تجريدية وفيه بحث والجار والمجرور إما متعلق بما عنده أو بمحذوف وقع حالا من عِتِيًّا وهو نصب على المفعولية وأصل المعنى متحد مع قوله تعالى في آل عمران حكاية عنه بلغني الكبر والتفاوت في المسند إليه لا يضر فإن ما بلغك من المعاني فقد بلغته نعم بين الكلامين اختلاف من حيثية أخرى لا تخفى فيحتاج اختيار كل منهما في مقام إلى نكتة فتدبر ذاك، وكذا وجه البداءة هاهنا بذكر حال امرأته عليه السّلام على عكس ما في تلك السورة. وفي إرشاد العقل السليم لعل ذلك لما أنه قد ذكر حاله في تضاعيف دعائه وإنما المذكور هاهنا بلوغه أقصى مراتب الكبر تتمة لما ذكر قبل وأما هنا لك فلم يسبق في الدعاء ذكر حاله فلذلك قدمه على ذكر حال امرأته لما أن المسارعة إلى بيان قصور شأنه أنسب اهـ. وقال بعضهم: يحتمل تكرر الدعاء والمحاورة واختلاف الأسلوب للتفنن مع تضمن كل ما لم يتضمنه الآخر فتأمل والله تعالى الموفق، والظاهر أنه عليه السّلام كان يعرف من نفسه أنه لم يكن عاقرا، ولذلك ذكر الكبر ولم يذكر العقر وإنما قال عليه السّلام ما ذكر مع سبق دعائه بذلك وقوة يقينه بقدرة الله تعالى لا سيما بعد مشاهدته للشواهد المذكورة في سورة آل عمران استعظاما لقدرة الله تعالى واعتدادا بنعمته تعالى عليه في ذلك بإظهار أنه من محض فضل الله تعالى ولطفه مع كونه في نفسه من الأمور المستحيلة عادة ولم يكن ذلك استبعادا كذا قيل. وقيل: هو استبعاد لكنه ليس راجعا إلى المتكلم بل هو بالنسبة إلى المبطلين، وإنما طلب عليه السّلام ما يزيل شوكة استبعادهم ويجلب ارتداعهم من سيء عادتهم، وذلك مما لا بأس به من النبي خلافا لابن المنير، نعم أورد على ذلك أن الدعاء كان خفيا عن المبطلين. وأجيب بأنه يحتمل أنه جهر به بعد ذلك إظهارا لنعمة الله تعالى عليه وطلبا لما ذكر فتذكر، وقيل: هو استبعاد راجع إلى المتكلم حيث كان بين الدعاء والبشارة ستون سنة، وكان قد نسي عليه السّلام دعاءه وهو بعيد جدا. وقال في الانتصاف: الظاهر والله تعالى أعلم أن زكريا عليه السّلام طلب ولدا على الجملة وليس في الآية ما يدل أنه يوجد منه وهو هرم ولا إنه من زوجته وهي عاقر ولا أنه يعاد عليهما قوتهما وشبابهما كما فعل بغيرهما أو يكون الولد من غير زوجته العاقر فاستبعد الولد منهما وهما بحالهما فاستخبر أيكون وهما كذلك فقيل له كذلك أي يكون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 386 الولد وأنتما كذلك. وتعقب بأن قوله فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ظاهر في أنه طلب الولد وهما على حالة يستحيل عادة منهما الولد. والظاهر عندي كونه استبعادا من حيث العادة أو هو بالنسبة إلى المبطلين وهو كما في الكشف أولى. وقرأ أكثر السبعة «عتيّا» بضم العين، وقرأ ابن مسعود بفتحها وكذا بفتح صاد صِلِيًّا [مريم: 70] وأصل ذلك كما قال ابن جني ردا على قول ابن مجاهد لا أعرف لهما في العربية أصلا ما جاء من المصادر على فعيل نحو الحويل والزويل وعن ابن مسعود أيضا ومجاهد أنهما قرأ «عسيا» بضم العين وبالسين مكسورة. وحكى ذلك الداني عن ابن عباس والزمخشري عن أبي، ومجاهد وهو من عسا العود يعسو إذا يبس. قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ قرأ الحسن «وهو علي هين» بالواو، وعنه أنه كسر ياء المتكلم كما في قوله النابغة: علي لعمرو نعمة بعد نعمة ... لوالده ليست بذات عقارب ونحو ذلك قراءة حمزة وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ [إبراهيم: 22] بكسر الياء، والكاف إما رفع على الخبرية لمبتدأ محذوف أي الأمر كذلك وضمير قالَ للرب عز وجل لا للملك المبشر لئلا يفك النظم، وذلك إشارة إلى قول زكريا عليه السّلام، والخطاب في قالَ رَبُّكَ له عليه السّلام لا لنبينا صلّى الله عليه وسلّم بدليل السابق واللاحق، وجملة هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ مفعول قالَ الثاني وجملة الأمر كذلك مع جملة قالَ رَبُّكَ إلخ مفعول قالَ الأول وإن لم يتخلل بين الجملتين عاطف كما في قوله تعالى: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [هود: 41] وقوله سبحانه وتعالى: قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لَقَدْ وُعِدْنا [المؤمنون: 82، 83] الآية وكم وكم، وجيء بالجملة الأولى تصديقا منه تعالى لزكريا عليه السّلام وبالثانية جوابا لما عسى يتوهم من أنه إذا كان ذلك في الاستبعاد بتلك المنزلة وقد صدقت فيه فأنى يتسنى فهي في نفسها استئنافية لذلك، ولا يحسن تخلل العاطف في مثل هاتين الجملتين إذا كان المحكي عنه قد تكلم بهما معا من غير عاطف ليدل على الصورة الأولى للقول بعينها، وكذلك لا يحسن إضمار قول آخر لأنه يكون استئنافا جوابا للمحكي له فلا يدل على أنه استئناف أيضا في الأول إلا بمنفصل أما لو تكلم بهما في زمانين أو بدون ذلك الترتيب فالظاهر العطف أو الاستئناف بإضمار القول. ثم لو كان الاقتصار في جواب زكريا عليه السّلام على هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ من دون إقحام قالَ رَبُّكَ لكان مستقيما لكن إنما عدل إليه للدلالة على تحقيق الوعد وإزالة الاستبعاد بالكلية على منوال ما إذا وعد ملك بعض خواصه ما لا يجد نفسه تستأهل ذلك فأخذ يتعجب مستبعدا أن يكون من الملك بتلك المنزلة فحاول أن يحقق مراده ويزيل استبعاده فأما أن يقول لا تستبعد أنه أهون شيء على الكلام الظاهر وإما أن يقول لا تستبعد قد قلت إنه أهون شيء علي إشارة منه إلى أنه وعد سبق القول به وتحتم وأنه من جلالة القدر بحيث لا يرى في إنجازه لباغيه كائنا من كان وقعا فكيف لمن استحق منه لصدق قدمه في عبوديته إجلالا ورفعا، وهذا قول بلسان الإشارة يصدق وإن لم يكن قد سيق منه نطق به لأن المقصود أن علو المكانة وسعة القدرة وكمال الجود يقضي بذلك قيل: أولا أولا ثم إذا أراد ترشيح هذا المعنى عدل عن الحكاية قائلا: قد قال من أنت غرس نعمائه أنه أهون شيء علي ثم إذا حكى الملك القصة مع بعض خلصائه كان له أن يقول: قلت لعبدي فلان كيف وكيت قال: إني وليت قلت قال من أنت إلخ وأن يقول بدله قال سيد فلان له ويسرد الحديث فهذا وزان الآية فيما جرى لزكريا عليه السّلام وحكى لنبينا عليه أفضل الصلاة وأكمل والسّلام، وقد لاح من هذا التقرير إن فوات نكتة الإقحام مانع من أن يجعل المرفوع من صلة قالَ الثاني والمجموع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 387 صلة الأول، والظاهر في توجيه قراءة الحسن على هذا أن جملة هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ عطف على محذوف من نحو أفعل وأنا فاعل، ويجوز أن يقال وربما أشعر كلام الزمخشري بإيثاره أنه عطف على الجملة السابقة نظرا إلى الأصل لما مر من أن قالَ مقحم لنكتة فكأنه قيل الأمر كذلك وهو على ذلك يهون علي، وأما نصب بقال الثاني وهي الكاف التي تستعمل مقحمة في الأمر العجيب الغريب لتثبيته وذلك إشارة إلى مبهم يفسر ما بعده أعني هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وضمير قالَ للرب كما تقدم والخطاب لنبينا صلّى الله عليه وسلّم أيضا أي قال رب زكريا له قال ربك مثل ذلك القول العجيب الغريب هو علي هين على أن قالَ الثاني مع ما في صلته مقول القول الأول وإقحام القول الثاني لما سلف ولا ينصب الكاف بقال الأول وإلا لكان قالَ ثانيا تأكيدا لفظيا لئلا يقع الفصل بين المفسر والمفسر بأجنبي وهو ممتنع إذ لا ينتظم أن يقال: قال رب زكريا قال ربك ويكون الخطاب لزكريا عليه السّلام والمخاطب غيره كيف وهذا النوع من الكلام يقع فيه التشبيه مقدما لا سيما في التنزيل الجليل من نحو وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً [البقرة: 143] كذلك الله يفعل ما يشاء إلى غير ذلك، وهذا الوجه لا يتمشى في قراءة الحسن لأن المفسر لا يدخله الواو ولا يجوز حذفه حتى يجعل عطفا عليه لأن الحذف والتفسير متنافيان، وجوز على احتمال النصب أن تكون الإشارة إلى ما تقدم من وعد الله تعالى إياه عليه السّلام بقوله: إِنَّا نُبَشِّرُكَ إلخ أي قال ربه سبحانه له قال ربك مثل ذلك أي مثل ذلك القول العجيب الذي وعدته وعرفته وهو إِنَّا نُبَشِّرُكَ إلخ، وأداة التشبيه مقحمة كما مر فيكون المعنى وعد ذلك وحققه وفرغ منه فكن فارغ البال من تحصيله على أوثق بال ثم قال: هو علي هين أي قال ربك هو علي هين فيضمر القول ليتطابقا في البلاغة، ولأن قوله مثل ذلك مفرد فلا يحسن أن تقرن الجملة به وينسحب عليه ذلك القول بعينه بل إنما يضمر مثله استئنافا إيفاءا بحق التناسب. وإن شئت لم تنوه ليكون محكيا منتظما في سلك قالَ رَبُّكَ منسحبا عليه القول الأول أي قال رب زكريا له هو على هين لأن الله تعالى هو المخاطب لزكريا عليه السّلام فلا منع من جعله مقول القول الأول من غير إضمار لأن القولين- أعني قال ربك مثل ذلك هو علي هين- صادران معا محكيان على حالهما. ولو قدر أن المخاطب غيره تعالى أعني الملك تعين إضمار القول لامتناع أن يكون هو علي هين من مقوله فلا ينسحب عليه الأول. وأما على قراءة الحسن فإن جعل عطفا علي قالَ رَبُّكَ لم يحتج إلى إضمار لصحة الانسحاب وإن أريد تأكيده أيضا قدر القول لئلا تفوت البلاغة ويكون التناسب حاصلا، وجعله عطفا ما بعده قالَ الثاني من دون التقدير يفوت به رعاية التناسب لفظا فإن ما بعده مفرد والملاءمة معنى لما عرفت أن لأقول على الحقيقة، والمعنى قال ربه قد حقق الموعود وفرغ عنه فلا بد من تقديره على هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ليفيد تحقيقه أيضا، ولو قدر أن المخاطب غيره تعالى تعين الإضمار لعدم الانسحاب دونه فافهم، وهذا ما حققه صاحب الكشف وقرر به عبارة الكشاف بأدنى اختصار، ثم ذكر أن خلاصة ما وجده من قول الأفاضل أن التقدير على احتمال أن تكون الإشارة إلى ما تقدم من الوعد قال رب زكريا له قال ربك قولا مثل قوله سبحانه وتعالى السابق عدة في الغرابة والعجب فاتجه له عليه السّلام أن يسأل ماذا قلت يا رب وهو مثله فيقول: هو علي هين أي قلت أو قال ربك. والأصل على هذا التقدير قلت قولا مثل الوعد في الغرابة فعدل إلى الالتفات أو التجريد أيا شئت تسميه لفائدته المعلومة، وليس في الإتيان بأصل القول خروج عن مقتضى الظاهر إذ لا بد منه لينتظم الكلام وذلك لأن المعنى على هذا التقدير ولا تعجب من ذلك القول وانظر إلى مثله واعجب فقد قلناه. وكذلك يتجه لنبينا صلّى الله عليه وسلّم السؤال فيجاب بأنه قال له ربه هو علي هين وصحة وقوعه جوابا عن سؤال نبينا عليه الصلاة والسّلام وهو الأظهر على هذا الوجه لأن الكلام معه، وإذ قد صح أن يجعل جوابا له جاز إضمار القول لأنه جواب له صلّى الله عليه وسلّم بما يدل على أنه خوطب به زكريا عليه السّلام أيضا وجاز أن لا يضمر لأن المخاطب لهما واحد والخطاب مع نبينا صلّى الله عليه وسلّم وعلم من ضرورة المماثلة أنه قيل لزكريا أيضا هذه المقالة ولو كان الحاكي والقائل الأول الجزء: 8 ¦ الصفحة: 388 مختلفين في هذه الصورة لم يكن بد من إضماره لأنه إذا قال عمرو لبكر ماذا قال زيد لخالد مما يماثل مقالته السابقة له؟ فيقول: إنك محبب مرضي وجب أن يكون التقدير قال زيد لخالد هذه المقالة لا محالة، ولا بعد في تنزيل كلام الزمخشري عليه، وهذا ما لوح إليه صاحب التقريب وآثره الإمام الطيبي وفيه فوات النكتة المذكورة في قالَ رَبُّكَ ثم إنه إن لم يكن سبق القول كان كذبا من حيث الظاهر إذ ليس من القول بلسان الإشارة إلا أن يؤول بأنه مستقبل معنى، هذا والكلام مسوق لما يزيل الاستبعاد ويحقق الموعود المرتاد وفي ذلك التقدير خروج عنه إلى معنى آخر ربما يستلزم هذا المعنى تبعا وما سيق له الكلام ينبغي أن يجعل الأصل انتهى. وهو كلام تحقيق وتدقيق لا يرشد إليه إلا توفيق، وفي الآية وجه آخر هو ما أشار إليه صاحب الانتصاف، وهَيِّنٌ فيعل من هان الشيء يهون إذا لم يصعب، والمراد أني كامل القدرة على ذلك إذا أردته كان. وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً تقرير لما قبل، والشيء هنا بمعنى الموجود أي ولم تك موجودا بل كنت معدوما، والظاهر أن هذا إشارة إلى خلقه بطريق التوالد والانتقال في الأطوار كما يخلق سائر أفراد الإنسان، وقال بعض المحققين: المراد به ابتداء خلق البشر، إذ هو الواقع إثر العدم المحض لا ما كان بعد ذلك بطريق التوالد المعتاد فكأنه قيل: وقد خلقتك من قبل في تضاعيف خلق آدم ولم تك إذ ذاك شيئا أصلا بل كنت عدما بحتا، وإنما لم يقل: وقد خلقت أباك أو آدم من قبل ولم يك شيئا مع كفايته في إزالة الاستبعاد بقياس حال ما بشر به على حاله عليه السّلام لتأكيد الاحتجاج وتوضيح منهاج القياس من حيث نبه على أن كل فرد من أفراد البشر له حظ من إنشائه عليه السّلام من العدم لأنه عليه السّلام أبدع أنموذجا منطويا على سائر آحاد الجنس فكان إبداعه على ذلك الوجه إبداعا لكل أحد من فروعه كذلك، ولما كان خلقه عليه السّلام على هذا النمط الساري إلى جميع ذريته أبدع من أن يكون مقصورا على نفسه كما هو المفهوم من نسبة الخلق المذكور إليه وأدل على عظم قدرته تعالى وكمال علمه وحكمته وكان عدم زكريا حينئذ أظهر عنده وكان حاله أولى بأن يكون معيارا لحال ما بشر به نسب الخلق المذكور إليه كما نسب الخلق والتصوير إلى المخاطبين في قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ [الأعراف: 11] توفية لمقام الامتنان حقه انتهى، ولا يخلو عن تكلف، وجوز أن يكون الشيء بمعنى المعتد به وهو مجاز شائع، ومنه قول المتنبي: وضاقت الأرض حتى كان هاربهم ... إذا رأى غير شيء ظنه رجلا وقولهم: عجبت من لا شيء وليس بشيء إذ يأباه المقام ويرده نظم الكلام. وقرأ الأعمش وطلحة وابن وثاب وحمزة والكسائي «خلقناك» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 389 قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أي علامة تدلني على تحقق المسئول ووقوع الخبر، وكان هذا السؤال كما قال الزجاج لتعريف وقت العلوق حيث كانت البشارة مطلقة عن تعيينه وهو أمر خفي لا يوقف عليه لا سيما إذا كانت زوجته ممن انقطع حيضها لكبرها وأراد أن يطلعه الله تعالى ليتلقى تلك النعمة الجليلة بالشكر من حين حدوثها ولا يؤخره إلى أن تظهر ظهورا معتادا، وقيل: طلب ذلك ليزداد يقينا وطمأنينة كما طلب إبراهيم عليه السّلام كيفية إحياء الموتى لذلك والأول أولى، وبالجملة لم يطلبه لتوقف منه في صدق الوعد ولا لتوهم أن ذلك من عند غير الله تعالى، ورواية هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا تصبح لعصمة الأنبياء عليهم السّلام عن مثل ذلك وذكر أن هذا السؤال ينبغي أن يكون بعد ما مضى بعد البشارة برهة من الزمان لما روي أن يحيى كان أكبر من عيسى عليهما السّلام بستة أشهر أو بثلاث سنين ولا ريب في أن دعاءه عليه السّلام كان في صغر مريم لقوله تعالى هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ وهي إنما ولدت عيسى عليه السّلام وهي بنت عشر سنين أو بنت ثلاث عشرة سنة، والجعل إبداعي واللام متعلقة به، والتقديم على آيَةً الذي هو المفعول لما تقدم مرارا أو بمحذوف وقع حالا من آيَةً وقيل: بمعنى التصيير المستدعي لمفعولين أولهما آيَةً وثانيهما الظرف وتقديمه لأنه لا مسوغ لكون آيَةً مبتدأ عند انحلال الجملة إلى مبتدأ وخبر سوى تقديم الظرف فلا يتغير حالهما بعد ورود الناسخ. قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ أن لا تقدر على تكليمهم بكلامهم المعروف في محاوراتهم. روي عن أبي زيد أنه لما حملت زوجته عليه السّلام أصبح لا يستطيع أن يكلم أحدا وهو مع ذلك يقرأ التوراة فإذا أراد مناداة أحد لم يطقها ثَلاثَ لَيالٍ مع أيامهن للتصريح بالأيام في سورة آل عمران والقصة واحدة، والعرب تتجوز أو تكتفي بأحدهما عن الآخر كما ذكره السيرافي، والنكتة في الاكتفاء بالليالي هنا وبالأيام ثمة على ما قيل أن هذه السورة مكية سابقة النزول وتلك مدنية والليالي عندهم سابقة على الأيام لأن شهورهم وسنيهم قمرية إنما تعرف بالأهلّة ولذلك اعتبروها في التاريخ كما ذكره النحاة فأعطى السابق للسابق، والليال جمع ليل على غير قياس كأهل وأهال أو جمع ليلاة ويجمع أيضا على ليايل. سَوِيًّا حال من فاعل تُكَلِّمَ مفيد لكون انتفاء التكلم بطريق الإعجاز وخرق العادة لا لاعتقال اللسان بمرض أي يتعذر عليك تكليمهم ولا تطيقه حال كونك سوى الخلق سليم الجوارح ما بك شائبة بكم ولا خرس وهذا ما عليه الجمهور، وعن ابن عباس أن سَوِيًّا عائد على الليالي أي كاملات مستويات فيكون صفة لثلاث. وقرأ ابن أبي عبلة وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «أن لا تكلّم» بالرفع على أن أن المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن أي إنه لا تكلم فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ أي من المصلى كما روي عن ابن زيد أو من الغرفة كما قيل، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 390 وأصل المحراب كما قال الطبرسي: مجلس الأشراف الذي يحارب دونه ذبا عن أهله، ويسمى محل العبادة محرابا لما أن العابد كالمحارب للشيطان فيه، وإطلاق المحراب على المعروف اليوم في المساجد لذلك وهو محدث لم يكن على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقد ألف الجلال السيوطي في ذلك رسالة صغيرة سماها إعلام الأريب بحدوث بدعة المحاريب. روي أن قومه كانوا من وراء المحراب ينتظرون أن يفتح لهم الباب فيدخلوه ويصلوا فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم متغيرا لونه فأنكروه وقالوا: مالك؟ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أي أومأ إليهم وأشار كما روي عن قتادة وابن منبه والكلبي والقرطبي وهو إحدى الروايتين عن مجاهد، ويشهد له قوله تعالى: إِلَّا رَمْزاً [آل عمران: 41] وروي عن ابن عباس كتب لهم على الأرض. أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا وهو الرواية الأخرى عن مجاهد لكن بلفظ على التراب بدل على الأرض وقال عكرمة: كتب على ورقة وجاء إطلاق الوحي على الكتابة في كلام العرب ومنه قول عنترة: كوحي صحائف من عهد كسرى ... فأهداها لأعجم طمطي وقول ذي الرمة: سوى الأربع الدهم اللواتي كأنها ... بقية وحي في بطون الصحائف وأَنْ إما مفسرة أو مصدرية فتقدر قبلها الباء الجارة، والمراد بالتسبيح الصلاة مجازا بعلاقة الاشتمال وهو المروي عن ابن عباس وقتادة وجماعة وبُكْرَةً وَعَشِيًّا ظرفا زمان له، والمراد بذلك كما أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية صلاة الفجر وصلاة العصر، وقال بعض: التسبيح على ظاهره وهو التنزيه أي نزهوا ربكم طرفي النهار، ولعله عليه السّلام كان مأمورا بأن يسبح شكرا ويأمر قومه. وقال صاحب التحرير والتحبير: عندي في هذا معنى لطيف وهو أنه إنما خص التسبيح بالذكر لأن العادة جارية أن كل من رأى أمرا عجب منه أو رأى فيه بديع صنعة أو غريب حكمة يقول: سبحان الله تعالى سبحان الخالق جل جلاله فلما رأى حصول الولد من شيخ وعاقر عجب من ذلك فسبح وأمر بالتسبيح اهـ. فأمرهم بالتسبيح إشارة إلى حصول أمر عجيب، وقيل: إنه عليه السّلام كان قد أخبر قومه بما بشر به قبل جعل العلامة فلما تعذر عليه الكلام أشار إليهم بحصول ما بشر به من الأمر العجيب فسروا بذلك. وقرأ طلحة «أن سبحوه» بهاء الضمير عائدة إلى الله تعالى، وروى ابن غزوان عن طلحة «أن سبحن» بنون مشددة يا يَحْيى على تقدير القول وكلام آخر حذف مسارعة إلى الإنباء بإنجاز الوعد الكريم أي فلما ولد وبلغ سنا يؤمر مثله فيه قلنا يا يحيى خُذِ الْكِتابَ أي التوراة، وادعى ابن عطية الإجماع على ذلك بناء على أن آل للعهد ولا معهود إذ ذاك سواها فإن الإنجيل لم يكن موجودا حينئذ وليس كما قال بل قيل له عليه السّلام: كتاب خص به كما خص كثير من الأنبياء عليهم السّلام بمثل ذلك، وقيل: المراد بالكتاب صحف إبراهيم عليه السّلام، وقيل: المراد الجنس أي كتب الله تعالى بِقُوَّةٍ بجد واستظهار وعمل بما فيه، وقائل ذلك هو الله تعالى على لسان الملك كما هو الغالب في القول للأنبياء عليه السّلام، وأبعد التبريزي فقدر قال له أبوه حين ترعرع ونشأ: يا يحيى إلخ، ويزيده بعدا قوله تعالى وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا. أخرج أبو نعيم وابن مردويه والديلمي عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال في ذلك: أعطي الفهم والعبادة وهو ابن سبع سنين ، وجاء في رواية أخرى عنه مرفوعا أيضا قال الغلمان ليحيى بن زكريا عليهما السّلام: اذهب بنا نلعب فقال: اللعب خلقنا، اذهبوا نصلي فهو قوله تعالى وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا والظاهر أن الحكم على هذا بمعنى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 391 الحكمة، وقيل: هي بمعنى العقل، وقيل معرفة آداب الخدمة، وقيل الفراسة الصادقة وقيل النبوة وعليه كثير قالوا: أوتيها وهو ابن سبع سنين أو ابن ثلاث أو ابن سنتين ولم ينبأ أكثر الأنبياء عليهم السلام قبل الأربعين، والجملة عطف على قلنا المقدر وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا عطف على الْحُكْمَ وتنوينه للتفخيم وهو في الأصل من حن إذا ارتاح واشتاق ثم استعمل في الرحمة والعطف، ومنه الحنان لله تعالى خلافا لمن منع إطلاقه عليه عز وجل، وإلى تفسيره بالرحمة هنا ذهب الحسن وقتادة والضحاك وعكرمة والفراء وأبو عبيدة وهو رواية عن ابن عباس، ويروى أنه أنشد في ذلك لابن الأزرق قول طرفة: أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض وأنشد سيبويه قول المنذر بن درهم الكلبي: وأحدث عهد من أمينة نظرة ... على جانب العلياء إذ أنا واقف تقول حنانا ما أتى بك هاهنا ... أذو نسب أم أنت بالحي عارف والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أي وآتيناه رحمة عظيمة عليه كائنة من جنابنا وهذا أبلغ من ورحمناه وروي هذا التفسير عن مجاهد، وقيل: المراد وآتيناه رحمة في قلبه وشفقة على أبويه وغيرهما، وفائدة الوصف على هذا الإشارة إلى أن ذلك كان مرضيا لله عز وجل فإن من الرحمة والشفقة ما هو غير مقبول كالذي يؤدي إلى ترك شيء من حقوق الله سبحانه كالحدود مثلا أو الإشارة إلى أن تلك الرحمة زائدة على ما في جبلة غيره عليه السّلام لأن ما يهبه العظيم عظيم. وأورد على هذا أن الإفراط مذموم كالتفريط وخير الأمور أوسطها. ورد بأن مقام المدح يقتضي ذلك. ورب إفراط يحمد من شخص ويذم من آخر فإن السلطان يهب الألوف ولو وهبها غيره كان إسرافا مذموما. وعن ابن زيد أن الحنان هنا المحبة وهو رواية عن عكرمة أي وآتيناه محبة من لدنا، والمراد على ما قيل جعلناه محببا عند الناس فكل من رآه أحبه نظير قوله تعالى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [طه: 39] وجوز بعضهم أن يكون المعنى نحو ما تقدم على القول السابق، وقيل: هو منصوب على المصدرية فيكون من باب وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحفظا [الملك: 5] . وجوز أن يجعل مفعولا لأجله وأن يجعل عطفا على صَبِيًّا وذلك ظاهر على تقدير أن يكون المعنى رحمة لأبويه وغيرهما، وعلى تقدير أن يكون وحنانا من الله تعالى عليه لا يجيء الحال وباقي الأوجه بحاله، ولا يخفى على المتأمل الحال على ما روي عن ابن زيد وَزَكاةً أي بركة كما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس، وهو عطف على المفعول، ومعنى إيتائه البركة على ما قيل جعله مباركا نفاعا معلما للخير. وقيل: الزكاة الصدقة والمراد ما يتصدق به، والعطف على حاله أي آتيناه ما يتصدق به على الناس وهو كما ترى. وقيل: هي بمعنى الصدقة والعطف على الحال والمراد آتيناه الحكم حال كونه متصدقا به على أبويه وروي هذا عن الكلبي. وابن السائب، وجوز عليه العطف على حَناناً بتقدير العلية، وقيل: العطف على المفعول، ومعنى إيتائه الصدقة عليهما كونه عليه السّلام صدقة عليهما، وعن الزجاج هي الطهارة من الذنوب ولا يضر في مقام المدح الإتيان بألفاظ ربما يستغني ببعضها عن بعض وَكانَ تَقِيًّا مطيعا متجنبا عن المعاصي وقد جاء في غير ما حديث أنه عليه السّلام ما عمل معصية ولا هم بها. وأخرج مالك وأحمد في الزهد وابن المبارك وأبو نعيم عن مجاهد قال: كان طعام يحيى بن زكريا عليهما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 392 السّلام العشب وإنه كان ليبكي من خشية الله تعالى حتى لو كان القار على عينه لخرقه وقد كانت الدموع اتخذت مجرى في وجهه وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ كثير البر بهما والإحسان إليهما والظاهر أنه عطف على خبر كان وقيل هو من باب علفتها تبنا وماء باردا والمراد وجعلناه برا وهو يناسب نظيره حكاية عن عيسى عليه السّلام، وقرأ الحسن وأبو جعفر في رواية وابن نهيك وأبو مجلز «وبرا» في الموضعين بكسر الباء أي وذا بر وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً متكبرا متعاليا عن قبول الحق والإذعان له أو متطاولا على الخلق وقيل: الجبار هو الذي لا يرى لأحد عليه حقا، وعن ابن عباس أنه الذي يقتل ويضرب على الغضب. وقال الراغب: هو في صفة الإنسان يقال لمن يجبر نقيصته بادعاء منزلة من التعالي لا يستحقها. عَصِيًّا مخالفا أمر مولاه عز وجل، وقيل: عاقا لأبويه وهو فعول وقيل فعيل، والمراد المبالغة في النفي لا نفي المبالغة وَسَلامٌ عَلَيْهِ قال الطبري: أمان من الله تعالى عليه يَوْمَ وُلِدَ من أن يناله الشيطان بما ينال به بني آدم وَيَوْمَ يَمُوتُ من وحشة فراق الدنيا وهو المطلع وعذاب القبر، وفيه دليل على أنه يقال للمقتول ميت بناء على أنه عليه السّلام قتل لبغي من بغايا بني إسرائيل وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا من هول القيامة وعذاب النار وجيء بالحال للتأكيد، وقيل: للإشارة إلى أن البعث جسماني لا روحاني، وقيل للتنبيه على أنه عليه السّلام من الشهداء. وقال ابن عطية: الأظهر أن المراد بالسلام التحية المتعارفة والتشريف بها لكونها من الله تعالى في المواطن التي فيها العبد في غاية الضعف والحاجة وقلة الحيلة والفقر إلى الله عز وجل، وجاء في خبر رواه أحمد في الزهد وغيره عن الحسن أن عيسى ويحيى عليهما السّلام التقيا وهما ابنا الخالة فقال يحيى لعيسى: ادع الله تعالى لي فأنت خير مني فقال له عيسى: بل أنت ادع لي فأنت خير مني سلم الله تعالى عليك وإنما سلمت على نفسي. وهذه الجملة- كما قال الطيبي- عطف من حيث المعنى على آتَيْناهُ الْحُكْمَ كأنه قيل وأتيناه الحكم صبيا وكذا وكذا وسلمناه أو سلمنا عليه في تلك المواطن فعدل إلى الجملة الاسمية لإرادة الدوام والثبوت وهي كالخاتمة للكلام السابق. ومن ثم شرع في قصة أخرى وذلك قوله تعالى وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إلخ فهو كلام مستأنف خوطب به النبي صلّى الله عليه وسلّم وأمر عليه الصلاة والسّلام بذكر قصة مريم إثر قصة زكريا عليه السّلام لما بينهما من كمال الاشتباك والمناسبة. والمراد بالكتاب عند بعض المحققين السورة الكريمة لا القرآن كما عليه الكثير إذ هي التي صدرت بقصة زكريا عليه السّلام المستتبعة لقصتها وقصص الأنبياء عليهم السّلام المذكورين فيها أي واذكر للناس فيها مَرْيَمَ أي نبأها فإن الذكر لا يتعلق بالأعيان. وقوله تعالى: إِذِ انْتَبَذَتْ ظرف لذلك المضاف لكن لا على أن يكون المأمور به ذكر نبئها عند انتباذها فقط بل كل ما عطف عليه وحكي بعده بطريق الاستئناف داخل في حيز الظرف متمم للبناء. وجعله أبو حيان ظرفا لفعل محذوف أي واذكر مريم وما جرى لها إذ انتبذت وما ذكرناه أولى. وقيل: هو ظرف لمحذوف وقع حالا من ذلك المضاف، وقيل: بدل اشتمال من مريم لأن الأحيان مشتملة على ما فيها وفيه تفخيم لقصتها العجيبة. وتعقبه أبو البقاء بأن الزمان إذا لم يقع حالا من الجثة ولا خبرا عنها ولا صفة لها لم يكن بدلا منها. ورد بأنه لا يلزم من عدم صحة ما ذكر عدم صحة البدلية ألا ترى سلب زيد ثوبه كيف صح فيه البدلية مع عدم صحة ما ذكر في البدل وكون ذلك حال الزمان فقط غير بين ولا مبين. وقيل: بدل كل من كل على أن المراد بمريم قصتها وبالظرف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 393 الواقع فيه وفيه بعد. وقيل: إِذِ بمعنى أن المصدرية كما في قوله لا أكرمتك إذ لم تكرمني أي لأن لم تكرمني أي لعدم إكرامك لي. وهذا قول ضعيف للنحاة. والظاهر أنها ظرفية أو تعليلية إن قلنا به ويتعين على ذلك بدل الاشتمال. والانتباذ الاعتزال والانفراد. وقال الراغب يقال: انتبذ فلان اعتزل اعتزال من تقل مبالاته بنفسه فيما بين الناس والنبذ: إلقاء الشيء وطرحه لقلة الاعتداد به. وقوله تعالى مِنْ أَهْلِها متعلق بانتبذت، وقوله سبحانه مَكاناً شَرْقِيًّا قيل نصب على الظرف، وقيل مفعول به لانتبذت باعتبار ما في ضمنه من معنى الإتيان المترتب وجودا واعتبارا على أصل معناه العامل في الجار والمجرور وهو السر في تأخيره عنه. واختاره بعض المحققين أي اعتزلت وانفردت من أهلها وأتت مكانا شرقيا من بيت المقدس أو من دارها لتتخلى هنا للعبادة، وقيل قعدت في مشرفة لتغتسل من الحيض محتجبة بحائط أو بحبل على ما روي عن ابن عباس أو بثوب على ما قيل وذلك قوله تعالى: فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً وكونه شرقيا كان أمرا اتفاقيا. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن أهل الكتاب كتب عليهم الصلاة إلى البيت والحج إليه وما صرفهم عنه إلا قيل ربك «فانتبذت من أهلها مكانا شرقيا» فلذلك صلوا قبل مطلع الشمس، وفي رواية إنما اتخذت النصارى المشرق قبلة لأن مريم انتبذت من أهلها مكانا شرقيا، وقد قدمنا عن بعض أنهم كانوا في زمن عيسى عليه السّلام يستقبلون بيت المقدس وأنهم ما استقبلوا الشرق إلا بعد رفعه عليه السّلام زاعمين أنه ظهر لبعض كبارهم فأمره بذلك، وجوز أن يكون اختاره الله تعالى لها لأنه مطلع الأنوار. وقد علم سبحانه أنه حان ظهور النور العيسوي منها فناسب أن يكون ظهور النور المعنوي في جهة ظهور النور الحسي وهو كما ترى، وروي أنه كان موضعها في المسجد فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها وإذا طهرت عادت إلى المسجد فبينما هي في مغتسلها أتاها الملك عليه السّلام في صورة شاب أمرد وضيء الوجه جعد الشعر، وذلك قوله عز وجل: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا أي جبرائيل عليه السّلام كما قاله الأكثر، وعبر عنه بذلك لأن الدين يحيا به وبوحيه فهو مجاز. والإضافة للتشريف كبيت الله تعالى. وجوز أن يكون ذلك كما تقول لحبيبك أنت روحي محبة له وتقريبا فهو مجاز أيضا إلا أنه مخالف للأول في الوجه والتشريف عليه في جعله روحا. وقال أبو مسلم: المراد من الروح عيسى عليه السّلام لقوله تعالى وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء: 171] وضمير تمثل الآتي للملك وليس بشيء. وقرأ أبو حيوة وسهل «روحنا» بفتح الراء، والمراد به جبريل عليه السّلام أيضا لأنه سبب لما فيه روح العباد إصابة الروح عند الله تعالى الذي هو عدة المقربين في قوله تعالى: فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ [الواقعة: 88، 89] أو لأنه عليه السّلام من المقربين وهم الموعودون بالروح أي مقربنا أو ذا روحنا. وذكر النقاش أنه قرىء «روحنّا» بتشديد النون اسم ملك من الملائكة عليه السّلام فَتَمَثَّلَ لَها مشتق من المثال وأصله أن يتكلف أن يكون مثال الشيء، والمراد فتصور لها بَشَراً سَوِيًّا سوي الخلق كامل البنية لم يفقد من حسان نعوت الآدمية شيئا، وقيل تمثل في صورة قريب لها اسمه يوسف من خدم بيت المقدس وذلك لتستأنس بكلامه وتتلقى منه ما يلقي إليها من كلماته إذ لو بدا لها على الصورة الملكية لنفرت منه ولم تستطع مفاوضته، وما قيل من أن ذلك لتهيج شهوتها فتنحدر نطفتها إلى رحمها فمع ما فيه من الهجنة التي ينبغي أن تنزه مريم عنها يكذبه قوله تعالى قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ فإنه شاهد عدل بأنه لم يخطر ببالها شائبة ميل ما إليه فضلا عن الحالة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 394 المترتبة على أقصى مراتب الميل والشهوة، نعم كان تمثله على ذلك الحسن الفائق والجمال الرائق لأن عادة الملك إذا تمثل أن يتمثل بصورة بشر جميل كما كان يأتي النبي صلّى الله عليه وسلّم في صورة دحية رضي الله تعالى عنه أو لابتلائها وسبر عفتها ولقد ظهر منها من الورع والعفاف ما لا غاية وراءه وإرادة القائل أنه وقع كذلك ليكون مظنة لما ذكر فيظهر خلافه فيكون أقوى في نزاهتها بعيد جدا عن كلامه. وقال بعض المتأخرين: إن استعاذتها بالله تعالى تنبىء عن تهييج شهوتها وميلانها إليه ميلا طبيعيا على ما قال تعالى حكاية عن يوسف عليه السّلام وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ [يوسف: 33] فقد قيل: المراد بالصبوة فيه الميل بمقتضى الطبيعة وحكم القوة الشهوية ثم إنه لا ينافي عفتها بل يحققها لكونه طبيعيا اضطراريا غير داخل تحت التكليف كما قيل في قوله تعالى: وَهَمَّ بِها [يوسف: 24] ومع هذا قد استعاذ يوسف عليه السّلام بما حكى الله تعالى عنه من قوله تعالى قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ [يوسف: 23] فدعوى أن الاستعاذة تكذب التهييج والميل الطبيعي كذب والقول بأنه يأبى ذلك مقام بيان آثار القدرة الخارقة للعادة ليس بشيء لأن خلق الإنسان من ماء واحد أثر من آثار القدرة الخارقة للعادة أيضا. والأسباب في هذا المقام ليست بمرفوضة بالكلية كما يرشد إلى ذلك قصة يحيى عليه السّلام. على أنه قد يدعي أن خلق شيء لا من شيء أصلا محال فلا يكون من مراتب القدرة ومادة الجعل الإبداعي الأعيان الثابتة وهي قديمة اه، ولا يخلو عن بحث، وما ذكرناه في التعليل أسلم من القال والقيل فتدبر، ونصب «بشرا» على الحالية المقدرة أو التمييز، وقيل على المفعولية بتضمين تمثل معنى اتخذ، واستشكل أمر هذا التمثل بأن جبريل عليه السّلام شخص عظيم الجثة حسبما نطقت به الأخبار فمتى صار في مقدار جثة الإنسان يلزم أن لا يبقى جبريل إن تساقطت الأجزاء الزائدة على جثة الإنسان وأن تتداخل الأجزاء إن لم يذهب شيء وهو محال. وأيضا لو جاز التمثل ارتفع الوثوق وامتنع القطع بأن هذا الشخص الذي يرى الآن هو زيد الذي رئي أمس لاحتمال التمثل، وأيضا لو جاز التمثل بصورة الإنسان فلم لا يجوز تمثله بصورة أخرى غير صورة الإنسان، ومن ذلك البعوض ونحوه، ومعلوم أن كل مذهب يجر إلى ذلك فهو باطل، وأيضا لو جاز ذلك ارتفع الوثوق بالخبر المتواتر كخبر مقاتلة النبي عليه الصلاة والسّلام يوم بدر لجواز أن يكون المقاتل المتمثل به. وأجيب عن الأول بأنه لا يمتنع أن يكون لجبريل عليه السّلام أجزاء أصلية قليلة وأجزاء فاضلة فبالأجزاء الأصلية يكون متمكنا من التمثل بشرا هذا عند القائلين بأنه جسم، وأما عند القائلين بأنه روحاني فلا استبعاد في أن يتدرع تارة بالهيكل العظيم وأخرى بالهيكل الصغير. وعن الثاني بأنه مشترك الإلزام بين الكل فإن من اعترف بالصانع القادر يلزمه ذلك أيضا إذ يجوز أن يخلق سبحانه مثل زيد مثلا ومع هذا الجواز يرتفع الوثوق ويمتنع القطع على طرز ما تقدم. وكذا من لم يعترف، وأسند الحوادث إلى الاتصالات والتشكلات الفلكية يلزمه ذلك لجواز حدوث اتصال يقتضي حدوث مثل ذلك وحينئذ يمتنع القطع أيضا، ولعله لما كان مثل ذلك نادرا لم يلزم منه قدح في العلوم العادية المستندة إلى الإحساس فلا يلزم الشك أن زيدا الذي نشاهده الآن هو الذي شاهدناه بالأمس. وأجيب عن الثالث بأن أصل التجويز قائم في العقل وإنما عرف فساده بدلائل السمع، وهو الجواب عن الرابع كذا قال الإمام الرازي وعندي أن مسألة التمثل على القول بالجسمية مما ينبغي تفويض الأمر فيها إلى علام الغيوب ولا سبيل للعقل إلى الجزم فيها بشيء تنشرح له القلوب. وإنما ذكرته تعالى بعنوان الرحمانية تذكيرا لمن رأته بالرحمة ليرحم ضعفها وعجزها عن دفعه أو مبالغة للعياذة به تعالى واستجلابا لآثار الرحمة الخاصة التي هي العصمة مما دهمها. وما قيل من أن ذلك تذكير لمن رأت بالجزاء لينزجر فإنه يقال يا رحمن الآخرة ليس بشيء لأنه ورد رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا شرط جوابه محذوف ثقة بدلالة السياق عليه أي إن كان يرجى منك أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 395 تتقي الله تعالى وتخشاه وتحتفل بالاستعاذة به فإني عائذة به منك كذا قدره الزمخشري. وفي الكشف أنه أشار إلى أن وجه هذا الشرط مع أن الاستعاذة بالرحمن إن لم يكن تقيا أولى أن أثر الاستجارة بالله تعالى أعنى مكافته وأمنها منه إنما يتم ويظهر بالنسبة إلى المتقي، وفيه دلالة على أن التقوى مما تقتضي للمستعيذ بالله تعالى حق الذمام والمحافظة وعلى عظم مكان التقوى حيث جعلت شرطا للاستعاذة لا تتم دونها وقال: إن كان يرجى إظهارا لمعنى أن وأنها إنما أوثرت دلالة على أن رجاء التقوى كان فضلا عن العلم بها. والحاصل أن التقوى لم تجعل شرط الاستعاذة بل شرط مكافته وأمنها منه وكنت عن ذلك بالاستعاذة بالله تعالى حثا له على المكافة بألطف وجه وأبلغه وإن من تعرض للمستعيذ به فقد تعرض لعظيم سخطه انتهى. وقدر الزجاج إن كنت تقيا فتتعظ بتعويذي، والأولى عليه تتعظ بإسقاط الفاء لأن المضارع الواقع جوابا لا يقترن بالفاء فيحتاج إلى جعله مرفوعا بتقدير مبتدأ، وقدر بعضهم فاذهب عني وبعضهم فلا تتعرض بي وقيل إنها أرادت إن كنت تقيا متورعا فإني أعوذ منك فكيف إذا لم تكن كذلك وكأنه أراد أنها استعاذت بهذا الشرط ليعلم استعاذتها بما يقابله من باب أولي، وقال الشهاب: الظاهر أن إن على هذا القول وصلية وفي مجيئها بدون الواو كلام، وذكر أن الجملة على هذا حالية والمقصود بها الالتجاء إلى الله تعالى من شره لا حثه على الانزجار وقيل نافية، والجملة استئناف في موضع التعليل أي ما كنت تقيا متورعا بحضورك عندي وانفرادك بي وهو خلاف الظاهر، وأيّا ما كان فالتقيّ وصف من التقوى، وقول من قال: إنه اسم رجل صالح أو طالح ليس بسديد. قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ المالك لأمرك والناظر في مصلحتك الذي استعذت به ولست ممن يتوقع منه ما توهمت من الشر. روي عن ابن عباس أنها لما قالت: إِنِّي أَعُوذُ إلخ تبسم جبريل عليه السّلام وقال: إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً أي لأكون سببا في هبته بالنفخ في الدرع، ويجوز أن يكون حكاية لقوله تعالى بتقدير القول أي ربك الذي قال أرسلت هذا الملك لأهب لك، ويؤيده قراءة شيبة وأبي الحسن وأبي بحرية والزهري وابن مناذر ويعقوب واليزيدي وأبي عمرو ونافع في رواية ليهب بالياء فإن فاعله ضمير الرب تعالى. وما قيل: من أصل «ليهب» لأهب فقلبت الهمزة ياء لانكسار ما قبلها تعسف من غير داع له. وفي بعض المصاحف: أمرني أن أهب لك غلاما زَكِيًّا طاهرا من الذنوب. وقيل: نبيا. وقيل: ناميا على الخير أي مترقيا من سن إلى سن على الخير والصلاح فالزكا شامل للزيادة المعنوية والحسية. واستدل بعضهم برسالة الملك إليها على نبوتها. وأجيب: بأن الرسالة لمثل ذلك لا تستدعي النبوة قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ أي والحال أنه لم يباشرني بالحلال رجل وإنما قيل بشر مبالغة في تنزهها من مبادئ الولادة وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا أي ولم أكن زانية، والجملة عطف على لم يمسسني داخل معه في حكم الحالية مفصح عن كون المساس عبارة عن المباشرة بالحلال وهو كناية عن ذلك كما في قوله تعالى مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة: 237، الأحزاب: 49] ولامَسْتُمُ النِّساءَ [النساء: 43، المائدة: 6] ونحوه كما قيل دخلتم بهن وبني عليها. وأما الزنا فليس بقمن أن يكنى عنه لأن مقامه إما تطهير اللسان فلا كناية ولا تصريح وإما التقريع فحينئذ يستحق الزيادة على التصريح والألفاظ التي يظن أنها كناية فيه قد شاعت حتى صارت حقيقة صريحة فيه ومنها ما في النظم الكريم، ولا يرد على ذلك ما في سورة آل عمران من قولها وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ مقتصرة عليه فإن غاية ما قيل فيه إنه كناية عن النكاح والزنا على سبيل التغليب، ولم يجعل كناية عن الزنا وحده، ولقائل أن يقول: إنه ثم كناية عن النكاح الجزء: 8 ¦ الصفحة: 396 فقط كما هنا واستوعبت الأقسام هاهنا لأنه مقام البسط واقتصرت على نفي النكاح ثم لعدم التهمة ولعلمها أنهم ملائكة ينادون لا يتخيلون فيها التهمة بخلاف هذه الحالة فإن جبريل عليه السّلام كان قد أتاها في صورة شاب أمرد، ولهذا تعوذت منه ولم يكن قد سكن روعها بالكلية إلى أن قال: إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ على أنه قيل: إن في آل عمران من الاكتفاء وترك الاكتفاء في هذه لأنه تقدم نزولها فهي محل التفصيل بخلاف تلك لسبق العلم، وقيل: المساس هنا كناية عن الأمرين على سبيل التغليب كما في تلك السورة وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا تخصيص بعد التعميم لزيادة الاعتناء بتنزيه ساحتها عن الفحشاء، ولذا آثرت كان في النفي الثاني فإن في ذلك إيذانا بأن انتفاء الفجور لازم لها. وكأنها عليها السّلام من فرط تعجبها وغاية استبعادها لم تلتفت إلى الوصف في قول الملك عليه السّلام «لأهب لك غلاما زكيا» النافي كل ريبة وتهمة ونبذته وراء ظهرها وأتت بالموصوف وحده وأخذت في تقرير نفيه على أبلغ وجه أي ما أبعد وجود هذا الموصوف مع هذه الموانع بله الوصف، وهذا قريب من الأسلوب الحكيم. وبغي فعول عند المبرد وأصله بغوي فلما اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء وكسرت الغين اتباعا ولذا لم تلحقه هاء التأنيث لأن فعولا يستوي فيه المذكر والمؤنث وإن كان بمعنى فاعل كصبور، واعترضه ابن جني في كتاب التمام بأنه لو كان فعولا لقيل بغو كما قيل نهو عن المنكر ورد بأنه لا يقاس على الشاذ وقد نصوا على شذوذه فهو لمخالفته قاعدة اجتماع الواو والياء وسبق إحداهما بالسكون واختار أنه فعيل وهو على ما قال أبو البقاء بمعنى فاعل، وكان القياس أن تلحقه هاء التأنيث لأنه حينئذ ليس مما يستوي فيه المذكر والمؤنث كفعول، ووجه عدم اللحوق بأنه للمبالغة التي فيه حمل على فعول فلم تلحقه الهاء، وقال بعضهم: هو من باب النسب كطالق ومثله يستوي فيه المذكر والمؤنث، وقيل ترك تأنيثه لاختصاصه في الاستعمال بالمؤنث ويقال للرجل باغ وقيل فعيل بمعنى مفعول كعين كحيل وعلى هذا معنى بغي يبغيها الرجال للفجور بها، وعلى القول بأنه بمعنى فاعل فاجرة تبغي الرجال، وأيّا ما كان فهو للشيوع في الزانية صار حقيقة صريحة فيه فلا يرد أن اعتبار المبالغة فيه لا يناسب المقام لأن نفي الأبلغ لا يستلزم نفي أصل الفعل، ولا يحتاج إلى الجواب بالتزام أن ذلك من باب النسب أو بأن المراد نفي القيد والمقيد معا أو المبالغة في النفي لا نفي المبالغة قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ أطلقوا الكلام في أنه نظير ما تقدم في قصة زكريا عليه السّلام، وفي الكشف أنه لا يجري فيه تمام الأوجه التي ذكرها الزمخشري هناك لأن «قال» أولا فيه ضمير الرسول إليها فكذلك إن علق بالثاني يكون المعنى قال الرسول قال ربك كذلك ثم فسره بقوله هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ أو المعنى مثل ذلك القول العجيب الذي سمعته ووعدتك قال ربك على إقحام الكاف ثم استأنف هو علي هين ولا بد من إضمار القول لأن المخاطب لها جبريل عليه السّلام وقوله هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ كلام الحق تعالى شأنه حكاه لها. وإن علق بالأول يكون المعنى الأمر كذلك تصديقا لها أو كما وعدت تحقيقا له ثم استأنف قال ربك هو علي هين لإزالة الاستبعاد أو لتقرير التحقيق. ولا يبعد أن يجعل قالَ رَبُّكِ على هذا تفسيرا وكذلك مبهما انتهى. ولا أرى ما نقل عن ابن المنير هناك وجها هنا وَلِنَجْعَلَهُ تعليل لمعلل محذوف أي لنجعل وهب الغلام آيَةً وبرهانا لِلنَّاسِ جميعهم أو المؤمنين على ما روي عن ابن عباس يستدلون به على كمال قدرتنا وَرَحْمَةً عظيمة كائنة مِنَّا عليهم يهتدون بهدايته ويسترشدون بإرشاده فعلنا ذلك. وجوز أن يكون معطوفا على علة أخرى مضمرة أي لنبين به عظم قدرتنا ولنجعله آية إلخ. قال في الكشف: إن مثل هذا يطرد فيه الوجهان ويرجح كل واحد بحسب المقام وحذف المعلل هنا أرجح إذ لو فرض علة أخرى لم يكن بد من معلل محذوف أيضا فليس قبل ما يصلح فهو تطويل للمسافة وهذه الجملة- أعني العلة معللها- معطوفة على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 397 قوله هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وفي إيثار الأولى اسمية دالة على لزوم الهون مزيلة للاستبعاد والثانية فعلية دالة على أنه تعالى أنشأه لكونه آية ورحمة خاصة لا لأمر آخر ينافيه مرادا بها التجدد لتجدد الوجود لينتقل من الاستبعاد إلى الاستحماد ما لا يخفى من الفخامة انتهى. ولا يرد أنه إذا قدر علة لنبين جاز أن يكون ذلك متعلقا بما يدل عليه هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ من غير حذف شيء فلا يصح قوله لم يكن بد من معلل محذوف لظهور ما فيه. وما ذكره من العطف خالف فيه بعضهم فجعل الواو على الأول اعتراضية، ومن الناس من قال: إن لِنَجْعَلَهُ على قراءة «ليهب» عطف عليه على طريق الالتفات من الغيبة إلى التكلم. وجوز أيضا العطف على لِأَهَبَ على قراءة أكثر السبعة، ولا يخفى بعد هذا العطف على القراءتين وَكانَ ذلك أَمْراً مَقْضِيًّا محكما قد تعلق به قضاؤنا الأزلي أو قدر وسطر في اللوح لا بد لك منه أو كان أمرا حقيقا بمقتضى الحكمة والتفضل أن يفعل لتضمنه حكما بالغة: وهذه الجملة تذييل إما لمجموع الكلام أو للأخير فَحَمَلَتْهُ الفاء فصيحة أي فاطمأنت إلى قوله فدنا منها فنفخ في جيبها فدخلت النفخة في جوفها فحملته. وروي هذا عن ابن عباس وقيل: لم يدن عليه السّلام بل نفخ عن بعد فوصل الريح إليها فحملت. وقيل: إن النفخة كانت في كمها وروي ذلك عن ابن جريج. وقيل كانت في ذيلها، وقيل كانت في فمها. واختلفوا في سنها إذ ذاك فقيل ثلاث عشرة سنة، وعن وهب ومجاهد خمس عشرة سنة، وقيل: أربع عشرة سنة، وقيل: اثنتا عشرة سنة، وقيل: عشر سنين وقد كانت حاضت حيضتين قبل أن تحمل، وحكى محمد بن الهيصم رئيس الهيصمية من الكرامية أنها لم تكن حاضت بعد، وقيل: إنها عليها السّلام لم تكن تحيض أصلا بل كانت مطهرة من الحيض. وكذا اختلفوا في مدة حملها ففي رواية عن ابن عباس أنها تسعة أشهر كما في سائر النساء وهو المروي عن الباقر رضي الله تعالى عنه لأنها لو كانت مخالفة لهن في هذه العادة لناسب ذكرها في أثناء هذه القصة الغريبة. وفي رواية أخرى عنه أنها كانت ساعة واحدة كما حملته نبذته، واستدل لذلك بالتعقيب الآتي وبأنه سبحانه قال في وصفه إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 59] فإنه ظاهر في أنه عز وجل قال له كن فيكون فلا يتصور فيه مدة الحمل. وعن عطاء وأبي العالية والضحاك أنها كانت سبعة أشهر، وقيل: كانت ستة أشهر، وقيل: حملته في ساعة وصور في ساعة ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها، والمشهور أنها كانت ثمانية أشهر، قيل: ولم يعش مولود وضع لثمانية غيره عليه السّلام. ونقل النيسابوري عن أهل التنجيم أن ذلك لأن الحمل يعود إلى تربية القمر فتستولي عليه البرودة والرطوبة وهو ظاهر في أن مربي الحمل في أول شهور الحمل القمر وفي الثامن يعود الأمر إليه عند المنجمين وهو مخالف لما في كفاية التعليم عنهم من أن أول الشهور منسوب إلى زحل والثاني إلى المشتري وهكذا إلى السابع وهو منسوب إلى القمر ثم ترجع النسبة إلى زحل ثم إلى المشتري: وفيها أيضا أن جهال المنجمين يقولون إن النطفة في الشهر الأول تقبل البرودة من زحل فتجمد، وفي الثاني تقبل القوة النامية من المشتري فتأخذ في النمو، وفي الثالث تقبل القوة الغضبية من المريخ وفي الرابع قوة الحياة من الشمس وفي الخامس قوة الشهوة من الزهرة وفي السادس قوة النطق من عطارد وفي السابع قوة الحركة من القمر فتتم خلقة الجنين فإن ولد في ذلك الوقت عاش وإلا فإن ولد في الثامن لم يعش لقبوله قوة الموت من زحل وإن ولد في التاسع عاش لأنه قبل قوة المشتري، ومثل تلك الكلمات خرافات وكل امرأة تعرف أن النطفة إذا مضت عليها ثلاثة أشهر تتحرك، وقد ذكر حكماء الطبيعة أن أقل مدة الولادة ستة أشهر ومدة الحركة ثلث مدة الولادة فيكون أقلها شهرين ومن امتحن الإسقاط يعلم أن الخلقة تتم في أقل من خمسين يوما انتهى. وكلام المتشرعين لا يخفى عليك في هذا الباب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 398 وقد يعيش المولود لثمان إلا أنه قليل فليس ذلك من خواصه عليه السّلام إن صح. ولم يصح عندي شيء من هذه الأقوال المضطربة المتناقضة بيد أني أميل إلى أولها والاستدلال للثاني مما سمعت لا يخلو عن نظر. فَانْتَبَذَتْ بِهِ أي فاعتزلت وهو في بطنها فالباء للملابسة والمصاحبة مثلها في قوله تعالى تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المؤمنون: 20] وقول المتنبي يصف الخيول: فمرت غير نافرة عليهم ... تدوس بنا الجماجم والرؤوسا والجار والمجرور ظرف مستقر وقع حالا من ضميرها المستتر أي فانتبذت ملتبسة به مَكاناً قَصِيًّا بعيدا من أهلها وراء الجبل، وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن نوف أن جبريل عليه السّلام نفخ في جيبها فحملت حتى إذا أثقلت وجعت ما يجع النساء وكانت في بيت النبوة فاستحيت وهربت حياء من قومها فأخذت نحو المشرق وخرج قومها في طلبها فجعلوا يسألون رأيتم فتاة كذا وكذا فلا يخبرهم أحد فكان ما أخبر الله تعالى به. وروى الثعلبي في العرائس عن وهب قال: إن مريم لما حملت كان معها ابن عم لها يسمى يوسف النجار وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند جبل صهيون وكانا معا يخدمان ذلك المسجد ولا يعلم أن أحدا من أهل زمانهما أشد اجتهادا وعبادة منهما وأول من علم أمرها يوسف فتحير في ذلك لعلمه بكمال صلاحها وعفتها وأنه لم تغب عنه ساعة فقال لها: قد وقع في نفسي شيء من أمرك لم أستطع كتمانه وقد رأيت الكلام فيه أشفى لصدري فقالت قل قولا جميلا فقال: يا مريم أخبريني هل ينبت زرع بغير بذر وهل تنبت شجرة من غير غيث وهل يكون ولد من غير ذكر: فقالت؟ نعم ألم تعلم أن الله تعالى أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر ألم تعلم أن الله تعالى أنبت الشجرة من غير غيث وبالقدرة جعل الغيث حياة الشجر بعد ما خلق كل واحد منهما على حدة أتقول: إن الله سبحانه لا يقدر على أن ينبت الشجرة حتى يستعين بالماء؟ قال: لا أقول هذا ولكني أقول إن الله تعالى يقدر على ما يشاء بقول كن فيكون فقالت: ألم تعلم أن الله تعالى خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى؟ فعند ذلك زال ما يجده وكان ينوب عنها في خدمة المسجد لاستيلاء الضعف عليها بسبب الحمل وضيق القلب فلما دنا نفاسها أوحى الله تعالى إليها أن اخرجي من أرض قومك لئلا يقتلوا ولدك فاحتملها يوسف إلى أرض مصر على حمار له فلما بلغت (1) تلك البلاد أدركها النفاس فكان ما قص سبحانه، وقيل: انتبذت أقصى الدار وهو الأنسب بقصر مدة الحمل فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ أي الجأها كما قال الزمخشري وجماعة، وفي الصحاح أجأته إلى كذا بمعنى ألجأته واضطررته إليه قال زهير بن أبي سلمى: وجار سار معتمدا عليكم ... أجاءته المخافة والرجاء قال الفراء: أصله من جئت وقد جعلته العرب الجاء، وفي المثل شر ما يجيئك إلى مخة عرقوب انتهى، واختار أبو حيان أن المعنى جاء بها واعترض على الزمخشري وأطال الكلام بما لا يخفى رده والْمَخاضُ بفتح الميم كما في قراءة الأكثرين وبكسرها كما في رواية عن ابن كثير مصدر مخضت المرأة بفتح الخاء وكسرها إذا أخذها الطلق وتحرك الولد في بطنها للخروج، وقرأ الأعمش وطلحة «فاجاءها» بإمالة فتحة الجيم، وقرأ حماد بن سلمة عن عاصم فَأَجاءَهَا من المفاجأة وروي ذلك عن مجاهد ونقله ابن عطية عن شبيل بن عزرة أيضا، وقال صاحب اللوامح: إن قراءته تحتمل أن تكون الهمزة فيها قد قلبت ألفا ويحتمل أن تكون بين بين غير مقلوبة. إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ لتستند إليه عند الولادة كما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي أو لذلك   (1) قوله قال كاف هاد إلخ كذا بخطه ولم يذكر اسما أوله الياء وانظره اه منه: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 399 ولتستر به كما قيل، والجذع ما بين العرق ومتشعب الأغصان من الشجرة، وقد يقال للغصن أيضا: جذع، والنخلة معروفة. والتعريف إما للجنس فالمراد واحدة من النخل لا على التعيين أو للعهد فالمراد نخلة معينة ويكفي لتعينها تعينها في نفسها وإن لم يعلمها المخاطب بالقرآن عليه الصلاة والسّلام كما إذا قلت أكل السلطان ما أتى به الطباخ أي طباخه فإنه المعهود، وقد يقال: إنها معينة له صلّى الله عليه وسلّم بأن يكون الله تعالى أراها له عليه الصلاة والسّلام ليلة المعراج، وزعم بعضهم أنها موجودة إلى اليوم، والظاهر أنها كانت موجودة قبل مجيء مريم إليها وهو الذي تدل عليه الآثار، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها عليها السّلام لما اشتد عليها الطلق نظرت إلى أكمة فصعدت مسرعة فإذا عليها جذع نخلة نخرة ليس عليها سعف. وقيل: إن الله تعالى خلقها لها يومئذ وليس بذاك وكان الوقت شتاء، ولعل الله تعالى أرشدها إليها ليريها فيما هو أشبه الأشجار بالإنسان من آياته ما يسكن روعتها كأثمارها بدون رأس وفي وقت الشتاء الذي لم يعهد ذلك فيه ومن غير لقاح كما هو المعتاد، وفي ذلك إشارة أيضا إلى أن أصلها ثابت وفرعها في السماء، وإلى أن ولدها نافع كالثمرة الحلواء وأنه عليه السّلام سيحيي الأموات كما أحيى الله تعالى بسببه الموات مع ما في ذلك من اللطف بجعل ثمرتها خرسة لها، والجار والمجرور متعلق بأجاءها، وعلى القراءة الأخرى متعلق بمحذوف وقع حالا أي مستندة إلى جذع النخلة قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ بكسر الميم من مات يمات كخاف يخاف أو من مات يميت كجاء يجيء. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر ويعقوب بضمها من مات يموت كقال يقول: قَبْلَ هذا الوقت الذي لقيت فيه ما لقيت أو قبل هذا الأمر. وإنما قالته عليها السّلام مع أنها كانت تعلم ما جرى بينها وبين جبريل عليه السّلام من الوعد الكريم استحياء من الناس وخوفا من لائمتهم أو حذرا من وقوع الناس في المعصية بما يتكلمون فيها. وروي أنها سمعت نداء أخرج يا من يعبد من دون الله تعالى فحزنت لذلك وتمنت الموت، وتمني الموت لنحو ذلك مما لا كراهة فيه. نعم يكره تمنيه لضرر نزل به من مرض أو فاقة أو محنة من عدو أو نحو ذلك من مشاق الدنيا. ففي صحيح مسلم وغيره قال صلّى الله عليه وسلّم: «لا يتمنين أحدكم الموت لضرر نزل فإن كان لا بد متمنيا فليقل اللهم احيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي» ومن ظن أن تمنيها عليها السّلام ذلك كان لشدة الوجع فقد أساء الظن والعياذ بالله تعالى. وَكُنْتُ نَسْياً أي شيئا تافها شأنه أن ينسى ولا يعتد به أصلا كخرقة الطمث. وقرأ الأكثرون «نسيا» بالكسر. قال الفراء: هما لغتان في ذلك كالوتر والوتر والفتح أحب إلي. وقال الفارسي: الكسر أعلى اللغتين، وقال ابن الأنباري: هو بالكسر اسم لما ينسى كالنقض اسم لما ينقض وبالفتح مصدر نائب عن الاسم، وقرأ محمد بن كعب القرظي «نسئا» بكسر النون والهمزة مكان الياء وهي قراءة نوف الأعرابي، وقرأ بكر بن حبيب السهمي ومحمد بن كعب أيضا في رواية «نسأ» بفتح النون والهمزة على أن ذلك من نسأت اللبن إذا صببت عليه ماء فاستهلك اللبن فيه لقلته فكأنها تمنت أن تكون مثل ذلك اللبن الذي لا يرى ولا يتميز من الماء، ونقل ابن عطية عن بكر بن حبيب أنه قرأ «نسا» بفتح النون والسين من غير همز كعصى مَنْسِيًّا لا يخطر ببال أحد من الناس ووصف النسي بذلك لما أنه حقيقة عرفية فيما يقل الاعتداد به وإن لم ينس، وقرأ الأعمش وأبو جعفر في رواية بكسر الميم اتباعا لحركة السين كما قالوا: منتن باتباع حركة الميم لحركة التاء فَناداها أي جبريل عليه السّلام كما روي عن ابن عباس ونوف. وقرأ علقمة فخاطبها قال أبو حيان: وينبغي أن تكون تفسيرا لمخالفتها سواد المصحف، وقرأ الحبر «فناداها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 400 ملك» مِنْ تَحْتِها وينبغي أن يكون المراد به جبريل عليه السّلام ليوافق ما روي عنه أولا. ومعنى مِنْ تَحْتِها من مكان أسفل منها وكان واقفا تحت الأكمة التي صعدتها مسرعة كما سمعت آنفا، ونقل في البحر عن الحسن أنه قال: ناداها جبريل عليه السّلام وكان في بقعة من الأرض أخفض من البقعة التي كانت عليها وأقسم على ذلك. ولعله إنما كان موقفه عليه السّلام هناك إجلالا لها وتحاشيا من حضوره بين يديها في تلك الحال. والقول بأنه عليه السّلام كان تحتها يقبل الولد مما لا ينبغي أن يقال لما فيه من نسبة ما لا يليق بشأن أمين وحي الملك المتعال، وقيل: ضمير تَحْتِها للنخلة، واستظهر أبو حيان كون المنادى عيسى عليه السّلام والضمير لمريم والفاء فصيحة أي فولدت غلاما فأنطقه الله تعالى حين الولادة فناداها المولود من تحتها. وروي ذلك عن مجاهد ووهب وابن جبير وابن جرير وابن زيد والجبائي ونقله الطبرسي عن الحسن أيضا، وقرأ الابنان والأبوان وعاصم والجحدري وابن عباس والحسن في رواية عنهما مِنْ بفتح الميم بمعنى الذي فاعل نادى وتَحْتِها ظرف منصوب صلة لمن والمراد به إما عيسى أو جبريل عليهما الصلاة والسّلام أَلَّا تَحْزَنِي أي أي لا تحزني على أن أن مفسرة أو بأن لا تحزني على أنها مصدرية قد حذف عنها الجار قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ بمكان أسفل منك، وقيل: تحت أمرك إن أمرت بالجري جرى وإن أمرت بالإمساك أمسك وهو خلاف الظاهر سَرِيًّا أي جدولا كما أخرجه الحاكم في مستدركه عن البراء وقال: إن صحيح على شرط الشيخين وذكره البخاري تعليقا موقوفا عليه وأسنده عبد الرزاق وابن جرير ابن مردويه في تفاسيرهم عنه موقوفا عليه أيضا ولم يصح الرفع كما أوضحه الجلال السيوطي وعلى ذلك جاء قول لبيد يصف عيرا وأتانا: فتوسطا عرض السريّ فصدعا ... مسجروة متجاوزا قلامها وأنشد ابن عباس قول الشاعر: سهل الخليقة ماجد ذو نائل ... مثل السريّ تمده الأنهار وكان ذلك على ما روي عن ابن عباس جدولا من الأردن أجراه الله تعالى منه لما أصابها العطش. وروي أن جبريل عليه السّلام ضرب برجله الأرض فظهرت عين ماء عذب فجرى جدولا، وقيل: فعل ذلك عيسى عليه السّلام وهو المروي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه ، وقيل: كان ذلك موجودا من قبل إلا أن الله تعالى نبهها عليه، وما تقدم هو الموافق لمقام بيان ظهور الخوارق والمتبادر من النظم الكريم، وسمي الجدول سريا لأن الماء يسري فيه فلامه على هذا المعنى ياء، وعن الحسن وابن زيد والجبائي أن المراد بالسري عيسى عليه السّلام وهو من السر وبمعنى الرفعة كما قال الراغب أي جعل ربك تحتك غلاما رفيع الشأن سامي القدر، وفي الصحاح هو سخاء في مروءة وإرادة الرفعة أرفع قدرا ولامه على هذا المعنى واو. والجملة تعليل لانتفاء الحزن المفهوم من النهي عنه. والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرها لتشريفها وتأكيد التعليل وتكميل التسلية. وَهُزِّي إِلَيْكِ أي إلى جهتك، والهز تحريك يمينا وشمالا سواء كان بعنف أولا أو تحريك بجذب ودفع وهو مضمن معنى الميل فلذا عدي بإلى أو أنه مجاز عنه أو اعتبر في تعديته ذلك لأنه جزء معناه كذا قيل. ومنع أبو حيان تعلقه بهزي وعلل ذلك بأنه قد تقرر في النحو أن الفعل لا يعدى إلى الضمير المتصل وقد رفع الضمير المتصل وليس من باب ظن ولا فقد ولا عدم وهما لمدلول واحد فلا يقال: ضربتك وزيد ضربه على معنى ضربت نفسك وضرب نفسه. والضمير المجرور عندهم كالضمير المنصوب فلا يقال: نظرت إليك وزيد نظر على معنى نظرت إلى نفسك ونظر إلى نفسه، ومن هنا جعلوا على في قوله: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 401 هون عليك فإن الأمور ... بكف الإله مقاديرها اسما كما في قوله: غدت من عليه بعد ماتم ظمؤها وجعل الجار والمجرور هنا متعلقا بمحذوف أي أعني إليك ما قالوا في سقيا لك ونحوه مما جيء به للتبيين. وأنت تعلم أنهم قالوا بمجيء إلى للتبيين لكن قال ابن مالك. وكذا صاحب القاموس: إنها المبينة لفاعلية مجرورها بعد ما يفيد حبا أو بغضا من فعل تعجب أو اسم تفضيل وما هنا ليس كذلك. وقال في الإتقان: حكى ابن عصفور في شرح أبيات الإيضاح عن ابن الأنباري أن إلى تستعمل اسما فيقال: انصرفت من إليك كما يقال غدوت من عليه وخرج عليه من القرآن وَهُزِّي إِلَيْكِ وبه يندفع إشكال أبي حيان فيه انتهى. وكان عليه أن يبين ما معناها على القول بالاسمية، ولعلها حينئذ بمعنى عند فقد صرح بمجيئها بهذا المعنى في القاموس وأنشد: أم لا سبيل إلى الشباب وذكره ... أشهى إلي من الرحيق السلسل لكن لا يحلو هذا المعنى في الآية، ومثله ما قيل إنها في ذلك اسم فعل، ثم إن حكاية استعمالها اسما إذا صحت تقدح في قول أبي حيان: لا يمكن أن يدعى أن إلى نكون اسما لإجماع النحاة على حرفيتها. ولعله أراد إجماع من يعتد به منهم في نظره. والذي أميل إليه في دفع الإشكال أن الفعل مضمن معنى الميل والجار والمجرور متعلق به لا بالفعل الرافع للضمير وهو مغزى بعيد لا ينبغي أن يسارع إليه بالاعتراض على أن في القلب من عدم صحة نحو هذا التركيب للقاعدة المذكورة شيئا لكثرة مجيء ذلك في كلامهم. ومنه قوله تعالى: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ [الأحزاب: 37] والبيت المار آنفا. وقول الشاعر: دع عنك نهبا صيح في حجراته ... ولكن حديثا ما حديث الرواعل وقولهم: اذهب إليك وسر عنك إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتتبع. وتأويل جميع ما جاء لا يخلو عن تكلف فتأمل وأنصف، ثم الفعل هنا منزل منزلة اللازم كما في قول ذي الرمة: فإن تعتذر بالمحل من ذي ضروعها ... إلى الضيف يجرح في عراقيبها نصلي فلذا عدي بالباء أي افعلي الهز بِجِذْعِ النَّخْلَةِ فالباء للآلة كما في كتبت بالقلم. وقيل هو متعد والمفعول محذوف والكلام على تقدير مضاف أي هزي الثمرة بهز جذع النخلة ولا يخفى ما فيه من التكلف وأن هز الثمرة لا يخلو من ركاكة، وعن المبرد أن مفعوله رُطَباً الآتي والكلام من باب التنازع. وتعقب بأن الهز على الرطب لا يقع إلا تبعا فجعله أصلا وجعل الأصل تبعا حيث أدخل عليه الباء للاستعانة غير ملائم مع ما فيه من الفصل بجواب الأمر بينه وبين مفعوله ويكون فيه أعمال الأول وهو ضعيف لا سيما في هذا المقام. وما ذكر من التعكيس وارد على ما فيه التكلف وهو ظاهر، وما قيل من أن الهز وإن وقع بالأصالة على الجذع لكن المقصود منه الثمرة فلهذه النكتة المناسبة جعلت أصلا لأن هز الثمرة ثمرة الهز لا يدفع الركاكة التي ذكرناها مع أن المفيد لذلك ما يذكر في جواب الأمر. وجعل بعضهم بِجِذْعِ النَّخْلَةِ في موضع الحال على تقدير جعل المفعول رُطَباً أو الثمرة أي كائنة أو كائنا بجذع النخلة وفيه ثمرة ما لا تسمن ولا تغني، وقيل الباء مزيدة للتأكيد مثلها في قوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195] وقول الشاعر: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 402 هن الحرائر لا ربات أخمرة ... سود المحاجر لا يقرأن بالسور والوجه الصحيح الملائم لما عليه التنزيل من غرابة النظم كما في الكشف هو الأول، وقول الفراء: إنه يقال هزه وهز به إن أراد أنهما بمعنى كما هو الظاهر لا يلتفت إليه كما نص عليه بعض من يعول عليه تُساقِطْ من ساقطت بمعنى أسقطت، والضمير المؤنث للنخلة ورجوع للمضاف إليه شائع، ومن أنكره فهو كمثل الحمار يحمل أسفارا. وجوز أبو حيان حيان أن يكون الضمير للجذع لاكتسابه التأنيث من المضاف إليه كما في قوله تعالى: «تلتقطه بعض السيارة» (1) في قراءة من قرأ بالتاء الفوقية، وقول الشاعر: كما شرقت صدر القناة من الدم. وتعقب بأنه خلاف الظاهر وإن صح. وقرأ مسروق وأبو حيوة في رواية «تسقط» بالتاء من فوق مضمومة وكسر القاف وفي رواية أخرى عن أبي حيوة أنه قرأ كذلك إلا أنه بالياء من تحت. وقوله تعالى عَلَيْكِ رُطَباً في جميع ذلك نصب على المفعولية وهو نضيج البسر واحدته بهاء وجمع شاذا على أرطاب كربع (2) وأرباع، وعن أبي حيوة أيضا أنه قرأ «تسقط» بالتاء من فوق مفتوحة وضم القاف، وعنه أيضا كذلك إلا أنه بالياء من تحت فنصب رُطَباً على التمييز، وروي عنه أنه رفعه في القراءة الأخيرة على الفاعلية. وقرأ أبو السمال «تتساقط» بتاءين. وقرأ البراء بن عازب «يساقط» بالياء من تحت مضارع أساقط وقرأ الجمهور «تساقط» بفتح التاء من فوق وشد السين بعدها ألف وفتح القاف، والنصب على هذه الثلاثة على التمييز أيضا. وجوز في بعض القراءات أن يكون على الحالية الموطئة وإذا أضمر ضمير مذكر على إحدى القراءات فهو للجذع، وإذا أضمر ضمير مؤنث فهو للنخلة أوله ما سمعت جَنِيًّا أي مجنيا ففعيل بمعنى مفعول أي صالحا للاجتناء. وفي القاموس ثمر جني جني من ساعته. وعليه قيل المعنى رطبا يقول من يراه هو جني وهو صفة مدح فإن ما يجني أحسن مما يسقط بالهز وما قرب عهده أحسن مما بعد عهده، وقيل فعيل بمعنى فاعل أي رطبا طريا، وكان المراد على ما قيل إنه تم نضجه. وقرأ طلحة بن سليمان «جنيا» بكسر الجيم للاتباع. ووجه التذكير ظاهر. وعن ابن السيد أنه قال في شرح أدب الكاتب. كان يجب أن يقال جنية إلا أنه أخرج بعض الكلام على التذكير وبعضه على التأنيث، وفيه نظر، روي عن ابن عباس أنه لم يكن للنخلة إلا الجذع ولم يكن لها رأس فلما هزته إذ السعف قد طلع ثم نظرت إلى الطلع يخرج من بين السعف ثم اخضر فصار بلحا ثم احمر فصار زهوا ثم رطبا كل ذلك في طرفة عين فجعل الرطب يقع بين يديها وكان برنيا، وقيل عجوة وهو المروي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه. والظاهر أنها لم تحمل سوى الرطب، وقيل كان معه موز، وروي ذلك عن أبي روق وإنما اقتصر عليه لغاية نفعه للنفساء، فعن الباقر رضي الله تعالى عنه لم تستشف النفساء بمثل الرطب إن الله أطعمه مريم في نفاسها وقالوا: ما للنفساء خير من الرطب ولا للمريض خير من العسل، وقيل: المرأة إذا عسر ولادها لم يكن لها خير من الرطب، وذكر أن التمر للنفساء عادة من ذلك الوقت وكذا التحنيك وفي أمرها بالهز إشارة إلى أن السعي في تحصيل الرزق في الجملة مطلوب وهو لا ينافي التوكل وما أحسن ما قيل: ألم تر أن الله أوحى لمريم ... وهزي إليك الجذع يساقط الرطب   (1) قيل إنها نفست بكورة أجناس من أعمال مصر اه منه. (2) سورة: يوسف، الآية: 10. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 403 ولو شاء أحنى الجذع من غير هزة ... إليها ولكن كل شيء له سبب فَكُلِي من ذلك الرطب وَاشْرَبِي من ذلك السري. وقيل: من عصير الرطب وكان في غاية الطراوة فلا يتم الاستدلال بذكر الشرب على تعين تفسير السري بالجدول وما ألطف ما أرشد إليه النظم الكريم من إحضار الماء أولا والطعام ثانيا ثم الأكل ثالثا والشرب رابعا فإن الاهتمام بالماء أشد من الاهتمام بالأكل لا سيما ممن يريد أن يأكل ما يحوج إلى الماء كالأشياء الحلوة الحارة، والعادة قاضية بأن الأكل بعد الشرب ولذا قدم الأكل على الشرب حيث وقع، وقيل: قدم الماء لأنه أصل في النفع ونفعه عام للتنظيف ونحوه، وقد كان جاريا وهو أظهر في إزالة الحزن وأخر الشرب للعادة. وقيل قدم الأكل ليجاور ما يشاكله وهو الرطب. والأمر قيل يحتمل الوجوب والندب. وذلك باعتبار حالها، وقيل هو للإباحة وَقَرِّي عَيْناً وطيبي نفسا وارفضي عنها ما أحزنك. وقرىء بكسر القاف وهي لغة نجدوهم يفتحون عين الماضي ويكسرون عين المضارع وغيرهم يكسرهما وذلك من القر بمعنى السكون فإن العين إذا رأت ما يسر النفس سكنت إليه من النظر إلى غيره ويشهد له قوله تعالى: تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ [الأحزاب: 19] من الحزن أو بمعنى البرد فإن دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة. ويشهد له قوله قرة العين وسخنتها للمحبوب والمكروه. وتسليتها عليها السّلام بما تضمنته الآية من إجراء الماء وإخراج الرطب من حيث إنهما أمران خارقان للعادة فكأنه قيل لا تحزني فإن الله تعالى قدير ينزه ساحتك عما يختلج في صدور المتقيدين بالأحكام العادية بأن يرشدهم إلى الوقوف على سريرة أمرك بما أظهر لهم من البسائط العنصرية والمركبات النباتية ما يخرق العادات التكوينية، وفرع على التسلية الأمر بالأكل والشرب لأن الحزين قد لا يتفرغ لمثل ذلك وأكد ذلك بالأمر الأخير. ومن فسر السري برفيع الشأن سامي القدر جعل التسلية بإخراج الرطب كما سمعت وبالسري من حيث إن رفعة الشأن مما يتبعها تنزيه ساحتها فكأنه قيل لا تحزني فإن الله سبحانه قد أظهر لك ما ينزه ساحتك قالا وحالا. وقد يؤيد هذا في الجملة بما روي عن ابن زيد قال: قال عيسى عليه السّلام لها لا تحزني فقالت: كيف لا أحزن وأنت معي ولست ذات زوج ولا مملوكة فأي شيء عذري عند الناس ليتني مت قبل هذا فقال لها عليه السّلام: أنا أكفيك الكلام فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً أي آدميا كائنا من كان. وقرأ أبو عمرو فيما روي عنه ابن الرومي «ترئن» بالإبدال من الياء همزة. وزعم ابن خالويه أن هذا لحن عند أكثر النحويين. وقال الزمخشري: إنه من لغة من يقول لبأت بالحج وحلأت السويق وذلك لتآخ بين الهمزة وحروف اللين في الإبدال. وقرأ طلحة وأبو جعفر وشيبة «ترين» بسكون الياء وفتح النون خفيفة. قال ابن جني: هي شاذة وكان القياس حذف النون للجازم كما في قول الأفوه الأودي: أما ترى رأسي أزرى به ... مأس زمان ذي انتكاس مؤوس فَقُولِي له إن استنطقك إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنه «صياما» والمعنى واحد أي صمتا كما في مصحف عبد الله وقرأ به أنس بن مالك فالمراد بالصوم الإمساك وإطلاقه على ما ذكر باعتبار أنه بعض أفراده كإطلاق الإنسان على زيد وهو حقيقة، وقيل إطلاقه عليه مجاز والقرينة التفريع الآتي وهو ظاهر على ذلك. وقال بعضهم: المراد به الصوم عن المفطرات المعلومة وعن الكلام وكانوا لا يتكلمون في صيامهم وكان قربة في دينهم فيصح نذره. وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عنه فهو منسوخ في شرعه كما ذكره الجصاص في كتاب الأحكام. وروي عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه دخل على امرأة قد نذرت أن لا تتكلم فقال: إن الإسلام هدم هذا فتكلمي. وفي شرح البخاري لابن حجر عن ابن قدامة أنه ليس من شريعة الإسلام. وظاهر الأخبار تحريمه فإن نذره لا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 404 يلزمه الوفاء به ولا خلاف فيه بين الشافعية والحنفية لما فيه من التضييق وليس في شرعنا وإن كان قربة في شرع من قبلنا. فتردد القفال في الجواز وعدمه ناشىء من قلة الاطلاع، وفي بعض الآثار ما يدل ظاهره على أن نذر الصمت كان من مريم عليها السّلام خاصة. فقد أخرج ابن أبي حاتم عن حارثة بن مضرب قال: كنت عند ابن مسعود فجاء رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الآخر ثم جلسا فقال القوم ما لصاحبك لم يسلم؟ قال: إنه نذر صوما لا يكلم اليوم إنسيا فقال له ابن مسعود: بئس ما قلت إنما كانت تلك المرأة قالت ذلك ليكون عذرا لها إذا سئلت وكانوا ينكرون أن يكون ولد من غير زوج إلا زنا فكلم وأمر بالمعروف وإنه عن المنكر فإنه خير لك. والظاهر على المعنى الأخير للصوم أنه باعتبار الصمت فيه فرع قوله تعالى: فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا أي بعد أن أخبرتكم بنذري فتكون قد نذرت إن لا تكلم إنسيا بغير هذا الإخبار فلا يكون مبطلا له لأنه ليس بمنذور ويحتمل أن هذا تفسير للنذر بذكر صيغته. وقالت فرقة: أمرت أن تخبر بنذرها بالإشارة قيل: وهو الأظهر. قال الفراء: العرب تسمي كل ما وصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل ما لم يؤكد بالمصدر فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام. ويفهم من قوله تعالى: إِنْسِيًّا دون أحدا أن المراد فلن أكلم اليوم إنسيا وإنما أكلم الملك وأناجي ربي. وإنما أمرت عليها السّلام بذلك على ما قاله غير واحد لكراهة مجادلة السفهاء والاكتفاء بكلام عيسى عليه السّلام فإنه نص قاطع في قطع الطعن. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 405 فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ أي جاءتهم مع ولدها حاملة إياه على أن الباء للمصاحبة ولو جعلت للتعدية صح أيضا. والجملة في موضع الحال من ضمير مريم أو من ضمير ولدها. وكان هذا المجيء على ما أخرج سعيد بن منصور وابن عساكر عن ابن عباس بعد أربعين يوما حين طهرت من نفاسها قيل: إنها حنت إلى الوطن وعلمت أن ستكفي أمرها فأتت به فلما دخلت عليهم تباكوا وقيل: هموا برجمها حتى تكلم عيسى عليه السّلام. وجاء في رواية عن الحبر أنها لما انتبذت من أهلها وراء الجبل فقدوها من محرابها فسألوا يوسف عنها فقال: لا علم لي بها وإن مفتاح باب محرابها عند زكريا فطلبوا زكريا وفتحوا الباب فلم يجدوها فاتهموه فأخذوه ووبخوه فقال رجل: إني رأيتها في موضع كذا فخرجوا في طلبها فسمعوا صوت عقعق في رأس الجذع الذي هي من تحته فانطلقوا إليه فلما رأتهم قد أقبلوا إليها احتملت الولد إليهم حتى تلقتهم به ثم كان ما كان. فظاهر الآية والأخبار أنها جاءتهم به من غير طلب منهم، وقيل: أرسلوا إليها لتحضري إلينا بولدك وكان الشيطان قد أخبرهم بولادتها فحضرت إليهم به فلما رأوهما قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ فعلت شَيْئاً فَرِيًّا قال قتادة: عظيما، وقيل: عجيبا. وأصله من فرى الجلد قطعه على وجه الإصلاح أو الإفساد، وقيل: من أفراه كذلك. واختير الأول لأن فعيلا إنما يصاغ قياسا من الثلاثي. وعدم التفرقة بينه وبين المزيد في المعنى هو الذي ذهب إليه صاحب القاموس. وفي الصحاح عن الكسائي أن الفري القطع على وجه الإصلاح والإفراء على وجه الإفساد. وعن الراغب مثل ذلك. وقيل الإفراء عام. وأيّا ما كان فقد استعير الفري لما ذكر في تفسيره. وفي البحر أنه يستعمل في العظيم من الأمر شرا أو خيرا قولا أو فعلا. ومنه في وصف عمر رضي الله تعالى عنه فلم أر عبقريا يفري فريه، وفي المثل جاء يفري الفري. ونصب شَيْئاً على أنه مفعول به. وقيل على أنه مفعول مطلق أي لقد جئت مجيئا عجيبا، وعبر عنه بالشيء تحقيقا للاستغراب. وقرأ أبو حيوة فيما نقل ابن عطية «فريا» بسكون الراء وفيما نقل ابن خالويه «فرأ» بالهمزة يا أُخْتَ هارُونَ استئناف لتجديد التعيير وتأكيد التوبيخ. وليس المراد بهارون أخا موسى بن عمران عليهما السّلام لما أخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي والطبراني وابن حبان وغيرهم عن المغيرة بن شعبة قال: بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل نجران فقالوا: أرأيت ما تقرءون يا أُخْتَ هارُونَ وموسى قبل عيسى بكذا وكذا (1) قال: فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله عليه الصلاة والسّلام فقال: «ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمعون بالأنبياء والصالحين قبلهم» بل هو على ما روي عن الكلبي أخ لها من أبيها. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال: هو رجل صالح في بني إسرائيل. وروي عنه أنه قال ذكر لنا أنه تبع جنازته يوم مات أربعون ألفا من بني إسرائيل كلهم يسمى هارون. والأخت على هذا بمعنى المشابهة وشبهوها به تهكما أو لما رأوا قبل من صلاحها، وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه رجل طالح فشبهوها به شتما لها. وقيل: المراد، هارون أخو موسى عليهما السّلام، وأخرج ذلك ابن أبي حاتم أيضا عن السدي. وعلي بن أبي طلحة: وكانت من أعقاب من كان معه في طبقة الأخوة فوصفها بالأخوة لكونها وصف أصلها. وجوز   (1) هو أول النتاج اه منه. [ ..... ] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 406 أن يكون هارون مطلقا على نسله كهاشم وتميم، والمراد بالأخت أنها واحدة منهم كما يقال أخا العرب وهو المروي عن السدي. ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا تقرير لكون ما جاءت به فريا أو تنبيه على أن ارتكاب الفواحش من أولاد الصالحين أفحش وفيه دليل على أن الفروع غالبا تكون زاكية إذا زكت الأصول وينكر عليها إذا جاءت بضد ذلك. وقرأ عمر بن بجا التيمي الشاعر الذي كان يهاجي جريرا: ما كان أباك امرؤ سوء. بجعل الخبر المعرفة والاسم النكرة. وحسن ذلك قليلا وجود مسوغ الابتداء فيها وهو الإضافة. فَأَشارَتْ إِلَيْهِ أي إلى عيسى عليه السّلام أن كلموه. قال شيخ الإسلام: والظاهر أنها بينت حينئذ نذرها وأنها بمعزل من محاورة الإنس حسبما أمرت ففيه دلالة على أن المأمور به بيان نذرها بالإشارة لا بالعبارة والجمع بينهما مما لا عهد به قالُوا منكرين لجوابها، وفي بعض الآثار أنها لما أشارت إليه أن كلموه قالوا: استخفافها بنا أشد من زناها وحاشاها ثم قالوا: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قال قتادة: المهد حجر أمه، وقال عكرمة: المرباة أي المرجحة، وقيل: سريره. وقيل: المكان الذي يستقر عليه. واستشكلت الآية بأن كل من يكلمه الناس كان في المهد صبيا قبل زمان تكليمه فلا يكون محلا للتعجب والإنكار. وأجاب الزمخشري عن ذلك بوجهين، الأول أن كان الإيقاع مضمون لجملة في زمان ماض مبهم يصلح لقريبه وبعيده وهو هاهنا لقريبه خاصة والدال عليه أن الكلام مسوق للتعجب فيكون المعنى كيف نكلم من كان بالأمس وقريبا منه. من هذا الوقت في المهد وغرضهم من ذلك استمرار حال الصبي به لم يبرح بعد عنه ولو قيل: من هو في المهد لم يكن فيه تلك الوكادة من حيث السابق كالشاهد على ذلك، ومن على هذا موصولة يراد بها عيسى عليه السّلام. الثاني أن يكون نُكَلِّمُ حكاية حال ماضية ومن موصوفة، والمعنى كيف نكلم الموصوفين بأنهم في المهد أي ما كلمناهم إلى الآن حتى نكلم هذا، وفي العدول عن الماضي إلى الحال إفادة التصوير والاستمرار. وهذا كما في الكشف وجه حسن ملائم. وقال أبو عبيدة: كان زائدة لمجرد التأكيد من غير دلالة على الزمان وصَبِيًّا حال مؤكدة والعامل فيها الاستقرار، فقول ابن الأنباري إن كان نصبت هنا الخبر والزائدة لا تنصبه ليس بشيء، والمعنى كيف نكلم من هو في المهد الآن حال كونه صبيا، وعلى قول من قال: إن كان الزائدة لا تدل على حدث لكنها تدل على زمان ماض مقيد به ما زيدت فيه كالسيرافي لا يندفع الإشكال بالقول بزيادتها. وقال الزجاج: الأجود أن تكون من شرطية لا موصولة ولا موصوفة أي من كان في المهد فكيف نكلمه وهذا كما يقال كيف أعظ من لا يعمل بموعظتي والماضي بمعنى المستقبل في باب الجزاء فلا إشكال في ذلك، ولا يخفى بعده قالَ استئناف مبني على سؤال نشأ من سياق النظم الكريم كأنه قيل فماذا كان بعد ذلك؟ فقيل: قال عيسى عليه السّلام إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ روي أنه عليه السّلام كان يرضع فلما سمع ما قالوا ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه واتكأ على يساره وأشار بسبابته فقال ما قال، وقيل إن زكريا عليه السّلام أقبل عليه يستنطقه فقال ذلك وذكر عبوديته لله تعالى أولا لأن الاعتراف بذلك على ما قيل أول مقامات السالكين. وفيه رد على من يزعم ربوبيته، وفي جيع ما قال تنبيه على يراءة أمه لدلالته على الاصطفاء والله سبحانه أجل من أن يصطفي ولد الزنا وذلك من المسلمات عندهم، وفيه من إجلال أمه عليهما السّلام ما ليس في التصريح، وقيل لأنه تعالى لا يخص بولد موصوف بما ذكر إلا مبرأة مصطفاة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 407 واختلف في أنه بعد أن تكلم بما ذكر هل بقي يتكلم كعادة الرجال أو لم يتكلم حتى بلغ مبلغا يتكلم فيه الصبيان وعده عليه السّلام في عداد الذين تكلموا في المهد ثم لم يتكلموا إلى وقت العادة ظاهر في الثاني آتانِيَ الْكِتابَ الظاهر أنه الإنجيل. وقيل التوراة. وقيل مجموعهما وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وجعلني مع ذلك مُبارَكاً قال مجاهد نفاعا ومن نفعه إبراء الأكمه والأبرص. وقال سفيان: معلم الخير آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر وعن الضحاك قاضيا للحوائج، والأول أولى لعمومه، والتعبير بلفظ الماضي في الأفعال الثلاثة أما باعتبار ما في القضاء المحتوم أو بجعل ما في شرف الوقوع لا محالة كالذي وقع. وقيل أكمله الله تعالى عقلا واستنبأه طفلا وروي ذلك عن الحسن. وأخرج ابن أبي حاتم عن أنس أن عيسى عليه السّلام درس الإنجيل وأحكمه في بطن أمه وذلك قوله آتانِيَ الْكِتابَ أَيْنَ ما كُنْتُ أي حيثما كنت وفي البحر أن هذا شرط وجزاؤه محذوف تقديره جعلني مباركا وحذف لدلالة ما تقدم عليه، ولا يجوز أن يكون معمولا لجعلني السابق لأن- أين- لا تكون إلا استفهاما أو شرطا والأول لا يجوز هنا فتعين الثاني واسم الشرط لا ينصبه فعل قبله وإنما هو معمول للفعل الذي يليه. وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ أي أمرني بهما أمرا مؤكدا والظاهر أن المراد بهما ما شرع في البدن والمال على وجه مخصوص. وقيل المراد بالزكاة زكاة الفطر. وقيل المراد بالصلاة الدعاء وبالزكاة تطهير النفس عن الرذائل، ويتعين هذا في الزكاة على ما نقل عن ابن عطاء الله وإن كان منظورا فيه من أنه لا زكاة على الأنبياء عليهم السّلام لأن الله تعالى نزههم عن الدنيا فما في أيديهم لله تعالى ولذا لا يورثون أو لأن الزكاة تطهير وكسبهم طاهر، وقيل لا يتعين لأن ذلك أمر له بايجاب الزكاة على أمته وهو خلاف الظاهر، وإذا قيل بحمل الزكاة على الظاهر فالظاهر أن المراد أَوْصانِي بأداء زكاة المال إن ملكته فلا مانع من أن يشمل التوقيت بقوله سبحانه ما دُمْتُ حَيًّا مدة كونه عليه السّلام في السماء، ويلتزم القول بوجوب الصلاة عليه عليه الصلاة والسّلام هناك كذا قيل. وأنت تعلم أن الظاهر المتبادر من المدة المذكورة مدة كونه عليه الصلاة والسّلام حيا في الدنيا على ما هو المتعارف وذلك لا يشمل مدة كونه عليه السّلام في السماء، ونقل ابن عطية أن أهل المدينة. وابن كثير. وأبا عمرو قرأوا «دمت» بكسر الدال ولم نجد ذلك لغيره نعم قيل إن ذلك لغة وَبَرًّا بِوالِدَتِي عطف على «مباركا» على ما قال الحوفي وأبو البقاء، وتعقبه أبو حيان بأن فيه بعدا للفصل وبالجملة ومتعلقها اختار إضمار فعل أي وجعلني بارا بها، قيل هذا كالصريح في أنه عليه السّلام لا والد له فهو أظهر الجمل في الإشارة إلى براءتها عليها السّلام. وقرىء «برا» بكسر الباء ووجه نصبه نحو ما مر في القراءة المتواترة، وجعل ذاته عليه السّلام برا من باب فإنما هي إقبال وإدبار، وجوز أن يكون النصب بفعل في معنى أَوْصانِي أي وألزمني أو وكلفني برا فهو من باب علفتها تبنا وماء باردا وأقرب منه على ما في الكشف لأنه مثل زيدا مررت به في التناسب وإن لم يكن من بابه. وجوز أن يكون معطوفا على محل بِالصَّلاةِ كما قيل في قراءة أَرْجُلَكُمْ [المائدة: 6] بالنصب، وقيل إن أوصى قد يتعدى للمفعول الثاني بنفسه كما وقع في البخاري أوصيناك دينا واحدا، والظاهر أن الفعل في مثل ذلك مضمن معنى ما يتعدى بنفسه، وحكى الزهراوي. وأبو البقاء أنه قرىء «وبرا» بكسر الباء وهو معطوف على الصلاة والزكاة قولا واحدا، والتنكير للتفخيم وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا أي لم يقض علي سبحانه بذلك في علمه الأزلي، وقد كان عليه السّلام يقول: سلوني فإني لين القلب صغير في نفسي. وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا تقدم الكلام في وجه تخصيص هذه المواطن بالذكر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 408 فتذكر فما في العهد من قدم، والأظهر بل الصحيح أن التعريف للجنس جيء به تعريضا باللعنة على متهمي مريم وأعدائها عليها السّلام من اليهود فإنه إذا قال جنس السّلام على خاصة فقد عرض بأن ضده عليكم، ونظيره قوله تعالى: وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى [طه: 47] يعني أن العذاب على من كذب وتولى، وكان المقام مقام مناكرة وعناد فهو مئنة لنحو هذا من التعريض. والقول بأنه لتعريف العهد خلاف الظاهر بل غير صحيح لا لأن المعهود سلام يحيى عليه الصلاة والسّلام وعينه لا يكون سلاما لعيسى عليه الصلاة والسّلام لجواز أن يكون من قبيل هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ [البقرة: 25] بل لأن هذا الكلام منقطع عن ذلك وجودا وسردا فيكون معهودا غير سابق لفظا ومعنى على أن المقام يقتضي التعريض ويفوت على ذلك التقدير لأن التقابل إنما ينشأ من اختصاص جميع السّلام به عليه كذا في الكشف والاكتفاء في العهد به لصحيحه بذكره في الحكاية لا يخفى حاله وسلام يحيى عليه السّلام قيل لكونه من قول الله تعالى أرجح من هذا السّلام لكونه من قول عيسى عليه السّلام، وقيل هذا أرجح لما فيه من إقامة الله تعالى إياه في ذلك مقام نفسه مع إفادة اختصاص جميع السّلام به عليه السّلام فتأمل. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «يوم ولدت» بتاء التأنيث وإسناد الفعل إلى والدته ذلِكَ إشارة إلى من فصلت نعوته الجليلة، وفيه إشارة إلى علو رتبته وبعد منزلته وامتيازه بتلك المناقب الحميدة عن غيره ونزوله منزلة المحسوس المشاهد. وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: عِيسَى وقوله سبحانه: ابْنُ مَرْيَمَ صفة عيسى أو خبر بعد خبر أو بدل أو عطف بيان والأكثرون على الصفة. والمراد ذلك هو عيسى ابن مريم لا ما يصفه النصارى وهو تكذيب لهم على الوجه الأبلغ والمنهاج البرهاني حيث جعل موصوفا بأضداد ما يصفونه كالعبودية لخالقه سبحانه المضادة لكونه عليه السّلام إلها وابنا لله عز وجل فالحصر مستفاد من فحوى الكلام، وقيل: هو مستفاد من تعريف الطرفين بناء على ما ذكره الكرماني من أن تعريفهما مطلقا يفيد الحصر، وهو على ما فيه مخالف لما ذكره أهل المعاني من أن ذلك مخصوص بتعريف المسند باللام أو بإضافته إلى ما هي فيه كتلك آيات الكتاب على ما فيه بعض شروح الكشاف. وقيل استفادته من التعريف على ما ذكروه أيضا بناء على أن عيسى مؤول بالمعرف باللام أي المسمى بعيسى وهو كما ترى فعليك بالأول. قَوْلَ الْحَقِّ نصب على المدح، والمراد بالحق الله تعالى وبالقول كلمته تعالى، وأطلقت عليه عليه السّلام بمعنى أنه خلق بقول كن من غير أب، وقيل: نصب على الحال من عيسى، والمراد بالحق والقول ما سمعت. وقيل: نصب على المصدر أي أقول قول الحق. وقيل: هو مصدر مؤكد لمضمون الجملة منصوب بأحق محذوفا وجوبا. وقال شيخ الإسلام: هو مصدر مؤكد لقال إني عبد الله إلخ وقوله سبحانه ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اعتراض مقرر لمضمون ما قبله وفيه بعد. والْحَقِّ في الأقوال الثلاثة بمعنى الصدق. والإضافة عند جمع بيانية وعند أبي حيان من إضافة الموصوف إلى الصفة. وقرأ الجمهور «قول» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو قول الحق الذي لا ريب فيه، والضمير المقدر للكلام السابق أو لتمام القصة. وقيل: صفة لعيسى أو بدل من أو خبر بعد لذلك أهو الخبر وعيسى بدل أو عطف بيان. والمراد في جميع ذلك كلمة الله تعالى. وقرأ ابن مسعود «قال الحق» . وقال الله برفع «قال» فيهما. وعن الحسن «قول الحق» بضم القاف واللام. والقول والقال والقول بمعنى واحد كالرهب والرهب والرهب. ونص أبو حيان على أنها مصادر، وعن ابن السكيت القال وكذا القيل اسم لا مصدر. وقرأ طلحة والأعمش في رواية «قال الحق» برفع لام «قال» على أنه فعل ماض ورفع «الحق» على الفاعلية. وجعل ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ على هذا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 409 مقول القول أي قال الله تعالى ذلك الموصوف بما ذكر عيسى ابن مريم الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ أي يشكون أو يتنازعون فيقول اليهود: هو ساحر وحاشاه ويقول النصارى: ابن الله سبحان الله عما يقولون. والموصول صفة القول أو الحق أو خبر مبتدأ محذوف أي هو الذي إلخ وذلك بحسب اختلاف التفسير والقراءة. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والسلمي وداود بن أبي هند ونافع في رواية والكسائي كذلك «تمترون» بتاء الخطاب. ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ أي ما صح وما استقام له جل شأنه اتخاذ ذلك وهو تكذيب للنصارى وتنزيه له عز وجل عما افتروه عليه تبارك وتعالى وقوله جل وعلا إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ تبكيت له ببيان أن شأنه تعالى شأنه إذا قضى أمرا من الأمور أن يوجد بأسرع وقت فمن يكون هذا شأنه كيف يتوهم أن يكون له ولد وهو من أمارات الاحتياج والنقص وقرأ ابن عامر «فيكون» بالنصب على الجواب. وقوله تعالى وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ عطف على ما قال الواحدي على قوله إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ فهو من تمام قول عيسى عليه السّلام تقرير المعنى العبودية والآيتان معترضتان، ويؤيد ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وقرأ أبي بغير واو. والظاهر أنه على هذا بتقدير القول خطابا لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم أي قل يا محمد إن الله إلخ. وقرأ الحرميان وأبو عمرو وأن بالواو وفتح الهمزة وخرجه الزمخشري على حذف حرف الجر وتعلقه باعبدوه أي ولأنه تعالى ربي وربّكم فاعبدوه وهو كقوله تعالى: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً [الجن: 18] وهو قول الخليل وسيبويه. وأجاز الفراء أن يكون إن وما بعدها في تأويل مصدر عطفا على الزَّكاةِ أي وأوصاني بالصلاة والزكاة وبأن الله ربي وربكم إلخ. وأجاز الكسائي أن يكون ذلك خبر مبتدأ محذوف أي والأمر أن الله ربي وربكم. وحكى أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء أنه عطف على أَمْراً من قوله تعالى إِذا قَضى أَمْراً أي إذ قضى أمرا وقضى أن الله ربي وربكم وهو تخبيط في الإعراب فلعله لا يصح عن أبي عمرو فإنه من الجلالة في علم النحو بمكان، وقيل: إنه عطف على الكتاب وأكثر الأقوال كما ترى. وفي حرف أبي رضي الله تعالى عنه أيضا وبأن بالواو وباء الجر وخرجه بعضهم بالعطف على الصلاة أو الزكاة وبعضهم بأنه متعلق باعبدوه أي بسبب ذلك فاعبدوه، والخطاب أما لمعاصري عيسى عليه السّلام وإما لمعاصري نبينا صلّى الله عليه وسلّم هذا أي ما ذكر من التوحيد صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ لا يضل سالكه، وقوله تعالى فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ لترتيب ما بعدها على ما قبلها تنبيها على سوء صنيعهم بجعلهم ما يوجب الاتفاق منشأ للاختلاف فإن ما حكي من مقالات عيسى عليه السّلام مع كونها نصوصا قاطعة في كونه عبد الله تعالى ورسوله قد اختلف اليهود والنصارى بالتفريط والإفراط فالمراد بالأحزاب اليهود والنصارى وهو المروي عن الكلبي، ومعنى مِنْ بَيْنِهِمْ أن الاختلاف لم يخرج عنهم بل كانوا هم المختلفين، و «بين» ظرف استعمل اسما بدخول من عليه. ونقل في البحر القول بزيادة من. وحكى أيضا القول بأن البين هنا بمعنى البعد أي اختلفوا فيه لبعدهم عن الحق فتكون سببية ولا يخفى بعده، وقيل: المراد بالأحزاب فرق النصارى فإنهم اختلفوا بعد رفعه عليه السّلام فيه فقال: نسطور هو ابن الله تعالى عن ذلك أظهره ثم رفعه، وقال يعقوب: هو الله تعالى هبط ثم صعد وقال ملكا: هو عبد الله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 410 تعالى ونبيه، وفي الملل والنحل أن الملكانية قالوا: إن الكلمة يعني أقنوم العلم اتحدت بالمسيح عليه السّلام وتدرعت بناسوته. وقالوا أيضا: إن المسيح عليه السّلام ناسوت كلي لا جزئي وهو قديم وقد ولدت مريم إلها قديما أزليا والقتل والصلب وقع على الناسوت واللاهوت معا، وقد قمنا من أمر النصارى ما فيه كفاية فليتذكر، وقيل المراد بهم المسلمون واليهود والنصارى. وعن الحسن أنهم الذين تحزبوا على الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام لما قص عليهم قصة عيسى عليه السّلام اختلفوا فيه من بين الناس، قيل: إنهم مطلق الكفار فيشمل اليهود والنصارى والمشركين الذين كانوا في زمن نبينا صلّى الله عليه وسلّم وغيرهم ورجحه الإمام بأنه لا مخصص فيه، ورجح القول بأنهم أهل الكتاب بأن ذكر الاختلاف عقيب قصة عيسى عليه السّلام يقتضي ذلك، ويؤيده قوله تعالى فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا فالمراد بهم الأحزاب المختلفون، وعبر عنهم بذلك إيذانا بكفرهم جميعا وإشعارا بعلة الحكم، وإذا قيل بدخول المسلمين أو الملكانية وقيل: إنهم قالوا بأنه عليه السّلام عبد الله ونبيه، في الأحزاب، فالمراد من الذين كفروا بعض الأحزاب أي فويل للذين كفروا منهم مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي من مشهود يوم عظيم الهول والحساب والجزاء وهو يوم القيامة أو من وقت شهوده أو مكان الشهود فيه أو من شهادة ذلك اليوم عليهم وهو أن تشهد الملائكة والأنبياء عليهم السّلام عليهم وألسنتهم وسائر جوارحهم بالكفر والفسوق أو من وقت الشهادة أو من مكانها. وقيل: هو ما شهدوا به في حق عيسى عليه السّلام وأمه وعظمه لعظم ما فيه أيضا كقوله تعالى كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ [الكهف: 5] . وقيل هو يوم قتل المؤمنين حين اختلف الأحزاب وهو كما ترى. والحق أن المراد بذلك اليوم يوم القيامة أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ تعجيب من حدة سمعهم وأبصارهم يومئذ. ومعناه أن أسماعهم وأبصارهم يَوْمَ يَأْتُونَنا للحساب والجزاء أي يوم القيامة جدير بأن يتعجب منهما بعد أن كانوا في الدنيا صما وعميا. وروي ذلك عن الحسن وقتادة وقال علي بن عيسى: هو وعيد وتهديد أي سوف يسمعون ما يخلع قلوبهم ويبصرون ما يسود وجوههم وعن أبي العالية أنه أمر حقيقة للرسول صلّى الله عليه وسلّم بأن يسمعهم ويبصرهم مواعيد ذلك اليوم وما يحيق بهم فيه. والجار والمجرور على الأولين في موضع الرفع على القول المشهور. وعلى الأخير في محل نصب لأن أَسْمِعْ أمر حقيقي وفاعله مستتر وجوبا. وقيل: في التعجب أيضا إنه كذلك. والفاعل ضمير المصدر لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ أي في الدنيا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ لا يدرك غايته حيث اغفلوا الاستماع والنظر بالكلية. ووضع (الظالمين) موضع الضمير للإيذان بأنهم في ذلك ظالمون لأنفسهم. والاستدراك على ما نقل عن أبي العالية يتعلق بقوله تعالى فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَأَنْذِرْهُمْ أي الظالمين على ما هو الظاهر. وقال أبو حيان: الضمير لجميع الناس أي خوفهم يَوْمَ الْحَسْرَةِ يوم يتحسر الظالمون على ما فرطوا في جنب الله تعالى. وقيل: الناس قاطبة، وتحسر المحسنين على قلة إحسانهم إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ أي فرغ من الحساب وذهب أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار وذبح الموت ونودي كل من الفريقين بالخلود. وعن السدي وابن جريج الاقتصار على ذبح الموت وكان ذلك لما روي الشيخان والترمذي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادي مناد يا أهل الجنة فيشرئبون وينظرون فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون نعم هذا الموت وكلهم قد رأوه ثم ينادي مناد يا أهل النار فيشرئبون وينظرون فيقول: هل تعرفون هذا؟ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 411 فيقولون نعم: هذا الموت وكلهم قد رأوه فيذبح بين الجنة والنار ثم يقول: يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت ثم قرأ وأنذرهم» الآية. وفي رواية عن ابن مسعود أن يوم الحسرة حين يرى الكفار مقاعدهم من الجنة لو كانوا مؤمنين، وقيل: حين يقال لهم وهم في النار اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: 108] وقيل: حين يقال امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس: 59] . وقال الضحاك: ذلك إذا برزت جهنم ورمت بالشرر، وقيل: المراد بذلك يوم القيامة مطلقا، وروي ذلك عن ابن زيد وفيه حسرات في مواطن عديدة، ومن هنا قيل: المراد بالحسرة جنسها فيشمل ذلك حسرتهم فيما ذكر وحسرتهم عند أخذ الكتب بالشمائل وغير ذلك والمراد بقضاء الأمر (1) الفراغ من أمر الدنيا بالكلية ويعتبر وقت ذلك ممتدا، وقيل: المراد بيوم الحسرة يوم القيامة كما روي عن ابن زيد إلا أن المراد بقضاء الأمر الفراغ مما يوجب الحسرة، وجوز ابن عطية أن يراد بيوم الحسرة ما يعم يوم الموت. وأنت تعلم أن ظاهر الحديث السابق وكذا غيره كما لا يخفى على المتتبع قاض بأن يوم الحسرة يوم يذبح الموت وينادي بالخلود، ولعل التخصيص لما أن الحسرة يومئذ أعظم الحسرات لأنه هناك تنقطع الآمال وينسد باب الخلاص من الأهوال. ومن غريب ما قيل: إن المراد بقضاء الأمر سد باب التوبة حين تطلع الشمس من مغربها وليس بشيء، وإِذْ على سائر الأقوال بدل من يَوْمَ أو متعلق بالحسرة والمصدر المعرف يعمل بالمفعول الصريح عند بعضهم فكيف بالظرف، وقوله تعالى وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ قال الزمخشري: متعلق بقوله تعالى شأنه فِي ضَلالٍ مُبِينٍ عن الحسن، ووجه ذلك بأن الجملتين في موضع الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور أي مستقرون في ذلك وهم في تينك الحالتين، واستظهر في الكشف العطف على قوله تعالى: الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي هم في ضلال وهم في غفلة وعلى الوجهين تكون جملة أَنْذِرْهُمْ معترضة والواو اعتراضية، ووجه الاعتراض أن الإنذار مؤكد ما هم فيه من الغفلة والضلال، وجوز أن يكون ذلك متعلقا بأنذرهم على أنه حال من المفعول أي أنذرهم غافلين غير مؤمنين للعقب بأنه لا يلائم قوله تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النازعات: 45] وقال في الكشف: أنه غير وارد لأن ذلك بالنسبة إلى النفع وهذا بالنسبة إلى تنبيه الغافل لبيان أن النفع في الآخرة وهذه وظيفة الأنبياء عليهم السّلام عن آخرهم، ثم لو سلم لا مناقضة كما في قوله تعالى وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: 55] كيف وقد تكرر هذا المعنى في القرآن إلى قوله تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ [يس: 6] وأما إن قوله سبحانه: وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ نفي مؤكد يشتمل على الماضية والآتية فلا يسلم لو جعل حالا ولو سلم فقد علم جوابه مما سبق وما على الرسول إلا البلاغ. نعم لا نمنع أن الوجه الأول أرجح وأشد طباقا للمقام، وحاصل المعنى على الأخير أنذرهم لأنهم في حالة يحتاجون فيها للإنذار إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها لا يبقى لأحد غيره تعالى ملك ولا ملك فيكون كل ذلك له تعالى استقلالا ظاهرا وباطنا دون ما سواه وينتقل إليه سبحانه انتقال الموروث من المورث إلى الوارث، وهذا كقوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16] أو نتوفى الأرض ومن عليها بالإفناء والإهلاك توفي الوارث لإرثه واستيفائه إياه وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ أي يردون إلى الجزاء لا إلى غيرنا استقلالا أو اشتراكا. وقرأ الأعرج «ترجعون»   (1) قيل بألف سنة اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 412 بالتاء الفوقية. وقرأ السلمي وابن أبي إسحاق وعيسى بالياء التحتية مبنيا للفاعل، وحكى عنهم الداني أنهم قرؤوا بالتاء الفوقية والله تعالى أعلم «ومن باب الإشارة في الآيات» كهيعص هو وأمثاله على الصحيح سر من أسرار الله تعالى، وقيل في وجه افتتاح هذه السورة به: إن الكاف إشارة إلى الكافي الذي اقتضاه حال ضعف زكريا عليه السّلام وشيخوخته وعجزه، والهاء إشارة إلى الهادي الذي اقتضاه عنايته سبحانه به وإراءة مطلوبه له، والياء إشارة إلى الواقي الذي اقتضاه حال خوفه من الموالي، والعين إشارة إلى العالم الذي اقتضاه إظهاره لعدم الأسباب، والصاد إشارة إلى الصادق الذي اقتضاه الوعد، والإشارة في القصتين إجمالا إلى أن الله تعالى شأنه يهب بسؤال وغير سؤال. وطبق بعض أهل التأويل ما فيهما على ما في الأنفس فتكلفوا وتعسفوا، وفي نذر الصوم والمراد به الصمت إشارة إلى ترك الانتصار للنفس فكأنه قيل لها عليه السّلام: اسكتي ولا تنتصري فإن في كلامك وانتصارك لنفسك مشقة عليك وفي سكوتك إظهار ما لنا فيك من القدرة فلزمت الصمت فلما علم الله سبحانه صدق انقطاعها إليه أنطق جل وعلا عيسى عليه السّلام ببراءتها، وذكر أنه عليه السّلام طوى كل وصف جميل في مطاوي قوله إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وذلك لما قالوا من أنه لا يدعي أحد بعبد الله إلا إذا صار مظهرا لجميع الصفات الإلهية المشير إليها الاسم الجليل، وجعل على هذا قوله آتانِيَ الْكِتابَ إلخ كالتعليل لهذه الدعوى. وذكروا أن العبد مضافا إلى ضميره تعالى أبلغ مدحا مما ذكر وأن صاحب ذلك المقام هو نبينا صلّى الله عليه وسلّم، وكأن مرادهم أن العبد مضافا إلى ضميره سبحانه كذلك إذا لم يقرن بعلم كعبده زكريا وإلا فدعوى الاختصاص لأنتم فليتدبر. وذكر ابن عطاء في قوله تعالى: وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا إن الجبار الذي لا ينصح والشقي الذي لا ينتصح نعوذ بالله سبحانه من أن يجعلنا كذلك وَاذْكُرْ عطف على أَنْذِرْهُمْ عند أبي السعود، وقيل: على أذكر السابق، ولعله الظاهر فِي الْكِتابِ أي هذه السورة أو في القرآن إِبْراهِيمَ أي اتل على الناس قصته كقوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ [الشعراء: 69] وإلا فذاكر ذلك في الكتاب هو الله تعالى كما في الكشاف، وفيه أنه عليه الصلاة السّلام لكونه الناطق عنه تعالى ومبلغ أوامره ونواهيه وأعظم مظاهره سبحانه ومجاليه كأنه الذاكر في الكتاب ما ذكره ربه جل وعلا (1) ومناسبة هذه الآية لما قبلها اشتمالها على تضليل من نسب الألوهية إلى الجماد اشتمال ما قبلها على ما أشار إلى تضليل من نسبها إلى الحي والفريقان وإن اشتركا في الضلال إلا أن الفريق الثاني أضل. ويقال على القول الأول في العطف إن المراد أنذرهم ذلك واذكر لهم قصة إبراهيم عليه السّلام فإنهم ينتمون إليه صلّى الله عليه وسلّم فعساهم باستماع قصته يقلعون عما هم فيه من القبائح إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً أي ملازم الصدق لم يكذب قط نَبِيًّا استنبأه الله تعالى وهو خبر آخر لكان مقيد للأول مخصص له أي كان جامعا بين الوصفين. ولعل هذا الترتيب للمبالغة في الاحتراز عن توهم تخصيص الصديقية بالنبوة فإن كل نبي صديق، وقيل: الصديق من صدق بقوله واعتقاده وحقق صدقه بفعله، وفي الكشاف الصديق من أبنية المبالغة والمراد فرط صدقه وكثرة ما صدق به من غيوب الله تعالى وآياته وكتبه ورسله وكان الرجحان والغلبة في هذا التصديق للكتب والرسل أي كان مصدقا بجميع الأنبياء وكتبهم وكان نبيا في نفسه كقوله تعالى: بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ [الصافات:   (1) داخل في حيز قيل اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 413 37] أو كان بليغا في الصدق لأن ملاك أمر النبوة الصدق ومصدق الله تعالى بآياته ومعجزاته حري أن يكون كذلك انتهى. وفيه إشارة إلى أن المبالغة تحتمل أن تكون باعتبار الكم وأن تكون باعتبار الكيف ولك أن تريد الأمرين لكون المقام مقام المدح والمبالغة، وقد ألم بذلك الراغب، وأما أن التكثير باعتبار المفعول كما في قطعت الحبال فقد عده في الكشف من الأغلاط فتأمل، واستظهر أنه من الصدق لا من التصديق، وأيد بأنه قرىء «أنه كان صادقا» وبأنه قلما يوجد فعيل من مفعل والكثير من فاعل، وفسر بعضهم النبي هنا برفيع القدر عند الله تعالى وعند الناس. والجملة استئناف مسوق لتعليل موجب الأمر فإن وصفه عليه السّلام بذلك من دواعي ذكره وهي على ما قيل اعتراض بين المبدل منه وهو إبراهيم والبدل وهو إذ في قوله تعالى إِذْ قالَ وتعقبه صاحب الفرائد بأن الاعتراض بين البدل والمبدل منه بدون الواو بعيد عن الطبع، وفيه منع ظاهر، وفي البحر أن بدلية إذ من إبراهيم تقتضي تصرفها والأصح أنها لا تتصرف وفيه بحث، وقيل: إذ ظرف لكان وهو مبني على أن كان الناقصة وأخواتها تعمل في الظروف وهي مسألة خلافية، وقيل: ظرف لنبينا أي منبىء في وقت قوله لِأَبِيهِ وتعقب بأنه يقتضي أن الاستنباء كان في ذلك الوقت، وقيل: ظرف لصديقا، وفي البحر لا يجوز ذلك لأنه قد نعت الأعلى رأي الكوفيين، وفيه أن نَبِيًّا خبر كما ذكرنا لا نعت، نعم تقييد الصديقية بذلك الوقت لا يخلو عن شيء. وقيل ظرف لصديقا نبيا وظاهره أنه معمول لهما معا، وفيه أن توارد عاملين على معمول واحد غير جائز على الصحيح، والقول بأنهما جعلا بتأويل اسم واحد كتأويل حلو حامض بمز أي جامعا لخصائص الصديقين والأنبياء عليهم السّلام حين خاطب أباه لا يخفى ما فيه، والذي يقتضيه السياق ويشهد به الذوق البدلية وهو بدل اشتمال، وتعليق الذكر بالأوقات مع أن المقصود تذكير ما وقع فيها من الحوادث قد مر سره مرارا فتذكر. يا أَبَتِ أي يا أبي فإن التاء عوض من ياء الإضافة ولذلك لا يجمع بينهما إلا شذوذا كقوله: يا أبتي أرقني القذان، والجمع في يا أبتا قيل بين عوضين وهو جائز كجمع صاحب الجبيرة بين المسح والتيمم وهما عوضان عن الغسل وقيل المجموع فيه عوض، وقيل: الألف للإشباع وأنت تعلم حال العلل النحوية. وقرأ ابن عامر والأعرج وأبو جعفر «يا أبت» بفتح التاء، وزعم هارون أن ذلك لحن والحق خلافه وفي مصحف عبد الله «وأبت» بواو بدل ياء والنداء بها في غير الندبة قليل، وناداه عليه السّلام بذلك استعطافا له. وأخرج أبو نعيم والديلمي عن أنس مرفوعا حق الوالد على ولده أن لا يسميه إلا بما سمي إبراهيم عليه السّلام به أباه يا أبت ولا يسميه باسمه، وهذا ظاهر في أنه كان أباه حقيقة، وصحح جمع أنه كان عمه وإطلاق الأب عليه مجاز لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ ثناءك عليه عند عبادتك له وجؤارك إليه وَلا يُبْصِرُ خضوعك وخشوعك بين يديه أو لا يسمع ولا يبصر شيئا من المسموعات والمبصرات فيدخل في ذلك ما ذكر دخولا أوليا، وما موصولة وجوزوا أن تكون نكرة موصوفة وَلا يُغْنِي أي لا يقدر على أن يغني عَنْكَ شَيْئاً من الأشياء أو شيئا من الإغناء فهو نصب على المفعولية أو المصدرية. ولقد سلك عليه السّلام في دعوته أحسن منهاج واحتج عليه أبدع احتجاج بحسن أدب وخلق ليس له من هاج لئلا يركب متن المكابرة والعناد ولا ينكب بالكلية عن سبيل الرشاد حيث طلب منه علة عبادته لما يستخف به عقل كل عاقل من عالم وجاهل ويأبى الركون إليه فضلا عن عبادته التي هي الغاية القاصية من التعظيم مع أنها لا تحق إلا لمن له الاستغناء التام والإنعام العام الخالق الرازق المحيي المميت المثيب المعاقب. ونبه على أن العاقل يجب أن يفعل كل ما يفعل لداعية صحيحة وغرض صحيح والشيء لو كان حيا مميزا سميعا بصيرا قادرا على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 414 النفع والضر لكن كان ممكنا لاستنكف ذو العقل السليم عن عبادته وإن كان أشرف الخلائق لما يراه مثله في الحاجة والانقياد للقدرة القاهرة الواجبية فما ظنك بجماد مصنوع ليس له من أوصاف الأحياء عين ولا أثر. ثم دعاه إلى أن يتبعه ليهديه إلى الحق المبين لما أنه لم يكن محظوظا من العلم الإلهي مستقلا بالنظر السوي مصدرا لدعوته بما مر من الاستعطاف حيث قال يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ ولم يسم أباه بالجهل المفرط وإن كان في أقصاه ولا نفسه بالعلم الفائق وإن كان كذلك بل أبرز نفسه في صورة رقيق له يكون أعرف بأحوال ما سلكاه من الطريق فاستماله برفق حيث قال فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا أي مستقيما موصلا إلى أسنى المطالب منحيا عن الضلال المؤدي إلى مهاوي الردى والمعاطب. وقوله جاءَنِي ظاهر في أن هذه المحاورة كانت بعد أن نبىء عليه السّلام، والذي جاءه قيل العلم بما يجب لله تعالى وما يمتنع في حقه وما يجوز على أتم وجه وأكمله. وقيل: العلم بأمور الآخرة وثوابها وعقابها. وقيل: العلم بما يعم ذلك ثم ثبطه عما هو عليه بتصويره بصورة يستنكرها كل عاقل ببيان أنه مع عرائه عن النفع بالمرة مستجلب لضرر عظيم فإنه في الحقيقة عبادة الشيطان لما أنه الآمر به فقال: يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ فإن عبادتك الأصنام عبادة له إذ هو الذي يسولها لك ويغريك عليها. وقوله إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا تعليل لموجب النهي وتأكيد له ببيان أنه مستعص على من شملتك رحمته وعمتك نعمته، ولا ريب في أن المطيع للعاصي عاص وكل من هو عاص حقيق بأن تسترد منه النعم وينتقم منه، وللإشارة إلى هذا المعنى جيء بالرحمن. وفيه أيضا إشارة إلى كمال شناعة عصيانه. وفي الاقتصار على ذكر عصيانه من بين سائر جناياته لأنه ملاكها أو لأنه نتيجة معاداته لآدم عليه السّلام فتذكيره داع لأبيه عن الاحتراز عن موالاته وطاعته، والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير. وقوله: يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ تحذير من سوء عاقبة ما هو فيه من عبادة الأصنام والخوف كما قال الراغب توقع المكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة فهو غير مقطوع فيه بما يخاف، ومن هنا قيل: إن في اختياره مجاملة. وحمله الفراء والطبري على العلم وليس بذاك وتوين عَذابٌ على ما اختاره السعد في المطول يحتمل التعظيم والتقليل أي عذاب هائل أو أدنى شيء منه وقال لا دلالة للفظ المس وإضافة العذاب إلى الرحمن على ترجيح الثاني كما ذكره بعضهم لقوله تعالى: لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ [النور: 14] ولأن العقوبة من الكريم الحليم أشد اه. واختار أبو السعود أنه للتعظيم، وقال: كلمة من متعلقة بمضمر وقع صفة للعذاب مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية، وإظهار الرحمن للإشعار بأن وصف الرحمانية لا يدفع حلول العذاب كما في قوله عز وجل ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار: 6] انتهى، وفي الكشف أن الحمل على التفخيم فى عَذابٌ كما جوزه صاحب المفتاح مما يأباه المقام أي لأنه مقام إظهار مزيد الشفقة ومراعاة الأدب وحسن المعاملة وإنما قال مِنَ الرَّحْمنِ لقوله أولا كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا وللدلالة على أنه ليس على وجه الانتقام بل ذلك أيضا رحمة من الله تعالى على عباده وتنبيه على سبق الرحمة الغضب وإن الرحمانية لا تنافي العذاب بل الرحيمية على ما عليه الصوفية فقد قال المحقق القونوي في تفسير الفاتحة: الرحيم كما بينا لأهل اليمين والجمال والرحمن الجامع بين اللطف والقهر لأهل القضية الأخرى والجلال إلى آخر ما قال، وأيد الحمل على التفخيم بقوله فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا أي قرينا تليه ويليك في العذاب فإن الولاية للشيطان بهذا المعنى إنما تترتب على مس العذاب العظيم. وأجيب عن كون المقام مقام إظهار مزيد الشفقة وهو يأبى ذلك بأن القسوة أحيانا من الشفقة أيضا كما قيل: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 415 فقسا ليزدجروا ومن يك حازما ... فليقس أحيانا على من يرحم وقد تقدم هذا مع أبيات أخر بهذا المعنى، ويكفي في مراعاة الأدب والمجاملة عدم الجزم باللحوق. والمس وإن كان مشعرا بالقلة عند الجلة لكن قالوا: إن الكثرة والعظمة باعتبار ما يلزمه ويتبعه لا بالنظر إليه في نفسه فإنه غير مقصود بالذات وإنما هو كالذوق مقدمة للمقصود فيصح وصفه بكل من الأمرين باعتبارين. وكأني بك تختار التفخيم لأنه أنسب بالتخويف وتدعي أنه هاهنا من معدن الشفقة فتدبر. وجوز أن يكون فَتَكُونَ إلخ مترتبا على مس العذاب القليل والولي من الموالاة وهي المتابعة والمصادقة. والمراد تفريع الثبات على حكم تلك الموالاة وبقاء آثارها من سخط الله تعالى وغضبه، ولا مانع من أن يتفرع من قليل أمر عظيم. ثم الظاهر أن المراد بالعذاب عذاب الآخرة وتأوله بعضهم بعذاب الدنيا وأراد به الخذلان أو شيئا آخر مما أصاب الكفرة في الدنيا من أنواع البلاء وليس بذاك، وزعم بعضهم أن في الكلام تقديما وتأخيرا والأصل إني أخاف أن تكون وليا للشيطان أي تابعا له في الدنيا فيمسك عذاب من الرحمن أي في العقبى وكأنه أشكل عليه أمر التفريع فاضطر لما ذكر وقد أغناك الله تعالى عن ذلك بما ذكرنا قالَ استئناف مبني على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنه قيل فماذا قال أبوه عند ما سمع منه عليه السّلام هذه النصائح الواجبة القبول فقيل؟ قال مصرا على عناده مقابلا الاستعطاف واللطف بالفظاظة والغلظة: أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ اختار الزمخشري كون راغِبٌ خبرا مقدما وأَنْتَ مبتدأ وفيه توجيه الإنكار إلى نفس الرغبة مع ضرب من التعجيب. وذهب أبو البقاء وابن مالك وغيرهما إلى أن أَنْتَ فاعل الصفة لتقدم الاستفهام وهو مغن عن الخبر وذلك لئلا يلزم الفصل بين أَراغِبٌ ومعموله وهو عَنْ آلِهَتِي بأجنبي هو المبتدأ. وأجيب بأن عَنْ متعلق بمقدر بعد أنت يدل عليه أراغب. وقال صاحب الكشف: المبتدأ ليس أجنبيا من كل وجه لا سيما والمفصول ظرف والمقدم في نية التأخير والبليغ يلتفت لفت المعنى بعد أن كان لما يرتكبه وجه مساغ في العربية وإن كان مرجوحا. ولعل سلوك هذا الأسلوب قريب من ترجيح الاستحسان لقوة أثره على القياس، ولا خفاء أن زيادة الإنكار إنما نشأ من تقديم الخبر كأنه قيل أراغب أنت عنها لا طالب لها راغب فيها منبها له على الخطأ في صدوفه ذلك ولو قيل: أترغب لم يكن من هذا الباب في شيء انتهى، ورجح أبو حيان إعراب أبي البقاء ومن معه بعدم لزوم الفصل فيه وبسلامة الكلام عليه عن خلاف الأصل في التقديم والتأخير، وتوقف البدر الدماميني في جواز ابتدائية المؤخر في مثل هذا التركيب وإن خلا عن فصل أو محذور آخر كما في أطالع الشمس وذلك نحو أقائم زيد للزوم التباس المبتدأ بالفاعل كما في ضرب زيد فإنه لا يجوز فيه ابتدائية زيد. وأجاب الشمني بأن زيدا في الأول يحتمل أمرين كل منهما بخلاف الأصل وذلك إجمال لا لبس بخلافه في الثاني فتأمل لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ تهديد وتحذير عما كان عليه من العظة والتذكير أي والله لئن لم تنته عما أنت عليه من النهي عن عبادتها والدعوة إلى ما دعوتني إلي لأرجمنك بالحجارة على ما روي عن الحسن، وقيل: باللسان والمراد لأشتمنك وروي ذلك عن ابن عباس وعن السدي والضحاك وابن جريج، وقدر بعضهم متعلق النهي الرغبة عن الآلهة أي لئن لم تنته عن الرغبة عن آلهتي لأرجمنك وليس بذاك وَاهْجُرْنِي عطف على محذوف يدل عليه التهديد أي فاحذرني واتركني وإلى ذلك ذهب الزمخشري. ولعل الداعي لذلك وعدم اعتبار العطف على المذكور أنه لا يصح أو لا يحسن التخالف بين المتعاطفين إنشائية وإخبارية، وجواب القسم غير الاستعطافي لا يكون إنشاء وليست الفاء في فاحذرني عاطفة حتى يعود المحذور. ومن الناس من عطف على الجملة السابقة بناء على تجويز سيبويه العطف مع التخالف في الأخبار والإنشاء والتقدير أوقع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 416 في النفس مَلِيًّا أي دهرا طويلا عن الحسن ومجاهد وجماعة، وقال السدي: أبدا وكأنه المراد، وأصله على ما قيل من الإملاء أي الإمداد وكذا الملاوة بتثليث الميم وهي بمعناه ومن ذلك الملوان الليل والنهار ونصبه على الظرفية كما في قول مهلهل: فتصدعت صم الجبال لموته ... وبكت عليه المرملات مليا وأخرج ابن الأنباري عن ابن عباس أنه فسره بطويلا ولم يذكر الموصوف فقيل هو نصب على المصدرية أي هجرا مليا، وفي رواية أخرى عن ابن عباس أن المعنى سالما سويا والمراد قادرا على الهجر مطيقا له وهو حينئذ حال من فاعل اهْجُرْنِي أي اهجرني مليا بالهجران والذهاب عني قبل أن أثخنك بالضرب حتى لا تقدر أن تبرح، وكأنه على هذا من تملى بكذا تمتع به ملاوة من الدهر قالَ استئناف كما سلف سَلامٌ عَلَيْكَ توديع ومتاركة على طريقة مقابلة السيئة بالحسنة فإن ترك الإساءة للمسيء إحسان أي لا أصيبك بمكروه بعد ولا أشافهك بما يؤذيك، وهو نظير ما في قوله تعالى «لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين» في قوله، وقيل: هو تحية مفارق، وجوز قائل هذا تحية الكافر وأن يبدأ بالسلام المشروع وهو مذهب سفيان بن عيينة مستدلا بقوله تعالى: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ [الممتحنة: 8] الآية، وقوله سبحانه قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ [الممتحنة: 4] الآية، وما استدل به متأول وهو محجوج بما ثبت في صحيح مسلم «لا تبدأ اليهود والنصارى بالسلام» وقرىء «سلاما» بالنصب على المصدرية والرفع على الابتداء سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي أي استدعيه سبحانه أن يغفر لك بأن يوفقك للتوبة ويهديك إلى الإيمان كما يلوح به تعليل قوله «واغفر لأبي» بقوله إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ [الشعراء: 86] كذا قيل فيكون استغفاره في قوة قوله: ربي اهده إلى الإيمان وأخرجه من الضلال. والاستغفار بهذا المعنى للكافر قبل تبين تحتم أنه يموت على الكفر مم لا ريب في جوازه كما أنه لا ريب في عدم جوازه عند تبين ذلك لما فيه من طلب المحال فإن ما أخبر الله تعالى بعدم وقوعه محال وقوعه ولهذا لما تبين له عليه السّلام بالوحي على أحد القولين المذكورين في سورة التوبة أنه لا يؤمن تركه أشد الترك فالوعد والإنجاز كانا قبل التبيين ولذا لم يؤذنوا بالتأسي به عليه السّلام في الاستغفار، قال العلامة الطيبي: إنه تعالى بين للمؤمنين أن أولئك أعداء الله تعالى بقوله سبحانه لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [الممتحنة: 1] وأن لا مجال لإظهار المودة بوجه ما ثم بالغ جل شأنه في تفصيل عداوتهم بقوله عز وجل: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة: 2] ثم حرضهم تعالى على قطيعة الأرحام بقوله سبحانه لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الممتحنة: 3] ثم سلاهم عز وجل بالتأسي في القطيعة بإبراهيم عليه السّلام وقومه بقوله تبارك وتعالى: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ [الممتحنة: 4] إلى قوله تعالى شأنه إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [الممتحنة: 4] فاستثنى من المذكور ما لم يحتمله المقام كما احتمله ذلك المقام كما احتمله ذلك المقام للنص القاطع يعني لكم التأسي بإبراهيم عليه السّلام مع هؤلاء الكفار في القطيعة والهجران لا غير فلا تجاملوهم ولا تبدوا لهم الرأفة والرحمة كما أبدى إبراهيم عليه السّلام لأبيه في قوله سأستغفر لك لأنه لم يتبين له حينئذ أنه لا يؤمن كما بدا لكم كفر هؤلاء وعداوتهم انتهى. واعترض بأن ما ذكر ظاهر في أن الاستغفار الذي وقع من المؤمنين لأولى قرابتهم فنهوا عنه لأنه كان بعد التبيين كان كاستغفار إبراهيم عليه السّلام بمعنى طلب التوفيق للتوبة والهداية للإيمان، والذي اعتمده كثير من العلماء أن قوله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 417 تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة: 113] الآية نزل في استغفاره صلّى الله عليه وسلّم لعمه أبي طالب بعد موته وذلك الاستغفار مما لا يكون بمعنى طلب الهداية أصلا وكيف تعقل الهداية بعد الموت بل لو فرض أن استغفاره عليه الصلاة والسّلام له كان قبل الموت لا يتصور أيضا أن يكون بهذا المعنى لأن الآية تقتضي أنه كان بعد تبين أنه من أصحاب الجحيم، وإذا فسر بتحتم الموت على الكفر كان ذلك دعاء بالهداية إلى الإيمان مع العلم بتحتم الموت على الكفر ومحاليته إذا كانت معلومة لنا بما مر فهي أظهر شيء عنده صلّى الله عليه وسلّم وعند المقتبسين من مشكاته عليه الصلاة والسّلام، وهو اعتراض قوي بحسب الظاهر وعليه يجب أن يكون استغفار إبراهيم عليه السّلام لأبيه بذلك المعنى في حياته لعدم تصور ذلك بعد الموت وهو ظاهر. وقد قال الزمخشري في جواب السؤال بأنه كيف جاز له عليه السّلام أن يستغفر للكافر وأن يعده ذلك؟ قالوا: أراد اشتراط التوبة عن الكفر وقالوا إنما استغفر له بقوله: «واغفر لأبي» لأنه وعده أن يؤمن، واستشهدوا بقوله تعالى: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ [التوبة: 114] ثم قال: ولقائل أن يقول: الذي منع من الاستغفار للكافر إنما هو السمع فأما قضية العقل فلا تأباه فيجوز أن يكون الوعد بالاستغفار والوفاء به قبل ورود السمع ويدل على صحته أنه استثنى قول إبراهيم عليه السّلام «لأستغفرن» لك في آية «قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم» إلخ عما وجبت فيه الأسوة ولو كان بشرط الإيمان والتوبة لما صح الاستثناء، وأما كون الوعد من أبيه فيخالف الظاهر الذي يشهد له قراءة الحسن وغيره «وعدها أباه» بالباء الموحدة قال في الكشف: واعترض الإمام حديث الاستثناء بأن الآية دلت على المنع من التأسي لا أن ذلك كان معصية فجاز أن يكون من خواصه ككثير من المباحات التي اختص بها النبي صلّى الله عليه وسلّم وليس بشيء لأن الزمخشري لم يذهب إلى أن ما ارتكبه إبراهيم عليه السّلام كان منكرا بل إنما هو منكر علينا لورود السمع. واعترض صاحب التقريب بأن نفي اللازم ممنوع فإن الاستثناء عما وجبت فيه الأسوة دل على أنه غير واجب لا على أنه غير جائز فكان ينبغي عما جازت فيه الأسوة بدل عما وجبت إلخ والآية لا دلالة فيها على الوجوب. والجواب أن جعله مستنكرا ومستثنى يدل على أنه منكر لا الاستثناء عما وجبت فيه فقط وإنما أتى الاستنكار لأنه مستثنى عن الأسوة الحسنة فلو اؤتسي به فيه لكان أسوة قبيحة، وأما الدلالة على الوجوب فبينة من قوله تعالى آخرا لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ [الأحزاب: 21] كما تقرر في الأصول. والحاصل أن فعل إبراهيم عليه السّلام يدل على أنه ليس منكرا في نفسه وقوله تعالى «ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا» إلخ يدل على أنه الآن منكر سمعا وأنه كان مستنكرا في زمن إبراهيم عليه السّلام أيضا بعد ما كان غير منكر ولذا تبرأ منه وهو ظاهر إلا أن الزمخشري جعل مدرك الجواز قبل النهي العقل وهي مسألة خلافية وكم قائل إنه السمع لدخوله تحت بر الوالدين والشفقة على أمة الدعوة بل قيل: إن الأول مذهب المعتزلة وهذا مذهب أهل السنة انتهى مع تغيير يسير. واعترض القول بأنه استنكر في زمن إبراهيم عليه السّلام بعد ما كان غير منكر بأنه لو كان كذلك لم يفعله نبينا صلّى الله عليه وسلّم وقد جاء أنه عليه الصلاة والسّلام فعله لعمه أبي طالب. وأجيب بجواز أنه لم يبلغه إذ فعل عليه الصلاة والسّلام، والتحقيق في هذه المسألة أن الاستغفار للكافر الحي المجهول العاقبة بمعنى طلب هدايته للإيمان مما لا محذور فيه عقلا ونقلا وطلب ذلك للكافر المعلوم أنه قد طبع على قلبه وأخبر الله تعالى أنه لا يؤمن وعلم أن لا تعليق في أمره أصلا مما لا مساغ له عقلا ونقلا، ومثله طلب المغفرة للكافر مع بقائه على الكفر على ما ذكره بعض المحققين، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 418 وكان ذلك على ما قيل لما فيه من إلغاء أمر الكفر الذي لا شيء يعدله من المعاصي وصيرورة التكليف بالإيمان الذي لا شيء يعدله من الطاعات عبثا مع ما في ذلك مما لا يليق بعظمة الله عز وجل، ويكاد يلحق بذلك فيما ذكر طلب المغفرة لسائر العصاة مع البقاء على المعصية إلا أن يفرق بين الكفر وسائر المعاصي، وأما طلب المغفرة للكافر بعد موته على الكفر فلا تأباه قضية العقل وإنما يمنعه السمع وفرق بينه وبين طلبها للكافر مع بقائه على الكفر بعدم جريان التعليل السابق فيه ويحتاج ذلك إلى تأمل. واستدل على جواز ذلك عقلا بقوله صلّى الله عليه وسلّم لعمه «لا أزال أستغفر لك ما لم أنه» فنزل قوله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة: 113] الآية، وحمل قوله تعالى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ [التوبة: 113] على معنى من بعد ما ظهر لهم أنهم ماتوا كفارا والتزم القول بنزول قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 116] بعد ذلك وإلا فلا يتسنى استغفاره صلّى الله عليه وسلّم لعمه بعد العلم بموته كافرا وتقدم السماع بأن الله تعالى لا يغفر الكفر، وقيل لا حاجة إلى التزام ذلك لجواز أن يكون عليه الصلاة والسّلام لوفور شفقته وشدة رأفته قد حمل الآية على أنه تعالى لا يغفر الشرك إذا لم يشفع فيه أو الشرك الذي تواطأ فيه القلب وسائر الجوارح وعلم من عمه أنه لم يكن شركه كذلك فطلب المغفرة حتى نهى صلّى الله عليه وسلّم، وقيل غير ذلك فتأمل، فالمقام محتاج بعد إلى كلام والله تعالى الموفق. إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا بليغا في البر والإكرام يقال حفي به إذا اعتنى بإكرامه، والجملة تعليل لمضمون ما قبلها، وتقديم الظرف لرعاية الفواصل مع الاهتمام وَأَعْتَزِلُكُمْ الظاهر أنه عطف على سَأَسْتَغْفِرُ والمراد أتباعد عنك وعن قومك وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بالمهاجرة بديني حيث لم تؤثر فيكم نصائحي. يروى أنه عليه السّلام هاجر إلى الشام، وقيل إلى حران وهو قريب من ذلك وكانوا بأرض كوثا. وفي هجرته هذه تزوج سارة ولقي الجبار الذي أخدم سارة هاجر، وجوز حمل الاعتزال على الاعتزال بالقلب والاعتقاد وهو خلاف الظاهر المأثور وَأَدْعُوا رَبِّي أي أعبده سبحانه وحده كما يفهم من اجتناب غيره تعالى من المعبودات وللتغاير بين العبادتين غوير بين العبارتين، وذكر بعضهم أنه عبر بالعبادة أولا لأن ذلك أوفق بقول أبيه أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي مع قوله فيما سبق يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ [مريم: 42] إلخ، وعبر ثانيا بالدعاء لأنه أظهر في الإقبال المقابل للاعتزال. وجوز أن يراد بذلك الدعاء مطلقا أو ما حكاه سبحانه في سورة [الشعراء: 83] وهو قوله رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وقيل لا يبعد أن يراد استدعاء الولد أيضا بقوله: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: 100] حسبما يساعده السياق والسباق عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا خائبا ضائع السعي. وفيه تعريض بشقاوتهم في عبادة آلهتهم. وفي تصدير الكلام بعسى من إظهار التواضع ومراعاة حسن الأدب والتنبيه على حقيقة الحق من أن الإثابة والإجابة بطريق التفضل منه عز وجل لا بطريق الوجوب وأن العبرة بالخاتمة وذلك من الغيوب المختصة بالعليم الخبير ما لا يخفى فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بالمهاجرة إلى ما تقدم وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ بدل من فارقهم من أبيه وقومه الكفرة لكن لا عقيب المهاجرة. والمشهور أن أول ما وهب له عليه السّلام من الأولاد إسماعيل عليه السّلام لقوله تعالى فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ [الصافات: 101] إثر دعائه بقوله «رب هب لي من الصالحين» وكان من هاجر فغارت سارة فحملت بإسحاق عليه السّلام فلما كبر ولد له يعقوب عليه السّلام. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 419 ولعل ترتيب هبتهما على اعتزاله هاهنا لبيان كمال عظم النعم التي أعطاها الله تعالى إياه بمقابلة من اعتزلهم من الأهل والأقرباء فإنهما شجرتا الأنبياء ولهما أولاد وأحفاد أولو شأن خطير وذوو عدد كثير مع أنه سبحانه أراد أن يذكر إسماعيل عليه السّلام بفضله على الانفراد. وروي أنه عليه السّلام لما قصد الشام أتى أولا حران وتزوج سارة وولدت له إسحاق وولد لإسحاق يعقوب. والأول هو الأقرب الأظهر وَكُلًّا أي كل واحد من إسحاق ويعقوب أو منهما ومن إبراهيم عليه السّلام وهو مفعول أول لقوله تعالى جَعَلْنا نَبِيًّا قدم عليه للتخصيص لكن لا بالنسبة إلى من عداهم بل بالنسبة إلى بعضهم أي كل واحد منهم جَعَلْنا نَبِيًّا لا بعضهم دون بعض، ولا يظهر في هذا الترتيب على الوجه الثاني في كُلًّا كون إبراهيم عليه السّلام نبيا قبل الاعتزال وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا قال الحسن: النبوة. ولعل ذكر ذلك بعد ذكر جعلهم أنبياء للإيذان بأن النبوة من باب الرحمة التي يختص بها من يشاء. وقال الكلبي: هي المال والولد وقيل هو الكتاب والأظهر أنها عامة لكل خير ديني ودنيوي أوتوه مما لم يؤت أحد من العالمين وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا تفتخر بهم الناس ويثنون عليهم استجابة لدعوته عليه السّلام بقوله وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء: 84] وزيادة على ذلك. والمراد باللسان ما يوجد به من الكلام فهو مجاز بعلاقة السببية كاليد في العطية ولسان العرب لغتهم. ويطلق على الرسالة الرائع كما في قول أعشى باهلة: إني أتتني لسان لا أسر بها ومنه قول الآخر ندمت على لسان كان مني وإضافته إلى الصدق ووصفه بالعلو للدلالة على أنهم أحقاء بما يثنون عليهم وأن محامدهم لا تخفى كأنها نار على علم على تباعد الأعصار وتبدل الدول وتغير الملل والنحل، وخص بعضهم لسان الصدق بما يتلى في التشهد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم والعموم أولى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 420 وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى قيل قدم ذكره على إسماعيل عليهما السلام لئلا ينفصل عن ذكر يعقوب عليه السلام. وقيل: تعجيلا لاستجلاب أهل الكتاب بعد ما فيه استجلاب العرب. إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً موحدا أخلص عبادته عن الشرك والرياء أو أسلم وجهه لله عز وجل وأخلص عن سواه. وقرأ الكوفيون وأبو رزين ويحيى وقتادة «مخلصا» بفتح اللام على أن الله تعالى أخلصه وَكانَ رَسُولًا مرسلا من جهة الله تعالى إلى الخلق بتبليغ ما شاء من الأحكام نَبِيًّا رفيع القدر على كثير من الرسل عليهم السلام أو على سائر الناس الذين أرسل إليهم فالنبي من النبوة بمعنى الرفعة. ويجوز أن يكون من النبأ وأصله نبيء أي المنبئ عن الله تعالى بالتوحيد والشرائع (1) ورجح الأول بأنه أبلغ قيل ولذلك قال صلّى الله عليه وسلّم «لست بنبيء الله تعالى بالهمزة ولكن نبي الله تعالى» لمن خاطبه بالهمز وأراد أن يغض منه. والذي ذكره الجوهري أن القائل أراد أنه عليه الصلاة والسّلام أخرجه قومه من نبأ فأجابه صلّى الله عليه وسلّم بما يدفع ذلك الاحتمال. ووجه الإتيان بالنبي بعد الرسول على الأول ظاهر. ووجه ذلك على الثاني موافقة الواقع بناء على أن المراد أرسله الله تعالى إلى الخلق فأنبأهم عنه سبحانه. واختار بعضهم أن المراد من كلا اللفظين معنا هما اللغوي وأن ذكر النبي بعد الرسول لما أنه ليس كل مرسل نبيا لأنه قد يرسل بعطية أو مكتوب أو نحوهما وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ الطور جبل بين مصر ومدين والأيمن صفة لجانب لقوله تعالى في آية أخرى جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ بالنصب أي باديناه من ناحيته اليمنى من اليمين المقابل لليسار. والمراد به يمين موسى عليه السّلام أي الناحية التي تلي يمينه إذ الجبل نفسه لا ميمنة له ولا ميسرة. ويجوز أن يكون الأيمن من اليمن وهو البركة وهو صفة لجانب أيضا أي من جانبه الميمون المبارك. وجوز على هذا أن يكون صفة للطور والأول أولى، والمراد من ندائه من ذلك ظهور كلامه تعالى من تلك الجهة، والظاهر أنه عليه السّلام إنما سمع الكلام اللفظي، وقال بعض: إن الذي سمعه كان بلا حرف ولا صوت وأنه عليه السّلام سمعه بجميع أعضائه من جميع الجهات وبذلك يتيقن أن المنادي هو الله تعالى، ومن هنا قيل: إن المراد ناديناه مقبلا من جانب الطور المبارك وهو طور ما وراء طور العقل، وفي الأخبار ما ينادي على خلافه وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا تقريب تشريف مثل حاله عليه السّلام بحال من قربه الملك لمناجاته واصطفاه لمصاحبته ورفع الوسائط بينه وبينه، ونَجِيًّا فعيل بمعنى مفاعل كجليس بمعنى مجالس ونديم بمعنى منادم من المناجاة المسارّة بالكلام ونصبه على الحالية من أحد ضميري موسى عليه السّلام في ناديناه وقربناه أي ناديناه أو قربناه حال كونه مناجيا، وقال غير واحد. مرتفعا على أنه من النجو وهو الارتفاع.   (1) لم يقصد به الاعتراض اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 421 فقد أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أن جبرائيل عليه السّلام أردفه حتى سمع صرير القلم والتوراة تكتب له أي كتابة ثانية وإلا ففي الحديث الصحيح الوارد في شأن محاجة آدم وموسى عليهما السّلام أنها كتبت قبل خلق آدم عليه السّلام بأربعين سنة، وخبر رفعه عليه السّلام إلى السماء حتى سمع صرير القلم رواه غير واحد وصححه الحاكم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعلى ذلك لا يكون المعراج مطلقا مختصا بنبينا صلّى الله عليه وسلّم بل المعراج الأكمل، وقيل معنى نَجِيًّا ناجيا بصدقه، وروى ذلك عن قتادة ولا يخفى بعده. وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أي من أجل رحمتنا له أَخاهُ أي معاضدة أخيه ومؤازرته إجابة لدعوته بقوله: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي [طه: 29، 30] لا نفسه عليه السّلام لأنه كان أكبر من موسى عليه السّلام سنا فوجوده سابق على وجوده وهو مفعول وَهَبْنا وقوله تعالى هارُونَ عطف بيان له، وقوله سبحانه نَبِيًّا حال منه، ويجوز أن تكون من للتبعيض قيل وحينئذ يكون أَخاهُ بدل بعض من كل أو كل من كل أو اشتمال من من، وتعقب بأنها إن كانت اسما مرادفة لبعض فهو خلاف الظاهر وإن كانت حرفا فإبدال الاسم من الحرف مما لم يوجد في كلامهم، وقيل: التقدير وهبنا له شيئا من رحمتنا فأخاه بدل من شيئا المقدر وأنت تعلم أن الظاهر هو كونه مفعولا وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ الظاهر أنه ابن إبراهيم عليهما السّلام كما ذهب إليه الجمهور وهو الحق، وفصل ذكره عن ذكر أبيه وأخيه عليهم السّلام لإبراز كمال الاعتناء بأمره بإيراده مستقلا، وقيل: إنه إسماعيل بن حز قيل بعثه الله تعالى إلى قومه فسلخوا جلدة رأسه فخيره الله تعالى فيما شاء من عذابهم فاستعفاه ورضي بثوابه سبحانه وفوض أمرهم إليه عز وجل في العفو والعقوبة وروى ذلك الإمامية عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه وغالب الظن أنه لا يصح عنه إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ تعليل لموجب الأمر، وإيراده عليه السّلام بهذا الوصف لكمال شهرته بذلك. وقد جاء في بعض الأخبار أنه وعد رجلا أن يقيم له بمكان فغاب عنه حولا فلما جاءه قال له: ما برحت من مكانك فقال: لا والله ما كنت لأخلف موعدي، وقيل: غاب عنه اثني عشر يوما، وعن مقاتل ثلاثة أيام، وعن سهل بن سعد يوما وليلة والأول أشهر ورواه الإمامية أيضا عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه وإذا كان هو الذبيح فناهيك في صدقه أنه وعد أباه الصبر على الذبح بقوله: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات: 102] فوفى. وقال بعض الأذكياء طال بقاؤه: لا يبعد أن يكون ذلك إشارة إلى هذا الوعد والصدق فيه من أعظم ما يتصور. وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا الكلام فيه كالكلام في السابق بيد أنهم قالوا هنا: إن فيه دلالة على أن الرسول لا يجب أن يكون صاحب شريعة مستقلة فإن أولاد إبراهيم عليهم السّلام كانوا على شريعته وقد اشتهر خلافه بل اشترط بعضهم فيه أن يكون صاحب كتاب أيضا والحق أنه ليس بلازم، وقيل: إن المراد بكونه صاحب شريعة أن يكون له شريعة بالنسبة إلى المبعوث إليهم وإسماعيل عليه السّلام كذلك لأنه بعث إلى جرهم بشريعة أبيه ولم يبعث إبراهيم عليه السّلام إليهم ولا يخفى ما فيه وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ اشتغالا بالأهم وهو أن يبدأ الرجل بعد تكميل نفسه بتكميل من هو أقرب الناس إليه قال الله تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ [طه: 132] قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً [التحريم: 6] أو قصدا إلى تكميل الكل بتكميلهم لأنهم قدوة يؤتسى بهم. وقال الحسن: المراد بأهله أمته (1) لكون النبي بمنزلة الأب لأمته، ويؤيد ذلك أن في مصحف عبد الله وكان يأمر قومه والمراد بالصلاة والزكاة قيل معناهما المشهور، وقيل: المراد بالزكاة مطلق الصدقة، وحكي أنه عليه السّلام كان   (1) وحكى الأزهري عن الكسائي أن النبي الطريق والأنبياء عليهم السّلام طرق الهدى اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 422 يأمر أهله بالصلاة ليلا والصدقة نهارا، وقيل المراد بها تزكية النفس وتطهيرها وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا لاستقامة أقواله وأفعاله وهو اسم مفعول وأصله مرضوو فأعل بقلب واوه ياء لأنها طرف بعد واو ساكنة فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء وقلبت الضمة كسرة. وقرأ ابن أبي عبلة «مرضوا» من غير إعلال، وعن العرب أنهم قالوا: أرض مسنية ومسنوة وهي التي تسقى بالسواني وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ هو نبي قبل نوح وبينهما على ما في المستدرك عن ابن عباس ألف سنة وهو أخنوخ (1) بن يرد بن مهلاييل بن أنوش بن قينان بن شيث بن آدم عليه السّلام، وعن وهب بن منبه أنه جد نوح عليه السّلام، والمشهور أنه جد أبيه فإنه ابن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو أول من نظر في النجوم والحساب وجعل الله تعالى ذلك من معجزاته على ما في البحر وأول من خط بالقلم وخاط الثياب ولبس المخط وكان خياطا وكانوا قبل يلبسون الجلود وأول مرسل بعد آدم، وقد أنزل الله تعالى عليه ثلاثين صحيفة وأول من اتخذ الموازين والمكاييل والأسلحة فقاتل بني قابيل، وعن ابن مسعود أنه الياس بعث إلى قومه أن يقولوا لا إله إلا الله ويعملوا ما شاؤوا فأبوا وأهلكوا والمعول عليه الأول وإن روي القول بأنه الياس ابن أبي حاتم بسند حسن عن ابن مسعود، وهذا اللفظ سرياني عند الأكثرين وليس مشتقا من الدرس لأن الاشتقاق من غير العربي مما لم يقل به أحد وكونه عربيا مشتقا من ذلك يرده منع صرفه، نعم لا يبعد أن يكون معناه في تلك اللغة قريبا من ذلك فلقب به لكثرة دراسته إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا هو كما تقدم. وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا هو شرف النبوة والزلفى عند الله تعالى كما روي عن الحسن وإليه ذهب الجبائي وأبو مسلم، وعن أنس وأبي سعيد الخدري وكعب ومجاهد السماء الرابعة، وعن ابن عباس. والضحاك السماء السادسة وفي رواية أخرى عن الحسن الجنة لا شيء أعلا من الجنة، وعن النابغة الجعدي أنه لما أنشد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الشعر الذي آخره: بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا قال عليه الصلاة والسّلام له: إلى أين المظهر يا أبا ليلى؟ قال إلى الجنة يا رسول الله قال: أجل إن شاء الله تعالى. وعن قتادة أنه عليه السّلام يعبد الله تعالى مع الملائكة عليهم السّلام في السماء السابعة ويرتع تارة في الجنة حيث شاء، وأكثر القائلين برفعه حسا قائلون بأنه حي حيث رفع، وعن مقاتل أنه ميت في السماء وهو قول شاذ. وسبب رفعه على ما روي عن كعب وغيره أنه مر ذات يوم في حاجة فأصابه وهج الشمس فقال: يا رب إني مشيت يوما في الشمس فأصابني منها ما أصابني فكيف بمن يحملها مسيرة خمسمائة عام في يوم واحد اللهم خفف عنه من ثقلها وحرها فلما أصبح الملك وجد من خفة الشمس وحرها ما لا يعرف فقال: يا رب خلقتني لحمل الشمس فماذا الذي قضيت فيه قال: إن عبدي إدريس سألني أن أخفف عنك حملها وحرها فأجبته قال: يا رب فاجمع بيني وبينه واجعل بيني وبينه خلة فأذن له حتى أتى إدريس ثم إنه طلب منه رفعه إلى السماء فأذن الله تعالى له بذلك فرفعه ، وأخرج ابن المنذر عن عمر مولى عفرة يرفع الحديث إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن إدريس كان نبيا تقيا زكيا وكان يقسم دهره على نصفين ثلاثة أيام يعلم الناس الخير وأربعة أيام يسيح في الأرض ويعبد الله تعالى مجتهدا وكان يصعد من عمله وحده   (1) أي أمة الإجابة اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 423 إلى السماء من الخير مثل ما يصعد من جميع أعمال بني آدم وأن ملك الموت أحبه في الله تعالى فأتاه حين خرج للسياحة فقال له: يا نبي الله إني أريد أن تأذن لي في صحبتك فقال له إدريس وهو لا يعرفه: إنك لن تقوى على صحبتي قال: بلى إني أرجو أن يقويني الله تعالى على ذلك فخرج معه يومه ذلك حتى إذا كان من آخر النهار مرا براعي غنم فقال ملك الموت: يا نبي الله إنا لا ندري حيث نمسي فلو أخذنا جفرة من هذه الغنم فأفطرنا عليها فقال له: لا تعد إلى مثل هذا أتدعوني إلى أخذ ما ليس لنا من حيث نمسي يأتينا الله تعالى برزق فلما أمسى أتاه الله تعالى بالرزق الذي كان يأتيه فقال لملك الموت تقدم فكل فقال: لا والذي أكرمك بالنبوة ما أشتهي فأكل وحده وقاما جميعا إلى الصلاة ففتر إدريس ونعس ولم يفتر الملك ولم ينعس فعجب منه وصغرت عنده عبادته مما رأى ثم أصبحا فساحا فلما كان آخر النهار مرا بحديقة عنب فقال له مثل ما قال أولا فلما أمسيا أتاه الله تعالى بالرزق فدعاه إلى الأكل فلم يأكل وقاما إلى الصلاة وكان من أمرهما ما كان أولا فقال له إدريس: لا والذي نفسي بيده ما أنت من بني آدم فقال: أجل لست منهم وذكر له أنه ملك الموت فقال: أمرت فيّ بأمر فقال: لو أمرت فيك بأمر ما ناظرتك ولكني أحبك في الله تعالى وصحبتك له فقال له: إنك معي هذه المدة لم تقبض روح أحد من الخلق قال: بل إني معك وإني أقبض نفس من أمرت بقبض نفسه في مشارق الأرض ومغاربها وما الدنيا كلها عندي إلا كمائدة بين يدي الرجل يتناول منها ما شاء فقال له: يا ملك الموت أسألك بالذي أحببتني له وفيه إلا قضيت لي حاجة أسالكها فقال: سلني يا نبي الله فقال: أحب أن تذيقني الموت ثم ترد عليّ روحي فقال: ما أقدر إلا أن أستأذن فاستأذن ربه تعالى فأذن له فقبض روحه ثم ردها الله تعالى إليه فقال له ملك الموت: يا نبي الله كيف وجدت الموت؟ قال: أعظم مما كنت أحدث وأسمع ثم سأله رؤية النار فانطلق إلى أحد أبواب جهنم فنادى بعض خزنتها فلما علموا أنه ملك الموت ارتعدت فرائصهم وقالوا: أمرت فينا بأمر فقال لو أمرت فيكم بأمر ما ناظرتكم ولكن نبي الله تعالى إدريس سألني أن تروه لمحة من النار ففتحوا له قدر ثقب المخيط فأصابه ما صعق منه فقال ملك الموت: أغلقوا فغلقوا وجعل يمسح وجه إدريس ويقول: يا نبي الله تعالى ما كنت أحب أن يكون هذا حظك من صحبتي فلما أفاق سأله كيف رأيت قال: أعظم مما كنت أحدث وأسمع ثم سأله أن يريه لمحة من الجنة ففعل نظير ما فعل قبل فلما فتحوا له أصابه من بردها وطيبها وريحانها ما أخذ بقلبه فقال: يا ملك الموت إني أحب أن أدخل الجنة فآكل أكلة من ثمارها وأشرب شربة من مائها فلعل ذلك أن يكون أشد لطلبتي ورغبتي فدخل وأكل وشرب فقال له ملك الموت: اخرج يا نبي الله تعالى قد أصبت حاجتك حتى يردك الله عز وجل مع الأنبياء عليهم السّلام يوم القيامة فاحتضن بساق شجرة من أشجارها وقال: ما أنا بخارج وإن شئت أن أخاصمك خاصمتك فأوحى الله تعالى إلى ملك الموت قاضه الخصومة فقال له: ما الذي تخاصمني به يا نبي الله تعالى فقال إدريس: قال الله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: 185، الأنبياء: 35، العنكبوت: 57] وقد ذقته وقال سبحانه وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم: 71] وقد وردتها وقال جل وعلا لأهل الجنة وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ [الحجر: 48] فأخرج من شيء ساقه الله عز وجل إليّ فأوحى الله تعالى إلى ملك الموت خصمك عبدي إدريس وعزتي وجلالي إن في سابق علمي أن يكون كذلك فدعه فقد احتج عليك بحجة قوية» الحديث والله تعالى أعلم بصحته وكذا بصحة ما قبله من خبر كعب، وهذا الرفع لاقتضائه علو الشأن ورفعة القدر كان فيه من المدح ما فيه وإلا فمجرد الرفع إلى مكان عال حسا ليس بشيء: فالنار يعلوها الدخان وربما ... يعلو الغبار عمائم الفرسان وادعى بعضهم أن الأقرب أن العلو حسي لأن الرفعة المقترنة بالمكان لا تكون معنوية. وتعقب بأن فيه نظرا لأنه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 424 ورد مثله بل ما هو أظهر منه كقوله: وكن في مكان إذا ما سقطت ... تقوم ورجلك في عافيه. فتأمل أُولئِكَ إشارة إلى المذكورين في السورة الكريمة، وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو مرتبتهم وبعد منزلتهم في الفضل. وهو مبتدأ وقوله تعالى الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي بفنون النعم الدينية والدنيوية حسبما أشير إليه مجملا خبره على ما استظهره في البحر، والحصر عند القائل به إضافي بالنسبة إلى غير الأنبياء الباقين عليهم الصلاة والسّلام لأنهم معروفون بكونهم منعما عليهم فينزل الأنعام على غيرهم منزلة العدم، وقيل: يقدر مضاف أي بعض الذين أنعم الله عليهم وقوله تعالى مِنَ النَّبِيِّينَ بيان للموصول، وقيل: من تبعيضية بناء على أن المراد أولئك المذكورون الذين أنعم الله تعالى عليهم بالنعم المعهودة المذكورة هنا فيكون الموضوع والمحمول مخصوصا بمن سمعت وهم بعض النبيين وعموم المفهوم المراد من المحمول في نفسه ومن حيث هو في الذهن لا ينافي أن يقصد به أمر خاص في الخارج كما لا يخفى واختير حمل التعريف في الخبر عن الجنس للمبالغة كما في قوله تعالى ذلِكَ الْكِتابُ [البقرة: 2] ، والمحذور مندفع بما ذكرنا ومِنَ في قوله سبحانه مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ قيل بيانية والجار والمجرور بدل من الجار والمجرور السابق والمجرور بدل من المجرور بإعادة الجار وهو بدل بعض من كل بناء على أن المراد ذريته الأنبياء وهي غير شاملة لآدم عليه السّلام ولا يخفى بعده، وقيل: هي تبعيضية لأن المنعم عليه أخص من الذرية من وجه لشمولها بناء على الظاهر المتبادر منها غير من أنعم عليه دونه ولا يضر في ذلك كونها أعم منها من وجه لشموله آدم والملك. ومؤمني الجن دونها وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ أي ومن ذرية من حملناهم معه عليه السّلام خصوصا وهم من عدا إدريس عليه السّلام لما سمعت من أنه قبل نوح وإبراهيم عليه السّلام كان بالإجماع من ذرية سام به نوح عليهما السّلام وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وهم الباقون. وَإِسْرائِيلَ عطف على إِبْراهِيمَ أي ومن ذرية إسرائيل أي يعقوب عليه اسلام وكان منهم موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى عليهم السّلام، وفي الآية دليل على أن أولاد البنات من الذرية لدخول عيسى عليه السّلام ولا أب له، وجعل إطلاق الذرية عليه بطريق التغليب خلاف الظاهر وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا عطف على قوله تعالى مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ ومن للتبعيض أي ومن جملة من هديناهم إلى الحق واخترناهم للنبوة والكرامة. وجوز أن يكون عطفا على قوله سبحانه مِنَ النَّبِيِّينَ. ومن للبيان وأورد عليه أن ظاهر العطف المغايرة فيحتاج إلى أن يقال: المراد ممن جمعنا له بين النبوة والهداية والاجتباء للكرامة وهو خلاف الظاهر، وقوله تعالى إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا استئناف مساق لبيان خشيتهم من الله تعالى واخباتهم له سبحانه مع ما لهم من علو الرتبة وسمو الطبقة في شرف النسب وكمال النفس والزلفى من الله عز سلطانه. وقيل: خبر بعد خبر لاسم الإشارة، وقيل: إن الكلام انقطع عند قوله تعالى وَإِسْرائِيلَ، وقوله سبحانه وَمِمَّنْ هَدَيْنا خبر مبتدأ محذوف وهذه الجملة صفة لذلك المحذوف أي وممن هدينا واجتبينا قوم إذا تتلى عليهم إلخ، ونقل ذلك عن أبي مسلم، وروى بعض الإمامية عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما أنه قال: نحن عنينا بهؤلاء القوم ، ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر جدا وحال روايات الإمامية لا يخفى على أرباب التمييز، وظاهر صنيع بعض المحققين اختيار أن يكون الموصول صفة لاسم الإشارة على ما هو الشائع فيما بعد اسم الإشارة وهذه الجملة هي الخبر لأن ذلك أمدح لهم، ووجه ذلك ظاهر عند من يعرف حكم الأوصاف والأخبار، وسجدا جمع ساجد وكذا بكيّا جمع باك كشاهد وشهود وأصله بكوى اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 425 وأدغمت الياء في الياء وحركت الكاف بالكسر لمناسبة الياء وجمعه المقيس بكاة كرام ورماة إلا أنه لم يسمع على ما في البحر وهو مخالف لما في القاموس وغيره، وجوز بعضهم أن يكون مصدر بكى كجلوسا مصدر جلس وهو خلاف الظاهر، نعم ربما يقتضيه ما أخرجه ابن أبي الدنيا في البكاء وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قرأ سورة مريم فسجد ثم قال: هذا السجود فأين البكى، وزعم ابن عطية أن ذلك متعيين في قراءة عبد الله ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي «بكيا» بكسر أوله وليس كما زعم لأن ذلك اتباع، وظاهر أنه لا يعين المصدرية. ونصب الاسمين على الحالية من ضمير خَرُّوا أي ساجدين وباكين والأول حال مقدرة كما قال الزجاج، والظاهر أن المراد من السجود معناه الشرعي والمراد من الآيات ما تضمنته الكتب السماوية سواء كان مشتملا على ذكر السجود أم لا وسواء كان متضمنا لذكر العذاب المنزل بالكفار أم لا، ومن هنا استدل بالآية على استحباب السجود والبكاء عند تلاوة القرآن. وقد أخرج ابن ماجة وإسحاق بن راهوية والبزار في مسنديهما من حديث سعيد بن أبي وقاص مرفوعا اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا ، وقيل: المراد من السجود سجود التلاوة حسبما تعبدنا به عند سماع بعض الآيات القرآنية فالمراد بآيات الرحمن آيات مخصوصة متضمة لذكر السجود، وقيل: المراد منه الصلاة وهو قول ساقط جدا، وقيل: المراد منه الخشوع والخضوع، والمراد من الآيات ما تضمن العذاب المنزل بالكفار وهذا قريب من سابقه، ونقل الجلال السيوطي عن الرازي أنه استدل بالآية على وجوب سجود التلاوة وهو كما قال الكيا: بعيد، وذكروا أنه ينبغي أن يدعو الساجد في سجدته بما يليق بآيتها فها هنا يقول: اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم المهتدين الساجدين لك الباكين عند تلاوة آياتك، وفي آية الإسراء اللهم اجعلني من الباكين إليك الخاشعين لك، وفي آية تنزيل السجدة اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك ورحمتك وأعوذ بك من أن أكون من المستكبرين عن أمرك. وقرأ عبد الله وأبو جعفر وشيبة وشبل بن عباد وأبو حيوة وعبد الله بن أحمد العجلي عن حمزة وقتيبة في رواية وورش في رواية النحاس وابن ذكوان في رواية التغلبي «يتلى» بالياء التحتية لأن التأنيث غير حقيقي ولوجود الفاصل فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أي جاء بعدهم عقب سوء فإن المشهور في الخلف ساكن اللام ذلك والمشهور في مفتوح اللام ضده، وقال أبو حاتم: الخلف بالسكون الأولاد الجمع والواحد فيه سواء وبالفتح البدل ولدا كان أو غيره، وقال النضر بن شميل: الخلف بالتحريك والإسكان القرن السوء أما الصالح فالتحريك لا غير، وقال ابن جرير: أكثر ما جاء في المدح بفتح اللام وفي الذم بتسكينها وقد يعكس، وعلى استعمال المفتوح في الذم جاء قول لبيد: ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب أَضاعُوا الصَّلاةَ وقرأ عبد الله والحسن وأبو رزين العقيلي والضحاك وابن مقسم «الصلوات» بالجمع وهو ظاهر، ولعل الأفراد للاتفاق في النوع، وإضاعتها على ما روي عن ابن مسعود والنخعي والقاسم بن مخيمرة ومجاهد وإبراهيم. وعمر بن عبد العزيز تأخيرها عن وقتها، وروى ذلك الإمامية عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه ، واختار الزجاج أن إضاعتها الاختلال بشروطها من الوقت وغيره، وقيل: إقامتها في غير جماعة، وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد ابن كعب القرظي أن إضاعتها تركها، وقيل: عدم اعتقاد وجوبها، وعلى هذا الآية في الكفار وعلى ما قبله لأقطع، واستظهر أنها عليه في قوم مسلمين بناء على أن الكفار غير مكلفين بالفروع إلا أن يقال: المراد أن من شأنهم ذلك فتدبر، وعلى ما قبلهما في قوم مسلمين قولا واحدا. والمشهور عن ابن عباس ومقاتل أنها في اليهود، وعن السدي أنها فيهم وفي النصارى، واختير كونها في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 426 الكفرة مطلقا لما سيأتي إن شاء الله تعالى قريبا وعليه بني حسن موقع حكاية قول جبريل عليه السّلام الآتي، وكونها في قوم مسلمين من هذه الأمة مروي عن مجاهد وقتادة وعطاء وغيرهم قالوا: إنهم يأتون عند ذهاب الصالحين يتبادرون بالزنا ينزو بعضهم على بعض في الأزقة كالأنعام لا يستحيون من الناس ولا يخافون من الله تعالى وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ وانهمكوا في المعاصي المختلفة الأنواع، وفي البحر الشَّهَواتِ عام في كل مشتهى يشغل عن الصلاة وعن ذكر الله تعالى، وعد بعضهم من ذلك نكاح الأخت من الأب وهو على القول بأن الآية فيما يعم اليهود لأن من مذهبهم فيما قيل ذلك وليس بحق. والذي صح عنهم أنهم يجوزون نكاح بنت الأخ وبنت الأخت ونحو هما، وعن علي كرم الله تعالى وجهه من بنى المشيد وركب المنظور ولبس المشهور فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا أخرج ابن جرير والطبراني وغيرهما من حديث أبي أمامة مرفوعا أنه نهر في أسفل جهنم يسيل فيه صديد أهل النار وفيه لو أن صخرة زنة عشر عشراوات قذف بها من شفير جهنم ما بلغت قعرها سبعين خريفا ثم تنتهي إلى غي وأثام ، ويعلم منه سر التعبير بسوف يلقون. وأخرج جماعة من طرق عن ابن مسعود أنه قال: الغيّ نهر أو واد في جهنم من قيح بعيد القعر خبيث الطعم يقذف فيه الذين يتبعون الشهوات، وحكى الكرماني أنه آبار في جهنم يسيل إليها الصديد والقيح. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن الغي السوء، ومن ذلك قول مرقش الأصغر: فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لائما وعن ابن زيد أنه الضلال وهو المعنى المشهور، وعليه قيل المراد جزاء غي. وروي ذلك عن الضحاك واختاره الزجاج، وقيل: المراد غيا عن طريق الجنة. وقرىء فيما حكى الأخفش «يلقّون» بضم الياء وفتح اللام وشد القاف إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً استثناء منقطع عند الزجاج. وقال في البحر: ظاهره الاتصال، وأيد بذكر الإيمان كون الآية في الكفرة أو عامة لهم ولغيرهم لأن من آمن لا يقال إلا لمن كان كافرا إلا بحسب التغليظ، وحمل الإيمان على الكامل خلاف الظاهر، وكذا كون المراد إلا من جمع التوبة والإيمان، وقيل: المراد من الإيمان الصلاة كما في قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة: 143] ويكون ذكره في مقابلة إضاعة الصلاة وذكر العمل الصالح في مقابلة اتباع الشهوات فَأُولئِكَ المنعوتون بالتوبة والإيمان والعمل الصالح يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بموجب الوعد المحتوم، ولا يخفى ما في ترك التسويف مع ذكر أولئك من اللطف. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر ويعقوب «يدخّلون» بالبناء للمفعول من أدخل. وقرأ ابن غزوان عن طلحة «سيدخلون» بسين الاستقبال مبنيا للفاعل وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً أي لا ينقصون من جزاء أعمالهم شيئا أو لا ينقصون شيئا من النقص، وفيه تنبيه على أن فعلهم السابق لا يضرهم ولا ينقص أجورهم. واستدل المعتزلة بالآية على أن العمل شرط دخول الجنة. وأجيب بأن المراد يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بلا تسويف بقرينة المقابلة وذلك بتنزيل الزمان السابق على الدخول لحفظهم فيه عما ينال غيرهم منزلة العدم فيكون العمل شرطا لهذا الدخول لا للدخول مطلقا، وأيضا يجوز أن يكون شرطا لدخول جنة عدن لا مطلق الجنة، وقيل هو شرط لعدم نقص شيء من ثواب الأعمال وهو كما ترى، وقيل غير ذلك. واعترض بعضهم على القول بالشرطية بأنه يلزم أن لا يكون من تاب وآمن ولم يتمكن من العمل الصالح يدخل الجنة. وأجيب بأن ذلك من الصور النادرة والأحكام إنما تناط بالأعم الأغلب فتأمل. جَنَّاتِ عَدْنٍ بدل من الجنة بدل البعض لاشتمالها عليها اشتمال الكل على الجزء بناء على ما قيل: إن «جنات عدن» علم لإحدى الجنات الثمان كعلمية بنات أوبر. وقيل: إن العلم هو جنة عدن إلا أنه أقيم الجزء الثاني الجزء: 8 ¦ الصفحة: 427 بعد حذف الأول مقام المجموع كما في شهر رمضان ورمضان فكان الأصل جنات جنة عدن. والذي حسن هذه الإقامة أن المعتبر علميته في المنقول الإضافي هو الجزء الثاني حتى كأنه نقل وحده كما قرر في موضعه من كتب النحو المفصلة. وقي الكشف إذا كانت التسمية بالمضاف والمضاف إليه جعلوا المضاف إليه في نحوه مقدر العملية لأن المعهود في كلامهم في هذا الباب الإضافة إلى الأعلام والكنى فإذا أضافوا إلى غيرها أجروه مجراها كأبي تراب ألا ترى أنهم لا يجوزون إدخال اللام في ابن داية وأبي تراب ويوجبونه في نحو امرئ القيس وماء السماء كل ذلك نظرا إلى أنه لا يغير من حاله كالعلم إلى آخر ما فيه. ويدل على ذلك أيضا منعه من الصرف في بنات أوبر وأبي قترة وابن داية إلى غير ذلك فجنات عدن على القولين معرفة أما على الأول فللعلمية، وأما على الثاني فللإضافة المذكورة وإن لم يكن عدن في الأصل علما ولا معرفة بل هو مصدر عدن بالمكان يعدن ويعدن أقام به. واعتبار كون عدن قبل التركيب علما لإحدى الجنات يستدعي أن تكون الإضافة في «جنة عدن» من إضافة الأعم مطلقا إلى الأخص بناء على أن المتبادر من الجنة المكان المعروف لا الأشجار ونحوها وهي لا تحسن مطلقا بل منها حسن كشجر الأراك ومدينة بغداد ومنها قبيح كإنسان زيد ولا فارق بينهما إلا الذوق وهو غير مضبوط. وجوز أن يكون «عدن» علما للعدن بمعنى الإقامة كسحر علم للسحر وأمس للأمس وتعريف «جنات» عليه ظاهر أيضا، وإنما قالوا تصحيحا للبدلية لأنه لو لم يعتبر التعريف لزم إبدال النكرة من المعرفة وهو على رأي القائل لا يجوز إلا إذا كانت النكرة موصوفة وللوصفية بقوله تعالى الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ وجوز أبو حيان اعتبار جَنَّاتِ عَدْنٍ نكرة على معنى جنات إقامة واستقرار وقال: إن دعوى أن عدنا علم لمعنى العدن يحتاج إلى توقيف وسماع من العرب مع ما في ذلك مما يوهم اقتضاء البناء. وكذا دعوى العلمية الشخصية فيه. وعدم جواز إبدال النكرة من المعرفة إلا موصوفة شيء قاله البغداديون وهم محجوجون بالسماع. ومذهب البصريين جواز الإبدال وإن لم تكن النكرة موصوفة (1) وقال أبو علي: يجوز ذلك إذا كان في إبدال النكرة فائدة لا تستفاد من المبدل منه مع أنه لا تتعين البدلية لجواز النصب على المدح، وكذا لا يتعين كون الموصول صفة لجواز الإبدال اه بأدنى زيادة. وتعقب إبدال الموصول بأنه في حكم المشتق. وقد نصوا على أن إبدال المشتق ضعيف. ولعل أبا حيان لا يسلم ذلك ثم إنه جوز كون جَنَّاتِ عَدْنٍ بدل كل. وكذا جوز كونه عطف بيان. وجملة «لا يظلمون» على وجهي البدلية. والعطف اعتراض أو حال. وقرأ الحسن وأبو حيوة وعيسى بن عمر والأعمش وأحمد بن موسى عن أبي عمرو جَنَّاتِ عَدْنٍ بالرفع، وخرجه أبو حيان على أنه خبر مبتدأ محذوف أي تلك جنات، وغيره على أنها مبتدأ والخبر الموصول. وقرأ الحسن بن حي وعلي بن صالح «جنة عدن» بالنصب والإفراد ورويت عن الأعمش وهي كذلك في مصحف عبد الله. وقرأ اليماني والحسن في رواية وإسحاق الأزرق عن حمزة «جنة عدن» بالرفع والإفراد والعائد إلى الموصول محذوف أي وعدها الرحمن، والتعرض لعنوان الرحمة للإيذان بأن وعدها وإنجازه لكمال سعة رحمته سبحانه وتعالى، والباء في قوله عز وجل: بِالْغَيْبِ للملابسة وهي متعلقة بمضمر هو حال من العائد أو من عِبادَهُ أي وعدها إياهم ملتبسة أو ملتبسين بالغيب أي غائبة عنهم غير حاضرة أو غائبين عنها لا يرونها أو للسببية وهي متعلقة بوعد أي وعدها   (1) بضم الهمزة وفتحها اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 428 إياهم بسبب تصديق الغيب والإيمان به، وقيل: هي صلة «عباده» على معنى الذين يعبدونه سبحانه بالغيب أي في السر وهو كما ترى إِنَّهُ أي الرحمن، وجوز كون الضمير للشان كانَ وَعْدُهُ أي موعوده سبحانه وهو الجنات كما روي عن ابن جريج أو موعوده كائنا ما كان فيدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا كما قيل، وجوز إبقاء الوعد على مصدريته وإطلاقه على ما ذكر للمبالغة. والتعبير بكان للإيذان بتحقق الوقوع أي كان ذلك مَأْتِيًّا أي يأتيه من وعد له لا محالة، وقيل: مَأْتِيًّا مفعول بمعنى فاعل أي آتيا، وقيل: هو مفعول من أتى إليه إحسانا أي فعل به ما يعد إحسانا وجميلا والوعد على ظاهره. ومعنى كونه مفعولا كونه منجزا لأن فعل الوعد بعد صدوره وإيجاده إنما هو تنجيزه أي إنه كان وعده عباده منجزا لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً فضول كلام لا طائل تحته بل هو جار مجرى اللغاء وهو صوت العصافير ونحوها من الطير. والكلام كناية عن عدم صدور اللغو عن أهلها، وفيه تنبيه على أن اللغو مما ينبغي أن يجتنب عنه في هذه الدار ما أمكن، وعن مجاهد تفسير اللغو بالكلام المشتمل على السب، والمراد لا يتسابون والتعميم أولى إِلَّا سَلاماً استثناء منقطع، والسّلام إما بمعناه المعروف أي لكن يسمعون تسليم الملائكة عليهم السّلام عليهم أو تسليم بعضهم على بعض أو بمعنى الكلام السالم من العيب والنقص أي لكن يسمعون كلاما سالما من العيب والنقص، وجوز أن يكون متصلا وهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم كما في قوله: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب وهو يفيد نفي سماع اللغو بالطريق البرهاني الأقوى. والاتصال على هذا على طريق الفرض والتقدير ولولا ذلك لم يقع موقعه من الحسن والمبالغة، وقيل: اتصال الاستثناء على أن معنى السّلام الدعاء بالسلامة من الآفات وحيث إن أهل الجنة أغنياء عن ذلك إذ لا آفة فيها كان السّلام لغوا بحسب الظاهر وإن لم يكن كذلك نظرا للمقصود منه وهو الإكرام وإظهار التحابب، ولذا كان لائقا بأهل الجنة. وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا وارد على عادة المتنعمين في هذه الدار، أخرج ابن المنذر عن يحيى بن كثير قال: كانت العرب في زمانها إنما لها أكلة واحدة فمن أصاب أكلتين سمي فلان الناعم فأنزل الله تعالى هذا يرغب عباده فيما عنده، وروي نحو ذلك عن الحسن، وقيل: المراد دوام رزقهم ودروره وإلا فليس في الجنة بكرة ولا عشي لكن جاء في بعض الآثار أن أهل الجنة يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وفتح الأبواب، وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول من طريق أبان عن الحسن. وأبي قلابة قالا: «جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله هل في الجنة من ليل؟ قال: وما هيجك على هذا؟ قال: سمعت الله تعالى يذكر في الكتاب وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا فقلت: الليل من البكرة والعشي فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ليس هناك ليل وإنما هو ضوء ونور يرد الغدو على الرواح والرواح على الغدو وتأتيهم طرف الهدايا من الله تعالى لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها في الدنيا وتسلم عليهم الملائكة عليهم السّلام» . تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا استئناف جيء به لتعظيم شأن الجنة وتعيين أهلها فاسم الإشارة مبتدأ والْجَنَّةُ خبر له والموصول صفة (1) لها والجملة بعده صلته والعائد محذوف أي نورثها، وبذلك قرأ الأعمش وقرأ الحسن والأعرج وقتادة ورويس وحميد وابن أبي عبلة وأبو حيوة ومحبوب عن أبي عمرو «نورّث» بفتح   (1) وقال الرضي: الوصف شرط إذا كان البدل بدل كل اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 429 الواو وتشديد الراء والمراد نبقيها على من كان تقيا من ثرمة تقواه ونمتعه بها كما نبقي على الوراث مال مورثه ونمتعه به فالإيراث (1) مستعار للإبقاء، وإيثاره على سائر ما يدل على ذلك كالبيع والهبة لأنه أتم أنواع التمليك من حيث إنه لا يعقب بفسح ولا استرجاع ولا إبطال، وقيل: يورث المتقون من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار لو آمنوا. أخرج ابن أبي حاتم عن ابن شوذب قال: ليس من أحد إلا وله في الجنة منزل وأزواج فإذا كان يوم القيامة ورث الله تعالى المؤمن كذا وكذا منزلا من منازل الكفار وذلك قوله تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ الآية، ولا يخفى أن هذا إن صح فيه أثر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعلى العين والرأس وإلا فقد قيل عليه: إنه ضعيف لأنه يدل على أن بعض الجنة موروث والنظم الجليل يدل على أنها كلها كذلك ولأن الإيراث ينبىء عن ملك سابق لا على فرضه مع أنه لا داعي للفرض هنا لكن تعقب بأنه يكفي في الإيراث كونه الموروث كان موجودا لكن بشرط التقوى بناء على ما ذهب إليه بعضهم في قوله تعالى جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ حيث قال: المراد من العباد ما يعم المؤمن التقي وغيره ووعد غير المؤمن التقي مشروط بالإيمان والتقوى، نعم اختار الأكثرون أن المراد من العباد هناك المتقون والمراد منهم هنا الأعم، والمراد من التقى من آمن وعمل صالحا على ما قيل، ولا دلالة في الآية على أن غيره لا يدخل الجنة مطلقا، وأخرج ابن أبي حاتم عن داود بن أبي هند أنه الموحد فتذكر ولا تغفل. وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ حكاية قول جبرائيل صلوات الله تعالى وسلامه عليه، فقد روي أنه احتبس عنه صلّى الله عليه وسلّم أيّا ما حين سئل عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح فلم يدر عليه الصلاة والسّلام كيف يجيب حتى حزن واشتد عليه ذلك وقال المشركون: إن ربه ودعه وقلاه فلما نزل قال له عليه الصلاة والسّلام: يا جبريل احتبست عني حتى ساء ظني واشتقت إليك فقال: إني كنت أشوق ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذا حبست احتبست وأنزل الله تعالى هذه الآية وسورة الضحى قاله غير واحد، فهو من عطف القصة على القصة على ما قاله الخفاجي. وفي الكشف وجه وقوع ذلك هذا الموقع أنه تعالى لما فرغ من أقاصيص الأنبياء عليهم السّلام تثبيتا له صلّى الله عليه وسلّم وذنب بما أحدث بعدهم الخلوف واستثنى الأخلاف وذكر جزاء الفريقين عقب بحكاية نزول جبريل عليه السّلام وما رماه المشركون به من توديع ربه سبحانه إياه زيادة في التسلية وأن الأمر ليس على ما زعم هؤلاء الخلوف وأدمج فيه مناسبته لحديث التقوى بما دل على أنهم مأمورون في حركة وسكون منقادون مفوضون لطفا له ولأمته صلّى الله عليه وسلّم ولهذا صرح بعده بقوله تعالى فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ وفيه إنك لا ينبغي أن تكترث بمقالة المخالفين إلى أن تلقى ربك سعيدا، وعطف عليه مقالة الكفار بيانا لتباين ما بين المقالتين وما عليه الملك المعصوم والإنسان الجاهل الظلوم فهو استطراد شبيه بالاعتراض حسن الموقع انتهى، ولا يأبى ما تقدم في سبب النزول ما أخرجه أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وجماعة في سببه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لجبريل عليه الصلاة والسّلام: ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ فنزلت وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لجواز أن يكون صلّى الله عليه وسلّم قال ذلك في أثناء محاورته السابقة أيضا واقتصر في كل رواية على شيء مما وقع في المحاورة، وقيل: يجوز أن يكون النزول متكررا نعم ما ذكر في التوجيه إنما يحسن على بعض الروايات السابقة في المراد بالخلف الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات. وقال بعضهم: إن التقدير هذا، وقال جبريل: وما نتنزل إلخ وبه يظهر حسن العطف ووجهه انتهى وتعقب بأنه لا   (1) وقيل يحتمل الكلام التمثيل اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 430 محصل له. وحكى النقاش عن قوم أن الآية متصلة بقول جبريل عليه السّلام أولا إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا [مريم: 19] وهو قول نازل عن درجة القبول جدا، والتنزل النزول على مهل لأنه مطاوع نزل يقال نزلته فتنزل، وقد يطلق بمعنى النزول مطلقا كما يطلق نزل بمعنى أنزل، وعلى ذلك قوله: فلست لإنسيّ ولكن لملأك ... تنزل من جو السماء يصوب إذ لا أثر للتدرج في مقصود الشاعر، والمعنى ما نتنزل وقتا غب وقت إلا بأمر الله تعالى على ما تقتضيه حكمته سبحانه، وقرأ الأعرج «وما يتنزل» بالياء والضمير للوحي بقرينة الحال، وسبب النزول والكلام لجبريل عليه السّلام، وقيل: إن الضمير له عليه السّلام والكلام له عز وجل. خبر سبحانه أنه لا يتنزل جبريل إلا بأمره تعالى قائلا لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا ما قدامنا من الزمان المستقبل وَما خَلْفَنا من الزمان الماضي وَما بَيْنَ ذلِكَ المذكور من الزمان الحال فلا ننزل في زمان دون زمان إلا بأمره سبحانه ومشيئته عز وجل، وقال ابن جريج: ما بين الأيدي هو ما مر من الزمان قبل الإيجاد وما خلف هو ما بعد موتهم إلى استمرار الآخرة وما بين ذلك هو مدة الحياة، وقال أبو العالية: ما بين الأيدي الدنيا بأسرها إلى النفخة الأولى وما خلف ذلك الآخرة من وقت البعث وما بين ذلك ما بين النفختين وهو أربعون سنة، وفي كتاب التحرير والتحبير ما بين الأيدي الآخرة وما خلف الدنيا، ورواه العوفي عن ابن عباس وبه قال ابن جبير وقتادة ومقاتل وسفيان، وقال الأخفش: ما بين الأيدي هو ما قبل الخلق وما خلف هو ما بعد الفناء وما بين ذلك ما بين الدنيا والآخرة فالمئات على هذه الأقوال من الزمان. وقال صاحب الفنيان: ما بين أيدينا السماء وما خلفنا الأرض وما بين ذلك ما بين الأرض والسماء، وقيل: ما بين الأيدي الأرض وما خلف السماء وقيل: ما بين الأيدي المكان الذي ينتقلون إليه وما خلف المكان الذي ينتقلون منه وما بين ذلك المكان الذي هم فيه فالمئات من الأمكنة، واختار بعضهم تفسيرها بما يعم الزمان والمكان، والمراد أنه تعالى المالك لكل ذلك فلا ننتقل من مكان إلى مكان ولا ننزل في زمان دون زمان إلا بإذنه عز وجل. وقال البغوي: المراد له علم ما بين أيدينا إلخ أي فلا نقدم على ما لم يكن موافق حكمته سبحانه وتعالى. واختار بعضهم التعميم أي له سبحانه ذلك ملكا وعلما وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا أي تاركا أنبياءه عليهم السّلام ويدخل صلّى الله عليه وسلّم في ذلك دخولا أوليا أي ما كان عدم النزول إلا لعدم الأمر به ولم يكن عن ترك الله تعالى لك وتوديعه إياك كما زعمت الكفرة وإنما كان لحكمة بالغة، وقيل: النسيان على ظاهره يعني أنه سبحانه لإحاطة علمه وملكه لا يطرأ عليه الغفلة والنسيان حتى يغفل عنك وعن الإيحاء إليك وإنما كان تأخير الإيحاء لحكمة علمها جل شأنه، واختير الأول لأن هذا المعنى لا يجوز عليه سبحانه فلا حاجة إلى نفيه عنه عز وجل مع أن الأول هو الأوفق لسبب النزول. ورجح الثاني بأنه أوفق بصيغة المبالغة فإنها باعتبار كثرة من فرض التعلق به وهي أتم على الثاني مع ما في ذلك من إبقاء اللفظ على حقيقته، وكثيرا ما جاء في القرآن نفي ما لا يجوز عليه سبحانه وتعالى وفيه نظر، نعم لا شبهة في أن المتبادر الثاني وأمر الأوفقية لسبب النزول سهل، وفي إعادة اسم الرب المعرب عن التبليغ إلى الكمال اللائق مضافا إلى ضميره عليه الصلاة والسّلام من تشريفه صلّى الله عليه وسلّم والإشعار بعلة الحكم ما لا يخفى، وقال أبو مسلم وابن بحر: أول الآية إلى وَما بَيْنَ ذلِكَ من كلام المتقين حين يدخلون الجنة والتنزل فيه من النزول في المكان، والمعنى وما نحل الجنة ونتخذها منازل إلا بأمر ربك تعالى ولطفه وهو سبحانه مالك الأمور كلها سالفها ومترقبها وحاضرها فما وجدنا وما نجده من لطفه وفضله، وقوله سبحانه وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا تقرير من جهته تعالى لقولهم أي وما كان سبحانه تاركا لثواب العالمين أو ما كان ناسيا لأعمالهم والثواب عليها حسبما وعد جل وعلا، وفيه أن حمل التنزل على ما ذكر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 431 خلاف الظاهر. وأيضا مقتضاه بأمر ربنا لأن خطاب النبي صلّى الله عليه وسلّم كما في الوجه الأول غير ظاهر إلا أن يكون حكاه الله تعالى على المعنى لأن ربهم وربه واحد ولو حكى على لفظهم لقيل ربنا، وإنما حكى كذلك ليجعل تمهيدا لما بعده، وكون ذلك خطاب جماعة المتقين لواحد منهم بعيد وكذا وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا إذ لم يقل ربهم. وأيضا لا يوافق ذلك سبب النزول بوجه، وكأن القائل إنما اختاره ليناسب الكلام ما قبله ويظهر عطفه عليه. وقد تحقق أنا في غنى عن ارتكابه لهذا الغرض. وقوله تعالى رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما بيان لاستحالة النسيان عليه تعالى فإن من بيده ملكوت السموات والأرض وما بينهما كيف يتصور أن يحوم حول ساحة عظمته وجلاله الغفلة والنسيان أو ترك وقلاء من اختاره واصطفاه لتبليغ رسالته، ورَبُّ خبر مبتدأ محذوف أي هو رب السموات إلخ أو بدل من رَبِّكَ في قوله تعالى وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا والفاء في قوله سبحانه فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ لترتيب ما بعدها من موجب الأمرين على ما قبلها من كونه تعالى رب السموات والأرض وما بينهما، وقيل: من كونه تعالى غير تارك له عليه الصلاة والسّلام أو غير ناس لأعمال العاملين، والمعنى فحين عرفته تعالى بما ذكر من الربوبية الكاملة فاعبده إلخ فإن إيجاب معرفته سبحانه كذلك لعبادته مما لا ريب فيه أو حين عرفت أنه عز وجل لا ينساك أو لا ينسى أعمال العاملين فأقبل على عبادته واصطبر على مشاقها ولا تحزن بإبطاء الوحي وكلام الكفرة فإنه سبحانه يراقبك ويراعيك ويلطف بك في الدنيا والآخرة. وجوز أبو البقاء أن يكون رَبُّ السَّماواتِ مبتدأ والخبر فَاعْبُدْهُ والفاء زائدة على رأي الأخفش وهو كما ترى. وجوز الزمخشري أن يكون قوله تعالى: وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا من تتمة كلام المتقين على تقدير أن يكون رَبُّ خبر مبتدأ محذوف ولم يجوز ذلك على تقدير الإبدال لأنه لا يظهر حينئذ ترتب قوله سبحانه فَاعْبُدْهُ إلخ عليه لأنه من كلام الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا بلا شك، وجعله جواب شرط محذوف على تقدير ولما عرفت أحوال أهل الجنة وأقوالهم فأقبل على العمل لا يلائم- كما في الكشف- فصاحة التنزيل للعدول عن السبب الظاهر إلى الخفي، وتعدية الاصطبار باللام مع أن المعروف تعديته بعلى كما في قوله تعالى: وَاصْطَبِرْ عليها لتضمنه معنى الثبات للعبادة فيما تورد عليه من الشدائد والمشاق كقولك للمبارز: اصطبر لقرنك أي اثبت له فيما يورد عليك من شداته، وفيه إشارة إلى ما يكابد من المجاهدة وأن المستقيم من ثبت لذلك ولم يتزلزل وشمة من معنى رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر. هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا أي مثلا كما جاء في رواية جماعة عن ابن عباس ومجاهد وابن جبير وقتادة وأصله الشريك في الاسم، وإطلاقه على ذلك لأن الشركة في الاسم تقتضي المماثلة، وقال ابن عطية: السمي على هذا بمعنى المسامي والمضاهي، وأبقاه بعضهم على الأصل، واستظهر أن يرادها هنا الشريك في اسم خاص قد عبر عنه تعالى بذلك وهو رب السماوات والأرض، وقيل: المراد هو الشريك في الاسم الجليل فإن المشركين مع غلوهم في المكابرة لم يسموا الصنم بالجلالة أصلا، وقيل: المراد هو الشريك فيما يختص به تعالى كالاسم الجليل والرحمن، ونقل ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا وقيل: هو الشريك في اسم الإله، والمراد بالتسمية التسمية على الحق وأما التسمية على الباطل فهي كلا تسمية، وأخرج الطستي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن ذلك فقال: السمي الولد وأنشد له قول الشاعر: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 432 أما السمى فأنت منه مكثر ... والمال مال يغتدي ويروح وروي ذلك أيضا عن الضحاك، وأيّا ما كان فالمراد بإنكار العلم ونفيه إنكار المعلوم ونفيه على أبلغ وجه وآكده، والجملة تقرير لوجوب عبادته عز وجل وإن اختلف الاعتبار حسب اختلاف الأقوال فتدبر. وقرأ الأخوان وهشام وعلي بن نصر وهارون كلاهما عن أبي عمرو والحسن وال. عمش وعيسى وابن محيصن «هتعلم» بإدغام اللام في التاء وهو على ما قال أبو عبيدة لغة كالإظهار وأنشدوا لذلك قول مزاحم العقيلي: فذر ذا ولكن هتعين متيما ... على ضوء برق آخر الليل ناصب وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنها نزلت في العاصي بن وائل، وعن عطاء عن ابن عباس أنها نزلت في الوليد بن المغيرة، وقيل: في أبي جهل، وعن الكلبي أنها في أبيّ بن خلف أخذ عظما باليا فجعل يفته بيده ويذريه في الريح ويقول: زعم فلان أنا نبعث بعد أن نموت ونكون مثل هذا إن هذا شيء لا يكون أبدا فأل في الْإِنْسانُ على ما قيل للعهد والمراد به أحد هؤلاء الأشخاص، وقيل: المراد بالإنسان جماعة معينون وهم الكفرة المنكرون للبعث. وقال غير واحد: يجوز أن تكون أل للجنس ويكون هناك مجاز في الطرف بأن يطلق جنس الإنسان ويراد بعض أفراده كما يطلق الكل على بعض أجزائه أو يكون هناك مجاز في الإسناد بأن يسند إلى الكل ما صدر عن البعض كما يقال: بنو فلان قتلوا قتيلا والقاتل واحد منهم، ومن ذلك قوله: فسيف بني عبس وقد ضربوا ... نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد واعترض هذا بأنه يشترط لصحة ذلك الإسناد رضا الباقين بالفعل أو مساعدتهم عليه حتى يعد كأنه صدر منهم، ولا شك أن بقية أفراد الإنسان من المؤمنين لم يرضوا بهذا القول. وأجاب بعض مشترطي ذلك للصحة بأن الإنكار مركوز في طبائع الكل قبل النظر في الدليل فالرضا حاصل بالنظر إلى الطبع والجبلة. وقال الخفاجي: الحق عدم اشتراط ذلك لصحته وإنما يشترط لحسنه نكتة يقتضيها مقام الكلام حتى يعد الفعل كأنه صدر عن الجميع فقد تكون الرضا وقد تكون المظاهرة وقد تكون عدم الغوث والمدد ولذا أوجب الشرع القسامة والدية وقد تكون غير ذلك، وكأن النكتة هنا أنه لما وقع بينهم إعلان قول لا ينبغي أن يقال مثله وإذا قيل لا ينبغي أن يترك قائله بدون منع أو قتل جعل ذلك بمنزلة الرضا حثا لهم على إنكاره قولا أو فعلا انتهى. وقيل: لعل الحق أن الإسناد إلى الكل هنا للإشارة إلى قلة المؤمنين بالبعث على الوجه الذي أخبر به الصادق وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين فتأمل، وعبر بالمضارع إما استحضارا للصورة الماضية لنوع غرابة. وإما لإفادة الاستمرار التجددي فإن هذا القول لا يزال يتجدد حتى ينفخ في الصور، والهمزة للإنكار وإذا ظرف متعلق بفعل محذوف دل عليه أُخْرَجُ ولم يجوزوا تعلقه بالمذكور لأن ما بعد اللام لا يعمل فيما قبله، وعد ابن عطية توسط سوف مانعا من العمل أيضا، ورد عليه بقوله: فلما رأته آمنا هان وجدها ... وقالت أبونا هكذا سوف يفعل وغير ذلك مما سمع، ونقل عن الرضي أنه جعل إذا هنا شرطية وجعل عاملها الجزاء وقال: إن كلمة الشرط تدل على لزوم الجزاء للشرط، ولتحصيل هذا الغرض عمل في إذا جزاؤه مع كونه بعد حرف لا يعمل ما بعده فيما قبله كالفاء في فَسَبِّحْ وإن في قولك: إذا جئتني فإني مكرم ولام الابتداء في قوله تعالى: إِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا، ومختار الأكثرين أن إذا هنا ظرفية، وما ذكره الرضي ليس بمتفق عليه، وتحقيق ذلك في كتب العربية، وفي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 433 الكلام معطوف محذوف لقيام القرينة عليه أي إذا ما مت وصرت رميما لسوف إلخ. واللام هنا لمجرد التوكيد، ولذا ساغ اقترانها بحرف الاستقبال، وهذا على القول بأنها إذا دخلت المضارع خلصته للحال، وأما على القول بأنها لا تخلصه فلا حاجة إلى دعوى تجريدها للتوكيد لكن الأول هو المشهور وما في إِذا ما للتوكيد أيضا. والمراد من الإخراج الإخراج من الأرض أو من حال الفناء والخروج على الأول حقيقة وعلى الثاني مجاز عن الانتقال من حال إلى أخرى، وإيلاء الظرف همزة الإنكار دون الإخراج لأن ذلك الإخراج ليس بمنكر مطلقا وإنما المنكر كونه وقت اجتماع الأمرين فقدم الظرف لأنه محل الإنكار، والأصل في المنكر أن يلي الهمزة، ويجوز أن يكون المراد إنكار وقت ذلك بعينه أي إنكار مجيء وقت فيه حياة بعد الموت يعني أن هذا الوقت لا يكون موجودا وهو أبلغ من إنكار الحياة بعد الموت لما أنه يفيد إنكاره بطريق برهاني، وبعضهم لم يقدر معطوفا واعتبر زمان الموت ممتد إلا أول زهوق الروح كما هو المتبادر وقيل: لا حاجة إلى جميع ذلك لأنهم إذا أحالوه في حالة الموت علم إحالته إذا كانوا رفاتا بالطريق الأولى، وأيا ما كان فلا إشكال في الآية. وقرأ جماعة منهم ابن ذكوان بخلاف عنه إِذا بدون همزة الاستفهام وهي مقدرة معه لدلالة المعنى على ذلك، وقيل: لا تقدير والمراد الاخبار على سبيل الهزء والسخرية بمن يقول ذلك. وقرأ طلحة بن مصرف «سأخرج» بسين الاستقبال وبغير لام، وعلى ذلك تكون إذا متعلقة بالفعل المذكور على الصحيح، وفي رواية أخرى عنه «لسأخرج» بالسين واللام. وقرأ الحسن وأبو حيوة «أخرج» مبنيا للفاعل «أو لا يذكر الإنسان» من الذكر الذي يراد به التفكر، والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير والإشعار بأن الإنسانية من دواعي الفكر فيما جرى عليه من شؤون التكوين المانعة عن القول المذكور وهو السر في إسناده إلى الجنس أو إلى الفرد بذلك العنوان على ما قيل: والهمزة للإنكار التوبيخي وهي على أحد المذهبين المشهورين في مثل هذا التركيب داخلة على محذوف معطوف عليه ما بعد والتقدير هاهنا أيقول ذلك ولا يذكر أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ أي من قبل الحالة التي هو فيها وهي حالة بقائه، وقيل: أي من قبل بعثه وَلَمْ يَكُ شَيْئاً أي والحال أنه لم يكن حينئذ موجودا فحيث خلقناه وهو في تلك الحالة المنافية للخلق بالكلية مع كونه أبعد من الوقوع فلأن نبعثه باعادة ما عدم منه وقد كان متصفا بالوجود في وقت على ما اختاره بعض أهل السنة أو بجمع المواد المتفرقة وإيجاد مثل ما كان فيها من الإعراض على ما اختاره بعض آخر منهم أيضا أولى وأظهر فما له لا يذكره فيقع فيما يقع فيه من النكير، وقيل: إن العطف على يقول المذكور سابقا. والهمزة لإنكار الجمع لدخولها على الواو المفيدة له، ولا يخل ذلك بصدارتها لأنها بالنسبة إلى جملتها فكأنه قيل، أيجمع بين القول المذكور وعدم الذكر: ومحصله أيقول ذلك ولا يذكر أنا خلقناه إلخ. وقرأ غير واحد من السبعة «يذّكر» بفتح الذال والكاف وتشديد هما، وأصله يتذكر فأدغم التاء في الذال وبذلك قرأ أبي فَوَ رَبِّكَ أقسامه باسمه عزت أسماؤه مضافا إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم لتحقيق الأمر بالإشعار بعلته وتفخيم شأنه عليه الصلاة والسّلام ورفع منزلته لَنَحْشُرَنَّهُمْ أي لتجمعن القائلين ما تقدم بالسوق إلى المحشر بعد ما أخرجناهم أحياء، وفي القسم على ذلك دون البعث إثبات له على أبلغ وجه وآكده كأنه أمر واضح غني عن التصريح به بعد بيان إمكانه بما تقدم من الحجة البالغة وإنما المحتاج إلى البيان ما بعد ذلك من الأهوال، وكون الضمير للكفرة القائلين هو الظاهر نظرا إلى السياق وإليه ذهب ابن عطية. وجماعة. ولا ينافي ذلك إرادة الواحد من الإنسان كما لا يخفى. واستظهر أبو حيان أنه للناس كلهم مؤمنهم وكافرهم وَالشَّياطِينَ معطوف على الضمير المنصوب أو مفعول معه. روي أن الكفرة يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين كانوا يغوونهم كل منهم مع شيطانه في سلسلة، ووجه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 434 ذلك على تقدير عود الضمير للناس أنهم لما حشروا وفيهم الكفرة مقرونين بالشياطين فقد حشروا معهم جميعا على طرز ما قيل في نسبة القول إلى الجنس، وقيل: يحشر كل واحد من الناس مؤمنهم وكافرهم مع قرينه من الشياطين ولا يختص الكافر بذلك. وقد يستأنس له بما في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه مرفوعا «ما منكم من أحد إلا وكل به قرينه من الجن قالوا: وإياك يا رسول الله قال: وإياي إلا أن الله تعالى أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير» ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا باركين على الركب، وأصله جثوو بواوين فاستثقل اجتماعهما بعد ضمتين فكسرت الثاء للتخفيف فانقلبت الواو الأولى ياء لسكونها وانكسار ما قبلها فاجتمعت واو وياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء فأدغمت الياء في الياء وكسرت الجيم اتباعا لما بعدها. وقرأ غير واحد من السبعة بضمها وهو جمع جاث في القراءتين، وجوز الراغب كونه مصدرا نظير ما قيل في بكى وقد مر، ولعل إحضار الكفرة بهذه الحال إهانة لهم أو لعجزهم عن القيام لما اعتراهم من الشدة. وقال بعضهم: إن المحاسبة تكون حول جهنم فيجثون لمخاصمة بعضهم بعضا ثم يتبرأ بعضهم من بعض، وقال السدي: يجثون لضيق المكان بهم فالحال على القولين مقدرة بخلافه على ما تقدم. وقيل: إنها عليه مقدرة أيضا لأن المراد الجثي حول جهنم، ومن جعل الضمير للكفرة وغيرهم قال: إنه يحضر السعداء والأشقياء حول جهنم ليرى السعداء ما نجاهم الله تعالى منه فيزدادوا غبطة وسرورا وينال الأشقياء ما ادخروا لمعادهم ويزدادوا غيظا من رجوع السعداء عنهم إلى دار الثواب وشماتتهم بهم ويجثون كلهم ثم لما يدهمهم من هول المطلع أو لضيق المكان أو لأن ذلك من توابع التواقف للحساب والتقاول قبل الوصول إلى الثواب والعقاب، وقيل: إنهم يجثون على ركبهم إظهارا للذل في ذلك الموطن العظيم، ويدل على جثي جميع أهل الموقف ظاهر قوله تعالى: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً [الجاثية: 28] لكن سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى ما هو ظاهر في عدم جثي الجميع من الأخبار والله تعالى أعلم، والحال قيل: مقدرة، وقيل: غير مقدرة إلا أنه أسند ما للبعض إلى الكل، وجعلها مقدرة بالنسبة إلى السعداء وغير مقدرة بالنسبة إلى الأشقياء لا يصح، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه فسر جِثِيًّا بجماعات على أنه جمع جثوة وهو المجموع من التراب والحجارة أي لنحضرنهم جماعات ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أي جماعة تشايعت وتعاونت على الباطل أو شاعت وتبعت الباطل على ما يقتضيه كون الآية في الكفرة أو جماعة شاعت دينا مطلقا على ما يقتضيه كونها في المؤمنين وغيرهم أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا أي نبوا عن الطاعة وعصيانا، وعن ابن عباس جراءة، وعن مجاهد كفرا، وقيل: افتراء بلغة تميم، والجمهور على التفسير الأول، وهو على سائر التفاسير مصدر وفيه القراءتان السابقتان في جثيا. وزعم بعضهم أنه فيهما جمع جاث وهو خلاف الظاهر هنا، والنزع الإخراج كما في قوله تعالى: وَنَزَعَ يَدَهُ [الأعراف: 108، الشعراء: 33] والمراد استمرار ذلك أي إنا نخرج ونفوز من كل جماعة من جماعات الكفر أعصاهم فأعصاهم إلى أن يحاط بهم فإذا اجتمعوا طرحناهم في النار على الترتيب نقدم أولاهم بالعذاب فأولاهم ولك قوله تعالى: ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا فالمراد بالذين هم أولى المنتزعون باعتبار الترتيب، وقد يراد بهم أولئك باعتبار المجموع فكأنه قيل: ثم لنحن أعلم بتصلية هؤلاء وهم أولى بالصلي من بين سائر الصالين ودركاتهم أسفل وعذابهم أشد ففي الكلام إقامة المظهر مقام المضمر، وفسر بعضهم النزع بالرمي من نزعت السهم عن القوس أي رميته فالمعنى لنرمين فيها الأعصى فالأعصى من كل طائفة من تلك الطوائف ثم لنحن أعلم بتصليتهم وحمل الآية على البدء بالأشد فالأشد مروي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 435 وجوز أن يراد بأشدهم عتيا رؤساء الشيع وأئمتهم لتضاعف جرمهم بكونهم ضلالا مضلين قال الله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ. وأخرج ذلك ابن أبي حاتم عن قتادة وعليه لا يجب الاستمرار والإحاطة. وأورد على القول بالعموم أن قوله تعالى أَشَدُّ عِتِيًّا يقتضي اشتراك الكل في العتي بل في أشديته وهو لا يناسب المؤمنين، وأجيب عنه بأن ذلك من نسبة ما للبعض إلى الكل والتفضيل على طائفة لا يقتضي مشاركة كل فرد فرد فإذا قلت: هو أشجع العرب لا يلزمه وجود الشجاعة في جميع أفرادهم، وعلى هذا يكون في الآية إيماء إلى التجاوز عن كثير حيث خص العذاب بالأشد معصية، وأَيُّهُمْ مفعول لَنَنْزِعَنَّ وهو اسم موصول بمعنى الذي مبني على الضم محله النصب وأَشَدُّ خبر مبتدأ محذوف أي هو أشد والجملة صلة والعائد المبتدأ وعَلَى الرَّحْمنِ متعلق بأشد وعِتِيًّا تمييز محول عن المبتدأ، ومن زعم أنه جمع جعله حالا، وجوز في الجار أن يكون للبيان فهو متعلق بمحذوف كما في سقيا لك، ويجوز تعلقه بعتيا، أما إن كان وصفا فبالاتفاق، وأما إذا كان مصدرا فعند القائل بجواز تقدم معمول المصدر لا سيما إذا كان ظرفا، وكذا الكلام في بِها من قوله هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا فإنه جوز أن يكون الجار للبيان وأن يكون متعلقا بأولى وأن يكون متعلقا بصليا، وقد قرىء بالضم والكسر، وجوز فيه المصدرية والوصية، وهو على الوصفية حال وعلى المصدرية تمييز على طرز ما قيل في عِتِيًّا إلا أنه جوز فيه أن يكون تمييزا عن النسبة بين أَوْلى والمجرور وقد أشير إلى ذلك فيما مر. والصلي من صلى النار كرضي وبها قاسى حرها، وقال الراغب: يقال صلي بالنار وبكذا أي بلي به، وعن الكلبي أنه فسر الصلي بالدخول، وعن ابن جريج أنه فسره بالخلود، وليس كل من المعنيين بحقيقي له كما لا يخفى، ثم ما ذكر من بناء- أي- هنا هو مذهب سيبويه، وكان حقها أن تبنى في كل موضع كسائر الموصولات لشبهها الحرف بافتقارها لما بعدها من الصلة لكنها لما لزمت الإضافة إلى المفرد لفظا أو تقديرا وهي من خواص الأسماء بعد الشبه فرجعت إلى الأصل في الأسماء وهو الأعراب ولأنها إذا أضيفت إلى نكرة كانت بمعنى كل وإذا أضيفت إلى معرفة كانت بمعنى بعض فحملت في الإعراب على ما هي بمعناه وعادت هنا عنده إلى ما هو حق الموصول وهو البناء لأنه لما حذف صدر صلتها ازداد نقصها المعنوي وهو الإبهام والافتقار للصلة بنقص الصلة التي هي كجزئها فقويت مشابهتها للحرف، ولم يرتض كثير من العلماء ما ذهب إليه. قال أبو عمرو الجرمي: خرجت من البصرة فلم أسمع منذ فارقت الخندق إلى مكة أحدا يقول: لأضربن أيهم قائم بالضم، وقال أبو جعفر: النحاس ما عملت أحدا من النحويين إلا وقد خطأ سيبويه في هذه المسألة. وقال الزجاج: ما تبين أن سيبويه غلط في كتابه إلا في موضعين هذا أحدهما فإنه يقول بإعراب أي إذا أفردت عن الإضافة فكيف يبنيها إذا أضيفت. وقد تكلف شيخنا علاء الدين أعلى الله تعالى مقامه في عليين للذب عن سيبويه في ذلك بما لا يفي بمؤنة نقله، وقد ذكرنا بعضا منه في حواشينا على شرح القطر للمصنف. نعم يؤيد ما ذهب إليه سيبويه من المفعولية قراءة طلحة بن مصرف ومعاذ بن مسلم الهراء أستاذ الفراء وزائدة عن الأعمش أيهم بالنصب لكنها ترد ما نقل عنه من تحتم البناء إذا أضيفت وحذف صدر صلتها، وينبغي إذا كان واقفا على هذه القراءة أن يقول بجواز الأمرين فيها حينئذ، وقال الخليل: مفعول (ننزعن) موصول محذوف وأي هنا استفهامية مبتدأ وأشد خبره والجملة محكية بقول وقع صلة للموصول المحذوف أي لننزعن الذين يقال فيهم: أيهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 436 أشد، وتعقب بأنه لا معنى لجعل «النزع» لمن يسأل عنه بهذا الاستفهام، وأجيب بأن ذلك مجاز عن تقارب أحوالهم وتشابهها في العتو حتى يستحق أن يسأل عنها أو المراد الذين يجاب بهم عن هذا السؤال، وحاصله لننزعن الأشد عتيا وهو مع تكلفه فيه حذف الموصول مع بعض الصلة وهو تكلف على تكلف ومثله لا ينقاس، نعم مثله في الحذف على ما قيل قول الشاعر: ولقد أبيت من الفتاة بمنزل ... فأبيت لا حرج ولا محروم وذهب الكسائي والفراء إلى ما قاله الخليل إلا أنهما جعلا الجملة في محل نصب بنزعن، والمراد لننزعن من يقع في جواب هذا السؤال، والفعل معلق بالاستفهام وساغ تعليقه عندهما لأن المعنى لننادين وهما يريان تعليق النداء وإن لم يكن من أفعال القلوب وإلى ذلك ذهب المهدوي، وقيل: لما كان النزع متضمنا معنى الإفراز والتمييز وهو مما يلزمه العلم عومل معاملة العلم فساغ تعليقه. ويونس لا يرى التعليق مختصا بصنف من الأفعال بل سائر أصنافها سواء في صحة التعليق عنده، وقيل: الجملة الاستفهامية استئنافية والفعل واقع على كُلِّ شِيعَةٍ على زيادة من في الإثبات كما يراه الأخفش أو على معنى لننزعن بعض كل شيعة بجعل مِنْ مفعولا لتأويلها باسم، ثم إذا كان الاستئناف بيانيا واقعا في جواب من المنزوعون؟ احتيج إلى التأويل كأن يقال: المراد الذين يقعون في جواب أيهم أشد أو نحو ذلك، وإذا كانت أي على تقدير الاستئناف ووقوع الفعل على ما ذكر موصولة لم يحتج إلى التأويل إلا أن في القول بالاستئناف عدولا عن الظاهر من كون الكلام جملة واحدة إلى خلاف الظاهر من كونه جملتين. ونقل بعضهم عن المبرد أن أَيُّهُمْ فاعل شِيعَةٍ لأن معناه يشيع، والتقدير لننزعن من كل فريق يشيع أيهم هو أشد، وأي على هذا على ما قال أبو البقاء. ونقل عن الرضي بمعنى الذي، وفي البحر قال المبرد: أيهم متعلق بشيعة فلذلك ارتفع، والمعنى أن الذين تشايعوا أيهم أشد كأنهم يتبادرون إلى هذا، ويلزمه أن يقدر مفعولا لننزعن محذوفا، وقدر أيضا في هذا المذهب من الذين تشايعوا أيهم أشد على معنى من الذين تعاونوا فنظروا أيهم أشد، قال النحاس: وهذا قول حسن انتهى، وهو خلاف ما نقل أولا، ولعمري إن ما نسب إلى المبرد أولا وأخيرا أبرد من يخ، وقيل: إن الجملة استفهامية وقعت صفة لشيعة على معنى لننزعن من كل شيعة مقول فيهم أيهم أشد أي من كل شيعة متقاربي الأحوال، ومن مزيدة والنزع الرمي، وحكى أبو بكر بن شقير أن بعض الكوفيين يقول: في أيهم معنى الشرط تقول: ضربت القوم أيهم غضب، والمعنى إن غضبوا أو لم يغضبوا قال أبو حيان: فعلى هذا يكون التقدير هنا إن اشتد عتوهم أو لم يشتد انتهى وهو كما ترى، والوجه الذي ينساق إليه الذهن ويساعده اللفظ والمعنى هو ما ذهب إليه سيبويه ومدار ما ذهب إليه في أي من الإعراب والبناء هو المساع في الحقيقة، وتعليلات النحويين على ما فيها إنما هي بعد الوقوع، وعدم سماع لا يقدح في سماعه فتدبر. وَإِنْ مِنْكُمْ التفات إلى خطاب الإنسان سواء أريد منه العموم أو خصوص الكفرة لإظهار مزيد الاعتناء بمضمون الكلام. وقيل: هو خطاب للناس وابتداء كلام منه عز وجل بعد ما أتم الغرض من الأول فلا التفات أصلا. ولعله الأسبق إلى الذهن لكن قيل يؤيد الأول قراءة ابن عباس وعكرمة وجماعة وَإِنَّ مِنْهُمْ أي وما منكم أحد إِلَّا وارِدُها أي داخلها كما ذهب إلى ذلك جمع كثير من سلف المفسرين وأهل السنة، وعلى ذلك قوله تعالى إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ [الأنبياء: 98] . وقوله تعالى: في فرعون يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ [هود: 98] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 437 واحتج ابن عباس بما ذكر على ابن الأزرق حين أنكر عليه تفسير الورود بالدخول وهو جار على تقدير عموم الخطاب أيضا فيدخلها المؤمن إلا أنها تضره على ما قيل، فقد أخرج أحمد، والحكيم الترمذي، وابن المنذر، والحاكم وصححه، وجماعة عن أبي سمية قال: اختلفنا في الورود فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن. وقال آخر: يدخلونها جميعا ثم ينجي الله تعالى الذين اتقوا، فلقيت جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه فذكرت له فقال: وأهوى بإصبعه إلى أذنيه صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمن بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم عليه السّلام حتى إن للنار ضجيجا من بردهم ثم ينجي الله تعالى الذين اتقوا» ، وقد ذكر الإمام الرازي لهذا الدخول عدة فوائد في تفسيره فليراجع. وأخرج عبد بن حميد وابن الأنباري والبيهقي عن الحسن الورود المرور عليها من غير دخول، وروي ذلك أيضا عن قتادة وذلك بالمرور على الصراط الموضوع على متنها على ما رواه جماعة عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، ويمر المؤمن ولا يشعر بها بناء على ما أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والحكيم وغيرهم عن خالد بن معدان قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة قالوا: ربنا ألم تعدنا أن نرد النار قال: بلى ولكنكم مررتم عليها وهي خامدة، ولا ينافي هذا ما أخرجه الترمذي والطبراني وغيرهما عن يعلى بن أمية عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «تقول النار للمؤمن يوم القيامة جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي لجواز أن لا يكون متذكرا هذا القول عند السؤال أو لم يكن سمعه لاشتغاله، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال في الآية: ورود المسلمين المرور على الجسر بين ظهريها ورود المشركين أن يدخلوها، ولا بد على هذا من ارتكاب عموم المجاز عند من لا يرى جواز استعمال اللفظ في معنيين، وعن مجاهد أن ورود المؤمن النار هو مس الحمى جسده في الدنيا لما صح من قوله صلّى الله عليه وسلّم «الحمى من فيح جهنم» ولا يخفى خفاء الاستدلال به على المطلوب. واستدل بعضهم على ذلك بما أخرجه ابن جرير عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعود رجلا من أصحابه وعكا وأنا معه فقال عليه الصلاة والسّلام: «إن الله تعالى يقول هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من النار في الآخرة وفيه خفاء أيضا» والحق أنه لا دلالة فيه على عدم ورود المؤمن المحموم في الدنيا النار في الآخرة، وقصارى ما يدل عليه أنه يحفظ من ألم النار يوم القيامة، وأخرج عبد ابن حميد عن عبيد بن عمير أن الورود الحضور والقرب كما في قوله تعالى وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ [القصص: 23] واختار بعضهم أن المراد حضورهم جاثين حواليها، واستدل عليه بما ستعلمه إن شاء الله تعالى، ولا منافاة بين هذه الآية وقوله تعالى: أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ [الأنبياء: 101] لأن المراد مبعدون عن عذابها، وقيل: المراد إبعادهم عنها بعد أن يكونوا قريبا منها كانَ أي ورودهم إياها عَلى رَبِّكَ حَتْماً أمرا واجبا كما روي عن ابن عباس، والمراد بمنزلة الواجب في تحتم للوقوع إذ لا يجب على الله تعالى شيء عند أهل السنة مَقْضِيًّا قضى بوقوعه البتة. وأخرج الخطيب عن عكرمة أن معنى كان حتما مقضيا كان قسما واجبا، وروي ذلك أيضا عن ابن مسعود والحسن وقتادة، قيل: والمراد منه إنشاء القسم، وقيل: قد يقال: إن عَلى رَبِّكَ المقصود منه اليمين كما تقول: لله تعالى على كذا إذ لا معنى له إلا تأكد اللزوم والقسم لا يذكر إلا لمثله، وعلى ورد في كلامهم كثيرا للقسم كقوله: على إذا ما جئت ليلى أزورها ... زيارة بيت الله رجلان حافيا فإن صيغة النذر قد يراد بها اليمين كما صرحوا به، ويجوز أن يكون المراد بهذه الجملة القسم كقولهم: عزمت عليك إلا فعلت كذا انتهى، ويعلم مما ذكر المراد من القسم فيما أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 438 ماجة وغيرهم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار إلا تجلة القسم» . وقال أبو عبيدة. وابن عطية وتبعهما غير واحد: إن القسم في الخبر إشارة إلى القسم في المبتدأ أعني وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها، وصرح بعضهم أن الواو فيه للقسم، وتعقب ذلك أبو حيان بأنه لا يذهب نحوي إلى أن مثل هذه الواو واو قسم لأنه يلزم من ذلك حذف المجرور وإبقاء الجار وهو لا يجوز إلا أن وقع في شعر أو نادر كلام بشرط أن تقوم صفة المحذوف مقامه كما في قوله: والله ما ليلي ينام صاحبه. وقال أيضا: نص النحويون على أنه لا يستغنى عن القسم بالجواب لدلالة المعنى إلا إذا كان الجواب باللام أو بأن وأين ذلك في الآية، وجعل ابن هشام تحلة القسم كناية عن القلة وقد شاع في ذلك، ومنه قول كعب: تخذى على يسرات وهي لاحقة ... ذوابل مسهن الأرض تحليل فإن المعنى مسهن الأرض قليل كما يحلف الإنسان على شيء ليفعلنه فيفعل منه اليسير ليتحلل به من قسمه ثم قال: إن فيما قاله جماعة من المفسرين من أن القسم على الأصل وهو إشارة إلى قوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها إلخ نظرا لأن الجملة لا قسم فيها إلا إن عطفت على الجمل التي أجيب بها القسم من قوله تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ إلى آخرها وفيه بعد انتهى. والخفاجي جوز الحالية والعطف، وقال: حديث البعد غير مسموع لعدم تخلل الفاصل وهو كما ترى، ولعل الأسلم من القيل والقال جعل ذلك مجازا عن القلة وهو مجاز مشهور فيما ذكر، ولا يعكر على هذا ما أخرجه أحمد والبخاري في تاريخه والطبراني وغيرهم عن معاذ بن أنس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من حرس من وراء المسلمين في سبيل الله تعالى متطوعا لا يأخذه سلطان لم ير النار بعينه إلا تحلة القسم فإن الله تعالى يقول: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها. فإن التعليل صحيح مع إرادة القلة من ذلك أيضا فكأنه قيل: لم ير النار إلا قليلا لأن الله تعالى أخبر بورود كل أحد إياها ولا بد من وقوع ما أخبر به ولولا ذلك لجاز أن لا يراها أصلا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا بالإخراج منها على ما ذهب إليه الجمع الكثير وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا على ركبهم كما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد، وهذه الآية ظاهرة عندي في أن المراد بالورود الدخول وهو الأمر المشترك. وقال بعضهم: إنها دليل على أن المراد بالورود الجثو حواليها وذلك لأن ننجي. وَنَذَرُ تفصيل للجنس فكأنه قيل ننجي هؤلاء ونترك هؤلاء على حالهم الذي أحضروا فيه جاثين، ولا بد على هذا من أن يكون التقدير في حواليها، وأنت تعلم أن الظاهر عدم التقدير والجثو لا يوجب ذلك، وخولف بين قوله تعالى: اتَّقَوْا وقوله سبحانه الظَّالِمِينَ ليؤذن بترجيح جانب الرحمة وأن التوحيد هو المنجي والإشراك هو المردي فكأنه قيل: ثم ننجي من وجد منه تقوى ما وهو الاحتراز من الشرك ونهلك من اتصف بالظلم أي بالشرك وثبت عليه، وفي إيقاع نَذَرُ مقابلا لننجي إشعار بتلك اللطيفة أيضا، وقال الراغب: يقال فلان يذر الشيء أي يقذفه لقلة اعتداده به. ومن ذلك قيل لقطعة اللحم التي لا يعتد بها وذر، وجيء بثم للإيذان بالتفاوت بين فعل الخلق هو وورودهم النار وفعل الحق سبحان وهو النجاة والدمار زمانا ورتبة قاله العلامة الطيبي طيب الله تعالى ثراه، والذي تقتضيه الآثار الواردة في عصاة المؤمنين أن يقال: إن التنجية المذكورة ليست دفعية بل تحصل أولا فأولا على حسب قوة التقوى وضعفها حتى يخرج من النار من في قلبه وزن ذرة من خير وذلك بعد العذاب حسب معصيته وما ظاهره من الأخبار كخبر جابر السابق إن المؤمن لا تضره النار مؤول بحمل المؤمن على المؤمن الكامل لكثرة الأخبار الدالة على أن بعض المؤمنين يعذبون. ومن ذلك ما أخرجه الترمذي عن جابر رضي الله تعالى عنه أيضا قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يعذب ناس من أهل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 439 التوحيد في النار حتى يكونوا حمما ثم تدركهم الرحمة فيخرجون فيطرحون على أبواب الجنة فيرش عليهم أهل الجنة الماء فينبتون كما ينبت الغثاء في حميل السيل» ومن هنا حظر بعض العلماء أن يقال في الدعاء: اللهم اغفر لجميع أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم جميع ذنوبهم أو اللهم لا تعذب أحدا من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم هذا، وقال بعضهم: إن المراد من التنجية على تقدير أن الخطاب خاص بالكفرة أن يساق الذين اتقوا إلى الجنة بعد أن كانوا على شفير النار، وجيء بثم لبيان التفاوت بين ورود الكافرين النار وسوق المذكورين إلى الجنة وأن الأول للإهانة والآخر للكرامة، وأنت تعلم أن الذين يذهب بهم إلى الجنة من الذين اتقوا من غير دخول في النار أصلا ليسوا إلا الخواص. والمعتزلة خصوا الذين اتقوا بغير أصحاب الكبائر وأدخلوهم في الظالمين واستدلوا بالآية على خلودهم في النار وكانوا ظالمين. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وابن مسعود وأبي رضي الله تعالى عنهم والجحدري ومعاوية بن قرة ويعقوب «ثمّ» بفتح الثاء أي هناك وابن أبي ليلى «ثمّة» بالفتح مع هاء السكت وهو ظرف متعلق بما بعده وقرأ يحيى والأعمش. والكسائي وابن محيصن ويعقوب «ننجي» بتخفيف الجيم. وقرىء «ينجي» و «ينجّي» بالتشديد والتخفيف مع البناء للمفعول، وقرأت فرقة «نجّي» بنون واحدة مضمومة وجيم مشددة، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه «ننحي» بحاء مهملة ، وهذه القراءة تؤيد بظاهرها تفسير الورود بالقرب والحضور وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ الآية إلى آخرها حكاية لما قالوا عند سماع الآيات الناعية عليهم فظاعة حالهم ووخامة مآلهم أي وإذا تتلى على المشركين آياتُنا التي من جملتها الآيات السابقة بَيِّناتٍ أي ظاهرات الإعجاز تحدي بها فلم يقدر على معارضتها أو مرتلات الألفاظ ملخصات المعنى مبينات المقاصد أما محكمات أو متشابهات قد تبعها البيان بالمحكمات أو تبيين الرسول صلّى الله عليه وسلّم قولا أو فعلا، والوجه كما في الكشاف أن يكون بَيِّناتٍ حالا مؤكدة لمضمون الجملة وإن لم يكن عقدها من اسمين لأن المعنى عليه. وقرأ أبو حيوة والأعرج وابن محيصن «وإذا يتلى» بالياء التحتية لأن المرفوع مجازي التأنيث مع وجود الفاصل قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي قالوا. ووضع الموصول موضع الضمير للتنبيه على أنهم قالوا ما قالوا كافرين بما يتلى عليهم رادين له أو قال الذين مردوا منهم على الكفر وأصروا على العتو والعناد وهم النضر بن الحارث وأتباعه الفجرة فإن الآية نزلت فيهم. واللام في قوله تعالى لِلَّذِينَ آمَنُوا للتبليغ كما في قلت له كذا إذا خاطبته به، وقيل لام الأجل أي قالوا لأجلهم وفي حقهم، ورجح الأول بأن قولهم ليس في حق المؤمنين فقط كما ينطق به قوله تعالى أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أي المؤمنين والكافرين كأنهم قالوا: أينا خَيْرٌ نحن أو أنتم مَقاماً أي مكانا ومنزلا، وأصله موضع القيام ثم استعمل لمطلق المكان. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد والجعفي وأبو حاتم عن أبي عمرو «مقاما» بضم الميم وأصله موضع الإقامة، والمراد به أيضا المنزل والمكان فتتوافق القراءتان. وجوز في البحر احتمال المفتوح والمضموم للمصدرية على أن الأصل مصدر قام يقوم، والثاني مصدر أقام يقيم، ورأيت في بعض المجموعات كلاما ينسب لأبي السعود عليه الرحمة في الفرق بين المقام بالفتح والمقام بالضم وقد سأله بعضهم عن ذلك بقوله: يا وحيد الدهر يا شيخ الأنام ... نبتغي فرق المقام والمقام وهو أن الأول يعني المفتوح الميم موضع قيام الشيء أعم من أن يكون قيامه فيه بنفسه أو بإقامة غيره ومن أن يكون ذلك بطريق المكثف فيه أو بدونه، والثاني موضع إقامة الغير إياه أو موضع قيامه بنفسه قياما ممتدا، فإن كان الفعل الناصب ثلاثيا فمقتضى المقام هو الأول، وكذا إن كان رباعيا ولم يقصد بيان كون المقام موضع قيام المضاف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 440 إليه بإقامة غيره أو موضع قيامه الممتد، وأما إذا قصد ذلك فمقتضاه الثاني كما إذا قلت: أقيمت تاء القسم مقام الواو تنبيها على أنها خلف عن الباء التي هي الأصل من أحرف القسم. ومقامات الكلمات كلها وإن كانت منوطة بوضع الواضع لكن مقامها المنوط بأصل الوضع لكونه مقاما أصليا لها قد نزل منزلة موضع قيامها بأنفسها وجعل مقامها المنوط بالاستعمال الطارئ جاريا مجرى المقام الاضطراري لذوات الاختيار، هذا إذا كان المقام ظرفا أما إذا كان مصدرا ميميا والفعل الناصب رباعي فحقه ضم الميم انتهى المراد منه. وأنت تعلم أنه في هذا المقام ليس منصوبا على الظرفية ولا على المصدرية بل منصوب على التمييز وهو محول عن المبتدأ على ما قيل: أي أي الفريقين مقامه خير وَأَحْسَنُ نَدِيًّا أي مجلسا ومجتمعا، وفي البحر هو المجلس الذي يجتمع فيه لحادثة أو مشورة، وقيل: مجلس أهل الندى أي الكرم. وكذا النادي يروي أنهم كانوا يرجلون شعورهم ويدهنونها ويتطيبون ويلبسون مفاخر الملابس ثم يقولون ذلك لفقراء المؤمنين الذين لا يقدرون على ذلك إذا تليت عليهم الآيات، قال الإمام: ومرادهم من ذلك معارضة المؤمنين كأنهم قالوا: لو كنتم على الحق وكنا على الباطل كان حالكم في الدنيا أحسن وأطيب من حالنا لأن الحكيم لا يليق به أن يوقع أولياءه المخلصين في العذاب والذل وأعداءه المعرضين عن خدمته في العز والراحة لكن الكفار كانوا في النعمة والراحة والمؤمنين كانوا بعكس ذلك فعلم أن الحق ليس مع المؤمنين، وهذا مع ظهور أنه قياس عقيم ناشىء من رأى سقيم نقضه الله تعالى وأبطله بقوله سبحانه وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً. وحاصله أن كثيرا ممن كان أعظم نعمة منكم في الدنيا كعاد. وثمود. وأضرابهم من الأمم العاتية قد أهلكهم الله تعالى فلو دل حصول نعمة الدنيا للإنسان على كونه مكرما عند الله تعالى وجب أن لا يهلك أحدا من المتنعمين في الدنيا، وفيه من التهديد والوعيد ما لا يخفى كأنه قيل فلينظر هؤلاء أيضا مثل ذلك، وكَمْ خبرية للتكثير مفعول أَهْلَكْنا، وقدمت لصدارتها، وقيل: استفهامية والأول هو الظاهر ومِنْ قَرْنٍ بيان لإبهامها. والقرن أهل كل عصر، وقد اختلف في مدته وهو من قرن الدابة سمي به لتقدمه، ومنه قرن الشمس لأول ما يطلع منها. و «هم أحسن» في حيز النصب على ما ذهب إليه الزمخشري وتبعه أبو البقاء صفة لكم ورده أبو حيان بأنه قد صرح الأصحاب بأن كم سواء كانت خبرية أو استفهامية لا توصف ولا يوصف بها، وجعله صفة قَرْنٍ وضمير الجمع لاشتمال القرن على أفراد كثيرة ولو أفرد الضمير لكان عربيا أيضا. ولا يرد عليه كما قال الخفاجي: كم من رجل قام وكم من قرية هلكت بناء على أن الجار والمجرور يتعين تعلقه بمحذوف هو صفة لكم كما ادعى بعضهم أن الرضي أشار إليه لأنه يجوز في الجار والمجرور أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف والجملة مفسرة لا محل لها من الإعراب فما ادعى غير مسلم عنده، وأَثاثاً تمييز وهو متاع البيت من الفرش والثياب وغيرها واحدها أثاثة، وقيل: لا واحد لها وقيل: الأثاث ماجد من المتاع والخرثي ما قدم وبلى، وأنشد الحسن بن علي الطوسي: تقادم العهد من أم الوليد بنا ... دهرا وصار أثاث البيت خرثيا والرئي المنظر كما قال ابن عباس. وغيره، وهو فعل بمعنى مفعول من الرؤية كالطحن والسقي. وقرأ الزهري وأبو جعفر وشيبة وطلحة في رواية الهمداني وأيوب وابن سعدان وابن ذكوان وقالوا «ريا» بتشديد الياء من غير همز فاحتمل أن يكون من ذلك على قلب الهمزة ياء وإدغامها. واحتمل أن يكون من الري ضد العطش والمراد به النضارة والحسن. وقرأ أبو بكر في رواية الأعمش «ريئا» بياء ساكنة بعدها همزة وهو على القلب ووزنه فلعا، وقرىء «رياء» بياء بعدها ألف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 441 بعدها همزة حكاها اليزيدي. ومعناها كما في الدر المصون مراءاة بعضهم بعضا. وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «ريا» بحذف الهمزة والقصر فتجاسر بعض الناس وقال: هي لحن، وليس كذلك بل خرجت على وجهين أحدهما أن يكون الأصل «ريّا» بتشديد الياء فخفف بحذف إحدى الياءين وهي الثانية لأنها التي حصل بها الثقل ولأن الآخر محل التغيير وذلك كما حذفت في لا سيما. والثاني أن يكون الأصل «ريئا» بياء ساكنة بعدها همزة فنقلت حركة الهمزة إلى الياء ثم حذفت على القاعدة المعروفة. وقرأ ابن عباس أيضا وابن جبير ويزيد البربري والأعصم المكي «زيّا» بالزاي وتشديد الياء وهو المحاسن المجموعة يقال: زواه زيا بالفتح أي جمعه، ويراد منه الأثاث أيضا كما ذكره المبرد في قول الثقفي: أشاقتك الظعائن يوم بانوا ... بذي الزي الجميل من الأثاث والظاهر في الآية المعنى الأول قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ إلخ أمر منه تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلّم بأن يجيب هؤلاء المفتخرين بما لهم من الحظوظ الدنيوية على المؤمنين ببيان مآل أمر الفريقين إما على وجه كلي متناول لهم ولغيرهم من المنهمكين في اللذة الفانية المبتهجين بها على أن من على عمومها، وإما على وجه خاص بهم على أنها عبارة عنهم. ووصفهم بالتمكن في الضلالة لذمهم والإشعار بعلة الحكم أي من كان مستقرا في الضلالة مغمورا بالجهل والغفلة عن عواقب الأمور فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا أي يمد سبحانه له ويمهله بطول العمر وإعطاء المال والتمكن من التصرفات فالطلب في معنى الخبر، واختير للإيذان بأن ذلك مما ينبغي أن يفعل بموجب الحكمة لقطع المعاذير كما ينبىء عنه قوله تعالى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ [فاطر: 37] فيكون حاصل المعنى من كان في الضلالة فلا عذر له فقد أمهله الرحمن ومد له مدا، وجوز أن يكون ذلك للاستدراج كما ينطق به قوله تعالى: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً [آل عمران: 178] وحاصل المعنى من كان في الضلالة فعادة الله تعالى أن يمد له ويستدر جه ليزداد إثما، وقيل: المراد الدعاء بالمد إظهارا لعدم بقاء عذر بعد هذا البيان الواضح فهو على أسلوب رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ [يونس: 88] إن حمل على الدعاء، قال في الكشف: الوجه الأول أوفق بهذا المقام، والتعرض لعنوان الرحمانية لما أن المدن أحكامها حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إلى آخره غاية للمد وجمع الضمير في الفعلين باعتبار معنى من كما أن الأفراد في الضميرين الأولين باعتبار لفظها، وما اسم موصول والجملة بعده صلة والعائد محذوف أي الذي يوعدونه، واعتبار ما مصدرية خلاف الظاهر. وقوله تعالى: إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ بدل من «ما» وتفصيل للموعود على طريقة منع الخلو، والمراد بالعذاب العذاب الدنيوي بغلبة المؤمنين واستيلائهم عليهم، والمراد بالساعة قيل: يوم القيامة وهو الظاهر. وقيل: ما يشمل حين الموت ومعاينة العذاب ومن مات فقد قامت قيامته وذلك لتتصل الغاية بالمغيا فإن المد لا يتصل بيوم القيامة، وأجيب بأن أمر الفاصل سهل لأن أمور هذه الدنيا لزوالها وتقضيها لا تعد فاصلة كما قيل: ذلك في قوله تعالى: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً [نوح: 25] وقوله تعالى: فَسَيَعْلَمُونَ جواب الشرط وهما في الحقيقة الغاية إن قلنا: إن المجموع هو الكلام أو مفهومه فقط إن قلنا: إنه هو الكلام والشرط قيد له، وحَتَّى عند ابن مالك جارة وهي لمجرد الغاية لا جارة ولا عاطفة عند الجمهور وهكذا هي كلما دخلت على إذا الشرطية وهي منصوبة بالشرط أو الجزاء على الخلاف المشهور، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب، والمراد حتى إذا عاينوا ما يوعدون من العذاب الدنيوي أو الأخروي فقط فسيعلمون حينئذ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً من الفريقين بأن يشاهدوا الأمر على عكس ما كانوا يقدرونه فيعلمون أنهم شر مكانا لا خير مقاما، وفي التعبير بالمكان هنا دون المقام المعبر به هناك مبالغة في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 442 إظهار سوء حالهم وَأَضْعَفُ جُنْداً أي فئة وأنصارا لا أحسن نديا، ووجه التقابل أن حسن الندى باجتماع وجوه القوم وأعيانهم وظهور شوكتهم واستظهارهم. وقيل: إن المراد من الندي هناك من فيه كما يقال المجلس العالي للتعظيم وليس المراد أن له ثمة جندا ضعيفا كلا وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً [الكهف: 43] وإنما ذكر ذلك ردا لما كانوا يزعمونه من أن لهم أعوانا من شركائهم، والظاهر أن من موصولة وهي في محل نصب مفعول «يعلمون» وتعدى إلى واحد لأن العلم بمعنى المعرفة، وجملة هُوَ شَرٌّ صلة الموصول. وجوز أبو حيان كونها استفهامية والعلم على بابه والجملة في موضع نصب سادة مسد المفعولين وهو عند أبي البقاء فصل لا مبتدأ. وجوز الزمخشري وظاهر صنيعه اختياره أن يكون ما تقدم غاية لقول الكفرة أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ إلخ. وقوله تعالى: كَمْ أَهْلَكْنا إلخ وقُلْ مَنْ كانَ إلخ جملتان معترضتان للإنكار عليهم أي لا يبرحون يقولون هذا القول ويتولون به لا يتكافون عنه إلى أن يشاهدوا الموعود رأي عين إما العذاب في الدنيا بأيدي المؤمنين وإما يوم القيامة وما ينالهم فيه من الخزي والنكال فحينئذ يعلمون أن الأمر على عكس ما قدروه وتعقبه في البحر بأنه في غاية البعد لطول الفصل بين الغاية والمغيا مع أن الفصل بجملتي اعتراض فيه خلاف أبي علي فإنه لا يجيزه، وأنت تعلم أيضا بعد إصلاح أمر انقطاع القول حين الموت وعدم امتداده إلى يوم القيامة أن اعتبار استمرار القول وتكرره لا يتم بدون اعتبار استمرار التلاوة لوقوع القول في حيز جواب إذا وهو كما ترى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 443 وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً كلام مستأنف سيق لبيان حال المهتدين إثر بيان حال الضالين كما اختاره أبو السعود، واختار الزمخشري وتبعه أبو البقاء أنه عطف على موضع فَلْيَمْدُدْ إلخ ولم يجوزه أبو حيان سواء كان «فليمدد» دعاء أو خبرا في صورة الطلب لأنه في موضع الخبر إن كانت من موصولة، وفي موضع الجزاء إن كانت شرطية وموضع المعطوف موضع المعطوف عليه والجملة التي جعلت معطوفة خالية من ضمير يربط الخبر بالمبتدأ والجواب بالشرط، وقيل عليه أيضا: إن العطف غير مناسب من جهة المعنى كما أنه غير مناسب من جهة الإعراب إذ لا يتجه أن يقال: من كان في الضلالة يزيد الله الذين اهتدوا هدى. وأجيب عن هذا بأن المعنى من كان في الضلالة زيد في ضلالته وزيد في هداية أعدائه لأنه مما يغيظه وعما سبق بأن من شرطية لا موصولة. اشتراط ضمير يعود من الجزاء على اسم الشرط غير الظرف ممنوع وهو غير متفق عليه عند النحاة كما في الدر المصون مع أنه مقدر كما سمعت ولا يخفى أن هذا العطف لا يخلو عن تكلف، واختار البيضاوي أنه عطف على مجموع قوله تعالى مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ إلخ ليتم التقابل فإنه صلّى الله عليه وسلّم أمر أن يجيبهم عن قولهم المؤمنين أي الفريقين إلخ فليأت بذكر القسمين أصالة. قال الطيبي: فكأنه قيل: قل من كان في الضلالة من الفريقين فليمهله الله تعالى وينفس في مدة حياته ليزيد في الغي ويجمع الله تعالى له عذاب الدارين ومن كان في الهداية منهما يزيد الله تعالى هدايته فيجمع سبحانه له خير الدارين. وهذا الجواب من الأسلوب الحكيم وفيه معنى قول حسان: أتهجوه ولست له بكفء ... فشر كما لخير كما فداء في الدعاء والاحتراز عن المواجهة، وفي الكشف أن هذا أولى مما اختاره الزمخشري وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ قد تقدمت الأقوال المأثورة في تفسيرها، واختير أنها الطاعات التي تبقى فوائدها وتدوم عوائدها لعمومه وكلها خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً بمعناه المتعارف، وقيل: عائدة مما متع به الكفرة من النعم المخدجة الفانية التي يفتخرون بها وَخَيْرٌ من ذلك أيضا مَرَدًّا أي مرجعا وعاقبة لأن عاقبتها المسرة الأبدية والنعيم المقيم وعاقبة ذلك الحسرة السرمدية والعذاب الأليم. وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم من اللطف والتشريف ما لا يخفى. وتكرير الخير لمزيد الاعتناء ببيان الخيرية وتأكيد لها. وفي الآية على ما ذكره الزمخشري ضرب من التهكم بالكفرة حيث أشارت إلى تسمية جزائهم ثوابا. والمفاضلة على ما قال على طريقة- الصيف أحر من الشتاء- أي أبلغ في حره من الشتاء في برده وليست على التهكم لأنك لو قلت: النار خير من الزمهرير أو بالعكس تهكما كان التهكم على بابه في المفضل والمفضل عليه وذلك مما لا يتمشى فيما نحن فيه. وحاصل ما أراده أن المراد ثواب هؤلاء أبلغ من ثواب أولئك أي عقابهم. وقول صاحب التقريب فيه: إنه غير معلوم جوابه كيف لا وقد سبقت الرحمة الغضب وفي الجنة من الضعف والإفضال ما لا يقادر قدره والنار من عدله تعالى، وقوله: إنه غير مناسب لمقام التهديد مع ما فيه من المنع يرد عليه أن الكلام مبني على التقابل وأنه على المشاكلة في قولهم أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وأحسن نديا فوعد هؤلاء ليس لمجرد تهديد أولئك بل مقصود لذاته قاله في الكشف. وقال صاحب الفرائد: ما قاله الزمخشري بعيد عن الطبع والاستعمال وليس في كلامهم ما يشهد له، ويمكن أن يقال: المراد ثواب الأعمال الصالحة في الآخرة خير من ثوابهم في الدنيا وهو ما حصل لهم منها من الخير بزعمهم ومما أوتوا من المال والجاه والمنافع الحاصلة منهما اه، ورد إنكاره له بأن الزجاج ذكره في قوله تعالى: أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [الفرقان: 15] وأن له نظائر. والبعد عن الطبع في حيز المنع. وقال بعض المحققين: إن أفعل في الآية للدلالة على الاتصاف بالحدث وعلى الزيادة المطلقة كما قيل في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 444 يوسف عليه السلام أحسن إخوته وهي إحدى حالاته الأربع التي ذكرها بعض علماء العربية، فالمعنى أن ثوابهم ومردهم متصف بالزيادة في الخيرية على المتصف بها بقطع النظر عن هؤلاء المفتخرين بدنياهم فلا يلزم مشاركتهم في الخيرية فتأمل. والجملة على ما ذهب إليه أبو السعود على تقديري الاستئناف والعطف فيما قبلها مستأنفة واردة من جهته تعالى لبيان فضل أعمال المهتدين غير داخلة في حيز الكلام الملقن لقوله سبحانه وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً ومشتملة على تسلية قلوب المؤمنين مما عسى أن يختلج فيها من مفاخرة الكفرة شيء كما أن قوله تعالى حَتَّى إِذا رَأَوْا- إلى- جُنْداً تتميم لوعيدهم، وكلاهما من تتمة الأمر بالجواب عن قولهم أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا، وجعل التعبير بخير واردا على طريق المشاكلة. وما ذكره من كون ذلك من تتمة الجواب هو المنساق إلى الذهن إلا أن ظاهر الخطاب يأباه وقد يتكلف له، ولعلنا قد أسلفنا في هذه السورة ما ينفعك في أمره فتذكر. أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا أي بآياتنا التي من جملتها آيات البعث. أخرج البخاري ومسلم والترمذي والطبراني وابن حبان وغيرهم عن خباب بن الأرت قال: كنت رجلا قينا وكان لي على العاصي بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال: لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد صلّى الله عليه وسلّم فقلت: لا والله لا أكفر بمحمد صلّى الله عليه وسلّم حتى تموت ثم تبعث قال: فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد فأعطيك فأنزل الله تعالى أَفَرَأَيْتَ إلخ. وفي رواية أن خبابا قال له لا والله لا أكفر بمحمد صلّى الله عليه وسلّم حيا ولا ميتا ولا إذا بعثت فقال العاصي: فإذا بعثت جئتني إلخ، وفي رواية أن رجالا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم أتوه يتقاضون دينا لهم عليه فقال: ألستم تزعمون أن في الجنة ذهبا وفضة وحريرا ومن كل الثمرات؟ قالوا: بلى قال: موعدكم الآخرة والله لأوتين مالا وولدا ولأوتين مثل كتابكم الذي جئتم به فنزلت ، وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة، وقد كانت له أقوال تشبه ذلك، وقال أبو مسلم: هي عامة في كل من له هذه الصفة، والأول هو الثابت في كتب الصحيح، والهمزة للتعجيب من حال ذلك الكافر والإيذان بأنها من الغرابة والشناعة بحيث يجب أن ترى ويقضي منها العجب، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أنظرت فرأيت الذي كفر بآياتنا الباهرة التي حقها أن يؤمن بها كل من وقف عليها وَقالَ مستهزأ بها مصدرا كلامه باليمين الفاجرة والله لَأُوتَيَنَّ في الآخرة واردة في الدنيا كما حكاه الطبرسي عن بعضهم تأباه الأخبار الصحيحة إلا أن يحمل الإيتاء على ما قيل على الإيتاء المستمر إلى الآخرة أي لأوتين إيتاء مستمرا مالًا وَوَلَداً والمراد أنظر إليه فتعجب من حالته البديعة وجرأته الشنيعة، وقيل: إن الرؤية مجاز عن الأخبار من إطلاق السبب وإرادة المسبب، والاستفهام مجاز عن الأمر به لأن المقصود من نحو قولك: ما فعلت أخبرني فهو إنشاء تجوز به عن إنشاء آخر والفاء على أصلها. والمعنى أخبر بقصة هذا الكافر عقيب حديث أولئك الذين قالوا: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً الآية، وقيل: عقيب حديث من قال: إِذا ما مِتُّ إلخ، وما قدمنا في معنى الآية هو الأظهر واختاره العلامة أبو السعود. وتعقب الثاني بقوله: أنت خبير بأن المشهور استعمال أَرَأَيْتَ في معنى أخبرني بطريق الاستفهام جاريا على أصله أو مخرجا إلى ما يناسبه من المعاني لا بطريق الأمر بالأخبار لغيره وإرادة أخبرني بطريق الاستفهام جاريا على أصله أو مخرجا إلى ما يناسبه من المعاني لا بطريق الأمر بالأخبار لغيره وإرادة أخبرني هنا مما لا يكاد يصح كما لا يخفى. وقيل: المراد لأوتين في الدنيا ويأباه سبب النزول، قال العلامة: إلا أن يحمل على الإيتاء المستمر إلى الآخرة فحينئذ ينطبق على ذلك. وقرأ حمزة والكسائي والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وابن عيسى الأصبهاني «ولدا» بضم الواو وسكون اللام فقيل: هو جمع ولد كأسد وأسد وأنشدوا له قوله: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 445 ولقد رأيت معاشرا ... قد ثمروا مالا وولدا وقيل هو لغة في ولد كالعرب والعرب، وأنشدوا له قوله: فليت فلانا كان في بطن أمه ... وليت فلانا كان ولد حمار والحق أنه ورد في كلام العرب مفردا وجمعا وكلاهما صحيح هنا. وقرأ عبد الله ويحيى بن يعمر «ولدا» بكسر الواو وسكون اللام وهو بمعنى ذلك، وقوله تعالى: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ رد لكلمته الشنعاء وإظهار لبطلانها إثر ما أشير إليه بالتعجيب منها، فالجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب، وقيل: إنها في محل نصب واقعة موقع مفعول ثان لأرأيت على أنه بمعنى أخبرني وهو كما ترى، والهمزة للاستفهام، والأصل أأطلع فحذفت همزة الوصل تخفيفا، وقرأ «أطلع» بكسر الهمزة وحذف همزة الاستفهام لدلالة أم عليها كما في قوله: بسبع رمين الجمر أم بثمان والفعل متعد بنفسه وقد يتعدى بعلى وليس بلازم حتى تكون الآية من الحذف والإيصال، والمراد من الطلوع الظهور على وجه العلو والتملك ولذا اختير على التعبير بالعلم ونحو- أي أقد بلغ من عظمة الشأن إلى أن ارتقى علم الغيب الذي استأثر به العليم الخبير جل جلاله حتى ادعى علم أن يؤتى في الآخرة مالا وولدا وأقسم عليه، وعن ابن عباس أن المعنى انظر في اللوح المحفوظ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً قال لا إله إلا الله يرجو بها ذلك، وعن قتادة العهد العمل الصالح الذي وعد الله تعالى عليه الثواب، فالمعنى أعلم الغيب أم عمل عملا يرجو ذلك في مقابلته. وقال بعضهم: العهد على ظاهره. والمعنى أعلم الغيب أم أعطاه الله تعالى عهدا وموثقا وقال له: إن ذلك كائن لا محالة. ونقل هذا عن الكلبي، وهذه مجاراة مع العين بحسب منطوق مقاله كما أن كلامه كذلك، والتعرض لعنوان الرحمانية للإشعار بعلية الرحمة لإيتاء ما يدعيه كَلَّا ردع وزجر عن التفوه بتلك العظيمة، وفي ذلك تنبيه على خطئه. وهذا مذهب الخليل وسيبويه والأخفش والمبرد وعامة البصريين في هذا الحرف وفيه مذاهب لعلنا نشير إليها إن شاء الله تعالى، وهذا أول موضع وقع فيه من القرآن، وقد تكرر في النصف الأخير فوقع في ثلاثة وثلاثين موضعا ولم يجوز أبو العباس الوقف عليه في موضع. وقال الفراء: هو على أربعة أقسام، أحدها ما يحسن الوقف عليه ويحسن الابتداء به والثاني ما يحسن الوقف عليه ولا يحسن الابتداء به، والثالث ما يحسن الابتداء به ولا يحسن الوقف عليه، والرابع ما لا يحسن فيه شيء من الأمرين، أما القسم الأول ففي عشرة مواضع ما نحن فيه وقوله تعالى: لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا [مريم: 81] وقوله سبحانه لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا [المؤمنون: 100] وقوله عز وجل الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلَّا [سبأ: 27] وقوله تبارك وتعالى أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ كَلَّا [المعارج: 38، 39] وقوله جل وعلا أَنْ أَزِيدَ كَلَّا [المدثر: 15، 16] وقوله عز اسمه صُحُفاً مُنَشَّرَةً كَلَّا [المدثر: 52، 53] وقوله سبحانه وتعالى رَبِّي أَهانَنِ كَلَّا [الفجر: 16، 17] وقوله تبارك اسمه أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ كَلَّا [الهمزة: 3، 4] وقوله تعالى شأنه ثُمَّ يُنْجِيهِ كَلَّا [المعارج: 14، 15] فمن جعله في هذه المواضع ردا لما قبله وقف عليه ومن جعله بمعنى ألا التي للتنبيه أو بمعنى حقا ابتدأ به وهو يحتمل ذلك فيها، وأما القسم الثاني ففي موضعين قوله جل جلاله حكاية فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ قالَ كَلَّا [الشعراء: 14، 15] وقوله عز شأنه إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قالَ كَلَّا [الشعراء: 61، 62] وأما الثالث ففي تسعة عشر موضعا قوله تعالى شأنه: كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ [عيسى: 11] كَلَّا وَالْقَمَرِ [المدثر: 32] كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ [الإنفطار: 9] كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ [القيامة: 26] كَلَّا لا وَزَرَ [القيامة: 11] كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ [القيامة: 20] كَلَّا سَيَعْلَمُونَ [النبأ: 4] كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ [عبس: 13] كَلَّا بَلْ رانَ عَلى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 446 قُلُوبِهِمْ [المطففين: 14] كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ [الفجر: 17] كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ [المطففين: 7] كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ [المطففين: 18] كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ [المطففين: 15] كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ [الفجر: 21] كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى [العلق: 6] كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ [العلق: 15] كَلَّا لا تُطِعْهُ [العلق: 19] كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ [التكاثر: 3] كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ [التكاثر: 5] لأنه ليس للرد في ذلك، وأما القسم الرابع ففي موضعين ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ [الفجر: 21] ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ [التكاثر: 14] فإنه لا يحسن الوقف على ثم لأنه حرف عطف ولا على كلا لأن الفائدة فيما بعد، وقال بعضهم: إنه يحسن الوقف على كلا في جميع القرآن لأنه بمعنى انته إلى في موضع واحد وهو قوله تعالى كَلَّا وَالْقَمَرِ [المدثر: 32] لأنه موصول باليمين بمنزلة قولك أي وربي سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ أي سنظهر أنا كتبنا قوله كقوله: إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة ... ولم تجدي من أن تقرّي به بدا أي إذا انتسبنا علمت وتبين أني لست بابن لئيمة أو سننتقم منه انتقام من كتب جريمة الجاني وحفظها عليه فإن نفس كتبة ذلك لا تكاد تتأخر عن القول لقوله تعالى ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 18] وقوله سبحانه جل وعلا وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف: 80] فمبني الأول تنزيل إظهار الشيء الخفي منزلة إحداث الأمر المعدوم بجامع أن كلا منهما إخراج من الكمون إلى البروز فيكون استعارة تبعية مبنية على تشبيه إظهار الكتابة على رؤوس الإشهاد بأحداثها ومدار الثاني تسمية الشيء باسم سببه فإن كتبة جريمة المجرم سبب لعقوبته قطعا قاله أبو السعود، وقيل: إن الكتابة في المعنى الثاني استعارة للوعيد بالانتقام وفيه خفاء، وقال بعضهم: لا مجاز في الآية بيد أن السين للتأكيد، والمراد نكتب في الحال ورد بأن السين إذا أكدت فإنما تؤكد الوعد أو الوعيد وتفيد أنه كائن لا محالة في المستقبل. وأما إنها تؤكد ما يراد به الحال فلا كذا قيل: فليراجع. وقرأ الأعمش «سيكتب» بالياء التحتية والبناء للمفعول وذكرت عن عاصم وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا مكان ما يدعيه لنفسه من الإمداد بالمال والولد أي نطول له من العذاب ما يستحقه أو نزيد عذابه ونضاعفه له من المدد يقال: مده وأمده بمعنى، وتدل عليه قراءة علي كرم الله تعالى وجهه «ونمد» بالضم وهو بهذا المعنى يجوز أن يستعمل باللام وبدونها ومعناه على الأول نفعل المدله وهو أبلغ من نمده وأكد بالمصدر إيذانا بفرط غضب الله تعالى عليه لكفره وافترائه على الله سبحانه واستهزائه بآياته العظام نعوذ بالله عز وجل مما يستوجب الغضب. وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ أي نسلب ذلك ونأخذه بموته أخذ الوارث ما يرثه، والمراد بما يقول مسماه ومصداقه وهو ما أوتيه في الدنيا من المال والولد يقول الرجل: أنا أملك كذا فتقول: ولي فوق ما تقول، والمعنى على المضي وكذا في يقول السابق، وفيه إيذان بأنه ليس لما قال مصداق موجود سوى ما ذكر، وما إما بدل من الضمير بدل اشتمال وإما مفعول به أي نرث منه ما آتيناه في الدنيا وَيَأْتِينا يوم القيامة فَرْداً لا يصحبه مال ولا ولد كان له فضلا أي يؤتى ثمة زائدا، وفي حرف ابن مسعود «ونرثه ما عنده ويأتينا فردا لا مال له ولا ولد» وهو ظاهر في المعنى المذكور، وقيل: المعنى نحرمه ما زعم أنه يناله في الآخرة من المال والولد ونعطيه لغيره من المستحقين، وروي هذا عن أبي سهل، وتفسير الإرث بذلك تفسير باللازم وما يَقُولُ مراد منه مسماه أيضا والولد الذي يعطى للغير ينبغي أن يكون ولد ذلك الغير الذي كان له في الدنيا وإعطاؤه إياه بأن يجمع بينه وبينه حسبما يشتهيه وهذا مبني على أنه لا توالد في الجنة. وقد اختلف العلماء في ذلك فقال جمع: منهم مجاهد وطاوس وإبراهيم النخعي: بعدم التوالد احتجاجا بما في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 447 حديث لقيط رضي الله تعالى عنه الطويل الذي عليه من الجلالة والمهابة ونور النبوة ما ينادي على صحته، وقال فيه أبو عبد الله بن منده لا ينكره إلا جاحد أو جاهل، وقد خرجه جماعة من أئمة السنة من قوله: قلت يا رسول الله أو لنا فيها أزواج أو منهن مصلحات؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: «المصلحات للمصلحين تلذذونهن ويلذذنكم مثل لذاتكم في الدنيا غير أن لا تتوالد» ، وبما روي عن أبي ذر العقيلي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن أهل الجنة لا يكون لهم ولد» وقالت فرقة بالتوالد احتجاجا بما أخرجه الترمذي في جامعه عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة واحدة كما يشتهي» وقال حسن غريب، وبما أخرجه أبو نعيم عن أبي سعيد أيضا قيل يا رسول الله أيولد لأهل الجنة فإن الولد من تمام السرور؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «نعم والذي نفسي بيده وما هو إلا كقدر ما يتمنى أحدكم فيكون حمله ورضاعه وشبابه» وأجابت عما تقدم بأن المراد نفي أن يكون توالد أو ولد على الوجه المعهود في الدنيا. وتعقب ذلك بأن الحديث الأخير ضعيف كما قال البيهقي. والحديث الأول قال فيه السفاريني: أجود أسانيده إسناد الترمذي وقد حكم عليه بالغرابة وأنه لا يعرف إلا من حديث أبي الصديق التاجي وقد اضطرب لفظه فتارة يروى عنه إذا اشتهى الولد وتارة أنه يشتهي الولد وتارة إن الرجل من أهل الجنة ليولد له وإذا قلنا بأن له على الرواية السابقة سندا حسنا كما أشار إليه الترمذي فلقائل أن يقول: إن فيه تعليقا بالشرط وجاز أن لا يقع، وإذا وإن كانت ظاهرة في المحقق لكنها قد تستعمل لمجرد التعليق الأعم. وأما الجواب عن الحديثين السابقين بما مر فأوهن من بيت العنكبوت كما لا يخفى، وبالجملة المرجح عند الأكثرين عدم التوالد ورجح ذلك السفاريني بعشرة أوجه لكن للبحث في أكثرها مجال والله تعالى أعلم. وقيل: المراد بما يقول نفس القول المذكور لا مسماه، والمعنى إنما يقول هذا القول ما دام حيا فإذا قبضناه حلنا بينه وبين أن يقوله ويأتينا رافضا له مفرد عنه. وتعقب بأن هذا مبني على صدور القول المذكور عنه بطريق الاعتقاد وأنه مستمر عل التفوه به راج لوقوع مضمونه ولا ريب في أن ذلك مستحيل ممن كفر بالبعث وإنما قال ما قال بطريق الاستهزاء. وأجيب بأنا لا نسلم البناء على ذلك لجواز أن يكون المراد إنما يقول ذلك ويستهزىء ما دام حيا فإذا قبضناه حلنا بينه وبين الاستهزاء بما ينكشف له ويحل به أو يقال: إن مبنى ما ذكر على المجاراة مع اللعين كما تقدم. وقيل: المعنى نحفظ قوله لنضرب به وجهه في الموقف ونعيره به ويأتينا على فقره ومسكنته فردا من المال والولد لم نوله سؤله ولم نؤته متمناه فيجتمع عليه أمران: تبعة قوله ووباله وفقد المطموع فيه، وإلى تفسير الإرث بالحفظ ذهب النحاس وجعل من ذلك «العلماء ورثة الأنبياء» أي حفظة ما قالوه، وأنت خبير بأن حفظ قوله قد علم من قوله تعالى سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ. وفي الكشاف يحتمل أنه قد تمنى وطمع أن يؤتيه الله تعالى مالا وولدا في الدنيا وبلغت به أشعبيته أن تألى على ذلك فقال سبحانه هب أنا أعطيناه ما اشتهاه أما نرثه منه في العاقبة ويأتينا غدا فردا بلا مال ولا ولد كقوله تعالى لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى [الأنعام: 94] فما يجدي عليه تمنيه وتأليه انتهى، ولا يخفى أنه احتمال بعيد جدا في نفسه ومن جهة سبب النزول، والتكلف لتطبيقه عليه لا يقربه كما لا يخفى وفَرْداً حال على جميع الأقوال لكن قيل: إنه حال مقدرة حيث أريد حرمانه عن المال والولد وإعطاء ذلك لمستحقه لأن الانفراد عليه يقتضي التفاوت بين الضال والمهتدي وهو إنما يكون بعد بالموقف بخلاف ما إذا أريد غير ذلك مما تضمنته الأقوال لعدم اقتضائه التفاوت بينهما وكفاية فردية الموقف في الصحة وإن كانت مشتركة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 448 وزعم بعضهم أن الحال مقدرة على سائر الأقوال لأن المراد دوام الانفراد عن المال والولد أو عن القول المذكور والدوام غير محقق عند الإتيان بل مقدر كما في قوله تعالى فَادْخُلُوها خالِدِينَ [الزمر: 83] ولا يخفى ما فيه. وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً حكاية لجناية عامة للكل مستتبعة لضد ما يرجون ترتبه عليها إثر حكاية مقالة الكافر المعهود واستتباعها لنقيض مضمونها أي اتخذ الكفرة الظالمون الأصنام أو ما يعمهم وسائر المعبودات الباطلة آلهة متجاوزين الله تعالى لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا أي ليتعززوا بهم بأن يكونوا لهم وصلة إليه عز وجل وشفعاء عنده كَلَّا ردع لهم وزجر عن ذلك، وفيه إنكار لوقوع ما علقوا به أطماعهم الفارغة سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ أي ستجحد الآلهة عبادة أولئك الكفرة إياها وينطق الله تعالى من لم يكن ناطقا منها فتقول جميعا ما عبدتمونا كما قال سبحانه: وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ [النحل: 86] أو ستنكر الكفرة حين يشاهدون عاقبة سوء كفرهم عبادتهم إياها كما قال سبحانه لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] . ومعنى قوله تعالى وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا على الأول على ما قيل تكون الآلهة التي كانوا يرجون أن تكون لهم عزا ضدا للعز أي ذلا وهوانا أو أعوانا عليهم كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو أظهر من التفسير السابق، وكونهم أعوانا عليهم لأنهم يلعنونهم، وقيل: لأن عبادتهم كانت سببا للعذاب. وتعقب بأن هذا لم يحدث يوم القيامة وظاهر الآية الحدوث ذلك اليوم والأمر فيه هين، وقيل: لأنهم يكونون آلة لعذابهم حيث يجعلون وقود النار وحصب جهنم وهذا لا يتسنى إلا على تقدير أن يراد بالآلهة الأصنام، وإطلاق الضد على العون لما أن عون الرجل يضاد عدوه وينافيه بإعانته له عليه، وعلى الثاني يكون الكفرة على الآلهة أي أعداء لها من قولهم: الناس عليكم أي أعداؤكم، ومنه اللهم كن لنا ولا تكن علينا ضدا أي منافين ما كانوا عليه كافرين بها بعد ما كانوا يعبدونها فعليهم على ما قيل خبر يكون، «وضدا» حال مؤكدة والعداوة مرادة مما قبله، وقيل: إنها مرادة منه وهو الخبر وعَلَيْهِمْ في موضع الحال، وقد فسره بأعداء الضحاك وهو على ما نقل عن الأخفش كالعدو يستعمل مفردا وجمعا. وبذلك قال صاحب القاموس وجعل ما هنا جمعا، وأنكر بعضهم كونه مما يطلق على الواحد والجمع، وقال: هو للواحد فقط وإنما وحد هنا لوحدة المعنى الذي يدور عليه مضادتهم فإنهم بذلك كالشيء الواحد كما في قوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه النسائي وهم يد على من سواهم، وقال صاحب الفرائد: إنما وحد لأنه ذكر في مقابلة قوله تعالى عِزًّا وهو مصدر يصلح لأن يكون جمعا فهذا وإن لم يكن مصدرا لكن يصلح لأن يكون جمعا نظرا إلى ما يراد منه وهو الذل. وهذا إذا تم فإنما يتم على المعنى الأول، وقد صرح في البحر أنه على ذلك مصدر يوصف به الجمع كما يوصف به الواحد فليراجع. وقرأ أبو نهيك هنا وفيما تقدم كلا بفتح الكاف والتنوين فقيل إنها الحرف الذي للردع إلا أنه نوى الوقف عليها فصار ألفها كألف الإطلاق ثم أبدلت تنوينا، ويجوز أن لا يكون نوى الوقف بل أجريت الألف مجرى ألف الإطلاق لما أن ألف المبنى لم يكن لها أصل ولم يجز أن تقع رويا ويسمى هذا تنوين الغالي وهو يلحق الحروف وغيرها ويجامع الألف واللام كقولك: أقلي اللوم عاذل والعتابن ... وقولي إن أصبت لقد أصابن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 449 وليس هذا مثل قَوارِيرَا [الإنسان: 15، 16] كما لا يخفى خلافا لمن زعمه. وفي محتسب ابن جني أن كَلَّا مصدر من كل السيف إذا نبا وهو منصوب بفعل مضمر من لفظه، والتقدير هنا كل هذا الرأي والاعتقاد كلا، والمراد ضعف ضعفا، وقيل: هو مفعول به بتقدير حملوا كَلَّا ويقال نظير ذلك فيما تقدم، وقال ابن عطية: هو نعت لآلهة، والمراد به الثقيل الذي لا خير فيه والإفراد لأنه بزنة المصدر وهو كما ترى، والأوفق بالمعنى ما تقدم وإن قيل فيه تعسف لفظي وإنه يلزم عليه إثبات التنوين خطأ كما في أمثال ذلك. وحكى أبو عمرو الداني عن أبي نهيك أنه قرأ «كلا» بضم الكاف والتنوين وهي على هذا منصوبة بفعل محذوف دل عليه سَيَكْفُرُونَ على أنه من باب الاشتغال نحو زيدا مررت به أي يجحدون كلا أي عبادة كل من الآلهة ففيه مضاف مقدر وقد لا يقدر. وذكر الطبري عنه أنه قرأ «كلّ» بضم الكاف والرفع وهو على هذا مبتدأ. والجملة بعده خبره أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ قيضناهم وجعلناهم قرناء لهم مسلطين عليهم أو سلطناهم عليهم ومكناهم من إضلالهم تَؤُزُّهُمْ أَزًّا تغريهم وتهيجهم على المعاصي تهييجا شديدا بأنواع التسويلات والوساوس فإن الأز والهز والاستفزاز أخوات معناها شدة الإزعاج، وجملة «تؤزهم» إما حال مقدرة من الشياطين أو استئناف وقع جوابا عما نشأ من صدر الكلام كأنه قيل: ماذا تفعل الشياطين بهم؟ فقيل تؤزهم إلخ. والمراد من الآية تعجيب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مما تضمنته الآيات السابقة الكريمة من قوله سبحانه «ويقول الإنسان أئذا ما مت» إلى هنا وحكته عن هؤلاء الكفرة الغواة والمردة العتاة من فنون القبائح من الأقاويل والأفاعيل والتمادي في الغي والانهماك في الضلال والإفراط في العناد والتصميم على الكفر من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم والإجماع على مدافعة الحق بعد إيضاحه وانتفاء الشرك عنه بالكلية وتنبيه على أن جميع ذلك بإضلال الشياطين وإغوائهم لا لأن هناك قصورا في التبليغ أو مسوغا في الجملة، وفيها تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهي تذييل لتلك الآيات لما ذكر. وليس المراد منها تعجيبه عليه الصلاة والسلام من إرسال الشياطين عليهم كما يوهمه تعليق الرؤية به بل مما ذكر من أحوالهم من حيث كونها من آثار إغواء الشياطين كما ينبىء عن لك قوله سبحانه تَؤُزُّهُمْ أَزًّا فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ بأن يهلكوا حسبما تقتضيه جناياتهم ويبيد عن آخرهم وتطهر الأرض من خباثاتهم، والفاء للإشعار بكون ما قبلها مظنة الوقوع المنهي عنه محوجة إلى النهي كما في قوله تعالى «إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة» . وقوله تعالى: إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا تعليل لموجب النهي ببيان اقتراب هلاكهم فإنه لم ييق لهم إلا أيام وأنفاس نعدها عدا أي قليلة كما قيل في قوله تعالى: دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ [يوسف: 20] ولا ينافي هذا ما مر من أنه يمد لمن كان في الضلالة أي يطول لأنه بالنسبة لظاهر الحال عندهم وهو قليل باعتبار عاقبته وعند الله عز وجل، وقيل: إن التعليل بما ذكر دل أن أنفاسهم وأيامهم تنتهي بانتهاء العد ولا شك أنها على كثرتها يستوفي إحصاؤها في سرعة فعبر بهذا المعنى عن القليل فكأنه قيل: ليس بينك وبين هلاكهم إلا أيام محصورة وأنفاس معدودة كأنها في سرعة تقضيها الساعة التي تعد فيها لوعدت، وهذا ليس مبنيا على أن كل ما يعد فهو قليل انتهى، والأول هو الظاهر وهذا أبعد مغزى، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان إذا قرأ هذه الآية بكى وقال: آخر العدد خروج نفسك آخر العدد فراق أهلك آخر العدد دخول قبرك، وعن ابن السماك أنه كان عند المأمون فقرأها فقال: إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما أسرع ما تنفد ولله تعالى در من قال: إن الحبيب من الأحباب مختلس ... لا يمنع الموت بواب ولا حرس وكيف يفرح بالدنيا ولذتها ... فتى يعد عليه اللفظ والنفس الجزء: 8 ¦ الصفحة: 450 وقيل: المراد إنما نعد أعمالهم لنجازيهم عليها يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً أي ركبانا كما أخرجه جماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخرج ابن أبي الدنيا في صفة الجنة. وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق عن علي كرم الله تعالى وجهه قال سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن هذه الآية فقلت: يا رسول الله هل الوفد إلا الركب؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «والذي نفسي بيده إنهم إذا خرجوا من قبورهم استقبلوا بنوق بيض لها أجنحة وعليها رحال الذهب شرك نعالهم نور يتلألأ كل خطوة منها مثل مد البصر وينتهون إلى باب الجنة» الحديث ، وهذه النوق من الجنة كما صرح به في حديث أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد. وغيره موقوفا على علي كرم الله تعالى وجهه ، وروي عن عمرو بن قيس أنهم يركبون على تماثيل من أعمالهم الصالحة هي في غاية الحسن ، ويروى أنه يركب كل منهم ما أحب من إبل أو خيل أو سفن تجيء عائمة بهم ، وأصل الوفد جمع وافد كالوفود والأوفاد والوفد من وفد إليه وعليه يفد وفدا ووفودا ووفادة وإفادة قدم وورد. وفي النهاية الوفد هم القوم يجتمعون ويردون البلاد واحدهم وافد وكذلك الذين يقصدون الأمراء لزيارة واسترفاد وانتجاع وغير ذلك، وقال الراغب: الوفد والوفود هم الذين يقدمون على الملوك مستنجزين الحوائج، ومنه الوفد من الإبل وهو السابق لغيرها، وهذا المعنى الذي ذكره هو المشهور، ومن هنا قيل: إن لفظة الوفد مشعرة بالإكرام والتبجيل حيث آذنت بتشبيه حالة المتقين بحالة وفود الملوك وليس المراد حقيقة الوفادة من سائر الحيثيات لأنها تتضمن الانصراف من الموفود عليه والمتقون مقيمون أبدا في ثواب ربهم عز وجل. والكلام على تقدير مضاف أي إلى كرامة الرحمن أو ثوابه وهو الجنة أو إلى دار كرامته أو نحو ذلك، وقيل: الحشر إلى الرحمن إيذانا بأنهم يجمعون من أماكن متفرقة وأقطار شاسعة إلى من يرحمهم. قال القاضي: ولاختيار الرحمن في هذه السورة شأن، ولعله أن مساق الكلام فيها لتعداد النعم الجسام وشرح حال الشاكرين لها والكافرين بها فكأنه قيل: هنا يوم نحشر المتقين إلى ربهم الذي غمرهم من قبل برحمته وشملهم برأفته وحاصله يوم نحشرهم إلى من عودهم الرحمة وفي ذلك من عظيم البشارة ما فيه، وقد قابل سبحانه ذلك بقوله جل وعلا وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ كما تساق البهائم إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً أي عطاشا كما روي عن ابن عباس وأبي هريرة والحسن وقتادة ومجاهد، وأصله مصدر ورد أي سار إلى الماء، قال الراجز: ردي ردي ورد قطاة صما ... كدرية أعجبها بردا لما وإطلاقه على العطاش مجاز لعلاقة اللزوم لأن من يرد الماء لا يرده إلا لعطش، وجوز أن يكون المراد من الورد الدواب التي ترد الماء والكلام على التشبيه أي نسوقهم كالدواب التي ترد الماء، وفي الكشف في لفظ الورد تهكم واستخفاف عظيم لا سيما وقد جعل المورد جهنم أعاذنا الله تعالى منها برحمته فلينظر ما بين الجملتين من الفرق العظيم وقرأ الحسن والجحدري «يحشر المتّقون ويساق المجرمون» ببناء الفعلين للمفعول. واستدل بالآية على أن أهوال القيامة تختص بالمجرمين لأن المتقين من الابتداء يحشرون مكرمين فكيف ينالهم بعد ذلك شدة وفي البحر الظاهر أن حشر المتقين إلى الرحمن وفد أبعد انقضاء الحساب وامتياز الفريقين وحكاه ابن الجوزي عن أبي سليمان الدمشقي وذكر ذلك النيسابوري احتمالا بحثا في الاستدلال السابق. وأنت تعلم أن ذلك لا يتأتى على ما سمعت في الخبر المروي عن علي كرم الله تعالى وجهه فإنه صريح في أنهم يركبون عند خروجهم من القبور وينتهون إلى باب الجنة وهو ظاهر في أنهم لا يحاسبون. وقال بعضهم: إن المراد بالمتقين الموصوفون بالتقوى الكاملة ولا يبعد أن يدخلوا الجنة بلا حساب فقد صحت الأخبار بدخول طائفة من هذه الأمة الجنة كذلك، ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: خرج الجزء: 8 ¦ الصفحة: 451 إلينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم فقال «عرضت على الأمم يمر النبي معه الرجل والنبي معه الرجلان والنبي ليس معه أحد والنبي معه الرهط فرأيت سوادا كثيرا فرجوت أن يكون أمتي فقيل: هذا موسى وقومه ثم قيل: انظر فرأيت سوادا كثيرا فقيل: هؤلاء أمتك ومع هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب فتفرق الناس ولم يبين لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتذاكر أصحابه فقالوا: أما نحن فولدنا في الشرك ولكن قد آمنا بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم هؤلاء أبناؤنا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون» والحديث. وأخرج الترمذي وحسنه عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا لا حساب عليهم ولا عذاب مع كل ألف سبعين ألفا وثلاث حثيات من حثيات ربي» وأخرج الإمام أحمد والبزار والطبراني عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن ربي أعطاني سبعين ألفا من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب فقال عمر رضي الله تعالى عنه: هلا استزدته؟ قال قد استزدته فأعطاني هكذا وفرج بين يديه وبسط باعيه وجثى» قال هشام: هذا من الله عز وجل لا يدري ما عدده وأخرج الطبراني والبيهقي عن عمرو بن حزم الأنصاري رضى الله تعالى عنه قال: «احتبس عنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاثا لا» يخرج إلا إلى صلاة مكتوبة ثم يرجع فلما كان اليوم الرابع خرج إلينا صلّى الله عليه وسلّم فقلنا: يا رسول الله احتبست عنا حتى ظننا أنه حدث حدث قال: لم يحدث الأخير إن ربي وعدني أن يدخل من أمتي الجنة سبعين ألفا لا حساب وإني سألت ربي في هذه الثلاث أيام المزيد فوجدت ربي ماجدا كريما فأعطاني مع كل واحد سبعين ألفا» الخبر إلى غير ذلك من الأخبار وفي بعضها ذكر من يدخل الجنة بغير حساب بوصفه كالحامدين الله تعالى شأنه في السراء والضراء وكالذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع وكالذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله تعالى وكالذي يموت في طريق مكة ذاهبا أو راجعا وكطالب العلم والمرأة المطيعة لزوجها والولد البار بوالديه وكالرحيم الصبور وغير ذلك، ووجه الجمع بين الأخبار ظاهر ويلزم. على تخصيص المتقين بالموصوفين بالتقوى الكاملة دخول عصاة المؤمنين في المجرمين أو عدم احتمال الآية على بيان حالهم، واستدل بعضهم بالآية على ما روي من الخبر على عدم إحضار المتقين جثيا حول جهنم فما يدل على العموم مخصص بمثل ذلك فتأمل والله تعالى الموفق. ونصب يَوْمَ على الظرفية بفعل محذوف مؤخر أي يوم نحشر ونسوق نفعل بالفريقين من الأفعال ما لا يحيط ببيانه نطاق المقال، وقيل: على المفعولية بمحذوف مقدم خوطب به سيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم أي اذكر لهم بطريق الترغيب والترهيب يوم نحشر إلخ، وقيل: على الظرفية بنعد باعتبار معنى المجازاة، وقيل: بقوله سبحانه وتعالى سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ. وقيل بقوله جل وعلا يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا، وقيل: بقوله تعالى شأنه: لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ والذي يقتضيه مقام التهويل وتستدعيه جزالة التنزيل أن ينتصب بأحد الوجهين الأولين ويكون هذا استئنافا مبينا لبعض ما في ذلك اليوم من الأمور الدالة على هوله، وضمير الجمع لما يعم المتقين والمجرمين أي العباد مطلقا وقيل: للمتقين، وقيل: للمجرمين من أهل الإيمان وأهل الكفر والشَّفاعَةَ، على الأولين مصدر المبني للفاعل وعلى الثالث ينبغي أن يكون مصدر المبني للمفعول. وقوله تعالى إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً استثناء متصل من الضمير على الأول ومحل المستثنى إما الرفع على البدل أو النصب على أصل الاستثناء، والمعنى لا يملك العباد أن يشفعوا لغيرهم إلا من اتصف منهم بما يستأهل معه أن يشفع وهو المراد بالعهد، وفسره ابن عباس بشهادة أن لا إله إلا الله والتبري من الحول والقوة عدم رجاء أحد إلا الله تعالى، وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والحاكم وصححه عن ابن مسعود أنه قرأ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 452 الآية وقال: إن الله تعالى يقول يوم القيامة: «من كان له عندي عهد فليقم فلا يقوم إلا من قال هذا في الدنيا: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا أنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعله لي عهدا عندك تؤديه إلى يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد» ، وأخرج ابن أبي شيبة عن مقاتل أنه قال: العهد الصلاح، وروي نحوه عن السدي وابن جريج، وقال الليث: هو حفظ كتاب الله تعالى، وتسمية ما ذكر عهدا على سبيل التشبيه، وقيل: المراد بالعهد الأمر والإذن من قولهم: عهد الأمير إلى فلان بكذا إذا أمره به أي لا يملك العباد أن يشفعوا إلا من أذن الله عز وجل له بالشفاعة وأمره بها فإنه يملك ذلك، ولا يأبى عِنْدَ الاتخاذ أصلا فإنه كما يقال: أخذت الإذن في كذا يقال: اتخذته، نعم في قوله تعالى عِنْدَ الرَّحْمنِ نوع إباء عنه مع أن الجمهور على الأول، والمراد بالشفاعة على القولين ما يعم الشفاعة في دخول الجنة والشفاعة في غيره ونازع في ذلك المعتزلة فلم يجوزوا الشفاعة في دخول الجنة والأخبار تكذبهم، فعن أبي سعيد الخدري قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن الرجل من أمتي ليشفع للفئام» (1) من الناس فيدخلون الجنة بشفاعته وإن الرجل ليشفع للرجل وأهل بيته فيدخلون الجنة بشفاعته ، وجوز ابن عطية أن يراد بالشفاعة الشفاعة العامة في فصل القضاء وبمن اتخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم وبالعهد الوعد بذلك في قوله سبحانه وتعالى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الإسراء: 79] وهو خلاف الظاهر جدا، وعلى الوجه الثاني في ضمير الجمع الاستثناء من الشفاعة بتقدير مضاف وهو متصل أيضا. وفي المستثنى الوجهان السابقان أي لا يملك المتقون الشفاعة إلا شفاعة من اتخذ عند الرحمن عهدا، والمراد به الإيمان، وإضافة المصدر إلى المفعول. وقيل: المستثنى منه محذوف على هذا الوجه أي لا يملك المتقون الشفاعة لأحد إلا من اتخذ إلخ أي إلا لمن اتصف بالإيمان. وجوز أن يكون الاستثناء من الشفاعة بتقدير المضاف على الوجه الأول في الضمير أيضا، وإن يكون المصدر مضافا لفاعله أو مضافا لمفعوله. وجوز عليه أيضا أن يكون المستثنى منه محذوفا كما سمعت، وعلى الوجه الثالث الاستثناء من الضمير وهو متصل أيضا، وفي المستثنى الوجهان أي لا يملك المجرمون أن يشفع لهم إلا من كان مؤمنا فإنه يملك أن يشفع له. وقيل: الاستثناء على تقدير رجوع الضمير إلى المجرمين منقطع لأن المراد بهم الكفار، وحمل ذلك على العصاة والكفار بعيد كما قال أبو حيان، والمستثنى حينئذ لازم النصب عند الحجازيين جائز نصبه وإبداله عند تميم. وجوز الزمخشري أن تكون الواو في لا يَمْلِكُونَ علامة الجمع كالتي في- أكلوني البراغيث- والفاعل مَنِ اتَّخَذَ لأنه في معنى الجمع. وتعقبه أبو حيان بقوله: لا ينبغي حمل القرآن على هذه اللغة القليلة مع وضوح جعل الواو ضميرا. وذكر الأستاذ أبو الحسن بن عصفور أنها لغة ضعيفة، وأيضا فالواو والألف والنون التي تكون علامات لا يحفظ ما يجيء بعدها فاعلا إلا بصريح الجمع وصريح التثنية أو العطف إما أن يأتي بلفظ مفرد يطلق على جمع أو مثنى فيحتاج في إثباته إلى نقل، وأما عود الضمائر مثناة ومجموعة على مفرد في اللفظ يراد به المثنى والمجموع فمسموع معروف في لسان العرب فيمكن قياس هذه العلامات على تلك الضمائر ولكن الأحوط أن لا يقال ذلك إلا بسماع انتهى. وتعقبه أيضا ابن المنير بأن فيه تعسفا لأنه إذا جعل الواو علامة لمن ثم أعاد على لفظها بالإفراد ضمير اتَّخَذَ كان ذلك إجمالا بعد إيضاح وهو تعكيس في طريق البلاغة التي هي الإيضاح بعد الإجمال والواو على إعرابه وإن لم نكن عائدة على من إلا أنها كاشفة لمعناها كشف الضمير العائد لها ثم قال: فتنبه لهذا النقد فإنه أروج من النقد. وفي   (1) بالفاء أي الجماعة اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 453 عنق الحسناء يستحسن العقد انتهى، ومنه يعلم القول بجواز رجوع الضمير لها أولا باعتبار معناها وثانيا باعتبار لفظها لا يخلو عن كدر. وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً حكاية لجناية القائلين عزير ابن الله وعيسى ابن الله والملائكة بنات الله من اليهود والنصارى والعرب تعالى شأنه عما يقولون علوا كبيرا إثر حكاية جناية من عبد ما عبد من دونه عز وجل بطريق عطف القصة على القصة فالضمير راجع لمن علمت وإن لم يذكر صريحا لظهور الأمر. وقيل: راجع للمجرمين وقيل: للكافرين وقيل: للظالمين وقيل: للعباد المدلول عليه بذكر الفريقين المتقين والمجرمين. وفيه إسناد ما للبعض إلى الكل مع أنهم لم يرضوه وقد تقدم البحث فيه. وقوله تعالى: لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا رد لمقالتهم الباطلة وتهويل لأمرها بطريق الالتفات من الغيبة إلى الخطاب المنبئ عن كمال السخط وشدة الغضب المفصح عن غاية التشنيع والتقبيح وتسجيل عليهم بنهاية الوقاحة والجهل والجرأة، وقيل: لا التفات والكلام بتقدير قل لهم لقد جئتم إلخ، والإد بكسر الهمزة كما في قراءة الجمهور وبفتحها كما قرأ السلمي العجب كما قال ابن خالويه. وقيل: العظيم المنكر والإدة الشدة وأدني الأمر وآدني الأمر وآدني أثقلني وعظم علي. وقال الراغب: الاد المنكر فيه جلبة من قولهم: أدت الناقة تئد أي رجعت حنينها ترجيعا شديدا. وقيل: الاد بالفتح مصدر وبالكسر اسم أي فعلتم أمرا عجبا أو منكرا شديدا لا يقادر قدره فإن جاء وأتى يستعملان بمعنى فعل فيتعديان تعديته. وقال الطبرسي: هو من باب الحذف والإيصال أي جئتم بشيء إد تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ في موضع الصفة ل «إدّا» أو استئناف لبيان عظم شأنه في الشدة والهول، والتفطر على ما ذكره الكثير التشقق مطلقا، وعلى ما يدل عليه كلام الراغب التشقق طولا حيث فسر الفطر وهو منه بالشق كذلك، وموارد الاستعمال تقتضي عدم التقييد بما ذكر. نعم قيل: إنها تقتضي أن يكون الفطر من عوارض الجسم الصلب فإنه يقال: إناء مفطور ولا يقال: ثوب مفطور بل مشقوق، وهو عندي في أعراف الرد والقبول وعليه يكون في نسبة التفطر إلى السموات والانشقاق إلى الأرض في قوله تعالى: وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ إشارة إلى أن السماء أصلب من الأرض، والتكثير الذي تدل عليه صيغة التفعل قيل في الفعل لأنه الأوفق بالمقام، وقيل: في متعلقه ورجح بأنه قد قرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة وأبو بكر عن عاصم ويعقوب وأبو بحرية والزهري وطلحة وحميد واليزيدي وأبو عبيد «ينفطرن» مضارع انفطر وتوافق القراءتين يقتضي ذلك، وبأنه قد اختير الانفعال في تنشق الأرض حيث لا كثرة في المفعول ولذا أول وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق: 12] بالأقاليم ونحوه كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ووجه بعضهم اختلاف الصيغة على القول بأن التكثير في الفعل بأن السموات لكونها مقدسة لم يعص الله تعالى فيها أصلا نوعا ما من العصيان لم يكن لها ألف ما بالمعصية ولا كذلك الأرض فهي تتأثر من عظم المعصية ما لا تتأثر الأرض. وقرأ ابن مسعود «يتصدعن» قال في البحر: وينبغي أن يجعل ذلك تفسيرا لا قراءة لمخالفته سواد المصحف المجمع عليه ولرواية الثقات عنه أنه قرأ كالجمهور انتهى. ولا يخفى عليك أن في ذلك كيفما كان تأييدا لمن ادعى أن الفطر من عوارض الجسم الصلب بناء على ما في القاموس من أن الصدع شق في شيء صلب. وقرأ نافع والكسائي وأبو حيوة والأعمش «يكاد» بالياء من تحت وَتَخِرُّ الْجِبالُ تسقط وتنهد هَدًّا نصب على أنه مفعول مطلق لتخر لأنه بمعنى تنهد كما أشرنا إليه وإليه ذهب ابن النحاس وجوز أن يكون مفعولا مطلقا لتنهد مقدرا والجملة في موضع الحال، وقيل: هو مصدر بمعنى المفعول منصوب على الحال من هد المتعدي أي مهدودة. وجوز أن يكون مفعولا له أي لأنها تنهد على أنه من هد اللازم بمعنى انهدم ومجيئه لازما مما صرح به أبو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 454 حيان وهو إمام اللغة. والنحو فلا عبرة ممن أنكره، وحينئذ يكون الهد من فعل الجبال فيتحد فاعل المصدر والفعل المعلل به، وقيل: إنه ليس من فعلها لكنها إذا هدها أحد يحصل لها الهد فصح أن يكون مفعولا له، وفي الكلام تقرير لكون ذلك إدا والكيدودة فيه على ظاهرها من مقاربة الشيء. وفسرها الأخفش هنا. وفي قوله تعالى: أَكادُ أُخْفِيها [طه: 15] بالإرادة وأنشد شاهدا على ذلك قول الشاعر: كادت وكذت وتلك خير إرادة ... لو عاد من زمن الصبابة ما مضى ولا حجة له فيه، والمعنى إن هول تلك الكلمة الشنعاء وعظمها بحيث لو تصور بصورة محسوسة لم تتحملها هذه الأجرام العظام وتفرقت أجزاؤها من شدتها أو أن حق تلك الكلمة لو فهمتها تلك الكلمة لو فهمتها تلك الجمادات العظام أن تتفطر وتنشق وتخر من فظاعتها، وقيل: المعنى كادت القيامة أن تقوم فإن هذه الأشياء تكون حقيقة يوم القيامة، وقيل: الكلام كناية عن غضب الله تعالى على قائل تلك الكلمة وأنه لولا حلمه سبحانه وتعالى لوقع ذلك وهلك القائل وغيره أي كدت أفعل ذلك غضبا لولا حلمي. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إن الشرك فزعت منه السموات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين وكدن أن يزلن منه تعظيما لله تعالى وفيه إثبات فهم لتلك الأجرام والأجسام لائق بهن. وقد تقدم ما يتعلق بذلك. وفي الدر المنثور في الكلام على هذه الآية، أخرج أحمد في الزهد وابن المبارك وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأبو الشيخ في العظمة وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان من طريق عون عن ابن مسعود قال: إن الجبل لينادي الجبل باسمه يا فلان هل مر بك اليوم أحد ذاكر لله تعالى فإذا قال: نعم استبشر قال عون: أفلا يسمعن الزور إذا قيل ولا يسمعن الخير هن للخير أسمع وقرأ وَقالُوا الآيات اه وهو ظاهر في الفهم. وقال ابن المنير: يظهر لي في الآية معنى لم أره لغيري وذلك أن الله سبحانه وتعالى قد استعار لدلالة هذه الأجرام على وجوده عز وجل موصوفا بصفات الكمال الواجبة له سبحانه أن جعلها مسبحة بحمده قال تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء: 44] ومما دلت عليه السموات والأرض والجبال بل وكل ذرة من ذراتها أن الله تعالى مقدس عن نسبة الولد إليه: وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد فالمعتقد نسبة الولد إليه عز وجل قد عطل دلالة هذه الموجودات على تنزيه الله تعالى وتقديسه فاستعير لإبطال ما فيها من روح الدلالة التي خلقت لأجلها إبطال صورها بالهد والانفطار والانشقاق اه. واعترض عليه بأن الموجودات إنما تدل على خالق قادر عالم حكيم لدلالة الأثر على المؤثر والقدرة على المقدور وإتقان العلم يدل على العلم والحكمة وأما دلالتها على الوحدانية فلا وجه له ولا يثبت مثله بالشعر. ورد بأنها لو لم تدل جاء حديث التمانع كما حققه المولى الخيالي في حواشيه على شرح عقائد النسفي للعلامة الثاني. وقال بعضهم: إنها تدل على عظم شأنه تعالى وأنه لا يشابهه ولا يدانيه شيء فلزم أن لا يكون له شريك ولا ولد لأنه لو كان كذلك لكان نظيرا عز وجل. ولذا عبر عن هذه الدلالة بالتسبيح والتنزيه. ولعل ما أشرنا إليه أولى وأدق، وليس مراد من نسب الولد إليه عز وجل إلا الشرك فتأمل، والجمهور على أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 455 الكلام لبيان بشاعة تلك الكلمة على معنى أنها لو فهمتها الجمادات لاستعظمتها وتفتت من بشاعتها. ونحو هذا مهيع للعرب، قال الشاعر: لما أتى خبر الزبير تواضعت ... سور المدينة والجبال الخشع وقال الآخر: ألم تر صدعا في السماء مبينا ... على ابن لبينى الحارث بن هشام إلى غير ذلك وهو نوع من المبالغة ويقبل إذا اقترن بنحو كاد في الآية الكريمة، وقد بين ذلك في محله. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً بتقدير اللام التعليلية. ومحله بعد الحذف نصب عند سيبويه وجر عند الخليل والكسائي، وهو علة للعلية التي تضمنها مِنْهُ لكن باعتبار ما تدل عليه الحال أعني قوله تعالى: وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً وقيل: علة لتكاد إلخ، واعترض بأن كون تَكادُ إلخ معللا بذلك قد علم من إِدًّا فيلزم التكرار. وأجيب بما لا يخلو عن نظر. وقيل: علة لهذا وهو علة للخرور، وقيل: ليس هناك لام مقدرة بل إن وما بعدها في تأويل مصدر مجرور بالإبدال من الهاء في منه كما في قوله: على حالة لو أن في القوم حاتما ... على جوده لضن بالماء حاتم يجر حاتم بالإبدال من الهاء في جوده، واستبعده أبو حيان للفصل بجملتين بين البدل والمبدل منه، وقيل: المصدر مرفوع على أنه خبر محذوف أي الموجب لذلك دعاؤهم للرحمن ولدا وفيه بحث. وقيل: هو مرفوع على أنه فاعل هذا ويعتبر مصدرا مبنيا للفاعل أي هدها دعاؤهم للرحمن ولدا. وتعقبه أبو حيان بأن فيه بعدا لأن الظاهر كون هذا المصدر تأكيديا والمصدر التأكيدي لا يعمل ولو فرض غير تأكيدي لم يعمل بقياس إلا إذا كان أمرا كضربا زيدا أو بعد استفهام كاضربا زيدا وما هنا ليس أحد الأمرين وما جاء عاملا وليس أحدهما كقوله: وقوفا بها صحبي على مطيهم نادر. والتزام كون ما هنا من النادر لا يدفع البعد. ولعل ما ذكرناه أدق الأوجه وأولاها فتدبر والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. ووَلَداً عند الأكثرين بمعنى سموا. والدعاء بمعنى التسمية يتعدى لمفعولين بنفسه كما في قوله: دعتني أخاها أم عمرو ولم أكن ... أخاها ولم أرضع لها بلبان وقد يتعدى للثاني بالباء فيقال دعوت ولدي بزيد واقتصر هنا على الثاني وحذف الأول دلالة على العموم والإحاطة لكل ما دعي له عز وجل ولدا من عيسى. وعزير عليهما السلام وغيرهما. وجوز أن يكون من دعا بمعنى نسب الذي مطاوعه ما في قوله صلّى الله عليه وسلّم «من ادعى إلى غير مواليه» وقول الشاعر: إنا بني نهشل لا ندعي لأب ... عنه ولا هو بالأبناء يشرينا فيتعدى لواحد، والجار والمجرور جوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا من وَلَداً وأن يكون متعلقا بما عنده، وجملة ما يَنْبَغِي حال من فاعل دَعَوْا، وقيل: من فاعل قالُوا، ويَنْبَغِي مضارع انبغى مطاوع بغى بمعنى طلب وقد سمع ماضيه فهو فعل متصرف في الجملة، وعده ابن مالك في التسهيل من الأفعال التي لا تتصرف وغلطه في ذلك أبو حيان، ويمكن أن يقال: مراده أنه لا يتصرف تاما، وأَنْ يَتَّخِذَ في تأويل مصدر فاعله، والمراد لا يليق به سبحانه اتخاذ الولد ولا يتطلب له عز وجل لاستحالة ذلك في نفسه لاقتضائه الجزئية أو المجانسة واستحالة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 456 كل ظاهرة، ووضع الرحمن موضع الضمير للإشعار بعلة الحكم بالتنبيه على أن كل ما سواه تعالى إما نعمة أو منعم عليه وأين ذلك ممن هو مبدأ النعم وموالي أصولها وفروعها. وقد أشير إلى ذلك بقوله سبحانه إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ما منهم أحد من الملائكة والثقلين إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً أي إلا وهو مملوك له تعالى يأوي إليه عز وجل بالعبودية والانقياد لقضائه وقدره سبحانه وتعالى فالإتيان معنوي، وقيل: هو حسي، والمراد إلا آتى محل حكمه وهو أرض المحشر منقادا لا يدعي لنفسه شيئا مما نسبوه إليه وليس بذاك كما لا يخفى، ومَنْ موصولة بمعنى الذي وكُلُّ تدخل عليه لأنه يراد منه الجنس كما قيل في قوله تعالى وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ [الزمر: 33] وقوله: وكل الذي حملتني أتحمل وقيل: موصوفة لأنها وقعت بعد كُلُّ نكرة وقوعها بعد رب في قوله: رب من أنضجت غيظا صدره ... قد تمنى لي موتا لم يطع ورجح في البحر الأول بأن مجيئها موصوفة بالنسبة إلى مجيئها موصولة قليل: وقرأ عبد الله وابن الزبير وأبو حيوة وطلحة وأبو بحرية وابن أبي عبلة ويعقوب «آت» بالتنوين «الرحمن» بالنصب على الأصل. ونصب «عبدا» في القراءتين على الحال. واستدل بالآية على أن الوالد لا يملك ولده وأنه يعتق عليه إذا ملكه. لَقَدْ أَحْصاهُمْ حصرهم وأحاط بهم بحيث لا يكاد يخرج أحد منهم من حيطة علمه وقبضة قدرته جل جلاله. وَعَدَّهُمْ عَدًّا أي عد أشخاصهم وأنفاسهم وأفعالهم فإن كل شيء عنده تعالى بمقدار. وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً أي منفردا من الأتباع والأنصار منقطعا إليه تعالى غاية الانقطاع محتاجا إلى إعانته ورحمته عز وجل فكيف يجانسه ويناسبه ليتخذه ولدا وليشرك به سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا، وقيل: أي كل واحد من أهل السموات والأرض العابدين والمعبودين آتيه عز وجل منفردا عن الآخر فينفرد العابدون عن الآلهة التي زعموا أنها أنصار أو شفعاء والمعبودون عن الأتباع الذين عبدوهم وذلك يقتضي عدم النفع وينتفي بذلك المجانسة لمن بيده ملكوت كل شيء تبارك وتعالى، وفي آتِيهِ من الدلالة على إتيانهم كذلك البتة ما ليس في يأتيه فلذا اختير عليه وهو خبر كُلُّهُمْ وكل إذا أضيف إلى معرفة ملفوظ بها نحو كلهم أو كل الناس فالمنقول أنه يجوز عود الضمير عليه مفردا مراعاة للفظه فيقال كلكم ذاهب، ويجوز عوده عليه جمعا مراعاة لمعناه فيقال: كلكم ذاهبون. وحكى إبراهيم بن أصبغ في كتاب رؤوس المسائل الاتفاق على جواز الأمرين، وقال أبو زيد السهيلي: إن كلا إذا ابتدئ به وكان مضافا لفظا أي إلى معرفة لم يحسن إلا إفراد الخبر حملا على المعنى لأن معنى كلكم ذاهب مثلا كل واحد منكم ذاهب وليس ذلك مراعاة للفظ وإلا لجاز القوم ذاهب لأن كلّا من كل والقوم اسم جمع مفرد اللفظ اه وفي البحر يحتاج في إثبات كلكم ذاهبون بالجمع إلى نقل عن العرب. والزمخشري في تفسير هذه الآية استعمل الجمع وحسن الظن فيه أنه وجد ذلك في كلامهم، وإذا حذف المضاف إليه المعرفة فالمسموع من العرب الوجهان ولا كلام في ذلك. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا أي مودة في القلوب لإيمانهم وعملهم الصالح، والمشهور أن ذلك الجعل في الدنيا. فقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي وعبد بن حميد وغيرهم عن أبي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 457 هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أحب الله تعالى عبدا نادى جبريل إني قد أحببت فلانا فأحبه فينادي في السماء ثم تنزل له المحبة في الأرض فذلك قول الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا الآية» والتعرض لعنوان الرحمانية لما أن الموعود من آثارها، والسين لأن السورة مكية وكانوا ممقوتين حينئذ بين الكفرة فوعدهم سبحانه ذلك، ثم نجزه حين كثر الإسلام وقوي بعد الهجرة، وذكر أن الآية نزلت في المهاجرين إلى الحبشة مع جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وعد سبحانه أن يجعل لهم محبة في قلب النجاشي. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عبد الرحمن بن عوف أنه لما هاجر إلى المدينة وجد في نفسه على فراق أصحابه بمكة منهم شيبة بن ربيعة وعقبة بن ربيعة وأمية بن خلف فأنزل الله تعالى هذه الآية وعلى هذا تكون الآية مدنية، وأخرج ابن مردويه والديلمي عن البراء قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعلي كرم الله تعالى وجهه: قل اللهم اجعل لي عندك عهدا واجعل لي في صدور المؤمنين ودّا فأنزل الله سبحانه هذه الآية ، وكان محمد بن الحنفية رضي الله تعالى عنه يقول: لاتجد مؤمنا إلا وهو يحب عليا كرم الله تعالى وجهه وأهل بيته. وروى الإمامية خبر نزولها في علي كرم الله تعالى وجهه عن ابن عباس، والباقر، وأيدوا ذلك بما صح عندهم أنه كرم الله تعالى وجهه قال: لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني ولو صببت الدنيا بجملتها على المنافق على أن يحبني ما أحبني وذلك أنه قضى فانقضى على لسان النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال «لا يبغضك مؤمن ولا يحبك منافق» والمراد المحبة الشرعية التي لا غلو فيه، وزعم بعض النصارى حبه كرم الله تعالى وجهه، فقد أنشد الإمام اللغوي رضي الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن يوسف الأنصاري الشاطبي لابن إسحاق النصراني الرسعني: عديّ وتيم لا أحاول ذكرهم ... بسوء ولكني محبّ لهاشم وما تعتريني في عليّ ورهطه ... إذا ذكروا في الله لومة لائم يقولون ما بال النصارى تحبهم ... وأهل النهى من أعرب وأعاجم فقلت لهم إني لأحسب حبهم ... سرى في قلوب الخلق حتى البهائم وأنت تعلم أنه إذا صح الحديث ثبت كذبه، وأظن أن نسبة هذه الأبيات للنصراني لا أصل لها وهي من أبيات الشيعة بيت الكذب، وكم لهم مثل هذه المكائد كما بين في التحفة الاثني عشرية، والظاهر أن الآية على هذا مدينة أيضا. ثم العبرة على سائر الروايات في سبب النزول بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وذهب الجبائي إلى أن ذلك في الآخرة فقيل في الجنة إذ يكونون إخوانا على سرر متقابلين، وقيل: حين تعرض حسناتهم على رؤوس الأشهاد وأمر السين على ذلك ظاهر. ولعل أفراد هذا الوعد من بين ما سيولون يوم القيامة من الكرامات السنية لما أن الكفرة سيقع بينهم يومئذ تباغض وتضاد وتقاطع وتلاعن، وذكر في وجه الربط أنه لما فصلت قبائح أحوال الكفرة عقب ذلك بذكر محاسن أحوال المؤمنين، وقد يقال فيه بناء على أن ذلك في الآخرة: إنه جل شأنه لما أخبر بإتيان كل من أهل السموات والأرض إليه سبحانه يوم القيامة فردا آنس المؤمنين بأنه جل وعلا يجعل لهم ذلك اليوم ودا، وفسره ابن عطية على هذا الوجه بمحبته تعالى إياهم وأراد منها إكرامه تعالى إياهم ومغفرته سبحانه وتعالى ذنوبهم، وجوز أن يكون الوعد يجعل الود في الدنيا والآخرة ولا أراه بعيدا عن الصواب. ولا يأبى هذا ولا ما قبله التعرض لعنوان الرحمانية لجواز أن يدعى العموم فقد جاء يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما. وقرأ أبو الحارث الحنفي «ودّا» بفتح الواو. وقرأ جناح بن حبيش «ودّا» بكسرها وكل ذلك لغة فيه وكذا في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 458 الوداد فَإِنَّما يَسَّرْناهُ أي القرآن بأن أنزلناه بِلِسانِكَ أي بلغتك وهو في ذلك مجاز مشهور والباء بمعنى على أو على أصله وهو الإلصاق لتضمين «يسرنا» معنى أنزلنا أي يسرناه منزلين له بلغتك، والفاء لتعليل أمر ينساق إليه النظم الكريم كأنه قيل: بعد إيحاء هذه السورة الكريمة بلغ هذا المنزل وأبشر به وأنذر فإنما يسرناه بلسانك العربي المبين لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ المتصفين بالتقوى لامتثال ما فيه من الأمر والنهي أو الصائرين إليها على أنه من مجاز الأول وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا لا يؤمنون به لجاجا وعنادا، واللد جمع الألد وهو كما قال الراغب: الخصم الشديد التأبي، وأصله الشديد اللديد أي صفحة العنق وذلك إذ لم يمكن صرفه عما يريده. وعن قتادة اللد ذوو الجدل بالباطل الآخذون في كل لديد أي جانب بالمراء، وعن ابن عباس تفسير اللد بالظلمة، وعن مجاهد تفسيره بالفجار، وعن الحسن تفسيره بالصم، وعن أبي صالح تفسيره بالعوج وكل ذلك تفسير باللازم والمراد بهم أهل مكة كما روي عن قتادة وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ وعد لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ضمن وعيد هؤلاء القوم بالإهلاك وحث له عليه الصلاة والسلام على الإنذار أي قرنا كثيرا أهلكنا قبل هؤلاء المعاندين هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ استئناف مقرر لمضمون ما قبله، والاستفهام في معنى النفي أي ما تشعر بأحد منهم. وقرأ أبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة وأبو جعفر المدني «تحسّ» بفتح التاء وضم الحاء أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً أي صوتا خفيا وأصل التركيب (1) هو الخفاء ومنه ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض والركاز للمال المدفون، وخص بعضهم الركز بالصوت الخفي دون نطق بحروف ولا فم، والأكثرون على الأول، وخص الصوت الخفي لأنه الأصل الأكثر ولأن الأثر الخفي إذا زال فزوال غيره بطريق الأولى. والمعنى أهلكناهم بالكلية واستأصلناهم بحيث لا ترى منهم أحدا ولا تسمع منهم صوتا خفيا فضلا عن غيره، وقيل: المعنى أهلكناهم بالكلية بحيث لا ترى منهم أحدا ولا تسمع من يخبر عنهم ويذكرهم بصوت خفي، والحاصل أهلكناهم فلا عين ولا خبر، والخطاب إما لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم أو لكل من يصلح للخطاب. وقرأ حنظلة «تسّمّع» مضارع أسمعت مبنيا للمفعول والله تعالى أعلم. «ومن باب الإشارة في الآيات» وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا أمر للحبيب أن يذكر الخليل وما من الله تعالى به عليه من أحكام الخلة ليستشير المستعدين إلى التحلي بما أمكن لهم منها. والصديق على ما قال ابن عطاء القائم مع ربه سبحانه على حد الصدق في جميع الأوقات لا يعارضه في صدقه معارض بحال، وقال أبو سعيد الخزاز: الصديق الآخذ بأتم الحظوظ من كل مقام سني حتى يقرب من درجات الأنبياء عليهم السلام، وقال بعضهم: من تواترت أنوار المشاهدة واليقين عليه وأحاطت به أنوار العصمة. وقال القاضي: هو الذي صعدت نفسه تارة بمراقي النظر في الحجج والآيات وأخرى بمعارج التصفية والرياضة إلى أوج العرفان حتى اطلع على الأشياء وأخبر عنها على ما هي عليه، ومقام الصديقية قيل: تحت مقام النبوة ليس بينهما مقام. وعن الشيخ الأكبر قدس سره إثبات مقام بينهما وذكر أنه حصل لأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه.   (1) قوله «واصل التركيب» إلخ كذا بخطه ولعل حقه وأصل الركز إلخ اه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 459 والمشهور بهذا الوصف بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه وليس ذلك مختصا به، فقد أخرج أبو نعيم في المعرفة وابن عساكر وابن مردويه من حديث عبد الرحمن بن أبيه أبي ليلى عن أبي ليلى الأنصاري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الصديقون ثلاثة، حبيب النجار مؤمن آل يس الذي قال: يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، وحزقيل مؤمن آل فرعون الذي قال: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه وهو أفضلهم إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً إلخ فيه من لطف الدعوة إلى اتباع الحق والإرشاد إليه ما لا يخفى. وهذا مطلوب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا سيما إذا كان ذلك مع الأقارب ونحوهم قال سَلامٌ عَلَيْكَ هذا سلام الإعراض عن الأغيار وتلطف الأبرار مع الجهال، قال أبو بكر بن طاهر: إنه لما بدا من آزر في خطابه عليه السلام ما لا يبدو إلا من جاهل جعل جوابه السلام لأن الله تعالى قال: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان: 63] وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي أهاجر عنكم بديني، ويفهم منه استحباب هجر الأشرار. وعن أبي تراب النخشبي صحبة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار، وقد تضافرت الأدلة السمعية والتجربة على أن مصاحبتهم تورث القسوة وتثبط عن الخير وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا فيه من الدلالة على مزيد أدبه عليه السّلام مع ربه عز وجل ما فيه، ومقام الخلة يقتضي ذلك فإن من لا أدب له لا يصلح أن يتخذ خليلا فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كأن ذلك كان عوضا عمن اعتزل من أبيه وقومه لئلا يضيق صدره كما قيل: ولما اعتزل نبينا صلّى الله عليه وسلّم الكون أجمع ما زاغ البصر وما طغى عوض عليه الصلاة والسلام بأن قال له سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح: 10] . وَاذْكُرْ أيها الحبيب فِي الْكِتابِ مُوسى الكليم إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً لله تعالى في سائر شؤونه، قال الترمذي: المخلص على الحقيقة من يكون مثل موسى عليه السلام ذهب إلى الخضر على السلام ليتأدب به فلم يسامحه في شيء ظهر له منه وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا قالوا النداء بداية والنجوى نهاية، النداء مقام الشوق والنجوى مقام كشف السر وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا قيل: علم الله تعالى ثقل الأسرار على موسى عليه السلام فاختار له أخاه هارون مستودعا لها فهارون عليه السلام مستودع سر موسى عليه السلام، وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ بالصبر على بذل نفسه أو بما وعد به استعداده من كمال التقوى لربه جل وعلا والتحلي بما يرضيه سبحانه من الأخلاق وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا وهو نوع من القرب من الله تعالى به عليه عليه السلام. وقيل: السماء الرابعة والتفضل عليه بذلك لما فيه من كشف بعض أسرار الملكوت أولئك الذين أنعم الله عليهم بما لا يحيط نطاق الحصر به من النعم الجليلة إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً مما كشف لهم من آياته تعالى، وقد ذكر أن القرآن أعظم مجلي لله عز وجل وَبُكِيًّا من مزيد فرحهم بما وجدوه أو من خوف عدم استمرار ما حصل لهم من التجلي: ونبكي إن نأوا شوقا إليهم ... ونبكي إن دنوا خوف الفراق وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا قيل: الرزق هاهنا مشاهدة الحق سبحانه ورؤيته عز وجل وهذا لعموم أهل الجنة وأما المحبوبون والمشتاقون فلا تنقطع عنهم المشاهدة لمحة ولو حجبوا لماتوا من ألم الحجاب رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا مثلا يلتفت إليه ويطلب منه شيء، وقال الحسين بن الفضل: هل يستحق أحد أن يسمى باسم من أسمائه تعالى على الحقيقة وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 460 عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا وذلك لتظهر عظمة قهره جل جلاله وآثار سطوته لجميع خلقه عز وجل ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا جزاء تقواهم وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا جزاء ظلمهم، وهذه الآية كم أجرت من عيون العيون العيون. فعن عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه أنه كان يبكي ويقول: قد علمت أني وارد النار ولا أدري كيف الصدر بعد الورود، وعن الحسن كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا التقوا يقول الرجل لصاحبه: هل أتاك أنك وارد؟ فيقول: نعم فيقول: هل أتاك أنك خارج؟ فيقول لا فيقول: ففيم الضحك إذن؟ قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا لما افتخروا بحظوظ الدنيا التي لا يفتخر بها إلا ذوو الهمم الدنية رد الله تعالى عليهم بأن ذلك استدراج ليس بإكرام والإشارة فيه أن كل ما يشغل عن الله تعالى والتوجه إليه عز وجل فهو شر لصاحبه يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً ركبانا على نجائب النور، وقال ابن عطاء: بلغني عن الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قال: ركبانا على متون المعرفة إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً فقيرا ذليلا منقادا مسلوب الأنانية بالكلية إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا في القلوب المفطورة على حب الله تعالى وذلك أثر محبته سبحانه لهم، وفي الحديث «لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به» إلخ، ولا يشكل على هذا أنا نرى كثيرا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ممقوتين لأن الذين يمقتونهم قد فطرت قلوبهم على الشر وإن لم يشعروا بذلك، ومن هنا يعلم أن بغض الصالحين علامة خبث الباطن رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر: 10] وقيل: معنى سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا سيجعل لهم لذة وحلاوة في الطاعة، والأخبار تؤيد ما تقدم والله تعالى أعلم وله الحمد على إتمام تفسير سورة مريم ونسأله جل شأنه التوفيق لإتمام تفسير سائر سور كتابه المعظم بحرمة نبيه صلّى الله عليه وسلّم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 461 سورة طه وتسمى أيضا سورة الكليم كما ذكر السخاوي في جمال القراء وهي كما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم مكية. واستثنى بعضهم منها قوله تعالى: وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ [طه: 130] الآية. وقال الجلال السيوطي: ينبغي أن يستثنى آية أخرى، فقد أخرج البزار وأبو يعلى عن أبي رافع قال: أضاف النبي صلّى الله عليه وسلّم ضيفا فأرسلني إلى رجل من اليهود أن أسلفني دقيقا إلى هلال رجب فقال: لا إلا برهن فأتيت النبي عليه الصلاة والسلام فأخبرته فقال: أما والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض فلم أخرج من عنده حتى نزلت هذه الآية لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ [الحجر: 88، طه: 131] الآية انتهى. ولعل ما روي عن الحبرين على القول باستثناء ما ذكر باعتبار الأكثر منها. وآياتها كما قال الداني مائة وأربعون آية شامي وخمس وثلاثون كوفي وأربع حجازي وآيتان بصري. ووجه الترتيب على ما ذكره الجلال أنه سبحانه لما ذكر في سورة مريم قصص عدة من الأنبياء عليهم السّلام وبعضها مبسوط كقصة زكريا ويحيى وعيسى عليهم السّلام وبعضها بين البسط والإيجاز كقصة إبراهيم عليه السّلام وبعضها موجز مجمل كقصة موسى عليه السّلام وأشار إلى بقية النبيين عليهم السّلام إجمالا ذكر جل وعلا في هذه السورة شرح قصة موسى عليه السّلام التي أجملها تعالى هناك فاستوعبها سبحانه غاية الاستيعاب وبسطها تبارك وتعالى أبلغ بسط ثم أشار عز شأنه إلى تفصيل قصة آدم عليه السّلام الذي وقع في مريم مجرد ذكر اسمه ثم أورد جل جلاله في سورة الأنبياء بقية قصص من لم يذكر قصته في مريم كنوح ولوط وداود وسليمان وأيوب واليسع وذي الكفل وذي النون عليهم السّلام وأشير فيها إلى قصة من ذكرت قصته إشارة وجيزة كموسى وهارون وإسماعيل. وذكرت تلو مريم لتكون السورتان كالمتقابلتين وبسطت فيها قصة إبراهيم عليه السّلام البسط التام فيما يتعلق به مع قومه ولم يذكر حاله مع أبيه إلا إشارة كما أنه في سورة مريم ذكر حاله مع قومه إشارة ومع أبيه مبسوطا، وينضم إلى ما ذكر اشتراك هذه السورة وسورة مريم في الافتتاح بالحروف المقطعة، وقد روي عن ابن عباس وجابر بن زيد رضي الله تعالى عنهم أن طه نزلت بعد سورة مريم. ووجه ربط أول هذه بآخر تلك أنه سبحانه ذكر هناك تيسير القرآن بلسان الرسول عليه الصلاة والسّلام معللا بتبشير المتقين وإنذار المعاندين وذكر تعالى هنا ما فيه نوع من تأكيد ذلك. وجاءت آثار تدل على مزيد فضلها. أخرج الدارمي وابن خزيمة في التوحيد والطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنهم قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تبارك وتعالى قرأ «طه» و «يس» قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام فلما سمعت الملائكة القرآن قالت: طوبى لأمة ينزل عليها هذا وطوبى لأجواف تحمل هذا وطوبى لألسنة تتكلم بهذا» وأخرج الديلمي عن أنس مرفوعا نحوه ، وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كل قرآن يوضع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 463 عن أهل الجنة فلا يقرؤون منه شيئا إلا سورة «طه» و «يس» فإنهم يقرؤون بهما في الجنة ، إلى غير ذلك من الآثار. فخمها (1) على الأصل ابن كثير وابن عامر وحفص ويعقوب وهو إحدى الروايتين عن قالون وورش والرواية الأخرى أنهما فخما الطاء وأمالا الهاء وهو المروي عن أبي عمرو وأمال الحرفين حمزة والكسائي وأبو بكر ولعل إمالة الطاء مع أنها من حروف الاستعلاء والاستعلاء يمنع الإمالة لأنها تسفل لقصد التجانس وهي من الفواتح التي تصدر بها السور الكريمة على إحدى الروايتين عن مجاهد بل قيل: هي كذلك عند جمهور المتقنين، وقال السدي: المعنى يا فلان، وعن ابن عباس في رواية جماعة عنه والحسن وابن جبير وعطاء وعكرمة وهي الرواية الأخرى عن مجاهد أن المعنى يا رجل، واختلفوا فقيل: هو كذلك بالنبطية، وقيل: بالحبشية، وقيل: بالعبرانية، وقيل بالسريانية. وقيل: بلغة عكل، وقيل: بلغة عك. وروي ذلك عن الكلبي قال: لو قلت في عك: يا رجل لم يجب حتى تقول:- طاها- وأنشد الطبري في ذلك قول متمم بن نويرة: دعوت بطاها في القتال فلم يجب ... فخفت عليه أن يكون موائلا وقول الآخر: إن السفاهة طاها من خلائقكم ... لا بارك الله في القوم الملاعين وقال ابن الأنباري: إن لغة قريش وافقت تلك اللغة في هذا لأن الله تعالى لم يخاطب نبيه صلّى الله عليه وسلّم بلسان غير لسان قريش، ولا يخفى أن مسألة وقوع شيء بغير لغة قريش من لغات العرب في القرآن خلافية، وقد بسط الكلام عليها في الإتقان، والحق الوقوع وتخرص الزمخشري على عك فقال: لعل عكا تصرفوا في يا هذا كأنهم في لغتهم قالبون الياء   (1) أي الكلمة اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 464 طاء فقالوا: في ياطا واختصروا هذا واقتصروا على ها. وتعقبه أبو حيان بأنه لا يوجد في لسان العرب قلب يا التي للنداء طاء وكذلك حذف اسم الإشارة في النداء وإقرارها التي للتنبيه ولم يقل ذلك نحوي. وذكر في البيت الأخير أنه إن صح فطه فيه قسم بالحروف المقطعة أو اسم السورة على أنه شعر إسلامي كقوله «حم لا ينصرون» . وتعقب بأنه احتمال بعيد وهو كذلك في المثال وقد رواه النسائي مرفوعا. ولفظ الخبر إذا لقيكم العدو فليكن شعاركم حم لا ينصرون وليس في سياقه دليل على ذلك، ويحتمل أن يكون لا ينصرون مستأنفا والشعار التلفظ بحم فقط كأنه قيل: ماذا يكون إذا كان شعارنا ذلك فقيل: لا ينصرون، وأخرج ابن المنذر. وابن مردويه عن ابن عباس أنه قسم أقسم الله تعالى به وهو من أسمائه سبحانه، وعن أبي جعفر أنه من أسماء النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقرأت فرقة منهم أبو حنيفة والحسن وعكرمة وورش «طه» بفتح الطاء وسكون الهاء كبل فقيل: معناه يا رجل أيضا، وقيل: أمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بأن يطأ الأرض بقدميه فإنه عليه الصلاة والسّلام كما روي عن الربيع بن أنس كان إذا صلى قام على رجل واحدة فأنزل الله تعالى طه إلخ، وأخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه لما نزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل: 1، 2] قام الليل كله حتى تورمت قدماه فجعل يرفع رجلا ويضع رجلا فهبط عليه جبريل عليه السّلام فقال طه الآية والأصل طأ فقلبت الهمزة هاء كما قالوا في إياك وارقت ولانك هياك وهرقت ولهنك أو قلبت الهمزة في فعله الماضي والمضارع ألفا كما في قول الفرزدق: راحت بمسلمة البغال عشية ... فارعي فزارة لا هناك المرتع وكما قالوا في سأل سال وحذفت في الأمر لكونه معتل الآخر وضم إليه هاء السكت وهو في مثل ذلك لازم خطا ووقفا، ووقد يجري الوصل مجرى الوقف فتثبت لفظا فيه، وجوز بعضهم أن يكون أصل طه في القراءة المشهورة طاها على أن طا أمر له صلّى الله عليه وسلّم بأن يطا الأرض بقدميه وها ضمير مؤنث في موضع المفعول به عائد على الأرض وإن لم يسبق لها ذكر، واعترض بأنه لو كان كذلك لم تسقط منه الألفان ورسم المصحف وإن كان لا ينقاس لكن الأصل فيه موافقته للقياس فلا يعدل عنه لغير داع وليس هذه الألف في اسم ولا وسطا كما في الحرث ونحوه لتحذف لا سيما وفي حذفها لبس فلا يجوز كما فصل في باب الخط من التسهيل. واعترض بهذا أيضا على تفسيره بيا رجل ونحوه، وقيل: توجيه ذلك على هذا الأصل ويعلم منه توجيه آخر لقراءة أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه ومن معه أن يقال: اكتفى من طأ بطاء متحركة ومن ها الضمير بهاء ثم عبر عنهما باسميهما فها ليست ضميرا بل هي كالقاف في قوله: قلت لها قفي فقالت قاف واعترض أيضا بأنه كان ينبغي على هذا أن لا تكتب صورة المسمى بل صورة الاسم. وأجيب بأن كتابة الأسماء بصور المسميات أمر مخصوص بحروف التهجي. وتعقب بأن ما ذكر لا يقطع مادة الإيراد إذ لو كان كذلك لانفصل الحرفان في الخط بأن يكتبان هكذا ط هـ. فإن قيل: إن خط المصحف لا ينقاس قيل عليه ما قيل، والحق أن دعوى أن خط المصحف لا ينقاس قوية جدا وما قيل عليها لا يعول عليه، وما صح عن السلف يقبل ولا يقدح فيه عدم موافقة القياس، وإن كانت الموافقة هي الأصل. وقد روي عن علي كرم الله تعالى وجهه. والربيع بن أنس أنهما فسرا طه بطأ الأرض بقدميك يا محمد ولم أقف على طعن في الرواية والله أعلم. واختلف في إعرابه حسب الاختلاف في المراد منه فهو على ما نقل عن الجمهور من أن المراد منه طائفة من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 465 حروف المعجم مسرودة على نمط التعديد افتتحت بها السورة لا محل له من الإعراب، وكذا ما بعده من قوله تعالى: ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى فإنه استئناف مسوق لتسليته صلّى الله عليه وسلّم عما كان يعتريه من جهة المشركين من التعب فإن الشقاء شائع في ذلك المعنى، ومنه المثل أشقى من رائض مهر، وقول الشاعر: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ... وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم أي ما أنزلناه عليك لتتعب بالمبالغة في مكابدة الشدائد في مقاولة العتاة ومحاورة الطغاة وفرط التأسف على كفرهم به والتحسر على أن يؤمنوا به كقوله تعالى شأنه فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ [الكهف: 6] الآية بل لتبلغ وتذكر وقد فعلت فلا عليك إن لم يؤمنوا بعد ذلك أو لصرفه عليه الصلاة والسّلام عما كان عليه من المبالغة في المجاهدة في العبادة كما سمعت فيما أخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه أي ما أنزلناه عليك لتتعب بنهك نفسك وحملها على الرياضات الشاقة والشدائد الفادحة وما بعثت إلا بالحنيفة السمحة، وقال مقاتل: إن أبا جهل والنضر بن الحارث والمطعم قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما رأوا كثرة عبادته: إنك لتشقى بترك ديننا وإن القرآن أنزل عليك لتشقى به فرد الله تعالى عليهم ذلك بأنا ما أنزلناه عليك لما قالوا. والشقاء في كلامهم يحتمل أن يكون بمعناه الحقيقي وهو ضد السعادة والتعبير به في كلامه تعالى من باب المشاكلة وإن أريد منه القرآن بتأويله بالمتحدى به من جنس هذه الحروف. فجوز فيه أن يكون محله الرفع على الابتداء والجملة بعده خبره، وقد أقيم فيها الظاهر أعني القرآن مقام الضمير الرابط لنكتة وهو أن القرآن رحمة يرتاح لها فكيف ينزل للشقاء، وقيل: الخبر محذوف، وقيل: هو خبر لمبتدأ محذوف. والجملة على القولين مستأنفة. وجوز أن يكون محله النصب على إضمار اتل. وقيل: على أنه مقسم به حذف منه حرف القسم فانتصب بفعله مضمرا نحو قوله: إن على الله أن تبايعا وجوز أن يكون محله الجر بتقدير حرف القسم نظير قوله من وجه أشارت كليب بالأكف الأصابع والجملة بعده على تقدير إرادة القسم جواب القسم. وجوزت هذه الاحتمالات على تقدير أن يكون المراد منه السورة. وأمر ربط الجملة على تقدير ابتدائيته وخبريتها إن كان القرآن خاصا بهذه السورة باعتبار كون تعريفه عهديا حضوريا ظاهر. وإن كان عاما فالربط به لشموله للمبتدأ كما قيل في نحو زيد نعم الرجل. ومنع بعضهم إرادة السورة مطلقا لاتفاق المصاحف على ذكر سورة في العنوان مضافة إلى طه وحينئذ يكون التركيب كإنسان زيد وقد حكموا بقبحه وفيه بحث لا يكاد يخفى حتى على بهيمة الأنعام، وبعضهم إرادة ذلك على تقدير الأخبار بالجملة بعد قال: لأن نفي كون إنزال القرآن للشقاء يستدعي وقوع الشقاء مترتبا على إنزاله قطعا إما بحسب الحقيقة كما إذا أريد به التعب أو بحسب زعم الكفرة كما لو أريد به ضد السعادة، ولا ريب في أن ذلك إنما يتصور في إنزال ما أنزل من قبل وأما إنزال السورة الكريمة فليس مما يمكن ترتب الشقاء السابق عليه حتى يتصدى لنفيه عنه أما باعتبار اتحاد القرآن بالسورة فظاهر، وأما باعتبار الاندراج فلأن مآله أن يقال: هذه السورة ما أنزلنا القرآن المشتمل عليها لتشقى، ولا يخفى أن جعلها مخبرا عنها مع أنه لا دخل لإنزالها في الشقاء السابق أصلا مما لا يليق بشأن التنزيل اه ولا يخلو عن حسن، وعلى ما روي عن أبي جعفر من أنه من أسمائه صلّى الله عليه وسلّم يكون منادى وحكمه مشهور، والجملة جواب النداء، ومحله على ما أخرج ابن المنذر وابن مردويه عن الحبر من أنه قسم أقسم الله تعالى به وهو من أسمائه تباركت أسماؤه النصب أو الجر على ما سمعت آنفا. وعلى ما روي عن الأمير كرم الله تعالى وجهه. والربيع يكون جملة فعلية وقد مر لك تفصيل ذلك، والجملة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 466 بعده مستأنفة استئنافا نحويا أو بيانيا كأنه قيل لم أطؤها؟ فقيل: ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى وقرأ طلحة «ما نزّل عليك القرآن» بتشديد الفعل وبنائه للمفعول وإسناده إلى القرآن إِلَّا تَذْكِرَةً نصب على الاستثناء المنقطع أي ما أنزلناه لشقائك لكن تذكيرا لِمَنْ يَخْشى أي لمن شأنه أن يخشى الله تعالى ويتأثر بالإنذار لرقة قليه ولين عريكته أو لمن علم الله تعالى أنه يخشى بالتخويف والجار والمجرور متعلق بتذكرة أو بمحذوف صفة لها، وخص الخاشي بالذكر مع أن القرآن تذكرة للناس كلهم لتنزيل غيره منزلة العدم فإنه المنتفع به. وجوز الزمخشري كون «تذكرة» مفعولا له لأنزلنا، وانتصب لاستجماع الشرائط بخلاف المفعول الأول لعدم اتحاد الفاعل فيه، والمشهور عن الجمهور اشتراطه للنصب فلذا جر، ويجوز تعدد العلة بدون عطف وإبدال إذا اختلفت جهة العمل كما هنا لظهور أن الثاني مفعول صريح والأول جار ومجرور، وكذا إذا اتحدت وكانت إحدى العلتين علة للفعل والأخرى علة له بعد تعليله نحو أكرمته لكون غريبا لرجاء الثواب أو كانت العلة الثانية علة للعلة الأولى نحو لا يعذب الله تعالى التائب لمغفرته له لإسلامه فما قيل عليه من أنه لا يجوز تعدد العلة بدون اتباع غير مسلم. وفي الكشف أن المعنى على هذا الوجه ما أنزلناه عليك لتحتمل مشاقه ومتاعبه إلا ليكون تذكرة، وحاصله أنه نظير ما ضربتك للتأديب إلا إشفاقا، ويرجع المعنى إلى ما أدبتك بالضرب إلا للإشفاق كذلك المعنى هنا ما أشقيناك بإنزال القرآن إلا للتذكرة، وحاصله حسبك ما حملته من متاعب التبليغ ولا تنهك بدنك ففي ذلك بلاغ اه. واعترض القول بجعله نظير ما ضربتك للتأديب إلا إشفاقا بأنه يجب في ذلك أن يكون بين العلتين ملابسة بالسببية والمسببية حتما كما في المثال المذكور، وفي قولك: ما شافهته بالسوء ليتأذى إلا زجرا لغيره فإن التأديب في الأول مسبب عن الإشفاق والتأذي في الثاني سبب لزجر الغير وما بين الشقاء والتذكرة تناف ظاهر، ولا يجدي أن يراد به التعب في الجملة المجامع للتذكرة لظهور أن لا ملابسة بينهما بما ذكر من السببية والمسببية وإنما يتصور ذلك أن لو قيل مكان إِلَّا تَذْكِرَةً إلا تكثيرا لثوابك فإن الأجر بقدر التعب كما في الحديث انتهى. ولعل قائل ذلك يمنع وجوب أن يكون بين العلتين الملابسة المذكورة أو يدعي تحققها بينهما في الآية بناء على أن التذكرة أي التذكير سبب للتعب كما يشعر بذلك قول المدقق في الحاصل الأخير حسبك ما حملته من متاعب التبليغ إلخ، وقد خفي المراد من الآية على هذا الوجه على ابن المنير فقال: إن فيه بعدا لأنه حينئذ يكون الشقاء سبب النزول وإن لم تكن اللام سببية وكانت للصيرورة مثلا لم يكن فيه ما جرت عادة الله تعالى به مع نبيه صلّى الله عليه وسلّم من نهيه عن الشقاء والحزن على الكفرة وضيق الصدر بهم وكأن مضمون الآية منافيا لقوله تعالى: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ [الكهف: 6] اه، وأنت تعلم بعد الوقوف على المراد أن لا منافاة. نعم بعد هذا الوجه وكون الآية نظير ما ضربتك للتأديب إلا إشفاقا مما يشهد به الذوق، ويجوز أن تكون حالا من الكاف أو الْقُرْآنَ والاستثناء مفرغ، والمصدر مؤول بالصفة أو قصد به المبالغة. وجوز الحوفي كونها بدلا من الْقُرْآنَ. والزجاج كونها بدلا من محل لِتَشْقى لأن الاستثناء من غير الموجب يجوز فيه الإبدال. وتعقب بأن ذلك إذا كان متصلا بأن كان المستثنى من جنس المستثنى منه والبدلية حينئذ البدلية البعضية في المشهور، وقيل: بدلية الكل من الكل، ولا يخفى عدم تحقق ذلك بين التذكرة والشقاء. والقول ببدلية الاشتمال في مثل ذلك لتصحيح البدلية هنا بناء على أن التذكرة تشتمل على التعب مما لم يقله أحد من النحاة. واعتبارها لهذا الاشتمال من جنس الشقاء فكأنها متحدة معه لا يجعل الاستثناء متصلا كما قيل، وقد سمعت اشتراطه، وبالجملة هذا الوجه ليس بالوجيه وقد أنكره أبو علي على الزجاج. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 467 وجوز أن يكون مفعولا له لأنزلنا ولِتَشْقى ظرف مستقر في موضع الصفة للقرآن أي ما أنزلنا القرآن الكائن أو المنزل لتعبك إلا تذكرة، وفيه تقدير المتعلق مقرونا باللام وحذف الموصول مع بعض صلته وقد أباه بعض النحاة، وكون أل حرف تعريف خلاف الظاهر، وقيل: هي نصب على المصدرية لمحذوف أي لكن ذكرناه به تذكرة، وقوله تعالى: تَنْزِيلًا كذلك أي نزل تنزيلا، والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها. وقيل: لما تفيده الجملة الاستثنائية فإنها متضمنة لأن يقال: إنا أنزلناه للتذكرة والأول أنسب لما بعده من الالتفات. وقيل: منصوب على المدح والاختصاص. وقيل: بيخشى على المفعولية. واستبعدهما أبو حيان وعد الثاني في غاية البعد لأن «يخشى» رأس آية فلا يناسب أن يكون تَنْزِيلًا مفعوله. وتعقب أيضا بأن تعليق الخشية والخوف ونظائرهما بمطلق التنزيل غير معهود. نعم قد تعلق ذلك ببعض أجزائه المشتملة على الوعيد ونحوه كما في قوله تعالى يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ [التوبة: 64] . وأنت تعلم أن المعنى على هذا الوجه إلا تذكرة لمن يخشى المنزل من قادر قاهر وهو مما لا خلل فيه، وأمر عدم المعهودية سهل. وقيل: هو بدل من تَذْكِرَةً بناء على أنها حال من الكاف أو الْقُرْآنَ كما نقل سابقا وهو بدل اشتمال. وتعقبه أبو حيان بأن جعل المصدر حالا لا ينقاس، ومع هذا فيه دغدغة لا تخفى، ولم تجوز البدلية منها على تقدير أن تكون مفعولا له ل. نزلنا لفظا أو معنى لأن البدل هو المقصور فيصير المعنى أنزلناه لأجل التنزيل وفي ذلك تعليل الشيء بنفسه إن كان الإنزال والتنزيل بمعنى بحسب الوضع أو بنوعه إن كان الإنزال عاما والتنزيل مخصوصا بالتدريجي وكلاهما لا يجوز. وقرأ ابن عبلة «تنزيل» بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي هو تنزيل مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى متعلق بتنزيل. وجوز أن يكون متعلقا بمضمر هو صفة له مؤكدة لما في تنكيره من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية. ونسبة التنزيل إلى الموصول بطريق الالتفات إلى الغيبة بعد نسبة الإنزال إلى نون العظمة لبيان فخامته تعالى شأنه بحسب الأفعال والصفات إثر بيانها بحسب الذات بطريق الإبهام ثم التفسير لزيادة تحقيق تقرير. واحتمال كون أَنْزَلْنا إلخ حكاية لكلام جبرائيل والملائكة النازلين معه عليهم السّلام بعيد غاية البعد. وتخصيص خلق الأرض والسموات بالذكر مع أن المراد خلقهما بجميع ما يتعلق بهما كما يؤذن به قوله تعالى لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الآية لأصالتهما واستتباعهما لما عداهما، وقيل: المراد بهما ما في جهة السفل وما في جهد العلو، وتقديم خلق الأرض قيل لأنه مقدم في الوجود على خلق السموات السبع كما هو ظاهر آية حم السجدة أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: 9] الآية. وكذا ظاهر آية [البقرة: 29] هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ الآية. ونقل الواحدي عن مقاتل أن خلق السموات مقدم، واختاره كثير من المحققين لتقديم السموات على الأرض في معظم الآيات التي ذكرا فيها واقتضاء الحكمة تقديم خلق الأشرف والسماء أشرف من الأرض ذاتا وصفة مع ظاهر آية [النازعات: 27] أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها الآية، واختار بعض المحققين أن خلق السموات بمعنى إيجادها بمادتها قبل خلق الأرض وخلقها بمعنى إظهارها بآثارها بعد خلق الأرض وبذلك يجمع بين الآيات التي يتوهم تعارضها، وتقديم السموات في الذكر على الأرض تارة والعكس أخرى بحسب اقتضاء المقام وهو أقرب إلى التحقيق، وعليه وعلى ما قبله فتقديم خلق الأرض هنا قيل لأنه أوفق بالتنزيل الذي هو من أحكام رحمته تعالى كما ينبىء عنه ما بعد وقوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرحمن: 1، 2] ويرمز إليه ما قبل فإن الانعام على الناس بخلق الأرض أظهر وأتم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 468 وهي أقرب إلى الحس. وقيل: لأنه أوفق بمفتتح السورة بناء على جعل طه جملة فعلية أي طأ الأرض بقدميك أو لقوله تعالى ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى بناء على أنه جملة مستأنفة لصرفه صلّى الله عليه وسلّم عما كان عليه من رفع إحدى رجليه عن الأرض في الصلاة كما جاء في سبب النزول، ووصف السموات بالعلى وهو جمع العليا كالكبرى تأنيث الأعلى لتأكيد الفخامة مع ما فيه من مراعاة الفواصل وكل ذلك إلى قوله تعالى لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى مسوق لتعظيم شأن المنزل عز وجل المستتبع لتعظيم المنزل الداعي إلى استنزال المتمردين عن رتبة العلو والطغيان واستمالتهم إلى التذكر والإيمان. الرَّحْمنُ رفع على المدح أي هو الرحمن. وجوز ابن عطية أن يكون بدلا من الضمير المستتر في خَلَقَ وتعقبه أبو حيان فقال: أرى أن مثل هذا لا يجوز لأن البدل يحل محل المبدل منه ولا يحل هاهنا لئلا يلزم خلو الصلة من العائد اه، ومنع بعضهم لزوم اطراد الحلول ثم قال: على تسليمه يجوز إقامة الظاهر مقام الضمير العائد كما في قوله: وأنت الذي في رحمة الله أطمع نعم اعتبار البدلية خلاف الظاهر، وجوز أن يكون مبتدأ واللام للعهد والإشارة إلى الموصول وخبره قوله تعالى عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى ويقدر هو ويجعل خبرا عنه على احتمال البدلية، وعلى الاحتمال الأول يجعل خبرا بعد خبر لما قدر أولا على ما في البحر وغيره، وروى جناح بن حبيش عن بعضهم أنه قرأ «الرحمن» بالجر، وخرجه الزمخشري على أنه صفة لمن. وتعقبه أبو حيان بأن مذهب الكوفيين أن الأسماء النواقص التي لا تتم إلا بصلاتها كمن وما لا يجوز نعتها إلا الذي والتي فيجوز نعتهما فعندهم لا يجوز هذا التخريج فالأحسن أن يكون الرَّحْمنُ بدلا من (من) وقد جرى في القرآن مجرى العلم في وقوعه بعد العوامل، وقيل: إن «من» يحتمل أن تكون نكرة موصوفة وجملة خَلَقَ صفتها والرَّحْمنُ صفة بعد صفة وليس ذاك من وصف الأسماء النواقص التي لا تتم إلا بصلاتها غاية ما في الباب أن فيه تقديم الوصف بالجملة على الوصف بالمفرد وهو جائز اه وهو كما ترى. وجملة عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى على هذه القراءة خبر هو مقدرا، والجار والمجرور على كل الاحتمالات متعلق باستوى قدم عليه لمراعاة الفواصل، والْعَرْشِ في اللغة سرير الملك وفي الشرع سرير ذو قوائم له حملة من الملائكة عليهم السّلام فوق السموات مثل القبة، ويدل على أن له قوائم ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد قال: جاء رجل من اليهود إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم قد لطم وجهه فقال: يا محمد رجل من أصحابك قد لطم وجهي فقال النبي عليه الصلاة والسّلام: ادعوه فقال: لم لطمت وجهه؟ فقال: يا رسول الله إني مررت بالسوق وهو يقول: والذي اصطفى موسى على البشر فقلت: يا خبيث وعلى محمد صلّى الله عليه وسلّم فأخذتني غضبة فلطمته فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لا تخيروا بين الأنبياء فإن الناس يصعقون وأكون أول من يفيق فإذا أنا بموسى عليه السّلام آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور ، وعلى أن له حملة من الملائكة عليهم السّلام قوله تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ [غافر: 7] . وما رواه أبو داود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله عز وجل من حملة العرش أن ما بين أذنيه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة سنة» وعلى أنه فوق السموات مثل القبة ما رواه أبو داود أيضا عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعرابي فقال: يا رسول الله جهدت الأنفس ونهكت الأموال أو هلكت فاستسق لنا فإنا نستشفع بك إلى الله تعالى ونستشفع بالله تعالى عليك فقال رسول الله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 469 صلّى الله عليه وسلّم: «ويحك أتدري ما تقول؟ وسبح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ثم قال: ويحك إنه لا يستشفع بالله تعالى على أحد من خلقه شأن الله تعالى أعظم من ذلك ويحك أتدري ما الله إن الله تعالى فوق عرشه وعرشه فوق سمواته لهكذا وقال بأصابعه مثل القبة وأنه ليئط به أطيط الرحل الجديد بالراكب» ومن شعر أمية ابن أبي الصلت: مجدوا الله فهو للمجد أهل ... ربنا في السموات أمسى كبيرا بالبناء العالي الذي بهر النا ... س وسوى فوق السماء سريرا شرجعا (1) لا يناله طرف الع ... ين ترى حوله الملائك صورا (2) وذهب طائفة من أهل الكلام إلى أنه مستدير من جميع الجوانب محيط بالعالم من كل جهة وهو محدد الجهات وربما سموه الفلك الأطلس والفلك التاسع. وتعقبه بعض شراح عقيدة الطحاوي بأنه ليس بصحيح لما ثبت في الشرع من أن له قوائم تحمله الملائكة عليهم السلام، وأيضا أخرجا في الصحيحين عن جابر أنه قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ» والفلك التاسع عندهم متحرك دائما بحركة متشابهة، ومن تأول ذلك على أن المراد باهتزازه استبشار حملة العرش وفرحهم فلا بد له من دليل على أن سياق الحديث ولفظه كما نقل عن أبي الحسن الطبري. وغيره بعيد عن ذلك الاحتمال، وأيضا جاء في صحيح مسلم من حديث جويرية بنت الحارث ما يدل على أنه له زنة هي أثقل الأوزان والفلك عندهم لا ثقيل ولا خفيف، وأيضا العرب لا تفهم منه الفلك والقرآن إنما نزل بما يفهمون. وقصارى ما يدل عليه خبر أبي داود عن جبير بن مطعم التقبيب وهو لا يستلزم الاستدارة منجميع الجوانب كما في الفلك ولا بد لها من دليل منفصل. ثم إن القوم إلى الآن بل إلى أن ينفخ في الصور لا دليل لهم على حصر الأفلاك في تسعة ولا على أن التاسع أطلس لا كوكب فيه وهو غير الكرسي على الصحيح فقد قال ابن جرير: قال أبو ذر رضي الله تعالى عنه: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض» . وروى ابن أبي شيبة في كتاب صفة العرش. والحاكم في مستدركه وقال: إنه على شرط الشيخين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: الكرسي موضع القدمين والعرش لا يقدر قدره إلا الله تعالى، وقد روي مرفوعا والصواب وقفه على الحبر، وقيل: العرش كناية عن الملك والسلطان. وتعقبه ذلك البعض بأنه تحريف لكلام الله تعالى وكيف يصنع قائل ذلك بقوله تعالى: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ [الحاقة: 17] أيقول ويحمل ملكه تعالى يومئذ ثمانية، وقوله عليه الصلاة والسلام «فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش» أيقول آخذ بقائمة من قوائم الملك وكلا القولين لا يقولهما من له أدنى ذوق، وكذا يقال: أيقول في «اهتز عرش الرحمن» الحديث اهتز ملك الرحمن وسلطانه، وفيما رواه البخاري. وغيره عن أبي هريرة مرفوعا لما قضى الله تعالى الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي فهو عنده سبحانه وتعالى فوق الملك والسلطان وهذا كذينك القولين، والاستواء   (1) أي عاليا اه منه. (2) جمع أصور وهو المائل العنق لنظره إلى العلو اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 470 على الشيء جاء بمعنى الارتفاع والعلو عليه وبمعنى الاستقرار كما في قوله تعالى وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ [هود: 44] ولِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ [الزخرف: 13] وحيث كان ظاهر ذلك مستحيلا عليه تعالى قيل: الاستواء هنا بمعنى الاستيلاء كما في قوله: قد استوى بشر على العراق وتعقب بأن الاستيلاء معناه حصول الغلبة بعد العجز، وذلك محال في حقه تعالى، وأيضا إنما يقال: استولى فلان على كذا إذا كان له منازع ينازعه وهو في حقه تعالى محال أيضا، وأيضا إنما يقال ذلك إذا كان المستولى عليه موجودا قبل والعرش إنما حدث بتخليقه تعالى وتكوينه سبحانه، وأيضا الاستيلاء واحد بالنسبة إلى كل المخلوقات فلا يبقى لتخصيص العرش بالذكر فائدة. وأجاب الإمام الرازي بأنه إذا فسر الاستيلاء بالاقتدار زالت هذه المطاعن بالكلية، ولا يخفى حال هذا الجواب على المنصف، وقال الزمخشري: لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك لا يحصل إلا مع الملك جعلوه كناية عن الملك فقالوا: استوى فلان على العرش يريدون ملك وإن لم يقعد على العرش البتة وإنما عبروا عن حصول الملك بذلك لأنه أشرح وأبسط وأدل على صورة الأمر ونحوه قولك: يد فلان مبسوطة ويد فلان مغلولة بمعنى أنه جواد أو بخيل لا فرق بين العبارتين إلا فيما قلت حتى أن من لم يبسط يده قط بالنوال أو لم تكن له يد رأسا قيل فيه يده مبسوطة لمساواته عندهم قولهم: جواد ومنه قوله تعالى وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ [المائدة: 64] الآية عنوا الوصف بالبخل ورد عليهم بأنه جل جلاله جواد من غير تصور يد ولا غل ولا بسط انتهى، وتعقبه الإمام قائلا: إنا لو فتحنا هذا الباب لانفتحت تأويلات الباطنية فإنهم يقولون أيضا: المراد من قوله تعالى فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ [طه: 12] الاستغراق في خدمة الله تعالى من غير تصور نعل، وقوله تعالى يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ [الأنبياء: 69] المراد منه تخليص إبراهيم عليه السلام عن يد ذلك الظالم من غير أن يكون هناك نار وخطاب البتة. وكذا القول في كل ما ورد في كتاب الله تعالى بل القانون أنه يجب حمل كل لفظ ورد في القرآن على حقيقته إلا إذا قامت دلالة عقلية قطعية توجب الانصراف عنه، وليت من لم يعرف شيئا لم يخض فيه انتهى، ولا يخفى عليك أنه لا يلزم من فتح الباب في هذه الآية انفتاح تأويلات الباطنية فيما ذكر من الآيات إذ لا داعي لها هناك والداعي للتأويل بما ذكره الزمخشري قوي عنده، ولعله الفرار من لزوم المحال مع رعاية جزالة المعنى فإن ما اختاره أجزل من معنى الاستيلاء سواء كان معنى حقيقيا للاستواء كما هو ظاهر كلام الصحاح والقاموس وغيرهما أو مجازيا كما هو ظاهر جعلهم الحمل عليه تأويلا، واستدل الإمام على بطلان إرادة المعنى الظاهر بوجوه. الأول أنه سبحانه وتعالى كان ولا عرش ولما خلق الخلق لم يحتج إلى ما كان غنيا عنه. الثاني أن المستقر على العرش لا بد وأن يكون الجزء الحاصل منه في يمين العرش غير الجزء الحاصل منه في يساره فيكون سبحانه وتعلى في نفسه مؤلفا وهو محال في حقه تعالى للزوم الحدوث. الثالث أن المستقر على العرش إما أن يكون متمكنا من الانتقال والحركة ويلزم حينئذ أن يكون سبحانه وتعالى محل الحركة والسكون وهو قول بالحدوث أو لا يكون متمكنا من ذلك فيكون جل وعلا كالزمن بل أسوأ حالا منه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. الرابع أنه إن قيل بتخصيصه سبحانه وتعالى بهذا المان وهو العرش احتيج إلى مخصص وهو افتقار ينزه الله تعالى عنه، وإن قيل بأنه عز وجل يحصل بكل مكان لزم ما لا يقوله عاقل. الخامس أن قوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] عام في نفي المماثلة فلو كان جالسا لحصل من يماثله في الجلوس فحينئذ تبطل الآية. السادس أنه تعالى لو كان مستقرا على العرش لكان محمولا للملائكة لقوله تعالى وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 471 ثَمانِيَةٌ [الحاقة: 17] وحامل حامل الشيء حامل لذلك الشيء وكيف يحمل المخلوق خالقه. السابع أنه لو كان المستقر في المكان إلها ينسد باب القدح في إلهية الشمس والقمر الثامن أن العالم كرة فالجهة التي هي فوق بالنسبة إلى قوم هي تحت بالنسبة إلى آخرين وبالعكس فيلزم من إثبات جهة الفوق للمعبود سبحانه إثبات الجهة المقابلة لها أيضا بالنسبة إلى بعض، وباتفاق العقلاء لا يجوز أن يقال: المعبود تحت. التاسع أن الأمة أجمعت على أن قوله تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1] من المحكمات وعلى فرض الاستقرار على العرش يلزم التركيب والانقسام فلا يكون سبحانه وتعالى أحدا في الحقيقة فيبطل ذلك المحكم. العاشر أن الخليل عليه السلام قال لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الأنعام: 76] فلو كان تعالى مستقرا على العرش لكان جسما آفلا أبدا فيندرج تحت عموم هذا القول انتهى. ثم إنه عفا الله تعالى عنه ضعف القول بأنا نقطع بأنه ليس مراد الله تعالى ما يشعر به الظاهر بل مراده سبحانه شيء آخر ولكن لا نعين ذلك المراد خوفا من الخطا بأنه عز وجل لما خاطبنا بلسان العرب وجب أن لا نريد باللفظ إلا موضوعه في لسانهم وإذا كان لا معنى للاستواء في لسانهم إلا الاستقرار والاستيلاء وقد تعذر حمله على الاستقرار فوجب حمله على الاستيلاء وإلا لزم تعطيل اللفظ وأنه غير جائز. وإلى نحو هذا ذهب الشيخ عز الدين بن عبد السلام فقال في بعض فتاويه: طريقة التأويل بشرطه وهو قرب التأويل أقرب إلى الحق لأن الله تعالى إنما خاطب العرب بما يعرفونه وقد نصب الأدلة على مراده من آيات كتابه لأنه سبحانه قال ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ [القيامة: 19] ولِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44] وهذا عام في جميع آيات القرآن فمن وقف على الدليل أفهمه الله تعالى مراده من كتابه وهو أكمل ممن لم يقف على ذلك إذ لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون وفيه توسط في المسألة. وقد توسط ابن الهمام في المسايرة وقد بلغ رتبة الاجتهاد كما قال عصرينا ابن عابدين الشامي في رد المختار حاشية الدر المحتار توسطا أخص من هذا التوسط فذكر ما حاصله وجوب الإيمان بأنه تعالى استوى على العرش مع نفي التشبيه وأما كون المراد استولى فأمر جائز الإرادة لا واجبها إذ لا دليل عليه وإذا خيف على العامة عدم فهم الاستواء إذا لم يكن بمعنى الاستيلاء إلا بالاتصال ونحوه من لوازم الجسمية فلا بأس بصرف فهمهم إلى الاستيلاء فإنه قد ثبت إطلاقه عليه لغة في قوله: فلما علونا واستوينا عليهم ... جعلناهم مرعى لنسر وطائر وقوله قد استوى بشر البيت المشهور. وعلى نحو ما ذكر كل ما ورد مما ظاهره الجسمية في الشاهد كالإصبع والقدم واليد. ومخلص ذلك التوسط في القريب بين أن تدعو الحاجة إليه لخلل في فهم العوام وبين أن لا تدعو لذلك. ونقل أحمد زروق عن أبي حامد أنه قال: لا خلاف في وجوب التأويل عند تعيين شبهة لا ترتفع إلا به. وأنت تعلم أن طريقة كثير من العلماء الأعلام وأساطين الإسلام الإمساك عن التأويل مطلقا مع نفي التشبيه والتجسيم منهم الإمام أبو حنيفة والإمام مالك والإمام أحمد والإمام الشافعي ومحمد بن الحسن وسعد بن معاذ المروزي وعبد الله بن المبارك وأب معاذ خالد بن سليمان صاحب سفيان الثوري وإسحاق بن راهويه ومحمد بن إسماعيل البخاري والترمذي وأبو داود السجستاني. ونقل القاضي أبو العلاء صاعد بن محمد في كتاب الاعتقاد عن أبي يوسف عن الإمام أبي حنيفة أنه قال: لا ينبغي لأحد أن ينطق في الله تعالى بشيء من ذاته ولكن يصفه بما وصف سبحانه به نفسه ولا يقول فيه برأيه شيئا تبارك الله تعالى رب العالمين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 472 وأخرج ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي عن يونس بن عبد الأعلى قال: سمعت الشافعي يقول لله تعالى أسماء وصفات لا يسع أحدا ردها ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه كفر، وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل لأن علم ذلك لا يدرك بالعقل ولا الرؤية والفكر فنثبت هذه الصفات وننفي عنها التشبيه كما نفى سبحانه عن نفسه فقال لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] ، وذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري أنه قد اتفق على ذلك أهل القرون الثلاثة وهم خير القرون بشهادة صاحب الشريعة صلّى الله عليه وسلّم، وكلام إمام الحرمين في الإرشاد يميل إلى طريقة التأويل وكلامه في الرسالة النظامية مصرح باختياره طريقة التفويض حيث قال فيها: والذي نرتضيه رأيا وندين به عقدا اتباع سلف الأمة فالأولى الاتباع وترك الابتداع، والدليل السمعي القاطع في ذلك إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم فإنهم درجوا على ترك التعرض لمعاني المتشابهات مع أنهم كانوا لا يألون جهدا في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها فلو كان تأويل هذه الظواهر مسنونا أو محتوما لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق الاهتمام بفروع الشريعة وقد اختاره أيضا الإمام أبو الحسن الأشعري في كتابه الذي صنفه في اختلاف المضلين ومقالات الإسلاميين، وفي كتابه الإبانة في أصول الديانة وهو آخر مصنفاته فيما، قيل: وقال البيضاوي في الطوالع: والأولى اتباع السلف في الإيمان بهذه الأشياء- يعني المتشابهات- ورد العلم إلى الله تعالى بعد نفي ما يقتضي التشبيه والتجسيم عنه تعالى انتهى. وعلى ذلك جرى محققو الصوفية فقد نقل عن جمع منهم أنهم قالوا: إن الناس ما احتاجوا إلى تأويل الصفات إلا من ذهولهم عن اعتقاد أن حقيقته تعالى مخالفة لسائر الحقائق وإذا كانت مخالفة فلا يصح في آيات الصفات قط تشبيه إذ التشبيه لا يكون إلا مع موافقة حقيقته تعالى لحقائق خلقه وذلك محال. وعن الشعراني أن من احتاج إلى التأويل فقد جهل أولا وآخرا أما أولا فبتعقله صفة التشبيه في جانب الحق وذلك محال، وأما آخرا فلتأويله ما أنزل الله تعالى على وجه لعله لا يكون مراد الحق سبحانه وتعالى. وفي الدرر المنثورة له أن المؤول انتقل عن شرح الاستواء الجثماني على العرش المكاني بالتنزيه عنه إلى التشبيه بالأمر السلطاني الحادث وهو الاستيلاء على المكان فهو انتقال عن التشبيه بمحدث ما إلى التشبيه بمحدث آخر فما بلغ عقله في التنزيه مبلغ الشرع فيه في قوله تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ألا ترى أنه استشهد في التنزيه العقلي في الاستواء بقول الشاعر: قد استوى البيت وأين استواء بشر على العراق من استواء الحق سبحانه وتعالى على العرش فالصواب أن يلزم العبد الأدب مع مولاه ويكل معنى كلامه إليه عز وجل. ونقل الشيخ إبراهيم الكوراني في تنبيه العقول عن الشيخ الأكبر قدس سره أنه قال في الفتوحات أثناء كلام طويل عجب فيه من الأشاعرة والمجسمة: الاستواء حقيقة معقولة معنوية تنسب إلى كل ذات بحسب ما تعطيه حقيقة تلك الذات ولا حاجة لنا إلى التكلف في صرف الاستواء عن ظاهره، والفقير قد رأى في الفتوحات ضمن كلام طويل أيضا في الباب الثالث منها ما نصه ما ضل من ضل من المشبهة إلا بالتأويل وحمل ما وردت به الآيات والأخبار على ما يسبق منها إلى الفهم من غير نظر فيما يجب لله تعالى من التنزيه فقادهم ذلك إلى الجهل المحض والكفر الصراح ولو طلبوا السلامة وتركوا الأخبار والآيات على ما جاءت من غير عدول منهم فيها إلى شيء البتة ويكلون علم ذلك إلى الله تعالى ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم ويقولون: لا ندري كان يكفيهم قول الله سبحانه وتعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ثم ذكر بعد في الكلام على قوله صلّى الله عليه وسلّم: الذي رواه مسلم: إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف شاء التخيير بين التفويض لكن بشرط نفي الجارحة ولا بد وتبيين ما في ذلك اللفظ من وجوه التنزيه، وذكر أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 473 هذا واجب على العالم عند تعينه في الرد على بدعي مجسم مشبه، وقال أيضا فيما رواه عنه تلميذه المحقق إسماعيل ابن سود كين في شرح التجليات: ولا يجوز للعبد أن يتأول ما جاء من أخبار السمع لكونها لا تطابق دليله العقلي كأخبار النزول وغيره لأنه لو خرج الخطاب عما وضع له لما كان به فائدة وقد علمنا أنه عليه الصلاة والسلام أرسل ليبين للناس ما أنزل إليهم ثم رأيناه صلّى الله عليه وسلّم مع فصاحته وسعة علمه وكشفه لم يقل لنا إنه تنزل رحمته تعالى ومن قال تنزل رحمته فقد حمل الخطاب على الأدلة العقلية والحق ذاته مجهولة فلا يصح الحكم عليه بوصف مقيد معنى، والعرب تفهم نسبة النزول مطلقا فلا تقيده بحكم دون حكم، وحيث تقرر عندها أنه سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء يحصل لها المعنى مطلقا منزها وربما يقال لك هذا يحيله العقل فقل الشأن هذا إذا صح أن يكون الحق من مدركات العقول فإنه حينئذ تمضي عليه سبحانه وتعالى أحكامها انتهى، وقال تلميذه الشيخ صدر الدين القونوي في مفتاح الغيب بعد بسط كلام في قاعدة جليلة الشأن حاصلها أن التغاير بين الذوات يستدعي التغاير في نسبة الأوصاف إليها ما نصه: وهذه قاعدة من عرفها أو كشف له عن سرها عرف سر الآيات والأخبار التي توهم التشبيه عند أهل العقول الضعيفة واطلع على المراد منها فيسلم من ورطتي التأويل والتشبيه وعاين الأمر كما ذكر مع كمال التنزيه انتهى، وخلاصة الكلام في هذا المقام أنه قد ورد في الكتاب العزيز والأحاديث الصحيحة ألفاظ توهم التشبيه والتجسيم وما لا يليق بالله تعالى الجليل العظيم فتشبث المجسمة والمشبهة بما توهمه فضلوا وأضلوا ونكبوا عن سواء السبيل وعدلوا وذهب جمع إلى أنهم هالكون وبربهم كافرون، وذهب آخرون إلى أنهم مبتدعون وفصل بعض فقال: هم كفرة إن قالوا: هو سبحانه وتعالى جسم كسائر الأجسام ومبتدعة إن قالوا: جسم لا كالأجسام وعصم الله تعالى أهل الحق مما ذهبوا إليه وعولوا في عقائدهم عليه فأثبتت طائفة منهم ما ورد كما ورد مع كمال التنزيه المبرأ عن التجسيم والتشبيه فحقيقة الاستواء مثلا المنسوب إليه تعالى شأنه لا يلزمها ما يلزم في الشاهد فهو جل وعلا مستو على العرش مع غناه سبحانه وتعالى عنه وحمله بقدرته للعرش وحملته وعدم مماسة له أو انفصال مسافي بينه تعالى وبينه ومتى صح للمتكلمين أن يقولوا: إنه تعالى ليس عين العالم ولا داخلا فيه ولا خارجا عنه مع أن البداهة تكاد تقضي ببطلان ذلك بين شيء وشيء صح لهؤلاء الطائفة أن يقولوا ذلك في استوائه تعالى الثابت بالكتاب والسنة. فالله سبحانه وصفاته وراء طور العقل فلا يقبل حكمه إلا فيما كان في طور الفكر فإن القوة المفكرة شأنها التصرف فيما في الخيال والحافظة من صور المحسوسات والمعاني الجزئية ومن ترتيبها على القانون يحصل للعقل علم آخر بينه وبين هذه الأشياء مناسبة وحيث لا مناسبة بين ذات الحق جل وعلا وبين شيء لا يستنتج من المقدمات التي يرتبها العقل معرفة الحقيقة فأكف الكيف مشلولة وأعناق التطاول إلى معرفة الحقيقة مغلولة وأقدام السعي إلى التشبيه مكبلة وأعين الأبصار والبصائر عن الإدراك والإحاطة مسملة: مرام شط مرمى العقل فيه ... ودون مداه بيد لا تبيد وقد أخرج اللالكائي في كتاب السنة من طريق الحسن عن أمه عن أم سلمة أنها قالت: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإقرار به إيمان والجحود به كفر، ومن طريق ربيعة بن عبد الرحمن أنه سئل كيف استوى على العرش فقال: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول وعلى الله تعالى إرساله وعلى رسوله البلاغ وعلينا التسليم، ومتى قالوا بنفي اللوازم بالكلية اندفع عنهم ما تقدم من الاعتراضات وحفظوا عن سائر الآفات وهذه الطائفة قيل هم السلف الصالح، وقيل: إن السلف بعد نفي ما يتوهم من التشبيه يقولون: لا ندري ما معنى ذلك والله تعالى أعلم بمراده. واعترض بأن الآيات والأخبار المشتملة على نحو ذلك كثيرة جدا ويبعد غاية البعد أن يخاطب الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 474 العباد فيما يرجع إلى الاعتقاد بما لا يدري معناه، وأيضا قد ورد في الأخبار ما يدل على فهم المخاطب المعنى من مثل ذلك، فقد أخرج أبو نعيم عن الطبراني قال: حدثنا عياش بن تميم حدثنا يحيى بن أيوب المقابري حدثنا سلم بن سالم حدثنا خارجة بن مصعب عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إن الله تعالى يضحك من يأس عباده وقنوطهم وقرب الرحمة منهم» فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله أو يضحك ربنا؟ قال: نعم والذي نفسي بيده إنه ليضحك قلت: فلا يعدمنا خيرا إذا ضحك فإنها رضي الله تعالى عنها لو لم تفهم من ضحكه تعالى معنى لم تقل ما قالت. وقد صح عن بعض السلف أنهم فسروا، ففي صحيح البخاري قال مجاهد: استوى على العرش علا على العرش وقال أبو العالية: استوى على العرش ارتفع، وقيل: إن السلف قسمان قسم منهم بعد أن نفوا التشبيه عينوا المعنى الظاهر، المعرى عن اللوازم وقسم رأوا صحة تعيين ذلك وصحة تعيين معنى آخر لا يستحيل عليه تعالى كما فعل بعض الخلف فراعوا الأدب واحتاطوا في صفات الرب فقالوا: لا ندري ما معنى ذلك أي المعنى المراد له عز وجل والله تعالى أعلم بمراده. وذهبت طائفة من المنزهين عن التشبيه والتجسيم إلى أنه ليس المراد الظواهر مع نفي اللوازم بل المراد معنى معين هو كذا وكثيرا ما يكون ذلك معنى مجازيا وقد يكون معنى حقيقيا للفظ وهؤلاء جماعة من الخلف وقد يتفق لهم تفويض المراد إليه جل وعلا أيضا وذلك إذا تعددت المعاني المجازية أو الحقيقة التي لا يتوهم منها محذور ولم يقم عندهم قرينة ترجح واحدا منها فيقولون: يحتمل اللفظ كذا وكذا والله تعالى أعلم بمراده من ذلك. ومذهب الصوفية على ما ذكره الشيخ إبراهيم الكوراني وغيره إجراء المتشابهات على ظواهرها مع نفي اللوازم والتنزيه بليس كمثله شيء كمذهب السلف الأول وقولهم بالتجلي في المظاهر على هذا النحو، وكلام الشيخ الأكبر قدس سره في هذا المقام مضطرب كما يشهد بذلك ما سمعت نقله عنه أولا مع ما ذكره في الفصل الثاني من الباب الثاني من الفتوحات فإنه قال في عد الطوائف المنزهة: وطائفة من المنزهة أيضا وهي العالية وهم أصحابنا فرغوا قلوبهم من الفكر والنظر وأخلوها وقالوا: حصل في نفوسنا من تعظيم الله تعالى الحق جل جلاله بحيث لا نقدر أن نصل إلى معرفة ما جاءنا من عنده بدقيق فكر ونظر فأشبهوا في هذا العقد المحدثين السالمة عقائدهم حيث لم ينظروا ولم يؤولوا بل قالوا: ما فهمنا فقال أصحابنا بقولهم ثم انتقلوا عن مرتبة هؤلاء بأن قالوا: لنا أن نسلك طريقة أخرى في فهم هذه الكلمات وذلك بأن نفرغ قلوبنا من النظر الفكري ونجلس مع الحق تعالى بالذكر على بساط الأدب والمراقبة والحضور والتهيؤ لقبول ما يرد منه تعالى حتى يكون الحق سبحانه وتعالى متولي تعليمنا بالكشف والتحقق لما سمعوه تعالى يقول وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة: 282] وإِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً [الأنفال: 29] قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: 114] عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً [الكهف: 65] فعند ما توجهت قلوبهم وهممهم إلى الله عز وجل ولجأت إليه سبحانه وتعالى وألقت عنها ما استمسك به الغير من دعوى البحث والنظر ونتائج العقول كانت عقولهم سليمة وقلوبهم مطهرة فارغة فعند ما كان منهم هذا الاستعداد تجلى لهم الحق عيانا معلما فاطلعتهم تلك المشاهدة على معاني تلك الكلمات دفعة واحدة فعرفوا المعنى التنزيهي الذي سيقت له ويختلف ذلك بحسب اختلاف مقامات إيرادها وهذا حال طائفة منا وحال طائفة أخرى منا أيضا ليس لهم هذا التجلي لكن لهم الإلقاء والإلهام واللقاء والكتاب وهم معصومون فيما يلقى إليهم بعلامات عندهم لا يعرفها سواهم فيخبرون بما خوطبوا به وبما ألهموا وما ألقي إليهم أو كتب اه المراد منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 475 ولعل من يقول بإجراء المتشابهات على ظواهرها مع نفي اللوازم كمذهب السلف الأول من الصوفية طائفة لم يحصل لهم ما حصل لهاتين الطائفين والفضل بيد الله تعالى يؤتيه من يشاء. هذا بقي هل يسمى ما عليه السلف تأويلا أم لا المشهور عدم تسمية ما عليه المفوضة منهم تأويلا وسماه بعضهم تأويلا كالذي عليه الخلف، قال اللقاني: أجمع الخلف ويعبر عنهم بالمؤولة والسلف ويعبر عنهم بالمفوضة على تنزيهه تعالى عن المعنى المحال الذي دل عليه الظاهر وعلى تأويله وإخراجه عن ظاهره المحال وعلى الإيمان به بأنه من عند الله تعالى جاء به رسوله صلّى الله عليه وسلّم وإنما اختلفوا في تعيين محمل له معنى صحيح وعدم تعيينه بناء على أن الوقف على قوله تعالى وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران: 7] أو على قوله سبحانه إِلَّا اللَّهُ ويقال لتأويل السلف إجمالي ولتأويل الخلف تفصيلي انتهى ملخصا. وكان شيخنا العلامة علاء الدين يقول: ما عليه المفوضة تأويل واحد وما عليه المؤولة تأويلان، ولعله راجع إلى ما سمعت، وأما ما عليه القائلون بالظواهر مع نفي اللوازم فقد قيل: إن فيه تأويلا أيضا لما فيه من نفي اللوازم وظاهر الألفاظ أنفسها تقتضيها ففيه إخراج اللفظ عما يقتضيه الظاهر، وإخراج اللفظ عن ذلك لدليل ولو مرجوحا تأويل. ومعنى كونهم قائلين بالظواهر أنهم قائلون بها في الجملة، وقيل: لا تأويل فيه لأنهم يعتبرون اللفظ من حيث نسبته إليه عز شأنه وهو من هذه الحيثية لا يقتضي اللوازم فليس هناك إخراج اللفظ عما يقتضيه الظاهر، ألا ترى أن أهل السنة والجماعة أجمعوا على رؤية الله تعالى في الآخرة مع نفي لوازم الرؤية في الشاهد من المقابلة والمسافة المخصوصة وغيرهما مع أنه لم يقل أحد منهم: إن ذلك من التأويل في شيء، وقال بعض الفضلاء: كل من فسر فقد أول وكل من لم يفسر لم يؤول لأن التأويل هو التفسير فمن عدا المفوضة مؤولة وهو الذي يقتضيه ظاهر قوله تعالى وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ بناء على أن الوقف على إِلَّا اللَّهُ ولا يخفى أن القول بأن القائلين بالظواهر مع نفي اللوازم من المؤولة الغير الداخلين في الراسخين في العلم بناء على الوقف المذكور لا يتسنى مع القول بأنهم من السلف الذين هم هم وقد يقال: إنهم داخلون في الراسخين والتأويل بمعنى آخر يظهر بالتتبع والتأمل، وقد تقدم الكلام في المراد بالمتشابهات وذكرنا ما يفهم منه الاختلاف في معنى التأويل وأنا أميل إلى التأويل وعدم القول بالظواهر مع نفي اللوازم في بعض ما ينسب إلى الله تعالى مثل قوله سبحانه سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ [الرحمن: 31] وقوله عز وجل يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ [يس: 30] كما في بعض القراءات وكذا قوله صلّى الله عليه وسلّم إن صح: «الحجر الأسود يمين الله في أرضه فمن قبله أو صافحه فكأنما صافح الله تعالى وقبل يمينه» فاجعل الكلام فيه خارجا مخرج التشبيه لظهور القرينة، ولا أقول: الحجر الأسود من صفاته تعالى كما قال السلف في اليمين وأرى من يقول بالظواهر ونفي اللوازم في الجميع بينه وبين القول بوحدة الوجود على الوجه الذي قاله محققو الصوفية مثل ما بين سواد العين وبياضها، وأميل أيضا إلى القول بتقبيب العرش لصحة الحديث في ذلك، والأقرب إلى الدليل العقلي القول بكريته ومن قال بذلك أجاب عن الأخبار السابقة بما لا يخفى على الفطن. وقال الشيخ الأكبر محيي الدين قدس سره في الباب الحادي والسبعين والثلاثمائة من الفتوحات: إنه ذو أركان أربعة ووجوه أربعة هي قوائمه الأصلية وبين كل قائمتين قوائم وعددها معلوم عندنا ولا أبينها إلى آخر ما قال، ويفهم كلامه أن قوائمه ليست بالمعنى الذي يتبادر إلى الذهن، وصرح بأنه أحد حملته وأنه أنزل عند أفضل القوائم وهي خزانة الرحمة، وذكر أن العمى محيط به وأن صورة العالم بجملته صورة دائرة فلكية، وأطال الكلام في هذا الباب وأتى فيه بالعجب العجاب، وليس له في أكثر ما ذكره فيه مستند نعلمه من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلّى الله عليه وسلّم ومنه ما لا يجوز لنا أن نقول بظاهره، والظاهر أن العرش واحد، وقال من قال من الصوفية بتعدده، ولا يخفى ما في نسبة الاستواء إليه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 476 تعالى بعنوان الرحمانية مما يزيد قوة الرجاء به جل وعلا وسبحان من وسعت رحمته كل شيء. وجعل فاعل الاستواء ما في قوله تعالى: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ولَهُ متعلق به على ما يقتضيه ما روي عن ابن عباس من أن الوقف على الْعَرْشِ ويكون المعنى استقام له تعالى كل ذلك وهو على مراده تعالى بتسويته عز وجل إياه كقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [البقرة: 29] أو استوى كل شيء بالنسبة إليه تعالى فلا شيء أقرب إليه سبحانه من شيء كما يشير إليه «لا تفضلوني على ابن متى» مما لا ينبغي أن يلتفت إليه أصلا، والرواية عن ابن عباس غير صحيحة، ولعل الذي دعا القائل به إليه الفرار من نسبة الاستواء إليه جل جلاله، ويا ليت شعري ماذا يصنع بقوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى وهو بظاهره الذي يظن مخالفته لما يقتضيه عقله مثل الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى بل لَهُ خبر مقدم وما فِي السَّماواتِ مبتدأ مؤخر أي له عز وجل وحده دون غيره لا شركة ولا استقلالا من حيث الملك والتصرف والإحياء والإماتة والإيجاد والإعدام جميع ما في السموات والأرض سواء كان ذلك بالجزئية منهما أو بالحلول فيهما وَما بَيْنَهُما من الموجودات الكائنة في الجو دائما كالهواء والسحاب وخلق لا نعلمهم هو سبحانه يعلمهم أو أكثريا كالطير الذي نراه وَما تَحْتَ الثَّرى أي ما تحت الأرض السابعة على ما روي عن ابن عباس وأخرجه ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب، وأخرج عن السدي أنه الصخرة التي تحت الأرض السابعة وهي صخرة خضراء، وأخرج أبو يعلى عن جابر بن عبد الله أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سئل ما تحت الأرض؟ قال: الماء قيل: فما تحت الماء؟ قال: ظلمة قيل: فما تحت الظلمة؟ قال: الهواء قيل: فما تحت الهواء؟ قال: الثرى قيل: فما تحت الثرى؟ قال: انقطع علم المخلوقين عند علم الخالق. وأخرج ابن مردويه عنه نحوه من حديث طويل، وقال غير واحد الثرى التراب الندي أو الذي إذا بل لم يصر طينا كالثريا ممدودة، ويقال: في تثنيته ثريان وثروان وفي جمعه أثراء ويقال: ثريت الأرض كرضى تثري ثرى فهي ثرية كغنية وثرياء إذا نديت ولانت بعد الجدوبة واليبس وأثرت كثر ثراؤها وثرى التربة تثرية بلها والمكان رشه وفلانأ ألزم يده الثرى، وفسر بمطلق التراب أي وله تعالى ما واراه التراب وذكره مع دخوله تحت ما في الأرض لزيادة التقرير، وإذا كان ما في الأرض ما هو عليها فالأمر ظاهر، وما تقدم من الإشارة إلى أن المراد له تعالى كل ذلك ملكا وتصرفا هو الظاهر. وقيل: المعنى له علم ذلك أي إن علمه تعالى محيط بجميع ذلك، والأول هو الظاهر وعليه يكون قوله تعالى: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ إلخ بيان لإحاطة علمه تعالى بجميع الأشياء إثر بيان شمول قدرته تعالى لجميع الكائنات، والخطاب على ما قاله في البحر للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد أمته عليه الصلاة والسّلام، وجوز أن يكون عاما أي وإن ترفع صوتك أيها الإنسان بالقول فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ أي ما أسررته إلى غيرك ولم ترفع صوتك به وَأَخْفى أي وشيئا أخفى منه وهو ما أخطرته ببالك من غير أن تنفوه به أصلا، وروي ذلك عن الحسن وعكرمة أو ما أسررته في نفسك وما ستسره فيها وروي ذلك عن سعيد بن جبير وروي عن السيدين الباقر والصادق السر ما أخفيته في نفسك والأخفى ما خطر ببالك ثم أنسيته. وقيل: أَخْفى فعل ماض عطف على يَعْلَمُ يعني أنه تعالى يعلم أسرار العباد وأخفى ما يعلمه سبحانه عنهم وهو كقوله تعالى يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طه: 110] ، وروي ذلك أبو الشيخ في العظمة عن زيد بن أسلم وهو خلاف الظاهر جدا فالمعول عليه أنه أفعل تفضيل والتنكير للمبالغة في الخفاء، والمتبادر من القول ما يشمل ذكر الله تعالى وغيره وإليه ذهب بعضهم، وخصه جماعة بذكره سبحانه ودعائه على أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 477 التعريف للعهد لأن استواء الجهر والسر عنده سبحانه المدلول عليه في الكلام يقتضي أن الجهر المذكور في خطابه عز وجل، وعلى القولين قوله تعالى فَإِنَّهُ إلخ قائم مقام جواب الشرط وليس الجواب في الحقيقة لأن علمه تعالى السر وأخفى ثابت قبل الجهر بالقول وبعده وبدونه. والأصل عند البعض وإن يجهر بالقول فاعلم أن الله تعالى يعلمه فإنه يعلم السر وأخفى فضلا عنه. وعند الجماعة وإن تجهر فاعلم أن الله سبحانه غني عن جهرك فإنه إلخ، وهذا على ما قيل إرشاد للعباد إلى التحري والاحتياط حين الجهر فإن من علم أن الله تعالى يعلم جهره لم يجهر بسوء، وخص الجهر بذلك لأن أكثر المحاورات ومخاطبات الناس به، وقيل: إرشاد للعباد إلى أن الجهر بذكر الله تعالى ودعائه ليس لإسماعه سبحانه بل لغرض آخر من تصوير النفس بالذكر وتثبيته فيها ومنعها من الاشتغال بغيره وقطع الوسوسة وغير ذلك، وقيل: نهي عن الجهر بالذكر والدعاء كقوله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ [الأعراف: 205] وأنت تعلم أن القول بأن الجهر بالذكر والدعاء منهي لا ينبغي أن يكون على إطلاقه. والذي نص عليه الإمام النووي في فتاويه أن الجهر بالذكر حيث لا محذور شرعيا مشروع مندوب إليه بل هو أفضل من الإخفاء في مذهب الإمام الشافعي وهو ظاهر مذهب الإمام أحمد وإحدى الروايتين عن الإمام مالك بنقل الحافظ ابن حجر في فتح الباري وهو قول لقاضيخان في فتاويه في ترجمة مسائل كيفية القراءة وقوله في باب غسل الميت: ويكره رفع الصوت بالذكر، فالظاهر أنه لمن يمشي مع الجنازة كما هو مذهب الشافعية لا مطلقا كما تفهمه عبارة البحر الرائق وغيره وهو قول الإمامين في تكبير عيد الفطر كالأضحى، ورواية عن الإمام أبي حنيفة نفسه رضي الله تعالى عنه بل في مسنده ما ظاهره استحباب الجهر بالذكر مطلقا، نعم قال ابن نجيم في البحر نقلا عن المحقق ابن الهمام في فتح القدير ما نصه قال أبو حنيفة: رفع الصوت بالذكر بدعة مخالفة للأمر من قوله تعالى وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ الآية فيقتصر على مورد الشرع، وقد ورد به في الأضحى وهو قوله سبحانه وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ [البقرة: 203] . وأجاب السيوطي في نتيجة الذكر عن الاستدلال بالآية السابقة بثلاثة أوجه، الأول أنها مكية ولما هاجر صلّى الله عليه وسلّم سقط ذلك، الثاني أن جماعة من المفسرين منهم عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وابن جرير حملوا الآية على الذكر حال قراءة القرآن وأنه أمر له عليه الصلاة والسّلام بالذكر على هذه الصفة تعظيما للقرآن أن ترفع عنده الأصوات، ويقويه اتصالها بقوله تعالى: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ [الأعراف: 204] الآية، الثالث ما ذكره بعض الصوفية أن الأمر في الآية خاص بالنبي صلّى الله عليه وسلّم الكامل المكمل وأما غيره عليه الصلاة والسّلام ممن هو محل الوساوس فمأمور بالجهر لأنه أشد تأثيرا في دفعها وفيه ما فيه. واختار بعض المحققين أن المراد دون الجهر البالغ أو الزائد على قدر الحاجة فيكون الجهر المعتدل، والجهر بقدر الحاجة داخلا في المأمور به، فقد صح ما يزيد على عشرين حديثا في أنه صلّى الله عليه وسلّم كثيرا ما كان يجهر بالذكر. وصح عن أبي الزبير أنه سمع عبد الله بن الزبير يقول: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا سلم من صلاته يقول بصوته الأعلى «لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لا حول ولا قوة إلا بالله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون» وهو محمول على اقتضاء حاجة التعليم ونحوه لذلك، وما في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري قال: كنا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم وكنا إذا أشرفنا على واد هللنا وكبرنا ارتفعت أصواتنا فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصما ولا غائبا إنه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 478 معكم إنه سميع قريب» محمول على أن النهي المستفاد التزاما من أمر اربعوا الذي بمعنى ارفقوا ولا تجهدوا أنفسكم مراد به النهي عن المبالغة في رفع الصوت، وبتقسيم الجهر واختلاف أقسامه في الحكم يجمع بين الروايتين المختلفتين عن الإمام أبي حنيفة، وما ذكر في الواقعات عن ابن مسعود من أنه رأى قوما يهللون برفع الصوت في المسجد فقال: ما أراكم إلا مبتدعين حتى أخرجهم من المسجد لا يصح عند الحفاظ من الأئمة المحدثين، وعلى فرض صحته هو معارض بما يدل على ثبوت الجهر منه رضي الله تعالى عنه مما رواه غير واحد من الحفاظ أو محمول على الجهر البالغ، وخبر خير الذكر الخفي وخير الرزق أو العيش ما يكفي صحيح. وعزاه الإمام السيوطي إلى الإمام أحمد وابن حبان والبيهقي عن سعد بن أبي وقاص، وعزاه أبو الفتح في سلاح المؤمن إلى أبي عوانة في مسنده الصحيح أيضا، وهو محمول على من كان في موضع يخاف فيه الرياء أو الإعجاب أو نحوهما، وقد صح أيضا أنه عليه الصلاة والسّلام جهر بالدعاء وبالمواعظ لكن قال غير واحد من الأجلة: إن إخفاء الدعاء أفضل. وحد الجهر على ما ذكره ابن حجر الهيتمي في المنهج القويم أن يكون بحيث يسمع غيره والاسرار بحيث يسمع نفسه. وعند الحنفية في رواية أدنى الجهر إسماع نفسه وأدنى المخافتة تصحيح الحروف وهو قول الكرخي. وفي كتاب الإمام محمد إشارة إليه، والأصح كما في المحيط قول الشيخين الهندواني والفضلي وهو الذي عليه الأكثر أن أدنى الجهر إسماع غيره وأدنى المخافتة إسماع نفسه. ومن هنا قال في فتح القدير: إن تصحيح الحروف بلا صوت إيماء إلى الحروف بعضلات المخارج لا حروف إذ الحروف كيفية تعرض للصوت فإذا انتفى الصوت المعروض انتفى الحرف العارض وحيث لا حرف فلا كلام بمعنى المتكلم به فلا قراءة بمعنى التكلم الذي هو فعل اللسان فلا مخافتة عند انتفاء الصوت كما لا جهر انتهى محررا، وقد ألف الشيخ إبراهيم الكوراني عليه الرحمة في تحقيق هذه المسألة رسالتين جليلتين سمى أولاهما- نشر الزهر في الذكر بالجهر- وثانيتهما- بإتحاف المنيب الأواه بفضل الجهر بذكر الله- رد فيها على بعض أهل القرن التاسع من علماء الحنفية من أعيان دولة ميرزا ألغ بيك بن شاه دخ الكوركاني حيث أطلق القول بكون الجهر بالذكر بدعة محرمة وألف في ذلك رسالة، ولعله يأتي إن شاء الله تعالى زيادة بسط لتحقيق هذه المسألة والله تعالى الموفق. وقوله سبحانه اللَّهُ خبر مبتدأ محذوف والجملة استئناف مسوق لبيان أن ما ذكر من صفات الكمال موصوفها ذلك المعبود الحق أي ذلك المنعوت بما ذكر من النعوت الجليلة الله عز وجل، وقوله تعالى: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ تحقيق للحق وتصريح بما تضمنه ما قبله من اختصاص الألوهية به سبحانه فإن ما أسند إليه عز شأنه من خلق جميع الموجودات والعلو اللائق بشأنه على جميع المخلوقات والرحمانية والمالكية للعلويات والسفليات والعلم الشامل مما يقتضيه اقتضاء بينا، وقوله تبارك اسمه لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى بيان لكون ما ذكر من الخالقية وغيرها أسماءه تعالى وصفاته من غير تعدد في ذاته تعالى وجاء الاسم بمعنى الصفة ومنه قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ [الرعد: 33] والحسنى تأنيث الأحسن وصفة المؤنثة المفردة تجري على جمع التكسير وحسن ذلك كونها وقعت فاصلة، وقيل: تضمنها الإشارة إلى عدم التعدد حقيقة بناء على عدم زيادة صفاته تعالى على ذاته واتحادها معها وفضل أسماء الله تعالى على سائر الأسماء في غاية الظهور، وجوز أبو حيان كون الاسم الجليل مبتدأ وجملة لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خبره وجملة لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى خبر بعد خبر، وظاهر صنيعه يقتضي اختياره لأنه المتبادر للذهن، ولا يخفى على المتأمل أولية ما تقدم، وقوله تعالى وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى مسوق لتقرير أمر التوحيد الذي انتهى إليه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 479 مساق الحديث وبيان أنه أمر مستمر فيما بين الأنبياء عليهم السّلام كابرا عن كابر وقد خوطب به موسى عليه السّلام حيث قيل له إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا [طه: 14] وبه ختم عليه السّلام مقاله حيث قال: إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [طه: 98] وقيل: مسوق لتسليته صلّى الله عليه وسلّم كقوله تعالى: ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى [بناء على ما نقل عن مقاتل في سبب النزول إلا أن الأول تسلية له عليه الصلاة والسّلام برد ما قاله قومه وهذا تسلية له صلّى الله عليه وسلّم بأن إخوانه من الأنبياء عليهم السّلام قد عراهم من أممهم ما عراهم وكانت العاقبة لهم وذكر مبدأ نبوة موسى عليه السّلام نظير ما ذكر إنزال القرآن عليه عليه الصلاة والسّلام. وقيل: مسوق لترغيب النبي صلّى الله عليه وسلّم في الائتساء بموسى عليه السّلام في تحمل أعباء النبوة والصبر على مقاساة الخطوب في تبليغ أحكام الرسالة بعد ما خاطبه سبحانه بأنه كلفه التبليغ الشاق بناء على أن معنى قوله تعالى ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى إنا أنزلنا عليك القرآن لتحتمل متاعب التبليغ ومقاولة العتاة من أعداء الإسلام ومقاتلتهم وغير ذلك من أنواع المشاق وتكاليف النبوة وما أنزلنا عليك هذا المتعب الشاق إلا ليكون تذكرة فالواو كما قاله غير واحد لعطف القصة على القصة ولا نظر في ذلك إلى تناسبهما خيرا وطلبا بل يشترط التناسب فيما سيقاتله مع أن المعطوف هاهنا قد يؤول بالخبر. ولا يخفى أن ما تقدم جار على سائر الأوجه والأقوال في الآية السابقة، وسبب نزولها ولا يأباه شيء من ذلك، والاستفهام تقريري، وقيل: هل بمعنى قد وقيل: الاستفهام إنكاري ومعناه النفي أي ما أخبرناك قبل هذه السورة بقصة موسى عليه السّلام ونحن الآن مخبروك بها والمعول عليه الأول، والحديث الخبر ويصدق على القليل والكثير ويجمع على أحاديث على غير قياس. قال الفراء: نرى أن واحد الأحاديث أحدوثة ثم جعلوه جمعا للحديث، وقال الراغب: الحديث كل كلام يبلغ الإنسان من جهة السمع أو الوحي في يقظته أو منامه ويكون مصدرا بمعنى التكلم. وحمله بعضهم على هذا هنا بقرينة فَقالَ إلخ، وعلق به قوله تعالى إِذْ رَأى ناراً ولم يجوز تعلقه على تقدير كونه اسما للكلام والخبر لأنه حينئذ كالجوامد لا يعمل، والأظهر أنه اسم لما ذكر لأنه هو المعروف مع أن وصف القصة بالإتيان أولى من وصف التحدث والتكلم به وأمر التعلق سهل فإن الظرف يكفي لتعلقه رائحة الفعل، ولذا نقل الشريف عن بعضهم أن القصة والحديث والخبر والنبأ يجوز إعمالها في الظروف خاصة وإن لم يرد بها المعنى المصدري لتضمن معناها الحصول والكون. وجوز أن يكون ظرفا لمضمر مؤخر أي حين رأن نارا كان كيت وكيت، وأن يكون مفعولا لمضمر متقدم أي فاذكر وقت رؤيته نارا. روي أن موسى عليه السّلام استأذن شعيبا عليه السّلام في الخروج من مدين إلى مصر لزيارة أمه وأخيه وقد طالت مدة جنايته بمصر ورجا خفاء أمره فأذن له وكان عليه السّلام رجلا غيورا فخرج بأهله ولم يصحب رفقة (1) لئلا ترى امرأته وكانت على أتان وعلى ظهرها جوالق فيها أثاث البيت ومعه غنم له وأخذ عليه السّلام على غير الطريق مخافة من ملوك الشام فلما وافى وادي طوى وهو بالجانب الغربي من الطور ولد له ابن في ليلة مظلمة شاتية مثلجة وكانت ليلة الجمعة وقد ضل الطريق وتفرقت ماشيته ولا ماء عنده وقدح فصلد زنده فبينما هو كذلك إذ رأى نارا على يسار الطريق من جانب الطور فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا أي أقيموا مكانكم أمرهم عليه السّلام بذلك لئلا يتبعوه فيما عزم عليه من الذهاب إلى النار كما هو المعتاد لا لئلا ينتقلوا إلى موضع آخر فإنه مما لا يخطر بالبال، والخطاب   (1) وقيل خرج برفقة إلا أنه كان يصحبهم ليلا ويفارقهم نهارا لغيرته اه منه. [ ..... ] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 480 قيل: للمرأة والولد والخادم، وقيل: للمرأة وحدها والجمع إما لظاهر لفظ الأهل أو للتفخيم كما في قول من قال: وإن شئت حرمت النساء سواكم وقرأ الأعمش وطلحة وحمزة ونافع في رواية «لأهله امكثوا» بضم الهاء إِنِّي آنَسْتُ ناراً أي أبصرتها إبصارا بينا لا شبهة فيه، ومن ذلك إنسان العين والإنس خلاف الجن، وقيل: الإيناس خاص بإبصار ما يؤنس به، وقيل: هو بمعنى الوجدان، قال الحارث بن حلزة: آنست نبأة وقد راعها القن ... اص يوما وقد دنا الإمساء والجملة تعليل للأمر والمأمور به ولما كان الإيناس مقطوعا متيقنا حققه لهم بكلمة إن ليوطن أنفسهم وإن لم يكن ثمة تردد أو إنكار لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها أي أجيئكم من النار بِقَبَسٍ بشعلة مقتبسة تكون على رأس عود ونحوه ففعل بمعنى مفعول وهو المراد بالشهاب القبس وبالجذوة في موضع آخر وتفسيره بالجمرة ليس بشيء، وهذا الجار والمجرور متعلق بآتيكم، وأما منها فيحتمل لأن يكون متعلقا به وأن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا من (قبس) على ما قاله أبو البقاء أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً هاديا يدلني على الطريق على أنه مصدر سمي به الفاعل مبالغة أو حذف منه المضاف أي ذا هداية أو على أنه إذا وجد الهادي فقد وجد الهدى، وعن الزجاج أن المراد هاديا يدلني على الماء فإنه عليه السّلام قد ضل عن الماء، وعن مجاهد. وقتادة أن المراد هاديا يهديني إلى أبواب الدين فإن أفكار الأبرار مغمورة بالهمم الدينية في عامة أحوالهم لا يشغلهم عنها شاغل وهو بعيد فإن مساق النظم الكريم تسلية أهله مع أنه قد نص في سورة القصص على ما يقتضي ما تقدم حيث قال: لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ [القصص: 29] الآية، والمشهور كتابة هذه الكلمة بالياء. وقال أبو البقاء: الجيد أن تكتب بالألف ولا تمال لأن الألف بدل التنوين في القول المحقق، وقد أمالها قوم وفيه ثلاثة أوجه، الأول أن يكون شبه ألف التنوين بلام الكلمة إذا اللفظ بهما في المقصور واحد، الثاني أن يكون لام الكلمة ولم يبدل من التنوين شيء في النصب، والثالث أن يكون على رأي من وقف في الأحوال الثلاثة من غير إبدال انتهى، وكلمة أو لمنع الخلو دون الجمع وعلى على بابها من الاستعلاء والاستعلاء على النار مجاز مشهور صار حقيقة عرفية في الاستعلاء على مكان قريب ملاصق لها كما قال سبويه في مررت بزيد: إنه لصوق بمكان يقرب منه، وقال غير واحد: إن الجار والمجرور في موضع الحال من هُدىً وكان في موضع الصفة له فقدم والتقدير أو أجد هاديا أو ذا هدى مشرفا على النار، والمراد مصطليا بها وعادة المصطلي الدنو من النار والإشراف عليها. وعن ابن الأنباري أن على هاهنا بمعنى عند أو بمعنى مع أو بمعنى الباء ولا حاجة إلى ذلك وكان الظاهر عليها إلا أنه جيء بالظاهر تصريحا بما هو كالعلة لوجدان الهدى إذ النار لا تخلو من أناس عندها، وصدرت الجملة بكلمة الترجي لما أن الإتيان وما عطف عليه ليسا محققي الوقوع بل هما مترقبان متوقعان. وهي على ما في إرشاد العقل السليم إما علة لفعل قد حذف ثقة بما يدل عليه من الأمر بالمكث والأخبار بإيناس النار وتفاديا عن التصريح بما يوحشهم، وإما حال من فاعله أي فاذهب إليها لآتيكم أو كي آتيكم أو راجيا أن آتيكم منها بقبس الآية، وقيل: هي صفة لنارا، ومتى جاز جعل جملة الترجي صلة كما في قوله: وإني لراج نظرة قبل التي ... لعلي وإن شطت نواها أزورها فليجز جعلها صفة فإن الصلة والصفة متقاربان ولا يخفى ما فيه فَلَمَّا أَتاها أي النار التي آنسها وكانت كما في بعض الروايات عن ابن عباس في شجرة عناب خضراء يانعة، وقال عبد الله بن مسعود: كانت في سمرة، وقيل: في شجرة عوسج. وأخرج الإمام أحمد في الزهد. وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن وهب بن منبه قال: لما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 481 رأى موسى عليه السّلام النار انطلق يسير حتى وقف منها قريبا فإذا هو بنار عظيمة تفور من ورق شجرة خضراء شديدة الخضرة يقال لها العليق لا تزداد النار فيما يرى إلا عظما وتضرما ولا تزداد الشجرة على شدة الحريق إلا خضرة وحسنا فوقف ينظر لا يدري علام يضع أمرها إلا أنه قد ظن أنها شجرة تحترق وأوقد إليها بوقد فنالها فاحترقت وأنه إنما يمنع النار شدة خضرتها وكثرة مائها وكثافة ورقها وعظم جذعها فوضع أمرها على هذا فوقف وهو يطمع أن يسقط منها شيء فيقتبسه فلما طال عليه ذلك أهوى إليها بضغث في يده وهو يريد أن يقتبس من لهبها فلما فعل ذلك مالت نحوه كأنها تريده فاستأخر عنها وهاب ثم عاد فطاف بها ولم تزل تطمعه ويطمع بها ثم لم يكن شيء بأوشك من خمودها فاشتد عند ذلك عجبه وفكر في أمرها فقال: هي نار ممتنعة لا يقتبس منها ولكنها تتضرم في جوف شجرة فلا تحرقها ثم خمودها على قدر عظمها في أوشك من طرفة عين فلما رأى ذلك قال إن لهذه لشأنا ثم وضع أمرها على أنها مأمورة أو مصنوعة لا يدري من أمرها ولا بم أمرت ولا من صنعها ولا لم صنعت فوقف متحيرا لا يدري أيرجع أم يقيم فبينما هو على ذلك إذ رمى بطرفه نحو فرعها فإذا أشد ما كان خضرة ساطعة في السماء ينظر إليها تغشى الظلام ثم لم تزل الخضرة تنور وتصفر وتبيض حتى صارت نورا ساطعا عمودا بين السماء والأرض عليه مثل شعاع الشمس تكل دونه الأبصار كلما نظر إليه يكاد يخطف بصره فعند ذلك اشتد خوفه وحزنه فرد يده على عينيه ولصق بالأرض وسمع حينئذ شيئا لم يسمع السامعون بمثله عظما فلما بلغ موسى عليه السّلام الكرب واشتد عليه الهول كان ما قص الله تعالى. وروي أنه عليه السّلام كان كلما قرب منها تباعدت فإذا أدبر اتبعته فأيقن أن هذا أمر من أمور الله تعالى الخارقة للعادة ووقف متحيرا وسمع من السماء تسبيح الملائكة وألقيت عليه السكينة وكان ما كان. وقالوا: النار أربعة أصناف صنف يأكل ولا يشرب وهي نار الدنيا، وصنف يشرب ولا يأكل وهي نار الشجر الأخضر، وصنف يأكل ويشرب وهي نار جهنم، وصنف لا يأكل ولا يشرب وهي نار موسى عليه السّلام. وقالوا أيضا هي أربعة أنواع: نوع له نور وإحراق وهي نار الدنيا، ونوع لا نور له ولا إحراق وهي نار الأشجار. ونوع له إحراق بلا نور وهي نار جهنم. ونوع له نور بلا إحراق وهي نار موسى عليه السّلام بل قال بعضهم: إنها لم تكن نارا بل هي نور من نور الرب تبارك وتعالى. وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وذكر ذلك بلفظ النار بناء على حسبان موسى عليه السّلام وليس في أخباره عليه السّلام حسب حسبانه محذور كما توهم واستظهر ذلك أبو حيان وإليه ذهب الماوردي. وقال سعيد بن جبير هي النار بعينها وهي إحدى حجب الله عز وجل واستدل له بما روي عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «حجابه النار لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» ذكر ذلك البغوي وذكر في تفسير الخازن أن الحديث أخرجه مسلم وظاهر الآية يدل على أنه عليه السّلام حين أتاها نُودِيَ من غير ريث وبذلك رد بعض المعتزلة الأخبار السابقة الدالة على تخلل زمان بين المجيء والنداء، وأنت تعلم أن تخلل مثل ذلك الزمان مما لا يضر في مثل ما ذكر، وزعم أيضا امتناع تحقق ظهور الخارق عند مجيئه النار قبل أن ينبأ إلا أن يكون ذلك معجزة لغيره من الأنبياء عليهم السّلام، وعندنا أن ذلك من الإرهاص الذي ينكره المعتزلة، والظاهر أن القائم مقام فاعل نُودِيَ ضمير موسى عليه السّلام، وقيل: ضمير المصدر أي نودي النداء، وقيل: هو قوله تعالى: يا مُوسى إلخ وكأن ذلك على اعتبار تضمين النداء معنى القول وإرادة هذا اللفظ من الجملة وإلا فقد قيل: إن الجملة لا تكون فاعلا ولا قائما مقامه في مثل هذا التركيب إلا بنحو هذا الضرب من التأويل. وفي البحر مذهب الكوفيين معاملة النداء معاملة القول ومذهب البصريين إضمار القول في مثل هذه الآية أي نودي فقيل: يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ولذلك كسرت همزة إن في قراءة الجمهور، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 482 بفتحها على تقدير حرف الجر أي بأني، والجار والمجرور على ما قال أبو البقاء. وغيره متعلق بنودي والنداء قد يوصل بحرف الجر أنشد أبو علي: ناديت باسم ربيعة بن مكرم ... إن المنوه باسمه الموثوق ولا يخفى على ذي ذوق سليم حال التركيب على هذا التخريج وإنه إنما يحلو لو لم يكن المنادى فاصلا. وقيل: على تقدير حرف التعليل وتعلقه بفعل الأمر بعد وهو كما ترى. واختير أن الكلام على تقدير العلم أي اعلم أني إلخ، وتكرير ضمير المتكلم لتأكيد الدلالة وتحقيق المعرفة وإماطة الشبهة، واستظهر أن علمه عليه السّلام بأن الذي ناداه هو الله تعالى حصل له بالضرورة خلقا منه تعالى فيه، وقيل: بالاستدلال بما شاهد قبل النداء من الخارق، وقيل: بما حصل له من ذلك بعد النداء، فقد روي أنه عليه السّلام لما نودي يا موسى قال عليه السّلام: من المتكلم؟ فقال: أنا ربك فوسوس إليه إبليس اللعين لعلك تسمع كلام شيطان فقال عليه السّلام: أنا عرفت أنه كلام الله تعالى بأني أسمعه من جميع الجهات بجميع الأعضاء، والخارق فيه أمران سماعه من جميع الجهات وكون ذلك بجميع الأعضاء التي من شأنها السماء والتي لم يكن من شأنها، وقيل: الخارق فيه أمر واحد وهو السماع بجميع الأعضاء، وهو المراد بالسماع من جميع الجهات، وأيّا ما كان فلا يخفى صحة الاستدلال بذلك على المطلوب إلا أن في صحة الخبر خفاء ولم أر له سندا يعول عليه، وحضور الشيطان ووسوسته لموسى عليه السّلام في ذلك الوادي المقدس والحضرة الجليلة في غاية البعد. والمعتزلة أوجبوا أن يكون العلم بالاستدلال بالخارق ولم يجوزوا أن يكون بالضرورة قالوا لأنه لو حصل العلم الضروري بكون هذا النداء كلام الله تعالى لحصل العلم الضروري بوجود الصانع القادر العالم لاستحالة أن تكون الصفة معلومة بالضرورة والذات تكون معلومة بالاستدلال ولو كان وجود الصانع تعالى معلوما بالضرورة لخرج موسى عليه السّلام عن كونه مكلفا لأن حصول العلم الضروري ينافي التكليف وبالاتفاق أنه عليه السّلام لم يخرج عن التكليف فعلمنا أن الله تعالى عرفه ذلك بالخارق وفي تعيينه اختلاف. وقال بعضهم: لا حاجة بنا إلى أن نعرف ذلك الخارق ما هو، وأخرج أحمد وغيره عن وهب أنه عليه السّلام لما اشتد عليه الهول نودي من الشجرة، فقيل: يا موسى فأجاب سريعا وما يدري من دعاه وما كان سرعة إجابته إلا استئناسا بالإنس فقال: لبيك مرارا إني لأسمع صوتك وأحس حسك ولا أرى مكانك فأين أنت: قال: أنا فوقك ومعك وأمامك وخلفك وأقرب إليك من نفسك فلما سمع هذا موسى عليه السّلام علم أنه لا ينبغي ذلك إلا لربه تعالى فأيقن به فقال: كذلك أنت يا إلهي فكلامك أسمع أم رسولك؟ قال: بل أنا الذي أكلمك، ولا يخفى تخريج هذا الأثر على مذهب السلف ومذهب الصوفية وأنه لا يحصل الإيقان بمجرد سماع ما لا ينبغي أن يكون إلا لله تعالى من الصفات إذا فتح باب الوسوسة، ثم إن هذا الأثر ظاهر في أن موسى عليه السّلام سمع الكلام اللفظي منه تعالى بلا واسطة ولذا اختص عليه السّلام باسم الكليم وهو مذهب جماعة من أهل السنة وذلك الكلام قديم عندهم. وأجابوا عن استلزام اللفظ الحدوث لأنه لا يوجد بعضه إلا بتقضي بعض آخر بأنه إنما يلزم من التلفظ بآلة وجارحة وهي اللسان أما إذا كان بدونها فيوجد دفعة واحدة كما يشاهد في الحروف المرسومة بطبع الخاتم دون القلم ويلزمهم أن يؤولوا قوله تعالى: فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ إلخ بأن يقولوا: المراد فلما أتاها أسمع النداء أو نحو ذلك وإلا فمجيء النار حادث والمرتب على الحادث حادث، ولذا زعم أهل ما وراء النهر من أهل السنة القائلين بقدم الكلام أن هذا الكلام الذي سمعه موسى عليه السّلام حادث وهو صوت خلقه الله تعالى في الشجرة، وأهل البدعة أجمعوا على أن الكلام اللفظي حادث بيد أن منهم من جوز قيام الحوادث به تعالى شأنه ومنهم من لم يجوز، وزعم أن الذي سمعه موسى عليه السّلام خلقه الله عز وجل في جسم من الأجسام كالشجرة أو غيرها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 483 وقال الأشعري: إن الله تعالى أسمع موسى عليه السّلام كلامه النفسي الذي ليس بحرف ولا صوت ولا سبيل للعقل إلى معرفة ذلك، وقد حققه بعضهم بأنه عليه السّلام تلقى ذلك الكلام تلقيا روحانيا كما تتلقى الملائكة عليهم السّلام كلامه تعالى لا من جارحة ثم أفاضته الروح بواسطة قوة العقل على القوى النفسية ورسمته في الحس المشترك بصور ألفاظ مخصوصة فصار لقوة تصوره كأنه يسمعه من الخارج وهذا كما يرى النائم أنه يكلم ويتكلم، ووجه وقوف الشيطان المار في الخبر الذي سمعت ما فيه على هذا بأنه يحتمل أن يكون كذلك، ويحتمل أن يكون بالتفرس من كون هيئته عليه السّلام على هيئة المصغي المتأمل لما يسمعه وهو كما ترى، وقد تقدم لك في المقدمات ما عسى ينفعك مراجعته هنا فراجعه وتأمل، واعلم أن شأن الله تعالى شأنه كله غريب وسبحان الله العزيز الحكيم فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ أزلهما من رجليك والنعل معروفة وهي مؤنثة يقال في تصغيرها نعيلة ويقال فيها نعل: بفتح العين أنشد الفراء: له نعل لا يطبى الكلب ريحها ... وإن وضعت بين المجالس شمت وأمر صلّى الله عليه وسلّم بذلك لما أنهما كانتا من جلد حمار ميت غير مدبوغ كما روي عن الصادق رضي الله تعالى عنه وعكرمة وقتادة والسدي ومقاتل والضحاك والكلبي، وروي كونهما من جلد حمار في حديث غريب. فقد أخرج الترمذي بسنده عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كان على موسى عليه السّلام يوم كلمه ربه كساء صوف وجبة صوف وكمة صوف أي قلنسوة صغيرة وسراويل صوف وكانت نعلاه من جلد حمار» ، وعن الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وابن جريج أنهما كانتا من جلد بقرة ذكيت ولكن أمر عليه السّلام بخلعهما ليباشر بقدميه الأرض فتصيبه بركة الوادي المقدس. وقال الأصم: لأن الحفوة أدخل في التواضع. وحسن الأدب ولذلك كان السلف الصالحون يطوفون بالكعبة حافين، ولا يخفى أن هذا ممنوع عند القائل بأفضلية الصلاة بالنعال كما جاء في بعض الآثار، ولعل الأصم لم يسمع ذلك أو يجيب عنه. وقال أبو مسلم: لأنه تعالى أمنه من الخوف وأوقفه بالموضع الطاهر وهو عليه السّلام إنما لبسهما اتقاء من الإنجاس وخوفا من الحشرات، وقيل: المعنى فرغ قلبك من الأهل والمال. وقيل: من الدنيا والآخرة. ووجه ذلك أن يراد بالنعل كل ما يرتفق به، وغلب على ما ذكر تحقيرا، ولذا أطلق على الزوجة نعل كما في كتب اللغة، ولا يخفى عليك أنه بعيد وإن وجه بما ذكر وهو أليق بباب الإشارة، والفاء لترتيب الأمر على ما قبلها فإن ربوبيته تعالى له عليه السّلام من موجبات الأمر ودواعيه، وقوله تعالى إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ تعليل لموجب الخلع المأمور به وبيان لسبب ورود الأمر بذلك من شرف البقعة وقدسها. روي أنه عليه السّلام حين أمر خلعهما وألقاهما وراء الوادي طُوىً بضم الطاء غير منون. وقرأ الكوفيون وابن عامر بضمها منونا وقرأ الحسن والأعمش وأبو حيوة وابن أبي إسحاق وأبو السمال وابن محيصن بكسرها منونا وقرأ أبو زيد عن أبي عمرو بكسرها غير منون وهو علم لذلك الوادي فيكون بدلا أو عطف بيان، ومن نونه فعلى تأويل المكان ومن لم ينونه فعلى تأويل البقعة فهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث، وقيل طُوىً المضموم الطاء الغير المنون ممنوع من الصرف للعلمية والعدل كزفر وقثم، وقيل: للعلمية والعجمة وقال قطرب: يقال طوى من الليل أي ساعة أي قدس لك ساعة من الليل وهي ساعة أن نودي فيكون معمولا للمقدس، وفي العجائب للكرماني قيل: هو معرب معناه ليلا وكأنه أراد قول قطرب، وقيل: هو رجل بالعبرانية وكأنه على هذا منادى، وقال الحسن: طوى بكسر الطاء والتنوين مصدر كثنى لفظا ومعنى، وهو عنده معمول للمقدس أيضا أي قدس مرة بعد أخرى، وجوز أن يكون معمولا لنودي أي نودي نداءين، وقال ابن السيد: إنه ما يطوى من جلد الحية ويقال: فعل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 484 الشيء طوى أي مرتين فيكون موضوعا موضع المصدر، وأنشد الطبرسي لعدي بن زيد: أعاذل إن اللوم في غير كنهه ... على طوى من غيك المتردد وذكر الراغب أنه إذا كان بمعنى مرتين يفتح أوله ويكسر، ولا يخفى عليك أن الأظهر كونه اسما للوادي في جميع القراءات وَأَنَا اخْتَرْتُكَ أي اصطفيتك من الناس أو من قومك للنبوة والرسالة. وقرأ السلمي وابن هرمز والأعمش في رواية «وإنا» بكسر الهمزة وتشديد النون مع ألف بعدها «اخترناك» بالنون والألف، وكذا قرأ طلحة وابن أبي ليلى وحمزة وخلف والأعمش في رواية أخرى إلا أنهم فتحوا همزة إن، وذلك بتقدير أعلم أي واعلم أنا اخترناك، وهو على ما قيل عطف على «اخلع» ، ويجوز عند من قرأ «أني أنا ربك» بالفتح أن يكون العطف عليه سواء كان متعلقا بنودي كما قيل أو معمولا لا علم مقدرا كما اختير. وجوز أبو البقاء أن يكون بتقدير اللام وهو متعلق بما بعده أي لأنا اخترناك فَاسْتَمِعْ وهو كما ترى، والفاء في قوله تعالى فَاسْتَمِعْ لترتيب الأمر والمأمور به على ما قبلها فإن اختياره عليه السّلام لما ذكر من موجبات الاستماع والأمر به، واللام في قوله سبحانه لِما يُوحى متعلقة باستمع، وجوز أن تكون متعلقة باخترناك، ورده أبو حيان بأنه يكون حينئذ من باب الأعمال ويجب أو يختار حينئذ إعادة الضمير مع الثاني بأن يقال: فاستمع له لما يوحى. وأجيب بأن المراد جواز تعلقها بكل من الفعلين على البدل لا على أنه من الأعمال. واعترض على هذا بأن قوله تعالى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا بدل من ما يُوحى ولا ريب في أن اختياره عليه السّلام ليس لهذا فقط والتعلق باخترناك كيفما كان يقتضيه. وأجيب بأنه من باب التنصيص على ما هو الأهم والأصل الأصيل، وقيل: هي سيف خطيب فلا متعلق لها كما في رَدِفَ لَكُمْ [النمل: 72] وما موصولة. وجوز أن تكون مصدرية أي فاستمع للذي يوحى إليك أو للوحي، وفي أمره عليه السّلام بالاستماع إشارة إلى عظم ذلك وأنه يقتضي التأهب له، قال أبو الفضل الجوهري: لما قيل لموسى عليه السّلام استمع لما يوحى وقف على حجر واستند إلى حجر ووضع يمينه على شماله وألقى ذقنه على صدره وأصغى بشراشره. وقال وهب: أدب الاستماع سكون الجوارح وغض البصر والإصغاء بالسمع وحضور العقل والعزم على العمل وذلك هو الاستماع لما يحب الله تعالى، وحذف الفاعل في يُوحى للعلم به ويحسنه كونه فاصلة فإنه لو كان مبنيا للفاعل لم يكن فاصلة، والفاء في قوله تعالى فَاعْبُدْنِي لترتيب المأمور به على ما قبلها فإن اختصاص الألوهية به تعالى شأنه من موجبات تخصيص العبادة به عز وجل، والمراد بها غاية التذلل والانقياد له تعالى في جميع ما يكلفه به، وقيل: المراد بها هنا التوحيد كما في قوله سبحانه وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] والأول أولى وَأَقِمِ الصَّلاةَ خصت الصلاة بالذكر وأفردت بالأمر مع اندراجها في الأمر بالعبادة لفضلها وإنافتها على سائر العبادات بما نيطت به من ذكر المعبود وشغل القلب واللسان بذكره، وقد سماها الله تعالى إيمانا في قوله سبحانه وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة: 143] . واختلف العلماء في كفر تاركها كسلا كما فصل في محله، وقوله تعالى لِذِكْرِي الظاهر أنه متعلق بأقم أي أقم الصلاة لتذكرني فيها لاشتمالها على الأذكار، وروي ذلك عن مجاهد، وقريب منه ما قيل أي لتكون لي ذاكرا غير ناس فعل المخلصين في جعلهم ذكر ربهم على بال منهم وتوكيل هممهم وأفكارهم به، وفرق بينهما بأن المراد بالإقامة على الأول تعديل الأركان، وعلى الثاني الإدامة وجعلت الصلاة في الأول مكانا للذكر ومقره وعلته، وعلى الثاني جعلت إقامة الصلاة أي إدامتها علة لإدامة الذكر كأنه قيل أدم الصلاة لتستعين بها على استغراق فكرك وهمك في الذكر كقوله تعالى وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة: 45] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 485 وجوز أن يكون متعلقا باعبدني أو بأقم على أنه من باب الأعمال أي لتكون ذاكرا لي بالعبادة وإقامة الصلاة، وإذا عمم الذكر ليتناول القلبي والقالبي جاز اعتبار باب الأعمال في الأول أيضا وهو خلاف الظاهر. وقيل: المراد أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي خاصة لا ترائي بها ولا تشوبها بذكر غيري أو لإخلاص ذكري وابتغاء وجهي ولا تقصد بها غرضا آخر كقوله تعالى فَصَلِّ لِرَبِّكَ [الكوثر: 2] أو لأن أذكرك بالثناء أي لأثني عليك وأثيبك بها أو لذكري إياها في الكتب الإلهية وأمري بها أو لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلوات فاللام وقتية بمعنى عند مثلها في قوله تعالى يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي [الفجر: 24] وقولك: كان ذلك لخمس ليال خلون، ومن الناس من حمل الذكر على ذكر الصلاة بعد نسيانها، وروي ذلك عن أبي جعفر، واللام حينئذ وقتية أو تعليلية، والمراد أقم الصلاة عند تذكرها أو لأجل تذكرها والكلام على تقدير مضاف والأصل لذكر صلاتي أو يقال: إن ذكر الصلاة سبب لذكر الله تعالى فأطلق المسبب على السبب أو أنه وقع ضمير الله تعالى موقع ضمير الصلاة لشرفها أو أن المراد للذكر الحاصل مني فأضيف الذكر إلى الله عز وجل لهذه الملابسة، والذي حمل القائل على هذا الحمل أنه ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أنه صلّى الله عليه وسلّم نام عن صلاة الصبح فلما قضاها قال: من نسي صلاة فليقضها إذا ذكرها فإن الله تعالى قال: أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي فظن هذا القائل أنه لو لم يحمل هذا الحمل لم يصح التعليل وهو من بعض الظن فإن التعليل كما في الكشف صحيح والذكر على ما فسر في الوجه الأول وأراد عليه الصلاة والسّلام أنه إذا ذكر الصلاة انتقل من ذكرها إلى ذكر ما شرعت له وهو ذكر الله تعالى فيحمله على إقامتها، وقال بعض المحققين: إنه لما جعل المقصود الأصلي من الصلاة ذكر الله تعالى وهو حاصل مطلوب في كل وقت فإذا فاته الوقت المحدود له ينبغي المبادرة إليه ما أمكنه فهو من إشارة النص لا من منطوقه حتى يحتاج إلى التمحل فافهم. وإضافة «ذكر» إلى الضمير تحتمل أن تكون من إضافة المصدر إلى مفعوله وأن تكون من إضافة المصدر إلى فاعله حسب اختلاف التفسير. وقرأ السلمي والنخعي وأبو رجاء «للذكرى» بلام التعريف وألف التأنيث، وقرأت فرقة «لذكري» بألف التأنيث بغير لام التعريف، وأخرى «للذكر» بالتعريف والتذكير وقوله تعالى إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ تعليل لوجوب العبادة وإقامة الصلاة أي كائنة لا محالة، وإنما عبر عن ذلك بالإتيان تحقيقا لحصولها بإبرازها في معرض أمر محقق متوجه نحو المخاطبين أَكادُ أُخْفِيها أقرب أن أخفي الساعة ولا أظهرها بأن أقول إنها آتية ولولا أن في الأخبار بذلك من اللطف وقطع الأعذار لما فعلت، وحاصله أكاد أبالغ في إخفائها فلا أجمل كما لم أفصل، والمقاربة هنا مجاز كما نص عليه أبو حيان أو أريد إخفاء وقتها المعين وعدم إظهاره وإلى ذلك ذهب الأخفش وابن الأنباري وأبو مسلم ومن مجيء كاد بمعنى أراد كما قال ابن جني في المحتسب قوله: كادت وكدت وتلك خير إرادة ... لو عاد من لهو الصبابة ما مضى وروي عن ابن عباس وجعفر الصادق رضي الله تعالى عنهما أن المعنى أكاد أخفيها من نفسي، ويؤيده أن في مصحف أبي كذلك، وروى ابن خالويه عنه ذلك بزيادة فكيف أظهركم عليها، وفي بعض القراءات بزيادة فكيف أظهرها لكم، وفي مصحف عبد الله بزيادة فكيف يعلمها مخلوق وهذا محمول على ما جرت به عادة العرب من أن أحدهم إذا أراد المبالغة في كتمان الشيء قال: كدت أخفيه من نفسي ومن ذلك قوله: أيام تصحبني هند وأخبرها ... ما كدت أكتمه عني من الخبر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 486 ونحو هذا من المبالغة قوله صلّى الله عليه وسلّم في حديث السبعة الذين يظلهم تحت ظله «ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» وبجعل ذلك من باب المبالغة يندفع ما قيل إن إخفاء ذلك من نفسه سبحانه محال فلا يناسب دخول كاد عليه، ولا حاجة لما قيل: إن معنى من نفسي من تلقائي ومن عندي، والقرينة على هذا المحذوف إثباته في المصاحف، وكونه قرينة خارجية لا يضر إذ لا يلزم في القرينة وجودها في الكلام. وقيل: الدليل عليه أنه لا بد لأخفيها من متعلق وهو من يخفى منه. ولا يجوز أن يكون من الخلق لأنه تعالى أخفاها عنهم لقوله سبحانه إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان: 34] فيتعين ما ذكر. وفيه أن عدم صحة تقدير من الخلق ممنوع لجواز إرادة إخفاء تفصيلها وتعيينها مع أنه يجوز أن لا يقدر له متعلق، والمعنى أوجد إخفاءها ولا أقول: إنها آتية. وقال أبو علي: المعنى أكاد أظهرها بإيقاعها على أن أخفيها من ألفاظ السلب بمعنى أزيل خفاءها أي ساترها وهو في الأصل ما يلف به القربة ونحوها من كساء وما يجري مجراه. ومن ذلك قول امرئ القيس: فإن تدفنوا الداء لا نخفه ... وإن توقدوا الحرب لا نقعد ويؤيده قراءة أبي الدرداء وابن جبير والحسن ومجاهد وحميد ورويت عن ابن كثير وعاصم «أخفيها» بفتح الهمزة فإن خفاه بمعنى أظهره لا غير في المشهور، وقال أبو عبيدة كما حكاه أبو الخطاب أحد رؤساء اللغة: خفيت وأخفيت بمعنى واحد. ومتعلق الإخفاء على الوجه السابق في تفسير قراءة الجمهور والإظهار ليس شيئا واحدا حتى تتعارض القراءتان. وقالت فرقة: خبر كاد محذوف أكاد آتي بها كما حذف في قوله صابىء البرجمي: هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله أي وكدت أفعل وتم الكلام ثم استأنف الأخبار بأنه تعالى يخفيها، واختار النحاس وقالت فرقة أخرى: أَكادُ زائدة لا دخول لها في المعنى بل المراد الإخبار بأن الساعة آتية وإن الله تعالى يخفى وقت إتيانها. وروي هذا المعنى عن ابن جبير واستدلوا على زيادة كاد بقوله تعالى: لَمْ يَكَدْ يَراها [النور: 40] ويقول زيد الخيل: سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه ... فما أن يكاد قرنه يتنفس ولا حجة في ذلك كما لا يخفى لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى متعلق بآتية كما قال صاحب اللوامح وغيره وما بينهما اعتراض لا صفة حتى يلزم إعمال اسم الفاعل الموصوف وهو لا يجوز على رأي البصريين أو باخفيها على أن المراد أظهرها لا على أن المراد أسترها لأنه لا وجه لقولك. أسترها لأجل الجزاء، وبعضهم جوز ذلك، ووجهه بأن تعمية وقتها لتنتظر ساعة فساعة فيحترز عن المعصية ويجتهد في الطاعة. وتعقب بأنه تكلف ظاهر مع أنه لا صحة له إلا بتقدير لينتظر الجزاء أو لتخاف وتخشى، وما مصدرية أي لتجزى بسعيها وعملها إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وهذا التعميم هو الظاهر، وقيل: لتجزى بسعيها في تحصيل ما ذكر من الأمور المأمور بها، وتخصيصه في معرض الغاية لإتيانها مع أنه لجزاء كل نفس بما صدر عنها سواء كان سعيا فيما ذكر أو تقاعدا عنه بالمرة أو سعيا في تحصيل ما يضاده للإيذان بأن المراد بالذات من إتيانها هو الإثابة بالعبادة، وأما العقاب بتركها فمن مقتضيات سوء اختيار العصاة وبأن المأمور به في قوة الوجوب والساعة في شدة الهول والفظاعة بحيث يوجبان على كل نفس أن تسعى في الامتثال بالأمر وتجد في تحصيل ما ينجيها من الطاعات وتحترز عن اقتراف ما يرديها من المعاصي انتهى. ولا يخفى ما فيه، وقيل: ما موصولة أي بالذي تسعى فيه، وفيه حذف العائد المجرور بالحرف مع فقد شرطه. وأجيب بأنه يجوز أن يكون القائل لا يشترط، وقيل: يقدر منصوبا على التوسع فَلا يَصُدَّنَّكَ خطاب لموسى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 487 عليه السّلام، وزعم بعضهم أنه لنبينا صلّى الله عليه وسلّم لفظا ولأمته معنى وهو في غاية البعد عَنْها أي الساعة، والمراد عن ذكرها ومراقبتها، وقيل: عن الإيمان بإتيانها ورجح الأول بأنه الأليق بشأن موسى عليه السّلام وإن كان النهي بطريق التهييج والإلهاب ورجوع ضمير عَنْها إلى الساعة هو الظاهر وكذا رجوع ضمير بِها في قوله تعالى مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وقيل: الضميران راجعان إلى الصلاة، وقيل: ضمير عَنْها راجع إلى الصلاة وضمير بها راجع إلى الساعة وقيل: الضميران راجعان إلى كلمة لا إِلهَ إِلَّا أَنَا وقيل: الأول راجع إلى العبادة والثاني راجع إلى الساعة، وقيل: هما راجعان إلى الخصال المذكورة، وتقديم الجار والمجرور على الفاعل لما مر غير مرة من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ولأن في المؤخر نوع طول ربما يخل تقديمه بجزالة النظم الكريم، والنهي وإن كان بحسب الظاهر نهيا للكافر عن صد موسى عليه السّلام عن الساعة لكنه في الحقيقة نهي له عليه السّلام عن الانصداد عنها على أبلغ وجه وآكده فإن النهي عن أسباب الشيء ومبادئه المؤدية إليه نهي عنه بالطريق البرهاني وإبطال للسببية عن أصلها كما في قوله تعالى لا يَجْرِمَنَّكُمْ [المائدة: 2- 8- هود: 89] إلخ فإن صد الكافر حيث كان سببا لانصداده عليه السّلام كان النهي عنه نهيا بأصله وموجبه وإبطالا له بالكلية، ويجوز أن يكون نهيا عن السبب على أن يراد نهيه عليه السّلام عن إظهار لين الجانب للكفرة فإن ذلك سبب لصدهم إياه عليه السّلام كما في قوله:- لا أرينك هاهنا- فإن المراد به نهي المخاطب عن الحضور لديه الموجب لرؤيته فكأنه قيل: كن شديد الشكيمة صلب المعجم حتى لا يتلوح منك لمن يكفر بالساعة وينكر البعث أنه يطمع في صدك عما أنت عليه، وفيه حث على الصلابة في الدين وعدم اللين المطمع لمن كفر وَاتَّبَعَ هَواهُ أي ما تهواه نفسه من اللذات الحسية الفانية فصده عن الإيمان فَتَرْدى أي فتهلك فإن الإغفال عن الساعة وعن تحصيل ما ينجي عن أحوالها مستتبع للهلاك لا محالة. وذكر العلامة الطيبي أنه يمكن أن يحمل مَنْ لا يُؤْمِنُ على المعرض عن عبادة الله تعالى المتهالك في الدنيا المنغمس في لذاتها وشهواتها بدليل وَاتَّبَعَ إلخ ويحمل نهي الصد على نهي النظر إلى متمتعاته من زهرة الحياة الدنيا ليكون على وزان قوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً [الحجر: 87، 88] إلخ، ويحمل متابعة الهوى على الميل إلى الإخلاد إلى الأرض كقوله تعالى وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ [الأعراف: 176] يعني تفرغ لعبادتي ولا تلتفت إلى ما الكفرة فيه فإنه مهلك فإن ما أوليناك واخترناه لك هو المقصد الأسنى وفي هذا حث عظيم على الاشتغال بالعبادة وزجر بليغ عن الركون إلى الدنيا ونعيمها، ولا يخلو عن حسن وإن كان خلاف الظاهر. و «تردى» يحتمل أن يكون منصوبا في جواب النهي وأن يكون مرفوعا والجملة خبر مبتدأ محذوف أي فأنت تردى بسبب ذلك. وقرأ يحيى «فتردى» بكسر التاء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 488 وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى شروع في حكاية ما كلفه عليه السّلام من الأمور المتعلق بالخلق إثر حكاية ما أمر به من الشؤون الخاصة بنفسه. فما استفهامية في محل الرفع بالابتداء وتِلْكَ خبره أو بالعكس وهو أدخل بحسب المعنى وأوفق بالجواب وبِيَمِينِكَ متعلق بمضمر وقع حالا من تِلْكَ أي وما تلك قارة أو مأخوذة بيمينك والعامل فيه ما فيه من معنى الإشارة كما في قوله عز وعلا حكاية وَهذا بَعْلِي شَيْخاً [هود: 72] وتسميه النحاة عاملا معنويا. وقال ابن عطية: تِلْكَ اسم موصول وبِيَمِينِكَ متعلق بمحذوف صلته أي وما التي استقرت بيمينك. وهو على مذهب الكوفيين الذين يقولون إن كل اسم إشارة يجوز أن يكون اسما موصولا. ومذهب البصريين عدم جواز ذلك إلا في ذا بشرطه. والاستفهام تقريري وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى بيان المراد منه قالَ هِيَ عَصايَ نسبها عليه السّلام إلى نفسه تحقيقا لوجه كونها بيمينه وتمهيدا لما يعقبه من الأفاعيل المنسوبة إليه عليه السّلام. واسمها على ما روي عن مقاتل نبعة. وكان عليه السّلام قد أخذها من بيت عصى الأنبياء عليهم السّلام التي كانت عند شعيب حين استأجره للرعي هبط بها آدم عليه السّلام من الجنة وكانت فيما يقال من آسها. وقال وهب: كانت من العوسج وطولها عشرة أذرع على مقدار قامته عليه السّلام. وقيل: اثنتا عشرة ذراعا بذراع موسى عليه السّلام. وذكر المسند إليه وإن كان هو الأصل لرغبته عليه السّلام في المناجاة ومزيد لذاذته بذلك. وقرأ ابن أبي إسحاق والجحدري «عصي» بقلب الألف ياء وإدغامها في ياء المتكلم على لغة هذيل فإنهم يقلبون الألف التي قبل ياء المتكلم ياء للمجانسة كما يكسر ما قبلها في الصحيح. قال شاعرهم: سبقوا هوى وأعنقوا لهواهم ... فتخرموا ولكل جنب مصرع وقرأ الحسن «عصاي» بكسر الباء وهي مروية عن أبي ابن إسحاق أيضا وأبي عمرو، وهذه الكسرة لالتقاء الساكنين كما في البحر. وعن ابن أبي إسحق «عصاي» بسكون الياء كأنه اعتبر الوقف ولم يبال بالتقاء الساكنين، والعصا من المؤنثات السماعية ولا تلحقها التاء، وأول لحن سمع بالعراق كما قال الفراء: هذه عصاتي وتجمع على عصي بكسر أوله وضمه وأعص وأعصاء أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها أي أتحامل عليها في المشي والوقوف على رأس القطيع ونحو ذلك وَأَهُشُّ بِها أي أخبط بها ورق الشجر وأضربه ليسقط عَلى غَنَمِي فتأكله. وقرأ النخعي كما ذكر أبو الفضل الرازي. وابن عطية «أهشّ» بكسر الهاء ومعناه كمعنى مضموم الهاء، والمفعول على القراءتين محذوف كما أشرنا إليه. وقال أبو الفضل: يحتمل أن يكون ذلك من هش يهش هشاشة إذ مال أي أميل بها على غنمي بما يصلحها من السوق وإسقاط الورق لتأكله ونحوهما، ويقال: هش الورق والكلأ والنبات إذا جف ولان انتهى. وعلى هذا لا حذف. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 489 وقرأ الحسن وعكرمة «أهشّ» بضم الهاء والسين المهملة من الهس وهو زجر الغنم، وتعديته بعلى لتضمين معنى الإنحاء يقال: أنحى عليه بالعصا إذا رفعها عليه موهما للضرب أي أزجرها منحيا عليها. وفي كتاب السين والشين لصاحب القاموس يقال: هس الشيء وهشه إذا فته وكسره فهما بمعنى. ونقل ابن خالويه عن النخعي أنه قرأ «أهش» من أهش رباعيا. وذكر صاحب اللوامح عن عكرمة. ومجاهد «أهش» بضم الهاء وتخفيف الشين المعجمة ثم قال: لا أعرف وجهه إلا أن يكون بمعنى أهش بالتضعيف لكن فر منه لأن الشين فيه تفش فاستثقل الجمع بين التضعيف والتفشي فيكون كتخفيف ظلت ونحوه اه وهو في غاية البعد. وقرأ جماعة «غنمي» بسكون النون. وأخرى «على غنمي» على أن «على» جار ومجرور و «غنمي» مفعول صريح للفعل السابق، ولم أقف على ذكر كيفية قراءة هذه الجماعة ذلك الفعل وهو على قراءة الجمهور مما لا يظهر تعديه للغنم، وكذا على قراءة غيرهم إلا بنوع تكلف، والغنم الشاه وهو اسم مؤنث موضوع للجنس يقع على الذكر والإناث وعليهما جميعا ولا واحد له من لفظه وإنما واحده شاة وإذا صغرته قلت غنيمة بالهاء ويجمع على أغنام وغنوم وأغانم، وقالوا: غنمان في التثنية على إرادة قطعتين وقدم عليه السّلام بيان مصلحة نفسه في قوله: أتوكأ عليها وثنى بمصلحة رعيته في قوله: وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي ولعل ذلك لأنه عليه السّلام كان قريب العهد بالتوكؤ فكان أسبق إلى ذهنه ويليه الهش على غنمه. وقد روى الإمام أحمد أنه عليه السّلام بعد أن ناداه ربه سبحانه وتحقق أنه جل وعلا هو المنادي قال سبحانه له: ادن مني فجمع يديه في العصا ثم تحامل حتى استقل قائما فرعدت فرائصه حتى اختلفت واضطربت رجلاه وانقطع لسانه وانكسر قلبه ولم يبق منه عظم يحمل آخر فهو بمنزلة الميت إلا أن روح الحياة تجري فيه ثم زحف وهو مرعوب حتى وقف قريبا من الشجرة التي نودي منها فقال له الرب تبارك وتعالى ما تلك بيمينك يا موسى؟ فقال ما قص عز وجل، وقيل: لعل تقديم التوكؤ عليها لأنه الأوفق للسؤال بما تلك بيمينك، ثم إنه عليه السّلام أجمل أوصافها في قوله وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى أي حاجات أخر ومفرده مأربة مثلثة الراء. وعومل في الوصف معاملة مفردة فلم يقل أخر وذلك جائز في غير الفواصل وفيها كما هنا أجوز وأحسن. ونقل الأهوازي في كتاب الاقناع عن الزهري. وشيبة أنهما قرآ «مأرب» بغير همز وكأنه يعني بغير همز محقق، ومحصله أنهما سهلا الهمزة بين بين، وقد روى الإمام أحمد وغيره عن وهب في تعيين هذه المآرب أنه كان لها شعبتان ومحجن تحتهما فإذا طال الغصن حناه بالمحجن وإذا أراد كسره لواه بالشعبتين وكان إذا شاء عليه السّلام ألقاها على عاتقه فعلق بها قوسه وكنانته ومخلاته وثوبه وزادا إن كان معه وكان إذا رتع في البرية حيث لا ظل له ركزها ثم عرض بالزندين الزند الأعلى والزند السفلي على شعبتيها وألقى فوقها كساءه فاستظل بها ما كان مرتعا، وكان إذا ورد ماء يقصر عنه رشاؤه وصل بها، وكان يقاتل بها السباع عن غنمه. وذكر بعضهم أنه كان عليه السّلام يستقي بها فتطول بطول البئر وتصير شعبتاها دلوا وتكونان شمعتين في الليل وإذا ظهر عدو حاربت عنه وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت وكان يحمل علهيا زاده وسقاء فجعلت تماشيه ويركزها فينبع الماء وإذا رفعها نضب وكانت تقيه الهوام وكانت تحدثه وتؤنسه، ونقل الطبرسي كثيرا مما ذكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. والظاهر أن ذلك مما كان فيها بعد، وتكلف بعضهم للقول بأنه مما كان قبل. ويحتمل إن صح خبر في ذلك ولا أراه يصح فيه شيء، وكأن المراد من سؤاله تعالى إياه عليه السّلام أن يعدد المرافق الكثيرة التي علقها بالعصا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 490 ويستكثرها ويستعظمها ثم يريه تعالى عقب ذلك الآية العظيمة كأنه جل وعلا يقول: أين أنت عن هذه المنفعة العظمى والمأربة الكبرى المنسية عندها كل منفعة ومأربة كنت تعتد بها وتحتفل بشأنها فما طالبة للوصف أو يقدر المنفعة بعدها. واختيار ما يدل على البعد في اسم الإشارة للإشارة إلى التعظيم وكذا في النداء إيماء إليه والتعداد في الجواب لأجله، ومَآرِبُ أُخْرى تتميم للاستعظام بأنها أكثر من أن تحصى، وذكر العصا في الجواب ليجري عليها النعوت المادحة وفيه من تعظيم شأنها ما ليس في ترك ذكرها، ويندفع بهذا ما أورد من أنه يلزم على هذا الوجه استدراك هِيَ عَصايَ إذ لا دخل له في تعداد المنافع. ويجوز أن يكون المراد إظهاره عليه السّلام حقارتها ليريه عز وجل عظيم ما يخترعه في الخشبة اليابسة مما يدل على باهر قدرته سبحانه كما هو شأن من أراد أن يظهر من الشيء الحقير شيئا عظيما فإنه يعرضه على الحاضرين ويقول ما هذا؟ فيقولون هو الشيء الفلاني ويصفونه بما يبعد عما يريد إظهاره منه ثم يظهر ذلك فما طالبة للجنس وتِلْكَ للتحقير والتعداد في الجواب لأجله مَآرِبُ أُخْرى تتميم لذلك أيضا بأن المسكوت عنه من جنس المنطوق فكأنه عليه السّلام قال: هي خشبة يابسة لا تنفع إلا منافع سائر الخشبات ولذلك ذكر عليه السّلام العصا وأجرى عليها ما أجرى، وقيل: إنه عليه السّلام لما رأى من آيات ربه ما رأى غلبت عليه الدهشة والهيبة فسأله سبحانه وتكلم معه إزالة لتلك الهيبة والدهشة فما طالبة إما للوصف أو للجنس وتكرير النداء لزيادة التأنيس، ولعل اختيار ما يدل على البعد في اسم الإشارة لتنزيل العصا منزلة البعيد لغفلته عليه السّلام عنها بما غلب عليه من ذلك، والإجمال في قوله: وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى يحتمل أن يكون رجاء أن يسأله سبحانه عن تلك المآرب فيسمع كلامه عز وجل مرة أخرى. وتطول المكالمة وتزداد اللذاذة التي لأجلها أطنب أولا، وما ألذ مكالمة المحبوب، ومن هنا قيل: وأملى حديثا يستطاب فليتني ... أطلت ذنوبا كي يطول عتابه ويحتمل أن يكون لعود غلبة الدهشة إليه عليه السّلام، وزعم بعضهم أنه تعالى سأله عليه السّلام ليقرره على أنها خشبة حتى إذا قلبها حية لا يخافها وليس بشيء، وعلى جميع هذه الأقوال السؤال واحد الجواب واحد كما هو الظاهر، وقيل: أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها إلخ جواب لسؤال آخر وهو أنه لما قال: هِيَ عَصايَ قال له تعالى: فما تصنع بها؟ فقال: أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها إلخ، وقيل: إنه تعالى سأله عن شيئين عن العصا بقوله سبحانه وَما تِلْكَ وعما يملكه منها بقوله عز وجل: بِيَمِينِكَ فأجاب عليه السّلام عن الأول بقوله: هِيَ عَصايَ وعن الثاني بقوله: أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها إلخ، ولا يخفى أن كلا القولين لا ينبغي أن يتوكأ عليهما لا سيما الأخير. هذا واستدل بالآية على استحباب التوكؤ على العصا وإن لم يكن الشخص بحيث تكون وترا لقوسه وعلى استحباب الاقتصاد في المرعى بالهش وهو ضرب الشجر ليسقط الورق دون الاستئصال ليخلف فينتفع به الغير. وقد ذكر الإمام فيها فوائد سنذكر بعضها في باب الإشارة لأن ذلك أوفق به قالَ استئناف مبني على سؤال ينساق إليه الذهن كأنه قيل: فماذا قال الله عز وجل فقيل؟ قال: أَلْقِها يا مُوسى لترى من شأنها ما ترى، والإلقاء الطرح على الأرض، ومنه قوله: فألقت عصاها واستقرت بها النوى ... كما قر عينا بالإياب المسافر وتكرير النداء لمزيد التنبيه والاهتمام بشأن العصا، وكون قائل هذا هو الله تعالى هو الظاهر، وزعم بعضهم أنه يجوز أن يكون القائل الملك بأمر الله تعالى وقد أبعد غاية البعد فَأَلْقاها ريثما قيل له ألقها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى تمشي وتنتقل بسرعة، والحية اسم جنس يطلق على الصغير والكبير والأنثى والذكر، وقد انقلبت حين ألقاها عليه السّلام الجزء: 8 ¦ الصفحة: 491 ثعبانا وهو العظيم من الحيات كما يفصح عنه قوله تعالى: فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ [الأعراف: 107، الشعراء: 32] وتشبيهها بالجان وهو الدقيق منها في قوله سبحانه: فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ [النمل: 10، القصص: 31] من حيث الجلادة وسرعة الحركة لا من حيث صغر الجثة فلا منافاة، وقيل: إنها انقلبت حين ألقاها عليه السّلام حية صفراء في غلظ العصا ثم انتفخت وغلظت فلذلك شبهت بالجان تارة وسميت ثعبانا أخرى، وعبر عنها بالاسم العام للحالين، والأول هو الأليق بالمقام مع ظهور اقتضاء الآية التي ذكرناها له وبعدها عن التأويل. وقد روى الأمام أحمد وغيره عن وهب أنه عليه السّلام حانت منه نظرة بعد أن ألقاها فإذا بأعظم ثعبان نظر إليه الناظرون يرى يلتمس كأنه يبتغي شيئا يريد أخذه يمر بالصخرة مثل الخلفة من الإبل فليتقمها ويطعن بالناب من أنيابه في أصل الشجرة العظيمة فيجتثها عيناه توقدان نارا وقد عاد المحجن عرفا فيه شعر مثل النيازك وعاد الشعبتان فما مثل القليب الواسع فيه أضراس وأنياب لها صريف. وفي بعض الآثار أن بين لحييه أربعين ذراعا فلما عاين ذلك موسى عليه السّلام ولى مدبرا ولم يعقب فذهب حتى أمعن ورأى أنه قد أعجز الحية ثم ذكر ربه سبحانه فوقف استحياء منه عز وجل ثم نودي يا موسى إليّ ارجع حيث كنت فرجع وهو شديد الخوف فأمره سبحانه وتعالى بأخذها وهو ما قص الله تعالى بقوله عز قائلا قالَ أي الله عز وجل، والجملة استئناف كما سبق خُذْها أي الحية وكانت على ما روي عن ابن عباس ذكرا، وعن وهب أنه تعالى قال له: «خذها بيمينك» وَلا تَخَفْ منها، ولعل ذلك الخوف مما اقتضته الطبيعة البشرية فإن البشر بمقتضى طبعه يخاف عند مشاهدة مثل ذلك وهو لا ينافي جلالة القدر. وقيل: إنما خاف عليه السّلام لأنه رأى أمرا هائلا صدر من الله عز وجل بلا واسطة ولم يقف على حقيقة أمره وليس ذلك كنار إبراهيم عليه السّلام لأنها صدرت على يد عدو الله تعالى وكانت حقيقة أمرها كنار على علم فلذلك لم يخف عليه السّلام منها كما خاف موسى عليه السّلام من الحية، وقيل: إنما خاف لأنه عرف ما لقي من ذلك الجنس حيث كان له مدخل في خروج أبيه من الجنة، وإنما عطف النهي على الأمر للإشعار بأن عدم المنهي عنه مقصود لذاته لا لتحقيق المأمور به فقط، وقوله تعالى سَنُعِيدُها أي بعد الأخذ سِيرَتَهَا أي حالتها الْأُولى التي هي العصوية استئناف مسوق لتعليل الامتثال بالأمر والنهي فإن إعادتها إلى ما كانت عليه من موجبات أخذها وعدم الخوف منها، ودعوى أن فيه مع ذلك عدة كريمة بإظهار معجزة أخرى على يده عليه السّلام وإيذانا بكونها مسخرة له عليه السّلام ليكون على طمأنينة من أمره ولا تعتريه شائبة تزلزل عند محاجة فرعون لا تخلو عن خفاء، وذكر بعضهم أن حكمة انقلابها حية وأمره بأخذها ونهيه عن الخوف تأنيسه فيما يعلم سبحانه أنه سيقع منه مع فرعون، ولعل هذا مأخذ تلك الدعوى. قيل: بلغ عليه السّلام عند هذا الخطاب من الثقة وعدم الخوف إلى حيث كان يدخل يده في فمها ويأخذ بلحييها، وفي رواية الإمام أحمد، وغيره عن وهب أنه لما أمره الله تعالى بأخذها أدنى طرف المدرعة على يده وكانت عليه مدرعة من صوف قد خلها بخلال من عيدان فقال له ملك: أرأيت يا موسى لو أذن الله تعالى بما تحاذر أكانت المدرعة تغني عنك شيئا؟ قال: لا ولكني ضعيف ومن ضعف خلقت فكشف عن يده ثم وضعها على فم الحية حتى سمع حس الأضراس والأنياب ثم قبض فإذا هي عصاه التي عهدها وإذا يده في موضعها الذي كان يضعها فيه إذا توكأ بين الشعبتين. والرواية الأولى أوفق بمنصبه الجليل عليه السّلام. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه عليه السّلام نودي المرة الأولى يا موسى خذها فلم يأخذها ثم نودي الثانية خُذْها وَلا تَخَفْ فلم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 492 يأخذها ثم نودي الثالثة إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ [القصص: 31] فأخذها، وذكر مكي في تفسيره أنه قيل له في المرة الثالثة: سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى، ولا يخفى أن ما ذكر بعيد عن منصب النبوة فلعل الخبر غير صحيح. والسيرة فعلة من السير تقال للهيئة والحالة الواقعة فيه ثم جردت لمطلق الهيئة والحالة التي يكون عليها الشيء، ومن ذلك استعمالها في المذهب والطريقة في قولهم سيرة السلف، وقول الشاعر: فلا تغضبن من سيرة أنت سرتها ... فأول راض سيرة من يسيرها واختلف في توجيه نصبها في الآية فقيل: إنها منصوبة بنزع الخافض والأصل إلى سيرتها أو لسيرتها وهو كثير وإن قالوا: إنه ليس بمقيس، وهذا ظاهر قول الحوفي: إنها مفعول ثان لنعيدها على حذف الجار نحو وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الأعراف: 155] وإليه ذهب ابن مالك وارتضاه ابن هشام، وجوز الزمخشري أن يكون أعاد منقولا من عاده بمعنى عاد إليه، ومنه قول زهير فصرم حبلها إذ صرمته ... وعادك أن تلاقيها عداء فيتعدى إلى مفعولين، والظاهر أنه غير التوجيه الأول لاعتبار النقل فيه والخافض يحذف من أعاد من غير نظر إلى ثلاثيه وتعدى عاد بنفسه مما صح به النقل، فقد نقل الطيبي عن الأصمعي أن عادك في البيت متعد بمعنى صرفك، وكذا نقل الفاضل اليمنى. وفي المغرب العود الصيرورة ابتداء وثانيا ويتعدى بنفسه وبإلى وعلى وفي واللام. وفي مشارق اللغة للقاضي عياض مثله، ونقل عن الحديث «أعدت فتانا يا معاذ؟» . وقال أبو البقاء: هي بدل من ضمير المفعول بدل اشتمال، وجوز أن يكون النصب على الظرفية أي سنعيدها في طريقتها الأولى. وتعقبه أبو حيان قائلا: إن سيرتها وطريقتها ظرف مختص فلا يتعدى إليه الفعل على طريقة الظرفية إلا بوساطة في ولا يجوز الحذف إلا في ضرورة أو فيما شذت فيه العرب، وحاصله أن شرط الانتصاب على الظرفية هنا وهو الإبهام مفقود، وفي شرح التسهيل عن نحاة المغرب أنهم قسموا المبهم إلى أقسام منها المشتق من الفعل كالمذهب والمصدر الموضوع موضع الظرف نحو قصدك ولم يفرقوا بين المختوم بالتاء وغيره فالنصب على الظرفية فيما ذكر غير شاذ ولا ضرورة، وجوز الزمخشري واستحسنه أن يكون سَنُعِيدُها مستقلا بنفسه غير متعلق بسيرتها بمعنى أنها أنشئت أول ما أنشئت عصا ثم ذهبت وبطلت بالقلب حية فسنعيدها بعد الذهاب كما أنشأناها أولا، وسِيرَتَهَا منصوبا على أنه مفعول مطلق لفعل مقدر أي تسير سيرتها الأولى أي سنعيدها سائرة سيرتها الأولى حيث كنت تتوكأ عليها وتهش بها على غنمك ولك فيها المآرب التي عرفتها انتهى. والظاهر أنه جعل الجملة من الفعل المقدر (1) وفاعله حالا، ويجوز أن يكون استئنافا، ولا يخفى عليك أن ما ذكره وإن حسن معنى إلا أنه خلاف المتبادر، هذا والآية ظاهرة في جواز انقلاب الشيء عن حقيقته كانقلاب النحاس إلى الذهب وبه قال جمع، ولا مانع في القدرة من توجه الأمر التكويني إلى ذلك وتخصيص الإرادة له، وقيل: لا يجوز لأن قلب الحقائق محال والقدرة لا تتعلق به والحق الأول بمعنى أنه تعالى يخلق بدل النحاس مثلا ذهبا على ما هو رأي بعض المحققين أو بأن يسلب عن أجزاء النحاس الوصف الذي صار به نحاسا ويخلق فيه الوصف الذي يصير به ذهبا   (1) قيل مقدرة وفيه نظر اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 493 على ما هو رأي بعض المتكلمين من تجانس الجواهر واستوائها في قبول الصفات، والمحال إنما هو انقلابه ذهبا مع كونه نحاسا لامتناع كون الشيء في الزمن الواحد نحاسا وذهبا، وانقلاب العصا حية كان بأحد هذين الاعتبارين والله تعالى أعلم بأيهما كان، والذي أميل إليه الثاني فإن في كون خلق البدل انقلابا خفاء كما لا يخفى. وقوله تعالى: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ أمر له عليه السّلام بعد ما أخذ الحية وانقلبت عصا كما كانت والضم الجمع، والجناح كما في القاموس اليد والعضد والإبط والجانب ونفس الشيء ويجمع على أجنحة وأجنح، وفي البحر الجناح حقيقة في جناح الطائر والملك ثم توسع فيه فأطلق على اليد والعضد وجنب الرجل. وقيل: لمجنبتي العسكر جناحان على سبيل الاستعارة وسمي جناح الطائر بذلك لأنه يجنحه أي يميله عند الطيران، والمراد أدخل يدك اليمنى من طوق مدرعتك واجعلها تحت إبط اليسرى أو تحت عضدها عند الإبط أو تحتها عنده فلا منافاة بين ما هنا، وقوله تعالى: أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ [النمل: 12] تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ جعله بعضهم مجزوما في جواب الأمر المذكور على اعتبار معنى الإدخال فيه، وقال أبو حيان وغيره: إنه مجزوم في جواب أمر مقدر وأصل الكلام اضمم يدك تنضم وأخرجها تخرج فحذف ما حذف من الأول. والثاني وأبقى ما يدل عليه فهو إيجاز يسمى بالاحتباك، ونصب بَيْضاءَ على الحال من الضمير في تَخْرُجْ والجار والمجرور متعلق بمحذوف هو حال من الضمير في بَيْضاءَ أو صفة لبيضاء كما قال الحوفي أو متعلق به كما قال أبو حيان كأنه قيل: ابيضت من غير سوء أو متعلق بتخرج كما جوزه غير واحد. والسوء الرداءة والقبح في كل شيء، وكني به عن البرص كما كني عن العورة بالسوأة لما أن الطباع تنفر عنه الأسماع تمجه. وهو أبغض شيء عند العرب ولهذا كنوا عن جذيمة صاحب الزباء وكان أبرص بالأبرش والوضاح. وفائدة التعرض لنفي ذلك الاحتراس فإنه لو اقتصر على قوله تعالى: تَخْرُجْ بَيْضاءَ لأوهم ولو على بعد أن ذلك من برص، ويجوز أن يكون الاحتراس عن توهم عيب الخروج عن الخلقة الأصلية على أن المعنى تخرج بيضاء من غير عيب وقبح في ذلك الخروج أو عن توهم عيب مطلقا. يروى أنها خرجت بيضاء لها شعاع كشعاع الشمس يغشي البصر وكان عليه السّلام آدم اللون آيَةً أُخْرى أي معجزة أخرى غير العصا. وانتصابها على الحالية من ضمير تَخْرُجْ والصحيح جواز تعدد الحال لذي حال واحد أو من ضمير بَيْضاءَ أو من الضمير في الجار والمجرور على ما قيل أو على البدلية من بَيْضاءَ ويرجع إلى الحالية من ضمير تَخْرُجْ، ويجوز أن تكون منصوبة بفعل مضمر أي خذ آية وحذف لدلالة الكلام. وظاهر كلام الزمخشري جواز تقدير دونك عاملا وهو مبني على ما هو ظاهر كلام سيبويه من جواز عمل اسم الفعل محذوفا ومنعه أبو حيان لأنه نائب عن الفعل ولا يحذف النائب والمنوب عنه، ونقض بيا الندائية فإنها تحذف مع أنها نائبة عن أدعوا، وقيل: إنها مفعول ثان لفعل محذوف مع مفعوله الأول أي جعلناها أو آتيناك آية أخرى، وجعل هذا القائل قوله تعالى: لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى متعلقا بذلك المحذوف. ومن قدر خذ ونحوه جوز تعلقه به، وجوز الحوفي تعلقه باضمم، وتعلقه بتخرج وأبو البقاء تعلقه بما دل عليه آيَةً أي دللنا بها لنريك. ومنع تعلقه بها لأنها قد وصفت. وبعضهم تعلقه بألق، واختار بعض المحققين أنه متعلق بمضمر ينساق إليه النظم الكريم كأنه قيل: فعلنا ما فعلنا لنريك بعض آياتنا الكبرى على أن الْكُبْرى صفة لآياتنا على حد مَآرِبُ أُخْرى ومِنْ آياتِنَا في موضع المفعول الثاني ومن فيه للتبعيض أو لنريك بذلك الكبرى من آياتنا على أن الْكُبْرى هو المفعول الثاني لنريك ومِنْ آياتِنَا متعلق بمحذوف حال منه ومن فيه للابتداء أو للتبعيض. وتقديم الحال مع أن صاحبه معرفة لرعاية الفواصل. وجوز كلا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 494 الإعرابين في مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى الحوفي. وابن عطية وأبو البقاء وغيرهم. واختار في البحر الإعراب الأول ورجحه بأن فيه دلالة على أن آياته تعالى كلها كبرى بخلاف الإعراب الثاني وبأنه على الثاني لا تكون الْكُبْرى صفة العصا واليد معا وإلا لقيل: الكبريين. ولا يمكن أن يخص أحدهما لأن في كل منهما معنى التفضيل، ويبعد ما قال الحسن وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن اليد أعظم في الإعجاز من العصا لأنه ليس في اليد إلا تغيير اللون وأما العصا ففيها تغيير اللون وخلق الزيادة في الجسم وخلق الحياة والقدرة والأعضاء المختلفة مع عودها عصا بعد ذلك فكانت أعظم في الإعجاز من اليد، وجوز أن تكون الْكُبْرى صفة لهما ولاتحاد المقصود جعلتا آية واحدة وأفردت الصفة لذلك. وأن تكون صفة لليد والعصا غنية عن الوصف بها لظهور كونها كبرى. وأنت تعلم أن هذا كله خلاف الظاهر. وكذا ما قيل: من أن من على الإعراب الثاني للبيان بأن يكون المراد لنريك الآيات الكبرى من آياتنا ليصح الحمل الذي يقتضيه البيان ولا يترجح بذلك الإعراب الثاني على الأول ولا يساويه أصلا. ولا يخفى عليك أن كل احتمال من احتمالات متعلق اللام خلا من الدلالة على وصف آية العصا بالكبر لا ينبغي أن يعول عليه. ويعتذر بأن عدم الوصف للظهور مع ظهور الاحتمال الذي لا يحتاج معه إلى الاعتذار عن ذلك المقال فتأمل والله تعالى العاصم من الزلل اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ تخلص إلى ما هو المقصد من تمهيد المقدمات السالفة فصل عما قبله من الأوامر إيذانا بأصالته أي اذهب إليه بما رأيته من آياتنا الكبرى وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي. وقوله تعالى إِنَّهُ طَغى تعليل للأمر أو لوجوب المأمور به أي جاوز الحد في التكبر والعتو والتجبر حتى تجاسر على العظيمة التي هي دعوى الربوبية، قال وهب بن منبه: إن الله تعالى قال لموسى عليه السّلام: ادن فلم يزل يدنيه حتى شد ظهره بجذع الشجرة فاستقر وذهبت عنه الرعدة وجمع يده في العصا وخضع برأسه وعنقه ثم قال له بعد أن عرفه نعمته تعالى عليه: انطلق برسالتي فإنك بعيني وسمعي وإن معك أيدي ونصري وإني قد ألبستك جنة من سلطاني تستكمل بها القوة في أمري فأنت جند عظيم من جنودي بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي بطر نعمتي وأمن مكري وغرته الدنيا حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي وعبد من دوني وزعم أنه لا يعرفني وإني لأقسم بعزتي لولا العذر والحجة اللذان وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار يغضب لغضبه السموات والأرض والجبال والبحار فإن أمرت السماء حصبته وإن أمرت الأرض ابتلعته وإن أمرت البحار غرقته وإن أمرت الجبال دمرته ولكنه هان علي وسقط من عيني ووسعه حلمي واستغنيت بما عندي وحق لي إني أنا الغني لا غني غيري فبلغه رسالتي وادعه إلى عبادتي وتوحيدي وإخلاص اسمي وذكره بأيامي وحذره نقمتي وبأسي وأخبره أنه لا يقوم شيء لغضبي وقل له فيما بين ذلك قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى وأخبره أني إلى العفو والمغفرة أسرع مني إلى الغضب والعقوبة ولا يرو عنك ما ألبسته من لباس الدنيا فإن ناصيته بيدي ليس يطرف ولا ينطق ولا يتنفس إلا بأذني وقل له: أجب ربك فإنه واسع المغفرة وإنه قد أمهلك أربعمائة سنة في كلها أنت مبارزة بالمحاربة تتشبه وتتمثل به وتصد عباده عن سبيله وهو يمطر عليك السماء وينبت لك الأرض لم تسقم. ولم تهرم ولم تفتقر ولم تغلب ولو شاء أن يفعل ذلك بك فعل ولكنه ذو أناة وحلم عظيم في كلام طويل. وفي بعض الروايات أن الله تعالى لما أمره عليه السّلام بالذهاب إلى فرعون سكت سبعة أيام ، وقيل: أكثر فجاءه ملك فقال: أنفذ ما أمرك ربك، وفي القلب من صحة ذلك شيء قالَ استئناف بياني كأنه قيل فماذا قال موسى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 495 عليه السّلام حين قيل له ما قيل؟ فأجيب بأنه قال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي الظاهر أنه متعلق بقوله تعالى اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إلخ، وذلك أنه عليه السّلام علم من الأمر بالذهاب إليه والتعليل بالعلة المذكورة أنه كلف أمرا عظيما وخطبا جسيما يحتاج معه إلى احتمال ما لا يحتمله إلا ذو جأش رابط وصدر فسيح فاستوهب ربه تعالى أن يشرح صدره ويجعله حليما حمولا يستقبل ما عسى أن يرد عليه في طريق التبليغ والدعوة إلى مر الحق من الشدائد التي يذهب معها صبر الصابر بجميل الصبر وحسن الثبات وأن يسهل عليه مع ذلك أمره الذي هو أجل الأمور وأعظمها وأصعب الخطوب وأهولها بتوفيق الأسباب ورفع الموانع، فالمراد من شرح الصدر جعله بحيث لا يضجر ولا يقلق مما يقتضي بحسب البشرية الضجر والقلق من الشدائد، وفي طلب ذلك إظهار لكمال الافتقار إليه عز وجل وإعراض عن الأنانية بالكلية: ويحسن إظهار التجلد للعدا ... ويقبح إلا العجز عند الأحبة وذكر الراغب أن أصل الشرح البسط ونحوه، وشرح الصدر بسطه بنور إلهي وسكينة من جهة الله تعالى وروح منه عز وجل ولهم فيه عبارات أخر لعل بعضها سيأتي إن شاء الله تعالى في باب الإشارة. وقال بعضهم: إن هذا القول معلق بما خاطبه الله تعالى به من لدن قوله سبحانه إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ [طه: 12] إلى هذا المقام فيكون قد طلب عليه السّلام شرح الصدر ليقف على دقائق المعرفة وأسرار الوحي ويقوم بمراسم الخدمة والعبادة على أتم وجه ولا يضجر من شدائد التبليغ. وقيل: إنه عليه السّلام لما نصب لذلك المنصب العظيم وخوطب بما خوطب في ذلك المقام احتاج إلى تكاليف شاقة من تلقي الوحي والمواظبة على خدمة الخالق سبحانه وتعالى وإصلاح العالم السفلي فكأنه كلف بتدبير العالمين والالتفات إلى أحدهما يمنع من الاشتغال بالآخر فسأل شرح الصدر حتى يفيض عليه من القوة ما يكون وافيا بضبط تدبير العالمين، وقد يقال: إن الأمر بالذهاب إلى فرعون قد انطوى فيه الإشارة إلى منصب الرسالة المستتبع تكاليف لائقة به منها ما هو راجع إلى الحق ومنها ما هو منوط بالخلق، وقد استشعر موسى عليه السّلام كل ذلك فبسط كف الضراعة لطلب ما يعينه على أداء ذلك على أكمل وجه فلا يتوقف تعميم شرح الصدر على تعلقه بأول الكلام كما لا يخفى، ثم إن الصدر عند علماء الرسوم يراد منه القلب لأنه المدرك أو مما به الإدراك والعلاقة ظاهرة. ولعلماء القلوب كلام في ذلك سيأتي إن شاء الله تعالى في باب الإشارة مع بعض ما أطنب به الإمام في تفسير هذه الآية، وفي ذكر كلمة لِي مع انتظام الكلام بدونها تأكيد لطلب الشرح والتيسير بإبهام المشروح والميسر أولا وتفسيرهما ثانيا فإنه لما قال اشْرَحْ لِي علم أن ثم مشروحا يختص به حتى لو اكتفى لتم فإذا قيل صَدْرِي أفاد التفسير والتفصيل أما لو قيل اشْرَحْ واكتفي به فلا وكذا الكلام في يَسِّرْ لِي. وقيل: ذكر لِي لزيادة الربط كما في قوله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ [الأنبياء: 1] . وتعقب بأنه لا منافاة وهو الذي أفاد هذا المعنى. وفي الانتصاف أن فائدة ذكرها الدلالة على أن منفعة شرح الصدر راجعة إليه فإن تعالى لا يبالي بوجوده وعدمه وقس عليه يَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي روي أنه كان في لسانه عليه السّلام رتة من جمرة أدخلها فاه في صغره. وذلك أن فرعون حمله ذات يوم فأخذ خصلة من لحيته لما كان فيها من الجواهر. وقيل: لطمه. وقيل: ضربه ضربة بقضيب في يده على رأسه فتطير فدعا بالسياف فقالت آسية بنت مزاحم امرأته وكانت تحب موسى عليه السّلام: إنما هو صبي لا يفرق بين الياقوت والجمر فاحضرا وأراد أن يمد يده إلى الياقوت فحول جبريل عليه السّلام يده إلى الجمرة فأخذها فوضعها في فيه فاحترق لسانه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 496 وفي هذا دليل على فساد قول القائلين بأن النار تحرق بالطبيعة من غير مدخلية لإذن الله تعالى في ذلك إذ لو كان الأمر كما زعموا لأحرقت يده. وذكر في حكمة إذن الله تعالى لها بإحراق لسانه دون يده أن يده صارت آلة لما ظاهره الإهانة لفرعون. ولعل تبييضها كان لهذا أيضا وإن لسانه كان آلة لضد ذلك بناء على ما روي أنه عليه السّلام دعاه بما يدعو به الأطفال الصغار آبائهم. وقيل: احترقت يده عليه السّلام أيضا فاجتهد فرعون في علاجها فلم تبرأ. ولعل ذلك لئلا يدخلها عليه السّلام مع فرعون في قصة واحدة فتفقد بينهما حرمة المؤاكلة فلما دعاه قال: إلى أي رب تدعوني؟ قال: إلى الذي أبرأ يدي وقد عجزت عنه. وكان الظاهر على هذا أن يطرح عليه السّلام النار من يده ولا يوصلها إلى فيه. ولعله لم يحس بالألم إلا بعد أن أوصلها فاه أو أحس لكنه لم يفرق بين إلقائها في الأرض وإلقائها في فمه وكل ذلك بتقدير الله تعالى ليقضي الله أمرا كان مفعولا. وقيل: كانت العقدة في لسانه عليه السّلام خلقة. وقيل: إنها حدثت بعد المناجاة وفيه بعد. واختلف في زوالها بكمالها فمن قال به كالحسن تمسك بقوله تعالى قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى [طه: 36] من لم يقل به كالجبائي احتج بقوله تعالى هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي [القصص: 34] وقوله سبحانه وَلا يَكادُ يُبِينُ [الزخرف: 52] . وبما روي أنه كان في لسان الحسين رضي الله تعالى عنه رتة وحبسة فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيه: إنه ورثها من عمه موسى عليه السّلام . وأجاب عن الأول بأنه عليه السّلام لم يسأل حل عقدة لسانه بالكلية بل عقدة تمنع الإفهام ولذلك نكرها ووصفها بقوله مِنْ لِسانِي ولم يضفها مع أنه أخصر ولا يصلح ذلك للوصفية إلا بتقدير مضاف وجعل مِنْ تبعيضية أي عقدة كائنة من عقد لساني فإن العقدة للسان لا منه. وجعل قوله تعالى: يَفْقَهُوا قَوْلِي جواب الطلب وغرضا من الدعاء فبحلها في الجملة يتحقق إيتاء سؤله عليه السّلام. واعترض على ذلك بأن قوله تعالى هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي قال عليه السّلام قبل استدعاء الحل على أنه شاهد على عدم بقاء اللكنة لأن فيه دلالة على أن موسى عليه السّلام كان فصيحا غايته أن فصاحة أخيه أكثر وبقية اللكنة تنافي الفصاحة اللغوية المرادة هنا بدلالة قوله لسانا. ويشهد لهذه المنافاة ما قاله ابن هلال في كتاب الصناعتين: الفصاحة تمام آلة البيان ولذا لا يقال لله تعالى: فصيح وإن قيل لكلامه سبحانه فصيح ولذلك لا يسمى الألثغ والتمتام فصيحين لنقصان آلتهما عن إقامة الحروف وبأن قوله تعالى وَلا يَكادُ يُبِينُ معناه لا يأتي ببيان وحجة، وقد قال ذلك اللعين تمويها ليصرف الوجوه عنه عليه السّلام، ولو كان المراد نفي البيان وإفهام الكلام لاعتقال اللسان لدل على عدم زوال العقدة أصلا ولم يقل به أحد، وبأنا لا نسلم صحة الخبر، وبأن تنكير عُقْدَةً يجوز أن يكون لقلتها في نفسها. ومن يجوز تعلقها بأحلل كما ذهب إليه الحوفي واستظهره أبو حيان فإن المحلول إذا كان متعلقا بشيء ومتصلا به فكما يتعلق الحل به يتعلق بذلك الشيء أيضا باعتبار إزالته عنه أو ابتداء حصوله منه، وعلى تقدير تعلقها بمحذوف وقع صفة لعقدة لا نسلم وجوب تقدير مضاف وجعل من تبعيضية، ولا مانع من أن تكون بمعنى في ولا تقدير أي عقدة في لساني بل قيل: ولا مانع أيضا من جعلها ابتدائية مع عدم التقدير وأي فساد في قولنا: عقدة ناشئة من لساني. والحاصل أن ما استدل به على بقاء عقدة ما في لسانه عليه السّلام وعدم زوالها بالكلية غير تام لكن قال بعضهم: إن الظواهر تقتضي ذلك وهي تكفي في مثل هذه المطالب وثقل ما في اللسان لا يخفف قدر الإنسان. وقد ذكر أن في لسان المهدي المنتظر رضي الله تعالى عنه حبسة وربما يتعذر عليه الكلام حتى يضرب بيده اليمنى فخذ رجله اليسرى وقد بلغك ما ورد في فضله. وقال بعضهم: لا تقاوم فصاحة الذات إعراب الكلمات. وأنشد قول القائل: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 497 سر الفصاحة كامن في المعدن ... لخصائص الأرواح لا للألسن وقول الآخر: لسان فصيح معرب في كلامه ... فيا ليته في موقف الحشر يسلم وما ينفع الإعراب إن لم يكن تقى ... وما ضر ذا تقوى لسان معجم نعم ما يخل بأمر التبليغ من رتة تؤدي إلى عدم فهم الوحي معها ونفرة السامع عن سماع ذلك مما يجل عنه الأنبياء عليهم السّلام فهم كلهم فصحاء اللسان لا يفوت سامعهم شيء من كلامهم ولا ينفر عن سماعه وإن تفاوتوا في مراتب تلك الفصاحة وكأنه عليه السّلام إنما لم يطلب أعلى مراتب فصاحة اللسان وطلاقته عند الجبائي ومن وافقه لأنه لم ير في ذلك كثير فضل، وغاية ما قيل فيه أنه زينة من زينة الدنيا وبهاء من بهائها والفضل الكثير في فصاحة البيان بالمعنى المشهور في عرف أهل المعاني والبيان وما ورد مما يدل على ذم ذلك فليس على إطلاقه كما بين في شروح الأحاديث. ثم إن المشهور تفسير اللسان بالآلة الجارحة نفسها وفسره بعضهم بالقوة النطقية القائمة بالجارحة. والفقه العلم بالشيء والفهم له كما في القاموس وغيره، وقال الراغب: هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد فهو أخص من العلم. والظاهر هنا الفهم أي احلل عقدة من لساني يفهموا قولي وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي أي معاونا في تحمل أعباء ما كلفته على أن اشتقاقه من الوزر بكسر فسكون بمعنى الحمل الثقيل فهو في الأصل صفة من ذلك ومعناه صاحب وزر أي حامل حمل ثقيل، وسمي القائم بأمر الملك بذلك لأنه يحمل عنه وزر الأمور وثقلها أو ملجأ اعتصم برأيه على أن اشتقاقه من الوزر بفتحتين وأصله الجبل يتحصن به ثم استعمل بمعنى الملجأ مطلقا كما في قوله: شر السباع الضواري دونه وزر ... والناس شرهم ما دونهم وزر كم معشر سلموا لم يؤذهم سبع ... وما ترى بشرا لم يؤذه بشر وسمي وزير الملك بذلك لأن الملك يعتصم برأيه ويلتجىء إليه في أمره فهو فعيل بمعنى مفعول على الحذف والإيصال أي ملجوء إليه أو هو للنسب، وقيل: أصله أزير من الأزر بمعنى القوة ففعيل بمعنى مفاعل كالعشير والجليس قلبت همزته واوا كقلبها في موازر وقلبت فيه لانضمام ما قبلها ووزير بمعناه فحمل عليه وحمل النظير على النظير كثير في كلامهم إلا أنه سمع مؤازر من غير إبدال ولم يسمع أزير بدونه على أنه مع وجود الاشتقاق الواضح وهو ما تقدم لا حاجة إلى هذا الاشتقاق وادعاء القلب. ونصبه على أنه مفعول ثان ل اجْعَلْ قدم على الأول الذي هو قوله تعالى هارُونَ اعتناء بشأن الوزارة لأنها المطلوبة ولِي صلة للجعل أو متعلق بمحذوف وقع حالا من وزيرا وهو صفة له في الأصل ومِنْ أَهْلِي إما صفة لوزيرا أو صلة لأجعل، وقيل: مفعولاه لِي وَزِيراً ومِنْ أَهْلِي على ما مر من الوجهين وهارُونَ عطف بيان للوزير بناء على ما ذهب إليه الزمخشري والرضي من أنه لا يشترط التوافق في التعريف والتنكير، وقيل: هو بدل من وزيرا. وتعقب بأنه يكون حينئذ هو المقصود بالنسبة مع أن وزارته هي المقصودة بالقصد الأول هنا. وجوز كونه منصوبا بفعل مقدر في جواب من اجعل؟ أي اجعل هارون، وقيل: مفعولاه وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ولِي تيبين كما في سقيا له. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 498 واعترض بأن شرط المفعولين في باب النواسخ صحة انعقاد الجملة الاسمية منهما ولو ابتدأت بوزيرا وأخبرت عنه بمن أهلي لم يصح إذ لا مسوغ للابتداء به، وأجيب بأن مراد القائل: إن «من أهلي» هو المفعول الأول لتأويله ببعض أهلي كأنه قيل اجعل بعض أهلي وزيرا فقدم للاهتمام به وسداد المعنى يقتضيه ولا يخفى بعده، ومن ذلك قيل الأحسن أن يقال: إن الجملة دعائية والنكرة يبتدأ بها فيها كما صرح به النحاة فكذا بعد دخول الناسخ وهو كما ترى، وقيل: إن المسوغ للابتداء بالنكرة هنا عطف المعرفة وهو هارُونَ عليها عطف بيان هو غريب، وجوز في هارُونَ أيضا على هذا القول كونه مفعولا لفعل مقدر وكونه بدلا وقد سمعت ما فيه. والظاهر أنه يجوز في لِي عليه أيضا أن يكون صلة للجعل كما يجوز فيه على بضع الأوجه السابقة أن يكون تبيينا. ولم يظهر لي وجه عدم ذكر هذا الاحتمال هناك ولا وجه عدم ذكر احتمال كونه صلة للجعل هنا. ويفهم من كلام البعض جواز كلّ من الاحتمالين هنا وهناك. وكذا يجوز أيضا أن يكون حالا من وَزِيراً ولعل ذلك مما يسهل أمر الانعقاد على ما قيل وفيه ما فيه، وأَخِي على الوجوه عطف بيان للوزير ولا ضير في تعدده لشيء واحد أو لهارون. ولا يشترط فيه كون الثاني أشهر كما توهم لأن الإيضاح حاصل من المجموع كما حقق في المطول وحواشيه. ولا حاجة إلى دعوى أن المضاف إلى الضمير أعرف من العلم لما فيها من الخلاف. وكذا إلى ما في الكشف من أن أَخِي في هذا المقام أشهر من اسمه العلم لأن موسى عليه السّلام هو العلم المعروف والمخاطب الموصوف بالمناجاة والكرامة والمتعرف به هو المعرفة في الحقيقة ثم إن البيان ليس بالنسبة إليه سبحانه لأنه جل شأنه لا تخفى عليه خافية وإنما إتيان موسى عليه السّلام به على نمط ما تقدم من قوله هِيَ عَصايَ إلخ. وجوز أن يكون أَخِي مبتدأ خبره اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي وتعقبه أبو حيان بأنه خلاف الظاهر فلا يصار إليه لغير حاجة. والكلام في الأخبار بالجملة الإنشائية مشهور. والجملة على هذا استئنافية. والأزر القوة، وقيدها الراغب بالشديدة. وقال الخليل وأبو عبيدة: هو الظهر وروي ذلك عن ابن عطية، والمراد أحكم به قوتي وأجعله شريكي في أمر الرسالة حتى نتعاون على أدائها كما ينبغي. وفصل الدعاء الأول عن الدعاء السابق لكمال الاتصال بينهما فإن شد الأزر عبارة عن جعله وزيرا وأما الإشراك في الأمر فحيث كان من أحكام الوزارة توسط بينهما العاطف كذا قيل لكن في مصحف ابن مسعود «واشدد» بالعطف على الدعاء السابق وعن أبي «أشركه في أمري واشدد به أزري» فتأمل. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما والحسن وابن عامر «أشدد» بفتح الهمزة «وأشركه» بضمها على أنهما فعلان مضارعان مجزومان في جواب الدعاء أعني قوله: اجْعَلْ، وقال صاحب اللوامح: عن الحسن أنه قرأ «أشدّد به» مضارع شدد للتكثير والتكرير. وليس المراد بالأمر على القراءة السابقة الرسالة لأن ذلك ليس في يد موسى عليه السّلام بل أمر الإرشاد والدعوة إلى الحق، وكان هارون كما أخرج الحاكم عن وهب أطول من موسى عليهما السّلام وأكثر لحما وأبيض جسما وأعظم ألواحا وأكبر سنا، قيل: كان أكبر منه بأربع سنين، وقيل: بثلاث سنين. وتوفي قبله بثلاث أيضا. وكان عليه السّلام ذا تؤدة وحلم عظيم. كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً غاية للأدعية الثلاثة الأخيرة فإن فعل كل واحد منهما من التسبيح والذكر مع كونه مكثرا لفعل الآخر ومضاعفا له بسبب انضمامه إليه مكثر له في نفسه أيضا بسبب تقويته وتأييده إذ ليس المراد بالتسبيح والذكر ما يكون منهما بالقلب أو في الخلوات حتى لا يتفاوت حاله عند التعدد والانفراد بل ما يكون منهما في تضاعيف أداء الرسالة ودعوة المردة العتاة إلى الحق وذلك مما لا ريب في اختلاف حالة في حالتي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 499 التعدد والانفراد فإن كلا منهما يصدر عنه بتأييد الآخر من إظهار الحق ما لا يكاد يصدر عنه مثله حال الانفراد، وكَثِيراً في الموضعين نعت لمصدر محذوف أو زمان محذوف أي ننزهك عما لا يليق بك من الصفات والأفعال التي من جملتها ما يدعيه فرعون الطاغية ويقبله منه فئته الباغية من الشركة في الألوهية ونصفك بما يليق بك من صفات الكمال ونعوت الجمال والجلال تنزيها كثيرا ووصفا كثيرا أو زمانا كثيرا من جملته زمان دعوة فرعون وأوان المحاجة معه كذا في إرشاد العقل السليم. وجوز أبو حيان كونه منصوبا على الحال أي نسبحك التسبيح في حال كثرته، وكذا يقال في الأخير وليس بذاك، وتقديم التسبيح على الذكر من باب تقديم التخلية على التحلية، وقيل: لأن التسبيح تنزيه عما يليق ومحله القلب والذكر ثناء بما يليق ومحله اللسان والقلب مقدم على اللسان، وقيل: إن المعنى كي نصلي لك كثيرا ونحمدك ونثني عليك كثيرا بما أوليتنا من نعمك ومننت به علينا من تحميل رسالتك، ولا يخفى أنه لا يساعده المقام. إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً عالما بأحوالنا وبأن ما دعوتك به مما يصلحنا ويفيدنا في تحقيق ما كلفته من إقامة مراسم الرسالة وبأن هارون نعم الردء في أداء ما أمرت به، والباء متعلقة ببصيرا قدمت عليه لمراعاة الفواصل، والجملة في موضع التعليل للمعلل الأول بعد اعتبار تعليله بالعلة الأولى، وروى عبد بن حميد عن الأعمش أنه سكن كاف الضمير في المواضع الثلاثة، وجاء أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دعا بمثل هذا الدعاء إلا أنه أقام عليا كرم الله تعالى وجهه مقام هارون عليه السّلام، فقد أخرج ابن مردويه والخطيب وابن عساكر عن أسماء بنت عميس قالت: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإزاء ثبير وهو يقول أشرق ثبير أشرق ثبير اللهم إني أسألك مما أسألك أخي موسى أن تشرح لي صدري وأن تيسر لي أمري وأن تحل عقدة من لساني يفقه قولي واجعل لي وزيرا من أهلي عليا أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا» ، ولا يخفى أنه يتعين هنا حمل الأمر على أمر الإرشاد والدعوة إلى الحق ولا يجوز حمله على النبوة، ولا يصح الاستدلال بذلك على خلافة علي كرم الله تعالى وجهه بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم بلا فصل. ومثله فيما ذكر ما صح من قوله عليه الصلاة والسّلام له حين استخلفه في غزوة تبوك على أهل بيته: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» كما بين في التحفة الاثني عشرية، نعم في ذلك من الدلالة على مزيد فضل علي كرم الله تعالى وجهه ما لا يخفى، وينبغي أيضا أن يتأول طلبه صلّى الله عليه وسلّم حل العقدة بنحو استمرار ذلك لما أنه عليه الصلاة والسّلام كان أفصح الناس لسانا قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى أي قد أعطيت سؤلك ففعل بمعنى مفعول كالخبز والأكل بمعنى المخبوز والمأكول، والإيتاء عبارة عن تعلق إرادته تعالى بوقوع تلك المطالب وحصولها له عليه السّلام البتة وتقديره تعالى إياها حتما فكلها حاصلة له عليه السّلام وإن كان وقوع بعضها بالفعل مرتبا بعد كتيسير الأمر وشد الأزر وباعتباره قيل: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ [القصص: 35] وظاهر بعض الآثار يقتضي أن شركة هارون عليه السّلام في النبوة أي استنبائه كموسى عليه السّلام وقعت في ذلك المقام وإن لم يكن عليه السّلام فيه مع أخيه، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في قوله: وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي نبىء هارون ساعتئذ حين نبىء موسى عليهما السّلام، ونداؤه عليه السّلام تشريف له بالخطاب إثر تشريف. وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ استئناف مسوق لتقرير ما قبله وزيادة توطين لنفس موسى عليه السّلام بالقبول ببيان أنه تعالى حيث أنعم عليه بتلك النعم التامة من غير سابقة دعاء وطلب منه فلأن ينعم عليه بمثلها وهو طالب له وداع أولى وأحرى. وتصديره بالقسم لكمال الاعتناء بذلك أي وبالله لقد أنعمنا مَرَّةً أُخْرى أي في وقت غير هذا الوقت على أن أخرى تأنيث آخر بمعنى مغايرة ومَرَّةً ظرف زمان والمراد به الوقت الممتد الذي وقع فيه ما سيأتي إن شاء الله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 500 تعالى ذكره في المنن العظيمة الكثيرة وهو في الأصل اسم للمرور الواحد ثم أطلق على كل فعلة واحدة متعدية كانت أو لازمة ثم شاع في كل فرد واحد من أفراد ما له أفراد متجددة فصار علما في ذلك حتى جعل معيارا لما في معناه من سائر الأشياء فقيل هذا بناء المرة ويقرب منه الكرة والتارة والدفعة. وقال أبو حيان: المراد منه غير هذه المنة وليست أُخْرى تأنيث آخر بكسر الخاء لتكون مقابلة للأولى. وتوهم ذلك بعضهم فقال: سماها سبحانه أخرى وهي أولى لأنها أخرى في الذكر. إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى ظرف لمننا سواء كان بدلا من مرة أم لا، وقيل: تعليل وهو خلاف الظاهر، والمراد بالإيحاء عند الجمهور ما كان بالهام كما في قوله تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل: 68] وتعقب بأنه بعيد لأنه قال تعالى في سورة القصص: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 7] ومثله لا يعلم بالإلهام وليس بشيء لأنها قد تكون شاهدت منه عليه السّلام ما يدل على نبوته وأنه تعالى لا يضيعه، وإلهام الأنفس القدسية مثل ذلك لا بعد فيه فإنه نوع من الكشف. ألا ترى قول عبد المطلب وقد سمي نبينا صلّى الله عليه وسلّم محمدا فقيل له: لم سميت ولدك محمدا وليس في أسماء آبائك؟: إنه سيحمد، وفي رواية رجوت أن يحمد في السماء والأرض مع أن كون ذلك داخلا في الملهم ليس بلازم. واستظهر أبو حيان أنه كان يبعث ملك إليها لا على جهة النبوة كما بعث إلى مريم وهو مبني على أن الملك يبعث إلى غير الأنبياء عليهم السّلام وهو الصحيح لكن قيل: عليه أنه حينئذ ينتقض تعريف النبي بأنه من أوحي إليه، على وجه النبوة دار التعريف وأجيب بأنه لا يتعين ذلك. ولو قيل: من أوحى إليه بأحكام شرعية لكنه لم يؤمر بتبليغها لم يلزم محذور. وقال الجبائي: أنه كان بالإراءة مناما. وقيل: كان على لسان نبي في وقتها كما في قوله تعالى: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ [المائدة: 111] وتعقب بأن خلاف الظاهر فإنه لم ينقل إنه كان نبي في مصر زمن فرعون قبل موسى عليه السّلام. وأجيب بأن ذلك لا يتوقف على كون النبي في مصر، وقد كان شعيب عليه السّلام نبيا في زمن فرعون في مدين فيمكن أن يكون أخبرها بذلك على أن كثرة أنبياء بني إسرائيل عليهم السّلام مما شاع وذاع، والحق أن إنكار كون ذلك خلاف الظاهر مكابرة. واختلف في اسم أمه عليه السّلام والمشهور أنه يوحانذ، وفي الإتقان هي محيانة بنت يصهر بن لاوي، وقيل: بارخا وقيل: بازخت وما اشتهر من خاصية فتح الأقفال به بعد رياضة مخصوصة له مما لم نجد فيه أثرا ولعله حديث خرافة، والمراد بما يوحى ما قصه الله تعالى فيما بعد من الأمر بقذفه في التابوت. وقذفه في البحر أبهم أو لا تهويلا له وتفخيما لشأنه، ثم فسر ليكون أقر عند النفس، وقيل: معناه ما ينبغي أن يوحي ولا يخل به لعظم شأنه وفرط الاهتمام به كما يقال هذا مما يكتب، وقيل: لا يعلم إلا بالوحي، والأول أوفق بكل من المعاني السابقة المرادة بالإيحاء إلا أنه قيل: عليه إنه لو كان المراد منه التفخيم والتهويل لقيل إذ أوحينا إلى أمك ما أوحينا كما قال سبحانه فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى [النجم: 10] ، وقال تعالى: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ [طه: 78] فإن تم هذا فما قيل في معناه ثانيا أولى فتدبر. وأن في قوله تعالى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ مفسرة لأن الوحي من باب القول أو مصدرية حذف عنها الباء أي بأن اقذفيه، وقال ابن عطية: أَنِ وما بعدها في تأويل مصدر بدل من ما، وتقدم الكلام في وصل أن المصدرية بفعل الأمر، والمراد بالقذف ها نها الوضع، وأما في قوله تعالى فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فالمراد به الإلقاء والطرح، ويجوز أن يكون المراد به الوضع في الموضعين، والْيَمِّ البحر لا يكسر ولا يجمع جمع سلامة، وفي البحر هو اسم للبحر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 501 العذب، وقيل: اسم للنيل خاصة وليس بصحيح، وهذا التفصيل هنا هو المراد بقوله تعالى فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ [القصص: 7] لا القذف بلا تابوت فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ أي بشاطئه وهو الجانب الخالي عن الماء مأخوذ من سحل الحديد أي برده وقشره وهو فاعل بمعنى مفعول لأن الماء يسحله أي يقشره أو هو للنسب أي ذو سحل يعود الأمر إلى مسحول، وقيل: هو على ظاهره على معنى أنه يسحل الماء أي يفرقه ويضيعه وقيل: هو من السحيل وهو النهيق لأنه يسمع منه صوت، والمراد به هنا ما يقابل الوسط وهو ما يلي الساحل من البحر حيث يجري ماؤه إلى نهر فوعون. وقيل: المراد بالساحل الجانب والطرف مطلقا والمراد من الأمر الخبر واختير للمبالغة، ومن ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: «قوموا فلأصل لكم» ولا خراج ذلك مخرج الأمر حسن الجواب فيما بعد، وقال غير واحد: إنه لما كان إلقاء البحر إياه بالساحل أمرا واجب الوقوع لتعلق الإرادة الربانية به جعل البحر كأنه ذو تمييز مطيع أمر بذلك، وأخرج الجواب مخرج الأمر ففي اليم استعارة بالكناية وإثبات الأمر تخييل، وقيل: إن في قوله تعالى فَلْيُلْقِهِ استعارة تصريحية تبعية والضمائر كلها لموسى عليه السّلام إذ هو المحدث عنه والمقذوف في البحر والملقى بالساحل وإن كان هو التابوت أصالة لكن لما كان المقصود بالذات ما فيه جعل التابوت تبعا له في ذلك، وقيل: الضمير الأول لموسى عليه السّلام والضميران الأخيران للتابوت، ومتى كان الضمير صالحا لأن يعود على الأقرب وعلى الأبعد كان عوده على الأقرب راجحا كما نص عليه النحويون، وبهذا رد على أبي محمد بن حزم في دعواه عود الضمير في قوله تعالى فَإِنَّهُ رِجْسٌ [الأنعام: 145] على لحم لأنه المحدث عنه لا على خنزير فيحل شحمه وغضروفه وعظمه وجلده عنده لذلك، والحق أن عدم التفكيك فيما نحن فيه أولى، وما ذكره النحويون ليس على إطلاقه كما لا يخفى يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ جواب للأمر بالإلقاء وتكرير العدو للمبالغة من حيث إنه يدل على أن عداوته كثيرة لا واحدة، وقيل: إن الأول للواقع والثاني للمتوقع وليس من التكرير للمبالغة في شيء لأن ذلك فرع جواز أن يقال: عدو لي وله وهو لا يجوز إلا عند القائلين بجواز الجمع بين الحقيقة والمجاز، وأجيب بأن ذلك جائز وليس فيه الجمع المذكور فإن فرعون وقت الأخذ متصف بالعداوة لله تعالى وله في الواقع أما اتصافه بعداوة الله تعالى فظاهر وأما اتصافه بعداوة موسى فمن حيث إنه يبغض كل مولود في تلك السنة، ولو قلنا بعدم الاتصاف بعداوة موسى عليه السّلام إذ ذاك يجوز أن يقال ذلك أيضا ويعتبر عموم المجاز وهو المخلص عن الجمع بين الحقيقة والمجاز فيما يدعي فيه ذلك. وقال الخفاجي: إنه لا يلزم الجمع لأن عَدُوٌّ صفة مشبهة دالة على الثبوت الشامل للواقع والمتوقع. ولا يخفى أن هذا قول بأن الثبوت في الصفة المشبهة بمعنى الدوام، وقد قال هو في الكلام على تفسير قوله تعالى: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً [الإسراء: 37، لقمان: 18] : إن معنى دلالتها على الثبوت أنها لا تدل على تجدد وحدوث لا أنها تدل على الدوام كما ذكره النحاة، فما يقال إن مَرَحاً صفة مشبهة تدل على الثبوت ونفيه لا يقتضي نفي أصله مغالطة نشأت من عدم فهم معنى الثبوت فيها انتهى، على أن كلامه هنا بعد الإغماض عن منافاته لما ذكره قبل لا يخلو عن شيء. ومما ذكره فيما تقدم من تفسير معنى الثبوت يعلم أن الاستدلال بهذه الآية على أن فرعون لم يقبل إيمانه ومات كافرا كما هو الحق ليس بصحيح وكم له من دليل صحيح. والظاهر أنه تعالى أبهم لها هذا العدو ولم يعلمها باسمه وإلا لما قالت لأخته قُصِّيهِ [القصص: 11] . وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي كلمة (من) متعلقة بمحذوف وقع صفة لموصوف مؤكدة لما في تنكيرها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 502 من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أي محبة عظيمة كائنة مني قد زرعتها في القلوب فكل من رآك أحبك بحيث لا يصبر عنك، قال مقاتل: كان في عينيه ملاحة ما رآه أحد إلا أحبه، وقال ابن عطية: جعلت عليه مسحة جمال لا يكاد يصبر عنه من رآه، روي أن أمه عليه السّلام حين أوحي إليها ما أوحي جعلته في تابوت من خشب، وقيل: من بردى عمله مؤمن آل فرعون وسدت خروقه وفرشت فيه نطعا، وقيل: قطنا محلوجا وسدت فمه وجصصته وقيرته وألقته في اليم فبينما فرعون في موضع يشرف على النيل وامرأته معه إذ رأى التابوت عند الساحل فأمر به ففتح فإذا صبي أصبح الناس وجها فأحبه هو وامرأته حبا شديدا. وقيل: إن التابوت جاء في الماء إلى المشرعة التي كانت جواري امرأة فرعون يستقين منها الماء فأخذن التابوت وجئن به إليها وهن يحسبن أن فيه مالا فلما فتحنه رأته عليه السّلام فأحبته وأعلمت فرعون وطلبت منه أن يتخذه ولدا، وقالت: قرة عين لي ولك لا تقتلوه، فقال لها: يكون لك وأما أنا فلا حاجة لي فيه. ومن هنا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما رواه النسائي وجماعة عن ابن عباس: «والذي يحلف به لو أقر فرعون بأن يكون قرة عين له كما قالت امرأته لهداه الله تعالى به كما هدى به امرأته ولكن الله عز وجل حرمه ذلك» ، وقيل: إن فرعون كان جالسا على رأس بركة له في بستان ومعه امرأته فرأى التابوت وقد دفعه الماء إلى البركة من نهر يشرع من اليم فأمر بإخراجه فأخرج ففتح فإذا صبي أجمل الناس وجها فأحبه حتى لا يكاد يصبر عنه، وروي أنه كان بحضرته حين رأى التابوت أربعمائة غلام وجارية فحين أشار بأخذه وعد من يسبق إلى ذلك بالإعتاق فتسابقوا جميعا ولم يظفر بأخذه إلا واحد منهم فاعتق الكل، وفي هذا ما يطمع المقصر في العمل من المؤمنين برحمة الله تعالى فإنه سبحانه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، وقيل: كلمة من متعلقة بألقيت فالمحبة الملقاة بحسب الذوق هي محبة الله تعالى له أي أحببتك ومن أحبه الله تعالى أحبته القلوب لا محالة، واعترض القاضي على هذا بأن في الصغر لا يوصف الشخص بمحبة الله تعالى إياه فإنها ترجع إلى إيصال الثواب وهو إنما يكون للمكلف. ورد بأن محبة الله تعالى عند المؤولين عبارة عن إرادة الخير والنفع وهو أعم من أن يكون جزاء على عمل أولا يكون والرد عند من لا يؤول أظهر، وجوز بعضهم إرادة المعنى الثاني على القول الأول في التعلق وإرادة المعنى الأول على القول الثاني فيه، وزعم أن وجه التخصيص غير ظاهر وهو لا يخفى على ذي ذهن مستقيم وذوق سليم. وقوله تعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي متعلق بألقيت على أنه عطف على علة مضمرة أي ليتعطف عليك ولتصنع أو متعلق بفعل مضمر مؤخر أي ولتصنع إلخ فعلت ذلك أي إلقاء المحبة عليك، وزعم أنه متعلق بألقيت على أن الواو مقحمة ليس بشيء وعلى عيني أي بمرأى مني متعلق بمحذوف وقع حالا من المستتر في «تصنع» وهو استعارة تمثيلية للحفظ والصون فإن المصون يجعل بمرأ والصنع الإحسان، قال النحاس: يقال صنعت الفرس إذا أحسنت إليه. والمعنى وليفعل بك الصنيعة والإحسان وتريى بالحنو والشفقة وأنا مراعيك ومراقبك كما يراعي الرجل الشيء بعينه إذا اعتنى به. ويجعل ذلك تمثيلا يندفع ما قاله الواحدي من أن تفسير عَلى عَيْنِي بما تقدم صحيح ولكن لا يكون في ذلك تخصيص لموسى عليه السّلام فإن جميع الأشياء بمرأى من الله تعالى على أنه قد يقال: هذا الاختصاص للتشريف كاختصاص عيسى عليه السّلام بكلمة الله تعالى والكعبة ببيت الله تعالى مع أن الكل موجود بكن وكل البيوت بيت الله سبحانه، وقال قتادة: المعنى لتغذى على محبتي وإرادتي وهو اختيار أبي عبيدة. وابن الأنباري وزعم الواحدي أنه الصحيح. وقرأ الحسن وأبو نهيك ولتصنع» بفتح التاء، قال ثعلب: المعنى لتكون حركتك وتصرفك على عين مني لئلا تخالف أمري. وقرأ أبو جعفر في رواية «ولتصنع» بكسر اللام وجزم الفعل بها لأنها لام الأمر وأمر المخاطب باللام شاذ لكن لما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 503 كان الفعل مبنيا للمفعول هنا وكان أصله مسندا للغائب ولا كلام في أمره باللام استصحب ذلك بعد نقله إلى المفعول للاختصار، والظاهر أن العطف على قوله تعالى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي إلا أن فيه عطف الإنشاء على الخبر وفيه كلام مشهور لكن قيل هنا: إنه هون أمره كون الأمر في معنى الخبر. وقال صاحب اللوامح: إن العطف على قوله تعالى: فَلْيُلْقِهِ فلا عطف فيه للإنشاء على الخبر. وقرأ شيبة وأبو جعفر في رواية أخرى كذلك إلا أنه سكن اللام وهي لام الأمر أيضا وبقية الكلام نحو ما مر. ويحتمل أن تكون لام كي سكنت تخفيفا ولم يظهر فتح العين للإدغام، قال الخفاجي: وهذا حسن جدا. إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ ظرف لتصنع كما قال الحوفي وغيره على أن المراد به وقت وقع فيه مشي الأخت وما ترتب عليه من القول والرجع إلى أمها وتربيتها له بالحنو وهو المصداق لقوله تعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي إذ لا شفقة أعظم من شفقة الأم وصنيعها على موجب مراعاته تعالى. وجوز أن يكون ظرفا لألقيت وإن يكون بدلا من إِذْ أَوْحَيْنا على أن المراد بها وقت متسع فيتحد الظرفان وتصح البدلية ولا يكون من إبدال أحد المتغايرين الذي لا يقع في فصيح الكلام. ورجح هذا صاحب الكشف فقال: هو الأوفق لمقام الامتنان لما فيه من تعداد المنة على وجه أبلغ ولما في تخصيص الإلقاء أو التربية بزمان مشي الأخت من العدول إلى الظاهر فقبله كان عليه السّلام محبوبا محفوظا، ثم أولى الوجهين جعله ظرفا لِتُصْنَعَ، وأما النصب بإضمار اذكر فضعيف اه. وأنت تعلم أن الظاهر كونه ظرفا لتصنع والتقييد بعلى عيني يسقط التربية قبل في غير حجر الأم عن العين. واعترض أبو حيان وجه البدلية بأن كلا من الظرفين ضيق ليس بمتسع لتخصيصه بما أضيف إليه وليس ذلك كالسنة في الامتداد وفيه تأمل، واسم أخته عليه السّلام مريم، وقيل: كلثوم وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية، وكذا يقال في قوله تعالى: فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ أي يضمه إلى نفسه ويربيه. فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ الفاء فصيحة أي فقالوا: دلينا على ذلك فجاءت بأمك فرجعناك إليها كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها بلقائك. وقرىء «تقرّ» بكسر القاف. وقرأ جناح بن حبيش «تقرّ» بالبناء للمفعول وَلا تَحْزَنَ أي لا يطرأ عليها الحزن بفراقك بعد ذلك وإلا فزوال الحزن مقدم على السرور المعبر عنه بقرة العين فإن التخلية مقدمة على التحلية. وقيل: الضمير المستتر في تَحْزَنَ لموسى عليه السّلام أي ولا تحزن أنت بفقد إشفاقها، وهذا وإن لم يأبه النظم الكريم إلا أن حزن الطفل غير ظاهر، وما في سورة القصص يقتضي الأول والقرآن يفسر بعضه بعضا. أخرج جماعة من خبر طويل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن آسية حين أخرجت موسى عليه السّلام من التابوت واستوهبته من فرعون فوهبه لها أرسلت إلى من حولها من كل امرأة لها لبن لتختار لها ظئرا فلم يقبل ثدي واحدة منهن حتى أشفقت أن يمتنع من اللبن فيموت فأحزنها ذلك فأمرت به فأخرج إلى السوق مجمع الناس ترجو أن تجد له ظئرا يأخذ ثديها فلم يفعل وأصبحت أمه والهة فقالت لأخته: قصي أثره واطلبيه هل تسمعين له ذكرا أحيا ابني أم قد أكلته الدواب؟ ونسيت الذي كان وعدها الله تعالى فبصرت به عن جنب فقالت من الفرح: أنا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون فأخذوها فقالوا: وما يدريك ما نصحهم له هل يعرفونه؟ وشكوا في ذلك فقالت: نصحهم له وشفقتهم عليه لرغبتهم في رضا الملك والتقرب إليه فتركوها وسألوها الدلالة فانطلقت إلى أمه فأخبرتها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 504 الخبر فجاءت فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها فمصه حتى امتلأ جنباه ريا وانطلق البشرى إلى امرأة فرعون يبشرونها إنا قد وجدنا لابنك ظئرا فأرسلت إليها فأتيت بها وبه فلما رأت ما يصنع بها قالت لها: امكثي عندي أرضعي ابني هذا فإني لم أحب حبه شيئا قط قالت: لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي فيضيع فإن طابت نفسك أن تعطينيه فأذهب به إلى بيتي فيكون معي لا آلوه خيرا فعلت وإلا فإني غير تاركة بيتي وولدي فذكرت أم موسى ما كان الله عز وجل وعدها فتعاسرت على امرأة فرعون لذلك وأيقنت أن الله عز وجل منجز وعده فرجعت بابنها إلى بيتها من يومها فأنبته الله تعالى نباتا حسنا وحفظه لما قد قضى فيه فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأمه: أريني ابني فوعدتها يوما تزورها به فيه فقالت لخزانها وقهارمتها: لا يبق منكم أحد إلا استقبل ابني بهدية وكرامة أرى ذلك فيه وأنا باعثة أمينا يحصي ما صنع كل إنسان منكم فلم تزل الهدايا والنحل والكرامة تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل عليها فلما دخل أكرمته ونحلته وفرحت به ونحلت أمه لحسن أثرها عليه ثم انطلقت به إلى فرعون لينحله وليكرمه فكان ما تقدم من جذب لحيته، ومن هذا الخبر يعلم أن المراد إذ تمشي أختك في الطريق لطلبك وتحقيق أمرك فتقول: لمن أنت بأيديهم يطلبون لك ظئرا ترضعك هل أدلكم إلخ. وفي رواية أنه لما أخذ من التابوت فشا الخبر بأن آل فرعون وجدوا غلاما من النيل لا يرتضع ثدي امرأة واضطروا إلى تتبع النساء فخرجت أخته لتعرف خبره فجاءتهم متنكرة فقالت ما قالت وقالوا ما قالوا، فالمراد على هذا إذ تمشي أختك إلى بيت فرعون فتقول لفرعون وآسية أو لآسية هَلْ أَدُلُّكُمْ إلخ. وَقَتَلْتَ نَفْساً هي نفس القبطي واسمه قانون الذي استغاثه عليه الإسرائيلي واسمه موسى بن ظفر وهو السامري، وكان سنه عليه السّلام حين قتل على ما في البحر اثنتي عشرة سنة، وفي الخبر عن الحبر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه عليه السّلام حين قتل القبطي كان من الرجال وكان قتله إياه بالوكز كما يدل عليه قوله تعالى: فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ [القصص: 15] وكان المراد وقتلت نفسا فأصابك غم فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وهو الغم الناشئ من القتل وقد حصل له من وجهين خوف عقاب الله تعالى حيث لم يقع القتل بأمره سبحانه وخوف اقتصاص فرعون وقد نجاه الله تعالى من ذلك بالمغرة حين قال: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [القصص: 16] وبالمهاجرة إلى مدين، وقيل: هو غم التابوت، وقيل: غم البحر وكلا القولين ليس بشيء، والغم في الأصل ستر الشيء ومنه الغمام لستره ضوء الشمس، ويقال: لما يغم القلب بسبب خوف أو فوات مقصود، وفرق بينه وبين الهم بأنه من أمر ماض والهم من أمر مستقبل، وظاهر كلام كثير عدم الفرق وشمول كل ما يكون من أمر ماض وأمر مستقبل وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً أي ابتليناك ابتلاء على أن فُتُوناً مصدر على فعول في المتعدي كالثبور والشكور والكفور، والأكثر في هذا الوزن أن يكون مصدر اللازم أو فتونا من الابتلاء على أنه جمع فتن كالظنون جمع ظن أو جمع فتنة على ترك الاعتداد بالتاء لأنها في حكم الانفصال كما قالوا في حجوز جمع حجزة (1) وبدور جمع بدرة (2) ، ونظم الابتلاء في سلك المنن قيل: باعتبار أن المراد ابتليناك واختبرناك بإيقاعك في المحن وتخليصك منها، وقيل: إن المعنى أوقعناك في المحنة وهو ما يشق على الإنسان، ونظم ذلك في ذلك السلك باعتبار أنه موجب للثواب فيكون من قبيل النعم وليس بشيء، وقيل: إن فَتَنَّاكَ بمعنى خلصناك من قولهم: فتنت الذهب بالنار إذا خلصته بها من الغش ولا يخفى حسنه، والمراد سواء اعتبر   (1) ما يوضع فيه تكة السراويل ونحوها اه منه. (2) مقدار من النقد معروف اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 505 الفتون مصدرا أو جمعا خلصناك مرة بعد أخرى وهو ظاهر على اعتبار الجمعية، وأما على اعتبار المصدرية فلاقتضاء السياق ذلك، وهذا إجمال ما ناله عليه السّلام في سفره من الهجرة عن الوطن ومفارقة الآلاف والمشي راجلا وفقد الزاد. وقد روى جماعة أن سعيد بن جبير سأل ابن عباس عن الفتون فقال له: استأنف النهار يا ابن جبير فإن لها خبرا طويلا فلما أصبح غدا عليه فأخذ ابن عباس يذكر ذلك فذكر قصة فرعون وقتله أولاد بني إسرائيل ثم قصة إلقاء موسى عليه الصلاة والسّلام في اليم والتقاط آل فرعون إياه وامتناعه من الارتضاع من الأجانب وإرجاعه إلى أمه ثم قصة أخذه بلحية فرعون وغضب فرعون من ذلك وإرادته قتله ووضع الجمرة والجوهرة بين يديه وأخذه الجمرة، ثم قصة قتله القبطي ثم هربه إلى مدين وصيرورته أجيرا لشعيب عليه السّلام ثم عوده إلى مصر وإخطاء الطريق في الليلة المظلمة وتفرق غنمه فيها وكان رضي الله تعالى عنه عند تمام كل واحدة يقول هذه من الفتون يا ابن جبير، ولكن قيل: الذي يقتضيه النظم الكريم أن لا يعد إجارة نفسه وما بعدها من تلك الفتون ضرورة أن المراد بها ما وقع قبل وصوله عليه السّلام إلى مدين بقضية الفاء في قوله تعالى: فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ إذ لا ريب في أن الإجارة المذكورة وما بعدها مما وقع بعد الوصول إليهم وقد أشير بذكر لبثه عليه السّلام فيهم دون وصوله إليهم إلى جميع ما قاساه عليه السّلام من فنون الفتون في تضاعيف مدة اللبث وهي فيما قيل عشر سنين، وقال وهب: ثمان وعشرون سنة أقام في عشر منها يرعى غنم شعيب عليه السّلام مهرا لابنته وفي ثماني عشرة مع زوجته وولد له فيها وهو الأوفق بكونه عليه السّلام نبىء على رأس الأربعين إذا قلنا بأن سنه عليه السّلام حين خرج إلى مدين اثنتا عشرة سنة، ومدين بلدة شعيب عليه السّلام على ثمان مراحل من مصر. ثُمَّ جِئْتَ أي إلى المكان الذي ناديتك فيه، وفي كلمة التراخي إيذان بأن مجيئه عليه السّلام كان بعد اللتيا والتي من ضلال الطريق وتفرق الغنم في الليلة المظلمة الشاتية وغير ذلك عَلى قَدَرٍ أي تقدير والمراد به المقدر أي جئت على وفق الوقت الذي قدرته وعينته لتكليمك واستنبائك بلا تقدم ولا تأخر عنه، وقيل: هو بمعنى المقدار أي جئت على مقدار من الزمان يوحى فيه إلى الأنبياء عليهم السّلام وهو رأس أربعين سنة. وضعف بأن المعروف في هذا المعنى القدر بالسكون لا التحريك، وقيل: المراد على موعد وعدنا كه وروي ذلك عن مجاهد وهو يقتضي تقدم الوعد على لسان بعض الأنبياء عليهم السّلام وهو كما ترى، وقوله تعالى يا مُوسى تشريف له عليه السّلام وتنبيه على انتهاء الحكاية التي هي تفصيل المرة الأخرى التي وقعت قبل المرة المحكية أولا، وقوله سبحانه وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي تذكير لقوله تعالى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ [طه: 13] وتمهيد لإرساله عليه السّلام إلى فرعون مؤيدا بأخيه حسبما استدعاه بعد تذكير المنن السابقة تأكيدا لوثوقه عليه السّلام بحصول نظائرها اللاحقة، ونظم ذلك الإمام في سلك المنن المحكية وظاهر توسيط النداء يؤيد ما تقدم، والاصطناع افتعال من الصنع بمعنى الصنيعة وهي الإحسان فمعنى اصطنعه جعله محل صنيعته وإحسانه، وقال القفال: يقال اصطنع فلان فلانا إذا أحسن إليه حتى يضاف إليه فيقال: هذا صنيع فلان وخريجه، ومعنى لِنَفْسِي ما روي عن ابن عباس لوحيي ورسالتي، وقيل: لمحبتي، وعبر عنها بالنفس لأنها أخص شيء بها، وقال الزجاج: المراد اخترتك لإقامة حجتي وجعلتك بيني وبين خلقي حتى صرت في التبليغ عني بالمنزلة التي أكون أنا بها لو خاطبتهم واحتجبت عليهم، وقال غير واحد من المحققين: هذا تمثيل لما خوله عز وجل من جعله نبيا مكرما كليما منعما عليه بحلائل النعم بتقريب الملك من يراه أهلا لأن يقرب فيصطنعه بالكرامة والأثرة ويجعله من خواص نفسه وندمائه. ولا يخفى حسن هذه الاستعارة وهي أوفق بكلامه تعالى وقوله تعالى لِنَفْسِي عليها ظاهر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 506 وحاصل المعنى جعلتك من خواصي واصطفيتك برسالتي وبكلامي، وفي العدول عن نون العظمة الواقعة في قوله سبحانه وَفَتَنَّاكَ ونظيريه السابقين تمهيد لإفراد النفس اللائق بالمقام فإنه أدخل في تحقيق معنى الاصطناع والاستخلاص، وقوله تعالى اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي استئناف مسوق لبيان ما هو المقصود بالاصطناع، وَأَخُوكَ فاعل بفعل مضمر أي وليذهب أخوك حسبما استدعيت، وقيل: معطوف على الضمير المستتر المؤكد بالضمير البارز، ورب شيء يصح تبعا ولا يصح استقلالا. والآيات المعجزات، والمراد بها في قول اليد والعصا وحل العقدة، وعن ابن عباس الآيات التسع، وقيل: الأولان فقط وإطلاق الجمع على الاثنين شائع ويؤيد ذلك أن فرعون لما قال له عليه السّلام: فات بآية ألقى العصا ونزع اليد، وقال: فَذانِكَ بُرْهانانِ [القصص: 32] وقال بعضهم: إنهما وإن كانتا اثنتين لكن في كل منهما آيات شتى كما في قوله تعالى: آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ [آل عمران: 97] فإن انقلاب العصا حيوانا آية. وكونها ثعبانا عظيما لا يقادر قدره آية أخرى. وسرعة حركته مع عظم جرمه آية أخرى. وكونه مع ذلك مسخرا له عليه السّلام بحيث يده في فمه فلا يضره آية أخرى ثم انقلابها عصا كما كانت آية أخرى وكذلك اليد البيضاء فإن بياضها في نفسه آية وشعاعها آية ثم رجوعها إلى حالتها الأولى آية أخرى. وقيل: المراد بها ما أعطى عليه السّلام من معجزة ووحي، والذي يميل إليه القلب أنها العصا واليد لما سمعت من المؤيد مع ما تقدم من أنه تعالى بعد ما أمره بإلقاء العصا وأخذها بعد انقلابها حية قال سبحانه: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى [طه: 22] ثم قال سبحانه: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى [طه: 24] من غير تنصيص على غير تلك الآيتين ولا تعرض لوصف حل العقدة ولا غيره بكونه آية، ثم إن الباء للمصاحبة لا للتعدية إذ المراد ذهابهما إلى فرعون ملتبسين بالآيات متمسكين بها في إجراء أحكام الرسالة وإكمال الدعوة لا مجرد إذهابها وإيصالها إليه وهذا ظاهر في تحقق الآيات إذ ذاك وأكثر التسع لم يتحقق بعد. وَلا تَنِيا من الوني بمعنى الفتور وهو فعل لازم وإذا عدي عدي بفي وبعن، وزعم بعض البغداديين أنه فعل ناقص من أخوات زال وبمعناها واختاره ابن مالك، وفي الصحاح فلان لايني يفعل كذا أي لا يزال يفعل كذا وكان هذا المعنى مأخوذ من نفي الفتور، وقرأ ابن وثاب «ولا تنيا» بكسر التاء اتباعا لحركة النون. وفي مصحف عبد الله «لا تهنا» وحاصله أيضا لا تفترا فِي ذِكْرِي بما يليق بي من الصفات الجليلة والأفعال الجميلة عند تبليغ رسالتي والدعاء إلى عبادتي، وقيل: المعنى لا تنيا في تبليغ رسالتي فإن الذكر يقع مجازا على جميع العبادات وهو من أجلها وأعظمها. وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل: لا تنسياني حيثما تقلبتما واستمدا به العون والتأييد واعلما أن أمرا من الأمور لا يتأتى ولا يتسنى إلا بذكري. وجمع هارون مع موسى عليه السّلام في صيغة نهي الحاضر بناء على القول بغيبته إذ ذاك للتغليب ولا بعد في ذلك كما لا يخفى، وكذا جمعه في صيغة أمر الحاضر بناء على ذلك أيضا في قوله تعالى اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى وروي أنه أوحي إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى عليهما السّلام، وقيل: ألهم ذلك، وقيل: سمع بإقباله فتلقاه، ويحتمل أنه ذهب إلى الطور واجتمعا هناك فخوطبا معا، ويحتمل أن هذا الأمر بعد إقبال موسى عليه السّلام من الطور إلى مصر واجتماعه بهارون عليه السّلام مقبلا إليه من مصر، وفرق بعضهم بين هذا، وقوله تعالى اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بأنه لم يبين هناك من يذهب إليه وبين هنا، وبعض آخر بأنه أمرا هنا بالذهاب إلى فرعون وكان الأمر هناك بالذهاب إلى عموم أهل الدعوة، وبعض آخر بأنه لم يخاطب هارون هناك وخوطب هنا، وبعض آخر بأن الأمر هناك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 507 بذهاب كل منهما على الانفراد نصا أو احتمالا والأمر هنا بالذهاب على الاجتماع نصا، ولا يخفى ما في بعض هذه الفروق من النظر، والفرق ظاهر بين هذا الأمر والأمر في قوله تعالى أولا خطابا لموسى عليه السّلام اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً قرأ أبو معاذ لَيِّناً بالتخفيف، والفاء لترتيب ما بعدها على طغيانه فإن تليين القول مما يكسر سورة عناد العتاة ويلين قسوة الطغاة، ويعلم من ذلك أن الأمر بإلانة القول ليس لحق التربية كما قيل، والمعنى كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لا تعنفاه في قولكما وارفقا به في الدعاء ويتحقق ذلك بعبارات شتى منها ما سيأتي إن شاء الله تعالى قريبا وهو إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ إلخ ومنها ما في النازعات وهو هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى [النازعات: 8، 19] وهذا ظاهر غاية الظهر وفي الرفق في الدعاء فإنه في صورة العرض والمشورة، وقيل: كنياه، واستدل به على جواز تكنية الكافر، وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا وسفيان الثوري، وله كنى أربع أبو الوليد وأبو مصعب وأبو العباس وأبو مرة، وقيل: عداه شبابا لا يهرم بعده وملكا لا ينزع منه إلا بالموت وأن يبقى له لذة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته، وعن الحسن قولا له: إن لك ربا وإن لك معادا وإن بين يديك جنة ونارا فآمن بالله تعالى يدخلك الجنة ويقك عذاب النار، وقيل: أمرهما سبحانه بأن يقدما له الوعد على الوعيد من غير تعيين قول كما قيل: أقدم بالوعد قبل الوعيد ... لينهى القبائل جهالها وروي عن عكرمة أن القول اللين لا إله إلا الله ولينه خفته على اللسان، وهذا أبعد الأقوال وأقربها الأول، وكان الفضل بن عيسى الرقاشي إذا تلا هذه الآية قال: يا من يتحبب إلى من يعاديه فكيف بمن يتولاه ويناديه وقرأت عند يحيى بن معاذ فبكى وقال: إلهي هذا رفقك بمن يقول أنا الإله فكيف رفقك بمن يقول أنت الله؟ وفيها دليل على استحباب إلانة القول للظالم عند وعظه لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ ويتأمل فيبذل النصفة من نفسه والإذعان للحق فيدعوه ذلك إلى الإيمان أَوْ يَخْشى أن يكون الأمر كما تصفان فيجره إنكاره إلى الهلكة وذلك يدعوه إلى الإيمان أيضا إلا أن الأول للراسخين ولذا قدم، وقيل: يتذكر حاله حين احتبس النيل فسار إلى شاطئه وأبعد وخر لله تعالى ساجدا راغبا أن لا يخجله ثم ركب فأخذ النيل يتبع حافر فرسه فيستدل بذلك على عظيم حلم الله تعالى وكرمه أو يخشى ويحذر من بطش الله تعالى وعذابه سبحانه، والمعول على ما تقدم. ولعل للترجي وهو راجع للمخاطبين، والجملة محل النصب حال من ضمير هما في قَوْلًا أي فقولا له قولا لينا راجيين أن يتذكر أو يخشى، وكلمة أو لمنع الخلو. وحاصل الكلام باشرا الأمر مباشرة من يرجو ويطمع أن يثمر عمله ولا يخيب سعيه فهو يجتهد بطوعه ويحتشد بأقصى وسعه، وقيل: حال من ضمير هما في اذْهَبا والأول أولى، وقيل: لعل هنا للاستفهام أي هل يتذكر أو يخشى. وأخرج ذلك ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قيل: وهو القول اللين، وأخرج ذلك مخرج قولك: قل لزيد هل يقوم. وقال الفراء: هي هنا بمعنى كي التعليلية وهي أحد معانيها كما ذهب إليه جماعة منهم الأخفش. والكسائي بل حكى البغوي عن الواقدي أن جميع ما في القرآن من لعل فإنها للتعليل إلا قوله تعالى «لعلكم تخلدون» فإنها للتشبيه كما في صحيح البخاري وأخرج ابن أبي حاتم من طريق السدي عن أبي مالك قال: لعل في القرآن بمعنى كي غير آية في [الشعراء: 129] لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ فإن المعنى كأنكم تخلدون، وأخرج عن قتادة أنه قال: قرىء كذلك، ولا يخفى أن كونها للتشبيه غريب لم يذكره النحاة، وحملها على الاستفهام هنا بعيد، ولعل التعليل أسبق إلى كثير من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 508 الأذهان من الترجي لكن الصحيح كما في البحر أنها للترجي وهو المشهور من معانيها، وقيل: إن الترجي مجاز عن مطلق الطلب وهو راجع إليه عز وجل، والذي لا يصح منه سبحانه هو الترجي حقيقة، والمحققون على الأول، والفائدة في إرسالهما عليهما السّلام إليه مع العلم بأنه لا يؤمن إلزام الحجة وقطع المعذرة. وزعم الإمام أنه لا يعلم سر الإرسال إليه مع علمه تعالى بامتناع حصول الإيمان منه إلا الله عز وجل ولا سبيل في أمثال هذا المقام لغير التسليم وترك الاعتراض. واستدل بعض المتبعين لمن قال بنجاة فرعون بهذه الآية فقال: إن لعل كذا من الله تعالى واجب الوقوع فتدل الآية على أن أحد الأمرين التذكر والخشية واقع وهو مدار النجاة، وقد تقدم لك ما يعلم منه فساد هذا الاستدلال، ولا حاجة بنا إلى ما قيل من أنه تذكر وخشي لكن حيث لم ينفعه ذلك وهو حين الغرق بل لا يصح حمل التذكر والخشية هنا على ما يشمل التذكر والخشية اللذين زعم القائل حصولهما لفرعون فتذكر. قالا استئناف بياني كأنه قيل: فماذا قالا حين أمرا بما أمرا؟ فقيل قالا إلخ، وأسند القول إليهما مع أن القائل هو موسى عليه السّلام على القول بغيبة هارون عليه السّلام للتغليب كما مر. ويجوز أن يكون هارون عليه الإسلام قد قال ذلك بعد اجتماعه مع موسى عليه السّلام فحكى قوله مع قول موسى عند نزول الآية كما في قوله تعالى يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ [المؤمنون: 51] فإن هذا الخطاب قد حكي لنا بصيغة الجمع مع أن كلا من المخاطبين لم يخاطب إلا بطريق الانفراد، وجوز كونهما مجتمعين عند الطور وقالا جميعا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أي أن يعجل علينا بالعقوبة ولا يصبر إلى إتمام الدعوة وإظهار المعجزة من فرط إذا تقدم، ومنه الفارط المتقدم المورد والمنزل، وفرس فارط يسبق الخيل، وفاعل يَفْرُطَ على هذا فرعون، وقال أبو البقاء: يجوز أن يكون التقدير أن يفرط علينا منه قول فأضمر القول كما تقول فرط مني قول وهو خلاف الظاهر. وقرأ يحيى وأبو نوفل وابن محيصن في رواية «يفرط» بضم الياء وفتح الراء من أفرطته إذا حملته على العجلة أي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 509 نخاف أن يحمله حامل من الاستكبار أو الخوف على الملك أو غيرهما على المعاجلة بالعقاب. وقرأت فرقة والزعفراني عن ابن محيصن «يفرط» بضم الياء وكسر الراء من الإفراط في الأذية. واستشكل هذا القول مع قوله تعالى: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما [القصص: 35] فإنه مذكور قبل قولهما هذا بدلالة «سنشد» وقد دل على أنهما محفوظان من عقوبته وأذاه فكيف يخافان من ذلك. وأجيب: بأنه لا يتعين أن يكون المعنى لا يصلون بالعقوبة لجواز أن يراد لا يصلون إلى إلزامكما بالحجة مع أن التقدم غير معلوم ولو قدم في الحكاية لا سيما والواو لا تدل على ترتيب، والتفسير المذكور مأثور عن كثير من السلف منهم ابن عباس ومجاهد وهو الذي يقتضيه الظاهر، وزعم الإمام أنهما قد أمنا وقوع ما يقطعهما عن الإداء بالدليل العقلي إلا أنهما طلبا بما ذكر ما يزيد في ثبات قلوبهما بأن ينضاف الدليل النقلي إلى الدليل العقلي وذلك نظير ما وقع لإبراهيم عليه السّلام من قوله: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [البقرة: 260] ولا يخفى أن في دعوى علمهما بالدليل العقلي عدم وقوع ما يقطعهما عن الأداء عبثا. واستشكل أيضا حصول الخوف لموسى عليه السّلام بأنه يمنع عن حصول شرح الصدر له الدال على تحققه قوله تعالى بعد سؤاله إياه قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى [طه: 36] . وأجاب الإمام بأن شرح الصدر عبارة عن قوته على ضبط تلك الأوامر والنواهي وحفظ تلك الشرائع على وجه لا يتطرق إليها السهو والتحريف وذلك شيء آخر غير زوال الخوف. وأنت تعلم أن كثيرا من المفسرين ذهبوا إلى أن شرح الصدر هنا عبارة عن توسيعه وهو عبارة عن عدم الضجر والقلق القلبي مما يرد من المشاق في طريق التبليغ وتلقي ذلك بجميل الصبر وحسن الثبات. وأجيب على هذا بأنه لا منافاة بين الخوف من شيء والصبر عليه وعدم الضجر منه إذا وقع ألا ترى كثيرا من الكاملين يخافون من البلاء ويسألون الله تعالى الحفظ منه وإذا نزل بهم استقبلوه بصدر واسع وصبروا عليه ولم يضجروا منه. وقيل: إنهما عليهما السّلام لم يخافا من العقوبة إلا لقطعها الإداء المرجو به الهداية فخوفهما في الحقيقة ليس إلا من القطع وعدم إتمام التبليغ ولم يسأل موسى عليه السّلام شرح الصدر لتحمل ذلك. واستشكل بأن موسى عليه السّلام كان قد سأل وأوتي تيسير أمره بتوفيق الأسباب ورفع الموانع فكيف يخاف قطع الأداء بالعقوبة. وأجيب: بأن هذا تنصيص على طلب رفع المانع الخاص بعد طلب رفع المانع العام وطلب للتنصيص على رفعه لمزيد الاهتمام بذلك. وقيل: إن في الآية تغليبا منه لأخيه هارون على نفسه عليهما السّلام ولم يتقدم ما يدل على أمنه عليه فتأمل، واستشكل أيضا عدم الذهاب والتعلل بالخوف مع تكرر الأمر بأنه يدل على المعصية وهي غير جائزة على الأنبياء عليهم السّلام على الصحيح. وأجاب الإمام بأن الدلالة مسلمة لو دل الأمر على الفور وليس فليس، ثم قال: وهذا من أقوى الدلائل على أن الأمر لا يقتضي الفور إذا ضممت إليه ما يدل على أن المعصية غير جائزة على الأنبياء عليهم السّلام، وأَوْ في قوله تعالى أَوْ أَنْ يَطْغى لمنع الخلو، والمراد أو أن يزداد طغيانا إلى أن يقول في شأنك ما لا ينبغي لكمال جراءته وقساوته وإطلاقه من حسن الأدب، وفيه استنزال لرحمته تعالى وإظهار كلمة أن مع سداد المعنى بدونه لإظهار كمال الاعتناء بالأمر والإشعار بتحقق الخوف من كل من المتعاطفين. قالَ استئناف كما مر، ولعل إسناد الفعل إلى ضمير الغيبة كما قيل للإشعار بانتقال الكلام من مساق إلى مساق آخر فإن ما قبله من الأفعال الواردة على صيغة التكلم حكاية لموسى عليه السّلام بخلاف ما سيأتي إن شاء الله تعالى قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى [طه: 68] فإن ما قبله أيضا وارد بطريق الحكاية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم كأنه قيل: فماذا قال لهما ربهما عند تضرعهما إليه سبحانه؟ فقيل: قال أي لهما لا تَخافا مما ذكرتما. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 510 وقوله تعالى: إِنَّنِي مَعَكُما تعليل لموجب النهي ومزيد تسلية لهما، والمراد بمعيته سبحانه كمال الحفظ والنصرة كما يقال: الله تعالى معك على سبيل الدعاء وأكد ذلك بقوله تعالى: أَسْمَعُ وَأَرى وهو بتقدير المفعول أي ما يجري بينكما وبينه من قول وفعل فافعل في كل حال ما يليق بها من دفع شر وجلب خير. وقال القفال: يحتمل أن يكون هذا في مقابلة القول السابق ويكونان قد عنيا أننا نخاف أن يفرط علينا بأن لا يسمع منا أو أن يطغى بأن يقتلنا فأجابهم سبحانه بقوله: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ أي كلامكما فاسخره للاستماع وَأَرى أفعاله فلا أتركه يفعل بكما ما تكرهانه فقدر المفعول أيضا لكنه كما ترى، وقال الزمخشري: جائز أن لا يقدر شيء، وكأنه قيل: أنا حافظ لكما وناصر سامع مبصر وإذا كان الحافظ والناصر كذلك تم الحفظ، وهو يدل على انه لا نظر إلى المفعول وقد نزل الفعل المتعدي منزلة اللازم لأنه أريد تتميم ما يستقل به الحفظ والنصرة وليس من باب قول المتنبي: شجو حساده وغيظ عداه ... أن يرى مبصر ويسمع واع على ما زعم الطيبي، واستدل بالآية على أن السمع والبصر صفتان زائدتان على العلم بناء على أن قوله تعالى إِنَّنِي مَعَكُما دال على العلم ولو دل أَسْمَعُ وَأَرى عليه لزم التكرار وهو حلاف الأصل. فَأْتِياهُ أمر بإتيانه الذي هو عبارة عن الوصول إليه بعد ما أمرا بالذهاب إليه فلا تكرار وهو عطف على لا تَخافا باعتبار تعليله بما بعده فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ أمرا بذلك تحقيقا للحق من أول الأمر ليعرف الطاغية شأنهما ويبني جوابه عليه، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره من اللطف ما لا يخفى وإن رأى اللعين أن في ذلك تحقيرا له حيث إنه يدعي الربوبية لنفسه ولا يعد ذلك من الإغلاظ في القول، وكذا قوله تعالى فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ إلى آخره خلافا للإمام، والفاء في فَأَرْسِلْ لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن كونهما عليهما السّلام رسولي ربه تعالى مما يوجب إرسالهم معهما والمراد بالإرسال إطلاقهم من الأسر وإخراجهم من تحت يده العادية لا تكليفهم أن يذهبوا معهما إلى الشام كما ينبىء عنه قوله سبحانه وَلا تُعَذِّبْهُمْ أي بإبقائهم على ما كانوا عليه من العذاب فإنهم كانوا تحت ملكة القبط يستخدمونهم في الأعمال الشاقة كالحفر والبناء ونقل الأحجار وكانوا يقتلون أبناءهم عاما دون عام ويستخدمون نساءهم ولعلهما إنما بدأ بطلب إرسال بني إسرائيل دون دعوة الطاغية وقومه إلى الإيمان للتدريج في الدعوة فإن إطلاق الأسرى دون تبديل الاعتقاد، وقيل: لأن تخليص المؤمنين من الكفرة أهم من دعوتهم إلى الإيمان. وهذا بعد تسليمه مبني على أن بني إسرائيل كانوا مؤمنين بموسى عليه السّلام في الباطن أو كانوا مؤمنين بغيره من الأنبياء عليهم السّلام ولا بد لذلك من دليل، وقيل: إنما بدأ بطلب إرسالهم لما فيه من إزالة المانع عن دعوتهم واتباعهم وهي أهم من دعوة القبط. وتعقب بأن السياق هنا لدعوة فرعون ودفع طغيانه فهي الأهم دون دعوة بني إسرائيل، وقيل: إنه أول ما طلبا منه الإيمان كما ينبىء عن ذلك آية النازعات إلا أنه لم يصرح به هنا اكتفاء بما هناك كما أنه لم يصرح هناك بهذا الطلب اكتفاء بما هنا، وقوله تعالى: قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ استئناف بياني وفيه تقرير لما تضمنه الكلام السابق من دعوى الرسالة وتعليل لوجوب الإرسال فإن مجيئهما بآية من جهته تعالى مما يحقق رسالتهما ويقررها ويوجب الامتثال بأمرهما، وإظهار اسم الرب في موضع الإضمار مع الإضافة إلى ضمير المخاطب لتأكيد ما ذكر من التقرير والتعليل، وجيء بقد للتحقيق والتأكيد أيضا، وتكلف لإفادتها التوقع وتوحيد الآية مع تعددها لأن المراد إثبات الدعوى ببرهانها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 511 لا بيان تعدد الحجة فكأنه قيل: قد جئناك بما يثبت مدعانا، وقيل: المراد بالآية اليد، وقيل: العصا والقولان كما ترى. وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى أي السلامة من العذاب في الدارين لمن اتبع ذلك بتصديق آيات الله تعالى الهادية إلى الحق، فالسلام مصدر بمعنى السلامة كالرضاع والرضاعة، وعلى بمعنى اللام كما ورد عكسه في قوله تعالى لَهُمُ اللَّعْنَةُ [الرعد: 25] وحروف الجر كثيرا ما تتقارض، وقد حسن ذلك هنا المشاكلة حيث جيء بعلى في قوله تعالى إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا من جهة ربنا أَنَّ الْعَذابَ الدنيوي والأخروي عَلى مَنْ كَذَّبَ بآياته عز وجل وَتَوَلَّى أي أعرض عن قبولها، وقال الزمخشري: أي وسلام الملائكة الذين هم خزنة الجنة على المهتدين وتوبيخ خزنة النار والعذاب على المكذبين. وتحقيقه على ما قيل إنه جعل السّلام تحية خزنة الجنة للمهتدين المتضمنة لوعدهم بالجنة. وفيه تعريض لغيرهم بتوبيخ خزنة النار المتضمن لوعيدهم بعذابها لأن المقام للترغيب فيما هو حسن العاقبة وهو تصديق الرسل عليهم السّلام والتنفير عن خلافه فلو جعل السّلام بمعنى السلامة لم يفد أن ذلك في العاقبة. فما قيل: إنه لا إشعار في اللفظ بهذا التخصيص غير مسلم، والقول بأنه ليس بتحية حيث لم يكن في ابتداء اللقاء يرده أنه لم يجعل تحية الأخوين عليهما السّلام بل تحية الملائكة عليهم السّلام، وأنت تعلم أن هذا التفسير خلاف الظاهر جدا وإنكار ذلك مكابرة. وفي البحر هو تفسير غريب وأنه إذا أريد من العذاب في الدارين، ومن السّلام السلامة من ذلك العذاب حصل الترغيب في التصديق والتنفير عن خلافه على أتم وجه، وقال أبو حيان: الظاهر أن قوله تعالى وَالسَّلامُ إلخ فصل للكلام والسّلام فيه بمعنى التحية، وجاء ذلك على ما هو العادة من التسليم عند الفراغ من القول إلا أنهما عليهما السّلام رغبا بذلك عن فرعون وخصا به متبعي الهدى ترغيبا له بالانتظام في سلكهم، واستدل به على منع السّلام على الكفار وإذا احتيج إليه في خطاب أو كتاب جيء بهذه الصيغة. وفي الصحيحين «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كتب إلى هرقل من محمد رسول الله إلى هر قل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى» ، وأخرج عبد الرزاق في المصنف. والبيهقي في الشعب عن قتادة قال: التسليم على أهل الكتاب إذا دخلت عليهم بيوتهم أن تقول: السّلام على من اتبع الهدى، ولا يخفى أن الاستظهار المذكور غير بعيد لو كان كلامهما عليهما السّلام قد انقطع بهذا السّلام لكنه لم ينقطع به بل قالا بعده إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا إلخ، وكأن هذه الجملة على جميع التفاسير استئناف للتعليل، وقد يستدل به على صحة القول بالمفهوم فتأمل، والظاهر أن كلتا الجملتين من جملة المقول الملقن. وزعم بعضهم أن المقول الملقن قد تم عند قوله تعالى قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وما بعد كلام من قبلهما عليهما السّلام أتيا به للوعد والوعيد. واستدل المرجئة بقوله سبحانه إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إلخ على أن غير الكفرة لا يعذبون أصلا. وأجيب بأنه إنما يتم إذا كان تعريف العذاب للجنس أو الاستغراق، أما إذا كان للعهد أي العذاب الناشئ عن شدة الغضب أو الدائم مثلا فلا، وكذا إذا أريد الجنس أو الاستغراق الادعائي مبالغة وجعل العذاب المتناهي الذي يعقبه السلامة الغير المتناهية كلا عذاب لم يلزم أن لا يعذب المؤمن المقصر في العمل أصلا. قالَ أي فرعون بعد ما أتياه وبلغاه ما أمرا به، وإنما طوى ذكر ذلك للإيجاز والإشعار بأنهما كما أمرا بذلك سارعا إلى الامتثال به من غير ريث وبأن ذلك من الظهور بحيث لا حاجة إلى التصريح به، وجاء عن ابن عباس أنهما لما أمرا بإتيانه وقول ما ذكر له جاءا جميعا إلى بابه فأقاما حينا لا يؤذن لهما ثم أذن لهما بعد حجاب شديد فدخلا وكان ما قص الله تعالى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 512 وأخرج أحمد وغيره عن وهب بن منبه أن الله تعالى لما أمر موسى عليه السّلام بما أمر أقبل إلى فرعون في مدينة قد جعل حولها الأسد في غيضة قد غرسها والأسد فيها مع ساستها إذا أشلتها على أحد أكل وللمدينة أربعة أبواب في الغيضة فأقبل موسى عليه السّلام من الطريق الأعظم الذي يراه فرعون فلما رأته الأسد صاحت صياح الثعالب فأنكر ذلك الساسة وفرقوا من فرعون فأقبل حتى انتهى إلى الباب فقرعه بعصاه وعليه جبة صوف وسراويل فلما رآه البواب عجب من جرأته فتركه ولم يأذن له فقال: هل تدري باب من أنت تضرب إنما أنت تضرب باب سيدك؟ قال: أنت وأنا وفرعون عبيد لربي فأنا ناصره فأخبر البواب الذي يليه من البوابين حتى بلغ ذلك أدناهم ودونه سبعون حاجبا كل حاجب منهم تحت يده من الجنود ما شاء الله تعالى حتى خلص الخبر إلى فرعون فقال: أدخلوه علي فلما أتاه قال له فرعون: أعرفك؟ قال: نعم قال: ألم نربك فينا وليدا فرد إليه موسى عليه السّلام الذي رد قال فرعون. خذوه فبادر عليه السّلام فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين فحملت على الناس فانهزموا منها فمات منهم خمسة وعشرون ألفا قتل بعضهم بعضا وقام فرعون منهزما حتى دخل البيت فقال: يا موسى اجعل بيننا وبينك أجلا ننظر فيه قال موسى: لم أومر بذلك إنما أمرت بمناجزتك وإن أنت لم تخرج إلي دخلت عليك فأوحى الله تعالى إليه أن اجعل بينك وبينه أجلا وقل له أنت اجعل ذلك فقال فرعون: اجعله إلى أربعين يوما ففعل وكان لا يأتي الخلاء إلا في كل أربعين يوما مرة فاختلف ذلك اليوم أربعين مرة وخرج موسى عليه السّلام من المدينة فلما مر بالأسد خضعت له بأذنابها وسارت معه تشيعه ولا تهيجه ولا أحدا من بني إسرائيل ، والظاهر أن هارون كان معه حين الإتيان، ولعله إنما لم يذكر في هذا الخبر اكتفاء بموسى عليه السّلام، وقيل: إنهما حين عرضا عليهما السّلام على فرعون ما عرضا شاور آسية فقالت: ما ينبغي لأحد أن يرد ما دعيا إليه فشاور هامان وكان لا يبت أمرا دون رأيه فقال له: كنت أعتقد أنك ذو عقل تكون مالكا فتصير مملوكا وربا فتصير مربوبا فامتنع من قبول ما عرض عليه موسى عليه السّلام، وظاهر هذا أن المشاورة قبل المقاولة، ويحتمل أنها بعدها والأولى في أمثال هذه القصص الاكتفاء بما في المنزل وعدم الالتفات إلى غيره إلا أن يوثق بصحته أو لا يكون في المنزل ما يعكر عليه كالخبر السابق فإن كون فرعون جعل الأجل يعكر عليه ما سيأتي إن شاء الله تعالى من قول موسى عليه السّلام حين طلب منه فرعون أن يجعل موعدا موعدكم يوم الزينة، والظاهر عدم تعدد الحادثة والجملة استئناف بياني كأنه قيل فماذا قال حين أتياه وقالا له ما قالا؟ فقيل: قال فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى لم يضف الرب إلى نفسه ولو بطريق حكاية ما في قوله تعالى إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ وقوله سبحانه قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ لغاية عتوه ونهاية طغيانه بل إضافة إليهما لما أن المرسل لا بد أن يكون ربا للرسول، وقيل: لأنهما قد صرحا بربوبيته تعالى للكل بأن قالا: إنا رسول رب العالمين كما وقع في سورة الشعراء والاقتصار هاهنا على ذكر ربوبيته تعالى لفرعون لكفايته فيما هو المقصود، والفاء لترتيب السؤال على ما سبق من كونهما رسولي ربهما أي إذا كنتما رسولي ربكما الذي أرسلكما فأخبرا من ربكما الذي أرسلكما، وتخصيص النداء بموسى عليه السّلام مع توجيه الخطاب إليهما لما ظهر له من أنه الأصل في الرسالة وهارون وزيره، ويحتمل أن يكون للتعريض بأنه ربه كما قال: ألم نربك فينا وليدا، قيل: وهذا أوفق بتلبيسه على الأسلوب الأحمق، وقيل: لأنه قد عرف أن له عليه السّلام رتة فأراد أن يسكته. وهو مبني على ما عليه كثير من المفسرين من بقاء رتة في لسانه عليه السّلام في الجملة وقد تقدم الكلام في ذلك. قالَ أي موسى عليه السّلام واستبد بالجواب من حيث إنه خص بالسؤال رَبُّنَا مبتدأ وقوله تعالى: الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ خبره، وقيل: هو خبر مبتدأ محذوف أي هو ربنا والموصول صفته، والظاهر أنه عليه السّلام أراد بضمير المتكلم نفسه وأخاه عليهما السّلام. وقال بعض المحققين: أراد جميع المخلوقات تحقيقا للحق وردا على اللعين كما يفصح عنه ما في حيز الصلة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 513 وكُلَّ شَيْءٍ مفعول أول لأعطى وخَلْقَهُ مفعوله الثاني وهو مصدر بمعنى اسم المفعول والضمير المجرور لشيء والعموم المستفاد من كُلَّ يعتبر بعد إرجاعه إليه لئلا يرد الاعتراض المشهور في مثل هذا التركيب، والظاهر أنه عموم الأفراد أي أعطى كل شيء من الأشياء الأمر الذي طلبه بلسان استعداده من الصورة والشكل والمنفعة والمضرة وغير ذلك أو الأمر اللائق بما نيط به من الخواص والمنافع المطابق له كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الأبصار والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع وكذلك الأنف واليد والرجل واللسان كل واحد منها مطابق لما علق به من المنفعة غير ناب عنه، وقيل: الخلق باق على مصدريته بمعنى الإيجاد أي أعطى كل شيء الإيجاد الذي استعد له أو اللائق به بمعنى أنه تعالى أوجد كل شيء حسب استعداده أو على الوجه اللائق به وهو كما ترى. وحمل بعضهم العموم على عموم الأنواع دون عموم الأفراد، وقيل: إن ذلك لئلا يلزم الخلف ويرد النقض بأن بعض الأفراد لم يكمل لعارض يعرض له، والحق أن الله تعالى راعي الحكمة فيما خلق وأمر تفضلا ورحمة لا وجوبا وهذا مما أجمع عليه أهل السنة والجماعة كما نقل صاحب المواقف وعيون الجواهر فكل شيء كامل في مرتبته حسن في حد ذاته فقد قال تعالى العزيز الرحيم الذي أحسن كل شيء خَلْقَهُ وجعل العموم في هذا عموم الأنواع مما لا يكاد يقول به أحد، وقال سبحانه: ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ [الملك: 3] أي من حيث إضافته إلى الرحمن وخلقه إياه على طبق الحكمة بمقتضى الجود والرحمة، والتفاوت بين الأشياء إنما هو إذا أضيف بعضها إلى بعض فالعدول عما هو الظاهر من عموم الأفراد إلى عموم الأنواع لما ذكر ناشىء من قلة التحقيق، وقيل: إن سبب العدول كون أَعْطى حقيقة في الماضي فلو حمل كل شيء على عموم الأفراد يلزم أن يكون جميعها قد وجد وأعطى مع أن منها بل أكثرها لم يوجد ولم يعط بعد بخلاف ما إذا حمل على عموم الأنواع فإنه لا محذور فيه إذ الأنواع جميعها قد وجد ولا يتجدد بعد ذلك نوع وإن كان ذلك ممكنا وفيه بحث ظاهر فليفهم. وروي عن ابن عباس وابن جبير والسدي أن المعنى أعطى كل حيوان ذكر نظيره في الخلق والصورة أنثى وكأنهم جعلوا كلا للتكثير وإلا فالعموم مطلقا باطل كما لا يخفى، وعندي أن هذا المعنى من فروع المعنى السابق الذي ذكرناه، ولعل مراد من قاله التمثيل وإلا فهو بعيد جدا ولا يكاد يقوله من نسب إليه. وقيل: خَلْقَهُ هو المفعول الأول والمصدر بمعنى اسم المفعول أيضا، والضمير المجرور للموصول وكُلَّ شَيْءٍ هو المفعول الثاني والمعنى أعطى مخلوقاته سبحانه كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به، وقدم المفعول الثاني للاهتمام به من حيث إن المقصود الامتنان به ونسب هذا القول إلى الجبائي، والأول أظهر لفظا ومعنى. وقرأ عبد الله. وأناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو نهيك وابن أبي إسحق والأعمش والحسن ونصير عن الكسائي وابن نوح عن قتيبة وسلام «خلقه» على صيغة الماضي المعلوم على أن الجملة صفة للمضاف إليه أو المضاف على شذوذ، وحذف المفعول الثاني اختصارا لدلالة قرينة الحال عليه أي أعطى كل شيء خلقه تعالى ما يصلحه أو ما يحتاج إليه وجعل ذلك الزمخشري من باب يعطي ويمنع أي كل شيء خلقه سبحانه لم يخله من عطائه وإنعامه، ورجحه في الكشف بأنه أبلغ وأظهر، وقيل: الأول أحسن صناعة وموافقة للمقام وهو عندي أوفق بالمعنى الأول للقراءة الأولى وفيما ذكره في الكشف تردد. ثُمَّ هَدى أي أرشد ودل سبحانه بذلك على وجوده فإن من نظر في هذه المحدثات وما تضمنته من دقائق الحكمة علم أن لها صانعا واجب الوجود عظيم العطاء والجود، ومحصل الآية ربنا الذي خلق كل شيء حسب استعداده أو على الوجه اللائق به وجعله دليلا عليه جل جلاله، وهذا الجعل وإن كان متأخرا بالذات عن الخلق وليس بينهما تراخ في الزمان أصلا لكنه جيء بكلمة ثم للتراخي بحسب الرتبة كما لا يخفى وجهه على المتأمل، وفي إرشاد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 514 العقل السليم ثُمَّ هَدى إلى طريق الانتفاع والارتفاق بما أعطاه وعرفه كيف يتوصل إلى بقائه وكماله إما اختيارا كما في الحيوانات أو طبعا كما في الجمادات والقوى الطبيعية النباتية والحيوانية. ولما كان الخلق الذي هو تركيب الأجزاء وتسوية الأجسام متقدما على الهداية التي هي عبارة عن إبداع القوى المحركة والمدركة في تلك الأجساد وسط بينهما كلمة التراخي انتهى، ولا يخفى عليك أن الخلق لغة أعم مما ذكره وأن القوى المحركة والمدركة داخلة في عموم كُلَّ شَيْءٍ سواء كان عموم الأفراد أو عموم الأنواع وأنه لا بد من ارتكاب نوع من المجاز في هَدى على تفسيره، وقيل: على التفسير المروي عن ابن عباس ومن معه ثم هداه إلى الاجتماع بإلفه والمناكحة، وقيل غير ذلك، ولله تعالى در هذا الجواب ما أخضره وما أجمعه وما أبينه لمن ألقى الذهن ونظر بعين الانصاف وكان طالبا للحق، ومن هنا قيل: كان من الظاهر أن يقول عليه السّلام: ربنا رب العالمين لكن سلك طريق الإرشاد والأسلوب الحكيم وأشار إلى حدوث الموجودات بأسرها واحتياجها إليه سبحانه واختلاف مراتبها وأنه تعالى هو القادر الحكيم الغني المنعم على الإطلاق. واستدل بالآية على أن فرعون كان عارفا بالله تعالى إلا أنه كان معاندا لأن جملة الصلة لا بد أن تكون معلومة ومتى كانت هذه الجملة معلومة له كان عارفا به سبحانه، وهذا مذهب البعض فيه عليه اللعنة، واستدلوا له أيضا بقوله تعالى: لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الإسراء: 102] وقوله تعالى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النمل: 14] وقوله تعالى في سورة [القصص: 39] وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ فإنه ليس فيه إلا إنكار المعاد دون المبدأ وقوله تعالى في الشعراء: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ [الشعراء: 23- 27] إلى قوله سبحانه إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ فإنه عنى به أني أطلب منه شرح الماهية وهو يشرح الوجود فدل على أنه معترف بأصل الوجود وبأن ملكه لم يتجاوز القبط ولم يبلغ الشام ألا ترى أن موسى عليه السّلام لما هرب إلى مدين قال له شعيب: لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص: 25] فكيف يعتقد أنه إله العالم وبأنه كان عاقلا ضرورة أنه كان مكلفا وكل عاقل يعلم بالضرورة أنه وجد بعد العدم، ومن كان كذلك افتقر إلى مدبر فيكون قائلا بالمدبر وبأنه سأل هاهنا بمن طالبا للكيفية، وفي الشعراء بما طالبا للماهية. والظاهر أن السؤال بمن سابق فكأن موسى عليه السّلام لما أقام الدلالة على الوجود ترك المنازعة معه في هذا المقام لعلمه بظهوره وشرع في مقام أصعب لأن العلم بماهيته تعالى غير حاصلة للبشر. ولا يخفى ما في هذه الأدلة من القيل والقال، ومن الناس من قال: إنه كان جاهلا بالله تعالى بعد اتفاقهم على أن العاقل لا يجوز أن يعتقد في نفسه أنه خالق السموات والأرض وما فيهما واختلفوا في كيفية جهله فيحتمل أنه كان دهريا نافيا للصانع أصلا ولعله كان يقول بعدم احتياج الممكن في وجوده إلى مؤثر وإن وجود العالم اتفاقي كما نقل عن ديمقراطيس وأتباعه، ويحتمل أنه كان فلسفيا قائلا بالعلة الموجبة، ويحتمل أنه كان من عبدة الكواكب. ويحتمل أنه كان من عبدة الأصنام، ويحتمل أنه كان من الحلولية المجسمة وأما ادعاؤه الربوبية لنفسه فبمعنى أنه يجب على من تحت يده طاعته والانقياد له وعدم الاشتغال بطاعة غيره، واستدل بشروعه في المناظرة وطلب الحجة دون السفاهة والشغب مع كونه جبارا شديد البطش على أن الشغب والسفاهة مع من يدعو إلى الحق في غاية القبح فلا ينبغي لمن يدعي الإسلام والعلم أن يرتضي لنفسه ما لم يرتضه فرعون لنفسه. وباشتغال موسى عليه السّلام بإقامة الدليل على المطلوب على فساد التقليد في أمثال هذا المطلب وفساد قول القائل: إن معرفة الله تعالى تستفاد من قول الرسول، وبحكاية كلام فرعون وجواب موسى عليه السّلام على أنه يجوز حكاية كلام المبطل مقرونا بالجواب لئلا يبقى الشك، وعلى أن المحق يجب عليه استماع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 515 شبهة المبطل حتى يمكنه الاشتغال بحلها قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى لما شاهد اللعين ما نظمه عليه السّلام في سلك الجواب من البرهان النير على الطراز الرائع خاف أن يظهر للناس حقية مقالاته عليه السّلام وبطلان خرافات نفسه ظهورا بينا أراد أن يصرفه عليه السّلام عن سننه إلى ما لا يعنيه من الأمور التي لا تعلق لها في نفس الأمر بالرسالة من الحكايات موهما أن لها تعلقا بذلك ويشغله عما هو بصدده عسى يظهر فيه نوع غفلة فيتسلق بذلك إلى أن يدعي بين يدي قومه نوع معرفة، فقال فَما بالُ إلخ. وأصل البال الفكر يقال: خطر ببالي كذا ثم أطلق على الحال التي يعتني بها وهو المراد، ولا يثنى ولا يجمع إلا شذوذا في قولهم بآلات. وكأن الفاء لتفريع ما بعدها على دعوى الرسالة أي إذا كنت رسولا فأخبرني ما حال القرون الماضية والأمم الخالية، وماذا جرى عليهم من الحوادث المفصلة. قالَ موسى عليه السّلام عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي أي إن ذلك من الغيوب التي لا يعلمها إلا الله تعالى وإنما أنا عبد لا أعلم منها إلا ما علمنيه من الأمور المتعلقة بالرسالة والعلم بأحوال القرون وما جرى عليهم على التفصيل مما لا ملابسة فيه بمنصب الرسالة كما زعمت. وقيل: إنما سأله عن ذلك ليختبر أنه نبي أو هو من جملة القصاص الذين دارسوا قصص الأمم السالفة، وقال النقاش: إن اللعين لما سمع وعظ مؤمن آل فرعون يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ [غافر: 30] الآية سأل عن ذلك فرد عليه السّلام علمه إلى الله تعالى لأنه لم يكن نزلت عليه التوراة فإنه كان نزولها بعد هلاك فرعون. وقال بعضهم: إن السؤال مبني على قوله عليه السّلام وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى إلخ أي فما حال القرون السالفة بعد موتهم من السعادة والشقاوة والمراد بيان ذلك تفصيلا كأنه قيل: إذا كان الأمر كما ذكرت ففصل لنا حال من مضى من السعادة والشقاوة ولذا رد عليه السّلام العلم إلى الله عز وجل فاندفع ما قيل: إنه لو كان المسئول عنه ما ذكر من السعادة والشقاوة لأجيب ببيان أن من اتبع الهدى منهم فقد سلم ومن تولى فقد عذب حسبما نطق به قوله تعالى وَالسَّلامُ إلخ، وقيل: إنه متعلق بقوله سبحانه إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا إلخ أي إذا كان الأمر كذلك فما بال القرون الأولى كذبوا ثم ما عذبوا، وقيل: هو متعلق به والسؤال عن البعث والضمير في عِلْمُها للقيامة وكلا القولين كما ترى وعود الضمير على القيامة أدهى من أمر التعلق وأمرّ. وقيل: إنه متعلق بجواب موسى عليه السّلام اعتراضا على ما تضمنه من علمه تعالى بتفاصيل الأشياء وجزئياتها المستتبع إحاطة قدرته جل وعلا بالأشياء كلها كأنه قيل: إذا كان علم الله تعالى كما أشرت فما تقول في القرون الخالية مع كثرتهم وتمادي مدتهم وتباعد أطرافهم كيف إحاطة علمه تعالى بهم وبأجزائهم وأحوالهم فأجاب بأن علمه تعالى محيط بذلك كله إلى آخر ما قص الله تعالى، وتخصيص القرون الأولى على هذا بالذكر مع أولوية التعميم قيل لعلم فرعون ببعضها وبذلك يتمكن من معرفة صدق موسى عليه السّلام: إن بين أحوالها، وقيل: إنه لإلزام موسى عليه السّلام وتبكيته عند قومه في أسرع وقت لزعمه أنه لو عمم ربما اشتغل موسى عليه السّلام بتفصيل علمه تعالى بالموجودات المحسوسة الظاهرة فتطول المدة ولا يتمشى ما أراده، وأيّا ما كان يسقط ما قيل: إنه يأبى هذا الوجه تخصيص القرون الأولى من بين الكائنات فإنه لو أخذها بجملتها كان أظهر وأقوى في تمشي ما أراد، نعم بعد هذا الوجه مما لا ينبغي أن ينكر، وقيل: إنه اعتراض عليه بوجه آخر كأنه قيل: إذا كان ما ذكرت من دليل إثبات المبدأ في هذه الغاية من الظهور فما بال القرون الأولى نسوه سبحانه ولم يؤمنوا به تعالى فلو كانت الدلالة واضحة وجب عليهم أن لا يكونوا غافلين عنها ومآله على ما قال الإمام معارضة الحجة بالتقليد، وقريب منه ما يقال إنه متعلق بقوله «ثم هدى» على التفسير الأول كأنه قيل: إذا كان الأمر كذلك فما بال القرون الأولى لم يستدلوا بذلك فلم يؤمنوا. وحاصل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 516 الجواب على القولين أن ذلك من سر القدر وعلمه عند ربي جل شأنه فِي كِتابٍ الظاهر أنه خبر ثان لعلمها والخبر الأول عِنْدَ رَبِّي. وجوز أن يكونا خبرا واحدا مثل هذا حلو حامض وأن يكون الخبر عِنْدَ رَبِّي. وفِي كِتابٍ في موضع الحال من الضمير المستتر في الظرف أو هو معمول له. وأن يكون الخبر في كتاب وعِنْدَ رَبِّي في موضع الحال من الضمير المستتر فيه والعامل الظرف وهو يعمل متأخرا على رأي الأخفش، وقيل: يكون حالا من المضاف إليه في عِلْمُها، وقيل: يكون ظرفا للظرف الثاني، وقيل: هو ظرف للعلم ذكر جميع ذلك أبو البقاء ثم قال: ولا يجوز أن يكون فِي كِتابٍ متعلقا بعلمها و «عند ربي» الخبر لأن المصدر لا يعمل فيما بعد خبره. وأنت تعلم أن أول الأوجه هو الأوجه وكأنه عنى عليه السّلام بالكتاب اللوح المحفوظ أي علمها مثبت في اللوح المحفوظ بتفاصيله وهذا من باب المجاز إذ المثبت حقيقة إنما هو النقوش الدالة على الألفاظ المتضمنة شرح أحوالهم المعلومة له تعالى، وجوز أن يكون المراد بالكتاب الدفتر كما هو المعروف في اللغة ويكون ذلك تمثيلا لتمكنه وتقرره في علمه عز وجل بما استحفظه العالم وقيده بكتبته في جريدة ولعله أولى، ويلوح إليه قوله تعالى لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى فإن عدم الضلال والنسيان أوفق بإتقان العلم، والظاهر أن فيه على الوجهين دفع توهم الاحتياج لأن الإثبات في الكتاب إنما يفعله من يفعله لخوف النسيان والله تعالى منزه عن ذلك، والإثبات في اللوح المحفوظ لحكم ومصالح يعلم بعضها العالمون، وقيل: إن هذه الجملة على الأول تكميل لدفع ما يتوهم من أن الإثبات في اللوح للاحتياج لاحتمال خطأ أو نسيان تعالى الله سبحانه عنه، وعلى الثاني تذييل لتأكيد الجملة السابقة، والمعنى لا يخطىء ربي ابتداء بأن لا يدخل شيء من الأشياء في واسع علمه فلا يكون علمه سبحانه محيطا بالأشياء ولا يذهب عليه شيء بقاء بأن يخرج عن دائرة علمه جل شأنه بعد أن دخل بل هو عز وجل محيط بكل شيء علما أزلا وأبدا وتفسير الجملتين بما ذكر مما ذهب إليه القفال ووافقه بعض المحققين ولا يخفى حسنه. وأخرج ابن المنذر وجماعة عن مجاهد أنهما بمعنى واحد وليس بذاك، والفعلان قيل: منزلان منزلة اللازم، وقيل: هما باقيان على تعديهما والمفعول محذوف أي لا يضل شيئا من الأشياء ولا ينساه، وقيل: شيئا من أحوال القرون الأولى، وعن الحسن لا يضل وقت البعث ولا ينساه وكأنه جعل السؤال عن البعث وخصص لأجله المفعول وقد علمت حاله. وعن ابن عباس أن المعنى لا يترك من كفر به حتى ينتقم منه ولا يترك من وحده حتى يحازيه وكأنه رضي الله تعالى عنه جعل السؤال عن حالهم من حيث السعادة والشقاوة والجواب عن ذلك على سبيل الإجمال فتدبر ولا تغفل. وزعم بعضهم أن الجملة في موضع الصفة لكتاب والعائد إليه محذوف أي لا يضله ربي ولا ينساه، وقيل: العائد ضمير مستتر في الفعل ورَبِّي نصب على المفعول أي لا يضل الكتاب ربي أي عنه. وفي يَنْسى ضمير عائد إليه أيضا أي ولا ينسى الكتاب شيئا أي لا يدعه على حد لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الكهف: 49] . والعجب كل العجب من العدول عن الظاهر إلى مثل هذه الأقوال، وإظهار رَبِّي في موقع الإضمار للتلذذ بذكره تعالى ولزيادة التقرير والإشعار بعلية الحكم فإن الربوبية مما تقتضي عدم الضلال والنسيان حتما. وقرأ الحسن وقتادة والجحدري وحماد بن سلمة وابن محيصن وعيسى الثقفي «لا يضلّ» بضم الياء من أضل وأضللت الشيء وضللته قيل بمعنى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 517 وفي الصحاح عن ابن السكيت يقال: أضللت بعيري إذا ذهب منك وضللت المسجد والزاد إذا لم تعرف موضعهما وكذلك كل شيء مقيم لا يهتدى إليه، وحكي نحوه عن الفراء. وابن عيسى، وذكر أبو البقاء في توجيه هذه القراءة وجهين جعل رَبِّي منصوبا على المفعولية، والمعنى لا يضل أحد ربي عن علمه وجعله فاعلا والمعنى لا يجد ربي الكتاب ضالا أي ضائعا، وقرأ السلمي «لا يضلّ ربي ولا ينسى» ببناء الفعلين لما لم يسم فاعله. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً إلخ يحتمل أن يكون ابتداء كلام منه عز وجل وكلام موسى عليه السّلام قد تم عند قوله تعالى: وَلا يَنْسى فيكون الموصول خبر مبتدأ محذوف والجملة على ما قيل: مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه سبحانه لما حكى كلام موسى عليه السّلام إلى قوله: لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى سئل ما أراد موسى بقوله: رَبِّي فقال سبحانه: هو الَّذِي جَعَلَ إلخ، واختار هذا الإمام بل قال: يجب الجزم به ويحتمل أن يكون من كلام موسى عليه السّلام على أن يكون قد سمعه من الله عز وجل فأدرجه بعينه في كلامه ولذا قال لَكُمُ دون لنا وهو من قبيل الاقتباس فيكون الموصول إما مرفوع المحل على أنه صفة لربي أو خبر مبتدأ محذوف كما في الاحتمال السابق وإما منصوب على المدح، واختار هذا الزمخشري، وعلى الاحتمالين يكون في قوله تعالى: فَأَخْرَجْنا التفات بلا اشتباه أو على أن موسى عليه السّلام قال ذلك من عنده غير سامع له من الله عز وجل، وقال: فأخرج به بإسناد أخرج إلى ضمير الغيبة إلا أن الله تعالى لما حكاه أسنده إلى ضمير المتكلم لأن الحاكي هو المحكي عنه فمرجع الضميرين واحد، وظاهر كلام ابن المنير اختيار هذا حيث قال بعد تقريره: وهذا وجه حسن رقيق الحاشية وهو أقرب الوجوه إلى الالتفات. وأنكر بعضهم أن يكون فيه التفات أو على أنه عليه السّلام قاله من عنده بهذا اللفظ غير مغير عند الحكاية، وقوله: «أخرجنا» من باب قول خواص الملك أمرنا وعمرنا وفعلنا وإنما يريدون الملك أو هو مسند إلى ضمير الجماعة بإرادة أخرجنا نحن معاشر العباد بذلك الماء بالحراثة أزواجا من نبات شتى على ما قيل، وليس في «أخرجنا» على هذا وما قبله التفات. ويحتمل أن يكون ذلك كلام موسى عليه السّلام إلى قوله تعالى: «ماء» وما بعده كلام الله عز وجل أوصله سبحانه بكلام موسى عليه السّلام حين الحكاية لنبينا صلّى الله عليه وسلّم، والأولى عندي الاحتمال الأول بل يكاد يكون كالمتعين ثم الاحتمال الثاني ثم الاحتمال الثالث وسائر الاحتمالات ليس بشيء ووجه ذلك لا يكاد يخفى. وسيأتي إن شاء الله تعالى في الزخرف نحو هذه الآية، والمهد في الأصل مصدر ثم جعل اسم جنس لما يمهد للصبي. ونصبه على أنه مفعول ثان لجعل إن كان بمعنى صيّر أو حال إن كان بمعنى خلق، والمراد جعلها لكم كالمهد، ويجوز أن يكون باقيا على مصدريته غير منقول لما ذكر، والمراد جعلها ذات مهد أو ممهدة أو نفس المهد مبالغة، وجوز أن يكون منصوبا بفعل مقدر من لفظه أي مهدها مهدا بمعنى بسطها ووطأها، والجملة حال من الفاعل أو المفعول، وقرأ كثير «مهادا» وهو على ما قال المفضل. كالمهد في المصدرية والنقل. وقال أبو عبيد: المهاد اسم والمهد مصدر، وقال بعضهم: هو جمع مهد ككعب وكعاب، والمشهور في جمعه مهود، والمعنى على الجمع جعل كل موضع منها مهدا لكل واحد منكم وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا أي حصل لكم طرقا ووسطها بين الجبال والأودية تسلكونها من قطر إلى قطر لتقضوا منها مآربكم وتنتفعوا بمنافعها ومرافقها، وللدلالة على أن الانتفاع مخصوص بالإنسان كرر «لكم» وذكره أولا لبيان أن المقصود بالذات من ذلك الإنسان وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ من جهتها أو منها نفسها على ما في بعض الآثار ماءً هو المطر فَأَخْرَجْنا بِهِ أي بذلك الماء وواسطته حيث إن الله تعالى أودع فيه ما أودع كما ذهب إلى ذلك الماتريدية وغيرهم من السلف الصالح لكنه لا يؤثر إلا بإذن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 518 الله تعالى كسائر الأسباب فلا ينافي كونه عز وجل هو المؤثر الحقيقي، وإنما فعل ذلك سبحانه مع قدرته تعالى الكاملة على إيجاد ما شاء بلا توسيط شيء كما أوجد بعض الأشياء كذلك مراعاة للحكمة. وقيل: بِهِ أي عنده وإليه ذهب الأشاعرة فالماء كالنار عندهم في أنه ليس فيه قوة الري مثلا والنار كالماء في أنها ليس فيها قوة الإحراق وإنما الفرق بينهما في أن الله تعالى قد جرت عادته أن يخلق الري عند شرب الماء والإحراق عند مسيس النار دون العكس. وزعموا أن من قال: إن في شيء من الأسباب قوة تأثير أودعها الله تعالى فيه فهو إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان وهو لعمري من المجازفة بمكان. والظاهر أن يقال: فأخرج إلا أنه التفت إلى التكلم للتنبيه على ظهور ما فيه من الدلالة على كمال القدرة والحكمة بواسطة أنه لا يسند إلى العظيم إلا أمر عظيم والإيذان بأنه لا يتأتى إلا من قادر مطاع عظيم الشأن ينقاد لأمره ويذعن لمشيئته الأشياء المختلفة فإن مثل هذا التعبير يعبر به الملوك والعظماء النافذ أمرهم. ويقوي هذا الماضي الدال على التحقيق كالفاء الدالة على السرعة فإنها للتعقيب على ما نص عليه بعض المحققين وجعل الإنزال والإخراج عبارتين عن إرادة النزول والخروج معللا باستحالة مزاولة العمل في شأنه تعالى شأنه. واعترض عليه بما فيه بحث ولا يضر في ذلك كونه تعقيبا عرفيا ولم تجعل للسببية لأنها معلومة من الباء. وقال الخفاجي: لك أن تقول إن الفاء لسببية الإرادة عن الإنزال والباء لسببية النبات عن الماء فلا تكرار كما في قوله تعالى: لِنُحْيِيَ بِهِ [الفرقان: 49] ولعل هذا أقرب انتهى. وأنت تعلم أن التعقيب أظهر وأبلغ. وقد ورد على هذا النمط من الالتفات للنكتة المذكورة قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها [فاطر: 27] وقوله تعالى أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ [النمل: 60] وقوله سبحانه وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام: 99] أَزْواجاً أي أصنافا أطلق عليها ذلك لازدواجها واقتران بعضها ببعض. مِنْ نَباتٍ بيان وصفة لأزواجا. وكذا قوله تعالى شَتَّى أي متفرقة جمع شتيت كمريض ومرضى وألفه للتأنيث، وجوز أبو البقاء أن يكون صفة لنبات لما أنه في الأصل مصدر يستوي فيه الواحد والجمع يعني أنها شتى مختلفة النفع والطعم واللون والرائحة والشكل بعضها يصلح للناس وبعضها للبهائم. وقالوا: من نعمته عز وعلا أن أرزاق العباد إنما تحصل بعمل الأنعام وقد جعل الله تعالى علفها مما يفضل عن حاجتهم ولا يقدرون على أكله. وقوله تعالى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ معمول قول محذوف وقع حالا من ضمير «فأخرجنا» أي أخرجنا أصناف النبات قائلين كُلُوا إلخ أي معديها لانتفاعكم بالذات وبالواسطة آذنين في ذلك، وجوز أن يكون القول حالا من المفعول أي أخرجنا أزواجا مختلفة مقولا فيها ذلك. والأولى أنسب وأولى. ورعى كما قال الزجاج يستعمل لازما ومتعديا، يقال: رعت الدابة رعيا ورعاها صاحبها رعاية إذا أسامها وسرحها وأراحها إِنَّ فِي ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من شؤونه تعالى. وأفعاله وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبته وبعد منزلته في الكمال، وقيل: لعدم ذكر المشار إليه بلفظه. والتنكير في قوله سبحانه لَآياتٍ للتفخيم كما وكيفا أي لآيات كثيرة جليلة واضحة الدلالة على شؤون الله تعالى في ذاته وصفاته لِأُولِي النُّهى جمع نهية بضم النون سمي بها العقل لنهيه عن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 519 اتباع الباطل وارتكاب القبيح كما سمي بالعقل. والحجر لعقله وحجره عن ذلك. ويجيء النهي مفردا بمعنى العقل كما في القاموس وهو ظاهر ما روي عن ابن عباس هنا فإنه قال: أي لذوي العقل، وفي رواية أخرى عنه أنه قال: لذوي التقى. ولعله تفسير باللازم. وأجاز أبو علي أن يكون مصدرا كالهدى والأكثرون على الجمع أي لذوي العقول الناهية عن الأباطيل وتخصيص كونها آيات بهم لأن أوجه دلالتها على شؤونه تعالى لا يعلمها إلا العقلاء ولذا جعل نفعها عائدا إليهم في الحقيقة فقال سبحانه: كُلُوا وَارْعَوْا دون كلوا أنتم والأنعام مِنْها أي من الأرض. خَلَقْناكُمْ أي في ضمن خلق أبيكم آدم عليه السّلام منها فإن كل فرد من أفراد البشر له حظ من خلقه عليه السّلام إذ لم تكن فطرته البديعة مقصورة على نفسه عليه السّلام بل كانت أنموذجا منطويا على فطرة سائر أفراد الجنس انطواء جماليا مستتبعا لجريان آثارها على الكل فكان خلقه عليه السّلام منها خلقا للكل منها، وقيل: المعنى خلقنا أبدانكم من النطفة المتولدة من الأغذية المتولدة من الأرض بوسائط (1) . وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عطاء الخراساني قال: إن الملك ينطلق فيأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه الشخص فيذره على النطفة فيخلق من التراب والنطفة وَفِيها نُعِيدُكُمْ بالإماتة وتفريق الأجزاء، وهذا وكذا ما بعد مبني على الغالب بناء على أن من الناس من لا يبلى جسده كالأنبياء عليهم الصلاة والسّلام، وإيثار كلمة في على كلمة إلى للدلالة على الاستقرار المديد فيها وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى بتأليف أجزائكم المتفتتة المختلطة بالتراب على الهيئة السابقة ورد الأرواح من مقرها إليها، وكون هذا الإخراج تارة أخرى باعتبار أن خلقهم من الأرض إخراج لهم منها وإن لم يكن على نهج التارة الثانية أو التارة في الأصل اسم للتور الواحد وهو الجريان، ثم أطلق على كل فعلة واحد من الفعلات المتجددة كما مر في المرة، وما ألطف ذكر قوله تعالى: مِنْها خَلَقْناكُمْ إلخ بعد ذكر النبات وإخراجه من الأرض فقد تضمن كل إخراج أجسام لطيفة من الترباء الكثيفة وخروج الأموات أشبه شيء بخروج النبات هذا. «ومن باب الإشارة في الآيات» طه يا طاهرا بنا هاديا إلينا أو يا طائف كعبة الأحدية في حرم الهوية وهادي الأنفس الزكية إلى المقامات العلية، وقيل: إن ط لكونها بحساب الجمل تسعة وإذا جمع ما انطوت عليه من الأعداد- أعني الواحد والاثنين والثلاثة- وهكذا إلى التسعة بلغ خمسة وأربعين إشارة إلى آدم لأن أعداد حروفه كذلك، وهـ لكونها بحساب الجمل خمسة وما انطوت عليه من الأعداد يبلغ خمسة عشر إشارة إلى حوا بلا همز، والإشارة بمجموع الأمرين إلى أنه صلّى الله عليه وسلّم أبو الخليقة وأمها فكأنه قيل: يا من تكونت منه الخليقة، وقد أشار إلى ذلك العارف بن الفارض قدس سره بقوله على لسان الحقيقة المحمدية: وإني وإن كنت ابن آدم صورة ... فلي منه معنى شاهد بأبوتي وقال في ذلك الشيخ عبد الغني النابلسي عليه الرحمة: طه النبي تكونت من نوره ... كل البرية ثم لو ترك القطا   (1) وذكروا أن التراب الذي خلق منه نبينا صلّى الله عليه وسلّم كان من الكعبة إلا أنه نقل في الطوفان إلى محل قبره الشريف عليه الصلاة والسّلام اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 520 وقيل: طه في الحساب أربعة عشر وهو إشارة إلى مرتبة البدرية فكأنه قيل: يا بدر سماء عالم الإمكان ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى أي إلا لتذكر من يخشى أيام الوصال التي كانت قبل تعلق الأرواح بالأبدان وتخبرهم بأنها يحصل نحوها لهم لتطيب أنفسهم وترتاح أرواحهم أو لتذكرهم إياها ليشتاقوا إليها وتجري دموعهم عليها ويجتهدوا في تحصيل ما يكون سببا لعودها ولله تعالى در من قال: سقى الله أياما لنا ولياليا ... مضت فجرت من ذكرهن دموع فيا هل لها يوما من الدهر أوبة ... وهل لي إلى أرض الحبيب رجوع وقيل: من يخشى هم العلماء لقوله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] ولما كان العلم مظنة العجب والفخر ونحوهما ناسب أن يذكر صاحبه عظمة الله عز وجل ليكون ذلك سورا له مانعا من تطرق شيء مما ذكر الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى العرش جسم عظيم خلقه الله تعالى كما قيل من نور شعشعاني وجعله موضع نور العقل البسيط الذي هو مشرق أنوار القدم وشرفه بنسبة الاستواء الذي لا يكتنه، وقيل: خلق من أنوار أربعة مختلفة الألوان وهي أنوار سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولذا قيل له الأطلس، وإلى هذا ذهبت الطائفة الحادثة في زماننا المسماة بالكشفية. وذكر بعض الصوفية أن العرش إشارة إلى قلب المؤمن الذي نسبة العرش المشهور إليه كنسبة الخردلة إلى الفلاة بل كنسبة القطرة إلى البحر المحيط وهو محل نظر الحق ومنصة تجليه ومهبط أمره ومنزل تدليه، وفي إحياء العلوم لحجة الإسلام الغزالي قال الله تعالى «لم يسعني سمائي ولا أرضي ووسعني قلب عبدي المؤمن اللين الوادع» أي الساكن المطمئن، وفي الرشدة لصدر الدين القونوي قدس سره بلفظ «ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن التقي النقي الوادع» وليس هذا القلب عبارة عن البضعة الصنوبرية فإنها عند كل عاقل أحقر من حيث الصورة أن تكون محل سره جل وعلا فضلا عن أن تسعه سبحانه وتكون مطمح نظره الأعلى ومستواه عز شأنه وهي وإن سميت قلبا فإنما تلك التسمية على سبيل المجاز، وتسمية (1) الصفة والحامل باسم الموصوف والمحمول بل القلب الإنساني عبارة عن الحقيقة الجامعة بين الأوصاف والشؤون الربانية وبين الخصائص والأحوال الكونية الروحانية منها والطبيعية وتلك الحقيقة تنتشئ من بين الهيئة الاجتماعية الواقعة بين الصفات والحقائق الإلهية والكونية وما يشتمل عليه هذان الأصلان من الأخلاق والصفات اللازمة وما يتولد من بينهما بعد الارتياض والتزكية، والقلب الصنوبري منزل تدلى الصورة الظاهرة من بين ما ذكرنا التي هي صورة الحقيقة القلبية، ومعنى وسع ذلك للحق جل وعلا على ما في مسلك الوسط الداني كونه مظهرا جامعا للأسماء والصفات على وجه لا ينافي تنزيه الحق سبحانه من الحلول والاتحاد والتجزئة وقيام القديم بالحادث ونحو ذلك من الأمور المستحيلة عليه تعالى شأنه، هذا لكن ينبغي أن يعلم أن هذا الخبر وإن استفاض عند الصوفية قدست أسرارهم إلا أنه قد تعقبه المحدثون، فقال العراقي: لم أر له أصلا. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: هو مذكور في الإسرائيليات وليس له إسناد معروف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكأنه أشار بما في الإسرائيليات إلى ما أخرجه الإمام أحمد في الزهد عن وهب بن منبه قال: إن الله تعالى فتح السموات   (1) قوله وتسمية الصفة والحامل باسم الموصوف والمحمول كذا بخطة: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 521 لحزقيل حتى نظر إلى العرش فقال حزقيل: سبحانك ما أعظمك يا رب فقال الله تعالى: إن السموات والأرض ضعفن من أن يسعنني ووسعني قلب عبدي المؤمن الوادع اللين. نعم لذلك ما يشهد له فقد قال العلامة الشمس ابن القيم في شفاء العليل ما نصه، وفي المسند وغيره عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «القلوب آنية الله تعالى في أرضه فأحبها إليه أصلبها وأرقها وأصفاها» انتهى. وروى الطبراني من حديث أبي عنبسة الخولاني رفعه «أن الله تعالى آنية من الأرض وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين وأحبها إليه ألينها وأرقها» وهذا الحديث وإن كان في سنده بقية بن الوليد وهو مدلس إلا أنه صرح فيه بالتحديث ويعلم من مجموع الحديثين أربع صفات للقلب الأحب إليه تعالى اللين وهو لقبول الحق والصلابة وهي لحفظه فالمراد بها صفة تجامع اللين والصفاء والرقة وهما لرؤيته، واستواؤه تعالى على العرش بصفة الرحمانية دون الرحيمية للإشارة إلى أن لكل أحد نصيبا من واسع رحمته جل وعلا وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى قيل: السر أمر كامن في القلب كمون النار في الشجر الرطب حتى تثيره الإرادة لا يطلع عليه الملك ولا الشيطان ولا تحس به النفس ولا يشعر به العقل وإلا خفي ما في باطن ذلك. وعند بعض الصوفية السر لطيفة بين القلب والروح وهو معدن الأسرار الروحانية والخفي لطيفة بين الروح والحضرة الإلهية وهو مهبط الأنوار الربانية وتفصيل ذلك في محله. وقد استدل بعض الناس بهذه الآية على عدم مشروعية الجهر بالذكر والحق أنه مشروع بشرطه، واختلفوا في أنه هل هو أفضل من الذكر الخفي أو الذكر الخفي أفضل منه والحق فيما لم يرد نص على طلب الجهر فيه وما لم يرد نص على طلب الإخفاء فيه أنه يختلف الأفضل فيه باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمان فيكون الجهر أفضل من الإخفاء تارة والإخفاء أفضل أخرى وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ رَأى ناراً قال الشيخ إبراهيم الكوراني عليه الرحمة في تنبيه العقول: إن تلك النار كانت مجلى الله عز وجل وتجليه سبحانه فيها مراعاة للحكمة من حيث إنها كانت مطلوب موسى عليه السّلام، واحتج على ذلك بحديث رواه عن ابن عباس رضي تعالى عنه وسنذكره إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها الآية «فاخلع نعليك» اترك الالتفات إلى الدنيا والآخرة وسر مستغرق القلب بالكلية في معرفة الله تعالى ولا تلتف إلى ما سواه سبحانه «إنك بالوادي المقدس طوى» وهو وادي قدس جلال الله تعالى وتنزه عزته عز وجل، وقيل: النعلان إشارة إلى المقدمتين اللتين يتركب منهما الدليل لأنهما يتوصل بهما العقل إلى المقصود كالنعلين يلبسهما الإنسان فيتوصل بالمشي بهما إلى مقصوده كأنه قيل: لا تلتف إلى المقدمتين ودع الاستدلال فإنك في وادي معرفة الله تعالى المفعم بآثار ألوهيته سبحانه فَاعْبُدْنِي قدم هذا الأمر للإشارة إلى عظم شرف العبودية، وثنى بقوله سبحانه وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي لأن الصلاة من أعلام العبودية ومعارج الحضرة القدسية. وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى إيناس منه تعالى له عليه السّلام فإنه عليه السّلام دهش لما تكلم سبحانه معه بما يتعلق بالألوهية فسأله عن شيء بيده ولا يكاد يغلط فيه ليتكلم ويجيب فتزول دهشته، قيل وكذلك يعامل المؤمن بعد موته وذلك أنه إذا مات وصل إلى حضرة ذي الجلال فيعتريه ما يعتريه فيسأله عن الإيمان الذي كان بيده في الدنيا ولا يكاد يغلط فيه فإذا ذكره زال عنه ما اعتراه، وقيل: إن الله تعالى لما عرفه كمال الألوهية أراد أن يعرفه نقصان البشرية فسأله عن منافع العصا فذكر بعضها فعرفه الله تعالى أن فيها ما هو أعظم نفعا مما ذكره تنبيها على أن العقول قاصرة عن معرفة صفات الشيء الحاضر فلولا التوفيق كيف يمكنه الوصول إلى معرفة أجل الأشياء وأعظمها فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى فيه إشارة إلى ظهور أثر الجلال ولذلك خاف موسى عليه السّلام فقال سبحانه «خذها ولا تخف» فهذا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 522 الخوف من كمال المعرفة لأنه لم يأمن مكر الله تعالى ولو سبق منه سبحانه الإيناس، وفي بعض الآثار «يا موسى لا تأمن مكري حتى تجوز الصراط» . وقيل: كان خوفه من فوات المنافع المعدودة ولذا علل النهي بقوله تعالى: سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى وهذا جهل بمقام موسى عليه السّلام. وكذا ما قيل: إنه لما رأى الأمر الهائل فر حيث لم يبلغ مقام فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات: 50] ولو بلغه لم يفر. وما قيل: أيضا لعله لما حصل له مقام المكالمة بقي في قلبه عجب فأراه الله تعالى أنه بعد في النقص الإمكاني ولم يفارق عالم البشرية وما النصر والتثبيت إلا من عند الله تعالى وحده. وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أراد سبحانه أن يريه آية نفسية بعد أن أراه عليه السّلام آية آفاقية كما قال سبحانه: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ وهذا من نهاية عنايته جل جلاله: وقد ذكروا في هذه القصة نكات وإشارات. منها أنه سبحانه لما أشار إلى العصا واليمين بقوله تعالى وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ حصل في كل منهما برهان باهر ومعجز قاهر فصار أحدهما وهو الجماد حيوانا والاخر وهو الكثيف نورانيا لطيفا. ثم إنه تعالى ينظر في كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة إلى قلب العبد فأي عجب أن ينقلب قلبه الجامد المظلم حيا مستنيرا، ومنها أن العصا قد استعدت بيمن موسى عليه السّلام للحياة وصارت حية فكيف لا يستعد قلب المؤمن الذي هو بين إصبعين من أصابع الرحمن للحياة ويصير حيا. ومنها إن العصا باشارة واحدة صارت بحيث ابتلعت سحر السحرة فقلب المؤمن أولى أن يصير بمدد نظر الرب في كل يوم مرات بحيث يبتلع سحر النفس الأمارة بالسوء، ومنها أن قوله تعالى أولا فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إشارة إلى التخلية وتطهير لوح الضمير من الأغيار وما بعده إشارات إلى التحلية وتحصيل ما ينبغي تحصيله. وأشار سبحانه إلى علم المبدأ بقوله تعالى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ وإلى علم الوسط بقوله عز وجل فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي وفيه إشارة إلى الأعمال الجسمانية والروحانية وإلى علم المعاد بقوله سبحانه إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ ومنها أنه تعالى افتتح الخطاب بقوله عز قائلا وَأَنَا اخْتَرْتُكَ وهو غاية اللطف وختم الكلام بقوله جل وعلا فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها- إلى- فَتَرْدى وهو قهر تنبيها على أن رحمته سبقت غضبه وأن العبد لا بد أن يكون سلوكه على قدمي الرجاء والخوف، ومنها أن موسى عليه السّلام كان في رجله شيء وهو النعل وفي يده شيء وهو العصا والرجل آلة الهرب واليد آلة الطلب فأمر بترك ما فيهما تنبيها على أن السالك ما دام في مقام الطلب والهرب كان مشتغلا بنفسه وطالبا لحظه فلا يحصل له كمال الاستغراق في بحر العرفان وفيه أن موسى عليه السّلام مع جلالة منصبه وعلو شأنه لم يمكن له الوصول إلى حضرة الجلال حتى خلع النعل وألقى العصا فأنت مع ألف وقر من المعاصي كيف يمكنك الوصول إلى جنابه وحضرته جل جلاله. واستشكلت هذه الآيات من حيث إنه تدل على أن الله تعالى خاطب موسى عليه السّلام بلا واسطة وقد خاطب نبينا صلّى الله عليه وسلّم بواسطة جبريل عليه السّلام فيلزم مزية الكليم على الحبيب عليهما الصلاة والسّلام. والجواب أنه تعالى شأنه قد خاطب نبينا صلّى الله عليه وسلّم أيضا بلا واسطة ليلة المعراج غاية ما في البال أنه تعالى خاطب موسى عليه السّلام في مبدأ رسالته بلا واسطة وخاطب حبيبه عليه الصلاة والسّلام في مبدأ رسالته بواسطة ولا يثبت بمجرد ذلك المزية على أن خطابه لحبيبه الأكرم صلّى الله عليه وسلّم بلا واسطة كان مع كشف الحجاب ورؤيته عليه الصلاة والسّلام إياه على وجه لم يحصل لموسى عليه السّلام وبذلك يجبر ما يتوهم في تأخير الخطاب بلا واسطة عن مبدأ الرسالة. وانظر إلى الفرق بين قوله تعالى عن نبينا صلّى الله عليه وسلّم ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى وقوله عن موسى عليه السّلام قالَ هِيَ عَصايَ إلخ ترى الفرق واضحا بين الحبيب والكليم مع أن لكل رتبة التكريم صلّى الله عليه وسلّم. وذكر بعضهم أن في الآيات ما يشعر بالفرق بينهما أيضا عليهما الصلاة والسّلام من وجه آخر وذلك أن موسى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 523 عليه السّلام كان يتوكأ على العصا والنبي صلّى الله عليه وسلّم كان يتكل على فضل الله تعالى ورحمته قائلا مع أمته وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولذا ورد في حقه حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: 64] على معنى وحسب من اتبعك. وأيضا إنه عليه السّلام بدأ بمصالح نفسه في قوله: أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها ثم مصالح رعيته بقوله: وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي والنبي صلّى الله عليه وسلّم لم يشتغل إلا بإصلاح أمر أمته اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، فلا جرم يقول موسى عليه السّلام يوم القيامة. نفسي نفسي والنبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أمتي أمتي» انتهى، وهو مأخوذ من كلام الإمام بل لا فرق إلا بيسير جدا. ولعمري إنه لا ينبغي أن يقتدى به في مثل هذا الكلام كما لا يخفى على ذوي الأفهام. وإنما نقلته لأنبه على عدم الاغترار به نعوذ بالله تعالى من الخذلان رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي لم يذكر عليه السّلام بم يشرح صدره وفيه احتمالات. قال بعض الناس: إنه تعالى ذكر عشرة أشياء ووصفها بالنور. الأول ذاته جل شأنه اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النور: 35] الثاني الرسول صلّى الله عليه وسلّم قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ [المائدة: 15] ، الثالث الكتاب وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ [الأعراف: 157] . الرابع الإيمان يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ [التوبة: 32] . الخامس عدل الله تعالى وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها [الزمر: 69] . السادس القمر وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً [نوح: 16] . السابع النهار وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام: 1] . الثامن البينات إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ [المائدة: 44] ، التاسع الأنبياء عليهم السّلام نُورٌ عَلى نُورٍ [النور: 35] ، العاشر المعرفة مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ [النور: 35] فكان موسى عليه السّلام قال أولا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي بمعرفة أنوار جلال كبريائك، وثانيا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي بالتخلق بأخلاق رسلك وأنبيائك، وثالثا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي باتباع وحيك وامتثال أمرك ونهيك، ورابعا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي بنور الإيمان والإيقان بإلهيتك، وخامسا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي بالاطلاع على أسرار عدلك في قضائك وحكمك. وسادسا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي بالانتقال من نور شمسك وقمرك إلى أنوار جلال عزتك كما فعله إبراهيم عليه السّلام، وسابعا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي من مطالعة نهارك وليلك إلى مطالعة نهار فضلك وليل قهرك، وثامنا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي بالاطلاع على مجامع آياتك ومعاقد بيناتك في أرضك وسمواتك، وتاسعا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي في أن أكون خلف صدق للأنبياء المتقدمين ومشابها لهم في الانقياد لحكم رب العالمين، وعاشرا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي بأن يجعل سراج الإيمان كالمشكاة التي فيها المصباح انتهى. ولا يخفى ما بين أكثر ما ذكر من التلازم وإغناء بعضه عن بعض، وقال أيضا: إن شرح الصدر عبارة عن إيقاد النور في القلب حتى يصير كالسراج، ولا يخفى أن مستوقد السراج محتاج إلى سبعة أشياء زند وحجر وحراق وكبريت ومسرجة وفتيلة ودهن، فالزند زند المجاهد وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا [العنكبوت: 69] والحجر حجر التضرع ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً [الأعراف: 205] والحراق منع الهوى ونهي النفس عن الهوى والكبريت الإنابة وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ [الزمر: 54] والمسرجة الصبر وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة: 45] والفتيلة الشكر ولَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم: 7] والدهن: الرضا وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ [الطور: 48] أي ارض بقضائه، ثم إذا صلحت هذه الأدوات فلا تعول عليها بل ينبغي أن تطلب المقصود من حضرة ربك جل وعلا قائلا: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 524 فهنالك تسمع قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى ثم إن هذا النور الروحاني أفضل من الشمس الجسمانية لوجوه: الأول أن الشمس يحجبها الغيم وشمس المعرفة لا تحجبها السماوات السبع إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر: 10] . الثاني الشمس تغيب ليلا وشمس المعرفة لا تغيب ليلا إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل: 6] والمستغفرين بالأسحار سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا [الإسراء: 1] . الليل للعاشقين ستر ... يا ليت أوقاته تدوم الثالث الشمس تفنى إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [التكوير: 1] والمعرفة لا تفنى. أصلها ثابت وفرعها في السماء سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] ، الرابع الشمس إذا قابلها القمر انكسفت، وشمس المعرفة وهي «أشهد أن لا إله إلا الله» إذا لم تقرن بقمر النبوة وهي أشهد أن محمدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يصل النور إلى عالم الجوارح، الخامس الشمس تسود الوجه والمعرفة تبيض الوجوه يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ [آل عمران: 106] ، السادس الشمس تصدع والمعرفة تصعد. السابع الشمس تحرق والمعرفة تمنع من الإحراق «جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي» ، الثامن الشمس منفعتها في الدنيا والمعرفة منفعتها في الدارين فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [النحل: 97] التاسع الشمس فوقانية الصورة تحتانية المعنى والمعارف الإلهية بالعكس، العاشر الشمس تقع على الولي والعدو والمعرفة لا تحصل إلا للولي، الحادي عشر الشمس تعرف أحوال الخلق والمعرفة توصل القلب إلى الخالق، ولما كان شرح الصدر الذي هو أول مراتب الروحانيات أشرف من أعلى مراتب الجسمانيات بدأ موسى عليه السّلام بطلبه قائلا رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وعلامة شرح الصدر ودخول النور الإلهي فيه التجافي عن دار الغرور والرغبة في دار الخلود وشبهوا الصدر بقلعة وجعلوا الأول كالخندق لها والثاني كالسور فمتى كان الخندق عظيما والسور محكما عجز عسكر الشيطان من الهوى والكبر والعجب والبخل وسوء الظن بالله تعالى وسائر الخصال الذميمة ومتى لم يكونا كذلك دخل العسكر وحينئذ ينحصر الملك في قصر القلب ويضيق الأمر عليه. وفرقوا بين الصدر والقلب والفؤاد واللب بأن الصدر مقر الإسلام أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الزمر: 22] والقلب مقر الإيمان حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 7] أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ [المجادلة: 22] والفؤاد مقر المشاهدة ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى [النجم: 11] واللب مقام التوحيد إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ [الرعد: 19، الزمر: 9] أي الذين خرجوا من قشر الوجود المجازي وبقوا بلب الوجود الحقيقي وإنما سأل موسى عليه السّلام شرح الصدر دون القلب لأن انشراح الصدر يستلزم انشراح القلب دون العكس، وأيضا شرح الصدر كالمقدمة لشرح القلب والحر تكفيه الإشارة، فإذا علم المولى سبحانه أنه طالب للمقدمة فلا يليق بكرمه أن يمنعه النتيجة. وأيضا أنه عليه السّلام راعى الأدب في الطلب فاقتصر على طلب الأدنى فلا جرم أعطى المقصود فقيل: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى ولما اجترأ في طلب الرؤية، قيل له: لَنْ تَرانِي [الأعراف: 143] ، ولا يخفى ما بين قول موسى عليه السّلام لربه عز وجل رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وقول الرب لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح: 1] ويعلم منه أن الكليم عليه السّلام مريد والحبيب صلّى الله عليه وسلّم مراد والفرق مثل الصبح ظاهر. ويزيد الفرق ظهورا أن موسى عليه السّلام في الحضرة الإلهية طلب لنفسه ونبينا صلّى الله عليه وسلّم حين قيل له هناك السّلام عليك أيها النبي قال: السّلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وقد أطال الإمام الكلام في هذه الآية بما هو من هذا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 525 النمط فارجع إليه إن أردته وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي كأنه عليه السّلام طلب قدرة التعبير عن الحقائق الإلهية بعبارة واضحة فإن المطلب وعر لا يكاد توجد له عبارة تسهله حتى يأمن سامعه عن العثار. ولذا ترى كثيرا من الناس ضلوا بعبارات بعض الأكابر من الصوفية في شرح الأسرار الإلهية، وقيل: إنه عليه السّلام سأل حل عقدة الحياء فإنه استحيا أن يخاطب عدو الله تعالى بلسان به خاطب الحق جل وعلا. ولعله أراد من القول المضاف القول الذي به إرشاد للعباد فإن همة العارفين لا تطلب النطق والمكالمة مع الناس فيما لا يحصل به إرشاد لهم نعم النطق من حيث هو فضيلة عظيمة وموهبة جسيمة ولهذا قال سبحانه الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ [الرحمن: 1- 4] من غير توسيط عاطف. وعن علي كرم الله تعالى وجهه ما الإنسان لولا اللسان إلا صورة مصورة أو بهيمة مهملة ، وقال رضي الله تعالى عنه: المرء مخبوء تحت طي لسانه لا طيلسانه ، وقال رضي الله تعالى عنه: المرء بأصغريه قلبه ولسانه، وقال زهير: لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم ومن الناس من مدح الصمت لأنه أسلم: يموت الفتى من عثرة بلسانه ... وليس يموت المرء من عثرة الرجل وفي نوابغ الكلم ق فاك لا يقرع قفاك. والإنصاف أن الصمت في نفسه ليس بفضيلة لأنه أمر عدمي والمنطق في نفسه فضيلة لكن قد يصير رذيلة لأسباب عرضية، فالحق ما أشار إليه صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «رحم الله تعالى امرأ قال خيرا فغنم أو سكت فسلم» . وذكر في وجه عدم طلبه عليه السّلام الفصاحة الكاملة أنها نصيب الحبيب عليه الصلاة والسّلام، فقد كان صلّى الله عليه وسلّم أفصح من نطق بالضاد فما كان له أن يطلب ما كان له وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي فيه إشارة إلى فضيلة التعاون في الدين فإنه من أخلاق المرسلين عليهم صلوات الله تعالى وسلامه أجمعين، والوزارة المتعارفة بين الناس ممدوحة إن زرع الوزير في أرضها ما لا يندم عليه وقت حصاده بين يدي ملك الملوك وفيه إشارة إلى فضيلة التوسط بالخير للمستحقين لا سيما إذا كانوا من ذوي القرابة. ومن منع المستوجبين فقد ظلم وفي تقديم موسى عليه السّلام مع أنه أصغر سنا على هارون عليه السّلام مع أنه الأكبر دليل على أن الفضل غير تابع للسن فالله تعالى يختص بفضله من يشاء «إنك كنت بنا بصيرا» في ختم الأدعية بذلك من حسن الأدب مع الله تعالى ما لا يخفى، وهو من أحسن الوسائل عند الله عز وجل. ومن آثار ذلك استجابة الدعاء وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى تذكير له عليه السّلام بما يزيد إيقانه، وفيه إشارة إلى أنه تعالى لا يرد بعد القبول ولا يحرم بعد الإحسان، ومن هنا قيل: إذا دخل الإيمان القلب أمن السلب وما رجع من رجع الا من الطريق وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي أفردتك لي بالتجريد فلا يشغلك عني شيء فلبثت سنين في أهل مدين أشير بذلك إلى خدمته لشعيب عليه السّلام وذلك تربية منه تعالى له بصحبة المرسلين ليكون متخلقا بأخلاقهم متحليا بآدابهم صالحا للحضرة. ولصحبة الأخيار نفع عظيم عند الصوفية وبعكس ذلك صحبة الأشرار ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى وذلك زمان كمال الاستعداد ووقت بعثة الأنبياء عليهم السّلام وهو زمن بلوغهم أربعين سنة، ومن بلغ الأربعين ولم يغلب خيره على شره فلينح على نفسه وليتجهز إلى النار اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى جاوز الحد في المعصية حتى ادعى الربوبية وذلك إثر سكر القهر الذي هو وصف النفس الأمارة ويقابله سكر اللطف وهو وصف الروح ومنه ينشأ الشطح ودعوى الأنانية قالوا: وصاحبه معذور وإلا لم يكن فرق بين الحلاج مثلا وفرعون. وأهل الغيرة بالله تعالى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 526 يقولون: لا فرق فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى فيه إشارة إلى تعليم كيفية الإرشاد، وقال النهرجوري: إن الأمر بذلك لأنه أحسن إلى موسى عليه السّلام في ابتداء الأمر ولم يكافئه مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى إشارة إلى الهياكل وأقفاص بلابل الأرواح وإلا فالأرواح أنفسها من عالم الملكوت، وقد أشرقت على هذه الأشباح وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها [الزمر: 69] والله تعالى أعلم. وقد تأول بعض أهل التأويل هذه القصة والآيات على ما في الأنفس وهو مشرب قد تركناه إلا قليلا. والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل وَلَقَدْ أَرَيْناهُ حكاية أخرى إجمالية لما جرى بين موسى عليه السّلام وفرعون عليه اللعنة. وتصديرها بالقسم لإبراز كمال العناية بمضمونها. والإراءة من الرؤية البصرية المتعدية إلى مفعول واحد وقد تعدت إلى ثان بالهمزة أو من الرؤية القلبية بمعنى المعرفة وهي أيضا متعدية إلى مفعول واحد بنفسها وإلى آخر بالهمزة، ولا يجوز أن تكون من الرؤية بمعنى العلم المتعدي إلى اثنين بنفسه وإلى ثالث بالهمزة لما يلزمه من حذف المفعول الثالث من الإعلام وهو غير جائز. وإسناد الإراءة إلى ضمير العظمة نظرا إلى الحقيقة لا إلى موسى عليه السّلام نظرا إلى الظاهر لتهويل أمر الآيات وتفخيم شأنها وإظهار كمال شناعة اللعين وتماديه في الطغيان. وهذا الإسناد يقوي كون ما تقدم من قوله تعالى الَّذِي إلخ من كلامه عز وجل أي بالله لقد بصرنا فرعون أو عرفناه آياتِنا حين قال لموسى عليه السّلام: إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين. وصيغة الجمع مع كونهما اثنتين إما لأن إطلاق الجمع على الاثنين شائع على ما قيل أو باعتبار ما في تضاعيفهما من بدائع الأمور التي كل منها آية بينة لقوم يعقلون وقد ظهر عند فرعون أمور أخر كل منها داهية دهياء. فإنه روي أنه عليه السّلام لما ألقاها انقلبت ثعبانا أشعر فاغرا فاه بين لحييه ثمانون ذراعا وضع لحيه الأسفل على الأرض والأعلى على سور القصر فتوجه نحو فرعون فهرب وأحدث فانهزم الناس مزدحمين فمات منهم خمسة وعشرون ألفا من قومه فصاح فرعون يا موسى أنشدك بالذي أرسلك إلا أخذته فأخذه فعاد عصا. وقد تقدم نحوه عن وهب بن منبه، وروي أنها انقلبت حية ارتفعت في السماء قدر ميل ثم انحطت مقبلة نحو فرعون وجعلت تقول: يا موسى مرني بما شئت ويقول فرعون: أنشدك إلخ ونزع يده من جيبه فإذا هي بيضاء للناظرين بياضا نورانيا خارجا عن حدود العادات قد غلب شعاعه شعاع الشمس يجتمع عليه النظارة تعجبا من أمره ففي تضاعيف كل من الآيتين آيات جمة لكنها لما كانت غير مذكورة صريحا أكدت بقوله تعالى كُلَّها كأنه قيل: أريناه آياتنا بجميع مستتبعاتها وتفاصيلها قصد إلى بيان أنه لم ييق في ذلك عذر ما. والإضافة على ما قرر للعهد. وأدرج بعضهم فيها حل العقدة كما أدرجه فيها في قوله تعالى اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وقيل: المراد بها آيات موسى عليه السّلام التسع كما روي عن ابن عباس فيما تقدم والإضافة للعهد أيضا. وفيه أن أكثرها إنما ظهر على يده عليه السّلام بعد ما غلب السحرة على مهل في نحو من عشرين سنة. ولا ريب في أن أمر السحرة مترقب بعد، وعد بعضهم منها ما جعل لإهلاكهم لا لإرشادهم إلى الإيمان من فلق البحر وما ظهر من بعد مهلكه من الآيات الظاهرة لبني إسرائيل من نتق الجبل والحجر الذي انفجرت منه العيون. وعد آخرون منها الآيات الظاهرة على أيدي الأنبياء عليهم السّلام وحملوا الإضافة على استغراق الإفراد. وبنى الفريقان ذلك على أنه عليه السّلام قد حكى جميع ما ذكر لفرعون وتلك الحكاية في حكم الإظهار والإراءة لاستحالة الكذب عليه عليه السّلام. ولا يخفى أن حكايته عليه السّلام تلك الآيات مما لم يجر لها ذكر هاهنا مع أن ما سيأتي إن شاء الله تعالى من حمل ما أظهره عليه السّلام على السحر والتصدي للمعارضة بالمثل مما يبعد ذلك جدا. وأبعد من ذلك كله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 527 إدراج ما فصله عليه السّلام من أفعاله تعالى الدالة على اختصاصه سبحانه بالربوبية وأحكامها في الآيات، وقيل: الإضافة لاستغراق الأنواع و «كل» تأكيد له أي أريناه أنواع آياتنا كلها، والمراد بالآيات المعجزات وأنواعها وهي كما قال السخاوي: ترجع إلى إيجاد معدوم أو إعدام موجود أو تغييره مع بقائه وقد أري اللعين جميع ذلك في العصا واليد وفي الانحصار نظر ومع الإغماض عنه لا يخلو ذلك عن بعد، وزعمت الكشفية أن المراد من الآيات علي كرم الله تعالى وجهه أظهره الله تعالى لفرعون راكبا على فرس وذكروا من صفتها ما ذكروا. والجمع كما في قوله تعالى آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ [آل عمران: 97] وظهور بطلانه يغني عن التعرض لرده. والفاء في قوله تعالى فَكَذَّبَ للتعقيب والمفعول محذوف أي فكذب الآيات أو موسى عليه السّلام من غير تردد وتأخير وَأَبى أي قبول الآيات أو الحق أو الإيمان والطاعة أي امتنع عن ذلك غاية الامتناع وكان تكذيبه وإباؤه عند الأكثرين جحودا واستكبارا وهو الأوفق بالذم. ومن فسر أرينا بعرفنا وقدر مضافا أي صحة آياتنا وقال: إن التعريف يوجب حصول المعرفة قال بذلك لا محالة. وقوله تعالى قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى استئناف مبين لكيفية تكذيبه وإبائه. والهمزة لإنكار الواقع واستقباحه، وزعم أنه أمر محال والمجيء إما على حقيقته أو بمعنى الإقبال على الأمر والتصدي له أي أجئتنا من مكانك الذي كنت فيه بعد ما غبت عنا أو أقبلت علينا لتخرجنا من مصر بما أظهرته من السحر وهذا مما لا يصدر عن عاقل لكونه من باب محاولة المحال، وإنما قال ذلك ليحمل قومه على غاية المقت لموسى عليه السّلام بإبراز أن مراده ليس مجرد إنجاء بني إسرائيل من أيديهم بل إخراج القبط من وطنهم وحيازة أموالهم وأملاكهم بالكلية حتى لا يتوجه إلى اتباعه أحد ويبالغوا في المدافعة والمخاصمة إذ الإخراج من الوطن أخو القتل كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ [النساء: 66] وسمي ما أظهره الله تعالى من المعجزة الباهرة سحرا لتجسيرهم على المقابلة. ثم ادعى أنه يعارضه بمثله فقال فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها واللام واقعة في جواب قسم محذوف كأنه قيل: إذا كان كذلك فو الله لنأتينك بسحر مثل سحرك فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً أي وعدا على أنه مصدر ميمي وليس باسم زمان ولا مكان لأن الظاهر أن قوله تعالى لا نُخْلِفُهُ صفة له والضمير المنصوب عائد إليه. ومتى كان زمانا أو مكانا لزم تعلق الأخلاف بالزمان أو المكان وهو إنما يتعلق بالوعد يقال: أخلف وعده لا زمان وعده ولا مكانه أي لا نخلف ذلك الوعد نَحْنُ وَلا أَنْتَ وإنما فوض اللعين أمر الوعد إلى موسى عليه السّلام للاحتراز عن نسبته إلى ضعف القلب وضيق الحال وإظهار الجلادة وإراءة أنه متمكن من تهيئة أسباب المعارضة وترتيب آلات المغالبة طال الأمد أم قصر كما أن تقديم ضميره على ضمير موسى عليه السّلام وتوسيط كلمة النفي بينهما للإيذان بمسارعته إلى عدم الأخلاف وإن عدم إخلافه لا يوجب عدم إخلافه عليه السّلام ولذلك أكد النفي بتكرير حرفه. وقرأ أبو جعفر وشيبة «لا نخلفه» بالجزم على أنه جواب للأمر أي إن جعلت ذلك لا نخلفه مَكاناً سُوىً أي منصفا بيننا وبينك كما روي عن مجاهد. وقتادة أي محلا واقعا على نصف المسافة بيننا سواء بسواء. وهذا معنى قول أبي على قربه منكم كقربه منا، وعلى ذلك قول الشاعر: وان أبانا كان حل بأهله ... سوى بين قيس قيس عيلان والفزر أو محل نصف أي عدل كما روي عن السدي لأن المكان إذا لم يترجح قربه من جانب على آخر كان معدلا بين الجانبين. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال: أي مكانا مستويا من الأرض لا وعر فيه ولا جبل ولا أكمة ولا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 528 مطمئن بحيث يستر الحاضرين فيه بعضهم عن بعض ومراده مكانا يتبين الواقفون فيه ولا يكون فيه ما يستر أحدا منهم ليرى كل ما يصدر منك ومن السحرة. وفيه من إظهار الجلادة وقوة الوثوق بالغلبة ما فيه، وهذا المعنى عندي حسن جدا وإليه ذهب جماعة، وقيل: المعنى مكانا تستوي حالنا فيه وتكون المنازل فيه واحدة لا تعتبر فيه رئاسة ولا تؤدى سياسة بل يتحد هناك الرئيس والمرءوس والسائس والمسوس ولا يخلو عن حسن، وربما يرجع إلى معنى منصفا أي محل نصف وعدل. وقيل: سُوىً بمعنى غير والمراد مكانا غير هذا المكان وليس بشيء لأن سوى بهذا المعنى لا تستعمل إلا مضافة لفظا ولا تقطع عن الإضافة، وانتصاب مَكاناً على أنه مفعول به لفعل مقدر يدل عليه مَوْعِداً أي عد مكانا لا لموعدا لأنه كما قال ابن الحاجب: مصدر قد وصف والمنصوب بالمصدر من تتمته ولا يوصف الشيء إلا بعد تمامه فكان كوصف الموصول قبل تمام صلته وهو غير سائغ. وعن بعض النحاة أنه يجوز وصف المصدر قبل العمل مطلقا وهو ضعيف، وقال ابن عطية: يجوز وصفه قبل العمل إذا كان المعمول ظرفا لتوسعهم فيه ما لم يتوسعوا في غيره، ومن هنا جوز بعضهم أن يكون مَكاناً منصوبا على الظرفية بموعدا. ورد بأن شرط النصب على الظرفية مفقود فيه، فقد قال الرضي: يشترط في نصب مَكاناً على الظرفية أن يكون في عامله معنى الاستقرار في الظرف كقمت وقعدت وتحركت مكانك فلا يجوز نحو كتبت الكتابة مكانك وقتلته وشتمته مكانك، وتعقب بأن ما ذكره الرضي غير مسل إذ لا مانع من قولك لمن أراد التقرب منك ليكلمك: تكلم مكانك، نعم لا يطرد حسن ذلك في كل مكان، ويجوز أن يكون ظرفا لقوله تعالى: لا نُخْلِفُهُ على أنه مضمن معنى المجيء أو الإتيان، وجوز أن يكون ظرفا لمحذوف وقع حالا من فاعل نُخْلِفُهُ ويقدر كونا خاصا لظهور القرينة أي آتين أو جائين مكانا. وقرأ أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو «سوى» بكسر السين والتنوين وصلا، وقرأ باقي السبعة بالضم والتنوين كذلك، ووقف أبو بكر وحمزة والكسائي بالإمالة وورش وأبو عمرو بين بين. وقرأ الحسن في رواية كباقي السبعة إلا أنه لم ينون وقفا ووصلا، وقرأ عيسى كالأولين إلا أنه لم ينون وقفا ووصلا أيضا، ووجه عدم التنوين في الوصل إجراؤه مجرى الوقف في حذف التنوين والضم والكسر كما قال محيي السنة. وغيره لغتان في سوى مثل عدي وعدى. وذكر بعض أهل اللغة أن فعلا بكسر الفاء مختص بالأسماء الجامدة كعنب ولم يأت منه في الصفة إلا عدا جمع عدو، وزاد الزمخشري سوى. وغيره روى بمعنى مرو، وقال الأخفش: سوى مقصور إن كسرت سينه أو ضممت وممدود إن فتحت ففيه ثلاث لغات ويكون فيها جميعا بمعنى غير وبمعنى عدل ووسط بين الفريقين، وأعلى اللغات على ما قال النحاس سوى بالكسر قالَ أي موسى عليه السّلام، قال في البحر: وأبعد من قال إن القائل فرعون ولعمري إنه لا ينبغي أن يلتفت إليه، وكأن الذي اضطر قائله الخبر السابق عن وهب بن منبه فليتذكر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 529 مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ هو يوم عيد كان لهم في كل عام يتزينون فيه ويزينون أسواقهم كما روي عن مجاهد. وقتادة، وقيل: يوم النيروز وكان رأس سنتهم. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه يوم عاشوراء وبذلك فسر في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من صام يوم الزينة أدرك ما فاته من صيام تلك السنة ومن تصدق يومئذ بصدقة أدرك ما فاته من صدقة تلك السنة» ، وقيل: يوم كسر الخليج، وفي البحر أنه باق إلى اليوم، وقيل: يوم سوق لهم، وقيل: يوم السبت وكان يوم راحة ودعة فيما بينهم كما هو اليوم كذلك بين اليهود، وظاهر صنيع أبي حيان اختيار أنه يوم عيد صادف يوم عاشوراء، وكان يوم سبت. والظاهر أن الموعد هاهنا اسم زمان للإخبار عنه بيوم الزينة أي زمان وعدكم اليوم المشتهر فيما بينكم، وإنما لم يصرح عليه السّلام بالوعد بل صرح بزمانه مع أنه أول ما طلبه اللعين منه عليه السّلام للإشارة إلى أنه عليه السّلام أرغب منه فيه لما يترتب عليه من قطع الشبهة وإقامة الحجة حتى كأنه وقع منه عليه السّلام قبل طلبه إياه فلا ينبغي له طلبه، وفيه إيذان بكمال وثوقه من أمره، ولذا خص عليه السّلام من بين الأزمنة يوم الزينة الذي هو يوم مشهود وللاجتماع معدود، ولم يذكر عليه السّلام المكان الذي ذكره اللعين لأنه بناء على المعنى الأول والثالث فيه إنما ذكره اللعين إيهاما للتفضل عليه عليه السّلام يريد بذلك إظهار الجلادة فأعرض عليه السّلام عن ذكره مكتفيا بذكر الزمان المخصوص للإشارة إلى استغنائه عن ذلك وأن كل الأمكنة بعد حصول الاجتماع بالنسبة إليه سواء. وأما على المعنى الثاني فيحتمل أنه عليه السّلام اكتفى عن ذلك بما يستدعيه يوم الزينة فإن من عادة الناس في الأعياد في كل وقت وكل بلد الخروج إلى الأمكنة المستوية والاجتماع في الأرض السهلة التي لا يمنع فيها شيء عن رؤية بعضهم بعضا، وبالجملة قد أخرج عليه الصلاة والتسليم جوابه على الأسلوب الحكيم، ولله تعالى در الكليم ودره النظيم، وقيل: الموعد هاهنا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 530 مصدر أيضا ويقدر مضاف لصحة الأخبار أي وعدكم وعد يوم الزينة، ويكتفي عن ذكر المكان بدلالة يوم الزينة عليه، وقيل: الموعد في السؤال اسم مكان وجعله مخلفا على التوسع كما في قوله: ويوما شهدنا أو الضمير في لا نُخْلِفُهُ للوعد الذي تضمنه اسم المكان على حد اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة: 8] أو للموعد بمعنى الوعد على طريق الاستخدام، والجملة في الاحتمالين معترضة. ولا يجوز أن تكون صفة إذ لا بد في جملة الصفة من ضمير يعود على الموصوف بعينه، والقول بحذفه ليس بشيء ومَكاناً على ما قال أبو علي مفعول ثان لأجعل، وقيل: بدل أو عطف بيان، والموعد في الجواب اسم زمان ومطابقة الجواب من حيث المعنى فإن يوم الزينة يدل على مكان مشتهر باجتماع الناس يومئذ فيه أو هو اسم مكان أيضا ومعناه مكان وقوع الموعود به لا مكان لفظ الوعد كما توهم ويقدر مضاف لصحة الأخبار أي مكان يوم الزينة والمطابقة ظاهرة، وقيل: الموعد في الأول مصدر إلا أنه حذف منه المضاف أعني مكان وأقيم هو مقامه ويجعل مَكاناً تابعا للمقدر أو مفعولا ثانيا وفي الثاني أما اسم زمان ومعناه زمان وقوع الموعود به لا لفظ الوعد كما يرشد إليه قوله: قالوا الفراق فقلت موعده غد والمطابقة معنوية وأما اسم مكان، ويقدر مضاف في الخبر والمطابقة ظاهرة كما سمعت، وأما مصدر أيضا ويقدر مضافان أحدهما في جانب المبتدأ والآخر في جانب الخبر أي مكان وعدكم مكان يوم الزينة وأمر المطابقة لا يخفى، وقيل: يقدر في الأول مضافان أي مكان إنجاز وعدكم أو مضاف واحد لكن تصير الإضافة لأدنى ملابسة، والأظهر تأويل المصدر بالمفعول وتقدير مضاف في الثاني أي موعدكم مكان يوم الزينة وهو مبني على توهم باطل أشرنا إليه، وقيل: هو في الأول والثاني اسم زمان ولا نُخْلِفُهُ من باب الحذف والإيصال والأصل لا نخلف فيه ومَكاناً ظرف لا جعل وإلى هذا أشار في الكشف فقال: لعل الأقرب مأخذا أن يجعل المكان مخلفا على الاتساع والطباق من حيث المعنى أو المعنى اجعل بيننا وبينك في مكان سوى منصف زمان وعد لا نخلف فيه فالمطابقة حاصلة لفظا ومعنى ومَكاناً ظرف لغو انتهى. واعترض بما لا يخفى رده على من أحاط خبرا بأطراف كلامنا. وأنت تعلم أن الاحتمالات في هذه الآية كثيرة جدا والأولى منها ما هو أوفق بجزالة التنزيل مع قلة الحذف والخلو عن نزع الخف قبل الوصول إلى الماء فتأمل. وقرأ الحسن والأعمش وعاصم في رواية وأبو حيوة وابن أبي عبلة وقتادة الجحدري، وهبيرة والزعفراني «يوم الزينة» بنصب «يوم» وهو ظاهر في أن المراد بالموعد المصدر لأن المكان والزمان لا يقعان في زمان بخلاف الحدث، أما الأول فلأنه لا فائدة فيه لحصوله في جميع الأزمنة وأما الثاني فلأن الزمان لا يكون ظرفا للزمان ظرفية حقيقية لأنه يلزم حلول الشيء في نفسه، وأما مثل ضحى اليوم في اليوم فهو من ظرفية الكل لأجزائه وهي ظرفية مجازية وما نحن فيه ليس من هذا القبيل كذا قيل وفيه منع ظاهر. وقيل: إنه يستدل بظاهر ذلك على كون الموعد أولا مصدرا أيضا لأن الثاني عين الأول لإعادة النكرة معرفة، وفي الكشف لعل الأقرب مأخذا على هذه القراءة أن يجعل الأول زمانا، والثاني مصدرا أي وعدكم كائن يوم الزينة. والجواب مطابق معنى دون تكلف إذ لا فرق بين زمان الوعد يوم كذا رفعا وبين الوعد يوم كذا نصبا في الحاصل بل هو من الأسلوب الحكيم لاشتماله على زيادة، وقوله تعالى وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى عطف على الزينة، وقيل: على يوم، والأول أظهر لعدم احتياجه إلى التأويل، وانتصب ضُحًى على الظرف وهو ارتفاع النهار الجزء: 8 ¦ الصفحة: 531 ويؤنث ويذكر، والضحاء بفتح الضاد ممدود مذكر، وهو عند ارتفاع النهار الأعلى. وجوز على القراءة بنصب يَوْمُ أن يكون مَوْعِدُكُمْ مبتدأ بتقدير وقت مضاف إليه على أنه من باب أتيتك خفوق النجم، والظرف متعلق به وضُحًى خبره على نية التعريف فيه لأنه ضحى ذلك اليوم بعينه ولو لم يعرف لم يكن مطابقا لمطلبهم حيث سألوه عليه السّلام موعدا معينا لا يخلف وعده، وقيل: يجوز أن يكون الموعد زمانا وضُحًى خبره ويَوْمُ الزِّينَةِ حالا مقدما وحينئذ يستغني عن تعريف ضحى وليس بشيء ثم إن هذا التعريف بمعنى التعيين معنى لا على معنى جعل ضُحًى أحد المعارف الاصطلاحية كما قد يتوهم. وقال الطيبي: قال ابن جني: يجوز أن يكون أَنْ يُحْشَرَ عطفا على الموعد كأنه قيل: إنجاز موعدكم وحشر الناس ضحى في يوم الزينة. وكأنه جعل الموعد عبارة عما يتجدد في ذلك اليوم من الثواب والعقاب وغيرهما سوى الحشر ثم عطف الحشر عليه عطف الخاص على العام اه وهو كما ترى. وقرأ ابن مسعود والجحدري وأبو عمران الجوني وأبو نهيك وعمرو بن قائد «تحشر الناس» بتاء الخطاب ونصب «الناس» والمخاطب بذلك فرعون. وروي عنهم أنهم قرؤوا بياء الغيبة ونصب «الناس» والضمير في «يحشر» على هذه القراءة إما لفرعون وجيء به غائبا على سنن الكلام مع الملوك، وإما لليوم والإسناد مجازي كما في صام نهاره، وقال صاحب اللوامح: الفاعل محذوف للعلم به أي وأن يحشر الحاشر الناس. وأنت تعلم أن حذف الفاعل في مثل هذا لا يجوز عند البصريين، نعم قيل في مثله: إن الفاعل ضمير يرجع إلى اسم الفاعل المفهوم من الفعل فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ أي انصرف عن المجلس، وقيل: تولى الأمر بنفسه وليس بذاك. وقيل: أعرض عن قبول الحق وليس بشيء فَجَمَعَ كَيْدَهُ أي ما يكاد به من السحرة وأدواتهم أو ذوي كيده ثُمَّ أَتى أي الموعد ومعه ما جمعه. وفي كلمة التراخي إيماء إلى أنه لم يسارع إليه بل أتاه بعد بطء وتلعثم، ولم يذكر سبحانه إتيان موسى عليه السّلام بل قال جل وعلا قالَ لَهُمْ مُوسى للإيذان بأنه أمر محقق غني عن التصريح به، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه قيل: فماذا صنع موسى عليه السّلام عند إتيان فرعون بمن جمعه من السحرة. فقيل: قال لهم بطريق النصيحة وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأنت تدعوا آياته التي ستظهر على يدي سحرا كما فعل فرعون فَيُسْحِتَكُمْ أي يستأصلكم بسبب ذلك، بِعَذابٍ هائل لا يقادر قدره. وقرأ جماعة من السبعة وابن عباس «فيسحتكم» بفتح الياء والحاء من الثلاثي على لغة أهل الحجاز والإسحات لغة نجد وتميم، وأصل ذلك استقصاء الحلق للشعر ثم استعمل في الإهلاك والاستئصال مطلقا وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى أي على الله تعالى كائنا من كان بأي وجه كان فيدخل فيه الافتراء المنهي عنه دخولا أوليا أو قد خاب فرعون المفتري فلا تكونوا مثله في الخيبة وعدم نجح الطلبة، والجملة اعتراض مقرر لمضمون ما قبلها. فَتَنازَعُوا أي السحرة حين سمعوا كلامه عليه السّلام كأن ذلك غاظهم فتنازعوا أَمْرَهُمْ الذي أريد منهم من مغالبته عليه السّلام وتشاوروا وتناظروا بَيْنَهُمْ في كيفية المعارضة وتجاذبوا أهداب القول في ذلك وَأَسَرُّوا النَّجْوى بالغوا في إخفاء كلامهم عن موسى وأخيه عليهما السّلام لئلا يقفا عليه فيدافعاه، وكان نجواهم على ما قاله جماعة منهم الجبائي وأبو مسلم ما نطق به قوله تعالى قالُوا أي بطريق التناجي والإسرار إِنْ هذانِ لَساحِرانِ إلخ فإنه تفسير لذلك ونتيجة التنازع وخلاصة ما استقرت عليه آراؤهم بعد التناظر والتشاور. وقيل: كان نجواهم أن قالوا حين سمعوا مقالة موسى عليه السّلام ما هذا بقول ساحر، وروي ذلك عن محمد ابن إسحاق. وقيل: كان ذلك أن قالوا: إن غلبنا موسى اتبعناه، ونقل ذلك عن الفراء والزجاج. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 532 وقيل: كان ذلك إن قالوا: إن كان هذا ساحرا فسنغلبه وإن كان من السماء فله أمر، وروي ذلك عن قتادة، وعلى هذه الأقوال يكون المراد من أَمْرَهُمْ أمر موسى عليه السّلام وإضافته إليهم لأدنى ملابسة لوقوعه فيما بينهم واهتمامهم به ويكون أسرارهم من فرعون وملئه، ويحمل قولهم: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ إلخ على أنهم اختلفوا فيما بينهم من الأقاويل المذكورة ثم استقرت آراؤهم على ذلك وأبوا إلا المناصبة للمعارضة وهو كلام مستأنف استئنافا بيانيا كأنه قيل: فماذا قالوا للناس بعد تمام التنازع فقيل: قالُوا إِنْ هذانِ إلخ. وجعل الضمير في قالُوا: لفرعون وملئه على أنهم قالوا ذلك للسحرة ردا لهم عن الاختلاف وأمرا بالإجماع والإزماع وإظهار الجلادة مخل بجزالة النظم الكريم كما يشهد به الذوق السليم، نعم لو جعل ضمير «تنازعوا» والضمائر الذي بعده لهم كما ذهب إليه أكثر المفسرين أيضا لم يكن فيه ذلك الإخلال وإن مخففة من أن وقد أهملت عن العمل واللام فارقة. وقرأ ابن كثير بتشديد نون هذانِ وهو على خلاف القياس للفرق بين الأسماء المتمكنة وغيرها. وقال الكوفيون: إن نافية واللام بمعنى إلا أي ما هذان إلا ساحران. ويؤيده أنه قرىء كذلك. وفي رواية عن أبي أنه قرى «إن هذان إلا ساحران» . وقرىء «إن ذان» بدون هاء التنبيه «إلا ساحران» . وعزاها ابن خالويه إلى عبد الله وبعضهم إلى أبي وهي تؤيد ذلك أيضا. وقرىء «إن ذان لساحران» بإسقاط هاء التنبيه فقط. وقرأ أبو جعفر والحسن وشيبة والأعمش وطلحة وحميد وأيوب وخلف في اختياره وأبو عبيد وأبو حاتم وابن عيسى الأصبهاني وابن جرير: وابن جبير الأنطاكي. والأخوان. والصاحبان من السبعة «إنّ» بتشديد النون «هذان» بألف ونون خفيفة، واستشكلت هذه القراءة حتى قيل: إنها لحن وخطأ بناء على ما أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن عن هشام بن عروة عن أبيه قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن لحن القرآن عن قوله تعالى إِنْ هذانِ لَساحِرانِ. وعن قوله تعالى وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ [النساء: 162] وعن قوله تعالى وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ [المائدة: 69] فقالت: يا ابن أخي هذا عمل الكتاب أخطؤوا في الكتاب، وإسناده صحيح على شرط الشيخين كما قال الجلال السيوطي. وهذا مشكل جدا إذ كيف يظن بالصحابة أولا أنهم يلحنون في الكلام فضلا عن القرآن وهم الفصحاء اللد، ثم كيف يظن بهم ثانيا الغلط في القرآن الذي تلقوه من النبي صلّى الله عليه وسلّم كما أنزل ولم يألوا جهدا في حفظه وضبطه وإتقانه، ثم كيف يظن بهم ثالثا اجتماعهم كلهم على الخطا وكتابته، ثم كيف يظن بهم رابعا عدم تنبههم ورجوعهم عنه، ثم كيف يظن خامسا الاستمرار على الخطا وهو مروي بالتواتر خلفا عن سلف ولو ساغ مثل ذلك لارتفع الوثوق بالقرآن. وقد خرجت هذه القراءة على وجوه الأول أن إِنْ بمعنى نعم وإلى ذلك ذهب جماعة منهم المبرد والأخفش الصغير وأنشدوا قوله: بكر العواذل في الصبو ... ح يلمنني وألومهنه ويقلن شيب قد علا ... ك وقد كبرت فقلت إنه والجيد الاستدلال بقول ابن الزبير رضي الله تعالى عنهما لمن قال له: لعن الله ناقة حملتني إليك إن وراكبها إذ قد قيل: في البيت إنا لا نسلم أن إن فيه بمعنى نعم والهاء للسكت بل هي الناصبة والهاء ضمير منصوب بها والخبر محذوف أي إنه كذلك ولا يصح أن يقال: إنها في الخبر كذلك وحذف الجزءان لأن حذف الجزأين جميعا لا يجوز. وضعف هذا الوجه بأن كونها بمعنى نعم لم يثبت، أو هو نادر. وعلى تقدير الثبوت من غير ندرة ليس قبلها ما يقتضي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 533 جوابا حتى تقع نعم في جوابه. والقول بأنه يفهم من صدر الكلام أن منهم من قال: هما ساحران فصدق وقيل: نعم بعيد. ومثله القول بأن ذلك تصديق لما يفهم من قول فرعون: أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى [طه: 57] وأيضا إن لام الابتداء لا تدخل على خبر المبتدأ. وأجيب عن هذا بأن اللام زائدة وليس للابتداء كما في قوله: أم الحليس لعجوز شهربه ... ترضى من اللحم بعظم الرقبة أو بأنها داخلة على مبتدأ محذوف أي لهما ساحران، كما اختاره الزجاج وقال: عرضته على عالمنا وشيخنا وأستاذنا محمد بن زيد يعني المبرد. والقاضي إسماعيل بن إسحاق بن حماد فقبلاه، وذكرا أنه أجود ما سمعناه في هذا أو بأنها دخلت بعد إن هذه لشبهها بأن المؤكدة لفظا كما زيدت أن بعد ما المصدرية لمشابهتها للنافية في قوله: ورج الفتى للخير ما إن رأيته ... على السن خيرا لا يزال يزيد ورد الأول بأن زيادتها في الخبر خاصة بالشعر وما هنا محل النزاع فلا يصح الاحتجاج به كما توهم النيسابوري وزيف الثاني أبو علي في الإغفال بما خلاصته أن التأكيد فيما خيف لبسه فإذا بلغ به الشهرة الحذف استغنى لذلك عن التأكيد، ولو كان ما ذكر وجها لم يحمل نحو لعجوز شهربة على الضرورة ولا تقاس على أن حيث حذف معها الخبر في أن محلا وأن مرتحلا وان اجتمعا في التأكيد لأنها مشبهة بلا وحمل والنقيض على النقيض شائع، وابن جني بأن الحذف من باب الإيجاز والتأكيد من باب الإطناب والجمع بينهما محال للتنافي. وأجيب: بأن الحذف لقيام القرينة والاستغناء غير مسلم والتأكيد لمضمون الجملة لا للمحذوف والحمل في البيت ممكن أيضا واقتصارهم فيه على الضرورة ذهول وكم ترك الأول للآخر واجتماع الإيجاز والإطناب مع اختلاف الوجه غير محال. وأصدق شاهد على دخول اللام في مثل هذا الكلام ما رواه الترمذي وأحمد وابن ماجة «أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ» نعم لا نزاع في شذوذ هذا الحذف استعمالا وقياسا. الثاني أن إن من الحروف الناصبة واسمها ضمير الشأن وما بعد مبتدأ وخبر والجملة خبرها، وإلى ذلك ذهب قدماء النحاة. وضعف بأن ضمير الشأن موضوع لتقوية الكلام وما كان كذلك لا يناسبه الحذف والمسموع من حذفه كما في قوله: إن من لام في بني بنت حسا ... ن ألمه وأعصه في الخطوب وقوله: إن من يدخل الكنيسة يوما ... يلق فيها جاذرا وظباء ضرورة أو شاذ إلا في باب أن المفتوحة إذا خففت فاستسهلوه لوروده في كلام بني على التخفيف فحذف تبعا لحذف النون ولأنه لو ذكر لوجب التشديد إذ الضمائر ترد الأشياء إلى أصولها، ثم يرد بحث دخول اللام في الخبر، وإن التزم تقدير مبتدأ داخلة هي عليه فقد سمعت ما فيه من الجرح والتعديل، الثالث أنها الناصبة وهاء ضمير القصة اسمها وجملة ذان لَساحِرانِ خبرها، وضعف بأنه يقتضي وصل ها بأن من إثبات الألف وفصل ها من «ذان» في الرسم وما في المصحف ليس كذلك، ومع ذلك يرد بحث دخول اللام. الرابع: أن إن ملغاة وإن كانت مشددة حملا لها على المخففة وذلك كما أعملت المخففة حملا لها عليها في قوله تعالى: «وإن كلا لما ليوفينهم» أو حطا لرتبتها عن الفعل لأن عملها ليس بالأصالة بل بالشبه له وما بعدها مبتدأ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 534 وخبر وإلى ذلك ذهب علي بن عيسى وفيه أن هذا الإلغاء لم ير في غير هذا الموضع وهو محل النزاع وبحث اللام فيه بحاله. والخامس: وهو أجود الوجوه وأوجهها. واختاره أبو حيان وابن مالك والأخفش وأبو علي الفارسي وجماعة أنها الناصبة واسم الإشارة اسمها: واللام لام الابتداء و «ساحران» خبرها ومجيء اسم الإشارة بالألف مع أنه منصوب جار على لغة بعض العرب من إجراء المثنى بالألف دائما قال شاعرهم: واها لريا ثم واها واها ... يا ليت عيناها لنا وفاها وموضع الخلخال من رجلاها ... بثمن نرضي به أباها وقال الآخر: وأطرق إطراق الشجاع ولو يرى ... مساغا لنا باه الشجاع لصمما وقالوا: ضربته بين أذناه ومن يشتري الخفان وهي لغة لكنانة حكى ذلك أبو الخطاب ولبني الحارث بن كعب وخثعم وزبيد وأهل تلك الناحية حكى ذلك الكسائي ولبني العنبر وبني الهيجم ومراد وعذرة وقال أبو زيد: سمعت من العرب من يقلب كل ياء ينفتح ما قبلها ألفا، وابن الحاجب يقول: إن هذانِ مبني لدلالته على معنى الإشارة: وإن قول الأكثرين هذين جرا ونصبا ليس إعرابا أيضا. قال ابن هشام: وعلى هذا فقراءة هذان أقيس إذ الأصل في المبنى أن لا تختلف صيغته مع أن فيها مناسبة لألف «ساحران» اه. وأما الخبر السابق عن عائشة فقد أجاب عنه ابن أشته وتبعه ابن جبارة في شرح الرائية بأن قولها: اخطؤوا على معنى أخطؤوا في اختيار الأولى من الأحرف السبعة لجمع الناس عليه لا أن الذي كتبوا من ذلك خطأ لا يجوز فإن ما لا يجوز من كل شيء مردود بالإجماع وإن طالت مدة وقوعه وبنحو هذا يجاب عن أخبار رويت عنها أيضا. وعن ابن عباس في هذا الباب تشكل ظواهرها. ثم أخرج عن إبراهيم النخعي أنه قال: إن هذان لساحران وإن هذين لساحران سواء لعلهم كتبوا الألف مكان الياء يعني أنه من إبدال حرف في الكتابة بحرف كما وقع في صلاة وزكاة وحياة. ويرد على هذا أنه إنما يحسن لو كانت القراءة بالياء في ذلك. ثم أنت تعلم أن الجواب المذكور لا يحسم مادة الإشكال لبقاء تسمية عروة ذلك في السؤال لحنا اللهم إلا أن يقال: أراد باللحن اللغة كما قال ذلك ابن اشته في قوله ابن جبير المروي عنه بطرق في وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ [النساء: 162] هو لحن من الكاتب أو يقال: أراد به اللحن بحسب بادىء الرأي وابن الأنباري جنح إلى تضعيف الروايات في هذا الباب ومعارضتها بروايات أخر عن ابن عباس. وغيره تدل على ثبوت الأحرف التي قيل فيها ما قيل في القراءة. ولعل الخبر الساق الذي ذكر أنه صحيح الإسناد على شرط الشيخين داخل في ذلك لكن قال الجلال السيوطي: إن الجواب الأول الذي ذكره ابن اشته أولى وأقعد. وقال العلاء فيما أخرجه ابن الأنباري وغيره عن عكرمة قال: لما كتبت المصاحف عرضت على عثمان فوجد فيها حروفا من اللحن فقال: لا تغيروها فإن العرب ستغيرها أو قال: ستقرؤها بألسنتها لو كان الكاتب من ثقيف والمملى من هذيل لم توجد فيه هذه الحروف إن ذلك لا يصح عن عثمان فإن إسناده ضعيف مضطرب منقطع. والذي أجنح أنا إليه والعاصم هو الله تعالى تضعيف جميع ما ورد مما فيه طعن بالمتواتر ولم يقبل تأويلا ينشرح له الصدر ويقبله الذوق وإن صححه من صححه. والطعن في الرواة أهون بكثير من الطعن بالأئمة الذين تلقوا القرآن العظيم الذي وصل إلينا بالتواتر من النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يألوا جهدا في إتقانه وحفظه. وقد ذكر أهل المصطلح أن مما يدرك به وضع الخبر ما يؤخذ من حال المروي كأن يكون مناقضا لنص القرآن أو السنة المتواترة أو الإجماع القطعي أو صريح العقل حيث لا يقبل شيء من ذلك التأويل أو لم يحتمل سقوط شيء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 535 منه يزول به المحذور فلو قال قائل بوضع بعض هاتيك الأخبار لم يبعد والله تعالى أعلم. وقرأ أبو عمرو «إن هذين» بتشديد نون «إن» وبالياء في «هذين» . وروي ذلك عن عائشة والحسن والأعمش والنخعي والجحدري وابن جبير وابن عبيد وإعراب ذلك واضح إذ جاء على المهيع المعروف في مثله لكن في الدر المصون قد استشكلت هذه القراءة بأنها مخالفة لرسم الإمام فإن اسم الإشارة فيه بدون ألف وياء فإثبات الياء زيادة عليه. ولذا قال الزجاج: أنا لا أجيزها وليس بشيء لأنه مشترك الإلزام ولو سلم فكم في القراءات ما خالف رسمه القياس مع أن حذف الألف ليس على القياس أيضا. يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ أي أرض مصر بالاستيلاء عليها بِسِحْرِهِما الذي أظهراه من قبل، ونسبة ذلك لهارون لما أنهم رأوه مع موسى عليهما السلام سالكا طريقته. وهذه الجملة صفة أو خبر بعد خبر. وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى أي بمذهبكم الذي هو أفضل المذاهب وأمثلها بإظهار مذهبهما وإعلاء دينهما يريدون به ما كان عليه قوم فرعون لا طريقة السحر فإنهم ما كانوا يعتقدونه دينا. وقيل: أرادوا أهل طريقتكم فالكلام على تقدير مضاف. والمراد بهم بنو إسرائيل لقول موسى عليه السلام «أرسل معنا بني إسرائيل» وكانوا أرباب علم فيما بينهم. وأخرج ذلك ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس وتعقب بأن إخراجهم من أرضهم إنما يكون بالاستيلاء عليها تمكنا وتصرفا فكيف يتصور حينئذ نقل بني إسرائيل إلى الشام. وحمل الإخراج على إخراج بني إسرائيل منها مع بقاء قوم فرعون على حالهم مما يجب تنزيه التنزيل عن أمثاله، على أن هذا المقال منهم للإغراء بالمبالغة في المغالبة والاهتمام بالمناصبة فلا بد أن يكون الإنذار والتحذير بأشد المكاره وأشقها عليهم، ولا ريب في أن إخراج بني إسرائيل من بينهم والذهاب بهم إلى الشام وهم آمنون في ديارهم ليس فيه كثير محذور وهو كلام يلوح عليه مخايل القبول فلعل الخبر عن الحبر لا يصح. وأخرج ابن المنذر. وابن أبي حاتم أيضا عن مجاهد أن الطريقة اسم لوجوه القوم وأشرافهم. وحكى فلان طريقة قومه أي سيدهم. وكأن إطلاق ذلك على الوجوه مجاز لاتباعهم كما يتبع الطريق، وأخرجا عن علي كرم الله تعالى وجهه أن إطلاق ذلك عليهم بالسريانية، وكأنهم أرادوا بهؤلاء الوجوه الوجوه من قوم فرعون أرباب المناصب وأصحاب التصرف والمراتب فيكونوا قد حذروهم بالإخراج من أوطانهم وفصل ذوي المناصب منهم عن مناصبهم وفي ذلك غاية الذل والهوان ونهاية حوادث الزمان، فما قيل: إن تخصيص الإذهاب بهم مما لا مزية فيه ليس بشيء، وقيل: إنهم أرادوا بهم بني إسرائيل أيضا لأنهم كانوا أكثر منهم نسبا وأشرف نسبا وفيه ما مر آنفا، واعترض أيضا بأنه ينافيه استعبادهم واستخدامهم وقتل أولادهم وسومهم العذاب. وأجيب بالمنع فكم من متبوع مقهور وشريف بأيدي الأنذال مأسور وهو كما ترى فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ تصريح بالمطلوب إثر تمهيد المقدمات. والفاء فصيحة أي إذا كان الأمر كما ذكر من كونهما ساحرين يريدان بكم ما يريدان فأزمعوا كيدكم واجعلوه مجمعا عليه بحيث لا يتخلف عنه منكم أحد وارموا عن قوس واحدة. وقرأ الزهري وابن محيصن وأبو عمرو ويعقوب في رواية وأبو حاتم «فأجمعوا» بوصل الهمزة وفتح الميم من الجمع. ويعضده قوله تعالى فَجَمَعَ كَيْدَهُ وفي الفرق بين جمع وأجمع كلام للعلماء. قال ابن هشام: إن أجمع يتعلق بالمعاني فقط وجمع مشترك بين المعاني والذوات. وفي عمدة الحفاظ حكاية القول بأن أجمع أكثر ما يقال في المعاني وجمع في الأعيان فيقال: أجمعت أمري وجمعت قومي وقد يقال بالعكس. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 536 وفي المحكم أنه يقال: جمع الشيء عن تفرقة يجمعه جمعا وأجمعه فلم يفرق بينهما، وقال الفراء: إذا أردت جمع المتفرق قلت: جمعت القوم فهم مجموعون وإذا أردت جمع المال قلت جمعت بالتشديد ويجوز تخفيفه والإجماع الاحكام والعزيمة على الشيء ويتعدى بنفسه وبعلى تقول: أجمعت الخروج وأجمعت على الخروج، وقال الأصمعي: يقال جمعت الشيء إذا جئت به من هنا ومن هنا وأجمعته إذا صيرته جميعا، وقال أبو الهيثم: أجمع أمره أي جعله جميعا وعزم عليه بعد ما كان متفرقا وتفرقته أن يقول مرة أفعل كذا ومرة أفعل كذا والجمع أن يجمع شيئا إلى شيء، وقال الفراء: في هذه الآية على القراءة الأولى أي لا تدعوا شيئا من كيدكم إلا جئتم به ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا أي مصطفين أمروا بذلك لأنه أهيب في صدور الرائين وادخل في استجلاب الرهبة من المشاهدين. قيل: كانوا سبعين ألفا مع كل منهم حبل وعصا وأقبلوا عليه عليه السلام إقبالة واحدة، وقيل: كانوا اثنين وسبعين ساحرا اثنان من القبط والباقي من بني إسرائيل، وقيل: تسعمائة ثلاثمائة من الفرس وثلاثمائة من الروم وثلاثمائة من الإسكندية، وقيل: خمسة عشر ألفا، وقيل: بضعة وثلاثين ألفا، ولا يخفى حال الأخبار في ذلك والقلب لا يميل إلى المبالغة والله تعالى أعلم، ولعل الموعد كان مكانا متسعا خاطبهم موسى عليه السلام بما ذكر في قطر من أقطاره وتنازعوا أمرهم في قطر آخر منه ثم أمروا أن يأتوا وسطه على الحال المذكورة، وقد فسر أبو عبيدة الصف بالمكان الذي يجتمعون فيه لعيدهم وصلواتهم وفيه بعد، وكأنه علم لموضع معين من مكان يوم الزينة، وعلى هذا التفسير يكون صَفًّا مفعولا به. وقرأ شبل بن عباد وابن كثير في رواية شبل عنه «ثم ايتوا» بكسر الميم وإبدال الهمزة ياء. قال أبو علي: وهذا غلط ولا وجه لكسر الميم من ثم، وقال صاحب اللوامح: إن ذلك لالتقاء الساكنين كما كانت الفتحة في قراءة العامة كذلك وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى اعتراض تذييلي من قبلهم مؤكد لما قبله من الأمرين أي قد فاز بالمطلوب من غلب. فاستفعل بمعنى فعل كما في الصحاح أو من طلب العلو والغلب وسعى سعيه على ما في البحر. فاستفعل على بابه، ولعله أبلغ في التحريض حيث جعلوا الفوز لمن طلب الغلب فضلا عمن غلب بالفعل وأرادوا بالمطلوب ما وعدهم فرعون من الأجر والتقريب حسبما نطق به قوله تعالى وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الأعراف: 114] وبمن استعلى أنفسهم جميعا على طريقة قولهم بعزة فرعون إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ [الشعراء: 44] أو من استعلى منهم حثا على بذل المجهود في المغالبة. وقال الراغب: الاستعلاء قد يكون لطلب العلو المذموم وقد يكون لغيره وهو هاهنا يحتملهما فلهذا جاز أن يكون هذا الكلام محكيا عن هؤلاء القائلين للتحريض على إجماعهم واهتمامهم وأن يكون من كلام الله عز وجل فالمستعلى موسى. وهارون عليهما السلام ولا تحريض فيه. وأنت تعلم أن الظاهر هو الأول قالُوا استئناف بياني كأنه قيل: فماذا فعلوا بعد ما قالوا ذلك؟ فقيل قالوا: يا مُوسى وإنما لم يتعرض لإجماعهم وإتيانهم مصطفين إشعارا بظهور أمرهما وغنائهما عن البيان إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ أي ما تلقيه أولا على أن المفعول محذوف لظهوره أو تفعل الإلقاء أولا على أن الفعل منزل منزلة اللازم وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى ما يلقيه أو أول من يفعل الإلقاء خيروه عليه السلام وقدموه على أنفسهم إظهارا للثقة بأمرهم، وقيل: مراعاة للأدب معه عليه السلام. وأن مع ما في حيزها منصوب بفعل مضمر أي إما تختار إلقاءك أو تختار كوننا أول من ألقى أو مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر إما إلقاؤك أو كوننا أول من ألقى. واختار أبو حيان كونه مبتدأ محذوف الخبر أي إلقاؤك أول بقرينة إِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى وبه تتم المقابلة لكنها معنوية قالَ استئناف كما مر كأنه قيل فماذا قال عليه السلام؟ فقيل قال: بَلْ أَلْقُوا أنتم أولا إظهارا لعدم المبالاة بسحرهم وإسعافا لما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 537 أوهموا من الميل إلى البدء في شقهم حيث غيروا النظم إلى وجه أبلغ إذ كان الظاهر أن يقولوا: وإما أن نلقي وليبرزوا ما معهم ويستفرغوا جهدهم ويستنفذوا قصارى وسعهم ثم يظهر الله تعالى شأنه سلطانه فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه. قيل وفي ذلك أيضا مقابلة أدب بأدب، واستشكل بعضهم هذا الأمر ظنا منه أنه يستلزم تجويز السحر فحمله دفعا لذلك على الوعيد على السحر كما يقال للعبد العاصي: افعل ما أردت، وقال أبو حيان: هو مقرون بشرط مقدر أي ألقوا إن كنتم محقين. وفيه أنه عليه السلام يعلم عدم إحقاقهم فلا يجدي التقدير بدون ملاحظة غيره. وأنت تعلم أنه لا حاجة إلى ذلك ولا إشكال فإن هذا كالأمر بذكر الشبهة لتنكشف. والقول بأن تقديم سماع الشبهة على الحجة غير جائز لجواز أن لا يتفرغ لإدراك الحجة بعد ذلك فتبقى مما لا يلتفت إليه. فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى الفاء فصيحة معربة عن مسارعتهم إلى الإلقاء كما في قوله تعالى: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [الشعراء: 63] أي فالقوا فإذا حبالهم إلخ. وهي في الحقيقة عاطفة لجملة المفاجأة على الجملة المحذوفة. وإذا فجائية وهي عند الكوفيين حرف وهو مذهب مرجوح عند أبي حيان وظرف زمان عند الرياشي وهو كذلك عنده أيضا وظرف مكان عند المبرد وهو ظاهر كلام سيبويه ومختار أبي حيان والعامل فيها هنا أَلْقُوا عند أبي البقاء. ورد بأن الفاء تمنع من العمل، وفي البحر إنما هي معمولة لخبر المبتدأ الذي هو حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ إن لم نجعلها هي في موضع الخبر بل جعلنا الخبر جملة يُخَيَّلُ وإذا جعلناها في موضع الخبر وجعلنا الجملة في موضع الحال فالأمر واضح. وهذا نظير خرجت فإذا الأسد رابض ورابضا. ولصحة وقوعها خبرا يكتفى بها وبالمرفوع بعدها كلاما فيقال: خرجت فإذا الأسد. ونص الأخفش في الأوسط على أنها قد يليها جملة فعلية مصحوبة بقد فيقال: خرجت فإذا قد ضرب زيد عمرا، وفي الكشاف التحقيق فيها أنها إذا الكائنة بمعنى الوقت الطالبة ناصبا لها وجملة تضاف إليها خصت في بعض المواضع بأن يكون ناصبها فعلا مخصوصا وهو فعل المفاجأة، والجملة ابتدائية لا غير فتقدير الآية ففاجأ موسى وقت تخيل سعي حبالهم وعصيهم وهذا تمثيل، والمعنى على مفاجأة حبالهم وعصيهم مخيلة إليه السعي انتهى، وفيه من المخالفة لما قدمنا ما فيه لكن أمر العطف عليه أوفق كما لا يخفى، وعنى بقوله: هذا تمثيل أنه تصوير للإعراب وأن إذا وقتية أوقع عليها فعل المفاجأة توسعا لأنها سدت مسد الفعل والمفعول ولأن مفاجأة الوقت يتضمن مفاجأة ما فيه بوجه أبلغ. وما قيل: إنه أراد الاستعارة التمثيلية فيحتاج إلى تكلف لتحصيلها. وضمير إِلَيْهِ الظاهر أنه لموسى عليه السلام بل هو كالمتعين، وقيل: لفرعون وليس بشيء، وأن وما في حيزها نائب فاعل يُخَيَّلُ أي يخيل إليه بسبب سحرهم سعيها وكأن ذلك من باب السيمياء وهي علم يقتدر به على إراء الصورة الذهنية لكن يشترط غالبا أن يكون لها مادة في الخارج في الجملة ويكون ذلك على ما ذكره الشيخ محمد عمر البغدادي في حاشيته على رسالة الشيخ عبد الغني النابلسي في وحدة والوجود بواسطة أسماء وغيرها. وذكر العلامة البيضاوي في بعض رسائله أن علم السيمياء حاصله إحداث مثالات خيالية لا وجود لها في الحس ويطلق على إيجاد تلك المثالات بصورها في الحس وتكون صورا في جوهر الهواء وهي سريعة الزوال بسبب سرعة تغير جوهره، ولفظ سيمياء معرب شيم يه ومعناه اسم الله تعالى انتهى وما ذكره من سرعة الزوال لا يسلم كليا وهو عندي بعض من علم السحر. وعرفه البيضاوي بأنه علم يستفاد منه حصول ملكة نفسانية يقتدر بها على أفعال غريبة بأسباب خفية ثم قال: والسحر منه حقيقي. ومنه غير حقيقي ويقال له: الأخذ بالعيون وسحرة فرعون أتوا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 538 بمجموع الأمرين انتهى، والمشهور أن هؤلاء السحرة جعلوا في الحبال والعصي زئبقا فلما أصابتها حرارة الشمس اضطربت واهتزت فخيل إليه عليه السلام أنها تتحرك وتمشي كشيء فيه حياة. ويروى أنه عليه السلام رآها كأنها حيات وقد أخذت ميلا في ميل، وقيل: حفروا الأرض وجعلوا فيها نارا ووضعوا فوقها تلك الحبال والعصي فلما أصابتها حرارة النار تحركت ومشت. وفي القلب من صحة كلا القولين شيء. والظاهر أن التخيل من موسى عليه السلام قد حصل حقيقة بواسطة سحرهم، وروي ذلك عن وهب. وقيل: لم يحصل والمراد من الآية أنه عليه السلام شاهد شيئا لولا علمه بأنه لا حقيقة له لظن فيها أنها تسعى فيكون تمثيلا وهو خلاف الظاهر جدا، وقرأ الحسن وعيسى «عصيهم» بضم العين وإسكان الصاد وتخفيف الياء مع الرفع وهو جمع كما في القراءة المشهورة وقرأ الزهري والحسن وعيسى وأبو حيوة وقتادة والجحدري وروح وابن ذكوان وغيرهم «تخيل» بالتاء الفوقانية مبنيا للمفعول وفيه ضمير الحبال والعصى. وأَنَّها تَسْعى بدل اشتمال من ذلك الضمير ولا يضر الإبدال منه في كونه رابطا لكونه ليس ساقطا من كل الوجوه. وقرأ أبو السمال «تخيل» بفتح التاء أي تتخيل وفيه أيضا ضمير ما ذكروا أَنَّها تَسْعى بدل منه أيضا، وقال ابن عطية: هو مفعول من أجله، وقال أبو القاسم بن حبارة الهذلي الأندلس في كتاب الكامل: عن أبي السمال أنه قرىء «تخيل» بالتاء من فوق المضمومة وكسر الياء والضمير فيه فاعل و «أنها تسعى» نصب على المفعول به. ونسب ابن عطية هذه القراءة إلى الحسن وعيسى الثقفي ومن بنى «تخيل» للمفعول فالمخيل لهم ذلك هو الله تعالى للمحنة والابتلاء. وروى الحسن بن يمن عن أبي حيوة «نخيل» بالنون وكسر الياء فالفاعل ضميره تعالى أَنَّها تَسْعى مفعول به. فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى الإيجاس الإخفاء والخيفة الخوف وأصله خوفة قلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها، وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون خوفة بفتح الخاء قلبت الواو ياء ثم كسرت الخاء للتناسب والأول أولى. والتنوين للتحقير أي أخفى فيها بعض خوف من مفاجأة ذلك بمقتضى طبع الجبلة البشرية عند رؤية الأمر المهول وهو قول الحسن، وقال مقاتل: خاف عليه السلام من أن يعرض للناس ويختلج في خواطرهم شك وشبهة في معجزة العصا لما رأوا من عصيهم. وإضمار خوفه عليه السلام من ذلك لئلا تقوى نفوسهم إذا ظهر لهم فيؤدي إلى عدم اتباعهم، وقيل: التنوين للتعظيم أي أخفى فيها خوفا عظيما، وقال بعضهم: إن الصيغة لكونها فعلة وهي دالة على الهيئة والحالة اللازمة تشعر بذلك ولذا اختيرت على الخوف في قوله تعالى وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ [الرعد: 13] ولا يأباه الإيجاس، وقيل: يأباه والأول هو الأنسب بحال موسى عليه السلام إن كان خوفه مما قاله الحسن والثاني هو الأنسب بحاله عليه السلام إن كان خوفه مما قاله مقاتل، وقيل: إنه أنسب أيضا بوصف السحر بالعظم في قوله تعالى وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الأعراف: 116] وأيد بعضهم كون التنوين لذلك بإظهار موسى وعدم إضماره فتأمل، وقيل: إنه عليه السلام سمع لما قالوا إما أن تلقى إلخ القوا يا أولياء الله تعالى فخاف لذلك حيث يعلم أن أولياء الله تعالى لا يغلبون ولا يكاد يصح والنظم الكريم يأباه. وتأخير الفاعل لمراعاة الفواصل قُلْنا لا تَخَفْ أي لا تستمر على خوفك مما توهمت وادفع عن نفسك ما اعتراك فالنهي على حقيقته، وقيل: حرج عن ذلك للتشجيع وتقوية القلب إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى تعليل لما يوجبه النهي من الانتهاء عن الخوف وتقرير لغلبته على أبلغ وجه وآكده كما يعرب عن ذلك الاستئناف البياني وحرف التحقيق وتكرير الضمير وتعرف الخبر ولفظ العلو المنبئ عن الغلبة الظاهرة وصيغة التفضيل كما قاله غير واحد. والذي أميل إليه أن الصيغة المذكورة لمجرد الزيادة فإن كونها للمشاركة والزيادة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 539 يقتضي أن يكون للسحرة علو وغلبة ظاهرة أيضا مع أنه ليس كذلك وإثبات ذلك لهم بالنسبة إلى العامة كما قيل ليس بشيء إذ لا مغالبة بينهم وبينهم وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ أي عصاك كما وقع في سورة الأعراف. وكأن التعبير عنها بذلك لتذكيره ما وقع وشاده عليه السلام منها يوم قال سبحانه له وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى [طه: 17] ، وقال بعض المحققين: إنما أوثر الإبهام تهويلا لأمرها وتفخيما لشأنها وإيذانا بأنها ليست من جنس العصي المعهودة المستتبعة للآثار المعتادة بل خارجة عن حدود سائر أفراد الجنس مبهمة لكنها مستتبعة لآثار غريبة وعدم مراعاة هذه النكتة عند حكاية الأمر في مواضع أخر لا يستدعي عدم مراعاتها عند وقوع المحكي انتهى. وحاصله أن الإبهام للتفخيم كأن العصا لفخامة شأنها لا يحيط بها نطاق العلم نحو فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ [طه: 78] ووقع حكاية الأمر في مواضع أخر بالمعنى والواقع نفسه ما تضمن هذه النكتة وإن لم يكن بلفظ عربي وإنما لم يعتبر العكس لأن المتضمن أوفق بمقام النهي عن الخوف وتشجيعه عليه السلام. وقال أبو حيان: عبر بذلك دون عصاك لما في اليمين من معنى اليمن والبركة، وفيه أن الخطاب لم يكن بلفظ عربي، وقيل: الإبهام للتحقير بأن يراد لا تبالي بكثرة حبالهم وعصيهم وألق العويد الذي في يدك فإنه بقدرة الله تعالى يلقفها مع وحدته وكثرتها وصغره وعظمها. وتعقب بأنه يأباه ظهور حالها فيما مر مرتين على أن ذلك المعنى إنما يليق بما لو فعلت العصا ما فعلت وهي على الهيئة الأصلية وقد كان منها ما كان، وما يحتمل أن تكون موصوفة ويحتمل أن تكون موصولة على كل من الوجهين، وقيل: الأنسب على الأول الأول وعلى الثاني الثاني، وقوله تعالى تَلْقَفْ ما صَنَعُوا بالجزم جواب الأمر من لقفه ناله بالحذف باليد أو بالفم، والمراد هنا الثاني والتأنيث بكون ما عبارة عن العصا أي تبتلع ما صنعوه من الحبال والعصي التي خيل إليك سعيها، والتعبير عنها بما صنعوا للتحقير والإيذان بالتمويه والتزوير. وقرأ الأكثرون «تلقّف» بفتح اللام وتشديد القاف وإسقاط إحدى التاءين من «تتلقف» . وقرأ ابن عامر كذلك إلا أنه رفع الفعل على أن الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا أو حال مقدرة من فاعل ألق بناء على تسببه أو من مفعوله أي متلقفا أو متلقفة وجملة الأمر معطوفة على النهي متممة بما في حيزها لتعليل موجبه ببيان كيفية علوه وغلبه عليه السلام فإن ابتلاع عصاه عليه السلام لأباطيلهم التي منها أوجس في نفسه خيفة يقلع مادة الخوف بالكلية. وزعم بعضهم أن هذا صريح في أن خوفه عليه السلام لم يكن من مخالجة الشك للناس في معجزة العصا وإلا لعلل بما يزيله من الوعد بما يوجب إيمانهم وفيه تأمل. وقوله تعالى إِنَّما صَنَعُوا إلخ تعليل لقوله تعالى تَلْقَفْ ما صَنَعُوا وما إما موصولة أو موصوفة أو مصدرية أي إن الذي صنعوه أو إن شيئا صنعوه أو إن صنعهم كَيْدُ ساحِرٍ بالرفع على أنه خبر إن أي كيد جنس الساحر، وتنكيره للتوسل به إلى ما يقتضيه المقام من تنكير المضاف ولو عرف لكان المضاف إليه معرفة وليس مرادا. واعترض بأنه يجوز أن يكون تعريفه الإضافي حينئذ للجنس وهو كالنكرة معنى وإنما الفرق بينهما حضوره في الذهن. وأجيب بأنه لا حاجة إلى تعيين جنسه فإنه مما علم من قوله تعالى «يخيل» إلخ وإنما الغرض بعد تعيينه أن يذكر أنه أمر مموه لا حقيقة له وهذا مما يعرف بالذوق، وقيل: نكر ليتوسل به إلى تحقير المضاف. وتعقب بأنه بعد تسليم إفادة ذلك تحقير المضاف لا يناسب المقام ولأنه يفيد انقسام السحر إلى حقير وعظيم وليس بمقصود. وأيضا ينافي ذلك قوله تعالى في آية أخرى وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ إلا أن يقال عظمه من وجه لا ينافي حقارته في نفسه وهو المراد من تحقيره. وقيل: إنما نكر لئلا يذهب الذهن إلى أن المراد ساحر معروف فتدبر. وقرأ مجاهد وحميد وزيد بن علي عليهم الرحمة «كيد» بالنصب على أنه مفعول صَنَعُوا وما كافة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 540 وقرأ حمزة والكسائي وأبو بحرية والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وخلف في اختياره وابن عيسى الأصبهاني وابن جبير الأنطاكي وابن جرير «سحر» بكسر السين وإسكان الحاء على معنى ذي سحر أو على تسمية الساحر سحرا مبالغة كأنه لتوغله في السحر صار نفس السحر. وقيل: على أن الإضافة لبيان أن الكبد من جنس السحر. وهذه الإضافة من إضافة العام إلى الخاص. وهي على معنى اللام عند شارح الهادي وعلى معنى من على ما يفهم من ظاهر كلام الشريف في أول شرح المفتاح وتسمى إضافة بيانية. ويحمل فيما وجدت فهى المضاف إليه على المضاف. ولا يشترط أن يكون بين المتضايفين عموم وخصوص من وجه وبعضهم شرط ذلك. وقوله تعالى شأنه وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ أي هذا الجنس حَيْثُ أَتى حيث كان وأين أقبل فحيث ظرف مكان أريد به التعميم من تمام التعليل. ولم يتعرض لشأن العصا وكونها معجزة إلهية مع ما في ذلك من تقوية التعليل للإيذان بظهور أمرها. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جندب بن عبد الله البجلي قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أخذتم الساحر فاقتلوه ثم قرأ: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى قال لا يؤمن حيث وجد» وقرأت فرقة «أين أتى» والفاء في قوله تعالى فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً فضيحة معربة عن جمل غنية عن التصريح أي فزال الخوف وألقى ما في يمينه وصارت حية وتلقفت حبالهم وعصيهم وعلموا أن ذلك معجز فألقى السحرة على وجوههم سجدا لله تعالى تائبين مؤمنين به عز وجل وبرسالة موسى عليه السلام. روي أن رئيسهم قال: كنا نغلب الناس وكانت الآلات تبقى علينا فلو كان هذا سحرا فأين ما ألقينا فاستدل بتغير أحوال الأجسام على الصانع القدير العليم وبظهور ذلك على يد موسى عليه السلام على صحة رسالته. وكأن هاتيك الحبال والعصي صارت هباء منبثا وانعدامها بالكلية ممكن عندنا، وفي التعبير بألقى دون فسجد إشارة إلى أنهم شاهدوا ما أزعجهم فلم يتمالكوا حتى وقعوا على وجوههم ساجدين، وفيه إيقاظ السامع لإلطاف الله تعالى في نقله من شاء من عباده من غاية الكفر والعناد إلى نهاية الإيمان والسداد مع ما فيه من المشاكلة والتناسب، والمراد أنهم أسرعوا إلى السجود، قيل: إنهم لم يرفعوا رؤوسهم من السجود حتى رأوا الجنة والنار والثواب والعقاب. وأخرج عبد بن حميد. وابن المنذر. وابن أبي حاتم عن عكرمة أنهم لما خروا سجدا أراهم الله تعالى في سجودهم منازلهم في الجنة. واستبعد ذلك القاضي بأنه كالإلجاء إلى الإيمان وأنه ينافي التكليف. وأجيب بأنه حيث كان الإيمان مقدما على هذا الكشف فلا منافاة ولا الجاء، وفي إرشاد العقل السليم أنه لا ينافيه قولهم: إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا [طه: 73] إلخ لأن كون تلك المنازل منازلهم باعتبار صدور هذا القول عنهم. قالُوا استئناف كما مر غير مرة آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى تأخير موسى عليه السلام عند حكاية كلامهم المذكورة في سورة الأعراف المقدم فيه موسى عليه السلام لأنه أشرف من هارون والدعوة والرسالة إنما هي له أولا وبالذات وظهور المعجزة على يده عليه السلام لرعاية الفواصل، وجوز أن يكون كلامهم بهذا الترتيب وقدموا هارون عليه السلام لأنه أكبر سنا، وقول السيد في شرح المفتاح: إن موسى أكبر من هارون عليهما السلام سهو. وأما للمبالغة في الاحتراز عن التوهم الباطل من جهة فرعون وقومه حيث كان فرعون ربي موسى عليه السلام فلو قدموا موسى لربما توهم اللعين وقومه من أول الأمر أن مرادهم فرعون تقديمه في سورة الأعراف تقديم في الحكاية لتلك النكتة. وجوز أبو حيان أن يكون ما هنا قول طائفة منهم وما هناك قول أخرى وراعى كل نكتة فيما فعل لكنه لما اشترك القول في المعنى صح نسبة كل منهما إلى الجميع. واختيار هذا القول هنا لأنه أوفق بآيات هذه السورة. قالَ أي فرعون للسحرة آمَنْتُمْ لَهُ أي لموسى كما هو الظاهر. والإيمان في الأصل متعد بنفسه ثم شاع تعديه بالباء لما فيه من التصديق حتى صار حقيقة. وإنما عدي هنا باللام لتضمينه معنى الانقياد وهو يعدى بها يقال. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 541 انقاد له لا الاتباع كما قيل: لأنه متعد بنفسه يقال: اتبعه ولا يقال: اتبع له، وفي البحر إن آمن يوصل بالباء إذا كان متعلقه الله عز اسمه وباللام إن كان متعلقه غيره تعالى في الأكثر نحو يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [التوبة: 61] . فما آمن لموسى إلخ. لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ [الإسراء: 90] وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا [يوسف: 17] فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ [العنكبوت: 26] ، وجوز أن تكون اللام تعليلية والتقدير آمنتم بالله تعالى لأجل موسى وما شاهدتهم منه، واختاره بعضهم ولا تفكيك فيه كما توهم، وقيل: يحتمل أن يكون ضمير «له» للرب عز وجل، وفي الآية حينئذ تفكيك ظاهر. وقرأ الأكثر «أآمنتم» على الاستفهام التوبيخي. والتوبيخ هو المراد من الجملة على القراءة الأولى أيضا لا فائدة الخبر أو لازمها قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ أي من غير إذني لكم في الإيمان كما في قوله تعالى: لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي [الكهف: 109] لا إن إذنه لهم في ذلك واقع بعد أو متوقع، وفرق الطبرسي بين الإذن والأمر بأن الأمر يدل على إرادة الآمر الفعل المأمور به وليس في الإذن ذلك إِنَّهُ يعني موسى عليه السلام لَكَبِيرُكُمُ لعظيمكم في فنكم وأعلمكم به وأستاذكم الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ كأن اللعين وبخهم أولا على إيمانهم له عليه السلام من غير إذنه لهم ليرى قومه أن إيمانهم غير معتد به حيث كان بغير إذنه. ثم استشعر أن يقولوا: أي حاجة إلى الإذن بعد أن صنعنا ما صنعنا وصدر منه عليه السلام ما صدر فأجاب عن ذلك بقوله: إِنَّهُ إلخ أي ذلك غير معتد به أيضا لأنه أستاذكم في السحر فتواطأتم معه على ما وقع أو علمكم شيئا دون شيء فلذلك غلبكم فالجملة تعليل لمحذوف، وقيل: هي تعليل للمذكور قبل. وبالجملة قال ذلك لما اعتراه من الخوف من اقتداء الناس بالسحرة في الإيمان لموسى عليه السلام ثم أقبل عليهم بالوعيد المؤكد حيث قال: فَلَأُقَطِّعَنَّ أي إذا كان الأمر كذلك فأقسم لأقطعن أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ أي اليد اليمنى والرجل اليسرى وعليه عامة المفسرين وهو تخصيص من خارج وإلا فيحتمل أن يراد غير ذلك. ومِنْ ابتدائية. وقال الطبرسي: بمعنى عن أو على وليس بشيء. والمراد من الخلاف الجانب المخالف أو الجهة المخالفة. والجار والمجرور حسبما يظهر متعلق بأقطعن، وقيل: متعلق بمحذوف وقع صفة مصدر محذوف أي تقطيع مبتدأ من جانب مخالف أو من جهة مخالفة وابتداء التقطيع من ذلك ظاهر، ويجوز أن يبقى الخلاف على حقيقته أعني المخالفة وجعله مبتدأ على التجوز فإنه عارض ما هو مبدأ حقيقة، وجعل بعضهم الجار والمجرور في حيز النصب على الحالية، والمراد لأقطعنها مختلفات فتأمل، وتعيين هذه الكيفية قيل للإيذان بتحقيق الأمر وإيقاعه لا محالة بتعيين كيفيته المعهودة في باب السياسة. ولعل اختيارها فيها دون القطع من وفاق لأن فيه إهلاكا وتفويتا للمنفعة، وزعم بعضهم أنها أفظع وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ أي عليها. وإيثار كلمة في للدلالة على إبقائهم عليها زمانا مديدا تشبيها لاستمرارهم عليها باستقرار الظرف في المظروف المشتمل عليه. وعلى ذلك قوله: وهم صلبوا العبدي في جذع نخلة ... فلا عطست شيبان إلا بأجدعا وفيه استعارة تبعية. والكلام في ذلك شهير، وقيل: لا استعارة أصلا لأن فرعون نقر جذوع النخل وصلبهم في داخلها ليموتوا جوعا وعطشا ولا يكاد يصح بل في أصل الصلب كلام. فقال بعضهم: إنه أنفذ فيهم وعيده وصلبهم وهو أول من صلب. ولا ينافيه قوله تعالى: أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ [القصص: 35] لأن المراد الغلبة بالحجة. وقال الإمام: لم يثبت ذلك في الأخبار. وأنت تعلم أن الظاهر السلامة. وصيغة التفعيل في الفعلين للتكثير. وقرىء بالتخفيف فيهما. وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى يريد من- نا- نفسه وموسى عليه السلام بقرينة تقدم ذكره في قوله تعالى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 542 آمَنْتُمْ لَهُ بناء على الظاهر فيه. واختار ذلك الطبري وجماعة وهذا إما لقصد توضيع موسى عليه السلام والهزء به لأنه عليه السلام لم يكن من التعذيب في شيء، وإما لأن إيمانهم لم يكن بزعمه عن مشاهدة المعجزة ومعاينة البرهان بل كان عن خوف من قبله عليه السلام حيث رأوا ابتلاع عصاه لحبالهم وعصيهم فخافوا على أنفسهم أيضا. واختار أبو حيان أن المراد من الغير الذي أشار إليه الضمير رب موسى عز وجل الذي آمنوا به بقولهم آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى. وَلَتَعْلَمُنَّ هنا معلق وأَيُّنا أَشَدُّ جملة استفهامية من مبتدأ وخبر في موضع نصب سادة مسد مفعوليه إن كان العلم على بابه أو في موضع مفعول واحد له إن كان بمعنى المعرفة: ويجوز على هذا الوجه أن يكون أَيُّنا مفعولا وهو مبني على رأي سيبويه وأَشَدُّ خبر مبتدأ محذوف أي هو أشد. والجملة صلة أي والعائد الصدر، وعَذاباً تمييز. وقد استغنى بذكره مع أَشَدُّ عن ذكره مع أَبْقى وهو مراد أيضا. واشتقاق أبقى من البقاء بمعنى الدوام. وقيل: لا يبعد والله تعالى أعلم أن يكون من البقاء بمعنى العطاء فإن اللعين كان يعطي لمن يرضاه العطايا فيكون للآية شبه بقول نمروذ «أنا أحيي وأميت» وهو في غاية البعد عند من له ذوق سليم. ثم لا يخفى أن اللعين في غاية الوقاحة ونهاية الجلادة حيث أوعد وهدد وأبرق وأرعد مع قرب عهده بما شاهد من انقلاب العصا حية وما لها من الآثار الهائلة حتى إنها قصدت ابتلاع قبته فاستغاث بموسى عليه السلام ولا يبعد نحو ذلك من فاجر طاغ مثله قالُوا غير مكترثين بوعيده لَنْ نُؤْثِرَكَ لن نختارك بالإيمان والانقياد عَلى ما جاءَنا من الله تعالى على يد موسى عليه السلام مِنَ الْبَيِّناتِ من المعجزات الظاهرة التي اشتملت عليه العصا. وإنما جعلوا المجيء إليهم وإن عم لأنهم المنتفعون بذلك والعارفون به على أتم وجه من غير تقليد. وما موصولة وما بعدها صلتها والعائد الضمير المستتر في جاء. وقيل العائد محذوف وضمير جاءَنا لموسى عليه السلام أي على الذين جاءنا به موسى عليه السلام وفيه بعد. وإن كان صنيع بعضهم اختياره مع أن في صحة حذف مثل هذا المجرور كلاما. وَالَّذِي فَطَرَنا أي أبدعنا وأوجدنا وسائر العلويات والسفليات. وهو عطف على «ما جاءنا» وتأخيره لأن ما في ضمنه آية عقلية نظرية وما شاهدوه آية حسية ظاهرة. وإيراده تعالى بعنوان الفاطرية لهم للإشعار بعلة الحكم فإن إبداعه تعالى لهم. وكون فرعون من جملة مبدعاته سبحانه مما يوجب عدم إيثارهم إياه عليه عز وجل. وفيه تكذيب للعين في دعواه الربوبية. وقيل: الواو للقسم وجوابه محذوف لدلالة المذكور عليه أي وحق الذي فطرنا لن نؤثرك إلخ. ولا مساغ لكون المذكور جوابا عند من يجوز تقديم الجواب أيضا لما أن القسم لإيجاب كما قال أبو حيان: بلن إلا في شاذ من الشعر. وقولهم: هذا جواب لتوبيخ اللعين بقوله: آمنتم إلخ. وقوله تعالى فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ جواب عن تهديده بقوله: لأقطعن إلخ أي فاصنع ما أنت بصدد صنعه أو فاحكم بما أنت بصدد الحكم به فالقضاء أما بمعنى الإيجاد الإبداعي كما في قوله تعالى فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [فصلت: 12] وإما بمعناه المعروف. وعلى الوجهين ليس المراد من الأمر حقيقته، وما موصولة والعائد محذوف. وجوز أبو البقاء كونها مصدرية وهو مبني على ما ذهب إليه بعض النحاة من جواز وصل المصدرية بالجملة الاسمية ومنع ذلك بعضهم، وقوله تعالى إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا مع ما بعده تعليل لعدم المبالاة المستفاد مما سبق من الأمر بالقضاء، وما كافة وهذِهِ الْحَياةَ منصوب محلا على الظرفية لتقضى والقضاء على ما مر ومفعوله محذوف أي إنما تصنع ما تهواه أو تحكم بما تراه في هذه الحياة الدنيا فحسب وما لنا من رغبة في عذبها ولا رهبة من عذابها، وجوز أن تكون ما مصدرية فهي وما في حيزها في تأويل مصدر اسم أن وخبرها هذِهِ الْحَياةَ أي إن قضاءك كائن في هذه الحياة، وجوز أن ينزل الفعل منزلة اللازم فلا حذف. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 543 وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة «إنما تقضي» بالبناء للمفعول «هذه الحياة» بالرفع على أنه اتسع في الظرف فجعل مفعولا به ثم بنى الفعل له نحو صيم يوم الخميس إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا التي اقترفناها من الكفر والمعاصي ولا يؤاخذنا بها في الدار الآخرة لا ليمتعنا بتلك الحياة الفانية حتى نتأثر بما أوعدتنا به. وقوله تعالى وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ عطف على خَطايانا أي ويغفر لنا السحر الذي علمناه في معارضة موسى عليه السلام باكراهك وحشرك إيانا من المدائن القاصية خصوه بالذكر مع اندراجه في خطاياهم إظهارا لغاية نفرتهم عنه ورغبتهم في مغفرته، وذكر الإكراه للإيذان بأنه مما يجب أن يفرد بالاستغفار مع صدوره عنهم بالإكراه، وفيه نوع اعتذار لا ستجلاب المغفرة، وقيل: إن رؤساءهم كانوا اثنين وسبعين اثنان منهم من القبط والباقي من بني إسرائيل وكان فرعون أكرههم على تعلم السحر. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: أخذ فرعون أربعين غلاما من بني إسرائيل فأمر أن يتعلموا السحر وقال: علموهم تعليما لا يغلبهم أحد من أهل الأرض وهم من الذين آمنوا بموسى عليه السلام وهم الذين قالوا: إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ، وقال الحسن: كان يأخذ ولدان الناس ويجبرهم على تعلم السحر، وقيل: إنه أكرههم على المعارضة حيث روي أنهم قالوا له: أرنا موسى نائما ففعل فوجدوه تحرسه عصاه فقالوا: ما هذا بسحر فإن الساحر إذا نام بطل سحره فأبى إلا أن يعارضوه ولا ينافي ذلك قولهم: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ [الشعراء: 44] لاحتمال أن يكون قبل ذلك أو تجلدا كما أن قولهم: إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ [الأعراف: 133] قبله كما قيل: وزعم أبو عبيد أن مجرد أمر السلطان شخصا إكراه وإن لم يتوعده وإلى ذلك ذهب ساداتنا الحنفية كما في عامة كتبهم لما في مخالفة أمره من توقع المكروه لا سيما إذا كان السلطان جبارا طاغية وَاللَّهُ خَيْرٌ في حد ذاته تعالى وَأَبْقى أي وأدوم جزاء ثوابا كان أو عقابا أو خير ثوابا وأبقى عذابا، وقوله تعالى: إِنَّهُ إلى آخر الشرطيتين تعليل من جهتهم لكونه تعالى شأنه خير وأبقى وتحقيق له وإبطال لما ادعاه اللعين، وتصديرهما بضمير الشأن للتنبيه على فخامة مضمونهما ولزيادة تقرير له أي إن الشأن الخطير. هذا أي قوله تعالى مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً بأن مات على الكفر والمعاصي. فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها فينتهي عذابه وهذا تحقيق لكون عذابه تعالى أبقى وَلا يَحْيى حياة ينتفع بها وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً به عز وجل وبما جاء من عنده من المعجزات التي من جملتها ما شاهدناه قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ من الأعمال فَأُولئِكَ إشارة إلى مَنْ والجمع باعتبار معناها كما أن الأفراد فيما تقدم باعتبار لفظها، وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو درجتهم وبعد منزلتهم أي فأولئك المؤمنون العاملون للأعمال الصالحات لَهُمُ بسبب إيمانهم وعملهم ذلك الدَّرَجاتُ الْعُلى أي المنازل الرفيعة جَنَّاتُ عَدْنٍ بدل من الدرجات العلى أو بيان وقد تقدم في عدن (1) تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ حال من الجنات، وقوله تعالى: خالِدِينَ فِيها تحقيق لكون ثوابه تعالى أبقى وهو حال من الضمير في لهم، والعامل فيه معنى الاستقرار في الظرف أو ما في (أولئك) من معنى أشير والحال مقدرة ولا يجوز أن يكون جَنَّاتُ خبر مبتدأ محذوف أي هي جنات لخلو الكلام حينئذ عن عامل في الحال على ما ذكره أبو البقاء وَذلِكَ إشارة إلى ما أتيح لهم من الفوز بما ذكر ومعنى البعد (2) لما أشير إليه   (1) قوله وقد تقدم في عدن كذا بخطه والأمر سهل. (2) قوله ومعنى البعد إلخ كذا بخطه وتأمله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 544 من قرب من التفخيم جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى أي تطهر من دنس الكفر والمعاصي بما ذكر من الإيمان والأعمال الصالحة. وهذا تصريح بما أفادته الشرطية، وتقديم ذكر حال المجرم للمسارعة إلى بيان أشدية عذابه عز وجل ودوامه ردا على ما ادعاه فرعون بقوله أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى، وقال بعضهم: إن الشرطيتين إلى هنا ابتداء كلام منه جل وعلا تنبيها على قبح ما فعل فرعون وحسن ما فعل السحرة والأول أولى خلافا لما حسبه النيسابوري. هذا واستدل المعتزلة بالشرطية الأولى على القطع بعذاب مرتكب الكبيرة قالوا: مرتكب الكبيرة مجرم لأن أصل الجرم قطع الثمرة عن الشجرة ثم استعير لاكتساب المكروه وكل مجرم فإن له جهنم للآية فإن من الشرطية فيها عامة بدليل صحة الاستثناء فينتج مرتكب الكبيرة أن له جهنم وهو دال على القطع بالوعيد. وأجاب أهل السنة بأنا لا نسلم الصغرى لجواز أن يراد بالمجرم الكافر فكثيرا ما جاء في القرآن بذلك المعنى كقوله تعالى يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ إلى قوله سبحانه وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [المدثر: 40- 46 ] وقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ [المطففين: 29] إلى آخر السورة، وعلى تقدير تسليم هذه المقدمة لا نسلم الكبرى على إطلاقها وإنما هي كلية بشرط عدم العفو مع أنا لا نسلم أن من الشرطية قطعية في العموم كما قال الإمام وحينئذ لا يحصل القطع بالوعيد مطلقا، وعلى تقدير تسليم المقدمتين يقال يعارض ذلك الدليل عموم الوعد في قوله تعالى ومن يأته مؤمنا إلخ ويجعل الكلام فيمن آمن وعمل الصالحات وارتكب الكبيرة وهو داخل في عموم مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ ولا يخرجه عن العموم ارتكابه الكبيرة ومتى كانت له الجنة فهي لمن آمن وارتكب الكبيرة ولم يعمل الأعمال الصالحة أيضا إذ لا قائل بالفرق، فإذا قالوا: مرتكب الكبيرة لا يقال له مؤمن كما لا يقال كافر لإثباتهم المنزلة بين المنزلتين فلا يدخل ذلك في العموم أبطلنا ذلك وبرهنا على حصر المكلف في المؤمن والكافر ونفي المنزلة بين الإيمان والكفر بما هو مذكور في محله. وعلى تقدير تسليم أن مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً إلخ لا يعم مرتكب الكبيرة يقال: إن قوله تعالى فَأُولئِكَ لهم الدرجات العلى يدل على حصول العفو لأصحاب الكبائر لأنه تعالى جعل الدرجات العلى وجنات عدن لمن أتى بالإيمان والأعمال الصالحة فسائر الدرجات الغير العالية والجنات لا بد أن تكون لغيرهم وما هم إلا العصاة من أهل الإيمان. ولقد أخرج أبو داود وابن مردوية عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أهل الدرجات العلى ليراهم من تحتهم كما ترون الكوكب الدري في أفق السما. وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما» ، واستدل على شمول مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً صاحب الكبيرة بقوله تعالى وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى بناء على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن المراد بمن تزكى من قال لا إله إلا الله كأنه أراد من تطهر عن دنس الكفر والله تعالى أعلم. ثم إن العاصي إذا دخل جهنم لا يكون حاله كحال المجرم الكافر إذا دخلها بل قيل: إنه يموت احتجاجا بما أخرج مسلم وأحمد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطب فأتى على هذه الآية أنه مَنْ يَأْتِ إلخ فقال عليه الصلاة والسلام: أما أهلها- يعني جهنم- الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون وأما الذين ليسوا بأهلها فإن النار تميتهم إماتة ثم يقوم الشفعاء فيشفعون فيؤتى بهم ضبائر على نهر يقال له الحياة أو الحيوان فينبتون كما تنبت القثاء بحميل السيل» وحمل ذلك القائل تميتهم فيه على الحقيقة وجعل المصدر تأكيدا لدفع توهم المجاز كما قيل في قوله تعالى وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النساء: 164] ، وذكر أن فائدة بقائهم في النار بعد إماتتهم إلى حيث شاء الله تعالى حرمانهم من الجنة تلك المدة وذلك منضم إلى عذابهم بإحراق النار إياهم. وقال بعضهم: إن تميتهم مجاز والمراد أنها تجعل حالهم قريبة من حال الموتى بأن لا يكون لهم شعور تام الجزء: 8 ¦ الصفحة: 545 بالعذاب، ولا يسلم أن ذكر المصدر ينافي التجوز فيجوز أن يقال قتلت زيدا بالعصا قتلا والمراد ضربته ضربا شديدا ولا يصح أن يقال: المصدر لبيان النوع أي تميتهم نوعا من الإماتة لأن الإماتة لا أنواع لها بل هي نوع واحد وهو إزهاق الروح ولهذا قيل: ومن لم يمت بالسيف مات بغيره ... تعددت الأسباب والموت واحد واستدل المجسمة بقوله سبحانه إنه من يأت ربه على ثبوت مكان له تعالى شأنه، وأجيب بأن المراد من إتيانه تعالى إتيان موضع وعده عز وجل أو نحو ذلك وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى حكاية إجمالية لما انتهى إليه أمر فرعون وقومه وقد طوى في البين ذكر ما جرى عليهم بعد أن غلبت السحرة من الآيات المفصلة الظاهرة على يد موسى عليه السلام في نحو من عشرين سنة حسبما فصل في سورة الأعراف، وكان فرعون كلما جاءت آية وعد أن يرسل بني إسرائيل عند انكشاف العذاب حتى إذا انكشف نكث فلما كملت الآيات أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي وتصدير الجملة بالقسم الإبراز كمال العناية بمضمونها. وأن إما مفسرة لما في الوحي من معنى القول وإما مصدرية حذف عنها الجار، والتعبير عن بني إسرائيل بعنوان العبودية لله تعالى لإظهار الرحمة والاعتناء بأمرهم والتنبيه على غاية قبح صنيع فرعون بهم حيث استعبدهم وهم عباده عز وجل وفعل بهم من فنون الظلم ما فعل ولم يراقب فيهم مولاهم الحقيقي جل جلاله، والظاهر أن الإيحاء بما ذكر وكذا ما بعده كان بمصر أي وبالله تعالى لقد أوحينا إليه عليه السلام أن سر بعبادي الذين أرسلتك لإنقاذهم من ملكة فرعون من مصر ليلا فَاضْرِبْ لَهُمْ بعصاك طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ مفعول به لأضرب على الاتساع وهو مجاز عقلي والأصل اضرب البحر ليصير لهم طريقا يَبَساً أي يابسا وبذلك قرأ أبو حيوة على أنه مصدر جعل وصفا لطريقا مبالغة وهو يستوي فيه الواحد المذكر وغيره. وقرأ الحسن «يبسا» بسكون الباء وهو إما مخفف منه بحذف الحركة فيكون مصدرا أيضا أو صفة مشبهة كصعب أو جمع يابس كصحب وصاحب. ووصف الواحد به للمبالغة وذلك أنه جعل الطريق لفرط يبسها كأشياء يابسة كما قيل في قول القطامي: كأن قتود رحلي حين ضمت ... حوالب غرزا ومعي جياعا أنه جعل المعي لفرط جوعه كجماعة جياع أو قدر كل جزء من أجزاء الطريق طريقا يابسا كما قيل في «نطفة أمشاج» وثوب أخلاق أو حيث أريد بالطريق الجنس وكان متعددا حسب تعدد الأسباط لا طريق واحدة على الصحيح جاء وصفه جمعا، وقيل: يحتمل أن يكون اسم جمع، والظاهر أنه لا فرق هنا بين اليبس بالتحريك واليبس بالتسكين معنى لأن الأصل توافق القراءتين وإن كانت إحداهما شاذة، وفي القاموس اليبس بالإسكان ما كان أصله رطبا فجف وما أصله اليبوسة ولم يعهد رطبا يبس بالتحريك، وأما طريق موسى عليه السلام في البحر فإنه لم يعهد طريقا لا رطبا ولا يابسا إنما أظهره الله تعالى لهم حينئذ مخلوقا على ذلك اه. وهذا مخالف لما ذكره الراغب من أن اليبس بالتحريك ما كان فيه رطوبة فذهبت، والمكان إذا كان فيه ماء فذهب، وروي أن موسى عليه السلام لما ضرب البحر وانفلق حتى صارت فيه طرق بعث الله تعالى ريح الصبا فجففت تلك الطرق حتى يبست. وذهب غير واحد أن الضرب بمعنى الجعل من قولهم: ضرب له في ماله سهما وضرب عليهم الخراج أو بمعنى الاتخاذ فينصب مفعولين أولهما طَرِيقاً وثانيهما لَهُمْ. واختار أبو حيان بقاءه على المعنى المشهور وهو أوفق بقوله تعالى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ [الشعراء: 63] ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 546 وزعم أبو البقاء أن طَرِيقاً على هذا الوجه مفعول فيه، وقال: التقدير فَاضْرِبْ لَهُمْ موضع طريق لا تَخافُ دَرَكاً في موضع الحال من ضمير فَاضْرِبْ أو الصفة الأخرى لطريقا والعائد محذوف أي فيها أو هو استئناف كما قال أبو البقاء وقدمه على سائر الاحتمالات. وقرأ الأعمش وحمزة وابن أبي ليلى «لا تخف» بالجزم على جواب الأمر أعني «أسر» ، ويحتمل أنه نهي مستأنف كما ذكره الزجاج. وقرأ أبو حيوة وطلحة والأعمش «دركا» بسكون الراء وهو اسم من الإدراك أي اللحوق كالدرك بالتحريك، وقال الراغب: الدرك بالتحريك في الآية ما يلحق الإنسان من تبعة أي لا تخاف تبعة، والجمهور على الأول أي لا تخاف أن يدرككم فرعون وجنوده من خلفكم وَلا تَخْشى أن يغرقكم البحر من قدامكم وهو عطف على لا تَخافُ، وذلك ظاهر على الاحتمالات الثلاثة في قراءة الرفع، وأما على قراءة الجزم فقيل هو استئناف أي وأنت لا تخشى، وقيل: عطف على المجزوم والألف جيء بها للإطلاق مراعاة لأواخر الآي كما في قوله تعالى فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا [الأحزاب: 67] وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الأحزاب: 10] أو هو مجزوم بحذف الحركة المقدرة كما في قوله: إذا العجوز غضبت فطلق ... ولا ترضّاها ولا تملّق وهذا لغة قليلة عند قوم وضرورة عند آخرين فلا يجوز تخريج التنزيل الجليل الشأن عليه أو لا يليق مع وجود مثل الاحتمالين السابقين أو الأول منهما. والخشية أعظم الخوف وكأنه إنما اختيرت هنا لأن الغرق أعظم من إدراك فرعون وجنوده لما أن ذاك مظنة السلامة، ولا ينافي ذلك أنهم إنما ذكروا أولا ما يدل على خوفهم منه حيث قالوا: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء: 61] ولذا سورع في إزاحته بتقديم نفيه كما يظهر بالتأمل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 547 فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ أي تبعهم ومعه جنوده على أن أتبع بمعنى تبع وهو متعد إلى واحد والباء للمصاحبة والجار والمجرور في موضع الحال، ويؤيد ذلك أنه قرأ الحسن وأبو عمرو في رواية فاتبعهم بتشديد التاء، وقرىء أيضا فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ، وقيل: أتبع متعد إلى اثنين هنا كما في قوله تعالى: «أتبعناهم ذرياتهم» والثاني مقدر أي فأتبعهم رؤساء دولته أو عقابه، وقيل: نفسه والجار والمجرور في موضع الحال أيضا، وعن الأزهري أن المفعول الثاني جنوده والباء سيف خطيب أي أتبعهم فرعون جنوده وساقهم خلفهم فكان معهم يحثهم على اللحوق بهم، وجوز أن يكون المفعول الثاني جنوده والباء للتعدية فيكون قد تعدى الفعل إلى واحد بنفسه وإلى الآخر بالحرف، وأيّا ما كان فالفاء فصيحة معربة عن مضمر قد طوي ذكره ثقة بغاية ظهوره وإيذانا بكمال مسارعة موسى عليه السلام إلى الامتثال بالأمر أي ففعل ما أمر به من الإسراء بعبادي وضرب الطريق لهم فاتبعه فرعون بجنوده. وزعم بعضهم أن الإيحاء بالضرب كان بعد أن اتبعهم فرعون وتراءى الجمعان. والظاهر الأول، روي أن موسى عليه السلام خرج بهم أول الليل يريد القلزم وكانوا قد استعاروا من قوم فرعون الحلي والدواب لعيد يخرجون إليه وكانوا ستمائة ألف وثلاثة آلاف ونيفا ليس فيهم ابن ستين ولا عشرين، وفي رواية أنهم خرجوا وهم ستمائة ألف وسبعون ألفا (1) وأخرجوا معهم جسد يوسف عليه السلام لأنه كان عهد إليهم ذلك ودلتهم عجوز على موضعه فقال لها موسى عليه السلام: احتكمي فقالت: أكون معك في الجنة فاتصل الخبر بفرعون فجمع جنوده وخرج بهم وكان في خيله سبعون ألف أدهم وكانت مقدمته فيما يحكى سبعمائة ألف فارس، وقيل: ألف ألف وخمسمائة ألف فقص أثرهم حتى تراءى الجمعان فعظم فزع بني إسرائيل فضرب عليه السلام بعصاه البحر فانفلق اثني عشر فرقا كل فرق كالطود العظيم فدخلوا ووصل فرعون وجنوده إلى المدخل فرأوا البحر منفلقا فاستعظموا الأمر فقال فرعون لهم: إنما انفلق من هيبتي فدخل على فرس حصان وبين يديه جبريل عليه السلام على فرس حجر وصاحت الملائكة عليهم السلام وكانوا ثلاثة وثلاثين ملكا أن ادخلوا فدخلوا حتى إذا استكملوا دخولا خرج موسى عليه السلام بمن معه من الأسباط سالمين ولم يخرج أحد من فرعون وجنوده فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ أي علاهم منه وغمرهم ما غمرهم من الأمر الهائل الذي لا يقادر قدره ولا يبلغ كنهه. وقيل: غشيهم ما سمعت قصته وليس بذاك فإن مدار التهويل والتفخيم خروجه عن حدود الفهم والوصف لا سماع القصة، والظاهر أن ضميري الجمع لفرعون وجنوده، وقيل: لجنوده فقط للقرب ولأنه ألقي بالساحل ولم يتغط بالبحر كما أشير إليه بقوله تعالى فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ [يونس: 92] وفيه أن الإنجاء بعد ما غشيه ما غشي جنوده وشك بنو إسرائيل في هلاكه والقرب ليس بداع قوي، وقيل: الضمير الأول لفرعون وجنوده والثاني لموسى عليه السلام وقومه وفي الكلام حذف أي فنجا موسى عليه السلام وقومه وغرق فرعون وجنوده انتهى وليس بشيء كما لا يخفى. وقرأت فرقة منهم الأعمش «فغشاهم من اليم ما غشاهم» أي غطاهم ما غطاهم فالفاعل ما أيضا وترك المفعول زيادة   (1) لا يخفى أن هذه المبالغات مما لم يصح فيها خبر والله تعالى أعلم بها اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 548 في الإبهام، وقيل: المفعول مِنَ الْيَمِّ أي بعض اليم، ويجوز أن يكون الفاعل ضمير الله تعالى شأنه وما مفعول وقيل: هو ضمير فرعون والاسناد مجازي لأنه الذي ورطهم للهلكة، ويبعده الإظهار في قوله تعالى وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ» أي سلك بهم مسلكا أداهم إلى الخسران في الدين والدنيا معا حيث أغرقوا فأدخلوا نارا وَما هَدى أي وما أرشدهم إلى طريق موصل إلى مطلب من المطالب الدينية والدنيوية والمراد بذلك التهكم به كما ذكر غير واحد، واعترض بأن التهكم أن يؤتى بما قصد به ضده استعارة ونحوها نحو إنك لأنت الحليم الرشيد إذا كان الغرض الوصف بضد هذين الوصفين، وكونه لم يهد إخبار عما هو كذلك في الواقع. وأجيب بأن الأمر كذلك ولكن العرف في مثل ما هدى زيد عمرا ثبوت كون زيد عالما بطريق الهداية مهتديا في نفسه ولكنه لم يهد عمرا وفرعون أضل الضالين في نفسه فكيف يتوهم أنه يهدي غيره، ويحقق ذلك أن الجملة الأولى كافية في الإخبار عن عدم هدايته إياهم بل مع زيادة إضلاله إياهم فإن من لا يهدي قد لا يضل وإذا تحقق إغناؤها في الإخبار على أتم وجه تعين كون الثانية بمعنى سواه وهو التهكم، وقال العلامة الطيبي: توضيح معنى التهكم أن قوله تعالى وَما هَدى من باب التلميح وهو إشارة إلى ادعاء اللعين إرشاد القوم في قوله «وما أهديكم إلا سبيل الرشاد» فهو كمن ادعى دعوى وبالغ فيها فإذا حان وقتها ولم يأت بها قيل له لم تأت بما ادعيت تهكما واستهزاء انتهى، ويعلم مما ذكر المغايرة بين الجملتين وأنه لا تكرير، وقيل: المراد وما هداهم في وقت ما ويحصل بذلك المغايرة لأنه لا دلالة في الجملة الأولى على هذا العموم والأول أولى، وقيل: هدى بمعنى اهتدى أي أضلهم وما اهتدى في نفسه وفيه بعد، وحمل بعضهم الإضلال والهداية على ما يختص بالديني منهما، ويأباه مقام بيان سوقه بجنوده إلى مساق الهلاك الدنيوي. وجعلهما عبارة عن الإضلال في البحر والإنجاء منه مما لا يقبله الطبع المستقيم. واحتج القاضي بالآية على أنه تعالى ليس خالقا للكفر لأنه تعالى شأنه قد ذم فيها فرعون بإضلاله ومن ذم أحدا بشيء يذم إذا فعله. وأجيب بمنع اطراد ذلك يا بَنِي إِسْرائِيلَ حكاية لما خاطبهم تعالى به بعد إغراق عدوهم وإنجائهم منه لكن لا عقيب ذلك بل بعد ما أفاض عليهم من فنون النعم الدينية والدنيوية ما أفاض. وقيل: إنشاء خطاب للذين كانوا منهم في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم على معنى أنه تعالى قد من عليهم بما فعل بآبائهم أصالة وبهم تبعا، وتعقب بأنه يرده قوله تعالى «وما أعجلك» إلخ ضرورة استحالة حمله على الإنشاء وكذا السباق فالوجه هو الحكاية بتقدير قلنا عطفا على «أوحينا» أي وقلنا يا بني إسرائيل قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ فرعون وقومه حيث كانوا يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم. وقرأ حميد «نجّيناكم» بتشديد الجيم من غير همزة قبلها وبنون العظمة. وقرأ حمزة والكسائي والأعمش وطلحة «أنجيتكم» بتاء الضمير وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ بالنصب على أنه صفة المضاف. وقرىء بالجر وخرجه الزمخشري على الجوار نحو- هذا جحر ضب خرب.. وتعقبه أبو حيان بأن الجر المذكور من الشذوذ والقلة بحيث ينبغي أن تخرج القراءة عليه وقال: الصحيح أنه نعت للطور لما فيه من اليمن، وإما لكونه عن يمين من يستقبل الجبل اه. والحق أن القلة لم تصل إلى حد منع تخريج القراءة لا سيما إذا كانت شاذة على ذلك وتوافق القراءتين يقتضيه، وقوله: وإما لكونه إلخ غير صحيح على تقدير أن يكون الطور هو الجبل ولو قال: وإما لكونه عن يمين من انطلق من مصر إلى الشام لكان صحيحا، ونصب جانِبَ على الظرفية بناء على ما نقل الخفاجي عن الراغب. وابن مالك في شرح التسهيل من أنه سمع نصب جنب وما بمعناه مضاف على الظرفية. ومنع بعضهم ذلك لأنه محدود وجعله منصوبا على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 549 أنه مفعول- واعدنا- على الاتساع أو بتقدير مضاف. أي إتيان جانب إلخ. وإلى هذا ذهب أبو البقاء. وإذا كان ظرفا فالمفعول مقدر أي وواعدناكم بواسطة نبيكم في ذلك الجانب إتيان موسى عليه السلام للمناجاة وإنزال التوراة عليه، ونسبة المواعدة إليهم مع كونها لموسى عليه السلام نظرا إلى ملابستها إياهم وسراية منفعتها إليهم فكأنهم كلهم مواعدون فالمجاز في النسبة. وفي ذلك من إيفاء مقام الامتنان حقه ما فيه. وقرأ حمزة والمذكورون معه آنفا «وواعدتكم» بتاء الضمير أيضا. وقرىء «ووعدناكم» من الوعد. وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى الترنجبين والسمانى حيث كان ينزل عليهم المن وهم في التيه مثل الثلج من الفجر إلى الطلوع لكل إنسان صاع ويبعث الجنوب عليهم السمانى فيأخذ الواحد منهم ما يكفيه. كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ أي من لذائذه أو حلالاته على أن المراد بالطيب ما يستطيبه الطبع أو الشرع. وجوز أن يراد بالطيبات ما جمعت وصفي اللذة والحل، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان إباحة ما ذكر لهم وإتماما للنعمة عليهم، وقرأ من ذكر آنفا «رزقتكم» وقدم سبحانه نعمة الإنجاء من العدو لأنها من باب درء المضار وهو أهم من جلب المنافع ومن ذاق مرارة كيد الأعداء خذلهم الله تعالى ثم أنجاه الله تعالى وجعل كيدهم في نحورهم علم قدر هذه النعمة، نسأل الله تعالى أن يتم نعمه علينا وأن لا يجعل لعدو سبيلا إلينا، وثنى جلّ وعلا بالنعمة الدينية لأنها الأنف في وجه المنافع، وأخر عز وجل النعمة الدنيوية لكونها دون ذلك فتبا لمن يبيع الدين بالدنيا وَلا تَطْغَوْا فِيهِ أي فيما رزقناكم بالإخلال بشكره وتعدي حدود الله تعالى فيه بالسرف والبطر والاستعانة به على معاصي الله تعالى ومنع الحقوق الواجبة فيه، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أي لا يظلم بعضكم بعضا فيأخذه من صاحبه بغير حق، وقيل: أي لا تدخروا. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «ولا تطغوا» بضم الغين فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي جواب للنهي أي فيلزمكم غضبي ويجب لكم من حل الدين يحل بكسر الحاء إذا وجب أداؤه وأصله من الحلول وهو في الأجسام ثم استعير لغيرها وشاع حتى صارت حقيقة فيه وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى أي هلك وأصله الوقوع من علو كالجبل ثم استعمل في الهلاك للزومه له، وقيل: أي وقع في الهاوية وإليه ذهب الزجاج. وفي بعض الآثار أن في جهنم قصرا يرمي الكافر من أعلاه فيهوي في جهنم أربعين خريفا قبل أن يبلغ الصلصال فذلك قوله تعالى فَقَدْ هَوى فيكون بمعناه الأصلي إذا أريد به فرد مخصوص منه لا بخصوصه. وقرأ الكسائي «فيحل» بضم الحاء «ومن يحلل» بضم اللام الأولى وهي قراءة قتادة وأبي حيوة والأعمش وطلحة ووافق ابن عتبة في يَحْلِلْ فضم، وفي الإقناع لأبي على الأهوازي قرأ ابن غزوان عن طلحة «لا يحلنّ عليكم» بنون مشددة وفتح اللام وكسر الحاء وهو من باب لا أرينك هنا، وفي كتاب اللوامح قرأ قتادة وعبد الله بن مسلم بن يسار وابن وثاب والأعمش «فيحل» بضم الياء وكسر الحاء من الإحلال ففاعله ضمير الطغيان، وغَضَبِي مفعوله، وجوز أن يكون هو الفاعل والمفعول محذوف أي العذاب أو نحوه، ومعنى يحل مضموم الحاء ينزل من حل بالبلد إذا نزل كما في الكشاف. وفي المصباح حل العذاب يحل ويحل هذه وحدها بالكسر والضم والباقي بالكسر فقط، والغضب في البشر ثوران دم القلب عند إرادة الانتقام، وفي الحديث «اتقوا الغضب فإنه جمرة توقد في قلب ابن آدم ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه» وإذا وصف الله تعالى به لم يرد هذا المعنى قطعا وأريد معنى لائق بشأنه عز شأنه، وقد يراد به الجزء: 8 ¦ الصفحة: 550 الانتقام والعقوبة أو إرادتهما نعوذ بالله تعالى من ذلك، ووصف ذلك بالحلو حقيقة على بعض الاحتمالات ومجازا على بعض آخر، وفي الانتصاف أن وصفه بالحلول لا يتأتى على تقدير أن يراد به إرادة العقوبة ويكون ذلك بمنزلة قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا» على التأويل المعروف أو عبر عن حلول أثر الإرادة بحلولها تعبيرا عن الأثر بالمؤثر كما يقول الناظر إلى عجيب من مخلوقات الله تعالى: انظر إلى قدرة الله تعالى يعني أثر القدرة لا نفسها وَإِنِّي لَغَفَّارٌ كثير المغفرة لِمَنْ تابَ من الشرك على ما روي عن ابن عباس، وقيل: منه ومن المعاصي التي من جملتها الطغيان فيما رزق وَآمَنَ بما يجب الإيمان به. واقتصر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيما يروى عنه على ذكر الإيمان بالله تعالى ولعله من باب الاقتصار على الأشرف وإلا فالأفيد إرادة العموم مع ذكر التوبة من الشرك وَعَمِلَ صالِحاً أي عملا مستقيما عند الشرع وهو بحسب الظاهر شامل للفرض والسنة، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير ذلك بأداء الفرائض ثُمَّ اهْتَدى أي لزم الهدى واستقام عليه إلى الموافاة وهو مروي عن الحبر. والهدى يحتمل أن يراد به الإيمان، وقد صرح سبحانه بمدح المستقيمين على ذلك في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا [فصلت: 41] . وقال الزمخشري: الاهتداء هو الاستقامة والثبات على الهدى المذكور وهو التوبة والإيمان والعمل الصالح وأيّا ما كان فكلمة ثم إما للتراخي باعتبار الانتهاء لبعده عن أول الانتهاء أو للدلالة على بعد ما بين المرتبتين فإن المداومة أعلى وأعظم من الشروع كما قيل: لكل إلى شأو العلى وثبات (1) ... ولكن قليل في الرجال ثبات وقيل: المراد ثم عمل بالسنة، وأخرج سعيد بن منصور عن الحبر أن المراد من اهتدى علم أن لعمله ثوابا يجزى عليه، وروي عنه غير ذلك، وقيل: المراد طهر قلبه من الأخلاق الذميمة. كالعجب والحسد والكبر وغيرها، وقال ابن عطية: الذي يقوى في معنى ثُمَّ اهْتَدى أن يكون ثم حفظ معتقداته من أن تخالف الحق في شيء من الأشياء فإن الاهتداء على هذا الوجه غير الإيمان وغير العمل انتهى، ولا يخفى عليك أن هذا يرجع إلى قولنا ثم استقام على الإيمان بما يجب الإيمان به على الوجه الصحيح، وروى الإمامية من عدة طرق عن أبي جعفر الباقر رضي الله تعالى عنه أنه قال: ثم اهتدى إلى ولايتنا أهل البيت فو الله لو أن رجلا عبد الله تعالى عمره بين الركن والمقام ثم مات ولم يجىء بولايتنا لأكبه الله تعالى في النار على وجهه. وأنت تعلم أن ولايتهم وحبهم رضي الله تعالى عنهم مما لا كلام عندنا في وجوبه لكن حمل الاهتداء في الآية على ذلك مع كونها حكاية لما خاطب الله تعالى به بني إسرائيل في زمان موسى عليه السلام مما يستدعي القول بأنه عز وجل أعلم بني إسرائيل بأهل البيت وأوجب عليهم ولا يتهم إذ ذاك ولم يثبت ذلك في صحيح الأخبار. نعم روى الإمامية من خبر جارود بن المنذر العبدي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال له «يا جارود ليلة أسري بي إلي السماء أوحى الله عز وجل إليّ أن سل من أرسلنا قبلك من رسلنا علام بعثوا قلت: علام بعثوا؟ قال: على نبوتك وولاية علي بن أبي طالب والأئمة منكما ثم عرفني الله تعالى بهم بأسمائهم ثم ذكر صلّى الله عليه وسلّم أسماءهم واحدا بعد واحد إلى المهدي وهو خير طويل يتفجر الكذب منه. ولهم أخبار في هذا المطلب كلها من هذا القبيل فلا فائدة في ذكرها إلا التطويل. والآية تدل على تحقق المغفرة لمن اتصف بمجموع الصفات المذكورة. وقصارى ما يفهم منها عند القائلين بالمفهوم عدم   (1) في نسخة حركات اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 551 تحققها لمن لم يتصف بالمجموع وعدم التحقق أعم من تحقق العدم فالآية بمعزل عن أن تكون دليلا للمعتزلي على تحقق عدم المغفرة لمرتكب الكبيرة إذا مات من غير توبة فافهم واحتج بها من قال تجب التوبة عن الكفر أولا ثم الإتيان بالإيمان ثانيا لأنه قدم فيها التوبة على الإيمان، واحتج بها أيضا من قال بعدم دخول العمل الصالح في الإيمان للعطف المقتضي للمغايرة وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى حكاية لما جرى بينه تعالى وبين موسى عليه السلام من الكلام عند ابتداء موافاته الميقات بموجب المواعدة المذكورة سابقا أي وقلنا له أي شيء عجل بك عن قومك فتقدمت عليهم. والمراد بهم هنا عند كثير ومنهم الزمخشري النقباء السبعون. والمراد بالتعجيل تقدمه عليهم لا الإتيان قبل تمام الميعاد المضروب خلافا لبعضهم. والاستفهام للإنكار ويتضمن كما في الكشف إنكار السبب الحامل لوجود مانع في البين وهو إيهام إغفال القوم وعدم الاعتداد بهم مع كونه عليه السلام مأمورا باستصحابهم وإحضارهم معه وإنكار أصل الفعل لأن العجلة نقيصة في نفسها فكيف من أولي العزم اللائق بهم مزيد الحزم، وقوله تعالى: قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى متضمن لبيان اعتذاره عليه السلام، وحاصله عرض الخطأ في الاجتهاد كأنه عليه السلام قال: إنهم لم يبعدوا عني وإن تقدمي عليهم بخطإ يسيرة وظني أن مثل ذلك لا ينكر وقد حملني عليه استدامة رضاك أو حصول زيادته وظني أن مثل هذا الحامل يصلح للحمل على مثل ما ذكر ولم يخطر لي أن هناك مانعا لينكر علي. ونحو هذا الإسراع المزيل للخشوع إلى إدراك الإمام في الركوع طلبا لأن يكون أداء هذا الركن مع الجماعة التي فيها رضا الرب تعالى فإنهم قالوا: إن ذلك غير مشروع، وقدم عليه السلام الاعتذار عن إنكار أصل الفعل لأنه أهم، وقال بعضهم: إن الاستفهام سؤال عن سبب العجلة يتضمن إنكارها لأنها في نفسها نقيصة انضم إليها الإغفال وإيهام التعظيم فأجاب عليه السلام عن السبب بأنه استدامة الرضا أو حصول زيادته وعن الإنكار بما محصله أنهم لم يبعدوا عني وظننت أن التقدم اليسير لكونه معتادا بين الناس لا ينكر ولا يعد نقيصة وعلل تقديم هذا الجواب بما مر. واعترض بأن مساق كلامه بظاهره يدل على أن السؤال عن السبب على حقيقته وأنت خبير بأن حقيقة الاستفهام محال على الله تعالى فلا وجه لبناء الكلام عليه، وأجيب بأن السؤال من علام الغيوب محال إن كان لاستدعاء المعرفة أما إذا كان لتعريف غيره أو لتبكيته أو تنبيهه فليس محالا، وتعقب بأنه لا يحسن هنا أن يكون السؤال لأحد المذكورات والمتبادر أن يكون للإنكار، وفي الانتصاف أن المراد من سؤال موسى عليه السلام عن سبب العجلة وهو سبحانه أعلم أن يعلمه أدب السفر وهو أنه ينبغي تأخر رئيس القوم عنهم ليكون بصره بهم ومهيمنا عليهم وهذا المعنى لا يحصل مع التقدم ألا ترى كيف علم الله تعالى هذا الأدب لوطا فقال سبحانه وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ [الحجر: 65] فأمره عز وجل أن يكون آخرهم وموسى عليه السلام إنما أغفل هذا الأمر مبادرة إلى رضا الله تعالى ومسارعة إلى الميعاد وذلك شأن الموعود بما يسره يود لو ركب أجنحة الطير ولا أسرّ من مواعدة الله تعالى له عليه الصلاة والسلام انتهى. وأنت تعلم أن السؤال عن السبب ما لم يكن المراد منه إنكار المسبب لا يتسنى هذا التعليم، وقال بعضهم: الذي يلوح بالبال أن يكون المعنى أي شيء أعجلك منفردا عن قومك، والإنكار بالذات للانفراد عنهم فهو منصب على القيد كما عرف في أمثاله، وإنكار العجلة ليس إلا لكونها وسيلة له فاعتذر موسى عليه السلام عنه بأني أخطأت في الاجتهاد وحسبت أن القدر اليسير من التقدم لا يخل بالمعية ولا يعد انفرادا ولا يقدح بالاستصحاب والحامل عليه طلب استدامة مرضاتك بالمبادرة إلى امتثال أمرك فالجواب هو قوله هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي، وقوله وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى كالتتميم له اه وهو عندي لا يخلو عن حسن. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 552 وقيل: إن السؤال عن السبب والجواب إنما هو قوله وَعَجِلْتُ إلخ وما قبله تمهيد له وفيه نظر، وعلى هذا وما قبله لم يكن جواب موسى عليه السلام عن أمرين ليجيء سؤال الترتيب فيجاب بما مر أو بما ذكره الزمخشري من أنه عليه السلام حار لما ورد عليه من التهيب لعتاب الله عز وجل فأذهله ذلك عن الجواب المنطبق المترتب على حدود الكلام لكن قال في البحر: إن في هذا الجواب إساءة الأدب مع الأنبياء عليهم السلام، وذلك شأن الزمخشري معهم صلى الله تعالى وسلّم عليهم، والمراد من إِلَيْكَ إلى مكان وعدك فلا يصلح دليلا للمجسمة على إثبات مكان له عز وجل. ونداؤه تعالى بعنوان الربوبية لمزيد الضراعة والابتهال رغبة في قبول العذر وأُولاءِ اسم إشارة كما هو المشهور مرفوع المحل على الخبرية- لهم- وعَلى أَثَرِي خبر بعد خبر أو حال كما قال أبو حيان وجوز الطبرسي كون أُولاءِ بدل من هُمْ وعَلى أَثَرِي هو الخبر، وقال أبو البقاء: أُولاءِ اسم موصول وعَلى أَثَرِي صلته وهو مذهب كوفي. وقرأ الحسن وابن معاذ عن أبيه «أولاي» بياء مكسورة وابن وثاب وعيسى في رواية «أولى» بالقصر، وقرأت فرقة «أولاي» بياء مفتوحة وقرأ عيسى ويعقوب وعبد الوارث عن أبي عمرو وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «على إثري» بكسر الهمزة وسكون الثاء، وحكى الكسائي «أثري» بضم الهمزة وسكون الثاء وتروى عن عيسى، وفي الكشاف إن «الأثر» بفتحتين أفصح من «الأثر» بكسر فسكون، وأما الأثر فمسموع في فرند السيف مدون في الأصول يقال: أثر السيف وأثره وهو بمعنى الأثر غريب قالَ استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية اعتذاره عليه السلام وهو السر في وروده على صيغة الغائب لا أنه التفات من التكلم إلى الغيبة لما أن المقدر فيما سبق على صيغة التكلم كأنه قيل من جهة السامعين: فماذا قال له ربه تعالى حينئذ؟ فقيل: قال سبحانه فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ أي اختبرناهم بما فعل السامري أو أوقعناهم في فتنة أي ميل مع الشهوات ووقوع في اختلاف مِنْ بَعْدِكَ من بعد فراقك لهم وذهابك من بينهم وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ حيث أخرج لهم عجلا جسدا له خوار ودعاهم إلى عبادته. وقيل: قال لهم وذهابك من بينهم وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ حيث أخرج لهم عجلا جسدا له خوار ودعاهم إلى عبادته. وقيل: قال لهم بعد أن غاب موسى عليه السلام عنهم عشرين ليلة: إنه قد كملت الأربعون فجعل العشرين مع أيامها أربعين ليلة. وليس من موسى عين ولا أثر وليس إخلافه ميعادكم إلا لما معكم من حلي القوم وهو حرام عليكم فجمعوه وكان من أمر العجل ما كان. والمراد بقومك هنا الذين خلفهم مع هارون عليه السلام، وكانوا على ما قيل ستمائة ألف ما نجا منهم من عبادة العجل إلا اثنا عشر ألفا فالمراد بهم غير المراد بقومك فيما تقدم، ولذا لم يؤت بضميرهم، وقيل: المراد بالقوم في الموضعين المتخلين لتعين إرادتهم هنا، والمعرفة المعادة عين الأولى. ومعنى «هم أولاء على أثري» هم بالقرب مني ينتطرونني. وتعقبه في الكشف بأنه غير ملائم للفظ الأثر ولا هو مطابق لتمهيد عذر العجلة ومن أين لصاحب هذا التأويل النقل بأنهم كانوا على القرب من الطور وحديث المعرفة المعادة إنما هو إذا لم يقم دليل التغاير وقد قام على أن لنا أن تقول: هي عين الأولى لأن المراد بالقوم الجنس في الموضعين لكن المقصود منه أولا النقباء وثانيا المتخلفون ومثله كثير في القرآن انتهى. وما ذكره من نفي النقل الدال على القرب فيه مقال، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا من الأخبار ما يدل بظاهره على القرب إلا أنا لم نقف على تصحيحه أو تضعيفه. وما ذكر من تفسير هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي على إرادة المتخلفين في الأول أيضا نقله الطبرسي عن الحسن، ونقل عنه أيضا تفسيره بأنهم على ديني ومنهاجي والأمر عليه أهون. والفاء لتعليل ما يفهمه الكلام السابق كأنه قيل: لا ينبغي عجلتك عن قومك وتقدمك عليهم وإهمال أمرهم لوجه من الوجوه فإنهم لحداثة عهدهم باتباعك ومزيد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 553 بلاهتهم وحماقتهم بمكان يحيق فيه مكر الشيطان ويتمكن من إضلالهم فإن القوم الذين خلفتهم مع أخيك قد فتنوا وأضلهم السامري بخروجك من بينهم فكيف تأمن على هؤلاء الذين أغفلتهم وأهملت أمرهم. وفي إرشاد العقل السليم إنها لترتيب الأخبار بما ذكر من الابتلاء على أخبار موسى عليه السلام بعجلته لكن لا لأن الأخبار بها سبب موجب للأخبار به بل لما بينهما من المناسبة المصححة للانتقال من أحدهما إلى الآخر من حيث أن مدار الابتلاء المذكور عجلة القوم وليس بذاك. وأما قول الخفاجي: إنها للتعقيب من غير تعليل أخ أقول لك عقب ما ذكر إنا قد فتنا إلى آخره ففيه سهو ظاهر لأن هذا المعنى إنما يتسنى لو كانت الفاء داخلة على القول لكنها داخلة على ما بعده وظاهر الآية يدل على أن الفتن وإضلال السامري إياهم قد تحققا ووقعا قبل الإخبار بهما إذ صيغة الماضي ظاهرة في ذلك، والظاهر أيضا على ما قررنا أن الأخبار كان عند مجيئه عليه السلام للطور لم يتقدمه إلا العتاب والاعتذار. وفي الآثار ما يدل على أن وقوع ما ذكر كان بعد عشرين ليلة من ذهابه عليه السلام لجانب الطور، وقيل: بعد ست وثلاثين يوما وحينئذ يكون التعبير عن ذلك بصيغة الماضي لاعتبار تحققه في علم الله تعالى ومشيئته أو لأنه قريب الوقوع مترقبه أو لأن السامري كان قد عزم على إيقاع الفتنة عند ذهاب موسى عليه السلام وتصدى لترتيب مبادئها وتمهيد مبانيها فنزل مباشرة الأسباب منزلة الوقوع. والسامري عند الأكثر كما قال الزجاج: كان عظيما من عظماء بني إسرائيل من قبيلة تعرف بالسامرة وهم إلى هذه الغاية في الشام يعرفون بالسامريين، وقيل: هو ابن خالة موسى عليه السلام، وقيل: ابن عمه، وقيل: كان علجا من كرمان، وقيل: كان من أهل باجرما قرية قريبة من مصر أو قرية من قرى موصل، وقيل: كان من القبط وخرج مع موسى عليه السلام مظهرا الإيمان وكان جاره. وقيل: كان من عباد البقر وقع في مصر فدخل في بني إسرائيل بظاهره وفي قلبه عبادة البقر. واسمه قيل موسى بن ظفر، وقيل: منجا، والأول أشهر، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أن أمه حين خافت أن يذبح خلفته في غار وأطبقت عليه فكان جبريل عليه السلام يأتيه فيغذوه بأصابعه في واحدة لبنا وفي الأخرى عسلا، وفي الأخرى سمنا ولم يزل يغذوه حتى نشأ وعلى ذلك قول من قال: إذا المرء لم يخلق سعيدا تحيرت ... عقول مربيه وخاب المؤمل فموسى الذي رباه جبريل كافر ... وموسى الذي رباه فرعون مرسل وبالجملة كان عند الجهور منافقا يظهر الإيمان ويبطن الكفر، وقرأ معاذ «أضلّهم» على أنه أفعل تفضيل أي أشدهم ضلالا لأنه ضال ومضل فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ عند رجوعه المعهود أي بعد ما استوفى الأربعين ذا القعدة وعشر ذي الحجة وأخذ التوراة لا عقيب الأخبار المذكور فسببية ما قبل الفاء لما بعدها إنما هي باعتبار قيد الرجوع المستفاد من قوله تعالى: غَضْبانَ أَسِفاً لا باعتبار نفسه وإن كانت داخلة عليه حقيقة فإن كون الرجوع بعد تمام الأربعين أمر مقرر مشهور لا يذهب الوهم إلى كونه عند الأخبار المذكور كما إذا قلت: شايعت الحجاج ودعوت لهم بالسلامة فرجعوا سالمين فإن أحدا لا يرتاب في أن المراد رجوعهم المعتاد لا رجوعهم أثر الدعاء وإن سببية الدعاء باعتبار وصف السلامة لا باعتبار نفس الرجوع كذا في إرشاد العقل السليم وهو مما لا ينتطح فيه كبشان. والأسف الحزين كما روي عن ابن عباس وكان حزنه عليه السلام من حيث أن ما وقع فيه قومه مما يترتب عليه العقوبة ولا يد له بدفعها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 554 وقال غير واحد: هو شديد الغضب، وقال الجبائي متلهفا على ما فاته متحيرا في أمر قومه يخشى أن لا يمكنه تداركه وهذا معنى للأسف غير مشهور قالَ استئناف بياني كأنه قيل: فماذا فعل بهم لما رجع إليهم؟ فقيل قال: يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ الهمزة لإنكار عدم الوعد ونفيه وتقرير وجوده على أبلغ وجه وآكده أي وعدكم وَعْداً حَسَناً لا سبيل لكم إلى إنكاره. والمراد بذلك إعطاء التوراة التي فيها هدى ونور، وقيل: هو ما وعدهم سبحانه من الوصول إلى جانب الطور الأيمن وما بعد ذلك من الفتوح في الأرض والمغفرة لمن تاب وآمن وغير ذلك مما وعد الله تعالى أهل طاعته. وعن الحسن أن الوعد الحسن الجنة التي وعدها من تمسك بدينه، وقيل: هو أن يسمعهم جل وعلا كلامه عز شأنه ولعل الأول أولى، ونصب وَعْداً يحتمل أن يكون على أنه مفعول ثان وهو بمعنى الموعود ويحتمل أن يكون على المصدرية والمفعول الثاني محذوف، والفاء في قوله تعالى: أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ للعطف على مقدر والهمزة لإنكار المعطوف ونفيه فقط، وجوز أن تكون الهمزة مقدمة من تأخير لصدارتها والعطف على لم يَعِدْكُمْ لأنه بمعنى قد وعدكم، واختار جمع الأول أل في العهد له، والمراد زمان الإنجاز، وقيل: زمان المفارقة أي أوعدكم سبحانه ذلك فطال زمان الإنجاز أو زمان المفارقة للإتيان به أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ أي يجب عَلَيْكُمْ غَضَبٌ شديد لا يقادر قدره كائن مِنْ رَبِّكُمْ أي من مالك أمركم على الإطلاق. والمراد من إرادة ذلك فعل ما يكون مقتضيا له. والفاء في قوله تعالى فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي لترتيب ما بعدها على كل من الشقين، والموعد مصدر مضاف إلى مفعوله للقصد إلى زيادة تقبيح حالهم فإن إخلافهم الوعد الجاري فيما بينهم وبينه عليه السلام من حيث إضافته إليه عليه السلام أشنع منه من حيث إضافته إليهم، والمعنى أفطال عليكم الزمان فنسيتم بسبب ذلك فأخلفتم وعدكم إياي بالثبات على ديني إلى أن أرجع من الميقات نسيانا أو تعمدتم فعل ما يكون سببا لحلول غضب ربكم عليكم فأخلفتم وعدكم إياي بذلك عمدا، وحاصله أنسيتم فأخلفتم أو تعمدتم فاخلفتم، ومنه يعلم التقابل بين الشقين. وجوز المفضل أن يكون الموعد مصدرا مضافا إلى الفاعل وإخلافه بمعنى وجدان الخلف فيه يقال: أخلف وعد زيد بمعنى وجد الخلف فيه، ونظيره أحمدت زيدا أي فوجدتم الخلف في موعدي إياكم بعد الأربعين، وفيه أنه لا يساعده السياق ولا السباق أصلا، وقيل: المصدر مضاف إلى المفعول إلا أن المراد منه وعدهم إياه عليه السلام باللحاق به والمجيء للطور على أثره وفيه ما فيه، واستدلت المعتزلة بالآية على أن الله عز وجل ليس خالقا للكفر وإلا لما قال سبحانه وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ولما كان لغضب موسى عليه السلام وأسفه وجه ولا يخفى ما فيه قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ أي وعدنا إياك الثبات على دينك، وإيثاره على أن يقال موعدنا على إضافة المصدر إلى فاعله لما مر آنفا. بِمَلْكِنا بأن ملكنا أمرنا يعنون أنا ولو خلينا وأنفسنا ولم يسول لنا السامري ما سوله مع مساعدة بعض الأحوال لما أخلفناه. وقرأ بعض السبعة «بملكنا» بكسر الميم وقرأ الأخوان والحسن والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وقعنب بضمها وقرأ عمر رضي الله تعالى عنه «بملكنا» بفتح الميم واللام قال في البحر: أي بسلطاننا، واستظهر أن الملك بالضم والفتح والكسر بمعنى. وفرق أبو علي فقال: معنى المضموم أنه لم يكن لنا ملك فنخلف موعدك بسلطانه وإنما أخلفناه بنظر أدى إليه ما فعل السامري، والكلام على حد قوله تعالى لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً [البقرة: 273] وقول ذي الرمة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 555 لا تشتكي سقطة منها وقد رقصت ... بها المفاوز حتى ظهرها حدب ومفتوح الميم مصدر ملك، والمعنى ما فعلنا ذلك بأن ملكنا الصواب ووفقنا له بل غلبتنا أنفسنا ومكسور الميم كثر استعماله فيما تحوزه اليد ولكنه يستعمل في الأمور التي يبرمها الإنسان، والمعنى عليه كالمعنى على المفتوح الميم، والمصدر في هذين الوجهين مضاف إلى الفاعل والمفعول مقدر أي بملكنا الصواب وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ استدراك عما سبق واعتذار عما فعلوا ببيان منشأ الخطأ، والمراد بالقوم القبط والأوزار الأحمال وتسمى بها الآثام. وعنوا بذلك ما استعاروه من القبط من الحلي برسم التزين في عيد لهم قبيل الخروج من مصر كما أسلفنا. وقيل: استعاروه باسم العرس. وقيل: هو ما ألقاه البحر على الساحل مما كان على الذين غرقوا، ولعلهم أطلقوا على ذلك الأوزار مرادا بها الآثام من حيث أن الحلي سبب لها غالبا لما أنه يلبس في الأكثر للفخر والخيلاء والترفع على الفقراء، وقيل: من حيث أنهم أثموا بسببه وعبدوا العجل المصوغ منه، وقيل من حيث أن ذلك الحلي صار بعد هلاك أصحابه في حكم الغنيمة ولم يكن مثل هذه الغنيمة حلالا لهم بلا ظاره الأحاديث الصحيحة أن الغنائم سواء كانت من المنقولات أم لا لم تحل لأحد قبل نبينا ص، والرواية السابقة في كيفية الإضلال توافق هذا التوجيه إلا أنه يشكل على ذلك ما روي من أن موسى عليه السلام هو الذي أمرهم بالاستعارة حتى قيل: إن فاعل التحميل في قولهم حُمِّلْنا هو موسى عليه السلام حيث ألزمهم ذلك بأمرهم بالاستعارة وقد أبقاه في أيديهم بعد هلاك أصحابه وأقرهم على استعماله فإذا لم يكن حلالا فكيف يقرهم، وكذا يقال على القول بأن المراد به ما ألقاه البحر على الساحل، واحتمال أن موسى عليه السلام نهى عن ذلك وظن الامتثال ولم يطلع على عدمه لإخفاء الحال عنه عليه السلام مما لا يكاد يلتفت إلى مثله أصلا لا سيما على رواية أنهم أمروا باستعارة دواب من القوم أيضا فاستعاروها وخرجوا بها. وقد يقال: إن أموال القبط مطلقا بعد هلاكهم كانت حلالا عليهم كما يقتضيه ظاهر قوله تعالى كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ [الدخان: 25، 26] كذلك وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ [غافر: 53] وقد أضاف سبحانه الحلي إليهم في قوله تعالى وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَداً [الأعراف: 148] وذلك يقتضي بظاهره أن الحلي ملك لهم ويدعي اختصاص الحل فيما كان الرد فيه متعذرا لهلاك صاحبه ومن يقوم مقامه، ولا ينافي ذلك قوله ص: «أحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي لجواز أن يكون المراد به أحلت لي الغنائم على أي وجه كانت ولم تحل كذلك لأحد قبلي ويكون تسميتهم ذلك أوزارا إما لما تقدم من الوجه الأول والثاني وإما لظنهم الحرمة لجهلهم في أنفسهم أو لإلقاء السامري الشبهة عليهم، وقيل: إن موسى عليه السلام أمره الله تعالى أن يأمرهم بالاستعارة فأمرهم وأبقى ما استعاروه بأيديهم بعد هلاك أصحابه بحكم ذلك الأمر منتظرا ما يأمر الله تعالى به بعد. وقد جاء في بعض الأخبار ما يدل على أن الله سبحانه بين حكمه على لسان هارون عليه السلام بعد ذهاب موسى عليه السلام للميقات كما سنذكره قريبا إن شاء الله تعالى فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك. والجار والمجرور يحتمل أن يكون متعلقا بحملنا وأن يكون متعلقا بمحذوف وقع صفة لأوزارا، ولا يتعين ذلك بناء على قولهم: إن الجمل والظروف بعد النكرات صفات وبعد المعارف أحوال لأن ذلك ليس على إطلاقه. وقرأ الأخوان وأبو عمرو وابن محيصن «حملنا» بفتح الحاء والميم وأبو رجاء «حملنا» بضم الحاء وكسر الميم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 556 من غير تشديد فَقَذَفْناها أي طرحناها في النار كما تدل عليه الأخبار. وقيل: أي ألقيناها على أنفسنا وأولادنا وليس بشيء أصلا فَكَذلِكَ أي فمثل ذلك أَلْقَى السَّامِرِيُّ أي ما كان معه منها قيل كأنه أراهم أنه أيضا يلقي ما كان معه من الحلي فقالوا ما قالوا على زعمهم وإنما كان الذي ألقاه التربة التي أخذها من أثر الرسول كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وقيل: إنه ألقى ما معه من الحلي وألقى مع ذلك ما أخذه من أثر الرسول كأنهم لم يريدوا إلا أنه ألقى ما معه من الحلي، وقيل: أرادوا ألقى التربة، وأيده بعضهم بتغيير الأسلوب إذ لم يعبر بالقذف المتبادر منه أن ما رماه جرم مجتمع وفيه نظر، وقد يقال: المعنى فمثل ذلك الذي ذكرناه لك ألقى السامري إلينا وقرره علينا وفيه بعد وإن ذكر أنه قال لهم: إنما تأخر موسى عليه السلام عنكم لما معكم من حلي القوم وهو حرام عليكم فالرأي أن نحفر حفيرة ونسجر فيها نارا ونقذف فيها ما معنا منه ففعلوا وكان صنع في الحفيرة قالب عجل، وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه لما فصل موسى عليه السلام إلى ربه سبحانه قال لهم هارون عليه السلام: إنكم قد حملتم أوزارا من زينة القوم إلى فرعون وأمتعة وحليا فتطهروا منها فإنها رجس وأوقد لهم نارا فقال لهم: اقذفوا ما معكم من ذلك فيها فجعلوا يأتون بما معهم فيقذفونه فيها فجاء السامري ومعه تراب من أثر حافر فرس جبريل عليه السلام وأقبل إلى النار فقال لهارون عليه السلام: يا نبي الله أألقي ما في يدي؟ فقال: نعم ولا يظن هارون عليه السلام إلا أنه كبعض ما جاء به غيره من ذلك الحلي والأمتعة فقذفه فيها فقال: كن عجلا جسدا له خوار فكان للبلاء والفتنة. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أيضا أن بني إسرائيل استعاروا حليا من القبط فخرجوا به معهم فقال لهم هارون بعد أن ذهب موسى عليهما السلام: اجمعوا هذا الحلي حتى يجيء موسى فيقضي فيه ما يقضي فجمع ثم أذيب فألقى السامري عليه القبضة فَأَخْرَجَ أي السامري لَهُمْ للقائلين المذكورين عِجْلًا من تلك الأوزار التي قذفوها وتأخيره مع كونه مفعولا صريحا عن الجار والمجرور لما مر غير مرة من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر مع ما فيه من نوع طول يخل تقديمه بتجاوب النظم الكريم فإن قوله جَسَداً أي جئة ذا لحم ودم أو جسدا من ذهب لا روح فيه بدل منه، وقيل: هو نعت له على أن معناه أحمر كالمجسد، وكذا قوله تعالى لَهُ خُوارٌ نعت له، والخوار صوت العجل. وهذا الصوت إما لأنه نفخ فيه الروح بناء على ما أخرجه ابن مردويه عن كعب بن مالك عن النبي ص قال: «إن الله تعالى لما وعد موسى عليه السلام أن يكلمه خرج للوقت الذي وعده فبينما هو يناجي ربه إذ سمع خلفه صوتا فقال: إلهي إني أسمع خلفي صوتا قال: لعل قومك ضلوا قال: إلهي من أضلهم؟ قال: أضلهم السامري قال: فيم أضلهم؟ قال: صاغ لهم عجلا جسدا له خوار قال: إلهي هذا السامري صاغ لهم العجل فمن نفخ فيه الروح حتى صار له خوار؟ قال: أنا يا موسى قال: فوعزتك ما أضل قومي أحد غيرك قال: صدقت يا حكيم الحكماء لا ينبغي لحكيم أن يكون أحكم منك» . وجاء في رواية أخرى عن راشد بن سعد أنه سبحانه قال له: يا موسى إن قومك قد افتتنوا من بعدك قال: يا رب كيف يفتتنون وقد نجيتهم من فرعون ونجيتهم من البحر وأنعمت عليهم وفعلت بهم قال: يا موسى إنهم اتخذوا من بعدك عجلا له خوار قال: يا رب فمن جعل فيه الروح؟ قال: أنا قال: فأنت يا رب أضللتهم قال: يا موسى يا رأس النبيين ويا أبا الحكماء إني رأيت ذلك في قلوبهم فيسرته لهم، وإما لأنه تدخل فيه الريح فيصوت بناء على ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس قال: كان بني إسرائيل تأثموا من حلي آل فرعون الذي معهم فأخرجوه لتنزل النار فتأكله فلما جمعوه ألقى السامري القبضة وقال: كن عجلا جسدا له خوار فصار كذلك وكان يدخل الريح من دبره ويخرج من فيه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 557 فيسمع له صوت فَقالُوا أي السامري ومن افتتن به أول ما رآه، وقيل: الضمير للسامري، وجيء به ضمير جمع تعظيما لجرمه، وفيه بعد. هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ أي فغفل عنه موسى وذهب يطلبه في الطور، فضمير نسى لموسى عليه السلام كما روي عن ابن عباس وقتادة والفاء فصيحة أي فاعبدوه والزموا عبادته فقد نسي موسى عليه السلام، وعن ابن عباس أيضا. ومكحول أن الضمير للسامري والنسيان مجاز عن الترك والفاء فصيحة أيضا أي فأظهر السامري النفاق فترك ما كان فيه من أسرار الكفر، والأخبار بذلك على هذا منه تعالى وليس داخلا في حيز القول بخلافه على الوجه الأول. وصنيع بعض المحققين يشعر باختيار الأول ولا يخفى ما في الإتيان باسم الإشارة والمشار إليه بمرأى منهم وتكريرا له، وتخصيص موسى عليه السلام بالذكر وإتيان الفاء من المبالغة في الضلال والأخبار بالإخراج وما بعده حكاية نتيجة فتنة السامري فعلا وقولا من جهته سبحانه قصدا إلى زيادة تقريرها ثم الإنكار عليها لا من جهة القائلين وإلا لقيل فأخرج لنا، والحمل على أن عدولهم إلى ضمير الغيبة لبيان أن الإخراج والقول المذكورين للكل لا للعبدة فقط خلاف الظاهر مع أنه مخل باعتذارهم فإن مخالفة بعضهم للسامري وعدم افتتانهم بتسويله مع كون الإخراج والخطاب لهم مما يهون مخالفته للمعتذرين فافتتانهم بعد أعظم جناية وأكثر شناعة، وأما ما قيل من أن المعتذرين هم الذين لم يعبدوا العجل وأن نسبة الأخلاف إلى أنفسهم وهم برآء منه من قيل قولهم بنو فلان قتلوا فلانا مع أن القاتل واحد منهم كانوا قالوا: ما وجدنا الأخلاف فيما بيننا بأمر كنا نملكه بل تمكنت الشبهة في قلوب العبدة حيث فعل بهم السامري ما فعل فأخرج لهم ما أخرج وقال ما قال فلم نقدر على صرفهم عن ذلك ولم نفارقهم مخافة ازدياد الفتنة فقد قال شيخ الإسلام: إن سياق النظم الكريم وسباقه يقضيان بفساده، وذهب أبو مسلم إلى أن كلام المعتذرين ثم عند قولهم فقذفناها وما بعده من قوله تعالى: فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ إلى آخره أخبار من جهته سبحانه أن السامري فعل كما فعلوا فأخرج لهم إلخ وهو خلاف الظاهر. هذا وقرأ الأعمش «فنسي» بسكون الياء، وقوله تعالى أَفَلا يَرَوْنَ إلى آخره إنكار وتقبيح من جهته تعالى الضالين والمضلين جميعا وتسفيه لهم فيما أقدموا عليه من المنكر الذي لا يشتبه بطلانه واستحالته على أحد وهو اتخاذ ذلك العجل إلها، ولعمري لو لم يكونوا في البلادة كالبقر لما عبدوه، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي ألا يتفكرون فلا يعلمون أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا أي أنه لا يرجع إليهم كلاما ولا يرد عليهم جوابا بل يخور كسائر العجاجيل فمن هذا شأنه كيف يتوهم أنه إله. وقرأ الإمام الشافعي وأبو حيوة وأبان وابن صبيح والزعفراني «يرجع» بالنصب على أن أن هي الناصبة لا المخففة من الثقيلة، والرؤية حينئذ بمعنى الإبصار لا العلم بناء على ما ذكره الرضى. وجماعة من أن الناصبة لا تقع بعد أفعال القلوب مما يدل على يقين أو ظن غالب لأنها لكونها للاستقبال تدخل على ما ليس بثابت مستقر فلا يناسب وقوعها بعد ما يدل على يقين ونحوه، والعطف أيضا كما سبق أي ألا ينظرون فلا يبصرون عدم رجعه إليهم قولا من الأقوال، وتعليق الأبصار بما ذكر مع كونه أمرا عدميا للتنبيه على كمال ظهوره المستدعي لمزيد تشنيعهم وتركيك عقولهم، وقيل: إن الناصبة لا تقع بعد رأي البصرية أيضا لأنها تفيد العلم بواسطة إحساس البصر كما في إيضاح المفصل. وأجاز الفراء وابن الأنباري وقوعها بعد إفعال العلم فضلا عن أفعال البصر، وقوله تعالى وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً عطف على لا يَرْجِعُ داخل معه في حيز الرؤية أي فلا يرون أنه لا يقدر على أن يدفع عنهم ضرا ويجلب لهم نفعا أو لا يقدر على أن يضرهم إن لم يعبدوه أو ينفعهم إن عبدوه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 558 وقوله تعالى وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ مع ما بعد جملة قسمية مؤكدة لما سبق من الإنكار والتشنيع ببيان عتوهم واستعصائهم على الرسول إثر بيان مكابرتهم لقضية العقول أي وباف لقد نصح لهم هارون ونبههم على كنه الأمر من قبل رجوع موسى عليه السلام إليهم وخطابه إياهم بما ذكر من المقالات، وإلى اعتبار المضاف إليه قبل ما ذكر ذهب الواحدي، وقيل: من قبل قول السامري هذا إلهكم وإله موسى كأنه عليه السلام أول ما أبصره حين طلع من الحفيرة تفرس فيهما لافتتان فسارع إلى تحذيرهم، واختاره صاحب الكشف تبعا لشيخه وقال: هو أبلغ وأدل على توبيخهم بالإعراض عن دليل العقل والسمع في «أفلا يرون. ولقد ال» واختار بعضهم الأول وادعى أن الجواب يؤيده، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك. وجوز العلامة الطيبي في هذه الجملة وجهين كونها معطوفة على قوله تعالى أَفَلا يَرَوْنَ وقال: إن في إيثار المضارع فيه دلالة على استحضار تلك الحالة الفظيعة في ذهن السامع واستدعاء الإنكار عليهم، وكونها في موضع الحال من فاعل يَرَوْنَ مقررة لجهة الإنكار أي أفلا يرون والحال أن هارون نبههم قبل ذلك على كنه الأمر، وقال لهم: يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ أي أوقعتهم في الفتنة بالعجل أو أضللتم على توجيه القصر المستفاد من كلمة إِنَّما في أغلب استعمالاتها إلى نفس الفعل بالقياس إلى مقابله الذي يدعيه القوم لا إلى قيده المذكور بالقياس إلى قيد آخر على معنى إنما فعل بكم الفتنة لا الإرشاد إلى الحق لا على معنى إنما فتنتم بالعجل لا بغيره، وقوله تعالى وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ بكسر همزة إِنَّ عطفا على إِنَّما إلخ إرشاد لهم إلى الحق أثر زجرهم عن الباطل. والتعرض لعنوان الربوبية والرحمة للاعتناء باستمالتهم إلى الحق. وفي ذلك تذكير لتخليصهم من فرعون زمان لم يوجد العجل. وكذا على ما قيل تنبيه على أنهم متى تابوا قبلهم. وتعريف الطرفين لإفادة الحصر أي وإن ربكم المستحق للعبادة هو الرحمن لا غير. وقرأ الحسن وعيسى وأبو عمرو في رواية «وأن ربكم» بفتح الهمزة، وخرج على أن المصدر المنسبك خبر مبتدأ محذوف أي والأمر أن ربكم الرحمن، والجملة معطوفة على ما مر، وقال أبو حاتم: التقدير ولأن ربكم إلخ وجعل الجار والمجرور متعلقا باتبعوني. وقرأت فرقة «أنما» «وأن ربكم» بفتح الهمزتين، وخرج على لغة سليم حيث يفتحون همزة إن بعد القول مطلقا. والفاء في قوله تعالى: فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي لترتيب ما بعدها على ما قبلها من مضمون الجملتين أي إذا كان الأمر كذلك فاتبعوني وأطيعوا أمري في الثبات على الدين. وقال ابن عطية: أي فاتبعوني إلى الطور الذي واعدكم الله تعالى إليه. وفيه أنه عليه السلام لم يكن بصدد الذهاب إلى الطور ولم يكن مأمورا به وما واعد الله سبحانه أولئك المفتونين بذهابهم أنفسهم إليه، وقيل:- لا يخلو عن حسن- أي فاتبعوني في الثبات على الحق وأطيعوا أمري هذا وأعرضوا عن التعرض لعبادة ما عرفتم أمره أو كفوا أنفسكم عن اعتقاد ألوهيته وعبادته قالُوا في جواب هارون عليه السلام لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ أي لا نزال على عبادة العجل عاكِفِينَ مقيمين حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى الظاهر من حالهم أنهم لم يجعلوا رجوعه عليه السلام وماذا يقول فيه، وقيل: إنهم علق في أذهانهم قول السامري: هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ فغيوا برجوعه بطريق التعليل والتسويف وأظهروا أنه إذا رجع عليه السلام غاية للعكوف على عبادة العجل على طريق الوعد بتركها لا محالة عند رجوعه بل ليروا ماذا يكون منه عليه السلام يوافقهم على عبادته وحاشاه، وهذا مبني على أن المحاورة بينهم وبين هارون عليه السلام وقعت بعد قول السامري المذكور فيكون مِنْ قَبْلُ على معنى من قبل رجوع موسى، وذكر أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 559 هذا الجواب يؤيده هذا المعنى لأن قولهم: لَنْ نَبْرَحَ إلخ يدل على عكوفهم حال قوله عليه السلام وهم لم يعكفوا على عبادته قبل قول السامري وإنما عكفوا بعده. وقال الطيبي: إن جوابهم هذا من باب الأسلوب الأحمق نقيض الأسلوب الحكيم لأنهم قالوه عن قلة مبالاة بالأدلة الظاهرة كما قال نمروذ في جواب الخليل عليه السلام أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة: 258] فتأمل، واستدل أبو حيان بهذا التغيي على أن- لن- لا تفيد التأبيد لأن التغيي لا يكون إلا حيث يكون الشيء محتملا فيزال الاحتمال به. وأنت تعلم أن القائل بافادتها ذلك لا يدعي أنها تفيده في كل الموارد وهو ظاهر، وفي بعض الأخبار أنهم لما قالوا ذلك اعتزلهم هارون عليه السلام في اثني عشر ألفا وهم الذين لم يعبدوا العجل فلما رجع موسى عليه السلام وسمع الصياح وكانوا يسجدون إذا خار العجل فلا يرفعون حتى يخور ثانية، وفي رواية كانوا يرقصون عند خواره قال للسبعين الذين كانوا معه: هذا صوت الفتنة حتى إذا وصل قال لقومه ما قال وسمع منهم ما قالوا. وقوله تعالى: قالَ استئناف نشأ من حكاية جوابهم السابق أعني قوله تعالى ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ إلخ كأنه قيل: فماذا قال موسى لهارون عليهما السلام حين سمع جوابهم وهل رضي بسكوته بعد ما شاهد منهم ما شاهد؟ فقيل: قال له وهو مغتاظ قد أخذ بلحيته ورأسه يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا بعبادة العجل ولم يلتفتوا إلى دليل بطلانها أَلَّا تَتَّبِعَنِ أي تتبعني على أن (لا) سيف خطيب كما في قوله تعالى ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف: 12] وهو مفعول ثان لمنع وإذ متعلق بمنع، وقيل: بتتبعني، ورد بأن ما بعد- أن- لا يعمل فيما قبلها، وأجيب بأن الظرف يتوسع فيه ما لم يتوسع في غيره وبأن الفعل السابق لما طلبه على أنه مفعول ثان له كان مقدما حكما وهو كما ترى أي أي شيء منعك حين رؤيتك لضلالهم من أن تتبعني وتسير بسيري في الغضب لله تعالى والمقاتلة مع من كفر به وروي ذلك عن مقاتل، وقيل: في الإصلاح والتسديد ولا يساعده ظاهر الاعتذار، واستظهر أبو حيان أن يكون المعنى ما منعك من أن تلحقني إلى جبل الطور بمن آمن من بني إسرائيل، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وكان موسى عليه السلام رأى أن مفارقة هارون لهم وخروجه من بينهم بعد تلك النصائح القولية أزجر لهم من الاقتصار على النصائح لما أن ذلك أدل على الغضب وأشد في الإنكار لا سيما وقد كان عليه السلام رئيسا عليهم محبوبا لديهم وموسى يعلم ذلك ومفارقة الرئيس المحبوب كراهة لأمر تشق جدا على النفوس وتستدعي ترك ذلك الأمر المكروه له الذي يوجب مفارقته وهذا ظاهر لا غبار عليه عند من أنصف. فالقول بأن نصائح هارون عليه السلام حيث لم تزجرهم عما كانوا عليه فلأن لا تزجرهم مفارقته إياهم عنه أولى على ما فيه لا يرد على ما ذكرنا ولا حاجة إلى الاعتذار بأنهم إذا علموا أنه يلحقه ويخبره عليهما السلام بالقصة يخافون رجوع موسى عليه السلام فينزجرون عن ذلك ليقال: إنه بمعزل عن القبول كيف لا وهم قد صرحوا بأنهم عاكفون عليه إلى حين رجوعه عليه السلام، وقال علي بن عيسى: إن (لا) ليست مزيدة، والمعنى ما حملك على عدم الاتباع فإن المنع عن الشيء مستلزم للحمل على مقابله أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي بسياستهم حسب ما ينبغي فإن قوله عليه السلام اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي بدون ضم قوله وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف: 142] متضمن للأمر بذلك حتما فإن الخلافة لا تتحقق إلا بمباشرة الخليفة ما كان يباشره المستخلف لو كان حاضرا وموسى عليه السلام لو كان حاضرا لساسهم على أبلغ وجه، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي ألم تتبعني أو أخالفتني الجزء: 8 ¦ الصفحة: 560 فعصيت أمري الَ يَا بْنَ أُمَ خص الأم بالإضافة استعطافا وترقيقا لقلبه لا لما قيل من أنه كان أخاه لأمه فإن الجمهور على أنهما كانا شقيقين. وقرأ حمزة والكسائي «يا بن أم» بكسر الميم تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي أي بشعر رأسي فإن الأخذ أنسب به، وزعم بعضهم أن قوله لِحْيَتِي على معنى بشعر لحيتي أيضا لأن أصل وضع اللحية للعضو النابت عليه الشعر ولا يناسبه الأخذ كثير مناسبة، وأنت تعلم أن المشهور استعمال اللحية في الشعر النابت على العضو المخصوص، وظاهر الآيات والأخبار أنه عليه السلام أخذ بذلك. روي أنه أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله وكان عليه السلام حديدا متصلبا غضوبا لله تعالى وقد شاهد ما شاهد وغلب على ظنه تقصير في هارون عليه السلام يستحق به وإن لم يخرجه عن دائرة العصمة الثابتة للأنبياء عليهم السلام التأديب ففعل به ما فعل وباشر ذلك بنفسه ولا محذور فيه أصلا ولا مخالفة للشرع فلا يرد ما توهمه الإمام فقال: لا يخلو الغضب من أن يزيل عقله أولا والأول لا يعتقده مسلم والثاني لا يزيل السؤال بلزوم عدم العصمة. وأجاب بما لا طائل تحته. وقرأ عيسى بن سليمان الحجازي «بلحيتي» بفتح اللام وهي لغة أهل الحجازنِّي خَشِيتُ إلخ استئناف لتعليل موجب النهي بتحقيق أنه غير عاص أمره ولا مقصر في المصلحة أي خشيت لو قاتلت بعضهم ببعض وتفانوا وتفرقوا أو خشيت لو لحقتك بمن آمن نْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ برأيك مع كونهم أبناء واحد كما ينبىء عن ذلك ذكرهم بهذا العنوان دون القوم ونحوه، واستلزام المقاتلة التفريق ظاهر، وكذا اللحوق بموسى عليه السلام مع من آمن وربما يجر ذلك إلى المقاتلة. وقيل: أراد عليه السلام بالتفريق على التفسير الأول ما يستتبعه القتال من التفريق الذي لا يرجى بعده الاجتماع. لَمْ تَرْقُبْ أي ولم تراع وْلِي والجملة عطف على رَّقْتَ أي خشيت أن تقول مجموع الجملتين وتنسب إلى تفريق بني إسرائيل وعدم مراعاة قولك لي ووصيتك إياي، وجوز أن تكون الجملة في موضع الحال من ضميررَّقْتَ أي خشيت أن تقول فرقت بينهم غير مراع قولي أي خشيت أن تقول مجموع هذا الكلام، وأراد بقول موسى المضاف إلى الياء قوله عليه السلام اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ إلخ، وحاصل اعتذاره عليه السلام إني رأيت الإصلاح في حفظ الدهماء والمداراة معهم وزجرهم على وجه لا يختل به أمر انتظامهم واجتماعهم ولا يكون سببا للومك إياي إلى أن ترجع إليهم فتكون أنت المتدارك للأمر حسبما تراه لا سيما والقوم قد استضعفوني وقربوا من أن يقتلوني كما أفصح عليه السلام بهذا في آية أخرى. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج ما يدل على أن المراد من القول المضاف قول هارون عليه السلام، وجملةمْ تَرْقُبْ في موضع الحال من ضميرقُولَ أي خشيت أن تقول ذلك غير منتظر قولي وبيان حقيقة الحال فتأمل. وقرأ أبو جعفر «ولم ترقب» بضم التاء وكسر القاف مضارع أرقب قالَ استئناف وقع جوابا عما نشأ من حكاية ما سلف من اعتذار القوم بإسناد الفساد إلى السامري واعتذار هارون عليه السلام كأنه قيل: فماذا صنع موسى عليه السلام بعد سماع ما حكي من الاعتذارين واستقرار أصل الفتنة على السامري؟ فقيل قال موبخا له إذا كان الأمر هذا فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ أي ما شأنك والأمر العظيم الصادر عنك وما سؤال عن السبب الباعث لذلك، وتفسير الخطب بذلك هو المشهور، وفي الصحاح الخطب سبب الأمر. وقال بعض الثقات: هو في الأصل مصدر خطب الأمر إذا طلبه فإذا قيل لمن يفعل شيئا: ما خطبك؟ فمعناه ما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 561 طلبك له وشاع في الشأن والأمر العظيم لأنه يطلب ويرغب فيه، واختير في الآية تفسيره بالأصل ليكون الكلام عليه أبلغ حيث لم يسأله عليه السلام عما صدر منه ولا عن سببه بل عن سبب طلبه، وجعل الراغب الأصل لهذا الشائع الخطب بمعنى التخاطب أي المراجعة في الكلام، وأطلق عليه لأن الأمر العظيم يكثر فيه التخاطب، وجعل في الأساس الخطب بمعنى الطلب مجازا فقال: ومن المجاز فلان يخطب عمل كذا يطلبه وما خطبك ما شأنك الذي تخطبه، وفرق ابن عطية بين الخطب والشأن بأن الخطب يقتضي انتهارا ويستعمل في المكاره دون الشأن ثم قال فكأنه قيل: ما نحسك وما شؤمك وما هذا الخطب الذي جاء منك انتهى. وليس ذلك بمطرد فقد قال إبراهيم عليه السلام للملائكة عليهم السلام: فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ [الحجر: 57، الذاريات: 31] ولا يتأتى فيه ما ذكر. وزعم بعض من جعل اشتقاقه من الخطاب أن المعنى ما حملك على أن خاطبت بني إسرائيل بما خاطبت. وفعلت معهم ما فعلت وليس بشيء، وخطابه عليه السلام إياه بذلك ليظهر للناس بطلان كيده باعترافه ويفعل به وبما أخرجه ما يكون نكالا للمفتونين ولمن خلفهم من الأمم. قالَ أي السامري مجيبا له عليه السلام بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ بضم الصاد فيهما أي علمت ما لم يعلمه القوم وفطنت لما لم يفطنوا له، قال الزجاج يقال: بصر بالشيء إذا علمه وأبصر إذا نظر، وقيل: بصره وأبصره بمعنى واحد: وقال الراغب: البصر يقال: للجارحة الناظرة وللقوة التي فيها ويقال: لقوة القلب المدركة بصيرة وبصر ويقال من الأول أبصرت. ومن الثاني أبصرته وبصرت به. وقلما يقال: بصرت في الحاسة إذا لم يضامه رؤية القلب اه. وقرأ الأعمش وأبو السمال «بصرت» بكسر الصاد «بما لم يبصروا» بفتح الصاد. وقرأ عمرو بن عبيد «بصرت» بضم الباء وكسر الصاد «بما لم تبصروا» بضم التاء المثناة من فوق وفتح الصاد على البناء للمفعول. وقرأ الكسائي وحمزة وأبو بحرية والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وابن مناذر وابن سعدان وقعنب «بما لم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 562 تبصروا» بالتاء الفوقانية المفتوحة وبضم الصاد. والخطاب لموسى عليه السلام وقومه. وقيل: له عليه السلام وحده وضمير الجمع للتعظيم كما قيل في قوله تعالى رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون: 99] وهذا منقول عن قدماء النحاة وقد صرح به الثعالبي في سر العربية، فما ذكره الرضي من أن التعظيم إنما يكون في ضمير المتكلم مع الغير كفعلنا غير مرتضى وإن تبعه كثير. وادعى بعضهم أن الأنسب بما سيأتي إن شاء الله تعالى من قوله: وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي تفسير بصر برأى لا سيما على القراءة بالخطاب فإن ادعاء علم ما لم يعلمه موسى عليه السلام جراءة عظيمة لا تليق بشأنه ولا بمقامه بخلاف ادعاء رؤية ما لم يره عليه السلام فإنه مما يقع بحسب ما يتفق. وقد كان فيما أخرج ابن جرير عن ابن عباس رأى جبريل عليه السلام يوم فلق البحر على فرس فعرفه لما أنه كان يغذوه صغيرا حين خافت عليه أمه فألقته في غار فأخذ قبضة من تحت حافر الفرس وألقى في روعه أنه لا يلقيها على شيء فيقول: كن كذا إلا كان. وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه رآه عليه السلام راكبا على فرس حين جاء ليذهب بموسى عليهما السلام إلى الميقات ولم يره أحد غيره من قوم موسى عليه السلام فأخذ من موطىء فرسه قبضة من التراب. وفي بعض الآثار أنه رآه كلما رفع الفرس يديه أو رجليه على التراب اليبس يخرج النبات فعرف أن له شأنا فأخذ من موطئه حفنة ، وذلك قوله تعالى فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ أي من أثر فرس الرسول. وكذا قرأ عبد الله، فالكلام على حذف مضاف كما عليه أكثر المفسرين. وأثر الفرس التراب الذي تحت حافره. وقيل: لا حاجة إلى تقدير مضاف لأن أثر فرسه أثره عليه السلام. ولعل ذكر جبريل عليه السلام بعنوان الرسالة لأنه لم يعرفه إلا بهذا العنوان أو للإشعار بوقوفه على ما لم يقف عليه القوم من الأسرار الإلهية تأكيدا لما صدر به مقالته والتنبيه كما قيل على وقت أخذ ما أخذ. والقبضة المرة من القبض أطلقت على المقبوض مرة، وبذلك يرد على القائلين بأن المصدر الواقع كذلك لا يؤنث بالتاء فيقولون: هذه حلة نسيج اليمن ولا يقولون: نسيجة اليمن. والجواب بأن الممنوع إنما هو التاء الدالة على التحديد لا على مجرد التأنيث كما هنا والمناسب على هذا أن لا تعتبره المرة كما لا يخفى. وقرأ عبد الله وأبي وابن الزبير والحسن وحميد «قبصت قبصة» بالصاد فيهما وفرقوا بين القبض بالضاد المعجمة والقبص بالصاد بأن الأول الأخذ بجميع الكف والثاني الأخذ بأطراف الأصابع ونحوهما الخضم بالخاء للأكل بجميع الفم والقضم بالقاف للأكل بأطراف الأسنان. وذكر أن ذلك مما غير لفظه لمناسبة معناه فإن الضاد المعجمة للثقل واستطالة مخرجها جعلت فيما يدل على الأكثر والصاد لضيق محلها وخفائه جعلت فيما يدل على القليل. وقرأ الحسن بخلاف عنه. وقتادة ونصر بن عاصم بضم القاف والصاد المهملة وهو اسم للمقبوض كالمضغة اسم للممضوغ فَنَبَذْتُها أي ألقيتها في الحلي المذاب. وقيل: في جوف العجل فكان ما كان. وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي أي زينته وحسنته إلي والإشارة إلى مصدر الفعل المذكور بعد. وذلك على حد قوله تعالى وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143] وحاصل جوابه أن ما فعله إنما صدر عنه بمحض اتباع هوى النفس الأمارة بالسوء لا لشيء آخر من البرهان العقلي أو النقلي أو من الإلهام الإلهي. هذا ثم ما ذكر من تفسير الآية هو المأثور عن الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم وتبعهم جل أجلة المفسرين، وقال أبو مسلم الأصبهاني: ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكروه. وهنا وجه آخر وهو أن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام وأثره سنته ورسمه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 563 الذي أمر به ودرج عليه فقد يقول الرجل: فلان يقفو أثر فلان ويقتص أثره إذا كان يمتثل رسمه، وتقرير الآية على ذلك أن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم بالعجل قال: بصرت بما لم يبصروا به أي عرفت أن الذي عليه القوم ليس بحق وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أي شيئا من دينك فنبذتها أي طرحتها ولم أتمسك بها. وتعبيره عن موسى عليه السلام بلفظ الغائب على نحو قول من يخاطب الأمير ما قول الأمير في كذا. ويكون إطلاق الرسول منه عليه عليه السلام نوعا من التهكم حيث كان كافرا مكذبا به على حد قوله تعالى حكاية عن الكفرة يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الحجر: 6] انتهى، وانتصر له بعضهم بأنه أقرب إلى التحقيق. ويبعد قول المفسرين أن جبريل عليه السلام ليس معهودا باسم الرسول ولم ير له فيما تقدم ذكر حتى تكون اللام في الرسول لسابق في الذكر وأن ما قالوه لا بد له من تقدير المضاف والتقدير خلاف الأصل وأن اختصاص السامري برؤية جبريل عليه السلام ومعرفته من بين سائر الناس بعيد جدا. وأيضا كيف عرف أن أثر حافر فرسه يؤثر هذا الأمر الغريب العجيب من حياة الجماد وصيرورته لحما ودما على أنه لو كان كذلك لكان الأثر نفسه أولى بالحياة. وأيضا متى اطلع كافر على تراب هذا شأنه فلقائل أن يقول لعل موسى عليه السلام اطلع شيء آخر يشبه هذا فلأجله أتى بالمعجزات فيكون ذلك فيما أتى به المرسلون عليهم السلام من الخوارق، وأيضا يبعد الكفر والإقدام على الإضلال بعد أن عرف نبوة موسى عليه السلام بمجيء هذا الرسول الكريم إليه انتهى. وأجيب بأنه قد عهد في القرآن العظيم إطلاق الرسول على جبريل عليه السلام فقد قال سبحانه إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة: 40، التكوير: 19] وعدم جريان ذكر له فيما تقدم لا يمنع من أن يكون معهودا، ويجوز أن يكون إطلاق الرسول عليه عليه السلام شائعا في بني إسرائيل لا سيما إن قلنا بصحة ما روي أنه عليه السلام كان يغذي من يلقى من أطفالهم في الغار في زمان قتل فرعون لهم، وبأن تقدير المضاف في الكلام أكثر من أن يحصى وقد عهد ذلك في كتاب الله تعالى غير مرة، وبأن رؤيته جبريل عليه السلام دون الناس كان ابتلاء منه تعالى ليقضي الله أمرا كان مفعولا. وبأن معرفته تأثير ذلك الأثر ما ذكر كانت لما ألقى في روعه أنه لا يلقيه على شيء فيقول كن كذا إلا كان كما في خبر ابن عباس أو كانت لما شاهد من خروج النبات بالوطء كما في بعض الآثار. ويحتمل أن يكون سمع ذلك من موسى عليه السلام، وبأن ما ذكر من أولوية الأثر نفسه بالحياة غير مسلم ألا ترى أن الإكسير يجعل ما يلقي هو عليه ذهبا ولا يكون هو بنفسه ذهبا. وبأن المعجزة مقرونة بدعوى الرسالة من الله تعالى والتحدي وقد قالوا: متى ادعى أحد الرسالة وأظهر الخارق وكان لسبب خفي يجهله المرسل إليهم قبض الله تعالى ولا بد من بين حقيقة ذلك بإظهار مثله غير مقرون بالدعوى أو نحو ذلك أو جعل المدعي بحيث لا يقدم على فعل ذلك الخارق بذلك السبب بأن يسلب قوة التأثير أو نحو ذلك لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وتكون له عز وجل الحجة البالغة، وجوزوا ظهور الخارق لا عن سبب أو عن سبب خفي على يد مدعي الألوهية لأن كذبه ظاهر عقلا ونقلا. ولا تتوقف إقامة الحجة على تكذيبه بنحو ما تقدم. وبأن ما ذكر من بعد الكفر والإضلال من السامري بعد أن عرف نبوة موسى عليه السلام في غاية السقوط فقد قال تعالى وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [النمل: 14] وليس كفر السامري بأبعد من كفر فرعون وقد رأى ما رأى. ويرد على ما ذكره أبو مسلم مع مخالفته للمأثور عن خير القرون مما لا يقال مثله من قبل الرأي فله حكم المرفوع أن التعبير عن موسى عليه السلام بلفظ الغائب بعيد. وإرادة وقد كنت قبضت قبضة إلخ من النظم الكريم أبعد. وأن نبذ ما عرف أنه ليس بحق لا يعد من تسويل النفس في شيء فلا يناسب ختم جوابه بذلك. فزعم أن ما ذكره أقرب إلى التحقيق باطل عند أرباب التدقيق. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 564 وزعمت اليهود أن ما ألقاه السامري كان قطعة من الحلي منقوشا عليها بعض الطلسمات وكان يعقوب عليه السلام قد علقها في عنق يوسف عليه السلام إذ كان صغيرا كما يعلق الناس اليوم في أعناق أطفالهم التمائم وربما تكون من الذهب والفضة منقوشا عليها شيء من الآيات أو الأسماء أو الطلسمات وقد ظفر بها من حيث ظفر فنبذها مع حلي بني إسرائيل فكان ما كان لخاصية ما نقش عليها فيكون على هذا قد أراد بالرسول رسول بني إسرائيل في مصر من قبل وهو يوسف عليه السلام. ولم يجىء عندنا خبر صحيح ولا ضعيف بل ولا موضوع فيما زعموا. نعم جاء عندنا أن يعقوب كان قد جعل القميص المتوارث في تعويذ وعلقه في عنق يوسف عليه السلام. وفسر بعضهم بذلك قوله تعالى اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا [يوسف: 93] إلخ. وما أغفل أولئك البهت عن زعم أن الأثر هو ذلك القميص فإنه قد عهد منه ما تقدم في أحسن القصص في قوله تعالى: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً فبين معافاة المبتلي وحياة الجماد مناسبة كلية فهذا الكذب لو ارتكبوه لربما كان أروج قبولا عند أمثال الأصبهاني الذين ينبذون ما روي عن الصحابة مما لا يقال مثله بالرأي وراء ظهورهم نعوذ بالله تعالى من الضلال. قالَ استئناف كما مر غير مرة أي قال موسى عليه السلام إذا كان الأمر كما ذكرت فَاذْهَبْ أي من بين الناس، وقوله تعالى فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ إلى آخره تعليل لموجب الأمر. و «في» متعلقة بالاستقرار العامل في لَكَ أي ثابت لك في الحياة أو بمحذوف وقع حالا من الكاف، والعامل معنى الاستقرار المذكور أيضا لاعتماده على ما هو مبتدأ معنى أعني قوله تعالى أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ ولم يجوز تعلقه بتقول لمكان أن وقد تقدم آنفا عذر من يعلق الظرف المتقدم بما بعدها. ولا يظهر ما يشفي الخاطر في وجه تعليق العلامة أبي السعود- إذ- في قوله تعالى ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ فيما بعد أن وعدم تجويز تعليق فِي الْحَياةِ فيما بعدها أي إن لك مدة حياتك أن تفارق الناس مفارقة كلية لكن لا بحسب الاختيار بموجب التكليف بل بحسب الاضطرار الملجئ إليها، وذلك أنه تعالى رماه بداء عقام لا يكاد يمس أحدا أو يمسه أحد كائنا من كان إلا حم من ساعته حمى شديدة فتحامى الناس وتحاموه وكان يصيح بأقصى صوته لا مساس وحرم عليهم ملاقاته ومكالمته ومؤاكلته ومبايعته وغير ذلك مما يعتاد جريانه فيما بين الناس من المعاملات وصار بين الناس أوحش من القاتل اللاجئ إلى الحرم ومن الوحشي النافر في البيداء، وذكر أنه لزم البرية وهجر البرية، وذكر الطبرسي عن ابن عباس أن المراد أن لك ولولدك أن تقول إلخ، وخص عمرو الحمى بما إذا كان الماس أجنبيا، وذكر أن بقايا ولده باق فيهم تلك الحال إلى اليوم، وقيل: ابتلي بالوسواس حين قال له موسى عليه السلام ذلك، وعليه حمل قول الشاعر: فأصبح ذلك كالسامري ... إذ قال موسى له لا مساسا وأنكر الجبائي ما تقدم من حديث عرو الحمى عند المس وقال: إنه خاف وهرب وجعل يهيم في البرية لا يجد أحدا من الناس يمسه حتى صار لبعده عن الناس كالقائل لا مساس وصحح الأول، والمساس مصدر ماس كقتال مصدر قاتل وهو منفي بلا التي لنفي الجنس وأريد بالنفي النهي أي لا تمسني ولا أمسك. وقرأ الحسن وأبو حيوة وابن أبي عبلة وقعنب «لا مساس» بفتح الميم وكسر السين آخره وهو بوزن فجار، ونحوه قولهم في الظباء إن وردت الماء فلا عباب وإن فقدته فلا أباب. وهي كما قال الزمخشري وابن عطية اعلام للمسة والعبة والأبة وهي المرة من الأب أي الطلب، ومن هذا قول الشاعر: تميم كرهط السامري وقوله ... ألا لا يريد السامري مساس و «لا» على هذا ليست النافية للجنس لأنها مختصة بالنكرات وهذا معرفة من أعلام الأجناس ولا داخلة معنى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 565 عليه فإن المعنى لا يكون أولا يكن منك مس لنا. وهذا أولى من أن يكون المعنى لا أقول مساس. وظاهر كلام ابن جني أنه اسم فعل كنزال. والمراد نفي الفعل أي لا أمسك والسر في عقوبته على جنايته بما ذكر على ما قيل: إنه ضد ما قصده من إظهار ذلك ليجتمع عليه الناس ويعززوه فكان سببا لبعدهم عنه وتحقيره وصار لديهم أبغض من الطلياء وأهون من معبأة. وقيل: لعل السر في ذلك ما بينهما من مناسبة التضاد فإنه لما أنشأ الفتنة بما كانت ملابسته سببا لحياة الموات عوقب بما يضاده حيث جعلت ملابسته سببا للحمى التي هي من أسباب موت الأحياء، وقيل: عوقب بذلك ليكون الجزاء من جنس العمل حيث نبذ فنبذ فإن ذلك التحامي أشبه شيء بالنبذ وكانت هذه العقوبة على ما في البحر باجتهاد من موسى عليه السلام، وحكي فيه القول بأنه أراد قتله فمنعه الله تعالى عن ذلك لأنه كان سخيا، وروي ذلك عن الصادق رضي الله تعالى عنه، وعن بعض الشيوخ أنه قد وقع ما يقرب من ذلك في شرعنا في قضية الثلاثة الذين خلفوا فقد أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن لا يكلموا ولا يخالطوا وأن يعتزلوا نساءهم حتى تاب الله تعالى عليهم. ومذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه في القاتل اللاجئ إلى الحرم نحو ذلك ليضطر إلى الخروج فيقتل في الحل وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً أي في الآخرة لَنْ تُخْلَفَهُ أي لن يخلفك الله تعالى ذلك الوعد بل ينجزه لك البتة بعد ما عاقبك في الدنيا. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والأعمش بضم التاء وكسر اللام على البناء للفاعل على أنه من أخلفت الموعد إذا وجدته خلفا كأجبنته إذا وجدته جبانا. وعلى ذلك قول الأعشى: أثوى وقصر ليله ليزودا ... فمضى وأخلف من قتيلة موعدا وجوز أن يكون التقدير لن تخلف الواعد إياه فحذف المفعول الأول وذكر الثاني لأنه المقصود. والمعنى لن تقدر أن تجعل الواعد مخلفا لوعده بل سيفعله، ونقل ابن خالويه عن ابن نهيك أنه قرأ «لن تخلفه» بفتح التاء المثناة من فوق وضم اللام، وفي اللوامح أنه قرىء «لن يخلفه» بفتح الياء المثناة من تحت وضم اللام وهو من خلفه يخلفه إذا جاء بعده، قيل: المعنى على الرواية الأولى وإن لك موعدا لا بد أن تصادفه، وعلى الرواية الثانية وإن لك موعدا لا يدفع قول لا مساس فافهم. وقرأ ابن مسعود والحسن بخلاف عنه «لن نخلفه» بالنون المفتوحة وكسر اللام على أن ذلك حكاية قول الله عز وجل، وقال ابن جني: أي لن نصادفه خلفا فيكون من كلام موسى عليه السلام لا على سبيل الحكاية وهو ظاهر لو كانت النون مضمومة وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ أي معبودك الَّذِي ظَلْتَ أي ظللت كما قرأ بذلك أبي والأعمش فحذفت اللام الأولى تخفيفا، ونقل أبو حيان عن سيبويه أن هذا الحذف من شذوذ القياس ولا يكون ذلك إلا إذا سكن آخر الفعل، وعن بعض معاصريه أن ذلك منقاس في كل مضاعف العين واللام في لغة بني سليم حيث سكن آخر الفعل، وقال بعضهم: إنه مقيس في المضاعف إذا كانت عينه مكسورة أو مضمومة. وقرأ ابن مسعود وقتادة والأعمش بخلاف عنه وأبو حيوة وابن أبي عبلة وابن يعمر بخلاف عنه أيضا «ظلت» بكسر الظاء على أنه نقل حركة اللام إليها بعد حذف حركتها، وعن ابن يعمر أنه ضم الظاء وكأنه مبني على مجيء الفعل في بعض اللغات على فعل بضم العين وحينئذ يقال بالنقل كما في الكسر عَلَيْهِ أي على عبادته عاكِفاً أي مقيما، وخاطبه عليه السلام دون سائر العاكفين على عبادته القائلين: لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى [طه: 91] لأنه رأس الضلال ورئيس أولئك الجهال لَنُحَرِّقَنَّهُ جواب قسم محذوف أي بالله تعالى لنحرقنه بالنار كما أخرج ذلك ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس، ويؤيده قراءة الحسن وقتادة وأبي جعفر في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 566 رواية. وأبي رجاء والكلبي «لنحرقنّه» مخففا من أحرق رباعيا فإن الإحراق شائع فيما يكون بالنار وهذا ظاهر في أنه صار ذا لحم ودم. وكذا ما في مصحف أبي وعبد الله «لنذبحنه ثم لنحرقنه» . وجوز أبو علي أن يكون نحرق مبالغة في حرق الحديد حرقا بفتح الراء إذا برده بالمبرد. ويؤيده قراءة علي كرم الله تعالى وجه. وحميد وعمرو بن فايد وأبي جعفر في رواية. وكذا ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «لنحرقنّه» بفتح النون وسكون الحاء وضم الراء فإن حرق يحرق بالضم مختص بهذا المعنى كما قيل، وهذا ظاهر في أنه لم يصر ذا لحم ودم بل كان باقيا على الجمادية. وزعم بعضهم أنه لا بعد على تقدير كونه حيا في تحريقه بالمبرد إذ يجوز خلق الحياة في الذهب مع بقائه على الذهبية عند أهل الحق، وقال بعض القائلين بأنه صار حيوانا ذا لحم ودم: إن التحريق بالمبرد كان للعظام وهو كما ترى، وقال النسفي: تفريقه بالمبرد طريق تحريقه بالنار فإنه لا يفرق الذهب إلا بهذا الطريق. وجوز على هذا أن يقال: إن موسى عليه السلام حرقه بالمبرد ثم أحرقه بالنار. وتعقب بأن النار تذيبه وتجمعه ولا تحرقه وتجعله رمادا فلعل ذلك كان بالحيل الإكسيرية أو نحو ذلك ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ أي لنذرينه. وقرأت فرقة منهم عيسى بضم السين. وقرأ ابن مقسم «لننسفنّه» بضم النون الأولى وفتح الثانية وتشديد السين فِي الْيَمِّ أي في البحر كما أخرج ذلك ابن أبي حاتم عن ابن عباس. وأخرج عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه فسره بالنهر ، وقوله تعالى نَسْفاً مصدر مؤكد أي لنفعلن به ذلك بحيث لا يبقى منه عين ولا أثر ولا يصادف منه شيء فيؤخذ، ولقد فعل عليه السلام ما أقسم عليه كله كما يشهد به الأمر بالنظر، وإنما لم يصرح به تنبيها على كمال ظهوره واستحالة الخلف في وعده المؤكد باليمين، وفي ذلك زيادة عقوبة للسامري وإظهار لغباوة المفتتنين، وقال في البحر بيانا لسر هذا الفعل: يظهر أنه لما كان قد أخذ السامري القبضة من أثر فرس جبريل عليه السلام وهو داخل البحر ناسب أن ينسف ذلك العجل الذي صاغه من الحلي الذي كان أصله للقبط وألقى فيه القبضة في البحر ليكون ذلك تنبيها على أن ما كان به قيام الحياة آل إلى العدم وألقى في محل ما قامت به الحياة وأن أموال القبط قذفها الله تعالى في البحر لا ينتفع بها كما قذف سبحانه أشخاص مالكيها وغرقهم فيه ولا يخفى ما فيه. إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ استئناف مسوق لتحقيق الحق إثر إبطال الباطل بتلوين الخطاب وتوجيهه إلى الكل أي إنما معبودكم المستحق للعبادة هو الله عز وجل الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وحده من غير أن يشاركه شيء من الأشياء بوجه من الوجوه التي من جملتها أحكام الألوهية. وقرأ طلحة «الله لا إله إلا هو الرحمن الرحيم رب العرش» وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أي وسع علمه كل ما من شأنه أن يعلم فالشيء هنا شامل للموجود والمعدوم وانتصب عِلْماً على التمييز المحول عن الفاعل، والجملة بدل من الصلة كأنه قيل: إنما إلهكم الذي وسع كل شيء علما لا غيره كائنا ما كان فيدخل فيه العجل الذي هو مثل في الغباوة دخولا أوليا. وقرأ مجاهد. وقتادة «وسّع» بفتح السين مشددة فيكون انتصاب عِلْماً على أنه مفعول ثان، ولما كان في القراءة الأولى فاعلا معنى صح نقله بالتعدية إلى المفعولية كما تقول في خاف زيد عمرا: خوفت زيدا عمرا أي جعلت زيدا يخاف عمرا فيكون المعنى هنا على هذا جعل علمه يسع كل شيء، لكن أنت تعلم أن الكلام ليس على ظاهره لأن علمه سبحانه غير مجعول ولا ينبغي أن يتوهم أن اقتضاء الذات له على تقدير الزيادة جعلا وبهذا تم حديث موسى عليه السلام، وقوله تعالى كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ كلام مستأنف خوطب به النبي صلّى الله عليه وسلّم بطريق الوعد الجميل بتنزيل أمثال ما مر من أنباء الأمم السالفة. والجار والمجرور في موضع الصفة لمصدر مقدر أو الكاف في محل نصب صفة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 567 لذلك المصدر أي نقص عليك مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ من الحوادث الماضية الجارية على الأمم الخالية قصا كائنا كذلك القص المار أو قصا مثل ذلك، والتقديم للقصر المفيد لزيادة التعيين أي كذلك لا ناقصا عنه، ومِنْ في مِنْ أَنْباءِ إما متعلق بمحذوف هو صفة للمفعول أي نقص عليك نبأ أو بعضا كائنا من أنباء. وجوز أن يكون في حيز النصب على أنه مفعول نَقُصُّ باعتبار مضمونه أي نقص بعض أنباء، وتأخيره عن عَلَيْكَ لما مر غير مرة من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر، ويجوز أن يكون كَذلِكَ نَقُصُّ مثل قوله تعالى كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143] على أن الإشارة إلى مصدر الفعل المذكور بعد، وقد مر تحقيق ذلك. وفائدة هذا القص توفير علمه عليه الصلاة والسلام وتكثير معجزاته وتسليته وتذكرة المستبصرين من أمته صلّى الله عليه وسلّم وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً كتابا منطويا على هذه الأقاصيص والأخبار حقيقا بالتذكر والتفكر فيه والاعتبار، ومِنْ متعلق بآتيناك، وتنكير ذكرا للتفخيم، وتأخيره عن الجار والمجرور لما أن مرجع الإفادة في الجملة كون المؤتى من لدنه تعالى ذكرا عظيما وقرآنا كريما جامعا لكل كمال لا كون ذلك الذكر مؤتى من لدنه عز وجل مع ما فيه من نوع طول بما بعده من الصفة. وجوز أن يكون الجار والمجرور في موضع الحال من ذِكْراً وليس بذاك، وتفسير الذكر بالقرآن هو الذي ذهب إليه الجمهور وروي عن ابن زيد، وقال مقاتل: أي بيانا ومآله ما ذكر، وقال أبو سهل: أي شرفا وذكرا في الناس، ولا يلائمه قوله تعالى مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ إذ الظاهر أن ضمير عَنْهُ للذكر، والجملة في موضع الصفة له، ولا يحسن وصف الشرف أو الذكر في الناس بذلك، وقيل: الضمير لله تعالى على سبيل الالتفات وهو خلاف الظاهر جدا، ومَنْ إما شرطية أو موصولة أي من أعرض عن الذكر العظيم الشأن المستتبع لسعادة الدارين ولم يؤمن به فَإِنَّهُ أي المعرض عنه يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً أي عقوبة ثقيلة على إعراضه وسائر ذنوبه. والوزر في الأصل يطلق على معنيين الحمل الثقيل والإثم، وإطلاقه على العقوبة نظرا إلى المعنى الأول على سبيل الاستعارة المصرحة حيث شبهت. الثاني على سبيل المجاز المرسل من حيث إن العقوبة بالحمل الثقيل. ثم استعير لها بقرينة ذكر يوم القيامة، ونظرا إلى المعنى الثاني على سبيل المجاز المرسل من حيث إن العقوبة جزاء الإثم فهي لازمة له أو مسببة، والأول هو الأنسب بقوله تعالى فيما بعد وَساءَ إلخ لأنه ترشيح له، ويؤيده قوله تعالى في آية أخرى وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ [العنكبوت: 13] وتفسير الوزر بالإثم وحمل الكلام على حذف المضاف أي عقوبة أو جزاء إثم ليس بذاك. وقرأت فرقة منهم داود بن رفيع «يحمّل» مشدد الميم مبنيا للمفعول لأنه يكلف ذلك لا أنه يحمله طوعا ويكون وِزْراً على هذا مفعولا ثانيا خالِدِينَ فِيهِ أي في الوزر المراد منه العقوبة. وجوز أن يكون الضمير لمصدر يَحْمِلُ ونصب خالِدِينَ على الحال من المستكن في يَحْمِلُ والجمع بالنظر إلى معنى مَنْ لما أن الخلود في النار مما يتحقق حال اجتماع أهلها كما أن الأفراد فيما سبق من الضمائر الثلاثة بالنظر إلى لفظها وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا إنشاء للذم على أن ساء فعل ذم بمعنى بئس وهو أحد معنييه المشهورين، وفاعله على هذا هنا مستتر يعود على حِمْلًا الواقع تمييز الأعلى وزرا لأن فاعل بئس لا يكون إلا ضميرا مبهما يفسره التمييز العائد هو إليه وإن تأخر لأنه من خصائص هذا الباب والمخصوص بالذم محذوف والتقدير ساء حملهم حملا وزرهم، ولام لَهُمْ للبيان كما في «سقيا له» وهَيْتَ لَكَ [يوسف: 23] وهي متعلقة بمحذوف كأنه قيل: لمن يقال هذا؟ فقيل: هو يقال لهم وفي شأنهم وإعادة يَوْمَ الْقِيامَةِ لزيادة التقرير وتهويل الأمر، وجوز أن يكون ساءَ بمعنى أحزن وهو المعنى الآخر من المعنيين والتقدير على ما قيل وأحزنهم الوزر حال كونه حملا لهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 568 وتعقبه في الكشف بأنه أي فائدة فيه والوزر أدل على الثقل من قيده ثم التقييد بلهم مع الاستغناء عنه وتقديمه الذي لا يطابق المقام وحذف المفعول وبعد هذا كله لا يلائم ما سبق له الكلام ولا مبالغة في الوعيد بذلك بعد ما تقدم ثم قال: وكذلك ما قاله العلامة الطيبي من أن المعنى وأحزنهم حمل الوزر على أن حِمْلًا تمييز واللام في لَهُمْ للبيان لما ذكر من فوات فخامة المعنى، وأن البيان إن كان لاختصاص الحمل بهم ففيه غنية، وإن كان لمحل الأحزان فلا كذلك طريق بيانه، وإن كان على أن هذا الوعيد لهم فليس موقعه قبل يوم القيامة وأن المناسب حينئذ وزرا ساء لهم حملا على الوصف لا هكذا معترضا مؤكدا انتهى. ولا مجال لتوجيه الإتيان باللام إلى اعتبار التضمين لعدم تحقق فعل مما يلائم الفعل المذكور مناسبا لها لأنها ظاهرة في الاختصاص النافع والفعل في الحدث الضار، والقول بازديادها كما في رَدِفَ لَكُمْ [النمل: 72] أو الحمل على التهكم تمحل لتصحيح اللفظ من غير داع إليه ويبقى معه أمر فخامة المعنى، والحاصل أن ما ذكر لا يساعده اللفظ ولا المعنى، وجوز أن يكون ساءَ بمعنى قبح فقد ذكر استعماله بهذا المعنى وإن كان في كونه معنى حقيقيا نظر، وحِمْلًا تمييزا ولَهُمْ حالا ويَوْمَ الْقِيامَةِ متعلقا بالظرف أي قبح ذلك الوزر من جهة كونه حملا لهم في يوم القيامة وفيه ما فيه. يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ منصوب بإضمار الذكر، وجوز أن يكون ظرف المضمر حذف للإيذان بضيق العبارة عن حصره وبيانه أو بدلا من يَوْمَ الْقِيامَةِ أو بيانا له أو ظرفا ليتخافتون، وقرأ أبو عمرو وابن محيصن وحميد «ننفخ» بنون العظمة على إسناد الفعل إلى الآمر به وهو الله سبحانه تعظيما للنفخ لأن ما يصدر من العظيم عظيم أو للنافخ بجعل فعله بمنزلة فعله تعالى وهو إنما يقال لمن له مزيد اختصاص وقرب مرتبة، وقيل: إنه يجوز أن يكون لليوم الواقع هو فيه. وقرىء «ينفخ» بالياء المفتوحة على أن ضميره لله عز وجل أو لإسرافيل عليه السلام وإن لم يجر ذكره لشهرته وقرأ الحسن وابن عياض في جماعة فِي الصُّورِ بضم الصاد وفتح الواو جمع صورة كغرفة وغرف، والمراد به الجسم المصور. وأورد أن النفخ يتكرر لقوله تعالى ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى [الزمر: 68] والنفخ في الصورة إحياء والإحياء غير متكرر بعد الموت وما في القبر ليس بمراد من النفخة الأولى بالاتفاق. وأجيب بأنه لا نسلم أن كل نفخ إحياء، وبعضهم فسر الصور على القراءة المشهورة بذلك أيضا، والحق تفسيره بالقرن الذي ينفخ فيه وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ ينفخ في الصور، وذكر ذلك صريحا مع تعين أن الحشر لا يكون إلا يومئذ للتهويل، وقرأ الحسن «يحشر» بالياء والبناء للمفعول و «المجرمون» بالرفع على النيابة عن الفاعل، وقرىء أيضا «يحشر» بالياء والبناء للفاعل وهو ضميره عز وجل أي ويحشر الله تعالى المجرمين زُرْقاً حال كونهم زرق الأبدان وذلك غاية في التشويه ولا تزرق الأبدان إلا من مكابدة الشدائد وجفوف رطوبتها، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما زرق العيون فهو وصف للشيء بصفة جزئه كما يقال غلام أكحل وأحول والكحل والحول من صفات العين، ولعله مجاز مشهور، وجوز أن يكون حقيقة كرجل أعمى وإنما جعلوا كذلك لأن الزرقة أسوأ ألوان العين وأبغضها إلى العرب فإن الروم الذين كانوا أشد أعدائهم عداوة زرق، ولذلك قالوا في وصف العدو أسود الكبد أصهب السبال أزرق العين، وقال الشاعر: وما كنت أخشى أن تكون وفاته ... بكفي سبنتى أزرق العين مطرق وكانوا يهجون بالزرقة كما في قوله: لقد زرقت عيناك يا ابن مكعبر ... الا كل ضبيّ من اللؤم أزرق وسئل ابن عباس عن الجمع بين زُرْقاً على ما روي عنه وعميا في آية أخرى فقال: ليوم القيامة حالات فحالة يكونون فيها عميا وحالة يكونون فيها زرقا. وعن الفراء المراد من زُرْقاً عميا لأن العين إذا ذهب نورها ازرق ناظرها، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 569 ووجه الجمع عليه ظاهر، وعن الأزهري المراد عطاشا لأن العطش الشديد يغير سواد العين فيجعله كالأزرق، وقيل: يجعله أبيض، وجاء الأزرق بمعنى الأبيض ومنه سنان أزرق، وقوله: فلما وردنا الماء زرقا جمامه ويلائم تفسيره بعطاشا قوله تعالى على ما سمعت وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً [مريم: 86] . يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ أي يخفضون أصواتهم ويخفونها لشدة هول المطلع، والجملة استئناف لبيان ما يأتون وما يذرون حينئذ أو حال أخرى من الْمُجْرِمِينَ، وقوله تعالى: إِنْ لَبِثْتُمْ بتقدير قول وقع حالا من ضمير يَتَخافَتُونَ أي قائلين ما لبثتم في القبور إِلَّا عَشْراً أي عشر ليال أو عشرة أيام، ولعله أوفق بقول الأمثل. والمذكر إذا حذف وأبقى عدده قد لا يؤتى بالتاء حكى الكسائي صمنا من الشهر خمسا، ومنه ما جاء في الحديث «ثم أتبعه بست من شوال» فإن المراد ستة أيام، وحسن الحذف هنا كون ذلك فاصلة، ومرادهم من هذا القول استقصار المدة وسرعة انقضائها والتنديم على ما كانوا يزعمون حيث تبين الأمر على خلاف ما كانوا عليه من إنكار البعث وعده من قبيل المحالات كأنهم قالوا: قد بعثتم وما لبثتم في القبر إلا مدة يسيرة وقد كنتم تزعمون أنكم لن تقوموا منه أبدا، وعن قتادة أنهم عنوا لبثهم في الدنيا وقالوا ذلك استقصارا لمدة لبثهم فيها لزوالها ولاستطالتهم مدة الآخرة أو لتأسفهم عليها لما عاينوا الشدائد وأيقنوا أنهم استحقوها على إضاعة الأيام في قضاء الأوطار واتباع الشهوات، وتعقب بأنهم في شغل شاغل عن تذكر ذلك فالأوفق بحالهم ما تقدم، وبأن قوله تعالى: لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ [الروم: 56] صريح في أنه اللبث في القبور وفيه بحث. وفي مجمع البيان عن ابن عباس. وقتادة أنهم عنوا لبثهم بين النفختين يلبثون أربعين سنة مرفوعا عنهم العذاب نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ أي بالذي يقولونه وهو مدة لبثهم إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً أي أعدلهم رأيا وأرجحهم عقلا وإِذْ ظرف يقولون إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً واحدا وإليه ينتهي العدد في القلة. وقيل: المراد باليوم مطلق الوقت وتنكيره للتقليل والتحقير فالمراد إلا زمنا قليلا، وظاهر المقابلة بالعشر يبعده، ونسبة هذا القول إلى أَمْثَلُهُمْ استرجاح منه تعالى له لكن لا لكونه أقرب إلى الصدق بل لكونه أعظم في التنديم أو لكونه أدل على شدة الهول وهذا يدل على كون قائله أعلم بفظاعة الأمر وشدة العذاب. وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ السائلون منكرو البعث من قريش على ما أخرجه ابن المنذر عن ابن جرير قالوا على سبيل الاستهزاء كيف يفعل ربك بالجبال يوم القيامة، وقيل: جماعة من ثقيف، وقيل: أناس من المؤمنين فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً يجعلها سبحانه كالرمل ثم يرسل عليها الرياح فتفرقها، والفاء للمسارعة إلى إزالة ما في ذهن السائل من بقاء الجبال بناء على ظن أن ذلك من توابع عدم الحشر ألا ترى أن منكري الحشر يقولون بعدم تبدل هذا النظام المشاهد في الأرض والسموات أو للمسارعة إلى تحقيق الحق حفظا من أن يتوهم ما يقضي بفساد الاعتقاد. وهذا مبني على أن السائل من المؤمنين والأول: على أنه من منكري البعث، ومن هنا قال الإمام: إن مقصود السائلين الطعن في الحشر والنشر فلا جرم أمر صلّى الله عليه وسلّم بالجواب مقرونا بحرف التعقيب لأن تأخير البيان في هذه المسألة الأصولية غير جائز وأما تأخيره في المسائل الفروعية فجائز ولذا لم يؤت بالفاء في الأمر بالجواب في قوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ [البقرة: 219] الآية، وقوله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [البقرة: 219] وقوله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [الأنفال: 1] وقوله سبحانه يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ [البقرة: 220] إلى غير ذلك، وقال في موضع آخر: إن السؤال المذكور إما عن قدم الجبال أو عن وجوب بقائها وهذه المسألة من أمهات مسائل أصول الدين فلا جرم أمر صلّى الله عليه وسلّم أن يجيبه بالفاء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 570 المفيدة للتعقيب كأنه سبحانه قال: يا محمد أجب عن هذا السؤال في الحال من غير تأخير لأن القول بقدمها أو وجوب بقائها كفر، ودلالة الجواب على نفي ذلك من جهة أن النسف ممكن لأنه ممكن في كل جزء من أجزاء الجبل والحس يدل عليه فوجب أن يكون ممكنا في حق كل الجبل فليس بقديم ولا واجب الوجود لأن القديم لا يجوز عليه التغير والنسف انتهى. واعترض بأن عدم جواز التغير والنسف إنما يسلم في حق القديم بالذات ولم يذهب أحد من السائلين إلى كون الجبال قديمة كذلك، وأما القديم بالزمان فلا يمتنع عليه لذاته ذلك بل إذا امتنع فإنما يمتنع لأمر آخر على أن في كون الجبال قديمة بالزمان عند السائلين وكذا غيرهم من الفلاسفة نظرا بل الظاهر أن الفلاسفة قائلون بحدوثها الزماني وإن لم يعلموا مبدأ معينا لحدوثها فتأمل، ثم إنه ذكر رحمه الله تعالى أن السؤال والجواب قد ذكرا في عدة مواضع من كتاب الله تعالى منها فروعية ومنها أصولية والأصولية في أربعة مواضع في هذه الآية وقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ [البقرة: 189] وقوله سبحانه: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء: 85] وقوله عز وجل يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها [النازعات: 42] ولا يخفى أن عد جميع ما ذكر من الأصولية غير ظاهر، وعلى تقدير ظهور ذلك في الجميع يرد السؤال عن سر اقتران الأمر بالجواب بالفاء في بعضها دون بعض. وكون ما اقترن بالفاء هو الأهم في حيز المنع فإن الأمر بالجواب عن السؤال عن الروح إن كان عن القدم ونحوه فمهم كالأمر بالجواب فيما نحن فيه بل لعله أهم منه لتحقق القائل بالقدم الزماني للروح بناء على أنها النفس الناطقة كأفلاطون وأتباعه، وقد يقال: لما كان الجواب هنا لدفع السؤال عن الكلام السابق أعني قوله تعالى: يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ كأنه قيل كيف يصح تخافت المجرمين المقتضي لا لاجتماعهم والجبال في البين مانعة عن ذلك فمتى قلتم بصحته فبينوا لنا كيف يفعل الله تعالى بها؟ فأجيب بأن الجبال تنسف في ذلك الوقت فلا يبقى مانع عن الاجتماع والتخافت، وقرن الأمر بالفاء للمسارعة إلى الذب عن الدعوة السابقة، والآيات التي لم يقرن الأمر فيها بالفاء لم تسق هذا المساق كما لا يخفى على أرباب الأذواق، وقال النسفي. وغيره: الفاء في جواب شرط مقدر أي إذا سألوك عن الجبال فقل، وهو مبني على أنه لم يقع السؤال عن ذلك كما وقع في قصة الروح وغيرها فلذا لم يؤت بالفاء ثمة وأتي به هنا فيسألونك متمحض للاستقبال، واستبعد ذلك أبو حيان، وما أخرجه ابن المنذر عن ابن جريج من أن قريشا قالوا: يا محمد كيف يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة فنزلت وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ الآية، يدل على خلافه، وقال الخفاجي: الظاهر أنه إنما قرن بها هنا ولم يقرن بها ثمة للإشارة إلى أن الجواب معلوم له صلّى الله عليه وسلّم قبل ذلك فأمر عليه الصلاة والسلام بالمبادرة إليه بخلاف ذلك انتهى. وأنت تعلم أن القول بأن الجواب عن سؤال الروح، وعن سؤال المحيض ونحو ذلك لم يكن معلوما له صلّى الله عليه وسلّم قبل لم يتجاسر عليه أحد من عوام الناس فضلا عن خواصهم فما ذكره مما لا ينبغي أن يلتفت إليه. ومما يضحك الثكلى أن بعض المعاصرين سمع السؤال عن سر اقتران الأمل هنا بالفاء وعدم اقترانه بها في الآيات الأخر فقال: ما أجهل هذا السائل بما يجوز وما لا يجوز من المسائل أما سمع قوله تعالى لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الأنبياء: 23] أما درى أن معناه نهي من يريد السؤال عن أن يسأل. وأدل من هذا على جهل الرجل أنه دون ما قال ولم يبال بما قيل ويقال، ونقلي لذلك من باب التحميض وتذكير من سلم من مثل هذا الداء بما من الله تعالى عليه من الفضل الطويل العريض، وأمر الفاء في قوله تعالى فَيَذَرُها ظاهر جدا، والضمير إما للجبال باعتبار أجزائها السافلة الباقية بعد النسف وهي مقارها ومراكزها أي فنذر ما انبسط منها وساوى سطحه سطوح سائر أجزاء الأرض بعد نسف ما نتأ منها ونشز وإما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 571 للأرض المدلول عليها بقرينة الحال لأنها الباقية بعد نسف الجبال. وعلى التقديرين يذر سبحانه الكل قاعاً صَفْصَفاً لأن الجبال إذا سويت وجعل سطحها مساويا لسطوح أجزاء الأرض فقد جعل الكل سطحا واحدا والقاع قيل: السهل، وقال الجوهري: المستوي من الأرض. ومنه قول ضرار بن الخطاب: لتكونن بالبطاح قريش ... فقعة القاع في أكف الإماء وقال ابن الأعرابي: الأرض الملساء لا نبات فيها ولا بناء. وحكى مكي أنه المكان المنكشف، وقيل: المستوي الصلب من الأرض، وقيل مستنقع الماء وليس بمراد. وجمعه أقوع وأقواع وقيعان والصفصف الأرض المستوية الملساء كان أجزاؤه صف واحد من كل جهة، وقيل: الأرض التي لا نبات فيها، وعن ابن عباس. ومجاهد جعل القاع والصفصف بمعنى واحد وهو المستوي الذي لا نبات فيه وانتصاب قاعاً على الحالية من الضمير المنصوب وهو مفعول ثان ليذر على تضمين معنى التصيير. وصَفْصَفاً إما حال ثانية أو بدل من المفعول الثاني، وقوله تعالى لا تَرى فِيها أي في مقار الجبال أو في الأرض على ما فصل عِوَجاً وَلا أَمْتاً استئناف مبين كيفية ما سبق من القاع الصفصف أو حال أخرى أو صفة لقاع والرؤية بصرية والخطاب لكل من يتأتى منه. وعلقت بالعوج وهو بكسر العين ما لا يدرك بفتحها بل بالبصيرة لأن المراد به ما خفي من الاعوجاج حتى احتاج إثباته إلى المساحة الهندسية المدركة بالعقل فألحق بما هو عقلي صرف فأطلق عليه ذلك لذلك وهذا بخلاف العوج بفتح العين فإنه ما يدرك بفتحها كعوج الحائط والعود وبهذا فرق بينهما في الجمهرة وغيرها. واختار المرزوقي في شرح الفصيح أنه لا فرق بينهما، وقال أبو عمرو: يقال لعدم الاستقامة المعنوية والحسية عوج بالكسر، وأما العوج بالفتح فمصدر عوج، وصح الواو فيه لأنه منقوص من أعوج. ولما صح في الفعل صح في المصدر أيضا، والأمت النتوء، والتنكير فيها للتقليل. وعن ابن عباس عوجا ميلا ولا أمتا أثرا مثل الشراك. وفي رواية أخرى عنه عوجا واديا ولا أمتا رابية. وعن قتادة عوجا صدعا ولا أمتا أكمة، وقيل: الأمت الشقوق في الأرض. وقال الزجاج: هو أن يغلظ مكان ويدق مكان، وقيل: الأمت في الآية العوج في السماء تجاه الهواء والعوج في الأرض مختص بالعرض. وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مر غير مرة. وقوله تعالى يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ تنسف الجبال على إضافة يوم إلى وقت النسف من إضافة العام إلى الخاص فلا يلزم أن يكون للزمان ظرف وإن كان لا مانع عنه عند من عرفه بمتجدد يقدر به متجدد آخر. وقيل: هو من إضافة المسمى إلى الاسم كما قيل في شهر رمضان. وهو ظرف لقوله تعالى يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ وقيل: بدل من يوم القيامة. فالعامل فيه هو العامل فيه، وفيه الفصل الكثير وفوات ارتباط يتبعون بما قبله. وعليه فقوله تعالى: «ويسألونك» إلخ استطراد معترض وما بعده استئناف وضمير يَتَّبِعُونَ للناس. والمراد بالداعي داعي الله عز وجل إلى المحشر وهو إسرافيل عليه السلام يضع الصور في فيه ويدعو الناس عند النفخة الثانية قائما على صخرة بيت المقدس ويقول: أيتها العظام البالية والجلود المتمزقة واللحوم المتفرقة هلموا إلى العرض إلى الرحمن فيقبلون من كل صوب إلى صوته. وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال: يحشر الله تعالى الناس يوم القيامة في ظمة تطوى السماء وتتناثر النجوم ويذهب الشمس والقمر وينادي مناد فيتبع الناس الصوت يؤمونه فذلك قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ إلخ، وقال علي بن عيسى: الدَّاعِيَ هنا الرسول الذي كان يدعوهم إلى الله عز وجل والأول أصح. لا عِوَجَ لَهُ أي للداعي على معنى لا يعوج له مدعو ولا يعدل عنه، وهذا كما يقال: لا عصيان له أي لا يعصى ولا ظلم له أي لا يظلم، وأصله أن اختصاص الفعل بمتعلقه ثابت كما هو بالفاعل، وقيل: أي لا عوج لدعائه فلا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 572 يعصى ولا ظلم له أي لا يظلم، وأصله أن اختصاص الفعل بمتعلقه ثابت كما هو بالفاعل، وقيل: أي لا عوج لدعائه فلا يميل إلى ناس دون ناس بل يسمع جميعهم وحكي ذلك عن أبي مسلم. وقيل: هو على القلب أي لا عوج لهم عنه بل يأتون مقبلين إليه متبعين لصوته من غير انحراف وحكي ذلك عن الجبائي وليس بشيء، والجملة في موضع الحال من الداعي أو مستأنفة كما قال ابن عطية: يحتمل أن يكون المعنى لا شك فيه ولا يخالف وجوده خبره وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ أي خفيت لمهابته تعالى وشدة هول المطلع، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: سكنت والخشوع مجاز في ذلك، وقيل: لا مجاز والكلام على حذف مضاف أي أصحاب الأصوات وليس بذاك فَلا تَسْمَعُ خطاب لكل من يصح منه السمع إِلَّا هَمْساً أي صوتا خفيا خافتا كما قال أبو عبيدة. وعن مجاهد هو الكلام الخفي، ويؤيده قراءة أبي «فلا ينطقون إلا همسا» وعن ابن عباس هو تحريك الشفاه بغير نطق، واستبعد بأن ذلك مما يرى لا مما يسمع، وفي رواية أخرى عنه أنه خفق الأقدام وروي ذلك عن عكرمة وابن جبير والحسن، واختاره الفراء والزجاج. ومنه قول الشاعر: وهن يمشين بنا هميسا. وذكر أنه يقال للأسد الهموس لخفاء وطئه فالمعنى سكنت أصواتهم وانقطعت كلماتهم فلم يسمع منهم إلا خفق أقدامهم ونقلها إلى المحشر يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ يقع ما ذكر من الأمور الهائلة وهو ظرف لقوله تعالى: لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ وجوز أن يكون بدلا من يوم القيامة أو من يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ، والمراد لا تنفع الشفاعة من الشفعاء أحدا إِلَّا مَنْ أَذِنَ في الشفاعة. لَهُ الرَّحْمنُ فالاستثناء من أعم المفاعيل ومَنْ مفعول تَنْفَعُ وهي عبارة عن المشفوع له ولَهُ متعلق بمقدر متعلق بإذن، وفي البحر أن اللام للتعليل وكذا في قوله تعالى وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا أي ورضي لأجله قول الشافع وفي شأنه أو رضي قول الشافع لأجله وفي شأنه فالمراد بالقول على التقديرين قول الشافع، وجوز فيه أيضا أن لا يكون للتعليل، والمعنى ورضي قولا كائنا له فالمراد بالقول قول المشفوع وهو على ما روي عن ابن عباس لا إله إلا الله، وحاصل المعنى عليه لا تنفع الشفاعة أحدا إلا من أذن الرحمن في أن يشفع له وكان مؤمنا، والمراد على كل تقدير أنه لا تنفع الشفاعة أحدا إلا من أذن الرحمن في أن يشفع له وكان مؤمنا، والمراد على كل تقدير أنه لا تنفع الشفاعة أحدا إلا من ذكر وأما من عداه فلا تكاد تنفعه وإن فرض صدورها عن الشفعاء المتصدين للشفاعة للناس كقوله تعالى: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر: 48] . وجوز في البحر والدر المصون أن لا يقدر مفعول لتنفع تنزيلا له منزلة اللازم والاستثناء من شفاعة ومن في محل رفع على البدلية منها بتقدير مضاف أو في محل نصب على الاستثناء بتقديره أيضا أي إلا شفاعة من أذن إلخ، ومن عبارة عن الشافع والاستثناء متصل ويجوز أن يكون منقطعا إذا لم يقدر شيء ومحل «من» حينئذ نصب على لغة الحجاز ورفع على لغة تميم، واعترض كون الاستثناء من الشفاعة على تقدير المضاف بأن حكم الشفاعة ممن لم يؤذن له أن يملكها ولا تصدر عنه أصلا ومعنى «لا يقبل منها شفاعة» لا يؤذن لها فيها لا أنها لا تقبل بعد وقوعها فالأخبار عنها بمجرد عدم نفعها للمشفوع له ربما يوهم إمكان صدورها حين لم يأذن له مع إخلاله بمقتضى مقام تهويل اليوم. يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ الظاهر أن ضمير الجمع عائد على الخلق المحشورين، وهم متبعو الداعي، وقيل: على الناس لا بقيد الحشر والاتباع، وقيل: على الملائكة عليهم السلام وهو خلاف الظاهر جدا، والمراد من الموصولين على ما قيل ما تقدمهم من الأحوال وما بعدهم مما يستقبلونه أو بالعكس أو أمور الدنيا وأمور الآخرة أو بالعكس أو ما يدركونه وما لا يدركونه وقد مر الكلام في ذلك. وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً أي لا يحيط علمهم بمعلوماته تعالى فعلما تمييز محول عن الفاعل وضمير «به» لله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 573 تعالى والكلام على تقدير مضاف. وقيل: المراد لا يحيط علمهم بذاته سبحانه أي من حيث اتصافه بصفات الكمال التي من جملتها العلم الشامل ويقتضي صحة أن يقال: علمت الله تعالى إذ المنفي العلم على طريق الإحاطة. وقال الجبائي: الضمير لمجموع الموصولين فإنهم لا يعلمون جميع ما ذكر ولا تفصيل ما علموا منه، وجوز أن يكون لأحد الموصولين لا على التعيين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 574 وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ أي ذلت وخضعت خضوع العناة أي الأسارى، والمراد بالوجوه إما الذوات وإما الأعضاء المعلومة وتخصيصها بالذكر لأنها أشرف الأعضاء الظاهرة وآثار الذل أول ما تظهر فيها، وأل فيها للعهد أو عوض عن المضاف إليه أي وجوه المجرمين فتكون الآية نظير قوله تعالى: سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الملك: 27] واختار ذلك الزمخشري وجعل قوله تعالى: وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً اعتراضا ووضع الموصول موضع ضميرهم ليكون أبلغ، وقيل: الوجوه الأشراف أي عظماء الكفرة لأن المقام مقام الهيبة ولصوق الذلة بهم أولى والظلم الشرك وجملة وَقَدْ خابَ إلخ حال والرابط الواو لا معترضة لأنها في مقابلة وهو مؤمن فيما بعد انتهى. قال صاحب الكشف: الظاهر مع الزمخشري والتقابل المعنوي كاف فإن الاعتراض لا يتقاعد عن الحال انتهى. وأنت تعلم أن تفسير الظلم بالشرك مما لا يختص بتفسير الوجوه بالإشراف وجعل الجملة حالا بل يكون على الوجه الأول أيضا بناء على أن المراد بالمجرمين الكفار، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه قال في قوله تعالى: وَقَدْ خابَ إلخ خسر من أشرك بالله تعالى ولم يتب، وقال غير واحد: الظاهر أن أل للاستغراق أي خضعت واستسلمت جميع الوجوه وقوله تعالى وَقَدْ خابَ إلخ يحتمل الاستئناف والحالية، والمراد بالموصول إما المشركون وإما ما يعمهم وغيرهم من العصاة وخيبة كل حامل بقدر ما حمل من الظلم فخيبة المشرك دائمة وخيبة المؤمن العاصي مقيدة بوقت العقوبة إن عوقب. وقد تقدم لك معنى- الحي القيوم- في آية الكرسي. والظاهر أن قوله تعالى وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ قسيم لقوله سبحانه وَعَنَتِ الْوُجُوهُ إلى آخر ما تقدم ولقوله عز وجل «وقد خاب من حمل ظلما» على هذا كما صرح به ابن عطية وغيره أي ومن يعمل بعض الصالحات أو بعضا من الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ أي بما يجب الإيمان به. والجملة في موضع الحال والتقييد بذلك لأن الإيمان شرط في صحة الطاعات وقبول الحسنات فَلا يَخافُ ظُلْماً أي منع ثواب مستحق بموجب الوعد وَلا هَضْماً ولا منع بعض منه تقول العرب هضمت حقي أي نقصت منه ومنه هضيم الكشحين أي ضامرهما وهضم الطعام تلاشى في المعدة. روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة أن المعنى فلا يخاف أن يظلم فيزاد في سيئاته ولا أن يهضم فينقص من حسناته. والأول مروي عن ابن زيد، وقيل الكلام على حذف مضاف أي فلا يخاف جزاء ظلم وهضم إذ لم يصدر عنه ظلم ولا هضم حق أحد حتى يخاف ذلك أو أنه أريد من الظلم والهضم جزاؤهما مجازا، ولعل المراد على ما قيل نفي الخوف عنه من ذلك من حيث إيمانه وعمله بعض الصالحات ويتضمن ذلك نفي أن يكون العمل الصالح مع الإيمان ظلما أو هضما. وقيل: المراد أن من يعمل ذلك وهو مؤمن هذا شأنه لصون الله تعالى إياه عن الظلم أو الهضم ولأنه لا يعتد بالعمل الصالح معه. فلا يرد ما قيل إنه لا يلزم من الإيمان وبعض العمل أن لا يظلم غيره ويهضم حقه ولا يخفى عليك أن القول بحذف المضاف والتجوز في هذه الآية في غاية البعد وما قيل من الاعتراض قوي وما أجيب به كما ترى. ثم إن ظاهر كلام الجوهري أنه لا فرق بين الظلم والهضم، وظاهر الآية قاض بالفرق وكذا قول المتوكل الليثي: إن الأذلة واللئام لمعشر ... مولاهم المتهضم المظلوم وممن صرح به الماوردي حيث قال: الفرق بينهما أن الظلم منع الحق كله والهضم منه بعضه. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد «فلا يخف» على النهي. قال الطيبي: قراءة الجمهور توافق قوله تعالى: وَقَدْ خابَ إلخ من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 575 حيث الأخبار وأبلغ من القراءة الأخرى من حيث الاستمرار والأخرى أبلغ من حيث إنها لا تقبل التردد في الأخبار. وَكَذلِكَ عطف على كَذلِكَ نَقُصُّ [طه: 99] والإشارة إلى إنزال ما سبق من الآيات المتضمنة للوعيد المنبئة عما سيقع من أحوال القيامة وأهوالها أي مثل ذلك الإنزال أَنْزَلْناهُ أي القرآن كله وهو تشبيه لإنزال الكل بانزال الجزء والمراد أنه على نمط واحد، وإضماره من غير سبق ذكره للإيذان بنباهة شأنه وكونه مركوزا في العقول حاضرا في الأذهان قُرْآناً عَرَبِيًّا ليفهمه العرب ويقفوا على ما فيه من النظم المعجز الدال على كونه خارجا عن طوق الآدميين نازلا من رب العالمين وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ أي كررنا فيه بعض الوعيد أو بعضا من الوعيد، والجملة عطف على جملة أَنْزَلْناهُ وجعلها حالا قيد الإنزال خلاف الظاهر جدا. لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ المفعول محذوف وتقدم الكلام في لعل، والمراد لعلهم يتقون الكفر والمعاصي بالفعل أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً أي عظة واعتبارا مؤديا في الآخرة إلى الاتقاء، وكأنه لما كانت التقوى هي المطلوبة بالذات منهم أسند فعلها إليهم ولما لم يكن الذكر كذلك غير الأسلوب إلى ما سمعت كذا قيل، وقيل: المراد بالتقوى ملكتها، وأسندت إليهم لأنها ملكة نفسانية تناسب الإسناد لمن قامت به، وبالذكر العظة الحاصلة من استماع القرآن المثبطة عن المعاصي، ولما كانت أمرا يتجدد بسبب استماعه ناسب الإسناد إليه، ووصفه بالحدوث المناسب لتجدد الألفاظ المسموعة، ولا يخفى بعد تفسير التقوى بملكتها على أن في القلب من التعليل شيئا. وفي البحر أسند ترجي التقوى إليهم لأن التقوى عبارة عن انتفاء فعل القبيح وذلك استمرار على العدم الأصلي، وأسند ترجي أحداث الذكر للقرآن لأن ذلك أمر حدث بعد أن لم يكن انتهى، وهو مأخوذ من كلام الإمام وفي قوله: لأن التقوى إلى آخره على إطلاقه منع ظاهر، وفسر بعضهم التقوى بترك المعاصي والذكر بفعل الطاعات فإنه يطلق عليه مجاز لما بينهما من السببية والمسببية فكلمة أو على ما قيل للتنويع، وفي الكلام إشارة إلى أن مدار الأمر التخلية والتحلية. والإمام ذكر في الآية وجهين، الأول أن المعنى إنما أنزلنا القرآن ليصيروا محترزين عن فعل ما لا ينبغي أو يحدث لهم ذكرا يدعوهم إلى فعل ما ينبغي فالكلام مشير أيضا إلى التخلية والتحلية إلا أنه ليس فيه ارتكاب المجار، والثاني أن المعنى أنزلنا القرآن ليتقوا فإن لم يحصل ذلك فلا أقل من أن يحدث لهم ذكرا وشرفا وصيتا حسنا، ولا يخفى أن هذا ليس بشيء، وقال الطيبي: إن المعنى وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا أي فصيحا ناطقا بالحق ساطعا بيناته لعلهم يحدث لهم التأمل والتفكر في آياته وبيناته الوافية الشافية فيذعنون ويطيعون وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون العذاب. ففي الآية لف من غير ترتيب وهي على وزان قوله تعالى لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه: 44] وعندي كون الآية متضمنة للتخلية والتحلية لا يخلو عن حسن فتأمل. وقرأ الحسن «أو يحدث» بسكون الثاء، وقرأ عبد الله ومجاهد وأبو حيوة والحسن في رواية والجحدري وسلام «أو نحدث» بالنون وسكون الثاء وذلك حمل وصل على وقف أو تسكين حرف الإعراب استثقالا لحركته كما قال ابن جنى نحو قول امرئ القيس: اليوم أشرب غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغلي وقول جرير: سيروا بني العم فالأهواز منزلكم ... ونهر تيري ولا يعرفكم العرب فَتَعالَى اللَّهُ استعظام له تعالى ولما صرف في القرآن من الوعد والوعيد والأوامر والنواهي وغير ذلك وتنزيه لذاته المتعالية أن لا يكون إنزال قرآنه الكريم منتهيا إلى غاية الكمالية من تسببه لترك من أنزل عليهم المعاصي، ولفعلهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 576 الطاعات وفيه تعجيب واستدعاء للإقبال عليه وعلى تعظيمه، وفي وصفه تعالى بقوله سبحانه الْمَلِكُ أي المتصرف بالأمر والنهي الحقيق بأن يرجى وعده ويخشى وعيده ما يدل على أن قوارع القرآن سياسات إلهية يتضمن صلاح الدارين لا يحيد عنها إلا مخذول هالك، وقوله تعالى الْحَقُّ صفة بعد صفة لله تعالى أي الثابت في ذاته وصفاته عز وجل، وفسره الراغب بموجد الشيء على ما تقتضيه الحكمة. وجوز غير واحد كونه صفة للملك ومعناه خلاف الباطل أي الحق في ملكيته يستحقها سبحانه لذاته، وفيه إيماء إلى أن القرآن وما تضمنه من الوعد والوعيد حق كله لا يحوم حول حماه الباطل بوجه وأن المحق من أقبل عليه بشرا شره وأن المبطل من أعرض عن تدبر زواجره، وفيه تمهيد لوصل النهي عن العجلة به في قوله سبحانه وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ أي يتم وَحْيُهُ أي تبليغ جبريل عليه السلام إياه فإن من حق الإقبال ذلك وكذلك من حق تعظيمه. وذكر الطيبي أن هذه الجملة عطف على قوله تعالى فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لما فيه من إنشاء التعجب فكأنه قيل حيث نبهت على عظمة جلالة المنزل وأرشدت إلى فخامة المنزل فعظم جنابه الملك الحق المتصرف في الملك والملكوت، وأقبل بكلك على تحفظ كتابه وتحقق مبانيه ولا تعجل به، وكان صلّى الله عليه وسلّم إذا ألقى عليه جبريل عليه السلام القرآن يتبعه عند تلفظ كل حرف وكل كلمة خوفا أن يصعد عليه السلام ولم يحفظه صلّى الله عليه وسلّم فنهى عليه الصلاة والسلام عن ذلك إذ ربما يشغل التلفظ بكلمة عن سماع ما بعدها، ونزل عليه أيضا لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة: 66] الآية، وأمر صلّى الله عليه وسلّم باستفاضة العلم واستزادته منه سبحانه فقيل: وَقُلْ أي في نفسك رَبِّ زِدْنِي عِلْماً أي سل الله عز وجل بدل الاستعجال زيادة العلم مطلقا أو في القرآن فإن تحت كل كلمة بل كل حرف منه أسرارا ورموزا وعلوما جمة وذلك هو الأنفع لك، وقيل: وجملة وَلا تَعْجَلْ مستأنفة ذكرت بعد الإنزال على سبيل الاستطراد، وقيل: إن ذلك نهي عن تبليغ ما كان مجملا قبل أن يأتي بيانه وليس بذاك، فإن تبليغ المجمل وتلاوته قبل البيان مما لا ريب في صحته ومشروعيته. ومثله ما قيل: إنه نهي عن الأمر بكتابته قبل أن تفسر له المعاني وتتقرر عنده عليه الصلاة والسلام بل هو دونه بكثير، وقيل: إنه نهي عن الحكم بما من شأنه أن ينزل فيه قرآن بناء على ما أخرج جماعة عن الحسن أن امرأة شكت إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم أن زوجها لطمها فقال لها: بينكما القصاص فنزلت هذه الآية فوقف صلّى الله عليه وسلّم حتى نزل الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ [النساء: 34] ، وقال الماوردي: إنه نهي عن العجلة بطلب نزوله. وذلك أن أهل مكة وأسقف نجران قالوا: يا محمد أخبرنا عن كذا وقد ضربنا لك أجلا ثلاثة أيام فأبطأ الوحي عليه وفشت المقالة بين اليهود وزعموا أنه عليه الصلاة والسلام قد غلب فشق ذلك عليه صلّى الله عليه وسلّم واستعجل الوحي فنزلت وَلا تَعْجَلْ إلخ وفي كلا القولين ما لا يخفى. وقرأ عبد الله والجحدري والحسن وأبو حيوة وسلام ويعقوب والزعفراني وابن مقسم «نفضي» بنون العظمة مفتوح الياء «وحيه» بالنصب. وقرأ الأعمش كذلك إلا أنه سكن الياء من «نقضي» ، قال صاحب اللوامح: وذلك على لغة من لا يرى فتح الياء بحال إذا انكسر ما قبلها وحلت طرفا، واستدل بالآية على فضل العلم حيث أمر صلّى الله عليه وسلّم بطلب زيادته، وذكر بعضهم أنه ما أمر عليه الصلاة والسلام بطلب الزيادة في شيء إلا العلم. وأخرج الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وزدني علما والحمد لله على كل حال» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 577 وأخرج سعيد بن منصور. وعبد بن حميد عن ابن مسعود أنه كان يدعو «اللهم زدني إيمانا وفقها ويقينا وعلما» وما هذا إلا لزيادة فضل العلم وفضله أظهر من أن يذكر، نسأل الله تعالى أن يرزقنا الزيادة فيه ويوفقنا للعمل بما يقتضيه وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ كأنه لما مدح سبحانه القرآن، وحرض على استعمال التؤدة والرفق في أخذه وعهد على العزيمة بأمره وترك النسيان فيه ضرب حديث آدم مثلا للنسيان وترك العزيمة. وذكر ابن عطية أن في ذلك مزيد تحذير للنبي صلّى الله عليه وسلّم عن العجلة وعدم التؤدة لئلا يقع فيما لا ينبغي كما وقع آدم عليه السلام، فالكلام متعلق بقوله تعالى وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ إلخ، وقال الزمخشري: هو عطف على صَرَّفْنا عطف القصة على القصة، والتخالف فيه إنشاء وخبرية لا يضر مع أن المقصود بالعطف جواب القسم. وحاصل المعنى عليه صرفنا الوعيد وكررناه لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا لكنهم لم يلتفتوا لذلك ونسوه كما لم يلتفت أبوهم إلى الوعيد ونسي العهد إليه. والفائدة في ذلك الإشارة إلى أن مخالفتهم شنشنة أخزمية وأن أساس أمرهم ذلك وعرقهم راسخ فيه، وحكي نحو هذا عن الطبري. وتعقبه ابن عطية بأنه ضعيف لما فيه من الغضاضة من مقام آدم عليه السلام حيث جعلت قصته مثلا للجاحدين لآيات الله تعالى وهو عليه السلام إنما وقع منه ما وقع بتأويل انتهى، والإنصاف يقضي بحسنه فلا تلتفت إلى ما قيل: إن فيه نظرا، وقال أبو مسلم: إنه عطف على قوله تعالى كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ [طه: 99] وليس بذاك، نعم فيه مع ما تقدم إنجاز الموعود في تلك الآية، واستظهر ابن عطية فيه أحد أمرين التعلق بلا تعجل وكونه ابتداء كلام لا تعلق له بما قبله، وهذا الأخير وإن قدمه في كلامه ناشىء من ضيق العطن كما لا يخفى، والعهد الوصية يقال عهد إليه الملك ووغر إليه وعزم عليه وتقدم إليه إذا أمره ووصاه، والمعهود محذوف يدل عليه ما بعده، واللام واقعة في جواب قسم محذوف أي وأقسم بالله لقد أمرناه ووصيناه مِنْ قَبْلُ أي من قبل هذا الزمان، وقيل: أي من قبل وجود هؤلاء المخالفين. وعن الحسن أي من قبل إنزال القرآن، وقيل: أي من قبل أن يأكل من الشجرة فَنَسِيَ العهد ولم يهتم به ولم يشتغل بحفظه حتى غفل عنه، والعتاب جاء من ترك الاهتمام، ومثله عليه السلام يعاتب على مثل ذلك، وعن ابن عباس (1) والحسن أن المراد فترك ما وصى به من الاحتراس عن الشجرة وأكل ثمرتها فالنسيان مجاز عن الترك والفاء للتعقيب وهو عرفي، وقيل: فصيحة أي لم يهتم به فنسي والمفعول محذوف وهو ما أشرنا إليه، وقيل: المنسي الوعيد بخروج الجنة إن أكل، وقيل قوله تعالى: إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ وقيل: الاستدلال على أن النهي عن الجنس دون الشخص، والظاهر ما أشرنا إليه. وقرأ اليماني والأعمش «فنسّي» بضم النون وتشديد السين أي نساه الشيطان وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً تصميم رأي وثبات قدم في الأمور، وهذا جاء على القولين في النسيان، نعم قيل: إنه أنسب بالثاني وأوفق بسياق الآية على ما ذكرنا أولا. وروي جماعة عن ابن عباس وقتادة أن المعنى لم نجد له صبرا عن أكل الشجرة، وعن ابن زيد وجماعة أن المعنى لم نجد له عزما على الذنب فإنه عليه السلام أخطأ ولم يتعمد وهو قول من قال: إن النسيان على حقيقته وجاء عن ابن عباس ما يقتضيه، فقد أخرج الزبير بن بكار في الموفقيات عنه قال قال لي عمر رضي الله تعالى عنه إن صاحبكم هذا- يعني علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه- إن ولي زهد ولكني أخشى عجب نفسه أن يذهب به   (1) رواه عنه جماعة اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 578 قلت: يا أمير المؤمنين إن صاحبنا من قد علمت والله ما نقول: إنه غير ولا بدل ولا أسخط رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيام صحبته فقال ولا في بنت أبي جهل وهو يريد أن يخطبها على فاطمة قلت قال الله تعالى في معصية آدم عليه السلام وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً فصاحبنا لم يعزم على إسخاط رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولكن الخواطر التي لا يقدر أحد دفعها عن نفسه وربما كانت من الفقيه في دين الله تعالى العالم بأمر الله سبحانه فإذا نبه عليها رجع وأناب فقال: يا ابن عباس من ظن أنه يرد بحوركم فيغوص فيها معكم حتى يبلغ قعرها فقد ظن عجزا، لكن لا يخفى عليك أن هذا التفسير غير متبادر ولا كثير المناسبة للمقام. وحاصل لم نجد إلخ عليه أنه نسي فيتكرر مع ما قبله. ثم إن لَمْ نَجِدْ إن كان من الوجود العلمي،- فله عزما- مفعولاه قدم الثاني على الأول لكونه ظرفا وإن كان من الوجود المقابل للعدم كما اختاره بعضهم- فله- متعلق به قدم على مفعوله لما مر غير مرة أو بمحذوف وقع حالا من مفعوله المنكر، والمعنى على هذا ولم نصادف له عزما وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ شروع في بيان المعهود وكيفية ظهور نسيانه وفقدان عزمه، وَإِذْ منصوب على المفعولية بمضمر خوطب به النبي صلّى الله عليه وسلّم أي واذكر وقت قولنا للملائكة إلخ. قيل: وهو معطوف على مقدر أي اذكر هذا واذكر إذ قلنا أو من عطف القصة على القصة. وأيّا ما كان فالمراد اذكر ما وقع في ذلك الوقت منا ومنه حتى يتبين لك نسيانه وفقدان عزمه فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قد مر الكلام فيه مرارا أَبى جملة مستأنفة وقعت جوابا عن سؤال نشأ عن الأخبار بعدم سجوده كأنه قيل: فما باله لم يسجد؟ فقل: أَبى والإباء الامتناع أو شدته ومفعوله إما محذوف أي أبى السجود كما في قوله تعالى أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [الحجر: 31] أو غير منوي رأسا بتنزيله منزلة اللازم أي فعل الإباء وأظهره فَقُلْنا عقيب ذلك اعتناء بنصح آدم عليه السلام يا آدَمُ إِنَّ هذا الذي رأيت منه ما رأيت عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ أعيد اللام لأنه لا يعطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار عند الجمهور. وقيل: أعيد للدلالة على أن عداوة اللعين للزوجة أصالة لا تبعا. وهو على القول بعدم لزوم إعادة الجار في مثله كما ذهب إليه ابن مالك ظاهر. وأما على القول باللزوم فقد قيل في توجيهه. إن كون الشيء لازما بحسب القاعدة النحوية لا ينافي قصد إفادة ما يقتضيه المقام. وقد صرح السيد السند في شرح المفتاح في توجيه جعل صاحب المفتاح تنكير التمييز في قوله تعالى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مريم: 4] لإفادة المبالغة بما يرشد إلى ذلك، ولا يخفى ما في التعبير بزوجك دون حواء من مزيد التنفير والتحذير منه، واختلف في سبب العداوة فقيل مجرد الحسد وهو لعنه الله تعالى ولعن أتباعه أول من حسد، وقيل: كونه شيخا جاهلا وكون آدم عليه السّلام شابا عالما، والشيخ الجاهل يكون أبدا عدوا للشاب العالم بل الجاهل مطلقا عدو للعالم كذلك كما قيل: والجاهلون لأهل العلم أعداء وقيل: تنافي الأصلين فإن اللعين خلق من نار وآدم عليه السلام خلق من طين وحواء خلقت منه، وقد ذكر جميع ذلك الإمام الرازي. فَلا يُخْرِجَنَّكُما أي فلا يكونن سببا لإخراجكما مِنَ الْجَنَّةِ وهذا كناية عن نهيهما عن أن يكونا بحيث يتسبب الشيطان في إخراجهما منها نحو قوله تعالى: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ [الأعراف: 2] والفاء لترتيب موجب النهي على عداوته لهما أو على الأخبار بها فَتَشْقى أي فتتعب بمتاعب الدنيا وهي لا تكاد تحصى ولا يسلم منها أحد وإسناد ذلك إليه عليه السلام خاصة بعد تعليق الإخراج الموجب له بهما معا لأصالته في الأمور واستلزام تعبه لتعبها مع ما في ذلك من مراعاة الفواصل على أتم وجه، وقيل: المراد بالشقاء التعب في تحصيل مبادئ المعاش وهو من وظائف الرجال، وأيد هذا بما أخرجه عبد بن حميد وابن عساكر. وجماعة عن سعيد بن جبير قال: «إن آدم عليه السلام لما أهبط من الجنة استقبله ثور أبلق فقيل له: اعمل عليه فجعل يمسح العرق عن جبينه ويقول: هذا ما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 579 وعدني ربي فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى ثم نادى حواء حواء أنت عملت بي هذا فليس من ولد آدم أحد يعمل على ثور إلا قال: حو دخلت عليهم من قبل آدم عليه السلام، وكذا أيد بالآية بعد وفيه تأمل، ولعل القول بالعموم أولى، و «تشقى» يحتمل أن يكون منصوبا بإضمار أن في جواب النهي، ويحتمل أن يكون مرفوعا على الاستئناف بتقدير فأنت تشقى، واستبعد هذا بأنه ليس المراد الأخبار عنه بالشقاء بل المراد أن وقع الإخراج حصل ذلك. إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى أي ولا تصيبك الشمس يقال: ضحا كسعى وضحى كرضى ضحوا وضحيا إذا أصابته الشمس، ويقال ضحا وضحوا وضحوا وضحيا إذا برز لها، وأنشدوا قول عمرو بن أبي ربيعة: رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت ... فيضحى وأما بالعشي فيخصر وفسر بعضهم ما في الآية بذلك والتفسير الأول مروي عن عكرمة، وأيّا ما كان فالمراد نفي أن يكون بلا كن، والجملة تعليل لما يوجبه النهي فإن اجتماع أسباب الراحة فيها مما يوجب المبالغة في الاهتمام بتحصيل مبادئ البقاء فيها والجد في الانتهاء عما يؤدي إلى الخروج عنها، والعدول عن التصريح بأن له عليه السلام فيها تنعما بفنون النعم من المآكل والمشارب وتمتعا بأصناف الملابس البهية والمساكن المرضية مع أن فيه من الترغيب في الإبقاء فيها ما لا يخفى إلى ما ذكر من نفي نقائضها التي هي الجوع والعطش والعرى والضحو لتذكير تلك الأمور المنكرة والتنبيه على ما فيها من أنواع الشقوة التي حذره سبحانه عنها ليبالغ في التحامي عن السبب المؤدي إليها، ومعنى أَلَّا تَجُوعَ إلخ أن لا يصيبه شيء من الأمور الأربعة أصلا فإن الشبع والري والكسوة والكن قد تحصل بعد عروض أضدادها وليس الأمر فيها كذلك بل كلما وقع فيها شهوة وميل إلى شيء من الأمور المذكورة تمتع به من غير أن يصل إلى حد الضرورة على أن الترغيب قد حصل بما سوغ له من التمتع بجميع ما فيها سوى الشجرة حسبما ينطق به قوله تعالى: يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما [البقرة: 35] وقد طوي ذكره هاهنا اكتفاء بذلك واقتصر على ما ذكر من الترغيب المتضمن للترهيب، وقال بعضهم: إن الاقتصار على ما ذكر لما وقع في سؤال آدم عليه السلام فإنه روي أنه لما أمره سبحانه بسكنى الجنة قال إلهي ألي فيها ما آكل ألي فيها ما ألبس ألي فيها ما أشرب ألي فيها ما أستظل به فأجيب بما ذكر، وفي القلب من صحة الرواية شيء. ووجه إفراده عليه السلام بما ذكر ما مر آنفا، وقيل: كونه السائل وكان الظاهر عدم الفصل بين الجوع والظمأ والعري والضحو للتجانس والتقارب إلا أنه عدل عن المناسبة المكشوفة إلى مناسبة أتم منها وهي أن الجوع خلو الباطن والعري خلو الظاهر فكأنه قيل لا يخلو باطنك وظاهرك عما يهمهما، وجمع بين الظمأ المورث حرارة الباطن والبروز للشمس وهو الضحو المورث حرارة الظاهر فكأنه قيل: لا يؤلمك حرارة الباطن والظاهر وذلك الوصل الخفي وهو سر بديع من أسرار البلاغة، وفي الكشف إنما عدل إلى المنزل تنبيها على أن الشبع والكسوة أصلان وأن الأخيرين متممان على الترتيب فالامتنان على هذا الوجه أظهر ولهذا فرق بين القرينتين فقيل أولا إِنَّ لَكَ وثانيا أَنَّكَ، وقد ذكر هذه العلامة الطيبي أيضا ثم قال: وفي تنسيق المذكورات الأربعة مرتبة هكذا مقدما ما هو الأهم فالأهم ثم في جعلها تفصيلا لمضمون قوله تعالى فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى وتكرير لفظة فيها وإخراجها في صيغة النفي مكررة الأداة الإيماء إلى التعريض بأحوال الدنيا وأن لا بد من مقاساتها فِيها لأنها خلقت لذلك وأن الجنة ما خلقت إلا للتنعم ولا يتصور فيها غيره. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 580 وفي الانتصاف أن في الآية سرا بديعا من البلاغة يسمى قطع النظير عن النظير، والغرض من ذلك تحقيق تعداد هذه النعم ولو قرن كل بشكله لتوهم المقرونان نعمة واحدة، وقد رمق أهل البلاغة سماء هذا المعنى قديما وحديثا فقال الكندي (1) الأول: كأني لم أركب جوادا للذة ... ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال ولم أسبأ الزقّ الرويّ ولم أقل ... لخيلي كرّي كرة بعد إجفال فقطع ركوب الجواد عن قوله لخيله: كري كرة وقطع تبطن الكاعب عن ترشف الكأس مع التناسب وغرضه أن يعدد ملاذه ومفاخره ويكثرها، وتبعه الكندي (2) الآخر فقال: وقفت وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... ووجهك ضحاك وثغرك باسم وقد اعترض عليه سيف الدولة إذ قطع الشيء عن نظيره فقال له: إن كنت أخطأت بذلك فقد أخطأ امرؤ القيس بقوله وأنشد البيتين السابقين، وفي الآية سر لذلك أيضا زائد على ما ذكر وهو قصد تناسب الفواصل اه. وقد يقال في بيتي الأول: إنه جمع بين ركوب الخيل للذة والنزهة وتبطن الكاعب للذة الحاصلة فيهما وجمع بين سبء الزق وقوله لخيله: كري لما فيهما من الشجاعة، ثم ما ذكر من قصد تناسب الفواصل في الآية ظاهر في أنه لو عدل عن هذا الترتيب لم يحصل ذلك وهو غير مسلم. وقرأ شيبة ونافع وحفص وابن سعدان «إنك» بكسر الهمزة. وقرأ الجمهور بفتحها على أن العطف على أن لا تجوع وهو في تأويل مصدر اسم لأن وصحة وقوع ما صدر بأن المفتوحة اسما لأن المكسورة المشاركة لها في إفادة التحقيق مع امتناع وقوعها خبرا لها لما أن المحذور وهو اجتماع حر في التحقيق في مادة واحدة غير موجود فيما نحن فيه لاختلاف مناط التحقيق فيما في حيزها بخلاف ما لو وقعت خبرا فإن اتحاد المناط حيئنذ مما لا ريب فيه، وبيانه على ما في إرشاد العقل السليم أن كل واحدة من الأداتين موضوعة لتحقيق مضمون الجملة الخبرية المنعقدة من اسمها وخبرها ولا يخفى أن مرجع خبريتها ما فيها من الحكم وإن مناطه الخبر لا الاسم فمدلول كل منهما تحقيق ثبوت خبرها لاسمها لا ثبوت اسمها في نفسه فاللازم من وقوع الجملة المصدرة بالمفتوحة اسما للمكسورة تحقيق ثبوت خبرها لتلك الجملة المؤولة بالمصدر، وأما تحقيق ثبوتها في نفسها فهو مدلول المفتوحة فلا يلزم اجتماع حر في التحقيق في مادة واحدة قطعا، وإنما لم يجز أن يقال: إن أن زيدا قائم حق مع اختلاف المناط بل شرطوا الفصل بالخبر كقولنا: إن عندي أن زيدا قائم حق للتجافي عن صورة الاجتماع، والواو العاطفة وإن كانت نائبة عن المكسورة التي يمتنع دخولها على المفتوحة بلا فصل وقائمة مقامها في إفضاء معناها وإجراء أحكامها على مدخولها لكنها حيث لم تكن حرفا موضوعا للتحقيق لم يلزم من دخولها اجتماع حر في التحقيق أصلا. فالمعنى إن لك عدم الجوع وعدم العري وعدم الظمأ خلا أنه لم يقتصر على بيان أن الثابت له عدم الظمأ والضحو مطلقا كما فعل مثله في المعطوف عليه بل قصد بيان أن الثابت له تحقيق عدمهما فوضع موضع الحرف المصدري المحض أن المفيدة له كأنه قيل: إن   (1) هو امرؤ القيس اه منه. (2) هو المتنبي اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 581 كل فيها عدم ظمئك على التحقيق انتهى. ويحتاج عليه إلى بيان النكتة في عدم الاقتصار على بيان أن الثابت له عدم الظمأ مطلقا كما فعل مثله في المعطوف عليه فتأمل ولا تغفل. وقيل: إن الواو وإن كانت نائبة عن إن هنا إلا أنه يلاحظ بعدها لَكَ الموجود بعد أن التي نابت عنها فيكون هناك فاصل ولا يمتنع الدخول معه وهو كما ترى، ولا يخفى عليك أن العطف على قراءة الكسر على أن الأولى مع معموليها لا على اسمها ولا كلام في ذلك فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ أنهى الوسوسة إليه، وهي كما قال الراغب: الخطرة الرديئة وأصلها من الوسواس وهو صوت الحلي والهمس الخفي، وقال الليث: الوسوسة حديث النفس والفعل وسوس بالبناء للفاعل، ويقال: رجل موسوس بالكسر والفتح لحن. وذكر غير واحد أن وسوس فعل لازم مأخوذ من الوسوسة وهي حكاية صوت كولولة الثكلى ووعوعة الذئب ووقوقة الدجاجة وإذا عدي بالى ضمن معنى الإنهاء وإذا جيء باللام بعده نحو وسوس له فهي للبيان كما في هَيْتَ لَكَ [يوسف: 23] وقال الزمخشري: للأجل أي وسوس لأجله، وكذا إذا كانت بعد نظائر هذا الفعل نحو قوله: اجرس (1) لها يا ابن أبي كباش ... فما لها الليلة من أنفاش وذكر في الأساس وسوس إليه في قسم الحقيقة، وظاهره عدم اعتبار التضمين والكثير على اعتباره. قالَ إما بدل من (وسوس) أو استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ منه كأنه قيل: فما قال له في وسوسته: فقيل: قال يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ ناداه باسمه ليكون أقبل عليه وأمكن للاستماع ثم عرض عليه ما عرض على سبيل الاستفهام الذي يشعر بالنصح، ومعنى شجرة الخلد شجرة من أكل منها خلد ولم يمت أصلا سواء كان على حاله أو بأن يكون ملكا لقوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ [الأعراف: 20] . وفي البحر أن ما حكي هنا مقدم على ما حكي في الأعراف من قوله تعالى: ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ [الأعراف: 20] إلخ كأن اللعين لما رأى منه عليه السلام نوع إصغاء إلى ما عرض عليه انتقل إلى الأخبار والحصر انتهى، والحق أنه لا جزم بما ذكر وَمُلْكٍ لا يَبْلى أي لا يفنى أو لا يصير باليا خلقا قيل: إن هذا من لوازم الخلود فذكره للتأكيد وزيادة الترغيب فَأَكَلا أي هو وزوجته مِنْها أي من الشجرة التي سماها اللعين شجرة الخلد فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: عريا عن النور الذي كان الله تعالى ألبسهما حتى بدت فروجهما، وفي رواية أخرى عنه أنه كان لباسهما الظفر فلما أصابا الخطيئة نزع عنهما وتركت هذه البقايا في أطراف الأصابع والله تعالى أعلم بصحة ذلك، ثم إن ما ذكر يحتمل أن يكون عقوبة للأكل ويحتمل أن يكون مرتبا عليه لمصلحة أخرى وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ قد مر تفسيره. وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ بما ذكر من أكل الشجرة فَغَوى ضل عن مطلوبه الذي هو الخلود أو عن المطلوب منه وهو ترك الأكل من الشجرة أو عن الرشد حيث اغتر بقول العدو، وقيل: غوى أي فسد عليه عيشه. ومنه يقال: الغواء لسوء الرضاع. وقرىء «فغوي» بفتح الغين وكسر الواو وفتح الياء أي فبشم من كثرة الأكل من غوي الفصيل إذا اتخم من اللبن وبه فسرت القراءة الأخرى، وتعقب ذلك الزمخشري: فقال وهذا وإن صح على لغة من يقلب الياء المكسور ما قبلها ألفا فيقول في فني وبقي فنا وبقا بالألف وهم بنو طيء تفسير خبيث، وظاهر الآية يدل على أن ما وقع من الكبائر وهو المفهوم من كلام الإمام فإن كان صدوره بعد البعثة تعمدا من غير نسيان ولا تأويل أشكل على ما اتفق عليه   (1) حد لها اه منه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 582 المحققون والأئمة المتقنون من وجوب عصمة الأنبياء عليهم السلام بعد البعثة عن صدور مثل ذلك منهم على ذلك الوجه، ولا يكاد يقول بذلك إلا الأزارقة من الخوارج فإنهم عليهم ما يستحقون جوزوا الكفر عليهم وحاشاهم فما دونه أولى بالتجويز، وإن كان صدوره قبل البعثة كما قال به جمع وقال الإمام: إنه مذهبنا فإن كان تعمدا أشكل على قول أكثر المعتزلة والشيعة بعصمتهم عليهم السلام عن صدور مثل ذلك تعمدا قبل البعثة أيضا. نعم لا إشكال فيه على ما قاله القاضي أبو بكر من أنه لا يمتنع عقلا ولا سمعا أن يصدر من النبي عليه السلام قبل نبوته معصية مطلقا بل لا يمتنع عقلا إرسال من أسلم بعد كفره، ووافقه على ذلك كما قال الآمدي في أبكار الأفكار أكثر الأصحاب وكثير من المعتزلة وإن كان سهوا كما يدل عليه قوله تعالى: فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: 88] بناء على أحد القولين فيه أشكل على ما نقل عن الشيعة من منع صدور الكبيرة سهوا قبل البعثة أيضا، ولا إشكال فيه على ما سمعت عن القاضي أبي بكر، وإن كان بعد البعثة سهوا أشكل أيضا عند بعض دون بعض، فقد قال عضد الملة في المواقف إن الأكثرين جوزوا صدور الكبيرة يعني ما عدا الكفر والكذب فيما دلت المعجزة على صدقهم عليهم السلام فيه سهوا وعلى سبيل الخطأ منهم، وقال العلامة الشريف المختار: خلافه، وذهب كثير إلى أن ما وقع صغيرة والأمر عليه هين فإن الصغائر الغير المشعرة بالخسة يجوز على ما ذكره العلامة الثاني في شرح العقائد صدورها منهم عليهم السلام عمدا بعد البعثة عند الجمهور خلافا للجبائي وأتباعه ويجوز صدورها سهوا بالاتفاق لكن المحققون اشترطوا أن ينبهوا على ذلك فينتهوا عنه. نعم ذكر في شرح المقاصد عصمتهم عن صدور ذلك عمدا. والأحوط نظرا إلى مقام آدم عليهم السلام أن يقال: إن صدور ما ذكر منه كان قبل النبوة وكان سهوا أو عن تأويل إلا أنه عظم الأمر عليه وعظم لديه نظرا إلى علو شأنه ومزيد فضل الله تعالى عليه، وإحسانه وقد شاع حسنات الأبرار سيئات المقربين، ومما يدل على استعظام ذلك منه لعلو شأنه عليه السلام ما أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن أبي عبد الله المغربي قال: تفكر إبراهيم في شأن آدم عليهما السلام فقال: يا رب خلقته بيدك ونفخت فيه من روحك وأسجدت له ملائكتك ثم بذنب واحد ملأت أفواه الناس من ذكر معصيته فأوحى الله تعالى إليه يا إبراهيم أما علمت أن مخالفة الحبيب على الحبيب شديدة. وذكر بعضهم أن في استعظام ذلك منه عليه الملام زجرا بليغا لأولاده عن أمثاله، وعلى العلات لا ينبغي لأحد أن ينسب إليه العصيان اليوم وأن يخبر بذلك إلا أن يكون تاليا لما تضمن ذلك أو راويا له عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأما أن يكون مبتدئا من قبل نفسه فلا، وقد صرح القاضي أبو بكر بن العربي بعدم جواز نسبة العصيان للآباء الأدنين إلينا المماثلين لنا فكيف يجوز نسبته للأنبياء الأقدام والنبي المقدم الأكرم، وارتضى ذلك القرطبي وادعى أن ابتداء الأخبار بشيء من صفات الله تعالى المتشابهة كاليد والإصبع والنزول أولى بالمنع وعدم الجواز، ثم إن ما وقع كان في الحقيقة بمحض قضاء الله تعالى وقدره، وإلا فقد روي عن أبي أمامة الباهلي والحسن أن عقله عليه السلام مثل عقل جميع ولده وعداوة إبليس عليه اللعنة له عليه السلام في غاية الظهور، وفي ذلك دليل على أنه لا ينفع عقل ولا يغني شيء في جنب تقدير الله تعالى وقضائه ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ أي اصطفاه سبحانه وقربه إليه بالحمل على التوبة والتوفيق لها من اجتبى الشيء جباه لنفسه أي جمعه كقولك: اجتمعته أو من جبى إلى كذا فاجتبيته مثل جليت على العروس فاجتليتها، وأصل معنى الكلمة الجمع فالمجتبى كأنه في الأصل من جمعت فيه المحاسن حتى اختاره غيره وقربه، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام مزيد تشريف له عليه السلام فَتابَ عَلَيْهِ أي رجع عليه بالرحمة وقبل توبته حين تاب وذلك حين قال هو وزوجته: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 583 الْخاسِرِينَ [الأعراف: 23] وَهَدى أي إلى الثبات على التوبة والتمسك بما يرضي المولى سبحانه وتعالى، وقيل إلى كيفية التوبة بتعليم الكلمات والواو لمطلق الجمع فلا يضر كون ذلك قبل التوبة عليه، وقيل: إلى النبوة والقيام بما تقتضيه. وقدم أبو حيان هذا على سائر الاحتمالات التي ذكرها، والنيسابوري فسر الاجتباء بالاختيار للرسالة وجعل الآية دليلا على أن ما جرى كان قبل البعثة ولم يصرح سبحانه بنسبة العصيان والغواية إلى حواء بأن يسندهما إلى ضمير التثنية الذي هو عبارة عنها، وعن آدم عليه السلام كما أسند الأكل وما بعده إلى ذلك إعراضا عن مزيد النعي على الحرم وأن الأهم نظرا إلى مساق القصة التصريح بما أسند إلى آدم عليه السلام ويتضمن ذلك رعاية الفواصل وحيث لم يصرح جل وعلا بعصيانها لم يتعرض لتوفيقها للتوبة وقبولها منها، وقال بعضهم: إنه تعالى اكتفى بذكر شأن آدم عليه السلام لما أن حواء تبع له في الحكم ولذا طوي ذكر النساء في أكثر مواقع الكتاب والسنة. قالَ استئناف مبني على سؤال نشأ من الإخبار بأنه تعالى عامله بما عامله كأنه قيل: فماذا أمره بعد ذلك؟ فقيل: قال له ولزوجته اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً أي انزلا من الجنة إلى الأرض مجتمعين، وقيل: الخطاب له عليه السلام ولإبليس عليه اللعنة فإنه دخل الجنة بعد ما قيل له فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [الحجر: 34] للوسوسة، وخطابهما على الأول بقوله تعالى بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ لما أنهما أصل الذرية ومنشأ الأولاد فالتعادي في الحقيقة بين أولادهما. وهذا على عكس مخاطبة اليهود ونسبة ما فعل آباؤهم إليهم. والجملة في موضع الحال أي متعادين في أمر المعاش وشهوات الأنفس. وعلى الثاني ظاهر لظهور العداوة بين آدم عليه السلام وإبليس عليه اللعنة وكذا بين ذرية آدم عليه السلام وذرية اللعين. ومن هنا قيل: الضمير لآدم وذريته وإبليس وذريته. وزعم بعضهم أنه لآدم وإبليس والحية والمعول عليه الأول ويؤيد ذلك قوله تعالى فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً إلخ أي نبي أرسله إليكم وكتاب أنزله عليكم فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ وضع الظاهر موضع المضمر مع الإضافة إلى ضميره تعالى لتشريفه والمبالغة في إيجاب اتباعه. وأخرج الطبراني وغيره عن أبي الطفيل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ في الدنيا وَلا يَشْقى في الآخرة، وفسر بعضهم الهدى بالقرآن لما أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه. والبيهقي في شعب الإيمان من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: أجار الله تعالى تابع القرآن من أن يضل في الدنيا أو يشقى في الآخرة ثم قرأ الآية، وأخرج جماعة عنه مرفوعا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلفظ «من اتبع كتاب الله هداه الله تعالى من الضلالة في الدنيا ووقاه سوء الحساب يوم القيامة» ، ورجح على العموم بقيام القرينة عليه وهو قوله تعالى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي بناء على تفسير الذكر بالقرآن، وكذا قوله تعالى بعد كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها [طه: 126] والمختار العموم أن يقول: الذكر يقع على القرآن وعلى سائر الكتب الإلهية، وكذا الآيات تكون بمعنى الأدلة مطلقا، وقد فسر الذكر أيضا هنا بالهدى لأنه سبب ذكره تعالى وعبادته سبحانه، فأطلق المسبب وأريد سببه لوقوعه في المقابلة، وما في الخبر من باب التنصيص على حكم أشرف الأفراد المدلول عليه بالعموم اعتناء بشأنه. ثم إن تقييد لا يَضِلُّ بقولنا في الدنيا وَلا يَشْقى بقولنا في الآخرة هو الذي يقتضيه الخبر. وجوز بعضهم العكس أي فلا يضل طريق الجنة في الآخرة ولا يتعب في أمر المعيشة في الدنيا، وجعل الأول في مقابلة وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى والثاني في مقابلة فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ثم قال: وتقديم حال الآخرة على حال الدنيا في المهتدين لأن مطمح نظرهم أمر آخرتهم بخلاف خلافهم فطن نظرهم مقصور على دنياهم، ولا يخفى أن الذي نطقت به الآثار هو الأول، وذكر بعضهم أنه المتبادر، نعم ما ذكر لا يخلو عن حسن وإن قيل: فيه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 584 تكلف، وجوز الإمام كون الأمرين في الآخرة وكونهما في الدنيا، وذكر أن المراد على الأخير لا يضل في الدين ولا يشقى بسبب الدين لا مطلقا فإن لحق المنعم بالهدى شقاء في الدنيا فبسبب آخر وذلك لا يضر اه، والمعول عليه ما سمعت، والمراد من الإعراض عن الذكر عدم الاتباع فكأنه قيل: ومن لم يتبع فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً أي ضيقة شديدة وهو مصدر ضنك وكذا ضناكة ولذا يوصف به المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والمجموع، وقد وصف به هنا المؤنث باعتبار الأصل. وقرأ الحسن «ضنكى» بألف التأنيث كسكرى وبالإمالة. وهذا التأنيث باعتبار تأويله بالوصف، وعن ابن عباس تفسيره بالشديد من كل وجه، وأنشد قول الشاعر: والخيل قد لحقت بنا في مأزق ... ضنك نواحيه شديد المقدم والمتبادر أن تلك المعيشة له في الدنيا. وروي ذلك عن عطاء وابن جبير، ووجه ضيق معيشة الكافر المعرض في الدنيا أنه شديد الحرص على الدنيا متهالك على ازديادها خائف من انتقاصها غالب عليه الشح بها حيث لا غرض له سواها بخلاف المؤمن الطالب للآخرة، وقيل: الضنك مجاز عما لا خير فيه، ووصف معيشة الكافر بذلك لأنها وبال عليه وزيادة في عذابه يوم القيامة كما دلت عليه الآيات، وهو مأخوذ مما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية: يقول كل مال أعطيته عبدا من عبادي قل أو كثر لا يتقيني فيه فلا خير فيه وهو الضنك في المعيشة، وقيل: المراد من كونها ضنكا أنها سبب للضنك يوم القيامة فيكون وصفها بالضنك للمبالغة كأنها نفس الضنك كما يقال في السلطان: الموت بين شفتيه يريدون بالموت ما يكون سببا للموت كالأمر بالقتل ونحوه، وعن عكرمة ومالك بن دينار ما يشعر بذلك، وقال بعضهم: إن تلك المعيشة له في القبر بأن يعذب فيه. وقد روى ذلك جماعة عن ابن مسعود وأبي سعيد الخدري وأبي صالح والربيع والسدي ومجاهد وفي البحر عن ابن عباس أن الآية نزلت في الأسود بن عبد الأسد المخزومي، والمراد ضغطة القبر حتى تختلف فيه أضلاعه. وروي ذلك مرفوعا أيضا. فقد أخرج ابن أبي الدنيا في ذكر الموت. والحكيم الترمذي وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وابن مردويه عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المؤمن في قبره في روضة خضراء ويرحب له قبره سبعين ذراعا ويضيء حتى يكون كالقمر ليلة البدر هل تدرون فيم أنزلت فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً قالوا: الله ورسوله أعلم قال: عذاب الكافر في قبره يسلط عليه تسعة وتسعون تنينا هل تدرون ما التنين؟ تسعة وتسعون حية لكل حية سبعة رؤوس يخدشونه ويلسعونه وينفخون في جسمه إلى يوم يبعثون» . وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور ومسدد في مسنده وعبد بن حميد والحاكم وصححه والبيهقي في كتاب عذاب القبر وجماعة عن أبي سعيد قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قوله تعالى مَعِيشَةً ضَنْكاً عذاب القبر» ولفظ عبد الرزاق يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، ولفظ ابن أبي حاتم ضمة القبر إلى غير ذلك ومن قال: الدنيا ما قبل القيامة الكبرى قال: ما يكون بعد الموت واقع في الدنيا كالذي يكون قبل الموت. وقال بعضهم: إنها تكون يوم القيامة في جهنم، وأخرج ذلك ابن أبي شيبة وابن المنذر عن الحسن، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: المعيشة الضنك في النار شوك وزقوم وغسلين وضريع وليس في القبر ولا في الدنيا معيشة وما المعيشة والحياة إلا في الآخرة، ولعل الأخبار السابقة لم تبلغ هذا القائل أو لم تصح عنده، وأنت تعلم أنها إذا صحت فلا مساغ للعدول عما دلت عليه وإن لم تصح كان الأولى القول بأنها في الدنيا لا في الآخرة لظاهر ذكر قوله تعالى وَنَحْشُرُهُ إلخ بعد الأخبار بأن لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وقرأت فرقة منهم أبان بن تغلب «ونحشره» بإسكان الراء وخرج على أنه تخفيف أو جزم بالعطف على محل فَإِنَّ لَهُ إلخ لأنه جواب الشرط كأنه قيل: ومن أعرض عن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 585 ذكري تكن له معيشة ضنك ونحشره إلخ. ونقل ابن خالويه عن أبان أنه قرأ «ونحشره» بسكون الهاء على إجراء الوصل مجرى الوقف. وفي البحر الأحسن تخريج ذلك على لغة بني كلاب وعقيل فإنهم يسكنون مثل هذه الهاء، وقد قرىء لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات: 6] بإسكان الهاء وقرأت فرقة «ويحشره» بالياء يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى الظاهر أن المراد فاقد البصر كما في قوله تعالى وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا [الإسراء: 97] قالَ استئناف كما مر رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً أي في الدنيا كما هو الظاهر، ولعل هذا باعتبار أكثر أفراد من أعرض لأن من أفراده من كان أكمه في الدنيا. والظاهر أن هذا سؤال عن السبب الذي استحق به الحشر أعمى لأنه جهل أو ظن أن لا ذنب له يستحق به ذلك. قالَ الله تعالى في جوابه كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا الكاف مقحمة كما في مثلك لا يبخل وذلك إشارة إلى مصدر أتتك أي مثل ذلك الإتيان البديع أتتك الآيات الواضحة النيرة. وعند الزمخشري لا إقحام وذلك إشارة إلى حشره أعمى أي مثل ذلك الفعل فعلت أنت. وقوله تعالى أَتَتْكَ إلخ جواب سؤال مقدر كأنه قيل: يا رب ما فعلت أنا؟ فقيل: أتتك آياتنا فَنَسِيتَها أي تركتها ترك المنسي الذي لا يذكر أصلا، والمراد فعميت عنها إلا أنه وضع المسبب موضع السبب لأن من عمي عن شيء نسيه وتركه. والإشارة في قوله تعالى وَكَذلِكَ إلى النسيان المفهوم من نسيتها والكاف على ظاهرها أي مثل ذلك النسيان الذي كنت فعلته في الدنيا الْيَوْمَ تُنْسى أي تترك في العمى جزاء وفاقا، وقيل: الكاف بمعنى اللام الأجلية كما قيل في قوله تعالى وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ [البقرة: 198] أي ولأجل ذلك النسيان الصادر منك تنسى. وهذا الترك يبقى إلى ما شاء الله تعالى ثم يزال العمى عنه فيرى أهوال القيامة ويشاهد النار كما قال سبحانه وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها [الكهف: 53] الآية ويكون ذلك له عذابا فوق العذاب وكذا البكم والصمم يزيلهما الله تعالى عنهم كما يدل عليه قوله تعالى أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا [مريم: 38] . وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن الكافر يحشر أولا بصيرا ثم يعمى فيكون الإخبار بأنه قد كان بصيرا إخبارا عما كان عليه في أول حشره، والظاهر أن ذلك العمى يزول أيضا، وعن عكرمة أنه لا يرى شيئا إلا النار، ولعل ذلك أيضا في بعض أجزاء ذلك اليوم وإلا فكيف يقرأ كتابه، وروي عن مجاهد ومقاتل والضحاك وأبي صالح وهي رواية عن ابن عباس أيضا أن المعنى نحشره يوم القيامة أعمى عن الحجة أي لا حجة له يهتدي بها. وهو مراد من قال: أعمى القلب والبصيرة، واختار ذلك إبراهيم بن عرفة وقال كلما ذكر الله سبحانه في كتابه العمى فذمه فإنما يراد به عمى القلب قال سبحانه وتعالى: فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46] وعلى هذا فالمراد بقوله وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً وقد كنت عالما بحجتي بصيرا بها أحاج عن نفسي في الدنيا. ومنه يعلم اندفاع ما قاله ابن عطية في رد من حمل العمى على عمى البصيرة من أنه لو كان كذلك لم يحس الكافر به لأنه كان في الدنيا أعمى البصيرة ومات وهو كذلك. وحاصل الجواب عليه إني حشرتك أعمى القلب لا تهتدي إلى ما ينجيك من الحجة لأنك تركت في الدنيا آياتي وحججي وكما تركت ذلك تترك على هذا العمى أبدا، وقيل: المراد بأعمى متحيرا لا يدري ما يصنع من الحيل في دفع العذاب كالأعمى الذي يتحير في دفع ما لا يراه. وليس في الآية دليل كما يتوهم على عد نسيان القرآن أو آية منه كبيرة كما ذهب إليه الإمام الرافعي ويشعر كلام الإمام النووي في الروضة باختياره لأن المراد بنسيان الآيات بعد القول بشمولها آيات القرآن تركها وعدم الإيمان بها. ومن عد نسيان شيء من القرآن كبيرة أراد بالنسيان معناه الحقيقي نعم تجوز أبو شامة شيخ النووي فحمل النسيان في الأحاديث الواردة في ذم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 586 نسيان شيء من القرآن على ترك العمل به. وتحقيق هذه المسألة وأن كون النسيان بالمعنى الأول كبيرة عند من قال به مشروط كما قال الجلال البلقيني والزركشي وغيرهما بما إذا كان عن تكاسل وتهاون يطلب من محله وكذا تحقيق حال الأحاديث الواردة في ذلك. وقرأ حمزة والكسائي وخلف «أعمى» بالإمالة في الموضعين لأنه من ذوات الياء. وأمال أبو عمرو في الأول فقط لكونه جديرا بالتغيير لكونه رأس الآية ومحل الوقف وَكَذلِكَ أي ومثل ذلك الجزاء الموافق للجناية نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ بالانهماك في الشهوات وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ بل كذبها وأعرض عنها، والمراد تشبيه الجزاء العام بالجزاء الخاص وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ على الإطلاق أو عذاب النار أَشَدُّ من عذاب الأولى وَأَبْقى أي أكثر بقاء منه أو أشد وأبقى من ذلك ومن عذاب القبر أو منهما ومن الحشر على العمى. أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كلام مستأنف مسوق لتقرير ما قبله من قوله تعالى وَكَذلِكَ نَجْزِي الآية والهمزة للإنكار التوبيخي والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام. واستعمال الهداية باللام إما لتنزيلها منزلة اللازم فلا حاجة إلى المفعول أو لأنها بمعنى التبيين والمفعول الثاني محذوف. وأيّا ما كان فالفاعل ضميره تعالى وضمير لَهُمْ للمشركين المعاصرين لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم. والمعنى أغفلوا فلم يفعل الله تعالى لهم الهداية أو فلم يبين عز وجل لهم العبر. وقوله تعالى: كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ إما بيان بطريق الالتفات لتلك الهداية أو كالتفسير للمفعول المحذوف، وقيل: فاعل يَهْدِ ضميره صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: ضمير الإهلاك المفهوم من قوله تعالى: كَمْ أَهْلَكْنا والجملة مفسرة له، وقيل: الفاعل محذوف أي النظر والاعتبار ونسب ذلك إلى المبرد، وفيه حذف الفاعل وهو لا يجوز عند البصريين، وقال الزمخشري: الفاعل جملة كَمْ أَهْلَكْنا إلخ ووقوع الجملة فاعلا مذهب كوفي، والجمهور على خلافه لكن رجح ذلك هنا بأن التعليل فيما بعد يقتضيه. ورجح كون الفاعل ضميره تعالى شأنه بأنه قد قرأ فرقة منهم ابن عباس والسلمي «أفلم نهد» بالنون واختار بعضهم عليه كون الفعل منزلا منزلة اللازم وجملة كَمْ أَهْلَكْنا بيانا لتلك الهداية، وبعض آخر كونه متعديا والمفعول مضمون الجملة أي أفلم يبين الله تعالى لهم مضمون هذا الكلام، وقيل: الجملة سادة مسد المفعول والفعل معلق عنها، وتعقب بأن كَمْ هنا خبرية وهي لا تعلق عن العمل وإنما التي تعلق عنه كم الاستفهامية على ما نص عليه أبو حيان في البحر لكن أنت تعلم أنه إذا كان مدار التعليق الصدارة كما هو الظاهر فقد صرح ابن هشام بأن لكل من كم الاستفهامية وكم الخبرية ما ذكر ورد في المغني قول ابن عصفور: أن كَمْ في الآية فاعل يهد بأن لها الصدر ثم قال: وقوله إن ذلك جاء على لغة رديئة حكاها الأخفش عن بعضهم أنه يقول ملكت كم عبيد فيخرجها عن الصدرية خطأ عظيم إذ خرج كلام الله تعالى شأنه على هذه اللغة انتهى. وهو ظاهر في أنه قائل بأن كم هنا خبرية ولها الصدر. نعم نقل الحوفي عن بعضهم أنه رد القائل بالفاعلية بأنها استفهامية لا يعمل ما قبلها فيها والظاهر خبريتها وهي مفعول مقدم لأهلكنا ومِنَ الْقُرُونِ متعلق بمحذوف وقع صفة لمميزها أي كم قرن كائن من القرون يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ حال من الْقُرُونِ أو من مفعول أَهْلَكْنا أي أهلكناهم وهم في حال أمن وتقلب في ديارهم. واختار في البحر كونه حالا من الضمير في لَهُمْ مؤكدا للإنكار والعامل فيه يَهْدِ أي أفلم يهد للمشركين حال كونهم ماشين في مساكن من أهلكنا من القرون السالفة من أصحاب الحجر وثمود وقوم لوط مشاهدين لآثار هلاكهم إذا سافروا إلى الشام وغيره، وتوهم بعضهم أن الجملة في موضع الصفة للقرون وليس كذلك، وقرأ ابن السميفع «يمشّون» بالتشديد والبناء للمفعول أي يمكنون في المشي إِنَّ فِي ذلِكَ تعليل للإنكار الجزء: 8 ¦ الصفحة: 587 وتقرير للهداية مع عدم اهتدائهم. وذلِكَ إشارة إلى مضمون قوله تعالى كَمْ أَهْلَكْنا إلخ، وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد منزلته وعلو شأنه في بابه. لَآياتٍ كثيرة عظيمة ظاهرات الدلالة على الحق، وجوز أن تكون كلمة في تجريدية كما قيل في قوله عز وجل لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21] لِأُولِي النُّهى أي لذوي العقول النهاية عن القبائح التي من أقبحها ما يتعاطاه هؤلاء المنكر عليهم من الكفر بآيات الله تعالى والتعامي عنها وغير ذلك من فنون المعاصي. وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ كلام مستأنف سيق لبيان حكمة عدم وقوع ما يشعر به قوله تعالى أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ الآية من أن يصيبهم مثل ما أصاب القرون المهلكة والكلمة السابقة هي العدة بتأخير عذاب الاستئصال عن هذه الأمة إما إكراما للنبي صلّى الله عليه وسلّم كما يشعر به التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم قوله تعالى وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال: 33] أو لأن من نسلهم من يؤمن أو لحكمة أخرى الله تعالى أعلم بها أي لولا الكلمة السابقة والعدة بتأخير العذاب لَكانَ أي عقاب جناياتهم لِزاماً أي لازما لهؤلاء الكفرة بحيث لا يتأخر عن جناياتهم ساعة لزوم ما نزل بأضرابهم من القرون السالفة، واللزام إما مصدر لازم كالخصام وصف به للمبالغة أو اسم آلة كحزام وركاب والوصف به للمبالغة أيضا كلزاز خصم بمعنى ملح على خصمه. وجوز أبو البقاء كونه جمع لازم كقيام جمع قائم وهو خلاف الظاهر وَأَجَلٌ مُسَمًّى عطف على كَلِمَةٌ كما أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة والسدي أي لولا العدة بتأخير عذابهم والأجل المسمى لأعمارهم لما تأخر عذابهم أصلا، وفصله عما عطف عليه للمسارعة إلى بيان جواب لولا، والإشعار باستقلال كل منهما بنفي لزوم العذاب ومراعاة فواصل الآي الكريمة، وقيل: أي ولولا أجل مسمى لعذابهم وهو يوم القيامة. وتعقب بأنه يتحد حينئذ بالكلمة السابقة فلا يصح إدراج استقلال كل منهم بالنفي في عداد نكت الفصل. وأجيب بأنه لا يلزم من تأخير العذاب عن الدنيا أن يكون له وقت لا يتأخر عنه ولا يتخلف فلا مانع من الاستقلال. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد أن الأجل المسمى هي الكلمة التي سبقت، وقيل: الأجل المسمى للعذاب هو يوم بدر وتعقب بأنه ينافي كون الكلمة هي العدة بتأخير عذاب هذه الأمة. وأجيب بأن المراد من ذلك العذاب هو عذاب الاستئصال ولم يقع يوم بدر وجوز الزمخشري كون العطف على المستكن في كان العائد إلى الأخذ العاجل المفهوم من السياق تنزيلا للفصل بالخبر منزلة التأكيد أي لكان الأخذ العاجل والأجل المسمى لازمين لهم كدأب عاد وثمود وأضرابهم، ولم ينفرد الأجل المسمى دون الأخذ العاجل، وأنت تعلم أن هذا لا يتسنى إذا كان لِزاماً اسم آلة للزوم التثنية حينئذ فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي إذا كان الأمر على ما ذكر من أن تأخير عذابهم ليس باهمال بل إمهال وأنه لازم لهم البتة فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ من كلمات الكفر فإن علمه صلّى الله عليه وسلّم بأنهم معذبون لا محالة مما يسليه ويحمله على الصبر، والمراد به عدم الاضطراب لا ترك القتال حتى تكون الآية منسوخة وَسَبِّحْ ملتبسا بِحَمْدِ رَبِّكَ أي صل وأنت حامد لربك عز وجل الذي يبلغك إلى كمالات على هدايته وتوفيقه سبحانه قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أي صلاة الفجر وَقَبْلَ غُرُوبِها أي صلاة المغرب، والظاهر أن الظرف متعلق بسبح. وقد أخرج تفسير التسبيح في هذين الوقتين بما ذكر الطبراني وابن عساكر وابن مردويه عن جرير مرفوعا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم. وأخرج الحاكم عن فضالة بن وهب الليثي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال له: «حافظ على العصرين الجزء: 8 ¦ الصفحة: 588 قلت: وما العصران؟ قال: صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها» ، وقيل: المراد بالتسبيح قبل غروبها صلاتا الظهر والعصر لأن وقت كل منهما قبل غروبها وبعد زوالها وجمعها لمناسبة قوله تعالى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وأنت تعلم أن قبل الغروب وإن كان باعتبار معناه اللغوي صادقا على وقت الظهر ووقت العصر إلا أن الاستعمال الشائع فيه وقت العصر، وقوله تعالى وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ أي من ساعاته جمع إنى وانو بالياء والواو وكسر الهمزة وإنا بالكسر والقصر وآناءِ بالفتح والمد ولم يشتهر اشتهار الثلاثة الأول، وذكره من يوثق به من المفسرين، وقال الراغب في مفراته: قال الله تعالى غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [الأحزاب: 53] أي وقته، والإناه إذا كسر أوله قصر وإذا فتح مد نحو قول الحطيئة: وآنيت العشاء إلى سهيل ... أو الشعرى فطال بي الإناء ثم قال: ويقال آنيت الشيء إيناء أي أخرته عن أوانه ويانيت تأخرت اه، وفي المصباح آنيته بالفتح والمد أخرته، والاسم أناء بوزن سلام قيل منصوب على الظرفية بمضمر، وقوله سبحانه فَسَبِّحْ عطف عليه أي قم بعض آناء الليل فسبح وهو كما ترى، وقيل: منصوب بسبح على نسق وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة: 40] ، والفاء على الأول عاطفة وعلى الثاني مفسرة، وقيل: إنه معمول فَسَبِّحْ، والفاء زائدة فائدتها الدلالة على لزوم ما بعدها لما قبلها. وذكر الخفاجي أنه معمول لما ذكر من غير حاجة لدعوى زيادة الفاء لأنها لا تمنع عمل ما بعدها فيما قبلها كما صرح به النحاة، والمراد من التسبيح في بعض آناء الليل صلاة المغرب وصلاة العشاء وللاعتناء بشأنهما لم يكتف في الأمر بفعلهما بالفعل السابق بأن يعطف مِنْ آناءِ اللَّيْلِ على أحد الظرفين السابقين من غير ذكر فسبح وللاهتمام بشأن آناء الليل وامتيازها على سائر الأوقات بأمور خاصية وعامية قدم ذكرها على الأمر ولم يسلك بها مسلك ما تقدم. وقوله تعالى وَأَطْرافَ النَّهارِ عطف على محل قوله سبحانه مِنْ آناءِ اللَّيْلِ وقيل: على قوله عز وجل قَبْلَ طُلُوعِ والمراد من التسبيح أطراف النهار على ما أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن قتادة صلاة الظهر واختاره الجبائي، ووجه إطلاق الطرف على وقتها بأنه نهاية النصف الأول من النهار وبداية النصف الأخير منه، وجمعه باعتبار النصفين أو لأن تعريف النهار للجنس الشامل لكل نهار فيكون الجمع باعتبار تعدد النهار وأن لكل طرفا كذا قيل. وأورد على ذلك أن البداية والنهاية فيه ليست على وتيرة واحدة لأن كون ذلك نهاية باعتبار أن النصف الأول انتهى عنده وهو خارج عنه وبداية باعتبار أن النصف الثاني ابتدأ منه وهو داخل فيه، ولا شك في بعد كون الجمع بمثل هذا الاعتبار على أنه لا بد مع ذلك من القول بأن أقل الجمع اثنان، وأيضا أن إطلاق الطرف على طرف أحد نصفيه تكلف فإنه ليس طرفا له بل لنصفه. وقيل: هذا تكرير لصلاتي الصبح والمغرب إيذانا باختصاصهما بمزيد مزية، والمراد بالنهار ما بين طلوع الشمس وغروبها وبالطرف ما يلاصق أول الشيء وآخره، والإتيان بلفظ الجمع مع أن المراد اثنان لا من اللبس إذ النهار ليس له إلا طرفان، ونظيره قول العجاج: ومهمهين فدفدين مرتين ... ظهراهما مثل ظهور الترسين والمرجح المشاكلة لآناء الليل، واختار هذا من أدخل الظهر فيما قبل الغروب، وفيه أن الطرف حقيقة فيما ينتهي به الشيء وهو منه ويطلق على أوله وآخره وإطلاقه على الملاصق المذكور ليس بحقيقة، وأجيب بأنه سائغ شائع وإن لم يكن حقيقة وجوز أن يكون تكريرا لصلاتي الصبح والعصر ويراد بالنهار ما بين طلوع الفجر وغروب الشمس وبالطرف الأول، والآخر بحسب العرف وإذا أريد بالنهار ما بين طلوع الشمس وغروبها يبعد هذا التجويز إذ لا يكون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 589 الطرفان حينئذ على وتيرة واحدة، وقيل: هو أمر بالتطوع في الساعات الأخيرة للنهار وفيه صرف الأمر عن ظاهره مع أن في كون الساعات الأخيرة للنهار زمن تطوع بالصلاة كلاما لا يخفى على الفقيه. وقال أبو حيان: الظاهر أن قوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أمر بالتسبيح مقرونا بالحمد وحينئذ إما أن يراد اللفظ أي قل- سبحان الله والحمد الله- أو يراد المعنى أي نزهه سبحانه عن السوء وأثنى عليه بالجميل. وفي خبر ذكره ابن عطية «من سبح عند غروب الشمس سبعين تسبيحة غربت بذنوبه» وقال أبو مسلم: لا يبعد حمل ذلك على التنزيه والإجلال، والمعنى اشتغل بتنزيه الله تعالى في هذه الأوقات وعلى ذلك حمله أيضا العز بن عبد السلام وجعل الباء في قوله سبحانه: بِحَمْدِ رَبِّكَ للآلة، وقال: إن ذلك لتعيين سلب صفات النقص لأن من سلب شيئا فقد أثبت ضده وأضداد صفات النقص صفات الكمال فمن نزهه سبحانه فقد أثبت صفات الكمال، وجوز في إضافة الحمد إلى الرب أن تكون من إضافة المصدر إلى الفاعل أو من إضافة المصدر إلى المفعول أو من إضافة الاختصاص بأن يكون الحمد بمعنى المحامد، ثم استحسن الأول لأن الحمد الحق الكامل حمد الله تعالى نفسه، والمتبادر جعل الباء للملابسة والإضافة من إضافة المصدر إلى المفعول. واختار الإمام حمل التسبيح على التنزيه من الشرك، وقال: إنه أقرب إلى الظاهر وإلى ما تقدم ذكره لأنه سبحانه صبره أولا على ما يقولون من التكذيب وإظهار الكفر والشرك والذي يليق بذلك أن يؤمر بتنزيهه تعالى عن قولهم: حتى يكون مظهرا لذلك وداعيا إليه. واعترض بأنه لا وجه حينئذ لتخصيص هذه الأوقات بالذكر، وأجيب بأن المراد بذكرها الدلالة على الدوام كما في قوله تعالى: بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ [الأنعام: 52، الكهف: 28] مع أن لبعض الأوقات مزية لأمر لا يعلمه إلا الله تعالى. ورد بأنه يأباه من التبعيضية في قوله سبحانه مِنْ آناءِ اللَّيْلِ على أن هذه الدلالة يكفيها أن يقال: قبل طلوع الشمس وبعده لتناوله الليل والنهار فالزيادة تدل على أن المراد خصوصية الوقت، ولا يخفى أن قوله سبحانه مِنْ آناءِ اللَّيْلِ متعلق بسبح الثاني فليكن الأول للتعميم، والثاني لتخصيص البعض اعتناء به، نعم يرد أن التنزيه عن الشرك لا معنى لتخصيصه إلا إذا أريد به قول: سبحان الله مرادا به التنزيه عن الشرك، وقيل: يجوز أن يكون المراد بالتسبيح ما هو الظاهر منه ويكون المراد من الحمد الصلاة. والظرف متعلق به فتكون حكمة التخصيص ظاهرة كذا في الحواشي الشهابية. وقد عورض ما قاله الإمام بأن الأنسب بالأمر بالصبر الأمر بالصلاة ليكون ذلك إرشادا لما تضمنه قوله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة: 45] وأيضا الأمر الآتي أوفق بحمل الأمر بالتسبيح على الأمر بالصلاة وقد علمت أن الآثار تقتضي ذلك ثم إنه يجوز أن يراد بالطرف طائفة من الشيء فإنه أحد معانيه كما في الصحاح والقاموس وإذا كان تعريف النهار للجنس على هذا لم يبق الكلام فيما روي عن قتادة كما كان فتدبر. لَعَلَّكَ تَرْضى قيل: هو متعلق بسبح أي سبح في هذه الأوقات رجاء أن تنال عنده تعالى ما ترضي به نفسك من الثواب. واستدل به على عدم الوجوب على الله تعالى، وجوز أن يكون متعلقا بالأمر بالصبر والأمر بالصلاة، والمراد لَعَلَّكَ تَرْضى في الدنيا بحصول الظفر وانتشار أمر الدعوة ونحو ذلك، وقرأ أبو حيوة وطلحة والكسائي وأبو بكر وأبان وعصمة وأبو عمارة عن حفص وأبو زيد عن المفضل وأبو عبيد ومحمد بن عيسى الأصفهاني «ترضى» على صيغة البناء للمفعول من أرضى أي يرضيك ربك. وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ أي لا تطل نظرهما بطريق الرغبة والميل إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ من زخارف الدنيا كالبنين. والأموال والمنازل والملابس والمطاعم أَزْواجاً مِنْهُمْ أي أصنافا من الكفرة وهو مفعول متعنا قدم عليه الجار الجزء: 8 ¦ الصفحة: 590 والمجرور للاعتناء به ومن بيانية، وجون أن يكون حالا من ضمير به ومن تبعيضية مفعول متعنا أو متعلقة بمحذوف وقع صفة لمفعوله المحذوف أي لا تمدن عينيك إلى الذي متعنا به وهو أصناف وأنواع بعضهم أو بعضا كائنا منهم. والمراد على ما قيل استمر على ترك ذلك، وقيل: الخطاب له عليه الصلاة والسلام والمراد أمته لأنه صلّى الله عليه وسلّم كان أبعد شيء عن إطالة النظر إلى زينة الدنيا وزخارفها وأعلق بما عند الله عز وجل من كل أحد وهو عليه الصلاة والسلام القائل «الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما أريد به وجه الله تعالى» وكان صلّى الله عليه وسلّم شديد النهي عن الاغترار بالدنيا والنظر إلى زخرفها، والكلام على حذف مضاف أو فيه تجوز في النسبة، وفي العدول عن لا تنظر إلى ما متعنا به إلخ إلى ما في النظم الكريم إشارة إلى أن النظر الغير الممدود معفو وكان المنهي عنه في الحقيقة هو الإعجاب بذلك والرغبة فيه والميل إليه لكن بعض المتقين بالغوا في غض البصر عن ذلك حتى أنهم لم ينظروا إلى أبنية الظلمة وعدد الفسقة في اللباس والمركوب وغيرهما وذلك لمغزى بعيد وهو أنهم اتخذوها لعيون النظارة والفخر بها فيكون النظر إليها محصلا لغرضهم وكالمغري لهم على اتخاذها. زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي زينتها وبهجتها وهو منصوب بمحذوف يدل عليه متعنا أي جعلنا لهم زهرة أو بمتعنا على أنه مفعول ثان له لتضمينه معنى أعطينا أو على أنه بدل من محل به وضعفه ابن الحاجب في أماليه لأن إبدال منصوب من محل جار ومجرور ضعيف كمررت بزيد أخاك ولأن الإبدال من العائد مختلف فيه. ومثل ذلك ما قيل إنه بدل من ما الموصولة لما فيه من الفصل بالبدل بين الصلة ومعمولها أو على أنه بدل من- أزواجا- بتقدير مضاف أي ذوي أو أهل زهرة، وقيل: بدون تقدير على كون- أزواجا- حالا بمعنى أصناف التمتعات أو على جعلهم نفس الزهرة مبالغة. وضعف هذا بأن مثله يجري في النعت لا في البدل لمشابهته لبدل الغلط حينئذ أو على أنه تمييز لما أو لضمير به، وحكي عن الفراء أو صفة- أزواجا- ورد ذلك لتعريف التمييز وتعريف وصف النكرة، وقيل: على أنه حال من ضمير به أو من ما وحذف التنوين لالتقاء الساكنين وجر الحياة على البدل من ما واختاره مكي ولا يخفى ما فيه، وقيل: نصب على الذم أي اذم زهرة إلخ واعترض بأن المقام يأباه لأن المراد أن النفوس مجبولة على النظر إليها والرغبة فيها ولا يلائمه تحقيرها ورد بأن في إضافة الزهرة إلى الحياة الدنيا كل ذم وما ذكر من الرعبة من شهوة النفوس الغبية التي حرمت نور التوفيق. وقرأ الحسن وأبو حيوة وطلحة وحميد وسلام ويعقوب وسهل وعيسى والزهري- «زهرة» - بفتح الهاء وهي لغة كالجهرة في الجهرة، وفي المحتسب لابن جني مذهب أصحابنا في كل حرف حلق ساكن بعد فتحة أنه لا يحرك إلا على أنه لغة كنهر ونهر وشعر وشعر ومذهب الكوفيين أنه يطرد تحريك الثاني لكونه حرفا حلقيا وإن لم يسمع ما لم يمنع منه مانع كما في لفظ- نحو- لأنه لو حرك قلب الواو ألفا، وجوز الزمخشري كون زهرة بالتحريك جمع زاهر ككافر وكفرة وهو وصف لأزواجا أي أزواجا من الكفرة زاهرين بالحياة الدنيا لصفاء ألوانهم مما يلهون ويتنعمون وتهلل وجوههم وبهاء زيهم بخلاف ما عليه المؤمنون والصلحاء من شحوب الألوان والتقشف في الثياب، وجوز على هذا كونه حالا لأن إضافته لفظية. وأنت تعلم أن المتبادر من هذه الصفة قصد الثبوت لا الحدوث فلا تكون إضافتها لفظية على أن المعنى على تقدير الحالية ليس بذاك لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ متعلق بمتعنا أي لنعاملهم معاملة من يبتليهم ويختبرهم فيه أو لنعذبهم في الآخرة بسببه وفيه تنفير عن ذلك ببيان سوء عاقبته مآلا أثر بهجته حالا، وقرأ الأصمعي عن عاصم لنفتنهم بضم النون من أفتنه إذا جعل الفتنة واقعة فيه على ما قال أبو حيان وَرِزْقُ رَبِّكَ أي ما ادخر لك في الآخرة أو ما رزقك في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 591 الدنيا من النبوة والهدى، وادعى صاحب الكشف أنه أنسب بهذا المقام أو ما ادخر لك فيها من فتح البلاد والغنائم، وقيل: القناعة خَيْرٌ مما متع به هؤلاء لأنه مع كونه في نفسه من أجل ما يتنافس فيه المتنافسون مأمون الغائلة بخلاف ما متعوا به وَأَبْقى فإنه نفسه أو أثره لا يكاد ينقطع كالذي متعوا به. وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ أمر صلّى الله عليه وسلّم أن يأمر أهله بالصلاة بعد ما أمر هو عليه الصلاة والسلام بها ليتعاونوا على الاستعانة على خصاصتهم ولا يهتموا بأمر المعيشة ولا يلتفتوا لفت ذوي الثروة، والمراد بأهله صلّى الله عليه وسلّم قيل أزواجه وبناته وصهره علي رضي الله تعالى عنهم، وقيل: ما يشملهم وسائر مؤمني بني هاشم والمطلب، وقيل: جميع المتبعين له عليه الصلاة والسلام من أمته، واستظهر أن المراد أهل بيته صلّى الله عليه وسلّم، وأيد بما أخرجه ابن مردويه وابن عساكر وابن النجار عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت وَأْمُرْ أَهْلَكَ إلخ كان عليه الصلاة والسلام يجيء إلى باب علي كرم الله تعالى وجهه صلاة الغداة ثمانية أشهر يقول: الصلاة رحمكم الله تعالى إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويطهركم تطهيرا، وروى نحو ذلك الإمامية بطرق كثيرة. والظاهر أن المراد بالصلاة الصلوات المفروضة ويؤمر بأدائها الصبي وإن لم تجب عليه ليعتاد ذلك فقد روى أبو داود بإسناد حسن مرفوعا «مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع» وَاصْطَبِرْ عَلَيْها أي وداوم عليها فالصبر مجاز مرسل عن المداومة لأنها لازم معناه. وفيه إشارة إلى أن العبادة في رعايتها حق الرعاية مشقة على النفس، والخطاب عام شامل للأهل وإن كان في صورة الخاص وكذا فيما بعد، ولا يخفى ما في التعبير بالتسبيح أولا والصلاة ثانيا مع توجيه الخطاب بالمداومة إليه عليه الصلاة والسلام من الإشارة إلى مزيد رفعة شأنه صلّى الله عليه وسلّم، وقوله تعالى: لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ دفع لما عسى أن يخطر ببال أحد من أن المداومة على الصلاة ربما تضر بأمر المعاش فكأنه قيل داوموا على الصلاة غير مشتغلين بأمر المعاش عنها إذ لا نكلفكم رزق أنفسكم إذ نحن نرزقكم، وتقديم المسند إليه للاختصاص أو لإفادة التقوى، وزعم بعضهم أن الخطاب خاص وكذا الحكم إذ لو كان عاما لرخص لكل مسلم المداومة على الصلاة وترك الاكتساب وليس كذلك، وفيه أن قصارى ما يلزم العموم سواء كان الأهل خاصا أو عاما لسائر المؤمنين أن يرخص للمصلي ترك الاكتساب المانع من الصلاة وأي مانع عن ذلك بل ترك الاكتساب لأداء الصلاة المفروضة فرض وليس المراد بالمداومة عليها إلا أداؤها دائما في أوقاتها المعينة لها لا استغراق الليل والنهار بها وكان الزاعم ظن أن المراد بالصلاة ما يشمل المفروضة وغيرها وبالمداومة عليها فعلها دائما على وجه يمنع من الاكتساب وليس كذلك، ومما ذكرنا يعلم أنه لا حاجة في رد ما ذكره الزاعم إلى حمل العموم على شمول خطاب النبي صلّى الله عليه وسلّم لأهله فقط دون جميع الناس كما لا يخفى، نعم قد يستشعر من الآية أن الصلاة مطلقا تكون سببا لإدرار الرزق وكشف الهم وعلى ذلك يحمل ما جاء في الأخبار، أخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور وابن المنذر والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في لحلية والبيهقي في شعب الإيمان بسند صحيح عن عبد الله بن سلام قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا نزلت بأهله شدة أو ضيق أمرهم بالصلاة وتلا وأمر أهلك بالصلاة» وأخرج أحمد في الزهد وغيره عن ثابت قال «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا أصابت أهله خصاصة نادى أهله بالصلاة صلوا صلوا قال ثابت: وكانت الأنبياء عليهم السلام إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة، وأخرج مالك والبيهقي عن أسلم قال كان عمر بن الخطاب يصي من الليل ما شاء الله تعالى أن يصلي حتى إذا كان آخر الليل أيقظ أهله للصلاة ويقول لهم: الصلاة الصلاة ويتلو هذه الآية وَأْمُرْ أَهْلَكَ إلخ، وجوز لظاهر الأخبار أن يراد بالصلاة مطلقها فتأمل، وقرأ ابن وثاب وجماعة «نرزقك» بإدغام القاف في الكاف، وجاء ذلك عن يعقوب وَالْعاقِبَةُ الحميدة أعم من الجنة وغيرها وعن السدي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 592 تفسيرها بالجنة لِلتَّقْوى أي لأهلها كما في قوله تعالى وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف: 128] ولو لم يقدر المضاف صح وفيما ذكر تنبيه على أن ملاك الأمر التقوى وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ حكاية لبعض أقاويلهم الباطلة التي أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالصبر عليها أي هلا يأتينا بآية تدل على صدقه في دعوى النبوة أو بآية من الآيات التي اقترحوها لا على التعيين بلغوا من المكابرة والعناد إلى حيث لم يعدوا ما شاهدوا من المعجزات التي تخر لها صم الجبال من قبيل الآيات حتى اجترءوا على التفوه بهذه العظيمة الشنعاء. وقوله تعالى أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى رد من جهته تعالى لمقالتهم القبيحة وتكذيب لهم فيما دسوا تحتها من إنكار إتيان الآية بإتيان القرآن الكريم الذي هو أم الآيات وأس المعجزات وأرفعها وأنفعها لأن حقيقة المعجزة الأمر الخارق للعادة يظهر على يد مدعي النبوة عند التحدي أي أمر كان ولا ريب في أن العلم أجل الأمور وأعلاها إذ هو أصل الأعمال ومبدأ الأفعال وبه تنال المراتب العلية والسعادة الأبدية، ولقد ظهر مع حيازته لجميع علوم الأولين والآخرين على يد من لم يمارس شيئا من العلوم ولم يدارس أحدا من أهلها أصلا فأي معجزة تراد بعد وروده، وأية آية تطلب بعد وفوده، فالمراد بالبينة القرآن الكريم، والمراد بالصحف الأولى التوراة والإنجيل وسائر الكتب السماوية وبما فيها العقائد الحقة وأصول الأحكام التي اجتمعت عليها كافة الرسل عليهم السلام، ومعنى كونه بينة لذلك كونه شاهدا بحقيته، وفي إيراده بهذا العنوان ما لا يخفى من التنويه بشأنه والإنارة لبرهانه حيث أشار إلى امتيازه وغناه عما يشهد بحقية ما فيه باعجاره. وإسناد الإتيان إليه مع جعلهم إياه مأتيا به للتنبيه على أصالته فيه مع ما فيه من المناسبة للبينة، والهمزة لإنكار الوقوع والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام كأنه قيل: ألم يأتهم سائر الآيات ولم يأتهم خاصة بينة ما في الصحف الأولى تقريرا لإتيانه وإيذانا بأنه من الوضوح بحيث لا يتأتى منهم إنكار أصلا وإن اجترءوا على إنكار سائر الآيات مكابرة وعنادا، وتفسير الآية بما ذكر هو الذي تقتضيه جزالة التنزيل. وزعم الإمام والطبرسي أن المعنى أو لم يأتهم في القرآن بيان ما في الكتب الأولى من أنباء الأمم التي أهلكناهم لما اقترحوا الآيات ثم كفروا بها فماذا يؤمنهم أن يكون حالهم في سؤال الآية بقولهم لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ كحال أولئك الهالكين اه. وهو بمعزل عن القبول كما لا يخفى على ذوي العقول. وقرأ أكثر السبعة وأبو بحرية وابن محيصن وطلحة وابن أبي ليلى وابن مناذر وخلف وأبو عبيد وابن سعدان وابن عيسى وابن جبير الأنطاكي «يأتهم» بالياء التحتانية لمجاز تأنيث الآية والفصل. وقرأت فرقة منهم أبو زيد عن أبي عمرو «بينة» بالتنوين على أن ما بدل، وقال صاحب اللوامح: يجوز أن تكون ما على هذه القراءة نافية على أن يراد بالآتي ما في القرآن من الناسخ والفضل مما لم يكن في غيره من الكتب وهو كما ترى. وقرأت فرقة بنصب «بينة» والتنوين على أنه حال، وما فاعل. وقرأت فرقة منهم ابن عباس «الصحف» بإسكان الحاء للتخفيف، وقوله تعالى وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ إلى آخر الآية جملة مستأنفة لتقرير ما قبلها من كون القرآن آية بينة لا يمكن إنكارها ببيان أنهم يعترفون بها يوم القيامة، والمعنى ولو أنا أهلكناهم في الدنيا بعذاب مستأصل مِنْ قَبْلِهِ متعلق بأهلكنا أو بمحذوف هو صفة لعذاب أي بعذاب كائن من قبله، والضمير للبينة والتذكير باعتبار أنها برهان ودليل أو للإتيان المفهوم من الفعل أي من قبل إتيان البينة، وقال أبو حيان: إنه للرسول بقرينة ما بعد من ذكر الرسول وهو مراد من قال: أي من قبل إرسال محمد صلّى الله عليه وسلّم لَقالُوا أي يوم القيامة رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ في الدنيا إِلَيْنا رَسُولًا مع آيات فَنَتَّبِعَ آياتِكَ التي جاءنا بها مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ بالعذاب في الدنيا وَنَخْزى بدخول النار اليوم، وقال أبو حيان: الذل والخزي كلاهما بعذاب الآخرة. ونقل تفسير الذل بالهوان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 593 والخزي بالافتضاح والمراد أنا لو أهلكناهم قبل ذلك لقالوا ولكنا لم نهلكهم قبله فانقطعت معذرتهم فعند ذلك قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ [الملك: 9] . وقرأ ابن عباس ومحمد بن الحنفية وزيد بن علي والحسن في رواية عباد والعمري وداود والفزاري وأبو حاتم ويعقوب «نذلّ ونخزى» بالبناء للمفعول، واستدل الأشاعرة بالآية على أن الوجوب لا يتحقق إلا بالشرع والجبائي على وجوب اللطف عليه عز وجل وفيه نظر قُلْ لأولئك الكفرة المتمردين كُلٌّ أي كل واحد منا ومنكم مُتَرَبِّصٌ أي منتظر لما يؤول إليه أمرنا وأمركم وهو خبر كُلٌّ وإفراده حملا له على لفظه فَتَرَبَّصُوا وقرىء «فتمتعوا» فَسَتَعْلَمُونَ عن قريب مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ أي المستقيم. وقرأ أبو مجلز وعمران بن حدير «السواء» أي الوسط، والمراد به الجيد. وقرأ الجحدري وابن يعمر «السوأى» بالضم والقصر على وزن فعلى وهو تأنيث الأسوأ وأنث لتأنيث الصراط وهو مما يذكر ويؤنث. وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «السوء» بفتح وسكون وهمزة آخره بمعنى الشر. وقرىء «السوي» بضم السين وفتح الواو وتشديد الياء وهو تصغير سوء بالفتح، وقيل: تصغير سوء بالضم، وقال أبو حيان: الأجود أن يكون تصغير سواء كما قالوا في عطا عطي لأنه لو كان تصغير ذلك لثبتت همزته، وقيل: سوئي وتعقب بأن إبدال مثل هذه الهمزة ياء جائز، وعن الجحدري وابن يعمر أنهما قرأ «السوي» بالضم والقصر وتشديد الواو، واختير في تخريجه أن يكون أصله السوأى كما في الرواية الأولى فخففت الهمزة بإبدالها واوا وأدغمت الواو في الواو، وقد روعيت المقابلة على أكثر هذه القراءات بين ما تقدم وقوله تعالى وَمَنِ اهْتَدى أي من الضلالة ولم تراع على قراءة الجمهور والأولى من الشواذ. ومن في الموضعين استفهامية في محل رفع على الابتداء والخبر ما بعد العطف من عطف الجمل ومجموع الجملتين المتعاطفتين ساد مسد مفعولي العلم أو مفعوله إن كان بمعنى المعرفة، وجوز كون من الثانية موصولة فتكون معطوفة على محل الجملة الأولى الاستفهامية المعلق عنها الفعل على أن العلم بمعنى المعرفة المتعدية لواحد إذ لولاه لكان الموصول بواسطة العطف أحد المفعولين وكان المفعول الآخر محذوفا اقتصارا وهو غير جائز. وجوز أن تكون معطوفة على أَصْحابُ فتكون في حيز من الاستفهامية أي ومن الذي اهتدى أو على «الصراط» فتكون في حيز أصحاب أي ومن أَصْحابُ الذي اهتدى يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإذا عنى بالصراط السوي النبي عليه الصلاة والسلام أيضا كان العطف من باب عطف الصفات على الصفات مع اتحاد الذات. وأجاز الفراء أن تكون من الأولى موصولة أيضا بمعنى الذين وهي في محل النصب على أنها مفعول للعلم بمعنى المعرفة وأَصْحابُ خبر مبتدأ محذوف وهو العائد أي الذين هم أصحاب الصراط وهذا جائز على مذهب الكوفيين فإنهم يجوزون حذف مثل هذا العائد سواء كان في الصلة طول أو لم يكن وسواء كان الموصول أيا أو غيره بخلاف البصريين، وما أشد مناسبة هذه الخاتمة للفاتحة. وقد ذكر الطيبي أنها خاتمة شريفة ناظرة إلى الفاتحة وأنه إذا لاح أن القرآن أنزل لتحمل تعب الإبلاغ ولا تنهك نفسك فحيث بلغت وبلغت جهدك فلا عليك وعليك بالإقبال على طاعتك قدر طاقتك وأمر أهلك وهم أمتك المتبعون بذلك ودع الذين لا ينجع فيهم الإنذار فإنه تذكرة لمن يخشى وسيندم المخالف حين لا ينفعه الندم انتهى. «ومن باب الإشارة في الآيات» فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى قيل: إنه عليه السلام رأى أن الله تعالى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 594 ألبس سحر السحرة لباس القهر فخاف من القهر لأنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون. وسئل ابن عطاء عن ذلك فقال: ما خاف عليه السلام على نفسه وإنما خاف على قومه أن يفوتهم حظهم من الله تعالى قلنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى أي إنك المحفوظ بعيون الرعاية وحرس اللطف أو أنت الرفيع القدر الغالب عليهم غلبة تامة بحيث يكونون بسببها من أتباعك فلا يفوتهم حظهم من الله تعالى فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً إلى آخر ما كان منهم فيه إشارة إلى أن الله تعالى يمن على من يشاء بالتوفيق والوصول إليه سبحانه في أقصر وقت فلا يستبعد حصول الكمال لمن تاب وسلك على يد كامل مكمل في مدة يسيرة. وكثير من الجهلة ينكرون على السالكين التائبين إذا كانوا قريبي العهد بمقارفة الذنوب ومفارقة العيوب حصول الكمال لهم وفيضان الخير عليهم ويقولون كيف يحصل لهم ذلك وقد كانوا بالأمس كيت وكيت، وقولهم: لَنْ نُؤْثِرَكَ إلخ كلام صادر من عظم الهمة الحاصل للنفس بقوة اليقين فإنه متى حصل ذلك للنفس لم تبال بالسعادة الدنيوية والشقاوة البدنية واللذات العاجلة الفانية والآلام الحسية في جنب السعادة الأخروية واللذة الباقية الروحانية وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إلخ فيه إشارة إلى استحباب مفارقة الأغيار وترك صحبة الأشرار وَلا تَطْغَوْا فِيهِ عد من الطغيان فيه استعماله مع الغفلة عن الله تعالى وعدم نية التقوى به على تقواه عز وجل وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى الإشارة فيه أنه ينبغي للرئيس رعاية الأصلح في حق المرءوس وللشيخ عدم فعل ما يخشى منه سوء ظن المريد لا سيما إذا لم يكن له رسوخ أصلا قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ. قال ابن عطاء: إن الله تعالى قال لموسى عليه السلام بعد أن أخبره بذلك: أتدري من أين أتيت؟ قال: لا يا رب قال سبحانه: من قولك لهارون: اخلفني في قومي وعدم تفويض الأمر إلي والاعتماد في الخلافة علي. وذكر بعضهم أن سر إخبار الله تعالى إياه بما ذكر مباسطته عليه السلام وشغله بصحبته عن صحبة الأضداد وهو كما ترى وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ صار سبب ضلالهم بما صنع قال بعض أهل التأويل: إنما ابتلاهم الله تعالى بما ابتلاهم ليتميز منهم المستعد القابل للكمال بالتجريد من القاصر الاستعداد المنغمس في المواد الذي لا يدرك إلا المحسوس ولا يتنبه للمجرد المعقول. ولهذا قالوا: ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا أي برأينا فإنهم عبيد بالطبع لا رأي لهم ولا ملكة وليسوا مختارين لا طريق لهم إلا التقليد والعمل لا التحقيق والعلم وإنما استعبدهم السامري بالطلسم المفرغ من الحلي لرسوخ محبة الذهب في نفوسهم لأنها سفلية منجذبة إلى الطبيعة الجسمانية وتزين الطبيعة الذهبية وتحلي تلك الصورة النوعية فيها للتناسب الطبيعي وكان ذلك من باب مزج القوى السماوية التي هي أثر النفس الحيوانية الكلية السماوية المشار إليها بحيزوم وفرس الحياة وهي مركب جبريل عليه السلام المشار به إلى العقل الفعال بالقوى الأرضية ولذلك قال: بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ أي من العلم الطبيعي والرياضي اللذين يبتنى عليهما علم الطلسمات والسيمياء قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ قال ذلك عليه السلام غضبا على السامري وطردا له وكل من غضب عليه الأنبياء وكذا الأولياء لكونهم مظاهر صفات الحق تعالى وقع في قهره عز وجل وشقي في الدنيا والآخرة وكانت صورة عذاب هذا الطريد في التحرز عن المماسة نتيجة بعده عن الحق في الدعوة إلى الباطل وأثر لعن موسى عليه السلام إياه عند إبطال كيده وإزالة مكره وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً قال أهل الوحدة: أي يسألونك عن وجودات الأشياء فقل ينسفها ربي برياح النفحات الإلهية الناشئة من معدن الأحدية فيذرها في القيامة الكبرى قاعا صفصفا وجودا أحديا لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً اثنينية ولا غيرية الجزء: 8 ¦ الصفحة: 595 يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ الذي هو الحق سبحانه لا عوج له إذ هو تعالى آخذ بنواصيهم وهو على صراط مستقيم وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ إذ لا فعل لغيره عز وجل فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً أمرا خفيا باعتبار الإضافة إلى المظاهر انتهى. ولكم لهم مثل هذه التأويلات والله تعالى العاصم يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا قيل: هو من صحح فعله وعقده ولم ينسب لنفسه شيئا ولا رأى لها عملا وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً لكمال تقدسه وتنزهه وجلاله سبحانه عز وجل فهيهات أن تحلق بعوضة الفكر في جو سماء الجبروت ومن أين لنحلة النفس الناطقة أن ترعى أزهار رياض بيداء اللاهوت، نعم يتفاوت الخلق في العلم بصفاته عز وجل على قدر تفاوت استعداداتهم وهو العلم المشار إليه بقوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً وقيل: هذا إشارة إلى العلم اللدني، والإشارة في قصة آدم عليه السلام إلى أنه ينبغي للإنسان مزيد التحفظ عن الوقوع في العصيان، ولله تعالى در من قال: يا ناظرا يرنو بعيني راقد ... ومشاهدا للأمر غير مشاهد منيت نفسك ضلة وأبتها ... طرق الرجاء وهن غير قواصد تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي ... درج الجنان بها وفوز العابد ونسيت أن الله أخرج آدما ... منها إلى الدنيا بذنب واحد وروى الضحاك عن ابن عباس قال: بينا آدم عليه السلام يبكي جاءه جبريل عليه السلام فبكى آدم وبكى جبريل لبكائه عليهما السلام وقال: يا آدم ما هذا البكاء؟ قال: يا جبريل وكيف لا أبكي وقد حولني ربي من السماء إلى الأرض ومن دار النعمة إلى دار البؤس فانطلق جبريل عليه السلام بمقالة آدم فقال الله تعالى: يا جبريل انطلق إليه فقل له: يا آدم يقول لك ربك ألم أخلقك بيدي ألم أنفخ فيك من روحي ألم أسجد لك ملائكتي ألم أسكنك جنتي ألم آمرك فعصيتني فوعزتي وجلالي لو أن ملء الأرض رجالا مثلك ثم عصوني لأنزلتهم منازل العاصين غير أنه يا آدم قد سبقت رحمتي غضبي وقد سمعت تضرعك ورحمت بكاءك وأقلت عثرتك. وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي أي بالتوجه إلى العالم السفلي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً لغلبة شحه وشدة بخله فإن المعرض عن جناب الحق سبحانه انجذبت نفسه إلى الزخارف الدنيوية والمقتنيات المادية لمناسبتها إياه واشتد حرصه وكلبه عليها وشغفه بها للجنسية والاشتراك في الظلمة والميل إلى الجهة السفلية فيشح بها عن نفسه وغيره وكلما استكثر منها ازداد حرصه عليها وشحه بها وتلك المعيشة الضنك. ولهذا قال بعضهم: لا يعرض أحد عن ذكر ربه سبحانه إلا أظلم عليه وقته وتشوش عليه رزقه بخلاف الذاكر المتوجه إليه تعالى فإنه ذو يقين منه عز وجل وتوكل عليه تعالى في سعة من عيشه ورغد ينفق ما يجد ويستغني بربه سبحانه عما يفقد وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى أي العاقبة التي تعتبر وتستأهل أن تسمى عاقبة لأهل التقوى المتخلين عن الرذائل النفسانية المتحلين بالفضائل الروحانية، نسأل الله تعالى أن يمن علينا بحسن العاقبة وصفاء العمر عن المشاغبة ونحمده سبحانه على آلائه ونصلي ونسلم على خير أنبيائه وعلى آله خير آل ما طلع نجم ولمع آل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 596 سورة الأنبياء نزلت بمكة كما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم، وفي البحر أنها مكية بلا خلاف وأطلق ذلك فيها، واستثنى منها في الإتقان قوله تعالى: أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ [الأنبياء: 44] الآية وهي مائة واثنتا عشرة آية في عد الكوفي وإحدى عشرة في عد الباقين كما قاله الطبرسي والداني، ووجه اتصالها بما قبلها غني عن البيان، وهي سورة عظيمة فيها موعظة فخيمة فقد أخرج ابن مردويه، وأبو نعيم في الحلية، وابن عساكر عن عامر بن ربيعة أنه نزل به رجل من العرب فأكرم عامر مثواه وكلم فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجاءه الرجل فقال: إني استقطعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واديا ما في العرب واد أفضل منه وقد أردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك فقال عامر: لا حاجة لي في قطيعتك نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ [الأنبياء: 1] إلى آخره. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 3 اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ روي عن ابن عباس كما قال الإمام، والقرطبي، والزمخشري أن المراد بالناس المشركون ويدل عليه ما ستسمعه بعد إن شاء الله من الآيات فإنها ظاهرة في وصف المشركين، وقال بعض الأجلة: إن ما فيها من قبيل نسبة ما للبعض إلى الكل فلا ينافي كون تعريفه للجنس، ووجه حسنه هاهنا كون أولئك البعض هم الأكثرون وللأكثر حكم الكل شرعا وعرفا. ومن الناس من جوز إرادة الجنس والضمائر فيما بعد لمشركي أهل مكة وإن لم يتقدم ذكرهم في هذه السورة وليس بأبعد مما سبق، وقال بعضهم: إن دلالة ما ذكر على التخصيص ليست إلا على تقدير تفسير الأوصاف بما فسروها به، ويمكن أن يحمل كل منها على معنى يشترك فيه عصاة الموحدين ولا يخفى أن في ذلك ارتكاب خلاف الظاهر جدا، واللام صلة لاقترب كما هو الظاهر وهي بمعنى إلى أو بمعنى من فإن اقترب افتعل من القرب ضد البعد وهو يتعدى بإلى وبمن، واقتصر بعضهم على القول بأنها بمعنى إلى فقيل فيه تحكم لحديث تعدى القرب بهما، وأجيب بأنه يمكن أن يكون ذلك لأن كلا من وإلى اللتين هما صلتا القرب بمعنى انتهاء الغاية إلا أن إلى عريقة في هذا المعنى ومن عريقة في ابتداء الغاية فلذا أوثر التعبير عن كون اللام المذكورة بمعنى إنهاء الغاية كالتي في قوله تعالى: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها [الزلزلة: 5] القول بأنها بمعنى إلى واقتصر عليه، وفي الكشف المعنى على تقدير كونه صلة لاقترب اقترب من الناس لأن معنى الاختصاص وابتداء الغاية كلاهما مستقيم يحصل به الغرض انتهى، وفيه بحث فإن المفهوم منه أن يكون كلمة من التي يتعدى بها فعل الاقتراب بمعنى ابتداء الغاية وليس كذلك لعدم ملاءمة ذلك المعنى مواقع استعمال تلك الكلمة فالحق أنها بمعنى انتهاء الغاية فإنهم ذكروا أن من يجيء لذلك، قال الشمني: وفي الجني الداني مثل ابن مالك لانتهاء الغاية بقولهم تقربت منه فإنه مساو لتقربت إليه، ومما يشهد لذلك أن فعل الاقتراب كما يستعمل بمن يستعمل بإلى، وقد ذكر في معاني من انتهاء الغاية كما سمعت ولم يذكر أحد في معاني إلى ابتداء الغاية والأصل أن تكون الصلتان بمعنى فتحمل من على إلى في كون المراد بها الانتهاء وغاية ما يقال في توجيه ذلك أن صاحب الكشف حملها على ابتداء الغاية لأنه أشهر معانيها حتى ذهب بعض النحاة إلى إرجاع سائرها إليه وجعل تعديته بها حملا على ضده المتعدي بها وهو فعل البعد كما أن فعل البيع يعدى بمن حملا له على فعل الشراء المتعدي بها على ما ذكره نجم الأئمة الرضي في بحث الحروف الجارة والمشهور أن اقْتَرَبَ بمعنى قرب كارتقب بمعنى رقب، وحكي في البحر أنه أبلغ منه لزيادة مبناه والمراد من اقتراب الحساب اقتراب زمانه وهو الساعة، ووجه إيثار بيان اقترابه مع أن الكلام مع المشركين المنكرين لأصل بعث الأموات ونفس إحياء العظام الرفات فكان ظاهر ما يقتضيه المقام أن يؤتى بما يفيد أصل الوقوع بدل الاقتراب وأن يسند ذلك إلى نفس الساعة لا إلى الحساب للإشارة إلى أن وقوع القيام وحصول بعث الأجساد والأجسام أمر ظاهر بلا تمويه وشيء واضح لا ريب فيه وأنه وصل في الظهور والجلاء إلى حيث لا يكاد يخفى على العقلاء، وأن الذي يرخي في بيانه أعنة المقال بعض ما يستتبعه من الأحوال والأهوال كالحساب الموجب للاضطراب بل نفس وقوع الحساب أيضا غني عن البيان لا ينبغي أن ترتاب فيه العقول والأذهان وأن الذي قصد بيانه هاهنا أنه دنا أوانه واقترب زمانه فيكون الكلام مفصحا عن تحقق القيام الذي هو مقتضى المقام على وجه وجيه أكيد ونهج بديع سديد لا يخفى لطفه على من ألقى السمع وهو شهيد. وجوّز أن يكون الكلام مع المشركين السائلين عن زمانه الساعة المستعجلين لها استهزاء كما في قوله تعالى فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً [الإسراء: 51] فحينئذ يكون الإخبار عن الاقتراب على مقتضى الظاهر، وإيثار بيان اقتراب الحساب على بيان اقتراب سائر وقوع مستتبعات البعث كفنون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 4 العذاب وشجون العقاب للإشعار بأن مجرد اقتراب الحساب الذي هو من مبادي العذاب ومقدماته كاف في التحذير عما هم عليه من الإنكار وواف بالردع عما هم عليه من العلو والاستكبار فكيف الحال في نفس العذاب والنكال. وذكر شيخ الإسلام مولانا أبو السعود عليه الرحمة أن إسناد ذلك إلى الحساب لا إلى الساعة لانسياق الكلام إلى بيان غفلتهم عنه وإعراضهم عما يذكرهم إياه وفيه ما فيه، ثم الوجه اللائح في النظر الجليل لإسناد الاقتراب إلى الحساب دون الناس مع جواز العكس هو أن الاقتراب إذا حصل بين شيئين يسند إلى ما هو مقبل على الآخر متحرك ومتوجه إلى جهته حقيقة أو حكما حتى أنه لو كان كل منهما متوجها إلى الآخر يصح إلى كل منهما، وقد سمعت أن المراد من اقتراب الحساب اقتراب زمانه، وقد صرح به أجلة المفسرين، وأنت خبير بأن الشائع المستفيض اعتبار الوجه والإتيان من الزمان إلى ذي الزمان لا بالعكس فلذلك يوصف الزمان بالمضي والاستقبال فكان الجدير أن يسند الاقتراب إلى زمان الحساب ويجعل الناس مدنو إليهم. وذكر شيخ الإسلام أن في هذا الإسناد من تفخيم شأن المسند إليه وتهويل أمره ما لا يخفى لما فيه من تصوير ذلك بصورة شيء مقبل عليهم لا يزال يطلبهم فيصيبهم لا محالة انتهى، وهو معنى زائد على ما ذكرنا لا يخفى لطفه على الناقد البصير والألمعي الخبير، والمراد من اقتراب ذلك من الناس على ما اختاره الشيخ قدس سره دنوه منهم بعد بعده عنهم فإنه في كل ساعة يكون أقرب إليهم منه في الساعة السابقة، واعترض قول الزمخشري المراد من ذلك كون الباقي من مدة الدنيا أقل وأقصر مما مضى منها فإنه كصبابة الإناء ودردي الوعاء بأنه لا تعلق له بما نحن فيه من الاقتراب المستفاد من صيغة الماضي ولا حاجة إليه في تحقيق معناه. نعم قد يفهم منه عرفا كونه قريبا في نفسه أيضا فيصار حينئذ إلى هذا التوجيه وتعقبه بعض الأفاضل بأن القول بعدم التعلق بالاقتراب المستفاد من صيغة الماضي خارج عن دائرة الانصاف فإنه إن أراد أنه لا تعلق له بالحدوث المستفاد منها فلا وجه له إذ الاقتراب بالمعنى المذكور أمر حدث بمضي الأكثر من مدة الدنيا وإن أراد أنه لا تعلق له بالمضي المستفاد منها فلا وجه له أيضا إذ الدلائل دلت على حصول هذا الاقتراب حين مبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم الموعود في آخر الزمان المتقدم على نزول الآية. ثم قال: فليت شعري ما معنى عدم تعلقه بما نحن فيه بل ربما يمكن أن يدعي عدم المناسبة في المعنى الذي اختاره نفسه فإن الاقتراب بذلك المعنى مستمر من أول بدء الدنيا إلى يوم نزول الآية بل إلى ما بعد فالذي يناسبه هو الصيغة المنبئة عن الاستمرار والدوام، ثم لا يخفى على أصحاب الأفهام أن هذا المعنى الذي اعترضه أنسب بما هو مقتضى المقام من إخافة الكفرة اللئام المرتابين في أمر القيام لما فيه من بيان قربه الواقع في نفس الأمر!. فتدبر، وقيل المراد اقتراب ذلك عند الله تعالى، وتعقب بأنه لا عند الله عز وجل إذ لا نسبة للكائنات إليه عز وجل بالقرب والبعد. ورد بأنه غفلة أو تغافل عن المراد فإن المراد من عند الله في علمه الأزلي أو في حكمه وتقديره ولا الدنو والاقتراب المعروف، وعلى هذا يكون المراد من القرب تحققه في علمه تعالى أو تقديره. وقال بعض الأفاضل: ليس المراد من كون القرب عند الله تعالى نسبته إليه سبحانه بأن يجعل هو عز وجل مدنوا منه ومقربا إليه تعالى عن ذلك علوا كبيرا بل المراد قرب الحساب للناس عند الله تعالى، وحاصله أنه تعالى شأنه لبلوغ تأنيه إلى حد الكمال يستقصر المدد الطوال فيكون الحساب قريبا من الناس عند جنابه المتعال وإن كان بينه وبينهم أعوام وأحوال، وعلى هذا يحمل قوله تعالى: يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً [المعارج: 6، 7] وهذا المعنى يفيد وراء إفادته تحقق الثبوت لا محالة أن المدة الباقية بينهم وبين الحساب شيء قليل في الحقيقة وما عليه الناس من استطالته الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5 واستكثاره فمن التسويلات الشيطانية وأن اللائق بأصحاب البصيرة أن يعدوا تلك المدة قصيرة فيشمروا الذيل ليوم يكشف فيه عن ساق ويكون إلى الله تعالى شأنه المساق، وقول شيخ الإسلام في الاعتراض على ما قيل إنه لا سبيل أي اعتباره هاهنا لأن قربه بالنسبة إليه تعالى مما لا يتصور فيه التجدد والتفاوت حتما وإنما اعتباره في قوله تعالى لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [الشورى: 17] ونظائره مما لا دلالة فيه على الحدوث مبني على حمل القرب عنده تعالى على القرب إليه تعالى بمعنى حضور ذلك في علمه الأزلي فإنه الذي لا يجري فيه التفاوت حتما وأما قرب الأشياء بعضها إلى بعض زمانا أو مكانا فلا ريب أنه يتجدد تعلقات علمه سبحانه بذلك فيعلمه على ما هو عليه مع كون صفة العلم نفسها قديمة على ما تقرر في موضعه اهـ. واختار بعضهم أن المراد بالعندية ما سمعته أولا وهو معنى شائع في الاستعمال وجعل التجدد باعتبار التعلق كما قيل بذلك في قوله تعالى: ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ [الكهف: 12] الآية، وقيل المراد من اقترابه تحقق وقوعه لا محالة فإن كل آت قريب والبعيد ما وقع ومضى ولذا قيل: فلا زال ما تهواه أقرب من غد ... ولا زال ما تخشاه أبعد من أمس ولا بد أن يراد من تحقق وقوعه تحققه في نفسه لا تحققه في العلم الأزلي ليغاير القول السابق. وبعض الأفاضل قال: إنه على هذا الوجه عدم تعلقه بالاقتراب المستفاد من صيغة الماضي إلا أن يصار إلى القول بتجرد الصيغة عن الدلالة على الحدوث كما في قولهم: سبحان من تقدس عن الأنداد وتنزه عن الأضداد فتأمل ولا تغفل. وتقديم الجار والمجرور على الفاعل كما صرح به شيخ الإسلام للمسارعة إلى إدخال الروعة فإن نسبة الاقتراب إلى المشركين من أول الأمر يسوؤهم ويورثهم رهبة وانزعاجا من المقترب، واعترض بأن هؤلاء المشركين لا يحصل لهم الترويع والانزعاج لما ستسمع من غفلتهم وإعراضهم وعدم اعتدادهم بالآيات النازلة عليهم فكيف يتأتى تعجيل المساءة، وأجيب بأن ذلك لا يقتضي أن لا يزعجهم الإنذار والتذكير ولا يروعهم التخويف والتحذير لجواز أن يختلج في ذهنهم احتمال الصدق ولو مرجوحا فيحصل لهم الخوف والاشقاق. وأيد بما ذكره بعض المفسرين من أنه لما نزلت اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [القمر: 1] قال الكفار فيما بينهم: إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما تعملون حتى ننظر ما هو كائن فلما تأخرت قالوا: ما نرى شيئا فنزلت اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ فاشفقوا فانظروا قربها فلما امتدت الأيام قالوا: يا محمد ما نرى شيئا مما تخوفنا به انتهى. وقال بعضهم في بيان ذلك: إن الاقتراب منبىء عن التوجه والإقبال نحو شيء فإذا قيل اقترب أشعر أن هناك أمرا مقبلا على شيء طالبا له من غير دلالة على خصوصية المقترب منه فإذا قيل بعد ذلك لِلنَّاسِ دل على أن ذلك الأمر طالب لهم مقبل عليهم وهم هاربون منه فأفاد أن المقترب بما يسوؤهم فيحصل لهم الخوف والاضطراب قبل ذكر الحساب بخلاف ما إذا قيل اقترب الحساب للناس فإن كون إقبال الحساب نحوهم لا يفهم على ذلك التقدير إلا بعد ذكر للناس فتحقق فائدة التعجيل في التقديم مما لا شبهة فيه بل فيه فائدة زائدة وهي ذهاب الوهم في تعيين ذلك الأمر الهائل إلى كل مذهب إلى أن يذكر الفاعل، ويمكن أيضا أن يقال في وجه تعجيل التهويل: إن جريان عادته الكريمة صلّى الله عليه وسلّم على إنذار المشركين وتحذيرهم وبيان ما يزعجهم يدل على أن ما بين اقترابه منهم شيء سيىء هائل فإذا قدم الجار يحصل التخويف حيث يعلم من أول الأمر أن الكلام في حق المشركين الجاري عادته الكريمة عليه الصلاة والسلام على تحذيرهم بخلاف ما إذا قدم الفاعل حيث لا يعلم المقترب منه إلى أن يذكر الجار والمجرور والقرينة المذكورة لا تدل على تعيين المقترب كما تدل على تعيين المقترب إذ من المعلوم من عادته الكريمة صلّى الله عليه وسلّم أنه إذا تكلم في شأنهم يتكلم غالبا بما يسوؤهم لا أنه عليه الصلاة والسلام يتكلم في غالب أحواله بما يسؤوهم وفرق بين العادتين، ولا يقدح الجزء: 9 ¦ الصفحة: 6 في تمامية المرام توقف تحقق نكتة التقديم على ضم ضميمة العادة إذ يتم المراد بأن يكون للتقديم مدخل في حصول تلك النكتة بحيث لو فات التقديم لفاتت النكتة، وقد عرفت أن الأمر كذلك وليس في كلام الشيخ قدس سره ما يدل على أن المسارعة المذكورة حاصلة من التقديم وحده كذا قيل. ولك أن تقول: التقديم لتعجيل التخويف ولا ينافي ذلك عدم حصوله كما لا ينافي عدم حصول التخويف كون إنزال الآيات للتخويف فافهم، وجوز الزمخشري كون اللام تأكيدا لإضافة الحساب إليهم قال في الكشف: فالأصل اقترب حساب الناس لأن المقترب منه معلوم ثم اقترب للناس الحساب على أنه ظرف مستقر مقدم لا أنه يحتاج إلى مضاف مقدر حذف لأن المتأخر مفسر أي اقترب الحساب للناس الحساب كما زعم الطيبي وفي التقديم والتصريح باللام وتعريف الحساب مبالغات ليست في الأصل ثم اقترب للناس حسابهم فصارت اللام مؤكدة لمعنى الاختصاص الإضافي لا لمجرد التأكيد كما في لا أباله وما ثني فيه الظرف من نحو فيك زيد راغب فيك انتهى. وادّعى الزمخشري أن هذا الوجه أغرب بناء على أن فيه مبالغات ونكتا ليست في الوجه الأول وادّعى شيخ الإسلام أنه مع كونه تعسفا تاما بمعزل عما يقتضيه المقام، وبحث فيه أيضا أبو حيان وغيره ومن الناس من انتصر له وذب عنه، وبالجملة للعلماء في ذلك مناظرة عظمى ومعركة كبرى، والأولى بعد كل حساب جعل اللام صلة الاقتراب هذا، واستدل بالآية على ثبوت الحساب، وذكر البيضاوي في تفسير قوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة: 284] أن المعتزلة والخوارج ينكرونه ويعضده ما ذكره الإمام النسفي في بعض مؤلفاته حيث قال: قالت المعتزلة لا ميزان ولا حساب ولا صراط ولا حوض ولا شفاعة وكل موضع ذكر الله تعالى فيه الميزان أو الحساب أراد سبحانه به العدل انتهى. لكن المذكور في عامة المعتبرات الكلامية أن أكثرهم ينفي الصراط وجميعهم ينفي الميزان ولم يتعرض فيه لنفيهم الحساب، والحق أن الحساب بمعنى المجازاة مما لا ينكره إلا المشركون وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ أي في غفلة عظيمة وجهالة فخيمة عنه، وقيل الأولى التعميم أي في غفلة تامة وجهالة عامة من توحيده تعالى والإيمان بكتبه ورسله عليهم السلام ووقوع الحساب ووجود الثواب والعقاب وسائر ما جاء به النبي الكريم عليه الصلاة والتسليم، وذكر غفلتهم عن ذلك عقيب بيان اقتراب الحساب لا يقتضي قصر الغفلة عليه فإن وقوع تأسفهم وندامتهم وظهور أثر جهلهم وحماقتهم لما كان مما يقع في يوم الحساب كان سببا للتعقيب المذكور انتهى. وقد يقال: إن ظاهر التعقيب يقتضي ذلك، ومن غفل عن مجازاة الله تعالى له المراد من الحساب صدر منه كل ضلالة وركب متن كل جهالة والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبرا. لهم. وقوله سبحانه: مُعْرِضُونَ أي عن الآيات والنذر الناطقة بذلك الداعية إلى الإيمان به المنجي من المهالك خبر بعد خبر، واجتماع الغفلة والإعراض على ما أشرنا إليه مما لا غبار عليه، وللإشارة إلى تمكنهم في الغفلة التي هي منشأ الإعراض المستمر جيء بالكلام على ما سمعت، والجملة في موضع الحال من الناس، وقال الزمخشري: وصفهم بالغفلة مع الإعراض على معنى أنهم غافلون عن حسابهم ساهون لا يتفكرون في عاقبتهم ولا يتفطنون لما ترجع إليه خاتمة أمرهم مع اقتضاء عقولهم أنه لا بد من جزاء للمحسن والمسيء ولذا قرعت لهم العصا ونبهوا عن سنة الغفلة وفطنوا لذلك بما يتلى عليهم من الآيات والنذر أعرضوا وسدوا أسماعهم ونفروا إلى آخر ما قال. وحاصله يتضمن دفع التنافي بين الغفلة التي هي عدم التنبه والإعراض الذي يكون من المتنبه بأن الغفلة عن الحساب في أول أمرهم والإعراض بعد قرع عصا الإنذار أو بأن الغفلة عن الحساب والإعراض عن التفكر في عاقبتهم وأمر خاتمتهم، وفي الكشف أراد أن حالهم المستمرة الغفلة عن مقتضى الأدلة العقلية ثم إذا عاضدتها الأدلة السمعية الجزء: 9 ¦ الصفحة: 7 وأرشدوا لطريق النظر أعرضوا، وفيه بيان فائدة إيراد الأول جملة ظرفية لما في حرف الظرف من الدلالة على التمكن وإيراد الثاني وصفا منتقلا دالا على نوع تجدد، ومنه يظهر ضعف الحمل على أن الظرفية حال من الضمير المستكن في مُعْرِضُونَ قدمت عليه انتهى. ولا يخفى أن القول باقتضاء العقول أنه لا بدّ من الجزاء لا يتسنى إلا على القول بالحسن والقبح العقليين والأشاعرة ينكرون ذلك أشد الإنكار، وقال بعض الأفاضل: يمكن أن يحمل الإعراض على الاتساع كما في قوله: عطاء فتى تمكن في المعالي ... وأعرض في المعالي واستطالا وذكره بعض المفسرين في قوله تعالى: فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ [الإسراء: 67] فيكون المعنى وهم متسعون في الغفلة مفرطون فيها. ويمكن أيضا أن يراد بالغفلة معنى الإهمال كما في قوله تعالى: وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ [سورة المؤمنون: 17] فلا تنافي بين الوصفين. ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ من طائفة نازلة من القرآن تذكرهم أكمل تذكير وتبين لهم الأمر أتم تبيين كأنها نفس الذكر، ومِنْ سيف خطيب وما بعدها مرفوع المحل على الفاعلية، والقول بأنها تبعيضية بعيد، مِنْ في قوله تعالى: ومِنْ رَبِّهِمْ لابتداء الغاية مجازا متعلقة بيأتيهم أو بمحذوف هو صفة الذكر، وأيّا ما كان ففيه دلالة على فضله وشرفه وكمال شناعة ما فعلوا به، والتعرض لعنوان الربوبية لتشديد التشنيع مُحْدَثٍ بالجر صفة لذكر. وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع على أنه صفة له أيضا على المحل، وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما بالنصب على أنه حال منه بناء على وصفه بقوله تعالى: مِنْ رَبِّهِمْ وقوله سبحانه: إِلَّا اسْتَمَعُوهُ استثناء مفرغ محله النصب على أنه حال من مفعول يَأْتِيهِمْ بإضمار قد أو بدونه على الخلاف المشهور على ما قيل، وقال نجم الأئمة الرضي: إذا كان الماضي بعد إلا فاكتفاؤه بالضمير من دون الواو وقد أكثر نحو ما لقيته إلا أكرمني لأن دخول إلا في الأغلب على الأسماء فهو بتأويل إلا مكر ما فصار كالمضارع المثبت. وجوّز أن يكون حالا من المفعول لأنه حامل لضميره أيضا والمعنى لا يأباه وهو خلاف الظاهر، وأبعد من ذلك ما قيل إنه يحتمل أن يكون صفة لذكر، وكلمة إِلَّا وإن كانت مانعة عند الجمهور إذ التفريغ في الصفات غير جائز عندهم إلا أنه يجوز أن يقدر ذكر آخر بعد إلا فتجعل هذه الجملة صفة له ويكون ذلك بمنزلة وصف المذكور أي ما يأتيهم من ذكر إلا ذكر استمعوه، وقوله تعالى: وَهُمْ يَلْعَبُونَ حال من فاعل اسْتَمَعُوهُ وقوله سبحانه: لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ إما حال أخرى منه فتكون مترادفة أو حال من واو يَلْعَبُونَ فتكون متداخلة والمعنى ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث في حال من الأحوال إلا حال استماعهم إياه لاعبين مستهزئين به لاهين عنه أو لاعبين به حال كون قلوبهم لاهية عنه. وقرأ ابن أبي عبلة وعيسى «لاهية» بالرفع على أنه خبر بعد خبر لهم، والسر في اختلاف الخبرين لا يخفى، ولاهِيَةً من لهى عن الشيء بالكسر لهيا ولهيانا إذ سلا عنه وترك ذكره وأضرب عنه كما في الصحاح، وفي الكشاف هي من لهى عنه إذا ذهل وغفل وحيث اعتبر في الغفلة فيما مر أن لا يكون للغافل شعور بالمفعول عنه أصلا بأن لا يخطر بباله ولا يقرع سمعه أشكل وصف قلوبهم بالغفلة بعد سماع الآيات إذ قد زالت عنهم بذلك وحصل لهم الشعور وإن لم يوفقوا للإيمان وبقوا في غيابه الخزي والخذلان. وأجيب بأن الوصف بذلك على تنزيل شعورهم لعدم انتفاعهم به منزلة العدم نظير ما قيل في قوله تعالى: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 8 وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [البقرة: 102] وأنت تعلم أنه لا بأس أن يراد من الغفلة المذكورة في تفسير لهى الترك والإعراض على ما تفصح عنه عبارة الصحاح، وإنما لم يجعل ذلك من اللهو بمعنى اللعب على ما هو المشهور لأن تعقيب يَلْعَبُونَ بذلك حينئذ مما لا يناسب جزالة التنزيل ولا يوافق جلالة نظمه الجزيل وإن أمكن تصحيح معناه بنوع من التأويل، والمراد بالحدوث الذي يستدعيه محدث التجدد وهو يقتضي المسبوقية بالعدم، ووصف الذكر بذلك باعتبار تنزيله لا باعتباره نفسه وإن صح ذلك بناء على حمل الذكر على الكلام اللفظي والقول بما شاع عن الأشاعرة من حدوثه ضرورة أنه مؤلف من الحروف والأصوات لأن الذي يقتضيه المقام ويستدعيه حسن الانتظام بيان أنه كلما تجدد لهم التنبيه والتذكير وتكرر على أسماعهم كلمات التخويف والتحذير ونزلت عليهم الآيات وقرعت لهم العصا ونبهوا عن سنة الغفلة والجهالة عدد الحصا وأرشدوا إلى طريق الحق مرارا لا يزيدهم ذلك إلا فرارا، وأما إن ذلك المنزل حادث أو قديم فمما لا تعلق له بالمقام كما لا يخفى على ذوي الأفهام، وجوز أن يكون المراد بالذكر الكلام النفسي وإسناد الإتيان إليه مجاز بل إسناده إلى الكلام مطلقا كذلك والمراد من الحدوث التجدد ويقال: إن وصفه بذلك باعتبار التنزيل فلا ينافي القول بقدم الكلام النفسي الذي ذهب إليه مثبتوه من أهل السنة والجماعة، والحنابلة القائلون بقدم اللفظي كالنفسي يتعين عندهم كون الوصف باعتبار ذلك لئلا تقوم الآية حجة عليهم، وقال الحسن بن الفضل المراد بالذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد سمي ذكرا في قوله تعالى: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولًا [الطلاق: 10، 11] ويدل عليه هنا هَلْ هذا إلخ الآتي قريبا إن شاء الله تعالى وفيه نظر، وبالجملة ليست الآية مما تقام حجة على رد أهل السنة ولو الحنابلة كما لا يخفى وَأَسَرُّوا النَّجْوَى كلام مستأنف مسوق لبيان جناية أخرى من جناياتهم، والنَّجْوَى اسم من التناجي ولا تكون إلا سرا فمعنى إسرارها المبالغة في إخفائها، ويجوز أن تكون مصدرا بمعنى التناجي فالمعنى أخفوا تناجيهم بأن لم يتناجوا بمرأى من غيرهم، وهذا على ما في الكشف أظهر وأحسن موقعا، وقال أبو عبيدة: الإسرار من الأضداد، ويحتمل أن يكون هنا بمعنى الإظهار ومنه قول الفرزدق: فلما رأى الحجاج جرد سيفه ... أسر الحروري الذي كان أضمرا وأنت تعلم أن الشائع في الاستعمال معنى الإخفاء وإن قلنا إنه من الأضداد كما نص عليه التبريزي ولا موجب للعدول عن ذلك، وقوله تعالى: الَّذِينَ ظَلَمُوا بدل من ضمير أَسَرُّوا كما قال المبرد، وعزاه ابن عطية إلى سيبويه، وفيه إشعار بكونهم موصوفين بالظلم الفاحش فيما أسروا به، وقال أبو عبيدة. والأخفش، وغيرهما: هو فاعل أَسَرُّوا والواو حرف دال على الجمعية كواو قائمون وتاء قامت وهذا على لغة أكلوني البراغيث وهي لغة لأزد شنوءة قال شاعرهم: يلومونني في اشتراء النخيل أهلي وكلهم ألوم. وهي لغة حسنة على ما نص أبو حيان وليست شاذة كما زعمه بعضهم، وقال الكسائي: هو مبتدأ والجملة قبله خبره وقدم اهتماما به، والمعنى هم أسروا النجوى فوضع الموصول موضع الضمير تسجيلا على ما فعلهم بكونه ظلما، وقيل هو مبتدأ محذوف أي هم الذين، وقيل هو فاعل لفعل محذوف أي يقول الذين والقول كثيرا ما يضمر، واختاره النحاس، وهو على هذه الأقوال في محل الرفع. وجوز أن يكون في محل النصب على الذم كما ذهب إليه الزجاج أو على إضمار أعني كما ذهب إليه بعضهم، وأن يكون في محل الجر على أن يكون نعتا لِلنَّاسِ كما قال أبو البقاء أو بدلا منه كما قال الفراء وكلاهما كما ترى، وقوله تعالى: هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ إلخ في حيز النصب على أنه مفعول لقول مضمر بعد الموصول وصلته الجزء: 9 ¦ الصفحة: 9 هو جواب عن سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل ماذا قالوا في نجواهم؟ فقيل قالوا هذا إلخ أو بدل من أَسَرُّوا أو معطوف عليه، وقيل حال أي قائلين هل هذا إلخ وهو مفعول لقول مضمر قبل الموصول على ما اختاره النحاس، وقيل مفعول للنجوى نفسها لأنها في معنى القول والمصدر المعرف يجوز إعماله الخليل، وسيبويه، وقيل بدل منها أي أسروا هذا الحديث، وهَلْ بمعنى النفي وليست للاستفهام التعجبي كما زعم أبو حيان، والهمزة في قوله تعالى: أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ للإنكار والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام، وقوله سبحانه: وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ حال من فاعل تأتون مقررة للإنكار مؤكدة للاستبعاد، وأرادوا كما قيل ما هذا إلا بشر مثلكم أي من جنسكم وما أتى به سحر تعلمون ذلك فتأتونه وتحضرونه على وجه الإذعان والقبول وأنتم تعاينون أنه سحر قالوه بناء على ما ارتكز في اعتقادهم الزائغ أن الرسول لا يكون إلا ملكا وأن كل ما يظهر على يد البشر من الخوارق من قبيل السحر، وعنوا بالسحر هاهنا القرآن ففي ذلك إنكار لحقيته على أبلغ وجه قاتلهم الله تعالى أنّى يؤفكون، وإنما أسروا ذلك لأنه على طريق توثيق العهد وترتيب مبادئ الشر والفساد وتمهيد مقدمات المكر والكيد في هدم أمر النبوة وإطفاء نور الدين والله تعالى يأبى إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون، وقيل أسروه ليقولوا للرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين إن كان ما تدعونه حقا فأخبرونا بما أسررناه؟ ورده في الكشف بأنه لا يساعده النظم ولا يناسب المبالغة في قوله تعالى: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ولا في قوله سبحانه: أَفَتَأْتُونَ السحر قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ حكاية من جهته تعالى لما قال عليه الصلاة والسلام بعد ما أوحى إليه أحوالهم وأقوالهم بيانا لظهور أمرهم وانكشاف سرهم ففاعل قالَ ضميره صلّى الله عليه وسلّم والجملة بعده مفعوله، وهذه القراءة قراءة حمزة والكسائي وحفص والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وأيوب وخلف وابن سعدان وابن جبير الأنطاكي وابن جرير، وقرأ باقي السبعة «قل» على الأمر لنبيه صلّى الله عليه وسلّم، و «القول» عام يشمل السر والجهر فإيثاره على السر لإثبات علمه سبحانه به على النهج البرهاني مع ما فيه من الإيذان بأن علمه تعالى بالأمرين على وتيرة واحدة لا تفاوت بينهما بالجلاء والخفاء قطعا كما في علوم الحق. وفي الكشف أن بين السر والقول عموما وخصوصا من وجه والمناسب في هذا المقام تعميم القول ليشمل جهره وسره والأخفى فيكون كأنه قيل يعلم هذا الضرب وما هو أعلى من ذلك وأدنى منه وفي ذلك من المبالغة في إحاطة علمه تعالى المناسبة لما حكى عنهم من المبالغة في الإخفاء ما فيه وإيثار السر على القول في بعض الآيات لنكتة تقتضيه هناك ولكل مقام مقال، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من القول أي كائنا في السماء والأرض، وقوله سبحانه: وَهُوَ السَّمِيعُ أي بجميع المسموعات الْعَلِيمُ أي بجميع المعلومات، وقيل أي المبالغ في العلم بالمسموعات والمعلومات ويدخل في ذلك أقوالهم وأفعالهم دخولا أوليا اعتراض تذييلي مقدر لمضمون ما قبله متضمن للوعيد بمجازاتهم على ما صدر منهم، ويفهم من كلام البحر أن ما قبل متضمن ذلك أيضا بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ إضراب من جهته تعالى وانتقال من حكاية قولهم السابق إلى حكاية قول آخر مضطرب باطل أي لم يقتصروا على القول في حقه صلّى الله عليه وسلّم هل هذا إلا بشر مثلكم وفي حق ما ظهر على يده من القرآن الكريم إنه سحر بل قالوا هو أي القرآن تخاليط الأحلام ثم أضربوا عنه فقالوا بَلِ افْتَراهُ من تلقاء نفسه من غير أن يكون له أصل أو شبهة أصل ثم أضربوا فقالوا: بَلْ هُوَ شاعِرٌ وما أتى به شعر يخيل إلى السامع معاني لا حقيقة لها، وهذا الاضطراب شأن المبطل المحجوج فإنه لا يزال يتردد بين باطل وأبطل ويتذبذب بين فاسد وأفسد فبل الأولى كما نرى من كلامه عز وجل وهي انتقالية والمنتقل منه ما تقدم باعتبار خصوصه والأخيرتان من كلامهم المحكي وهما ابطاليتان لترددهم وتحيرهم في تزويرهم وجملة المقول داخلة في النجوى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 10 ويجوز أن تكون الأولى انتقالية والمنتقل منه ما تقدم بقطع النظر عن خصوصه والجملة غير داخلة في النجوى، وكلا الوجهين وجيه وليس فيهما إلا اختلاف معنى بل، وكون الأولى من الحكاية والأخيرتين من المحكي ولا مانع منه. وجوز أن تكون الأولى من كلامهم وهي إبطالية أيضا متعلقة بقولهم هو سحر المدلول عليه بأ فتأتون السحر، ورد بأنه إنما يصح لو كان النظم الكريم قالوا بل إلخ ليفيد حكاية إضرابهم، وكونه من القلب وأصله قالوا بل لا يخفى ما فيه، وقد أجيب أيضا بأنه إضراب في قولهم المحكي بالقول المقدر قبل قوله تعالى: هَلْ هذا إلخ أو الذي تضمنه النجوى وأعيد القول للفاصل أو لكونه غير مصرح به ولا يخفى ما فيه أيضا وجوز أن تكون الثلاثة من كلامه عز وجل على أن ذلك تنزيل لأقوالهم في درج الفساد وأن قولهم الثاني أفسد من الأول والثالث أفسد من الثاني وكذلك الرابع من الثالث، ويطلق على نحو هذا الإضراب الترقي لكن لم يقل هنا ترقيا إشارة إلى أن الترقي في القبح تنزيل في الحقيقة، ووجه ذلك كما قال في الكشف أن قولهم إنه سحر أقرب من الثاني فقد يقال: إن من البيان لسحرا لأن تخاليط الكلام التي لا تنضبط لا شبه لها بوجه بالنظم الأنيق الذي أبكم كل منطيق، ثم ادعاء أنها مع كونها تخاليط مفتريات أبعد وأبعد لأن النظم بمادته وصورته من أتم القواطع دلالة على الصدق كيف وقد انضم إليه أن القائل عليه الصلاة والسلام علم عندهم في الأمانة والصدق، والأخير هذيان المبرسمين لأنهم أعرف الناس بالتمييز بين المنظوم والمنثور طبعا وبين ما يساق له الشعر وما سيق له هذا الكلام الذي لا يشبه بليغات خطبهم فضلا عن ذلك وبين محسنات الشعر ومحسنات هذا النثر هذا فيما يرجع إلى الصورة وحدها، ثم إذا جئت إلى المادة وتركب الشعر من المخيلات والمعاني النازلة التي يهتدي إليها الأجلاف وهذا من اليقينيات العقدية والدينيات العملية التي عليها مدار المعاد والمعاش وبها تتفاضل الأشراف فأظهر وأظهر، هذا والقائل عليه الصلاة والتسليم ممن لا يتسهل له الشعر وإن أراده خالطوه وذاقوه أربعين سنة اهـ. وكون تركب الشعر من المخيلات باعتبار الغالب فلا ينافيه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن من الشعر لحكمة» لأنه باعتبار الندرة ويؤيده التأكيد بأن الدالة على التردد فيه، وقد جاء الشاعر بمعنى الكاذب بل قال الراغب: إن الشاعر في القرآن بمعنى الكاذب بالطبع، وعليه يكون قد أرادوا قاتلهم الله تعالى بل هو وحاشاه ذو افتراءات كثيرة، وليس في بل هنا على هذا الوجه إبطال بل إثبات للحكم الأول وزيادة عليه كما صرح بذلك الراغب، وفي وقوعها للإبطال في كلام الله تعالى خلاف فأثبته ابن هشام ومثل له بقوله تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء: 26] ووهم ابن مالك في شرح الكافية فنفاه، والحق أن الإبطال إن كان لما صدر عن الغير فهو واقع في القرآن وإن كان لما صدر عنه تعالى فغير واقع بل هو محال لأنه بداء، وربما يقال: مراد ابن مالك بالمنفي الضرب الثاني، ثم إن هذا الوجه وإن كان فيه بعد لا يخلو عن حسن كما قيل فتدبر. فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ جواب شرط محذوف يفصح عنه السياق كأنه قيل وإن لم يكن كما قلنا بل كان رسولا من الله عز وجل كما يقول فليأتنا بآية أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ وقدر النيسابوري غير هذا الشرط فقال أخذا من كلام الإمام في بيان حاصل معنى الآية: إنهم أنكروا أولا كون الرسول صلّى الله عليه وسلّم من جنس البشر ثم إنهم كأنهم قالوا سلمنا ذلك ولكن الذي ادعيت أنه معجز ليس بمعجز غايته أنه خارق للعادة وما كل خارق لها معجز فقد يكون سحرا هذا إذا ساعدنا على أن فصاحة القرآن خارجة عن العادة لكنا عن تسليم هذه المقدمة بمراحل فإنا ندّعي أنه في غاية الركاكة وسوء النظم كأضغاث أحلام سلمنا ولكنه من جنس كلام الأوساط افتراه من عنده سلمنا أنه كلام فصيح لكنه لا يتجاوز فصاحة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 11 الشعر وإذا كان حال هذا المعجز هكذا فليأتنا بآية لا يتطرق إليها شيء من هذه الاحتمالات كما أرسل الأولون انتهى وهو كما ترى. وما موصولة في محل الجر بالكاف والجملة بعدها صلة والعائد محذوف، والجار والمجرور متعلق بمقدر وقع صفة لآية أي فليأتنا بآية التي أرسل بها الأولون، ولا يضر فقد بعض شروط جواز حذف العائد المجرور بالحرف إذ لا اتفاق على اشتراط ذلك، ومن اشترط اعتبر العائد المحذوف هنا منصوبا من باب الحذف والإيصال، وهو مهيع واسع، وأرادوا بالآية المشبه بها كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الناقة والعصا ونحوهما، وكان الظاهر أن يقال فليأتنا بما أتى به الأولون أو بمثل ما أتى به الأولون إلا أنه عدل عنه إلى ما في النظم الكريم لدلالته على ما دل عليه مع زيادة كونه مرسلا به من الله عز وجل، وفي التعبير في حقه صلّى الله عليه وسلّم بالإتيان والعدول عن الظاهر فيما بعده إيماء إلى أن ما أتى به صلّى الله عليه وسلّم من عنده وما أتى به الأولون من الله تبارك وتعالى ففيه تعريض مناسب لما قبله من الافتراء قاله الخفاجي وذكر أن ما قيل إن العدول عن كما أتى به الأولون لأن مرادهم اقتراح آية مثل آية موسى وآية عيسى عليهما السلام لا غيرهما مما أتى به سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأن العلامة البيضاوي أشار إلى ذلك مما لا وجه له، وجوز أن تكون ما مصدرية والكاف منصوبة على أنها مصدر تشبيهي أي نعت لمصدر محذوف أي فليأتنا بآية إتيانا كائنا مثل إرسال الأولين بها وصحة التشبيه من حيث إن المراد مثل إتيان الأولين بها لأن إرسال الرسل عليهم السلام متضمن الإتيان المذكور كما في الكشاف، وفي الكشف أنه يدل على أن قوله تعالى: كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ كناية في هذا المقام، وفائدة العدول بعد حسن الكناية تحقيق كونها آية مسلمة بمثلها تثبت الرسالة لا تنازع فيها ويترتب المقصود عليها، والقول بأن الإرسال المشبه به مصدر المجهول ومعناه كونه مرسلا من الله تعالى بالآيات لا يسمن ولا يغني في توجيه التشبيه لأن ذلك مغاير للإتيان أيضا وإن لم ينفك عنه، وقيل يجوز أن يحمل النظم الكريم على أنه أريد كل واحد من الإتيان والإرسال في كل واحد من طرفي التشبيه لكنه ترك في جانب المشبه ذكر الإرسال، وفي جانب المشبه به ذكر الإتيان اكتفاء بما ذكر في كل موطن عما ترك في الموطن الآخر، ولا يخفى بعده، ثم إن الظاهر أن إقرارهم بإرسال الأولين ليس عن صميم الفؤاد بل هو امر اقتضاه اضطرابهم وتحيرهم، وذكر بعض الأجلة أنّ مما يرجح الحمل على أن ما تقدم حكاية أقوالهم المضطربة هذه الحكاية لأنهم منعوا أولا أن يكون الرسول بشرا وبتوا القول به وبنوا ما بنوا ثم سلموا أن الأولين كانوا ذوي آيات وطالبوه عليه الصلاة والسلام بالإتيان بنحو ما أتوا به منها، وعلى وجه التنزيل لأقوالهم على درج الفساد يحمل هذا على أنه تنزل منهم، والعدول إلى الكناية لتحقيق تنزله عن شأوهم انتهى فتأمل ولا تغفل. ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ كلام مستأنف مسوق لتكذيبهم فيما ينبىء عنه خاتمة مقالهم من الوعد الضمني بالإيمان عند إتيان الآية المقترحة وبيان أنهم في اقتراح ذلك كالباحث عن حتفه بظلفه وإن في ترك الإجابة إليه إبقاء عليهم كيف لا ولو أعطوا ما اقترحوه مع عدم إيمانهم قطعا لاستئصلوا لجريان سنة الله تعالى شأنه في الأمم السالفة على استئصال المقترحين منهم إذا أعطوا ما اقترحوه ثم لم يؤمنوا وقد سبقت كلمته سبحانه أن هذه الأمة لا يعذبون بعذاب الاستئصال، وهذا أولى مما قيل إنهم لما طعنوا في القرآن وأنه معجزة وبالغوا في ذلك حتى أخذوا من قوله تعالى: أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ إلى أن انتهوا إلى قوله سبحانه: فَلْيَأْتِنا إلخ جيء بقوله عز وجل: ما آمَنَتْ إلخ تسلية له صلّى الله عليه وسلّم في أن الإنذار لا يجدي فيهم. وأيّا ما كان فقوله سبحانه: مِنْ قَرْيَةٍ على حذف المضاف أي من أهل قرية، ومن مزيدة لتأكيد العموم وما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 12 بعدها في محل الرافع على الفاعلية، وقوله سبحانه: أَهْلَكْناها في محل جر أو رفع صفة قرية، والمراد أهلكناها بإهلاك أهلها لعدم إيمانهم بعد مجيء ما اقترحوه من الآيات، وقيل القرية مجاز عن أهلها فلا حاجة إلى تقدير المضاف. واعترض بأن أَهْلَكْناها يأباه والاستخدام وإن كثر في الكلام خلاف الظاهر، وقال بعضهم: لك أن تقول إن هلاكها كناية عن إهلاك أهلها وما ذكر أولا أولى، والهمزة في قوله سبحانه: أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ لإنكار الوقوع والفاء للعطف أما على مقدر دخلته الهمزة فأفادت إنكار وقوع إيمانهم ونفيه عقيب عدم إيمان الأولين فالمعنى أنه لم يؤمن أمة من الأمم المهلكة عند إعطاء ما اقترحوه من الآيات هم لم يؤمنوا فهؤلاء يؤمنون لو أعطوا ما اقترحوه أي مع أنهم أعتى وأطغى كما يفهم بمعونة السياق والعدول عن فهم لا يؤمنون أيضا وأما على ما آمَنَتْ على أن الفاء متقدمة على الهمزة في الاعتبار مفيدة لترتيب إنكار وقوع إيمانهم على عدم إيمان الأولين وإنما قدمت عليها الهمزة لاقتضائها الصدارة، وقوله عز وجل: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا جواب لما زعموه من أن الرسول لا يكون إلا ملكا المشار إليه بقولهم هل هذا إلا بشر مثلكم الذي بنوا عليه ما بنوا فهو متعلق بذلك وقدم عليه جواب قولهم: فَلْيَأْتِنا لأنهم قالوا ذلك بطريق التعجيز فلا بد من المسارعة إلى رده وإبطاله ولأن في هذا الجواب نوع بسط يخل تقديمه بتجاوب النظم الكريم، وقوله تعالى: نُوحِي إِلَيْهِمْ استئناف مبين لكيفية الإرسال، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية المستمرة وحذف المفعول لعدم القصد إلى خصوصه، والمعنى ما أرسلنا إلى الأمم قبل إرسالك إلى أمتك إلا رجالا لا ملائكة نوحي إليهم بواسطة الملك ما نوحي من الشرائع والأحكام وغيرهما من القصص والأخبار كما نوحي إليك من غير فرق بينهما في حقيقة الوحي وحقيقة مدلوله كما لا فرق بينك وبينهم في البشرية فما لهم لا يفهمون أنك لست بدعا من الرسل وإن ما أوحي إليك ليس مخالفا لما أوحي إليهم فيقولون ما يقولون، وقال بعض الأفاضل: إن الجملة في محل النصب صفة مادحة لرجالا وهو الذي يقتضيه النظم الجليل، وقرأ الجمهور «يوحى إليهم» بالياء على صيغة المبني للمفعول جريا على سنن الكبرياء وإيذانا بتعين الفاعل، وقوله تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ تلوين للخطاب وتوجيه له إلى الكفرة لتبكيتهم واستنزالهم عن رتبة الاستبعاد والنكير إثر تحقيق الحق على طريقة الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأنه الحقيق بالخطاب في أمثال تلك الحقائق الأنيقة، وأما الوقوف عليها بالسؤال من الغير فهو من وظائف العوام وأمره صلّى الله عليه وسلّم بالسؤال في بعض الآيات ليس للوقوف وتحصيل العلم بالمسئول عنه لأمر آخر، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وأهل الذكر أهل الكتاب كما روي عن الحسن وقتادة وغيرهما، وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة المذكور عليه إن كنتم لا تعلمون ما ذكر فاسألوا أيها الجهلة أهل الكتاب الواقفين على أحوال الرسل السالفة عليهم الصلاة والسلام لتزول شبهتكم. أمروا بذلك لأن أخبار الجم الغفير يفيد العلم في مثل ذلك لا سيما وهم كانوا يشايعون المشركين في عداوته صلّى الله عليه وسلّم ويشاورونهم في أمره عليه الصلاة والسلام ففيه من الدلالة على كمال وضوح الأمر وقوة شأن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما لا يخفى، وعن ابن زيد أن أهل الذكر هم أهل القرآن، ورده ابن عطية بأنهم كانوا خصومهم فكيف يؤمرون بسؤالهم، ويرد ذلك على ما زعمته الإمامية من أنهم آله صلّى الله عليه وسلّم وقد تقدم الكلام في ذلك. وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً بيان لكون الرسل عليهم السلام أسوة لسائر أفراد الجنس في أحكام الطبيعة البشرية والجسد على ما في القاموس جسم الإنس والجن والملك، وقال الراغب: هو كالجسم إلا أنه أخص منه، قال الخليل: لا يقال الجسد لغير الإنسان من خلق الأرض ونحوه، وأيضا فإن الجسد يقال لما له لون والجسم لما لا يبين له لون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 13 كالهواء والماء (1) ، وقوله تعالى: وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً إلخ يشهد لما قاله الخليل انتهى، وقيل: هو جسم ذو تركيب وظاهره أنه أعم من الحيوان ومنهم خصه به وقال بعضهم: هو في الأصل مصدر جسد الدم يجسد أي التصق وأطلق على الجسم المركب لأنه ذو أجزاء ملتصق بعضها ببعض، ثم الظاهر أن الذي يقول بتخصيصه بحيث لا يشمل غير العاقل من الحيوان مثلا غاية ما يدعي أن ذلك بحسب أصل وضعه ولا يقول بعدم جواز تعميمه بعد ذلك فلا تغفل، ونصبه إما على أنه مفعول ثان للجعل، والمراد تصييره كذلك ابتداء على طريقة قولهم سبحان من صغر البعوض وكبر الفيل، وأما حال من الضمير والجعل إبداعي وأفراده لإعادة الجنس الشامل للكثير أو لأنه في الأصل على ما سمعت مصدر وهو يطلق على الواحد المذكر وغيره، وقيل: لإرادة الاستغراق الإفرادي في الضمير أي جعلنا كل واحد منهم وقيل: هو بتقدير مضاف أي ذوي جسد، وفي التسهيل أنه يستغني بتثنية المضاف وجمعه عن تثنية المضاف إليه وجمعه في الإعلام وكذا ما ليس فيه لبس من أسماء الأجناس. وقوله تعالى لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ صفة جَسَداً أي وما جعلناهم جسدا مستغنيا عن الغذاء بل محتاجا إليه وَما كانُوا خالِدِينَ أي باقين أبدا، وجوّز أن يكون الخلود بمعنى المكث المديد، واختير الأول لأن الجملة مقررة لما قبلها من كون الرسل السالفة عليهم الصلاة والسلام بشرا لا ملائكة كما يقتضيه اعتقاد المشركين الفاسد وزعمهم الكاسد، والظاهر هم يعتقدون أيضا في الملائكة عليهم السلام الأبدية كاعتقاد الفلاسفة فيهم ذلك إلا أنهم يسمونهم عقولا مجردة، وحاصل المعنى جعلناهم أجسادا متغذية صائرة إلى الموت بالآخرة حسب آجالهم ولم نجعلهم ملائكة لا يتغذون ولا يموتون حسبما تزعمون، وقيل: الجملة رد على قوله: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ [الفرقان: 7] إلخ والأول أولى، نعم هي مع كونها مقررة لما قبلها فيها رد على ذلك. وفي إيثار وَما كانُوا على وما جعلناهم تنبيه على أن عدم الخلود والبقاء من توابع جبلتهم في هذه النشأة التي أشير إليها بقوله تعالى: وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً إلخ لا بالجعل المستأنف بل إذا نظرت إلى سائر المركبات من العناصر المتضادة رأيت بقاءها سويعة أمرا غريبا وانتهضت إلى طلب العلة لذلك ومن هنا قيل: ولا تتبع الماضي سؤالك لم مضى ... وعرج على الباقي وسائله لم بقي بل لا يبعد أن تكون الممكنات مطلقا كذلك فقد قالوا: إن الممكن إذا خلي وذاته يكون معدوما إذا العدم لا يحتاج إلى علة وتأثير بخلاف الوجود ولا يلزم على هذا أن يكون العدم مقتضى الذات حتى يصير ممتنعا إذ مرجع ذلك إلى أولوية العدم وأليقيته بالنسبة إلى الذات، ويشير إلى ذلك ما قيل قول أبي علي في الهيئات الشفاء للمعلول في نفسه أن يكون ليس وله عن علته أن يكون آيسا، وقولهم باستواء طرفي الممكن بالنظر إلى ذاته معناه استواؤه في عدم وجوب واحد منهما بالنظر إلى ذاته، وقولهم علة العدم علة الوجود بمعنى أن العدم لا يحتاج إلى تأثير وجعل بل يكفيه انعدام العلة لا أن عدم العلة مؤثرة في عدم المعلول ولعل في قوله صلّى الله عليه وسلّم ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن إشارة إلى هذا فتدبر، وقوله تعالى: ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ قيل: عطف على ما يفهم من حكاية وحيه تعالى إلى المرسلين على الاستمرار التجددي كأنه قيل: أوحينا إليهم ما أوحينا ثم صدقناهم الوعد الذي وعدناهم في تضاعيف الوحي بإهلاك أعدائهم، وقيل: على نُوحِي السابق بمعنى أوحينا، وتوسيط الأمر بالسؤال وما معه اهتماما بإلزامهم والرد عليهم وقال الخفاجي: هو عطف على قوله تعالى: أَرْسَلْنا وثم للتراخي الذكري أي أرسلنا رسلا من البشر   (1) قال الرازي: له لون ولا يحجب ما وراءه اه منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 14 وصدقناهم ما وعدناهم فكذا محمد صلّى الله عليه وسلّم فاحذروا تكذيبه ومخالفته فالآيات كما تضمنت الجواب تضمنت التهديد انتهى، وفيه تأمل، ونصب الْوَعْدَ على نزع الخافض والأصل صدقناهم في الوعد ومنه صدقوهم القتال وصدقني سن بكره، وقيل: على أنه مفعول ثان وصدق قد تتعدى للمفعولين من غير توسط حرف الجر أصلا. فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ أي من المؤمنين بهم كما عليه جماعة من المفسرين، وقيل منهم ومن غيرهم ممن تستدعي الحكمة إبقاءه كمن سيؤمن هو أو بعض فروعه بالآخرة وهو السر في حماية الذين كذبوه وآذوه صلّى الله عليه وسلّم من عذاب الاستئصال، ورجح ما عليه الجماعة بالمقابلة بقوله تعالى: وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ وذلك لحمل التعريف على الاستغراق والمسرفين على الكفار مطلقا لقوله تعالى: وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ [غافر: 43] بناء على أن المراد بأصحاب النار ملازموها والمخلدون فيها ولا يخلد فيها عندنا إلا الكفار، ومن عمم أولا قال: المراد بالمسرفين من عدا أولئك المنجين، والتعبير بمن نشاء دون من آمن أو من معهم مثلا ظاهر في أن المراد بذلك المؤمنون وآخرون معهم ولا يظهر على التخصيص وجه العدول عما ذكر إلى ما في النظم الكريم والتعبير بنشاء مع أن الظاهر شئنا لحكاية الحال الماضية، وقوله سبحانه: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً كلام مستأنف مسوق لتحقيق حقيقة القرآن العظيم الذي ذكر في صدر السورة الكريمة إعراض الناس عما يأتيهم من آياته واستهزاؤهم به واضطرابهم في أمره وبيان علو مرتبته إثر تحقيق رسالته صلّى الله عليه وسلّم بيان أنه كسائر الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام قد صدر بالتوكيد القسمي إظهارا لمزيد الاعتناء بمضمونه وإيذانا بكون المخاطبين في أقصى مراتب النكير والخطاب لقريش. وجوّز أن يكون لجميع العرب وتنوين كتابا للتعظيم والتفخيم أي كتابا عظيم الشأن نير البرهان، وقوله عز وجل: فِيهِ ذِكْرُكُمْ صفة له مؤكدة لما أفاده التنكير التفخيمي من كونه جليل القدر بأنه جميل الآثار مستجلب لهم منافع جليلة والمراد بالذكر كما أخرج البيهقي في شعب الإيمان وابن المنذر وغيرهما عن ابن عباس الصيت والشرف مجاز أي فيه ما يوجب الشرف لكم لأنه بلسانكم ومنزل على نبي منكم تتشرفون بشرفه وتشتهرون بشهرته لأنكم حملته والمرجع في حل معاقده وجعل ذلك فيه مبالغة في سببيته له، وعن سفيان أنه مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال أي فيه ما يحصل به الذكر أي الثناء الحسن وحسن الأحدوثة من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال إطلاقا لاسم المسبب على السبب فهو مجاز عن ذلك أيضا. وأخرج غير واحد عن الحسن أن المراد فيه ما تحتاجون إليه في أمور دينكم، وزاد بعض ودنياكم، وقيل الذكر بمعنى التذكير مضاف للمفعول، والمعنى فيه موعظتكم، ورجح ذلك بأنه الأنسب بسباق النظم الكريم وسياقه فإن قوله تعالى: أَفَلا تَعْقِلُونَ إنكار توبيخي فيه بعث لهم على التدبر في أمر الكتاب والتدبر فيما في تضاعيفه من فنون المواعظ والزواجر التي من جملتها القوارع السابقة واللاحقة. وقال صاحب التحرير: الذي يقتضيه سياق الآيات أن المعنى فيه ذكر قبائحكم ومثالبكم وما عاملتم به أنبياء الله تعالى عليهم الصلاة والسلام من التكذيب والعناد. وقوله تعالى: أَفَلا تَعْقِلُونَ إنكار عليهم في عدم تفكرهم مؤد إلى التنبه عن سنة الغفلة انتهى، وفيه بعد، والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي ألا تتفكرون فلا تعقلون أن الأمر كذلك أو لا تعقلون شيئا من الأشياء التي من جملتها ما ذكر، وقوله عز وجل: وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ نوع تفصيل لإجمال قوله تعالى: وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ وبيان لكيفية إهلاكهم وتنبيه على كثرتهم فكم خبرية مفيدة للتكثير محلها النصب على أنها مفعول ل قَصَمْنا ومن قَرْيَةٍ تمييز، وفي لفظ القصم الذي هو عبارة عن الكسر بتفريق الأجزاء وإذهاب التئامها بالكلية كما يشعر به الإتيان بالقاف الشديدة من الدلالة على قوة الغضب وشدة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 15 السخط ما لا يخفى، وقوله تعالى: كانَتْ ظالِمَةً صفة قَرْيَةٍ وكان الأصل على ما قيل أهل قرية ينبىء عنه الضمير الآتي إن شاء الله تعالى فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فوصف بما هو من صفات المضاف أعني الظلم فكأنه قيل وكثيرا قصمنا من أهل قرية كانوا ظالمين بآيات الله تعالى كافرين بها مثلكم. وفي الكشاف المراد بالقرية أهلها ولذلك وصفت بالظلم فيكون التجور في الطرف، وقال بعضهم: لك أن تقول وصفها بذلك على الإسناد المجازي وقوله: قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كناية عن قصم أهلها للزوم إهلاكها إهلاكهم فلا مجاز ولا حذف، وأيا ما كان فليسر المراد قرية معينة، وأخرج ابن المنذر، وغيره عن الكلبي أنها حضور قرية باليمن، وأخرج ابن مردويه من طريقه عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال بعث الله تعالى نبيا من حمير يقال له شعيب فوثب إليه عبد فضربه بعصا فسار إليهم بختنصر فقاتلهم فقتلهم حتى لم يبق منهم شيء وفيهم أنزل الله تعالى: وَكَمْ قَصَمْنا إلخ وفي البحر أن هؤلاء كانوا بحضور وأن الله تعالى بعث إليهم نبيا فقتلوه فسلط الله تعالى عليهم بختنصر كما سلطه على أهل بيت المقدس بعث إليهم جيشا فهزموه ثم بعث إليهم آخر فهزموه فخرج إليهم بنفسه فهزمهم وقتلهم، وعن بعضهم أنه كان اسم هذا النبي موسى بن ميشا، وعن ابن وهب أن الآية في قريتين باليمن إحداهما حضور والأخرى قلابة بطر أهلهما فأهلكهم الله تعالى على يد بختنصر، ولا يخفى أنه مما يأباه ظاهر الآية والقول بأنها من قبيل قولك كم أخذت من دارهم زيد على أن الجار متعلق بأخذت والتمييز محذوف أي كم درهم أخذت من دراهم زيد، ويقال هنا إنها بتقدير كم ساكن قصمنا من ساكني قرية أو نحو ذلك مما لا ينبغي أن يلتفت إليه إلا بالرد عليه، فلعل ما في الروايات محمول على سبيل التمثيل، ومثل ذلك غير قليل، وفي قوله سبحانه: وَأَنْشَأْنا بَعْدَها أي بعد هلاك أهلها لا بعد تلك الفعلة كما توهم قَوْماً آخَرِينَ أي ليسوا منهم في شيء تنبيه على استئصال الأولين وقطع دابرهم بالكلية وهو السر في تقديم حكاية إنشاء هؤلاء على حكاية مبادي إهلاك أولئك بقوله سبحانه: فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا فضمير الجمع للأهل لا لقوم آخرين إذ لا ذنب لهم يقتضي ما تضمنه هذا الكلام، والإحساس الإدراك بالحاسة أي فلما أدركوا بحاستهم عذابنا الشديد، ولعل ذلك العذاب كان مما يدرك بإحدى الحواس الظاهرة. وجوز أن يكون في البأس استعارة مكنية ويكون الإحساس تخييلا وأن يكون الإحساس مجازا عن مطلق الإدراك أي فلما أدركوا ذلك إِذا هُمْ مِنْها أي من القرية فمن ابتدائية أو من البأس والتأنيث لأنه في معنى النقمة والبأساء فمن تعليلية وهي على الاحتمالين متعلقة بقوله تعالى: يَرْكُضُونَ وإذا فجائية، والجملة جواب لما، وركض من باب قتل بمعنى ضرب الدابة برجله وهو متعد، وقد يراد لازما كركض الفرس بمعنى جرى كما قاله أبو زيد ولا عبرة بمن أنكره، والركض هنا كناية عن الهرب أي فإذا هم يهربون مسرعين راكضين دوابهم. وجوّز أن يكون المعنى مشبهين بمن يركض الدواب على أن هناك استعارة تبعية ولا مانع من حمل الكلام على حقيقته على ما قيل لا تَرْكُضُوا أي قيل لهم ذلك، والقائل يحتمل أن يكون ملائكة العذاب أو من كان ثمة من المؤمنين قالوا على سبيل الهزء بهم، وقال ابن عطية: يحتمل على الرواية السالفة أن يكون القائل من جيش بختنصر وأراد بذلك خدعهم والاستهزاء بهم، وقيل يحتمل أن يكون المراد يجعلون خلقا، بأن يقال لهم ذلك وإن لم يقل على معنى أنهم بلغوا في الركض والفرار من العذاب بعد الإتراف والتنعيم بحيث من رآهم قال لا تركضوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ من النعم والتلذذ والإتراف إبطار النعمة وفي ظرفية، وجوز كونها سببية وَمَساكِنِكُمْ التي كنتم تفتخرون بها لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ تقصدون للسؤال والتشاور والتدبير في المهمات والنوازل أو تسألون عما جرى عليكم ونزل بأموالكم ومنازلكم فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة أو يسألكم حشمكم وعبيدكم فيقولوا لكم بم تأمرون ماذا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 16 ترسمون وكيف نأتي ونذر كما كنتم من قبل أو يسألكم الوافدون نوالكم إما لأنهم كانوا أسخياء ينفقون أموالكم رئاء الناس وطلب الثناء أو كانوا بخلاء فقيل لهم ذلك تهكما إلى تهكم، وقيل على الرواية المتقدمة المعنى لعلكم تسألون صلحا أو جزية أو أمرا تتفقون مع الملك عليه، وقيل المراد بمساكنهم النار فيكون المراد بارجعوا إلى مساكنكم ادخلوا النار تهكما، والمراد بالسؤال عن الأعمال أو المراد به العذاب على سبيل المجاز المرسل بذكر السبب وإرادة المسبب أي ادخلوا النار كي تسألوا أو تعذبوا على ظلمكم وتكذيبكم بآيات الله تعالى وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى. قالُوا لما يئسوا من الخلاص بالهرب وأيقنوا استيلاء العذاب يا وَيْلَنا يا هلاكنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ بآيات الله تعالى مستوجبين للعذاب، وهذا اعتراف منهم بالظلم واستتباعه للعذاب وندم عليه حين لا ينفعهم ذلك، وقيل على الرواية السالفة إن هذا الندم والاعتراف كان منهم حين أخذتهم السيوف ونادى مناد من السماء يا لثارات الأنبياء فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ أي فما زالوا يرددون تلك الكلمة، وتسميتها دعوى بمعنى الدعوة فإنه يقال دعا دعوى ودعوة لأن المولول كأنه يدعو الويل قائلا يا ويل تعال فهذا أوانك. وجوّز الحوفي والزمخشري وأبو البقاء كون تِلْكَ اسم زال ودَعْواهُمْ خبرها والعكس، قال أبو حيان: وقد قال ذلك قبلهم الزجاج وأما أصحابنا المتأخرون فعلى أن اسم كان وخبرها مشبه بالفاعل والمفعول فكما لا يجوز في الفاعل والمفعول التقدم والتأخر إذا أوقع ذلك في اللبس لعدم ظهور الإعراب لا يجوز في باب كان ولم ينازع فيه أحد إلا أبو العباس أحمد بن الحاج من نبهاء تلاميذ الشلوبين اه. وقال الفاضل الخفاجي: إن ما ذكره ابن الحاج في كتاب المدخل أنه ليس فيه التباس وأنه من عدم الفرق بين الالتباس وهو أن يفهم منه خلاف المراد والإجمال وهو أن لا يتعين فيه أحد الجانبين. ولأجل هذا جوزه، وما ذكره محل كلام وتدبر. وفي حواشي الفاضل البهلوان على تفسير البيضاوي إن هذا في الفاعل والمفعول وفي المبتدأ والخبر إذا انتفى الإعراب، والقرينة مسلم مصرح به، وأما في باب كان وأخواتها فغير مسلم اهـ. والظاهر أنه لا فرق بين باب كان وغيرها مما ذكر وإن سلم عدم التصريح لاشتراك ما ذكروه علة للمنع ثم إن ذلك إلى الالتباس أقرب منه إلى الإجمال لا سيما في الآية في رأي فافهم حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ أي إلى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 17 أن جعلناهم بمنزلة النبات المحصود والنار الخامدة في الهلاك قاله العلامة الثاني في شرح المفتاح (1) ثم قال في ذلك استعارتان بالكناية بلفظ واحد وهو ضمير جَعَلْناهُمْ حيث شبه بالنبات وبالنار وأفرد بالذكر وأريد به المشبه بهما أعني النبات والنار ادعاء بقرينة أنه نسب إليه الحصاد الذي هو من خواص النبات والخمود الذي هو خواص النار، ولا يجعل من باب التشبيه مثل هم صم بكم عمي لأن جمع خامِدِينَ جمع العقلاء ينافي التشبيه إذ ليس لنا قوم خامدون يعتبر تشبيه أهل القرية بهم إذ الخمود من خواص النار بخلاف الصمم مثلا فإنه يجعل بمنزلة هم كقوم صم وكذا يعتبر حَصِيداً بمعنى محصودين على استواء الجمع الواحد في فعيل بمعنى مفعول ليلائم خامِدِينَ نعم يجوز تشبيه هلاك القوم بقطع النبات وخمود النار فيكون استعارة تصريحية تبعية في الوصفين انتهى، وكذا في شرح المفتاح للسيد السند بيد أنه جوّز أن يجعل حَصِيداً فقط من باب التشبيه بناء على ما في الكشاف أي جعلناهم مثل الحصيد كما تقول جعلناهم رمادا أي مثل الرماد، وجعل غير واحد أفراد الحصيد لهذا التأويل فإن مثلا لكونه مصدرا في الأصل يطلق على الواحد وغيره وهو الخبر حقيقة في التشبيه البليغ ويلزم على ذلك صحة الرجال أسد وهو كما ترى، واعترض على قول الشارحين: إذ ليس لنا إلخ بأن فيه بحثا مع أن مدار ما ذكراه من كون خامِدُونَ لا يحتمل التشبيه جمعه جمع العقلاء المانع من أن يكون صفة للنار حتى لو قيل خامدة كان تشبيها، وقد صرح به الشريف في حواشيه لكنه محل تردد لأنه لما صح الحمل في التشبيه ادعاء فلم لا يصح جمعه لذلك ولولاه لما صحت الاستعارة أيضا وذهب العلامة الطيبي والفاضل اليمني إلى التشبيه في الموضعين ففي الآية أربعة احتمالات فتدبر جميع ذلك وخامِدُونَ مع حصيدا في حيز المفعول الثاني للجعل كجعلته حلوا حامضا، والمعنى جعلناهم جامعين للحصاد والخمود أو لمماثلة الحصيد والخامد أو لمماثلة الحصيد الخمود أو جعلناهم هالكين على أتم وجه فلا يراد أن الجعل نصب ثلاثة مفاعيل هنا وهو مما ينصب مفعولين أو حال من الضمير المنصوب في جَعَلْناهُمْ أو من المستكن في حَصِيداً أو هو صفة لحصيدا وهو متعدد معنى، واعترض بعضهم بأن كونه صفة له. مع كونه تشبيها أريد به ما لا يعقل يأباه كونه للعقلاء. وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ أي ما سوينا هذا السقف المرفوع وهذا المهاد الموضوع وما بينهما من أصناف الخلائق مشحونة بضروب البدائع والعجائب كما تسوي الجبابرة سقوفهم فرشهم وسائر زخارفهم للهو واللعب وإنما سويناها للفوائد الدينية والحكم الربانية كأن تكون سببا للاعتبار ودليلا للمعرفة مع منافع لا تحصى وحكم لا تستقصى، وحاصله ما خلقنا ذلك خاليا عن الحكم والمصالح إلا أنه عبر عن ذلك باللعب وهو كما قال الراغب الفعل الذي لا يقصد به مقصد صحيح لبيان كمال تنزهه تعالى عن الخلق الخالي عن الحكمة بتصويره بصورة ما لا يرتاب أحد في استحالة صدوره عنه سبحانه، وهذا الكلام على ما قيل إشارة إجمالية إلى أن تكوين العالم وإبداع بني آدم مؤسس على قواعد الحكمة البالغة المستتبعة للغايات الجليلة وتنبيه على أن ما حكي من العذاب النازل بأهل القرى من مقتضيات تلك الحكم ومتفرعاتها حسب اقتضاء أعمالهم إياه مع التخلص إلى وعيد المخاطبين، وفي الكشف أن الآيات لإثبات أمر النبوة ونفي تلك المطاعن السابقة على ما ذكره الإمام وهو الحق لأنه قد تكرر في الكتاب العزيز أن الحكمة في خلق السماء والأرض وما بينهما العبادة والمعرفة وجزاء من قام بهما ومن لم يقم ولن يتم ذلك إلا بإنزال الكتاب وإرسال الرسل عليهم السلام، فمنكر الرسالة جاعل خلق السماء والأرض لعبا تعالى خالقهما   (1) إلا أنه جعل ذلك في أهل حضور اهـ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 18 وخالق كل شيء عنه وعن كل نقص علوا كبيرا، ومنكر نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم جعل إظهار المعجزة على يديه من باب العبث واللعب ففيه إثبات نبوته عليه الصلاة والسلام وفساد تلك المطاعن كلها. وقوله سبحانه: لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا استئناف مقرر لما قبله من انتفاء اللعب في خلق السماء والأرض وما بينهما، ومعنى الآية على ما استظهره صاحب الكشف لو أردنا اتخاذ لهو لكان اتخاذ لهو من جهتنا أي لهوا إلهيا أي حكمة اتخذتموها لهوا من جهتكم وهذا عين الجد والحكمة فهو في معنى لو أردناه لامتنع. وقوله تعالى: إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ كالتكرير لذلك المعنى مبالغة في الامتناع على أن إن شرطية وجوابها محذوف أي إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ ما يوصف بفعله باللهو فكهذا يكون فعلنا ولو حمل على النفي ليكون تصريحا بنتيجة السابق كما عليه جمهور المفسرين لكان حسنا بالغا انتهى، وقال الزمخشري: مِنْ لَدُنَّا أي من جهة قدرتنا، وجعل حاصل المعنى أنا لو أردنا ذلك لاتخذنا فإنا قادرون على كل شيء إلا أنا لم نرده لأن الحكمة صارفة عنه، وذكر صاحب الكشف أن تفسيره ذلك بالقدرة غير بين، وقد فسره به أيضا البيضاوي وغيره وظاهره أن اتخاذ اللهو داخل تحت القدرة، وقد قيل إنه ممتنع عليه تعالى امتناعا ذاتيا والممتنع لا يصلح متعلقا للقدرة، وأجيب بأن صدق الشرطية لا يقتضي صدق الطرفين فهو تعليق على امتناع الإرادة أو يقال الحكمة غير منافية لاتخاذ ما من شأنه أن يتلهى به وإنما تنافى أن يفعل فعلا يكون هو سبحانه بنفسه لاهيا به فلا امتناع في الاتخاذ بل في وصفه انتهى. والحق عندي أن العبث لكونه نقصا مستحيل في حقه تعالى فتركه واجب عنه سبحانه وتعالى ونحن وإن لم نقل بالوجوب عليه تعالى لكنا قائلون بالوجوب عنه عز وجل، قال أفضل المتأخرين الكلنبوي: إن مذهب الماتريدية المثبتين للأفعال جهة محسنة أو مقبحة قبل ورود الشرع إنه إن كان في الفعل جهة تقتضي القبح فلذلك الفعل محال في حقه تعالى فتركه واجب عنه سبحانه ولا واجب عليه عز وجل، وذلك كالتكليف بما لا يطاق عندهم كالكذب عند محققي الأشاعرة والماتريدية وإن لم يكن فيه تلك الجهة فلذلك الفعل ممكن له تعالى وليس بواجب عليه سبحانه فهم يوافقون الأشاعرة في أنه تعالى لا يجب عليه شيء انتهى. ومن أنكر أن كون العبث نقصا كالكذب فقد كابر عقله، وأبلغ من هذا أنه يفهم من كلام بعض المحققين القول بوجوب رعاية مطلق الحكمة عليه سبحانه لئلا يلزم أحد المحالات المشهورة وأن المراد من نفي الأصحاب الوجوب عليه تعالى نفي الوجوب في الخصوصيات على ما يقوله المعتزلة، ولعله حينئذ يراد بالوجوب لزوم صدور الفعل عنه تعالى بحيث لا يتمكن من تركه بناء على استلزامه محالا بعد صدور موجبه اختيارا لا مطلقا ولا بشرط تمام الاستعداد لئلا يلزم رفض قاعدة الاختيار كما لا يلزم رفضها في اختيار الإمام الرازي ما اختاره كثير من الأشاعرة من لزوم العلم للنظر عقلا، ومع هذا ينبغي التحاشي عن إطلاق الوجوب عليه تعالى فتدبره فإنه مهم. وقيل معنى من عندنا مما يليق بحضرتنا من المجردات أي لاتخذناه من ذلك لا من الأجرام المرفوعة والأجسام الموضوعة كديدن الجبابرة في رفع العروش وتحسينها وتسوية الفروش وتزيينها انتهى. ولا يخفى أن أكثر أهل السنة على إنكار المجردات ثم على تقدير تفسير الآية بما ذكر المراد الرد على من يزعم اتخاذ اللهو في هذا العالم لا أنه يجوز اتخاذه من المجردات بل هو فيها أظهر في الاستحالة، وعن الجبائي أن المعنى لو أردنا اتخاذ اللهو لاتخذناه من عندنا بحيث لا يطلع عليه أحد لأنه نقص فستره أولى أو هو أسرع تبادرا مما في الكشف وذلك أبعد مغزى، وقال الإمام الواحدي: اللهو طلب الترويح عن النفس ثم المرأة تسمى لهوا وكذا الولد لأنه يستروح بكل منهما ولهذا يقال لامرأة الرجل وولده ريحانتاه، والمعنى لو أردنا أن نتخذ امرأة ذات لهو أو ولدا ذا لهو الجزء: 9 ¦ الصفحة: 19 لاتخذناه من لدنا أي مما نصطفيه ونختاره مما نشاء كقوله تعالى: لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ [الزمر: 4] وقال المفسرون: أي من الحور العين، ولهذا رد لقول اليهود في عزير وقول النصارى في المسيح وأمه من كونه عليه السلام ولدا وكونها صاحبة، ومعنى مِنْ لَدُنَّا من عندنا بحيث لا يجري لأحد فيه تصرف لأن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده لا عند غيره انتهى. وتفسير اللهو هنا بالولد مروي عن ابن عباس والسدي، وعن الزجاج أنه الولد بلغة حضرموت، وكونه بمعنى المرأة حكاه قتادة عن أهل اليمن ولم ينسبه لأهل بلدة منه، وزعم الطبرسي أن أصله الجماع ويكنى به عن المرأة لأنها تجامع وأنشد قول امرئ القيس: الا زعمت بسباسة اليوم أنني ... كبرت وان لا يحسن اللهو أمثالي والظاهر حمل اللهو على ما سمعت أولا لقوله تعالى: وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ولأن نفي الولد سيجيء مصرحا إن شاء الله تعالى، ويعلم من ذلك أن كون المراد الرد على النصارى وأضرابهم غير مناسب هنا، ثم إن الظاهر من السياق أن إن شرطية والجواب محذوف ثقة بدلالة ما قيل عليه أي إن كنا فاعلين لاتخذناه من لدنا وكونها نافية وإن كان حسنا معنى وقد قاله جماعة منهم مجاهد والحسن وقتادة وابن جريج استدرك عليه بعضهم بأن أكثر مجيء إن النافية مع اللام الفارقة لكن الأمر في ذلك سهل، وقوله تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ إضراب عن اتخاذ اللهو واللعب بل عن إرادة الاتخاذ كأنه قيل لكنا لا نريده بل شأننا أن نغلب الحق الذي من جملته الجد على الباطل الذي من جملته اللهو، وتخصيص هذا الشأن من بين سائر شؤونه تعالى بالذكر للتخلص لما سيأتي إن شاء الله تعالى من الوعيد، وعن مجاهد أن الحق القرآن والباطل الشيطان، وقيل الحق الحجة والباطل شبههم ووصفهم الله تعالى بغير صفاته من الولد وغيره، والعموم هو الأولى، وأصل القذف الرمي البعيد كما قال الراغب وهو مستلزم لصلابة الرمي وقد استعير للإيراد أي نورد الحق على الباطل. فَيَدْمَغُهُ أي يمحقه بالكلية كما فعلنا بأهل القرى المحكمة، وأصل الدمغ كسر الشيء الرخو الأجوف وقد استعير للمحق. وجوّز أن يكون هناك تمثيل لغلبة الحق على الباطل حتى يذهبه برمي جرم صلب على رأس دماغه رخو ليشقه، وفيه إيماء إلى علو الحق وتسفل الباطل وأن جانب الأول باق والثاني فان، وجوز أيضا أن يكون استعارة مكنية بتشبيه الحق بشيء صلب يجيء من مكان عال والباطل بجرم رخو أجوف سافل، ولعل القول بالتمثيل أمثل، وقرأ عيسى بن عمر «فيدمغه» بالنصب، وضعف بأن ما بعد الفاء إنما ينتصب بإضمار أن لا بالفاء خلافا للكوفيين في جواب الأشياء الستة وما هنا ليس منها ولم ير مثله إلا في الشعر كقوله: سأترك منزلي لبني تميم ... وألحق بالحجاز فاستريحا على أنه قد قيل في هذا إن استريحا ليس منصوبا بل مرفوع مؤكد بالنون الخفيفة موقوف عليه بالألف، ووجه بأن النصب في جواب المضارع المستقبل وهو يشبه التمني في الترقب، ولا يخفى أن المعنى في الآية ليس على خصوص المستقبل، وقد قالوا إن هذا التوجيه في البيت ضعيف فيكون ما في الآية أضعف منه مأخذا والعطف على هذه القراءة على الحق عند أبي البقاء، والمعنى بل نقذف بالحق فندمغه على الباطل أي نرمي بالحق فإبطاله به. وذكر بعض الأفاضل أنه لو جعل من قبيل علفتها تبنا وماء باردا صح، واستظهر أن العطف على المعنى أي نفعل القذف فالدمغ، وقرىء «فيدمغه» بضم الميم والغين فَإِذا هُوَ زاهِقٌ أي ذاهب بالكلية وفي إذا الفجائية والجملة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 20 الاسمية من الدلالة على كمال المسارعة في الذهاب والبطلان ما لا يخفى فكأنه زاهق من الأصل. وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ وعيد لقريش أو لجميع الكفار من العرب بأن لهم أيضا مثل ما لأولئك من العذاب والعقاب، وما تعليلية متعلقة بالاستقرار الذي تعلق به الخبر أو بمحذوف هو حال من الويل على مذهب بعضهم أو من ضميره المستتر في الخبر، وما إما مصدرية أو موصولة أو موصوفة أي ومستقر لكم الويل والهلاك من أجل وصفكم له تعالى بما لا يليق بشأنه الجليل تعالى شأنه أو بالذي تصفونه أو بشيء تصفونه به من الولد ونحوه أو كائنا مما تصفونه عز وجل به، وكون الخطاب لمن سمعت مما لا خفاء فيه ولا بعد، وأبعد كل البعد من قال: إنه خطاب لأهل القرى على طريق الالتفات من الغيبة في قوله تعالى فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ إليه. وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ استئناف مقرر لما قبله من خلقه تعالى لجميع مخلوقاته على حكمة بالغة ونظام كامل وأنه سبحانه يحق الحق ويزهق الباطل، وقيل هو عديل لقوله تعالى: وَلَكُمُ الْوَيْلُ وهو كما ترى أي وله تعالى خاصة جميع المخلوقات خلقا وملكا وتدبيرا وتصرفا وإحياء وإماتة وتعذيبا وإثابة من غير أن يكون لأحد في ذلك ما استقلالا واستتباعا، وكأنه أريد هنا إظهار مزيد العظمة فجيء بالسماوات جمعا على معنى له كل من هو في واحدة واحدة من السماوات ولم يرد فيما مر سوى بيان اشتمال هذا السقف المشاهد والفراش الممهد وما استقر بينهما على الحكم التي لا تحصى فلذا جيء بصيغة الإفراد دون الجمع. وفي الإتقان حيث يراد العدد يؤتى بالسماء مجموعة وحيث يراد الجهة يؤتى بها مفردة وَمَنْ عِنْدَهُ وهم الملائكة مطلقا عليهم السلام على ما روي عن قتادة وغيره، والمراد بالعندية عندية الشرف لا عندية المكان وقد شبه قرب المكانة والمنزلة بقرب المكان والمسافة فعبر عن المشبه بلفظ دال على المشبه به فهناك استعارة مصرحة. وقيل عبر عنهم بذلك تنزيلا لهم لكرامتهم عليه عز وجل منزلة المقربين عند الملوك بطريق التمثيل، والموصول مبتدأ خبره قوله تعالى: لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ أي لا يتعظمون عنها ولا يعدون أنفسهم كبراء وَلا يَسْتَحْسِرُونَ أي لا يكلون ولا يتعبون يقال حسر البعير واستحسر كل وتعب وحسرته أنا فهو متعد ولازم ويقال أيضا أحسرته بالهمز. والظاهر أن الاستحسار حيث لا طلب كما هنا أبلغ من الحسور فإن زيادة المبني تدل على زيادة المعنى، والمراد من الاتحاد بينهما الدال عليه كلامهم الاتحاد في أصل المعنى، والتعبير به للتنبيه على أن عبادتهم بثقلها ودوامها حقيقة بأن يستحسر منها ومع ذلك لا يستحسرون وليس لنفي المبالغة في الحسور مع ثبوت أصله في الجملة، ونظير ذلك قوله تعالى: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] على أحد الأوجه المشهورة فيه. وجوّز أبو البقاء وغيره أن يكون ذلك معطوفا على من الأولى وأمر تفسيره بالملائكة عليهم السلام على حاله، وذكر أن هذا العطف لكون المعطوف أخص من المعطوف عليه في نفس الأمر كالعطف في قوله تعالى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ [القدر: 4] في الدلالة على رفعة شأن المعطوف وتعظيمه حيث أفرد بالذكر مع اندراجه في عموم ما قبله، وقيل: إنما أفرد لأنه أعم من وجه فإن من في الأرض يشمل البشر ونحوهم وهو يشمل الحافين بالعرش دونه، وجوز أن يراد بمن عنده نوع من الملائكة عليهم السلام متعال عن التبوّء والاستقرار في السماء والأرض، وكأن هذا ميل إلى القول بتجرد نوع من الملائكة عليهم السلام، وأنت تعلم أن جمهور أهل الإسلام لا يقولون بتجرد شيء من الممكنات. والمشهور عن القائلين به القول بتجرد الملائكة مطلقا لا بتجرد بعض دون بعض. ثم إن أبا البقاء جوز في قوله تعالى: لا يَسْتَكْبِرُونَ على هذا الوجه أن يكون حالا من الأولى والثانية على الجزء: 9 ¦ الصفحة: 21 قول من رفع بالظرف أو من الضمير في الظرف الذي هو الخبر أو من الضمير في عِنْدَهُ ويتعين أحد الأخيرين عند من يعرب من مبتدأ ولا يجوز مجيء الحال من المبتدأ ولا يخفى. وجوز بعض الأفاضل أن تكون الجملة مستأنفة والأظهر جعلها خبرا لمن عنده، وفي بعض أوجه الحالية ما لا يخفى، وقوله تعالى: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ استئناف وقع جوابا عما نشأ قبله كأنه قيل ماذا يصنعون في عبادتهم أو كيف يعبدون فقيل يُسَبِّحُونَ إلخ. وجوز أن يكون في موضع الحال من ضمير لا يَسْتَحْسِرُونَ وقوله سبحانه: لا يَفْتُرُونَ في موضع الحال من ضمير يُسَبِّحُونَ على تقديري الاستئناف والحالية، وجوز على تقدير الحالية أن يكون هذا حالا من ضمير لا يَسْتَحْسِرُونَ أيضا ولا يجوز على تقدير الاستئناف كونه حالا منه للفصل وجوز أن يكون استئنافا والمعنى ينزهون الله تعالى ويعظمونه ويمجدونه في كل الأوقات لا يتخلل تسبيحهم فترة أصلا بفراغ أو شغل آخر، واستشكل كون الملائكة مطلقا كذلك مع أن منهم رسلا يبلغون الرسالة ولا يتأتى التسبيح حال التبليغ ومنهم من يلعن الكفرة كما ورد في آية آخري. وقد سأل عبد الله بن الحرث بن نوفل كعبا عن ذلك كما أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في الشعب فأجاب بأنه جعل لهم التسبيح كالتنفس فلا يمنع عن التكلم بشيء آخر. وتعقب بأن فيه بعدا، وقيل إن الله تعالى خلق لهم ألسنة فيسبحون ببعض ويبلغون مثلا ببعض أخر، وقيل تبليغهم ولعنهم الكفرة تسبيح معنى. وقال الخفاجي: الظاهر أنه إن لم يحمل على بعضهم فالمراد به المبالغة كما يقال فلان لا يفتر عن ثنائك وشكر آلائك انتهى. ولا يخفى حسنه، ويجوز أن يقال: إن هذا التسبيح كالحضور والذكر القلبي الذي يحصل لكثير من السالكين وذلك مما يجتمع مع التبليغ وغيره من الأعمال الظاهرة، ثم إن كون الملائكة يسبحون الليل والنهار لا يستلزم أن يكون عندهم في السماء ليل ونهار لأن المراد إفادة دوامهم على التسبيح على الوجه المتعارف، وقوله تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً حكاية الجناية أخرى من جنايات أولئك الكفرة هي أعظم من جناية طعنهم في النبوة، وأم هي المنقطعة وتقدر ببل الإضرابية والهمزة الإنكارية هي لإنكار الوقوع لا إنكار الواقع، وقوله تعالى: مِنَ الْأَرْضِ متعلق باتخذوا ومن ابتدائية على معنى أن اتخاذهم إياها مبتدأ من أجزاء الأرض كالحجارة وأنواع المعادن ويجوز كونها تبعيضية. وقال أبو البقاء وغيره: يجوز أن تكون متعلقة بمحذوف وقع صفة لآلهة أي آلهة كائنة من جنس الأرض، وأيا ما كان فالمراد التحقير لا التخصيص، ومن جوزه التزم تخصيص الإنكار بالشديد وهو غير سديد. وقوله تعالى: هُمْ يُنْشِرُونَ أي يبعثون الموتى صفة لآلهة وهو الذي يدور عليه الإنكار والتجهيل والتشنيع لا نفس الاتخاذ فإنه واقع لا محالة أي بل اتخذوا آلهة من الأرض هم خاصة مع حقارتهم وجماديتهم ينشرون الموتى كلا فإن ما اتخذوه آلهة بمعزل من ذلك وهم وإن لم يقولوا بذلك صريحا لكنهم حيث ادعوا لها الالهية فكأنهم ادعوا لها الإنشار ضرورة أنه من الخصائص الإلهية حتما ومعنى التخصيص في تقديم الضمير وما أشير إليه من التنبيه على كمال مباينة حالهم للإنشار الموجبة لمزيد الإنكار كما أن تقديم الجار والمجرور في قوله أَفِي اللَّهِ شَكٌّ [إبراهيم: 10] للتنبيه على كمال لمباينة أمره تعالى لأن يشك فيه، ويجوز أن يجعل ذلك من مستتبعات ادعائهم الباطل فإن الألوهية مقتضية للاستقلال بالإبداء، والإعادة فحيث ادعوا للأصنام الإلهية فكأنهم ادعوا لهم الاستقلال بالإنشار كما أنهم جعلوا بذلك مدعين لأصل الإنشار قاله المولى أبو السعود، وقال بعضهم: تقديم الضمير للتقوى، وما ذهب إليه من إفادته معنى التخصيص الجزء: 9 ¦ الصفحة: 22 تبع فيه الزمخشري، وفي الكشف الداعي إلى ترجيحه على التقوى أنه ترشيح لما أبداه أولا من أن الإلهية لا تصح دون القدرة على الإنشار ولا وجه لتجوير كونه فصلا انتهى، وجوز أن تكون جملة هُمْ يُنْشِرُونَ مستأنفة مقدرا معها استفهام إنكاري لبيان علة إنكار الاتخاذ، ولعل مجوز ذلك لا يسلم لزوم كون معنى الهمزة في أم المنقطعة إنكار الوقوع ويجوز كونه إنكار الواقع، وتفسير يُنْشِرُونَ يبعثون هو المشهور وعليه الجمهور، وقال قطرب: هو بمعنى يخلقون. وقرأ الحسن، ومجاهد «ينشرون» بفتح الياء على أنه من نشر وهو وأنشر بمعنى وقد يجيء نشر لازما يقال أنشر الله تعالى الموتى فنشروا، وقوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا إبطال لتعدد الإله وضمير فِيهِما للسماء والأرض والمراد بهما العالم كله علوية وسفلية والمراد بالكون فيهما التمكن للبالغ من التصرف والتدبير لا التمكن والاستقرار فيهما كما توهمه الفاضل الكلنبوي، والظرف على هذا متعلق بمكان، وقال الطيبي: إنه ظرف لآلهة على حد قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ. إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ [الزخرف: 84] وقوله سبحانه: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ [الأنعام: 3] وجعل تعلق الظرف بما ذكر هاهنا باعتبار تضمنه معنى الخالقية والمؤثرية. وأنت تعلم أن الظاهر ما ذكر أولا، و «إلا» المغايرة ما بعدها لما قبلها فهي بمنزلة غير، وفي المعنى أنها تكون صفة بمنزلة غير فيوصف بها وبتاليها جمع منكر أو شبهه ومثل للأول بهذه الآية، وقد صرح غير واحد من المفسرين أن المعنى لو كان فيهما آلهة غير الله وجعل ذلك الخفاجي إشارة إلى أن إِلَّا هنا اسم بمعنى صفة لما قبلها وظهر إعرابها فيما بعدها لكونها على صورة الحرف كما في ال الموصولة في اسم الفاعل مثلا. وأنكر الفاضل الشمني كونها بمنزلة غير في الاسمية لما في حواشي العلامة الثاني عند قوله تعالى: لا فارِضٌ [البقرة: 68] من أنه ذاتا أو صفة، ففي شرح الكافية للرضي أصل غير أن تكون صفة مفيدة لمغايرة ومجرورها لموصوفها إما بالذات نحو مررت برجل غير زيد وإما بالصفة نحو دخلت بوجه غير الذي خرجت به، وأصل إلا التي هي أم أدوات الاستثناء مغايرة ما بعدها لما قبلها نفيا أو إثباتا فلما اجتمع ما بعد إلا وما بعد غير في معنى المغايرة حملت الأعلى غير في الصفة فصار ما بعد إلا مغايرا لما قبلها ذاتا أو صفة من غير اعتبار مغايرته له نفيا أو إثباتا وحملت غير على إلا في الاستثناء فصار ما بعدها مغايرا لما قبلها نفيا أو إثباتا من غير مغايرته له ذاتا أو صفة إلا أن حمل غير على إلا أكثر من حمل إلا على غير لأن غير اسم والتصرف في الأسماء أكثر منه في الحروف فلذلك تقع غير في جميع مواقع إلا انتهى. وأنت تعلم أن المتبادر كون إلا حين إفادتها معنى غير اسما وفي وبقائها على الحرفية مع كونها وحدها أو مع بعدها بجعلهما كالشيء الواحد صفة لما قبلها نظر ظاهر وهو في كونها وحدها كذلك أظهر، ولعل الخفاجي لم يقل ما قال إلا وهو مطلع على قائل باسميتها، ويحتمل أنه اضطره إلى القول بذلك ما يرد على القول ببقائها على الحرفية، ولعمري إنه أصاب المحزوان قال العلامة ما قال، كلام الرضي ليس نصا في أحد الأمرين كما لا يخفى على المنصف. ولا يصح أن تكون للاستثناء من جهة العربية عند الجمهور لأن آلِهَةٌ جمع منكر في الإثبات ومذهب الأكثرين كما صرح به في التلويح أنه لا استغراق له فلا يدخل فيه ما بعدها حتى يحتاج لإخراجه بها وهم يوجبون دخول المستثنى في المستثنى منه في الاستثناء المتصل ولا يكتفون بجواز الدخول كما ذهب إليه المبرد وبعض الأصوليين فلا يجوز عندهم قام رجال إلا زيدا على كون الاستثناء متصلا وكذا على كونه منقطعا بناء على أنه لا بد فيه من الجزم بعدم الدخول وهو مفقود جزما، ومن أجاز الاستثناء في مثل هذا التركيب كالمبرد جعل الرفع في الاسم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 23 الجليل على البدلية، واعترض بعدم تقدم النفي، وأجيب بأن لو للشرط وهو كالنفي، وعنه أنه أجاب بأنها تدل على الامتناع وامتناع الشيء انتفاؤه وزعم أن التفريغ بعدها جائز وأن نحو لو كان معنا إلا زيد لكان أجود كلام وخالف في ذلك سيبويه فإنه قال لو قلت لو كان معنا المثال لكنت قد أحلت. ورد بأنهم لا يقولون لو جاءني ديار أكرمته ولا لو جاءني من أحد أكرمته ولو كانت بمنزلة النافي لجاز ذلك كما يجوز ما فيها ديار وما جاءني من أحد، وتعقبه الدماميني بأن للمبرد أن يقول: قد أجمعنا على إجراء أبي مجرى النفي الصريح وأجزنا التفريغ فيه قال الله تعالى فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً [الإسراء: 89] ، وقال سبحانه: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ [التوبة: 32] مع أنه لا يجوز أبي ديار المجيء وأبي من أحد الذهاب فما هو جوابكم عن هذا فهو جوابنا. وقال الرضي: أجاز المبرد الرفع في الآية على البدل لأن في لو معنى النفي وهذا كما أجاز الزجاج البدل في قَوْمَ يُونُسَ في قوله تعالى: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ [يونس: 98] الآية إجراء للتخصيص مجرى النفي والأولى عدم إجراء ذينك في جواز الإبدال والتفريغ معهما مجراه إذا لم يثبت انتهى. وذكر المالكي في شرح التسهيل أن كلام المبرد في المقتضب مثل كلام سيبويه وأن التفريغ والبدل بعد لو غير جائز، وكذا لا يصح الاستثناء من جهة المعنى ففي الكشف أن البدل والاستثناء في الآية ممتنعان معنى لأنه إذ ذاك لا يفيد ما سيق له الكلام من انتفاء التعدد ويؤدي إلى كون الآلهة بحيث لا يدخل في عدادهم الإله الحق مفض إلى الفساد فنفي الفساد يدل على دخوله فيهم وهو من الفساد بمكان ثم إن الصفة على ما ذهب إليه ابن هشام مؤكدة صالحة للإسقاط مثلها في قوله تعالى: نَفْخَةٌ واحِدَةٌ [الحاقة: 13] فلو قيل لو كان فيهما آلهة لفسدتا لصح وتأتى المراد. وقال الشلوبين. وابن الصائغ: لا يصح المعنى حتى تكون إلا بمعنى غير التي يراد بها البدل والعوض، ورد بأنه يصير المعنى حينئذ لو كان فيهما عدد من الآلهة بدل وعوض منه تعالى شأنه لفسدتا وذلك يقتضي بمفهومه أنه لو كان فيهما اثنان هو عز وجل أحدهما لم تفسدا وذلك باطل. وأجيب بأن معنى الآية حينئذ لا يقتضي هذا المفهوم لأن معناها لو كان فيهما عدد من الآلهة دونه أو به سبحانه بدلا منه وحده عز وجل لفسدتا وذلك مما لا غبار عليه فاعرف، والذي عليه الجمهور إرادة المغايرة، والمراد بالفساد البطلان والاضمحلال أو عدم التكون، والآية كما قال غير واحد مشيرة إلى دليل عقلي على نفي تعدد الإله وهو قياس استثنائي استثني فيه نقيض التالي لينتج نقيض المقدم فكأنه قيل لو تعدد الإله في العالم لفسد لكنه لم يفسد ينتج أنه لم يتعدد الإله. وفي هذا استعمال للو غير الاستعمال المشهور. قال السيد السند: إن لو قد تستعمل في مقام الاستدلال فيفهم منها ارتباط وجود الحالي بوجود المقدم مع انتفاء التالي فيعلم منه انتفاء المقدم وهو على قلته موجود في اللغة يقال: لو كان زيد في البلد لجاءنا ليعلم منه أنه ليس فيه، ومنه قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا: وقال العلامة الثاني: إن أرباب المعقول قد جعلوا لو أداة للتلازم دالة على لزوم الجزاء للشرط من غير قصد إلى القطع بانتفهائهما ولهذا صح عندهم استثناء عين المقدم فهم يستعملونها للدلالة على أن العلم بانتفاء الثاني علة للعلم بانتفاء الأول ضرورة انتفاء الملزوم بانتفاء اللازم من غير التفات إلى أن علة انتفاء الجزاء في الخارج ما هي لأنهم يستعملونها في القياسات لاكتساب العلوم والتصديقات ولا شك أن العلم بانتفاء الملزوم لا يوجب العلم بانتفاء اللازم بل الأمر بالعكس وإذا تصفحنا وجدنا استعمالها على قاعدة اللغة أكثر لكن قد تستعمل على قاعدتهم كما في قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما إلخ لظهور أن الغرض منه التصديق الجزء: 9 ¦ الصفحة: 24 بانتفاء تعدد الآلهة لا بيان سبب انتفاء الفساد اهـ. وفيه بحث يدفع بالعناية، ولا يخفى عليك أن لبعض النحويين نحو هذا القول فقد قال الشلوبين، وابن عصفور: إن لو لمجرد التعليق بين الحصولين في الماضي من غير دلالة على امتناع الأول والثاني كما أن إن لمجرد التعليق في الاستقبال والظاهر أن خصوصية المضي هاهنا غير معتبرة. وزعم بعضهم: إن لو هنا الانتفاء الثاني لانتفاء الأول كما هو المشهور فيها ويتم الاستدلال ولا يخفى ما فيه على من دقق النظر، ثم إن العلامة قال في شرح العقائد: إن الحجة إقناعية والملازمة عادية على ما هو اللائق بالخطابيات فإن العادة جارية بوقوع التمانع والتغالب عند تعدد الحاكم وإلا فإن أريد الفساد بالفعل أي خروجهما عن هذا النظام المشاهد فمجرد التعدد لا يستلزمه لجواز الاتفاق على هذا النظام وإن أريد إمكان الفساد فلا دليل على انتفائه بل النصوص شاهدة بطيّ السماوات ورفع هذا النظام فيكون ممكنا لا محالة. وكذا لو أريد بفسادهما عدم تكونهما بمعنى أنه لو فرض صانعان لأمكن بينهما تمانع في الأفعال فلم يكن أحدهما صانعا فلم يوجد مصنوع لا تكون الملازمة قطعية لأن إمكان التمانع لا يستلزم إلا عدم تعدد الصانع وهو لا يستلزم انتفاء المصنوع على أنه يرد منع الملازمة إن أريد عدم التكون بالفعل ومنع انتفاء اللازم إن أريد بالإمكان انتهى. فنفى أن تكون الآية برهانا سواء حمل الفساد على الخروج عن النظام أو على عدم التكون، وفيه قدح لما أشار إليه في شرح المقاصد من كون كونها برهانا على الثاني فإنه بعد ما قرر برهان التمانع قال: وهذا البرهان يسمى برهان التمانع وإليه الإشارة بقوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ فإن أريد عدم التكون فتقريره أن يقال: لو تعدد الآلهة لم تتكون السماء والأرض لأن تكونهما إما بمجموع القدرتين أو بكل منهما أو بأحدهما والكل باطل أما الأول فلأن من شأن الإله كمال القدرة وأما الأخيران فلما مر من التوارد والرجحان من غير مرجح، وإن أريد بالفساد الخروج عما هما عليه من النظام فتقريره أن يقال: إنه لو تعددت الآلهة لكان بينهما التنازع والتغالب وتمييز صنيع كل منهما عن الآخر بحكم اللزوم العادي فلم يحصل بين أجزاء العالم هذا الالتئام الذي باعتباره صار الكل بمنزلة شخص واحد ويختل أمر النظام الذي فيه بقاء الأنواع وترتب الآثار انتهى، وذلك القدح بأن يقال: تعدد الإله لا يستلزم التمانع بالفعل بطريق إرادة كل منهما وجود العالم بالاستقلال من غير مدخلية قدرة الآخر بل إمكان ذلك التمانع والإمكان لا يستلزم الوقوع فيجوز أن لا يقع بل يتفقان على الإيجاد بالاشتراك أو يفوض أحدهما إلى الآخر، وبحث فيه المولى الخيالي بغير ذلك أيضا ثم قال: التحقيق في هذا المقام أنه إن حملت الآية الكريمة على نفي تعدد الصانع مطلقا فهي حجة إقناعية لكن الظاهر من الآية نفي تعدد الصانع المؤثر في السماء والأرض إذ ليس المراد من الكون فيهما التمكن فيهما بل التصرف والتأثر فالحق أن الملازمة قطعية إذ التوارد باطل فتأثيرهما إما على سبيل الاجتماع أو التوزيع فيلزم انعدام الكل أو البعض عند عدم كون أحدهما صانعا لأنه جزء علة أو علة تامة فيفسد العالم أي لا يوجد هذا المحسوس كلا أو بعضا، ويمكن أن توجه الملازمة بحيث تكون قطعية على الإطلاق وهو أن يقال: لو تعدد الإله لم يكن العالم ممكنا فضلا عن الوجود وإلا لأمكن التمانع بينهما المستلزم للمحال لأن إمكان التمانع لازم لمجموع الأمرين من التعدد وإمكان شيء من الأشياء فإذا فرض التعدد يلزم أن لا يمكن شيء من الأشياء حتى لا يمكن التمانع المستلزم للمحال انتهى. وأورد الفاضل الكلنبوي على الأول خمسة أبحاث فيها الغث والسمين ثم قال: فالحق أن توجيهه الثاني لقطعية الملازمة صحيح دون الأول، وللعلامة الدواني كلام في هذا المقام قد ذكر الفاضل المذكور ما له وما عليه من النقض والإبرام، ثم ذكر أن للتمانع عندهم معنيين، أحدهما إرادة أحد القادرين وجود المقدور والآخر عدمه وهو المراد بالتمانع في البرهان المشهور ببرهان التمانع، وثانيهما إرادة كل منهما إيجاده بالاستقلال من غير مدخلية قدرة الآخر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 25 فيه وهو التمانع الذي اعتبروه في امتناع مقدور بين قادرين، وقولهم: لو تعدد الإله لم يوجد شيء من الممكنات لاستلزامه أحد المحالين إما وقوع مقدور بين قادر وإما الترجيح بلا مرجح مبني على هذا، وحاصل البرهان عليه أنه لو وجد إلهان قادران على الكمال لأمكن بينهما تمانع واللازم باطل إذ لو تمانعا وأراد كل منهما الإيجاد بالاستقلال يلزم إما أن لا يقع مصنوع أصلا أو يقع بقدرة كل منهما أو بأحدهما والكل باطل ووقوعه بمجموع القدرتين مع هذه الإرادة يوجب عجزهما لتخلف مراد كل منهما عن إرادته فلا يكونان إلهين قادرين على الكمال وفد فرضا كذلك ومن هنا ظهر أنه على تقدير التعدد لو وجد مصنوع لزم إمكان أحد المحالين إما إمكان التوارد وإما إمكان الرجحان من غير مرجح والكل محال، وبهذا الاعتبار مع حمل الفساد على عدم الكون قيل بقطعية الملازمة في الآية فهي دليل إقناعي من وجه ودليل قطعي من وجه آخر والأول أنسب إلى العوام والثاني بالنسبة إلى الخواص، وقال مصلح الدين اللاري بعد كلام طويل وقال وقيل أقول أقرر الحجة المستفادة من الآية الكريمة على وجه أوجه مما عداه وهو أن الإله المستحق للعبادة لا بد أن يكون واجب الوجود، وواجب الوجود وجوده عين ذاته عند أرباب التحقيق إذ لو غايره لكان ممكنا لاحتياجه في موجوديته إلى غيره الذي هو الوجود فلو تعدد لزم أن لا يكون وجودا فلا تكون الأشياء موجودة لأن موجودية الأشياء بارتباطها بالوجود فظهر فساد السماء والأرض بالمعنى الظاهر لا بمعنى عدم التكون لأنه تكلف ظاهر انتهى. وأنت تعلم أن إرادة عدم التكون أظهر على هذا الاستدلال، ثم إن هذا النحو من الاستدلال مما ذهب إليه الحكماء بل أكثر براهينهم الدالة على التوحيد الذي هو أجلّ المطالب الإلهية بل جميعها يتوقف على أن حقيقة الواجب تعالى هو الوجود البحت القائم بذاته المعبر عنه بالوجوب الذاتي والوجود المتأكد وأن ما يعرضه الوجوب أو الوجود فهو في حد نفسه ممكن ووجوده كوجوبه يستفاد من الغير فلا يكون واجبا ومن أشهرها أنه لو فرضنا موجودين واجبي الوجود لكانا مشتركين في وجوب الوجود ومتغايرين بأمر من الأمور وإلا لم يكونا اثنين، وما به الامتياز إما أن يكون تمام الحقيقة أو جزءها لا سبيل إلى الأول لأن الامتياز لو كان بتمام الحقيقة لكان وجوب الوجود المشترك بينهما خارجا عن حقيقة كل منهما أو عن حقيقة أحدهما وهو محال لما تقرر من أن وجوب الوجود نفس حقيقة واجب الوجود لذاته، ولا سبيل إلى الثاني لأن كل واحد منهما يكون مركبا مما به الاشتراك وما به الامتياز وكل مركب محتاج فلا يكون واجبا لإمكانه فيكون كل من الواجبين أو أحدهما ممكنا هذا خلف، واعترض بأن معنى قولهم وجوب الوجود نفس حقيقة واجب الوجود أنه يظهر من نفس تلك الحقيقة إثر صفة وجوب الوجود لا أن تلك الحقيقة عين هذه الصفة فلا يكون اشتراك موجودين واجبي الوجود في وجوب الوجود إلا أن يظهر من نفس كل منهما إثر صفة الوجوب فلا منافاة بين اشتراكهما في وجوب الوجود وتمايزهما بتمام الحقيقة، وأجيب بأن المراد العينية، ومعنى قولهم إن وجوب الوجود عين حقيقة الواجب هو أن ذاته بنفس ذاته مصداق هذا الحكم ومنشأ انتزاعه من دون انضمام أمر آخر ومن غير ملاحظة حيثية أخرى غير ذاته تعالى أية حيثية كانت حقيقية أو إضافية أو سلبية، وكذلك قياس سائر صفاته سبحانه عند القائلين بعينيتها من أهل التحقيق، وتوضيح لك على مشربهم أنك كما قد تعقل المتصل مثلا نفس المتصل كالجزء الصوري للجسم من حيث هو جسم وقد تعقل شيئا ذلك الشيء هو المتصل كالمادة فكذلك قد تعقل واجب الوجود بما هو واجب الوجود وقد تعقل شيئا ذلك الشيء هو واجب الوجود ومصداق الحكم به ومطابقه في الأول حقيقة الموضوع وذاته فقط، وفي الثاني هي مع حيثية أخرى هي صفة قائمة بالموضوع حقيقية أو انتزاعية وكل واجب الوجود لم يكن نفس واجب الوجود بل يكون له حقيقة تلك الحقيقة متصفة بكونها واجبة الوجود ففي اتصافها تحتاج إلى عروض هذا الأمر وإلى جاعل يجعلها بحيث ينتزع منها هذا الأمر فهي في حد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 26 ذاتها ممكنة الوجود وبه صارت واجبة الوجود فلا تكون واجب الوجود بذاته فهو نفس واجب الوجود بذاته وليقس على ذلك سائر صفاته تعالى الحقيقية الكمالية كالعلم والقدرة وغيرهما. واعترض أيضا بأنه لم يجوز أن يكون ما به الامتياز أمرا عارضا لا مقوما حتى يلزم التركيب. وأجيب بأن ذلك يوجب أن يكون التعين عارضا وهو خلاف ما ثبت بالبرهان، ولابن كمونة في هذا المقام شبهة شاع أنها عويصة الدفع عسيرة الحل حتى أن بعضهم سماه لابدائها بافتخار الشياطين وهي أنه لم لا يجوز أن يكون هناك هويتان بسيطتان مجهولتا الكنه مختلفتان بتمام الماهية يكون كل منهما واجبا بذاته ويكون مفهوم واجب الوجود منتزعا منهما مقولا عليها قولا عرضيا، وقد رأيت في ملخص الإمام عليه الرحمة نحوها، ولعلك إذا أحطت خبرا بحقيقة ما ذكرنا يسهل عليك حلها وإن أردت التوضيح فاستمع لما قيل في ذلك إن مفهوم واجب الوجود لا يخلو إما أن يكون انتزاعه عن نفس ذات كل منهما من دون اعتبار حيثية خارجة أية حيثية كانت أو مع اعتبار تلك الحيثية وكلا الشقين محال، أما الثاني فلما تقرر أن كل ما لم يكن ذاته مجرد حيثية انتزاع الوجوب فهو ممكن من ذاته، وأما الأول فلأن مصداق حمل مفهوم واحد ومطابق صدقه بالذات مع قطع النظر عن أية حيثية كانت لا يمكن أن يكون حقائق متخالفة متباينة بالذات غير مشتركة في ذاتي أصلا، ولعل كل سليم الفطرة يحكم بأن الأمور المتخالفة من حيث كونها متخالفة بلا حيثية جامعة لا تكون مصداقا لحكم واحد ومحكيا عنها به نعم يجوز ذلك إذا كانت تلك الأمور متماثلة من جهة كونها متماثلة ولو في أمر سلبي بل نقول لو نظرنا إلى نفس مفهوم الوجود المصدري المعلوم بوجه من الوجوه بديهة أدانا النظر والبحث إلى أن حقيقته وما ينتزع هو منه أمر قائم بذاته هو الواجب الحق الوجود المطلق الذي لا يشوبه عموم ولا خصوص ولا تعدد إذ كل ما وجوده هذا الوجود لا يمكن أن يكون بينه وبين شيء آخر له أيضا هذا الوجود فرضا مباينة أصلا ولا تغاير فلا يكون اثنان بل يكون هناك ذات واحدة ووجود واحد كما لوح إليه صاحب التلويحات بقوله: صرف الوجود الذي لا أتم منه كلما فرضته ثانيا فإذا نظرت فهو هو إذ لا ميز في صرف شيء فوجوب وجوده تعالى الذي هو ذاته سبحانه تدل على وحدته جل وعلا انتهى فتأمل. ولا يخفى عليك أن أكثر البراهين على هذا المطلب الجليل الشأن يمكن تخريج الآية الكريمة عليه ويحمل حينئذ الفساد على عدم التكون فعليك بالتخريج وإن أحوجك إلى بعض تكلف وإياك أن تقنع بجعلها حجة إقناعية كما ذهب إليه كثير فإن هذا المطلب الجليل أجل من أن يكتفى فيه بالإقناعات المبنية على الشهرة والعادة، ولصاحب الكشف طاب ثراه كلام يلوح عليه مخايل التحقيق في هذا المقام سنذكره إن شاء الله تعالى كما اختاره في تفسير قوله تعالى: إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ [المؤمنون: 91] ثم لا تتوهمن أنه لا يلزم من الآية نفي الاثنين والواحد لأن نفي آلهة تغاير الواحد المعين شخصا يستلزم بالضرورة أن كل واحد واحد منهم يغايره شخصا وهو أبلغ من نفي واحد يغاير المعين في الشخص على أنه طوبق به قوله تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ وقيام الملازمة كاف في نفي الواحد والاثنين أيضا واستشكل سياق الآية الكريمة بأن الظاهر أنها إنما سيقت لإبطال عبادة الأصنام المشار إليه بقوله تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ لذكرها بعده، وهي لا تبطل إلا تعدد الإله الخالق القادر المدبر التام الألوهية وهو غير متعدد عند المشركين، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25، الزمر: 38] وهم يقولون في آلهتهم ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: 3] فما قالوا به لا تبطله الآية وما تبطله الآية لم يقولوا به ومن هنا قيل معنى الآية لو كان في السماء والأرض آلهة كما يقول عبدة الأوثان: لزم فساد العالم لأن تلك الآلهة التي يقولون بها جمادات لا تقدر على تدبير العالم فيلزم فساد العالم، وأجيب بأن قوله تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا إلخ مسوق للزجر عن عبادة الأصنام وإن لم تكن لها الألوهية التامة لأن العبادة إنما تليق لمن له ذلك وبعد الزجر عن ذلك أشار سبحانه إلى أن من له ما ذكر لا يكون إلا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 27 واحدا على أن شرح اسم الإله هو الواجب الوجود لذاته الحي العالم المريد القادر الخالق المدبر فمتى أطلقوه على شيء لزمهم وصفه بذلك شاؤوا أو أبوا فالآية لإبطال ما يلزم قولهم على أتم وجه فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ أي نزهوه أكمل تنزيه عن أن يكون من دونه تعالى آلهة كما يزعمون فالفاء لترتيب ما بعده على ما قبلها من ثبوت الوحدانية، وإبراز الجلالة في موقع الإضمار للإشعار بعلة الحكم فإن الألوهية مناط لجميع صفات الكمال التي من جملتها تنزهه تعالى عن الشركة لتربية المهابة وإدخال الروعة، والوصف برب العرش لتأكد التنزه مع ما في ذلك من تربية المهابة، والظاهر أن المراد حقيقة الأمر بالتنزيه، وقيل: المراد بالتعجيب ممن عبد تلك المعبودات الخسيسة وعدها شريكا مع وجود المعبود العظيم الخالق لأعظم الأشياء، والكلام عليه أيضا كالنتيجة لما قبله من الدليل، وقوله تعالى: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ يمكن أن يكون جواب سؤال مقدر ناشىء من إثبات توحده سبحانه في الألوهية المتضمن توحده تعالى في الخلق والتصرف ووصف الكفرة إياه سبحانه بما لا يليق كأنه قيل إذا كان الله تعالى هو الإله الخالق المتصرف فلم خلق أولئك الكفرة ولم يصرفهم عما يقولون فأجيب بقوله سبحانه: لا يُسْئَلُ إلخ وحاصله أنه تعالى لا ينبغي لأحد أن يعترض عليه في شيء من أفعاله إذ هو حكيم مطلق لا يفعل ما يرد عليه الاعتراض وَهُمْ يُسْئَلُونَ عما يفعلون ويعترض عليهم، وهذا الحكم في حقه تعالى عام لجميع أفعاله سبحانه ويندرج فيه خلق الكفرة وإيجادهم على ما هم عليه، ووجه حل السؤال الناشئ مما تقدم بناء على ما يشير إليه هذا الجواب الإجمالي أنه تعالى خلق الكفرة بل جميع المكلفين على حسب ما علمهم مما هم عليه في أنفسهم لأن الخلق مسبوق بالإرادة والإرادة مسبوقة بالعلم والعلم تابع للمعلوم فيتعلق به على ما هو عليه في ثبوته الغير المجعول مما يقتضيه استعداده الأزلي، وقد يشير إلى بعض ذلك قول الشافعي عليه الرحمة من أبيات: خلقت العباد على ما علمت ... ففي العلم يجري الفتى والمسن ثم بعد أن خلقهم على حسب ذلك كلفهم لاستخراج سر ما سبق به العلم التابع للمعلوم من الطوع والإباء اللذين في استعدادهم الأزلي وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين لتتحرك الدواعي ويهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة ولا يكون للناس على الله تعالى حجة فلا يتوجه على الله تعالى اعتراض بخلق الكافر وإنما يتوجه الاعتراض على الكافر بكفره حيث إنه من توابع استعداده في ثبوته الغير المجعول، وقد يشير إلى ذلك قوله سبحانه: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [النحل: 118] وقوله عليه الصلاة والسلام «فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» وهذا وإن كان مما فيه قيل وقال ونزاع وجدال إلا أنه مما ارتضاه كثير من المحققين والأجلة العارفين، وقال البعض: إن ذلك استئناف بيان أنه تعالى لقوة عظمته الباهرة وعزة سلطنته القاهرة بحيث ليس لأحد من مخلوقاته أن يناقشه ويسأله عما يفعل من أفعاله أثر بيان أن ليس له شريك في الألوهية، وضمير «هم» للعباد أي والعباد يسئلون عما يفعلون نقيرا وقطميرا لأنهم مملوكون له تعالى مستعبدون، وفي هذا وعيد للكفرة، والظاهر أن المراد عموم النفي جميع الأزمان أي لا يسأل سبحانه في وقت من الأوقات عما يفعل، وخص ذلك الزجاج بيوم القيامة والأول أولى وإن كان أمر الوعيد على هذا أظهر واستدل بالآية على أن أفعاله تعالى لا تعلل بالأغراض والغايات فلا يقال فعل كذا لكذا إذ لو كانت معللة لكان للعبد أن يسأل فيقول لم فعل؟ وإلى ذلك ذهب الأشاعرة ولهم عليه أدلة عقلية أيضا وأولوا ما ظاهره التعليل بالحمل على المجاز أو جعل الأداة فيه للعاقبة، ومذهب الماتريدية كما في شرح المقاصد والمعتزلة أنها تعلل بذلك وإليه ذهب الحنابلة كما قال الوفي وغيره. وقال العلامة أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الدمشقي الحنبلي المعروف بابن القيم في كتاب شفاء العليل: إن الله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 28 سبحانه وتعالى حكيم لا يفعل شيئا عبثا ولا لغير معنى ومصلحة وحكمة هي الغاية المقصودة بالفعل بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل، وقد دل كلامه تعالى وكلام رسوله صلّى الله عليه وسلّم على هذا في مواضع لا تكاد تحصى ولا سبيل إلى استيعاب أفرادها فنذكر بعض أنواعها وساق اثنين وعشرين نوعا في بضعة عشرة ورقة ثم قال: لو ذهبنا نذكر ما يطلع عليه أمثالنا من حكمة الله تعالى في خلقه وأمره لزاد ذلك على عشرة آلاف موضع ثم قال: وهل إبطال الحكم والمناسبات والأوصاف التي شرعت الأحكام لأجلها إلا إبطال الشرع جملة؟ وهل يمكن فقيها على وجه الأرض أن يتكلم في الفقه مع اعتقاده بطلان الحكمة والمناسبة والتعليل. وقصد الشارع بالأحكام مصالح العباد؟ ثم قال: والحق الذي لا يجوز غيره هو أنه سبحانه يفعل بمشيئته وقدرته وإرادته ويفعل ما يفعل بأسباب وحكم وغايات محمودة، وقد أودع العالم من القوى والغرائز ما به قام الخلق والأمر هذا قول جمهور أهل الإسلام. وأكثر طوائف النظار وهو قول الفقهاء قاطبة اهـ. والظاهر أن ابن القيم وأضرابه من أهل السنة القائلين بتعليل أفعاله تعالى لا يجعلون كالأشاعرة المخصص لأحد الضدين بالوقوع محض تعلق الإرادة بالمعنى المشهور ومحققو المعتزلة كأبي الحسن والنظام والجاحظ والعلاف وأبي القاسم البلخي، وغيرهم يقولون: إن العلم بترتب النفع على إيجاد النافع هو المخصص للنافع بالوقوع ويسمون ذلك العلم بالداعي وهو الإرادة عندهم. وأورد عليهم أن الواجب تعالى موجب في تعلق علمه سبحانه بجميع المعلومات فلو كان المخصص الموجب للوقوع هو العلم بالنفع كان ذلك المخصص لازما لذاته تعالى فيكون فعله سبحانه واجبا لأمر خارج ضروري للفاعل وهو ينافي الاختيار بالمعنى الأخص قطعا فلا يكون الواجب مختارا بهذا المعنى بل يؤول إلى ما ذهب إليه الفلاسفة من الاختيار المجامع للإيجاب، ولا يرد ذلك على القائلين بأن المخصص هو تعلق الإرادة الأزلية لأن ذلك التعلق غير لازم لذات الواجب تعالى وإن كان أزليا دائما لإمكان تعلقها بالضد الآخر بدل الضد الواقع، نعم يرد عليهم ما يصعب التقصي عنه مما هو مذكور في الكتب الكلامية، وأورد نظير ما ذكر على الحنفية فإنهم ذهبوا إلى التعليل وجعلوا العلم بترتب المصالح علة لتعلق العلم بالوقوع فلا يتسنى لهم القول بكون الواجب تعالى مختارا بالمعنى الأخص لأن الذات يوجب العلم والعلم يوجب تعلق الإرادة وتعلق الإرادة يوجب الفعل ولا مخلص إلا بأن يقال: إن إيجاب العلم بالنفع والمصلحة لتعلق الإرادة ممنوع عندهم بل هو مرجح ترجيحا غير بالغ إلى حد الوجوب وما قيل إذا لم يبلغ الترجيح إلى حد الوجوب جاز وقوع الراجح وفي وقت وعدم وقوعه في وقت آخر مع ذلك المرجح فإن كان اختصاص أحد الوقتين بالوقوع بانضمام شيء آخر إلى ذلك المرجح لم يكن المرجح مرجحا وإلا يلزم الترجيح من غير مرجح بل يلزم ترجيح المرجوح عدمه في الوقت الآخر لأن الوقوع كان راجحا بذلك المرجح فمدفوع بوجهين إلا أنه إنما يجري في العلة التامة بالنسبة إلى معلولها لا في الفاعل المختار بالنسبة إلى فعله فإنه إن أريد لزوم الرجحان من غير مرجح كما هو اللازم في العلة التامة فعدم اللزوم ظاهر وإن أريد الترجيح من غير مرجح فبطلان اللازم في الفاعل المختار ممنوع وإلا فما الفرق بين الفاعل الموجب والمختار، الثاني أن المرجح بالنسبة إلى وقت ربما لا يكون مرجحا بالنسبة إلى وقت آخر بل منافيا للمصلحة فلا يلزم ترجيح أحد المتساويين أو المرجوح في وقت آخر بل يلزم ترجيح الراجح في كل وقت وهو تعالى عالم بجميع المصالح اللائقة بالأوقات فتتعلق إرادته سبحانه بوقوع كل ممكن في وقت لترتب المصالح اللائقة بذلك الوقت على عدمه فلا إشكال، وهذا هو المعول عليه إذ لقائل أن يقول على الأول أن ترجيح المرجوح مستحيل في حق الواجب الحكيم وإن جاز في حق غيره من أفراد الفاعل بالاختبار. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 29 هذا ووقع في كلام الفلاسفة أن أفعال الله تعالى غير معللة بالأغراض والغايات ومرادهم على ما قاله بعضهم ففي التعليل عن فعله سبحانه بما هو غير ذاته لأنه جل شأنه تام الفاعلية لا يتوقف فيها على غيره ولا يلزم من ذلك نفي الغاية والغرض عن فعله تعالى مطلقا ولذا صح أن يقولوا علمه تعالى بنظام الخير الذي هو عين ذاته تعالى علة غائية وغرض في الإيجاد ومرادهم بالاقتضاء في قولهم في تعريف العلة الغائية ما يقتضي فاعلية الفاعل مطلق عدم الانفكاك لكنهم تسامحوا في ذلك اعتمادا على فهم المتدرب في العلوم وصرحوا بأنه تعالى ليس له غرض في الممكنات وقصد إلى منافعها لأن كل فاعل يفعل لغرض غير ذاته فهو فقير إلى ذلك الغرض مستكمل به والمكمل يجب أن يكون أشرف فغرض الفاعل يجب أن يكون ما هو فوقه وإن كان بحسب الظن وليس له غرض فيما دونه وحصول وجود الممكنات منه تعالى على غاية من الإتقان ونهاية من الأحكام ليس إلا لأن ذاته تعالى ذات لا تحصل منه الأشياء إلا على أتم ما ينبغي وأبلغ ما يمكن من المصالح فالواجب سبحانه عندهم يلزم من تعقله لذاته الذي هو مبدأ كل خير وكمال حصول الممكنات على الوجه الأتم والنظام الأقوم واللوازم غايات عرضية إن أريد بالغاية ما يقتضي فاعلية الفاعل وذاتية إن أريد بها ما يترتب على الفعل ترتبا ذاتيا لا عرضيا كوجود مبادئ الشر وغيرها في الطبائع الهيولانية ثم كما أنه تعالى غاية بالمعنى الذي أشير إليه فهو غاية بمعنى أن جميع الأشياء طالبة له متشوقة إليه طبعا وإرادة لأنه الخير المحض والمعشوق الحقيقي جل جلاله وعم نواله. والحكماء المتألهون قد حكموا بسريان نور العشق في جميع الموجودات على تفاوت طبقاتها ولولا ذلك ما دار الفلك ولا استنار الحلك فسبحانه من إله قاهر وهو الأول والآخر، وتمام الكلام في هذا المقام على مشرب المتكلمين والفلاسفة يطلب من محله. وقرأ الحسن «لا يسل» و «يسلون» بنقل فتحة الهمزة إلى السين وحذفها وقوله تعالى: أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إضراب وانتقال من إظهار بطلان كون ما اتخذوه آلهة حقيقية بإظهار خلوها عن خصائص الإلهية التي من جملتها الإنشار وإقامة البرهان القطعي على استحالة تعدد الإله مطلقا وتفرده سبحانه بالألوهية إلى بطلان اتخاذهم تلك الآلهة مع عرائها عن تلك الخصائص بالمرة شركاء لله تعالى شأنه وتبكيتهم بإلجائهم إقامة البرهان على دعواهم الباطلة وتحقيق أن جميع الكتب السماوية ناطقة بحقية التوحيد وبطلان الإشراك. وجوز أن يكون هذا انتقالا لإظهار بطلان الآلهة مطلقا بعد إظهار بطلان الآلهة الأرضية، والهمزة لإنكار الاتخاذ المذكور واستقباحه واستعظامه ومن متعلقة باتخذوا، والمعنى بل اتخذوا متجاوزين إياه تعالى مع ظهور شؤونه الجليلة الموجبة لتفرده بالألوهية آلهة مع ظهور أنها عارية عن خواص الألوهية بالكلية. قُلْ لهم بطريق التبكيت وإلقام الحجر هاتُوا بُرْهانَكُمْ على ما تدعونه من جهة العقل الصريح أو النقل الصحيح فإنه لا يصح القول بمثل ذلك من غير دليل عليه، وما في إضافة البرهان إلى ضميرهم من الإشعار بأن لهم برهانا ضرب من التهكم بهم، وقوله تعالى: هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي إنارة لبرهانه وإشارة إلى أنه مما نطقت به الكتب الإلهية قاطبة وزيادة تهييج لهم على إقامة البرهان لإظهار كمال عجزهم أي هذا الوحي الوارد في شأن التوحيد المتضمن للبرهان القاطع ذكر أمتي وعظتهم وذكر الأمم السالفة قد أقمته فأقيموا أنتم أيضا برهانكم، وأعيد لفظ ذِكْرُ ولم يكتف بعطف الموصول على الموصول المستدعي للانسحاب لأن كون المشخص ذكر من معه وكونه ذكر من قبله باعتبار اتحاده بالحقيقة مع الوحي المتضمن ذلك. وقيل: المراد بالذكر الكتاب أي هذا كتاب أنزل على أمتي وهذا كتاب أنزل على أمم الأنبياء عليهم السلام من الكتب الثلاثة والصحف فراجعوها وانظروا هل في واحد منها غير الأمر بالتوحيد والنهي عن الإشراك ففيه تبكيت لهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 30 متضمن لنقيض مدعاهم وقرىء بتنوين ذكر الأول والثاني وجعل ما بعده منصوب المحل على المفعولية له لأنه مصدر وأعماله هو الأصل نحو أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً [البلد: 14] . وقرأ يحيى بن يعمر وطلحة بالتنوين وكسر ميم «من» فهي على هذا حرف جر ومع مجروره بها وهي اسم يدل على الصحبة والاجتماع جعلت هنا ظرفا كقبل وبعد فجاز إدخال من عليها كما جاز إدخالها عليهما لكن دخولها عليها نادر، ونص أبو حيان أنها حينئذ بمعنى عند. وقيل: من داخلة على موصوفها أي عظة من كتاب معي وعظة من كتاب من قبلي، وأبو حاتم ضعف هذه القراءة لما فيها من دخول من على مع ولم ير له وجها وعن طلحة أنه قرأ «هذا ذكر معي وذكر قبلي» بتنوين «ذكر» وإسقاط «من» وقرأت فرقة «هذا ذكر من» بالإضافة «وذكر من قبلي» بالتنوين وكسر الميم، وقوله تعالى: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ إضراب من جهته تعالى غير داخل في الكلام الملقن وانتقال من الأمر بتبكيتهم بمطالعة البرهان إلى بيان أن الاحتجاج عليهم لا ينفع لفقدهم التمييز بين الحق والباطل فَهُمْ لأجل ذلك مُعْرِضُونَ مستمرون على الإعراض عن التوحيد واتباع الرسول لا يرعوون عما هم عليه من الغي والضلال وإن كررت عليهم البينات والحج أو فهم معرضون عما ألقي عليهم من البراهين العقلية والنقلية. وقرأ الحسن وحميد وابن محيض «الحقّ» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق، والجملة معترضة بين السبب والمسبب تأكيدا للربط بينهما، وجوز الزمخشري أن يكون المنصوب أيضا على معنى التأكيد كما تقول هذا عبد الله الحق لا الباطل، والظاهر أنه منصوب على أنه مفعول به ليعلمون والعلم بمعنى المعرفة. وقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ استئناف مقرر لما سبق من آي التوحيد وقد يقال إن فيه تعميما بعد تخصيص إذا أريد من ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي الكتب الثلاثة، ولما كان مِنْ رَسُولٍ عاما معنى فكان هناك لفظ ومعنى أفرد على اللفظ في نوحي إليه ثم جمع على المعنى في فَاعْبُدُونِ ولم يأت التركيب فاعبدني وهذا بناء على أن فَاعْبُدُونِ داخل في الموحي وجوز عدم الدخول على الأمر له صلّى الله عليه وسلّم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 31 ولأمته، وقرأ أكثر السبعة «يوحي» على صيغة الغائب مبنيا للمفعول، وأيا ما كان فصيغة المصارع لحكاية الحال الماضية استحضارا لصورة الوحي وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً حكاية لجناية فريق من المشركين لإظهار بطلانها وبيان تنزهه سبحانه عن ذلك إثر بيان تنزهه جلا وعلا عن الشركاء على الإطلاق وهم حي من خزاعة قالوا الملائكة بنات الله سبحانه. ونقل الواحدي أن قريشا وبعض العرب جهينة وبني سلامة وخزاعة وبني مليح قالوا ذلك. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال قالت اليهود إن الله عز وجل صاهر الجن فكانت بينهم الملائكة فنزلت والمشهور الأول. والآية مشنعة على كل من نسب إليه ذلك كالنصارى القائلين عيسى ابن الله واليهود القائلين عزيز ابن الله تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، والتعرض لعنوان الرحمانية المنبئة عن جميع ما سواه تعالى مربوبا له تعالى لإبراز كمال شناعة مقالتهم الباطلة سُبْحانَهُ أي تنزهه بالذات تنزهه اللائق به على أن السبحان مصدر سبح أي بعد أن أسبحه تسبيحه على أنه علم للتسبيح وهو مقول على ألسنة العباد أو سبحوه تسبيحة. وقوله تعالى: بَلْ عِبادٌ إضراب وإبطال لما قالوا كأنه قيل: ليست الملائكة كما قالوا بل هم عباد من حيث إنهم مخلوقون له تعالى فهم ملكه سبحانه والولد لا يصح تملكه، وفي قوله تعالى: مُكْرَمُونَ أي مقربون عنده تعالى تعالى تنبيه على منشأ غلطهم وقرأ عكرمة مكرمون بالتشديد لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ أي لا يقولون شيئا حتى يقوله تعالى أو يأمرهم به كما هو دين العبيد المؤدبين ففيه تنبيه على كمال طاعتهم وانقيادهم لأمره عز وجل وتأدبهم معه تعالى، والأصل لا يسبق قولهم قوله تعالى فأسند السبق إليهم منسوبا إليه تعالى تنزيلا لسبق قولهم قوله سبحانه منزلة سبقهم إياه عز وجل لمزيد تنزيههم عن ذلك وللتنبيه على غاية استهجان السبق المعرض به للذين يقولون ما لم يقله تعالى، وجعل القول محل السبق وآلته التي يسبق بها وأنيبت اللام عن الإضافة إلى الضمير على ما ذهب إليه الكوفيون للاختصاص والتجافي عن التكرار. وقرىء «لا يسبقونه» بضم الباء الموحدة على أنه من باب المغالبة يقال سابقني فسبقته وأسبقه ويلزم فيه ضم عين المضارع ما لم تكن عينه أو لامه ياء، وفيه مزيد استهجان للسبق وإشعار بأن من سبق قوله قوله تعالى فقد تصدى لمغالبته تعالى في السبق وزيادة تنزيه عما نفي عنهم ببيان أن ذلك عندهم بمنزلة الغلبة بعد المغالبة فأنى يتوهم صدوره عنهم وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ بيان لتبعيتهم له تعالى في الأعمال إثر بيان تبعيتهم له سبحانه في الأقوال كأنه قيل هم بأمره يقولون وبأمره يعملون لا بغير أمره تعالى أصلا بأن يعملوا من تلقاء أنفسهم، فالحصر المستفاد من تقديم الجار بالنسبة إلى غير أمره تعالى لا إلى أمر غيره سبحانه يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ استئناف وقع تعليلا لما قبله وتمهيدا لما بعده كأنه قيل إنما لم يقدموا على قول أو عمل بغير أمره تعالى لأنه سبحانه لا يخفى عليه خافية مما قدموا وأخروا فلا يزالون يراقبون أحوالهم حيث إنهم يعلمون ذلك وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى الله تعالى أن يشفع له. وهو كما أخرج ابن جرير والمنذر والبيهقي في البعث. وابن أبي حاتم عن ابن عباس من قال لا إله إلا الله وشفاعتهم الاستغفار، وهي كما في الصحيح تكون في الدنيا والآخرة ولا متمسك للمعتزلة في الآية على أن الشفاعة لا تكون لأصحاب الكبائر فإنها لا تدل على أكثر من أن لا يشفعوا لمن لا ترتضى الشفاعة له مع أن عدم شفاعة الملائكة لا تدل على عدم شفاعة غيرهم وَهُمْ مع ذلك مِنْ خَشْيَتِهِ أي بسبب خوف عذابه عز وجل مُشْفِقُونَ متوقعون من إمارة ضعيفة كائنون على حذر ورقبة لا يأمنون مكر الله تعالى، فمن تعليلية والكلام على حذف مضاف، وقد يراد من خشيته تعالى ذلك فلا حاجة إليه. وقيل: يحتمل أن يكون المعنى أنهم يخشون الله تعالى ومع ذلك يحذرون من وقوع تقصير خشيتهم وعلى هذا تكون مِنْ صلة لمشفقون، وفرق بين الخشية والإشفاق بأن الأول خوف مشوب بتعظيم ومهابة ولذلك خص به الجزء: 9 ¦ الصفحة: 32 العلماء في قوله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] والثاني خوف مع اعتناء ويعدى بمن كما يعدى الخوف وقد يعدى بعلى بملاحظة الحنو والعطف، وزعم بعضهم أن الخشية هاهنا مجاز عن سببها وأن المراد من الإشفاق شدة الخوف أي وهم من مهابته تعالى شديد والخوف، والحق أنه لا ضرورة لارتكاب المجاز، وجوز أن يكون المعنى وهم خائفون من خوف عذابه تعالى على أن من صلة لما بعدها وإضافة خشية إلى المضاف المحذوف من إضافة الصفة إلى الموصوف أي خائفون من العذاب المخوف، ولا يخفى ما فيه من التكلف المستغنى عنه، ثم إن هذا الإشفاق صفة لهم دنيا وأخرى كما يشعر به الجملة الاسمية، وقد كثرت الأخبار الدالة على شدة خوفهم، ومن ذلك ما أخرج ابن أبي حاتم عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة أسري بي ومررت بجبريل عليه السلام وهو بالملأ الأعلى ملقى كالحلس البالي من خشية الله تعالى وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ أي من الملائكة عليهم السلام، وقيل من الخلائق، والأول هو الذي يقتضيه السياق إذ الكلام في الملائكة عليهم السلام وفي كونهم بمعزل عما قالوه في حقهم، والمراد من يقل منهم على سبيل الفرض إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ أي متجاوزا إياه تعالى فَذلِكَ أي الذي فرض قوله ما ذكر فرض محال نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كسائر المجرمين ولا يغني عنه ما سبق من الصفات السنية والأفعال المرضية وعن الضحاك وقتادة عدم اعتبار الفرض وقالا: إن الآية خاصة بإبليس عليه اللعنة فإنه دعا إلى عبادة نفسه وشرع الكفر، والمعول عليه ما ذكرنا، وفيه من الدلالة على قوة ملكوته تعالى وعزة جبروته واستحالة كون الملائكة بحيث يتوهم في حقهم ما يتوهم أولئك الكفرة ما لا يخفى. وقرأ أبو عبد الرحمن المقري «نجزيه» بضم النون أراد نجزئه بالهمز من أجزأني كذا كفاني ثم خفف الهمزة فانقلبت ياء كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ مصدر تشبيهي مؤكد لمضمون ما قبله أي مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي الذي يضعون الأشياء في غير مواضعها ويتعدون أطوارهم، والقصر المستفاد من التقديم يعتبر بالنسبة إلى النقصان دون الزيادة أي لأجزاء أنقص منه أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا تجهيل لهم بتقصيرهم عن التدبر في الآيات التكوينية الدالة على عظيم قدرته وتصرفه وكون جميع ما سواه مقهورا تحت ملكوته على وجه ينتفعون به ويعلمون أن من كان كذلك لا ينبغي أن يعدل عن عبادته إلى عبادة حجر أو نحوه مما لا يضر ولا ينفع، والهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر. وقرأ ابن كثير وحميد وابن محيصن بغير واو، والرؤية قلبية أي ألم يتفكروا ولم يعلموا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا الضمير للسماوات والأرض، والمراد من السموات طائفتها ولذا ثني الضمير ولم يجمع، ومثل ذلك قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فاطر: 41] وكذا قول الأسود بن يعفر: إن المنية والحتوف كلاهما ... دون المحارم يرقبان سوادي وأفرد الخبر أعني قوله تعالى: رَتْقاً ولم يثن لأنه مصدر، والحمل إما بتأويله بمشتق أو لقصد المبالغة أو بتقدير مضاف أي ذاتي رتق، وهو في الأصل الضم والالتحام خلقة كأن أم صنعة، ومنه الرتقاء الملتحمة محل الجماع وقرأ الحسن وزيد بن علي وأبو حيوة وعيسى «رتقا» بفتح التاء وهو اسم المرتوق كالنقض والنقض فكان قياسه أن يثنّى هنا ليطابق الاسم فقال الزمخشري: هو على تقدير موصوف أي كانتا شيئا رتقا وشيء اسم جنس شامل للقليل والكثير فيصح الإخبار به عن المثنى كالجمع ويحسنه أنه في حال الرتقية لا تعدد فيه. وقال أبو الفضل الرازي: الأكثر في هذا الباب أن يكون المتحرك منه اسما بمعنى المفعول والساكن مصدرا وقد يكونان مصدرين، والأولى هنا كونهما كذلك وحينئذ لا حاجة إلى ما قاله الزمخشري في توجيه الأخبار، وقد أريد بالرتق على ما نقل عن أبي مسلم الأصفهاني حالة العدم إذ ليس فيه ذوات متميزة فكان السموات والأرض أمر واحد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 33 متصل متشابه وأريد بالفتق وأصله الفصل في قوله تعالى: فَفَتَقْناهُما الإيجاد الحصول التمييز وانفصال بعض الحقائق عن البعض به فيكون كقوله تعالى: فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأنعام: 14، يوسف: 101، إبراهيم: 10، فاطر: 1، الزمر: 46، الشورى: 11] بناء على أن الفطر الشق وظاهره نفي تمايز المعدومات، والذي حققه مولانا الكوراني في جلاء الفهوم وذب عنه حسب جهده أن المعدوم الممكن متميز في نفس الأمر لأنه متصور ولا يمكن تصور الشيء إلا بتميزه عن غيره وإلا لم يكن بكونه متصورا أولى من غيره ولأن بعض المعدومات قد يكون مرادا دون بعض ولولا التمييز بينها لما عقل ذلك إذ القصد إلى إيجاد غير المتعين ممتنع لأن ما ليس بمتعين في نفسه لم يتيمز القصد إليه عن القصد إلى غيره، وقد يقال على هذا: يكفي في تلك الإرادة عدم تمايز السموات والأرض في حالة العدم نظرا إلى الخارج المشاهد، وأيا ما كان فمعنى الآية لم يعلموا أن السموات والأرض كانتا معدومتين فأوجدناهما، ومعنى علمهم بذلك تمكنهم من العلم به بأدنى نظر لأنهما ممكنان، والممكن باعتبار ذاته وحدها يكون معدوما واتصافه بالوجود لا يكون إلا من واجب الوجود. قال ابن سينا في المقالة الثامنة من إلهيات الشفاء: سائر الأشياء غير واجب الوجود لا تستحق الوجود بل هي في أنفسها ومع قطع إضافتها إلى الواجب تستحق العدم ولا يعقل أن يكون وجود السموات والأرض مع إمكانهما الضروري عن غير علة، وأما ما ذهب إليه ديمقرطيس من أن وجود العالم إنما كان بالإتفاق وذلك لأن مبادية أجرام صغار لا تتجزأ لصلابتها وهي مبثوثة في خلاء غير متناه وهي متشاكلة الطبائع مختلفة الأشكال دائمة الحركة فاتفق أن تضامت جملة منه واجتمعت على هيئة مخصوصة فتكون منها هذا العالم فضرب من الهذيان، ووافقه عليه على ما قيل أنباذقلس لكن الأول زعم أن تكون الحيوان والنبات ليس بالاتفاق وهذا زعم أن تكون الأجرام الأسطقسية بالإتفاق أيضا إلا أن ما اتفق إن كان ذاهيئة اجتماعية على وجه يصلح للبقاء والنسل بقي وما اتفق إن لم يكن كذلك لم يبق، وهذا الهذيان بعيد من هذا الرجل فإنهم ذكروا أنه من رؤساء يونان كان في زمن داود عليه السلام وتلقى العلم منه واختلف إلى لقمان الحكيم واقتبس منه الحكمة، ثم إن وجودهما عن العلة حادث بل العالم المحسوس منه وغيره حادث حدوثا زمانيا بإجماع المسلمين وما يتوهم من بعض عبارات بعض الصوفية من أنه حادث بالذات قديم بالزمان مصروف عن ظاهره إذ هم أجل من أن يقولوا به لما أنه كفر. والفلاسفة في هذه المسألة على ثلاثة آراء فجماعة من الأوائل الذين هم أساطين من الملطية وساميا صاروا إلى القول بحدوث موجودات العالم مباديها وبسائطها ومركباتها وطائفة من الأتينينية وأصحاب الرواق صاروا إلى قدم مباديها من العقل والنفس والمفارقات والبسائط دون المتوسطات والمركبات فإن المبادي عندهم فوق الدهر والزمان فلا يتحقق فيها حدوث زماني بخلاف المركبات التي هي تحت الدهر والزمان ومنعوا كون الحركات سرمدية، ومذهب أرسطو ومن تابعه من تلامذته أن العالم قديم وأن الحركات الدورية سرمدية، وهذا بناء على المشهور عنه وإلا فقد ذكر في الأسفار أن أساطين الحكمة المعتبرين عند الطائفة ثمانية ثلاثة من الملطيين ثالس وانكسيمائس واغاثاذيمون، وخمسة من اليونانيين أنباذقلس وفيثاغورس وسقراط وأفلاطون وأرسطو وكلهم قائلون بما قال به الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم من حدوث العالم بجميع جواهره وأعراضه وأفلاكه وأملاكه وبسائطه ومركباته، ونقل عن كل كلمات تؤيد ذلك، وكذا نقل عن غير أولئك من الفلاسفة وأطال الكلام في هذا المقام، ولولا مخافة السآمة لنقلت ذلك ولعلي أنقل شيئا منه في محله الأليق به إن شاء الله تعالى، وجاء عن ابن عباس في رواية عكرمة والحسن وقتادة وابن جبير أن السموات والأرض كانتا شيئا واحدا ملتزقتين ففصل الله تعالى بينهما ورفع السماء إلى حيث هي وأقر الأرض. وقال كعب: خلق الله تعالى السموات والأرض ملتصقتين ثم خلق ريحا فتوسطهما ففتقهما. وعن الحسن خلق الله تعالى الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليها دخان الجزء: 9 ¦ الصفحة: 34 ملتصق بها ثم أصعد الدخان وخلق منه السموات وأمسك الفهر في موضعها وبسط منها الأرض وذلك قوله تعالى كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما فجعل سبع سموات، وكذلك الأرض كانت مرتقة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع أرضين، والمراد من العلم على هذه الأقوال التمكن منه أيضا إلا أن ذلك ليس بطريق النظر بل بالاستفسار من علماء أهل الكتاب الذين كانوا يخالطونهم ويقبلون أقوالهم وقيل بذلك أو بمطالعة الكتب السماوية ويدخل فيها القرآن وإن لم يقبلوه لكونه معجزة في نفسه وفي ذلك دغدغة لا تخفى. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية من طريق عبد الله بن دينار عن ابن عمران رجلا أتاه فسأله عن الآية فقال: اذهب إلى ذلك الشيخ فاسأله ثم تعال فأخبرني وكان ابن عباس فذهب إليه فسأله فقال: نعم كانت السموات رتقا لا تمطر وكانت الأرض رتقا لا تنبت فلما خلق الله تعالى للأرض أهلا فتق هذه بالمطر وفتق هذه بالنبات فرجع الرجل إلى ابن عمر فأخبره فقال ابن عمر: الآن علمت أن ابن عباس قد أوتي في القرآن علما صدق ابن عباس هكذا كانت، وروي عنه ما هو بمعنى ذلك جماعة منهم الحاكم وصححه وإليه ذهب أكثر المفسرين. وقال ابن عطية: هو قول حسن يجمع العبرة والحجة وتعديد النعمة ويناسب ما يذكر بعد والرتق والفتق مجازيان عليه كما هما كذلك على الوجه الأول، والمراد بالسماوات جهة العلو أو سماء الدنيا، والجمع باعتبار الآفاق أو من باب ثوب أخلاق، وقيل هو على ظاهره ولكل من السموات مدخل في المطر، والمراد بالرؤية العلم أيضا وعلم الكفرة بذلك ظاهر. وجوز أن تكون الرؤية بصرية وجعلها علمية أولى، ومن البعيد ما نقل عن بعض علماء الإسلام أن الرتق انطباق منطقتي الحركتين الأولى والثانية الموجب لبطلان العمارات وفصول السنة والفتق افتراقهما المقتضي لإمكان العمارة وتمييز الفصول بل لا يكاد يصح على الأصول الإسلامية التي أصلها السلف الصالح كما لا يخفى. وقوله تعالى: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ عطف على أَنَّ السَّماواتِ إلخ ولا حاجة إلى تكلف عطفه على فتقنا، والجعل بمعنى الخلق المتعدي لمفعول واحد، ومن ابتدائية والماء هو المعروف أي خلقنا من الماء كل حيوان أي متصف بالحياة الحقيقية. ونقل ذلك عن الكلبي. وجماعة ويؤيده قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ [النور: 45] ووجه كون الماء مبدأ ومادة للحيوان وتخصيصه بذلك أنه أعظم مواده وفرط احتياجه إليه وانتفاعه به بعينه ولا بد من تخصيص العام لأن الملائكة عليهم السلام وكذا الجن أحياء وليسوا مخلوقين من الماء ولا محتاجين إليه على الصحيح. وقال قتادة: المعنى خلقنا كل نام من الماء فيدخل النبات ويراد بالحياة النمو أو نحوه، ولعل من زعم أن في النبات حسا وشعورا أبقى الحياة على ظاهرها، وقال قطرب، وجماعة: المراد بالماء النطفة ولا بد من التخصيص بما سوى الملائكة عليهم السلام والجن أيضا بل بما سوى ذلك والحيوانات المخلوقة من غير نطفة كأكثر الحشرات الأرضية. ويجوز أن يكون الجعل بمعنى التصيير المتعدي لمفعولين وهما هنا كُلَّ ومِنَ الْماءِ وتقديم المفعول الثاني للاهتمام به ومن اتصالية كما قيل في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما أنا من دد ولا الدد مني» والمعنى صيرنا كل شيء حي متصلا بالماء أي مخالطا له غير منفك عنه، والمراد أنه لا يحيا دونه، وجوّز أبو البقاء على الوجه الأول أن يكون الجار والمجرور في موضع الحال من كُلَّ وجعل الطيبي من على هذا بيانية تجريدية فيكون قد جرد من الماء الحي مبالغة كأنه هو، وقرأ حميد «حيا» بالنصب على أنه صفة كُلَّ أو مفعول ثان لجعل، والظرف متعلق بما عنده لا يحيا، والشيء مخصوص بالحيوان لأنه الموصوف بالحياة، وجوّز تعميمه للنبات. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 35 وأنت تعلم أن من الناس من يقول: إن كل شيء من العلويات والسفليات حي حياة لائقة به وهم الذين ذهبوا إلى أن تسبيح الأشياء المفاد بقوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء: 44] قالي لا حالي، وإذا قيل بذلك فلا بد من تخصيص الشيء أيضا إذا لم يجعل من الماء كل شيء حيا ولم أقف على مخالف في ذلك منا، نعم نقل عن ثالس الملطي وهو أول من تفلسف بملطية أن أصل الموجودات الماء حيث قال: الماء قابل كل صورة ومنه أبدعت الجواهر كلها من السماء والأرض انتهى. ويمكن تخريجه على مشرب صوفي بأن يقال إنه أراد بالماء الوجود الانبساطي المعبر عنه في اصطلاح الصوفية بالنفس الرحماني، وحينئذ لو جعلت الإشارة في الآية إلى ذلك عندهم لم يبعد أَفَلا يُؤْمِنُونَ إنكار لعدم إيمانهم بالله تعالى وحده مع ظهور ما يوجبه حتما من الآيات، والفاء للعطف على مقدر يستدعيه الإنكار أي أيعلمون ذلك فلا يؤمنون وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أي جبالا ثوابت جمع راسية من رسا الشيء إذا ثبت ورسخ، ووصف جمع المذكر بجمع المؤنث في غير العقلاء مما لا ريب في صحته أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ أي كراهة أن تتحرك وتضطرب بهم أو لئلا تميد فحذف اللام ولا لعدم الإلباس، وهذا مذهب الكوفيين والأول أولى، وفي الانتصاف أولى من هذين الوجهين أن يكون مثل قولك أعددت هذه الخشبة أن يميل الحائط على ما قال سيبويه من أن معناه أن أدعم الحائط بها إذا مال، وقدم ذكر الميد عناية بأمره ولأنه السبب في الادعام والادعام سبب إعداد الخشبة فعومل سبب السبب معاملة السبب فكذا فيما نحن فيه يكون الأصل وجعلنا في الأرض رواسي أن نثبتها إذا مادت بهم فجعل الميد هو السبب كما جعل الميل في المثال سببا وصار الكلام وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم فنثبتها ثم حذف فنثبتها لأمن الإلباس إيجازا، وهذا أقرب إلى الواقع مما ذكر أولا فإن مقتضاه أن لا تميد الأرض بأهلها لأن الله تعالى كره ذلك ومحال أن يقع ما يكرهه سبحانه والمشاهدة بخلافه فكم من زلزلة أمادت الأرض حتى كادت تنقلب وعلى ما ذكرنا يكون المراد أن الله تعالى يثبت الأرض بالجبال إذا مادت، وهذا لا يأبى وقوع الميد لكنه ميد يستعقبه التثبيت، وكذلك الواقع من الزلزال إنما هو كاللمحة ثم يثبتها الله تعالى انتهى. وفي الكشف أن قولهم كراهة أن تميد بيان للمعنى لا أن هناك إضمار البتة ولهذا كان مذهب الكوفيين خليقا بالرد، وما في الانتصاف من أن الأولى أن يكون من باب أعددت الخشبة أن يميل الحائط على ما قرر راجع إلى ما ذكرناه ولا مخالف له، أما ما ذكره من الرد بمخالفة الواقع المشاهد فليس بالوجه لأن ميدودة الأرض غير كائنة البتة وليست هذه الزلازل منها في شيء انتهى، وهو كلام رصين كما لا يخفى، وقد طعن بعض الكفرة المعاصرين فيما دلت عليه الآية الكريمة بأن الأرض لطلبها المركز طبعا ساكنة لا يتصور فيها الميد ولو لم يكن فيها الجبال. وأجيب أولا بعد الإغماض عما في دعوى طلبها المركز طبعا وسكونها عنده من القيل والقال يجوز أن يكون الله تعالى قد خلق الأرض يوم خلقها عرية عن الجبال مختلفة الأجزاء ثقلا وخفة اختلافا تاما أو عرض لها الاختلاف المذكور ومع هذا لم يجعل سبحانه لمجموعها من الثقل ما لا يظهر بالنسبة إليه ثقل ما علم جل وعلا أنه يتحرك عليها من الأجسام الثقيلة فيكون لها مركزان متغايران مركز حجم ومركز ثقل وهي إنما تطلب بطبعها عندهم أن ينطبق مركز ثقلها على مركز العالم وذلك وإن اقتضى سكونها إلا أنه يلزم أن تتحرك بتحرك هاتيك الأجسام فخلق جل جلاله الجبال فيها ليحصل لها من الثقل ما لا يظهر معه ثقل المتحرك فلا تتحرك بتحركه أصلا، وكون نسبة ارتفاع أعظم الجبال إلى قطرها كنسبة سبع عرض شعيرة إلى ذراع إنما ينفع في أمر الكرية الحسية وأما أنه يلزم منه أن لا يكون لمجموع الجبال ثقل معتد به بالنسبة إلى ثقل الأرض فلا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 36 ثم ليس خلق الجبال لهذه الحكمة فقط بل لحكم لا تحصى ومنافع لا تستقصى فلا يقال إنه يغني عن الجبال خلقها بحيث لا يظهر للأجسام الثقيلة المتحركة عليها أثر بالنسبة إلى ثقلها، وثانيا أنها بحسب طبعها تقتضي أن تكون مغمورة بالماء بحيث تكون الخطوط الخارجة من مركزها المنطبق على مركز العالم إلى محدب الماء متساوية من جميع الجوانب فبروز هذا المقدار المعمور منها قسري، ويجوز أن يكون للجبال مدخل في القسر باحتباس الأبخرة فيها وصيرورة الأرض بسبب ذلك كزق في الماء نفخ نفخا ظهر به شيء منه على وجه الماء ولولا ذلك لم يكن القسر قويا بحيث لا يعارضه ما يكون فوق الأرض من الحيوانات وغيرها وذلك يوجب الميد الذي قد يفضي بها إلى الانغمار فتأمل، وقد مر لك ما يتعلق بهذا المطلب فتذكر وَجَعَلْنا فِيها أي في الأرض، وتكرير الفعل لاختلاف المجعولين مع ما فيه من الإشارة إلى كمال الامتنان أو في الرواسي على ما أخرجه ابن جرير والمنذر عن ابن عباس ويؤيده أنها المحتاجة لأن يجعل سبحانه فيها فِجاجاً جمع فج قال الراغب: هو شقة يكتنفها جبلان، وقال الزجاج: كل مخترق بين جبلين فهو فج، وقال بعضهم: هو مطلق الواسع سواء كان طريقا بين جبلين أم لا ولذا يقال جرح فج، والظاهر أن «فجاجا» نصب على المفعولية لجعل، وقوله سبحانه: سُبُلًا بدل منه فيدل ضمنا على أنه تعالى خلقها ووسعها للسابلة مع ما فيه من التأكيد لأن البدل كالتكرار وعلى نية تكرار العامل والمبدل منه ليس في حكم السقوط مطلقا وقال في الكشاف: هو حال من سُبُلًا ولو تأخر لكان صفة كما في قوله تعالى في سورة [نوح: 20] لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً وإنما لم يؤت به كذلك بل قدم فصار حالا ليدل على أنه في حال جعلها سبلا كانت واسعة ولو أتى به صفة لم يدل على ذلك. وأوجب بعضهم كونه مفعولا وكون سُبُلًا بدلا منه وكذا أوجب في قوله تعالى: لِتَسْلُكُوا إلخ كون سُبُلًا مفعولا وكون فِجاجاً بدلا قائلا: إن الفج اسم لا صفة لدلالته على ذات معينة وهو الطريق الواسع والاسم يوصف ولا يوصف به ولذا وقع موصوفا في قوله تعالى: مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج: 27] والحمل على تجريده عن دلالته على ذات معينة لا قرينة عليه. وتعقب بأنا لا نسلم أن معناه ذلك بل معناه مطلق الواسع وتخصيصه بالطريق عارض وهو لا يمنع الوصفية ولو سلم فمراد من قال إنه وصف أنه في معنى الوصف بالنسبة إلى السبيل لأن السبيل الطريق وهو الطريق الواسع فإذا قدم عليه يكون ذكره بعد لغوا لو لم يكن حالا، وظاهر كلام الفاضل اليمني في المطلع أن سُبُلًا عطف بيان وهو سائغ في النكرات حيث قال: هو تفسير للفجاج وبيان أن تلك الفجاج نافذة فقد يكون الفج غير نافذ وقدم هنا وأخر في آية سورة نوح لأن تلك الآية واردة للامتنان على سبيل الإجمال وهذه للاعتبار والحث على إمعان النظر وذلك يقتضي التفصيل، ومن ثم ذكرت عقب قوله تعالى كانتا رَتْقاً إلخ انتهى، وأنت تعلم أن الأظهر نصب فِجاجاً هنا على المفعولية لجعل ووجه التغاير بين الآيتين لا يخفى فتأمل لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ إلى الاستدلال على التوحيد وكمال القدرة والحكمة، وقيل: إلى مصالحهم ومهماتهم. ورد على ما تقدم بأنه يغني عن ذلك قوله تعالى فيما بعد وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ وبأن خلق السبل لا تظهر دلالته على ما ذكر انتهى، وفيه ما فيه، وجوّز أن يكون المراد ما هو أعم من الاهتداء إلى الاستدلال والاهتداء إلى المصالح: وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً من البلى والتغير على طول الدهر كما روي عن قتادة، والمراد أنها جعلت محفوظة عن ذلك الدهر الطويل، ولا ينافيه أنها تطوى يوم القيامة طي السجل للكتب وإلى تغيرها ودثورها ذهب جميع المسلمين ومعظم أجلة الفلاسفة كما برهن عليه صدر الدين الشيرازي في أسفاره وسنذكره إن شاء الله تعالى في محله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 37 وقيل: من الوقوع، وقال الفراء: من استراق السمع بالرجوم، وقيل عليه: إنه يكون ذكر السقف لغوا لا يناسب البلاغة فضلا عن الإعجاز، وذكر في وجهه أن المراد أن حفظها ليس كحفظ دور الأرض فإن السرّاق ربما تسلقت من سقوفها بخلاف هذه، وقيل: إنه للدلالة على حفظها عمن تحتها ويدل على حفظها عنهم على أتم وجه، وفي الحديث عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نظر إلى السماء فقال: «إن السماء سقف مرفوع وموج مكفوف تجري كما يجري السهم محفوظة من الشياطين» وهو إذا صح لا يكون نصا في معنى الآية كما زعم أبو حيان، وقيل: من الشرك والمعاصي، ويرد عليه ما أورد على سابقه كما لا يخفى. وَهُمْ عَنْ آياتِها الدالة على وحدانيتنا وعلمنا وحكمتنا وقدرتنا وإرادتنا التي بعضها ظاهر كالشمس وبعضها معلوم بالبحث عنه مُعْرِضُونَ ذاهلون عنها لا يجيلون قداح الفكر فيها، وقرأ مجاهد. وحميد «عن آيتها» بالإفراد ووجه بأنه لما كان كل واحد مما فيها كافيا في الدلالة على وجود الصانع وصفات كماله وحدت الآية لذلك، وجعل الإعراض على هذه القراءة بمعنى إنكار كونها آية بينة دالة على الخالق كما يشير إليه قوله في الكشاف أي هم متفطنون لما يرد عليهم من السماء من المنافع وهم عن كونها آية بينة على الخالق معرضون وليس بلازم. وقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ اللذين هما آيتاهما ولذا لم يعد الفعل بيانا لبعض تلك الآيات التي هم عنها معرضون بطريق الالتفات الموجب لتأكيد الاعتناء بفحوى الكلام، ولما كان إيجاد الليل والنهار ليس على نمط إيجاد الحيوانات وإيجاد الرواسي لم يتحد اللفظ الدال على ذلك بل جيء بالجعل هناك وبالخلق هنا وكذا قيل وهو كما ترى، وقوله تعالى: كُلٌّ مبتدأ وتنوينه عوض عن المضاف إليه، واعتبره صاحب الكشاف مفردا نكرة أي كل واحد من الشمس والقمر. واعترض بأنه قد صرح ابن هشام في المغني بأن المقدر إذا كان مفردا نكرة يجب الإفراد في الضمير العائد على كل كما لو صرح به وهنا قد جمع فيجب على اعتباره جمعا معرفا أي كلهم ومتى اعتبر كذلك وجب عند ابن هشام جمع العائد وإن كان لو ذكر لم يجب، ووجوب الإفراد في المسألة الأولى والجمع في الثانية للتنبيه على حال المحذوف. وأبو حيان يجوز الإفراد والجمع مطلقا فيجوز هنا اعتبار المضاف إليه مفردا نكرة مع جمع الضمير بعد كما فعل الزمخشري وهو من تعلم علو شأنه في العربية، وقوله سبحانه: فِي فَلَكٍ خبره، ووجه إفراده ظاهر لأن النكرة المقدرة للعموم البدلي لا الشمولي، ومن قدر جمعا معرفا قال: المراد به الجنس الكلي المؤول بالجمع نحو كساهم حلة بناء على أن المجموع ليس في فلك واحد. وقوله عز وجل: يَسْبَحُونَ حال ويجوز أن يكون الخبر وفِي فَلَكٍ حالا أو متعلقا به وجملة كُلٌّ إلخ حال من الشمس والقمر والرابط الضمير دون واو بناء على جواز ذلك من غير قبح، ومن استقبحه جعلها مستأنفة وكان ضميرهما جمعا اعتبارا للتكثير يتكاثر المطالع فيكون لهما نظرا إلى مفهومهما الوضعي أفراد خارجية بهذا الاعتبار لا حقيقة، ولهذا السبب يقال شموس وأقمار وإن لم يكن في الخارج إلا شمس واحدة وقمر واحد والذي حسن ذلك هنا توافق الفواصل، وزعم بعضهم أنه غلب القمران لشرفهما على سائر الكواكب فجمع الضمير لذلك. وقيل: الضمير للنجوم وإن لم تذكر لدلالة ما ذكر عليها. وقيل الضمير للشمس والقمر والليل والنهار، وفيه أن الليل والنهار لا يحسن وصفهما بالسباحة وإن كانت مجازا عن السير، واختيار ضمير العقلاء إما لأنهما عقلاء حقيقة كما ذهب إليه بعض المسلمين كالفلاسفة، وإما لأنهما عقلاء ادعاء وتنزيلا حيث نسب إليهما السباحة وهي من صنائع العقلاء، والفلك في الأصل كل شيء دائر ومنه فلكة المغزل والمراد به هنا على ما روي عن ابن عباس والسدي رضي الله تعالى عنهم السماء. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 38 وقال أكثر المفسرين: هو موج مكفوف تحت السماء يجري فيه الشمس والقمر. وقال الضحاك: هو ليس بجسم وإنما هو مدار هذه النجوم، والمشهور ما روي عن ابن عباس والسدي وفيه القول باستدارة السماء وفي «كل في فلك» رمز خفي إليه فإنه لا يستحيل بالانقلاب وعليه أدلة جمة. وكونها سقفا لا يأبى ذلك، وقد وقع في كلام الفلاسفة إطلاق الفلك على السماء ووصفوه بأنه حي عالم متحرك بالإرادة حركة مستديرة لا غير ولا يقبل الكون والفساد والنمو والذبول والخرق والالتئام ونوعه منحصر في شخصه وأنه لا حار ولا بارد ولا رطب ولا يابس ولا خفيف ولا ثقيل، وأكثر هذه الأوصاف متفرع على أنه ليس في طباعه ميل مستقيم، وقد رد ذلك في الكتب الكلامية وبنوا على امتناع الخرق والالتئام أن الكوكب لا يتحرك إلا بحركة الفلك ولما رأوا حركات مختلفة قالوا بتعدد الأفلاك، والمشهور أن الأفلاك الكلية تسعة سبعة للسبع السيارة وواحد للثوابت وآخر لتحريك الجميع الحركة اليومية، والحق أنه لا قاطع على نفي ما عدا ذلك ألا ترى أن الشيخ الرئيس لم يظهر له أن الثوابت في كرة واحدة أو في كرات منطو بعضها على بعض، وقولهم إن حركات الثوابت متشابهة ومتى كانت كذلك كانت مركوزة في فلك واحد غير يقيني أما صغراه فلأن حركاتها وإن كانت في الحس متشابهة لكن لعلها لا تكون في الحقيقة كذلك لأنا لو قدرنا أن الواحدة منها تتم الدورة في ست وثلاثين ألف سنة والأخرى تتممها في هذا الزمان لكن بنقصان عاشرة أو أقل فالذي يخص الدرجة الواحدة من هذا القدر من التفاوت يقل جدا بحيث لا تفي أعمارنا بضبطه وإذا احتمل ذلك سقط القطع بالتشابه، ومما يزيد ذلك سقوطا والاحتمال قوة وجدان المتأخرين من أهل الأرصاد كوكبا أسرع حركة من الثوابت وأبطأ من السيارة سموه بهرشل ولم يظفر به أحد من المتقدمين في الدهور الماضية، وأما كبراه فلاحتمال اشتراك الأشياء المختلفة في كثير من اللوازم فيجوز أن لكل فلكا على حدة وتكون تلك الأفلاك متوافقة في حركاتها جهة وقطبا ومنطقة وبطنا، ثم إن الاحتمال غير مختص بفلك الثوابت بل حاصل في كل الأفلاك فيجوز أن يكون بين أفلاك السيارة أفلاك أخر، وما يقال في إبطاله من أن أقرب قرب كل كوكب يساوي أبعد بعد كل الكواكب التي فرضت تحته ليس بشيء لأن بين أبعد بعد القمر وأقرب قرب عطارد ثخن فلك جوزهر القمر، وقد ذكر المحققون من أصحاب الهيئة أن الفلك التدوير لكل من العلوية ثلاث أكر محيط بعضها ببعض وجرم الكوكب مركوز في الكرة الداخلة فيكون مقدار ثخن أربع كرات من تلك التداوير من كل واحد من السافل والعالي ثخن كرتين حائلا بين أقرب قرب العالي وأبعد بعد السافل، وأثبتوا للسفلية خمسة تداوير فيكون بين أقرب قرب الزهرة وأبعد بعد عطارد ثخن ثمان كرات على أنهم إنما اعتقدوا أن أقرب قرب العالي مساو لأبعد بعد السافل لاعتقادهم أولا أنه ليس بين هذه الأفلاك ما يتخللها فليس يمكنهم بناء ذلك عليه وإلا لزم الدور بل لا بد فيه من دليل آخر، وقولهم لا فضل في الفلكيات مع أنه كما ترى يبطله ما قالوا في عظم ثخن المحدد ويجوز أيضا أن يكون فوق التاسع من الأفلاك ما لا يعلمه إلا الله تعالى بل يحتمل أن يكون هذا الفلك التاسع بما فيه من الكرات مركوزا في ثخن كرة أخرى عظيمة ويكون في ثخن تلك الكرة ألف ألف كرة مثل الكرات وليس ذلك مستبعدا فإن تدوير المريخ أعظم من ممثل الشمس فإذا عقل ذلك فأي بأس بأن يفرض مثله مما هو أعظم منه. ويجوز أيضا كما قيل أن تكون الأفلاك الكلية ثمانية لا مكان كون جميع الثوابت مركوزة في محدث ممثل زحل أي في متممه الحاوي على أن يتحرك بالحركة البطيئة والفلك الثامن يتحرك بالحركة السريعة بل قيل من الجائز أن تكون سبعة بأن تفرض الثوابت ودوائر البروج على محدب ممثل زحل ونفسان تتصل إحداهما بمجموع السبعة وتحركها إحدى الحركتين السريعة والبطيئة والأخرى بالفلك السابع وتحركه الأخرى فلا قاطع أيضا على نفي أن تكون الأفلاك أقل من تسعة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 39 ثم الظاهر من الآية أن كلا من الشمس والقمر يجري في ثخن فلكه ولا مانع منه عقلا ودليل امتناع الخرق والالتئام وهو أنه لو كان الفلك قابلا لذلك لكان قابلا للحركة المستقيمة وهي محال عليه غير تام وعلى فرض تمامه إنما يتم في المحدد على أنه يجوز أن يحصل الخرق في الفلك من جهة بعض أجزائه على الاستدارة فلا مانع من أن يقال: الكواكب مطلقا متحركة في أفلاكها حركة الحيتان في الماء ولا يبطل به علم الهيئة لأن حركاتها يلزم أن تكون متشابهة حول مراكز أفلاكها أي لا تسرع ولا تبطئ ولا تقف ولا ترجع ولا تنعطف، وقول السهروردي في المطارحات: لو كانت الأفلاك قابلة للخرق وقد برهن على كونها ذات حياة فعند حصول الخرق فيها وتبدد الأجزاء فإن لم تحس فليس جزؤها المنخرق له نسبة إلى الآخر بجامع إدراكي ولا خبر لها عن أجزائها وما سرى لنفسها قوة في بدنها جامعة لتلك الأجزاء فلا علاقة لنفسها مع بدنها، وقد قيل إنها ذات حياة وإن كانت تحس فلا بد من التألم بتبديد الأجزاء فإنه شعور بالمنافي وكل شعور بالمنافي إما ألم أو موجب لألم وإذا كان كذا وكانت الكواكب تخرقها بجريها كانت في عذاب دائم، وسنبرهن على أن الأمور الدائمة غير الممكنة الإشراف لا يتصور عليها لا يخفى أنه من الخطابيات بل مما هو أدون منها. وزعم بعضهم أنه من البراهين القوية مما لا برهان عليه من البراهين الضعيفة، وادّعى الإمام أنها كما تدل على جري الكوكب تدل على سكون الفلك، والحق أنها مجملة بالنسبة إلى السكون غير ظاهرة فيه، وإلى حركته وسكون الفلك بأسره ذهب بعض المسلمين ويحكى عن الشيخ الأكبر قدس سره، ويجوز أن يكون الفلك متحركا والكوكب يتحرك فيه إما مخالفا لجهة حركته أو موافقا لها إما بحركة مساوية في السرعة والبطء لحركة الفلك أو مخالفة، ويجوز أيضا أن يكون الكوكب مغروزا في الفلك ساكنا فيه كما هو عند أكثر الفلاسفة أو متحركا على نفسه كما هو عند محققيهم والفلك بأسره متحركا وهو الذي أوجبه الفلاسفة لما لا يسلم لهم ولا يتم عليه برهان منهم. ويجوز أيضا أن يكون الكوكب في جسم منفصل عن ثخن الفلك شبيه بحلقة قطرة مساو لقطر الكوكب وهو الذي يتحرك به ويكون الفلك ساكنا ويجوز أيضا أن يكون في ثخن الفلك خلاء يدور الكوكب فيه مع سكون الفلك أو حركته وليس في هذا قول بالخرق والالتئام بل فيه القول بالخلاء وهو عندنا وعند أكثر الفلاسفة جائز خلافا لأرسطاطاليس وأتباعه، ودليل الجواز أقوى من صخرة ملساء، والقول بأن الفلك بسيط فبساطته مانعة من أن يكون في ثخنه ذلك ليس بشيء فما ذكروه من الدليل على البساطة على ضعفه لا يتأتى إلا في المحدد دون سائر الأفلاك، وأيضا متى جاز أن يكون الفلك مجوفا مع بساطته فليجز ما ذكر معها ولا يكاد يتم لهم التقصي عن ذلك، وجاء في بعض الآثار أن الكواكب جميعها معلقة بسلاسل من نور تحت سماء الدنيا بأيدي ملائكة يجرونها حيث شاء الله تعالى، ولا يكاد يصح وإن كان الله عز وجل على كل شيء قديرا، والذي عليه معظم الفلاسفة والهيئيين أن الحركة الخاصة بالكوكب الثابتة لفلكه أولا وبالذات آخذه من المغرب إلى المشرق وهي الحركة على توالي البروج وتسمى الحركة الثانية والحركة البطيئة وهي ظاهرة في السيارات وفي القمر منها في غاية الظهور وفي الثوابت خفية ولهذا لم يثبتها المتقدمون منهم، وغير الخاصة به الثابتة لفلكه ثانيا وبالعرض آخذة من المشرق إلى المغرب وتسمى الحركة الأولى والحركة السريعة وهي بواسطة حركة المحدد وبها يكون الليل والنهار في سائر المعمورة، وأما في عرض تسعين ونحوه ففي الحركة الثانية فعندهم للكوكب حركتان مختلفتان جهة وبطأ ومثلوهما بحركة رحى إلى جهة سريعا وحركة نملة عليها إلى خلاف تلك الجهة بطيئا. وذهب بعض الأوائل إلى أنه لا حركة في الأجرام العلوية من المغرب إلى المشرق بل حركاتها كلها من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 40 المشرق إلى المغرب لأنها أولى بهذه الأجرام لكونها أقل مخالفة ولأن غاية الحركة للجرم الأقصى وغاية السكون للأرض فيجب أن يكون ما هو أقرب إلى الأقصى أسرع مما هو أبعد ولأنه لو كان بعضها من المشرق وبعضها من المغرب يلزم أن يتحرك الكوكب بحركتين مختلفتين جهة وذلك محال لأن الحركة إلى جهة تقتضي حصول المتحرك في الجهة المنتقل إليها فلو تحرك الجسم الواحد دفعة واحدة إلى جهتين لزم حصوله دفعة واحدة في مكانين وهو محال ولا فرق في ذلك بين أن تكون الحركتان طبيعيتين أو قسريتين أو إحداهما طبيعية والأخرى قسرية. ولا يدفع هذا بما يشاهد من حركة النملة على الرحى إلى جهة حال حركة الرحى إلى خلافها لأنه مثال والمثال لا يقدح في البرهان ولأن القطع على مثل هذه الحركات جائز أما على الحركات الفلكية فمحال، وما استدل به على أن غير الحركة السريعة من المغرب إلى المشرق لا يدل عليه لجواز أن تكون من المشرق ويظن أنها من المغرب وبيانه أن المتحركين إلى جهة واحدة حركة دورية متى كان أحدهما أسرع من حركة الآخر فإنهما إذا تحركا إلى تلك الجهة رؤي الإبطاء منهما متخلفا فيظن أنه متحرك إلى خلاف تلك الجهة لأنهما إذا اقترنا ثم تحركا في الجهة بما لهما من الحركة فسار السريع دورة تامة وسار البطيء دورة الأقوى صار البطيء متخلفا عن السريع في الجهة المخالفة لجهة حركتهما بتلك القوس، وقالوا: يجب المصير إلى ذلك لما أن البرهان يقتضيه ولا يبطله شيء من الأعمال النجومية. وقد أورد الإمام في الملخص ما ذكر في الاستدلال على محالية الحركتين المختلفتي الجهة للجسم الواحد إشكالا على القائلين بهما ثم قال: ولقوة هذا الكلام أثبت بعضهم الحركة اليومية لكرة الأرض لا لكرة السماء وإن كان ذلك باطلا وأورده في التفسير وسماه برهانا قاطعا وذهب فيه إلى ما ذهب إليه هذا البعض من أن الحركات كلها من المشرق إلى المغرب لكنها مختلفة سرعة وبطأ وفيما ذكروه نظر لأن الشبهتين الأوليين اقناعيتان والثالثة وإن كانت برهانية لكن فسادها أظهر من أن يخفى، وأما أن شيئا من الأعمال النجومية لا يبطله فباطل لأن هذه الحركة الخاصة للكوكب أعني حركة القمر من المشرق إلى المغرب مثلا دورة إلا قوسا لا يجوز أن تكون على قطبي البروج لأنها توجد موازية لمعدل النهار ولا على قطبي المعدل وإلا لما زالت عن موازنة ولما انتظمت من القسي التي تتأخر فيها كل يوم دائرة عظيمة مقاطعة للمعدل كدائرة البروج من القسي التي تأخرت الشمس فيها بل انتظمت صغيرة موازية له اللهم إلا إذا كان الكوكب على المعدل مقدار ما يتمم بحركته دورة فإن المنتظمة حينئذ تكون نفس المعدل لكن هذا غير موجود في الكواكب التي نعرفها ولا على قطبين غير قطبيهما وإلا لكان يرى مسيره فوق الأرض على دائرة مقاطعة للدوائر المتوازية ولم تكن دائرة نصف النهار تفصل الزمان الذي من حين يطلع إلى حين يغرب بنصفين لأن قطبي فلكه المائل لا يكون دائما على دائرة نصف النهار فلا تنفصل قسيّ مداراته الظاهرة بنصفين، ولأنه لو كان الأمر كما توهموا لكانت الشمس تصل إلى أوجها وحضيضها وبعديها الأوسطين بل إلى الشمال والجنوب فيجب أن تحصل جميع الأظلال اللائقة بكون الشمس في هذه المواضع في اليوم الواحد والوجود بخلافه. وقول من قال يجوز أن يكون حركة الشمس في دائرة البروج إلى المغرب ظاهر الفساد لأنه لو كان كذلك لكان اليوم الواحد بليلته ينقص عن دور معدل النهار بقدر القوس التي قطعتها الشمس بالتقريب بخلاف ما هو الواقع لأنه يزيد على دور المعدل بذلك القدر ولكان يرى قطعها البروج على خلاف التوالي وليس كذلك لتأخرها عن الجزء الذي يتوسط معها من المعدل في كل يوم نحو المشرق، فإذا حركات الأفلاك الشاملة للأرض ثنتان حركة إلى التوالي وأخرى إلى خلافه، وأما حركات التداوير فخارجة عن القسمين لأن حركات أعاليها مخالفة لحركات أسافلها لا محالة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 41 لكونها غير شاملة للأرض، فإن كانت حركة الأعلى من المغرب إلى المشرق فحركة الأسفل بالعكس كما في المتحيرة، وإن كانت حركة الأعلى من المشرق إلى المغرب كانت حركة الأسفل بالعكس كما في القمر. هذا وقصارى ما نقول في هذا المقام: إن ما ذكره الفلاسفة في أمر الأفلاك الكلية والجزئية وكيفية حركاتها وأوضاعها أمر ممكن في نفسه ولا دليل على أنه هو الواقع لا غير، وقد ذهب إلى خلافة أهل لندن وغيرهم من أصحاب الأرصاد اليوم، وكذا أصحاب القلبية والمعارج المعنوية كالشيخ الأكبر قدس سره وقد أطال الكلام في ذلك في الفتوحات المكية. وأما السالف الصالح فلم يصح عنهم تفصيل الكلام في ذلك لما أنه قليل الجدوى ووقفوا حيث صح الخبر وقالوا: إن اختلاف الحركات ونحوه بتقدير العزيز العليم وتشبثوا فيما صح وخفي سببه بأذيال التسليم، والذي أميل إليه أن السموات على طبق ما صحت به الأخبار النبوية في أمر الثخن وما بين كل سماء وسماء ولا أخرج عن دائرة هذا الميل، وأقول يجوز أن يكون ثخن كل سماء فلك لكل واحدة من السيارات على نحو الفلك الذي أثبته الفلاسفة لها وحركته الذاتية على نحو حركته عندهم وحركته العرضية بواسطة حركة سمائه إلى المغرب الحركة اليومية فتكون حركات السموات متساوية، وإن أبيت تحرك السماء بجميع ما فيها لإباء بعض الأخبار عنه مع عدم دليل قطعي يوجبه قلت: يجوز أن يكون هناك محرك في ثخن السماء أيضا ويبقى ما يبقى منها ساكنا بقدرة الله تعالى على سطحه الأعلى ملائكة يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وللفلاسفة في تحقيق أن المحيط كيف يحرك المحاط به كلام تعقبه الإمام ثم قال: الصحيح أن المحرك للكل هو الله تعالى باختياره وإن ثبت على قانون قولهم كون الحاوي محركا للمحوي فإنه يكون محركا بقوة نفسه لا بالمماسة، وأما الثوابت فيحتمل أن تكون في فلك فوق السموات السبع ويحتمل أن يكون في ثخن السماء السابعة فوق فلك زحل بل إذا قيل بأن جميع الكواكب الثوابت والسيارات في ثخن السماء الدنيا تتحرك على أفلاك مماثلة للأفلاك التي أثبتها لها الفلاسفة ويكون لها حركتان على نحو ما يقولون لم يبعد، وفيه حفظ الظاهر قوله تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ [الملك: 5] وما ذكروه في علم الأجرام والأبعاد على اضطرابه لا يلزمنا تسليمه فلا يراد أنهم قالوا بعد الثوابت عن مركز الأرض خمسة وعشرون ألف ألف وأربعمائة واثنا عشر ألفا وثمانمائة وتسع وتسعون فرسخا، وما ورد في الخبر من أن بين السماء والأرض خمسمائة عام وسمك السماء كذلك يقتضي أن يكون بين وجه الأرض والثوابت على هذا التقدير ألف عام وفراسخ مسيرة ذلك مع فراسخ نصف قطر الأرض وهي ألف ومائتان وثلاثة وسبعون تقريبا على ما قيل دون ما ذكر بكثير. ولا حاجة إلى أن يقال: العدد لا مفهوم له واختيار خمسمائة لما أن الخمسة عدد دائر فيكون في ذلك رمز خفي إلى الاستدارة كما قيل في كل فلك، ويشير إلى صحة احتمال أن يكون الفلك في ثخن السماء ما أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: الشمس بمنزلة الساقية تجري في السماء في فلكها فإذا غربت جرت الليل في فلكها تحت الأرض حتى تطلع من مشرقها وكذلك القمر، والأخبار المرفوعة والموقوفة في أمر الكواكب والسموات والأرض كثيرة. وقد ذكر الجلال السيوطي منها ما ذكر في رسالة ألفها في بيان الهيئة السنية، وإذا رصدتها رأيت أكثرها مائلا عن دائرة بروج القبول، وفيها ما يشعر بأن للكوكب حركة قسرية نحو ما أخرجه ابن المنذر عن عكرمة ما طلعت الشمس حتى يوتر لها كما توتر القوس، ثم الظاهر أن يراد بالسباحة الحركة الذاتية ويجوز أن يراد بها الحركة العرضية بل قيل هذا أولى لأن تلك غير مشاهدة مشاهدة هذه بل عوام الناس لا يعرفونها، وقيل يجوز أن يراد بها ما يعم الحركتين، واستنبط بعضهم من نسبة السباحة إلى الكوكب أن ليس هناك حامل له يتحرك بحركته مطلقا بل هو الجزء: 9 ¦ الصفحة: 42 متحرك بنفسه في الفلك تحرك السمكة في الماء إذ لا يقال للجالس في صندوق أو جذع يجري في الماء إنه يسبح، واختار أنه يجري في مجرى قابل للخرق والالتئام كالماء ودون إثبات استحالة ذلك العروج إلى السماء السابعة، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال وهو سبحانه ولي التوفيق وعلى محور هدايته تدور كرة التحقيق، وهذه نبذة مما رأينا إيراده مناسبا لهذا المقام، وسيأتي إن شاء الله تعالى نبذة أخرى مما يتعلق بذلك من الكلام وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ كائنا من كان مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أي الخلود والبقاء في الدنيا لكونه مخالفا للحكمة التكوينية والتشريعية، وقيل الخلد المكث الطويل ومنه قولهم للأثافي خوالد، واستدل بذلك على عدم حياة الخضر عليه السلام، وفيه نظر أَفَإِنْ مِتَّ بمقتضى حكمتنا فَهُمُ الْخالِدُونَ نزلت حين قالوا نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور: 30] والفاء الأولى لتعليق الجملة الشرطية بما قبلها والهمزة لإنكار مضمونها وهي في الحقيقة لإنكار جزائها أعني ما بعد الفاء الثانية. وزعم يونس أن تلك الجملة مصب الإنكار والشرط معترض بينهما وجوابه محذوف تدل عليه الجملة وليس بذاك، ويتضمن إنكار ما ذكر إنكار ما هو مدار له وجودا وعدما من شماتتهم بموته صلّى الله عليه وسلّم كأنه قيل أفإن مت فهم الخالدون حتى يشمتوا بموتك، وفي معنى ذلك قول الإمام الشافعي عليه الرحمة: تمنى رجال أن أموت وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى ... تزود لأخرى مثلها فكأن قد وقول ذي الإصبع العدواني: إذا ما الدهر جر على أناس ... كلاكله أناخ بآخرينا فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا وذكر العلامة الطيبي ونقله صاحب الكشف بأدنى زيادة أن هذا رجوع إلى ما سيق له السورة الكريمة من حيث النبوة ليتخلص منه إلى تقرير مشرع آخر، وذلك لأنه تعالى لما أفحم القائلين باتخاذ الولد والمتخذين له سبحانه شركاء وبكتهم ذكر ما يدل على إفحامهم وهو قوله تعالى: أَفَإِنْ إلخ لأن الخصم إذا لم يبق له متشبث تمنى هلاك خصمه. وقوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ برهان على ما أنكر من خلودهم وفيه تأكيد لقوله سبحانه: وَما جَعَلْنا إلخ، والموت عند الشيخ الأشعري كيفية وجودية تضاد الحياة، وعند الإسفرايني وعزي للأكثرين أنه عدم الحياة عما من شأنه الحياة بالفعل فيكون عدم تلك الحياة كما في العمى الطارئ على البصر لا مطلق العمى فلا يلزم كون عدم الحياة عن الجنين عند استعداده للحياة موتا، وقيل عدم الحياة عما من شأنه الحياة مطلقا فيلزم ذلك ولا ضير لقوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [البقرة: 28] واستدل الأشعري على كونه وجوديا بقوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [الملك: 2] فإن الخلق هو الإيجاد والإخراج من العدم وبأنه جائز والجائز لا بد له من فاعل والعدم لا يفعل. وأجيب عن الأول بأنه يجوز أن يكون بمعنى التقدير وهو أعم من الإيجاد ولو سلم كونه بمعنى الإيجاد فيجوز أن يراد بخلق الموت إيجاد أسبابه أو يقدر المضاف وهو غير عزيز في الكلام، وعن الأستاذ أن المراد بالموت الآخرة والحياة الدنيا لما روي عن ابن عباس تفسيرهما بذلك، وعن الثاني بأن الفاعل قد يريد العدم كما يريد الحياة فالفاعل يعدم الحياة كما يعدم البصر مثلا. وقال اللقاني: الظاهر قاض بما عليه الأشعري والعدول عن الظاهر من غير داع غير مرضي عند العدول، وكلامه صرح في أنه عرض وتوقف بعض العلماء القائلين بأنه وجودي في أنه جوهر أو عرض لما أن في بعض الأحاديث أنه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 43 معنى خلقه الله تعالى في كف ملك الموت، وفي بعضها أن الله تعالى خلقه على صورة كبش لا يمر بشيء يجد ريحه إلا مات، وجل عبارات العلماء أنه عرض يعقب الحياة أو فساد بنية الحيوان، والأول غير مانع والثاني رسم بالثمرة، وقريب منه ما قاله بعض الأفاضل: إنه تعطل القوى لانطفاء الحرارة الغريزية التي هي آلتها فإن كان ذلك لانطفاء الرطوبة الغريزية فهو الموت الطبيعي وإلا فهو الغير الطبيعي، والناس لا يعرفون من الموت إلا انقطاع تعلق الروح بالبدن التعلق المخصوص ومفارقتها إياه، والمراد بالنفس النفس الحيوانية وهي مطلقا أعم من النفس الإنسانية كما أن الحيوان مطلقا أعم من الإنسان. والنفوس عند الفلاسفة ومن حذا حذوهم ثلاثة: النباتية والحيوانية والفلكية والنفس مقولة على الثلاثة بالاشتراك اللفظي على ما حكاه الإمام في الملخص عن المحققين. وبالاشتراك المعنوي على ما يقتضيه كلام الشيخ في الشفاء، وتحقيق ذلك في محله، وإرادة ما يشمل الجميع هنا مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، وقال بعضهم: المراد بها النفس الإنسانية لأن الكلام مسوق لنفي خلود البشر، واختير عمومها لتشمل نفوس البشر والجن وسائر أنواع الحيوان ولا يضر ذلك بالسوق بل هو أنفع فيه، ولا شك في موت كل من أفراد تلك الأنواع نعم اختلف في أنه هل يصح إرادة عمومها بحيث تشمل نفس كل حي كالملك وغيره أم لا بناء على الاختلاف في موت الملائكة عليهم السلام والحور العين فقال بعضهم: إن الكل يموتون ولو لحظة لقوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] وقال بعضهم: إنهم لا يموتون لدلالة بعض الأخبار على ذلك، والمراد من كل نفس النفوس الأرضية والآية التي استدل بها مؤولة بما ستعلمه إن شاء الله تعالى إلى وهم داخلون في المستثنى في قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [الزمر: 68] أولا يسلم أن كل صعق موت، وقال بعضهم: إن الملائكة يموتون والحور لا تموت، وقال آخرون: إن بعض الملائكة عليهم السلام يموتون وبعضهم لا يموت كجبريل وإسرافيل وميكائيل وعزرائيل عليهم السلام ورجح قول البعض، ولا يرد أن الموت يقتضي مفارقة الروح البدن والملائكة عليهم السلام لا أبدان لهم لأن القائل بموتهم يقول بأن لهم أبدانا لكنها لطيفة كما هو الحق الذي دلت عليه النصوص، وربما يمنع اقتضاء الموت البدن. وبالغ بعضهم فادعى أن النفوس أنفسها تموت بعد مفارقتها للبدن وإن لم تكن بعد المفارقة ذات بدن، وكأنه يلتزم تفسير الموت بالعدم والاضمحلال، والحق أنها لا تموت سواء فسر الموت بما ذكر أم لا، وقد أشار أحمد بن الحسين الكندي إلى هذا الاختلاف بقوله: تنازع الناس حتى لا اتفاق لهم ... إلا على شجب والخلف في شجب فقيل تخلص نفس المرء سالمة ... وقيل تشرك جسم المرء في العطب وذهب الإمام إلى العموم في الآية إلا أنه قال: هو مخصوص فإن له تعالى نفسا كما قال سبحانه حكاية عن عيسى عليه السلام تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ [المائدة: 116] مع أن الموت مستحيل عليه سبحانه، وكذا الجمادات لها نفوس وهي لا تموت، ثم قال: والعام المخصوص حجة فيبقى معمولا به على ظاهره فيما عدا ما أخرج منه، وذلك يبطل قول الفلاسفة في الأرواح البشرية والعقول المفارقة والنفوس الفلكية إنها لا تموت اهـ، وفيه أنه إن أراد بالنفس الجوهر المتعلق بالبدن تعلق التدبير والتصريف كما قاله الفلاسفة ومن وافقهم أو الجسم النوراني الخفيف الحي المتحرك النافذ في الأعضاء الساري فيها سريان ماء الورد كما عليه جمهور المحدثين وذكر له ابن القيم مائة دليل فالله تعالى منزه عن ذلك أصلا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 44 وكذا الجمادات لا تتصف بها على الشائع، وأيضا ليس للأرواح البشرية والعقول المفارقة عند الفلاسفة نفسا بأحد ذينك المعنيين فكيف يبطل بالآية الكريمة قولهم، وإن أراد بها الذات كما هو أحد معانيها جاز أن تثبت لله تعالى وقد قيل به في الآية التي ذكرها، وكذا هي ثابتة للجمادات لكن يرد عليه أنه إن أراد بالموت مفارقة الروح للبدن أو نحو ذلك يبطل قوله وذلك يبطل إلخ لأن الأرواح والعقول المذكورة لا أبدان لها عند الفلاسفة فلا يتصور فيها الموت بذلك المعنى، وإن أراد به العدم والاضمحلال يرد عليه أن الجمادات تتصف به فلا يصح قوله وهي لا تموت، وبالجملة لا يخفى على المتذكر أن الإمام سها في هذا المقام، ثم إن معنى كون النفس ذائقة الموت أنها تلابسه على وجه تتألم به أو تلتذ من حيث إنها تخلص به من مضيق الدنيا الدنيئة إلى عالم الملكوت وحظائر القدس كذا قيل. والظاهر أن كل نفس تتألم بالموت لكن ذلك مختلف شدة وضعفا، وفي الحديث «إن للموت سكرات» ولا يلزم من التخلص المذكور لبعض الناس عدم التألم، ولعل في اختيار الذوق إيماء إلى ذلك لمن له ذوق فإن أكثر ما جاء في العذاب، وقال الإمام: إن الذوق إدراك خاص وهو هاهنا مجاز عن أصل الإدراك ولا يمكن إجراؤه على ظاهره لأن الموت ليس من جنس الطعام حتى يذاق، وذكر أن المراد من الموت مقدماته من الآلام العظيمة لأنه قيل دخوله في الوجود ممتنع الإدراك وحال وجوده يصير الشخص ميتا والميت لا يدرك، وتعقب بأن المدرك النفس المفارقة وتدرك ألم مفارقتها البدن وَنَبْلُوكُمْ الخطاب إما للناس كافة بطريق التلوين أو للكفرة بطريق الالتفات أي نعاملكم معاملة من يختبركم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ بالمكروه والمحبوب هل تصبرون وتشكرون أو لا. وتفسير الشر والخير بما ذكر مروي عن ابن زيد، وروي عن ابن عباس أنهما الشدة والرخاء، وقال الضحاك: الفقر والمرض والغنى والصحة، والتعميم أولى، وقدم الشر لأنه اللائق بالمنكر عليهم أو لأنه ألصق بالموت المذكور قبله، وذكر الراغب أن اختيار الله تعالى للعباد تارة بالمسار ليشكروا وتارة بالمضار ليصبروا فالمنحة والمحنة جميعا بلاء فالمحنة مقتضية للصبر والمنحة مقتضية للشكر والقيام بحقوق الصبر أيسر من القيام بحقوق الشكر فالمحنة أعظم البلاءين، وبهذا النظر قال عمر رضي الله تعالى عنه: بلينا بالضراء فصبرنا وبلينا بالسراء فلم نصبر، ولهذا قال علي كرم الله تعالى وجهه: من وسع عليه دنياه فلم يعلم أنه قد مكر به فهو مخدوع عن عقله اهـ، ولعله يعلم منه وجه لتقديم الشر فِتْنَةً أي ابتلاء فهو مصدر مؤكد لنبلوكم على غير لفظه. وجوز أن يكون مفعولا له أو حالا على معنى نبلوكم بالشر والخير لأجل إظهار جودتكم ورداءتكم أو مظهرين ذلك فتأمل ولا تغفل وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ لا إلى غيرنا لا استقلالا ولا اشتراكا فنجازيكم حسبما يظهر منكم من الأعمال، فهو على الأول من وجهي الخطاب وعد ووعيد وعلى الثاني منهما وعيد محض، وفي الآية إيماء إلى أن المراد من هذه الحياة الدنيا الابتلاء والتعريض للثواب والعقاب. وقرىء «يرجعون» بياء الغيبة على الالتفات وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي المشركون إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أي ما يتخذونك إلا مهزوا به على معنى قصر معاملتهم معه صلّى الله عليه وسلّم على اتخاذهم إياه عاملهم الله تعالى بعدله هزوا لا على معنى قصر اتخاذهم على كونه هزوا كما هو المتبادر كأنه قيل ما يفعلون بك إلا اتخاذك هزوا. والظاهر أن جملة إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إلخ جواب إِذا ولم يحتج إلى الفاء كما لم يحتج جوابها المقترن بما إليها في قوله تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ [الجاثية: 25] وهذا بخلاف جواب غير إذا من أدوات الشرط المقترن بما فإنه يلزم فيه الاقتران بالفاء نحو إن تزورنا فما نسيء إليك، وقيل الجواب محذوف وهو يقولون المحكي به قوله تعالى: أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وقوله سبحانه: إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إلخ اعتراض وليس الجزء: 9 ¦ الصفحة: 45 بذاك، نعم لا بدّ من تقدير القول فيما ذكر وهو إما معطوف على جملة إِنْ يَتَّخِذُونَكَ أو حال أي ويقولون أو قائلين والاستفهام للإنكار والتعجب ويفيدان أن المراد يذكر آلهتكم بسوء وقد يكتفى بدلالة الحال عليه كما في قوله تعالى: سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ [الأنبياء: 60] فإن ذكر العدو لا يكون إلا بسوء وقد تحاشوا عن التصريح أدبا مع آلهتهم. وفي مجمع البيان تقول العرب ذكرت فلانا أي عبته، وعليه قول عنترة: لا تذكري مهري وما أطعمته ... فيكون جلدك مثل جلد الأجرب انتهى والإشارة مثلها في قوله: هذا أبو الصقر فردا في محاسنه ... من نسل شيبان بين الضال والسلم فيكون في ذلك نوع بيان للاتخاذ هزوا، وقوله تعالى: وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ في حيز النصب على الحالية من ضمير القول المقدر، والمعنى أنهم يعيبون عليه عليه الصلاة والسلام أن يذكر آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع بالسوء والحال أنهم بالقرآن الذي أنزل رحمة كافرون فهم أحقاء بالعيب والإنكار، فالضمير الأول مبتدأ خبره كافِرُونَ وبه يتعلق بِذِكْرِ وقدم رعاية للفاصلة وإضافته لامية، والضمير الثاني تأكيد لفظي للأول، والفصل بين العامل والمعمول بالمؤكد وبين المؤكد والمؤكد بالمعمول جائز، ويجوز أن يراد بِذِكْرِ الرَّحْمنِ توحيده على أن ذكر مصدر مضاف إلى المفعول أي وهم كافرون بتوحيد الرحمن المنعم عليهم بما يستدعي توحيده والإيمان به سبحانه، وأن يراد به عظته تعالى وإرشاده الخلق بإرسال الرسل وإنزال الكتب على أنه مصدر مضاف إلى الفاعل، وقيل المراد بذكر الرحمن ذكره صلّى الله عليه وسلّم هذا اللفظ وإطلاقه عليه تعالى، والراد بكفرهم به قولهم ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة فهو مصدر مضاف إلى المفعول لا غير وليس بشيء كما لا يخفى. وجعل الزمخشري الجملة حالا من ضمير يَتَّخِذُونَكَ أي يتخذونك هزوا وهم على حال هي أصل الهزء والسخرية وهي الكفر بذكر الرحمن. وسبب نزول الآية على ما أخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه صلّى الله عليه وسلّم مر على أبي سفيان. وأبي جهل وهما يتحدثان فلما رآه أبو جهل ضحك وقال لأبي سفيان: هذا نبي بني عبد مناف فغضب أبو سفيان فقال: ما تنكر أن يكون لبني عبد مناف فسمعها النبي صلّى الله عليه وسلّم فرجع إلى أبي جهل فوقع به وخوفه وقال: ما أراك منتهيا حتى يصيبك ما أصاب عمك الوليد بن المغيرة وقال لأبي سفيان: أما أنك لم تقل ما قلت إلا حمية، وأنا أرى أن القلب لا يثلج لكون هذا سببا للنزول والله تعالى أعلم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 46 خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ وهو طلب الشيء وتحريه قبل أوانه، والمراد بالإنسان جنسه جعل لفرط استعجاله وقلة صبره كأنه مخلوق من نفس العجل تزيلا لما طبع عليه من الأخلاف منزلة ما طبع منه من الأركان إيذانا بغاية لزومه له وعدم انفكاكه عنه، وقال أبو عمرو وأبو عبيدة وقطرب: في ذلك قلب والتقدير خلق العجل من الإنسان على معنى أنه جعل من طبائعه وأخلاقه للزومه له، وبذلك قرأ عبد الله وهو قلب غير مقبول، وقد شاع في كلامهم مثل ذلك عند إرادة المبالغة فيقولون لمن لازم اللعب أنت من لعب، ومنه قوله: وأنا لمما يضرب الكبش ضربة ... على رأسه يلقي اللسان من الفم وقيل المراد بالإنسان النضر بن الحرث لأن الآية نزلت فيه حين استعجل العذاب بقوله اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ [الأنفال: 32] إلخ، وقال مجاهد. وسعيد بن جبير وعكرمة والسدي والضحاك ومقاتل والكلبي: المراد به آدم عليه السلام أراد أن يقوم قبل أن يتم نفخ الروح فيه وتصل إلى رجليه، وقيل خلقه الله تعالى في آخر النهار يوم الجمعة فلما أجري الروح في عينيه ولسانه ولم يبلغ أسفله قال: يا رب استعجل بخلقي قبل غروب الشمس وروي ذلك عن مجاهد، وقيل المراد أنه خلق بسرعة على غير ترتيب خلق بنيه حيث تدرج في خلقهم، وذكر ذلك لبيان أن خلقه كذلك من دواعي عجلته في الأمور، والأظهر إرادة الجنس وإن كان خلقه عليه السلام وما يقتضيه ساريا إلى أولاده وما تقدم في سبب النزول لا يأباه كما لا يخفى، وقيل العجل الطين بلغة حمير، وأنشد أبو عبيدة لبعضهم: النبع في الصخرة الصماء منبته ... والنخل منبته في الماء والعجل واعترض بأنه لا تقريب لهذا المعنى هاهنا وقال الطيبي: يكون القصد عليه تحقير شأن جنس الإنسان تتميما لمعنى التهديد في قوله تعالى: سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ والمعول عليه المعنى الأول، والخطاب للكفرة المستعجلين، والمراد بآياته تعالى نقماته عز وجل، والمراد بإراءتهم إياها إصابته تعالى إياهم بها، وتلك الإراءة في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 47 الآخرة على ما يشير إليه ما بعد، وقيل فيها وفي الدنيا، والنهي عن استعجالهم إياه تعالى بالإتيان بها مع أن نفوسهم جبلت على العجلة ليمنعوها عما تريده وليس هذا من التكليف بما لا يطاق لأن الله تعالى أعطاهم من الأسباب ما يستطيعون به كف النفس عن مقتضاها ويرجع هذا النهي إلى الأمر بالصبر، وقرأ مجاهد وحميد وابن مقسم «خلق الإنسان» ببناء «خلق» للفاعل ونصب «الإنسان» . وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ أي وقت وقوع الساعة الموعود بها، وكانوا يقولون ذلك استعجالا لمجيئه بطريق الاستهزاء والإنكار كما يرشد إليه الجواب لا طلبا لتعيين وقته بطريق الإلزام كما في سورة الملك، ومَتى في موضع رفع على أنه خبر لهذا. ونقل عن بعض الكوفيين أنه في موضع نصب على الظرفية والعامل فيه فعل مقدر أي متى يأتي هذا الوعد إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بأنه يأتي والخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين الذين يتلون الآيات الكريمة المنبئة عن إتيان الساعة، وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة ما قبله عليه فإن قولهم مَتى هذَا الْوَعْدُ حيث كان استبطاء منهم للموعود وطلبا لإتيانه بطريق العجلة في قوة طلب إتيانه العجلة فكأنه قيل إن كنتم صادقين فليأتنا بسرعة، وقوله تعالى: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا استئناف مسوق لبيان شدة هول ما يستعجلونه وفظاعة ما فيه من العذاب وأنهم إنما يستعجلونه لجهلهم بشأنه، وإيثار صيغة المضارع في الشرط وإن كان المعنى على المضي لإفادة استمرار عدم العلم بحسب المقام وإلا فكثيرا ما يفيد المضارع المنفي انتفاء الاستمرار، ووضع الموصول موضع الضمير للتنبيه بما في حيز الصلة على علة استعجالهم. وقوله تعالى: حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ مفعول يَعْلَمُ على ما اختاره الزمخشري وهو عبارة عن الوقت الموعود الذي كانوا يستعجلونه، وإضافته إلى الجملة الجارية مجرى الصفة التي حقها أن تكون معلومة الانتساب إلى الموصوف عند المخاطب أيضا مع إنكار الكفرة ذلك للإيذان بأنه من الظهور بحيث لا حاجة إلى الإخبار به وإنما حقه الانتظام في سلك المسلمات المفروغ عنها، وجواب لَوْ محذوف أي لو لم يستمر عدم علمهم بالوقت الذي يستعجلونه بقولهم مَتى هذَا الْوَعْدُ وهو الوقت الذي تحيط بهم النار فيه من كل جانب، وتخصيص الوجوه والظهور بالذكر بمعنى القدام والخلف لكونهما أشهر الجوانب واستلزام الإحاطة بهما للإحاطة بالكل بحيث لا يقدرون على رفعها بأنفسهم من جانب من جوانبهم وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ من جهة الغير في دفعها إلخ لما فعلوا ما فعلوا من الاستعجال، وقدر الحوفي لسارعوا إلى الإيمان وبعضهم لعلموا صحة البعث وكلاهما ليس بشيء، وقيل إن لَوْ للتمني لا جواب لها وهو كما ترى. وجوز أن يكون يَعْلَمُ متروك المفعول منزلا منزلة اللام أي لو كان لهم علم لما فعلوا ذلك، وقوله تعالى: حِينَ إلخ استئناف مقرر لجهلهم ومبين لاستمراره إلى ذلك الوقت كأنه قيل: حين يرون ما يرون يعلمون حقيقة الحال، وفي الكشف كأنه استئناف بياني وذلك أنه لما نفي العلم كان مظنة أن يسأل فأي وقت يعلمون؟ فأجيب حين لا ينفعهم، والظاهر كون حِينَ إلخ مفعولا به ليعلم. وقال أبو حيان: الذي يظهر أن مفعوله محذوف لدلالة ما قبله عليه أي لو يعلم الذين كفروا مجيء الموعود الذي سألوا عنه واستبطؤوه وحِينَ منصوب بذلك المفعول وليس عندي بظاهر بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً عطف على لا يَكُفُّونَ وزعم ابن عطية أنه استدراك مقدر قبله نفي والتقدير إن الآيات لا تأتي بحسب اقتراحهم بل تأتيهم بغتة، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 48 وقيل: إنه استدراك عن قوله تعالى: لَوْ يَعْلَمُ إلخ وهو منفي معنى كأنه قيل: لا يعلمون ذلك بل تأتيهم إلخ، وبينه وبين ما زعمه ابن عطية كما بين السماء الأرض. والمضمر في تَأْتِيهِمْ عائد على الْوَعْدُ لتأويله بالعدة أو الموعدة أو الحين لتأويله بالساعة أو على النَّارَ واستظهره في البحر، بَغْتَةً أي فجأة مصدر في موضع الحال أو مفعول مطلق لتأتيهم وهو مصدر من غير لفظه فَتَبْهَتُهُمْ تدهشهم وتحيرهم أو تغلبهم على أنه معنى كنائي. وقرأ الأعمش «بل يأتيهم» بياء الغيبة «بغتة» بفتح الغين وهو لغة فيها، وقيل: إنه يجوز في كل ما عينه حرف حلق «فيبهتهم» بياء الغيبة أيضا، فالضمير المستتر في كل من الفعلين للوعد أو للحين على ما قال الزمخشري. وقال أبو الفضل الرازي: يحتمل أن يكون للنار بجعلها بمعنى العذاب فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها الضمير المجرور عائد على ما عاد عليه ضمير المؤنث فيما قبله، وقيل: على البغتة أي لا يستطيعون ردها عنهم بالكلية وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أي يمهلون ليستريحوا طرفة عين، وفيه تذكير بإمهالهم في الدنيا. وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ إلخ تسلية لرسوله صلّى الله عليه وسلّم عن استهزائهم بعد أن قضى الوطر من ذكر الأجوبة الحكمية عن مطاعنهم في النبوة وما أدمج فيها من المعاني التي هي لباب المقاصد وفيه أنه عليه الصلاة والسلام قضى ما عليه من عهدة الإبلاغ وأنه المنصور في العاقبة ولهذا بدىء بذكر أجلة الأنبياء عليهم السلام للتأسي وختم بقوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ [الأنبياء: 105] إلخ، وتصدير ذلك بالقسم لزيادة تحقيق مضمونه، وتنوين الرسل للتفخيم والتكثير، ومن متعلقة بمحذوف هو صفة له أي وبالله لقد استهزىء برسل أولى شأن خطير وذوي عدد كثير كائنين من زمان قبل زمانك على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه فَحاقَ أي أحاط عقيب ذلك أو نزل أو حل أو نحو ذلك فإن معناه يدور على الشمول واللزوم ولا يكاد يستعمل إلا في الشر. والحيق ما يشتمل على الإنسان من مكروه فعله، وقيل: أصل حاق حق كزال وزل وذام وذم. وقوله تعالى: بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ أي من أولئك الرسل عليهم السلام متعلق بحاق. وتقديمه على فاعله الذي هو قوله تعالى: ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ للمسارعة إلى بيان لحوق الشر بهم، وما إما موصولة مفيدة للتهويل والضمير المجرور عائد عليها والجار متعلق بالفعل بعده وتقديمه لرعاية الفواصل أي فأحاط بهم الذي كانوا يستهزؤون به حيث أهلكوا لأجله. وإما مصدرية فالضمير راجع إلى جنس الرسول المدلول عليه بالجمع كما قالوا. ولعل إيثار الأفراد على الجمع للتنبيه على أنه يحيق بهم جزاء استهزائهم بكل واحد منهم عليهم السلام لأجزاء استهزائهم بكلهم من حيث هو فقط أي فنزل بهم جزاء استهزائهم على وضع السبب موضع المسبب إيذانا بكمال الملابسة بينهما أو عين استهزائهم إن أريد بذلك العذاب الأخروي بناء على ظهور الأعمال في النشأة الأخروية بصور مناسبة لها في الحسن والقبح قُلْ أمر له صلّى الله عليه وسلّم أن يسأل أولئك المستهزئين سؤال تقريع وتنبيه كيلا يغتروا بما غشيهم من نعم الله تعالى ويقول مَنْ يَكْلَؤُكُمْ أي يحفظكم بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ أي من بأسه بقرينة الحفظ، وتقديم الليل لما أن الدواهي فيه أكثر وقوعا وأشد وقعا. وفي التعرض لعنوان الرحمانية تنبيه على أنه لا حفظ لهم إلا برحمته تعالى وتلقين للجواب كما قيل في قوله تعالى: ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار: 6] وقيل إن ذلك إيماء إلى أن بأسه تعالى إذا أراد شديد أليم ولذا يقال نعوذ بالله عز وجل من غضب الحليم وتنديم لهم حيث عذبهم من غلبت رحمته ودلالة على شدة خبثهم. وقرأ أبو جعفر والزهري وشيبة «يكلوكم» بضمة خفيفة من غير همز، وحكى الكسائي والفراء «يكلوكم» بفتح اللام وإسكان الواو، وقوله تعالى: بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ إضراب عن ذلك تسجيلا عليهم بأنهم ليسوا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 49 من أهل السماع وأنهم قوم ألهتهم النعم عن المنعم فلا يذكرونه عز وجل حتى يخافوا بأسه أو يعدوا ما كانوا فيه من الأمن والدعة حفظا وكلاءة ليسألوا عن الكالئ على طريقة قوله: عوجوا فحيوا لنعمى دمنة الدار ... ماذا تحيون من نوء وأحجار وفيه أنهم مستمرون على الأعراض ذكروا ونبهوا أولا، وفي تعليق الأعراض بذكره تعالى وإيراد اسم الرب المضاف إلى ضميرهم المنبئ عن كونهم تحت ملكوته وتدبيره وتربيته تعالى من الدلالة على كونهم في الغاية القاصية من الضلالة والغي ما لا يخفى، وقيل إنه إضراب عن مقدر أي إنهم غير غافلين عن الله تعالى حتى لا يجدي السؤال عنه سبحانه كيف وهم إنما اتخذوا الآلهة وعبدوها لتشفع لهم عنده تعالى وتقربهم إليه زلفى بل هم معرضون عن ذكره عز وجل فالتذكير يناسبهم، وهذا مع ظهوره من مساق الكلام ووضوح انطباقه على مقتضى المقام قد خفي عن الناظرين وغفلوا عنه أجمعين اهـ. وتعقب بأن السياق لتجهيلهم والتسجيل عليهم بأنهم إذا ذكروا لا يذكرون ألا يرى قوله تعالى: وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ [الأنبياء: 45] وما ذكر يقتضي العكس لتضمنه وصفهم بإجداء الإنذار والدعاء مع أن قوله غير غافلين مناف لما يدل عليه النظم الكريم فالحق ما تقدم، وقوله تعالى: أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا إعراض عن وصفهم بالإعراض إلى توبيخهم باعتمادهم على آلهتهم وإسنادهم الحفظ إليها، فأم منقطعة مقدرة ببل والهمزة ولَهُمْ خبر مقدم وآلِهَةٌ مبتدأ وجملة تَمْنَعُهُمْ صفته ومِنْ دُونِنا قيل صفة بعد صفة أي بل ألهم آلهة مانعة لهم متجاوزة منعنا أو حفظنا فهم معولون عليها واثقون بحفظها، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن في الكلام تقديما وتأخيرا والأصل أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم، وعليه يكون مِنْ دُونِنا صفة أيضا، وقال الحوفي: إنه متعلق بتمنعهم أي بل ألهم آلهة تمنعهم من عذاب من عندنا، والاستفهام لإنكار أن يكون لهم آلهة كذلك، وفي توجيه الإنكار والنفي إلى وجود الآلهة الموصوفة بما ذكر لا إلى نفس الصفة بأن يقال أم تمنعهم آلهتهم إلخ من الدلالة على سقوطها عن مرتبة الوجود فضلا عن رتبة المنع ما لا يخفى. وقال بعض الأجلة: إن الإضراب الذي تضمنته أَمْ عائد على الأمر بالسؤال كالإضراب السابق لكنه أبلغ منه من حيث إن سؤال الغافل عن الشيء بعيد وسؤال المعتقد لنقيضه أبعد، وفهم منه بعضهم أن الهمزة عليه للتقرير بما في زعم الكفرة تهكما. وتعقب أنه ليس بمتعين فيجوز أن يكون للإنكار لا بمعنى أنه لم يكن منهم زعم ذلك بل بمعنى أنه لم كان مثله مما لا حقيقة له، والأظهر عندي جعله عائدا على الوصف بالإعراض كما سمعت أولا، وفي الكشف ضمن الإعراض عن وصفهم بالإعراض إنكاره أبلغ الإنكار بأنهم في إعراضهم عن ذكره تعالى كمن له كالىء يمنعه عن بأسنا معرضا فيه بجانب آلهتهم وأنهم أعرضوا عنه تعالى واشتغلوا بهم ولهذا رشح بما بعد كأنه قيل دع حديث الإعراض وانظر إلى من أعرضوا عن ربهم سبحانه إليه فإن هذا أطم وأطم فتأمله فإنه دقيق. وقوله تعالى: لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ استئناف مقرر لما قبله من الإنكار أي لا يستطيعون أن ينصروا أنفسهم ويدفعوا عنها ما ينزل بها ولا هم منا يصحبون بنصر أو بمن يدفع عنهم ذلك من جهتنا فهم في غاية العجز وغير معتنى بهم فكيف يتوهم فيهم ما يتوهم، فالضمائر للآلهة بتنزيلهم منزلة العقلاء وروي عن قتادة، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها للكفرة على معنى لا يستطيع الكفار نصر أنفسهم بآلهتهم ولا يصحبهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 50 نصر من جهتنا، والأول أولى بالمقام وإن كان هذا أبعد عن التفكيك، ومِنَّا على القولين يحتمل أن يتعلق بالفعل بعده وأن يتعلق بمقدر وقع صفة لمحذوف. وقوله تعالى: بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ إلخ إضراب على ما في الكشف عن الضرب السابق من الكلام إلى وعيدهم وأنهم من أهل الاستدراج وأخرجهم عن الخطاب عدم مبالاة بهم، وفي العدول إلى الإشارة عن الضمير إشارة إلى تحقيرهم، وفي غير كتاب إنه إضراب عما توهموه من أن ما هم فيه من الكلاءة من جهة أن لهم آلهة تمنعهم من تطرق البأس إليهم كأنه قيل دع ما زعموا من كونهم محفوظين بكلاءة آلهتهم بل ما هم فيه من الحفظ منا لا غير حفظناهم من البأساء ومتعناهم بأنواع السراء لكونهم من أهل الاستدراج والانهماك فيما يؤديهم إلى العذاب الأليم. ويحتمل أن يكون إضرابا عما يدل عليه الاستئناف السابق من بطلان توهمهم كأنه قيل دع ما يبين بطلان توهمهم من أن يكون لهم آلهة تمنعهم واعلم أنهم إنما وقعوا في ورطة ذلك التوهم الباطل بسبب أنا متعناهم بما يشتهون حتى طالت مدة عمارة أبدانهم بالحياة فحسبوا أن ذلك يدوم فاغتروا وأعرضوا عن الحق واتبعوا ما سولت لهم أنفسهم وذلك طمع فارغ وأمل كاذب أَفَلا يَرَوْنَ أي ألا ينظرون فلا يرون أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ أي أرض الكفرة أو أرضهم نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها بتسليط المسلمين عليها وحوز ما يحوزونه منها ونظمه في سلك ملكهم، والعدول عن أنا ننقص الأرض من أطرافها إلى ما في النظم الجليل لتصوير كيفية نقصها وانتزاعها من أيديهم فإنه بإتيان جيوش المسلمين واستيلائهم، وكان الأصل يأتي جيوش المسلمين لكنه أسند الإتيان إليه عز وجل تعظيما لهم وإشارة إلى أنه بقدرته تعالى ورضاه، وفيه تعظيم للجهاد والمجاهدين. والآية كما قدمنا أول السورة مدنية وهي نازلة بعد فرض الجهاد فلا يرد أن السورة مكية والجهاد فرض بعدها حتى يقال: إن ذلك إخبار عن المستقبل أو يقال: إن المراد ننقصها بإذهاب بركتها كما جاء في رواية عن ابن عباس أو بتخريب قراها وموت أهلها كما روي عن عكرمة، وقيل ننقصها بموت العلماء وهذا إن صح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلا معدل عنه وإلا فالأظهر نظرا إلى المقام ما تقدم ويؤيده قوله تعالى: أَفَهُمُ الْغالِبُونَ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين. والمراد إنكار ترتيب الغالبية على ما ذكر من نقص أرض الكفرة بتسليط المؤمنين عليها كأنه قيل أبعد ظهور ما ذكر ورؤيتهم له يتوهم غلبتهم، وفي التعريف تعريض بأن المسلمين هم المتعينون للغلبة المعروفون فيها قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بعد ما بيّن من جهته تعالى غاية هول ما يستعجله المستعجلون ونهاية سوء حالهم عند إتيانه ونعي عليهم جهلهم بذلك وإعراضهم عن ذكر ربهم الذي يكلؤهم من طوارق الليل وحوادث النهار وغير ذلك من مساويهم أمر عليه الصلاة والسلام بأن يقول لهم: إنما أنذركم ما تستعجلونه من الساعة بِالْوَحْيِ الصادق الناطق بإثباتها وفظاعة ما فيها من الأهوال أي إنما شأني أن أنذركم بالإخبار بذلك لا بالإتيان بها فإنه مزاحم للحكمة التكوينية والتشريعية فإن الإيمان برهان لأعياني. وقوله تعالى: وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إما من تتمة الكلام الملقن تذييل له بطريق الاعتراض قد أمر صلّى الله عليه وسلّم بأن يقوله لهم توبيخا وتقريعا وتسجيلا عليهم بكمال الجهل والعناد، وإما من جهته تعالى على طريقة قوله سبحانه: بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ كأنه قيل قل لهم ذلك وهم بمعزل عن السماع، واللام في الصم إما للجنس المنتظم لهؤلاء الكفرة انتظاما أوليا وإما للعهد فوضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالتصامم، وتقييد نفي السماع بقوله تعالى: إِذا ما يُنْذَرُونَ مع أن الصم لا يسمعون مطلقا لبيان كمال شدة الصمم كما أن إيثار الدعاء الذي هو الجزء: 9 ¦ الصفحة: 51 عبارة عن الصوت والنداء على الكلام لذلك، فإن الإنذار عادة يكون بأصوات عالية مكررة مقارنة لهيئات دالة عليه فإذا لم يسمعوها يكن صممهم في غاية لم يسمع بمثلها، وقيل لأن الكلام في الإنذار ألا ترى قوله تعالى: قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وفيه دغدغة لا تخفى. وقرأ ابن عامر وابن جبير عن أبي عمرو وابن الصلت عن حفص «تسمع» بالتاء على الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم من الأسماع «الصمّ الدعاء» بنصبهما على المفعولية، وهذه القراءة تؤيد احتمال كون الجملة من جهته تعالى وقرىء «يسمع» بالياء على الغيبة وإسناد الفعل إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم «الصم الدعاء» بنصبهما على ما مر. وذكر ابن خالويه أنه قرىء «يسمع» مبنيا للمفعول «الصم» بالرفع على النيابة عن الفاعل «الدعاء» بالنصب على المفعولية. وقرأ أحمد بن جبير الأنطاكي عن اليزيدي عن أبي عمرو «يسمع» بضم ياء الغيبة وكسر الميم «الصمّ» بالنصب على المفعولية «الدعاء» بالرفع على الفاعلية يسمع، وإسناد الأسماع إليه من باب الاتساع والمفعول الثاني محذوف كأنه قيل ولا يسمع الصم الدعاء شيئا، وقوله تعالى: وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ بيان لسرعة تأثرهم من مجيء نفس العذاب إثر بيان عدم تأثرهم من مجيء خبره على نهج التوكيد القسمي أي وبالله لئن مسهم أدنى شيء من عذابه تعالى: لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ أي ليدعن على أنفسهم بالويل والهلاك ويعترفن عليها بالظلم السابق، وفي مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ ثلاث مبالغات كما قال الزمخشري وهي كما في الكشف ذكر المس وهو دون النفوذ ويكفي في تحققه إيصال ما، وما في النفح من معنى النزارة فإن أصله هبوب رائحة الشيء ويقال نفحته الدابة ضربته بحد حافرها ونفحه بعطية رضخه وأعطاه يسيرا، وبناء المرة وهي لأقل ما ينطلق عليه الاسم، وجعل السكاكي التنكير رابعتها لما يفيده من التحقير، واستفادة ذلك إن سلمت من بناء المرة ونفس الكلمة لا يعكر عليه كما زعم صاحب الإيضاح. واعترض بعضهم المبالغة في المس بأنه أقوى من الإصابة لما فيه من الدلالة على تأثر حاسة الممسوس ومما ذكر في الكشف يعلم اندفاعه لمن مسته نفحة عناية، ولعل في الآية مبالغة خامسة تظهر بالتأمل ثم الظاهر أن هذا المس يوم القيامة كما رمزنا إليه، وقيل في الدنيا بناء على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من تفسير النفحة بالجوع الذي نزل بمكة وقوله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ بيان لما سيقع عند إتيان ما أنذروه. وجعل الطيبي الجملة حالا من الضمير في لَيَقُولُنَّ بتقدير ونحن نضع، وهي في الخلو عن العائد نحو جئتك والشمس طالعة، ويجوز أن يقال: أقيم العموم في نَفْسٌ الآتي بعد مقام العائد وهو كما ترى أي ونحضر الموازين العادلة التي توزن بها صحائف الأعمال كما يقضي بذلك حديث السجلات والبطاقة التي ذكره مسلم وغيره أو نفس الأعمال كما قيل، وتظهر بصور جوهرية مشرقة إن كانت حسنات ومظلمة إن كانت سيئات، وجمع الموازين ظاهر في تعدد الميزان حقيقة وقد قيل به فقيل لكل أمة ميزان، وقيل لكل مكلف ميزان، وقيل للمؤمن موازين بعد خيراته وأنواع حسناته، والأصح أشهر أنه ميزان واحد لجميع الأمم ولجميع الأعمال كفّتاه كأطباق السموات، والأرض لصحة الأخبار بذلك، والتعدد اعتباري وقد يعبر عن الواحد بما يدل على الجمع للتعظيم كقوله تعالى: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً [المؤمنون: 99] وقوله فارحموني يا إله محمّد، وإحضار ذلك تجاه العرش بين الجنة والنار ويأخذ جبريل عليه السلام بعموده ناظرا إلى لسانه وميكائيل عليه السلام أمين عليه كما في نوادر الأصول، وهل هو مخلوق اليوم أو سيخلق غدا؟. قال اللقاني: لم أقف على نص في ذلك كما لم أقف على نص في أنه من أي الجواهر هو اهـ، وما روي من أن داود عليه السلام سأل ربه سبحانه أن يريه الميزان فلما رآه غشي عليه ثم أفاق فقال: يا إلهي من الذي يقدر أن يملأ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 52 كفته حسنات؟ فقال تعالى: يا داود إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة نص في أنه مخلوق اليوم لكن لا أدري حال الحديث فلينقر. وأنكر المعتزلة الميزان بالمعنى الحقيقي وقالوا: يجب أن يحمل ما ورد في القرآن من ذلك على رعاية العدل والإنصاف، ووضع الموازين عندهم تمثيل لأرصاد الحساب السوي والجزاء على حسب الأعمال، وروي هذا عن الضحاك وقتادة ومجاهد والأعمش ولا داعي إلى العدول عن الظاهر، وأفراد القسط مع كونه صفة الجمع لأنه مصدر ووصف به مبالغة، ويجوز أن يكون على حذف مضاف أي ذوات القسط، وجوز أبو حيان أن يكون مفعولا لأجله نحو قوله: لا أقعد الجبن عن الهيجاء وحينئذ يستغني عن توجيه أفراده. وقرىء «القصط» بالصاد، واللام في قوله تعالى: لِيَوْمِ الْقِيامَةِ بمعنى في كما نص عليه ابن مالك وأنشد لمجيئها كذلك قول مسكين الدارمي: أولئك قومي قد مضوا لسبيلهم ... كما مضى من قبل عاد وتبع وهو مذهب الكوفيين ووافقهم ابن قتيبة أي نضع الموازين في يوم القيامة التي كانوا يستجعلونها وقال غير واحد: هي للتعليل أي لأجل حساب يوم القيامة أو لأجل أهله وجعلها بعضهم للاختصاص كما هو أحد احتمالين في قولك جئت لخمس ليال خلون من الشهر، والمشهور فيه وهو الاحتمال الثاني أن اللام بمعنى في: فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ من النفوس شَيْئاً من الظلم فلا ينقص ثوابها الموعود ولا يزاد عذابها المعهود. فالشيء منصوب على المصدرية والظلم هو بمعناه المشهور. وجوّز أن يكون شَيْئاً مفعولا به على الحذف والإيصال والظلم بحالة أي فلا تظلم في شيء بأن تمنع ثوابا أو تزاد عذابا، وبعضهم فسر الظلم بالنقص وجوّز في شَيْئاً المصدرية والمفعولية من غير اعتبار الحذف والإيصال أي فلا تنقص شيئا من النقص أو شيئا من الثواب، ويفهم عدم الزيادة في العقاب من إشارة النص واللزوم المتعارف، واختير ما لا يحتاج فيه إلى الإشارة واللزوم، والفاء لترتيب انتفاء الظلم على وضع الموازين. وربما يفهم من ذلك أن كل أحد من توزن أعماله، وقال القرطبي: الميزان حق ولا يكون في حق كل أحد بدليل الحديث الصحيح فيقال: يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن الحديث وأحرى الأنبياء عليهم السلام، وقوله تعالى: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ [الرحمن: 41] وقوله تعالى: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً [الكهف: 105] . وقوله سبحانه: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان: 23] . وإنما يبقى الوزن لمن شاء الله سبحانه من الفريقين. وذكر القاضي منذر بن سعيد البلوطي أن أهل الصبر لا توزن أعمالهم وإنما يصب لهم الأجر صبا، وظواهر أكثر الآيات والأحاديث تقتضي وزن أعمال الكفار، وأول لها ما اقتضى ظاهره خلاف ذلك وهو قليل بالنسبة إليها، وعندي لا قاطع في عموم الوزن وأميل إلى عدم العموم، ثم إنه كما اختلف في عمومه بالنسبة إلى أفراد الأنس اختلف في عمومه بالنسبة إلى نوعي الإنس والجن، والحق أن مؤمني الجن كمؤمني الإنس وكافرهم ككافرهم كما بحثه القرطبي واستنبطه من عدة آيات، وبسط اللقاني القول في ذلك في شرحه الكبير للجوهرة، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان الخلاف في كيفية الوزن وَإِنْ كانَ أي العمل المدلول عليه بوضع الموازين، وقيل الضمير راجع لشيئا بناء على أن المعنى فلا تظلم جزاء عمل من الأعمال مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أي مقدار حبة كائنة من خردل فالجار والمجرور الجزء: 9 ¦ الصفحة: 53 متعلق بمحذوف وقع صفة لحبة، وجوز أن يكون صفة لمثقال والأول أقرب، والمراد وإن كان في غاية القلة والحقارة فإن حبة الخردل مثل في الصغر. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما، وأبو جعفر وشيبة ونافع «مثقال» بالرفع على أن كان تامة أَتَيْنا بِها أي جئنا بها وبه قرأ أبي، والمراد أحضرناها، فالباء للتعدية والضمير للمثقال وأن لاكتساب التأنيث من المضاف إليه والجملة جواب إن الشرطية، وجوز أن تكون إن وصلية والجملة مستأنفة وهو خلاف الظاهر. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن جبير وابن أبي إسحق والعلاء بن سيابة وجعفر بن محمد وابن شريح الأصبهاني «آتينا» بمدة على أنه مفاعلة من الإتيان بمعنى المجازاة والمكافأة لأنهم أتوه تعالى بالأعمال وأتاهم بالجزاء، وقيل هو من الإيتاء وأصله أأتينا فأبدلت الهمزة الثانية ألفا، والمراد جازينا أيضا مجازا ولذا عدي بالباء ولو كان المراد أعطينا كما قال بعضهم لتعدي بنفسه كما قال ابن جني وغيره. وقرأ حميد «أثبنا» من الثواب وَكَفى بِنا حاسِبِينَ قيل أي عادين ومحصين أعمالهم على أنه من الحساب مرادا به معناه اللغوي وهو العد وروي ذلك عن السدي، وجوز أن يكون كناية عن المجازاة. وذكر اللقاني أن لحساب في عرف الشرع توقيف الله تعالى عباده إلا من استثني منهم قبل الانصراف من المحشر على أعمالهم خيرا كانت أو شرا تفصيلا لا بالوزن، وأنه كما ذكر الواحدي وغيره وجزم به صاحب كنز الأسرار قبل الوزن، ولا يخفى أن في الآية إشارة ما إلى أن الحساب المذكور فيها بعد وضع الموازين فتأمل، ونصب الوصف إما على أنه تمييز أو على أنه حال واستظهر الأول في البحر. هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ إلخ فيه إشارة إلى سوء حال المحجوبين بحب الدنيا عن الاستعداد للأخرى فغفلوا عن إصلاح أمرهم وأعرضوا عن طاعة ربهم وغدت قلوبهم عن الذكر لاهية وعن التفكر في جلاله وجماله سبحانه ساهية، وفي قوله تعالى: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ إشارة إلى سوء حال بعض المنكرين على أولياء الله تعالى فإن نفوسهم الخبيثة الشيطانية تأبى اتباعهم لما يرون من المشاركة في العوارض البشرية وَكَمْ قَصَمْنا قبلهم مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً فيه إشارة إلى أن في الظلم خراب العمران فمتى ظلم الإنسان خرب قلبه وجر ذلك إلى خراب بدنه وهلاكه بالعذاب، وفي قوله تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ إشارة إلى أن مداومة الذكر سبب لانجلاء الظلمة عن القلب وتطهره من دنس الأغيار بحيث لا يبقى فيه سواه سبحانه ديار وَمَنْ عِنْدَهُ قيل هم الكاملون الذين في الحضرة فإنهم لا يتحركون ولا يسكنون إلا مع الحضور ولا تشق عليهم عبادة ولا تلهيهم عنه تعالى تجارة بواطنهم مع الحق وظواهرهم مع الخلق أنفاسهم تسبيح وتقديس وهو سبحانه لهم خير أنيس، وفي قوله تعالى: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ إشارة إلى أن الكامل لا يختار شيئا بل شأنه التفويض والجريان تحت مجاري الأقدار مع طيب النفس، ومن هنا قيل إن القطب الرباني الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره وغمرنا بره لم يتوفّ حتى ترقى عن مقام الإدلال إلى التفويض المحض، وقد نص على ذلك الشيخ عبد الوهاب الشعراني في كتابه الجواهر واليواقيت وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ قد تقدم ما فيه من الإشارة كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ قال الجنيد قدس سره: من كانت حياته بروحه يكون مماته بذهابها ومن كانت حياته بربه تعالى فإنه ينقل من حياة الطبع إلى حياة الأصل وهي الحياة على الحقيقة وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً قيل أي بالقهر واللطف والفراق والوصال والإدبار والإقبال والجهل والعلم إلى غير ذلك، ولا يخفى أنه كثيرا ما يمتحن السالك بالقبض والبسط فينبغي له التثبت في كل عما يحطه عن درجته، ولعل فتنة البسط أشد من فتنة القبض فليتحفظ هناك أشد تحفظ وَنَضَعُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 54 الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ قال بعض الصوفية: الموازين متعددة فللعاشقين ميزان وللوالهين ميزان وللعاملين ميزان وهكذا، ومن ذلك ميزان للعارفين توزن به أنفاسهم ولا يزن نفسا منها السموات والأرض. وذكروا أن في الدنيا موازين أيضا أعظم موازينها الشريعة وكفتا الكتاب والسنة، ولعمري لقد عطل هذا الميزان متصوفة هذا الزمان أعاذنا الله تعالى والمسلمين مما هم عليه من الضلال إنه عز وجل المتفضل بأنواع الأفضال. وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ نوع تفصيل لما أجمل في قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ إلى قوله سبحانه: وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ [الأنبياء: 7. 9] وإشارة إلى كيفية إنجائهم وإهلاك أعدائهم، وتصديره بالتوكيد القسمي لإظهار كمال الاعتناء بمضمونه، والمراد بالفرقان التوراة وكذا بالضياء والذكر، والعطف كما في قوله: إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم ونقل الطيبي أنه أدخل الواو على ضِياءً وإن كان صفة في المعنى دون اللفظ كما يدخل على الصفة التي هي صفة لفظا كقوله تعالى: إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الأنفال: 49، الأحزاب: 12] وقال سيبويه: إذا قلت مررت بزيد وصاحبك جاز وإن قلت مررت بزيد فصاحبك بالفاء لم يجز كما جاز بالواو لأن الفاء تقتضي التعقب وتأخير الاسم عن المعطوف عليه بخلاف الواو، وأما قول القائل: يا لهف زيابة للحارث الصا ... بح فالغانم فالآيب فإنما ذكر بالفاء وجاد لأنه ليس بصفة على ذلك الحد لأن أل بمعنى الذي أي فالذي صبح فالذي غنم فالذي آب، وأبو الحسن يجيز المسألة بالفاء كما يجيزها بالواو انتهى، والمعنى وبالله لقد آتيناهما كتابا جامعا بين كونه فارقا بين الحق والباطل وضياء يستضاء به في ظلمات الجهل والغواية وذكرا يتعظ به الناس ويتذكرون، وتخصيص للمتقين بالذكر لأنهم المنتفعون به أو ذكر ما يحتاجون به من الشرائع والأحكام أو شرف لهم. وقيل: الفرقان النصر كما في قوله تعالى: يَوْمَ الْفُرْقانِ [الأنفال: 41] وأطلق عليه لفرقه بين الولي والعدو وجاء ذلك في رواية عن ابن عباس، والضياء حينئذ إما التوراة أو الشريعة أو اليد البيضاء. والذكر بأحد المعاني المذكورة. وعن الضحاك أن الفرقان فلق البحر والفرق والفلق اخوان، وإلى الأول ذهب مجاهد وقتادة وهو اللائق بمساق النظم الكريم فإنه لتحقيق أمر القرآن المشارك لسائر الكتب الإلهية لا سيما التوراة فيما ذكر من الصفات ولأن فلق البحر هو الذي اقترح الكفرة مثله بقولهم: فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الأنبياء: 5] . وقرأ ابن عباس وعكرمة والضحاك «ضياء» بغير واو على أنه حال من «الفرقان» وهذه القراءة تؤيد أيضا التفسير الأول، وقوله تعالى: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ مجرور المحل على أنه صفة مادحة المتقين أو بدل أو بيان أو منصوب أو مرفوع على المدح، والمراد على كل تقدير يخشون عذاب ربهم. وقوله سبحانه بِالْغَيْبِ حال من المفعول أي يخشون ذلك وهو غائب عنهم غير مرئي لهم ففيه تعريض بالكفرة حيث لا يتأثرون بالإنذار ما لم يشاهدوا ما أنذروه. وقال الزجاج: حال من الفاعل أي يخشونه غائبين عن أعين الناس ورجحه ابن عطية. وقيل: يخشونه بقلوبهم وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ أي خائفون بطريق الاعتناء، والجملة تحتمل العطف على الصلة وتحتمل الاستئناف، وتقديم الجار لرعاية الفواصل، وتخصيص إشفاقهم من الساعة بالذكر بعد وصفهم بالخشية على الإطلاق للإيذان الجزء: 9 ¦ الصفحة: 55 بكونها معظم المخلوقات وللتنصيص على اتصافهم بضد ما اتصف به المستعجلون، وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على أن حالتهم فيما يتعلق بالآخرة الإشفاق الدائم وَهذا أي القرآن الكريم أشير إليه بهذا للإيذان بسهولة تناوله ووضوح أمره، وقيل: لقرب زمانه ذِكْرٌ يتذكر به من تذكر وصف بالوصف الأخير للتوراة لمناسبة المقام وموافقته لما مر في صدر السورة الكريمة مع انطواء جميع ما تقدم في وصفه بقوله سبحانه: مُبارَكٌ أي كثير الخير غزير النفع ولقد عاد علينا والله تعالى الحمد من بركته ما عاد. وقوله تعالى: أَنْزَلْناهُ إما صفة ثانية لذكر أو خبر آخر لهذا، وفيه على التقديرين من تعظيم أمر القرآن الكريم ما فيه أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ إنكار لإنكارهم بعد ظهور كونه كالتوراة كأنه قيل أبعد أن علمتم أن شأنه كشأن التوراة أنتم منكرون لكونه منزلا من عندنا فإن ذلك بعد ملاحظة حال التوراة مما لا مساغ له أصلا وتقديم الجار والمجرور لرعاية الفواصل أو للحصر لأنهم معترفون بغيره مما في أيدي أهل الكتاب. وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ أي الرشد اللائق به وبأمثاله من الرسل الكبار وهو الرشد الكامل أعني الاهتداء إلى وجوه الصلاح في الدين والدنيا والإرشاد بالنواميس الإلهية وقيل: الصحف، وقيل: الحكمة، وقيل: التوفيق للخير صغيرا، واختار بعضهم التعميم. وقرأ عيسى الثقفي «رشده» بفتح الراء والشين وهما لغة كالحزن والحزن مِنْ قَبْلُ أي من قبل موسى وهارون، وقيل من قبل البلوغ حين خرج من السرب، وقيل من قبل أن يولد حين كان في صلب آدم عليه السلام، وقيل من قبل محمد صلّى الله عليه وسلّم والأول مروي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم قال في الكشف: وهو الوجه الأوفق لفظا ومعنى، أما الأول فللقرب، وأما الثاني فلأن ذكر الأنبياء عليهم السلام للتأسي، وكان القياس أن يذكر نوح ثم إبراهيم ثم موسى عليهم السلام لكن روعي في ذلك ترشيح التسلي والتأسي فقد ذكر موسى عليه السلام لأن حاله وما قاساه من قومه وكثرة آياته وتكاثف أمته أشبه بحال نبينا عليه الصلاة والسلام ثم ثنى بذكر إبراهيم عليه السلام، وقيل مِنْ قَبْلُ لهذا ألا ترى إلى قوله تعالى وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ [الأنبياء: 76] أي من قبل هؤلاء المذكورين، وقيل من قبل إبراهيم ولوط اهـ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ أي بأحواله وما فيه من الكمالات، وهذا كقولك في خير من الناس: أنا عالم بفلان فإنه من الاحتواء على محاسن الأوصاف بمنزل. وجوز أن يكون هذا كناية عن حفظه تعالى إياه وعدم إضاعته، وقد قال عليه السلام يوم إلقائه في النار وقول جبريل عليه السلام له سل ربك: علمه بحالي يغني عن سؤالي وهو خلاف الظاهر إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ظرف لآتينا على أنه وقت متسع وقع فيه الإيتاء وما يترتب عليه من أقواله وأفعاله، وجوّز أن يكون ظرفا لرشد أو لعالمين، وأن يكون بدلا من موضع مِنْ قَبْلُ وأن ينتصب بإضمار أعني أو أذكر، وبدأ بذكر الأب لأنه كان الأهم عنده عليه السلام وفي النصيحة والإنقاذ من الضلال. والظاهر أنه عليه السلام قال له ولقومه مجتمعين: ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ أراد عليه السلام ما هذه الأصنام إلا أنه عبر عنها بالتماثيل تحقيرا لشأنها فإن التمثال الصورة المصنوعة مشبّهة بمخلوق من مخلوقات الله تعالى من مثلت الشيء بالشيء إذا شبهته به. وكانت على ما قيل صور الرجال يعتقدون فيهم وقد انقرضوا، وقيل كانت صور الكواكب صنعوها حسبما تخيلوا، وفي الإشارة إليها بما يشار به للقريب إشارة إلى التحقير أيضا، والسؤال عنها بما التي يطلب بها بيان الحقيقة أو شرح الاسم من باب تجاهل العارف كأنه لا يعرف أنها ماذا وإلا فهو عليه السلام محيط بأن حقيقتها حجر أو نحوه، والعكوف الإقبال على الشيء وملازمته على سبيل التعظيم له، وقيل اللزوم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 56 والاستمرار على الشيء لغرض من الأغراض وهو على التفسيرين دون العبادة ففي اختياره عليها إيماء إلى تفظيع شأن العبادة غاية التفظيع، واللام في لَها للبيان فهي متعلقة بمحذوف كما في قوله تعالى: لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ [يوسف: 43] أو للتعليل فهي متعلقة بعاكفون وليست للتعدية لأن عكف إنما يتعدى بعلى كما في قوله تعالى: يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ [الأعراف: 138] وقد نزل الوصف هنا منزلة اللازم أي التي أنتم لها فاعلون العكوف. واستظهر أبو حيان كونها للتعليل وصلة عاكِفُونَ محذوفة أي عاكفون على عبادتها، ويجوز أن تكون اللام بمعنى على كما قيل ذلك في قوله تعالى: وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها [الإسراء: 7] وتتعلق حينئذ بعاكفون على أنها للتعدية. وجوز أن يؤول العكوف بالعبادة فاللام حينئذ كما قيل دعامة لا معدية لتعديه بنفسه ورجح هذا الوجه بما بعد، وقيل لا يبعد أن تكون اللام للاختصاص والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبرا وعاكِفُونَ خبر بعد خبر، وأنت تعلم أنه نفي بعده مكابرة، ومن الناس من لم يرتض تأويل العكوف بالعبادة لما أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن علي كرّم الله تعالى وجهه أنه مر على قوم يلعبون بالشطرنج فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون لأن يمس أحدكم جمرا حتى يطفى خير له من أن يمسها ، وفيه نظر لا يخفى، نعم لا يبعد أن يكون الأولى إبقاء العكوف على ظاهره، ومع ذلك المقصود بالذات الاستفسار عن سبب العبادة والتوبيخ عليها بألطف أسلوب ولما لم يجدوا ما يعول عليه في أمرها التجئوا إلى التشبث بحشيش التقليد المحض حيث قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ وأبطل عليه السلام ذلك على طريقة التوكيد القسمي حيث قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ الذين وجدتموهم كذلك فِي ضَلالٍ عجيب لا يقادر قدره مُبِينٍ ظاهر بين بحيث لا يخفى على أحد من العقلاء كونه ضلالا لاستنادكم وإياهم إلى غير دليل بل إلى هوى متبع وشيطان مطاع، وأَنْتُمْ تأكيد للضمير المتصل في كُنْتُمْ ولا بد منه عند البصريين لجواز العطف على مثل هذا الضمير، ومعنى كنتم في ضلال مطلق استقرارهم وتمكنهم فيه لا استقرارهم الماضي الحاصل قبل زمان الخطاب المتناول لهم ولآبائهم، وفي اختيار فِي ضَلالٍ على ضالين ما لا يخفى من المبالغة في ضلالهم، وفي الآية دليل على أن الباطل لا يصير حقا بكثرة المتمسكين به قالُوا لما سمعوا مقالته عليه السلام استبعادا لكون ما هم عليه ضلالا وتعجبا من تضليله عليه السلام إياهم على أتم وجه أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أي بالجد أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ أي الهازلين فالاستفهام ليس على ظاهره بل هو استفهام مستبعد متعجب، وقولهم أَمْ أَنْتَ إلخ عديله كلام منصف مومىء فيه بألطف وجه أن الثابت هو القسم الثاني لما فيه من أنواع المبالغة، وأشار في الكشاف كما في الكشف إلى أن الأصل هذا الذي جئتنا به أهو جد وحق أم لعب وهزل إلا أنه عدل عنه إلى ما عليه النظم الكريم لما أشير إليه. وقال صاحب المفتاح: أي أجددت وأحدثت عندنا تعاطي الحق أم أحوال الصبا بعد على الاستمرار وهو أقرب إلى الظاهر وفيه الإشارة إلى فائدة العدول عن المعادل ظاهر أو بيان المراد بالمجيء وظاهر كلام الشيخين أن أم متصلة. واختار العلامة الطيبي أنها منقطعة فقال: إنهم لما سمعوا منه عليه السلام ما يدل على تحقير آلهتهم وتضليلهم وآبائهم على أبلغ وجه وشاهدوا منه الغلظة والجد طلبوا منه عليه السلام البرهان فكأنهم قالوا هب أنا قد قلدنا آباءنا فيما نحن فيه فهل معك دليل على ما ادعيت أجئتنا بالحق ثم أضربوا عن ذلك وجاؤوا بأم المتضمنة لمعنى بل الإضرابية والهمزة التقديرية فاضربوا ببل عما أثبتوا له وقرروا بالهمزة خلافه على سبيل التوكيد والبت، وذلك أنهم قطعوا أنه لاعب وليس بمحق البتة لأن إدخالهم إياه في زمرة اللاعبين أي أنت غرق في اللعب داخل في زمرة الذين قصارى أمرهم في إثبات الدعاوى اللعب واللهو على سبيل الكناية إلا بمائية دل على إثبات ذلك بالدليل والبرهان، وهذه الكناية توقفك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 57 على أن أم لا يجوز أن تكون متصلة قطعا وكذا بل فيما بعد انتهى والحق أن جواز الانقطاع مما لا ريب فيه، وأما وجوبه ففيه ما فيه. قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ أي أنشأهن بما فيهن من المخلوقات التي من جملتها أنتم وآباؤكم وما تعبدون من غير مثال يحتذيه ولا قانون ينتحيه. وهذا انتقال عن تضليلهم في عبادة الأصنام ونفي عدم استحقاقها لذلك إلى بيان الحق وتعيين المستحق للعبادة، وضمير فَطَرَهُنَّ أما للسموات والأرض واستظهره أبو حيان، ووصفه تعالى بإيجادهن أثر وصفه سبحانه بربوبيته لهن تحقيقا للحق تنبيها على أن ما لا يكون كذلك بمعزل عن الربوبية التي هي منشأ استحقاق العبادة. وإما للتماثيل ورجح بأنه أدخل في تحقيق الحق وإرشاد المخاطبين إليه، وليس هذا الضمير من الضمائر التي تخص من يعقل من المؤنثات كما ظنه ابن عطية فتكلف لتوجيه عوده لما لا يعقل، وقوله تعالى: وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ تذييل متضمن لرد نسبتهم إياه عليه السلام إلى اللعب والهزل، والإشارة إلى المذكور، والجار الأول متعلق بمحذوف أي وأنا شاهد على ذلكم من الشاهدين أو على جهة البيان أي أعني على ذلكم أو متعلق بالوصف بعده، وإن كان في صلة أل لاتساعهم في المظروف أقوال مشهورة، والمعنى وأنا على ذلكم الذي ذكرته من العالمين به على سبيل الحقيقة المبرهنين عليه ولست من اللاعبين، فإن الشاهد على الشيء من تحققه وحققه وشهادته على ذلك إدلاؤه بالحجة عليها وإثباته بها. وقال شيخ الإسلام: إن قوله: بَلْ رَبُّكُمْ إلخ إضراب عما بنوا عليه مقالهم من اعتقاد كون تلك التماثيل أربابا لهم كأنه قيل ليس الأمر كذلك بل ربكم إلخ وقال القاضي: هو إضراب عن كونه عليه السلام لاعبا بإقامة البرهان على ما ادعاه، وجعله الطيبي إضرابا عن ذلك أيضا قال: وهذا الجواب وارد على الأسلوب الحكيم، وكان من الظاهر أن يجيبهم عليه السلام بقوله بل أنا من المحقين ولست من اللاعبين فجاء بقوله: بَلْ رَبُّكُمْ الآية لينبه به على أن إبطالي لما أنتم عاكفون عليه وتضليلي إياكم مما لا حاجة فيه لوضوحه إلى الدليل ولكن انظروا إلى هذه العظيمة وهي أنكم تتركون عبادة خالقكم ومالك أمركم ورازقكم ومالك العالمين والذي فطر ما أنتم لها عاكفون وتشتغلون بعبادتها دونه فأي باطل أظهر من ذلك وأي ضلال أبين منه. وقوله: وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ تذييل للجواب بما هو مقابل لقولهم: أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ من حيث الأسلوب وهو الكناية ومن حيث التركيب وهو بناء الخبر على الضمير كأنه قال: لست من اللاعبين في الدعاوى بل من العالمين فيها بالبراهين القاطعة والحجج الساطعة كالشاهد الذي نقطع به الدعاوى اهـ، ولا يخفى أنه يمكن إجراء هذا على احتمال كون أم متصلة فافهم وتأمل ليظهر لك أي التوجيهات لهذا الاضراب أولى وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ أي لأجتهدن في كسرها، وأصل الكيد الاحتيال في إيجاد ما يضر مع إظهار خلافه وهو يستلزم الاجتهاد فتجوز به عنه، وفيه إيذان بصعوبة لانتهاز وتوقفه على استعمال الحيل ليحتاطوا في الحفظ فيكون الظفر بالمطلوب أتم في التبكيت، وكان هذا منه عليه السلام عزما على الإرشاد إلى ضلالهم بنوع آخر، ولا يأباه ما روي عن قتادة أنه قال: نرى أنه عليه السلام قال ذلك من حيث لا يسمعون وقيل سمعه رجل واحد منهم، وقيل قوم من ضعفتهم ممن كان يسير في آخر الناس يوم خرجوا إلى العيد وكانت الأصنام سبعين: وقيل اثنين وسبعين. وقرأ معاذ بن جبل وأحمد بن حنبل «بالله» بالباء ثانية الحروف وهي أصل حروف القسم إذ تدخل على الظاهر والمضمر ويصرح بفعل القسم معها ويحذف والتاء بدل من الواو كما في تجاه والواو قائمة مقام الباء للمناسبة بينهما من حيث كونهما شفويتين ومن حيث إن الواو تفيد معنى قريبا من معنى الإلصاق على ما ذكره كثير من النحاة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 58 وتعقبه في البحر بأنه لا يقوم على ذلك دليل، وقدره السهيلي، والذي يقتضيه النظر إنه ليس شيء من هذه الأحرف أصلا لآخر، وفرق بعضهم بين الباء والتاء بأن في التاء المثناة زيادة معنى وهو التعجب، وكان التعجب هنا من إقدامه عليه السلام على أمر فيه مخاطرة. ونصوص النحاة أن التاء يجوز أن يكون معها تعجب ويجوز أن لا يكون واللام هي التي يلزمها التعجب في القسم، وفرق آخرون بينهما استعمالا بأن التاء لا تستعمل إلا مع اسم الله الجليل أو مع رب مضافا إلى الكعبة على قلة بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ من عبادتها إلى عيدكم. وقرأ عيسى بن عمر تُوَلُّوا من التولي بحذف إحدى التاءين وهي الثانية عند البصريين والأولى عند هشام، ويعضد هذه القراءة قوله تعالى: فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ [الصافات: 90] والفاء في قوله تعالى: فَجَعَلَهُمْ فصيحة أي فولوا فأتى إبراهيم عليه السلام والأصنام فجعلهم جُذاذاً أي قطعا فعال بمعنى مفعول من الجذ الذي هو القطع، قال الشاعر: بنو المهلب جذ الله دابرهم ... أمسوا رمادا فلا أصل ولا طرف فهو كالحطام من الحطم الذي هو الكسر، وقرأ الكسائي وابن محيض وابن مقسم وأبو حيوة وحميد والأعمش في رواية «جذاذا» بكسر الجيم، وابن عباس وابن نهيك وأبو السمال «جذاذا» بالفتح، والضم قراءة الجمهور، وهي كما روي عن ابن جني عن أبي حاتم لغات أجودها الضم ونص قطرب أنه في لغاته الثلاث مصدر لا يثنى ولا يجمع، وقال اليزيدي: جذاذا بالضم جمع جذاذة كزجاج وزجاجة، وقيل: بالكسر جمع جذيذ ككريم وكرام، وقيل: هو بالفتح مصدر كالحصاد بمعنى المحصود. وقرأ يحيى بن وثاب «جذذا» بضمتين مع جمع جذيذ كسرير وسرر، وقرىء «جذذا» بضم ففتح جمع جذة كقبة وقبب أو مخفف فعل بضمتين. وروي أن آزر خرج به في عيد لهم فبدؤوا ببيت الأصنام فدخلوه فسجدوا لها ووضعوا بينها طعاما خرجوا به معهم وقالوا إلى أن نرجع بركت الآلهة على طعامنا فذهبوا فلما كان إبراهيم عليه السلام في الطريق ثنى عزمه عن المسير معهم فقعد وقال إني سقيم فدخل فدخل على الأصنام وهي مصطفة وثم صنم عظيم مستقبل الباب وكان من ذهب في عينيه جوهرتان تضيئان بالليل فكسر الكل بفأس كان في يده ولم يبق إلا الكبير وعلق الفأس في عنقه، وقيل: في يده وذلك قوله تعالى: إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ أي الأصنام كما هو الظاهر مما سيأتي إن شاء الله تعالى. وضمير العقلاء هنا وفيما مر على زعم الكفرة، والكبر إما في المنزلة على زعمهم أيضا أو في الجثة، وقال أبو حيان: يحتمل أن يكون الضمير للعبدة، قيل: ويؤيده أنه لو كان للأصنام لقيل إلا كبيرهم لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ استئناف لبيان وجه الكسر واستبقاء الكبير، وضمير إِلَيْهِ عند الجمهور عائد على إبراهيم عليه السلام أي لعلهم يرجعون إلى إبراهيم عليه السلام لا إلى غيره فيحاجهم ويبكتهم بما سيأتي من الجواب إن شاء الله تعالى، وقيل: الضمير لله تعالى أي لعلهم يرجعون إلى الله تعالى وتوحيده حين يسألونه عليه السلام فيجيبهم، ويظهر عجز آلهتهم ويعلم من هذا أن قوله سبحانه: إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ ليس أجنبيا في البين على هذا القول كما توهم نعم لا يخفى بعده. وعن الكلبي أن الضمير للكبير أي لعلهم يرجعون إلى الكبير كما يرجع إلى العالم في حل المشكلات فيقولون له ما لهؤلاء مكسورة وما لك صحيحا والفأس في عنقك أو في يدك؟ وحينئذ يتبين لهم أنه عاجز لا ينفع ولا يضر ويظهر أنهم في عبادته على جهل عظيم، وكأن هذا بناء على ظنه عليه السلام بهم لما جرب لا ينفع ولا يضر ويظهر أنهم في عبادته على جهل عظيم، وكأن هذا بناء على ظنه عليه السلام بهم لما جرب وذاق من مكابرتهم لعقولهم واعتقادهم في آلهتهم وتعظيمهم لها، ويحتمل أنه عليه السلام يعلم أنهم لا يرجعون إليه لكن ذلك من باب الاستهزاء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 59 والاستجهال واعتبار حال الكبير عندهم فإن قياس حال من يسجد له ويؤهل للعبادة أن يرجع إليه في حل المشكل، وعلى الاحتمالين لا إشكال في دخول لعل في الكلام، ولعل هذا الوجه أسرع الأوجه تبادرا لكن جمهور المفسرين على الأول، والجار والمجرور متعلق بيرجعون، والتقديم للحصر على الأوجه الثلاثة على ما قيل، وقيل: هو متعين لذلك في الوجه الأول وغير متعين له في الأخيرين بل يجوز أن يكون لأداء حق الفاصلة فتأمل. وقد يستأنس بفعل إبراهيم عليه السلام من كسر الأصنام لمن قال من أصحابنا إنه لا ضمان على من كسر ما يعمل من الفخار مثلا من الصور ليلعب به الصبيان ونحوهم وهو القول المشهور عند الجمهور. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 60 قالُوا أي حين رجعوا من عيدهم ورأوا ما رأوا مَنْ فَعَلَ هذا الأمر العظيم بِآلِهَتِنا قالوه على طريقة الإنكار والتوبيخ والتشنيع، والتعبير عنه بالآلهة دون الأصنام أو هؤلاء للمبالغة في التشنيع، وقوله تعالى: إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ استئناف مقرر لما قبله، وجوز أبو البقاء أن تكون مَنْ موصولة مبتدأ وهذه الجملة في محل الرفع خبره أي الذي فعل هذا الكسر والحطم بآلهتنا إنه معدود من جملة الظلمة إما لجرأته على إهانتها وهي الحفية بالإعظام أو لتعريض نفسه للهلكة أو لإفراطه في الكسر والحطم، والظلم على الأوجه الثلاثة بمعنى وضع الشيء في غير موضعه قالُوا أي بعضهم منهم وهم الذين سمعوا قوله عليه السلام: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ عند بعض سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يعيبهم فلعله الذي فعل ذلك بهم وسمع. كما قال بعض الأجلة. حقه أن يتعدى إلى واحد كسائر أفعال الحواس كما قرره السهيلي ويتعدى إليه بنفسه كثيرا وقد يتعدى إليه بإلى أو اللام أو الباء، وتعديه إلى مفعولين مما اختلف فيه فذهب الأخفش. والفارسي في الإيضاح وابن مالك وغيرهم إلى أنه إن وليه ما يسمع تعدى إلى واحد كسمعت الحديث وهذا متفق عليه وإن وليه ما لا يسمع تعدي إلى اثنين ثانيهما مما يدل على صوت. واشترط بعضهم كونه جملة كسمعت زيدا يقول كذا دون قائلا كذا لأنه دال على ذات لا تسمع، وأما قوله تعالى: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ [الشعراء: 72] فعلى تقدير مضاف أي هل يسمعون دعاءكم، وقيل ما أضيف إليه الظرف مغن عنه، وفيه نظر، وقال بعضهم: إنه ناصب لواحد بتقدير مضاف مسموع قبل اسم الذات، والجملة إن كانت حال بعد المعرفة صفة بعد النكرة ولا تكون مفعولا ثانيا لأنها لا تكون كذلك إلا في الأفعال الداخلة على المبتدأ والخبر وليس هذا منها. وتعقب بأنه من الملحقات برأي العلمية لأن السمع طريق العلم كما في لتسهيل وشروحه فجوز هنا كون فَتًى مفعولا أولا وجملة يَذْكُرُهُمْ مفعولا ثانيا، وكونه مفعولا والجملة صفة له لأنه نكرة، وقيل إنها بدل منه، ورجحه بعضهم باستغنائه عن التجوز والإضمار إذ هي مسموعة والبدل هو المقصود بالنسبة وإبدال الجملة من المفرد جائز، وفي الهمع أن بدل الجملة من المفرد بدل اشتمال، وفي التصريح قد تبدل الجملة من المفرد بدل كل من كل فلا تغفل، وقال بعضهم إن كون الجملة صفة أبلغ في نسبة الذكر إليه عليه السلام لما في ذلك من إيقاع الفعل على المسموع منه وجعله بمنزلة المسموع مبالغة في عدم الواسطة فيفيد أنهم سمعوه بدون واسطة. ووجه بعضهم الأبلغية بغير ما ذكر مما بحث فيه، ولعل الوجه المذكور مما يتأتى على احتمال البدلية فلا تفوت المبالغة عليه، وقد يقال: إن هذا التركيب كيفما أعرب أبلغ من قولك سمعنا ذكر فتى ونحوه ما لا يحتاج فيه إلى مفعولين اتفاقا لما أن سَمِعْنا لما تعلق بفتى أفاد إجمالا أن المسموع نحو ذكره إذ لا معنى لأن يكون نفس الذات مسموعا ثم إذا ذكر يَذْكُرُهُمْ علم ذلك مرة أخرى ولما فيه من تقوى الحكم بتكرر الإسناد على ما بين في علم المعاني ولهذا رجح أسلوب الآية على غيره فتدبر. وقوله تعالى: يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ صفة لفتى، وجوز أن يكون استئنافا بيانيا والأول أظهر، ورفع إِبْراهِيمُ على أنه نائب الفاعل ليقال على اختيار الزمخشري وابن عطية، والمراد لفظه أي يطلق عليه هذا اللفظ، وقد اختلف في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 61 جواز كون مفعول القول مفردا لا يؤدي معناه جملة كقلت قصيدة وخطبة ولا هو مصدر القول أو صفته كقلت قولا أو حقا فذهب الزجاج والزمخشري وابن خروف وابن مالك إلى الجواز إذا أريد بالمفرد ولفظه بل ذكر الدنوشري أنه إذا كان المراد بالمفرد الواقع بعد القول نفس لفظه تجب حكايته ورعاية إعرابه، وآخرون إلى المنع قال أبو حيان: وهو الصحيح إذ لا يحفظ من لسانهم قال فلأن زيد ولا قال ضرب وإنما وقع القول في كلامهم لحكاية الجمل وما في معناها، وجعل المانعون إِبْراهِيمُ مرفوعا على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو أو هذا إبراهيم والجملة محكية بالقول كما في قوله: إذا ذقت فاها قلت طعم مدامة. وجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي إبراهيم فاعله وأن يكون منادى حذف منه حرف النداء أي يقال له حين يدعى يا إبراهيم، وعندي أن الآية ظاهرة فيما اختاره الزمخشري وابن عطية ويكفي الظهور مرجحا في أمثال هذه المطالب، وذهب الأعلم إلى أن إِبْراهِيمُ ارتفع بالإهمال لأنه لم يتقدمه عامل يؤثر في لفظه إذا القول لا يؤثر إلا في المفرد المتضمن لمعنى الجملة فبقي مهملا والمهمل إذا ضم إلى غيره ارتفع نحو قولهم واحد واثنان إذا عدوا ولم يدخلوا عاملا لا في اللفظ ولا في التقدير وعطفوا بعض أسماء العدد على بعض، ولا يخفى أن كلام هذا الأعلم لا يقوله إلا الأجهل ولأن يكون الرجل أفلح أعلم خير له من أن ينطق بمثله ويتكلم. قالُوا أولئك القائلون مَنْ فَعَلَ إلخ إذا كان الأمر كذا فَأْتُوا بِهِ أي أحضروه عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ مشاهدا معاينا لهم على أتم وجه كما تفيده على المستعارة لتمكن الرؤية لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ أي يحضرون عقوبتنا له، وقيل يشهدون بفعله أو بقوله ذلك فالضمير حينئذ ليس للناس بل لبعض منهم مبهم أو معهود والأول مروي عن ابن عباس والضحاك، والثاني عن الحسن وقتادة، والترجي أوفق به قالُوا استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية قولهم كأنه قيل فماذا فعلوا به بعد ذلك هل أتوا به أو لا؟ فقيل قالوا: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ اقتصارا على حكاية مخاطبتهم إياه عليه السلام للتنبيه على أن إتيانهم به ومسارعتهم إلى ذلك أمر محقق غني عن البيان، والهمزة كما قال العلامة التفتازاني للتقرير بالفاعل إذ ليس مراد الكفرة حمله عليه السلام على الإقرار بأن كسر الأصنام قد كان (1) بل على الإقرار بأنه منه كيف وقد أشاروا إلى الفعل في قولهم: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا وأيضا قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا ولو كان التقرير بالفعل لكان الجواب فعلت أو لم أفعل، واعترض ذلك الخطيب بأنه يجوز أن يكون الاستفهام على أصله إذ ليس في السياق ما يدل على أنهم كانوا عالمين بأنه عليه السلام هو الذي كسر الأصنام حتى يمتنع حمله على حقيقة الاستفهام، وأجيب عليه بأنه يدل عليه ما قبل الآية وهو أنه عليه السلام فد حلف بقوله: تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ إلخ ثم لما رأوا كسر الأصنام قالوا: مَنْ فَعَلَ هذا إلخ فالظاهر أنهم قد علموا ذلك من حلفه وذمه الأصنام ولقائل أن يقول: إن الحلف كما قاله كثير كان سرا أو سمعه رجل واحد، وقوله سبحانه: قالُوا سَمِعْنا إلخ من قوله تعالى: قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا إلخ يدل على أن منهم من لا يعلم كونه عليه السلام هو الذي كسر الأصنام فلا يبعد أن يكون أَأَنْتَ فَعَلْتَ كلام ذلك البعض. وقد يقال: إنهم بعد المفاوضة في أمر الأصنام وإخبار البعض البعض بما يقنعه بأنه عليه السلام هو الذي كسرها تيقنوا كلهم أنه الكاسر أفأنت فعلت ممن صدر للتقرير بالفاعل، وقد سلك عليه السلام في الجواب مسلكا تعريضيا يؤدي به إلى مقصده الذي هو إلزامهم الحجة على ألطف وجه وأحسنه يحملهم على التأمل في شأن آلهتهم مع ما فيه من الترقي من الكذب فقد أبرز الكبير قولا في معرض المباشر للفعل   (1) أي منه يدل عليه لفظ الإقرار فاندفع ما توهمه بعضهم في هذا المقام اهـ منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 62 بإسناده إليه كما أبرزه في ذلك المعرض فعلا يجعل الفاس في عنقه أو في يده وقد قصد إسناده اليه بطريق التسبب حيث رأى تعظيمهم إياه أشد من تعظيمهم لسائر ما معه من الأصنام المصطفة المرتبة للعبادة من دون الله تعالى فغضب لذلك زيادة الغضب فأسند الفعل إليه إسنادا مجازيا عقليا باعتبار أنه الحامل عليه والأصل فعلته لزيادة غضبي من زيادة تعظيم هذا، وإنما لم يكسره وأن كان مقتضى غضبه ذلك لتظهر الحجة، وتسمية ذلك كذبا كما ورد في الحديث الصحيح من باب المجاز لما أن المعاريض تشبه صورتها صورته فبطل الاحتجاج بما ذكر على عدم عصمة الأنبياء عليهم السلام، وقيل في توجيه ذلك أيضا: إنه حكاية لما يلزم من مذهبهم جوازه يعني أنهم لما ذهبوا إلى أنه أعظم الآلهة فعظم ألوهيته يقتضي أن لا يعبد غيره معه ويقتضي إفناء من شاركه في ذلك فكأنه قيل فعله هذا الكبير على مقتضى مذهبكم والقضية ممكنة. ويحكى أنه عليه السلام قال: فعله كبيرهم هذا غضب أن يعبد معه هذه وهو أكبر منها، قيل: فيكون حينئذ تمثيلا أراد به عليه السلام تنبيههم على غضب الله تعالى عليهم لإشراكهم بعبادته الأصنام، وقيل إنه عليه السلام لم يقصد بذلك إلا إثبات الفعل لنفسه على الوجه الأبلغ مضمنا فيه الاستهزاء والتضليل كما إذا قال لك أمي فيما كتبته بخط رشيق وأنت شهير بحسن الخط: أأنت كتبت هذا؟ فقلت له: بل كتبته أنت فإنك لم تقصد نفيه عن نفسك وإثباته للأمي وإنما قصدت إثباته وتقريره لنفسك مع الاستهزاء بمخاطبك. وتعقبه صاحب الفرائد بأنه إنما يصح إذا كان الفعل دائر بينه عليه السلام وبين كبيرهم ولا يحتمل ثالثا. ورد بأنه ليس بشيء لأن السؤال في أَأَنْتَ فَعَلْتَ تقرير لا استفهام كما سمعت عن العلامة وصرح به الشيخ عبد القاهر والإمام السكاكي فاحتمال الثالث مندفع، ولو سلم أن الاستفهام على ظاهره فقرينة الإسناد في الجواب إلى ما لا يصلح له بكلمة الإضراب كافية لأن معناه أن السؤال لا وجه له وأنه لا يصلح لهذا الفعل غيري، نعم يرد أن توجيههم بذلك نحو التأمل في حال آلهتهم وإلزامهم الحجة كما ينبىء عنه قوله تعالى: فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ أي إن كانوا ممن يمكن أن ينطقوا غير ظاهر على هذا، وقيل إن فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ جواب قوله: إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ معنى وقوله: «فاسألوا» جملة معترضة مقترنة بالفاء كما في قوله: «فاعلم فعلم المرء ينفعه» فيكون كون الكبير فاعلا مشروطا بكونهم ناطقين ومعلقا به وهو محال فالمعلق به كذلك، وإلى نحو ذلك أشار ابن قتيبة وهو خلاف الظاهر، وقيل: إن الكلام تم عند قوله: فَعَلَهُ والضمير المستتر فيه يعود على فَتًى أو إلى إبراهيم، ولا يخفى أن كلام من فتى وإبراهيم مذكور في كلام لم يصدر بمحضر من إبراهيم عليه السلام حتى يعود عليه الضمير وأن الإضراب ليس في محله حينئذ والمناسب في الجواب نعم، ولا مقتضى للعدول عن الظاهر هنا كما قيل وعزي إلى الكسائي أنه جعل الوقف على فَعَلَهُ أيضا إلا أنه قال: الفاعل محذوف أي فعله من فعله. وتعقبه أبو البقاء بأنه بعيد لأن حذف الفاعل لا يسوغ أي عند الجمهور وإلا فالكسائي يقول بجواز حذفه. وقيل يجوز أن يقال: إنه أراد بالحذف الإضمار، وأكثر القراء اليوم على الوقف على ذلك وليس بشيء، وقيل الوقف على كَبِيرُهُمْ وأراد به عليه السلام نفسه لأن الإنسان أكبر من كل صنم، وهذا التوجيه عندي ضرب من الهذيان، ومثله أن يراد به الله عز وجل فإنه سبحانه كبير الآلهة ولا يلاحظ ما أرادوه بها، ويعزى للفراء أن الفاء في فَعَلَهُ عاطفة وعله بمعنى لعله فخفف. واستدل عليه بقراءة ابن السميقع «فعلّه» مشدد اللام، ولا يخفى أن يجل كلام الله تعالى العزيز عن مثل هذا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 63 التخريج، والآية عليه في غاية الغموض وما ذكر في معناها بعيد بمراحل عن لفظها، وزعم بعضهم أن الآية على ظاهرها وادعى أن صدور الكذب من الأنبياء عليهم السلام لمصلحة جائز، وفيه أن ذلك يوجب رفع الوثوق بالشرائع لاحتمال الكذب فيها لمصلحة فالحق أن لا كذب أصلا وأن في المعارض لمندوحة عن الكذب، وإنما قال عليه السلام إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ دون إن كانوا يسمعون أو يعقلون مع أن السؤال موقوف على السمع والعقل أيضا لما أن نتيجة السؤال هو الجواب وإن عدم نطقهم أظهر وتبكيتهم بذلك أدخل، وقد حصل ذلك حسبما نطق به قوله تعالى: فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فتفكروا وتدبروا وتذكروا أن ما لا يقدر على دفع المضرة عن نفسه ولا على الإضرار بمن كسره بوجه من الوجوه يستحيل أن يقدر على دفع مضرة عن غيره أو جلب منفعة له فكيف يستحق أن يكون معبودا. فَقالُوا أي قال بعضهم لبعض فيما بينهم إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ أي بعبادة ما لا ينطق قاله ابن عباس أو بسؤالكم إبراهيم عليه السلام وعدو لكم عن سؤالها وهي آلهتكم ذكره ابن جرير أو بنفس سؤالكم إبراهيم عليه السلام حيث كان متضمنا التوبيخ المستتبع للمؤاخذة كما قيل أو بغفلتكم عن آلهتكم وعدم حفظكم إياها أو بعبادة الأصاغر مع هذا الكبير قالهما وهب أو بأن اتهمتم إبراهيم عليه السلام والفأس في عنق الكبير قاله مقاتل، وابن إسحق، والحصر إضافي بالنسبة إلى إبراهيم عليه السلام ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ أصل النكس قلب الشيء بحيث يصير أعلاه أسفله، ولا يلغو ذكر الرأس بل يكون من التأكيد أو يعتبر التجريد، وقد يستعمل النكس لغة في مطلق قلب الشيء من حال إلى حال أخرى ويذكر الرأس للتصوير والتقبيح. وذكر الزمخشري على ما في الكشف في المراد به هنا ثلاثة أوجه، الأول أنه الرجوع عن الفكرة المستقيمة الصالحة في تظليم أنفسهم إلى الفكرة الفاسدة في تجويز عبادتها مع الاعتراف بتقاصر حالها عن الحيوان فضلا أن تكون في معرض الإلهية فمعنى لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ لا يخفى علينا وعليك أيها المبكت بأنها لا تنطق أنها كذلك وإنا إنما اتخذناها آلهة مع العلم بالوصف، والدليل عليه جواب إبراهيم عليه السلام الآتي، والثاني أنه الرجوع عن الجدل معه عليه السلام بالباطل في قولهم: مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا وقولهم: أَأَنْتَ فَعَلْتَ إلى الجدال عنه بالحق في قولهم: لَقَدْ عَلِمْتَ لأنه نفي للقدرة عنها واعتراف بعجزها وأنها لا تصلح للإلهية وسمي نكسا وإن كان حقا لأنه ما أفادهم عقدا فهو نكس بالنسبة إلى ما كانوا عليه من الباطل حيث اعترفوا بعجزها وأصروا. وفي لباب التفسير ما يقرب منه مأخذا لكنه قدر الرجوع عن الجدال عنه في قولهم: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ إلى الجدال معه عليه السلام بالباطل في قولهم: لَقَدْ عَلِمْتَ والثالث أن النكس مبالغة في إطراقهم رؤوسهم خجلا وقولهم: لَقَدْ عَلِمْتَ إلخ رمي عن حيرة ولهذا أتوا بما هو حجة عليهم وجاز أن يجعل كناية عن مبالغة الحيرة وانخذال الحجة فإنها لا تنافي الحقيقة، قال في الكشف. وهذا وجه حسن وكذلك والأول، وكون المراد النكس في الرأي رواه أبو حاتم عن ابن زيد وهو للوجهين الأولين، وقال مجاهد: معنى نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ ردت السفلة السفلة على الرؤساء. فالمراد بالرؤوس الرؤساء، والأظهر عندي الوجه الثالث، وأيا ما كان فالجار متعلق بنكسوا. وجوز أن يتعلق بمحذوف وقع حالا، والجملة القسمية مقولة لقول مقدر أي قائلين لَقَدْ إلخ، والخطاب في عَلِمْتَ لإبراهيم عليه السلام لا لكل من يصلح للخطاب، والجملة المنفية في موضع مفعولي علم إن تعدت إلى اثنين أو في موضع مفعول واحد إن تعدت لواحد، والمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار كما يوهمه صيغة المضارع، وقرأ أبو حيوة. وابن أبي عبلة. وابن مقسم. وابن الجارود. والبكراوي كلاهما عن هشام بتشديد كاف «نكّسوا» ، وقرأ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 64 رضوان بن عبد المعبود «نكسوا» بتخفيف الكاف مبنيا للفاعل أي نكسوا أنفسهم وقيل: رجعوا على رؤسائهم بناء على ما يقتضيه تفسير مجاهد. قالَ عليه السلام مبكتا لهم أَفَتَعْبُدُونَ أي أتعلمون ذلك فتعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ أي مجاوزين عبادته تعالى ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً من النفع، وقيل: بشيء وَلا يَضُرُّكُمْ فإن العلم بحاله المنافية للألوهية مما يوجب الاجتناب عن عبادته قطعا أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تضجر منه عليه السلام من إصرارهم على الباطل بعد انقطاع العذر ووضوح الحق، وأصل أف صوت المتضجر من استقذار شيء على ما قال الراغب ثم صار اسم فعل بمعنى أتضجر وفيه لغات كثيرة، واللام لبيان المتأفف له، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لمزيد استقباح ما فعلوا أَفَلا تَعْقِلُونَ أي لا تتفكرون فلا تعقلون قبح صنيعكم قالُوا أي قال بعضهم لبعض لما عجزوا عن المحاجة وضاقت بهم الحيل وهذا ديدن المبطل المحجوج إذا بهت بالحجة وكانت له قدرة يفزع إلى المناصبة حَرِّقُوهُ فإن النار أشد العقوبات ولذا جاء لا يعذب بالنار إلا خالقها وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ بالانتقام لها إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أي إن كنتم ناصرين آلهتكم نصرا مؤزرا فاختاروا له ذلك وإلا فرطتم في نصرتها وكأنكم لم تفعلوا شيئا ما فيها، ويشعر بذلك العدول عن أن تنصروا آلهتكم فحرقوه إلى ما في النظم الكريم، وأشار بذلك على المشهور ورضي به الجميع نمروذ بن كنعان بن سنحاريب بن نمروذ بن كوس بن حام بن نوح عليه السلام. وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال: تلوت هذه الآية على عبد الله بن عمر فقال: أتدري يا مجاهد من الذي أشار بتحريق إبراهيم عليه السلام بالنار؟ قلت: لا. قال: رجل من أعراب فارس يعني الأكراد (1) ونص على أنه من الأكراد ابن عطية، وذكر أن الله تعالى خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، واسمه على ما أخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم عن شعيب الجباري هيون، وقيل: هدير. وفي البحر أنهم ذكروا له اسما مختلفا فيه لا يوقف منه على حقيقة، روي أنهم حين هموا بإحراقه حبسوه ثم بنوا بيتا كالحظيرة بكوثى قرية من قرى الأنباط في حدود بابل من العراق وذلك قوله تعالى: قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ [الصافات: 97] فجمعوا له صلاب الحطب من أصناف الخشب مدة أربعين يوما فأوقدوا نارا عظيمة لا يكاد يمر عليها طائر في أقصى الجو لشدة وهجها فلم يعلموا كيف يلقونه عليه السلام فيها فأتى إبليس وعلمهم عمل المنجنيق فعملوه، وقيل: صنعه الكردي الذي أشار بالتحريق ثم خسف به ثم عمدوا إلى ابراهيم عليه السلام فوضعوه في المنجنيق مقيدا مغلولا فصاحت ملائكة السماء والأرض إلهنا ما في أرضك أحد يعبدك غير إبراهيم عليه السلام وأنه يحرق فيك فأذن لنا في نصرته فقال جل وعلا: إن استغاث بأحد منكم فلينصره وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليه فخلوا بيني وبينه فإنه خليلي ليس لي خليل غيره وأنا إلهه ليس له إله غيري فأتاه خازن الرياح وخازن المياه يستأذنانه في إعدام النار فقال عليه السلام لا حاجة لي إليكم حسبي الله ونعم الوكيل ، وروي عن أبيّ بن كعب قال: حين أوثقوه ليلقوه في النار قال عليه السلام: لا إله إلا أنت سبحانك لك الحمد ولك الملك لا شريك لك ثم رموا به فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا ابراهيم ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا. قال: جبريل عليه السلام: فاسأل ربك فقال: حسبي من سؤالي علمه بحالي ، ويروى أن الوزغ كان ينفخ في النار، وقد جاء ذلك في رواية البخاري.   (1) هذا ظاهر في أن الأكراد من الفرس وقد ذهب كثير إلى أنهم من العرب وذكر أن منهم أبا ميمون جابان من الصحابة رضي الله تعالى عنهم وتحقيق الكلام فيهم في محله اهـ منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 65 وفي البحر ذكر المفسرون أشياء صدرت عن الوزغ والبغل والخطاف والضفدع والعضرفوط والله تعالى أعلم بذلك، فلما وصل عليه السلام الحظيرة جعلها الله تعالى ببركة قوله عليه السلام روضة، وذلك قوله سبحانه وتعالى: قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ أي كوني ذات برد وسلام أي ابردي بردا غير ضار، ولذا قال علي كرّم الله تعالى وجهه فيما أخرجه عند أحمد وغيره: لو لم يقل سبحانه وَسَلاماً لقتله بردها ، وفيه مبالغات جعل النار المسخرة لقدرته تعالى مأسورة مطاوعة وإقامة كوني ذات برد مقام ابردي ثم حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وقيل: نصب سَلاماً بفعله أي وسلمنا سلاما عليه، والجملة عطف على قُلْنا وهو خلاف الظاهر الذي أيدته الآثار. روي أن الملائكة عليهم السلام أخذوا بضبعي ابراهيم عليه السلام فأقعدوه على الأرض فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس ولم تحرق النار إلا وثاقه كما روي عن كعب، وروي أنه عليه السلام مكث فيها أربعين يوما أو خمسين يوما، وقال عليه السلام: ما كنت أطيب عيشا مني إذ كنت فيها ، قال ابن إسحاق: وبعث الله تعالى ملك الظل في صورة إبراهيم عليه السلام يؤنسه، قالوا: وبعث الله عز وجل جبريل عليه السلام بقميص من حرير الجنة وطنفسة فألبسه القميص وأقعده على الطنفسة وقعد معه يحدثه، وقال جبريل عليه السلام يا ابراهيم إن ربك يقول: أما علمت أن النار لا تضر أحبابي، ثم أشرف نمروذ ونظر من صرح له فرآه جالسا في روضة والملك قاعد إلى جنبه والنار محيطة به فنادى يا ابراهيم كبير إلهك الذي بلغت قدرته أن حال بينك وبين ما أرى يا ابراهيم هل تستطيع أن تخرج منها؟ قال ابراهيم عليه السلام: نعم قال: هل تخشى إن نمت فيها أن تضرك؟ قال: لا. قال: فقم فاخرج منها فقام عليه السلام يمشي فيها حتى خرج منها فاستقبله نمروذ وعظمه، وقال له: يا ابراهيم من الرجل الذي رأيته معك في صورتك قاعدا إلى جنبك؟ قال: ذلك ملك الظل أرسله إليّ ربي ليؤنسني فيها فقال: يا ابراهيم إني مقرب إلى إلهك قربانا لما رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك حين أبيت إلا عبادته وتوحيده إني ذابح له أربعة آلاف بقرة فقال له ابراهيم عليه السلام: إنه لا يقبل الله تعالى منك ما كنت على دينك حتى تفارقه وترجع إلى ديني فقال: لا أستطيع ترك ملكي ولكن سوف أذبحها له فذبحها وكف عن ابراهيم عليه السلام . وكان ابراهيم عليه السلام إذ ذاك ابن ست عشرة سنة، وفي بعض الآثار أنهم لما رأوه عليه السلام لم يحترق قالوا: إنه سحر النار فرموا فيها شيخا منهم فاحترق، وفي بعضها أنهم لما رأوه عليه السلام سالما لم يحرق منه غير وثاقه قال هاران أبو لوط عليه السلام: إن النار لا تحرقه لأنه سحرها لكن اجعلوه على شيء وأوقدوا تحته فإن الدخان يقتله فجعلوه فوق تبن وأوقدوا تحته فطارت شرارة إلى لحية هاران فأحرقته، وأخرج عبد بن حميد عن سليمان بن صرد وكان قد أدرك النبي صلّى الله عليه وسلّم أن أبا لوط قال وكان عمه: إن النار لم تحرقه من أجل قرابته مني فأرسل الله تعالى عنقا من النار فأحرقه، والأخبار في هذه القصة كثيرة لكن قال في البحر: قد أكثر الناس في حكاية ما جرى لإبراهيم عليه السلام، والذي صح هو ما ذكره تعالى من أنه عليه السلام ألقي في النار فجعلها الله تعالى عليه عليه السلام بردا وسلاما. ثم الظاهر أن الله تعالى هو القائل لها: كُونِي بَرْداً إلخ وأن هناك قولا حقيقة، وقيل القائل جبرائيل عليه السلام بأمره سبحانه، وقيل قول ذلك مجازا عن جعلها باردة، والظاهر أيضا أن الله عز وجل سلبها خاصتها من الحرارة والإحراق وأبقى فيها الإضاءة والإشراق، وقيل إنها انقلبت هواء طيبا وهو على هذه الهيئة من أعظم الخوارق، وقيل كانت على حالها لكنه سبحانه جلت قدرته دفع أذاها كما ترى في السمندر كما يشعر به قوله تعالى: عَلى إِبْراهِيمَ وذلك لأن ما ذكر خلاف المعتاد فيختص بمن خص به ويبقى بالنسبة إلى غيره على الأصل لا نظرا إلى مفهوم القلب إذ الأكثرون على عدم اعتباره. وفي بعض الآثار السابقة ما يؤيده، وأيا ما كان فهو آية عظيمة وقد يقع نظيرها لبعض صلحاء الأمة المحمدية كرامة لهم لمتابعتهم النبي الحبيب صلّى الله عليه وسلّم، وما يشاهد من وقوعه لبعض المنتسبين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 66 إلى حضرة الولي الكامل الشيخ أحمد الرفاعي قدس سره من الفسقة الذين كادوا يكونون لكثرة فسقهم كفارا فقيل إنه باب من السحر المختلف في كفر فاعله وقتله فإن لهم أسماء مجهولة المعنى يتلونها عند دخول النار والضرب بالسلاح ولا يبعد أن تكون كفرا وإن كان معها ما لا كفر فيه، وقد ذكر بعضهم أنهم يقولون عند ذلك تلسف تلسف هيف هيف أعوذ بكلمات الله تعالى التامة من شر ما خلق أقسمت عليك يا أيتها النار أو أيها السلاح بحق حي حلي ونور سبحي ومحمد صلّى الله عليه وسلّم أن لا تضري أو لا تضر غلام الطريقة، ولم يكن ذلك في زمن الشيخ الرفاعي قدس سره العزيز فقد كان أكثر الناس اتباعا للسنة وأشدهم تجنبا عن مظان البدعة وكان أصحابه سالكين مسلكه متشبثين بذيل اتباعه قدس سره ثم طرأ على بعض المنتسبين إليه ما طرأ، قال في العبر: قد كثر الزغل في أصحاب الشيخ قدس سره وتجددت لهم أحوال شيطانية منذ أخذت التتار العراق من دخول النيران وركوب السباع واللعب بالحيات وهذا ما لا يعرفه الشيخ ولا صلحاء أصحابه فنعوذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم انتهى. والحق أن قراءة شيء ما عندهم ليست شرطا لعدم التأثر بالدخول في النار ونحوه فكثير منهم من ينادي إذا أوقدت له النار وضربت الدفوف يا شيخ أحمد يا رفاعي أو يا شيخ فلان لشيخ أخذ منه الطريق ويدخل النار ولا يتأثر من دون تلاوة شيء أصلا، والأكثر منهم إذا قرأ الأسماء على النار ولم تضرب له الدفوف ولم يحصل له تغير حال لم يقدر على مس جمرة، وقد يتفق أن يقرأ أحدهم الأسماء وتضرب له الدفوف وينادي من ينادي من المشايخ فيدخل ويتأثر. والحاصل أنا لم نر لهم قاعدة مضبوطة بيد أن الأغلب أنهم إذا ضربت لهم الدفوف واستغاثوا بمشايخهم وعربدوا يفعلون ما يفعلون ولا يتأثرون، وقد رأيت منهم من يأخذ زرق الخمر ويستغيث بمن يستغيث ويدخل تنورا كبيرا تضطرم فيه النار فيقعد في النار فيشرب الخمر ويبقى حتى تخمد النار فيخرج ولم يحترق من ثيابه أو جسده شيء، وأقرب ما يقال في مثل ذلك: إنه استدراج وابتلاء، وأما أن يقال: إن الله عز وجل أكرم حضرة الشيخ أحمد الرفاعي قدس سره بعدم تأثر المنتسبين إليه كيفما كانوا بالنار ونحوها من السلاح وغيره إذا هتفوا باسمه أو اسم منتسب إليه في بعض الأحوال فبعيد بل كأني بك تقول بعدم جوازه، وقد يتفق ذلك لبعض المؤمنين في بعض الأحوال إعانة له، وقد يأخذ بعض الناس النار بيده ولا يتأثر لأجزاء يطلي بها يده من خاصيتها عدم إضرار النار للجسد إذا طلي بها فيوهم فاعل ذلك أنه كرامة. هذا واستدل بالآية من قال: إن لله تعالى أودع في كل شيء خاصة حسبما اقتضته حكمته سبحانه فليس الفرق بين الماء والنار مثلا بمجرد أنه جرت عادة الله تعالى بأن يخلق الإحراق ونحوه عند النار والري ونحوه عند الماء بل أودع في هذا خاصة الري مثلا وفي تلك خاصة الإحراق مثلا لكن لا تحرق هذه ولا يروي ذاك إلا بإذنه عز وجل فإنه لو لم يكن أودع في النار الحرارة والإحراق ما قال لها ما قال. ولا قائل بالفرق فتأمل. وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً مكرا عظيما في الإضرار به ومغلوبيته فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ أي أخسر من كل خاسر حيث عاد سعيهم في إطفاء نور الحق قولا وفعلا برهانا قاطعا على أنه عليه السلام على الحق وهم على الباطل وموجبا لارتفاع درجته عليه السلام واستحقاقهم لأشد العذاب، وقيل: جعلهم الأخسرين من حيث إنه سبحانه سلط عليهم ما هو من أحقر خلقه وأضعفه وهو البعوض يأكل من لحومهم ويشرب من دمائهم وسلط على نمروذ بعوضة أيضا فبقيت تؤذيه إلى أن مات لعنه الله تعالى، والمعول عليه التفسير الأول وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً وهو على ما تقدم ابن عمه، وقيل: هو ابن أخيه وروي ذلك في المستدرك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقد ضمن نَجَّيْناهُ معنى أخرجناه فلذا عدي بإلى في قوله سبحانه: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 67 إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ وقيل: هي متعلقة بمحذوف وقع حالا أي منتهيا إلى الأرض فلا تضمين، والمراد بهذه الأرض أرض الشام، وقيل: أرض مكة، وقيل: مصر والصحيح الأول، ووصفها بعموم البركة لأن أكثر الأنبياء عليهم السلام بعثوا فيها وانتشرت في العالم شرائعهم التي هي مبادئ الكمالات والخيرات الدينية والدنيوية ولم يقل التي باركناها للمبالغة بجعلها محيطة بالبركة، وقيل: المراد بالبركات النعم الدنيوية من الخصب وغيره، والأول أظهر وأنسب بحال الأنبياء عليهم السلام، وروي أنه عليه السلام خرج من العراق ومعه لوط وسارة بنت عمه هاران الأكبر وقد كانا مؤمنين به عليه السلام يلتمس الفرار بدينه فنزل حران فمكث بها ما شاء الله تعالى. وزعم بعضهم أن سارة بنت ملك حران تزوجها عليه السلام هناك وشرط أبوها أن لا يغيرها عن دينها والصحيح الأول، ثم قدم مصر ثم خرج منها إلى الشام فنزل السبع من أرض فلسطين ونزل لوط بالمؤتفكة على مسيرة يوم وليلة من السبع أو أقرب، وفي الآية من مدح الشام ما فيها، وفي الحديث «ستكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم» أخرجه أبو داود. وعن زيد بن ثابت قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «طوبى لأهل الشام فقلت: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: لأن الملائكة عليهم السلام باسطة أجنحتها عليها» أخرجه الترمذي عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده . وأما العراق فقد ذكر الغزالي عليه الرحمة في باب المحنة من الأحياء اتفاق جماعة من العلماء على ذمه وكراهة سكناه واستحباب الفرار منه ولعل وجه ذلك غني عن البيان فلا ننقب فيه البنان. وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً أي عطية كما روي عن مجاهد. وعطاء من نفله بمعنى أعطاه، وهو على ما اختاره أبو حيان مصدر كالعاقبة والعافية منصوب بوهبنا على حد قعدت جلوسا، واختار جمع كونه حالا من إسحاق ويعقوب أو ولد ولد أو زيادة على ما سأل عليه السلام وهو إسحاق فيكون حالا من يعقوب ولا لبس فيه للقرينة الظاهرة وَكُلًّا من المذكورين. وهم ابراهيم. ولوط. وإسحاق. ويعقوب عليهم السلام لا بعضهم دون بعض جَعَلْنا صالِحِينَ بأن وفقناهم للصلاح في الدين والدنيا فصاروا كاملين وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يقتدى بهم في أمور الدين يَهْدُونَ أي الأمة إلى الحق بِأَمْرِنا لهم بذلك وإرسالنا إياهم حتى صاروا مكملين وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ ليتم الكمال بانضمام العمل إلى العلم، وأصله على ما ذهب إليه الزمخشري ومن تابعه أن يفعل الخيرات ببناء الفعل لما لم يسم فاعله ورفع الخيرات على النيابة عن الفاعل ثم فعلا الخيرات بتنوين المصدر ورفع الخيرات أيضا على أنه نائب الفاعل لمصدر المجهول ثم فعل الخيرات بحذف التنوين وإضافة المصدر لمعموله القائم مقام فاعله، والداعي كما قيل إن فِعْلَ الْخَيْراتِ بالمعنى المصدري ليس موحى إنما الموحى أن يفعل، ومصدر المبني للمفعول والحاصل بالمصدر كالمترادفين، وأيضا الوحي عام للأنبياء المذكورين عليهم السلام وأممهم فلذا بني المجهول. وتعقب ذلك أبو حيان بأن بناء المصدر لما لم يسم فاعله مختلف فيه فأجاز ذلك الأخفش والصحيح منعه، وما ذكر من عموم الوحي لا يوجب ذلك هنا إذ يجوز أن يكون المصدر مبنيا للفاعل ومضافا من حيث المعنى إلى ظاهر محذوف يشمل الموحى إليه وغيرهم أي فعل المكلفين الخيرات، ويجوز أن يكون مضافا إلى الموحى إليهم أي أن يفعلوا الخيرات وإذا كانوا قد أوحي إليهم ذلك فاتباعهم جارون مجراهم في ذلك ولا يلزم اختصاصهم به انتهى. وانتصر للزمخشري بأن ما ذكره بيان لأمر مقرر في النحو والداعي إليه أمران ثانيهما ما ذكر من عموم الوحي الذي اعترض عليه والأول سالم عن الاعتراض ذكر أكثر ذلك الخفاجي ثم قال: الظاهر أن المصدر هنا للأمر كضرب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 68 الرقاب، وحينئذ فالظاهر أن الخطاب للأنبياء عليهم السلام فيكون الموحى قول الله تعالى افعلوا الخيرات، وكان ذلك لأن الوحي مما فيه معنى القول كما قالوا فيتعلق به لا بالفعل إلا أنه قيل يرد عليه ما أشير أولا إليه من أن ما ذكر ليس من الأحكام المختصة بالأنبياء عليهم السلام ولا يخفى أن الأمر فيه سهل، وجوّز أن يكون المراد شرعنا لهم فعل ذلك بالإيحاء إليهم فتأمل، والكلام في قوله تعالى: وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ على هذا الطرز، وهو كما قال غير واحد من عطف الخاص على العام دلالة على فضله وإنافته، وأصل إِقامَ أقوام فقلبت واوه ألفا بعد نقل حركتها لما قبلها وحذف إحدى ألفيه لالتقاء الساكنين، والأكثر تعويض التاء عنها فيقال إقامة وقد تترك التاء إما مطلقا كما ذهب إليه سيبويه والسماع يشهد له، وإما بشرط الإضافة ليكون المضاف سادا مسدها كما ذهب إليه الفراء وهو كما قال أبو حيان مذهب مرجوح، والذي حسن الحذف هنا المشاكلة، والآية ظاهرة في أنه كان في الأمم السالفة صلاة وزكاة وهو مما تضافرت عليه النصوص إلا أنهما ليسا كالصلاة والزكاة المفروضتين على هذه الأمة المحمدية على نبيها أفضل الصلاة وأكمل التحية وَكانُوا لَنا خاصة دون غيرنا عابِدِينَ لا يخطر ببالهم غير عبادتنا كأنه تعالى أشار بذلك إلى أنهم وفوا بعهد العبودية بعد أن أشار إلى أنه سبحانه وفى لهم بعهد الربوبية وَلُوطاً قيل هو منصوب بمضمر يفسره قوله تعالى: آتَيْناهُ أي وآتينا لوطا آتيناه والجملة عطف على وَهَبْنا لَهُ جمع سبحانه ابراهيم ولوطا في قوله تعالى: وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً ثم بين ما أنعم به على كل منهما بالخصوص وما وقع في البين بيان على وجه العموم. والطبرسي جعل المراد من قوله تعالى: وَكُلًّا إلخ أي كلا من إبراهيم وولديه إسحاق. ويعقوب جعلنا إلخ فلا اندراج للوط عليه السلام هناك وله وجه، وأما كون المراد وكلا من إسحاق ويعقوب فلا وجه له ويحتاج إلى تكليف توجيه الجمع فيما بعده، وقيل بأذكر مقدرا وجملة آتَيْناهُ مستأنفة حُكْماً أي حكمة، والمراد بها ما يجب فعله أو نبوة فإن النبي حاكم على أمته أو الفصل بين الخصوم في القضاء، وقيل حفظ صحف ابراهيم عليه السلام وفيه بعد وَعِلْماً بما ينبغي علمه للأنبياء عليهم السلام وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ قيل أي اللواطة، والجمع باعتبار تعدد المواد، وقيل المراد الأعمال الخبيثة مطلقا إلا أن أشنعها اللواطة، فقد أخرج إسحاق بن بشير. والخطيب، وابن عساكر عن الحسن قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: عشر خصال عملتها قوم لوط بها أهلكوا إتيان الرجال بعضهم بعضا ورميهم بالجلاهق والخذف ولعبهم بالحمام وضرب الدفوف وشرب الخمور وقص اللحية وطول الشارب والصفر والتصفيق ولباس الحرير وتزيدها أمتي بخلة إتيان النساء بعضهن بعضا» . وأسند ذلك إلى القرية على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه فالنعت سببي نحو جاءني رجل زنى غلامه، ولو جعل الإسناد مجازيا بدون تقدير أو القرية مجازا عن أهلها جاز، واسم القرية سدوم، وقيل: كانت قراهم سبعا فعبر عنها ببعضها لأنها أشهرها. وفي البحر أنه عبر عنها بالواحدة لاتفاق أهلها على الفاحشة ويروى أنها كلها قلبت إلا زغر لأنها كانت محل من آمن بلوط عليه السلام، والمشهور قلب الجميع. إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ أي خارجين عن الطاعة غير منقادين للوط عليه السلام، والجملة تعليل لتعمل الخبائث، وقيل: لنجيناه وهو كما ترى وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا أي في أهل رحمتنا أي جعلناه في جملتهم وعدادهم فالظرفية مجازية أو في جنتنا فالظرفية حقيقة والرحمة مجاز كما في حديث الصحيحين قال الله عز وجل للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي ويجوز أن تكون الرحمة مجازا عن النبوة وتكون الظرفية مجازية أيضا فتأمل إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ الذين سبقت لهم منا الحسنى، والجملة تعليل لما قبلها. وَنُوحاً أي واذكر نوحا أي نبأه عليه السلام، وزعم ابن عطية أن نوحا عطف على لواط المفعول لآتينا على الجزء: 9 ¦ الصفحة: 69 معنى وآتينا نوحا ولم يستبعد ذلك أبو حيان وليس بشيء، قيل ولما ذكر سبحانه «قصة ابراهيم» عليه السلام وهو أبو العرب أردفها جل شأنه بقصة أبي البشر وهو الأب الثاني كما أن آدم عليه السلام الأب الأول بناء على المشهور من أن جميع الناس الباقين بعد الطوفان من ذريته عليه السلام وهو ابن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس فيما يقال وهو أطول الأنبياء عليهم السلام على ما في التهذيب عمرا، وذكر الحاكم في المستدرك أن اسمه عبد الغفار وأنه قيل له نوح لكثرة بكائه على نفسه، وقال الجواليقي: إن لفظ نوح أعجمي معرب زاد الكرماني ومعناه بالسريانية الساكن إِذْ نادى أي دعا الله تعالى بقوله: أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر: 10] وقوله رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: 26] وإذ ظرف للمضاف المقدر كما أشرنا إليه ومن لم يقدر يجعله بدل اشتمال من نوح. مِنْ قَبْلُ أي من قبل هؤلاء المذكورين، وذكرنا قبل قولا آخر فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعاءه فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وهو الطوفان أو أذية قومه وأصل الكرب الغم الشديد وكأنه على ما قيل من كرب الأرض وهو قلبها بالحفر إذ الغم يثير النفس إثارة ذلك أو من كربت الشمس إذا دنت للمغيب فإن الغم الشديد تكاد شمس الروح تغرب منه أو من الكرب وهو عقد غليظ في رشاء الدلو فإن الغم كعقدة على القلب، وفي وصفه بالعظيم تأكيد لما يدل هو عليه وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي منعناه وحميناه منهم بإهلاكهم وتخليصه، وقيل: أي نصرناه عليهم فمن بمعنى على، وقال بعضهم: إن النصر يتعدى بعلى ومن، ففي الأساس نصره الله تعالى على عدوه ونصره من عدوه، وفرق بينهما بأن المتعدى بعلى يدل على مجرد الإعانة والمتعدى بمن يدل على استتباع ذلك للانتقام من العدو والانتصار إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ منهمكين في الشر، والجملة تعليل لما قبلها وتمهيد لما بعد من قوله تعالى: فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ فإن تكذيب الحق والانهماك في الشر مما يترتب عليه الإهلاك قطعا في الأمم السابقة، ونصب أَجْمَعِينَ قيل على الحالية من الضمير المنصوب وهو كما ترى، وقال أبو حيان: على أنه تأكيد له وقد كثر التأكيد بأجمعين غير تابع لكل في القرآن فكان ذلك حجة على ابن مالك في زعمه أن التأكيد به كذلك قليل والكثير استعماله تابعا لكل انتهى. وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إما عطف على نُوحاً معمول لعامله أعني أذكر عليه على ما زعم ابن عطية، وإما مفعول لمضمر معطوف على ذلك العامل بتقدير المضاف أي نبأ داود وسليمان. وداود بن ايشا (1) بن عوبر بن باعر ابن سلمون بن يخشون بن عمي بن يا رب بن حضرون بن فارض بن يهوذا بن يعقوب عليه السلام كان، كما روي عن كعب أحمر الوجه سبط الرأس أبيض الجسم طويل اللحية فيها جعودة حسن الصوت وجمع له بين النبوة والملك، ونقل النووي عن أهل التاريخ أنه عاش مائة سنة ومدة ملكه منها أربعون، وكان له اثنا عشر ابنا وسليمان عليه السلام أحد أبنائه وكان عليه السلام يشاور في كثير من أموره مع صغر سنه لوفور عقله وعلمه. وذكر كعب أنه كان أبيض جسيما وسيما وضيئا خاشعا متواضعا، وملك كما قال المؤرخون وهو ابن ثلاث عشرة سنة ومات وله ثلاث وخمسون سنة، وقوله تعالى: إِذْ يَحْكُمانِ ظرف لذلك المقدر، وجوزت البدلية على طرز ما مر، والمراد إذ حكما فِي الْحَرْثِ إلا أنه جيء بصيغة المضارع حكاية للحال الماضية لاستحضار صورتها، والمراد بالحرث هنا الزرع. وأخرج جماعة عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه الكرم، وقيل إنه يقال فيهما إلا أنه في الزرع أكثر، وقال   (1) قوله «بن ايشا» إلى آخر النسب هكذا في نسخة المؤلف هو مغاير لما في كثير من كتب التواريخ وحرر اهـ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 70 الخفاجي: لعله بمعنى الكرم مجاز على التشبيه بالزرع، والمعنى إذ يحكمان في حق الحرث إِذْ نَفَشَتْ ظرف للحكم، والنفش رعي الماشية في الليل بغير راع كما أن الهمل رعيها في النهار كذلك، وكان أصله الانتشار والتفرق أي إذ تفرقت وانتشرت فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ ليلا بلا راع فرعته وأفسدته وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ أي حاضرين علما، وضمير الجمع قيل: لداود وسليمان ويؤيده قراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «لحكمهما» بضمير التثنية، واستدل بذلك من قال: إن أقل الجمع اثنان، وجوز أن يكون الجمع للتعظيم كما في رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون: 99] . وقيل: هو للحاكمين والمتحاكمين، واعترض بأن إضافة حكم إلى الفاعل على سبيل القيام وإلى المفعول على سبيل الوقوع وهما في المعنى معمولان له فكيف يصح سلكهما في قرن. وأجيب بأن الحكم في معنى القضية لا نظر هاهنا إلى علمه وإنما ينظر إليه إذا كان مصدرا صرفا، وأظهر منه كما في الكشف أن الاختصاص يجمع القيام والوقوع وهو معنى الإضافة ولم يبق النظر إلى العمل بعدها لا لفظا ولا معنى فالمعنى وكنا للحكم الواقع بينهم شاهدين، والجملة اعتراض مقرر للحكم، وقد يقال: إنه مادح له كأنه قيل: وكنا مراقبين لحكمهم لا نقرهم على خلل فيه، وهذا على طريقة قوله تعالى: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطور: 48] في إفادة العناية والحفظ، وقوله تعالى: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ عطف على يَحْكُمانِ فإنه في حكم الماضي كما مضى. وقرأ عكرمة «فأفهمناها» بهمزة التعدية والضمير للحكومة أو الفتيا المفهومة من السياق. روي أنه كانت امرأة عابدة من بني إسرائيل وكانت قد تبتلت وكان لها جاريتان جميلتان فقالت إحداهما للأخرى: قد طال علينا البلاء أما هذه فلا تريد الرجال ولا نزال بشرّ ما كنا لها فلو أنا فضحناها فرجمت فصرنا إلى الرجال فأخذنا ماء البيض فأتياها وهي ساجدة فكشفتا عنها ثوبها ونضحتاه في دبرها وصرختا أنها قد بغت وكان من زنى فيهم حده الرجم فرفعت إلى داود وماء البيض في ثيابها فأراد رجمها فقال سليمان: ائتوا بنار فإنه إن كان ماء الرجل تفرق وإن كان ماء البيض اجتمع فأتى بنار فوضعها عليه فاجتمع فدرأ عنها الرجم فعطف عليه داود عليه السلام فأحبه جدا فاتفق أن دخل على داود عليه السلام رجلان فقال أحدهما: إن غنم هذا دخلت في حرثي ليلا فأفسدته فقضى له بالغنم فخرجا فمرا على سليمان وكان يجلس على الباب الذي يخرج منه الخصوم فقال: كيف قضى بينكما أبي؟ فأخبراه فقال: غير هذا أرفق بالجانبين فسمعه داود عليه السلام فدعاه فقال له: بحق النبوة والأبوة ألا أخبرتني بالذي هو أرفق فقال: أرى أن تدفع الغنم إلى صاحب الأرض لينتفع بدرها ونسلها وصوفها والحرث إلى صاحب الغنم ليقوم عليه حتى يعود كما كان ثم يترادا فقال: القضاء ما قضيت وأمضى الحكم بذلك، وكان عمره إذ ذاك إحدى عشرة سنة، ومال كثير إلى أن حكمهما عليهما السلام كان بالاجتهاد وهو جائز على الأنبياء عليهم السلام كما بين في الأصول وبذلك أقول فإن قول سليمان عليه السلام غير هذا أرفق، ثم قوله: أرى أن تدفع إلخ صريح في أنه ليس بطريق الوحي وإلا لبت القول بذلك ولما ناشده داود عليهما السلام لإظهار ما عنده بل وجب عليه أن يظهر بداء وحرم عليه كتمه، مع أن الظاهر أنه عليه السلام لم يكن نبيا في ذلك السن ومن ضرورته أن يكون القضاء السابق أيضا كذلك ضرورة استحالة نقض حكم النص بالاجتهاد، وفي الكشف أن القول بأن كلا الحكمين عن اجتهاد باطل لأن حكم سليمان نقض حكم داود عليهما السلام والاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد البتة فدل على أنهما جميعا حكما بالوحي ويكون ما أوحي به لسليمان عليه السلام ناسخا لحكم داود عليه السلام أو كان حكم سليمان وحده بالوحي، وقوله تعالى: فَفَهَّمْناها لا يدل على أن ذلك اجتهاد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 71 وتعقب بأنه إن أراد بعدم نقض الاجتهاد بالاجتهاد عدم نقضه باجتهاد غيره حتى يلزم تقليده به فليس ما نحن فيه، وإن أراد عدم نقضه باجتهاد نفسه ثانيا وهو عبارة عن تغير اجتهاده لظهور دليل آخر فهو غير باطل بدليل أن المجتهد قد ينقل عنه في مسألة قولان كمذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه القديم والجديد ورجوع كبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم إلى آراء بعضهم وهم مجتهدون، وقيل: يجوز أن يكون أوحي إلى داود عليه السلام أن يرجع عن اجتهاده ويقضي بما قضى به سليمان عليه السلام عن اجتهاد، وقيل: إن عدم نقض الاجتهاد بالاجتهاد من خصائص شريعتنا، على أنه ورد في بعض الأخبار أن داود عليه السلام لم يكن بت الحكم في ذلك حتى سمع من سليمان عليه السلام ما سمع، وممن اختار كون كلا الحكمين عن اجتهاد شيخ الإسلام مولانا أبو السعود قدس سره ثم قال: بل أقول والله تعالى أعلم: إن رأى سليمان عليه السلام استحسانا كما ينبىء عنه قوله: أرفق بالجانبين ورأى داود عليه السلام قياسا كما أن العبد إذا جنى على النفس يدفعه المولى عند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه إلى المجني عليه أو يفديه ويبيعه في ذلك أو يفديه عند الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه. وقد روي أنه لم يكن بين قيمة الحرث وقيمة الغنم تفاوت، وأما سليمان عليه السلام فقد استحسن حيث جعل الانتفاع بالغنم بإزاء ما فات من الانتفاع بالحرث من غير أن يزول ملك المالك من الغنم وأوجب على صاحب الغنم أن يعمل في الحرث إلى أن يزول الضرر الذي آتاه من قبله كما قال بعض أصحاب الشافعي فيمن غصب عبدا فأبق منه إنه يضمن القيمة فينتفع بها المغصوب منه بإزاء ما فوته الغاصب من المنافع فإذا ظهر الآبق ترادا انتهى. وأما حكم المسألة في شريعتنا فعند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه لا ضمان إذا لم يكن معها سائق أو قائد لما روى الشيخان من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «جرح العجماء جبار» ولا تقييد فيه بليل أو نهار، وعند الشافعي يجب الضمان ليلا لا نهارا لما في السنن من أن ناقة البراء دخلت حائط رجل فأفسدته فقضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أهل الأموال بحفظها بالنهار وعلى أهل المواشي بحفظها بالليل. وأجيب بأن في الحديث اضطرابا، وفي رجال سنده كلاما مع أنه يجوز أن يكون البراء أرسلها كما يجوز في هذه القصة أن يكون كذلك فلا دليل فيه وَكُلًّا من داود وسليمان آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً كثيرا ومنه العلم بطريق الاجتهاد لا سليمان عليه السلام وحده، فالجملة لدفع هذا التوهم وفيها دلالة على أن خطأ المجتهد لا يقدح في كونه مجتهدا، وقيل: إن الآية دليل على أن كل مجتهد في مسألة لا قاطع فيها مصيب فحكم الله تعالى في حقه وحق مقلده ما أدى إليه اجتهاده فيها ولا حكم له سبحانه قبل الاجتهاد وهو قول جمهور المتكلمين منا كالأشعري، والقاضي، ومن المعتزلة كأبي الهذيل، والجبائي وأتباعهم، ونقل عن الأئمة الأربعة رضي الله تعالى عنهم القول بتصويب كل مجتهد والقول بوحدة الحق وتخطئة البعض، وعد في الأحكام الأشعري ممن يقول كذلك. ورد بأن الله تعالى خصص سليمان بفهم الحق في الواقعة بقوله سبحانه: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وذلك يدل على عدم فهم داود عليه السلام ذلك فيها وإلا لما كان التخصيص مفيدا. وتعقبه الآمدي بقوله: ولقائل أن يقول: إن غاية ما في قوله تعالى: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ تخصيصه عليه السلام بالتفهيم ولا دلالة له على عدم ذلك في حق داود عليه السلام إلا بطريق المفهوم وليس بحجة وإن سلمنا أنه حجة غير أنه قد روي أنهما حكما بالنص حكما واحدا ثم نسخ الله تعالى الحكم في مثل تلك القضية في المستقبل وعلم سليمان بالنص الناسخ دون داود عليهما السلام فكان هذا هو الفهم الذي أضيف إليه، والذي يدل على هذا قوله تعالى: وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً ولو كان أحدهما مخطئا لما كان قد أوتي في تلك الواقعة حكما وعلما وإن سلمنا أن حكمهما كان مختلفا لكن يحتمل أنهما حكما بالاجتهاد مع الإذن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 72 فيه وكانا محقين في الحكم إلا أنه نزل الوحي على وفق ما حكم به سليمان عليه السلام فصار ما حكم به حقا متعينا بنزول الوحي به ونسب التفهيم إلى سليمان عليه السلام بسبب ذلك، وإن سلمنا أن داود عليه السلام كان مخطئا في تلك الواقعة غير أنه كان فيها نص أطلع عليه سليمان دون داود، ونحن نسلم الخطأ في مثل هذه الصورة وإنما النزاع فيما إذا حكما بالاجتهاد وليس في الواقعة نص انتهى. وأكثر الأخبار تساعد أن الذي ظفر بحكم الله تعالى في هذه الواقعة هو سليمان عليه السلام، وما ذكر لا يخلو مما فيه نظر فانظر وتأمل وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ شروع في بيان ما يختص بكل منهما عليهما السلام من كراماته تعالى إثر ذكر الكرامة العامة لهما عليهما السلام يُسَبِّحْنَ يقدسن الله تعالى بلسان القال كما سبح الحصا في كف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسمعه الناس، وكان عند الأكثرين يقول: سبحان الله تعالى، وكان داود عليه السلام وحده يسمعه على ما قاله يحيى بن سلام، وقيل: يسمعه كل أحد وقيل: بصوت يظهر له من جانبها وليس منها وهو خلاف الظاهر وليس فيه من إظهار الكرامة ما في الأول بل إذا كان هذا هو الصدى () فليس بشيء أصلا ودونه ما قيل إن ذلك بلسان الحال، وقيل: يُسَبِّحْنَ بمعنى يسرن من السباحة. وتعقب بمخالفته للظاهر مع أن هذا المعنى لم يذكره أهل اللغة ولا جاء في آية أخرى أو خبر سير الجبال معه عليه السلام. وقيل: إسناد التسبيح إليهن مجاز لأنها كانت تسير معه فتحمل من رآها على التسبيح فأسند إليها وهو كما ترى. وتأول الجبائي وعلي بن عيسى جعل التسبيح بمعنى السير بأنه مجاز لأن السير سبب له فلا حاجة إلى القول بأنه من السباحة ومع هذا لا يخفى ما فيه، والجملة في موضع الحال من الْجِبالَ أو استئناف مبين لكيفية التسخير ومَعَ متعلقة بالتسخير، وقال أبو البقاء: يسبحن وهو نظير قوله تعالى: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ [سبأ: 10] والتقديم للتخصيص ويعلم منه ما في حمل التسبيح على التسبيح بلسان الحال وعلى ما يكون بالصدى وَالطَّيْرَ عطف على الْجِبالَ أو مفعول معه، وفي الآثار تصريح بأنها كانت تسبح معه عليه السلام كالجبال. وقرىء «والطير» بالرفع على الابتداء والخبر محذوف أي والطير مسخرات، وقيل: على العطف على الضمير في يُسَبِّحْنَ ومثله جائز عند الكوفيين، وقوله تعالى: وَكُنَّا فاعِلِينَ تذييل لما قبله أي من شأننا أن نفعل أمثاله فليس ذلك ببدع منا وإن كان بديعا عندكم وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ أي عمل الدرع وأصله كل ما يلبس، وأنشد ابن السكيت: البس لكل حالة لبوسها ... إما نعيمها وإما بوسها وقيل: هو اسم للسلاح كله درعا كان أو غيره، واختاره الطبرسي وأنشد للهذلي يصف رمحا: ومعي لبوس (1) للبئيس كأنه ... روق بجبهة ذي نعاج محفل قال قتادة: كانت الدروع قبل ذلك صفائح فأول من سردها وحلقها داود عليه السلام فجمعت الخفة والتحصين، ويروى أنه نزل ملكان من السماء فمرا به عليه السلام فقال أحدهما للآخر: نعم الرجل داود إلا أنه يأكل من بيت المال فسأل الله تعالى أن يرزقه من كسبه فألان له الحديد فصنع منه الدرع، وقرىء «لبوس» بضم اللام لَكُمْ متعلق بمحذوف وقع صفة للبوس، وجوز أبو البقاء تعلقه بعلمنا أو بصنعة. وقوله تعالى: لِتُحْصِنَكُمْ متعلق بعلمنا أو بدل اشتمال من لَكُمْ بإعادة الجار مبين لكيفية الاختصاص   (1) أي الشجاع وروق أي قرن اهـ منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 73 والمنفعة المستفادة من لام لَكُمْ والضمير المستتر للبوس، والتأنيث بتأويل الدرع وهي مؤنث سماعي أو للصنعة. وقرأ جماعة «ليحصنكم» بالياء التحتية على أن الضمير للبوس أو لداود عليه السلام قيل أو التعليم، وجوز أن يكون لله تعالى على سبيل الالتفات، وأيد بقراءة أبي بكر عن عاصم «لنحصنكم» بالنون، وكل هذه القراءات بإسكان الحاء والتخفيف. وقرأ الفقيمي عن أبي عمرو، وابن أبي حماد عن أبي بكر بالياء التحتية وفتح الحاء وتشديد الصاد، وابن وثاب والأعمش بالتاء الفوقية والتشديد مِنْ بَأْسِكُمْ قيل أي من حرب عدوكم، والمراد مما يقع فيها، وقيل الكلام على تقدير مضاف أي من آلة بأسكم كالسيف فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ أمر وارد صورة الاستفهام لما فيه من التقريع بالإيماء إلى التقصير في الشكر والمبالغة بدلالته على أن الشكر مستحق الوقوع بدون أمر فسأل عنه هل وقع ذلك الأمر اللازم الوقوع أم لا وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ أي وسخرنا له الريح، وجيء باللام هنا دون الأول للدلالة على ما بين التسخيرين من التفاوت فإن تسخير ما سخر له عليه السلام كان بطريق الانقياد الكلي له والامتثال بأمره ونهيه بخلاف تسخير الجبال والطير لداود عليه السلام فإنه كان بطريق التبعية والاقتداء به عليه السلام في عبادة الله عز وجل عاصِفَةً حال من الريح والعامل فيها الفعل المقدر أي وسخرنا له الريح حال كونها شديدة الهبوب، ولا ينافي وصفها بذلك هنا وصفها في موضع آخر بأنها رخاء بمعنى طيبة لينة لأن الرخاء وصف لها باعتبار نفسها والعصف وصف لها باعتبار قطعها المسافة البعيدة في زمان يسير كالعاصفة في نفسها فهي مع كونها لينة تفعل فعل العاصفة. ويجوز أن يكون وصفها بكل من الوصفين بالنسبة إلى الوقت الذي يريده سليمان عليه السلام فيه، وقيل وصفها بالرخاء في الذهاب ووصفها بالعصف بالإياب على عادة البشر في الإسراع إلى الوطن. فهي عاصفة في وقت رخاء في آخر. وقرأ ابن هرمز. وأبو بكر في رواية «الريح» بالرفع مع الإفراد. وقرأ الحسن وأبو رجاء «الرياح» بالنصب والجمع، وأبو حيوة بالرفع والجمع، ووجه النصب ظاهر، وأما الرفع فعلى أن المرفوع مبتدأ والخبر هو الظرف المقدم وعاصِفَةً حال من ضمير المبتدأ في الخبر والعامل ما فيه من معنى الاستقرار تَجْرِي بِأَمْرِهِ أي بمشيئته وعلى وفق إرادته وهو استعمال شائع، ويجوز أن يأمرها حقيقة ويخلق الله تعالى لها فهما لأمره كما قيل في مجيء الشجرة للنبي صلّى الله عليه وسلّم حين دعاها، والجملة إما حال ثانية أو بدل من الأولى على ما قيل وقد مر لك غير بعيد الكلام في إبدال الجملة من المفرد فتذكر أو حال من ضمير الأولى إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وهي الشام كما أخرج ابن عساكر عن السدي، وكان عليه السلام مسكنه فيها فالمراد أنها تجري بأمره إلى الشام رواحا بعد ما سارت به منها بكرة، ولشيوع كونه عليه السلام ساكنا في تلك الأرض لم يذكر جريانها بأمره منها واقتصر على ذكر جريانها إليها وهو أظهر في الامتنان، وقيل كان مسكنه إصطخر وكان عليه السلام يركب الريح منها فتجري بأمره إلى الشام. وقيل: يحتمل أن تكون الأرض أعم من الشام، ووصفها بالبركة لأنه عليه السلام إذا حل أرضا أمر بقتل كفارها وإثبات الإيمان فيها وبث العدل ولا بركة أعظم من ذلك، ويبعد أن المتبادر كون تلك الأرض مباركا فيها قبل الوصول إليها وما ذكر يقتضي أن تكون مباركا فيها من بعده وأبعد جدا منذر بن سعيد بقوله: إن الكلام قد تم عند قوله تعالى: إِلى الْأَرْضِ والتي باركنا فيها صفة للريح وفي الآية تقديم وتأخير، والأصل ولسليمان الريح التي باركنا فيها عاصفة تجري بأمره بل لا يخفى أنه لا ينبغي أن يحمل كلام الله تعالى العزيز على مثل ذلك وكلام أدنى البلغاء يجل عنه، ثم الظاهر أن المراد بالريح هذا العنصر المعروف العام لجميع أصنافه المشهورة، وقيل: المراد بها الصبا. وفي بعض الأخبار ما ظاهره ذلك، فعن مقاتل أنه قال: نسجت لسليمان عليه السلام الشياطين بساطا من ذهب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 74 وإبريسم فرسخا في فرسخ ووضعت له منبرا من ذهب يقعد عليه وحوله كراسي من ذهب يقعد عليها الأنبياء عليهم السلام وكراسي من فضة يقعد عليها العلماء وحولهم سائر الناس وحول الناس الجن والشياطين والطير تظله من الشمس وترفع ريح الصبا البساط مسيرة شهر من الصباح إلى الرواح ومن الرواح إلى الصباح. وما ذكر من أنه يحمل على البساط هو المشهور ولعل ذلك في بعض الأوقات وإلا فقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال: كان لسليمان عليه السلام مركب من خشب وكان فيه ألف ركن في كل ركن ألف بيت يركب معه فيه الجن والإنس تحت كل ركن ألف شيطان يرفعون ذلك المركب فإذا ارتفع أتت الريح الرخاء فسارت به فساروا معه فلا يدري القوم إلا وقد أظلهم منه الجيوش والجنود، وقيل في وجه الجمع إن البساط في المركب المذكور وليس بذاك. وذكر عن الحسن أن إكرام الله تعالى لسليمان عليه السلام بتسخير الريح لما فعل بالخيل حين فاتته بسببها صلاة العصر وذلك أنه تركها لله تعالى فعوضه الله سبحانه خيرا منها من حيث السرعة مع الراحة، ومن العجب أن أهل لندن قد أتعبوا أنفسهم منذ زمان بعمل سفينة تجري مرتفعة في الهواء إلى حيث شاؤوا بواسطة أبخرة يحبسونها فيها اغترارا بما ظهر منذ سنوات من عمل سفينة تجري في الماء بواسطة آلات تحركها أبخرة فيها فلم يتم لهم ذلك ولا أظنه يتم حسب إرادتهم على الوجه الأكمل، وأخبرني بعض المطلعين أنهم صنعوا سفينة تجري في الهواء لكن لا إلى حيث شاؤوا بل إلى حيث ألقت رحلها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ فما أعطيناه ما أعطيناه إلا لما نعلمه من الحكمة وَمِنَ الشَّياطِينِ أي وسخرنا له من الشياطين مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ فمن في موضع نصب لسخرنا، وجوز أن تكون في موضع رفع على الابتداء وخبره ما قبله، وهي على الوجهين على ما استظهره أبو حيان موصولة وعلى ما اختاره جمع نكرة موصوفة، ووجه اختيار ذلك على الموصولية أنه لا عهد هنا، وكون الموصول قد يكون للعهد الذهني خلاف الظاهر، وجيء بضمير الجمع نظرا للمعنى، وحسنه تقدم جمع قبله، والغوص الدخول تحت الماء وإخراج شيء منه، ولما كان الغائص قد يغوص لنفسه ولغيره قيل: لَهُ للإيذان بأن الغوص ليس لأنفسهم بل لأجله عليه السلام. وقد كان عليه السلام يأمرهم فيغوصون في البحار ويستخرجون له من نفائسه وَيَعْمَلُونَ له عَمَلًا كثيرا دُونَ ذلِكَ أي غير ما ذكر من بناء المدن والقصور واختراع الصنائع الغريبة لقوله تعالى: يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ [سبأ: 13] الآية، قيل: إن الحمام والنورة والطاحون والقوارير والصابون من أعمالهم، وذكر ذلك الإمام الرازي في التفسير، لكن في كون الصابون من أعمالهم خلافا. ففي التذكرة الصابون من الصناعة القديمة قيل وجد في كتب هرمس وأندوخيا وهو الأظهر. وقيل: من صناعة بقراط وجالينوس انتهى. وقيل: هو من صناعة الفارابي وأول ما صنعه في دمشق الشام ولا يصح ذلك، وما اشتهر أن أول من صنعه البوني فمن كذب العوام وخرافاتهم، ثم هؤلاء إما الفرقة الأولى أو غيرها لعموم كلمة مِنَ كأنه قيل: ومن يعملون، والشياطين أجسام لطيفة نارية عاقلة، وحصول القدرة على الأعمال الشاقة في الجسم اللطيف غير مستبعد فإن ذلك نظير قلع الهواء الأجسام الثقيلة، وقال الجبائي: إنه سبحانه كثف أجسامهم خاصة وقواهم وزاد في عظمهم ليكون ذلك معجزة لسليمان عليه السلام فلما توفي ردّهم إلى خلقتهم الأولى لئلا يفضي إبقاؤهم إلى تلبيس المتنبي وهو كلام ساقط عن درجة القبول كما لا يخفى. والظاهر أن المسخرين كانوا كفارا لأن لفظ الشياطين أكثر إطلاقا عليهم، وجاء التنصيص عليه في بعض الروايات ويؤيده قوله تعالى: وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ أي من أن يزيغوا عن أمره أو يفسدوا، وقال الزجاج: كان يحفظهم من أن يفسدوا ما عملوه بالنهار، وقيل حافظين لهم من أن يهيجوا أحدا والأنسب بالتذييل ما تقدم وذكر في حفظهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 75 أنه وكل بهم جمعا من الملائكة عليهم السلام وجمعا من مؤمني الجن، هذا وفي قصتي داود وسليمان عليهما السلام ما يدل على عظم قدرة الله تعالى. قال الإمام: وتسخير أكثف الأجسام لداود عليه السلام وهو الحجر إذ أنطقه الله تعالى بالتسبيح والحديد إذ ألانه سبحانه له وتسخير ألطف الأجسام لسليمان عليه السلام وهو الريح والشياطين وهم من نار وكانوا يغوصون في الماء فلا يضرهم دليل واضح على باهر قدرته سبحانه وإظهار الضد من الضد وإمكان إحياء العظم الرميم وجعل التراب اليابس حيوانا فإذا أخبر الصادق بوقوعه وجب قبوله واعتقاده وَأَيُّوبَ الكلام فيه كما مر في قوله تعالى: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي أي بأني مَسَّنِيَ الضُّرُّ وقرأ عيس بن عمر بكسر الهمزة على إضمار القول عند البصريين أي قائلا إني، ومذهب الكوفيين إجراء نادى مجرى قال، والضر بالفتح شائع في كل ضرر وبالضم خاص بما في النفس من مرض وهزال ونحوهما وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أي وأنت أعظم رحمة من كل من يتصف بالرحمة في الجملة وإلا فلا راحم في الحقيقة سواه جل شأنه وعلا، ولا يخفى ما في وصفه تعالى بغاية الرحمة بعد ما ذكر نفسه بما يوجبها مكتفيا بذلك عن عرض الطلب من استمطار سحائب الرحمة على ألطف وجه. ويحكى في التلطف في الطلب أن امرأة شكت إلى بعض ولد سعد بن عبادة قلة الفار في بيتها فقال: املؤوا بيتها خبزا وسمنا ولحما، وهو عليه السلام على ما قال ابن جرير: ابن اموص بن رزاح بن عيص بن إسحاق، وحكى ابن عساكر أن أمه بنت لوط عليه السلام وأن أباه ممن آمن بإبراهيم عليه السلام فعلى هذا كان قبل موسى عليه السلام، وقال ابن جرير: كان بعد شعيب عليه السلام، وقال ابن أبي خيثمة، كان بعد سليمان عليه السلام. وأخرج ابن سعد عن الكلبي قال أول نبي بعث إدريس ثم نوح ثم إبراهيم ثم إسماعيل وإسحاق ثم يعقوب ثم يوسف ثم لوط ثم هود ثم صالح ثم شعيب ثم موسى. وهارون ثم الياس ثم اليسع ثم يونس ثم أيوب عليهم السلام، وقال ابن إسحاق: الصحيح أنه كان من بني إسرائيل ولم يصح في نسبه شيء إلا أن اسم أبيه أموص. وكان عليه السلام على ما أخرج الحاكم من طريق سمرة عن كعب طويلا جعد الشعر واسع العينين حسن الخلق قصير العنق عريض الصدر غليظ الساقين والساعدين وكان قد اصطفاه الله تعالى وبسط عليه الدنيا وكثر أهله وماله فكان له سبعة بنين وسبع بنات وله أصناف البهائم وخمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد لكل عبد امرأة وولد فابتلاه الله تعالى بذهاب ولده بهدم بيت عليهم وبذهاب أمواله وبالمرض في بدنه ثماني عشرة سنة أو ثلاث عشرة سنة أو سبعا وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات أو ثلاث سنين، وعمره إذ ذاك سبعون سنة، وقيل ثمانون سنة، وقيل أكثر، ومدة عمره على ما روى الطبراني ثلاث وتسعون سنة وقيل أكثر. روي أن امرأته وكونها ماضر بنت ميشا بن يوسف عليه السلام أو رحمة بنت إفرائيم بن يوسف إنما يتسنى على بعض الروايات السابقة في زمانه عليه السلام. قالت له يوما: لو دعوت الله تعالى فقال: كم كانت مدة الرخاء فذكرت مدة كثيرة وفي بعض الروايات ثمانين سنة فقال عليه السلام: أستحي من الله تعالى أن أدعوه وما بلغت مدة بلائي مدة رخائي . وروي أن إبليس عليه اللعنة أتاها على هيئة عظيمة فقال لها: أنا إله الأرض فعلت بزوجك ما فعلت لأنه تركني وعبد إله السماء فلو سجد لي سجدة رددت عليه وعليك جميع ما أخذت منكما. وفي رواية لو سجدت لي سجدة لرددت المال والولد وعافيت زوجك فرجعت إلى أيوب عليه السلام وكان ملقى في الكناسة ببيت المقدس لا يقرب منه أحد فأخبرته بالقصة فقال عليه السلام: لعلك افتتنت بقول اللعين لئن عافاني الله عز وجل لأضربنك مائة سوط وحرام عليّ أن أذوق بعد هذا من طعامك وشرابك شيئا فطردها فبقي طريحا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 76 في الكناسة لا يحوم حوله أحد من الناس فعند ذلك خر ساجدا فقال: رب أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وأخرج ابن عساكر عن الحسن أنه عليه السلام قال ذلك حين مر به رجلان فقال أحدهما لصاحبه: ولو كان لله تعالى في هذا حاجة ما بلغ به هذا كله فسمع عليه السلام فشق عليه فقال: (رب) إلخ، وروى أنس مرفوعا أنه عليه السلام نهض مرة ليصلي فلم يقدر على النهوض فقال (رب) إلخ وقيل غير ذلك ولعل هذا الأخير أمثل الأقوال، وكان عليه السلام بلاؤه في بدنه في غاية الشدة، فقد أخرج ابن جرير عن وهب بن منبه قال: كان يخرج في بدنه مثل ثدي النساء ثم يتفقأ، وأخرج أحمد في الزهد عن الحسن أنه قال: ما كان بقي من أيوب عليه السلام إلا عيناه وقلبه ولسانه فكانت الدواب تختلف في جسده، وأخرج أبو نعيم. وابن عساكر عنه أن الدودة لتقع من جسد أيوب عليه السلام فيعيدها إلى مكانها ويقول: كلي من رزق الله تعالى، وما أصاب منه إبليس في مرضه كما أخرج البيهقي في الشعب إلا الأنين، وسبب ابتلائه على ما خرج ابن عساكر من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أنه استعان به مسكين على درء ظلم عنه فلم يعنه. وأخرج ابن عساكر عن أبي إدريس الخولاني في ذلك أن الشام أجدب فكتب فرعون إليه عليه السلام أن هلم إلينا فإن لك عندنا سعة فأقبل بما عنده فأقطعه أرضا فاتفق أن دخل شعيب على فرعون وأيوب عليه السلام عنده فقال: أما تخاف أن يغضب الله تعالى غضبه فيغضب لغضبه أهل السماوات والأرض والجبال والبحار فسكت أيوب فلما خرجا من عنده أوحى الله تعالى إلى أيوب أوسكتّ عن فرعون لذهابك إلى أرضه استعد للبلاء قال: فديني قال سبحانه: أسلمه لك قال: لا أبالي، والله تعالى أعلم بصحة هذه الأخبار، ثم إنه عليه السلام لما سجد فقال ذلك قيل له: ارفع رأسك فقد استجيب لك أركض برجلك فركض فنبعت من تحته عين ماء فاغتسل منها فلم يبق في ظاهر بدنه دابة إلا سقطت ولا جراحة إلا برئت ثم ركض مرة أخرى فنبعت عين أخرى فشرب منها فلم يبق في جوفه داء إلا خرج وعاد صحيحا ورجع إليه شبابه وجماله وذلك قوله تعالى: فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ ثم كسى حلة وجلس على مكان مشرف ولم تعلم امرأته بذلك فأدركتها الرقة عليه فقالت في نفسها: هب أنه طردني أفأتركه حتى يموت جوعا وتأكله السباع لأرجعن فلما رجعت ما رأت تلك الكناسة ولا تلك الحال فجعلت تطوف حيث الكناسة وتبكي وهابت صاحب الحلة أن تأتيه وتسأله فدعاها أيوب عليه السلام فقال: ما تريدين يا أمة الله؟ فبكت وقالت: أريد ذلك المبتلي الذي كان ملقى على الكناسة قال لها: ما كان منك؟ فبكت وقالت: بعلي قال: أتعرفينه إذا رأيته؟ قالت: وهل يخفى عليّ فتبسم فقال: أنا ذلك فعرفته بضحكه فاعتنقته وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ الظاهر أنه عطف على (كشفنا) فيلزم أن يكون داخلا معه في حيز تفصيل استجابة الدعاء، وفيه خفاء لعدم ظهور كون الإتيان المذكور مدعوا به وإذا عطف على (استجبنا) لا يلزم ذلك، وقد سئل عليه الصلاة والسلام عن هذه الآية، أخرج ابن مردويه وابن عساكر من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن قوله تعالى: وَآتَيْناهُ إلخ قال: رد الله تعالى امرأته إليه وزاد في شبابها حتى ولدت له ستا وعشرين ذكرا» فالمعنى على هذا آتيناه في الدنيا مثل أهله عددا مع زيادة مثل آخر، وقال ابن مسعود والحسن وقتادة في الآية: إن الله تعالى أحيى له أولاده الذين هلكوا في بلائه وأوتي مثلهم في الدنيا، والظاهر أن المثل من صلبه عليه السلام أيضا، وقيل: كانوا نوافل وجاء في خبر أنه عليه السلام كان له أندران أندر للقمح وأندر للشعير فبعث الله تعالى سحابتين فأفرغت أحداهما في أندر القمح الذهب حتى فاض وأفرغت الأخرى في اندر الشعير الورق حتى فاض، وأخرج أحمد والبخاري وغيرهما عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «بينما أيوب عليه السلام يغتسل عريانا خر عليه جراد من ذهب فجعل أيوب عليه السلام يحثي في ثوبه فناداه ربه سبحانه يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى: قال: بلى وعزتك لكن لا غنى بي عن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 77 بركتك ، وعاش عليه السلام بعد الخلاص من البلاء على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما سبعين سنة، ويظهر من هذا مع القول بأن عمره حين أصابه البلاء سبعون أن مدة عمره فوق ثلاث وتسعين بكثير، ولما مات عليه السلام أوصى إلى ابنه حرمل كما روي عن وهب، والآية ظاهرة في أن الأهل ليس المرأة رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ أي وآتيناه ما ذكر لرحمتنا أيوب عليه السلام وتذكرة لغيره من العابدين ليصبروا كما صبر فيثابوا كما أثيب، فرحمة نصب على أنه مفعول له ولِلْعابِدِينَ متعلق بذكرى، وجوز أن يكون رَحْمَةً وَذِكْرى تنازعا فيه على معنى وآتيناه العابدين الذين من جملتهم أيوب عليه السلام وذكرنا إياهم بالإحسان وعدم نسياننا لهم. وجوّز أبو البقاء نصب «رحمة» على المصدر وهو كما ترى وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ أي واذكرهم وظاهر نظم ذي الكفل في سلك الأنبياء عليهم السلام أنه منهم وهو الذي ذهب إليه الأكثر، واختلف في اسمه فقيل بشر وهو ابن أيوب عليه السلام بعثه الله تعالى نبيا بعد أبيه وسماه ذا الكفل وأمره سبحانه بالدعاء إلى توحيده، وكان مقيما بالشام عمره ومات وهو ابن خمس وسبعين سنة وأوصى إلى ابنه عبدان (1) وأخرج ذلك الحاكم عن وهب، وقيل هو الياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون أخي موسى بن عمران عليهم السلام، وصنيع بعضهم يشعر باختياره، وقيل يوشع بن نون، وقيل اسمه ذو الكفل، وقيل هو زكريا حكى كل ذلك الكرماني في العجائب، وقيل هو اليسع بن أخطوب بن العجوز، وزعمت اليهود أنه حزقيال وجاءته النبوة وهو في وسط سبي بختنصر على نهر خوبار. وقال أبو موسى الأشعري ومجاهد: لم يكن نبيا وكان عبدا صالحا استخلفه. على ما أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد. اليسع عليه السلام بشرط أن يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب ففعل ولم يذكر مجاهد ما اسمه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال: كان قاضيا في بني إسرائيل فحضره الموت فقال: من يقوم مقامي على أن لا يغضب؟ فقال رجل: أنا يسمى ذا الكفل الخبر، وأخرج عن ابن حجيرة الأكبر كان ملك من ملوك بني إسرائيل فحضرته الوفاة فأتاه رؤوس بني إسرائيل فقالوا: استخلف علينا ملكا نفزع إليه فقال: من تكفل لي بثلاث فأوليه ملكي؟ فلم يتكلم إلا فتى من القوم قال: أنا فقال: اجلس ثم قالها ثانية فلم يتكلم أحد إلا الفتى فقال: تكفل لي بثلاث وأوليك ملكي تقوم الليل فلا ترقد وتصوم فلا تفطر وتحكم فلا تغضب قال: نعم قال: قد وليتك ملكي الخبر، وفيه كذا في الخبر السابق قصة إرادة إبليس عليه اللعنة إغضابه وحفظ الله تعالى إياه منه، والكفل الكفالة والحظ والضعف، وإطلاق ذلك عليه إن لم يكن اسمه إما لأنه تكفل بأمر فوفى به، وإما لأنه كان له ذا حظ من الله تعالى، وقيل لأنه كان له ضعف عمل الأنبياء عليهم السلام في زمانه وضعف ثوابهم. ومن قال إنه زكريا عليه السلام قال: إن إطلاق ذلك عليه لكفالته مريم وهو داخل في الوجه الأول، وفي البحر وقيل: في تسميته ذا الكفل أقوال مضطربة لا تصح والله تعالى أعلم. كُلٌّ أي كل واحد من هؤلاء مِنَ الصَّابِرِينَ أي على مشاق التكاليف وشدائد النوب ويعلم هذا من ذكر هؤلاء بعد أيوب عليهم السلام، والجملة استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ من الأمر بذكرهم وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا الكلام فيه على طرز ما سبق من نظيره آنفا. إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ أي الكاملين في الصلاح لعصمتهم من الذنوب. والجملة في موضع التعليل وليس فيه تعليل الشيء بنفسه من غيره حاجة إلى جعل من ابتدائية كما يظهر بأدنى نظر وَذَا النُّونِ أي واذكر صاحب الحوت   (1) ثم بعث الله تعالى شعيبا اهـ منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 78 يونس عليه السلام ابن متى وهو اسم أبيه على ما في صحيح البخاري وغيره وصححه ابن حجر قال: ولم أقف في شيء من الأخبار على اتصال نسبه، وقد قيل إنه كان في زمن ملوك الطوائف من الفرس، وقال ابن الأثير كغيره إنه، اسم أمه ولم ينسب أحد من الأنبياء إلى أمه غيره وغير عيسى عليهما السلام. واليهود قالوا بما تقدم إلا أنهم سموه يونه بن اميتاي، وبعضهم يقول يونان بن امافي، والنون الحوت كما أشرنا إليه ويجمع على نينان كما في البحر وأنوان أيضا كما في القاموس. إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً أي غضبان على قومه لشدة شكيمتهم وتمادى إصرارهم مع طول دعوته إياهم، وكان ذهابه هذا هجرة عنهم لكنه لم يؤمر به. وقيل: غضبان على الملك حزقيل، فقد روي عن ابن عباس أنه قال: كان يونس وقومه يسكنون فلسطين فغزاهم ملك وسبى منهم تسعة أسباط ونصفا فأوحى الله تعالى إلى شعياء النبي أن اذهب إلى حزقيل الملك وقل له يوجه خمسة من الأنبياء لقتال هذا الملك فقال: أوجه يونس بن متى فإنه قوي أمين فدعاه الملك يخرج فقال يونس: هل أمرك الله تعالى بإخراجي؟ قال: لا قال: هل سماني لك؟ قال: لا فقال يونس: فها هنا أنبياء غيري فألحوا عليه فخرج مغاضبا فأتى بحر الروم فوجد قوما هيؤوا سفينة فركب معهم فلما وصلوا اللجة تكفأت بهم السفينة وأشرفت على الغرق فقال الملاحون: معنا رجل عاص أو عبد آبق ومن رسمنا إذا ابتلينا بذلك أن نقترع فمن وقعت عليه القرعة ألقيناه في البحر لئن يغرق أحدنا خير من أن تغرق السفينة فاقترعوا ثلاث مرات فوقعت القرعة فها كلها على يونس عليه السلام فقال: أنا الرجل العاصي والعبد الآبق فألقى نفسه في البحر فجاءت حوت فابتلعته فأوحى الله تعالى إليها أن لا تؤذيه بشعرة فإني جعلت بطنك سجنا له ولم أجعله طعاما ثم نجاه الله تعالى من بطنها ونبذه بالعراء وقد رق جلده فأنبت عليه شجرة من يقطين يستظل بها ويأكل من ثمرها حتى اشتد فلما يبست الشجرة حزن عليها يونس عليه السلام فقال له: أتحزن على شجرة ولم تحزن على مائة ألف أو يزيدون حيث لم تذهب إليهم ولم تطلب راحتهم؟ فأوحى الله تعالى إليه وأمره أن يذهب إليهم فتوجه نحوهم حتى دخل أرضهم وهم منه غير بعيد فأتاهم وقال لملكهم: إن الله تعالى أرسلني إليك فأرسل معي بني إسرائيل قالوا: ما نعرف ما تقول ولو علمنا علمنا أنك صادق لفعلنا وقد آتيناكم في دياركم وسبيناكم فلو كان الأمر كما تقول لمنعنا الله تعالى عنكم فطاف فيهم ثلاثة أيام يدعوهم إلى ذلك فأبوا عليه فأوحى الله تعالى إليه قل لهم إن لم يؤمنوا جاءهم العذاب فأبلغهم فأبوا فخرج من عندهم فلما فقدوه ندموا على فعلهم فانطلقوا يطلبونه فلم يقدروا عليه ثم ذكروا أمرهم وأمر يونس عليه السلام للعلماء الذين عندهم فقالوا: انظروا واطلبوه في المدينة فإن كان فيها فليس كما ذكر من نزول العذاب وإن كان قد خرج فهو كما قال فطلبوه فقيل لهم: إنه خرج العشية فلما أيسوا غلقوا باب مدينتهم ولم يدخلوا فيها دوابهم ولا غيرها وعزلوا كل واحدة عن ولدها وكذا الصبيان والأمهات ثم قاموا ينتظرون الصبح فلما انشق الصبح نزل العذاب من السماء فشقوا جيوبهم ووضعت الحوامل ما في بطونها وصاحت الصبيان والدواب فرفع الله تعالى العذاب عنهم فبعثوا إلى يونس حتى لقوه فآمنوا به وبعثوا معه بني إسرائيل ، وقيل مغاضبا لربه عز وجل، وحكي في هذه المغاضبة كيفيات وتعقب ذلك في البحر بأنه يجب إطراح هذا القول إذ لا يناسب ذلك منصب النبوة وينبغي أن يتأول لمن قال ذلك من العلماء كالحسن والشعبي وابن جبير وغيرهم من التابعين. وابن مسعود من الصحابة رضي الله تعالى عنهم بأن يكون معنى قولهم لربه لأجل ربه تعالى وحمية لدينه، فاللام لام العلة لا اللام الموصلة للمفعول به انتهى. وكون المراد مغاضبا لربه عز وجل مقتضى زعم اليهود فإنهم زعموا أن الله تعالى أمره أن يذهب إلى نينوى وينذر أهلها فهرب إلى ترسيس من ذلك وانحدر إلى يافا ونزل في السفينة فعظمت الأمواج وأشرفت السفينة على الجزء: 9 ¦ الصفحة: 79 الغرق فاقترع أهلها فوقعت القرعة عليه فرمى بنفسه إلى البحر فالتقمه الحوت ثم ألقاه وذهب إلى نينوى فكان ما كان، ولا يخفى أن مثل هذا الهرب مما يجل عنه الأنبياء عليهم السلام واليهود قوم بهت. ونصب مُغاضِباً على الحال وهو من المفاعلة التي لا تقتضي اشتراكا نحو عاقبت اللص وسافرت، وكأنه استعمل ذلك هنا للمبالغة وقيل المفاعلة على ظاهرها فإنه عليه السلام غضب على قومه لكفرهم وهم غضبوا عليه بالذهاب لخوفهم لحوق العذاب. وقرأ أبو سرف «مغضبا» اسم مفعول فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ أي إنه أي الشأن لن نقدر ونقضي عليه بعقوبة ونحوها أو لن نضيق عليه في أمره بحبس ونحوه، ويؤيد الأول قراءة عمر بن عبد العزيز والزهري «نقدّر» بالنون مضمومة وفتح القاف وكسر الدال مشددة، وقراءة علي كرم الله تعالى وجهه . واليماني «يقدّر» بضم الياء وفتح القاف والدال مشددة فإن الفعل فيهما من التقدير بمعنى القضاء والحكم كما هو المشهور، ويجوز أن يكون بمعنى التضيق فإنه ورد بهذا المعنى أيضا كما ذكره الراغب، وظن معاوية رضي الله تعالى عنه أنه من القدرة فاستشكل ذلك إذ لا يظن أحد فضلا عن النبي عليه السلام عدم قدرة الله تعالى عليه وفزع إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فأجابه بما ذكرناه أولا وجوّز أن يكون من القدرة وتكون مجازا عن أعمالها أي فظن أن لن نعمل قدرتنا فيه أو يكون الكلام من باب التمثيل أي فعل فعل من ظن أن لن نقدر عليه في مراغمته قومه من غير انتظار لأمرنا، وقيل: يجوز أن يسبق ذلك إلى وهمه عليه السلام بوسوسة الشيطان ثم يردعه ويرد بالبرهان كما يفعل المؤمن المحقق نزعات الشيطان وما يوسوس إليه في كل وقت، ومنه وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الأحزاب: 8] والخطاب للمؤمنين. وتعقبه صاحب الفرائد بأن مثله عن المؤمن بعيد فضلا عن النبي المعصوم لأنه كفر، وقوله تعالى: تَظُنُّونَ إلخ ليس من هذا القبيل على أنه شامل للخاص وغيرهم، وبأن ما هجس ولم يستقر لا يسمى ظنا، وبأن الخواطر لا عتب عليها، وبأنه لو كان حامله على الخروج لم يكن من قبيل الوسوسة. وأجيب بأن الظن بمعنى الهجس في الخاطر من غير ترجيح مجاز مستعمل والعتب على ذهابه مغاضبا ولا وجه لجعله حاملا على الخروج ومع هذا هو وجه لا وجاهة له. وقرأ ابن أبي ليلى وأبو سرف والكلبي وحميد بن قيس ويعقوب «يقدّر» بضم الياء وفتح الدال مخففا، وعيسى والحسن بالياء مفتوحة وكسر الدال. فَنادى الفاء فصيحة أي فكان ما كان من المساهمة والتقام الحوت فنادى فِي الظُّلُماتِ أي في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت جعلت الظلمة لشدتها كأنها ظلمات، وأنشد السيرافي: وليل تقول الناس في ظلماته ... سواء صحيحات العيون وعورها أو الجمع على ظاهره والمراد ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل، وقيل: ابتلع حوته حوت أكبر منه فحصل في ظلمتي بطني الحوتين وظلمتي البحر والليل أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أي بأنه لا إله إلا أنت على أن أن مخففة من الثقيلة والجار مقدر وضمير الشأن محذوف أو أي لا إله إلا أنت على أنها مفسرة سُبْحانَكَ أي أنزهك تنزيها لائقا بك من أن يعجزك شيء أو أن يكون ابتلائي بهذا من غير سبب من جهتي إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ لأنفسهم بتعريضهم للهلكة حيث بادرت إلى المهاجرة من غير أمر على خلاف معتاد الأنبياء عليهم السلام، وهذا اعتراف منه عليه السلام بذنبه وإظهار لتوبته ليفرج عنه كربته. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 80 فَاسْتَجَبْنا لَهُ أي دعاءه الذي دعاه في ضمن الاعتراف وإظهار التوبة على ألطف وجه وأحسنه. أخرج أحمد والترمذي والنسائي والحكيم في نوادر الأصول والحاكم وصححه وابن جرير والبيهقي في الشعب وجماعة عن سعد ابن أبي وقاص عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «دعوه ذي النون إذ هو في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له» وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أن ذلك اسم الله تعالى الأعظم، وأخرج ذلك الحاكم عن سعد مرفوعا ، وقد شاهدت أثر الدعاء به ولله تعالى الحمد حين أمرني بذلك من أظن ولايته من الغرباء المجاورين في حضرة الباز الأشهب وكان قد أصابني من البلاء ما الله تعالى أعلم به وفي شرحه طول وأنت ملول. وجاء عن أنس مرفوعا أنه عليه السلام حين دعا بذلك أقبلت دعوته تحف بالعرش فقالت الملائكة عليهم السلام: هذا صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة فقال الله تعالى: أما تعرفون ذلك؟ قالوا: يا رب ومن هو؟ قال: ذاك عبدي يونس قالوا: عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل ودعوة مجابة يا رب أفلا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيه من البلاء قال: بلى فأمر الحوت فطرحه وذلك قوله تعالى: وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ أي الذي ناله حين التقمه الحوت بأن قذفه إلى الساحل بعد ساعات. قال الشعبي: التقمه ضحى ولفظه عشية، وعن قتادة أنه بقي في بطنه ثلاثة أيام وهو الذي زعمته اليهود، وعن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أنه بقي سبعة أيام. وروى ابن أبي حاتم عن أبي مالك أنه بقي أربعين يوما، وقيل المراد بالغم غم الخطيئة وما تقدم أظهر، ولم يقل جل شأنه فنجيناه كما قال تعالى في قصة أيوب عليه السلام فكشفنا. قال بعض الأجلة. لأنه دعا بالخلاص من الضر فالكشف المذكور يترتب على استجابته ويونس عليه السلام لم يدع فلم يوجد وجه الترتيب في استجابته. ورد بأن الفاء في قصة أيوب عليه السلام تفسيرية والعطف هنا أيضا تفسيري والتفنن طريقة مسلوكة في البلاغة، ثم لا نسلم أن يونس عليه السلام لم يدع ولو لم يكن منه دعاء لم تتحقق الاستجابة اهـ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 81 وتعقبه الخفاجي بأنه لا محصل له، وكونه تفسيرا لا يدفع السؤال لأن حاصله لم أتى بالفاء ثمت ولم يؤت بها هنا؟ فالظاهر أن يقال: إن الأول دعاء بكشف الضر على وجه التلطف فلما أجمل في الاستجابة وكان السؤال بطريق الإيماء ناسب أن يؤتى بالفاء التفصيلية، وأما هنا فلما هاجر عليه السلام من غير أمر كان ذلك ذنبا بالنسبة إليه عليه السلام كما أشار إليه بقوله: إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فما أوحي إليه هو الدعاء بعدم مؤاخذته بما صدر منه فالاستجابة عبارة عن قبول توبته وعدم مؤاخذته، وليس ما بعده تفسيرا له بل زيادة إحسان على مطلوبه ولذا عطف بالواو اهـ ولا يخفى أن ما ذكره لا يتسنى في قوله تعالى: وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ [الأنبياء: 76] وقوله سبحانه: وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى [الأنبياء: 90] إذ لم يكن سؤال نوح عليه السلام بطريق الإيماء مع أنه قال تعالى في قصته فَنَجَّيْناهُ بالفاء وزكريا عليه السلام لم يصدر منه ما يعد ذنبا بالنسبة إليه ليتلطف في سؤال عدم المؤاخذة مع أنه قال سبحانه في قصته وَوَهَبْنا بالواو فلا بد حينئذ من بيان نكتة غير ما ذكر للتعبير في كل موضع من هذين الموضعين بما عبر، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما ذكره الشهاب في الآية الأخيرة، وربما يقال: إنه جيء بالفاء التفصيلية في قصتي نوح وأيوب عليهما السلام اعتناء بشأن الاستجابة لمكان الإجمال والتفصيل لعظم ما كانا فيه وتفاقمه جدا، ألا ترى كيف يضرب المثل ببلاء أيوب عليه السلام حيث كان في النفس والأهل والمال واستمر إلى ما شاء الله تعالى وكيف وصف الله تعالى ما نجى الله سبحانه منه نوحا عليه السلام حيث قال عز وجل فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ولا كذلك ما كان فيه ذو النون وزكريا عليهما السلام بالنسبة إلى ذلك فلذا جيء في آيتيهما بالواو وهي وإن جاءت للتفسير لكن مجيء الفاء لذلك أكثر. ولا يبعد عندي ما ذكره الخفاجي في هذه الآية من كون الاستجابة عبارة عن قبول توبته عليه السلام والتنجية زيادة إحسان على مطلوبه ويقال فيما سيأتي ما ستسمعه إن شاء الله تعالى وَكَذلِكَ أي مثل ذلك الإنجاء الكامل نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ من غموم دعوا الله تعالى فيها بالإخلاص لا إنجاء أدنى منه. وقرأ الجحدري «ننجّي» مشددا مضارع نجي. وقرأ ابن عامر وأبو بكر «نجّي» بنون واحدة مضمومة وتشديد الجيم وإسكان الياء، واختار أبو عبيدة هذه القراءة على القراءة بنونين لكونها أوفق بالرسم العثماني لما أنه بنون واحدة، وقال أبو علي في الحجة: روي عن أبي عمرو «نجي» بالإدغام والنون لا تدغم في الجيم وإنما أخفيت لأنها ساكنة تخرج من الخياشيم فحذفت من الكتاب وهي في اللفظ، ومن قال: تدغم فقد غلط لأن هذه النون تخفى مع حروف الفم وتسمى الأحرف الشجرية وهي الجيم والشين. الضاد وتبيينها لحر فلما أخفي ظن السامع أنه مدغم انتهى. وقال أبو الفتح ابن جني: أصله ننجي كما في قراءة الجحدري فحذفت النون الثانية لتوالي المثلين والأخرى جيء بها لمعنى والثقل إنما حصل بالثانية وذلك كما حذفت التاء الثانية في تُظاهِرُونَ [الأحزاب: 4] ولا يضر كونها أصلية وكذا لا يضر عدم اتحاد حركتها مع حركة النون الأولى فإن الداعي إلى الحذف اجتماع المثلين مع تعذر الإدغام فقول أبي البقاء: إن هذا التوجيه ضعيف لوجهين، أحدهما أن النون الثانية أصل وهي فاء الكلمة فحذفها يبعد جدا، والثاني أن حركتها غير حركة النون الأولى فلا يستثقل الجمع بينهما بخلاف تُظاهِرُونَ ليس في حيز القبول، وإنما امتنع الحذف في تَتَجافى [السجدة: 16] لخوف اللبس بالماضي بخلاف ما نحن فيه لأنه لو كان ماضيا لم يسكن آخره، وكونه سكن تخفيفا خلاف الظاهر، وقيل هو فعل ماضى مبني لما لم يسم فاعله وسكنت الياء للتخفيف كما في قراءة من قرأ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا [البقرة: 278] وقوله: هو الخليفة فارضوا ما رضي لكم ... ماضي العزيمة ما في حكمه جنف الجزء: 9 ¦ الصفحة: 82 ونائب الفاعل ضمير المصدر والْمُؤْمِنِينَ مفعول به، وقد أجاز قيام المصدر مقام الفاعل مع وجود المفعول به الأخفش والكوفيون وأبو عبيد، وخرجوا على ذلك قراءة أبي جعفر لِيَجْزِيَ قَوْماً [الجاثية: 14] وقوله: ولو ولدت فقيرة جرو كلب ... لسب بذلك الكلب الكلابا والمشهور عن البصريين أنه متى وجد المفعول به لم يقم غيره مقام الفاعل، وقيل إن الْمُؤْمِنِينَ منصوب بإضمار فعل أي وكذلك نجي هو أي الانجاء ننجي المؤمنين، وقيل هو منصوب بضمير المصدر والكل كما ترى وَزَكَرِيَّا أي واذكر خبره عليه السلام إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً أي وحيدا بلا ولد يرثني كما يشعر به التذييل بقوله تعالى: وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ ولو كان المراد بلا ولد يصاحبني ويعاونني لقيل وأنت خير المعينين، والمراد بقوله تعالى: وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ وأنت خير حي يبقى بعد ميت، وفيه مدح له تعالى بالبقاء وإشارة إلى فناء من سواه من الأحياء، وفي ذلك استمطار لسحائب لطفه عز وجل، وقيل أراد بذلك رد الأمر إليه سبحانه كأنه قال: إن لم ترزقني ولدا يرثني فأنت خير وارث فحسبي أنت. واعترض بأنه لا يناسب مقام الدعاء إذ من آداب الداعي أن يدعو بجد واجتهاد وتصميم منه. ففي الصحيحين عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا دعا أحدكم فلا يقل: «اللهم اغفر لي إن شئت ارحمني إن شئت ارزقني إن شئت ليعزم مسألته فإن الله تعالى يفعل ما يشاء لا مكره له» ، وفي رواية في صحيح مسلم «ولكن يعزم المسألة وليعزم الرغبة فإن الله تعالى لا يتعاظمه شيء أعطاه» ويمكن أن يقال: ليس هذا من قبيل ارزقني إن شئت إذ ليس المقصود منه إلا إظهار الرضا والاعتماد على الله عز وجل لو لم يجب دعاءه وليس المقصود من ارزقني إن شئت ذلك فتأمل. فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعاءه وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وقد مر بيان كيفية ذلك وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ أي أصلحناها للمعاشرة بتحسن خلقها وكانت سيئة الخلق طويلة اللسان كما روي عن ابن عباس وعطاء بن أبي رباح ومحمد ابن كعب القرظي وعون بن عبد الله أو أصلحناها له عليه السلام برد شبابها إليها وجعلها ولودا وكانت لا تلد كما روي عن ابن جبير وقتادة، وعلى الأول تكون هذه الجملة عطفا على جملة (استجبنا) لأنه عليه السلام لم يدع بتحسين خلق زوجه. قال الخفاجي: ويجوز عطفها على وَهَبْنا وحينئذ يظهر عطفه بالواو لأنه لما فيه من الزيادة على المطلوب لا يعطف بالفاء التفصيلية، وعلى الثاني العطف على وَهَبْنا وقدم هبة يحيى مع توقفها على إصلاح الزوج للولادة لأنها المطلوب الأعظم، والواو لا تقتضي ترتيبا فلا حاجة لما قيل: المراد بالهبة إرادتها، قال الخفاجي: ولم يقل سبحانه: فوهبنا لأن المراد الامتنان لا التفسير لعدم الاحتياج إليه مع أنه لا يلزم التفسير بالفاء بل قد يكون العطف التفسيري بالواو انتهى، ولا يخفى ما فيه فتدبر، وقوله تعالى: إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ تعليل لما فصل من فنون إحسانه المتعلقة بالأنبياء المذكورين سابقا عليهم السلام، فضمائر الجمع للأنبياء المتقدمين. وقيل: لزكريا. وزوجه ويحيى، والجملة تعليل لما يفهم من الكلام من حصول القربى والزلفى والمراتب العالية لهم أو استئناف وقع جوابا عن سؤال تقديره ما حالهم؟ والمعول عليه ما تقدم، والمعنى إنهم كانوا يجدون ويرغبون في أنواع الأعمال الحسنة وكثيرا ما يتعدى أسرع بفي لما فيه من معنى الجد والرغبة فليست في بمعنى إلى أو للتعليل ولا الكلام من قبيل. يجرح في عراقيبها نصلي وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً أي راغبين في نعمنا وراهبين من نقمنا أو راغبين في قبول أعمالهم وراهبين من ردها، فرغبا ورهبا مصدران في موضع الحال بتأويلهما باسم الفاعل، ويجوز أن يكون ذلك بتقدير مضاف أي ذوي رغب، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 83 ويجوز إبقاؤهما على الظاهر مبالغة، وجوز أن يكونا جمعين كخدم جمع خادم لكن قالوا: إن هذا الجمع مسموع في ألفاظ نادرة، وجوّز أن يكونا نصبا على التعليل أي لأجل الرغبة والرهبة، وجوز أبو البقاء نصبهما على المصدر نحو قعدت جلوسا وهو كما ترى. وحكى في مجمع البيان أن الدعاء رغبة ببطون الأكف ورهبة بظهورها، وقد قال به بعض علمائنا، والظاهر أن الجملة معطوفة على جملة يُسارِعُونَ فهي داخلة معها في حيز كانُوا، وفي عدم إعادتها رمز إلى أن الدعاء المذكور من توابع تلك المسارعة، وقرأت فرقة «يدعونا» بحذف نون الرفع، وقرأ طلحة «يدعونا» بنون مشددة أدغم نون الرفع في نون ضمير النصب، وقرأ «رغبا» «ورهبا» بفتح الراء وإسكان ما بعدها و «رغبا» «ورهبا» بالضم والإسكان وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ أي مخبتين متصرعين أو دائمي الوجل، وحاصل التعليل أنهم نالوا من الله تعالى ما نالوا بسبب اتصافهم بهذه الخصال الحميدة. وقوله تعالى: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها نصب نصب نظائره السابقة، وقيل رفع على الابتداء والخبر محذوف أي مما يتلى عليكم أو هو قوله تعالى: فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا والفاء زائدة عند من يجيزه، والمراد بالموصول مريم عليها السلام، والإحصان بمعناه اللغوي وهو المنع مطلقا. والفرج في الأصل الشق بين الشيئين كالفرجة وما بين الرجلين ويكنى به عن السوأة وكثر حتى صار كالصريح في ذلك وهو المراد به هنا عند جماعة أي منعت فرجها من النكاح بقسميه كما قالت وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا [مريم: 20] وكان التبتل إذ ذاك مشروعا للنساء والرجال، وقيل الفرج هنا جيب قميصها منعته من جبريل عليه السلام لما قرب منها لينفخ حيث لم تعرفه. وعبر عنها بما ذكر لتفخيم شأنها وتنزيهها عما زعموه في حقها، والمراد من الروح معناه المعروف، والإضافة إلى ضميره تعالى للتشريف، ونفخ الروح عبارة عن الإحياء وليس هناك نفخ حقيقة. ثم هذا الإحياء لعيسى عليه السلام وهو لكونه في بطنها صح أن يقال: نفخنا فيها فإن ما يكون فيما في الشيء يكون فيه فلا يلزم أن يكون المعنى أحييناها وليس بمراد، وهذا كما يقول الزمار. نفخت في بيت فلان وهو قد نفخ في المزمار في بيته، وقال أبو حيان: الكلام على تقدير مضاف أي فنفخنا في ابنها. ويجوز أن يكون المراد من الروح جبريل عليه السلام كما قيل في قوله تعالى: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا [مريم: 17] ومن ابتدائية وهنك نفخ حقيقة وإسناده إليه تعالى مجاز أي فنفخنا فيها من جهة روحنا، وكان جبريل عليه السلام قد نفخ من جيب درعها فوصل النفخ إلى جوفها فصح أن النفخ فيها من غير غبار يحتاج إلى النفخ، ثم النفخ لازم وقد يتعدى فيقال نفخنا الروح. وقد جاء في ذلك بعض الشواذ ونص عليه بعض الأجلة فإنكاره من عدم الاطلاع وَجَعَلْناها وَابْنَها أي جعلنا قصتهما أو حالهما آيَةً لِلْعالَمِينَ فإن من تأمل حالتهما تحقق كمال قدرته عز وجل، فالمراد بالآية ما حصل بهما من الآية مع تكاثر آيات كل واحد منهما، وقيل أريد بالآية الجنس الشامل ما لكل واحد منهما من الآيات المستقلة، وقيل: المعنى وجعلناها آية وابنها آية فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها واستدل بذكر مريم عليها السلام مع الأنبياء في هذه السورة على أنها كانت نبية إذ قرنت معهم في الذكر. وفيه أنه لا يلزم ذكرها معهم كونها منهم ولعلها إنما ذكرت لأجل عيسى عليه السلام، وناسب ذكرهما هنا قصة زكريا وزوجه وابنهما يحيى للقرابة التي بينهم عليهم السلام إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ خطاب للناس قاطبة، والإشارة إلى ملة التوحيد والإسلام وذلك من باب هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الكهف: 78] وهذا أخوك تصور المشار إليه في الذهن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 84 وأشير إليه، وفيه أنه متميز أكمل التمييز ولهذا لم يبين بالوصف، والأمة على ما قاله صاحب المطلع أصلها القوم يجتمعون على دين واحد ثم اتسع فيها حتى أطلقت على نفس الدين، والأشهر أنها الناس المجتمعون على أمر أو في زمان وإطلاقها على نفس الدين مجاز، وظاهر كلام الراغب أنه حقيقة أيضا وهو المراد هنا، وأريد بالجملة الخبرية الأمر بالمحافظة على تلك الملة ومراعاة حقوقها، والمعنى أن ملة الإسلام ملتكم التي يجب أن تحافظوا على حدودها وتراعوا حقوقها فافعلوا ذلك، وقوله تعالى: أُمَّةً واحِدَةً نصب على الحال من أُمَّةً والعامل فيها اسم الإشارة، ويجوز أن يكون العامل في الحال غير العامل في صاحبها وإن كان الأكثر الاتحاد كما في شرح التسهيل لأبي حيان، وقيل بدل من هذِهِ ومعنى وحدتها اتفاق الأنبياء عليهم السلام عليها أي إن هذه أمتكم أمة غير مختلفة فيما بين الأنبياء عليهم السلام بل أجمعوا كلهم عليها فلم تتبدل في عصر من الأعصار كما تبدلت الفروع، وقيل: معنى وحدتها عدم مشاركة غيرها وهو الشرك لها في القبول وصحة الأتباع. وجوز أن تكون الإشارة إلى طريقة الأنبياء المذكورين عليهم السلام والمراد بها التوحيد أيضا، وقيل: هي إشارة إلى طريقة ابراهيم عليه السلام والكلام متصل بقصته وهو بعيد جدا، وأبعد منه بمراحل ما قيل إنها إشارة إلى ملة عيسى عليه السلام والكلام متصل بما عنده كأنه قيل وجعلناها وابنها آية للعالمين قائلين لهم: إن هذه أي الملة التي بعث بها عيسى أمتكم إلخ بل لا ينبغي أن يلتفت إليه أصلا، وقيل: إن هذِهِ إشارة إلى جماعة الأنبياء المذكورين عليهم السلام والأمة بمعنى الجماعة أي إن هؤلاء جماعتكم التي يلزمكم الاقتداء بهم مجتمعين على الحق غير مختلفين، وفيه جهة حسن كما لا يخفى، والأول أحسن وعليه جمهور المفسرين وهو المروي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة، وجوز بعضهم كون الخطاب للمؤمنين كافة، وجعله الطيبي للمعاندين خاصة حيث قال في وجه ترتيب النظم الكريم: إن هذه السورة نازلة في بيان النبوة وما يتعلق بها والمخاطبون المعاندون من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم فلما فرغ من بيان النبوة وتكريره تقريرا ومن ذكر الأنبياء عليهم السلام مسليا عاد إلى خطابهم بقوله تعالى شأنه إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ إلخ أي هذه الملة التي كررتها عليكم ملة واحدة أختارها لكم لتتمسكوا بها وبعبادة الله تعالى والقول بالتوحيد وهي التي أدعوكم إليها لتعضوا عليها بالنواجذ لأن سائر الكتب نازلة في شأنها والأنبياء كلهم مبعثون للدعوة إليها ومتفقون عليها، ثم لما علم إصرارهم قيل: وَتَقَطَّعُوا إلخ، وحاصل المعنى الملة واحدة والرب واحد والأنبياء عليهم السلام متفقون عليها وهؤلاء البعداء جعلوا أمر الدين الواحد فيما بينهم قطعا كما يتوزع الجماعة الشيء الواحد انتهى، والأظهر العموم، وأمر النظم عليه يؤخذ من كلام الطيبي بأدنى التفات وقرأ الحسن «أمّتكم» بالنصب على أنه بدل من هذِهِ أو عطف بيان عليه و «أمة واحدة» بالرفع على أنه خبر إن. وقرأ هو أيضا وابن إسحاق والأشهب العقيلي وأبو حيوة وابن أبي عبلة والجعفي وهارون عن أبي عمرو. والزعفراني برفعهما على أنهما خبر إن، وقيل: الأول خبر والثاني بدل منه بدل نكرة من معرفة أو هو خبر مبتدأ محذوف أي هي أمة واحدة وَأَنَا رَبُّكُمْ أي أنا إلهكم إله واحد فَاعْبُدُونِ خاصة، وتفسير الرب بالإله لأنه رتب عليه الأمر بالعبادة، والدلالة على الوحدة من حدة الملة، وفي لفظ الرب إشعار بذلك من حيث إن الرب إن توهم جواز تعدده في نفسه لا يمكن أن يكون لكل مربوب إلا رب واحد لأنه مفيض الوجود وكمالاته معا، وفي العدول إلى لفظ الرب ترجيح جانب الرحمة وأنه تعالى يدعوهم إلى عبادته بلسان الترغيب والبسط قاله في الكشف. وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ أي جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا على أن تقطع مضمن معنى الجعل فلذا تعدى إلى أَمْرَهُمْ بنفسه، وقال أبو البقاء: تقطعوا أمرهم أي في أمرهم أي تفرقوا، وقيل: عدي بنفسه لأنه بمعنى قطعوا أي فرقوا، وقيل. أَمْرَهُمْ تمييز محول عن الفاعل أي تقطع أمرهم انتهى، وما ذكر أولا أظهر وأمر التمييز لا يخفى على الجزء: 9 ¦ الصفحة: 85 ذي تمييز، ثم أصل الكلام وتقطعتم أمركم بينهم على الخطاب فالتفت إلى الغيبة لينعى عليهم ما فعلوا من التفرق في الدين وجعله قطعا موزعة وينهي ذلك إلى الآخرين كأنه قيل ألا ترون إلى عظم ما ارتكب هؤلاء في دين الله تعالى الذي أجمعت عليه كافة الأنبياء عليهم السلام وفي ذلك ذم للاختلاف في الأصول. كُلٌّ أي كل واحدة من الفرق المتقطعة أو كل واحد من آحاد كل واحدة من تلك الفرق إِلَيْنا راجِعُونَ بالبعث لا إلى غيرنا فنجازيهم حينئذ بحسب أعمالهم، ولا يخفى ما في الجملة من الدلالة على الثبوت والتحقق. وقوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ تفضيل للجزاء أي فمن يعمل بعض الصالحات أو بعضا من الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ بما يجب الإيمان به فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ أي لا حرمان لثواب عمله ذلك، عبر عنه بالكفران الذي هو ستر النعمة وجحودها لبيان كمال نزاهته تعالى عنه بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه سبحانه من القبائح، وإبراز الإثابة في معرض الأمور الواجبة عليه تعالى ونفى نفي الجنس المفيد للعموم للمبالغة في التنزيه، والظاهر أن التركيب على طرز «لا مانع لما أعطيت» والكلام فيه مشهور بين علماء العربية وعبر عن العمل بالسعي لإظهار الاعتداد به، وفي حرف عبد الله «فلا كفر» والمعنى واحد وَإِنَّا لَهُ أي لسعيه، وقيل: الضمير لمن وليس بشيء كاتِبُونَ أي مثبتون في صحيفة عمله لا يضيع بوجه ما، واستدل بالآية على أن قبول العمل الصالح مطلقا مشروط بالإيمان وهو قول لبعضهم، وقال آخرون: الإيمان شرط لقبول ما يحتاج إلى النية من الأعمال، وتحقيقه في موضعه. وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أي على أهل قرية. فالكلام على تقدير مضاف أو القرية مجاز عن أهلها. والحرام مستعار للممتنع وجوده بجامع أن كل واحد منهما غير مرجو الحصول، وقال الراغب: الحرام الممنوع منه إما بتسخير إلهي وإما بمنع قهري وإما بمنع من جهة العقل أو من جهة الشرع أو من جهة من يرتسم أمره، وذكر أنه قد حمل في هذه الآية على التحريم بالتسخير كما في قوله تعالى: وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ [القصص: 12] وقرأ أبو حنيفة وحمزة والكسائي وأبو بكر وطلحة والأعمش وأبو عمرو في رواية «وحرم» بكسر الحاء وسكون الراء اهـ. وقرأ قتادة ومطر الوراق ومحبوب عن أبي عمرو بفتح الحاء وسكون الراء، وقرأ عكرمة «وحرم» الحاء وكسر الراء والتنوين. وقرأ ابن عباس وعكرمة أيضا وابن المسيب وقتادة أيضا بكسر الراء وفتح الحاء والميم على المضي وقرأ ابن عباس وعكرمة بخلاف عنهما وأبو العالية وزيد بن علي بضم الراء وفتح الحاء والميم على المضي أيضا، وفي رواية أخرى عن ابن عباس أنه قرأ بفتح الحاء والراء والميم على المضي أيضا. وقرأ اليماني «وحرّم» بضم الحاء وكسر الراء مشددة وفتح الميم على أنه فعل ماض مبني لما لم يسم فاعله. أَهْلَكْناها أي قدرنا هلاكها أو حكمنا به في الأزل لغاية طغيانهم وعتوهم فيما لا يزال. وقرأ السلمي وقتادة «أهلكتها» بتاء المتكلم، وقوله تعالى: أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ في تأويل اسم مرفوع على الابتداء خبره «حرام» قال ابن الحاجب في أماليه: ويجب حينئذ تقديمه لما تقرر في النحو من أن الخبر عن أن يجب تقديمه، وجوز أن يكون «حرام» مبتدأ و «أنهم» فاعل له سد مسد خبره وإن لم يعتمد على نفي أو استفهام بناء على مذهب الأخفش فإنه لا يشترط في ذلك الاعتماد خلافا للجمهور كما هو المشهور. وذهب ابن مالك أن رفع الوصف الواقع مبتدأ لمكتفى به عن الخبر من غير اعتماد جائز بلا خلاف وإنما الخلاف في الاستحسان وعدمه فسيبويه يقول: هو ليس بحسن والأخفش يقول: هو حسن وكذا الكوفيون كما شرح التسهيل والجملة لتقرير ما قبلها من قوله تعالى: كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ وما في أن من معنى التحقيق معتبر في النفي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 86 المستفاد في حَرامٌ لا في المنفي أي ممتنع البتة عدم رجوعهم إلينا للجزاء لا أن عدم رجوعهم المحقق ممتنع، وتخصيص امتناع عدم رجوعهم بالذكر مع شمول الامتناع لعدم رجوع الكل حسبما نطق به قوله تعالى: كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ لأنهم المنكرون للبعث والرجوع دون غيرهم، وهذا المعنى محكي عن ابي مسلم بن بحر، ونقله أبو حيان عنه لكنه قال: إن الغرض من الجملة على ذلك إبطال قول من ينكر البعث، وتحقيق ما تقدم من أنه لا كفران لسعي أحد وأنه يجزى على ذلك يوم القيامة، ولا يخفى ما فيه. وقال أبو عتبة: المعنى وممتنع على قرية قدرنا هلاكها أو حكمنا به رجوعهم إلينا أي توبتهم على أن لا سيف خطيب مثلها في قوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف: 12] في قول، وقيل حَرامٌ بمعنى واجب كما في قول الخنساء: وإن حراما لا أرى الدهر باكيا ... على شجوة إلا بكيت على صخر ومن ذلك قوله تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا [الأنعام: 151] إلخ فإن ترك الشرك واجب، وعلى هذا قال مجاهد والحسن لا يَرْجِعُونَ لا يتوبون عن الشرك. وقال قتادة ومقاتل: لا يرجعون إلى الدنيا، والظاهر على هذا أن المراد بأهلكناها أوجدنا إهلاكها بالفعل، والمراد بالهلاك الهلاك الحسي، ويجوز على القول بأن المراد بعدم الرجوع عدم التوبة أن يراد به الهلاك المعنوي بالكفر والمعاصي. وقرىء «إنهم» بكسر الهمزة على أن الجملة استئناف تعليلي لما قبلها فحرام خبر مبتدأ محذوف أي حرام عليها ذلك وهو ما ذكر في الآية السابقة من العمل الصالح المشفوع بالإيمان والسعي المشكور ثم علل بقوله تعالى: أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ عماهم عليه من الكفر فكيف لا يمتنع ذلك، ويجوز حمل الكلام على قراءة الجمهور بالفتح على هذا المعنى بحذف حرف التعليل أي لأنهم لا يرجعون. والزجاج قدر المبتدأ في ذلك أن يتقبل عملهم فقال: المعنى وحرام على قرية حكمنا بهلاكها أن يتقبل عملهم لأنهم لا يتوبون ودل على ذلك قوله تعالى قبل: فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ حيث إن المراد منه يتقبل عمله وحَتَّى في قوله تعالى: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ ابتدائية والكلام بعدها غاية لما يدل عليه ما قبلها كأنه قيل: يستمرون على ما هم عليه من الهلاك حتى إذا قامت القيامة يرجعون إلينا ويقولون يا ويلنا إلخ أو غاية للحرمة أي يستمر امتناع رجوعهم إلى التوبة حتى إذا قامت القيامة يرجعون إليها وذلك حين لا ينفعهم الرجوع أو غاية لعدم الرجوع عن الكفر أي لا يرجعون عنه حتى إذا قامت القيامة يرجعون عنه وهو حين لا ينفعهم ذلك، وهذا بحسب تعدد الأقوال في معنى الآية المتقدمة والتوزيع غير خفي، وقال ابن عطية حتى متعلقة بقوله تعالى: تَقَطَّعُوا إلخ قال أبو حيان: وفيه بعد من كثرة الفصل لكنه من جهة المعنى جيد، وحاصله أنهم لا يزالون مختلفين غير مجتمعين على دين الحق إلى قرب مجيء الساعة فإذا جاءت الساعة انقطع ذلك الاختلاف وعلم الجميع أن مولاهم الحق وأن الدين المنجي كان دين التوحيد، ونسبة الفتح إلى يأجوج ومأجوج مجاز وهي حقيقة إلى السد أو الكلام على حذف المضاف وهو السد وإقامة المضاف إليه مقامه. وقرأت فرقة «فتّحت» بالتشديد، وتقدم الكلام في يأجوج ومأجوج وَهُمْ أي يأجوج ومأجوج، وقيل الناس وروي عن مجاهد مِنْ كُلِّ حَدَبٍ أي مرتفع من الأرض كجبل وأكمة. وقرأ ابن عباس «جدث» بالجيم الثاء المثلثة وهو القبر، وهذه القراءة تؤيد رجوع الضمير إلى الناس، وقرىء بالجيم والفاء وهي بدل الثاء عند تميم ولا يختص إبدالها عندهم في آخر الكلمة فإنهم يقولون مغثور مكان مغفور يَنْسِلُونَ أي يسرعون، وأصل النسلان بفتحتين مقاربة الخطو مع الإسراع، وقيل ويختص وضعا بالذئاب وعليه يكون مجازا هنا. وقرأ ابن إسحاق وأبو السمال بضم السين وَاقْتَرَبَ أي قرب، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 87 وقيل هو أبلغ في القرب من قرب الْوَعْدُ الْحَقُّ وهو ما بعد النفخة الثانية من البعث والحساب والجزاء لا النفخة الأولى، والجملة عطف على فُتِحَتْ يَأْجُوجُ ثم إن هذا الفتح في زمن نزول عيسى عليه السلام من السماء وبعد قتله الدجال عند باب لد الشرقي، فقد أخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث طويل «إن الله تعالى يوحي إلى عيسى عليه السلام بعد أن يقتل الدجال إني قد أخرجت عبادا من عبادي لا يدان لك بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور فيبعث الله تعالى يأجوج ومأجوج وهم كما قال الله تعالى مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ فيرغب عيسى عليه السلام وأصحابه إلى الله عز وجل فيرسل عليهم نغفا في رقابهم فيصبحون موتى كموت نفس واحدة فيهبط عيسى عليه السلام وأصحابه فيرسل عليهم طيرا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله تعالى ويرسل الله عز وجل مطرا لا يكن منه نبت مدر ولا وبر أربعين يوما فيغسل الأرض حتى يتركها زلفة ويقال للأرض انبتي ثمرتك فيومئذ يأكل النفر من الرماية ويستظلون بقحفها ويبارك في الرسل حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس واللقحة من البقر تكفي الفخذ والشاة من الغنم تكفي البيت فبينما هم على ذلك إذ بعث الله تعالى ريحا طيبة تحت آباطهم فتقبض روح كل مسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر وعليهم تقوم الساعة» وجاء من حديث رواه أحمد وجماعة «إن الساعة بعد أن يهلك يأجوج ومأجوج كالحامل المتم لا يدري أهلها حتى تفجأهم بولادها ليلا أو نهارا» وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: ذكر لنا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو نتجت فرس عند خروجهم ما ركب فلوها حتى تقوم الساعة» وهذا مبالغة في القرب كالخبر الذي قبله. فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا جواب الشرط، وإذا للمفاجأة وهي تسد مسد الفاء الجزائية في الربط وليست عوضا عنها فمتى كانت الجملة الاسمية الواقعة جزاء مقترنة بها لم تحتج إلى الفاء نحو إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ [الروم: 36] وإذا جيء بهما معا كما هنا يتقوى الربط، والضمير للقصة هو الشأن هو مبتدأ وشاخِصَةٌ خبر مقدم وأَبْصارُ مبتدأ مؤخر، والجملة خبر الضمير، ولا يجوز أن يكون شاخِصَةٌ الخبر وأَبْصارُ مرفوعا به لأن خبر الضمير الشأن لا يكون إلا جملة مصرحا بجزأيها، وأجاز بعض الكوفيين كونه مفردا فيجوز ما ذكر عنده. وعن الفراء أن هِيَ ضمير الأبصار فهو ضمير مبهم يفسره ما في حيز خبره وعود الضمير على متأخر لفظا ورتبة في مثل ذلك جائز عند ابن مالك. وغيره كما في ضمير الشأن، ومن ذلك قوله: هو الجد حتى تفضل العين أختها بل نقل عن الفراء أنه متى دل الكلام على المرجع وذكر بعده ما يفسره وإن لم يكن في حيز خبره لا يضر تقدمه، وأنشد قوله: فلا وأبيها لا تقول خليلتي ... ألا فرّ عني مالك بن أبي كعب ونقل عنه أيضا أن هِيَ ضمير فصل وعماد يصلح موضعه هو وأنشد قوله: بثوب ودينار وشاة ودرهم ... فهل هو مرفوع بما هاهنا رأس وهذا لا يتمشى إلا على أحد قولي الكسائي من إجازته تقديم الفصل مع الخبر على المبتدأ وقول من أجاز كونه قبل خبر نكرة، وذكر الثعلبي أن الكلام قد تم عند قوله تعالى: فَإِذا هِيَ أي فإذا هي أي الساعة حاصلة أو بارزة أو واقعة ثم ابتدئ فقيل «شاخصة أبصار الذين كفروا» وهو وجه متكلف متنافر التركيب، وقيل: جواب الشرط اقْتَرَبَ والواو سيف خطيب. ونقل ذلك في مجمع البيان عن الفراء. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 88 ونقل عن الزجاج أن البصريين لا يجوزون زيادة الواو وأن الجواب عندهم قوله تعالى: يا وَيْلَنا أي القول المقدر قبله فإنه بتقدير قالوا يا ويلنا، ومن جعل الجواب ما تقدم قدر القول هاهنا أيضا وجعله حالا من الموصول يقولون أو قائلين «يا ويلنا» وجوز كون جملة يقولون يا ويلنا استئنافا، وشخوص الأبصار رفع أجفانها إلى فوق من دون أن تطرف وذلك للكفرة يوم القيامة من شدة الهول، وأرادوا من نداء الويل التحسر وكأنهم قالوا: يا ولينا تعال فهذا أوان حضورك قَدْ كُنَّا في الدنيا فِي غَفْلَةٍ تامة مِنْ هذا الذي دهمنا من البعث والرجوع إليه عز وجل للجزاء، وقيل: من هذا اليوم ولم نعلم أنه حق بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ إضراب عن وصف أنفسهم بالغفلة أي لم نكن في غفلة منه حيث نبهنا عليه بالآيات والنذر بل كنا ظالمين بترك الآيات والنذر مكذبين بها أو ظالمين لأنفسنا بتعريضها للعذاب الخالد بالتكذيب. وقوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ خطاب لكفار مكة وتصريح بمآل أمرهم مع كونه معلوما مما سبق على وجه الإجمال مبالغة في الإنذار وإزاحة الأعذار، فما عبارة عن أصنامهم، والتعبير عنها بما على بابه لأنها على المشهور لما لا يعقل فلا يرد أن عيسى وعزيرا والملائكة عليهم الصلاة والسلام عبدوا من دون الله تعالى مع أن الحكم لا يشملهم وشاع أن عبد الله بن الزبعري (1) القرشي اعترض بذلك قبل إسلامه على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال له عليه الصلاة والسلام: يا غلام ما أجهلك بلغة قومك لأني قلت وَما تَعْبُدُونَ وما لما لم يعقل ولم أقل ومن تعبدون. وتعقبه ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف بأنه أشهر على ألسنة كثير من علماء العجم وفي كتبهم (2) وهو لا أصل له ولم يوجد في شيء من كتب الحديث مسندا ولا غير مسند والوضع عليه ظاهر والعجب ممن نقله من المحدثين انتهى، ويشكل على ما قلنا ما أخرجه أبو داود في ناسخه وابن المنذر وابن مردويه والطبراني عن ابن عباس قال: لما نزل إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ إلخ شق ذلك على أهل مكة وقالوا: أتشتم آلهتنا فقال ابن الزبعري: أنا أخصم لكم محمدا ادعوه لي فدعي عليه الصلاة والسلام فقال: يا محمد هذا شيء لآلهتنا خاصة أم لكل من عبد من دون الله تعالى؟ قال: بل لكل من عبد من دون الله تعالى فقال ابن الزبعرى: خصمت ورب هذه البنية. يعني الكعبة. ألست تزعم يا محمد أن عيسى عبد صالح وأن عزيرا عبد صالح وأن الملائكة صالحون؟ قال: بلى قال: فهذه النصارى تعبد عيسى وهذه اليهود تعبد عزيرا وهذه بنو مليح (3) تعبد الملائكة فضج أهل مكة وفرحوا فنزلت إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى إلخ وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ [الزخرف: 57] إلخ، وجاء في روايات أخر ما يعضده فإن ظاهر ذلك أن ما هنا شامل للعقلاء وغيرهم. وأجيب بأن الشمول للعقلاء الذي ادعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان بطريق دلالة النص بجامع الشركة في المعبودية من دون الله تعالى فلما أشار صلّى الله عليه وسلّم إلى عموم الآية بطريق الدلالة اعترض ابن الزبعري بما اعترض وتوهم أنه قد بلغ الغرض فتولى الله تعالى الجواب بنفسه بقوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى الآية، وحاصله تخصيص العموم المفهوم من دلالة النص بما سوى الصلحاء الذين سبقت لهم الحسنى فيبقى الشياطين الذين عبدوا من دون الله سبحانه داخلين في الحكم بحكم دلالة النص فيفيد النص بعد هذا التخصيص عبارة ودلالة حكم الأصنام والشياطين ويندفع الاعتراض، وقال بعضهم: إن ما تعم العقلاء وغيرهم وهو   (1) أي سيء الخلق اهـ منه. (2) كشرح المواقف وغيره مما لا يحصى اهـ منه. (3) بالتصغير بطن من خزاعة اهـ منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 89 مذهب جمهور أئمة اللغة كما قال العلامة الثاني في التلويح ودليل ذلك النص والإطلاق والمعنى، أما النص فقوله تعالى: وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [الليل: 3] وقوله سبحانه: وَالسَّماءِ وَما بَناها [الشمس: 5] وقوله سبحانه: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ [الكافرون: 3] وأما الإطلاق فمن وجهين، الأول أن ما قد تطلق بمعنى الذي باتفاق أهل اللغة والذي يصح إطلاقه على من يعقل بدليل قولهم الذي جاء زيدا فما كذلك، الثاني أنه يصح أن يقال ما في داري من العبيد أحرار، وأما المعنى فمن وجهين أيضا، الأول أن مشركي قريش كما جاء من عدة طرق عن ابن عباس لما سمعوا هذه الآية اعترضوا بعيسى وعزير والملائكة عليهم السلام. وهم من فصحاء العرب فلو لم يفهموا العموم لما اعترضوا، الثاني أن ما لو كانت مختصة بغير العالم لما احتيج إلى قوله تعالى: مِنْ دُونِ اللَّهِ وحيث كانت بعمومها متناولة له عز وجل احتيج إلى التقييد بقوله سبحانه مِنْ دُونِ اللَّهِ وحينئذ تكون الآية شاملة عبادة لأولئك الكرام عليهم الصلاة والسلام ويكون الجواب الذي تولاه الله تعالى بنفسه جوابا بالتخصيص، وفي ذلك حجة للشافعي في قوله بجواز تخصيص العام بكلام مستقل متراخ خلافا للحنفية. وأجيب بأن ما ذكر من النصوص والإطلاقات فغايته جواز اطلاق ما على من يعلم لا يلزم من ذلك أن تكون ظاهرة فيه أو فيما يعمه بل هي ظاهرة في غير العالم لا سيما هنا لأن الخطاب مع عبدة الأصنام وإذا كانت ظاهرة فيما لا يعقل وجب تنزيلها عليه، وما ذكر من الوجه الأول في المعنى فليس بنص في أن المعترضين إنما اعترضوا لفهمهم العموم من ما وضعا لجواز أن يكون ذلك لفهمهم إياه من دلالة النص كما مر، وما ذكر من الوجه الثاني من عدم الاحتياج إلى قوله تعالى: مِنْ دُونِ اللَّهِ فإنما يصح أن لو لم تكن فيه فائدة، وفائدته مع التأكيد تقبيح ما كانوا عليه، وإن سلمنا أن ما حقيقة فيمن يعقل فلا نسلم أن بيان التخصيص لم يكن مقارنا للآية فإن دليل العقل صالح للتخصيص خلافا لطائفة شاذة من المتكلمين، والعقل قد دل على امتناع تعذيب أحد بجرم صادر من غيره اللهم إلا أن يكون راضيا بجرم ذلك الغير، وأحد من العقلاء لم يخطر بباله رضا المسيح وعزير والملائكة عليهم السلام بعبادة من عبدهم وما مثل هذا الدليل العقلي فلا نسلم عدم مقارنته للآية، وأما قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى الآية فإنما ورد تأكيدا بضم الدليل الشرعي إلى الدليل العقلي مع الاستغناء عن أصله أما أن يكون هو المستقل بالبيان فلا، وعدم تعرضه صلّى الله عليه وسلّم للدليل العقلي لم يكن لأنه لم يكن بل لأنه عليه الصلاة والسلام لما رآهم لم يلتفتوا إليه وأعرضوا عنه فاعترضوا بما اعترضوا مع ظهوره انتظر ما يقويه من الدليل السمعي أو لأن الوحي سبقه عليه الصلاة والسلام فنزلت الآية قبل أن ينبههم على ذلك، وقيل: إنهم تعنتوا بنوع من المجاز فنزل ما يدفعه، وقيل: إن هذا خبر لا تكليف فيه والاختلاف في جواز تأخير البيان مخصوص بما فيه تكليف، وفيه نظر، وقال العلامة ابن الكمال: لا خلاف بيننا وبين الشافعي في قصر العام على بعض ما يتناوله بكلام مستقل متراخ إنما الخلاف في أنه تخصيص حتى يصير العام به ظنيا في الباقي أو نسخ حتى يبقى على ما كان فلا وجه للاحتجاج بقوله تعالى: وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لأن الثابت به على تقدير التمام قصر العام بالمتراخي والخلاف فيما وراءه والدليل قاصر عن بيانه ولا للجواب بأن تعبدون لا يتناول عيسى وعزيرا والملائكة عليهم السلام لا لأن ما لغير العقلاء لما أنه على خلاف ما عليه الجمهور بل لأنهم ما عبدوا حقيقة على ما أفصح عنه صلّى الله عليه وسلّم حين قال ابن الزبعري: أليس اليهود عبدوا عزيرا والنصارى عبدوا المسيح وبنوا مليح عبدوا الملائكة بقوله صلّى الله عليه وسلّم: بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك فقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ الآية لدفع ذهاب الوهم إلى التناول لهم نظرا إلى الظاهر. وجوابه صلّى الله عليه وسلّم بذلك مما رواه ابن مردويه والواحدي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وفيه فأنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ الآية، وعلى وفق هذا ورد جواب الملائكة عليهم السلام في قوله تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً الجزء: 9 ¦ الصفحة: 90 ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ [سبأ: 4، 41] والجمع بي هذه الرواية والرواية السابقة أنه صلّى الله عليه وسلّم بعد أن ذكر لابن الزبعري أن الآية عامة لكل من عبد من دون الله تعالى بطريق دلالة النص وقال ابن الزبعري: أليس اليهود إلخ ذكر عدم تناولها المذكورين عليهم السلام من حيث إنهم لم يشاركوا الأصنام في المعبودية من دون الله تعالى لعدم أمرهم ولأرضاهم بما كان الكفرة يفعلون، ولعل فيه رمزا خفيا إلى الدليل العقلي على عدم مؤاخذتهم ثم نزلت الآية تأكيدا لعدم التناول، لكن لا يخفى أن هذه الرواية إن صحت تقتضي أن لا تكون الأصنام معبودة أيضا لأنها لم تأمرهم بالعبادة فلا تكون ما مطلقة عليها بل على الشياطين بناء على أنها هي الآمرة الراضية بذلك فهي معبوداتهم، ولذا قال إبراهيم عليه السلام يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ [مريم: 44] مع أنه كان يعبد الأصنام ظاهرا. ووجه إطلاقها عليها بناء على أنها ليست لذوي العقول أنها أجريت مجرى الجمادات لكفرها، وفي قوله صلّى الله عليه وسلّم التي أمرتهم دون الذين أمروهم إشارة إلى ذلك، ثم في عدم تناول الآية الأصنام هنا من البعد ما فيه فلعل هذه الرواية لم تثبت، ولمولانا أبي السعود كلام مبناه خبر أنه صلّى الله عليه وسلّم رد على ابن الزبعرى بقوله ما أجهلك بلغة قومك إلخ، وقد علمت ما قاله الحافظ ابن حجر فيه وهو وأمثاله المعول عليهم في أمثال ذلك فلا ينبغي الاغترار بذكره في أحكام الآمدي وشرح المواقف وفصول البدائع للفناري وغير ذلك مما لا يحصى كثرة فماء ولا كصداء ومرعى ولا كالسعدان. وأورد على القول بأن العموم بدلالة النص والتخصيص بما نزل بعد حديث الخلاف في التخصيص بالمستقل المتراخي ويعلم الجواب عنه مما تقدم، وقيل هنا زيادة على ذلك إن ذلك ليس من تخصيص العام المختلف فيه لأن العام هناك هو اللفظ الواحد الدال على مسميين فصاعدا مطلقا معا وهو ظاهر فيما فيه الدلالة عبارة والعموم هنا إنما فهم من دلالة النص، ولا يخفى أن الأمر المانع من التأخير ظاهر في عدم الفرق فتدبر فالمقام حري به، والحصب ما يرمى به وتهيج به النار من حصبه إذا رماه بالحصباء وهي صغار الحجارة فهو خاص وضعا عام استعمالا. وعن ابن عباس أنه الحطب بالزنجية. وقرأ علي وأبي وعائشة وابن الزبير وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهم «حطب بالطاء. وقرأ ابن أبي السميقع وابن أبي عبلة ومحبوب وأبو حاتم عن ابن بشير «حضب» بإسكان الصاد، ورويت عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وهو مصدر وصف به للمبالغة، وفي رواية أخرى عنه أنه قرأ «حصب» بالضاد المعجمة المفتوحة، وجاء عنه أيضا إسكانها وبه قرأ كثير عزة، ومعنى الكل واحد وهو معنى الحصب بالصاد أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ استئناف نحوي مؤكد لما قبله أو بدل من حَصَبُ جَهَنَّمَ وتبدل الجملة من المفرد ولا يضر كونه في حكم النتيجة، وجوز أبو البقاء كون الجملة حالا من جَهَنَّمَ وهو كما ترى، واللام معوضة من على للدلالة على الاختصاص وأن ورودهم لأجلها وهذا مبني على أن الأصل تعدى الورود إلى ذلك بعلى كما أشار إليه في القاموس بتفسيره بالإشراف على الماء وهو في الاستعمال كثير وإلا فقد قيل إنه متعد بنفسه كما في قوله تعالى: وَرَدُوها فاللام للتقوية لكون المعمول مقدما والعامل فرعي، وقيل إن اللام بمعنى إلى كما في قوله تعالى: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها [الزلزلة: 5] وليس بذلك. والظاهر أن الورود هنا ورود دخول والخطاب للكفرة وما يعبدون تغليبا لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً كما تزعمون أيها العابدون إياها ما وَرَدُوها وحيث تبين ورودهم إياها على أتم وجه حيث إنهم حصب جهنم امتنع كونهم آلهة بالضرورة، وهذا ظاهر في أن المراد مما يعبدون الأصنام لا الشياطين لأن المراد به إثبات نقيض ما يدعونه وهم يدعون إلهية الأصنام لا إلهيتها حتى يحتج بورودها النار على عدمها، نعم الشياطين التي تعبد داخلة في حكم النص بطريق الدلالة فلا تغفل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 91 وَكُلٌّ من العبدة والمعبودين فِيها خالِدُونَ باقون إلى الأبد لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ هو صوت نفس المغموم يخرج من أقصى الجوف، وأصل الزفر كما قال الراغب: ترديد النفس حتى تنتفخ منه الضلوع، والظاهر أن ضمير لَهُمْ للكل أعني العبدة والمعبودين، وفيه تغليب العقلاء على غيرهم من الأصنام حيث جيء بضمير العقلاء راجعا إلى الكل، ويجري ذلك في خالِدُونَ أيضا، وكذا غلب من يتأتى منه الزفير ممن فيه حياة على غيره من الأصنام أيضا حيث نسب الزفير للجميع، وجوز أن يجعل الله تعالى للأصنام التي عبدت حياة فيكون حالها حال من معها ولها ما لهم فلا تغليب، وقيل: الضمير للمخاطبين في إِنَّكُمْ خاصة على سبيل الالتفات فلا حاجة إلى القول بالتغليب أصلا. ورد بأنه يوجب تنافر النظم الكريم ألا ترى قوله تعالى: أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ كيف يجمع بينهم تغليبا للمخاطبين فلو خص لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ لزم التفكيك، وكذا الكلام في قوله تعالى: وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ أي لا يسمع بعضهم زفير بعض لشدة الهول وفظاعة العذاب على ما قيل، وقيل: لا يسمعون لو نودي عليهم لشدة زفيرهم، وقيل: لا يسمعون ما يسرهم من الكلام إذ لا يكلمون إلا بما يكرهون، وقيل: إنهم يبتلون بالصمم حقيقة لظاهر قوله تعالى: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا [الإسراء: 97] وهو كما ترى، وذكر في حكمة إدخال المشركين النار مع معبوداتهم أنها زيادة غمهم برؤيتهم إياها معذبة مثلهم وقد كانوا يرجون شفاعتها، وقيل: زيادة غمهم برؤيتها معهم وهي السبب في عذابهم فقد قيل: واحتمال الأذى ورؤية جاني ... هـ غذاء تضنى به الأجسام وظاهر بعض الأخبار أن نهاية المخلدين أن لا يرى بعضهم بعضا فقد روى ابن جرير وجماعة عن ابن مسعود أنه قال: إذا بقي في النار من يخلد فيها جعلوا في توابيت من حديد فيها مسامير من حديد ثم جعلت تلك التوابيت في توابيت من حديد ثم قذفوا في أسفل الجحيم فما يرى أحدهم أنه يعذب في النار غيره ثم قرأ الآية لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ ومنه يعلم قول آخر في «لا يسمعون» والله تعالى أعلم. إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أي الخصلة المفضلة في الحسن وهي السعادة، وقيل: التوفيق للطاعة، والمراد من سبق ذلك تقديره في الأول، وقيل: الحسنى الكلمة الحسنى وهي المتضمنة للبشارة بثوابهم وشكر أعمالهم، والمراد من سبق ذلك تقدمه في قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ [الأنبياء: 94] وهو خلاف الظاهر، والظاهر أن المراد من الموصول كل من اتصف بعنوان الصلة وخصوص السبب لا يخصص، وما ذكر في بعض الآثار من تفسيره بعيسى وعزير والملائكة عليهم السلام فهو من الاقتصار على بعض أفراد العام حيث إنه السبب في النزول. وينبغي أن يجعل من باب الاقتصار ما أخرجه ابن أبي شيبة وغيره عن محمد بن حاطب عن عليّ كرم لله تعالى وجهه أنه فسر الموصول بعثمان وأصحابه رضي الله تعالى عنهم. وروى ابن أبي حاتم وجماعة عن النعمان بن بشير أن عليّا كرم الله تعالى وجهه قرأ الآية فقال: أنا منهم وعمر منهم وعثمان منهم والزبير منهم وطلحة منهم وسعد وعبد الرحمن منهم كذا رأيته في الدر المنثور، ورأيت في غيره عد العشرة المبشرة رضي الله تعالى عنهم ، والجدران متعلقان بسبقت. وجوز أبو البقاء في الثاني كونه متعلقا بمحذوف ووقع حالا من الْحُسْنى وقوله تعالى: أُولئِكَ إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة، وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجتهم، وبعد منزلتهم في الشرف والفضل أي أولئك المنعوتون بما ذكر من النعت عَنْها أي عن جهنم مُبْعَدُونَ لأنهم في الجنة وشتان بينها وبين النار. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 92 لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها أي صوتها الذي يحس من حركتها، والجملة بدل من «مبعدون» ، وجوز أن تكون حالا من ضميره، وأن تكون خبرا بعد خبر، واستظهر كونها مؤكدة لما أفادته الجملة الأولى من بعدهم عنها، وقيل إن الأبعاد يكون بعد القرب فيفهم منه أنه أوردها أولا، ولما كان مظنة التأذي بها دفع بقوله سبحانه لا يَسْمَعُونَ فهي مستأنفة لدفع ذلك، فعلى هذا يكون عدم سماع الحسيس قبل الدخول إلى الجنة، ومن قال به قال: إن ذلك حين المرور على الصراط وذلك لأنهم على ما ورد في بعض الآثار يمرون عليها وهي خامدة لا حركة لها حتى أنهم يظنون وهم في الجنة أنهم لم يمروا عليها ، وقيل لا يسمعون ذلك لسرعة مرورهم وهو ظاهر ما أخرجه ابن المنذر. وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية: أولئك أولياء الله تعالى يمرون على الصراط مرا هو أسرع من البرق فلا تصيبهم ولا يسمعون حسيسها ويبقى الكفار جثيا ، لكن جاء في خبر آخر رواه عنه ابن أبي حاتم أيضا وابن جرير أنه قال في لا يَسْمَعُونَ إلخ لا يسمع أهل الجنة حسيس النار إذا نزلوا منازلهم في الجنة ، وقيل إن الابعاد عنها قبل الدخول إلى الجنة ايضا، والمراد بذلك حفظ الله تعالى إياهم عن الوقوع فيها كما يقال أبعد الله تعالى فلانا عن فعل الشر، والأظهر أن كلا الأمرين بعد دخول الجنة وذلك بيان لخلاصهم عن المهالك والمعاطب. وقوله تعالى: وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ بيان بفوزهم بالمطالب بعد ذلك الخلاص، والمراد أنهم دائمون في غاية التنعم، وتقديم الظرف للقصر والاهتمام ورعاية الفواصل. وقوله تعالى: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ بيان لنجاتهم من الإفزاع بالكلية بعد نجاتهم من النار لأنهم إذا لم يحزنهم أكبر الإفزاع لم يحزنهم ما عداه بالضرورة كذا قيل، وليلاحظ ذلك مع ما جاء في الاخبار أن النار تزفر في الموقف زفرة لا يبقى نبي ولا ملك إلا جثا على ركبتيه فإن قلنا: إن ذلك لا ينافي عدم الحزن فلا إشكال وإذا قلنا: إنه ينافي فهو مشكل إلا أن يقال: إن ذلك لقلة زمانه وسرعة الأمن مما يترتب عليه نزل منزلة العدم فتأمل، والفزع كما قال الراغب انقباض ونفار يعتري الإنسان من الشيء المخيف وهو من جنس الجزع ويطلق على الذهاب بسرعة لما يهول. واختلف في وقت هذا الفزع فعن الحسن وابن جبير وابن جريج أنه حين انصراف أهل النار إلى النار. ونقل عن الحسن أنه فسر الفزع الأكبر بنفس هذا الانصراف فيكون الفزع بمعنى الذهاب المتقدم، وعن الضحاك أنه حين وقوع طبق جهنم عليها وغلقها على من فيها، وجاء ذلك في رواية ابن أبي الدنيا عن ابن عباس، وقيل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 93 حين ينادى أهل النار اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ وقيل حين يذبح الموت بين الجنة والنار، وقيل يوم تطوى السماء، وقيل حين النفخة الأخيرة، وأخرج ذلك ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس، والظاهر أن المراد بها النفخة للقيام من القبور لرب العالمين، وقال في قوله تعالى: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ أي تستقبلهم بالرحمة عند قيامهم من قبورهم، وقيل بالسلام عليهم حينئذ قائلين هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ في الدنيا مجيئه وتبشرون بما فيه لكم من المثوبات على الإيمان والطاعة. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال في الآية: تتلقاهم الملائكة الذين كانوا قرناءهم في الدنيا يوم القيامة فيقولون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة، وقيل تتلقاهم عند باب الجنة بالهدايا أو بالسلام، والأظهر أن ذلك عند القيام من القبور وهو كالقرينة على أن عدم الحزن حين النفخة الأخيرة، وظاهر أكثر الجمل يقتضي عدم دخول الملائكة في الموصول السابق بل قوله تعالى: «وتتلقاهم» إلخ نص في ذلك فلعل الإسناد في ذلك عند من أدرج الملائكة عليهم السلام في عموم الموصول لسبب النزول على سبيل التغليب أو يقال: إن استثناءهم من العموم السابق لهذه الآية بطريق دلالة النص كما أن دخولهم فيما قبل كان كذلك. وقرأ أبو جعفر «لا يحزنهم» مضارع أحزن وهي لغة تميم وحزن لغة قريش. يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ منصوب بأذكر، وقيل ظرف للا يحزنهم، وقيل للفزع، والمصدر المعرف وإن كان ضعيفا في العمل لا سيما وقد فصل بينه وبين معموله بأجنبي إلا أن الظرف محل التوسع قاله في الكشف. وقال الخفاجي: إن المصدر الموصوف لا يعمل على الصحيح وإن كان الظرف قد يتوسع فيه، وقيل ظرف لتتلقاهم، وقيل هو بدل من العائد المحذوف من تُوعَدُونَ بدل كل من كل وتوهم أنه بدل اشتمال، وقيل حال مقدرة من ذلك العائد لأن يوم الطي بعد الوعد. وقرأ شيبة بن نصاح وجماعة «يطوي» بالياء والبناء للفاعل وهو الله عز وجل وقرأ أبو جعفر وأخرى بالتاء الفوقية والبناء للمفعول ورفع «السماء» على النيابة، والطي ضد النشر، وقيل (1) الإفناء والإزالة من قولك: اطو عني هذا الحديث، وأنكر ابن القيم إفناء السماء وإعدامها إعداما صرفا وادعى أن النصوص إنما تدل على تبديلها وتغييرها من حال إلى حال، ويبعد القول بالإفناء ظاهر التشبيه في قوله تعالى: كَطَيِّ السِّجِلِّ وهو الصحيفة على ما أخرج ابن جرير وغيره عن مجاهد ونسبه في مجمع البيان إلى ابن عباس وقتادة والكلبي أيضا، وخصه بعضهم بصحيفة العهد، وقيل: هو في الأصل حجر يكتب فيه ثم سمي به كل ما يكتب فيه من قرطاس وغيره، والجار والمجرور في موضع الصفة لمصدر مقدر أي طيا كطي الصحيفة، وقرأ أبو هريرة، وصاحبه أبو زرعة بن عمرو بن جرير «السجل» بضمتين وشد اللام، والأعمش وطلحة وأبو السمال «السّجلّ» بفتح السين، والحسن وعيسى بكسرها والجيم في هاتين القراءتين ساكنة واللام مخففة، وقرأ أبو عمرو: قرأ أهل مكة كالحسن، واللام في قوله تعالى: لِلْكُتُبِ متعلق بمحذوف هو حال من السِّجِلِّ أو صفة له على رأي من يجوز حذف الموصول مع بعض صلته أي كطي السجل كائنا للكتب أو الكائن للكتب فإن الكتب عبارة عن الصحائف وما كتب فيها فسجلها بعض أجزائها وبه يتعلق الطي حقيقة، وقرأ الأعمش «للكتب» بإسكان التاء، وقرأ الأكثر «للكتاب» بالإفراد وهو إما مصدر واللام للتعليل أي كما يطوى الطومار للكتابة أي ليكتب فيه وذلك كناية عن اتخاذه لها ووضعه مسوى مطويا حتى إذا احتيج إلى الكتابة لم يحتج إلى تسويته فلا يرد أن المعهود نشر الطومار للكتابة لا طيه لها، وإما اسم كالإمام فاللام كما ذكر أولا.   (1) وروي عن الحسن اهـ منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 94 وأخرج عبد بن حميد عن عليّ كرم الله تعالى وجهه أن السجل اسم ملك ، وأخرج ذلك ابن أبي حاتم وابن عساكر عن الباقر رضي الله تعالى عنه، وأخرج ابن جرير وغيره عن السدي نحوه إلا أنه قال: إنه موكل بالصحف فإذا مات الإنسان وقع كتابه إليه فطواه ورفعه إلى يوم القيامة ، واللام على هذا قيل متعلقة بطي، وقيل سيف خطيب، وكونها بمعنى على كما ترى. واعترض هذا القول بأنه لا يحسن التشبيه عليه إذ ليس المشبه به أقوى ولا أشهر. وأجيب بأنه أقوى نظرا لما في أذهان العامة من قوة الطاوي وضعف المطوي وصغر حجمه بالنسبة للسماء أي نظرا لما في أذهانهم من مجموع الأمرين فتأمل، وأخرج أبو داود والنسائي وجماعة منهم البيهقي في سننه وصححه عن ابن عباس أن السجل كاتب للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأخرج جماعة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما نحوه، وضعف ذلك بل قيل إنه قول واه جدا لأنه لم يعرف أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم اسمه السجل ولا حسن للتشبيه عليه أيضا، وأخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن عساكر وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الرجل زاد ابن مردويه بلغة الحبشة ونقل ذلك عن الزجاج، وقال بعضهم: يمكن حمل الرواية السابقة عن ابن عباس على هذا والأكثر على ما قيل على تفسير السجل بالصحيفة. واختلف في أنه عربي أو معرب فذهب البصريون إلى أنه عربي، وقال أبو الفضل الرازي الأصح أنه فارسي معرب، هذا ثم إن الآية نص في دثور السماء وهو خلاف ما شاع عن الفلاسفة، نعم ذكر صدر الدين الشيرازي في كتابه الأسفار أن مذهب أساطين الفلاسفة المتقدمين القول بالدثور والقول بخلاف ذلك إنما هو لمتأخريهم لقصور أنظارهم وعدم صفاء ضمائرهم، فمن الأساطين انكسيمائس الملطي قال: إنما ثبات هذا العالم بقدر ما فيه من قليل نور ذلك العالم وأراد به عالم المجردات المحضة وإلا لما ثبت طرفة عين، ويبقى ثباته إلى أن يصفى جزؤه الممتزج جزأها المختلط فإذا صفي الجزءان عند ذلك دثرت أجزاء هذا العالم وفسدت وبقيت مظلمة وبقيت الأنفس الدنسة في هذه الظلمة لا نور لها ولا سرور ولا راحة ولا سكون ولا سلوة. ومنهم فيثاغورس نقل عنه أنه قيل له: لم قلت بإبطال العالم؟ فقال: لأنه يبلغ العلة التي من أجلها كان فإذا بلغها سكنت حركته، ومنهم أفلاطون حكى الشيخ أبو الحسن العامري أنه ذكر في كتابه المعروف بطيماوس أن العالم مكون وأن الباري تعالى قد صرفه من لا نظام إلى نظام وأن جواهره كلها مركبة من المادة والصورة وأن كل مركب معرض للانحلال، نعم إنه قال في أسولوطيقوس أي تدبير البدن. إن العالم أبدي غير مكون دائم البقاء وتعلق بهذا ابرقلس فبين كلاميه تناف، قد وفق بينهما تلميذه أرسطاطاليس بما فيه نظر، ولعل الأوفق أن يقال على مشربهم: أراد بالعالم الأبدي عالم المفارقات المحضة، ومنهم أرسطاطاليس قال في كتاب أثولوجيا إن الأشياء العقلية تلزم الأشياء الحسية والباري سبحانه لا يلزم الأشياء الحسية والعقلية بل هو سبحانه ممسك لجميع الأشياء غير أن الأشياء العقلية هي آنيات حقية لأنها مبتدعة من العلة الأولى بغير وسط وأما الأشياء الحسية فهي آنيات دائرة لأنها رسوم الآنيات الحقية ومثالها وإنما قوامها ودوامها بالكون (1) والتناسل كي تدوم وتبقى تشبيها بالأشياء العقلية الثابتة الدائمة، وقال في كتاب الربوبية: أبدع العقل صورة النفس من غير أن يتحرك تشبيها بالواحد الحق وذلك أن العقل أبدعه الواحد الحق وهو ساكن فكك النفس ابدعها العقل وهو ساكن أيضا غير أن الواحد الحق أبدع هوية العقل وأبدع العقل صورة النفس ولما كانت معلولة من معلول لم تقو أن تفعل فعلها بغير حركة بل فعلته بحركة وأبدعت صنما وإنما سمي صنما   (1) قيل أراد بالكون الوجود التدريجي على نعت الاتصال كما في الفلكيات وبالتناسل التعاقب في الكون على نهج الانفصال كما في العنصريات من الطبائع المنتشرة الشخصيات مثل الحيوان والنبات اهـ منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 95 لأنه فعل داثر غير ثابت ولا باق لأنه كان بحركة والحركة لا تأتي بالشيء الثابت الباقي بل إنما تأتي بالشيء الداثر وإلا لكان فعلها أكرم منها وهو قبيح جدا، وسأله بعض الدهرية إذا كان المبدع لم يزل ولا شيء غيره ثم أحدث العالم فلم أحدثه؟ فقال: لم غير جائزة عليه لأن لم تقتضي علة والعلة محمولة فيما هي علة عليه من معل فوقه وليس بمركب يتحمل ذاته العلل فلم عنه منفية فإنما فعل ما فعل لأنه جواد فقيل يجب أن يكون فاعلا لم يزل لأنه جواد لم يزل فقال: معنى لم يزل لا أول له وفعل فاعل يقتضي أولا واجتماع يكون ما لا أول له وذا أول في القول والذات محض متناقض، فقيل: فهل يبطل هذا العالم؟ قال: نعم فقيل: فإذا أبطله بطل الجود فقال: يبطل ليصوغه الصيغة التي لا تحتمل الفساد لأن هذه الصيغة تحتمل الفساد، ومنهم فرفوريوس واضع ايساغوجي قال المكونات كلها إنما تتكون بتكون الصورة على سبيل التغير وتفسد بخلو الصورة إلى غير ذلك من الفلاسفة وأقوالهم. وذكر جميع ذلك مما يفضي إلى الملل، ومن أراده فليرجع إلى الاسفار وغيره من كتب الصدر، والحق أنه قد وقع في كلام متقدمي الفلاسفة كثيرا مما هو ظاهر في مخالفة مدلول الآية الكريمة ولا يكاد يحتمل التأويل وهو مقتضى أصولهم وما يتراءى منه الموافقة فإنما يتراءى منه الموافقة في الجملة والتزام التوفيق بين ما يقوله المسلمون في أمر العالم بأسره وما يقوله الفلاسفة في ذلك كالتزام التوفيق بين الضب والنون بل كالتزام الجمع بين الحركة والسكون. أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا ما استقل يماني فعليك بما نطق به الكتاب المبين أو صح عن الصادق الأمين صلّى الله عليه وسلّم، وما عليك إذا خالفت الفلاسفة فأغلب ما جاؤوا به جهل وسفه ولعمري لقد ضل بكلامهم كثير من الناس وباض وفرخ في صدورهم الوسواس الخناس، وهو جعجعة بلا طحن وقعقعة كقعقعة شن ولولا الضرورة التي لا أبديها والعلة التي عز مداويها لما أضعت في درسه وتدريسه شرخ شبابي ولما ذكرت شيئا منه خلال سطور كتابي، هذا وأنا أسأل الله تعالى التوفيق للتمسك بحبل الحق الوثيق، ثم إن الظاهر من الأخبار الصحيحة أن العرش لا يطوى كما تطوى السماء فإن كان هو المحدد كما يزعمه الفلاسفة ومن تبع آثارهم فعدم دثوره بخصوصه مما صرح به من الفلاسفة الإسكندر الافروديسي من كبار اصحاب أرسطاطاليس وإن خالفه في بعض المسائل ومن حمل كلامه على خلاف ذلك فقد تعسف وأتى بما لا يسلم له، وظاهر الآية الكريمة أيضا مشعر بعدم طيه للاقتصار فيها على طي السماء. والشائع عدم إطلاقها على العرش، ثم إن الطي لا يختص بسماء دون سماء بل تطوى جميعها لقوله تعالى: وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67] . كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ الظاهر أن الكاف جارة وما مصدرية والمصدر مجرور بها والجار والمجرور صفة مصدر مقدر وأَوَّلَ مفعول بدأنا أي نعيد أول خلق إعادة مثله بدئنا إياه أي في السهولة وعدم التعذر وقيل: أي في كونها إيجادا بعد العدم أو جمعا من الأجزاء المتفرقة، ولا يخفى أن في كون الإعادة إيجادا بعد العدم مطلقا بحثا، نعم قال اللقاني: مذهب الأكثرين أن الله سبحانه يعدم الذوات بالكلية ثم يعيدها وهو قول أهل السنة والمعتزلة القائلين بصحة الفناء على الأجسام بل وقوعه. وقال البدر الزركشي والآمدي: إنه الصحيح. والقول بأن الإعادة عن تفريق محض قول الأقل وحكاه جمع بصيغة التمريض لكن في المواقف وشرحه هل يعدم الله تعالى الأجزاء البدنية ثم يعيدها أو يفرقها ويعيد فيها التآلف؟ الحق أنه لم يثبت في ذلك شيء بلا جزم فيه نفيا ولا إثباتا لعدم الدليل على شيء من الطرفين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 96 وفي الاقتصاد لحجة الإسلام الغزالي فإن قيل هل تعدم الجواهر والاعراض ثم تعادان جميعا أو تعدم الاعراض دون الجواهر وتعاد الأعراض؟ قلنا: كل ذلك ممكن، والحق أنه ليس في الشرع دليل قاطع على تعيين أحد هذه الممكنات. وقال بعضهم: الحق وقوع الأمرين جميعا إعادة ما انعدم بعينه وإعادة ما تفرق بأعراضه، وأنت تعلم أن الأخبار صحت ببقاء عجب الذنب من الإنسان فإعادة الإنسان ليست كبدئه، وكذا روي أن الله تعالى عز وجل حرّم على الأرض أجساد الأنبياء وهو حديث حسن عند ابن العربي ، وقال غيره: صحيح، وجاء نحو ذلك في المؤذنين احتسابا وحديثهم في الطبراني وفي حملة القرآن وحديثهم عند ابن منده، وفيمن لم يعمل خطيئة قط وحديثهم عن المروزي فلا تغفل، وكذا في كون البدء جمعا من الأجزاء المتفرقة إن صح في المركب من العناصر كالإنسان لا يصح في نفس العناصر مثلا لأنها لم تخلق أولا من أجزاء متفرقة بإجماع المسلمين فلعل ما ذكرناه في وجه الشبه أبعد عن القال والقيل. واعترض جعل أَوَّلَ مفعول بدأنا بأن تعلق البداءة بأول الشيء المشروع فيه ركيك لا يقال بدأت أول كذا وإنما يقال بدأت كذا وذلك لأن بداية الشيء هي المشروع فيه والمشروع يلاقي الأول لا محالة فيكون ذكره تكرارا. ونظر فيه بأن المراد بدأنا ما كان أولا سابقا في الوجود وليس المراد بالأول أول الأجزاء حتى يتوهم ما ذكر، وقيل: أَوَّلَ خَلْقٍ مفعول نعيد الذي يفسره نُعِيدُهُ والكاف مكفوفة بما أي نعيد أول خلق نعيده وقد تم الكلام بذلك ويكون كَما بَدَأْنا جملة منقطعة عن ذلك على معنى تحقق ذلك مثل تحققه، وليس المعنى على إعادة مثل البدء، ومحل الكاف في مثل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف جيء به تأكيدا، والمقام يقتضيه كما يشعر به التذنيب فلا يقال: إنه لا داعي إلى ارتكاب خلاف الظاهر، وتنكير خَلْقٍ لإرادة التفصيل وهو قائم مقام الجمع في إفادة تناول الجميع فكأنه قيل نعيد المخلوقين الأولين. وجوز أن تنصب الكاف بفعل مضمر يفسره نُعِيدُهُ وما موصولة وأَوَّلَ ظرف لبدأنا لأن الموصول يستدعي عائدا فإذا قدر هنا يكون مفعولا، ولأول قابلية النصب على الظرفية فينصب عليها، ويجوز أن يكون في موضع الحال من ذلك العائد، وحاصل المعنى نعيد مثل الذي بدأناه في أول خلق أو كائنا أول خلق، والخلق على الأول مصدر وعلى الثاني بمعنى المخلوق، وجوز كون ما موصوفة وباقي الكلام بحاله. وتعقب أبو حيان نصب الكاف بأنه قول باسميتها وليس مذهب الجمهور وإنما ذهب إليه الأخفش، ومذهب البصريين سواه أن كونها اسما مخصوص بالشعر، وأورد نحوه على القول بأن محلها الرفع في الوجه السابق، وإذا قيل بأن للمكفوفة متعلقا كما اختاره بعضهم خلافا للرضي ومن معه فليكن متعلقها خبر مبتدأ محذوف هناك، ورجح كون المراد نعيد مثل الذي بدأناه في أول خلق بما أخرجه ابن جرير عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: دخل عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعندي عجوز من بني عامر فقال: من هذه العجوز يا عائشة؟ فقلت: إحدى خالاتي فقالت: ادع الله تعالى أن يدخلني الجنة فقال عليه الصلاة والسلام: إن الجنة لا يدخلها العجز فأخذ العجوز ما أخذها فقال صلّى الله عليه وسلّم: إن الله تعالى ينشئهن خلقا غير خلقهن ثم قال: تحشرون حفاة عراة غلفا فقالت: حاش لله تعالى من ذلك فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: بلى إن الله تعالى قال: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ومثل هذا المعنى حاصل على ما جوزه ابن الحاجب من كون كَما بَدَأْنا في موضع الحال من ضمير نُعِيدُهُ أي نعيد أول خلق مماثلا للذي بدأناه، ولا تغفل عما يقتضيه التشبيه من مغايرة الطرفين، وأيا ما كان فالمراد الإخبار بالبعث وليست ما في شيء من الأوجه خاصة بالسماء إذ ليس المعنى عليه ولا اللفظ يساعده. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 97 وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن معنى الآية نهلك كل شيء كما كان أول مرة ويحتاج ذلك إلى تدبر فتدبر. وَعْداً مصدر منصوب بفعله المحذوف تأكيدا له، والجملة مؤكدة لما قبلها أو منصوب بنعيد لأنه عدة بالإعادة وإلى هذا ذهب الزجاج، واستجود الأول الطبرسي بأن القراء يقفون على نُعِيدُهُ عَلَيْنا في موضع الصفة لوعدا أي وعدا لازما علينا، والمراد لزم إنجازه من غير حاجة إلى تكلف الاستخدام إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ ذلك بالفعل لا محالة، والأفعال المستقبلة التي علم الله تعالى وقوعها كالماضية في التحقق ولذا عبر عن المستقبل بالماضي في مواضع كثيرة من الكتاب العزيز أو قادرين على أن نغفل ذلك واختاره الزمخشري، وقيل عليه: إنه خلاف الظاهر وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ الظاهر أنه زبور داود عليه السلام وروي ذلك عن الشعبي. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه الكتب، والذكر في قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ التوراة. وروي تفسيره بذلك عن الضحاك أيضا. وقال في الزبور: الكتب من بعد التوراة. وأخرج عن ابن جبير أن الذكر التوراة والزبور القرآن. وأخرج عن ابن زيد أن الزبور الكتب التي أنزلت على الأنبياء عليهم السلام والذكر أم الكتاب الذي يكتب فيه الأشياء قبل ذلك وهو اللوح المحفوظ كما في بعض الآثار، واختار تفسيره بذلك الزجاج وإطلاق الذكر عليه مجاز. وقد وقع في حديث البخاري عنه صلّى الله عليه وسلّم «كان الله تعالى ولم يكن قبله شيء وكان عرشه على الماء ثم خلق الله السماوات والأرض وكتب في الذكر كل شيء» وقيل: الذكر العلم وهو المراد بأم الكتاب، وأصل الزبور كل كتاب غليظ الكتابة من زبرت الكتاب أزبر بفتح الموحدة وضمها كما في المحكم إذا كتبته كتابة غليظة وخص في المشهور بالكتاب المنزل على داود عليه السلام، وقال بعضهم: هو اسم للكتاب المقصور على الحكمة العقلية دون الأحكام الشرعية ولهذا يقال للمنزل على داود عليه السلام إذ لا يتضمن شيئا من الأحكام الشرعية. والظاهر أنه اسم عربي بمعنى المزبور، ولذا جوز تعلق مِنْ بَعْدِ به كما جوز تعلقه بكتبنا، وقال حمزة: هو اسم سرياني، وأيا ما كان فإذا أريد منه الكتب كان اللام فيه للجنس أي كتبنا في جنس الزبور. أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما عن ابن عباس أن المراد بالأرض أرض الجنة قال الإمام: ويؤيده قوله تعالى: وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ [الزمر: 74] وإنها الأرض التي يختص بها الصالحون لأنها لهم خلقت، وغيرهم إذا حصلوا فيها فعلى وجه التبع وأن الآية ذكرت عقيب ذكر الإعادة وليس بعد الإعادة أرض يستقر بها الصالحون ويمتن بها عليهم سوى أرض الجنة، وروي هذا القول عن مجاهد وابن جبير وعكرمة والسدي وأبي العالية، وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد بها ارض الدنيا يرثها المؤمنون ويستولون عليها وهو قول الكلبي وأيد بقوله تعالى: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النور: 55] . وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي عن ثوبان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تعالى زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وأن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها» وهذا وعد منه تعالى بإظهار الدين وإعزاز أهله واستيلائهم على أكثر المعمورة التي يكثر تردد المسافرين إليها وإلا فمن الأرض ما لم يطأها المؤمنون كالأرض الشهيرة بالدنيا الجديدة وبالهند الغربي، وإن قلنا بأن جميع ذلك يكون في حوزة المؤمنين أيام المهدي رضي الله تعالى عنه ونزول عيسى عليه السلام فلا حاجة إلى ما ذكر، وقيل: المراد بها الأرض المقدسة، وقيل: الشام ولعل بقاء الكفار وحدهم في الأرض جميعها في آخر الزمان كما صحت به الأخبار لا يضر في هذه الوراثة لما أن بين استقلالهم في الأرض الجزء: 9 ¦ الصفحة: 98 حينئذ وقيام الساعة زمنا يسيرا لا يعتد به وقد عد ذلك من المبادئ القريبة ليوم القيامة، والأولى أن تفسر الأرض بأرض الجنة كما ذهب إليه الأكثرون وهو أوفق بالمقام. ومن الغرائب قصة تفاؤل السلطان سليم بهذه الآية حين أضمر محاربته للغوري وبشارة ابن كمال له أخذا مما رمزت إليه الآية بملكة مصر في سنة كذا ووقوع الأمر كما بشر وهي قصة شهيرة وذلك من الأمور الاتفاقية ومثله لا يعول عليه إِنَّ فِي هذا أي فيما ذكر في هذه السورة الكريمة من الأخبار والمواعظ البالغة والوعد والوعيد والبراهين القاطعة الدالة على التوحيد وصحة النبوة، وقيل: الإشارة إلى القرآن كله لَبَلاغاً أي كفاية أو سبب بلوغ إلى البغية أو نفس البلوغ إليها على سبيل المبالغة لِقَوْمٍ عابِدِينَ أي لقوم همهم العبادة دون العادة، وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنهم الذين يصلون الصلوات الخمس بالجماعة. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ ذلك فقال: هي الصلوات الخمس في المسجد الحرام جماعة ، وضمير «هي» للعبادة المفهومة من «عابدين» وقال أبو هريرة. ومحمد بن كعب ومجاهد: هي الصلوات الخمس ولم يقيدوا بشيء، وعن كعب الأحبار تفسيرها بصيام شهر رمضان وصلاة الخمس والظاهر العموم وأن ما ذكر من باب الاقتصار على بعض الأفراد لنكتة وَما أَرْسَلْناكَ بما ذكر وبأمثاله من الشرائع والأحكام وغير ذلك مما هو مناط لسعادة الدارين إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ استثناء من أعم العلل أي وما أرسلناك بما ذكر لعلة من العلل إلا لترحم العالمين بإرسالك. أو من أعم الأحوال أي وما أرسلناك في حال من الأحوال إلا حال كونك رحمة أو ذا رحمة أو راحما لهم ببيان ما أرسلت به، والظاهر أن المراد بالعالمين ما يشمل الكفار، ووجه ذلك عليه أنه عليه الصلاة والسلام أرسل بما هو سبب لسعادة الدارين، ومصلحة النشأتين إلا أن الكافر فوت على نفسه الانتفاع بذلك وأعرض لفساد استعداده عما هنالك، فلا يضر ذلك في كونه صلى الله تعالى عليه وسلّم أرسل رحمة بالنسبة إليه أيضا كما لا يضر في كون العين العذبة مثلا نافعة عدم انتفاع الكسلان بها لكسله وهذا ظاهر خلافا لمن ناقش فيه، وهل يراد بالعالمين ما يشمل الملائكة عليهم السلام أيضا فيه خلاف مبني على الخلاف في عموم بعثة صلّى الله عليه وسلّم لهم، فإذا قلنا بالعموم كما رجحه من الشافعية البارزي. وتقي الدين السبكي والجلال المحلي في خصائصه، ومن الحنابلة ابن تيمية وابن حامد وابن مفلح في كتاب الفروع، ومن المالكية عبد الحق قلنا بشمول العالمين لهم هنا. وكونه صلّى الله عليه وسلّم أرسل رحمة بالنسبة إليهم لأنه جاء عليه الصلاة والسلام أيضا بما فيه تكليفهم من الأوامر والنواهي وإن لم نعلم ما هنا، ولا شك أن في امتثال المكلف ما كلف به نفعا له وسعادة، وإن قلنا بعدم العموم كما جزم به الحليمي والبيهقي والجلال المحلي في شرح جمع الجوامع وزين الدين العراقي في نكتة على ابن الصلاح من الشافعية ومحمود بن حمزة في كتابه العجائب والغرائب من الحنفية بل نقل البرهان النسفي والفخر الرازي في تفسيريهما الإجماع عليه وإن لم يسلم قلنا بعدم شموله لهم هنا وإرادة من عداهم منه، وقيل: هم داخلون هنا في العموم وإن لم نقل ببعثته صلّى الله عليه وسلّم إليهم لأنهم وقفوا بواسطة إرساله عليه الصلاة والسلام على علوم جمة وأسرار عظيمة مما أودع في كتابه الذي فيه بناء ما كان وما يكون عبارة وإشارة وأي سعادة أعظم من التحلي بزينة العلم؟ وكونهم عليهم السلام لا يجهلون شيئا مما لم يذهب إليه أحد من المسلمين، وقيل: لأنهم أظهر من فضلهم على لسانه الشريف ما أظهر. وقال بعضهم: إن الرحمة في حق الكفار أمنهم ببعثته صلّى الله عليه وسلّم من الخسف والمسخ والقذف والاستئصال، وأخرج ذلك الطبراني والبيهقي وجماعة عن ابن عباس، وذكر أنها في حق الملائكة عليهم السلام الأمن من نحو ما ابتلي به هاروت وماروت، وأيد بما ذكره صاحب الشفاء أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لجبريل عليه السلام: هل أصابك من هذه الرحمة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 99 شيء؟ قال: نعم كنت أخشى العاقبة فأمنت لثناء الله تعالى عليّ في القرآن بقوله سبحانه: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [التكوير: 20] وإذا صح هذا الحديث لزم القول بشمول العالمين للملائكة عليهم السلام إلا أن الجلال السيوطي ذكر في تزيين الأرائك أنه لم يوقف له على إسناد، وقيل المراد بالعالمين جميع الخلق فإن العالم ما سوى الله تعالى وصفاته جل شأنه، وجمع جمع العقلاء تغليبا للأشرف على غيره. وكونه صلّى الله عليه وسلّم رحمة للجميع باعتبار أنه عليه الصلاة والسلام واسطة الفيض الإلهي على الممكنات على حسب القوابل، ولذا كان نوره صلّى الله عليه وسلّم أول المخلوقات، ففي الخبر أول ما خلق الله تعالى نور نبيك يا جابر ، وجاء «الله تعالى المعطي وأنا القاسم» وللصوفية قدست أسرارهم في هذا الفصل كلام فوق ذلك، وفي مفتاح السعادة لابن القيم أنه لولا النبوات لم يكن في العالم علم نافع البتة ولا عمل صالح ولا صلاح في معيشة ولا قوام لمملكة ولكان الناس بمنزلة البهائم والسباع العادية والكلاب الضارية التي يعدو بعضها على بعض، وكل خير في العالم فمن آثار النبوة وكل شر وقع في العالم أو سيقع فبسبب خفاء آثار النبوة ودروسها فالعالم جسد روحه النبوة ولا قيام للجسد بدون روحه، ولهذا إذا انكسفت شمس النبوة من العالم ولم يبق في الأرض شيء من آثارها البتة انشقت سماؤه وانتشرت كواكبه وكورت شمسه وخسف قمره ونسفت جباله وزلزلت أرضه وأهلك من عليها فلا قيام للعالم إلا بآثار النبوة اهـ وإذا سلم هذا علم منه بواسطة كونه صلّى الله عليه وسلّم أكمل النبيين وما جاء به أجل مما جاؤوا به عليهم السلام وإن لم يكن في الأصول اختلاف وجه كونه عليه الصلاة والسلام أرسل رحمة للعالمين أيضا لكن لا يخلو ذلك عن بحث. وزعم بعضهم أن العالمين هنا خاص بالمؤمنين وليس بشيء، ولواحد من الفضلاء كلام طويل في هذه الآية الكريمة نقض فيه وأبرم ومنع وسلم ولا أرى منشأ سوى قلة الاطلاع على الحق الحقيق بالاتباع، وأنت متى أخذت العناية بيدك بعد الاطلاع عليه سهل عليك رده ولم يهولك هزله وجده، والذي أختاره أنه صلّى الله عليه وسلّم إنما بعث رحمة لكل فرد فرد من العالمين ملائكتهم وإنسهم وجنهم ولا فرق بين المؤمن والكافر من الانس والجن في ذلك، والرحمة متفاوتة ولبعض من العالمين المعلى والرقيب منها، وما يرى أنه ليس من الرحمة فهو إما منها في النظر الدقيق أو ليس مقصودا بالقصد الأولى كسائر الشرور الواقعة في العالم بناء على ما حقق في محله أن الشر ليس داخلا في قضاء الله تعالى بالذات، ومما هو ظاهر في عموم العالمين الكفار ما أخرج مسلم عن أبي هريرة قال: قيل يا رسول الله ادع على المشركين قال: «إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة» ولعله يؤيد نصب رَحْمَةً في الآية على الحال كقوله صلّى الله عليه وسلّم الذي أخرجه البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة «إنما أنا رحمة مهداة» ولا يشين احتمال التعليل ما ذهب إليه الأشاعرة من عدم تعليل أفعاله عز وجل فإن الماتريدية وكذا الحنابلة ذهبوا إلى خلافه وردوه بما لا مزيد عليه، على أنه لا مانع من أن يقال فيه كما قيل في سائر ما ظاهره التعليل ووجود المانع هنا توهم محض فتدبر ثم لا يخفى أن تعلق لِلْعالَمِينَ برحمة هو الظاهر. وقال ابن عطية: يحتمل أن يتعلق بأرسلناك، وفي البحر لا يجوز على المشهور أن يتعلق الجار بعد إلا بالفعل قبلها إلا إن كان العامل مفرغا له نحو ما مررت إلا بزيد. قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ذهب جماعة إلى أن في الآية حصرين بناء على أن أنما المفتوحة تفيد ذلك كالمكسورة، والأول لقصر الصفة على الموصوف والثاني لقصر الموصوف على الصفة فالثاني قصر فيه الله تعالى على الوحدانية والأول قصر فيه الوحي على الوحدانية، والمعنى ما يوحى إليّ إلا اختصاص الله تعالى بالوحدانية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 100 واعترض بأنه كيف يقصر الوحي على الوحدانية وقد أوحي إليه صلّى الله عليه وسلّم أمور كثيرة غير ذلك كالتكاليف والقصص، وأجيب بوجهين: الأول أن معنى قصره عليه أنه الأصل الأصيل وما عداه راجع إليه أو غير منظور إليه في جنبه فهو قصر ادعائي، والثاني أنه قصر قلب بالنسبة إلى الشرك الصادر من الكفار، وكذا الكلام في القصر الثاني. وأنكر أبو حيان إفادة أنما المفتوحة الحصر لأنها مؤولة بمصدر واسم مفرد وليست كالمكسورة المؤولة بما وإلا وقال: لا نعلم خلافا في عدم إفادتها ذلك والخلاف إنما هو في إفادة إنما المكسورة إياه. وأنت تعلم أن الزمخشري وأكثر المفسرين ذهبوا إلى إفادتها ذلك، والحق مع الجماعة ويؤيده هنا أنها بمعنى المكسورة لوقوعها بعد الوحي الذي هو في معنى القول ولأنها مقولة قُلْ في الحقيقة ولا شك في إفادتها التأكيد فإذا اقتضى المقام القصر كما فيما نحن فيه انضم إلى التأكيد لكنه ليس بالوضع كما في المكسورة فقد جاء ما لا يحتمله كقوله تعالى: وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ [ص: 24] ولذا فسره الزمخشري بقوله ابتليناه لا محالة مع تصريحه بالحصر هنا، نعم في توجيه القصر هنا بما سمعت من كونه قصر الله تعالى على الوحدانية ما سمعته في آخر سورة الكهف فتذكر. وجوز في. ما. إِنَّما يُوحى أن تكون موصولة وهو خلاف الظاهر. وتجويزه فيما بعد بعيد جدا موجب لتكلف لا يخفى فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي منقادون لما يوحى إليّ من التوحيد، وهو استفهام يتضمن الأمر بالانقياد، وبعضهم فسر الإسلام بلازمه وهو إخلاص العبادة له تعالى وما أشرنا إليه أولى. والفاء للدلالة على أن ما قبلها موجب لما بعدها قالوا: فيه دلالة على أن صفة الوحدانية يصح أن يكون طريقها السمع بخلاف إثبات الواجب فإن طريقه العقل لئلا يلزم الدور. قال في شرح المقاصد: إن بعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وصدقهم لا يتوقف على الوحدانية فيجوز التمسك بالأدلة السمعية كإجماع الأنبياء عليهم السلام على الدعوة إلى التوحيد ونفي الشريك وكالنصوص القطعية من كتاب الله تعالى على ذلك، وما قيل إن التعدد يستلزم الإمكان لما عرفت من أدلة التوحيد وما لم تعرف أن الله تعالى واجب الوجود خارج عن جميع الممكنات لم يتأت إثبات البعثة والرسالة ليس بشيء لأن غاية استلزام الوجوب الوحدة لا استلزام معرفته معرفتها فضلا عن التوقف، وسبب الغلط عدم التفرقة بين ثبوت الشيء والعلم بثبوته انتهى. وتفريع الاستفهام هنا صريح في ثبوت الوحدانية بما ذكر، وقول صاحب الكشف: إن الآية لا تصلح دليلا لذلك لأنه إنما يوحى إليه صلّى الله عليه وسلّم ذلك مبرهنا لا على قانون الخطابة فلعل نزولها كان مصحوبا بالبرهان العقلي ليس بشيء لظهور أن التفريع على نفس هذا الموحى، وكون نزوله مصحوبا بالبرهان العقلي والتفريع باعتباره غير ظاهر فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الإسلام ولم يلتفتوا إلى ما يوجبه فَقُلْ لهم آذَنْتُكُمْ أي أعلمتكم ما أمرت به أو حربي لكم، والإيذان إفعال من الإذن وأصله العلم بالإجازة في شيء وترخيصه ثم تجوز به عن مطلق العلم وصيغ منه الأفعال، وكثيرا ما يتضمن معنى التحذير، والإنذار وهو يتعدى لمفعولين الثاني منهما مقدر كما أشير إليه. وقوله تعالى: عَلى سَواءٍ في موضع الحال من المفعول الأول أي كائنين على سواء في الاعلام بذلك لم أخص أحدا منكم دون أحد. وجوز أن يكون في موضع الحال من الفاعل والمفعول معا أي مستويا أنا وأنتم في المعاداة أو في العلم بما أعلمتكم به من وحدانية الله تعالى لقيام الأدلة عليها. وقيل ما أعلمهم صلّى الله عليه وسلّم به يجوز أن يكون ذلك وأن يكون وقوع الحرب في البين واستوائهم في العلم بذلك جاء من إعلامهم به وهم يعلمون أنه عليه الصلاة والسلام الصادق الأمين وإن كانوا يجحدون بعض ما يخبر به عنادا فتدبر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 101 وجوز أن يكون الجار والمجرور في موضع الصفة لمصدر مقدر أي إيذانا على سواء. وأن يكون في موضع الخبر لأن مقدرة أي أعلمتكم أني على سواء أي عدل واستقامة رأي بالبرهان النير وهذا خلاف المتبادر جدا. وفي الكشاف أن قوله تعالى: آذَنْتُكُمْ إلخ استعارة تمثيلية شبه بمن بينه وبين أعدائه هدنة فأحس بغدرهم فنبذ إليهم العهد وشهر النبذ وإشاعة وآذانهم جميعا بذلك وهو من الحسن بمكان وَإِنْ أَدْرِي أي ما أدري أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ من غلبة المسلمين عليكم وظهور الدين أو الحشر مع كونه آتيا لا محالة، والجملة في موضع نصب بأدري. ولم يجىء التركيب أقريب ما توعدون أم بعيد لرعاية الفواصل. إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ أي ما تجهرون به من الطعن في الإسلام وتكذيب الآيات التي من جملتها ما نطق بمجيء الموعود وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ من الاحن والأحقاد للمسلمين فيجازيكم عليه نقيرا وقطميرا وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ أي ما أدري لعل تأخير جزائكم (1) استدراج لكم وزيادة في افتنانكم أو امتحان لكم لينظر كيف تعملون. وجملة لَعَلَّهُ إلخ في موضع المفعول على قياس ما تقدم. والكوفيون يجرون لعل مجرى هل في كونها معلقة. قال أبو حيان: ولا أعلم أحدا ذهب إلى أن لعل من أدوات التعليق وإن كان ذلك ظاهرا فيها. وعن ابن عباس في رواية أنه قرأ «أدري» بفتح الياء في الموضعين تشبيها لها بياء الإضافة لفظا وإن كانت لام الفعل ولا تفتح إلا بعامل. وأنكر ابن مجاهد فتح هذه الياء. وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ أي وتمتيع لكم وتأخير إلى أجل مقدر تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم البالغة ليكون ذلك حجة عليكم. وقيل المراد بالحين يوم بدر. وقيل يوم القيامة قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ حكاية لدعائه صلّى الله عليه وسلّم. وقرأ الأكثر «قل» على صيغة الأمر. والحكم القضاء. والحق العدل أي رب اقض بيننا وبين أهل مكة بالعدل المقتضي لتعجيل العذاب والتشديد عليهم فهو دعاء بالتعجيل والتشديد وإلا فكل قضائه تعالى عدل وحق. وقد استجيب ذلك حيث عذبوا ببدر أي تعذيب. وقرأ أبو جعفر «ربّ» بالضم على أنه منادى مفرد كما قال صاحب اللوامح، وتعقبه بأن حذف حرف النداء من اسم الجنس شاذ بابه الشعر. وقال أبو حيان: إنه ليس بمنادى مفرد بل هو منادى مضاف إلى الياء حذف المضاف إليه وبني على الضم كقبل وبعد وذلك لغة حكاها سيبويه في المضاف إلى ياء المتكلم حال ندائه ولا شذوذ فيه. وقرأ ابن عباس وعكرمة والجحدري وابن محيصن «ربّي» بياء ساكنة «أحكم» على صيغة التفضيل أي أنفذ أو أعدل حكما أو أعظم حكمة. فربي أحكم مبتدأ وخبر. وقرأت فرقة «أحكم» فعلا ماضيا وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ مبتدأ وخبر أي كثير الرحمة على عباده. وقوله سبحانه: الْمُسْتَعانُ أي المطلوب منه العون خبر آخر للمبتدأ. وجوز كونه صفة للرحمن بناء على إجرائه مجرى العلم. وإضافة الرب فيما سبق إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم خاصة لما أن الدعاء من الوظائف الخاصة به عليه الصلاة والسلام كما أن إضافته هاهنا إلى ضمير الجمع المنتظم للمؤمنين أيضا لما أن الاستعانة من الوظائف العامة لهم. عَلى ما تَصِفُونَ من الحال فإنهم كانوا يقولون: إن الشركة تكون لهم وإن راية الإسلام تخفق ثم تسكن   (1) فالضمير لما علم من الكلام اهـ منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 102 وإن المتوعد به لو كان حقا لنزل بهم إلى غير ذلك مما لا خير فيه فاستجاب الله عز وجل دعوة رسوله صلّى الله عليه وسلّم فخيب آمالهم وغير أحوالهم ونصر أولياءه عليهم فأصابهم يوم بدر ما أصابهم، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله. وروي أن النبي عليه الصلاة والسلام قرأ على أبيّ رضي الله تعالى عنه «يصفون» بياء الغيبة ورويت عن ابن عامر وعاصم. هذا وفي جعل خاتم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وما يتعلق به خاتمة لسورة الأنبياء طيب كما قال الطيبي يتضوع منه مسك الختام. ومن باب الإشارة في الآيات وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ قيل ذلك الرشد إيثار الحق جل شأنه على ما سواه سبحانه، وسئل الجنيد متى أتاه ذلك؟ فقال: حين لا متى قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ فيه إشارة إلى أن طلب المحتاج من المحتاج سفه في رأيه وضلة في عقله اهـ. وقال حمدون القصار: استعانة الخلق بالخلق كاستعانة المسجون بالمسجون قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ قال ابن عطاء: كان ذلك لسلامة قلب ابراهيم عليه السلام وخلوه من الالتفات إلى الأسباب وصحة توكله على الله تعالى، ولذا قال عليه السلام حين قال له جبريل عليه السلام: ألك حاجة؟ أما إليك فلا فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ فيه إشارة إلى أن الفضل بيد الله تعالى يؤتيه من يشاء ولا تعلق له بالصغر والكبر فكم من صغير أفضل من كبير بكثير وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً قيل معرفة بأحكام الربوبية وَعِلْماً معرفة بأحكام العبودية وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ قيل كان عليه السلام يخلو في الكهوف لذكره تعالى وتسبيحه فيشاركه في ذلك الجبال ويسبحن معه، وذكر بعضهم أن الجبال لكونها خالية عن صنع الخلق حالية بأنوار قدره الحق يحب العاشقون الخلوة فيها، ولذا تحنث صلّى الله عليه وسلّم في غار حراء. واختار كثير من الصالحين الانقطاع للعبادة فيها وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ذكر أنه عليه السلام قال ذلك حين قصدت دودة قلبه ودودة لسانه فخاف أن يشغل موضع فكره وموضع ذكره، وقال جعفر: كان ذلك منه عليه السلام استدعاء للجواب من الحق سبحانه ليسكن إليه ولم يكن شكوى وكيف يشكو المحب حبيبه وكل ما فعل المحبوب محبوب وقد حفظ عليه السلام آداب الخطاب وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ قيل إن ذلك رشحة من دن خمر الدلال، وذكروا أن مقام الدل دون مقام العبودية المحضة لعدم فناء الإرادة فيه ولذا نادى عليه السلام لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ أي حيث اختلج في سري أن أريد غيره ما أردت وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ قيل إنه عليه السلام أراد ولدا يصلح لأن يكون محلا لإفشاء الأسرار الإلهية إليه فإن العارف متى كان فردا غير واجد من يفشي إليه السر ضاق ذرعه وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً قيل أي رغبة فينا ورهبة عما سوانا أو رغبة في لقائنا ورهبة من الاحتجاب عنا وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ. قال أبو يزيد: الخشوع خمود القلب عن الدعاوى، وقيل الفناء تحت أذيال العظمة ورداء الكبرياء وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ أكثر الصوفية قدست أسرارهم على أن المراد من العالمين جميع الخلق وهو صلّى الله عليه وسلّم رحمة لكل منهم إلا أن الحظوظ متفاوتة ويشترك الجميع في أنه عليه الصلاة والسلام سبب لوجودهم بل قالوا: إن العالم كله مخلوق من نوره صلّى الله عليه وسلّم، وقد صرح بذلك الشيخ عبد الغني النابلسي قدس سره في قوله وقد تقدم غير مرة: طه النبي تكونت من نوره ... كل الخليقة ثم لو ترك القطا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 103 وأشار بقوله لو ترك القطا إلى أن الجميع من نوره عليه الصلاة والسلام وجه الانقسام إلى المؤمن والكافر بعد تكونه فتأمل، هذا ونسأل الله تعالى أن يجعل حظنا من رحمته الحظ الوافر وأن ييسر لنا أمور الدنيا والآخرة بلطفه المتواتر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 104 سورة الحج ّ أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير، رضي الله تعالى عنهم أنها نزلت بالمدينة وهو قول الضحاك وقيل كلها مكية، وأخرج أبو جعفر النحاس عن مجاهد عن ابن عباس أنها مكية سوى ثلاث آيات هذانِ خَصْمانِ [الحج: 19] إلى تمام الآيات الثلاث فإنها نزلت بالمدينة، وفي رواية عن ابن عباس إلا أربع آيات هذانِ خَصْمانِ إلى قوله تعالى: عَذابَ الْحَرِيقِ [الحج: 22] . وأخرج ابن المنذر عن قتادة أنها مدنية غير أربع آيات وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ- إلى- عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ [الحج: 52. 55] فإنها مكيات، والأصح القول بأنها مختلطة فيها مدني ومكي وإن اختلف في التعيين وهو قول الجمهور. وعدة آياتها ثمان وتسعون في الكوفي وسبع وتسعون في المكي وخمس وتسعون في البصري وأربع وتسعون في الشامي. ووجه مناسبتها للسورة التي قبلها ظاهر، وجاء في فضلها ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه قال: قلت يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين؟ قال: نعم فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما. والروايات في أن فيها سجدتين متعددة مذكورة في الدر المنثور، نعم أخرج ابن أبي شيبة من طريق العريان المجاشعي عن ابن عباس قال: في الحج سجدة واحدة وهي الأولى كما جاء في رواية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 105 يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ خطاب يعم حكمه المكلفين عند النزول ومن سينتظم في سلكهم بعد من الموجودين القاصرين عن رتبة التكليف والحادثين بعد ذلك إلى يوم القيامة لكن لا بطريق الحقيقة عندنا بل بطريق التغليب أو تعميم الحكم بدليل خارجي فإن خطاب المشافهة لا يتناول من لم يكلف بعد وهو خاص بالمكلفين الموجودين عند النزول خلافا للحنابلة وطائفة من السلفيين والفقهاء حيث ذهبوا إلى تناوله الجميع حقيقة، ولا خلاف في دخول الإناث كما قال الآمدي في نحو الناس مما يدل على الجمع ولم يظهر فيه علامة تذكير ولا تأنيث وإنما الخلاف في دخولهن في نحو ضمير اتَّقُوا والمسلمين فذهبت الشافعية والأشاعرة والجمع الكثير من الحنفية والمعتزلة إلى نفيه، وذهبت الحنابلة وابن داود وشذوذ من الناس إلى إثباته، والدخول هنا عندنا بطريق التغليب. وزعم بعضهم أن الخطاب خاص بأهل مكة وليس بذاك، والمأمور به مطلق التقوى الذي هو التجنب عن كل ما يؤثم من فعل وترك ويندرج فيه الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر حسبما ورد به الشرع اندراجا أوليا لكن على وجه يعم الإيجاد والدوام، والمناسب لتخصيص الخطاب بأهل مكة أن يراد بالتقوى المرتبة الأولى منها وهي التوقي عن الشرك، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لتأييد الأمر وتأكيد إيجاب الامتثال به ترهيبا وترغيبا أي احذروا عقوبة مالك أمركم ومربيكم، وقوله تعالى: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ تعليل لموجب الأمر بذكر أمر هائل فإن ملاحظة عظم ذلك وهوله وفظاعة ما هو من مبادئه ومقدماته من الأحوال والأهوال التي لا ملجأ منها سوى التدرع بلباس التقوى مما يوجب مزيد الاعتناء بملابسته وملازمته لا محالة. والزلزلة التحريك الشديد والإزعاج العنيف بطريق التكرير بحيث يزيل الأشياء من مقارها ويخرجها عن مركزها، وإضافتها إلى الساعة إما من إضافة المصدر إلى فاعله لكن على سبيل المجاز في النسبة كما قيل في قوله تعالى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [سبأ: 33] لأن المحرك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 106 حقيقة هو الله تعالى والمفعول الأرض أو الناس أو من إضافته إلى المفعول لكن على إجرائه مجرى المفعول به اتساعا كما في قوله: يا سارق الليلة أهل الدار وجوز أن تكون الإضافة على معنى في وقد أثبتها بعضهم وقال بها في الآية السابقة، وهي عند بعض المذكورة في قوله تعالى: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها [الزلزلة: 1] وتكون على ما قيل عند النفخة الثانية وقيام الساعة بل روي عن ابن عباس أن زلزلة الساعة قيامها. وأخرج أحمد وسعيد بن منصور وعبد بن حميد والنسائي والترمذي والحاكم وصححاه عن عمران بن حصين قال: لما نزلت يا أَيُّهَا النَّاسُ- إلى- وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ كان صلّى الله عليه وسلّم في سفر (1) فقال: أتدرون أي يوم ذلك؟ قالوا: الله تعالى ورسوله أعلم. قال: ذلك يوم يقول الله تعالى لآدم عليه السلام ابعث بعث النار قال: يا رب وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار وواحدا إلى الجنة فأنشأ المسلمون يبكون فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قاربوا وسددوا وأبشروا فإنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية فتؤخذ العدة من الجاهلية فإن تمت وإلا كملت من المنافقين وما مثلكم في الأمم إلا كمثل الرقمة في ذراع الدابة أو كالشامة في جنب البعير ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبروا ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة فكبروا ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبروا قال: ولا أدري قال الثلثين أم لا، وحديث البعث مذكور في الصحيحين وغيرهما لكن بلفظ آخر وفيه كالمذكور ما يؤيد كون هذه الزلزلة في يوم القيامة وهو المروي عن الحسن. وأخرج ابن المنذر وغيره عن علقمة والشعبي وعبيد بن عمير أنها تكون قبل طلوع الشمس من مغربها، وإضافتها إلى الساعة على هذا لكونها من أماراتها، وقد وردت آثار كثيرة في حدوث زلزلة عظيمة قبل قيام الساعة هي من أشراطها إلا أن في كون تلك الزلزلة هي المراد هنا نظرا إذ لا يناسب ذلك كون الجملة تعليلا لموجب أمر جميع الناس بالتقوى، ثم إنها على هذا القول على معناها الحقيقي وهو حركة الأرض العنيفة، وتحدث هذه الحركة بتحريك ملك بناء على ما روي أن في الأرض عروقا تنتهي إلى جبل قاف وهي بيد ملك هناك فإذا أراد الله عز وجل أمرا أن يحرك عرقا فإذا حركه زلزلت الأرض. وعند الفلاسفة أن البحار إذا احتبس في الأرض وغلظ بحيث لا ينفد في مجاريها لشدة استحصافها وتكاثفها اجتمع طالبا للخروج ولم يمكنه فزلزت الأرض، وربما اشتدت الزلزلة فخسفت الأرض فيخرج نار لشدة الحركة الموجبة لاشتعال البخار والدخان لا سيما إذا امتزجا امتزاجا مقربا إلى الدهنية، وربما قويت المادة على شق الأرض فتحدث أصوات هائلة، وربما حدثت الزلزلة من تساقط عوالي وهدأت في باطن الأرض فيتموج بها الهواء المحتقن فتزلزل به الأرض، وقليلا ما فتتزلزل بسقوط قلل الجبال عليها لبعض الأسباب. ومما يستأنس به للقول بأن سببها احتباس البخار الغليظ وطلبه للخروج وعدم تيسره له كثرة الزلازل في الأرض الصلبة وشدتها بالنسبة إلى الأرض الرخوة، ولا يخفى أنه إذا صح حديث في بيان سبب الزلزلة لا ينبغي العدول عنه وإلا فلا بأس بالقول برأي الفلاسفة في ذلك وهو لا ينافي القول بالفاعل المختار كما ظن بعضهم، وهي على القول بأنها يوم القيامة قال بعضهم على حقيقتها أيضا، وقال آخرون: هي مجاز عن الأهوال والشدائد التي تكون في ذلك   (1) وذلك في غزوة بني المصطلق كما صرح به في بعض الروايات اهـ منه. [ ..... ] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 107 اليوم، وفي التعبير عنها بالشيء إيذان بأن العقول قاصرة عن إدراك كنهها والعبارة ضيقة لا تحيط بها إلا على وجه الإبهام. وفي البحر أن إطلاق الشيء عليها مع أنه لم توجد بعد يدل على أنه يطلق على المعدوم، ومن منع ذلك قال: إن إطلاقه عليها ليتقن وقوعها وصيرورتها إلى الوجود لا محالة. يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ الظاهر أن الضمير المنصوب في تَرَوْنَها للزلزلة لأنها المحدث عنها، وقيل هو للساعة وهو كما ترى، ويَوْمَ منتصب بتذهل قدم عليه للاهتمام، وقيل بعظيم، وقيل: بإضمار اذكر وقيل هو بدل من السَّاعَةِ وفتح لبنائه كما قيل في قوله تعالى: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ [المائدة: 119] على قراءة يوم بالفتح، وقيل بدل من زَلْزَلَةَ أو منصوب به إن اغتفر الفصل بين المصدر ومعموله الظرفي بالخبر، وجملة تَذْهَلُ على هذه الأوجه في موضع الحال من ضمير المفعول والعائد محذوف أي تذهل فيها، والذهول شغل يورث حزنا ونسيانا، والمرضعة هي التي في حال الإرضاع ملقمة ثديها وهي بخلاف المرضع بلا هاء فإنها التي من شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به، وخص بعض نحاة الكوفة أم الصبي بمرضعة بالهاء والمستأجرة بمرضع ويرده قول الشاعر: كمرضعة أولاد أخرى وضيعت ... بني بطنها هذا الضلال عن القصد والتعبير به هنا ليدل على شدة الأمر وتفاقم الهول، والظاهر أن ما موصولة والعائد محذوف أي عن الذي أرضعته، والتعبير بما لتأكيد الذهول وكون الطفل الرضيع بحيث لا يخطر ببالها أنه ماذا لأنها تعرف شيئيته لكن لا تدري من هو بخصوصه، وقيل مصدرية أي تذهل عن إرضاعها، والأول دل على شدة الهول وكمال الانزعاج، والكلام على طريق التمثيل وأنه لو كان هناك مرضعة ورضيع لذهلت المرضعة عن رضيعها في حال إرضاعها إياه لشدة الهول وكذا ما بعد، وهذا ظاهر إذا كانت الزلزلة عند النفخة الثانية أو في يوم القيامة حين أمر آدم عليه السلام ببعث بعث النار وبعث الجنة إن لم نقل بأن كل أحد يحشر على حاله التي فارق فيها الدنيا فنحشر المرضعة مرضعة والحامل حاملة كما ورد في بعض الآثار، وأما إذا قلنا بذلك أو بكون الزلزلة في الدنيا فيجوز أن يكون الكلام على حقيقته، ولا يضر في كونه تمثيلا أن الأمر إذ ذاك أشد وأعظم وأهول مما وصف وأطم لشيوع ما ذكر في التهويل كما لا يخفى على المنصف النبيل. وقرىء «تذهل» من الإذهال مبنيا للمفعول، وقرأ ابن أبي عبلة واليماني «تذهل» منه مبنيا للفاعل وكُلُ بالنصب أي يوم تذهل الزلزلة، وقيل: الساعة كل مرضعة وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها أي تلقي كل ذات جنين جنينها لغير تمام، وإنما لم يقل وتضع كل حاملة ما حملت على وزان ما تقدم لما أن ذلك ليس نصا في المراد وهو وضع الجنين بخلاف ما في النظم الجليل فإنه نص فيه لأن الحمل بالفتح ما يحمل في البطن من الولد، وإطلاقه على نحو الثمرة في الشجرة للتشبيه بحمل المرأة، وللتنصيص على ذلك من أول الأمر لم يقل وتضع كل حاملة حملها كذا قيل. وتعقب بأن في دعوى تخصيص الحمل بما يحمل في البطن من الولد وان إطلاقه على نحو الثمرة في الشجرة للتشبيه بحثا ففي البحر الحمل بالفتح ما كان في بطن أو على رأس شجرة. وفي القاموس الحمل ما يحمل في البطن من الولد جمعه حمال وأحمال وحملت المرأة تحمل علقت ولا يقال حملت به أو قليل وهي حامل وحاملة، والحمل ثمر الشجر ويكسر أو الفتح لما بطن من ثمره والكسر لما ظهر أو الفتح لما كان في بطن أو على رأس شجرة والكسر لما على ظهر أو رأس أو ثمر الشجر بالكسر ما لم يكبر فإذا كبر فبالفتح جمعه أحمال وحمول وحمال اهـ، وقيل: المتبادر وضع الجنين بأي عبارة كان التعبير إلا أن ذات حمل أبلغ في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 108 التهويل من حامل أو حاملة لإشعاره بالصحبة المشعرة بالملازمة فيشعر الكلام بأن الحامل تضع إذ ذاك الجنين المستقر في بطنها المتمكن فيه هذا مع ما في الجمع بين ما يشعر بالمصاحبة وما يشعر بالمفارقة وهو الوضع من اللطف فتأمل فلمسلك الذهن اتساع. وَتَرَى النَّاسَ بفتح التاء والراء على خطاب كل واحد من المخاطبين برؤية الزلزلة والاختلاف بالجمعية والأفراد لما أن المرئي في الأول هي الزلزلة التي يشاهدها الجميع وفي الثاني حال من عدا المخاطب منهم فلا بد من إفراد المخاطب على وجه يعم كل واحد منهم لكن من غير اعتبار اتصافه بتلك الحالة فإن المراد بيان تأثير الزلزلة في المرئي لا في الرائي باختلاف مشاعره لأن مداره حيثية رؤيته للزلزلة لا لغيرها كأنه قيل وتصير الناس سكارى إلخ، وإنما أوثر عليه ما في التنزيل للإيذان بكمال ظهور تلك الحال فيهم وبلوغها من الجلاء إلى حد لا يكاد يخفى على أحد قاله غير واحد. وجوز بعضهم كون الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والأول أبلغ في التهويل، والرؤية بصرية والنَّاسَ مفعولها، وقوله تعالى: سُكارى حال منه أي يراهم كل واحد مشابهين للسكارى، وقوله تعالى: وَما هُمْ بِسُكارى أي حقيقة حال أيضا لكنها مؤكدة والحال المؤكد تقترن بالواو لا سيما إذا كانت جملة اسمية. فلا يقال: إنه إذا كان معنى قوله تعالى: تَرَى النَّاسَ سُكارى على التشبيه يكون وَما هُمْ بِسُكارى بالمعنى المذكور مستغنى عنه، ولا وجه لجعله حالا مؤكدة لمكان الواو، وجوز أن يكون تَرَى بمعنى تظن فسكارى مفعول ثان، وحينئذ يجوز أن يكون الكلام على التشبيه والجملة الاسمية في موضع الحال المؤكدة ويجوز أن يكون على الحقيقة فلا تأكيد هنا، وأمر أفراد الخطاب وما فيه من المبالغة بحالة، وأيا ما كان فالمراد في قوله تعالى: وَما هُمْ بِسُكارى استمرار النفي، وأكد بزيادة الباء للتنبيه على أن ما هم فيه ليس من المعهود في شيء وإنما هو أمر لم يعهدوا قبله مثله، وأشير إليه سببه بقوله تعالى: وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ أي إن شدة عذابه تعالى تجعلهم كما ترى، وهو استدراك على ما في الانتصاف راجع إلى قوله تعالى: وَما هُمْ بِسُكارى وزعم أبو حيان أنه استدراك عن مقدر كأنه قيل هذه أي الذهول والوضع ورؤية الناس سكارى أحوال هينة ولكن عذاب الله شديد وليس بهين وهو خلاف الظاهر جدا. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «تري» بضم التاء وكسر الراء أي تري الزلزلة الخلق جميع الناس سكارى. وقرأ الزعفراني «ترى» بضم التاء وفتح الراء «الناس» بالرفع على إسناد الفعل المجهول اليه، والتأنيث على تأويل الجماعة. وقرأ أبو هريرة وأبو زرعة وابن جرير وأبو نهيك كذلك إلا أنهم نصبوا النَّاسَ وترى على هذا متعد إلى ثلاثة مفاعيل كما في البحر الأول الضمير المستتر وهو نائب الفاعل، والثاني النَّاسَ والثالث سُكارى وقرأ أبو هريرة وابن نهيك سُكارى بفتح السين في الموضعين وهو جمع تكسير واحده سكران، وقال أبو حاتم: هي لغة تميم، وأخرج الطبراني وغيره عن عمران بن حصين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ «سكرى» كعطشى في الموضعين، وكذلك روى أبو سعيد الخدري وهي قراءة عبد الله وأصحابه وحذيفة وبها قرأ الأخوان وابن سعدان ومسعود بن صالح، وتجمع الصفة على فعلى إذا كانت من الآفات والأمراض كقتلى وموتى وحمقى، ولكون السكر جاريا مجرى ذلك لما فيه من تعطيل القوى والمشاعر جمع هذا الجمع فهو جمع سكران وقال أبو علي الفارسي: يصح أن يكون جمع سكر كزمنى وزمن، وقد حكى سيبويه رجل سكر بمعنى سكران. وقرأ الحسن والأعرج وأبو زرعة وابن جبير والأعمش «سكرى» بضم السين فيهما، قال الزمخشري: وهو غريب، وقال أبو الفتح: هو اسم مفرد كالبشرى وبهذا أفتاني أبو علي وقد سألته عنه انتهى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 109 وإلى كونه اسما مفردا ذهب أبو الفضل الرازي فقال: فعلى بضم الفاء من صفة الواحدة من الإناث لكنها لما جعلت من صفات الناس وهم جماعة أجريت الجماعة بمنزلة المؤنث الموحد، وعن أبي زرعة «سكرى» بفتح السين «بسكرى» بضمها، وعن ابن جبير «سكرى» بفتح السين من غير ألف بِسُكارى بالضم والألف كما في قراءة الجمهور، والخلاف في فعالى أهو جمع أو اسم جمع مشهور. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ نزلت كما أخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك رضي الله تعالى عنه في النضر بن الحارث وكان جدلا يقول الملائكة عليهم السلام بنات الله سبحانه والقرآن أساطير الأولين ولا يقدر الله تعالى شأنه على إحياء من بلي وصار ترابا، وقيل في أبي جهل، وقيل في أبيّ بن خلف وهي عامة في كل من تعاطى الجدل فيما يجوز وما لا يجوز على الله سبحانه من الصفات والأفعال ولا يرجع إلى علم ولا برهان ولا نصفة، وخصوص السبب لا يخرجها عن العموم، وكان ذكرها أثر بيان عظم شأن الساعة المنبئة عن البعث لبيان حال بعض المنكرين لها ومحل الجار الرفع على الابتداء إما بحمله على المعنى أو بتقدير ما يتعلق به، وبِغَيْرِ عِلْمٍ في موضع الحال من ضمير يُجادِلُ لإيضاح ما تشعر به المجادلة من الجهل أي وبعض الناس أو بعض كائن من الناس من ينازع في شأن عز وجل ويقول ما لا خير فيه من الأباطيل ملابسا الجهل وَيَتَّبِعُ فيما يتعاطاه من المجادلة أو في كل ما يأتي وما يذر من الأمور الباطلة التي من جملتها ذلك كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ متجرد للفساد معرى من الخير من قولهم: شجرة مرداء لا ورق لها، ومنه قيل: رملة مرداء إذا لم تنبت شيئا، ومنه الأمرد لتجرده عن الشعر، وقال الزجاج: أصل المريد والمارد المرتفع الأملس وفيه معنى التجرد والتعري، والمراد به إما إبليس وجنوده وإما رؤساء الكفرة الذين يدعون من دونهم إلى الكفر. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وَيَتَّبِعُ خفيفا. كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ ضمير عَلَيْهِ للشيطان وكذا الضمير المنصوب في تَوَلَّاهُ والضمير في فَأَنَّهُ والضميران المستتران في يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ وضمير أَنَّهُ للشأن وباقي الضمائر لمن. واختلف في إعراب الآية فقيل إن أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ إلخ نائب فاعل كُتِبَ والجملة في موضع الصفة الثانية لشيطان ومَنْ جزائية وجزاؤها محذوف وفَأَنَّهُ يُضِلُّهُ إلخ عطف على أَنَّهُ مع ما في حيزها وما يتصل بها أي كتب على الشيطان أن الشأن من تولاه أي اتخذه وليا وتبعه يهلكه فإنه يضله عن طريق الجنة وثوابها ويهديه إلى طريق السعير وعذابها، والفاء لتفصيل الإهلاك كما في قوله تعالى: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 54] وعلى ذلك حمل الطيبي كلام الكشاف وهو وجه حسن إلا أن في كونه مراد الزمخشري خفاء، وقيل مَنْ موصولة مبتدأ وجملة تَوَلَّاهُ صلته والضمير المستتر عائده وأنه يُضِلُّهُ في تأويل مصدر خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف والجملة خبر الموصول، ودخول الفاء في خبره على التشبيه بالشرط أي كتب عليه أن الشأن من تولاه فشأنه أو فحق أنه يضله إلخ. ويجوز أن تكون من شرطية والفاء جوابية وما بعدها مع القدر جواب الشرط. وقيل ضمير أَنَّهُ للشيطان وهو اسم أن ومَنْ موصولة أو موصوفة. والأول أظهر. خبرها والضمير المستتر في تَوَلَّاهُ لبعض الناس والضمير البارز لمن والجملة صلة أو صفة، وقوله تعالى: فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ عطف على أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ والمعنى ويتبع كل شيطان كتب عليه أنه هو الذي اتخذه بعد الناس وليا وأنه يضل من اتخذه وليا فالأول كأنه توطئة للثاني أي يتبع شيطانا مختصا به مكتوبا عليه أنه وليه وأنه مضله فهو لا يألو جهدا في إضلاله، وهذا المعنى أبلغ من المعنى السابق على احتمال كون من جزائية لدلالته على أن لكل واحد من المجادلين واحدا من مردة الشياطين، وارتضى هذا في الكشف وحمل عليه مراد صاحب الكشاف. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 110 وعن بعض الفضلاء أن الضمير في أَنَّهُ للمجادل أي كتب على الشيطان أن المجادل من تولاه وقوله تعالى: فَأَنَّهُ إلخ عطف على أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ واعترض بأن اتصاف الشيطان بتولي المجادل إياه مقتضى المقام لا العكس وأنه لو جعلت من في مَنْ تَوَلَّاهُ موصولة كما هو الظاهر لزم أن لا يتولاه غير المجادل وهذا الحصر يفوت المبالغة. وفي البحر الظاهر أن الضمير في عَلَيْهِ عائد على من لأنه المحدث عنه، وفي أنه وتولاه وفي فإنه عائد عليه أيضا والفاعل بتولي ضمير من وكذا الهاء في يضله، ويجوز أن يكون الهاء في أنه على هذا الوجد ضمير الشأن والمعنى أن هذا المجادل لكثرة جداله بالباطل واتباعه الشيطان صار إماما في الضلال لمن يتولاه فشأنه أن يضل من يتولاه انتهى. وعليه تكون جملة كتب إلخ مستأنفة لا صفة لشيطان، والأظهر جعل ضمير عَلَيْهِ عائدا على الشيطان وهو المروي عن قتادة، وأيّا ما كان فكتب بمعنى مضى وقدر ويجوز أن يكون على ظاهره، وفي الكشاف أن الكتبة عليه مثل أي كأنما كتب عليه ذلك لظهوره في حاله، ولا يخفى ما في يَهْدِيهِ من الاستعارة التمثيلية التهكمية. وقرىء «كتب» مبنيا للفاعل أي كتب الله. وقرىء «فإنه» بكسر الهمزة فالجملة خبر من أو جواب لها، وقرأ الأعمش والجعفي عن أبي عمرو «إنه» «فإنّه» بكسر الهمزة فيهما ووجهه الكسر في الثانية ظاهر، وأما وجهه في الأولى فهو كما استظهر أبو حيان إسناد كُتِبَ إلى الجملة إسنادا لفظيا أي كتب عليه هذا الكلام كما تقول كتبت أن الله تعالى يأمر بالعدل والإحسان أو تقدير قول وجعل الجملة معمولة له أو تضمين الفعل معنى ذلك أي كتب عليه مقولا في شأنه أنه من تولاه يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ إلخ إقامة للحجة التي تلقم المجادلين في البعث حجرا إثر الإشارة إلى ما يؤول إليه أمرهم، واستظهر أن المراد بالناس هنا الكفرة المجادلون المنكرون للبعث، والتعبير عن اعتقادهم في حقه بالريب أي الشك مع أنهم جازمون بعدم إمكانه إما للإيذان بأن أقصى ما يمكن صدوره عنهم وإن كانوا في غاية ما يكون من المكابرة والعناد هو الارتياب في شأنه، وإما الجزم بعدم الإمكان فخارج من دائرة الاحتمال كما أن تنكيره وتصديره بكلمة الشك للإشعار بأن حقه أن يكون ضعيفا مشكوك الوقوع، وإما للتنبيه على أن جرمهم ذلك بمنزلة الريب الضعيف لكمال وضوح دلائل الإمكان ونهاية قوتها. وإنما لم يقل وإن ارتبتم في البعث للمبالغة في تنزيه أمره عن شائبة وقوع الريب والإشعار بأن ذلك إن وقع فمن جهتهم لا من جهته، واعتبار استقرارهم فيه وإحاطته بهم لا ينافي اعتبار ضعفه وقلّته لما أن ما يقتضيه ذلك هو دوام ملابستهم به لا قوته وكثرته، ومن ابتدائية متعلقة بمحذوف وقع صفة للريب، واستظهر أن المراد في ريب من إمكان البعث لأنه الذي يقتضيه ما بعد، وجوز أن يكون المراد من وقوع البعث، واعترض بأن الدليل المشار إليه فيما بعد إنما يدل على الإمكان مع ما يلزم من التكرار مع قوله تعالى الآتي أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ وفيه تأمل فتأمل، وقرأ الحسن «من البعث» بفتح العين وهي لغة فيه كالجلب والطرد في الجلب والطرد عند البصريين، وعند الكوفيين إسكان العين تخفيف وهو قياسي في كل ما وسطه حرف حلق كالنهر والنهر والشعر والشعر. وقوله تعالى: فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ دليل جواب الشرط أو هو الجواب بتأويل أي وإن كنتم في ريب من البعث فانظروا إلى مبدأ خلقكم ليزول ريبكم فإنا خلقناكم إلخ، وقيل: التقدير فأخبركم وأعلمكم أنا خلقناكم إلخ وليس بذاك، وخلقهم من تراب في ضمن خلق آدم عليه السلام منه أو بخلق الأغذية التي يتكون منها المني منه وهي وإن تكونت من سائر العناصر معه إلا أنه أعظم الأجزاء على ما قيل فلذلك خصه بالذكر من بينها، واختير الأول وجعل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 111 المعنى خلقناكم خلقا إجماليا من تراب ثُمَّ خلقناكم خلقا تفصيليا مِنْ نُطْفَةٍ أي مني من النطف بمعنى التقاطر، وقال الراغب: النطفة الماء الصافي ويعبر بها عن ماء الرجل، قيل والتخصيص على هذا مع أن الخلق من ماءين لأن معظم أجزاء الإنسان مخلوق من ماء الرجل، والحق أن النطفة كما يعبر بها عن مني الرجل يعبر بها عن المني مطلقا وكلام الراغب ليس نصا في نفي ذلك، والظاهر أن المراد النطفة التي يخلق منها كل واحد بلا واسطة، وقيل: المراد نطفة آدم عليه السلام وحكي ذلك عن النقاش وهو من البعد في غايته. ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ أي قطعة من الدم جامدة متكونة من المني ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ أي قطعة من اللحم متكونة من العلقة وأصلها قطعة لحم بقدر ما يمضع مُخَلَّقَةٍ بالجر صفة مُضْغَةٍ وكذا قوله تعالى: وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ. وقرأ ابن أبي عبلة بالنصب فيهما على الحال من النكرة المتقدمة وهو قليل وقاسه سيبويه، والمشهور المتبادر أن المخلقة المستبينة الخلق أي مضغة مستبينة الخلق مصورة ومضغة لم يستبن خلقها وصورتها بعد، والمراد تفصيل حال المضغة وكونها أولا قطعة لم يظهر فيها شيء من الأعضاء ثم ظهرت بعد ذلك شيئا فشيئا وكان مقتضى الترتيب المبني على التدرج من المبادئ البعيدة إلى القريبة أن يقدم غير المخلقة وإنما أخرت لكونها عدم ملكة، وصيغة التفعيل لكثرة الأعضاء المختص كل منها بخلق وصورة، وقيل: المخلقة المسوأة الملساء من النقصان والعيب يقال خلق السواك والعود سواه وملسه وصخرة خلقاء أي ملساء وجبل أخلق أي أملس، فالمعنى من نطفة مسواة لا نقص فيها ولا عيب في ابتداء خلقها ونطفة غير مسواة فيها عيب فالنطف التي يخلق منها الإنسان متفاوتة منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب ومنها ما هو على عكس ذلك فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصانهم، وعن مجاهد وقتادة والشعبي وأبي العالية وعكرمة أن المخلقة التي تم لها مدة الحمل وتوارد عليها خلق بعد خلق وغير المخلقة التي لم يتم لها ذلك وسقطت، واستدل له بما أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك الأرحام بكفه فقال: يا رب مخلقة أم غير مخلقة؟ فإن قيل: غير مخلقة لم تكن نسمة وقذفها الرحم دما وإن قيل: مخلقة قال: يا رب ذكر أم أنثى شقي أم سعيد ما الأجل وما الأثر وما الرزق، وبأي أرض تموت؟ الخبر وهو في حكم المرفوع، والمراد أنهم خلقوا من جنس هذه النطفة الموصوفة بالتامة والساقطة لا أنهم خلقوا من نطفة تامة ومن نطفة ساقطة إذ لا يتصور الخلق من النطفة الساقطة وهو ظاهر، وكأن التعرض على هذا لوصفها بما ذكر لتعظيم شأن القدرة وفي جعل كل واحدة من هذه المراتب مبدأ لخلقهم لا لخلق ما بعدها من المراتب كما في قوله تعالى ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة الآية مزيد دلالة على عظم قدرته تعالى لِنُبَيِّنَ لَكُمْ متعلق بخلقنا، وترك المفعول لتفخيمه كما وكيفما أي خلقناكم على هذا النمط البديع لنبين لكم ما لا يحصره العبارة من الحقائق والدقائق التي من جملتها أمر البعث فإن من تأمل فيما ذكر من الخلق التدريجي جزم بأن من قدر على خلق البشر أولا من تراب لم يذق ماء الحياة قط وإنشائه على وجه مصحح لتوليد مثله مرة بعد أخرى بتصريفه في أطوار الخلقة وتحويله من حال إلى حال مع ما بين تلك الأطوار والأحوال من المخالفة والتباين فهو قادر على إعادته بل هي أهون في القياس، وقدر بعضهم المفعول خاصا أي لنبين لكم أمر البعث وليس بذاك. وأبعد جدا من زعم أن المعنى لنبين لكم أن التخليق اختيار من الفاعل المختار ولولا ذلك ما صار بعض أفراد المضغة غير مخلق، وقرأ ابن أبي عبلة «ليبين» بالباء على طريق الالتفات وكذا قرأ قوله تعالى: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 112 وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ وقرأ الجمهور بالنون، والجملة استئناف مسوق لبيان حالهم بعد تمام خلقهم وتوارد الأطوار عليهم أي ونقر في الأرحام بعد ذلك ما نشاء أن نقره فيها «إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو وقت الوضع وأدناه ستة أشهر وأقصاه عندنا سنتان وعند الشافعي عليه الرحمة أربع سنين، وعن يعقوب أنه قرأ «ونقرّ» بفتح النون وضم القاف من قررت الماء إذا صببته، وقرأ يحيى بن وثاب ما نشاء بكسر النون. ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ أي من الأرحام بعد إقراركم فيها عند تمام الأجل المسمى طِفْلًا حال من ضمير المخاطبين، والأفراد إما باعتبار كل واحد منهم أو بإرادة الجنس الصادق على الكثير أو لأنه مصدر فيستوي فيه الواحد وغيره كما قال المبرد أو لأن المراد طفلا طفلا فاختصر كما نقله الجلال السيوطي في الأشباه النحوية. وقرأ عمر بن شبة «يخرجكم» بالياء ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ أي كمالكم في القوة والعقل والتمييز، وفي القاموس حتى يبلغ أشده ويضم أوله أي قوته وهو ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين واحد جاء على بناء الجمع كأنك ولا نظير لهما أو جمع لا واحد له من لفظه أو واحده شدة بالكسر مع أن فعلة لا تجمع على أفعل أي قياسا فلا يرد نعمة وأنعم أو شد ككلب وأكلب أو شد كذئب وأذؤب وما هما بمسموعين بل قياس ولِتَبْلُغُوا، قال العلامة أبو السعود: علة لنخرجكم معطوف على علة أخرى مناسبة لها كأنه قيل ثم نخرجكم لتكبروا شيئا فشيئا ثم لتبلغوا إلخ، وقيل علة المحذوف والتقدير ثم نمهلكم لتبلغوا إلخ. وجوز العلامة الطيبي أن يكون التقدير ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ كان ذلك الإقرار والإخراج وقيل إنه عطف على نبين، وتعقبه العلامة بأنه مخل بجزالة النظم الكريم وجعله كغيره عطفا عليه على قراءة نقر. ونخرج بالنصب وهي قراءة المفضل وأبي حاتم إلا أن الأول قرأ بالنون والثاني قرأ بالياء، وكذا جعل الفعلين عطفا عليه وقال: المعنى خلقناكم على التدريج المذكور لأمرين، أحدهما أن نبين شؤوننا، والثاني أن نقركم في الأرحام ثم نخرجكم صغارا ثم لتبلغوا أشدكم، وتقديم التبيين على ما بعده مع أن حصوله بالفعل بعد الكل للإيذان بأنه غاية الغايات ومقصود بالذات، وإعادة اللام في لِتَبْلُغُوا مع تجريد نقر «ونخرج» عنها للإشعار بأصالة البلوغ بالنسبة إلى الإقرار والإخراج إذ عليه يدور التكليف المؤدي إلى السعادة والشقاوة، وإيثار البلوغ مسندا إلى المخاطبين على التبليغ مسندا إليه تعالى كالأفعال السابقة لأنه المناسب لبيان حال اتصافهم بالكمال واستقلالهم بمبدئية الآثار والأفعال اهـ. وما ذكره من عطف وو نقر و (نخرج) بالنصب على (نبين) لم يرتضه الشيخ ابن الحاجب، قال في شرح المفصل: إنه مما يتعذر فيه النصب إذ لو نصب عطفا على (نبين) ضعف المعنى إذا اللام في لنبين للتعليل لما تقدم والمقدم سبب للتبيين فلو عطف وَنُقِرُّ عليه لكان داخلا في مسببية فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ إلخ وخلقهم من تراب ثم ما تلاه لا يصلح سببا للإقرار في الأرحام، وقال الزجاج: لا يجوز في وَنُقِرُّ إلا الرفع ولا يجوز أن يكون معناه فعلنا ذلك لنقر في الأرحام لأن الله تعالى لم يخلق الأنام ليقرهم في الأرحام وإنما خلقهم ليدلهم على رشدهم وصلاحهم وهو قول بعدم جواز عطفه على نبين. وأجيب بأن الغرض في الحقيقة هو بلوغ الأشد والصلوح للتكليف لكن لما كان الإقرار وما تلاه من مقدماته صح إدخاله في التعليل، وما ذكره من أن العطف على نبين على قراءة الرفع مخل بجزالة النظم الكريم فالظاهر أنه تعريض بالزمخشري حيث جعل العطف على ذلك وقال فإن قلت: كيف يصح عطف لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ على لِنُبَيِّنَ ولا طباق قلت الطباق حاصل لأن قوله تعالى: وَنُقِرُّ قرين للتعليل ومقارنته له والتباسه به ينزلانه منزلة نفسه فهو راجع من هذه الجهة إلى متانة القراءة بالنصب اهـ. وفيه ما يومىء إلى أن قراءة النصب أوضح كما أنها أمتن، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 113 ولم يرتض ذلك المحققون ففي الكشف أن القراءة بالرفع هي المشهورة الثابتة في السبع وهي الأولى وقد أصيب بتركيبها هكذا شاكلة الرمي حتى لم يجعل الإقرار في الأرحام علة بل جعل الغرض منه بلوغ الأشد وهو حال الاستكمال علما وعملا وحيث لم يعطف على لِنُبَيِّنَ إلا بعد أن قدم عليه وَنُقِرُّ ثم نخرج مجعولا نُقِرُّ عطفا على إنا خَلَقْناكُمْ والعدول إلى المضارع لتطوير الحال والدلالة على زيادة الاختصاص فالطباق حاصل لفظا ومعنى مع أن في الفصل بين العلتين من النكتة ما لا يخفى على ذي لب حسن موقعها بعد التأمل، وكذلك في الإتيان بثم في قوله سبحانه: ثُمَّ لِتَبْلُغُوا دلالة على أنه الغرض الأصيل الذي خلق الإنسان له وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] ولما كانت الأوائل في الدلالة على البعث أظهر قدم قوله تعالى: لِنُبَيِّنَ على الإقرار والإخراج اهـ. ويعلم منه ما في قول العلامة: إن عطف «لتبلغوا» إلخ على «لنبين» مخل بجزالة النظم الكريم وأنه لا يتعين الاستئناف في وَنُقِرُّ وفيه أيضا أن قوله تعالى: وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى إلخ استئناف لبيان أقسام الإخراج من الرحم كما استوفى أقسام الأول وفيه تبيين تفضيل حال بلوغ الأشد وأنها الحقيق بأن تكون مقصودة من الإنشاء لكن منهم من لا يصل إليها فيحتضر ومنهم من يجاوزها فيحتقر أي منكم من يموت قبل بلوغ الأشد وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ أي أرداه وأدناه، والمراد يرد إلى مثل زمن الطفولية لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ أي علم كثير شَيْئاً أي شيئا من الأشياء أو شيئا من العلم، واللام متعلقة بيرد وهي لام العاقبة والمراد المبالغة في انتقاص علمه وانتكاس حاله وليس لزمان ذلك الرد حد محدود بل هو مختلف باختلاف الأمزجة على ما في البحر وإيراد الرد والتوفي على صيغة المبني للمفعول للجري على سنن الكبرياء لتعين الفاعل كما في إرشاد العقل السليم، وفي شرح الكشاف للطيبي بعد تجويز أن يكون ثُمَّ لِتَبْلُغُوا بتقدير ثُمَّ لِتَبْلُغُوا كان ذلك الإقرار والإخراج أن فائدة ذلك الإيذان بأن بلوغ الأشد أفضل الأحوال والإخراج أبدعها والرد إلى أرذل العمر أسوؤها وتغيير العبارة لذلك ومن ثم نسب الإخراج إلى ذاته تعالى المقدسة وحذف المعلل في الثاني ولم ينسب الثالث إلى فاعله وسلب فيه ما أثبت للإنسان في تلك الحالة من اتصافه بالعلم والقدرة المؤمي إليه بالأشد كأنه قيل ثم يخرجكم من تلك الأطوار الخسيسة طفلا إنشاء غريبا كما قال سبحانه: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون: 14] ثم لتبلغوا أشدكم دبر ذلك التدبير العجيب لأنه أوان رسوخ العلم والمعرفة والتمكن من العمل المقصودين من الإنشاء ثم يميتكم أو يردكم إلى أرذل العمر الذي يسلب فيه العلم والقدرة على العمل اهـ. ويفهم منه جواز أن يكون المراد ومنكم من يتوفى بعد بلوغ الأشد، ومن الناس من جوز أن يكون المراد ومنكم من يتوفى عند البلوغ، وقيل: إن ذلك يجعل الجملة حالية ومن صيغة المضارع وهو كما ترى. وقرىء «يتوفّى» على صيغة المعلوم وفاعله ضمير الله تعالى أي من يتوفاه الله تعالى، وجوز أن يكون ضمير من أي «من» يستوفي مدة عمره، وروي عن أبي عمرو ونافع تسكين ميم العمر، هذا ثم لا يخفى ما في اختلاف أحوال الإنسان بعد الإخراج من الرحم من التنبيه على صحة البعث كما في اختلافها قبل فتأمل جميع ما ذكر ولله تعالى در التنزيل ما أكثر احتمالاته وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً حجة أخرى على صحة البعث معطوفة على إنا خَلَقْناكُمْ وهي حجة آفاقية وما تقدم حجة أنفسية والخطاب لكل أحد من تتأتى منه الرؤية، وقيل: للمجادل، وصيغة المضارع للدلالة على التجدد والاستمرار وهي بصرية لا علمية كما قيل، وهامِدَةً حال من الْأَرْضَ أي ميتة يابسة يقال همدت الأرض إذا يبست ودرست وهمد الثوب إذا بلي وقال الأعشى: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 114 قالت قتيلة ما لجسمك شاحبا ... وأرى ثيابك باليات همّدا وأصله من همدت النار إذا صارت رمادا فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ أي ماء، المطر، وقيل: ما يعمه وماء العيون والأنهار وظاهر الإنزال يقتضي الأول اهْتَزَّتْ تحرك نباتها فالإسناد مجازي أو تخلخلت وانفصل بعض أجزائها عن بعض لأجل خروج النبات وحمل الاهتزاز على الحركة في الكيف بعيد وَرَبَتْ ازدادت وانتفخت لما يتداخلها من الماء والنبات. وقرأ أبو جعفر وعبد الله بن جعفر وخالد بن الياس وأبو عمرو في رواية «وربأت» بالهمز أي ارتفعت يقال فلان يربأ بنفسه عن كذا أي يرتفع بها عنه، وقال ابن عطية: هو من ربأت القوم إذا علوت شرفا من الأرض طليعة عليهم فكأن الأرض بالماء تتطاول وتعلو وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ أي صنف بَهِيجٍ حسن سار للناظر ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ كلام مستأنف جيء به إثر تحقيق حقية البعث وإقامة البرهان عليه على أتم وجه لبيان أن ما ذكر من خلق الإنسان على أطوار مختلفة وتصريفه في أحوال متباينة وإحياء الأرض بعد موتها الكاشف عن حقية ذلك من آثار ألوهيته تعالى وأحكام شؤونه الذاتية والوصفية والفعلية وأن ما ينكرونه من إتيان الساعة والبعث من أسباب تلك الآثار العجيبة المعلومة لهم ومبادئ صدورها عنه تعالى، وفيه من الإيذان بقوة الدليل وأصالة المدلول في التحقق وإظهار بطلان إنكاره ما لا يخفى فإن إنكار تحقق السبب مع الجزم بتحقق المسبب مما يقضي ببطلانه بديهة العقول فذلك إشارة إلى خلق الإنسان على أطوار مختلفة وما معه والإفراد باعتبار المذكور وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته في الكمال وهو مبتدأ خبره الجار والمجرور، والمراد بالحق هو الثابت الذي يحق ثبوته لا محالة لكونه لذاته لا الثابت مطلقا فوجه الحصر ظاهر أي ما ذكر من الصنع البديع حاصل بسبب أنه تعالى هو الحق وحده في ذاته وصفاته وأفعاله المحقق لما سواه من الأشياء وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى أي شأنه وعادته تعالى إحياء الموتى، وحاصله أنه تعالى قادر على إحيائها بدءا وإعادة وإلا لما أحيا النطفة والأرض الميتة مرة بعد مرة وما تفيده صيغة المضارع من التجدد إنما هو باعتبار تعلق القدرة ومتعلقها لا باعتبار نفسها لأن القدم الشخصي ينافي ذلك. وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي مبالغ في القدرة وإلا لما أوجد هذه الموجودات الفائتة للحصر التي من جملتها ما ذكر، وتخصيص إحياء الموتى بالذكر مع كونه من جملة الأشياء المقدور عليها للتصريح بما فيه النزاع والدفع في نحور المنكرين، وتقديمه لإبراز الاعتناء به وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أي فيما سيأتي، والتعبير بذلك دون الفعل للدلالة على تحقق إتيانها وتقرر البتة لاقتضاء الحكمة إياه لا محالة، وقوله تعالى: لا رَيْبَ فِيها إما خبر ثان لأن أو حال من ضمير السَّاعَةَ في الخبر، ومعنى نفي الريب عنها أنها في ظهور أمرها ووضوح دلائلها بحيث ليس فيها مظنة أن يرتاب في إتيانها. وأن وما بعدها في تأويل مصدر عطف على المصدر المجرور بياء السببية داخل معه في حيزها كالمصدرين الحاصلين من قوله تعالى: وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وقوله سبحانه: وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وكذا قوله عز وجل: وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ لكن لا من حيث إن إتيان الساعة وبعث من في القبور مؤثر أن فيما ذكر من أفاعيله تعالى تأثير القدرة فيها بل من حيث إن كلا منهما بسبب داع له عز وجل بموجب رأفته بالعباد المبنية على الحكم البالغة إلى ما ذكر من خلقهم ومن إحياء الأرض الميتة على نمط بديع صالح للاستشهاد به على إمكانهما ليتأملوا في ذلك ويستدلوا به عليه أو على وقوعهما ويصدقوا بذلك لينالوا السعادة الأبدية ولولا ذلك لما فعل بل لما خلق العالم رأسا، وهذا كما ترى من أحكام حقيته تعالى في أفعاله وابتنائها على الحكم الباهرة كما أن ما قبله من أحكام حقيته تعالى في صفاته وكونها في غاية الكمال هذا ما اختاره العلامة أبو السعود في تفسير ذلك وهو مما يميل اليه الطبع الجزء: 9 ¦ الصفحة: 115 السليم، وجعل صاحب الكشاف الإشارة إلى ما ذكر أيضا إلا أنه بحسب الظاهر جعل إتيان الساعة وبعث من في القبور حيث إن ذلك من روادف الحكمة كناية عنها فكأن الأصل ذلك حاصل بسبب أن الله تعالى هو الحق الثابت الموجود وأنه قادر على إحياء الموتى وعلى كل مقدور وأنه حكيم فاكتفى بمقتضى الحكمة عن الوصف بالحكمة لما في الكناية من النكتة خصوصا والكلام مع منكري البعث للدفع في نحورهم ولا يخلو عن بعد، ونقل النيسابوري عبارة الكشاف واعترضها بما لا يخفى رده وأبدى وجها في الآية ذكر أنه مما لم يخطر لغيره ورجا أن يكون صوابا وهو مع اقتضائه حمل الباء على ما يعم السببية الفاعلية والسببية الغائية مما لا يخفى ما فيه، وقيل: ذلك إشارة إلى ما ذكر إلا أن قوله تعالى: وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ إلخ ليس معطوفا على المجرور بالياء ولا داخلا في حيز السببية بل هو خبر والمبتدأ محذوف لفهم المعنى والتقدير والأمر أن الساعة آتية إلخ، وعليه اقتصر أبو حيان وفيه قطع للكلام عن الانتظام، وقيل: ذلك إشارة إلى ما ذكر إلا أن الباء صلة لكون خاص وليست سببية مشعر بأن الله هو الحق إلخ، وفيه أنه لا قرينة على هذا الكون الخاص وقيل: المعنى ذلك ليعلموا أن الله هو الحق إلخ، وفيه تلويح ما إلى معنى الحديث القدسي المشهور على الألسنة وفي كتب الصوفية وإن لم يثبت عند المحدثين وهو «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف» وهو كما ترى، وقيل: الإشارة إلى البعث المستدل عليه بما سبق واستظهره بعضهم، ولا يخفى عليك ما يحتاج إليه من التكلف، ونقل في البحر أن ذلك منصوب بفعل مضمر أي فعلنا ذلك بأن إلخ. وأبو علي اقتصر على القول بأنه مرفوع على الابتداء والجار والمجرور خبره وقال: لا يجوز غير ذلك وكأنه عنى بالغير ما ذكر، وما نقله العكبري من أنه خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر ذلك والحق الجواز إلا أنه خلاف الظاهر جدا، ثم إن المراد من الساعة قيل يوم القيامة المشتمل على النشر والحشر وغيرهما، وقال سعدي جلبي: المراد بها هنا فناء العالم بالكلية لئلا تتكرر مع البعث، وقول الطيني: إن سبيل قوله تعالى أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ من قوله سبحانه: أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ سبيل قوله جل وعلا: إن الله عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من قوله عز وجل: وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى لكن قدم وأخر لرعاية الفواصل ظاهر في الأول، هذا وفي الإتقان للجلال السيوطي أن الإسلاميين من أهل المنطق ذكروا أن في أول سورة الحج إلى قوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ خمس نتائج تستنتج من عشر مقدمات ثم بين ذلك بما يقضي منه العجب ويدل على قصور باعه في ذلك العلم، وقد يقال في بيان ذلك: إن النتائج الخمس هي الجمل المتعاطفة الداخلة في حيز الباء، واستنتاج الأولى بأنه لو لم يكن الله سبحانه هو الحق أي الواجب الوجود لذاته لما شوهد بعض الممكنات من الإنسان والنبات وغيرها والتالي باطل ضرورة فالله تعالى هو الحق، ودليل الملازمة برهان التمانع، واستنتاج الثانية بأنه لو لم يكن سبحانه قادرا على إحياء الموتى لما طور الإنسان في أطوار مختلفة حتى جعله حيا وأنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها والتالي باطل ضرورة أن الخصم لا ينكر أنه تعالى أحيا الإنسان وأحيا الأرض فالله تعالى قادر على إحياء الموتى ووجه الملازمة ظاهر. واستنتاج الثالثة بأنه إذا كان الله تعالى قادرا على إحياء الموتى فهو سبحانه على كل شيء قدير لكنه تعالى قادر على إحياء الموتى فهو على كل شيء قدير، ووجه الملازمة أن المراد من الشيء الممكن وإحياء الموتى ممكن والقدرة على بعض الممكنات دون بعض تنافي وجوب وجوده تعالى الذاتي وأيضا إحياء الموتى أصعب الأمور عند الخصم المجادل حتى زعم أنه من الممتنعات فإذا ثبت أنه سبحانه قادر عليه بما سبق ثبت أنه تعالى قادر على سائر الممكنات بالطريق الأولى. واستنتاج الرابعة بأن الساعة أمر ممكن وعد الصادق بإتيانه وكل أمر ممكن وعد الصادق بإتيانه فهو آت فالساعة آتية إما أن الساعة أمر ممكن فلأنه لا يلزم من فرض وقوعها محال وإما أنها وعد الصادق بإتيانها فللآيات القرآنية المتحدى بها وإما أن كل أمر ممكن وعد الصادق بإتيانه فهو آت فلاستحالة الكذب واستنتاج الخامسة بنحو ذلك ولا يتعين استنتاج الجزء: 9 ¦ الصفحة: 116 كل بما ذكر بل يمكن بغير ذلك واختياره لتسارعه إلى الذهن، وربما يقتصر على ثلاث من هذه الخمس بناء على ما علمت بين قوله تعالى: وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وقوله تعالى: وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وكذا بين قوله سبحانه وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ وقوله سبحانه: وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ويعد من الخمس قوله تعالى: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ واستنتاجها بأن يقال: زلزلة الساعة تذهل كل مرضعة عما أرضعت وكل ما هذا شأنه فهو شيء عظيم فزلزلة الساعة شيء عظيم، والتقوى واجبة عليكم المدلول عليه بقوله تعالى: اتَّقُوا رَبَّكُمْ واستنتاجه بأن يقال: التقوى يندفع بها ضرر الساعة وكل ما يندفع به الضرر واجب عليكم فالتقوى واجبة عليكم، ولا يخفى أن ما ذكر أولا أولى إلا أنه لو كان مرادهم لكان الظاهر أن يقولوا: إن في قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ إلى قوله سبحانه وأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ خمس نتائج دون أن يقولوا: إن في أول سورة الحج إلى آخره ويناسب هذا القول ما ذكر ثانيا إلا أنه يرد عليه أن المتبادر من كلامهم كون كل من النتائج مذكورا صريحا، ولا شك أن التقوى واجبة عليكم ليس مذكورا كذلك وإنما المذكور ما يدل عليه في الجملة وهو أيضا ليس بقضية كما لا يخفى، وقد تكلف بعض الناس لبيان ذلك غير ما ذكرنا رأينا ترك ذكره أولى فتأمل. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ نزلت على ما روي عن محمد بن كعب في الأخنس بن شريق وعلى ما روي عن ابن عباس في أبي جهل، وعلى ما ذهب إليه جمع في النضر كالآية السابقة فإذا اتحد المجادل في الآيتين فالتكرار مبالغة في الذم أو لكون كل من الآيتين مشتملة على زيادة ليست في الأخرى، وقال ابن عطية: كررت الآية على جهة التوبيخ فكأنه قيل هذه الأمثال في غاية الوضوح والبيان ومن الناس مع ذلك من يجادل إلى آخره فالواو هنا واو الحال وفي الآية المتقدمة واو العطف عطفت جملة الكلام على ما قبلها على معنى الأخبار لا للتوبيخ انتهى، وهو كما ترى. وفي الكشف أن الأظهر في النظم والأوفق للمقام كون هذه الآية في المقلدين بفتح اللام وتلك في المقلدين بكسر اللام فالواو للعطف على الآية الأولى، والمراد بالعلم الضروري كما أن المراد بالهدي في قوله تعالى: وَلا هُدىً الاستدلال والنظر الصحيح الهادي إلى المعرفة وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ وحي مظهر للحق أي يجادل في شأنه تعالى شأنه من غير تمسك بمقدمة ضرورية ولا بحجة ولا ببرهان سمعي. ثانِيَ عِطْفِهِ حال من ضمير «يجادل» كالجار والمجرور السابق أي لا ويا لجانبه وهو كناية عن عدم قبوله، وهو مراد ابن عباس بقوله متكبرا والضحاك بقوله شامخا بأنفه وابن جريج بقوله معرضا عن الحق. وقرأ الحسن «عطفه» بفتح العين أي مانعا لتعطفه وترحمه لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ متعلق بيجادل علة له فإن غرضه من الجدال الإضلال عن سبيله تعالى وإن لم يعترف بأنه إضلال، وجوز أبو البقاء تعلقه بثاني وليس بذاك، والمراد بالإضلال إما الإخراج من الهدى إلى الضلال فالمفعول من يجادله من المؤمنين أو الناس جميعا بتغليب المؤمنين على غيرهم وأما التثبيت على الضلال أو الزيادة عليه مجازا فالمفعول هم الكفرة خاصة. وقرأ مجاهد وأهل مكة وأبو عمرو في رواية «ليضل» بفتح الياء أي ليضل في نفسه والتعبير بصيغة المضارع مع أنه لم يكن مهتديا لجعل تمكنه من الهدى كالهدى لكونه هدى بالقوة، يجوز أن يراد ليستمر على الضلال أو ليزيد ضلاله، وقيل: إن ذلك لجعل ضلاله الأول كالاضلال، وأيا ما كان فاللام للعاقبة لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ جملة مستأنفة لبيان نتيجة ما سلكه من الطريق، وجوز أبو البقاء أن تكون حالا مقدرة أو مقارنة على معنى استحقاق ذلك والأول أظهر أي ثابت له في الدنيا بسبب ما فعله ذل وهوان، والمراد به عند القائلين بأن هذا المجادل النضر أو أبو الجزء: 9 ¦ الصفحة: 117 جهل ما أصابه يوم بدر، ومن عمم. وهو الأولى. حمله على ذم المؤمنين إياه وإفحامهم له عند البحث وعدم إدلائه بحجة أصلا أو على هذا مع ما يناله من النكال كالقتل لكن بالنسبة إلى بعض الأفراد. وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ أي النار البالغة في الإحراق، والإضافة على ما قيل من إضافة المسبب إلى السبب، وفسر الحريق أيضا بطبقة من طباق جهنم، وجوز أن تكون الإضافة من إضافة الموصوف إلى الصفة والمراد العذاب الحريق أي المحرق جدا، وقرأ زيد بن علي رضي الله عنه تعالى «وأذيقه» بهمزة المتكلم. ذلِكَ أي ما ذكر من ثبوت الخزي له في الدنيا وإذاقة عذاب الحريق في الأخرى، وما فيه من معنى البعد للإيذان بكونه في الغاية القاصية من الهول والفظاعة، وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: بِما قَدَّمَتْ يَداكَ أي بسبب ما اكتسبته من الكفر والمعاصي، وإسناده إلى يديه لما أن الاكتساب عادة يكون بالأيدي، وجوز أن يكون ذلك خبرا لمبتدأ محذوف أي الأمر ذلك وأن يكون مفعولا لفعل محذوف أي فعلنا ذلك إلخ وهو خلاف الظاهر، والجملة استئناف لا محل لها من الإعراب، وجوز أن تكون في محل نصب مفعولة لقول محذوف وقع حالا أي قائلين أو مقولا له ذلك إلخ، وعلى الأول يكون في الكلام التفات لتأكيد الوعيد وتشديد التهديد وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ الظاهر أنه عطف على ما وبه قال بعضهم، وفائدته الدلالة على أن سببية ما اقترفوا من الذنوب لعذابهم مقيدة بانضمام انتفاء ظلمه تعالى إليه إذ لولاه لأمكن أن يعذبهم بغير ما اقترفوه إلا أن لا يعذبهم بما اقترفوا، وحاصله أن تعذيب العصاة يحتمل أن يكون لذنوبهم ويحتمل أن يكون لمجرد إرادة عذابهم من غير ذنب فجيء بهذا لرفع الاحتمال الثاني وتعيين الأول للسببية لا لرفع احتمال أن لا يعذبهم بذنوبهم لأنه جائز بل بعض الآيات تدل على وقوعه في حق بعض العصاة، ومرجع ذلك في الآخرة إلى تقريع الكفر وتبكيتهم بأنه لا سبب للعذاب إلا من قبلهم كأنه قيل: إن ذلك العذاب إنما نشأ من ذنوبكم التي اكتسبتموها لا من شيء آخر. واختار العلامة أبو السعود أن محل أن وما بعدها الرفع على الخبرية لمبتدأ محذوف أي والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده من غير ذنب من قبلهم، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبلها، وقال في العطف: للدلالة على أن سببية إلخ أنه ليس بسديد لما أن إمكان تعذيبه تعالى لعبيده بغير ذنب بل وقوعه لا ينافي كون تعذيب هؤلاء الكفرة المعينة بسبب ذنوبهم حتى يحتاج إلى اعتبار عدمه معه، نعم لو كان المدعي كون جميع تعذيباته تعالى بسبب ذنوب المعذبين لاحتيج إلى ذلك انتهى. وتعقب قوله: إن إمكان إلخ بأن الكلام ليس في منافاة ذينك الأمرين بحسب ذاتهما بل في منافاة احتمال التعذيب بلا ذنب لتعين سببية الذنوب له وقوله نعم لو كان المدعي إلخ بأن الاحتياج إلى ذلك القيد في كل من الصورتين إنما هو لتقريع المذنبين بأنه لا سبب لتعذيبهم إلا من قبلهم فالقول بالاحتياج في صورة الجميع وبعدمه في صورة الخصوصية ركيك جدا، وتعقب أيضا بغير ذلك، والقول بالاعتراض وإن كان لا يخلو عن بعد أبعد عن الاعتراض، والتعبير عن نفي تعذيبه تعالى لعبيده من غير ذنب، بنفي الظلم مع أن تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم على ما تقرر من قاعدة أهل السنة لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه سبحانه من الظلم وصيغة المبالغة لتأكيد هذا المعنى بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب في صورة المبالغة في الظلم، وقيل: هي لرعاية جمعية العبيد فتكون للمبالغة كمّا لا كيفا. واعترض بأن نفي المبالغة كفيما كانت توهم المحال، وقيل: ويجوز أن تعتبر المبالغة بعد النفي فيكون ذلك مبالغة في النفي لا نفيا للمبالغة، واعترض بأن ذلك ليس مثل القيد المنفصل الذي يجوز اعتبار تأخره وتقدمه كما قالوه في القيود الواقعة مع النفي، وجعله قيدا في التقدير لأنه بمعنى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 118 ليس بذي ظلم عظيم أو كثير تكلف لا نظير له، وقيل: إن ظلاما للنسبية أي ليس بذي ظلم ولا يختص ذلك بصيغة فاعل فقد جاء «وليست بذي رمح ولست بنبال» وقيل غير ذلك. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ شروع في حال المذبذبين أي ومنهم من يعبده تعالى كائنا على طرف من الدين لا ثبات له فيه كالذي يكون في طرف الجيش فإن أحس بظفر قر وإلا فر ففي الكلام استعارة تمثيلية، وقوله تعالى: فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ إلخ تفسير لذلك وبيان لوجه الشبه، والمراد من الخير الخير الدنيوي كالرخاء والعافية والولد أي إن أصابه ما يشتهي اطْمَأَنَّ بِهِ أي ثبت على ما كان عليه ظاهرا لا أنه اطمأن به اطمئنان المؤمنين الذين لا يزحزحهم عاصف ولا يثنيهم عاصف وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ أي شيء يفتن به من مكروه يعتريه في نفسه وأهله أو ماله انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ أي مستوليا على الجهة التي يواجهها غير ملتفت يمينا وشمالا ولا مبال بما يستقبله من حرار وجبال، وهو معنى قوله في الكشاف: طار على وجهه وجعله في الكشف كناية عن الهزيمة، وقيل هو هاهنا عبارة عن القلق لأنه في مقابلة اطمأن، وأيّا ما كان فالمراد ارتد رجع عن دينه إلى الكفر. أخرج البخاري وابن أبي حاتم. وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: كان الرجل يقدم المدينة فإذا ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قال: هذا دين صالح وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء. وأخرج ابن مردويه عن ابي سعيد قال: أسلم رجل من اليهود فذهب بصره وماله وولده فتشاءم من الإسلام فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: أقلني فقال عليه الصلاة والسلام: إن الإسلام لا يقال فقال: لم أصب من ديني هذا خيرا ذهب بصري ومالي ومات ولدي فقال صلّى الله عليه وسلّم: يا يهودي الإسلام يسبك الرجال كما تسبك النار خبث الحديد والذهب والفضة فنزلت هذه الآية، وضعف هذا ابن حجر، وقيل: نزلت في شيبة ابن ربيعة أسلم قبل ظهوره عليه الصلاة والسلام وارتد بعد ظهوره وروي ذلك عن ابن عباس، وعن الحسن أنها نزلت في المنافقين خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ جملة مستأنفة أو بدل من «انقلب» كما قال أبو الفضل الرازي أو حال من فاعله بتقدير قد أو بدونها كما هو رأي ابي حيان، والمعنى فقد الدنيا والآخرة وضيعهما حيث فاته ما يسره فيهما. وقرأ مجاهد وحميد والأعرج وابن محيصن من طريق الزعفراني وقعنب والجحدري وابن مقسم «خاسر» بزنة فاعل منصوبا على الحال لأن إضافته لفظية، وقرىء «خاسر» بالرفع على أنه فاعل «انقلب» وفيه وضع الظاهر موضع المضمر ليفيد تعليل انقلابه بخسرانه، وقيل: إنه من التجريد ففيه مبالغة، وجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هو خاسر، والجملة واردة على الذم والشتم ذلِكَ أي ما ذكر من الخسران، وما فيه من معنى البعد للإيذان بكونه في غاية ما يكون، وقيل إن أداة البعد لكون المشار إليه غير مذكور صريحا هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ أي الواضح كونه خسرانا لا غير يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قيل استئناف ناع عليه بعض قبائحه، وقيل استئناف مبين لعظم الخسران، ويجوز أن يكون حالا من فاعل انْقَلَبَ وما تقدمه اعتراض، وأيا ما كان فهو يبعد كون الآية في أحد من اليهود لأنهم لا يدعون الأصنام وأن اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله. والظاهر أن المدعو الأصنام لمكان ما في قوله تعالى: ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ والمراد بالدعاء العبادة أي يعبد متجاوزا عبادة الله تعالى ما لا يضره إن لم يعبده وما لا ينفعه إذا عبده، وجوز أن يراد بالدعاء النداء أي ينادي لأجل تخليصه مما أصابه من الفتنة جمادا ليس من شأنه الضر والنفع، ويلوح بكون المراد جمادا كذلك كما في إرشاد العقل السليم تكرير كلمة ما ذلِكَ أي الدعاء هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ عن الحق والهدى مستعار من ضلال من أبعد في التيه ضالا عن الطريق. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 119 يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ استئناف يبين مآل دعائه وعبادته غير الله تعالى ويقرر كون ذلك ضلالا بعيدا مع إزاحة ما عسى أن يتوهم من نفي الضرر عن معبوده بطريق المباشرة ونفيه عنه بطريق التسبب أيضا فالدعاء هنا بمعنى القول كما في قول عنترة: يدعون عنتر والرماح كأنها ... أشطان بئر في لبان الأدهم واللام داخلة في الجملة الواقعة مقولا له وهي لام الابتداء ومن مبتدأ وضَرُّهُ أَقْرَبُ مبتدأ وخبر والجملة صلة له، وقوله تعالى: لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ جواب قسم مقدر واللام فيه جوابية وجملة القسم وجوابه خبر (من) أي يقول الكافر يوم القيامة برفع صوت وصراخ حين يرى تضرره بمعبوده ودخوله النار بسببه ولا يرى منه أثرا مما كان يتوقعه منه من النفع لمن ضره أقرب تحققا من نفعه: والله لبئس الذي يتخذ ناصرا ولبئس الذي يعاشر ويخالط فكيف بما هو ضرر محض عار عن النفع بالكلية، وفي هذا من المبالغة في تقبيح حال الصنم والإمعان في ذمّه ما لا يخفى، وهو سر إيثار من على ما وإيراد صيغة التفضيل، وهذا الوجه من الإعراب اختاره السجاوندي والمعنى عليه مما لا إشكال فيه. وقد ذهب إليه أيضا جار الله، جوز أن يكون يَدْعُوا هنا إعادة ليدعو السابق تأكيدا له وتمهيدا لما بعد من بيان سوء حال معبوده إثر بيان سوء حال عبادته بقوله تعالى: ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ كأنه قيل من جهته سبحانه بعد ذكر عبادة الكافر ما لا يضره ولا ينفعه يدعو ذلك ثم قيل لمن ضره بكونه معبودا أقرب من نفعه بكونه شفيعا والله لبئس المولى إلخ، ولا تناقض عليه أيضا إذا الضر المنفي ما يكون بطريق المباشرة والمثبت ما يكون بطريق التسبب، وكذا النفع المنفي هو الواقعي والمثبت هو التوقعي، قيل ولهذا الإثبات عبر بمن فإن الضر والنفع من شأنهما أن يصدرا عن العقلاء، وفي إرشاد العقل السليم أن يراد كلمة من وصيغة التفضيل على تقدير أن يكون ذلك إخبارا من جهته سبحانه عن سوء حال معبود الكفرة للتهكم به. ولا مانع عندي أن يكون ذلك كما في التقدير الأول للمبالغة في تقبيح حال الصنم والإمعان في ذمه. واعترض ابن هشام على هذا الوجه بأن فيه دعوى خلاف الأصل مرتين إذ الأصل عدم التوكيد والأصل أن لا يفصل المؤكد عن توكيده ولا سيما في التوكيد اللفظي، وقال الأخفش: إن يَدْعُوا بمعنى يقول واللام للابتداء ومن موصول مبتدأ صلته الجملة بعده وخبره محذوف تقديره إله أو إلهي، والجملة محكية بالقول. واعترض بأنه فاسد المعنى لأن هذا القول من الكافر إنما يكون في الدنيا وهو لا يعتقد فيها أن الأوثان ضرها أقرب من نفعها. وأجيب بأن المراد إنكار قولهم بألوهية الأوثان إلا أن الله تعالى عبر عنها بما ذكر للتهكم. نعم الأولى أن يقدر الخبر مولى لأن قوله تعالى: لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ أدل عليه، ومع هذا لا يخفى بعد هذا الوجه، وقيل: يَدْعُوا مضمن معنى يزعم وهي ملحقة بأفعال القلوب لكون الزعم قولا مع اعتقاد. واللام ابتدائية معلقة للفعل ومن مبتدأ وخبرها محذوف كما في الوجه السابق، والجملة في محل نصب بيدعو، وإلى هذا الوجه أشار الفارسي ولا يخفى عليك ما فيه. وقال الفراء: إن اللام دخلت في غير موضعها والتقدير يدعو من لضره أقرب من نفعه فمن في محل نصب بيدعو. وتعقبه أبو حيان وغيره بأنه بعيد لأن ما في صلة الموصول لا يتقدم على الموصول، وقال ابن الحاجب: قيل اللام زائدة للتوكيد ومن مفعول يدعو وليس بشيء لأن اللام المفتوحة لا تزاد بين الفعل ومفعوله لكن قوي القول بالزيادة هنا بقراءة عبد الله يَدْعُوا من ضره بإسقاط اللام، وقيل يَدْعُوا بمعنى يسمي (ومن) مفعوله الأول الجزء: 9 ¦ الصفحة: 120 ومفعوله الثاني محذوف أي إلها، ولا يخفى عليك ما فيه، وقيل إن يدعو ليست عاملة فيما بعدها وإنما هي عاملة في ذلك قبلها وهو موصول بمعنى الذي، ونقل هذا عن الفارسي أيضا، وهو على بعده لا يصح إلا على قول الكوفيين إذ يجيزون في اسم الإشارة مطلقا أن يكون موصولا، وأما البصريون فلا يجيزون إلا في ذا بشرط أن يتقدمها الاستفهام بما أو من، وقيل هي عاملة في ضمير محذوف راجع إلى ذلك أي دعوه، والجملة في موضع الحال والتقدير ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ مدعوا وفيه مع بعده أن يَدْعُوا لا يقدر بمدعوا وإنما يقدر بداعيا والذي يقدر بمدعوا إنما هو يدعى المبني للمفعول، وقيل يَدْعُوا عطف على يدعو الأول وأسقط حرف العطف لقصد تعداد أحوال ذلك المذبذب واللام زائدة و (من) مفعول يَدْعُوا وهي واقعة على العاقل والدعاء في الموضعين إما بمعنى العبادة وإما بمعنى النداء، والمراد وما بيان حال طائفة منهم على معنى أنهم تارة يدعون ما لا يضر ولا ينفع وتارة يدعون من ضره أقرب من نفعه، وإما بيان حال الجنس باعتبار ما تحته على معنى أن منهم من يدعو ما لا يضر ولا ينفع ومنهم من يدعو من ضره أقرب من نفعه وهو كما ترى، وبالجملة أحسن الوجوه أولها. إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ استئناف لبيان كمال حسن حال المؤمنين العابدين له تعالى وأنه تعالى يتفضل عليهم بالنعيم الدائم إثر بيان غاية سوء حال الكفرة. وجملة تَجْرِي إلخ صفة لجنات فإن أريد بها الأشجار المتكاثفة السائرة لما تحتها فجريان الأنهار من تحتها ظاهر، وإن أريد بها الأرض فلا بد من تقدير مضاف أي من تحت أشجارها وإن جعلت عبارة عن مجموع الأرض والأشجار فاعتبار التحتية بالنظر إلى الجزء الظاهر المصحح لإطلاق اسم الجنة على الكل كما في إرشاد العقل السليم. وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ تعليل لما قبله وتقرير يطريق التحقيق أي هو تعالى يفعل البتة كل ما يريده من الأفعال المتقنة المبنية على الحكم الرائقة التي من جملتها إثابة من آمن به وصدق برسوله صلّى الله عليه وسلّم وعقاب من كفر به وكذب برسوله عليه الصلاة والسلام. مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ الضمير في يَنْصُرَهُ لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ما روي عن ابن عباس والكلبي ومقاتل والضحاك وقتادة وابن زيد والسدي واختاره الفراء والزجاج كأنه لما ذكر المجادل بالباطل وخذلانه في الدنيا لأنه لا يدلي بحجة ما ضرورية أو نظرية أو سمعية ولما يؤول إليه أمره من النكال، وفي الآخرة بما هو أطم وأطم ثم ذكر سبحانه مشايعيه وعمم خسارهم في الدارين ذكر في مقابلهم المؤمنين وأتبعه ذكر المجادل عنهم وعن دين الله تعالى بالتي هي أحسن وهو رسوله عليه الصلاة والسلام، وبالغ في كونه منصورا بما لا مزيد عليه، واختصر الكلام دلالة على أنه صلّى الله عليه وسلّم العلم الذي لا يشتبه وأن الكلام فيه وله ومعه وإن ذكر غيره بتبعية ذكره، فالمعنى أنه تعالى ناصر لرسوله صلّى الله عليه وسلّم في الدنيا بإعلاء كلمته وإظهار دينه وفي الآخرة بإعلاء درجته وإدخال من صدقه جنات تجري من تحتها الأنهار والانتقام ممن كذبه وإذاقته عذاب الحريق لا يصرفه سبحانه عن ذلك صارف ولا يعطفه عنه عاطف فمن كان يفيظه ذلك من أعاديه وحساده ويظن أن لن يفعله تعالى بسبب مدافعته ببعض الأمور ومباشرة ما يريده من المكائد فليبالغ في استفراغ المجهود وليتجاوز في الجد كل حد معهود فقصارى أمره خيبة مساعيه وعقم مقدماته ومباديه وبقاء ما يغيظ على حاله ودوام شجوه وبلباله، وقد وضع مقام هذا الجزاء. قوله سبحانه فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلخ أي فليمدد حبلا إِلَى السَّماءِ أي إلى سقف بيته كما أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن الضحاك ثُمَّ لْيَقْطَعْ أي ليختنق كما فسره بذلك ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من قطع إذا اختنق كان أصله قطع نفسه بفتحتين أو أجله ثم ترك المفعول نسيا منسيا فصار بمعنى اختنق لازم خنقه، وذكروا أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 121 قطع النفس كناية عن الاختناق، وقيل المعنى ليقطع الحبل بعد الاختناق على أن المراد به فرض القطع وتقديره كما أن المراد بالنظر في قوله تعالى: فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ تقدير النظر وتصويره وإلا فبعد الاختناق لا يتأتى منه ذلك أي فليقدر في نفسه النظر هل يذهبن كيده غيظه أو الذي يغيظه من النصر، ويجوز أن يراد فلينظر الآن أنه إن فعل ذلك هل يذهب ما يغيظه، وجوز أن يكون المأمور بالنظر غير المأمور الأول ممن يصح منه النظر، وأن يكون الكلام خارجا مخرج التهكم كما قيل إن تسمية فعله ذلك كيدا خارجة هذا المخرج، وقال جمع: إن إطلاق الكيد على ذلك لشبهه به فإن الكائد إذا كاد أتى بغاية ما يقدر عليه وذلك الفعل غاية ما يقدر عليه ذلك العدو الحسود، ونقل عن ابن زيد أن المعنى فليمدد حبلا إلى السماء المظلة وليصعد عليه ثم ليقطع الوحي عنه صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: ليقطع المسافة حتى يبلغ عنان السماء فيجهد في دفع نصره عليه الصلاة والسلام النازل من جهتها. وتعقبه المولى أبو السعود بأنه يأباه مساق النظم الكريم بيان أن الأمور المفروضة على تقدير وقوعها وتحققها بمعزل من إذهاب ما يغيظ، ومن البين أن لا معنى لفرض وقوع الأمور الممتنعة وترتيب الأمر بالنظر عليه لا سيما قطع الوحي فإن فرض وقوعه مخل بالمرام قطعا، ونوقش في ذلك بما لا يخفى على الناظر، نعم المعنى السابق هو الأولى، وأيا ما كان فمن يظن ذلك هم الكفرة الحاسدون له صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: أعراب من أسلم. وغطفان تباطؤوا عن الإسلام وقالوا: نخاف أن لا ينصر محمد عليه الصلاة والسلام فينقطع ما بيننا وبين حلفائنا من يهود فلا يقرونا ولا يؤونا، وقيل: قوم من المسلمين كانوا لشدة غيظهم من المشركين يستبطئون ما وعد الله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلّم من النصر والمعنى عليه وكذا على سابقه أن قيل إن أولئك الأعراب كانوا يستبطئون النصر أيضا من استبطأ نصر الله تعالى وطلبه عاجلا فليقتل نفسه لأن له وقتا اقتضت الحكمة وقوعه فيه فلا يقع في غيره، وأنت تعلم بعد هذين القولين وأن ثانيهما أبعده. واستظهر أبو حيان كون ضمير ينصره عائدا على من لأنه المذكور وحق الضمير أن يعود على مذكور، وهو قول مجاهد وإليه ذهب بعضهم وفسر النصر بالرزق، قال أبو عبيدة: وقف علينا سائل من بني بكر فقال: من ينصرني نصرة الله تعالى وقالوا: أرض منصورة أي ممطورة، وقال الفقعسي: وإنك لا تعطي امرأ فوق حقه ... ولا تملك الشيء الذي أنت ناصره أي معطيه وكأنه مستعار من النصر بمعنى العون فالمعنى أن الأرزاق بيد الله تعالى لا تنال إلا بمشيئته فلا بد للعبد من الرضا بقسمته فمن ظن أن الله تعالى غير رازقه ولم يصبر ولم يستسلم فليبلغ غاية الجزع وهو الاختناق فإن ذلك لا يقلب القسمة ولا يرده مرزوقا والغرض الحث على الرضا بما قسم الله تعالى لا كمن يعبده على حرف وكأنه سبحانه لما ذكر المؤمنين عقيبهم على ما مر حذرهم عن مثل حالهم لطفا في شأنهم. ولا يخلو عن بعد وإن كان ربط الآية بما قبلها عليه قريبا، وقيل: الضمير لمن والنصر على المتبادر منه والمعنى من كان يظن أن لن ينصره الله تعالى فيغتاظ لانتفاء نصره فليحتل بأعظم حيلة في نصر الله تعالى إياه وليستفرغ جهده في إيصال النصر إليه فلينظر هل يذهبن ذلك ما يغيظه من انتفاء النصر. ولا يخفى ما في وجه الربط على هذا من الخفاء. ومن كما أشرنا إليه شرطية، وجوز أن تكون موصولة والفاء في خبرها لتضمنها معنى الشرط وهل يذهبن في محل نصب بينظر، وذكر أنه على إسقاط الخافض، وقرأ البصريون وابن عامر وورش ثم ليقطع بكسر لام الأمر والباقون بسكونها على تشبيه ثم بالواو والفاء لأن الجميع عواطف وَكَذلِكَ أي مثل ذلك الإنزال البديع المنطوي على الحكم البالغة أَنْزَلْناهُ أي القرآن الكريم كله آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات الدلالة على معانيها الرائقة فالمشار إليه الإنزال المذكور بعد اسم الإشارة، ويجوز أن يكون المراد انزل الآيات السابقة. وأيا ما كان ففيه أن القرآن الكريم في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 122 جميع أبوابه كامل البيان لا في أمر البعث وحده. ونصب آياتٍ على الحال من الضمير المنصوب وقوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ بتقدير اللام وهو متعلق بمحذوف يقدر مؤخرا إفادة للحصر الإضافي أي ولأن الله تعالى يهدي به ابتداء أو يثبت على الهدى أو يزيد فيه من يريد هدايته أو ثباته أو زيادته فيها أنزله كذلك أو في تأويل مصدر مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي والأمر أن الله يهدي إلخ. وجوز أن يكون معطوفا على محل مفعول أَنْزَلْناهُ أي وأنزلناه أن الله يهدي إلخ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا أي بما ذكر من المنزل بهداية الله تعالى أو بكل ما يجب أن يؤمن به ويدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ هم على ما أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة قوم يعبدون الملائكة ويصلون إلى القبلة ويقرؤون الزبور، وفي القاموس هم قوم يزعمون أنهم على دين نوح عليه السلام وقبلتهم من مهب الشمال عند منتصف النهار، وفي كتاب الملل والنحل للشهرستاني أن الصابئة كانوا على عهد ابراهيم عليه السلام ويقال لمقابليهم الحنفاء وكانوا يقولون: إنا نحتاج في معرفة الله تعالى ومعرفة طاعته وأمره وأحكامه جل شأنه إلى متوسط روحاني لا جسماني. ومدار مذاهبهم على التعصب للروحانيات وكانوا يعظمونها غاية التعظيم ويتقربون إليها ولما لم يتيسر لهم التقرب إلى أعيانها والتلقي منها بذواتها فزعت جماعة إلى هياكلها وهي السبع السيارات وبعض الثوابت، فصابئة الروم مفزعها السيارات وصائبة الهند مفزعها الثوابت، وربما نزلوا عن الهياكل إلى الأشخاص التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني شيئا، والفرقة الأولى هم عبدة الكواكب، والثانية هم عبدة الأصنام. وقد أفحم إبراهيم عليه السلام كلتا الفرقتين وألزمهم الحجة. وذكر في موضع آخر أن ظهورهم كان في أول سنة من ملك طهمورث من ملوك الفرس، ولفظ الصابئة عربي من صبا كمنع وكرم صبا وصبوءا خرج من دين إلى آخر وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ هم على ما روي عن قتادة أيضا قوم يعبدون الشمس والقمر والنيران، واقتصر بعضهم على وصفهم بعبادة الشمس والقمر، وآخرون على وصفهم بعبادة النيران. وقيل: هم قوم اعتزلوا النصارى ولبسوا المسوح. وقيل: قوم أخذوا من دين النصارى شيئا ومن دين اليهود شيئا وهم قائلون بأن للعالم أصلين نورا وظلمة. وفي كتاب الملل والنحل ما يدل على أنهم طوائف وأنهم كانوا قبل اليهود والنصارى وأنهم يقولون بالشرائع على خلاف الصابئة وأن لهم شبهة كتاب وأنهم يعظمون النار، وفيه أن بيوت النيران للمجوس كثيرة فأول بيت بناه أفريدون بيت نار بطوس، وآخر بمدينة بخارى هو بردسون، واتخذ بهمن بيتا بسجستان يدعى كركو، ولهم بيت نار ببخارى أيضا يدعى قبادان وبيت نار يسمى كونشه بين فارس وأصفهان بناه كيخسرد. وآخر بقومش يسمى جرير. وبيت نار كيكدر بناه في مشرق الصين، وآخر بأرجان من فارس اتخذه أرجان جد كشتاسف، وكل هذه البيوت كانت قبل زرادشت. ثم جدد زرادشت بيت نار بنيسا بعد كشتاسف أن تطلب النار التي كان يعظمها جم فوجدوها بمدينة خوارزم فنقلها إلى دارابجرد والمجوس يعظمونها أكثر من غيرها وكيخسرد، ولما غزا افراسياب عظمها وسجد لها. ويقال: إن أنوشروان هو الذي نقلها إلى كارشان فتركوا بعضها هناك وحملوا بعضها إلى نسا. وفي بلاد الروم على باب قسطنطينية بيت نار اتخذه شابور بن أزدشير فلم تزل كذلك إلى أيام المهدي. وبيت نار باسفيتا على قرب مدينة السلام لبوران بنت كسرى. وفي الهند والصين بيوت نيران أيضا والمجوس إنما يعظمون النار لمعان. منها أنها جوهر شريف علوي يظنون أن ذلك ينجيهم من عذاب نار يوم القيامة ولم يدروا أن ذلك السبب الأعظم لعذابهم اهـ. وفيه ما لا يخفى على من راجع التواريخ. وفي القاموس مجوس كصبور رجل صغير الأذنين وضع دينا ودعا إليه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 123 معرب ميخ وكوش. وفي الصحاح المجوسية نحلة والمجوسي نسبة إليها والجمع المجوس. قال أبو علي النحوي: المجوس واليهود إنما عرفا على حد يهودي ويهود ومجوسي ومجوس فجمع على قياس شعيرة وشعير ثم عرف الجمع بالألف واللام ولولا ذلك لم يجز دخول الألف واللام عليهما لأنهما معرفتان مؤنثان فجريا في كلامهم مجرى القبلتين ولم يجعلا كالحيين في باب الصرف. وأنشد: أحار أريك برقا هبّ وهنا ... كنار مجوس يستعر استعارا انتهى. وذكر بعضهم أن مجوس معرب موكوش وأطلق على أولئك القوم لأنهم كانوا يرسلون شعور رؤوسهم إلى آذانهم. ونقل في البحر أن الميم بدل من النون، وأطلق ذلك عليهم لاستعمالهم النجاسات وهو قول لا يعول عليه وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا المشهور أنهم عبدة الأوثان، وقيل ما يعمهم وسائر من عبد مع الله تعالى إلها آخر من ملك وكوكب وغيرهما ممن لم يشتهر باسم خاص كالصابئة والمجوس، وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ في حيز الرفع على أنه خبر لأن السابقة وأدخلت إن على كل واحد من جزئي الجملة لزيادة التأكيد كما في قول جرير: إن الخليفة إن الله سربله ... سربال ملك به تزجى الخواتيم وقيل: خبر إن الأولى محذوف أي مفترقون يوم القيامة أو نحو ذلك مما يدل عليه قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ إلخ فإن قولك: إن زيدا إن عمرا يضربه رديء، والبيت لا يتعين فيه جعل الجملة المقترنة بأن خبرا بل يجوز أن تكون معترضة والخبر جملة به تزجى الخواتيم، ولا يخفى عليك بعد تسليم الرداءة أن الآية ليست كالمثال المذكور لطول الفاصل فيها، قال في البحر: وحسن دخول إن في الجملة الواقعة خبرا في الآية طول الفصل بالمعاطيف، وقال الزجاج: زعم قوم أن قولك: إن زيدا أنه قائم رديء وأن هذه الآية إنما صلحت بتقدم الموصول ولا فرق بين الموصول وغيره في باب إن وليس بين البصريين خلاف في أن إن تدخل على كل مبتدأ وخبر فعلى هذا لا ينبغي العدول عن الوجه المتبادر، والمراد بالفصل القضاء أي إنه تعالى يقضي بين المؤمنين والفرق الخمس المتفقة على الكفر بإظهار المحق من المبطل وتوفية كل منهما حقه من الجزاء بإثابة المؤمنين وعقاب الفرق الآخرين بحسب استحقاق أفراد كل منهما، وقيل: المراد أنه تعالى يفصل بين الفرق الست في الأحوال والأماكن جميعا فلا يجازيهم جزاء واحدا بلا تفاوت بل يجزي المؤمنين بما يليق واليهود بما يليق بهم وهكذا ولا يجمعهم في موطن واحد بل يجعل المؤمنين في الجنة وكلا من الفرق الكافرة في طبقة من طبقات النار، وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ تعليل لما قبله من الفصل أي إنه تعالى عالم بكل شيء من الأشياء ومراقب لأحواله ومن قضيته الإحاطة بتفاصيل ما صدر عن كل فرد من أفراد الفرق المذكورة وإجراء جزائه اللائق به عليه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 124 وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إلخ بيان لما يوجب الفصل المذكور من أعمال الفرق مع الاشارة إلى كيفيته وكونه بطريق التعذيب والإثابة والإكرام والإهانة، وجوز أن يكون تنويرا لكونه تعالى شهيدا على كل شيء، وقيل: هو تقريع على اختلاف الكفرة واستبعاد له لوجوب الصارف، والمراد بالرؤية العلم والخطاب لكل من يتأتى منه ذلك. والمراد بالسجود دخول الأشياء تحت تسخيره تعالى وإرادته سبحانه وقابليتها لما يحدث فيها عزّ وجلّ، وظاهر كلام الآمدي أنه معنى حقيقي للسجود. وفي مفردات الراغب السجود في الأصل التطامن والتذلل وجعل ذلك عبارة عن التذلل لله تعالى وعبادته وهو عام في الإنسان والحيوان والجماد. وذلك ضربان بأن سجود باختيار يكون للإنسان وبه يستحق الثواب وسجود بتسخير يكون للإنسان وغيره من الحيوانات والنباتات. وخص في الشريعة بالركن المعروف من الصلاة وما جرى مجراه من سجود التلاوة وسجود الشكر انتهى. وذكر بعضهم أنه كما خص في الشريعة بذلك خص في عرف اللغة به. وقال ابن كمال: إن حقيقته على ما نص عليه في المجمل وضع الرأس، وقال العلامة الثاني: حقيقته وضع الجبهة لا الرأس حتى لو وضع الرأس من جانب القفا لم يكن ساجدا، وعلى هذين القولين على علاتهما قيل السجود هنا مجاز عن الدخول تحت تسخيره تعالى والانقياد لإرادته سبحانه. وجوز أن يكون مجازا عن دلالة لسان حال الأشياء بذلتها وافتقارها على صانعها وعظمته جلت عظمته، ووجه التنوير على هذا ظاهر وكذا التقريع على الاختلاف. ومَنْ إما خاصة بالعقلاء وإما عامة لهم ولغيرهم بطريق التغليب وهو الأولى لأنه الأنسب بالمقام لإفادته شمول الحكم لكل ما فيهما بطريق القرار فيهما أو بطريق الجزئية منهما، ويكون قوله تعالى: وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ أفرادا لها بالذكر لشهرتها واستبعاد ذلك منها بحسب الظاهر في بادىء النظر القاصر كما قيل أو لأنها قد عبدت من دون الله تعالى إما باعتبار شخصها أو جنسها. فالشمس عبدتها حمير والقمر عبدته كنانة وعبد الدبران من النجوم تميم والشعري لخم وقريش، والثريا طيىء، وعطاردا أسد والمرزم ربيعة، وعبد أكثر العرب الأصنام المنحوتة من الجبال. وعبدت غطفان العزى وهي سمرة واحدة السمر شجر معروف، ومن الناس من عبد البقر. وقرأ الزهري وابن وثاب «الدّواب» بتخفيف الباء. وخص ابن جني في المحتسب هذه القراءة بالزهري، وقال: لا أعلم من خففها سواء وهو قليل ضعيف قياسا وسماعا لأن التقاء الساكنين على حده وعذره كراهة التضعيف ولذا قالوا في ظللت ظلت وقالوا جان بالتخفيف وذكر له نظائر كثيرة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 125 وقوله تعالى: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ قيل مرفوع بفعل مضمر يدل عليه المذكور أي ويسجد له كثير من الناس سجود الطاعة المعروف. واعترض بأنه صرح في المغني بأن شرط الدليل اللفظي على المحذوف أن يكون طبقة لفظا ومعنى أو معنى لا لفظا فقط فلا يجوز زيد ضارب وعمرو على أن خبر عمرو محذوف وهو ضارب من الضرب في الأرض أي مسافر والمذكور بمعناه المعروف. وأجاب الخفاجي بأن ما ذكر غير مسلم لما ذكره النحاة من أن المقدر قد يكون لازما للمذكور نحو زيدا ضربت غلامه أي أهنت زيدا ولا يكون مشتركا كالمثال المذكور إلا أن يكون بينهما ملاءمة فيصح إذا اتحدا لفظا وكان من المشترك وبينهما ملازمة تدل على المقدر ولذا لم يصح المثال المذكور انتهى، وعطفه بعضهم على المذكورات قبله وجعل السجود بالنسبة إليه بمعنى السجود المعروف وفيما تقدم بمعنى الدخول تحت التسخير أو الدلالة على عظمة الصانع جل شأنه. واستدل بذلك على جواز استعمال المشترك في معنييه أو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، والجواب ما علمت، ولا يجوز العطف وجعل السجود في الجميع بمعنى الدخول تحت التسخير أو الدلالة على العظمة لأن ذلك عام لجميع الناس فلا يليق حينئذ ذكر كَثِيرٌ وغير العام إنما هو السجود بالمعنى المعروف فيفيد ذكر كَثِيرٌ إذا أريد أن منهم من لم يتصف بذلك وهو كذلك، وما قيل: إنه يجوز أن يكون تخصيص الكثير على إرادة السجود العام للدلالة على شرفهم والتنويه بهم ليس بشيء إذ كيف يتأتى التنويه وقد قرن بهم غير العقلاء كالدواب، وقال ابن كمال: تمسك من جوز حمل المشترك في استعمال واحد على أكثر من معنى بقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ الآية بناء على أن المراد بالسجود المنسوب إلى غير العقلاء الانقياد لتعذر السجود المعهود في حقه ومن المنسوب إليهم ما هو المعهود دون الانقياد لأنه شامل للكل غير مخصوص بالكثير ولا متمسك لهم في ذلك لأن كلا من التعليلين في معرض المنع، أما الأول فلأن حقيقة السجود وضع الرأس ولا تعذر في نسبته إلى غير العقلاء ولا حاجة إلى إثبات حقيقة الرأس في الكل لأن التغليب سائغ شائع، وأما الثاني فلأن الكفار لا سيما المتكبرين منهم لا حظ لهم من الانقياد لأن المراد منه الإطاعة بما ورد في حقه من الأمر تكليفيا كان أو تكوينيا على وجه ورد به الأمر وتقدير فعل آخر في هذا المقام من ضيق العطن كما لا يخفى على أرباب الفطن انتهى. وفيه القول بجواز العطف على كلا معنى السجود وضع الرأس والانقياد وبيان فائدة تخصيص الكثير على الثاني، ولا يخفى أن المتبادر من معتبرات كتب اللغة أن السجود حقيقة لغوية في الخضوع مطلقا وأن ما ذكره من حديث التغليب خلاف الظاهر وكذا حمل الانقياد على ما ذكره، وقد أخذ رحمه الله تعالى كلا المعنيين من التوضيح وقد أسقط مما فيه ما عنه غنى، وما زعم أنه من ضيق العطن هو الذي ذهب إليه أكثر القوم وعليه يكون مِنَ النَّاسِ صفة كَثِيرٌ وأورد أنه حينئذ يرد أن سجود الطاعة المعروف لا يختص بكثير من الناس فإن كثيرا من الجن متصف به أيضا، وكونهم غير مكلفين خلاف القول الأصح. نعم يمكن أن يقال: إنهم لم يكونوا مأمورين بالسجود عند نزول الآية وعلى مدعيه البيان، والقول بأنه يجوز أن يراد بالناس ما يعم الجن فإنه يطلق عليهم حسب إطلاق النفر والرجال عليهم ليس بشيء. ومن الناس من أجاب عن ذلك بأن يسجد المقدر داخل في الرؤية وقد قالوا: المراد بها العلم والتعبير بها عنه للإشعار بظهور المعلوم وظهور السجود بمعنى الدخول تحت التسخير في الأشياء المنسوب هو إليها مما لا سترة عليها وكذا ظهوره بمعنى السجود المعروف في كثير من الناس، وأما في الجن فليس كذلك فلذا وصف الكثير بكونه من الناس. وتعقب بأن الخطاب في أَلَمْ تَرَ لمن يتأتى منه ذلك ولا سترة في ظهور أمر السجود مطلقا بالنسبة إليه. ورد بأن مراد المجيب في أن سجود الجن ليس بظاهر في نفس الأمر ومع قطع النظر عن المخاطب كائنا من كان ظهور دخول الجزء: 9 ¦ الصفحة: 126 الأشياء المذكورة أولا تحت التسخير بخلاف سجود كثير من الناس فإنه ظاهر ظهور ذلك في نفس الأمر فخص الكثير بكونه من الناس ليكون الداخل في حيز الرؤية من صقع واحد من الظهور في نفس الأمر. وقيل المقام يقتضي تكثير الرائين لما يذكر في حيز الرؤية والتخصيص أوفق بذلك فلذا خص الكثير بكونهم من الناس والكل كما ترى، والأولى أن يقال: تخصيص الكثير من الناس بنسبة السجود بالمعنى المعروف إليهم على القول بأن كثيرا من الجن كذلك للتنويه بهم، ولا يرد عليه ما مر لأنه لم يقرن بهم في هذا السجود غير العقلاء فتأمل، وقيل: إن كَثِيرٌ مرفوع على الابتداء حذف خبره ثقة بدلالة خبر قسيمه عليه نحو حق له الثواب ويفيد الكلام كثرة الفريقين والأول أولى لما فيه من الترغيب في السجود والطاعة للحق المعبود، وجوز أن يكون كَثِيرٌ مبتدأ ومِنَ النَّاسِ خبره والتعريف فيه للحقيقة والجنس أي وكثير من الناس الذين هم الناس على الحقيقة وهم الصالحون المتقون، وقال الراغب: قد يذكر الناس ويراد به الفضلاء دون من يتناوله اسم الناس تجوزا، وذلك إذا اعتبر معنى الانسانية وهو وجود العقل والذكر وسائر القوى المختصة به فإن كل شيء عدم فعله المختص به لا يكاد يستحق اسمه والمخصص للمبتدأ النكرة أنه صفة محذوف بالحقيقة على أن المعادلة من المخصصات إذا قلت رجال مكرمون ورجال مهانون لأنه تفصيل مجمل فهو موصوف تقديرا ولأن كلا من المقابلين موصوف بمغايرة الآخر فهذا داخل في الوصف المعنوي، وأن يكون كَثِيرٌ مبتدأ ومِنَ النَّاسِ صفته وقوله تعالى: وَكَثِيرٌ معطوف عليه وقوله سبحانه: حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ أي ثبت وتقرر خبر، ويكون الكلام على حد قولك: عندي ألف وألف أي ألوف كثيرة ومثله شائع في كلامهم فيفيد كثرة من حق عليه العذاب من الناس، وهذان الوجهان بعيدان، وقال في البحر: ضعيفان. والظاهر أن كَثِيرٌ الثاني مبتدأ والجملة بعده خبره وقد أقيمت مقام لا يسجد فكأنه قيل ويسجد كثير من الناس ولا يسجد كثير منهم، ولا يخفى ما في تلك الإقامة من الترهيب عن ترك السجود والطاعة، ولا يخفى ما في عدم التصريح بتقييد الكثير بكونه من الناس مما يقوي دعوى أن التقييد فيما تقدم للتنويه، وحمل عدم التقييد ليعم الكثير من الجن خلاف الظاهر جدا. وجوز أن يكون معطوفا على من والسجود بأحد المعنيين السابقين وجملة حَقَّ إلخ صفته ويقدر وصف لكثير الأول بقرينة مقابله أي حق له الثواب ومِنَ النَّاسِ صفة له أيضا، ولا يخفى ما فيه، وقرىء «حقّ» بضم الحاء و «حقا» أي حق عليه العذاب حقا فهو مصدر مؤكد لمضمون الجملة وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ بأن كتب الله تعالى عليه الشقاء حسبما استعدت له ذاته من الشر، ومن مفعول مقدر ليهن فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ يكرمه بالسعادة. وقرأ ابن أبي عبلة «مكرم» بفتح الراء على أنه مصدر ميمي كما في القاموس أي مما له إكرام، وقيل اسم مفعول بمعنى المصدر ولا حاجة إلى التزامه، وقيل يجوز أن يكون باقيا على ما هو الشائع في هذه الصيغة من كونه اسم مفعول، والمعنى ما له من يكرم ويشفع فيه ليخلص من الإهانة. ولا يخفى بعده إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ من الأشياء التي من جملتها الإكرام والإهانة، وهذا أولى من تخصيص ما بقرينة السياق بهما. هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ تعيين لطرفي الخصام وتحرير لمحله فالمراد بهذان فريق المؤمنين وفريق الكفرة المنقسم إلى الفرق الخمس. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد وعطاء بن أبي رباح والحسن وعاصم والكلبي ما يؤيد ذلك وبه يتعين كون الفصل السابق بين المؤمنين ومجموع من عطف عليهم، ولما كان كل خصم فريقا يجمع طائفة جاء اخْتَصَمُوا بصيغة الجمع. وقرأ ابن أبي عبلة «اختصما» مراعاة اللفظ خَصْمانِ وهو تثنية خصم وذكروا أنه في الأصل مصدر يستوي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 127 فيه الواحد المذكر وغيره، قال أبو البقاء: وأكثر الاستعمال توحيده فمن ثناه وجمعه حمله على الصفات والأسماء، وعن الكسائي أنه قرأ «خصمان» بكسر الخاء، ومعنى اختصامهم في ربهم اختصامهم في شأنه عزّ شأنه، وقيل في دينه، وقيل في ذاته وصفاته والكل من شؤونه تعالى واعتقاد كل من الفريقين حقية ما هو عليه وبطلان ما عليه صاحبه وبناء أقواله وأفعاله عليه يكفي في تحقق خصومته للفريق الآخر ولا يتوقف عن التحاور. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال: تخاصمت المؤمنون واليهود فقالت اليهود: نحن أولى بالله تعالى وأقدم منكم كتابا ونبيا قبل نبيكم، وقال المؤمنون: نحن أحق بالله تعالى آمنا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وآمنا بنبيكم وبما أنزل الله تعالى من كتاب وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم تركتموه وكفرتم به حسدا فنزلت. وأخرج جماعة عن قتادة نحو ذلك واعترض بأن الخصام على هذا ليس في الله تعالى بل في أيهما أقرب منه عزّ شأنه. وأجيب بأنه يستلزم ذلك وهو كما ترى وقيل عليه أيضا: إن تخصيص اليهود خلاف مساق الكلام في هذا المقام. وفي الكشف قالوا: إن هذا لا ينافي ما روي عن ابن عباس من أن الآية ترجع إلى أهل الأديان الستة في التحقيق لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وأخرج البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة والطبراني وغيرهم عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه أنه كان يقسم قسما أن هذه الآية هذانِ خَصْمانِ إلى قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ نزلت في الثلاثة والثلاثة الذين بارزوا يوم بدر هم حمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث وعلي بن أبي طالب وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة، وأنت تعلم أن هذا الاختصام ليس اختصاما في الله تعالى بل منشؤه ذلك فتأمل ولا تغفل. وأما ما قيل من أن المراد بهذين الخصمين الجنة والنار فلا ينبغي أن يختلف في عدم قبوله خصمان أو ينتطح فيه كبشان، وفي الكلام كما قال غير واحد تقسيم وجمع وتفريق فالتقسيم إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا- إلى قوله تعالى- وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا والجمع إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ إلى قوله تعالى: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ والتفريق في قوله سبحانه: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ إلخ أي أعد لهم ذلك، وكأنه شبه أعداد النار المحيطة بهم بتقطيع ثياب وتفصيلها لهم على قدر جثثهم ففي الكلام استعارة تمثيلية تهكمية وليس هناك تقطيع ولا ثياب حقيقة، وكأن جمع الثياب للإيذان بتراكم النار المحيطة بهم وكون بعضها فوق بعض. وجوز أن يكون ذلك لمقابلة الجمع بالجمع والأول أبلغ، وعبر بالماضي لأن الأعداد قد وقع فليس من التعبير بالماضي لتحققه كما في «نفخ في الصور» . وأخرج جماعة عن سعيد بن جبير أن هذه الثياب من نحاس مذاب وليس شيء حمي في النار أشد حرارة منه فليست الثياب من نفس النار بل من شيء يشبهها وتكون هذه الثياب كسوة لهم وما أقبحها كسوة. ولذا قال وهب: يكسى أهل النار والعري خير لهم. وقرأ الزعفراني في اختياره «قطعت» بالتخفيف والتشديد أبلغ. يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ أي الماء الحار الذي انتهت حرارته، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لو سقط من الحميم نقطة على جبال الدنيا لأذابتها، وفسره ابن جبير بالنحاس المذاب، والمشهور التفسير السابق، ولعله إنما جيء بمن ليؤذن بشدة الوقوع والجملة مستأنفة أو خبر ثان للموصول أو في موضع الحال المقدرة من ضمير لَهُمْ يُصْهَرُ بِهِ أي يذاب ما فِي بُطُونِهِمْ من الأمعاء والأحشاء. وأخرج عبد بن حميد والترمذي وصححه وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وجماعة عن أبي هريرة أنه تلا هذه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 128 الآية فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه حتى يمرق إلى قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان» . وقرأ الحسن وفرقة «يصهّر» بفتح الصاد وتشديد الهاء، والظاهر أن قوله تعالى: وَالْجُلُودُ عطف على ما وتأخيره عنه قيل إما لمراعاة الفواصل أو للإشعار بغاية شدة الحرارة بإيهام أن تأثيرها في الباطن أقدم من تأثيرها في الظاهر مع أن ملابستها على العكس، وقيل إن التأثير في الظاهر غني عن البيان وإنما ذكر للإشارة إلى تساويهما ولذا قدم الباطن لأنه المقصود الأهم، وقيل التقدير ويحرق الجلود لأن الجلود لا تذاب وإنما تجتمع على النار وتنكمش، وفي البحر أن هذا من باب علفتها تبنا وماء باردا. وقال بعضهم: لا حاجة إلى التزام ذلك فإن أحوال تلك النشأة أمر آخر، وقيل يُصْهَرُ بمعنى ينضج، وأنشد: تصهره الشمس ولا ينصهر وحينئذ لا كلام في نسبته إلى الجلود، والجملة حال من الْحَمِيمُ أو مستأنفة. وَلَهُمْ أي للكفرة، وكون الضمير للزبانية بعيد، واللام للاستحقاق أو للفائدة تهكما بهم، وقيل للأجل، والكلام على حذف مضاف أي لتعذيبهم، وقيل بمعنى على كما في قوله تعالى: وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ [غافر: 52] أي وعليهم. مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ جمع مقمعة وحقيقتها ما يقمع به أي يكف بعنف. وفي مجمع البيان هي مدقة الرأس من قمعه قمعا إذا ردعه، وفسرها الضحاك وجماعة بالمطارق، وبعضهم بالسياط. وفي الحديث «لو وضع مقمع منها في الأرض ثم اجتمع عليه الثقلان ما أقلوه من الأرض» كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أي أشرفوا على الخروج من النار ودنوا منه حسبما يروى أنها تضربهم بلهبها فترفعهم فإذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهووا فيها سبعين خريفا، فالإرادة مجاز عن الإشراف والقرب كما في قوله تعالى: يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ [الكهف: 77] وجعل بعضهم ضمير مِنْها للثياب وهو ركيك، وقوله تعالى: مِنْ غَمٍّ بدل اشتمال من ضمير مِنْها بإعادة الجار والرابط محذوف والتنكير للتفخيم، والمراد من غم عظيم من غمومها أو مفعول له للخروج أي كلما أرادوا الخروج منها لأجل غم عظيم يلحقهم من عذابها، والغم أخو الهم وهو معروف، وقال بعضهم: هو هنا مصدر غممت الشيء أي غطيته أي كلما أرادوا أن يخرجوا من تغطية العذاب لهم أو مما يغطيهم من العذاب أُعِيدُوا فِيها أي في قعرها بأن ردوا من أعاليها إلى أسافلها من غير أن يخرجوا منها إذ لا خروج لهم كما هو المشهور من حالهم، واستدل له بقوله تعالى: وَما هُمْ بِخارِجِينَ [البقرة: 167، المائدة: 37] وفي اختيار فِيها دون إليها إشعار بذلك، وقيل الإعادة مجاز عن الإبقاء، وقيل التقدير كلما أرادوا أن يخرجوا منها فخرجوا أعيدوا فيها فالإعادة معلقة على الخروج وحذف للإشعار بسرعة تعلق الإرادة بالإعادة ويجوز أن يحصل لهم، والمراد من قوله تعالى: وَما هُمْ بِخارِجِينَ نفي الاستمرار أي لا يستمرون على الخروج لا استمرار النفي، وكثيرا ما يعدى العود بفي لمجرد الدلالة على التمكن والاستقرار، وقال بعضهم: إن الخروج ليس من النار وإنما هو من الأماكن المعدة لتعذيبهم فيها، والمعنى كلما أراد أحدهم أن يخرج من مكانه المعد له في النار إلى مكان آخر منها فخرج منه أعيد فيه وهو كما ترى، وهذه الإعادة على ما قيل بضرب الزبانية إياهم بالمقامع، وقوله تعالى: وَذُوقُوا على تقدير قول معطوف على أُعِيدُوا أي وقيل لهم ذوقوا عَذابَ الْحَرِيقِ قد مر الكلام فيه، والأمر للاهانة. إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ بيان لحسن حال الجزء: 9 ¦ الصفحة: 129 المؤمنين إثر بيان سوء حال الكفرة، وغير الأسلوب فيه بإسناد الإدخال إلى الاسم الجامع وتصدير الجملة بحرف التحقيق وفصلها للاستئناف إيذانا بكمال مباينة حالهم لحال الكفرة وإظهارا لمزيد العناية بأمر المؤمنين ودلالة على تحقيق مضمون الكلام يُحَلَّوْنَ فِيها بالبناء للمفعول والتشديد من التحلية بالحلي أي تحليهم الملائكة عليهم السلام بأمره تعالى، وقوله تعالى: مِنْ أَساوِرَ قيل متعلق بيحلون، ومِنْ ابتدائية والفعل متعد لواحد وهو النائب عن الفاعل، وقيل: متعلق بمحذوف وقع صفة لمفعول محذوف ومن للبيان والفعل متعد لاثنين أحدهما النائب عن الفاعل والآخر الموصوف المحذوف أي يحلون حليا أو شيئا من أساور، وعلى القول بتعدي هذا الفعل لاثنين جوز أن تكون من للتبعيض واقعة موقع المفعول، وأن تكون زائدة على مذهب الأخفش من جواز زيادتها في الإيجاب وأَساوِرَ مفعول يُحَلَّوْنَ وقوله تعالى: مِنْ ذَهَبٍ صفة لأساور، ومِنْ للبيان، وقيل: لابتداء الغاية أي أنشئت من ذهب، وقيل: للتبعيض، وتعلقه بيحلون لا يخفى حاله، وقرىء «يحلون» بضم الياء والتخفيف، وهو على ما في البحر بمعنى المشدد، ويشعر كلام بعض أنه متعد لواحد وهو النائب الفاعل فمن أساور متعلق به ومن ابتدائية. وقرأ ابن عباس «يحلون» بفتح الياء واللام وسكون الحاء من حليت المرأة إذا لبست حليها. وقال أبو حيان: إذا صارت ذات حلي، وقال أبو الفضل الرازي: يجوز أن يكون من حلي بعيني يحلى إذا استحسنته وهو في الأصل من الحلاوة وتكون من حينئذ زائدة، والمعنى يستحسنون فيها الأساور، وقيل: هذا الفعل لازم ومن سببية، والمعنى يحلى بعضهم بعين بعض بسبب لباس أساور الذهب. وجوز أبو الفضل أن يكون من حليت به إذا ظفرت به، ومنه قولهم: لم يحل فلان بطائل، ومن حينئذ بمعنى الباء أي يظفرون فيها بأساور من ذهب. وقرأ ابن عباس «من أسور» بفتح الراء من غير ألف ولا هاء، وكان قياسه أن يصرف لأنه نقص بناؤه فصار كجندل لكنه قدر المحذوف موجودا فمنع الصرف، قد تقدم الكلام على نظير هذه الجملة في الكهف فتذكر، وقوله تعالى: وَلُؤْلُؤاً عطف على محل مِنْ أَساوِرَ أو على الموصوف المحذوف، وحمله أبو الفتح على إضمار فعل أي ويؤتون لؤلؤا أو نحو ذلك. وقرأ أكثر السبعة والحسن في رواية وطلحة وابن وثاب والأعمش وأهل مكة «ولؤلؤا» بالخفض عطفا على أَساوِرَ أو على ذَهَبٍ لأن السوار قد يكون من ذهب مرصع بلؤلؤ وقد يكون من لؤلؤ فقط كما رأيناه ويسمى في ديارنا حضرا أو أكثر ما يكون من المرجان. واختلفوا هل في الإمام ألف بعد الواو فقال الجحدري: نعم، وقال الأصمعي: لا، وروى يحيى عن أبي بكر همز الآخر وقلب الهمزة الأولى واوا، وروى المعلى بن منصور عنه ضد ذلك. وقرأ الفياض «لوليا» قلب الهمزتين واوين فصارت الثانية واوا قبلها ضمة وحيث لم يكن في كلامهم اسم متمكن آخره واو قبلها ضمة قلب الواو ياء والضمة قبلها كسرة. وقرأ ابن عباس «وليليا» بقلب الهمزتين واوين ثم قبلهما ياءين، أما قلب الثانية فلما علمت وأما قلب الأولى فللاتباع. وقرأ طلحة «ولول» كادل في جمع دلو قلبت الهمزتان واوين ثم قلبت ضمة اللام كسرة والواو ياء ثم أعل إعلال قاض وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ غير الأسلوب حيث لم يقل ويلبسون فيها حريرا للإيذان بأن ثبوت اللباس لهم أمر محقق غني عن البيان إذ لا يمكن عراؤهم عنه وإنما المحتاج إلى البيان أن لباسهم ماذا بخلاف التحلية فإنها ليست من لوازمهم الضرورية فلذا جعل بيانها مقصودا بالذات. ولعل هذا هو السر في تقديم بيان التحلية على بيان حال اللباس قاله العلامة شيخ الإسلام، ولم يرتض ما قيل: إن التغيير لدلالة على أن الحرير لباسهم المعتاد أو لمجرد المحافظة على هيئة الفواصل، وظاهر كلامهم أن الجملة معطوفة على السابقة، وجوز أن تكون في موضع الحال من ضمير يُحَلَّوْنَ ثم إن الظاهر أن هذا الحكم عام في كل أهل الجنة، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 130 وقيل هو باعتبار الأغلب لما أخرج النسائي وابن حبان وغيرهما عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه» وحديث عدم لبس ذلك له في الآخرة مذكور في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعا. والظاهر أن حرمة استعمال الحرير للرجال في غير ما استثني مجمع عليها وأنه يكفر من استحل ذلك غير متأول، ولعل خبر البيهقي في سننه. وغيره عن ابن الزبير رضي الله تعالى عنهما مرفوعا «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ولم يدخل الجنة» إن صح محمول على ما إذا كان اللبس محرما بالإجماع وقد استحله فاعله من غير تأويل أو على أن المراد لم يدخل الجنة مع السابقين وإلا فعدم دخول اللابس مطلقا الجنة مشكل. وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وهو قولهم: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ [الزمر: 74] كما روي عن ابن عباس، وقيل: ما يعمه وسائر ما يقع في محاورة أهل الجنة بعضا لبعض، وقيل: إن هذه الهداية في الدنيا فالطيب قول لا إله إلا الله، وفي رواية عن ابن عباس ذلك مع زيادة والحمد لله، وزاد ابن زيد والله أكبر، وعن السدي هو القرآن، وحكى الماوردي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقيل: ما يعم ذلك وسائر الأذكار وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ أي المحمود جدا، وإضافة صِراطِ إليه قيل بيانية. والمراد به الإسلام فإنه صراط محمود من يسلكه أو محمود هو نفسه أو عاقبته، وقيل: الجنة وإطلاق الصراط عليها باعتبار أنها طريق للفوز بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وقيل: الْحَمِيدِ هو الجنة والإضافة على ظاهرها، والمراد بصراطها الإسلام أو الطريق المحسوس الموصل إليها يوم القيامة، واستظهر أن المراد من الحميد هو الله عز وجل المستحق لذاته لغاية الحمد. والمراد بصراطه تعالى الإسلام فإنه طريق إلى رضوانه تعالى. وقيل: الجنة فإنها طريق للفوز بما تقدم وأضيفت إليه تعالى للتشريف. وحاصل ما قالوه هنا أن الهداية تحتمل أن تكون في الآخرة وأن تكون في الدنيا. وأن المراد بالحميد إما الحق تعالى شأنه وإما الجنة وإما الصراط نفسه، وبالصراط إما الإسلام وإما الجنة وإما الطريق المحسوس الموصل إليها يوم القيامة. ووجهوا تأخير هذه الجملة عن الجملة الأولى تارة بأنه لرعاية الفواصل وأخرى بأن ذكر الحمد الذي تضمنته الأولى يستدعي ذكر المحمود ولا يبعد أن يقال: إن الهداية في الجملتين في الآخرة بعد دخول الجنة وإن الإضافة هنا بيانية وإن المراد بالقول الطيب القول الذي تستلذه النفوس الواقع في محاورة أهل الجنة بعضهم لبعض. وبالصراط الحميد ما يسلكه أهل الجنة في معاملة بعضهم بعضا من الأفعال التي يحمدون عليها أو مما أعم من ذلك. فحاصل الجملة الأولى وصف أهل الجنة بحسن الأقوال. وحاصل الثانية وصفهم بحسن الأفعال أو مما هو أعم منها ومن الأقوال. وكأنه تعالى بعد أن ذكر حسن مسكنهم وحليهم ولباسهم ذيل ذلك بحسن معاملة بعضهم بعضا في الأقوال والأفعال إيماء إلى أن ما هم فيه لا يخرجهم إلى خشونة المقال ورداءة الأفعال المشينتين لحسن ما هم فيه والمنفضتين للذة الاجتماع. ووجه التقديم والتأخير على هذا غير خفي على الفطن. والذي اختاره أن القول الطيب قولهم بعد دخول الجنة الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ [فاطر: 34، 35] لقوله تعالى: في سورة [فاطر: 33، 34] بعد قوله سبحانه: يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إلخ والقرآن يفسر بعضه بعضا. وأن المراد بالصراط الحميد ما يعم الأقوال والأفعال الجارية بين أهل الجنة مما يحمد سلوكه في المعاشرة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 131 والاجتماع في هاتيك البقاع فرارا من شائبة التأكيد كما لا يخفى على ذكر فكر سديد فتأمل هديت إلى صراط الحميد. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وعيد لصنف من الكفرة، وحسن عطف المضارع على الماضي لما أنه لم يرد بالمضارع حال أو استقبال كما في قولهم: فلان يحسن إلى الفقراء فإن المراد به استمرار وجود الإحسان، وقيل يَصُدُّونَ بمعنى صدوا إلا أنه عبر بالمضارع استحضارا للصورة الماضية تهويلا لأمر الصد، وقيل لا عطف بل الجملة خبر مبتدأ محذوف والمجموع في موضع الحال من فاعل كَفَرُوا أي وهم يصدون، وجوز أن تكون الجملة حالا من غير تقدير مبتدأ لشبهها بالجملة الاسمية معنى وخبر إن محذوف للدلالة آخر الآية الكريمة عليه أي نذيقهم من عذاب أليم، وقدره الزمخشري بعد الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وتعقبه أبو حيان بأنه لا يصح لما فيه من الفصل بين الصفة وهو الْمَسْجِدِ والموصوف وهو الَّذِي. وأجيب باحتمال أنه جعل الَّذِي نعتا مقطوعا، وقدره ابن عطية بعد وَالْبادِ هو أولى إلا أنه قدر خسروا أو هلكوا وتقدير نذيقهم إلخ أولى منه، وقيل الواو في وَيَصُدُّونَ زائدة والجملة بعده خبر إن. وتعقبه ابن عطية بأنه مفسد للمعنى المراد وغيره بأن البصريين لا يجيزون زيادة الواو والقول بجواز زيادتها قول كوفي مرغوب عنه، والظاهر أن الْمَسْجِدِ عطف على سَبِيلِ وجوز أن يكون معطوفا على الاسم الجليل، والآية على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نزلت في أبي سفيان بن حرب وأصحابه حين صدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم عام الحديبية عن المسجد الحرام فكره عليه الصلاة والسلام أن يقاتلهم وكان محرما بعمرة ثم صالحوه على أن يعود في العام القابل، والمراد بالمسجد الحرام مكة وعبر به عنها لأنه المقصود المهم منها، ويدل على ذلك قوله تعالى: الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ أي كائنا من كان من غير فرق بين مكي وآفاقي سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ أي المقيم فيه والطارئ فإن الإقامة لا تكون في المسجد نفسه بل في منازل مكة وفي وصفه بذلك زيادة التشنيع على الصادين عنه، وقد استشهد بعض الأئمة بالآية على عدم جواز بيع دور مكة وإجارتها وإلا لما استوى العاكف فيها والباد، وقد ورد التصريح بذلك في بعض الأحاديث الصحيحة، فروي من عدة طرق أنه عليه الصلاة والسلام قال: «مكة حرمها الله تعالى لا يحل بيع رباعها ولا إجارة بيوتها» وذكر ابن سابط أن دور أهل مكة كانت بغير أبواب حتى كثرة السرقة فاتخذ رجل بابا فأنكر عليه عمر رضي الله تعالى عنه قال: أتغلق بابا في وجه حاج بيت الله تعالى؟ فقال: إنما أردت حفظ متاعهم من السرقة فتركه فاتخذ الناس الأبواب، وأخرج ابن ماجه وابن أبي شيبة عن علقمة بن نضلة قال: توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وما تدعى رباع مكة إلا السوائب من احتاج سكن ومن استغنى أسكن، وقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: من أكل كراء بيوت مكة فإنما أكل نارا في بطنه لأن الناس في الانتفاع بها سواء، وجاء صدره من رواية الدارقطني مرفوعا وفي النهاية لا بأس ببيع بناء مكة ويكره بيع أرضها وهذا عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وقال: لا بأس ببيع أرضها وهو رواية عنه أيضا وهو مذهب الشافعي عليه الرحمة وعليه الفتوى. وفي تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار وجاز بيع بناء بيوت مكة وأرضها بلا كراهة وبه قال الشافعي وبه يفتي عيني. وفي البرهان في باب العشر ولا يكره بيع أرضها كبنائها وبه يعمل. وفي مختارات النوازل لصاحب الهداية لا بأس ببيع بنائها وإجارتها لكن في الزيلعي وغيره يكره إجارتها، وفي آخر الفصل الخامس من التتار خانية وإجارة الوهبانية قال أبو حنيفة: أكره إجارة بيوت مكة في أيام الموسم وكان يفتي لهم أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 132 ينزلوا عليهم في دورهم لقوله تعالى: سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ ورخص فيها في غير أيام الموسم انتهى فليحفظ، قلت: وبهذا يظهر الفرق والتوفيق انتهى. والذي يفهم من غاية البيان أن القول بكراهة إجازة بيوتها أيام الموسم مما لم ينفرد به الإمام بل وافقه عليه صاحباه حيث نقل عن تقريب الإمام الكرخي ما نصه وروى هشام عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه كره إجارة بيوت مكة في الموسم ورخص في غيره، وكذا قال أبو يوسف، وقال هشام: أخبرني محمد عن أبي حنيفة أنه يكره كراء بيوت مكة في الموسم ويقول لهم أن ينزلوا عليهم في دورهم إن كان فيها فضل وإن لم يكن فلا وهو قول محمد انتهى. والذي تحرر مما رأيناه من أكثر معتبرات كتب ساداتنا الحنفية أن جواز بيع بناء البيوت متفق عليه لأنه ملك لمن بناه كمن بنى في أرض الوقف بإذن المتولي، ولا يقال: إنه بناء غاصب كمن بنى بيتا في جامع لظهور الإذن هنا دونه ثمة، وكذا كراهة الإجارة في أيام الموسم وأما بيع الأرض فعند الإمامين جائز بلا كراهة قولا واحدا وعن الإمام روايتان الجواز وعدمه والمفتي به الجواز، ومستند من يجوز من الكتاب الجليل هذه الآية. وأجاب أصحاب الشافعي عنها أن المسجد الحرام في المطاف والعاكف في المعتكف للعبادة المعدود من أهل المسجد لملازمته له أظهر، وكذلك المساواة في أنه من شعائر الله تعالى المنصوبة لكل عاكف وباد أوضح وهو المقابل للموصوف بالصد عن سبيل الله تعالى والمسجد الحرام خاصة فما كانوا يصدون عن مكة ولا أن الصد عنها لغير مريد النسك معصية وأي مدخل لحديث التمليك وعدمه في هذا المساق. والاستدراك بأن له مدخلا على سبيل الإدماج وإشارة النص كلام لا طائل تحته، وقد فسر سَواءً بما فسر كذا في الكشف، وقد جرت مناظرة بمكة بين الشافعي وإسحاق بن راهويه الحنظلي وكان إسحاق لا يرخص في كراء دور مكة فاحتج الشافعي بقوله تعالى: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ [الحج: 4] فأضيفت الديار إلى مالكيها وبقوله صلّى الله عليه وسلّم يوم فتح مكة «من أغلق بابه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن» وبأنه قد اشترى عمر رضي الله تعالى عنه دار السجن أترى أنه اشترى من مالكيها أو غير مالكيها قال إسحاق: فلما علمت أن الحجة قد لزمتني تركت قولي، وأجاب بعضهم أن الإضافة إلى مالكي منفعة السكنى وأن عمر رضي الله تعالى عنه اشترى البناء دون الأرض وأرضى بالثمن من أنفق مالا فيه لحاجة العامة وللإمام من ذلك ما ليس لغيره. وتعقب بأن الاستدلال بالظاهر والعدول عن الظاهر دون سند أقوى غير ملتفت إليه، ولذا قال ابن راهويه: وهو أحد أركان المسلمين وعلم من أعلام الدين ما قال. والظاهر أن الأخبار المصرحة بتحريم البيع والإجارة لم تصح عند الشافعي رضي الله تعالى عنه، وعند من قال بمثل قوله ونصب سَواءً على أنه مفعول ثان لجعلنا، والأول الضمير الغائب المتصل والْعاكِفُ مرتفع به لأنه بمعنى مستو وإن كان في الأصل مصدرا، ومن كلامهم مررت برجل سواء هو والعدم، واللام ظرف لما عنده. وجوز أن يكون لِلنَّاسِ في موضع المفعول الثاني أي جعلناه مباحا للناس أو معبدا لهم وسَواءً حالا من الهاء وكذا يكون حالا إذا لم يعد الجعل إلى مفعولين. وقرأ الجمهور «سواء» بالرفع على أنه خبر «والعاكف» مبتدأ، وضعف العكس لما فيه من الأخبار بالمعرفة عن النكرة، والجملة في موضع المفعول الثاني أو الحال، وجوز أن تكون تفسيرية لجعله للناس وقرأت فرقة منهم الأعمش في رواية القطعي «سواء» بالنصب «العاكف» فيه بالجر، ووجه النصب ما تقدم، ووجه جر «العاكف» أنه بدل تفصيل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 133 من الناس، وقيل: هو عطف بيان. وقرىء «والبادي» بإثبات الياء وصلا ووقفا، وقرىء بتركها فيهما وبإثباتها وصلا وحذفها وقفا وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ مما ترك مفعوله ليتناول كل متناول أي ومن يرد فيه شيئا ما أو مرادا ما، وقدر ابن عطية المفعول الناس أي ومن يرد فيه الناس. وقوله تعالى: بِإِلْحادٍ أي عدول عن القصد أي الاستقامة المعنوية، وأصله إلحاد الحافر بِظُلْمٍ بغير حق حالان مترادفان أو الثاني بدل من الأول بإعادة الجار والباء فيهما للملابسة، أو الأول حال والثاني متعلق به والباء فيه للسببية أي ملحدا بسبب الظلم كالإشراك واقتراف الآثام، وقال أبو عبيدة: الباء زائدة و «إلحاد» مفعول يُرِدْ وأنشد عليه قول الأعشى: ضمنت برزق عيالنا أرماحنا وأيد بقراءة الحسن «ومن يرد إلحاده بظلم» وهي على معنى إلحادا فيه إلا أنه توسع فقيل إلحاده، وقال أبو حيان: الأولى أن يضمن يُرِدْ معنى يتلبس وتجعل الباء للتعدية. وقرأت فرقة يرد بفتح الياء من الورود وحكاها الكسائي والفراء أي من أتى فيه بإلحاد إلخ، وتفسير الإلحاد بما ذكر هو الظاهر فيشمل سائر الآثام لأن حاصل معناه الميل عن الحق إلى الباطل وهو محقق في جميع الآثام، وكذا المراد بالظلم عند جمع وجمعهما على هذا للتأكيد، وقيل: المراد بذلك الشرك ولم يرتضه ابن أبي مليكة، فقد أخرج عبد ابن حميد أنه سئل عن قوله تعالى: وَمَنْ يُرِدْ إلخ فقال: ما كنا نشك أنها الذنوب حتى جاء أعلاج من أهل البصرة إلى أعلاج من أهل الكوفة فزعموا أنها الشرك. وأخرج أبو داود وغيره عن يعلى بن أمية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه ، وهو من ذكر بعض الأفراد لاقتضاء الحال إياه، وجعل بعضهم من ذلك دخوله من غير إحرام، وروي عن عطاء تفسير الإلحاد به. وأخرج ابن جرير وجماعة عن مجاهد قال: كان لعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم فإذا أراد أن يصلي صلى في الذي في الحرم وإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الذي في الحل فقيل له فقال: نحدث أن من الإلحاد فيه لا والله بلى والله نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ جواب لمن الشرطية. والظاهر أن الوعيد على إرادة ذلك مطلقا فيفيد أن من أراد سيئة في مكة ولم يعملها يحاسب على مجرد الإرادة وهو قول ابن مسعود وعكرمة وأبي الحجاج، وقال الخفاجي: الوعيد على الإرادة المقارنة للفعل لا على مجرد الإرادة لكن في التعبير بها إشارة إلى مضاعفة السيئات هناك والإرادة المصممة مما يؤاخذ عليها أيضا وإن قيل إنها ليست كبيرة، وقد روي عن مالك كراهة المجاورة بمكة انتهى. وإلى مضاعفة السيئة في مكة ذهب مجاهد، فقد أخرج عنه ابن المنذر وغيره أنه قال: تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات، وقال رحمه الله تعالى. سألت ابن عمر وكان منزله في الحل ومسجده في الحرم لم تفعل هذا؟ فقال: لأن العمل في الحرم أفضل والخطيئة فيه أعظم فينبغي لمن كان فيه أن يضبط نفسه ويسلك طريق السداد في جميع ما يهم به ويقصده. والظاهر أن هذه الإذاقة في الآخرة، وقيل كان قبل أن يستحله أهله تعجل العقوبة في الدنيا لمن قصده بسوء: وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس رضي الله تعالى عنه أنه قال في الآية. حدثنا رجل سمعه من عقب المهاجرين والأنصار أنهم أخبروه أن أيما أحد أراد به ما أراد أصحاب الفيل عجل لهم العقوبة في الدنيا وقال: إنما يوفى استحلاله من قبل أهله، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا ما ينفعك في هذا المطلب، وحد بعضهم الحرام بقوله: وللحرم التحديد من أرض طيبة ... ثلاثة أميال إذا رمت إتقانه وسبعة أميال عراق وطائف ... وجدة عشر ثم تسع جعرانه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 134 ومن يمن سبع بتقديم سينه ... وقد كملت فاشكر لربك إحسانه وأما المسجد الحرام فيطلق على الحرم كله عند عطاء فيكون حده ما ذكره. وفي البحر العميق عن أبي هريرة قال: إنا لنجد في كتاب الله تعالى أن حد المسجد الحرام إلى آخر المسعى، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: أساس المسجد الحرام الذي وضعه إبراهيم عليه السلام من الحزوة إلى مخرج مسيل جياد، وقد ذكروا أن طول المسجد اليوم أربعمائة ذراع وأربعة أذرع وعرضه ثلاثمائة ذراع. وحكي أنه لم يكن كذلك على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يكن له جدار يحيط به فلما استخلف عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وسع المسجد واشترى دورا فهدمها وأدخلها فيه ثم أحاط عليه جدارا قصيرا دون القامة وكانت المصابيح توضع عليه، ثم لما استخلف عثمان اشترى دورا أيضا ووسع بها وبنى المسجد والأروقة، ثم إن عبد الله بن الزبير زاد سنة بضع وستين في المسجد زيادة كثيرة في خلافته، ومن ذلك بعض دار الأزرقي اشتراه بسبعة آلاف دينار، ثم عمره بعد ذلك عبد الملك بن مروان ولم يزد فيه لكن رفع جدار المسجد وحمل إليه أعمدة الحجارة والرخام، ثم إن المنصور زاد في شقه الشامي وبناه وجعل فيه أعمدة من الرخام، ثم زاد المهدي بعده مرتين وكانت الكعبة في جانب المسجد فأحب أن تكون في الوسط فاشترى دورا وزاد في المسجد ووسطها كذا ذكره النووي. وفي البحر العميق أن زيادة المهدي هي التي تلي دار الندوة خلف مقام الحنفي، ثم لما انتهت الدولة إلى سلاطين آل عثمان أبقى الله تعالى دولتهم ما دام الدوران لم يألوا جهدا في خدمته والسعي في مرمته. وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أي اذكر لهؤلاء الكفرة الذين يصدون عن سبيل الله تعالى والمسجد الحرام وقت جعلنا مكان البيت مباءة لجدهم إبراهيم عليه السلام أي مرجعا يرجع إليه للعمارة والعبادة ويقال بوأه منزلا إذا أنزله فيه ولما لزمه جعل الثاني مباءة للأول جيء باللام فهي للتعدية، ومَكانَ مفعول به. وقال الزجاج: المعنى بيتا له مكان البيت ليبنيه ويكون مباءة له ولعقبه يرجعون إليه ويحجونه، والأول مروي عن ابن عباس، وقيل: اللام زائدة في المفعول به ومَكانَ ظرف لبوأنا. واعترض بأن اللام إنما تزاد إذا قدم المعمول أو كان العامل فرعا وشيء منهما متحقق هاهنا وأن مَكانَ الْبَيْتِ ظرف معين فحقه أن يتعدى الفعل إليه بفي، وفيه نظر كما يعلم من كتب العربية، وقيل: مفعول بَوَّأْنا محذوف أي بوأنا الناس واللام في لِإِبْراهِيمَ لام العلة أي لأجل إبراهيم أي كرامة له والمعول عليه ما قدمنا، وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت مع أن المراد تذكير ما وقع فيه من الحوادث قد مر غير مرة، والمكان المتعارف ما يستقر عليه الشيء ويمنعه من النزول والعلماء فيه مذاهب وليس هذا مكان تحقيقها، وأصل البيت مأوى الإنسان بالليل ثم قد يقال من غير اعتبار الليل فيه وجمعه أبيات وبيوت لكن البيوت بالمسكن أخص والأبيات بالشعر أخص، ويقع ذلك على المتخذ من حجر ومن مدر ومن صوف ووبر، ويعبر عن مكان الشيء ببيته، والمراد بالبيت بيت الله عز وجل الكعبة المكرمة، وقد بنيت خمس مرات، إحداها بناء الملائكة عليهم السلام قبل آدم وكانت من ياقوتة حمراء ثم رفع ذلك البناء إلى السماء أيام الطوفان، والثانية بناء إبراهيم عليه السلام. روي أنه تعالى لما أمره ببناء البيت لم يدر أين يبني فأرسل الله تعالى له الريح الخجوج فكشفت عن أسه القديم فبنى عليه، والثالثة بناء قريش في الجاهلية، وقد حضره النبي صلّى الله عليه وسلّم وكان شابا فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود اختصموا فيه فأراد كل قبيلة أن يتولى رفعه ثم توافقوا على أن يحكم بينهم أول رجل يخرج من هذه السكة فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أول من خرج فقضى بينهم أن يجعلوه في مرط ثم يرفعه جميع القبائل فرفعوه ثم ارتقى صلّى الله عليه وسلّم فرفعوه إليه فوضعه مكانه وكانوا يدعونه عليه السلام الأمين وكان ذلك قبل المبعث فيما قيل بخمس عشرة سنة، والرابعة بناء عبد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 135 الله بن الزبير، والخامسة بناء الحجاج وهو البناء الموجود اليوم وارتفاعها في السماء سبعة وعشرون ذراعا وربع ذراع والذراع أربع وعشرون إصبعا والإصبع ست شعيرات والشعيرة ست شعرات من شعر البرذون: وأما طوها في الأرض فمن الركن اليماني إلى الركن الأسود خمسة وعشرون ذراعا وكذا ما بين اليماني والغربي، وأما عرضها فهو من الركن اليماني إلى الركن الأسود عشرون ذراعا، وطول الباب ستة أذرع وعشرة أصابع، وعرضه أربعة أذرع والباب في جدارها الشرقي وهو من خشب الساج مضبّب بالصفائح من الفضة، وارتفاع ما تحت عتبة الباب من الأرض أربعة أذرع وثلاث أصابع، والميزاب في وسط جدار الحجر. وعرض الملزم وهو ما بين الباب والحجر الأسود أربعة أذرع، وارتفاع الحجر الأسود من الأرض ثلاثة أذرع إلا سبعا، وعرض القدر الذي بدر منه شبر وأربع أصابع مضمومة، وعرض المستجاد وهو بين الركن اليماني إلى الباب المسدود في ظهر الكعبة مقابلا للملتزم أربعة أذرع وخمس أصابع، وعرض الباب المسدود ثلاثة أذرع ونصف ذراع وطوله أكثر من خمسة أذرع، وأما الحجر ويسمى الحطيم والحظيرة فعلى هيئة نصف دائرة من صوب الشام والشمال بين الركن العراقي والشامي. وحده من جدار الكعبة الذي تحت الميزاب إلى جدار الحجر سبعة عشر ذرعا وثماني أصابع منها سبعة أذرع أو ستة وشبر من أرض الكعبة، والباقي كان زر بالغنم سيدنا إسماعيل عليه السلام فأدخلوه في الحجر، وما بين بابي الحجر عشرون ذراعا، وعرض جدار الحجر ذراعان، وذرع تدوير جدار الحجر من داخله ثمانية وثلاثون ذراعا ومن خارجه أربعون ذراعا وست أصابع، وارتفاع جدار الحجر ذراعان فذرع الطوق وحده حول الكعبة، والحجر مائة ذراع وثلاثة وعشرون ذراعا واثنتا عشرة أصبعا، وهذا على ما ذكره الإمام حسين بن محمد الآمدي في رسالة له في ذلك والعهدة عليه، وإنا لنرجو من رب البيت أن يوفقنا لزيارة بيته وتحقيق ذلك بلطفه وكرمه، وأَنْ في قوله تعالى: أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً قيل مفسرة، والتفسير باعتبار أن التبوئة من أجل العبادة فكأنه قيل أمرنا إبراهيم عليه السلام بالعبادة وذلك فيه معنى القول دون حروفه أو لأن بوأناه بمعنى قلنا له تبوأ، وقال ابن عطية: مخففة من الثقيلة وكأنه لتأويل بوأناه بأعلمناه فلا يرد عليه أنه لا بد أن يتقدمها فعل تحقيق أو ترجيح. وقال أبو حيان: الأولى أن تكون الناصبة وكما توصل بالمضارع توصل بالماضي والأمر والنهي انتهى، وحينئذ لا تنصب لفظا، وقول أبي حاتم: لا بد من نصب الكاف على هذا رده في الدر المصون أي فعلنا ذلك لئلا تشرك بي في العبادة شيئا، والظاهر أن الخطاب لإبراهيم عليه السلام، ويؤيده قراءة عكرمة وأبي نهيك «أن لا يشرك» بالياء التحتية وقيل: الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم. وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ المراد بالطهارة ما يشمل الحسية والمعنوية أي وطهر بيتي من الأوثان والأقذار لمن يطوف به ويصلي عنده، ولعل التعبير عن الصلاة بأركانها من القيام والركوع والسجود للدلالة على أن كل واحد منها مستقل باقتضاء التطهير أو التبوئة على ما قيل: فكيف وقد اجتمعت أو للتنصيص على هذه الأمة المحمدية على نبيها أفضل الصلاة وأكمل التحية إذ اجتماع هذه الأركان ليس إلا في صلاتهم، ولم يعطف السجود لأنه من جنس الركوع في الخضوع، ويجوز أن يكون الْقائِمِينَ بمعنى المقيمين و (الطائفين) بمعنى الطارئين فيكون المراد بالركع السجود فقط المصلين إلا أن المتبادر من الطائفين ما ذكر أولا وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ أي ناد فيهم بِالْحَجِّ بدعوة الحج والأمر به، أخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: «لما فرغ ابراهيم عليه السلام من بناء البيت قال: رب قد فرغت فقال: أذن في الناس بالحج قال: يا رب وما يبلغ صوتي؟ قال: أذن وعلي البلاغ قال: رب كيف أقول؟ قال: قل يا أيها الناس الجزء: 9 ¦ الصفحة: 136 كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فسمعه أهل السماء والأرض ألا ترى أنهم يجيبون من أقصى البلاد يلبون» وجاء في رواية أخرى عنه أنه عليه السلام صعد أبا قبيس فوضع أصبعيه في أذنيه ثم نادى يا أيها الناس إن الله تعالى كتب عليكم الحج فأجيبوا ربكم فأجابوه بالتلبية في أصلاب الرجال وأرحام النساء، وأول من أجاب أهل اليمن فليس حاج بحج من يومئذ إلى أن تقوم الساعة إلا من أجاب يومئذ إبراهيم عليه السلام، وفي رواية أنه قام على الحجر فنادى، وعن مجاهد أنه عليه السلام قام على الصفا، وفي رواية أخرى عنه أنه عليه السلام تطاول به المقام حتى كان كأطول جبل في الأرض فأذن بالحج ، ويمكن الجمع بتكرر النداء، وأيا ما كان فالخطاب لإبراهيم عليه السلام. وزعم بعضهم أنه لنبينا صلّى الله عليه وسلّم أمر بذلك في حجة الوداع وروي ذلك عن الحسن وهو خلاف الظاهر جدا ولا قرينة عليه، وقيل: يأباه كون السورة مكية وقد علمت ما فيه أولها. وقرأ الحسن وابن محيصن و «آذن» بالمد والتخفيف أي أعلم كما قال البعض، وقال آخرون: المراد به هنا أوقع الإيذان لأنه على الأول كان ينبغي أن يتعدى بنفسه لا بفي فهو كقوله: «يجرح في عراقيبها نصلي» . وقال ابن عطية: قد تصحفت هذه القراءة على ابن جني فإنه حكي عنهما «وآذن» فعلا ماضيا وجعله معطوفا على بَوَّأْنا وتعقبه أبو حيان بأنه ليس بتصحيف بل قد حكى ذلك أبو عبد الله الحسين بن خالويه في شواذ القراءات من جمعه، وقرأ ابن أبي إسحاق «بالحج» بكسر الحاء حيث وقع، وقوله تعالى: يَأْتُوكَ جزم في جواب الأمر وهو أَذِّنْ على القراءتين وطَهِّرْ على الثالثة كما قال صاحب اللوامح: وإيقاع الإتيان على ضميره عليه السلام لكون ذلك بندائه، والمراد يأتوا بيتك، وقوله سبحانه: رِجالًا في موضع الحال أي مشاة جمع راجل كقيام جمع قائم. وقرأ ابن أبي إسحاق «رجالا» بضم الراء والتخفيف وروي ذلك عن عكرمة والحسن وأبي مجلز، وهو اسم جمع لراجل كطؤار لطائر أو هو جمع نادر، وروي عن هؤلاء وابن عباس ومحمد بن جعفر ومجاهد رضي الله تعالى عنهم «رجالا» بالضم والتشديد على أنه جمع راجل كتاجر وتجار، وعن عكرمة أنه قرأ «رجالى» كسكارى وهو جمع رجلان أو راجل، وعن ابن عباس وعطاء وابن حدير مثل ذلك إلا أنهم شددوا الجيم. وقوله تعالى: وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ عطف على رِجالًا أي وركبانا على كل بعير مهزول أتعبه بعد الشقة فهزله أو زاد هزاله، والضامر يطلق على المذكر والمؤنث، وعدل عن ركبانا الأخضر للدلالة على كثرة الآتين من الأماكن البعيدة. وفي الآية دليل على جواز المشي والركوب في الحج، قال ابن العربي: واستدل علماؤنا بتقديم رِجالًا على أن المشي أفضل، وروي ذلك عن ابن عباس فقد أخرج ابن سعد وابن أبي شيبة والبيهقي وجماعة أنه قال: ما آسى على شيء فاتني إلا أني لم أحج ماشيا حتى أدركني الكبر أسمع الله تعالى يقول: يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ فبدأ بالرجال قبل الركبان، وفي ذلك حديث مرفوع فقد أخرج ابن سعد وابن مردويه وغيرهما عنه أنه قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول إن للحاج الراكب بكل خطوة تخطوها راحلته سبعين حسنة وللماشي بكل قدم سبعمائة حسنة من حسنات الحرم قيل: يا رسول الله وما حسنات الحرم؟ قال: الحسنة مائة ألف حسنة» وأخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد أن ابراهيم وإسماعيل عليهما السلام حجّا وهما ماشيان. وقال ابن الفرس: واستدل بعضهم بالآية على أنه لا يجب الحج على من في طريقه بحر ولا طريق له سواه لكونه لم يذكر في الآية. وتعقب بأنه استدلال ضعيف لأن مكة ليست على بحر وإنما يتوصل إليها على إحدى الحالين مشي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 137 أو ركوب، وأيضا في دلالة عدم الذكر على عدم الوجوب نظر، وقوله تعالى: يَأْتِينَ صفة لضامر أو لكل، والجمع باعتبار المعنى كأنه قيل وركبانا على ضوامر يأتين، وكُلِّ هنا للتكثير لا للإحاطة وما قيل من أنها إذا أضيفت لنكرة لم يراع معناها إلا قليلا ردوه بهذه الآية ونظائرها، وكذا ما قيل إنه يجوز إذا كانا في جملتين لأن هذه جملة واحدة. وجوز أبو حيان أن يكون الضمير شاملا لرجال وكُلِّ ضامِرٍ والجملة صفة لذلك على معنى الجماعات والرفاق. وتعقب بأنه يلزمه تغليب غير العقلاء عليهم وقد صرحوا بمنعه. نعم قرأ عبيد الله وأصحابه والضحاك وابن أبي عبلة «يأتون» واعتبار التغليب فيه على بابه، والمشهور جعل الضمير لرجالا وركبانا فلا تغليب، وجوز جعل الضمير للناس والجملة استئنافية مِنْ كُلِّ فَجٍّ أي طريق كما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وأبي العالية وهو في الأصل شقة يكتنفها جبلان ويستعمل في الطريق الواسع وكأنهم جردوه عن معنى السعة لأنه لا يناسب هنا بل لا يخلو من خلل عَمِيقٍ أي بعيد وبه فسره الجماعة أيضا، وأصله البعيد سفلا وهو غير مناسب هنا. وقرأ ابن مسعود «معيق» قال الليث: يقال عميق معيق لتميم وأعمقت البئر وأمعقتها وقد عمقت ومعقت عماقة ومعاقة وهي بعيدة العمق والمعق لِيَشْهَدُوا متعلق بيأتوك، وجوز أبو البقاء تعلقه. بأذن. أي ليحضروا مَنافِعَ عظيمة الخطر كثيرة العدد فتنكيرها وإن لم يكن فيها تنوين للتعظيم والتكثير. ويجوز أن يكون للتنويع أي نوعا من المنافع الدينية والدنيوية، وتعميم المنافع بحيث تشمل النوعين مما ذهب إليه جمع وروي ذلك عن ابن عباس، فقد أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال في الآية: منافع في الدنيا ومنافع في الآخرة فأما منافع الآخرة فرضوان الله تعالى وأما منافع الدنيا فما يصيبون من لحوم البدن في ذلك اليوم والذبائح والتجارات، وخص مجاهد منافع الدنيا بالتجارة فهي جائزة للحاج من غير كراهة إذا لم تكن هي المقصودة من السفر، واعترض بأن نداءهم ودعوتهم لذلك مستبعد، وفيه نظر، على أنه إنما يتأتى على ما جوزه أبو البقاء، وعن الباقر رضي الله تعالى عنه تخصيص المنافع بالأخروية، وفي رواية عن ابن عباس تخصيصها بالدنيوية والتعميم أولى لَهُمْ في موضع الصفة لمنافع أي منافع كائنة لهم وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عند النحر فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ أي مخصوصات وهي أيام النحر كما ذهب إليه جماعة منهم أبو يوسف ومحمد عليهما الرحمة وعدتها ثلاثة أيام يوم العيد ويومان بعده عندنا وعند الثوري وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب لما روي عن عمر وعلي وابن عمر وابن عباس. وأنس وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم أنهم قالوا: أيام النحر ثلاثة أفضلها أولها، وقد قالوه سماعا لأن الرأي لا يهتدي إلى المقادير، وفي الأخبار التي يعول عليها تعارض فأخذنا بالمتيقن وهو الأقل، وقال الشافعي والحسن وعطاء: أربعة أيام يوم العيد وثلاثة بعده لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أيام التشريق كلها أيام ذبح» وعند النخعي وقت النحر يومان، وعند ابن سيرين يوم واحد، وعند أبي سلمة وسليمان بن يسار الأضحى إلى هلال المحرم ولم نجد في ذلك مستندا يعول عليه. واستدل بذكر الأيام على أن الذبح لا يجوز ليلا، قال أبو حيان: وهو مذهب مالك وأصحاب الرأي انتهى. والمذكور في كتب الأصحاب أنه يجوز الذبح إلا أنه يكره لاحتمال الغلط في ظلمة الليل. وأما الاستدلال على عدم الجواز بذكر الأيام فكما ترى، وقيل الأيام المعلومات عشر ذي الحجة وإليه ذهب أبو حنيفة عليه الرحمة وروي عن ابن عباس والحسن وإبراهيم وقتادة ولعل المراد بذكر اسمه تعالى على هذا ما قيل حمده وشكره عز وجل وعلى الأول قول الذابح: بسم الله والله أكبر على ما روي عن قتادة، وذكر أنه يقال مع ذلك: اللهم منك ولك عن فلان، وسيأتي إن شاء الله تعالى قول آخر. ورجح كونه بمعنى الشكر بأنه أوفق بقوله تعالى: عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 138 واختار الزمخشري أن الذكر على بهيمة الأنعام أو مطلقا على ما يقتضيه ظاهر كلام بعضهم كناية عن النحر، وذكر أنه دل بذلك على المقصود الأصلي من النحر وما يميزه عن العادات. وأومأ فيه إلى أن الأعمال الحجية كلها شرعت للذكر. وأنه قيل: عَلى ما رَزَقَهُمْ إلى آخره تشويقا في التقرب ببهيمة الأنعام المراد بها الإبل والبقر والضأن والمعز إلى الرازق وتهوينا عليهم في الإنفاق مع ما في ذلك من الإجمال والتفسير، وظرفية الأيام المعلومات على القول بأنها عشر ذي الحجة للنحر باعتبار أن يوم النحر منها، وقد يقال مثل ذلك على تقدير إيفاء الذكر على ما يتبادر منه فَكُلُوا مِنْها التفات إلى الخطاب والفاء فصيحة أي فاذكروا اسم الله تعالى على ضحاياكم فكلوا من لحومها، والأمر للإباحة بناء على أن الأكل كان منهيا عنه شرعا. وقد قالوا: إن الأمر بعد المنع يقتضي الإباحة، ويدل على سبق النهي قوله صلّى الله عليه وسلّم: «كنت نهيتكم عن أكل لحوم الأضاحي فكلوا منها وادّخروا» وقيل لأن أهل الجاهلية كانوا يتحرجون فيه أو للندب على مواساة الفقراء ومساواتهم في الأكل منها، وهذا على ما قال الخفاجي مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه. وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ أي الذي أصابه بؤس أي شدة، وعن مجاهد وعكرمة تفسيره بالذي يمد كفيه إلى الناس يسأل الْفَقِيرَ أي المحتاج، والأمر للندب عند الإمام على ذكره الخفاجي أيضا، ويستحب كما في الهداية أن لا ينقص ما يطعم عن الثلث لأن الجهات الأكل والإطعام الثابتان بالآية والادخار الثابت بالحديث فتقسم الأضحية عليها أثلاثا وقال بعضهم: لا تحديد فيما يؤكل أو يطعم لإطلاق الآية، وأوجب الشافعية الإطعام وذهب قوم إلى أن الأكل من الأضحية واجب أيضا. وتخصيص البائس الفقير بالإطعام لا ينفي جواز إطعام الغني، وقد يستدل على الجواز بالأمر الأول لإفادته جواز أكل الذابح ومتى جاز أكله وهو غني جاز أن يؤكله غنيا ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ هو في الأصل الوسخ والقذر، وعن قطرب تفث الرجل كثر وسخه في سفره، وقال أبو محمد البصري: التفث من التف وهو وسخ الأظفار وقلبت الفاء ثاء كما في مغثور، وفسره جمع هنا بالشعور والأظفار الزائدة ونحو ذلك، والقضاء في الأصل القطع والفصل وأريد به الإزالة مجازا أي ليزيلوا ذلك بتقليم الأظفار والأخذ من الشوارب والعارضين كما في رواية عن ابن عباس ونتف الإبط وحلق الرأس والعانة، وقيل: القضاء مقابل الأداء والكلام على حذف مضاف أي ليقضوا إزالة تفثهم، والتعبير بذلك لأنه لمضي زمان إزالته عد الفعل قضاء لما فات. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهم أنه قال: التفث النسك كله من الوقوف بعرفة والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار، والقضاء على هذا بمعنى الأداء كأنه قيل: ثم ليؤدوا نسكهم. وكان التعبير عن النسك بالتفث لما أنه يستدعي حصوله فإن الحجاج ما لم يحلوا شعث غبر وهو كما ترى، وقد يقال: إن المراد من إزالة التفث بالمعنى السابق قضاء المناسك كلها لأنها لا تكون إلا بعده فكأنه أراد أن قضاء التفث هو قضاء النسك كله بضرب من التجوز ويؤيده ما أخرجه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: قضاء التفث قضاء النسك كله. وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ما ينذرونه من أعمال البر في حجهم، وعن ابن عباس تخصيص ذلك بما ينذرونه من نحر البدن، وعن عكرمة هي مواجب الحج، وعن مجاهد ما وجب من الحج والهدي وما نذره الإنسان من شيء يكون في الحج فالنذر بمعنى الواجب مطلقا مجازا. وقرأ شعبة عن عاصم «وليوفوا» مشددا وَلْيَطَّوَّفُوا طواف الإفاضة وهو طواف الزيارة الذي هو من أركان الحج وبه تمام التحلل فإنه قرينة قضاء التفث بالمعنى السابق، وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وجماعة بل قال الطبري وإن لم يسلم له: لا خلاف بين المتأولين في أنه طواف الإفاضة ويكون ذلك يوم النحر، وقيل: طواف الصدر وهو طواف الوداع وفي عدة من المناسك خلاف بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 139 أخرج البخاري في تاريخه والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وابن جرير والطبراني وغيرهم عن ابن الزبير قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إنما سمى الله البيت العتيق لأنه أعتقه من الجبابرة فلم يظهر عليه جبار قط» وإلى هذا ذهب ابن أبي نجيح وقتادة وقد قصده تبع ليهدمه فأصابه الفالج فأشير عليه أن يكف عنه، وقيل: له رب يمنعه فتركه وكساه وهو أول من كساه، وقصد أبرهة فأصابه ما أصابه، وأما الحجاج فلم يقصد التسلط على البيت لكن تحصن به ابن الزبير فاحتال لإخراجه ثم بناه، ولعل ما وقع من القرامطة وإن أخذوا الحجر الأسود وبقي عندهم سنين من هذا القبيل، ويقال فيما يكون آخر الزمان من هدم الحبشة إياه وإلقاء أحجاره في البحر إن صح: إن ذلك من أشراط الساعة التي لا ترد نقضا على الأمور التي قيل باطرادها، وقيل: في الجواب غير ذلك. وعن مجاهد أنه إنما سمي بذلك لأنه لم يملك موضعه قط، وفي رواية أخرى عنه أن ذلك لأنه أعتق من الغرق زمان الطوفان، وعن ابن جبير أن العتيق بمعنى الجيد من قولهم: عتاق الخيل وعتاق الطير، وقيل: فقيل بمعنى مفعل أي معتق رقاب المذنبين ونسبة الإعتاق إليه مجاز لأنه تعالى يعتق رقابهم بسبب الطواف به، وقال الحسن وابن زيد: العتيق القديم فإنه أول بيت وضع للناس وهذا هو المتبادر إلا أنك تعلم أنه إذا صح الحديث لا يعدل عنه، ثم إن حفظه من الجبابرة وبقاءه الدهر الطويل معظما يؤتى من كل فج عميق بمحض إرادة الله تعالى المبنية على الحكم الباهرة. وبعض الملحدين زعموا أنه بنى في شرف زحل والطالع الدلو أحد بيتيه وله مناظرات سعيدة فاقتضى ذلك حفظه من الجبابرة وبقاءه معظما الدهر الطويل ويسمونه لذلك بيت زحل، وقد ضلوا بذلك ضلالا بعيدا، وسنبين إن شاء الله تعالى خطأ من يقول بتأثير الطالع أتم بيان والله تعالى المستعان الجزء: 9 ¦ الصفحة: 140 ذلِكَ أي الأمر، وهذا وأمثاله من أسماء الإشارة يطلق للفصل بين الكلامين أو بين وجهي كلام واحد، والمشهور من ذلك هذا كقوله تعالى: هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ [ص: 55] وكقول زهير وقد تقدم له وصف هرم بالكرم والشجاعة: هذا وليس كمن يعيا بخطبته ... وسط النديّ إذا ما ناطق نطقا واختيار ذلِكَ هنا لدلالته على تعظيم الأمر وبعد منزلته وهو من الاقتضاب القريب من التخلص لملاءمة ما بعده لما قبله، وقيل: هو في موضع نصب بفعل محذوف أي امتثلوا ذلك وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ جمع حرمة وهو ما يحترم شرعا، والمراد بها جميع التكليفات من مناسك الحج وغيرها، وتعظيمها بالعلم بوجوب مراعاتها والعمل بموجبه، وقال جمع: هي ما أمر به من المناسك، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هي جميع المناهي في الحج فسوق وجدال وجماع وصيد، وتعظيمها أن لا يحوم حولها، وعن ابن زيد هي خمس المشعر الحرام والمسجد الحرام، والبيت الحرام والشهر الحرام والمحرم حتى يحل فَهُوَ أي فالتعظيم خَيْرٌ لَهُ من غيره على أن خَيْرٌ اسم تفضيل. وقال أبو حيان: الظاهر أنه ليس المراد به التفضيل فلا يحتاج لتقدير متعلق، ومعنى كونه خيرا له عِنْدَ رَبِّهِ أنه يثاب عليه يوم القيامة، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير مَنْ لتشريفه والإشعار بعلة الحكم. وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ أي ذبحها وأكلها لأن ذاتها لا توصف بحل وحرمة، والمراد بها الأزواج الثمانية على الإطلاق، وقوله تعالى: إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ أي إلا ما يتلى عليكم آية تحريمه استثناء متصل كما اختاره الأكثرون منها على أن ما عبارة عما حرم منها لعارض كالميتة وما أهل به لغير الله تعالى. وجوز أن يكون الاستثناء منقطعا بناء على أن ما عبارة عما حرم في قوله سبحانه: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة: 3] الآية، وفيه ما ليس من جنس الأنعام، والفعل على الوجهين لم يرد منه لاستقبال لسبق تلاوة آية التحريم، وكأن التعبير بالمضارع استحضارا للصورة الماضية لمزيد الاعتناء، وقيل: التعبير بالمضارع للدلالة على الاستمرار التجددي المناسب للمقام، والجملة معترضة مقررة لما قبلها من الأمر بالأكل والإطعام ودافعة لما عسى يتوهم أن الإحرام يحرم ذلك كما يحرم الصيد فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ أي القذر مِنَ الْأَوْثانِ أي الذي هو الأوثان على أن من بيانية. وفي تعريف الرِّجْسَ بلام الجنس مع الإبهام والتعيين وإيقاع الاجتناب على الذات دون العبادة ما لا يخفى من المبالغة في التنفير عن عبادتها، وقيل: من لابتداء الغاية فكأنه تعالى أمرهم باجتناب الرجس عاما ثم عين سبحانه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 141 لهم مبدأه الذي منه يلحقهم إذ عبادة الوثن جامعة لكل فساد ورجس، وفي البحر يمكن أن تكون للتبعيض بأن يعني بالرجس عبادة الأوثان وقد روي ذلك عن ابن عباس وابن جريج فكأنه قيل فاجتنبوا من الأوثان الرجس وهو العبادة لأن المحرم منها إنما هو العبادة ألا ترى أنه قد يتصور استعمال الوثن في بناء وغير ذلك مما لم يحرمه الشرع فكان للوثن جهات، منها عبادته وهو المأمور باجتنابه وعبادته بعض جهاته فقول ابن عطية: إن من جعل من للتبعيض قلب المعنى وأفسده ليس في محله انتهى. ولا يخفى ما في كلا الوجهين الابتداء والتبعيض من التكلف المستغني عنه، وهاهنا احتمال آخر ستعلمه مع ما فيه إن شاء الله تعالى قريبا، والفاء لترتيب ما بعدها على ما يفيده قوله تعالى: وَمَنْ يُعَظِّمْ إلخ من جوب مراعاة الحرمات والاجتناب عن هتكها. وذكر أن بالاستثناء حسن التخلص إلى ذلك وهو السر في عدم حمل الأنعام على ما ذكر من الضحايا والهدايا المعهودة خاصة ليستغني عنه إذ ليس فيها ما حرم لعارض فكأنه قيل: ومن يعظم حرمات الله فهو خير له والأنعام ليست من الحرمات فإنها محللة لكم إلا ما يتلى عليكم آية تحريمه فإنه مما يجب الاجتناب عنه فاجتنبوا ما هو معظم الأمور التي يجب الاجتناب عنها وهو عبادة الأوثان، وقيل: الظاهر أن ما بعد الفاء متسبب عن قوله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ فإن ذلك نعمة عظيمة تستدعي الشكر لله تعالى لا الكفر، والإشراك بل لا يبعد أن يكون المعنى فاجتنبوا الرجس من أجل الأوثان على أن مَنْ سببية وهو تخصيص لما أهل به لغير الله تعالى بالذكر فيتسبب عن قوله تعالى: إِلَّا ما يُتْلى ويؤيده قوله تعالى: فيما بعد غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ فإنه إذا حمل على ما حملوه كان تكرارا انتهى. وأورد على ما ادعى ظهوره أن إحلال الأنعام وإن كان من النعم العظام إلا أنه من الأمور الشرعية دون الأدلة الخارجية التي يعرف بها التوحيد وبطلان الشرك فلا يحسن اعتبار تسبب اجتناب الأوثان عنه. وأما ما ادعى عدم بعده فبعيد جدا وإنكار ذلك مكابرة فتأمل. وقوله تعالى وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ تعميم بعد تخصيص فإن عبادة الأوثان رأس الزور لما فيها من ادعاء الاستحقاق كأنه تعالى لما حث على تعظيم الحرمات اتبع ذلك بما فيه رد لما كانت الكفرة عليه من تحريم البحائر والسوائب ونحوهما والافتراء على الله تعالى بأنه حكم بذلك، ولم يعطف قول الزور على الرجس بل أعاد العامل لمزيد الاعتناء، والمراد من الزور مطلق الكذب وهو من الزور بمعنى الانحراف فإن الكذب منحرف عن الواقع والإضافة بيانية، وقيل: هو أمر باجتناب شهادة الزور لما أخرج أحمد وأبو داود وابن ماجه والطبراني وغيرهم عن ابن مسعود أنه صلّى الله عليه وسلّم صلى صلاة الصبح فلما انصرف قائما قال: عدلت شهادة الزور الإشراك بالله تعالى ثلاث مرات ثم تلا هذه الآية. وتعقب بأنه لا نص فيما ذكر من الخبر مع ما في سنده في بعض الطرق من المقال على التخصيص لجواز بقاء الآية على العموم وتلاوتها لشمولها لذلك، وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل أنه قال يعني بقول الزور الشرك بالكلام وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت فيقولون في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك وهو قول بالتخصيص. ولا يخفى أن التعميم أو منه وإن لاءم المقام كتخصيص بعضهم ذلك بقول المشركين هذا حلال وهذا حرام حُنَفاءَ لِلَّهِ مائلين عن كل دين زائغ إلى الدين الحق مخلصين له تعالى غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ أي شيئا من الأشياء فيدخل في ذلك الأوثان دخولا أوليا وهما حالان مؤكدتان من واو فاجتنبوا. وجوز أن يكون حالا من واو وَاجْتَنِبُوا وأخر التبري عن التولي ليتصل بقوله تعالى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ وهي جملة مبتدأة مؤكدة لما قبلها من الاجتناب من الإشراك، وإظهار الاسم الجليل لإظهار كمال قبح الإشراك، وقد شبه الإيمان بالسماء لعلوه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 142 والإشراك بالسقوط منها فالمشرك ساقط من أوج الإيمان إلى حضيض الكفرة وهذا السقوط إن كان في حق المرتد فظاهره وهو في حق غيره باعتبار الفطرة وجعل التمكن والقوة بمنزلة الفعل كما قيل في قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ [البقرة: 257] فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ فإن الأهواء المردية توزع أفكاره وفي ذلك تشبيه الأفكار الموزعة بخطف جوارح الطير وهو مأخوذ من قوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ [الزمر: 29] وأصل الخطف الاختلاس بسرعة. وقرأ نافع «فتخطّفه» بفتح الخاء والطاء مشددة وقرأ الحسن وأبو رجاء والأعمش «فتخطّفه» بكسر التاء والخاء والطاء مشددة، وعن الحسن كذلك إلا أنه فتح الطاء مشددة. وقرأ الأعمش أيضا «تخطفه» بغير فاء وإسكان الخاء وفتح الطاء مخففة، والجملة على هذه القراءة في موضع الحال، وأما على القراءات الأول فالفاء للعطف وما بعدها عطف على خَرَّ وفي إيثار المضارع إشعار باستحضار تلك الحالة العجيبة في مشاهدة المخاطب تعجيبا له، وجوز أبو البقاء أن يكون الكلام بتقدير فهو يخطفه والعطف من عطف الجملة على الجملة أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ أي تسقطه وتقذفه. وقرأ أبو جعفر وأبو رجاء «الرياح» فِي مَكانٍ سَحِيقٍ بعيد فإن الشيطان قد طوح به في الضلالة، وفي ذلك تشبيه الشيطان المضل بالريح المهوية وهو مأخوذ من قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [مريم: 83] فالتشبيه في الآية مفرق. والظاهر أن تَهْوِي عطف على «تخطف» وأو للتقسيم على معنى أن مهلكه إما هوى يتفرق به في شعب الخسار أو شيطان يطوح به في مهمه البوار، وفرق بين خاطر النفس والشيطان فلا يرد ما قاله ابن المنير من أن الأفكار من نتائج وساوس الشيطان، والآية سيقت لجعلهما شيئين، وفي تفسير القاضي أنها للتخيير على معنى أنت مخير بين أن تشبه المشرك بمن خر من السماء فتخطفه الطير وبين من خر من السماء فتهوي به الريح من مكان سحيق أو للتنويع على معنى أن المشبه به نوعان والمشبه بالنوع الأول الذي توزع لحمه في بطون جوارح الطير المشرك الذي لا خلاص له من الشرك ولا نجاة أصلا، والمشبه بالنوع الثاني الذي رمته الريح في المهاوي المشرك الذي يرجى خلاصه على بعد، وقال ابن المنير: إن الكافر قسمان لا غير، مذبذب متمادي على الشك وعدم التصميم على ضلالة واحدة وهذا مشبه بمن اختطفه الطير وتوزعته فلا يستولي طائر على قطعة منه إلا انتهبها منه آخر وتلك حال المذبذب لا يلوح له خيال إلا اتبعه وترك ما كان عليه، ومشرك مصمم على معتقد باطل لو نشر بالمناشير لم يكع ولم يرجع لا سبيل إلى تشكيكه ولا مطمع في نقله عما هو عليه فهو فرح مبتهج بضلالته وهذا مشبه في قراره على الكفر باستقرار من هوت به الريح إلى واد سافل هو أبعد الاحياز عن السماء فاستقر فيه انتهى، ولا يخفى أن ما ذكرناه أوفق بالظاهر. وجوز غير واحد أن يكون من التشبيهات المركبة فكأنه سبحانه قال: من أشرك بالله تعالى فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس بعده بأن صور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير فتفرق قطعا في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطارح البعيدة، وجعل في الكشف أو على هذا للتخير وليس بمتعين فيما يظهر، وعلى الوجهين تفريق التشبيه وتركيبه في الآية تشبيهان. وذكر الطيبي أن فيها على التركيب تشبيهين، وتَهْوِي عطف على خَرَّ وعلى التفريق تشبيها واحدا وتَهْوِي عطف على «تخطف» وزعم أن في عبارة الكشاف ما يؤذن بذلك وهو غير مسلم ذلِكَ أي الأمر ذلك أو امتثلوا ذلك وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ أي البدن الهدايا كما روي عن ابن عباس ومجاهد وجماعة وهي جمع شعيرة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 143 أو شعارة بمعنى العلامة كالشعار، وأطلقت على البدن الهدايا لأنها من معالم الحج أو علامات طاعته تعالى وهدايته. وقال الراغب: لأنها تشعر أي تعلم بأن تدمي بشعيرة أي حديدة يشعر بها، ووجه الإضافة على الأوجه الثلاثة لا يخفى، وتعظيمها أن تختار حسانا سمانا غالية الأثمان، روي أنه صلّى الله عليه وسلّم أهدى مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب ، وعن عمر أنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلاثمائة دينار وقد سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يبيعها ويشتري بثمنها بدنا فنهاه عن ذلك وقال: بل اهدها، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يسوق البدن مجللة بالقباطي فيتصدق بلحومها وبجلالها، وقال زيد بن أسلم: الشعائر ست الصفا والمروة والبدن والجمار والمسجد الحرام وعرفة والركن، وتعظيمها إتمام ما يفعل بها، وقال ابن عمر والحسن ومالك وابن زيد: الشعائر مواضع الحج كلها من منى وعرفة والمزدلفة والصفا والمروة والبيت وغير ذلك وهو نحو قول زيد. وقيل: هي شرائع دينه تعالى وتعظيمها التزامها، والجمهور على الأول وهو أوفق لما بعد، ومَنْ إما شرطية أو موصولة وعلى التقديرين لا بد في قوله تعالى: فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ من ضمير يعود إليها أو ما يقوم مقامه فقيل إن التقدير فإن تعظيمها إلخ، والتعظيم مصدر مضاف إلى مفعوله ولا بد له من فاعل وهو ليس إلا ضميرا يعود إلى مَنْ فكأنه قيل فإن تعظيمه إياها، ومَنْ تحتمل أن تكون للتعليل أي فإن تعظيمها لأجل تقوى القلوب وأن تكون لابتداء الغاية أي فإن تعظيمها ناشىء من تقوى القلوب، وتقدير هذا المضاف واجب على ما قيل من حيث إن الشعائر نفسها لا يصح الإخبار عنها بأنها من التقوى بأي معنى كانت مَنْ. وقال الزمخشري: التقدير فإن تعظيمها من أفعال ذي تقوى القلوب فحذفت هذه المضافات ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها لأنه لا بدّ من راجع من الجزاء إلى مَنْ ليرتبط به اهـ. وتعقبه أبو حيان بأن ما قدره عار من راجع إلى مَنْ ولذا لما سلك جمع مسلكه في تقدير المضافات قبل التقدير فإن تعظيمها منه من أفعال إلخ أو فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب منهم فجاؤوا بضمير مجرور عائد إلى مَنْ في آخر الكلام أو في أثنائه، بعض من سلك ذلك لم يقدر منه ولا منهم لكن التزم جعل اللام في الْقُلُوبِ بدلا من الضمير المضاف إليه على رأي الكوفيين للربط أي تقوى قلوبهم. والدماميني جعل الرابط في تقدير الزمخشري فاعل المصدر المحذوف لفهم المعنى فلا يكون ما قدره عاريا عن الراجع إلى مَنْ كما زعمه أبو حيان فإن المحذوف المفهوم بمنزلة المذكور. وقال صاحب الكشف: في الانتصار له أيضا أراد أنه على ما قدره يكون عموم ذوي تقوى القلوب بمنزلة الضمير فتقدير منه كما فعل البيضاوي ليس بالوجه. واعترض صاحب التقريب تقدير المضافين الأخيرين أعني أفعال وذوي بأنه إنما يحتاج إليه إذا جعل (من) للتبعيض وأما إذا جعل للابتداء فلا إذ المعنى حينئذ فإن تعظيمها ناشىء من تقوى القلوب وهو قول بأحد الوجهين اللذين سمعتهما أولا، ولم يرتض ذلك صاحب الكشف قال: إن إضمار الأفعال لأن المعنى أن التعظيم باب من التقوى ومن أعظم أبوابها لا أن التعظيم صادر من ذوي تقوى. ومنه يظهر أن الحمل على أن التعظيم ناشىء من تقوى القلوب والاعتراض بأن قول الزمخشري: إنما يستقيم إذا حمل على التبعيض ليس على ما ينبغي على أنه حينئذ إن قدر من تقوى قلوبهم على المذهب الكوفي أو من تقوى القلوب منهم اتسع الخرق على الراقع، ثم التقوى إن جعلت متناولة للأفعال والتروك على العرف الشرعي فالتعظيم بعض البتة وإن جعلت خاصة بالتروك فمنشأ التعظيم منها غير لائح إلا على التجوز انتهى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 144 واعترض بأن دعواه أن المعنى على أن التعظيم باب من التقوى دون أن التعظيم صادر من ذي تقوى دعوى بلا شاهد. وبأنه لا تظهر الدلالة على أنه من أعظم أبواب التقوى كما ذكره، وبأن القول بعدم الاحتياج إلى الإضمار على تقدير أن يكون التعظيم بعضا من التقوى صلح لا يرضى به الخصم. وبأنه إذا صح الكلام على التجوز لا يستقيم قول الزمخشري: لا يستقيم إلخ. وتعقب بأنه غير وارد، أما الأول فلأن السياق للتحريض على تعظيم الشعائر وهو يقتضي عده من التقوى بل من أعظمها وكونه ناشئا منها لا يقتضي كونه منها بل ربما يشعر بخلافه، وأما الثاني فلأن الدلالة على الأعظمية مفهومة من السياق كما إذا قلت: هذا من أفعال المتقين والعفو من شيم الكرام والظلم من شيم النفوس كما يشهد به الذوق، وأما الثالث فلأنه لم يدع عدم الاحتياج إلى الإضمار على تقدير كون التعظيم بعضا بل يقول الرابط العموم كما قال أولا، وأما الرابع فلأن صحة الكلام بدون تقدير على التجوز لكونه خفيا في قوة الخطأ إذ لا قرينة عليه والتبعيض متبادر منه فلا غبار إلا على نظر المعترض، وأقول: لا يخفى أنه كلما كان التقدير أقل كان أولى فيكون قول من قال: التقدير فإن تعظيمها من تقوى القلوب أولى من قول من قال: التقدير فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب. ومن في ذلك للتبعيض، وما يقتضيه السياق من تعظيم أمر هذا التعظيم يفهم من جعله بعض تقوى القلوب بناء على أن تقييد التقوى بالقلوب للإشارة إلى أن التقوى قسمان: تقوى القلوب والمراد بها التقوى الحقيقية الصادقة التي يتصف بها المؤمن الصادق، وتقوى الأعضاء والمراد بها التقوى الصورية الكاذبة التي يتصف بها المنافق الذي كثيرا ما تخشع أعضاؤه وقلبه ساه لاه. والتركيب أشبه التراكيب بقولهم: العفو من شيم الكرام فمتى فهم منه كون العفو من أعظم أبواب الشيم فليفهم من ذلك كون التعظيم من أعظم أبواب التقوى والفرق تحكم. ولعل كون الإضافة لهذه الإشارة أولى من كونها لأن القلوب منشأ التقوى والفجور والآمرة بهما فتدبر. ومن الناس من لم يوجب تقدر التعظيم وأرجع ضمير فَإِنَّها إلى الحرمة أو الخصلة كما قيل نحو ذلك في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت» أو إلى مصدر مؤنث مفهوم من يُعَظِّمْ أي التعظيمة. واعترض هذا بأن المصدر الذي تضمنه الفعل لا يؤنث إلا إذا اشتهر تأنيثه كرحمة وهذا ليس كذلك ونظر فيه. نعم إن اعتبار ذلك مما لا يستلذه الذوق السليم، ومنه يعلم حال اعتبار التعظيمات بصيغة الجمع، على أنه قيل عليه: إنه يوهم أن التعظيمة الواحدة ليست من التقوى، ولا يدفعه أنه لا اعتبار بالمفهوم أو أن ذلك من مقابلة الجمع بالجمع كما لا يخفى. وإذا اعتبر المذهب الكوفي في لام الْقُلُوبِ لم يحتج في الآية إلى إضمار شيء أصلا. وذهب بعض أهل الكمال أن إلى الجزاء محذوف تقديره فهم متقون حقا لدلالة التعليل القائم مقامه عليه. وتعقب بأن الحذف خلاف الأصل وما ذكر صالح للجزائية باعتبار الأعلام والأخبار كما عرف في أمثاله، وأنت تعلم أن هذا التقدير ينساق إلى الذهن ومثله كثير في الكتاب الجليل. وقرىء «القلوب» بالرفع على أنه فاعل بالمصدر الذي هو تَقْوَى، واستدل الشيعة ومن يحذو حذوهم بالآية على مشروعية تعظيم قبور الأئمة وسائر الصالحين بإيقاد السرج عليها وتعليق مصنوعات الذهب والفضة ونحو ذلك مما فاقوا به عبدة الأصنام ولا يخفى ما فيه لَكُمْ فِيها أي في الشعائر بالمعنى السابق مَنافِعُ هي درها ونسلها وصوفها وركوب ظهورها إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو وقت أن يسميها ويوجبها هديا وحينئذ ليس لهم شيء من منافعها قاله ابن عباس في رواية مقسم ومجاهد وقتادة والضحاك، وكذا عند الإمام أبي حنيفة فإن المهدي عنده بعد التسمية والإيجاب لا يملك منافع الهدي أصلا لأنه لو ملك ذلك لجاز له أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 145 يؤجره للركوب وليس له ذلك اتفاقا، نعم يجوز له الانتفاع عند الضرورة وعليه يحمل ما روي عن أبي هريرة أنه صلّى الله عليه وسلّم مر برجل يسوق هديه وهو في جهاد فقال عليه الصلاة والسلام: اركبها فقال يا رسول الله: إنها هدي فقال: اركبها ويلك . وقال عطاء: منافع الهدايا بعد إيجابها وتسميتها هديا أن تركب ويشرب لبنها عند الحاجة إلى أجل مسمى وهو وقت أن تنحر وإلى ذلك ذهب الشافعي، فعن جابر أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «اركبوا الهدي بالمعروف حتى تجدوا ظهرا» واعترض على ما تقدم بأن مولى أم الولد يملك الانتفاع بها وليس له أن يبيعها فلم لا يجوز أن يكون الهدي كذلك لا يملك المهدي بيعه وإجارته ويملك الانتفاع به بغير ذلك، وقيل الأجل المسمى وقت أن تشعر فلا تركب حينئذ إلا عند الضرورة. وروى أبو رزين عن ابن عباس الأجل المسمى وقت الخروج من مكة، وفي رواية أخرى عنه وقت الخروج والانتقال من هذه الشعائر إلى غيرها، وقيل الأجل المسمى يوم القيامة ولا يخفى ضعفه. ثُمَّ مَحِلُّها أي وجوب نحرها على أن يكون محل مصدرا ميما بمعنى الوجوب من حل الدين إذا وجب أو وقت نحرها على أن يكون اسم زمان، وهو على الاحتمالين معطوف على مَنافِعُ والكلام على تقدير مضاف. وقوله تعالى: إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ في موضع الحال أي منتهية إلى البيت، والمراد به ما يليه بعلاقة المجاورة فإنها لا تنتهي إلى البيت نفسه وإنما تنتهي إلى ما يقرب منه، وقد جعلت منى منحرا ففي الحديث «كل فجاج مكة منحر وكل فجاج منى منحر» وقال القفال: هذا في الهدايا التي تبلغ منى وأما الهدي المتطوع به إذا عطب قبل بلوغ مكة فمنحره موضعه، وقالت الإمامية: منحر هدي الحج منى ومنحر هدي العمرة المفردة مكة قبالة الكعبة بالحزورة، وثُمَّ للتراخي الزماني أو الرتبي أي لكم فيها منافع دنيوية إلى أجل مسمى وبعده لكم منفعة دينية مقتضية للثواب الأخروي وهو وجوب نحرها أو وقت نحرها، وفي ذلك مبالغة في كون نفس النحر منفعة، والتراخي الرتبي ظاهر وأما التراخي الزماني فهو باعتبار أول زمان الثبوت فلا تغفل. والمعنى على القول بأن المراد من الشعائر مواضع الحج لكم في تلك المواضع منافع بالأجر والثواب الحاصل بأداء ما يلزم أداؤه فيها إلى أجل مسمى هو انقضاء أيام الحج ثم محلها أي محل الناس من إحرامهم إلى البيت العتيق أي منته إليه بأن يطوفوا به طواف الزيارة يوم النحر بعد أداء ما يلزم في هاتيك المواضع فإضافة المحل إليها لأدنى ملابسة وروي نحو ذلك عن مالك في الموطأ أو لكم فيها منافع التجارات في الأسواق إلى وقت المراجعة ثم وقت الخروج منها منتهية إلى الكعبة بالإحلال بطواف الزيارة أو لكم منافع دنيوية وأخروية إلى وقت المراجعة إلخ، وهكذا يقال على ما روي عن زيد بن أسلم من تخصيصها بالست، وعلى القول بأن المراد بها شرائع الدين لكم في مراعاتها منافع دنيوية وأخروية إلى انقطاع التكليف ثم محلها الذي توصل إليه إذا روعيت منته إلى البيت العتيق وهو الجنة أو محل رعايتها منته إلى البيت العتيق وهو معبد للملائكة عليهم السلام، وكونه منتهى لأنه ترفع إليه الأعمال، وقيل كون محلها منتهيا إلى البيت العتيق أي الكعبة كما هو المتبادر باعتبار أن محل بعضها كالصلاة والحج منته إلى ذلك، وقيل: غير ذلك والكل مما لا ينبغي أن يخرج عليه كلام أدنى الناس فضلا عن كلام رب العالمين، وأهون ما قيل: إن الكلام على هاتيك الروايات متصل بقوله تعالى: وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ وضمير فِيها لها وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً عطف على قوله سبحانه: لَكُمْ فِيها مَنافِعُ أو على قوله تعالى: وَمَنْ يُعَظِّمْ إلخ وما في البين اعتراض على ما قيل، وكأني بك تختار الأول وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام عليه عند نظير الآية، والمنسك موضع الجزء: 9 ¦ الصفحة: 146 النسك إذا كان اسم مكان أو النسك إذا كان مصدرا، وفسره مجاهد هنا بالذبح وإراقة الدماء على وجه التقرب إليه تعالى فجعله مصدرا وحمل النسك على عبادة خاصة وهو أحد استعمالاته وإن كان في الأصل بمعنى العبادة مطلقا وشاع في أعمال الحج. وقال الفراء: المنسك في كلام العرب الموضع المعتاد في خير وبر وفسره هنا بالعيد، وقال قتادة: هو الحج. وقال ابن عرفة مَنْسَكاً أي مذهبا من طاعته تعالى. واختار الزمخشري ما روي عن مجاهد وهو الأوفق أي شرع لكل أهل دين أن يذبحوا له تعالى على وجه التقرب لا لبعض منهم، فتقديم الجار والمجرور على الفعل للتخصيص. وقرأ الأخوان وابن سعدان وأبو حاتم عن أبي عمرو ويونس ومحبوب وعبد الوارث «منسكا» بكسر السين، قال ابن عطية وهو في هذا شاذ ولا يجوز في القياس ويشبه (1) أن يكون الكسائي سمعه من العرب، قال الأزهري: الفتح والكسر فيه لغتان مسموعتان لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ خاصة دون غيره تعالى كما يفهمه السياق والسباق، وفي تعليل الجعل بذلك فقط تنبيه على أن المقصود الأهم من شرعية النسك ذكره عز وجل عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ عند ذبحها، وفيه تنبيه على أن القربان يجب أن يكون من الأنعام فلا يجوز بالخيل ونحوها. والفاء في قوله تعالى: فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ قيل للتعليل وما بعدها علة لتخصيص اسم الله تعالى بالذكر، والفاء في قوله سبحانه: فَلَهُ أَسْلِمُوا لترتيب ما بعدها من الأمر بالإسلام على وحدانيته عز وجل، وقيل: الفاء الأولى لترتيب ما بعدها على ما قبلها أيضا فإن جعله تعالى لكل أمة من الأمم منسكا يدل على وحدانيته جل وعلا، ولا يخفى ما في وجه الدلالة من الخفاء، وتكلف بعضهم في بيانه بأن شرع المنسك لكل أمة ليذكروا اسم الله تعالى يقتضي أن يكون سبحانه إلها لهم لئلا يلزم السفه ويلزم من كونه تعالى إلها لهم أن يكون عز وجل واحدا لأنه لا يستحق الألوهية أصلا من لم يتفرد بها فإن الشركة نقص وهو كما ترى، وفي الكشف لما كانت العلة لقوله سبحانه: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً ذكر اسمه تعالى على المناسك ومعلوم أن الذكر إنما يكون ذكرا عند مواطأة القلب اللسان وذكر القلب إشعار بالتعظيم جاء قوله تعالى: فَلَهُ أَسْلِمُوا مسببا عنه تسببا حسنا. واعترض بقوله تعالى: فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لأنه يؤكد الأمر بالإخلاص ويقوي السبب تقوية بالغة ويؤكد أيضا كون الذكر هو المقصود من شرعية النسك انتهى، وهو يشعر بأن الفاء الأولى للاعتراض والفاء الثانية للترتيب. ولعل ما ذكر أولا أظهر، وأما ما قيل من أن الفاء الأولى للتعليل والمعلل محذوف والمعنى إنما اختلفت التكاليف باختلاف الأزمنة والأشخاص لاختلاف المصالح لا لتعدد الإله فإن إلهكم إله واحد فما لا ينبغي أن يخرج عليه كلام الله تعالى الجليل كما لا يخفى، وإنما قيل: إِلهٌ واحِدٌ ولم يقل واحد لما أن المراد بيان أنه تعالى واحد في ذاته كما أنه واحد في إلهيته وتقديم الجار على الأمر للقصر، والمراد أخلصوا له تعالى الذكر خاصة واجعلوه لوجهه سالما خالصا لا تشوبه بإشراك وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ خطاب له صلّى الله عليه وسلّم، والمخبتون المطمئنون كما روي عن مجاهد أو المتواضعون كما روي عن الضحاك. وقال عمرو بن أوس: هم الذين لا يظلمون الناس وإذا ظلموا لم ينتصروا. وقال سفيان: هم الراضون بقضاء الله. وقال الكلبي: هم المجتهدون في العبارة، وهو من الإخبات وأصله كما قال الراغب: نزول الخبت وهو المطمئن من الأرض، ولا يخفى حسن وقع ذلك هنا من حيث إن نزول الخبت مناسب للحاج الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ أي خافت قُلُوبُهُمْ منه عز وجل لإشراق أشعة الجلال عليها وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ من مشاق التكاليف ومؤونات النوائب كالأمراض والمحن والغربة عن الأوطان ولا يخفى حسن موقع ذلك هنا أيضا، والظاهر أن الصبر   (1) فيه أن القراءة بالرواية فلا تغفل اهـ منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 147 على المكاره مطلقا ممدوح. وقال الرازي: يجب الصبر على ما كان من قبل الله تعالى، وأما على ما يكون من قبل الظلمة فغير واجب بل يجب دفعه على من يمكنه ذلك ولو بالقتال انتهى وفيه نظر وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ في أوقاتها، ولعل ذكر ذلك هنا لأن السفر مظنة التقصير في إقامة الصلاة. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وأبو عمرو في رواية «الصلاة» بالنصب على المفعولية لمقيمي وحذفت النون منه تخفيفا كما في بيت الكتاب: الحافظو عورة العشيرة لا ... تأتيهم من ورائهم نطف (1) بنصب عورة ونظير ذلك قوله: إن الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أم مالك وقوله: ابني كليب إن عميّ اللذا ... قتلا الملوك وفككا الأغلالا وقرأ ابن مسعود والأعمش «والمقيمين الصلاة» بإثبات النون ونصب الصلاة على الأصل، وقرأ الضحاك «والمقيم الصلاة» بالإفراد والإضافة وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ في وجوه الخير ومن ذلك إهداء الهدايا التي يغالون فيها وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ أي من أعلام دينه التي شرعها الله تعالى، والبدن جمع بدنة وهي كما قال الجوهري ناقة أو بقرة تنحر بمكة، وفي القاموس هي من الإبل والبقر كالأضحية من الغنم تهدى إلى مكة وتطلق على الذكر والأنثى وسميت بذلك لعظم بدنها لأنهم كانوا يسمنونها ثم يهدونها، وكونها من النوعين قول معظم أئمة اللغة وهو مذهب الحنفية فلو ندر نحر بدنة يجزئه نحر بقرة عندهم وهو قول عطاء وسعيد بن المسيب، وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لا تعلم البدن إلا من الإبل والبقر. وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله تعالى عنه كنا ننحر البدنة عن سبعة فقيل والبقرة فقال: وهل هي إلا من البدن، وقال صاحب البارع من اللغويين: إنها لا تطلق على ما يكون من البقر، وروي ذلك عن مجاهد والحسن وهو مذهب الشافعية فلا يجزى عندهم من نذر نحر بدنة نحر بقرة، وأيد بما رواه أبو داود عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة» فإن العطف يقتضي المغايرة وفيما يأتي آخرا تأييد لذلك أيضا، والظاهر أن استعمال البدنة فيما يكون من الإبل أكثر وإن كان أمر الإجزاء متحدا. ولعل مراد جابر بقوله في البقرة وهل هي إلا من البدن أن حكمها حكمها وإلا فيبعد جهل السائل بالمدلول اللغوي ليرد عليه بذلك، ويمكن أن يقال فيما روي عن ابن عمر: إن مراده بالبدن فيه البدن الشرعية، ولعله إذا قيل باشتراكها بين ما يكون من النوعين يحكم العرف أو نحوه في التعيين فيما إذا نذر الشخص بدنة ويشير إلى ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن يعقوب الرياحي عن أبيه قال: أوصى إليّ رجل وأوصى ببدنة فأتيت ابن عباس فقلت له: إن رجلا أوصى إليّ وأوصى ببدنة فهل تجزي عني بقرة؟ قال: نعم ثم قال: ممن صاحبكم؟ فقلت: من رياح قال: ومتى اقتنى بنو رياح البقر إلى الإبل وهم صاحبكم إنما البقر لأسد وعبد القيس فتدبر. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وشيبة وعيسى «البدن» بضم الباء والدال، وقيل وهو الأصل كخشب وخشبة وإسكان الدال تخفيف منه، ورويت هذه القراءة عن نافع وأبي جعفر.   (1) التلطخ بالعيب اهـ منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 148 وقرأ ابن أبي إسحاق أيضا بضم الباء والدال وتشديد النون فاحتمل أن يكون اسما مفردا بني على فعل كعتل واحتمل أن يكون التشديد من التضعيف الجائز في الوقف وأجرى الوصل مجرى الوقف، والجمهور على نصب الْبُدْنَ على الاشتغال أي وجعلنا البدن جعلناها، وقرىء بالرفع على الابتداء، وقوله تعالى: لَكُمْ ظرف متعلق بالجعل، ومِنْ شَعائِرِ اللَّهِ في موضع المفعول الثاني له، وقوله تعالى: لَكُمْ فِيها خَيْرٌ أي نفع في الدنيا وأجر في الآخرة كما روي عن ابن عباس، وعن السدي الاقتصار على الأجر جملة مستأنفة مقررة لما قبلها. فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها بأن تقولوا عند ذبحها بسم الله والله أكبر اللهم منك ولك. وقد أخرج ذلك جماعة عن ابن عباس، وفي البحر بأن يقول عند النحر: الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر اللهم منك وإليك. صَوافَّ أي قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن فهو جمع صافة ومفعوله مقدر. وقرأ ابن عباس وابن عمر وابن مسعود والباقر ومجاهد وقتادة وعطاء والكلبي والأعمش بخلاف عنه «صوافن» بالنون جمع صافنة وهو إما من صفن الرجل إذا صف قدميه فيكون بمعنى صواف أو من صفن الفرس إذا قام على ثلاث وطرف سنبك الرابعة لأن البدنة عند الذبح تعقل إحدى يديها فتقوم على ثلاث، وعقلها عند النحر سنّة، فقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه رأى رجلا قد أناخ بدنته وهو ينحرها فقال: ابعثها قياما مقيدة سنة محمد صلّى الله عليه وسلّم. والأكثرون على عقل اليد اليسرى، فقد أخرج ابن أبي شيبة (1) عن ابن سابط رضي الله تعالى عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه كانوا يعقلون يد البدنة اليسرى وينحرونها قائمة على ما بقي من قوائمها. وأخرج عن الحسن قيل له: كيف تنحر البدنة؟ قال: تعقل يدها اليسرى إذا أريد نحرها، وذهب بعض إلى عقل اليمنى فقد أخرج ابن أبي شيبة أيضا عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان ينحرها وهي معقولة يدها اليمنى، وقيل لا فرق بين عقل اليسرى وعقل اليمنى، فقد أخرج ابن أبي شيبة أيضا عن عطاء قال: اعقل أي اليدين شئت. وأخرج جماعة عن ابن عمر أنه فسر صَوافَّ بقائمات معقولة إحدى أيديهن فلا فرق في المراد بين صواف وصوافن على هذا أصلا، لكن روي عن مجاهد أن الصواف على أربع والصوافن على ثلاث. وقرأ أبو موسى الأشعري والحسن ومجاهد وزيد بن أسلم وشقيق وسليمان التيمي والأعرج «صوافي» بالياء جمع صافية أي خوالص لوجه الله عز وجل لا يشرك فيها شيء كما كانت الجاهلية تشرك، ونون الياء عمر وابن عبيد وهو خلاف الظاهر لأن «صوافي» ممنوع من الصرف لصيغة منتهى الجموع، وخرج على وجهين: أحدهما أنه وقف عليه بألف الإطلاق لأنه منصوب ثم نون تنوين الترنم لا تنوين الصرف بدلا من الألف، وثانيهما أنه على لغة من يصرف ما لا يصرف لا سيما الجمع المتناهي ولذا قال بعضهم: والصرف في الجمع أتى كثيرا ... حتى ادعى قوم به التخييرا وقرأ الحسن أيضا «صواف» بالتنوين والتخفيف على لغة من ينصب المنقوص بحركة مقدرة ثم يحذف الياء فأصل صَوافَّ صوافي حذفت الياء لثقل الجمع واكتفي بالكسرة التي قبلها ثم عوض عنها بالتنوين ونحوه. ولو أن واش باليمامة داره ... وداري بأعلى حضرموت اهتدى ليا   (1) وكذا أبو اهـ منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 149 وقد تبقى الياء ساكنة كما في قوله: يا باري القوس بريا لست تحسنها ... لا تفسدنها وأعط القوس باريها وعلى ذلك قراءة بعضهم «صوافي» بإثبات الياء ساكنة بناء على أنه كما في القراءة المشهورة حال من ضمير عَلَيْها ولو جعل كما قيل بدلا من الضمير لم يحتج إلى التخريج على لغة شاذة فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها أي سقطت على الأرض وهو كناية عن الموت. وظاهر ذلك مع ما تقدم من الآثار يقتضي أنها تذبح وهي قائمة، وأيد به كون البدن من الإبل دون البقر لأنه لم تجر عادة بذبحها قائمة وإنما تذبح مضطجعة وقلما شوهد نحر الإبل وهي مضطجعة فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ أي الراضي بما عنده وبما يعطى من غير مسألة ولا تعرض لها، وعليه حمل قول لبيد: فمنهم سعيد آخذ بنصيبه ... ومنهم شقيّ بالمعيشة قانع وَالْمُعْتَرَّ أي المعترض للسؤال من اعتره إذا تعرض له، وتفسيرهما بذلك مروي عن ابن عباس وجماعة وقال محمد بن كعب ومجاهد وإبراهيم والحسن والكلبي: الْقانِعَ السائل كما في قول عدي بن زيد: وما خنت ذا عهد وأيت بعهده ... ولم أحرم المضطر إذ جاء قانعا وَالْمُعْتَرَّ المعترض من غير سؤال، فالقانع قيل على الأول من قنع يقنع كتعب يتعب قنعا إذا رضي بما عنده من غير سؤال، وعلى الثاني من قنع يقنع كسأل يسأل لفظا ومعنى قنوعا. وعلى ذلك جاء قول الشاعر: العبد حر إن قنع ... والحر عبد إن قنع فاقنع ولا تطمع فما ... شيء يشين سوى الطمع فلا يكون الْقانِعَ على هذا من الأضداد لاختلاف الفعلين، ونص على ذلك الخفاجي حاكما بتوهم من يقول بخلافه. وفي الصحاح نقل القول بأنه من الأضداد عن بعض أهل العلم ولم يتعقبه بشيء، ونقل عنه أيضا أنه يجوز أن يكون السائل سمي قانعا لأنه يرضى بما يعطى قل أو كثر ويقبله ولا يرد فيكون معنى الكلمتين راجعا إلى الرضى، وإلى كون قنع بالكسر بمعنى رضي وقنع بالفتح بمعنى سأل ذهب الراغب وجعل مصدر الأول قناعة وقنعانا ومصدر الثاني قنوعا. ونقل عن بعضهم أن أصل ذلك من القناع وهو ما يغطى به الرأس فقنع بالكسر لبس القناع ساترا لفقره كقولهم: خفي إذا لبس الخفاء وقنع إذا رفع قناعه كاشفا لفقره بالسؤال نحو خفي إذا رفع الخفاء، وأيد كون القانع بمعنى الراضي بقراءة أبي رجاء «القنع» بوزن الحذر بناء على أنه لم يرد بمعنى السائل بخلاف القانع فإنه ورد بالمعنيين والأصل توافق القراءات، وعن مجاهد «القانع» الجار وإن كان غنيا. وأخرج ابن أبي شيبة عنه وعن ابن جبير أن القانع أهل مكة والمعتر سائر الناس، وقيل: المعتر الصديق الزائر، والذي أختاره من هذه الأقوال أولها. وقرأ الحسن «والمعتري» اسم فاعل من اعترى وهو واعتر بمعنى. وقرأ عمرو وإسماعيل كما نقل ابن خالويه «المعتر» بكسر الراء بدون ياء، وروي ذلك المقري عن ابن عباس، وجاء ذلك أيضا عن أبي رجاء وحذفت الياء تخفيفا منه واستغناء بالكسرة عنها. واستدل بالآية على أن الهدي يقسم أثلاثا ثلث لصاحبه وثلث للقانع وثلث للمعتر وروي ذلك عن ابن مسعود، وقال محمد بن جعفر رضي الله تعالى عنهما بقسمته أثلاثا أيضا إلا أنه قال: أطعم القانع والمعتر ثلثا والبائس الفقير ثلثا وأهلي ثلثا وفي القلب من صحته شيء. وقال ابن المسيب: ليس لصاحب الهدي منه إلا الربع وكأنه عد القانع والمعتر والبائس الفقير ثلاثة وهو كما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 150 ترى، قال ابن عطية: وهذا كله على جهة الاستحسان لا الفرض، وكأنه أراد بالاستحسان الندب فيكون قد حمل كلا الأمرين في الآية على الندب. وفي التيسير أمر (كلوا) للإباحة ولو لم يأكل جاز وأمر أَطْعِمُوا للندب ولو صرفه كله لنفسه لم يضمن شيئا، وهذا في كل هدي نسك ليس بكفارة وكذا الأضحية، وأما الكفارة فعليه التصديق بجميعها فما أكله أو أهداه لغني ضمنه. وفي الهداية يستحب له أن يأكل من هدي التطوع والمتعة والقرآن وكذا يستحب أن يتصدق على الوجه الذي عرف في الضحايا وهو قول بنحو ما يقتضيه كلام ابن عطية في كلا الأمرين وأباح مالك الأكل من الهدي الواجب إلّا جزاء الصيد والأذى والنذر، وأباحه أحمد إلا من جزاء الصيد والنذر، وعند الحسن الأكل من جميع ذلك مباح وتحقيق ذلك في كتب الفقه كَذلِكَ أي مثل ذلك التسخير البديع المفهوم من قوله تعالى: صَوافَّ سَخَّرْناها لَكُمْ مع كمال عظمها ونهاية قوتها فلا تستعصي عليكم حتى إنكم تأخذونها منقادة فتعقلونها وتحبسونها صافة قوائمها ثم تطعنون في لبانها ولولا تسخير الله تعالى لم تطق ولم تكن بأعجز من بعض الوحوش التي هي أصغر منها جرما وأقل قوة وكفى ما يتأبد من الإبل شاهدا وعبرة. وقال ابن عطية: كما أمرناكم فيها بهذا كله سخرناها لكم ولا يخفى بعده لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي لتشكروا إنعامنا عليكم بالتقرب والإخلاص لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها أي لن يصيب رضا الله تعالى اللحوم المتصدق بها ولا الدماء المهراقة بالنحر من حيث إنها لحوم ودماء وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ ولكن يصيبه ما يصحب ذلك من تقوى قلوبكم التي تدعوكم إلى تعظيمه تعالى والتقرب له سبحانه والإخلاص له عز وجل. وقال مجاهد: أراد المسلمون أن يفعلوا فعل المشركين من الذبح وتشريح اللحم ونصبه حول الكعبة ونضحها بالدماء تعظيما لها وتقربا إليه تعالى فنزلت هذه الآية، وروي نحوه عن ابن عباس. وغيره. وقرأ يعقوب وجماعة «أن تنال» . «ولكن تناله» بالتاء. وقرأ أبو جعفر الأول بالتاء والثاني آخر الحروف، وعن يحيى بن يعمر والجحدري أنهما قرءآ بعكس ذلك. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «لن ينال» «ولكن يناله» بالبناء لما يسم فاعله في الموضعين ولحومها ولا دماءها بالنصب كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ كرره سبحانه تذكيرا للنعمة وتعليلا له بقوله تعالى: لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ أي لتعرفوا عظمته تعالى باقتداره على ما لا يقدر عليه غيره عز وجل فتوحدوه بالكبرياء، وقيل: أي لتقولوا الله أكبر عند الإحلال أو الذبح عَلى ما هَداكُمْ أي على هدايته وإرشاده إياكم إلى طريق تسخيرها وكيفية التقرب بها، فما مصدرية، وجوز أن تكون موصوفة وأن تكون موصولة والعائد محذوف، ولا بد أن يعتبر منصوبا عند من يشترط في حذف العائد المجرور أن يكون مجرورا بمثل ما جرّ به الموصول لفظا ومعنى ومتعلقا، وعَلى متعلقة بتكبروا لتضمنه معنى الشكر أو الحمد كأنه قيل: لتكبروه تعالى شاكرين أو حامدين على ما هداكم، وقال بعضهم: على بمعنى اللام التعليلية ولا حاجة إلى اعتبار التضمين، ويؤيد ذلك قول الداعي على الصفا: الله أكبر على ما هدانا والحمد لله تعالى على ما أولانا، ولا يخفى أن لعدم اعتبار التضمين هنا وجها ليس فيما نحن فيه فافهم وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ أي المخلصين في كل ما يأتون ويذرون في أمور دينهم. وعن ابن عباس هم الموحدون. ومن باب الإشارة في الآيات يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ بالإعراض عن السوي وطلب الجزاء إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ وهي مبادئ القيامة الكبرى يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ وهي مواد الأشياء فإن لكل شيء مادة ملكوتية ترضع رضيعها من الملك وتربيه في مهد الاستعداد وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ وهي الهيولات حَمْلَها وهي الصور يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وَتَرَى النَّاسَ سُكارى الحيرة وَما هُمْ بِسُكارى المحبة، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 151 قيل سكر الأعداء من رؤية القهريات. وسكر الموافقين من رؤية بدائع الأفعال. وسكر المريدين من لمعان الأنوار. وسكر المحبين من كشوف الأسرار. وسكر المشتاقين من ظهور سني الصفات. وسكر العاشقين من مكاشفة الذات. وسكر المقربين من الهيبة والجلال. وسكر العارفين من الدخول في حجال الوصال. وسكر الموحدين من استغراقهم في بحار الأولية. وسكر الأنبياء والمرسلين عليهم السلام من اطلاعهم على أسرار الأزلية: ألم بنا ساق يجل عن الوصف ... وفي طرفه خمر وخمر على الكف فأسكر أصحابي بخمرة كفه ... وأسكرني والله من خمرة الطرف وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ الآية يدخل فيه من يعبد الله تعالى طمعا في الكرامات ومحمدة الخلق ونيل دنياهم فإن رأى شيئا من ذلك سكن إلى العبادة وإن لم ير تركها وتهاون فيها خَسِرَ الدُّنْيا بفقدان الجاه والقبول والافتضاح عند الخلق وَالْآخِرَةَ ببقائه في الحجاب عن مشاهدة الحق واحتراقه بنار البعد مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ الآية فيه إشارة إلى حسن مقام التسليم والرضى بما فعل الحكيم جل جلاله وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ فيه من تعظيم أمر الكعبة ما فيه، وقد جعلها الله تعالى مثالا لعرشه وجعل الطائفين بها من البشر كالملائكة الحافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم إلا أن تسبيح البشر وثناءهم عليه عز وجل بكلمات إلهية قرآنية فيكونون من حيث تسبيحهم وثنائهم بتلك الكلمات من حيث إنها كلماته تعالى نوابا عنه عز وجل ذلك في ويكون أهل القرآن وهم كما في الحديث أهل الله تعالى وخاصته، وللكعبة أيضا امتياز على العرش وسائر البيوت الأربعة عشر لأمر ما نقل إلينا أنه في العرش ولا في غيره من تلك البيوت وهو الحجر الأسود الذي جاء في الخبر أنه يمين الله عز وجل ثم إنه تعالى جعل لبيته أربعة أركان لسر إلهي وهي في الحقيقة ثلاثة لأنه شكل مكعب الركن الذي يلي الحجر كالحجر في الصورة مكعب الشكل ولذلك سمي الكعبة تشبيها بالكعب، ولما جعل الله تعالى له بيتا في العالم الكبير جعل نظيره في العالم الصغير وهو قلب المؤمن، وقد ذكروا أنه أشرف من هذا البيت «وما وسعني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن» وجعل الخواطر التي تمر عليه كالطائفين وفيها مثلهم المحمود والمذموم، وجعل محل الخواطر فيه كالأركان التي للبيت فمحل الخاطر الإلهي كركن الحجر ومحل الخاطر الملكي كالركن اليماني ومحل الخاطر النفسي كالمكعب الذي في الحجر لا غير وليس للخاطر الشيطاني فيه محل، وعلى هذا قلوب الأنبياء عليهم السلام، وقد يقال: محل الخاطر النفسي كالركن الشامي ومحل الخاطر الشيطاني كالركن العراقي، وإنما جعل ذلك للركن العراقي لأن الشارع شرع أن يقال عنده: أعوذ بالله تعالى من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، وعلى هذا قلوب المؤمنين ما عدا الأنبياء عليهم السلام، وأودع سبحانه فيه كنزا أراد صلّى الله عليه وسلّم أن يخرجه فلم يفعل لمصلحة رآها، وكذا أراد عمر فامتنع اقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وكذلك أودع جل وعلا في قلب الكامل كنز العلم به عز وجل. وارتفاع البيت على ما مر سبعة وعشرون ذراعا وربع ذراع. وقال بعضهم: ثمانية وعشرون ذراعا، وعليه يكون ذلك نظير منازل القلب التي تقطعها كواكب الإيمان السيارة لإظهار حوادث تجري في النفس كما تقطع السيارة منازلها في الفلك لإظهار الحوادث في العالم العنصري إلى غير ذلك مما لا يعرفه إلا أهل الكشف. لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أي إلى ما يليه فإن النحر بمنى وجعلت محلا للقرابين على ما ذكر الشيخ الأكبر محيي الدين قدس سره لأنها من بلوغ الأمنية ومن بلغ المنى المشروع فقد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 152 بلغ الغاية. وفي نحر القرابين إتلاف أرواح عن تدبير أجسام حيوانية لتتغذى بها أجسام إنسانية فتنظر أرواحها إليها في حال تفريقها فتدبرها إنسانية بعد ما كانت تدبرها إبلا أو بقرا، وهذه مسألة دقيقة لم يفطن لها إلا من نور الله تعالى بصيرته من أهل الله تعالى انتهى. وتعقله مفوض إلى أهله فاجهد أن تكون منهم. وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ حسبما يحصل لهم من التجلي عند ذلك، وقد يحصل من الذكر طمأنينة القلب لاقتضاء التجلي إذ ذلك، وذكر بعضهم أن لكل اسم تجليا خاصا فإذا ذكر الله تعالى حصل حسب الاستعداد ومن هاهنا يحصل تارة وجل وتارة طمأنينة وإِذا لا تقتضي الكلية بل كثيرا ما يؤتى بها في الشرطية الجزئية، وقيل العارف متى سمع الذكر من غيره تعالى وجل قلبه ومتى سمعه منه عز وجل اطمأن. ويفهم من ظاهر كلامهم أن السامع للذكر إما وجل أو مطمئن ولم يصرح بقسم آخر فإن كان فالباقي على حاله قبل السماع، وأكثر مشايخ زماننا يرقصون عند سماع الذكر فما أدري أن يشأ رقصهم عن وجل منه تعالى أم عن طمأنينة؟ وسيظهر ذلك يوم تبلى السرائر وتظهر الضمائر وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ قد تقدم لك أنهم ينحرون البدن معقولة اليد اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها، وذكروا في سر ذلك أنه لما كان نحرها قربة أراد صلّى الله عليه وسلّم المناسبة في صفة نحرها في الوترية فأقامها على ثلاث قوائم لأن الله تعالى وتر يحب الوتر والثلاثة أو الإفراد فلها أول المراتب في ذلك والأولية وترية أيضا، وجعلها قائمة لأن القيومية مثل الوترية صفة إلهية فيذكر الذي ينحرها مشاهدة القائم على كل نفس بما كسبت، وقد صح أن المناسك إنما شرعت لإقامة ذكر الله تعالى، وشفع الرجلين لقوله تعالى: وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ [القيامة: 29] وهو اجتماع أمر الدنيا بالآخرة، وأفرد اليمين من يد البدن حتى لا تعتمد إلا على وتر له الاقتدار. وكان العقل في اليد اليسرى لأنها خلية عن القوة التي لليمنى والقيام لا يكون إلا عن قوة. وقد أخرج مسلم عن ابن عباس أنه قال: «صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الظهر بذي الحليفة ثم دعا بناقته فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن وسلت عنها الدم وقلدها نعلين ثم ركب راحلته» الحديث. والسر في كون هديه عليه الصلاة والسلام من الإبل مع أنه جاء فيها أنها شياطين ولذا كرهت الصلاة في معاطنها الإشارة إلى أن مقامه عليه الصلاة والسلام رد البعداء من الله تعالى إلى حال التقريب. وفي إشعارها في سنامها الذي هو أرفع ما فيها إشعار منه صلّى الله عليه وسلّم بأنه عليه الصلاة والسلام أتى عليهم من صفة الكبرياء الذي كانوا عليه في نفوسهم فليتجنبوها فإن الدار الآخرة إنما جعلت للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا، ووقع الإشعار في الصفحة اليمنى لأن اليمين محل الاقتدار والقوة، والصفحة من الصفح ففي ذلك إشعار بأن الله تعالى يصفح عمن هذه صفته إذا طلب القرب من الله تعالى وزال عن كبريائه الذي أوجب له البعد، وجعل عليه الصلاة والسلام الدلالة على إزالة الكبرياء في شيطنة البدن في تعليق النعال في رقابها إذ لا يصفع بالنعال إلا أهل الهون والمذلة ومن كان بهذه المثابة فما بقي فيه كبرياء تشهد، وعلق النعال بقلائد العهن ليتذكر بذلك ما أراد الله تعالى وتكون الجبال كالعهن المنفوش، وقد ذكروا لجميع أفعال الحج أسرارا من هذا القبيل، وعندي أن أكثرها تعبدية وأن أكثر ما ذكروه من قبيل الشعر والله تعالى الموفق للسداد. إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا كلام مستأنف مسوق لتوطين قلوب المؤمنين ببيان أن الله تعالى ناصرهم على أعدائهم بحيث لا يقدرون على صدهم عن الحج وذكر أن ذلك متصل بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ [الحج: 25] وإن ما وقع في البين من ذكر الشعائر مستطردا لمزيد تهجين فعلهم وتقبيحهم لازدياد قبح الصد بازدياد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 153 تعظيم ما صد عنه، وتصديره لكلمة التحقيق لإبراز الاعتناء التام بمضمونه، وصيغة المفاعلة إما للمبالغة أو للدلالة على تكرر الدفع فإنها قد تتجرد عن وقوع الفعل المتكرر من الجانبين فيبقى تكرره كالممارسة أي إن الله تعالى يبالغ في دفع غائلة المشركين وضررهم الذي من جملته الصد عن سبيل الله تعالى والمسجد الحرام مبالغة من يغالب فيه أو يدفعها عنهم مرة بعد أخرى حسبما يتجدد منهم القصد إلى الإضرار بهم كما في قوله تعالى: كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ [المائدة: 64] . وقرأ أبو عمرو وابن كثير «يدفع» والمفعول محذوف كما أشير إليه، وفي البحر أنه لم يذكر ما يدفعه سبحانه عنهم ليكون أفخم وأعظم وأعم، وأنت تعلم أن المقام لا يقتضي العموم بل هو غير صحيح. وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ تعليل لما في ضمن الوعد الكريم من الوعيد للمشركين وإيذان بأن دفعهم بطريق القهر والخزي. وقيل: تعليل للدفاع عن المؤمنين ببغض المدفوعين على وجه يتضمن أن العلة في ذلك الخيانة والكفر، وأوثر لا يُحِبُّ على يبغض تنبيها على مكان التعريض وأن المؤمنين هم أحباء الله تعالى، ولعل الأول أولى لإيهام هذا إن الآية من قبيل قولك: إني أدفع زيدا عن عمرو لبغضي زيدا وليس في ذلك كثير عناية بعمرو أي إن الله تعالى يبغض كل خوان في أماناته تعالى وهي أوامره تعالى شأنه ونواهيه أو في جميع الأمانات التي هي معظمها كفور لنعمه عز وجل، وصيغة المبالغة فيهما لبيان أن المشركين كذلك لا للتقيد المشعر بمحبة الخائن والكافر أو لأن خيانة أمانة الله تعالى وكفران نعمته لا يكونان حقيرين بل هما أمران عظيمان أو لكثرة ما خانوا فيه من الأمانات وما كفروا به من النعم أو للمبالغة في نفي المحبة على اعتبار النفي أولا وإيراد معنى المبالغة ثانيا كما قيل في قوله تعالى: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] وقد علمت ما فيه. وأيا ما كان فالمراد نفي الحب عن كل فرد فرد من الخونة الكفرة أُذِنَ أي رخص، وقرأ ابن عباس وابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي أُذِنَ بالبناء للفاعل أي أذن الله تعالى لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ أي يقاتلهم المشركون والمأذون فيه القتال وهو في قوة المذكور لدلالة المذكور عليه دلالة نيرة. وقرأ أبو عمر وأبو بكر ويعقوب «يقاتلون» على صيغة المبني للفاعل أي يريدون أن يقاتلوا المشركين في المستقبل ويحرصون عليه فدلالته على المحذوف أنور بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا أي بسبب أنهم ظلموا. والمراد بالموصول أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم الذين في مكة فقد نقل الواحدي وغيره أن المشركين كانوا يؤذونهم وكانوا يأتون النبي عليه الصلاة والسلام بين مضروب ومشجوج ويتظلمون إليه صلوات الله تعالى وسلامه عليه فيقول لهم: اصبروا فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر فأنزلت هذه الآية وهي أول آية نزلت في القتال بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين آية على ما روى الحاكم في المستدرك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأخرجه عبد الرزاق وابن المنذر عن الزهري. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية أن أول آية نزلت فيه وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ [البقرة: 19] ، وفي الإكليل للحاكم أن أول آية نزلت في ذلك إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ [التوبة: 111] ، وروى البيهقي في الدلائل وجماعة أنها نزلت في أناس مؤمنين خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة فاتبعهم كفار قريش فأذن الله تعالى لهم في قتالهم وعدم التصريح بالظالم لمزيد السخط تحاشيا عن ذكره. وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ وعد لهم بالنصر وتأكيد لما مر من العدة وتصريح بأن المراد به ليس مجرد تخليصهم من أيدي المشركين بل تغليبهم وإظهارهم عليهم، وقد أخرج الكلام على سنن الكبرياء فإن الرمزة والابتسامة من الملك الكبير كافية في تيقن الفوز بالمطلوب وقد أوكد تأكيدا بليغا زيادة في توطين نفوس المؤمنين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 154 الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ في حيز الجر على أنه صفة للموصول قبل أو بيان له أو بدل منه أو في محل النصب على المدح أو في محل الرفع بإضمار مبتدأ، والجملة مرفوعة على المدح، والمراد الذين أخرجهم المشركون من مكة بِغَيْرِ حَقٍّ متعلق بالإخراج أي أخرجوا بغير ما يوجب إخراجهم. وجوز أن يكون صفة مصدر محذوف أي أخرجوا إخراجا كائنا بهذه الصفة، واختار الطبرسي كونه في موضع الحال أي كائنين بغير حق مترتب عليهم يوجب إخراجهم، وقوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ استثناء متصل من حَقٍّ وأن وما بعدها في تأويل مصدر بدل منه لما في غير من معنى النفي، وحاصل المعنى لا موجب لإخراجهم إلا التوحيد وهو إذا أريد بالموجب الموجب النفس الأمري على حد قول النابغة: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب وجوز أن يكون الابدال من غير وفي أخرجوا معنى النفي أي لم يقروا في ديارهم إلا بأن يقولوا إلخ وهو كما ترى، وجوز أن يكون الاستثناء منقطعا وأوجبه أبو حيان أي ولكن أخرجوا بقولهم ربنا الله، وأوجب نصب ما بعد إلا كما أوجبوه في قولهم: ما زاد إلا ما نقص وما نفع إلا ما ضر، ورد كونه متصلا وكون ما بعد إلا بدلا من حَقٍّ بما هو أشبه شيء بالمغالطة، ويفهم من كلامه جواز أن تكون إلا بمعنى سوى صفة لحق أي أخرجوا بغير حق سوى التوحيد، وحاصله أخرجوا بكونهم موحدين. وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ تحريض على القتال المأذون فيه بإفادة أنه تعالى أجرى العادة بذلك في الأمم الماضية به الأمر وتقوم الشرائع وتصان المتعبدات من الهدم فكأنه لما قيل أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ إلخ قيل فليقاتل المؤمنون فلولا القتال وتسليط الله تعالى المؤمنين على المشركين في كل عصر وزمان لهدمت متعبداتهم ولذهبوا شذر مذر، وقيل: المعنى لولا دفع الله بعض الناس ببعض بتسليط مؤمني هذه الأمة على كفارها لهدمت المتعبدات المذكورة إلا أنه تعالى سلط المؤمنين على الكافرين فبقيت هذه المتعبدات بعضها للمؤمنين وبعضها لمن في حمايتهم من أهل الذمة وليس بذاك، وقال مجاهد: أي لولا دفع ظلم قوم بشهادة العدول ونحو ذلك لهدمت إلخ. وقال قوم: أي لولا دفع ظلم الظلمة بعدل الولاة، وقالت فرقة: أي لولا دفع العذاب عن الأشرار بدعاء الأخيار، وقال قطرب: أي لولا الدفع بالقصاص عن النفوس. وقيل بالنبيين عليهم السلام عن المؤمنين والكل مما لا يقتضيه المقام ولا ترتضيه ذوو الافهام. والصوامع جمع صومعة بوزن فعولة وهي بناء مرتفع حديد الأعلى والأصمع من الرجال الحديد القول، وقال الراغب: هي كل بناء متصمع الرأس أي متلاصقه والأصمع اللاصقة إذنه برأسه وهو قريب من قريب، وكانت قبل الإسلام كما قال قتادة مختصة برهبان النصارى وبعباد الصابئة ثم استعملت في مئذنة المسلمين، والمراد بها هنا متعبد الرهبان عند أبي العالية ومتعبد الصابئة عند قتادة ولا يخفى أنه لا ينبغي إرادة ذلك حيث لم تكن الصابئة ذات ملة حقة في وقت من الأوقات، والبيع واحدها بيعة بوزن فعلة وهي مصلى النصارى ولا تختص برهبانهم كالصومعة، قال الراغب: فإن يكن ذلك عربيا في الأصل فوجه التسمية به لما قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ الآية، وقيل هي كنيسة اليهود. وقرأ أهل المدينة ويعقوب «ولولا دفاع» بالألف. وقرأ الحرميان وأيوب وقتادة وطلحة وزائدة عن الأعمش والزعفراني «لهدمت» بالتخفيف، والتضعيف باعتبار كثرة المواضع. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 155 وَصَلَواتٌ جمع صلاة وهي كنيسة اليهود. وقيل: معبد للنصارى دون البيعة والأول أشهر، وسميت الكنيسة بذلك لأنها يصلى فيها فهي مجاز من تسمية المحل باسم الحال، وقيل: هي بمعناها الحقيقي وهدمت بمعنى عطلت أو في الكلام مضاف مقدر وليس بذاك، وقيل: صَلَواتٌ معرب صلوثا بالثاء المثلثة والقصر ومعناها بالعبرانية المصلى. وروي عن أبي رجاء والجحدري وأبي العالية ومجاهد أنهم قرؤوا بذلك، والظاهر أنه على هذا القول اسم جنس لا علم قبل التعريب وبعده لكن ما رواه هارون عن أبي عمرو من عدم تنوينه ومنع صرفه للعلمية والعجمة يقتضي أنه علم جنس إذ كونه اسم موضع بعينه كما قيل بعيد فعليه كان ينبغي منع صرفه على القراءة المشهورة فلذا قيل إنه صرف لمشابهته للجمع لفظا فيكون كعرفات، والظاهر أنه نكر إذ جعل عاما لما عرب، وأما القول بأن القائل به لا ينونه فتكلف قاله الخفاجي. وقرأ جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما: صَلَواتٌ بضم الصاد واللام، وحكى عنه ابن خالويه بكسر الصاد وسكون اللام وحكيت عن الجحدري، وحكي عنه أيضا «صلوات» بضم الصاد وفتح اللام وحكيت عن الكلبي، وقرأ أبو العالية في رواية «صلوات» بفتح الصاد وسكون اللام، وقرأ الحجاج بن يوسف صلوات بضم الصاد واللام من غير ألف وحكيت عن الجحدري أيضا، وقرأ مجاهد «صلوتا» بضمتين وتاء مثناة بعدها ألف، وقرأ الضحاك والكلبي «صلوث» بضمتين من غير ألف وبثاء مثلثة، وقرأ عكرمة «صلويثا» بكسر الصاد وإسكان اللام وواو مكسورة بعدها ياء بعدها ثاء مثلثة بعدها ألف، وحكي عن الجحدري أيضا «صلواث» بضم الصاد وسكون اللام وواو مفتوحة بعدها ألف بعدها ثاء مثلثة، وحكي عن مجاهد أنه قرأ كذلك إلا أنه بكسر الصاد، وحكى ابن خالويه وابن عطية عن الحجاج والجحدري «صلوب» بضمتين وباء موحدة على أنه جمع صليب كظريف وظروف وجمع فعيل على فعول شاذ فهذه عدة قراءات قلما يوجد مثلها في كلمة واحدة وَمَساجِدُ جمع مسجد وهو معبد معروف للمسلمين، وخص بهذا الاسم اعتناء بشأنه من حيث إن السجود أقرب ما يكون العبد فيه إلى ربه عزّ وجلّ، وقيل: لاختصاص السجود في الصلاة بالمسلمين، ورد بقوله تعالى: يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي [آل عمران: 43] مع الراكعين وحمل السجود فيها على المعنى اللغوي بعيد، وقال ابن عطية: الأسماء المذكورة تشترك الأمم في مسمياتها إلا البيعة فإنها مختصة بالنصارى في عرف كل لغة، والأكثرون على أن الصوامع للرهبان والبيع للنصارى والصلوات لليهود والمساجد للمسلمين. ولعل تأخير ذكرها مع أن الظاهر تقديمها لشرفها لأن الترتب الوجودي كذلك أو لتقع في جوار مدح أهلها أو للتبعيد من قرب التهديم، ولعل تأخير صَلَواتٌ عن بِيَعٌ مع مخالفة الترتيب الوجودي له للمناسبة بينها وبين المساجد كذا قيل، وقيل إنما جيء بهذه المتعبدات على هذا النسق للانتقال من شريف إلى أشرف فإنه البيع أشرف من الصوامع لكثرة العباد فيها فإنها معبد للرهبان وغيرهم والصوامع معبد للرهبان فقط وكنائس اليهود أشرف من البيع لأن حدوثها أقدم وزمان العبادة فيها أطول، والمساجد أشرف من الجميع لأنه الله تعالى قد عبد فيها بما لم يعبد به في غيرها ولعل المراد من قوله تعالى: لَهُدِّمَتْ إلخ المبالغة في ظهور الفساد ووقوع الاختلال في أمر العباد لولا تسليط الله تعالى المحقين على المبطلين لا مجرد تهديم متعبدات للمليين يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً في موضع الصفة لمساجد، وقال الضحاك ومقاتل والكلبي: في موضع الصفة للجميع واستظهره أبو حيان، وكون كون بيان ذكر الله عزّ وجلّ في الصوامع والبيع والكنائس بعد انتساخ شرعيتها مما لا يقتضيه المقام ليس بشيء لأن الانتساخ لا ينافي بقاءها ببركة ذكر الله تعالى فيها مع أن معنى الآية عام لما قبل الانتساخ كما مر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 156 وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وبالله أي لينصرن الله تعالى من ينصر دينه أو من ينصر أولياءه ولقد أنجز الله تعالى وعده حيث سلط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرة الروم وأورثهم أرضهم وديارهم إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ على كل ما يريده من مراداته التي من جملتها نصرهم عَزِيزٌ لا يمانعه شيء ولا يدافعه الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وصف للذين أخرجوا مقطوع أو غير مقطوع. وجوز أن يكون بدلا، والتمكين السلطنة ونفاذ الأمر، والمراد بالأرض جنسها، وقيل مكة، والمراد بالصلاة الصلاة المكتوبة وبالزكاة الزكاة المفروضة وبالمعروف التوحيد وبالمنكر الشرك على ما روي عن زيد بن أسلم. ولعل الأولى في الأخيرين التعميم، والوصف بما ذكر كما روي عن عثمان رضي الله تعالى عنه ثناء قبل بلاء يعني أن الله تعالى أثنى عليهم قبل أن يحدثوا من الخير ما أحدثوا قالوا: وفيه دليل على صحة أمر الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم أجمعين وذلك على ما في الكشف لأن الآية مخصوصة بالمهاجرين لأنهم المخرجون بغير حق والممكنون في الأرض منهم الخلفاء دون غيرهم فلو لم تثبت الأوصاف الباقية لزم الخلف في المقال تعالى الله سبحانه عنه لدلالته على أن كل ممكن منهم يلزمه التوالي لعموم اللفظ، ولما كان التمكين واقعا تم الاستدلال دون نظر إلى استدعاء الشرطية الوقوع كالكلام المقرون بلعل وعسى من العظماء فإن لزوم التالي مقتضى اللفظ لا محالة ولما وقع المقدم لزم وقوعه أيضا، وفي ثبوت التالي ثبوت حقية الخلافة البتة وهي واردة على صيغة الجمع المنافية للتخصيص بعليّ وحده رضي الله تعالى عنه، وعن الحسن وأبي العالية هم أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم والأولى على هذا أن يجعل الموصول بدلا من قوله تعالى: مَنْ يَنْصُرُهُ كما أعربه الزجاج، وكذا يقال على ما روي عن ابن عباس أنهم المهاجرون والأنصار والتابعون، وعلى ما روي عن أبي نجيح أنهم الولاة. وأنت تعلم أن المقام لا يقتضي إلا الأول وَلِلَّهِ خاصة عاقِبَةُ الْأُمُورِ فإن مرجعها إلى حكمه تعالى وتقديره فقط، وفيه تأكيد للوعد بإعلاء كلمته وإظهار أوليائه وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ مَدْيَنَ تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصيغة المضارع في الشرط مع تحقق التكذيب لما أن المقصود تسلية عليه الصلاة والسلام عما يترتب على التكذيب من الحزن المتوقع أو للإشارة إلى أنه مما لا ينبغي تحققه وإلحاق (كذب) تاء التأنيث لأن الفاعل وهو قَوْمُ اسم جمع يجوز تذكيره وتأنيه ولا حاجة لتأويله بالأمة أو القبيلة كما فعل أبو حيان ومن تبعه، وفي اختيار التأنيث حط لقدر المكذبين ومفعول كذب محذوف لكمال ظهور المراد. وجوز أن يكون الفعل منزلا منزلة اللازم أي فعلت التكذيب واستغنى في عاد وثمود عن ذكر القوم لاشتهارهم بهذا الاسم الأخصر والأصل في التعبير العلم فلذا لم يقل قوم صالح وقوم هود ولا علم لغير هؤلاء، ولم يقل وقوم شعيب قيل لأن قومه المكذبين له عليه السلام هم هؤلاء دون أهل الأيكة لأنهم وإن أرسل عليه السلام إليهم فكذبوه أجنبيون، وتكذيب هؤلاء أيضا أسبق وأشد، والتخصيص لأن التسلية للنبي عليه الصلاة والسلام عن تكذيب قومه أن وإن يكذبك قومك فاعلم أنك لست بأوحدي في ذلك فقد كذبت قبل تكذيب قومك إياك قوم نوح إلخ وَكُذِّبَ مُوسى المكذب له عليه السلام هم القبط وليسوا قومه بل قومه عليه السلام بنو إسرائيل ولم يكذبوه بأسرهم ومن كذبه منهم تاب إلا اليسير وتكذيب اليسير من القوم كلا تكذيب ألا ترى أن تصديق اليسير من المذكورين قبل عد كلا تصديق ولهذا لم يقل وقوم موسى كما قيل: (قَوْمُ نُوحٍ وقَوْمُ إِبْراهِيمَ وأما أنه لم يقل والقبط بل أعيد الفعل مبنيا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 157 للمفعول فللإيذان بأن تكذيبهم له عليه الصلاة والسلام في غاية الشناعة لكون آياته في كمال الوضوح فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ أي أمهلتهم حتى انصرمت حبال آجالهم والفاء لترتيب إمهال كل فريق من فرق المكذبين على تكذيب ذلك الفريق لا لترتيب إمهال الكل على تكذيب الكل. ووضع الظاهر موضع المضمر العائد على المكذبين لذمهم بالكفر والتصريح بمكذبي موسى عليه السلام حيث لم يذكروا فيما قبل تصريحا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ أي أخذت كل فريق من فريق المكذبين بعد انقضاء مدة إملائه وإمهاله. والأخذ كناية عن الإهلاك فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي إنكاري عليهم بتغيير ما هم عليه من الحياة والنعمة وعمارة البلاد وتبديله لضده فهو مصدر من نكرت عليه إذا فعلت فعلا يردعه بمعنى الإنكار كالنذير بمعنى الإنذار. وياء الضمير المضاف إليها محذوفة للفاصلة وأثبتها بعض القراء، والاستفهام للتعجب كأنه قيل فما أشد ما كان إنكاري عليهم، وفي الجملة إرهاب لقريش، وقوله تعالى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ منصوب بمضمر يفسره قوله تعالى: أَهْلَكْناها أي فأهلكنا كثيرا من القرى أهلكناها، والجملة بدل من قوله سبحانه: فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أو مرفوع على الابتداء وجملة أَهْلَكْناها خبره أي فكثير من القرى أهلكناها، واختار هذا أبو حيان: الأجود في إعراب (كأين) أن تكون مبتدأ وكونها منصوبة بفعل مضمر قليل. وقرأ أبو عمرو وجماعة «أهلكتها» بتاء المتكلم على وفق فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثم أخذتهم ونسبة الإهلاك إلى القرى مجازية والمراد إهلاك أهلها، ويجوز أن يكون الكلام بتقدير مضاف، وقيل: الإهلاك استعارة لعدم الانتفاع بها بإهلاك أهلها، وقوله تعالى: وَهِيَ ظالِمَةٌ جملة حالية من مفعول أهلكنا، وقوله تعالى: فَهِيَ خاوِيَةٌ عطف على أَهْلَكْناها فلا محل له من الإعراب أو محله الرفع كالمعطوف عليه، ويجوز عطفه على جملة (كأين) إلخ الاسمية واختاره بعضهم لقضية التشاكل، والفاء غير مانعة بناء على ترتيب الخواء على الإهلاك لأنه على نحو زيد أبوك فهو عطوف عليك، وجوز عطفه على الجملة الحالية، واعترض بأن خواءها ليس في حال إهلاك أهلها بل بعده، وأجيب بأنها حال مقدرة ويصح عطفها على الحال المقارنة أو يقال هي حال مقارنة أيضا بأن يكون إهلاك الأهل بخوائها عليهم، ولا يخفى أن كلا الجوابين خلاف الظاهر، والخواء إما بمعنى السقوط من خوى النجم إذا سقط، وقوله تعالى: عَلى عُرُوشِها متعلق به، والمراد بالعروش السقوف، والمعنى فهي ساقطة حيطانها على سقوفها بأن تعطل بنيانها فخرت سفوقها ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف، وإسناد السقوط على العروش إليها لتنزيل الحيطان منزلة كل البنيان لكونها عمدة فيه، وإما بمعنى الخلو من خوت الدار تخوي خواء إذا خلت من أهلها، ويقال: خوي البطن يخوي خوى إذا خلا من الطعام، وجعل الراغب أصل معنى الخواء هذا وجعل خوي النجم من ذلك فقال: يقال خوي النجم وأخوي إذا لم يكن منه عند سقوطه مطر تشبيها بذلك فقوله تعالى: عَلى عُرُوشِها إما متعلق به أو متعلق بمحذوف وقع حالا، وعَلى بمعنى مع أي فهي خالية مع بقاء عروشها وسلامتها، ويجوز على تفسير الخواء بالخلو أن يكون عَلى عُرُوشِها خبرا بعد خبر أي فهي خالية وهي على عروشها أي قائمة مشرفة على عروشها على أن السقوف سقطت إلى الأرض وبقيت الحيطان قائمة وهي مشرفة على السقوف الساقطة، وإسناد الإشراف إلى الكل مع كونه حال الحيطان لما مر آنفا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ عطف على قَرْيَةٍ والبئر من بأرت أي حفرت وهي مؤنثة على وزن فعل بمعنى مفعول وقد تذكر على معنى القليب وتجمع على أبار وآبار وأبؤر وآبر وبيار، وتعطيل الشيء إبطال منافعه أي وكم بئر عامرة في البوادي تركت لا يسقى منها لهلاك أهلها. وقرأ الجحدري والحسن وجماعة «معطلة» بها لتخفيف من أعطله بمعنى عطله. وَقَصْرٍ مَشِيدٍ عطف على ما تقدم أيضا أي وكم قصر مرفوع البنيان أو مبني بالشيد بالكسر أي الجص الجزء: 9 ¦ الصفحة: 158 أخليناه عن ساكنيه كما يشعر به السياق ووصف البئر بمعطلة قيل، وهذا يؤيد وكون معنى خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها خالية مع بقاء عروشها، وفي البحر ينبغي أن يكون بِئْرٍ. وقَصْرٍ من حيث عطفها على قَرْيَةٍ داخلين معها في حيز الإهلاك مخبرا به عنهما بضرب من التجوز أي وكم بئر معطلة وقصر مشيد أهلكنا أهلهما. وزعم بعضهم عطفهما على عُرُوشِها وليس بشيء، وظاهر التنكير فيهما عدم إرادة معين منهما، وعن ابن عباس أن البئر كانت لأهل عدن من اليمن وهي الرس، وعن كعب الأحبار أن القصر بناه عاد الثاني. وعن الضحاك وغيره أن القصر على قلة جبل بحضرموت والبئر بسفحه وأن صالحا عليه السلام نزل عليها مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به ونجاهم الله تعالى من العذاب، وسميت حضرموت بفتح الراء والميم ويضمان ويبنى ويضاف لأن صالحا عليه السلام (1) حين حضرها مات، وعند البئر بلدة اسمها حاضورا بناها قوم صالح وأمّروا عليها جلهس بن جلاس وأقاموا بها زمانا ثم كفروا وعبدوا صنما وأرسل الله تعالى إليهم حنظلة بن صفوان نبيا فقتلوه في السوق فأهلكهم الله تعالى عن آخرهم وعطل سبحانه بئرهم وقصرهم. وجوز أن يكون إرادة ذلك بطريق التعريض وفيه بعد أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ حيث لهم على السفر للنظر والاعتبار بمصارع الهالكين هذا إن كانوا لم يسافروا وإن كانوا سافروا فهو حث على النظر والاعتبار، وذكر المسير لتوقفه عليه، وجوز أن يكون الاستفهام للإنكار أو التقرير، وأيا ما كان فالعطف على مقدر يقتضيه المقام، وقوله تعالى: فَتَكُونَ لَهُمْ منصوب في جواب الاستفهام عند ابن عطية. وفي جواب التقرير عند الحوفي وفي جواب النفي عند بعض، ومذهب البصريين أن النصب بإضمار أن وينسبك منها ومن الفعل مصدر يعطف على مصدر متوهم. ومذهب الكوفيين أنه منصوب على الصرف إذ معنى الكلام الخبر صرفوه عن الجزم على العطف على يَسِيرُوا وردوه إلى أخي الجزم وهو النصب وهو كما ترى. ومذهب الجرمي أن النصب بالفاء نفسها. وقرأ مبشر بن عبيد «فيكون» بالياء التحتية قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أي يعلمون بها ما يجب أن يعلم من التوحيد فمفعول يَعْقِلُونَ محذوف لدلالة المقام عليه، وكذا يقال في قوله تعالى: أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها أي يسمعون بها ما يجب أن يسمع من الوحي أو من أخبار الأمم المهلكة ممن يجاورهم من الناس فإنهم أعرف منهم بحالهم فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ضمير فَإِنَّها للقصة فهو مفسر بالجملة بعده، ويجوز في مثله التذكير باعتبار الشأن، وعلى ذلك قراءة عبد الله «فإنه» وحسن التأنيث هنا وقوع ما فيه تأنيث بعده، وقيل: يجوز أن يكون ضميرا مبهما مفسرا بالأبصار، وكأن الأصل فإنها الأبصار لا تعمى على أن جملة لا تَعْمَى من الفعل والفاعل المستتر خبر بعد خبر فلما ترك الخبر الأول أقيم الظاهر مقام الضمير لعدم ما يرجع إليه ظاهرا فصار فاعلا مفسرا للضمير. واعترضه أبو حيان بأنه لا يجوز لأن الضمير المفسر بمفرد بعده محصور في أمور وهي باب رب وباب نعم وبئس وباب الأعمال وباب البدل وباب المبتدأ والخبر وما هنا ليس منها. ورد بأنه من باب المبتدأ والخبر نحو إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا [الأنعام: 29، المؤمنون: 37، الجاثية: 24] ولا يضره دخول الناسخ، وفيه نظر، والمعنى أنه لا يعتد بعمى الأبصار وإنما يعتد بعمى القلوب فكأن عمى الأبصار ليس بعمى بالإضافة إلى عمى القلوب، فالكلام تذييل لتهويل ما بهم من عدم فقه القلب وأنه العمى الذي لا عمى بعده بل لا عمى إلا هو أو المعنى أن أبصارهم صحيحة سالمة لا عمى بها وإنما العمى بقلوبهم فكأنه قيل: أفلم يسيروا فتكون لهم قلوب ذات بصائر فإن الآفة ببصائر   (1) فالظاهر أن قبره عليه السلام هناك، وقيل: هو بعكا وعليه الإمام أبو القاسم الأنصاري والله تعالى أعلم اهـ منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 159 قلوبهم لا بإبصار عيونهم وهي الآفة التي كل آفة دونها كأنه يحثهم على إزالة المرض وينعى عليهم تقاعدهم عنها، ووصف القلوب بالتي في الصدور على ما قال الزجاج للتأكيد كما في قوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ [آل عمران: 167] وقولك: نظرت بعيني. وقال الزمخشري قد تعورف واعتقد أن العمى على الحقيقة مكانه البصر وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها واستعماله في القلب استعارة ومثل فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين وفضل تعريف ليتقرر أن مكان العمى هو القلوب لا الأبصار كما تقول: ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك وهو في حكم قولك: ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك فلتة ولا سهوا مني ولكن تعمدت به إياه بعينه تعمدا. وهذه الآية على ما قيل نزلت في ابن أم مكتوم حين سمع قوله تعالى: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى [الإسراء: 72] فقال: يا رسول الله أنا في الدنيا أعمى أفأكون في الآخرة أعمى؟ وربما يرجح بهذه الرواية إن صحت المعنى الأول إذ حصول الجواب بالآية عليه ظاهر جدا فكأنه قيل له: أنت لا تدخل تحت عموم وَمَنْ كانَ إلخ لأن عمى الأبصار في الدنيا ليس بعمى في الحقيقة في جنب عمى القلوب والذي يدخل تحت عموم ذلك من اتصف بعمى القلب، وهذا يكفي في الجواب سواء كان معنى قوله تعالى: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى ومن كان في الدنيا أعمى القلب فهو في الآخرة كذلك أو ومن كان في الدنيا أعمى القلب فهو في الآخرة أعمى البصر لأنه فيها تبلى السرائر فيظهر عمى القلب بصورة عمى البصر، نعم في صحة الرواية نظر. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال في هذه الآية: ذكر لنا أنها نزلت في عبد الله بن زائدة يعني ابن أم مكتوم، ولا يخفى حكم الخبر إذا روي هكذا. واستدل بقوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا إلخ على استحباب السياحة في الأرض وتطلب الآثار. وقد أخرج ابن أبي حاتم في كتاب التفكر عن مالك بن دينار قال: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن اتخذ نعلين من حديد وعصا ثم سح في الأرض فاطلب الآثار والعبر حتى تحفى النعلان وتنكسر العصا، وبقوله تعالى: فَتَكُونَ إلخ على أن محل العقل القلب لا الرأس، قاله الجلال السيوطي في أحكام القرآن العظيم. وقال الإمام الرازي: في الآية دلالة على أن العقل هو العلم وعلى أن محله هو القلب، وأنت تعلم أن كون العقل هو العلم هو اختيار أبي إسحاق الإسفرائيني واستدل عليه بأنه يقال لمن عقل شيئا علمه ولمن علم شيئا عقله، وعلى تقدير التغاير لا يقال ذلك وهو غير سديد لأنه إن أريد بالعلم كل علم يلزم منه أن لا يكون عاقلا من فاته بعض العلوم مع كونه محصلا لما عداه وإن أريد بعض العلوم فالتعريف غير حاصل لعدم التمييز وما ذكر من الاستدلال غير صحيح لجواز أن يكون العلم مغايرا للعقل وهما متلازمان. وقال الأشعري: لا فرق بين العقل والعلم إلا في العموم والخصوص والعلم أعم من العقل فالعقل إذا علم مخصوص فقيل: هو العلم الصارف عن القبيح الداعي إلى الحسن وهو قول الجبائي، وقيل: هو العلم بخير الخيرين وشر الشرين وهو قول لبعض المعتزلة أيضا ولهم أقوال أخر، والذي اختاره القاضي أبو بكر أنه بعض العلوم الضرورية كالعلم باستحالة اجتماع الضدين وأنه لا واسطة بين النفي والإثبات وأن الموجود لا يخرج عن أن يكون قديما أو حادثا ونحو ذلك. واحتج إمام الحرمين على صحة ذلك وإبطال ما عداه بما ذكره الآمدي في إبكار الأفكار بما له وعليه. واختار المحاسبي عليه الرحمة أنه غريزة يتوصل بها إلى المعرفة، ورد بأنه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 160 إن أراد بالغريزة العلم لزمه ما لزم القائل بأنه العلم وإن أراد بها غير العلم فقد لا يسلم وجود أمر وراء العلم يتوصل به إلى المعرفة. وقال صاحب القاموس بعد نقل عدة أقوال في العقل: والحق أنه نور روحاني بي تدرك النفس العلوم الضرورية والنظرية، ولعلنا نحقق ذلك في موضع آخر إن شاء الله تعالى، ثم إن في محلية القلب للعلم خلافا بين العقلاء فالمشهور عن الفلاسفة أن محل العلم المتعلق بالكليات والجزئيات المجردة النفس الناطقة ومحل العلم المتعلق بالجزئيات المادية قوى جسمانية قائمة بأجزاء خاصة من البدن وهي منقسمة إلى خمس ظاهرة وخمس باطنة وتسمى الأولى الحواس الظاهرة والثانية الحواس الباطنة وأمر كل مشهور. وزعم بعض متفلسفة المتأخرين أن المدرك للكليات والجزئيات إنما هو النفس والقوى مطلقا غير مدركة بل آلة في إدراك النفس وذهب إليه بعض منا. وفي أبكار الأفكار بعد نقل قول الفلاسفة وأما أصحابنا فالبنية المخصوصة غير مشترطة عندهم بل كل جزء من أجزاء بدن الإنسان إذا قام به إدراك وعلم فهو مدرك عالم، وكون ذلك مما يقوم بالقلب أو غيره مما لا يجب عقلا ولا يمتنع لكن دل الشرع على القيام بالقلب لقوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [ق: 37] وقوله سبحانه: فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها وقوله عز وجل أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد: 24] انتهى، ولا يخفى أن الاستدلال بما ذكر على محلية القلب للعلم لا يخلو عن شيء، نعم لا ينكر دلالة الآيات على أن للقلب الإنساني لما أودع فيه مدخلا تاما في الإدراك، والوجدان يشهد بمدخلية ما أودع في الدماغ في ذلك أيضا، ومن هنا لا أرى للقول بأن لأحدهما مدخلا دون الآخر وجها، وكون الإنسان قد يضرب على رأسه فيذهب عقله لا يدل على أن لما أودع في الدماغ لا غير مدخلا في العلم كما لا يخفى على من له قلب سليم وذهن مستقيم فتأمل. وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ الضمير لقريش كان صلّى الله عليه وسلّم يحذرهم عذاب الله تعالى ويوعدهم مجيئه وهم ينكرون ذلك أشد الإنكار ويطلبون مجيئه استهزاء وتعجيزا له صلّى الله عليه وسلّم فأنكر عليهم ذلك، فالجملة خبر لفظا واستفهام وإنشاء معنى، وقوله تعالى: وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ جملة حالية جيء بها لبيان بطلان إنكارهم العذاب في ضمن استعجالهم به كأنه قيل: كيف تنكرون مجيء العذاب الموعود والحال أنه تعالى لا يخلف وعده، وقد سبق الوعد فلا بد من مجيئه أو اعتراضية لما ذكر أيضا. وقوله تعالى: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ جملة مستأنفة إن كانت الأولى حالية ومعطوفة عليها إن كانت اعتراضية سيقت لتحقيق إنكار الاستعجال وبيان خطئهم فيه ببيان كمال سعة ساحة حلمه تعالى وإظهار غاية ضيق عطنهم المستتبع لكون المدة القصيرة عنده تعالى مددا طوالا عندهم حسبما ينطق به قوله تعالى: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً [المعارج: 6، 7] ولذا يرون مجيئه بعيدا ويتخذونه ذريعة إلى إنكاره ويجترؤون على الاستعجال به ولا يدرون أن معيار تقدير الأمور كلها وقوعا وإخبار عما عنده من المقدار. وقراءة الأخوين. وابن كثير «يعدّون» على صيغة الغيبة أي يعده المستعجلون أوفق لهذا المعنى، وقد جعل الخطاب في قراءة الجمهور لهم أيضا بطريق الالتفات لكن الظاهر أنه للرسول صلّى الله عليه وسلّم ومن معه من المؤمنين، وقيل: المراد بوعده تعالى ما جعل لهلاك كل أمة من موعد معين وأجل مسمى كما في قوله تعالى: يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ [العنكبوت: 53] فتكون الجملة الأولى مطلقا مبينة لبطلان الاستعجال به ببيان استحالة مجيئه قبل وقته الموعود، والجملة الأخيرة بيان لبطلانه ببيان ابتنائه على استطالة ما هو قصير عنده تعالى على الوجه المار بيانه، وحينئذ لا يكون في النظم الكريم تعرض لإنكارهم مجيئه الذي دسوه تحت الاستعجال، ويكتفى في رد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 161 ذلك ببيان عاقبة من قبلهم من أمثالهم، وأيا ما كان فالعذاب المستعجل به العذاب الدنيوي وهو الذي يقتضيه السباق والسياق. وقيل: المراد بالعذاب العذاب الأخروي والمراد باليوم المذكور يوم ذلك العذاب واستطالته لشدته فإن أيام الترحة مستطالة وأيام الفرحة مستقصرة كما قيل: تمتع بأيام السرور فإنها ... قصار وأيام الهموم طوال وعلى ذلك جاء قوله: ليلي وليلى ففي نومي اختلافهما ... بالطول والطول يا طوبى لو اعتدلا يجود بالطول ليلي كلما بخلت ... بالطول ليلى وإن جادت به بخلا فيكون قد رد عليهم إنكار مجيء العذاب بالجملة الأولى وأنكر عليهم الاستعجال به وإن كان ذلك على وجه الاستهزاء بالجملة الثانية فكأنه قيل: كيف تنكرون مجيئه وقد سبق به الوعد ولن يخلف الله تعالى وعده فلا بد من مجيئه حتما وكيف تستعجلون به واليوم الواحد من أيامه لشدته يرى كألف سنة مما تعدون، ويقال نحو ذلك على القول بأن المراد باليوم أحد أيام الآخرة فإنها اعتبرت طوالا أو أنها تستطال لشدة عذابها. واعترض بأن ذلك مما لا يساعده السباق ولا السياق، وقال الفراء: تضمنت الآية عذاب الدنيا والآخرة وأريد بالعذاب المستعجل به عذاب الدنيا أي لن يخلف الله تعالى وعده في إنزال العذاب بكم في الدنيا وإن يوما من أيام عذابكم في الآخرة كألف سنة من سني الدنيا، ولا يخلو عن حسن إلا أن فيه بعدا كما لا يخفى. واستدل المعتزلة بقوله تعالى: لَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ على أن الله سبحانه لا يغفر للعصاة لأن الوعد فيه بمعنى الوعيد وقد أخبر سبحانه أنه لا يخلفه والمغفرة تستلزم الخلف المستلزم للكذب المحال عليه تعالى. وأجاب أهل السنة بأن وعيدات سائر العصاة إنشاءات أو إخبارات عن استحقاقهم ما أوعدوا به لا عن إيقاعه وهي إخبارات عن إيقاعه مشروطة بعدم العفو وترك التصريح بالشرط بزيادة الترهيب ولا كذلك وعيدات الكفار فإنها محض إخبارات عن الإيقاع غير مشروطة بشرط أصلا كمواعيد المؤمنين، والداعي للتفرقة الجمع بين الآيات، وأنت تعلم أن ظاهر هذا أن وعيدات الكفار بالعذاب الدنيوي كوعيداتهم بالعذاب الأخروي لا يتطرقها عدم الوقوع فلا يجوز العفو عن عذابهم مطلقا متى وعد به، وعندي في التسوية بين الأمرين تردد، ويعلم من ذلك حال هذا الجواب على تقدير حمل العذاب في الآية على العذاب الدنيوي الأوفق للمقام والوعد على الوعد به. وأجاب بعضهم هنا بأن المراد بالوعد وعده تعالى بالنظرة والإمهال وهو مقابل للوعيد في نظر الممهل ولا خلاف في أن الله تعالى لا يخلف الوعد المقابل للوعيد وأن ما يؤدى به خبر محض لا شرط فيه وقيل: المراد به وعده تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم بإنزال العذاب المستعجل به عليهم وذلك مقابل للوعيد من حيث إن فيه خيرا له عليه الصلاة والسلام، ولا مانع من أن يكون شيء واحد خيرا وشرا بالنسبة إلى شخصين فقد قيل: مصائب قوم عند قوم فوائد وحينئذ لا دليل للمعتزلة في الآية على دعواهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 162 وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أي كم من سكنة قرية أَمْلَيْتُ لَها كما أمليت لهؤلاء حتى أنكروا مجيء ما وعد من العذاب واستعجلوا به استهزاء وتعجيزا لرسلهم عليهم السلام كما فعل هؤلاء، والجملة عطف على ما تقدمها جيء بها لتحقيق الرد كما تقدم فلذا جيء بالواو، وجيء في نظيرتها السابقة بالفاء قيل: لأنها أبدلت من جملة مقرونة بها، وفي إعادة الفاء تحقيق للبدلية، وقيل: جيء بالفاء هناك لأن الجملة مترتبة على ما قبلها ولم يجأ بها هنا لعدم الترتب، وقوله تعالى: وَهِيَ ظالِمَةٌ جملة حالية مفيدة لكمال حلمه تعالى ومشعرة بطريق التعريض بظلم المستعجلين أي أمليت لها والحال أنها ظالمة مستوجبة لتعجيل العقوبة كدأب هؤلاء ثُمَّ أَخَذْتُها بالعذاب والنكال بعد طول الإملاء والإمهال وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ أي إلى حكمي مرجع جميع الناس أو جميع أهل القرية لا إلى أجد غيري لا استقلالا ولا شركة فأفعل بهم ما أفعل مما يليق بأعمالهم، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله مصرح بما أفاده ذلك بطريق التعريض من أن مآل أمر المستعجلين أيضا ما ذكر من الأخذ الوبيل. قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ظاهر السياق يقتضي أن المراد بالناس المشركون فإن الحديث مسوق لهم فكأنه قيل: قل يا أيها المشركون المستعجلون بالعذاب إنما أنا منذر لكم إنذارا بينا بما أوحي إليّ من أنباء الأمم المهلكة من غير أن يكون لي دخل في إتيان ما تستعجلون من العذاب الموعود حتى تستعجلوني به فوجه الاقتصار على الإنذار ظاهر، وأما وجه ذكر المؤمنين وثوابهم في قوله تعالى: فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ فالزيادة هي إغاظة المشركين فهو بحسب المآل إنذار، ويجوز أن يقال: إن قوله سبحانه: فَالَّذِينَ آمَنُوا الآية تفصيل لمن نجع فيه الإنذار من الناس المشركين ومن بقي منهم على كفره غير ناجع فيه ذلك كأنه قيل: أنذر يا محمد هؤلاء الكفرة المستعجلين بالعذاب وبالغ فيه فمن آمن ورجع عما هو عليه فله كذا ومن دوام على كفره واستمر على ما هو عليه فله كذا، واختاره الطيبي وهو كما في الكشف حسن وعليه لا يكون التقسيم داخلا في المقول بخلاف الوجه الأول. وقال بعض المحققين: الناس عام للمؤمن والكافر والمنذر به قيام الساعة، وإنما كان صلّى الله عليه وسلّم نذيرا مبينا لأن بعثه عليه الصلاة والسلام من أشراطها فاجتمع فيه الإنذار قالا وحالا بقوله: أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ كقوله صلّى الله عليه وسلّم الثابت في الصحيحين «أنا النذير العريان» وقد دل على ذلك تعقيب الخطاب بالإنذار تفصيل حال الفريقين عند قيامها اهـ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 163 ولا مانع منه لولا ظاهر السياق، وكون المؤمنين لا ينذرون لا سيما وفيهم الصالح والطالح مما لا وجه له، ومن منع من العموم لذلك قال: التقدير عليه بشير ونذير ونقل هذا عن الكرماني ثم المغفرة تحتمل أن تكون لما ندر من الذين آمنوا من الذنوب وذلك لا ينافي وصفهم بعمل الصالحات، وتحتمل أن تكون لما سلف منهم قبل الإيمان والرجوع عما كانوا عليه، والمراد بالرزق الكريم هنا الجنة كما يشعر به وقوعه بعد المغفرة وكذلك في جميع القرآن على ما أخرجه ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي، ومعنى الكريم في صفات غير الآدميين الفائق وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا أي بذلوا الجهد في إبطالها فسموها تارة سحرا وتارة شعرا وتارة أساطير الأولين. وأصل السعي الإسراع في المشي ويطلق على الإصلاح والإفساد يقال: سعى في أمر فلان إذا أصلحه أو أفسده بسعيه فيه مُعاجِزِينَ أي مسابقين للمؤمنين والمراد بمسابقتهم مشاقتهم لهم ومعارضتهم فكلما طلبوا إظهار الحق طلب هؤلاء إبطاله، وأصله من عاجزه فأعجزه وعجزه إذا سابقه فسبقه فإن كلا من المتسابقين يريد إعجاز الآخر عن اللحاق. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والجحدري وأبو السمال والزعفراني «معجزّين» بالتشديد أي مثبطين الناس عن الإيمان. وقال أبو علي الفارسي: ناسبين المسلمين إلى العجز كما تقول: فسقت فلانا إذا نسبته إلى الفسق وهو المناسب لقوله تعالى: يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وقرأ ابن الزبير «معجزين» بسكون العين وتخفيف الزاي من أعجزك إذا سبقك ففاتك، قال صاحب اللوامح: والمراد هنا ظانين أنهم يعجزوننا وذلك لظنهم أنهم لا يبعثون، وفسر مُعاجِزِينَ في قراءة الجمهور بمثل ذلك، والوصف على جميع القراءات حال من ضمير سَعَوْا وليست مقدرة على شيء منها كما يظهر للمتأمل أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر أَصْحابُ الْجَحِيمِ أي ملازمو النار الشديدة التأجج، وقيل هو اسم دركة من دركات النار. وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ مِنْ الأولى ابتدائية والثانية مزيدة لاستغراق الجنس، والجملة المصدرة بإذا في موضع الحال عند أبي حيان، وقيل: في موضع الصفة وأفرد الضمير بتأويل كل واحد أو بتقدير جملة مثل الجملة المذكورة كما قيل في قوله تعالى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة: 62] والظاهر أن إِذا شرطية ونص على ذلك الحوفي لكن قالوا: إن إِلَّا في النفي إما أن يليها مضارع نحو ما زيد إلا يفعل وما رأيت زيدا إلا يفعل أو يليها ماض بشرط أن يتقدمه فعل كقوله تعالى: وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا [الحجر: 11] إلخ أو (1) يكون الماضي مصحوبا بقد نحو ما زيد إلا قد قام، ويشكل عليه هذه الآية إذا لم يلها فيها مضارع ولا ماض بل جملة شرطية فإن صح ما قالوه احتيج إلى التأويل، وأول ذلك في البحر بأن إِذا جردت للظرفية وقد فصل بها وبما أضيفت إليه بين إلا والفعل الماضي الذي هو أَلْقَى وهو فصل جائز فتكون إلا قد وليها ماض في التقدير ووجد الشرط، وعطف «نبي» على رَسُولٍ يدل على المغايرة بينهما وهو الشائع، ويدل على المغايرة أيضا ما روي أنه صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الأنبياء فقال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا قيل: فكم الرسل منهم؟ قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر جما غفيرا، وقد أخرج ذلك. كما قال السيوطي. أحمد. وابن راهويه في مسنديهما من حديث أبي أمامة، وأخرجه ابن حيان في صحيحه. والحاكم في مستدركه من حديث أبي ذر. وزعم ابن الجوزي أنه موضوع وليس كذلك، نعم قيل في سنده ضعف جبر بالمتابعة وجاء في رواية الرسل   (1) أو المنع الخلو اهـ منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 164 ثلاثمائة وخمسة عشر ، واختلفوا هنا في تفسير كل منهما فقيل: الرسول ذكر حر بعثه الله تعالى بشرع جديد يدعو الناس إليه والنبي يعمه ومن بعثه لتقرير شرع سابق كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهم السلام، وقيل: الرسول ذكر حر بعثه الله تعالى إلى قوم بشرع جديد بالنسبة إليهم وإن لم يكن جديدا في نفسه كإسماعيل عليه السلام إذ بعث لجرهم أولا النبي يعمه ومن بعث بشرع غير جديد كذلك، وقيل: الرسول ذكر حر له تبليغ في الجملة وإن كان بيانا وتفصيلا لشرع سابق والنبي من أوحي إليه ولم يؤمر بتبليغ أصلا أو أعم منه ومن الرسول، وقيل: الرسول من الأنبياء من جمع إلى المعجزة كتابا منزلا عليه والنبي غير الرسول من لا كتاب له، وقيل: الرسول من له كتاب أو نسخ في الجملة والنبي من لا كتاب له ولا نسخ، وقيل الرسول (1) من يأته الملك عليه السلام بالوحي يقظة والنبي يقال له ولمن يوحى إليه في المنام لا غير: وهذا أغرب الأقوال ويقتضي أن بعض الأنبياء عليه السلام لم يوح إليه إلا مناما وهو بعيد ومثله لا يقال بالرأي. وأنت تعلم أن المشهور أن النبي في عرف الشرع أعم من الرسول فإنه من أوحي إليه سواء أمر بالتبليغ أم لا والرسول من أوحي إليه وأمر بالتبليغ ولا يصح إرادة ذلك لأنه إذا قوبل العام بالخاص يراد بالعام ما عدا الخاص فمتى أريد بالنبي ما عدا الرسول كان المراد به من لم يؤمر بالتبليغ وحيث تعلق به الإرسال صار مأمورا بالتبليغ فيكون رسولا فلم يبق في الآية بعد تعلق الإرسال رسول ونبي مقابل له فلا بد لتحقيق المقابلة أن يراد بالرسول من بعث بشرع الآية بعد تعلق الإرسال رسول ونبي مقابل له فلا بد لتحقيق المقابلة أن يراد بالرسول من بعث بشرع جديد وبالنبي من بعث لتقرير شرع من قبله أو يراد بالرسول من بعث بكتاب وبالنبي من بعث بغير كتاب أو يراد نحو ذلك مما يحصل به المقابلة مع تعلق الإرسال بهما، والتمني. على ما قال أبو مسلم. نهاية التقدير ومنه المنية وفاة الإنسان للوقت الذي قدره الله تعالى، والأمنية على ما قال الراغب الصورة الحاصلة في النفس من التمني، وقال غير واحد: التمني القراءة وكذا الأمنية، وأنشدوا قول حسان في عثمان رضي الله تعالى عنهما: تمنى كتاب الله أول ليلة ... تمني داود الزبور على رسل وفي البحر أن ذلك راجع إلى الأصل المنقول عن أبي مسلم فإن التالي يقدر الحروف ويتصورها فيذكرها شيئا فشيئا، والمراد بذلك هنا عند كثير القراءة، والآية مسوقة لتسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن السعي في إبطال الآيات أمر معهود وأنه لسعي مردود، والمعنى وما أرسلنا من قبلك رسولا ولا نبيا إلا وحاله أنه إذا قرأ شيئا من الآيات ألقى الشيطان الشبه والتخيلات فيما يقرؤه على أوليائه ليجادلوه بالباطل ويردوا ما جاء به كما قال تعالى: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ [الأنعام: 121] وقال سبحانه: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام: 112] وهذا كقولهم عند سماع قراءة الرسول صلّى الله عليه وسلّم حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ [البقرة: 173، النحل: 115] إنه يحل ذبيح نفسه ويحرم ذبيح الله تعالى، وقولهم على ما في بعض الروايات عند سماع قراءته عليه الصلاة والسلام إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98] إن عيسى عبد من دون الله تعالى والملائكة عليهم السلام عبدوا من دون الله تعالى فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ أي فيبطل ما يلقيه من تلك الشبه ويذهب به بتوفيق النبي صلّى الله عليه وسلّم لرده أو بإنزال ما يرده ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ أي يأتي بها محكمة مثبتة لا تقبل الرد بوجه من الوجوه، وثُمَّ للتراخي الرتبي فإن الإحكام أعلى رتبة من النسخ، وصيغة المضارع في   (1) قائله الإمام الرازي. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 165 الفعلين للدلالة على الاستمرار التجددي، وإظهار الجلالة في موقع الإضمار لزيادة التقرير والإيذان بأن الألوهية من موجبات أحكام آياته تعالى الباهرة. ومثل ذلك في زيادة التقرير إظهار الشَّيْطانُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ مبالغ في العلم بكل ما من شأنه أن يعلم ومن جملته ما يصدر من الشيطان وأوليائه حَكِيمٌ في كل ما يفعل ومن جملته تمكين الشيطان من إلقاء الشبه وأوليائه من المجادلة بها وإبداؤه تعالى ردها، والإظهار هاهنا لما ذكر أيضا مع ما فيه من تأكيد استقلال الاعتراض التذييلي لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ أي الذي يلقيه. وقيل: إلقاءه فِتْنَةً أي عذابا. وفي البحر ابتلاء واختبار لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شك ونفاق وهو المناسب لقوله تعالى في المنافقين فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وتخصيص المرض بالقلب مؤيد له لعدم إظهار كفرهم بخلاف الكافر المجاهر وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ أي الكفار المجاهرين، وقيل: المراد من الأولين عامة الكفار ومن الأخيرين خواصهم كأبي جهل والنضر وعتبة، وحمل الأولين على الكفار مطلقا والأخيرين على المنافقين لأنهم أحق بوصف القسوة لعدم انجلاء صدأ قلوبهم بصيقل المخالطة للمؤمنين ليس بشيء. وَإِنَّ الظَّالِمِينَ أي الفريقين المذكورين فوضع الظاهر موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بالظلم مع ما وصفوا به من المرض والقسوة لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ أي عداوة شديدة ومخالفة تامة، ووصف الشقاق بالبعد مع أن الموصوف به حقيقة هو معروضه للمبالغة، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله، ولام لِيَجْعَلَ للتعليل وهو عند الحوفي متعلق بيحكم وعند ابن عطية بينسخ وعند غيرهما بألقي لكن التعليل لما ينبىء عنه إلقاء الشيطان من تمكينه تعالى إياه من ذلك في حق النبي صلّى الله عليه وسلّم خاصة لعطف قوله تعالى: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وكون ضمير أَنَّهُ للقرآن، وقيل لا حاجة للتخصيص وضمير أَنَّهُ لتمكين الشيطان من الإلقاء أي وليعلم العلماء أن ذلك التمكين هو الحق المتضمن للحكمة البالغة لأنه مما جرت به عادته تعالى في جنس الإنس من لدن آدم عليه السلام، وضميرا بِهِ ولَهُ في قوله تعالى: فَيُؤْمِنُوا بِهِ أي يثبتوا على الإيمان أو يزدادوا إيمانا فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ بالانقياد والخشية للقرآن على التخصيص وللرب على التعميم، وجعلهما لتمكين الشيطان لا سيما الثاني مما لا وجه له. ورجح ما قاله ابن عطية بأن أمر التعليل عليه أظهر أي فينسخ الله تعالى ما يلقيه الشيطان ويرده ليجعله بسبب الرد وظهور فساد التمسك به عذابا للمنافقين والكافرين أي سببا لعذابهم حيث استرسلوا معه مع ظهور فساده أو اختبارا لهم هل يرجعون عنه وليعلم الذين أوتوا العلم أن القرآن هو الحق حيث بطل ما أورد من الشبه عليه ولم يبطل هو، وقد يقال مثل ذلك على ما ذهب إليه الحوفي، ولا يبعد أن يكون قوله تعالى: لِيَجْعَلَ إلخ متعلقا بمحذوف أي فعل ذلك ليجعل إلخ والإشارة إلى النسخ والأحكام ويجعل لِيَجْعَلَ علة النسخ وَلِيَعْلَمَ علة لفعل الإتيان بالآيات محكمة، ويجوز أن تكون الإشارة إلى التمكين المفهوم مما تقدم مع النسخ والأحكام ويجعل لِيَجْعَلَ علة لفعل التمكين وما بعد علة لما بعد، ويجوز أيضا أن ترجع الضمائر في أَنَّهُ. وبِهِ ولَهُ للموحي الذي يقرؤه كل من الرسل والأنبياء عليهم السلام المفهوم من الكلام فلا حاجة للتخصيص، وأيا ما كان فقوله تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ اعتراض مقرر لما قبله، والمراد بالذين آمنوا المؤمنين من هذه الأمة على تقدير التخصيص أو المؤمنون مطلقا على تقدير التعميم، والمراد بالصراط المستقيم النظر الصحيح الموصل إلى الحق الصريح أي إنه تعالى لهادي المؤمنين في الأمور الدينية خصوصا في المداحض والمشكلات التي من جملتها رد شبه الشياطين عن آيات الله عز وجل وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة «لهاد» بالتنوين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 166 وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ أي في شك مِنْهُ أي من القرآن وقيل: من الرسول، ويجوز أن يرجع الضمير إلى الموحي على ما سمعت و «من» على جميع ذلك ابتدائية، وجوز أن يرجع إلى ما ألقى الشيطان واختير عليه أن من سببية فإن مرية الكفار فيما جاءت به الرسل عليهم السلام بسبب ما ألقى الشيطان في الموحي من الشبه والتخيلات فتأمل حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ أي القيامة نفسها كما يؤذن به قوله تعالى: بَغْتَةً أي فجأة فإنها الموصوفة بالإتيان كذلك، وقيل: أشراطها على حذف المضاف أو على التجوز. وقيل: الموت على أن التعريف في السَّاعَةُ للعهد أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ أي منفرد عن سائر الأيام لا مثيل له في شدته أو لا يوم بعده كأن كل يوم يلد ما بعده من الأيام فما لا يوم بعده يكون عقيما والمراد به الساعة بمعنى يوم القيامة أيضا كأنه قيل أو يأتيهم عذابها فوضع ذلك موضع ضميرها لمزيد التهويل والتخويف. و «أو» في محلها لتغاير الساعة وعذابها وهي لمنع الخلو وكان المراد المبالغة في استمرارهم على المرية، وقيل: المراد بيوم عقيم يوم موتهم فإنه لا يوم بعده بالنسبة إليهم، وقيل المراد به يوم حرب يقتلون فيه، ووصف بالعقيم لأن أولاد النساء يقتلون فيه فيصرن كأنهن عقم لم يلدن أو لأن المقاتلين يقال لهم أبناء الحرب فإذا قتلوا وصف يوم الحرب بالعقيم، وفيه على الأول مجاز في الإسناد ومجاز في المفرد من جعل الثكل عقما، وكذا على الثاني لأن الولود والعقيم هي الحرب على سبيل الاستعارة بالكناية فإذا وصف يوم الحرب بذلك كان مجازا في الإسناد، ومن ثم قيل: إنه مجاز موجه من قولهم ثوب موجه له وجهان، وقيل: هو الذي لا خير فيه يقال: ريح عقيم إذا لم تنشئ مطرا ولم تلقح شجرا، وفيه على هذا استعارة تبعية لأن ما في اليوم من الصفة المانعة من الخير جعل بمنزلة العقم، وخص غير واحد هذا اليوم بيوم بدر فإنه يوم حرب قتل فيه عتاة الكفرة ويوم لا خير فيه لهم، ويصح أيضا أن يكون وصفه بعقيم لتفرده بقتال الملائكة عليهم السلام فيه، وأنت تعلم أن الظاهر مما يأتي بعد إن شاء الله تعالى تعين تفسير هذا اليوم بيوم القيامة، هذا وجوز أن يراد من الشيطان شيطان الإنس كالنضر ابن الحرث كان يلقي الشبه إلى قومه وإلى الوافدين يثبطهم بها عن الإسلام، وقيل: ضمير أُمْنِيَّتِهِ للشيطان والمراد بها الصورة الحاصلة في النفس من تمني الشيء و «في» للسببية مثلها في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن امرأة دخلت النار في هرة» أي ألقى الشيطان بسبب أمنيته الشبه وأبداها ليبطل بها الآيات» . وقيل: «تمنى» قرأ و «أمنيته» قراءته والضمير للنبي أو الرسول وفِي على ظاهرها، والمراد بما يلقي الشيطان ما يقع للقارىء من إبدال كلمة بكلمة أو حرف بحرف أو تغيير إعراب سهوا، وقيل: المراد ما يلقيه في الآيات المتشابهة من الاحتمالات التي ليست مرادا لله تعالى، وقيل: تمنى هيأ وقدر في نفسه ما يهواه وأُمْنِيَّتِهِ قراءته، والمعنى إذا تمنى إيمان قومه وهدايتهم ألقى الشيطان إلى أوليائه شبها فينسخ الله تعالى تلك الشبه ويحكم الآيات الدالة على دفعها، وقيل: تَمَنَّى قدر في نفسه ما يهواه وأُمْنِيَّتِهِ تشبيه وما يلقيه الشيطان ما يوجب اشتغاله في الدنيا، وجعله فتنة باعتبار ما يظهر منه من الاشتغال بأمور الدنيا، ونسخه إبطاله بعصمته عن الركون إليه والإرشاد إلى ما يريده. وقيل: تَمَنَّى قرأ وأُمْنِيَّتِهِ قراءته وما يلقي الشيطان كلمات تشابه الوحي يتكلم بها الشيطان بحيث يظن السامع أنها من قراءة النبي، وقد روي أن الآية نزلت حين قرأ عليه الصلاة والسلام أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى فألقي الشيطان في سكتته محاكيا نغمته عليه الصلاة والسلام بحيث يسمعه من حوله تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى فظن المشركون أنه عليه الصلاة والسلام هو المتكلم بذلك ففرحوا وسجدوا معه لما سجد آخر السورة، وقيل: المتكلم بذلك بعض المشركين وظن سائرهم أنه عليه الصلاة والسلام هو المتكلم به، وقيل: إنه صلّى الله عليه وسلّم هو الذي تكلم بذلك عامدا لكن مستفهما على سبيل الإنكار والاحتجاج على المشركين، وجعل من إلقاء الشيطان الجزء: 9 ¦ الصفحة: 167 لما ترتب عليه من ظن المشركين أنه مدح لآلهتهم، ولا يمنع ذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي لأن الكلام في الصلاة كان جائزا إذ ذاك، وقيل: بل كان ساهيا، فقد أخرج عبد بن حميد من طريق يونس عن ابن شهاب قال: حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكة قرأ عليهم والنجم فلما بلغ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النجم: 89، 20] قال: إن شفاعتهن ترتجى وسها رسول الله عليه الصلاة والسلام ففرح المشركون بذلك فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ألا إنما ذلك من الشيطان فأنزل الله تعالى وَما أَرْسَلْنا- حتى بلغ- عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ، قال الجلال السيوطي: وهو خبر مرسل صحيح الإسناد، وقيل: تكلم بذلك ناعسا. فقد أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال: بينا نبي الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي عند المقام إذ نعس فألقى الشيطان (1) على لسانه كلمة فتكلم بها فقال: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى وإن شفاعتهن لترتجى وإنها لمع الغرانيق العلا فحفظها المشركون وأخبرهم الشيطان أن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم قد قرأها فزلت ألسنتهم فأنزل الله تعالى وَما أَرْسَلْنا الآية، وقيل: تَمَنَّى قدر في نفسه ما يهواه وأُمْنِيَّتِهِ قراءته وما يلقي الشيطان كلمات تشابه الوحي، فقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: أنزلت سورة النجم وكان المشركون يقولون: لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد اشتد عليه ما ناله أصحابه من أذاهم وتكذيبهم وأحزنه ضلالتهم فكان يتمنى هداهم فلما أنزل الله تعالى سورة النجم قال: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ألقى الشيطان عندها كلمات فقال: وإنهن لهن الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لهي التي نرتجى وكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة وزلت بهما ألسنتهم وتباشروا بهما وقالوا، إن محمدا قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه فلما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آخر النجم سجد وسجد كل من حضر من مسلم أو مشرك ففشت تلك الكلمة في الناس وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة فأنزل الله تعالى وَما أَرْسَلْنا الآيات، وقيل: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم حين ألقاها الشيطان تكلم بها ظانا أنها وحي حتى نبهه جبريل عليه السلام، ففي الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم بسند صحيح عن سعيد بن جبير قال: قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة النجم فلما بلغ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى قالوا: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم فسجد وسجدوا ثم جاءه جبريل عليهما الصلاة والسلام بعد ذلك فقال: أعرض على ما جئتك به فلما بلغ تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى قال له جبريل عليهما السلام: لم آتك بهذا هذا من الشيطان فأنزل الله تعالى وَما أَرْسَلْنا الآية. وأخرج البزار والطبري وابن مردويه والضياء في المختارة بسند رجاله ثقات من طريق سعيد عن ابن عباس نحو ذلك لكن ليس فيه حديث السجود وفيه أيضا مغايرة يسيرة غير ذلك، وجاء حديث السجود في خبر آخر عنه أخرجه البزار وابن مردويه أيضا من طريق أمية بن خالد عن شعبة لكن قال في إسناده: عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فيما أحسب فشك في وصله، وفي رواية أبي حاتم عن السدي أن جبريل عليه السلام قال له عليه الصلاة والسلام حين عرض عليه ذلك: معاذ الله أن أكون أقرأتك هذا فاشتد عليه عليه الصلاة والسلام فأنزل الله تعالى وطيب نفسه وَما أَرْسَلْنا الآية قيل: والمشابهة ما ألقى الشيطان للوحي المنزل وكونه في أثنائه أطلق على إبطاله اسم النسخ الشائع إيقاعه على ما هو وحي حقيقة لكن لا يخفى أن النسخ الشرعي لا يتعلق بنحو ما ذكر من الأخبار فلا بدّ من تأويل ما   (1) قيل يقال لذلك الشيطان الأبيض اهـ منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 168 لذلك، وقد أنكر كثير من المحققين هذه القصة فقال البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل. وقال القاضي عياض في الشفاء: يكفيك في توهين هذا الحديث أنه لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواه ثقة بسند صحيح سليم متصل وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم. وفي البحر أن هذه القصة سئل عنها الإمام محمد بن إسحاق جامع السيرة النبوية فقال: هذا من وضع الزنادقة وصنف في ذلك كتابا. وذكر الشيخ أبو منصور الماتريدي في كتاب حصص الأتقياء الصواب أن قوله: تلك الغرانيق العلا من جملة إيحاء الشيطان إلى أوليائه من الزنادقة حتى يلقوا بين الضعفاء وأرقاء الدين ليرتابوا في صحة الدين وحضرة الرسالة بريئة من مثل هذه الرواية. وذكر غير واحد أنه يلزم على القول بأن الناطق بذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم بسبب إلقاء الشيطان الملبس بالملك أمور. منها تسلط الشيطان عليه عليه الصلاة والسلام وهو صلّى الله عليه وسلّم بالإجماع معصوم من الشيطان لا سيما في مثل هذا من أمور الوحي والتبليغ والاعتقاد، وقد قال سبحانه إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الحجر: 42، الإسراء: 65] وقال تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا [النحل: 99] إلى غير ذلك، ومنها زيادته صلّى الله عليه وسلّم في القرآن ما ليس منه وذلك مما يستحيل عليه عليه الصلاة والسلام لمكان العصمة، ومنها اعتقاد النبي صلّى الله عليه وسلّم ما ليس بقرآن أنه قرآن مع كونه بعيد الالتئام متناقضا ممتزج المدح بالذم وهو خطأ شنيع لا ينبغي أن يتساهل في نسبته إليه صلّى الله عليه وسلّم، ومنها أنه إما أن يكون عليه الصلاة والسلام عند نطقه بذلك معتقدا ما اعتقده المشركون من مدح آلهتهم بتلك الكلمات وهو كفر محال في حقه صلّى الله عليه وسلّم وإما أن يكون معتقدا معنى آخر مخالفا لما اعتقدوه ومباينا لظاهر العبارة ولم يبينه لهم مع فرحهم وادعائهم أنه مدح آلهتهم فيكون مقرا لهم على الباطل وحاشاه صلّى الله عليه وسلّم أن يقر على ذلك. ومنها كونه صلّى الله عليه وسلّم اشتبه عليه ما يلقيه الشيطان بما يلقيه عليه الملك وهو يقتضي أنه عليه الصلاة والسلام على غير بصيرة فيما يوحى إليه، ويقتضي أيضا جواز تصور الشيطان بصورة الملك ملبسا على النبي ولا يصح ذلك كما قال في الشفاء لا في أول الرسالة ولا بعدها والاعتماد في ذلك دليل المعجزة. وقال ابن العربي: تصور الشيطان في صورة الملك ملبسا على النبي كتصوره في صورة النبي ملبسا على الخلق وتسليط الله تعالى على ذلك كتسليطه في هذا فكيف يسوغ في لب سليم استجازة ذلك. ومنها التقول على الله تعالى إما عمدا أو خطأ أو سهوا. وكل ذلك محال في حقه عليه الصلاة والسلام، وقد اجتمعت الأمة على ما قال القاضي عياض على عصمته صلّى الله عليه وسلّم فيما كان طريقه البلاغ من الأقوال عن الإخبار بخلاف الواقع لا قصدا ولا سهوا، ومنها الإخلال بالوثوق بالقرآن فلا يؤمن فيه التبديل والتغيير، ولا يندفع كما قال البيضاوي بقوله تعالى: فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته، لأنه أيضا يحتمل إلى غير ذلك. وذهب إلى صحتها الحافظ بن حجر في شرح البخاري وساق طرقا عن ابن عباس وغيره ثم قال: وكلها سوى طريق سعيد بن جبير إما ضعيف وإما منقطع لكن كثرة الطرق تدل على أن لها أصلا مع أن لها طريقا متصلا بسند صحيح أخرجه البزار وطريقين آخرين مرسلين رجالهما على شرط الصحيحين، أحدهما ما أخرجه الطبري من طريق يونس بن زيد عن ابن شهاب، والثاني ما أخرجه أيضا من طريق المعتمر بن سليمان وحماد بن سلمة فرقهما عن داود بن أبي هند عن أبي العالية، ثم أخذ في الرد على أبي بكر بن العربي والقاضي عياض في إنكارهما الصحة. وذهب إلى صحة القصة أيضا خاتمة المتأخرين الشيخ إبراهيم الكوراني ثم المدني، وذكر بعد كلام طويل أنه تحصل من ذلك أن الحديث أخرجه غير واحد من أهل الصحة وأنه رواه ثقات بسند سليم متصل عن ابن عباس وبثلاث أسانيد صحيحة عن ثلاث من التابعين من أئمة التفسير الآخذين عن الصحابة وهم سعيد بن جبير وأبو بكر بن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 169 عبد الرحمن وأبو العالية، وقد قال السيوطي في لباب النقول في أسباب النزول: قال الحاكم في علوم الحديث: إذا أخبر الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل عن آية من القرآن أنها نزلت في كذا فإنه حديث مسند ومشى عليه ابن الصلاح وغيره ثم قال: ما جعلناه من قبيل المسند من الصحابي إذا وقع من تابعي فهو مرفوع أيضا لكنه مرسل فقد يقبل إذا صح السند إليه وكان من أئمة التفسير الآخذين عن الصحابة كمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير أو اعتضد بمرسل ونحو ذلك، فعلى هذا يكون الخبر في هذه القصة مسندا من الطريق المتصلة بابن عباس مرسلا مرفوعا من الطرق الثلاثة والزيادة فيه التي رواها الثقات عن ابن عباس في غير رواية البخاري ليست مخالفة لما في البخاري عنه فلا تكون شاذة فإطلاق الطعن فيه من حيث النقل ليس في محله، وأجاب عما يلزم على تقدير كون الناطق بذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم، أما عن الأول فبأن السلطان المنفي عن العباد المخلصين هو الإغواء أعني التلبيس المخل بأمر الدين وهو الذي وقع الإجماع على أن النبي عليه الصلاة والسلام معصوم منه وأما غير المخل فلا دليل على نفيه ولا إجماع على العصمة منه وما هنا غير مخل لعدم منافاته للتوحيد كما يبين إن شاء الله تعالى بل فيه تأديب وتصفية وترقية للحبيب الأعظم صلّى الله عليه وسلّم لأنه عليه الصلاة والسلام تمنى هدي الكل ولم يكن ذلك مراد الله تعالى والأكمل في العبودية فناء إرادته في إرادة الحق سبحانه فليس عليه عليه الصلاة والسلام الإلقاء حالة تمنى هدى الكل المصادم للقدر والمنافي لما هو الأكمل ليترقى إلى الأكمل وقد حصل ذلك بهذه المرة ولذا لم يقع التلبيس مرة أخرى بل كان يرسل بعد من بين يديه ومن خلفه رصد ليعلم أن قد أبلغوا رسالة ربه سبحانه، وفي ترتيب الإلقاء على التمني ما يفهم العتاب عليه وأما عن الثاني فبأن المستحيل المنافي للعصمة أن يزيد عليه الصلاة والسلام فيه من تلقاء نفسه أي يزيد فيه ما يعلم أنه ليس منه وما هنا ليس كذلك لأنه عليه الصلاة والسلام إنما تبع فيه الإلقاء الملبس عليه في حالة خاصة فقط تأديبا أن يعود لمثل تلك الحالة، وأما عن الثالث فبأنه يجوز أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم نطق به على فهم أنه استفهام إنكاري حذف منه الهمزة أو حكاية عنهم بحذف القول وحينئذ لا يكون بعيد الالتئام ولا متناقضا ولا ممتزج المدح بالذم ولا بد من التزام أحد الأمرين على تقدير صحة الخبر لمكان العصمة، والنكتة في التعبير كذلك إيهام الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم أنه عليه الصلاة والسلام مدح آلهتهم ويحصل ذلك مراد الله تعالى المشار إليه بقوله سبحانه: لِيَجْعَلَ إلخ، وأما عن الرابع فبأنا نختار الشق الثاني بناء على أنه استفهام حذف منه الهمزة أو حكاية بحذف القول، وعلى التقديرين يكون عليه الصلاة والسلام معتقدا لمعنى مخالف لما اعتقدوه ولا يلزم منه التقرير على الباطل لأنه بين بطلان معتقدهم بقوله تعالى بعد: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ [النجم: 23] فإن ما لم ينزل الله تعالى به سلطانا لا ترجى شفاعته إذ لا شفاعة إلا من بعد إذن إلهي لقوله تعالى بعد: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى [النجم: 26] . وأما عن الخامس فبأن هذا الاشتباه في حالة خاصة للتأديب لا يقتضي أن يكون صلّى الله عليه وسلّم على غير بصيرة فيما يوحى إليه في غير تلك الحالة، وأما قول القاضي عياض: لا يصح أن يتصور الشيطان بصورة الملك ويلبس عليه عليه الصلاة والسلام فإن أراد به أنه لا يصح أن يلبس تلبيسا قادحا فهو مسلم لكنه لم يقع وإن أراد مطلقا ولو كان غير مخل فلا دليل عليه، ودليل المعجزة إنما ينفي الاشتباه المخل بأمر النبوة المنافي للتوحيد القادح في العصمة وما ذكر غير مخل بل فيه تأديب بما يتضمن تنقية وترقية إلى الأكمل في العبودية. وأما ما ذكر ابن العربي فقياس مع الفارق لأن تصور الشيطان في صورة النبي مطلقا منفي بالنص الصحيح وتصوره في صورته ملبسا على الخلق إغواء يعم وهو سلطان منفي بالنص عن المخلصين، وأما تصوره في صورة الملك في حالة خاصة ملبسا على النبي بما لا يكون منافيا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 170 للتوحيد لما يريد الله تعالى بذلك تأديبا ولإيهامه خلاف المراد فتنة لقوم فليس من السلطان المنفي ولا بالتصور الممنوع لعدم إخلاله بمقام النبوة. وأما عن السادس فبأن التقول تكلف القول ومن لا يتبع إلا ما يلقى إليه من الله تعالى حقيقة أو اعتقادا ناشئا من تلبيس غير مخل لا تكلف للقول عنده فلا تقول على الله تعالى أصلا ما أشبه هذه القصة بما تضمنه حديث ذي اليدين فالتلبيس عليه عليه الصلاة والسلام في الإلقاء في حالة التمني تأديبا كإيقاع السهو عليه صلّى الله عليه وسلّم في الصلاة باعتقاد التمام تشريعا والنطق بما ألقاه الشيطان في حالة خاصة مما لا ينافي التوحيد على أنه قرآن بناء على اعتقاد أن الملقي ملك تلبيسا للتأديب كالنطق بالسلام ثم بلم أنس معتقدا أنه مطابق للواقع بناء على اعتقاد التمام سهوا، ووقوع البيان على لسان جبريل عليه السلام ثم النسخ والأحكام كوقوع البيان على لسان الصحابي ثم التدارك وسجود السهو فكما أن السهو للتشريع غير قادح في منصب النبوة كذلك الاشتباه في الإلقاء للتأديب غير قادح، وكما أن النطق بلم أنس مع تبين أنه عليه الصلاة والسلام قد نسي صدق بناء على اعتقاد التمام سهوا كذلك النطق بما يلقيه الشيطان في تلك الحالة على أنه قرآن بناء على اعتقاد أن الملقي ملك صدق ولا شيء من الصدق بالتقول فلا شيء من النطق بما يلقيه الشيطان في تلك الحالة به، وما ذكر عن القاضي عياض من حكاية الإجماع على عدم جواز دخول السهو في الأقوال التبليغية كما قال الحافظ بن حجر متعقب. وأما عن السابع فبأنه لا إخلال بالوثوق بالقرآن عند الذين أوتوا العلم والذين آمنوا لأن وثوق كل منهما تابع لوثوق متبوعهم الصادق الأمين فإذا جزم بشيء أنه كذا جزموا به وإذا رجع عن شيء بعد الجزم رجعوا كما هو شأنهم في نسخ غير هذا من الآيات التي هي كلام الله تعالى لفظا ومعنى إذا قيل نسخ ما نسخ لفظه كانوا جازمين بأنهم متعبدون بتلاوته وبعد النسخ جزموا بأنهم ما هم متعبدين بتلاوته، وما نسخ حكمه كانوا جازمين بأنهم مكلفون بحكمه وبعد النسخ جزموا بأنهم ما هم مكلفين به، فقول البيضاوي: إن ذلك لا يندفع بقوله تعالى: فَيَنْسَخُ اللَّهُ إلخ لأنه أيضا يحتمله ليس بشيء، وبيانه أنه إن أراد أنه يحتمله عند الفرق الأربع المذكورة في الآيات وهم الذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم والذين أوتوا العلم والذين آمنوا فهو ممنوع لدلالة قوله تعالى: وَلِيَعْلَمَ إلخ على انتقاء الاحتمال عند فريقين من الفرق الأربع بعد النسخ والأحكام، وإن أراد أنه يحتمله في الجملة أي عند بعض دون بعض فهو مسلم وغير مضر لعدم إخلاله بالوثوق بالقرآن عند الذين أوتوا العلم والذين آمنوا، وأما إخلاله بالنسبة إلى الفريقين الآخرين فهو مراد الله عز وجل. هذا واعترض على الجواب الأول بأن التلبيس بحيث يشتبه الأمر على النبي صلّى الله عليه وسلّم فيعتقد أن الشيطان ملك مخل بمقام النبوة ونقص فيه فإن الولي الذي هو دونه عليه الصلاة والسلام بمراتب لا يكاد يخفى عليه الطائع من العاصي فيدرك نور الطاعة وظلمة المعصية فيكف بمن هو سيد الأنبياء ونور عيون قلوب الأولياء يلتبس عليه من هو محض نور بمن محض ديجور، واشتباه جبريل عليه السلام عليه صلّى الله عليه وسلّم في بعض المرات حتى لم يعرفه إلى أن ذهب فقال: والذي نفسي بيده ما شبه عليّ منذ أتاني قبل مرّتي هذه وما عرفته حتى ولى إذا صح ليس من قبيل اشتباه الشيطان به عليه السلام إذ يجوز أن يكون من اشتباه ملك بملك وكل منهما نوراني، وقد كان يأتيه صلّى الله عليه وسلّم غير جبريل عليه السلام من الملائكة الكرام، وأن يكون من اشتباه ملك بواحد من البشر نوراني أيضا لم يكن رآه عليه الصلاة والسلام قبل ذلك كالخضر والياس مثلا إن قلنا بحياتهما. وأيضا قال المحققون: إن الأنبياء عليهم السلام ليس لهم خاطر شيطاني، وكون ذلك ليس منه بل كان مجرد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 171 إلقاء على اللسان دون القلب ممنوع ألا ترى أنه قال تعالى: أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ دون ألقى الشيطان على لسانه، وتسمية القراءة أمنية لما أن القارئ يقدر الحروف في قلبه أولا ثم يذكرها شيئا فشيئا، وأيضا حفظه صلّى الله عليه وسلّم لذلك إلى أن أمسى كما جاء في بعض الروايات فنبهه عليه جبريل عليهما السلام يبعد كون الإلقاء على اللسان فقط، على أنا لو سلمنا ذلك وقلنا: إن الشيطان ألقى على لسانه صلّى الله عليه وسلّم ولم يلق في قلبه كما هو شأن الوحي المشار إليه بقوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشعراء: 193، 194] وقلنا: إن ذلك مما يعقل للزم أن يعلم صلّى الله عليه وسلّم من خلو قلبه واشتغال لسانه على أن ذلك ليس من الوحي في شيء ولم يحتج إلى أن يعلمه جبريل عليه السلام، والقول بأنه لبس الحال عليه عليه الصلاة والسلام للتأديب والترقية إلى المقام الأكمل في العبودية وهو فناء إرادته صلّى الله عليه وسلّم في إرادة مولاه عز وجل حيث تمنى إيمان الكل وحرص عليه ولم يكن مراد الله تعالى مما لا ينبغي أن يلتفت إليه لأن القائل به زعم أن التأديب بذلك كان بعد قوله تعالى: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ [الأنعام: 35] ولا شك أن التأديب به لم يبق ولم يذر ولم يقرن بما فيه تسلية أصلا فإذا قيل والعياذ بالله تعالى: إن ذلك لم ينجع فكيف ينجع ما دونه، وأيضا أية دلالة في الآية على التأديب وهي لم تخرج مخرج العتاب بل مخرج التسلية على أبلغ وجه عما كان يفعل المشركون من السعي في إبطال الآيات، ولا نسلم أن ترتيب الإلقاء على التمني مع ما في السباق والسياق مما يدل على التسلية عن ذلك يجدي نفعا في هذا الباب كما لا يخفى على ذوي الألباب. ويرد على قوله: إنه بعد حصول التأديب بما ذكر كان يرسل من بين يديه ومن خلفه رصد يحفظونه من إلقاء الشيطان أنه لم يدل دليل على تخصيص الإرسال بما بعد ذلك بل الظاهر أن ذلك كان في جميع الأوقات فقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الضحاك بن مزاحم في قوله تعالى: إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً [الجن: 27] قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا بعث إليه الملك بالوحي بعث معه ملائكة يحرسونه من بين يديه ومن خلفه أن يتشبه الشيطان بالملك، وقد ذكروا أن- كان- في ذلك للاستمرار. وأخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن سعيد بن جبير قال: ما جاء جبريل عليه السلام بالقرآن إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا ومعه أربعة من الملائكة حفظة، وهذا صريح في ذلك ولا شك أن هذا الإلقاء عند من يقول به كان عند نزول الوحي، فقد أخرج ابن جرير وابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بينما هو يصلي إذ نزلت عليه قصة آلهة العرب فجعل يتلوها فسمعه المشركون فقالوا: إنا نسمعه يذكر آلهتنا بخير فدنو منه فبينما هو يتلوها وهو يقول أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ألقى الشيطان تلك الغرانيق العلا منها الشفاعة ترتجى فعلى هذا ونحوه يكون الرصد موجودا مع عدم ترتب أثره عليه والقول بأن جبريل عليه السلام ومن معه تنحوا عنه حتى ألقى الشيطان ما ألقى بناء على ما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في آية الرصد: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يلقي الشيطان في أمنيته يدنون منه فلما ألقى الشيطان في أمنيته أمرهم أن يتنحوا عنه قليلا فإن المراد من قوله: فيه فلما ألقى فلما أراد أن يلقي في حيز المنع وكذا صحة هذا الخبر، ثم أية فائدة في إنزال الرصد إذا لم يحصل به الحفظ بل كيف يسمى رصدا. ومما ذكر في هذا الاعتراض يعلم ما في الجواب الثاني من الاعتراض وهو ظاهر، وقد يقال: إن إعجاز القرآن معلوم له صلّى الله عليه وسلّم ضرورة كما ذهب إليه أبو الحسن الأشعري بل قال القاضي: إن كل بليغ أحاط بمذاهب العرب وغرائب الصنعة يعلم ضرورة إعجازه، وذكر أن الإعجاز يتعلق بسورة أو قدرها من الكلام بحيث يتبين فيه تفاضل قوي البلاغة فإذا كانت آية بقدر حروف سورة وإن كانت كسورة الكوثر فهو معجز، وعلى هذا يمتنع أن يأتي الجن والإنس ولو كان الجزء: 9 ¦ الصفحة: 172 بعضهم لبعض ظهيرا بمقدار أقصر سورة منه تشبهه في البلاغة ومتى أتى أحد بما يزعم فيه ذلك لم تنفق سوقه عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكذا عند كل بليغ محيط بما تقدم ولم يخف على الرسول عليه الصلاة والسلام ولا على ذلك البليغ عدم إعجازه فلا يشتبه عنده بالقرآن أصلا، ولا شك أن ما ألقى الشيطان على ما في بعض الروايات حروفه بقدر حروف سورة الكوثر بل أزيد أن اعتبر الحرف المشدد بحرفين وهو وأنهن لهن الغرانيق العلاوان شفاعتهن لهي التي ترتجى الوارد فيما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق موسى بن عقبة عن ابن شهاب. وجاء في رواية ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم بسند قال السيوطي: هو صحيح عن أبي العالية أنه ألقى تلك الغرانيق العلا وشفاعتهن ترتجى ترتضى ومثلهن لا ينسى وحروفه أزيد من حروفها إذا لم يعتبر الحرف المشدد في شيء منهما حرفين أما إذا اعتبر فحروفها أزيد بواحد فإن كان ما ذكر مما يتعلق به الإعجاز فإن كان معجزا لزم أن يكون من الله تعالى لا من إلقاء عدوه ضرورة عجزه كسائر الجن والإنس عن الإتيان بذلك، وإن لم يكن مما يتعلق به الإعجاز فهو كلام غير يسير يتنبه البليغ الحاذق إذ سمعه أثناء كلام فوقه بمراتب لكونه ليس منه فيبعد كل البعد أن يخفى عليه عليه الصلاة والسلام قصور بلاغته عن بلاغة شيء من آيات القرآن سواء قلنا بتفاوتها في البلاغة كما اختاره أبو نصر القشيري وجماعة أم قلنا بعدم التفاوت كما اختاره القاضي فيعتقد أنه قرآن حتى ينبهه جبريل عليه السلام لا سيما وقد تكرر على سمعه الشريف سكر الآيات ومازجت لحمه ودمه، والواحد منا وإن لم يكن من البلاغة بمكان إذا ألف شعر شاعر وتكرر على سمعه يعلم إذا دس بيت أو شطر في قصيدة له إن ذلك ليس له وقد يطالب بالدليل فلا يزيد على قوله: لأن النفس مختلف، وهذا البعد متحقق عندي على تقدير كون الملقى ما في الرواية الشائعة وهو تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى أيضا لا سيما على قول جماعة: إن الإعجاز يتعلق بقليل القرآن وكثيره من الجمل المفيدة لقوله تعالى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ والقول بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم خفي عليه ذلك للتأديب فيه ما فيه، ولا يبعد استحقاق قائله للتأنيب. وما ذكره في الجواب عن الثالث من أنه لا بد من حمل الكلام على الاستفهام أو حذف القول وهو دون الأول إذا صح الخبر صحيح لكن إثبات صحة الخبر أشد من خرط القتاد فإن الطاعنين فيه من حيث النقل علماء أجلّاء عارفون بالغث والسمين من الأخبار وقد بذلوا الوسع في تحقيق الحق فيه فلم يرووه إلا مردودا وما ألقى الشيطان إلى أوليائه معدودا وهم أكثر ممن قال بقبوله ومنهم من هو أعلم منه، ويغلب على الظن أنهم وقفوا على رواته في سائر الطرق فرأوهم مجروحين وفات ذلك القائل بالقبول، ولعمري إن القول بأن هذا الخبر مما ألقاه الشيطان على بعض ألسنة الرواة ثم وفق الله تعالى جمعا من خاصته لإبطاله أهون من القول بأن حديث الغرانيق مما ألقاه الشيطان على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم نسخه سبحانه وتعالى لا سيما وهو مما لم يتوقف على صحته أمر ديني ولا معنى آية ولا ولا سوى أنها يتوقف عليها حصول شبه في قلوب كثير من ضعفاء المؤمنين لا تكاد تدفع إلا بجهد جهيد، ويؤيد عدم الثبوت مخالفته لظواهر الآيات فقد قال سبحانه في وصف القرآن: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 42] والمراد بالباطل كان باطلا في نفسه وذلك الملقى كذلك وإن سوغ نطق النبي صلّى الله عليه وسلّم به تأويله بأحد التأويلين، والمراد بلا يأتيه استمرار النفي لا نفي الاستمرار. وقال عز وجل: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] فجيء بالجملة الاسمية مؤكدة بتأكيدين ونسب فيها الحفظ المحذوف متعلقة إفادة للعموم إلى ضمير العظمة وفي ذلك من الدلالة على الاعتناء بأمر القرآن ما فيه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 173 وقد استدل بالآية من استدل على حفظ القرآن من الزيادة والنقص وما علينا ما قيل في ذلك، وكون الإلقاء المذكور لا ينافي الحفظ لأنه نسخ ولم يبق إلا زمانا يسيرا لا يخلو عن نظر، والظاهر أنه وإن لم يناف الحفظ في الجملة لكنه ينافي الحفظ المشار إليه في الآية على ما يقتضيه ذلك الاعتناء، ثم إن قيل: بما روي عن الضحاك من أن سورة الحج كلها مدنية لزم بقاء ما ألقى الشيطان قرآنا في اعتقاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين زمانا طويلا والقول بذلك من الشناعة بمكان، وقال جل وعلا: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم: 4] والظاهر أن الضمير لما ينطق به عليه الصلاة والسلام مما يتعلق بالدين ومن هنا أخرج الدارمي عن يحيى بن أبي كثير أنه قال: كان جبريل عليه السلام ينزل بالسنّة كما ينزل بالقرآن. والمتبادر من لحن الخطاب أن جميع ما ينطق به عليه الصلاة والسلام من ذلك ليس عن إلقاء شيطاني كما أنه ليس عن هوى، وبقيت آيات أخر في هذا الباب ظواهرها تدل على المدعي أيضا، وتأويل جميع الظواهر الكثيرة لقول شرذمة قليلة بصحة الخبر المنافي لها مع قول جم غفير بعد الفحص التام بعدم صحته مما لا يميل إليه القلب السليم ولا يرتضيه ذو الطبع المستقيم، ويبعد القول بثبوته أيضا عدم إخراج أحد من المشايخ الكبار له في شيء من الكتب الست مع أنه مشتمل على قصة غريبة وفي الطباع ميل إلى سماع الغريب وروايته ومع إخراجهم حديث سجود المشركين معه صلّى الله عليه وسلّم حين سجد آخر النجم، فقد روى البخاري ومسلم وأبو داوود والنسائي وغيرهم عن ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأ والنجم فسجد فيها وسجد كل من كان معه غير أن شيخا (1) من قريش أخذ كفا من حصى أو تراب ورفعه إلى جبهته وقال: يكفيني هذا. وروى البخاري أيضا. والترمذي عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس إلى غير ذلك، وليس لأحد أن يقول: إن سجود المشركين يدل على أنه كان في السورة ما ظاهره مدح آلهتهم وإلا لما سجدوا لأنا نقول: يجوز أن يكونوا سجدوا لدهشة أصابتهم وخوف اعتراهم عند سماع السورة لما فيها من قوله تعالى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى وَثَمُودَ فَما أَبْقى وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى فَغَشَّاها ما غَشَّى [النجم: 50- 45] إلى آخر الآيات فاستشعروا نزول مثل ذلك بهم، ولعلهم لم يسمعوا قبل ذلك مثلها منه صلّى الله عليه وسلّم وهو قائم بين يدي ربه سبحانه في مقام خطير وجمع كثير وقد ظنوا من ترتيب الأمر بالسجود على ما تقدم أن سجودهم ولو لم يكن عن إيمان كاف في دفع ما توهموه، ولا تستبعد خوفهم من سماع مثل ذلك منه صلّى الله عليه وسلّم فقد نزلت سورة حم السجدة بعد ذلك كما جاء مصرحا به في حديث عن ابن عباس ذكره السيوطي في أول الإتقان فلما سمع عتبة بن ربيعة قوله تعالى فيها: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فصلت: 13] أمسك على فم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وناشده الرحم واعتذر لقومه حين ظنوا به أنه صبأ وقال: كيف وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب. وقد أخرج ذلك البيهقي في الدلائل. وابن عساكر في حديث طويل عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه. ويمكن أن يقال على بعد: إن سجودهم كان لاستشعار مدح آلهتهم ولا يلزم منه ثبوت ذلك الخبر لجواز أن يكون ذلك الاستشعار من قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النجم: 19، 20] بناء على أن المفعول محذوف وقدروه حسبما يشتهون أو على أن المفعول أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى [النجم: 21] وتوهموا أن مصب الإنكار فيه كون المذكورات إناثا والحب للشيء يعمي ويصم، وليس هذا بأبعد من حملهم تلك الغرانيق العلا   (1) جاء في رواية أنه أمية بن خلف اهـ منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 174 وإن شفاعتهن لترتجى على المدح حتى سجدوا لذلك آخر السورة مع وقوعه بين ذمين المانع من حمله على المدح في البين كما لا يخفى على من سلمت عين قلبه عن الغين. واعترض على الجواب الرابع بأن سجودهم كان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آخرا بعد سماع قوله تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ [النجم: 23] فكان ينبغي التنبيه بعد السجود، ولعلهم أرجعوا ضمير هِيَ للأسماء وهي قولهم اللات والعزى ومناة كما هو أحد احتمالين فيه ذكرهما الزمخشري، فيكون المعنى ما هذه الأسماء إلا أسماء سميتم بها بهواكم وشهوتكم ليس لكم على صحة التسمية بها برهان تتعلقون به، وحينئذ لا يكون فيه دليل على رد ما فهموه مما ألقى الشيطان من مدح آلهتهم بأنها الغرانيق العلا، ويحتمل أنهم أولوه على وجه آخر وباب التأويل واسع. واعترض على قوله في الجواب الخامس: إن هذا الاشتباه في حالة خاصة للتأديب لا يقتضي أن يكون صلّى الله عليه وسلّم على غير بصيرة فيما يوحى إليه في غير تلك الحالة بأن المعترض لم يرد أنه إذا اشتبه الأمر عليه عليه الصلاة والسلام مرة يلزم أن يكون على غير بصيرة فيما يوحى إليه في غيرها بل أراد أن اللائق بمقام النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يكون على بصيرة في جميع ما يوحى إليه وأنه متى اشتبه عليه عليه الصلاة والسلام في حالة من الأحوال لم تبق الكلية كلية وهو خلاف المراد. وفي التنقيح أن الوحي إما ظاهر أو باطن أما الظاهر فثلاثة أقسام، الأول ما ثبت بلسان الملك فوقع في سمعه صلّى الله عليه وسلّم بعد علمه بالمبلغ بأية قاطعة والمراد كما قال ابن ملك: العلم الضروري بأن المبلغ ملك نازل بالوحي من الله تعالى والقرآن من هذا القبيل، والثاني ما وضح له صلّى الله عليه وسلّم بإشارة الملك من غير بيان بالكلام كما قال عليه الصلاة والسلام «إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها» الحديث وهذا يسمى خاطر الملك، والثالث ما تبدى لقلبه الشريف بلا شبهة بإلهام من الله تعالى بأن أراه بنور من عنده كما قال تعالى: لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ [النساء: 105] وكل ذلك حجة مطلقا بخلاف الإلهام للولي فإنه لا يكون حجة على غيره، وأما الباطن فما ينال بالرأي والاجتهاد وفيه خلاف إلى آخر ما قال، وهو ظاهر في أنه صلّى الله عليه وسلّم على بصيرة في جميع ما يوحى إليه من القرآن لأنه جعله من القسم الأول من أقسام الوحي الظاهر، ويعلم منه عدم ثبوت تكلمه صلّى الله عليه وسلّم بما ألقى الشيطان لأنه عند زاعمه يكون قد اعتقده عليه الصلاة والسلام قرآنا ووحيا من الله تعالى فيجب على ما سمعت أن يكون عليه الصلاة والسلام قد علم ذلك علما ضروريا فحيث أنه ليس كذلك في نفس الأمر يلزم انقلاب العلم جهلا، واستثناء هذه المادة من العموم مما لا دليل عليه عند الزاعم سوى الخبر الذي زعم صحته وبنى عليه تفسير الآية بما فسرها به وذلك أول المسألة. ويجوز أن يقال: إنه أراد أنه إذا وقع الاشتباه مرة اقتضى أن لا يكون عليه الصلاة والسلام على بصيرة في شيء مما يوحى إليه بعد لأنه احتمال التأديب على تعاطي ما ليس أكمل بالنسبة إليه صلّى الله عليه وسلّم قائم والعصمة من ذلك ممنوعة فقد وقع منه صلّى الله عليه وسلّم بعد هذه القصة التي زعمها الخصم ما عوقب عليه كقصة الإسراء المشار إليها بقوله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ [الأنفال: 67] الآية، وكقصة الإذن المشار إليها بقوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: 43] وكقصة زينب رضي الله تعالى عنها المشار إليها بقوله تعالى: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ [الأحزاب: 37] ودعوى أن التأديب بذلك على غير التمني مما لا تقتضيه الحكمة فلا يمكن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 175 وقوعه مما لم يقم عليه دليل، وقصارى ما تفيده الآية أن الإلقاء المشروط بالتمني أو في وقته بناء على الخلاف في أن «إذا» للشرط أو لمجرد الظرفية وعند انتفاء ذلك الشرط أو عدم تحقق ذلك الوقت يبقى الإلقاء على العدم الأصلي إن لم يكن هناك ما يقوم مقام ذلك الشرط أو ذلك الوقت. ولا شك أن صدور خلاف الأكمل لا سيما إذا كان كالتمني أو فوقه أو وقت صدوره مما يقوم مقام ذلك فيما يقتضيه فيلزم حينئذ أن يكون صلّى الله عليه وسلّم في كل وحي متوقفا غير جازم بأنه وحي لا تلبيس إلى أن يتضح له عليه الصلاة والسلام عدم صدور خلاف الأكمل بالنسبة إليه منه وفي ذلك من البشاعة ما فيه. واعترض على قوله في الجواب أيضا: إن ما قاله ابن العربي قياس مع الفارق إلخ بأنه غير حاسم للقيل والقال إذ لنا أن نقول: خلاصة ما أشار إليه ابن العربي أنه قد صح بل تواتر قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من رآني في المنام فقد رآني حقا فإن الشيطان لا يتمثل بي» والظاهر أنه لا يتمثل به صلّى الله عليه وسلّم أصلا لا للمخلصين ولا لغيرهم لعموم. من. ولزوم مطابقة التعليل المعلل وإذا لم يتمثل مناما فلأن لا يتمثل يقظة من باب أولي، وعلله الشراح بلزوم اشتباه الحق بالباطل. وقالت الصوفية في ذلك: إن المصطفى صلّى الله عليه وسلّم وإن ظهر بجميع أسماء الحق تعالى وصفاته تخلقا وتحققا فمقتضى رسالته للخلق أن يكون الأظهر فيه حكما وسلطنة من صفات الحمق سبحانه وأسمائه جل شأنه الهداية والاسم الهادي والشيطان مظهر الاسم المضل والظاهر بصفة الضلالة فهما ضدان فلا يظهر أحدهما بصفة الآخر، والنبي صلّى الله عليه وسلّم خلق للهداية فلو ساغ ظهور إبليس بصورته لزال الاعتماد عليه عليه الصلاة والسلام فلذلك عصمت صورته صلّى الله عليه وسلّم عن أن يظهر بها شيطان اهـ، ولا شك أن نسبة جبريل عليه السلام إليه صلّى الله عليه وسلّم وكذا إلى سائر إخوانه الأنبياء عليهم السلام نسبة النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الأمة فإذا استحال تمثل الشيطان بالنبي يقظة أو مناما لأحد من أمته مخلصا أو غير مخلص خوف الاشتباه وزوال الاعتماد وكمال التضاد فليقل باستحالة تمثله بجبريل عليه السلام لذلك ومن ادعى الفرق فقد كابر. وتعقب ما ذكره في الجواب السادس بأن كون المتتبع لما يعتقده وحيا للتلبيس غير منقول صحيح إلا أن القول باعتقاده ما ليس قرآنا للتلبيس الناشئ عن إرادة التأديب بسبب تمني إيمان الجميع الغير المراد له تعالى ليس به، وكون التلبيس للتأديب كالسهو في الصلاة للتشريع لا يخفى ما فيه. وأورد على قوله في الجواب السابع: إنه لا إخلال بالوثوق بالقرآن عند الذين أوتوا العلم والذين آمنوا لأن وثوق كل منهما تابع لوثوق متبوعهم الصادق الأمين صلّى الله عليه وسلّم أنه إذا فتح باب التلبيس لا يوثق بالوثوق في شيء أصلا لجواز أن يكون كل وثوق ناشئا عن تلبيس كالوثوق بأن تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى قرآن فلما تطرق الاحتمال الوثوق جاز أن يتطرق الرجوع ولا يظهر فرق بينهما فلا يعول حينئذ على جزم ولا على رجوع. وقوله فيما ذكره البيضاوي عليه الرحمة: ليس بشيء ليس بشيء لأن منع الاحتمال عند الفرق الأربع بعد القول بجواز التلبيس مكابرة والآية التي ادعى دلالتها على انتقاء الاحتمال عند فريقين بعد النسخ والأحكام فيها أيضا ذلك الاحتمال، والحق أنه لا يكاد يفتح باب قبول الشرائع ما لم يسد هذا الباب. ولا يجدي نفعا كون الحكمة المشار إليها بقوله تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ آبية عن بقاء التلبيس فلا أقل من أن يتوقف قبول معظم ما يجيء به النبي عليه الصلاة والسلام إلى أن يتبين كونه ليس داخلا في باب التلبيس مع أنا نرى الصحابة رضي الله تعالى عنهم يسارعون إلى امتثال الأوامر عند إخباره صلّى الله عليه وسلّم إياهم بوحي الله تعالى إليه بها من غير انتظار ما يجيء بعد ذلك فيها مما يحقق أنها ليست عن تلبيس فافهم والله تعالى الموفق. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 176 وتوسط جمع في أمر هذه القصة فلم يثبتوها كما أثبتها الكوراني عفا الله تعالى عنه من أنه صلّى الله عليه وسلّم نطق بما نطق عمدا معتقدا للتلبيس أنه حاملا له على خلاف ظاهره ولم ينفوها بالكلية كما فعل أجلة إثبات وإليه أميل بل أثبتوها على وجه غير الوجه الذي أثبته الكوراني واختلفوا فيه على أوجه تعلم مما أسلفناه من نقل الأقوال في الآية وكلها عندي مما لا ينبغي أن يلتفت إليها. وفي شرح الجوهرة الأوسط أن حديث تلك الغرانيق إلخ ظاهره مخالف للقواطع فيجب تأويله إن صح بما هو مذكور في موضعه مما أقربه على نظر فيه أن الشيطان ترصد قراءته عليه الصلاة والسلام وكان يرتل القراءة إذ ذاك عند البيت فحين انتهى عليه الصلاة والسلام إلى قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النجم: 19، 20] وكان منه عليه الصلاة والسلام وقفة ما للترتيل أدرج ذلك في تلاوته محاكيا صوته صلّى الله عليه وسلّم فظن أنه من قوله عليه الصلاة والسلام وليس به انتهى، والنظر الذي أشار إليه لا يخفى على من أحاط بما قدمناه خبرا وأخذت العناية بيديه، وأقبح الأقوال التي رأيناها في هذا الباب وأظهرها فسادا أنه صلّى الله عليه وسلّم أدخل تلك الكلمة من تلقاء نفسه حرصا على إيمان قومه ثم رجع عنها، ويجب على قائل ذلك التوبة كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا، وقريب منه ما قيل إنها كانت قرآنا منزلا في وصف الملائكة عليهم السلام فلما توهم المشركون أنه يريد عليه الصلاة والسلام مدح آلهتهم بما نسخت، وأنت تعلم أن تفسير الآية أعني قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا إلخ لا يتوقف على ثبوت أصل لهذه القصة، وأقرب ما قيل في تفسيرها على القول بعدم الثبوت ما قدمناه، وقيل: هو بعيد صدقوا لكن عن إيهام الإخلال بمقام النبوة ونحو ذلك، واستفت قلبك إن كنت ذا قلب سليم، هذا وأخرج عبد ابن حميد وابن الأنباري في المصاحف عن عمرو بن دينار قال: كان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقرأ «وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث» فنسخ «ولا محدث» والمحدثون صاحب يس ولقمان، ومؤمن من آل فرعون وصاحب موسى عليه السلام. الْمُلْكُ أي السلطان القاهر والاستيلاء التام والتصرف على الإطلاق يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ تأتيهم الساعة أو عذابها وقيل أي يوم إذ تزول مريتهم وليس بذلك، ومثله ما قيل أي يوم إذ يؤمنون لِلَّهِ وحده بلا شريك أصلا بحيث لا يكون فيه لأحد تصرف من التصرفات في أمر من الأمور لا حقيقة ولا مجاز أو لا صورة ولا معنى كما في الدنيا فإن للبعض فيها تصرفا صوريا في الجملة والتنوين في إذ عوض عن المضاف إليه، وإضافة يوم إليه من إضافة العام إلى الخاص وهو متعلق بالاستقرار الواقع خبرا، وقوله سبحانه: يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ جملة مستأنفة وقعت جواب سؤال نشأ من الأخبار بكون الملك يومئذ لله، وضمير الجمع للفريقين المؤمنين والكافرين لذكرهما أولا واشتمال التفصيل عليهما آخرا، نعم ذكر الكافرين قبيله ربما يوهم تخصيصه بهم كأنه قيل: فماذا يصنع سبحانه بالفريقين حينئذ؟ فقيل: يحكم بينهم بالمجازاة، وجوز أن تكون حالا من الاسم الجليل فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وهم الذين لا مرية لهم فيما أشير إليه سباقا كيفما كان متعلق الإيمان فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ أي مستقرون في جنات مشتملة على النعم الكثيرة وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وهم الذين لا يزالون في مرية من ذلك، وفي متعلق الكفر احتمالات كاحتمالات متعلق الإيمان وزيادة وهي احتمال أن يكون متعلقة الآيات، والظاهر أن المراد بها الآيات التنزيلية، وجوز أن يراد بها الأدلة وأن يراد بها الأعم ويتحصل مما ذكر خمسة عشر احتمالا في الآية، ولعل أولاها ما قرب به العطف إلى التأسيس فتأمل، والموصول مبتدأ أول وقوله تعالى: فَأُولئِكَ مبتدأ ثان وهو إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد المنزلة في الشر والفساد. وقوله سبحانه: لَهُمْ عَذابٌ جملة اسمية من مبتدأ وخبر مقدم عليه وقعت خبرا للمبتدأ الثاني أو لَهُمْ خبر له وعَذابٌ مرتفع على الفاعلية بالاستقرار في الجار والمجرور لاعتماده على المبتدأ وجملة المبتدأ الثاني وخبره خبر للمبتدأ الأول، وتصديره بالفاء قيل للدلالة على أن تعذيب الكفار بسبب فبائحهم ولذا جيء بأولئك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 177 وقيل لهم عذاب بلام الاستحقاق وكان الظاهر في عذاب كما قيل: فِي جَنَّاتِ وجعل تجريد خبر الموصول الأول عنها للإيذان بأن إثابة المؤمنين بطريق التفضل لإيجاب محاسنهم إياها، ولا ينافي ذلك قوله تعالى: فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [التين: 6] ونحوه لأنها بمقتضى وعده تعالى على الإثابة عليها قد تجعل سببا، وقيل جيء بالفاء لأن الكلام لخروجه مخرج التفصيل بتقدير أما فكأنه قيل: فأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك إلخ وليس بشيء لأن ذلك يقتضي تقدير أما في قوله تعالى: فَالَّذِينَ آمَنُوا إلخ ولا يتسنى فيه لعدم الفاء في الخبر وقوله تعالى: مُهِينٌ صفة لعذاب مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة، ولم يتعرض لوصف هؤلاء الكفرة بعمل السيئات كما تعرض لوصف المؤمنين بعمل الصالحات قيل لظهور عدم اتصافهم بغيره أعني العمل الصالح الذي شرعه الله تعالى علس لسان الرسول عليه الصلاة والسلام بعد كفرهم وتكذيبهم بالآيات، وقيل مبالغة في تهويل أمر الكفر حيث أخبر سبحانه أن للمتصف به دون عمل السيئات عذابا مهينا ولو تعرض لذلك لأفاد أن ذلك العذاب للمتصف بالمجموع فيضعف التهويل، والقول بأن المراد من التكذيب بالآيات عمل السيئات أو في الكلام صنعة الاحتباك والأصل فالذين آمنوا وصدقوا بآياتنا وعملوا الصالحات في جنات النعيم والذين كفروا وكذبوا بآياتنا وعملوا السيئات فأولئك لهم عذاب مهين خلاف الظاهر كما لا يخفى. وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي في الجهاد حسبما يلوح به قوله تعالى: ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا أي في تضاعيف المهاجرة، وقرأ ابن عامر «قتلوا» بالتشديد، ومحل الموصول الرفع على الابتداء، وقوله تعالى: لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ جواب لقسم محذوف والجملة خبره على الأصح من جواز وقوع القسم وجوابه خبرا، ومن منع أضمر قولا هو الخبر والجملة محكية به، وقوله سبحانه: رِزْقاً حَسَناً إما مفعول ثان ليرزق على أنه من باب النقض والذبح أي مرزوقا حسنا أو مصدر مبين للنوع، والمراد به عند بعض ما يكون للشهداء في البرزخ من الرزق ويؤيده ما أخرجه ابن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 178 أبي حاتم وابن مردويه عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من مات مرابطا أجري عليه الرزق وأمن من الفتانين واقرؤوا إن شئتم وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا- إلى قوله تعالى- حَلِيمٌ» وقد نص سبحانه في آية أخرى على أن الذين يقتلون في سبيل الله تعالى أحيا عند ربهم يرزقون وليس ذلك في تلك الآية إلا في البرزخ وقال آخرون: المراد به ما لا ينقطع أبدا من نعيم الجنة، ورد بأن ذلك لا اختصاص له بمن هاجر في سبيل الله ثم قتل أو مات بل يكون للمؤمنين كلهم. وتعقب بأن عدم الاختصاص ممنوع فإن تنكير رِزْقاً يجوز أن يكون للتنويع ويختص ذلك النوع بأولئك المهاجرين، وقيل: المراد تشريفهم وتبشيرهم بهذا الوعد الصادر ممن لا يخلق الميعاد المقترن بالتأكيد القسمي ويكفي ذلك في تفضيلهم على سائر المؤمنين كما في المبشرين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم وفيه نظر. وقال الكلبي: هو الغنيمة، وقال الأصم: هو العلم والفهم كقول شعيب عليه السلام وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً [هود: 88] ويرد عليهما أنه تعالى جعل هذا الرزق جزاء على قتلهم أو موتهم في تضاعيف المهاجرة في سبيل الله تعالى فلا يصح أن يكون في الدنيا، ولعل قائل ذلك يقول: إنه في الآخرة وفيها تتفاوت مراتب العلم أيضا. وظاهر الآية على ما قيل: استواء من قتل ومن مات مهاجرا في سبيل الله تعالى في الرتبة وبه أخذ بعضهم، وذكر أنه لما مات عثمان بن مظعون وأبو سلمة بن عبد الأسد قال بعض الناس: من قتل من المهاجرين أفضل ممن مات حتف أنفه فنزلت الآية مسوية بينهم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن فضالة بن عبيد الأنصاري الصحابي أنه كان بموضع فمروا بجنازتين إحداهما قتيل والأخرى متوفى فمال الناس على القتيل في سبيل الله تعالى فقال: والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت اسمعوا كتاب الله تعالى فقال: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا الآية. ويؤيد ذلك بما روي عن أنس قال: قال صلّى الله عليه وسلّم: «المقتول في سبيل الله تعالى والمتوفى في سبيل الله تعالى بغير قتل هما في الأجر شريكان» فإن ظاهر الشركة يشعر بالتسوية، وظاهر القول بالتسوية أن المتوفى مهاجرا في سبيل الله تعالى شهيدا كالقتيل وبه صرح بعضهم، وفي البحر أن التسوية في الوعد بالرزق الحسن لا تدل على تفضيل في المعطي ولا تسوية فإن يكن تفضيل فمن دليل آخر، وظاهر الشريعة أن المقتول أفضل انتهى، وما تقدم في سبب النزول غير مجمع عليه، فقد روي أن طوائف من الصحابة رضي الله تعالى عنهم قالوا: يا نبي الله هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله تعالى من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا معك فنزلت، واستدل بعضهم بهذا أيضا على التسوية، وقال مجاهد: نزلت في طوائف خرجوا من مكة إلى المدينة للهجرة فتبعهم المشركون وقاتلوهم، وعلى هذا القول ليس المراد من المهاجرة في سبيله تعالى المهاجرة في الجهاد، وأيا ما كان فهذا ابتداء كلام غير داخل في حيز التفصيل، ويوهم ظاهر كلام بعضهم الدخول وأنه تعالى أفراد المهاجرين بالذكر مع دخولهم دخولا أولياء في الذين آمنوا وعملوا الصالحات تفخيما لشأنهم وهو كما ترى، وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فإنه جل وعلا يرزق بغير حساب مع أن ما يرزقه قد لا يقدر عليه أحد غيره سبحانه وأن غيره تعالى إنما يرزق مما رزقه هو جل شأنه. واستدل بذلك على أنه قد يقال لغيره تعالى رازق والمراد به معطى، والأولى عندي أن لا يطلق رازق على غيره تعالى وأن لا يتجاوز عما ورد. وأما إسناد الفعل إلى غيره تعالى كرزق الأمير الجندي وأرزق فلانا من كذا فهو أهون من إطلاق رازق ولعله مما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 179 لا بأس به، وصرح الراغب بأن الرزاق لا يقال إلا لله تعالى، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله. وقوله تعالى: لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ استئناف مقرر لمضمون قوله سبحانه «ليرزقنهم الله» أو بدل منه مقصود منه تأكيده ومُدْخَلًا إما اسم. مكان أريد به الجنة كما قال السدي وغيره أو درجات فيها مخصوصة بأولئك المهاجرين كما قيل، وقيل هو خيمة من درة بيضاء لا فصم فيها ولا وصم لها سبعون ألف مصراع، أو مصدر ميمي، وهو على الاحتمال الأول مفعول ثان للإدخال وعلى الثاني مفعول مطلق، ووصفه بيرضونه على الاحتمالين لما أنهم يرون إذا أدخلوا ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وقيل على الثاني: إن رضاهم لما أن إدخالهم من غير مشقة تنالهم بل براحة واحترام. وقرأ أهل المدينة «مدخلا» بالفتح والباقون بالضم وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ بالذي يرضيهم فيعطيهم إياه أو لعليم بأحوالهم وأحوال أعدائهم الذين هاجروا لجهادهم حَلِيمٌ فلا يعاجل أعداءهم بالعقوبة، وبهذا يظهر مناسبة هذا الوصف لما قبله وفيه أيضا مناسبة لما بعد ذلِكَ قد حقق أمره وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ أي من جازى الجاني مثل ما جني به عليه، وتسمية ما وقع ابتداء عقابا مع أن العقاب كما قال غير واحد جزاء الجناية لأنه يأتي عقبها وهو في الأصل شيء يأتي عقب شيء للمشاكلة أو لأن الابتداء لما كان سببا للجزاء أطلق عليه مجازا مرسلا بعلاقة السببية، وقال بعض المحققين: يجوز أن يقال: لا مشاكلة ولا مجاز بناء على أن العرف جار على إطلاقه على ما يعذب به وإن لم يكن جزاء جناية، ومَنْ موصولة وجوز أن تكون شرطية سد جواب القسم الآتي مسد جوابها، والجملة مستأنفة، والباء في الموضعين قيل للسبب لا للإله وإليه ذهب أبو البقاء، وقال الخفاجي: باء بِمِثْلِ آلية لا سببية لئلا يتكرر مع قوله تعالى: بِهِ والمنساق إلى ذهني القاصر كونها في الموضعين للإله وفيما ذكره الخفاجي نظر فتأمل ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ بالمعاودة إلى العقاب لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ على من بغى عليه لا محالة عند كره للانتقام منه إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ تعليل للنصرة حيث كانت لمن ارتكب خلاف الأولى من العفو عن الجاني المندوب إليه والمستوجب للمدح عنده تعالى ولم ينظر في قوله تعالى: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40] . وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [البقرة: 237] . وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [الشورى: 43] بأن ذلك لأنه لا يلوم على ترك الأولى إذا روعي الشريطة وهي عدم العدوان، وفيه تعريض بمكان أولية العفو لأن ذكر الصفتين يدل على أن هناك شبه جناية، وإظهار الاسم الجليل في مقام الإضمار للإشارة إلى أن ذلك من مقتضى الألوهية. وحمل الجملة على ما ذكر أحد أوجه ثلاثة ذكرها الزمخشري في بيان مطابقة ذكر العفو الغفور هذا الموضع، وثانيها أنه دل بذلك على أنه تعالى قادر على العقوبة لأنه لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده. قال في الكشف: فهو أي إِنَّ اللَّهَ إلخ على هذا أيضا تعليل للنصرة وأن المعاقب يستحق فوق ذلك وإنما الاكتفاء بالمثل لمكان عفو الله تعالى وغفرانه سبحانه، وفيه إدماج أيضا للحث على العفو وهذا وجه وجيه اهـ، وثالثها أنه دل بذلك على نفي اللوم على ترك الأولى حسبما قرر أولا إلا أن الجملة عليه خبر ثان لقوله تعالى: مَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ والخبر الآخر قوله تعالى: لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ فيكون قد أخبر عنه بأنه لا يلومه على ترك العفو وأنه ضامن لنصره في إحلاله ثانيا بذلك. وجعل ذلك بعضهم من التقدم والتأخير ولا ضرورة إليه، وقيل: إن العفو ليس لارتكاب المعاقب خلاف الأولى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 180 بل لأن المماثلة من كل الوجوه متعسرة فيحتاج للعفو عما وقع فيها وليس بذاك، ونقل الطيبي عن الإمام أن الآية نزلت في قوم مشركين لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم فقالوا: إن أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم يكرهون القتال في الشهر الحرام فاحملوا عليهم فناشدهم المسلمون بأن يكفوا عن القتال فأبوا فقاتلوهم فنصر المسلمون ووقع في أنفسهم شيء من القتال في الشهر الحرام فأنزل الله تعالى الآية، ثم قال: فعلى هذا أمر المطابقة ظاهر ويكون أوفق لتأليف النظم، وذلك أن لفظه ذلِكَ فصل للخطاب وقوله تعالى: وَمَنْ عاقَبَ شروع في قصة أخرى لأولئك السادة بعد قوله سبحانه: وَالَّذِينَ هاجَرُوا الآيتين اهـ. وتعقب بأن الآية تقتضي ابتداء ثم جزاء ثم بغيا ثم جزاء والقصة لم تدل عليه إلا أن يجعل ما بينهم من التعادي معاقبة بالمثل ويجعل البغي مناواتهم لقتال المسلمين في الشهر الحرام وهو خلاف الظاهر، وأما الموافقة لتأليف النظم فعلى ما ذكره غيره أبين لأنه لما ذكر حال المقتولين منهم والميتين منهم قيل الأمر ذلك فيما يرجع إلى حال الآخرة وفيما يرجع إلى حال الدنيا إنهم لهم المنصورون لأنهم بين معاقب وعاف وكلاهما منصوران أما الأول فنصا وأما الثاني فمن فحوى الخطاب أعني مفهوم الموافقة، وفيه وعيد شديد للباغي وأنه مخذول في الدارين مسلوك في قرن من كان في مرية حتى أتته الساعة أو العذاب اهـ، وهو كلام رصين، ولا يعكر عليه قولهم: إنه أتى بذلك للاقتضاب فتأمل، وعن الضحاك أن الآية مدنية وهي في القصاص والجراحات. واستدل بها الشافعي على وجوب رعاية المماثلة في القصاص، وعندنا لا قود إلا بالسيف كما جاء في الخبر والمراد به السلاح وخبر «من غرق غرقناه ومن حرق حرقناه» لم يصح وبتسليم صحته محمول على السياسة، وينبغي أن يعلم أن المعاقبة بالمثل على الإطلاق غير مشروعة فإن الرجل قد يعاقب بنحو يا زاني وقد قالوا: إنه إذا قيل له ذلك فقال لا بل أنت زان حد هو والقائل الأول فليحفظ ذلِكَ إشارة إلى النصرة المدلول عليه بقوله تعالى: لَيَنْصُرَنَّهُ وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبته، وقيل لعدم ذكر المشار إليه صريحا، ومحله الرفع على الابتداء وخبره قوله سبحانه: بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ والباء فيه سببية، والسبب ما دل عليه ما بعد بطريق اللزوم أي ذلك النصر كائن لسبب أن الله تعالى شأنه قادر على تغليب بعض مخلوقاته على بعض والمداولة بين الأشياء المتضادة ومن شأنه ذلك. وعبر عن ذلك بإدخال أحد الملوين في الآخر بأن يزيد فيه ما ينقص من الآخر كما هو الأوفق بالإيلاج أو بتحصيل أحدهما في مكان الآخر كما قيل لا بأن يجعل بين كل نهارين ليلا وبين كل ليلين نهارا كما قد توهم لكونه أظهر المواد وأوضحها أو كائن بسبب أنه تعالى خالق الليل والنهار ومصرفهما فلا يخفى ما يجرى فيهما على ايدي عباده من الخير والشر والبغي والانتصار كما قيل، وعلى الأول قوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بكل المسموعات التي من جملتها ما يقول المعاقب بَصِيرٌ بكل المبصرات التي من جملتها ما يقع منه من الأفعال من تتمة الحكم لا بد منه إذ لا بد للناصر من القدرة على نصر المظلوم ومن العلم بأنه كذلك، وعلى الثاني هو تتميم وتأكيد والأول أولى، وقيل: لا يبعد أن يكون المعنى ذلك النصر بسبب تعاقب الليل والنهار وتناوب الأزمان والأدوار إلى أن يجيء الوقت الذي قدره الملك الجبار لانتصار المظلوم وغلبته، وفيه أنه لا محصل له ما لم يلاحظ قدرة الفاعل لذلك، وقيل: يجوز أن تكون الإشارة إلى الاتصاف بالعفو والغفران أي ذلك الاتصاف بسبب أنه تعالى لم يؤاخذ الناس بذنوبهم فيجعل الليل والنهار سرمدا فتتعطل المصالح، وفيه أنه مع كونه لا يناسب السياق غير ظاهر لا سيما إذا لوحظ عطف قوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ على مدخول الباء فيما قبل، نعم الإشارة إلى الاتصاف في قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 181 فالمعنى ذلك الاتصاف بكمال القدرة الدال عليه قوله تعالى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ إلخ وكمال العلم الدال عليه سَمِيعٌ بَصِيرٌ بسبب أن الله تعالى الواجب لذاته الثابت في نفسه وحده فإن وجوب وجوده ووحدته يستلزمان أن يكون سبحانه هو الموجد لسائر المصنوعات ولا بد في إيجاده لذلك حيث كان على أبدع وجه وأحكمه من كمال العلم على ما بين في موضعه، وقيل: إن وجوب الوجود وحده متكفل بكل كمال حتى الوحدة أو المعنى ذلك الاتصاف بسبب أن الله تعالى الثابت الإلهية وحده ولا يصلح لها إلا من كان كامل القدرة كامل العلم وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلها هُوَ الْباطِلُ أي المعدوم في حد ذاته أو الباطل الإلهية، والحصر يحتمل أن يكون غير مراد وإنما جيء به للمشاكلة ويحتمل أن يكون مرادا على معنى أن جميع ما يدعون من دونه هو الباطل لا بعضه دون بعض. وقيل هو باعتبار كمال بطلانه وزيادة هو هنا دون ما في سورة لقمان من نظير هذه الآية لأن ما هنا بين عشر آيات كل آية مؤكدة مرة أو مرتين ولهذا أيضا زيدت اللام في قوله تعالى الآتي: وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ دون نظيره في تلك السورة، ويمكن أن يقال تقدم في هذه السورة ذكر الشيطان فلهذا ذكرت هذه المؤكدات بخلاف سورة لقمان فإنه لم يتقدم ذكر الشيطان هناك بنحو ما ذكر هاهنا قاله النيسابوري، ويجوز أن يكون زيادة هُوَ في هذا الموضع لأن المعلل فيه أزيد منه في ذلك الموضع فتأمل وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ على جميع الأشياء الْكَبِيرُ عن أن يكون له سبحانه شريك لا شيء أعلى منه تعالى شأنا وأكبر سلطانا. وقرأ الحسن «وإن ما» بكسر الهمزة، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو بكر «تدعون» بالتاء على خطاب المشركين وقرأ مجاهد واليماني وموسى الأسواري «يدعون» بالياء التحتية مبنيا للمفعول على أن الواو ولما فإنه عبارة عن الآلهة، وأمر التعبير عنها بما ثم إرجاع ضمير العقلاء إليها ظاهر فلا تغفل. أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ أي من جهة العلو ماءً أي ألم تعلم ذلك، وجوز كون الرؤية بصرية نظرا للماء المنزل، والاستفهام للتقرير، وقوله تعالى: فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً أي فتصير، وقيل تصبح على حقيقتها والحكم بالنظر إلى بعض الأماكن تمطر السماء فيها ليلا فتصبح الأرض مخضرة، والأول أولى عطف على أَنْزَلَ والفاء مغنية عن الرابط فلا حاجة إلى تقدير بإنزاله، والتعقيب عرفي أو حقيقي وهو إما باعتبار الاستعداد التام للاخضرار أو باعتباره نفسه وهو كما ترى، وجوز أن تكون الفاء لمحض السبب فلا تعقيب فيها، والعدول عن الماضي إلى المضارع لإفادة بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان كما تقول: أنعم على فلان عام كذا فأروح وأغدو شاكرا له ولو قلت: فرحت وغدوت لم يقع ذلك الموقع أو لاستحضار الصورة البديعة ولم ينصب الفعل في جواب الاستفهام هنا في شيء من القراءات فيما نعلم وصرح غير واحد بامتناعه، ففي البحر أنه يمتنع النصب هنا لأن النفي إذا دخل عليه الاستفهام وإن كان يقتضي تقريرا في بعض الكلام وهو معامل معاملة النفي المحض في الجواب ألا ترى قوله تعالى: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الأعراف: 172] وكذلك في الجواب بالفاء إذا أجبت النفي كان على معنيين في كل منهما ينتفي الجواب فإذا قلت: تأتينا فتحدثنا بالنصب فالمعنى ما تأتينا محدثا إنما تأتينا ولا تحدث، ويجوز أن يكون المعنى أنك لا تأتينا فكيف تحدثنا فالحديث منتف في الحالتين والتقرير بأداة الاستفهام كالنفي المحض في الجواب يثبت ما دخلته همزة الاستفهام وينفي الجواب فيلزم من ذلك هنا إثبات الرؤية وانتقاء الاخضرار وهو خلاف المراد، وأيضا جواب الاستفهام ينعقد منه مع الاستفهام شرط وجزاء ولا يصح أن يقال هنا إن تر إنزال الماء تصبح الأرض مخضرة لأن اخضرارها ليس مترتبا على علمك أو رؤيتك إنما هو مترتب على الإنزال اهـ. وإلى انعكاس المعنى على تقدير النصب ذهب الزمخشري حيث قال: لو نصب الفعل جوابا للاستفهام لأعطى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 182 ما هو عكس الغرض لأن معناه إثبات الاخضرار فينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار لكن تعقبه صاحب الفرائد حيث قال: لا وجه لما ذكره صاحب الكشاف ولا يلزم المعنى الذي ذكر بل يلزم من نصبه أن يكون مشاركا لقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ تابعا له ولم يكن تابعا الإنزال ويكون مع ناصبه مصدرا معطوفا على المصدر التي تضمنه أَلَمْ تَرَ والتقدير ألم تكن لك رؤية إنزال الماء من السماء وإصباح الأرض مخضرة وهذا غير مراد من الآية بل المراد أن يكون إصباح الأرض مخضرة بإنزال الماء فيكون حصول اخضرار الأرض تابعا للإنزال معطوفا عليه اهـ وفيه بحث. وقال صاحب التقريب في ذلك: إن النصب بتقدير إن وهو علم للاستقبال فيجعل الفعل مترقبا والرفع جزم بأخباره وتلخيصه أن الرفع جزم بإثباته والنصب ليس جزما بإثباته لا أنه جزم بنفيه، ولا يخفى أنه إن صح في نفسه لا يطابق مغزى الزمخشري، وعلل أبو البقاء امتناع النصب بأمرين، أحدهما انتفاء سببية المستفهم عنه لما بعد الفاء كما تقدم عن البحر، والثاني أن الاستفهام المذكور بمعنى الخبر فلا يكون له جواب وإلى هذا ذهب الفراء فقال: أَلَمْ تَرَ خبر كما تقول في الكلام اعلم أن الله تعالى يفعل كذا فيكون كذا، وقال سيبويه: وسألته يعني الخليل عن قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً فقال هذا واجب وهو تنبيه كأنك قلت: أتسمع؟ وفي النسخة الشرقية من الكتاب انتبه أنزل الله من السماء ماء فكان كذا وكذا. وقال بعض المتأخرين: يجوز أن يعتبر تسبب الفعل عن النفي ثم يعتبر دخول الاستفهام التقريري فيكون المعنى حصل منك رؤية إنزال الله تعالى الماء فإصباح الأرض مخضرة لأن الاستفهام المذكور الداخل على النفي يكون في معنى نفي النفي وهو إثبات، فإن قلت: الرؤية لا تكون سببا لا نفيا ولا إثباتا للاخضرار، قلت: الرؤية مقحمة والمقصود هو الإنزال أو هي كناية عنه لأنها تلزمه مع أنه يكفي التشبيه بالسبب كما نص عليه الرضي في ما تأتينا فتحدثنا في أحد اعتباريه، واختار هذا في الاستدلال على عدم جواز النصب أن النصب مخلص المضارع للاستقبال اللائق بالجزائية على ما قرر في علم النحو ولا يمكن ذلك في الآية الكريمة كما ترى وبالجملة إن الذي عليه المحققون أن من جوز النصب هنا لم يصب، وأن المعنى المراد عليه ينقلب وقرىء «مخضرة» بفتح الميم وتخفيف الضاد مثل مبقلة ومجزرة أي ذات خضرة إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ أي متفضل على العباد بإيصال منافعهم إليهم برفق ومن ذلك إنزال الماء من السماء واخضرار الأرض بسببه خَبِيرٌ أي عليم بدقائق الأمور ومنها مقادير مصالح عباده. وقال ابن عباس: لطيف بأرزاق عباده خبير بما في قلوبهم من القنوط، وقال مقاتل: لطيف باستخراج النبات خبير بكيفية خلقه، وقال الكلبي: لطيف بأفعاله بأعمال عباده، وقال ابن عطية: اللطيف هو المحكم للأمور برفق، ونقل الآمدي أنه العالم بالخفيات، وأنت تعلم أنه المعنى المشهور للخبير، وفسره بعضهم بالمخبر ولا يناسب المقام كتفسير اللطيف بما لا تدركه الحاسة. لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خلقا وملكا وتصرفا فاللام للاختصاص التام وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الذي لا يفتقر إلى شيء أصلا الْحَمِيدُ الذي حمده بصفاته وأفعاله جميع خلقه قالا أو حالا. أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ أي جعل ما فيها من الأشياء مذللة لكم معدة لمنافعكم تتصرفون فيها كيف شئتم، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مر غير مرة ومن الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر وَالْفُلْكَ بالنصب وإسكان اللام، وقرأ ابن مقسم والكسائي عن الحسن بضمها وهو معطوف على ما عطف الخاص على العام تنبيها على غرابة تسخيرها وكثرة منافعها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 183 وجوز أن يكون عطفا على الاسم الجليل، وقوله تعالى: تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ على الأول حال منه وعلى الثاني خبر لأن وتكون الواو قد عطفت الاسم على الاسم والخبر على الخبر وهو خلاف الظاهر وفي البحر هو إعراب بعيد عن الفصاحة، وقرأ السلمي والأعرج وطلحة وأبو حيوة والزعفراني «والفلك» بالرفع على الابتداء وما بعده خبره والجملة مستأنفة. وجوز أن تكون حالية، وقيل: يجوز أن يكون الرفع بالعطف على محل أن مع اسمها وهو على طرز العطف على الاسم وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ أي عن أن تقع عليها فالكلام على حذف حرف الجر وأن وما بعدها في تأويل مصدر منصوب أو مجرور على القولين المشهورين في ذلك، وجعل بعضهم ذلك في موضع المفعول لأجله بتقدير كراهة أن تقع عند البصريين، والكوفيون يقدرون لئلا تقع. وقال أبو حيان: الظاهر أن تَقَعَ في موضع نصب بدل اشتمال من السماء أي ويمنع وقوع السماء على الأرض، ورد بأن الإمساك بمعنى اللزوم يتعدى بالباء وبمعنى الكف بعن وكذا بمعنى الحفظ والبخل كما في تاج المصادر وأما بمعنى المنع فهو غير مشهور، وتعقب بأنه ليس بشيء لأنه مشهور مصرح به في كتب اللغة، قال الراغب: يقال أمسكت عنه كذا أي منعته قال تعالى: هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ [الزمر: 38] وكنى عن البخل بالإمساك اهـ، وصرح به الزمخشري والبيضاوي في تفسير قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فاطر: 41] نعم الأظهر هو الإعراب الأول، والمراد بإمساكها عن الوقوع على الأرض حفظ تماسكها بقدرته تعالى بعد أن خلقها متماسكة آنا فآنا. وعدم تعلق إرادته سبحانه بوقوعها قطعا قطعا، وقيل إمساكه تعالى إياها عن ذلك بجعلها محيطة لا ثقيلة ولا خفيفة، وهذا مبني على اتحاد السماء والفلك وعلى قول الفلاسفة المشهور بأن الفلك لا ثقيل ولا خفيف: وبنوا ذلك على زعمهم استحالة قبوله الحركة المستقيمة وفرعوا عليه أنه لا حار ولا بارد ولا رطب ولا يابس، واستدلوا على استحالة قبول الحركة المستقيمة بما أبطله المتكلمون في كتبهم. والمعروف من مذهب سلف المسلمين أن السماء غير الفلك وأن لها أطيطا لقوله عليه الصلاة والسلام «أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضوع قدم إلا وفيه ملك قائم أو ساجد» وأنها ثقيلة محفوظة عن الوقوع بمحض إرادته سبحانه وقدرته التي لا يتعاصاها شيء لا لاستمساكها بذاتها. وذكر بعض المتكلمين لنفي ذلك أنها مشاركة في الجسمية لسائر الأجسام القابلة للميل الهابط فتقبله كقبول غيرها وللبحث فيه على زعم الفلاسفة مجال، والتعبير بالمضارع لإفادة الاستمرار التجددي أي يمسكها آنا فآنا من الوقوع إِلَّا بِإِذْنِهِ أي بمشيئته، والاستثناء مفرغ من أعم الأسباب، وصح ذلك في الموجب قيل لصحة إرادة العموم أو لكون يُمْسِكُ فيه معنى النفي أي لا يتركها تقع بسبب من الأسباب كمزيد مرور الدهور عليها وكثقلها بما فيها إلا بسبب مشيئته وقوعها، وقيل: استثناء من أعم الأحوال أي لا يتركها تقع في حال من الأحوال إلا في كونها متلبسة بمشيئته تعالى ولعل ما ذكرناه أظهر، وفي البحر أن الجار والمجرور متعلق بتقع، وقال ابن عطية: يحتمل أن يتعلق بيمسك لأن الكلام يقتضي بغير عمد ونحوه فكأنه أراد إلا بإذنه فبه يمسكها ولو كان كما قال لكان التركيب بدون إلا انتهى، ولعمري إن ما قاله ابن عطية لا يقوله من له أدنى روية كما لا يخفى، ثم إنه لا دلالة في الآية على وقوع الإذن بالوقوع، وقيل فيها إشارة إلى الوقوع وذلك يوم القيامة فإن السماء فيه تتشقق وتقع على الأرض، وأنا ليس في ذهني من الآيات أو الأخبار ما هو صريح في وقوع السماء على الأرض في ذلك اليوم وإنما هي صريحة في المور والانشقاق والطي والتبدل وكل ذلك لا يدل على الوقوع على الأرض فضلا عن أن يكون صريحا فيه، والظاهر أن المراد بالسماء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 184 جنسها الشامل للسماوات السبع، ويؤيده ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس قال: إذا أتيت سلطانا مهيبا تخاف أن يسطو بك فقل: الله أكبر الله أكبر من خلقه جميعا الله أكبر مما أخاف وأحذر أعوذ بالله الذي لا إله إلا وهو الممسك السماوات السبع أن يقمن على الأرض إلا بإذنه من شر عبدك فلان وجنوده وأتباعه وأشياعه من الجن والإنس إلهي كن لي جارا من شرهم جل ثناؤك وعز جارك وتبارك اسمك لا إله غيرك ثلاث مرات. والظاهر أيضا أن مساق الآية للامتنان لا للوعيد كما جوزه بعضهم، ويؤيد ذلك قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ حيث سخر لهم ما سخر ومن عليهم بالأمن مما يحول بينهم وبين الانتفاع به من وقوع السماء على الأرض، وقيل حيث هيأ لهم أسباب معايشهم وفتح عليهم أبواب المنافع وأوضح لهم مناهج الاستدلال بالآيات التكوينية والتنزيلية، وجعل الجملة تعليلية لما في ضمن أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ إلخ أظهر فيما قلنا، والرأفة قيل ما تقتضي درء المضار والرحمة قيل: ما تقتضي جلب المصالح ولكون درء المضرة أهم من جلب المصلحة قدم رؤوف على رحيم، وفي كل ما امتن به سبحانه درء وجلب، نعم قيل إمساك السماء عن الوقوع أظهر في الدرء ولتأخيره وجه لا يخفى، وقال بعضهم: الرأفة أبلغ من الرحمة وتقديم (رؤف) للفاصلة وذهب جمع إلى أن الرحمة أعم ولعله الظاهر، وتقديم بِالنَّاسِ للاهتمام وقيل للفاصلة والفصل بين الموضعين مما لا يستحسن وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ بعد أن كنتم جمادا عناصر ونطفا حسبما فصل في مطلع السورة الكريمة ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند مجيء آجالكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ عند البعث إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ أي جحود بالنعم مع ظهورها وهذا وصف للجنس بوصف بعض أفراده، وقيل المراد بالإنسان الكافر وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد، وعن ابن عباس أيضا أنه قال: هو الأسود بن عبد الأسد وأبو جهل وأبي بن خلف ولعل ذلك على طريق التمثيل لِكُلِّ أُمَّةٍ كلام مستأنف جيء به لزجر معاصريه عليه الصلاة والسلام من أهل الأديان السماوية عن منازعته عليه الصلاة والسلام بيان حال ما تمسكوا به من الشرائع وإظهار خطئهم في النظر أي لكل أمة معينة من الأمم الخالية والباقية جَعَلْنا وضعنا وعينا مَنْسَكاً أي شريعة خاصة، وتقديم الجار والمجرور على الفعل للقصر لا لأمة أخرى منهم، والكلام نظير قولك لكل من فاطمة وزينب وهند وحفصة أعطيت ثوبا خاصا إذا كنت أعطيت فاطمة ثوبا أحمر وزينب ثوبا أصفر وهندا ثوبا أسود وحفصة ثوبا أبيض فإنه بمعنى لفاطمة أعطيت ثوبا أحمر لا لأخرى من أخواتها ولزينب أعطيت ثوبا أصفر لا لأخرى منهن وهكذا، وحاصل المعنى هنا عينا كل شريعة لأمة معينة من الأمم بحيث لا تتخطى أمة منهم شريعتها المعينة ما إلى شريعة أخرى لا استقلالا ولا اشتراكا، وقوله تعالى: هُمْ ناسِكُوهُ صفة لمنسكا مؤكدة للقصر، والضمير لكل أمة باعتبار خصوصها أي تلك الأمة المعينة ناسكون به وعاملون لا أمة أخرى فالأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما السلام منسكهم ما في التوراة هم عاملون به لا غيرهم والتي من مبعث عيسى عليه السلام إلى مبعث نبينا صلّى الله عليه وسلّم منسكهم ما في الإنجيل هم عاملون به لا غيرهم، وأما الأمة الموجودة عند مبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن بعدهم من الموجودين إلى يوم القيامة فهم أمة واحدة منسكهم ما في القرآن ليس إلا، والفاء في قوله سبحانه: فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ أي أمر الدين لترتيب النهي على ما قبلها فإن تعيينه تعالى لكل أمة من الأمم التي من جملتها أمته عليه الصلاة والسلام شريعة مستقلة بحيث لا تتخطى أمة منهم ما عين لها موجب لطاعة هؤلاء له صلّى الله عليه وسلّم وعدم منازعتهم إياه في أمر الدين زعما منهم أن شريعتهم ما عين لآبائهم مما في التوراة والإنجيل فإن ذلك شريعة لمن مضى قبل انتساخه وهؤلاء أمة مستقلة شريعتهم ما في القرآن فحسب، والظاهر أن المراد نهيهم حقيقة عن النزاع في ذلك. واختار بعضهم كونه كناية عن نهيه صلّى الله عليه وسلّم عن الالتفات إلى نزاعهم المبني على زعمهم المذكور لأنه أنسب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 185 بقوله تعالى الآتي: وَادْعُ إلخ، وأمر إلا نسبية عليه ظاهر إلا أنه في نفسه خلاف الظاهر، وقال الزجاج: هو نهي له عليه الصلاة والسلام عن منازعتهم كما تقول: لا يضاربنك زيد أي لا تضاربنه وذلك بطريق الكناية، وهذا إنما يجوز على ما قيل وبحث فيه من باب المفاعلة للتلازم فلا يجوز في مثل لا يضربنك زيد أن تريد لا تضربنه. وتعقب بأنه لا يساعده المقام، وقرىء «فلا ينازعنك» بالنون الخفيفة، وقرأ أبو مجلز، ولا حق بن حميد «فلا ينزعنك» بكسر الزاي على أنه من النزع بمعنى الجذب كما في البحر، والمعنى كما قال ابن جني فلا يستخفنك عن دينك إلى أديانهم فتكون بصورة المنزوع عن شيء إلى غيره. وفي الكشاف أن المعنى أثبت في دينك ثباتا لا يطمعون أن يجذبوك ليزيلوك عنه، والمراد زيادة التثبيت له عليه الصلاة والسلام بما يهيج حميته ويلهب غضبه لله تعالى ولدينه ومثله كثير في القرآن. وقال الزجاج: هو من نازعته فنزعته أنزعه أي غلبته، فالمعنى لا يغلبنك في المنازعة والمراد بها منازعة الجدال يعني أن ذلك من باب المغالبة، لكن أنت تعلم أنها عند الجمهور تقال في كل فعل فاعلته ففعلته أفعله بضم العين ولا تكسر إلا شذوذا، وزعم الكسائي ورده العلماء أن ما كان عينه أو لامه حرف حلق لا يضم بل يترك على ما كان عليه فيكون ما هنا على توجيه الزجاج شاذا عند الجمهور. وقال سيبويه: كما في المفصل وليس في كل شيء يكون هذا أي باب المغالبة ألا ترى أنك تقول (1) : نازعني فنزعته استغني عنه بغلبته، ثم إن المراد من لا يغلبنك في المنازعة لا تقصر في منازعتهم حتى يغلبوك فيها، وفيه مبالغة في التثبيت فليس هناك نهي له صلّى الله عليه وسلّم عن فعل غيره، هذا وما ذكرتا من تفسير المنسك بالشريعة هو رواية عطاء عن ابن عباس واختاره القفال، وقال الإمام: هو الأقرب، وقيل: هو مصدر بمعنى النسك أي العبادة، قال ابن عطية: يعطي ذلك هُمْ ناسِكُوهُ وقيل: هو اسم زمان، وقيل: اسم مكان، وكان الظاهر ناسكون فيه إلا أنه اتسع في ذلك، وقال مجاهد: هو الذبح. وأخرج ذلك الحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن علي بن الحسن رضي الله تعالى عنهما وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وعبد بن حميد عن عكرمة، وجعل ضمير يُنازِعُنَّكَ للمشركين، والأمر المتنازع فيه أمر الذبائح لما ذكر من أن الآية نزلت بسبب قول الخزاعيين بديل بن ورقاء. وبشر بن سفيان ويزيد بن خنيس للمؤمنين ما لكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله تعالى، ومنهم من اقتصر على جعل محل النزاع أمر النسائك وجعله عبارة عن قول الخزاعيين المذكور. وتعقبه شيخ الإسلام بأنه مما لا سبيل إليه أصلا كيف لا وإنه يستدعي أن يكون أكل الميتة وسائر ما يدين به المشركون من الأباطيل من المناسك التي جعلها الله تعالى لبعض الأمم ولا يرتاب في بطلانه عاقل، وأجيب بأن المعنى عليه لا ينازعنك المشركون في أمر النسائك فإنه لكل أمة شريعة شرعناها وأعلمناك بها فكيف ينازعون بما ليس له عين ولا أثر فيها، وقيل: المعنى عليه لا تلتفت إلى نزاع المشركين في أمر الذبائح فإنا جعلنا لكل أمة من أهل الأديان ذبحاهم ذابحوه. وحاصله لا تلتفت إلى ذلك فإن الذبح شرع قديم للأمم غير مختص بأمتك وهذا لا شك في صحته، ومن قال بصحة الآثار وعض عليها بالنواجذ لا يكاد يجد أولى منه في بيان حاصل الآية على ما تقتضيه، ومن لم يكن كذلك ورأى أن الآية متى احتملت معنى جزلا لا محذور فيه قيل به وإن لم يذكره أحد من السلف فعليه بما ذكرناه أولا في   (1) قيل إن ذلك في الأشهر فليحفظ اهـ منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 186 تفسير الآية، وأيا ما كان فالظاهر أنه إنما لم تعطف هذه الجملة كما عطف قوله تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا [الحج: 34] إلخ لضعف الجامع بنيها وبين ما تقدمها من الآيات بخلاف ذلك. وفي الكشف بيانا لكلام الكشاف في توجيه العطف هناك وتركه هنا أن الجامع هناك قوي مقتض للعطف فإن قوله تعالى: لَكُمْ فِيها أي في الشعائر منافع دينية ودنيوية كوجوب نحرها منتهية إلى البيت العتيق كالإعادة لما في قوله تعالى: لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ [الحج: 28] إلا أن فيه تخصيصا بالمخاطبين فعطف عليه وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً للذكر لتتم الإعادة والغرض من هذا الأسلوب أن يبين أنه شرع قديم وأنه لم يزل متضمنا لمنافع جليلة في الدارين، وأما فيما نحن فيه فأين حديث النسائك من حديث تعداد الآيات والنعم الدالة على كمال العلم والقدرة والحكمة والرحمة، ولعمري إن شرعية النسائك لكل أمة وإن كانت من الرحمة والنعمة لكن النظر إلى المجانسة بين النعم وما سيق له الكلام فالحالة مقتضية للقطع، وذكره هاهنا لهذه المناسبة على نحو خفي ضيق اهـ، وهو حسن وظاهره تفسير النسك بالذبح. وذكر الطيبي أن ما تقدم عطف على قوله تعالى: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ [الحج: 32] إلخ وهو من تتمة الكلام مع المؤمنين أي الأمر ذلك والمطلوب تعظيم شعائر الله تعالى وليس هذا مما يختص بكم إذ كل أمة مخصوصة بنسك وعبادة. وهذه الآية مقدمة نهي النبي صلّى الله عليه وسلّم عما يوجب نزاع القوم تسلية له وتعظيم لأمره حيث جعل أمره منسكا ودينا يعني شأنك وشأن أمثالك من الأنبياء والمرسلين عليهم السلام ترك المنازعة مع الجهال وتمكينهم من المناظرة المؤدية إلى النزاع وملازمة الدعوة إلى التوحيد أو لكل أمة من الأمم الخالية المعاندة جعلنا طريقا وديناهم ناسكوه فلا ينازعنك هؤلاء المجادلة. سمي دأبهم نسكا لا يجابههم ذلك على أنفسهم واستمرارهم عليه تهكما بهم ومسلاة لرسوله صلّى الله عليه وسلّم مما كان يلقى منهم، وأما اتصاله بما سبق من الآيات فإن تعالى: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ [الحج: 55] يوجب القلع عن إنذار القوم وإلا يأس منهم ومتاركتهم والآيات المتخللة كالتأكيد لمعنى التسلية فجيء بقوله تعالى: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ تحريضا له عليه الصلاة والسلام على التأسي بالأنبياء السالفة في متاركة القوم والإمساك عن مجادلتهم بعد الإياس من إيمانهم وينصره قوله تعالى: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فالربط على طريقة الاستئناف وهو أقوى من الربط اللفظي، والذي يدور عليه قطب هذه السورة الكريمة الكلام في مجادلة القوم ومعانديهم والنعي عليهم بشدة شكيمتهم ألا ترى كيف افتتحها بقوله سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ [الحج: 3] وكررها وجعلها أصلا للمعنى المهتم به وكلما شرع في أمر كر إليه تثبيتا لقلب الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومسلاة لصدره الشريف عليه الصلاة والسلام فلا يقال: إن هذه الآية واقعة مع أباعد عن معناها انتهى، ولعمري إنه أبعد عن ربوع التحقيق وفسر الآية الكريمة بما لا يليق. وقد تعقب الكشف اتصاله بما ذكر بأنه لا وجه له فقد تخلل ما لا يصلح لتأكيد معنى التسلية المذكورة أعني قوله تعالى: وَمَنْ عاقَبَ الآيات لا سيما على ما آثره من جعلها في المقاتلين في الشهر الحرام ولو سلم فلا مدخل للاستئناف وهو تمهيد لما بعده أعني قوله تعالى: فَلا يُنازِعُنَّكَ إلخ، وأما قوله والذي يدور عليه إلخ فهو مسلم وهو عليه لإله فتأمل والله تعالى الموفق للصواب. وَادْعُ أي وادع هؤلاء المنازعين أو الناس كافة على أنهم داخلون فيهم دخولا أوليا إِلى رَبِّكَ إلى توحيده وعبادته حسبما بين في منسكهم وشريعتهم إِنَّكَ لَعَلى هُدىً أي طريق موصل إلى الحق ففيه استعارة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 187 مكنية وتخييليتها على، وقوله تعالى: مُسْتَقِيمٍ أي سوي أو أحدهما تخييل والآخر ترشيح، ثم المراد بهذا الطريق إما الدين والشريعة أو أدلتها، والجملة استئناف في موضوع التعليل. وَإِنْ جادَلُوكَ في أمر الدين وقد ظهر الحق ولزمت الحجة فَقُلِ لهم على سبيل الوعيد اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ من الأباطيل التي من جملتها المجادلة فمجازيكم عليها، وهذا إن أريد به الموادعة كما جزم به أبو حيان فهو منسوخ بآية القتال اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ تسلية له صلّى الله عليه وسلّم والخطاب عام للفريقين المؤمنين والكافرين وليس مخصوصا بالكافرين كالذي قبله ولا داخلا في حيز القول، وجوز أن يكون داخلا فيه على التغليب أي الله يفصل بين المؤمنين منكم والكافرين يَوْمَ الْقِيامَةِ بالثواب والعقاب كما فصل في الدنيا بثبوت حجج المحق دون المبطل فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ أي من أمر الدين، وقيل الجدال والاختلاف في أمر الذبائح، ومعنى الاختلاف ذهاب كل إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر. أَلَمْ تَعْلَمْ استئناف مقرر لمضمون ما قبله، والاستفهام للتقرير أي قد علمت أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ فلا يخفى عليه شيء من الأشياء التي من جملتها أقول الكفرة وأعمالهم إِنَّ ذلِكَ أي ما في السماء والأرض فِي كِتابٍ هو كما روي عن ابن عباس اللوح المحفوظ، وذكر رضي الله تعالى عنه أن طوله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 188 مسيرة مائة عام وأنه كتب فيه ما هو كائن في علم الله تعالى إلى يوم القيامة، وأنكر ذلك أبو مسلم وقال: المراد من الكتاب الحفظ والضبط أي إن ذلك محفوظ عنده تعالى، والجمهور على خلافه، والمراد من الآية أيضا تسليته عليه الصلاة والسلام كأنه قيل إن الله يعلم إلخ فلا يهمنك أمرهم مع علمنا به وحفظنا له إِنَّ ذلِكَ أي ما ذكر من العلم والإحاطة بما في السماء والأرض وكتبه في اللوح والحكم بينكم، وقيل: ذلِكَ إشارة إلى الحكم فقط، وقيل إلى العلم فقط، وقيل إلى كتب ذلك في اللوح، ولعل كونه إشارة إلى الثلاثة بتأويل ما ذكر أولى عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ فإن علمه وقدرته جل جلاله مقتضى ذاته فلا يخفى عليه شيء ولا يعسر عليه مقدور، وتقديم الجار والمجرور لمناسبة رؤوس الآي أو للقصر أي يسير عليه جل وعلا لا على غيره وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حكاية لبعض أباطيل المشركين وأحوالهم الدالة على كمال سخافة عقولهم وركاكة آرائهم وهي بناء أمرهم على غير مبنى دليل سمعي أو عقلي وإعراضهم عما ألقي إليهم من سلطان بين هو أساس الدين أي يعبدون متجاوزين عبادة الله تعالى ما لَمْ يُنَزِّلْ أي بجواز عبادته سُلْطاناً أي حجة، والتنكير للتقليل، وهذا إشارة إلى الدليل السمعي الحاصل من جهة الوعي. وقوله سبحانه: وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ إشارة إلى الدليل العقلي أي ما ليس لهم بجواز عبادته علم من ضرورة العقل أو استدلاله، والحاصل يعبدون من دون الله ما لا دليل من جهة السمع ولا من جهة العقل على جواز عبادته، وتقديم الدليل السمعي لأن الاستناد في أكثر العبادات إليه مع أن التمسك به في هذا المقام أرجئ في الخلاص إن حصل لوم من التمسك بالدليل العقلي، وإن شككت فارجع إلى نفسك فيما إذ لامك شخص على فعل فإنك تجدها مائلة إلى الجواب بأني فعلت كذا لأنك أخبرتني برضاك بأن أفعله أكثر من ميلها إلى الجواب بأن فعلته لقيام الدليل العقلي وهو كذا على رضاك به وإنكار ذلك مكابرة، وقد يقال: إنما قدم هنا ما يشير إلى الدليل السمعي لأنه إشارة إلى دليل سمعي يدل على جواز تلك العبادة منزل من جهته تعالى غير مقيد بقيد بخلاف ما يشير إلى الدليل العقلي فإن فيه إشارة إلى دليل عقلي خاص بهم، وحاصله أن التقديم والتأخير للإطلاق والتقييد وإن لم يكونا لشيء واحد فافهم، وقال العلامة الطيبي: في اختصاص الدليل السمعي بالسلطان والتنزيل ومقابله بالعلم دليل واضح على أن الدليل السمعي هو الحجة القاطعة وله القهر والغلبة وعند ظهوره تضمحل الآراء وتتلاشى الأقيسة ومن عكس ضل الطريق وحرم التوفيق وبقي متزلزلا في ورطات الشبه وإن شئت فانظر إلى التنكير في سُلْطاناً وعِلْمٌ وقسهما على قول الشاعر: له حاجب في كل أمر يشينه ... وليس له عن طالب العرف حاجب لتعلم الفرق إلى آخر ما قال، ومنه يعلم وجه للتقديم واحتمال آخر في تنوين سُلْطاناً غير ما قدمنا، وظاهره أن الدليل السمعي يفيد اليقين مطلقا وأنه مقدم على الدليل العقلي، ومذهب المعتزلة وجمهور الأشاعرة أنه لا يفيد اليقين مطلقا لتوقف ذلك على أمور كلها ظنية فتكون دلالته أيضا ظنية لأن الفرع لا يزيد على الأصل في القوة، والحق أنه قد يفيد اليقين في الشرعيات دون العقليات بقرائن مشاهدة أو متواترة تدل على انتفاء الاحتمالات. وذكر الفاضل الرومي في حواشيه على شرح المواقف بعد بحث أن الحق أنه قد يفيد اليقين في العقليات أيضا وأما أنه مقدم على الدليل العقلي فالذي عليه علماؤنا خلافه، وأنه متى عارض الدليل العقلي الدليل السمعي وجب تأويل الدليل السمعي إلى ما لا يعارضه الدليل العقلي إذ لا يمكن العمل بهما ولا بنقيضهما، وتقدم السمع على العقل إبطال للأصل بالفرع وفيه إبطال الفرع وإذا أدى إثبات الشيء إلى إبطاله كان مناقضا لنفسه وكان باطلا لكن ظاهر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 189 كلام محيي الدين بن العربي قدس سره في مواضع من فتوحاته القول بأنه مقدم، ومن ذلك قوله في الباب الثلاثمائة والثمانية والخمسين من أبيات: كل علم يشهد الشرع له ... هو علم فبه فلتعتصم وإذا خالفه العقل فقل ... طورك الزم ما لكم فيه قدم وقوله في الباب الأربعمائة والاثنين والسبعين: على السمع عولنا فكنا أولي النهى ... ولا علم فيما لا يكون عن السمع إلى غير ذلك وهو كأكثر كلامه من وراء طور العقل وَما لِلظَّالِمِينَ أي وما لهم إلا أنه عدل إلى الظاهر تسجيلا عليهم بالظلم مع تعليل الحكم به، وجوز أن لا يكون هناك عدول، والمراد ما يعمهم وغيرهم ودخولهم أولى، ومِنْ في قوله تعالى: مِنْ نَصِيرٍ سيف خطيب، والمراد نفي أن يكون لهم بسبب ظلمهم من يساعدهم في الدنيا بنصرة مذهبهم وتقرير رأيهم ودفع ما يخالفه وفي الآخرة بدفع العذاب عنهم. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا عطف على يَعْبُدُونَ وما بينهما اعتراض، وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار التجددي، وقوله تعالى: بَيِّناتٍ حال من الآيات أي واضحات الدلالة على العقائد الحقة والأحكام الصادقة أو على بطلان ما هم عليه من عبادة غير الله تعالى تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا أي في وجوههم، والعدول على نحو ما تقدم، والخطاب إما لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم أو لمن يصح أن يعرف كائنا من كان الْمُنْكَرَ أي الإنكار على أنه مصدر ميمي، والمراد علامة الإنكار أو الأمر المستقبح من التجهم والبسور والهيئات الدالة على ما يقصدونه وهو الأنسب بقوله تعالى: يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا أي يثبون ويبطشون بهم من فرط الغيظ والغضب لأباطيل أخذوها تقليدا، ولا يخفى ما في ذلك من الجهالة العظيمة، وكان المراد أنهم طول دهرهم يقاربون ذلك وإلا فقد سطوا في بعض الأوقات ببعض الصحابة التالين كما في البحر، والجملة في موقع الحال من المضاف إليه، وجوز أن يكون من الوجوه على أن المراد بها أصحابها وليس بالوجه. وقرأ عيسى بن عمر «يعرف» بالبناء للمفعول «المنكر» بالرفع قُلْ على وجه الوعيد والتقريع أَفَأُنَبِّئُكُمْ أي أخاطبكم أو أتسمعون فأخبركم بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ الذي فيكم من غيظكم على التالين وسطوكم عليهم أو مما أصابكم من الضجر بسبب ما تلي عليكم النَّارُ أي هو أو هي النار على أنه خبر مبتدأ محذوف والجملة جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ما هو؟ وقيل هو مبتدأ خبره قوله تعالى: وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وهو على الوجه الأول جملة مستأنفة، وجوز أن يكون خبرا بعد خبر. وقرأ ابن أبي عبلة وإبراهيم بن يوسف عن الأعشى وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما النَّارُ بالنصب على الاختصاص، وجملة وَعَدَهَا إلخ مستأنفة أو حال من النَّارُ بتقدير قد أو بدونه على الخلاف، ولم يجوزوا في قراءة الرفع الحالية على الإعراب الأول إذ ليس في الجملة ما يصح عمله في الحال. وجوز في النصب أن يكون من باب الاشتغال وتكون الجملة حينئذ مفسرة. وقرأ ابن أبي إسحاق وإبراهيم بن نوح عن قتيبة «النار» بالجر على الإبدال من شر، وفي الجملة احتمالا الاستئناف والحالية، والظاهر معنى أن يكون الضمير في «وعدها» هو المفعول الثاني والأول الموصول أي وعد الذين كفروا إياها، والظاهر معنى لفظا أن يكون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 190 المفعول الأول والثاني الموصول كأن النار وعدت بالكفار لتأكلهم وَبِئْسَ الْمَصِيرُ النار يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ أي بين لكم حال مستغربة أو قصة بديعة رائقة حقيقة بأن تسمى مثلا وتسير في الأمصار والأعصار، وعبر عن بيان ذلك بلفظ الماضي لتحقق الوقوع، ومعنى المثل في الأصل المثل ثم خص بما شبه بمورده من الكلام فصار حقيقة ثم استعير لما ذكر، وقيل المثل على حقيقته وضُرِبَ بمعنى جعل أي جعل لله سبحانه شبه في استحقاق العبادة وحكي ذلك عن الأخفش، والكلام متصل بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إلى آخره بيان للمثل وتفسير له على الأول وتعليل لبطلان جعلهم معبوداتهم الباطلة مثلا لله تعالى شأنه في استحقاق العبادة على الثاني، ومنهم من جعله على ما ذكرنا وعلى ما حكي عن الأخفش تفسيرا أما على الأول فللمثل نفسه بمعناه المجازي وأما على الثاني فلحال المثل بمعناه الحقيقي، فإن المعنى جعل الكفار لله مثلا فاستمعوا لحاله وما يقال فيه، والحق الذي لا ينكره إلا مكابر أن تفسير الآية بما حكي فيه عدول عن المتبادر. والظاهر أن الخطاب في يا أَيُّهَا النَّاسُ لجميع المكلفين لكن الخطاب في تَدْعُونَ للكفار. واستظهر بعضهم كون الخطاب في الموضعين للكفار والدليل على خصوص الأول الثاني، وقيل هو في الأول للمؤمنين ناداهم سبحانه ليبين لهم خطأ الكافرين وقيل هو في الموضعين عام وأنه في الثاني كما في قولك: أنتم يا بني تميم قتلتم فلانا وفيه بحث. وقرأ الحسن ويعقوب وهارون والخفاف ومحبوب عن أبي عمرو «يدعون» بالياء التحتية مبنيا للفاعل كما في قراءة الجمهور قرأ اليماني وموسى الأسواري «يدعون» بالياء من تحت أيضا مبنيا للمفعول، والراجع للموصول على القراءتين السابقتين محذوف لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً أي لا يقدرون على خلقه مع صغره وحقارته، ويدل على أن المراد نفي القدرة السباق مع قوله تعالى: وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ أي لخلقه فإن العرف قاض بأنه لا يقال: لن يحمل الزيدون كذا ولو اجتمعوا لحمله إلا إذا أريد نفي القدرة على الحمل، وقيل جاء ذلك من النفي بلن فإنها مفيدة لنفي مؤكد فتدل على منافاة بين المنفي وهو الخلق والمنفي عنه وهو المعبودات الباطلة فتفيد عدم قدرتها عليه، والظاهر أن لا يستغنى عن معونة المقام أيضا، وأنت تعلم أن في إفادة لن النفي المؤكد خلافا فذهب الزمخشري إلى إفادتها ذلك وأن تأكيد النفي هنا للدلالة على أن خلق الذباب منهم مستحيل وقال في أنموذجه بإفادتها التأبيد. وذهب الجمهور وقال أبو حيان: هو الصحيح إلى عدم إفادتها ذلك وهي عندهم أخت لا لنفي المستقبل عند الإطلاق بدون دلالة على تأكيد أو تأييد وأنه إذا فهم فهو من خارج وبواسطة القرائن وقد يفهم كذلك مع كون النفي بلا فلو قيل هنا لا يخلقون ذبابا ولو اجتمعوا له لفهم ذلك، ويقولون في كل ما يستدل به الزمخشري لمدعاة: إن الإفادة فيه من خارج ولا يسلمون أنها منها ولن يستطيع إثباته أبدا، والانتصار له بأن سيفعل في قوة مطلقة عامة ولن يفعل نقيضه فيكون في قوة الدائمة المطلقة ولا يتأتى ذلك إلا بإفادة لن التأييد ليس بشيء أصلا كما لا يخفى، وكأن الذي أوقع الزمخشري في الغفلة فقال ما قال اعتمادا على ما لا ينتهض دليلا شدة التعصب لمذهبه الباطل واعتقاده العاطل نسأل الله تعالى أن يحفظنا من الخذلان، والذباب اسم جنس ويجمع على أذبة وذبان بكسر الذال فيهما وحكي في البحر ضمها في ذبان أيضا، وهو مأخوذ من الذب أي الطرد والدفع أو من الذب بمعنى الاختلاف أي الذهاب والعود وهو أنسب بحال الذباب لما فيه من الاختلاف حتى قيل: إنه منحوت من ذب آب أي طرد فرجع، وجواب لَوِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 191 محذوف لدلالة ما قبله عليه، والجملة معطوفة على شرطية أخرى محذوفة ثقة بدلالة هذه عليها أي لو لم يجتمعوا له ويتعاونوا عليه لن يخلقوه ولو اجتمعوا له وتعاونوا عليه لن يخلقوا وهما في موضع الحال كأنه قيل: لن يخلقوا ذبابا على كل حال. وقال بعضهم: الواو للحال وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ بجوابه حال، وقال آخرون: إن لَوِ هنا لا تحتاج إلى جواب لأنها انسلخت عن معنى الشرطية وتمحضت للدلالة على الفرض والتقدير، والمعنى لن يخلقوا ذبابا مفروضا اجتماعهم وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً بيان لعجزه عن أمر آخر دون الخلق أي وإن يأخذ الذباب منها شيئا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ أي لا يقدروا على استنقاذه منه مع غاية ضعفه. والظاهر أن استنقذ بمعنى نقذ، وفي الآية من تجهيلهم في إشراكهم بالله تعالى القادر على جميع الممكنات المتفرد بإيجاد كافة الموجودات عجز لا تقدر على خلق أقل الأحياء وأذلها ولو اجتمعوا له ولا على استنقاذ ما يختطفه منهم ما لا يخفى، والآية وإن كانت نازلة في الأصنام فقد كانوا كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يطلونها بالزعفران ورؤوسها بالعسل ويغلقون عليها فيدخل الذباب من الكوى فيأكله، وقيل: كانوا يضمخونها بأنواع الطيب فكان الذباب يذهب بذلك إلا أن الحكم عام لسائر المعبودات الباطلة. ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ تذييل لما قبل أخبار أو تعجب والطالب عابد غير الله تعالى والمطلوب الآلهة كما روي عن السدي والضحاك وكون عابد ذلك طالبا لدعائه إياه واعتقاده نفعه، وضعفه لطلبه النفع من غير جهته، وكون الآخر مطلوبا ظاهرا كضعفه، وقيل الطالب الذباب يطلب ما يسلبه عن الآلهة والمطلوب الآلهة على معنى المطلوب منه ما يسلب. وروى ابن مردويه وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما واختاره الزمخشري أن الطالب الأصنام والمطلوب الذباب، وفي هذا التذييل حينئذ إيهام التسوية وتحقيق أن الطالب أضعف لأنه قدم عليه أن هذا الخلق الأقل هو السالب وذلك طالب خاب عن طلبته ولما جعل السلب المسلوب لهم وأجراهم مجرى العقلاء أثبت لهم طلبا ولما بين أنهم أضعف من أذل الحيوانات نبه به على مكان التهكم بذلك، ومن الناس من اختار الأول لأنه أنسب بالسياق إذ هو لتجهيلهم وتحقير آلهتهم فناسب إرادتهم وآلهتهم من هذا التذييل. ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ قال الحسن والفراء: أي ما عظموه سبحانه حق تعظيمه فإن تعظيمه تعالى حق تعظيمه أن يوصف بما وصف به نفسه ويعبد كما أمر أن يعبد وهؤلاء لم يفعلوا ذلك فإنهم عبدوا من دونه من لا يصلح للعبادة أصلا وفي ذلك وصفه سبحانه بما نزه عنه سبحانه من ثبوت شريك له عز وجل. وقال الأخفش: أي ما عرفوه حق معرفته فإن معرفته تعالى حق معرفته التصديق به سبحانه موصوفا بما وصف به نفسه وهؤلاء لم يصدقوا به كذلك لشركهم به وعبادتهم من دونه من سمعت حاله، وقيل: حق المعرفة أن يعرف سبحانه بكنهه وهذا هو المراد في قوله عليه الصلاة والسلام «سبحانك ما عرفناك حق معرفتك» . وأنت تعلم أن الظاهر أن قوله تعالى: ما قَدَرُوا إلخ أخبار عن المشركين وذم لهم ومتى كان المراد منه نفي المعرفة بالكنه كان الأمر مشتركا بينهم وبين الموحدين فإن المعرفة بالكنه لم تقع لأحد من الموحدين أيضا عند الجزء: 9 ¦ الصفحة: 192 المحققين ويشير إلى ذلك الخبر المذكور لدلالته على عدم حصولها لأكمل الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام وإذا لم تحصل له صلّى الله عليه وسلّم فعدم حصولها لغيره بالطريق الأولى، واحتمال حمل المعرفة المنفية فيه على اكتناه الصفات لا يخفى حاله، وكذا احتمال حصول المعرفة بالكنه له عليه الصلاة والسلام بعد الأخبار المذكور، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «تفكروا في آلاء الله تعالى ولا تفكروا في ذاته فإنكم لن تقدروا قدره» . والظاهر عموم الحكم دون اختصاصه بالمخاطبين إذ ذاك، وقول الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه: العجز عن درك الإدراك إدراك، وقول علي كرم الله تعالى وجهه متما له بيتا: والبحث عن سر ذات الله إشراك. بل قال حجة الإسلام الغزالي وشيخه إمام الحرمين والصوفية والفلاسفة بامتناع معرفته سبحانه بالكنه، ونقل عن أرسطو أنه قال في ذلك: كما تعتري العين عند التحديق في جرم الشمس ظلمة وكدورة تمنعها عن تمام الإبصار كذلك تعتري العقل عند إرادة اكتناه ذاته تعالى حيرة ودهشة تمنعه عن اكتناهه سبحانه. ولا يخفى أنه لا يصلح برهانا للامتناع وغاية ما يقال: إنه خطابي لا يحصل به إلا الظن الغير الكافي في مثل هذا المطلب، ومثله الاستدلال بأن جميع النفوس المجردة البشرية وغيرها مهذبة كانت أو لا أنقص تجردا تنزها من الواجب تعالى والأنقص يمتنع له اكتناه من هو أشد تجردا وتنزها منه كامتناع اكتناه الماديات للمجردات، وكذا الاستدلال بكونه تعالى أقرب إلينا من حبل الوريد فيمتنع إدراكه كما يمتنع إدراك البصر ما اتصل به، وأحسن من ذلك كله ما قيل: إن معرفة كنهه ليست بديهية بالضرورة بالنسبة إلى شخص وإلى وقت فلا تحصل لأحد في وقت بالضرورة فتكون كسبية والكسب إما تحد تام أو ناقص وهو محال مستلزم لتركب الواجب لوجوب تركب الحد من الجنس القريب أو البعيد ومن الفصل مع أن الحد الناقص لا يفيد الكنه، وأما الحد البسيط بمفرد فمحال بداهة فإن ذلك المفرد إن كان عين ذاته يلزم توقف معرفة الشيء على معرفة نفسه من غير مغايرة بينهما ولو بالإجمال والتفصيل كما في الحد المركب مع حده التام، وإن كان غيره فلا يكون حدا بل هو رسم أو مفهوم آخر غير محمول عليه وإما برسم تام أو ناقص ولا شيء منهما مما يفيد الكنه بالضرورة. واعترض بأن عدم إمكان البداهة بالنسبة إلى جميع الأشخاص وإلى جميع الأوقات يحتاج إلى دليل فربما تحصل بعد تهذيب النفس بالشرائع الحقة وتجريدها عن الكدورات البشرية والعوائق الجسمانية، ولو سلمنا عدم إمكان البداهة كذلك فلنا أن نختار كون المعرفة مما تكتسب بالحد التام المركب من الجنس والفصل وغاية ما يلزم منه التركيب العقلي وليس بمحال إلا إن قلنا بأنه يستلزم التركيب الخارجي المستلزم للاحتياج إلى الأجزاء المنافي لوجوب الوجود، ونحن لا نقول بذلك لأن المختار عند جمع أن أجزاء الماهية مأخوذة من أمر واحد بسيط وهي متحدة ماهية ووجودا فتكون أمورا انتزاعية لا حقيقته فلا استلزام، نعم يكون ذلك إن قلنا: إن الأجزاء مأخوذة من أمور متغايرة بحسب الخارج لكن لا نقول به لأنه إن قيل حينئذ بتغاير الأجزاء أنفسها ماهية ووجودا كما ذهب إليه طائفة يرد لزوم عدم صحة الحمل بينها ضرورة أن الموجودين بوجودين متغايرين لا يحمل أحدهما على الآخر كزيد وعمرو، وإن قيل بتغايرها ماهية لا وجودا ليصح الحمل كما ذهب إليه طائفة أخرى يرد لزوم قيام الوجود الواحد بالشخص بموجودات متعددة متغايرة بالماهية، ولو سلمنا الاستلزام بين التركيب العقلي والتركب الخارجي فلنا أن نقول: لا نسلم أنه لا شيء من الرسم مما يفيد الكنه بالضرورة كيف وهو مفيد فيما إذ كان الكنه لازما للرسم لزوما بينا بالمعنى الأخص بل يمكن إفادة كل رسم إياه على قاعدة الأشعري من استناد جميع الممكنات إليه تعالى بلا شرط وإن لم تقع تلك الإفادة أصلا إذ الكلام في امتناع حصول الكنه بالكسب كذا قالوا () : الجزء: 9 ¦ الصفحة: 193 واستدل الملا صدرا على نفي الأجزاء العقلية له تعالى بأن حقيقته سبحانه آنية محضة ووجود بحت فلو كان له عز وجل جنس وفصل لكان جنسه مفتقرا إلى الفصل لا في مفهومه ومعناه بل في أن يوجد ويحصل بالفعل فحينئذ يقال: ذلك الجنس لا يخلو إما أن يكون وجودا محضا أو ماهية غير الوجود، فعلى الأول يلزم أن يكون ما فرضنا فصلا ليس بفصل إذ الفصل ما به يوجد الجنس وهذا إنما يتصور إذا لم يكن حقيقة الجنس حقيقة الوجود، وعلى الثاني يلزم أن يكون الواجب تعالى ذا ماهية وقد حقق أن نفس الوجود حقيقته بلا شمول، وأيضا لو كان له تعالى جنس لكان مندرجا تحت مقولة الجوهر وكان أحد الأنواع الجوهرية فيكون مشاركا لسائرها في الجنس وقد برهن على إمكانها وحقق أن إمكان النوع يستلزم إمكان الجنس المستلزم لإمكان كل واحد من أفراد ذلك الجنس من حيث كونه مصداقا له إذ لو امتنع الوجود على الجنس من حيث هو جنس أي مطلقا لكان ممتنعا على كل فرد فإذا يلزم من ذلك إمكان الواجب تعالى عن ذلك علوا كبيرا، ومبنى هذا أن حقيقة الواجب تعالى هو الوجود البحت وهو مما ذهب الحكماء وأجلة من المحققين، وليس المراد من هذا الوجود المعنى المصدري الذي لا يجهله أحد فإنه مما لا شك في استحالة كونه حقيقة الواجب سبحانه بل هو بمعنى مبدأ الآثار على ما حققه الجلال الدواني وأطال الكلام فيه في حواشيه على شرح التجريد وفي شرحه للهياكل النورية وفي غيرهما من رسائله، وللملا صدرا (1) في هذا المقام والبحث في كلام الجلال كلام طويل عريض وقد حقق الكلام بطرز آخر يطلب من كتابه الأسفار بيد أنا نذكر هنا من كلامه سؤالا وجوابا يتعلقان فيما نحن فيه فنقول: قال فإن قلت: كيف يكون ذات الباري سبحانه عين حقيقة الوجود والوجود بديهي التصور وذات الباري مجهول الكنه؟ قلت: قد مر أن شدة الظهور وتأكد الوجود هناك مع ضعف قوة الإدراك وضعف الوجود هاهنا صار منشأين لاحتجابه تعالى عنا وإلا فذاته تعالى في غاية الإشراق والإنارة، فإن رجعت وقلت: إن كان ذات الباري نفس الوجود فلا يخلو إما أن يكون الوجود حقيقة الذات كما هو المتبادر أو يكون صادقا عليها صدقا عرضيا كما يصدق عليه تعالى مفهوم الشيء، وعلى الأول إما أن يكون المراد به هذا المعنى العام البديهي التصور المنتزع من الموجودات أو معنى آخر والأول ظاهر الفساد والثاني يقتضي أن يكون حقيقته تعالى غير ما يفهم من لفظ الوجود كسائر الماهيات غير أنك سميت تلك الحقيقة بالوجود كما إذا سمي إنسان بالوجود ومن البين أنه لا أثر لهذه التسمية في الأحكام وأن هذا القسم راجع إلى الواجب ليس الوجود الذي الكلام فيه ويلزم أن يكون الواجب تعالى ذا ماهية وقد برهن أن كل ذي ماهية معلول، وعن الثاني وهو أن يصدق عليه تعالى صدقا عرضيا فلا يخفى أن ذلك لا يغنيه عن السبب بل يستدعي أن يكون موجودا ولذلك ذهب جمهور المتأخرين من الحكماء إلى أن الوجود معدوم فأقول: منشأ هذا الإشكال حسبان أن معنى كون هذا العام المشترك عرضيا أن للمعروض من موجودية وللعارض موجودية أخرى كالماشي بالنسبة إلى الحيوان والضاحك بالقياس إلى الإنسان وليس كذلك بل هذا المفهوم عنوان وحكاية للوجودات العينية ونسبته إليها نسبة الإنسانية إلى الإنسان والحيوانية إلى الحيوان فكما أن مفهوم الإنسانية صح أن يقال: إنها عين الإنسان لأنها مرآة لملاحظته وحكاية عن جهته صح أن يقال: إنها غيره لأنها أمر نسبي والإنسان ماهية جوهرية، وبالجملة الوجود ليس كالإمكان حتى لا يكون بإزائه شيء يكون المعنى المصدري حكاية عنه بل كالسواد الذي قد يراد به نفس المعنى النسبي أعني الأسودية وقد يراد به ما يكون الشيء أسود أعني الكيفية المخصوصة فكما أن السواد   (1) ويسمى صدر الدين الشيرازي وهو غير صدر الدين الشيرازي معاصر الملا جلال اهـ منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 194 إذا فرض قيامه بذاته صح أن يقال ذاته عين الأسودية وإذا فرض جسم متصف به لم يجز أن يقال إن ذاته عين الأسودية مع أن هذا الأمر لكونه اعتبارا ذهنيا زائدا على الجميع، إذا تقرر هذا قلنا في الجواب في الترديد الأول: نختار الشق الأول وهو أن الوجود حقيقة الذات قولك في الترديد الثاني إما أن يكون ذلك الوجود ما يفهم من لفظ الوجود إلخ نختار منه ما بإزاء ما يفهم من هذا اللفظ أعني حقيقة الوجود الخارجي الذي هذا المفهوم حكاية عنه فإن للوجود عندنا حقيقة في كل موجود كما أن للسواد حقيقة في كل أسود لكن في بعض الموجودات مخلوط بالنقائص والإعدام وفي بعضها ليس كذلك وكما أن السوادات متفاوتة في السوادية بعضها أقوى وأشد وبعضها أضعف وأنقص كذلك الموجودات بل الموجودات متفاوتة في الموجودية كمالا ونقصانا، ولنا أيضا أن نختار الشق الثاني من شقي الترديد الأول إلا أن هذا المفهوم الكلي وإن كان عرضيا بمعنى أنه ليس له بحسب كونه مفهوما عنوانيا وجود في الخارج حتى يكون عينا لشيء لكنه حكاية عن نفس حقيقة الوجود القائم بذاته وصادق عليه بحيث يكون منشأ صدقه ومصداق حمله عليها نفس تلك الحقيقة لا شيئا آخر يقوم به كسائر العرضيات في صدقها على الأشياء فصدق هذا المفهوم على الوجود الخاص يشبه صدق الذاتيات من هذه الجهة، فعلى هذا لا يرد علينا قولك: صدق الوجود عليه لا يغنيه عن السبب لأنه لم يكن يغنيه عن السبب لو كان موجوديته بسبب عروض هذا المعنى أو قيام حصة من الوجود وليس كذلك بل ذلك الوجود الخاص بذاته موجود كما أنه بذاته وجود سواء حمل عليه مفهوم الوجود أو لم يحمل، والذي ذهب الحكماء إلى أنه معدوم ليس هو الوجودات الخاصة بل هذا الأمر العام الذهني الذي يصدق على الأينات والخصوصيات الوجودية انتهى، وما أشار إليه من تعدد الوجودات قال به المشاءون وهي عند الأكثرين حقائق متخالفة متكثرة بأنفسها لا بمجرد عارض الإضافة إلى الماهيات لتكون متماثلة الحقيقة ولا بالفصول ليكون الوجود المطلق جنسا لها، وقال بعضهم بالاختلاف بالحقيقة حيث يكون بينها من الاختلاف ما بالتشكيك كوجود الواجب ووجود الممكن وكذا وجود المجردات ووجود الأجسام وقالت طائفة من الحكماء المتأهلين إنه ليس في الخارج إلا وجود واحد شخصي مجهول الكنه وهو ذات الواجب تعالى شأنه وأما الممكنات المشاهدة فليس لها وجود بل ارتباط بالوجود الحقيقي الذي هو الواجب بالذات ونسبة إليه، نعم يطلق عليها إنها موجودة بمعنى أن لها نسبة إلى الواجب تعالى فمفهوم الموجود أعم من الموجود القائم بذاته ومن الأمور المنتسبة إليه نحوا من الانتساب وصدق المشتق لا ينافي قيام مبدأ الاشتقاق بذاته الذي مرجعه إلى عدم قيامه بالغير ولا كون ما صدق عليه أمرا منتسبا إلى المبدأ لا معروضا له بوجه من الوجوه كما في الحداد والمشمس على أن أمر اطلاق أهل اللغة وأرباب اللسان لا عبرة به في تصحيح الحقائق، وقالوا: كون المشتق من المعقولات الثانية والبديهيات الأولية لا يصادم كون المبدأ حقيقة متأصلة متشخصة مجهولة الكنه وثانوية المعقول وتأصله قد يختلف بالقياس إلى الأمور ولا يخفى ما فيه من الأنظار، ومثله ما دار على ألسنة طائفة من المتصوفة من أن حقيقة الواجب هو الوجود المطلق تمسكا بأنه لا يجوز أن يكون عدما أو معدوما وهو ظاهر ولا ماهية موجودة بالوجود أو مع الوجود تعليلا أو تقييدا لما في ذلك من الاحتياج والتركيب فتعين أن يكون وجودا وليس هو الوجود الخاص لأنه إن أخذ مع المطلق فمركب أو مجرد المعروض فمحتاج ضرورة احتياج المقيد إلى المطلق، ومتمسكهم هذا أوهن من بيت العنكبوت، والذي حققته من كتب الشيخ الأكبر قدس سره وكتب أصحابه أن الله سبحانه ليس عبارة عن الوجود المطلق بمعنى الكلي الطبيعي الموجود في الخارج في ضمن أفراده ولا بمعنى أنه معقول في النفس مطابق لكل واحد من جزئياته في الخارج على معنى أن ما في النفس لوجود في أي شخص من الأشخاص الخارجية لكان ذلك الشخص بعينه من غير تفاوت أصلا بل بمعنى عدم التقيد بغيره مع كونه موجودا بذاته، ففي الباب الثاني من الفتوحات أن الحق تعالى موجود بذاته لذاته مطلق الوجود غير مقيد بغيره ولا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 195 معلول من شيء ولا علة لشيء بل هو خالق المعلولات والعلل، والملك القدوس الذي لم يزل، وفي النصوص للصدر القونوي تصور اطلاق الحق يشترط فيه أن يتعقل بمعنى أنه وصف سلبي لا بمعنى أنه إطلاق ضده القيد بل هو إطلاق عن الوحدة والكثرة المعلومتين وعن الحصر أيضا في الإطلاق والتقييد وفي الجمع بين كل ذلك والتنزيه عنه فيصح في حقه كل ذلك حال تنزهه عن الجميع. وذكر بعض الأجلة أن الله تعالى عند السادة الصوفية هو الوجود الخاص الواجب الوجود لذاته القائم بذاته المتعين بذاته الجامع لكل كمال المنزه عن كل نقص المتجلي فيما يشاء من المظاهر مع بقاء التنزيه ثم قال: وهذا ما يقتضيه أيضا قول الأشعري بأن الوجود عين الذات مع قوله الأخير في كتابه الإبانة بإجراء المتشابهات على ظواهرها مع التنزيه بليس كمثله شيء. وتحقيق ذلك أنه قد ثبت بالبرهان أن الواجب الوجود لذاته موجود فهو إما الوجود المجرد عن الماهية المتعين بذاته أو الوجود المقترن بالماهية المتعين بحسبها أو الماهية المعروضة للوجود المتعين بحسبها أو المجموع المركب من الماهية والوجود المتعين بحسبها لا سبيل إلى الرابع لأن التركيب من لوازمه الاحتياج ولا إلى الثالث لاحتياج الماهية في تحققها الخارجي إلى الوجود ولا إلى الثاني لاحتياج الوجود إلى الماهية في تشخصه بحسبها والاحتياج في الجميع ينافي الوجوب الذاتي فتعين الأول فالواجب سبحانه الموجود لذاته هو الوجود المجرد عن الماهية المتعين بذاته، ثم هو إما أن يكون مطلقا بالإطلاق الحقيقي وهو الذي لا يقابله تقييد القابل لكل إطلاق وتقييد وإما أن يكون مقيدا بقيد مخصوص لا سبيل إلى الثاني لأن المركب من القيد ومعروضه من لوازمه لاحتياج المنافي للوجوب الذاتي فتعين الأول فواجب الوجود لذاته هو الوجود المجرد عن الماهية القائم بذاته المتعين بذاته المطلق بالإطلاق الحقيقي، وأهل هذا القول ذهبوا إلى أنه ليس في الخارج إلا وجود واحد وهو الوجود الحقيقي وأنه لا موجود سواه وماهيات الممكنات أمور معدومة متميزة في أنفسها تميزا ذاتيا وهي ثابتة في العلم لم تشم رائحة الوجود ولا تشمه أبدا لكن تظهر أحكامها في الوجود المفروض وهو النور المضاف ويسمي العلماء والحق المخلوق به وهؤلاء هم المشهورون بأهل الوحدة، ولعل القول الذي نقلناه عن بعض الحكماء المتأهلين يرجع إلى قولهم هو طور ما وراء طور العقل وقد ضل بسببه أقوام وخرجوا من ربقة الإسلام، وبالجملة إن القول بأن حقيقة الواجب تعالى غير معلومة وحد علما اكتناهيا إحاطيا عقليا أو حسيا مما لا شبهة عندي في صحته وإليه ذهب المحققون حتى أهل الوحدة، والقول بخلاف ذلك المحكي عن بعض المتكلمين لا ينبغي أن يلتفت إليه أصلا، ولا أدري هل تمكن معرفة الحقيقة أو لا تمكن ولعل القول بعدم إمكانها أوفق بعظمته تعالى شأنه وجل عن إحاطة العقول سلطانه، وأما شهود الواجب بالبصر ففي وقوعه في هذه النشأة خلاف بين أهل السنة وأما في النشأة الآخرة فلا خلاف فيه سوى أن بعض الصوفية قالوا: إنه لا يقع إلا باعتبار مظهر ما وأما باعتبار الإطلاق الحقيقي فلا، وأما شهوده سبحانه بالقلب فقد قيل بوقوعه في هذه النشأة لكن على معنى شهود نوره القدسي ويختلف ذلك باختلاف الاستعداد لا على معنى شهود نفس الذات والحقيقة ومن ادعى ذلك فقد اشتبه عليه الأمر فادعى ما ادعى. هذا ومن الناس من قال: لا مانع من أن يراد من حَقَّ قَدْرِهِ حق معرفته ويراد من حق معرفته المعرفة بالكنه وكونها غير حاصلة لأحد مؤمنا كان أو غيره لا يضر فيما نحن فيه لأن المراد إثبات عظمته تعالى المنافية لما عليه المشركون وكون سبحانه لا يعرف أحد كنه حقيقته يستدعي العظمة على أتم وجه فتأمل جميع ذلك والله تعالى الموفق للصواب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 196 إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ على جميع الممكنات عَزِيزٌ غالب على جميع الأشياء وقد علمت حال آلهتهم المقهورة لأذل العجزة، والجملة في موضع التعليل لما قبلها اللَّهُ يَصْطَفِي أي يختار مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا يتوسطون بينه تعالى وبين الأنبياء عليهم السلام بالوحي وَمِنَ النَّاسِ أي ويصطفي من الناس رسلا يدعون من شاء إليه تعالى ويبلغونهم ما نزل عليهم والله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته، وتقديم رسل الملائكة عليهم السلام لأنهم وسائط بينه تعالى وبين رسل الناس، وعطف مِنَ النَّاسِ على مِنَ الْمَلائِكَةِ وهو مقدم تقدير على رُسُلًا فلا حاجة إلى التقدير وإن كان رسل كل موصوفة بغير صفة الآخرين كما أشرنا إليه، وقيل: إن المراد الله يصطفي من الملائكة رسلا إلى سائرهم في تبليغ ما كلفهم به من الطاعات ومن الناس رسلا إلى سائرهم في تبليغ ما كلفهم به أيضا وهذا شروع في إثبات الرسالة بعد هدم قاعدة الشرك وردم دعائم التوحيد. وفي بعض الأخبار أن الآية نزلت بسبب قول الوليد بن المغيرة أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا [ص: 8] الآية وفيها رد لقول المشركين الملائكة بنات الله ونحوه من أباطيلهم إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بجميع المسموعات ويدخل في ذلك أقوال الرسل بَصِيرٌ بجميع المبصرات ويدخل في ذلك أحوال المرسل إليهم، وقيل: إن السمع والبصر كناية عن علمه تعالى بالأشياء كلها بقرينة قوله سبحانه: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ لأنه كالتفسير لذلك، ولعل الأول أولى، وهذا تعميم بعد تخصيص، وضمير الجمع للمكلفين على ما قيل: أي يعلم مستقبل أحوالهم وماضيها، وعن الحسن أول أعمالهم وآخرها، وعن علي بن عيسى أن الضمير لرسل الملائكة والناس والمعنى عنده يعلم ما كان قبل خلق الرسل وما يكون بعد خلقهم وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ كلها لا إلى غيره سبحانه لا اشتراكا ولا استقلالا لأنه المالك لها بالذات فلا يسأل جل وعلا عما يفعل من الاصطفاء وغيره كذا قيل، ويعلم منه أنه مرتبط بقوله تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي إلخ وكذا وجه الارتباط، ويجوز أن يكون مرتبطا بقوله سبحانه: يَعْلَمُ إلخ على معنى وإليه تعالى ترجع الأمور يوم القيامة فلا أمر ولا نهي لأحد سواه جل شأنه هناك فيجازي كلا حسبما علم من أعماله ولعله أولى مما تقدم ويمكن أن يقال هو مرتبط بما ذكر لكن على طرز آخر وهو أن يكون إشارة إلى تعميم آخر للعلم أي إليه تعالى ترجع الأمور كلها لأنه سبحانه هو الفاعل لها جميعا بواسطة وبلا واسطة أو بلا واسطة في الجميع على ما يقوله الأشعري فيكون سبحانه عالما بها. ووجه ذلك على ما قرره بعضهم أنه تعالى عالم بذاته على أتم وجه وذاته تعالى علة مقتضية لما سواه والعلم التام بالعلة أو بجهة كونها علة يقتضي العلم التام بمعلولها فيكون علمه تعالى بجميع ما عداه لازما لعلمه بذاته كما أن وجود ما عداه تابع لوجود ذاته سبحانه وفي ذلك بحث طويل عريض. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا أي وصلّوا وعبر عن الصلاة بهما لأنهما أعظم أركانها وأفضلها والمراد أن مجموعها كذلك هو لا ينافي تفضيل أحدهما على الآخر ولا تفضيل القيام أو السجود على كل واحد واحد من الأركان، وقيل: المعنى أخضعوا لله تعالى وخروا له سجدا، وقيل: المراد الأمر بالركوع والسجود بمعناهما الشرعي في الصلاة فإنهم كانوا في أول إسلامهم يركعون في صلاتهم بلا سجود تارة ويسجدون بلا ركوع أخرى فأمروا بفعل الأمرين جميعا فيها حكاه في البحر ولم نره في أثر يعتمد عليه، وتوقف فيه صاحب المواهب وذكره الفراء بلا سند وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ بسائر ما تعبدكم سبحانه كما يؤذن به ترك المتعلق وقيل: المراد أمرهم بأداء الفرائض. وقوله تعالى: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ تعميم بعد تخصيص أو مخصوص بالنوافل وعن ابن عباس رضي الله تعالى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 197 عنهما أنه أمر بصلة الأرحام ومكارم الأخلاق لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ في موضع الحال من ضمير المخاطبين أي افعلوا كل ذلك وأنتم راجون به الفلاح غير متيقنين به واثقين بأعمالكم، والآية آية سجدة عند الشافعي وأحمد وابن المبارك وإسحاق رضي الله تعالى عنهم لظاهر ما فيها من الأمر بالسجود ولما تقدم عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه قال قلت: يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين؟ قال: نعم فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما، وبذلك قال علي كرم الله تعالى وجهه ، وعمر وابنه عبد الله وعثمان وأبو الدرداء وأبو موسى وابن عباس في إحدى الروايتين عنه رضي الله تعالى عنهم، وذهب أبو حنيفة ومالك والحسن وابن المسيب وابن جبير وسفيان الثوري رضي الله تعالى عنهم إلى أنها ليست آية سجدة، قال ابن الهمام: لأنها مقرونة بالأمر بالركوع والمعهود في مثله من القرآن كونه أمرا بما هو ركن للصلاة بالاستقراء نحو اسْجُدِي وَارْكَعِي [آل عمران: 43] وإذا جاء الاحتمال سقط الاستدلال، وما روي من حديث عقبة قال الترمذي: إسناده ليس بالقوي وكذا قال أبو داود وغيره انتهى. وانتصر الطيبي لإمامه الشافعي رضي الله تعالى عنه فقال: الركوع مجاز عن الصلاة لاختصاصه بها وأما السجود فلما لم يختص حمل على الحقيقة لعموم الفائدة ولأن العدول إلى المجاز من غير صارف أو نكتة غير جائز والمقارنة لا توجب ذلك، وتعقبه صاحب الكشف بأن للقائل أن يقول: المقارنة تحسن، وتوافق الأمرين في الفرضية أو الإيجاب على المذهبين من المقتضيات أيضا، ثم رجع إلى الانتصار فقال: الحق إن السجود حيث ثبت ليس من مقتضى خصوص تلك الآية لأن دلالة الآية غير مقيدة بحال التلاوة، بل إنما ذلك بفعل الرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو قوله فلا مانع من كون الآية دالة على فرضية سجود الصلاة ومع ذلك تشرع السجدة عند تلاوتها لما ثبت من الرواية الصحيحة، وفيه أنه إن أراد أن ما ثبت دليل مستقل على مشروعيتها من غير مدخل للآية فذلك على ما فيه مما لم لا يقله الشافعي ولا غيره، وإن أراد أن الآية تدل على ذلك كما تدل على فرضية سجود الصلاة وما ثبت كاشف عن تلك الدلالة فذلك قول بخفاء تلك الدلالة والتزام أن الأمر بالسجود لمطلق الطلب الشامل لما كان على سبيل الإيجاب كما في طلب سجود الصلاة ولما كان على سبيل الندب كما في طلب سجود التلاوة فإنه سنة عند الشافعي رضي الله تعالى عنه ولعله يتعين عنده ذلك ولا محذور فيه بل لا معدل عنه إن صح الحديث لكن قد سمعت آنفا ما قيل فيه، ولك أن تقول: إنه قد قوي بما أخرجه أبو داوود وابن ماجة وابن مردويه والبيهقي عن عمرو بن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن منها ثلاث في المفصل. وفي سورة الحج سجدتان وبعمل كثير من الصحابة رضي الله تعالى عنهم الظاهر في كونه عن سماع منه صلّى الله عليه وسلّم أو رؤية لفعله ذلك وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ أي لله تعالى أو في سبيله سبحانه، والجهاد كما قال الراغب استفراغ الوسع في مدافعة العدو وهو ثلاثة أضرب. مجاهدة العدو الظاهر كالكفار ومجاهدة الشيطان ومجاهدة النفس وهي أكبر من مجاهدة العدو الظاهرة كما يشعر به ما أخرج البيهقي وغيره عن جابر قال: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قوم غزاة فقال: «قدمتم خير مقدم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر قيل وما الجهاد الأكبر؟ قال مجاهدة العبد هواه» وفي إسناده ضعف مغتفر في مثله. والمراد هنا عند الضحاك جهاد الكفار حتى يدخلوا في الإسلام، ويقتضي ذلك أن تكون الآية مدنية لأن الجهاد إنما أمر به بعد الهجرة وعند عبد الله بن المبارك جهاد الهوى والنفس، والأولى أن يكون المراد به ضروبه الثلاثة وليس ذلك من الجمع بين الحقيقة والمجاز في شيء، وإلى هذا يشير ما روي جماعة عن الحسن أنه قرأ الآية وقال: إن الرجل ليجاهد في الله تعالى وما ضرب بسيف، ويشمل ذلك جهاد المبتدعة والفسقة فإنهم أعداء أيضا ويكون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 198 بزجرهم عن الابتداع والفسق حَقَّ جِهادِهِ أي جهادا فيه حقا فقدم حقا وأضيف على حد جرد قطيفة وحذف حرف الجر وأضيف جهاد إلى ضميره تعالى على حد قوله. ويوم شهدناه سليما وعامرا. وفي الكشاف الإضافة تكون لأدنى ملابسة واختصاص فلما كان الجهاد مختصا بالله تعالى من حيث إنه مفعول لوجهه سبحانه ومن أجله صحت إضافته إليه، وأيا ما كان فنصب حَقَّ على المصدرية، وقال أبو البقاء: إنه نعت لمصدر محذوف أي جهادا حق جهاده، وفيه أنه معرفة فكيف يوصف به النكرة ولا أظن أن أحدا يزعم أن الإضافة إذا كانت على الاتساع لا تفيد تعريفا فلا يتعرف بها المضاف ولا المضاف إليه، والآية تدل على الأمر بالجهاد على أتم وجه بأن يكون خالصا لله تعالى لا يخشى فيه لومة لائم وهي محكمة. ومن قال كمجاهد والكلبي: إنها منسوخة بقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] فقد أراد بها أن يطاع سبحانه فلا يعصي أصلا وفيه بحث لا يخفى، وأخرج ابن مردويه عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه قال: قال لي عمر رضي الله تعالى عنه «ألسنا كنا نقرأ وجاهدوا في الله حق جهاده في آخر الزمان كما جاهدتم في أوله» ؟ قلت: بل فمتى هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: إذا كانت بنو أمية الأمراء وبنو المغيرة الوزراء، وأخرجه البيهقي في الدلائل عن المسور بن مخرمة رضي الله تعالى عنه قال: قال عمر لعبد الرحمن بن عوف فذكره، ولا يخفى عليك حكم هذه القراءة، وقال النيسابوري: قال العلماء لو صحت هذه الرواية فلعل هذه الزيادة من تفسيره صلّى الله عليه وسلّم وليست من نفس القرآن إلا لتواترت وهو كما ترى هُوَ اجْتَباكُمْ أي هو جل شأنه اختاركم لا غيره سبحانه، والجملة مستأنفة لبيان علة الأمر بالجهاد فإن المختار إنما يختار من يقوم بخدمته ومن قربه العظيم يلزمه دفع أعدائه ومجاهدة نفسه بترك ما لا يرضاه ففيها تنبيه على المقتضى للجهاد، وفي قوله تعالى: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ أي في جميع أموره ويدخل فيه الجهاد دخولا أوليا مِنْ حَرَجٍ أي ضيق بتكليف ما يشتد القيام به عليكم إشارة إلى أنه لا مانع لهم عنه، والحاصل أنه تعالى أمرهم بالجهاد وبين أنه لا عذر لهم في تركه حيث وجد المقتضى وارتفع المانع. ويجوز أن يكون هذا إشارة إلى الرخصة في ترك بعض ما أمرهم سبحانه به حيث شق عليهم لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» فانتفاء الحرج على هذا بعد ثبوته بالترخيص في الترك بمقتضى الشرع وعلى الأول انتفاء الحرج ابتداء، وقيل: عدم الحرج بأن جعل لهم من كل ذنب مخرجا بأن رخص لهم في المضايق وفتح عليهم باب التوبة وشرع لهم الكفارات في حقوقه والأروش والديات في حقوق العباد، ولا يخفى أن تعميمه للتوبة ونحوها خلاف الظاهر وإن روي ذلك من طريق ابن شهاب عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وفي الحواشي الشهابية أن الظاهر حق جهاده تعالى لما كان متعسرا ذيله بهذا ليبين أن المراد ما هو بحسب قدرتهم لا ما يليق به جل وعلا من كل الوجوه. وذكر الجلال السيوطي أن هذه الآية أصل قاعدة المشقة تجلب التيسير وهو أوفق بالوجه الثاني فيها. مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ نصب على المصدرية بفعل دل عليه ما قبله من نفي الحرج بعد حذف مضاف أي وسع دينكم توسعة ملة أبيكم أو على الاختصاص بتقدير أعني بالدين ونحوه وإليهما ذهب الزمخشري وقال الحوفي. وأبو البقاء: نصب على الإغراء بتقدير اتبعوا أو الزموا أو نحوه، وقال الفراء: نصب بنزع الخافض أي كملة أبيكم، والمراد بالملة أما ما يعم الأصول والفروع أو ما يخص الأصول فتأمل ولا تغفل، وإِبْراهِيمَ منصوب بمقدر أيضا أو مجرور بالفتح على أنه بدل أو عطف بيان، وجعله عليه السلام أباهم لأنه أبو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو كالأب لأمته من حيث إنه سبب لحياتهم الأبدية ووجودهم على الوجه المعتد به في الآخرة أو لأن أكثر العرب كانوا من ذريته عليه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 199 السلام فغلبوا على جميع أهل ملته صلّى الله عليه وسلّم هُوَ أي الله تعالى كما روي عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وسفيان، ويدل عليه ما سيأتي بعد في الآية وقراءة أبي رضي الله تعالى عنه اللَّهِ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ أي من قبل نزول القرآن وذلك في الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل وَفِي هذا أي في القرآن، والجملة مستأنفة، وقيل إنها كالبدل من قوله تعالى: هُوَ اجْتَباكُمْ ولذا لم تعطف، وعن ابن زيد والحسن أن الضمير لإبراهيم عليه السلام واستظهره أبو حيان للقرب وتسميته إياهم بذلك من قبل في قوله: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة: 128] وقوله هذا سبب لتسميتهم بذلك في هذا لدخول أكثرهم في الذرية فجعل مسميا لهم فيه مجازا، ويلزم عليه الجمع بين الحقيقة والمجاز وفي جوازه خلاف مشهور، وقال أبو البقاء: المعنى على هذا وفي هذا بيان تسميته إياكم بهذا الاسم حيث حكى في القرآن مقالته، وقال ابن عطية: يقدر عليه وسميتكم في هذا المسلمين، ولا يخفى ما في كل ذلك من التكلف. واستدل بالآية من قال: إن التسمية بالمسلمين مخصوص بهذه الأمة وفيه نظر. لِيَكُونَ الرَّسُولُ يوم القيامة شَهِيداً عَلَيْكُمْ إنه قد بلغكم، ويدل على هذا القول منه تعالى على قبول شهادته عليه الصلاة والسلام لنفسه اعتمادا على عصمته ولعل هذا من خواصه صلّى الله عليه وسلّم في ذلك اليوم وإلا فالمعصوم يطالب في الدنيا بشاهدين إذا ادعى شيئا لنفسه كما يدل على ذلك قصة الفرس وشهادة خزيمة رضي الله تعالى عنه، وأيضا لو كان كل معصوم تقبل شهادته لنفسه في ذلك لما احتيج إلى شهادة هذه الأمة على الأمم حين يشهد عليهم أنبياؤهم فينكرون كما ذكر ذلك كثير من المفسرين في تفسير قوله تعالى: وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ورد أنه يؤتى بالأمم وأنبيائهم فيقال لأنبياءهم: هل بلغتم أممكم؟ فيقولون: نعم بلغناهم فينكرون فيؤتى بهذه الأمة فيشهدون أنهم قد بلغوا فتقول الأمم لهم: من أين عرفتم؟ فيقولون: عرفنا ذلك بأخبار الله تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق أو شهيدا عليكم بإطاعة من أطاع وعصيان من عصى، ولعل علمه صلّى الله عليه وسلّم بذلك بتعريف الله تعالى بعلامات تظهر له في ذلك الوقت تسوغ له عليه الصلاة والسلام الشهادة، وكون أعمال أمته تعرض عليه عليه الصلاة والسلام وهو في البرزخ كل أسبوع أو أكثر أو أقل إذا صح لا يفيد العلم بأعيان ذوي الأعمال المشهود عليهم وإلا أشكل ما رواه أحمد في مسنده والشيخان عن أنس، وحذيفة قالا: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليردن على ناس من أصحابي الحوض حتى إذا رأيتهم وعرفتهم اختلجوا دوني فأقول: يا رب أصيحابي أصيحابي فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك» وربما أشكل هذا على تقدير صحة حديث العرض سواء أفاد العلم بالأعيان أم لا، وإذا التزم صحة ذلك الحديث وأنه صلّى الله عليه وسلّم لم يستحضر أعمال أولئك الأقوام حين عرفهم فقال ما قال وأن المراد من- إنك لا تدري- إلخ مجرد تعظيم أمر ما أحدثوه بعد وفاته عليه الصلاة والسلام لا نفي العلم به يبقى من مات من أمته طائعا أو عاصيا في زمان حياته صلّى الله عليه وسلّم ولم يكن علم بحاله أصلا كمن آمن ومات ولم يسمع صلّى الله عليه وسلّم به فإن عرض الأعمال في حقه لم يجىء في خبر أصلا، والقول بعدم وجود شخص كذلك بعيد، ومن زعم أنه صلّى الله عليه وسلّم يعلم أعمال أمته ويعرفهم واحدا حيا وميتا ولذا ساغت شهادته عليهم بالطاعة والمعصية يوم القيامة لم يأت بدليل، والآية لا تصلح دليلا له إلا بهذا التفسير وهو خل البحث، على أن في حديث الإفك ما يدل على خلافه. وزعم بعضهم أن معرفته صلّى الله عليه وسلّم للطائع والعاصي من أمته لما أنه يحضر سؤالهم في القبر عنه عليه الصلاة والسلام كما يؤذن بذلك ما ورد أنه يقال للمقبور: ما تقول في هذا الذي بعث إليكم؟ واسم الإشارة يستدعي مشارا إليه محسوسا مشاهدا وهو كما ترى، واختار بعض أن الشهادة بذلك على بعض الأمة وهم الذين كانوا موجودين في وقته صلّى الله عليه وسلّم وعلم حالهم من طاعة وعصيان، والخطاب في عَلَيْكُمْ إما خاص بهم أو عام على سبيل التغليب وفيه ما فيه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 200 فتدبر، وقيل على في عَلَيْكُمْ بمعنى اللام كما في قوله تعالى: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ [المائدة: 3] فالمعنى شهيدا لكم، والمراد بشهادته لهم تزكيته إياهم إذا شهدوا على الأمم ولا يخفى بعده، واللام متعلقة بسماكم على الوجهين في الضمير وهي للعاقبة على ما قيل، وقال الخفاجي: لا مانع من كونها للتعليل فإن تسمية الله تعالى أو إبراهيم عليه السلام لهم بالمسلمين حكم بإسلامهم وعدالتهم وهو سبب لقبول شهادة الرسول عليه الصلاة والسلام الداخل فيهم دخولا أوليا وقبول شهادتهم على الأمم وفيه نوع خفاء. فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ أي فتقربوا إليه تعالى لما خصكم بهذا الفضل والشرف بأنواع الطاعات، وتخصيص هذين الأمرين بالذكر لانافتهما وفضلهما وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ أي ثقوا به تعالى في جميع أموركم هُوَ مَوْلاكُمْ ناصركم ومتولي أموركم فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ هو إذ لا مثيل له تعالى في الولاية والنصرة فإن من تولاه لم يضع ومن نصره لم يخذل بل لا ولي ولا ناصر في الحقيقة سواه عز وجل، وفي هذا إشارة إلى أن قصارى الكمال الاعتصام بالله تعالى وتحقيق مقام العبودية وهو وراء التسمية والاجتباء، وجوز أن يكون هُوَ مَوْلاكُمْ نتميا للاجتباء وليس بذاك هذا. ومن باب الإشارة في الآيات إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا كيد عدوهم من الشيطان والنفس إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ويدخل في ذلك الشيطان والنفس، وصدق الوصفين عليهما ظاهر جدا بل لا خوان ولا كفور مثلهما الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ إلخ فيه إشارة إلى حال أهل التمكين وأنهم مهديون هادون فلا شطح عندهم ولا يضل أحد بكلماتهم فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ قيل: في القرية الظالمة إشارة إلى القلب الغافل عن الله تعالى، وفي البئر المعطلة إشارة إلى الذهن الذي لم يستخرج منه الأفكار الصافية، وفي القصر المشيد إشارة إلى البدن المشتمل على حجرات القوى. فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ فيه إشارة إلى سوء حال المحجوبين المنكرين فإن قلوبهم عمي عن رؤية أنوار أهل الله تعالى فإن لهم أنوارا لا ترى إلا بعين القلب وبهذه العين تدرك حقائق الملك ودقائق الملكوت، وفي الحديث «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ قد تقدم الكلام في اليوم وانقسامه فتذكر فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أي ستر عن الأغيار من أن يقفوا على حقيقتهم كما يشير ما يروونه من الحديث القدسي «أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم أحد غيري» وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وهو العلم اللدني الذي به غذاء الأرواح. وقال بعضهم: رزق القلوب حلاوة العرفان ورزق الأسرار ومشاهدة الجمال ورزق الأرواح مكاشفة الجلال وإلى هذا الرزق يشير عليه الصلاة والسلام بقوله: «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» والإشارة في قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ الآيات على قول من زعم صحة حديث الغرانيق إلى أنه ينبغي أن يكون العبد فناء في إرادة مولاه عز وجل وإلا ابتلى بتلبيس الشيطان ليتأدب ولا يبقى ذلك التلبيس لمنافاته الحكمة وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ عن أوطان الطبيعة في طلب الحقيقة ثُمَّ قُتِلُوا بسيف الصدق والرياضة أَوْ ماتُوا بالجذبة عن أوصاف البشرية لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً هو رزق دوام الوصلة كما قيل: أو هو كالرزق الكريم وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ فيه إشارة إلى نصر السالك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 201 الذي عاقب نفسه بالمجاهدة بعد أن عاقبته بالمخالفة ثم ظلمته باستيلاء صفاتها وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ أخذ الصوفية منه ترك الجدال مع المنكرين. وذكر بعضهم أن الجدال معهم عبث كالجدال مع العنين في لذة الجماع وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ الآية فيه إشارة إلى ذم المتصوفة الذين إذا سمعوا الآيات الرادة عليهم ظهر عليهم التجهم والبسور وهم في زماننا كثيرون فإنا لله وإنا إليه راجعون، وفي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً إلخ إشارة إلى ذم الغالين في أولياء الله تعالى حيث يستغيثون بهم في الشدة غافلين عن الله تعالى وينذرون لهم النذور والعقلاء منهم يقولون: إنهم وسائلنا إلى الله تعالى وإنما ننذر لله عز وجل ونجعل ثوابه للولي، ولا يخفى أنهم في دعواهم الأولى أشبه الناس بعبدة الأصنام القائلين إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، ودعواهم الثانية لا بأس بها لو لم يطلبوا منهم ذلك شفاء مريضهم أورد غائبهم أو نحو ذلك، والظاهر من حالهم الطلب، ويرشد إلى ذلك أنه لو قيل: أنذروا لله تعالى واجعلوا ثوابه لوالديكم فإنهم أحوج من أولئك الأولياء لم يفعلوا، ورأيت كثيرا منهم يسجد على أعتاب حجر قبور الأولياء ومنهم من يثبت التصرف لهم جميعا في قبورهم لكنهم متفاوتون فيه حسب تفاوت مراتبهم، والعلماء منهم يحصرون التصرف في القبور في أربعة أو خمسة وإذا طولبوا بالدليل قالوا: ثبت ذلك بالكشف قاتلهم الله تعالى ما أجهلهم وأكثر افترائهم، ومنهم من يزعم أنهم يخرجون من القبور ويتشكلون بأشكال مختلفة، وعلماؤهم يقولون: إنما تظهر أرواحهم متشكلة وتطوف حيث شاءت وربما تشكلت بصورة أسد أو غزال أو نحوه وكل ذلك باطل لا أصل له في الكتاب والسنة وكلام سلف الأمة، وقد أفسد هؤلاء على الناس دينهم وصاروا ضحكة لأهل الأديان المنسوخة في اليهود والنصارى، وكذا لأهل النحل والدهرية، نسأل الله تعالى العفو والعافية. وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ شامل لجميع أنواع المجاهدة، ومنها جهاد النفس وهو بتزكيتها بأداء الحقوق وترك الحظوظ، وجهاد القلب بتصفيته وقطع تعلقه عن الكونين، وجهاد الروح بإفناء الوجود، وقد قيل: وجودك ذنب لا يقاس به ذنب. وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ تمسكوا به جل وعلا في جميع أحوالكم هُوَ مَوْلاكُمْ على الحقيقة فَنِعْمَ الْمَوْلى في إفناء وجودكم وَنِعْمَ النَّصِيرُ في إبقائكم، وما أعظم هذه الخاتمة لقوم يعقلون وسبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.   تم والحمد لله الجزء السابع عشر ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثامن عشر وأوله «سورة المؤمنين» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 202 الجزء الثامن عشر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 203 سورة المؤمنون مكية كما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وفي البحر هي مكية بلا خلاف، واستثنى منها كما يقال في الإتقان قوله تعالى: حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ [المؤمنون: 64] إلى قوله سبحانه: مُبْلِسُونَ [المؤمنون: 77] واستشكل الحكم على ما عداه بكونه مكيا لما فيه من ذكر الزكاة وهي إنما فرضت بالمدينة، وأجيب بأنه بعد تسليم أن ما ذكر فيه يدل على فرضيتها يقال: إن الزكاة كانت واجبة بمكة والمفروض بالمدينة ذات النصب وستسمع تمام الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى وهي كما في كتاب العدد للداني ومجمع البيان للطبرسي مائة وثمان عشرة آية في الكوفي ومائة وسبع عشرة آية في الباقي، وقد مدح النبي صلّى الله عليه وسلّم العشر الأول منها فقد أخرج أحمد والترمذي والنسائي والحاكم وصححه والضياء في المختارة وغيرهم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: «كان إذا نزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الوحي نسمع عند وجهه كدوي النحل فأنزل عليه يوما فمكثنا ساعة فسري عنه فاستقبل القبلة فرفع يديه فقال: اللهم زدنا ولا تنقصنا وأكرمنا ولا تهنا وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا وارض عنا وارضنا ثم قال: «لقد أنزلت عليّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة» ثم قرأ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون: 1] حتى ختم العشر، ومناسبتها لآخر السورة قبلها ظاهرة لأنه تعالى خاطب المؤمنين بقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا [المؤمنون: 1. 22] لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج: 77] فناسب أن يحقق ذلك فقال عز قائلا: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 205 قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ والفلاح الفوز بالمرام، وقيل: البقاء في الخير والإفلاح الدخول في ذلك كالإبشار الذي هو الدخول بالبشارة، وقد يجيء متعديا وعليه قراءة طلحة بن مصرف وعمرو بن عبيد «أفلح» بالبناء للمفعول، وقَدْ لثبوت أمر متوقع وتحققه، والظاهر أنه هنا الفلاح لأن قد دخلت على فعله وهو متوقع الثبوت من حال المؤمنين، وجعله الزمخشري الأخبار بثباته وذلك لأن الفلاح مستقبل أبرز في معرض الماضي مؤكدا بقد دلالة على تحققه فيفيد تحقق البشارة وثباتها كأنه قيل: قد تحقق أن المؤمنين من أهل الفلاح في الآخرة، وجوز أن يكون جملة قَدْ أَفْلَحَ جواب قسم محذوف وقد ذكر الزجاج في قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها [الشمس: 9] أنه جواب القسم المذكور قبله بتقدير اللام. وقرأ ورش عن نافع «قد أفلح» بإلقاء حركة الهمزة على الدال وحذفها لفظا لالتقاء الساكنين كما قال أبو البقاء وهما الهمزة الساكنة بعد نقل حركتها والدال الساكنة بحسب الأصل لأنه لا يعتد بحركتها العارضة. وقرأ طلحة أيضا «وقد أفلحوا» بضم الهمزة والحاء وإلقاء واو الجمع وهي مخرجة على لغة أكلوني البراغيث، وقول ابن عطية هي قراءة مردودة مردود، وعن عيسى بن عمر قال: سمعت طلحة يقرأ «قد أفلحوا المؤمنون» فقلت له: أتلحن؟ قال: نعم كما لحن أصحابي، ولعل مراده أن مرجع قراءتي الرواية ومتى صحت في شيء لا يكون لحنا في نفس الأمر وإن كان كذلك ظاهرا، وإثبات الواو في الرسم مروي عن كتاب ابن خالويه. وفي اللوامح أنها حذفت في الدرج لالتقاء الساكنين وحملت الكتابة على ذلك فهي محذوفة فيها أيضا، ونظير ذلك يَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ [الشورى: 24] وقد جاء حذف الواو لفظا وكتابة والاكتفاء بالضمة الدالة عليها كما في قوله: ولو أن الأطباء كان حولي ... وكان مع الأطباء الاساة وهو ضرورة عند بعض النحاة، والمراد بالمؤمنين قيل إما المصدقون بما علم ضرورة أنه من دين نبينا صلّى الله عليه وسلّم من التوحيد والنبوة والحشر الجسماني والجزاء ونظائرها فقوله تعالى: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ وما عطف عليه صفات مخصصة لهم، وإما الآتون بفروعه أيضا كما ينبىء عنه إضافة الصلاة إليهم فهي صفات موضحة أو مادحة لهم، وفي بعض الآثار ما يؤيد كونها مخصصة وجعل الزمخشري الإضافة للإشارة إلى أنهم هم المنتفعون بالصلاة دون المصلى له عز وجل، والخشوع التذلل مع خوف وسكون للجوارح، ولذا قال ابن عباس فيما رواه عنه ابن جرير وغيره خاشعون خائفون ساكنون وعن مجاهد أنه غض البصر وخفض الجناح، وقال مسلم بن يسار وقتادة: تنكيس الرأس، وعن علي كرّم الله تعالى وجهه ترك الالتفات ، وقال الضحاك: وضع اليمين على الشمال. وعن أبي الدرداء إعظام المقام وإخلاص المقال واليقين التام وجمع الاهتمام، ويتبع ذلك ترك الالتفات وهو من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 206 الشيطان فقد روى البخاري وأبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الالتفات في الصلاة فقال: «هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد» . وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي هريرة أنه قال في مرضه: أقعدوني أقعدوني فإن عندي وديعة أودعنيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يلتفت أحدكم في صلاته فإن كان لا بدّ فاعلا ففي غير ما افترض الله تعالى عليه» . وترك العبث بثيابه أو شيء من جسده، وإنكار منافاته للخشوع مكابرة، وقد أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول لكن بسند ضعيف عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه رأى رجلا يعبث بلحيته في صلاته فقال: «لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه» ، وترك رفع البصر إلى السماء وإن كان المصلي أعمى وقد جاء النهي عنه، فقد أخرج مسلم وأبو داود وابن ماجة عن جابر بن سمرة قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لا ترجع إليهم» وكان قبل نزول الآية غير منهي عنه، فقد أخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء فنزلت الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ فطأطأ رأسه ، وترك الاختصار وهو وضع اليد على الخاصرة وقد ذكروا أنه مكروه، وجاء عنه صلّى الله عليه وسلّم «الاختصار في الصلاة أصل النار» أي إن ذلك فعل اليهود في صلاتهم استراحة وهم أهل النار لا أن فيها راحة كيف وقد قال تعالى: لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [الزخرف: 75] ومن أفعالهم أيضا فيها التميل وقد جاء النهي عنه. أخرج الحكيم الترمذي من طريق القاسم بن محمد عن أسماء بنت أبي بكر عن أم رومان والدة عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: رآني أبو بكر رضي الله تعالى عنه أتميل في صلاتي فزجرني زجرة كدت أنصرف عن صلاتي ثم قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا قام أحدكم في الصلاة فليسكن أطرافه لا يتميل تميل اليهود فإن سكون الأطراف في الصلاة من تمام الصلاة» وقال في الكشاف: من الخشوع أن يستعمل الآداب وذكر من ذلك توقي كف الثوب والتمطي والتثاؤب والتغميض (1) وتغطية الفم والسدل والفرقعة والتشبيك وتقلب الحصى، وفي البحر نقلا عن التحرير أنه اختلف في الخشوع هل هو من فرائض الصلاة أو من فضائلها ومكملاتها على قولين والصحيح الأول ومحله القلب اهـ، والصحيح عندنا خلافه، نعم الحق أنه شرط القبول لا الإجزاء. وفي المنهاج وشرحه لابن حجر ويسن الخشوع في كل صلاته بقلبه بأن لا يحضر فيه غير ما هو فيه وإن تعلق بالآخرة وبجوارحه بأن لا يعبث بأحدها، وظاهر أن هذا مراد النووي من الخشوع لأنه سيذكر الأول بقوله: ويسن دخول الصلاة بنشاط وفراغ قلب إلا أن يجعل ذلك سببا له ولذا خصه بحالة الدخول. وفي الآية المراد كل منهما كما هو ظاهر أيضا، وكان سنة لثناء الله تعالى في كتابه العزيز على فاعليه ولانتفاء ثواب الصلاة بانتفائه كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، ولأن لنا وجها اختاره جمع أنه شرط للصحة لكن في البعض فيكره الاسترسال مع حديث النفس والعبث كتسوية ردائه أو عمامته لغير ضرورة من تحصيل سنة أو دفع مضرة، وقيل يحرم اهـ، وللإمام في هذا المقام كلام طويل من أراده فليرجع إليه. وتقديم الظرف قيل لرعاية الفواصل، وقيل ليقرب ذكر الصلاة من ذكر الإيمان فإنهما أخوان وقد جاء إطلاق   (1) قيل هو فعل اليهود وجاء النهي عنه لكن من طريق ضعيف، وقال النووي: عندي أنه لا يكره ما لم يخف ضررا انتهى، وربما يقال: إن فيه منعا لتفريق الذهن فيكون سببا لحضور القلب والخشوع، ولذا أفتى ابن عبد السلام بأنه أولى إذا شوش عدمه خشوعه أو حضور قلبه مع ربه عز وجل اهـ منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 207 الإيمان عليها في قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة: 143] وقيل للحصر على معنى الذين هم في جميع صلاتهم دون بعضها خاشعون، وفي تقديم وصفهم بالخشوع في الصلاة على سائر ما يذكر بعد ما لا يخفى من التنويه بشأن الخشوع، وجاء أن الخشوع أول ما يرفع من الناس، ففي خبر رواه الحاكم وصححه أن عبادة بن الصامت قال: يوشك أن تدخل المسجد فلا ترى فيه رجلا خاشعا. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد والحاكم وصححه عن حذيفة قال: «أول ما تفقدون من دينكم الخشوع وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة وتنتقض عرى الإسلام عروة عروة» الخبر وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ وهو ما لا يعتد به من الأقوال والأفعال، وعن ابن عباس تفسيره بالباطل، وشاع في الكلام الذي يورد لا عن روية وفكر فيجري مجرى اللغاء وهو صوت العصافير ونحوها من الطير وقد يسمى كل كلام قبيح لغوا، ويقال فيه كما قال أبو عبيدة لغو ولغا نحو عيب وعاب، وأنشد. عن اللغا ورفث التكليم. مُعْرِضُونَ في عامة أوقاتهم لما فيه من الحالة الداعية إلى الإعراض عنه مع ما فيهم من الاشتغال بما يعنيهم، وهذا أبلغ من أن يقال: لا يلهون من وجوه، جعل الجملة اسمية دالة على الثبات والدوام، وتقديم الضمير المفيد لتقوي الحكم بتكريره، والتعبير في المسند بالاسم الدال كما شاع على الثبات، وتقديم الظرف عليه المفيد للحصر، وإقامة الإعراض مقام الترك ليدل على تباعدهم عنه رأسا مباشرة وتسببا وميلا وحضورا فإن أصله أن يكون في عرض أي ناحية غير عرضه وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ الظاهر أن المراد بالزكاة المعنى المصدري- أعني التزكية- لأنه الذي يتعلق به فعلهم، وأما المعنى الثاني وهو القدر الذي يخرجه المزكي فلا يكون نفسه مفعولا لهم فلا بد إذا أريد من تقدير مضاف أي لأداء الزكاة فاعلون أو تضمين فاعِلُونَ معنى مؤدون وبذلك فسره التبريزي إلا أنه تعقب بأنه لا يقال فعلت الزكاة أي أديتها، وإذا أريد المعنى الأول أدى وصفهم بفعل التزكية إلى أداء العين بطريق الكناية التي هي أبلغ، وهذا أحد الوجوه للعدول عن والذين يزكون إلى ما في النظم الكريم. وجميع ما مر آنفا في بيان أبلغية وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ من والذين لا يلهون جار هنا سوى الوجه الخامس اتفاقا والرابع عند بعض لأن المقدم متعلق تعلق الجار والمجرور بما بعده كيف واللام زائدة لتقوية العمل من وجهين، تقديم المعمول، وكون العامل اسما. وقال بعض آخر: يمكن جريان مثله حيث قدم المعمول مع ضعف عامله لا للتخصيص بل لكونه مصب الفائدة، ويجوز اعتبار التخصيص الإضافي أيضا بالنسبة إلى الإنفاق فيما لا يليق، ووصفهم بذلك بعد وصفهم بالخشوع في الصلاة للدلالة على أنهم لم يألوا جهدا بالعبادة البدنية والمالية، وتوسيط حديث الإعراض بينهما لكمال ملابسته بالخشوع في الصلاة وإلا فأكثر ما تذكر هاتان العبادتان في القرآن معا بلا فاصل. وعن أبي مسلم أن الزكاة هنا بمعنى العمل الصالح كما في قوله: خَيْراً مِنْهُ زَكاةً [الكهف: 81] واختار الراغب أن الزكاة بمعنى الطهارة واللام للتعليل، والمعنى والذين يفعلون ما يفعلون من العبادة ليزكيهم الله تعالى أو ليزكوا أنفسهم، ونقل نحوه الطيبي عن صاحب الكشف فقال: قال صاحب الكشف: معنى الآية الذين هم لأجل الطهارة وتزكية النفس عاملون الخير، ويرشد إلى ذلك قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى: 14، 15] وقَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها [الشمس: 9] فإن القرآن يفسر بعضه بعضا ولا ينبغي أن يعدل عن تفسير بعضه ببعض ما أمكن، وقال بعض الأجلة: إن اقتران ذلك بالصلاة ينادي على أن المراد وصفهم بأداء الزكاة الذي هو عبادة مالية، وتنظير ما نحن فيه بالآيتين بعيد لأنهما ليستا من هذا القبيل في شيء، وربما يقال: الفصل بينهما يشعر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 208 بما اختاره الراغب ومن حذا حذوه، وأيضا كون السورة مكية والزكاة فرضت بالمدينة يؤيده لئلا يحتاج إلى التأويل بما مر فتدبر. وأيا ما كان فالآية في أعلى مراتب الفصاحة والبلاغة، وقول بعض زنادقة الأعاجم الذين حرموا ذوق العربية: ألا قيل مؤدون بدل فاعِلُونَ من محض الجهل والحماقة التي أعيت من يداويها فإنه لو فرض أن القرآن وحاشا لله سبحانه كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم فهو عليه الصلاة والسلام الذي مخضت له الفصاحة زبدها وأعطته البلاغة مقودها وكان صلّى الله عليه وسلّم بين مصاقع نقاد لم يألوا جهدا في طلب طعن ليستريحوا به من طعن الصعاد، وقد جاء نظير ذلك في كلام أمية بن أبي الصلت قال: المطعمون الطعام في السنة ... الأزمة والفاعلون للزكوات ولم يرد عليه أحد من فصحاء العرب ولا أعابوه، واختار الزمخشري في هذا حمل الزكاة على العين وتقدير المضاف دون الآية، وعلل بجمعها وهو إنما يكون للعين دون المصدر، وتعقب بأنه قد جاء كثير من المصادر مجموعة كالظنون والعلوم والحلوم والأشغال وغير ذلك، وهي إذا اختلف فالأكثرون على جواز جمعها وقد اختلفت هاهنا بحسب متعلقاتها فإن إخراج النقد غير إخراج الحيوان وإخراج الحيوان غير إخراج النبات فليحفظ. وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ وصف لهم بالعفة وهو وان استدعاه وصفهم بالإعراض عن اللغو إلا أنه جيء به اعتناء بشأنه، ويجوز أن يقال: إن ما تقدم وإن استدعى وصفهم بأصل العفة لكن جيء بهذا لما فيه من الإيذان بأن قوتهم الشهوية داعية لهم إلى ما لا يخفى وإنهم حافظون لها عن استيفاء مقتضاها وبذلك يتحقق كمال العفة، واللام للتقوية كما مر في نظيره، وعَلى متعلق بحافظون لتضمينه معنى ممسكون على ما اختاره أبو حيان والإمساك يتعدى بعلى كما في قوله تعالى: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ [الأحزاب: 37] وذهب جمع إلى اعتبار معنى النفي المفهوم من الإمساك ليصح التفريغ فكأنه قيل حافظون فروجهم لا يرسلونها على أحد إلا على أزواجهم، وقال بعضهم: لا يلزم ذلك الصحة العموم هنا فيصح التفريغ في الإيجاب، وفي الكشف الوجه أن يقال: ما في الآية من قبيل حفظت على الصبي ماله إذا ضبطه مقصورا عليه لا يتعداه، والأصل حافظون فروجهم على الأزواج لا تتعداهن ثم قيل غير حافظين إلا على الأزواج تأكيدا على تأكيد، وعلى هذا تضمين معنى النفي الذي ذكره الزمخشري من السياق واستدعاء الاستثناء المفرغ ذلك ولم يؤخذ مما في الحفظ من معنى المنع والإمساك لأن حرف الاستعلاء يمنعه انتهى وفيه ما فيه. ويا ليت شعري كيف عد حرف الاستعلاء مانعا عن ذلك مع أن كون الإمساك مما يتعدى به أمر شائع، وقال الفراء وتبعه ابن مالك وغيره: إن عَلى هنا بمعنى من أي إلا من أزواجهم كما أن من بمعنى على في قوله تعالى: وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ [الأنبياء: 77] أي على القوم، وقيل هي متعلقة بمحذوف وقع حالا من ضمير حافِظُونَ والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أي حافظون لفروجهم في جميع الأحوال إلا حال كونهم والين وقوامين على أزواجهم من قولك: كان فلان على فلانة فمات عنها، ومنه قولهم: فلانة تحت فلان ولذا سميت المرأة فراشا أو متعلقة بمحذوف يدل على غَيْرُ مَلُومِينَ كأنه قيل: يلامون إلا على أزواجهم أي يلامون على كل مباشر إلا على ما أطلق لهم فإنهم غير ملومين عليه، وكلا الوجهين ذكرهما الزمخشري. واعترض بأنهما متكلفان ظاهرا فيهما العجمة وأورد على الأخير أن إثبات اللوم لهم في أثناء المدح غير مناسب مع أنه لا يختص بهم، وكون ذلك على فرض عصيانهم وهو مثل قوله تعالى: فَمَنِ ابْتَغى إلخ لا يدفعه كما توهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 209 ولا يجوز أن تتعلق بملومين المذكور بعد لما قال أبو البقاء من أن ما بعد أن لا يعمل فيما قبلها وأن المضاف إليه لا يعمل فيما قبله، والمراد مما ملكت أيمانهم السريات، والتخصيص ذلك للإجماع على عدم حل وطء المملوك الذكر، والتعبير عنهن- بما- على القول باختصاصها بغير العقلاء لأنهن يشبهن السلع بيعا وشراء أو لأنهن لأنوثتهن المنبئة عن قلة عقولهن جاريات مجرى العقلاء، وهذا ظاهر فيما إذا كن من الجركس أو الروم أو نحوهم فكيف إذا كن من الزنج والحبش وسائر السودان فلعمري إنهن حينئذ إن لم يكن من نوع البهائم فما نوع البهائم منهن ببعيد، والآية خاصة بالرجال فإن التسري للنساء لا يجوز بالإجماع، وعن قتادة (1) قال تسرت امرأة غلاما فذكرت لعمر رضي الله تعالى عنه فسألها ما حملك على هذا؟ فقالت: كنت أرى أنه يحل لي ما يحل للرجال من ملك اليمين فاستشار عمر فيها أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: تأولت كتاب الله تعالى على غير تأويله فقال رضي الله تعالى عنه: لا جرم لا أحلك لحر بعده أبدا كأنه عاقبها بذلك ودرأ الحد عنها وأمر العبد أن لا يقربها، ولو كانت المرأة متزوجة بعبد فملكته فأعتقته حالة الملك انفسخ النكاح عند فقهاء الأمصار. وقال النخعي والشعبي وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة: يبقيان على نكاحهما فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ تعليل لما يفيده الاستثناء من عدم حفظ فروجهم من المذكورات أي فإنهم غير ملومين على ترك حفظها منهن. وقيل الفاء في جواب شرط مقدر أي فإن بذلوا فروجهم لأزواجهم أو إمائهم فإنهم غير ملومين على ذلك، والمراد بيان جنس ما يحل وطؤه في الجملة وإلا فقد قالوا: يحرم وطء الحائض والأمة إذا زوجت والمظاهر منها حتى يكفر وهذا مجمع عليه. وفي الجمع بين الأختين من ملك اليمين وبين المملوكة وعمتها أو خالتها خلاف على ما في البحر، وذكر الآمدي في الأحكام أن عليا كرّم الله تعالى وجهه احتج على جواز الجمع بين الأختين في الملك بقوله تعالى: أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ أي المذكور من الحد المتسع وهو أربع من الحرائر وما شاء من الإماء، وانتصاب وَراءَ على أنه مفعول ابْتَغى أي خلاف ذلك وهو الذي ذهب إليه أبو حيان، وقال بعض المحققين: إن وَراءَ ظرف لا يصلح أن يكون مفعولا به وإنما هو ساد مسد المفعول به، ولذا قال الزمخشري: أي فمن أحدث ابتغاء وراء ذلك فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ الكاملون في العدوان المتناهون فيه كما يشير إليه الإشارة والتعريف وتوسيط الضمير المفيد لجعلهم جنس العادين أو جميعهم، وفي الآية رعاية لفظ (من) ومعناها ويدخل فيما وراء ذلك الزنا واللواط ومواقعة البهائم وهذا مما لا خلاف فيه. واختلف في وطء جارية أبيح له وطؤها فقال الجمهور: هو داخل فيما وراء ذلك أيضا فيحرم وهو قول الحسن وابن سيرين وروي ذلك عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، فقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد الرزاق عنه أنه سئل عن امرأة أحلت جاريتها لزوجها فقال: لا يحل لك أن تطأ فرجا أي غير فرج زوجتك إلا فرجا إن شئت بعت وإن شئت وهبت وإن شئت أعتقت، وعن ابن عباس أنه غير داخل فلا يحرم، فقد أخرج عبد الرزاق عنه رضي الله تعالى عنه قال: إذا أحلت امرأة الرجل أو ابنته أو أخته له جاريتها فليصبها وهي لها وهو قول طاوس، أخرج عنه عبد الرزاق أيضا أنه قال: هو أحل من الطعام فإن ولدت فولدها للذي أحلت، وهي لسيدها الأول، وأخرج عن عطاء أنه قال: كان يفعل ذلك يحل الرجل وليدته لغلامه وابنه وأخيه وأبيه والمرأة لزوجها وقد بلغني أن الرجل يرسل وليدته لصديقه وإلى هذا ذهبت   (1) أخرجه عبد الرزاق اهـ منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 210 الشيعة، والآية ظاهرة في هذه لظهور أن المعارة للجماع ليست بزوجة ولا مملوكة وكذا قوله تعالى فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النساء: 3] فإن السكوت في معرض البيان يفيد الحصر خصوصا إذا كان المقام مقتضيا لذكر جميع ما لا يجب العدل فيه، وفي عدم وجوب العدل تكون العارية أقدم من الكل إذ لا يجب فيها ألا تحمل منة مالك الفرج فقط وكذا قوله سبحانه: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ. إلى قوله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ [النساء: 25] فإنه لو جازت العارية لما كان خوف العنت والحاجة إلى نكاح الإماء وإلى الصبر على ترك نكاحهن متحققا، ونحوه قوله سبحانه: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور: 33] فإنه لو كانت العارية جائزة لم يؤمر الذين لا يجدون نكاحا بالاستعفاف، ولعل الرواية السابقة عن ابن عباس غير صحيحة، وكذا اختلف في المتعة فذهبت الشيعة أيضا إلى جوازها، ويرد عليهم بما ذكرنا من الآيات الظاهرة في تحريم العارية، وأخرج عبد الرزاق وأبو داود في ناسخه عن القاسم بن محمد أنه سئل عن المتعة فقال: هي محرمة في كتاب الله تعالى وتلا: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ الآية وقرر وجه دلالة الآية على ذلك أن المستمتع بها ليست ملك اليمين ولا زوجة فوجب أن لا تحل له أما أنها ليست ملك اليمين فظاهر وأما أنها ليست زوجة له فلأنهما لا يتوارثان بالإجماع ولو كانت زوجة لحصل التوارث لقوله تعالى: وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ [النساء: 12] وتعقبه في الكشف بأن لهم أن يقولوا: إنها زوجة يكشف الموت عن بينونتها قبيله كما أنها تبين بانقضاء الأجل قضاء لحق التعليق والتأجيل، وحاصله منع استفسار في الملازمة إن أريد لو كانت زوجة حال الحياة لم يفد وإن أريد بعد الموت فالملازمة ممنوعة فإن قيل: لا تبين بالموت كالنكاح المؤبد، أجيب بأنه قياس في عين ما افترق النكاحان به وهو فاسد بالإجماع. وتعقب هذا شيخ الإسلام لخفاء معناه عليه بأنه ليس للترديد معنى محصل ولو قيل: إن أريد لو كانت زوجة حال الحياة فالملازمة ممنوعة وإن أريد بعد الموت لم يفد لكان له وجه، وقال هو في رد الاستدلال لهم أن يقولوا إنها زوجة له في الجملة وأما إن كل زوجة ترث فهم لا يسلمونه، وقال بعضهم: الحق أن الآية دليل على الشيعة فإن ظاهر كلامهم أنها ليست بزوجة أصلا حيث ينفون عنها لوازم الزوجية بالكلية من العدة والطلاق والإيلاء والظهار وحصول الإحصان وإمكان اللعان والنفقة والكسوة والتوارث ويقولون بجواز جمع ما شاء بالمتعة ولا شك أن نفي اللازم دليل نفي الملزوم. وتعقب بأن هذا حق لو سلم أنهم ينفون اللوازم كلها لكنه لا يسلم، ونفي بعض اللوازم لا يكفي في الرد عليهم إذا قالوا: إن الزوجية قسمان كاملة وغير كاملة إذ بنفي ذلك البعض إنما ينتفي القسم الأول وهو لا يضرهم، وقيل: الذي يقتضيه الإنصاف أن الآية ظاهرة في تحريم المتعة فإن المستمتع بها لا يقال لها زوجة في العرف ولا يقصد منها ما هو السر في مشروعية النكاح من التوالد والتناسل لبقاء النوع بل مجرد قضاء الوطر وتسكين دغدغة المني ونحو ذلك، وزعم أنه يتم الاستدلال بالآية بهذا الطرز على التحريم سواء نفيت اللوازم أم لم تنف كما هو مذهب بعض القائلين بالحل كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى. ولعل الأقرب إلى الإنصاف أن يقال: متى قيل بنفي اللوازم من حصول الإحصان حرمة الزيادة على الأربع ونحو ذلك كانت الآية دليلا على الحرمة لأن المتبادر من الزوجية فيها الزوجية التي يلزمها مثل ذلك وهو كاف في الاستدلال على مثل هذا المطلب الفرعي، ومتى لم يقل بنفي اللوازم ولم يفرق بينها وبين النكاح المؤبد إلا بالتوقيت وعدمه لم تكن الآية دليلا على التحريم، هذا ولي هاهنا بحث لم أر من تعرض له وهو أنه قد ذكر في الصحيحين أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حرم المتعة يوم خيبر، وفي صحيح مسلم أنه عليه الصلاة والسلام حرمها يوم الفتح، ووافق ابن الهمام بأنها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 211 حرمت مرتين مرة يوم خيبر ومرة يوم الفتح وذلك يقتضي أنها كانت حلالا قبل هذين اليومين، وقد سمعت آنفا ما يدل على أن هذه الآية مكية بالاتفاق فإذا كانت دالة على التحريم كما سمعت عن القاسم بن محمد وروى مثله ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن عائشة رضي الله تعالى عنها لزم أن تكون محرمة بمكة يوم نزلت الآية وهو قبل هذين اليومين فتكون قد حرمت ثلاث مرات ولم أر أحدا صرح بذلك، وإذا التزمناه يبقى شيء آخر وهو عدم تمامية الاستدلال بها وحدها على تحريم المتعة لمن يعلم أنها أحلت بعد نزولها كما لا يخفى، لا يقال: إن للناس في المكي والمدني اصطلاحات ثلاثة، الأول أن المكي ما نزل قبل الهجرة والمدني ما نزل بعدها سواء نزل بالمدينة أم بمكة عام الفتح أم عام حجة الوداع أم بسفر من الأسفار، الثاني أن المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة والمدني ما نزل بالمدينة وعلى هذا تثبت الواسطة، فما نزل بالأسفار لا يطلق عليه مكي ولا مدني، الثالث أن المكي ما وقع خطابا لأهل مكة والمدني ما وقع خطابا لأهل المدينة، وحينئذ يمكن أن تكون هذه الآية مكية بالاصطلاح الثاني وتكون نازلة يوم الفتح يوم حرمت المتعة في المرة الثانية ولا يكون التحريم إلا مرتين ويكون استدلال من استدلوا بها من الصحابة والتابعين وغيرهم على التحريم وإن علموا أن المتعة أحلت بعد الهجرة في بعض الغزوات مما لا غبار عليه، وإذا التزم هذا الاصطلاح في مكية جميع السورة المجمع عليها حسبما سمعت عن البحر ينحل إشكال حمل الزكاة على الزكاة الشرعية مع فرضيته بالمدينة بأن يقال: إن أوائل السورة نزلت بعد فرضية الزكاة في المدينة عام الفتح في مكة لأنا نقول: لا شبهة في أنه يمكن كون الآية مكية بالاصطلاح الثاني وكونها نازلة يوم الفتح وكذلك يمكن كون كل السورة أو أغلبها مكيا بذلك الاصطلاح وكل ما بني على ذلك صحيح بناء عليه إلا أن المتبادر من المكي والمدني المعني المصطلح عليه أولا لأن الاصطلاح الأول أشهر الاصطلاحات الثلاثة كما قال الجلال السيوطي في الإتقان. فالظاهر من قولهم: إن هذه السورة مكية أنها نزلت قبل الهجرة بل قد صرح الجلال المذكور بأنها إلا ما استثني منها مما سمعته مكية على الاصطلاح الأول دون الثاني ولا يحرم مثله بذلك إلا عن وقوف فما ذكر مجرد تجويز أمر لا يساعد على ثبوته صريح نقل بل النقل الصريح مساعد على خلافه وهو المرجع فيما نحن فيه. فقد قال القاضي أبو بكر في الانتصار: إنما يرجع في معرفة المكي والمدني لحفظ الصحابة والتابعين، وكونهما قد يعرفان بالقياس على ما ذكره الجعبري وغيره مع عدم جدواه ليس بشيء. نعم إذا جعل استدلال الصحابي أو التابعي المطلع على إباحة المتعة بعد الهجرة بها قولا باستثنائها عن أخواتها من آيات السورة وحكما عليها بنزولها بعد الهجرة دونهن فالأمر واضح، وستطلع أيضا إن شاء الله تعالى على ما يوجب استثناء غير ذلك، وبالجملة متى قيل المدار في أمثال هذه المقامات صريح النقل تعين القول بأن الآية مكية بمعنى أنها نزلت قبل الهجرة، وأشكل الاستدلال بها على تحريم المتعة بعد تحليلها بعد الهجرة لكون دليل التحليل مخصصا لعمومها، ومذهب الأئمة الأربعة جواز تخصيص عموم القرآن بالسنة مطلقا وهو المختار ويحتاج حينئذ إلى دليل غيرها على التحريم، وبعد ثبوت الدليل تكون هي دليلا آخر بمعونته وهذا الدليل الأخبار الصحيحة من تحريم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إياها وقد تقدم بعضها، وفي صحيح مسلم عنه عليه الصلاة والسلام «كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وقد حرم الله تعالى ذلك إلى يوم القيامة» . وأخرج الحازمي بسنده إلى جابر قال: «خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى غزوة تبوك حتى إذا كنا عند العقبة مما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 212 يلي الشام جاءت نسوة فذكرنا تمتعنا وهن يطفن في رحالنا فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنظر إليهن وقال: من هؤلاء النسوة؟ فقلنا: يا رسول الله نسوة تمتعنا منهن فغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى احمرت وجنتاه وتمعر وجهه وقام فينا خطيبا فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم نهى عن المتعة فتوادعنا يومئذ الرجال والنساء ولم نعد ولا نعود أبدا» ، وقد روى تحريمها عنه عليه الصلاة والسلام أيضا عليّ كرم الله تعالى وجهه وجاء ذلك في صحيح مسلم ووقع على ما قيل إجماع الصحابة على أنها حرام وصح عند بعض رجوع ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إلى القول بالحرمة بعد قوله بحلها مطلقا أو وقت الاضطرار إليها، واستدل ابن الهمام على رجوعه بما رواه الترمذي عنه أنه قال: إنما كانت المتعة في أول الإسلام كان الرجل يقدم البلد ليس له بها معرفة فيتزوج بقدر ما يرى أنه مقيم فتحفظ له متاعه وتصلح له شأنه حتى إذا نزلت الآية إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. قال ابن عباس: فكل فرج سواهما فهو حرام، ولا أدري ما عنى بأول الإسلام فإن عنى ما كان في مكة قبل الهجرة أفاد الخبر أنها كانت تفعل قبل إلى أن نزلت الآية فإن كان نزولها قبل الهجرة فلا إشكال في الاستدلال بها على الحرمة لو لم يكن بعد نزولها إباحة لكنه قد كان ذلك، وإن عنى ما كان بعد الهجرة أوائلها وأنها كانت مباحة إذ ذاك إلى أن نزلت الآية كان ذلك قولا بنزول الآية بعد الهجرة وهو خلاف ما روي عنه من أن السورة مكية المتبادر منه الاصطلاح الأول ولعله يلتزم ذلك ويقال: إن استدلاله بالآية قوله باستثنائها كما مر آنفا أو يقال: إن هذا الخبر لم يصح، ويؤيدها قول العلامة ابن حجر: إن حكاية الرجوع عن ابن عباس لم تصح بل صح كما قال بعضهم عن جمع أنهم وافقوه في الحل لكن خالفوه فقالوا: لا يترتب على ذلك أحكام النكاح، وبهذا نازع الزركشي في حكاية الإجماع فقال: الخلاف محقق وإن ادعى جمع نفيه انتهى. ويفهم منه أن ابن عباس يدخل المستمتع بها في الأزواج وحينئذ لا تقوم الآية دليلا عليه فتدبر. ونسب القول بجواز المتعة إلى مالك رضي الله تعالى عنه وهو افتراء عليه بل هو كغيره من الأئمة قائل بحرمتها بل قيل إنه زيادة على القول بالحرمة يوجب الحد على المستمتع لم يوجبه غيره من القائلين بالحرمة لمكان الشبهة. وكذا اختلف في استمناء الرجل بيده ويسمى الخضخضة وجلد عميرة فجمهور الأئمة على تحريمه وهو عندهم داخل فيما وراء ذلك، وكان أحمد بن حنبل يجيزه لأن المني فضلة في البدن فجاز إخراجها عند الحاجة كالفصد والحجامة، وقال ابن الهمام: يحرم فإن غلبته الشهوة ففعل إرادة تسكينها به فالرجاء أن لا يعاقب ومن الناس من منع دخوله فيما ذكر ففي البحر: كان قد جرى لي في ذلك كلام مع قاضي القضاة أبي الفتح محمد بن علي ابن مطيع القشيري بن دقيق العيد فاستدل على منع ذلك بهذه الآية فقلت: إن ذلك خرج مخرج ما كانت العرب تفعله من الزنا والتفاخر به في أشعارها وكان ذلك كثيرا فيهم بحيث كان في بغاياهم صاحبات رايات ولم يكونوا ينكرون ذلك وأما جلد عميرة فلم يكن معهودا فيهم ولا ذكره أحد منهم في شعر فيما علمناه فليس بمندرج فيما وراء ذلك انتهى، وأنت تعلم أنه إذا ثبت أن جلد عميرة كناية عن الاستمناء باليد عند العرب كما هو ظاهر عبارة القاموس فالظاهر أن هذا الفعل كان موجودا فيما بينهم وإن لم يكن كثيرا شائعا كالزنا فمتى كان ذلك من أفراد العام لم يتوقف اندراجه تحته على شيوعه كسائر أفراده، وفي الأحكام إذا كان من عادة المخاطبين تناول طعام خاص مثلا فورد خطاب عام بتحريم الطعام نحو حرمت عليكم الطعام فقد اتفق الجمهور من العلماء على إجراء اللفظ على عمومه في تحريم كل طعام على وجه يدخل فيه المعتاد وغيره وأن العادة لا تكون منزلة للعموم على تحريم المعتاد دون غيره خلافا لأبي حنيفة عليه الرحمة وذلك لأن الحجة إنما هي في اللفظ الوارد وهو مستغرق لكل مطعوم بلفظه ولا ارتباط له بالعوائد وهو حاكم على العوائد فلا تكون العوائد حاكمة عليه، نعم لو كانت العادة في الطعام المعتاد أكله قد خصصت بعرف الجزء: 9 ¦ الصفحة: 213 الاستعمال اسم الطعام بذلك كما خصصت الدابة بذوات القوائم الأربع لكان لفظ الطعام منزلا عليه دون غيره ضرورة تنزيل مخاطبة الشارع للعرب على ما هو المفهوم لهم من لغتهم. والفرق أن العادة أولا إنما هي مطردة في اعتياد أكل ذلك الطعام المخصوص فلا تكون قاضية على ما اقتضاه عموم لفظ الطعام، وثانيا هي مطردة في تخصيص اسم الطعام بذلك الطعام الخاص فتكون قاضية على الاستعمال الأصلي اهـ، ومنه يعلم أن الاستمناء باليد إن كان قد جرت عادة العرب على إطلاق ما وراء ذلك عليه دخل عند الجمهور وإن لم تجر عادتهم على فعله وإن كان لم تجر عادتهم على إطلاق ذلك عليه وجرت على إطلاقه على ما عداه من الزنا ونحوه لم يدخل ذلك الفعل في العموم عن الجمهور. ومن الناس من استدل على تحريمه بشيء آخر نحو ما ذكره المشايخ من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ناكح اليد معلون» وعن سعيد بن جبير: عذب الله تعالى أمة كانوا يعبثون بمذاكيرهم ، وعن عطاء: سمعت قوما يحشرون وأيديهم حبالى وأظن أنهم الذين يستمنون بأيديهم والله تعالى أعلم، وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله، ولا يخفى أن كل ما يدخل في العموم تفيد الآية حرمة فعله على أبلغ وجه ونظير ذلك إفادة قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى [الإسراء: 32] حرمة فعل الزنا فافهم. وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ قائمون بحفظها وإصلاحها، وأصل الرعي حفظ الحيوان إما بغذائه الحافظ لحياته أو بذب العدو عنه، ثم استعمل في الحفظ مطلقا، والأمانات جمع أمانة وهي في الأصل مصدر لكن أريد بها هنا ما ائتمن عليه إذ الحفظ للعين لا للمعنى وأما جمعها فلا يعين ذلك إذ المصادر قد تجمع كما قدمنا غير بعيد، وكذا العهد مصدر أريد به ما عوهد عليه لذلك، والآية عند أكثر المفسرين عامة في كل ما ائتمنوا عليه وعوهدوا من جهة الله تعالى ومن جهة الناس كالتكاليف الشرعية والأموال المودعة والأيمان والنذور والعقود ونحوها، وجمعت الأمانة دون العهد قيل لأنها متنوعة متعددة جدا بالنسبة إلى كل مكلف من جهته تعالى ولا يكاد يخلو مكلف من ذلك ولا كذلك العهد. وجوز بعض المفسرين كونها خاصة فيما ائتمنوا عليه وعوهدوا من جهة الناس وليس بذاك، ويجوز عندي أن يراد بالأمانات ما ائتمنهم الله تعالى عليه من الأعضاء والقوى، والمراد برعيها حفظها عن التصرف بها على خلاف أمره عز وجل. وأن يراد بالعهد ما عاهدهم الله تعالى عليه مما أمرهم به سبحانه بكتابه وعلى لسان رسوله صلّى الله عليه وسلّم، والمراد برعيه حفظه عن الإخلال به وذلك بفعله على أكمل وجه فحفظ الأمانات كالتخلية وحفظ العهد كالتحلية، وكأنه جل وعلا بعد أن ذكر حفظهم لفروجهم ذكر حفظهم لما يشملها وغيرها، ويجوز أن تعمم الأمانات بحيث تشمل الأموال ونحوها وجمعها لما فيها لمن التعدد المحسوس المشاهد فتأمل. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو في رواية «لأمانتهم» بالإفراد وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ المكتوبة عليهم كما أخرج ابن المنذر عن أبي صالح وعبد بن حميد عن عكرمة يُحافِظُونَ بتأديتها في أوقاتها بشروطها وإتمام ركوعها وسجودها وسائر أركانها كما روي عن قتادة. وأخرج جماعة عن ابن مسعود أنه قيل: إن الله تعالى يكثر ذكر الصلاة في القرآن الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ [المعارج: 23] وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ قال ذاك على مواقيتها قالوا: ما كنا نرى ذلك إلا على فعلها وعدم تركها قال: تركها الكفر، وقيل: المحافظة عليها المواظبة على فعلها على أكمل وجه. وجيء بالفعل دون الاسم كما في سائر رؤوس الآية السابقة لما في الصلاة من التجدد والتكرر ولذلك جمعت في قراءة السبعة ما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 214 عدا الأخوين وليس ذلك تكريرا لما وصفهم به أولا من الخشوع في جنس الصلاة للمغايرة التامة بين ما هنا وما هناك كما لا يخفى. وفي تصدير الأوصاف وختمها بأمر الصلاة تعظيم لشأنها، وتقديم الخشوع للاهتمام به فإن الصلاة بدونه كلا صلاة بالإجماع وقد قالوا: صلاة بلا خشوع جسد بلا روح، وقيل: تقديمه لعموم ما هنا له أُولئِكَ إشارة إلى المؤمنين باعتبار اتصافهم بما ذكر من الصفات وإيثارها على الإضمار للإشعار بامتيازهم بها عن غيرهم ونزولهم منزلة المشار إليهم حسا، وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو طبقتهم وبعد درجتهم في الفضل والشرف أي أولئك المنعوتون بالنعوت الجليلة المذكورة هُمُ الْوارِثُونَ أي الأحقاء أن يسموا وراثا دون من عداهم ممن لم يتصف بتلك الصفات من المؤمنين، وقيل: ممن ورث رغائب الأموال والذخائر وكرائمها. الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ صفة كاشفة أو عطف بيان أو بدل، وإيّا ما كان ففيه بيان لما يرثونه وتقييد للوراثة بعد إطلاقها تفخيما لها وتأكيدا، والفردوس أعلى الجنان، أخرج عبد بن حميد والترمذي وقال: حسن صحيح غريب عن أنس رضي الله تعالى عنه أن الربيع بنت نضير أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان ابنها الحارث بن سراقة أصيب يوم بدر أصابه سهم غرب فقالت: أخبرني عن حارثة فإن كان أصاب الجنة احتسبت وصبرت وإن كان لم يصب الجنة اجتهدت في الدعاء فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنها جنان في جنة وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى والفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها» وعلى هذا لا إشكال في الحصر على ما أشرنا إليه أولا فإن غير المتصف بما ذكر من الصفات وإن دخل الجنة لا يرث الفردوس التي هي أفضلها، وبتقدير إرثه إياها فهو ليس حقيقا بأن يسمى وارثا لما أن ذلك إنما يكون في الأغلب بعد كد ونصب، وإرثهم إياها من الكفار حيث فوتوها على أنفسهم لأنه تعالى خلق لكل منزلا في الجنة ومنزلا في النار. أخرج سعيد بن منصور وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما منكم من أحد إلا وله منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله فذلك قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ» وقيل الإرث استعارة للاستحقاق وفي ذلك من المبالغة ما فيه لأن الإرث أقوى أسباب الملك، واختير الأول لأنه تفسير رسول الله عليه الصلاة والسلام على ما صححه القرطبي هُمْ فِيها أي في الفردوس وهو على ما ذكره ابن الشحنة مما يؤنث ويذكر. وذكر بعضهم أن التأنيث باعتبار أنه اسم للجنة أو لطبقتها العليا، وقد تقدم لك تمام الكلام في الفردوس. خالِدُونَ لا يخرجون منها أبدا، والجملة إما مستأنفة مقررة لما قبلها وإما حال مقدرة من فاعل يَرِثُونَ أو مفعوله كما قال أبو البقاء إذ فيها ذكر كل منهما، ومعنى الكلام لا يموتون ولا يخرجون منها. وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ لما ذكر سبحانه أولا أحوال السعداء عقبه بذكر مبدئهم ومآل أمرهم في ضمن ما يعمهم وغيرهم وفي ذلك إعظام للمنة عليهم وحث على الاتصاف بالصفات الحميدة وتحمل مؤن التكليفات الشديدة أو لما ذكر إرث الفردوس عقبه بذكر البعث لتوقفه عليه أو لما حث على عبادته سبحانه وامتثال أمره عقبه بما يدل على ألوهيته لتوقف العبادة على ذلك ولعل الأول أولى في وجه مناسبة الآية لما قبلها، ويجوز أن يكون مجموع الأمور المذكورة، واللام واقعة في جواب القسم والواو للاستئناف. وقال ابن عطية: هي عاطفة جملة كلام على جملة وإن تباينتا في المعاني وفيه نظر، والمراد بالإنسان الجنس، والسلالة من سللت الشيء من الشيء إذا استخرجته منه فهي ما سلّ من الشيء واستخرج منه فإن فعالة اسم لما يحصل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 215 من الفعل فتارة تكون مقصودة منه كالخلاصة وأخرى غير مقصودة منه كالقلامة والكناسة والسلالة من قبيل الأول فإنها مقصودة بالسل. وذكر الزمخشري أن هذا البناء يدل على القلة، ومن الأولى ابتدائية متعلقة بالخلق، ومن الثانية يحتمل أن تكون كذلك إلا أنها متعلقة بسلالة على أنها بمعنى مسلولة أو متعلقة بمحذوف وقع صفة لسلالة، ويحتمل أن تكون على هذا تبعيضية وأن تكون بيانية، وجوز أن يكون مِنْ طِينٍ بدلا أو عطف بيان بإعادة الجار، وخلق جنس الإنسان مما ذكر باعتبار خلق أول الأفراد وأصل النوع وهو آدم عليه السلام منه فيكون الكل مخلوقا من ذلك خلقا إجماليا في ضمن خلقه كما مر تحقيقه، وقيل: خلق الجنس من ذلك باعتبار أنه مبدأ بعيد لأفراد الجنس فإنهم من النطف الحاصلة من الغذاء الذي هو سلالة الطين وصفوته، وفيه وصف الجنس بوصف أكثر أفراده لأن خلق آدم عليه السلام لم يكن كذلك أو يقال ترك بيان حاله عليه السلام لأنه معلوم، واقتصر على بيان حال أولاده. وجاء ذلك في بعض الروايات عن ابن عباس، وقيل المراد بالطين آدم عليه السلام على أنه من مجاز الكون، والمراد بالسلالة النطفة وبالإنسان الجنس ووصفه بما ذكر باعتبار أكثر أفراده أو يقال كما قيل آنفا، ولا يخفى خفاء قرينة المجاز وعدم تبادر النطفة من السلالة، وقيل المراد بالإنسان آدم عليه السلام وروي ذلك عن جماعة وما ذهبنا إليه أولا أولى، والضمير في قوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً عائد على الجنس باعتبار أفراده المغايرة لآدم عليه السلام، وإذا أريد بالإنسان أولا آدم عليه السلام فالضمير على ما في البحر عائد على غير مذكور وهو ابن آدم، وجاز لوضوح الأمر وشهرته وهو كما ترى أو على الإنسان والكلام على حذف مضاف أي ثم جعلنا نسله، وقيل يراد بالإنسان أولا آدم عليه السلام وعند عود الضمير عليه ما تناسل منه على سبيل الاستخدام، ومن البعيد جدا أن يراد بالإنسان أفراد بني آدم والضمير عائد عليه ويقدر مضاف في أول الكلام أي ولقد خلقنا أصل الإنسان إلخ، ومثله أن يراد بالإنسان الجنس أو آدم عليه السلام والضمير عائد على سُلالَةٍ والتذكير بتأويل المسلول أو الماء أي ثم صيرنا السلالة نطفة. والظاهر أن نُطْفَةً في سائر الوجوه مفعولا ثانيا للجعل على أنه بمعنى التصيير وهو على الوجه الأخير ظاهر، وأما على وجه عود الضمير على الإنسان فلا بد من ارتكاب مجاز الأول بأن يراد بالإنسان ما سيصير إنسانا، ويجوز أن يكون الجعل بمعنى الخلق المتعدي إلى مفعول واحد ويكون نُطْفَةً منصوبا بنزع الخافض واختاره بعض المحققين أي ثم خلقنا الإنسان من نطفة كائنة فِي قَرارٍ أي مستقر وهو في الأصل من قريقر قرارا بمعنى ثبت ثبوتا وأطلق على ذلك مبالغة، والمراد به الرحم ووصفه بقوله تعالى: مَكِينٍ أي متمكن مع أن التمكن وصف ذي المكان وهو النطفة هنا على سبيل المجاز كما يقال طريق سائر، وجوز أن يقال: إن الرحم نفسها متمكنة ومعنى تمكنها أنها لا تنفصل لثقل حملها أولا تمج ما فيها فهو كناية عن جعل النطفة محرزة مصونة وهو وجه وجيه ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً أي دما جامدا وذلك بإفاضة أعراض الدم عليها فتصيرها دما بحسب الوصف، وهذا من باب الحركة في الكيف فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً أي قطعة لحم بقدر ما يمضغ لا استبانة ولا تمايز فيها، وهذا التصيير على ما قيل بحسب الذات كتصيير الماء حجرا وبالعكس، وحقيقته إزالة الصورة الأولى عن المادة وإفاضة صورة أخرى عليها وهو من باب الكون والفساد ولا يخلو ذلك من الحركة في الكيفية الاستعدادية فإن استعداد الماء مثلا للصورة الأولى الفاسدة يأخذ في الانتقاص واستعداده للصورة الثانية الكائنة يأخذ في الاشتداد ولا يزال الأول ينقص والثاني يشتد إلى أن تنتهي المادة إلى حيث تزول عنها الصورة الأولى فتحدث فيها الثانية دفعة فتتوارد هذه الاستعدادات التي هي من مقولة الكيف على موضوع واحد فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ غالبها ومعظمها أو كلها عِظاماً الجزء: 9 ¦ الصفحة: 216 صغارا وعظاما حسبما تقتضيه الحكمة وذلك التصيير بالتصليب لما يراد جعله عظاما من المضغة وهذا أيضا تصيير بحسب الوصف فيكون من الباب الأول. وفي كلام العلامة البيضاوي إشارة ما إلى مجموع ما ذكرنا وهو يستلزم القول بأن النطفة والعلقة متحدان في الحقيقة وإنما الاختلاف بالأعراض كالحمرة والبياض مثلا وكذا المضغة والعظام متحدان في الحقيقة وإنما الاختلاف بنحو الرخاوة والصلابة وأن العلقة والمضغة مختلفان في الحقيقة كما أنهما مختلفان بالأعراض. والظاهر أنه تتعاقب في جميع هذه الأطوار على مادة واحدة صور حسب تعاقب الاستعدادات إلى أن تنتهي إلى الصورة الإنسانية، ونحن نقول به إلى أن يقوم الدليل على خلافه فتدبر فَكَسَوْنَا الْعِظامَ المعهودة لَحْماً أي جعلنا ساترا لكل منها كاللباس، وذلك اللحم يحتمل أن يكون من لحم المضغة بأن لم تجعل كلها عظاما بل بعضها ويبقى البعض فيمد على العظام حتى يسترها، ويحتمل أن يكون لحما آخر خلقه الله تعالى على العظام من دم في الرحم. وجمع الْعِظامَ دون غيرها مما في الأطوار لأنها متغايرة هيئة وصلابة بخلاف غيرها ألا ترى عظم الساق وعظم الأصابع وأطراف الأضلاع، وعدة العظام مطلقا على ما قيل مائتان وثمانية وأربعون عظما وهي عدة رحم بالجمل الكبير، وجعل بعضهم هذه عدة أجزاء الإنسان والله تعالى أعلم. وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبان والمفضل والحسن وقتادة وهارون والجعفي ويونس عن أبي عمرو وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما بإفراد الْعِظامَ في الموضعين اكتفاء باسم الجنس الصادق على القليل والكثير مع عدم اللبس كما في قوله: «كلوا في بعض بطنكم تعفوا» . واختصاص مثل ذلك بالضرورة على ما نقل عن سيبويه لا يخلو عن نظر، وفي الإفراد هنا مشاكلة لما ذكر قبل في الأطوار كما ذكره ابن جني. وقرأ السلمي وقتادة أيضا والأعرج والأعمش ومجاهد وابن محيصن بإفراد الأول وجمع الثاني. وقرأ أبو رجاء وإبراهيم بن أبي بكر ومجاهد أيضا بجمع الأول وإفراد الثاني ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ مباينا للخلق الأول مباينة ما أبعدها حيث جعل حيوانا ناطقا سميعا بصيرا وأودع كل عضو منه وكل جزء عجائب وغرائب لا تدرك بوصف ولا تبلغ بشرح، ومن هنا قيل: وتزعم أنك جرم صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبر وقيل الخلق الآخر الروح والمراد بها النفس الناطقة. والمعنى أنشأنا له أو فيه خلقا آخر، والمتبادر من إنشاء الروح خلقها وظاهر العطف بثم يقتضي حدوث البدن وهو قول أكثر الإسلاميين وإليه ذهب أرسطو، وقيل إنشاؤها نفخها في البدن وهو عند بعض عبارة عن جعلها متعلقة به، وعند أكثر المسلمين جعلها سارية فيه، وإذا أريد بالروح الروح الحيوانية فلا كلام في حدوثها بعد البدن وسريانها فيه، وقيل: الخلق الآخر القوى الحساسة، وقال الضحاك ويكاد يضحك منه فيما أخرجه عنه عبد بن حميد: الخلق الآخر الأسنان والشعر فقيل له: أليس يولد وعلى رأسه الشعر؟ فقال: فأين العانة والإبط، وما أشرنا إليه من كون ثُمَّ للترتيب الزماني هو ما يقتضيه أكثر استعمالاتها، ويجوز أن تكون للترتيب الرتبي فإن الخلق الثاني أعظم من الأول ورتبته أعلى وجاءت المعطوفات الأول بعضها بثم وبعضها بالفاء ولم يجىء جميعها بثم أو بالفاء مع صحة ذلك في مثلها للإشارة إلى تفاوت الاستحالات فالمعطوف بثم مستبعد حصوله مما قبله فجعل الاستبعاد عقلا أو رتبة بمنزلة التراخي والبعد الحسي لأن حصول النطفة من أجزاء ترابية غريب جدا وكذا جعل النطفة البيضاء السيالة دما أحمر جامدا بخلاف جعل الدم لحما مشابها له في اللون والصورة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 217 وكذا تصليب المضغة حتى تصير عظما وكذا مد لحمها عليه ليستره كذا قيل ولا يخلو عن قيل وقال. واستدل الإمام أبو حنيفة بقوله تعالى: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ إلخ على أن من غصب بيضة فأفرخت عنده لزمه ضمان البيضة لا الفرخ لأنه خلق آخر، قال في الكشف: وفي هذا الاستدلال نظر على أصل مخالفيه لأن مباينته للأول لا تخرجه عن ملكه عندهم، وقال صاحب التقريب: إن تضمينه للفرخ لكونه جزءا من المغضوب لا لكونه عينه أو مسمى باسمه، وفي هذا بحث وفي المسألة خلاف كثير وكلام طويل يطلب من كتب الفروع المبسوطة. وقال الإمام: قالوا في الآية دلالة على بطلان قول النظام: إن الإنسان هو الروح لا البدن فإنه تعالى بين فيها أن الإنسان مركب من هذه الأشياء، وعلى بطلان قول الفلاسفة: إن الإنسان لا ينقسم وإنه ليس بجسم وكأنهم أرادوا أن الإنسان هو النفس الناطقة والروح الأمرية المجردة فإنها التي ليست بجسم عندهم ولا تقبل الانقسام بوجه وليست داخل البدن ولا خارجه فَتَبارَكَ اللَّهُ فتعالى وتقدس شأنه سبحانه في علمه الشامل وقدرته الباهرة، و (تبارك) فعل ماض لا يتصرف والأكثر إسناده إلى غير مؤنث، والالتفات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة والإشعار بأن ما ذكر من الأفاعيل العجيبة من أحكام الألوهية وللإيذان بأن حق كل من سمع ما فصل من آثار قدرته عز وجل أو لاحظه أن يسارع إلى التكلم به إجلالا وإعظاما لشؤونه جل وعلا أَحْسَنُ الْخالِقِينَ نعت للاسم الجليل، وإضافة أفعل التفضيل محضة فتفيده تعريفا إذا أضيف إلى معرفة على الأصح. وقال أبو البقاء: لا يجوز أن يكون نعتا لأنه نكرة وإن أضيف لأن المضاف إليه عوض عن- من- وهكذا جميع باب أفعل منك وجعله بدلا وهو يقل في المشتقات أو خبر مبتدأ مقدر أي هو أحسن الخالقين والأصل عدم التقدير، وتميز أفعل محذوف لدلالة الخالقين عليه أي أحسن الخالقين خلقا فالحسن للخلق قيل: نظيره قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تعالى جميل يحب الجمال» أي جميل فعله فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فانقلب مرفوعا فاستتر، والخلق بمعنى التقدير وهو وصف يطلق على غيره تعالى كما في قوله تعالى: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ [المائدة: 110] وقول زهير: ولأنت تفري ما خلقت ... وبعض القوم يخلق ثم لا يفري وفي معنى ذلك تفسيره بالصنع كما فعل ابن عطية، ولا يصح تفسيره بالإيجاد عندنا إذ لا خالق بذلك المعنى غيره تعالى إلا أن يكون على الفرض والتقدير. والمعتزلة يفسرونه بذلك لقولهم بأن العبد خالق لأفعاله وموجد لها استقلالا فالخالق الموجد متعدد عندهم، وقد تكفلت الكتب الكلامية بردهم. ومعنى حسن خلقه تعالى إتقانه وإحكامه، ويجوز أن يراد بالحسن مقابل القبح وكل شيء منه عز شأنه حسن لا يتصف بالقبح أصلا من حيث إنه منه فلا دليل فيه للمعتزلة بأنه تعالى لا يخلق الكفر والمعاصي كما لا يخفى. روي أن عبد الله بن سعيد بن أبي سرح كان يكتب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأملى عليه صلّى الله عليه وسلّم قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ حتى إذا بلغ عليه الصلاة والسلام ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ نطق عبد الله بقوله تعالى: فَتَبارَكَ اللَّهُ إلخ قبل إملائه فقال له عليه الصلاة والسلام: هكذا نزلت فقال عبد الله: إن كان محمد نبيا يوحى إليه فأنا نبي يوحى إليّ فارتد ولحق بمكة كافرا ثم أسلم قبل وفاته عليه الصلاة والسلام وحسن إسلامه، وقيل: مات كافرا، وطعن بعضهم في صحة هذه الرواية بأن السورة مكية وارتداده بالمدينة كما تقتضيه الرواية، وأجيب بأنه يمكن الجمع بأن تكون الآية نازلة بمكة واستكتبها صلّى الله عليه وسلّم إياه بالمدينة فكان ما كان أو يلتزم كون الآية مدنية لهذا الخبر، وقوله: إن السورة مكية باعتبار الأكثر وعلى هذا يكون اقتصار الجلال السيوطي على استثناء قوله تعالى: حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ إلى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 218 قوله سبحانه: مُبْلِسُونَ قصورا فتذكر. وتروى هذه الموافقة عن معاذ بن جبل. أخرج ابن راهويه وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وابن مردويه عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال: أملى عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ إلى قوله: خَلْقاً آخَرَ فقال معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال له معاذ: مم ضحكت يا رسول الله؟ قال: «بها ختمت» ورويت أيضا عن عمر رضي الله عنه ، أخرج الطبراني، وأبو نعيم في فضائل الصحابة وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما نزلت وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ إلى آخر الآية قال عمر رضي الله تعالى عنه: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فنزلت كما قال. وأخرج ابن عساكر، وجماعة عن أنس أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يفتخر بذلك ويذكر أنها إحدى موافقاته الأربع لربه عز وجل، ثم إن ذلك من حسن نظم القرآن الكريم حيث تدل صدور كثير من آياته على إعجازها، وقد مدحت بعض الأشعار بذلك فقيل: قصائد إن تكن تتلى على ملإ ... صدورها علمت منها قوافيها لا يقال: فقد تكلم البشر ابتداء بمثل نظم القرآن الكريم وذلك قادح في إعجازه لما أن الخارج عن قدرة البشر على الصحيح ما كان مقدار أقصر سورة منه على أن إعجاز هذه الآية الكريمة منوط بما قبلها كما تعرب عنه الفاء فإنها اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ أي بعد ما ذكر من الأمور العجيبة حسبما ينبىء عنه ما في اسم الإشارة من معنى البعد المشعر بعلو رتبة المشار إليه وبعد منزلته في الفضل والكمال وكونه بذلك ممتازا منزلا منزلة الأمور الحسية لَمَيِّتُونَ أي لصائرون إلى الموت لا محالة كما يؤذن به اسمية الجملة وإن اللام وصيغة النعت الذي هو للثبوت، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وابن أبي عبلة وابن محيصن «لمائتون» وهو اسم فاعل يراد به الحدوث، قال الفراء وابن مالك: إنما يقال مايت في الاستقبال فقط. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عند النفخة الثانية تُبْعَثُونَ من قبوركم للحساب والمجازاة بالثواب والعقاب، ولم يؤكد سبحانه أمر البعث تأكيده لأمر الموت مع كثرة المترددين فيه والمنكرين له اكتفاء بتقديم ما يغني عن كثرة التأكيد ويشيد أركان الدعوى أتم تشييد من خلقه تعالى الإنسان من سلالة من طين ثم نقله من طور إلى طور حتى أنشأه خلقا آخر يستغرق العجائب ويستجمع الغرائب فإن في ذلك أدل دليل على حكمته وعظيم قدرته عز وجل على بعثه وإعادته وأنه جل وعلا لا يهمل أمره ويتركه بعد موته نسيا منسيا مستقرا في رحم العدم كأن لم يكن شيئا، ولما تضمنت الجملة السابقة المبالغة في أنه تعالى شأنه أحكم خلق الإنسان وأتقنه بالغ سبحانه عز وجل في تأكيد الجملة الدالة على موته مع أنه غير منكر لما أن ذلك سبب لاستبعاد العقل إياه أشد استبعاد حتى يوشك أن ينكر وقوعه من لم يشاهده وسمع أن الله جل جلاله أحكم خلق الإنسان وأتقنه غاية الإتقان، وهذا وجه دقيق لزيادة التأكيد في الجملة الدالة على الموت وعدم زيادته في الجملة الدالة على البعث لم أر أني سبقت إليه، وقيل في ذلك: إنه تعالى شأنه لما ذكر في الآيات السابقة من التكليفات ما ذكر نبه على أنه سبحانه أبدع خلق الإنسان وقلبه في الأطوار حتى أوصله إلى طور هو غاية كماله وبه يصح تكليفه بنحو تلك التكليفات وهو كونه حيا عاقلا سميعا بصيرا وكان ذلك مستدعيا لذكر طور يقع فيه الجزاء على ما كلفه تعالى به وهو أن يبعث يوم القيامة فنبه سبحانه عليه بقوله: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ فالمقصود الأهم بعد بيان خلقه وتأهله للتكليف بيان بعثه لكن وسط حديث الموت لأنه برزخ بين طوره الذي تأهل به للأعمال التي تستدعي الجزاء وبين بعثه فلا بد من قطعه للوصول إلى ذلك فكأنه قيل: أيها المخلوق العجيب الشأن إن ماهيتك وحقيقتك تفنى وتعدم ثم إنها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 219 بعينها من الأجزاء المتفرقة والعظام البالية والجلود المتمزقة المتلاشية في أقطار الشرق والغرب تبعث وتنشر ليوم الجزاء لإثابة من أحسن فيما كلفناه به وعقاب من أساء فيه، فالقرينة الثانية وهي الجملة الدالة على البعث لم تفتقر إلى التوكيد افتقار الأولى وهي الجملة الدالة على الموت لأنها كالمقدمة لها وتوكيدها راجع إليها، ومنه يعلم سر نقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب انتهى، وفيه من البعد ما فيه. وقيل: إنما بولغ في القرينة الأولى لتمادي المخاطبين في الغفلة فكأنهم نزلوا منزلة المنكرين لذلك وأخليت الثانية لوضوح أدلتها وسطوع براهينها، قال الطيبي: هذا كلام حسن لو ساعد عليه النظم الفائق، وربما يقال: إن شدة كراهة الموت طبعا التي لا يكاد يسلم منها أحد نزلت منزلة شدة الإنكار فبولغ في تأكيد الجملة الدالة عليه، وأما البعث فمن حيث إنه حياة بعد الموت لا تكرهه النفوس ومن حيث إنه مظنة للشدائد تكرهه فلما لم يكن حاله كحال الموت ولا كحال الحياة بل بين بين أكدت الجملة الدالة عليه تأكيدا واحدا، وهذا وجه للتأكيد لم يذكره أحد من علماء المعاني ولا يضر فيه ذلك إذا كان وجيها في نفسه، وتكرير حرف التراخي للإيذان بتفاوت المراتب، وقد تضمنت الآية ذكر تسعة أطوار ووقع الموت فيها الطور الثامن ووافق ذلك أن من يولد لثمانية أشهر من حمله قلما يعيش، ولم يذكر سبحانه طور الحياة في القبر لأنه من جنس الإعادة وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ إن لخلق ما يحتاج إليه بقاؤهم إثر بيان خلقهم، وقيل: استدلال على البعث أي خلقنا في جهة العلو من غير اعتبار فوقيتها لهم لأن تلك النسبة إنما تعرض بعد خلقهم سَبْعَ طَرائِقَ هي السماوات السبع، وطَرائِقَ جمع طريقة بمعنى مطروقة من طرق النعل والخوافي إذ وضع طاقاتها بعضها فوق بعض قاله الخليل والفراء والزجاج، فهذا كقوله تعالى: طِباقاً [الملك: 3، نوح: 15] ولكل من السبع نسبة وتعلق بالمطارقة فلا تغليب، وقيل: جمع طريقة بمعناها المعروف وسميت السماوات بذلك لأنها طرائق الملائكة عليهم السلام في هبوطهم وعروجهم لمصالح العباد أو لأنها طرائق الكواكب في مسيرها. وقال ابن عطية: يجوز أن يكون الطرائق بمعنى المبسوطات من طرقت الحديد مثلا إذا بسطته وهذا لا ينافي القول بكريتها، وقيل: سميت طرائق لأن كل سماء طريقة وهيئة غير هيئة الأخرى، وأنت تعلم أن الظاهر أن الهيئة واحدة، نعم أودع الله تعالى في كل سماء ما لم يودعه سبحانه في الأخرى فيجوز أن تكون تسميتها طرائق لذلك وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ أي عن جميع المخلوقات التي من جملتها السماوات السبع غافِلِينَ مهملين أمره بل نفيض على كل ما تقتضيه الحكمة، ويجوز أن يراد بالخلق الناس، والمعنى أن خلقنا السماوات لأجل منافعهم ولسنا غافلين عن مصالحهم، وأل على الوجهين للاستغراق وجوز أن تكون للعهد على أن المراد بالخلق المخلوق المذكور وهو السماوات السبع أي وما كنا عنها غافلين بل نحفظها عن الزوال والاختلال وندبر أمرها، والإظهار في مقام الإضمار للاعتناء بشأنها، وإفراد الخلق على سائر الأوجه لأنه مصدر في الأصل أو لأن المتعدد عنده تعالى في حكم شيء واحد. وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً هو المطر عند كثير من المفسرين، والمراد بالسماء جهة العلو أو السحاب أو معناها المعروف ولا يعجز الله تعالى شيء، وكان الظاهر على هذا- منها- بدل السَّماءِ ليعود الضمير على الطرائق إلا أنه عدل عنه إلى الإضمار لأن الإنزال منها لا يعتبر فيه كونها طرائق بل مجرد كونها جهة العلو، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح للاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر، وقوله تعالى: بِقَدَرٍ صفة ماءً أي أنزلنا ماء متلبسا بمقدار ما يكفيهم في حاجهم ومصالحهم أو بتقدير لائق لاستجلاب منافعهم ودفع مضارهم، وجوز على هذا أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 220 يكون في موضع الحال من الضمير، وقيل: هو صفة لمصدر محذوف أي إنزالا متلبسا بذلك، وقيل: في الجار والمجرور غير ذلك فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ أي جعلناه ثابتا قارا فيها ومن ذلك ماء العيون ونحوها، ومعظم الفلاسفة يزعمون أن ذلك الماء من انقلاب البخار المحتبس في الأرض ماء إذا مال إلى جهة منها وبرد وليس لماء المطر دخل فيه، وكونه من السماء باعتبار أن لأشعة الكواكب التي فيها مدخلا فيه من حيث الفاعلية. وقال ابن سينا في نجاته: هذه الأبخرة المحتبسة في الأرض إذا انبعث عيونا أمدت البحار بصب الأنهار إليها ثم ارتفع من البحار والبطائح وبطون الجبال خاصة أبخرة أخرى ثم قطرت ثانيا إليها فقامت بدل ما يتحلل منها على الدور دائما. وما في الآية يؤيد ما ذهب إليه أبو البركات البغدادي منهم فقد قال في المعتبر: إن السبب في العيون والقنوات وما يجري مجراها هو ما يسيل من الثلوج ومياه الأمطار لأنا نجدها تزيد بزيادتها وتنقص بنقصانها وإن استحالة الأهوية والأبخرة المنحصرة في الأرض لا مدخل لها في ذلك فإن باطن الأرض في الصيف أشد بردا منه في الشتاء فلو كان ذلك سبب استحالتها لوجب أن تكون العيون والقنوات ومياه الآبار في الصيف أزيد وفي الشتاء أنقص مع أن الأمر بخلاف ذلك على ما دلت عليه التجربة انتهى، واختار القاضي حسين المبيدي أن لكل من الأمرين مدخلا، واعترض على دليل أبي البركات بأنه لا يدل إلا على نفي كون تلك الاستحالة سببا تاما وأما على أنها لا مدخل لها أصلا فلا. والحق ما يشهد له كتاب الله تعالى فهو سبحانه أعلم بخلقه، وكل ما يذكره الفلاسفة في أمثال هذه المقامات لا دليل لهم عليه يفيد اليقين كما أشار إليه شارح حكمة العين، وقيل: المراد بهذا الماء ماء أنهار خمسة، فقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أنزل الله تعالى من الجنة إلى الأرض خمسة أنهار سيحون وهو نهر الهند وجيحون وهو نهر بلخ ودجلة والفرات وهما نهرا العراق والنيل وهو نهر مصر أنزلها الله تعالى من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي جبريل عليه السلام فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض» وجعلها منافع للناس في أصناف معايشهم وذلك قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله تعالى جبريل عليه السلام فرفع من الأرض القرآن والعلم كله والحجر من ركن البيت ومقام إبراهيم عليه السلام وتابوت موسى عليه السلام بما فيه وهذه الأنهار الخمسة فيرفع كل ذلك إلى السماء فذلك قول الله تعالى: وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض فقد أهلها خير الدنيا والآخرة. ولا يخفى على المتتبع أن هذا الخبر أخرجه ابن مردويه والخطيب بسند ضعيف، نعم حديث أربعة أنهار من الجنة سيحان وجيحان وهما غير سيحون وجيحون لأنهما نهران بالعواصم عند المصيصة وطرسوس وسيحون وجيحون نهرا الهند وبلخ كما سمعت على ما قاله ابن عبد البر والفرات والنيل صحيح لكن الكلام في تفسير الآية بذلك. وعن مجاهد أنه حمل الماء على ما يعم ماء المطر وماء البحر وقال ليس في الأرض ماء إلا وهو من السماء، وأنت تعلم أن الأوفق بالأخبار وبما يذكر بعد في الآية الكريمة كون المراد به ما عدا ماء البحر. إِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ أي على إزالته بإخراجه عن المائية أو بتغويره بحيث يتعذر استخراجه أو بنحو ذلك لَقادِرُونَ كما كنا قادرين على إنزاله، فالجملة في موضع الحال وفي تنكير ذَهابٍ إيماء إلى كثرة طرقه لعموم النكرة وإن كانت في الإثبات وبواسطة ذلك تفهم المبالغة في الإثبات، وهذه الآية أكثر مبالغة من قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ [الملك: 30] . وذكر صاحب التقريب ثمانية عشر وجها للأبلغية، الأول أن ذلك على الفروض والتقدير، وهذا الجزم على معنى أنه أدل على تحقيق ما أوعد به وإن لم يقع، الثاني التوكيد بأن الثالث اللام في الخبر الرابع أن هذه في مطلق الماء المنزل من السماء وتلك في ماء مضاف إليهم الخامس أن الغائر قد يكون باقيا بخلاف الذاهب السادس ما في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 221 تنكير ذَهابٍ من المبالغة السابع اسناده هاهنا إلى مذهب بخلافه تمت حيث قيل غَوْراً. الثامن ما في ضمير المعظم نفسه من الروعة التاسع ما في «قادرون» من الدلالة على القدرة عليه والفعل الواقع من القادر أبلغ. العاشر ما في جمعه. الحادي عشر ما في لفظ بِهِ من الدلالة على أن ما يمسكه فلا مرسل له، الثاني عشر إخلاؤه من التعقيب بأطماع وهنالك ذكر الإتيان المطمع. الثالث عشر تقديم ما فيه الإيعاد وهو الذهاب على ما هو كالمتعلق له أو متعلقة على المذهبين البصري والكوفي. الرابع عشر ما بين الجملتين الاسمية والفعلية من التفاوت ثباتا وغيره. الخامس عشر ما في لفظ «أصبح» من الدلالة على الانتقال والصيرورة. السادس عشر أن الإذهاب هاهنا مصرح به. وهنالك مفهوم من سياق الاستفهام. السابع عشر أن هنالك نفي ماء خاص أعني المعين بخلافه هاهنا. الثامن عشر اعتبار مجموع هذه الأمور التي يكفي كل منها مؤكدا. ثم قال: هذا ما يحضرنا الآن والله تعالى أعلم اهـ. وفي النفس من عد الأخير وجها شيء. وقد يزاد على ذلك فيقال: التاسع عشر إخباره تعالى نفسه به من دون أمر للغير هاهنا بخلافه هنالك فإنه سبحانه أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول ذلك. العشرون عدم تخصيص مخاطب هاهنا وتخصيص الكفار بالخطاب هنالك. الحادي والعشرون التشبيه المستفاد من جعل الجملة حالا كما أشرنا إليه فإنه يفيد تحقيق القدرة ولا تشبيه ثمت. الثاني والعشرون إسناد القدرة إليه تعالى مرتين، وقد زاد بعض أجلة أهل العصر المعاصرين سلاف التحقيق من كرم أذهانهم الكريمة أكرم عصر أعني به ثالث الرافعي والنواوي أخي الملا محمد أفندي الزهاوي فقال: الثالث والعشرون تضمين الإيعاد هنا إيعادهم بالإبعاد عن رحمة الله تعالى لأن ذهب به يستلزم مصاحبة الفاعل المفعول وذهاب الله تعالى عنهم مع الماء بمعنى ذهاب رحمته سبحانه عنهم ولعنهم وطردهم عنها ولا كذلك ما هناك. الرابع والعشرون أنه ليس الوقت للذهاب معينا هنا بخلافه في إِنْ أَصْبَحَ فإنه يفهم منه أن الصيرورة في الصبح على أحد استعمالي أصبح ناقصا. الخامس والعشرون أن جهة الذهاب به ليست معينة بأنها السفل. السادس والعشرون أن الإيعاد هنا بما لم يبتلوا به قط بخلافه بما هنالك. السابع والعشرون إن الموعد به هنا إن وقع فهم هالكون البتة. الثامن والعشرون أنه لم يبق هنا لهم متشبث ولو ضعيفا في تأميل امتناع الموعد به وهناك حيث أسند الإصباح غورا إلى الماء ومعلوم أن الماء لا يصبح غورا بنفسه كما هو تحقيق مذهب الحكيم أيضا احتمل أن يتوهم الشرطية مع صدقها ممتنعة المقدم فيأمنوا وقوعه. التاسع والعشرون أن الموعد به هنا يحتمل في بادي النظر وقوعه حالا بخلافه هناك فإن المستقبل متعين لوقوعه لمكان إِنْ وظاهر أن التهديد بمحتمل الوقوع في الحال أهول ومتعين الوقوع في الاستقبال أهون. الثلاثون أن ما هنا لا يحتمل غير الإيعاد بخلاف ما هناك فإنه يحتمل ولو علم بعد أن يكون المراد به الامتنان بأنه إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فلا يأتيكم بماء معين سوى الله تعالى، ويؤيده ما سن بعده من قول الله ربنا ورب العالمين انتهى فتأمل ولا تغفل والله تعالى الهادي لأسرار كتابه. واختيرت المبالغة هاهنا على ما قاله بعض المحققين لأن المقام يقتضيها إذ هو لتعداد آيات الآفاق والأنفس على وجه يتضمن الدلالة على القدرة والرحمة مع كمال عظمة المتصف بهما ولذا ابتدئ بضمير العظمة مع التأكيد بخلاف ما تمت فإنه تتميم للحث على العبادة والترغيب فيها وهو كاف في ذلك فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ أي بذلك الماء وهو ظاهر فيما عليه السلف، وقال الخلف: المراد أنشأنا عنده جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ قدمهما لكثرتهما وكثرة الانتفاع بهما لا سيما في الحجاز والطائف والمدينة لَكُمْ فِيها أي في الجنات فَواكِهُ كَثِيرَةٌ تتفكهون بها وتتنعمون زيادة على المعتاد من الغذاء الأصلي، والمراد بها ما عدا ثمرات النخيل والأعناب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 222 وَمِنْها أي من الجنات والمراد من زروعها وثمارها، ومن ابتدائية وقيل إنها تبعيضية ومضمونها مفعول تَأْكُلُونَ والمراد بالأكل معناه الحقيقي. وجوز أن يكون مجازا أو كناية عن العيش مطلقا أي ومنها ترزقون وتحصلون معايشكم من قولهم فلان يأكل من حرفته، وجوز أن يعود الضميران للنخيل والأعناب أي لكم في ثمراتها أنواع من الفواكه الرطب والعنب والتمر والزبيب والدبس من كل منهما وغير ذلك وطعام تأكلونه فثمرتها جامعة للتفكه والغذاء بخلاف ثمرة ما عداهما وعلى هذا تكون الفاكهة مطلقة على ثمرتهما. وذكر الراغب في الفاكهة قولين: الأول أنها الثمار كلها، والثاني أنها ما عدا العنب والرمان، وصاحب القاموس اختار الأول وقال: قول مخرج التمر والرمان منها مستدلا بقوله تعالى: فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرحمن: 68] باطل مردود، وقد بينت ذلك مبسوسا في اللامع المعلم العجاب اهـ وأنت تعلم أن للفقهاء خلافا في الفاكهة فذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنها التفاح والبطيخ والمشمش والكمثرى ونحوها لا العنب والرمان والرطب، وقال صاحباه: المستثنيات أيضا فاكهة وعليه الفتوى، ولا خلاف كما في القهستاني نقلا عن الكرماني في أن اليابس منها كالزبيب والتمر وحب الرمان ليس بفاكهة. وفي الدر المختار أن الخلاف بين الإمام وصاحبيه خلاف عصر فالعبرة فيمن حلف لا يأكل الفاكهة العرف فيحنث بأكل ما يعد فاكهة عرفا ذكر ذلك الشمني وأقره الغزي، ولا يخفى أن شيئا واحدا يقال له فاكهة في عرف قوم ولا يقال له ذلك في عرف آخرين، ففي النهر عن المحيط ما روي من أن الجوز واللوز فاكهة فهو في عرفهم أما في عرفنا فإنه لا يؤكل للتفكه اهـ، ثم إني لم أر أحدا من اللغويين ولا من الفقهاء عد الدبس فاكهة فتدبر ولا تغفل. وَشَجَرَةً بالنصب عطف على جَنَّاتٍ، وقرىء بالرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف، والأولى تقديره مقدما أي أنشأنا لكم شجرة تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ وهو جبل موسى عليه السلام الذي ناجى ربه سبحانه عنده وهو بين مصر وأيلة، ويقال لها اليوم العقبة، وقيل بفلسطين من أرض الشام، ويقال له طور سينين، وجمهور العرب على فتح سين سيناء والمد. وبذلك قرأ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ويعقوب وأكثر السبعة هو اسم للبقعة والطور اسم للجبل المخصوص أو لكل جبل وهو مضاف إلى سَيْناءَ كما أجمعوا عليه، ويقصد تنكيره على الأول كما في سائر الأعلام إذا أضيفت وعلى الثاني يكون طور سيناء كمنارة المسجد. وجوز أن يكون كامرىء القيس بمعنى أنه جعل مجموع المضاف والمضاف إليه علما على ذلك العلم، وقيل سيناء اسم لحجارة بعينها أضيف الجبل إليها لوجودها عنده. وروي هذا عن مجاهد وفي الصحاح طور سيناء جبل بالشام وهو طور أضيف إلى سيناء وهو شجر وقيل هو اسم الجبل والإضافة من إضافة العام إلى الخاص كما في جبل أحد. وحكي هذا القول في البحر عن الجمهور لكن صحح القول بأنه اسم البقعة وهو ممنوع من الصرف للألف الممدودة فوزنه فعلاء كصحراء، وقيل: منع من الصرف للعلمية والعجمة، وقيل: للعلمية والتأنيث بتأويل البقعة ووزنه فيعال لا فعلال إذ لا يوجد هذا الوزن في غير المضاعف في كلام العرب إلا نادرا كخزعال لظلع الإبل حكاه الفراء ولم يثبته أبو البقاء والأكثرون على أنه ليس بعربي بل هو أما نبطي أو حبشي وأصل معناه الحسن أو المبارك، وجوز بعض أن يكون عربيا من السناء بالمد وهو الرفعة أو السنا بالقصر وهو النور. وتعقبه أبو حيان بأن المادتين مختلفتان لأن عين السناء أو السنا نون وعين سيناء ياء. ورد بأن القائل بذلك يقول الجزء: 9 ¦ الصفحة: 223 إنه فيعال ويجعل عينه النون وياءه مزيدة وهمزته منقلبة عن واو، الحرميان وأبو عمرو والحسن «سيناء» بكسر السين والمد وهي لغة لبني كنانة وهو أيضا ممنوع من الصرف للألف الممدودة عند الكوفيين لأنهم يثبتون أن همزة فعلاء تكون للتأنيث: وعند البصريين ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة أو العلمية والتأنيث لأن ألف فعلاء عندهم لا تكون للتأنيث بل للإلحاق بفعلال كعلباء وحزباء وهو ملحق بقرطاس وسرداح وهمزته منقلبة عن واو أو ياء لأن الإلحاق يكون بهما، وقال أبو البقاء: همزة سيناء بالكسر أصل مثل حملاق وليست للتأنيث إذ ليس في الكلام مثل حمراء والياء أصل إذ ليس في الكلام سناء، وجوز بعضهم أن يكون فيعالا كديماس، وقرأ الأعمش «سينا» بالفتح والقصر، وقرىء «سناء» بالكسر والقصر فألفه للتأنيث إن لم يكن أعجميا، والمراد بهذه الشجرة شجرة الزيتون وتخصيصه بالذكر من بين سائر الأشجار لاستقلالها بمنافع معروفة. وقد قيل هي أول شجرة نبتت بعد الطوفان وتعمر كثيرا، ففي التذكرة أنها تدوم ألف عام ولا تبعد صحته لكن علله بقوله: لتعلقها بالكوكب العالي وهو بعيد الصحة. وفي تفسير الخازن قيل تبقى ثلاثة آلاف سنة وتخصيصها بالوصف بالخروج من الطور مع خروجها من سائر البقاع أيضا وأكثر ما تكون في المواضع التي زاد عرضها على ميلها واشتد بردها وكانت جبلية ذا تربة بيضاء أو حمراء لتعظيمها أو لأنه المنشأ الأصلي لها. ولعل جعله للتعظيم أولى فيكون هذا مدحا لها باعتبار مكانها. وقوله تعالى: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ مدحا لها باعتبار ما هي عليه في نفسها، والباء للملابسة والمصاحبة مثلها في قولك: جاء بثياب السفر وهي متعلقة بمحذوف وقع حالا من ضمير الشجرة أي تنبت ملتبسة بالدهن وهو عصارة كل ما فيه دسم، والمراد به هنا الزيت وملابستها به باعتبار ملابسة ثمرها فإنه الملابس له في الحقيقة. وجوز أن تكون الباء متعلقة بالفعل معدية له كما في قولك: ذهبت بزيد كأنه قيل: تنبت الدهن بمعنى تتضمنه وتحصله، ولا يخفى أن هذا وإن صح إلا أن إنبات الدهن غير معروف في الاستعمال. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وسلام وسهل ورويس والجحدري «تنبت» بضم التاء المثناة من فوق وكسر الباء على أنه من باب الافعال، وخرج ذلك على أنه من أنبت بمعنى نبت فالهمزة فيه ليست للتعدية وقد جاء كذلك في قول زهير: رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم ... قطينا لهم حتى إذا أنبت البقل وأنكر ذلك الأصمعي وقال: إن الرواية في البيت نبت بدون همزة مع أنه يحتمل أن تكون همزة أنبت فيه إن كانت للتعدية بتقدير مفعول أي أنبت البقل ثمره أو ما يأكلون، ومنهم من خرج ما في الآية على ذلك وقال: التقدير تنبت زيتونها بالدهن، والجار والمجرور على هذا في موضع الحال من المفعول أو من الضمير المستتر في الفعل وقيل: الباء زائدة كما في قوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195] ونسبة الإنبات إلى الشجرة بل وإلى الدهن مجازية قال الخفاجي: ويحتمل تعدية أنبت بالباء لمفعول ثان. وقرأ الحسن والزهري وابن هرمز «تنبت» بضم أوله وفتح ما قبل آخره مبنيا للمفعول والجار والمجرور في موضع الحال، وقرأ زر بن حبيش «تنبت» من الافعال «الدهن» بالنصب وقرأ سليمان بن عبد الملك والأشهب «بالدهان» جمع دهن كرماح جمع رمح، وما رووا من قراءة عبد الله تخرج الدهن وقراءة أبي تثمر بالدهن محمول على التفسير ما في البحر لمخالفته سواد المصحف المجمع عليه ولأن الرواية الثابتة عنهما كقراءة الجمهور. وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ معطوف على الدهن، ومغايرته له التي يقتضيها العطف باعتبار المفهوم وإلا فذاتهما واحدة عند كثير من المفسرين، وقد جاء كثيرا تنزيل تغاير المفهومين منزلة تغاير الذاتين، ومنه قوله: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 224 إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم والمعنى تنبت بالشيء الجامع بين كونه دهن يدهن به ويسرج منه وكونه إداما يصبغ فيه الخبز أي يغمس للائتدام قال في المغرب يقال: صبغ الثوب بصبغ حسن وصباغ ومنه الصبغ والصباغ من الإدام لأن الخبز يغمس فيه ويلون به كالخل والزيت، وظاهر هذا اختصاصه بكل إدام مائع وبه صرح في المصباح. وصرح بعضهم بأن إطلاق الصبغ على ذلك مجاز، ولعل في كلام المغرب نوع إشارة إليه وروي عن مقاتل أنه قال: الدهن الزيت والصبغ الزيتون وعلى هذا يكون العطف من عطف المتغايرين ذاتا وهو الأكثر في العطف، ولا بد أن يقال عليه: إن الصبغ الإدام مطلقا وهو ما يؤكل تبعا للخبز في الغالب مائعا كان أم جامدا والزيتون أكثر ما يأكله الفقراء في بلادنا تبعا للخبز والأغنياء يأكلونه تبعا لنحو الأرز وقلما يأكلونه تبعا للخبز، وأنا مشغوف به مذ أنا يافع فكثيرا ما آكله تبعا واستقلالا، وأما الزيت فلم أر في أهل بغداد من اصطبغ منه وشذ من أكل منهم طعاما وهو فيه وأكثرهم يعجب ممن يأكله ومنشأ ذلك قلة وجوده عندهم وعدم الفهم له فتعافه نفوسهم، وقد كنت قديما تعافه نفسي وتدريجا ألفته والحمد لله تعالى، فقد كان صلّى الله عليه وسلّم يأكله. وصح أنه صلّى الله عليه وسلّم طبخ له لسان شاة بزيت فأكل منه ، وأخرج أبو نعيم في الطب عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلوا الزيت وادهنوا به فإنه شفاء من سبعين داء منها الجذام» وأخرج الترمذي في الأطعمة عن عمر رضي الله تعالى عنه مرفوعا «كلوا الزيت وادهنوا به فإنه يخرج من شجرة مباركة» لكن قال بعضهم: هذا الأمر لمن قدر على استعماله ووافق مزاجه وهو كذلك فلا اعتراض على من لم يوافق مزاجه في عدم استعماله بل الظاهر حرمة استعماله عليه إن أضر به كما قالوا بحرمة استعمال الصفراوي للعسل ولا فرق في ذلك بين الأكل والادهان فإن الأدهان به قد يضر كالأكل، قال ابن القيم: الدهن في البلاد الحارة كالحجاز من أسباب حفظ الصحة وإصلاح البدن وهو كالضروري لأهلها وأما في البلاد الباردة فضار وكثرة دهن الرأس بالزيت فيها فيه خطر على البصر انتهى. وقرأ عامر بن عبد الله «وصباغا» وهو بمعنى صبغ كما مرت إليه الإشارة ومنه دبغ ودباغ ونصبه بالعطف على موضع بِالدُّهْنِ وفي تفسير ابن عطية وقرأ عامر بن عبد قيس ومتاعا للآكلين وهو محمول على التفسير. وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً بيان للنعم الواصلة إليهم من جهة الحيوان إثر بيان النعم الفائضة من جهة الماء والنبات وقد بين أنها مع كونها في نفسها نعمة ينتفعون بها على وجوه شتى عبرة لا بد من أن يعتبروا بها ويستدلوا بأحوالها على عظم قدرة الله عز وجل وسابغ رحمته ويشكروه ولا يكفروه، وخص هذا بالحيوان لما أن محل العبرة فيه أظهر. وقوله تعالى: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها تفصيل لما فيها من مواقع العبر. وما في بطونها عبارة إما عن الألبان فمن تبعيضية والمراد بالبطون الأجواف فإن اللبن في الضروع أو عن العلف الذي يتكون منه اللبن فمن ابتدائية والبطون على حقيقتها. وأيا ما كان فضمير بُطُونِها للأنعام باعتبار نسبة ما للبعض إلى الكل لا للإناث منها على استخدام لأن عموم ما بعده يأباه، وقرىء بفتح النون وبالتاء أي تسقيكم الأنعام. وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ غير ما ذكر من أصوافها وأشعارها وأوبارها وَمِنْها تَأْكُلُونَ الظاهر أن الأكل على معناه الحقيقي ومن تبعيضية لأن من أجزاء الأنعام ما لا يؤكل، وتقديم المعمول للفاصلة أو للحصر الإضافي بالنسبة إلى الحمير ونحوها أو الحصر باعتبار ما في تَأْكُلُونَ من الدلالة على العادة المستمرة، وكان هذا بيان لانتفاعهم بأعيانها وما قبله بيان لانتفاعهم بمرافقها وما يحصل منها ويجوز عندي ولم أر من صرح به أن يكون الأكل مجازا أو كناية عن التعيش مطلقا كما سمعت قبل أي ومنها ترزقون وتحصلون معايشكم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 225 عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ في البر والبحر بأنفسكم وأثقالكم. وضميرلَيْها للأنعام باعتبار نسبة ما للبعض إلى الكل أيضا. ويجوز أن يكون لها باعتبار أن المراد بها الإبل على سبيل الاستخدام لأنها هي المحمول عليها عندهم والمناسبة للفلك فإنها سفائن البر قال ذو الرمة في صيدحة: سفينة بر تحت خدي زمامها وهذا مما لا بأس به، وأما حمل الأنعام من أول الأمر على الإبل فلا يناسب مقام الامتنان ولا سياق الكلام، وفي الجمع بينهما وبين الفلك في إيقاع الحمل عليها مبالغة في تحملها للحمل، قيل: وهذا هو الداعي إلى تأخير هذه المنفعة مع كونها من المنافع الحاصلة منها عن ذكر منفعة الأكل المتعلقة بعينها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 226 وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [المؤمنون: 23. 63] شروع في بيان إهمال الناس وتركهم النظر والاعتبار فيما عدد سبحانه من النعم وما حاقهم من زوالها وفي ذلك تخويف لقريش. وتقديم قصة نوح عليه السلام على سائر القصص مما لا يخفى وجهه، وفي إيرادها إثر قوله تعالى: عَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ من حسن الموقع ما لا يوصف، وتصديرها بالقسم لإظهار كمال الاعتناء بمضمونها، والكلام في نسب نوح عليه السلام وكمية لبثه في قومه ونحو ذلك قد مر، والأصح أنه عليه السلام لم تكن رسالته عامة بل أرسل إلى قوم مخصوصين فَقالَ متعطفا عليهم ومستميلا لهم إلى الحق يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي اعبدوه وحده كما يفصح عنه قوله تعالى في سورة [هود: 2] أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ وترك التقييد به للإيذان بأنها هي العبادة فقط وأما العبادة مع الإشراك فليست من العبادة في شيء رأسا، وقوله تعالى: ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ استئناف مسوق لتعليل العبادة المأمور بها أو تعليل الأمر بها، وغَيْرُهُ بالرفع صفة لإله باعتبار محله الذي هو الرفع على أنه فاعل- بلكم- أو مبتدأ خبره لَكُمْ أو محذوف ولَكُمْ للتخصيص والتبيين أي ما لكم في الوجود إله غيره تعالى. وقرىء «غيره» بالجر اعتبارا للفظ «إله» أَفَلا تَتَّقُونَ الهمزة لإنكار الواقع واستقباحه والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أتعرفون ذلك أي مضمون قوله تعالى ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ فلا تتقون عذابه تعالى الذي يستوجبه ما أنتم عليه من ترك عبادته سبحانه وحده وإشراككم به عز وجل في العبادة ما لا يستحق الوجود لولا إيجاد الله تعالى إياه فضلا عن استحقاق العبادة فالمنكر عدم الاتقاء مع تحقق ما يوجبه، ويجوز أن يكون التقدير ألا تلاحظون فلا تتقون فالمنكر كلا الأمرين فالمبالغة حينئذ في الكمية وفي الأول في الكيفية، وتقدير مفعول تَتَّقُونَ حسبما أشرنا إليه أولى من تقدير بعضهم إياه زوال النعم ولا نسلم أن المقام يقتضيه كما لا يخفى فَقالَ الْمَلَأُ أي الإشراف الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ وصف الملإ بالكفر مع اشتراك الكل فيه للإيذان بكمال عراقتهم وشدة شكيمتهم فيه، وليس المراد من ذلك إلا ذمهم دون التمييز عن أشراف آخرين آمنوا به عليه السلام إذ لم يؤمن به أحد من أشرافهم كما يفصح عنه قول: ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا وقال الخفاجي: يصح أن يكون الوصف بذلك للتمييز وإن لم يؤمن بعض أشرافهم وقت التكلم بهذا الكلام لأن من أهله عليه السلام المتبعين له أشرافا وأما قول ما نَراكَ [هود: 27] إلخ فعلى زعمهم أو لقلة المتبعين له من الأشراف، وأيا ما كان فالمعنى فقال الملأ لعوامهم ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أي في الجنس والوصف من غير فرق بينكم وبينه وصفوه عليه السلام بذلك مبالغة في وضع رتبته العالية وحطها عن منصب النبوة، ووصفوه بقوله سبحانه: يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ إغضابا للمخاطبين عليه عليه السلام وإغراء لهم على الجزء: 9 ¦ الصفحة: 227 معاداته، والتفضل طلب الفضل وهو كناية عن السيادة كأنه قيل: يريد أن يسودكم ويتقدمكم بادعائه الرسالة مع كونه مثلكم، وقيل: صيغة التفعل مستعارة للكمال فإنه ما يتكلف له يكون على أكمل وجه فكأنه قيل: يريد كمال الفضل عليكم وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً بيان لعدم رسالة البشر على الإطلاق على زعمهم الفاسد بعد تحقيق بشريته عليه السلام أي ولو شاء الله تعالى إرسال الرسول لأرسل رسلا من الملائكة، وإنما قيل لَأَنْزَلَ لأن إرسال الملائكة لا يكون إلا بطريق الإنزال فمفعول المشيئة مطلق الإرسال المفهوم من الجواب لا نفس مضمونه كما في قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ [النحل: 9] ولا بأس في ذلك، وأما القول بأن مفعول المشيئة إنما يحذف إذا لم يكن أمرا غريبا وكان مضمون الجزاء فهو ضابطة للحذف المطرد فيه لا مطلقا فإنه كسائر المفاعيل يحذف ويقدر بحسب القرائن، وعلى هذا يجوز أن يقال: التقدير ولو شاء الله تعالى عبادته وحده لأنزل ملائكة يبلغوننا ذلك عنه عز وجل وكان هذا منهم طعن في قوله عليه السلام لهم اعْبُدُوا اللَّهَ وكذا قوله تعالى: ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ بل هو طعن فيما ذكر على التقدير الأول أيضا وذلك بناء على أن هذا إشارة إلى الكلام المتضمن الأمر بعبادة الله عز وجل خاصة والكلام على تقدير مضاف أي ما سمعنا بمثل هذا الكلام في آبائنا الماضين قبل بعثته عليه السلام، وقدر المضاف لأن عدم السماع بكلام نوح المذكور لا يصلح للرد فإن السماع بمثله كاف للقبول، وقيل: الإشارة إلى نفس هذا الكلام مع قطع النظر عن المشخصات فلا حاجة إلى تقدير المضاف وهو كلام وجيه ثم إن قولهم هذا إما لكونهم وآبائهم في فترة وإما لفرط غلوهم في التكذيب والعناد وانهماكهم في الغي والفساد، وأيا ما كان ينبغي أن يكون هو الصادر عنهم في مبادي دعوته عليه السلام كما ينبىء عنه الفاء الظاهرة في التعقيب في قوله تعالى: فَقالَ الْمَلَأُ إلخ. وقيل: هذا إشارة إلى نوح عليه السلام على معنى ما سمعنا بخبر نبوته، وقيل: إلى اسمه وهو لفظ نوح والمعنى لو كان نبيا لكان له ذكر في آبائنا الأولين، وعلى هذين القولين يكون قولهم المذكور من متأخري قومه المولودين بعد بعثته بمدة طويلة فيكون المراد من آبائهم الأولين من مضى قبلهم في زمنه عليه الصلاة والسلام، وصدور ذلك عنهم في أواخر أمره عليه السلام وقيل: بعد مضي آبائهم ولا يلزم أن يكون في الأواخر، وعليهما أيضا يكون قولهم: إِنْ هُوَ أي ما هو إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ أي جنون أو جن يخبلونه ولذلك يقول ما يقول فَتَرَبَّصُوا بِهِ فاحتملوه واصبروا عليه وانتظروا حَتَّى حِينٍ لعله يفيق مما هو فيه محمولا على ترامي أحوالهم في المكابرة والعناد وإضرابهم عما وصفوه عليه السلام به من البشرية وإرادة التفضل إلى وصفه بما ترى وهم يعرفون أنه عليه السلام أرجح الناس عقلا وأرزنهم قولا، وهو على ما تقدم محمول على تناقض مقالاتهم الفاسدة قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون قالَ استئناف بياني كأنه قيل: فماذا قال عليه السلام بعد ما سمع منهم هذه الأباطيل؟ فقيل: قال لما رآهم قد أصروا على ما هم فيه وتمادوا على الضلال حتى يئس من إيمانهم بالكلية وقد أوحي إليه أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود: 36] رَبِّ انْصُرْنِي بإهلاكهم بالمرة بناء على أنه حكاية إجمالية لقوله عليه السلام رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: 26] إلخ، والباء في قوله تعالى: بِما كَذَّبُونِ للسببية أو للبدل وما مصدرية أي بسبب تكذيبهم إياي أو بدل تكذيبهم، وجوز أن تكون الباء آلية وما موصولة أي انصرني بالذي كذبوني به وهو العذاب الذي وعدتهم إياه ضمن قولي: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأعراف: 59، الشعراء: 135، الأحقاف: 21] وحاصله انصرني بإنجاز ذلك، ولا يخفى ما في حذف مثل هذا العائد من الكلام، وقرأ أبو جعفر وابن محيصن «رب» بضم الباء ولا يخفى وجهه فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ عقيب ذلك، وقيل: بسبب ذلك أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ أَنِ مفسرة لما في الوحي من معنى القول بِأَعْيُنِنا ملتبسا بمزيد حفظنا ورعايتنا لك من التعدي أو من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 228 الزيغ في الصنع وَوَحْيِنا وأمرنا وتعليمنا لكيفية صنعها، والفاء في قوله تعالى: فَإِذا جاءَ أَمْرُنا لترتيب مضمون ما بعدها على إتمام صنع الفلك، والمراد بالأمر العذاب كما في قوله تعالى: لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [هود: 43] فهو واحد الأمور لا الأمر بالركوب فهو واحد الأوامر كما قيل، والمراد بمجيئه كمال اقترابه أي ابتداء ظهوره أي إذا جاء أثر تمام الفلك عذابنا، وقوله سبحانه: وَفارَ التَّنُّورُ بيان وتفسير لمجيء الأمر، روي أنه قيل له عليه السلام إذا فار التنور اركب أنت ومن معك وكان تنور آدم عليه السلام فصار إلى نوح عليه السلام فلما نبع منه الماء أخبرته امرأته فركبوا، واختلفوا في مكانه فقيل كان في مسجد الكوفة أي في موضعه عن يمين الداخل من باب كندة اليوم، وقيل: كان في عين وردة من الشام، وقيل: بالجزيرة قريبا من الموصل، وقيل: التنور وجه الأرض، وقيل: فار التنور مثل كحمي الوطيس، وعن علي كرّم الله تعالى وجهه أنه فسر فارَ التَّنُّورُ بطلع الفجر فقيل: معناه إن فوران التنور كان عند طلوع الفجر وفيه بعد وتمام الكلام في ذلك قد تقدم لك. فَاسْلُكْ فِيها أي ادخل فيها يقال سلك فيه أي دخل فيه وسلكه فيه أي أدخله فيه، ومنه قوله تعالى: ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [المدثر: 42] مِنْ كُلٍّ أي من كل أمة زَوْجَيْنِ أي فردين مزدوجين كما يعرب عنه قوله تعالى: اثْنَيْنِ فإنه ظاهر في الفردين دون الجمعين. وقرأ أكثر القراء من «كل زوجين» بالإضافة على أن المفعول «اثنين» أي اسلك من كل أمتي الذكر والأنثى واحدين مزدوجين كجمل وناقة وحصان ورمكة. روي أنه عليه السلام لم يحمل في الفلك من ذلك إلا ما يلد ويبيض وأما ما يتولد من العفونات كالبق والذباب والدود فلم يحمل شيئا منه، ولعل نحو البغال ملحقة في عدم الحمل بهذا الجنس لأنه يحصل بالتوالد من نوعين فالحمل منهما مغن عن الحمل منه إذا كان الحمل لئلا ينقطع النوع كما هو الظاهر فيحتاج إلى خلق جديد كما خلق في ابتداء الأمر. والآية صريحة في أن الأمر بالإدخال كان قبل صنعه الفلك، وفي سورة [هود: 40] حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ فالوجه أن يحمل على أنه حكاية لأمر آخر تنجيزي ورد عند فوران التنور الذي نيط به الأمر التعليقي اعتناء بشأن المأمور به أو على أن ذلك هو الأمر السابق بعينه لكن لما كان الأمر التعليقي قبل تحقق المعلق به في حق إيجاب المأمور به بمنزلة العدم جعل كأنه إنما حدث عند تحققه فحكي على صورة التنجيز وَأَهْلَكَ قيل عطف على اثْنَيْنِ على قراءة الإضافة وعلى زَوْجَيْنِ على قراءة التنوين، ولا يخفى اختلال المعنى عليه فهو منصوب بفعل معطوف على فَاسْلُكْ أي واسلك أهلك، والمراد بهم أمة الإجابة الذين آمنوا به عليه الصلاة والسلام سواء كانوا من ذوي قرابته أم لا وجاء إطلاق الأهل على ذلك، وإنما حمل عليه هنا دون المعنى المشهور ليشمل من آمن ممن ليس ذا قرابة فإنهم قد ذكروا في سورة هود والقرآن يفسر بعضه بعضا، وعلى هذا يكون قوله تعالى: إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ استثناء منقطعا، واختار بعضهم حمل الأهل على المشهور وإرادة امرأته وبنيه منه كما في سورة هود وحينئذ يكون الاستثناء متصلا كما كان هناك، وعدم ذكر من آمن للاكتفاء بالتصريح به ثمت مع دلالة ما في الاستثناء وكذا ما بعده على أنه ينبغي إدخاله، وتأخير الأمر بإدخال الأهل على التقديرين عما ذكر من إدخال الأزواج لأن إدخال الأزواج يحتاج إلى مزاولة الأعمال منه عليه السلام وإلى معاونة أهله إياه وأما هم فإنما يدخلون باختيارهم، ولأن في المؤخر ضرب تفصيل بذكر الاستثناء وغيره فتقديمه يخل بتجاوب النظم الكريم، والمراد بالقول القول بالإهلاك، والمراد بسبق ذلك تحققه في الأزل أو كتابة ما يدل عليه في اللوح المحفوظ قبل أن تخلق الدنيا، وجيء بعلى لكون السابق ضارا كما جيء باللام في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى [الأنبياء: 101] لكون السابق نافعا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا أي لا تكلمني فيهم بشفاعة وإنجاء لهم من الغرق ونحوه، وإذا كان المراد بهم من سبق عليه القول الجزء: 9 ¦ الصفحة: 229 فالإظهار في مقام الإضمار لا يخفى وجهه إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ تعليل للنهي أو لما ينبىء عنه من عدم قبول الشفاعة لهم أي إنهم مقضي عليهم بالإغراق لا محالة لظلمهم بالإشراك وسائر المعاصي ومن هذا شأنه لا ينبغي أن يشفع له أو يشفع فيه وكيف ينبغي ذلك وهلاكه من النعم التي يؤمر بالحمد عليها كما يؤذن به قوله تعالى: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ من أهلك وأتباعك عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ فإن الحمد على الإنجاء منهم متضمن للحمد على إهلاكهم، وإنما قيل ما ذكر ولم يقل فقل الحمد لله الذي أهلك القوم الظالمين لأن نعمة الإنجاء أتم، وقال الخفاجي: إن في ذلك إشارة إلى أنه لا ينبغي المسرة بمصيبة أحد ولو عدوا من حيث كونها مصيبة له بل لما تضمنته من السلامة من ضرره أو تطهير الأرض من وسخ شركه وإضلاله. وأنت تعلم أن الحمد هنا رديف الشكر فإذا خص بالنعمة الواصلة إلى الشاكر لا يصح أن يتعلق بالمصيبة من حيث إنها مصيبة وهو ظاهر، وفي أمره عليه السلام بالحمد على نجاة أتباعه إلى أنه نعمة عليه أيضا. وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي في الفلك مُنْزَلًا أي إنزالا أو موضع إنزال مُبارَكاً يتسبب لمزيد الخير في الدارين وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ أي من يطلق عليه ذلك، والدعاء بذلك إذا كان بعد الدخول فالمراد إدامة ذلك الإنزال ولعل المقصود إدامة البركة، وجوز أن يكون دعاء بالتوفيق للنزول في أبرك منازلها لأنها واسعة، وإن كان قبل الدخول فالأمر واضح، وروى جماعة عن مجاهد أن هذا دعاء أمر نوح عليه السلام أن يقوله عند النزول من السفينة فالمعنى رب أنزلني منها في الأرض منزلا إلخ، وأخذ منه قتادة. ندب أن يقول راكب السفينة عند النزول منها رَبِّ أَنْزِلْنِي إلخ، واستظهر بعضهم الأول إذ العطف ظاهر في أن القولين وقت الاستواء. وأعاد قُلْ لتعدد الدعاء، والأول متضمن دفع مضرة ولذا قدم وهذا لجلب منفعة. وأمره عليه السلام أن يشفع دعاءه ما يطابقه من ثنائه عز وجل توسلا به إلى الإجابة فإن الثناء على المحسن يكون مستدعيا لإحسانه، وقد قالوا: الثناء على الكريم يعني عن سؤاله، وإفراده عليه السلام بالأمر مع شركة الكل في الاستواء لإظهار فضله عليه السلام وأنه لا يليق غيره منهم للقرب من الله تعالى والفوز بعز الحضور في مقام الإحسان مع الإيماء إلى كبريائه عز وجل وأنه سبحانه لا يخاطب كل أحد من عباده والإشعار بأن في دعائه عليه السلام وثنائه مندوحة عما عداه. وقرأ أبو بكر والمفضل وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبان «منزلا» بفتح الميم وفتح الزاي أي مكان نزول، وقرأ أبو بكر عن عاصم «منزلا» بفتح الميم وكسر الزاي. قال أبو علي: يحتمل أن يكون المنزل على هذه القراءة مصدرا وأن يكون موضع نزول إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكر مما فعل به عليه السلام وبقومه لَآياتٍ جليلة يستدل بها أولو الأبصار ويعتبر ذوو الاعتبار وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ إن مخففة من ان واللام فارقة بينها وبين إن النافية وليست إن نافية واللام بمعنى إلا والجملة حالية أي وإن الشأن كنا مصيبين قوم نوح ببلاء عظيم وعقاب شديد أو مختبرين بهذه الآيات عبادنا لننظر من يعتبر ويتذكر، والمراد معاملين معاملة المختبر وهذا كقوله تعالى: وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر: 15] ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد إهلاك قوم نوح عليه السلام قَرْناً آخَرِينَ هم عاد أو ثمود فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ هو هود أو صالح عليهما السلام، والأول هو المأثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وإليه ذهب أكثر المفسرين، وأيد بقوله تعالى حكاية عن هود وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الأعراف: 69] وبمجيء قصة عاد بعد قصة نوح في سورة الأعراف وسورة هود وغيرهما واختار أبو سليمان الدمشقي والطبري الثاني واستدلا عليه بذكر الصيحة آخر القصة والمعروف أن قوم صالح هم المهلكون بها دون قوم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 230 هود، وسيأتي الجواب عنه إن شاء الله تعالى، وجعل القرن ظرفا للإرسال كما في قوله تعالى: كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ [الرعد: 30] لا غاية له كما في قوله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ للإيذان من أول الأمر أن من أرسل إليهم لم يأتهم من غير مكانهم بل إنما نشأ فيما بين أظهرهم، وأَنِ في قوله تعالى: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مفسرة لتضمن الإرسال معنى القول أي قلنا لهم على لسان الرسول اعبدوا الله، وجوز كونها مصدرية ولا مانع من وصلها بفعل الأمر وقبلها جار مقدر أي أرسلنا فيهم رسولا بأن اعبدوا الله وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ الكلام فيه كالكلام في نظيره المار في قصة نوح عليه السلام وَقالَ الْمَلَأُ أي الأشراف مِنْ قَوْمِهِ بيان لهم، وقوله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ أي بلقاء ما فيها من الحساب والثواب والعقاب أو بالمعاد أو بالحياة الثانية صفة للملأ جيء بها ذما لهم وتنبيها على غلوهم في الكفر، ويجوز أن تكون للتمييز إن كان في ذلك القرن من آمن من الأشراف، وتقديم مِنْ قَوْمِهِ هنا على الصفة مع تأخيره في القصة السابقة لئلا يطول الفصل بين البيان والمبين لو جيء به بعد الصفة وما في حيزها مما تعلق بالصلة مع ما في ذلك من توهم تعلقه بالدنيا أو يفصل بين المعطوف والمعطوف عليه لو جيء به بعد الوصف وقبل العطف كذا قيل. وتعقب بأنه لا حاجة إلى ارتكاب جعل الَّذِينَ صفة للملأ وإبداء نكتة للتقديم المذكور مع ظهور جواز جعله صفة لقومه. ورد بأن الداعي لارتكابه عطف قوله تعالى: وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي نعمناهم ووسعنا عليهم فيها على الصلة فيكون صفة معنى للموصوف بالموصول والمتعارف إنما هو وصف الأشراف بالمترفين دون غيرهم وكذا الحال إذا لم يعطف وجعل حالا من ضمير كَذَّبُوا وأنت تعلم أنا لا نسلم أن المتعارف إنما هو وصف الأشراف بالمترفين ولئن سلمنا فوصفهم بذلك قد يبقى مع جعل الموصول صفة لقومه بأن يجعل جملة أَتْرَفْناهُمْ حالا من الْمَلَأُ بدون تقدير قد أو بتقديرها أي قال الملأ في حق رسولنا ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ إلخ في حال إحساننا عليهم. نعم الظاهر لفظا جملة أَتْرَفْناهُمْ على جملة الصلة، والأبلغ معنى جعلها حالا من الضمير لإفادته الإساءة إلى من أحسن وهو أقوى في الذم، وجيء بالواو العاطفة في وَقالَ الْمَلَأُ هنا ولم يجأ بها بل جيء بالجملة مستأنفة استئنافا بيانيا في موضع آخر لأن ما نحن فيه حكاية لتفاوت ما بين المقالتين أعني مقالة المرسل ومقالة المرسل إليهم لا حكاية المقاولة لأن المرسل إليهم قالوا ما قالوا بعضهم لبعض وظاهر إباء ذلك الاستئناف وأما هنالك فيحق الاستئناف لأنه في حكاية المقاولة بين المرسل والمرسل إليهم واستدعاء مقام المخاطبة ذلك بين كذا في الكشف، ولا يحسم مادة السؤال إذ يقال معه: لم حكي هنالك المقاولة وهنا التفاوت بين المقالتين ولم يعكس؟ ومثل هذا يرد على من علل الذكر هنا والترك هناك بالتفنن بأن يقال: إنه لو عكس بأن ترك هنا وذكر هناك لحصل التفنن أيضا، وأنا لم يظهر لي السر في ذلك، وأما الإتيان بالواو هنا والفاء في فَقالَ الْمَلَأُ في قصة نوح عليه السلام فقد قيل: لعله لأن كلام الملأ هنا لم يتصل بكلام رسولهم بخلاف كلام قوم نوح عليه السلام والله تعالى أعلم بحقائق الأمور. ولا يخفى ما في قولهم ما هذا إلخ من المبالغة في توهين أمر الرسول عليه السلام وتهوينه قاتلهم الله ما أجهلهم، وقوله تعالى: يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ تقرير للمماثلة، والظاهر أن ما الثانية موصولة والعائد إليها ضمير مجرور حذف مع الجار لدلالة ما قبله عليه الحذف هنا مثله في قولك: مررت بالذي مررت في استيفاء الشرائط، وحسنه هنا كون تَشْرَبُونَ فاصلة. وفي التحرير زعم الفراء حذف العائد المجرور مع الجار في هذه الآية وهذا لا يجوز عند البصريين، والآية إما لا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 231 حذف فيها أو فيها حذف المفعول فقط لأن ما إذا كانت مصدرية لم تحتج إلى عائد وإن كانت موصولة فالعائد المحذوف ضمير منصوب على المفعولية متصل بالفعل والتقدير مما تشربونه اهـ، وهذا تخريج على قاعدة البصريين ويفوت عليه فصاحة معادلة التركيب على أن الوجه الأول محوج إلى تأويل المصدر باسم المفعول وبعد ذلك يحتاج إلى تكلف لصحة المعنى ويحتاج إلى ذلك التكلف على الوجه الثاني أيضا إذ لا يشرب أحد من مشروبهم ولا من الذي يشربونه وإنما يشرب من فرد آخر من الجنس فلا بد من إرادة الجنس على الوجهين. وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ فيما ذكر من الأحوال والصفات أي إن امتثلتم بأوامره إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ عقولكم ومغبونون في آرائكم حيث أذللتم أنفسكم، واللام موطئة للقسم وجملة إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ جواب القسم، وإِذاً فيما أميل إليه ظرفية متعلقة بما تدل عليه النسبة بين المبتدأ والخبر من الثبوت أو بالخبر واللام لا تمنع عن العمل في مثل ذلك، وجواب الشرط محذوف دل عليه المذكور. قال أبو حيان: ولو كان هذا هو الجواب للزمت الفاء فيه بأن يقال: فإنكم إلخ بل لو كان بالفاء في تركيب غير القرآن الكريم لم يكن ذلك التركيب جائزا إلا عند الفراء، والبصريون لا يجيزونه وهو عندهم خطأ اهـ. وذكر بعضهم أن «إذا» هنا للجزاء والجواب وتكلف لذلك ولا يدعو إليه سوى ظن وجوب اتباع المشهور وأن الحق في أمثال هذه المقامات منحصر فيما عليه الجمهور، وفي همع الهوامع وكذا في الإتقان للجلال السيوطي في هذا البحث ما ينفعك مراجعته فراجعه أَيَعِدُكُمْ استئناف مسوق لتقرير ما قبله من زجرهم عن اتباعه عليه السلام بإنكار وقوع ما يدعوهم للإيمان به واستبعاده، وقوله تعالى: أَنَّكُمْ على تقدير حرف الجر أي بأنكم، ويجوز أن لا يقدر ونحو وعدتك الخير إِذا مِتُّمْ بكسر الميم من مات يمات، وقرىء بضمها من مات يموت وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أي وكان بعض أجزائكم من اللحم ونظائره ترابا وبعضها عظاما نخرة مجردة عن اللحوم والأعصاب، وتقديم التراب لعراقته في الاستبعاد وانقلابه من الأجزاء البادية أو وكان متقدموكم ترابا صرفا ومتأخروكم عظاما، وقوله تعالى: أَنَّكُمْ تأكيد لأنكم الأول لطول الفصل بينه وبين خبره الذي هو قوله تعالى: مُخْرَجُونَ وإذا ظرف متعلق به أي أيعدكم أنكم مخرجون من قبوركم أحياء كما كنتم أولا إذا متم وكنتم ترابا. واختار هذا الإعراب الفراء والجرمي والمبرد، ولا يلزم من ذلك كون الإخراج وقت الموت كما لا يخفى خلافا لما توهمه أبو نزار الملقب بملك النحاة. ورده السخاوي ونقله عنه الجلال السيوطي في الأشباه والمنقول عن سيبويه أن أَنَّكُمْ بدل من أَنَّكُمْ الأول وفيه معنى التأكيد وخبر أن الأولى محذوف لدلالة خبر الثانية عليه أي أيعدكم أنكم تبعثون إذا متم وهذا الخبر المحذوف هو العامل في إذا، ولا يجوز أن يكون هو الخبر لأن ظرف الزمان لا يخبر به عن الجثة، وإذا أول بحذف المضاف أي إن إخراجكم إذا متم جاز، وكان المبرد يأبى البدل لكونه من غير مستقل إذ لم يذكر خبر أن الأولى. وذهب الأخفش إلى أن أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ مقدر بمصدر مرفوع بفعل محذوف تقديره يحدث إخراجكم، فعلى هذا التقدير يجوز أن تكون الجملة الشرطية خبر أَنَّكُمْ الأول ويكون جواب إِذا ذلك الفعل المحذوف، ويجوز أن يكون ذلك الفعل هو خبر أن ويكون عاملا في إذا، وبعضهم يحكي عن الأخفش أنه يجعل أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ فاعلا بإذا كما يجعل الخروج في قولك: يوم الجمعة الخروج فاعلا بيوم على معنى يستقر الخروج يوم الجمعة. وجوز بعضهم أن يكون أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ مبتدأ وإِذا مِتُّمْ خبرا على معنى إخراجكم إذا متم وتجعل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 232 الجملة خبر أن الأولى، قال في البحر: وهذا تخريج سهل لا تكلف فيه ونسبه السخاوي في سفر السعادة إلى المبرد، والذي يقتضيه جزالة النظم الكريم ما ذكرناه عن الفراء ومن معه، وفي قراءة عبد الله «أيعدكم إذا متم» بإسقاط أَنَّكُمْ الأولى هَيْهاتَ اسم لبعد وهو في الأصل اسم صوت وفاعله مستتر فيه يرجع للتصديق أو الصحة أو الوقوع أو نحو ذلك مما يفهمه السياق فكأنه قيل بعد التصديق أو الصحة أو الوقوع، وقوله تعالى: هَيْهاتَ تكرير لتأكيد البعد، والغالب في هذه الكلمة مجيئها مكررة وجاءت غير مكررة في قول جرير: وهيهات خل بالعقيق نواصله وقوله سبحانه: لِما تُوعَدُونَ بيان لمرجع ذلك الضمير فاللام متعلقة بمقدر كما في سقيا له أي التصديق أو الوقوع المتصف بالبعد كائن لما توعدون، ولا ينبغي أن يقال: إنه متعلق بالضمير الراجع إلى المصدر كما في قوله: وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجم فإن إعمال ضمير المصدر وإن ذهب إليه الكوفيون نادر جدا لا ينبغي أن يخرج عليه كلام الله تعالى، وقيل: لم يثبت والبيت قابل للتأويل وهذا كله مع كون الضمير بارزا فما ظنك إذا كان مستترا، والقول بأن الفاعل محذوف وليس بضمير مستتر وهو مصدر كالوقوع والتصديق والجار متعلق به مما لا ينبغي أن يلتفت إليه أصلا لا سيما إذا كان ذلك المصدر المحذوف معرفا كما لا يخفى، ويجوز أن يكون الفاعل ضمير البعد واللام للبيان كأنه قيل، فعل البعد ووقع ثم قيل لماذا؟ فقيل: لما توعدون، وقيل: فاعل هَيْهاتَ ما توعدون واللام سيف خطيب، وأيد بقراءة ابن أبي عبلة «هيهات هيهات ما توعدون» بغير لام ورد بأنها لم تعهد زيادتها في الفاعل، وقيل: هيهات بمعنى البعد وهو مبتدأ مبني اعتبارا لأصله خبره لِما تُوعَدُونَ أي البعد كائن لما توعدون ونسب هذا التفسير للزجاج. وتعقبه في البحر بأنه ينبغي أن يكون تفسير معنى لا تفسير إعراب لأنه لم تثبت مصدرية هَيْهاتَ وقرأ هارون عن أبي عمرو «هيهاتا هيهاتا» بفتحهما منونتين للتنكير كما في سائر أسماء الأفعال إذا نونت فهو اسم فعل نكرة، وقيل: هو على هذه القراءة اسم متمكن منصوب على المصدرية، وقرأ أبو حيوة والأحمر بالضم والتنوين، قال صاحب اللوامح: يحتمل على هذا أن تكون هَيْهاتَ اسما متمكنا مرتفعا بالابتداء ولِما تُوعَدُونَ خبره والتكرار للتأكيد، ويحتمل أن يكون اسما للفعل والضم للبناء مثل حوب في زجر الإبل لكنه نون لكونه نكرة اهـ، وقيل: هو اسم متمكن مرفوع على الفاعلية أي وقع بعد، وعن سيبويه أنها جمع كبيضات، وأخذ بعضهم منه تساوي مفرديهما في الرنة فقال مفردها هيهة كبيضة. وفي رواية عن أبي حيوة أنه ضمها من غير تنوين تشبيها لهما بقبل وبعد ذلك. وقرأ أبو جعفر وشيبة بالكسر فيهما من غير تنوين. وروي هذا عن عيسى وهو لغة في تميم وأسد وعنه أيضا وعن خالد بن الياس أنهما قرآ بكسرهما والتنوين. وقرأ خارجة بن مصعب عن أبي عمرو والأعرج وعيسى أيضا بالإسكان فيهما، فمنهم من يبقي التاء ويقف عليها كما في مسلمات، ومنهم من يبدلها هاء تشبيها بتاء التأنيث ويقف على الهاء، وقيل: الوقف على الهاء لاتباع الرسم، والذي يفهم من مجمع البيان أن هَيْهاتَ بالفتح تكتب بالهاء كأرطاة وأصلها هيهية كزلزلة قلبت الياء الثانية ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها وكذا هيهات بالرفع والتنوين، وهي على هذا اسم معرب مفرد، ومتى اعتبرت جمعا كتبت بالتاء وذلك إذا كانت مكسورة منونة أو غير منونة ونقل ذلك عن ابن جني. وقرأ «أيهاه» بإبدال الهزة من الهاء الأولى والوقف بالسكون على الهاء، والذي أميل إليه أن جميع هذه القراءات لغات والمعنى واحد، وفي هذه الكلمة ما يزيد على أربعين لغة وقد ذكر ذلك في التكميل لشرح التسهيل وغيره إِنْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 233 هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا أصله إن الحياة إلا حياتنا الدنيا ثم وضع الضمير موضع الحياة لأن الخبر يدل عليها ويبينها فالضمير عائد على متأخر وعوده كذلك جائز في صور، منها إذا فسر بالخبر كما هنا كذا قالوا. واعترض بأن الخبر موصوف فتلاحظ الصفة في ضميره كما هو المشهور في الضمير الراجع إلى موصوف وحينئذ يصير التقدير إن حياتنا الدنيا إلا حياتنا الدنيا. وأجيب بأن الضمير قد يعود إلى الموصوف بدون صفته، وهذا في الآخرة يعود إلى القول بأن الضمير عائد على ما يفهم من جنس الحياة ليفيد الحمل ما قصدوه من نفي البعث فكأنهم قالوا: لا حياة إلا حياتنا الدنيا ومن ذلك يعلم خطأ من قال: إنه كشعري شعري، ومن هذا القبيل على رأي قولهم: هي العرب تقول ما شاءت، وقوله: هي النفس ما حملتها تتحمل ... وللدهر أيام تجور وتعدل وفي الكشف ليس المعنى النفس النفس لأنه لا يصلح الثاني حينئذ تفسيرا والجملة بعدها بيانا بل الضمير راجع إلى معهود ذهني أشير إليه ثم أخبر بما بعده كما في هذا أخوك انتهى فتأمل ولا تغفل، وقوله تعالى: نَمُوتُ وَنَحْيا جملة مفسرة لما ادعوه من أن الحياة هي الحياة الدنيا وأرادوا بذلك يموت بعضنا ويولد بعض وهكذا، وليس المراد بالحياة حياة أخرى بعد الموت إذ لا تصلح الجملة حينئذ للتفسير ولا يذم قائلها وناقضت قولهم: وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وقيل: أرادوا بالموت العدم السابق على الوجود أو أرادوا بالحياة بقاء أولادهم فإن بقاء الأولاد في حكم حياة الآباء ولا يخفى بعده، ومثله على ما قيل وأنا لا أراه كذلك أن القوم كانوا قائلين بالتناسخ فحياتهم بتعلق النفس التي فارقت أبدانهم بأبدان أخر عنصرية تنقلت في الأطوار حتى استعدت لأن تتعلق بها تلك النفس المفارقة فزيد مثلا إذا مات تتعلق نفسه ببدن آخر قد استعد في الرحم للتعلق ثم يولد فإذا مات أيضا تتعلق نفسه ببدن آخر كذلك وهكذا إلى ما لا يتناهى، وهذا مذهب لبعض التناسخية وهم مليون ونحليون، ويمكن أن يقال: إن هذا على حد قوله تعالى لعيسى عليه السلام: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران: 55] على قول فإن العطف فيه بالواو وهي لا تقتضي الترتيب فيجوز أن تكون الحياة التي عنوها الحياة قبل الموت ويحتمل أنهم قالوا نحيا ونموت إلا أنه لما حكي عنهم قيل: نَمُوتُ وَنَحْيا ليكون أوفق بقوله تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا ثم المراد بقولهم وَما نَحْنُ إلخ استمرار النفي وتأكيده إِنْ هُوَ أي ما هو إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فيما يدعيه من إرساله تعالى إياه وفيما يعدنا من أن الله تعالى يبعثنا وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ بمصدقين فيما يقوله، والمراد أيضا استمرار النفي وتأكيده قالَ أي رسولهم عند يأسه من إيمانهم بعد ما سلك في دعوتهم كل مسلك متضرعا إلى الله عز وجل رَبِّ انْصُرْنِي عليهم وانتقم لي منهم بِما كَذَّبُونِ أي بسبب تكذيبهم إياي وإصرارهم عليه أو بدل تكذيبهم، ويجوز أن تكون الباء آلية وما موصولة كما مر في قصة نوح عليه السلام قالَ تعالى إجابة لدعائه وعدة بما طلب عَمَّا قَلِيلٍ أي عن زمان قليل فما صلة بين الجار والمجرور جيء بها لتأكيد معنى القلة وقَلِيلٍ صفة لزمان حذف واستغني به عنه ومجيئه كذلك كثير، وجوز أن تكون (ما) نكرة تامة وقَلِيلٍ بدلا منها، وأن تكون نكرة موصوفة بقليل، و (عن) بمعنى بعد هنا وهي متعلقة بقوله تعالى: لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ وتعلقها بكل من الفعل والوصف محتمل، وجاز ذلك مع توسط لام القسم لأن الجار كالظرف يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره. وقال أبو حيان: جمهور أصحابنا على أن لام القسم لا يتقدمها معمول ما بعدها سواء كان ظرفا أم جارا ومجرورا أم غيرهما، وعليه يكون ذلك متعلقا بمحذوف يدل عليه ما قبله والتقدير عما قليل تنصر أو ما بعده أي يصبحون عما قليل ليصبحن إلخ، ومذهب الفراء وأبي عبيدة أنه يجوز تقديم معمول ما في حيز هذه اللام عليها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 234 مطلقا، و «يصبح» بمعنى يصير أي بالله تعالى ليصيرن نادمين على ما فعلوا من التكذيب بعد زمان قليل وذلك وقت نزول العذاب في الدنيا ومعاينتهم له، وقيل: بعد الموت، وفي اللوامح عن بعضهم «لتصبحن» بتاء على المخاطبة فلو ذهب ذاهب إلى أن القول من الرسول إلى الكفار بعد ما أجيب دعاؤه لكان جائزا. فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ أي صيحة جبريل عليه السلام صاح عليه السلام بهم فدمرهم، وهذا على القول بأن القرن قوم صالح عليه السلام ظاهر، ومن قال: إنهم قوم هود عليه السلام أشكل ظاهر هذا عليه بناء على أن المصرح به في غير هذه السورة أنهم أهلكوا بريح عاتية، وأجاب بأن جبريل عليه السلام صاح بهم من الريح كما روي في بعض الأحاديث، وفي ذكر كل على حدة إشارة إلى أن كلّا لو انفرد لتدميرهم لكفى، ويجوز أن يراد بالصيحة العقوبة الهائلة والعذاب المصطلم كما في قوله: صاح الزمان بآل برمك صيحة ... خروا لشدتها على الأذقان بِالْحَقِّ متعلق بالأخذ أي بالأمر الثابت الذي لا مدافع له كما في قوله تعالى: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ [ق: 19] أو بالعدل من الله عز وجل من قولك: فلان يقضي بالحق إذا كان عادلا في قضاياه أو بالوعد الصدق الذي وعده الرسول في ضمن قوله تعالى: عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً أي كغثاء السيل وهو ما يحمله من الورق والعيدان البالية ويجمع على أغثاء شذوذا وقد تشدد ثاؤه كما في قول امرئ القيس: كأن ذرى رأس المجيمر (1) غدوة ... من السيل والغثاء فلكة مغزل فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يحتمل الاخبار والدعاء، والبعد ضد القرب والهلاك وفعلهما ككرم وفرح والمتعارف الأول في الأول والثاني في الثاني وهو منصوب بمقدر أي بعدوا بعدا من رحمة الله تعالى أو من كل خير أو من النجاة أو هلكوا هلاكا، ويجب حذف ناصب هذا المصدر عند سيبويه فيما إذا كان دعائيا كما صرح به في الدر المصون، واللام لبيان من دعي عليه أو أخبر ببعده فهي متعلقة بمحذوف لا ببعدا، وضع الظاهر موضع الضمير إيذانا بأن إبعادهم لظلمهم ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ أي بعد هلاكهم قُرُوناً آخَرِينَ هم عند أكثر المفسرين قوم صالح وقوم لوط وقوم شعيب وغير ذلك. ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها أي ما تتقدم أمة من الأمم المهلكة الوقت الذي عين لهلاكهم فمن سيف خطيب جيء بها لتأكيد الاستغراق المستفاد من النكرة الواقعة في سياق النفي، وحاصل المعنى ما تهلك أمة من الأمم قبل مجيء أجلها وَما يَسْتَأْخِرُونَ ذلك الأجل ساعة، وضمير الجمع عائد على أُمَّةٍ باعتبار المعنى. ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا عطف على أَنْشَأْنا لكن لا على معنى أن إرسالهم متراخ عن إنشاء القرون المذكورة جميعا بل على معنى أن إرسال كل رسول متأخر عن إرسال قرن مخصوص بذلك الرسول كأنه قيل: ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين قد أرسلنا إلى كل قرن منهم رسولا خاصا به، والفصل بين المعطوفين بالجملة المعترضة للمسارعة إلى بيان هلاك أولئك القرون على وجه إجمالي، وتعليق الإرسال بالرسل نظير تعليق القتل بالقتيل في من قتل قتيلا وللعلماء فيه توجيهات تَتْرا من المواترة وهو التتابع مع فصل ومهلة على ما قاله الأصمعي واختاره الحريري في الدرة.   (1) من جبال بني أسد اهـ منه. [ ..... ] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 235 وفي الصحاح المواترة المتابعة ولا تكون المواترة بين الأشياء إلا إذا وقعت بينها فترة وإلا فهي مداركة ومثله في القاموس، وعن أبي علي أنه قال: المواترة أن يتبع الخبر الخبر والكتاب الكتاب فلا يكون بينهما فصل كثير، ونقل في البحر عن بعض أن المواترة التتابع بغير مهلة، وقيل: هو التتابع مطلقا، والتاء الأولى بدل من الواو كما في تراث وتجاه ويدل على ذلك الاشتقاق، وجمهور القراء والعرب على عدم تنوينه فألفه للتأنيث كألف دعوى وذكرى وهو مصدر في موضع الحال والظاهر أنه حال من المفعول، والمراد كما قال أبو حيان والراغب وغيرهما ثم أرسلنا رسلنا متواترين، وقيل: حال من الفاعل والمراد أرسلنا متواترين. وقيل هو صفة لمصدر مقدر أي إرسالا متواترا، وقيل مفعول مطلق لأرسلنا لأنه بمعنى واترنا وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وقتادة وأبو جعفر وشعبة وابن محيصن والإمام الشافعي عليه الرحمة «تترى» بالتنوين وهو لغة كنانة، قال في البحر: وينبغي عند من ينون أن تكون الألف فيه للإلحاق كما في أرطى وعلقى لكن ألف الإلحاق في المصادر نادرة، وقيل: إنها لا توجد فيها. وقال الفراء: يقال تتر في الرفع وتتر في الجر وتترى في النصب فهو مثل صبر ونصر ووزنه فعل لا فعلى ومتى قيل تترى بالألف فألفه بدل التنوين كما في صبرت صبرا عند الوقف. ورد بأنه لم يسمع فيه إجراء الحركات الثلاث على الراء وعلى مدعيه الإثبات، وأيضا كتبه بالياء يأبى ذلك، وما ذكرنا من مصدرية تَتْرا هو المشهور، وقيل: هو جمع، وقيل: اسم جمع وعلى القولين هو حال أيضا. وقوله تعالى: كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ استئناف مبين لمجيء كل رسول لأمته ولما صدر عنهم عند تبليغ الرسالة، والمراد بالمجيء إما التبليغ وإما حقيقة المجيء للإيذان بأنهم كذبوه في أول الملاقاة، وإضافة الرسول إلى الأمة مع إضافة كلهم فيما سبق إلى نون العظمة لتحقيق أن كل رسول جاء أمته الخاصة به لا أن كلهم جاؤوا كل الأمم وللإشعار بكمال شناعة المكذبين وضلالهم حيث كذبوا الرسول المعين لهم، وقيل: أضاف سبحانه الرسول مع الإرسال إليه عز وجل ومع المجيء إلى المرسل إليهم لأن الإرسال إليه عز وجل ومع المجيء إلى المرسل إليهم لأن الإرسال الذي هو مبدأ الأمر منه تعالى والمجيء الذي هو منتهاه إليهم فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً في الهلاك حسبما تبع بعضهم بعضا في مباشرة سببه وهو تكذيب الرسول وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ جمع أحدوثة وهو ما يتحدث به تعجبا وتلهيا كأعاجيب جمع أعجوبة وهو ما يتعجب منه أي جعلناهم أحاديث يتحدث بها على سبيل التعجب والتلهي، ولا تقال الأحدوثة عند الأخفش إلا في الشر. وجوز أن يكون جمع حديث وهو جمع شاذ مخالف للقياس كقطيع وأقاطيع ويسميه الزمخشري اسم جمع، والمراد إنا أهلكناهم ولم يبق إلا خبرهم فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ اقتصر هاهنا على وصفهم بعدم الإيمان حسبما اقتصر على حكاية تكذيبهم إجمالا، وأما القرون الأولون فحيث نقل عنهم ما مر من الغلو وتجاوز الحد في الكفر والعدوان وصفوا بالظلم ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا أي بالآيات المعهودة وهي الآيات التسع وقد تقدم الكلام في تفصيلها وما قيل فيه، وهارُونَ بدل أو عطف بيان، وتعرض لإخوته لموسى عليهما السلام للإشارة إلى تبعيته له في الإرسال وَسُلْطانٍ مُبِينٍ أي حجة واضحة أو مظهرة للحق، والمراد بها عند جمع العصا، وإفرادها بالذكر مع اندراجها في الآيات لتفردها بالمزايا حتى صارت كأنها شيء آخر، وجوز أن يراد بها الآيات والتعاطف من تعاطف المتحدين في الماصدق لتغاير مدلوليهما كعطف الصفة على الصفة مع اتحاد الذات وقد مر نظيره آنفا أو هو من ناب قولك: مررت بالرجل والنسمة المباركة حيث جرد من نفس الآيات سلطان مبين وعطف عليه مبالغة، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 236 والإتيان به مفردا لأنه مصدر في الأصل أو للاتحاد في المراد، وعن الحسن أن المراد بالآيات التكاليف الدينية وبالسلطان المبين المعجز، وقال أبو حيان: يجوز أن يراد بالآيات نفس المعجزات وبالسلطان المبين كيفية دلالتها لأنها وإن شاركت آيات الأنبياء عليهم السلام في أصل الدلالة على الصدق فقد فارقتها في قوة دلالتها على ذلك وهو كما ترى، وممكن أن يقال: المراد بالسلطان تسلط موسى عليه السلام في المحاورة والاستدلال على الصانع عز وجل وقوة الجأش والإقدام «إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ أي أشراف قومه خصوا بالذكر لأن إرسال بني إسرائيل وهو مما أرسلا عليهما السلام لأجله منوط بآرائهم، ويمكن أن يراد بالملأ قومه فقد جاء استعماله بمعنى الجماعة مطلقا فَاسْتَكْبَرُوا عن الانقياد لما أمروا به ودعوا إليه من الإيمان وإرسال بني إسرائيل وترك تعذيبهم، ليست الدعوة مختصة بإرسال بني إسرائيل وإطلاقهم من الأسر ففي سورة [النازعات: 17- 19] اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى وأيضا فيما نحن فيه ما يدل على عدم الاختصاص. وَكانُوا قَوْماً عالِينَ متكبرين أو متطاولين بالبغي والظلم والمراد كانوا قوما عادتهم العلو. فَقالُوا عطف على (استكبروا) وما بينهما اعتراض مقرر للاستكبار، والمراد فقالوا فيما بينهم بطريق المناصحة أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا ثنى البشر لأنه يطلق على الواحد كقوله تعالى: بَشَراً سَوِيًّا [مريم: 17] ويطلق على الجمع كما في قوله تعالى: فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً [مريم: 26] ولم يثن مثل نظرا إلى كونه في حكم المصدر، ولو أفرد البشر لصح لأنه اسم جنس يطلق على الواحد وغيره، وكذا لو ثنى المثل فإنه جاء مثنى في قوله تعالى: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ ومجموعا في قوله سبحانه: ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ نظرا إلى أنه في تأويل الوصف إلا أن المرجح لتثنيته الأول وإفراده الثاني الإشارة بالأول إلى قلتهما وانفرادهما عن قومهما مع كثرة الملأ واجتماعهم وبالثاني إلى شدة تماثلهم حتى كأنهم مع البشرين شيء واحد وهو أدل على ما عنوه. وهذه القصص كما ترى تدل على أن مدار شبه المنكرين للنبوة قياس حال الأنبياء عليهم السلام على أحوالهم بناء على جهلهم بتفاصيل شؤون الحقيقة البشرية وتباين طبقات أفرادها في مراقي الكمال ومهاوي النقصان بحيث يكون بعضها في أعلى عليين وهم المختصون بالنفوس الزكية المؤيدون بالقوة القدسية المتعلقون لصفاء جواهرهم بكلا العالمين اللطيف والكثيف فيتلقون من جانب ويلقون إلى جانب ولا يعوقهم التعلق بمصالح الخلق عن التبتل إلى حضرة الحق وبعضها في أسفل سافلين وهم كأولئك الجهلة الذين هم كالأنعام بل هم أضل سبيلا. ومن العجب أنهم لم يرضوا للنبوة ببشر، وقد رضي أكثرهم للإلهية بحجر فقاتلهم الله تعالى ما أجهلهم، والهمزة للإنكار أي لا نؤمن لبشرين مثلنا وَقَوْمُهُما يعنون سائر بني إسرائيل لَنا عابِدُونَ خادمون منقادون لنا كالعبيد ففي عابِدُونَ استعارة تبعية نظرا إلى متعارف اللغة. ونقل الخفاجي عن الراغب أنه صرح بأن العابد بمعنى الخادم حقيقة، وقال أبو عبيدة: العرب تسمي كل من دان للملك عابدا، وجوز الزمخشري الحمل على حقيقة العبادة فإن فرعون كان يدعي الإلهية فادعى للناس العبادة على الحقيقة. واعترض بأن الظاهر أن هذا القول من الملأ وهو يأبى ذلك، وكونهم قالوه على لسان فرعون كما يقول خواص ملك: نحن ذوو رعية كثيرة وملك طويل عريض ومرادهم أن ملكنا ذو رعية إلخ خلاف الظاهر، وقيل عليه أيضا على تقدير أن يكون القائل فرعون: لا يلزم من ادعائه الإلهية عبادة بني إسرائيل له أو كونه يعتقد أو يدعي عبادتهم على الجزء: 9 ¦ الصفحة: 237 الحقيقة له وأنت تعلم أنه متى سلم أن القائل فرعون وأنه يدعي الإلهية لا يقدح في إرادته حقيقة العباد عدم اعتقاده ذلك لأنه على ما تدل عليه بعض الآثار كثيرا ما يظهر خلاف ما يبطن حتى أنها تدل على أن دعواه الإلهية من ذلك، نعم الأولى تفسير عابِدُونَ بخادمون وهو مما يصح إسناده إلى فرعون وملئه، وكأنهم قصدوا بذلك التعريض بشأن الرسولين عليهما السلام وحط رتبتهما العلية عن منصب الرسالة من وجه آخر غير البشرية، واللام في لَنا متعلقة بعابدون قدمت عليه رعاية للفواصل، وقيل للحصر أي لنا عابدون لا لهما، والجملة حال من فاعل نُؤْمِنُ مؤكدة لإنكار الإيمان لهما بناء على زعمهم الفاسد المؤسس على قياس الرياسة الدينية على الرياسة الدنيوية الدائرة على التقدم في نيل الحظوظ الدنيوية من المال والجاه كدأب قريش حيث قالوا: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] وجهلهم بأن مناط الاصطفاء للرسالة هو السبق في حيازة النعوت العلية والملكات السنية التي يتفضل الله تعالى بها على من يشاء من خلقه فَكَذَّبُوهُما فاستمروا على تكذيبهما وأصروا واستكبروا استكبارا فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ بالغرق في بحر القلزم، والتعقيب باعتبار آخر زمان التكذيب الذي استمروا عليه، وقيل: تعقيب التكذيب بذلك بناء على أن المراد محكوم عليهم بالإهلاك، وقيل: الفاء المحض السببية أي فكانوا بسبب تكذيب الرسولين من المهلكين. وَلَقَدْ آتَيْنا بعد إهلاكهم وإنجاء بني إسرائيل من مملكتهم مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة، وحيث كان إيتاؤه عليه السلام إياها لإرشاد قومه إلى الحق كما هو شأن الكتب الإلهية جعلوا كأنهم أوتوها فقيل: لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ أي إلى طريق الحق علما وعملا لما تضمنته من الاعتقاديات والعمليات. وجوز أن يكون الكلام على تقدير مضاف أي أتينا قوم موسى وضمير لَعَلَّهُمْ عائد عليه، وقيل أريد بموسى عليه السلام قومه كما يقال تميم وثقيف للقبيلة وتعقب بأن المعروف في مثله إطلاق أبي القبيلة عليهم وإطلاق موسى عليه السلام على قومه ليس من هذا القبيل وإن كان لا مانع منه، ولم يجعل ضمير لَعَلَّهُمْ لفرعون وملئه لظهور أن التوراة إنما نزلت بعد إغراقهم لبني إسرائيل وقد يستشهد على ذلك بقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى [القصص: 43] بناء على أن المراد بالقرون الأولى ما يعم فرعون وقومه ومن قبلهم من المهلكين كقوم نوح وهود لا ما يخص من قبلهم من الأمم المهلكين لأن تقييد الأخبار بإتيانه عليه السلام الكتاب بأنه بعد إهلاك من تقدم من الأمم معلوم فلو لم يدخل فرعون وقومه لم يكن فيه فائدة كما قيل، ولم يذكر هارون مع موسى عليهما السلام اقتصارا على من هو كالأصل في الإيتاء، وقيل لأن الكتاب نزل بالطور وهارون عليه السلام كان غائبا مع بني إسرائيل. وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً أي آية دالة على عظيم قدرتنا بولادته منها من غير مسيس بشر فالآية أمر واحد مشترك بينهما فلذا أفردت، وجوز أن يكون الكلام على تقدير مضاف أي جعلنا حال ابن مريم وأمه آية أو جعلنا ابن مريم وأمه ذوي آية وأن يكون على حذف آية من الأول لدلالة الثاني عليه أو بالعكس أي جعلنا ابن مريم آية لما ظهر فيه عليه السلام من الخوارق كتكلمه في المهد بما تكلم صغيرا وإحيائه الموتى وإبرائه الأكمه والأبرص وغير ذلك كبيرا وجعلنا أمة آية بأن ولدت من غير مسيس، وقال الحسن: إنها عليها السلام تكلمت في صغرها أيضا حيث قالت: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ [آل عمران: 37] ولم تلتقم ثديا قط، وقال الخفاجي: لك أن تقول: إنما يحتاج إلى توجيه إفراد الآية بما ذكر إذا أريد أنها آية على قدرة الله تعالى أما إذا كانت بمعنى المعجزة أو الإرهاص فلا لأنها إنما هي لعيسى عليه السلام لنبوته دون مريم اهـ. ولا يخفى ما فيه والوجه عندي ما تقدم، والتعبير الجزء: 9 ¦ الصفحة: 238 عن عيسى عليه السلام بابن مريم وعن مريم بأمه للإيذان من أول الأمر بحيثية كونهما آية فإن نسبته عليه السلام إليها مع أن النسب إلى الآباء دالة على أن لا أب له أي جعلنا ابن مريم وحدها من غير أن يكون له أب وأمه التي ولدته خاصة من غير مشاركة الأب آية، وتقديمه عليه السلام لأصالته فيما ذكر من كونه آية كما قيل أن تقديم أمه في قوله تعالى: وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 91] لأصالتها فيما نسب إليها من الإحصان والنفخ، ثم اعلم أن الذي أجمع عليه الإسلاميون أنه ليس لمريم ابن سوى عيسى عليه السلام. وزعم بعض النصارى قاتلهم الله تعالى أنها بعد أن ولدت عيسى تزوجت بيوسف النجار وولدت منه ثلاثة أبناء، والمعتمد عليه عندهم أنها كانت في حال الصغر خطيبة يوسف النجار وعقد عليها ولم يقربها ولما رأى حملها بعيسى عليه السلام وهم بتخليتها فرأى في المنام ملكا أوقفه على حقيقة الحال فلما ولدت بقيت عنده مع عيسى عليه السلام فجعل يربيه ويتعهده مع أولاد له من زوجة غيرها فأما هي فلم يكن يقربها أصلا، والمسلمون لا يسلمون أنها كانت معقودا عليها ليوسف ويسلمون أنها كانت خطيبته وأنه تعهدها وتعهد عيسى عليه السلام ويقولون: كان ذلك لقرابته منها وَآوَيْناهُما أي جعلناهما يأويان إِلى رَبْوَةٍ هي ما ارتفع من الأرض دون الجبل. واختلف في المراد هنا فأخرج وكيع وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن عساكر بسند صحيح عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: إِلى رَبْوَةٍ أنبئنا أنها دمشق، وأخرج ابن عساكر عن عبد الله بن سلام وعن يزيد بن شجرة الصحابي وعن سعيد بن المسيب وعن قتادة عن الحسن أنهم قالوا: الربوة هي دمشق، وفي ذلك حديث مرفوع أخرجه ابن عساكر عن أبي أمامة بسند ضعيف. وأخرج جماعة عن أبي هريرة أنه قال: هي الرملة من فلسطين، وأخرج ذلك ابن مردويه من حديثه مرفوعا، وأخرج الطبراني في الأوسط، وجماعة عن مرة البهزي قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: الربوة الرملة ، وأخرج ابن جرير وغيره عن الضحاك أنه قال: هي بيت المقدس، وأخرج هو وغيره أيضا عن قتادة أنه قال: كنا نحدث أن الربوة بيت المقدس، وذكروا عن كعب أن أرضه كبد الأرض وأقربها إلى السماء بثمانية عشر ميلا ولذا كان المعراج ورفع عيسى عليه السلام منه، وهذا القول أوفق بإطلاق الربوة على ما سمعت من معناها، وأخرج ابن المنذر، وغيره عن وهب وابن جرير وغيره عن ابن زيد الربوة مصر، وروي عن زيد بن أسلم أنه قال: هي الاسكندرية، وذكروا أي قرى مصر كل واحدة منها على ربوة مرتفعة لعموم النيل في زيادته جميع أرضها فلو لم تكن القرى على الربى لغرقت، وذكر أن سبب هذا الإيواء أن ملك ذلك الزمان عزم على قتل عيسى عليه السلام ففرت به أمه إلى أحد هذه الأماكن التي ذكرت كذا في البحر، ورأيت في إنجيل متى أن عيسى عليه السلام لما ولد في بيت لحم في أيام هيرودس الملك وافى جماعة من المجوس من المشرق إلى أورشليم يقولون: أين المولود ملك اليهود فقد رأينا نجمة في المشرق وجئنا لنسجد له فلما سمع هيرودس اضطرب وجمع رؤساء الكهنة وكتبة الشعب فسألهم أين يولد المسيح؟ فقالوا: في بيت لحم فدعا المجوس سرا وتحقق منهم الزمان الذي ظهر لهم فيه النجم وأرسلهم إلى بيت لحم وقال لهم: اجهدوا في البحث عن هذا المولود فإذا وجدتموه فأخبروني لأسجد له معكم فذهبوا فوجوده مع مريم فسجدوا وقربوا القرابين ورأوا في المنام أن لا يرجعوا إلى هيرودس فذهبوا إلى كورتهم ورأى يوسف في المنام ملكا يقول له قم فخذ الطفل وأمه واهرب إلى مصر وكن هناك حتى أقول لك فإن هيردوس قد عزم على أن يطلب الطفل ليهلكه فقام وأخذ الطفل وأمه ليلا ومضى إلى مصر وكان هناك وفاة هيرودس فلما توفي رأى يوسف الملك في المنام يقول له: قم فخذ الطفل وأمه واذهب إلى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 239 أرض إسرائيل فقد مات من يطلب نفس الطفل فقام وأخذهما وجاء إلى أرض إسرائيل فلما سمع أن أرشلاوس قد ملك على اليهودية بعد أبيه هيرودس خاف أن يذهب هناك فأخبر في المنام وذهب إلى تخوم الجليل فسكن في مدينة تدعى ناصرة اهـ، فإن صح هذا كان الظاهر أن الربوة في أرض مصر أو ناصرة من أرض الشام والله تعالى أعلم، وقرأ أكثر القراء «ربوة» بضم الراء وهي لغة قريش. وقرأ أبو إسحاق السبيعي «ربوة» بكسرها، وابن أبي إسحاق «رباة» بضم الراء وبالألف، وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما والأشهب العقيلي والفرزدق والسلمي في نقل صاحب اللوامح بفتحها وبالألف. وقرىء بكسرها وبالألف ذاتِ قَرارٍ أي مستقر من أرض منبسطة، والمراد أنها في واد فسيح تنبسط به نفس من يأوي إليه، وقال مجاهد: ذات ثمار وزروع، والمراد أنها محل صالح لقرار الناس فيه لما فيه من الزروع والثمار وهو أنسب بقوله تعالى: وَمَعِينٍ أي وماء معين أي جار، ووزنه فعيل على أن الميم أصلية من معنى جرى، وأصله الإبعاد في الشيء ومنه أمعن النظر. وفي البحر معن الشيء معانة كثر أو من الماعون، وإطلاقه على الماء الجاري لنفعه، وجوز أن يكون وزنه مفعول كمخيط على أن الميم زائدة من عانه أدركه بعينه كركبه إذا ضربه بركبته وإطلاقه على الماء الجاري لما أنه في الأغلب يكون ظاهرا مشاهدا بالعين، ووصف الماء بذلك لأنه الجامع لانشراح الصدر وطيب المكان وكثرة المنافع يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ حكاية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم على وجه الإجمال لما خوطب به كل رسول في عصره جيء بها إثر حكاية إيواء عيسى وأمه عليهما السلام إلى الربوة إيذانا بأن ترتيب مبادي النعم لم تكن من خصائص عيسى عليه السلام بل إباحة الطيبات شرع قديم جرى عليه جميع الرسل عليهم السلام ووصوا به أي وقلنا لكل رسول كل من الطيبات واعمل صالحا فعبر عن تلك الأوامر المتعددة المتعلقة بالرسل بصيغة الجمع عند الحكاية إجمالا للإيجاز أو حكاية لما ذكر لعيسى وأمه عليهما السلام عند إيوائهما إلى الربوة ليقتديا بالرسل في تناول ما رزقا كأنه قيل آويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين وقلنا أو قائلين لهما هذا أي أعلمناهما أو معلميهما أن الرسل كلهم خوطبوا بهذا فكلا واعملا اقتداء بهم، وجوز أن يكون نداء لعيسى عليه السلام وأمرا له بأن يأكل من الطيبات، فقد جاء في حديث مرسل عن حفص ابن أبي جبلة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ إلخ: ذاك عيسى ابن مريم كان يأكل (1) من غزل أمه ، وعن الحسن ومجاهد وقتادة والسدي والكلبي أنه نداء لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخطاب له والجمع للتعظيم واستظهر ذلك النيسابوري، وما وقع في شرح التلخيص تبعا للرضي من أن قصد التعظيم بصيغة الجمع في غير ضمير المتكلم لم يقع في الكلام القديم خطأ لكثرته في كلام العرب مطلقا بل في جميع الألسنة وقد صرح به الثعالبي في فقه اللغة، والمراد بالطيبات على ما اختاره شيخ الإسلام وغيره ما يستطاب ويستلذ من مباحات المأكل والفواكه، واستدل له بأن السياق يقتضيه والأمر عليه للإباحة والترفيه وفيه إبطال للرهبانية التي ابتدعتها النصارى، وقيل المراد بالطيبات ما حل والأمر تكليفي، وأيد بتعقيبه بقوله تعالى: وَاعْمَلُوا صالِحاً أي عملا صالحا، وقد يؤيد بما أخرجه أحمد في الزهد وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه عن أم عبد الله أخت شداد بن أوس رضي الله تعالى عنها أنها بعثت إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بقدح لبن عند فطره وهو صائم فرد إليها رسولها أنى لك هذا اللبن؟ قالت: من شاة لي فرد إليها رسولها أنى لك الشاة؟ فقالت: اشتريتها من مالي فشرب منه عليه الصلاة والسلام فلما كان من الغد أتته أم   (1) والمشهور أنه عليه السلام كان يأكل من بطن البرية اهـ منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 240 عبد الله فقالت: يا رسول الله بعثت إليك بلبن فرددت إليّ الرسول فيه فقال صلّى الله عليه وسلّم لها: «بذلك أمرت الرسل قبلي أن لا تأكل إلا طيبا ولا تعمل إلا صالحا» وكذا بما أخرجه مسلم والترمذي وغيرهما عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يا أيها الناس إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المسلمين فقال: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً وقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ [البقرة: 172] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب فأنى يستجاب لذلك» وتقديم الأمر بأكل الحلال لأن أكل الحلال معين على العمل الصالح. وجاء في بعض الأخبار أن الله تعالى لا يقبل عبادة من في جوفه لقمة من حرام، وصح أيما لحم نبت من سحت فالنار أولى به. ولعل تقديم الأمر الأول على تقدير حمل الطيب على ما يستلذ من المباحات لأنه أوفق بقوله تعالى: وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ وفي الأمر بعده بالعمل الصالح حث على الشكر. إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ من الأعمال الظاهرة والباطنة عَلِيمٌ فأجازيكم عليه، وفي البحر أن هذا تحذير للرسل عليهم السلام في الظاهر والمراد أتباعهم وَإِنَّ هذِهِ أي الملة والشريعة، وأشير إليها بهذه للإشارة إلى كمال ظهور أمرها في الصحة والسداد وانتظامها بسبب ذلك في سلك الأمور المشاهدة أُمَّتُكُمْ أي ملتكم وشريعتكم والخطاب للرسل عليهم السلام على نحو ما مر وقيل عام لهم ولغيرهم وروي ذلك عن مجاهد، والجملة على ما قال الخفاجي عطف على الجملة إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ فالواو من المحكي، وقيل هي من الحكاية وقد عطفت قولا على قول، والتقدير قلنا يا أيها الرسل كلوا إلخ وقلنا لهم إن هذه أمتكم ولا يخفى بعده. وقيل: الواو ليست للعطف والجملة بعدها مستأنفة غير معطوفة على ما قبلها وهو كما ترى، وقوله سبحانه أُمَّةً واحِدَةً حال مبنية من الخبر والعامل فيها معنى الإشارة أي أشير إليها في حال كونها شريعة متحدة في الأصول التي لا تتبدل بتبدل الأعصار وقيل هذِهِ إشارة إلى الأمم الماضية للرسل، والمعنى أن هذه جماعتكم جماعة واحدة متفقة على الإيمان والتوحيد في العبادة وَأَنَا رَبُّكُمْ أي من غير أن يكون لي شريك في الربوبية، وهذه الجملة عطف على جملة «إن هذه» إلخ المعطوفة على ما تقدم وهما داخلان في حيز التعليل للعمل الصالح لأن الظاهر أن قوله سبحانه: إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ تعليل لذلك، ولعل المراد بالعمل الصالح ما يشمل العقائد الحقة والأعمال الصحيحة، واقتضاء المجازاة والربوبية لذلك ظاهر وأما اقتضاء اتحاد الشريعة في الأصول التي لا تتبدل لذلك فباعتبار أنه دليل حقية العقائد وحقيقتها تقتضي الإتيان بها والإتيان بها يقتضي الإتيان بغيرها من الأعمال الصالحة بل قيل لا يصح الاعتقاد مع ترك العمل، وعلى هذا يكون قوله تعالى: فَاتَّقُونِ كالتصريح بالنتيجة فيكون الكلام نظير قولك: العالم حادث لأنه متغير وكل متغير حادث فالعالم حادث. وفي إرشاد العقل السليم أن ضمير الخطاب في قوله تعالى: رَبُّكُمْ وفي قوله سبحانه: فَاتَّقُونِ للرسل والأمم جميعا على أن الأمر في حق الرسل للتهييج والإلهاب وفي حق الأمة للتحذير والإيجاب، والفاء لترتيب الأمر أو وجوب الامتثال به على ما قبله من اختصاص الربوبية به سبحانه واتحاد الأمة فإن كلّا منهما موجب للاتقاء حتما، والمعنى فاتقون في شق العصا والمخالفة بالإخلال بموجب ما ذكر. وقرأ الحرميان وأبو عمرو «وأن» بفتح الهمزة وتشديد النون، وخرج على تقدير حرف الجر أي ولأن هذه إلخ، والجار والمجرور متعلق باتقون، قال الخفاجي: والكلام في الفاء الداخلة عليه كالكلام في فاء قوله تعالى: فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وهي للسببية وللعطف على ما قبله وهو اعْمَلُوا والمعنى اتقوني لأن العقول متفقة على ربوبيتي والعقائد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 241 الحقة الموجبة للتقوى انتهى، ولا يخلو عن شيء، وجوز أن تكون إِنَّ هذِهِ إلخ على هذه القراءة معطوفا على ما تَعْمَلُونَ والمعنى إني عليم بما تعملون وبأن هذه أمتكم أمة واحدة إلخ فهو داخل في حيز المعلوم. وضعف بأنه لا جزالة في المعنى عليه، وقيل: هو معمول لفعل محذوف أي واعلموا أن هذه أمتكم إلخ وهذا المحذوف معطوف على «اعملوا» ولا يخفى أن هذا التقدير خلاف الظاهر. وقرأ ابن عامر «وأن» بفتح الهمزة وتخفيف النون على أنها المخففة من الثقيلة ويعلم توجيه الفتح مما ذكرنا. فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ الضمير لما دل عليه الأمة من أربابها إن كانت بمعنى الملة أو لها وإن كانت بمعنى الجماعة، وجوز أن يراد بالأمة أولا الملة وعند عود الضمير عليها الجماعة على أن ذلك من باب الاستخدام، والمراد حكاية ما ظهر من أمم الرسل عليهم السلام من مخالفة الأمر، والفاء لترتيب عصيانهم على الأمر لزيادة تقبيح حالهم، وتقطع بمعنى قطع كتقدم بمعنى قدم والمراد بأمرهم أمر دينهم إما على تقدير مضاف أو على جعل الإضافة عهدية أي قطعوا أمر دينهم وجعلوه أديانا مختلفة مع اتحاده، وجوز أن يراد بالتقطع التفرق، و «أمرهم» منصوب بنزع الخافض أي فتفرقوا وتحزبوا في أمرهم، ويجوز أن يكون أَمْرَهُمْ على هذا نصبا على التمييز عند الكوفيين المجوزين تعريف التمييز بَيْنَهُمْ زُبُراً أي قطعا جمع زبور بمعنى فرقة، ويؤيده أنه قرىء «زبرا» بضم الزاي وفتح الباء فإنه مشهور ثابت في جمع زبرة بمعنى قطعة وهو حال من «أمرهم» أو من واو (تقطعوا) أو مفعول ثان له فإنه مضمن معنى جعلوا، وقيل: جمع زبور بمعنى كتاب من زبرت بمعنى كتبت وهو مفعول ثان لتقطعوا المضمن معنى الجعل أي قطعوا أمر دينهم جاعلين له كتبا. وجوز أن يكون حالا من أَمْرَهُمْ على اعتبار تقطعوا لازما أي تفرقوا في أمرهم حال كونه مثل الكتب السماوية عندهم. وقيل: إنها حال مقدرة أو منصوب بنزع الخافض أي في كتب، وتفسير زُبُراً بكتب رواه جماعة عن قتادة كما في الدر المنثور، ولا يخفى خفاء المعنى عليه ولا يكاد يستقيم إلا بتأويل فتدبر. وقرىء «زبرا» بإسكان الباء للتخفيف كرسل في رسل، وجاء فَتَقَطَّعُوا هنا بالفاء إيذانا بأن ذلك اعتقب الأمر وفيه مبالغة في الذم كما أشرنا إليه، وجاء في سورة الأنبياء بالواو فاحتمل معنى الفاء واحتمل تأخر تقطعهم عن الأمر، وجاء هنا وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ وهو أبلغ في التخويف والتحذير مما جاء هناك من قوله تعالى هناك: وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 92] لأن هذه جاءت عقيب إهلاك طوائف كثيرين قوم نوح والأمم الذين من بعدهم وفي تلك السورة وإن تقدمت أيضا قصة نوح وما قبلها فإنه جاء بعدها ما يدل على الإحسان واللطف التام في قصة أيوب وزكريا ومريم فناسب الأمر بالعبادة لمن هذه صفته عز وجل قاله أبو حيان، وما ذكره أولا غير واف بالمقصود، وما ذكره ثانيا قيل عليه: إنه مبني على أن الآية تذييل للقصص السابقة أو لقصة عيسى عليه السلام لابتداء كلام فإنه حينئذ لا يفيد ذلك إلا أن يراد أنه وقع في الحكاية لهذه المناسبة فتأمل. كُلُّ حِزْبٍ من أولئك المتحزبين بِما لَدَيْهِمْ من الأمر الذي اختاروه فَرِحُونَ مسرورون منشرحو الصدر، والمراد أنهم معجبون به معتقدون أنه الحق، وفي هذا من ذم أولئك المتحزبين ما فيه. فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ خطاب له صلّى الله عليه وسلّم في شأن قريش الذين تقطعوا في أمر الدين الحق، والغمرة الماء الذي يغمر القامة وأصلها من الستر والمراد بها الجهالة بجامع الغلبة والاستهلاك، وكأنه لما ذكر سبحانه في ضمن ما كان من أمم الأنبياء عليهم السلام توزعهم واقتسامهم ما كان يجب اجتماعه واتفاق الكلمة عليه من الدين وفرحهم بفعلهم الباطل ومعتقدهم العاطل قال لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: فإذ ذاك دعهم في جهلهم هذا الذي لا جهل فوقه تخلية وخذلانا ودلالة على الجزء: 9 ¦ الصفحة: 242 اليأس من أن ينجع القول فيهم وضمن التسلية في ذكر الغاية أعني قوله سبحانه: حَتَّى حِينٍ فإن المراد بذلك حين قتلهم وهو يوم بدر على ما روي عن مقاتل أو موتهم على الكفر الموجب للعذاب أو عذابهم، وفي التنكير والإبهام ما لا يخفى من التهويل. وجوز أن يقال: شبه حال هؤلاء مع ما هم عليه من محاولة الباطل والانغماس فيه بحال من يدخل في الماء الغامر للعب والجامع تضييع الوقت بعد الكدح في العمل، والكلام حينئذ على منوال سابقه أعني قوله تعالى: كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ لما جعلوا فرحين غرورا جعلوا لاعبين أيضا والأول أظهر وقد يجعل الكلام عليه أيضا استعارة تمثيلية بل هو أولى عند البلغاء كما لا يخفى. وقرأ عليّ كرم الله تعالى وجهه وأبو حيوة والسلمي «في غمراتهم» على الجمع لأن لكل واحد غمرة. أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ أي الذي نعطيهم إياه ونجعله مددا لهم، فما موصولة اسم أن ولا يضر كونها موصولة لأنها في الإمام كذلك لسر لا نعرفه. وقوله تعالى: مِنْ مالٍ وَبَنِينَ بيان لها. وتقديم المال على النبيين مع كونهم أعز منه قد مر وجهه، وقوله سبحانه: نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ خبر أن والراجع إلى الاسم محذوف أي أيحسبون أن الذي نمدهم به من المال والبنين نسارع به لهم فيما فيه خيرهم وإكرامهم على أن الهمزة لإنكار الواقع واستقباحه وحذف هذا العائد لطول الكلام مع تقدم نظيره في الصلة إلا أن حذف مثله قليل، وقال هشام بن معاوية: الرابط هو الاسم الظاهر وهو الْخَيْراتِ وكأن المعنى نسارع لهم فيه ثم أظهر فقيل في الخيرات، وهذا يتمشى على مذهب الأخفش في إجازته نحو زيد قام أبو عبد الله إذا كان أبو عبد الله كنية لزيد، قيل: ولا يجوز أن يكون الخبر مِنْ مالٍ وَبَنِينَ لأن الله تعالى أمدهم بذلك فلا يعاب ولا ينكر عليهم اعتقاد المدد به كما يفيده الاستفهام الانكاري وتعقب بأنه لا يبعد أن يكون المراد ما نجعله مددا نافعا لهم في الآخرة ليس المال والبنين بل الاعتقاد والعمل الصالح كقوله تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 88] وفيه ما فيه. وما ذكرنا من كون ما موصولة هو الظاهر، ومن جوز كونها مصدرية وجعل المصدر الحاصل بعد السبك اسم أن وخبرها نُسارِعُ على تقدير مسارعة بناء على أن الأصل أن نسارع فحذفت أن وارتفع الفعل لم يوف القرآن الكريم حقه، وكذا من جعلها كافة كالكسائي ونقل ذلك عنه أبو حيان، وجوز عليه الوقف على بَنِينَ معللا بأن ما بعد يحسب قد انتظم مسندا ومسندا إليه من حيث المعنى وإن كان في تأويل مفرد وهو كما ترى، وقرأ ابن وثاب «إنما نمدهم» بكسر همزة إن، وقرأ ابن كثير في رواية «يمدهم» بالياء. وقرأ السلمي وعبد الرحمن بن أبي بكرة «يسارع» بالياء وكسر الراء فإن كان فاعله ضميره تعالى فالكلام في الرابط، على ما سمعت، وإن كان ضمير الموصول فهو الرابط وعن ابن أبي بكرة المذكور أنه قرأ «يسارع» بالياء وفتح الراء مبنيا للمفعول، وقرأ الحر النحوي «نسرع» بالنون مضارع أسرع، وقرىء على ما في الكشاف «يسرع» بالياء مضارع أسرع أيضا وفي فاعله الاحتمالان المشار إليهما آنفا بَلْ لا يَشْعُرُونَ عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي كلا لا نفعل ذلك بل لا يشعرون أي ليس من شأنهم الشعور أن هم إلا كالأنعام بل هم أضل حتى يتأملوا ويتفكروا في ذلك هو استدراج أم مسارعة ومبادرة في الخيرات ومن هنا قيل: من يعص الله تعالى ولم ير نقصانا فيما أعطاه سبحانه من الدنيا فليعلم أنه مستدرج قد مكر به، وقال قتادة: لا تعتبروا الناس بأموالهم وأولادهم ولكن اعتبروهم بالإيمان والعمل الصالح. إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ الكلام فيه نظير ما مر في نظيره في سورة الأنبياء بيد أن استمرار الجزء: 9 ¦ الصفحة: 243 الإشفاق هنا في الدنيا والآخرة للمؤمنين ترددا وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ المنزلة والمنصوبة في الآفاق والأنفس، والباء للملابسة وهي متعلقة بقوله تعالى: يُؤْمِنُونَ أي يصدقون، والمراد التصديق بمدلولها إذ لا مدح في التصديق بوجودها، والتعبير بالمضارع دون الاسم للإشارة إلى أنه كلما وقفوا على آية آمنوا بها وصدقوا بمدلولها وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ فيخلصون بالعبادة له عز وجل فالمراد نفي الشرك الخفي كالرياء بالعبادة كذا قيل، وقد اختار بعض المحققين التعميم أي لا يشركون به تعالى شركا جليا ولا خفيا ولعله الأولى، ولا يغني عن ذلك وصفهم بالإيمان بآيات الله تعالى. وجوز أن يراد مما سبق وصفهم بتوحيد الربوبية ومما هنا وصفهم بتوحيد الألوهية، ولم يقتصر على الأول لأن أكثر الكفار متصفون بتوحيد الربوبية وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25، الزمر: 38] ولا يأباه التعرض لعنوان الربوبية فإنه في المواضع الثلاثة للإشعار بالعلية وذلك العنوان يصلح لأن يكون علة لتوحيد الألوهية كما لا يخفى. وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا أي يعطون ما أعطوا من الصدقات وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ خائفة من أن لا يقبل منهم وأن لا يقع على الوجه اللائق فيؤاخذوا به. وقرأت عائشة وابن عباس وقتادة والأعمش والحسن والنخعي يأتون ما اتوا من الإتيان لا الإيتاء فيهما، وأخرج ابن مردويه وسعيد بن منصور عن عائشة أنه صلّى الله عليه وسلّم قرأ كذلك وأطلق عليها المفسرون قراءة رسول الله عليه الصلاة والسلام يعنون أن المحدثين نقلوها عنه صلّى الله عليه وسلّم ولم يروها القراء من طرقهم والمعنى عليها يفعلون من العبادات ما فعلوه وقلوبهم وجلة، وروي نحو هذا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقد أخرج أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم وصححه وابن المنذر وابن جرير وجماعة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قلت يا رسول الله قول الله وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أهو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو مع ذلك يخاف الله تعالى؟ قال: لا ولكنه الرجل يصوم ويتصدق ويصلي وهو مع ذلك يخاف الله تعالى أن لا يتقبل منه ، وجملة قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ في القراءتين في موضع الحال من ضمير الجمع في الصلة الأولى، والتعبير بالمضارع فيها للدلالة على الاستمرار وفي الثانية للدلالة على التحقق، وقوله تعالى: أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ بتقدير اللام التعليلية وهي متعلقة بوجلة أي خائفة من عدم القبول وعدم الوقوع على الوجه اللائق لأنهم راجعون إليه تعالى ومبعوثون يوم القيامة وحينئذ تنكشف الحقائق ويحتاج العبد إلى عمل مقبول لائق فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7، 8] . وجوز أن يكون بتقدير من الابتدائية التي يتعدى بها الوجل أي وجلة من أن رجوعهم إليه عز وجل على أن مناط الوجل أن لا يقبل ذلك منهم وأن لا يقع على الوجه اللائق فيؤاخذوا به حينئذ لا مجرد رجوعهم إليه عز وجل، وقد يؤيد الوجه الأول بقراءة الأعمش أَنَّهُمْ بكسر الهمزة، ولعل التعبير بالجملة الاسمية المخبر فيها بالوصف دون الفعل المضارع للمبالغة في تحقق الرجوع حتى كأنه من الأمور الثابتة المستمرة كذا قيل. وجوز على بعد أن يكون المراد من الرجوع المذكور الرجوع إليه عز وجل بالعبودية، فوجه التعبير بالجملة الاسمية عليه أظهر من أن يخفى، ووجه تعليل الخوف من عدم القبول وعدم وقوع فعلهم كائنا ما كان على الوجه اللائق بأنهم راجعون إليه تعالى بالعبودية عدم وجوب قبول عملهم عليه تعالى حينئذ لأنه سبحانه مالك وللمالك أن يفعل بملكه ما يشاء وظهور نقصهم كيف كانوا عن كماله جل جلاله والناقص مظنة أن لا يأتي بما يليق بالكامل لا سيما إذا كان ذلك الكامل هو الله عز وجل الذي لا يتناهى كماله ولا أراك ترى في هذا الوجه كلفا سوى كلف العبد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 244 فتأمل، ثم إن المواصلات الأربع على ما قاله شيخ الإسلام، وغيره عبارة عن طائفة واحدة متصفة بما ذكر في حيز صلاتها من الأوصاف الأربعة لا عن طوائف كل واحدة منها متصفة بواحد من الأوصاف المذكورة كأنه قيل: إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون وبآيات ربهم يؤمنون إلخ، وإنما كرر الموصول إيذانا باستقلال كل واحدة من تلك الصفات بفضيلة باهرة على حيالها وتنزيلا لاستقلالها منزلة استقلال الموصوف بها، وهذا جار على كلتا القراءتين في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وللعلامة الطيبي في هذا المقام كلام لا أظنك تستطيبه كيف وفيه القول بأن الذين هم بربهم لا يشركون والذين يأتون ما آتوا وقلوبهم وجلة هم العاصون من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم وهو في غاية البعد. وقد ذكر الإمام أن الصفة الرابعة نهاية مقامات الصديقين أُولئِكَ إشارة إلى من ذكر باعتبار اتصافهم بتلك الصفات، وما فيه من معنى البعد للإشعار بعد رتبتهم في الفضل وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ والجملة من المبتدأ وخبره خبر إن، والكلام استئناف مسوق لبيان من له المسارعة في الخيرات إثر إقناط الكفار عنها وإبطال حسبانهم الكاذب أي أولئك المنعوتون بما فصل من النعوت الجليلة خاصة دون أولئك الكفرة يسارعون في نيل الخيرات التي من جملتها الخيرات العاجلة الموعودة على الأعمال الصالحة كما في قوله تعالى: فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ [آل عمران: 148] وقوله سبحانه: وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [النحل: 122] فقد أثبت لهم ما نفي عن أضدادهم خلا أنه غير الأسلوب حيث لم يقل أولئك يسارع لهم في الخيرات بل أسند المسارعة إليهم إيماء إلى استحقاقهم لنيل الخيرات بمحاسن أعمالهم، وإيثار كلمة في على كلمة إلى للإيذان بأنهم متقلبون في فنون الخيرات لا أنهم خارجون عنها متوجهون إليها بطريق المسارعة كما في قوله تعالى: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ [آل عمران: 133] وَهُمْ لَها أي للخيرات التي من جملتها ما سمعت، والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى: سابِقُونَ وهو إما منزل منزلة اللازم أي فاعلون السبق أو مفعوله محذوف أي سابقون الناس أو الكفار، وهو يتعدى باللام وبإلى فيقال: سبقت إلى كذا ولكذا، والمراد بسبقهم إلى الخيرات ظفرهم بها ونيلهم إياها. وجعل أبو حيان هذه الجملة تأكيدا للجملة الأولى، وقيل سابقون متعد للضمير بنفسه واللام مزيدة، وحسن زيادتها كون العامل فرعيا وتقدم المعمول المضمر أي وهم سابقون إياها، والمراد بسبقهم إياها لازم معناه أيضا وهو النيل أي وهم ينالونها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا فلا يرد ما قيل: إن سبق الشيء الشيء يدل على تقدم السابق على المسبوق فكيف يقال: هم يسبقون الخيرات والاحتياج إلى إرادة اللازم على هذا الوجه أشد منه على الوجه السابق ولهذا مع التزام الزيادة فيه قيل إنه وجه متكلف. وجوز أن يكون المراد بالخيرات الطاعات وضمير لَها لها أيضا واللام للتعليل وهو متعلق بما بعده والمعنى يرغبون في الطاعات والعبادات أشد الرغبة وهم لأجلها فاعلون السبق أو لأجلها سابقون الناس إلى الثواب أو إلى الجنة، وجوز على تقدير أن يراد بالخيرات الطاعات أن يكون لَها خبر المبتدأ وسابِقُونَ خبر بعد خبر، ومعنى هُمْ لَها أنهم معدون لفعل مثلها من الأمور العظيمة، وهذا كقولك: لمن يطلب منه حاجة لا ترجى من غيره: أنت لها وهو من بليغ كلامهم، وعلى ذلك قوله: مشكلات أعضلت ودهت ... يا رسول الله أنت لها ورجح هذا الوجه الطبري بأن اللام متمكنة في هذا المعنى، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما هو ظاهر في جعل لَها خبرا وإن لم يكن ظاهرا في جعل الضمير للخيرات بمعنى الطاعات، ففي البحر نقلا عنه أن المعنى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 245 سبقت لهم السعادة في الأزل فهم لها، وأنت تعلم أن أكثر هذه الأوجه خلاف الظاهر وأن التفسير الأول للخيرات أحسن طباقا للآية المتقدمة، ومن الناس من زعم أن ضمير لَها للجنة. ومنهم من زعم أنه للأمم وهو كما ترى. وقرأ الحر النحوي «يسرعون» مضارع أسرع يقال: أسرعت إلى الشيء وسرعت إليه بمعنى واحد و «يسارعون» كما قال الزجاج أبلغ من يسرعون، ووجه بأن المفاعلة تكون من اثنين فنقتفي حث النفس على السبق لأن من عارضك في شيء تشتهي أن تغلبه فيه وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها جملة مستأنفة سيقت للتحريض على ما وصف به أولئك المشار إليهم من فعل الطاعات ببيان سهولته وكونه غير خارج عن حد الوسع والطاعة أي عادتنا جارية على أن لا نكلف نفسا من النفوس إلا ما في وسعها وقدر طاقتها على أن المراد استمرار النفي بمعونة المقام لا نفي الاستمرار أو للترخيص فيما هو قاصر عن درجة أعمال أولئك ببيان أنه تعالى لا يكلف عباده إلا ما في وسعهم فإن لم يبلغوا في فعل الطاعات مراتب السابقين فلا عليهم بعد أن يبذلوا طاقتهم ويستفرغوا وسعهم. قال مقاتل: من لم يستطع القيام فليصل قاعدا ومن لم يستطع القعود فليوم إيماء. وقوله سبحانه: وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ تتمة لما قبله ببيان أحوال ما كلفوه من الأعمال وأحكامها المترتبة عليها من الحساب والثواب والعقاب، والمراد بالكتاب صحائف الأعمال التي يقرؤونها عند الحساب حسبما يؤذن به الوصف بهو كما في قوله تعالى: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية: 29] و (الحق) المطابق للواقع والنطق به مجاز عن إظهاره أي عندنا كتاب يظهر الحق المطابق للواقع على ما هو عليه ذاتا ووصفا ويبينه للناظر كما يبينه النطق ويظهره للسامع فيظهر هناك جلائل الأعمال ودقائقها ويترتب عليها أجزيتها إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وقيل: المراد بالكتاب صحائف يقرؤونها فيها ما ثبت لهم في اللوح المحفوظ من الجزاء وهو دون القول الأول، وأدون منه ما قيل: إن المراد به القرآن الكريم، وقوله تعالى: وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ لبيان فضله عز وجل وعدله في الجزاء على أتم وجه إثر بيان لطفه سبحانه في التكليف وكتب الأعمال على ما هي عليه أي لا يظلمون في الجزاء بنقص ثواب أو زيادة عذاب بل يجزون بقدر أعمالهم التي كلفوها ونطقت بها صحائفها بالحق، وجوز أن يكون تقريرا لما قبل من التكليف وكتب الأعمال أي لا يظلمون بتكليف ما ليس في وسعهم ولا بكتب بعض أعمالهم التي من جملتها أعمال غير السابقين بناء على قصورها عن درجة أعمال السابقين بل يكتب كل منها على مقاديرها وطبقاتها. وقوله عز وجل: بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا إضراب عما قبله ورجوع إلى بيان حال الكفرة فالضمير للكفرة أي بل قلوب الكفرة في غفلة وجهالة من هذا الذي بين في القرآن من أن لديه تعالى كتابا ينطق بالحق ويظهر لهم أعمالهم السيئة على رؤوس الأشهاد فيجزون بها كما ينبىء عنه ما سيأتي إن شاء الله تعالى من قوله سبحانه: قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ إلخ، وقيل: الإشارة إلى القرآن الكريم وما بين فيه مطلقا وروي ذلك عن مجاهد، وقيل: إلى ما عليه أولئك الموصوفون بالأعمال الصالحة وروي هذا عن قتادة، وقيل: إلى الدين بجملته، وقيل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم والأول أظهر وَلَهُمْ أَعْمالٌ سيئة كثيرة مِنْ دُونِ ذلِكَ الذي ذكر من كون قلوبهم في غمرة مما ذكر وهي فنون كفرهم ومعاصيهم التي من جملتها طعنهم في القرآن الكريم المشار إليه في قوله تعالى: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ. وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس أن المراد بالغمرة الكفرة والشك وأن ذلِكَ إشارة إلى هذا المذكور، والمعنى لهم أعمال دون الكفر وأخرج ابن جرير وغيره عن قتادة أن ذلِكَ كهذا إشارة إلى ما وصف به المؤمنون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 246 من الأعمال الصالحة أي لهم أعمال متخطية لما وصف به المؤمنون أي أضداد ما وصفوا به مما وقع في حيز الصلات وهذا غاية الذم لهم هُمْ لَها عامِلُونَ أي مستمرون عليها معتادون فعلها ضارون بها لا يفطمون عنها وعامِلُونَ عامل في الضمير قبله واللام للتقوية، هذا وقال أبو مسلم: إن الضمير في قوله تعالى: بَلْ هم إلخ عائد على المؤمنين الموصوفين بما تقدم من الصفات كأنه سبحانه قال بعد وصفهم: ولا نكلف نفسا إلا وسعها ونهايته ما أتى به هؤلاء المشفقون ولدينا كتاب يحفظ أعمالهم ينطق بالحق فلا يظلمون بل يوفي عليهم ثواب أعمالهم، ثم وصفهم سبحانه بالحيرة في قوله تعالى: بل قلوبهم في غمرة فكأنه عز وجل قال: وهم مع ذلك الوجل والخوف كالمتحيرين في أعمالهم أهي مقبولة أم مردودة ولهم أعمال من دون ذلك أي لهم أيضا من النوافل ووجوه البرسوي ما هم عليه انتهى، قال الإمام: وهو الأولى لأنه إذا أمكن رد الكلام إلى ما يتصل به من ذكر المشفقين كان أولى من رده إلى ما بعد منه خصوصا وقد يرغب المرء في فعل الخير بأن يذكر أن أعماله محفوظة كما يحذر بذلك من الشر، وقد يوصف المرء لشدة فكره في أمر آخرته بأن قلبه في غمرة ويراد أنه قد استولى عليه الفكر في قبول عمله أورده وفي أنه هل أداه كما يجب أو قصر، وهذا على هذا إشارة إلى إشفاقهم ووجلهم انتهى، ولا يخفى ما فيه على من ليس قلبه في غمرة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 247 حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ حَتَّى على ما في الكشاف هي التي يبتدأ بعدها الكلام وهي مع ذلك غاية لما قبلها كأنه قيل: لا يزالون يعملون أعمالهم إلى حيث إذا أخذنا إلخ، وقال ابن عطية: هي ابتداء لا غير، وإِذا الأولى والثانية يمنعان من أن تكون غاية لعاملون وفيه نظر، وإِذا شرطية شرطها أَخَذْنا وهي مضافة إليه وجزاؤها قوله تعالى: إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ وهي معمولة له وإذا فيه فجائية نائبة مناب الفاء، وقال الحوفي: حتى غاية وهي عاطفة وإذا ظرف يضاف إلى ما بعده فيه معنى الشرط وإذا الثانية في موضع جواب الأولى ومعنى الكلام عامل في إذا الأولى والعامل في الثانية أَخَذْنا انتهى. وهو كلام مخبط يبعد صدوره من مثل هذا الفاضل، والمترف المتوسع في النعمة، والمراد بالعذاب ما أصابهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 248 يوم بدر من القتل والأسر كما روي عن ابن عباس ومجاهد وابن جبير وقتادة، وقد قتل وأسر في ذلك اليوم كثير من صناديدهم ورؤسائهم والجؤار مثل الخوار يقال جأر الثور يجأر إذا صاح وجأر الرجل إلى الله تعالى إذا تضرع بالدعاء كما في الصحاح وفي الأساس جأر الداعي إلى الله تعالى ضج ورفع صوته والمراد به الصراخ إما مطلقا أو باستغاثة. وضميرا الجمع راجعان على ما رجع إليه الضمائر السابقة في مُتْرَفِيهِمْ ولَهُمْ وقُلُوبُهُمْ وغيرها وهم كفار أهل مكة لكن بإرادة من بقي منهم بعد أخذ المترفين بالقتل. قال ابن جريج المعذبين قتلى بدر والذين يجأرون أهل مكة لأنهم ناحوا واستغاثوا، وفي إنسان العيون أو قريشا ناحوا على قتلاهم في بدر شهرا وجز نساؤهم شعورهن وكن يأتين بفرس الرجل أو راحلته ويسترنها بالستور وينحن حولها ويخرجن بها إلى الأزقة إلى أن أشير عليهم بترك ذلك خوف الشماتة، وقال الربيع بن أنس: المراد بالجؤار الجزع إذ هو سبب الصراخ وفيه بعد لخفاء قرينة المجاز، وعن الضحاك أن المراد بالعذاب عذاب الجوع وذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم دعا عليهم فقال: اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين مثل سني يوسف فاستجيب له عليه الصلاة والسلام فأصابتهم سنة أكلوا فيها الجيف والجلود والعظام المحرقة والعلهز وفي الأخبار ما يدل على أن ذلك كان قبل الهجرة. وفيها أيضا ما يدل على أنه كان قبلها. ووفق البيهقي بأنه لعله كان مرتين، وسيأتي ذلك قريبا إن شاء الله تعالى وتخصيص المترفين بالذكر لأنه إذا جاع المترف جاع غيره من باب أولى، وقيل: المراد بالعذاب عذاب الآخرة، وتخصيص المترفين بما ذكر لغاية ظهور انعكاس حالهم وانتكاس أمرهم وكون ذلك أشق عليهم ولأنهم مع كونهم متمنعين محميين بحماية غيرهم من المنعة والحشم لقوا ما لقوا من الحالة الفظيعة فلأن يلقاها من عداهم من الحماة والخدم أولى وأقدم. وقال شيخ الإسلام: إن هذا القول هو الحق لأن العذاب الأخروي هو الذي يفاجئون عنده الجؤار فيجابون بالرد والإقناط من النصر وأما عذاب يوم بدر فلم يوجد لهم عنده جؤار حسبما ينبىء عنه قوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون: 76] فإن المراد بهذا العذاب ما جرى عليهم يوم بدر من القتل والأسر حتما وأما عذاب الجوع فإن قريشا وإن تضرعوا فيه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لكن لم يرد عليهم بالإقناط حيث روي أنه عليه الصلاة والسلام دعا بكشفه فكشف عنهم ذلك انتهى، وستعلم إن شاء الله تعالى ما فيه، نعم حمل العذاب على ذلك أوفق بجعل ما في حيز حَتَّى غاية لما قبلها. لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ على تقدير القول أي قلنا لهم ذلك، والكلام استئناف مسوق لبيان إقناطهم وعدم انتفاعهم بجؤارهم، والمراد باليوم الوقت الحاضر الذي اعتراهم فيه ما اعتراهم، والتقييد بذلك لزيادة إقناطهم والمبالغة في إفادة عدم نفع جؤارهم. وقال شيخ الإسلام: إن ذلك التهويل اليوم والإيذان بتفويتهم وقت الجؤار والمراد بالقول على ما قيل: ما كان بلسان الحال كما في قوله: امتلأ الحوض وقال قطني. وجوز أن يراد به حقيقة القول وصدوره إما من الله تعالى وإما من الملائكة عليهم السلام، والظاهر على هذا الوجه أن يكون القول في الآخرة وكونه في الدنيا مع عدم إسماعهم إياه لا يخلو عن شيء، وتقديره فعل الأمر مسندا إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم أي قل لهم من قبلنا لا تجأروا بعيد جدا، ومن الناس من جوز كون القول المقدر جواب إِذا الشرطية وحينئذ يكون إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ قيدا للشرط أو بدلا من إذا الأولى، وعلى الأول المعنى أخذنا مترفيهم وقت جؤارهم أو حال مفاجأتهم لجواز أن تكون إِذا ظرفية أو فجائية حينئذ، ولم يجوز جعل النهي المذكور جوابا لخلوّه عن الفاء اللازمة فيه إذا وقع كذلك. وتعقب هذا القول بأنه لا يخفى أن المقصود الأصلي من الجملة الشرطية هو الجواب فيؤدي ذلك إلى أن يكون مفاجأتهم الجؤار غير مقصود أصلي. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 249 وقوله تعالى: إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ تعليل للنهي عن الجؤار ببيان عدم نفعه ومن ابتدائية أي لا يلحقكم منا نصرة تنجيكم مما أنتم فيه، وجوز أن تكون من صلة النصر وضمن معنى المنع أو تجوز به عنه أي لا تمنعون منا. وتعقب بأنه لا يساعده سباق النظم الكريم لأن جؤارهم ليس إلى غيره تعالى حتى يرد عليهم بعدم منصوريتهم من قبله تعالى ولا سياقه فإن قوله تعالى: قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ إلى آخره صريح في أنه تعليل لعدم لحوق النصر من جهته تعالى بسبب كفرهم بالآيات ولو كان النصر المنفي متوهما من الغير لعلل بعجزه أو بعزة الله تعالى وقوته، وأنت تعلم أنهم المشركون الذين شركاؤهم نصب أعينهم ولم يقيد الجؤار بكونه إلى الله تعالى وأمر التعليل سهل، وقد يقال: المعنى على هذا الوجه دعوى الصراخ فإنه لا يمنعكم منا ولا ينفعكم عندنا فقد ارتكبتم أمرا عظيما وإثما كبيرا لا يدفعه ذلك، ثم لا يخفى ما في كلام المتعقب بعد، والمراد قد كانت آياتي تتلى عليكم قبل أن يأخذ مترفيكم العذاب فَكُنْتُمْ عند تلاوتها عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ أي تعرضون عن سمائها أشد الإعراض فضلا عن تصديقها والعمل بها، والنكوص الرجوع، والأعقاب جمع عقب وهو مؤخر الرجل ورجوع الشخص على عقبه رجوعه في طريقه الأولى كما يقال رجع عوده على بدئه، وجعل بعضهم التقييد بالأعقاب من باب التأكيد كما في بصرته بعيني بناء على أن النكوص الرجوع قهقرى وعلى الأعقاب، وأيا ما كان فهو مستعار للإعراض. وقرأ عليّ كرّم الله تعالى وجهه «تنكصون» بضم الكاف مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ أي بالبيت الحرام. والباء للسببية، وسوغ هذا الإضمار مع أنه لم يجر له ذكر اشتهار استكبارهم وافتخارهم بأنهم خدام البيت وقوامه وهذا ما عليه جمهور المفسرين، وقريب منه كون الضمير للحرام، وقال في البحر: الضمير عائد على المصدر الدال عليه «تنكصون» وتعقب بأنه لا يفيد كثير معنى فإن ذلك مفهوم من جعل مستكبرين حالا. واعترض عليه بما فيه بحث، وذكر منذر بن سعيد أن الضمير لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويحسنه أن في قوله تعالى: قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ دلالة عليه عليه الصلاة والسلام، والباء إما للتعدية على تضمين الاستكبار معنى التكذيب أو جعله مجازا عنه وإما للسببية لأن استكبارهم ظهر ببعثته صلّى الله عليه وسلّم. وجوز أن يعود على القرآن المفهوم من الآيات أو عليها باعتبار تأويلها به وأمر الباء كما سمعت آنفا، وجوز أن تكون متعلقة بقوله تعالى: سامِراً أي تسمرون بذكر القرآن والطعن فيه وذلك أنهم كانوا يجتمعون حول البيت بالليل يسمرون وكانت عامة سمرهم ذكر القرآن وتسميته سحرا وشعرا، والمعنى على ذاك وإن لم يعلق به بِهِ ويجوز على تقدير تعلقه بسامرا عود الضمير على النبي عليه الصلاة والسلام، وكذا يجوز كون المعنى عليه وإن لم يعلق به، وقيل: هي متعلقة بتهجرون وفيه من البعد ما فيه، ونصب «سامرا» على الحال وهو اسم جمع كالحاج والحاضر والجامل والباقر، وقيل: هو مصدر وقع حالا على التأويل المشهور فهو يشمل القليل والكثير باعتبار أصله ولا يخفى أن مجيء المصدر على وزن فاعل نادر ومنه العافية والعاقبة. والسمر في الأصل ظل القمر وسمي بذلك على ما في المطلع لسمرته، وفي البحر هو ما يقع على الشجر من ضوء القمر، وقال الراغب: هو سواد الليل ثم أطلق على الحديث بالليل، وفسر بعضهم السامر بالليل المظلم، وكونه هنا بهذا المعنى وجعله منصوبا بما بعده على نزع الخافض ليس بشيء، وقرأ ابن مسعود وابن عباس وأبو حيوة وابن محيصن وعكرمة والزعفراني ومحبوب عن أبي عمرو «سمرا» بضم السين وشد الميم مفتوحة جمع سامر، وابن عباس أيضا، وزيد بن علي وأبو رجاء وأبو نهيك «سمارا» بزيادة ألف بعد الميم وهو جمع سامر أيضا وهما جمعان مقيسان في مثل ذلك تَهْجُرُونَ من الهجر بفتح فسكون بمعنى القطع والترك، والجملة في موضع الحال أي تاركين الحق أو القرآن أو النبي صلّى الله عليه وسلّم، وعن ابن عباس تهجرون البيت ولا تعمرونه بما يليق به من العبادة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 250 وجاء الهجر بمعنى الهذيان كما في الصحاح يقال: هجر المريض يهجر هجرا إذا هذى، وجوز أن يكون المعنى عليه أي تهذون في شأن القرآن أو النبي عليه الصلاة والسلام أو أصحابه رضي الله تعالى عنهم أو ما يعم جميع ذلك. وفي الدر المصون أن ما كان بمعنى الهذيان هو الهجر بفتحتين. وجوز أن يكون من الهجر بضم فسكون وهو الكلام القبيح، قال الراغب: الهجر الكلام المهجور لقبحه وهجر فلان إذا أتى بهجر من الكلام عن قصد وأهجر المريض إذا أتى بذلك من غير قصد، وفي المصباح هجر المريض في كلامه هذى والهجر بالضم اسم مصدر بمعنى الفحش من هجر كقتل وفيه لغة أخرى اهجر بالألف وعلى هذه اللغة قراءة ابن عباس وابن محيصن ونافع وحميد «تهجرون» بضم التاء وكسر الجيم وهي تبعد كون «تهجرون» في قراءة الجمهور من الهجر بمعنى القطع. وقرأ ابن أبي عاصم بالياء على سبيل الالتفات، وقرأ ابن مسعود وابن عباس أيضا وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهم، وعكرمة وأبو نهيك. وابن محيصن أيضا وأبو حيوة «تهجّرون» بضم التاء وفتح الهاء وكسر الجيم وشدها على أنه من مضاعف هجر من الهجر بالفتح أو بالضم فالمعنى تقطعون أو تهذون أو تفحشون كثيرا. أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ الهمزة لإنكار الواقع واستقباحه والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي افعلوا ما فعلوا من النكوص والاستكبار والهجر فلم يتدبروا القرآن ليعلموا بما فيه من وجوه الإعجاز أنه الحق من ربهم فيؤمنوا به، و «أم» في قوله تعالى: أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ منقطعة، وما فيها من معنى بل للإضراب والانتقال من التوبيخ بما ذكر إلى التوبيخ بآخر، والهمزة لإنكار الوقوع لا لإنكار الواقع أي بل أجاءهم من الكتاب ما لم يأت آباءهم الأولين حتى استبعدوه فوقعوا فيما وقعوا فيه من الكفر والضلال بمعنى أن مجيء الكتب من جهته تعالى إلى الرسل عليهم السلام لينذروا بها الناس سنة قديمة له تعالى لا تكاد تنكر وأن مجيء القرآن على طريقته فمم ينكرونه، وقيل: المعنى أفلم يتدبروا القرآن ليخافوا عند تدبر آياته وأقاصيصه مثل ما نزل بمن قبلهم من المكذبين أم جاءهم من الأمن ما لم يأت آباءهم الأولين حين خافوا الله تعالى فآمنوا به وبكتبه ورسله وأطاعوه فالمراد بآبائهم المؤمنون كإسماعيل عليه السلام وعدنان وقحطان، وكأن وصفهم بالأولين على هذا الإخراج الأقربين. وفي الخبر «لا تسبوا مضر وربيعة فإنهما كانا مسلمين ولا تسبوا قسا فإنه كان مسلما ولا تسبوا الحارث بن كعب ولا أسد بن خزيمة ولا تميم بن مر فإنهم كانوا على الإسلام وما شككتم في شيء فلا تشكوا في أن تبعا كان مسلما» وروي أن ضبة بن أد كان مسلما وكان على شرطة سليمان بن داود عليهما السلام. وفي الكشف أن جعل فائدة التدبر استعقاب العلم فالهمزة في المنقطعة للتقرير وإثبات أنهم مصرون على التقليد فلذلك لم يتدبروا ولم يعلموا، وإن جعلت الاعتبار والخوف فالهمزة فيها للإنكار أو التقرير تهكما اهـ فتدبر، ثم لا يخفى أن إسناد المجيء إلى الأمن غير ظاهر ظهور إسناده إلى الكتاب وبهذا تنحط درجة هذا الوجه عن الوجه الأول. أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ إضراب وانتقال من التوبيخ بما ذكر إلى التوبيخ بوجه آخر، والهمزة لإنكار الوقوع أيضا أي بل ألم يعرفوه عليه الصلاة والسلام بالأمانة والصدق وحسن الأخلاق إلى غير ذلك من الكمالات اللائقة بالأنبياء عليهم السلام. وقد صح أن أبا طالب يوم نكاح النبي صلّى الله عليه وسلّم خطب بمحضر رؤساء مضر وقريش فقال: أحمد الله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضىء معد وعنصر مضر وجعلنا حضنة بيته وسواس حرمه وجعل لنا بيتا محجوجا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 251 وحرما آمنا وجعلنا الحكام على الناس ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن برجل إلا رجح به فإن كان في المال قل فإن المال ظل زائل وأمر حائل ومحمد من قد عرفتم قرابته وقد خطب خديجة بنت خويلد وبذل لها من الصداق ما آجله وعاجله من مالي كذا وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل. وفي هذا دليل واضح على أنهم عرفوه صلّى الله عليه وسلّم بغاية الكمال وإلا لأنكروا قول أبي طالب فيه عليه الصلاة والسلام ما قال. فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ الفاء سببية لتسبب الإنكار عن عدم المعرفة فالجملة داخلة في حيز الإنكار ومآل المعنى هم عرفوه بالكمال اللائق بالأنبياء عليهم السلام فكيف ينكرونه، واللام للتقوية، وتقديم المعمول للتخصيص أو الفاصلة، والكلام على تقدير مضاف أي منكرون لدعواه أو لرسالته عليه الصلاة والسلام. أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ انتقال إلى توبيخ آخر والهمزة لإنكار الواقع كالأولى أي بل أيقولون به جنة أي جنون مع أنه عليه الصلاة والسلام أرجح الناس عقلا وأثقبهم رأيا وأوفرهم رزانة، وقد روعي في هذه التوبيخات الأربع التي اثنان منها متعلقان بالقرآن والباقيان به عليه الصلاة والسلام الترقي من الأدنى إلى الأعلى كما يبينه شيخ الإسلام، وقوله تعالى: بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ إضراب عما يدل عليه ما سبق أي ليس الأمر كما زعموا في حق القرآن والرسول صلّى الله عليه وسلّم بل جاءهم بالحق أي بالصدق الثابت الذي لا محيد عنه، والمراد به التوحيد ودين الإسلام الذي تضمنه القرآن ويجوز أن يراد به القرآن. وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ لما في جبلتهم من كمال الزيغ والانحراف، والظاهر أن الضمائر لقريش، وتقييد الحكم بأكثرهم لأن منهم من أبى الإسلام واتباع الحق حذرا من تعيير قومه أو نحو ذلك لا كراهة للحق من حيث هو حق، فلا يرد ما قيل: إن من أحب شيئا كره ضده فمن أحب البقاء على الكفر فقد كره الانتقال إلى الإيمان ضرورة، وقال ابن المنير: يحتمل أن يحمل الأكثر على الكل كما حمل القليل على النفي وفيه بعد، وكذا ما اختاره من كون ضمير أَكْثَرُهُمْ للناس كافة لا لقريش فيكون الكلام نظير قوله تعالى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: 103] وقد يقال: حيث كان المراد إثبات الكراهة للحق على سبيل الاستمرار وعلم الله تعالى أن فيهم من يؤمن ويتبع الحق لم يكن بد من تقييد الحكم بالأكثر، والظاهر بناء على القاعدة الأغلبية في إعادة المعرفة أن الحق الثاني عين الحق الأول، وأظهر في مقام الإضمار لأنه أظهر في الذم والضمير ربما يتوهم عوده للرسول عليه الصلاة والسلام، وقيل: اللام في الأول للعهد وفي الثاني للاستغراق أو للجنس أي وأكثرهم للحق أي حق كان لا لهذا الحق فقط كما ينبىء عنه الإظهار كارهون، وتخصيص أكثرهم بهذا الوصف لا يقتضي إلا عدم كراهة بعضهم لكل حق من الحقوق وذلك لا ينافي كراهتهم لهذا الحق وفيه بحث إذ لا يكاد يسلم أن أكثرهم كارهون لكل حق، وكذا الظاهر أن يراد بالحق في قوله تعالى: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ الحق الذي جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم وجعل الاتباع حقيقيا والإسناد مجازيا، وقيل ما آل المعنى لو اتبع النبي صلّى الله عليه وسلّم أهواءهم فجاءهم بالشرك بدل ما أرسل به لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ أي لخرب الله تعالى العالم وقامت القيامة لفرط غضبه سبحانه وهو فرض محال من تبديله عليه الصلاة والسلام وما أرسل به من عنده، وجوز أن يكون المراد بالحق الأمر المطابق للواقع في شأن الألوهية والاتباع مجازا عن الموافقة أي لو وافق الأمر المطابق للواقع أهواءهم بأن كان الشرك حقا لفسدت السموات والأرض حسبما قرر في قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] ولعل الكلام عليه اعتراض للإشارة إلى أنهم كرهوا شيئا لا يمكن خلافه أصلا فلا فائدة لهم في هذه الكراهة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 252 واعترض بأنه لا يناسب المقام وفيه بحث، وكذا ما قيل: إن ما يوافق أهواءهم هو الشرك في الألوهية لأن قريشا كانوا وثنية وهو لا يستلزم الفساد والذي يستلزمه إنما هو الشرك في الربوبية كما تزعمه الثنوية وهم لم يكونوا كذلك كما ينبىء عنه قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25، الزمر: 38] . وجوز أن يكون المعنى لو وافق الحق مطلقا أهواءهم لخرجت السموات والأرض عن الصلاح والانتظام بالكلية، والكلام استطراد لتعظيم شأن الحق مطلقا بأن السموات والأرض ما قامت ولا من فيهن إلا به ولا يخلو عن حسن. وقيل: المراد بالحق هو الله تعالى. وقد أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي صالح، وحكاه بعضهم عن ابن جريج والزمخشري عن قتادة، والمعنى عليه لو كان الله تعالى يتبع أهواءهم ويفعل ما يريدون فيشرع لهم الشرك ويأمرهم به لم يكن سبحانه إلها فتفسد السموات والأرض. وهذا مبني على أن شرع الشرك نقص يجب تنزيه الله تعالى عنه. وقد ذكر ذلك الخفاجي وذكر أنه قد قام الدليل العقلي عليه وأنه لا خلاف فيه. ولعل الكلام عليه اعتراض أيضا للإشارة إلى عدم إمكان إرسال النبي عليه الصلاة والسلام إليهم بخلاف ما جاء به مما لا يكرهونه فكراهتهم لما جاء به عليه الصلاة والسلام لا تجديهم نفعا فالقول بأنه بعيد عن مقتضى المقام ليس في محله. وقيل: المعنى عليه لو فعل الله تعالى ما يوافق أهواءهم لاختل نظام العالم لما أن آراءهم متناقضة، وفيه إشارة إلى فساد عقولهم وأنهم لذلك كرهوا ما كرهوه من الحق الذي جاء به عليه الصلاة والسلام وهو كما ترى. وقرأ ابن وثاب «ولو اتبع» بضم الواو بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ انتقال من تشنيعهم بكراهة الحق إلى تشنيعهم بالإعراض عما جبل عليه كل نفس من الرغبة فيما فيه خيرها. والمراد بالذكر القرآن الذي هو فخرهم وشرفهم حسبما ينطق به قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: 44] أي بل أتيناهم بفخرهم وشرفهم الذي كان يجب عليهم أن يقبلوا عليه أكمل إقبال ويقبلوا ما فيه أكمل قبول فَهُمْ بما فعلوا من النكوص عَنْ ذِكْرِهِمْ أي فخرهم وشرفهم خاصة مُعْرِضُونَ لا عن غير ذلك مما لا يوجب الإقبال عليه والاعتناء به، وفي وضع الظاهر موضع الضمير مزيد تشنيع لهم وتقريع، والفاء لترتيب ما بعدها من إعراضهم عن ذكرهم على ما قبلها من الإتيان بذكرهم، ومن فسر (الحق) في قوله تعالى: بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ بالقرآن الكريم قال هنا: في إسناد الإتيان بالذكر إلى نون العظمة بعد إسناده إلى ضميره عليه الصلاة والسلام تنويه بشأن النبي صلّى الله عليه وسلّم وتنبيه على كونه عليه الصلاة والسلام بمثابة عظيمة منه عز وجل، وفي إيراد القرآن الكريم عند نسبته إليه صلّى الله عليه وسلّم بعنوان الحقية وعند نسبته إليه تعالى بعنوان الذكر من النكتة السرية والحكمة العبقرية ما لا يخفى فإن التصريح بحقيته المستلزمة لحقية من جاء به هو الذي يقتضيه مقام حكاية ما قاله المبطلون في شأنه وأما التشريف فإنما يليق به تعالى لا سيما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحد المشرفين. وقيل: المراد بذكرهم ما تمنوه بقولهم: «لو أن عندنا ذكرا من الأولين لكنا عباد الله المخلصين» فكأنه قيل: بل أتيناهم الكتاب الذي تمنوه وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد بالذكر الوعظ. وأيد بقراءة عيسى «بذكراهم» بألف التأنيث، ورجح القولان الأولان بأن التشنيع عليهما أشد فإن الإعراض عن وعظهم ليس بمثابة إعراضهم عن شرفهم وفخرهم أو عن كتابهم الذي تمنوه في الشناعة والقباحة. وقيل: إن الوعظ فيه بيان ما يصلح به حال من يوعظ فالتشنيع بالإعراض عنه لا يقصر عن التشنيع بالإعراض عن أحد ذينك الأمرين ولا يخفى ما فيه من المكابرة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 253 وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر ويونس عن أبي عمرو «بل أتيتهم» بتاء المتكلم، وابن أبي إسحاق وعيسى أيضا وأبو حيوة والجحدري وابن قطيب وأبو رجاء «بل أتيتهم» بتاء الخطاب للرسول صلّى الله عليه وسلّم وأبو عمرو وفي رواية «أتيناهم» بالمد ولا حاجة على هذه القراءة إلى ارتكاب مجاز أو دعوى حذف مضاف كما في قراءة الجمهور على تقدير جعل الباء للمصاحبة وقرأ قتادة «نذكرهم» بالنون مضارع ذكر أَمْ تَسْأَلُهُمْ متعلق بقوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ فهو انتقال إلى توبيخ آخر، وغير للخطاب لمناسبته ما بعده، وكان المراد أم يزعمون أنك تسألهم على أداء الرسالة خَرْجاً أي جعلا فلأجل ذلك لا يؤمنون بك، وقوله تعالى: فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ أي رزقه في الدنيا وثوابه في الآخرة تعليل لنفي السؤال المستفاد من الإنكار أي لا تسألهم ذلك فإن ما رزقك الله تعالى في الدنيا والعقبى خير من ذلك لسعته ودوامه وعدم تحمل منة الرجال فيه، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام من تعليل الحكم وتشريفه صلّى الله عليه وسلّم ما لا يخفى. و «الخرج» بإزاء الدخل يقال لكل ما تخرجه إلى غيرك والخراج غالب في الضريبة على الأرض ففيه إشعار بالكثرة واللزوم فيكون أبلغ ولذلك عبر به عن عطاء الله تعالى، وكذا على ما قيل من أن الخرج ما تبرعت به والخراج ما لزمك واللزوم بالنسبة إليه تعالى إنما هو لفضل وعده عز وجل، وقيل الخرج أعم من الخراج وساوى بينهما بعضهم. وقرأ عامر «خرجا فخرج» وحمزة والكسائي «خراجا فخراج» للمشاكلة وقرأ الحسن وعيسى «خرجا فخرج» وكأن اختيار خَرْجاً في جانبه عليه الصلاة والسلام للإشارة إلى قوة تمكنهم في الكفر واختيار «خرجا» في جانبه تعالى للمبالغة في حط قدر خراجهم حيث كان المعنى فالشيء القليل منه عز وجل خير من كثيرهم فما الظن بكثيره جل وعلا وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ تأكيد لخيرية خراجه سبحانه وتعالى فإن من كان خير الرازقين يكون رزقه خيرا من رزق غيره. واستدل الجبائي بذلك على أنه سبحانه لا يساويه أحد في الإفضال على عباده وعلى أن العباد قد يرزق بعضهم بعضا وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تشهد العقول السليمة باستقامته ليس فيه شائبة اعوجاج توجب الاتهام، قال الزمخشري: ولقد ألزمهم عز وجل الحجة وأزاح عللهم في هذه الآيات بأن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله مخبور سره وعلنه خليق بأن يجتبى مثله للرسالة من بين ظهرانيهم وأنه لم يعرض له حتى يدعي مثل هذه الدعوى العظيمة بباطل ولم يجعل ذلك سلما إلى النيل من دنياهم واستعطاء أموالهم ولم يدعهم إلا إلى دين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم مع إبراز المكنون من أدوائهم وهو إخلالهم بالتدبر والتأمل واستهتارهم بدين الآباء الضلال من غير برهان وتعللهم بأنه مجنون بعد ظهور الحق وثبات التصديق من الله تعالى بالمعجزات والآيات النيرة وكراهتهم للحق وإعراضهم عما فيه حفظهم من الذكر اهـ. وهو من الحسن بمكان. وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ هم كفرة قريش المحدث عنهم فيما مر وصفوا بذلك تشنيعا لهم مما هم عليه من الانهماك في الدنيا وزعمهم أن لا حياة بعدها وإشعار بعلة الحكم فإن الإيمان بالآخرة وخوف ما فيها من الدواهي من أقوى الدواعي إلى طلب الحق وسلوك سبيله، وجوز أن يكون المراد بهم ما يعمهم وغيرهم من الكفرة المنكرين للحشر ويدخلون في ذلك دخولا أوليا عَنِ الصِّراطِ المستقيم الذي تدعو إليه لَناكِبُونَ أي لعادلون، وقيل: المراد بالصراط جنسه أي إنهم عن جنس الصراط فضلا عن الصراط المستقيم الذي تدعوهم إليه لناكبون، ورجح بأنه أدل على كمال ضلالهم وغاية غوايتهم لما أنه ينبىء عن كون ما ذهبوا إليه مما لا يطلق عليه اسم الصراط الجزء: 9 ¦ الصفحة: 254 ولو كان معوجا، وفيه أن التعليل بمضمون الصلة لا يساعد إلا على إرادة الصراط المستقيم، وأظن أنه قد نكب عن الصراط من زعم أن المراد هنا الصراط الممدود على متن جهنم وهو طريق الجنة أي أنهم يوم القيامة عن طريق الجنة لمائلون يمنة ويسرة إلى النار. وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ أي من سوء حال، قيل: هو ما عراهم بسبب أخذ مترفيهم بالعذاب يوم بدر أعني الجزع عليهم وذلك بإحيائهم وإعادتهم إلى الدنيا بعد القتل أي ولو رحمناهم وكشفنا ضرهم بإرجاع مترفيهم إليهم لَلَجُّوا لتمادوا فِي طُغْيانِهِمْ إفراطهم في الكفر والاستكبار وعداوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين يَعْمَهُونَ عامهين مترددين في الضلال يقال عمه كمنع وفرح عمها وعموها وعموهة وعمهانا، وقيل: هو ما هم فيه من شدة الخوف من القتل والسبي ومزيد الاضطراب من ذلك لما رأوا ما حل بمترفيهم يوم بدر وكشفه بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالكف عن قتالهم وسبيهم بعد أو بنحو ذلك وهو وجه ليس بالبعيد وقيل: المراد بالضر عذاب الآخرة أي إنهم في الرداءة والتمرد إلى أنهم لو رحموا وكشف عنهم عذاب النار وردوا إلى الدنيا لعادوا لشدة لجاجهم فيما هم عليه وفيه من البعد ما فيه. واستظهر أبو حيان أن المراد به القحط والجوع الذي أصابهم بدعاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وذكر أنه مروي عن ابن عباس وابن جريج، وقد دعا عليهم صلّى الله عليه وسلّم بذلك في مكة يوم ألقى عليه المشركون وهو قائم يصلي عند البيت صلى جزور فقال: اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف ودعا بذلك أيضا بالمدينة، فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام مكث شهرا إذا رفع رأسه من الركعة الثانية من صلاة الفجر بعد قوله سمع الله لمن حمده يقول: اللهم انج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين بمكة اللهم اشدد وطأتك إلخ، وربما فعل ذلك بعد رفعه من الركعة الأخيرة من صلاة العشاء، وكلتا الروايتين ذكرهما برهان الدين الحلبي في سيرته، والكثير على أنه الجوع الذي أصابهم من منع ثمامة الميرة عنهم، وذلك أن ثمامة بن أثال الحنفي جاءت به إلى المدينة سرية محمد بن مسلمة حين بعثها صلّى الله عليه وسلّم إلى بني بكر بن كلاب فأسلم بعد أن امتنع من الإسلام ثلاثة أيام ثم خرج معتمرا فلما قدم مكة لبى وهو أول من دخلها ملبيا ومن هنا قال الحنفي: ومنا الذي لبى بمكة معلنا ... برغم أبي سفيان في الأشهر الحرم فأخذته قريش فقالوا: لقد اجترأت علينا وقد صبوت يا ثمامة قال: أسلمت واتبعت خير دين دين محمد صلّى الله عليه وسلّم والله لا يصل إليكم حبة من اليمامة وكانت ريفا لأهل مكة حتى يأذن فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم خرج ثمامة إلى اليمامة فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئا حتى أضر بهم الجوع وأكلت قريش العلهز. فكتبت قريش إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين فقد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع إنك تأمر بصلة الرحم وأنت قد قطعت أرحامنا فكتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى ثمامة رضي الله تعالى عنه خل بين قومي وبين ميرتهم ففعل ، وفي رواية أن أبا سفيان جاءه صلّى الله عليه وسلّم فقال: ألست إلخ، ووجه الجمع ظاهر وكان هذا قبل الفتح بقليل، وعندي أن لَوْ تبعد هذا القول كما لا يخفى، نعم أخرج ابن جرير وجماعة عن ابن عباس ما هو نص في أن قصة ثمامة سبب لنزول قوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ إلى آخره فيكون الجوع مرادا من العذاب المذكور فيه على ذلك، ولا يرد على من قال به قوله تعالى: فَمَا اسْتَكانُوا فما خضعوا بذلك لِرَبِّهِمْ لأن له أن يقول: المراد بالخضوع له عز وجل الانقياد لأمره سبحانه والإيمان به جل وعلا وما كان منهم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليس منه شيء، والمشهور أن المراد بالعذاب ما نالهم يوم بدر من القتل والأسر، ولا يرد على من فسر العذاب في قوله سبحانه: حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 255 به أيضا لزوم المنافاة بين ما هناك من قوله تعالى: إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ وما هنا من نفي الاستكانة لربهم ونفي التضرع المستفاد من قوله سبحانه: وَما يَتَضَرَّعُونَ إذ له أن يقول: الجؤار مطلق الصراخ وهو غير الاستكانة لله عز وجل وغير التضرع إليه سبحانه وهو ظاهر، وكذا إذا أريد بالجؤار الصراخ باستغاثة بناء على أن المراد بالاستكانة له تعالى ما علمت آنفا من الانقياد لأمره عز وجل وأن التضرع ما كان عن صميم الفؤاد والجؤار ما لم يكن كذلك، وكأن التعبير هناك بالجؤار للإشارة إلى أن استغاثتهم كانت أشبه شيء بأصوات الحيوانات، وقيل: ما تقدم لبيان حال المقتولين وما هنا لبيان حال الباقين، وعبر في التضرع بالمضارع ليفيد الدوام إلا أن المراد دوام النفي لا نفي الدوام أي وليس من عادتهم التضرع إليه تعالى أصلا، ولو حمل ذلك على نفي الدوام كما هو الظاهر لا يرد ما يتوهم من المنافاة بين قوله تعالى: إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ وقوله سبحانه: وَما يَتَضَرَّعُونَ أيضا، واستكان استفعل من الكون، وأصل معناه انتقل من كون إلى كون كاستحجر ثم غلب العرف على استعماله في الانتقال من كون الكبر إلى كون الخضوع فلا إجمال فيه عرفا، وقال أبو العباس أحمد بن فارس: سئلت عن ذلك في بغداد لما دخلتها زمن الإمام الناصر وجمع لي علماءها فقلت واستحسن مني: هو مشتق من قول العرب: كنت لك إذا خضعت وهي لغة هذيلية وقد نقلها أبو عبيدة في الغريبين وعليه يكون من باب قر واستقر، ولا يجعل من استفعل المبني للمبالغة مثل استعصم واستحسر إلا أن يراد في الآية حينئذ المبالغة في النفي لا نفي المبالغة، وقيل هو من الكين اللحمة المستبطنة في الفرج لذلة المستكين، وجوز الزمخشري أن يكون افتعل من السكون والألف إشباع كما في قوله: وأنت من الغوائل حين ترمي ... ومن ذم الرجال بمنتزاح وقوله: أعوذ بالله من العقراب ... الشائلات عقد الأذناب واعترض بأن الإشباع المذكور مخصوص بضرورة الشعر وبأنه لم يعهد بكونه في جميع تصاريف الكلمة واستكان جميع تصاريفه كذلك فهو يدل على أنه ليس مما فيه إشباع حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ من عذاب الآخرة كما ينبىء عنه التهويل بفتح الباب والوصف بالشدة وإلى هذا ذهب الجبائي، وحَتَّى مع كونها غاية للنفي السابق مبتدأ لما بعدها من مضمون الشرطية كأنه قيل: هم مستمرون على هذه الحال حتى إذا فتحنا عليهم يوم القيامة بابا ذا عذاب شديد إِذا هُمْ فِيهِ أي في ذلك الباب أو في ذلك العذاب أو بسبب الفتح أقوال مُبْلِسُونَ متحيرون آيسون من كل خير أو ذوو حزن من شدة البأس وهذا كقوله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ [الروم: 12] لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [الزخرف: 75] وقيل: هذا الباب استيلاء النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين عليهم يوم الفتح وقد أيسوا في ذلك اليوم من كل ما كانوا يتوهمونه من الخير. وأخرج ابن جرير أنه الجوع الذي أكلوا فيه العلهز، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه القتل يوم بدر، وروت الإمامية- وهم بيت الكذب- عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أن ذلك عذاب يعذبون به في الرجعة ، ولعمري لقد افتروا على الله تعالى الكذب وضلوا ضلالا بعيدا، والوجه في الآية عندي ما تقدم، والظاهر أن هذه الآيات مدنية وبعض من قال بمكيتها ادعى أن فيها أخبارا عن المستقبل بالماضي للدلالة على تحقق الوقوع. وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ لتحسوا بها الآيات التنزيلية والتكوينية وَالْأَفْئِدَةَ لتتفكروا بها في الآيات وتستدلوا بها إلى غير ذلك من المنافع، وقدم السمع لكثرة منافعه، وأفرد لأنه مصدر في الأصل ولم يجمعه الفصحاء في الأكثر، وقيل: أفرد لأنه يدرك به نوع واحد من المدركات وهو الأصوات بخلاف البصر فإنه يدرك به الجزء: 9 ¦ الصفحة: 256 الأضواء والألوان والأكوان والأشكال وبخلاف الفؤاد فإنه يدرك به أنواع شتى من التصورات والتصديقات. وفي الآية إشارة إلى الدليل الحسي والعقلي، وتقديم ما يشير إلى الأول قد تقدم فتذكر فما في العهد من قدم قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي شكرا قليلا تشكرون تلك النعم الجليلة لأن العمدة في الشكر صرف تلك القوى التي هي في أنفسها نعم باهرة إلى ما خلقت هي له فنصب قَلِيلًا على أنه صفة مصدر محذوف، والقلة على ظاهرها بناء على أن الخطاب للناس بتغليب المؤمنين، وجوز أن تكون بمعنى النفي بناء على أن الخطاب للمشركين على سبيل الالتفات، وقيل: هو للمؤمنين خاصة وليس بشيء، والأولى عندي للمشركين خاصة مع جواز كون القلة على ظاهرها كما لا يخفى على المتدبر وما علا سائر الأقوال مزيدة للتأكيد. وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي خلقكم وبثكم فيها وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي تجمعون يوم القيامة بعد تفرقكم لا إلى غيره تعالى فما لكم لا تؤمنون به سبحانه وتشكرونه عز وجل وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ من غير أن يشاركه في ذلك شيء من الأشياء وَلَهُ تعالى شأنه خاصة اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي هو سبحانه وتعالى المؤثر في اختلافهما أي تعاقبهما من قولهم: فلان يختلف إلى فلان أي يتردد عليه بالمجيء والذهاب أو تخالفهما زيادة ونقصا، وقيل: المعنى لأمره تعالى وقضائه سبحانه اختلافهما ففي الكلام مضاف مقدر، واللام عليه يجوز أن تكون للتعليل أَفَلا تَعْقِلُونَ أي ألا تتفكرون فلا تعقلون أو أتتفكرون فلا تعقلون بالنظر والتأمل أن الكل صار منا وأن قدرتنا تعم جميع الممكنات التي من جملتها البعث، وقرأ أبو عمرو في رواية «يعقلون» على أن الالتفات إلى الغيبة لحكاية سوء حال المخاطبين، وقيل: على أن الخطاب الأول لتغليب المؤمنين وليس بذاك. بَلْ قالُوا عطف على مضمر يقتضيه المقام أي فلم يعقلوا بل قالوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ أي آباؤهم ومن دان بدينهم من الكفرة المنكرين للبعث قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ تفسير لما قبله من المبهم وتفصيل لما فيه من الإجمال وقد مر الكلام فيه لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا البعث مِنْ قَبْلُ متعلق بالفعل من حيث إسناده إلى المعطوف عليه والمعطوف على ما هو الظاهر، وصح ذلك بالنسبة إليهم لأن الأنبياء المخبرين بالبعث كانوا يخبرون به بالنسبة إلى جميع من يموت، ويجوز أن يكون متعلقا به من حيث إسناده إلى آبائهم لا إليهم أي ووعد آباؤنا من قبل أو بمحذوف وقع حالا من آبائنا أي كائنين من قبل إِنْ هذا أي ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي أكاذيبهم التي سطروها جمع أسطورة كأحدوثة وأعجوبة وإلى هذا ذهب المبرد وجماعة، وقيل: جمع أسطار جمع سطر كفرس وأفراس، والأول كما قال الزمخشري أوفق لأن جمع المفرد أولى وأقيس ولأن بنية أفعولة تجيء لما فيه التلهي فيكون حينئذ كأنه قيل مكتوبات لا طائل تحتها قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها من المخلوقات تغليبا للعقلاء على غيرهم إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ جوابه محذوف ثقة بدلالة الاستفهام عليه أي إن كنتم من أهل العلم ومن العقلاء أو عالمين بذلك فأخبروني به. وفي الآية من المبالغة في الاستهانة بهم وتقرير فرط جهالتهم ما لا يخفى. ويقوي هذا أنه أخبر عن الجواب قبل أن يجيبوا فقال سبحانه: سَيَقُولُونَ لِلَّهِ فإن بداهة العقل تضطرهم إلى الاعتراف بأنه سبحانه خلقها فاللام للملك باعتبار الخلق قُلْ أي عند اعترافهم بذلك تبكيتا لهم أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي أتعلمون أو أتقولون ذلك فلا تتذكرون أي من فطر الأرض ومن فيها ابتداء قادر على إعادتها ثانيا فإن البدء ليس بأهون من الإعادة بل الأمر بالعكس في قياس المعقول. وقرىء «تتذكرون» على الأصل قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أعيد لفظ الرب تنويها بشأن العرش ورفعا لمحله من أن يكون تبعا للسماوات وجودا وذكرا، وقرأ ابن محيصن «العظيم» بالرفع نعتا للرب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 257 سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قرأ أبو عمرو ويعقوب بغير لام فيه. وفيما بعده ولم يقرأ على ما قيل في السابق بترك اللام والقراءة بغير لام على الظاهر وباللام على المعنى وكلا الأمرين جائزان فلو قيل: من صاحب هذه الدار؟ فقيل: زيد كان جوابا عن لفظ السؤال، ولو قيل: لزيد لكان جوابا على المعنى لأن معنى من صاحب هذه الدار؟ لمن هذه الدار وكلا الأمرين وارد في كلامهم، أنشد صاحب المطلع: إذا قيل من رب المزالف والقرى ... ورب الجياد الجرد قلت لخالد وأنشد الزجاج: وقال السائلون لمن حفرتم ... فقال المخبرون لهم وزير قُلْ إفحاما لهم وتوبيخا أَفَلا تَتَّقُونَ أي أتعلمون ذلك ولا تتقون أنفسكم عقابه على ترك العمل بموجب العلم حيث تكفرون به تعالى وتنكرون ما أخبر به من البعث وتثبتون له سبحانه شريكا. قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ مما ذكر ومما لم يذكر وصيغة الملكوت للمبالغة في الملك فالمراد به الملك الشامل الظاهر، وقيل: المالكية والمدبرية، وقيل: الخزائن وَهُوَ يُجِيرُ أي يمنع من يشاء ممن يشاء وَلا يُجارُ عَلَيْهِ ولا يمنع أحد منه جل وعلا أحدا، وتعدية الفعل بعلى لتضمنه معنى النصرة أو الاستعلاء إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ تكرير لاستهانتهم وتجهيلهم على ما مر سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ملكوت كل شيء والوصف بأنه الذي يجير ولا يجار عليه قُلْ تهجينا لهم وتقريعا فَأَنَّى تُسْحَرُونَ كيف أو من أين تخدعون وتصرفون عن الرشد مع علمكم به إلى ما أنتم عليه من البغي فإن من لا يكون مسحورا مختل العقل لا يكون كذلك، وهذه الآيات الثلاث أعني قُلْ لِمَنِ إلى هنا على ما قرر في الكشف تقرير للسابق وتمهيد للاحق وقد روعي في السؤال فيها قضية الترقي فسئل عمن له الأرض ومن فيها، وقيل: مَنْ تغليبا للعقلاء ولأنه يلزم أن يكون له غيرهم من طريق الأولى ثم سئل عمن له السموات والعرش العظيم والأرض بالنسبة إليه كلا شيء ثم سئل عمن بيده ملكوت كل شيء فأتى بأعم العام وكلمة الإحاطة وأوثر الملكوت وهو الملك الواسع، وقيل: بِيَدِهِ تصويرا وتخييلا وكذلك روعي هذه النكتة في الفواصل فعيروا أولا بعدم التذكر فإن أيسر النظر يكفي في انحلال عقدهم ثم بعدم الاتقاء وفيه وعيد ثم بالتعجب من خدع عقولهم فتخيل الباطل حقا والحق باطلا وأنى لها التذكر والخوف. بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ إضراب عن قولهم: إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ والمراد بالحق الوعد بالبعث وقيل: ما يعمه والتوحيد ويدل على ذلك السياق وقرىء «بل أتيتهم» بتاء المتكلم وقرأ ابن أبي إسحاق بتاء الخطاب وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في قولهم: إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أو في ذلك قولهم بما ينافي التوحيد مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ لتنزهه عز وجل عن الاحتياج وتقدسه تعالى عن مماثلة أحد. وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ يشاركه سبحانه في الألوهية إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ أي لاستبد بالذي خلقه واستقل به تصرفا وامتاز ملكه عن ملك الآخر وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ ولوقع التحارب والتغالب بينهم كما هو الجاري فيما بين الملوك والتالي باطل لما يلزم من ذلك نفي ألوهية الجميع أو ألوهية ما عدا واحدا منهم وهو خلاف المفروض أو لما أنه يلزم أن لا يكون بيده تعالى وحده ملكوت كل شيء وهو باطل في نفسه لما برهن عليه في الكلام وعند الخصم لأنه يقول باختصاص ملكوت كل شيء به تعالى كما يدل عليه السؤال والجواب السابقان آنفا كذا قيل، ولا يخفى أن اللزوم في الشرطية المفهومة من الآية عادي لا عقلي ولذا قيل: إن الآية إشارة إلى دليل إقناعي للتوحيد لا قطعي. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 258 وفي الكشف قد لاح لنا من لطف الله تعالى وتأييده أن الآية برهان نير على توحيده سبحانه، وتقريره أن مرجح الممكنات الواجب الوجود تعالى شأنه جل عن كل كثرة أما كثرة المقومات أو الأجزاء الكمية فبينة الانتفاء لإيذائها بالإمكان، وأما التعدد مع الاتحاد في الماهية فكذلك للافتقار إلى المميز ولا يكون مقتضى الماهية لاتحادهما فيه فيلزم الإمكان، ثم الميزان في الطرفين صفتا كمال لأن الاتصاف بما لا كمال فيه نقص فهما ناقصان ممكنان مفتقران في الوجود إلى مكمل خارج هو الواجب بالحقيقة، وكذلك الافتقار في كمال ما للوجود يوجب الإمكان لإيجابه أن يكون فيه أمر بالفعل وأمر بالقوة واقتضائه التركيب والإمكان. ومن هنا قال العلماء: إن واجب الوجود بذاته واجب بجميع صفاته ليس له أمر منتظر ومع الاختلاف في الماهية يلزم أن لا يكون المرجح مرجحا أي لا يكون الإله إلها لأن كل واحد واحد من الممكنات إن استقلا بترجيحه لزم توارد العلتين التامتين على معلول شخصي وهو ظاهر الاستحالة فكونه مرجحا إلها يوجب الافتقار إليه وكون غيره مستقلا بالترجيح يوجب الاستغناء عنه فيكون مرجحا غير مرجح في حالة واحدة، وإن تعاونا فكمثل إذ ليس ولا واحد منهما بمرجح وفرضا مرجحين مع ما فيه من العجز عن الإيجاد والافتقار إلى الآخر، وإن اختص كل منهما ببعض مع أن الافتقار إليهما على السواء لزم اختصاص ذلك المرجح بمخصص يخصصه بذلك البعض بالضرورة وليس الذات لأن الافتقار إليهما على السواء فلا أولوية للترجيح من حيث الذات ولا معلول الذات لأنه يكون ممكنا والكلام فيه عائد فيلزم المحال من الوجهين الأولين أعني الافتقار إلى مميز غير الذات ومقتضاها ولزوم النقص لكل واحد لأن هذا المميز صفة كمال ثم مخصص كل بذلك التمييز هو الواجب الخارج لا هما، وإلى المحال الأول الإشارة بقوله تعالى: إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وهو لازم على تقدير التخالف في الماهية واختصاص كل ببعض، وخص هذا القسم لأن ما سواه أظهر استحالة، وإلى الثاني الإشارة بقوله سبحانه وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ أي إما مطلقا وإما من وجه فيكون العالي هو الإله أو لا يكون ثم إله أصلا وهذا لازم على تقديري التخالف والاتحاد والاختصاص وغيره فهو تكميل للبرهان من وجه وبرهان ثان من آخر، فقد تبين ولا كفرق الفجر أنه تعالى هو الواحد الأحد جعل وجوده زائدا على الماهية أو لا فاعلا بالاختيار أو لا، وليس برهان الوحدة مبنيا على أنه تعالى فاعل بالاختيار كما ظنه الإمام الرازي قدس سره انتهى، وهو كلام يلوح عليه مخايل التحقيق، وربما يورد عليه بعض مناقشات تندفع بالتأمل الصادق، وما أشرنا إليه من انفهام قضية شرطية من الآية ظاهر جدا على ما ذهب إليه الفراء فقد قال: إن إذا حيث جاءت بعدها اللام فقبلها لو مقدرة إن لم تكن ظاهرة نحو إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ فكأنه قيل: لو كان معه آلهة كما تزعمون لذهب كل إلخ. وقال أبو حيان: إذا حرف جواب وجزاء ويقدر قسم يكون لَذَهَبَ جوابا له، والتقدير والله إذا أي إن كان معه من إله لذهب وهو في معنى ليذهبن كقوله تعالى: وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا [الروم: 51] أي ليظلن لأن إذا تقتضي الاستقبال وهو كما ترى، وقد يقال: إن إذا هذه ليست الكلمة المعهودة وإنما هي إذا الشرطية حذفت جملتها التي تضاف إليها وعوض عنها التنوين كما في يومئذ والأصل إذا كان معه من إله لذهب إلخ، والتعبير بإذا من قبيل مجاراة الخصم، وقيل: كُلُّ إِلهٍ لما أن النفي عام يفيد استغراق الجنس ومَا في بِما خَلَقَ موصولة حذف عائدها كما أشرنا إليه. وجوز أن تكون مصدرية ويحتاج إلى نوع تكلف لا يخفى. ولم يستدل على انتفاء اتخاذ الولد إما لغاية ظهور فساده أو للاكتفاء بالدليل الذي أقيم على انتفاء أن يكون معه سبحانه إله بناء على ما قيل إن ابن الإله يلزم أن يكون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 259 إلها إذ الولد يكون من جنس الوالد وجوهره وفيه بحث سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ مبالغة في تنزيهه تعالى عن الولد والشريك، وما موصولة وجوز أن تكون مصدرية. وقرىء «تصفون» بتاء الخطاب وعالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي كل غيب وشهادة، وجر عالِمِ على أنه بدل من الاسم الجليل أو صفة له لأنه أريد به الثبوت والاستمرار فيتعرف بالإضافة. وقرأ جماعة من السبعة، وغيرهم برفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو عالم، والجر أجود عند الأخفش والرفع أبرع عند ابن عطية، وأيا ما كان فهو على ما قيل إشارة إلى دليل آخر على انتفاء الشريك بناء على توافق المسلمين والمشركين في تفرده تعالى بذلك، وفي الكشف أن في قوله سبحانه: عالِمِ إلخ إشارة إلى برهان آخر راجع إلى إثبات العلو أو لزوم الجهل الذي هو نقص وضد العلو لأن المتعددين لا سبيل لهما إلى أن يعلم كل واحد حقيقة الآخر كعلم ذلك الآخر بنفسه بالضرورة وهو نوع جهل وقصور، ثم علمه به يكون انفعاليا تابعا لوجود المعلوم فيكون في إحدى صفات الكمال- أعني العلم- مفتقرا وهو يؤذن بالنقصان والإمكان فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ تفريع على كونه تعالى عالما بذلك فهو كالنتيجة لما أشار إليه من الدليل. وقال ابن عطية: الفاء عاطفة كأنه قيل علم الغيب والشهادة فتعالى كما تقول زيد شجاع فعظمت منزلته على معنى شجع فعظمت، ويحتمل أن يكون المعنى فأقول تعالى إلخ على أنه إخبار مستأنف قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي أي إن كان لا بد من أن تريني لأن ما والنون زيدتا للتأكيد ما يُوعَدُونَ أي الذي يوعدونه من العذاب الدنيوي المستأصل وأما العذاب الأخروي فلا يناسب المقام رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي قرينا لهم فيما هم فيه من العذاب، ووضع الظاهر موضع الضمير للإشارة إلى استحقاقهم للعذاب، وجاء الدعاء قبل الشرط وقبل الجزاء مبالغة في الابتهال والتضرع، واختير لفظ الرب لما فيه من الإيذان بأنه سبحانه المالك الناظر في مصالح العبد، وفي أمره صلّى الله عليه وسلّم أن يدعو بذلك مع أنه عليه الصلاة والسلام في حرز عظيم من أن يجعل قرينا لهم إيذان بكمال فظاعة العذاب الموعود وكونه بحيث يجب أن يستعيذ منه من لا يكاد يمكن أن يحيق به. وهو متضمن رد إنكارهم العذاب واستعجالهم به على طريقة الاستهزاء. وقيل أمر صلّى الله عليه وسلّم بذلك هضما لنفسه وإظهارا لكمال العبودية، وقيل لأن شؤم الكفرة قد يحيق بمن سواهم كقوله تعالى وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: 25] وروي عن الحسن أنه جل شأنه أخبر نبيه صلّى الله عليه وسلّم بأن له في أمته (1) نقمة ولم يطلعه على وقتها أهو في حياته أم بعدها فأمره بهذا الدعاء. وقرأ الضحاك وأبو عمران الجوني «ترئني» بالهمز بدل الياء وهو كما في البحر إبدال ضعيف. وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ من العذاب لَقادِرُونَ ولكنا لا نفعل بل نؤخره عنهم لعلمنا بأن بعضهم أو بعض أعقابهم سيؤمنون أو لأنا لا نعذبهم وأنت فيهم، وقيل قد أراه سبحانه ذلك وهو ما أصابهم يوم بدر أو فتح مكة، قال شيخ الإسلام: ولا يخفى بعده فإن المتبادر أن يكون ما يستحقونه من العذاب الموعود عذابا هائلا مستأصلا لا يظهر على يديه صلّى الله عليه وسلّم للحكمة الداعية إليه. ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي ادفع بالحسنة التي هي أحسن الحسنات التي يدفع بها السَّيِّئَةَ بأن تحسن إلى المسيء في مقابلتها ما استطعت، ودون هذا في الحسن أن يحسن إليه في الجملة، ودونه أن يصفح عن إساءته   (1) أي أمة الدعوة اهـ منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 260 فقط، وفي ذلك من الحث له صلّى الله عليه وسلّم إلى ما يليق بشأنه الكريم من حسن الأخلاق ما لا يخفى، وهو أبلغ من ادفع بالحسنة السيئة لمكان أَحْسَنُ والمفاضلة فيه على حقيقتها على ما ذكرنا وهو وجه حسن في الآية، وجوز أن تعتبر المفاضلة بين الحسنة والسيئة على معنى أن الحسنة في باب الحسنات أزيد به من السيئة في باب السيئات ويطرد هذا في كل مفاضلة بين ضدين كقولهم: العسل أحلى من الخل فإنهم يعنون أنه في الأصناف الحلوة أميز من الخل في الأصناف الحامضة، ومن هذا القبيل ما يحكى عن أشعب الماجن أنه قال: نشأت أنا والأعمش في حجر فلان فما زال يعلو وأسفل حتى استوينا فإنه عنى استواءهما في بلوغ كل منهما الغاية حيث بلغ هو الغاية في التدلي والأعمش الغاية في التعلي، وعلى الوجهين لا يتعين هذا الأحسن وكذا السيئة. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية عن أنس أنه قال في الآية: يقول الرجل لأخيه ما ليس فيه فيقول: إن كنت كاذبا فأنا أسأل الله تعالى أن يغفر لك وإن كنت صادقا فأنا أسأل الله تعالى أن يغفر لي. وقيل: التي هي أحسن شهادة أن لا إله إلا الله والسيئة الشرك، وقال عطاء والضحاك: التي هي أحسن السلام والسيئة الفحش، وقيل: الأول الموعظة والثاني المنكر، واختار بعضهم العموم وأن ما ذكر قبيل التمثيل، والآية قيل: منسوخة بآية السيف، وقيل: هي محكمة لأن الدفع المذكور مطلوب ما لم يؤد إلى ثلم الدين والإزراء بالمروءة نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ أي بوصفهم إياك أو بالذي يصفونك به مما أنت بخلافه، وفيه وعيد لهم بالجزاء والعقوبة وتسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإرشاد له عليه الصلاة والسلام إلى تفويض أمره إليه عز وجل، والظاهر من هذا أن الآية آية موادعة فافهم. وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ أي وساوسهم المغرية على خلاف ما أمرت به وهي جمع همزة، والهمز النخس والدفع بيد أو غيرها، ومنه مهماز الرائض لحديدة تربط على مؤخر رجله ينخس به الدابة لتسرع أو لتثب، وإطلاق ذلك على الوسوسة والحث على المعاصي لما بينهما من الشبه الظاهر، والجمع للمرات أو لتنوع الوساوس أو لتعدد الشياطين وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ أي من حضورهم حولي في حال من الأحوال، وتخصيص حال الصلاة وقراءة القرآن كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وحال حلول الأجل كما روي عن عكرمة لأنها أحرى الأحوال بالاستعاذة منها لا سيما الحال الأخيرة ولذا قيل: اللهم إني أعوذ بك من النزع عند النزع، وإلى العموم ذهب ابن زيد، وفي الأمر بالتعوذ من الحضور بعد الأمر بالتعوذ من همزاتهم مبالغة في التحذير من ملابستهم، وإعادة الفعل مع تكرير النداء لإظهار كمال الاعتناء بالمأمور به وعرض نهاية الابتهال في الاستدعاء ويسن التعوذ من همزات الشياطين وحضورهم عند إرادة النوم، فقد أخرج أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وحسنه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعلمنا كلمات نقولهن عند النوم من الفزع بسم الله أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون» حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ حَتَّى ابتدائية وغاية لمقدر يدل عليه ما قبلها والتقدير فلا أكون كالكفار الذين تهمزهم الشياطين وتحضرهم حتى إذا جاء إلخ، ونظير ذلك قوله: فيا عجبا حتى كليب تسبني فإن التقدير يسبني كل الناس حتى كليب إلا أنه حذفت الجملة هنا لدلالة ما بعد حتى، وقيل إن هذا الكلام مردود على يَصِفُونَ الثاني على معنى إن حتى متعلقة بمحذوف يدل عليه كأنه قيل: لا يزالون على سوء المقالة والطعن في حضرة الرسالة حتى إذا إلخ، وقوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ إلخ اعتراض مؤكد للإغضاء المدلول عليه بقوله سبحانه: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلخ بالاستعاذة به تعالى من الشياطين أن يزلوه عليه الصلاة والسلام عما أمر به، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 261 وقيل على يَصِفُونَ الأول أو على يُشْرِكُونَ وليس بشيء. وجوز الزمخشري أن يكون مرورا على قوله تعالى: وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ويكون من قوله سبحانه مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ إلى هذا المقام من اعتراض تحقيقا لكذبهم ولاستحقاقهم جزاءه وليس بالوجه، ويفهم من كلام ابن عطية أنه يجوز أن تكون حَتَّى هنا ابتدائية لا غاية لما قبلها. وتعقبه أبو حيان بأنها إذا كانت ابتدائية لا تفارقها الغاية، والظاهر الذي لا ينبغي العدول عنه أن ضمير أَحَدَهُمُ راجع إلى الكفار، والمراد من مجيء الموت ظهورا إماراته أي إذا ظهر لأحدهم أي أحد كان منهم أمارات الموت وبدت له أحوال الآخرة قالَ تحسرا على ما فرط في جنب الله تعالى رَبِّ ارْجِعُونِ أي ردني إلى الدنيا، والواو لتعظم المخاطب وهو الله تعالى كما في قوله: لا فارحموني يا إله محمد ... فإن لم أكن أهلا فأنت له أهل وقول الآخر: وإن شئت حرمت النساء سواكم ... وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا (1) والحق أن التعظيم يكون في ضمير المتكلم والمخاطب بل والغائب والاسم الظاهر وإنكار ذلك غير رضي والإيهام الذي يدعيه ابن مالك هنا لا يلتفت إليه، وقيل: الواو لكون الخطاب للملائكة عليهم السلام والكلام على تقدير مضاف أي يا ملائكة ربي ارجعوني، وجوز أن يكون رَبِّ استغاثة به تعالى وارْجِعُونِ خطاب للملائكة عليهم السلام، وربما يستأنس لذلك بما أخرجه ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج قال: زعموا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لعائشة رضي الله تعالى عنها: إن المؤمن إذا عاين الملائكة قالوا: نرجعك إلى دار الدنيا؟ قال: إلى دار الهموم والأحزان بل قدوما إلى الله تعالى وأما الكافر فيقولون له: نرجعك؟ فيقول: رب ارجعوني ، وقال المازني: جمع الضمير ليدل على التكرار فكأنه قال: رب ارجعني ارجعني ارجعني، ومثل ذلك تتنبه الضمير في قفا نبك ونحوه. واستشكل ذلك الخفاجي بأنه إذا كان أصل ارجعوا مثلا ارجع ارجع إرجع لم يكن ضمير الجمع بل تركيبه الذي فيه حقيقة فإذا كان مجازا فمن أي أنواعه وكيف دلالته على المراد وما علاقته وإلا فهو مما لا وجه له، ومن غريبه أن ضميره كان مفردا واجب الاستتار فصار غير مفرد واجب الإظهار ثم قال: لم تزل هذه الشبهة قديما في خاطري والذي خطر لي أن لنا استعارة أخرى غير ما ذكر في المعاني ولكونها لا علاقة لها بالمعنى لم تذكر وهي استعارة لفظ مكان لفظ آخر لنكتة بقطع النظر عن معناه وهو كثير في الضمائر كاستعمال الضمير المجرور الظاهر مكان المرفوع المستتر في كفى به حتى لزم انتقاله عن صفة إلى صفة أخرى ومن لفظ إلى لفظ آخر وما نحن فيه من هذا القبيل فإنه غير الضمائر المستترة إلى ضمير جمع ظاهر فلزم الاكتفاء بأحد ألفاظ الفعل وجعل دلالة ضمير الجمع على تكرر الفعل قائما مقامه في التأكيد من غير تجوز فيه، ولابن جني في الخصائص كلام يدل على ما ذكرناه فتأمل انتهى كلامه. ولعمري لقد أبعد جدا، ولعل الأقرب أن يقال: أراد المازني أنه جمع الضمير للتعظيم بتنزيل المخاطب الواحد منزلة الجماعة المخاطبين ويتبع ذلك كون الفعل الصادر منه بمنزلة الفعل الصادر من الجماعة ويتبعهما كون ارْجِعُونِ مثلا بمنزلة ارجعني ارجعني أرجعني لكن إجراء نحو هذا في نحو- قفا نبك- لا يتسنى إلا إذا قيل بأنه قد يقصد بضمير التثنية التعظيم كما قد يقصد ذلك بضمير الجمع ولم يخطر لي أني رأيته فليتتبع وليتدبر   (1) النقاخ هو الماء البارد والبرد النوم اهـ منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 262 لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ أي في الإيمان الذي تركته، ولعل للترجي وهو إما راجع للعمل والإيمان لعلمه بعدم الرجوع أو للعمل فقط لتحقيق إيمانه إن رجع فهو كما في قولك: لعليّ أربح في هذا المال أو كقولك: لعليّ أبني على أس أي أأسس ثم أبني، وقيل: فيما تركت من المال أو من الدنيا جعل مفارقة ذلك تركا له، ويجوز أن تكون لعل للتعليل. وفي البرهان حكى البغوي عن الواقدي أن جميع ما في القرآن من لعل فإنها للتعليل إلا قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ فإنها للتشبيه. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق السدي عن أبي مالك نحوه، ثم إن طلب الرجعة ليس من خواص الكفار. فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن مانع الزكاة وتارك الحج المستطيع يسألان الرجعة عند الموت وأخرج الديلمي عن جابر بن عبد الله قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إذا حضر الإنسان الوفاة يجمع له كل شيء يمنعه عن الحق فيجعل بين عينيه فعند ذلك يقول: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ» وهذا الخبر يؤيد أن المراد مما تركت المال ونحوه كَلَّا ردع عن طلب الرجعة واستبعاد لها إِنَّها أي قوله: رَبِّ ارْجِعُونِ إلخ كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها لا محالة لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة وتسلط الندم عليه فتقديم المسند إليه للتقوى أو هو قائلها وحده فالتقديم للاختصاص، ومعنى ذلك أنه لا يجاب إليها ولا تسمع منه بتنزيل الإجابة والاعتداد منزلة قولها حتى كأن المعتد بها شريك لقائلها، ومثل هذا متداول فيقول من كلمه صاحبه بما لا جدوى تحته: اشتغل أنت وحدك بهذه الكلمة فتكلم واستمع يعني أنها مما لا تسمع منك ولا تستحق الجواب، والكلمة هنا بمعنى الكلام كما في قولهم: كلمة الشهادة وهي في هذا المعنى مجاز عند النحاة، وأما عند اللغويين فقيل حقيقة، وقيل مجاز مشهور. والظاهر أن كَلَّا وما بعدها من كلامه تعالى، وأبعد جدا من زعم أن كَلَّا من قول من عاين الموت وأنه يقول ذلك لنفسه على سبيل التحسر والندم وَمِنْ وَرائِهِمْ أي أمامهم وقد مر تحقيقه، والضمير لأحدهم والجمع باعتبار المعنى لأنه في حكم كلهم كما أن الافراد في الضمائر الأول باعتبار اللفظ بَرْزَخٌ حاجز بينهم وبين الرجعة إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ من قبورهم وهو يوم القيامة، وهذا تعليق لرجعتهم إلى الدنيا بالمحال كتعليق دخولهم الجنة بقوله سبحانه: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الأعراف: 40] وعن ابن زيد أن المراد من ورائهم حاجز بين الموت والبعث في القيامة من القبور باق إلى يوم يبعثون، وقيل: حاجز بينهم وبين الجزاء التام باق إلى يوم القيامة فإذا جاء ذلك اليوم جوزوا على أتم وجه فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ لقيام الساعة وهي النفخة الثانية التي يقع عندها البعث والنشور، وقيل: المعنى فإذا نفخ في الأجساد أرواحها على أن الصور جمع صورة على نحو بسر وبسرة لا القرن، وأيد بقراءة ابن عباس والحسن وابن عياض «في الصور» بضم الصاد وفتح الواو، وقراءة ابن رزين «في الصور» بكسر الصاد وفتح الواو فإن المذكور في هاتين القراءتين جمع صورة لا بمعنى القرن قطعا والأصل توافق معاني القراءات، ولا تنافي بين النفخ في الصور بمعنى القرن الذي جاء في الخبر ودلت عليه آيات أخر وبين النفخ في الصور جمع صورة فقد جاء أن هذا النفخ عند ذاك فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ نفخ في الصور كما هي بينهم اليوم، والمراد أنها لا تنفعهم شيئا فهي منزلة منزلة العدم لعظم الهول واشتغال كل بنفسه بحيث يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه. وقد أخرج ابن المبارك في الزهد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية وابن عساكر عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: إذا كان يوم القيامة جمع الله تعالى الأولين والآخرين وفي لفظ «يؤخذ بيد العبد أو الأمة يوم القيامة على رؤوس الأولين والآخرين ثم ينادي مناد ألا إن هذا فلان ابن فلان فمن كان له حق قبله فليأت إلى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 263 حقه- وفي لفظ- من كان له مظلمة فليجىء ليأخذ حقه فيفرح والله المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته وإن كان صغيرا ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ» وهذا الأثر يدل على أن هذا الحكم غير خاص بالكفرة بل يعمهم وغيرهم، وقيل: هو خاص بهم كما يقتضيه سياق الآية، وقيل لا ينفع نسب يومئذ إلا نسبه صلّى الله عليه وسلّم. فقد أخرج البزار والطبراني والبيهقي وأبو نعيم والحاكم والضياء في المختارة عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي» . وقد أخرج جماعة نحوه عن مسور بن مخرمة رضي الله تعالى عنه مرفوعا، وأخرج ابن عساكر نحوه مرفوعا أيضا عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما وهو خبر مقبول لا يكاد يرده إلا من في قلبه شائبة نصب، نعم ينبغي القول بأن نفع نسبه صلّى الله عليه وسلّم إنما هو بالنسبة للمؤمنين الذين تشرفوا به وأما الكافر والعياذ بالله تعالى فلا نفع له بذلك أصلا، وقد يقال: إن هذا الخبر لا ينافي إرادة العموم في الآية بأن يكون المراد نفي الالتفات إلى الأنساب عقيب النفخة الثانية من غير فصل حسبما يؤذن به الفاء الجزائية فإنها على المختار تدل على التعقيب ويكون المراد تهويل شأن ذلك الوقت ببيان أنه يذهل فيه كل أحد عمن بينه وبينه نسب ولا يلتفت إليه ولا يخطر هو بباله فضلا عن أنه ينفعه أو لا ينفعه، وهذا لا يدل على عدم نفع كل نسب فضلا عن عدم نفع نسبه صلّى الله عليه وسلّم، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وحكي عن الجبائي أن المراد أنه لا يفتخر يومئذ بالأنساب كما يفتخر بها في الدنيا وإنما يفتخر هناك بالأعمال والنجاة من الأهوال فحيث لم يفتخر بها ثمت كانت كأنها لم تكن، فعلى هذا وكذا على ما تقدم يكون قوله تعالى: فَلا أَنْسابَ من باب المجاز. وجوز أن يكون صفة مقدرة أي فلا أنساب نافعة أو ملتفتا إليها أو مفتخرا بها وليس بذاك، والظاهر أن العامل في يَوْمَئِذٍ هو العامل في بَيْنَهُمْ لا أَنْسابَ لما لا يخفى وَلا يَتَساءَلُونَ أي ولا يسأل بعضهم بعضا عن حاله وممن هو ونحو ذلك لاشتغال كل منهم بنفسه عن الالتفات إلى أبناء جنسه وذلك عقيب النفخة الثانية من غير فصل أيضا فهو مقيد بيومئذ وإن لم يذكر بعده اكتفاء بما تقدم، وكأن كلا الحكمين بعد تحقق أمر تلك النفخة لديهم ومعرفة أنها لماذا كانت، وحينئذ يجوز أن يقال: إن قولهم مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا [يس: 52] قبل تحقق أمر تلك النفخة لديهم فلا إشكال، ويحتمل أن كلا الحكمين في مبدأ الأمر قبل القول المذكور كأنهم حين يسمعون الصيحة يذهلون عن كل شيء الأنساب وغيرها كالنائم إذا صيح به صيحة مفزعة فهب من منامه فزعا ذاهلا عمن عنده مثلا فإذا سكن روعهم في الجملة قال قائلهم: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا وقيل: لا نسلم أن قولهم مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا أنه كان بطريق التساؤل، وعلى الاحتمالين لا يشكل هذا مع قوله تعالى في شأن الكفرة يوم القيامة وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصافات: 27، الطور: 25] وفي شأن المؤمنين فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصافات: 50] فإن تساؤل الكفرة المنفي في موطن وتساؤلهم المثبت في موطن آخر ولعله عند جهنم وهو بعد النفخة الثانية بكثير، وكذا تساؤل المؤمنين بعدها بكثير أيضا فإنه في الجنة كما يرشد إليه الرجوع إلى ما قبل الآية، وقد يقال: إن التساؤل المنفي هنا تساؤل التعارف ونحوه مما يترتب عليه دفع مضرة أو جلب منفعة والتساؤل المثبت لأهل النار تساؤل وراء ذلك وقد بينه سبحانه بقوله عز من قائل: قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ [الصافات: 28] الآية، وقد بين جل وعلا تساؤل أهل الجنة بقوله سبحانه: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ [الصافات: 51] الآية، وهو أيضا نوع آخر من التساؤل ليس فيه أكثر من الاستئناس دون دفع مضرة عمن يتكلم معه أو جلب منفعة له. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 264 وقيل المنفي التساؤل بالأنساب فكأنه قيل لا أنساب بينهم ولا يسأل بعضهم بعضا بها، والمراد أنها لا تنفع في نفسها وعندهم والآية في شأن الكفرة وتساؤلهم المثبت في آية أخرى ليس تساؤلا بالأنساب وهو ظاهر فلا إشكال. وروى جماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه سئل عن وجه الجمع بين النفي هنا والإثبات في قوله سبحانه: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [الصافات: 27] فقال: إن نفي التساؤل في النفخة الأولى حين لا يبقى على وجه الأرض شيء وإثباته في النفخة الثانية، وعلى هذا فالمراد عنده بقوله تعالى: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فإذا نفخ النفخة الأولى وهذه إحدى روايتين عنه رضي الله تعالى عنه، والرواية الثانية حمله على النفخة الثانية، وحينئذ يختار في وجه الجمع أحد الأوجه التي أشرنا إليها، وقرأ ابن مسعود «ولا يسّاءلون» بتشديد السين فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ أي موزونات حسناته من العقائد والأعمال، ويجوز أن تكون الموازين جمع ميزان ووجه جمعه قد مر. والمعنى عليه من ثقلت موازينه بالحسنات فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بكل مطلوب الناجون عن كل مهروب وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ أي موازين أعماله الحسنة أو أعماله التي لا وزن لها ولا اعتداد بها وهي أعماله السيئة كذا قيل وهو مبني على اختلافهم في وزن أعمال الكفرة فمن قال به قال بالأول ومن لم يقل به قال بالثاني، وقد تقدم الكلام في نظير هذه الآية في سورة الأعراف فتذكر. فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ضيعوها بتضييع زمان استكمالها وأبطلوا استعدادها لنيل كمالها، واسم الإشارة في الموضعين عبارة عن الموصول، وجمعه باعتبار معناه كما أن افراد الضميرين في الصلتين باعتبار لفظه. فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ خبر ثان لأولئك، وجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هم خالدون في جهنم، والجملة إما استئنافية جيء بها لبيان خسرانهم أنفسهم، وإما خبر ثان لأولئك أيضا، وجوز أن يكون «الذين» نعتا لاسم الإشارة خالِدُونَ وهو الخبر، وقيل: خالِدُونَ مع معموله بدل من الصلة، قال الخفاجي: أي بدل اشتمال لأن خلودهم في جهنم مشتمل على خسرانهم، وجعل كذلك نظرا لأنه بمعنى يخلدون في جهنم وبذلك يصلح لأن يكون صلة كما يقتضيه الإبدال من الصلة، وظاهر صنيع الزمخشري يقتضي ترجيح هذا الوجه وليس عندي بالوجه كما لا يخفى وجهه. وتعقب أبو حيان القول بأن فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ بدل فقال: هذا بدل غريب وحقيقته أن يكون البدل ما يتعلق به فِي جَهَنَّمَ أي استقروا، وكأنه من بدل الشيء من الشيء وهما لمسمى واحد على سبيل المجاز لأن من خسر نفسه استقر في جهنم، وأنت تعلم أن الظاهر تعلق فِي جَهَنَّمَ بخالدون وأن تعليقه بمحذوف وجعل ذلك المحذوف بدلا وإبقاء خالِدُونَ مفلتا مما لا ينبغي أن يلتفت إليه مع ظهور الوجه الذي لا تكلف فيه، وقوله تعالى: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ جملة حالية أو مستأنفة، واللفح مس لهب النار الشيء وهو كما قال الزجاج أشد من النفح تأثيرا، والمراد تحرق وجوههم النار، وتخصيص الوجوه بذلك لأنها أشرف الأعضاء فبيان حالها أزجر عن المعاصي المؤدية إلى النار وهو السر في تقديمها على الفاعل. وَهُمْ فِيها كالِحُونَ متقلصو الشفاه عن الأسنان من أثر ذلك اللفح، وقد صح من رواية الترمذي وجماعة عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال في الآية: «تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته» وأخرج ابن مردويه والضياء في صفة النار عن أبي الدرداء قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قوله تعالى: تَلْفَحُ إلخ: تلفحهم لفحة فتسيل لحومهم على أعقابهم ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الكلوح بسور الوجه وتقطيبه، وقرأ أبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة «كلحون» بغير ألف جمع كلح كحذر أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ على إضمار القول أي يقال لهم تعنيفا وتوبيخا وتذكيرا لما به الجزء: 9 ¦ الصفحة: 265 استحقوا ما ابتلوا به من العذاب ألم تكن آياتي تتلى عليكم في الدنيا فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ حينئذ قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا أي استولت علينا وملكتنا شقاوتنا التي اقتضاها سوء استعدادنا كما يومىء إلى ذلك إضافتها إلى أنفسهم. وقرأ شبل في اختياره «شقوتنا» بفتح الشين، وقرأ عبد الله والحسن وقتادة وحمزة والكسائي والمفضل عن عاصم وأبان والزعفراني وابن مقسم «شقاوتنا» بفتح الشين وألف بعد القاف، وقرأ قتادة أيضا والحسن في رواية خالد بن حوشب عنه «شقاوتنا» بالألف وكسر الشين وهي في جميع ذلك مصدر ومعناها ضد السعادة، وفسرها جماعة بسوء العاقبة التي علم الله تعالى أنهم يستحقونها بسوء أعمالهم ونسب ذلك لجمهور المعتزلة، وعن الأشاعرة أن المراد بها ما كتبه الله تعالى عليهم في الأزل من الكفر والمعاصي، وقال الجبائي: المراد بها الهوى وقضاء اللذات مجازا من باب إطلاق المسبب على السبب، وأيا ما كان فنسبة الغلب إليها لاعتبار تشبيهها بمن يتحقق منه ذلك ففي الكلام استعارة مكنية تخييلية ولعل الأولى أن يخرج الكلام مخرج التمثيل ومرادهم بذلك على جميع الأقوال في الشقوة الاعتراف بقيام حجة الله تعالى عليهم لأن منشأها على جميع الأقوال عند التحقيق ما هم عليه في أنفسهم فكأنهم قالوا: ربنا غلب علينا أمر منشؤه ذواتنا وَكُنَّا بسبب ذلك قَوْماً ضالِّينَ عن الحق مكذبين بما يتلى من الآيات فما تنسب إلى حيف في تعذيبنا، ولا يجوز أن يكون اعتذارا بما علمه الله تعالى فيهم وكتبه عليهم من الكفر أي غلب علينا ما كتبته علينا من الشقاوة وكنا في علمك قوما ضالين أو غلب علينا ما علمته وكتبته وكنا بسبب ذلك قوما ضالين فما وقع منا من التكذيب بآياتك لا قدرة لنا على رفعه والإلزام انقلاب العلم جهلا وهو محال لأن ذلك باطل في نفسه لا يصلح للاعتذار فإنه سبحانه ما كتب إلا ما علم وما علم إلا ما هم عليه في نفس الأمر من سوء الاستعداد المؤدي إلى سوء الاختيار فإن العلم على ما حقق في موضعه تابع للمعلوم، ويؤيد دعوى الاعتراف قوله تعالى حكاية عنهم. رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ أي ربنا أخرجنا من النار وأرجعنا إلى الدنيا فإن عدنا بعد ذلك إلى ما كنا عليه فيها من الكفر والمعاصي فإنا متجاوزون الحد في الظلم لأن اجتراءهم على هذا الطلب أوفق بكون ما قبله اعترافا فإنه كثيرا ما يهون به المذنب غضب من أذنب إليه، والاعتذار وإن كان كذلك بل أعظم إلا أن هذا الاعتذار أشبه شيء بالاعتراض الموجب لشدة الغضب الذي لا يحسن معه الإقدام على مثل هذا الطلب، هذا مع أنهم لو لم يعتقدوا أن ذلك عذر مقبول والاعتذار به نافع لم يقدموا عليه ومع هذا الاعتقاد لا حاجة بهم إلى طلب الإخراج والإرجاع، ولا يقال مثل هذا على تقدير كونه اعترافا لأنهم إنما قالوه تمهيدا للطلب المذكور لما أنه مظنة تسكين لهب نار الغضب على ما سمعت، ثم إن القوم لعلهم ظنوا تغير ما هم عليه من سوء الاستعداد لو عادوا لما شاهدوا من حالهم في ذلك اليوم ولذلك طلبوا ما طلبوا. وفي قولهم: عُدْنا إشارة إلى أنهم حين الطلب على الإيمان والطاعة فيكون الموعود على تقدير الرجعة إلى الدنيا الثبات عليهما لينتفعوا بهما بعد أن يموتوا ويحشروا فتأمل قالَ الله سبحانه إقناطا لهم أشد إقناط اخْسَؤُا فِيها أي ذلوا وانزجروا انزجار الكلاب إذا زجرت من خسأت الكلب إذا زجرته فخسأ أي انزجر أو اسكتوا سكوت هوان ففيه استعارة مكنية قرينتها تصريحية وَلا تُكَلِّمُونِ باستدعاء الإخراج من النار والرجع إلى الدنيا، وقيل: لا تكلمون في رفع العذاب، ولعل الأول أوفق بما قبله وبالتعليل الآتي، وقيل: لا تكلمون أبدا وهو آخر كلام يتكلمون به. أخرج ابن أبي الدنيا في صفة النار عن حذيفة «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إن الله تعالى إذا قال لأهل النار اخسؤوا فيها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 266 ولا تكلمون عادت وجوههم قطعة لحم ليس فيها أفواه ولا مناخر يتردد النفس في أجوافهم» وأخرج الطبراني والبيهقي في البعث وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد والحاكم وصححه وجماعة عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: إن أهل جهنم ينادون مالكا ليقض علينا ربك فيذرهم أربعين عاما لا يجيبهم ثم يجيبهم إنكم ماكثون ثم ينادون ربهم ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون فيذرهم مثلي الدنيا لا يجيبهم ثم يجيبهم اخسؤوا فيها ولا تكلمون قال: فما يبس القوم بعدها بكلمة وما هو إلا الزفير والشهيق. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وغيرهما عن محمد بن كعب قال: لأهل النار خمس دعوات يجيبهم الله تعالى في أربعة فإذا كانت الخامسة لم يتكلموا بعدها أبدا يقولون: رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ [غافر: 11] فيجيبهم الله تعالى ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [غافر: 12] ثم يقولون: رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة: 12] فيجيبهم الله تعالى: فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [السجدة: 14] ثم يقولون رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ [إبراهيم: 44] فيجيبهم الله تعالى: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ [إبراهيم: 44] ثم يقولون: رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [فاطر: 37] فيجيبهم الله تعالى: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر: 37] ثم يقولون: رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ فيجيبهم الله تعالى: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ فلا يتكلمون بعدها أبدا، وفي بعض الآثار أنهم يلهجون بكل دعاء ألف سنة، ويشكل على هذه الأخبار ظواهر الخطابات الآتية كما لا يخفى ولعلها لا يصح منها شيء وتصحيح الحاكم محكوم عليه بعدم الاعتبار والله تعالى أعلم. إِنَّهُ تعليل لما قبله من الزجر عن الدعاء أي إن الشأن، وقرأ أبي وهارون العتكي «أنه» بفتح الهمزة أي لأن الشأن كانَ في الدنيا التي تريدون الرجعة إليها فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي وهم المؤمنون، وقيل: هم الصحابة، وقيل: أهل الصفة رضي الله تعالى عنهم أجمعين. يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا أي هزوا أي اسكتوا عن الدعاء بقولكم رَبَّنا إلخ لأنكم كنتم تستهزئون بالداعين خوفا من هذا اليوم بقولهم رَبَّنا آمَنَّا إلخ حَتَّى أَنْسَوْكُمْ بتشاغلكم بالاستهزاء بهم ذِكْرِي أي خوف عقابي في هذا اليوم. وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ وذلك غاية الاستهزاء، وقيل: التعليل على معنى إنما خسأناكم كالكلب ولم نحتفلكم إذ دعوتم لأنكم استهزأتم غاية الاستهزاء بأوليائي حين دعوا واستمر ذلك منكم حتى نسيتم ذكري بالكلية ولم تخافوا عقابي فهذا جزاؤكم، وقيل: خلاصة معنى الآية أنه كان فريق من عبادي يدعون فتشاغلتم بهم ساخرين واستمر تشاغلكم باستهزائهم إلى أن جركم ذلك إلى ترك ذكري في أوليائي فلم تخافوني في الاستهزاء بهم، ثم قيل: وهذا التذنيب لازم ليصح قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ إلخ تعليلا ويرتبط الكلام ويتلاءم مع قوله سبحانه: وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ولو لم يرد به ذلك يكون إنساء الذكر كالأجنبي في هذا المقام، وفيه تسخط عظيم لفعلهم ذلك ودلالة على اختصاص بالغ لأولئك العباد المسخور منهم كما نبه عليه أولا في قوله تعالى: مِنْ عِبادِي وختمه بقوله سبحانه: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ إلى قوله تعالى: هُمُ الْفائِزُونَ وزاد في خسئهم بإعزاز أضدادهم انتهى ولا يخلو عن بحث. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 267 وقرأ نافع وحمزة والكسائي «سخريا» بضم السين وباقي السبعة بكسرها، والمعنى عليهما واحد وهو الهزو عند الخليل وأبي زيد الأنصاري وسيبويه وقال أبو عبيدة والكسائي والفراء: مضموم السين بمعنى الاستخدام من غير أجرة ومكسورها بمعنى الاستهزاء، وقال يونس: إذا أريد الاستخدام ضم السين لا غير وإذا أريد الهزؤ جاز الضم والكسر، وهو في الحالين مصدر زيدت فيه ياء النسبة للمبالغة كما في أحمري. وقوله تعالى: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أي بسبب صبرهم على أذيتكم استئناف لبيان حسن حالهم وأنهم انتفعوا بما آذوهم، وفيه إغاظة لهم، وقوله سبحانه: أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ إما في موضع المفعول الثاني للجزاء وهو يتعدى له بنفسه وبالباء كما قال الراغب أي جزيتهم فوزهم بمجامع مراداتهم كما يؤذن به معمول الوصف حال كونهم مخصوصين بذلك كما يؤذن به توسيط ضمير الفصل، وأما في موضع جر بلام تعليل مقدرة أي لفوزهم بالتوحيد المؤدي إلى كل سعادة، ولا يمنع من ذلك تعليل الجزاء بالصبر لأن الأسباب لكونها ليست عللا تامة يجوز تعددها. وقرأ زيد بن علي وحمزة والكسائي وخارجة عن نافع «إنهم» بالكسر على أن الجملة استئناف معلل للجزاء، وقيل: مبين لكيفيته فتدبر، قالَ الله تعالى شأنه أو الملك المأمور بذلك لا بعض رؤساء أهل النار كما قيل تذكيرا لما لبثوا فيما سألوا الرجعة إليه من الدنيا بعد التنبيه على استحالته وفيه توبيخ على إنكارهم الآخرة، وقرأ حمزة والكسائي وابن كثير «قل» على الأمر للملك لا لبعض الرؤساء كما قيل ولا لجميع الكفار على إقامة الواحد مقام الجماعة كما زعمه الثعالبي كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ التي تدعون أن ترجعوا إليها أي كم أقمتم فيها أحياء عَدَدَ سِنِينَ تمييز لكم وهي ظرف زمان للبثتم، وقال أبو البقاء: «عددا» بدل من كَمْ، وقرأ الأعمش والمفضل عن عاصم «عددا» بالتنوين فقال أبو الفضل الرازي «سنين» نصب على الظرف و «عددا» مصدر أقيم مقام الاسم فهو نعت مقدم على المنعوت، وتجويز أن يكون معنى «لبثتم» عددتم بعيد، وقال أبو البقاء: «سنين» على هذه القراءة بدل من «عددا» . قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ استقصارا لمدة لبثهم بالنسبة إلى ما تحققوه من طول زمان خلودهم في النار، وقيل: استقصروها لأنها كانت أيام سرورهم بالنسبة إلى ما هم فيه وأيام السرور قصار، وقيل: لأنها كانت منقضية والمنقضي لا يعتنى بشأنه فلا يدرى مقداره طولا وقصرا فيظن أنه كان قصيرا فَسْئَلِ الْعادِّينَ أي المتمكنين من العد فإنا بما ذهمنا من العذاب بمعزل من ذلك أو الملائكة العادين لأعمار العباد وأعمالهم على ما رواه جماعة عن مجاهد. وقرأ الحسن والكسائي في رواية «العادين» بتخفيف الدال أي الظلمة فإنهم يقولون كما نقول كان الأتباع يسمون الرؤساء بذلك لظلمهم إياهم بإضلالهم، وقرىء «العاديّين» بتشديد الياء جمع عادي نسبة إلى قوم عاد والمراد بهم المعمرون لأن قوم عاد كانوا يعمرون كثيرا أي فاسأل القدماء المعمرين فإنهم أيضا يستقصرون مدة لبثهم قالَ أي الله تعالى أو الملك وقرأ الإخوان «قل» على الأمر كما قرأ فيما مر كذلك. وفي الدر المصون الفعلان في مصاحف الكوفة بغير ألف وبألف في مصاحف مكة والمدينة: والشام والبصرة، ونقل مثله عن ابن عطية، وفي الكشاف عكس ذلك وكأن الرسم بدون ألف يحتمل حذفها من الماضي على خلاف القياس وفي رسم المصحف من الغرائب ما لا يخفى فلا تغفل. إِنْ لَبِثْتُمْ أي ما لبثتم إِلَّا قَلِيلًا تصديق لهم في مقالتهم لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي تعلمون شيئا أو الجزء: 9 ¦ الصفحة: 268 لو كنتم من أهل العلم، ولَوْ شرطية وجوابها محذوف ثقة بدلالة الكلام عليه أي لو كنتم تعلمون لعلمتم يومئذ قصر أيام الدنيا كما علمتم اليوم ولعلمتم بموجب ذلك ولم يصدر منكم ما أوجب خلودكم في النار وقولنا لكم اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ وقيل المعنى لو كنتم تعلمون قلة لبثكم في الدنيا بالنسبة للآخرة ما اغتررتم بها وعصيتم، وكأن نفي العلم بذلك عنهم على هذا لعدم عملهم بموجبه ومن لم يعمل بعلمه فهو والجاهل سواء. وقدر أبو البقاء الجواب لما أجبتم بهذه المدة، ولعله يجعل الكلام السابق ردا عليهم لا تصديقا وإلا لا يصح هذا التقدير، وجوز أن تكون لَوْ للتمني فلا تحتاج لجواب، ولا ينبغي أن تجعل وصلية لأنها بدون الواو نادرة أو غير موجودة، هذا وقال غير واحد من المفسرين: المراد سؤالهم عن مدة لبثهم في القبور حيث إنهم كانوا يزعمون أنهم بعد الموت يصيرون ترابا ولا يقومون من قبورهم أبدا. وزعم ابن عطية أن هذا هو الأصوب وأن قوله سبحانه فيما بعد وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ يقتضيه وفيه منع ظاهر، ويؤيد ما ذهبنا إليه ما روي مرفوعا «أن الله تعالى إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار قال: يا أهل الجنة كم لبثم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قال: لنعم ما أنجزتم في يوم أو بعض يوم رحمتي ورضواني وجنتي امكثوا فيها خالدين مخلدين ثم يقول: يا أهل النار كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فيقول بئسما انجزتم في يوم أو بعض يوم ناري وسخطي امكثوا فيها خالدين مخلدين أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً أي ألم تعلموا شيئا فحسبتم أنما خلقناكم بغير حكمة حتى أنكرتم البعث فعبثا حال من نون العظمة أي عابثين أو مفعول له أي أفحسبتم أنما خلقناكم للعبث وهو ما خلا عن الفائدة مطلقا أو عن الفائدة المعتد بها أو عما يقاوم الفعل كما ذكره الأصوليون. واستظهر الخفاجي إرادة المعنى الأول هنا واختار بعض المحققين الثاني وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ عطف على أَنَّما خَلَقْناكُمْ أي أفحسبتم ذلك وحسبتم أنكم لا تبعثون. وجوز أن يكون عطفا على عَبَثاً والمعنى أفحسبتم أنما خلقناكم للعبث ولترككم غير مرجوعين أو عابثين ومقدرين أنكم إلينا لا ترجعون، وفي الآية توبيخ لهم على تغافلهم وإشارة إلى أن الحكمة تقتضي تكليفهم وبعثهم للجزاء، وقرأ الأخوان «ترجعون» بفتح التاء من الرجوع فَتَعالَى اللَّهُ استعظام له تعالى ولشؤونه سبحانه التي يصرف عليها عباده جل وعلا من البدء والإعادة والإثابة والعقاب بموجب الحكمة البالغة أي ارتفع سبحانه بذاته وتنزه عن مماثلة المخلوقين في ذاته وصفاته وأفعاله وعن خلو أفعاله عن الحكم والمصالح الحميدة. الْمَلِكُ الْحَقُّ أي الحقيق بالمالكية على الإطلاق إيجادا وإعداما بدءا وإعادة إحياء وإماتة عقابا وإثابة وكل ما سواه مملوك له مقهور تحت ملكوتيته، وقيل: الحق أي الثابت الذي لا يزول ولا يزول ملكه، وهذا وإن كان أشهر إلا أن الأول أوفق بالمقام لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فإن كل ما عداه عبيده تعالى: رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ وهو جرم عظيم وراء عالم الأجسام والأجرام وهو أعظمها وقد جاء في وصف عظمة ما يبهر العقول فيلزم من كونه تعالى ربه كونه سبحانه رب كل الأجسام والأجرام، ووصف بالكريم لشرفه وكل ما شرف في بابه وصف بالكرم كما في قوله تعالى: وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ [الدخان: 26] وقوله سبحانه: وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً [الإسراء: 23] إلى غير ذلك. وقد شرف بما أودع الله تعالى فيه من الأسرار، وأعظم شرف له تخصيصه باستوائه سبحانه عليه، وقيل إسناد الكرم إليه مجازي والمراد الكريم ربه أو المراد ذلك على سبيل الكناية، وقيل: هو على تشبيه العرش لنزول الرحمة والبركة منه بشخص كريم ولعل ما ذكرناه هو الأظهر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 269 وقرأ أبان بن تغلب وابن محيصن وأبو جعفر وإسماعيل عن ابن كثير «الكريم» بالرفع على أنه صفة الرب، وجوز أن يكون صفة للعرش على القطع وقد يرجح بأنه أوفق بقراءة الجمهور وَمَنْ يَدْعُ أي يعبد مَعَ اللَّهِ أي مع وجوده تعالى وتحققه سبحانه إِلهاً آخَرَ إفرادا أو إشراكا أو من يعبد مع عبادة الله تعالى إلها آخر كذلك، ويتحقق هذا في الكافر إذا أفرد معبوده الباطل بالعبادة تارة وأشركه مع الله تعالى أخرى، وقد يقتصر على إرادة الإشراك في الوجهين ويعلم حال من عبد غير الله سبحانه افرادا بالأولى. وذكر آخَرَ قيل إنه للتصريح بألوهيته تعالى وللدلالة على الشريك فيها وهو المقصود فليس ذكره تأكيدا لما تدل عليه المعية وإن جوز ذلك فتأمل. نعم قوله تعالى: لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ صفة لازمة لإلها لا مقيدة جيء بها للتأكيد، وبناء الحكم المستفاد من جزاء الشرط من الوعيد بالجزاء على قدر ما يستحق تنبيها على أن التدين بما لا دليل عليه ممنوع فضلا عما دل الدليل على خلافه، ويجوز أن يكون اعتراضا بين الشرط والجزاء جيء به للتأكيد كما في قولك: من أحسن إلى زيد لا أحق منه بالإحسان فالله تعالى مثيبه. ومن الناس من زعم أنه جواب الشرط دون قوله تعالى: فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وجعله تفريعا على الجملة وليس بصحيح لأنه يلزم عليه حذف الفاء في جواب الشرط ولا يجوز ذلك كما قال أبو حيان إلا في الشعر. والحساب كناية عن المجازاة كأنه قيل: من يعبد إلها مع الله تعالى فالله سبحانه مجاز له على قدر ما يستحقه إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ أي إن الشأن لا يفلح إلخ. وقرأ الحسن وقتادة «أنه» بالفتح على التعليل أو جعل الحاصل من السبك خبر حِسابُهُ أي حسابه عدم الفلاح، وهذا على ما قال الخفاجي من باب. تحية بينهم ضرب وجيع. وبهذا مع عدم الاحتياج إلى التقدير رجح هذا الوجه على سابقه وتوافق القراءتين عليه في حاصل المعنى، ورجح الأول بأن التوافق عليه أتم، وأصل الكلام على الأخبار فإنما حسابه عند ربه أنه لا يفلح هو فوضع الْكافِرُونَ موضع الضمير لأن مَنْ يَدْعُ في معنى الجمع وكذلك حسابه أنه لا يفلح في معنى حسابهم أنهم لا يفلحون. وقرأ الحسن «يفلح» بفتح الياء واللام، وما ألطف افتتاح هذه السورة بتقدير فلاح المؤمنين وإيراد عدم فلاح الكافرين في اختتامها، ولا يخفى ما في هذه الجمل من تسلية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكأنه سبحانه بعد ما سلاه بذكر مآل من لا ينجع دعاؤه فيه أمره بما يرمز إلى متاركة مخالفيه فقال جل وعلا: وَقُلْ رَبِّ وقرأ ابن محيصن «ربّ» بالضم اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ والظاهر أن طلب كل من المغفرة والرحمة على وجه العموم له عليه الصلاة والسلام ولمتبعيه وهو أيضا أعم من طلب أصل الفعل والمداومة عليه فلا إشكال، وقد يقال في دفعه غير ذلك، وفي تخصيص هذا الدعاء بالذكر ما يدل على أهمية ما فيه، وقد علم صلّى الله عليه وسلّم أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أن يقول نحوه في صلاته. فقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة وابن حبان وجماعة عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه قال: يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي قال: قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا وأنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 270 ولقراءة هذه الآيات أعني قوله تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ إلى آخر السورة على المصاب نفع عظيم وكذا المداومة على قراءة بعضها في السفر. أخرج الحكيم الترمذي وابن المنذر وأبو نعيم في الحلية وآخرون عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قرأ في أذن مصاب أَفَحَسِبْتُمْ حتى ختم السورة فبرأ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «والذي نفسي بيده لو أن رجلا موقنا قرأ بها على جبل لزال» . وأخرج ابن السني وابن منده وأبو نعيم في المعرفة بسند حسن من طريق محمد بن إبراهيم بن الحارث التميمي عن أبيه قال: «بعثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سرية وأمرنا أن نقول إذا أمسينا وأصبحنا أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ فقرأناها فغنمنا وسلمنا» هذا والله تعالى المسئول لكل خير. ومن باب الإشارة في الآيات قيل: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ أي وصلوا إلى المحل الأعلى والقربة والسعادة الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ظاهرا وباطنا، والخشوع في الظاهر انتكاس الرأس والنظر إلى موضع السجود وإلى ما بين يديه وترك الالتفات والطمأنينة في الأركان ونحو ذلك، والخشوع في الباطن سكون النفس عن الخواطر والهواجس الدنيوية بالكلية أو ترك الاسترسال معها وحضور القلب لمعاني القراءة والأذكار ومراقبة السر بترك الالتفات إلى المكونات واستغراق الروح في بحر المحبة، والخشوع شرط لصحة الصلاة عند بعض الخواص نقل الغزالي عن أبي طالب المكي عن بشر الحافي من لم يخشع فسدت صلاته وهو قول لبعض الفقهاء وتفصيله في كتبهم، ولا خلاف في أنه لا ثواب في قول أو فعل من أقوال أو أفعال الصلاة أدى مع الغفلة وما أقبح مصل يقول الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة: 2] وهو غافل عن الرب جل شأنه متوجه بشراشره إلى الدرهم والدينار ثم يقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5] وليس في قلبه وفكره غيرهما ونحو هذا كثير، ومن هنا قال الحسن: كل صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع. وقد ذكروا أن الصلاة معراج المؤمن افترى مثل صلاة هذا تصلح لذلك حاش لله تعالى من زعم ذلك فقد افترى وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ قال بعضهم: اللغو كل ما يشغل عن الحق عز وجل. وقال أبو عثمان: كل شيء فيه للنفس حظ فهو لغو، وقال أبو بكر بن طاهر: كل ما سوى الله تعالى فهو لغو وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ هي تزكية النفس عن الأخلاق الذميمة وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ إشارة إلى استيلائهم على القوة الشهوية فلا يتجاوزون فيها ما حد لهم، وقيل: الإشارة فيه إلى حفظ الأسرار أي والذين هم ساترون لما يقبح كشفه من الأسرار عن الأغيار إلا على أقرانهم ومن ازدوج معهم أو على مريديهم الذين هم كالعبيد لهم وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ. قال محمد بن الفضل: سائر جوارحهم وَعَهْدِهِمْ الميثاق الأزلي راعُونَ فهم حسنو الأفعال والأقوال والاعتقادات وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ فيؤدونها بشرائطها ولا يفعلون فيها وبعدها ما يضيعها كالرياء والعجب وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ قيل المخلوق من ذلك هو الهيكل المحسوس وأما الروح فهي مخلوقة من نور إلهي يعز على العقول إدراك حقيقته، وفي قوله سبحانه: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ إشارة إلى نفخ تلك الروح المخلوقة من ذلك النور وهي الحقيقة الآدمية المرادة في قوله صلّى الله عليه وسلّم «خلق الله تعالى آدم على صورته» أي على صفته سبحانه من كونه حيا عالما مريدا قادرا إلى غير ذلك من الصفات وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ إشارة إلى مراتب النفس التي بعضها فوق بعض وكل مرتبة سفلى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 271 منها تحجب العليا أو إشارة إلى حجب الحواس الخمس الظاهرة وحاستي الوهم والخيال، وقيل غير ذلك وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ قيل أي سماء العناية ماءً أي ماء الرحمة بِقَدَرٍ أي بمقدار استعداد السالك فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ أي أرض وجوده فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ أي نخيل المعارف وَأَعْنابٍ أي أعناب الكشوف، وقيل النخيل إشارة إلى علوم الشريعة والأعناب إشارة إلى علوم الطريقة لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ هي ما كان منها زائدا على الواجب وَمِنْها تَأْكُلُونَ إشارة إلى ما كان واجبا لا يتم قوام الشريعة والطريقة بدونه وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ إشارة إلى النور الذي يشرق من طور القلب بواسطة ما حصل له من التجلي الإلهي تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ أي تنبت بالجامع لهذين الوصفين وهو الاستعداد، والآكلين إشارة إلى المتغذين بأطعمة المعارف ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ فيه من الأمر بمكارم الأخلاق ما فيه. وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فيه إشارة إلى أنه لا ينبغي الاغترار بالأعمال وإرشاد إلى التشبث برحمة الملك المتعال، نسأل الله تعالى أن يوفقنا لطاعته ويغفر لنا ما ارتكبناه من مخالفته ويتفضل علينا بأعظم مما نؤمله من رحمته كرامة لنبيه الكريم وحبيبه الذي هو بالمؤمنين رؤوف رحيم صلى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه وسلم وشرف وعظم وكرم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 272 سورة النّور مدنية كما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم، وحكى أبو حيان الإجماع على مدنيتها ولم يستثن الكثير من آيها شيئا، وعن القرطبي أن آية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ [النور: 58] إلخ مكية، وهي اثنتان وستون آية، وقيل أربع وستون آية، ووجه اتصالها بسورة المؤمنين أنه سبحانه لما قال فيها وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ [المؤمنون: 5] ذكر في هذه أحكام من لم يحفظ فرجه من الزانية والزاني وما اتصل بذلك من شأن القذف وقصة الإفك والأمر بغض البصر الذي هو داعية الزنا والاستئذان الذي إنما جعل من أجل النظر وأمر فيها بالإنكاح حفظا للفرج وأمر من لم يقدر على النكاح بالاستعفاف ونهى عن إكراه الفتيات على الزنا. وقال الطبرسي في ذلك: إنه تعالى لما ذكر فيما تقدم أنه لم يخلق الخلق للعبث بل للأمر والنهي ذكر جل وعلا هاهنا جملة من الأوامر والنواهي ولعل الأول أولى، وجاء عن مجاهد قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: علموا رجالكم سورة المائدة وعلموا نساءكم سورة النور » وعن حارثة بن مضرب رضي الله تعالى عنه قال: كتب إلينا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن تعلموا سورة النساء والأحزاب والنور. سُورَةٌ خبر مبتدأ محذوف أي هذه سورة وأشير إليها بهذه تنزيلا لها منزلة الحاضر المشاهد، وقوله تعالى: أَنْزَلْناها مع ما عطف عليه صفات لها مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة من حيث الذات بالفخامة من حيث الصفات على ما ذكره شيخ الإسلام، والقول بجواز أن تكون للتخصيص احترازا عما هو قائم بذاته تعالى ليس بشيء أصلا كما لا يخفى. وجوز أن تكون سُورَةٌ مبتدأ محذوف الخبر أي ما يتلى عليكم أو فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها إلخ، وذكر بعضهم أنه قصد من هذه الجملة الامتنان والمدح والترغيب لا فائدة الخبر ولا لازمها وهو كون المخبر عالما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 273 بالحكم للعلم بكل ذلك، والكلام فيما إذا قصد به مثل هذا إنشاء على ما اختاره في الكشف وهو ظاهر قول الإمام المرزوقي في قوله قومي هم قتلوا أميم أخي هذا الكلام تحزن وتفجع وليس بإخبار، واختار آخرون أن الجملة خبرية مراد بها معناها إلا أنها إنما أوردت لغرض سوى إفادة الحكم أو لازمه وإليه ذهب السالكوتي، وأول كلام المروزي بأن المراد بالإخبار فيه الإعلام، وتحقيق ذلك في موضعه، واعترض شيخ الإسلام هذا الوجه بما بحث فيه. وجوز ابن عطية أن تكون سُورَةٌ مبتدأ والخبر قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي إلخ وفيه من البعد ما فيه والوجه الوجيه هو الأول، وعندي في أمثال هذه الجمل أن الإثبات فيها متوجه إلى القيد، وقد ذكر ذلك الشيخ عبد القاهر وهو هنا إنزالها وفرضها، وإنزال آيات بينات فيها لأجل أن يتذكر المخاطبون أو مرجوا تذكرهم فتأمل. وقرأ عمر بن عبد العزيز ومجاهد وعيسى بن عمر الثقفي البصري وعيسى بن عمر الهمداني الكوفي وابن أبي عبلة وأبو حيوة ومحبوب عن أبي عمرو وأم الدرداء «سورة» بالنصب على أنها مفعول فعل محذوف أي اتل، وقدر بعضهم اتلوا بضمير الجمع لأن الخطابات الآتية بعده كذلك وليس بلازم لأن الفعل متضمن معنى القول فيكون الكلام حينئذ نظير قوله تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ [آل عمران: 32] ولا شك في جوازه. وجوز الزمخشري أن تكون نصبا على الإغراء أي دونك سورة، ورده أبو حيان بأنه لا يجوز حذف أداة الإغراء لضعفها في العمل لما أن عملها بالحمل على الفعل، وكلام ابن مالك يقتضي جوازه وزعم أنه مذهب سيبويه وفيه بحث، وجوز غير واحد كون ذلك من باب الاشتغال وهو ظاهر على مذهب من لا يشترط في المنصوب على الاشتغال صحة الرفع على الابتداء وأما على مذهب من يشترط ذلك فغير ظاهر لأن «سورة» نكرة لا مسوغ لها فلا يجوز رفعها على الابتداء، ولعل من يشترط ذلك ويقول بالنصب على الاشتغال هنا يجعل النكرة موصوفة بما يدل عليه التنوين كأنه قيل: سورة عظيمة كما قيل:- شر أهر ذا ناب-. وقال الفراء: نصب «سورة» على أنها حال من ضمير النصب في أَنْزَلْناها والحال من الضمير يجوز أن يتقدم عليه انتهى، ولعل الضمير على هذا للأحكام المفهومة من الكلام فكأنه قيل: أنزلنا الأحكام سورة أي في حال كونها سورة من سور القرآن وإلى هذا ذهب في البحر، وربما يقال: يجوز أن يكون الضمير للسورة الموجودة في العلم من غير ملاحظة تقييدها بوصف، و «سورة» المذكورة موصوفة بما يدل عليه تنوينها فكأنه قيل: أنزلنا السورة حال كونها سورة عظيمة، ولا يخفى أن كل ذلك تكلف لا داعي إليه مع وجود الوجه الذي لا غبار عليه، وقوله تعالى: وَفَرَضْناها إما على تقدير مضاف أي فرضنا أحكامها وإما على اعتبار المجاز في الإسناد حيث أسند ما للمدلول للدال لملابسة بينهما، تشبه الظرفية، ويحتمل على بعد أن يكون في الكلام استخدام بأن يراد بسورة معناها الحقيقي وبضميرها معناها المجازي أعني الأحكام المدلول عليها بها، والفرض في الأصل قطع الشيء الصلب والتأثير فيه، والمراد به هنا الإيجاب على أتم وجه فكأنه قيل: أوجبنا ما فيها من الأحكام إيجابا قطعيا وفي ذكر ذلك براعة استهلال على ما قيل. وقرأ عبد الله وعمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة وأبو عمرو وابن كثير «وفرّضناها» بتشديد الراء لتأكيد الإيجاب، والإشارة إلى زيادة لزومه أو لتعدد الفرائض وكثرتها أو لكثرة المفروض عليهم من السلف والخلف، وفي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 274 الحواشي الشهابية قد فسر فَرَضْناها بفصلناها ويجري فيه ما ذكر أيضا وَأَنْزَلْنا فِيها أي في هذه السورة آياتٍ بَيِّناتٍ يحتمل أن يراد بها الآيات التي نيطت بها الأحكام المفروضة وأمر الظرفية عليه ظاهر، ومعنى كونها بينات وضوح دلالتها على أحكامها لا على معانيها مطلقا لأنها أسوة لأكثر الآيات في ذلك، وتكرير أَنْزَلْنا مع استلزام إنزال السورة إنزالها إبراز كمال العناية بشأنها، ويحتمل أن يراد بها جميع آيات السورة والظرفية حينئذ باعتبار اشتمال الكل على كل واحد من أجزائه، ومعنى كونه بينات أنها لا إشكال فيها يحوج إلى تأويل كبعض الآيات، وتكرير أَنْزَلْنا مع ظهور أن إنزال جميع الآيات عين إنزال السورة لاستقلالها بعنوان رائق داع إلى تخصيص إنزالها بالذكر إبانة لخطرها ورفعا لمحلها كقوله تعالى: وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ [هود: 58] بعد قوله سبحانه: نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا [هود: 58] والاحتمال الأول أظهر، وقال الإمام: إنه تعالى ذكر في أول السورة أنواعا من الأحكام والحدود وفي آخرها دلائل التوحيد فقوله تعالى: فَرَضْناها إشارة إلى الأحكام المبنية أولا، وقوله سبحانه: وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ إشارة إلى ما بين من دلائل التوحيد ويؤيده قوله عز وجل: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فإن الأحكام لم تكن معلومة حتى يتذكرونها انتهى، وهو عندي وجه حسن، نعم قيل فيما ذكره من التأييد نظر إذ لمن ذهب إلى الاحتمال أن يقول: المراد من التذكر غايته وهو اتقاء المحارم بالعمل بموجب تلك الآيات، ولقائل أن يقول: إن هذا محوج إلى ارتكاب المجاز في التذكر دون ما ذكره الإمام فإن التذكر عليه على معناه المتبادر ويكفي هذا القدر في كونه مؤيدا، وأصل تَذَكَّرُونَ تتذكرون حذف إحدى التاءين وقرىء بإدغام الثانية منهما في الذال الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي شروع في تفصيل الأحكام التي أشير إليها أولا، ورفع «الزانية» على أنها خبر مبتدأ محذوف والكلام على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه والأصل مما يتلى عليكم أو في الفرائض أي المشار إليها في قوله تعالى: وَفَرَضْناها حكم الزانية والزاني، والفاء في قوله تعالى: فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ سببية وقيل سيف خطيب، وذهب الفراء والمبرد والزجاج إلى أن الخبر جملة «فاجلدوا» إلخ، والفاء في المشهور لتضمن المبتدأ معنى الشرط إذ اللام فيه وفيما عطف عليه موصولة أي التي زنت والذي زنى فاجلدوا إلخ، وبعضهم يجوز دخول الفاء في الخبر إذا كان في المبتدأ معنى يستحق به أن يترتب عليه الخبر وإن لم يكن هناك موصول كما في قوله: «وقائلة خولان فانكح فتاتهم» فإن هذه القبيلة مشهورة بالشرف والحسن شهرة حاتم بالسخاء وعنترة بالشجاعة وذلك معنى يستحق به أن يترتب عليه الأمر بالنكاح وعلى هذا يقوى أمر دخول الفاء هنا كما لا يخفى، وقال العلامة القطب: جيء بالفاء لوقوع المبتدأ بعد أما تقديرا أي أما الزانية والزاني فاجلدوا إلخ، ونقل عن الأخفش أنها سيف خطيب، والداعي لسيبويه على ما ذهب إليه ما يفهم من الكتاب كما قيل من أن النهج المألوف في كلام العرب إذا أريد بيان معنى وتفصيله اعتناء بشأنه أن يذكر قبله ما هو عنوان وترجمة له وهذا لا يكون إلا بأن يبنى على جملتين فما ذهب إليه في الآية أولى لذلك مما ذهب إليه غيره، وأيضا هو سالم من وقوع الإنشاء خبرا والدغدغة التي فيه، وأمر الفاء عليه ظاهر لا يحتاج إلى تكلف، وقال أبو حيان: سبب الخلاف أن سيبويه والخليل يشترطان في دخول الفاء الخبر كون المبتدأ موصولا لا بما يقبل مباشرة أداة الشرط وغيرهما لا يشترط ذلك. وقرأ عبد الله «والزان» بلا ياء تخفيفا، وقرأ عيسى الثقفي ويحيى بن يعمر وعمرو بن قائد وأبو جعفر وشيبة وأبو السمال ورويس «الزانية والزاني» بنصبهما على إضمار فعل يفسره الظاهر، والفاء على ما قال ابن جني لأن مآل المعنى إلى الشرط والأمر في الجواب يقترن بها فيجوز زيدا فأضربه لذلك ولا يجوز زيدا فضربته بالفاء لأنها لا تدخل في جواب الشرط إذا كان ماضيا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 275 والمراد هنا على ما في بعض شروح الكشاف إن أردتم معرفة حكم الزانية والزاني فاجلدوا إلخ، وقيل: إن جلدتم الزانية والزاني فاجلدوا إلخ وهو لا يدل على الوجوب المراد وقيل دخلت الفاء لأن حق المفسر أن يذكر عقب المفسر كالتفصيل بعد الإجمال في قوله تعالى: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 54] ويجوز أن تكون عاطفة والمراد جلد بعد جلد وذلك لا ينافي كونه مفسرا للمعطوف عليه لأنه باعتبار الاتحاد النوعي انتهى. وأنت تعلم أنه لم يعهد العطف بالفاء فيما اتحد فيه لفظ المفسر والمفسر وقد نصوا على عدم جواز زيدا فضربته بالاتفاق فلو ساغ العطف فيما ذكر لجاز هذا على معنى ضرب بعد ضرب، على أن كون المراد فيما نحن فيه جلد بعد جلد مما لا يخفى ما فيه فالظاهر ما نقل عن ابن جني، والمشهور أن سيبويه والخليل يفضلان قراءة النصب لمكان الأمر، وغيرهما من البصريين والكوفيين يفضلون الرفع لأنه كالإجماع في القراءة وهو أقوى في العربية لأن المعنى عليه من زنى فاجلدوه كذا قال الزجاج، وقال الخفاجي بعد نقله كلام سيبويه في هذا المقام: ليس في كلام سيبويه شيء مما يدل على التفضيل كما سمعت بل يفهم منه أن الرفع في نحو ذلك أفصح وأبلغ من النصب من جهة المعنى وأفصح من الرفع على أن الكلام جملة واحدة من جهة المعنى واللفظ معا فليراجع وليتأمل والجلد ضرب الجلد وقد طرد صوغ فعل المفتوح العين الثلاثي من أسماء الأعيان فيقال رأسه وظهره وبطنه، وجوز الراغب أن يكون معنى جلده ضربه بالجلد نحو عصاه ضربه بالعصا، والمراد هنا المعنى الأول فإن الأخبار قد دلت على أن الزانية والزاني يضربان بسوط لا عقدة عليه ولا فرع له، وقيل: إن كون الجلد بسوط كذلك كان في زمن عمر رضي الله تعالى عنه بإجماع الصحابة وأما قبله فكان تارة باليد وتارة بالنعل وتارة بالجريدة الرطبة وتارة بالعصا، ثم الظاهر من ضرب الجلد أعم من أن يكون بلا واسطة أو بواسطة، وزعم بعضهم وليس بشيء أن الظاهر أن يكون بلا واسطة وأنه ربما يستأنس به لما ذهب إليه أصحابنا وبه قال مالك من أنه ينزع عن الزاني عند الجلد ثيابه إلا الإزار فإنه لا ينزع لستر عورته به، وعن الشافعي، وأحمد أنه يترك عليه قميص أو قميصان، وروى عبد الرزاق بسنده عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه أتي برجل في حد فضربه وعليه كساء قسطلاني، وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه لا يحل في هذه الأمة تجريد ولا مد، وأما الامرأة فلا ينزع عنها ثيابها عندنا إلا الفرو والمحشو ووجه ظاهر. وفي بعض الأخبار ما يدل على أن الرجل والمرأة في عدم نزع الثياب إلا الفرو والمحشو سواء، وكأن من لا يقول بنزع الثياب يقول: إن الجلد في العرف الضرب مطلقا وليس خاصا بضرب الجلد بلا واسطة، نعم ربما يقال: إن في اختياره على الضرب إشارة إلى أن المراد ضرب يؤلم الجلد وكأنه لهذا قيل ينزع الفرو والمحشو فإن الضرب في الأغلب لا يؤلم جلد من عليه واحد منهما، وينبغي أن لا يكون الضرب مبرحا لأن الإهلاك غير مطلوب، ومن هنا قالوا: إذا كان من وجب عليه الحد ضعيف الخلقة فخيف عليه الهلاك يجلد جلدا ضعيفا يحتمله، وكذا قالوا: يفرق الضرب على أعضاء المحدود لأن جمعه في عضو قد يفسده وربما يفضي إلى الهلاك، وينبغي أن يتقى الوجه والمذاكير لما روي موقوفا على عليّ كرّم الله تعالى وجهه أنه أتي برجل سكران أو في حد فقال: اضرب وأعط كل عضو حقه واتق الوجه والمذاكير ، وكذا الرأس لأنه مجمع الحواس الباطنة فربما يفسد وهو إهلاك معنى، وكان أبو يوسف يقول باتقائه ثم رجع وقال يضرب ضربة واحدة، وروي عنه أنه استثنى البطن والصدر وفيه نظر إلا أن يقال: كان الضرب في زمانه كالضرب الذي يفعله ظلمة زماننا وحينئذ ينبغي أن يقول باستثناء الرأس قطعا، وعن مالك أنه خص الظهر وما يليه بالجلد لما صح من قوله صلّى الله عليه وسلّم لهلال بن أمية: «البينة وإلا فحد في ظهرك» وأجيب بأن المراد بالظهر فيه نفسه أي فحد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 276 ثابت عليك بدليل ما ثبت عن كبار الصحابة من عمر وعلي وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه» فإنه في نحو الحد فما سواه داخل في الضرب، ثم خص منه الفرج بدليل الإجماع، وعن محمد في التعزيز ضرب الظهر وفي الحدود ضرب الأعضاء، ثم هذا الضرب يكون للرجل قائما غير ممدود وللمرأة قاعدة وجاء ذلك عن عليّ كرم الله تعالى وجهه، وكأن وجهه أن مبني الحد على التشهير زجرا للعامة عن مثله والقيام أبلغ فيه، والمرأة مبني أمرها على الستر فيكتفى بتشهير الحد فقط من غير زيادة، وإن امتنع الرجل ولم يقف أو لم يصبر فلا بأس بربطه على أسطوانة أو إمساك أحد له، والمراد من العدد المفروض في جلد كل واحد منهما أعني مائة جلدة ما يقال له مائة جلدة بوجه من الوجوه وإن لم تتعين الأولى والثانية والثالثة وهكذا إلى تمام المائة فلو ضربه مائة رجل بمائة سوط دفعة واحدة كفى في الحد بل قالوا: جاز أن تجمع الأسواط فيضرب مرة واحدة بحيث يصيبه كل واحد منها وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه ضرب في حد بسوط له طرفان أربعين ضربة فحسب كل ضربة بضربتين ، وقدمت الزانية على الزاني مع أن العادة تقديم الزاني عليها لأنها هي الأصل إذ الباعثة فيها أقوى ولولا تمكينها لم يزن، واشتقاقهما من الزنا وهو مقصور في اللغة الفصحى وهي لغة أهل الحجاز وقد يمد في لغة أهل نجد وعليها قال الفرزدق. أبا طاهر من يزن يعرف زناؤه ... ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكرا والزنا في عرف اللغة والشرع على ما قيل وطء الرجل المرأة في القبل في غير الملك وشبهة الملك، وفيه أنه يرد عليه زنى المرأة فإنه زنى ولا يصدق عليه التعريف، وما قيل في الجواب عنه: إنه فعل الوطء أمر مشترك بين الرجل والمرأة فإذا وجد بينهما يتصف كل منهما به وتسمى هي واطئة ولذا سماها سبحانه وتعالى زانية لا يخفى ما فيه مع أن في التعريف ما لا يصلحه هذا الجواب لو كان صحيحا، والحق أن زناها لغة تمكينها من زنى الرجل بها وأنه إذا أريد تعريف الزنا المراد في الآية بحيث يشمل زناها فلا بد من زيادة التمكين بالنسبة إليها بل زيادته بالنسبة إلى كل منهما وأن يقال: هو إدخال المكلف الطائع قدر حشفته قبل مشتهاة حالا أو ماضيا بلا ملك أو شبهة أو تمكينه من ذلك أو تمكينها في دار الإسلام ليصدق على ما لو كان مستلقيا فقعدت على ذكره فتركها حتى أدخلته فإنهما يحدان في هذه الصورة وليس الموجود منه سوى التمكين، ويعلم من هذا التعريف أنه لا حد على الصبي والمجنون ومن أكرهه السلطان، ولا على من أولج في دبر أو في فرج صغير غير مشتهاة أو ميتة أو بهيمة بخلاف من أولج في فرج عجوز، ولا على من زنى في دار الحرب، ولا على من زنى مع شبهة، وفي بعض ما ذكر كلام يطلب من كتب الفقه، والحكم عام فيمن زنى وهو محصن وفي غيره لكن نسخ في حق المحصن قطعا فإن الحكم في حقه الرجم، ويكفينا في تعيين الناسخ القطع بأمره صلّى الله عليه وسلّم بالرجم وفعله في زمانه عليه الصلاة والسلام مرات فيكون من نسخ الكتاب بالسنة القطعية. وقد أجمع الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومن تقدم من السلف وعلماء الأمة وأئمة المسلمين على أن المحصن يرجم بالحجارة حتى يموت، وإنكار الخوارج ذلك باطل لأنهم إن أنكروا حجية إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم فجهل مركب، وإن أنكروا وقوعه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لإنكارهم حجية خبر الواحد فهو بعد بطلانه بالدليل ليس ما نحن فيه لأن ثبوت الرجم منه عليه الصلاة والسلام متواتر المعنى كشجاعة عليّ كرم الله تعالى وجهه وجود حاتم، والآحاد في تفاصيل صوره وخصوصياته وهم كسائر المسلمين يوجبون العمل بالمتواتر معنى كالمتواتر لفظا إلا أن انحرافهم عن الصحابة والمسلمين وترك التردد إلى علماء المسلمين والرواة أوقعهم في جهالات كثيرة لخفاء السمع عنهم والشهرة، ولذا حين عابوا على عمر بن عبد العزيز في القول بالرجم من كونه ليس في كتاب الله تعالى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 277 ألزمهم بأعداد الركعات ومقادير الزكوات فقالوا: ذلك من فعله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين فقال لهم: وهذا أيضا كذلك، وقد كوشف بهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وكاشف بهم حيث قال كما روى البخاري: خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل: لا نجد الرجم في كتاب الله تعالى عز وجل فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله عز وجل ألا وإن الرجم حق على من زنى وقد أحصن إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف، وروى أبو داود أنه رضي الله تعالى عنه خطب وقال: «إن الله عز وجل بعث محمدا صلّى الله عليه وسلّم بالحق وأنزل عليه كتابا فكان فيما أنزل عليه آية الرجم يعني بها قوله تعالى: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم» فقرأناها وو عيناها إلى أن قال: وإني خشيت أن يطول بالناس زمان فيقول قائل: «لا نجد الرجم» الحديث بطرقه، وقال: لولا أن يقال: إن عمر زاد في الكتاب لكتبتها على حاشية المصحف الشريف ومن الناس من ذهب إلى أن الناسخ الآية المنسوخة التي ذكرها عمر رضي الله تعالى عنه. وقال العلامة ابن الهمام: إن كون الناسخ السنة القطعية أولى من كون الناسخ ما ذكر من الآية لعدم القطع بثبوتها قرآنا، ثم نسخ تلاوتها وإن ذكرها عمر رضي الله تعالى عنه وسكت الناس فإن كون الإجماع السكوتي حجة مختلف فيه وبتقدير حجيته لا نقطع بأن جميع المجتهدين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا إذ ذاك حضورا ثم لا شك في أن الطريق في ذلك إلى عمر رضي الله تعالى عنه ظني ولهذا والله تعالى أعلم قال علي كرّم الله تعالى وجهه حين جلد شراحة ثم رجمها: جلدتها بكتاب الله تعالى ورجمتها بسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يعلل الرجم بالقرآن المنسوخ التلاوة، ويعلم من قوله المذكور كرم الله تعالى وجهه أنه قائل بعدم نسخ عموم الآية فيكون رأيه أن الرجم حكم زائد في حق المحصن ثبت بالسنة وبذلك قال أهل الظاهر وهو رواية عن أحمد، واستدلوا على ذلك بما رواه أبو داود من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الثيب بالثيب جلد مائة ورمي الحجارة» وفي رواية غيره «ورجم بالحجارة» وعند الحنفية لا يجمع بين الرجم والجلد في المحصن وهو قول مالك والشافعي ورواية أخرى عن أحمد لأن الجلد يعري عن المقصود الذي شرع الحد له وهو الانزجار أو قصده إذا كان القتل لاحقا له، والعمدة في استدلالهم على ذلك أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يجمع بينهما قطعا، فقد تظافرت الطرق أنه صلّى الله عليه وسلّم بعد سؤاله ماعزا عن الإحصان وتلقينه الرجوع لم يزد على الأمر بالرجم فقال: اذهبوا به فارجموه ، وقال أيضا عليه الصلاة والسلام: «اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت بذلك فارجمها» ولم يقل فاجلدها ثم ارجمها، وجاء في باقي الحديث الشريف «فاعترفت فأمر بها صلّى الله عليه وسلّم فرجمت» وقد تكرر الرجم في زمانه صلّى الله عليه وسلّم ولم يرو أحد أنه جمع بينه وبين الجلد فقطعنا بأنه لم يكن إلا الرجم فوجب كون الخبر السابق منسوخا وإن لم يعلم خصوص الناسخ، وأجيب عما فعل عليّ كرم الله تعالى وجهه من الجمع بأنه رأي لا يقاوم ما ذكر من القطع عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكذا لا يقاوم إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ويحتمل أن يقال: إنه كرم الله تعالى وجهه لم يثبت عنده الإحصان إلا بعد الجلد وهو بعيد جدا كما يظهر من الرجوع إلى القصة والله تعالى أعلم، وإحصان الرجم يتحقق بأشياء نظمها بعضهم فقال: شروط (1) إحصان أتت ستة ... فخذها عن النص مستفهما بلوغ وعقل وحرية ... ورابعها كونه مسلما وعقد صحيح ووطء مباح ... متى اختل شرط فلن يرجما   (1) قوله: شروط إحصان كذا بالأصل وهو غير متزن ولعله هكذا- شروط حصان. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 278 وزاد غير واحد كون واحد من الزوجين مساويا الآخر في شرائط الإحصان وقت الإصابة بحكم النكاح فلو تزوج الحر المسلم البالغ العاقل أمة أو صبية أو مجنونة أو كتابية ودخل بها لا يصير محصنا بهذا الدخول حتى لو زنى من بعد لا يرجم، وكذا لو تزوجت الحرة البالغة العاقلة المسلمة من عبد أو مجنون أو صبي ودخل بها لا تصير محصنة فلا ترجم لو زنت بعد. وذكر ابن الكمال شرطا آخر وهو أن لا يبطل إحصانهما بالارتداد فلو ارتد والعياذ بالله تعالى ثم أسلما لم يعد إلا بالدخول بعده ولو بطل بجنون أو عته عاد بالإفاقة، وقيل بالوطء بعده. والشافعي لا يشترط المساواة في شرائط الإحصان وقت الإصابة فلا رجم عنده في المسألتين السابقتين، وكذا لا يشترط الإسلام فلو زنى الذمي الثيب الحر يجلد عندنا ويرجم عنده وهو رواية عن أبي يوسف وبه قال أحمد، وقول مالك كقولنا. واستدل المخالف بما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكروا له أن امرأة منهم ورجلا زنيا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون فقال عبد الله بن سلام: كذبتم فيما زعمتم أن فيها الرجم فأتوا بالتوراة فسردوها فوضع أحدهم يعني عبد الله بن صور يا يده على آية الرجم وقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك فرفع يده فإذا آية الرجم فقالوا: صدق يا محمد فأمر بهما النبي صلّى الله عليه وسلّم فرجما. ودليلنا ما رواه إسحاق بن رهوايه في مسنده قال: أخبرنا عبد العزيز بن محمد حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أشرك بالله فليس بمحصن» وقد رفع هذا الخبر كما قال إسحاق مرة ووقف أخرى، ورواه الدارقطني في سننه وقال: لم يرفعه غير راهويه بن راهويه، ويقال: إنه رجع عن ذلك والصواب أنه موقوف اهـ. وفي العناية أن لفظ إسحاق كما تراه ليس فيه رجوع وإنما ذكر عن الراوي أنه مرة رفعه ومرة أخرجه مخرج الفتوى ولم يرفعه ولا شك في أن مثله بعد صحة الطريق إليه محكوم برفعه على ما هو المختار في علم الحديث من أنه إذا تعارض الرفع والوقف حكم بالرفع وبعد ذلك إذا خرج من طرق فيها ضعف لا يضر. وأجاب بعض أجلة أصحابنا بأنه كان الرجم مشروعا بدون اشتراط الإسلام حين رجم صلّى الله عليه وسلّم الرجل والمرأة اليهوديين وذلك بما أنزله الله تعالى إليه عليه الصلاة والسلام، وسؤاله صلّى الله عليه وسلّم اليهود عما يجدونه في التوراة في شأنه ليس لأن يعلم حكمه من ذلك. والقول بأنه عليه الصلاة والسلام كان أول ما قدم المدينة مأمورا بالحكم بما في التوراة ممنوع بل ليس ذلك إلا ليبكتهم بترك الحكم بما أنزل الله تعالى عليهم فلما حصل الغرض حكم صلّى الله عليه وسلّم برجمهما بشرعه الموافق لشرعهم وإذا علم أن الرجم كان ثابتا في شرعنا حال رجمها بلا اشتراط الإسلام. وقد ثبت حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما المفيد لاشتراط الإسلام وليس تاريخ يعرف به تقدم اشتراط الإسلام على عدم اشتراطه أو تأخره عنه حصل التعارض بين فعله صلّى الله عليه وسلّم رجم اليهوديين وقوله المذكور فيطلب الترجيح، وقد قالوا: إذا تعارض القول والفعل ولم يعلم المتقدم من المتأخر يقدم القول على الفعل، وفيه وجه آخر وهو أن تقديم هذا القول موجب لدرء الحد وتقديم ذلك الفعل يوجب الاحتياط في إيجاب الحد والأولى في الحدود ترجيح الرافع عند التعارض. ولا يخفى أن كل مترجح فهو محكوم بتأخره اجتهادا فيكون المعول عليه في الحكم حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وقول المخالف: إن المراد بالمحصن فيه المحصن الذي يقتص له من المسلم خلاف الظاهر لأن أكثر استعمال الإحصان في إحصان الرجم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 279 ورد بعضهم بالآية على القائلين: إن حد زنا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب سنة وهم الإمام الشافعي والإمام أحمد والثوري والحسن بن صالح، ووجه الرد أن قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي إلخ شروع في بيان حكم الزنا ما هو فكان المذكور تمام حكمه وإلا كان تجهيلا لا بيانا وتفصيلا إذ يفهم منه أنه تمام وليس بتمام في الواقع فكان مع الشروع في البيان أبعد من البيان، لأنه أوقع في الجهل المركب وقبله كان الجهل بسيطا فيفهم بمقتضى ذلك أن حد الزانية والزاني ليس إلا الجلد، وأخصر من هذا أن المقام مقام البيان فالسكوت فيه يفيد الحصر، وقال المخالف: لو سلمنا الدلالة على الحصر وأن المذكور تمام الحكم ليكون المعنى أن حد كل ليس إلا الجلد فذلك منسوخ بما صح من رواية عبادة بن الصامت عنه صلّى الله عليه وسلّم «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» وأجيب بأنه بعد التسليم لا تصح دعوى النسخ بما ذكر لأنه خبر الواحد وعندنا لا يجوز نسخ الكتاب به والقول بأن الخبر المذكور قد تلقته الأمة بالقبول لا يجدي نفعا لأنه إن أريد بتلقيه بالقبول إجماعهم على العمل به فممنوع، فقد صح عن عليّ كرم الله تعالى وجهه أنه لا يقول بتغريبهما وقال: حسبهما من الفتنة أن ينفيا ، وفي رواية كفى بالنفي فتنة، وإن أريد إجماعهم على صحته بمعنى صحة سنده فكثير من أخبار الآحاد كذلك ولم تخرج بذلك عن كونها آحادا، على أنه ليس فيه أكثر من كون التغريب واجبا ولا يدل على أنه واجب بطريق الحد بل ما في صحيح البخاري من قول أبي هريرة: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قضى فيمن زنى ولم يحصن بنفي عام وإقامة الحد ظاهر في أن النفي ليس من الحد لعطفه عليه، وكونه استعمل الحد في جزء مسماه وعطف على الجزء الآخر بعيد فجاز كونه تعزيرا لمصلحة، وقد يغرب الإمام لمصلحة يراها في غير ما ذكر كما صح أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه غرب نصر بن حجاج إلى البصرة بسبب أنه لجماله افتتن بعض النساء به فسمع قائلة يقال: إنها أم الحجاج الثقفي ولذا قال له عبد الملك يوما يا ابن المتمنية تقول: هل من سبيل إلى خمر فأشربها ... أو هل سبيل إلى نصر بن حجاج إلى فتى ماجد الأعراق (1) مقتبل ... سهل المحيا كريم غير ملجاج والقول بأنه لا يجتمع التعزير مع الحد لا يخفى ما فيه، وادعى الفقيه المرغيناني أن الخبر المذكور منسوخ فإن شطره الثاني الدال على الجمع بين الجلد والرجم منسوخ كما علمت، وفيه أنه لا لزوم فيجوز أن تروى جمل نسخ بعضها وبعضها لم ينسخ، نعم ربما يكون نسخ أحد الشطرين مسهلا لتطرق احتمال نسخ الشطر الآخر فيكون هذا الاحتمال قائما فيما نحن فيه فيضعف عن درجة الآحاد التي لم يتطرق ذلك الاحتمال إليها فيكون أحرى أن لا ينسخ ما أفاده الكتاب من أن الحد هو الجلد لا غير على ما سمعت تقريره فتأمل. ثم إن التغريب ليس مخصوصا بالرجل عند أولئك الأئمة فقد قالوا: تغرب المرأة مع محرم وأجرته عليها في قول وفي بيت المال في آخر، ولو امتنع ففي قول يجبره الإمام وفي آخر لا، ولو كانت الطريق آمنة ففي تغريبها بلا محرم قولان، وعند مالك والأوزاعي إنما ينفى الرجل ولا تنفى المرأة لقوله عليه الصلاة والسلام: «البكر بالبكر» إلخ، وقال غيرهما ممن تقدم: إن الحديث يجب أن يشملها فإن أوله «خذوا عني قد جعل الله تعالى لهن سبيلا البكر بالبكر» إلخ وهو نص على أن النفي والجلد سبيل للنساء والبكر يقال: على الأنثى ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام: «البكر تستأذن» ومع قطع النظر عن كل ذلك قد يقال: إن هذا من المواضع التي تثبت الأحكام فيه في النساء بالنصوص المفيدة إياها للرجال بتنقيح المناط، هذا ثم لا يخفى أن الظاهر من الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي ما يشمل الرقيق وغيره فيكون   (1) هو الذي لم يظهر فيه أثر كبر انتهى منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 280 مقدار الحد في الجميع واحدا لكن قوله تعالى: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ [النساء: 25] الآية أخرجت الإماء فإن الآية نزلت فيهن، وكذا أخرجت العبيد إذ لا فرق بين الذكر والأنثى بتنقيح المناط فيرجع في ذلك إلى دلالة النص بناء على أنه لا يشترط في الدلالة أولوية المسكوت بالحكم من المذكور بل المساواة تكفي فيه وقيل تدخل العبيد بطريق التغليب عكس القاعدة وهي تغليب الذكور. ولا يشترط الإحصان في الرقيق لما روى مسلم وأبو داود والنسائي عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم من أحصن ومن لم يحصن» وفيه دليل على أن الشرط أعني الإحصان في الآية الدالة على تنصيف الحد لا مفهوم له، ونقل عن ابن عباس وطاوس أنه لا حد على الأمة حتى تحصن بزوج، وفيه اعتبار المفهوم، ثم هذا الإحصان شرط للجلد لأن الرجم لا يتنصف، وللشافعي في تغريب العبد أقوال: يغرب سنة يغرب نصف سنة لا يغرب أصلا والخطاب في قوله تعالى: فَاجْلِدُوا لأئمة المسلمين ونوابهم. واختلف في إقامة المولى الحد على عبده فعندنا لا يقيمه إلا بإذن الإمام والشافعي ومالك وأحمد يقيمه من غير إذن، وعن مالك إلا في الأمة المزوجة، واستثنى الشافعي من المولى الذمي والمكاتب والمرأة، وكذا اختلف في إقامة الخارجي المتغلب الحد فقيل يقيم وقيل لا، وأدلة الأقوال المذكورة وتحقيق ما هو الحق منها في محله، والظاهر أن إقامة الحد المذكور بعد تحقق الزنا بإحدى الطرق المعلومة، وقال إسحاق: إذا وجد رجل وامرأة في ثوب واحد يجلد كل واحد منهما مائة جلدة وروي ذلك عن عمر وعلي رضي الله تعالى عنهما ، وقال عطاء والثوري ومالك وأحمد: يؤديان على مذاهبهم في الأدب وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ تلطف ومعاملة برفق وشفقة فِي دِينِ اللَّهِ في طاعته وإقامة حده الذي شرعه عز وجل، والمراد النهي عن التخفيف في الجلد بأن يجلدوهما جلدا غير مؤلم أو بأن يكون أقل من مائة جلدة. وقال أبو مجلز ومجاهد وعكرمة وعطاء: المراد النهي عن إسقاط الحد بنحو شفاعة كأنه قيل: أقيموا عليهما الحد ولا بد، وروي معنى ذلك عن عمر وابن جبير، وفي هذا دليل على أنه لا يجوز الشفاعة في إسقاط الحد، والظاهر أن المراد عدم جواز ذلك بعد ثبوت الحد عند الحاكم، وأما قبل الوصول إليه والثبوت فإن الشفاعة عند الرافع لمن اتصف بسبب الحد إلى الحاكم ليطلقه قبل الوصول وقبل الثبوت تجوز، ولم يخصوا ذلك بالزنا لما صح أنه عليه الصلاة والسلام أنكر على حبه أسامة بن زيد حين شفع في فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد المخزومية السارقة قطيفة وقيل حليا فقال له: «أتشفع في حد من حدود الله تعالى؟ ثم قام فخطب فقال: أيها الناس إنما ضل من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد وايم الله تعالى لو أن فاطمة بنت محمد سرقت وحاشاها لقطعت يدها» وكما تحرم الشفاعة يحرم قبولها فعن الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه أنه قال: إذا بلغ الحد إلى الإمام فلا عفا الله تعالى عنه إن عفا، وبِهِما قيل متعلق بمحذوف على البيان أي أعني بهما، وقيل بترأفوا محذوفا أي ولا ترأفوا بهما، ويفهم صنيع أبي البقاء اختيار تعلقه بتأخذ والباء للسببية أي ولا تأخذكم بسببهما رأفة ولم يجوز تعلقه برأفة معللا بأن المصدر لا يتقدم معموله عليه، وعندي هو متعلق بالمصدر ويتوسع في الظرف ما لا يتوسع في غيره. وقد حقق ذلك العلامة سعد الملة والدين في أول شرح التلخيص بما لا مزيد عليه، وفِي دِينِ قيل متعلق بتأخذ وعليه أبو البقاء، وقيل متعلق بمحذوف وقع صفة لرأفة. وقرأ عليّ كرم الله تعالى وجهه والسلمي وابن مقسم وداود بن أبي هند عن مجاهد «ولا يأخذكم» بالياء التحتية لأن تأنيث رَأْفَةٌ مجازي وحسن ذلك الفصل وقرأ ابن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 281 كثير «رأفة» بفتح الهمزة، وابن جريج «رافة» بألف بعد الهمزة على وزن فعالة وروي ذلك عن عاصم وابن كثير، ونقل أبو البقاء أنه قرأ «رافة» بقلب الهمزة الفا وهي في كل ذلك مصدر مسموع إلا أن الأشهر في الاستعمال ما وافق قراءة الجمهور. إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ من باب التهييج والإلهاب كما يقال: إن كنت رجلا فافعل كذا ولا شك في رجوليته وكذا المخاطبون هنا مقطوع بإيمانهم لكن قصد تهييجهم وتحريك حميتهم ليجدوا في طاعة الله تعالى ويجتهدوا في إجراء أحكامه على وجهها، وذكر الْيَوْمِ الْآخِرِ لتذكير ما فيه من العقاب في مقابلة الرأفة بهما وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي ليحضره زيادة في التنكيل فإن التفضيح قد ينكل أكثر من التعذيب أو لذلك وللعبرة والموعظة، وعن نصر بن علقمة أن ذلك ليدعى لهما بالتوبة والرحمة لا للتفضيح وهو في غاية البعد من السياق، والأمر هنا على ما يدل عليه كلام الفقهاء للندب. واختلف في هذه الطائفة فأخرج عبد بن حميد وغيره عن ابن عباس أنه قال: الطائفة الرجل فما فوقه وبه قال أحمد وقال عطاء وعكرمة وإسحاق بن راهويه: اثنان فصاعدا وهو القول المشهور لمالك وقال قتادة والزهري: ثلاثة فصاعدا، وقال الحسن: عشرة، وعن الشافعي وزيد: أربعة وهو قول لمالك قال الخفاجي: وتحقيق المقام أن الطائفة في الأصل اسم فاعل مؤنث من الطواف الدوران أو الإحاطة فهي إما صفة نفس أي نفس طائفة فتطلق على الواحد أو صفة جماعة أي جماعة طائفة فتطلق على ما فوقه فهي كالمشترك بين تلك المعاني فتحمل في كل مقام على ما يناسبه. وذكر الراغب أنها إذا أريد بها الواحد يصح أن تكون جمعا كني به عن الواحد، ويصح أن تكون مفردا والتاء فيها كما في رواية، وفي حواشي العضد للهروي يصح أن يقال للواحد طائفة ويراد نفس طائفة فهي من الطواف بمعنى الدوران. وفي شرح البخاري حمل الشافعي الطائفة في مواضع من القرآن على أوجه مختلفة بحسب المواضع فهي في قوله تعالى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ [التوبة: 122] واحد فأكثر واحتج به على قبول خبر الواحد وفي قوله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ أربعة وفي قوله سبحانه: فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [النساء: 102] ثلاثة، وفرقوا في هذه المواضع بحسب القرائن، أما في الأولى فلأن الإنذار يحصل به، وأما في الثانية فلأن التشنيع فيه أشد، وأما في الثالثة فلضمير الجمع بعد في قوله تعالى: وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ [النساء: 102] وأقله ثلاثة، وكونها مشتقة من الطواف لا ينافيه لأنه يكون بمعنى الدوران أو هو الأصل وقد لا ينظر إليه بعد الغلبة فلذا قيل: إن تاءها للنقل انتهى ولا يخلو عن بحث. والحق أن المراد بالطائفة هنا جماعة يحصل بهم التشهير، والزجر وتختلف قلة وكثرة بحسب اختلاف الأماكن والأشخاص فرب شخص يحصل تشهيره وزجره بثلاثة وآخر لا يحصل تشهيره وزجره بعشرة، وللقائل بالأربعة هنا وجه وجيه كما لا يخفى. الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً تقبيح لأمر الزاني أشد تقبيح ببيان أنه بعد أن رضي بالزنا لا يليق به أن ينكح العفيفة المؤمنة فبينهما كما بين سهيل والثريا فترى هذه شامية إذا ما استقلت وترى ذاك إذا ما استقل يمانيا وإنما يليق به أن ينكح زانية هي في ذلك طبقه ليوافق- كما قيل- شن طبقه أو مشركة هي أسوأ منه حالا وأقبح أفعالا «فلا ينكح» خبر مراد منه لا يليق به أن ينكح كما تقول: السلطان لا يكذب أي لا يليق به أن يكذب نزل فيه عدم لياقة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 282 الفعل منزلة عدمه وهو كثير في الكلام، ثم المراد اللياقة وعدم اللياقة من حيث الزنا فيكون فيه من تقبيح الزنا ما فيه. ولا يشكل صحة نكاح الزاني المسلم الزانية المسلمة وكذا العفيفة المسلمة وعدم صحة نكاحه المشركة المذكورة في الآية إذا فسرت بالوثنية بالإجماع لأن ذلك ليس من اللياقة وعدم اللياقة من حيث الزنا بل من حيثية أخرى يعلمها الشارع كما لا يخفى، وعلى هذا الطرز قوله تعالى: وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ أي الزانية بعد أن رضيت بالزنا فولغ فيها كلب شهوة الزاني لا يليق أن ينكحها من حيث إنها كذلك إلا من هو مثلها وهو الزاني أو من هو أسوأ حالا منها وهو المشرك، وأما المسلم العفيف فإن غيرته تأبى ورود جفرتها. تجتنب الأسود ورود ماء ... إذا كان الكلاب يلغن فيه ولا يشكل على هذا صحة نكاحه إياها وعدم صحة نكاح المشرك سواء فسر بالوثني أو بالكتابي ليحتاج إلى الجواب وهو ظاهر والإشارة في قوله سبحانه: وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يحتمل أن تكون للزنا المفهوم مما تقدم والتحريم عليه على ظاهره وكذا المؤمنين، ولعل هذه الجملة وما قبلها متضمنة لتعليل ما تقدم من الأمر والنهي ولذا لم يعطف قوله سبحانه: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلخ عليه كما عطف قوله عز وجل الآتي: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ إلخ، وأمر إشعار ما تقدم بالتحريم سهل، وتخصيص المؤمنين بالتحريم عليهم على رأي من يقول: إن الكفار غير مكلفين بالفروع ظاهر، وأما على رأي من يقول بتكليفهم بها كالأصول وإن لم تصح منهم إلا بعد الإيمان فتخصيصهم بالذكر لشرفهم، ويحتمل أن تكون لنكاح الزانية وعليه فالمراد من التحريم المنع وبالمؤمنين المؤمنون الكاملون، ومعنى منعهم عن نكاح الزواني جعل نفوسهم أبية عن الميل إليه فلا يليق ذلك بهم، ولا يأبى حمل الآية على ما قرر فيها ما روي في سبب نزولها مما أخرج أبو داود والترمذي وحسنه والحاكم وصححه والبيهقي وابن المنذر وغيرهم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «كان رجل يقال له مرثد يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها عناق وكانت صديقة له وأنه وعد رجلا من أسارى مكة بحمله قال فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة فجاءت عناق فأبصرت سواد ظل تحت الحائط فلما انتهت إلى غرفتي فقالت: مرثد؟ فقلت: مرثد فقالت: مرحبا وأهلا هلم فبت عندنا الليلة قلت: يا عناق حرم الله تعالى الزنا قالت: يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم قال فتبعني ثمانية وسلكت الخندمة فانتهيت إلى غار أو كهف فدخلت فجاؤوا حتى قاموا على رأسي فطل بولهم على رأسي وعماهم الله تعالى عني ثم رجعوا ورجعت إلى صاحبي فحملته حتى قدمت المدينة فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله أنكح عناق؟ فأمسك فلم يرد عليّ شيئا حتى نزل الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً الآية فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: يا مرثد الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فلا تنكحها لأن تفريع النهي فيه عن نكاح تلك البغي مما لا شبهة في صحته على تقدير كون الآية المفرع عليها لتقبيح أمر الزاني والزانية فكأنه قيل: إذا علمت أمر الزانية وأنها بلغت في القبح إلى حيث لا يليق أن ينكحها إلا مثلها أو من هو أسوأ حالا فلا تنكحها. نعم في هذا الخبر ما هو أوفق بجعل الإشارة فيما مر إلى نكاح الزانية ويعلم منه وجه تقديم الزَّانِي والأخبار عن الزانية بأنه لا ينكحها إلا زان أو مشرك على خلاف ما تقتضيه المقابلة، هذا وللعلماء في هذه الآية الجليلة كلام كثير لا بأس بنقل ما تيسر منه وإبداء بعض ما قيل فيه ثم انظر فيه وفيما قدمناه واختر لنفسك ما يحلو فأقول: نقل عن الضحاك والقفال، وقال النيسابوري: إنه أحسن الوجوه في الآية أن قوله سبحانه: الزَّانِي لا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 283 يَنْكِحُ إلخ حكم مؤسس على الغالب المعتاد جيء به لزجر المؤمنين عن نكاح الزواني بعد زجرهم عن الزنا وذلك أن الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنا والتقحب لا يرغب غالبا في نكاح الصوالح من النساء اللاتي على خلاف صفته وإنما يرغب في فاسقة خبيثة من شكله أو في مشركة والفاسقة الخبيثة المسافحة كذلك لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال وينفرون عنها وإنما يرغب فيها من هو من شكلها من الفسقة والمشركين، ونظير هذا الكلام لا يفعل الخير إلا تقي فإنه جار مجرى الغالب، ومعنى التحريم على المؤمنين على هذا قيل التنزيه وعبر به عنه للتغليظ، ووجه ذلك أن نكاح الزواني متضمن التشبه بالفساق والتعرض للتهمة والتسبب لسوء القالة والطعن في النسب إلى كثير من المفاسد، وقيل: التحريم على ظاهره وذلك الفعل يتضمن محرمات والحرمة ليست راجعة إلى نفس العقد ليكون العقد باطلا وعلى القولين الآية محكمة، ولا يخفى أن حمل الزاني والزانية على من شأنهما الزنا والتقحب لا يخلو عن بعد لأنهما فيما تقدم لم يكونا بهذا المعنى والظاهر الموافقة، وأيضا لا يكاد يسلم أن الغالب عدم رغبة من شأنه الزنا في نكاح العفائف ورغبته في الزواني أو المشركات فكثيرا ما شاهدنا كثيرا من الزناة يتحرون في النكاح أكثر من تحري غيرهم فلا يكاد أحدهم ينكح من في أقاربها شبهة زنا فضلا عن أن تكون فيها وقليلا ما سمعنا برغبة الزاني في نكاح زانية أو مشركة، وأيضا في حمل التحريم على التنزيه نوع بعد وكذا حمله على ظاهره مع التزام أن الحرمة ليست راجعة إلى نفس العقد. وفي البحر روي عن ابن عمر وابن عباس وأصحابه أن الآية في قوم مخصوصين كانوا يزنون في جاهليتهم ببغايا مشهورات فلما جاء الإسلام وأسلموا لم يمكنهم الزنا فأرادوا لفقرهم زواج أولئك النسوة إذ كان من عادتهن الإنفاق على من تزوجهن فنزلت الآية لذلك، والإشارة بالزاني إلى أحد أولئك القوم أطلق عليه اسم الزنا الذي كان في الجاهلية للتوبيخ، ومعنى لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً لا يريد أن يتزوج إلا زانية أو مشركة أي لا تنزع نفسه إلا إلى هذه الخسائس لقلة انضباطها، والإشارة- بذلك- إلى نكاح أولئك البغايا والتحريم على ظاهره، ويرد على هذا التأويل أن الإجماع على أن الزانية لا يجوز أن يتزوجها مشرك انتهى. وأنت تعلم أن هذا لا يرد بعد حمل نفي النكاح على نفي إرادة التزوج إذ يكون المعنى حينئذ الزانية لا يريد أن يتزوجها إلا زان أو مشرك وليس في الإجماع ما يأباه، وفيه أيضا كلام ستعلمه قريبا إن شاء الله تعالى، نعم كون الزَّانِي إشارة إلى أحد أولئك القوم وهم من المهاجرين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين كما جاء في آثار كثيرة وقد أسلموا وتابوا من الزنا محل تردد إذ يبعد كل البعد أن يسم الله عز وجل بالزنا صحابيا كان قد زنى قبل إسلامه ثم أسلم وتاب فخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ويطلق سبحانه عليه هذا الوصف الشنيع الذي غفره تبارك وتعالى له بمجرد أنه مال إلى نكاح زانية بسبب ما به من الفقر قبل العلم بحظر ذلك مع أنهم كانوا نادين على فراق من ينكحونهن إذا وجدوا عنهن غنى. فقد أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل أنه قال: لما قدم المهاجرون المدينة قدموها وهم بجهد إلا قليل منهم والمدينة غالية السعر شديدة الجهد وفي السوق زوان متعالنات من أهل الكتاب وإماء لبعض الأنصار قد رفعت كل امرأة منهن على بابها علامة لتعرف أنها زانية وكن من أخصب أهل المدينة وأكثرهم خيرا فرغب أناس من مهاجري المسلمين فيما يكتسبن للذي فيهم من الجهد فأشار بعضهم على بعض لو تزوجنا بعض هؤلاء الزواني فنصيب من فضول ما يكتسبن فقال بعضهم: نستأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأتوه فقالوا: يا رسول الله قد شق علينا الجهد ولا نجد ما نأكل وفي السوق بغايا نساء أهل الكتاب وولائدهن وولائد الأنصار يكتسبن لأنفسهن فيصلح لنا أن نتزوج منهن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 284 فنصيب من فضول ما يكتسبن فإذا وجدنا عنهن غنى تركناهن فأنزل الله تعالى الآية ، وأيضا إطلاق الزاني عليه بهذا المعنى لا يوافق إطلاق الزانية على إحدى صاحبات الرايات، وكذا لا يوافق إطلاق الزاني على من أطلق عليه في قوله سبحانه: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا إلخ. وقال أبو مسلم وأبو حيان وأخرجه أبو داود في ناسخه والبيهقي في سننه، والضياء في المختارة وجماعة من طريق ابن جبير عن ابن عباس أن النكاح بمعنى الوطء أي الزنا وذلِكَ إشارة إليه، والمعنى الزاني لا يطأ في وقت زناه إلا زانية من المسلمين أو أخس منها وهي المشركة والزانية لا يطؤها حين زناها إلا زان من المسلمين أو أخس منه وهو المشرك وحرم الله تعالى الزنا على المؤمنين. وتعقب بأنه لا يعرف النكاح في كتاب الله تعالى إلا بمعنى التزويج وبأنه يؤدي إلى قولك الزاني لا يزني إلا بزانية والزانية لا تزني إلا بزان وهو غير مسلم إذ قد يزني الزاني بغير زانية يعلم أحدهما بالزنا والآخر جاهل به يظن الحل، وإذا ادعى أن ذلك خارج مخرج الغالب كان من الأخبار بالواضحات، وإن حمل النفي على النهي كان المعنى نهي الزاني عن الزنا إلا بزانية وبالعكس وهو ظاهر الفساد. وأجيب عن الأول بأن جل العلماء على أن النكاح في قوله تعالى: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة: 230] بمعنى الوطء دون العقد وردوا على من فسره بالعقد وزعم أن المطلقة ثلاثا تحل لزوجها الأول بعقد الثاني عليها دون وطء، وعن الثاني بأنه إخبار خارج مخرج الغالب أريد به تشنيع أمر الزنا ولذلك زيدت المشركة، والاعتراض بالوضوح ليس بشيء. وللفاضل سري الدين المصري كلام طويل في ذلك، وما قيل: إنه حينئذ يكون كقوله تعالى: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ [النور: 26] إلخ فيحصل التكرار ستعلم إن شاء الله تعالى أنه لا يتم إلا في قول، وقيل: النكاح بمعنى التزوج والنفي بمعنى النهي وعبر به عنه للمبالغة، وأيد بقراءة عمرو بن عبيد «لا ينكح» بالجزم والتحريم على ظاهره. قال ابن المسيب: وكان الحكم عاما في الزناة أن لا يتزوج أحدهم إلا زانية ثم جاءت الرخصة ونسخ ذلك بقوله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ [النور: 32] وقوله سبحانه: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء: 3] وروي القول بالنسخ عن مجاهد، وإلى ذلك ذهب الإمام الشافعي قال في الأم: اختلف أهل التفسير في قوله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً إلخ اختلافا متباينا، قيل: هي عامة ولكنها نسخت أخبرنا سفيان عن يحيى عن سعيد بن المسيب أنه قال: هي منسوخة نسختها وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ فهي أي الزانية من أيامي المسلمين كما قال ابن المسيب إن شاء الله تعالى، ولنا دلائل من الكتاب والسنة على فساد غير هذا القول وبسط الكلام، وقد نقل هذا عن الإمام الشافعي البقاعي ثم قال: إن الشافعي لم يرد أن هذا الحكم نسخ بآية الأيامى فقط بل مع ما انضم إليها من الإجماع وغيره من الآيات والأحاديث بحيث صير ذلك دلالتها على ما تناولته متيقنا كدلالة الخاص على ما تناوله فلا يقال: إنه خالف أصله في أن الخاص لا ينسخ بالعام بل العام المتأخر محمول على الخاص لأن ما تناوله الخاص متيقن وما تناوله العام مظنون اهـ. والجبائي يزعم أن النسخ بالإجماع ولعله أراد أنه كاشف عن ناسخ وإلا فالإجماع لا يكون ناسخا كما بين في علم الأصول، نعم في تحقق الإجماع هنا كلام، واعترض هذا الوجه بأنه يلزم عليه حل نكاح المشرك للمسلمة، وأقول: إن نكاح الكافر للمسلمة كان حلالا قبل الهجرة وبعدها إلى سنة الست وفيها بعد الحديبية نزلت آية التحريم كما صرح بذلك العلامة ابن حجر الهيتمي وغيره، وقد صح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم زوج بنته زينب رضي الله تعالى عنها لأبي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 285 العاص بن الربيع قبل البعثة وبعث عليه الصلاة والسلام ثم هاجر وهاجرت معه وهي في نكاح أبي العاص ولم يكن مؤمنا إذ ذاك واستمر الأمر على ذلك إلى سنة الست فلما نزلت آية التحريم لم يلبث إلا يسيرا حتى جاء وأظهر إسلامه رضي الله تعالى عنه فردها صلّى الله عليه وسلّم له بنكاحه الأول. فيحتمل أن يكون النكاح المذكور حلالا عند نزول الآية التي من فيها بأن يكون نزولها قبل سنة الست ثم نسخ، وفي هذه السورة آيات نصوا على أن نزولها كان قبل ذلك وهي قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ [النور: 11] إلخ قال: إنها نزلت عام غزوة بني المصطلق وكانت سنة خمس لليلتين خلتا من شعبان فلعل هذه الآية من هذا القبيل بل في أثر رواه ابن أبي شيبة عن ابن جبير وذكره العراقي وابن حجر ما ظاهره أن هذه الآية مكية فإذا انضم هذا إلى ما روي عن ابن المسيب وقال به الشافعي يكون فيها نسخان لكن لم أر من نبه على ذلك، وإذا صح كان هذا الوجه أقل من الأوجه السابقة مؤنة وكأني بك لا تفضل عليه غيره. وذهب قوم إلى أن حرمة التزوج بالزانية أو من الزاني إن لم تظهر التوبة من الزنا باقية إلى الآن، وعندهم أنه إن زنى أحد الزوجين يفسد النكاح بينهما، وقال بعضهم: لا ينفسخ إلا أن الرجل يؤمر بطلاق زوجته إذا زنت فإن أمسكها أثم، وعند بعض من العلماء أن الزنا عيب من العيوب التي يثبت بها الخبار فلو تزوجت برجل فبان لها أنه ممن يعرف بالزنا ثبت لها الخيار في البقاء معه أو فراقه، وعن الحسن أن حرمة نكاح الزاني للعفيفة إنما هي فيما إذا كان مجلودا وكذا حرمة نكاح العفيف للزانية إنما هي إذا كانت مجلودة فالمجلود عنده لا يتزوج إلا مجلودة والمجلودة لا يتزوجها إلا مجلود وهو موافق لما في بعض الأخبار. فقد أخرج أبو داود وابن المنذر وجماعة عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله» وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر «أن رجلا تزوج امرأة ثم إنه زنى فأقيم عليه الحد فجاؤوا به إلى عليّ كرم الله تعالى وجهه ففرق بينه وبين امرأته وقال له: لا تتزوج إلا مجلودة مثلك ، وعن ابن مسعود والبراء بن عازب أن من زنى بامرأة لا يجوز له أن يتزوجها أصلا، وأبو بكر الصديق وابن عمر وابن عباس وجابر وجماعة من التابعين والأئمة على خلافه. واستدل على ذلك بما أخرجه الطبراني والدارقطني من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن رجل زنى بامرأة وأراد أن يتزوجها فقال: الحرام لا يحرم الحلال» هذا ومن أضعف ما قيل في الآية: إنه يجوز أن يكون معناها ما في الحديث من أن من زنى تزني امرأته ومن زنت يزني زوجها فتأمل جميع ذاك والله عز وجل يتولى سداك. وقرأ أبو البرهسم «وحرّم» بالبناء للفاعل وهو الله تعالى، وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «وحرم» بفتح الحرم وضم الراء وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ شروع في بيان حكم من نسب الزنا إلى غيره بعد بيان حكم من فعله، والموصول على ما اختاره العلامة الثاني في التلويح منصوب بفعل محذوف يدل فعل الأمر بعد عليه أي اجلدوا الذين، ويجوز أن يكون في محل رفع على الابتداء ولا يخفى عليك خبره والآية نزلت في امرأة عويمر كما في صحيح البخاري، وعن سعيد بن جبير أنها نزلت بسبب قصة الإفك والرمي مجاز عن الشتم. وجرح اللسان كجرح اليد والمراد الرمي بالزنا كما يدل عليه إيراد ذلك عقيب الزواني مع جعل المفعول الْمُحْصَناتِ الدال على النزاهة عن الزنا وهذا كالصريح في ذلك، وربما يدعى أن اشتراط أربعة من الشهود يشهدون بتحقق ما رمي به كما يدل عليه قوله تعالى: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً قرينة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 286 على المراد بناء على العلم بأنه لا شيء يتوقف ثبوته بالشهادة على شهادة أربعة إلا الزنا، والظاهر أن المراد النساء المحصنات وعليه يكون ثبوت وجوب جلد رامي المحصن بدلالة النص للقطع بإلغاء الفارق وهو صفة الأنوثة واستقلال دفع عار ما نسب إليه بالتأثير بحيث لا يتوقف فهمه على ثبوت أهلية الاجتهاد، وكذا ثبوت وجوب جلد رامية المحصن أو المحصنة بتلك الدلالة وإلا فالذين يرمون للجمع المذكر، وتخصيص الذكور في جانب الرامي والإناث في جانب المرمي لخصوص الواقعة، وقيل المراد الفروج المحصنات وفيه أن إسناد الرمي يأباه مع ما فيه من التوصيف بالمحصنات من مخالفة الظاهر. وقال ابن حزم وحكاه الزهراوي: المراد الأنفس المحصنات واستدل له أبو حيان بقوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ [النساء: 24] فإنه لولا أن المحصنات صالح للعموم لم يقيد وتعقب بأن من النساء هناك قرينة على العموم ولا قرينة هنا، وجعل كون حكم الرجال كذلك قرينة لا يخلو عن شيء فالأولى الاعتماد على ما تقدم والإحصان هنا، وجعل كون حكم الرجال كذلك قرينة لا يخلو عن شيء فالأولى الاعتماد على ما تقدم والإحصان هنا لا يتحقق إلا بتحقق العفة عن الزنا وهو معناه المشهور وبالحرية والبلوغ والعقل والإسلام. قال أبو بكر الرازي: ولا نعلم خلافا بين الفقهاء في ذلك، ولعل غيره علم كما ستعلم إن شاء الله تعالى، وثبوته بإقرار القاذف أو شهادة رجلين أو رجل وامرأتين خلافا لزفر، ووجه اعتبار العفة عن الزنا ظاهر لكن في شرح الطحاوي في الكلام على العفة عدم الاقتصار على كونها عن الزنا حيث قال فيها: بأن لم يكن وطئ امرأة بالزنا ولا بشبهة ولا بنكاح فاسد في عمره فإن كان فعل ذلك مرة يريد النكاح الفاسد تسقط عدالته ولا حد على قاذفه، وكذا لو وطئ في غير الملك كما إذا وطئ جارية مشتركة بينه وبين غيره سقطت عدالته، ولو وطئ في الملك إلا أنه محرم فإنه ينظر إن كانت الحرمة مؤقتة لا تسقط عدالته كما إذا وطئ امرأته في الحيض أو أمته المجوسية، وإن كانت مؤبدة سقطت عدالته كما إذا وطئ أمته وهي أخته من الرضاعة. ولو مس امرأة أو نظر إلى فرجها بشهوة ثم تزوج بنتها فدخل بها أو أمها لا يسقط إحصانه عند أبي حنيفة عليه الرحمة (1) وعندهما يسقط، ولو وطئ امرأة بالنكاح ثم تزوج بها سقط إحصانه انتهى. والمذكور في غير كتاب أن أبا حنيفة يشترط في سقوط الحد عن قاذف الواطئ في الحرمة المؤبدة كون تلك الحرمة ثابتة بحديث مشهور كحرمة وطء المنكوحة بلا شهود الثابتة بقوله عليه الصلاة والسلام: «لا نكاح إلا بشهود» وهو حديث مشهور أو ثابتة بالإجماع كموطوءة أبيه بالنكاح أو بملك اليمين لو تزوجها الابن أو اشتراها فوطئها، ومثل ذلك عنده وطء مزنيته فإنه لا يعتبر الخلاف عند ثبوت الحرمة بالنص وهنا قد ثبتت به لقوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء: 22] وإنما يعتبره إذا ثبتت بقياس أو احتياط كثبوتها بالنظر إلى الفرج والمس بشهوة فإن ثبوتها فيما ذكر لإقامة السبب مقام المسبب احتياطا، ومن هذا يعلم حال فروع كثيرة فليحفظ، وما ذكر من سقوط إحصان من وطئ أمته وهي أخته من الرضاع فيه خلاف الكرخي فإنه قال: لا يسقط الإحصان بوطئها وهو قول الشافعي ومالك وأحمد لقيام الملك فكان كوطء أمته المجوسية، وفيه أن الحرمة في وطء المجوسية يمكن ارتفاعها فتكون مؤقتة وحرمة الرضاع لا يمكن ارتفاعها فلم يكن المحل قابلا للحل أصلا، واشترط في الملك أن لا يظهر فساده بالاستحقاق فلو اشترى جارية فوطئها ثم استحقت فقذفه إنسان لا يحد. وفي كافي   (1) وكذا عند الأئمة الثلاثة اهـ منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 287 الحاكم والقهستاني والفتح أن الوطء في الشراء الفاسد يسقط الحد عن القاذف وحمله بعضهم على ما ذكرنا، وقال بعض الأجلة: كما يشترط العفة عن الزنا يشترط السلامة عن تهمته ويحترز به عن قذف ذات ولد ليس له أب معروف فإنهم ذكروا أنه لا يحد قاذفها لمكان التهمة، وقد ذكر ذلك الحصكفي في باب اللعان من شرح تنوير الأبصار، ولا تقاس اللواطة على الزنا فلو قذف بها لا يحد القاذف خلافا لأبي يوسف ومحمد وقد اختلفا في أحكام كثيرة ذكرها زين الدين في بحره، وأما اعتبار الحرية فلأنها يطلق عليها اسم الإحصان قال الله تعالى: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ فإن المراد بالمحصنات فيه الحرائر فالرقيق ليس محصنا بهذا المعنى وكونه محصنا بمعنى آخر كالإسلام وغيره فيكون محصنا من وجه دون وجه وذلك شبهة في إحصانه فوجب درء الحد عن قاذفه فلا يحد حتى يكون محصنا بجميع المفهومات التي يطلق عليها لفظ الإحصان إلا ما أجمع على عدم اعتباره في تحقق الإحصان وهو كون المقذوفة زوجة أو كون المقذوف زوجا فإنه جاء بمعناه في قوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ [النساء: 24] أي المتزوجات ولا يعتبر في إحصان القذف بل في إحصان الرجم، ثم لا شك في أن الإحصان أطلق بمعنى الحرية كما سمعت وبمعنى الإسلام في قوله عز وجل: فَإِذا أُحْصِنَّ [النساء: 25] قال ابن مسعود: أسلمن وهذا يكفي في إثبات اعتبار الإسلام في الإحصان، وعن داود عدم اشتراط الحرية وأنه يحد قاذف العبد وأما اعتبار العقل والبلوغ ففيه إجماع إلا ما روي عن أحمد عليه الرحمة من أن الصبي الذي يجامع مثله محصن فيحد قاذفه، والأصح عنه موافقة الجماعة، وقول مالك في الصبية التي يجامع مثلها يحد قاذفها خصوصا إذا كانت مراهقة فإن الحد لعلة إلحاق العار ومثلها يلحقه العار، وكذا قوله وقول الليث: إنه يحد قاذف المجنون لذلك والجماعة يمنعون كون الصبي والمجنون يلحقهما العار بنسبتهما إلى الزنا بل ربما يضحك من ناسبهما إليه إما لعدم صحة قصده منهما وإما لعدم مخاطبتهما بالمحرمات وما أشبه ذلك، ولو فرضنا لحوق عار بالمراهق فليس ذلك على الكمال فيندرئ الحد، ومثل الصبي والمجنون في أنه ربما يضحك من نسبة الزنا إليهما الرتقاء والمجبوب بل هما أولى بذلك لعدم تصوره فيهما ولذا لا يحد بقذفهما، وإلا ما روي عن سعيد وابن أبي ليلى من أنه يحد بقذف الذمية إذا كان لها ولد مسلم، وكذا ما قيل: إنه يحد بقذفها إذا كانت تحت مسلم، ثم إن الإسلام والحرية إذا لم يكونا موجودين وقت الزنا المقذوف به بل كانا موجودين وقت القذف لا يفيدان شيئا فلو قذف امرأة مسلمة زنت في نصرانيتها أو رجلا مسلما زنى في نصرانيته وقال: زنيت وأنت كافرة أو زنيت وأنت كافر أو قذف معتقا زنى وهو عبد أو معتقة زنت وهي أمة وقال: زنيت أو زنيت وأنت عبد أو أنت أمة لا يحد، وكذا المكاتب والمكاتبة والكافر الحربي إذا زنى في دار الحرب ثم أسلم، ويفهم من كلامهم أن البلوغ والعقل كالإسلام والحرية في ذلك، فقد صرحوا فيما إذا قال: زنيت وأنت صغيرة أو زنيت وأنت مجنون بأنه لا يحد، وكان المدار في درء الحد الصدق في كل ذلك، ومن هنا قال في المبسوط: إن الموطوءة إذا كانت مكرهة يسقط إحصانها ولا يحد قاذفها كما يسقط إحصان المكره الواطئ ولا يحد قاذفه لأن الإكراه يسقط الإثم ولا يخرج الفعل به من أن يكون زنى، لكن ذكر فيه أن من قذف زانيا لا حد عليه سواء قذفه بذلك الزنا بعينه أو بزنى آخر من جنسه أو أبهم في حالة القذف، ووجه أن الله تعالى أوجب الحد على من رمى المتصف بالإحصان وبالزنا لا يبقى إحصان فلا يثبت الحد خلافا لإبراهيم وابن أبي ليلى، نعم إذا كان القذف بزنا تاب عنه المقذوف يعزر القاذف، وهذا يقتضي أنه لا يحتاج سقوط الحد في المسائل السابقة إلى التقييد فليتأمل، ولو تزوج مجوسي بأمه أو بنته ثم أسلم ففسخ النكاح فقذفه مسلم في حال إسلامه يحد عند أبي حنيفة عليه الرحمة بناء على ما يراه من أن أنكحة المجوس لها حكم الصحة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 288 وقال الإمامان: لا يحد بناء على أن ليس لها حكم الصحة وهو قول الأئمة الثلاثة، ولا يعلم خلاف بين من يعتبر الحرية في الإحصان في أنه لا حد على من قذف مكاتبا مات وترك وفاء لتمكن الشبهة في شرط الحد وهو الإحصان لاختلاف الصحابة رضي الله تعالى عنهم في أنه مات حرا أو عبدا وذلك يوجب درء الحد ولأنه يدرأ بالشبهة، لا يحد من قذف أخرس فإن هناك احتمال أن يصدقه لو نطق ولا يعول على إشارته هنا وإن قالوا: إنها تقوم مقام عبارته في بعض الأحكام لقيام الاحتمال فيها، واشترطوا أيضا أن يوجد الإحصان وقت الحد حتى لو ارتد المقذوف سقط الحد ولو أسلم بعد، وكذا لو زنى أو وطئ وطأ حراما أو صار معتوها أو أخرس وبقي ذلك لم يحد كما في كافي الحاكم، واشترطوا أيضا أن لا يموت قبل أن يحد القاذف لأن الحد لا يورث، وأن لا يكون المقذوف ولد القاذف أو ولد ولده فلا يحد من قذف أحدهما إلى غير ذلك مما ستعلم بعضه إن شاء الله تعالى، ولم يصرح أكثر الفقهاء بشروط القاذف، ويفهم من كلامهم أنه يشترط فيه أن يكون- بالغا- فلا يحد الصبي إذا قذف ويعزر- عاقلا- فلا يحد المجنون ولا لسكران إلا إذا سكر بمحرم- ناطقا- فلا يحد الأخرس لعدم التصريح بالزنا، وصرح بهذا ابن الشلبي عن النهاية- طائعا- فلا يحد المكره- قاذفا- في دار العدل. فلا يحد القاذف في دار الحرب أو البغي، وفي الآية إشارة إلى بعض ذلك، ويحتمل أن يعد من الشروط كونه عالما بالحرمة حقيقة أو حكما بأن يكون ناشئا في دار الإسلام، لكن في كافي الحاكم حربي دخل دار الإسلام بأمان فقذف مسلما يحد في قوله الأخير وهو قول صاحبيه، وظاهره أنه يحد ولو كان قذفه في فور دخوله، ولعل وجهه أن الزنا حرام في كل ملة فيحرم القذف به أيضا فلا يصدق بالجهل، ويشترط أن يكون القذف بصريح الزنا بأي لسان كان كما صرح به جمع من الفقهاء وألحقوا به بعض ألفاظ ثبت الحد بها بالأثر والإجماع فيحد بقوله: زنيت أو زاني بياء ساكنة وكذا يا زانىء بهمزة مضمومة عند أبي حنيفة وأبي يوسف خلافا لمحمد فلا يحد بذلك عنده لأنه حقيقة عنده في الصعود. وتعقب بأن ذلك إنما يفهم منه إذا ذكر مقرونا بمحل الصعود، على أنه ينبغي أن يكون المذهب أنه لو قيل مع ذكر محل الصعود في حالة الغضب والسباب يكون قذفا، فقد جزم في المبسوط بالحد فيما إذا قال: زنأت في الجبل أو على الجبل في حالة الغضب ولو قال لامرأة: يا زاني حد اتفاقا، وعلله في الجوهرة بأن الأصل في الكلام التذكير، ولو قال للرجل: يا زانية لا يحد عند الإمام وأبي يوسف لأنه أحال كلامه فوصف الرجل بصفة المرأة، وقال محمد: يحد لأن الهاء تدخل للمبالغة كما في علامة، وأجيب بأن كونها للمبالغة مجاز بل هي لما عهد لها من التأنيث ولو كانت في ذلك حقيقة فالحد لا يجب للشك، ويحد بقوله: أنت أزنى من فلان أو مني على ما في الظهيرية وهو الظاهر، لكن في الفتح عن المبسوط أنه لا حد في أنت أزنى من فلان أو أزنى الناس، وعلله في الجوهرة بأن معناه أنت أقدر على الزنا، وفي الفتح بأن أفعل في مثله يستعمل للترجيح في العلم فكأنه قال: أنت أعلم بالزنا، ولا يخفى أن قصد ذلك في حالة السباب بعيد، وفي الخانية في أنت أزنى الناس أو أزنى من فلان الحد، وفي أنت أزنى مني لا حد، ولا يخفى أن التفرقة غير ظاهرة، وقد يقال: إن قوله: أنت أزنى من فلان فيه نسبة فلان إلى الزنا وتشريك المخاطب معه في ذلك بخلاف أنت أزنى مني لأن فيه نسبة نفسه إلى الزنا وذلك غير قذف فلا يكون قذفا للمخاطب لأنه تشريك له فيما ليس بقذف، ويحد بلست لأبيك لما فيه من نسبة الزنا إلى الأم ولما جاء في الأثر عن ابن مسعود لا حد إلا في قذف محصنة أو نفي رجل من أبيه، وقيد بكونه في حالة الغضب إذ هو في حالة الرضا يراد به المعاتبة بنفي مشابهته له، وذكر أن مقتضى القياس أن لا حد به مطلقا لجواز أن ينفى النسب من أبيه من غير أن تكون الأم زانية من كل وجه بأن تكون موطوءة بشبهة ولدت في عدة الواطئ لكن ترك ذلك للأثر، ولا حد بالتعريض كأن يقول ما أنا بزان أو ليست أمي زانية وبه قال الشافعي وسفيان الثوري وابن شبرمة والحسن بن صالح وهو الرواية المشهورة عن أحمد، وقال مالك وهو رواية عن أحمد: يحد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 289 بالتعريض لما روى الزهري عن سالم عن ابن عمر قال: كان عمر رضي الله تعالى عنه يضرب الحد بالتعريض، وعن علي كرّم الله تعالى وجهه أنه جلد رجلا بالتعريض ، ولأنه إذا عرف المراد بدليله من القرينة صار كالصريح، وللجماعة أن الشارع لم يعتبر مثله فإنه حرم صريح خطبة المتوفى عنها زوجها في العدة وأباح التعريض فقال سبحانه: وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا [البقرة: 235] وقال تعالى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ [البقرة: 235] فإذا ثبت من الشرع عدم اتحاد حكمهما في غير الحد لم يجز أن يعتبر مثله على وجه يوجب الحد المحتاط في درئه، وهو أولى من الاستدلال بأنه صلّى الله عليه وسلّم لم يلزم الحد للذي قال: يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاما أسود يعرض بنفسه لأن إلزام حد القذف متوقف على الدعوى والمرأة لم تدع ذلك، ولا حد بوطئك فلان وطأ حراما أو جامعك حراما أو فجرت بفلانة أو يا حرام زاده أو اذهب فقل لفلان: إنك زان فذهب الرسول فقال له ذلك عنه بأن قال: فلان يقول إنك زان لا إذا قال له: إنك زان فإنه يحد الرسول حينئذ، واستيفاء ما فيه حد وما لا حد فيه في كتب الفقه، وقولنا في كذا حد على إرادة إذا تحقق الشرط المفهوم من قوله سبحانه: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا إلخ، واشترط الإتيان بأربعة شهداء تشديدا على القاذف، ويشترط كونهم رجالا لما صرحوا به من أنه لا مدخل لشهادة النساء في الحدود، وظاهر إتيان التاء في العدد مشعر باشتراط كونهم كذلك، ولا يشترط فيهم العدالة ليلزم من عدم الإتيان بأربعة شهداء عدول الجلد لما صرح به في الملتقط من أنه لو أتى بأربعة فساق فشهدوا أن الأمر كما قال درىء الحد عن القاذف والمقذوف والشهود، ووجه ذلك أن في الفاسق نوع قصور وإن كان من أهل الأداء والتحمل ولذا لو قضى بشهادته نفذ عندنا فيثبت بشهادتهم شبهة الزنا فيسقط الحد عنهم وعن القاذف وكذا عن المقذوف لاشتراط العدالة في الثبوت، ولو كانوا عميانا أو عبيدا أو محدودين في قذف فإنهم يحدون للقذف دون المشهود عليه لعدم أهلية الشهادة فيهم كما قيل. والظاهر أن القاذف يحد أيضا لأن الشهود إذا حدوا مع أنهم إنما تكلموا على وجه الشهادة دون القذف فحد القاذف أولى، والظاهر أن المراد ثم لم يأتوا بأربعة شهداء يشهدون على من رمي بأنه زنى، والمتبادر أن يكون ذلك عن معاينة لكن قال في الفتح: لو شهد رجلان أو رجل وامرأتان على إقرار المقذوف بالزنا يدرأ عن القاذف الحد وكذا عن الثلاثة أي الرجل والمرأتين لأن الثابت بالبينة كالثابت فكأنا سمعنا إقراره بالزنا انتهى. وأنت تعلم أن البينة على الإقرار لا تعتبر بالنسبة إلى حد المقذوف لأنه إن كان منكرا فقد رجع بالإنكار عن الإقرار وهو موجب لدرء الحد فتلغو البينة، وإن أقر بشرطه لا تسمع فإنها إنما تسمع مع الإقرار في سبعة مواضع ليس هذا الموضع منها، ويشترط اجتماع شهود الزنا في مجلس الحاكم بأن يأتوا إليه مجتمعين أو فرادى ويجتمعوا فيه ويقوم منهم إلى الحاكم واحد بعد واحد فإن لم يأتوا كذلك بأن أتوا متفرقين أو اجتمعوا خارج مجلس الحاكم ودخلوا واحدا بعد واحد لم تعتبر شهادتهم وحدوا حد القذف. والظاهر أنه يجوز أن يكون أحد الشهود زوج المقذوفة لاندراجه في أربعة شُهَداءَ وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وروي ذلك عن الحسن والشعبي وقال مالك والشافعي: يلاعن الزوج وتحد الثلاثة، وروي مثله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وظاهر الآية أنه إذا لم يأت القاذف بتمام العدة بأن أتى باثنين أو ثلاثة منها جلد وحده ولا يجلد الشاهد إلا أن المأثور جلده، فقد روي أنه شهد على المغيرة بالزنا شبل بن معبد البجلي وأبو بكرة وأخوه نافع وتوقف زياد فحد الثلاثة عمر رضي الله تعالى عنه بمحضر من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ولم ينكروا عليه وهم هم وفي كلمة ثُمَّ إشعار بجواز تأخير الإتيان بالشهود كما أن في كلمة لَمْ إشارة إلى تحقق العجز عن الإتيان بهم وتقرره. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 290 وفي غير كتاب من كتب الفروع لأصحابنا أن القاذف إذا عجز عن الشهود للحال واستأجل لإحضارهم زاعما أنهم في المصر يؤجل مقدار قيام الحاكم من مجلسه فإن عجز حد ولا يكفل ليذهب لطلبهم بل يحبس ويقال: ابعث إليهم من يحضرهم عند الإمام، وأبي يوسف في أحد قوليه لأن سبب وجوب الحد ظهر عند الحاكم فلا يكون له أن يؤخر الحد لتضرر المقذوف بتأخير دفع العار عنه والتأخير مقدار قيامه من المجلس قليل لا يتضرر به، وفي قول أبي يوسف الآخر وهو قول محمد يكفل أي بالنفس إلى ثلاثة أيام. وكان أبو بكر الرازي يقول: مراد أبي حنيفة أن الحاكم لا يجبره على إعطاء الكفيل فأما إذا سمحت نفسه به فلا بأس لأن تسليم نفسه مستحق عليه والكفيل بالنفس إنما يطالب بهذا القدر، وذكر ابن رستم عن محمد أنه إذا لم يكن له من يأتي بالشهود يبعث معه الحاكم واحدا ليرده عليه، والأمر في قوله سبحانه: فَاجْلِدُوهُمْ لولاة الأمر ونوابهم. والظاهر وجوب الجلد إن لم يطالب المقذوف وبه قال ابن ليلى، وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي: لا يحد إلا بمطالبته. وقال مالك: كذلك إلا أن يكون الإمام سمعه يقذفه فيحده إن كان مع الإمام شهود عدول وإن لم يطالب المقذوف كذا قال أبو حيان وللمقذوف المطالبة وإن كان آمرا للقاذف بقذفه لأن بالأمر لا يسقط الحد كما نقل الحصكفي ذلك عن شرح التكملة ثم لا يخفى أن القول بأن القاذف لا يحد إلا بمطالبة المقذوف ظاهر في أن الحد حق العبد ويشهد لذلك أحكام كثيرة ذكرها أصحابنا. منها أنه لا تبطل الشهادة على ما يوجبه بالتقادم، ومنها أنه لا يدفعه الرجوع عن الإقرار بموجبه. ومنها أنه يقام على المستأمن وإنما يؤاخذ المستأمن بما هو من حقوق العباد، ومنها أنه يقدم استيفاؤه على استيفاء حد الزنا وحد السرقة وشرب الخمر ومنها أنه يقيمه القاضي بعلمه إذا علمه في أيام قضائه ولذا لو قذف بحضرته يحده. وعندنا أحكام تشهد بأنه حق الله عز وجل. منها أن استيفاءه إلى الإمام وهو إنّما يتعين نائبا في استيفاء حق الله تعالى وأما حق العبد فاستيفاؤه إليه. ومنها أنه لا يحلف القاذف إذا أنكر سببه وهو القذف ولم تقم عليه بينة. ومنها أنه لا ينقلب مالا عند السقوط. ومنها أنه يتصف بالرق كسائر العقوبات الواجبة حقا له عز وجل، وذكر ابن الهمام أنه لا خلاف في أن فيه حق الله تعالى وحق العبد إلا أن الشافعي مال إلى تغليب حق العبد باعتبار حاجته وغنى الحق سبحانه وتعالى ونحن صرنا إلى تغليب حق الله تعالى لأن ما للعبد من الحقوق يتولى استيفاءه مولاه فيصير حق العبد موجبا لتغليب حق الله تعالى لا مهدرا ولا كذلك عكسه أي لو غلب حق العبد لزم أن لا يستوفي حق الله عز وجل إلا بأن يجعل ولاية استيفائه إليه وذلك لا يجوز إلا بدليل ينصبه الشرع على إنابة العبد في الاستيفاء ولم يثبت ذلك بل الثابت هو استنابة الإمام حتى كان هو الذي يستوفيه كسائر الحدود التي هي حقه سبحانه وتعالى. ويتفرع على الخلاف أن من ثبت أنه قذف فمات قبل إقامة الحد على القاذف لا يورث عنه إقامة الحدّ عندنا إذ الإرث يجري في حقوق العباد بشرط كونها مالا أو ما يتصل بالمال (1) أو ما ينقلب إليه (2) وتورث عنده، وأن الحد لا يسقط عندنا بعد ثبوته إلا أن يقول المقذوف: لم يقذفني أو كذب شهودي وحينئذ يظهر أن القذف لم يقع موجبا للحد لا أنه وقع ثم سقط بقوله ذلك وهو كما إذا صدقه المقذوف، وقال زين الدين: إن المقذوف إذا عفا لم يكن للإمام استيفاء الحد   (1) كالكفالة. (2) كالقصاص. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 291 لعدم الطلب فإذا عاد وطلب يقيمه ويلغو العفو، وعند الشافعي يصح العفو وعن أبي يوسف مثله، وكأن المراد أنه إذا عفا سقط الحد ولا ينفع العود إلى المطالبة وأنه لا يجوز الاعتياض عنه عندنا وبه قال مالك، وعنده يجوز وهو قول أحمد وأنه يجري فيه التداخل عندنا لا عنده وبقولنا قال مالك والثوري والشعبي والنخعي والزهري وقتادة وطاوس وحماد وأحمد في رواية حتى إذا حد إلا سوطا فقذف آخر فإنه يتم الأول ولا شيء للثاني. وكذا إذا قذف واحدا مرات أو جماعة بكلمة مثل أنتم زناة أو بكلمات مثل أنت يا زيد زان وأنت يا عمرو زان وأنت يا بشر زان في يوم أو أيام يحد حدا واحدا إذا لم يتخلل حد بين القذفين. ووافقنا الشافعي في الحد الواحد لقاذف جماعة بكلمة مرة واحدة، وفي الظهيرية من قذف إنسانا فحد ثم قذفه ثانيا لم يحد، والأصل فيه ما روي أن أبا بكرة لما شهد على المغيرة فحد لما سمعت كان يقول بعد ذلك في المحافل: أشهد إن المغيرة لزان فأراد عمر رضي الله تعالى عنه أن يحده ثانيا فمنعه علي كرم الله تعالى وجهه فرجع إلى قوله وصارت المسألة إجماعا اهـ، والظاهر أن هذا فيما إذا قذفه ثانيا بالزنا الأول أو أطلق لحمل إطلاقه على الأول لأن المحدود بالقذف يكرر كلامه لإظهار صدقه فيما حد به كما فعل أبو بكرة فإنه لم يرد أن المغيرة لزان أنه زان غير الزنا الأول، أما إذا قذفه بعد الحد بزنا آخر فإنه يحد به كما في الفتح. وذكر صدر الإسلام أبو اليسر في مبسوطه الصحيح أن الغالب في هذا الحد حق العبد كما قال الشافعي لأن أكثر الأحكام تدل عليه والمعقول يشهد له وهو أن العبد ينتفع به على الخصوص، وقد نص محمد في الأصل على أن حد القذف كالقصاص حق العبد، وتفويضه إلى الإمام لأن كل أحد لا يهتدي إلى إقامته ولأنه ربما يريد المقذوف موته لحنقه فيقع متلفا، وإنما لا يورث لأنه مجرد حق ليس مالا ولا بمنزلته فهو كخيار الشرط وحق الشفعة بخلاف القصاص فإنه ينقلب إلى المال، وأيضا هو في معنى ملك العين لأن من له القصاص يملك إتلاف العين وملك الإتلاف ملك العين عند الناس فصار من عليه القصاص كالملك لمن له القصاص فيملكه الوارث في حق استيفاء القصاص، وإنما لا يصح عفوه لأنه متعنت فيه لأنه رضا بالعار والرضا بالعار عار ولا يخفى ما في ذلك من الأبحاث. والشافعي يستدل بالآية لعدم التدخل فإن مقتضاها ترتب الحكم على الوصف المشعر بالعلية فيتكرر بتكرره ويجاب بأن الإجماع لما كان على دفع الحدود بالشبهات كان مقيدا لما اقتضته الآية من التكرر عند التكرر بالتكرر الواقع من بعد الحد الأول بل هذا ضروري لظهور أن المخاطبين بالإقامة في قوله تعالى: فَاجْلِدُوهُمْ هم الحكام ولا يتعلق بهم هذا الخطاب إلا بعد الثبوت عندهم فكان حاصل الآية إيجاب الحد إذا ثبت عندهم السبب وهو الرمي وهو أعم من كونه بوصف الكثرة أو القلة فإذا ثبت وقوعه منه كثيرا كان موجبا للجلد ثمانين ليس غير فإذا جلد ذلك وقع الامتثال، ثم هو عليه الرحمة ترك مقتضى التكرر بالتكرر فيما إذا قذف واحدا مرة ثم قذفه ثانيا بذلك الزنا فإنه لا يحد مرتين عنده أيضا، وكذا في حد الزنا والشرب فإنه إذا زنى ألف مرة أو شرب كذلك لا يحد إلا مرة، فالحق أن استدلاله بالآية لا يخلص فإنه ملجىء إلى ترك منها من آية أخرى وهي آية حد الزنا فيعود إلى أن هذا حق آدمي بخلاف الزنا فكان المبني هو إثبات أنه حق الله عز وجل أو حق العبد، والنظر الدقيق يقتضي أن الغالب فيه حق الله سبحانه وتعالى فتدبر. ثم الظاهر أن الرمي المراد في الآية لا يتوقف على حضور المرمي وخطابه فقذف المحصن حاضرا أو غائبا له الحكم المذكور كما في التتار خانية نقلا عن المضمرات واعتمده في الدرر، ويدل على أن الغيبة كالحضور حده صلّى الله عليه وسلّم أهل الإفك مع أنه لم يشافه أحد منهم به من نزهها الله تعالى عنه، فما في حاوي الزاهدي سمع من أناس كثيرة أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 292 فلانا يزني بفلانة فتكلم بما سمعه منهم مع آخر في غيبة فلان لا يجب حد القذف لأنه غيبة لا رمي وقذف بالزنا لأن الرمي والقذف به إنما يكون بالخطاب كقوله: يا زاني يا زانية ضعيف لا يعول عليه. والظاهر أيضا أنه لا فرق بين رمي الحي ورمي الميت فإذا قال: أبوك زان أو أمك زانية كان قاذفا ويحد عند تحقق الشرط لا لو قال: جدك زان فإنه لا حد عليه لما في الظهيرية من أنه لا يدري أي جد هو، وفي الفتح لأن في أجداده من هو كافر فلا يكون قاذفا ما لم يعين محصنا. ويطالب بحد القذف للميت من يقع القدح في نسبه بالقذف وهو الوالد وإن علا والولد وإن سفل، ولا يطالبان عن غائب خلافا لابن أبي ليلى لعدم اليأس عن مطالبته ولأنه يجوز أن يصدق القاذف، وولد البنت كولد الابن في هذا الفصل خلافا لما روي عن محمد، وتثبت المطالبة للمحروم عن الميراث بقتل أو رق أو كفر، نعم ليس للعبد أن يطالب مولاه بقذف أمه الحرة التي قذفها في حال موتها، وعند زفر إذا كان الولد عبدا أو كافرا لا حق له فيها مطلقا، وتثبت للأبعد مع وجود الأقرب فيطالب ولد الولد مع وجود الولد خلافا لزفر ولو عفا بعضهم كان لغيره المطالبة لأنها لدفع العار عن نفسه، والأم كالأب تطالب بحد قذف ولدها لا أم الأم وأبوها، ولا يطالب الابن أباه وجده وإن علا بقذف أمه وهو قول الشافعي وأحمد ورواية عن مالك، والمشهور عنه أن للابن أن يطالب الأب بقذف الأم فيقيم عليه الحد وهو قول أبي ثور وابن المنذر لعموم الآية أو إطلاقها ولأنه حد هو حق الله عز وجل ولا يمنع من إقامته قرابة الولاد. وأجيب بأن عموم قوله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ [الإسراء: 23] مانع من إقامة الولد الحد على أبيه ولا فائدة للمطالبة سوى ذلك والمانع مقدم وقد صح أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يقاد الوالد بولده ولا السيد بعبده» وأجمعوا على أنه لا يقتص منه بقتل ولده ولا شك أن إهدار جنايته على نفس الولد توجب إهدارها في عرضه بطريق الأولى مع أن القصاص متيقن سببه والمغلب فيه حق العبد بخلاف حد القذف فيهما، ولا حق لأخي الميت وعمه وعمته وخاله وخالته في المطالبة بحد قذفه. وعند الشافعي ومالك عليهما الرحمة تثبت المطالبة لكل وارث وهو رواية غريبة عن محمد، وللشافعية فيمن يرثه ثلاثة أوجه، الأول جميع الورثة. والثاني غير الوارث بالزوجية. والثالث ذكور العصبات لا غير. والظاهر أن مطالبة من له المطالبة بالحد غير واجبة عليه بل في التتار خانية وحسن أن لا يرفع القاذف إلى القاضي ولا يطالب بالحد وحسن من الإمام أن يقول للمطالب أعرض عنه ودعه اهـ. وكأنه لا فرق في هذا بين أن يعلم الطالب صدق القاذف وأن يعلم كذبه وما نقل في القنية من أن المقذوف إذا كان غير عفيف في السر له مطالبة القاذف ديانة فيه نظر لا يخفى، وظاهر الآية أنه لا فرق بين أن يكون الرامي حرا وأن يكون عبدا فيجلد كل منهما إذا قذف وتحقق الشرط ثمانين جلدة، وبذلك قال عبد الله بن مسعود والأوزاعي وجمهور الأئمة على أن العبد ينصف له الحد لما علمت أول السورة وإذا أريد إقامة الحد على القاذف لا يجرد من ثيابه إلا في قول مالك لأن سببه هو النسبة إلى الزنا كذبا غير مقطوع به لجواز كونه صادقا غير أنه عاجز عن البيان. نعم ينزع عنه الفرو والثوب المحشو لأنهما يمنعان من وصول الألم إليه كذا في عامة الكتب، ومقتضاه أنه لو كان عليه ثوب ذو بطانة غير محشو لا ينزع، والظاهر كما في الفتح أنه لو كان هذا الثوب فوق قميص نزع لأنه يصير مع القميص كالمحشو أو قريبا من ذلك ويمنع إيصال الألم وكيف لا والضرب هنا أخف من ضرب الزنا، هذا وقرأ أبو الجزء: 9 ¦ الصفحة: 293 زرعة وعبد الله بن مسلم «بأربعة» بالتنوين فشهداء بدل أو صفة، وقيل حال أو تمييز وليس بذاك، وهي قراءة فصيحة ورجحها ابن جني على قراءة الجمهور بناء على إطلاق قولهم: إنه إذا اجتمع اسم العدد والصفة كان الإتباع أجود من الإضافة. وتعقب بأن ذاك إذا لم تجر الصفة مجرى الأسماء في مباشرتها العوامل وأما إذا جرت ذلك المجرى فحكمها حكمها في العدد وغيره غاية ما في الباب أنه يجوز فيها الإبدال بعد العدد نظرا إلى أنها غير متمحضة الاسمية وشُهَداءَ من ذلك القبيل. فأربعة شهداء. بالإضافة أفصح من «أربعة شهداء» بالتنوين والاتباع. وقال ابن عطية: وسيبويه يرى أن تنوين العدد وترك إضافته إنما يجوز في الشعر انتهى، وكأنه أراد الطعن في هذه القراءة على هذا القول، وفيه أن سيبويه إنما يرى ذلك في العدد الذي بعده اسم نحو ثلاثة رجال دون الذي بعده صفة فإنه على التفصيل الذي ذكر كما قال أبو حيان. وقوله سبحانه: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً أي مدة حياتهم كما هو الظاهر عطف على فَاجْلِدُوا داخل في حكمه تتمة له كأنه قيل: فاجلدوهم وردوا شهادتهم أي فاجمعوا لهم الجلد والرد، ورد شهادتهم عند الإمام أبي حنيفة عليه الرحمة معلق باستيفاء الجلد فلو شهدوا قبل الجلد أو قبل تمام استيفائه قبلت شهادتهم، وقيل: ترد إذا ضربوا سوطا، وقيل: ترد إذا أقيم عليهم الأكثر، ومن الغريب ما روى ابن الهمام عن مالك أنه مع قوله: إن للابن أن يطالب بحد والده إذا قذف أمه قال: إنه إذا حد الأب سقطت عدالة الابن لمباشرته سبب عقوبة أبيه أي وكذا عدالة الأب وهذا ظاهر، وقوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ كلام مستأنف مبين لسوء حالهم في حكم الله عز وجل، وما في اسم الإشارة من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الشر والفساد أي أولئك هم المحكوم عليهم بالفسق والخروج عن الطاعة والتجاوز عن الحدود الكاملون فيه كأنهم المستحقون لإطلاق اسم الفاسق عليهم لا غيرهم من الفسقة، ويعلم مما أشرنا إليه أنهم فسقة عند الشرع الحاكم بالظاهر لا أنهم كذلك في نفس الأمر وعند الله عز وجل العالم بالسرائر لاحتمال صدقهم مع عجزهم عن الإتيان بالشهداء كما لا يخفى، وصرح بهذا بعض المفسرين. وجوز أن يكون المراد الإخبار عن فسقهم عند الله تعالى وفي علمه، ووجهه إذا كانوا كاذبين ظاهر، وأما وجهه إذا كانوا صادقين فهو أنهم هتكوا ستر المؤمنين وأوقعوا السامع في الشك من غير مصلحة دينية بذلك والعرض مما أمر الله تعالى بصونه إذا لم يتعلق بهتكه مصلحة فكانوا فسقة غير ممتثلين أمره عز وجل، ولا يخفى حسن حمل الآية على هذا المعنى وهو أوفق لما ذكره الحصكفي في شرح الملتقى نقلا عن النجم الغزي من أن الرمي بالزنا من الكبائر وإن كان الرامي صادقا ولا شهود له عليه ولو من الوالد لولده وإن لم يحد به بل يعزر ولو غير محصن وشرط الفقهاء الإحصان إنما هو لوجوب الحد لا لكونه كبيرة، وقد روى الطبراني عن واثلة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من قذف ذميا حد له يوم القيامة بسياط من نار» وهذه مسألة مختلف فيها، ففي شرح جمع الجوامع للعلامة المحلي قال الحليمي: قذف الصغيرة والمملوكة والحرة المتهتكة من الصغائر لأن الإيذاء في قذفهن دونه الحرة الكبيرة المستترة، وقال ابن عبد السلام: قذف المحصن في خلوة بحيث لا يسمعه إلا الله تعالى والحفظة ليس بكبيرة موجبة للحد لانتفاء المفسدة أما قذف الرجل زوجته إذا أتت بولد يعلم أنه ليس منه فمباح، وكذا جرح الراوي والشاهد بالزنا إذا علم بل هو واجب انتهى، وظاهر ما نقل عن ابن عبد السلام ففي إيجاب الحد لا نفي كونه كبيرة أيضا لشيوع توجه النفي إلى القيد في مثله، وإن قلنا: إنه هنا لنفي القيد والمقيد فهو ظاهر كما قال الزركشي فيما إذا كان صادقا لا فيما إذا كان كاذبا لجرأته على الله تعالى جل شأنه فهو كبيرة وإن كان في الخلوة، ولعل ما ذكره من وجوب جرح الشاهد بالزنا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 294 إذا علم مقيد بما إذا قدر على الإتيان بالشهود، والأولى عندي فيما إذا كان الضرر في قبول شهادته عليه يسيرا عدم الجرح بذلك وإن قدر على إثباته، وما ذكره في جرح الراوي لا يتم فيما أرى على رأي من يعتبر الجرح المجرد عن بيان السبب، ولا يبعد القول بأن الرمي منه ما هو كفر كرمي عائشة رضي الله تعالى عنها سواء كان جهرا أو سرا وسواء كان بخصوص الذي برأها الله تعالى منه أو بغيره وكذا رمي سائر أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن وكذا القول في مريم عليها السلام، ومنه ما هو كبيرة دون الكفر ومثاله ظاهر، ومنه ما هو صغيرة كرمي المملوكة والصغيرة، ومنه ما هو واجب كرمي شاهد على مسلم معصوم الدم بما يكون سببا لقتله لو قبلت شهادته وعلم كونها زورا وتعين ذلك لرد شهادته وصيانة ذلك المسلم من القتل ولو كان رميه مع إقامة البينة عليه بالزنا موجبا لرجمه، ومنه ما هو سنة كرمي ترتبت عليه مصلحة دون مصلحة الرمي الواجب، وقوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا أي رجعوا عما قالوا وندموا على ما تكلموا استثناء من الفاسقين كما صرح به أكثر الأصحاب، وقال بعضهم: المستثنى منه في الحقيقة أُولئِكَ وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق بذلك، ومحل المستثنى النصب لأنه عن موجب، وقوله عز وجل: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لتهويل المتوب عنه أي من بعد ما اقترفوا ذلك الذنب العظيم الهائل، وقوله تعالى: وَأَصْلَحُوا على معنى وأصلحوا أعمالهم بالاستحلال ممن رموه. وهذا ظاهر إن كان قد بقي حيا فإن كان قد مات فلعل الاستغفار له يقوم مقام الاستحلال منه كما قيل في نظير المسألة. فإن كانوا قد رموا أمواتا فالظاهر أنهم يستحلون ممن خاصمهم وطلب إقامة الحد عليهم، ويحتمل أن يغني عنه الاستغفار لمن رموه. والجمع بين الاستحلال من أولئك المخاصمين والاستغفار للمرميين أولى ولم أر من تعرض لذلك. وكون الاستثناء من الجملة الأخيرة مذهب الحنفية فعندهم لا تقبل شهادة المحدود في قذف وإن تاب وأصلح لكن قالوا: إن حد الكافر ثم أسلم قبلت شهادته وإن لم تكن تقبل قبل على أهل الذمة، ووجهه أن النص موجب لرد شهادته الناشئة عن أهليته الثابتة له عند القذف ولذا قيل: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً دون ولا تقبلوا شهادتهم أي ولا تقبلوا منهم شهادة من الشهادات حال كونها حاصلة لهم عند الرمي والشهادة التي كانت حاصلة للكافر عند الرمي هي الشهادة على أبناء جنسه فتدخل تحت الرد، وأما الشهادة التي اعتبرت بعد الإسلام فغير تلك الشهادة ولهذا قبلت على أهل الإسلام وغيرهم فلم تدخل تحت الرد، وهذا بخلاف العبد إذا حد في قذف ثم أعتق فإنه لا تقبل شهادته لأنه لم تكن له شهادة من قبل للرق فلزم كون تتميم حده بر شهادته التي تجددت له، وقد طلب الفرق بينه وبين من زنى في دار الحرب ثم خرج إلى دار الإسلام فإنه لا يحد حيث توقف حكم الموجب في العبد إلى أن أمكن ولم يتوقف في الزنا في دار الحرب إلى الإمكان بالخروج إلى دار الإسلام. وأجيب بأن الزنا في دار الحرب لم يقع موجبا أصلا لعدم قدرة الإمام فلم يكن الإمام مخاطبا بإقامته أصلا لأن القدرة شرط التكليف فلو حد بعد خروجه من غير سبب آخر كان بلا موجب وغير الموجب لا ينقلب موجبا بنفسه خصوصا في الحد المطلوب درؤه، وأما قذف العبد فموجب حال صدوره للحد غير أنه لم يكن تمامه في الحال فتوقف تتميمه على حدوث ذلك بعد العتق كذا قيل، وقال في المبسوط في الفرق بين الكافر إذا أسلم بعد الحد والعبد إذا أعتق بعده: إن الكافر استفاد بالإسلام عدالة لم تكن موجودة له عند إقامة الحد وهذه العدالة لم تكن مجروحة بخلاف العبد فإنه بالعتق لا يستفيد عدالة لم تكن من قبل وقد صارت عدالته مجروحة بإقامة الحد، ثم لا فرق في العبد بين أن يكون حد ثم أعتق وبين أن يكون أعتق ثم حد حيث لم تقبل شهادته في الصورتين، وأما الكافر فإنه لو قذف محصنا ثم أسلم ثم حد لا تقبل شهادته، ومقتضى الآية عدم قبول كل شهادة للمحدود حادثة كانت أو الجزء: 9 ¦ الصفحة: 295 قديمة لما أن شَهادَةً نكرة وهي واقعة في حيز النهي فتفيد العموم كالنكرة الواقعة في حيز النفي، وهذا يعكر على ما مر من قبول شهادة الكافر المحدود إذا أسلم، وأجاب العلامة ابن الهمام بأن التكليف بما في الوسع وقد كلف الحكام برد شهادته فالامتثال إنما يتحقق برد شهادة قائمة فحيث ردت تحقق الامتثال وتم وقد حدثت أخرى فلو ردت كانت غير مقتضى إذ الموجب أخذ مقتضاه وللبحث فيه مجال، ومقتضى العموم أيضا عدم قبول شهادة المحدود في الديانات غيرها وهي رواية المنتقى، وفي رواية أخرى أنها تقبل في الديانات وكأنهم اعتبروها رواية وخبرا لا شهادة ورب شخص ترد شهادته وتقبل روايته، وأورد على العموم أنهم اكتفوا في النكاح بشهادة المحدودين. وأجيب بأن الشهادة هناك بمعنى الحضور وإنما يكتفى به في انعقاد النكاح وقد صرحوا بأن للنكاح حكمين حكم الانعقاد وحكم الإظهار ولا يقبل في الثاني إلا شهادة من تقبل شهادته في سائر الأحكام كما في شرح الطحاوي والحاصل أن الآية تدل على وجوب رد شهادة المحدود على الحكام بمعنى أنه إذا شهد عندهم على حكم وجب عليهم رد شهادته ويندرج في ذلك شهادته في النكاح لأنه يشهد عندهم إذا وقع التجاحد فلا يعكر على العموم اعتبار حضوره مجلس النكاح في صحة انعقاده إذ ذلك أمر وراء ما نحن فيه كذا قيل فليتدبر، وذهب الشافعي إلى قبول شهادة المحدود إذا تاب، والمراد بتوبته أن يكذب نفسه في قذفه، ومبنى الخلاف على المشهور الخلاف فيما إذا جاء استثناء بعد جمل مقترنة بالواو هل ينصرف للجملة الأخيرة أو إلى الكل أو هناك تفصيل فالذي ذهب إليه أصحاب الشافعي انصرافه إلى الكل، والذي ذهب إليه أصحاب أبي حنيفة انصرافه للجملة الأخيرة، وقال القاضي عبد الجبار وأبو الحسين البصري وجماعة من المعتزلة إن كان الشروع في الجملة الثانية إضرابا عن الأولى ولا يضمر فيها شيء مما في الأولى فالاستثناء مختص بالجملة الأخيرة لأن الظاهر أنه لم ينتقل عن الجملة الأولى مع استقلالها بنفسها إلى غيرها إلا وقد تم مقصوده منها وذلك على أربعة أقسام، الأول أن تختلف الجملتان نوعا كما لو قال: أكرم بني تميم والنحاة البصريون إلا البغاددة إذ الجملة الأولى أمر والثانية خبر، الثاني أن يتحدا نوعا ويختلفا اسما وحكما كما لو قال: أكرم بني تميم واضرب ربيعة إلا الطوال إذ هما أمران، الثالث أن يتحدا نوعا ويشتركا حكما لا اسما كما لو قال: سلم على بني تميم وسلم على بني ربيعة إلا الطوال، الرابع أن يتحدا نوعا ويشتركا اسما لا حكما ولا يشترك الحكمان في غرض من الأغراض كما لو قال: سلم علي بني تميم واستأجر بني تميم إلا الطوال، وقوة اقتضاء اختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة في هذه الأقسام على هذا الترتيب وإن لم يكن الشروع في الجملة الثانية إضرابا عن الأولى بأن كان بين الجملتين نوع تعلق فالاستثناء ينصرف إلى الكل وذلك على أربعة أقسام، الأول أن يتحد الجملتان نوعا واسما لا حكما غير أن الحكمين قد اشتركا في غرض واحد كما لو قال: أكرم بني تميم وسلم على بني تميم إلا الطوال لاشتراكهما في غرض الإعظام، الثاني أن يتحد الجملتان نوعا ويختلفا حكما واسم الأولى مضمر في الثانية كما لو قال: أكرم بني تميم واستأجرهم إلا الطوال، الثالث بعكس ما قبله كما لو قال: أكرم بني تميم وربيعة إلا الطوال، الرابع أن يختلف نوع الجمل إلا أنه قد أضمر في الأخيرة ما تقدم أو كان غرض الأحكام المختلفة فيها واحدا، وجعل آية الرمي التي نحن فيها من ذلك حيث قيل: إن جملها مختلفة النوع من حيث إن قوله تعالى: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً أمر وقوله سبحانه: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً نهي وقوله جل وعلا: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ خبر وهي داخلة أيضا تحت القسم الأول من هذه الأقسام الأربعة لاشتراك أحكام هذه الجمل في غرض الانتقام والإهانة وداخلة أيضا تحت القسم الثاني من جهة إضمار الاسم المتقدم فيها، وذهب الشريف المرتضى من الشيعة إلى القول بالاشتراك وذهب القاضي أبو بكر والغزالي وجماعة إلى الوقف، وقال الآمدي: المختار أنه مهما ظهر كون الواو للابتداء فالاستثناء يكون مختصا بالجملة الأخيرة كما في القسم الأول من الأقسام الثمانية لعدم تعلق إحدى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 296 الجملتين بالأخرى وهو ظاهر وحيث أمكن أن تكون الواو للعطف أو للابتداء كما في باقي الأقسام السبعة فالواجب الوقف، وذكر حجج المذاهب بما لها وعليها في الأحكام، وفي التلويح وغيره أنه لا خلاف في جواز رجوع الاستثناء إلى كل وإنما الخلاف في الأظهر وفيه نظر فإن بعض حجج القائلين برجوعه إلى الجملة الأخيرة قد استدل بما يدل على عدم جواز رجوعه للجميع، قال القلانسي: إن نصب ما بعد الاستثناء في الإثبات إنما كان بالفعل المتقدم بإعانة إلا على ما ذهب إليه أكابر البصريين فلو قيل برجوعه إلى الجميع لكان ما بعد إلا منتصبا بالأفعال المقدرة في كل جملة ويلزم منه اجتماع عاملين على معمول واحد وذلك لا يجوز لأنه بتقدير مضادة أحدهما للآخر في العمل يلزم أن يكون المعمول الواحد مرفوعا منصوبا معا وهو محال ولأنه إن كان كل منهما مستقلا في العمل لزم عدم استقلاله ضرورة أنه لا معنى لكون كل مستقلا إلا أن الحكم ثبت به دون غيره وإن لم يكن كل منهما مستقلا لزم خلاف المفروض، وإن كان المستقل البعض دون البعض لزم الترجيح بلا مرجح، ووجه دلالته وإن بحث فيه على عدم جواز رجوعه للجميع ظاهر وكما اختلف الأصوليون في ذلك اختلف النحاة فيه ففي شرح اللمع أنه يختص بالأخيرة وأن تعليقه بالجميع خطأ للزوم تعدد العامل في معمول واحد إلا على القول بأن العامل إلا أو تمام الكلام. وقال أبو حيان: لم أر من تكلم على هذه المسألة من النحاة غير المهاباذي وابن مالك فاختار ابن مالك عود الاستثناء إلى الجمل كلها كالشرط، واختار المهاباذي عوده إلى الجملة الأخيرة، وقال الولي بن العراقي: لم يطلق ابن مالك عوده إلى الجمل كلها بل استثنى من ذلك ما إذا اختلف العامل والمعمول كقولك: اكس الفقراء وأطعم أبناء السبيل إلا من كان مبتدعا فقال في هذه الصورة: إنه يعود إلى الأخيرة خاصة، ونقل عن أبي علي الفارسي القول برجوعه إلى الأخيرة مطلقا وهذا كقول الحنفية في المشهور، والحق أنهم إنما يقولون برجوعه إلى الأخيرة فقط إذا تجرد الكلام عن دليل رجوعه إلى الكل أما إذا وجد الدليل عمل به وذلك كما في قوله تعالى في المحاربين: أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا إلى قوله سبحانه: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فإن قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [المائدة: 33، 34] يقتضي رجوعه إلى الكل فإنه لو عاد إلى الأخيرة أعني قوله سبحانه: وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ لم يبق للتقييد بذلك فائدة للعلم لأن التوبة تسقط العذاب فليس فائدة «من قبل» إلخ إلا سقوط الحد وعلى مثل ذلك ينبغي حمل قول الشافعية بأن يقال: إنهم أرادوا رجوع الاستثناء إلى الكل إذا لم يكن دليل يقتضي رجوعه إلى الأخيرة. وذكر بعض أجلة المحققين أن الحنفية إنما قالوا برجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة هنا لأن الجملتين الأوليين وردتا جزاء لأنهما أخرجتا بلفظ الطلب مخاطبا بهما الأئمة ولا يضر اختلافهما أمرا ونهيا والجملة الأخيرة مستأنفة بصيغة الإخبار دفعا لتوهم استبعاد كون القذف سببا لوجوب العقوبة التي تندرئ بالشبهة وهي قائمة هنا لأن القذف خبر يحتمل الصدق وربما يكون حسبة، ووجه الدفع أنهم فسقوا بهتك ستر العفة بلا فائدة حيث عجزوا عن الإثبات فلذا استحقوا العقوبة وحيث كانت مستأنفة توجه الاستثناء إليها. ونقل عن الشافعي أنه جعل وَلا تَقْبَلُوا استئنافا منقطعا عن الجملة السابقة وأبى أن يكون من تتمة الحد لأنه لا مناسبة بين الجلد وعدم قبول الشهادة وجعل الاستثناء مصروفا إليه بجعل من تاب مستثنى من ضمير لَهُمْ ويكون قوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ اعتراضا جاريا مجرى التعليل لعدم قبول الشهادة غير منقطع عما قبله ولهذا جاز توسطه بين المستثنى والمستثنى منه ولا تعلق للاستثناء به، وآثر ذلك ابن الحاجب في أماليه حيث قال: إن الاستثناء لا يرجع إلى الكل أما الجلد فبالاتفاق، وأما قوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ فلأنه إنما جيء به لتقرير الجزء: 9 ¦ الصفحة: 297 منع الشهادة فلم يبق إلا الجملة الثانية فيرجع إليها، وتعقب بأن استئناف وَلا تَقْبَلُوا إلخ في غاية البعد، والمراد من عدم قبول الشهادة ردها ومناسبته للجلد ظاهرة لأن كلّا منهما مؤلم زاجر عن ارتكاب جريمة الرمي وكم من شخص لا يتألم بالضرب كما يتألم برد شهادته، وربما يقال: إن رد الشهادة قطع للآلة الخائنة معنى وهي اللسان فيكون كقطع اليد حقيقة في السرقة، ومن أنصف رأى مناسبته للجلد أتم من مناسبة التغريب له لأن التغريب ربما يكون سببا لزيادة الوقوع في الزنا لقلة من يراقب ويستحي منه في الغربة وقد تضطر المرأة إذا غربت إلى ما يسد رمقها فتسلم نفسها لتحصيل ذلك، وأيضا الجلد فعل يلزم على الإمام فعله والرد المراد من عدم القبول كذلك وقد خوطب بكلتا الجملتين الإنشائيتين لفظا ومعنى الأئمة وبهذا يقوى أمر المناسبة. واعترض الزيلعي على القول بأن جملة وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ تعليل لرد الشهادة فقال: لا جائز أن يكون رد شهادته لفسقه لأن الثابت بالنص في خبر الفاسق هو التوقف لقوله تعالى: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات: 6] لا الرد وعلة الرد هنا ليست إلا أنه حد انتهى، وفيه نظر ولم يجعل الشافعي على هذا النقل الجملة المذكورة مع كونها جارية مجرى التعليل لما قبلها معطوفة عليه لما قال غير واحد من أن العطف بالواو يمنع قصد التعليل لرد الشهادة بسبب الفسق لأن العلة لا تعطف على الحكم بالواو بل إنما تذكر بالفاء، وكذا ينبغي أن لا تكون معطوفة على ما أشير إليه سابقا من أنها علة لاستحقاق العقوبة إذ ذلك غير منطوق، وانتصر للشافعي عليه الرحمة فيما ذهب إليه من قبول شهادته إذا تاب بأنه إذا جعلت الجملة تعليلا للرد يتم ذلك ولو سلم رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة من الجمل المتعاقبة بالواو وجوب زوال الحكم بزوال العلة، ولا أظنه يدفع إلا بالتزام أنها ليست للتعليل. وقال بعضهم: لا انقطاع بين الجمل عند الشافعي ومقتضى أصله المشهور رجوع الاستثناء إلى الجميع فيلزم حينئذ سقوط الجلد بالتوبة لكنه لا يقول بذلك لأن تحقيق مذهبه أن الرجوع إلى الكل قد يعدل عنه وذلك عند قيام الدليل وظهور المانع والمانع هنا من رجوعه إلى الجملة الأولى على ما قيل الإجماع على عدم سقوط الجلد بالتوبة لما فيه من حق العبد، وأولى منه ما أومأ إليه القاضي البيضاوي من أن الاستسلام للجلد من تتمة التوبة فكيف يعود إليه، ولا يمكن أن يقال: إن عدم قبول الشهادة والتفسيق من تتمتها أيضا كما لا يخفى، وقيل يجوز أن تخرج الآية على أصله المشهور، ولا مانع من رجوع الاستثناء إلى الجملة الأولى أيضا لما أن المستثنى هو الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا ومن جملة الإصلاح الاستحلال وطلب العفو من المقذوف وعند وقوع ذلك يسقط الجلد أيضا، وفيه أن كون طلب العفو من الإصلاح غير نافع لأن الجلد لا يسقط بطلب العفو بل العفو وهو ليس من جملة هذا الإصلاح إذ العفو فعل المقذوف وهذا الإصلاح فعل القاذف فلم يصح صرف الاستثناء إلى الكل كما هو أصله المشهور. وقال الزمخشري: الذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها أن يكون الجمل الثلاث بمجموعهن جزاء الشرط، والمعنى من قذف فاجمعوا لهم بين الأجزئة الثلاثة إلا الذين تابوا منهم فيعودون غير مجلودين ولا مردودي الشهادة ولا مفسقين، قال في الكشف: وهذا جار على أصل الشافعي من أن الاستثناء يرجع إلى الكل وانضم إليه هاهنا أن الجمل دخلت في حيز الشرط فصرن كالمفردات، وتعقب القول بدخول قوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ في حيز الجزاء بأن دليل عدم المشاركة في الشرط يقتضي عدم الدخول فإنه جملة خبرية غير مخاطب بها الأئمة لإفراد الكاف في أُولئِكَ فهو عطف على الجملة الاسمية أي الذين يرمون إلخ أو مستأنف لحكاية حال الرامين عند الشرع، وأورد عليه أن عطف الخبر على الإنشاء وعكسه لاختلاف الأغراض شائعان في الكلام وأن إفراد كاف الخطاب مع الجزء: 9 ¦ الصفحة: 298 الإشارة جائز في خطاب الجماعة كقوله تعالى: ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ [البقرة: 52] على أن التحقيق أن الَّذِينَ يَرْمُونَ منصوب بفعل محذوف أي اجلدوا الذين إلخ فهو أيضا جملة فعلية إنشائية مخاطب بها الأئمة فالمانع المذكور قائم هنا زيادة العدول عن الأقرب إلى الأبعد ولو سلم أن الَّذِينَ مبتدأ فلا بد في الإنشائية الواقعة موقع الخبر من تأويل وصرف عن الإنشائية عند الأكثر وحينئذ يصح عطف أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ عليه، وقال الزمخشري: معنى أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ فسقوهم والإنصاف يحكم بعدم ظهور دخول الجملة الأخيرة في حيز الجزاء وجميع ما ذكروه إنما يفيد الصحة لا الظهور. ولعل الظاهر أنها استئناف تذييلي لبيان سوء حال الرامين في حكم الله تعالى وحينئذ عود الاستئناف إليه ظاهر، لا يقال، إن ذلك ينفي الفائدة لأنه معلوم شرعا أن التوبة تزيل الفسق من غير هذه الآية لأنا نقول: لا شبهة في أن العلم بذلك من طريق السمع وقد ذكر الدال عليه منه وكون آية أخرى تفيده لا يضر للقطع بأن طريق القرآن تكرار الدوال خصوصا إذا كان التأكيد مطلوبا، هذا وإلى ما ذهب إليه أبو حنيفة من عدم قبول شهادة المحدود في القذف إذا تاب ذهب الحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وقد روى ذلك عن كل الجلال السيوطي في الدر المنثور وإلى ما ذهب إليه الشافعي من قبول شهادته ذهب مالك وأحمد، وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز وطاوس ومجاهد والشعبي والزهري ومحارب وشريح ومعاوية بن قرة وعكرمة وسعيد بن جبير على ما ذكره الطيبي وعد ابن جبير من القائلين كقول الشافعي يخالفه ما سمعت آنفا، وعد ابن الهمام شريحا ممن قال كقول أبي حنيفة وعن ابن عباس روايتان، وفي صحيح البخاري جلد عمر رضي الله عنه أبا بكرة وشبل بن معبد ونافعا بقذف المغيرة ثم استتابهم، وقال من تاب قبلت شهادته، ومن تتبع تحقق أن أكثر الفقهاء قائلون كقول الشافعي عليه الرحمة ودعوى إجماع فقهاء التابعين عليه غير صحيحة كما لا يخفى والله تعالى أعلم، ووجه التعليل المستفاد من قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ على القولين ظاهر لكن قيل إنه على قول أبي حنيفة أظهر وهو تعليل لما يفيده الاستثناء ولا محل من الإعراب، وجوز أبو البقاء كون الَّذِينَ مبتدأ وهذه الجملة خبره والرابط محذوف أي لهم. واختار الجمهور الاستئناف والاستثناء وهو على ما ذهب إليه أصحابنا منقطع، وبينه أبو زيد الدبوسي في التقويم بما حاصله أن المستثنى وإن دخل في الصدر لكن لم يقصد إخراجه من حكمه على ما هو معنى الاستثناء المتصل بل قصد إثبات حكم آخر له وهو أن التائب لا يبقى فاسقا، وتعقبه العلامة الثاني بأنه إنما يتم إذا لم يكن معنى هُمُ الْفاسِقُونَ الثبات والدوام وإلا فلا تعذر للاتصال فلا وجه للانقطاع، وبينه فخر الإسلام بأن المستثنى غير داخل في صدر الكلام لأن التائب ليس بفاسق ضرورة إنه عبارة عمن قام به الفسق والتائب ليس كذلك لزوال الفسق بالتوبة، وهذا مبني على أنه يشترط في حقيقة اسم الفاعل بقاء معنى الفعل، وأما إذا لم يشترط ذلك فيتحقق التناول لكن لا يصح الإخراج لأن التائب ليس بمخرج ممن كان فاسقا في الزمان الماضي. واعترض بأن المستثنى منه على تقدير اتصال الاستثناء ليس هو الفاسقين بل الذين حكم عليهم بذلك وهم الذين يرمون المشار إليه بقوله تعالى: وَأُولئِكَ ولا شك أن التائبين داخلون فيهم مخرجون عن حكمهم وهو الفسق كأنه قيل جميع القاذفين فاسقون إلا التائبين منهم كما يقال القوم منطلقون إلا زيدا استثناء متصلا بناء على أن زيدا داخل في القوم مخرج عن حكم الانطلاق فيصح الاستثناء المتصل سواء جعل المستثنى منه بحسب اللفظ هو القوم أو الضمير المستتر في منطلقون بناء على أنه أقرب وأن عمل الصفة في المستثنى أظهر، وليس المراد أن المستثنى منه لفظا هو لفظ القوم البتة وإذا جعل المستثنى منه ضمير منطلقون فمعنى الكلام إن زيدا داخل في الذوات المحكوم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 299 عليهم بالإطلاق مخرج عن حكم الانطلاق كما في قولنا: انطلق القوم إلا زيدا وكذا الكلام في الآية. وأجيب بأن الفاسقين هاهنا إما أن يكون بمعنى الفاسق على قصد الدوام والثبات أو بمعنى من صدر عنه الفسق في الزمان الماضي أو من قام به الفسق في الجملة ماضيا كان أو حالا فإن أريد الأول فالتائب ليس بفاسق ضرورة قضاء الشارع بأن التائب ليس بفاسق حقيقة، ومن شرط الاستثناء المتصل أن يكون الحكم متناولا للمستثنى على تقدير السكوت عن الاستثناء وهذا مراد فخر الإسلام بعدم تناول الفاسقين للتائبين بخلاف منطلقون فإنه يدخل فيه زيد على تقدير عدم الاستثناء وإن أريد الثاني أو الثالث فلا صحة لإخراج التائب عن الفاسقين لأنه فاسق بمعنى صدور الفسق عنه في الجملة ضرورة أنه قاذف والقذف فسق. ولا يخفى أن منع عدم دخول التائبين في الفاسقين بالمعنى الذي ذكرنا ومنع عدم صحة إخراجهم عنهم بالمعنى الآخر غير موجه وأن الاستدلال على دخولهم بأنه قد حكم بالفسق على أُولئِكَ المشار به إلى الَّذِينَ يَرْمُونَ وهو عام ليس بصحيح للإجماع القاطع على أنه لا فسق مع التوبة، وكفى به مخصصا اهـ. وفيه أن الإجماع لا يكون مخصصا فيما نحن فيه لكونه متراخيا عن النص ضرورة أنه لا إجماع إلا بعد زمان النبي صلّى الله عليه وسلّم فالحكم بالفسق على أُولئِكَ المشار به إلى الَّذِينَ يَرْمُونَ وهو عام فيتم الاستدلال. وأجيب عن هذا بأن المراد بالتخصيص قصر العام على بعض ما يتناوله اللفظ لا التخصيص المصطلح وهو كما ترى وفي قوله: ومن شرط الاستثناء المتصل إلخ بحث يعلم مما سيأتي إن شاء الله تعالى قريبا، وقال العلامة: الظاهر كون الاستثناء متصلا أي أولئك الذين يرمون محكوم عليهم بالفسق إلا التائبين منهم فإنه غير محكوم عليهم بالفسق لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له وكأنه أراد أنهم غير محكوم عليهم بالفسق الدائم وهو المحكوم به عليهم في الصدر بقرينة الجملة الاسمية. وذكر بعض الأفاضل في توجيه كونه متصلا أن دخول المستثنى في المستثنى منه إنما يكون باعتبار تناول المستثنى منه وشموله إياه لا بحسب ثبوته له في الواقع كيف ولو ثبت الحكم له صح استثناؤه فهاهنا الَّذِينَ يَرْمُونَ شامل للتائبين منهم فلا يضر في صحة الاستثناء أنهم ليسوا بفاسقين وأن التوبة تنافي ثبوت الفسق كما إذا لم يدخل زيد في الانطلاق فإنه يصح استثناؤه باعتبار دخوله في القوم مثل انطلق القوم إلا زيدا. والحاصل أنه يكفي في الاستثناء دخول المستثنى في حكم المستثنى منه بحسب دلالة اللفظ وإن لم يدخل فيه بحسب دليل خارج كما يقال: خلق الله تعالى كل شيء إلا ذاته سبحانه وصفاته العلى، قال العلامة: ويمكن الجواب عن هذا بأنه لا فائدة للاستثناء المتصل على هذا التقدير لأن خروج المستثنى من حكم المستثنى منه معلوم فيحمل على المنقطع المفيد لفائدة جديدة وهذا مراد فخر الإسلام بعدم دخول التائبين في صدر الكلام وبحث فيه بأن عدم التناول الشرعي مستفاد من الاستثناء المذكور في الآية والحديث أعني التائب من الذنب كمن لا ذنب له مبين له فلا وجه لمنع وجود الفائدة وبأن كون خروج المستثنى من حكم المستثنى منه معلوما هنا غير معلوم لمكان الخلاف في اشتراط بقاء الفعل وبأن الفائدة الجديدة في المنقطع التي يعرى عنها المتصل غير ظاهرة، وقال أيضا: لا يقال لم لا يجوز أن يكون المستثنى منه هو الفاسقون ويكون الاستثناء لإخراج التائبين منهم في الحكم الذي هو الحمل على أولئك القاذفين والإثبات له فإن الاستثناء كما يجوز من المحكوم به يجوز من غيره كما يقال: كرام أهل بلدتنا أغنياؤهم إلا زيدا بمعنى أن زيدا وإن كان غنيا لكنه خارج عن الحمل على الكرام لأنا نقول: فحينئذ يلزم أن يكون التائبون من الفاسقين ولا يكونوا من القاذفين والأمر بالعكس، وقد يقال: إن الاستثناء منقطع على معنى أنهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 300 فاسقون في جميع الأحوال إلا حال التوبة، ولا يخفى أنه يحتاج إلى تكليف في التقدير أي إلا حال توبة الذين إلخ أو إلا توبة القاذفين أي وقت توبتهم على أن يجعل الَّذِينَ حرفا مصدريا لا اسما موصولا وضمير تابُوا عائدا على أُولئِكَ وبعد اللتيا والتي يكون الاستثناء مفرغا متصلا لا منقطعا انتهى فتأمل. وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ [النور: 6. 20] بيان لحكم الرامين لأزواجهم خاصة وهو ناسخ لعموم المحصنات وكانوا قبل نزول هذه الآية يفهمون من آية وَالَّذِينَ يَرْمُونَ إلخ أن حكم [النور: 4] من رمى الأجنبية وحكم من رمى زوجته سواء فقد أخرج أبو داود وجماعة عن ابن عباس قال: لما نزلت والَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ [النور: 4] الآية قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار: أهكذا أنزلت يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم؟ قالوا: يا رسول الله لا تلمه فإنه رجل غيور والله ما تزوج امرأة قط إلا بكرا وما طلق امرأة فاجترأ رجل منا على أن يتزوجها من شدة غيرته فقال: سعد والله يا رسول الله إني لأعلم أنها حق وأنها من عند الله تعالى ولكني تعجبت أني لو وجدت لكاعا قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء فو الله لا آتي بهم حتى يقضي حاجته قال: فما لبثوا يسيرا حتى جاء هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم فغدا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول إني جئت أهلي (1) عشاء فوجدت عندها رجلا (2) فرأيت بعيني   (1) اسمها خولة بنت عاصم اهـ منه. (2) هو شريك بن سحماء كما في صحيح البخاري اهـ منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 301 وسمعت بأذني فكره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما جاء به واشتد عليه واجتمعت الأنصار فقالوا: قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة الآن يضرب رسول الله عليه الصلاة والسلام هلال بن أمية وتبطل شهادته في المسلمين فقال هلال: والله إني لأرجو أن يجعل الله تعالى لي منها مخرجا فقال: يا رسول الله إني قد أرى ما اشتد عليك مما جئت به والله تعالى يعلم إني لصادق فو الله إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يريد أن يأمر بضربه إذ نزل على رسول الله عليه الصلاة والسلام الوحي وكان إذا نزل عليه عليه الصلاة والسلام الوحي عرفوا ذلك في تربد جلده فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي فنزلت وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ الآية فسري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال أبشر يا هلال قد كنت أرجو ذلك من ربي، وقال عليه الصلاة والسلام أرسلوا إليها فجاءت فتلاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليهما وذكرهما وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا فقال: هلال والله يا رسول الله لقد صدقت عليها فقالت: كذب فقال: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لاعنوا بينهما» الحديث ، ومنه وكذا من رواية أخرى ذكرها البخاري في صحيحه والترمذي: وابن ماجة يعلم أن قصة هلال سبب نزول الآية، وقيل: نزلت في عاصم بن عدي، وقيل: في عويمر بن نصر العجلاني وفي صحيح البخاري ما يشهد له بل قال السهيلي إن هذا هو الصحيح ونسب غيره للخطأ، والمشهور كما في البحر أن نازلة هلال قبل نازلة عويمر، وأخرج أبو يعلى. وابن مردويه عن أنس أنه قال: لأول لعان كان في الإسلام ما وقع بين هلال بن أمية وزوجته، ونقل الخفاجي هنا عن السبكي إشكالا وأنه قال: إنه إشكال صعب وارد على آية اللعان والسرقة والزنا وهو أن ما تضمن الشرط نص في العلية مع الفاء ومحتمل لها بدونها ولتنزيله منزلة الشرط يكون ما تضمنه من الحدث مستقبلا لا ماضيا فلا ينسحب حكمه على ما قبله ولا يشمل ما قبله من سبب النزول، وتعقبه بأنه لا صعوبة فيه بل هو أسهل من شرب الماء البارد في حر الصيف لأن هذا وأمثاله معناه إن أردتم معرفة هذا الحكم فهو كذا فالمستقبل معرفة حكمه وتنفيذه وهو مستقبل في سبب النزول وغيره، والقرينة على أن المراد هذا أنها نزلت في أمر ماض أريد بين حكمه ولذا قالوا: دخول سبب النزول قطعي. ولا حاجة إلى القول بأن الشرط قد يدخل على الماضي ولا أن ما تضمن الشرط لا يلزمه مساواته لصريحه من كل وجه ولا أن دخول ما ذكر بدلالة النص لفساده هنا انتهى، ثم إن المراد هنا نظير ما مر والذين يرمون بالزنا أزواجهم المدخول بهن وغير المدخول بهن وكذا المعتدات في طلاق رجعي وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ أربعة يشهدون بما رموهن به من الزنا. وقرىء «تكن» بالتاء الفوقية وقراءة الجمهور أفصح إِلَّا أَنْفُسُهُمْ بدل من شُهَداءُ لأن الكلام غير موجب والمختار فيه الإبدال أو إلا بمعنى غير صفة لشهداء ظهر إعرابها على ما بعدها لكونها على صورة الحرف كما قالوا في أل الموصولة الداخلة على أسماء الفاعلين مثلا، وفي جعلهم من جملة الشهداء إيذان كما قيل من أول الأمر بعدم إلغاء قولهم بالمرة ونظمه في سلك الشهادة وبذلك ازداد حسن إضافة الشهادة إليهم في قوله تعالى: فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أي شهادة كل واحد منهم وهو مبتدأ وقوله سبحانه: أَرْبَعُ شَهاداتٍ خبره أي فشهادتهم المشروعة أربع شهادات بِاللَّهِ متعلق بشهادات، وجوز بعضهم تعلقه بشهادة. وتعقب بأنه يلزم حينئذ الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي وهو الخبر، وأنت تعلم أن في كون الخبر أجنبيا كلاما وأن بعض النحويين أجاز الفصل مطلقا وبعضهم أجازه فيما إذا كان المعمول ظرفا كما هنا. وقرأ الأكثر «أربع» بالنصب على المصدرية والعامل فيه «شهادة» وهي خبر مبتدأ محذوف أي فالواجب شهادة أو مبتدأ خبره محذوف أي فعليهم شهادة أو فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله واجبة أو كافية، ولا خلاف في جواز تعلق الجار على هذه القراءة بكل من الشهادة والشهادات وإنما الخلاف في الأولى إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ أي فيما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 302 رماها به من الزنا، والأصل على أنه إلخ فحذف الجار وكسرت إن وعلق العامل عنها باللام للتأكيد، ولا يختص التعليق بأفعال القلوب بل يكون فيما يجري مجراها ومنه الشهادة لإفادتها العلم، وجوز أن تكون الجملة جوابا للقسم بناء على أن الشهادة هنا بمعنى القسم حتى قال الراغب. إنه يفهم منها ذلك وإن لم يذكر بِاللَّهِ وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك وَالْخامِسَةُ أي والشهادة الخامسة للأربع المتقدمة أي الجاعلة لها خمسا بانضمامها إليهن، وإفرادها مع كونها شهادة أيضا لاستقلالها بالفحوى ووكادتها في إفادتها ما يقصده بالشهادة من تحقيق الخبر وإظهار الصدق، وهي مبتدأ خبره قوله تعالى: أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ فيما رماها به من الزنا وَيَدْرَؤُا أي يدفع عَنْهَا الْعَذابَ أي العذاب الدنيوي وهو الحبس عندنا والحد عند الشافعي، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق الكلام فيه أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ أي الزوج لَمِنَ الْكاذِبِينَ فيما رماها به من الزنا وَالْخامِسَةَ بالنصب عطفا على أَرْبَعَ شَهاداتٍ وقوله تعالى: أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ أي الزوج مِنَ الصَّادِقِينَ فيما رماها به من الزنا بتقدير حرف الجر أي بأن غضب إلخ، وجوز أن تكون أَنَّ وما بعدها بدلا من الْخامِسَةَ وتخصيص الغضب بجانب المرأة للتغليظ عليها لما أنها مادة الفجور ولأن النساء كثيرا ما يستعملن اللعن فربما يتجرين على التفوه به لسقوط وقعه عن قلوبهن بخلاف غضبه جل جلاله. وقرأ طلحة والحسن والأعمش وخالد بن إياس بنصب الْخامِسَةُ في الموضعين وقد علمت وجه النصب في الثاني، وأما وجه النصب في الأول فهو عطف الْخامِسَةَ على أَرْبَعَ شَهاداتٍ على قراءة من نصب أَرْبَعَ وجعلها مفعولا لفعل محذوف يدل عليه المعنى على قراءة من رفع أَرْبَعَ أي ويشهد الخامسة، والكلام في أَنَّ لَعْنَتَ إلخ كما سمعت في أَنَّ غَضَبَ إلخ. وقرأ نافع أن لعنة بتخفيف أن ورفع لعنة وأن غضب بتخفيف أن وغضب فعل ماض والجلالة بعد مرفوعة، وأن في الموضعين مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن ولم يؤت بأحد الفواصل بين قد والسين ولا بينها وبين الفعل في الموضع الثاني لكون الفعل في معنى الدعاء فما هناك نظير قوله تعالى: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ [النمل: 8] فلا غرابة في هذه القراءة خلافا لما يوهمه كلام ابن عطية. وقرأ الحسن وأبو رجاء، وقتادة وعيسى وسلام وعمرو بن ميمون والأعرج ويعقوب بخلاف عنهما «أن لعنة» كقراءة نافع و «أن غضب» بتخفيف «أن» و «غضب» مصدر مرفوع، هذا ظاهر قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ العموم والمذكور في كتب الأصحاب أنه يشترط في القاذف وزوجته التي قذفها أن يكون لهما أهلية أداء الشهادة على المسلم فلا يجري اللعان بين الكافرين والمملوكين ولا إذا كان أحدهما مملوكا أو صبيا أو مجنونا أو محدودا في قذف، ويشترط في الزوجة كونها مع ذلك عفيفة عن الزنا وتهمته بأن لم توطأ حراما لعينه ولو مرة بشبهة أو بنكاح فاسد ولم يكن لها ولد بلا أب معروف في بلد القذف، واشتراط هذا لأن اللعان قائم مقام حد القذف في حق الزوج كما يشير إليه ما قدمناه من الخبر لكن بالنسبة إلى كل زوجة على حدة لا مطلقا ألا ترى أنه لو قذف بكلمة أو كلمات أربع وزوجات له بالزنا لا يجزيه لعان واحد لهن بل لا بد أن يلاعن كلا منهن، ولو قذف أربع أجنبيات كذلك حد حدا واحدا بهن، فمتى لم تكن الزوجة ممن يحد قاذفها كما إذا لم تكن عفيفة لم يتحقق في قذفها ما يوجب الحد ليقام اللعان مقامه، وأما اشتراط كونهما ممن له أهلية أداء الشهادة فلأن اللعان شهادات مؤكدات بالأيمان عندنا خلافا للشافعي فإنه عنده أيمان مؤكدة وهو الظاهر من قول مالك وأحمد فيقع ممن كان أهلا لليمين وهو ممن يملك الطلاق فكل من يملكه فهو أهل اللعان عنده فيكون من كل زوج عاقل وإن كان كافرا أو عبدا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 303 واستدل على أن اللعان أيمان مؤكدة بقوله سبحانه: فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ وذلك أن قوله تعالى: بِاللَّهِ محكم في اليمين والشهادة محتملة لليمين ألا يرى أنه لو قال: أشهد ينوي به اليمين كان يمينا فيحمل المحتمل على المحكم لأن حمله على حقيقته متعذر لأن المعهود في الشرع عدم قبول شهادة الإنسان لنفسه بخلاف يمينه، وكذا المعهود شرعا عدم تكرر الشهادة في موضع بخلاف اليمين فإن تكرره معهود في القسامة، ولأن الشهادة محلها الإثبات واليمين للنفي فلا يتصور تعلق حقيقتهما بأمر واحد فوجب العمل بحقيقة أحدهما ومجاز الآخر فليكن المجاز لفظ الشهادة لما سمعت من الموجبين. واستدل أصحابنا على أنه شهادات مؤكدة بأيمان بالآية أيضا لأن الحمل على الحقيقة يجب عند الإمكان وقوله سبحانه وتعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ أثبت أنهم شهداء لأن الاستثناء من النفي إثبات وجعل الشهداء مجازا عن الحالفين يصير المعنى ولم يكن لهم حالفون إلا أنفسهم وهو غير مستقيم لأنه يفيد أنه إذا لم يكن للذين يرمون أزواجهم من يحلف لهم يحلفون لأنفسهم وهذا فرع تصور حلف الإنسان لغيره ولا وجود له أصلا فلو كان معنى اليمين حقيقيا للفظ الشهادة كان هذا صارفا عنه إلى مجازه كيف وهو مجازي لها ولو لم يكن هذا كان إمكان العمل بالحقيقة موجبا لعدم الحمل على اليمين فكيف وهذا صارف عن المجاز وما توهم كونه صارفا مما ذكر غير لازم قوله قبول الشهادة لنفسه وتكرر الأداء لا عهد بهما قلنا: وكل من الحلف لغيره والحلف لإيجاب الحكم لا عهد به بل اليمين لرفع الحكم فإن جاز شرعية هذين الأمرين في محل بعينه ابتداء جاز أيضا شرعية ذلك ابتداء بل هي أقرب لعقلية كون التعدد في ذلك أربعا بدلا عما عجز عنه من إقامة شهود الزنا وهم أربع وعدم قبول الشهادة له عند التهمة ولذا تثبت عند عدمها أعظم ثبوت قال الله عز وجل: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران: 18] فغير بعيد أن تشرع عند ضعفها بواسطة تأكيدها باليمين وإلزام اللعنة والغضب إن كان كاذبا مع عدم ترتب موجبها في حق كل من الشاهدين إذ موجب شهادة كل إقامة حد على الآخر وليس ذلك بثابت هنا بل الثابت عند الشهادتين هو الثابت بالأيمان وهو اندفاع موجب دعوى كل عن الآخر، وإنما قيل عندهما ولم يقل بهما لأن هذا الاندفاع ليس موجب الشهادتين بل هو موجب تعارضهما، وأما قوله: واليمين للنفي إلخ فمحله ما إذا وقعت في إنكار دعوى مدع وإلا فقد يحلف على إخبار بأمر نفي أو إثبات وهنا كذلك فإنها على صدقه في الشهادة، والحق أنها على ما وقعت الشهادة به وهو كونه من الصادقين فيما رماها به كما إذا جمع أيمانا على أمر واحد يخبر به فإن هذا هو حقيقة كونها مؤكدة للشهادة إذ لو اختلف متعلقهما لم يكن أحدهما مؤكدا للآخر. وأورد على اشتراط الأهلية لأداء الشهادة أنهم قالوا: إن اللعان يجري بين الأعميين والفاسقين مع أنه لا أهلية لهما لذلك. ودفع بأنهما من أهل الأداء إلا أنه لا يقبل للفسق ولعدم تمييز الأعمى بين المشهود له وعليه وهنا هو قادر على أن يفصل بين نفسه وزوجته فيكون أهلا لهذه الشهادة دون غيرها، وروى ابن المبارك عن أبي حنيفة أن الأعمى لا يلاعن وعمم القهستاني الأهلية فقال: ولو بحكم القاضي والفاسق يصح القضاء بشهادته وكذا الأعمى على القول بصحتها فيما يثبت بالتسامع كالموت والنكاح والنسب وهذا بخلاف المحدود بالقذف فإنه لا يصح القضاء بشهادته، ولعل مراد ابن كمال باشا بقوله: لو قضى بشهادة المحدود بالقذف نفذ نفاذ الحكم بصحتها ممن يراها كشافعي على ما قيل وهو خلاف ظاهر كلامه كما لا يخفى على من رجع إليه، ويشترط كون القذف في دار الإسلام وكونه بصريح الزنا فلا لعان بالقذف باللواط عند الإمام وعندهما فيه لعان ولا لعان بالقذف كناية وتعريضا والقذف بصريحه نحو أن يقال: أنت زانية أو يا زانية أو رأيتك تزنين، والمشهور عن مالك أن القذف بالأولين يوجب الحد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 304 والذي يوجب اللعان القذف بالأخير وهو قول الليث وعثمان ويحيى بن سعيد، وضعف بأن الكل رمي بالزنا وهو السبب كما تدل عليه الآية فلا فرق، وبمنزلة القذف بالصريح نفي نسب ولدها منه أو من غيره. وفي المحيط والمبتغى إذا نفى الولد فقال: ليس هذا بابني ولم يقذفها بالزنا لا لعان بينهما لأن النفي ليس بقذف لها بالزنا يقينا لاحتمال أن يكون الولد من غيره بوطء شبهة وهو احتمال ساقط لا يلتفت إليه كما حققه زين في البحر، ويشترط في وجوب اللعان طلب الزوجة في مجلس القاضي كما في البدائع إذا كان القذف بصريح الزنا لأن اللعان حقها فإنه لدفع العار عنها وبذلك قالت الأئمة الثلاثة أيضا، وإذا كان القذف بنفي الولد فيشترط طلب القاذف لأنه حقه أيضا لاحتياجه إلى نفي من ليس ولده عنه ويجب عليه هذا النفي إذا تيقن أن الولد ليس منه لما في السكوت أو الإقرار من استلحاق نسب من ليس منه وهو حرام كنفي نسب من هو منه، فقد روى أبو داود والنسائي أنه عليه الصلاة والسلام قال حين نزلت آية الملاعنة: «أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله تعالى في شيء ولن يدخلها الله تعالى جنته وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله عز وجل عنه يوم القيامة وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين» وإن احتمل أن يكون الولد منه فلا يجب بل قد يباح وقد يكون خلاف الأولى بحسب قوة الاحتمال وضعفه، وقد يضعف الاحتمال إلى حد لا يباح معه النفي كأن أتت امرأته المعروفة بالعفاف بولد لا يشبهه فعن أبي هريرة «أن رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم إن امرأتي ولدت غلاما أسود فقال: هل لك من إبل؟ قال: نعم قال ما ألوانها؟ قال: حمر قال: فهل فيها أورق؟ قال: نعم قال: فكيف ذلك؟ قال: نزعه عرق قال: فلعل هذا نزعه عرق» وذكروا فيما إذا كانت متهمة برجل فأتت بولد يشبهه وجهين إباحة النفي وعدمها، وأما القذف بصريح الزنا فمع التحقق يباح ويجوز أن يستر عليها ويمسكها لظاهر ما روي من «أن رجلا قال: يا رسول الله إن امرأتي لا ترديد لامس قال طلقها قال: إني أحبها قال فأمسكها» وفيه احتمال آخر ذكره شراح الحديث مع عدم التحقق لا يباح ذلك، والأفضل للزوجة أن لا تطالب باللعان وتستر الأمر وللحاكم أن يأمرها وإذا طلبت وقد أقر الزوج بقذفها أو ثبت بالبينة وهي رجلان لا رجل وامرأتان إذ لا شهادة للنساء في الحدود، وما في النهر والدر المنتقى من جواز ذلك سبق قلم لاعن إن كان مصرا وعجز عن البينة على زناها أو على إقرارها به أو على تصديقها له أو أقام البينة على ذلك ثم عمي الشاهدان أو فسقا أو ارتدا وهذا بخلاف ما إذا ماتا أو غابا بعد ما عدلا فإنه حينئذ لا يقضى باللعان فإن امتنع حد حد القذف وكذا إذا لاعن فامتنعت تحد عنده حد الزنا وعندنا تحبس حتى تلاعن أو تصدقه فيرتفع سبب وجوب لعانهما وهو التكاذب على ما قيل، والأوجه كون السبب القذف والتكاذب شرطه: وكما لا لعان مع التصديق إذا كان بلفظ صدقت لا حد عليها ولو أعادت ذلك أربع مرات في مجالس متفرقة لأن التصديق المذكور ليس بإقرار قصدا وبالذات فلا يعتبر في وجوب الحد بل في درئه فيندفع به اللعان ولا يجب به الحد وكذا يندفع بذلك كما في كافي الحاكم الحد عن قاذفها بعد ولو صدقته في نفي الولد فلا حد ولا لعان أيضا وهو ولدهما لأن النسب إنما ينقطع بحكم اللعان ولم يوجد وهو حق الولد فلا يصدقان في إبطاله وما في شرحي الوقاية والنقاية من أنها إذا صدقته ينتفي غير صحيح كما نبه عليه في شرح الدرر والغرر. ووجه قول الشافعي بالحد عند الامتناع أن الواجب بالقذف مطلقا الحد لعموم قوله سبحانه: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ إلخ إلا أنه يتمكن من دفعه فيما إذا كانت المقذوفة زوجة باللعان تخفيفا عليه فإذا لم يدفعه به يحد وكذا المرأة تلاعن بعد ما أوجب الزوج عليها اللعان بلعانه فإذا امتنعت حدت للزنا ويشير إليه قوله سبحانه وتعالى: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ ووجه قولنا إن قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ إلى قوله تعالى: فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 305 إلخ يفهم منه كيفما كانت القراءة أن الواجب في قذف الزوجات اللعان ولا ينكر ذلك إلا مكابر فإما أن يكون ناسخا أو مخصصا لعموم ذلك العام والظاهر عندنا كونه ناسخا لتراخي نزوله كما تشهد له الأخبار الصحيحة والمخصص لا يكون متراخي النزول وعلى التقديرين يلزم كون الحكم الثابت في قذف الزوجات إنما هو ما تضمنته الآية من اللعان حال قيام الزوجية كما هو الظاهر فلا يجب غيره عند الامتناع عن إيفائه بل يحبس لإيفائه كما في كل حق امتنع من هو عليه عن إيفائه ولم يتعين كون المراد من العذاب في الآية الحد لجواز كونه الحبس وإذا قام الدليل على أن اللعان هو الواجب وجب حمله عليه. قيل: والعجب من الشافعي عليه الرحمة لا يقبل شهادة الزوج عليها بالزنا مع ثلاثة عدول ثم يوجب الحد عليها بقوله وحده وإن كان عبدا فاسقا، وأعجب منه أن اللعان يمين عنده وهو لا يصلح لإيجاب المال ولا لإسقاطه بعد الوجوب وأسقط به كل من الرجل والمرأة الحد عن نفسه وأوجب به الرجم الذي هو أغلظ الحدود على المرأة، فإن قال: إنما يوجب عليها لنكولها بامتناعها عن اللعان قلنا: هو أيضا من ذلك العجب فإن كون النكول إقرارا فيه شبهة والحد مما يندفع بها مع أنه غاية ما يكون بمنزلة إقراره مرة، ثم إن هذه الشبهة أثرت عنده في منع إيجاب المال مع أنه يثبت مع الشبهة فكيف يوجب الرجم به وهو أغلظ الحدود وأصعبها إثباتا وأكثرها شروطا انتهى، وليراجع في ذلك كتب الشافعية. وفي النهر نقلا عن الأسبيجابي أنهما يحبسان إذا امتنعا عن اللعان بعد الثبوت، ثم قال: وينبغي حمله على ماذا لم تعف المرأة كما في البحر، وعندي في حبسها بعد امتناعه نوع إشكال لأن اللعان لا يجب عليها إلا بعد لعانه فقبله ليس امتناعا لحق وجب عليها انتهى. وأجاب الطحاوي بأنه بعد الترافع منهما صار إمضاء اللعان حق الشرع فإذا لم تعف وأظهرت الامتناع تحبس بخلاف ما إذا أبى هو فقط فلا تحبس انتهى. وقيل: ليس المراد امتناعهما في آن واحد بل المراد امتناعه بعد المطالبة به وامتناعها بعد لعانه فتأمل. والمتبادر من الشهادة ما كان قولا حقيقة، ولذا قالوا: لا لعان لو كانا أخرسين أو أحدهما لفقد الركن وهو لفظ أشهد، وعلل أيضا بأن هناك شبهة احتمال تصديق أحدهما للآخر لو كان ناطقا والحد يدرأ بالشبهة وكتابة الأخرس في هذا الفصل كإشارته لا يعول عليها، وذكروا لو طرأ الخرس بعد اللعان قبل التفريق فلا تفريق ولا حد، ويشعر ظاهر الآية بتقديم لعان الزوج وهو المأثور في السنة فلو بدأ القاضي بأمرها فلاعنت قبله فقد أخطأ السنة ولا يجب كما في الغاية أن تعيد لعانها بعد وبه قال مالك. وفي البدائع ينبغي أن تعيد لأن اللعان شهادة المرأة وشهادتها تقدح في شهادة الزوج فلا تصح إلا بعد وجود شهادته ولهذا يبدأ بشهادة المدعي في باب الدعوى ثم بشهادة المدعى عليه بطريق الدفع له، ونقل ذلك عن الشافعي وأحمد عليهما الرحمة وأشهب من المالكية، والوجه ما تقدم فقد أعقب في الآية الرمي بشهادة أحدهم وشهادتها الدارئة عنها العذاب فيكون هذا المجموع بعد الرمي، وليس في الآية ما يدل على الترتيب بين أجزاء المجموع، وهذا نظير ما قرره بعض أجلّة الأصحاب في قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ [المائدة: 6] الآية في بيان أنه لا يدل على فرضية الترتيب كما يقوله الشافعية، وظاهر الآية أنه لا يجب في لعانه أن يأتي بضمير المخاطبة ولا في لعانها أن تأتي بضمير المخاطب، ففي الهداية صفة للعان أن يبتدىء به القاضي فيشهد أربع مرات يقول في كل مرة: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا ويقول في الخامسة: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رميتها به من الزنا يشير في جميع ذلك ثم تشهد المرأة أربع مرات تقول في كل مرة أشهد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 306 بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا وتقول في الخامسة: غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماني به من الزنا والأصل فيه الآية، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يأتي بلفظة المواجهة ويقول فيما رميتك به من الزنا أي وتأتي هي بذلك أيضا وتقول: إنك لمن الكاذبين فيما رميتني به من الزنا لأنه أقطع للاحتمال وهو احتمال إضمار مرجع للضمير الغائب غير المراد، ووجه الأول أن لفظة المغايبة إذا انضمت إليها الإشارة انقطع الاحتمال، وعن الليث أنه يكتفى في اللعان بالكيفية المذكورة في الآية ويأتي الملاعن مكان ضمير الغائب بضمير المتكلم في شهادته مطلقا وتأتي الملاعنة بذلك في شهادتها الخامسة فتدخل على (علي) ياء الضمير، والمراد من الاكتفاء بالكيفية المذكورة أنه لا يحتاج إلى زيادة فيما رميتها به من الزنا في شهادته وإلى زيادة فيما رماني به من الزنا في شهادتها، وما ذكر من الإتيان بضمير المتكلم هو الظاهر ولم يؤت به في النظم الكريم لتتسق الضمائر وتكون في جميع الآية على طرز واحد مع ما في ذلك من نكتة رعاية التالي على ما قيل، وليس في الآية التفات أصلا كما توهم بعض من أدركناه من فضلاء العصر، وأما ما أشير من عدم الاحتياج إلى زيادة ما تقدم فالظاهر أن الأحوط خلافه وقد جاءت تلك الزيادة فيما وقع في زمانه صلّى الله عليه وسلّم من اللعان بين هلال وزوجته على ما في بعض الروايات، وذكر الأصحاب أنه يزيد في صورة اللعان بالقذف بنفي الولد بعد قوله: لمن الصادقين قوله فيما رميتك به من نفي الولد وأنها تزيد بعد لمن الكاذبين قولها: فيما رميتني به من نفي الولد: ولو كان القذف بالزنا ونفي الولد ذكر في اللعان الأمران، ونقل أبو حيان عن مالك أن الملاعن يقول: أشهد بالله إني رأيتها تزني والملاعنة تقول أشهد بالله ما رآني أزني وعن الشافعي أن الزوج يقول: أشهد بالله إني لصادق فيما رميت به زوجتي فلانة بنت فلان ويشير إليها إن كانت حاضرة أربع مرات ثم يقعده الإمام ويذكره الله تعالى فإن رآه يريد أن يمضي أمر من يضع يده على فيه فإن لم يمتنع تركه وحينئذ يقول الخامسة ويأتي بياء الضمير مع (على) وإن كان قد قذفها بأحد يسميه بعينه واحدا أو اثنين في كل شهادة، وإن نفى ولدها زاد وإن هذا الولد ولد زنا ما هو مني، والتخويف بالله عز وجل مشروع في حق المتلاعنين، فقد صح في قصة هلال أنه لما كان الخامسة قيل له: اتق الله تعالى واحذر عقابه فإن عذاب الدنيا أسهل من عذاب الآخرة وإن هذه هي الموجبة التي توجب عليك العقاب، وقيل: نحو ذلك لامرأته عند الخامسة أيضا. وفي ظاهر الآية رد على الشافعي عليه الرحمة حيث قال إنه بمجرد لعان الزوج تثبت الفرقة بينهما وذلك لأن المتبادر أنها تشهد الشهادات وهي زوجة ومتى كانت الفرقة بلعان الزوج لم تبق زوجة عند لعانها، والذي ذهب إليه أبو حنيفة عليه الرحمة أنه إذا وقع التلاعن تثبت حرمة الوطء ودواعيه عن الملاعن فإن طلقها فذاك وإن لم يطلقها بانت بتفريق الحاكم وإن لم يرضيا بالفرقة، ولو فرق خطأ بعد وجود الأكثر من كل منهما صح، ويشترط كون التفريق بحضورهما وحضور الوكيل كحضور الأصيل ويتوارثان قبله، ولو زالت أهلية اللعان بعده فإن كان بما يرجى زواله كجنون فرق وإلّا لا، وقال زفر: تقع الفرقة بتلاعنهما وإن أكذب نفسه من بعد اللعان والتفريق وحد أم لم يحد يحل له تزوجها عند أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف إذا افترق المتلاعنان فلا يجتمعان أبدا وتثبت بينهما حرمة كحرمة الرضاع وبه قالت الأئمة الثلاثة، وأدلة هذه الأقوال وما لها وما عليها تطلب من كتب الفقه المبسوطة، واستدل بمشروعية اللعان على جواز الدعاء باللعن على كاذب معين فإن قوله: لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ دعاء على نفسه باللعن على تقدير كذبه وتعليقه على ذلك لا يخرجه عن التعيين، نعم يقال إن مشروعيته إن كان صادقا فلو كان كاذبا فلا يحل له، واستدل الخوارج على أن الكذب كفر لاستحقاق من يتصف به اللعن وكذا الزنا كفر لاستحقاق فاعله الغضب فإن كلا من اللعن والغضب لا يستحقه إلا الكافر لأن اللعن الطرد عن الرحمة وهو لا يكون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 307 إلا لكافر والغضب أعظم منه، وفيه أنه لا يسلم أن اللعن في أي موضع وقع بمعنى الطرد عن الرحمة فإنه قد يكون بمعنى الإسقاط عن درجة الأبرار وقد يقصد به إظهار خساسة الملعون، وكذا لا يسلم اختصاص الغضب بالكافر وإن كان أشد من اللعن والله تعالى أعلم. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ التفات إلى خطاب الرامين والمرميات بطريق التغليب لتوفية مقام الامتنان حقه، وجواب لَوْلا محذوف لتهويله حتى كأنه لا توجد عبارة تحيط ببيانه، وهذا الحذف شائع في كلامهم. قال جرير: كذب العواذل لو رأين مناخنا ... بحزيز رامة والمطي سوام ومن أمثالهم لو ذات سوار لطمتني فكأنه قيل: لولا تفضله تعالى عليكم ورحمته سبحانه وأنه تعالى مبالغ في قبول التوبة حكيم في جميع أفعاله وأحكامه التي من جملتها ما شرع لكم من حكم اللعان لكان مما لا يحيط به نطاق البيان، ومن جملته أنه تعالى لو لم يشرع لهم ذلك لوجب على الزوج حد القذف مع أن الظاهر صدقه لأنه أعرف بحال زوجته وأنه لا يفتري عليها لاشتراكهما في الفضاحة، وبعد ما شرع لهم لو جعل شهاداته موجبة لحد الزنا عليها لفات النظر إليها، ولو جعل شهاداته موجبة لحد القذف عليه لفات النظر له، ولا ريب في خروج الكل عن سنن الحكمة والفضل والرحمة، فجعل شهادات كل منهما مع الجزم بكذب أحدهما حتما دارئة لما توجه إليه من الغائلة الدنيوية، وقد ابتلي الكاذب منهما في تضاعيف شهاداته من العذاب بما هو أتم مما درأته عنه وأطم وفي ذلك من أحكام الحكم البالغة وآثار التفضل والرحمة ما لا يخفى أما على الصادق فظاهر وأما على الكاذب فهو إمهاله والستر عليه في الدنيا ودرء الحد عنه وتعريضه للتوبة حسبما ينبىء عنه التعرض لعنوان توابيته تعالى فسبحانه ما أعظم شأنه وأوسع رحمته وأدق حكمته قال شيخ الإسلام، وعن ابن سلام تفسير الفضل بالإسلام ولا يخفى أنه مما لا يقتضيه المقام، وعن أبي مسلم أنه أدخل في الفضل النهي عن الزنا ويحسن ذلك لو جعلت الجملة تذييلا لجميع ما تقدم من الآيات وفيه من البعد ما فيه إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ أي بأبلغ ما يكون من الكذب والافتراء وكثيرا ما يفسر بالكذب مطلقا، وقيل: هو البهتان لا تشعر به حتى يفجأك، وجوز فيه فتح الهمزة والفاء وأصله من الأفك بفتح فسكون وهو القلب والصرف لأن الكذب مصروف عن الوجه الذي يحق، والمراد به ما افك به الصديقة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها على أن اللام فيه للعهد، وجوز حمله على الجنس قيل فيفيد القصر كأنه لا إفك إلا ذلك الإفك، وفي لفظ المجيء إشارة إلى أنهم أظهروه من عند أنفسهم من غير أن يكون له أصل، وتفصيل القصة ما أخرجه البخاري وغيره عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد أن يخرج أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معه. قالت عائشة. فأقرع بيننا في غزوة (1) غزاها فخرج سهمي فخرجت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد ما نزل الحجاب فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من تلك وقفل ودنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع فالتمست عقدي وحبسني ابتغاؤه وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت ركبت وهم يحسبون أني فيه وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهن اللحم إنما   (1) هي غزوة بني المصطلق وكانت في سنة ست اهـ منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 308 نأكل العلقة من الطعام فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا فوجدت عقدي بعد ما استمر الجيش فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب فأممت منزلي الذي كنت به وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إليّ فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني وكان يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي والله ما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلته فوطئ على يديها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة فهلك فيّ من هلك وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبيّ ابن سلول فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي إنما يدخل علي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيسلم ثم يقول: كيف تيكم؟ ثم ينصرف فذاك الذي يريبني ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعد ما نقهت فخرجت معي أم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط فكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا فانطلقت أنا وأم مسطح وهي ابنة أبي رهم بن عبد مناف وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق وابنها مسطح بن أثاثة فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي قد فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح فقلت لها: بئس ما قلت أتسبين رجلا شهد بدرا؟ قالت: أي هنتاه أولم تسمعي ما قال؟ قالت: قلت وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي فلما رجعت إلى بيتي ودخل عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: كيف تيكم؟ فقلت: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ قالت: وأنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما قالت: فأذن لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجئت أبوي فقلت لأمي (1) : يا أمتاه ما يتحدث الناس؟ قالت: يا بنية هوني عليك فو الله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل ولها ضرائر إلا كثرن عليها قالت: فقلت سبحان الله ولقد تحدث الناس بهذا قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم حتى أصبحت أبكي فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستأمرهما في فراق أهله قالت: فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه من الود فقال: يا رسول الله أهلك وما نعلم إلا خيرا وأما عليّ بن أبي طالب فقال: يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير وإن تسأل الجارية تصدقك قالت: فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بريرة فقال: أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك؟ قالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاستعذر يومئذ من عبد الله بن أبي ابن سلول قالت: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو على المنبر: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي؟ فو الله ما علمت على أهلي إلا خيرا ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: يا رسول الله أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك قالت: فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية فقال لسعد: كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين فثار الحيان   (1) هي أم رومان زينب بنت دهمان اهـ منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 309 من الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائم على المنبر فلم يزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخفضهم حتى سكتوا وسكت قالت: فمكثت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم قالت: فأصبح أبواي عندي قد وبكيت ليلتين ويوما لا أكتحل بنوم ولا يرقأ لي دمع يظناني أن البكاء فالق كبدي قالت: فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي فاستأذنت عليّ امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي قالت: فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسلم ثم جلس قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل فيّ ما قيل قبلها وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني قالت: فتشهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين جلس ثم قال: أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه قالت: فلما قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة فقلت لأبي: أجب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما قال قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله فقلت لأمي: أجيبي رسول الله قالت: ما أدري ما أقول لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالت: فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن: إني والله لقد علمت أنكم سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به فلئن قلت لكم: إني برية والله يعلم أني برية لا تصدقوني ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه برية لتصدقني والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا قول أبي يوسف فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ [يوسف: 18] فاضطجعت على فراشي وأنا حينئذ أعلم أني برية وأن الله مبرئني ببراءتي ولكن ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يتلى ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بأمر يتلى ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في النوم رؤيا يبرئني الله بها قالت: فو الله ما رام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق وهو في يوم شات من ثقل القول الذي ينزل عليه قالت: فلما سري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سري عنه وهو يضحك فكان أول كلمة تكلم بها: يا عائشة أما الله فقد برأك فقالت أمي: قومي إليه فقلت: والله لا أقوم ولا أحمد إلا الله وأنزل الله إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ العشر الآيات كلها، والظاهر أن قوله تعالى: عُصْبَةٌ مِنْكُمْ خبر إن وإليه ذهب الحوفي وأبو البقاء، وقال ابن عطية: هو بدل من ضمير «جاؤوا» والخبر جملة قوله تعالى: لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ والتقدير إن فعل الذين وهذا أنسق في المعنى وأكثر فائدة من أن يكون عُصْبَةٌ الخبر انتهى، ولا يخفى أنه تكلف، والفائدة في الاخبار على الأول قيل: التسلية بأن الجائين بذلك الإفك فرقة متعصبة متعاونة وذلك من أمارات كونه إفكا لا أصل له، وقيل: الأولى أن تكون التسلية بأن ذلك مما لم يجمع عليه بل جاء به شرذمة منكم، وزعم أبو البقاء أنه بوصف العصبة بكونها منهم أفاد الخبر، وفيه نظر. والخطاب في مِنْكُمْ على ما أميل إليه لمن ساءه ذلك من المؤمنين ويدخل فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر وأم رومان وعائشة وصفوان دخولا أوليا، وأصل العصبة الفرقة المتعصبة قلت أو كثرت وكثر إطلاقها على العشرة فما فوقها إلى الأربعين وعليه اقتصر في الصحاح، وتطلق على أقل من ذلك ففي مصحف حفصة عصبة أربعة. وقد صح أن عائشة رضي الله تعالى عنها عدت المنافق عبد الله بن أبي ابن سلول وحمنة بنت جحش أخت أم المؤمنين زينب رضي الله تعالى عنها وزوجة طلحة بن عبيد الله ومسطح بن أثاثة. وحسان بن ثابت، ومن الناس من برأ حسان وهو خلاف ما في صحيح البخاري وغيره. نعم الظاهر أنه رضي الله تعالى عنه لم يتكلم به عن صميم قلب وإنما نقله عن ابن أبيّ لعنه الله تعالى، وقد جاء أنه رضي الله تعالى عنه اعتذر عما نسب إليه في شأن عائشة رضي الله تعالى عنها فقال: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 310 حصان رزان ما تزنّ بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل حليلة خير الناس دينا ومنصبا ... نبي الهدى ذي المكرمات الفواضل عقيلة حي من لؤي بن غالب ... كرام المساعي مجدهم غير زائل مهذبة قد طيب الله خيمها ... وطهرها من كل سوء وباطل فإن كنت قد قلت الذي قد زعمتمو ... فلا رفعت سوطي إليّ أناملي وكيف وودي ما حييت ونصرتي ... لآل رسول الله زين المحافل له رتب عال على الناس كلهم ... تقاصر عنه سورة المتطاول فإن الذي قد قيل ليس بلائط ... ولكنه قول امرئ بي (1) ماحل وكانت عائشة رضي الله تعالى عنها تكرمه بعد ذلك وتذكره بخير وإن صح أنها قالت له حين أنشدها أول هذه الأبيات: لكنك لست كذلك، فقد أخرج ابن سعد عن محمد بن سيرين أن عائشة رضي الله تعالى عنها كانت تأذن لحسان وتدعو له بالوسادة وتقول: لا تؤذوا حسانا فإنه كان ينصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلسانه. وأخرج ابن جرير من طريق الشعبي عنها أنها قالت: ما سمعت بشيء أحسن من شعر حسان وما تمثلت به إلا رجوت له الجنة قوله لأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب: هجوت محمدا وأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء فإن أبي ووالدتي وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء أتشتمه ولست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداء لساني صارم لا عيب فيه ... وبحري لا تكدره الدلاء وعد بعضهم مع الأربعة المذكورين زيد بن رفاعة ولم نر فيه نقلا صحيحا، وقيل إنه خطأ، ومعنى «منكم» من أهل ملتكم وممن ينتمي إلى الإسلام سواء كان كذلك في نفس الأمر أم لا فيشمل ابن أبيّ لأنه ممن ينتمي إلى الإسلام ظاهرا وإن كان كافرا في نفس الأمر: وقيل إن قوله تعالى: مِنْكُمْ خارج مخرج الأغلب وأغلب أولئك العصبة مؤمنون مخلصون، وكذا الخطاب في لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ وقيل: الخطاب في الأول للمسلمين وفي هذا لسيد المخاطبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولأبي بكر وعائشة وصفوان رضي الله تعالى عنهم والكلام مسوق لتسليتهم. وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني عن سعيد بن جبير أن الخطاب في الثاني لعائشة وصفوان، وأبعد عن الحق من زعم أنه للذين جاؤوا بالإفك وتكلف للخيرية ما تكلف، ولعل نسبته إلى الحسن لا تصح، والظاهر أن ضمير الغائب في لا تَحْسَبُوهُ عائد على الإفك. وجوز أن يعود على القذف وعلى المصدر المفهوم من جاؤُ وعلى ما نال المسلمين من الغم والكل كما ترى، وعلى ما ذهب إليه ابن عطية يعود على المحذوف المضاف إلى اسم إن الذي هو الاسم في الحقيقة ونهوا عن حسبان ذلك شرا لهم إراحة لبالهم بإزاحة ما يوجب استمرار بلبالهم، وأردف سبحانه النهي عن ذلك بالإضراب بقوله عز وجل: بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ اعتناء بأمر التسلية، والمراد بل هو خير عظيم لكم لنيلكم بالصبر عليه الثواب العظيم وظهور كرامتكم على الله عز وجل بإنزال ما فيه تعظيم شأنكم وتشديد الوعيد فيمن تكلم بما أحزنكم، والآيات   (1) يقال محل به إذا سعى إلى السلطان فهو ماحل اهـ منه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 311 المنزلة في ذلك على ما سمعت آنفا عن عائشة رضي الله تعالى عنها عشر. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه قال: نزلت ثماني عشرة آية متواليات بتكذيب من قذف عائشة وبراءتها. وأخرج الطبراني عن الحكم بن عتيبة قال: إنه سبحانه أنزل فيها خمس عشرة آية من سورة النور ثم قرأ حتى بلغ الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ [النور: 26] وكأن الخلاف مبني على الخلاف في رؤوس الآي، وفي كتاب العدد للداني ما يوافق المروي عن ابن جبير. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أي من الذين جاؤوا بالإفك مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ أي جزاء ما اكتسب وذلك بقدر ما خاض فيه فإن بعضهم تكلم وبعضهم ضحك كالمعجب الراضي بما سمع وبعضهم أكثر وبعضهم أقل. وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ بكسر الكاف. وقرأ الحسن والزهري وأبو رجاء ومجاهد والأعمش وأبو البرهسم وحميد وابن أبي عبلة وسفيان الثوري ويزيد بن قطيب ويعقوب والزعفراني وابن مقسم وعمرة بنت عبد الرحمن وسورة عن الكسائي ومحبوب عن أبي عمرو «كبره» بضم الكاف وهو ومكسورها مصدران لكبر الشيء عظم ومعناهما واحد، وقيل: الكبر بالضم المعظم وبالكسر البداءة بالشيء، وقيل: الإثم، والجمهور على الأول أي والذي تحمل معظمه مِنْهُمْ أي من الجائين به لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ في الدنيا والآخرة أو في الآخرة فقط، وفي التعبير بالموصول وتكرير الإسناد وتنكير العذاب ووصفه بالعظم من تهويل الخطب ما لا يخفى، والمراد بالذي تولى كبره كما في صحيح البخاري عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها عبد الله بن أبي عليه اللعنة وعلى ذلك أكثر المحدثين. وكان لعنه الله تعالى يجمع الناس عنده ويذكر لهم ما يذكر من الإفك وهو أول من اختلقه وأشاعه لإمعانه في عداوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعذابه في الآخرة بعد جعله في الدرك الأسفل من النار لا يقدر قدره إلا الله عز وجل، وأما في الدنيا فوسمه بميسم الذل وإظهار نفاقه على رؤوس الأشهاد وحده حدين على ما أخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما من أنه صلّى الله عليه وسلّم بعد أن نزلت الآيات خرج إلى المسجد فدعا أبا عبيدة بن الجراح فجمع الناس ثم تلا عليهم ما أنزل الله تعالى من البراءة لعائشة وبعث إلى عبد الله بن أبيّ فجيء به فضربه عليه الصلاة والسلام حدين وبعث إلى حسان ومسطح وحمنة فضربوا ضربا وجيعا ووجئوا في رقابهم، وقيل: حد حدا واحدا، فقد أخرج الطبراني عن ابن عباس أنه فسر العذاب في الدنيا بجلد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إياه ثمانين جلدة وعذابه في الآخرة بمصيره إلى النار، وقيل: إنه لم يحد أصلا لأنه لم يقر ولم يلتزم إقامة البينة عليه تأخيرا لجزائه إلى يوم القيامة كما أنه لم يلتزم إقامة البينة على نفاقه وصدور ما يوجب قتله لذلك وفيه نظر. وزعم بعضهم أنه لم يحد مسطح، وآخرون أنه لم يحد أحدا ممن جاء بالإفك إذ لم يكن إقرار ولم يلتزم إقامة بينة. وفي البحر أن المشهور حد حسان ومسطح وحمنة، وقد أخرجه البزار وابن مردويه بسند حسن عن أبي هريرة، وقد جاء ذلك في أبيات ذكرها ابن هشام في ملخص السيرة لابن إسحاق وهي: لقد ذاق حسان الذي كان أهله ... وحمنة إذ قالوا هجيرا ومسطح تعاطوا برجم الغيب أمر نبيهم ... وسخطة ذي العرش الكريم فأنزحوا وآذوا رسول الله فيها فجللوا ... مخازي بغي يمحوها وفضحوا وصب عليهم محصدات كأنها ... شآبيب قطر من ذرى المزن تسفح وقيل: الذي تولى كبره حسان واستدل بما في صحيح البخاري أيضا عن مسروق قال: دخل حسان على عائشة فشبب وقال: حصان «البيت» قالت: لكنك لست كذلك قلت: تدعين مثل هذا يدخل عليك وقد أنزل الله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 312 تعالى وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ فقالت: وأي عذاب أشد من العمى، وجاء في بعض الأخبار أنها قيل لها: أليس الله تعالى يقول: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ الآية؟ فقالت: أليس أصابه عذاب عظيم أليس قد ذهب بصره وكسع بالسيف؟ تعني الضربة التي ضربها إياه صفوان حين بلغه عنه أنه يتكلم في ذلك، فإنه يروى أنه ضربه بالسيف على رأسه لذلك والأبيات (1) عرض فيها به وبمن أسلم من العرب من مضر وأنشد: تلقّ ذباب السيف مني فإنني ... غلام إذا هوجيت لست بشاعر ولكنني أحمي حماي وأتقي ... من الباهت الرأي البريء الظواهر وكاد يقتله بتلك الضربة. فقد روى ابن إسحاق أنه لما ضربه وثب عليه ثابت بن قيس بن شماس فجمع يديه إلى عنقه بحبل ثم انطلق به إلى دار بني الحارث بن الخزرج فلقيه عبد الله بن رواحة فقال: ما هذا؟ قال: أما أعجبك ضرب حسان بالسيف والله ما أراه إلا قد قتله فقال له عبد الله: هل علم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بذلك وبما صنعت؟ قال: لا والله قال: لقد اجترأت أطلق الرجل فأطلقه فأتوا رسول الله عليه الصلاة والسلام فذكروا ذلك له فدعا حسان وصفوان فقال صفوان: يا رسول الله آذاني وهجاني فاحتملني الغضب فضربته فقال صلّى الله عليه وسلّم: يا حسان أتشوهت على قومي بعد أن هداهم الله تعالى للإسلام ثم قال: أحسن يا حسان في الذي أصابك فقال: هي لك يا رسول الله فعوضه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منها بيرحاء وكان أبو طلحة بن سهل أعطاها إياه عليه الصلاة والسلام ووهبه أيضا سيرين أمة قبطية فولدت له عبد الرحمن بن حسان. وفي رواية في صحيح البخاري عن عائشة أيضا رضي الله تعالى عنها أنها قالت في الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ هو أي المنافق ابن أبيّ وحمنة، وقيل: هو وحسان ومسطح، وعذاب المنافق الطرد وظهور نفاقه وعذاب الأخيرين بذهاب البصر، ولا يأبى إرادة المتعدد إفراد الموصول لما في الكشف من أن الَّذِي يكون جمعا وإفراد ضميره جائز باعتبار إرادة الجمع أو الفوج أو الفريق أو نظرا إلى أن صورته صورة المفرد، وقد جاء إفراده في قوله تعالى: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ [الزمر: 33] وجمعه في قوله سبحانه: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا [التوبة: 69] والمشهور جواز استعمال «الذي» جمعا مطلقا. واشترط ابن مالك في التسهيل أن يراد به الجنس لا جمع مخصوص فإن أريد الخصوص قصر على الضرورة هذا ولا يخفى أن إرادة الجمع هنا لا تخلو عن بعد، والذي اختاره إرادة الواحد وأن ذلك الواحد هو عدو الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين ابن أبيّ، وقد روى ذلك الزهري عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن أبي وقاص وعبد الله بن عتبة وكلهم سمع عائشة تقول: الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ عبد الله بن أبي، وقد تظافرت روايات كثيرة على ذلك، والذاهبون إليه من المفسرين أكثر من الذاهبين منهم إلى غيره. ومن الإفك الناشئ من النصب قول هشام بن عبد الملك عليه من الله تعالى ما يستحق حين سئل الزهري عن الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ فقال له: هو ابن أبيّ كذبت هو علي. يعني به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه. وقد روى ذلك عن هشام البخاري والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل، ولا بدع من أمويّ الافتراء على أمير المؤمنين عليّ كرم الله تعالى وجهه ورضي عنه. وأنت تعلم أن قصارى ما روي عن الأمير رضي الله تعالى عنه أنه قال لأخيه وابن عمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين استشاره يا رسول الله لم يضيق الله تعالى عليك والنساء سواها كثير وإن تسأل الجارية تصدقك.   (1) ذكر ابن هشام في السيرة اهـ منه. [ ..... ] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 313 وفي رواية أنه قال: يا رسول الله قد قال الناس وقد حل لك طلاقها، وفي رواية أنه رضي الله تعالى عنه ضرب بريرة وقال: اصدقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وليس في ذلك شيء مما يصلح مستندا لذلك الأموي الناصبي، وجل غرض الأمير مما ذكر أن يسري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما هو فيه من الغم غاية ما في الباب أنه لم يسلك في ذلك مسلك أسامة وهو أمر غير متعين، ومن دقق النظر عرف مغزى الأمير كرم الله تعالى وجهه وأنه بعيد عما يزعمه النواصب بعد ما بين المشرق والمغرب فليتدبر لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ التفات إلى خطاب الخائضين ما عدا من تولى كبره منهم، واستظهر أبو حيان كون الخطاب للمؤمنين دونه، واختير الخطاب لتشديد ما في لولا التحضيضية من التوبيخ، ولتأكيد التوبيخ عدل إلى الغيبة في قوله تعالى: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً لكن لا بطريق الإعراض عن المخاطبين وحكاية جناياتهم لغيرهم بل بالتوسل بذلك إلى وصفهم بما يوجب الإتيان بالمحضض عليه ويقتضيه اقتضاء تاما ويزجرهم عن ضده زجرا بليغا وهو الإيمان وكونه مما يحملهم على إحسان الظن ويكفهم عن إساءته بأنفسهم أي بأبناء جنسهم وأهل ملتهم النازلين منزلة أنفسهم كقوله تعالى: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات: 11] وقوله سبحانه: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 85] ولا حاجة إلى تقدير مضاف أي ظن بعض المؤمنين والمؤمنات بأنفس بعضهم الآخر وإن قيل بجوازه مما لا ريب فيه فإخلالهم بموجب ذلك الوصف أقبح وأشنع والتوبيخ عليه أدخل مع ما فيه من التوسل به إلى توبيخ الخائضات والمشهور منهن حمنة ثم إن كان المراد بالإيمان الإيمان الحقيقي فإيجابه لما ذكر واضح والتوبيخ خاص بالمتصفين به، وإن كان مطلق الإيمان الشامل لما يظهره المنافقون أيضا فإيجابه له من حيث إنهم كانوا يحترزون عن إظهار ما ينافي مدعاهم فالتوبيخ حينئذ متوجه إلى الكل، والنكتة في توسيط معمول الفعل المحضض عليه بينه وبين أداة التخصيص وإن جاز ذلك مطلقا أي سواء كان المعمول الوسط ظرفا أو غيره تخصيص التخضيض بأول وقت السماع وقصر التوبيخ واللوم على تأخير الإتيان بالمحضض عليه عن ذلك الآن والتردد فيه ليفيد أن عدم الإتيان به رأسا في غاية ما يكون من القباحة والشناعة أي كان الواجب على المؤمنين والمؤمنات أن يظنوا أول ما سمعوا ذلك الإفك ممن اخترعه بالذات أو بالواسطة من غير تلعثم وتردد بأهل ملتهم من آحاد المؤمنين والمؤمنات خيرا وَقالُوا في ذلك الآن هذا إِفْكٌ مُبِينٌ أي ظاهر مكشوف كونه إفكا فكيف بأم المؤمنين حليلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنت المهاجرين رضي الله تعالى عنهما. ويجوز أن يكون المعنى هلا ظن المؤمنون والمؤمنات أول ما سمعوا ذلك خيرا بأهل ملتهم عائشة وصفوان وقالوا إلخ لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ إما من تمام القول المحضض عليه مسوق لتوبيخ السامعين على ترك الزام الخائضين أي هلا جاء الخائضون بأربعة شهداء يشهدون على ثبوت ما قالوا: فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ الأربعة، وكان الظاهر فإذا لم يأتوا بهم إلا أنه عدل إلى ما في النظم الجليل لزيادة التقرير فَأُولئِكَ إشارة إلى الخائضين، وما فيها من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الفساد أي فأولئك المفسدون عِنْدَ اللَّهِ أي في حكمه وشريعته هُمُ الْكاذِبُونَ أي المحكوم عليهم بالكذب شرعا أي بأن خبرهم لم يطابق في الشرع الواقع، وقيل: المعنى فأولئك في علم الله تعالى هم الكاذبون الذين لم يطابق خبرهم الواقع في نفس الأمر لأن الآية في خصوص عائشة رضي الله تعالى عنها وخبر أهل الإفك فيها غير مطابق للواقع في نفس الأمر في علمه عز وجل. وتعقب بأن خصوص السبب لا ينافي عموم الحكم مع أن ظاهر التقييد بالظرف يأبى ذلك، وجعله من قبيل قوله تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً [الأنفال: 66] خلاف الظاهر، وأيا ما كان فالحصر للمبالغة، وإما كلام مبتدأ مسوق من جهته سبحانه وتعالى تقريرا لكون ذلك إفكا وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ أي تفضله سبحانه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 314 عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ إياكم فِي الدُّنْيا بفنون النعم التي من جملتها الإمهال للتوبة وَفي الْآخِرَةِ بضروب الآلاء التي من جملتها العفو والمغفرة بعد التوبة، وفي الكلام نشر على ترتيب اللف، وجوز أن يتعلق فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ بكل من فضل الله تعالى ورحمته، والمعنى لولا الفضل العام والرحمة العامة في كلا الدارين لَمَسَّكُمْ عاجلا فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ أي بسبب ما خضتم فيه من حديث الإفك. والإبهام لتهويل أمره واستهجان ذكره يقال أفاض في الحديث وخاض وهضب واندفع بمعنى، والإفاضة في ذلك مستعارة من إفاضة الماء في الإناء، ولَوْلا امتناعية وجوابها لَمَسَّكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ يستحقر دونه التوبيخ والجلد، والخطاب لغير ابن أبي من الخائضين، وجوز أن يكون لهم جميعا. وتعقب بأن ابن أبي رأس المنافقين لا حظ له من رحمة الله تعالى في الآخرة لأنه مخلد في الدرك الأسفل من النار إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ بحذف إحدى التاءين وإِذْ ظرف للمس، وجوز أن يكون ظرفا لأفضتم وليس بذاك، والضمير المنصوب لما أي لمسكم ذلك العذاب العظيم وقت تلقيكم ما أفضتم فيه من الإفك وأخذ بعضكم إياه من بعض بالسؤال عنه، والتلقي والتلقف والتلقن متقاربة المعاني إلا أن في التلقي معنى الاستقبال وفي التلقف معنى الخطف والأخذ بسرعة وفي التلقن معنى الحذق والمهارة. وقرأ أبيّ رضي الله تعالى عنه: «تتلقونه» على الأصل، وشد التاء البزي، وأدغم الذال في التاء النحويان وحمزة. وقرأ ابن السميفع «تلقونه» بضم التاء والقاف وسكون اللام مضارع ألقى، وعنه «تلقونه» بفتح التاء والقاف وسكون اللام مضارع لقي، وقرأت عائشة وابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعيسى وابن يعمر وزيد بن علي بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف من ولق الكلام كذبه حكاه السرقسطي، وفيه رد على من زعم أن ولق إذا كان بمعنى كذب لا يكون متعديا وهو ظاهر كلام ابن سيده وارتضاءه أبو حيان ولذا جعل ذلك من باب الحذف والإيصال والأصل تلقون فيه، وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت تقرأ ذلك وتقول: الولق الكذب، وقال ابن أبي مليكة: وكانت أعلم بذلك من غيرها لأنه نزل فيها. وقال ابن الأنباري: من ولق الحديث أنشأه واخترعه، وقيل: من ولق الكلام دبره، وحكى الطبري وغيره أن هذه اللفظة مأخوذة من الولق الذي هو الإسراع بالشيء بعد الشيء كعدد في أثر عدد وكلام في أثر كلام ويقال: ناقة ولقى سريعة، ومنه الأولق للمجنون لأن العقل باب من السكون والتماسك والجنون باب من السرعة والتهافت. وعن ابن جني أنه فسر ما في الآية بما ذكر يكون ذلك من باب الحذف والإيصال والأصل تسرعون فيه أو إليه، قرأ زيد بن أسلم وأبو جعفر «تألقونه» بفتح التاء وهمزة ساكنة بعدها لام ساكنة من الألق وهو الكذب. وقرأ يعقوب في رواية المازني «تيلقونه» بتاء فوقانية مكسورة بعدها ياء ولام مفتوحة كأنه مضارع ولق بكسر اللام كما قالوا تيجل مضارع وجل، وعن سفيان بن عيينة سمعت أمي تقرأ «إذ تثقفونه» من ثقفت الشيء إذا طلبته فأدركته جاء مثقلا ومخففا أي تتصيدون الكلام في الإفك من هاهنا ومن هاهنا. وقرىء «تقفونه» من قفاه إذا تبعه أي تتبعونه. وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ أي تقولون قولا مختصا بالأفواه من غير أن يكون له مصداق ومنشأ في القلوب لأنه ليس تعبيرا عن علم به في قلوبكم فهذا كقوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران: 167] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 315 وقال ابن المنير: يجوز أن يكون قوله سبحانه: تَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ توبيخا كقولك: أتقول ذلك بملء فيك فإن القائل ربما رمز وعرض وربما تشدق جازما كالعالم، وقد قيل هذا في قوله سبحانه: بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ [آل عمران: 118] وقال صاحب الفرائد: يمكن أن يقال فائدة ذكر بِأَفْواهِكُمْ أن لا يظن أنهم قالوا ذلك بالقلب لأن القول يطلق على غير الصادر من الأفواه كما في قوله تعالى: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: 11] وقول الشاعر: امتلأ الحوض وقال قطني ... مهلا رويدا قد ملأت بطني فهو تأكيد لدفع المجاز. وأنت تعلم أن السياق يقتضي الأول وإليه ذهب الزمخشري، وكان الظاهر وتقولونه بأفواهكم إلا أنه عدل عنه إلى ما في النظم الجليل لما لا يخفى وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً سهلا لا تبعة له: وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ أي والحال أنه عند الله عز وجل أمر عظيم لا يقادر قدره في الوزر واستجرار العذاب، والجملتان الفعليتان معطوفتان على جملة تَلَقَّوْنَهُ داخلتان معها في حيز إِذْ فيكون قد علق مس العذاب العظيم بتلقي الإفك بألسنتهم والتحدث به من غير روية وفكر وحسبانهم ذلك مما لا يعبأ به وهو عند الله عز وجل عظيم. وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ممن اخترعه أو المتابع له قُلْتُمْ تكذيبا له وتهويلا لما ارتكبه ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ أي ما يمكننا وما يصدر عنا بوجه من الوجوه التكلم بِهذا إشارة إلى القول الذي سمعوه باعتبار شخصه. وجوز أن يكون إشارة إلى نوعه فإن قذف آحاد الناس المتصفين بالإحصان محرم شرعا، وجاء عن حذيفة مرفوعا أنه يهدم عمل مائة سنة فضلا عن تعرض الصديقة حرمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والكلام في توسيط الظرف على نحو ما مر سُبْحانَكَ تعجب ممن تفوه به، وأصله أن يذكر عند معاينة العجيب من صنائعه تعالى شأنه تنزيها له سبحانه من أن يصعب عليه أمثاله ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه واستعماله فيما ذكر مجاز متفرع على الكناية، ومثله في استعماله للتعجب لا إله إلا الله، والعوام يستعملون الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم في ذلك المقام أيضا ولم يسمع في لسان الشرع بل قد صرح بعض الفقهاء بالمنع منه. وجوز أن يكون سُبْحانَكَ هنا مستعملا في حقيقته والمراد تنزيه الله تعالى شأنه من أن يصم نبيه عليه الصلاة والسلام ويشينه فإن فجور الزوجة وصمة في الزوج تنفر عنه القلوب وتمنع عن اتباعه النفوس ولذا صان الله تعالى أزواج الأنبياء عليهم السلام عن ذلك، وهذا بخلاف الكفر فإن كفر الزوجة ليس وصمة في الزوج، وقد ثبت كفر زوجتي نوح ولوط عليهما السلام كذا قيل، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا ما يتعلق به، وعلى هذا يكون سُبْحانَكَ تقريرا لما قبله وتمهيدا لقوله سبحانه: هذا بُهْتانٌ أي كذب يبهت ويحير سامعه لفظاعته عَظِيمٌ لا يقدر قدره لعظمة المبهوت عليه فإن حقارة الذنوب وعظمها كثيرا ما يكونان باعتبار متعلقاتها، والظاهر أن التوبيخ للسامعين الخائضين لا للسامعين مطلقا، فقد روي عن سعيد بن جبير أن سعد بن معاذ لما سمع ما قيل في أمر عائشة رضي الله تعالى عنها قال: سبحانك هذا بهتان عظيم. وعن سعيد بن المسيب أنه قال: كان رجلان من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا سمعا شيئا من ذلك قالا ما ذكر أسامة بن زيد بن حارثة وأبو أيوب رضي الله تعالى عنهما. وأخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: إن امرأة أبي أيوب الأنصاري قالت له: يا أبا أيوب ألا تسمع ما يتحدث به الناس؟ فقال: ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم، ومنشأ هذا الجزم على ما قاله الإمام الرازي العلم بأن زوجة الرسول عليه الصلاة والسلام لا يجوز أن تكون فاجرة، وعلل بأن ذلك ينفر عن الاتباع فيخل بحكمة البعثة كدناءة الآباء وعهر الأمهات، وقد نص العلامة الثاني على أن من شروط النبوة السلامة عن ذلك بل عن كل ما ينفر عن الاتباع. واستشكل ذلك بأنه إذا كان ما ذكر شرطا فكيف علمه من سمعت حتى قالوا ما قالوا وخفي الأمر على رسول الجزء: 9 ¦ الصفحة: 316 الله صلّى الله عليه وسلّم حتى قال كما في صحيح البخاري وغيره: «يا عائشة إنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله تعالى وتوبي إليه» . وجاء في بعض الروايات «يا عائشة إن كنت فعلت هذا الأمر فقولي لي حتى أستغفر الله تعالى لك» وكذا خفي على صاحبه أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، فقد أخرج البزار بسند صحيح عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه لما نزل عذرها قبل أبو بكر رضي الله تعالى عنه رأسها فقالت: ألا عذرتني فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن قلت ما لا أعلم؟. وأجيب بأن ذلك ليس من الشروط العقلية للنبوة كالأمانة والصدق بل هو من الشروط الشرعية والعادية، كما قال اللقاني فيجوز أن يقال: إنه لم يكن معلوما قبل وإنما علم بعد نزول آيات براءة عائشة رضي الله تعالى عنها، وعدم العلم بمثل ذلك لا يقدح في منصب النبوة، وأما دعوى علم من ذكر به فلا دليل عليها، وقولهم ذلك يجوز أن يكون ناشئا عن حسن الظن لا عن علم بكون السلامة من المنفر عن الاتباع من شروط النبوة، ويشهد لهذا نظرا إلى بعض القائلين والظاهر تساويهم ما أخرجه ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن بعض الأنصار أن امرأة أبي أيوب قالت له حين قال أهل الإفك ما قالوا: ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة رضي الله تعالى عنها؟ قال: بلى وذلك الكذب أكنت أنت فاعلة يا أم أيوب؟ قالت: لا والله فقال: فعائشة رضي الله تعالى عنها والله خير منك وأطيب إنما هذا كذب وإفك باطل، وروى قريبا منه الحاكم وابن عساكر أيضا عن أفلح مولى أبي أيوب، ولعله المعني ببعض الأنصار في الخبر السابق، ولم يقل صلّى الله عليه وسلّم نحو ذلك لحسن الظن لشدة غيرته عليه الصلاة والسلام والغيور لا يكاد يعول في مثل ذلك على حسن الظن، ويمكن أن يكون قولهم ذلك ناشئا عن العلم بكون السلامة من المنفر عن الاتباع من شروط النبوة بأن يكونوا قد تفطنوا لكون حكمة البعثة تقتضي تلك السلامة وقد يتفطن العالم لما لا يتفطن له من هو أعلم منه. وجوز أن يدعى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان عالما بعدم جواز فجور نساء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لما فيه من النفرة المخلة بحكمة البعثة لكن أراد عليه الصلاة والسلام أن يظهر أمر براءة الصديقة رضي الله تعالى عنها ظهور الشمس في رابعة النهار بحيث لا يبقى فيه خفاء عند أحد من الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم، وما عراه من الهم إنما هو أمر طبيعي حصل بسبب خوض المنافقين ومن تبعهم وشيوع ما لا أصل له من الباطل بين الناس، ويحتمل أنه صلّى الله عليه وسلّم كان عالما بأن السلامة من المنفر من شروط النبوة لكن خشي من الله عز وجل الذي لا يجب عليه شيء أن لا يجعل ما خاض المنافقون وأتباعهم فيه من المنفر بأن لا يرتب سبحانه خلق النفرة في القلوب عليه ليمنع من الاتباع فتختل حكمة البعثة فداخله عليه الصلاة والسلام من الهم ما داخله وجعل يتتبع الأمر على أتم وجه وما ذلك إلا من مزيد العلم ونهاية الحزم، ونظيره من وجه خوفه عليه الصلاة والسلام من قيام الساعة عند اشتداد الريح بحيث لا يستطيع أن ينام ما دام الأمر كذلك حتى تمطر السماء. وقيل يجوز أن لا يعد فجور الزوجة منفرا إلا إذا أمسكت بعد العلم به فلم لا يجوز أن يقع فيجب طلاقها وإذا طلقت لا يتحقق المنفر المخل بالحكمة، هذا ولا يخفى عليك ما في بعض الاحتمالات من البحث بل بعضها في غاية البعد عن ساحة القبول، ولعل الحق أنه عليه الصلاة والسلام قد أخفي عليه أمر الشرطية إلى أن اتضح أمر البراءة ونزلت الآيات فيها لحكمة الابتلاء وغيره مما الله تعالى أعلم به. وإن قول أولئك الأصحاب رضي الله تعالى عنهم: سبحانك هذا بهتان عظيم لم يكن ناشئا إلا عن حسن الظن، ولم يتمسك به صلّى الله عليه وسلّم لأنه لا يحسم القال والقيل ولا يرد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 317 به شيء من الأباطيل، ولا ينبغي لمن يؤمن بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يخالج قلبه بعد الوقوف على الآيات والأخبار شك في طهارة نساء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن الفجور في حياة أزواجهن وبعد وفاتهم عنهن، ونسب للشيعة قذف عائشة رضي الله تعالى عنها بما برأها الله تعالى منه وهم ينكرون ذلك أشد الإنكار وليس في كتبهم المعول عليها عندهم عين منه ولا أثر أصلا، وكذلك ينكرون ما نسب إليهم من القول بوقوع ذلك منها بعد وفاته صلّى الله عليه وسلّم وليس له أيضا في كتبهم عين ولا أثر. والظاهر أنه ليس في الفرق الإسلامية من يختلج في قلبه ذلك فضلا عن الإفك الذي برأها الله عز وجل منه. يَعِظُكُمُ اللَّهُ أي ينصحكم أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً أي كراهة أن تعودوا أو لئلا تعودوا أو يعظمكم في العود أي في شأنه وما فيه من الإثم والمضار كما يقال وعظته في الخمر وما فيها من المعار أو يزجركم عن العود على تضمين الوعظ معنى الزجر، ويقال عاده وعاد إليه وعاد له وعاد فيه بمعنى، والمراد بأبدا مدة الحياة. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ من باب إن كنت أبا لك فلم لا تحسن إليّ يتضمن تذكيرهم بالإيمان الذي هو العلة في الترك والتهييج لإبرازه في معرض الشك وفيه طرف من التوبيخ. وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي ينزلها مبينة ظاهرة الدلالة على معانيها، والمراد بها الآيات الدالة على الشرائع ومحاسن آداب معاملة المسلمين، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتفخيم شأن البيان. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوال جميع مخلوقاته جلها ودقها حَكِيمٌ في جميع أفعاله فأنى يمكن صدق ما قيل في حق حرم من اصطفاه لرسالته وبعثه إلى كافة الخلق ليرشدهم إلى الحق ويزكيهم ويطهرهم تطهيرا، وإظهار الاسم الجليل هاهنا لتأكيد استقلال الاعتراض التذييلي والإشعار بعلية الألوهية للعلم والحكمة إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أي يريدون ويقصدون أَنْ تَشِيعَ أن تنتشر الْفاحِشَةُ أي الخصلة المفرطة في القبح وهي الفرية والرمي بالزنا أو نفس الزنا كما روي عن قتادة، والمراد بشيوعها شيوع خبرها فِي الَّذِينَ آمَنُوا متعلق بتشيع أي تشيع فيما بين الناس. وذكر المؤمنين لأنهم العمدة فيهم أو بمضمر هو حال من الفاحشة أي كائنة في حق المؤمنين وفي شأنهم والمراد بهم المحصنون والمحصنات كما روي عن ابن عباس لَهُمْ بسبب ذلك عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا مما يصيبه من البلاء كالشلل والعمى وَفي الْآخِرَةِ من عذاب النار ونحوه، وترتب ذلك على المحبة ظاهر على ما نقل عن الكرماني من أن أعمال القلب السيئة كالحقد والحسد ومحبة شيوع الفاحشة يؤاخذ العبد إذا وطن نفسه عليها، ويعلم من الآية على أتم وجه سوء حال من نزلت الآية فيهم كابن أبيّ ومن وافقه قلبا وقالبا. وأن لهم الحظ الأوفر من العذابين حيث أحبوا الشيوع وأشاعوا. وقال بعضهم: المراد من محبة الشيوع الإشاعة بقرينة ترتب العذاب عليها فإنه لا يترتب إلا على الإشاعة دون المحبة التي لا اختيار فيها، وإن سلم أن المراد بها محبة تدخل تحت الاختيار وهي مما يترتب عليها العذاب قلنا: إن ذلك هو العذاب الأخروي دون العذاب الدنيوي مثل الحد، وقد فسر ابن عباس وابن جبير العذاب الأليم في الدنيا هنا بالحد وهو لا يترتب على المحبة مطلقا بالاتفاق، ومن هنا قيل أيضا: إن ذكر المحبة من قبيل الاكتفاء عن ذكر الشيء وهو الإشاعة بذكر مقتضيه تنبيها على قوة المقتضى، وقيل: إن الكلام على التضمين أي يشيعون الفاحشة محبين شيوعها لأن كلا معنى المحبة والإشاعة مقصودان. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 318 واستشكل تفسير العذاب الأليم في الدنيا بالحد بأنه لا يضم إليه العذاب الأليم في الآخرة لأن الحدود مكفرة. وأجيب بأن حكم الآية مخصوص بمن أشاع ذلك في حق أم المؤمنين، وقيل: الحد لمن نقل الإفك من المسلمين والعذاب الأخروي لأبي عذرته ابن أبيّ والموصول عام لهما، على أن في كون الحدود مطلقا مكفرة خلافا فبعضهم قال به فيما عدا الردة وبعضهم أنكره وبعضهم توقف فيه لحديث أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال: «لا أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا» ولعل الأنسب بمساق النظم الكريم من تقبيح الخائضين في الإفك المشيعين له هو ما ذكرناه أولا، والمراد بالموصول إما هم على أن يكون للعهد الخارجي كما روي عن مجاهد وابن زيد والتعبير بالمضارع في الصلة للإشارة إلى زيادة تقبيحهم بأنه قد صارت محبتهم لشيوع الفاحشة عادة مستمرة، وإما ما يعمهم وغيرهم من كل من يتصف بمضمون الصلة على إرادة الجنس ويدخل أولئك المشيعون دخولا أوليا كما قيل: وَاللَّهُ يَعْلَمُ جميع الأمور التي من جملتها ما في الضمائر من المحبة المذكورة وكذا وجه الحكمة في تغليظ الوعيد وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ما يعلمه سبحانه وتعالى. والجملة اعتراض تذييلي جيء به تقريرا لثبوت العذاب لهم وتعليلا له، قيل: المعنى والله يعلم ما في ضمائرهم فيعاقبهم عليه في الآخرة وأنتم لا تعلمون ذلك بل تعلمون ما يظهر لكم من أقوالهم فعاقبوا عليه في الدنيا. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ الخطاب على ما أخرج الطبراني عن ابن عباس لمسطح وحسان وحمنة أو لمن عدا ابن أبيّ وأضرابه من المنافقين الخائضين، وهذا تكرير للمنة بترك المعاجلة بالعقاب للتنبيه على كمال عظم الجريرة وقوله سبحانه وتعالى: وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ عطف على فَضْلُ اللَّهِ وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة والإشعار باستتباع صفة الألوهية للرأفة والرحمة، وتغيير سبكه وتصديره بحرف التحقيق لما أنه المراد بيان اتصافه تعالى في ذاته بهاتين الصفتين الجليلتين على الدوام والاستمرار لا بيان حدوث تعلقهما بهم كما أن المراد بالمعطوف عليه وجواب لَوْلا محذوف كما مر وهذه نظير الآية المارة في آخر حديث اللعان إلا أن في التعقيب بالرؤوف الرحيم بدل التواب الحكيم هنالك ما يؤذن بأن الذنب في هذا أعظم وكأنه لا يرتفع إلا بمحض رأفته تعالى وهو أعظم من أن يرتفع بالتوبة كما روي عن ابن عباس من خاض في حديث الإفك وتاب لم تقبل توبته والغرض التغليظ فلا تغفل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 319 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ [النور: 21. 28] أي لا تسلكوا مسالكه في كل ما تأتون وما تذرون والكلام كناية عن اتباع الشيطان وامتثال وساوسه فكأنه قيل: لا تتبعوا الشيطان في شيء من الأفاعيل التي من جملتها إشاعة الفاحشة وحبها. وقرأ نافع والبزي في رواية ابن ربيعة عنه وأبو عمرو وأبو بكر وحمزة «خطوات» بسكون الطاء وقرىء بفتحها وهو في جميع ذلك جمع خطوة بضم الخاء وسكون الطاء اسم لما بين القدمين، وأما الخطوة بفتح الخاء فهو مصدر خطا، والأصل في الاسم إذا جمع أن تحرك عينه فرقا بينه وبين الصفة فيضم اتباعا للفاء أو بفتح تخفيفا وقد يسكن وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ وضع الظاهران موضع ضميري الخطوات والشيطان حيث لم يقل ومن يتبعها أو من يتبع خطواته لزيادة التقرير والمبالغة فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ هو ما أفرط قبحه كالفاحشة وَالْمُنْكَرِ هو ما ينكره الشرع، وضمير إنه للشيطان وقيل للشأن وجواب الشرط مقدر سد ما بعد الفاء مسده وهو في الأصل تعليل للجملة الشرطية وبيان لعلة النهي كأنه قيل: من يتبع الشيطان ارتكب الفحشاء والمنكر فإنه لا يأمر إلا بهما ومن كان كذلك لا يجوز اتباعه وطاعته، وقد قرر ذلك النسفي وابن هشام في الباب الخامس من المغني. وتعقب بأنه يأباه ما نص عليه النحاة من أن الجواب لا يحذف إلا إذا كان الشرط ماضيا حتى عدوا من الضرورة قوله: لئن تك قد ضاقت علي بيوتكم ... ليعلم ربي أن بيتي أوسع وأجيب بأن الآية ليست من قبيل ما ذكروه في البيت فإنه مما حذف فيه الجواب رأسا وهذا مما أقيم مقامه ما يصح جعله جوابا بحسب الظاهر، وقال أبو حيان: الضمير عائد على من الشرطية ولم يعتبر في الكلام حذفا أصلا، والمعنى على ذلك من يتبع الشيطان فإنه يصير رأسا في الضلال بحيث يكون آمرا بالفحشاء والمنكر وهو مبني على اشتراط ضمير في جواب الشرط الاسمي يعود إليه وسيأتي إن شاء الله تعالى ما فيه. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بما من جملته إنزال هاتيك الآيات البينات والتوفيق للتوبة الممحصة من الذنوب وكذا شرع الحدود المكفر لما عدا الردة منها على ما ذهب إليه جمع وأجابوا عن حديث أبي هريرة السابق آنفا بأنه كان قبل أن يوحى إليه صلّى الله عليه وسلّم بذلك ما زَكى أي ما طهر من دنس الذنوب. وقرأ روح والأعمش «ما زكى» بالتشديد والإمالة، وكتب «زكي» المخفف بالياء مع أنه من ذوات الواو وحقها أن تكتب بالألف، قال أبو حيان: لأنه قد يمال أو حملا على المشدد، ومن في قوله تعالى: مِنْكُمْ بيانية، وفي قوله سبحانه: مِنْ أَحَدٍ سيف خطيب وأَحَدٍ في حيز الرفع على الفاعلية على القراءة الأولى وفي محل النصب على المفعولية على القراءة الثانية والفاعل عليها ضميره تعالى أي ما زكى الله تعالى منكم أحدا أَبَداً لا إلى غاية وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي يطهر مَنْ يَشاءُ من عباده بإفاضة آثار فضله ورحمته عليه وحمله على التوبة وقبولها منه كما فعل سبحانه بمن سلم عن داء النفاق ممن وقع في شرك الإفك منكم. وَاللَّهُ سَمِيعٌ مبالغ في سمعه الأقوال التي من جملتها ما أظهروه من التوبة عَلِيمٌ بجميع المعلومات التي من جملتها نياتهم، وفيه حث لهم على الإخلاص في التوبة، وإظهار الاسم الجليل للإيذان باستدعاء الألوهية للسمع والعلم مع ما فيه من تأكيد الاستقلال التذييلي وَلا يَأْتَلِ أي لا يحلف افتعال من الألية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 320 وقال أبو عبيدة. واختاره أبو مسلم: أي لا يقصر من الألو بوزن الدلو والألو بوزن العتو، قيل: والأول أوفق بسبب النزول وذلك أنه صح عن عائشة وغيرها أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه حلف لما رأى براءة ابنته أن لا ينفق على مسطح شيئا أبدا وكان من فقراء المهاجرين الأولين الذين شهدوا بدرا وكان ابن خالته، وقيل: ابن أخته رضي الله تعالى عنه فنزلت وَلا يَأْتَلِ إلخ وهذا هو المشهور. وعن محمد بن سيرين أن أبا بكر حلف لا ينفق على رجلين كانا يتيمين في حجره حيث خاضا في أمر عائشة أحدهما مسطح فنزلت، وعن ابن عباس، والضحاك أنه قطع جماعة من المؤمنين منهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه منافعهم عمن قال في الإفك وقالوا: والله لا نصل من تكلم فيه فنزلت، وقرأ عبد الله بن عباس بن ربيعة وأبو جعفر مولاه وزيد بن أسلم «يتال» مضارع تالى بمعنى حلف، قال الشاعر: تالى ابن أوس حلفة ليردني ... إلى نسوة لي كأنهن مقائد وهذه القراءة تؤيد المعنى الأول ليأتل أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ أي الزيادة في الدين وَالسَّعَةِ أي في المال أَنْ يُؤْتُوا أي على أن لا يؤتوا أو كراهة أن يؤتوا أو لا يقصروا في أن يؤتوا. وقرأ أبو حيوة وابن قطيب وأبو البرهسم «تؤتوا» بتاء الخطاب على الالتفات. أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صفات لموصوف واحد بناء على ما علمت من أن الآية نزلت على الصحيح بسبب حلف أبي بكر أن لا ينفق على مسطح وهو متصف كما سمعت بها فالعطف لتنزيل تغاير الصفات منزلة تغاير الموصوفات، والجمع وإن كان السبب خاصا لقصد العموم وعدم الاكتفاء بصفة للمبالغة في إثبات استحقاق مسطح ونحوه الإيتاء فإن من اتصف بواحدة من هذه الصفات إذا استحقه فمن جمعها بالطريق الأولى، وقيل: هي لموصوفات أقيمت هي مقامها وحذف المفعول الثاني لغاية ظهوره أي أن يؤتوهم شيئا وَلْيَعْفُوا ما فرط منهم وَلْيَصْفَحُوا بالإغضاء عنه، وقرأ عبد الله والحسن وسفيان بن الحسين وأسماء بنت يزيد «ولتعفو ولتصفحوا» بتاء الخطاب على وفق قوله تعالى: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ أي بمقابلة عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ مبالغ في المغفرة والرحمة مع كمال قدرته سبحانه على المؤاخذة وكثرة ذنوب العباد الداعية إليها، وفيه ترغيب عظيم في العفو ووعد كريم بمقابلته كأنه قيل: ألا تحبون أن يغفر الله لكم فهذا من موجباته، وصح أن أبا بكر لما سمع الآية قال: بلى والله يا ربنا إنا لنحب أن تغفر لنا وأعاد له نفقته، وفي رواية أنه صار يعطيه ضعفي ما كان يعطيه أولا، ونزلت هذه الآية على ما أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بعد أن أقبل مسطح إلى أبي بكر معتذرا فقال: جعلني الله تعالى فداك والله الذي أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم ما قذفتها وما تكلمت بشيء مما قيل لها أي خال فقال أبو بكر ولكن قد ضحكت وأعجبك الذي قيل فيها فقال مسطح لعله يكون قد كان بعض ذلك، وفي الآية من الحث على مكارم الأخلاق ما فيها. واستدل بها على فضل الصديق رضي الله تعالى عنه لأنه داخل في أولي الفضل قطعا لأنه وحده أو مع جماعة سبب النزول، ولا يضر في ذلك عموم الحكم لجميع المؤمنين كما هو الظاهر، ولا حاجة إلى دعوى أنها فيه خاصة والجمع للتعظيم، وكونه مخصوصا بضمير المتكلم مردود على أن فيها من ارتكاب خلاف الظاهر ما فيها، وأجاب الرافضة بأن المراد بالفضل الزيادة في المال، ويرد عليه أنه حينئذ يتكرر مع قوله سبحانه: وَالسَّعَةِ وادعى الإمام أنها تدل على أن الصديق رضي الله تعالى عنه أفضل جميع الصحابة رضي الله تعالى عنهم وبين ذلك بما هو بعيد عن فضله، وذكر أيضا دلالتها على وجوه من مدحه رضي الله تعالى عنه وأكثرها للبحث فيها مجال، واستدل بها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 321 على أن ما لا يكون ردة من المعاصي لا يحبط العمل وإلا لما سمى الله تعالى مسطحا مهاجرا مع أنه صدر منه ما صدر، وعلى أن الحلف على ترك الطاعة غير جائز لأنه تعالى نهى عنه بقوله سبحانه: لا يَأْتَلِ ومعناه على ما يقتضيه سبب النزول لا يحلف، وظاهر هذا حمل النهي على التحريم، وقيل: هو للكراهة، وقيل: الحق أن الحلف على ترك الطاعة قد يكون حراما، وقد يكون مكروها، فالنهي هنا لطلب الترك مطلقا وفيه بحث. وذكر جمهور الفقهاء أنه إذا حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه كما جاء في الحديث ، وقال بعضهم. إذا حلف فليأت الذي هو خير وذلك كفارته كما جاء في حديث آخر. وتعقب بأن المراد من الكفارة في ذلك الحديث تكفير الذنب لا الكفارة الشرعية التي هي بإحدى الخصال. إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ قد تقدم تفسيرها الْغافِلاتِ عما يرمين به بمعنى أنه لم يخطر لهن ببال أصلا لكونهن مطبوعات على الخير مخلوقات من عنصر الطهارة ففي هذا الوصف من الدلالة على كمال النزاهة ما ليس في المحصنات الْمُؤْمِناتِ أي المتصفات بالإيمان بكل ما يجب أن يؤمن به من الواجبات والمحظورات وغيرها إيمانا حقيقيا تفصيليا كما ينبىء عنه تأخير المؤمنات عما قبلها مع أصالة وصف الإيمان فإنه للإيذان بأن المراد بها المعنى الوصفي المعرب عما ذكر لا المعنى الاسمي المصحح لإطلاق الاسم في الجملة كما هو المتبادر على تقدير التقديم كذا في إرشاد العقل السليم. وفرع عليه كون المراد بذلك عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها وروي ما ظاهره ذلك عن ابن عباس وابن جبير، والجمع على هذا باعتبار أن رميها رمي لسائر أمهات المؤمنين لاشتراك الكل في النزاهة والانتساب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ونظير ذلك جمع «المرسلين» في قوله سبحانه وتعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 105] وقيل: المراد أمهات المؤمنين فيدخل فيهن الصديقة دخولا أوليا. وروي ما يؤيده عن أبي الجوزاء والضحاك وجاء أيضا عن ابن عباس ما يقتضيه، فقد أخرج عند سعيد بن منصور وابن جرير والطبراني وابن مردويه أنه رضي الله تعالى عنه قرأ سورة النور ففسرها فلما أتى على هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ إلخ قال: هذه في عائشة وأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يجعل لمن فعل ذلك توبة وجعل لمن رمى امرأة من المؤمنات من غير أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم التوبة ثم قرأ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ إلى قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا [النور: 4. 5] الخبر، وظاهره أنه لا تقبل توبة من قذف إحدى الأزواج الطاهرات رضي الله تعالى عنهن. وقد جاء عنه في بعض الروايات التصريح بعدم قبول توبة من خاض في أمر عائشة رضي الله تعالى عنها، ولعل ذلك منه خارج مخرج المبالغة في تعظيم أمر الإفك كما ذكرنا أولا وإلا فظاهر الآيات قبول توبته وقد تاب من تاب من الخائضين كمسطح وحسان وحمنة ولو علموا أن توبتهم لا تقبل لم يتوبوا، نعم ظاهر هذه الآية على ما سمعت من المراد من الموصوف بتلك الصفات كفر قاذف أمهات المؤمنين رضي الله تعالى عنهن لأن الله عز وجل رتب على رميهن عقوبات مختصة بالكفار والمنافقين فقال سبحانه لُعِنُوا أي بسبب رميهم إياهن فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ حيث يلعنهم اللاعنون والملائكة في الدارين وَلَهُمْ مع ما ذكر من اللعن عَذابٌ عَظِيمٌ هائل لا يقادر قدره لغاية عظم ما اقترفوه من الجناية. وكذا ذكر سبحانه أحوالا مختصة بأولئك فقال عز وجل: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ إلخ، ودليل الاختصاص قوله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 322 سبحانه: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ [فصلت: 19] إلى آخر الآيات الثلاث، ومن هنا قيل: إنه لا يجوز أن يراد بالمحصنات إلخ المتصفات بالصفات المذكورة أمهات المؤمنين وغيرهن من نساء الأمة لأنه لا ريب في أن رمي غير أمهات المؤمنين ليس بكفر، والذي ينبغي أن يعول الحكم عليه بكفر من رمى إحدى أمهات المؤمنين بعد نزول الآيات وتبين أنهن طيبات سواء استباح الرمي أم قصد الطعن برسول الله صلّى الله عليه وسلّم أم لم يستبح ولم يقصد، وأما من رمى قبل فالحكم بكفره مطلقا غير ظاهر. والظاهر أنه يحكم بكفره إن كان مستبيحا أو قاصدا الطعن به عليه الصلاة والسلام كابن أبيّ لعنه الله تعالى فإن ذلك مما يقتضيه إمعانه في عداوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا يحكم بكفره إن لم يكن كذلك كحسان ومسطح وحمنة فإن الظاهر أنهم لم يكونوا مستحلين ولا قاصدين الطعن بسيد المرسلين صلى الله تعالى عليه وعلى آله أجمعين وإنما قالوا ما قالوا تقليدا فوبخوا على ذلك توبيخا شديدا، ومما يدل دلالة واضحة على عدم كفر الرامين قبل بالرمي أنه عليه الصلاة والسلام لم يعاملهم معاملة المرتدين بالإجماع وإنما أقام عليهم حد القذف على ما جاء في بعض الروايات فالآية بناء على القول بخصوص المحصنات وهو الذي تعضده أكثر الروايات إن كانت لبيان حكم من يرمي عائشة أو إحدى أمهات المؤمنين مطلقا بعد تلك القصة كما هو ظاهر الفعل المضارع الواقع صلة الموصول فأمر الوعيد المذكور فيها على القول بأنه مختص بالكفار والمنافقين ظاهر لما سمعت من القول بكفر الرامي لإحدى أمهات المؤمنين بعد مطلقا، وإن كانت لبيان حكم من رمى قبل احتاج أمر الوعيد إلى القول بأن المراد بالموصول أناس مخصوصون رموا عائشة رضي الله تعالى عنها استباحة لعرضها وقصد إلى الطعن برسول الله صلّى الله عليه وسلّم كابن أبيّ وإخوانه المنافقين عليهم اللعنة، وعلى هذا يكون التعبير بالمضارع لاستحضار الصورة التي هي من أغرب الغرائب أو للإشارة كما قيل إلى أن شأنهم الرمي وأنه يتجدد منهم آنا فآنا. وعلى هذا يمكن أن يقال المراد بيان حكم من لم يتب من الرمي فإن التائب من فعل قلما يقال فيه إن شأنه ذلك الفعل فيكون الوعيد مخصوصا بمن لم يتب. والذي تقتضيه الأخبار أن كل من وقع في تلك المعصية تاب سوى اللعين ابن أبيّ وأشياعه من المنافقين. وعن ابن عباس أنها نزلت فيه خاصة ولا يخفى وجه الجمع عليه، وقيل المراد بيان حكم من رمى والوعيد مشروط بعدم التوبة ولم يذكر للعلم به من القواعد المستقرة إذ الذنب كيفما كان يغفر بالتوبة، فلا حاجة إلى أن يقال: المراد إن الذين شأنهم الرمي ليشعر بعدم التوبة، والظاهر أن من لم يتب بعد نزول هذه الآيات كافر وليس هو إلا اللعين وأشياعه المنافقين. واختار جمع وقال النحاس: هو أحسن ما قيل أن الحكم عام فيمن يرمي الموصوفات بالصفات المذكورة من نساء الأمة، ورميهن إن كان مع استحلال فهو كفر فيستحق فاعله الوعيد المذكور وإن لم يتب على ما علم من القواعد وإن كان بدون استحلال فهو كبيرة وليس بكفر، ويحتاج إلى منع اختصاص تلك العقوبات والأحوال بالكفار والمنافقين أو التزام القول بأن ذلك ثابت للجنس ويكفي في ثبوته لبعض أفراده ولا شك أن فيها من يموت كافرا. وفي البحر يناسب أن تكون هذه الآية كما قيل نزلت في مشركي مكة كانت المرأة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفوها وقالوا: خرجت لتفجر قاله أبو حمزة اليماني، ويؤيده قوله تعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ إلخ اهـ. وأنت تعلم أن الأوفق بالسياق والسباق ما عليه الأكثر من نزولها في شأن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وحكم رمي سائر أمهاتهم حكم رميها وكذا حكم رمي سائر أزواج الأنبياء عليهم السلام وكذا أمهاتهم، وعندي أن حكم رمي بنات النبي عليه الصلاة والسلام كذلك لا سيما بضعته الطاهرة الكريمة فاطمة الزهراء صلى الله تعالى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 323 على أبيها وعليها وسلم ولم أر من تعرض لذلك فتدبر، واعلم أنه لا خلاف في جواز لعن كافر معين تحقق موته على الكفر إن لم يتضمن إيذاء مسلم أو ذمي إذا قلنا باستوائه مع المسلم في حرمة الإيذاء أما إن تضمن ذلك حرم. ومن الحرام لعن أبي طالب على القول بموته كافرا بل هو من أعظم ما يتضمن ما فيه إيذاء من يحرم إيذاؤه، ثم إن لعن من يجوز لعنه لا أرى أنه يعد عبادة إلا إذا تضمن مصلحة شرعية، وأما لعن كافر معين حي فالمشهور أنه حرام ومقتضى كلام حجة الإسلام الغزالي أنه كفر لما فيه من سؤال تثبيته على الكفر الذي هو سبب اللعنة وسؤال ذلك كفر ونص الزركشي على ارتضائه حيث قال عقبة: فتفطن لهذه المسألة فإنها غريبة وحكمها متجه وقد زل فيه جماعة، وقال العلامة ابن حجر في ذلك: ينبغي أن يقال: إن أراد بلعنه الدعاء عليه بتشديد الأمر أو أطلق لم يكفر وإن أراد سؤال بقائه على الكفر أو الرضى ببقائه عليه كفر: ثم قال: فتدبر ذلك حق التدبر فإنه تفصيل متجه قضت به كلماتهم اهـ. وكلعن الكافر الحي المعين بالشخص في الحرمة لعن الفاسق كذلك، وقال السراج البلقيني: بجواز لعن العاصي المعين واحتج على ذلك بحديث الصحيحين «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح» وهو ظاهر فيما يدعيه وقول ولده الجلال البلقيني في بحثه معه: يحتمل أن يكون لعن الملائكة لها ليس بالخصوص بل بالعموم بأن يقولوا: لعن الله من دعاها زوجها إلى فراشه فأبت فبات غضبان بعيد جدا. ومما يؤيد قول السراج خبر مسلم أنه صلّى الله عليه وسلّم مرّ بحمار وسم في وجهه فقال: «لعن الله من فعل هذا» وهو أبعد عن الاحتمال الذي ذكره ولده، وقد صح أنه صلّى الله عليه وسلّم لعن قبائل من العرب بأعيانهم فقال: «اللهم العن رعلا وذكوان وعصية عصوا الله تعالى ورسوله» ، وفيه نوع تأييد لذلك أيضا، لكن قيل: إنه يجوز أن يكون قد علم عليه الصلاة والسلام موتهم أو موت أكثرهم على الكفر فلم يلعن صلّى الله عليه وسلّم إلا من علم موته عليه، ولا يخفى عليك الأحوط في هذا الباب، فقد صح «من لعن شيئا ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه» وأرى الدعاء للعاصي المعين بالصلاح أحب من لعنه على القول بجوازه، وأرى لعن من لعنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالوصف أو بالشخص عبادة من حيث إن فيه اقتداء برسول الله عليه الصلاة والسلام، وكذا لعن من لعنه الله تعالى على الوجه الذي لعنه سبحانه به، هذا وقوله عز وجل: يَوْمَ تَشْهَدُ إلخ إما متصل بما قبله مسوق لتقرير العذاب العظيم بتعيين وقت حلوله وتهويله ببيان ظهور جناية الرامين المستتبعة لعقوباتها على كيفية هائلة وهيئة خارقة للعادات فيوم ظرف لما في لَهُمْ من معنى الاستقرار لا لعذاب كما ذهب إليه الحوفي لما في جواز إعمال المصدر الموصوف من الخلاف، وقيل: لإخلاله بجزالة المعنى وفيه نظر، وإما منقطع عنه على أنه ظرف لا ذكر محذوفا أو ليوفيهم الآتي كما قيل بكل، واختير أنه ظرف لفعل مؤخر وقد ضرب عنه الذكر صفحا للإيذان بأن العبارة لا تكاد تحيط بتفصيل ما يقع فيه من العظائم والكلام مسوق لتهويل اليوم بتهويل ما يحويه كأنه قيل: يوم تشهد عليهم أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يظهر من الأحوال والأهوال ما لا يحيط به نطاق المقال على أن الموصول المذكور عبارة عن جمع أعمالهم السيئة وجناياتهم القبيحة لا عن جناياتهم المعهودة فقط. ومعنى شهادة الجوارح المذكورة بها أنه عز وجل ينطقها بقدرته فتخبر كل جارحة منها بما صدر عنها من أفاعيل صاحبها لا أن كلا منها يخبر بجنايتهم المعهودة فحسب. والموصول المحذوف عبارة عنها وعن فنون العقوبات المترتبة عليها كافة لا عن إحداها خاصة ففيه من ضروب التهويل بالإجمال والتفصيل ما لا مزيد عليه قاله شيخ الإسلام، ثم قال: وجعل الموصول المذكور عبارة عن جناياتهم المعودة وحمل شهادة الجوارح على إخبار الكل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 324 بها فقط تحجير للواسع وتهوين للأمر الرادع. والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على استمرارهم على هاتيك الأعمال في الدنيا وتجددها منهم آنا فآنا. وتقديم عَلَيْهِمْ على الفاعل للمسارعة إلى كون الشهادة ضارة لهم مع ما فيه من التشويق إلى المؤخر اهـ ولا يخلو عن حسن. وجوز أن تكون الشهادة بما ذكر مجازا عن ظهور آثاره على هاتيك الأعضاء بحيث يعلم من يشاهدهم ما عملوه وذلك بكيفية يعلمها الله تعالى. واعترض بأنه معارض بقوله تعالى: أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت: 21] . وأجيب بأن مجوز ما ذكر يجعل النطق مجازا عن الدلالة الواضحة كما قيل به في قولهم نطقت الحال أو يقول: هذا في حال وذاك في حال أو كل منهما في قوم. ولا يخفى أن الظاهر بقاء الشهادة على حقيقتها إلا أنه استشكل ذلك بأنه حينئذ يلزم التعارض بين ما هنا وقوله تعالى في سورة يس الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ الآية [يس: 65] لأن الختم على الأفواه ينافي شهادة الألسن. وأجيب بأن المراد من الختم على الأفواه منعهم عن التكلم بالألسنة التي فيها وذلك لا ينافي الألسنة نفسها الذي هو المراد من الشهادة كما أشرنا إليها فإن الألسنة في الأول آلة للفعل وفي الثاني فاعلة له فيجتمع الختم على الأفواه وشهادة الألسن بأن يمنعوا عن التكلم بالألسنة وتجعل الألسنة نفسها ناطقة متكلمة كما جعل سبحانه الذراع المسموم ناطقا متكلما حتى أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم بأنه مسموم وللمعتزلة في ذلك كلام، وقيل في التوفيق يجوز أن يكون كل من الختم والشهادة في موطن وحال، وأن يكون الشهادة في حق الرامين والختم في حق الكفرة، وكأنه لما كانت هذه الآية في حق القاذف بلسانه وهو مطالب معه بأربعة شهداء ذكر فيها خمسة أيضا وصرح باللسان الذي به عمله ليفضحه جزاء له من جنس عمله قاله الخفاجي وقال: إنها نكتة سرية والله تعالى أعلم بأسرار كتابه فتدبر. وقرأ الأخوان والزعفراني وابن مقسم وابن سعدان «يشهد» بالياء آخر الحروف ووجهه ظاهر. وقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ ظرف لقوله سبحانه: يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ والتنوين عوض عن الجملة المضافة إليها، والتوفية إعطاء الشيء وافيا، والدين هنا الجزاء ومنه كما تدين تدان، والحق الموجد بحسب مقتضى الحكمة، وقريب منه تفسيره بالثابت الذي يحق أن يثبت لهم لا محالة أي يومئذ تشهد عليهم أعضاؤهم المذكورة بأعمالهم القبيحة يعطيهم الله تعالى جزاءهم المطابق لمقتضى الحكمة وافيا تاما، والكلام استئناف مسوق لبيان ترتيب حكم الشهادة عليها متضمن لبيان ذلك المبهم المحذوف فيما سبق على وجه الإجمال، وجوز أن يكون يَوْمَئِذٍ بدلا من يَوْمَ تَشْهَدُ من جوز تعلق ذاك بيوفيهم. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «يوفيهم» مخففا، وقرأ عبد الله ومجاهد وأبو روق وأبو حيوة «الحقّ» بالرفع على أنه صفة للاسم الجليل، ويجوز الفصل بالمفعول بين الموصوف وصفته، ومعنى الحق على هذه القراءة على ما قال الراغب الموجد للشيء بحسب ما تقتضيه الحكمة، وفسره بعضهم بالعادل، والأكثرون على تفسيره بالواجب لذاته، وكذا في قوله سبحانه: وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ والمبين إما من أبان اللازم أي الظاهر حقيته على تقدير جعله نعتا للحق أو الظاهر ألوهيته عز وجل على تقدير جعله خبرا ثانيا أو من أبان المعتدي أي المظهر للأشياء كما هي في أنفسها، وجملة يَعْلَمُونَ معطوفة على جملة يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ فإن كانت مقيدة بما قيدت به الأولى فالمعنى يوم إذ تشهد عليهم أعضاؤهم المذكورة بأعمالهم القبيحة يعلمون أن الله إلخ، وإن لم تكن مقيدة بذلك جاز أن يكون المعنى ويعلمون عند معاينتهم الأهوال والخطوب أن الله إلخ، والظاهر أن الشهادة على الأول وللمعاينة على الثاني دخلا في حصول العلم بمضمون ما في حيز الجزء: 9 ¦ الصفحة: 325 يَعْلَمُونَ فتأمل لتعرف كيفية الاستدلال على ذلك فإن فيه خفاء لا سيما مع ملاحظة الحصر المأخوذ من تعريف الطرفين وضمير الفصل، وقيل: إن علم الخلق بصفاته تعالى يوم القيامة ضروري: وإن تفاوتوا في ذلك من بعض الوجوه فيعلمون ما ذكر من غير مدخلية أحد الأمرين، ولعل فائدة هذا العلم يأسهم من إنقاذ أحد إياهم مما هم فيه أو انسداد باب الاعتراض المروح للقلب في الجملة عليهم أو تبين خطئهم في رميهم حرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالباطل لما أن حقيته تأبى كونه عز وجل حقا أي موجدا للأشياء بحسب ما تقتضيه الحكمة لما قدمنا من أن فجور زوجات الأنبياء عليهم السلام مخل بحكمة البعثة، وكذا تأبى كونه عز وجل حقا أي واجبا لذاته بناء على أن الوجوب الذاتي يستتبع الإنصاف بالحكمة بل بجميع الصفات الكاملة، وهذه الجملة ظاهرة جدا في أن الآية في ابن أبيّ وأضرابه من المنافقين الرامين حرم الرسول صلّى الله عليه وسلّم لأن المؤمن عالم أن الله تعالى هو الحق المبين منذ كان في الدنيا لا أنه يحدث له علم ذلك يوم القيامة. ومن ذهب إلى أنها في الرامين من المؤمنين أو فيهم وفي غيرهم من المنافقين قال: يحتمل أن يكون المراد من العلم بذلك التفات الذهن وتوجهه إليه ولا يأبى ذلك كونه حاصلا قبل. قد حمل السيد السند قدس سره في حواشي المطالع العلم في قولهم في تعريف الدلالة كون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر على ذلك لئلا يرد أنه يلزم على الظاهر أن لا يكون للفظ دلالة عند التكرار لامتناع علم المعلوم ويحتمل أن يكون قد نزل علمهم الحاصل قبل منزلة غير الحاصل لعدم ترتب ما يقتضيه من الكف عن الرمي عليه ومثل هذا التنزيل شائع في الكتاب الجليل، ويحتمل أن يكون المراد يعلمون عيانا مقتضى أن الله هو الحق المبين. أعني الانتقام من الظالم للمظلوم. ويحتمل غير ذلك. وأنت تعلم أن الكل خلاف الظاهر فتدبر، وقوله تعالى: الْخَبِيثاتُ إلخ كلام مستأنف مؤسس على السنة الجارية فيما بين الخلق على موجب أن لله تعالى ملكا يسوق الأهل إلى الأهل، وقول القائل: «إن الطيور على أشباهها تقع» أي الخبيثات من النساء لِلْخَبِيثِينَ من الرجال أي مختصات بهم لا يتجاوزنهم إلى غيرهم على أن اللام للاختصاص وَالْخَبِيثُونَ أيضا لِلْخَبِيثاتِ لأن المجانسة من دواعي الانضمام وَالطَّيِّباتُ منهن لِلطَّيِّبِينَ منهم وَالطَّيِّبُونَ أيضا لِلطَّيِّباتِ منهن بحيث لا يتجاوزونهن إلى من عداهن وحيث كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أطيب الأطيبين وخيرة الأولين والآخرين تبين كون الصديقة رضي الله تعالى عنها من أطيب الطيبات بالضرورة واتضح بطلان ما قيل فيها من الخرافات حسبما نطق به قوله سبحانه: أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ على أن الإشارة إلى أهل البيت النبوي رجالا ونساء ويدخل في ذلك الصديقة رضي الله تعالى عنها دخولا أوليا، وقيل: إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والصديقة وصفوان وقال الفراء: إشارة إلى الصديقة وصفوان والجمع يطلق على ما زاد على الواحد. وفي الآية على جميع الأقوال تغليب أي أولئك منزهون مما يقوله أهل الإفك في حقهم من الأكاذيب الباطلة. وجعل الموصوف للصفات المذكورة النساء والرجال حسبما سمعت رواه الطبراني عن ابن عباس ضمن خبر طويل ورواه الإمامية عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما واختاره أبو مسلم والجبائي وجماعة وهو الأظهر عندي وجاء في رواية أخرى عن ابن عباس أخرجها الطبراني أيضا وابن مردويه وغيرهما أن الْخَبِيثاتُ والطَّيِّباتُ صفتان للكلم وَالْخَبِيثُونَ والطَّيِّبُونَ صفتان للخبيثين من الناس وروي ذلك عن الضحاك والحسن والْخَبِيثُونَ عليه شامل للرجال والنساء على سبيل التغليب وكذا الطَّيِّبُونَ وأُولئِكَ إشارة إلى الطيبين وضمير يَقُولُونَ للخبيثين، وقيل للآفكين أي الخبيثات من الكلم للخبيثين من الرجال والنساء أي مختصة ولا صقة بهم لا ينبغي أن تقال في حق غيرهم وكذا الخبيثون من الفريقين أحقاء بأن يقال في حقهم خبائث الكلم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 326 والطيبات من الكلم للطيبين من الفريقين مختصة وحقيقة بهم وهم أحقاء بأن يقال في شأنهم طيبات الكلم أولئك الطيبون مبرؤون عن الاتصاف مما يقول الخبيثون وقيل الآفكون في حقهم فمآله تنزيه الصديقة رضي الله تعالى عنها أيضا. وقيل: المراد الخبيثات من القول مختصة بالخبيثين من فريقي الرجال والنساء لا تصدر عن غيرهم والخبيثون من الفريقين مختصون بالخبيثات من القول متعرضون لها والطيبات من القول للطيبين من الفريقين أي مختصة بهم لا تصدر عن غيرهم والطيبون من الفريقين مختصون بالطيبات من القول لا يصدر عنهم غيرها أولئك الطيبون مبرؤون مما يقول الخبيثون أي لا يصدر عنهم مثل ذلك، وروي ذلك عن مجاهد، والكلام عليه على حذف مضاف إلى ما، ومآله الحط على الآفكين وتنزيه القائلين سبحانك هذا بهتان عظيم لَهُمْ مَغْفِرَةٌ عظيمة لما لا يخلو البشر عنه من الذنب، وحسنات الأبرار سيئات المقربين وَرِزْقٌ كَرِيمٌ هو الجنة كما قاله أكثر المفسرين، ويشهد له قوله تعالى في سورة الأحزاب في أمهات المؤمنين وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً [الأحزاب: 31] فإن المراد به ثمت الجنة بقرينة أَعْتَدْنا والقرآن يفسر بعضه بعضا، وفي هذه الآيات من الدلالة على فضل الصديقة ما فيها، ولو قلبت القرآن كله وفتشت عما أوعد به العصاة لم تر الله عز وجل قد غلظ في شيء تغليظه في الإفك وهو دال على فضلها أيضا، وكانت رضي الله تعالى عنها تتحدث بنعمة الله تعالى عليها بنزول ذلك في شأنها. فقد أخرج ابن أبي شيبة عنها أنها قالت: خلال فيّ لم تكن في أحد من الناس إلا ما آتى الله تعالى مريم ابنة عمران والله ما أقول هذا اني أفتخر على صواحباتي قيل: وما هن؟ قالت: نزل الملك بصورتي وتزوجني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لسبع سنين وأهديت له لتسع سنين وتزوجني بكرا لم يشركه فيّ أحد من الناس وأتاه الوحي وأنا وإياه في لحاف واحد وكنت من أحب الناس إليه ونزل فيّ آيات من القرآن كادت الأمة تهلك فيهن ورأيت جبريل عليه السلام ولم يره أحد من نسائه غيري وقبض في بيتي لم يله أحد غير الملك وأنا. وأخرج ابن مردويه عنها أنها قالت: لقد نزل عذري من السماء ولقد خلقت (1) طيبة عند طيب ولقد وعدت مغفرة وأجرا عظيما، وفي قوله سبحانه: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ بناء على شموله عائشة رضي الله تعالى عنها رد على الرافضة القائلين بكفرها وموتها على ذلك وحاشاها لقصة وقعة الجمل مع أشياء افتروها ونسبوها إليها، ومما يرد زعم ذلك أيضا قول عمار بن ياسر في خطبته حين بعثه الأمير كرّم الله تعالى وجهه مع الحسن رضي الله تعالى عنه يستنفران أهل المدينة وأهل الكوفة: إني لأعلم أنها زوجة نبيكم عليه الصلاة والسلام في الدنيا والآخرة ولكن الله تعالى ابتلاكم ليعلم أتطيعونه أم تطيعونها، ومما يقضى منه العجب ما رأيته في بعض كتب الشيعة من أنها خرجت من أمهات المؤمنين بعد تلك الوقعة لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال للأمير كرم الله تعالى وجهه: قد أذنت لك أن تخرج بعد وفاتي من الزوجية من شئت من أزواجي فأخرجها كرم الله تعالى وجهه من ذلك لما صدر منها معه ما صدر، ولعمري إنّ هذا مما يكاد يضحك الثكلى، وفي حسن معاملة الأمير كرم الله تعالى وجهه إياها رضي الله تعالى عنها بعد استيلائه على العسكر الذي صحبها الثابت عند الفريقين ما يكذب ذلك، ونحن لا نشك في فضلها رضي الله تعالى عنها لهذه الآيات ولما جاء في مدحها عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولو لم يكن من ذلك سوى ما أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن فضل عائشة على   (1) بالقاف ويروى بالفاء وتشديد اللام أي تركت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد وفاته طيبة اهـ منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 327 النساء كفضل الثريد على الطعام» لكني مع هذا لا أقول بأنها أفضل من بضعته صلّى الله عليه وسلّم الكريمة فاطمة الزهراء رضي الله تعالى عنها والوجه لا يخفى، وفي هذا المقام أبحاث تطلب من محلها، ثم إن الذي أراه أن إنزال هذه الآيات في أمرها لمزيد الاعتناء بشأن الرسول عليه الصلاة والسلام ولجبر قلب صاحبه الصديق رضي الله تعالى عنه وكذا قلب زوجته أم رومان فقد اعتراهما من ذلك الإفك ما الله تعالى أعلم به. ولمزيد انقطاع عائشة رضي الله تعالى عنها إليه عز وجل مع فضلها وطهارتها في نفسها. وقد جاء في خبر غريب ذكره ابن النجار (1) في تاريخ بغداد بسنده عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: «كنت جالسا عند أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها لأقر عينها بالبراءة وهي تبكي فقالت: هجرني القريب والبعيد حتى هجرتني الهرة وما عرض عليّ طعام ولا شراب فكنت أرقد وأنا جائعة ظامئة فرأيت في منامي فتى فقال لي: ما لك؟ فقلت: حزينة مما ذكر الناس فقال: ادعي بهذه الدعوات يفرج الله تعالى عنك فقلت: وما هي؟ فقال قولي: يا سابغ النعم ويا دافع النقم ويا فارج الغمم ويا كاشف الظلم يا أعدل من حكم يا حسب من ظلم يا ولي من ظلم يا أول بلا بداية ويا آخر بلا نهاية يا من له اسم بلا كنية اللهم اجعل لي من أمري فرجا ومخرجا قالت: فانتبهت وأنا ريانة شبعانة وقد أنزل الله تعالى فرجي ، ويسمى هذا الدعاء دعاء الفرج فليحفظ وليستعمل، ثم إنه عز وجل إثر ما فصل الزواجر عن الزنا وعن رمي العفائف عنه شرع في تفصيل الزواجر عما عسى يؤدي إلى أحدهما من مخالطة الرجال بالنساء ودخولهم عليهن في أوقات الخلوات وتعليم الآداب الجميلة والأفاعيل المرضية المستتبعة لسعادة الدارين فقال سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ إلخ، وسبب النزول على ما أخرج الفريابي وغيره من طريق عدي بن ثابت عن رجل من الأنصار أن امرأة قالت: يا رسول الله إني أكون في بيتي على الحالة التي لا أحب أن يراني عليها أحد لا ولد ولا والد فيأتيني آت فيدخل عليّ فكيف أصنع؟ فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ، وإضافة البيوت إلى ضمير المخاطبين لامية اختصاصية، والمراد عند بعض الاختصاص الملكي، ووصف البيوت بمغايرة بيوتهم بهذا المعنى خارج مخرج العادة التي هي سكنى كل أحد في ملكه وإلا فالآجر والمعير أيضا منهيان عن الدخول بغير إذن. وقال بعضهم: المراد اختصاص السكنى أي غير بيوتكم التي تسكنونها لأن كون الآجر والمعير منهيين كغيرهما عن الدخول بغير إذن دليل على عدم إرادة الاختصاص الملكي فيحمل ذلك على الاختصاص المذكور فلا حاجة إلى القول بأن ذاك خارج مخرج العادة، وقرىء بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ بكسر الباء لأجل الياء حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا أي تستأذنوا من يملك الإذن من أصحابها، وتفسيره بذلك أخرجه ابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ويخالفه ما روى الحاكم وصححه والضياء في المختارة والبيهقي في شعب الإيمان وناس آخرون عنه أنه قال في حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا أخطأ الكاتب وإنما هي «حتى تستأذنوا» لكن قال أبو حيان: من روى عن ابن عباس أنه قال ذلك فهو طاعن في الإسلام ملحد في الدين وابن عباس بريء من ذلك القول انتهى. وأنت تعلم أن تصحيح الحاكم لا يعول عليه عند أئمة الحديث لكن للخبر المذكور طرق كثيرة، وكتاب الأحاديث المختارة للضياء كتاب معتبر، فقد قال السخاوي في فتح المغيث في تقسيم أهل المسانيد ومنهم من يقتصر على الصالح للحجة كالضياء في مختارته، والسيوطي بعد ما عد في ديباجة جمع الجوامع الكتب الخمسة   (1) ونقله السيوطي في الدر المنثور اهـ منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 328 وهي صحيح البخاري وصحيح مسلم وصحيح ابن حبان والمستدرك والمختارة للضياء قال وجميع ما في هذه الكتب الخمسة صحيح. ونقل الحافظ ابن رجب في طبقات الحنابلة عن بعض الأئمة أنه قال: كتاب المختارة خير من صحيح الحاكم فوجود هذا الخبر هناك مع ما ذكر من تعدد طرقه يبعد ما قاله أبو حيان، وابن الأنباري أجاب عن هذا الخبر ونحوه من الأخبار الطاعنة بحسب الظاهر في تواتر القرآن المروية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وسيأتي في تفسير هذه السورة إن شاء الله تعالى بعضها أيضا. بأن الروايات ضعيفة ومعارضة بروايات أخر عن ابن عباس أيضا وغيره وهذا دون طعن أبي حيان. وأجاب ابن اشته عن جميع ذلك بأن المراد الخطأ في الاختيار وترك ما هو الأولى بحسب ظنه رضي الله تعالى عنه لجمع الناس عليه من الأحرف السبعة لا أن الذي كتب خطأ خارج عن القرآن. واختار الجلال السيوطي هذا الجواب وقال: هو أولى وأقعد من جواب ابن الأنباري، ولا يخفى عليك أن حمل كلام ابن عباس على ذلك لا يخلو عن بعد لما أن ما ذكر خلاف ظاهر كلامه، وأيضا ظن ابن عباس أولوية ما أجمع سائر الصحابة رضي الله تعالى عنهم على خلافه مما سمع من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في العرضة الأخيرة بعيده وكأنهم رأوا أن التزام ذلك أهون من إنكار ثبوت الخبر عن ابن عباس مع تعدد طرقه وإخراج الضياء إياه في مختارته، ويشجع على هذا الإنكار اعتقاد جلالة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وثبوت الإجماع على تواتر خلاف ما يقتضيه ظاهر كلامه فتأمل. واستعمال الاستئناس بمعنى الاستئذان بناء على أنه استفعال من آنس الشيء بالمد علمه أو أبصره وإبصاره طريق إلى العلم فالاستئناس استعلام والمستأذن طالب العلم بالحال مستكشف أنه هل يراد دخوله أو لا. وقيل الاستئناس خلاف الاستيحاش فهو من الأنس بالضم خلاف الوحشة. والمراد به المأذونية فكأنه قيل: حتى يؤذن لكم فإن من يطرق بيت غيره لا يدري أيؤذن له أم لا؟ فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه فإذا أذن له استأنس، وهو في ذلك كناية أو مجاز، وقيل: الاستئناس من الإنس بالكسر بمعنى الناس أي حتى تطلبوا معرفة من في البيوت من الإنس. وضعف بأن فيه اشتقاقا من جامد كما في المسرج أنه مشتق من السراج وبأن معرفة من في البيت لا تكفي بدون الإذن فيوهم جواز الدخول بلا إذن. ومن الناس من رجحه بمناسبته لقوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً ولا يكافىء التضعيف بما سمعت. وذهب الطبري إلى أن المعنى حتى تؤنسوا أهل البيت من أنفسكم بالاستئذان ونحوه وتؤنسوا أنفسكم بأن تعلموا أن قد شعر بكم ولا يخفى ما فيه، وقيل: المعنى حتى تطلبوا علم أهل البيت، والمراد حتى تعلموهم على أتم وجه، ويرشد إلى ذلك ما روي عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال: قلنا يا رسول الله ما الاستئناس؟ فقال: «يتكلم الرجل بالتسبيحة والتكبيرة والتحميدة يتنحنح يؤذن أهل البيت» وما أخرجه ابن المنذر وجماعة عن مجاهد أنه قال: تستأنسوا تنحنحوا وتنخموا، وقيل المراد حتى تؤنسوا أهل البيت بإعلامهم بالتسبيح أو نحوه، والخبران المذكوران لا يأبيانه وكلا القولين كما ترى، وفي دلالة ما ذكر من تفسير الاستئناس في الخبر على ما سبق له بحث سنشير إليه إن شاء الله تعالى وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها أي الساكنين فيها، وظاهر الآية بأن الاستئذان قبل التسليم وبه قال بعضهم. وقال النووي: الصحيح المختار تقديم التسليم على الاستئذان، فقد أخرج الترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم السلام قبل الكلام» وابن أبي شيبة والبخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة فيمن يستأذن قبل أن يسلم قال: لا يؤذن له حتى يسلم، وأخرج ابن أبي شيبة وابن وهب في كتاب المجالس عن زيد بن أسلم قال: أرسلني أبي إلى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فجئته فقلت: أألج؟ فقال: ادخل فلما دخلت قال: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 329 مرحبا يا ابن أخي لا تقل أألج ولكن قل: السلام عليكم فإذا قيل: وعليك فقل: أأدخل؟ فإذا قالوا: ادخل فادخل. وأخرج قاسم بن أصبغ وابن عبد البر في التمهيد عن ابن عباس قال: استأذن عمر رضي الله تعالى عنه على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: السلام على رسول الله السلام عليكم أيدخل عمر؟ واختار الماوردي التفصيل وهو أنه إن وقعت عين المستأذن على من في البيت قبل دخوله قدم السلام وإلا قدم الاستئذان، والظاهر أن الاستئذان بما يدل على طلب الإذن صريحا والمأثور المشهور في ذلك أأدخل؟ كما سمعت، وجوز أن يكون بما يفهم منه ذلك مطلقا وجعلوا منه التسبيح والتكبير ونحوهما مما يحصل به إيذان أهل البيت بالجائي فإن في إيذانهم دلالة على ما طلب الإذن منهم، وحملوا ما تقدم من حديث أبي أيوب وكلام مجاهد على ذلك، وهو على ما روي عن عطاء واجب على كل محتلم ويكفي فيه المرة الواحدة على ما يقتضيه ظاهر الآية، وأخرج البيهقي في الشعب وابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال: كان يقال الاستئذان ثلاثا فمن لم يؤذن له فيهن فليرجع، أما الأولى فيسمع الحي، وأما الثانية فيأخذوا حذرهم، وأما الثالثة فإن شاؤوا أذنوا وإن شاؤوا ردوا. وفي الأمر بالرجوع بعد الثلاث حديث مرفوع أخرجه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود عن أبي سعيد الخدري. وذكر أبو حيان أنه لا يزيد على الثلاث إلا إن تحقق أن من في البيت لم يسمع، وظاهر الآية مشروعية الاستئذان إذا أريد الدخول على المحارم، وقد أخرج مالك في الموطأ عن عطاء بن يسار «أن رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: أأستأذن على أمي؟ قال: نعم قال: ليس لها خادم غيري أأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال: أتحب أن تراها عريانة؟ قال الرجل: لا قال: فاستأذن عليها» وأخرج ابن جرير، والبيهقي عن ابن مسعود عليكم أن تستأذنوا على أمهاتكم وأخواتكم، وهو أيضا على ما يقتضيه بعض الآثار مشروع للنساء إذا أردن دخول بيوت غير بيوتهن. فقد أخرج ابن أبي حاتم عن أم إياس قالت: كنت في أربع نسوة نستأذن على عائشة رضي الله عنها تعالى عنها فقلت: ندخل؟ فقالت: لا فقال واحد: السلام عليكم أندخل؟ قالت: ادخلوا ثم قالت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ إلخ وإذا صح ذلك ففي الآية نوع تغليب، ووجه مشروعية الاستئذان لهن نحو وجه مشروعيته للرجال فإن أهل البيت قد يكونون على حال لا يحبون اطلاع النساء عليه كما لا يحبون اطلاع الرجال. وصح من حديث أخرجه الشيخان. وغيرهما «إنما جعل الاستئذان من أجل النظر» ومن هنا لا ينبغي النظر في قعر البيت قبل الاستئذان، وقد أخرج الطبراني عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من كان يشهد أني رسول الله فلا يدخل على أهل بيت حتى يستأذن ويسلم فإذا نظر في قعر البيت فقد دخل» وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما أخرج أبو داود والبخاري في الأدب المفرد عن عبد الله بن بشر إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ويقول السلام عليكم» وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور فاستقبال الباب ربما يفضي إلى النظر، وظاهر الآية أيضا مشروعية الاستئذان للأعمى لدخوله في عموم الموصول، ووجهها كراهة اطلاعه بواسطة السمع على ما لا يجب أهل البيت اطلاعه عليه من الكلام مثلا. وفي الكشاف إنما شرع الاستئذان لئلا يوقف على الأحوال التي يطويها الناس في العادة عن غيرهم ويتحفظون من اطلاع أحد عليها ولم يشرع لئلا يطلع الدامر على عورة أحد ولا تسبق عينه إلى ما لا يحل النظر إليه فقط، وهو تعليل حسن إلا أنه يحتاج القول بذلك إلى القول بأن عليه الصلاة والسلام إنما جعل الاستئذان من أجل النظر» خارج مخرج الغالب. وجيء بإنما لمزيد الاعتناء لا للحصر وقد صرحوا بمجيء إنما لذلك فلا تغفل ثم اعلم أن الاستئذان والتسليم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 330 متغايران لكن ظاهر بعض الأخبار يقتضي أن الاستئذان داخل في التسليم كما أن بعضها يقتضي مغايرته له وعدم دخوله فيه، ووجه جعله من التسليم أنه بدونه كالعدم لما أن السنة فيه أن يقرن بالتسليم. هذا وفي مصحف عبد الله كما أخرج ابن جرير وغيره عن إبراهيم «حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا» ذلِكُمْ إشارة على ما قيل إلى الدخول بالاستئذان والتسليم المفهوم من الكلام، وقيل: إشارة إلى المذكور في ضمن الفعلين المغيا بهما أي الاستئذان والتسليم خَيْرٌ لَكُمْ من الدخول بغتة والدخول على تحية الجاهلية، فقد كان الرجل منهم إذا أراد أن يدخل بيتا غير بيته يقول: حييتم صباحا حييتم مساء فيدخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف، وخيرية المفضل عليه قيل على زعمهم لما في الانتظار من المذلة ولعدم تحية الجاهلية حسنة كما هو عادة الناس اليوم في قولهم: صباح الخير ومساء الخير، ولعل الأولى أن يقال: إن ذلك من قبيل الخل أحلى من العسل. وجوز أن يكون خَيْرٌ صفة فلا تقدير، وقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ تعليل على ما اختاره جمع لمحذوف أي أرشدتم إلى ذلك أو قيل لكم هذا كي تتذكروا وتتعظوا وتعملوا بموجبه فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً بأن كانت خالية من الأهل فَلا تَدْخُلُوها واصبروا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ من جهة من يملك الإذن عند وجدانكم إياه، ووجه ذلك أن الدخول في البيوت الخالية من غير إذن سبب للقيل والقال، وفيه تصرف بملك الغير بغير رضاه وهو يشبه الغضب، وهذه الآية لبيان حكم البيوت الخالية عن أهلها كما أن الآية الأولى لبيان حكم البيوت التي فيها أهلها. وجوز أن تكون هذه تأكيدا لأمر الاستئناس وأنه لا بدّ منه والأمر دائر عليه، والمعنى فإن لم تجدوا فيها أحدا من الآذنين أي ممن يملك الإذن فلا تدخلوها إلخ ويفيد هذا حرمة دخول ما فيه من لا يملك الإذن كعبد وصبي من دون إذن من يملكه، ومن اختار الأول قال: إن حرمة ما ذكر ثابتة بدلالة النص فتأمل. وقال سبحانه: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا إلى آخره دون فإن لم يكن فيها أحد لأن المعتبر وجد أنها خالية من الأهل مطلقا أو ممن يملك ذلك الإذن سواء كان فيها أحد في الواقع أم لم يكن كذا قيل: وعليه فالمراد من قولهم في تفسير ذلك، بأن كانت خالية كونها خالية بحسب الاعتقاد، وكذا يقال في نظيره فلا تغفل، ثم إن ما أفادته الآيتان من الحكم قد خصصه الشرع فجوز الدخول لإزالة منكر توقفت على الدخول من غير إذن أهل البيت والدخول في البيت الخالي لإطفاء حريق فيه أو نحو ذلك. وقد ذكر الفقهاء السور التي فيها الدخول من غير إذن ممن يملك الإذن فلتراجع، وقيل: المراد بالإذن في قوله سبحانه: حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ ما يعم الإذن دلالة وشرعا ولذا وقع بصيغة المجهول وحينئذ لا حاجة إلى القول بالتخصيص وفيه خفاء وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا أي إن أمرتم من جهة أهل البيت بالرجوع سواء كان الآمر من يملك الإذن أم لا فارجعوا ولا تلحوا هُوَ أي الرجوع أَزْكى لَكُمْ أي أطهر مما لا يخلو عنه اللج والعناد والوقوف على الأبواب بعد القول المذكور من دنس الدناءة والرذالة أو أنفع لدينكم ودنياكم على أن أَزْكى من الزكاة بمعنى النمو. والظاهر أن صيغة أفعل في الوجهين للمبالغة، وقيدنا الوقوف على الأبواب بما سمعت لأنه ليس فيه دناءة مطلقا، فقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يأتي دور الأنصار لطلب الحديث فيقعد على الباب ولا يستأذن حتى يخرج إليه فإذا خرج ورآه قال: يا ابن عم رسول الله لو أخبرتني بمكانك فيقول: هكذا أمرنا أن نطلب العلم، وكأنه رضي الله تعالى عنه عد ذلك من التواضع وهو من أقوى أسباب الفتوح لطالب العلم، وقد أعطاني الله عز الجزء: 9 ¦ الصفحة: 331 وجل نصيبا وافيا منه فكنت أكثر التلامذة تواضعا وخدمة للمشايخ والحمد لله تعالى على ذلك وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ فيعلم ما تأتون وما تذرون مما كلفتموه فيجازيكم عليه. لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا أي بغير استئذان بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ أي موضوعة لسكنى طائفة مخصوصة فقط بل ليتمتع بها من يحتاج إليها كائنا من كان من غير أن يتخذها سكنا كالربط والخانات والحوانيت والحمامات وغيرها فإنها معدة لمصالح الناس كافة كما ينبىء عنه قوله تعالى: فِيها مَتاعٌ لَكُمْ فإنه صفة للبيوت أو استئناف جار مجرى التعليل لنفي الجناح أي فيها حق تمتع لكم كالاستكنان من الحر والبرد وإيواء الأمتعة والرحال والشراء والبيع والاغتسال وغيرها مما يليق بحال البيوت وداخليها فلا بأس بدخولها بغير استئذان من داخليها من قبل ولا ممن يتولى أمرها ويقوم بتدبيرها. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل أنه لما نزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا إلخ قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله فكيف بتجار قريش الذين يختلفون من مكة والمدينة والشام وبيت المقدس ولهم بيوت معلومة على الطريق فكيف يستأذنون ويسلمون وليس فيها سكان؟ فرخص سبحانه في ذلك فأنزل قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ إلخ، وعنى الصديق رضي الله تعالى عنه بالبيوت المعلومة الخانات التي في الطرق وهي في الآية أعم من ذلك، ولا عبرة بخصوص السبب فما روي عن ابن جبير ومحمد بن الحنفية والضحاك وغيرهم من تفسيرها فيها بذلك من باب التمثيل، وكذا ما أخرجه جماعة عن عطاء وعبد بن حميد وإبراهيم النخعي أنها البيوت الخربة التي تدخل للتبرز، وأما ما روي عن ابن الحنفية أيضا من أنها دور مكة فهو من باب التمثيل أيضا لكن صحة ذلك مبنية الجزء: 9 ¦ الصفحة: 332 على القول بأن دور مكة غير مملوكة والناس فيها شركاء وقد علمت ما في المسألة من الخلاف. وأخرج أبو داود في الناسخ وابن جرير عن ابن عباس أن قوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها قد نسخ بقوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ إلخ واستثنى منه البيوت الغير المسكونة، وروي حديث الاستثناء عن عكرمة والحسن وهو الذي يقتضيه ظاهر خبر مقاتل وإليه ذهب الزمخشري وتعقبه أبو حيان بأنه لا يظهر ذلك الآن الآية الأولى في البيوت المملوكة والمسكونة وهذه الآية في البيوت المباحة التي لا اختصاص لها بواحد دون واحد. والذي يقتضيه النظر الجليل أن البيوت فيما تقدم أعم من هذه البيوت فيكون ما ذكر تخصيصا لذلك وهو المعني بالاستثناء فتدبر ولا تغفل. وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ وعيد لمن يدخل مدخلا من هذه المداخل لفساد أو اطلاع على عورات قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ شروع في بيان أحكام كلية شاملة للمؤمنين كافة يندرج فيها حكم المستأذنين عند دخولهم البيوت اندراجا أوليا. وتلوين الخطاب وتوجيهه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتفويض ما في حيزه من الأوامر والنواهي إليه عليه الصلاة والسلام قيل لأنها تكاليف متعلقة بأمور جزئية كثيرة الوقوع حرية بأن يكون الآمر بها والمتصدي لتدبيرها حافظا ومهيمنا عليهم. وقيل: إن ذلك لما أن بعض المؤمنين جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كالمستدعي لأن يقول له ما في حيز القول. فقد أخرج ابن مردويه عن عليّ كرّم الله تعالى وجهه قال: مر رجل على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في طريق من طرقات المدينة فنظر إلى امرأة ونظرت إليه فوسوس لهما الشيطان أنه لم ينظر أحدهما إلى الآخر إلا إعجابا به فبينما الرجل يمشي إلى جنب حائط وهو ينظر إليها إذ استقبله الحائط فشق أنفه فقال: والله لا أغسل الدم حتى آتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره أمري فأتاه فقص عليه قصته فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: هذا عقوبة ذنبك وأنزل الله تعالى قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ومفعول القول مقدر، ويَغُضُّوا جواب لقل لتضمنه معنى حرف الشرط كأنه قيل: إن تقل لهم غضوا يغضوا، وفيه إيذان بأنهم لفرط مطاوعتهم لا ينفك فعلهم عن أمره عليه الصلاة والسلام وأنه كالسبب الموجب له وهذا هو المشهور. وجوز أن يكون يَغُضُّوا جوابا للأمر المقدر المقول للقول. وتعقب بأن الجواب لا بد أن يخالف المجاب إما في الفعل والفاعل نحو ائتني أكرمك أو في الفعل نحو أسلم تدخل الجنة أو في الفاعل نحو قم أقم ولا يجوز أن يتوافقا فيه، وأيضا الأمر للمواجهة ويَغُضُّوا غائب ومثله لا يجوز، وقيل عليه: إنه لم لا يجوز أن يكون من قبيل «من كانت هجرته» الحديث ولا نسلم أنه لا يجاب الأمر بلفظ الغيبة إذا كان محكيا بالقول لجواز التلوين حينئذ وفيه بحث، ومن أنصف لا يرى هذا الوجه وجيها وهو على ما فيه خلاف الظاهر جدا، وجوز الطبرسي. وغيره أن يكون يَغُضُّوا مجزوما بلام أمر مقدرة لدلالة قُلْ أي قل لهم ليغضوا والجملة نصب على المفعولية للقول، وغض البصر إطباق الجفن على الجفن، ومِنْ قيل صلة وسيبويه يأبى ذلك في مثل هذا الكلام والجواز مذهب الأخفش، وقال ابن عطية: يصح أن تكون من لبيان الجنس ويصح أن تكون لابتداء الغاية. وتعقبه في البحر بأنه لم يتقدم مبهم لتكون من لبيان الجنس على أن الصحيح أنها ليس من موضوعاتها أن تكون لبيان الجنس انتهى، والجل على أنها هنا تبعيضية والمراد غض البصر عما يحرم والاقتصار به على ما يحل، وجعل الغض عن بعض المبصر غض بعض البصر وفيه كما في الكشف كناية حسنة ثم إن غض البصر عما يحرم النظر إليه واجب ونظرة الفجأة التي لا تعمد فيها معفو عنها، فقد أخرج أبو داود والترمذي وغيرهما عن بريدة رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تتبع النظرة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 333 النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة» وبدأ سبحانه بالإرشاد إلى غض البصر لما في ذلك من سد باب الشر فإن النظر باب إلى كثير من الشرور وهو بريد الزنا وراء الفجور، وقال بعضهم: كل الحوادث مبداها من النظر ... ومعظم النار من مستصغر الشرر والمرء ما دام ذا عين يقلبها ... في أعين العين موقوف على الخطر كم نظرة فعلت في قلب فاعلها ... فعل السهام بلا قوس ولا وتر يسر ناظره ما ضر خاطره ... لا مرحبا بسرور عاد بالضرر والظاهر أن الإرشاد لكل واحد من المؤمنين ولفظ الجمع لا يأبى ذلك، والظاهر أيضا أن المؤمنين أعم من العباد وغيرهم، وزعم بعضهم جواز أن يكون المراد بهم العباد والمؤمنين المخلصين على أن يكون المعنى قل للمؤمنين الكاملين يغضوا من أبصارهم وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ أي عما لا يحل لهم من الزنا واللواطة، ولم يؤت هنا بمن التبعيضية كما أتى بها فيما تقدم لما أنه ليس فيه حسن كناية كما في ذلك. وفي الكشاف دخلت مِنْ في غض البصر دون حفظ الفرج دلالة على أن أمر النظر أوسع ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن وصدورهن وثديهن وأعضادهن وسوقهن وأقدامهن وكذلك الجواري المستعرضات للبيع والأجنبية ينظر إلى وجهها وكفيها وقدميها في إحدى الروايتين وأما أمر الفرج فمضيق، وكفاك فرقا أن أبيح النظر إلا ما استثني منه وحظر الجماع إلا ما استثنى منه انتهى، وقال صاحب الفرائد: يمكن أن يقال: المراد غض البصر عن الأجنبية والأجنبية يحل النظر إلى بعضها وأما الفرج فلا طريق إلى الحل فيه أصلا بالنسبة إلى الأجنبية فلا وجه لدخول مِنْ فيه وفيه تأمل، وقيل: لم يؤت بمن هنا لأن المراد من حفظ الفروج سترها. فقد أخرج ابن المنذر وجماعة عن أبي العالية أنه قال: كل آية يذكر فيها حفظ الفرج فهو من الزنا إلا هذه الآية في النور وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ فهو أن لا يراها أحد، وروي نحوه عن أبي زيد، والستر مأمور به مطلقا. وتعقب بأنه يجوز الكشف في مواضع فلو جيء بمن لكان فيه إشارة إلى ذلك، وتفسير حفظ الفروج هنا خاصة بسترها قيل لا يخلو عن بعد لمخالفته لما وقع في القرآن الكريم كما اعترف به من فسره بما ذكر. واختار بعض المدققين أن المراد من ذلك حفظ الفروج عن الإفضاء إلى ما لا يحل وحفظها عن الإبداء لأن الحفظ لعدم ذكر صلته يتناول القسمين، وذكر أن الحفظ عن الإبداء يستلزم الآخر من وجهين عدم خلوه عن الإبداء عادة وكون الحفظ عن الإبداء بل الأمر بالتستر مطلقا للحفظ عن الإفضاء، ومن هنا تعلم أن من ضعف ما روي عن أبي العالية. وابن زيد بعدم تعرض الآية عليه بحفظ الفرج عن الزنا لم يصب المحز. ذلِكَ أي ما ذكر من الغض والحفظ أَزْكى لَهُمْ أي أطهر من دنس الريبة أو انفع من حيث الدين والدنيا فإن النظر بريد الزنا وفيه من المضار الدينية أو الدنيوية ما لا يخفى وأفعل للمبالغة دون التفضيل. وجوز أن تكون للتفضيل على معنى أزكى من كل شيء نافع أو مبعد عن الريبة، وقيل على معنى أنه أنفع من الزنا والنظر الحرام فإنهم يتوهمون لذة ذلك نفعا إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ لا يخفى عليه شيء مما يصدر عنهم من الأفاعيل التي من جملتها إجالة النظر واستعمال سائر الحواس وتحريك الجوارح وما يقصدون بذلك فليكونوا على حذر منه عز وجل في كل ما يأتون وما يذرون وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ فلا ينظرن إلى ما لا يحل لهن النظر إليه كالعورات من الرجال والنساء وهي ما بين السرة والركبة، وفي الزواجر لابن حجر المكي كما يحرم نظر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 334 الرجل للمرأة يحرم نظرها إليه ولو بلا شهوة ولا خوف فتنة، نعم إن كان بينهما محرمية نسب أو رضاع أو مصاهرة نظر كل إلى ما عدا ما بين سرة الآخر وركبته. والمذكور في بعض كتب الأصحاب إن كان نظرها إلى ما عدا السرة والركبة بشهوة حرم وإن بدونها لا يحرم نعم غضها بصرها من الأجانب أصلا أولى بها وأحسن، فقد أخرج أبو داود والترمذي وصححه. والنسائي. والبيهقي في سننه عن أم سلمة أنها كانت عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وميمونة قالت: فبينما نحن عنده أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه الصلاة والسلام فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: احتجبا منه فقلت: يا رسول الله هو أعمى لا يبصر قال: أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه؟ ، واستدل به من قال بحرمة نظر المرأة إلى شيء من الرجل الأجنبي مطلقا، ولا يبعد القول بحرمة نظر المرأة المرأة إلى ما عدا ما بين السرة والركبة إذا كان بشهوة ولا تستبعد وقوع هذا النظر فإنه كثير ممن يستعملن السحاق من النساء والعياذ بالله تعالى وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ أي عما لا يحل لهن من الزنا والسحاق أو من الإبداء أو مما يعم ذلك والإبداء وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ أي ما يتزين به من الحلي ونحوه إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها أي إلا ما جرت العادة والجبلة على ظهوره والأصل فيه الظهور كالخاتم والفتخة والكحل والخضاب فلا مؤاخذة في إبدائه للأجانب وإنما المؤاخذة في إبداء ما خفي من الزينة كالسوار والخلخال والدملج والقلادة والإكليل والوشاح والقرط. وذكر الزينة دون مواقعها للمبالغة في الأمر بالتستر لأن هذه الزين واقعة على مواضع من الجسد لا يحل النظر إليها إلا لمن استثني في الآية بعد وهي الذراع والساق والعضد والعنق والرأس والصدر والأذن فنهى عن إبداء الزين نفسها ليعلم أن النظر إذا لم يحل إليها لملابستها تلك المواقع بدليل أن النظر إليها غير ملابسة لها كالنظر إلى سوار امرأة يباع في السوق لا مقال في حله كان النظر إلى المواقع أنفسها متمكنا في الخطر ثابت القدم في الحرمة شاهدا على أن النساء حقهن أن يحتطن في سترها ويتقين الله تعالى في الكشف عنها كذا في الكشاف، وهو على ما قال الطيبي مشعر بأن ما ذكر من باب الكناية على نحو قولهم: فلان طاهر الجيب طاهر الذيل. وقال صاحب الفرائد: هو من باب اطلاق اسم الحالّ على المحل فالمراد بالزينة مواقعها فيكون حرمة النظر إلى المواقع بعبارة النص بدلالته وهي أقوى، وفيه بحث. وقيل: الكلام على تقدير مضاف أي لا يبدين مواقع زينتهن، وقال ابن المنير: الزينة على حقيقتها وما يأتي إن شاء الله تعالى من قوله عز وجل: وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ الآية يحقق أن إبداء الزينة مقصود بالنهي، وأيضا لو كان المراد من الزينة موقعها للزم أن يحل للأجانب النظر إلى ما ظهر من مواقع الزين الظاهرة وهذا باطل لأن كل بدن الحرة عورة لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة وتحمل الشهادة، وأنت تعلم أن ابن المنير مالكي وما ذكره مبني على مذهبه وما ذكره الزمخشري مبني على المشهور من مذهب الإمام أبي حنيفة من أن مواقع الزين الظاهرة من الوجه والكفين (1) والقدمين ليست بعورة مطلقا فلا يحرم النظر إليها، وقد أخرج أبو داود وابن مردويه والبيهقي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها، وقال يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وأشار إلى وجهه وكفه صلّى الله عليه وسلّم، وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها رقعة الوجه وباطن   (1) وفي رواية أن الذراعين ليستا بعورة اهـ منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 335 الكف، وأخرجا عن ابن عمر أنه قال: الوجه والكفان ولعل القدمين عندهما كالكفين إلا أنهما لم يذكراهما اكتفاء بالعلم بالمقايسة فإن الحرج في سترهما أشد من الحرج في ستر الكفين لا سيما بالنسبة إلى أكثر نساء العرب الفقيرات اللاتي يمشين لقضاء مصالحهن في الطرقات. ومذهب الشافعي عليه الرحمة كما في الزواجر أن الوجه والكفين ظهرهما وبطنهما إلى الكوعين عورة في النظر من المرأة ولو أمه على الأصح وإن كانا ليسا عورة من الحرة في الصلاة، وفي المنهاج وشرحه لابن حجر في باب شروط الصلاة عورة الأمة ولو مبعضة ومكاتبة وأم ولد كعورة الرجل ما بين السرة والركبة في الأصح وعورة الحرة ولو غير مميزة والخنثى الحر ما سوى الوجه والكفين وإنما حرم نظرهما كالزائد على عورة الأمة لأن ذلك مظنة الفتنة، ويجب في الخلوة ستر سوأة الأمة كالرجل وما بين سرة وركبة الحرة فقط إلا لأدنى غرض كتبريد وخشية غبار على ثوب تجمل انتهى. وذكر في الزواجر حرمة نظر سائر ما انفصل من المرأة لأن رؤية البعض ربما جر إلى رؤية الكل فكان اللائق حرمة نظره أيضا بل قال: حرم أئمتنا النظر لقلامة ظفر المرأة المنفصلة ولو من يدها، وذهب بعض الشافعية إلى حلّ النظر إلى الوجه والكف إن أمنت الفتنة وليس يعول عليه عندهم، وفسر بعض أجلتهم ما ظهر بالوجه والكفين بعد أن ساق الآية دليلا على أن عورة الحرة ما سواهما، وعلل حرمة نظرهما بمظنة الفتنة فدل ذلك على أنه ليس كل ما يحرم نظره عورة، وأنت تعلم أن إباحة إبداء الوجه والكفين حسبما تقتضيه الآية عندهم مع القول بحرمة النظر إليهما مطلقا في غاية البعد فتأمل. واعلم أنه إذا كان المراد النهي عن إبداء مواقع الزينة، وقيل: بعمومها الوجه والكفين والتزم القول بكونهما عورة وحرمة إبدائهما لغير من استثنى بعد يجوز أن يكون الاستثناء في قوله تعالى: إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها من الحكم الثابت بطريق الإشارة وهو المؤاخذة في دار الجزاء، ويكون المعنى أن ما ظهر منها من غير إظهار كأن كشفته الريح مثلا فهن غير مؤاخذات به في دار الجزاء، وفي حكم ذلك ما لزم إظهاره لنحو تحمل شهادة ومعالجة طبيب، وروى الطبراني والحاكم وصححه وابن المنذر وجمع آخرون عن ابن مسعود أن ما ظهر الثياب والجلباب، وفي رواية الاقتصار على الثياب وعليها اقتصر ايضا الإمام أحمد. وقد جاء إطلاق الزينة عليها في قوله تعالى: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف: 31] على ما في البحر، وجاء في بعض الروايات عن ابن عباس أن ما ظهر الكحل والخاتم والقرط والقلادة. وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة أنه الكف وثغرة النحر، وعن الحسن أنه الخاتم والسوار. وروي غير ذلك، ولا يخفى أن بعض الأخبار ظاهر في حمل الزينة على المعنى المتبادر منها وبعضها ظاهر في حملها على مواقعها، وقال ابن بحر: الزينة تقع على محاسن الخلق التي فعلها الله تعالى وعلى ما يتزين به من فضل لباس، والمراد في الآية النهي عن إبداء ذلك لمن ليس بمحرم واستثنى ما لا يمكن إخفاؤه في بعض الأوقات كالوجه والأطرف، وأنكر بعضهم إطلاق الزينة على الخلقة، قال في البحر: والأقرب دخولها في الزينة وأي زينة أحسن من الخلقة المعتدلة وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ إرشاد إلى كيفية إخفاء بعض مواقع الزينة بعد النهي عن إبدائها، والخمر جمع خمار ويجمع في القلة على أخمرة وكلا الجمعين مقيس وهو المقنعة التي تلقيها المرأة على رأسها من الخمر وهو الستر، والجيوب جمع جيب وهو فتح في أعلى القميص يبدو منه بعض الجسد، وأصله على ما قيل من الجيب بمعنى القطع وفي الصحاح تقول: جبت القميص أجوبه وأجيبه إذا قورت جيبه، قال الراجز: باتت تجيب أدعج الظلام ... جيب البيطر مدرع الهمام وإطلاقه على ما ذكر هو المعروف لغة، وأما إطلاقه على ما يكون في الجنب لوضع الدراهم ونحوها كما هو الجزء: 9 ¦ الصفحة: 336 الشائع بيننا اليوم فليس من كلام العرب كما ذكره ابن تيمية لكنه ليس بخطأ بحسب المعنى، والمراد من الآية كما روى ابن أبي حاتم عن ابن جبير أمرهن بستر نحورهنّ وصدورهن بخمرهن لئلا يرى منها شيء وكان النساء يغطين رؤوسهن بالخمر ويسدلنها كعادة الجاهلية من وراء الظهر فيبدو نحورهن وبعض صدورهن، وصح أنه لما نزلت هذه الآية سارع نساء المهاجرين إلى امتثال ما فيها فشققن مروطهن فاختمرن بها تصديقا وإيمانا بما أنزل الله تعالى من كتابه، وعدي يضرب بعلى على ما قال أبو حيان لتضمينه معنى الوضع والإلقاء، وقيل: معنى الشد، وظاهر كلام الراغب أنه يتعدى بعلى بدون تضمين، وقرأ عباس عن أبي عمرو «وليضربن» بكسر اللام وقرأ غير واحد من السبعة «جيوبهن» بكسر الجيم والضم هو الأصل لأن فعلا بجمع على فعول في الصحيح والمعتل كفلوس وبيوت والكسر لمناسبة الياء، وزعم الزجاج أنها لغة رديئة. وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ كرر النهي لاستثناء بعض مواد الرخصة عنه باعتبار الناظر بعد ما استثنى عنه بعض مواد الضرورة باعتبار المنظور إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أي أزواجهن فإنهم المقصودون بالزينة والمأمورات نساؤهم بها لهم حتى أن لهم ضربهن على تركها ولهم النظر إلى جميع بدنهن حتى المحل المعهود كما في إرشاد العقل السليم. وكره النظر إلى ذلك أكثر الشافعية وحرمه بعضهم، وقيل: إنه خلاف الأولى وهو على ما قال الخفاجي: مذهب الحنفية وتفصيله في الهداية وفيما ذكرنا إشارة إلى وجه تقديم بعولتهن. أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ لكثرة المخالطة الضرورية بينهم وبينهن وقلة توقع الفتنة من قبلهم ولهم أن ينظروا منهن ما يبدو عند المهنة والخدمة وهذا الحكم ليس خاصا بالآباء الأقربين بل آباء الآباء وإن علوا كذلك ومثلهم آباء الأمهات وكذا ليس خاصا بالأبناء والبنين الصلبيين بل يعمهم وأبناء الأبناء وبني البنين وإن سفلوا، والمراد بالإخوان ما يشمل الأعيان وهم الإخوة لأب واحد وأم واحدة وبني العلات وهم أولاد الرجل من نسوة شتى والأخياف وهم أولاد المرأة من آباء شتى ونظير ذلك يقال في الأخوات، واستعمل بَنِي معهم دون أبناء لأنه أوفق بالعموم وأكثر استعمالا في الجماعة ينتمون إلى شخص مع عدم اتحاد صنف قرابتهم فيما بينهم ألا ترى أنك كثيرا ما تسمع بني آدم وبني تميم وقلما تسمع أبناء آدم وأبناء تميم وفيما نحن فيه قد يجتمع للمرأة ابن أخ شقيق وابن أخ لأب وابن أخ لأم بل قد يجتمع لها أبناء أخ شقيق أو إخوة أشقاء أعيان وبنو علات وأبناء أخ أو إخوة لأب وأبناء أخ أو إخوة لأم كذلك ويتأتى مثل ذلك في ابن الأخت لكن لا يتصور هنا بنو العلات كما لا يتصور في أبناء الأخ الأخياف والاجتماع في أبنائهن وأبناء بعولتهن وإن اتفق لكنه ليس بتلك المثابة. وقيل اختير في الأخيرين بَنِي لأنه لو جيء بأبناء تلاقت همزتان إحداهما همزة أبناء والثانية همزة إخوان أو أخوات وهو على ما فيه لا يحسم مادة السؤال إذ للسائل أن يقول بعد: لم اختبر في الأولين أَبْناءِ دون بَنِي ويحتاج إلى نحو أن يقال اختير ذلك لأنه أوفق بآباء، وقيل اختير أَبْناءِ في الأولين لهذا، واختير بني في بَنِي أَخَواتِهِنَّ ليكون المضاف والمضاف إليه من نوع واحد، وفي بني اخوانهن للمشاكلة وفيه ما فيه، ولم يذكر سبحانه الأعمام والأخوال مع أنهم كما قال الحسن. وابن جبير كسائر المحارم في جواز إبداء الزينة لهم قيل لأنهم في معنى الإخوان من حيث كون الجد سواء كان أب الأب أو أب الأم في معنى الأب فيكون ابنه في معنى الأخ، وقيل لم يذكرهم سبحانه لما أن الأحوط أن يستترن عنهم حذرا من أن يصفوهن لأبنائهم فيؤدي ذلك إلى نظر الأبناء إليهن. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 337 وأخرج ذلك ابن المنذر وابن أبي شيبة عن الشعبي وفيه من الدلالة على وجوب التستر من الأجانب ما فيه. وضعف بأنه يجري في آباء البعولة إذ لو رأوا زينتهن لربما وصفوهن لأبنائهم وهم ليسوا محارم فيؤدي إلى نظرهم إليهن لا سيما إذا كن خليات، وقيل لم يذكروا اكتفاء بذكر الآباء فإنهم عند الناس بمنزلتهم لا سيما الأعمام وكثيرا ما يطلق الأب على العم، ومنه قوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ [الأنعام: 74] ثم إن المحرمية المبيحة للإبداء كما تكون من جهة النسب تكون من جهة الرضاع فيجوز أن يبدين زينتهنّ لآبائهن وأبنائهن مثلا من الرضاع أَوْ نِسائِهِنَّ المختصات بهن بالصحبة والخدمة من حرائر المؤمنات فإن الكوافر لا يتحرجن أن يصفنهن للرجال فهن في إبداء الزينة لهن كالرجال الأجانب، ولا فرق في ذلك بين الدمية وغيرها وإلى هذا ذهب أكثر السلف. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن المنذر والبيهقي في سننه عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كتب إلى أبي عبيدة رضي الله تعالى عنه أما بعد فإنه بلغني أن نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات مع نساء أهل الشرك فانه من قبلك عن ذلك فإنه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تنظر إلى عورتها إلا من كانت من أهل ملتها. وفي روضة النووي في نظر الذمية إلى المسلمة وجهان أصحهما عند الغزالي أنها كالمسلمة وأصحهما عند البغوي المنع، وفي المنهاج له الأصح تحريم نظر ذمية إلى مسلمة، ومقتضاه أنها معها كالأجنبي واعتمده جمع من الشافعية، وقال ابن حجر: الأصح تحريم نظرها إلى ما لا يبدو في المهنة من مسلمة غير سيدتها ومحرمها ودخول الذميات على أمهات المؤمنين الوارد في الأحاديث الصحيحة دليل لحل نظرها منها ما يبدو في المهنة. وقال الإمام الرازي: المذهب أنها كالمسلمة، والمراد بنسائهن جميع النساء. وقول السلف محمول على الاستحباب وهذا القول أرفق بالناس اليوم فإنه لا يكاد يمكن احتجاب المسلمات عن الذميات. أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أي من الإماء ولو كوافر وأما العبيد فهم كالأجانب، وهذا مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، وأحد قولين في مذهب الشافعي عليه الرحمة وصححه كثير من الشافعية والقول الآخر أنهم كالمحارم، وصحح أيضا، ففي المنهاج وشرحه لابن حجر والأصح أن نظر العبد العدل ولا يكفي العفة عن الزنا فقط غير المشترك والمبعض وغير المكاتب كما في الروضة عن القاضي وأقره وإن أطالوا في رده إلى سيدته المتصفة بالعدالة كالنظر إلى محرم فينظر منها ما عدا بين السرة والركبة وتنظر منه ذلك ويلحق بالمحرم أيضا في الخلوة والسفر اهـ بتلخيص، وإلى كون العبد كالأمة ذهب ابن المسيب ثم رجع عنه وقال: لا يغرنكم آية النور فإنها في الإناث دون الذكور، وعلل بأنهم فحول ليسوا أزواجا ولا محارم والشهوة متحققة فيهم لجواز النكاح في الجملة كما في الهداية. وروي عن ابن مسعود والحسن وابن سيرين أنهم قالوا: لا ينظر العبد إلى شعر مولاته، وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن طاوس أنه سئل هل يرى غلام المرأة رأسها وقدمها؟ قال: ما أحب ذلك إلا أن يكون غلاما يسيرا فأما رجل ذو لحية فلا، ومذهب عائشة وأم سلمة رضي الله تعالى عنهما، وروي عن بعض أئمة أهل البيت رضي الله تعالى عنهم أنه يجوز للعبد أن ينظر من سيدته ما ينظر أولئك المستثنون: وروي عن عائشة أنها كانت تمتشط وعبدها ينظر إليها وأنها قالت لذكوان: إذا وضعتني في القبر وخرجت فأنت حر، وعن مجاهد كانت أمهات المؤمنين لا يحتجبن عن مكاتبهن ما بقي عليه درهم. وأخرج أحمد في مسنده وأبو داود وابن مردويه والبيهقي عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أتى فاطمة رضي الله تعالى عنها بعبد قد وهبه لها وعلى فاطمة رضي الله تعالى عنها ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها فلما رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم ما تلقى قال: إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 338 والذي يقتضيه ظاهر الآية عدم الفرق بين الذكر والأنثى لعموم «ما» ولأنه لو كان المراد الإناث خاصة لقيل أو إمائهن فإنه أخصر ونص في المقصود، وإذا ضم الخبر المذكور إلى ذلك قوي القول بعدم الفرق والتفصي عن ذلك صعب، وأحسن ما قيل في الجواب عن الخبر أن الغلام فيه كان صبيا إذ الغلام يختص حقيقة به فتأمل، وخرج بإضافة الملك إليهن عبد الزوج فهو والأجنبي سواء قيل: وجعله بعضهم كالمحرم لقراءة «أو ما ملكت أيمانكم» أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أي الذين يتبعون ليصيبوا من فضل الطعام غير أصحاب الحاجة إلى النساء وهم الشيوخ الطاعنون في السن الذين فنيت شهواتهم والممسوحون الذين قطعت ذكورهم وخصاهم، وفي المجبوب وهو الذي قطع ذكره والخصي وهو من قطع خصاه خلاف واختير أنهما في حرمة النظر كغيرهما من الأجانب وكان معاوية يرى جواز نظر الخصي ولا يعتد برأيه وهو على ما قيل أول من اتخذ الخصيان، وعن ميسون الكلبية أن معاوية دخل عليها ومعه خصي فتقنعت منه فقال: هو خصي فقالت: يا معاوية أترى أن المثلة به تحلل ما حرم الله تعالى، وليس له أن يستدل بما روي أن المقوقس أهدى للنبي صلّى الله عليه وسلّم خصيا فقبله إذ لا دلالة فيه على جواز إدخاله على النساء. وأخرج ابن جرير وجماعة عن مجاهد أن غير أولي الإربة الأبله الذي لا يعرف أمر النساء وروي ذلك عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه وعن ابن جبير أنه المعتوه ومثله المجنون كما قال ابن عطية. وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه المخنث الذي لا يقوم زبه لكن أخرج مسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رجل يدخل على أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم مخنث فكانوا يعدونه من غير أولي الإربة فدخل النبي عليه الصلاة والسلام يوما وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة قال: إذا أقبلت أقبلت بأربع وإذا أدبرت أدبرت بثمان فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ألا ترى هذا يعرف ما هاهنا لا يدخل عليكن فحجبوه ، وجاء أنه عليه الصلاة والسلام أخرجه فكان بالبيداء يدخل كل جمعة يستطعم ، ولعل الأولى حمل غير أولي الإربة على الذين لا حاجة لهم بالنساء ولا يعرفون شيئا من أمورهن بحيث لا تحدثهم أنفسهم بفاحشة ولا يصفونهن للأجانب ولا أرى الاكتفاء في غير أولي الاربة بعدم الحاجة إلى النساء إذ لا تنتفي به مفسدة الإبداء بالكلية كما لا يخفى. ولعل في الخبر نوع إيماء إلى هذا وفي المنهاج وشرحه لابن حجر عليه الرحمة، والأصح أن نظر الممسوح ذكره كله وأنثياه بشرط أن لا يبقى فيه ميل للنساء أصلا وإسلامه في المسلمة ولو أجنبيا لأجنبية متصفة بالعدالة كالنظر إلى محرم فينظر منها ما عدا ما بين السرة والركبة وتنظر منه ذلك ويلحق بالمحرم أيضا في الخلوة والسفر ويعلم منه أن التمثيل بالممسوح فيما سبق ليس على إطلاقه، وأما الشيخ الهم والمخنث فهما عند الشافعية في النظر إلى الأجنبيات ليسا كالممسوح، وصححوا أيضا أن المجنون يجب الاحتجاب منه فلا تغفل، وجر غَيْرِ قيل على البدلية لا الوصفية لاحتياجها إلى تكلف جعل التابعين لعدم تعينهم كالنكرة كما قال الزجاج أو جعل غَيْرِ متعرفا بالإضافة هنا مثلها في الفاتحة وفيه نظر وقرأ ابن عامر وأبو بكر غَيْرِ بالنصب على الحال والاستثناء. أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ أي الأطفال الذين لم يعرفوا ما العورة ولم يميزوا بينها وبين غيرها على أن لَمْ يَظْهَرُوا إلخ من قولهم ظهر على الشيء إذا اطلع عليه فجعل كناية عن ذلك أو الذين لم يبلغوا حد الشهوة والقدرة على الجماع على أنه من ظهر على فلان إذا قوي عليه ومنه قوله تعالى: فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ [الصف: 14] ويشمل الطفل الموصوف بالصفة المذكورة بهذا المعنى المراهق الذي لم يظهر منه تشوق للنساء، وقد ذكر بعض أئمة الشافعية أنه كالبالغ فيلزم الاحتجاب منه على الأصح كالمراهق الذي ظهر منه ذلك، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 339 ويشمل أيضا من دون المراهق لكنه بحيث يحكي ما يراه على وجهه. وذكروا في غير المراهق أنه إن كان بهذه الحيثية فكالمحرم وإلا فكالعدم فيباح بحضوره ما يباح في الخلوة فلا تغفل. والظاهر أن الطِّفْلِ عطف على قوله تعالى: لِبُعُولَتِهِنَّ أو على ما بعده من نظائره لا على الرِّجالِ وكلام أبي حيان ظاهر في أنه عطف عليه وليس بشيء، ثم هو مفرد محلى بأل الجنسية فيعم ولهذا كما قال في البحر: وصف بالجمع فكأنه قيل: أو الأطفال كما هو المروي عن مصحف حفصة، ومثل ذلك قولهم: أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض، وقيل هو مفرد وضع موضع الجمع، ونحوه قوله تعالى: ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [غافر: 67] . وتعقب بأن وضع المفرد موضع الجمع لا ينقاس عند سيبويه وما هنا عنده من باب المفرد المعرف بلام الجنس وهو يعم بدليل صحة الاستثناء منه، والآية المذكور يحتمل أن تكون عنده على معنى ثم يخرج كل واحد منكم طفلا كما قيل في قوله تعالى: وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً [يوسف: 31] أنه على معنى واعتدت لكل واحدة منهن متكأ فلا يتعين كون «طفلا» فيها مما لا ينقاس عنده، وقال الراغب: إن «طفلا» يقع على الجمع كما يقع على المفرد ونص على ذلك الجوهري، وكذا قال بعض النحاة: إنه في الأصل مصدر فيقع على القليل والكثير والأمر على هذا ظاهر جدا، والعورات جمع عورة وهي في الأصل ما يحترز من الاطلاع عليه وغلبت في سوأة الرجل والمرأة ولغة أكثر العرب تسكين الواو في الجمع وهي قراءة الجمهور. وروي عن ابن عامر أنه قرأ «عورات» بفتح الواو، والمشهور أن تحريك الواو وكذا الياء في مثل هذا الجمع لغة هذيل بن مدركة. ونقل ابن خالويه في كتاب شواذ القراءات أن ابن أبي إسحاق والأعمش قرأ «عورات» بالفتح ثم قال: وسمعنا ابن مجاهد يقول: هو لحن، وإنما جعله لحنا وخطأ من قبل الرواية وإلا فله مذهب في العربية فإن بني تميم يقولون: روضات وجوزات وعورات بالفتح فيها وسائر العرب بالإسكان، وقال الفراء: العرب على تخفيف ذلك إلا هذيلا فتثقل ما كان من هذا النوع من ذوات الياء والواو وأنشدني بعضهم: أبو بيضات رائح متأدب ... رفيق بمسح المنكبين سبوح وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ أي ما يسترنه عن الرؤية مِنْ زِينَتِهِنَّ أي لا يضربن بأرجلهن الأرض ليتقعقع خلاخلهن فيعلم أن هن ذوات خلاخل فإن ذلك مما يورث الرجال ميلا إليهن ويوهم أن لهن ميلا إليهم. أخرج ابن جرير عن حضرمي أن امرأة اتخذت خلخالا من فضة واتخذت جزعا فمرت على قوم فضربت برجلها فوقع الخلخال على الجزع فصوت فأنزل الله تعالى وَلا يَضْرِبْنَ إلخ، والنساء اليوم على جعل الخرز ونحوها في جوف الخلخال فإذا مشين به ولو هونا صوت، ولهن من أنواع الحلي غير الخلخال ما يصوت عند المشي أيضا لا سيما إذا كان مع ضرب الرجل وشدة الوطء، ومن الناس من يحرك شهوته وسوسة الحلي أكثر من رؤيته. وفي النهي عن إبداء صوت الحلي بعد النهي عن إبداء عينه من النهي عن إبداء مواضعه ما لا يخفى. وربما يستدل بهذا النهي على النهي عن استماع صوتهن. والمذكور في معتبرات كتب الشافعية وإليه أميل أن صوتهن ليس بعورة فلا يحرم سماعه إلا إن خشي منه فتنة، وكذا إن التذ به كما بحثه الزركشي. وأما عند الحنفية فقال الإمام ابن الهمام: صرح في النوازل أن نغمة المرأة عورة ولذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «والتكبير للرجال والتصفيق للنساء» فلا يحسن أن يسمعها الرجل اهـ. ثم اعلم أن عندي مما يلحق بالزينة المنهي عن إبدائها ما يلبسه أكثر مترفات النساء في زماننا فوق ثيابهن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 340 ويتسترن به إذا خرجن من بيوتهن وهو غطاء منسوج من حرير ذي عدة ألوان وفيه من النقوش الذهبية أو الفضية ما يبهر العيون، وأرى أن تمكين أزواجهن ونحوهم لهن من الخروج بذلك ومشيهن به بين الأجانب من قلة الغيرة وقد عمت البلوى بذلك، ومثله ما عمت به البلوى أيضا من عدم احتجاب أكثر النساء من إخوان بعولتهن وعدم مبالاة بعولتهن بذلك وكثيرا ما يأمرونهن به. وقد تحتجب المرأة منهم بعد الدخول أياما إلى أن يعطوها شيئا من الحلي ونحوه فتبدو لهم ولا تحتجب منهم بعد وكل ذلك ما لم يأذن به الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم وأمثال ذلك كثير ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً تلوين للخطاب وصرف له عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الكل بطريق التغليب لإبراز كمال العناية بما في حيزه من أمر التوبة وأنها من معظمات المهمات الحقيقية بأن يكون سبحانه وتعالى الآمر بها لما أنه لا يكاد يخلو أحد من المكلفين عن نوع تفريط في إقامة مواجب التكاليف كما ينبغي لا سيما في الكف عن الشهوات. وقد أخرج أحمد والبخاري في الأدب المفرد ومسلم وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن الأغر رضي الله تعالى عنه قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إليه كل يوم مائة مرة» والمراد بالتوبة على هذا التوبة عما في الحال، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد التوبة عما كانوا يفعلونه قبل من إرسال النظر وغير ذلك وهو وإن جب بالإسلام لكنه يلزم الندم عليه والعزم على الكف عنه كلما يتذكر، وقد قالوا: إن هذا يلزم كل تائب عن خطيئة إذا تذكرها، ومنه يعلم أن ما يفعله كثير ممن يزعمون التوبة من نقل ما فعلوه من الذنوب على وجه التبجح والاستلذاذ دليل عن عدم صدق توبتهم. وفي تكرير الخطاب بقوله تعالى: أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ تأكيد للإيجاب وإيذان بأن وصف الإيمان موجب للامتثال حتما، وفي دليل على أن المعاصي لا تخرج عن الإيمان. وقرأ ابن عامر «أيه المؤمنون» بضم الهاء، ووجهه أنها كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف فلما سقطت الألف لالتقاء الساكنين أتبعت حركتها حركة ما قبلها، وضم ها التي للتنبيه بعد أي لغة لبني مالك رهط شقيق بن مسلمة ووقف بعضهم بسكون الهاء لأنها كتبت في المصحف بلا ألف بعدها. ووقف أبو عمرو والكسائي ويعقوب. كما في النشر. بالألف على خلاف الرسم لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لكي تفوزوا بذلك بسعادة الدارين أو مرجوا فلا حكم. وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ بعد ما زجر سبحانه عن السفاح ومباديه القريبة والبعيدة أمر بالنكاح فإنه مع كونه مقصودا بالذات من حيث كونه مناطا لبقاء النوع على وجه سالم من اختلاط الأنساب مزجرة من ذلك. والْأَيامى. كما نقل في التحرير عن أبي عمرو وإليه ذهب الزمخشري. مقلوب أيايم جمع أيم لأن فيعل لا يجمع على فعالى أي إن أصله ذلك فقدمت الميم وفتحت للتخفيف فقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها وذهب ابن مالك ومن تبعه إلى أنه جمع شاذ لا قلب فيه ووزنه فعالى وهو ظاهر كلام سيبويه، والأيم قال النضر بن شميل: كل ذكر لا أنثى معه وكل أنثى لا ذكر معها بكرا أو ثيبا ويقال: آم وآمت إذا لم يتزوجا بكرين كانا أو ثيبين وقال: فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي ... وإن كنت أفتى منكم أتأيم وقال التبريزي في شرح ديوان أبي تمام: قد كثر استعمال هذه الكلمة في الرجل إذا ماتت امرأته وفي المرأة إذا مات زوجها، وفي الشعر القديم ما يدل على أن ذلك بالموت وبترك الزوج من غير موت قال الشماخ: يقر لعيني أن أحدث أنها ... وإن لم أنلها أيم لم تزوج انتهى، وفي شرح كتاب سيبويه لأبي بكر الخفاف: الأيم التي لا زوج لها وأصله التي كانت متزوجة ففقدت الجزء: 9 ¦ الصفحة: 341 زوجها برزء طرأ عليها ثم قيل في البكر مجازا لأنها لا زوج لها، وعن محمد أنها الثيب واستدل له بما روي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها» حيث قابلها بالبكر، وفيه أنه يجوز أن تكون مشتركة لكن أريد منها ذلك لقرينة المقابلة والأكثرون على ما قاله النضر أي زوجوا من لا زوج له من الأحرار والحرائر وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ على أن الخطاب للأولياء والسادات، والمراد بالصلاح معناه الشرعي، واعتباره في الأرقاء لأن من لا صلاح له منهم بمعزل من أن يكون خليقا بأن يعتني مولاه بشأنه ويشفق عليه ويتكلف في نظم مصالحه بما لا بد منه شرعا وعادة من بذل المال والمنافع بل ربما يحصل له ضرر منه بتزويجه فحقه أن يستبقيه عنده ولما لم يكن من لا صلاح له من الأحرار والحرائر بهذه المثابة لم يعتبر صلاحهم، وقيل المراد بالصلاح معناه اللغوي أي الصالحين للنكاح والقيام بحقوقه، والأمر هنا قيل للوجوب وإليه ذهب أهل الظاهر، وقيل للندب وإليه ذهب الجمهور. ونقل الإمام عن أبي بكر الرازي أن الآية وإن اقتضت الإيجاب إلا أنه أجمع السلف على أنه لم يرد الإيجاب، ويدل عليه أمور، أحدها أن الانكاح ولو كان واجبا لكان النقل بفعله من النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن السلف مستفيضا شائعا لعموم الحاجة فلما وجدنا عصره عليه الصلاة والسلام وسائر الأعصار بعده قد كانت فيه أيامى من الرجال والنساء ولم ينكر ذلك ثبت أنه لم يرد بالأمر والإيجاب، وثانيها أنا أجمعنا على أن الأيم الثيب لو أبت التزويج لم يكن للولي إجبارها، وثالثها اتفاق الكل على أنه لا يجب على السيد تزويج أمته وعبده فيقتضي للعطف عدم الوجوب في الجميع، ورابعها أن اسم الأيامى ينتظم الرجال والنساء فلما لزم في الرجال تزويجهم بإذنهم لزم ذلك في النساء انتهى، وقال الإمام نفسه: ظاهر الأمر للوجوب فيدل على أن الولي يجب عليه تزويج موليته وإذا ثبت هذا وجب أن لا يجوز النكاح إلّا بولي وإلا لفوتت المولية على الولي المكنة من أداء هذا الواجب وإنه غير جائز. والجواب عما نقل عن أبي بكر أن جميع ما ذكره تخصيصات تطرقت إلى الآية والعام بعد التخصيص يبقى حجة فوجب إذا التمست المرأة الأيم من الولي التزويج وجب انتهى. وفي الإكليل استدل بعموم الآية من أباح نكاح الإماء بلا شرط ونكاح العبد الحرة. وأنت تعلم أنها لم تبق على العموم، والذي أميل إليه أن الأمر لمطلق الطلب وأن المراد من الإنكاح المعاونة والتوسط في النكاح أو التمكين فيه، وتوقف صحته في بعض الصور على الولي يعلم من دليل آخر. والاستدلال بهذه الآية على اشتراط الولي وعلى أن له الجبر في بعض الصور لا يخلو عن بحث ودون تمامه خرط القتاد فتدبر وقرأ الحسن ومجاهد «من عبيدكم» بالياء مكان الألف وفتح العين وهو كالعباد جمع عبد إلا أن استعماله في المماليك أكثر من استعمال العباد فيهم إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ الظاهر أنه وعد من الله عز وجل بالإغناء، وأخرج ذلك ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ولا يبعد أن يكون في ذلك سد لباب التعلل بالفقر وعده مانعا من المناكحة. وفي الآية شرط مضمر وهو المشيئة فلا يرد أن كثيرا من الفقراء تزوج ولم يحصل له الغنى ودليل الإضمار قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ [التوبة: 28] وكونه واردا في منع الكفار عن الحرم لا يأبى الدلالة كما توهم أو قوله تعالى: وَاللَّهُ واسِعٌ أي غني ذو سعة لا يرزأه إغناء الخلائق إذ لا نفاد لنعمته ولا غاية لقدرته عَلِيمٌ يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة فإن مآل هذا إلى المشيئة وهو السر في اختيار عَلِيمٌ يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة فإن مآل هذا إلى المشيئة وهو السر في اختيار عَلِيمٌ دون كريم مع أنه أوفق بواسع نظرا إلى الظاهر. وفي الانتصاف فإن قيل العزب كذلك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 342 فإن غناه معلق بالمشيئة أيضا فلا وجه للتخصيص، فالجواب أنه قد تقرر في الطباع الساكنة إلى الأسباب أن العيال سبب للفقر وعدمهم سبب توفر المال فأريد قطع هذا التوهم المتمكن بأن الله تعالى قد ينمي المال مع كثرة العيال التي هي في الوهم سبب لقلة المال وقد يحصل الإقلال مع العزوبة والواقع يشهد فدل على أن ذلك الارتباط الوهمي باطل وأن الغنى والفقر بفعل الله تعالى مسبب الأسباب ولا توقف لهما إلا على المشيئة فإذا علم الناكح أن النكاح لا يؤثر في الإقتار لم يمنعه في الشروع فيه، ومعنى الآية حينئذ أن النكاح لا يمنعهم الغنى من فضل الله تعالى فعبر عن نفي كونه مانعا عن الغنى بوجوده معه، ومنه قوله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ [الجمعة: 10] فإن ظاهره الأمر بالانتشار عند انقضاء الصلاة والمراد تحقيق زوال المانع وأن الصلاة إذا قضيت فلا مانع من الانتشار فعبر عن نفي مانع الانتشار بما يقتضي تقاضي الانتشار مبالغة انتهى، وقال بعضهم في الفرق بين المتزوج والعزب أن الغنى للمتزوج أقرب وتعلق المشيئة به أرجى للنص على وعده دون العزب وكذلك يوجد الحال إذا استقرىء. وتعقب بأن فيه غفلة عن قوله تعالى: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ [النساء: 130] وكذا عن قوله سبحانه: وَلْيَسْتَعْفِفِ إلخ، وأشار صاحب الكشف إلى أن في هذه الآية والتي بعدها وعدا للمتزوج والعزب معا بالغنى فلا ورود للسؤال قال: إنه تعالى أمر الأولياء أن لا يبالوا بفقر الخاطب بعد وجود الصلاح ثقة بلطف الله تعالى في الإغناء ثم أمر الفقراء بالاستعفاف إلى وجدان الغنى تأميلا لهم وأدمج سبحانه أن مدار الأمر على العفة والصلاح على التقديرين وهو الجواب عن سؤال المعترض انتهى، ولا يخفى عليك أن الأخبار الدالة على وعد الناكح بالغنى كثيرة ولم نجد في وعد العزب الذي ليس بصدد النكاح من حيث هو كذلك خبرا. فقد أخرج عبد الرزاق وأحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ثلاثة حق على الله تعالى عونهم الناكح يريد العفاف والمكاتب يريد الأداء والغازي في سبيل الله تعالى» . وأخرج الخطيب في تاريخه عن جابر قال: «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم يشكو إليه الفاقة فأمره أن يتزوج . وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قال: أطيعوا الله تعالى فيما أمركم (1) به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى قال تعالى: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة في المصنف عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: ابتغوا الغنى في الباءة. وفي لفظ. ابتغوا الغنى في النكاح يقول الله تعالى: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. وأخرج الثعلبي والديلمي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: التمسوا الرزق بالنكاح» إلى غير ذلك من الأخبار، ولغنى الفقير إذا تزوج سبب عادي وهو مزيد اهتمامه في الكسب والجد التام في السعي حيث ابتلي بمن تلزمه نفقتها شرعا وعرفا وينضم إلى ذلك مساعدة المرأة له وإعانتها إياه على أمر دنياه، وهذا كثير في العرب وأهل القرى فقد وجدنا فيهم من تكفيه امرأته أمر معاشه ومعاشها بشغلها، وقد ينضم إلى ذلك حصول أولاد له فيقوى أمر التساعد والتعاضد، وربما يكون للمرأة أقارب يحصل له منهم الإعانة بحسب مصاهرته إياهم ولا يوجد ذلك   (1) يعني ضمنا فلا تغفل اهـ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 343 في العزب، ويشارك هذا الفقير المتزوج الفقير الذي هو بصدد التزوج بمزيد الاهتمام في الكسب لكن هذا الاهتمام لتحصيل ما يتزوج به وربما يكون لذلك ولتحصيل ما يحسن به حاله بعد التزوج، ولا يخفى أن حال الامرأة المتزوجة وحال الامرأة التي بصدد التزوج على نحو حال الرجل والفرق يسير. هذا والظاهر من كلام بعضهم أن ما ذكر في الأيامى والصالحين مطلقا وأمر تذكير الضمير ظاهر، وقيل: هو في الأحرار والحرائر خاصة وبذلك صرح الطبرسي لأن الأرقاء لا يملكون وإن ملكوا ولذا لا يرثون ولا يورثون، والمتبادر من الإغناء بالفضل أن يملكوا ما به يحصل الغنى ويدفع الحاجة وهو لا يتحقق مع بقاء الرق، نعم إذا أريد بالإغناء التوسعة ودفع الحاجة سواء كان ذلك بما يملك أم لا فلا بأس بالعموم فتدبر. وجوز أن تكون الآية في الأحرار خاصة بأن يكون المراد منها نهي الأولياء عن التعلل بفقرهم إذا استنكحوهم، وأن تكون في المستنكحين من الرجال مطلقا والمراد نهي الأولياء عن ذلك أيضا فتدبر جميع ذلك. واحتج بعضهم. كما قال ابن الفرس. بالآية على أن النكاح لا يفسخ بالعجز عن النفقة لأنه سبحانه وعد فيها بالغنى، وفيه مناقشة لا تخفى وَلْيَسْتَعْفِفِ إرشاد للتائقين العاجزين عن مبادي النكاح وأسبابه إلى ما هو أولى لهم وأحرى بهم أي وليجتهد في العفة وصون النفس الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً أي أسباب نكاح أو لا يتمكنون مما ينكح به من المال على أن فعالا اسم آلة كركاب لما يركب به حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عدة كريمة بالتفضل عليهم بالغنى ولطف بهم في استعفافهم وربط على قلوبهم وإيذان بأن فضله تعالى أولى بالإعفاء وأدنى من الصلحاء. واستدل بالآية بعض الشافعية على ندب ترك النكاح لمن لا يملك أهبته مع التوقان وكثير من الناس ذهب إلى استحبابه له لآية إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وحملوا الأمر بالاستعفاف في هذه الآية على من لم يجد زوجة بجعل فعال صفة بمعنى مفعول ككتاب بمعنى مكتوب، ولا يخفى أن الغاية المذكورة تبعده، ولا يلزم من الفقر وجدان الأهبة المفسرة عندهم بالمهر وكسوة فصل التمكين ونفقة يومه، والمذكور في معتبرات كتبنا أن النكاح يكون واجبا عند التوقان أي شدة الاشتياق بحيث يخاف الوقوع في الزنا لو لم يتزوج وكذا فيما يظهر لو كان لا يمكنه منع نفسه عن النظر المحرم أو عن الاستمناء بالكف ويكون فرضا بأن كان لا يمكنه الاحتراز عن الزنا إلا به بأن لم يقدر على التسري أو الصوم الكاسر للشهوة كما يدل عليه حديث «ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» فلو قدر على شيء من ذلك لم يبق النكاح فرضا أو واجبا عينا بل هو أو غيره مما يمنعه من الوقوع في المحرم، وكلا القسمين مشروط بملك المهر والنفقة، وزاد في البحر شرطا آخر فيهما وهو عدم خوف الجور ثم قال: فإن تعارض خوف الوقوع في الزنا لو لم يتزوج وخوف الجور لو تزوج قدم الثاني ويكره التزوج حينئذ كما أفاده الكمال في الفتح ولعله لأن الجور معصية متعلقة بالعباد دون المنع من الزنا وحق العبد مقدم عند التعارض لاحتياجه وغنى المولى عز وجل انتهى، ومقتضاه الكراهة أيضا عند عدم ملك المهر والنفقة لأنهما حق عبد أيضا وإن خاف الزنا لكن ذكروا أنه يندب استدانة المهر ومقتضاه أنه يجب إذا خاف الزنا وإن لم يملك المهر إذا قدر على استدانته، وهذا مناف للاشتراط السابق إلا أن يقال: الشرط ملك النفقة والمهر ولو بالاستدانة أو يقال: هذا في العاجز عن الكسب ومن ليس له جهة وفاء. وذكر بعض الأجلة أنه ينبغي حمل ما ذكروا من ندب الاستدانة على ندبها إذا ظن القدرة على الوفاء وحينئذ فإذا كانت مندوبة مع هذا الظن عند أمنه من الوقوع في الزنا ينبغي وجوبها عند تيقن الزنا بل ينبغي وجوبها حينئذ وإن لم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 344 يغلب على ظنه قدرة الوفاء وهو معذور فيما أرى عند الله عز وجل إذا فعل ومات ولم يترك وفاء فتأمل، ويكون مكروها عند خوف الجور كما سمعت، وحراما عند تيقنه لأن النكاح إنما شرع لمصلحة تحصين النفس وتحصيل الثواب وبالجور يأثم ويرتكب المحرمات فتنعدم المصالح لرجحان هذه المفاسد، ويكون سنة مؤكدة في الأصح حالة القدرة على الوطء والمهر والنفقة مع عدم الخوف من الزنا والجور وترك الفرائض والسنن فلو لم يقدر على واحد من الثلاثة الأول أو خاف واحدا من الثلاثة الأخيرة فلا يكون النكاح سنة في حقه كما أفاده في البدائع، ويفهم من أشباه ابن نجيم توقف كونه سنة على النية، وذكر في الفتح أنه إذا لم يقترن بها كان مباحا لأن المقصود منه حينئذ مجرد قضاء الشهوة ومبنى العبادة على خلافه فلا يثاب والنية التي يثاب بها أن ينوي منع نفسه وزوجته عن الحرام، وكذا نية تحصيل ولد تكثر به المسلمون وكذا نية الإتباع وامتثال الأمر وهو عندنا أفضل من الاشتغال بتعلم وتعليم كما في درر البحار وأفضل من التخلي للنوافل كما نص عليه غير واحد، وفي بعض معتبرات كتب الشافعية أن النكاح مستحب لمحتاج إليه يجد أهبته من مهر وكسوة فصل التمكين ونفقة يومه ولا يستحب لمن في دار الحرب النكاح مطلقا خوفا على ولده التدين بدينهم والاسترقاق ويتعين حمله على من لم يغلب على ظنه الزنا لو لم يتزوج إذ المصلحة المحققة الناجزة مقدمة على المصلحة المستقبلة المتوهمة وإنه إن فقد الأهبة استحب تركه لقوله تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفِ الآية ويكسر شهوته بالصوم للحديث، وكونه يثير الحرارة والشهوة إنما هو بابتدائه فإن لم تنكسر به تزوج، ولا يكسرها بنحو كافور فيكره بل يحرم على الرجل والمرأة إن أدى إلى اليأس من النسل، وقول جمع: إن الحديث يدل على حل قطع العاجز الباءة بالأدوية مردود على أن الأدوية خطيرة وقد استعمل قوم الكافور فأورثهم عللا مزمنة ثم أرادوا الاحتيال لعود الباءة بالأدوية الثمينة فلم تنفعهم، فإن لم يحتج للنكاح كره له إن فقد الأهبة وإلا يفقدها مع عدم حاجته له فلا يكره له لقدرته عليه ومقاصده لا تنحصر في الوطء والتخلي للعبادة أفضل منه فإن لم يتعبد فالنكاح أفضل في الأصح كما قال النووي لأن البطالة تفضي إلى الفواحش فإن وجد الأهبة وبه علة كهرم أو مرض دائم أو تعنن كذلك كره له لعدم حاجته مع عدم تحصين المرأة المؤدي غالبا إلى فسادها، وبه يندفع قول الإحياء يسن لنحو الممسوح تشبها بالصالحين كما يسن إمرار الموسى على رأس الأصلع، وقول الفزاري: أي نهى ورد في نحو المجبوب والحاجة لا تنحصر في الجماع. ولو طرأت هذه الأحوال بعد العقد فهل يلحق بالابتداء أولا لقوة الدوام تردد فيه الزركشي والثاني هو الوجه كما هو ظاهر انتهى، وفيه ما لم يتعرض له في كتب أصحابنا فيما علمت لكن لا تأباه قواعدنا، ثم إن الظاهر أن الآية خاصة بالرجال فهم المأمورون بالاستعفاف عند العجز عن مبادي النكاح وأسبابه، نعم يمكن القول بعمومها واعتبار التغليب إذا أريد بالنكاح ما ينكح لكن قد علمت ما فيه ولا تتوهمن من هذا أنه لا يندب الاستعفاف للنساء أصلا لظهور أنه قد يندب في بعض الصور بل من تأمل أدنى تأمل يرى جريان الأحكام في نكاحهن لكن لم أر من صرح به من أصحابنا، نعم نقل بعض الشافعية عن الأم ندب النكاح للتائقة وألحق بها محتاجة للنفقة وخائفة من اقتحام فجرة. وفي التنبيه من جاز لها النكاح إن احتاجته ندب لها، ونقله الأذرعي عن أصحاب الشافعي ثم بحث وجوبه عليها إذا لم تندفع عنها الفجرة إلا به ولا دخل للصوم فيها، وبما ذكر علم ضعف قول الزنجاني: يسن لها مطلقا إذ لا شيء عليها مع ما فيه من القيام بأمرها وسترها، وقول غيره: لا يسن لها مطلقا لأن عليها حقوقا للزوج خطيرة لا يتيسر لها القيام بها بل لو علمت من نفسها عدم القيام بها ولم تحتج له حرم عليها اهـ، ولا يخفى أن ما ذكره بعد بل متجه واستدل بعضهم بالآية على بطلان نكاح المتعة لأنه لو صح لم يتعين الاستعفاف على فاقد المهر، وظاهر الآية تعينه ولا يلزم من ذلك تحريم ملك اليمين لأن من لا يقدر على النكاح لعدم المهر لا يقدر على شراء الجارية غالبا ذكره الجزء: 9 ¦ الصفحة: 345 الكيا وهو كما ترى وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ بعد ما أمر سبحانه بإنكاح صالحي المماليك الأحقاء بالإنكاح أمر جل وعلا بكتابة من يستحقها منهم ليصير حرا فيتصرف في نفسه، وأخرج ابن السكن في معرفة الصحابة عن عبد الله بن صبيح قال: كنت مملوكا لحويطب بن عبد العزى فسألته الكتابة فأبى فنزلت وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ إلخ ويلوح من هذا أن عبد الله المذكور أول من كوتب، وربما يتخيل منه أن الكتابة كانت معلومة من قبل لكن نقل الخفاجي عن الدميري أنه قال: الكتابة لفظة إسلامية وأول من كاتبه المسلمون عبد لعمر رضي الله تعالى عنه يسمى أبا أمية. وصرح ابن حجر أيضا بأنها لفظة إسلامية لا تعرفها الجاهلية، والله تعالى أعلم، والكتاب مصدر كاتب كالمكاتبة ونظيره العتاب والمعاتبة أي والذين يطلبون منكم المكاتبة مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذكورا كانوا أو إناثا، وهو عندنا شرعا اعتاق المملوك يدا حالا ورقبة مآلا وركنه الإيجاب بلفظ الكتابة أو ما يؤدي معناه والقبول نحو أن يقول المولى: كاتبتك على كذا درهما تؤديه إليّ وتعتق ويقول المملوك: قبلته وبذلك يخرج من يد المولى دون ملكه فإذا أدى كل البدل عتق وخرج من ملكه، ومعناه كتب الحروف أي جمعها وإطلاقه على ما ذكر لأن فيه ضم حرية اليد إلى حرية الرقبة أو لأن البدل يكون في الأغلب منجما بنجوم يضم بعضها إلى بعض أو لأنه يكتب المملوك على نفسه لمولاه ثمنه ويكتب المولى له عليه العتق وهذا أوفق بصيغة المفاعلة أعني المكاتبة. وفي إرشاد العقل السليم قالوا: معناه كتبت لك على نفسي أن تعتق مني إذا وفيت بالمال وكتبت لي على نفسك أن تفي بذلك أو كتبت عليك الوفاء بالمال وكتبت على العتق عنده، ثم قال: والتحقيق أن المكاتبة اسم للعقد الحاصل من مجموع كلامي المالك والمملوك كسائر العقود الشرعية المنعقدة بالإيجاب والقبول. ولا ريب في أن ذلك لا يصدر حقيقة إلا من المتعاقدين وليس وظيفة كل منهما في الحقيقة إلا الإتيان بأحد شطريه معربا عما يتم من قبله ويصدر عنه من الفعل الخاص به من غير تعرض لما يتم من قبل صاحبه ويصدر عنه من فعله الخاص به إلا أن كلا من ذينك الفعلين لما كان بحيث لا يمكن تحققه في نفسه إلا منوطا بتحقق الآخر ضرورة أن التزام العتق بمقابلة البدل من جهة المولى لا يتصور تحققه وتحصله إلا بالتزام البدل من طرف العبد كما أن عقد البيع الذي هو تمليك المبيع بالثمن من جهة البائع لا يمكن تحققه إلا بتملكه به من جانب المشتري لم يكن بد من تضمين أحدهما الآخر وقت الإنشاء فكما أن قول البائع بعت إنشاء لعقد البيع على معنى أنه إيقاع لما يتم من قبله أصالة ولما يتم من قبل المشتري ضمنا إيقاعا متوقفا على رأيه توقفا شبيها بتوقف عقد الفضولي كذلك قول المولى كاتبتك على كذا إنشاء لعقد الكتابة أي إيقاع لما يتم من قبله من التزام العتق بمقابلة البدل أصالة ولما يتم من قبل العبد من التزام البدل ضمنا إيقاعا متوقفا على قبوله فإذا قبل تم العقد اهـ وبه ينحل إشكال صعب وارد على إسناد أفعال العقود وهو أنه إذا كان ركن كل منها الإيجاب والقبول يلزم أن لا يصح نحو بعت كذا بكذا مثلا لأن المتكلم به لم يوقع إلا ما يتم من قبله وليس ذلك بيعا شرعيا إذ لا بد في البيع الشرعي من فعل آخر أعني قبول المشتري وهو مما لم يوقعه المتكلم المذكور. والحاصل أن إسناد باع إلى ضمير المتكلم يقتضي أنه أوقع البيع مع أنه لم يوقع إلا أحد ركنيه فكيف يصح الاسناد، ووجه انحلال هذا بما ذكر ظاهر إلا أنه أورد عليه أن فيه دعوى يكذبها وجدان كل عاقد عاقل ألا ترى أنك إذا قلت بعت مثلا لا يخطر ببالك إيقاع ضمني منك لشراء غيرك إيقاعا متوقفا على رأيه أصلا بل قصارى ما يخطر بالبال إيقاعه الشراء دون إيقاعك لشرائه على نحو فعل الفضولي ومن ادعى ذلك فقد كابر وجدانه. وأجيب بأن الأمور الجزء: 9 ¦ الصفحة: 346 الضمنية قد تعتبر شرعا وان لم تقصد كما يرشد إلى ذلك أنهم اعتبروا في قول القائل لآخر: أعتق عبدك عني بكذا فأعتقه البيع الضمني بركنيه وإن لم يكن القائل خاطرا بباله ذلك وقاصدا له. وبحث فيه بانهم إنما اعتبروا أولا العتق الذي هو مدلول اللفظ والمقصود منه ترجيحا لجانب الحرية ثم لما رأوا أن ذلك موقوف على الملك الموقوف على البيع حسب العادة الغالبة اعتبروا البيع ليتم لهم الاعتبار الأول ولم يعتبروه مدلولا للفظ العتق أصلا ليشترط القصد وإن أوهمه تسميتهم إياه بيعا ضمنيا بخلاف ما نحن فيه على ما سمعت فإن إيقاع القبول قد توقف عليه ماهية البيع الشرعي واعتبر مدلولا ضمنيا له بحيث صار عندهم كما يقتضيه ظاهر كلام الإرشاد نحو بعت بمعنى أوقعت إيجابا مني أصالة وقبولا منك نيابة وظاهر في مثل ذلك تحقق القصد وحيث نفى بالوجدان قصد إيقاع القبول نيابة علم أنه ليس مدلولا ضمنيا. ومن الناس من تفصى عن الاشكال بالتزام أن البيع هو الإيجاب والقبول شرط صحته فقول القائل بعت إنشاء لبيع يحتمل الصحة وعدمها ومتى قال الآخر اشتريت تعينت الصحة وأن قولهم ركن البيع الإيجاب والقبول من المسامحات الشائعة أو بالتزام أن للبيع ونحوه إطلاقين، أحدهما العقد الحاصل من مجموع الإيجاب والقبول كما في نحو قولك: وقع البيع بين زيد وعمرو وثانيهما الإيجاب فقط كما في نحو قولك بعته كذا فلم يشتر والبيع الدال عليه بعت الانشائي من هذا القبيل فلا إشكال في إسناده إلى المتكلم فتأمل وتدبر. وفي هذا المقام أبحاث تركناها خوفا مزيد البعد عما نحن بصدده والله تعالى الموفق، والَّذِينَ يحتمل أن يكون في محل رفع على الابتداء والخبر قوله تعالى: فَكاتِبُوهُمْ وهو بتقدير القول بناء على المشهور من أن الجملة الانشائية لا تقع خبرا عن المبتدأ إلا كذلك، وقال بعض المحققين: لا حاجة في مثل هذا إلى التأويل لأنه في معنى الشرط والجزاء ولذا جيء في الخبر بالفاء. ويحتمل أن يكون في محل نصب على أنه مفعول لمحذوف يفسره المذكور والفاء فيه لتضمن الشرط أيضا وفي البحر يجوز أن تقول: زيدا فاضرب وزيدا اضرب فإذا دخلت الفاء كان التقدير تنبه فاضرب فالفاء في جواب أمر محذوف اهـ. وأنت تعلم أنه لا يحتاج إلى هذا في الآية، وذكر بعض الأفاضل أن الفاء فيها على الاحتمال الثاني لأن حق المفسر أن يعقب المفسر، والمراد كتابة بعد كتابة فإن في الموالي كثرة وكذا في المكاتبين فليس الأمر به للمولى بالنسبة إلى مكاتب واحد اهـ. وهو يشبه الرطانة بالأعجمية. والأمر للندب على الصحيح، وقيل هو للوجوب وهو مذهب عطاء وعمرو بن دينار والضحاك وابن سيرين وداود، وما أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن أنس بن مالك قال: سألني سيرين المكاتبة فأبيت عليه فأتى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فأقبل عليّ بالدرة وتلا قوله تعالى: فَكاتِبُوهُمْ إلخ وفي رواية كاتبه أو لأضربنك بالدرة ظاهر في القول بالوجوب، وجمهور الأئمة كمالك والشافعي، وغيرهما على أن المكاتبة بعد الطلب وتحقق الشرط الآتي إن شاء الله تعالى مندوبة بيد أن من قال منهم بأن ظاهر الأمر للوجوب كالشافعي لم يقل بظاهره هنا لأنه بعد الحظر وهو بيع ماله بماله للاباحة، وادعى أن ندبها من دليل آخر، وظاهر الآية جواز الكتابة سواء كان البدل حالا أو مؤجلا أو منجما أو غير منجم لمكان الإطلاق وإلى ذلك ذهب الحنفية. وذهب جمهور الشافعية إلى أنه يشترط أن يكون منجما بنجمين فأكثر فلا تجوز بدون أجل وتنجيم مطلقا، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 347 وقيل إن ملك السيد بعض العبد وباقيه حر لم يشترط أجل وتنجيم، ورده محققوهم وأجابوا عن دعوى إطلاق الآية بأن الكتابة تشعر بالتنجيم فتغني عن التقييد لأنه (1) يكتب أنه يعتق إذا أدى ما عليه ومثله لا يكون في الحال. واعترضوا أيضا على القول بصحة الكتابة الحالة بأن الكتابة لو عقدت حالة توجهت المطالبة عليه في الحال وليس له مال يؤديه فيه فيعجز عن الأداء فيرد إلى الرق فلا يحصل مقصود العقد، وهذا كما لو أسلم فيما لا يوجد عند حلول الأجل فإنه لا يجوز. وأنت تعلم ما في دعوى إشعار الكتابة بالتنجيم وأنها تضر الشافعية لأن التنجيم الذي تشعر به الكتابة على زعمهم يتحقق بنجم واحد فيقتضي أن تجوز به كما ذهب إليه أكثر العلماء وهم لا يجوزون ذلك ويشترطون نجمين فأكثر. وما ذكروه في الاعتراض ليس بشيء فإنه لا عجز مع أمر المسلمين بإعانته بالصدقة والهبة والقرض، والقياس على السلم لا يصح لظهور الفارق، ولعل ما ذكر كالبيع لمن لا يملك الثمن ولا شك في صحته كذا قيل وفيه بحث. وقال ابن خويزمنداد: إذا كانت الكتابة على مال معجل كانت عتقا على مال ولم تكن كتابة، والفرق بين العتق على مال والكتابة مذكور في موضعه إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً أي أمانة وقدرة على الكسب، وبهما الخير فسره الشافعي. وذكر البيضاوي أنه روي هذا التفسير مرفوعا وجاء نحو ذلك في بعض الروايات عن ابن عباس، وفسرت الأمانة بعدم تضييع المال، قيل ويحتمل أن يكون المراد بها العدالة لكن يشترط على هذا الاستحباب المكاتبة أن لا يكون العبد معروفا بانفاق ما بيده بالطاعة لأن مثل هذا لا يرجى له عتق بالكتابة. وأخرج أبو داود في المراسيل والبيهقي في سننه عن يحيى بن أبي كثير قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قوله تعالى: فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً إن علمتم فيهم حرفة ، وظاهره الاكتفاء بالقدرة على الكسب وعدم اشتراط الأمانة، وهو قول نقله ابن حجر عن بعضهم، وتعقبه بأن المكاتب إذا لم يكن أمينا يضيع ما كسبه فلا يحصل المقصود. وأخرج عبد بن حميد عن عبيدة السلماني وقتادة وابراهيم وأبي صالح أنهم فسروا الخير بالأمانة وظاهر كلامهم الاكتفاء بها وعدم اشتراط القدرة على الكسب، ونقله أيضا ابن حجر عن بعضهم وتعقبه بأن المكاتب إذا لم يكن قادرا على الكسب كان في مكاتبته ضرر على السيد ولا وثوق بإعانته بنحو الصدقة والزكاة. وأخرج ابن مردويه عن علي كرّم الله تعالى وجهه أنه فسر الخير بالمال ، وأخرجه جماعة عن ابن عباس وعن ابن جريج وروي عن مجاهد وعطاء والضحاك، وتعقب بأن ذلك ضعيف لفظا ومعنى أما لفظا فلأنه لا يقال فيه مال بل عنده أو له مال، وأما معنى فلأن العبد لا مال له ولأن المتبادر من الخير غيره وإن أطلق الخير على المال في قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ [البقرة: 180] . وأجيب بأنه يمكن أن يكون المراد بالخير عند هؤلاء الأجلة القدرة على كسب المال إلا أنهم ذكروا ما هو المقصود الأصلي منه تساهلا في العبارة ومثله كثير. وقال أبو حيان: الذي يظهر من الاستعمال أنه الدين تقول: فلان فيه خير فلا يتبادر إلى الذهن إلا الصلاح. وتعقب بأنه لا يناسب المقام ويقتضي أن لا يكاتب غير المسلم، وفسره كثير من أصحابنا بأن لا يضروا المسلمين بعد العتق وقالوا: إن غلب ظن الضرر بهم بعد العتق فالأفضل ترك مكاتبتهم، وظاهر التعليق بالشرط أنه إذا لم يعلموا فيه خيرا لا يستحب لهم مكاتبتهم أو لا تجب عليهم، وهذا للخلاف في أن الأمر هل هو للندب أو للوجوب فلا تفيد الآية عدم الجواز عند انتفاء الشرط فإن غاية ما يلزم انتفاءه انتفاء المشروط وليس هو فيها إلا الأمر الدال على الوجوب   (1) أي الشأن اهـ منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 348 أو الندب، ومن قال: إنه للاباحة التزم أن الشرط هنا لا مفهوم له لجريه على العادة في مكاتبة من علم خيريته كذا قيل، والذي أراه حرمه المكاتبة إذا علم السيد أن المكاتب لو عتق أضر المسلمين. ففي التحفة لابن حجر في باب الكتابة عند قول النووي هي مستحبة إن طلبها رقيق أمين قوي على كسب ولا تكره بحال ما نصه: لكن بحث البلقيني كراهتها لفاسق يضيع كسبه في الفسق ولو استولى عليه السيد لامتنع من ذلك، وقال هو وغيره: بل ينتهي الحال للتحريم أي وهو قياس حرمة الصدقة والقرض إذا علم أن من أخذهما يصرفهما في محرم، ثم رأيت الأذرعي بحثه فيمن علم أنه يكتسب بطريق الفسق وهو صريح فيما ذكرته إذ المدار على تمكينه بسببها من المحرم اهـ، وما ذكر من المدار موجود فيها قلنا، ثم المراد من العلم الظن القوي وهو مدار أكثر الأحكام الشرعية وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ الظاهر أنه أمر للموالي بإيتاء المكاتبين شيئا من أموالهم إعانة لهم، وفي حكمه حط شيء من مال الكتابة ويكفي في ذلك أقل ما يتمول. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهما من طريق عبد الله بن حبيب عن علي كرّم الله وجهه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «يترك للمكاتب الربع» وجاء هذا أيضا في بعض الروايات موقوفا على علي كرّم الله تعالى وجهه، وقال ابن حجر الهيتمي: هو الأصح ولعل ذلك اجتهاد منه رضي الله تعالى عنه. وادعاء أن هذا لا يقال من قبل الرأي فهو في حكم المرفوع ممنوع، ولهذا الخبر وقول ابن راهويه: أجمع أهل التأويل على أن الربع هو المراد بالآية قالوا: إن الأفضل إيتاء الربع، واستحسن ابن مسعود والحسن إيتاء الثلث، وابن عمر رضي الله تعالى عنهما إيتاء السبع، وقتادة إيتاء العشر والأمر بالايتاء عندنا للندب وقال الشافعية: للوجوب إذ لا صارف عنه، وصرحوا بأنه يلزم السيد أو وارثه مقدما له على مؤن التجهيز. أما الحط عن المكاتب كتابة صحيحة لجزء من المال المكاتب عليه أو دفع جزء من المعقود عليه بعد أخذه أو من جنسه إليه وأن الحط أولى من الدفع لأنه المأثور عن الصحابة ولأن الاعانة فيه محققة والمدفوع قد ينفقه في جهة أخرى، وهو في النجم الأخير أفضل، والأصح أن وقت الوجوب قبل العتق ويتضيق إذا بقي من النجم قدر ما يفي به من مال الكتابة، وشاع أنهم يقولون بوجوب الحط. ويرده قوله صلّى الله عليه وسلّم: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم» إذ لو وجب الحط لسقط عنه الباقي حتما وأيضا لو وجب الحط لكان وجوبه معلقا بالعقد فيكون العقد موجبا ومسقطا معا، وأيضا هو عقد معاوضة فلا يجبر على الحطيطة كالبيع، قيل: معنى آتُوهُمْ أقرضوهم، وقيل: هو أمر لهم بالإنفاق عليهم بعد أن يؤدوا ويعتقوا، وإضافة المال إليه تعالى ووصفه بإيتائه تعالى إياهم للحث على الامتثال بالأمر بتحقيق المأمور به فإن ملاحظة وصول المال إليهم من جهته سبحانه مع كونه عزّ وجلّ هو المالك الحقيقي له من أقوى الدواعي إلى صرفه إلى الجهة المأمور بها، وقيل: هو أمر ندب لعامة المسلمين إعانة المكاتبين بالتصدق عليهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أنه أمر للولاة أن يعطوهم من الزكاة وهذا نحو ما ذكر في الكشاف من أنه أمر للمسلمين على وجه الوجوب بإعانة المكاتبين وإعطائهم سهمهم الذي جعل الله تعالى لهم في بيت المال كقوله سبحانه: وَفِي الرِّقابِ [البقرة: 177، التوبة: 60، محمد: 4] عند أبي حنيفة وأصحابه، ويحل للمولى إذا كان غنيا أن يأخذ ما تصدق به على المكاتب لتبدل الملك كما فيما إذا اشترى الصدقة من فقير أو وهبها الفقير له فإن المكاتب يتملكه صدقة والمولى عوضا عن العتق، وكذا الحكم لو عجز بعد أداء البعض عن الباقي فأعيد إلى الرق أو أعتق من غير جهة الكتابة، والعلة تبدل الملك أيضا عند محمد وفيه خفاء لأن ما أخذ لم يقع عوضا عن العتق، أما فيما إذا أعيد إلى الرق فظاهر، وأما فيما إذا أعتق من غير جهة الكتابة فلأن العتق لم يكن مشروطا بأداء ذلك فتدبر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 349 وعلل أبو يوسف المسألة بأنه لا خبث في نفس الصدقة وإنما الخبث في فعل الآخذ لكونه إذلالا بالآخذ ولا يجوز ذلك له من غير حاجة والأخذ لم يوجد من السيد. وأورد عليه أنه ينافي جعلها أوساخ الناس في الحديث. ونقل عن الشافعي أنه إذا أعيد المكاتب إلى الرق أو أعتق من غير جهة الكتابة يلزم السيد رد ما أخذه إلا أن يتلف قبله لأن ما دفع للمكاتب لم يقع موقعه ولم يترتب عليه الغرض المطلوب. قال الطيبي: وبهذا يظهر أن قياس ذلك على الصدقة التي اشتريت من الفقير غير صحيح، والمدار عندي اختلاف جهتي الملك فمتى تحقق لم تبق شبهة في الحل، وقد صح أن بريرة مولاة عائشة رضي الله تعالى عنها جاءت بعد العتق بلحم بقر فقالت عائشة للنبي صلّى الله عليه وسلّم: هذا ما تصدق به على بريرة فقال عليه الصلاة والسلام: هو لها صدقة ولنا هدية فأشار عليه الصلاة والسلام إلى حله لآل البيت الذين لا تحل لهم الصدقة باختلاف جهتي الملك فتأمل، وللمكاتبة أحكام كثيرة تطلب من كتب الفقه. وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ أخرج مسلم وأبو داود عن جابر رضي الله تعالى عنه أن جارية لعبد الله بن أبي ابن سلول يقال لها مسيكة وأخرى يقال لها أميمة كان يكرههما على الزنا فشكتا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: كان لعبد الله بن أبيّ جارية تدعى معاذة فكان إذا نزل ضيف أرسلها له ليواقعها إرادة الثواب منه والكرامة له فأقبلت الجارية إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه فشكت ذلك إليه فذكره أبو بكر للنبي صلّى الله عليه وسلّم فأمره بقبضها فصاح عبد الله بن أبيّ من يعذرنا من محمد صلّى الله عليه وسلّم يغلبنا على مماليكنا؟ فنزلت ، وقيل: كانت لهذا اللعين ست جوار معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وقتيلة يكرههن على البغاء وضرب عليهن ضرائب فشكت ثنتان منهن إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت . وقيل: نزلت في رجلين كانا يكرهان أمتين لهما على الزنا أحدهما ابن أبيّ، وأخرج ابن مردويه عن علي كرّم الله تعالى وجهه أنهم كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنا يأخذون أجورهن فنهوا عن ذلك في الإسلام . ونزلت الآية، وروي نحوه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وعلى جميع الروايات لا اختصاص للخطاب بمن نزلت فيه الآية بل هي عامة في سائر المكلفين. والفتيات جمع فتاة وكل من الفتى والفتاة كناية مشهورة عن العبد والأمة مطلقا وقد أمر الشارع صلّى الله عليه وسلّم بالتعبير بهما مضافين إلى ياء المتكلم دون العبد والأمة مضافين إليه فقال عليه الصلاة والسلام: «لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي ولكن فتاي وفتاتي» وكأنه صلّى الله عليه وسلّم كره العبودية لغيره عزّ وجلّ ولا حجر عليه سبحانه في إضافة الأخيرين إلى غيره تعالى شأنه، وللعبارة المذكورة في هذا المقال باعتبار مفهومها الأصلي حسن موقع ومزيد مناسبة لقوله سبحانه: عَلَى الْبِغاءِ وهو زنا النساء كما في البحر من حيث صدوره عن شوابهن لأنهن اللاتي يتوقع منهن ذلك غالبا دون من عداهن من العجائز والصغائر. وقوله عزّ وجلّ: إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ليس لتخصيص النهي بصورة إرادتهن التعفف عن الزنا وإخراج ما عداها عن حكمه كما إذا كان الإكراه بسبب كراهتهن الزنا لخصوص الزاني أو لخصوص الزمان أو لخصوص المكان أو لغير ذلك من الأمور المصححة للاكراه في الجملة بل هو للمحافظة على عادة من نزلت فيهم الآية حيث كانوا يكرهونهن على البغاء وهن يردن التعفف عنه مع وفور شهوتهن الآمرة بالفجور وقصورهن في معرفة الأمور الداعية إلى المحاسن الزاجرة عن تعاطي القبائح، وفيه من الزيادة لتقبيح حالهم وتشنيعهم على ما كانوا يفعلونه من القبائح ما لا يخفى فإن من له أدنى مروءة لا يكاد يرضى بفجور من يحويه بيته من إمائه فضلا عن أمرهن به أو إكراههن عليه لا سيما عند إرادة التعفف ووفر الرغبة فيها كما يشعر به التعبير بأردن بلفظ الماضي، وإيثار كلمة إِنْ على إذا لأن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 350 إرادة التحصن من الإماء كالشاذ النادر أو للايذان بوجوب الانتهاء عن الإكراه عند كون إرادة التحصن في حيز التردد والشك فكيف إذا كانت محققة الوقوع كما هو الواقع، ويعلم من توجيه هذا الشرط مع ما أشرنا إليه من بيان حسن موقع الفتيات هنا باعتبار مفهومها الأصلي أنه لا مفهوم لها ولو فرضت صفة لأن شرط اعتبار المفهوم عند القائلين به أن لا يكون المذكور خرج مخرج الغالب، وقد تمسك جمع بالآية لإبطال القول بالمفهوم فقالوا: إنه لو اعتبر يلزم جواز الإكراه عند عدم إرادة التحصن والإكراه على الزنا غير جائز بحال من الأحوال إجماعا ومما ذكرنا يعلم الجواب عنه. وفي شرح المختصر الحاجبي للعلامة العضد الجواب عن ذلك، أولا أنه مما خرج مخرج الأغلب إذا الغالب (1) أن الإكراه عند إرادة التحصن ولا مفهوم في مثله، وثانيا أن المفهوم اقتضى ذلك وقد انتفى لمعارض أقوى منه وهو الإجماع، وقد يجاب عنه بأنه يدل على عدم الحرمة (2) عند عدم الارادة وأنه ثابت إذ لا يمكن الإكراه حينئذ لأنهن إذ لم يردن التحصن لم يكرهن البغاء والإكراه إنما هو إلزام فعل مكروه وإذا لم يكن لم يتعلق به التحريم لأن شرط التكليف الإمكان ولا يلزم من عدم التحريم الإباحة انتهى، ولعل ما ذكرناه أولا هو الأولى، وجعل غير واحد زيادة التقبيح والتشنيع جوابا مستقلا بتغيير يسير ولا بأس به. وزعم بعضهم أن إِنْ أَرَدْنَ راجع إلى قوله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وهو مما يقضي منه العجب وبالجملة لا حجة في ذلك لمبطلي القول بالمفهوم وكذا لا حجة لهم في قوله تعالى: لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فإنه كما في إرشاد العقل السليم قيد للاكراه لا باعتبار أنه مدار للنهي عنه بل باعتبار أنه المعتاد فيما بينهم أيضا جيء به تشنيعا لهم فيما هم عليه من احتمال الوزر الكبير لأجل النزر الحقير أي لا تفعلوا ما أنتم عليه من إكراههن على البغاء لطلب المتاع السريع الزوال الوشيك الاضمحلال، فالمراد بالابتغاء الطلب المقارن لنيل المطلوب واستيفائه بالفعل إذ هو الصالح لكونه غاية للاكراه مترتبا عليه لا المطلق المتناول للطلب السابق الباعث عليه ولا اختصاص لعرض الحياة الدنيا بكسبهن أعني أجورهن التي يأخذنها على الزنا بهن وإن كان ظاهر كثير من الأخبار يقتضي ذلك بل ما يعمه وأولادهن من الزنا وبذلك فسره سعيد بن جبير كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم وفي بعض الأخبار ما يشعر بأنهم كانوا يكرهونهن على ذلك للأولاد. أخرج الطبراني والبزار وابن مردويه بسند صحيح عن ابن عباس أن جارية لعبد الله بن أبيّ كانت تزني في الجاهلية فولدت له أولادا من الزنا فلما حرم الله تعالى الزنا قال لها: ما لك لا تزنين؟ قالت: والله لا أزني أبدا فضربها فأنزل الله تعالى وَلا تُكْرِهُوا الآية، ولا يقتضي هذا وأمثاله تخصيص العرض بالأولاد كما لا يخفى. وسمعت أن بعض قبائل أعراب العراق كآل عزة يأمرون جواريهم بالزنا للأولاد كفعل الجاهلية ولا يستغرب ذلك من الاعراب لا سيما في مثل هذه الأعصار التي عرا فيها كثيرا من رياض الأحكام الشرعية في كثير من المواضع إعصار فإنهم أجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله ولا حول ولا قوة إلا بالله. قوله تعالى: وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ إلى آخره جملة مستأنفة سيقت لتقرير النهي وتأكيد وجوب العمل ببيان خلاص المكرهات من عقوبة المكره عليه عبارة ورجوع غائلة الإكراه إلى المكرهين إشارة أي ومن يكرههن على ما ذكر من   (1) الظاهر أنه أراد بالغالب الراجح اهـ ميرزاجان. (2) أو عدم طلب الكف عن الإكراه فتأمل اهـ منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 351 البغاء فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ لهن كما في قراءة ابن مسعود وقد أخرجها عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عنه لكن بتقديم لهن غَفُورٌ رَحِيمٌ ورويت كذلك أيضا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وينبىء عنه على ما قيل قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ أي كونهن مكرهات على أن الإكراه مصدر المبني للمفعول فإن توسيطه بين اسم إن وخبرها للإيذان بأن ذلك هو السبب للمغفرة والرحمة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وغيرهما عن مجاهد أنه قال: غفور رحيم لهن وليست لهم، وكان الحسن إذا قرأ الآية يقول: لهن والله لهن، وفي تخصيص ذلك بهن وتعيين مداره على ما سمعت مع سبق ذكر المكرهين أيضا في الشرطية دلالة على كونهم محرومين من المغفرة والرحمة بالكلية كأنه قيل: لا لهم أو لا له ولظهور هذا التقدير اكتفى به عن العائد إلى اسم الشرط اللازم في الجملة الشرطية على الأصح كما في المغني، وقيل: في توجيه أمر العائد: إن إِكْراهِهِنَّ مصدر مضاف إلى المفعول وفاعل المصدر ضمير محذوف عائد على اسم الشرط والمحذوف كالملفوظ والتقدير من بعد إكراههم إياهن. ورده أبو حيان بأنهم لم يعدوا في الروابط الفاعل المحذوف للمصدر في نحو هند عجبت من ضرب زيد وإن كان المعنى من ضربها زيدا فلم يجوزوا هذا التركيب ولا فرق بينه وبين ما نحن فيه، وقيل: جواب الشرط محذوف والمذكور تعليل لما يفهم من ذلك المحذوف والتقدير ومن يكرههن فعليه وبال إكراههن لا يتعدى إليهن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم لهن، وفيه عدول عن الظاهر وارتكاب مزيد إضمار بلا ضرورة، وكون ذلك لتسبب الجزاء على الشرط ليس بشيء. وقال في البحر: الصحيح أن التقدير غَفُورٌ رَحِيمٌ لهم ليكون في جواب الشرط ضمير يعود على اسم الشرط المخبر عنه بجملة الجواب ويكون ذلك مشروطا بالتوبة، وفيه إخلال بجزالة النظم الجليل وتهوين لأمر النهي في مقام التهويل وأمر الربط لا يتوقف على ذلك، ومثله ما قيل: إن التقدير لهما فالوجه ما تقدم، والجار والمجرور في قراءة من سمعت قال ابن جني: متعلق بغفور لأنه أدنى إليه ولأن فعولا أقعد في التعدي من فعيل، ويجوز أن يتعلق برحيم لأجل حرف الجر إذا قدر خبرا بعد خبر، ولم يقدر صفة لغفور لامتناع تقدم الصفة على موصوفها والمعمول إنما يصح وقوعه حيث يقع عامله وليس الخبر كذلك، وأيضا يحسن في الخبر لأن رتبة الرحمة أعلى من رتبة المغفرة لأن المغفرة مسببة عنها فكأنها متقدمة معنى وإن تأخرت لفظا والمعنى على تعلقه بهما كما لا يخفى، وتعليق المغفرة لهن مع كونهن مكرهات لا إثم لهن بناء على أن المكره غير مكلف ولا إثم بدون تكليف، وتفصيل المسألة في الأصول قيل: لشدة المعاقبة على المكره لأن المكرهة مع قيام العذر إذا كانت بصدد المعاقبة حتى احتاجت إلى المغفرة فما حال المكره وللدلالة على أن حد الإكراه الشرعي والمصابرة إلى أن ينتهي إليه فيرتكب ضيق والله تعالى يغفر ذلك بلطفه. وقيل: لغاية تهويل أمر الزنا وحث المكرهات على التشبث في التجافي عنه أو لاعتبار أنهن وإن كن مكرهات لا يخلون في تضاعيف الزنا عن شائبة مطاوعة بحكم الجبلة البشرية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 352 وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ [34. 40] كلام مستأنف جيء به في تضاعيف ما ورد من الآيات السابقة واللاحقة لبيان جلالة شؤونها المستوجبة للإقبال الكلي على العمل بمضمونها، وصدر بالقسم المعربة عنه اللام لإبراز كمال العناية بشأنه أي وبالله لقد أنزلنا إليكم في هذه السورة الكريمة آيات مبينات لكل مالكم حاجة إلى بيانه من الحدود وسائر الأحكام والآداب وغير ذلك مما هو من مبادي بيانها على أن مُبَيِّناتٍ من بين المتعدي والمفعول محذوف وإسناد التبيين إلى الآيات مجازي أو آيات واضحات صدقتها الكتب القديمة والعقول السليمة على أنها من بين بمعنى تبين اللازم أي آيات تبين كونها آيات من الله تعالى، ومنه المثل قد بين الصبح لذي عينين. وقرأ الحرميان وأبو عمرو وأبو بكر «مبينات» على صيغة المفعول أي آيات بينها الله تعالى وجعلها واضحة الدلالة على الأحكام والحدود وغيرها، وجوز أن يكون الأصل مبينا فيها الأحكام فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول. وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ عطف على آياتٍ أي وأنزلنا مثلا كائنا من قبيل أمثال الذين مضوا من قبلكم من القصص العجيبة والأمثال المضروبة لهم في الكتب السابقة والكلمات الجارية على ألسنة الأنبياء عليهم السلام فينتظم قصة عائشة رضي الله تعالى عنها المحاكية لقصة يوسف عليه السلام وقصة مريم رضي الله تعالى عنها حيث أسند إليهما مثل ما أسند إلى عائشة من الإفك فبرأهما الله تعالى منه وسائر الأمثال الواردة في هذه السورة الكريمة انتظاما أوليا، وهذا أوفق بتعقيب الكلام بما سيأتي إن شاء الله تعالى من التمثيلات من تخصيص الآيات بالسوابق وحمل المثل على القصة العجيبة فقط وَمَوْعِظَةً تتعظون بها وتنزجرون عما لا ينبغي من المحرمات والمكروهات وسائر ما يخل بمحاسن الآداب فهي عبارة عما سبق من الآيات والمثل لظهور كونها من المواعظ بالمعنى المذكور، ويكفي في العطف التغاير العنواني المنزل منزلة التغاير الذاتي، وقد خصت الآيات بما يبين الحدود والأحكام والموعظة بما يتعظ به كقوله تعالى وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور: 2] وقوله سبحانه: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ [النور: 12] إلخ وغير ذلك من الآيات الواردة في شأن الآداب وقيدت الموعظة بقوله سبحانه: لِلْمُتَّقِينَ مع شمولها للكل حسب شمول الإنزال حثا للمخاطبين على الاغتنام بالانتظام في سلك المتقين ببيان أنهم المغتنمون لآثارها المقتبسون من أنوارها فحسب، وقيل: المراد بالآيات المبينات والمثل والموعظة جميع ما في القرآن المجيد من الآيات والأمثال والمواعظ اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ النور في اللغة- على ما قال ابن السكيت- الضياء وهذا ظاهر في عدم الفرق بين النور والضياء، وفرق بينهما جمع وإن كان إطلاق أحدهما على الآخر شائعا فقال الإمام السهيلي في الروض في قول ورقة: ويظهر في البلاد ضياء نور ... يقيم به البرية أن يموجا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 353 إنه يوضح معنى النور والضياء وإن الضياء هو المنتشر عن النور والنور هو الأصل، وفي التنزيل فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة: 17] هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً [يونس: 5] لأن نور القمر لا ينتشر عنه ما ينتشر عن الشمس لا سيما في طرفي الشهر، وقال الفلاسفة: الضياء ما يكون للشيء من ذاته والنور ما يفيض عليه من مقابلة المضيء وعلى هذا جاء فيما زعم إسلاميوهم قوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً فإن اختلاف تشكلات القمر بالقرب والبعد من الشمس مع خسوفه وقت حيلولة الأرض بينه وبينها دليل على أن نوره فائض عليه من مقابلتها، وأنت تعلم أن في هذا مقالا لعلماء الإسلام وقد قدمنا ما فيه في غير هذا المقام، ولعل الأولى في وجه الفرق ما تقدم آنفا في كلام السهيلي. وذكر بعض المحققين أنه يعلم من كلامهم أن لكل من النور والضياء جهة أبلغية فجهة أبلغية النور كونه أصلا ومبدأ للضياء وجهة أبلغية الضياء أن الابصار بالفعل بمدخليته. وادعى بعضهم أن النور على الإطلاق أبلغ من الضياء للآية التي نحن فيها، وفيه بحث يعلم إن شاء الله تعالى أثناء تفسيرها، واعلم أن الفلاسفة اختلفوا في حقيقة النور فمنهم من زعم أنه أجسام صغار تنفصل عن المضيء وتتصل بالمستضيء وأبطل بعدة أوجه، الأول أنه لو كان جسما متحركا لكانت حركته طبيعية والحركة الطبيعية إلى جهة واحدة دون سائر الجهات لكن النور يقع على الجسم في كل جهة كانت له، والثاني أنه إذا دخل من كوة ثم سددناها دفعة فتلك الأجزاء النورانية إما أن تكون باقية في البيت فيلزم أن يكون البيت مستنيرا كما كان قبل السد وليس كذلك وإما أن تكون خارجة من الكوة قبل انسدادها وهو محال لأن السد كان سبب انقطاعها فلا بد أن يكون سابقا عليه بالذات أو بالزمان وإما أن تكون غير باقية أصلا فيلزم أن يكون تخلل جسم بين جسمين موجبا انعدام أحدهما وهو معلوم الفساد، والثالث أن كون تلك الأجسام الصغار أنوارا إما أن يكون هو عين كونها أجساما وهو باطل لأن المفهوم من النورية مغاير للمفهوم من الجسمية وإما أن يكون مغايرا لها بأن تكون تلك الأجسام حاملة لتلك الكيفية منفصلة من المضيء متصلة بالمستضيء فإن لم تكن تلك الأجسام محسوسة فهو ظاهر البطلان لأنها حينئذ كيف تكون واسطة لإحساس غيرها وإن كانت محسوسة كانت ساترة لما وراءها ويجب أنها كلما ازدادت اجتماعا ازدادت سترا لكن الأمر بالعكس فإن النور كلما ازداد قوة ازداد إظهارا، والرابع أن الشمس إذا طلعت من الأفق يستنير وجه الأرض كله دفعة ومن البعيد أن تنتقل تلك الأجزاء من الفلك الرابع إلى وجه الأرض في تلك اللحظة اللطيفة، ولا يخفى حاله على القول باستحالة الخرق على الأفلاك، والخامس أن انفصال الأجزاء من الأجرام الكوكبية يستلزم الذبول والانتقاص وخلو مواضعها عن تمام مقدارها أو مقدار أجزائها أو كونها دائمة التحليل مع إيراد البدل عما يتحلل عن جرمها فتكون أجسامها أجساما مستحيلة غذائية كائنة فاسدة وذلك محال في الفلكيات. وتعقبها بعض متأخريهم بأنها في غاية الضعف أما الأول فلأن كون النور جسما لا يستلزم كونه متحركا ولا كون حدوثه بالحركة بل هو مما يوجد دفعة بلا حركة، وأما الثاني فلقائل أن يقول: إن قيام المجعول بلا مادة إنما يكون بالفاعل الجاعل إياه مع اشتراط عدم الحجاب المانع عن الإفاضة فإذا طرأ المانع لم تقع الإفاضة فينعدم المفاض بلا مادة باقية عنه لأن وجوده لم يكن بشركة المادة فكذا عدمه فعند انسداد الباب المانع عن الإفاضة ينعدم الشعاع عن البيت دفعة، ولا فرق في ذلك بين كونه عرضا أو جوهرا والسر فيهما جميعا أن النور مطلقا ليس حصوله من جهة انفعال المادة وشركة الهيولى كسائر الجواهر والأعراض الانفعاليات ولذلك لا ينعدم شيء منها دفعة لو فرض حجاب بينها وبين المبدأ الفاعلي إلا بعد زمان واستحالة وأما الذي ذكر ثالثا فجوابه أن المغايرة في المفهوم لا تنافي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 354 الاتحاد والعينية في الوجود فما ذكر مغالطة من باب الاشتباه بين مفهوم الشيء وحقيقته، وأما المذكور رابعا وخامسا فلأن مبناه على الانفصال والقطع للمسافة لا على مجرد الجوهرية والجسمية. هذا وذهب بعضهم إلى أنه عرض من الكيفيات المحسوسة وقالوا: هو غني عن التعريف كسائر المحسوسات، وتعريفه بأنه كمال أول للشفاف من حيث إنه شفاف أو بأنه كيفية لا يتوقف الإبصار بها على الإبصار بشيء آخر تعريف بما هو أخفى وكأن المراد به التنبيه على بعض خواصه. ومن هؤلاء من قال: إنه نفس ظهور اللون، ومنهم من قال بمغايرتهما واستدلوا بأوجه، الأول أن ظهور اللون إشارة إلى تجدد أمر فهو إما اللون أو صفة نسبية أو غير نسبية والأول باطل لأن النور إما أن يجعل عبارة عن تجدد اللون أو اللون المتجدد، والأول يقتضي أن لا يكون مستنيرا إلا في آن تجدده، والثاني يوجب كون الضوء نفس اللون فلا يبقى لقولهم: الضوء هو ظهور اللون معنى، وإن جعلوا الضوء كيفية ثبوتية زائدة على ذات اللون وسموه بالظهور فذلك نزاع لفظي، وإن زعموا أن ذلك الظهور تجدد حالة نسبية فهو باطل لأن الضوء أمر غير نسبي وإلا لكان أمرا عقليا واقعا تحت مقولة المضاف فلم يكن محسوسا أصلا لكن الحس البصري مما ينفعل عنه ويتضرر بالشديد منه حتى يبطل. والأمور الذهنية لا تؤثر مثل هذا التأثير فإذا لم يمكن أمرا نسبيا لم يمكن تفسيره بالحالة النسبية، والثاني أن البياض قد يكون مضيئا مشرقا وكذا السواد فلو كان ضوء كل منهما عين ذاته لزم أن يكون بعض الضوء ضد بعضه وهو محال لأن ضد الضوء الظلمة، والثالث أن اللون يوجد بدون الضوء كما في الجسم الملون في الظلمة وكذا الضوء يوجد بدون اللون كما في البلور إذا وقع عليه الضوء فهما متغايران لوجود كل منهما بدون الآخر، والرابع أن الجسم الأحمر مثلا المضيء إذا انعكس عنه إلى مقابله فتارة ينعكس الضوء عنه إلى جسم آخر وتارة ينعكس منه اللون والضوء معا إذا قريا حتى يحمر المنعكس إليه فلو كان مجرد ظهور اللون لاستحال أن يفيد غيره لمعانا ساذجا، وليس لقائل أن يقول: هذا البريق عبارة عن إظهار اللون في ذلك القابل لأنه يقال: فلماذا إذا اشتد لون الجسم المنعكس منه ضوءه أخفى ضوء المنعكس إليه وأبطله وأعطاه لون نفسه. وقال بعض المتأخرين: استقر الرأي على أن النور المحسوس بما هو محسوس عبارة عن نحو وجود الجوهر المبصر الحاضر عند النفس في غير هذا العالم وأما الذي في الخارج بإزائه فلا يزيد وجوده على وجود اللون والأوجه التي ذكرت لمغايرتهما مقدوحة، أما الوجه الأول فهو مقدوح بأن ظهور اللون عبارة عن وجوده وهو صفة حقيقية من شأنها أن ينسب ويضاف إلى القوة المدركة وبهذا الاعتبار يقع له التجدد قولهم: يوجب أن يكون الضوء نفس اللون قلنا: نعم ولكنهما متغايران بالاعتبار كما أن الماهية والوجود في كل شيء متحدان بالذات متغايران بالاعتبار فإن النور والضوء يرجع معناه إلى وجود خاص عارض لبعض الأجسام والظلمة عبارة عن عدم الوجود الخاص بالكلية والظل عبارة عن عدمه في الجملة واللون عبارة عن امتزاج يقع بين حامل هذا الوجود النوري وحامل عدمه على أنحاء مختلفة فليست الألوان إلا مراتب تراكيب الأنوار والأدلة الموردة على إبطال ذلك ضعيفة فعلى هذا صح قولهم: النور هو ظهور اللون وصح أيضا قول من يقول إنه غير اللون لأن النور بما هو نور لا يختلف إذ لا يعتبر فيه امتزاج ولا شوب مع عدم أو ظلمة والألوان مختلفة، وأما الوجه الثاني فهو أيضا مندفع بما مهد وبأن اللون وإن لم يكن غير النور إلا أن مراتب الأنوار مختلفة شدة وضعفا، ومع هذا الاختلاف قد تختلف بوجوه أخر بحسب تركيبات وامتزاجات كثيرة تقع بين أعداد من النور وإمكانها وفعليتها وأصلها وفرعها واعداد من الظلمة أعني عدم ذلك النور وإمكانها وفعليتها وأصلها وفرعها فإن هذه الألوان أمور مادية في الأكثر أو متعلقة بها والمادة منيع الانقسام والتركيب بين الوجودات والإعدام والإمكانات الجزء: 9 ¦ الصفحة: 355 فليس بعجب أن يحصل من ضروب تركيبات النور بالظلمة هذه الألوان التي نراها فتقع تلك الأقسام في محالها على الوجه المذكور ثم يقع عليها نور آخر بمقابلة المنير. ومن قال بأن النور عين اللون لم يقل بأن كل نور عين كل لون كما أن من قال بأن الوجود عين الماهية لم يقل بأن كل وجود عين كل ماهية ليلزمه أن لا يطرد وجود على وجود ولا تضاد وجود لوجود فالألوان متخالفة الأحكام وبعضها أمور متضادة لكن بما هي ألوان لا بما هي أنوار كما أن الموجودات متخالفة الأحكام وبعضها أشياء متضادة لكن بما هي ماهيات لا بما هي موجودات مع أن الوجود والماهية واحد، وأما الوجه الثالث فسبيل دفعه سهل بما بين وكذا الوجه الرابع بأدنى أعمال روية فإن عدم ظهور اللون قد يكون لضعف اللمعان الواقع على شيء وقد يكون لشدة اللمعان فالواقع على المقابل من عكس المضيء الملون قد يكون ضوءه فقط وذلك عند قصور الضوء واللون أو قصور استعداد القابل المقابل وقد يكون كلاهما لقوتهما وقوة استعداد المنعكس إليه، على أن الكلام في مباحث العكوس طويل، وكون المنعكس من الجسم المضيء إلى جسم آخر ضوءه دون لونه ربما كان لأجل صقالته فإن الصقيل قد يكون ذا لون وضوء ولكن المنعكس منه إلى مقابله ليس إلا ما حصل من نير آخر بتوسطه على نسبة وضعية مخصوصة بينهما له إليهما لا اللون والضوء اللذان يستقران فيه فالمنعكس في ذلك المقابل ليس إلا الضوء فقط من ذلك النير لا من المنعكس منه إلا أن يكون المنعكس إليه أيضا جسما صقيلا فيقع فيه حكاية منهما أي الضوء واللون أو من أحدهما أيضا. هذا غاية ما قالوه في النور المحسوس الذي يظهر به الأجسام على الأبصار ولهم في النور إطلاق آخر وهو الظاهر بذاته والمظهر لغيره وقالوا: هو بهذا المعنى مساو للوجود بل نفسه فيكون حقيقة بسيطة كالوجود منقسما كانقسامه، فمنه نور واجب لذاته قاهر على ما سواه، ومنه أنوار عقلية ونفسية وجسمية، والواجب تعالى نور الأنوار غير متناهي الشدة وما سواه سبحانه أنوار متناهية الشدة بمعنى أن فوقها ما هو أشد منها وإن كان بعضها كالأنوار العقلية لا تقف آثارها عند حد، والكل من لمعات نوره عز وجل حتى الأجسام الكثيفة فإنها أيضا من حيث الوجود لا تخلو عن نور لكنه مشوب بظلمات الإعدام والإمكانات، إذ علمت هذا فاعلم أن إطلاق النور على الله سبحانه وتعالى بالمعنى اللغوي والحكمي السابق غير صحيح لكمال تنزهه جل وعلا عن الجسمية والكيفية ولوازمهما، وإطلاقه عليه سبحانه بالمعنى المذكور وهو الظاهر بذاته والمظهر لغيره قد جوزه جماعة منهم حجة الإسلام الغزالي فإنه قدس سره بعد أن ذكر في رسالته مشكاة الأنوار ومعنى النور ومراتبه قال: إذا عرفت أن النور يرجع إلى الظهور والإظهار فاعلم أن لا ظلمة أشد من كتم العدم لأن المظلم سمي مظلما لأنه ليس بظاهر للابصار مع أنه موجود في نفسه فما ليس موجودا أصلا كيف لا يستحق أن يكون هو الغاية في الظلمة. وفي مقابلته الوجود وهو النور فإن الشيء ما لم يظهر في ذاته لا يظهر لغيره، والوجود ينقسم إلى ما للشيء من ذاته وإلى ما له من غيره، فما له الوجود من غيره فوجوده مستعار لأقوام له بنفسه بل إذا اعتبر ذاته من حيث ذاته فهو عدم محض وإنما هو وجود من حيث نسبته إلى غيره وذلك ليس بوجود حقيقي، فالوجود الحق هو الله تعالى كما أن النور الحق هو الله عز وجل، وقد قال قبل هذا. أقول ولا أبالي إن إطلاق اسم النور على غير النور الأول مجاز محض إذ كل ما سواه سبحانه إذا اعتبر ذاته فهو في ذاته من حيث ذاته لا نور له بل نورانيته مستعارة من غيره ولا قوام لنورانيته المستعارة بنفسها بل بغيرها ونسبة المستعار إلى المستعير مجاز محض، وفسر النور في هذه الآية أعني قوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بذلك، ثم أشار إلى وجه الإضافة إلى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بقوله: لا ينبغي أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 356 يخفى عليك ذلك بعد أن عرفت أنه تعالى هو النور ولا نور سواه وإنه كل الأنوار والنور الكلي لأن النور عبارة عما تنكشف به الأشياء وأعلى منه ما تنكشف به وله ومنه وليس فوقه نور منه اقتباسه واستمداده بل ذلك له في ذاته لذاته لا من غيره، ثم عرفت أن هذا لا يتصف به إلا النور الأول، ثم عرفت أن السماوات والأرض مشحونة نورا من طبقتين النور أعني المنسوب إلى البصر والمنسوب إلى البصيرة أي إلى الحسن والعقل كنور الكواكب وجواهر الملائكة وكالأنوار المشاهدة المنبسطة على كل ما على الأرض وكأنوار النبوة والقرآن إلى غير ذلك. وهذا منزع صوفي والصوفية لا يتحاشون من القول بأنه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا هو الكل بل هو هو لا هوية لغيره إلا بالمجاز ويقولون: لا إله إلا الله توحيد العوام ولا إله إلا هو توحيد الخواص لأنه أتم وأخص وأشمل وأحق وأدق وأدخل لصاحبه في الفردانية المحضة والوحدانية الصرفة، وقد قال بذلك الغزالي في رسالته المذكورة أيضا، وأنت تعلم أنه مما لا يهتدى إليه بنور الاستدلال بل هو طور وراء طور العقل لا يهتدى إليه إلا بنور الله عز وجل. وجوز بعض المحققين كون المراد من النور في الآية الموجد كأنه قيل: الله موجد السماوات والأرض، ووجه ذلك بأنه مجاز مرسل باعتبار لازم معنى النور وهو الظهور في نفسه وإظهاره لغيره وقيل: هو استعارة والمستعار منه النور بمعنى الظاهر بنفسه المظهر لما سواه والمستعار له الواجب الوجود الموجد لما عداه، وكون المراد به مفيض الإدراك ومعطيه مجازا مرسلا أو استعارة والكلام على حذف مضاف أي نور أهل والسماوات والأرض، وهذا قريب مما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: الله نور السماوات والأرض هادي أهل السماوات والأرض وهو وجه حسن، وجاء في رواية أخرى أخرجها ابن جرير عنه رضي الله تعالى عنه أنه فسر النور بالمدبر فقال: الله نور السماوات والأرض يدبر الأمر فيهما، وروي ذلك عن مجاهد أيضا، وجعل ذلك بعضهم من التشبيه البليغ. ووجه الشبه كون كل من التدبير والنور سبب الاهتداء إلى المصالح. وجوز أن يكون هناك استعارة تصريحية. وتعقب بأن ذكر طرفي التشبيه وهو الله تعالى والنور ينافي ذلك وأجيب بأن ذكرهما إنما ينافيه إذا كان على وجه ينبىء عن التشبيه وكان كل من المشبه والمشبه به مذكورا بعينه وهنا لم يشبه الله سبحانه بالنور بل شبه المدبر به وذكر جزئي يصدق عليه المشبه أو كلي يشمله لا ينافي ذلك كما أشار إليه صاحب الكشاف في مواضع منه وصرح به أهل المعاني، وقيل: المراد به المنزه من كل عيب، ومن ذلك قولهم: امرأة نوار أي بريئة من الريبة بالفحشاء وهو من باب المجاز أيضا، وقيل: الكلام على حذف مضاف كما في زيد كرم أي ذو نور، ويؤيده كما قيل قوله تعالى بعد مَثَلُ نُورِهِ ويَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ. وقيل: نور بمعنى منور وروي ذلك عن الحسن وأبي العالية والضحاك وعليه جماعة من المفسرين، ويؤيده قراءة بعضهم «منور» وكذا قراءة علي كرم الله تعالى وجهه وأبي جعفر وعبد العزيز المكي وزيد بن علي وثابت بن أبي حفصة والقورصي ومسلمة بن عبد الملك وأبي عبد الرحمن السلمي وعبد الله بن عباس بن أبي ربيعة «نوّر» فعلا ماضيا «والأرض» بالنصب، وتنويره سبحانه السماوات والأرض قيل بالشمس والقمر وسائر الكواكب ونسب إلى الحسن ومن معه، وقيل: تنوير السماوات بالملائكة عليهم السلام وتنوير الأرض بالأنبياء عليهم السلام والعلماء ونسب إلى أبيّ بن كعب، والتنوير على الأول حسي وعلى الثاني عقلي. وقيل وهو الذي اختاره: تنويره سبحانه إياهما بما فيهما من الآيات التكوينية والتنزيلية الدالة على وجوده ووحدانيته وسائر صفاته عز وجل والهادية إلى صلاح الجزء: 9 ¦ الصفحة: 357 المعاش والمعاد، والجملة استئناف مسوق إما لتحقيق أن بيانه تعالى المؤذن به قوله سبحانه: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ الآية ليس مقصورا على ما ورد في هذه السورة الكريمة. وإما لتقرير ما في القرآن الجليل من البيان، ويتأتى نحو هذا على بعض الأقوال السابقة في بيان المراد بالنور وهو وجه قوي في مناسبة الآية لما قبلها ولا يكاد يظهر مثله على بعض آخر منها. وذكر العلامة الطيبي في بيان المناسبة كلاما فيه الغث والسمين إن أردته فارجع إليه. وتخصيص السماوات والأرض بالذكر لأنهما المقر المعروف للمكلفين المحتاجين لما يدلهما ويهديهما لما سبق. وقال العلامة البيضاوي بعد ذكر عدة احتمالات في المراد بالنور: إن إضافته إليهما للدلالة على سعة إشراقه أو لاشتمالهما على الأنوار الحسية والعقلية وقصور الإدراكات البشرية عليهما وعلى المتعلق بهما والمدلول لهما، وقيل: المراد بهما العالم كله كإطلاق المهاجرين والأنصار على جميع الصحابة رضي الله تعالى عنهم. وتعقب بأن هذا من إطلاق اسم البعض على الكل مجازا وقد اشترط في التلويح أن يكون الكل مركبا تركيبا حقيقيا ولم يثبت في اللغة إطلاق الأرض على مجموع الأرض والسماء والإنسان على الآدمي والسبع. وأجيب بأنه لا يتعين كونه مجازا لجواز كونه كناية ولو سلم فما في التلويح غير مسلم أو هو أغلبي، فقد ذكر الزمخشري في قوله تعالى: لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ [آل عمران: 5] أنه عبر عن جميع العالم بالسماء والأرض، وقال العلامة في شرحه: إنه من إطلاق الجزء على الكل فالمعنى حينئذ الله نور العالم كله مَثَلُ نُورِهِ أي أدلته سبحانه العقلية والسمعية في السماوات والأرض التي هدى بها من شاء إلى ما فيه صلاحه وحكي هذا عن أبي مسلم وينتظم ذلك القرآن انتظاما أوليا، وعن ابن عباس والحسن وزيد بن أسلم أن المراد بالنور هنا القرآن كما يعرب عنه ما قبل من وصف آياته بالإنزال والتبيين، وقد صرح بكونه نورا أيضا في قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً [النساء: 174] وقيل المراد به الحق فقد جاء استعارة النور له كاستعارة الظلمة للباطل في قوله سبحانه: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [البقرة: 257] أي من أنواع الباطل إلى الحق ووجه الشبه الظهور، ومن أمثالهم الحق أبلج، ويكفي ذلك في جواز الاستعارة ولا تتوقف على تحقق ما في النور من معنى الإظهار في الحق، نعم إذا تحقق ذلك أيضا فهو نور على نور لكن رجح ضعف تفسيره بما ذكر دون القرآن بأنه يأباه مقام بيان شأن الآيات ووصفها بما ذكر من التبيين مع عدم سبق ذكر الحق. وفي الكشف المراد بالحق الذي فسر النور به ما يقابل الباطل وهو يتناول التوحيد والشرائع وما دل عليه بدليل السمع والعقل، وليس المراد به كون السماوات والأرض دليلين على وجود فاطرهما بل ذلك أيضا داخل في عموم اللفظ انتهى، ويضعف عليه أمر هذا التضعيف، وقيل المراد به الهدى الذي دل عليه الآيات المبينات، وقيل: الهدى مطلقا، فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس أنه قال: مثل نوره مثل هداه في قلب المؤمن، وأخرج ابن جرير عن أنس قال: إن إلهي يقول نوري هداي وذكر بعضهم أن تفسيره بالهدى مختار الأكثرين وأن تفسيره بالحق بالمعنى العام يوافقه، وقيل: المراد به المعارف والعلوم التي أفاضها عز وجل على قلب المؤمن وإضافة ذلك إليه سبحانه لأنه مفاضه تعالى، وعن أبيّ بن كعب والضحاك تفسيره بالإيمان الذي أعطاه، سبحانه المؤمن ووفقه إليه. وجاء في بعض الروايات عن ابن عباس تفسيره بالطاعات التي حلى بها جل شأنه قلب المؤمن فيشمل الإيمان وسائر الأعمال القلبية الحميدة، وقيل المراد بنوره رسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم وقد جاء إطلاق النور عليه عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ [المائدة: 15] على الجزء: 9 ¦ الصفحة: 358 قول، وقيل: غير ذلك مما ستعلمه إن شاء الله تعالى، والضمير على جميع هذه الأقوال راجع إليه تعالى كما هو الظاهر. وجوز رجوع الضمير إلى المؤمن وروي ذلك عن عكرمة وهو إحدى الروايات وصححها الحاكم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وروي أيضا عن أبيّ بن كعب بل أخرج عبد بن حميد وابن الأنباري في المصاحف عن الشعبي أنه قال قرأ أبيّ بن كعب «مثل نور المؤمن» وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عن أبي العالية أن أبيا قرأ «مثل نور من آمن به» أو قال: «مثل من آمن به» . وفي البحر روي عن أبيّ أنه قرأ «مثل نور المؤمنين» وقيل: الضمير راجع إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم وروى ذلك جماعة عن ابن عباس عن كعب الأحبار، وحكاه أبو حيان عن ابن جبير أيضا، وقيل: هو راجع إلى القرآن، وقيل: إلى الإيمان، ولا يخفى أن رجوع الضمير إلى غير مذكور في الكلام إذا لم يكن في الكلام ما يدل عليه أو كان لكن كانت دلالته عليه خفية خلاف الظاهر جدا لا سيما إذا فات المقصود من الكلام على ذلك، والمراد بالمثل بالصفة العجيبة أي صفة نوره سبحانه العجيبة الشأن كَمِشْكاةٍ أي كصفتها في الإنارة والتنوير، وقال أبو حيان: أي كنور مشكاة وهي الكوة غير النافذة كما قال ابن عباس وأبو مالك وابن جبير وسعيد بن عياض والجمهور، وقال أبو موسى: هي الحديدة أو الرصاصة التي تكون فيها الفتيلة في جوف الزجاجة وعن مجاهد أنها الحديدة التي يعلق بها القنديل وهو كما ترى، والمعول عليه قول الجمهور، وعن ابن عطية أنه أصح الأقوال وعلى جميعها هو لفظ حبشي معرب كما قال ابن قتيبة والكلبي وغيرهما، وقيل: رومي معرب، وقال الزجاج كما في مجمع البيان: يجوز أن يكون عربيا فيكون مفعلة والأصل مشكوة فقلبت الواو الفا لتحركها وانفتاح ما قبلها وإلى أن أصل ألفها الواو ذهب ابن جني واستدل عليه بأن العرب قد نحوا بها منحاة الواو كما فعلوا بالصلاة. وقرأ الكسائي برواية الدوري بالإمالة فِيها مِصْباحٌ سراج ضخم ثاقب، وقيل الفتيلة المشتعلة الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ في قنديل من الزجاج الصافي الأزهر وضم الزاي لغة الحجاز وكسرها وفتحها لغة قيس، بالفتح قرأ أبو رجاء ونصر بن عاصم في رواية ابن مجاهد. وقرأ بعضهم بالكسر أيضا وكذا قرىء بهما في قوله تعالى: الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ مضيء متلألىء كالزهرة في صفائه وزهرته منسوب إلى الدر فوزنه فعلي، وجوز أن يكون أصله درىء بهمزة آخره كما قرأ به حمزة وأبو بكر فقلبت ياء وأدغمت في الياء فوزنه فعيل وهو من الدرء بمعنى الدفع فإنه يدفع الظلام بضوئه أو يدفع بعض ضوئه بعضا من لمعانه، وجوز أن يكون من الدرء بمعنى الجري وليس بذاك ومثله ما قيل إنه من درأ إذا طلع وفاجأ ولا يخفى على المتتبع أن فعيلا قليل في كلامهم ففي اللباب فعيل غريب لا نظير له إلا مريق لحب المصفر أو ما سمن من الخيل وعلية وسرية وذرية قاله أبو علي، وفي البحر سمع أيضا مريخ الذي في داخل القرن اليابس وفيه لغتان ضم الميم وكسرها. وقال الفراء: لم يسمع إلا مريق وهو أعجمي وسيبويه عد ذلك من أبنية العرب ولم يثبت بعضهم هذا الوزن أصلا. وقال أبو عبيد: أصل «دريء» دروء كسبوح فجعلت الضمة كسرة للاستثقال والواو ياء لانكسار ما قبلها كما قالوا في عتو عتى فوزنه فعول وكذا قيل في سرية وذرية، وجعل بعضهم سرية من السر وهو النكاح أو الإخفاء والضم من تغييرات النسب فوزنه فعلية كما في الصحاح، والأخفش يرى أنه من السرور وقد أبدلت الراء الأخيرة ياء وهو معهود في الفعل فقد قالوا: تسررت جارية وتسريت كما قالوا: تظننت وتظنيت فوزنه على هذا كما قال الخفاجي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 359 فعليلة، وجعل بعضهم ذرية نسبة إلى الذر على غير القياس لإخراجهم كالذر من ظهر آدم عليه السلام. وقرأ قتادة وزيد بن علي والضحاك «دري» بفتح الدال وروي ذلك عن نصر بن عاصم وأبي رجاء وابن المسيب وقرأ الزهري «دري» بكسر الراء وقرأ أبو عمرو والكسائي «دريء» بالكسر والهمزة آخره، وهو بناء كثير في الأسماء نحو سكين وفي الأوصاف نحو سكير. وقرأ قتادة أيضا وأبان بن عثمان وابن المسيب وأبو رجاء وعمرو بن قائد والأعمش ونصر بن عاصم «درىء» بالهمز وفتح الدال، قال ابن جني: وهذا عزيز لم يحفظ منه إلا السكينة بفتح السين وشد الكاف في لغة حكاها أبو زيد. وقرىء «دءري» بتقديم الهمزة ساكنة على الراء وهي من نادر الشواذ وفي إعادة الْمِصْباحُ والزُّجاجَةُ معرفين أثر سبقهما منكرين والإخبار عنهما بما بعدهما مع انتظام الكلام بأن يقال: كمشكاة فيها مصباح في زجاجة كأنها كوكب دري من تفخيم شأنهما ورفع مكانتهما بالتفسير إثر الإبهام والتفصيل بعد الإجمال وبإثبات ما بعدهما لهما بطريق الإخبار المنبئ عن القصد الأصلي دون الوصف المبني عن الإشارة إلى الثبوت في الجملة ما لا يخفى، والجملة الأولى في محل الرفع على أنها صفة لمصباح والجملة الثانية في محل الجر على أنها صفة لزجاجة واللام مغنية كما في مجمع البيان وإرشاد العقل السليم عن الرابط كأنه قيل: فيها مصباح هو في زجاجة هي كأنها كوكب دري يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ أي يبتدأ إيقاد المصباح من شجرة مُبارَكَةٍ أي كثيرة المنافع بأن رويت ذبالته بزيتها، وقيل إنما وصفت بالبركة لأنها تثبت في الأرض التي بارك الله تعالى فيها للعالمين، وقيل بارك فيها سبعون نبيا منهم إبراهيم عليه السلام زَيْتُونَةٍ بدل من شَجَرَةٍ وقال أبو علي: عطف بيان عليها وقيل بارك فيها سبعون نبيا منهم إبراهيم عليه السلام زَيْتُونَةٍ بدل من شَجَرَةٍ وقال أبو علي: عطف بيان عليها وهو مبني على مذهب الكوفيين من تجويزهم عطف البيان في النكرات، وأما البصريون فلا يجوزونه إلا في المعارف. وفي إبهام الشجرة ووصفها بالبركة ثم الإبدال عنها أو بيانها تفخيم لشأنها، وقد جاء في الحديث مدح الزيت لأنه منها ، أخرج عبد بن حميد في مسنده. والترمذي وابن ماجة عن عمر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ائتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة» . وأخرج البيهقي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها ذكر عندها الزيت فقالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمر أن يؤكل ويدهن ويسعط به ويقول إنه من شجرة مباركة وهو في حد ذاته ممدوح، ففي الحديث أنه مصحة من الباسور وذكر له الأطباء منافع كثيرة، وكان صلّى الله عليه وسلّم يأكل الخبز به وأكل عليه الصلاة والسلام اللسان مطبوخا بالشعير وفيه الزيت والتوابل (1) فليحفظ. وقرأ الأخوان وأبو بكر والحسن وزيد بن علي وقتادة وابن وثاب وطلحة وعيسى والأعمش «توقت» بالتاء المثناة من فرق مضارع أوقدت مبنيا للمفعول على أن الضمير القائم مقام الفاعل للزجاجة وإسناد الفعل إليها قيل على سبيل المبالغة، وقيل هو بتقدير مضاف أي مصباحها. وقرأ الحسن والسلمي وقتادة أيضا وابن محيصن وسلام ومجاهد وابن أبي إسحاق والمفضل عن عاصم «توقد» بالتاء الفوقية أيضا مضارع توقد وأصله نتوقد بتاءين فخفف بحذف أحدهما. وذكر الخفاجي أنها قراءة أبي عمرو وابن كثير والإسناد فيها للزجاجة على ما مر. وقرأ السلمي وقتادة وسلام أيضا «يوقد» بالياء التحتية على أنه مضارع توقد أيضا، وجاء كذلك عن الحسن وابن محيصن، وأصله يتوقد أي المصباح فحذفت التاء وهو غير معروف مع الياء وإنما المعروف هو الحذف عند اجتماع التاءين المتماثلين. ووجه ذلك على ما قال ابن جني أنه شبه فيه حرف مضارعة بحرف مضارعة يعني الياء بالتاء فعومل معاملته   (1) كالفلفل ونحوه اهـ منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 360 كما شبهت التاء والنون في تعد ونعد بياء يعد فحذف الواو معهما كما حذفت فيه لوقوعها بين ياء وكسرة. وقرىء «توقد» بالتاء من فوق على صيغة الماضي من التفعل والضمير للمصباح أي ابتداء توقد المصباح من شجرة. لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ أي ضاحية للشمس لا يظلها جبل ولا شجر ولا يحجبها عنها شيء من حين تطلع إلى أن تغرب وذلك أحسن لزيتها، وروي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة والكلبي وهو تفسير بلازم المعنى أعني به كونها بين الشرق والغرب. وعن ابن زيد أي ليست من شجر الشرق ولا من شجر الغرب لأن ما اختص بإحدى الجهتين كان أقل زيتا وأضعف ضوءا لكنها من شجر الشام وهي ما بين المشرق والمغرب وزيتونها أجود ما يكون، وقال أبو حيان في تذكرته: المعنى ليست في مشرقة أبدا أي في موضع لا يصيبه ظل وليست في مقناة أبدا أي في موضع لا تصيبه الشمس، وحاصله ليست الزيتونة تصيبها الشمس خاصة ولا الظل خاصة ولكن يصيبها هذا في وقت وهذا في وقت، وقال الفراء والزجاج: المعنى لا شرقية فقط ولا غربية فقط لكنها شرقية غربية أي تصيبها الشمس عند طلوعها وغروبها، وأنت تعلم أنه لا بد من تقدير قيد فقط بعد كل من شَرْقِيَّةٍ وغَرْبِيَّةٍ كما سمعت ليتوجه النفي إليه فيفيد التركيب اجتماع الأمرين وإلا فظاهره نفيهما، وعن المطلع أن هذا كقول الفرزدق: بأيدي رجال لم يشيموا سيوفهم ... ولم تكثر القتلى بها حين سلت إذ معناه شاموا سيوفهم وأكثروا بها القتلى، وتعقبه في الكشف بأنه لا استدلال بالبيت على ذلك لجواز أن يريد لم يشيموا غير مكثري القتلى على الحال وإفادته المعنى المذكور واضحة حينئذ، وعن ابن عباس أنها في دوحة أحاطت بها فليست منكشفة لا من جهة الشرق ولا من جهة الغرب، وتعقب بأن هذا لا يصح عن ابن عباس لأنها إذا كانت بهذه الصفة فسد جناها، وعن الحسن أن هذا مثل وليست من شجر الدنيا إذ لو كانت في الدنيا لكانت شرقية أو غربية، وعن عكرمة أنها من شجر الجنة ولعله إنما جزم بذلك لما ذكر الحسن ولا يخفى ما فيه، وقرأ الضحاك «لا شرقية ولا غربية» بالرفع أي هي لا شرقية ولا غربية. وقال أبو حيان: أي لا هي شرقية ولا غربية، ولعل ما ذكرنا أولى، والجملة في موضع الصفة لزيتونة. يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ أي هو في الصفاء والإنارة بحيث يكاد يضيء بنفسه من غير مساس نار أصلا، وكلمة لَوْ في أمثال هذه المواقع ليست لبيان انتفاء الشيء لانتفاء غيره في الزمان الماضي فلا يلاحظ لها جواب قد حذف ثقة بدلالة ما قبلها عليه ملاحظة قصدية إلا عند القصد إلى بيان الإعراب على القواعد الصناعية بل هي لبيان تحقق ما يفيده الكلام السابق من الحكم الموجب أو المنفي على كل حال مفروض من الأحوال المقارنة له إجمالا بإدخالها على أبعدها منه، والواو الداخلة عليها لعطف الجملة المذكورة على جملة محذوفة مقابلة لها عند الجزولي ومن وافقه، ومجموع الجملتين في حيز النصب على الحالية من المستكن في الفعل الموجب أو المنفي، وتقدير الآية الكريمة يكاد زيتها يضيء لو مسته نار ولو لم تمسسه نار أي يضيء كائنا على كل حال من وجود شرط الإضاءة وعدمه، وحذفت الجملة الأولى حسبما هو المطرد في الباب ثقة بدلالة الثانية عليها دلالة واضحة. وقال الزمخشري: الواو للحال ومقتضاه أن لَوْ مع ما بعدها حال فالتقدير والحال لو كان أو لم يكن كذا أي مفروضا ثبوته أو انتفاؤه، لكن الزمخشري ومثله المرزوقي يقدر ولو كان الحال كذا. وتعقب ذلك بأن أدوات الشرط لا تصلح للحالية لأنها تقتضي عدم التحقق والحال يقتضي خلافه. والتزم لذلك أنه انسلخ عنها الشرطية وأنها مؤولة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 361 بالحال كما أن الحال تكون في معنى الشرط نحو لأفعلنه كائنا ما كان أي إن كان هذا أو غيره ولذا لا تحتاج إلى الجزاء أصلا، وإنما قدر الحال بعد لو على ما قيل: إشارة إلى أنه قصد إلى جعل الجملة حالا قبل دخول الشرط المنافي له ثم دخلت لَوْ تنبيها على أنها حال غير محققة واعترض الرضي للقول بأنها عاطفة بأنه لو كان كذلك لوقع التصريح بالمعطوف عليه في الاستعمال وليس كذلك وذهب إلى أنها اعتراضية. ويجوز الاعتراض في آخر الكلام والمقصود منه التأكيد. وأجيب عن اعتراضه بأن ظهور ترتب الجزاء على المعطوف عليه أغنى عن ذكره حتى كان ذكره تكرارا، وبالجملة الذي عطف عليه الأكثرون وارتضوه كونها عاطفة، ويجعل مجموع الجملتين في موضع الحال على ما سمعت يندفع ما يتوهم من أن كاد تنافي اعتبار العطف هنا فتأمل، وقرأ ابن عباس والحسن «يمسسه» بالياء التحتية وحسنه الفصل وكون الفاعل غير حقيقي التأنيث نُورٌ عَلى نُورٍ أي هو نور عظيم كائن على نور على أن يكون نُورُ خبر مبتدأ محذوف والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة له مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة، والجملة فذلكة للتمثيل وتصريح بما حصل منه وتمهيد لما يعقبه فالمراد من الضمير النور الذي مثلت صفته العظيمة الشأن بما سمعت لا النور المشبه به وحمله عليه لا يليق كما قيل بشأن التنزيل الجليل، وليس معنى كونه نورا فوق نور أنه نور واحد معين أو غير معين فوق نور آخر مثله ولا أنه مجموع نورين اثنين فقط بل إنه نور متضاعف من غير تحديد لتضاعفه بحد معين وتحديد مراتب تضاعف ما مثل به من نور المشكاة بما ذكر لكونه أقصى مراتب تضاعفه عادة فإن المصباح إذا كان في مكان متضايق كالمشكاة كان أضوأ له وأجمع لنوره بسبب انضمام الشعاع المنعكس منه إلى أصل الشعاع بخلاف المكان المتسع فإن الضوء ينبث فيه وينتشر والقنديل أعون شيء على زيادة الإنارة وكذلك الزيت وصفاؤه وليس وراء هذه المراتب مما يزيد نورها إشراقا ويمده بإضاءة مرتبة أخرى عادة. والظاهر عندي أن التشبيه الذي تضمنته الآية الكريمة من تشبيه المعقول وهو نوره تعالى بمعنى أدلته سبحانه لكن من حيث إنها أدلة أو القرآن أو التوحيد والشرائع وما دل عليه بدليل السمع والعقل أو الهدى أو نحو ذلك بالمحسوس وهو نور المشكاة المبالغ في نعته وأنه ليس في المشبه به أجزاء ينتزع منها الشبه ليبني عليه أنه مركب أو مفرق، وذكر أنه إذا كان المراد تشبيه النور بمعنى الهدى الذي دلت عليه الآيات المبينات فهو من التشبيه المركب العقلي وقد شبه فيه الهيئة المنتزعة بأخرى فإن النور وإن كان لفظه مفردا دال على متعدد وكذا إذا كان المراد تشبيه ما نور الله تعالى به قلب المؤمن من المعارف والعلوم بنور المشكاة المنبث فيها من مصباحها، وفي الحواشي الطيبة الطيبية بعد اختيار أن المراد بالنور الهداية بوحي ينزله ورسول يبعثه ما هو ظاهر في أن التشبيه من التشبيه المفرق بل صرح بذلك أخيرا، واستدل عليه بأن التكرير في الآية يستدعي ذلك وقد أطال الكلام في هذا المقام، ومنه أن المشبهات المناسبة على هذا المعنى صدر الرسول صلّى الله عليه وسلّم وقلبه الشريف واللطيفة الربانية فيه والقرآن وما يتأثر منه القلب عند استمداده. والتفصيل أنه شبه صدره عليه الصلاة والسلام بالمشكاة لأنه كالكوة ذو وجهين فمن وجه يقتبس النور من القلب المستنير ومن آخر يفيض ذلك النور المقتبس على الخلق وذلك لاستعداده بانشراحه مرتين مرة في صباه وأخرى عند إسرائه قال الله تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [الزمر: 22] وهذا تشبيه صحيح قد اشتهر عن جماعة من المفسرين، روى محيي السنة عن كعب هذا مثل ضربه الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم المشكاة صدره والزجاجة قلبه والمصباح فيه النبوة والشجرة المباركة شجرة النبوة، وروى الإمام عن بعضهم أن المشكاة صدر محمد عليه الصلاة والسلام والزجاجة قلبه والمصباح ما في قلبه من الدين، وفي حقائق السلمي عن أبي سعيد الخزاز الجزء: 9 ¦ الصفحة: 362 المشكاة حوف محمد صلّى الله عليه وسلّم والزجاجة قلبه الشريف والمصباح النور الذي فيه، وشبه قلبه صلوات الله تعالى وسلامه عليه بالزجاجة المنعوتة بالكوكب الدري لصفائه وإشراقه وخلوصه عن كدورة الهوى ولوث النفس الأمّارة وانعكاس نور اللطيفة إليه. وشبهت اللطيفة القدسية المزهرة في القلب بالمصباح الثاقب. أخرج الإمام أحمد في مسنده عن أبي سعيد الخدري قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: القلوب أربعة قلب أجود فيه مثل السراج يزهر- وفيه- أما القلب الأجود فقلب المؤمن سراجه فيه نوره» الحديث، وشبه نفس القرآن بالشجرة المباركة لثبات أصلها وتشعب فروعها وتأديها إلى ثمرات لا نهاية لها قال الله تعالى: كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها [إبراهيم: 24، 25] الآية. وروى محيي السنة عن الحسن وابن زيد الشجرة المباركة شجرة الوحي يكاد زيتها يضيء تكاد حجة القرآن تتضح وإن لم تقرأ. وشبه ما يستمده نور قلبه الشريف صلوات الله تعالى وسلامه عليه من القرآن وابتداء تقويته منه بالزيت الصافي قال الله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا [الشورى: 52] فكما جعل سبحانه القرآن سبب توقده منه في قوله تعالى: يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ جعل ضوءه مستفادا من انعكاس نور اللطيفة إليه في قوله عز وجل وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ. والمعنى على ما ذكر في انسان العين يكاد سر القرآن يظهر للخلق قبل دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم وفيه مسحة من معنى قوله: رق الزجاج ورقت الخمر ... فتشابها وتشاكل الأمر فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر ومنه وصفت الشجرة بكونها لا شرقية ولا غربية. وعن ابن عباس تشبيه فؤاده صلّى الله عليه وسلّم بالكوكب الدري وأن الشجرة المباركة إبراهيم عليه السلام. ومعنى لا شرقية ولا غربية أنه ليس بنصراني فيصلي نحو المشرق ولا يهودي فيصلي نحو المغرب. والزيت الصافي دين إبراهيم عليه السلام، وقد يقال على تفريق التشبيه لكن على مشرع آخر شبه القرآن بالمصباح على ما سبق ونفسه صلّى الله عليه وسلّم الزكية الطاهرة بالشجرة لكونها نابتة من أرض الدين متشعبة فروعها إلى سماء الإيمان متدلية أثمارها إلى فضاء الإخلاص والإحسان وذلك لاستقامتها بمقتضى قوله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود: 112] غير مائلة إلى طرفي الإفراط والتفريط وذلك معنى قوله تعالى: لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ ويشبه ما محض من تلك الثمرات بعد التصفية التامة للتهيئة وقبول الآثار بالزيت الصافي لوفور قوة استعدادها للاستضاءة للدهنية القابلة للاشتعال، ومن ثم خصت شجرة الزيتون لأن لب ثمرتها الزيت الذي تشتعل به المصابيح، وخص هذا الدهن لمزيد إشراقه مع قلة الدخان يكاد زيت استعداده صلوات الله تعالى وسلامه عليه لصفائه وزكائه يضيء ولو لم يمسسه نور القرآن، روى البغوي عن محمد بن كعب القرظي تكاد محاسن محمد صلّى الله عليه وسلّم تظهر للناس قبل أن يوحى إليه، قال ابن رواحة: لو لم يكن فيه آيات مبينة ... كانت بداهته تنبيك عن خبره وفي حقائق السلمي مثل نوره في عبده المخلص والمشكاة القلب والمصباح النور الذي قذف فيه والمعرفة تضيء في قلب العارف بنور التوفيق يوقد من شجرة مباركة يضيء على شخص مبارك تتبين أنوار باطنة على آداب ظاهرة وحسن معاملته زيتونة لا شرقية ولا غربية جوهرة صافية لا لها حظ في الدنيا ولا في الآخرة لاختصاصها بموالاة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 363 العزيز الغفار وتفردها بالفرد الجبار إلى غير ذلك، وجعل بعضهم التشبيه من المركب الوهمي بناء على أن المراد من النور المشبه الهدى من حيث إنه محفوف بظلمات أوهام الناس وخيالاتهم. وكان الظاهر على هذا دخول الكاف على المصباح دون المشكاة المشتملة عليه، ومن هنا قيل إن في الآية قلبا، ووجه بعضهم دخولها على المشكاة بأن المشتمل مقدم على المشتمل عليه في رأي العين فقدم لفظا ودخل الكاف عليه رعاية لذلك، وقيل إنه على هذا أيضا تشبيه مفرق لأنه شبه الهدى بالمصباح والجهالات بظلم استلزمتها وهو كما ترى. ومن الناس من جعل التشبيه مفرقا لكن بنى كلامه على ما أسسه الفلاسفة فجعل النور المشبه ما منح الله تعالى به عباده من القوى الخمس الدراكة المترتبة التي نيط بها المعاش وهي القوة الحساسة أعني الحس المشترك الذي يدرك المحسوسات بجواسيس الحواس الخمس الظاهرة والقوة الخيالية التي تحفظ صور تلك المحسوسات لتعرضها على القوة العقلية متى شاء والقوة العقلية المدركة للحقائق الكلية والقوة الفكرية التي تأخذ المعارف العقلية فتؤلفها على وجه يحصل به العلم بالمجهولات والقوة القدسية التي يختص بها الأنبياء والأولياء وتنجلي فيها لوائح الغيب وأسرار الملكوت، وجعل ما في حيز الكاف عبارة عن أمور شبه بكل منها واحد من هذه الخمس فقال: شبهت القوة الحساسة بالمشكاة من حيث إن محلها تجويف في مقدم الدماغ كالكوة تضع فيه الحواس الظاهرة ما تحس به وبذلك يضيء، وشبهت القوة الخيالية بالزجاجة من حيث إنها تقبل الصور المدركة من الجوانب كما تقبل الزجاجة الأنوار الحسية من الجوانب ومن حيث إنها تضبط الأنوار العقلية وتحفظها كما تحفظ الزجاجة الأنوار الحسية، ومن حيث إنها تستنير بما يشتمل عليها من المعقولات، وشبهت القوة العقلية بالمصباح لإضاءتها بالإدراكات والمعارف وشبهت القوة الفكرية بالشجرة المباركة من حيث إنها تؤدي إلى نتائج كثيرة هي بمنزلة ثمرات الشجرة، واعتبرت زيتونة لأن لها فضيلة على سائر الأشجار من حيث إن لب ثمرتها هو الزيت الذي له منافع جمة، منها أنه مادة المصابيح والأنوار الحسية وله من بين سائر الأدهان خاصة زيادة الإشراق وقلة الدخان، واعتبار وصف لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ في جانب المشبه من حيث إن القوة الفكرية مجردة عن اللواحق الجسمية أو من حيث إن انتفاعها ليس مختصا بجانب الصور ولا بجانب المعاني، وشبهت القوة القدسية بالزيت الذي يكاد يضيء من غير أن تمسسه نار من حيث إنها لكمال صفائها وشدة استعدادها لا تحتاج إلى تعليم أو تفكر. واعترض بأن حق النظم الكريم على هذا أن يقال: مثل نوره كمشكاة وزجاجة ومصباح وشجرة مباركة زيتونة وزيت يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار حتى يفيد تشبيه كل واحد بكل واحد. وأجيب بأنه لما كان كل من هذه الحواس يأخذ ما يدركه مما قبله كما يأخذ المظروف من ظرفه أشار سبحانه إلى ذلك بأداة الظرفية دلالة على بديع صنعه سبحانه وحكمته جل شأنه. وجوز أن يراد تشبيه النور المراد به القوة العقلية للنفس بمراتبها بذلك ومراتبها أربع، الأولى أن تكون النفس خالية عن جميع العلوم الضرورية والنظرية مستعدة لها كما في مبدأ الطفولية وتسمى القوة العقلية في هذه المرتبة بالعقل الهيولاني لأنها كالهيولى في أنها في ذاتها خالية عن جميع الصور قابلة لها، وثانيتها أن تستعمل آلاتها أي الحواس مطلقا فيحصل لها علوم أولية، وتستعد لاكتساب علوم نظرية وتسمى القوة المذكورة في هذه المرتبة عقلا بالملكة لحصول ملكة الانتقال إلى النظريات لها بسبب تلك الأوليات، وثالثتها أن تصير النظريات مخزونة عندها وتحصل لها ملكة استحضارها متى شاءت من غير تجشم كسب جديد وتسمى تلك القوة في هذه المرتبة عقلا بالفعل لحصول تلك العلوم لها بالقوة القريبة من الفعل، ورابعتها أن ترتب العلوم الأولية وتدرك العلوم النظرية مشاهدة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 364 إياها بالفعل وتسمى تلك القوة في هذه المرتبة عقلا مستفادا لاستفادتها من العقل الفعال فشبهت القوة بالمرتبة الأولى بالمشكاة الخالية في بدء الأمر عن الأنوار الحسية المستعدة للاستنارة بها وبالمرتبة الثانية بالزجاجة المتلألئة في نفسها القابلة للأنوار الفائضة عليها من الغير الخارجي وبالمرتبة الثالثة بالمصباح الذي اشتعلت فتيلته المشبعة من الزيت وبالمرتبة الرابعة بالنور المتضاعف المشار إليه بقوله تعالى: نُورٌ عَلى نُورٍ والشيخ ابن سينا بعد أن بين المراتب حمل مفردات التنزيل عليها، وحقق في المحاكمات وجه الترتيب فيها حيث جعل الزجاجة في المشكاة والمصباح في الزجاجة بأن هناك استعدادا محضا كما في المرتبة الأولى واستعداد اكتساب كما في المرتبة الثانية واستعداد استحضار كما في المرتبة الثالثة ولا شك أن استعداد الاكتساب بحسب الاستعداد المحض واستعداد الاستحضار بحسب استعداد الاكتساب فتكون الزجاجة التي هي عبارة عن العقل بالملكة كأنما هي في المشكاة التي هي عبارة عن العقل الهيولاني والمصباح وهو العقل بالفعل في الزجاجة التي هي العقل بالملكة لأنه إنما يحصل باعتبار حصول العقل أولا وحيث إن العقل بالملكة إنما يخرج من القوة إلى الفعل بالفكر أو بالحدس أو بالقوة القدسية أشير إلى الفكر بالشجرة الزيتونة وإلى الحدس بالزيت وإلى القوة القدسية بيكاد زيتها يضيء ودفع ما يظهر من عدم انطباق ما ذكر على النظم الجليل لأنه وصف فيه الشجرة بما سمعت من الصفات، وهذه أمور متباينة لا يجوز وصف أحدها بالآخر بأن الشجرة الزيتونة شيء واحد فإذا ترقت في أطوارها حصل لها زيت إذا ترقى وصفا كاد يضيء وكذلك الاكتساب قوة نفسية هي فكرة فإذا ترقت كانت حدسا، ثم قوة قدسية فهي وإن كانت متباينة ترجع إلى شيء واحد كالشجرة وذكر أن قوله تعالى: لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ إشارة إلى أنها ليست من عالم الحس الذي لا يخلو عن أحد الأمرين، ولا يخفى عليك أن هذا مع تكلفه وابتنائه على ما أسسه الفلاسفة الذين هم في عمى عن نور الشريعة ولله تعالى در من قال فيهم: قطعت الأخوة عن معشر ... بهم مرض من كتاب الشفا فماتوا على دين رسطالس ... وعشنا على سنة المصطفى لا يناسب المقام ولا ينتظم معه أطراف الكلام، وفيه ما يقتضي أن قوله تعالى: نُورٌ عَلى نُورٍ داخل في التمثيل وفيه خلاف، ثم اعلم أنه يعلم بمعونة ما ذكرنا حال التشبيه على سائر الأقوال في المراد بالنور، ولعل ما ذكرناه فيه أتم نورا وأشد ظهورا والله تعالى أعلم بحقائق الأمور، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [النور: 40] يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ [النور: 35] أي يهدي سبحانه هداية خاصة موصلة إلى المطلوب حتما لذلك النور المتضاعف العظيم الشأن، وإظهاره في مقام الإضمار لزيادة تقريره وتأكيد فخامته الذاتية بفخامته الإضافية الناشئة من إضافته إلى ضميره عز وجل مَنْ يَشاءُ هدايته من عباده بأن يوفقهم سبحانه لفهم وجوه دلالة الأدلة العقلية والسمعية التي نور بها السماوات والأرض على وجه ينتفعون به أو بأن يوفقهم لفهم ما في القرآن من دلائل حقيته وكونه من عنده عز وجل من الإعجاز والإخبار عن الغيب وغير ذلك من موجبات الإيمان وفيه احتمالات أخر بحسب ما في النور من الأقوال، وأيا ما كان ففيه إيذان بأن مناط هذه الهداية وملاكها ليس إلا مشيئته تعالى وأن إظهار الأسباب بدونها بمعزل عن الإفضاء إلى المطالب: إذا لم يك التوفيق عونا لطالب ... طريق الهدى أعيت عليه مطالبه وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ في تضاعيف الهداية حسبما يقتضيه حالهم فإن لضرب المثل دخلا عظيما في باب الإرشاد لأنه إبراز للمعقول في هيئة المحسوس وتصوير لأوابد المعاني بصورة المأنوس ولذلك مثل جل وعلا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 365 نوره المراد به ما يشمل القرآن أو القرآن المبين فقط بنور المشكاة، وإظهار الاسم الجليل في مقام الإضمار على ما في إرشاد العقل السليم للإيذان باختلاف ما أسند إليه تعالى من الهداية الخاصة وضرب الأمثال الذي هو من قبيل الهداية العامة كما يفصح عنه تعليق الأولى بمن شاء والثانية بالناس كافة. وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ معقولا كان أو محسوسا ظاهرا كان أو باطنا ومن قضيته أن تتعلق مشيئته تعالى بهداية من يليق بها ويستحقها من الناس دون من عداهم لمخالفته الحكمة التي هي مبنى التكوين والتشريع وأن تكون هدايته سبحانه العامة على فنون مختلفة وطرائق شتى حسبما تقتضيه أحوالهم وتقوم به الحجة له تعالى عليهم، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله، وقيل جيء بها لوعد من تدبر الأمثال ووعيد من لم يكترث بها، وقيل لبيان أن فائدة ضرب الأمثال التي هي للتوضيح إنما هي للناس وليس بذاك، وإظهار الاسم الجليل لتأكيد استقلال الجملة والاشعار بعلة الحكم وبما ذكر آنفا من اختلاف حال المحكوم به ذاتا وتعلقا. فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ إلخ استئناف لبيان حال من حصلت لهم الهداية لذلك النور وذكر بعض أعمالهم القلبية والقالبية، فالجار والمجرور- أعني متعلق قوله تعالى: فِي بُيُوتٍ بيسبح وفيها تكرير لذلك جيء به للتأكيد والتذكير بما بعد في الجملة وللإيذان بأن التقديم للاهتمام دون الحصر، ومثل ما ذكر في التكرير للتأكيد وقوله تعالى: فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [آل عمران: 107] وقولك مررت بزيد به، وبعض النحاة أعرب نحو ذلك بدلا كما في شرح التسهيل، وفي المغني هو من توكيد الحرف بإعادة ما دخل عليه مضمرا وليس الجار والمجرور توكيدا للجار والمجرور لأن الظاهر لكونه أقوى لا يؤكد بالضمير، وليس المجرور بدلا بإعادة الجار لأنه لا يبدل مضمر من مظهر وإنما جوزه بعض النحاة قياسا، وأنت تعلم أن ما ذكر غير وارد لأن المجموع بدل أو توكيد، وأتي بالظاهر هربا من التكرار، ورِجالٌ فاعل يُسَبِّحُ وتأخيره عن الظروف لأن في وصفه نوع طول فيخل تقديمه بحسن الانتظام وقال الرماني فِي بُيُوتٍ متعلق بيوقد، وقال الحوفي: متعلق بمحذوف وقع صفة لمشكاة، وقيل هو صفة لمصباح، وقيل صفة لزجاجة، وهو على هذه الأقوال الأربعة تقييد للممثل به للمبالغة فيه، والتنوين في الموصوف للنوعية لا للفردية لينافي ذلك في جمع البيوت. وأورد على ما ذكر أن شيئا منه لا يليق بشأن التنزيل الجليل كيف لا وأن ما بعد قوله تعالى وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ على ما هو الحق أو بعد قوله سبحانه نُورٌ عَلى نُورٍ على ما قيل إلى قوله تعالى بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ كلام متعلق بالممثل قطعا فتوسطيه بين أجزاء التمثيل مع كونه من قبيل الفصل بين الشجرة ولحائه بالأجنبي يؤدي إلى كون ذكر حال المنتفعين بالتمثيل المهديين لنوره تعالى بطريق الاستتباع والاستطراد مع كون بيان حال أضدادهم مقصودا بالذات ومثل هذا مما لا عهد به في كلام الناس فضلا أن يحمل عليه الكلام المعجز. وتعقبه الخفاجي بأنه زخرف من القول إذ لا فصل فيه وما قبله إلى هنا من المثل، والظاهر عندي أن التمثيل قد تم عند قوله تعالى: وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ وقيل هو متعلق بسبحوا أو نحوه محذوفا، وتلك الجملة على ما قيل مترتبة على ما قبلها وترك الفاء للعلم به كما في نحو قم يدعوك، ومنعوا تعلقه بيذكر لأنه من صلة أن فلا يعمل فيما قبله، والمراد بالبيوت المساجد كلها كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة ومجاهد. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال: إنما هي أربع مساجد لم يبنهن إلا نبي، الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وبيت المقدس بناه داود وسليمان عليهما السلام ومسجد المدينة ومسجد قباء بناهما رسول الجزء: 9 ¦ الصفحة: 366 الله صلّى الله عليه وسلّم، وعن الحسن أن المراد بها بيت المقدس والجمع من حيث إن فيه مواضع يتميز بعضها عن بعض وهو خلاف الظاهر جدا. وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك وبريدة قال: «قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هذه الآية فِي بُيُوتٍ إلخ فقام إليه عليه الصلاة والسلام رجل فقال: أي بيوت هذه يا رسول الله؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «بيوت الأنبياء عليهم السلام فقام إليه أبو بكر رضي الله تعالى فقال: يا رسول الله هذا البيت منها لبيت علي وفاطمة رضي الله تعالى عنهما قال: نعم من أفاضلها» وهذا إن صح لا ينبغي العدول عنه. وقال أبو حيان: الظاهر أنها مطلقة تصدق على المساجد والبيوت التي تقع فيها الصلاة والعلم، وجوز أن يراد بها صلاة المؤمنين أو أبدانهم بأن تشبه صلاتهم الجامعة للعبادات القولية والفعلية أو أبدانهم المحيطة بالأنوار بالبيوت المذكورة- أعني المساجد- ثم يستعار اسمها لذلك. وتعقب بأنه لا حسن فيما ذكر وأظنك لا تكتفي بهذا المقدار من الجرح، والمراد بالإذن الأمر وبالرفع التعظيم أي أمر سبحانه بتعظيم قدرها، وروي هذا عن الحسن والضحاك ولا يخفى أنه إذا أريد بها المساجد فتعظيم قدرها يكون بأشياء شتى كصيانتها عن دخول الجنب والحائض والنفساء ولو على وجه العبور وقد قالوا بتحريم ذلك وإدخال بحاسة فيها يخاف منها التلويث ولذا قالوا: ينبغي لمن أراد أن يدخل المسجد أن يتعاهد النعل والخف عن النجاسة ثم يدخل فيه احترازا عن تلويث المسجد، ومنع إدخال الميت فيها ومنع إدخال الصبيان والمجانين وهو حرام حيث غلب تنجيسهم وإلا فهو مكروه، وقد جاء الأمر بتجنيبهم عن المساجد مطلقا. أخرج ابن ماجة عن واثلة بن الأسقع عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وشراءكم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم وسل سيوفكم واتخذوا على أبوابها المطاهر وجمروها في الجمع ومنع إنشاد الضالة وإنشاد الأشعار ، فقد أخرج الطبراني وابن السني وابن منده عن ثوبان قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من رأيتموه ينشد شعرا في المسجد فقولوا فض الله تعالى فاك ثلاث مرات ومن رأيتموه ينشد ضالة في المسجد فقولوا: لا وجدتها ثلاث مرات» الحديث . وينبغي أن يقيد المنع من إنشاد الشعر بما إذا كان فيه شيء مذموم كهجو المسلم وصفة الخمر وذكر النساء والمردان وغير ذلك مما هو مذموم شرعا، وأما إذا كان مشتملا على مدح النبوة والإسلام أو كان مشتملا على حكمة أو باعثا على مكارم الأخلاق والزهد ونحو ذلك من أنواع الخير فلا بأس بإنشاده فيها، ومنع إلقاء القملة فيه بعد قتلها وهو مكروه تنزيها على ما صرح به بعض المتأخرين، ويندب أن لا تلقى حية في المسجد، فقد أخرج ابن أبي شيبة وأحمد عن رجل من الأنصار قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا وجد أحدكم القملة في المسجد فليصرها في ثوبه حتى يخرجها» ومنع البول فيها ولو في إناء وقد صرحوا بحرمة ذلك، وفي الأشباه وأما الفصد في المسجد في إناء فلم أره، وينبغي أن لا فرق أي لأن كلّا من البول والدم نجس مغلظ، ومنع إلقاء البصاق فيها. وفي البدائع يكره التوضي في المسجد لأنه مستقذر طبعا فيجب تنزيه المسجد عنه كما يجب تنزيهه عن المخاط والبلغم، وأخرج ابن أبي شيبة عن الشعبي «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رأى في قبلة المسجد نخامة فقام إليها فحكها بيده الشريفة صلّى الله عليه وسلّم ثم دعا بخلوق فلطخ مكانها» فقال الشعبي: هو سنة، وذكروا أن إلقاء النخام فوق الحصير أخف من وضعها تحته فإن اضطر إليه دفنها، وفي حديث أخرجه ابن أبي شيبة عن أنس مرفوعا «التفل في المسجد خطيئة وكفارته أن يواريه» وروى الطبراني في الأوسط عن ابن عباس مرفوعا أيضا نحوه، ومنع الوطء فيها وفوقها كالتخلي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 367 وصرحوا بحرمة ذلك، ومنع دخول من أكل ذا رائحة كريهة فيها كالثوم والبصل والكراث وأكل الفجل إذا تجشأ كذلك، وقد كان الرجل في زمان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا وجد منه ريح الثوم يؤخذ بيده ويخرج إلى البقيع، والظاهر أن الأبخر أو من به صنان مستحكم حكمه حكم آكل الثوم والبصل، وكذا حكم من رائحة ثيابه كريهة كثياب الزياتين والدباغين، وعن مالك أن الزياتين يتأخرون ولا يتقدمون إلى الصف الأول ويقعدون في أخريات الناس، ومنع الثوم والأكل فيها لغير معتكف، ومنع الجلوس فيها للمصيبة أو للتحدث بكلام الدنيا، ومنع اتخاذها طريقا وهو مكروه أو حرام، وقد جاء النهي عن ذلك في حديث رواه ابن ماجة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعا. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود أن اتخاذها طريقا من أشراط الساعة وفي القنية معتاد ذلك يأثم ويفسق، نعم إن كان هناك عذر لم يكره المرور، ومن تعظيمها رشها وقمها، فقد أخرج ابن أبي شيبة عن زيد بن أسلم قال: كان المسجد يرش ويقم على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وأخرج عن يعقوب بن زيد أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يتبع غبار المسجد بجريدة وكذا تعليق القناديل فيها وفرشها بالآجر والحصير، وفي مفتاح السعادة ولأهل المسجد أن يفرشوا المسجد بالآجر والحصير ويعلقوا القناديل لكن من مال أنفسهم لا من مال المسجد إلا بأمر الحاكم، ولعل محل ذلك ما لم يعين الواقف شيئا من ريع الوقف لذلك، وينبغي أن يكون إيقاد القناديل الكثيرة فيها في ليالي معروفة من السنة كليلة السابع والعشرين من رمضان الموجب لاجتماع الصبيان وأهل البطالة ولعبهم ورفع أصواتهم وامتهانهم بالمساجد بدعة منكرة، وكذا ينبغي أن يكون فرشها بالقطائف المنقوشة التي تشوش على المصلين وتذهب خشوعهم كذلك، ومن التعظيم أيضا تقديم الرجل اليمنى عند دخولها واليسرى عند الخروج منها، وصلاة الداخل ركعتين قبل الجلوس إذا كان دخوله لغير الصلاة على ما ذكره بعضهم، وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي قتادة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أعطوا المساجد حقها: قيل وما حقها؟ قال: ركعتان قبل أن تجلس» ومن ذلك أيضا بناؤها رفيعة عالية لا كسائر البيوت لكن لا ينبغي تزيينها بما يشوش على المصلين، وفي حديث أخرجه ابن ماجة والطبراني عن جبير بن مطعم مرفوعا أنها لا تبنى بالتصاوير ولا تزين بالقوارير. وفسر بعضهم الرفع ببنائها رفيعة كما في قوله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ [البقرة: 127] والأولى عندي تفسيره بما سبق وجعل بنائها كذلك داخلا في العموم ويدخل فيه أمور كثيرة غير ما ذكرنا وقد ذكرها الفقهاء وأطالوا الكلام فيها. زعم بعض المفسرين أن إسناد الرفع إليها مجاز، والمراد ترفع الحوائج فيها إلى الله تعالى، وقيل: ترفع الأصوات بذكر الله عز وجل فيها، ولا يخفى مافيه، وفي التعبير عن الآمر بالإذن تلويح بأن اللائق بحال المأمور أن يكون متوجها إلى المأمور به قبل الآمر به ناويا لتحقيقه كأنه مستأذن في ذلك فيقع الأمر به موقع الأمر فيه، والمراد بذكر اسمه تعالى شأنه ما يعم جميع أذكاره تعالى، وجعل من ذلك المباحث العلمية المتعلقة به عز وجل، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المراد به توحيده عز وجل وهو قول: لا إله إلا الله، وعنه أيضا المراد تلاوة كتابه سبحانه. وقيل: ذكر أسمائه تعالى الحسنى. والظاهر ما قدمنا، وعطف الذكر على الرفع من قبيل عطف الخاص على العام فإن ذكر اسمه تعالى فيها من أنواع تعظيمها، وليس من عطف التفسير في شيء خلافا لمن توهمه، والتسبيح التنزيه والتقديس ويستعمل باللام وبدونها كما في قوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى: 1] والمراد به إما ظاهره أو الصلاة لاشتمالها عليه وروي هذا عن ابن عباس والحسن والضحاك. وعن ابن عباس كل تسبيح في القرآن صلاة، وأيد إرادة الصلاة هنا تعيين الأوقات بقوله سبحانه: بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ والغدو جمع غداة كفتى وفتاة أو مصدر أطلق على الوقت الغدو، وأيد بأن أبا مجلز قرأ «والإيصال» مصدرا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 368 أي الدخول في وقت الأصيل، والْآصالِ كما قال الجوهري جمع أصيل كشريف وأشراف، واختاره جماعة مع أن جمع فعيل على أفعال ليس بقياسي. واختار الزمخشري أنه جمع أصل كعنق وأعناق والأصل كالأصيل العشي وهو من زوال الشمس إلى الصباح فيشمل الأوقات ما عدا الغداة وهي من أول النهار إلى الزوال ويطلقان على أول النهار وآخره، وإفرادهما بالذكر لشرفهما وكونهما أشهر ما يقع فيه المباشرة للأعمال والاشتغال بالأشغال. وعن ابن عباس أنه حمل الغداة على وقت الضحى وهو مقتضى ما أخرج ابن أبي شيبة والبيهقي في شعب الإيمان عنه رضي الله تعالى عنه من قوله: «إن صلاة الضحى لفي القرآن وما يغوص عليها الأغواص وتلا الآية حتى بلغ الآصال. وقرأ ابن عامر وأبو بكر والبحتري عن حفص ومحبوب عن أبي عمرو والمنهال عن يعقوب والمفضل وأبان «يسبح» بالياء التحتية والبناء للمفعول ونائب الفاعل لَهُ أو فِيهَا إن لم يتعلق فِي بُيُوتٍ به أو بِالْغُدُوِّ والأولية للأول لأنه ولي الفعل والإسناد إليه حقيقي دون الأخيرين. وجوز أن يكون المجرور فيما ذكر نائب الفاعل والجار فيه زائدا، وفيه ارتكاب لما لا داعي إليه، ورفع «رجال» على هذه القراءة على أنه فاعل لفعل محذوف أو خبر مبتدأ محذوف على ما في البحر أي يسبح له أو المسبح له رجال. والجملة استئناف بياني وقع جوابا لسؤال نشأ من الكلام السابق. وهذا نظير قوله: ليبك يزيد ضارع لخصومة ... متخبط مما تطيح الطوائح وهو قياسي عند الكثير فيجوز عندهم أن يقال: ضربت هند زيد بتقدير ضربها أو ضاربها زيد. وليس هذا كذكر الفاعل تمييزا بعد الفعل المبني للمفعول نحو ضرب أخوك رجلا المصرح بعدم جوازه ابن هشام في الباب الخامس من المغني وإن أوهمت العلة أنه مثله فتأمل. وقرأ أبو حيوة وابن وثاب «تسبح» بالتاء الفوقية والبناء للفاعل وهو «رجال» والتأنيث لأن جمع التكثير كثيرا ما يعامل معاملة المؤنث، وقرأ أبو جعفر «تسبيح» بالتاء الفوقية والبناء للمفعول وهو قوله تعالى: بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ على أن الباء زائدة والإسناد مجازي بجعل الأوقات المسبح فيها ربها مسبحة، وجوز أبو حيان أن يكون الإسناد إلى ضمير التسبيحة الدال عليه «تسبح» أي تسبح هي أي التسبيحة كما قالوا في قوله تعالى: لِيَجْزِيَ قَوْماً [الجاثية: 14] على قراءة من بنى يجزي للمفعول أي ليجزي هو أي الجزاء. قال في إرشاد العقل السليم: وهذا أولى من التوجيه الأول إذ ليس هنا مفعول صريح. وضعفه بعضهم هنا بأن الوحدة لا تناسب المقام، وأجيب بالتزام كون الوحدة جنسية. وأيا ما كان فرفع «رجال» على هذه القراءة على الفاعلية أو الخبرية كما سمعت آنفا. والتنوين فيه على جميع القراءات للتفخيم، وقوله سبحانه: لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ صفة له مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة مفيدة لكمال تبتلهم إلى الله تعالى من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم كائنا ما كان. وتخصيص الرجال بالذكر لأنهم الأحقاء بالمساجد. فقد أخرج أحمد والبيهقي عن أم سلمة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «خير مساجد النساء قعر بيوتهن» وتخصيص التجارة التي هي المعاوضة مطلقا بذلك لكونها أقوى الصوارف عندهم وأشهرها أي لا يشغلهم نوع من أنواع التجارة وَلا بَيْعٌ أي ولا فرد من أفراد البياعات وإن كان في غاية الريح. وإفراده بالذكر مع اندراجه تحت التجارة للإيذان بإنافته على سائر أنواعها لأن ربحه متيقن ناجز وربح ما عداه متوقع في ثاني الحال عند البيع فلم يلزم من نفي إلهاء ما عداه نفي إلهائه ولذلك كرر كلمة لا لتذكير النفي وتأكيده، وجوز أن يراد بالتجارة المعاوضة الرابحة بالبيع المعاوضة مطلقا فيكون ذكره بعدها من باب التعميم بعد التخصيص للمبالغة، ونقل عن الواقدي أن المراد بالتجارة هو الشراء لأنه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 369 أصلها ومبدؤها فلا تخصيص ولا تعميم، وقيل: المراد بالتجارة الجلب لأنه الغالب فيها فهو لازم لها عادة. ومنه يقال: تجر في كذا أي جلبه. ويؤيد هذا ما أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال في هؤلاء الموصوفين بما ذكر: هم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله تعالى. وأخرج الديلمي وغيره عن أبي سعيد الخدري مرفوعا نحوه ، وفي ذلك أيضا ما يقتضي أنهم كانوا تجارا وهو الذي يدل عليه ظاهر الآية لأنه لا يقال فلان لا تلهيه التجارة إلا إذا كان تاجرا وروي ذلك عن ابن عباس. أخرج الطبراني وابن مردويه عنه أنه قال: أما والله لقد كانوا تجارا فلم تكن تجارتهم ولا بيعهم يلهيهم عن ذكر الله تعالى، وبه قال الضحاك، وقيل إنهم لم يكونوا تجارا والنفي راجع للقيد والمقيد كما في قوله: على لاحب لا يهتدى بمناره كأنه قيل: لا تجارة لهم ولا بيع فيلهيهم فإن الآية نزلت فيمن فرغ عن الدنيا كأهل الصفة، وأنت تعلم أن الآية على الأول المؤيد بما سمعت أمدح ولم نجد لنزولها فيمن فرغ عن الدنيا سندا قويا أو ضعيفا ولا يكتفى في هذا الباب بمجرد الاحتمال عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ بالتسبيح والتحميد ونحوهما وَإِقامِ الصَّلاةِ أي إقامتها لمواقيتها من غير تأخير. والأصل أقوام فنقلت حركة الواو لما قبلها فالتقى ساكنان فحذفت فقيل: إقام، وعن الزجاج أنه قلبت الواو ألفا ثم حذف لاجتماع ألفين. وأورد عليه أنه لا داعي إلى قلبها ألفا مع فقد شرطه وهو أن لا يسكن ما بعدها. وأوجب الفراء لجواز هذا الحذف تعويض التاء فيقال: إقامة أو الإضافة كما هنا. وعلى هذا جاء قوله: إن الخليط أجدوا البين وانجردوا ... وأخلفوك عدا الأمر الذي وعدوا فإنه أراد عدة الأمر. وتأول خالد بن كلثوم ما في البيت على أن عدا جمع عدوة بمعنى ناحية كأن الشاعر أراد نواحي الأمر وجوانبه. ومذهب سيبويه جواز الحذف من غير تعويض التاء أو الإضافة وَإِيتاءِ الزَّكاةِ أي المال الذي فرض إخراجه للمستحقين كما روي عن الحسن. ويدل على تفسير الزكاة بذلك دون الفعل ظاهر إضافة الإيتاء إليها. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير إيتاء الزكاة بإخلاص طاعة الله تعالى وفيه بعد كما ترى، وإيراد هذا الفعل هاهنا وإن لم يكن مما يفعل في البيوت لكونه قرينة لا تفارق إقامة الصلاة في عامة المواضع مع ما فيه من التنبيه على أن محاسن أعمالهم غير منحصرة فيما يقع في المساجد. وكذا قوله تعالى: يَخافُونَ إلى آخره فإنه صفة أخرى لرجال أو حال من مفعول لا تُلْهِيهِمْ أو استئناف مسوق للتعليل. وأيا ما كان فليس خوفهم مقصورا على كونهم في المساجد. وقوله تعالى: يَوْماً مفعول ليخافون على تقدير مضاف أي عقاب يوم وهو له أو بدونه وجعله ظرفا لمفعول محذوف بعيد. وأما جعله ظرفا ليخافون والمفعول محذوف فليس بشيء أصلا إذ المراد أنهم يخافون في الدنيا يوما تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ لا أنهم يخافون شيئا في ذلك اليوم الموصوف بأنه تتقلب فيه إلخ، والمراد به يوم القيامة ومعنى تقلب القلوب والأبصار فيه اضطرابها وتغيرها أنفسها فيه من الهول والفزع كما في قوله تعالى: وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الأحزاب: 10] أو تغير أحوالها بأن تفقه القلوب ما لم تكن تفقه وتبصر الأبصار ما لم تكن تبصر أو بأن تتوقع القلوب النجاة تارة وتخاف الهلاك أخرى وتنظر الأبصار يمينا تارة وشمالا أخرى لما أن أغلب أهل الجمع لا يدرون من أي ناحية يؤخذ بهم ولا من أي وجهة يؤتون كتبهم، وقيل: المراد تقلب فيه القلوب والأبصار على جمر جهنم وليس بشيء، ومثله قول الجبائي: إن المراد تنتقل من حال إلى حال فتلفحها النار ثم تنضجها ثم تحرقها، وقرأ ابن محيصن «تنقلب» بإسكان التاء الثانية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 370 وقوله سبحانه لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ متعلق على ما استظهره أبو حيان بيسبح وجوز أبو البقاء أن يتعلق بلا تلهيهم أو بيخافون ولا يخفى أن تعلقه بأحد المذكورين محوج إلى تأويل، ولعل تعلقه بفعل محذوف يدل عليه ما حكي عنهم أولى من جميع ذلك أي يفعلون ما يفعلون من التسبيح والذكر وإيتاء الزكاة والخوف من غير صارف لهم عن ذلك ليجزيهم الله تعالى أَحْسَنَ ما عَمِلُوا واللام على سائر الأوجه للتعليل. وقال أبو البقاء: يجوز أن تكون لام الصيرورة كالتي في قوله تعالى: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص: 8] وموضع الجملة حال والتقدير يخافون ملهمين ليجزيهم الله وهو كما ترى، والجزاء المقابلة والمكافأة على ما يحمد ويتعدى إلى الشخص المجزي بعن قال تعالى: لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [البقرة: 48، 123] وإلى ما فعله ابتداء بعلى تقول جزيتة على فعله وقد يتعدى إليه بالباء فيقال جزيته بفعله وإلى ما وقع في مقابلته بنفسه وبالباء، قال الراغب: يقال جزيته كذا وبكذا، والظاهر أن أحسن هو ما وقع في المقابلة فيكون الجزاء قد تعدى إليه بنفسه ويحتاج إلى تقدير مضاف أي ليجزيهم أحسن جزاء عملهم أو الذي عملوه حسبما وعد لهم بمقابلة حسنة واحدة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف ليكون الأحسن من جنس الجزاء. وجوز أن يكون الأحسن هو الفعل المجزى عليه أو به الشخص وليس هناك مضاف محذوف والكلام على حذف الجار أي ليجزيهم على أحسن أو بأحسن ما عملوا، وأحسن العمل أدناه المندوب فاحترز به عن الحسن وهو المباح إذ لا جزاء له ورجح الأول بسلامته عن حذف الجار الذي هو غير مقيس في مثل ما نحن فيه بخلاف حذف المضاف فإنه كثير مقيس، وجوز أن يكون المضاف المحذوف قبل «أحسن» أي جزاء أحسن ما عملوا، والظاهر أن المراد بما عملوا أعم مما سبق وبعضهم فسره به وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي يتفضل عليهم بأشياء لم توعد لهم بخصوصياتها أو بمقاديرها ولم يخطر ببالهم كيفياتها ولا كميتها بل إنما وعدت بطريق الإجمال في مثل قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس: 26] وقوله صلّى الله عليه وسلّم حكاية عنه عز وجل «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» إلى غير ذلك من المواعيد الكريمة التي من جملتها قوله سبحانه: وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ فإنه تذييل مقرر للزيادة ووعد كريم بأنه تعالى يعطيهم غير أجزية أعمالهم من الخيرات ما لا يفي به الحساب والموصول عبارة عمن ذكرت صفاتهم الجميلة كأنه قيل والله يرزقهم بغير حساب، ووضعه موضع ضميرهم للتنبيه بما في حيز الصلة على أن مناط الرزق المذكور محض مشيئته تعالى لا أعمالهم المحكية كما أنها المناط لما سبق من الهداية لنوره عز وجل وللإيذان بأنهم ممن شاء الله تعالى أن يرزقهم كما أنهم ممن شاء سبحانه أن يهديهم لنوره حسبما يعرب عنه ما فصل من أعمالهم الحسنة فإن جميعها من آثار تلك الهداية وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلى آخره عطف على ما قبله عطف القصة على القصة أو على مقدر ينساق إليه ما قبله كأنه قيل الذين آمنوا أعمالهم حالا ومآلا كما وصف الذين كفروا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ أي أعمالهم التي هي من أبواب البر كصلة الأرحام وفك العناة سقاية الحاج وعمارة البيت وإغاثة الملهوفين وقرى الأضياف ونحو ذلك على ما قيل، وقيل أعمالهم التي يظنون الانتفاع بها سواء كان مما يشترط فيها الإيمان كالحج أم كانت مما لا يشترط فيها ذلك كسقاية الحاج وسائر ما تقدم، وقيل المراد بها ما يشمل الحسن والقبيح ليتأتى التشبيهان، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك، والسراب بخار رقيق يرتفع من قعور القيعان فإذا اتصل به ضوء الشمس أشبه من بعيد الماء السارب أي الجاري واشترط فيه الفراء اللصوق في الأرض، وقيل هو ما ترقرق من الهواء في الهجير في فيافي الأرض المنبسطة، وقيل: هو الشعاع الذي يرى نصف النهار عند اشتداد الحر في البر يخيل للناظر أنه ماء سارب، قال الشاعر: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 371 فلما كففنا الحرب كانت عهودكم ... كلمع سراب في الفلا متألق وإلى هذا ذهب الطبرسي، وفسر الآل بأنه شعاع يرتفع بين السماء والأرض كالماء ضحوة النهار بِقِيعَةٍ متعلق بمحذوف هو صفة سراب أي كائن بقيعة وهي الأرض المنبسطة المستوية، وقيل هي جمع قاع كجيرة في جار ونيرة في نار، وقرأ مسلمة بن محارب «بقيعات» بتاء طويلة على أنه جمع قيعة كديمات وقيمات في ديمة وقيمة، وعنه أيضا قرأ «بقيعاة» بتاء مدورة ويقف عليها بالهاء فيحتمل أن يكون جمع قيعة ووقف بالهاء على لغة طيىء كما قالوا: البناه والاخواه، ويحتمل كما قال صاحب اللوامح أن يكون مفردا وأصله قيعة كما في قراءة الجمهور لكنه أشبع الفتحة فتولدت منها الألف يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً صفة أخرى لسراب. وجوز أن يكون هو الصفة وبقيعة ظرفا لما يتعلق به الكاف وهو الخبر والحسبان الظن على المشهور وفرق بينهم الراغب بأن الظن أن يخطر النقيضان بباله ويغلب أحدهما على الآخر والحسبان أن يحكم بأحدهما من غير أن يخطر الآخر بباله فيعقد عليه الأصبع ويكون بعرض أن يعتريه فيه شك، وتخصيص الحسبان بالظمئان مع شموله كل من يراه كائنا من كان من العطشان والريان لتكميل التشبيه بتحقيق شركة طرفيه في وجه الشبه الذي هو المطلع والمقطع المؤيس. وقرأ شيبة وأبو جعفر ونافع بخلاف عنهما «الظمآن» بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الميم حَتَّى إِذا جاءَهُ أي إذا جاء العطشان ما حسبه ما، وقيل: إذا جاء موضعه لَمْ يَجِدْهُ أي لم يجد ما حسبه ماء وعلق رجاءه به شَيْئاً أصلا لا محققا ولا مظنونا كان يراه من قبل فضلا عن وجه أنه ماء، ونصب شَيْئاً قيل على الحالية، وأمر الاشتقاق سهل، وقيل على أنه مفعول ثان لوجد بناء على أنها من أخوات ظن، وجوز أن يكون منصوبا على البدلية من الضمير، ويجوز إبدال النكرة من المعرفة بلا نعت إذا كان مفيدا كما صرح به الرضي، واختار أبو البقاء أنه منصوب على المصدرية كأنه قيل لم يجده وجدانا وهو كما ترى وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ عطف على جملة لَمْ يَجِدْهُ فهو داخل في التشبيه أي ووجد الظمآن مقدوره تعالى من الهلاك عند السراب المذكور، وقيل أي وجد الله تعالى محاسبا إياه على أن العندية بمعنى الحساب لذكر التوفية بعد بقوله سبحانه: فَوَفَّاهُ حِسابَهُ أي أعطاه وافيا كاملا حساب عمله وجزاءه أو أتم حسابه بعرض الكتبة ما قدمه وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ لا يشغله حساب عن حساب. وفي إرشاد العقل السليم أن بيان أحوال الكفرة بطريق التمثيل قد تم بقوله سبحانه: لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً، وقوله تعالى: وَوَجَدَ إلخ بيان لبقية أحوالهم العارضة لهم بعد ذلك بطريق التكملة لئلا يتوهم أن قصارى أمرهم هو الخيبة والقنوط فقط كما هو شأن الظمآن، ويظهر أنه يعتريهم بعد ذلك من سوء الحال ما لا قدر للخيبة عنده أصلا فليست الجملة معطوفة على لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً بل على ما يفهم منه بطريق التمثيل من عدم وجدان الكفرة من أعمالهم عينا ولا أثرا كما في قوله تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان: 23] كيف لا وأن الحكم بأن أعمال الكفرة كسراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا حكم بأنها بحيث يحسبونها في الدنيا نافعة لهم في الآخرة حتى إذا جاؤوها لم يجدوها شيئا كأنه قيل: حتى إذا جاء الكفرة يوم القيامة أعمالهم التي كانوا في الدنيا يحسبونها نافعة لهم في الآخرة لم يجدوها شيئا ووجدوا الله أي حكمه وقضاءه عند المجيء، وقيل: عند العمل فوفاهم أي أعطاهم وافيا حسابهم أي حساب أعمالهم المذكورة وجزاءها فإن اعتقادهم لنفعها بغير إيمان وعملهم بموجبه كفر على كفر موجب للعقاب قطعا، وإفراد الضميرين الراجعين إلى الذين كفروا إما لإرادة الجنس كالظمآن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 372 الواقع في التمثيل وإما للحمل على كل واحد منهم، وكذا إفراد ما يرجع إلى أعمالهم انتهى، ولا يخفى ما فيه من البعد وارتكاب خلاف الظاهر. وأيا ما كان فالمراد بالظمئان مطلق الظمآن، وقيل المراد به الكافر، وإليه ذهب الزمخشري قال: شبه سبحانه ما يعمله من لا يعتقد الإيمان بسراب يراه الكافر بالساهرة وقد غلبه عطش القيامة فيحسبه ماء فيأتيه فلا يجده ويجد زبانية الله تعالى عنده يأخذونه فيسقونه الحميم والغساق وكأنه مأخوذ مما أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق السدي في غرائبه عن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الكفار يبعثون يوم القيامة وردا عطاشا فيقولون أين الماء فيمثل لهم السراب فيحسبونه ماء فينطلقون إليه فيجدون الله تعالى عنده فيوفيهم حسابهم والله سريع الحساب» ، واستطيب ذلك العلامة الطيبي حيث قال: إنما قيد المشبه به برؤية الكافر وجعل أحواله ما يلقاه يوم القيامة ولم يطلق لقوله تعالى: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ إلخ لأنه من تتمة أحوال المشبه به، وهذا الأسلوب أبلغ لأن خيبة الكافر أدخل وحصوله على خلاف ما يؤمله أعرق. وتعقبه أبو حيان بأنه يلزم من حمل الظمآن على الكافر تشبيه الشيء نفسه، ورد بأن التشبيه على ما ذكره جار الله تمثيلي أو مقيد لا مفرق كما توهم فلا يلزم من اتحاد بعض المفردات في الطرفين تشبيه الشيء بنفسه كاتحاد الفاعل في- أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى-، وبالجملة هو أحسن مما في الإرشاد كما لا يخفى على من سلم ذهنه من غبار العتاد. والآية على ما روي عن مقاتل نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية كان تعبد وليس المسوح والتمس الدين في الجاهلية ثم كفر في الإسلام ولا يأبى ذلك قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لأنه غير خاص بسبب النزول وإن دخل فيه دخولا أوليا، ولا يرد عليه أن الآية مدنية نزلت بعد بدر وعتبة قتل في بدر فإن كثيرا من الآيات نزل بسبب الأموات وليس في ذلك محذور أصلا، ثم لا يبعد أن يكون في حكم هؤلاء الكفرة الفلاسفة ومتبعوهم من المتزينين بزي الإسلام فإن اعتقادهم وأعمالهم حيث لم تكن على وفق الشرع كسراب بقيعة. أَوْ كَظُلُماتٍ عطف على كَسَرابٍ، وكلمة أو قيل لتقسيم حال أعمالهم الحسنة، وجوز الإطلاق باعتبار وقتين فإنها كالسراب في الآخرة من حيث عدم نفعها وكالظلمات في الدنيا من حيث خلوها عن نور الحق، وخص هذا بالدنيا لقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ فإنه ظاهر في الهداية والتوفيق المخصوص بها، والأول بالآخرة لقوله تعالى: وَوَجَدَ إلخ وقدم أحوال الآخرة التي هي أعظم وأهم لاتصال ذلك بما يتعلق بها من قوله سبحانه: لِيَجْزِيَهُمُ إلخ ثم ذكر أحوال الدنيا تتميما لها. وجوز أن يعكس ذلك فيكون المراد من الأول تشبيه أعمالهم بالسراب في الدنيا حال الموت، ومن الثاني تشبيهها بالظلمات في القيامة كما في الحديث «الظلم ظلمات يوم القيامة» ويكون ذلك ترقيا مناسبا للترتيب الوقوعي وليس بذلك لما سمعت، وقيل للتنويع، وذلك أنه أثر ما مثلت أعمالهم التي كانوا يعتمدون عليها أقوى اعتماد ويفتخرون بها في كل واد وناد بما ذكر من حال السراب مثلت أعمالهم القبيحة التي ليس فيها شائبة خيرية يغتر بها المغترون بالظلمات المذكورة، وزعم الجرجاني أن المراد هنا تشبيه كفرهم فقط وهو كما ترى. والظاهر على التنويع أن يراد من الأعمال في قوله تعالى: أَعْمالُهُمْ ما يشمل النوعين. واعترض بأنه يأبى ذلك قوله تعالى: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ بناء على دخوله في التشبيه لأن أعمالهم الصالحة وإن سلم أنها لا تنفع مع الكفرة لا وخامة في عاقبتها كما يؤذن به قوله سبحانه: وَوَجَدَ إلخ. وأجيب بأنه ليس فيه ما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 373 يدل على أن سبب العقاب الأعمال الصالحة بل وجد أن العقاب بسبب قبائح أعمالهم لكنها ذكرت جميعها لبيان أن بعضها جعل هباء منثورا وبعضها معاقب به، وجوز أن تكون للتخيير في التشبيه لمشابهة أعمالهم الحسنة أو مطلقا السراب لكونها لاغية لا منفعة فيها، والظلمات المذكورة لكونها خالية عن نور الحق، واختاره الكرماني. واعترض بأن الرضي كغيره ذكر أنها لا تكون للتخيير إلا في الطلب. وأجيب بأنه وإن اشتهر ذلك فقد ذهب كثير إلى عدم اختصاصه به كابن مالك والزمخشري ووقوعه في التشبيه كثير، وأيا ما كان فليس في الكلام مضاف محذوف. وقال أبو علي الفارسي: فيه مضاف محذوف والتقدير أو كذي ظلمات، ودل عليه ما يأتي من قوله سبحانه: إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ والتشبيه عنده هنا يحتمل أن يكون للأعمال على نمط التشبيه السابق ويقدر أو كأعمال ذي ظلمات. ويحتمل أن يكون للكفرة ويقدر أو هم كذي ظلمات والكل خلاف الظاهر، وأمر الضمير سيظهر لك إن شاء الله تعالى. وقرأ سفيان بن حسين «أوكظلمات» بفتح الواو، ووجه ذلك في البحر بأنه جعلها واو عطف تقدمت عليها الهمزة التي لتقرير التشبيه الخالي عن محض الاستفهام. وقيل هي أَوْ التي في قراءة الجمهور وفتحت الواو للمجاورة كما كسرت الدال لها في قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ على بعض القراءات فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ أي عميق كثير الماء منسوب إلى اللج وهو معظم ماء البحر. وقيل اللجة وهي أيضا معظمه وهو صفة بَحْرٍ وكذا جملة قوله تعالى: يَغْشاهُ أي يغطي ذلك البحر ويستره بالكلية مَوْجٌ وقدمت الأولى لإفرادها. وقيل الجملة صفة ذي المقدر والضمير راجع إليه، وقد علمت حال ذلك التقدير وقوله تعالى: مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ جملة من مبتدأ وخبر محلها الرفع على أنها صفة لموج أو الصفة الجار والمجرور وما بعده فاعل له لاعتماده على الموصوف. والمراد يغشاه أمواج متراكمة متراكبة بعضها على بعض، وقوله تعالى: مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ صفة لموج الثاني على أحد الوجهين المذكورين أي من فوق ذلك الموج سحاب ظلماني ستر أضواء النجوم، وفيه إيماء إلى غاية تراكم الأمواج وتضاعفها حتى كأنها بلغت السحاب ظُلُماتٌ خبر مبتدأ محذوف أي هي ظلمات بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ أي متكاثفة متراكمة، وهذا بيان لكمال شدة الظلمات كما أن قوله تعالى: نُورٌ عَلى نُورٍ بيان لغاية قوة النور خلا أن ذلك متعلق بالمشبه وهذا بالمشبه به كما يعرب عنه ما بعده. وأجاز الحوفي أن يكون ظُلُماتٌ مبتدأ خبره قوله تعالى: بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ. وتعقبه أبو حيان وتبعه ابن هشام بأن الظاهر أنه لا يجوز لما فيه من الابتداء بالنكرة من غير مسوغ إلا أن يقدر صفة لها يؤذن بها التنوين أي ظلمات كثيرة أو عظيمة وهو تكلف. وأجاز أيضا أن يكون بَعْضُها بدلا من ظُلُماتٌ. وتعقب بأنه لا يجوز من جهة المعنى لأن المراد والله تعالى أعلم الإخبار بأنها ظلمات وأن بعض تلك الظلمات فوق بعض أي هي ظلمات متراكمة لا الإخبار بأن بعض ظلمات فوق بعض من غير إخبار بأن تلك الظلمات السابقة متراكمة. وقرأ قنبل «ظلمات» بالجر على أنه بدل من ظُلُماتٌ الأولى لا تأكيد لها. وجملة بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ في موضع الصفة له. وقرأ البزي «سحاب ظلمات» بإضافة سحاب إلى ظلمات وهذه الإضافة كالإضافة في لجين الماء أو لبيان أن ذلك السحاب ليس سحاب مطر ورحمة. إِذا أَخْرَجَ أي من ابتلى بها، وإضماره من غير ذكر لدلالة المعنى عليه دلالة واضحة. وكذا تقدير ضمير يرجع إلى ظُلُماتٌ واحتج إليه لأن جملة إِذا أَخْرَجَ إلخ في موضع الصفة لظلمات ولا بد لها من رابط ولا يتعين ما أشرنا إليه. وقيل: ضمير الفاعل عائد على اسم الفاعل المفهوم من الفعل على حد «لا يشرب الخمر وهو الجزء: 9 ¦ الصفحة: 374 مؤمن» أي إذا أخرج المخرج فيها يَدَهُ وجعلها بمرأى منه قريبة من عينيه لينظر إليها لَمْ يَكَدْ يَراها أي لم يقرب من رؤيتها وهي أقرب شيء إليه فضلا عن أن يراها. وزعم ابن الأنباري زيادة يَكَدْ. وزعم الفراء والمبرد أن المعنى لم يرها إلا بعد الجهد فإنه قد جرى العرف أن يقال: ما كاد يفعل ولم يكد يفعل في فعل قد فعل بجهد مع استبعاد فعله وعليه جاء قوله تعالى: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة: 71] ومن هنا خطأ ابن شبرمة ذا الرمة بقوله: ذا غير النأي المحبين لم يكد ... رسيس الهوى من حب مية يبرح وناداه يا أبا غيلان أراه قد برح ففك وسلم له ذو الرمة ذلك فغير لم يكد بل لم يكن أو لم أجد، والتحقيق أن الذي يقتضيه لم يكد وما كاد يفعل أن الفعل لم يكن من أصله ولا قارب في الظن أن يكون ولا يشك في هذا. وقد علم أن كاد موضوعة لشدة قرب الفعل من الوقوع ومشارفته فمحال أن يوجب نفيه وجود الفعل لأنه يؤدي إلى أن يكون ما قارب كذلك فالنظر إلى أنه إذا لم يكن المعنى على أن ثمت حالا يبعد معها أن تكون ثم تغيرت كما في قوله تعالى: فَذَبَحُوها إلخ يلتزم الظاهر ويجعل المعنى أن الفعل لم يقارب أن يكون فضلا عن أن يكون والآية على ذلك وكذا البيت، وقد ذكر أن لم يكد فيهما جواب إِذا فيكون مستقبلا وإذا قلت: إذا خرجت لم أخرج فقد نفيت خروجا في المستقبل فاستحال أن يكون المعنى فيهما على أن الفعل قد كان. وهذا التحقيق خلاصة ما حقق الشيخ في دلائل الإعجاز، ومنه يعلم تخطئة من زعم أن كاد نفيها إثبات وإثباتها نفي. وفي الحواشي الشهابية أن نفي كاد على التحقيق المذكور أبلغ من نفي الفعل الداخلة عليه لأن نفي مقاربته يدل على نفيه بطريق برهاني إلا أنه إذا وقع في الماضي لا ينافي ثبوته في المستقبل وربما أشعر بأنه وقع بعد اليأس منه كما في آية البقرة، وإذا وقع في المستقبل لا ينافي وقوعه في الماضي فإن قامت قرينة على ثبوته فيه أشعر بأنه انتفى وأيس منه بعد ما كان ليس كذلك كما في هذه الآية فإنه لشدة الظلمة لا يمكنه رؤية يده التي كانت نصب عينيه، ثم فرع على هذا أن لك أن تقول: إن مراد من قال: إن نفيها إثبات وإثباتها نفي أن نفيها في الماضي يشعر بالثبوت في المستقبل وعكسه كما سمعت، وهذا وجه تخطئة ابن شبرمة وتغيير ذي الرمة لأن مراده أن قديم هواها لم يقرب من الزوال في جميع الأزمان ونفيه في المستقبل يوهم ثبوته في الماضي فلا يقال: إنهما من فصحاء العرب المستشهد بكلامهم فكيف خفي ذلك عليهما ولذا استبعده في الكشف وذهب إلى أن قصتهما موضوعة أوصى بحفظ ذلك حيث قال: فاحفظه فإنه تحقيق أنيق وتوفيق دقيق سنح بمحض اللطف والتوفيق انتهى. ولعمري أن ما أول به كلام القائل بعيد غاية البعد ولا أظنه يقع موقع القبول عنده ونفى كل فعل في الماضي لا ينافي ثبوته في المستقبل ونفيه في المستقبل لا ينافي وقوعه في الماضي ولا اختصاص لكاد بذلك فيا ليت شعري هل دفع الإيهام ما غير إليه ذو الرمة بيته فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك، ثم إن ظاهر الآية يقتضي أن مانع الرؤية شدة الظلمة وهو كذلك لأن شرط الرؤية بحسب العادة في هذه النشأة الضوء سواء كانت بمحض خلق الله تعالى كما ذهب إليه أهل الحق أو كانت بخروج الشعاع من العين على هيئة مخروط مصمت أو مؤلف من خطوط مجتمعة في الجانب الذي يلي الرأس أو لا على هيئة مخروط بل على استواء لكن مع ثبوت طرفه الذي يلي العين واتصاله بالمرئي أو بتكيف الشعاع الذي في العين بكيفية الهواء وصيرورة الكل آلة للرؤية كما ذهب إليه فرق الرياضيين أو كانت الجزء: 9 ¦ الصفحة: 375 بانطباع شبح المرئي في جزء من الرطوبة الجليدية التي تشبه البرد والجمد كما ذهب إليه الطبيعيون، وهذان المذهبان هما المشهوران للفلاسفة ونسب للإشراقيين منهم. واختاره شهاب الدين القتيل أن الرؤية بمقابلة المستنير للعضو الباصر الذي فيه رطوبة صقلية وإذا وجدت هذه الشروط مع زوال المانع يقع للنفس علم إشراقي حضوري على المبصر فتدركه النفس مشاهدة ظاهرة جلية بلا شعاع ولا انطباع، واختار الملا صدرا أنها بإنشاء صورة مماثلة للمرئي بقدرة الله تعالى من عالم الملكوت النفساني مجردة عن المادة الخارجية حاضرة عند النفس المدركة قائمة بها قيام الفعل بفاعله لا قيام المقبول بقابله، وتحقيق ذلك بما له وما عليه في مبسوطات كتب الفلسفة. وربما يظن أن الظلمة سواء كانت وجودية أو عدم ملكة من شروط الرؤية كالضوء لكن بالنسبة إلى بعض الأجسام كالأشياء التي تلمع بالليل. ونفى ابن سينا ذلك وقال: لا يمكن أن تكون الظلمة شرطا لوجود اللوامع مبصرة وذلك لأن المضيء مرئي سواء كان الرائي في الظلمة أو في الضوء كالنار نراها مطلقا، وأما الشمس فإنما لا يمكننا أن نراها في الظلمة لأنها متى طلعت لم تبق الظلمة، وأما الكواكب واللوامع فإنما ترى في الظلمة دون النهار لأن ضوء الشمس غالب على ضوئها وإذا انفعل الحس عن الضوء القوي لا جرم لا ينفعل عن الضعيف، فأما في الليل فليس هناك ضوء غالب على ضوئها فلا جرم ترى، وبالجملة فصيرورتها غير مرئية ليس لتوقف ذلك على الظلمة بل لوجود المانع عن الرؤية وهو وجود الضوء الغالب انتهى، ويمكن أن يقال: إن ضوء الشمس على ما ذكر مانع عن رؤية اللوامع ورفع مانع الرؤية شرط لها ودفع الضوء هو الظلمة فالظلمة شرط رؤية اللوامع بالليل وهو المطلوب فتدبر ولا تغفل والله تعالى أعلم بحقائق الأمور. وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ اعتراض تذييلي جيء به لتقرير ما أفاده التمثيل من كون أعمال الكفار كما فصل وتحقيق أن ذلك لعدم هدايته تعالى إياهم لنوره، وإيراد الموصول للإشارة بما في حيز الصلة إلى علة الحكم وأنهم ممن لم يشأ الله تعالى هدايتهم أي من لم يشأ الله تعالى أن يهديه الله سبحانه لنور في الدنيا فما له هداية ما من أحد أصلا فيها، وقيل: معنى الآية من لم يكن له نور في الدنيا فلا نور له في الآخرة. وقيل: كلا الأمرين في الآخرة، والمعنى من لم ينوره الله تعالى بعفوه ويرحمه برحمته يوم القيامة فلا رحمة له من أحد فيها والمعول عليه ما تقدم. والظاهر أن المراد تشبيه أعمال الكفرة بالظلمات المتكاثفة من غير اعتبار أجزاء في طرفي التشبيه يعتبر تشبيه بعضها ببعض، ومنهم من اعتبر ذلك فقال: الظلمات الأعمال الفاسدة والمعتقدات الباطلة والبحر اللجي صدر الكافر وقلبه والموج الضلال والجهالة التي قد غمرت قلبه والموج الثاني الفكر المعوجة والسحاب شهوته في الكفر وإعراضه عن الإيمان. وقيل: الظلمات أعمال الكافر والبحر هواه العميق القعر الكثير لخطر الغريق هو فيه والموج ما يغشى قلبه من الجهل والغفلة. والموج الثاني ما يغشاه من شك وشبهة والسحاب ما يغشاه من شرك وحيرة فيمنعه من الاهتداء والكل كما ترى ولو جعل من باب الإشارة لهان الأمر. ومن باب الإشارة ما قيل إن في قوله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إشارة إلى أنه ينبغي للشيخ إذا أراد تأديب المريد وكسر نفسه الأمارة أن يؤدبه بمحضر طائفة من المريدين الذين لا يحتاجون إلى تأديب. ومن هنا قال أبو بكر بن طاهر: لا يشهد مواضع التأديب إلا من لا يستحق التأديب وهم طائفة من المؤمنين لا المؤمنون أجمع، والزنا عندهم إشارة إلى الميل للدنيا وشهواتها، وفي قوله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً إلخ. وقوله تعالى: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ إلخ إشارة إلى أنه لا ينبغي للأخيار معاشرة الأشرار إن الطيور على أشباهها تقع. وفي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 376 قوله تعالى: لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إشارة إلى أنه لا ينبغي لمن يشنع عليه المنكرون من المشايخ أن يحزن من ذلك ويظنه شرا له فإنه خير له موجب لترقيه. وفي قوله تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ إلخ إشارة إلى أنه ينبغي للشيوخ والأكابر أن لا يهجروا أصحاب العثرات وأهل الزلات من المريدين وأن لا يقطعوا إحسانهم وفيوضاتهم عنهم، وفي قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها إشارة إلى أنه لا ينبغي لمن يريد الدخول على الأولياء أن يدخل حتى يجد روح القبول والإذن بإفاضة المدد الروحاني على قلبه المشار إليه بالاستئناس فإنه قد يكون للولي حال لا يليق للداخل أن يحضره فيه وربما يضره ذلك، وأطرد بعض الصوفية ذلك فيمن يريد الدخول لزيارة قبور الأولياء قدس الله تعالى أسرارهم فقال: ينبغي لمن أراد ذلك أن يقف بالباب على أكمل ما يكون من الأدب ويجمع حواسه ويعتمد بقلبه طالبا الإذن ويجعل شيخه واسطة بينه وبين الولي المزور في ذلك فإن حصل له انشراح صدر ومدد روحاني وفيض باطني فليدخل وإلّا فليرجع، وهذا هو المعني بأدب الزيارة عندهم ولم نجد ذلك عن أحد من السلف الصالح. والشيعة عند زيارتهم للأئمة رضي الله تعالى عنهم ينادي أحدهم أأدخل يا أمير المؤمنين أو يا ابن بنت رسول الله عليه الصلاة والسلام أو نحوه ذلك ويزعمون أن علامة الإذن حصول رقة القلب ودمع العين وهو أيضا مما لم نعرفه عن أحد من السلف ولا ذكره فقهاؤنا وما أظنه إلا بدعة ولا يعد فاعلها إلا مضحكة للعقلاء، وكون المزور حيا في قبره لا يستدعي الاستئذان في الدخول لزيارته، وكذا ما ذكره بعض الفقهاء من أنه ينبغي للزائر التأدب مع المزور كما يتأدب معه حيا كما لا يخفى. وقد رأيت بعد كتابتي هذه في الجوهر المنتظم في زيارة القبر المعظم صلى الله تعالى على صاحبه وسلم لابن حجر المكي ما نصه، قال بعضهم: وينبغي أن يقف- يعني الزائر- بالباب وقفة لطيفة كالمستأذن في الدخول على العظماء انتهى. وفيه أنه لا أصل لذلك ولا حال ولا أدب يقتضيه انتهى. ومنه يعلم أنه إذا لم يشرع ذلك في زيارة قبره عليه الصلاة والسلام فعدم مشروعيته في زيارة غيره من باب أولى فاحفظ ذاك والله تعالى يعصمنا من البدع وإياك. وقيل في قوله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ إلخ إن فيه أمرا بغض بصر النفس عن مشتهيات الدنيا وبصر القلب عن رؤية الأعمال ونعيم الآخرة وبصر السر عن الدرجات والقربات وبصر الروح عن الالتفات إلى ما سوى الله تعالى وبصر الهمة عن أن يرى نفسه أهلا لشهود الحق تنزيها له تعالى وإجلالا، وأمرا بحفظ فرج الباطن عن تصرفات الكونين فيه، والإشارة بأمر النساء بعدم إبداء الزينة إلا لمن استثنى إلى أنه لا ينبغي لمن تزين بزينة الأسرار أن يظهرها لغير المحارم ومن لم يسترها عن الأجانب. وبقوله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ إلخ إلى النكاح المعنوي وهو أن يودع الشيخ الكامل في رحم القلب من صلب الولاية نطفة استعداد قبول الفيض الإلهي. وقد أشير إلى هذا الاستعداد بقوله سبحانه: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ثم قال جل وعلا: وَلْيَسْتَعْفِفِ أي ليحفظ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ شيخا في الحال أرحام قلوبهم عن تصرفات الدنيا والهوى والشيطان حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ بأن يوفق لهم شيخا كاملا أو يخصهم سبحانه بجذبة من جذباته، وأشير بقوله تعالى: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ إلخ إلى أن المريد إذا طلب الخلاص عن قيد الرياضة لزم إجابته إن علم فيه الخير وهو التوحيد والمعرفة والتوكل والرضا والقناعة وصدق العمل والوفاء بالعهد ووجب أن يؤتي بعض المواهب (1) التي خصها الله تعالى بها الشيخ، وأشير بقوله تعالى:   (1) قوله خصها الله تعالى بها الشيخ كذا بالأصل اهـ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 377 وَلا تُكْرِهُوا إلخ إلى أن النفس إذا لم تكن مائلة إلى التصرف في الدنيا لم تكره عليه. ولهم في قوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كلام طويل عريض وفيما قدمنا ما يصح أن يكون من هذا الباب، وذكر أن قوله تعالى: رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ مما يدخل في عمومه أهل الطريقة العلية النقشبندية الذين حصل لهم الذكر القلبي ورسخ في قلوبهم بحيث لا يغفلون عنه سبحانه في حال من الأحوال وهذا وإن ثبت لغيرهم أيضا من أرباب الطرائق فإنما يثبت في النهايات دون المبادي كما يثبت لأهل تلك الطريقة. وفي مكتوبات الإمام الرباني قدس سره ما يغني عن الإطالة في شرح أحوال هؤلاء القوم وبيان منزلتهم في الذكر والحضور بين سائر الأقوام حشرنا الله تعالى وإياهم تحت لواء النبي عليه الصلاة والسلام، وقيل إن قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ إشارة لما ورد في حديث «خلق الله تعالى الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه منه اهتدى ومن أخطأه ضل» والله تعالى الموفق لصالح العمل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 378 أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلخ استئناف خوطب به النبي صلّى الله عليه وسلّم للإيذان كما في إرشاد العقل السليم بأن الله تعالى قد أفاض عليه أعلى مراتب النور وأجلاها وبين له من أسرار الملك والملكوت أدقها وأخفاها. وقال الطبرسي: هو بيان للآيات التي جعلها نورا والخطاب له عليه الصلاة والسلام والمراد به جميع المكلفين والهمزة للتقرير والرؤية هنا بمعنى العلم والظاهر أن إطلاقها عليه حقيقة. وقيل هي حقيقة في الأبصار وإطلاقها على العلم استعارة أو مجاز لعلاقة اللزوم، وأيا ما كان فالمراد ألم تعلم بالوحي أو بالمكاشفة أو بالاستدلال إن الله تعالى ينزهه آنا فآنا في ذاته وصفاته وأفعاله عن كل ما لا يليق بشأنه الجليل من نقص أو خلل تنزيها معنويا تفهمه العقول السليمة جميع من في السموات والأرض من العقلاء وغيرهم كائنا ما كان فإن كل موجود من الموجودات الممكنة مركبا كان أو بسيطا فهو من حيث ذاته ووجوده وأحواله المتجددة له يدل على صانع واجب الوجود متصف بصفات الكمال منزه عن كل ما لا يليق بشأن من شؤونه الجليلة وقد نبه سبحانه على كمال قوة تلك الدلالة وغاية وضوحها حيث عبر عنها بما يخص العقلاء من التسبيح الذي هو أقوى مراتب التنزيه وأظهرها تنزيلا للسان الحال منزلة لسان المقال وتخصيص التنزيه بالذكر مع دلالة ما فيهما على اتصافه تعالى بنعوت الكمال أيضا لما أن مساق الكلام لتقبيح حال الكفرة في إخلالهم بالتنزيه بجعلهم الجمادات شركاء له سبحانه في الألوهية ونسبتهم إياه عز وجل إلى اتخاذ الولد ونحو ذلك مما تعالى الله عنه علوا كبيرا، وإطلاق من على العقلاء وغيرهم بطريق التغليب، ولا يغني عن اعتباره أو اعتبار مجاز مثله إسناد التسبيح المختص بالعقلاء بحسب الظاهر كما توهمه بعض الأجلة، وحمل بعضهم التسبيح على معنى مجازي شامل لتسبيح العقلاء وغيرهم ويسمى عموم المجاز. ورد بأن بعضا من العقلاء وهم الكفرة من الثقلين لا يسبحونه بذلك المعنى قطعا وإنما تسبيحهم ما ذكر من الدلالة التي يشاركهم فيها غير العقلاء أيضا. وفي ذلك من تخطئتهم وتعبيرهم ما فيه، والقول بأن الكفرة يسبحون كالمؤمنين لكن من حيث لا يشعرون كما قال الحلاج: جحودي لك تقديس مما لا يقبله ذوو العقول وحري بأن لا يكون من المقبول، وقال بعضهم: إذا كانت من للتغليب يندرج في عمومها العقلاء المطيعون والعقلاء العاصون وغير العقلاء مطلقا فيحمل التسبيح على معنى مجازي يصح نسبته إلى كل ما ذكر وأي مانع من ذلك وهو كما ترى. واستظهر أبو حيان إبقاء التسبيح على ظاهره وتخصيص من بالعقلاء المطيعين وما ذكر أولا أولى. وَالطَّيْرُ بالرفع عطفا على مَنْ وتخصيصها بالذكر عليه مع اندراجها في جملة ما في الأرض لعدم استمرار قرارها فيها واستقلالها بصنع بارع وإنشاء رائع قصد بيان تسبيحها من تلك الجهة لوضوح أنبائها عن كمال قدرة صانعها ولطف تدبير مبدعها حسبما يعرب عنه التقييد بقوله تعالى: صَافَّاتٍ أي تسبيحه الطير أي حال كونها صافات أجنحتها فإن إعطاءه تعالى للأجرام الثقيلة ما يتمكن به من الوقوف في الجو والحركة كيف شاء من الأجنحة والأذناب الخفيفة وإرشادها إلى كيفية استعمالها بالقبض والبسط والتحريك يمينا وشمالا ونحو ذلك حجة واضحة الدلالة على كمال قدرة الصانع المجيد، وغاية حكمة المبدئ المعيد، والعطف على ما استظهره أبو حيان على مَنْ أيضا وقد صرح بذلك، ونقل عن الجمهور أن تسبيحها حقيقي وظاهره أنه على نحو تسبيح العقلاء من الثقلين، ولعل ملتزم ذلك لا يلتزم وجوب كون التسبيح الحقيقي بالألفاظ المألوفة لنا وإلا لا يتسنى القول بأن تسبيحها حقيقي مع هذا الوجوب لفقد الألفاظ المألوفة لنا منها، ويجوز أن يقال: إنه تعالى ألهم الطير تسبيحا مخصوصا يليق الجزء: 9 ¦ الصفحة: 379 بها هو غير التسبيح الحالي الذي هو الدلالة السابقة ويقدر فعل رافع لها يراد منه ذلك المعنى الملهم أي ويسبح الطير، وتخصيص تسبيحها بذلك المعنى بالذكر لما أن أصواتها أظهر وجودا وأقرب حملا على التسبيح لكن التقييد بالحال على هذا حاله في الحسن دون حاله على ما سبق. وقرأ الأعرج «والطير» بالنصب على أنه مفعول معه، وقرأ الحسن وخارجة عن نافع «والطير صافات» برفعهما على الابتداء والخبرية، والظاهر على هذه القراءة أن قوله تعالى: كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ خبر بعد خبر وعلى قراءة الجمهور استئناف جيء به لبيان كمال عراقة كل واحد مما ذكر من الطير وما اندرج في عموم مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ في التنزيه ورسوخ قدمه فيه بتمثيل حاله بحال من يعلم ما يصدر عنه من الأفاعيل فيفعلها عن قصد ونية لا عن اتفاق بلا روية، وقد أدمج سبحانه في تضاعيفه الإشارة إلى أن لكل واحد من الأشياء المذكورة مع ما ذكر من التنزيه حاجة ذاتية إليه تعالى واستفاضة منه عز وجل لما يهمه بلسان استعداده، وتحقيقه أن كل واحد من الموجودات الممكنة في حد ذاته بمعزل عن استحقاق الوجود لكنه مستعد لأن يفيض عليه منه تعالى ما يليق بشأنه من الوجود وما يتبعه من الكمالات ابتداء وبقاء فهو مستفيض منه تعالى على الاستمرار فيفيض عليه في كل آن من فنون الفيوض المتعلقة بذاته وصفاته ما لا يحيط به نطاق البيان بحيث لو انقطع ما بينه وبين العناية الربانية من العلاقة لانعدم بالمرة، وقد عبر عن تلك الاستفاضة المعنوية بالصلاة التي هي الدعاء والابتهال لتكميل التمثيل، وتقديمها على التسبيح في الذكر لتقدمها عليه في الرتبة كذا في إرشاد العقل السليم، والكلام عليه استعارة تمثيلية والمضاف إليه الذي ناب عنه تنوين كُلٌّ ما يشمل المذكور المصرح به والمندرج تحت العموم حتى الجماد وضمير عَلِمَ وكذا ضميرا صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ لكل واحد وإليه ذهب الزجاج. وزعم بعضهم أنه يكون في عَلِمَ على ذلك استعارة تبعية وقال في بيان ذلك: إنه يشبه دلالة كل واحد من المذكورين على الحق بلسان الحق والمقال وميل كل منهم إلى النفع اختيارا أو طبعا بعلم التسبيح والصلاة فيطلق على كل واحد من تلك الدلالة والميل اسم العلم على سبيل الاستعارة ويشتق منه لفظ علم، ومن له أدنى ذوق لا يرتضيه، وجوز أيضا أن يكون الصلاة مجازا عن الميل والتسبيح مجازا عن الدلالة ومع هذا قيل إنه وإن صح غير مناسب للتمثيل، وزعم بعض أن الأولى أن يجعل المضاف إليه غير شامل للجماد وليس بذاك، وجوز أن يكون ضميرا صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ لله تعالى على أن الإضافة للمفعول، وجوز أن يكون لكل واحد مما في السموات والأرض ويكون ضمير عَلِمَ لله عز وجل، وقال غير واحد: يجوز أن لا يكون هناك استعارة والعلم على حقيقته ويراد به مطلق الإدراك ويراد بما ناب عنه التنوين أنواع الطير أو أفرادها وبالصلاة والتسبيح ما ألهمه الله عز وجل كل واحد من الدعاء والتسبيح المخصوصين به، ولا بعد في هذا الإلهام فقد ألهم سبحانه كل نوع من أنواع الحيوانات علوما دقيقة لا يكاد يهتدي إليها جهابذة العقلاء وهذا مما لا سبيل إلى إنكاره أصلا كيف لا وأن القنفذ مع كونه أبعد الحيوانات من الإدراك قالوا: إنه يحس بالشمال والجنوب قبل هبوبهما فيغير المدخل إلى جحره، والجملة على هذا لبيان كمال الرسوخ في الأمرين وأن صدورهما عن الطير ليس بطريق الاتفاق بلا روية بل عن علم وإتقان نظير ما مر لكن لا على سبيل التمثيل، وقدر فعل رافع للطير عليه أي ويسبح الطير كما تقدم ولم تجعل معطوفة على مَنْ مرفوعة برافعها قيل لأنه يؤدي إلى أن يراد بالتسبيح الدال عليه الفعل المذكور معنى مجازي شامل للتسبيح المقالي والحالي من العقلاء وغيرهم، وقد تقدم ما فيه، وجوز جعل ما ناب عنه التنوين ما يشمل الطير وغيره من المندرج في العموم السابق، وفيه أن مما اندرج في العموم الجماد ولا ينسب إليه العلم وإن كان بمعنى مطلق الإدراك والتزم أن له علما وأنه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 380 سبحانه ألهمه صلاة وتسبيحا لائقين به مما لا يرتضيه كثير من الناس، وقد تقدم لك ما يتعلق بهذا المقام في سورة الإسراء فتذكر. وجوز بعضهم على تقدير حمل العلم على المعنى الحقيقي أن يكون عطف التسبيح على الصلاة من عطف التفسير، وأنت تعلم أنه إذا قبل ذلك على ذلك التقدير فما المانع من قبوله على التقدير السابق من جعل الاستعارة تمثيلية، نعم يفوت حينئذ الإدماج الذي أشير إليه فيما مر وهو ليس بمانع، والحق أن احتمال التفسير بعيد ولا داعي إلى ارتكابه بل يفوت عليه ما يفوت كما لا يخفى، وقوله تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ أي بالذي يفعلونه اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله، و (ما) إما عبارة عن الدلالة الشاملة لجميع الموجودات من العقلاء وغيرهم والتعبير عنها بالفعل مسندا إلى ضمير العقلاء لما أشرنا إليه أول الكلام، وأما عبارة عنها وعن التسبيح الخاص بالطير معا أو عن تسبيح الطير فقط فالفعل على حقيقته وإسناده إلى ضمير العقلاء لما مر، والاعتراض حينئذ مقرر لتسبيح الطير فقط وعلى الأولين لتسبيح الكل، وإما عبارة عن الأعم من الصلاة والتسبيح وغيرهما من الأفعال الصادرة عمن في السموات والأرض والأحوال العارضة له والاعتراض حينئذ مقرر لمضمون كُلٌّ قَدْ عَلِمَ أي الله تعالى صلاته وتسبيحه، وأمر التعبير بالفعل والإسناد إلى ضمير العقلاء لا يخفى، ولتعدد الأوجه فيما مر تعددت الاحتمالات هنا فتأمل ولا تغفل. وقرأ الحسن وعيسى وسلام وهارون عن أبي عمرو «تفعلون» بتاء الخطاب، وفيه كما قيل وعيد وتخويف ولعل الظاهر أن الخطاب فيه للكفرة، وربما يجوز أن يكون ضمير الجمع على قراءة الجمهور لهم أيضا على أن المراد بالجملة تخويفهم لإعراضهم عن تسبيحه تعالى بعد أن أخبر سبحانه عمن أخبر بأنه قد علم صلاته وتسبيحه، وهذا وإن كان بعيدا إلا أن في القراءة المذكورة نوع تأييد له وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا لغيره تعالى استقلالا أو اشتراكا لأنه سبحانه الخالق لهما ولما فيهما من الذوات والصفات وهو المتصرف في جميعها إيجادا وإعداما إبداء وإعادة، وقوله تعالى: وَإِلَى اللَّهِ أي إليه عز وجل خاصة لا إلى غيره أصلا الْمَصِيرُ أي رجوع الكل بالفناء والبعث بيان لاختصاص الملك به تعالى في المنتهى إثر بيان اختصاصه به تعالى في المبتدأ، وقيل: إن الجملة لبيان أن ما يرى من ظهور بعض الآثار على أيدي المخلوقات لا ينافي الحصر السابق بإفادة أن الانتهاء إليه تعالى لا إلى غيره ويكفي ذلك في الحصر ولعل الأول أولى، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتربية المهابة والإشعار بعلة الحكم، وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً إلخ كالتأكيد لما قبله والتنوير والإزجاء له سوق الشيء برفق وسهولة، وقيل: سوق الثقيل برفق وغلب على ما ذكر بعض الأجلة في سوق شيء يسير أو غير معتد به، ومنه البضاعة المزجاة أي المسوقة شيئا بعد شيء على قلة وضعف، وقيل: أي التي تزجى أي تدفع للرغبة عنها، وفي التعبير بيزجي على ما ذكر إيماء إلى أن السحاب بالنسبة إلى قدرته تعالى مما لا يعتد به، وهو اسم جنس جمعي واحده سحابه، والمعنى كما في البحر يسوق سحابة إلى سحابة ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ بأن يوصل سحابة بسحابة، وقال غير واحد: السحاب واحد كالعماء والمراد يؤلف بين أجزائه وقطعه وهذا لأن بين لا تضاف لغير متعدد وبهذا التأويل يحصل التعدد كما قيل به في قوله: بين الدخول فحومل، واستغنى بعضهم عنه بجعل السحاب اسم جنس جمعي على ما سمعت. وقرأ ورش عن نافع «يولف» غير مهموز ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً أي متراكما بعضه فوق بعض فَتَرَى الْوَدْقَ أي المطر شديدا كان أو ضعيفا إثر تراكمه وتكاثفه، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بجيلة عن أبيه أنه فسر الودق بالبرق الجزء: 9 ¦ الصفحة: 381 ولم نره لغيره والذي رأيناه في معظم التفاسير وكتب اللغة أنه المطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ أي من فتوقه ومخارجه التي حدثت بالتراكم والانعصار وهو جمع خلل كجبال وجبل، وقيل: هو مفرد كحجاب وحجاز، وأيد بقراءة ابن عباس وابن مسعود وابن زيد والضحاك ومعاذ العنبري عن أبي عمرو والزعفراني من «خلله» والمراد حينئذ الجنس، والجملة في موضع الحال من الْوَدْقَ لأن الرؤية بصرية، وفي تعقيب الجعل المذكور برؤيته خارجا لا بخروجه من المبالغة في سرعة الخروج على طريقة قوله تعالى: فقلنا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [الشعراء: 63] ومن الاعتناء بتقرير الرؤية ما لا يخفى وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ أي من السحاب فإن كل ما علاك سماء، وكأن العدول عنه إلى السماء للإيماء إلى أن للسمو مدخلا فيما ينزل بناء على المشهور في سبب تكون البرد، وجوز أن يراد بها جهة العلو وللإيماء المذكور ذكرت مع التنزيل مِنْ جِبالٍ أي من قطع عظام تشبه الجبال في العظم على التشبيه البليغ كما في قوله تعالى: حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً [الكهف: 96] والمراد بها قطع السحاب، ومن الغريب الذي لا تساعده اللغة كما في الدرر والغرر الرضوية قول الأصبهاني: إن الجبال ما جبله الله تعالى أي خلقه من البرد فِيها أي في السماء، والجار والمجرور في موضع الصفة لجبال، وقوله تعالى: مِنْ بَرَدٍ وهو معروف، وسمي بردا لأنه يبرد وجه الأرض أي يقشره من بردت الشيء بالمبرد مفعول يُنَزِّلُ على أن من تبعيضية، وقيل: زائدة على رأي الأخفش والأوليان لابتداء الغاية، والجار والمجرور الثاني بدل من الأول بدل اشتمال أو بعض أي ينزل مبتدأ من السماء من جبال كائنة فيها بعض برد أو بردا. وزعم الحوفي أن من الثانية للتبعيض كالثالثة مع قوله بالبدلية وهو خطأ ظاهر، وقيل: من الأولى ابتدائية والثانية للتبعيض واقعة موقع المفعول، وقيل: زائدة على رأي الأخفش أيضا والثالثة للبيان أي ينزل مبتدأ من السماء بعض جبال أو جبالا كائنة فيها التي هي برد فالمنزل برد، عن الأخفش أن مِنْ الثانية ومن الثالثة زائدتان وكل من المجرورين في محل نصب أما الأول فعلى المفعولية لينزل وأما الثاني فعلى البدلية منه أي ينزل من السماء جبالا لا بردا ومآله ينزل من السماء بردا. وقال الفراء: هما زائدتان إلا أن المجرور بأولاهما في موضع نصب على المفعولية والمجرور بثانيتهما في موضع رفع إما على أنه مبتدأ وفِيها خبره والضمير من فِيها للجبال أي ينزل من السماء جبالا في تلك الجبال برد لا شيء آخر من حصى وغيره، وإما على أنه فاعل فِيها لأنه قد اعتمد على الموصوف أعني الجبال وضمير راجع إليها أيضا. والمراد بالجبال على غير ما قول الكثرة مجازا وقد جاء استعمالها فيها كذلك في قول ابن مقبل: إذا مت عن ذكر القوافي فلن ترى ... لها شاعرا مني أطلب وأشعرا وأكثر بيتا شاعر ضربت له ... بطون جبال الشعر حتى تيسرا ويقال: عنده جبل من ذهب وجبل من علم، وعن مجاهد والكلبي وأكثر المفسرين أن المراد بالسماء المظلة وبالجبال حقيقتها قالوا: إن الله تعالى خلق في السماء جبالا من برد كما خلق في الأرض جبالا من حجر وليس في العقل ما ينفيه من قاطع فيجوز إبقاء الآية على ظاهرها كما قيل، والمشهور بين أهل الحكمة أن انبعاث قوى السماويات وأشعتها قد يوجب تصعيد أجسام لطيفة مرتفعة عن الماء ممتزجة مع الهواء وهي التي سمي بخارا ولثقله بالنسبة إلى الدخان لرطوبته ويبس الدخان يقف في حيز الهواء بحيث لا يكون واصلا إليه الحرارة الكائنة من الشعاع المنعكس عن جرم الأرض ويكون متباعدا عن المتسخن بحرارة النار فيبقى في الطبقة الباردة من الهواء فيبرد ويتكاثف الجزء: 9 ¦ الصفحة: 382 بالتصاعد شيئا فشيئا فيرتكم منه سحاب فيقطر مطرا إما كله أو بعضه ويتفرق بعضه لبقائه على صورته الهوائية واستحالة ما قطر إلى صورته المائية فإن طالت مسافتها اتصلت فكانت قطراتها أكبر وإن اشتد البرد عليها صارت بردا أو نزلت ثلجا وامتنع تصاعد البخار عند ذلك فيبرد وجه الأرض مع برد الجو فيكون من ذلك البرد القوي فإن صادف ريحا اشتد البرد لإزالتها البخار الأرضي وإن لم يصادف ريحا أذاب البخار الثلج وسخن وجه الأرض، وذكروا أنه كلما طالت المسافة حتى اتصلت وكبرت القطرات وصادف البرد كان البرد أكبر مقدارا وقد ينعقد المطر بردا داخل السحاب ثم ينزل وذلك في الربيع عند ما يصيبه سخونة من خارجه فتبطن البرودة في داخله عند انحلاله قطرات فيجمد وقد يكون البخار أكثر تكاثفا فلا يقوى على الارتفاع ويبرد بسرعة بما يوافيه من برد الليل لعدم الشعاع، وليس بحيث يصير سحابا فيكون منه الظل وقد يجمد في الأعالي قبل تراكمه فيكون منه الصقيع وقد يتكاثف الهواء لإفراط البرد فينعقد سحابا ويمطر بحاله، والحق أن كل ذلك مستندا إلى إرادة الله عز وجل ومشيئته سبحانه المبنية على الحكم والمصالح والأسباب التي ذكرت عادية ولا أرى بأسا بالقول بذلك وباعتبار أن أول الأسباب القوى السماوية وأشعتها صح أن يقال: إن الإنزال مبتدأ من السماء على ما أشار إليه العلامة البيضاوي في الكلام على سورة البقرة، وحمل الآية على ما يوافق المشهورة لا يخل بجزالتها بل هي عليه أجزل وعن شكوك العوام أبعد لا سيما أهل الجبال الذين قد يمطرون وينزل على أرضهم البرد وهم فوق الجبال في الشمس فَيُصِيبُ بِهِ أي بما ينزل من البرد مَنْ يَشاءُ أي يصيبه فيناله ما يناله من ضرر في ماله ونفسه وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ أن يصرفه عنه فينجو من غائلته، ورجوع الضميرين إلى البرد هو الظاهر. وفي البحر يحتمل رجوعهما إلى الْوَدْقَ والبرد وجرى فيهما مجرى اسم الإشارة كأنه قيل فيصيب بذلك ويصرف ذلك والمطر أغلب في الإصابة والصرف وأبلغ في المنفعة والامتنان اهـ وفيه بعد ومنع ظاهر. يَكادُ سَنا بَرْقِهِ أي ضوء برق السحاب الموصوف بما مر من الإزجاء والتأليف وغيرهما، وإضافة البرق إليه قبل الإخبار بوجوده فيه للإيذان بظهور أمره واستغنائه على التصريح به وعلى ما سمعت عن أبي بجيلة لا يحتاج إلى هذا ورجوع الضمير إلى البرد أي برق البرد الذي يكون معه ليس بشيء، وتقدم الكلام في حقيقة البرق فتذكر. وقرأ طلحة بن مصرف «سناء» ممدودا «برقه» بضم الباء وفتح الراء جمع برقة بضم الباء وهي المقدار من البرق كالغرفة. واللقمة، وعنه أيضا أنه قرأ «برقه» بضم الباء والراء أتبع حركة الراء لحركة الباء كما قيل نظيره في ظُلُماتٌ والسناء ممدودا بمعنى العلو وارتفاع الشأن، وهو هنا كناية عن قوة الضوء، وقرىء «يكاد سنا» بإدغام الدال في السين يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ أي يخطفها من فرط الإضاءة وسرعة ورودها وفي إطلاق الأبصار مزيد تهويل لأمره وبيان لشدة تأثيره فيها كأنه يكاد يذهب بها ولو عند الإغماض وهذا من أقوى الدلائل على كمال القدرة من حيث إنه توليد للضد من الضد. وقرأ أبو جعفر «يذهب» بضم الياء وكسر الهاء، وذهب الأخفش وأبو حاتم إلى تخطئته في هذه القراءة قالا: لأن الباء تعاقب الهمزة، ولا يجوز اجتماع أداتي تعدية، وقد أخطئا في ذلك لأنه لم يكن ليقرأ إلا بما روي وقد أخذ القراءة عن سادات التابعين الآخذين عن جلة الصحابة أبيّ وغيره رضي الله تعالى عنهم ولم ينفرد هو بها كما زعم الزجاج بل قرأ أيضا كذلك شيبة وخرج ذلك على زيادة الباء أي يذهب الأبصار وعلى أن الباء بمعنى من كما في قوله: فلثمت فاها قابضا بقورنها ... شرب النزيف ببرد ماء الحشرج والمفعول محذوف أي يذهب النور من الأبصار، وأجاز الحريري كما نقل عنه الطيبي الجمع بين أداتي تعدية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 383 يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ بإتيان أحدهما بعد الآخر أو بنقص أحدهما وزيادة الآخر أو بتغيير أحوالهما بالحر والبرد وغيرهما مما يقع فيهما من الأمور التي من جملتها ما ذكر من إزجاء السحاب وما ترتب عليه، وكأن الجملة على هذا استئناف لبيان الحكمة فيما مر، وعلى الأولين استئناف لبيان أنه عز وجل لا يتعاصاه ما تقدم من الإزجاء وما بعده، وقيل هي معطوفة على ما تقدم داخلة في حيز الرؤية وأسقط حرف العطف لقصد التعداد وهو كما ترى إِنَّ فِي ذلِكَ إشارة إلى ما فصل آنفا، وما فيه من معنى البعد مع قرب المشار إليه للإيذان بعلو رتبته وبعد منزلته لَعِبْرَةً لدلالة واضحة على وجود الصانع القديم ووحدته وكمال قدرته وإحاطة علمه بجميع الأشياء ونفاذ مشيئته وتنزهه عما لا يليق بشأنه العلي، ودلالة ذلك على الوحدة بواسطة برهان التمانع وإلا ففيه خفاء بخلاف دلالته على ما عدا ذلك فإنها واضحة لِأُولِي الْأَبْصارِ أي لكل من له بصيرة يراجعها ويعلمها فالأبصار هنا جمع بصر بمعنى البصيرة بخلافها فيما سبق. وقيل: هو بمعنى البصر الظاهر كما هو المتبادر منه، والتعبير بذلك دون البصائر للإيذان بوضوح الدلالة. وتعقب بأنه يلزم عليه ذهاب حسن التجنيس وارتكاب ما هو كالإيطاء، واشتهر أنه ليس في القرآن جناس تام غير ما في قوله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ [الروم: 55] وفيه كلام نقله السيوطي في الإتقان ناشىء عند من دقق النظر من عدم الإتقان، واستنبط شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني موضعا آخر وهو هذه الآية الكريمة وهو لا يتم إلا على ما قلنا، وأشار إليه البيضاوي وغيره (1) ولعل من اختار المتبادر راعى أن حسن تلك الإشارة فوق حسن التجنيس فتأمل وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ أي كل حيوان يدب على الأرض وأدخلوا في ذلك الطير والسمك، وظاهر كلام بعض أئمة التفسير أن الملائكة والجن يدخلون في عموم الدابة، ولعلها عنده كل ما دب وتحرك مطلقا ومعظم اللغويين يفسرها بما سمعت، والتاء فيها للنقل إلى الاسمية لا للتأنيث، وقيل دابة واحد داب كخائنة وخائن. وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب والأعمش «خالق» اسم فاعل «كل دابة» بالجر بالإضافة مِنْ ماءٍ هو جزء مادته وخصه بالذكر لظهور مزيد احتياج الحيوان بعد كمال تركيبه إليه وأن امتزاج الأجزاء الترابية به إلى غير ذلك أو ماء مخصوص هو النطفة فالتنكير على الأول للإفراد النوعي، وعلى الثاني للإفراد الشخصي. وجوز أن يكون عليهما لذلك، وكلمة كُلَّ على الثاني للتكثير كما في قوله تعالى: يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ [القصص: 57] لأن من الدواب ما يتولد لا عن نطفة. وزعم بعضهم أنها على الأول لذلك أيضا بناء على شمول الدابة للملائكة المخلوقين من نور وللجن المخلوقين من نار، وادعى أيضا أن من الإنس من لم يخلق من ماء أيضا وهو آدم وعيسى عليهما السلام فإن الأول خلق من التراب والثاني خلق من الروح ولا يخفى ما فيه، وجوز أن يعتبر العموم في «كل» ويراد بالدابة ما يخلق بالتوالد بقرينة من ماء أي نطفة وفيه بحث، وقيل ما من شيء دابة كان أو غيره إلا وهو مخلوق من الماء فهو أصل جميع المخلوقات لما روي أن أول ما خلق الله تعالى جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء ثم خلق من ذلك الماء النار والهواء والنور وخلق منها الخلق ، وأيا ما كان فمن متعلقة بخلق، وقال القفال واستحسنه الإمام: هي متعلقة بمحذوف وقع صفة لدابة فالمراد الإخبار بأنه تعالى خلق كل دابة كائنة أو متولدة من الماء فعموم الدابة عنده مخصص بالصفة وعموم كُلَّ على ظاهره.   (1) كالثعالبي اهـ منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 384 والظاهر أنه متعلق بخلق وهو أوفق بالمقام كما لا يخفى على ذوي الأفهام، وتنكير الماء هنا وتعريفه في قوله تعالى: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء: 30] لأن القصد هنا إلى معنى الإفراد شخصا أو نوعا والقصد هناك إلى معنى الجنس وأن حقيقة الماء مبدأ كل شيء حي فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ كالحيات والسمك وتسمية حركتها مشيا مع كونها زحفا مجاز للمبالغة في إظهار القدرة وأنها تزحف بلا آلة كشبه المشي وأقوى، ويزيد ذلك حسنا ما فيه من المشاكلة لذكر الزاحف مع الماشين، ونظير ما هنا من وجه قوله تعالى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح: 10] على رأي وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ كالإنس والطير وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ كالنعم والوحش. والظاهر أنه المراد أربع أرجل فيفيد إطلاق الرجل على ما تقدم من قوائم ذوات القوائم الأربع وقد جاء إطلاق اليد عليه وعدم ذكر من يمشي على أكثر من أربع كالعناكب وأم أربع وأربعين وغير ذلك من الحشرات لعدم الاعتداد بها مع الإشارة إليها بقوله سبحانه: يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ أي مما ذكر ومما لم يذكر بسيطا كان أو مركبا على ما يشاء من الصور والأعضاء والحركات والطبائع والقوى والأفاعيل. وزعم الفلاسفة أن اعتماد ما له أكثر من أربع من الحيوان إنما هو على أربع ولا دليل لهم على ذلك. وفي مصحف أبي ومنهم من يمشي على أكثر وهو ظاهر في خلاف ما يزعمون لكنه لم يثبت قرآنا، وتذكير الضمير في مِنْهُمْ لتغليب العقلاء، وبني على تغليبهم في الضمير التعبير بمن واقعة على ما لا يعقل قاله الرضي، وظاهر بعض العبارات يشعر باعتبار التغليب في كُلَّ دَابَّةٍ وليس بمراد بل المراد أن ذلك لما شمل العقلاء وغيرهم على طريق الاختلاط لزم اعتبار ذلك في الضمير العائد عليه وتغليب العقلاء فيه، ويفهم من كلام بعض المحققين أن لا تغليب في مِنْ الأولى والثالثة بل هو في الثانية فقط، وقد يقال: لا تغليب في الثلاثة بعد اعتباره في الضمير فتدبر. وترتيب الأصناف حسبما رتبت لتقديم ما هو أعرف في القدرة ولا ينافي ذلك كون المشي على البطن بمعنى الزحف مجازا كما توهم، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتفخيم شأن الخلق المذكور والإيذان بأنه من أحكام الألوهية، والإظهار في قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي فيفعل ما يشاء كما يشاء لذلك أيضا مع تأكيد استقلال الاستئناف التعليلي لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ أي لكل ما يليق بيانه من الأحكام الدينية والأسرار التكوينية أو واضحات في أنفسها، وهذا كالمقدمة لما بعده ولذا لم يأت بالعاطف فيه كما أتى سبحانه به فيما مر من قوله تعالى: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا [النور: 34] الآية، ومن اختلاف المساق يعلم وجه ذكر إِلَيْكُمْ هناك وعدم ذكره هنا. وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ هدايته بتوفيقه للنظر الصحيح فيها والتدبر لمعانيها إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ موصل إلى حقيقة الحق والفوز بالجنة وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ شروع في بيان أحوال بعض من لم يشأ الله تعالى هدايته إلى صراط مستقيم وهم صنف من الكفرة الذي سبق وصف أعمالهم. أخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة أنها نزلت في المنافقين وروي عن الحسن نحوه، وقيل نزلت في بشر المنافق دعاه يهودي في خصومة بينهما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودعا هو اليهودي إلى كعب بن الأشرف ثم تحاكما إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فحكم لليهودي فلم يرض المنافق بقضائه عليه الصلاة والسلام وقال: نتحاكم إلى عمر رضي الله تعالى عنه فلما ذهبا إليه قال له اليهودي: قضى لي النبي صلّى الله عليه وسلّم فلم يرض بقضائه فقال عمر للمنافق: أكذلك؟ فقال: نعم فقال: مكانكما حتى أخرج إليكما فدخل رضي الله تعالى عنه بيته وخرج بسيفه فضرب عنق ذلك المنافق حتى برد وقال: هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت ، وقال جبريل عليه السلام: إن عمر فرق بين الحق والباطل فسمي لذلك الفاروق، وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 385 وقال الضحاك: نزلت في المغيرة بن وائل كان بينه وبين علي كرم الله تعالى وجهه خصومة في أرض فتقاسما فوقع لعلي ما لا يصيبه الماء إلا بمشقة فقال المغيرة: بعني أرضك فباعها إياه وتقابضا فقيل للمغيرة: أخذت سبخة لا ينالها الماء فقال لعليّ كرم الله تعالى وجهه: اقبض أرضك فإنما اشتريتها إن رضيتها ولم أرضها فإن الماء لا ينالها فقال علي: قد اشتريتها ورضيتها وقبضتها وأنت تعرف حالها لا أقبلها منك ودعاه إلى أن يخاصمه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: أما محمد فلست آتيه فإنه يبغضني وأنا أخاف أن يحيف عليّ فنزلت ، وعلى هذا وما قبله جمع الضمير لعموم الحكم أو لأن مع القائل طائفة يساعدونه ويشايعونه في تلك المقالة كما في قولهم بنو فلان قتلوا قتيلا والقاتل واحد منهم، وإعادة الباء للمبالغة في دعوى الإيمان وكذا التعبير عنه صلّى الله عليه وسلّم بعنوان الرسول وقولهم مع ذلك وَأَطَعْنا أي وأطعنا الله تعالى والرسول صلّى الله عليه وسلّم في الأمر والنهي ثُمَّ يَتَوَلَّى أي يعرض عما يقتضيه هذا القول من قبول الحكم الشرعي عليه فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد ما صدر عنهم من ادعاء الإيمان بالله تعالى وبالرسول صلّى الله عليه وسلّم والطاعة لهما، وما في ذلك من معنى البعد للإيذان بكونه أمرا معتدا به واجب المراعاة وَما أُولئِكَ إشارة إلى القائلين آمَنَّا إلخ وهم المنافقون جميعهم لا إلى الفريق المتولي منهم فقط، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الكفر والفساد أي وما أولئك الذين يدعون الإيمان والطاعة ثم يتولى بعضهم الذين يشاركونهم في العقد والعمل بِالْمُؤْمِنِينَ أي المؤمنين حقيقة كما يعرب عنه اللام أي ليسوا بالمؤمنين المعهودين بالإخلاص والثبات عليه، ونفي الإيمان بهذا المعنى عنهم مقتض لنفيه عن الفريق على أبلغ وجه وآكده ولذا اختير كون الإشارة إليهم، وجوز أن تكون للفريق على أن المراد بهم فريق منافقون، وضمير يَقُولُونَ للمؤمنين مطلقا، والحكم على أولئك الفريق بنفي الإيمان لظهور أمارة التكذيب الذي هو التولي منهم، وثُمَّ على هذا حسبما قرره الطيبي للاستبعاد كأنه قيل كيف يدخلون في زمرة المؤمنين الذين يقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يعرضون ويتجاوزون عن الفريق المؤمنين ويرغبون عن تلك المقالة وهذا بعيد عن العاقل المميز، وعلى الأول حسبما قرره أيضا للتراخي في الرتبة إيذانا بارتفاع درجة كفر الفريق المتولي عنهم انحطاط درجة أولئك. وفي الكشف أن الكلام على تقدير كون الإشارة إلى القائلين لا إلى الفريق المتولي وحده كالاستدراك وفيه دلالة على توغل المتولين في الكفر وأصل الكفر شامل للطائفتين، وأما على تقدير اختصاص الإشارة بالمتولين ففائدة ثُمَّ استبعاد التولي بعد تلك المقالة، وفائدة الإخبار إظهار أنهم لم يثبتوا على قولهم كأنه قيل: يقولون هذا ثم يوجد فيهم ما يضاده فلا يكون في دليل خطابه أن غيرهم مؤمن انتهى، وعليه فضمير يَقُولُونَ للمنافقين الشاملين للفريق المتولي لا للمؤمنين مطلقا على الوجهين فتأمل. وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أي وبين خصومهم، وضمير (يحكم) للرسول عليه الصلاة والسلام، وجوز أن يكون الضمير عائدا إلى ما يفهم من الكلام أي المدعو إليه وهو شامل لله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام لكن المباشر للحكم هو الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وذكر الله تعالى على الوجهين لتفخيمه عليه الصلاة والسلام والإيذان بجلالة محله عنده تعالى وأن حكمه في الحقيقة حكم الله عز وجل فقد قالوا: إنه إذا ذكر اسمان متعاطفان والحكم إنما هو لأحدهما كما في نحو قوله تعالى: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا [البقرة: 9] أفاد قوة اختصاص المعطوف بالمعطوف عليه وإنهما بمنزلة شيء واحد بحيث يصح نسبة أوصاف أحدهما وأحواله إلى الآخر، وضمير دُعُوا يعود إلى ما يعود إليه ضمير يَقُولُونَ أي وإذا دعي المنافقون أو المؤمنون مطلقا إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ أي فاجأ فريق منهم الإعراض عن المحاكمة إليه عليه الصلاة والسلام لكون الحق عليهم وعلمهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 386 بأنه صلّى الله عليه وسلّم لا يحكم إلا بالحق، والجملة الشرطية شرح للتولي ومبالغة فيه حيث أفادت مفاجأتهم الإعراض عقب الدعوة دون الحكم عليهم مع ما في الجملة الاسمية الواقعة جزاء من الدلالة على الثبوت والاستمرار على ما هو المشهور، والتعبير بَيْنَهُمْ دون عليهم لأن المتعارف قول أحد المتخاصمين للآخر: اذهب معي إلى فلان ليحكم بيننا لا عليك وهو الطريق المنصف، وقيل: هذا الإعراض إذا اشتبه عليهم الأمر، ولذا قال سبحانه: بَيْنَهُمْ لا عليهم وفي ذلك زيادة في المبالغة في ذمهم وفيه بحث. وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ أي لا عليهم كما يؤذن به تقديم الخبر يَأْتُوا إِلَيْهِ أي إلى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم مُذْعِنِينَ منقادين لعلمهم بأنه عليه الصلاة والسلام يحكم لهم، والظاهر تعلق إلى بيأتوا، وجوز تعلقها بمذعنين على أنها بمعنى اللام أو على تضمين الإذعان معنى الإسراع وفسره الزجاج بالإسراع مع الطاعة، وتقديم المعمول للاختصاص أو للفاصلة أو لهما، وعبر بإذا فيما مر إشارة إلى تحقق الشرط وبأن هنا إشارة إلى عدم تحققه وفي ذلك أيضا ذم لهم. وقوله تعالى: أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ ترديد لسبب الإعراض المذكور فمدار الاستفهام ما يفهم من الكلام كأنه قيل: أسبب إعراضهم عن المحاكمة إليه صلّى الله عليه وسلّم أنهم مرضى القلوب لكفرهم ونفاقهم أم سببة أنهم ارتابوا وشكوا في أمر نبوته عليه الصلاة والسلام مع ظهور حقيتها أم سببة أنهم يخافون أن يحيف ويجور الله تعالى شأنه عليهم ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلّم. وهذا نظير قولك أفيه مرض أم غاب عن البلد أم يخاف من الواشي بعد قول: هجر الحبيب مثلا فإن كون المعنى أسبب هجره أن فيه مرضا أم سببه أنه غاب عن البلد أم سببه أنه يخاف من الواشي ظاهر جدا وهو كثير في المحاورات إلا أن الاستفهام في الآية إنكاري وهو لإنكار السببية، وقوله تعالى: بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ تعيين للسبب بعد إبطال سببية جميع ما تقدم ففيه تأكيد لما يفيده الاستفهام كأنه قيل: ليس شيء مما ذكر سببا لذلك الإعراض، أما الأولان فلأنه لو كان شيء منهما سببا له لأعرضوا عن المحاكمة إليه صلى الله تعالى عليه وسلّم عند كون الحق لهم ولما أتوا إليه عليه الصلاة والسلام مذعنين لحكمه لتحقق نفاقهم وارتيابهم حينئذ أيضا، وأما الثالث فلانتفائه رأسا حيث كانوا لا يخافون الحيف أصلا لمعرفتهم بتفاصيل أحواله عليه الصلاة والسلام في الأمانة والثبات على الحق بل سبب ذلك أنهم هم الظالمون يريدون أن يظلموا من الحق له عليهم ولا يتأتى مرامهم مع الانقياد إلى المحاكمة إليه عليه الصلاة والسلام فيعرضون عنها لأنه صلى الله تعالى عليه وسلّم يقضي بالحق عليهم، فمناط النفي المستفاد من الاستفهام الإنكاري والإضراب الإبطالي في الأولين وهو وصف سببيتهما للإعراض فقط مع تحققهما في نفسهما، وفي الثالث هو الأصل والوصف جميعا، وإذا خص الارتياب بما له جهة مصححة لعروضه لهم في الجملة كما فعل البعض حيث جعل المعنى أم ارتابوا بأن رأوا منه صلى الله تعالى عليه وسلّم تهمة فزالت ثقتهم ويقينهم به عليه الصلاة والسلام كان مناط النفي في الثاني كما في الثالث كذا قرره بعض الأجلة، وأَمِ عليه متصلة. وقد ذهب إلى أنها كذلك الزمخشري والبيضاوي حيث جعلا ما تقدم تقسيما لسبب الإعراض إلا أن الأول جعل الإضراب عن الأخير من الأمور الثلاثة ووجه بأنه أدل على ما كانوا عليه وأدخل في الإنكار من حيث إنه يناقض تسرعهم إليه صلى الله تعالى عليه وسلّم إذا كان الحق لهم على الغير، والثاني جعله إضرابا عن الأخيرين منها لتحقيق القسم الأول، وقال: وجه التقسيم أن امتناعهم عن المحاكمة إليه صلى الله تعالى عليه وسلّم إما أن يكون لخلل فيهم أو في الحاكم، والثاني إما أن يكون محققا أو متوقعا وفسر الارتياب برؤية مثل تهمة تزيل يقينهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 387 ثم قال: وكلاهما باطلان فتعين الأول. أما الأول فظاهر. وأما الثاني فلأن منصب النبوة وفرط أمانته عليه الصلاة والسلام يمنعه وظلمهم يعم خلل عقيدتهم وميل نفوسهم إلى الحيف. وقال العلامة الطيبي: الحق أن بل إضراب عن نفس التقسيم وهو إضراب انتقالي كأنه قيل: دع التقسيم فإنهم هم الكاملون في الظلم الجامعون لتلك الأوصاف فلذلك صدوا عن حكومتك يدل عليه الإتيان باسم الإشارة. والخطاب وتعريف الخبر بلام الجنس وتوسيط ضمير الفصل، ونقل عن الإمام ما يدل على أن أم منقطعة قال: أثبتهم على كل واحد من هذه الأوصاف فكان في قلوبهم مرض وهو النفاق فكان فيها ارتياب فكانوا يخافون الحيف، ووجه الإضراب أن كلّا مسبب عن الآخر علم على وجوده وزيادة، واعترض بأنه لا يجب التسبب إلا أن يدعي في هذه المادة خصوصا، وصرح أبو حيان بأنها منقطعة وبأن الاستفهام للتوقيف والتوبيخ ليقروا بأحد هذه الأوجه التي عليهم في الإقرار بها ما عليهم ويستعمل في الذم والمدح كما في قوله: ألست من القوم الذين تعاهدوا ... على اللؤم والفحشاء في سالف الدهر وقوله: ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح ولا يخفى أن الأظهر أنها متصلة والتلازم بين الأمور الثلاثة ممنوع على أنه لا يضر وأن معنى الآية ما ذكرناه أولا، وتقديم عَلَيْهِمْ على الرسول لتأكيد أن حكمه عليه الصلاة والسلام هو حكم الله تعالى، ووجه اختلاف أساليب الجمل يظهر بأدنى تأمل. وقوله سبحانه: إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا جار على عادته تعالى في اتباع ذكر المحق المبطل والتنبيه على ما ينبغي بعد إنكاره لما لا ينبغي، ونصب قَوْلَ على أنه خبر كان وأن مع ما في حيزها في تأويل مصدر اسمها، ونص سيبويه في مثل ذلك على جواز العكس فيرفع قَوْلَ على الاسمية وينصب المصدر الحاصل من السبك على الخبرية. وقد قرأ عليّ كرم الله تعالى وجهه وابن أبي إسحاق والحسن: برفع «قول» على ذلك قال الزمخشري: والنصب أقوى لأن الأولى للاسمية ما هو أوغل في التعريف وذلك هو المصدر الذي أول به أن يقولوا لأنه لا سبيل عليه للتنكير بخلاف قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ فإنه يحتمله كما إذا اختزلت عنه الإضافة، وقيل في وجه أعرفيته إنه لا يوصف كالضمير، ولا يخفى أنه لا دخل له في الأعرفية، ثم أنت تعلم أن المصدر الحاصل من سبك أن والفعل لا يجب كونه مضافا في كل موضع ألا ترى أنهم قالوا في قوله تعالى: ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى [يونس: 37] إنه بمعنى ما كان هذا القرآن افتراء. وذكر أن جواز تنكيره مذهب الفارسي وهو ومتعين في نحو أن يقوم رجل إذ هو مؤول قطعا بقيام رجل وهو نكرة بلا ريب. وفي إرشاد العقل السليم أن النصب أقوى صناعة لكن الرفع أقعد معنى وأوفى لمقتضى المقام لما أن مصب الفائدة وموقع البيان في الجمل هو الخبر فالأحق بالخبرية ما هو أكثر إفادة وأظهر دلالة على الحدوث وأوفر اشتمالا على نسب خاصة بعيدة من الوقوع في الخارج وفي ذهن السامع ولا ريب في أن ذلك هاهنا في أن مع ما في حيزها أتم وأكمل فإذن هو أحق بالخبرية، وأما ما تفيده الإضافة من النسبة المطلقة الإجمالية فحيث كانت قليلة الجدوى سهلة الحصول خارجا وذهنا كان حقها أن تلاحظ ملاحظة مجملة وتجعل عنوانا للموضوع فالمعنى إنما كان مطلق القول الصادر عن المؤمنين إذا دعوا إلى الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم ليحكم بينهم وبين خصومهم أن يقولوا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 388 سمعنا إلخ أي خصوصية هذا القول المحكي عنهم لا قولا آخر أصلا، وأما النصب فالمعنى عليه إنما كان قولا للمؤمنين خصوصية قولهم سَمِعْنا إلخ ففيه من جعل أخص النسبتين وأبعدهما وقوعا وحضورا في الأذهان وأحقهما بالبيان مفروغا عنها عنوانا للموضوع وإبراز ما هو بخلافها في معرض القصد الأصلي ما لا يخفى انتهى، وبحث فيه بعضهم بأن مساق الآية يقتضي أن يكون قول المؤمنين سمعنا وأطعنا في مقابلة إعراض المنافقين فحيث ذم ذلك على أتم وجه ناسب أن يمدح هذا، ولا شك أن الأنسب في مدحه الإخبار عنه لا الإخبار به فينبغي أن يجعل أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا اسم كان وقَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ خبرها وفي ذلك مدح لقولهم سمعنا وأطعنا إذ معنى كونه قول المؤمنين أنه قول لائق بهم ومن شأنهم على أن الأهم بالإفادة كون ذلك القول الخاص هو قولهم إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أي قولهم المقيد بما ذكر ليظهر أتم ظهور مخالفة حال قولهم سمعنا وأطعنا وحال قول المنافقين آمنا بالله وبالرسول وأطعنا فتدبر فإنه لا يخلو عن دغدغة، والظاهر أن المراد من أَطَعْنا هنا غير المراد منه فيما سبق فكأنهم أرادوا سمعنا كلامكم وأطعنا أمركم بالذهاب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليحكم بينكم وبيننا، وقيل المعنى قبلنا قولكم وانقدنا له وأجبنا إلى حكم الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وعن ابن عباس ومقاتل أن المعنى سمعنا قول النبي صلّى الله عليه وسلّم وأطعنا أمره، وقيل المراد من الطاعة الثبوت أو الإخلاص لتغاير ما مر وهو كما ترى. وقرأ الجحدري وخالد بن الياس «ليحكم» بالبناء للمفعول مجاوبا لدعوا، وكذلك قرأ أبو جعفر هنا وفيما مر ونائب الفاعل ضمير المصدر أي ليحكم هو أي الحكم، والمعنى ليفعل الحكم كما في قوله تعالى: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ [سبأ: 54] . وَأُولئِكَ إشارة إلى المؤمنين باعتبار صدور القول المذكور عنهم، وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبتهم وبعد منزلتهم في الفضل أي وأولئك المنعوتون بما ذكر من النعت الجليل هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي هم الفائزون بكل مطلوب والناجون عن كل محذور. وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ استئناف جيء به لتقرير مضمون ما قبله من حسن حال المؤمنين وترغيب من عداهم في الانتظام في سلكهم أي ومن يطع الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم كائنا من كان فيما أمر به من الأحكام اللازمة والمتعدية، وعن ابن عباس أنه قال: ومن يطع الله ورسوله في الفرائض والسنن وهو يحتمل اللف والنشر وعلى ذلك جرى في البحر وَيَخْشَ اللَّهَ على ما مضى من ذنوبه وَيَتَّقْهِ فيما يستقبل فَأُولئِكَ الموصوفون بما ذكر من الطاعة والخشية والاتقاء هُمُ الْفائِزُونَ بالنعيم المقيم لا من عدهم. وقرأ أبو جعفر وقالون عن نافع ويعقوب «ويتقه» بكسر القاف وكسر الهاء من غير إشباع. وقرأ أبو عمرو وحمزة في رواية العجلي وخلاد وأبو بكر في رواية حماد ويحيى بكسر القاف وسكون الهاء. وقرأ حفص بسكون القاف وكسر الهاء غير مشبعة والباقون بكسر القاف وكسر الهاء مشبعة بحيث يتولد ياء، ووجه ذلك أبو علي بأن الأصل في هاء الضمير إذا كان ما قبلها متحركا أن تشبع حركتها كما في يؤته ويؤده ووجه عدم الإشباع أن ما قبل الضمير ساكن تقديرا ولا إشباع بحركته فيما إذا سكن ما قبله كفيه ومنه، ووجه إسكان الهاء أنها هاء السكت وهي تسكن في كلامهم، وقيل: هي هاء الضمير لكن أجريت مجرى هاء السكت فسكنت وكثيرا ما يجري الوصل مجرى الوقف، وقد حكي عن سيبويه أنه سمع من يقول: هذه أمة الله في الوصل والوقف، ووجه قراءة حفص أنه أعطى «يتقه» حكم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 389 كتف لكونه على وزنه فخفف بسكون وسطه لجعله ككلمة واحدة كما خفف يلدا في قوله: «وذي ولد لم يلده أبوان» وعن ابن الأنباري أنه لغة لبعض العرب في كل معتل حذف آخره فيقولون لم أر زيدا يسقطون الحرف للجزم ثم يسكنون ما قبل، وعلى ذلك قوله: ومن يتق فإن الله معه ... ورزق الله مؤتاب وغاد وقوله: قالت سليمى اشتر لنا سويقا ... وهات خبز البر أو دقيقا والهاء إما للسكت وحركت لالتقاء الساكنين أو ضمير، وكان القياس ضمها حينئذ كما في منه لكن السكون لعروضه لم يعتد به ولئلا ينتقل من كسر لضم تقديرا، وضعف الأول لتحريك هاء السكت وإثباتها في الوصل كذا قيل فلا تغفل وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ حكاية لبعض آخر من أكاذيب الكفرة المنافقين مؤكدا بالأيمان الفاجرة فهو عود على بدء، والقسم الحلف وأصله من القسامة وهي أيمان تقسم على متهمين بقتل حسبما بين في كتب الفقه ثم صار اسما لكل حلف، وقوله سبحانه: جَهْدَ أَيْمانِهِمْ نصب على أنه مصدر مؤكد لفعله المحذوف، وجملة ذلك الفعل مع فاعله في موضع الحال أو هو نصب على الحال أي حلفوا به تعالى يجهدون أيمانهم جهدا أو جاهدين أيمانهم، ومعنى جهد اليمين بلوغ غايتها بطريق الاستعارة من قولهم: جهد نفسه إذا بلغ أقصى وسعها وطاقتها، والمراد أقسموا بالغين أقصى مراتب اليمين في الشدة والوكادة، وجوز أن يكون مصدرا مؤكدا لأقسموا أي أقسموا أقسام اجتهاد في اليمين، قال مقاتل: من حلف بالله تعالى فقد اجتهد في اليمين. والظاهر هنا أنهم غلظوا الأيمان وشددوها ولم يكتفوا بقول والله لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ أي بالخروج كما يدل عليه قوله تعالى: لَيَخْرُجُنَ والمراد بهذا الخروج الخروج للجهاد كما أخرجه ابن أبي حاتم عن مقاتل. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما يدل على أن المراد الخروج من الأموال. وأيا ما كان فالجملة جواب لأقسموا وجواب الشرط محذوف لدلالة هذه الجملة عليه وهي حكاية بالمعنى والأصل لنخرجن بصيغة المتكلم مع الغير، وقيل الأصل لخرجنا إلا أنه أريد حكاية الحال الماضية فعبر بذلك. وتعقب بأن المعتبر زمان الحكم هو مستقبل قُلْ أي ردا عليهم وزجرا لهم عن التفوه بتلك الأيمان وإظهارا لعدم القبول لكونهم كاذبين فيها لا تُقْسِمُوا على ما ينبىء عنه كلامكم من الطاعة طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ خبر مبتدأ محذوف أي طاعتكم طاعة، والجملة تعليل للنهي كأنه قيل لا تقسموا على ما تدعون من الطاعة لأن طاعتكم طاعة معروفة بأنها واقعة باللسان فقط من غير مواطأة من القلب لا يجهلها أحد من الناس، وقيل التقدير المطلوب منكم طاعة معروفة معلومة لا يشك فيها كطاعة الخلص من المؤمنين، وقيل طاعَةٌ مبتدأ خبره محذوف أي طاعة معروفة متوسطة على قدر الاستطاعة أمثل وأولى بكم من قسمكم. واختاره الزجاج، وقيل: مرفوع بفعل مقدر أي لتكن طاعة معروفة منكم، وضعف الكل بأنه مما لا يساعده المقام والأخير بأن فيه حذف الفعل في غير موضع الحذف. وقال البقاعي: لا تقدير في الكلام وطاعَةٌ مبتدأ خبره مَعْرُوفَةٌ وسوغ الابتداء بالنكرة أنها أريد بها الحقيقة فتعم والعموم من المسوغات، ولم تعرف لئلا يتوهم أن تعريفها للعهد، والجملة تعليل للنهي أي لا تقسموا فإن الطاعة معروفة منكم ومن غيركم لا تخفى فقد جرت سنة الله تعالى على أن العبد وإن اجتهد في إخفاء الطاعة لا بد وأن يظهر سبحانه مخايلها على شمائله، وكذا المعصية فلا فائدة في إظهار ما يخالف الواقع، وفي الأحاديث ما يشهد لما ذكر، فقد روى الطبراني عن جندب «ما أسر عبد سريرة إلا ألبسه الله تعالى رداءها» وروى الحاكم وقال صحيح الجزء: 9 ¦ الصفحة: 390 الإسناد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج عمله لإنسان كائنا من كان» وهذا المعنى على ما قيل حسن لكنه خلاف الظاهر. وقرأ زيد بن علي واليزيدي «طاعة معروفة» بالنصب على تقدير تطيعون طاعة معروفة نفاقية، وقيل أطيعوا طاعة معروفة حقيقية وطاعة بمعنى إطاعة كما في قوله تعالى: أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17] إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ من الأعمال الظاهرة والباطنة التي من جملتها ما تظهرونه من الأكاذيب المؤكدة بالأيمان الفاجرة وما تضمرونه من الكفر والنفاق والعزيمة على مخادعة المؤمنين وغيرها من فنون الشر والفساد والمراد الوعيد بأنه تعالى مجازيهم بجميع أعمالهم السيئة التي منها نفاقهم، وفي الإرشاد أن الجملة تعليل للحكم بأن طاعتهم طاعة نفاقية مشعر بأن مدار شهرة أمرها فيما بين المؤمنين إخباره تعالى بذلك ووعيد لهم بالمجازاة. قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ كرر الأمر بالقول لإبراز كمال العناية به والإشعار باختلافهما حيث إن المقول الأول نهي بطريق الرد والتبكيت، وفي الثاني أمر بطريق التكليف والتشريع، وفي تكرر فعل الإطاعة والعدول عن اطيعوني إلى أطيعوا الرسول ما لا يخفى من الحث على الطاعة وإطلاقها عن وصف الصحة والإخلاص ونحوهما بعد وصف طاعتهم بما تقدم للتنبيه على أنها ليست من الطاعة في شيء. وقوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا خطاب للمنافقين الذين أمر عليه الصلاة والسلام أن يقول لهم ما سمعت وارد من قبله عز وجل غير داخل في حيز قُلْ على ما اختاره صاحب التقريب وغيره وفيه تأكيد للأمر السابق والمبالغة في إيجاب الامتثال به والحمل عليه بالترهيب والترغيب لما أن تغيير الكلام المسوق لمعنى من المعاني وصرفه عن سننه المسلوك ينبىء عن اهتمام جديد بشأنه من المتكلم ويستجلب مزيد رغبة فيه من السامع لا سيما إذا كان ذلك بتغيير الخطاب بالواسطة بالذات كما هنا، والفاء لترتيب ما بعدها على تبليغه عليه الصلاة والسلام للمأمور به إليهم، وعدم التصريح للإيذان بغاية مسارعته صلّى الله عليه وسلّم إلى تبليغ ما أمر به وعدم الحاجة إلى الذكر أي إن تتولوا عن الطاعة إثر ما أمركم الرسول صلّى الله عليه وسلّم بها فَإِنَّما عَلَيْهِ أي على الرسول عليه الصلاة والسلام ما حُمِّلَ أي ما أمر به من التبليغ وقد شاهدتموه عند قوله: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ أي ما أمرتم به من الطاعة، ولعل التعبير بالتحميل أولا للإشعار بثقل الوحي في نفسه، وثانيا للإشعار بثقل الأمر عليهم، وقيل: لعل التعبير بذلك في جانبهم للإشعار بثقله وكون مؤنه باقية في عهدتهم بعد كأنه قيل: وحيث توليتم عن ذلك فقد بقيتم تحت ذلك الحمل الثقيل، والتعبير به في جانبه عليه الصلاة والسلام للمشاكلة والفاء واقعة في جواب الشرط وما بعدها قائم مقام الجواب أو جواب على حد ما في قوله تعالى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل: 53] كأنه قيل فإن تتولوا فاعلموا أنما عليه إلخ. هذا واختار بعضهم دخول الجملة الشرطية في حيز القول. قال الطيبي: الظاهر أنه تعالى أمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم بأن يقول لهم: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا يخاف مضرتهم فكان أصل الكلام قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليك ما حملت وعليهم ما حملوا بمعنى فما يضرونك شيئا وإنما يضرون أنفسهم على الماضي والغيبة في تَوَلَّوْا فصرف الكلام إلى المضارع، والخطاب في تتولوا بحذف إحدى التاءين بمعنى فما ضررتموه وإنما ضررتم أنفسكم لتكون المواجهة بالخطاب أبلغ في تبكيتهم، وجعل ذلك جاريا مجرى الالتفات وجعله غيره التفاتا حقيقيا من حيث إنهم جعلوا أولا غيبا حيث أمر الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بخطابهم بقل لهم. ثم خوطبوا بأن تتولوا استقلالا من الله تعالى لا من رسوله صلى الله تعالى عليه وسلّم، ولا يخفى أن حمل الآية على الخطاب الاستقلالي الغير الداخل تحت القول أدخل في التبكيت. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 391 وفي الأحكام أنه استدل بهذه الآية على أن الأمر للوجوب لأنه تعالى أمر بالإطاعة ثم هدد بقوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا إلخ والتهديد على المخالفة دليل الوجوب. وتعقب بأنه لا نسلم أن ذلك للتهديد بل للإخبار وإن سلمنا أنه للتهديد فهو دليل على الوجوب فيما هدد على تركه ومخالفته من الأوامر وليس فيه ما يدل على أن كل أمر مهدد بمخالفته بدليل أمر الندب فإن المندوب مأمور به وليس مهددا على مخالفته وإذا انقسم الأمر إلى مهدد عليه وغير مهدد عليه وجب اعتقاد الوجوب فيما هدد عليه دون غيره وبه يخرج الجواب عن كل صيغة أمر هدد على مخالفتها وحذر منها ووصف مخالفها بكونه عاصيا وبه يدفع أكثر ما ذكره القائلون بالوجوب في معرض الاستدلال على دعواهم فتدبر. وَإِنْ تُطِيعُوهُ فيما أمركم به عليه الصلاة والسلام من الطاعة تَهْتَدُوا إلى الحق الذي هو المقصد الأصلي الموصل إلى كل خير المنجي عن كل شر، ولعل في تقديم الشق الأول وتأخير هذا إشارة إلى أن الترهيب أولى بهم وأنهم ملابسون لما يقتضيه، وفي الإرشاد تأخير بيان حكم الإطاعة عن بيان حكم التولي لما في تقديم الترهيب من تأكيد الترغيب وتقريبه مما هو من بابه من الوعد الكريم، وقوله تعالى: وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ اعتراض تذييلي مقرر لما قبله من أن غائلة التولي وفائدة الإطاعة مقصورتان على المخاطبين، وأل إما للجنس المنتظم له صلّى الله عليه وسلّم انتظاما أوليا أو للعهد أي ما على جنس الرسول كائنا من كان أو ما على رسولنا محمد صلّى الله عليه وسلّم إلا التبليغ الموضح لكل ما يحتاج إلى الإيضاح أو الواضح في نفسه على أن المبين من أبان المتعدي بمعنى بان اللازم، وقد علمتم أنه عليه الصلاة والسلام قد فعله بما لا مزيد عليه وإنما بقي ما عليكم، وقوله تعالى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ خطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن آمن معه ففي الآية تنويع الخطاب حيث خاطب سبحانه المقسمين على تقدير التولي ثم صرفه تعالى عنهم إلى المؤمنين الثابتين وهو كالاعتراض بناء على ما سيأتي إن شاء الله تعالى من كون وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ عطفا على قوله سبحانه: أَطِيعُوا اللَّهَ وفائدته أنه لما أفاد الكلام السابق أنه ينبغي أن يأمرهم بالطاعة كفاحا ولا يخاف مضرتهم أكد بأنه عليه الصلاة والسلام هو الغالب ومن معه فأنى للخوف مجال، وإن شئت فاجعله استئنافا جيء به لتأكيد ما يفيده الكلام من نفي المضرة على أبلغ وجه من غير اعتبار كونه اعتراضا فإن في العطف المذكور ما ستسمعه إن شاء الله تعالى ومن بيانية، ووسط الجار والمجرور بين جملة آمَنُوا والجملة المعطوفة عليها الداخلة معها في حيز الصلة أعني قوله تعالى: وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مع التأخير في قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الفتح: 29] قيل للدلالة على أن الأصل في ثبوت الاستخلاف الإيمان، ولهذا كان الأصح عدم الانعزال بالفسق الطارئ ودل عليه صحاح الأحاديث ومدخلية الصلاح في ابتداء البيعة وأما في المغفرة والأجر العظيم فكلاهما أصل فكان المناسب التأخير. وقد يقال: إن ذلك لتعجيل مسرة المخاطبين حيث إن الآية سيقت لذلك، وقيل: الخطاب للمقسمين والكلام تتميم لقوله تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا ببيان ما لهم في العاجل من الاستخلاف وما يترتب عليه وفي الآجل ما لا يقادر قدره على ما أدمج في قوله سبحانه: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ والجار للتبعيض وأمر التوسيط على حاله، ولم يرتضه بعض الأجلة لأن آمَنُوا إن كان ماضيا على حقيقته لم يستقم إذ لم يكن فيهم من كان آمن حال الخطاب وإن جعل بمعنى المضارع على المألوف من أخبار الله تعالى فمع نبوه عن هذا المقام لم يكن دليلا على صحة أمر الخلفاء ولم يطابق الواقع أيضا لأن هؤلاء الأجلاء لم يكن من بعض من آمن من أولئك المخاطبين ولا كان في المقسمين من نال الخلافة انتهى، وفيه شيء. ولعله لا يضر بالغرض وارتضى أبو السعود تعلق الكلام بذلك وادعى أنه استئناف مقرر لما في قوله تعالى: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 392 وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا إلخ من الوعد الكريم معرب عنه بطريق التصريح ومبين لتفاصيل ما أجمل فيه من فنون السعادات الدينية والدنيوية التي هي من آثار الاهتداء ومتضمن لما هو المراد بالطاعة التي نيط بها الاهتداء وأن المراد بالذين آمنوا كل من اتصف بالإيمان بعد الكفر على الإطلاق من أي طائفة كان وفي أي وقت كان لا من آمن من طائفة المنافقين فقط ولا من آمن بعد نزول الآية الكريمة فحسب ضرورة عموم الوعد الكريم وأن الخطاب ليس للرسول عليه الصلاة والسلام ومن معه من المؤمنين المخلصين أو من يعمهم وغيرهم من الأمة ولا للمنافقين خاصة بل هو لعامة الكفرة وأن من للتبعيض، وقال في نكتة التوسيط: إنه لإظهار أصالة الإيمان وعراقته في استتباع الآثار والأحكام والإيذان بكونه ما يطلب منهم وأهم ما يجب عليهم، وأما التأخير في آية سورة الفتح فلان من هناك بيانية والضمير للذين معه عليه الصلاة والسلام من خلص المؤمنين ولا ريب في أنهم جامعون بين الإيمان والأعمال الصالحة مثابرون عليها فلا بد من ورود بيانهم بعد ذكر نعوتهم الجليلة بكمالها انتهى. وأنت تعلم أن كون الخطاب لعامة الكفرة خلاف الظاهر، وحمل الفعل الماضي على ما يعم الماضي والمستقبل كذلك وفيما ذكره أيضا بعد عن سبب النزول، فقد أخرج ابن المنذر والطبراني في الأوسط والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والضياء في المختارة عن أبيّ بن كعب رضي الله تعالى عنه قال: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة فكانوا لا يبيتون إلا في السلاح ولا يصبحون إلا فيه فقالوا ترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله تعالى فنزلت وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ الآية ولا يتأتى معه الاستدلال بالآية على صحة أمر الخلفاء أصلا، ولعله لا يقول به ويستغني عنه بما هو أوضح دلالة، وعن ابن عباس ومجاهد عامة في أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم وأطلقا الأمة وهي تطلق على أمة الإجابة وعلى أمة الدعوة لكن الأغلب في الاستعمال الإطلاق الأول فلا تغفل، وإذا كانت من بيانية فالمعنى وعد الله الذين آمنوا الذين هم أنتم لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ أي ليجعلهم خلفاء متصرفين فيها تصرف الملوك في مماليكهم أو خلفاء من الذين كانوا يخافونهم من الكفرة بأن ينصرهم عليهم ويورثهم أرضهم، والمراد بالأرض على ما قيل جزيرة العرب، وقيل مأواه عليه الصلاة والسلام من مشارق الأرض ومغاربها ففي الصحيح «زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها» واللام واقعة في جواب القسم المحذوف ومفعول وعد الثاني محذوف دل عليه الجواب أي وعد الله الذين آمنوا استخلافهم وأقسم ليستخلفنهم، ويجوز أن ينزل وعده تعالى لتحقق إنجازه لا محالة منزلة القسم وإليه ذهب الزجاج ويكون لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ منزل منزلة المفعول فلا حذف. وما في قوله تعالى: كَمَا اسْتَخْلَفَ مصدرية والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لمصدر محذوف أي ليستخلفهم استخلافا كائنا كاستخلافه الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وهم بنو إسرائيل استخلفهم الله عزّ وجلّ في الشام بعد إهلاك الجبابرة وكذا في مصر على ما قيل من أنها صارت تحت تصرفهم بعد هلاك فرعون وإن لم يعودوا إليها وهم ومن قبلهم من الأمم المؤمنة الذين أسكنهم الله تعالى في الأرض بعد إهلاك أعدائهم من الكفرة الظالمين. وقرىء «كما استخلف» بالبناء فيكون التقدير ليستخلفهم في الأرض فيستخلفون فيها استخلافا أي مستخلفية كائنة كمستخلفية الذين من قبلهم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ عطف على لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ والكلام فيه كالكلام فيه، وتأخيره عنه مع كونه أجل الرغائب الموعودة وأعظمها لما أنه كالأثر للاستخلاف المذكور. وقيل: لما أن النفوس إلى الحظوظ العاجلة أميل فتصدير المواعيد بها في الاستمالة أدخل، والتمكين في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 393 الأصل جعل الشيء في مكان ثم استعمل في لازمه وهو التثبيت والمعنى ليجعلن دينهم ثابتا مقررا بأن يعلي سبحانه شأنه ويقوي بتأييده تعالى أركانه ويعظم أهله في نفوس أعدائهم الذين يستغرقون النهار والليل في التدبير لإطفاء أنواره ويستنهضون الرجل والخيل للتوصل إلى إعفاء آثاره فيكونون بحيث ييأسون من التجمع لتفريقهم عنه ليذهب من البين ولا تكاد تحدثهم أنفسهم بالحيلولة بينهم وبينه ليعود أثرا بعد عين. وقيل: المعنى ليجعله مقررا بحيث يستمرون على العمل بأحكامه ويرجعون إليه في كل ما يأتون وما يذرون، وأصل التمكين جعل الشيء مكانا لآخر والتعبير عن ذلك به للدلالة على كمال ثبات الدين ورصانة أحكامه وسلامته عن التغيير والتبديل لابتنائه على تشبيهه بالأرض في الثبات والقرار مع ما فيه من مراعاة المناسبة بينه وبين الاستخلاف في الأرض انتهى، وفيه بحث. وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح للمسارعة إلى بيان كون الموعود من منافعهم مع التشويق إلى المؤخر ولأن في توسيطه بينه وبين وصفه أعني قوله تعالى: الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وتأخيره عن الوصف من الإخلال بجزالة النظم الكريم ما لا يخفى، وفي إضافة الدين وهو دين الإسلام إليهم ثم وصفه بارتضائه لهم من مزيد الترغيب فيه والتثبيت عليه ما فيه لَيُبَدِّلَنَّهُمْ بالتشديد، وقرأ ابن كثير وأبو بكر والحسن وابن محيصن بالتخفيف من الإبدال وأخرج ذلك عبد بن حميد عن عاصم وهو عطف على لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ ولَيُمَكِّنَنَّ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ بمقتضى البشرية في الدنيا من أعدائهم في الدين أَمْناً لا يقادر قدره، وقيل: الخوف في الدنيا من عذاب الآخرة والأمن في الآخرة ورجح بأن الكلام عليه أبعد من احتمال التأكيد بوجه من الوجوه بخلافه على الأول. وأنت تعلم أن الأول أوفق بالمقام والأخبار الواردة في سبب النزول تقتضيه وأمر احتمال التأكيد سهل. يَعْبُدُونَنِي جوز أن تكون الجملة في موضع نصب على الحال إما من الَّذِينَ الأول لتقييد الوعد بالثبات على التوحيد لأن ما في حيز الصلة من الإيمان وعمل الصالحات بصيغة الماضي لما دل على أصل الاتصاف به جيء بما ذكر حالا بصيغة المضارع الدال على الاستمرار التجددي وإما من الضمير العائد عليه في لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ أو في لَيُبَدِّلَنَّهُمْ وجوز أن تكون مستأنفة إما لمجرد الثناء على أولئك المؤمنين على معنى هم يعبدونني وإما لبيان علة الاستخلاف وما انتظم معه في سلك الوعد، وقوله تعالى: لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً حال من الواو في يَعْبُدُونَنِي أو من الَّذِينَ أو بدل من الحال أو استئناف. ونصب شَيْئاً على أنه مفعول به أي شيئا مما يشرك به أو مفعول مطلق أي شيئا من الإشراك. ومعنى العبادة وعدم الإشراك ظاهر. وأخرج عبد بن حميد بن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في قوله سبحانه يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً لا يخافون أحدا غيري، وأخرج هو وجماعة عن مجاهد نحوه. ولعلهما أرادا بذلك تفسير لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وكأنهما عدا خوف غير الله نوعا من الإشراك، واختير على هذا حالية الجملة من الواو كأنه قيل: يعبدونني غير خائفين أحدا غيري، وجوز أن يكونا قد أرادا بيان المراد بمجموع يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ إلخ وكأنهما ادعيا أن عدم خوف أحد غيره سبحانه من لوازم العبادة والتوحيد وأن جملة يَعْبُدُونَنِي إلخ استئناف لبيان ما يصلون إليه في الأمن كأنه قيل: يأمنون إليّ حيث لا يخافون أحدا غير الله تعالى ولا يخفى ما في التعبير بضمير المتكلم وحده في يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي دون ضمير الغائب ودون ضمير العظمة من اللطافة. وَمَنْ كَفَرَ أي ومن ارتد من المؤمنين بَعْدَ ذلِكَ أي بعد حصول الموعود به فَأُولئِكَ المرتدون البعداء عن الحق هُمُ الْفاسِقُونَ أي الكاملون في الفسق والخروج عن حدود الكفر والطغيان إذ لا عذر لهم حينئذ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 394 ولا كجناح بعوضة، وقيل: كفر من الكفران لا من الكفر مقابل الإيمان وروي ذلك عن أبي العالية وكمالهم في الفسق لعظم النعمة التي كفروها، وقيل: إشارة إلى الوعد السابق نفسه، وفي إرشاد العقل السليم أن المعنى ومن اتصف بالكفر بأن ثبت واستمر عليه ولم يتأثر بما مر من الترغيب والترهيب بعد ذلك الوعد الكريم بما فصل من المطالب العالية المستوجبة لغاية الاهتمام بتحصيلها فأولئك هم الكاملون في الفسق، وكون المراد بكفر ما ذكر أنسب بالمقام من كون المراد به ارتد أو كفر النعمة انتهى. والأولى عندي ما تقدم فإنه الظاهر، وفي الكلام عليه تعظيم لقدر الموعود به من حيث إنه لا يبقى بعد حصوله عذرا لمن يرتد، وقوة مناسبته للمقام لا تخفى. وهو ظاهر قول حذيفة رضي الله تعالى عنه فقد أخرج ابن مردويه عن أبي الشعثاء قال: كنت جالسا مع حذيفة وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما فقال حذية: ذهب النفاق إنما كان النفاق على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإنما هو الكفر بعد الإيمان فضحك ابن مسعود ثم قال: بم تقول؟ قال: بهذه الآية وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إلى آخر الآية وكى ن ضحك ابن مسعود كان استغرابا لذلك وسكوته بعد الاستدلال ظاهر في ارتضائه لما فهمه معدن سر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الآية. وَمَنْ تحتمل أن تكون موصولة وتحتمل أن تكون شرطية وجملة مَنْ كَفَرَ إلخ قيل معطوفة على جملة وَعَدَ اللَّهُ إلخ أو على جملة محذوفة كأنه قيل: من آمن فهم الفائزون ومن كفر إلخ، إن هذه الجملة وكذا جملة يَعْبُدُونَنِي استئناف بياني أما ذلك في الأولى فالسؤال ناشىء من قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ إلخ فكأنه قيل: فما ينبغي للمؤمنين بعد هذا الوعد الكريم أو بعد حصوله؟ فقيل: يعبدونني لا يشركون بي شيئا. وأما في الثانية فالسؤال ناشىء من الجواب المذكور فأنه قيل فإن لم يفعلوا فماذا؟ فقيل: ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون وجزاؤهم معلوم وهو كما ترى. هذا واستدل كثير بهذه الآية على صحة خلافة الأربعة رضي الله تعالى عنهم لأن الله تعالى وعد فيها من في حضررة الرسالة من المؤمنين بالاستخلاف وتمكين الدين والأمن العظيم من الأعداء ولا بدّ من وقوع ما وعد به ضرورة امتناع الخلف في وعده تعالى ولم يقع ذلك المجموع إلا في عهدهم فكان كل منهم خليفة حقا باستخلاف الله تعالى إياه حسبما وعد جلّ وعلا ولا يلزم عموم الاستخلاف لجميع الحاضرين المخاطبين بل وقوعه فيهم كبنو فلان قتلوا فلانا فلا ينافي ذلك عموم الخطاب الجميع، وكون من بيانية، وكذا لا ينافيه ما وقع في خلافة عثمان وعلي رضي الله تعالى عنهما من الفتن لأن المراد من الأمن الأمن من أعداء الدين وهم الكفار كما تقدم. وأقامها بعض أهل السنة دليلا على الشيعة في اعتقادهم عدم صحة خلافة الخلفاء الثلاثة، ولم يستدل بها على صحة خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه لأنها مسلمة عند الشيعة والأدلة كثيرة عند الطائفتين على من ينكرها من النواصب عليهم من الله تعالى ما يستحقون فقال: إن الله تعالى وعد فيها جمعا من المؤمنين الصالحين الحاضرين وقت نزولها بما وعد من الاستخلاف وما معه ووعده سبحانه الحق ولم يقع ذلك إلا في عهد الثلاثة، والإمام المهدي لم يكن موجودا حين النزول قطعا بالإجماع فلا يمكن حمل الآية على وعده بذلك، والأمير كرم الله تعالى وجهه وإن كان موجودا إذ ذاك لكن لم يكن يرج الدين المرضي كما هو حقه في زمانه رضي الله تعالى عنه بزعم الشيعة بل صار أسوأ حالا بزعمهم مما كان في عهد الكفار كما صرح بذلك المرتضى في تنزيه الأنبياء والأئمة عليهم السلام بل كل كتب الشيعة تصرح بأن الأمير وشيعته كانوا يخفون دينهم ويظهرون دين المخالفين تقية ولم يكن الأمن الكامل حاصلا أصلا في زمانه رضي الله تعالى عنه فقد كان أهل الشام ومصر والمغرب ينكرون أصل إمامته ولا يقبلون أحكامه وهم كفرة بزعم الشيعة وأغلب عسكر الأمير يخافونهم ويحذرون غاية الحذر منهم، ومع هذا الأمير فرد يمكن إرادته من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 395 الذين آمنوا ليكون هو رضي الله تعالى عنه مصداق الآية كما يزعمون فإن حمل لفظ الجمع على واحد خلاف أصولهم إذ أقل الجمع عندهم ثلاثة أفراد، وأما الأئمة الآخرون الذين ولدوا بعد فلا احتمال لإرادتهم من الآية إذ ليسوا بموجودين حال نزولها ولم يحصل لهم التسلط في الأرض ولم يقع رواج دينهم المرتضى لهم وما كانوا آمنين بل كانوا خائفين من أعداء الدين منهم كما أجمع عليه الشيعة فلزم أن الخلفاء الثلاثة هم مصداق الآية فتكون خلافتهم حقة وهو المطلوب. وزعم الطبرسي أن الخطاب للنبي وأهل بيته صلّى الله عليه وسلّم فهم الموعودون بالاستخلاف وما معه ويكفي في ذلك تحقق الموعود في زمن المهدي رضي الله تعالى عنه، ولا ينافي ذلك عدم وجوده عند نزول الآية لأن الخطاب الشفاهي لا يخص الموجودين، وكذا لا ينافي عدم حصوله للكل لأن الكلام نظير بنو فلان قتلوا فلانا، واستدل على ذلك بما روى العياشي بإسناده عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما أنه قرأ الآية فقال: هم والله شيعتنا أهل البيت يفعل ذلك بهم على يد رجل منا وهو مهدي هذه الأمة وهو الذي قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيه: «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله تعالى ذلك اليوم حتى يلي رجل من عترتي اسمه اسمي يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا» . وزعم أنه روي مثل ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما وهذا على ما فيه مما يأباه السياق والأخبار الصحيحة الواردة في سبب النزول وأخبار الشيعة لا يخفى حالها لا سيما على من وقف على التحفة الاثني عشرية. نعم ورد من طريقنا ما يستأنس به لهم في هذا المقام لكنه لا يعول عليه أيضا مثل أخبارهم وهو ما أخرجه عبد بن حميد عن عطية أنه عليه الصلاة والسلام قرأ الآية فقال: أهل البيت هاهنا وأشار بيده إلى القبلة. وزعم بعضهم نحو ما سمعت عن الطبرسي إلا أنه قال: هي في حق جميع أهل البيت علي كرم الله تعالى وجهه وسائر الأئمة الأنثى عشر وتحقق ذلك فيهم زمن الرجعة حين يقوم القائم رضي الله تعالى عنه. وزعم أنها أحد أدلة الرجعة، وهذا قد زاد في الطنبور نغمة. وقال الملأ عبد الله المشهدي في كتابه إظهار الحق لإبطال الاستدلال على صحة خلافة الخلفاء الثلاثة: يحتمل أن يكون الاستخلاف بالمعنى اللغوي وهو الإتيان بواحد خلف آخر أي بعده كما في قوله تعالى في حق بني إسرائيل: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ [الأعراف: 129] فقصارى ما يثبت أنهم خلفاء بالمعنى اللغوي وليس النزاع فيه بل هو دفي المعنى الاصطلاحي وهو معنى مستحدث بعد رحلة النبي صلّى الله عليه وسلّم اهـ. وأجيب بأنه لو تم هذا لا يتم لهم الاستدلال على خلافة الأمير كرم الله وجهه بالمعنى المصطلح بحديث «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» المعتضد بما حكاه سبحانه عن موسى عليه السلام من قوله لهارون اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي [الأعراف: 143] وبما يروونه من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «يا علي أنت خليفتي من بعدي» وكذا لا يتم لهم الاستدلال على إمامة الأمير كرم الله وجهه بما تضمن لفظ الإمام لأنه لم يستعمل في الكتاب المجيد بالمعنى المصطلح أصلا وإنما استعمل بمعنى النبي والمرشد والهادي والمقتدى به في أمر خيرا كان أو شرا ومتى ادعى فهم المعنى المصطلح من ذلك بطريق اللزوم فليدع فهم المعنى المصطلح من الخليفة كذلك وربما يدعي أن فهمه منه أقوى لأنه مقرون من حيث وقع في الكتاب العزيز بلفظ في الأرض الدال على التصرف العام الذي هو شأن الخليفة بذلك المعنى على أن مبنى الاستدلال على خلافة الثلاثة بهذه الآية ليس مجرد لفظ الاستخلاف حتى يتم غرض المناقش فيه بل ذلك مع ملاحظة إسناده إلى الله تعالى، وإذا أسند الاستخلاف اللغوي إلى الله عزّ وجلّ فقد صار استخلافا شرعيا وقد يستفتى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 396 في هذه المسألة من علماء الشيعة فيقال: إن إتيان بني إسرائيل بمكان آل فرعون والعمالقة وجعلهم متصرفين في أرض مصر والشام هل كان حقا أو لا ولا أظنهم يقولون إلا أنه حق وحينئذ يلزمهم أن يقولوا به في الآية لعدم الفرق وبذلك يتم الغرض هذا حاصل ما قيل في هذا المقام. والذي أميل إليه أن الآية ظاهرة في نزاهة الخلفاء الثلاثة رضي الله تعالى عنهم عما رماهم للشيعة به من الظلم والجور والتصرف في الأرض بغير الحق لظهور تمكين الدين والأمن التام من أعدائه في زمانهم ولا يكاد يحسن الامتنان بتصرف باطل عقباه العذاب الشديد. وكذا لا يكاد يحسن الامتنان بما تضمنته الآية على أهل عصرهم مع كونهم الرؤساء الذين بيدهم الحل والعقد لو كانوا وحاشاهم كما يزعم الشيعة فيهم، ومتى ثبت بلك نزاهتهم عما يقولون اكتفينا به وهذا لا يتوقف إلا على اتصافهم بالإيمان والعمل الصالح حال نزول الآية وإنكار الشيعة له إنكار للضروريات، وكون المراد بالآية عليا كرم الله وجهه أو المهدي رضي الله تعالى عنه وأهل البيت مطلقا مما لا يقوله منصف. وفي كلام الأمير كرم الله تعالى وجهه ما يقتضي بسوقه خلاف ما عليه الشيعة ففي نهج البلاغة أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لما استشار الأمير كرم الله وجهه لانطلاقه لقتال أهل فارس حين تجمعوا للحرب قال له: إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلة وهو دين الله تعالى الذي أظهره وجنده الذي أعزه وأيده حتى بلغ ما بلغ وطلع حيث طلع ونحن على موعود من الله تعالى حيث قال عزّ اسمه: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً والله تعالى منجز وعده وناصر جنده ومكان القيم في الإسلام مكان النظام من الخرز فإن انقطع النظام تفرق ورب متفرق لم يجتمع والعرب اليوم وإن كانوا قليلا فهم كثيرون بالإسلام عزيزون بالاجتماع فكن قطبا واستدر الرحى بالعرب وأصلهم دونك نار الحرب فإنك إن شخصت منهذه الأرض تنقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها حتى يكون ما تدع وراءك من العوارث أهم إليك مما بين يديك وكان قد آن للأعاجم أن ينظروا إليك غدا يقولون هذا أصل العرب فإذا قطعتموه استرحتم فيكون ذلك أشد لكلبهم عليك وطعمهم فيك فأما ما ذكرت من عددهم فإنا لم نقاتل فيما مضى بالكثرة وإنما نقاتل بالنصر والمعونة اهـ فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ جوز أن يكون عطفا على أَطِيعُوا اللَّهَ داخلا معه في حيز القول والفاصل وليس بأجنبي منكل وجه فإنه وعد المأمور به وبعضه من تتمته. وفي الكشاف ليس ببعيد أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه فاصل وإن طال لأن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه والفاصل يؤكد المغايرة ويرشحها لأن المجاورة مظنة الاتصال والاتحاد فيكون تكرير الأمر بإطاعة الرسول عليه الصلاة والسلام للتأكيد وأكد دون الأمر بطاعة الله تعالى لما أن في النفوس لا سيما نفوس العرب من صعوبة الانقياد للبشر ما ليس فيها من صعوبة الانقياد لله تعالى ولتعليق الرحمة بها أو بالمندرجة هي فيه وهي الجمل الواقعة في حيز القول بقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ كما علق الاهتداء بالإطاعة في قوله تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا والإنصاف أن هذا العطف بعيد بل قال بعضهم: إنه مما لا يليق بجزالة النظم الكريم. وجوز أن يكون عطفا على يَعْبُدُونَنِي وفيه تخصيص بعد التعميم، وكان الظاهر أن يقال يعبدونني لا يشركون بي شيئا ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الرسول لعلهم يرحمون، لكن عدل عن ذلك إلى ما ذكر التفاتا إلى الخطاب لمزيد الاعتناء وحسنه هنا الخطاب في مِنْكُمْ. وتعقب بأنه مما لا وجه له لأنه بعد تسليم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 397 الالتفات وجواز عطف الإنشاء على الاخبار لا يناسب ذلك وكون الجملة السابقة حالا أو استئنافا بيانيا، والذي اختاره كونه عطفا على مقدر ينسحب عليه الكلام ويستدعيه النظام فإنه سبحانه لما ذكر وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ فهم النهي عن الكفر فكأنه قيل: فلا تكفروا وأقيموا الصلاة إلخ. وجوز أن يكون انفهام المقدر من مجموع ما تقدم من قوله تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ إلخ، حيث إنه يوجب الأمر بالإيمان والعمل الصالح فكأنه قيل فآمنوا واعملوا الصالحات وأقيموا إلخ، وجوز في أَطِيعُوا أن يكون أمرا بإطاعته صلّى الله عليه وسلّم بجميع الأحكام الشرعية المنتظمة للآداب المرضية وأن يكون أمرا بالإطاعة فيما عدا الأمرين السابقين فيكون ذكره لتكميلهما كأنه قيل: وأطيعوا الرسول في سائر ما يأمركم به، وقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ إلخ منتعلق بالأوامر الثلاثة وجعل على الأول متعلقا بالأخير، وقوله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إلخ بيان لمآل الكفرة في الدنيا والآخرة بعد بيان تناهيهم في الفسق وفوز أضدادهم بالرحمة المطلقة المستتبعة لسعادة الدارين، وفي ذلك أيضا رفع استبعاد تحقق الوعد السابق مع كثرة عدد الكفرة وعددهم والخطاب لكل من يتأتى منه الحسبنا نظير ما في قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ [السجدة: 12] . وجوز أن يكون للرسول صلّى الله عليه وسلّم على سبيل التعريض بمن صدر منه ذلك كقوله: «إياك عني فاسمعي يا جارة» أو الإشارة إلى أن الحسبان المذكور بلغ في القبح والمحذورية إلى حيث ينهى من يمتنع صدوره عنه فكيف بمن يمكن ذلك منه كما قيل في قوله تعالى: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 14، يونس: 105، القصص: 87] فقول أبي حيان: إن جعل الخطاب للرسول صلّى الله عليه وسلّم ليس بجيد لأن مثل هذا الحسبان لا يتصور وقوعه منه عليه الصلاة والسلام ليس بجيد لما فيه من الغفلة عما ذكر ومحمل الموصول نصب على أنه مفعول أول للحسبان وقوله تعالى: مُعْجِزِينَ ثانيهما وقوله تعالى فِي الْأَرْضِ ظرف لمعجزين لكن لا لإفادة كون الإعجاز المقصود بالنفي فيها لا في غيرها فإن ذلك غني عن البيان بل لإفادة شمول عدم الإعجاز لجميع أجزائها أي لا تحسبنهم معجزين الله تعالى عن إدراكهم وإهلاكهم في قطر من أقطار الأرض بما رحبت وإن هربوا منها كل مهرب. وقرأ حمزة وابن عامر «يحسبن» بالياء آخر الحروف على أن الفاعل كل أحد كأنه قيل لا يحسبن حاسب الكافرين معجزين له عزّ وجلّ في الأرض وضميره صلّى الله عليه وسلّم لتقدم ذكره عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وإليه ذهب أبو علي. وزعم أبي حيان أنه ليس بجيد لما تقدم ليس بجيد أو ضمير الكافر أي لا يحسبن الكافر الذين كفروا معجزين، ونقل ذلك عن علي بن سليمان أو الموصول والمفعول الأول محذوف كأنه قيل: لا يححسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين في الأرض، وذكر أن الأصل على هذا لا يحسبنهم الذين كفروا معجزين ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأول وكأن الذي سوغ ذلك أن الفاعل والمفعولين لما كانت كالشيء الواحد اقتنع بذكر اثنين عن ذلك الثالث، وتعقبه في البحر بأن هذا الضمير ليس من الضمائر التي يفسرها ما بعدها فلا يجوز كون الأصل (لا يحسبهم الذين) إلخ كما لا يجوز ظنه زيد قائما، وقال الكوفيون مُعْجِزِينَ المفعول الأول وفِي الْأَرْضِ المفعول الثاني، والمعنى لا يحسبن الذين كفروا أحدا يعجز الله تعالى في الأرض حتى يطمعوا في مثل ذلك، قال الزمخشري: وهذا معنى قوي جيد، وتعقب بأنه بمعزل عن المطايقة لمقتضى للمقام ضرورة أن مصب الفائدة هو المفعول الثاني ولا فائدة في بيان كون المعجزين في الأرض. ورد بأنه وإن كان مصب الفائدة جعل مفروغا منه وإنما المطلوب بيان المحل أي لا يعجزوه سبحانه في الأرض والانصاف أن ما ذكر خلاف الظاهر، والظاهر إنما هو تعلق فِي الْأَرْضِ بمعجزين وأيا ما كان فالقراءة المذكورة صحيحة وإن اختلفت مراتب تخريجاتها قوة وضعفا، ومن ذلك يعلم ما في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 398 قول النحاس ما علمت أحدا من أهل العربية بصريا ولا كوفيا إلا وهو يخطىء قراءة حمزة، فمنهم من يقول: هي لحن لأنه لم يأت إلا بمفعول واحد ليحسبن، ومنهم من قال هذا أبو حاتم انتهى من قلة الوقوف ومزيد الهذيان والجسارة على الطعن في متواتر من القرآن، ولعمري لو كانت القراءة بالرأي لكان اللائق بمن خفي عليه وجه قراءة حمزة أن لا يتكلم بمثل ذلك الكلام ويتهم نفسه ويحجم عن الطعن في ذلك الإمام، وقوله تعالى: وَمَأْواهُمُ النَّارُ عطف على جملة النهي بتأويلها بجملة خبرية لأن المقصود بالنهي عن الحسبان تحقيق نفي الحسبان كأنه قيل الذين كفروا معجزين ومأواهم النار. وجوز أن يكون عطفا على مقدر لأن الأول وعيد الدنيا كأنه قيل مقهورون في الدنيا بالاستئصال ومخزون في الآخرة بعذاب النار، وعن صاحب النظم تقديره بل هم مقدور عليهم ومحاسبون ومأواهم النار. قال في الكشف: وجعله حالا على معنى لا ينبغي الحسبان لمن مأواه النار كأنه قيل أنى للكافر هذا الحسبان وقد أعد له النار، والعدول إلى وَمَأْواهُمُ النَّارُ للمبالغة في التحقق وأن ذلك معلوم لهم لا ريب وجه حسن خال عن كلف لكلفة ألم به بعض الأئمة انتهى، ولا يخفى أن في ظاهره ميلا إلى بعض تخريجات قراءة «يحسبن» بياء الغيبة. وتعقب في البحر تأويل جملة النهي لتصحيح العطف عليها بقوله: الصحيح أنه يجوز عطف الجمل على اختلافها بعضا على بعض وإن لم تتحد في النوعية وهو مذهب سيبويه، والمأوى اسم مكان، وجوز فيه المصدرية والأول أظهر، وقوله تعالى: وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ جواب لقسم مقدر والمخصوص بالذم محذوف أي وبالله لَبِئْسَ الْمَصِيرُ هي أي النار، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله، وفي إيراد النار بعنوان كونها مأوى ومصيرا لهم أثر نفي فوتهم بالهرب في الأرض كل مهرب من الجزالة ما لا غاية وراءه فلله تعالى در شأن التنزيل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 399 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ رجوع عند الأكثرين إلى بيان تتمة الأحكام السابقة بعد تمهيد ما يوجب الامتثال بالأوامر والنواهي الواردة فيها وفي الأحكام اللاحقة من التمثيلات والترغيب والترهيب والوعد والوعيد، وفي التحقيق ويحتمل أن يقال: إنه مما يطاع الله تعالى ورسوله لله فيه، وتخصيصه بالذكر لأن دخوله في الطاعة باعتبار أنه من الآداب أبعد من غيره، والخطاب إما للرجال خاصة والنساء داخلات في الحكم بدلالة النص أو للفريقين تغليبا، واعترض الأول بأن الآية نزلت بسبب النساء، فقد روي أن أسماء بنت أبي مرثد (1) دخل عليها غلام كبير لها في وقت كرهت دخوله فأتت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالت: إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها فنزلت ، وقد ذكر الإتقان أن دخول سبب النزول في الحكم قطعي. وأجيب بأنه ما المانع من أن يعلم الحكم في السبب بطريق الدلالة والقياس الجلي ويكون ذلك في حكم الدخول، ونقل عن السبكي أنه ظني فيجوز إخراجه وتمام الكلام في ذلك في كتب الأصول، ثم ما ذكر في سبب النزول ليس مجمعا عليه، فقد روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعث وقت الظهيرة إلى عمر رضي الله تعالى عنه غلاما من الأنصار يقال له مدلج وكان رضي الله تعالى عنه نائما فدق عليه الباب ودخل فاستيقظ وجلس فانكشف منه شيء فقال عمر رضي الله تعالى عنه: لوددت أن الله تعالى نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا عن الدخول علينا في هذه الساعة إلا بإذن فانطلق معه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فوجد هذه الآية قد نزلت فخر ساجدا، وهذا أحد موافقات رأيه الصائب رضي الله تعالى عنه للوحي، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال: كان أناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعجبهم أن يواقعوا نساءهم في هذه الساعات فيغتسلوا ثم يخرجون إلى الصلاة فى مرهم الله تعالى أن يأمروا المملوكين والغلمان أن لا يدخلوا عليهم في تلك الساعات إلا بإذن بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ويعلم منه أن الأمر في قوله سبحانه لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ وإن كان في الظاهر للمملوكين والصبيان لكنه في الحقيقة للمخاطبين فكأنهم أمروا أن يأمروا المذكورين بالاستئذان وبهذا ينحل ما قيل: كيف يأمر الله عزّ وجلّ من لم يبلغ الحلم بالاستئذان وهو تكليف ولا تكليف قبل البلوغ، وحاصله أن الله تعالى لم يأمره حقيقة وإنما أمر سبحانه الكبير أن يأمره بذلك كما أمره أن يأمره بالصلاة، فقد روي عنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «مروا أولادكم بالصلاة وهم   (1) وقيل أبي مرشد بالشين المعجمة واختاره جمع اهـ منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 400 أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين» وأمره بما ذكر ونحوه من باب التأديب والتعليم ولا إشكال فيه، وقيل: الأمر للبالغين من المذكورين على الحقيقة ولغيرهم على وجه التأديب. وقيل: هو للجميع على الحقيقة والتكليف يعتمد التمييز ولا يتوقف على البلوغ فالمراد بالذين لم يبلغوا الحلم المميزون من الصغار وهو كما ترى. واختلف في هذا الأمر فذهب بعض إلى أنه للوجوب، وذهب الجمهور إلى أنه للندب وعلى القولين هو محكم على الصحيح وسيأتي تمام الكلام في ذلك، والجمهور على عموم الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ في العبيد والإماء الكبار والصغار، وعن ابن عمر ومجاهد أنه خاص بالذكور كما هو ظاهر الصيغة وروى ذلك عن أبى جعفر. وأبى عبد الله رضي الله تعالى عنهما ، وقال السلمي: إنه خاص بالإناث وهو قول غريب لا يعول عليه، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تخصيصه بالصغار وهو خلاف الظاهر جدا، والمراد بالذين لم يبلغوا الحلم الصبيان ذكورا وإناثا على ما يقتضيه ما مر في سابقه عن الجمهور وخص بالمراهقين منهم، ومِنْكُمْ لتخصيصهم بالأحرار ويشعر به المقابلة أيضا. وفي البحر هو عام في الأطفال عبيدا كانوا أو أحرارا، وكني عن القصور عن درجة البلوغ بما ذكر لأن الاحتلام أقوى دلائله، وقد اتفق الفقهاء على أنه إذا احتلم الصبي فقد بلغ، واختلفوا فيما إذا بلغ خمس عشرة سنة ولم يحتلم فقال أبو حنيفة في المشهور: لا يكون بالغا حتى يتم له ماني عشرة سنة وكذا الجارية إذا لم تحتلم أو لم تحض أو لم تحبل لا تكون بالغة عنده حتى يتم لها سبع عشرة سنة، ودليله قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ [الأنعام: 152] وأشد الصبي كما روي عن ابن عباس وتبعه القتيبي ثماني عشرة سنة وهو أقل ما قيل فيه فيبنى الحكم عليه للتيقن به غير أن الإناث نشؤهن وإدراكهن أسرع فنقص في حقهن سنة لاشتمالها على الفصول الأربعة ژالتي يوافق واحد منها المزاج لا محالة وقال صاحباه والشافعي وأحمد: إذا بلغ الغلام والجارية خمس عشرة سنة فقد بلغا وهو رواية عن الإمام رضي الله تعالى عنه أيضا وعليه الفتوى. ولهم أن العادة الفاشية أن لا يتأخر البلوغ فيهما عن هذه المدة وقيدت العادة بالفاشية لأنه قد يبلغ الغلام في اثنتي عشرة سنة وقد تبلغ الجارية في تسع سنين، واستدل بعضهم على ما تقدم بما روى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه عرض على النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم يوم أحد وله أربع عشرة سنة فلم يجزه وعرض عليه عليه الصلاة والسلام يوم الخندق وله خمس عشرة سنة فأجازه، واعترض أبو بكر الرازي على ذلك بأن أحدا كان في سنة ثلاث والخندق في سنة خمس فكيف يصح ما ذكر في الخبر، وأيضا لا دلالة فيه على المدعى لأن الإجازة في القتال لا تعلق لها بالبلوغ فقد لا يؤذن البالغ لضعفه ويؤذن غير البالغ لقوته وقدرته على حمل السلاح. ولعل عدم إجازته عليه الصلاة والسلام ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أولا إنما كان لضعفه ويشعر بذلك أنه صلى الله تعالى عليه وسلم ما سأله عن الاحتلام والسن. ومما تفرد به الشافعي رضي الله تعالى عنه على ما قيل جعل الإنبات دليلا على البلوغ واحتج له بما روى عطية القرظي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بقتل من أنبت من قريظة واستحياء من لم ينبت قال: فنظروا إليّ فلم أكن قد أنبت فاستبقاني صلّى الله عليه وسلم وتعقبه أبو بكر الرازي بأن هذا الخبر لا يجوز إثبات الشرع بمثله فإن عطية هذا مجهول لا يعرف إلا من هذا الخبر، وأيضا هو مختلف الألفاظ ففي بعض رواية أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمر بقتل من جرت عليه المواسي، وأيضا يجوز أن يكون الأمر بقتل من أنبت ليس لأنه بالغ بل لأنه قوي فإن الإنبات يدل على القوة البدنية، وانتصر للشافعي بأن الاحتمال مردود بما روي عن عثمان رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن غلام فقال: هل اخضر إزاره فإنه يدل على أن ذلك كان كالأمر المتفق عليه فيما بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ثم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 401 المشهور عن الشافعي عليه الرحمة جعل ذلك دليلا على البلوغ في حق أطفال الكفار، وتكلف الشافعية في الانتصار له ورد التشنيع عليه بما لا يخفى ما فيه على من راجعه. ومن الغريب ما روي عن قوم من السلف أنهم اعتبروا في البلوغ أن يبلغ الإنسان في طوله خمسة أشبار، وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: إذا بلغ الغلام خمسة أشبار فقد وقعت عليه الحدود يقتص له ويقتص منه. وعن ابن سيرين عن أنس قال: أتي أبوبكر رضي الله تعالى عنه بغلام قد سرق فأمر به فشبر فنقص أنملة فخلى عنه، وبهذا المذهب أخذ الفرزدق في قوله يمدح يزيد بن المهلب: ما زال مذ عقدت يداه إزاره ... وسما فأدرك خمسة الأشبار يدني كتائب من كتائب تلتقي ... بالطعن يوم تجاول وغوار وأكثر الفقهاء لا يقولون به لأن الإنسان قد يكون دون البلوغ ويكون طويلا وفوق البلوغ ويكون قصيرا فلا عبرة بذلك. ولعل الأخبار السابقة لا تصح. وما نقل عن الفرزدق لا يتعين إرادة البلوغ فيه، ومن الناس من قال: إنه أراد بخمسة الأشبار القبر كما قال الآخر: عجبا لأربع أذرع في خمسة ... في جوفه جبل أشم كبير هذا وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية «الحلم» بسكون اللام وهي لغة تميم، وذكر الراغب أن الحلم بالضم والحلم السكون كلاهما مصدر حلم في نومه بكذا بالفتح إذا رآه في المنام يحلم بالضم ولم يخص ذلك بلغة دون أخرى، وعن بعضهم عد حلما بالفتح مصدرا لذلك أيضا، وفي الصحاح الحلم بالضم ما يراه النائم تقول منه: حلم بالفتح واحتلم وتقول حلمت بكذا وحلمته أيضا فيتعدى بالباء وبنفسه قال: فحلمتها وبنو رفيدة دونها ... لا يبعدن خيالها المحلوم والحلم بكسر الحاء الأناة تقول منه: حلم الرجل بالضم إذا صار حليما، وفي القاموس الحلم بالضم وبضمتين الرؤيا جمعه أحلام ثم قال: وحلم به وعنه رأى له رؤيا أو رآه في النوم والحلم بالضم والاحتلام الجماع في النوم والاسم الحلم كعنق والحلم بالكسر الأناة والعقل وجمعه أحلام وحلوم اهـ، والظهر أن ما نحن فيه بمعنى الجماع في النوم وهو الاحتلام المعروف ووجه الكناية السابقة عليه ظاهر. وقال الراغب: الحلم زمان البلوغ وسمي الحلم لكونه جديرا صاحبه بالحلم أي الأناة وضبط النفس عن هيجان الغضب وفي النفس منه شيء ثَلاثَ مَرَّاتٍ أي ثلاث أوقات في اليوم والليلة، والتعبير عنها بالمرات للإيذان بأن مدار طلب الاستئذان مقارنة تلك الأوقات لمرور المستأذنين بالمخاطبين لا أنفسها فنصب ثَلاثَ مَرَّاتٍ على الظرفية للاستئذان وهو الذي ذهب إليه الجمهور ويدل على ما ذكر قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ إلخ فإن الظاهر أنه في محل النصب أو الجر كما قيل إنه بدل من ثَلاثَ أو من مَرَّاتٍ بدل مفصل من مجمل. وجوز أن يكون في محل الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي أحدها من قبل إلخ وهو أيضا يدل على ما ذكرنا، واختار في البحر أن المعنى ثلاث استئذانات كما هو الظاهر فإنك إذا قلت: ضربت ثلاث مرات لا يفهم منه إلا ثلاث ضربات، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام الاستئذان ثلاث، وعليه يكون ثَلاثَ مَرَّاتٍ مفعولا مطلقا للاستئذان ومِنْ قَبْلِ إلخ ظرف له، وشرع الاستئذان من قبل صلاة الفجر لظهور أنه وقت القيام عن المضاجع الجزء: 9 ¦ الصفحة: 402 وطرح ثياب النوم ولبس ثياب اليقظة (1) وكل ذلك مظنة انكشاف العورة. وأيضا كثيرا ما يجنب الشخص ليلا فيغتسل في ذلك الوقت ويستحي من الاطلاع عليه في تلك الحالة ولو مستور العورة وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ أي وحين تخلعون ثيابكم التي تلبسونها في النهار وتحطونها عنكم مِنَ الظَّهِيرَةِ بيان للحين، والظهيرة كما قال الراغب وقت الظهر، وفي القاموس هي حد انتصاف النهار وإنما ذلك في القيظ. وجوز أن تكون مِنْ أجلية والكلام على حذف مضاف أي وحين تضعون ثيابكم من أجل حر الظهيرة، وفسر بعضهم الظهيرة بشدة الحر عند انتصاف النهار فلا حاجة إلى الحذف وحِينَ عطف على مِنْ قَبْلِ وهو ظاهر على تقدير كونه في محل نصب، وأما على التقديرين الآخرين فيلتزم القول ببناء حين على الفتح وإن أضيف إلى مضارع كما قيل في قوله تعالى: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [المائدة: 119] على قراءة فتح ميم يوم، والتصريح بمدار الأمر أعني وضع الثياب في هذا الحين دون ما قيل وما بعد لما أن التجرد عن الثياب فيه لأجل القيلولة لقلة زمانها كما ينبىء عنه إيراد الحين مضافا إلى فعل حادث متقض ووقوعها في النهار الذي هو مئنة لكثرة الورود والصدور ومظنة لظهور الأحوال وبروز الأمور ليس من التحقق والاطراد بمنزلة ما في الوقتين المذكورين فإن تحقق المدار فيهما أمر معروف لا يحتاج إلى التصريح به. وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ضرورة أنه وقت التجرد عن لباس اليقظة والالتحاف بثياب النوم وكثيرا ما يتعاطى فيه مقدمات الجماع وإن كان الأفضل تأخيره لمن لا يغتسل على الفور إلى آخر الليل، ويعلم مما ذكر في حيز بيان حكمة مشروعية الاستئذان في الوقت الأول والوقت الأخير أن المراد بالقبلية والبعدية المذكورتين ليس مطلقهما المتحقق في الوقت الممتد المتخلل بين صلاة الفجر وصلاة العشاء بل المراد بهما طرفا ذلك الوقت الممتد المتصلان اتصالا عاديا بالصلاتين المذكورتين وعدم التعرض للأمر بالاستئذان في الباقي من الوقت الممتد إما لانفهامه بعد الأمر بالاستئذان في الأوقات المذكورة من باب الأولى، وإما لندرة الوارد فيه جدا كما قيل، وقيل إن ذاك لجريان العادة على أن من ورد فيه لا يرد حتى يعلم أهل البيت لما في الورود ودخول البيت فيه من دون إعلام أهله من التهمة ما لا يخفى. وقوله تعالى: ثَلاثُ عَوْراتٍ خبر مبتدأ محذوف، وقوله سبحانه لَكُمْ متعلق بمحذوف وقع صفة له أي هن ثلاث عورات كائنة لكم، والعورة الخلل ومنه أعور الفارس وأعور المكان إذا اختل حاله والأعور المختل العين، وعورة الإنسان سوأته وأصلها كما قال الراغب: من العار وذلك لما يلحق في ظهورها من العار أي المذمة، وضميرهن المحذوف للأوقات الثلاثة، والكلام على حذف مضاف أي هي ثلاث أوقات يختل فيها التستر عادة، وقدر أبو البقاء المضاف قبل ثَلاثَ فقال: أي هي أوقات ثلاث عورات أو لا حذف فيه، وإطلاق العورات على الأوقات المذكورة المشتملة عليها للمبالغة كأنها نفس العورات، والجملة استئناف مسوق لبيان علة طلب الاستئذان في تلك الأوقات. وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي «ثلاث» بالنصب على أنه بدل من ثَلاثَ مَرَّاتٍ وجوز أبو البقاء كونه بدلا من الأوقات المذكورة، وكونه منصوبا بإضمار أعني. وقرأ الأعمش «عورات» بفتح الواو وهي لغة هذيل بن مدركة وبني تميم لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ أي على الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم جُناحٌ أي   (1) بفتح القاف وتسكينها غير جائز إلا في الضرورة اهـ منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 403 في الدخول بغير استئذان بَعْدَهُنَّ أي بعد كل واحدة من تلك العورات الثلاث وهي الأوقات المتخللة بين كل اثنين منهن، وإيرادها بعنوان البعدية مع أن كل وقت من تلك الأوقات قبل كل عورة من العورات كما أنها بعد أخرى منهن لتوفية حق التكليف والترخيص الذي هو عبارة عن رفعه إذ الرخصة إنما تتصور في فعل يقع بعد زمان وقوع الفعل المكلف كذا في إرشاد العقل السليم، وظاهره أنه لا حرج في الدخول بغير استئذان في الوقت المتخلل بين ما بعد صلاة العشاء وما قبل صلاة الفجر بالمعنى السابق للبعدية والقبلية، ومقتضى ما قدمنا ثبوت الحرج في ذلك فيكون كالمستثنى مما ذكر. وكان الظاهر أن يقال: ليس عليهم جناح بعدهن وعدم التعرض لنفي أن يكون على المخاطبين جناح لأن المأمورين ظاهرا فيما تقدم بالاستئذان في العورات الثلاث هم المماليك والمراهقون الأحرار لا غير، وإن اعتبر المأمورون في الحقيقة فيما مر كان الظاهر هاهنا أن يقال: ليس عليكم جناح بعدهن مقتصرا عليه، ولعل اختيار ما في النظم الجليل لرعاية المبالغة في الإذن بترك الاستئذان فيما عدا تلك الثلاث حيث نفي الجناح عن المأمورين به فيها ظاهرا وحقيقة. والظاهر أن المراد بالجناح الإثم الشرعي، واستشكل بأنه يفهم من الآية ثبوت ذلك للمخاطبين إذا دخل المماليك والذين لم يبلغوا الحلم منهم عليهم من غير استئذان في تلك العورات مع أنه لا تزر وازرة وزر أخرى وثبوته للمماليك والصغار كذلك مع أن الصغار غير مكلفين فلا يتصور في حقهم الإثم الشرعي. وأجيب بأن ثبوت ذلك لمن ذكر بواسطة المفهوم ولا عبرة به عندنا، وعلى القول باعتباره يمكن أن يكون ثبوته للمخاطبين حينئذ لتركهم تعليمهم والتمكين من الدخول عليهم ويبقى إشكال ثبوته للصغار ولا مدفع له إلا بالتزام القول بأن التكليف يعتمد التمييز ولا يتوقف على البلوغ وهو خلاف ما عليه جمهور الأئمة. ويرد على القول بأن ثبوت ذلك لمن ذكر بواسطة المفهوم بحث لا يخفى. والتزم في الجواب كون المراد بالجناح لإثم العرفي الذي مرجعه ترك الأولى وإلا خلق من حيث المروءة والأدب وجواز ثبوت ذلك للمكلف وغير المكلف مما لا كلام فيه فكأن المعنى ليس عليكم أيها المؤمنون جناح في دخولهم عليكم بعدهن لترككم تعليمهم وتمكينكم إياهم منه المفضي إلى الوقوف على ما تأبى المروءة والغيرة الوقوف عليه ولا عليهم جناح في ذلك لإخلالهم بالأدب المفضي إلى الوقوف على ما تكره ذوو الطباع السليمة الوقوف عليه وينفعلون منه. ولا يأبى ذلك تقدم الأمر السابق ولا في الإرشاد من بيان نكتة إيراد العورات الثلاث بعنوان البعدية بما سمعت فتدبر فإنه دقيق. وذهب بعضهم إلى أن قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها [النور: 27] منسوخ بهذه الآية حيث دلت على جواز الدخول بدون استئذان بعد الأوقات الثلاثة ودل ذلك على خلافه. ومن لم يذهب إليه قال: إنها في الصبيان ومماليك المدخول عليه وآية الاستئذان في الأحرار البالغين ومماليك الغير في حكمهم فلا منافاة ليلتزم النسخ. ثم اعلم أن نفي الجناح بعدهن على من ذكر ليس على عمومه فإنه متى تحقق أو ظن كون أهل البيت على حال يكرهون اطلاع المماليك والمراهقين من الأحرار عليها كانكشاف عورة أحدهم ومعاشرته لزوجته أو أمته إلى غير ذلك لا ينبغي الدخول عليهم بدون استئذان سواء كان ذلك في إحدى العورات الثلاث أو في غيرها والأمر بالاستئذان فيها ونفي الجناح بعدها بناء على العادة الغالبة من كون أهل البيت في الأوقات الثلاث المذكورة على حال يقتضي الاستئذان وكونهم على حال لا يقتضيه في غيرها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 404 هذا وفي الآية توجيه آخر ذكره أبو حيان وظاهر صنيعه اختياره وعليه اقتصر أبو البقاء هو أن التقدير ليس عليكم ولا عليهم جناح بعد استئذانهم فيهن فحذف الفاعل وحرف الجر فبقي بعد استئذانهن ثم حذف المصدر فصار بعدهن، وعليه تقل مؤونة الكلام في الآية إلا أنه خلاف الظاهر جدا. والجمهور على ما سمعت أولا في معناها، والظاهر أن الجملة على القراءتين السابقتين في ثلاث مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها، وفي الكشاف أنها إذا رفع ثَلاثَ كانت في محل رفع على الوصف. والمعنى هن ثلاث مخصوصة بالاستئذان وإذا نصب لم يكن لها محل وكانت كلاما مقررا للاستئذان في تلك الأحوال خاصة، وقال في ذلك صاحب التقريب: إن رفع الحرج وراء الأوقات الثلاثة مقصود في نفسه فإذا وصف به ثَلاثُ عَوْراتٍ نصبا وهو بدل من ثلاث مرات كان التقدير ليستأذنكم هؤلاء في ثلاث عورات مخصوصة بالاستئذان. ويدفعه وجوه مستفادة من علم المعاني. أحدها اشتراط تقدم علم السامع بالوصف وهو منتف إذ لم يعلم إلا من هذا. والثاني جعل الحكم المقصود وصفا للظرف فيصير غير مقصود. والثالث أن الأمر بالاستئذان في المرات الثلاث حاصل وصفت بأن لا حرج وراءها أو لم توصف فيضيع الوصف. وأما إذا وصف المرفوع فيزول الدوافع لأنه ابتداء تعليم أي هن ثلاث مخصوصة بالاستئذان وصفة للخبر المقصود ولم يتقيد أمر الاستئذان به فليتأمل فإنه دقيق جليل انتهى، وتعقب بأن الوجهين الأخيرين ساقطان لا طائل تحتهما والأول هو الوجه. فإن قيل: هو مشترك الإلزام قيل: قد تقدم في قوله تعالى: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ ما يرشد إلى العلم بذلك وليست الجملة الأخيرة من أجزائه كما هي كذلك على فرض جعلها صفة للبدل ولا يحتاج مع هذا إلى حديث أن رفع الحرج وراء الأوقات الثلاثة مقصود في نفسه بل قيل هو في نفسه ليس بشيء فقد قال الطيبي: إن المقصود الأولى الاستئذان في الأوقات المخصوصة ورفع الحرج في غيرها تابع له لقول المحدث رضي الله تعالى عنه لوددت أن الله عز وجل نهى آباءنا وخدمنا عن الدخول علينا في هذه الساعة إلا بإذن ثم انطلق إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وقد نزلت الآية. وفي الكشف أنه جيء به أي بالكلام الدال على رفع الحرج أعني لَيْسَ عَلَيْكُمْ إلخ على رفع ثَلاثَ مؤكدا للسالف على طريق الطرد والعكس وكذلك إذا نصب وجعل استئنافا وأما إذا جعل وصفا فيفوت هذا المعنى. وهذا أيضا من الدوافع انتهى فتأمل ولا تغفل. وقوله تعالى: طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ خبر مبتدأ محذوف أي هم طوافون والجملة استئناف ببيان العذر المرخص في ترك الاستئذان وهو المخالطة الضرورية وكثرة المداخلة. وفيه دليل على تعليل الأحكام الشرعية وكذا في الفرق بين الأوقات الثلاثة وغيرها بأنها عورات. وقوله عز وجل: بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ جوز أن يكون مبتدأ وخبرا ومتعلق الجار كون خاص حذف لدلالة ما قبله عليه أي بعضكم طائف على بعض، وجوز أن يكون معمولا لفعل محذوف أي يطوف بعضكم على بعض، وقال ابن عطية بَعْضُكُمْ بدل من طَوَّافُونَ، وتعقبه في البحر بأنه إن أراد أنه بدل من طَوَّافُونَ نفسه فلا يجوز لأنه يصير التقدير هم بعضكم على بعض وهو معنى لا يصح وإن أراد أنه بدل من الضمير فيه فلا يصح أيضا إن قدر الضمير ضمير غيبة لتقديرهم لأنه يصير التقدير هم يطوف بعضكم على بعض وإن جعل التقدير أنتم يطوف عليكم بعضكم على بعض فيدفعه أن عَلَيْكُمْ يدل على أنهم هم المطوف عليهم وأنتم طوافون يدل على أنهم طائفون فيتعارضان، وقيل: يقدر أنتم طوافون ويراد بأنتم المخاطبون والغيب من المماليك والصبيان وهو كما ترى، وجوز أبو البقاء كون الجملة بدلا من التي قبلها وكونها مبينة مؤكدة، ولا يخفى عليك ما تضمنته من جبر قلوب المماليك بجعلهم بعضا من المخاطبين وبذلك يقوى أمر العلية. وقرأ ابن أبي عبلة «طوافين» بالنصب على الحال من ضمير عليهم كَذلِكَ إشارة إلى مصدر الفعل الذي بعد على ما مر تفصيله في تفسير قوله تعالى: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 405 وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143] وفي غيره أيضا أي مثل ذلك التبيين يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ الدالة على ما فيه نفعكم وصلاحكم أي ينزلها مبينة واضحة الدلالة لا أنه سبحانه يبينها بعد أن لم تكن كذلك، وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصحيح لما مر غير مرة، وقيل: يبين علل الأحكام. وتعقب بأنه ليس بواضح مع أنه مؤد إلى تخصيص الآيات بما ذكر هاهنا. وَاللَّهُ عَلِيمٌ مبالغ في العلم بجميع المعلومات فيعلم أحوالكم حَكِيمٌ في جميع أفاعيله فيشرع لكم ما فيه صلاحكم معاشا ومعادا. وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ لما بين سبحانه آنفا حكم الأطفال من أنهم لا يحتاجون إلى الاستئذان في غير الأوقات الثلاثة عقب جل وعلا ببيان حالهم إذا بلغوا دفعا لما عسى أن يتوهم أنهم وإن كانوا أجانب ليسوا كسائر الأجانب بسبب اعتيادهم الدخول فاللام في الْأَطْفالُ للعهد إشارة إلى الذين لم يبلغوا الحلم المجعولين قسيما للمماليك أي إذا بلغ الأطفال الأحرار الأجانب فَلْيَسْتَأْذِنُوا إذا أرادوا الدخول عليكم كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي الذين ذكروا من قبلهم في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها [النور: 27] وجوز أن تكون القبلية باعتبار الوصف لا باعتبار الذكر في النظم الجليل بقرينة ذكر البلوغ وحكم الطفولية أي الذين بلغوا من قبلهم. وأخرج هذا ابن أبي حاتم عن مقاتل وزعم بعضهم أنه أظهر. وتعقب بأن المراد بالتشبيه بيان كيفية استئذان هؤلاء وزيادة إيضاحه ولا يتسنى ذلك إلا بتشبيهه باستئذان المعهودين عند السامع، ولا ريب في أن بلوغهم قبل بلوغ هؤلاء مما لا يخطر ببال أحد وإن كان الأمر كذلك في الواقع وإنما المعهود المعروف ذكرهم قبل ذكرهم، فالمعنى فليستأذنوا استئذانا كائنا مثل استئذان المذكورين قبلهم بأن يستأذنوا في جميع الأوقات ويرجعوا إن قيل لهم ارجعوا حسبما فصل فيما سلف، وكون المراد بالأطفال الأطفال الأحرار الأجانب قد ذهب إليه غير واحد، وقال بعض الأجلة: المراد بهم ما يعم الأحرار والمماليك فيجب الاستئذان على من بلغ من الفريقين وأوجب هذا استئذان العبد البالغ على سيدته لهذه الآية، وقال في البحر مِنْكُمُ أي من أولادكم وأقربائكم. وأخرج ابن أبي حاتم نحو هذا التفسير عن سعيد بن جبير. وأخرج عن سعيد بن المسيب أنه قال: يستأذن الرجل على أمه فإنما نزلت وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ في ذلك. وأخرج سعيد بن منصور والبخاري في الأدب وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عطاء أنه سأل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أأستأذن على أختي؟ قال: نعم قلت: إنها في حجري وأنا أنفق عليها وإنها معي في البيت أأستأذن عليها؟ قال: نعم إن الله تعالى يقول: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ الآية فلم يأمر هؤلاء بالاستئذان إلا في العورات الثلاث وقال تعالى: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فالإذن واجب على خلق الله تعالى أجمعين، وروي عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: آية لا يؤمن بها أكثر الناس آية الإذن وإني لآمر جارتي يعني زوجته أن تستأذن عليّ، وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه عليكم أن تستأذنوا على آبائكم وأمهاتكم وأخواتكم، ونقل عن بعضهم أن وجوب الاستئذان المستفاد من الأمر الدال عليه في الآية منسوخ وأنكر ذلك سعيد بن جبير روي عنه يقولون: هي منسوخة لا والله ما هي منسوخة ولكن الناس تهاونوا بها، وعن الشعبي ليست منسوخة فقيل له: إن الناس لا يعملون بها فقال: الله تعالى المستعان، وقيل: ذلك مخصوص بعدم الرضا وعدم باب يغلق كما كان في العصر الأول كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ الكلام فيه كالذي سبق، والتكرير الجزء: 9 ¦ الصفحة: 406 للتأكيد والمبالغة في طلب الاستئذان، وإضافة الآيات إلى ضمير الجلالة لتشريفها وهو مما يقوي أمر التأكيد والمبالغة وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ أي العجائز وهو جمع قاعد كحائض وطامث فلا يؤنث لاختصاصه ولذا جمع على فواعل لأن التاء فيه كالمذكورة أو هو شاذ، قال ابن السكيت: امرأة قاعد قعدت عن الحيض، وقال ابن قتيبة: سميت العجائز قواعد لأنهن يكثرن القعود لكبر سنهن، وقال ابن ربيعة: لقعودهن عن الاستمتاع حيث أيسن ولم يبق لهن طمع في الأزواج فقوله تعالى: اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً أي لا يطمعن فيه لكبرهن صفة كاشفة فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ أي الثياب الظاهرة التي لا يفضي وضعها لكشف العورة كالجلباب والرداء والقناع الذي فوق الخمار. وأخرج ابن المنذر عن ميمون بن مهران أنه قال: في مصحف أبيّ بن كعب ومصحف ابن مسعود «فليس عليهن جناح أن يضعن جلابيبهن» وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهما كانا يقرآن كذلك، ولعله لذلك اقتصر بعض في تفسير الثياب على الجلباب، والجملة خبر الْقَواعِدُ والفاء إما لأن اللام في القواعد موصولة بمعنى اللاتي وإما لأنها موصوفة بالموصول. وقوله تعالى: غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ حال، وأصل التبرج التكلف في إظهار ما يخفى من قولهم: سفينة بارج لا غطاء عليها، والبرج سعة العين بحيث يرى بياضها محيطا بسوادها كله لا يغيب منه شيء، وقيل: أصله الظهور من البرج أي القصر ثم خص بأن تتكشف المرأة للرجال بإبداء زينتها وإظهار محاسنها، وليست الزينة مأخوذة في مفهومه حتى يقال: إن ذكر الزينة من باب التجريد، والظاهر أن الباء للتعدية، وقيل زائدة في المفعول لأنهم يفسرون التبرج بمتعد، ففي القاموس تبرجت أظهرت زينتها للرجال وفيه نظر، والمراد بالزينة الزينة الخفية لسبق العلم باختصاص الحكم بها ولما في لفظ التبرج من الإشعار، والتنكير لإفادة الشياع وأن زينة ما وإن دقت داخلة في الحكم أي غير مظهرات زينة مما أمر بإخفائه في قوله تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ [النور: 31] . وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ بترك الوضع والتستر كالشواب خَيْرٌ لَهُنَّ من الوضع لبعده من التهمة فلكل ساقطة لاقطة، وذكر ابن المنير للآية معنى استحسنه الطيبي فقال: يظهر لي والله تعالى أعلم أن قوله تعالى: غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ من باب: «على لا حب لا يهتدى بمناره» أي لا منار فيه فيهتدى به وكذلك المراد والقواعد من النساء لا زينة لهن فيتبرجن بها لأن الكلام فيمن هن بهذه المثابة، وكأن الغرض من ذلك أن هؤلاء استعفافهن عن وضع الثياب خير لهن فما ظنك بذوات الزينة من الشواب، وأبلغ ما في ذلك أنه جعل عدم وضع الثياب في حق القواعد من الاستعفاف إيذانا بأن وضع الثياب لا مدخل له في العفة هذا في القواعد فكيف بالكواعب وَاللَّهُ سَمِيعٌ مبالغ في سمع جميع ما يسمع فيسمع بما يجري بينهن وبين الرجال من المقاولة عَلِيمٌ فيعلم سبحانه مقاصدهن. وفيه من الترهيب ما لا يخفى. لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ في كتاب الزهراوي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هؤلاء الطوائف كانوا يتحرجون من مؤاكلة الأصحاء حذارا من استقذارهم إياهم وخوفا من تأذيهم بأفعالهم وأوضاعهم فنزلت. وقيل: كانوا يدخلون على الرجل لطلب الطعام فإذا لم يكن عنده ما يطعمهم ذهب بهم إلى بيوت آبائهم وأمهاتهم أو إلى بعض من سماهم الله تعالى في الآية الكريمة فكانوا يتحرجون من ذلك ويقولون: ذهب بنا إلى بيت غيره ولعل أهله كارهون لذلك. وكذا كانوا يتحرجون من الأكل من أموال الذين كانوا إذا خرجوا إلى الغزو وخلفوا هؤلاء الضعفاء في بيوتهم ودفعوا إليهم مفاتيحها وأذنوا لهم أن يأكلوا مما فيها مخافة أن لا يكون إذنهم عن طيب نفس منهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 407 وكان غير هؤلاء أيضا يتحرجون من الأكل في بيوت غيرهم، فعن عكرمة كانت الأنصار في أنفسها قزازة فكانت لا تأكل من البيوت الذي ذكر الله تعالى، وقال السدي: كان الرجل يدخل بيت أبيه أو بيت أخيه أو أخته فتتحفه المرأة بشيء من الطعام فيتحرج لأجل أنه ليس ثم رب البيت، والحرج لغة كما قال الزجاج الضيق من الحرجة وهو الشجر الملتف بعضه ببعض لضيق المسالك فيه، وقال الراغب: هو في الأصل مجتمع الشيء ثم أطلق على الضيق وعلى الإثم، والمعنى على الرواية الأولى ليس على هؤلاء حرج في أكلهم مع الأصحاء، ويقدر على سائر الروايات ما يناسب ذلك مما لا يخفى، وعَلَى على معناها في جميع ذلك، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه لما نزل وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [البقرة: 188] تحرج المسلمون عن مؤاكلة الأعمى لأنه لا يبصر موضع الطعام الطيب والأعرج لأنه لا يستطيع المزاحمة على الطعام والمريض لأنه لا يستطيع استيفاء الطعام فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقيل: كانت العرب ومن بالمدينة قبل البعث تجتنب الأكل مع أهل هذه الأغدار لمكان جولان يد الأعمى وانبساط جلسة الأعرج وعدم خلو المريض من رائحة تؤذي أو جرح ينض أو أنف يذن فنزلت. ومن ذهب إلى هذا جعل عَلَى بمعنى في أي ليس في مؤاكلة الأعمى حرج وهكذا وإلا لكان حق التركيب ليس عليكم أن تأكلوا مع الأعمى حرج وكذا يقال فيما بعد وفيه بعد لا يخفى، وقيل: لا حاجة إلى أن يقدر محذوف بعد قوله تعالى: حَرَجٌ حسبما أشير إليه إذ المعنى ليس على الطوائف المعدودة وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ حرج أَنْ تَأْكُلُوا أنتم وهم معكم مِنْ بُيُوتِكُمْ إلخ، وإلى كون المعنى كذلك ذهب مولانا شيخ الإسلام ثم قال: وتعميم الخطاب للطوائف المذكورة أيضا يأباه ما قبله وما بعده فإن الخطاب فيهما لغير أولئك الطوائف حتما ولعل ما تقدم أولى، وأما تعميم الخطاب فلا أقول به أصلا، وعن ابن زيد والحسن وذهب إليه الجبائي وقال أبو حيان: هو القول الظاهر أن الحرج المنفي عن أهل العذر هو الحرج في القعود عن الجهاد وغيره مما رخص لهم فيه والحرج المنفي عمن بعدهم الحرج في الأكل من البيوت المذكورة، قال صاحب الكشاف: والكلام عليه صحيح لالتقاء الطائفتين في أن كلا منفي عنه الحرج، ومثاله أن يستفتى مسافر عن الإفطار في رمضان وحاج مفرد عن تقديم الحلق على النحر فتقول: ليس على المسافر حرج أن يفطر ولا عليك يا حاج أن تقدم الحلق على النحر وهو تحقيق لأمر العطف وذلك أنه لما كان فيه غرابة لبعد الجامع بادىء النظر ازاله بأن الغرض لما كان بيان الحكم كفاء الحوادث والحادثتان وإن تباينتا كل التباين إذا تقارنتا في الوقوع والاحتياج إلى البيان قرب الجامع بينهما ولا كذلك إذا كان الكلام في غير معرض الإفتاء والبيان، وليس هذا القول منه بناء على أن الاكتفاء في تصور ما كاف في الجامعية كما ظن، وبهذا يظهر الجواب عما اعترض به على هذه الرواية من أن الكلام عليها لا يلائم ما قبله ولا ما بعده لأن ملاءمته لما بعده قد عرفت وجهها، وأما ملاءمته لما قبله فغير لازمة إذ لم يعطف عليه، وربما يقال في وجه ذكر نفي الحرج عن أهل العذر بترك الجهاد وما يشبهه مما رخص لهم فيه أثناء بيان الاستئذان ونحوه: إن نفي الحرج عنهم بذلك مستلزم عدم وجوب الاستئذان منه صلّى الله عليه وسلم لترك ذلك فلهم القعود عن الجهاد ونحوه من غير استئذان ولا إذن كما أن للماليك والصبيان الدخول في البيوت في غير العورات الثلاث من غير استئذان ولا إذن من أهل البيت، ومثل هذا يكفي وجها في توسيط جملة أثناء جمل ظاهرة التناسب، ويرد عليه شيء عسى أن يدفع بالتأمل، وإنما لم يذكر الحرج في قوله تعالى: وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ بأن يقال: ولا على أنفسكم حرج اكتفاء بذكره فيما مر والأواخر محل الحذف، ولم يكتف بحرج واحد بأن يقال: ليس على الأعمى والأعرج والمريض وأنفسكم حرج أن تأكلوا دفعا لتوهم خلاف المراد، وقيل حذف الحرج آخرا للإشارة إلى مغايرته للمذكور ولا تقدح في دلالته عليه لا سيما إذا قلنا: إن الدال غير منحصر فيه وهو كما ترى، ومعنى عَلى أَنْفُسِكُمْ كما في الكشاف عليكم وعلى من في مثل حالكم من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 408 المؤمنين، وفيه كما في الكشف إشارة إلى فائدة إقحام النفس وأن الحاصل ليس على الضعفاء المطعمين ولا على الذاهبين إلى بيوت القرابات ومن في مثل حالهم وهم الأصدقاء حرج. وقيل: إن فائدة إقحامها الإشارة إلى أن الأكل المذكور مع أنه لا حرج فيه لا يخل بقدر من له شأن وهو وجه حسن دقيق لا يلزمه استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ظاهرا، وكان منشؤه كثرة إقحام النفس في ذوي الشأن، ومن ذلك قوله تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام: 54] ولم يقل سبحانه: كتب ربكم عليه الرحمة، وقوله عز وجل في الحديث القدسي: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي» دون أن يقول جل وعلا: إني حرمت الظلم عليّ إلى غير ذلك مما يعرفه المتتبع المنصف، وما قيل من أنّ فائدة الإقحام الإشارة إلى أن التجنب عن الأكل المذكور لا يخلو عن رعاية حظ النفس مع خفائه لا يلائم إلا بعض الروايات السابقة في سبب النزول، ونحو ما قيل من أنها أقحمت للإشارة إلى أن نفي الحرج عن المخاطبين في الأكل من البيوت المذكورة لذواتهم بخلاف نفي الحرج عن أهل الأعذار في الأكل منها فإنه لكونهم مع المخاطبين وذهابهم بهم إليها، والتعرض لنفي الحرج عنهم في أكلهم من بيوتهم مع ظهور انتفاء ذلك لإظهار التسوية بينه وبين قرنائه كما في قوله تعالى: يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا [آل عمران: 46] لكن ذلك فيما نحن فيه من أول الأمر، ولم يتعرض لبيوت أولادهم لظهور أنها كبيوتهم، وذكر جمع أنها داخلة في بيوت المخاطبين، فقد روى أبو داود وابن ماجة «أنت ومالك لأبيك» في حديث رواه الشيخان وغيرهما «إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه وإن ولده من كسبه» وقال بعضهم: المراد ببيوت المخاطبين بيوت أولادهم وأضافها إليهم لمزيد اختصاصها بهم كما يشهد به الشرع والعرف، وقيل: المعنى أن تأكلوا من بيوتكم من مال أولادكم وأزواجكم الذين هم في بيوتكم ومن جملة عيالكم وهو كما ترى أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ وقرأ حمزة بكسر الهمزة والميم، والكسائي وطلحة بكسر الهمزة وفتح الميم أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أي أو مما تحت أيديكم وتصرفكم من بستان أو ماشية وكالة أو حفظا وهو الذي يقتضيه كلام ابن عباس. فقد روى عنه غير واحد أنه قال: ذاك وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته فلا بأس عليه أن يأكل من ثمر حائطه ويشرب من لبن ماشيته ولا يحمل ولا يدخر. وقال السدي: هو الرجل يولي طعام غيره ويقوم عليه فلا بأس أن يأكل منه. وقال ابن جرير: هو الزمن يسلم إليه مفتاح البيت ويؤذن له بالتصرف فيه، وقيل: ولي اليتيم الذي له التصرف بماله فإنه يباح له الأكل منه بالمعروف. وملك المفتاح على جميع ذلك كناية عن كون الشيء تحت يد الشخص وتصرفه. والعطف على ما أشرنا إليه على ما بعد مِنْ وعن قتادة أن المراد بما ملكتم مفاتحه العبيد فالعطف على ما بعد بُيُوتِ والتقدير أو بيوت الذين ملكتم مفاتحهم. وكان ملك المفتاح لما شاع كناية لم ينظر فيه إلى أن المتصرف مما يتوصل إليه بالمفتاح أولا ومثله كثير، أو هو ترشيح لجري العبيد مجرى الجماد من الأموال المشعر به استعمال ما فيهم، ولا يخفى عليك بعد هذا القول وأنه يندرج بيوت العبيد في قوله تعالى: بُيُوتِكُمْ لأن العبد لا ملك له، وإرادة المعتوقين منهم بقرينة مَلَكْتُمْ بلفظ الماضي مما لا ينبغي أن يلتفت إليه. وقرأ ابن جبير «ملكتم» بضم الميم وكسر اللام مشددة «ومفاتيحه» بياء بعد التاء جمع مفتاح. وقرأ قتادة وهارون عن أبي عمرو «مفتاحه» بالإفراد وهو آلة الفتح وكذا المفتح كما في القاموس، وقال الراغب: المفتح والمفتاح ما يفتح به وجمعه مفاتيح ومفاتح وفي بعض الكتب أن جمع مفتح مفاتح وجمع مفتاح مفاتيح أَوْ صَدِيقِكُمْ أي أو بيوت صديقكم وهو من يصدق في مودتك وتصدق في مودته يقع على الواحد والجمع، والمراد به هنا الجمع، وقيل: المفرد، وسر التعبير به دون أصدقائكم الإشارة إلى قلة الأصدقاء حتى قيل: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 409 صاد الصديق وكاف الكيمياء معا ... لا يوجدان فدع عن نفسك الطمعا ونقل عن هشام بن عبد الملك أنه قال: نلت ما نلت حتى الخلافة وأعوزني صديق لا أحتشم منه، وقيل: إنه إشارة إلى أن شأن الصداقة رفع الاثنينية ورفع الحرج في الأكل من بيت الصديق لأنه أرضى بالتبسط وأسر به من كثير من ذوي القرابة روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الصديق أكبر من الوالدين إن الجهنميين لما استغاثوا لم يستغيثوا بالآباء والأمهات فقالوا: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعراء: 100، 101] . وعن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه من عظم حرمة الصديق أن جعله الله تعالى من الأنس والثقة والانبساط ورفع الحشمة بمنزلة النفس والأب والأخ، وقيل لأفلاطون: من أحب إليك أخوك أم صديقك؟ فقال: لا أحب أخي إلا إذا كان صديقي، وقد كان السلف ينبسطون بأكل أصدقائهم من بيوتهم ولو كانوا غيبا. يحكى عن الحسن أنه دخل داره وإذا حلقة من أصدقائه وقد استلوا سلالا من تحت سريره فيها الخبيص وأطايب الأطعمة وهم مكبون عليها يأكلون فتهللت أسارير وجهه سرورا وضحك وقال: هكذا وجدناهم هكذا وجدناهم يريد كبراء الصحابة ومن لقيهم من البدريين، وكان الرجل منهم يدخل دار صديقه وهو غائب فيسأل جاريته كيسه فيأخذ ما شاء فإذا حضر مولاها فأخبرته أعتقها سرورا بذلك، وهذا شيء قد كان. «إذا الناس ناس والزمان زمان» وأما اليوم فقد طوي فيما أعلم بساطه واضمحل والأمر لله تعالى فسطاطه وعفت آثاره وأفلت أقماره وصار الصديق اسما للعدو الذي يخفي عداوته وينتظر لك حرب الزمان وغارته فآه ثم آه ولا حول ولا قوة إلا بالله. ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدوا له ما من صداقته بد ثم إن نفي الحرج في الأكل المذكور مشروط بما إذا علم الآكل رضا صاحب المال بإذن صريح أو قرينة، ولا يرد أنه إذا وجد الرضا جاز الأكل من مال الأجنبي والعدو أيضا فلا يكون للتخصيص وجه لأن تخصيص هؤلاء لاعتياد التبسط بينهم فلا مفهوم له، وقال أبو مسلم: هذا في الأرقاب الكفرة أباح سبحانه في هذه الآية ما حظره في قوله سبحانه: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: 22] وليس بشيء، وقيل: كان ذلك في صدر الإسلام ثم نسخ بقوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» وقوله عليه الصلاة والسلام من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: «لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه» ، وقوله تعالى: لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا [النور: 27] الآية، وقوله عز وجل: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [الأحزاب: 53] فإنهم إذا منعوا من منزله صلّى الله عليه وسلم إلا بالشرط المذكور وهو عليه الصلاة والسلام أكرم الناس وأقلهم حجابا فغيره صلى الله تعالى عليه وسلم يعلم بالطريق الأولى. وأنت تعلم أنه لا حاجة إلى القول بالنسخ بناء على ما قلنا أولا، واحتج بالآية بعض أئمة الحنفية على أنه لا قطع بسرقة مال المحارم مطلقا لا فرق في ذلك بين الوالدين والمولودين وبين غيرهم لأنها دلت على إباحة دخول دارهم بغير إذنهم فلا يكون مالهم محرزا ومجرد احتمال إرادة الظاهر وعدم النسخ كاف في الشبهة المدرئة للحد، وبحث فيه بأن درء الحدود بالشبهات ليس على إطلاقه عندهم كما يعلم من أصولهم، وأورد عليه أيضا أنه يستلزم أن لا تقطع يد من سرق من الصديق، وأجيب عن هذا بأن الصديق متى قصد سرقة مال صديقه انقلب عدوا، وتعقب بأن الشرع ناظر إلى الظاهر لا إلى السرائر، وقرىء «صديقكم» بكسر الصاد اتباعا لحركة الدال حكى ذلك حميد الخزاز لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أي مجتمعين وهو نصب على الحال من فاعل تَأْكُلُوا وهو في الأصل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 410 بمعنى كل ولا يفيد الاجتماع خلافا للفراء، ودل عليه هنا لمقابلته بقوله تعالى: أَوْ أَشْتاتاً فإنه عطف عليه داخل في حكمه وهو جمع شت على أنه صفة كالحق يقال: أمر شت أي متفرق أو على أنه في الأصل مصدر وصف به مبالغة. والآية على ما ذهب أكثر المفسرين كلام مستأنف مسوق لبيان حكم آخر من جنس ما بين قبله، وقد نزلت على ما روي عن ابن عباس والضحاك وقتادة في بني ليث بن عمرو بن كنانة تحرجوا أن يأكلوا طعامهم منفردين وكان الرجل منهم لا يأكل ويمكث يومه حتى يجد ضيفا يأكل معه فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئا وربما قعد الرجل منهم والطعام بين يديه لا يتناوله من الصباح إلى الرواح وربما كانت معه الإبل الحفل فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه فإذا أمسى ولم يجد أحدا أكل، قيل: وهذا التحرج سنة موروثة من الخليل عليه الصلاة والسلام، وقد قال حاتم: إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له ... أكيلا فإني لست آكله وحدي وفي الحديث «شر الناس من أكل وحده وضرب عبده ومنع رفده» وهذا الذم لاعتياده بخلا بالقرى ونفي الجناح عن وقوعه أحيانا بيانا لأنه لا إثم فيه ولا يذم به شرعا كما ذمت به الجاهلية فلا حاجة إلى القول بأن الوعيد في الحديث لمن اجتمعت فيه الخصال الثلاث دون الانفراد بالأكل وحده فإنه يقتضي أن كلّا منها على الانفراد غير منهي عنه وليس كذلك، والقول بأنهم أهل لسان لا يخفى عليهم مثله ولكن لمجيء الواو بمعنى أو تركوا كل واحد منها احتياطا لا وجه له لأن هؤلاء المتحرجين لم يتمسكوا بالحديث، وكون الواو بمعنى أوتوهم لا عبرة به، ولا شك أن اجتماع الأيدي على الطعام سنة فتركه بغير داع مذمة انتهى. وعن عكرمة وأبي صالح أنها نزلت في قوم من الأنصار كانوا إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلا معه فرخص لهم أن يأكلوا كيف شاؤوا، قيل: كان الغني يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته فيدعوه إلى طعامه فيقول: إني لأتحرج أن آكل معك وأنا غني وأنت فقير وروي ذلك عن ابن عباس، وقال الكلبي: كانوا إذا اجتمعوا ليأكلوا طعاما عزلوا للأعمى ونحوه طعاما على حدة فبين الله تعالى أن ذلك ليس بواجب. وقيل: كانوا يأكلون فرادى خوفا أن يزيد أحدهم على الآخر في الأكل أو أن يحصل من الاجتماع ما ينفر أو يؤذي فنزلت لنفي وجوب ذلك، وأيّا كان فالعبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، وقيل: الآية من تتمة ما قبلها على معنى أنها وقعت جوابا لسؤال نشأ منه كأن سائلا يقول: هل نفي الحرج في الأكل من بيوت من ذكر خاص فيما إذا كان الأكل مع أهل تلك البيوت أم لا؟ فأجيب بقوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أي مجتمعين مع أهل تلك البيوت في الأكل أو أشتاتا أي متفرقين بأن يأكل كل منكم وحده ليس معه صاحب البيت وما ألطف نفي الحرج فيما اتسعت دائرته ونفي الجناح فيما ورد فيه بين أمرين والنكات لا يجب اطرادها كذا قيل فتدبر. فَإِذا دَخَلْتُمْ شروع في بيان الأدب الذي ينبغي رعايته عند مباشرة ما رخص فيه بعد بيان الرخصة فيه بُيُوتاً أي من البيوت المذكورة كما يؤذن به الفاء. فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ أي على أهلها كما أخرج ذلك ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس وقريب منه ما أخرجه عبد الرزاق وجماعة عن الحسن أن المعنى فليسلم بعضكم على بعض نظير قوله تعالى: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 54] والتعبير عن أهل تلك البيوت بالأنفس لتنزيلهم منزلتها لشدة الاتصال، وفي الانتصاف في التعبير عنهم بذلك تنبيه على السر الذي اقتضى إباحة الأكل من تلك البيوت المعدودة وأن ذلك إنما كان لأنها بالنسبة إلى الداخل كبيت نفسه للقرابة ونحوها، وقيل: المراد السلام على أهلها على أبلغ وجه لأن المسلم إذا ردت تحيته عليه فكأنه سلم على نفسه كما أن القاتل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 411 لاستحقاقه القتل بفعله كأنه قاتل نفسه. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير والحاكم وصححه وغيرهم عن ابن عباس أنه قال في الآية: هو المسجد إذا دخلته فقل السلام علينا وعلى عباد الله تعالى الصالحين. فحمل البيوت فيها على المساجد والسلام على الأنفس على ظاهره، وقيل: المراد بيوت المخاطبين وأهلهم، وذكر أن الرجل إذا دخل على أهله سن له أن يقول: السلام عليكم تحية من عند الله مباركة طيبة فإن لم يجد أحدا فليقل السلام علينا من ربنا وروي هذا عن عطاء، وقيل السلام على الأنفس على ظاهره والمراد ببيوت بيوت الكفار وذكر أن داخلها وكذا داخل البيوت الخالية يقول ما سمعت آنفا عن ابن عباس وقيل يقول على الكفار يقول: السلام على من اتبع الهدى، ولا يخفى المناسب للمقام، والسلام بمعنى السلام من الآفات وقيل: اسم من أسمائه عز وجل وقد مر الكلام في ذلك على أتم وجه فتذكر. تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي ثابتة بأمره تعالى مشروعة من لدنه عز وجل فالجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لتحية، وجوز أن يتعلق بتحية فإنها طلب الحياة وهي من عنده عز وجل، وأصل معناها أن تقول حياك الله تعالى أي أعطاك سبحانه الحياة ثم عمم لكل دعاء، وانتصابها على المصدرية ليسلموا على طريق قعدت جلوسا فكأنه قيل فسلموا تسليما أو فحيوا تحية مُبارَكَةً بورك فيها بالأجر كما روي عن مقاتل، قال الضحاك: في السلام عشر حسنات ومع الرحمة عشرون ومع البركات ثلاثون طَيِّبَةً تطيب بها نفس المستمع، والظاهر أنه يزيد المسلم ما ذكر في سلامه، وعن بعض السلف زيادته كما مر آنفا، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ما أخذت التشهد إلا من كتاب الله تعالى سمعت الله تعالى يقول: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً فالتشهد في الصلاة التحيات المباركات الطيبات لله. كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ تكرير لمزيد التأكيد، وفي ذلك تفخيم فخيم للأحكام المختتمة به لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ما في تضاعيفها من الشرائع والأحكام وتعملون بموجبها وتحوزون بذلك سعادة الدارين، وفي تعليل هذا التبيين بهذه الغاية القصوى بعد تذييل الأولين بما يوجبها من الجزالة ما لا يخفى، وذكر بعض الأجلة أنه سبحانه بدأ السورة بقوله تعالى: وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ [النور: 1] وختمها بقوله عز وجل: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ ثم جعل تبارك وتعالى ختام الختم قوله سبحانه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ إلخ دلالة على أن ملاك ذلك كله والمنتفع بتلك الآيات جمع من سلم نفسه لصاحب الشريعة صلوات الله تعالى وسلامه عليه كالميت بين يدي الغاسل لا يحجم ولا يقدم دون إشارته صلّى الله عليه وسلّم ولهذه الدقيقة أورد هذه الآية شهاب الحق والدين أبو حفص عمر السهروردي قدس سره في باب سير المريد مع الشيخ ونبه بذلك أن كل ما يرسمه من أمور الدين فهو أمر جامع. وقال شيخ الإسلام: إن هذا استئناف جيء به في أواخر الأحكام السابقة تقريرا لها وتأكيدا لوجوب مراعاتها وتكميلا لها ببيان بعض آخر من جنسها، وإنما ذكر الإيمان بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم صلة للموصول الواقع خبرا للمبتدأ مع تضمنه له قطعا تقريرا لما قبله وتمهيدا لما بعده وإيذانا بأنه حقيق بأن يجعل قرينا للإيمان المذكور منتظما في سلكه فقوله تعالى: وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ إلخ معطوف على آمَنُوا داخل معه في حيز الصلة وبذلك يصح الحمل، والحصر باعتبار الكمال أي إنما الكاملون في الإيمان الذين آمنوا بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم عن صميم قلوبهم وأطاعوا في جميع الأحكام التي من جملتها ما فصل من قبل من الأحكام المتعلقة بعامة أحوالهم المطردة في الوقوع وأحوالهم الواقعة بحسب الاتفاق كما إذا كانوا معه عليه الصلاة والسلام على أمر مهم يجب اجتماعهم في شأنه كالجمعة والأعياد والحروب وغيرها من الأمور الداعية إلى الاجتماع لغرض من الأغراض، وعن ابن زيد أن الأمر الجزء: 9 ¦ الصفحة: 412 الجامع الجهاد وقال الضحاك وابن سلام هو كل صلاة فيها خطبة كالجمعة والعيدين والاستسقاء، وعن ابن جبير هو الجهاد وصلاة الجمعة والعيدين، ولا يخفى أن الأولى العموم وإن كانت الآية نازلة في حفر الخندق ولعل ما ذكر من باب التمثيل، ووصف الأمر بالجمع مع أنه سبب له للمبالغة، والظاهر أن ذلك من المجاز العقلي، وجوز أن يكون هناك استعارة مكنية. وقرأ اليماني «على أمر جميع» وهو بمعنى جامع أو مجموع له على الحذف والإيصال لَمْ يَذْهَبُوا عنه صلّى الله عليه وسلّم حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ عليه الصلاة والسلام في الذهاب فيأذن لهم به فيذهبون فالغاية هي الإذن الحاصل بعد الاستئذان والاقتصار على الاستئذان لأنه الذي يتم من قبلهم وهو المعتبر في كمال الإيمان لا الإذن ولا الذهاب المترتب عليه واعتباره في ذلك لما أنه كالمصداق لصحته والمميز للمخلص عن المنافق فإن ديدنه التسلل للفرار، ولتعظيم ما في الذهاب بغير إذنه عليه الصلاة والسلام من الجناية وللتنبيه على ذلك عقب سبحانه بقوله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فقد جعل فيه المستأذنين هم المؤمنون عكس الأول دلالة على أنهما متعاكسان سواء بسواء ومنه يلزم أنه كالمصداق لصحة الإيمانين وكذلك من اسم الإشارة لدلالته على أن استئهال الإيمانين لذلك فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ بيان لما هو وظيفته صلى الله تعالى عليه وسلّم في هذا الباب إثر بيان ما هو وظيفة المؤمنين، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي بعد ما تحقق أن الكاملين في الإيمان هم المستأذنون فإذا استأذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ أي لبعض أمرهم المهم وخطبهم الملم فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ تفويض للأمر إلى رأيه صلّى الله عليه وسلّم واستدل به على أن بعض الأحكام مفوضة إلى رأيه صلّى الله تعالى عليه وسلّم، وهذه مسألة التفويض المختلف في جوازها بين الأصوليين وهي أن يفوض الحكم إلى المجتهد فيقال له: احكم بما شئت فإنه صواب فأجاز ذلك قوم لكن اختلفوا فقال موسى بن عمران: بجواز ذلك مطلقا للنبي وغيره من العلماء، وقال أبو علي الجبائي: بجواز ذلك للنبي خاصة في أحد قوليه، وقد نقل عن الإمام الشافعي عليه الرحمة في الرسالة ما يدل على التردد بين الجواز والمنع ومنع من ذلك الباقون. والمجوزون اختلفوا في الوقوع، قال الآمدي والمختار الجواز دون الوقوع، وقد أطال الكلام في هذا المقام فليراجع. والذي أميل إليه جواز أن يفوض الحكم إلى المجتهد إذا علم أنه يحكم ترويا لا تشهيا ويكون التفويض حينئذ كالأمر بالاجتهاد، والأليق بشأن الله تعالى وشأن رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن ينزل ما هنا على ذلك وتكون المشيئة مقيدة بالعلم بالمصلحة. وذكر بعض الفضلاء أنه لا خلاف في جواز أن يقال: احكم بما شئت ترويا بل الخلاف في جواز أن يقال: احكم بما شئت تشهيا كيفما اتفق، وأنت تعلم أنه بعد التقييد لا يكون ما نحن فيه من محل النزاع، ومن الغريب ما قيل: إن المراد ممن شئت منهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ولا يخفى ما فيه وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ فإن الاستئذان وإن كان لعذر قوي لا يخلو عن شائبة تقديم أمر الدنيا على أمر الآخرة. وتقديم «لهم» للمبادرة إلى أن الاستغفار للمستأذنين لا للإذن. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ مبالغ في مغفرة فرطات العباد رَحِيمٌ مبالغ في إفاضة شآبيب الرحمة عليهم، والجملة تعليل للمغفرة الموعودة في ضمن الاستغفار لهم، وقد بالغ جل شأنه في الاحتفال برسوله صلوات الله تعالى وسلامه عليه فجعل سبحانه الاستئذان للذهاب عنه ذنبا محتاجا للاستغفار فضلا عن الذهاب بدون إذن ورتب الإذن على الاستئذان لبعض شأنهم لا على الاستئذان مطلقا ولا على الاستئذان لأي أمر مهما كان أو غير مهم ومع ذلك علق الإذن بالمشيئة، وإذا اعتبرت وجوه المبالغة في قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إلى هنا وجدتها تزيد على العشرة. وفي أحكام القرآن للجلال السيوطي أن في الآية دليلا على وجوب استئذانه صلى الله تعالى عليه وسلّم قبل الانصراف الجزء: 9 ¦ الصفحة: 413 عنه عليه الصلاة والسلام في كل أمر يجتمعون عليه، قال الحسن: وغير الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم من الأئمة مثله في ذلك لما فيه من أدب الدين وأدب النفس، وقال ابن الفرس: لا خلاف في الغزو أنه يستأذن إمامه إذا كان له عذر يدعوه إلى الانصراف واختلف في صلاة الجمعة إذا كان له عذر كالرعاف وغيره فقيل يلزمه الاستئذان سواء كان أمامه الأمير أم غيره أخذا من الآية وروي ذلك عن مكحول والزهري ولا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً استئناف مقرر لمضمون ما قبله، والالتفات لإبراز مزيد الاعتناء بشأنه أي لا تقيسوا دعاءه عليه الصلاة والسلام إياكم على دعاء بعضكم بعضا في حال من الأحوال وأمر من الأمور التي من جملتها المساهلة فيه والرجوع عن مجلسه عليه الصلاة والسلام بغير استئذان فإن ذلك من المحرمات، وإلى نحو هذا ذهب أبو مسلم واختاره المبرد والقفال وقيل: المعنى لا تحسبوا دعاءه صلّى الله تعالى عليه وسلّم عليكم كدعاء بعضكم على بعض فتعرضوا لسخطه ودعائه عليكم عليه الصلاة والسلام بمخالفة أمره والرجوع عن مجلسه بغير استئذان ونحو ذلك، وهو مأخوذ مما جاء في بعض الروايات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وروي عن الشعبي وتعقبه ابن عطية بأن لفظ الآية يدفع هذا المعنى، وكأنه أراد أن الظاهر عليه على بعض، وقيل: إنه يأباه بَيْنَكُمْ وهو في حيز المنع، وقيل: المعنى لا تجعلوا دعاءه عليه الصلاة والسلام ربه عز وجل كدعاء صغيركم كبيركم وفقيركم غنيكم يسأله حاجته فربما أجابه وربما رده فإن دعاءه صلى الله تعالى عليه وسلّم مستجاب لا مرد له عند الله عز وجل فتعرضوا لدعائه لكم بامتثال أمره واستئذانه عند الانصراف عنه إذا كنتم معه على أمر جامع وتحققوا قبول استغفاره لكم ولا تتعرضوا لدعائه عليكم بضد ذلك. ولا يخفى وجه تقرير الجملة لما قبلها على هذين القولين لكن بحث في دعوى أن جميع دعائه عليه الصلاة والسلام مستجاب بأنه قد صح أنه صلّى الله تعالى عليه وسلّم سأل الله تعالى في أمته أن لا يديق بعضهم بأس بعض فمنعه، وهو ظاهر في أنه قد يرد بعض دعائه عليه الصلاة والسلام. وتعقب بأنه كيف يرد وقد قال الله تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ وفي الحديث «إن الله تعالى لا يرد دعاء المؤمن وإن تأخر» وقد قال الإمام السهيلي في الروض: الاستجابة أقسام إما تعجيل ما سال أو أن يدخر له خير مما طلب أو يصرف عنه من البلاء بقدر ما سال من الخير، وقد أعطى صلى الله تعالى عليه وسلّم عوضا من أن لا يذيق بعضهم بأس بعض الشفاعة وقال: «أمتي هذه أمة مرحومة ليس عليها في الآخرة عذابها في الدنيا الزلزال والفتن» كما في أبي داود فإذا كانت الفتنة سببا لصرف عذاب الآخرة عن الأمة فلا يقال: ما أجاب دعاءه صلّى الله عليه وسلّم لأن عدم استجابته أن لا يعطي ما سأل أو لا يعوض عنه ما هو خير منه، والمراد بالمنع في الحديث منع ذلك بخصوصه لا عدم استجابة الدعاء بذلك بالمعنى المذكور، وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله. وقيل: المعنى لا تجعلوا نداءه عليه الصلاة والسلام وتسميته كنداء بعضكم بعضا باسمه ورفع الصوت به والنداء وراء الحجرات ولكن بلقبه المعظم مثل يا نبي الله ويا رسول الله مع التوقير والتواضع وخفض الصوت. أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال: كانوا يقولون: يا محمد يا أبا القاسم فنهاهم الله تعالى عن ذلك بقوله سبحانه: لا تَجْعَلُوا الآية إعظاما لنبيه صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا نبي الله يا رسول الله، وروي نحو هذا عن قتادة والحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وفي أحكام القرآن للسيوطي أن في هذا النهي تحريم ندائه صلّى الله عليه وسلّم باسمه. والظاهر استمرار ذلك بعد وفاته إلى الآن. وذكر الطبرسي أن من جملة المنهي عنه النداء بيا ابن عبد الله فإنه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 414 مما ينادي به العرب بعضهم بعضا. وتعقب هذا القول بأن الآية عليه لا تلائم السباق واللحاق. وقال بعضهم: وجه الارتباط بما قبلها عليه الإرشاد إلى أن الاستئذان ينبغي أن يكون بقولهم: يا رسول الله إنا نستأذنك ونحوه، وكذا خطاب من معه في أمر جامع إياه صلّى الله عليه وسلّم ينبغي أن يكون بنحو يا رسول الله لا بنحو يا محمد، ويكفي هذا القدر من الارتباط بما قبل ولا حاجة إلى بيان المناسبة بأن في كل منهما ما ينافي التعظيم اللائق بشأنه العظيم صلّى الله عليه وسلّم، نعم الأظهر في معنى الآية ما ذكرناه أولا كما لا يخفى. وقرأ الحسن ويعقوب في رواية «نبيكم» بنون مفتوحة وباء مكسورة وياء آخر الحروف مشددة بدل بَيْنَكُمْ الظرف في قراءة الجمهور، وخرج على أنه بدل من الرَّسُولِ ولم يجعل نعتا له لأنه مضاف إلى الضمير والمضاف إليه في رتبة العلم وهو أعرف من المعرف بأل ويشترط في النعت أن يكون دون المنعوت أو مساويا له في التعريف، وقال أبو حيان: ينبغي أن يجوز النعت لأن الرَّسُولِ قد صار علما بالغلبة كالبيت للكعبة فقد تساويا في التعريف. قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ وعيد لمن هو بضد أولئك المؤمنين الذين لم يذهبوا حتى يستأذنوه عليه الصلاة والسلام، والتسلل الخروج من البين على التدريج والخفية، وقد للتحقيق، وجوز أن تكون لتقليل المتسللين في جنب معلوماته تعالى وأن تكون للتكثير إما حقيقة أو استعارة ضدية، وقال أبو حيان: إن قول بعض النحاة بإفادة قد التكثير إذا دخلت على المضارع غير صحيح وإنما التكثير مفهوم من سياق الكلام كما في قول زهير: أخي ثقة لا يهلك الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله فإن سياق الكلام للمدح يفهم منه ذلك أي قد يعلم الله الذين يخرجون من الجماعة قليلا قليلا على خفية لِواذاً أي ملاوذة بأن يستتر بعضهم ببعض حتى يخرج. وأخرج أبو داود في مراسيله عن مقاتل قال: كان لا يخرج أحد لرعاف أو إحداث حتى يستأذن النبي صلّى الله عليه وسلّم يشير إليه بإصبعه التي تلي الإبهام فيأذن له النبي صلّى الله عليه وسلّم يشير إليه بيده وكان من المنافقين من تثقل عليه الخطبة والجلوس في المسجد فكان إذا استأذن رجل من المسلمين قام المنافق إلى جنبه يستتر به حتى يخرج فأنزل الله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ الآية، وقيل يلوذ به إراءة أنه من أتباعه. ونصب لِواذاً على المصدرية أو الحالية بتأويل ملاوذين وهو مصدر لاوذ لعدم قلب واوه ياء تبعا لفعله ولو كان مصدر لاذ لقيل لياذا كقياما. وقرأ يزيد بن قطيب «لو إذا» بفتح اللام فاحتمل أن يكون مصدر لاذ ولم تقلب واوه ياء لأنه لا كسرة قبلها فهو كطواف مصدر طاف، واحتمل أن يكون مصدر لاوذ وفتحة اللام لأجل فتحة الواو، والفاء في قوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ لترتيب الحذر أو الأمر به على ما قبلها من علمه تعالى بأحوالهم فإنه مما يوجب الحذر البتة، والمخالفة كما قال الراغب: أن يأخذ كل واحد طريقا غير طريق الآخر في حاله أو فعله والأكثر استعمالها بدون عن فيقال خالف زيد عمرا وإذا استعملت بعن فذاك على تضمين معنى الإعراض. وقيل الخروج أي يخالفون معرضين أو خارجين عن أمره. وقال ابن الحاجب: عدي يخالفون بعن لما في المخالفة من معنى التباعد والحيد كأنه قيل الذين يحيدون عن أمره بالمخالفة وهو أبلغ من أن يقال: يخالفون أمره. وقيل على تضمين معنى الصد، وقيل إذا عدي بعن يراد به الصد دون تضمين ويتعدى إلى مفعول بنفسه يقال: خالف زيدا عن الأمر أي صده عنه والمفعول عليه هنا محذوف أي يخالفون المؤمنون أي يصدونهم عن أمره وحذف المفعول لأن المراد تقبيح حال المخالف وتعظيم أمر المخالف عنه فذكر الأهم وترك ما لا اهتمام به وقد يتعدى بإلى فيقال خالف إليه إذا أقبل نحوه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 415 وقال ابن عطية: عَنْ هنا بمعنى بعد، والمعنى يقع خلافهم بعد أمره كما تقول: كان المطر عن ريح وأطعمته عن جوع. وقال أبو عبيدة والأخفش: هي زائدة أي يخالفون أَمْرِهِ وضمير أمره لله عز وجل فإن الأمر له سبحانه في الحقيقة أو للرسول صلّى الله عليه وسلّم فإنه المقصود بالذكر، والأمر له قيل الطلب أو الشأن أو ما يعمهما، ولا يخفى أن في تجويز على كل من الاحتمالين في الضمير نظرا فلا تغفل. وقرىء «يخلفون» بالتشديد أي يخلفون أنفسهم عن أمره أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أي بلاء ومحنة في الدنيا كما روي عن مجاهد وعن ابن عباس تفسير الفتنة بالقتل، وعن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه تفسيرها بتسليط سلطان جائر، وعن السدي ومقاتل تفسيرها بالكفر والأول أولى. أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي في الآخرة. وقيل في الدنيا، والمراد بالعذاب الأليم القتل وبالفتنة ما دونه وليس بشيء. وكلمة أو لمنع الخلو دون الجمع. وإعادة الفعل صريحا للاعتناء بالتهديد والتحذير. وشاع الاستدلال بالآية على أن الأمر للوجوب فإنه تعالى أوجب فيها على مخالف الأمر الحذر عن العذاب وذلك تهديد على مخالفة الأمر وهو دليل كون الأمر للوجوب إذ لا تهديد على ترك غير الواجب، وأيضا بناء حكم الحذر عن العذاب إلى المخالف يقتضي أن يكون حذره عنه من حيث المخالفة، وذلك إنما يكون إذا أفضى إلى العذاب كما في قولك فليحذر الشاتم للأمير أن يضربه ولا إفضاء في ترك غير الواجب. وهذا الأمر أعني فَلْيَحْذَرِ بخصوصه مستعمل في الإيجاب إذ لا معنى لندب الحذر عن العقاب أو إباحته، وأيضا إشعار الآية بوجوب الحذر غير خاف بقرينة ورودها في معرض الوعيد بتوقع إصابة العذاب على أنه لو حمل الأمر المذكور على أنه للندب يحصل المطلوب وذلك لأن التحذير عما لم يعلم أو لم يظن تحققه ولا تحقق ما يفضي إلى وقوعه في الجملة سفه غير جائز بمعنى أنه مخالف للحكمة ولهذا يلام من يحذر عن سقوط الجدار المحكم الغير المائل، وأيا ما كان يندفع ما يقال: لا نسلم أن قوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ للوجوب لأنه عين محل النزاع إذ يكفي في المطلوب على ما قررنا استعماله في الندب أيضا، والقول بأن معنى مخالفة الأمر عدم اعتقاد حقيته أو حمله على غير ما هو عليه بأن يكون للوجوب أو الندب مثلا فيحمل على غيره بعيد جدا، والظاهر المتبادر إلى الفهم أنه ترك الامتثال والإتيان بالمأمور فلا يترك إلى ذلك إلا بدليل. واعترض بأنه بعد هذا القيل والقال لا يدل على أن جميع الأوامر حقيقة في الوجوب لإطلاق الأمر. وأجيب بأن أَمْرِهِ مصدر مضاف وهو يفيد العموم حيث فقدت قرينة العهد على أن الإطلاق كاف في المطلوب، وهو كون الأمر المطلق للوجوب خاصة. إذ لو كان حقيقة لغيره أيضا لم يترتب التهديد على مخالفة مطلق الأمر. وقال بعض الأجلة: لا قائل بالفصل في صيغ الأمر بأن بعضها للوجوب وبعضها لغيره. وزعم بعضهم أن الاستدلال لا يتم إذا أريد بالأمر الطلب، ولو فسر بالشأن وكان الضمير للرسول عليه الصلاة والسلام لزم من القول بدلالتها على الوجوب أن يكون كل ما يفعله صلّى الله عليه وسلم واجبا علينا ولا قائل به. والزمخشري فسره بالدين والطاعة. وقال صاحب الكشف: إن الاستدلال بالآية على أن الأمر للوجوب مشهور سواء فسر بما ذكر لأن الطاعة امتثال الأمر القولي أو فسر على الحقيقة، وأما إذا جعل إشارة إلى ما سبق من الأمر الجامع ومعنى يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ينصرفون عنه فلا وليس بالوجه وإن آثره جمع لفوات المبالغة والتناول الأولي والعدول عن الحقيقة في لفظ الأمر ثم المخالفة من غير ضرورة انتهى، وهذا الذي آثره جمع ذكره الطيبي عن البغوي ثم قال: هذا هو التفسير الذي عليه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 416 التعويل ويساعد عليه النظم والتأويل لأن الأمر حينئذ بمعنى الشأن وواحد الأمور وبيانه أن ما قبله حديث في الأمر الجامع وهو الأمر الذي يجمع عليه الناس ومدح من لزم مجلس رسولا لله صلّى الله عليه وسلّم ولم يذهب عنه وذم من فارقه بغير الإذن وأمر بالاستغفار في حق من فارق بالإذن لأن قوله تعالى: فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ يؤذن أن القوم ثلاث فرق المأذون في الذهاب بعد الاستئذان والمتخلف عنه ثم المتخلف إما أن يدوم في مجلسه عليه الصلاة والسلام ولم يذهب وهم المؤمنون المخلصون أو يتسلل لواذا وهم المنافقون وقوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ إلخ مترتب على القسم الثالث على سبيل الوعيد والفعل المضارع يفيد معنى الدأب والعادة وقد أقيم المظهر موضع المضمر علة لاستحقاقهم فتنة الدارين انتهى، وقد كشف عن بعض ما فيه صاحب الكشف نعم قيل عليه: إن فوات المبالغة والتناول لا يقاوم العهد ولا عدول عن الحقيقة لأن الأمر حقيقة في الحادثة وكذا المخالفة فيما ذكر ولو سلم فهو مشترك الإلزام فإن الأمر ليس حقيقة في الأمر العام وقوله: بلا ضرورة ممنوع فإن إضافة العهد صارفة. وتعقب بأن هذا مكابرة ومنع مجرد لا يسمع فإن الأبلغية لا شبهة فيا فإن تهديد من لم يمتثل أمره عليه الصلاة والسلام أشد من تركه بلا إذن وكون الأمر حقيقة في الطلب هو الأصح في الأصول والمخالفة المقارنة للأمر لا شبهة في أن حقيقتها عدم الامتثال واشتراك الإلزام ليس بتام لأن أمره إذا عم يشمل الأمر الجامع بمعنى الطلب أيضا وعهد الإضافة ليس بمتعين حتى يعد صارفا كذا قيل وفيه بحث فتأمل، وقد يقال بناء على كون الأمر المذكور إشارة إلى الأمر الجامع: إنه جيء بأوفى قوله: أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ لما أن الأمر الجامع إما أن يكون أمرا دنيويا كالتشاور وفي الأمور الحربية فالانصراف عنه مظنة إصابة المحنة الدنيوية للمنصرفين وإما أن يكون أمرا دينيا كإقامة الجمعة التي فيها تعظيم شعائر الإسلام فالانصراف عنه مظنة إصابة العذاب الأخروي. وبالجملة لا استدلال بالآية على اعتبار العهد وأما إذا لم يعتبر فقد استدل بها، وقد سمعت شيئا من الكلام في ذلك وتمامه جرحا وتعديلا وغير ذلك في كتب الأصول أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الموجودات بأسرها خلقا وملكا وتصرفا إيجادا وإعداما بدءا وإعادة لا لأحد غيره شركة أو استقلالا قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ أيها المكلفون من الأحوال والأوضاع التي من جملتها الموافقة والمخالفة والإخلاص والنفاق ودخول المنافقين مع أن الخطاب فيما قبل للمؤمنين بطريق التغليب، وقوله تعالى: وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ خاص بالمنافقين وهو مفعول به عطف على ما أَنْتُمْ أي يعلم يوم يرجع المنافقون المخالفون للأمر إليه عز وجل للجزاء والعقاب. وتعليق علمه بيوم رجعهم لا برجعهم لزيادة تحقيق علمه سبحانه بذلك وغاية تقريره لما أن العلم بوقت وقوع الشيء مستلزم للعلم بوقوع الشيء على أبلغ وجه وآكده، وفيه إشعار بأن علمه جعل وعلا بنفس رجعهم من الظهور بحيث لا يحتاج إلى البيان قطعا. ويجوز أن يكون الخطاب السابق خاصا بهم أيضا فيتحقق التفاتان التفات من الغيبة إلى الخطاب في أَنْتُمْ والتفات من الخطاب إلى الغيبة في يُرْجَعُونَ والعطف على حاله. وجوز أن يكون على مقدر أي ما أنتم عليه الآن ويوم إلخ فإن الجملة الاسمية تدل على الحال في ضمن الدوام والثبوت. وقيل: يجوز أن يكون يَوْمَ ظرفا لمحذوف يعطف على ما قبله أي وسيحاسبهم يوم أو نحو ذلك ولا أرى اختصاصه بالوجه الثاني في الخطاب. وفي البحر بعد ذكر الوجهين فيه والظهر عطف يَوْمَ على ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وقال ابن عطية: يجوز أن يكون التقدير والعلم يظهر لكم أو نحو هذا يوم فيكون يَوْمَ نصبا على الظرفية بمحذوف وقد للتحقيق وفيا الاحتمالان الجزء: 9 ¦ الصفحة: 417 المتقدمان آنفا، وقد مر غير مرة ما يراد بمثل هذه الجملة من الوعيد أو الوعد. ولا يخفى المناسب لكل من الاحتمالات في أَنْتُمْ ويُرْجَعُونَ وقرأ ابن يعمر وابن أبي إسحاق وأبو عمرو «يرجعون» مبنيا للمفعول فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أي بعملهم أو بالذي عملوه من الأعمال السيئة التي من جملتها مخالفة الأمر فيرتب سبحانه عليه ما يليق به من التوبيخ والجزاء أو فينبئهم بما عملوا خيرا أو شرا فيرتب سبحانه على ذلك ما يليق به إن خيرا فخير وإن شرا فشر وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لا يخفى عليه شيء من الأشياء. والجملة تذييل مقرر لما قبله، وإظهار الاسم الجليل في مقام الإضمار لتأكيد استقلال الجملة والإشعار بعلة الحكم، وتقديم الظرف لرعاية رؤوس الآي. وقيل وفيه بحث: إنه للحصر على معنى والله عليم بكل شيء لا ببعض الأشياء كما يزعمه بعض جهلة الفلاسفة ومن حذا حذوهم حفظنا الله تعالى والمسلمين مما هم عليه من الضلالات لنا نورا نهتدي به إذا ادلهم ليل الجهالات هذا. ومن باب الإشارة في الآيات ما قيل في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً إلى آخره أنه إشارة إلى جمع العناصر الأربعة وتركيب الإنسان منها ثم خروج مطر الإحساس من عينيه وأذنيه مثلا وينزل من سماء العقل الفياض برد حقائق العلوم فيصيب به من يشاء فتظهر آثاره عليه ويصرفه عمن يشاء حسبما تقتضيه الحكمة الإلهية يَكادُ سَنا بَرْقِهِ نور تجليه يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ بأن يعطلها عن الابصار ويفني أصحابها عنها لما أن الإدراك بنوره فوق الإدراك بنور الابصار يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إشارة إلى ليل المحو ونهار الصحو أو ليل القبض ونهار البسط أو ليل الجلال ونهار الجمال أو نحو ذلك. وقيل: يزجي سحاب المعاصي إلى أن يتراكم فترى مطر التوبة يخرج من خلاله كما خرج من سحاب وَعَصى آدَمُ مطر ثُمَّ اجْتَباهُ ربه وينزل من سماء القلوب من جبال القسوة فيها من برد القهر يقلب الله ليل المعصية لمن يشاء إلى نهار الطاعة وبالعكس وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ تقدم الكلام في الماء فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ يعتمد في سيره على الباطن وهم أهل الجذبة المغمورون في بحار المحبة وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ يعتمد في سيره الشريعة والطريقة لكن فيما يتعلق به خاصة منهما وهم صنف من الكاملين سكنوا زوايا الخمول ولم يخالطوا الناس ولم يشتغلوا بالإرشاد وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يعتمد في سيره الشريعة والطريقة فيما يتعلق به وبغيره منهما وهم صنف آخر من الكاملين برزوا للناس وخالطوهم واشتغلوا بالإرشاد وعملوا في أنفسهم بما تقتضيه الشريعة والطريقة وعاملوا الناس والمريدين بذلك أيضا يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ فلا يبعد أن يكون في خلقه من يمشي على أكثر كالكاملين الذين أوقفهم الله تعالى على أسرار الملك والملكوت وما حده لكل أمة من الأمم ونوع من أنواع المخلوقات فعاملوا بعد أن عملوا في أنفسهم ما يليق بهم كل أمة وكل نوع بما حد له كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ. وفي قوله تعالى: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ الآيات إشارة إلى أحوال المنكرين في القلب على المشايخ وأحوال المصدقين بهم قلبا وقالبا وفي قوله سبحانه: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا إشارة إلى أن طاعة الرسول سبب لحصول المكاشفات ونحوها، وقال أبو عثمان: من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة ومن أمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة لأن الله تعالى يقول: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وفي قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إشارة إلى أنه لا ينبغي للمريد الاستبداد بشيء قال عبد الله الرازي: قال قوم من أصحاب أبي عثمان لأبي عثمان أوصنا فقال: عليكم بالاجتماع على الدين وإياكم ومخالفة الأكابر والدخول في شيء من الطاعات إلا بإذنهم ومشورتهم وواسوا المحتاجين بما أمكنكم فإذذا فعلتم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 418 أرجو أن لا يضيع الله تعالى لكم سعيا لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً فيه من تعظيم أمر الرسول صلّى الله عليه وسلم ما فيه، وذكر أن الشيخ في جماعته كالنبي في أمته فينبغي أن يحترم في مخاطبته ويميز على غيره فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ قال أبو سعيد الخراز: الفتنة إسباغ النعم مع الاستدراج، وقال الجنيد قدس سره: قسوة القلب عن معرفة المعروف والمنكر، وقال بعضهم: طبع على القلوب والعذاب الأليم هو عذاب البعد والحجاب عن الحضرة نعوذ بالله تعالى من ذلك ونسأله سبحانه التوفيق إلى أقوم المسالك فلا رب غيره ولا يرجى إلا خيره. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 419 سورة الفرقان أطلق الجمهور القول بمكيتها، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة هي مكية إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة وهي وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إلى قوله سبحانه: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الفرقان: 68- 70] ، وقال الضحاك: هي مدنية إلا أولها إلى قوله تعالى وَلا نُشُوراً [الفرقان: 3] فهو مكي، وعدد آياتها سبع وسبعون آية بلا خلاف كما ذكره الطبرسي والداني في كتاب العدد، ولما ذكر جل وعلا في آخر السورة السابقة وجوب متابعة المؤمنين للرسول صلّى الله عليه وسلم ومدح المتابعين وحذر المخالفين افتتح سبحانه هذه السورة بما يدل على تعاليه جل شأنه عما سواه في ذاته وصفاته وأفعاله أو على كثرة خيره تعالى ودوامه وأنه أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا اطماعا في خيره وتحذيرا من عقابه جل شأنه وفي هذه السورة أيضا من تأكيد ما في السابقة من مدح الرسول صلّى الله عليه وسلم ما فيها فقال تبارك وتعالى: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 420 تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً أي تعالى حل شأنه في ذاته وصفاته وأفعاله على أتم وجه وأبلغه كما يشعر به إسناد صيغة التفاعل إليه وهذا الفعل لا يسند في الأغلب إلى غيره تعالى ومثله- تعالى- ولا يتصرف فلا يجيء منه مضارع ولا أمر ولا ولا في الأغلب أيضا وإلا فقد قرأ أبي كما سيأتي إن شاء الله تعالى تباركت الأرض ومن حولها، وجاء كما في الكشف تباركت النخلة أي تعالت، وحكى الأصمعي أن أعرابيا صعد رابية فقال لأصحابه: تباركت عليكم، وقال الشاعر: إلى الجذع جذع النخلة المتبارك وقال الخليل: معنى تبارك تمجد، وقال الضحاك: تعظم وهو قريب من قريب، وعن الحسن والنخعي أن المعنى تزايد خيره وعطاؤه وتكاثر وهي إحدى روايتين عن ابن عباس رضي الله عنهما، ثانيتهما أن المعنى لم يزل، ولا يزال وتحقيق ذلك أن تبارك من البركة وهي في الأصل مأخوذة من برك البعير وهو صدره ومنه برك البعير إذا ألقى بركه على الأرض واعتبر فيه معنى اللزوم فقيل براكاء الحرب وبركاؤها للمكان الذي يلزمه الابطال وسمي محبس الماء بركة كسدرة ثم أطلقت على ثبوت الخير الإلهي في الشيء ثبوت الماء في البركة، وقيل: لما فيه ذلك الخير مبارك ولما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يحس وعلى وجه لا يحصى ولا يحصر قيل لكل ما يشاهده فيه زيادة غير محسوسة هو مبارك وفيه بركة فمن اعتبر معنى اللزوم كابن عباس بناء على الرواية الثانية عنه قال: المعنى لم يزل ولا يزال أو نحو ذلك، ومن اعتبر معنى التزايد انقسم إلى طائفتين فطائفة جعلوه باعتبار كمال الذات في نفسها ونقصان ما سواها ففسروا ذلك بالتعالي ونحوه وطائفة جعلوه باعتبار كمال الفعل ففسروه بتزايد الخير وتكاثره ولا اعتبار للتغير المبني على اعتبار معنى اللزوم لقلة فائدة الكلام عليه وعدم مناسبة ذلك المعنى لما بعد، ومن هنا ردد الجمهور المعنى بين ما ذكرناه أولا وما روي عن الحسن ومن معه وترتيب وصفه تعالى بقوله سبحانه: تَبارَكَ بالمعنى الأول على إنزاله جل شأنه الفرقان لما أنه ناطق بعلو شأنه سبحانه وسمو صفاته وابتناء أفعاله على أساس الحكم والمصالح وخلوها عن شائبة الخلل بالكلية وترتيب ذلك بالمعنى الثاني عليه لما فيه من الخير الكثير لأنه هداية ورحمة للعالمين، وفيه ما ينتظم به أمر المعاش والمعاد وكلا المعنيين مناسب للمقام ورجح الأول بأنه أنسب به لمكان قوله تعالى: لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً فقد قال الطيبي في اختصاص النذير دون البشير سلوك طريقة براعة الاستهلال الجزء: 9 ¦ الصفحة: 421 والإيذان بأن هذه السورة مشتملة على ذكر المعاندين المتخذين لله تعالى ولدا وشريكا الطاعنين فى كُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [النساء: 136] ، وهذا المعنى يؤيد تأويل تبارك بتزايد عن كل شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله جل وعلا لإفادته صفة الجلال والهيبة وإيذانه من أول الأمر بتعاليه سبحانه عما يقول الظالمون علوا كبيرا وهو من الحسن بمكان، والْفُرْقانَ مصدر فرق الشيء وعنه إذا فصله، ويقال أيضا كما ذكره الراغب فرقت بين الشيئين إذا فصلت بينهما سواء كان ذلك بفصل يدركه البصر أو بفصل تدركه البصيرة، والتفريق بمعناه إلا أنه يدل على التكثير دونه، وقيل إن الفرق في المعاني والتفريق في الأجسام والمراد به القرآن وإطلاقه علليه لفصله بين الحق والباطل بما فيه من البيان أو بين المحق والمبطل لما فيه من الإعجاز أو لكونه مفصولا بعضه عن بعض في نفسه أو في الإنزال حيث لم ينزل دفعة كسائر الكتب، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يقوله الصوفية في ذلك فهو مصدر بمعنى الفاعل أو بمعنى المفعول، ويجوز أن يكون ذلك من باب هي إقبال وإدبار فلا تغفل. والمراد بعبده نبينا محمد صلّى الله عليه وسلم وإيراده عليه الصلاة والسلام بذلك العنوان لتشريفه والإيذان بكونه صلوات الله تعالى وسلامه عليه في أقصى مراتب العبودية والتنبيه على أن الرسول لا يكون إلا عبدا للمرسل ردا على النصارى، وقيل: المراد بالفرقان جميع الكتب السماوية لأنها كلها فرقت بين الحق والباطل وبعبده الجنس الشامل لجميع من نزلت عليهم، وأيد بقراءة ابن الزبير «على عباده» ، ولا يخفى ما في ذلك من البعد، والمراد بالعباد في قراءة ابن الزبير الرسول عليه الصلاة والسلام وأمته، والإنزال كما يضاف إلى الرسول صلّى الله عليه وسلم يضاف إلى أمته كما في قوله تعالى لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ [الأنبياء: 10، النور: 34] لأنه واصل إليهم ونزوله لأجلهم فكأنه منزل عليهم وإن كان إنزاله حقيقة عليه الصلاة والسلام، وقيل المراد بالجمع هو صلّى الله عليه وسلّم وعبر عنه به تعظيما، وضمير يكون عائد على عبده، وقيل على الْفُرْقانَ وإسناد الإنذار إليه مجاز، وقيل على الموصول الذي هو عبارة عنه تعالى، ورجح بأنه العمدة المسند إليه الفعل والإنذار من صفاته عز وجل كما في قوله تعالى: إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ [الدخان: 3] وقيل على التنزيل المفهوم من نَزَّلَ والمتبادر إلى الفهم هو الأول وهو الذي يقتضيه ما بعد، والنذير صفة مشبهة بمعنى منذر. وجوز أن يكون مصدرا بمعنى إنذار كالنكير بمعنى إنكار وحكم الأخبار بالمصدر شهير، والإنذار إخبار فيه تخويف ويقابله التبشير ولم يتعرض له لما مر آنفا، والمراد بالعالمين عند جمع من العالمين الإنس والجن ممن عاصره صلّى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة. ويؤيده قراءة ابن الزبير للعالمين للجن والإنس وإرساله صلّى الله عليه وسلم إليهم معلوم من الدين بالضرورة فيكفر منكره، وكذا الملائكة عليهم السلام كما رجحه جمع محققون كالسبكي ومن تبعه ورد على من خالف ذلك، وادعى بعضهم دلالة الآية عليه لأن العالم ما سوى الله تعالى وصفاته العلي فيشمل الملائكة عليهم السلام. وصيغة جميع العقلاء للتغليب أو جمع بعد تخصيصه بالعقلاء. ومن قال كالبارزي: إنه عليه الصلاة والسلام أرسل حتى إلى الجمادات بعد جعلها مدركة لظاهر خبر مسلم وأرسلت إلى الخلق كافة لم يخصص، واكتفى بالتغليب وفائدة الإرسال للمعصوم وغير المكلف طلب إذعانهما لشرفه عليه الصلاة والسلام ودخولهما تحت دعوته واتباعه تشريفا على سائر المرسلين عليهم السلام. وتقديم الجار والمجرور على متعلقه للتشويق ومراعاة الفواصل وللحصر أيضا على القول الأول في العالمين، وإبراز تنزيل الفرقان في معرض الصلة التي حقها أن تكون معلومة الثبوت للموصول عند السامع مع إنكار الكفرة له لإجرائه مجرى المعلوم المسلم تنبيها على قوة دلائله وكونه بحيث لا يكاد يجهله أحد كقوله تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: 2، وغيرها] وكذا يقال في نظائره من الصلات التي ينكرها الكفرة: وقال بعضهم: لا حاجة لما ذكر إذ يكفي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 422 في الصلة أن تكون معلومة للسامع المخاطب بها ولا يلزم أن تكون معلومة لكل سامع، والمخاطب بها هنا هو رسولا لله صلّى الله عليه وسلم وهو عليه الصلاة والسلام عالم بثبوتها للموصول، وفي شرح التسهيل أنه لا يلزم فيها، أن تكون معلومة وإن تعريف الموصول كتعريف أل يكون للعهد والجنس وأنه قد تكون صلته مبهمة للتعظيم كما في قوله: فإن أستطع أغلب وأن يغلب الهوى ... فمثل الذي لاقيت يغلب صاحبه وما ذكر أولا من تنزيلها منزلة المعلوم أبلغ لكونه كناية عما ذكر مناسبة للرد على من أنكر النبوة وتوحيد الله تعالى الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي له سبحانه خاصة دون غيره لا استقلالا ولا اشتراكا السلطان القاهر والاستيلاء الباهر عليهما المستلزم للقدرة التامة والتصرف الكلي فيما وفيما فيما إيجادا وإعداما وإحياء وإماتة وأمرا ونهيا حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح، ومحل الموصول الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها أو على أنه نعت للموصول الأول أو بيان له أو بدل منه، وما بينهما ليس بأجنبي لأنه من تمام الصلة ومتعلق بها فلا يضر الفصل به بين التابع والمتبوع كما في البحر أو محله الرفع أو النصب على المدح بتقدير هو أو أمدح. واختار الطيبي أن محله الرفع على الإبدال وعلله بقوله لأن من حق الصلة أن تكون معلومة عند المخاطب وتك الصلة لم تكن معلومة عند المعاندين فأبدل الَّذِي لَهُ إلخ بيانا وتفسيرا وهو بعيد من مثله وسبحانه من لا يعاب عليه شيء وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً أي لم ينزل أحد منزلة الولد، وقيل أي لم يكن له ولد كما يزعم الذين يقولون في حق المسيح وعزير والملائكة عليهم السلام ما يقولون فسبحان الله عما يصفون، والجملة معطوفة على ما قبلها من الجملة الظرفية وكذا قوله تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ أي ملك السماوات والأرض، وأفرد بالذكر مع أن ما ذكر من اختصاص ملكهما به تعالى مستلزم له قطعا للتصريح ببطلان زعم الثنوية القائلين بتعدد الآلهة والرد في نحورهم وتسيط نفي اتخاذ الولد بينهما للتنبيه على استقلاله وأصالته والاحتراز عن توهم كونه تتمة للأول وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ أي أحدثه إحداثا جاريا على سنن التقدير والتسوية حسبما اقتضته إرادته المبنية على الحكم البالغة كخلقة الإنسان من مواد مخصوصة وصور وأشكال معينة فَقَدَّرَهُ أي هيأه لما أراد به من الخصائص والأفعال اللائقة به واستنباط الصنائع المتنوعة ومزاولة الأعمال المختلفة إلى غير ذلك فلا تكرار في الآية لما ظهر من أن التقدير الدال عليه الخلق بمعنى التسوية والمعبر عنه بلفظه بمعنى التهيئة وهما غيران والخلق على هذا على حقيقته، ويجوز أن يكون الخلق مجازا بل منقولا عرفيا في معنى الإحداث والإيجاد غير ملاحظ فيه التقدير وإن لم يخل عنه ولهذا صح التجوز ويكون التصريح بالتقدير دلالة على أن كل واحد مقصود بالذات فكأنه قيل وأوجد كل شيء فقدره في إيجاده لم يوجده متفاوتا بل أوجده متناصفا متناسبا، وقيل التقدير الثاني هو التقدير للبقاء إلى الأجل المسمى فكأنه قيل وأوجد كل شيء على سنن التقدير فأدامه إلى الأجل المسمى والقول الأول مختار الزجاج وهو كما في الكشف أظهر والفاء عليه للتعقيب مع الترتيب. وزعم بعضهم أن في الكلام قلبا وهو على ما فيه لا يدفع لزوم التكرار بدون أحد الأوجه المذكورة كما لا يخفى، وجملة خَلَقَ إلخ عطف على ما تقدم وفيها رد على الثنوية القائلين بأن خالق الشر غير خالق الخير ولا يضر كونه معلوما مما تقدم لأنها تفيد فائدة جديدة لما فيها من الزيادة، وقيل: هي رد على ما يعتقد اعتقاد المعتزلة في أفعال الحيوانات الاختيارية. وفي إرشاد العقل السليم أنها جارية مجرى العليل لما قبلها من الجمل المنتظمة في سلك الصلة فإن خلقه تعالى لجميع الأشياء على النمط البديع كما يقتضي استقلاله تعالى باتصافه بصفات الألوهية الجزء: 9 ¦ الصفحة: 423 يقتضي انتظام كل ما سواه كائنا ما كان تحت ملكوته القاهر بحيث لا يشذ من ذلك شيء ومن كان كذلك كيف يتوهم كونه ولدا له سبحانه أو شريكا في ملكه عز وجل، وذكر الطيبي أن قوله تعالى: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ توطئة وتمهيد لقوله سبحانه: لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وأردف بقوله تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ لما أن كونه سبحانه بديع السموات والأرض وفاطرهما ومالكهما مناف لاتخاذ الولد والشريك قال تعالى: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ [الأنعام: 101] الآية، وقد يقال: إن هذه الجملة تصريح بما علم قبل ليكون التشنيع على المشركين بقوله سبحانه: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أظهر، وضمير اتَّخَذُوا للمشركين المفهوم من قوله تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ أو من المقام، وقوله سبحانه: نَذِيراً، وقال الكرماني: للكفار وهم مندرجون في قوله تعالى: لِلْعالَمِينَ والمراد حكاية أباطيلهم في أمر التوحيد والنبوة وإظهار بطلانها بعد أن بين سبحانه حقيقة الحق في مطلع السورة الكريمة أي اتخذوا لأنفسهم متجاوزين الله تعالى الذي ذكر بعض شؤونه العظيمة آلهة لا يقدرون على خلق شيء من الأشياء وهم مخلوقون لله تعالى أو هم يختلقهم عبدتهم بالنحت والتصوير، ورجح المعنى الأول بأن الكلام عليه أشمل ولا يختص بالأصنام بخلافه على الثاني ويكون التعبير بالمضارع عليه في يَخْلُقُونَ المبني للمفعول لمشاكلة يَخْلُقُونَ المبني للفاعل مع استحضار الحال الماضية، ورجح المعنى الثاني بأنه أنسب بالمقام لأن الذين أنذرهم نبينا صلّى الله عليه وسلم شفاها عبدة الأصنام وأن الأحكام الآتية أوفق بها، نعم فيه تفسير الخلق بالافتعال كما في قوله تعالى: وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً لأنه الذي يصح نسبته لغيره عز وجل وكذا الخلق بمعنى التقدير كما في قول زهير: ولأنت تفري ما خلقت وبعض ... القوم يخلق ثم لا يفري والمتبادر منه إيجاد الشيء مقدرا بمقدار كما هو المراد من سابقه، وتفسيره بذلك أيضا كما فعل الزمخشري بعيد كذا قيل: وتعقب أنه يجوز أن يراد منه هذا المتبادر والأصنام بذواتها وصورها وأشكالها مخلوقة لله تعالى عند أهل الحق لأن أفعال العباد وما يترتب عليها وينشأ منها من الآثار مخلوقة له عز وجل عندهم كما حقق بل لو قيل بتعين هذه الإرادة على ذلك الوجه لم يبعد، وقوله تعالى: وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً لبيان حالهم بعد خلقهم ووجودهم، والمراد لا يقدرون على التصرف في ضر ما ليدفعوه عن أنفسهم ولا في نفع ما حتى يجلبوه إليهم، ولما كان دفع الضر أهم أفيد أولا عجزهم عنه وقيل: لِأَنْفُسِهِمْ ليدل على غاية عجزهم لأن من لا يقدر على ذلك في حق نفسه لأن لا يقدر عليه في حق غيره من باب أولى. ومن خص الأحكام في الأصنام قال: إن هذا لبيان ما لم يدل عليه ما قبله من مراتب عجزهم وضعفهم فإن بعض المخلوقين العاجزين عن الخلق ربما يملك دفع الضر وجلب النفع في الجملة كالحيوان، وقد يقال: التصرف في الضر والنفع بالدفع والجلب على الإطلاق ليس على الحقيقة إلا لله عز وجل كما ينبىء عنه قوله سبحانه لنبيه صلّى الله عليه وسلم: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ [الأعراف: 188] وقوله تعالى: وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً أي لا يقدرون على التصرف في شيء منها بإماتة الأحياء وإحياء الموتى في الدنيا وبعثهم في الأخرى للتصريح بعجزهم عن كل واحد مما ذكر على التفصيل والتنبيه على أن الإله يجب أن يكون قادرا على جميع ذلك، وتقديم الموت لمناسبة الضر المقدم وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ القائلون- كما أخرجه جمع عن قتادة- هم مشركو العرب لا جميع الكفار بقرينة ادعاء إعانة بعض أهل الكتاب له صلى الله تعالى عليه وسلم وقد سمي منهم في بعض الروايات النضر بن الحارث وعبد الله بن أمية ونوفل بن خويلد، ويجوز أن يراد غلاتهم كهؤلاء ومن ضامهم، وروي عن ابن عباس ما يؤيده، وروي عن الكلبي ومقاتل أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 424 القائل هو النضر والجمع لمشايعة الباقين له في ذلك، ومن خص ضمير اتَّخَذُوا بمشركي العرب وجعل الموصول هنا عبارة عنهم كلهم جعل وضع الموصول موضع ضميرهم لذمهم بما في حيز الصلة والإيذان بأن ما تفوهوا به كفر عظيم، وفي كلمة هَذا حط لرتبة المشار إليه أي قالوا ما هذا إلا كذب مصروف عن وجهه افْتَراهُ يريدون أنه اخترعه رسولا لله صلى الله تعالى عليه وسلم ولم ينزل عليه الصلاة والسلام وَأَعانَهُ عَلَيْهِ أي على افترائه واختراعه (افترائه) أو على الإفك قَوْمٌ آخَرُونَ يعنون اليهود بأن يلقوا إليه صلى الله تعالى عليه وسلم أخبار الأمم الدارجة وهو عليه الصلاة والسلام يعبر عنها بعبارته، وقيل: هم عداس، وقيل: عائش مولى حويطبين عبد العزى ويسار مولى العلاء بن الحضرمي وجبر مولى عامر وكانوا كتابيين يقرؤون التوراة أسلموا وكان الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم يتعهدهم فقيل ما قيل، وقال المبرد: عنوا بقوم آخرين المؤمنين لأن آخر لا يكون إلا من جنس الأول، وفيه أن الاشتراك في الوصف غير لازم ألا ترى قوله تعالى: فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ [آل عمران: 13] فَقَدْ جاؤُ أي الذين كفروا كما هو الظاهر ظُلْماً منصوب بجاءوا فإن جاء وأتى يستعملان في معنى فعل فيتعديان تعديته كما قال الكسائي، واختار هذا الوجه الطبرسي وأنشد قول طرفة: على غير ذنب جئته غير أنني ... نشدت فلم أغفل حمولة معبد وقال الزجاج: منصوب بنزع الخافض فهو من باب الحذف والإيصال، وجوز أبو البقاء كونه حالا أي ظالمين، والأول أولى، والتنوين فيه للتفخيم أي جاؤوا بما قالوا ظلما هائلا عظيما لا يقادر قدره حيث جعلوا الحق البحت الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إفكا مفترى من قبل البشر وهو من جهة نظمه الرائق وطرازه الفائق بحيث لو اجتمعت الإنس والجن على مباراته لعجزوا عن الإتيان بمثل آية من آياته ومن جهة اشتماله على الحكم الخفية والأحكام المستتبعة للسعادات الدينية والدنيوية والأمور الغيبية بحيث لا تناله عقول البشر ولا تحيط بفهمه القوى والقدر، وكذا التنوين في وَزُوراً أي وكذبا عظيما لا يبلغ غايته حيث قالوا ما لا احتمال فيه للصدق أصلا، وسمي الكذب زورا لازوراره أي ميله عن جهة الحق والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها لكن لا على أنهما أمران متغايران حقيقة يقع أحدهما عقيب الآخر أو يحصل بسببه بل على أن الثاني عين الأول حقيقة وإنما الترتيب بحسب التغاير الاعتباري، وقد لتحقيق ذلك المعنى فإن ما جاءه من الظلم والزور هو عين ما حكي عنهم لكنه لما كان مغايرا له في المفهوم وأظهر منه بطلانا رتب عليه بالفاء ترتيب اللازم على الملزوم تهويلا لأمره كما قاله شيخ الإسلام، وقيل: ضمير جاؤُ عائد على قوم آخرين، والجملة من مقول الكفار وأرادوا أن أولئك المعينين جاؤوا ظلما بإعانتهم وزورا بما أعانوا به وهو كما ترى. وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ بعد ما جعلوا الحق الذي لا محيد عنه إفكا مختلقا بإعانة البشر بينوا على زعمهم الفاسد كيفية الإعانة، وتقدم الكلام في أساطير وهي خبر مبتدأ محذوف أي هذه أو هو أو هي أساطير، وقوله تعالى: اكْتَتَبَها خبر ثان، وقيل: حال بتقدير قد. وتعقب بأن عامل الحال إذا كان معنويا لا يجوز حذفه كما في المغني، وفيه أنه غير مسلم كما في شرحه، وجوز أن يكون أَساطِيرُ مبتدأ وجملة اكْتَتَبَها الخبر ومرادهم كتبها لنفسه والاسناد مجازي كما في بنى الأمير المدينة، والمراد أمر بكتابتها أو يقال حقيقة اكتتب أمر بالكتابة فقد شاع افتعل بهذا المعنى كاحتجم وافتصد إذا أمر بالحجامة والفصد، وقيل قالوا ذلك لظنهم أنه يكتب حقيقة أو لمحض الافتراء عليه عليه الصلاة والسلام بناء على علمهم أنه لم يكن يكتب صلّى الله عليه وسلم، وقيل: مرادهم جمعها من كتب الشيء جمعه والجمهور على الأول. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 425 وقرأ طلحة «اكتتبها» مبنيا للمفعول والأصل اكتتبها له كاتب فحذف اللام وأفضى الفعل إلى الضمير فصار اكتتبها إياه كاتب ثم حذف الفاعل لعدم تعلق الغرض العلمي بخصوصه فبنى الفعل للمفعول وأسند للضمير فانقلب مرفوعا مستترا بعد أن كان منصوبا بارزا، وهذا مبني على جواز إقامة المفعول الغير الصريح مقام الفاعل مع وجود الصريح وهو هنا ضمير الأساطير وهو الذي ارتضاه الرضي وغيره، وجمهور البصريين على عدم الجواز وتعين المفعول الصريح للإقامة فيقال عندهم: اكتتبته، وعليه قول الفرزدق: ومنا الذي اختير الرجال سماحة ... وجودا إذا ذهب الرياح الزعازع بنصب الرجال وعلى الأول كان حق التركيب اختيره الرجال بالرفع فإن الأصل اختاره من الرجال مختار وظاهر أنه إذا عمل فيه ما تقدم يصير إلى ما ذكر فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ أي تلقى تلك الأساطير عليه بعد اكتتابها ليحفظها من أفواه من يمليها عليه من ذلك المكتتب لكونه أميا لا يقدر على أن يتلقاها منه بالقراءة فالإملاء الإلقاء للحفظ بعد الكتابة استعارة لا الإلقاء للكتابة كما هو المعروف حتى يقال: إن الظاهر العكس بأن يقال: أمليت عليه فهو يكتتبها أو المعنى أراد اكتتابها أو طلب كتابتها فأمليت عليه أي عليه نفسه أو على كاتبه فالإملاء حينئذ باق على ظاهره. وقرأ طلحة وعيسى تتلى بالتاء بدل الميم بُكْرَةً وَأَصِيلًا أي دائما أو قبل انتشار الناس وحين يأتون إلى مساكنهم وعنوا بذلك أنها تملى عليه خفية لئلا يقف الناس على حقيقة الحال، وهذه جراءة عظيمة منهم قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون، وعن الحسن أن اكْتَتَبَها إلخ من قول الله عزّ وجلّ يكذبهم به، وإنما يستقيم أن لو افتتحت الهمزة في اكْتَتَبَها للاستفهام الذي هو في معنى الإنكار، ووجهه أن يكون نحو قول حضرمي بن عامر وقد خرج يتحدث في مجلس قوم وهو في حلتين له فقال جزء بن سنان بن مؤلة: والله إن حضرميا لجذل بموت أخيه إن ورثه: أفرح أن أرزأ الكرام وأن ... أورث زودا (1) شصايصا نبلا من أبيات، وحق للحسن على ما في الكشاف أن يقف على الأولين قُلْ لهم ردا عليهم وتحقيقا للحق أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وصفه تعالى بإحاطة علمه بجميع المعلومات الخفية والجلية المعلومة من باب أولى للإيذان بانطواء ما أنزله على أسرار مطوية عن عقول البشر مع ما فيه من التعريض بمجازاتهم بجناياتهم المحكية التي هي من جملة معلوماته تعالى أي ليس ذلك كما تزعمون بل هو أمر سماوي أنزله الله تعالى الذي لا يعزب عن علمه شيء من الأشياء وأودع فيه فنون الحكم والأسرار على وجه بديع لا تحوم حوله الافهام حيث أعجزكم قاطبة بفصاحته وبلاغته وأخبركم بمغيبات مستقبلة وأمور مكنونة لا يهتدي إليها ولا يوقف إلا بتوفيق الله تعالى العليم الخبير عليها، وإذا أرادوا ببكرة وأصيلا خفية عن الناس ازداد موقع السر حسنا، وأما التذييل بقوله تعالى: إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً فهو للتنبيه على أنهم استوجبوا العذاب على ما هم عليه من الجنايات المحكية لكن أخر عنهم لما أنه سبحانه أزلا وأبدا مستمر على المغفرة والرحمة المستتبعتين للتأخير فكأنه قيل إنه جل وعلا متصف بالمغفرة والرحمة على الاستمرار فلذلك لا يعجل عقوبتكم على ما أنتم عليه مع كمال استيجابه إياها وغاية قدرته سبحانه عليها ولولا ذلك لصب عليكم العذاب صبا، وذكر الطيبي أن فيه على هذا الوجه معنى التعجب كما في قوله تعالى: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً [الفرقان: 21] . وجوز أن يكون الكلام كناية عن الاقتدار العظيم على عقوبتهم لأنه لا يوصف بالمغفرة والرحمة إلا القادر على   (1) الشصائص جمع شصوص وهي القليلة اللبن والنبلا جمع نبيل ككرم في كريم الصغار وتطلق على الكبار اهـ منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 426 العقوبة، وفي إيثارها تعيير لهم ونعي على فعلهم يعني أنكم فيما أنتم عليه بحيث يتصدى لعذابكم من صفته المغفرة والرحمة وليس بذاك، وقال صاحب الفرائد: يمكن أن يقال: ذكر المغفرة والرحمة بعد ذلك لأجل أن يعرفوا أن هذه الذنوب العظيمة المتجاوزة عن الحد مغفورة إن تابوا وأن رحمته واصلة إليهم بعدها وأن لا ييأسوا من رحمته تعالى بما فرط منهم مع إصرارهم على ما هم عليه من المعاداة والمخاصمة الشديدة وهو كما ترى. وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ إلخ نزلت في جماعة من كفار قريش أخرج ابن أبي إسحاق وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر بن الحارث وأبا البحتري والأسود بن المطلب وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاصي بن وائل ونبيه بن الحجاج ومنبه بن الحجاج اجتمعوا فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم وكلموه وخاصموه حتى تعذروا منه فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك فجاءهم عليه الصلاة والسلام فقالوا: يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر منك فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا وإن كنت تطلب الشرف فنحن نسودك وإن كنت تريد ملكا ملكناك فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما بي مما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله تعالى بعثني إليكم رسولا وأنزل عليّ كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله عزّ وجلّ بيني وبينكم قالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضنا عليك فما لنفسك سل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك وسله أن يجعل لك جنانا وقصورا من ذهب وفضة تغنيك عما تبتغي فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما أنا بفاعل ما أنا بالذي يسأل ربه هذا وما بعثت إليكم بهذا ولكن الله تعالى بعثني بشيرا ونذيرا فأنزل الله تعالى في قولهم ذلك وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ إلخ. وقد سيق هنا لحكاية جنايتهم المتعلقة بخصوص المنزل عليه الفرقان بعد حكاية جنايتهم التي تتعلق بالمنزل، وما استفهامية بمعنى إنكار الوقوع ونفيه في محل رفع على الابتداء والجار والمجرور بعدها متعلق بمحذوف خبر لها، وقد وقعت اللام مفصولة عن هذا المجرور بها في خط الامام وهي سنة متبعة وعنوا بالإشارة والتعبير بالرسول الاستهانة والتهكم، وجملة يَأْكُلُ الطَّعامَ حال من الرَّسُولِ والعامل فيها ما عمل في الجار من معنى الاستقرار وجوز أن يكون الجار والمجرور أي أي شيء وأي سبب حصل لهذا الزاعم أنه رسول حال كونه يأكل الطعام كما تأكل وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لابتغاء الأرزاق كما نفعله على توجيه الإنكار والنفي إلى السبب فقط مع تحقق المسبب الذي هو مضمون الجملة الحالية. ومن الناس من جوز جعل الجملة استئنافية والأولى ما ذكرنا، ومرادهم استبعاد الرسالة المنافية لأكل الطعام وطلب المعاش على زعمهم فكأنهم قالوا: إن صح ما يدعيه فما باله لم تألف حاله حالنا وليس هذا إلا لعمههم وركاكة عقولهم وقصور أبصارهم على المحسوسات فإن تميز الرسل عليهم السلام عما عداهم ليس بأمور جسمانية وإنما هو بأمور نفسانية أعني ما جبلهم الله تعالى عليه من الكمال كما يشير إليه قوله تعالى: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [الكهف: 110] واستدل بالآية على إباحة دخول الأسواق للعلماء وأهل الدين والصلاح خلافا لمن كرهه لهم. لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها تنزل عما تقدم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 427 كأنهم قالوا: إن لم توجد المخالفة بيننا وبينه في الأكل والتعيش فهلا يكون معه من يخالف فيهما يكون ردءا له في الإنذار فإن لم توجد فهلا يخالفنا في أحدهما وهو طلب المعاش بأن يلقى إليه من السماء كنز يستظهر به ويرتفع احتياجه إلى التعيش بالكلية فإن لم يوجد فلا أقل من رفع الاحتياج في الجملة بإتيان بستان يتعيش بريعه كما للدهاقين والمياسير من الناس. والزمخشري ذكر أنهم عنوا بقولهم مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ أنه كان يجب أن يكون ملكا ثم نزلوا عن ملكيته إلى صحبة ملك له يعينه ثم نزلوا عن ذلك إلى كونه مرفودا بكنز ثم نزلوا فاقتنعوا بأن يكون له بستان يأكل منه ويرتزق، قيل الجملة الأخيرة فقط تنزل منهم وما قبل استئناف جوابا عما يقال كيف يخالف حاله صلّى الله عليه وسلم حالكم وبأي شيء يحصل ذلك ويتميز عنكم؟ ولا يخفى ما فيه ونصب فَيَكُونَ على جواب التحضيض، وقرىء «فيكون» بالرفع حكاه أبو معاذ، وخرج على أن يكون معطوف على أُنْزِلَ لأنه لو وقع موقعه المضارع لكان مرفوعا لأنك تقول ابتداء لولا ينزل بالرفع وقد عطف عليه يُلْقى وتَكُونُ وهما مرفوعان أو هو جواب التحضيض على إضمار هو أي فهو يكون، ولا يجوز في مثل هذا التركيب نصب يُلْقى وتكون بالعطف على يكون المنصوب لأنهما في حكم المطلوب بالتحضيض لا في حكم الجواب. ولعل التعبير أولا بالماضي مع أن الأصل في أولا التي للتحضيض أو العرض دخولها على المضارع لأن إنزال الملك مع قطع النظر عن أن يكون معه عليه الصلاة والسلام نذيرا أمر متحقق لم يزل مدعيا له صلّى الله عليه وسلم فما أخرجوا الكلام حسبما يدعيه عليه الصلاة والسلام وإن لم يكن مسلما عندهم، وفيه نوع تهكم منهم قاتلهم الله تعالى بخلاف الإلقاء وحصول الجنة، ولعل في التعبير بالمضارع فيهما وإن كان هو الأصل إشارة إلى الاستمرار التجددي كأنهم طلبوا شيئا لا ينفد. وذكر ابن هشام في المغني عن الهروي أنه قال بمجيء لولا للاستفهام ومثل له بمثالين أحدهما قوله تعالى: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ، وتعقب ذلك بأنه معنى لم يذكره أكثر النحويين، والظاهر أنها في المثال المذكور مثلها في قوله تعالى: لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ [النور: 13] ، وذكر أنها في ذلك للتوبيخ والتنديم وهي حينئذ تختص بالماضي، ولا يخفى أنه إن عنى بقوله تعالى: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ ما وقع هنا فأمر كونها فيه للتوبيخ والتنديم في غاية الخفاء فتدبر، وقرأ قتادة والأعمش «أو يكون» بالياء آخر الحروف، وقرأ زيد بن علي وحمزة والكسائي وابن وثاب وطلحة والأعمش «نأكل» بالنون إسنادا للفعل إلى ضمير الكفر القائلين ما ذكر وَقالَ الظَّالِمُونَ هم القائلون الأولون وإنما وضع المظهر موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بالظلم فيما قالوه لكونه إضلالا خارجا عن حد الضلال مع ما فيه من نسبته صلّى الله عليه وسلم إلى ما يشهد العقل والنقل ببراءته منه أو إلى ما لا يصلح أن يكون متمسكا لما يزعمون من نفي الرسالة، وقيل: يحتمل أن يكون المراد، وقال الكاملون في الظلم منهم وأيا ما كان فالمراد أنهم قالوا للمؤمنين إِنْ تَتَّبِعُونَ أي ما تتبعون إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً سحر فغلب على عقله فالمراد بالسحر ما به اختلال العقل، وقيل: أصيب سحره أي رئته فاختل حاله كما يقال مرؤوس أي أصيب رأسه، وقيل: يسحر بالطعام وبالشراب أي يغذى أو ذا سحر أي رئة على أن مفعول للنسب وأرادوا أنه عليه الصلاة والسلام، بشر مثلهم، وقيل أي ذا سحر بكسر السين وعنوا- قاتلهم الله تعالى- ساحرا، والأظهر على ما في البحر التفسير الأول، وذكر أن هو الأنسب بحالهم انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ استعظام للأباطيل التي اجترءوا على التفوه بها وتعجيب منها أي انظر كيف قالوا في حقك الأقاويل العجيبة الخارجة عن العقول الجارية لغرابتها مجرى الأمثال واخترعوا لك تلك الصفات والأحوال الشاذة البعيدة من الوقوع فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا فبقوا متحيرين ضلالا لا يجدون في القدح في نبوتك قولا يستقرون عليه وإن كان باطلا في نفسه فالفاء الأولى سببية ومتعلق «ضلوا» غير منوي والفاء الثانية تفسيرية أو فضلوا عن طريق الجزء: 9 ¦ الصفحة: 428 الحق فلا يجدون طريقا موصلا إليه فإن من اعتاد استعمال هذه الأباطيل لا يكاد يهتدي إلى استعمال المقدمات الحقة فالفاء في الموضعين سببية ومتعلق «ضلوا» منوي ولعل الأول أولى، والمراد نفي أن يكون ما أتوا به قادحا في نبوته صلّى الله عليه وسلم ونفى أن يكون عندهم ما يصلح للقدح قطعا على أبلغ وجه فإن القدح فيها إنما يكون في القدح بالمعجزات الدالة عليها وما أتوا به لا يفيد ذلك أصلا وأنى لهم بما يفيده. تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً أي تكاثر خير الذي إن شاء وهب لك في الدنيا شيئا خيرا لك مما اقترحوه وهو أن يجعل لك مثل ما وعدك في الآخرة من الجنات والقصور كذا في الكشاف، وعن مجاهد إن شاء جعل لك جنات الآخرة وقصورا في الدنيا ولا يخفى ما فيه، وقيل: المراد إن شاء جعل ذلك في الآخرة، ودخلت إِنْ على فعل المشيئة تنبيها على أنه لا ينال ذلك إلا برحمته تعالى وأنه معلق على محض مشيئته سبحانه وليس لأحد من العباد والعباد على الله عز وجل حق لا في الدنيا ولا في الآخرة، والأول أبلغ في تبكيت الكفار والرد عليهم، ولا يرد كما زعم ابن عطية قوله تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ [الفرقان: 11] كما ستعلمه إن شاء الله تعالى، والظاهر أن الإشارة إلى ما اقترحوه من الكنز والجنة وخيرية ما ذكر من الجنة لما فيه من تعدد الجنة وجريان الأنهار والمساكن الرفيعة في تلك الجنان بأن يكون في كل منها مسكن أو في كل مساكن ومن الكنز لما أنه مطلوب لذاته بالنسبة إليه وهو إنما يطلب لتحصيل مثل ذلك وهو أيضا أظهر في الأبهة وأملأ لعيون الناس من الكنز، وعدم التعرض لجواب الاقتراح الأول لظهور منافاته للحكمة التشريعية وربما يعلم من كثير من الآيات كذا قيل. وفي إرشاد العقل السليم أن الإشارة إلى ما اقترحوه من أن يكون له صلّى الله عليه وسلم جنة يأكل منها وجَنَّاتٍ بدل من خَيْراً محقق لخيريته مما قالوا لأن ذلك كان مطلقا عن قيد التعدد وجريان الأنهار، وتعليق ذلك بمشيئته تعالى للإيذان بأن عدم الجعل لعدم المشيئة المبنية على الحكم والمصالح، وعدم التعرض لجواب الاقتراحين الأولين للتنبيه على خروجهما عن دائرة العقل واستغنائهما عن الجواب لظهور بطلانهما ومنافاتهما للحكمة التشريعية وإنما الذي له وجه في الجملة هو الاقتراح الأخير فإنه غير مناف للحكمة بالكلية فإن بعض الأنبياء عليهم السلام قد أوتوا في الدنيا مع النبوة ملكا عظيما انتهى، وهذا الذي ذكره في الإشارة جعله الإمام الرازي قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وما ذكر أولا استظهره أبو حيان وحكاه عن مجاهد، وحكي عن ابن عباس أنها إشارة إلى ما عيروا به من أكل الطعام والمشي في الأسواق وقال: إنه بعيد، وحكاه الإمام عن عكرمة وكأني بك تختار ما اختاره صاحب الإرشاد، والظاهر أن يَجْعَلْ مجزوم فيكون معطوفا على محل الجزاء الذي هو جعل هو جزاء أيضا وقد جيء به جملة استقبالية على الأصل في الجزاء، فقد ذكر أهل المعاني أن الأصل في جملتي إن الشرطية أن تكونا فعليتين استقباليتين لفظا كما أنهما مستقبلتان معنى، والعدول عن ذلك في اللفظ لا يكون إلا لنكتة. وكأن التعبير على هذا بالجملتين الماضويتين لفظا في إِنْ شاءَ جَعَلَ إلخ لزيادة تبكيت الكفار فيما اقترحوا من جنسه، ولما لم يقترحوا ما هو من جنس جعل القصور لم يسلك فيه ذلك المسلك فتدبر، وقيل: كان الظاهر نعد التعبير أولا في الجزاء بالماضي أن يعبر به هنا أيضا لكنه عدل إلى المضارع لأن جعل القصور في الجنان مستقبل بالنسبة إلى جعل الجنان، ثم إن هذا العطف يقتضي عدم دخول القصور في الخير المبدل منه قوله سبحانه: جَنَّاتٍ وكان ما تقدم عن الكشاف بيان لحاصل المعنى بمعونة السياق، وجوز أن يكون مرفوعا أدغمت لامه في لام لَكَ لكن إدغام المثلين إذا تحرك أولهما إنما هو مذهب أبي عمرو، والذي قرأ بالتسكين من السبعة هو وحمزة والكسائي ونافع وفي رواية محبوب عنه أنه قرأ بالرفع بلا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 429 إدغام وهي قراءة ابن عامر وابن كثير ومجاهد وحميد وأبي بكر، والعطف على هذه القراءة واحتمال الإدغام عند ابن عطية على المعنى في جَعَلَ لأن جواب الشرط موضع استئناف ألا يرى أن الجملة من المبتدأ والخبر قد تقع موقع جواب الشرط. وقال الزمخشري: هو معطوف على جَعَلَ لأن الشرط إذا كان ماضيا جاز في جوابه الجزم والرفع كقول زهير في مدح هرم بن سنان: وإن أتاه خليل (1) يوم مسغبة ... يقول لا غائب مالي ولا حرم ومذهب سيبويه أن الجواب في مثل ذلك محذوف وأن المضارع المرفوع على نية التقديم، وذهب الكوفيون، والمبرد إلى أنه هو الجواب وأنه على حذف الفاء والتركيب عند الجمهور فصيح سائغ في النثر كالشعر، وحكى أبو حيان عن بعض أصحابه أنه لا يجوز إلا في الضرورة إذ لم يجىء إلا في الشعر، وتمام الكلام في تحقيق المذاهب في محله، وقال الحوفي وأبو البقاء: الرفع على الاستئناف قيل وهو استئناف نحوي، والكلام وعد له صلّى الله عليه وسلم بجعل تلك القصور في الآخرة ولذا عدل عن الماضي إلى المضارع الدال على الاستقبال، وقيل: هو استئناف بياني كان قائلا يقول: كيف الحال في الآخرة؟ فقيل: يجعل لك فيها قصورا، وجعل بعضهم على الاستئناف هذا الجعل في الدنيا أيضا على معنى إن شاء جعل لك في الدنيا جنات ويجعل لك في تلك الجنات قصورا إن تحققت الشرطية وهو كما ترى، وقيل: الرفع بالعطف على تَجْرِي صفة بتقدير ويجعل فيها أي الجنات، وليس بشيء، وقرأ عبيد الله بن موسى وطلحة بن سليمان «ويجعل» بالنصب على إضمار أن، ووجهه على ما نقل عن السيرافي أن الشرط لما كان غير مجزوم أشبه الاستفهام، وقيل: لما كان غير واقع حال المشارطة أشبه النفي، وقد ذكر النصب بعده سيبويه، وقال إنه ضعيف، وقيل: الفعل مرفوع وفتح لامه اتباعا للام لَكَ نظير ما قيل في قوله: لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت ... حمامة في غصون ذات أوقال من أنه فتح راء غير اتباعا لهمزة أن وهو أحد وجهين في البيت، ونظير الآية في هذه القراءات قول النابغة: فإن يهلك أبو قابوس يهلك ... ربيع الناس والشهر الحرام ونأخذ بعده بذناب عيش ... أجبّ الظهر ليس له سنام فإنه يروى في نأخذ الجزم والرفع والنصب بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ انتقال إلى حكاية نوع آخر من أباطيلهم متعلق بأمر المعاد وما قبل كان متعلقا بأمر التوحيد وأمر النبوة ولا يضر في ذلك العود إلى ما يتعلق بالكلام السابق، واختلاف أساليب الحكاية لاختلاف المحكي، وما ألطف تصدير حكاية ما يتعلق بالآخرة ببل الانتقالية. وقوله تعالى: وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً إلخ لبيان ما لهم في الآخرة بسببه أي هيأنا لهم نارا عظيمة شديدة الاشتعال شأنها كيت وكيت بسبب تكذيبهم بها على ما يشعر به وضع الموصول موضع ضمير هم أو لكل من كذب بها كائنا من كان وهم داخلون في ذلك دخولا أوليا، ووضع الساعة موضع ضميرها للمبالغة في التشنيع، وهذا الاعتداد وإن كان ليس بسبب تكذيبهم بها خاصة بل يشاركه في السببية له ارتكابهم الأباطيل في أمر التوحيد وأمر النبوة إلا أنه لما كانت الساعة نفسها هي العلة القريبة لدخولهم السعير أشير بما ذكر إلى سببية التكذيب بها لدخولها ولم يتعرض للإشارة إلى سببية شيء آخر وقيل إن من كذب بالساعة صار كالاسم لأولئك المشركين والمكذبين برسول الله صلّى الله عليه وسلم والمكذبين بالساعة أي الجامعين للأوصاف الثلاثة لأن التكذيب بها أخص صفاتهم القبيحة وأكثر دورانا على ألسنتهم   (1) من الخلة بالفتح وهو الفقر اهـ منه. [ ..... ] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 430 إذ من الكفار من يشرك ويكذب برسول الله عليه الصلاة والسلام ولا يكذب بالساعة، فالمراد من يكذب بالساعة أولئك الصنف من الكفرة وهو كما ترى. وقيل: إن قوله تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ عطف على قوله تعالى: قالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ إلخ وإضراب عنه إلى ما هو أعجب منه على معنى أن ذلك تكذيب للرسول صلّى الله عليه وسلم وهذا تكذيب لله سبحانه- وتعالى- ففي صحيح البخاري عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «قال الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك- إلى قوله تعالى-: فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان» وظاهره أن أعجبية التكذيب بالساعة لأنه تكذيب لله عز وجل، وقال بعضهم: إن الأعجبية لأنهم أنكروا قدرة الله تعالى على الإعادة مع ما شاهدوه في الأنفس والآفاق وما ارتكز في أوهامهم من أن الإعادة أهون من الإبداء وليس ذلك لأنه تكذيب الله عز وجل فإنهم لم يسمعوا أمر الساعة إلا من النبي صلّى الله عليه وسلم فهو تكذيب له عليه الصلاة والسلام فيه، وأنت تعلم أن في الحديث إشارة إلى ما ارتضاه. وقيل: إضراب عن ذاك على معنى أتوا بأعجب منه حيث كذبوا بالساعة وأنكروها والحال أنا قد اعتدنا لمن كذب بها سعيرا فإن جراءتهم على التكذيب بها وعدم خوفهم مما أعد لمن كذب بها من أنواع العذاب أعجب من القول السابق. وتعقب بأنه لا نسلم كون الجراءة على التكذيب بالساعة أعجب من الجراءة على القول السابق بعد ظهور المعجزة ولا نسلم أن انضمام عدم الخوف مما يترتب عليه إذا كان ذلك الترتب في الساعة المكذب بها يفيد شيئا وفيه تأمل، وقيل: هو إضراب عن ذاك على معنى أتوا بأعجب منه حيث كذبوا بالساعة التي أخبر بها جميع الأنبياء عليهم السلام فالجراءة على التكذيب بها جراءة على التكذيب بهم والجراءة على التكذيب بهم أعجب من الجراءة على القول السابق. وتعقب بأن مرادهم من القول السابق نفي نبوته عليه الصلاة والسلام وتكذيبه وحاشاه ثم حاشاه من الكذب في دعواه إياها لعدم مخالفة حاله صلّى الله عليه وسلم حالهم واتصافه بما زعموا منافاته للرسالة وذلك موجود ومتحقق في جميع الأنبياء عليهم السلام، فتكذيبه صلّى الله عليه وسلم لذلك تكذيب لهم أيضا فلا يكون التكذيب بالساعة على ما ذكر أعجب من تكذيب النبي صلّى الله عليه وسلم لاشتراك التكذيبين في كونهما في حكم تكذيب الكل، وقيل: هو متصل بقوله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ إلخ الواقع جوابا لهم والمنبئ عن الوعد بالجنات والقصور في الآخرة مسوق لبيان أن ذلك لا يجدي نفعا على طريقة قول من قال: عوجوا لنعم فحيوا دمنة الدار ... ماذا تحيون من نؤي وأحجار والمعنى أنهم لا يؤمنون بالساعة فكيف يقتنعون بهذا الجواب وكيف يصدقون بتعجيل مثل ما وعدك في الآخرة، وقيل: إضراب عن الجواب إلى بيان العلة الداعية لهم إلى التكذيب، والمعنى بل كذبوا بالساعة فقصرت أنظارهم على الحظوظ الدنيوية وظنوا أن الكرامة ليست إلا بالمال وجعلوا خلو يدك عنه ذريعة إلى تكذيبك، وقوله تعالى: إِذا رَأَتْهُمْ إلى آخره صفة للسعير والتأنيث باعتبار النار، وقيل لأنه علم لجهنم كما روي عن الحسن، وفيه أنه لو كان كذلك لامتنع دخول أل عليه ولمنع من الصرف للتأنيث والعلمية. وأجيب بأن دخول أل للمح الصفة وهي تدخل الإعلام لذلك كالحسن والعباس وبأنه صرف للتناسب ورعاية الفاصلة. أو لتأويله بالمكان وتأنيثه هنا للتفنن، وإسناد الرؤية إليها حقيقة على ما هو الظاهر وكذا نسبة التغيظ والزفير فيما بعد إذ لا امتناع في أن يخلق الله تعالى النار حية مغتاظة زافرة على الكفار فلا حاجة إلى تأويل الظواهر الدالة على أن لها إدراكا كهذه الآية، وقوله تعالى: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق: 30] وقوله صلّى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري «شكت النار إلى ربها فقالت: رب أكل بعضي بعصا فأذن لها بنفسين نفس في الشاء ونفس الجزء: 9 ¦ الصفحة: 431 في الصيف» إلى غير ذلك، وإذا صح ما أخرجه الطبراني وابن مردويه من طريق مكحول عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من بين عيني جهنم قالوا: يا رسول الله هل لجهنم من عين؟ قال: نعم أما سمعتم الله تعالى يقول: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ فهل تراهم إلا بعينين» كان ما قلناه هو الصحيح. وإسنادها إليها لا إليهم للإيذان بأن التغيظ والزفير منها لهيجان غضبها عليهم عند رؤيتها إياهم مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ هو أقصى ما يمكن أن يرى منه، وروي أنه هنا مسيرة خمسمائة عام. وأخرج آدم بن أبي إياس في تفسيره عن ابن عباس أنه مسيرة مائة عام وحكي (1) ذلك عن السدي والكلبي وروي أيضا عن كعب، وقيل: مسيرة سنة وحكاه الطبرسي عن الإمام أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه ، ونسبه في إرشاد العقل السليم إلى السدي. والكلبي سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً أي صوت تغيظ ليصح تعلق السماع به. وفي مفردات الراغب الغيظ أشد الغضب والتغيظ هو إظهار الغيظ وقد يكون ذلك مع صوت مسموع كما في هذه الآية، وقيل: أريد بالسماع مطلق الإدراك كأنه قيل: أدركوا لها تغظيا وَزَفِيراً هو إخراج النفس بعد مدة على ما في القاموس، وقال الراغب: هو ترديد النفس حتى تنتفخ الضلوع منه وشاع استعماله في نفس صوت ذلك النفس، ولا شبهة في أنه مما يتعلق به السماع ولذا استشكلوا تعلق السماع بالتغيظ دون الزفير فأولوا لذلك بما سمعت، وقال بعضهم: إن ما ذكر من قبيل قوله: ورأيت زوجك قد غدا ... متقلدا سيفا ورمحا وهو بتقدير سمعوا لها وأدركوا تغيظا وزفيرا ويعاد كل إلى ما يناسبه. ومن الناس من قال: الكلام خارج مخرج المبالغة بجعل التغيظ مع أنه ليس من المسموعات مسموعا، والتنوين فيه وفي زَفِيراً للتفخيم. وقد جاء في الآثار ما يدل على شدة زفيرها أعاذنا الله تعالى منها، ففي خبر أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم بسند صحيح عن ابن عباس أنها تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف. وأخرج ابن المنذر وابن جرير وغيرهما عن عبيد بن عمير أنه قال في قوله تعالى: سَمِعُوا لَها إلخ: إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا ترعد فرائصه حتى أن إبراهيم عليه السلام ليجثو على ركبتيه ويقول: يا رب لا أسألك اليوم إلا نفسي. وأخرج أبو نعيم عن كعب قال: إذا كان يوم القيامة جمع الله تعالى الأولين والآخرين في صعيد واحد فنزلت الملائكة صفوفا فيقول الله تعالى لجبريل عليه السلام: ائت بجهنم فيأتي بها ثم تقاد بسبعين ألف زمام حتى إذا كانت من الخلائق على قدر مائة عام زفرت زفرة طارت لها أفئدة الخلائق ثم زفرت ثانية فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا لركبتيه ثم تزفر الثالثة فتبلغ القلوب الحناجر وتذهل العقول فيفزع كل امرئ إلى عمله حتى أن إبراهيم عليه السلام يقول: بخلتي لا أسألك إلا نفسي ويقول موسى عليه السلام: بمناجاتي لا أسألك إلا نفسي ويقول عيسى عليه السلام: بما أكرمتني لا أسألك إلا نفسي لا أسألك مريم التي ولدتني ومحمد صلّى الله عليه وسلم يقول: أمتي أمتي لا أسألك اليوم نفسي فيجيبه الجليل جلّ جلاله إن أوليائي من أمتك لا خوف عليهم ولا هم يحزنون فوعزتي لأقرن عينك ثم تقف الملائكة عليهم السلام بين يدي الله تعالى ينتظرون ما يؤمرون. وهذه الأخبار ظاهرة في أن النار هي التي تزفر وأن الزفير على حقيقته. وزعم بعضهم أن زفيرها صوت لهيبها واشتعالها، وقيل: إن كلّا من الرؤية والتغيظ والزفير لزبانيتها ونسبته إليها على حذف المضاف ونقل ذلك عن الجبائي، وقيل: إن قوله تعالى: رَأَتْهُمْ من قوله صلّى الله عليه وسلم إن المؤمن والكافر لا تتراءى ناراهما وقولهم: دورهم تتراءى وتتناظر كان بعضها يرى بعضا على سبيل الاستعارة بالكناية والمجاز المرسل،   (1) حكاه الطبرسي في مجمع البيان اهـ منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 432 وجوز أن يكون من باب التمثيل، وأيا ما كان فالمراد إذا كانت بمرأى منهم، وقوله سبحانه: سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً على تشبيه صوت غليانها بصوت المغتاظ وزفيره وفيه استعارة تصريحية أو مكنية وجوز أن تكون تمثيلية، وقد ذكر هذا التأويل الزمخشري مقدما له وذكر بعض الأئمة أن هذا مذهب المعتزلة لأنهم جعلوا البنية شرطا في الحياة. وفي الكشف الأشبه أن ذلك ليس لأن البنية شرط ومن أين العلم بأن بنية نار الآخرة بحيث لا تستعد للحياة بل لأنه لا بد من ارتكاب خلاف الظاهر من جعل الشيء المعروف جماديته حيا ناطقا فكان خبرا على خلاف المعتاد أو الحمل على المجاز التمثيلي الشائع في كلامهم لا سيما في كلام الله تعالى ورسله عليهم السلام وإذ لاح الوجه فكن الحاكم في ترك الظاهر إلى هذا أو ذاك، وفتح هذا الباب لا يجر إلى مذهب الفلاسفة كما توهم صاحب الانتصاف ولا يخالف تعبدنا بالظواهر فإن ما يدعونه أيضا ليس بظاهر انتهى، وأنت تعلم بعد الإغماض عن المناقشة فيما ذكر أن الحمل على الحقيقة هنا أبلغ في التهويل ولعله يهون أمر الخبر على خلاف المعتاد وهذا إن لم يصح الخبر السابق أما إذا صح فلا ينبغي العدول عما يقتضيه وليس لأحد قول مع قوله صلّى الله عليه وسلم فإنه الأعلم بظاهر الكتاب وخافيه وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً أي في مكان فهو منصوب على الظرفية ومِنْها حال منه لأنه في الأصل صفة، وجوز تعلقه بألقوا. وقوله تعالى: ضَيِّقاً صفة لمكانا مقيدة لزيادة شدة الكرب مع الضيق كما أن الروح مع السعة وهو السر في وصف الجنة بأن عرضها السموات والأرض. وأخرج ابن أبي حاتم عن يحيى بن أسيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سئل عن قوله تعالى: وَإِذا أُلْقُوا إلخ فقال: والذي نفسي بيده إنهم ليستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها تضيق عليهم كما يضيق الزج في الرمح. وقرأ الكلبي: الأسفلون يرفعهم اللهب والأعلون يحطهم الداخلون فيزدحمون، وقرأ ابن كثير «ضيقا» بسكون الياء. مُقَرَّنِينَ حال من ضمير أُلْقُوا أي إذا ألقوا منها مكانا ضيقا حال كونهم مقرنين قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالجوامع، وقيل: مقرنين مع الشياطين في السلاسل كل كافر مع شيطانه وفي أرجلهم الأصفاد، وحكي عن الجبائي، وقرأ أبو شيبة صاحب معاذ بن جبل «مقرنون» بالرفع ونسبها ابن خالويه إلى معاذ، ووجهها على ما في البحر كونه بدلا من ضمير أُلْقُوا بدل نكرة من معرفة دَعَوْا هُنالِكَ أي في ذلك المكان الهائل ثُبُوراً أي هلاكا كما قال الضحاك وقتادة وهو مفعول دَعَوْا أي نادوا ذلك فقالوا: يا ثبوراه على معنى احضر فهذا وقتك، وجعل غير واحد النداء بمعنى التمني فيتمنون الهلاك ليسلموا مما هو أشد منه كما قيل أشد من الموت ما يتمنى معه الموت. وجوز أبو البقاء نصب ثُبُوراً على المصدرية لدعوا على معنى دعوا دعاء، وقيل: على المصدرية لفعل محذوف ومفعول دَعَوْا مقدر أي دعوا من لا يجيبهم قائلين ثبرنا ثبورا وكلا القولين كما ترى، ولا اختصاص لدعاء الثبور بكفرة الإنس فإنه يكون للشيطان أيضا. أخرج أحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث بسند صحيح عن أنس قال: «قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم: إن أول من يكسى حلة من النار إبليس فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه وذريته من بعده وهو ينادي يا ثبوراه ويقولون يا ثبورهم حتى يقف على النار: فيقول يا ثبوراه ويقولون يا ثبورهم» الحديث، وفي بعض الروايات أن أول من يقول ذلك إبليس ثم يتبعه أتباعه، وظاهره شمول الأتباع كفرة الإنس والجن، ولا يتوهم اختصاص ذلك ببعض كفرة الإنس بناء على ما قيل: إن الآية نزلت في أبي جهل وأصحابه لما لا يخفى، وقوله تعالى: لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً على تقدير قول إما منصوب على أنه حال من فاعل دَعَوْا أي دعوا مقولا لهم ذلك حقيقة كما هو الظاهر بأن تخاطبهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 433 الملائكة لتنبيههم على خلود عذابهم وأنهم لا يجابون إلى ما يدعونه أو لا ينالون ما يتمنونه من الهلاك المنجي أو تمثيلا لهم وتصويرا لحالهم بحال من يقال له ذلك من غير أن يكون هناك قول وخطاب كما قيل أي دعوه حال كونهم أحقاء بأن يقال لهم ذلك، وإما لا محل له من الإعراب على أنه معطوف على ما قبله أي إذا ألقوا منها مكانا ضيقا دعوا «ثبورا» فيقال لهم: لا تدعوا إلخ، أو على أنه مستأنف وقع جوابا عن سؤال مقدر ينسحب عليه الكلام كأنه قيل: فماذا يكون عند دعائهم المذكور؟ فقيل: يقال لهم ذلك، والمراد به إقناطهم عما علقوا به أطماعهم من الهلاك وتنبيههم على أن عذابهم الملجئ لهم إلى ذلك أبدي لا خلاص لهم منه على أبلغ وجه حيث أشار إلى أن المخلص مما هم فيه من العذاب عادة غير مخلص وما يخلص غير ممكن فكأنه قيل: لا تدعوا اليوم هلاكا واحدا فإنه لا يخلصكم وَادْعُوا ثُبُوراً وهلاكا كَثِيراً لا غاية لكثرته لتخلصوا به وأنى بالهلاك الكثير. ومن لم يمت بالسيف مات بغيره ... تعددت الأسباب والموت واحد وهذا معنى دقيق لم أعلم أن أحدا ذكره، وقيل: وصف الثبور بالكثرة باعتبار كثرة الألفاظ المشعرة به فكأنه قيل: لا تقولوا يا ثبوراه فقط وقولوا يا ثبوراه يا هلاكاه يا ويلاه يا لهفاه إلى غير ذلك وهو كما ترى. وقال شيخ الإسلام: وصفه بذلك بحسب كثرة الدعاء المتعلق به لا بحسب كثرته في نفسه فإن ما يدعونه ثبور واحد في حد ذاته لكنه كلما تعلق به دعاء من تلك الأدعية الكثيرة صار كأنه ثبور مغاير لما تعلق به دعاء آخر، وتحقيقه لا تدعوه دعاء واحدا وادعوه أدعية كثيرة فإن ما أنتم فيه من العذاب لغاية شدته وطول مدته مستوجب لتكرير الدعاء في كل آن، ثم قال: وهذا أدل على فظاعة العذاب وهو له من جعل تعدد الدعاء وتجدده لتعدد العذاب بتعدد أنواعه وألوانه أو لتعدده بتجدد الجلود كما لا يخفى، وأما ما قيل من أن المعنى إنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحدا إنما هو ثبور كثير إما لأن العذاب أنواع وألوان كل نوع منها ثبور لشدته وفظاعته أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا جلودا غيرها فلا غاية لهلاكهم فلا يلائم المقام كيف وهم إنما يدعون هلاكا ينهي عذابهم وينجيهم منه فلا بد أن يكون الجواب إقناطا لهم عن ذلك ببيان استحالته ودوام ما يوجب استدعاءه من العذاب الشديد انتهى، وتعقب القول بأن وصف الثبور بالكثرة بحسب كثرة الدعاء بأنه لا يناسب النظم وكذا كونه بحسب كثرة الألفاظ المشعرة بالثبور لأنه كان الظاهر أن يقال دعاء كثيرا، وأما قوله: وأما ما قيل إلخ فهو لا يخلو عن بحث فتأمل. وحكى علي بن عيسى ما ثبرك عن هذا الأمر أي ما صرفك عنه، وجوز أن يكون الثبور في الآية من ذلك كأنهم ندموا على ما فعلوا فقالوا: واصرفاه عن طاعة الله تعالى كما يقال: واندماه فأجيبوا بما أجيبوا، وتقييد النهي والأمر باليوم لمزيد التهويل والتفظيع والتنبيه على أنه ليس كسائر الأيام المعهودة التي يخلص من عذابها ثبور واحد، ويجوز أن يكون ذلك لتذكيرهم بالساعة التي أصابهم ما أصابهم بسبب التكذيب بها ففيه زيادة إيلام لهم، وقرأ عمر بن محمد «ثبورا» بفتح الثاء في ثلاثتها وفعول بفتح الفاء في المصادر قليل نحو القفول. قُلْ تقريعا لهم وتهكما بهم وتحسيرا على ما فاتهم أَذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من السعير باعتبار اتصافها بما فصل من الأحوال الهائلة فإنها التي كثيرا ما تقابل بالجنة، وما فيه من معنى البعد للإشعار بكونها في الغاية القاصية من الهول والفظاعة، وقيل: إشارة إلى ما ذكر من الجنة والكنز في قولهم: أو يلقى إليه كنز إلخ. وقيل: إلى الجنة والقصور المجعولة في الدنيا على تقدير المشيئة وكلا القولين لا يعول عليهما لا سيما الأخير أي ذلك الذي ذكر من السعير التي اعتدت لمن كذب بالساعة وشأنها كيت وكيت وشأن أهلها ذيت ذيت خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ أي وعدها المتقون لأن وعد تتعدى لمفعولين وهذا المحذوف هو العائد على الجزء: 9 ¦ الصفحة: 434 الموصول وإضافة الجنة إلى الخلد إن كانت نسبة الإضافة معلومة للمدح فإن المدح يكون بما هو معلوم، وإن لم تكن معلومة فلإفادة خلود الجنة، ولا يخدشه قوله تعالى: خالِدِينَ بعد لأنه للدلالة على خلود أهلها لا خلودها في نفسها وإن تلازما أو أن ذلك للتمييز عن جنات الدنيا، وقيل: إن جنة الخلد علم كجنة عدن، والمراد بالمتقين المتصفون بمطلق التقوى لا بالمرتبة الثانية أو الثالثة منها فقط، ويدل عليه مقابلتهم بالكافرين في النظم الكريم، وقيل: يجوز أن يراد الكاملون في التقوى ووعدها إياهم وعد دخولها ابتداء دون سبق عذاب وهو مختص بهم وليس بذاك، والترديد والتفضيل في خَيْرٌ مع أنه لا شك في أنه لا خيرية في السعير للتهكم والتقريع كما أشرنا إليه. وقال ابن عطية: حيث كان الكلام استفهاما جاز فيه مجيء لفظة التفضيل بين الجنة والسعير في الخير لأن الموقف جائز له أن يوقف محاوره على ما شاء ليرى هل يجيبه بالصواب أو بالخطأ، وإنما منع سيبويه وغيره من التفضيل إذا كان الكلام خبرا لأن فيه مخالفة الواقع، وأما إذا كان استفهاما فذلك سائغ، وقال أبو حيان: إن خَيْرٌ هنا ليس للدلالة على الأفضلية بل هو على ما جرت به عادة العرب في بيان فضل الشيء وخصوصيته بالفضل دون مقابله كقول حسان: «فشركما لخيركما الفداء» . وقولهم: الشقاء أحب إليك أم السعادة والعسل أحلى من الخل، وقوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ [يوسف: 33] ولا اختصاص لذلك في استفهام أو خبر. وما ذكر من أمثلة الخبر يرد على ابن عطية إلا أن يقيد الخير الذي ادعى منع سيبويه فيه بما لم يكن الحكم فيه واضحا أما إذا كان الحكم فيه واضحا للسامع بحيث لا يختلج في ذهنه ولا يتردد في الأفضل فإن التفضيل يجوز فيه، وقد تقدم تحقيق الكلام في هذا المقام وما أشرنا إليه هنا أولى بالاعتبار مما أشار ابن عطية وأبو حيان إليه. كانَتْ تلك الجنة لَهُمْ أي في علم الله تعالى أو في اللوح أو المراد تكون على أنه وعد من أكرم الأكرمين عبر عنه بالماضي على طريق الاستعارة لتحقق وقوعه فإنه سبحانه لا يخلف الميعاد، وجوز أن يكون هذا باعتبار تقدم وعده تعالى في كتبه وعلى لسان رسله عليهم الصلاة والسلام إياهم بها جَزاءً على أعمالهم بمقتضى الوعد لا بالإيجاب وَمَصِيراً ينقلبون إليه، ولم يكتف بقوله تعالى: كانَتْ لَهُمْ جَزاءً لعدم استلزامه ذلك فقد يثيب الملك في الدنيا إنسانا ببستان مثلا ولا يراه فضلا عن أن يسكن فيه، وجملة كانَتْ لَهُمْ إلخ على ما ذكره الطبرسي في موضع الحال من الضمير المحذوف العائد على الموصول في وُعِدَ الْمُتَّقُونَ بتقدير قد أو بدونه، وجوز أن تكون بدلا من وُعِدَ الْمُتَّقُونَ وتفسيرا له، وأن تكون استئنافا في موضع التعليل. وذكر الزمخشري ما يشعر بأن هذه الجملة تذييل لتذكير النعمة بما خولهم الله تعالى وطيب عيشهم في ذلك المكان الرافع على وجه يتضمن ضد ذلك لأضدادهم فكأنه قيل: كانت لهم جزاء موفورا لا يدخل تحت الوصف ومصيرا أي مصيرا لا يقادر قدره وليس كمصير الكفرة المشار إليه بقوله سبحانه: وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً ويعلم منه فائدة ذكر المصير مع ذكر الجزاء فتأمل، وقوله سبحانه: لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ قيل استئناف وقع جوابا لسؤال نشأ مما قبله حيث أفاد أن الجنة مسكن لهم والساكن في دار يحتاج إلى أشياء كثيرة لتطيب نفسه بسكناها فكأن سائلا يقول: ما لهم إذا صاروا إليها وسكنوا فيها؟ فقيل لهم فيها ما يشاؤون، وقال الطبرسي: الجملة في موضع الحال من قوله تعالى: الْمُتَّقُونَ وما موصولة مبتدأ أو العائد محذوف ولَهُمْ خبره وفِيها متعلق بما تعلق به أي كائن لهم فيها الذي يشاؤونه من فنون الملاذ والمشتهيات وأنواع النعيم الروحاني والجسماني، ولعل كل فريق منهم يقتنع بما أبيح له من درجات النعيم ويرى ما هو فيه ألذ الأشياء ولا تمتد أعناق هممهم إلى ما فوق ذلك من المراتب العالية ولا يخطر بباله ما يخطر طلبه ولا يتأتى له فلا يشاء آحاد المؤمنين رتبة الأنبياء عليهم السلام ولا يتعرضون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 435 للشفاعة لمن كتب عليه الخلود في النار مثلا فلا يلزم الحرمان ولا تساوي مراتب أهل الجنان، وعلى ضد هؤلاء فيما ذكر أهل النار فقد قال سبحانه فيهم: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ [سبأ: 54] . خالِدِينَ حال من أحد ضمائرهم على ما قيل وظاهره عدم الترجيح، وقال بعض الأفاضل: جعله حالا من الأول يقتضي كونها حالا مقدرة ومن الثالث يوهم تقييد المشيئة بها فخير الأمور أوسطها، ورجح بعضهم الثالث لقربه والتقييد غير مخل بل مهم، وجوز كونها حالا من المتقين ولا يخفى حاله، ولبعض الأجلة هاهنا كلام فيه بحث ذكره الحمصي في حواشي التصريح فليراجع كانَ أي الوعد بما ذكر أو الموعود المفهوم من الكلام فيشمل الوعد بالجنة وبحصول ما يشاؤون لهم فيها وبالخلود على الأول والجنة وحصول المرادات والخلود الموعود بها على الثاني، وقال بعضهم: الضمير للخلود، وآخر لحصول ما يشاؤون لهم فيها أوله ولكون الجنة جزاء ومصيرا، والإفراد باعتبار ما ذكر ويغني عنه ما سمعت، والأكثرون على أنه لما يشاؤون وهو اسم كان وقوله تعالى: عَلى رَبِّكَ متعلق بها أو بمحذوف وقع حالا من قوله سبحانه: وَعْداً وهو خبرها، ولم يجوز تعلق الجار به سواء كان باقيا على مصدريته أو مؤولا باسم المفعول أي موعودا لما علمت من الخلاف في مرجع الضمير بناء على منع تقديم معمول المصدر عليه وإن كان مؤولا بغيره أو كان المقدم ظرفا وفيه خلاف، وجوز أن يكون عَلى رَبِّكَ متعلقا بمحذوف هو الخبر ووَعْداً مصدرا مؤكدا، والأظهر أن يجعل هو الخبر أي كان ذلك وعدا أو موعودا مَسْؤُلًا أي حقيقيا أن يسأل ويطلب لكونه مما يتنافس فيه المتنافسون أو سببا لحصول ذلك فمسؤوليته كناية عن كونه أمرا عظيما ويجوز أن يراد كون الموعود مسؤولا حقيقة بمعنى يسأله الناس في دعائهم بقولهم: رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ [آل عمران: 194] ، وقال سعيد بن أبي هلال: سمعت أبا حازم رضي الله تعالى عنه يقول: إذا كان يوم القيامة يقول المؤمنون: ربنا عملنا لك بما أمرتنا فانجز لنا ما وعدتنا فذلك قوله تعالى: وَعْداً مَسْؤُلًا. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد هذا عن محمد بن كعب القرظي أنه قال في الآية: إن الملائكة عليهم السلام لتسأل ذلك في قولهم: رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ [غافر: 8] والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لتشريفه صلّى الله عليه وسلم والإشعار بأنه عليه الصلاة والسلام هو الفائز بمغانم الوعد الكريم. واستشكلت الآية على مذهب الإشارة لأنها تدل على الوجوب على الله تعالى لمكان «على» وعندهم لا يجب عليه سبحانه شيء لاستلزام ذلك سلب الاختيار وعدم استحقاق الحمد، وأجيب بأن الوجوب الذي تدل عليه الآية وجوب بمقتضى الوعد والممتنع إيجاب الإلجاء والقسر من خارج لأنه السالب للاختيار الموجب للمفسدة دون إيجابه تعالى على نفسه شيئا بمقتضى وعده وكرمه فإنه مسبوق بالإرادة والوجوب الناشئ من الإرادة لا ينافي الاختيار، وهذا ظاهر إذا كان الوعد حادثا وأما إذا كان قديما فالسابقية والمسبوقية بحسب الذات وذلك لا يستلزم الحدوث، أو يقال: الحادث بالإرادة تعلقه بالموعود به فافهم وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ نصب على أنه مفعول لمضمر مقدم معطوف على قوله تعالى: قُلْ أَذلِكَ إلخ أي قيل لهم ذلك واذكر لهم بعد التقريع والتحسير يوم يحشرهم الله عز وجل، والمراد تذكيرهم بما فيه من الحوادث الهائلة على ما سمعت في نظائره أو على أنه ظرف لمضمر مؤخر قد حذف للتنبيه على كمال هوله وفظاعة ما فيه والإيذان بأن العبارة لا تحيط ببيانه أي ويوم يحشرهم يكون من الأحوال والأهوال ما لا يفي ببيانه المقال. وقرأ الحسن وطلحة وابن عامر وكثير من السبعة «نحشرهم» بنون العظمة بطريق الالتفات من الغيبة إلى التكلم. وقرأ الأعرج «يحشرهم» بكسر الشين، قال صاحب اللوامح: في كل القرآن وهو القياس في الأفعال المتعدية الثلاثية لأن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 436 يفعل بضم العين قد يكون من اللازم الذي هو فعل بضمها في الماضي، وقال ابن عطية: وهي قليلة في الاستعمال قوية في القياس لأن يفعل بكسر العين في المتعدي أقيس من يفعل بضم العين، وفيه كلام ذكره أبو حيان في البحر وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عطف على مفعول يَحْشُرُهُمْ وليست الواو للمعية وجوز ذلك أبو البقاء، والمراد بالموصول عند الضحاك وعكرمة والكلبي الأصنام بناء أن السياق فيها وينطقها الله تعالى الذي لا يعجزه شيء، وقيل: تتكلم بلسان الحال وليس بذاك. وأخرج جماعة عن مجاهد أن المراد به الملائكة وعيسى وعزيز وأضرابهم من العقلاء الذين عبدوا من دون الله سبحانه وتعالى وهو قول الجمهور على ما في البحر لأن السؤال والجواب يقتضيانه لاختصاصهما بالعقلاء عادة وإن كان الجماد ينطق يومئذ، وجاء فيما يشبه الاستفهام الآتي النص عليهم نحو قوله تعالى: ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ [سبأ: 40] وقوله سبحانه: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة: 116] والظاهر أن المراد- بما- على هذا القول العقلاء المعبودون الذين ليس منهم إضلال كالملائكة والأنبياء عليهم السلام لا ما يشملهم ولشياطين مثلا فإن الجواب يأبى ذلك بظاهره كما يخفى وأطلقت ما على العقلاء إما على أنها تطلق عليهم حقيقة أو مجازا أو باعتبار الوصف كأنه قيل: أو معبوديهم، وقال بعض الأجلة: المراد ما يعم العقلاء وغيرهم إما لأن كلمة ما موضوعة للكل كما ينبىء عنه أنك إذا رأيت شبحا من بعيد تقول: ما هو؟ أو لأنه أريد بها الوصف فلا تختص حينئذ بغير العقلاء كما إذا أريد بها الذات أو لتغليب الأصنام على غيرها تنبيها على بعدهم عن استحقاق العبادة وتنزيلهم في ذلك منزلة من لا علم له ولا قدرة أو اعتبارا لغلبة عبدتها وكثرتهم فَيَقُولُ أي الله عز وجل للمعبودين من دونه أثر حشر الكل تقريعا للعبدة وتبكيتا لهم. وقرأ الحسن وطلحة وابن عامر «فنقول» بنون العظمة أيضا، ومن قرأ ممن عداهم هناك بالنون وهنا بالياء كان على قراءته هنا التفاتا من التكلم إلى الغيبة، وفي نون العظمة هناك إشارة إلى أن الحشر أمر عظيم. أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ بأن دعوتموهم إلى عبادتكم وإضافة عِبادِي قيل للترحم أو لتعظيم جرمهم لعبادة غير خالقهم أو لتعظيم أمر إضلالهم بدعوتهم إلى عبادتهم مع كونهم عبادا لله عز وجل وهؤُلاءِ بدل منه، وجوز أن يكون نعتا له أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ أي عن السبيل بأنفسهم لإخلالهم بالنظر الصحيح وإعراضهم عن المرشد من كتاب أو رسول فحذف الجار وأوصل الفعل إلى المفعول كقوله تعالى: وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الأحزاب: 4] والأصل إلى السبيل أو للسبيل. وذكر بعض الأجلة أنه لم يقل عن السبيل للمبالغة فإن ضله بمعنى فقده وضل عنه بمعنى خرج عنه. والأول أبلغ لأنه يوم أنه لا وجود له رأسا، وتقديم الضميرين على الفعلين لما أن المراد بالسؤال التقريعي هو المتصدي للفعل لا نفسه قالُوا استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية السؤال كأنه قيل: فماذا قالوا في الجواب؟ فقيل قالوا: سُبْحانَكَ وكان الظاهر أن يعبر بالمضارع لكان (يقول) أولا، وكأن العدول إلى الماضي للدلالة على تحقق التنزيه والتبرئة وأنه حالهم في الدنيا، وقيل: للتنبيه على أن إجابتهم بهذا القول هو محل الاهتمام فإن بها التبكيت والإلزام فدل بالصيغة على تحقق وقوعها، وسبحان إما للتعجب مما قيل لهم إما لأنهم جمادات لا قدرة لها على شيء أو لأنهم ملائكة أو أنبياء معصومون أو أولياء عن مثل ذلك محفوظون وإمّا هو كناية عن كونهم موسومين بتسبيحه تعالى وتوحيده فكيف يتأتى منهم إضلال عباده وإمّا هو على ظاهره من التنزيه والمراد تنزيهه تعالى عن الأضداد، وهو الجزء: 9 ¦ الصفحة: 437 على سائر الأوجه جواب إجمالي إلا أن في كونه كذلك على الأخير نوع خفاء بالنسبة إلى الأولين، وقوله تعالى: ما كانَ يَنْبَغِي لَنا إلخ كالتأكيد لذلك والتفصيل له. وجعل الطيبي قولهم: سُبْحانَكَ توطئة وتمهيدا للجواب لقولهم: ما كانَ إلخ أي ما صح وما استقام لنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ أي أولياء على أن مِنْ مزيدة لتأكيد النفي. ويحسن زيادتها بعد النفي والمنفي وإن كان كانَ لكن هذا معمول معمولها فينسحب النفي عليه. والمراد نفي أن يكونوا هم مضليهم على أبلغ وجه كأنهم قالوا: ما صح وما استقام لنا أن نتخذ متجاوزين إياك أولياء نعبدهم لما بنا من الحالة المنافية له فأنى يتصور أن نحمل غيرنا على أن يتخذ وليا غيرك فضلا أن يتخذونا وليا، وجوز أن يكون المعنى ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك أتباعا فإن الولي كما يطلق على المتبوع يطلق على التابع ومنه أولياء الشيطان أي أتباعه وقرأ أبو عيسى الأسود القارئ «ينبغى» بالبناء للمفعول. وقال ابن خالويه: زعم سيبويه أن ذلك لغة. وقرأ أبو الدرداء وزيد بن ثابت وأبو رجاء ونصر بن علقمة وزيد بن علي وأخوه الباقر رضي الله تعالى عنهما ومكحول والحسن وأبو جعفر وحفص بن عبيد والنخعي والسلمي وشيبة وأبو بشر والزعفراني «يتّخذ» مبنيا للمفعول. وخرج ذلك الزمخشري على أنه من اتخذ المتعدي إلى مفعولين والمفعول الأول ضمير المتكلم القائم مقام الفاعل والثاني مِنْ أَوْلِياءَ ومن تبعيضية لا زائدة أي أن يتخذونا بعض الأولياء، ولم يجوز زيادتها بناء على ما ذهب إليه الزجاج من أنها لا تزاد في المفعول الثاني، وعلله في الكشف بأنه محمول على الأول يشيع بشيوعه ويخص كذلك، ومراده أنه إذا كان محمولا لا يراد صدقه على غيره فيشيع ويخص كذلك في الإرادة فلا يرد زيد حيوان فإن المحمول باق على عمومه مع خصوص الموضوع، وقيل: مراده أن الاختلاف لا يناسب مع إمكان الاتحاد والمثال ليس كذلك. والزمخشري لما بنى كلامه على ذلك المذهب والتزم التبعيض جاء الإشكال في تنكير أَوْلِياءَ فأجاب بأنه للدلالة على الخصوص وامتيازهم بما امتازوا وهو للتنويع على الحقيقة. وقال السجاوندي: المعنى ما ينبغي لنا أن نحسب من بعض ما يقع عليه اسم الولاية فضلا عن الكل فإن الولي قد يكون معبودا ومالكا وناصرا ومخدوما. والزجاج خفي عليه أمر هذه القراءة على مذهبه فقال: هذه القراءة خطأ لأنك تقول: ما اتخذت من أحد وليا ولا يجوز ما اتخذت أحدا من ولي لأن من إنما دخلت لأنها تنفي واحدا في معنى جميع ويقال: ما من أحد قائما وما من رجل محبا لما يضره ولا يقال: ما قائم من أحد وما رجل من محب لما يضره ولا وجه عندنا لهذا البتة ولو جاز هذا لجاز في فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الحاقة: 47] ما منكم أحد عنه من حاجزين. وأجاز الفراء هذه القراءة عن ضعف وزعم أن مِنْ أَوْلِياءَ هو اسم وما في نَتَّخِذَ هو الخبر كأنه يجعله على القلب انتهى. ونقل صاحب المطلع عن صاحب النظم أنه قال: الذي يوجب سقوط هذا القراءة أن من لا تدخل إلا على مفعول لا مفعول دونه نحو قوله تعالى: ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ [مريم: 35] فإذا كان قبل المفعول مفعول سواه لم يحسن دخولها كما في الآية على هذه القراءة. ولا يخفى عليك أن في الإقدام على القول بأنها خطأ أو ساقطة مع روايتها عمن سمعت من الأجلة خطرا عظيما ومنشأ ذلك الجهل ومفاسده لا تحصى. وذهب ابن جني إلى جواز زيادة من في المفعول الثاني فيقال: ما اتخذت زيدا من وكيل على معنى ما اتخذته وكيلا أي وكيل كان من أصناف الوكلاء. ومعنى الآية على هذا المنوال ما ينبغي لنا أن يتخذونا من دونك أولياء أي أولياء أي ما يقع عليه اسم الولاية. وجوز أن يكون «نتخذ» على هذه القراءة مما له مفعول واحد ومِنْ دُونِكَ صلة ومِنْ أَوْلِياءَ حال ومِنْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 438 زائدة وعزا هذا في البحر إلى ابن جني. وجوز بعضهم كون «نتخذ» في القراءة المشهورة من اتخذ المتعدي لمفعولين، وجعل أبو البقاء على هذا «من أولياء» المفعول الأول بزيادة من مِنْ دُونِكَ المفعول الثاني وعلى كونه من المتعدي لواحد يكون هذا حالا. وقرأ الحجاج «أن نتخذ من دونك أولياء» فبلغ عاصما فقال: مقت المخدج أو ما علم أن فيها من. وقوله تعالى: وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ إلخ استدراك مسوق لبيان أنهم هم الضالون بعد بيان تنزههم عن إضلالهم على أبلغ وجه كما سمعت، وقد نعي عليهم سوء صنيعهم حيث جعلوا أسباب الهداية أسبابا للضلالة أي ما أضللناهم ولكن متعتهم وآباءهم بأنواع النعم ليعرفوا حقها ويشكروها فاستغرقوا في الشهوات وانهمكوا فيها حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ أي غفلوا عن ذكرك والإيمان بك أو عن توحيدك أو عن التذكر لنعمك وآيات ألوهيتك ووحدتك. وفي البحر الذكر ما ذكر به الناس على ألسنة الأنبياء عليهم السلام أو الكتب المنزلة أو القرآن، ولا يخفى ما في الأخير إذا قيل: بعموم الكفار والمخبر عنهم في الآية وشمولهم كفار هذه الأمة وغيرهم وَكانُوا أي في علمك الأزلي المتعلق بالأشياء على ما هي عليه في أنفسها أو بما سيصدر عنهم فيما لا يزال باختيارهم وسوء استعدادهم من الأعمال السيئة قَوْماً بُوراً هالكين على أن بُوراً مصدر وصف به الفاعل مبالغة ولذلك يستوي فيه الواحد والجمع، وأنشدوا: فلا تكفروا ما قد صنعنا إليكم ... وكافوا به فالكفر بور لصانعه وقول ابن الزبعرى: يا رسول المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذ أنا بور أو جمع بأثر كعوذ في عائذ (1) وتفسيره بهالكين رواه ابن جرير وغيره عن مجاهد، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن نافع بن الأزرق سأله عن ذلك فقال: هلكى بلغة عمان وهم من اليمن، وقيل: بورا فاسدين في لغة الأزد ويقولون: أمر بائر أي فاسد وبارت البضاعة إذا فسدت. وقال الحسن: بورا لا خير فيهم من قولهم: أرض بور أي متعطلة لا نبات فيها، وقيل: بورا عميا عن الحق، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله على ما قال أبو السعود. وقال الخفاجي: هي حال بتقدير قد أو معطوفة على مقدر أي كفروا وكانوا أو على ما قبلها، وقد شنع الزمخشري بما ذكر من السؤال والجواب على أهل السنة فقال: فيه كسر بين لقول من يزعم أن الله تعالى يضل عباده على الحقيقة حيث يقول سبحانه للمعبودين من دونه: أأنتم أضللتم أم هم ضلوا بأنفسهم فيتبرؤون من إضلالهم ويستعيذون به أن يكونوا مضلين ويقولون: بل أنت تفضلت من غير سابقة على هؤلاء وآبائهم تفضل جواد كريم فجعلوا النعمة التي حقها أن تكون سبب الشكر سبب الكفر ونسيان الذكر وكان ذلك سبب هلاكهم فإذا برأت الملائكة والرسل عليهم السلام أنفسهم من نسبة الإضلال الذي هو عمل الشياطين إليهم واستعاذوا منه فهم لربهم الغني العدل أشد تبرئة وتنزيها منه. ولقد نزهوه تعالى حين أضافوا إليه سبحانه التفضل بالنعمة والتمتيع بها وأسندوا نسيان الذكر والتسبب به للبوار إلى الكفرة فشرحوا الإضلال المجازي الذي أسنده الله تعالى إلى ذاته في قوله سبحانه:   (1) وهي الحديثة النتاج من الظباء والإبل والخيل اهـ منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 439 يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ولو كان سبحانه هو المضل على الحقيقة لكان الجواب العتيد أن يقولوا: بل أنت أضللتهم انتهى. وأجاب صاحب الفرائد عن قوله: فيتبرؤون من إضلالهم إلخ بأنهم انما تبرؤوا لأنهم يستحقون العذاب بإضلالهم ولم يكن منهم فوجب عليهم أن يقولوا ذلك ليندفع عنهم ما يستحقون به من العذاب وذلك أنهم مسؤولون عما يفعلون والله عز وجل لا يسأل عما يفعل فيلحق بهم النقصان إن ثبت عليهم ولا يمكن لحوقه به تعالى لأنه سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وعن قوله: ولقد نزهوه حيث أضافوا إلخ بأن قولهم ولكن متعتهم إلخ لا ينافي نسبة الإضلال إليه سبحانه على الحقيقة وأيضا ما يؤدي إلى الضلال إذا كان منه تعالى وكان معلوما له عز وجل إنهم يضلون به كان فيه ما في الإضلال بالحقيقة يوجب على مذهبه أنه لا يجوز عليه سبحانه مع أنهم نسبوه إليه سبحانه، وعن قوله: ولو كان تعالى هو المضل على الحقيقة لكان الجواب العتيد أنت أضللتهم بأن هذا غير مستقيم لأنه تعالى ما سألهم إلا عن أحد الأمرين وما ذكر لا يصلح جوابا له بل هو جواب لمن قال: من أضلهم انتهى، وذكر في الكشف جوابا عن الأخير أنه ليس السؤال عن تعيين من أضل لأنه تعالى عالم به وإنما هو سؤال تقريع على نحو أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ [المائدة: 116] فلو قالوا: أنت أضللتهم لم يطابق وإنما الجواب ما أجابوا به كما أجاب عيسى عليه السلام بقوله: سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي إلخ وقد اقتدى بالإمام في ذلك، وذكر أيضا قبل هذا الجواب أنه لو قيل: إن في مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ ما يدل على أنه تعالى الفاعل الحقيقي للإضلال وأنه لا ينسب إليه سبحانه أدبا لكان وجها ولا ينبغي أن يكون ذلك بعد التسليم المقصود من الجواب بمتعتهم إلخ بأن يكون المراد الجواب بأنت أضللتهم لكن عدل عنه إلى ما في النظم الجليل أدبا لأن الجواب بذلك مما لا يقتضيه السياق كما لا يخفى. وقال ابن المنير: إن جواب المسئولين بما ذكر يدل على معتقدهم الموافق لما عليه أهل الحق لأن أهل الحق يعتقدون أن الله تعالى وإن خلق الضلال إلا أن للعباد اختيارا فيه وعندهم أن كل فعل اختياري له نسبتان إن نظر إلى كونه مخلوقا فهو منسوب إلى الله تعالى وإن نظر إلى كونه مختارا للعبد فهو منسوب للعبد وهؤلاء المجيبون نسبوا النسيان أي الانهماك في الشهوات الذي ينشأ عنه النسيان إلى الكفرة لأنهم اختاروه لأنفسهم فصدقت نسبته إليهم ونسبوا السبب الذي اقتضى نسيانهم وانهماكهم في الشهوات إلى الله تعالى وهو استدراجهم ببسط النعم عليهم وصبها صبا فلا تنافي بين معتقد أهل الحق ومضمون ما قالوا في الجواب بل هما متواطئان على أمر واحد انتهى. ولا يخفى ما في بيان التوافق من النظر، وقد يقال: حيث كان المراد من الاستفهام تقريع المشركين وعلم المستفهمين بذلك مما لا ينبغي أن ينكر لا سيما إذا كانوا الملائكة والأنبياء عليهم السلام جيء بالجواب متضمنا ذلك على أتم وجه مشتملا على تحقق الأمر في منشأ ضلالهم كل ذلك للاعتناء بمراده تعالى من تقريعهم وتبكيتهم ولذا لم يكتفوا في الجواب- بهم ضلوا- بل افتتحوا بالتسبيح ثم نفوا عن أنفسهم الإضلال على وجه من المبالغة ليس وراءه ورلء ثم أفادوا أنهم ضلوا بعد تحقق ما ينبغي أن يكون ذريعة لهم إلى الاهتداء من تمتيعهم بأنواع النعم وذلك من أقبح الضلال ونبهوا على زيادة قبحه فوق ما ذكر بالتعبير عنه بنسيان الذكر ثم ذكروا منشأ ضلالهم والأصل الأصيل فيه بقولهم: وَكانُوا قَوْماً بُوراً أما على معنى كانوا في نفس الأمر قوما فاسدين وإن شئت قلت هالكين ونحوه مما تقدم فظهروا على حسب ما كانوا لأن ما في نفس الأمر لا يتغير أو على معنى كانوا في العلم التابع للمعلوم في نفسه كذلك فظهروا على حسب ذلك لئلا يلزم الانقلاب المحال، وحاصله أن منشأ ضلالهم فساد استعدادهم في نفسه من غير مدخلية للغير في التأثير فيه وهذا شأن جميع ماهيات الأشياء في أنفسها فإن مدخلية الغير إنما هي في نحو وجودها الخارجي لا غير، وإلى هذا ذهب جمع من الفلاسفة والصوفية وشيد أركانه الشيخ ابراهيم الكوراني عليه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 440 الرحمة في أكثر كتبه فإن كان مقبولا فلا بأس في تخريج الآية الكريمة عليه فتدبر، وقوله تعالى: فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ حكاية لاحتجاجه تعالى على العبدة بطريق تلوين الخطاب وصرفه عن المعبودين عند تمام جوابهم وتوجهه إلى العبدة مبالغة في تقريعهم وتبكيتهم على تقدير قول مرتب على الجواب أي فقال الله تعالى عند ذلك: قد كذبكم المعبودون أيها الكفرة، وقال بعض الأجلة الفاء فصيحة مثلها في قول عباس بن الأحنف: قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ... ثم القفول فقد جئنا خراسانا والتقدير هنا قلنا أو قال تعالى إن قلتم إنهم آلهة فقد كذبوكم بِما تَقُولُونَ أي في قولكم على أن الباء بمعنى في وما مصدرية والجار والمجرور متعلق بالفعل والقول بمعنى المقول، ويجوز أن تكون ما موصولة والعائد محذوف أي في الذي تقولونه، وجوز أن تكون الباء صلة والمجرور بدل اشتمال من الضمير المنصوب في كذبوكم، والمراد بمقولهم أنهم آلهة أو هؤلاء أضلونا، وتعقب بأن تكذيبهم في هذا القول لا تعلق له بما بعده من عدم استطاعتهم للصرف والنصر أصلا وإنما الذي يستتبعه تكذيبهم في زعمهم أنهم آلهتهم وناصروهم وفيه نظر كما سنشير إليه قريبا إن شاء الله تعالى، وقيل: الخطاب للمعبودين أي فقد كذبكم العابدون أيها المعبودون في قولكم سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء حيث زعموا أنكم آلهة، والمراد الحكم على أولئك المكذبين بالكفر على وجه فيه استزادة غيظ المعبودين عليهم وجعله مفرعا عليه ما سيأتي إن شاء الله تعالى. والفاء أيضا فصيحة، والجملة جزاء باعتبار الأخبار، وقيل: هو خطاب للمؤمنين في الدنيا فقد كذبكم أيها المؤمنون الكفرة في الدنيا فيما تقولونه من التوحيد وجيء بالكلام ليفرع عليه ما بعد وكلا القولين كما ترى والثاني أبعدهما، وقرأ أبو حيوة «يقولون» بالياء آخر الحروف وهي رواية عن ابن كثير وقنبل الخطاب في كَذَّبُوكُمْ للعابدين وضمير الجمع فيه وفي «يقولون» للمعبودين أي فقد كذبكم أيها العبدة المعبودون بزعمكم بقولهم سبحانك إلخ والباء للملابسة أو الاستعانة، وفيه أيضا القولان السابقان أي فقد كذبكم أيها المعبودون العبدة بقولهم إنكم آلهة أو فقد كذبكم أيها المؤمنون الكفار في التوحيد بقولهم: إن هؤلاء المحكي عنهم آلهة فَما تَسْتَطِيعُونَ أي فما تملكون أيها العبدة صَرْفاً أي دفعا للعذاب عن أنفسكم بوجه من الوجوه كما يعرب عنه التنكير أي لا بالذات ولا بالواسطة، وقيل: حيلة من قولهم: إنه ليصرف في أموره أي يحتال فيها، وقيل: توبة، وقيل: فدية والأول أظهر فإن أصل الصرف رد الشيء من حالة إلى أخرى وإطلاقه على الحيلة أو التوبة أو الفدية مجاز، والمراد فما تملكون دفعا للعذاب قبل حلوله وَلا نَصْراً أي فردا من أفراد النصر أي العون لا من جهة أنفسكم ومن جهة غيركم بعد حلوله، وقيل: نصرا جمع ناصر كصحب جمع صاحب وليس بشيء، والفاء لترتيب عدم الاستطاعة على ما قبلها من التكذيب لكن لا على معنى أنه لولاه لوجدت الاستطاعة حقيقة بل في زعمهم حيث كانوا يزعمون أنهم يدفعون عنهم العذاب وينصرونهم وفيه ضرب تهكم بهم، والمراد من التكذيب المرتب عليه ما ذكر تكذيبهم بقولهم إنهم آلهة، ويجوز أن يراد به تكذيبهم بقولهم: هؤلاء أضلونا وهو متضمن نفي كونهم آلهة وبذلك يتم أمر الترتيب. وقرأ عليّ كرم الله تعالى وجهه وأكثر السبعة «يستطيعون» بالياء التحتية أي فما يستطيع آلهتكم دفعا للعذاب عنكم، وقيل حيلة لدفعه، وقيل فدية عنكم ولا نصرا لكم، وقيل في معنى الآية على تقدير كون الخطاب السابق للمؤمنين إنه سبحانه أراد أن هؤلاء الكفرة شديد والشكيمة في التكذيب الموجب للتعذيب فما تستطيعون أنتم صرفهم عنه ولا نصرا لكم فيما يصيبهم مما يستوجبه من العذاب هذا على قراءة حفص «تستطيعون» بالتاء الفوقية وأما على قراءة الجماعة «يستطيعون» بالياء فالمعنى ما يستطيعون صرفا لأنفسهم عما هم عليه ولا نصرا لها فيما استوجبوه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 441 بتكذيبهم من العذاب أو فما يستطيعون صرفكم عن الحق الذي أنتم عليه ولا نصرا لأنفسهم من العذاب انتهى وهو كما ترى وَمَنْ يَظْلِمْ أي يكفر مِنْكُمْ أيها المكلفون ويعبد من دون الله تعالى إلها آخر كهؤلاء الكفرة نُذِقْهُ في الآخرة عَذاباً كَبِيراً لا يقادر قدره وهو عذاب النار، وقرىء «يذقه» على أن الضمير لله عز وجل، وقيل: لمصدر يظلم أي يذقه الظلم والإسناد مجازي، وتفسير الظلم بالكفر هو المروي عن ابن عباس، والحسن وابن جريج وأيد بأن المقام يقتضيه فإن الكلام في الكفر ووعيده من مفتتح السورة، وجوز أن يراد به ما يعم الشرك وسائر المعاصي والوعيد بالعذاب لا ينافي العفو بالنسبة إلى غير المشرك لما حقق في موضعه. واختار الطيبي التفسير الأول وجعل الخطاب للكفار أيضا لأن الكلام فيهم من أول وقد سبق فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ وهذه الآية لما يجري عليهم من الأهوال والنكال من لدن قوله تعالى: إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [الفرقان: 12] ومعنى وَمَنْ يَظْلِمْ حينئذ ومن يدم على الظلم، وفي الكشف الوجه أن الخطاب عام والظلم الكفر وَمَنْ يَظْلِمْ مظهر أقيم مقام المضمر تنبيها على توغلهم في الكفر وتجاوزهم حد الإنصاف والعدل إلى محض الاعتساف والجدل فيما رموا به رسول الله صلّى الله عليه وسلم وكان الأصل فلا يستطيعون صرفا ولا نصرا ونذيقهم عذابا كبيرا أو نذيقكم على اختلاف القراءتين والحمل على من يدم على الظلم منكم ليختص الخطاب بالكفار صحيح أيضا ولكن تفوته النكتة التي ذكرناها انتهى. ولا يخفى أن كونه من إقامة المظهر مقام المضمر خلاف الظاهر فتأمل. وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ قيل هو تسلية له صلّى الله عليه وسلم عن قولهم مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق بأن لك في سائر الرسل عليهم السلام أسوة حسنة فإنهم كانوا كذلك، وقال الزجاج: احتجاج عليهم في قولهم ذلك كأنه قيل كذلك كان من خلا من الرسل يأكل الطعام ويمشي في الأسواق فكيف يكون محمد صلّى الله عليه وسلم بدعا من الرسل عليهم السلام. ورده الطيبي بأنه لا يساعد عليه النظم الجليل لأنه قد أجيب عن تعنتهم بقوله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ [الإسراء: 48، الفرقان: 9] وتعقبه في الكشف بقوله: ولقائل أن يقول هذا جواب آخر كما أجيب هنالك من أوجه على ما نقل عن الإمام وجعل قوله تعالى: بَلْ كَذَّبُوا جوابا ثالثا وعقبه بقوله تعالى: وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ لمكان المناسبة وتم الوعيد ثم أجابهم سبحانه جوابا آخر يتضمن التسلية أيضا وهذا يساعد عليه النظم الجليل، والجملة التي بعد إلا قيل صفة ثانية لموصوف مقدر قبل مِنَ الْمُرْسَلِينَ والمعنى ما أرسلنا قبلك أحدا من المرسلين إلا آكلين وماشين. وتعقب بأن فيه الفضل بين الموصوف والصفة بإلا وقد رده أكثر النحاة كما في المغني، ومن هنا جعلها بعضهم صفة لموصوف مقدر بعد إلا وذلك بدل مما حذف قبل وأقيمت صفته مقامه، والمعنى ما أرسلنا قبلك أحدا من المرسلين إلا رجالا أو رسلا أنهم إلخ، وفيه الفصل بين البدل والمبدل منه وهو جائز عندهم. وقدر الفراء بعد إلا من وهي تحتمل أن تكون موصولة وأن تكون نكرة موصوفة، وجعل بعضهم الجملة في محل نصب بقول محذوف وجملة القول صفة أي إلا رجالا أو رسلا قيل إنهم إلخ وهو كما ترى، وقال ابن الأنباري: الجملة حالية والاستثناء من أعم الأحوال والتقدير إلا وأنهم. قال أبو حيان: وهو المختار، وقدر الواو بناء على أن الاكتفاء في مثل هذه الجملة الحالية بالضمير غير فصيح، وربما يختار عدم التقدير ويمنع دعوى عدم الفصاحة أو يحمل ذلك على غير المقترن بإلا لأنه في الحقيقة بدل، ووجه كسر إن وقوعها في الابتداء ووقوع اللام بعدها أيضا. وقرىء «أنهم» بالفتح على زيادة اللام بعدها وتقدير جار قبلها أي لأنهم يأكلون إلخ. والمراد ما جعلناهم رسلا إلى الناس إلا لكونهم مثلهم، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن مسعود وعبد الرحمن بن عبد الله «يمشّون» بتشديد الشين المفتوحة مع ضم الياء مبنيا للمفعول أي يمشيهم حوائجهم أو الناس والتضعيف للتكثير كما في قول الهذلي: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 442 يمشي بيننا حانوت خمر وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي كما في البحر «يمشون» بضم الياء والشين مع التشديد مبنيا للفاعل وهو مبالغة يمشي المخفف فهي مطابقة للقراءة المشهورة ولا يحتاج إلى تقدير يمشيهم حوائجهم ونحوه. وأنشدوا قوله: ومشى بأغصان المباءة وابتغى ... قلائص منها صعبة وذلول وقوله (1) : فقد تركت خزينة كل وغد ... يمشي بين خاتام وطاق وفي بعض نسخ الكشاف ما يدل على أنه لم يظفر بهذه القراءة، وقوله تعالى: وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ قيل تسلية له صلّى الله عليه وسلم أيضا لكن عن قولهم: أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ [الفرقان: 8] أي وجعلنا أغنياءكم أيها الناس ابتلاء لفقرائكم لننظر هل يصبرون وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً أي عالما بالصواب فيما يبتلى به وغيره فلا يضيقن صدرك ولا تستخفنك أقاويلهم، وقيل: تصبير له عليه الصلاة والسلام على ما قالوه واستبدعوه من أكله الطعام ومشيه في الأسواق بعد الاحتجاج عليهم بسائر الرسل، والكلام من تلوين الخطاب بتعميمه لسائر الرسل عليهم السلام بطريق التغليب على ما اختاره بعضهم، والمراد بالبعض الأول كفار الأمم واختصاصهم بالرسل مصحح لأن يعدوا بعضا منهم وبالبعض الثاني رسلهم على معنى جعلنا كل بعض معين من الأمم فتنة لبعض معين على من الرسل كأنه قيل وجعلنا كل أمة مخصوصة من الأمم الكافرة فتنة لرسولها المعين. وإنما لم يصرح بذلك تعويلا على شهادة الحال، وحاصله جرت سنتنا بموجب حكمتنا على ابتلاء المرسلين بأممهم وبمناصبتهم لهم العداوة وإطلاق ألسنتهم فيهم بالأقاويل الخارجة عن حد الإنصاف وسلوكهم في أذاهم كل مسلك لنعلم صبرهم أو هو خطاب الناس كافة على ما قيل وهو الظاهر، والبعض الأول أعم من الكفار والأغنياء والأصحاء وغيرهم ممن يصلح أن يكون فتنة والبعض الثاني أعم من الرسل والقراء والمرضى وغيرهم ممن يصلح أن يفتن. والكلام عليه مفيد لتصبره صلّى الله عليه وسلم على ما قالوه وزيادة، وقيل: المراد بالبعض الأول من لا مال له من المرسلين وبالبعض الثاني أممهم ويدخل في ذلك نبينا صلّى الله عليه وسلم وأمته دخولا أوليا فكأنه قيل جعلناك فتنة لأمتك لأنك لو كنت صاحب كنوز وجنات لكان ميلهم إليك وطاعتهم لك للدنيا أو ممزوجة بالدنيا وإنما بعثناك لا مال لك ليكون طاعة من يطيعك منهم خالصة لوجه الله تعالى من غير طمع دنيوي وكذا حال سائر من لا مال له من المرسلين مع أممهم والأظهر عموم الخطاب والبعضين وهو الذي تقتضيه الآثار وإليه ذهب ابن عطية فقال: ذلك عام للمؤمن والكافر فالصحيح فتنة للمريض والغني فتنة للفقير والرسول المخصوص بكرامة النبوة فتنة لاشراف الناس الكفار في عصره وكذلك العلماء وحكام العدل، وقد تلا ابن القاسم هذه الآية حين رأى أشهب انتهى. واختار ذلك أبو حيان. ولا يضر فيه خصوص سبب النزول فقد روي عن الكلبي أنها نزلت في أبي جهل والوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل ومن في طبقتهم قالوا: إن أسلمنا وقد أسلم قبلنا عمار وصهيب وبلال وفلان وفلان ترفعوا علينا إدلالا بالسابقة. والاستفهام إما في حيز التعليل للجعل ومعادله محذوف كما حذف فيما لا يحصى من الأمثلة والتقدير لنعلم أتصبرون أم لا أي ليظهر ما في علمنا. وقرينة تقدير العلم تضمن الفتنة إياه. وإما أن لا يكون في حيز التعليل وليس هناك معادل محذوف بأن يكون للترغيب والتحريض والمراد اصبروا فإني ابتليت بعضكم   (1) أنشده الأزهري قال أبو عمرو والعرب تسمي معدن الذهب خزينة وأراد بالخاتام الخاتم وبالطاق الطيلسان اهـ منه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 443 ببعض. ويجوز أن لا يقدر معادل على تقدير اعتبار التعليل أيضا بأن يكون الخطاب للرسل عليهم السلام على ما سمعت. وجعل ابن عطية الخطاب فيما سبق عاما وفي أَتَصْبِرُونَ خاصا بالمؤمنين الذين جعل إمهال الكفار فتنة لهم في ضمن العموم السابق وقدر معادلا فقال: كأنه جعل إمهال الكفار فتنة للمؤمنين ثم وقفهم أتصبرون أم لا. وجعل قوله تعالى: وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً وعدا للصابرين ووعيدا للعاصين. وجعله بعضهم وعدا للرسول صلّى الله عليه وسلم بالأجر الجزيل لصبره الجميل مع مزيد تشريف له عليه الصلاة والسلام بالالتفات إلى اسم الرب مضافا إلى ضميره صلّى الله عليه وسلم. وجوز أن يكون وعيدا لأولئك المعاندين له عليه الصلاة والسلام جيء به إتماما للتسلية أو التصبر وليس بذاك واستدل بالآية على القضاء والقدر فإنها أفادت أن أفعال العباد كعداوة الكفار وإيذائهم بجعل الله تعالى وإرادته والفتنة بمعنى الابتلاء وإن لم تكن من أفعال العباد إلا أنها مفضية ومستلزمة لما هو منها. وفيه من الخفاء ما فيه. وقوله تعالى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 444 بسم الله الرحمن الرحيم وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا إلخ شروع في حكاية بعض آخر من أقاويلهم الباطلة وبيان بطلانها إثر حكاية إبطال أباطيلهم السابقة وذكر ما يتعلق بذلك، والجملة المعطوفة على قوله تعالى: وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ [الفرقان: 7] إلى آخره، ووضع الموصول موضع الضمير للتنبيه بما في حيز الصلة على أن ما يحكى عنهم في الشناعة بحيث لا يصدر عمن يرجو لقاء الله عز وجل، والرجاء في المشهور الأمل وقد فسر أحدهما بالآخر أكثر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 3 اللغويين، وفي فروق ابن هلال الأمل رجاء يستمر ولذا قيل للنظر في الشيء إذا استمر وطال تأمل، وقيل: الأمل يكون في الممكن والمستحيل والرجاء يخص الممكن. وفي المصباح الأمل ضد اليأس وأكثر ما يستعمل فيما يبعد حصوله والطمع يكون فيما قرب حصوله والرجاء بين الأمل والطمع فإن الراجي يخاف أن لا يحصل مأموله ولذا استعمل بمعنى الطمع انتهى، وفسره أبو عبيدة وقوم بالخوف، وقال الفراء: هذه الكلمة تهامية وهي أيضا من لغة هذيل إذا كان مع الرجاء جحد ذهبوا به إلى معنى الخوف فيقولون: فلان لا يرجو ربه سبحانه يريدون لا يخاف ربه سبحانه، ومن ذلك ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً [نوح: 13] أي لا تخافون لله تعالى عظمة وإذا قالوا: فلان يرجو ربه فهذا على معنى الرجاء لا على معنى الخوف، وقال الشاعر: إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ... وحالفها في بيت نوب عواسل وقال آخر: لا يرتجي حين يلاقي الذائدا ... أسبعة لاقت له أو واحدا انتهى، وذكر أن استعمال الرجاء في معنى الخوف مجاز لأن الراجي لأمر يخاف فواته، وأصل اللقاء مقابلة الشيء ومصادفته وهو مراد من قال: الوصول إلى الشيء لا المماسة ويطلق على الرؤية لأنها وصول إلى المرئي، ولقاؤه تعالى هنا كناية عن لقاء جزائه يوم القيامة أو المراد ذلك بتقدير مضاف والمعنى على التفسير المشهور للرجاء وقال الذين لا يأملون لقاء جزائنا بالخير والثواب على الطاعة لتكذيبهم بالبعث، وعلى التفسير الآخر وقال الذين لا يخافون لقاء جزائنا بالشر والعقاب على المعصية لتكذيبهم بالبعث كذا قيل. وقيل: المراد به رؤيته تعالى في الآخرة والرجاء عليه بمعنى الأمل دون الخوف إذ لا معنى لكون الرؤية مخوفة وهو خلاف الظاهر وإن لم يأبه ما بعد إذ يكون المعنى عليه إن الذين لا يرجون رؤيتنا في الآخرة التي هي مظنة الرؤية لكثير من الناس اقترحوا رؤيتنا في الدنيا التي ليست مظنة لذلك، وقد يقال: نفي رجاء لقائه تعالى كناية عن إنكار البعث والحشر ولعله أولى مما تقدم أي وقال الذين ينكرون البعث والحشر لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أي هلا أنزلوا علينا فيخبرونا بصدق محمد صلّى الله عليه وسلّم أَوْ نَرى رَبَّنا فيخبرنا بذلك كما روي عن ابن جريج وغيره وفي طلب إنزال ملائكة للتصديق دون إنزال ملك إشارة إلى أنهم بلغوا في التكذيب مبلغا لا ينفع معه تصديق ملك واحد وإذا اعتبرت أل في الملائكة للاستغراق الحقيقي كانت الإشارة إلى قوة تكذيبهم أقوى، وتزداد القوة إذا اعتبر في عَلَيْنَا معنى كل واحد منا ولم يعتبر توزيع، ويشير أيضا إلى قوة ذلك تعبيرهم بالمضارع الدال على الاستمرار التجددي في أَوْ نَرى رَبَّنا كأنهم لم يكتفوا برؤيته تعالى وإخباره سبحانه بصدق رسوله صلّى الله عليه وسلّم حتى يروه سبحانه ويخبرهم مرارا بذلك، ولا يأبى قصد الاستمرار من المضارع كون الأصل في «لولا» التي للتحضيض أو العرض أن تدخل على المضارع وما لم يكن مضارعا يؤول به، ولعل عدولهم إلى الماضي في جانب إنزال الملائكة المعطوف عليه وإن كان في تأويل المضارع على نحو ما قدمنا في تفسير قوله تعالى: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ [الفرقان: 7] فتذكر فما في العهد من قدم. وقيل: المعنى لولا أنزل علينا الملائكة فيبلغون أمر الله تعالى ونهيه بدل محمد صلّى الله عليه وسلّم أو نرى ربنا فيخبرنا بذلك من غير توسيط أحد ورجح الأول بأن السياق لتكذيبه صلّى الله عليه وسلّم وحاشاه ثم حاشاه من الكذب والتعنت في طلب مصدق له عليه الصلاة والسلام لا لطلب من يفيدهم الأمر والنهي سواه صلّى الله عليه وسلّم، ولا نسلم أن لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ يتكرر عليه مع لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ السابق لظهور الفرق بين المطلوبين فيهما ولو فرض لزوم التكرار بينهما فهو لا يضر كما لا يخفى. وانتصر للأخير بأن المقام ليس إلا لذكر المكذبين وحكاية أباطيلهم الناشئة عن تكذيبهم. وقد عد فيما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 4 سبق بعضا منها متضمنا تعنتهم في طلب مصدق له صلّى الله عليه وسلّم فالأولى أن يكون ما هنا حكاية نوع آخر منها ليكون أبعد عن التكرار وأدل على العناد والاستكبار. ولعل قوله تعالى: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً أنسب بما ذكر. ومعنى اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أوقعوا الاستكبار في شأنها وعدوها كبيرة الشأن، وفيه تنزيل الفعل المتعدي منزلة اللازم كما في قوله: يجرح في عراقيبها نصلي والعتو تجاوز الحد في الظلم وهو المصدر الشائع لعتا، واللام واقعة في جواب القسم أي والله لقد استكبروا في شأن أنفسهم وتجاوز الحد في الظلم والطغيان تجاوزا كبيرا بالغا أقصى غايته حيث كذبوا الرسول عليه الصلاة والسلام ولم ينقادوا لبشر مثلهم يوحى إليه في أمرهم ونهيهم ولم يكترثوا بمعجزاته القاهرة وآياته الباهرة فطلبوا ما لا يكاد ترنو إليه أحداق الأمم وراموا ما لا يحظى به إلا بعض أولي العزم من الرسل صلى الله تعالى عليهم وسلم. وقد فسر اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ بأضمروا الاستكبار وهو الكفر والعناد في قلوبهم وهو أظهر مما تقدم وما تقدم أبلغ وأوفق لما انتصر له. وكذا فسر العتو بالنبو عن الطاعة وما تقدم أبلغ وأوفق بذلك أيضا. وفي تعقب حكاية باطل أولئك الكفرة بالجملة القسمية إيذان بغاية قبح ما هم عليه وإشعار بالتعجب من استكبارهم وعتوهم وهو من الفحوى في الحقيقة ومثل ذلك شائع في الكلام تقول لمن جنى جناية: فعلت كذا وكذا استعظاما وتعجبا منه ويستعمل في سائر الألسنة وجعل الزمخشري من ذلك قول مهلهل: وجارة جساس أبأنا بنابها ... كليبا غلت ناب (1) كليب بواؤها والطيبي قوله تعالى: كَبُرَتْ كَلِمَةً [الكهف: 5] ، وتعقب بأن ذلك ليس من هذا القبيل لأن الثلاثي المحول إلى فعل لفظا أو تقديرا موضوع للتعجب كما صرح به النحاة وذكر الإمام مختار القول الأول في تفسير لَوْلا أُنْزِلَ إلخ أن هذه الجملة جواب لقولهم: «لولا أنزل» إلخ من عدة أوجه، أحدها أن القرآن لما ظهر كونه معجزا فقد ثبتت نبوته صلى الله تعالى عليه وسلم فبعد ذلك لا يكون اقتراح هذه الآيات إلا محض استكبار. وثانيها أن نزول الملائكة عليهم السلام لو حصل لكان أيضا من جملة المعجزات ولا يدل على الصدق لخصوص كونه نزول الملك بل لعموم كونه معجزا فيكون قبول ذلك ورد الآخر ترجيحا لأحد المثلين من غير مرجح. وثالثها أنهم بتقدير رؤية الرب سبحانه وتصديقه لرسوله صلّى الله عليه وسلّم لا يستفيدون علما أزيد من تصديق المعجز إذ لا فرق بين أن يقول النبي: اللهم إن كنت صادقا فأحي هذا الميت فيحييه عز وجل وبين أن يقول: إن كنت صادقا فصدقني فيصدقه فتعيين أحد الطريقين محض العناد، ورابعها أن العبد ليس له أن يعترض على مولاه إما بحكم المالكية عند الأشعري أو بحكم المصلحة عند المعتزلي، وخامسها أن السائل الملح المعاند الذي لا يرضى بما ينعم عليه مذموم وإظهار المعجز من جملة الأيادي الجسيمة فرد إحداهما واقتراح الأخرى ليس من الأدب في شيء. وسادسها لعل المراد أني لو علمت أنهم ليسوا مستكبرين وعاتين لأعطيتهم مطلوبهم لكني علمت أنهم إنما سألوا لأجل المكابرة والعناد فلا جرم لا أعطيهم، وسابعها لعلهم عرفوا من أهل الكتاب أن الله تعالى لا يرى في الدنيا وأنه لا ينزل الملائكة عليهم السلام على عوام الخلق ثم إنهم علقوا إيمانهم على ذلك فهم مستكبرون ساخرون انتهى وفيه ما لا يخلو عن بحث. واستدلت الأشاعرة بقوله تعالى: «لا يرجون لقاءنا» على أن رؤية الله تعالى ممكنة واستدلت المعتزلة بقوله   (1) الناب الناقة المسنة اهـ منه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5 سبحانه: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا وعَتَوْا على أنها ممتنعة ولا يخفى ضعف الاستدلالين يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ استئناف مسوق لبيان ما يلقونه عند مشاهدة الملائكة عليهم السلام بعد استعظام طلبهم إنزالهم عليهم وبيان كونه في غاية الشناعة. وإنما قيل: يوم يرون دون أن يقال يوم تنزل الملائكة إيذانا من أول الأمر بأن رؤيتهم لهم ليست على طريق الإجابة إلى ما طلبوه بل على وجه آخر لم يمر ببالهم «ويوم» منصوب على الظرفية بما يدل عليه قوله تعالى: لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ فإنه في معنى لا يبشر يومئذ المجرمون والعدول إلى نفي الجنس للمبالغة في نفي البشرى فكأنه قيل لا يبشرون يوم يرون الملائكة، وقدر بعضهم يمنعون البشرى أو يفقدونها والأول أبعد من احتمال توهم تهوين الخطب، وقدر بعضهم لا بشرى قبل يوم وجعله ظرفا لذلك، وجوز أبو البقاء تعلقه بيعذبون مقدرا لدلالة لا بُشْرى إلخ عليه وكونه معمولا لا ذكر مقدرا قال: أبو حيان وهو أقرب. وقال صاحب الفرائد: يمكن أن يكون منصوبا بينزل مضمرا لقولهم: لولا أنزل علينا الملائكة كأنه قيل ينزل الملائكة يوم يرونهم، ولا يقال: كيف يكون وقت الرؤية وقتا للإنزال لأنا نقول: الظرف يحتمل ذلك لسعته واستحسنه الطيبي فقال هو قول لا مزيد عليه لأنه إذا انتصب بينزل يلتئم الكلامان لأن قوله تعالى: يَوْمَ يَرَوْنَ إلخ نشر لقوله تعالى: لَوْلا أُنْزِلَ إلخ، وقوله سبحانه: وَقَدِمْنا نشر لقوله عز وجل أَوْ نَرى رَبَّنا ولم يجوز الأكثرون تعلقه ببشرى المذكور لكونه مصدرا وهو لا يعمل متأخرا وكونه منفيا بلا ولا يعمل ما بعدها فيما قبلها ويَوْمَئِذٍ تأكيد للأول أو بدل منه أو خبر ولِلْمُجْرِمِينَ تبيين متعلق بمحذوف كما في سقيا له أو خبر ثان أو هو ظرف لما يتعلق به اللام أو لبشرى إن قدرت منونة غير مبنية مع لا فإنها لا تعمل إذ لو عمل اسم لا طال وأشبه المضاف فينتصب. وفي البحر احتمل بشرى أن يكون مبنيا مع لا واحتمل أن يكون في نية التنوين منصوب اللفظ ومنع من الصرف للتأنيث اللازم فإن كان مبنيا مع لا احتمل أن يكون الخبر يَوْمَئِذٍ وللمجرمين خبر بعد خبر أو نعت لبشرى أو متعلق بما تعلق به الخبر، وأن يكون يَوْمَئِذٍ صفة لبشرى والخبر لِلْمُجْرِمِينَ ويجيء خلاف سيبويه والأخفش هل الخبر لنفس لا أو للمبتدأ الذي هو مجموع لا وما بني معها. وإن كان في نية التنوين وهو معرب جاز أن يكون يَوْمَئِذٍ معمولا لبشرى وأن يكون صفة والخبر «للمجرمين» ، وجاز أن يكون يَوْمَئِذٍ خبرا ولِلْمُجْرِمِينَ صفة، وجاز أن يكون يَوْمَئِذٍ خبرا ولِلْمُجْرِمِينَ خبرا بعد خبر والخبر إذا كان الاسم ليس مبنيا للإنفسها بالإجماع. وقال الزمخشري: يومئذ تكرير ولا يجوز ذلك سواء أريد بالتكرير التوكيد اللفظي أم أريد به البدل لأن «يوم» منصوب بما تقدم ذكره من اذكر أو من يفقدون وما بعد لا العاملة في الاسم لا يعمل فيه ما قبلها وعلى تقديره يكون العامل فيه ما قبلها انتهى. ولا يخفى عليك ما في الاحتمالات التي ذكرها. وأما ما اعترض به على الزمخشري فتعقب بأن الجملة المنفية معمولة لقول مضمر وقع حالا من الملائكة التي هي معمول ليرون ويَرَوْنَ معمول ليوم فلا وما في حيزها من تتمة الظرف الأول من حيث إنه معمولا لبعض ما في حيزه ومثله لا يعد محذورا مع أن كون لا لها الصدر مطلقا أو إذا بني معها اسمها ليس بمسلم عند جميع النحاة لأنها لكثرة دورها خرجت عن الصدارة فتأمل، هذا ما وقفنا عليه للمتقدمين في إعراب الآية وما فيه من الجرح والتعديل. وقال بعض العصريين: يجوز تعلق يَوْمَ بكبير أو تقييد كبره بذلك اليوم ليس لنفي كبره في نفسه بل لظهور موجبه في ذلك اليوم ونظيره لزيد علم عظيم يوم يباحث الخصوم وتكون جملة لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6 استئنافا لبيان ذلك وهو كما ترى، وأيا ما كان فالمراد بذلك اليوم على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يوم الموت، وقال أبو حيان: الظاهر أنه يوم القيامة لقوله تعالى بعد وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا إلخ وفيه نظر. ونفي البشرى كناية عن إثبات ضدها كما أن نفي المحبة في مثل قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ [آل عمران: 32] كناية عن البغض والمقت فيدل على ثبوت النذرى لهم على أبلغ وجه، والمراد بالمجرمين أولئك الذين لا يرجون لقاءه تعالى، ووضع المظهر موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بالإجرام مع ما هم عليه من الكفر والعناد وإيذانا بعلة الحكم، ومن اعتبر المفهوم في مثله ادعى إفادة الآية عدم تحقق الحكم في غيرهم، وقد دل قوله تعالى في حق المؤمنين تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا [فصلت: 30] إلخ على حصول البشرى لهم، وقيل: المراد بهم ما يعم العصاة والكفار الذين لا يرجون لقاءه تعالى، ويفيد الكلام سلب البشرى عن الكفار على أتم وجه لدلالته على أن المانع من حصول البشرى هو الإجرام ولا إجرام أعظم من إجرام الذين لا يرجون لقاءه عز وجل ويقولون ما يقولون فهم أولى به. ويتم استدلال المعتزلة بالآية عليه في نفي العفو والشفاعة للعصاة لأنها لا تفيد النفي في جميع الأوقات فيجوز أن يبشر العصاة بما ذكر في وقت آخر. وتعقب بأن الجملة قبل النفي لكونها اسمية تفيد الاستمرار فبعد دخول النفي إرادة نفي استمرار البشرى للمجرمين بمعنى أن البشرى تكون لهم لكن لا تستمر مما لا يظن أن أحدا يذهب إليه فيتعين إرادة استمرار النفي كما في قوله تعالى في حق أضدادهم لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس: 62] فحينئذ لا يتسنى قوله: إنها لا تفيد النفي في جميع الأوقات، فالأولى أن يراد بالمجرمين من سمعت حديثهم وَيَقُولُونَ عطف على لا يبشرون أو يمنعون البشرى أو نحوه المقدر قبل يَوْمَ. وجوز أن يكون عطفا على ما قبله باعتبار ما يفهم منه كأنه قيل: يشاهدون أهوال القيامة ويقولون، وأن يكون عطفا على يَرَوْنَ وجملة لا بُشْرى حال بتقدير القول فلا يضر الفصل به، وضمير الجمع على ما استظهره أبو حيان لأنهم المحدث عنهم وحكاه الطبرسي عن مجاهد وابن جريج للذين لا يرجون أي ويقول أولئك الكفرة حِجْراً مَحْجُوراً وهي كلمة تقولها العرب عند لقاء عدو موتور وهجوم نازلة هائلة يضعونها موضع الاستعاذة حيث يطلبون من الله تعالى أن يمنع المكروه فلا يلحقهم فكأن المعنى نسأل الله تعالى أن يمنع ذلك منعا ويحجره حجرا. وقال الخليل: كان الرجل يرى الرجل الذي يخاف منه القتل في الجاهلية في الأشهر الحرم فيقول: حجرا محجورا أي حرام عليك التعرض لي في هذا الشهر فلا يبدؤه بشرّ، وقال أبو عبيدة: هي عوذة للعرب يقولها من يخاف آخر في الحرم أو في شهر حرام إذا لقيه وبينهما ترة، وقال أبو علي الفارسي: مما كانت العرب تستعمله ثم ترك قولهم حجرا محجورا، وهذا كان عندهم لمعنيين، أحدهما أن يقال عند الحرمان إذا سئل الإنسان فقال ذلك علم السائل أنه يريد أن يحرمه، ومنه قول المتلمس: حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها ... حجر حرام ألا تلك الدهاريس (1) والمعنى الآخر الاستعاذة كان الإنسان إذا سافر فرأى ما يخاف قال: حجرا محجورا أي حرام عليك التعرض لي انتهى. وذكر سيبويه «حجرا» من المصادر المنصوبة غير المتصرفة وأنه واجب إضمار ناصبها، وقال: ويقول الرجل   (1) أي الدواهي اهـ منه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 7 للرجل أتفعل كذا فيقول: حجرا وهي من حجره إذا منعه لأن المستعيذ طالب من الله تعالى أن يمنع المكروه من أن يلحقه والأصل فيه فتح الحاء، وقرىء به كما قال أبو البقاء لكن لما خصوا استعماله بالاستعاذة أو الحرمان صار كالمنقول فلما تغير معناه تغير لفظه عما هو أصله وهو الفتح إلى الكسر وقد جاء فيه الضم أيضا وهي قراءة أبي رجاء والحسن والضحاك ويقال فيه حجرى بألف التأنيث أيضا ومثله في التغيير عن أصله قعدك الله تعالى بسكون العين وفتح القاف، وحكى كسرها عن المازني وأنكره الأزهري وقعيدك وهو منصوب على المصدرية، والمراد رقيبك وحفيظك الله تعالى ثم نقل إلى القسم قعدك أو قعيدك الله تعالى لا تفعل، وأصله بإقعاد الله تعالى أي إدامته سبحانه لك وكذا عمرك الله بفتح الراء وفتح العين وضمها وهو منصوب على المصدرية ثم اختص بالقسم، وأصله بتعميرك الله تعالى أي بإقرارك له بالبقاء، وما ذكر من أنه لازم النصب على المصدرية بفعل واجب الإضمار اعترض عليه في الدر المصون بما أنشده الزمخشري: قالت وفيها حيدة وذعر ... عوذ بربي منكم وحجر فإنه وقع فيه مرفوعا، ووصفه بمحجورا للتأكيد كشعر شاعر وموت مايت وليل أليل، وذكر أن مفعولا هنا للنسب أي ذو حجر وهو كفاعل يأتي لذلك، وقيل: إنه على الإسناد المجازي وليس بذاك، والمعنى أنهم يطلبون نزول الملائكة عليهم السلام وهم إذ رأوهم كرهوا لقاءهم أشد كراهة وفزعوا منهم فزعا شديدا، وقالوا ما كانوا يقولونه عند نزول خطب شنيع وحلول بأس فظيع، وقيل: ضمير يقولون للملائكة وروى ذلك عن أبي سعيد الخدري والضحاك وقتادة وعطية ومجاهد على ما في الدر المنثور قالوا: إن الملائكة يقولون للكفار حجرا محجورا أي حراما محرما عليكم البشرى أي جعلها الله تعالى حراما عليكم. وفي بعض الروايات أنهم يطلبون البشرى من الملائكة عليهم السلام فيقولون ذلك لهم وقال بعضهم: يعنون حراما محرما عليكم الجنة وحكاه في مجمع البيان عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل: الغفران، وفي جعل حِجْراً نصبا على المفعولية لجعل مقدرا كما أشير إليه بحث، والظاهر على ما ذكر أن إيراد هذه الكلمة للحرمان وهو المعنى الأول من المعنيين اللذين ذكرهما الفارسي وَيَقُولُونَ على هذا القول قيل معطوف على ما عطف عليه على القول بأن ضميره للكفرة، وقيل: معطوف على جملة يقولون المقدرة قبل لا بُشْرى الواقعة حالا. وقال الطيبي: هو حال من الْمَلائِكَةَ بتقدير وهم يقولون نظير قولهم: قمت وأصك وجهه وعلى الأول هو عطف على يَرَوْنَ وَقَدِمْنا أي عمدنا وقصدنا كما روي عن ابن عباس وأخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد إِلى ما عَمِلُوا في الدنيا مِنْ عَمَلٍ فخيم كصلة رحم وإغاثة ملهوف وقرى ضعيف ومن على أسير وغير ذلك من مكارمهم ومحاسنهم التي لو كانوا عملوها مع الإيمان لنالوا ثوابها، والجار والمجرور بيان لما وصحة البيان باعتبار التنكير كصحة الاستثناء في إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا [الجاثية: 32] لكن التنكير هاهنا للتفخيم كما أشرنا إليه. وجوز أن يكون للتعميم ودفع ما يتوهم من العهد في الموصول أي عمدنا إلى كل عمل عملوه خال عن الإيمان، ولعل الأول أنسب بقوله تعالى: فَجَعَلْناهُ هَباءً مثل هباء في الحقارة وعدم الجدوى، وهو على ما أخرج عبد الرزاق والفريابي وابن أبي حاتم عن علي كرّم الله تعالى وجهه وهج الغبار يسطع ثم يذهب. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه الشرر الذي يطير من النار إذا اضطرمت، وفي رواية أخرى عنه أنه الماء المهراق. وعن يعلى بن عبيد أنه الرماد. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 8 وأخرج جماعة عن مجاهد والحسن وعكرمة وأبي مالك وعامر أنه شعاع الشمس في الكوة وكأنهم أرادوا ما يرى فيه من الغبار كما هو المشهور عند اللغويين، قال الراغب: الهباء دقاق التراب وما انبثّ في الهواء فلا يبدو إلا في أثناء ضوء الشمس في الكوة ويقال: هبا الغبار يهبو إذا ثار وسطع، ووصف بقوله تعالى: مَنْثُوراً مبالغة في إلغاء أعمالهم فإن الهباء تراه منتظما مع الضوء فإذا حركته الريح تناثر وذهب كل مذهب فلم يكف أن شبه أعمالهم بالهباء حتى جعل متناثرا لا يمكن جمعه والانتفاع به أصلا، ومثل هذا الإرداف يسمى في البديع بالتتميم والإيغال، ومنه قول الخنساء: أغر أبلج تأتمّ الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار حيث لم يكفها أن جعلته علما في الهداية حتى جعلته في رأسه نار، وقيل: وصف بالمنثور أي المتفرق لما أن أغراضهم في أعمالهم متفرقة فيكون جعل أعمالهم هباء متفرقا جزاء من جنس العمل، وجوز أن يكون مفعولا بعد مفعول لجعل وهو مراد من قال: مفعولا ثالثا لها على معنى جعلناه جامعا لحقارة الهباء والتناثر، ونظير ذلك قوله تعالى: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ [البقرة: 65، الأعراف: 166] أي جامعين للمسخ والخسء، وفيه خلاف ابن درستويه حيث لم يجوز أن يكون لكان خبر إن وقياس قوله: أن يمنع أن يكون لجعل مفعول ثالث، ومع هذا الظاهر الوصفية، وفي الكلام استعارة تمثيلية حيث مثلت حال هؤلاء الكفرة وحال أعمالهم التي عملوها في كفرهم بحال قوم خالفوا سلطانهم واستعصوا عليه فقدم إلى أشيائهم وقصد إلى ما تحت أيديهم فأفسدها وجعلها شذر مذر ولم يترك لها من عين ولا أثر، واللفظ المستعار وقع فيه استعمال- قدم- بمعنى عمد وقصد لاشتهاره فيه وإن كان مجازا كما يشير إليه كلام الأساس، ويسمى القصد الموصل إلى المقصد قدوما لأنه مقدمته، وتضمن التمثيل تشبيه أعمالهم المحبطة بالهباء المنثور بدون استعارة، فلا إشكال على ما قيل، والكلام في ذلك طويل فليطلب من محله. وجعل بعضهم القدوم في حقه عز وجل عبارة عن حكمه، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي قدم ملائكتنا، وأسند ذلك إليه عز وجل لأنه عن أمره سبحانه، ونقل عن بعض السلف أنه لا يؤول في قوله تعالى: وَجاءَ رَبُّكَ [الفجر: 22] وقوله سبحانه: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ [البقرة: 210] على ما هو عادتهم في الصفات المتشابهة، وقياس ذلك عدم التأويل في الآية، ولعله من هنا قيل: إن تأويل الزمخشري لها بناء على معتقده من إنكار الصفات، والقلب إلى التأويل فيها أميل. وأنت إن لم تؤول القدوم فلا بد لك أن تؤول جعلها هباء منثورا بإظهار بطلانها بالكلية وإلغائها عن درجة الاعتبار بوجه من الوجوه، ولا يأبى ذلك السلف أَصْحابُ الْجَنَّةِ هم المؤمنون المشار إليهم في قوله تعالى: قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [الفرقان: 15] يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ يكون ما ذكر من القدوم إلى أعمالهم وجعلها هباء منثورا، أو من هذا وعدم التبشير، وقولهم: حجرا محجورا خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا المستقر المكان الذي يستقر فيه في أكثر الأوقات للتجالس والتحادث وَأَحْسَنُ مَقِيلًا المقيل المكان الذي يؤوي إليه للاسترواح إلى الأزواج والتمتع بمغازلتهن، سمي بذلك لأن التمتع به يكون وقت القيلولة غالبا، وقيل: هو في الأصل مكان القيلولة- وهي النوم نصف النهار- ونقل من ذلك إلى مكان التمتع بالأزواج لأنه يشبهه في كون كل منهما محل خلوة واستراحة فهو استعارة، وقيل: أريد به مكان الاسترواح مطلقا استعمالا للمقيد في المطلق فهو مجاز مرسل، وإنما لم يبق على الأصل لما أنه لا نوم في الجنة أصلا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 9 وأخرج ابن المبارك في الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء وهؤلاء، ثم قرأ أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا وقرأ «إن مقيلهم لإلى الجحيم» وأخذ منه بعضهم أن المراد بالمستقر موضع الحساب، وبالمقيل محل الاستراحة بعد الفراغ منه، ومعنى يقيل هؤلاء يعني أصحاب الجنة ينقلون إليها وقت القيلولة، وقيل: المستقر والمقيل في المحشر قبل دخول الجنة، أو المستقر فيها والمقيل فيه. فقد أخرج ابن جرير عن سعيد الصواف قال: بلغني أن يوم القيامة يقصر على المؤمن حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس، وإنهم ليقيلون في رياض حتى يفرغ الناس من الحساب، وذلك قوله تعالى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا وفي وصفه بزيادة الحسن مع حصول الخيرية بعطفه على المستقر رمز إلى أن لهم ما يتزين به من حسن الصور وغيره من التحاسين. فإن حسن المنزل إن لم يكن باعتبار ما يرجع لصاحبه لم تتم المسرة به، والتفضيل المعتبر فيهما المسرة إما لإرادة الزيادة على الإطلاق، أي هم في أقصى ما يكون من خيرية المستقر وحسن المقيل، وإما بالإضافة إلى ما للكفرة المتنعمين في الدنيا أو إلى ما لهم في الآخرة بطريق التهكم بهم، هذا وتفسير المستقر والمقيل بالمكانين حسبما سمعت هو المشهور وهو أحد احتمالات تسعة. وذلك أنهم جوزوا أن يكون كلاهما اسم مكان أو اسم زمان أو مصدرا وأن يكون الأول اسم مكان والثاني اسم زمان أو مصدرا وأن يكون الأول اسم زمان والثاني اسم مكان أو مصدرا وأن يكون الأول مصدرا والثاني اسم مكان أو اسم زمان، وما شئت تخيل في خيرية زمان أصحاب الجنة وأحسنيته وكذا في خيرية استقرارهم وأحسنية استراحتهم يومئذ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ العامل في يَوْمَ إما اذكر أو ينفرد الله تعالى بالملك الدال عليه قوله تعالى: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وقيل: العامل ذاك بمعناه المذكور. وقيل: إنه معطوف على يَوْمَئِذٍ أو يَوْمَ يَرَوْنَ وتَشَقَّقُ تتفتح والتعبير به دونه للتهويل، وأصله تتشقق فحذفت إحدى التاءين كما في تَلَظَّى [الليل: 14] وقرأ الحرميان وابن عامر بإدغام التاء في الشين لما بينهما من المقاربة والظاهر أن المراد بالسماء المظلة لنا وبالغمام السحاب المعروف والباء الداخلة عليه باء السبب. أي تشقق السماء بسبب طلوع الغمام منها. ولا مانع من أن تشقق به كما يشق السنام بالشفرة والله تعالى على كل شيء قدير، وحديث امتناع الخرق على السماء حديث خرافة. وقيل: باء الحال وهي باء الملابسة. واستظهره بعضهم أي تشقق متغيمة، وقيل: بمعنى عن وإليه ذهب الفراء. والفرق بين قولك انشقت الأرض بالنبات وانشقت عنه أن معنى الأول أن الله تعالى شقها بطلوعه فانشقت به. ومعنى الثاني أن التربة ارتفعت عنه عند طلوعه، وقيل: المراد بالغمام غمام أبيض رفيق مثل الضبابة ولم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم، وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد أنه الغمام الذي يأتي الله تعالى فيه يوم القيامة المذكور في قوله سبحانه: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ قال ابن جريج: وهو غمام زعموا أنه في الجنة، وعن مقاتل أن المراد بالسماء ما يعم السماوات كلها وتشقق سماء سماء، وروي ذلك عن ابن عباس، فقد أخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا في الأهوال وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه رضي الله تعالى عنه أنه قرأ هذه الآية إلى قوله تعالى: وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا أي تنزيلا عجيبا غير معهود فقال: يجمع الله تعالى الخلق يوم القيامة في صعيد واحد الجن والإنس والبهائم والسباع والطير وجميع الخلق فتنشق السماء الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر ممن في الأرض من الجن والإنس وجميع الخلق فيحيطون بجميعهم فتقول أهل الأرض: أفيكم ربنا؟ فيقولون: لا، ثم تنشق السماء الثانية فينزل أهلها وهم أكثر من أهل السماء الدنيا ومن الجن والإنس وجميع الخلق فيحيطون بالملائكة الذين نزلوا قبلهم والجن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 10 والإنس وجميع الخلق ثم تنشق السماء الثالثة فينزل أهلها وهم أكثر من أهل السماء الثانية والدنيا وجميع الخلق فيحيطون بالملائكة الذين نزلوا قبلهم وبالجن والإنس وجميع الخلق، ثم ينزل أهل السماء الرابعة وهم أكثر من أهل الثالثة والثانية والأولى وأهل الأرض، ثم ينزل أهل السماء الخامسة وهم أكثر ممن تقدم، ثم أهل السماء السادسة كذلك. ثم أهل السماء السابعة وهم أكثر من أهل السماوات وأهل الأرض، ثم ينزل ربنا في ظلل من الغمام وحوله الكروبيون وهم أكثر من أهل السماوات السبع والإنس والجن وجميع الخلق لهم قرون ككعوب القنا وهم تحت العرش لهم زجل بالتسبيح والتهليل والتقديس لله تعالى ما بين أخمص أحدهم إلى كعبه مسيرة خمسمائة عام، ومن فخذه إلى ترقوته مسيرة خمسمائة عام، ومن ترقوته إلى موضع القرط مسيرة خمسمائة عام وما فوق ذلك خمسمائة عام، ونزول الرب جل وعلا من المتشابه، وكذا قوله: «وحوله الكروبيون» وأهل التأويل يقولون: المراد بذلك نزول الحكم والقضاء، فكأنه قيل: ثم ينزل حكم الرب وحوله الكروبيون أي معه، وأما نزول الملائكة مع كثرتهم وعظم أجسامهم فلا يمنع عنه ما يشاهد من صغر الأرض لأن الأرض يومئذ تمتد بحيث تسع أهلها وأهل السماوات أجمعين، وسبحان من لا يعجزه شيء، ثم الخبر ظاهر في أن الملائكة عليهم السلام لا ينزلون في الغمام، وذكر بعضهم في الآية أن السماء تنفتح بغمام يخرج منها، وفي الغمام الملائكة ينزلون وفي أيديهم صحائف الأعمال، وقرأ ابن مسعود وأبو رجاء «ونزل» ماضيا مبنيا للفاعل مشددا، وعنه أيضا «وأنزل» مبنيا للفاعل وجاء مصدره تنزيلا وقياسه إنزالا إلا أنه لما كان معنى أنزل ونزل واحدا جاء مصدر أحدهما للآخر كما قال الشاعر: حتى تطويت انطواء الخصب كأنه قال: حتى انطويت، وقرأ الأعمش وعبد الله في نقل ابن عطية «وأنزل» ماضيا رباعيا مبنيا للمفعول، وقرأ جناح بن حبيش والخفاف عن أبي عمرو «ونزل» ثلاثيا مخففا مبنيا للفاعل، وقرأ أبو معاذ وخارجة عن أبي عمرو «ونزل» بضم النون وشد الزاي وكسرها ونصب «الملائكة» وخرجها ابن جني بعد أن نسبها إلى ابن كثير وأهل مكة على أن الأصل «ننزل» كما وجد في بعض المصاحف فحذفت النون التي هي فاء الفعل تخفيفا لالتقاء النونين، وقرأ أبي «ونزّلت» ماضيا مشددا مبنيا للمفعول بتاء التأنيث، وقال صاحب اللوامح عن الخفاف عن أبي عمرو «ونزّل» مخففا مبنيا للمفعول و «الملائكة» بالرفع فإن صحت القراءة فإنه حذف منها المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، والتقدير ونزل نزول الملائكة فحذف النزول ونقل إعرابه إلى الملائكة بمعنى نزل نازل الملائكة لأن المصدر يكون بمعنى الاسم اهـ، وقال الطيبي: قال ابن جني: نزل بالبناء للمفعول غير معروف لأن نزل لا يتعدى إلى مفعول به ولا يقاس بجن حيث إنه مما لا يتعدى إلى المفعول فلا يقال جنه الله تعالى بل أجنه الله تعالى، وقد بني للمفعول لأنه شاذ والقياس عليه مرود فإما أن يكون ذلك لغة نادرة وإما أن يكون من حذف المضاف أي نزل نزول الملائكة فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه قال العجاج: حتى إذا اصطفوا له حذارا فحذارا منصوب مصدرا لا مفعولا به يريد اصطفوا له اصطفافا حذارا ونزل نزول الملائكة على حد قولك: هذا نزول منزول وصعود مصعود وضرب مضروب وقريب منه، وقد قيل قول وقد خيف منه خوف فاعرف ذلك فإنه أمثل ما يحتج به لهذه القراءة اه. وهو أحسن من كلام صاحب اللوامح. وعن أبي عمرو أيضا أنه قرأ «وتنزلت الملائكة» فهذه مع قراءة الجمهور وما في بعض المصاحف عشرة قراءات وما كان منها بصيغة المضارع وجهه ظاهر، وأما ما كان بصيغة الماضي فوجهه على ما قيل الإشارة إلى سرعة الفعل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 11 الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ أي السلطنة القاهرة والاستيلاء الكلي العام الثابت صورة ومعنى ظاهرا وباطنا بحيث لا زوال له ثابت للرحمن يوم إذ تشقق السماء وتنزل للملائكة، فالملك مبتدأ والْحَقُّ صفته ولِلرَّحْمنِ خبره ويَوْمَئِذٍ ظرف لثبوت الخبر للمبتدأ، وفائدة التقييد أن ثبوت الملك له تعالى خاصة يومئذ وأما فيما عداه من أيام الدنيا فيكون لغيره عز وجل أيضا تصرف صوري في الجملة واختار هذا بعض المحققين، ولعل أمر الفصل بين الصفة والموصوف بالظرف المذكور سهل، وقيل: الْمُلْكُ مبتدأ ويَوْمَئِذٍ متعلق به وهو بمعنى المالكية والْحَقُّ خبره ولِلرَّحْمنِ متعلق بالحق. وتعقب بأنه لا يظهر حينئذ نكتة إيراد المسند معرفا فإن الظاهر عليه أن يقال: الملك يومئذ حق للرحمن، وأجيب بأن في تعلقه بما ذكر تأكيدا لما يفيد تعريف الطرفين، وقيل: هو متعلق بمحذوف على التبيين كما في سقيا لك والمبين من له الملك، وقيل: متعلق بمحذوف وقع صفة للحق وهو كما ترى، وقيل يَوْمَئِذٍ هو الخبر والْحَقُّ نعت للملك ولِلرَّحْمنِ متعلق به، وفيه الفصل بين الصفة والموصوف بالخبر فلا تغفل. ومنعوا تعلق يَوْمَئِذٍ فيما إذا لم يكن خبرا بالحق وعللوا ذلك بأنه مصدر والمصدر لا تتقدم عليه صلته ولو ظرفا وفيه بحث، والجملة على أكثر الاحتمالات السابقة في عامل يوم استئناف مسوق لبيان أحوال ذلك اليوم وأهواله، وإيراده تعالى بعنوان الرحمانية للإيذان بأن اتصافه عز وجل بغاية الرحمة لا يهون الخطب على الكفرة المشار إليه بقوله تعالى: وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً أي وكان ذلك اليوم مع كون الملك فيه لله تعالى المبالغ في الرحمة بعباده شديدا على الكافرين، والمراد شدة ما فيه من الأهوال، وفسر الراغب العسير بما لا يتيسر فيه أمر والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله، وفيها إشارة إلى كون ذلك اليوم يسيرا للمؤمنين وفي الحديث: «إنه يهون على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا» . وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ قال الطبرسي: العامل في يَوْمَ اذكر محذوفا ويجوز أن يكون معطوفا على ما قبله، والظاهر أن أل في الظالم للجنس فيعم كل ظالم وحكي ذلك أبو حيان عن مجاهد وأبي رجاء، وذكر أن المراد بفلان فيما بعد الشيطان، وقيل: لتعريف العهد، والمراد بالظالم عقبة بن أبي معيط لعنه الله تعالى وبفلان أبي بن خلف، فقد روي أنه كان عقبة بن أبي معيط لا يقدم من سفر إلا صنع طعاما فدعا عليه أهل مكة كلهم وكان يكثر مجالسة النبي صلّى الله عليه وسلّم ويعجبه حديثه وغلب عليه الشقاء فقدم ذات يوم من سفر فصنع طعاما ثم دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى طعامه فقال: ما أنا بالذي آكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فقال: اطعم يا ابن أخي فقال صلّى الله عليه وسلّم: ما أنا بالذي أفعل حتى تقول فشهد بذلك وطعم عليه الصلاة والسلام من طعامه فبلغ ذلك أبي بن خلف فأتاه فقال: أصبوت يا عقبة وكان خليله فقال: والله ما صبوت ولكن دخل علي رجل فأبى أن يطعم من طعامي إلا أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي قبل أن يطعم فشهدت له فطعم فقال: ما أنا بالذي أرضى عنك حتى تأتيه فتفعل كذا وذكر فعلا لا يليق إلا بوجه القائل اللعين ففعل عقبة (1) فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا ألقاك خارجا عن مكة إلا علوت رأسك بالسيف ، وفي رواية إن وجدتك خارجا من جبال مكة أضرب عنقك صبرا فلما كان يوم بدر وخرج أصحابه أبى أن يخرج فقال له أصحابه: اخرج معنا قال: قد وعدني هذا الرجل إن وجدني خارجا من جبال مكة أن يضرب عنقي   (1) قال الضحاك لما بزق عقبة رجع بزاقه على وجهه لعنه الله تعالى ولم يصل حيث أراد فأحرق خديه وبقي أثر ذلك فيهما حتى ذهب إلى النار اهـ منه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 12 صبرا فقالوا: لك جمل أحمر لا يدرك فلو كانت الهزيمة طرت عليه فخرج معهم فلما هزم الله تعالى المشركين رحل به جمله في جدد من الأرض فأخذ أسيرا في سبعين من قريش وقدم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمر عليا كرّم الله تعالى وجهه. وفي رواية ثابت بن أبي الأفلح بأن يضرب عنقه فقال أتقتلني من بين هؤلاء؟ قال: نعم قال: بم؟ قال: بكفرك وفجورك وعتوك على الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام ، وفي رواية أنه صلّى الله عليه وسلّم صرح له بما فعل معه ثم ضربت عنقه. وأما أبي بن خلف فمع فعله ذلك قال: والله لأقتلن محمدا صلّى الله عليه وسلّم فبلغ ذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: بل أقتله إن شاء الله تعالى فأفزعه ذلك وقال لمن أخبره: أنشدك بالله تعالى أسمعته يقول ذلك؟ قال نعم فوقعت في نفسه لما علموا أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما قال قولا إلا كان حقا فلما كان يوم أحد خرج مع المشركين فجعل يلتمس غفلة النبي عليه الصلاة والسلام ليحمل عليه فيحول رجل من المسلمين بين النبي عليه الصلاة والسلام وبينه فلما رأى ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لأصحابه: خلوا عنه فأخذ الحربة فرماه بها فوقعت في ترقوته فلم يخرج منه دم كثير واحتقن الدم في جوفه فخر يخور كما يخور الثور فأتى أصحابه حتى احتملوه وهو يخور فقالوا: ما هذا فو الله ما بك إلا خدش فقال: والله لو لم يصبني إلا بريقه لقتلني أليس قد قال: أنا أقتله، والله لو أن الذي بي بأهل ذي المجاز لقتلهم فما لبث إلا يوما أو نحو ذلك حتى ذهب إلى النار فأنزل الله تعالى هذه الآية، وروي هذا القول عن ابن عباس وجماعة ، وفي رواية أخرى عن ابن عباس أن الظالم أبي بن خلف وفلان عقبة، وعض اليدين إما على ظاهره، وروي ذلك عن الضحاك. وجماعة قالوا: يأكل يديه إلى المرفق ثم تنبت ولا يزال كذلك كلما أكلها نبتت وإما كناية عن فرط الحسرة والندامة، وكذا عض الأنامل والسقوط في اليد وحرق الأسنان والأدم ونحوها لأنها لازمة لذلك في العادة والعرف، وفي المثل يأكل يديه ندما ويسيل دمعه دما، وقال الشاعر: أبى الضيم والنعمان يحرق نابه ... عليه فأفضى والسيوف معاقله والفعل عض على وزن فعل مكسور العين، وحكى الكسائي عضضت بفتح العين. يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا الجملة مع موضع الحال من الظالم أو جملة مستأنفة أو مبينة لما قبلها ويا لَيْتَنِي إلخ مقول القول، ويا إما لمجرد التنبيه من غير قصد إلى تعيين المنبه أو المنادى محذوف يا قومي ليتني، وأل في الرَّسُولِ إما للجنس فيعم كل رسول وإما للعهد فالمراد به رسول هذه الأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم والأول إذا كانت أل في الظالم للجنس والثاني إذا كانت للعهد، وتنكير سَبِيلًا إما للشيوع أو للوحدة وعدم تعريفه لادعاء تعينه أي يا ليتني اتخذت طريقا إلى النجاة أي طريق كان أو طريقا واحدا وهو طريق الحق ولم تتشعب بي طرق الضلالة. يا وَيْلَتى بقلب ياء المتكلم ألفا كما في صحارى، وقرأ الحسن وابن قطيب يا ويلتي بكسر التاء والياء على الأصل، وقرأت فرقة بالإمالة، قال أبو علي: وترك الإمالة أحسن لأن الأصل في هذه اللفظة الياء فأبدلت الكسرة فتحة والياء ألفا فرارا من الياء فمن أمال رجع إلى الذي عنه فر أولا، وأيا ما كان فالمعنى يا هلكتي تعالي واحضري فهذا أوانك لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا أراد بفلان الشيطان أو من أضله في الدنيا كائنا من كان أو أبيا إن كان الظالم عقبة أو عقبة إن كان الظالم أبيا، وهو كناية عن علم مذكر وفلانة عن علم مؤنث، واشترط ابن الحاجب في فلان أن يكون محكيا بالقول كما هنا، ورده في شرح التسهيل بأنه سمع خلافه كثيرا كقوله: وإذا فلان مات عن أكرومة ... دفعوا معاوز فقره بفلان الجزء: 10 ¦ الصفحة: 13 وتقدير القول فيه غير ظاهر، والفلان والفلانة كناية عن غير العاقل من الحيوانات كما قال الراغب، وفل وفلة كناية عن نكرة من يعقل فالأول بمعنى رجل والثاني بمعنى امرأة، ووهم ابن عصفور وابن مالك وصاحب البسيط كما في البحر في قولهم: فل كناية عن العلم كفلان ويختص بالنداء إلا ضرورة كما في قوله: في لجة أمسك فلان عن فل وليس مرخم فلان خلافا للفراء، واختلفوا في لام فل وفلان فقيل واو، قيل: ياء، وكنوا بهن بفتح الهاء وتخفيف النون عن أسماء الأجناس كثيرا، وقد كنى به عن الأعلام كما في قوله: والله أعطاك فضلا عن عطيته ... على هن وهن فيما مضى وهن فإنه على ما قال الخفاجي أراد عبد الله وإبراهيم وحسنا والخليل من الخلة بضم الخاء بمعنى المودة أطلق عليها ذلك إما لأنها تتخلل النفس أي تتوسطها، وأنشد: قد تخللت مسلك الروح مني ... وبه سمّي الخليل خليلا وإما لأنها تخلها فتؤثر فيها تأثير السهم في الرمية، وإما لفرط الحاجة إليها، وهذا التمني وإن كان مسوقا لإبراز الندم والحسرة لكنه متضمن لنوع تعلل واعتذار بتوريك جنايته إلى الغير، وقوله تعالى لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ تعليل لتمنيه المذكور وتوضيح لتعلله، وتصديره باللام القسمية للمبالغة في بيان خطئه وإظهار ندمه وحسرته أي والله لقد أضلني فلان عن ذكر الله تعالى أو عن موعظة الرسول عليه الصلاة والسلام أو عن كلمة الشهادة أو عن القرآن بَعْدَ إِذْ جاءَنِي أي وصل إليّ وعلمته أو تمكنت منه فلا دلالة في الآية على إيمان من أنزلت فيه ثم ارتداده وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا مبالغا في الخذلان وهو ترك المعاونة والنصرة وقت الحاجة ممن يظن فيه ذلك، والجملة اعتراض مقرر لمضمون ما قبله إما من جهته تعالى أو من تمام كلام الظالم على أنه سمى خليله شيطانا بعد وصفه بالإضلال الذي هو أخص الأوصاف الشيطانية أو على أنه أراد بالشيطان إبليس لأنه الذي حمله على مجالسة المضلين ومخالفة الرسول الهادي عليه الصلاة والسلام بوسوسته وإغوائه فإن وصفه بالخذلان يشعر بأنه كان يعده في الدنيا ويمنيه بأن ينفعه في الآخرة وهو أوفق لحال إبليس عليه اللعنة. وَقالَ الرَّسُولُ عطف على قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا [الفرقان: 21] إلخ وما بينهما اعتراض مسوق لاستعظام ما قالوه وبيان ما يحيق بهم من الأهوال والخطوب، والمراد بالرسول نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم وشرف وعظم وكرم، وإيراده عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة لتحقيق الحق والرد على نحورهم حيث كان ما حكي عنهم قدحا في رسالته صلّى الله عليه وسلّم أي قالوا كيت وكيت وقال الرسول إثر ما شاهد منهم غاية العتو ونهاية الطغيان بطريق البث إلى ربه عز وجل والشكوى عليهم يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي الذين حكى عنهم ما حكى من الشنائع اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ الجليل الشأن المشتمل على ما فيه صلاح معاشهم ومعادهم مَهْجُوراً أي متروكا بالكلية ولم يؤمنوا به ولم يرفعوا إليه رأسا ولم يتأثروا بوعيده ووعده، فمهجورا من الهجر بفتح الهام بمعنى الترك وهو الظاهر، وروي ذلك عن مجاهد والنخعي وغيرهما واستدل ابن الفرس بالآية على كراهة هجر المصحف وعدم تعاهده بالقراءة فيه، وكان ذلك لئلا يندرج من لم يتعاهد القراءة فيه تحت ظاهر النظم الكريم فإن ظاهره ذم الهجر مطلقا وإن كان المراد به عدم القبول لا عدم الاشتغال مع القبول ولا ما يعمهما فإن كان مثل هذا يكفي في الاستدلال فذاك وإلا فليطلب دليل آخر للكراهة. وأورد بعضهم في ذلك خبرا وهو «من تعلم القرآن وعلق مصحفه لم يتعاهده ولم ينظر فيه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 14 جاء يوم القيامة متعلقا به يقول: يا رب عبدك هذا اتخذني مهجورا اقض بيني وبينه» وقد تعقب هذا الخبر العراقي بأنه روي عن أبي هدبة وهو كذاب، والحق أنه متى كان ذلك مخلا باحترام القرآن والاعتناء به كره بل حرم وإلا فلا. وقيل: مهجورا من الهجر بالضم على المشهور أي الهذيان وفحش القول والكلام على الحذف والإيصال أي جعلوه مهجورا فيه إما على زعمهم الباطل نحو ما قالوا: إنه أساطير الأولين اكتتبها وإما بأن هجروا فيه ورفعوا أصواتهم بالهذيان لما قرىء لئلا يسمع كما قالوا: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت: 26] وجوز أن يكون مصدرا من الهجر بالضم كالمعقول بمعنى العقل والمجلود بمعنى الجلادة أي اتخذوه نفس الهجر والهذيان، ومجيء مفعول مصدرا مما أثبته الكوفيون لكن على قلة، وفي هذه الشكوى من التخويف والتحذير ما لا يخفى فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا شكوا إلى الله تعالى قومهم عجل لهم العذاب ولم ينظروا. وقيل: إن قالَ إلخ عطف على يَعَضُّ الظَّالِمُ، والمراد ويقول الرسول إلا أنه عدل إلى الماضي لتحقق الوقوع مع عدم قصد الاستمرار التجددي المراد بمعونة المقام في بعض وإن كان إخبارا عما في الآخرة. وحال عطفه على وَكانَ الشَّيْطانُ إلخ على أنه من كلامه تعالى لا يخفى حاله، وقول الرسول ذلك يوم القيامة وهو كالشهادة على أولئك الكفرة وليس بتخويف وإلى ذلك ذهبت فرقة منهم أبو مسلم، والأول أنسب بقوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ فإنه تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحمل له على الاقتداء بمن قبله من الأنبياء عليهم السلام، والبلية إذا عمت هانت، والعدو يحتمل أن يكون واحدا وجمعا أي كما جعلنا لك أعداء من المشركين يقولون ما يقولون ويفعلون ما يفعلون من الأباطيل جعلنا لكل نبي من الأنبياء الذين هم أصحاب الشريعة والدعوة إليها عدوا من مرتكبي الجرائم والآثام ويدخل في ذلك آدم عليه السلام لدخول الشياطين وقابيل في المجرمين ويكتفي بدخول قابيل إن أريد بالمجرمين مجرمو الإنس أو مجرمو أمة النبي وقيل: الكلية بمعنى الكثرة، والمراد بجعل الأعداء جعل عداوتهم وخلقها وما ينشأ منها فيهم لا جعل ذواتهم، ففي ذلك رد على المعتزلة في زعمهم إن خالق الشر غيره تعالى شأنه، وقوله تعالى: وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً وعد كريم له عليه الصلاة والسلام بالهداية إلى كافة مطالبه والنصر على أعدائه أي كفاك مالك أمرك ومبلغك إلى الكمال هاديا لك إلى ما يوصلك إلى غاية الغايات التي من جملتها تبليغ ما أنزل إليك وإجراء أحكامه في أكناف الدنيا إلى أن يبلغ الكتاب أجله وناصرا لك عليهم على أبلغ وجه. وقدر بعضهم متعلق هادِياً إلى طريق قهرهم، وقيل: المعنى هاديا لمن آمن منهم ونصيرا لك على غيره، وقيل: هاديا للأنبياء إلى التحرز عن عداوة المجرمين بالاعتصام بحبله ونصيرا لهم عليهم وهو كما ترى. ونصب الوصفين على الحال أو التمييز وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا حكاية لنوع آخر من أباطيلهم، والمراد بهم المشركون كما صح عن ابن عباس وهم القائلون أولا، والتعبير عنهم بعنوان الكفر لذمهم به والإشعار بعلة الحكم، وقيل: المراد بهم طائفة من اليهود لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أي أنزل عليه كخبر بمعنى أخبر فلا قصد فيه إلى التدريج المكان جُمْلَةً واحِدَةً فإنه لو قصد ذلك لتدافعا إذ يكون المعنى لولا فرق القرآن جملة واحدة والتفريق ينافي الجملية، وقيل: عبر بذلك للدلالة على كثرة المنزل في نفسه، ونصب جُمْلَةً على الحال وواحِدَةً على أنه صفة مؤكدة له أي هلا أنزل القرآن عليه عليه الصلاة والسلام دفعة غير مفرق كما أنزلت التوراة والإنجيل والزبور على ما تدل عليه الأحاديث والآثار حتى كاد يكون إجماعا كما قال السيوطي ورد على من أنكر ذلك من فضلاء عصره، فقول ابن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 15 الكمال إن التوراة أنزلت منجمة في ثماني عشرة سنة ويدل عليه نصوص التوراة ولا قاطع بخلافه من الكتاب والسنة ناشىء من نقصان الإطلاع. وهذا الاعتراض مما لا طائل تحته لأن الإعجاز مما لا يختلف بنزوله جملة أو مفرقا مع أن للتفريق فوائد، منها ما ذكره الله تعالى بعد، وقيل: إن شاهد صحة القرآن إعجازه وذلك ببلاغته وهي بمطابقته لمقتضى الحال في كل جملة منه ولا يتيسر ذلك في نزوله دفعة واحدة فلا يقاس بسائر الكتب فإن شاهد صحتها ليس الإعجاز. وفيه أن قوله: ولا يتيسر إلخ ممنوع فإنه يجوز أن ينزل دفعة واحدة مع رعاية المطابقة المذكورة في كل جملة لما يتجدد من الحوادث الموافقة لها الدالة على أحكامها. وقد صح أنه نزل كذلك إلى السماء الدنيا فلو لم يكن هذا لزم كونه غير معجز فيها ولا قائل به بل قد يقال إن هذا أقوى في إعجازه والبليغ يفهم من سياق الكلام ما يقتضيه المقام فافهم كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ استئناف وارد من جهته تعالى لرد مقالتهم الباطلة وبيان بعض الحكم في تنزيله تدريجا، ومحل الكاف نصب على أنها صفة لمصدر مؤكد لمضمر معلل بما بعده، وجوز نصبها على الحالية، «وذلك» إشارة إلى ما يفهم من كلامهم أي تنزيلا مثل ذلك التنزيل الذي قدحوا فيه واقترحوا خلافه نزلناه لا تنزيلا مغايرا له أو نزلناه مماثلا لذلك التنزيل لنقوي به فؤادك فإن في تنزيله مفرقا تيسيرا لحفظ النظم وفهم المعاني وضبط الكلام والوقوف على تفاصيل ما روعي فيه من الحكم والمصالح وتعدد نزول جبريل عليه السلام وتجدد إعجاز الطاعنين فيه في كل جملة مقدار أقصر سورة تنزل منه، ولذلك فوائد غير ما ذكر أيضا، منها معرفة الناسخ المتأخر نزوله من المنسوخ المتقدم نزوله المخالف لحكمه ومنها انضمام القرائن الحالية إلى الدلالات اللفظية فإنه يعين على معرفة البلاغة لأنه بالنظر إلى الحال يتنبه السامع لما يطابقها ويوافقها إلى غير ذلك، وقيل: قوله تعالى كَذلِكَ من تمام كلام الكفرة والكاف نصب على الحال من القرآن أو الصفة لمصدر نزل المذكور أو لجملة، والإشارة إلى تنزيل الكتب المتقدمة، ولام لِنُثَبِّتَ لام التعليل والمعلل محذوف نحو ما سمعت أولا أي نزلناه مفرقا لنثبت إلخ، وقال أبو حاتم: هي لام القسم، والتقدير والله لنثبتن فحذف النون وكسرت اللام وقد حكى ذلك عنه أبو حيان والظاهر أنها عنده كذلك على القولين في كَذلِكَ. وتعقبه بأنه قول في غاية الضعف وكأنه ينحو إلى مذهب الأخفش إن جواب القسم يتلقى بلام كي وجعل منه «ولتصغي إليه أفئدة» إلخ وهو مذهب مرجوح، وقرأ عبد الله «ليثبت» بالياء أي ليثبت الله تعالى. وقوله تعالى: وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا عطف على الفعل المحذوف المعلل بما ذكر، وتنكير «ترتيلا» للتفخيم أي كذلك نزلناه ورتلناه ترتيلا بديعا لا يقادر قدره، وترتيله تفريقه آية بعد آية قاله النخعي والحسن وقتادة. وقال ابن عباس: بينّاه بيانا فيه ترسل، وقال السدي: فصلناه تفصيلا، وقال مجاهد: جعلنا بعضه إثر بعض وقيل: هو الأمر بترتيل قراءته بقوله تعالى: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل: 4] وقيل: قرأناه عليك بلسان جبريل عليه السلام شيئا فشيئا في عشرين أو في ثلاث وعشرين سنة على تؤدة وتمهل وهو مأخوذ من قولهم: ثغر مرتل أي مفلج الأسنان غير متلاصقها وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ من الأمثال التي من جملتها اقتراحاتهم القبيحة الخارجة عن دائرة العقول الجارية لذلك مجرى الأمثال أي لا يأتونك بكلام عجيب هو مثل في البطلان يريدون به القدح في نبوتك ويظهرونه لك إِلَّا جِئْناكَ في مقابلته بِالْحَقِّ أي بالجواب الحق الثابت الذي ينحي عليه بالإبطال ويحسم مادة القيل والقال كما مر من الأجوبة الحقة القالعة لعروق أسئلتهم الشنيعة الدامغة لها بالكلية، وقوله تعالى: وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً عطف على «الحق» أي جئناك بأحسن تفسيرا أي بما هو أحسن أو على محل بِالْحَقِّ أي استحضرنا لك وأنزلنا عليك الحق وأحسن تفسيرا أي كشفا وبيانا على معنى أنه في غاية ما يكون من الحسن في حد ذاته لا أن ما يأتون به الجزء: 10 ¦ الصفحة: 16 له حسن في الجملة وهذا أحسن منه، وهذا نظير قولهم: الله تعالى أكبر أي له غاية الكبرياء في حد ذاته وبعضهم قدر مفضلا عليه فقال: أي وأحسن تفسيرا من مثلهم وحسنه على زعمهم أو هو تهكم، وتعقب الأول بأنه يفوت عليه معنى التسلية لأن المراد لا يهلك ما اقترحوه من قولهم: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً فإن تنزيله مفرقا أحسن مما اقترحوه لفوائد شتى وفيه منع ظاهر، وقيل: المراد بالتفسير المعنى، والمراد وأحسن معنى لأنه يقال: تفسير كذا كذا أي معناه فهو مصدر بمعنى المفعول لأن المعنى مفسر كدرهم ضرب الأمير، ورد بأن المفسر اسم مفعول هو الكلام لا المعنى لأنه يقال فسرت الكلام لا معناه. وقال الطيبي: وضع التفسير موضع المعنى من وضع السبب موضع المسبب لأن التفسير سبب لظهور المعنى وكشفه، وقيل عليه: إنه فرق بين المعنى وظهوره فلا يتم التقريب وقد يكتفى بسببيته له في الجملة. وأيا ما كان فهو نصب على التمييز والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال فالجملة في محل النصب على الحالية أي لا يأتونك بمثل في حال من الأحوال أي إلا حال إنزالنا عليك واستحضارنا لك الحق وأحسن تفسيرا، وجعل ذلك مقارنا لإتيانهم وإن كان بعده للدلالة على المسارعة إلى إبطال ما أتوا به تثبيتا لفؤاده صلّى الله عليه وسلّم، وجوز أن يكون المثل عبارة عن الصفة الغريبة التي كانوا يقترحون كونه عليه الصلاة والسلام عليها من الاستغناء عن الأكل والشرب وحيازة الكنز والجنة ونزول القرآن عليه جملة واحدة على معنى لا يأتوك بحالة عجيبة يقترحون اتصافك بها قائلين هلا كان على هذه الحالة إلا أعطيناك نحن من الأحوال الممكنة ما يحق لك في حكمتنا ومشيئتنا أن تعطاه وما هو أحسن، وتعقب بأنه يأباه الاستثناء المذكور فإن المتبادر منه أن يكون ما أعطاه الله تعالى من الحق مترتبا على ما أتوا به من الأباطيل دامغا لها ولا ريب في أن ما أتاه الله تعالى من الملكات السنية الطائفة بالرسالة قد أتاه من أول الأمر لا بمقابلة ما حكي عنهم من الاقتراحات لأجل دمغها، وإبطالها. وأجيب بأن معنى إِلَّا جِئْناكَ إلخ على ذلك إلا أظهرنا فيك ما يكشف عن بطلان ما أتوا به وهو كما ترى فالحق التعويل على الأول. والمشهور أن الإتيان والمجيء بمعنى لكن عبر أولا بالإتيان، وثانيا بالمجيء للتفنن وكراهة أن يتحد ما ينسب إليه عز وجل وما ينسب إليهم لفظا مع كون ما أتوا به في غاية القبح والبطلان وما جاء به سبحانه في غاية الحقية والحسن، وفرق الراغب بينهما فقال المجيء كالإتيان لكن المجيء أعم لأن الإتيان مجيء بسهولة، ومنه قيل للسيل المار على وجهه أتى وأتاوى، والإتيان قد يقال باعتبار القصد وإن لم يكن منه الحصول والمجيء يقال اعتبارا بالحصول، ولعل في التعبير بالإتيان أولا والمجيء ثانيا على هذا إشارة إلى أن ما يأتون به من الأمثال في نفسه من الأمور التي تتخيل بسهولة ولا تحتاج إلى إعمال فكر بخلاف ما يكون في مقابلته فإنه في نفسه من الأمور العقلية التي صقلها الفكر فلا يجد أحد سبيلا إلى ردها والطعن فيها أو إلى أن فعلهم لخروجه عن حيز القبول منزل منزلة العدم حتى كأنهم لم يتحقق منهم القصد دون الحصول بخلاف ما كان من قبله عز وجل فتأمل والله تعالى أعلم بأسرار كتابه. الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أي يحشرون ماشين على وجوههم. فقد روى الترمذي عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف، صنفا مشاة وصنفا ركبانا وصنفا على وجوههم قيل يا رسول الله وكيف يمشون على وجوههم؟ قال إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم إما أنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك» وهذا يحتمل أن يكون بمس وجوههم وسائر ما في جهتها من صدورهم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 17 وبطونهم ونحوها الأرض وأن يكون بنكسهم على رؤوسهم، وجعل وجوههم إلى ما يلي الأرض وارتفاع أقدامهم وسائر أبدانهم، ولعل الحديث أظهر في الأول، وقيل: إن الملائكة عليهم السلام تسحبهم وتجرهم على وجوههم إلى جهنم والأمر عليه ظاهر لا غرابة فيه، وقيل: الحشر على الوجه مجاز عن الذلة المفرطة والخزي والهوان، وقيل: هو من قول العرب مر فلان على وجهه إذا لم يدر أين ذهب، وقيل: الكلام كناية أو استعارة تمثيلية والمراد أنهم يحشرون متعلقة قلوبهم بالسفليات من الدنيا وزخارفها متوجهة وجوههم إليها، ولعل كون هذه الحال في الحشر باعتبار بقاء آثارها وإلا فهم هناك في شغل شاغل عن التوجه إلى الدنيا وزخارفها وتعلق قلوبهم بها، ومحل الموصول قيل إما النصب بتقدير أذم أو أعني أو الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين أو على أنه مبتدأ، وقوله تعالى: أُوْلئِكَ بدل منه أو بيان له، وقوله تعالى: شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلًا خبر له أو اسم الإشارة مبتدأ ثان وشَرٌّ خبره، والجملة خبر الموصول، وقال صاحب الفرائد: يمكن أن يكون الموصول بدلا من الضمير في يأتونك وأُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً كلام مستأنف، ولعل الأقرب كون الموصول مبتدأ وما بعده خبره قال الطيبي. وذلك من باب كلام المنصف وإرخاء العنان وفصل الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عما قبله استئنافا لأن التسلية السابقة حركت منه صلّى الله عليه وسلّم بأن يسأل فإذا بماذا أجيبهم وما يكون قولي لهم؟ فقيل قل لهم الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم إلخ يعني مقصودكم من هذا التعنت تحقير مكاني وتضليل سبيلي وما أقول لكم أنتم كذلك بل أقول الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم شر مكانا وأضل سبيلا فانظروا بعين الإنصاف وتفكروا من الذي هو أولى بهذا الوصف منا ومنكم لتعلموا أن مكانكم شر من مكاننا وسبيلكم أضل من سبيلنا. وعليه قوله تعالى: إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: 24] فالمكان الشرف والمنزلة. ويجوز أن يراد به الدار والمسكن. وشَرٌّ وأَضَلُّ محمولان على التفضيل على طريقة قوله تعالى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ [المائدة: 60] وجعل صاحب الفرائد ذلك لإثبات كل الشر لمكانهم وكل الضلال لسبيلهم. ووصف السبيل بالضلال من باب الإسناد المجازي للمبالغة والآية على ما سمعت متصلة بما قبلها من قوله تعالى: وَلا يَأْتُونَكَ إلخ وقال الكرماني هي متصلة بقوله تعالى أصحاب الجنة يومئذ الآية قيل ويجوز أن تكون متصلة بقوله سبحانه: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ انتهى. وما ذكر أولا أبعد مغزى، وقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ إلخ جملة مستأنفة سيقت لتأكيد ما مر من التسلية والوعد بالهداية والنصر في قوله تعالى: كَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً على ما قدمناه بحكاية ما جرى بين من ذكر من الأنبياء عليهم السلام وبين قومهم حكاية إجمالية كافية فيما هو المقصود. واللام واقعة في جواب القسم أي والله تعالى لقد آتينا موسى التوراة أي أنزلناها عليه بالآخرة، وقيل: المراد بالكتاب الحكم والنبوة ولا يخفى بعده وَجَعَلْنا مَعَهُ الظرف متعلق بجعلنا، وقوله تعالى: أَخاهُ مفعول أول له وقوله سبحانه: هارُونَ بدل من أَخاهُ أو عطف بيان له وقوله عز وجل وَزِيراً مفعول ثان له وتقدم معنى الوزير ولا ينافي هذا قوله تعالى: وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا [مريم: 53] لأنه وإن كان نبيا فالشريعة لموسى عليه السلام وهو تابع له فيها كما أن الوزير متبع لسلطانه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 18 فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا هم فرعون وقومه والظاهر تعلق بآياتنا ب كَذَّبُوا. والمراد بها دلائل التوحيد المودعة في الأنفس والآفاق أو الآيات التي جاءت بها الرسل الماضية عليهم السلام أو التسع المعلومة. والتعبير عن التكذيب بصيغة الماضي على الاحتمالين الأولين ظاهر وعلى الأخير قيل لتنزيل المستقبل لتحققه منزلة الماضي وتعقب بأنه لا يناسب المقام، وقال العلامة أبو السعود: لم يوصف القوم لهما عند إرسالهما إليهم بهذا الوصف ضرورة تأخر تكذيب الآيات التسع عن إظهارها المتأخر عن ذهابهما المتأخر عن الأمر به بل إنما وصفوا بذلك عند الحكاية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيانا لعلة استحقاقهم لما يحكى بعده من التدمير وبحث فيه بما فيه تأمل، وجوز أن يكون الظرف متعلقا باذهبا فمعنى كَذَّبُوا فعلوا التكذيب فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً عجيبا هائلا لا يقادر قدره ولا يدرك كنهه والمراد به أشد الهلاك. وأصله كسر الشيء على وجه لا يمكن إصلاحه والفاء فصيحة والأصل فقلنا اذهبا إلى القوم فذهبا إليهم ودعواهم إلى الإيمان فكذبوهما واستمروا على ذلك فدمرناهم فاقتصر على حاشيتي القصة اكتفاء بما هو المقصود. وقيل: معنى فدمرناهم فحكمنا بتدميرهم فالتعقيب باعتبار الحكم وليس في الإخبار بذلك كثير فائدة. وقيل: الفاء لمجرد الترتيب وهو كما ترى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 19 وعطف (قلنا) على جَعَلْنا المعطوف على آتَيْنا بالواو التي لا تقتضي ترتيبا على الصحيح فيجوز تقدمه مع ما يعقبه على إيتاء الكتاب فلا يرد أن إيتاء الكتاب وهو التوراة بعد هلاك فرعون وقومه فلا يصح الترتيب والتعرض لذلك في مطلع القصة مع أنه لا مدخل له في إهلاك القوم لما أنه بعد للإيذان من أول الأمر ببلوغه عليه السلام غاية الكمال التي هي إنجاء بني إسرائيل من ملكة فرعون وإرشادهم إلى طريق الحق بما في التوراة من الأحكام إذ به يحصل تأكيد الوعد بالهداية على الوجه الذي ذكر سابقا. وقرأ علي كرّم الله تعالى وجهه والحسن ومسلمة بن محارب فدمراهم على الأمر لموسى وهارون عليهما السلام وعن علي كرّم الله تعالى وجهه أيضا كذلك إلا أنه مؤكد بالنون الشديدة ، وعنه كرّم الله تعالى وجهه «فدمرا» أمرا لهما بهم بباء الجر وكأن ذلك من قبيل: تجرح في عراقيبها نصلي وحكي في الكشاف عنه أيضا كرّم الله تعالى وجهه «فدمرتهم» بتاء الضمير وَقَوْمَ نُوحٍ منصوب بمضمر يدل عليه قوله تعالى: فَدَمَّرْناهُمْ أي ودمرنا قوم نوح، وجوز الحوفي وأبو حيان كونه معطوفا على مفعول فدمرناهم ورد بأن تدمير قوم نوح ليس مترتبا على تكذيب فرعون وقومه فلا يصح عطفه عليه. وأجيب بأنه ليس من ضرورة ترتب تدميرهم على ما قبله ترتب تدمير هؤلاء عليه لا سيما وقد بين سببه بقوله تعالى: لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أي نوحا ومن قبله من الرسل عليهم السلام أو نوحا وحده فإن تكذيبه عليه السلام تكذيب للكل لاتفاقهم على التوحيد أو أنكروا جواز بعثة الرسل مطلقا، وتعريف الرسل على الأول عهدي، ويحتمل أن يكون للاستغراق إذ لم يوجد وقت تكذيبهم غيرهم، وعلى الثاني استغراقي لكن على طريق المشابهة والادعاء، وعلى الثالث للجنس أو للاستغراق الحقيقي، وكأن المجيب أراد أن اعتبار العطف قبل الترتيب فيكون المرتب مجموع المتعاطفين ويكفي فيه ترتب البعض. وقيل: المقصود من العطف التسوية والتنظير كأنه قيل: دمرناهم كقوم نوح فتكون الضمائر لهم. والرسل نوح وموسى وهارون عليهم السلام ولا يخفى ما فيه. واختار جمع كونه منصوبا باذكر محذوفا، وقيل: هو منصوب بمضمر يفسره قوله تعالى: أَغْرَقْناهُمْ ويرجحه على الرفع تقدم الجمل الفعلية. ولا يخفى أنه إنما يتسنى ذلك على مذهب الفارسي من كون- لما- ظرف زمان وأما إذا كانت حرف وجود لوجود فلا لأن أَغْرَقْناهُمْ حينئذ يكون جوابا لها فلا يفسر ناصبا. ولعل أولى الأوجه الأول، وأَغْرَقْناهُمْ استئناف مبين لكيفية تدميرهم كأنه قيل: كيف كان تدميرهم؟ فقيل: أغرقناهم بالطوفان وَجَعَلْناهُمْ أي جعلنا إغراقهم أو قصتهم لِلنَّاسِ آيَةً أي آية عظيمة يعتبر بها من شاهدها أو سمعها وهو مفعول ثان لجعلنا ولِلنَّاسِ متعلق به أو متعلق بمحذوف وقع حالا من آيَةً إذ لو تأخر عنها لكان صفة لها وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً أي جعلناه معدا لهم في الآخرة أو في البرزخ أو فيهما. والمراد بالظالمين القوم المذكورون، والإظهار في موقع الإضمار للإيذان بتجاوزهم الحد في الكفر والتكذيب أو جميع الظالمين الذين لم يعتبروا بما جرى عليهم من العذاب فيدخل في زمرتهم قريش دخولا أوليا ويحتمل العذاب الدنيوي وغيره. وَعاداً عطف على قَوْمَ نُوحٍ أي ودمرنا عادا أو واذكر عادا على ما قيل، ولا يصح أن يكون عطفا إذا نصب على الاشتغال لأنهم لم يغرقوا. وقال أبو إسحاق هو معطوف على- هم- من جَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً ويجوز أن يكون معطوفا على محل (الظالمين) فإن الكلام بتأويل وعدنا الظالمين اهـ ولا يخفى بعد الوجهين وَثَمُودَ الكلام فيه وفيما بعده كما فيما قبله. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 20 وقرأ عبد الله وعمرو بن ميمون والحسن وعيسى وثمود غير مصروف على تأويل القبيلة، وروي ذلك عن حمزة وعاصم والجمهور بالصرف، ورواه عبد بن حميد عن عاصم على اعتبار الحي أو أنهم سموا بالأب الأكبر وَأَصْحابَ الرَّسِّ عن ابن عباس هم قوم ثمود ويبعده العطف لأنه يقتضي التغاير، وقال قتادة: هم أهل قرية من اليمامة يقال لها الرس والفلج قيل قتلوا نبيهم فهلكوا وهم بقية ثمود. وقوم صالح، وقال كعب. ومقاتل والسدي: أهل بئر يقال له الرس بإنطاكية الشام قتلوا فيها صاحب يس وهو حبيب النجار. وقيل: هم قوم قتلوا نبيهم ورسوه في بئر أي دسوه فيه، وقال وهب والكلبي: أصحاب الرس وأصحاب الأيكة قومان أرسل إليهما شعيب، وكان أصحاب الرس قوما من عبدة الأصنام وأصحاب آبار ومواش فدعاهم إلى الإسلام فتمادوا في طغيانهم وفي إيذائه عليه السلام فبينما هم حول الرس وهي البئر غير المطوية كما روي عن أبي عبيدة انهارت بهم وبدارهم، وقال علي كرّم الله تعالى وجهه. فيما نقله الثعلبي: هم قول عبدوا شجرة يقال لها: شاة درخت رسّوا نبيهم في بئر حفروه له في حديث طويل، وقيل: هم أصحاب النبي حنظلة بن صفوان كانوا مبتلين بالعنقاء وهي أعظم ما يكون من الطير وكان فيها من كل لون وسميت عنقاء لطول عنقها وكانت تسكن جبلهم الذي يقال له فتح وتنقض على صبيانهم فتخطفهم إن أعوزها الصيد ولإتيانها بهذا الأمر الغريب سميت مغربا، وقيل: لأنها اختطفت عروسا، وقيل: لغروبها أي غيبتها، وقيل: لأن وكرها كان عند مغرب الشمس، ويقال فيها عنقاء مغرب بالتوصيف والإضافة مع ضم الميم وفتحها فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة فهلكت ثم إنهم قتلوا حنظلة فأهلكوا. وقيل: هم قوم أرسل إليهم نبي فأكلوه، وقيل: قوم نساؤهم سواحق وقيل: قوم بعث إليهم أنبياء فقتلوهم ورسوا عظامهم في بئر، وقيل: هم أصحاب الأخدود والرس هو الأخدود. وفي رواية عن ابن عباس أنه بئر أذربيجان: وقيل: الرس ما بين نجران إلى اليمن إلى حضرموت. وقيل: هو ماء ونخل لبني أسد. وقيل: نهر من بلاد المشرق بعث الله تعالى إلى أصحابه نبيا من أولاد يهوذا بن يعقوب فكذبوه فلبث فيهم زمانا فشكا إلى الله تعالى منهم فحفروا له بئرا وأرسلوه فيه وقالوا: نرجو أن ترضى عنا آلهتنا فكانوا عليه يومهم يسمعون أنين نبيهم فدعا بتعجيل قبض روحه فمات وأظلتهم سحابة سوداء أذابتهم كما يذوب الرصاص. وروى عكرمة ومحمد بن كعب القرظي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أن أصحاب الرس أخذوا نبيهم فرسوه في بئر وأطبقوا عليه صخرة فكان عبد أسود قد آمن به يجيء بطعام إلى البئر فيعينه الله تعالى على تلك الصخرة فيرفعها فيعطيه ما يغذيه به ثم يرد الصخرة على فم البئر إلى أن ضرب الله تعالى على إذن ذلك الأسود فنام أربع عشرة سنة . وأخرج أهل القرية نبيهم فآمنوا به في حديث طويل ذكر فيه أن ذلك الأسود أول من يدخل الجنة. وهذا إذا صح كان القول الذي لا يمكن خلافه لكن يشكل عليه إيرادهم هنا. وأجاب عنه الطبري بأنه يمكن أنهم كفروا بعد ذلك فأهلكوا فذكرهم الله تعالى مع من ذكر من المهلكين، وملخص الأقوال إنهم قوم أهلكهم الله تعالى بتكذيب من أرسل إليهم وَقُرُوناً أي أهل قرون وتقدم الكلام في القرن بَيْنَ ذلِكَ أي المذكور من الأمم، وللتعدد حسن بين من غير عطف كَثِيراً يطول الكلام جدا بذكرها، ولا يبعد أن يكون قد علم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مقدارها، وقوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غافر: 78] ليس نصا في نفي العلم بالمقدار كما لا يخفى. وفي إرشاد العقل السليم لعل الاكتفاء في شؤون تلك القرون بهذا البيان الإجمالي لما أن كل قرن منها لم يكن في الشهرة وغرابة القصة بمثابة الأمم المذكورة. وَكُلًّا منصوب بمضمر يدل عليه ما بعده فإن ضرب المثل في معنى التذكير والتحذير. والمحذوف الذي عوض عنه التنوين عبارة إما عن الأمم التي لم تذكر أسباب إهلاكهم وإما عن الكل فإن ما حكي عن فرعون وقومه وعن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 21 قوم نوح عليه السلام تكذيبهم للآيات والرسل لا عدم التأثر من الأمثال المضروبة أي ذكرنا وأنذرنا كل واحد من المذكورين ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ أي بينا لكل القصص العجيبة الزاجرة عما هم عليه من الكفر والمعاصي بواسطة الرسل عليهم السلام، وقيل: ضمير له للرسول عليه الصلاة والسلام، والمعنى وكل الأمثال ضربناه للرسول فيكون كُلًّا منصوبا بضربنا والْأَمْثالَ بدلا منه على ما في البحر، وفيه أنه أبعد من ذهب إلى ذلك، وعندي أنه مما لا ينبغي أن يفسر به كلام الله تعالى. وقوله تعالى: وَكُلًّا مفعول مقدم لقوله سبحانه: تَبَّرْنا تَتْبِيراً وتقديمه للفاصلة، وقيل: لإفادة القصر على أن المعنى كلا لا بعضا، وتعقب بأن لفظ- كل- يفيد ذلك ويمكن توجيه ذلك بالعناية، وأصل التتبير التفتيت، قال الزجاج: كل شيء كسرته وفتته فقد تبرته ومنه التبر لفتات الذهب والفضة. والمراد به التمزيق والإهلاك أي أهلكنا كل واحد منهم إهلاكا عجيبا هائلا لما أنهم لم يتأثروا بذلك ولم يرفعوا له رأسا وتمادوا على ما هم عليه من الكفر والعدوان وَلَقَدْ أَتَوْا جملة مستأنفة مسوقة لبيان مشاهدة كفار قريش لآثار هلاك بعض الأمم المتبرة وعدم اتعاظهم بها. وتصديرها بالقسم لتقرير مضمونها اعتناء به. وأتى مضمن معنى مر لتعديه بعلى، والمعنى بالله لقد مر قريش في متاجرهم إلى الشام. عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ وهي سذوم وهي أعظم قرى قوم لوط سميت باسم قاضيها سذوم بالذال المعجمة على ما صححه الأزهري واعتمده في الكشف، وفي المثل أجور من سذوم أهلكها الله تعالى بالحجارة وهو المراد بمطر السوء وكذا أهلك سائر قراهم وكانت خمسا إلا قرية واحدة وهي زغر لم يهلكها لأن أهلها لم يعملوا العمل الخبيث كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وأفراد القرية بالذكر لما أشرنا إليه وانتصب مَطَرَ على أنه مفعول ثان لأمطرت على معنى أعطيت أو أوليت أو على أنه مصدر مؤكد بحذف الزوائد أي إمطار السوء كما قيل في أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17] ، وجوز أبو البقاء أن يكون صفة لمحذوف أي إمطارا مثل مطر السوء وليس بشيء. وقرأ زيد بن علي مطرت ثلاثيا مبنيا للمفعول ومطر مما يتعدى بنفسه. وقرأ أبو السمال «مطر السوء» بضم السين أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها توبيخ على تركهم التذكر عند مشاهدة ما يوجبه. والهمزة لإنكار نفي استمرار رؤيتهم لها وتقرير استمرارها حسب استمرار ما يوجبها من إتيانهم عليها لا لإنكار استمرار نفي رؤيتهم وتقرير رؤيتهم لها، والفاء لعطف مدخولها على مقدر يقتضيه المقام أي ألم يكونوا ينظرون إليها فلم يكونوا يرونها أو كانوا ينظرون إليها فلم يكونوا يرونها في مرار مرورهم ليتعظوا بما كانوا يشاهدونه من آثار العذاب. والمنكر في الأول النظر وعدم الرؤية معا وفي الثاني عدم الرؤية مع تحقق النظر الموجب لها عادة كذا في إرشاد العقل السليم. ولم يقل: أفلم يرونها مع أنه أخصر وأظهر قصدا لإفادة التكرار مع الاستمرار ولم يصرح في أول الآية بنحو ذلك بأن يقال: ولقد كانوا يأتون بدل ولقد أتوا للإشارة إلى أن المرور ولو مرة كاف في العبرة فتأمل. وقوله تعالى: بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً إما إضراب عما قبله من عدم رؤيتهم لآثار ما جرى على أهل القرى من العقوبة وبيان لكون عدم اتعاظهم بسبب إنكارهم لكون ذلك عقوبة لمعاصيهم لا لعدم رؤيتهم لآثارهم خلا أنه اكتفى عن التصريح بإنكارهم ذلك بذكر ما يستلزمه من إنكار الجزاء الأخروي وقد كنى عن ذلك بعدم رجاء النشور، والمراد بالرجاء التوقع مجازا كأنه قيل: بل كانوا لا يتوقعون النشور المستتبع للجزاء الأخروي وينكرونه ولا يرون لنفس من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 22 النفوس نشورا أصلا مع تحققه حتما وشموله للناس عموما واطراده وقوعا فكيف يعترفون بالجزاء الدنيوي في حق طائفة خاصة مع عدم الاطراد والملازمة بينه وبين المعاصي حتى يتذكروا ويتعظوا بما شاهدوه من آثار الهلاك وإنما يحملونه على الاتفاق، وإما انتقال من التوبيخ بما ذكر من ترك التذكر إلى التوبيخ بما هو أعظم منه من عدم رجاء النشور، وحمل الرجاء على التوقع وعموم النشور أوفق بالمقام. وقيل: هو على حقيقته أعني انتظار الخير والمراد بالنشور نشور فيه خير كنشور المسلمين. وجوز أن يكون الرجاء بمعنى الخوف على لغة تهامة، والمراد بالنشور نشورهم والكل كما ترى. وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ أي ما يتخذونك إِلَّا هُزُواً على معنى ما يفعلون به إلا اتخاذك هزوا أي موضع هزو أو مهزوا به فهزوا إما مصدر بمعنى المفعول مبالغة أو هو بتقدير مضاف وجملة إِنْ يَتَّخِذُونَكَ جواب إذا، وهي كما قال أبو حيان وغيره تنفرد بوقوع جوابها المنفي بأن ولا وما بدون فاء بخلاف غيرها من أدوات الشرط. وقوله تعالى: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا مقول قول مضمر أي يقول أهذا إلخ. والجملة في موضع الحال من فاعل يتخذونك أو مستأنفة في جواب ماذا يقولون؟. وجوز أن تكون الجواب. وجملة إِنْ يَتَّخِذُونَكَ معترضة، وقائل ذلك أبو جهل ومن معه، وروي أن الآية نزلت فيه، والإشارة للاستحقار كما في يا عجبا لابن عمرو هذا، وعائد الموصول محذوف أي بعثه ورَسُولًا حال منه وهو بمعنى مرسل. وجوز أبو البقاء أن يكون مصدرا حذف منه المضاف أي ذا رسول أي رسالة وهو تكلف مستغنى عنه، وإخراج بعث الله تعالى إياه صلّى الله عليه وسلّم رسولا بجعله صلة وهم على غاية الإنكار تهكم واستهزاء وإلا لقالوا: أبعث الله هذا رسولا. وقيل: إن ذلك بتقدير أهذا الذي بعث الله رسولا في زعمه، وما تقدم أوفق بحال أولئك الكفرة مع سلامته من التقدير إِنْ كادَ إن مخففة من إن واسمها عند بعض ضمير الشأن محذوف أي إنه كاد لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا أي ليصرفنا عن عبادتها صرفا كليا بحيث يبعدنا عنها لا عن عبادتها فقط، والعدول إلى الإضلال لغاية ضلالهم بادعاء أن عبادتها طريق سوي. لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها ثبتنا عليها واستمكنّا بعبادتها، ولَوْلا في أمثال هذا الكلام يجري مجرى التقييد للحكم المطلق من حيث المعنى دون اللفظ، وهذا اعتراف منهم بأنه صلّى الله عليه وسلّم قد بلغ من الاجتهاد في الدعوة إلى التوحيد وإظهار المعجزات وإقامة الحجج والبينات ما شارفوا به أن يتركوا دينهم لولا فرط لجاجهم وغاية عنادهم، ولا ينافي هذا استحقارهم واستهزائهم السابق لأن هذا من وجه وذاك من وجه آخر زعموه سببا لذلك قاتلهم الله تعالى. وقيل: إن كلامهم قد تناقض لاضطرابهم وتحيرهم فإن الاستفهام السابق دال على الاستحقار وهذا دال على قوة حجته وكمال عقله صلّى الله عليه وسلّم ففيما حكاه سبحانه عنهم تحميق لهم وتجهيل لاستهزائهم بما استعظموه. وقيل عليه: إنه ليس بصريح في اعترافهم بما ذكر بل الظاهر أنه أخرج في معرض التسليم تهكما كما في قولهم بعث الله رسولا وفيه منع ظاهر والتناقض مندفع كما لا يخفى. وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ الذي يستوجبه كفرهم وعنادهم مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا أي يعلمون جواب هذا على أن مَنْ استفهامية مبتدأ وأَضَلُّ خبرها والجملة في موضع مفعولي يَعْلَمُونَ إن كانت تعدت إلى مفعولين أو في موضع مفعول واحد إن كانت متعدية إلى واحد أو يعلمون الذي هو أضل على أن من موصولة مفعول يَعْلَمُونَ وأضل خبر مبتدأ محذوف والجملة صلة الموصول، وحذف صدر الصلة وهو العائد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 23 لطولها بالتمييز، وكان أولئك الكفرة لما جعلوا دعوته صلّى الله عليه وسلّم إلى التوحيد إضلالا حيث قالوا: إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا إلخ والمضل لغيره لا بد أن يكون ضالا في نفسه جيء بهذه الجملة ردا عليهم ببيان أنه عليه الصلاة والسلام هاد لا مضل على أبلغ وجه فإنها تدل على نفي الضلال عنه صلّى الله عليه وسلّم لأن المراد أنهم يعلمون أنهم في غاية الضلال لا هو ونفي اللازم يقتضي نفي ملزومه فيلزمه أن يكون عليه الصلاة والسلام هاديا لا مضلا، وفي تقييد العلم بوقت رؤية العذاب وعيد لهم وتنبيه على أنه تعالى لا يهملهم وإن أمهلهم أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ تعجيب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم من شناعة حالهم بعد حكاية قبائحهم من الأقوال والأفعال والتنبيه على ما لهم من المصير والمآل وتنبيه على أن ذلك من الغرابة بحيث يجب أن يرى ويتعجب منه، والظاهر أن- رأى- بصرية ومَنِ مفعولها وهي اسم موصول والجملة بعدها صلة، واتَّخَذَ متعدية لمفعولين أولهما هَواهُ وثانيهما إِلهَهُ وقدم على الأول للاعتناء به من حيث أنه الذي يدور عليه أمر التعجيب لا من حيث إن الإله يستحق التعظيم والتقديم كما قيل أي أرأيت الذي جعل هواه إلها لنفسه بأن أطاعه وبنى عليه أمر دينه معرضا عن استماع الحجة الباهرة وملاحظة البرهان النير بالكلية على معنى انظر إليه وتعجب منه، وقال ابن المنير في تقديم المفعول الثاني هنا نكتة حسنة وهي إفادة الحصر فإن الكلام قبل دخول أَرَأَيْتَ واتَّخَذَ الأصل فيه هواه إلهه على أن هواه مبتدأ خبره إلهه فإذا قيل إلهه هواه كان من تقديم الخبر على المبتدأ وهو يفيد الحصر فيكون معنى الآية حينئذ أرأيت من لم يتخذ معبوده إلا هواه وذلك أبلغ في ذمه وتوبيخه. وقال صاحب الفرائد: تقديم المفعول الثاني يمكن حيث يمكن تقديم الخبر على المبتدأ والمعرفتان إذا وقعتا مبتدأ وخبرا فالمقدم هو المبتدأ فمن جعل ما هنا نظير قولك: علمت منطلقا زيدا فقد غفل عن هذا، ويمكن أن يقال: المتقدم هاهنا يشعر بالثبات بخلاف المتأخر فتقدم إِلهَهُ يشعر بأنه لا بد من إله فهو كقولك اتخذ ابنه غلامه فإنه يشعر بأن له ابنا ولا يشعر بأن له غلاما فهذا فائدة تقديم إلهه على هواه. وتعقب ذلك الطيبي فقال: لا يشك في أن مرتبة المبتدأ التقديم وأن المعرفتين أيهما قدم كان المبتدأ لكن صاحب المعاني لا يقطع نظره عن أصل المعنى فإذا قيل: زيد الأسد فالأسد هو المشبه به أصالة ومرتبته التأخير عن المشبه بلا نزاع فإذا جعلته مبتدأ في قولك: الأسد زيد فقد أزلته عن مقره الأصلي للمبالغة، وما نعني بالمقدم إلا المزال عن مكانه لا القار فيه فالمشبه به هاهنا إلا له والمشبه الهوى لأنهم نزلوا أهواءهم في المتابعة منزلة الإله فقدم المشبه به الأصلي وأوقع مشبها ليؤذن بأن الهوى في باب استحقاق العبادة عندهم أقوى من الإله عز وجل كقوله تعالى: قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا [البقرة: 275] ولمح صاحب المفتاح إلى هذا المعنى في كتابه. وأما المثال الذي أورده صاحب الفرائد فمعنى قوله: اتخذ ابنه غلامه جعل ابنه كالغلام يخدمه في مهنة أهله وقوله: اتخذ غلامه ابنه جعل غلامه كابنه مكرما مدللا اه، وأنت تعلم ما في قوله: إن المعرفتين أيهما قدم كان المبتدأ فإن الحق أن الأمر دائر مع القرينة والقرينة هنا قائمة على أن إِلهَهُ الخبر وهي عقلية لأن المعنى على ذلك فلا حاجة إلى جعل ذلك من التقديم المعنوي، وقال شيخ الإسلام: من توهم أنهما على الترتيب بناء على تساويهما في التعريف فقد زل عنه أن المفعول الثاني في هذا الباب هو الملتبس بالحالة الحادثة وفي ذلك رد على أبي حيان حيث أوجب كونهما على الترتيب. ونقل عن بعض المدنيين أنه قرأ «آلهة» منونة على الجمع وجعل ذلك على التقديم والتأخير، والمعنى جعل كل جنس من هواه إلها، وذكر أيضا أن ابن هرمز قرأ «إلهة» على وزن فعالة وهو أيضا من التقديم والتأخير أي جعل هواه إلهة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 24 بمعنى مألوهة أي معبودة والهاء للمبالغة فلذلك صرفت، وقيل: بل الإلاهة الشمس ويقال ألاهة بضم الهمزة وهي غير مصروفة للعلمية والتأنيث لكنها لما كانت مما يدخلها لام التعريف في بعض اللغات صارت بمنزلة ما كان فيه اللام ثم نزعت فلذلك صرفت وصارت كالمنكر بعد التعريف قاله صاحب اللوامح وهو كما ترى. والآية نزلت على ما قيل في الحارث بن قيس السهمي كان كلما هوى حجرا عبده، وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال: كان الرجل يعبد الحجر الأبيض زمانا من الدهر في الجاهلية فإذا وجد أحسن منه رمى به وعبد الآخر فأنزل الله تعالى أَرَأَيْتَ إلخ. وزعم بعضهم لهذا ونحوه أن هواه بمعنى مهويه وليس بلازم كما لا يخفى. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية كلما هوى شيئا ركبه وكلما اشتهى شيئا أتاه لا يحجزه عن ذلك ورع ولا تقوى فالآية شاملة لمن عبد غير الله تعالى حسب هواه ولمن أطاع الهوى في سائر المعاصي وهو الذي يقتضيه كلام الحسن، فقد أخرج عنه عبد بن حميد أنه قيل له: أفي أهل القبلة شرك؟ فقال: نعم المنافق مشرك إن المشرك يسجد للشمس والقمر من دون الله تعالى وإن المنافق عبد هواه ثم تلا هذه الآية، والمنافق عند الحسن مرتكب المعاصي كما ذكره غير واحد من الأجلة. وقد أخرج الطبراني وأبو نعيم في الحلية عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما تحت ظل السماء من إله يعبد من دون الله تعالى أعظم عند الله عز وجل من هوى يتبع» ولا يكاد يسلم على هذا من عموم الآية إلا من اتبع ما اختاره الله تعالى لعباده وشرعه سبحانه لهم في كل ما يأتي ويذر، وعليه يدخل الكافر فيما ذكر دخولا أوليا أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا استئناف مسوق لاستبعاد كونه صلّى الله عليه وسلّم حفيظا على هذا المتخذ يزجره عما هو عليه من الضلال ويرشده إلى الحق طوعا أو كرها وإنكار له، والفاء لترتيب الإنكار على ما قبله من الحالة الموجبة له كأنه قيل: أبعد ما شاهدت غلوه في طاعة الهوى تعسره على الانقياد إلى الهدى شاء أو أبى، وجوز أن تكون رأى علمية وهذه الجملة في موضع المفعول الثاني وليس بذاك. وقوله تعالى: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إضراب وانتقال عن الإنكار المذكور إلى إنكار حسبانه صلّى الله تعالى عليه وسلّم إياهم ممن يسمع أو يعقل حسبما ينبىء عنه جده عليه الصلاة والسلام في الدعوة واهتمامه بالإرشاد والتذكير على معنى أنه لا ينبغي أن يقع أي بل أتحسب أن أكثرهم يسمعون حق السماع ما تتلو عليهم من الآيات القرآنية أو يعقلون ما أظهر لهم من الآيات الآفاقية والأنفسية فتعتني في شأنهم وتطمع في إيمانهم، ولما كان الدليل السمعي أهم نظرا للمقام من الدليل العقلي قيل: يسمعون أو يعقلون، وقيل: المعنى بل أتحسب أن أكثرهم يسمعون حق السماع ما تتلو عليهم من الآيات أو يعقلون ما في تضاعيفها من المواعظ الزاجرة عن القبائح الداعية إلى المحاسن فتجتهد في دعوتهم وتهتم بإرشادهم وتذكيرهم ولعل ما قلناه أولى فتدبر. وأيا ما كان فضمير أَكْثَرَهُمْ لمن باعتبار معناه وضمير عَلَيْهِ له أيضا باعتبار لفظه واختير الجمع هنا لمناسبة إضافة الأكثر لهم وأفرد فيما قبله لجعلهم في اتفاقهم على الهوى كشيء واحد، وقيل: ضمير أَكْثَرَهُمْ للكفار لا لمن لأن قوله تعالى عليه يأباه وليس بشيء، وضمير الفعلين للأكثر لا لما أضيف إليه، وتخصيص الأكثر لأن منهم من سبقت له العناية الأزلية بالإيمان بعد الاتخاذ المذكور، ومنهم من سمع أو عقل لكنه كابر استكبارا وخوفا على الرياسة، وقوله تعالى: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ إلخ جملة مستأنفة لتكرير النكير وتأكيده وحسم مادة الحسبان بالمرة والضمير للأكثر أو لمن، واكتفى عن ذكر الأكثر بما قبله أي ما هم في عدم الانتفاع بما يقرع آذانهم من قوارع الآيات الجزء: 10 ¦ الصفحة: 25 وانتفاء التدبر بما يشاهدونه من الدلائل البينات إلا كالبهائم التي هي مثل في الغفلة وعلم في الضلالة بَلْ هُمْ أَضَلُّ منها سَبِيلًا لما أنها تنقاد لصاحبها الذي يتعهدها وتعرف من يحسن إليها ومن يسيء إليها وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها وتهتدي لمراعيها ومشاربها وتأوي إلى معاطنها ومرابضها، وهؤلاء لا ينقادون لربهم سبحانه وخالقهم ورازقهم ولا يعرفون إحسانه تعالى إليهم من إساءة الشيطان المزين لهم اتباع الشهوات الذي هو عدو مبين ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار والمهالك ولا يهتدون للحق الذي هو المشرع الهني والمورد العذب الروي، ولأنها إن لم تعتقد حقا مستتبعا لاكتساب الخير لم تعتقد باطلا مستوجبا لاقتراف الشر بخلاف هؤلاء حيث مهدوا قواعد الباطل وفرعوا عليها أحكام الشرور ولأن أحكام جهالتها وضلالتها مقصورة على أنفسها لا تتعدى إلى أحد وجهالة هؤلاء مؤدية إلى ثوران الفتنة والفساد وصد الناس عن سنن السداد وهيجان الهرج والمرج فيما بين العباد ولأنها غير معطلة لقوة من القوى المودعة فيها بل صارفة لها إلى ما خلقت له فلا تقصير من قبلها في طلب الكمال وأما هؤلاء فهم معطلون لقواهم العقلية مضيعون للفطرة الأصلية التي فطر الناس عليها. واستدل بالآية على أن البهائم لا تعلم ربها عز وجل، ومن ذهب إلى أنها تعلمه سبحانه وتسبحه كما هو مذهب الصوفية. وجماعة من الناس قال: إن هذا خارج مخرج الظاهر، وقيل: المراد إن هم إلا كالأنعام في عدم الانتفاع بالآيات القرآنية والدلائل الأنفسية والآفاقية فإن الأنعام كذ لك والعلم بالله تعالى الحاصل لها ليس استدلاليا بل هو فطري، وكونهم أضل سبيلا من الأنعام من حيث إنها رزقت علما بربها تعالى فهي تسبحه عز وجل به وهؤلاء لم يرزقوا ذلك فهم في غاية الضلال. وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ إلخ بيان لبعض دلائل التوحيد إثر بيان جهالة المعرضين عنها وضلالهم، والخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم والهمزة للتقرير والرؤية بصرية لأنها التي تتعدى بإلى، وفي الكلام مضاف مقدر حذف وأقيم المضاف إليه مقامه أي ألم تنظر إلى صنع ربك لأنه ليس المقصود رؤية ذات الله عز وجل، وكون- إلى- اسما واحدا لآلاء وهي النعم بعيد جدا، وجوز أن تكون علمية وليس هناك مضاف مقدر وتعديتها بإلى لتضمين معنى الانتهاء أي ألم ينته علمك إلى أن ربك كيف مد الظل والأول أولى. وذكر بعض الأجلة أنه يحتمل أن يكون حق التعبير ألم تر إلى الظل كيف مده ربك فعدل عنه إلى ما في النظم الجليل إشعارا بأن المعقول المفهوم من هذا الكلام لوضوح برهانه وهو دلالة حدوثه وتصرفه على الوجه النافع بأسباب ممكنة على أن ذلك فعل الصانع الحكيم كالمشاهد المرئي فكيف بالمحسوس منه، وقال الفاضل الطيبي: لو قيل ألم تر إلى الظل كيف مده ربك كان الانتقال من الأثر إلى المؤثر والذي عليه التلاوة كان عكسه والمقام يقتضيه لأن الكلام في تقريع القوم وتجهيلهم في اتخاذهم الهوى إلها مع وضوح هذه الدلائل ولذلك جعل ما يدل على ذاته تعالى مقدما على أفعاله في سائر آياته وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ [يونس: 67، الفرقان: 47] وهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ [الفرقان: 48، فاطر: 9] ولَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا [الفرقان: 51] وروى السلمي في الحقائق عن بعضهم مخاطبة العام أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية: 17] ومخاطبة الخاص أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ انتهى، وفي الإرشاد لعل توجيه الرؤية إليه سبحانه مع أن المراد تقرير رؤيته عليه الصلاة والسلام لكيفية مد الظل للتنبيه على أن نظره عليه الصلاة والسلام غير مقصور على ما يطالعه من الآثار والصنائع بل مطمح أنظاره صلّى الله عليه وسلّم معرفة شؤون الصانع المجيد جل جلاله ولعل هذا هو سر ما روي عن السلمي، وقيل: إن التعبير المذكور للإشعار بأن المقصود العلم بالرب علما يشبه الرؤية، ونقل الطبرسي عن الزجاج أنه فسر الرؤية بالعلم. وذكر أن الكلام من باب القلب، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 26 والتقدير ألم تر إلى الظل كيف مده ربك ولا حاجة إلى ذلك، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لتشريفه صلّى الله عليه وسلّم وللإيذان بأن ما يعقبه من آثار ربوبيته تعالى ورحمته جل وعلا وكَيْفَ منصوب بمد على الحالية وهي معلقة لتر أن لم تكن الجملة مستأنفة، وفي البحر أن الجملة الاستفهامية التي يتعلق عنها فعل القلب ليس باقية على حقيقة الاستفهام وفيه بحث، وذكر بعض الأفاضل أن كيف للاستفهام وقد تجرد عن الاستفهام وتكون بمعنى الحال نحو انظر إلى كيف تصنع، وقد جوزه الدماميني في هذه الآية على أنه بدل اشتمال من المجرور وهو بعيد انتهى، ولا يخفى أنه يستغني على ذلك عن اعتبار المضاف لكنه لا يعادل البعد. والمراد بالظل على ما رواه جماعة عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والحسن وأيوب بن موسى وإبراهيم التيمي والضحاك وأبي مالك الغفاري وأبي العالية وسعيد بن جبير ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس وذلك أطيب الأوقات فإن الظلمة الخالصة تنفر عنها الطباع وتسد النظر وشعاع الشمس يسخن الجو ويبهر البصر، ومن هنا كان ظل الجنة مدودا كما قال سبحانه: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ [الواقعة: 30] . وقيل: المراد به ما يكون من مقابلة كثيف كجبل أو بناء أو شجر للشمس عند ابتداء طلوعها، ومد الظل من باب ضيق فم القربة، فالمعنى ألم تنظر إلى صنع ربك كيف أنشأ ظلا أي مظلا كان عند ابتداء طلوع الشمس ممتدا إلى ما شاء الله عز وجل واختاره شيخ الإسلام. وتعقب ما تقدم بقوله: غير سديد إذ لا ريب في أن المراد تنبيه الناس على عظيم قدرة الله عز وجل وبالغ حكمته سبحانه فيما يشاهدونه فلا بد أن يراد بالظل ما يتعارفونه من حالة مخصوصة يشاهدونها في موضع يحول بينه وبين الشمس جسم مخالفة لما في جوانبه من مواقع ضح الشمس، وما ذكر وإن كان في الحقيقة ظلا للأفق الشرقي لكنهم لا يعدونه ظلا ولا يصفونه بأوصافه المعهودة اهـ وفيه منع ظاهر، وهو أظهر على ما ذكره أبو حيان في الاعتراض على ذلك من أنه لا يسمى ظلا فقد قال الراغب وكفى به حجة في اللغة الظل ضد الضح وهو أعم من الفيء فإنه يقال: ظل الليل وظل الجنة ويقال لكل موضع لم تصل إليه الشمس ظل ولا يقال الفيء إلا لما زال عنه الشمس انتهى، وظاهر قوله تعالى: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ في وصف الجنة يقتضي أنهم يعدون مثل ما ذكر ظلا. وقيل: هو ما كان من غروب الشمس إلى طلوعها وحكي ذلك عن الجبائي والبلخي وقيل: هو ما كان يوم خلق الله تعالى السماء وجعلها كالقبة ودحا الأرض من تحتها فألقت ظلها عليها وليس بشيء، وإن فسر أَلَمْ تَرَ بألم تعلم لما في تطبيق ما يأتي من تتمة الآية عليه من التكلف وارتكاب خلاف الظاهر، وربما يفوت عليه المقصود الذي سيق له النظم الكريم، وربما يختلج في بعض الأذهان جواز أن يراد به ما يشمل جميع ما يصدق عليه أنه ظل فيشمل ظل الليل وما بين الفجر وطلوع الشمس وظل الأشياء الكثيفة المقابلة للشمس كالجبال وغيرها فإذا شرع في تطبيق الآية على ذلك عدل عنه كما لا يخفى، وللصوفية في ذلك كلام طويل سنذكر إن شاء الله تعالى شيئا منه، وجمهور المفسرين على الأول، والقول الثاني أسلم من القال والقيل. وقوله تعالى: وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً جملة اعتراضية بين المتعاطفين للتنبيه من أول الأمر على أنه لا مدخل للأسباب العادية من قرب الشمس إلى الأفق الشرقي على الأول أو قيام الشاخص الكثيف على الثاني، وإنما المؤثر فيه حقيقة المشيئة والقدرة، ومفعول المشيئة محذوف وهو مضمون الجزاء كما هو القاعدة المستمرة في أمثال هذا التركيب أي ولو شاء جعله ساكنا لجعله ساكنا أي ثابتا على حاله ظلا أبدا كما فعل عز وجل في ظل الجنة أو لجعله ثابتا على حاله من الطول والامتداد وذلك بأن لا يجعل سبحانه للشمس على نسخه سبيلا بأن يطلعها ولا يدعها تنسخه أو بأن لا يدعها تغيره باختلاف أوضاعها بعد طلوعها، وقيل: بأن يجعلها بعد الطلوع مقيمة على وضع واحد وليس الجزء: 10 ¦ الصفحة: 27 بذاك، وإنما عبر عن ذلك بالسكون قيل: لما أن مقابله الذي هو زواله لما كان تدريجيا كان أشبه شيء بالحركة، وقيل: لما أن مقابله الذي هو تغير حاله حسب تغير الأوضاع بين الظل وبين الشمس يرى رأي العين حركة وانتقالا. وأفاد الزمخشري أنه قوبل مد الظل الذي هو انبساطه وامتداده بقوله تعالى: ساكِناً والسكون إنما يقابل الحركة فيكون قد أطلق مَدَّ الظِّلَّ على الحركة مجازا من باب تسمية الشيء باسم ملابسة أو سببه كما قرره الطيبي وذكر أنه عدل عن حرك إلى مد مع أنه أظهر من مد في تناوله الانبساط والامتداد ليدمج فيه معنى الانتفاع المقصود بالذات وهو معرفة أوقات الصلوات فإن اعتبار الظل فيها بالامتداد دون الانبساط وتمم معنى الإدماج بقوله تعالى: ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً أي بالتدرج والمهل لمعرفة الساعات والأوقات وفيه لمحة من معنى قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ [البقرة: 189] اهـ. ولا يبعد أن يقال: إن التعبير بمد لما أن الظل المذكور ظل الأفق الشرقي، وقد اعتبر المشرق والمغرب طرفي جهتي الأرض طولا والشمال والجنوب طرفي جهتيها عرضا أو لأن ظهوره في الأرض وطول المعمور منها الذي يسكنه من يشاهد الظل أكثر من عرض المعمور منها إذ الأول كما هو المشهور نصف دور أعني مائة وثمانين درجة، والثاني دون ذلك على جميع الأقوال فيه فيكون الظل بالنظر إلى الرائين في المعمور من الأرض ممتدا ما بين جهتي شرقيه وغربيه أكثر مما بين جهتي شماليه وجنوبيه، وربما يقال: إن ذلك لما أن مبدأ الظل الفجر الأول وضوؤه يرى مستطيلا ممتدا كذنب السرحان ويلتزم القول بأنه لا يذهب بالكلية وإن ضعف بل يبقى حتى يمده ضوء الفجر الثاني فيرى منبسطا والله تعالى أعلم، وقوله سبحانه: ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا عطف على مَدَّ داخل في حكمه أي ثم جعلنا طلوع الشمس دليلا على ظهوره للحس فإن الناظر إلى الجسم الملون حال قيام الظل عليه لا يظهر له شيء سوى الجسم ولونه ثم إذا طلعت الشمس ووقع ضوؤها على الجسم ظهر له أن الظل كيفية زائدة على الجسم ولونه. والضد يظهر حاله الضد. قاله الرازي والطبري وغيرهما، وقيل: أي ثم جعلناها دليلا على وجوده أي علة له لأن وجوده بحركة الشمس إلى الأفق وقربها منه عادة ولا يخفى ما فيه أو ثم جعلناها علامة يستدل بأحوالها المتغيرة على أحواله من غير أن يكون بينهما سببية وتأثير قطعا حسبما نطق به الشرطية المعترضة، ومن الغريب الذي لا ينبغي أن يخرج عليه كلام الله تعالى المجيد أن على بمعنى مع أي ثم جعلنا الشمس مع الظل دليلا على وحدانيتنا على معنى جعلنا الظل دليلا وجعلنا الشمس دليلا على وحدانيتنا. والالتفات إلى نون العظمة للإيذان بعظم قدر هذا الجعل لما يستتبعه من المصالح التي لا تحصى أو لما في الجعل المذكور العاري عن التأثير مع ما يشاهد بين الظل والشمس من الدوران المطرد المنبئ عن السببية من مزيد الدلالة على عظم القدرة ودقة الحكمة، وثم إما للتراخي الرتبي ويعلم وجهه مما ذكر، وإما للتراخي الزماني كما هو حقيقة معناها بناء على طول الزمان بين ابتداء الفجر وطلوع الشمس، وقوله سبحانه ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً عطف على مَدَّ داخل في حكمه أيضا أي ثم أزلناه بعد ما أنشأناه ممتدا عند إيقاع شعاع الشمس موقعه أو بإيقاعه كذلك ومحوناه على مهل قليلا قليلا حسب سير الشمس، وهذا ظاهر على القول بأن المراد بالظل ظل الشاخص من جبل ونحوه، وأما على القول بأن المراد به ما بين الطلوعين فلأنه إذا عم لا يزول دفعة واحدة بطلوع الشمس في أفق لكروية الأرض واختلاف الآفاق فقد تطلع في أفق ويزول ما عند أهله من الظل وهي غير طالعة في أفق آخر وأهله في طرف من ذلك الظل ومتى ارتفعت عن الأفق الأول حتى بانت من أفقهم زال ما عندهم من الظل فزوال الظل بعد عمومه تدريجى كذا قيل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 28 وقيل لا حاجة إلى ذلك فإن زواله تدريجي نظرا إلى أفق واحد أيضا بناء على أنه يبقى منه بعد طلوع الشمس ما لم يقع على موقعه شعاعها لمانع جبل ونحوه ويزول ذلك تدريجا حسب حركة الشمس ووقوع شعاعها على ما لم يقع عليه ابتداء طلوعها، وكأن التعبير عن تلك الإزالة بالقبض وهو كما قال الطبرسي: جمع الأجزاء المنبسطة لما أنه قد عبر عن الأحداث بالمد. وقوله سبحانه: إِلَيْنا للتنصيص على كون مرجع الظل إليه عز وجل لا يشاركه حقيقة أحد في إزالته كما أن حدوثه منه سبحانه لا يشاركه حقيقة فيه أحد، وثم يحتمل أن تكون للتراخي الزماني وأن تكون للتراخي الرتبي نحو ما مر، ومن فسر الظل بما كان يوم خلق الله تعالى السماء كالقبة ودحا الأرض من تحتها فألقت ظلها عليها جعل معنى ثُمَّ جَعَلْنَا إلخ ثم خلقنا الشمس وجعلناها مسلطة على ذلك الظل وجعلناها دليلا متبوعا له كما يتبع الدليل في الطريق فهو يزيد وينقص ويمتد ويقلص ثم قبضناه قبضا سهلا لا عسر فيه. ويحتمل أن يكون قبضه عند قيام الساعة بقرينة إلينا وكذا يَسِيراً وذلك بقبض أسبابه وهي الأجرام التي تلقي الظل فيكون قد ذكر إعدامه بإعدام أسبابه كما ذكر إنشاءه بإنشاء أسبابه، والتعبير بالماضي لتحققه ولمناسبة ما ذكر معه، وثم للتراخي الزماني وفيه ما فيه كما أشرنا إليه وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً بيان لبعض بدائع آثار قدرته عز وجل وروائع أحكام رحمته ونعمته الفائضة على الخلق، وتلوين الخطاب لتوفية مقام الامتنان حقه، واللام متعلقة بجعل وتقديمها على مفعوليه للاعتناء ببيان كون ما بعد من منافعهم، وفي تعقيب بيان أحوال الظل ببيان أحكام الليل الذي هو ظل الأرض من لطف المسلك ما لا مزيد عليه أي وهو الذي جعل لنفعكم الليل كاللباس يستركم بظلامه كما يستركم اللباس وَجعل النَّوْمَ الذي يقع فيه غالبا بسبب استيلاء الأبخرة على القوى عادة، وقيل: بشم نسيم يهب من تحت العرش ولا يكاد يصح. سُباتاً راحة للأبدان بقطع الأفاعيل التي تكون حال اليقظة، وأصل السبت القطع، وقيل: يوم السبت لما جرت العادة من الاستراحة فيه على ما قيل، وقيل: لأن الله تعالى لم يخلق فيه شيئا، ويقال للعليل إذا استراح من تعب العلة: مسبوت، وإلى هذا ذهب أبو مسلم. وقال أبو حيان: السبات ضرب من الإغماء يعتري اليقظان مرضا فشبه النوم به، والسبت الإقامة في المكان فكان النوم سكونا ما وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً أي ذا نشور ينتشر فيه الناس لطلب المعاش فهو كقوله تعالى: وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً [النبأ: 11] وفي جعله نفس النشور مبالغة، وقيل: نشورا بمعنى ناشرا على الإسناد المجازي، وجوز أن يراد بالسبات الموت لما فيه من قطع الإحساس أو الحياة، وعبر عن النوم به لما بينهما من المشابهة التامة في انقطاع أحكام الحياة، وعليه قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الأنعام: 60] وقوله سبحانه: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها [الزمر: 42] وبالنشور البعث أي وجعل النهار زمان بعث من ذلك الثبات أو نفس البعث على سبيل المبالغة. وأبي الزمخشري الراحة في تفسير السبات وقال: إنه يأباه النشور في مقابلته إباء العيوف الورد وهو مرنق، وكأن ذلك لأن النشور في القرآن لا يكاد يوجد بمعنى الانتشار والحركة لطلب المعاش، وعلل في الكشف إباء الزمخشري بذلك وبأن الآيات السابقة واللاحقة مع ما فيها من التذكير بالنعمة والقدرة أدمج فيها الدلالة على الإعادة فكذلك ينبغي أن لا يفرق بين هذه وبين أترابها. وكأنه جعل جعل الليل لباسا والنوم فيه سباتا بمجموعة مقابل جعل النهار نشورا ولهذا كرر جعل فيه لما فى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 29 النشور من معنى الظهور والحركة الناصبة أو معنى الظهور والبعث ولم يسلك في آية سورة النبأ هذا المسلك لما لا يخفى وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ وقرأ ابن كثير بالتوحيد على إرادة الجنس بأل أو الاستغراق فهو في معنى الجمع موافقة لقراءة الجمهور، وقال ابن عطية: قراءة الجمع أوجه لأن الريح متى وردت في القرآن مفردة فهي للعذاب ومتى كانت للمطر والرحمة جاءت مجموعة لأن ريح المطر تتشعب وتتذأب وتتفرق وتأتي لينة من هاهنا وهاهنا وشيئا إثر شيء وريح العذاب تأتي جسدا واحدا لا تتذأب ألا ترى أنها تحطم ما تجد وتهدمه. وقال الرماني: جمعت رياح الرحمة لأنها ثلاثة لواقح الجنوب والصبا والدبور وأفردت ريح العذاب لأنها واحدة لا تلقح وهي الدبور، وفي قوله صلّى الله عليه وسلّم إذا هبت الريح: اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا إشارة إلى ما ذكر، وأنت تعلم أن في كلام ابن عطية غفولا عن التأويل الذي تتوافق به القراءتان، وقد ذكر في البحر أنه لا يسوغ أن يقال في تلك القراءة أنها أوجه من القراءة الأخرى مع أن كلا منهما متواتر، وأل في الريح للجنس فتعم، وما ذكر في التفرقة بين المفرد والمجموع أكثري أو عند عدم القرينة أو في المنكر كما جاء في الحديث، وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة الروم ما يتعلق بهذا المبحث. بُشْراً تخفيف بشرا بضمتين جمع بشور بمعنى مبشر أي أرسل الرياح مبشرات. وقرىء «نشرا» بالنون والتخفيف جمع نشور كرسول ورسل، و «نشرا» بضم النون والشين وهو جمع لذلك أيضا أي أرسلها ناشرات للسحاب من النشر بمعنى البعث لأنها تجمعه كأنها تحييه لا من النشر بمعنى التفريق لأنه غير مناسب إلا أن يراد به السوق مجازا، و «نشرا» بفتح النون وسكون الشين على أنه مصدر وصف به مبالغة، وجوز أن يكون مفعولا مطلقا لأرسل لأنه بمعنى نشر والكل متواتر. وروي عن ابن السميقع أنه قرأ «بشرى» بألف التأنيث بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي قدام المطر وقد استعيرت الرحمة له ورشحت الاستعارة أحسن ترشيح، وجوز أن يكون في الكلام استعارة تمثيلية وبُشْراً من تتمة الاستعارة داخل في جملتها، والالتفات إلى نون العظمة في قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ لإبراز كمال العناية بالإنزال لأنه نتيجة ما ذكر من إرسال الرياح أي أنزلناه بعظمتنا بما رتبنا من إرسال الرياح من جهة العلو التي ليست مظنة الماء أو من السحاب أو من الجرم المعلوم، وقد تقدم تفصيل الكلام في ذلك ماءً طَهُوراً الظاهر أنه نعت لماء، وعليه قيل معناه بليغ الطهارة زائدها، ووجه في البحر المبالغة بأنها راجعة إلى الكيفية باعتبار أنه لم يشبه شيء آخر مما في مقره أو ممره أو ما يطرح فيه كمياه الأرض، وفسره ثعلب: بما كان طاهرا في نفسه مطهرا لغيره. وتعقبه الزمخشري بأنه إن كان ما قاله شرحا لبلاغته في الظهارة كان سديدا وإلا فليس فعول من التفعيل في شيء، وقال غيره: إن أخذ التطهير فيه يأباه لزوم الطهارة والمبالغة في اللازم لا توجب التعدي. وأجاب صاحب الكشف بأنه لما لم تكن الطهارة في نفسها قابلة للزيادة رجعت المبالغة فيها إلى انضمام معنى التطهير إليها لا أن اللازم صار متعديا، وتعقبه المولى الدواني بأن فيه تأملا من حيث أن انضمام معنى التطهير لما كان مستفادا من المبالغة بمعونة عدم قبول الزيادة كانت المبالغة في الجملة سببا للتعدي، ثم قال: ويمكن التفصي بأن المعنى اللازم باق بحاله، والمبالغة أوجبت انضمام المتعدي إليه لا تعدية ذلك اللازم وبينهما فرقان، وذكر بعض الأجلة أن إفادة المبالغة تعلق الفعل بالغير مما لا يساعده لغة ولا عرف وأين هذا التعلق في قول جرير: إلى رجح الأكفال غيد من الظبا ... عذاب الثنايا ريقهن طهور الجزء: 10 ¦ الصفحة: 30 ومثله قوله تعالى: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً [الإنسان: 21] ومن هذا وأمثاله اختار بعضهم كون المبالغة راجعة إلى الكيفية على ما سمعت عن البحر، وقال بعض المحققين: إن طَهُوراً هنا اسم لما يتطهر به كما في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «التراب طهور المؤمن» وفعول كما قال الأزهري في كتاب الزاهر يكون اسم آلة لما يفعل به الشيء كغسول ووضوء وفطور وسحور إلى غير ذلك كما يكون صفة بمعنى فاعل كأكول أو مفعول كصبوب بمعنى مصبوب واسم جنس كذنوب ومصدرا وهو نادر كقبول فيفيد التطهير للغير وضعا، ويمكن حمل ما روي عن ثعلب على هذا، واعتبار كونه طاهرا في نفسه لأن كونه مطهرا للغير فرع ذلك، وجعل على هذا بدلا من ماء أو عطف بيان له لا نعتا فيكون التركيب نحو أرسلت إليك ماء وضوءا. وأنت تعلم أن المتبادر فيما نحن فيه كونه نعتا فإن أمكن ذلك على هذا الوجه بنوع تأويل كان أبعد عن القيل والقال، وحكى سيبويه أن طهورا جاء مصدر التطهر في قولهم: تطهرت طهورا حسنا، وذكر أن منه قوله عليه الصلاة والسلام: «لا صلاة إلا بطهور» وحمل ما في الآية على ذلك مما لا ينبغي. وأيا ما كان ففي توصيف الماء به إعظام المنة كما لا يخفى لِنُحْيِيَ بِهِ أي بما أنزلنا من الماء الطهور بَلْدَةً مَيْتاً ليس فيها نبات وذلك بإنبات النبات به والمراد بالبلدة الأرض كما في قوله: أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة ... قليل بها الأصوات إلا بغامها وجوز أن يراد بها معناها المعروف وتنكيرها للتنويع، وتذكير صفتها لأنها بمعنى البلد أو لأن مَيْتاً من أمثلة المبالغة التي لا تشبه المضارع في الحركات والسكنات وهو يدل على الثبوت فأجري مجرى الجوامد، ولام لِنُحْيِيَ متعلق بأنزلنا وتعلقه بطهورا ليس بشيء. وقرأ عيسى وأبو جعفر «ميّتا» بالتشديد، قال أبو حيان: ورجح الجمهور التخفيف لأنه يماثل فعلا من المصادر فكما وصف المذكر والمؤنث بالمصدر فكذلك بما أشبهه بخلاف المشدد فإنه يماثل فاعلا من حيث قبوله للتاء إلا فيما خص المؤنث نحو طامث. وَنُسْقِيَهُ أي ذلك الماء الطهور وعند جريانه في الأودية أو اجتماعه في الحياض والمناقع والآبار مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً أي أصل البوادي الذين يعيشون بالحياء، ولذلك نكر الأنعام والأناسي فالتنكير للتنويع. وتخصيص هذا النوع بالذكر لأن أهل القرى والأمصار يقيمون بقرب الأنهار والمنابع فبهم وبما لهم من الأنعام غنية عن سقي السماء وسائر الحيوانات تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب غالبا، ومساق الآيات الكريمة كما هو للدلالة على عظم القدرة كذلك هو لتعداد أنواع النعمة فالأنعام حيث كانت قنية للإنسان وعامة منافعهم ومعايشهم منوطة بها قدم سقيها على سقيهم كما قدم عليها إحياء الأرض فإنه سبب لحياتها وتعيشها فالتقديم من قبيل تقديم الأسباب على المسببات، وجوز أن يكون تقديم ما ذكر على سقي الأناسي لأنهم إذا ظفروا بما يكون سقي أرضهم ومواشيهم لم يعدموا سقياهم، وحاصله أنه من باب تقديم ما هو الأهم والأصل في باب الامتنان، وذكر سقي الأناسي على هذا إرداف وتتميم للاستيعاب، ومن تبعيضية أو بيانية وكَثِيراً صفة للمتعاطفين لا على البدل. وقرأ عبد الله وأبو حيوة وابن أبي عبلة والأعمش وعاصم وأبو عمرو في رواية عنهما «ونسقيه» بفتح النون ورويت عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأسقي وسقي لغتان، وقيل: أسقاه بمعنى جعل السقيا له وهيأها، وأَناسِيَّ جمع إنسان عند سيبويه وأصله أناسين فقلبت نونه ياء وأدغمت فيما قبلها. وذهب الفراء والمبرد والزجاج إلى أنه جمع إنسي، قال في البحر: والقياس أناسية كما قالوا في مهلبي مهالبة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 31 وفي الدر المصون أن فعالى إنما يكون جمعا لما فيه ياء مشددة إذا لم يكن للنسب ككرسي وكراسي وما فيه ياء النسب يجمع على أفاعلة كأزرقي وأزارقة وكون ياء إنسي ليست للنسب بعيد فحقه أن يجمع على أناسية، وقال في التسهيل: إنه أكثري، وعليه لا يرد ما ذكر وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ الضمير للماء المنزل من السماء كالضميرين السابقين، وتصريفه تحويل أحواله وأوقاته وإنزاله على أنحاء مختلفة أي وبالله تعالى لقد صرفنا المطر بَيْنَهُمْ أي بين الناس في البلدان المختلفة والأوقات المتغايرة والصفات المتفاوتة من وابل وطل وغيرهما لِيَذَّكَّرُوا أي ليعتبروا بذلك فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً أي لم يفعل إلا كفران النعمة وإنكارها رأسا بإضافتها لغيره عز وجل بأن يقول: مطرنا بنوء كذا معتقدا أن النجوم فاعلة لذلك ومؤثرة بذواتها فيه، وهذا الاعتقاد والعياذ بالله تعالى كفر، وفي الكشاف وغيره أن من اعتقد أن الله عز وجل خالق الأمطار وقد نصب الأنواء دلائل وأمارات عليها وأراد بقوله مطرنا بنوء كذا مطرنا في وقت سقوط النجم الفلاني في المغرب مع الفجر لا يكفر، وظاهره أنه لا يأثم أيضا، وقال الإمام: من جعل الأفلاك والكواكب مستقلة باقتضاء هذه الأشياء فلا شك في كفره وأما من قال: إنه سبحانه جبلها على خواص وصفات تقتضي هذه الحوادث فلعله لا يبلغ خطؤه إلى حد الكفر. وسيأتي إن شاء الله تعالى منا في هذه المسألة كلام أرجو من الله تعالى أن تستحسنه ذوو الأفهام ويتقوى به كلام الإمام، ورجوع ضمير أنزلناه إلى الماء المنزل مروي عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وعكرمة. وأخرج جماعة عن الأول وصححه الحاكم أنه قال: ما من عام بأقل مطرا من عام ولكن الله تعالى يصرفه حيث يشاء ثم قرأ هذه الآية. وأخرج الخرائطي في مكارم الأخلاق عن الثاني مثله، ويفهم من ذلك حمل التصريف على التقسيم، وقال بعضهم: هو راجع إلى القول المفهوم من السياق وهو ما ذكر فيه إنشاء السحاب وإنزال القطر لما ذكر من الغايات الجليلة وتصريفه تكريره وذكره على وجوه ولغات مختلفة، والمعنى ولقد كررنا هذا القول وذكرناه على أنحاء مختلفة في القرآن وغيره من الكتب السماوية بين الناس من المتقدمين والمتأخرين ليتفكروا ويعرفوا بذلك كمال قدرته تعالى وواسع رحمته عز وجل في ذلك فأبى أكثرهم ممن سلف وخلف إلا كفران النعمة وقلة الاكتراث بها أو إنكارها رأسا بإضافتها لغيره تعالى شأنه، واختار هذا القول الزمخشري، وقال أبو السعود: هو الأظهر، وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطاء الخراساني أنه عائد على القرآن ألا ترى قوله تعالى بعد: وَجاهِدْهُمْ بِهِ وحكاه في البحر عن ابن عباس أيضا والمشهور عنه ما تقدم، ولعل المراد ما ذكر فيه من الأدلة على كمال قدرته تعالى وواسع رحمته عز وجل أو نحو ذلك فتأمل، وأما ما قيل إنه عائد على الريح فليس بشيء. وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً نبيا ينذر أهلها فتخف عليك أعباء النبوة لكن لم نشأ ذلك وقصرنا الأمر عليك إجلالا لك وتعظيما فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ فيما يريدونك عليه وهو تهييج له صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين. وَجاهِدْهُمْ بِهِ أي بالقرآن كما أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وذلك بتلاوة ما فيه من البراهين والقوارع والزواجر والمواعظ وتذكير أحوال الأمم المكذبة جِهاداً كَبِيراً فإن دعوة كل العالمين على الوجه المذكور جهاد كبير لا يقادر قدره كما وكيفا، وترتيب ما ذكر على ما قبله حسبما تقتضيه الفاء باعتبار أن قصر الرسالة عليه عليه الصلاة والسلام نعمة جليلة ينبغي شكرها وما ذكر نوع من الشكر فكأنه قيل: بعثناك نذيرا لجميع القرى وفضلناك وعظمناك ولم نبعث في كل قرية نذيرا فقابل ذلك بالثبات والاجتهاد في الدعوة وإظهار الحق، وفي الكشف لبيان النظم الكريم أنه لما ذكر ما يدل على حرصه صلّى الله عليه وسلّم على طلب هداهم وتمارضهم في ذلك في قوله سبحانه: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا [الفرقان: 43] وذنب بدلائل القدرة والنعمة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 32 والرحمة دلالة على أنهم لا ينفع فيهم الاحتشاد وأنهم يغمطون مثل هذه النعم ويغفلون عن عظمة موجدها سبحانه وجعلوا كالأنعام وأضل وختم بأنه ليس لهم مراد إلا كفور نعمته تعالى، قيل: وَلَوْ شِئْنا على معنى أنا عظمناك بهذا الأمر لتستقل بأعبائه وتحوز ما ادخر لك من جنس جزائه فعليك بالمجاهدة والمصابرة ولا عليك من تلقيهم الدعوة بالإباء والمشاجرة وبولغ فيه فجعل حرصه صلّى الله عليه وسلّم على إيمان هؤلاء المطبوع على قلوبهم طاعة لهم، وقيل: فلا تطعهم، ومدار السورة على ما ذكره الطيبي على كونه صلّى الله تعالى عليه وسلّم مبعوثا على الناس كافة ينذرهم ما بين أيديهم وما خلفهم ولهذا جعل براعة استهلالها تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان: 1] والآية على ما سمعت متعلقة بقوله تعالى: أَرَأَيْتَ إلى آخر الآيات، وفيها من التنويه بشأنه عليه الصلاة والسلام ما فيها وليست مسوقة للتأديب كما وهم. وقيل: هي متعلقة بما عند على معنى ولو شئنا لقسمنا النذير بينهم، كما قسمنا المطر بينهم ولكنا نفعل ما هو إلا نفع لهم في دينهم ودنياهم فبعثناك إليهم كافة فلا تطع إلخ، وفيه من الدلالة على قصور النظر ما فيه. هذا وجوز أن يكون ضمير بِهِ عائدا على ترك طاعتهم المفهوم من النهي ولعل الباء حينئذ للملابسة والمعنى وجاهدهم بما ذكر من أحكام القرآن الكريم ملابسا ترك طاعتهم كأنه قيل: وجاهدهم بالشدة والعنف لا بالملاءمة والمداراة كما في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة: 73، التحريم: 9] وإلا ورد عليه أن مجرد ترك الطاعة بتحقيق بلا دعوة أصلا وليس فيه شائبة الجهاد فضلا عن الجهاد الكبير، وجوز أيضا أن يكون لما دل عليه قوله عز وجل وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً من كونه صلّى الله تعالى عليه وسلم نذير كافة القرى لأنه لو بعث في كل قرية نذيرا لوجب على كل نذير مجاهدة قريته فاجتمعت على رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم تلك المجاهدات كلها فكبر من أجل ذلك جهاده وعظم فقيل له عليه الصلاة والسلام: وجاهدهم بسبب كونك نذير كافة القرى جهادا كبيرا جامعا لكل مجاهدة. وتعقب بأن بيان سبب كبر المجاهدة بحسب الكمية ليس فيه مزيد فائدة فإنه بين بنفسه وإنما اللائق بالمقام بيان سبب كبرها وعظمها في الكيفية، وجوز أبو حيان أن يكون الضمير للسيف. وأنت تعلم أن السورة مكية ولم يشرع في مكة الجهاد بالسيف، ومع هذا لا يخفى ما فيه، ويستدل بالآية على الوجه المأثور على عظم جهاد العلماء لأعداء الدين بما يوردون عليهم من الأدلة وأوفرهم حظا المجاهدون بالقرآن منهم وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي أرسلهما في مجاريهما كما يرسل الخيل في المرج كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ويقال في هذا أمرج أيضا على ما قيل إلا أن مرج لغة الحجاز وأمرج لغة نجد. وأصل المرج كما قال الراغب: الخلط، ويقال: مرج أمرهم أي اختلط، وسمي المرعى مرجا لاختلاط النبات فيه، والمراد بالبحرين الماء الكثير العذب والماء الكثير الملح من غير تخصيص ببحرين معينين، وهذا رجوع إلى ما تقدم من ذكر الأدلة، وقوله تعالى: هذا عَذْبٌ فُراتٌ إلخ أي شديد العذوبة ووزنه فعال من فرته وهو مقلوب من رفته إذا كسره لأنه يكسر سورة العطش ويقمعها، وقيل: هو البارد كما في مجمع البيان إما استئناف أو حال بتقدير القول أي يقال فيهما هذا عذب فرات وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وقيل: هي حال من غير تقدير قول على معنى مرج البحرين مختلفين عذوبة شديدة وملوحة كذلك، واسم الإشارة يغني غناء الضمير، والأجاج شديد الملوحة كما أشرنا إليه أطلق عليه لأن شربه يزيد أجيج العطش، وقال الراغب: هو شديد الملوحة والحرارة من أجيج النار انتهى، وقيل: هو المر وحكاه الطبرسي عن قتادة، وقيل: الحار فهو يقابل الفرات عند من فسره بالبارد. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 33 وقرأ طلحة بن مصرف وقتيبة عن الكسائي «ملح» بفتح الميم وكسر اللام هنا وكذا في فاطر، قال أبو حاتم: وهذا منكر في القراءة، وقال أبو الفتح: أراد مالحا فخفف بحذف الألف كما قيل برد في بارد في قوله: أصبح قلبي صردا ... لا يشتهي أن يردا إلا عرادا عردا ... وصليانا بردا وعكنا ملتبدا وقيل: مخفف مليح لأنه ورد بمعنى مالح، وقال أبو الفضل الرازي في كتاب اللوامح: هي لغة شاذة قليلة فليس مخففا من شيء، نعم هو كملح في قراءة الجمهور بمعنى مالح، والأفصح أن يقال في وصف الماء: ماء ملح دون ماء مالح وإن كان صحيحا كما نقل الأزهري ذلك عن الكسائي، وقد اعترف أيضا بصحته ثعلب، وقال الخفاجي: الصحيح أنه مسموع من العرب كما أثبته أهل اللغة وأنشدوا لإثباته شواهد كثيرة وعليه فمن خطأ الإمام أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه بقوله: ماء مالح فقد أخطأ جاهلا بقدر هذا الإمام وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً أي حاجزا وهو لفظ عربي، وقيل: أصله برزه فعرب، والمراد بهذا الحاجز كما أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن ما يحول بينهما من الأرض كالأرض الحائلة بين دجلة ويقال لها بحر لعظمها ولشيوع إطلاق البحر على النهر العظيم صار حقيقة فيه أيضا فلا إشكال في التثنية، وإن أبيت صيرورته حقيقة فاعتبار التغليب يرفع الإشكال وبين البحر الكبير، والمراد حيلولتها في مجاريها وإلا فهي تنتهي إلى البحر وكذا سائر الأنهار العظام، ودلالة هذا الجعل على كمال قدرته عز وجل كونه على خلاف مقتضى الطبيعة فإن مقتضى طبيعة الماء أن يكون متضام الأجزاء مجتمعا غامرا للأرض محيطا بها من جميع جهاتها إحاطة الهواء به ومقتضى طبيعة الأرض أن تكون متضامة الأجزاء أيضا لا غور فيها ولا نجد مغمورة بالماء واقعة في جوفه كمركز الدائرة كما قرر ذلك الفلاسفة وذكروا في سبب انكشاف ما انكشف من الأرض ووقوع الأغوار والأنجاد فيها ما لا يخلو عن قيل وقال، وبَيْنَهُما ظرف لجعل، ويجوز أن يكون حالا من بَرْزَخاً، والظاهر أن تنوين بَرْزَخاً للتعظيم أي وجعل بينهما برزخا عظيما حيث إنه على كثرة مرور الدهور لا يتخلله ماء أحد البحرين حتى يصل إلى الآخر فيغير طعمه وَحِجْراً مَحْجُوراً أي وتنافرا مفرطا كان كلّا منهما يتعوذ من الآخر بتلك المقالة، والمراد لزوم كل منهما لصفته من العذوبة والملوحة فلا ينقلب البحر العذب ملحا في مكانه ولا البحر الملح عذبا في مكانه وذلك من كمال قدرته تعالى وبالغ حكمته عز وجل فإن العذوبة والملوحة ليستا بسبب طبيعة الأرض ولا بسبب طبيعة الماء وإلا لكان الكل عذبا أو الكل ملحا، وذكر في حكمة جعل البحر الكبير ملحا أن لا ينتن بطول المكث وتقادم الدهور قيل: وهو السر في جعل دمع العين ملحا، وفيه حكم أخرى الله تعالى أعلم بها. والظاهر إن حِجْراً عطف على بَرْزَخاً أي وجعل بينهما هذه الكلمة، والمراد بذلك ما سمعت آنفا وهو من أبلغ الكلام وأعذبه، وقيل: هو منصوب بقول مقدر أي ويقولان حجرا محجور، وعن الحسن أن المراد من الحجر ما حجر بينهما من الأرض وتقدم تفسيره البرزخ بنحو ذلك، وكان الجمع بينهما حينئذ لزيادة المبالغة في أمر الحاجز وما قدمنا أولى وأبعد مغزى، وقيل: المراد بالبرزخ حاجز من قدرته عز وجل غير مرئي وبقوله سبحانه: حِجْراً مَحْجُوراً التميز التام وعدم الاختلاط، وأصله كلام يقوله المستعيذ لما يخافه كما تقدم تفصيله، وحاصل معنى الآية أنه تعالى هو الذي جعل البحرين مختلطين في مرأى العين ومنفصلين في التحقيق بقدرته عز وجل أكمل انفصال بحيث لا يختلط العذب بالملح ولا الملح بالعذب ولا يتغير طعم كل منهما بالآخر أصلا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 34 وحكي هذا عن الأكثرين وفيه أنه خلاف المحسوس فإن الأنهار العظيمة كدجلة وما ينضم إليها والنيل وغيرهما مما يشاهده الناس إذا اتصلت في البحر تغير طعم غير قليل منها في جهة المتصل وكذا يتغير طعم غير قليل من البحر في جهة المتصل أيضا ويختلف التغير قلة وكثرة باختلاف الورود لاختلاف أسبابه من الهواء وغيره قوة وضعفا كما أخبر به مبلغ التواتر ولم يخبر أحد أنه شاهد في الأرض بحرين أحدهما عذب والآخر ملح، وقد اتصل أحدهما بالآخر من غير تغير لطعم شيء منهما أصلا، ولا مساغ عند من له أدنى ذوق لجعل الآية في بحرين في الأرض كذلك لكنهما لم يشاهدهما أحد كما لا يخفى، ولا أرى وجها لتفسير الآية بما ذكر والتزام هذا ونحوه من التكلفات الباردة مع ظهور الوجه الذي لا كدورة فيه عند المنصف إلا تسبب طعن الكفرة في القرآن العظيم وسوء الظن بالمسلمين وقيل: المراد بالبرزخ الواسطة أي وجعل بين البحر العذب الشديد العذوبة والبحر الملح الشديد الملوحة ماء متوسطا ليس بالشديد العذوبة ولا بالشديد الملوحة وهو قطعة من العذب الفرات عند موضع التلاقي مزاجها شيء من الملح الأجاج فكسر سورة عذوبتها وقطعة من الملح الأجاج عند موضع التلاقي أيضا مازجها شيء من العذب الفرات فكسر سورة ملوحتها ويكون التنافر البليغ بينهما المفهوم من قوله سبحانه: وَحِجْراً مَحْجُوراً فيما عدا ذلك وهو ما لم يتأثر بصاحبه منهما بل يبقى على صفته من العذوبة الشديدة والملوحة الشديدة وهو كما ترى، وحكي في البحر أن المراد بالبحرين بحران معينان هما بحر الروم وبحر فارس. وذكره في الدر المنثور عن الحسن برواية ابن أبي حاتم وهو من العجب العجاب لأن كلا هذين البحرين ملح أجاج فكيف يصح إرادتهما هنا مع قوله تعالى: هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ نعم قد يصح فيما سيأتي إن شاء الله تعالى من آية سورة [الرحمن: 19، 20] أعني قوله سبحانه: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ لعدم ذكر ما يمنعه هناك، وما روي عن الحسن إن صح فلعله في تلك الآية، ووهم السيوطي في روايته في الكلام على هذه الآية، وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أن البحرين هما بحر السماء وبحر الأرض وذكر مثله في البحر عن ابن عباس وأنهما يلتقيان كل عام، وهذا شيء أنا لا أقول به في الآية ولا أعتقد صحة روايته عمن سمعت وإن كان مناسبة الآية عليه لما تقدم من قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً على القول بأن المطر من بحر في السماء أتم ودلالتها على كمال قدرته تعالى أظهر وأما أنت فبالخيار والله تعالى ولي التوفيق. وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً هو الماء الذي خمر به طينة آدم عليه السلام وجعله جزءا من مادة البشر لتجتمع وتسلس وتستعد لقبول الأشكال والهيئات، فالمراد بالماء الماء المعروف وتعريفه للجنس والمراد بالبشر آدم عليه السلام وتنوينه للتعظيم أو جنس البشر الصادق عليه عليه السلام وعلى ذريته، ومن ابتدائية، ويجوز أن يراد بالماء النطفة وحينئذ يتعين حمل البشر على أولاد آدم عليه السلام. فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً أي قسمه قسمين ذوي نسب أي ذكورا ينسب إليهم وذوات صهر أي إناثا يصاهر بهن فهو كقوله تعالى: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [القيامة: 39] فالواو للتقسيم والكلام على تقدير مضاف حذف ليدل على المبالغة ظاهرا وعدل عن ذكر وأنثى ليؤذن بالانشعاب نصا، وهذا الجعل والتقسيم مما لا خفاء فيه على تقدير أن يراد بالبشر الجنس، وأما على تقدير أن يراد به آدم عليه السلام فقيل: هو باعتبار الجنس وفي الكلام ما هو من قبيل الاستخدام نظير ما في قولك: عندي درهم ونصفه، وقيل: لا حاجة إلى اعتبار ذلك والكلام من باب الحذف والإيصال، أي جعل منه وقد جيء به على الأصل في نظير هذه الآية وهو ما سمعته آنفا، وقيل: معنى جعل آدم نسبا وصهرا خلق حواء منه وإبقاؤه على ما كان عليه من الذكورة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 35 وتعقيب جعل الجنس قسمين خلق آدم أو الجنس باعتبار خلقه أو جعل قسمين من آدم خلقه عليه السلام كما تؤذن به الفاء ظاهر، وربما يتوهم أن الضمير المنصوب في جعله عائد على الماء والفاء مثلها في قوله تعالى: وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ [هود: 45] إلخ وقوله تعالى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ [الأعراف: 4] وليس بشيء. وعن علي كرّم الله تعالى وجهه أن النسب ما لا يحل نكاحه والصهر ما يحل نكاحه ، وفي رواية أخرى عنه رضي الله تعالى عنه النسب ما لا يحل نكاحه والصهر قرابة الرضاع ، وتفسير الصهر بذلك مروي عن الضحاك أيضا. وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً مبالغا في القدرة حيث قدر على أن يخلق من مادة واحدة بشرا ذا أعضاء مختلفة وطباع متباعدة، وجعله قسمين متقابلين وَكانَ في مثل هذا الموضع للاستمرار. وإذا قلنا بأن الجملة الاسمية نفسها تفيد ذلك أيضا أفاد الكلام استمرارا على استمرار. وربما أشعر ذلك بأن القدرة البالغة من مقتضيات ذاته جل وعلا، ومن العجب ما زعمه بعض (1) من يدعي التفرد بالتحقيق ممن صحبناه من علماء العصر رحمة الله تعالى عليه إن كانَ في مثله للاستمرار فيما لم يزل والجملة الاسمية للاستمرار فيما لا يزال فيفيد جمعهما استمرار ثبوت الخبر للمبتدأ أزلا وأبدا، ويعلم منه مبلغ الرجل في العلم وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الذي شأنه تعالى شأنه ما ذكر ما لا يَنْفَعُهُمْ إن عبدوه وَلا يَضُرُّهُمْ إن لم يعبدوه، والمراد بذلك الأصنام أو كل ما عبد من دون الله عز وجل وما من مخلوق يستقل بالنفع والضر وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ الذي ذكرت آثار ربوبيته جل وعلا ظَهِيراً أي مظاهرا كما قال الحسن ومجاهد وابن زيد وفعيل بمعنى مفاعل كثير ومنه نديم وجليس، والمظاهرة المعاونة أي يعاون الشيطان على ربه سبحانه بالعداوة والشرك، والمراد بالكافر الجنس فهو إظهار في مقام الإضمار لنعي كفرهم عليهم. وقيل: هو أبو جهل والآية نزلت فيه، وقال عكرمة: هو إبليس عليه اللعنة، والمراد يعاون المشركين على ربه عز وجل بأن يغريهم على معصيته والشرك به عز وجل، وقيل: المراد يعاون على أولياء الله تعالى. وجوز أن يكون هذا مرادا على سائر الاحتمالات في الكافر. وقيل: المراد بظهيرا مهينا من قولهم: ظهرت به إذا نبذته خلف ظهرك أي كان من يعبد من دون الله تعالى ما لا ينفعه ولا يضره مهينا على ربه عز وجل لا خلاق له عنده سبحانه قاله الطبري، ففعيل بمعنى مفعول، والمعروف أن ظَهِيراً بمعنى معين لا بمعنى مظهور به وَما أَرْسَلْناكَ في حال من الأحوال إِلَّا حال كونك مُبَشِّراً للمؤمنين وَنَذِيراً أي ومنذرا مبالغا في الإنذار للكافرين، ولتخصيص الإنذار بهم وكون الكلام فيهم والإشعار بغاية إصرارهم على ما هم فيه من الضلال اقتصر على صيغة المبالغة فيه، وقيل: المبالغة باعتبار كثرة المنذرين فإن الكفرة في كل وقت أكثر من المؤمنين. وبعضهم اعتبر كثرتهم بإدخال العصاة من المؤمنين فيهم أي ونذيرا للعاصين مؤمنين كانوا أو كافرين والمقام يقتضي التخصيص بالكافرين كما لا يخفى، والمراد ما أرسلناك إلا مبشرا للمؤمنين ونذيرا للكافرين فلا تحزن على عدم إيمانهم قُلْ لهم دافعا عن نفسك تهمة الانتفاع بإيمانهم ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على تبليغ الرسالة الذي ينبيء عنه الإرسال أو على المذكور من التبشير والإنذار، وقيل: على القرآن مِنْ أَجْرٍ أي أجر ما من جهتكم إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ أي إلى رحمته ورضوانه سَبِيلًا أي طريقا، والاستثناء عند الجمهور منقطع أي لكن   (1) هو المرحوم محمد الأمين السويدي اهـ منه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 36 ما شاء أن يتخذ إلى ربه سبحانه سبيلا أي بالإنفاق القائم مقام الأجر كالصدقة والنفقة في سبيل الله تعالى ليناسب الاستدراك فليفعل، وذهب البعض إلى أنه متصل، وفي الكلام مضاف مقدر أي إلا فعل من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا بالإيمان والطاعة حسبما ادعو إليهما، وهو مبني على الادعاء وتصوير ذلك بصورة الأجر من حيث أنه مقصود الإتيان به، وهذا كالاستثناء في قوله: ولا عيب فيهم غير أن نزيلهم ... يعاب بنسيان الأحبة والوطن وفي ذلك قلع كلي لشائبة الطمع وإظهار لغاية الشفقة عليهم حيث جعل ذلك مع كون نفعه عائدا إليهم عائدا إليه صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: المعنى ما أسألكم عليه أجرا إلا أجر من آمن أي إلا الأجر الحاصل لي من إيمانه فإن الدال على الخير كفاعله وحينئذ لا يحتاج إلى الادعاء والتصوير السابق، والأولى ما فيه قلع شائبة الطمع بالكلية. وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ في الإغناء عن أجورهم والاستكفاء عن شرورهم، وكأن العدول عن وتوكل على الله إلى ما في النظم الجليل ليفيد بفحواه أو بترتب الحكم فيه على وصف مناسب عدم صحة التوكل على غير المنصف بما ذكر من الحياة والبقاء، أما عدم صحة التوكل على من لم يتصف بالحياة كالأصنام فظاهر وأما عدم صحته على من لم يتصف بالبقاء بأن كان ممن يموت فلأنه عاجز ضعيف فالمتوكل عليه أشبه شيء بضعيف عاد بقرملة، وقيل: لأنه إذا مات ضاع من توكل عليه. وأخرج ابن أبي الدنيا في التوكل. والبيهقي في شعب الإيمان عن عقبة بن أبي ثبيت قال: مكتوب في التوراة لا توكل على ابن آدم فإن ابن آدم ليس له قوام، ولكن توكل على الحي الذي لا يموت. وقرأ بعض السلف هذه الآية فقال: لا يصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ أي ونزهه سبحانه ملتبسا بالثناء عليه تعالى بصفات الكمال طالبا لمزيد الإنعام بالشكر على سوابقه عز وجل فالباء للملابسة، والجار والمجرور في موضع الحال، وقدم التنزيه لأنه تخلية وهي أهم من التحلية، وفي الحديث: «من قال سبحان الله وبحمده غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر» وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ ما ظهر منها وما بطن كما يؤذن به الجمع المضاف فإنه من صيغ العموم أو قوله تعالى: خَبِيراً لأن الخبرة معرفة بواطن الأمور كما ذكره الراغب ومن علم البواطن علم الظواهر بالطريق الأولى فيدل على ذلك مطابقة والتزاما. والظاهر أن بِذُنُوبِ متعلق بخبيرا وهو حال أو تمييز. وباء بِهِ زائدة في فاعل كَفى، وجوز أن يكون بِذُنُوبِ صلة كفى. والجملة مسوقة لتسليته صلّى الله عليه وسلّم ووعيد الكفار أي إنه عز وجل مطلع على ذنوب عباده بحيث لا يخفى عليه شيء منها فيجازيهم عليها ولا عليك إن آمنوا أو كفروا. الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ قد سلف تفسيره. ومحل الموصول الجر على أنه صفة أخرى للحي، ووصف سبحانه بالصفة الفعلية بعد وصفه جل وعلا بالأبدية التي هي من الصفات الذاتية والإشارة إلى اتصافه تعالى بالعلم الشامل لتقرير وجوب التوكل عليه جل جلاله وتأكيده فإن من أنشأ هذه الأجرام العظام على هذا النمط الفائق والنسق الرائق بتدبير متين وترتيب رصين في أوقات معينة مع كمال قدرته سبحانه على إبداعها دفعة بحكم جليلة وغايات جميلة لا تقف على تفاصيلها العقول أحق من يتوكل عليه وأولى من يفوض الأمر إليه. وقوله تعالى: الرَّحْمنُ مرفوع على المدح أي هو الرحمن وهو في الحقيقة وصف آخر للحي كما في قراءة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 37 زيد بن عبد الرحمن بالجر مفيد لزيادة تأكيد ما ذكر من وجوب التوكل عليه جل شأنه وإن لم يتبعه في الإعراب لما تقرر من أن المنصوب والمرفوع مدحا وإن خرجا عن التبعية لما قبلهما صورة حيث لم يتبعاه في الإعراب وبذلك سميا قطعا لكنهما تابعان له حقيقة، ألا ترى كيف التزموا حذف الفعل والمبتدأ روما لتصوير كل منهما بصورة متعلق من متعلقات ما قبله وتنبيها على شدة الاتصال بينهما وإنما قطعوا للافتتان الموجب لإيقاظ السامع وتحريكه إلى الجد في الإصغاء. وجوز أن يكون الموصول في محل نصب على الاختصاص وأن يكون في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف صفة له أو مبتدأ والرَّحْمنُ خبره، وجوز أن يكون الرَّحْمنُ بدلا من المستكن في «استوى» ويجوز على مذهب الأخفش أن يكون «الرحمن» مبتدأ، وقوله تعالى: فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً خبره على حد تخريجه قول الشاعر: وقائلة خولان فانكح فتاتهم وهو بعيد، والظاهر أن هذه جملة منقطعة عما قبلها إعرابا، والفاء فصيحة والجار والمجرور صلة اسأل والسؤال كما يعدى بعن لتضمنه معنى التفتيش يعدى بالباء لتضمنه معنى الاعتناء. وعليه قول علقمة بن عبدة: فإن تسألوني بالنساء فإنني ... خبير بأدواء النساء طبيب فلا حاجة إلى جعلها بمعنى عن كما فعل الأخفش والزجاج والضمير راجع إلى ما ذكر إجمالا من الخلق والاستواء. والمعنى إن شئت تحقيق ما ذكر أو تفصيل ما ذكر فاسأل معتنيا به خبيرا عظيم الشأن محيطا بظواهر الأمور وبواطنها وهو الله عز وجل يطلعك على جلية الأمر. والمسئول في الحقيقة تفاصيل ما ذكر لا نفسه إذ بعد بيانه لا يبقى إلى السؤال حاجة ولا في تعديته بالباء المبنية على تضمينه معنى الاعتناء المستدعي لكون المسئول أمرا خطيرا مهتما بشأنه غير حاصل للسائل فائدة فإن نفس الخلق والاستواء بعد الذكر ليس كذلك كما لا يخفى. وكون التقدير إن شككت فيه فاسأل به خبيرا على أن الخطاب له صلّى الله عليه وسلّم والمراد غيره عليه الصلاة والسلام بمعزل عن السداد، وقيل: بِهِ صلة خَبِيراً قدم لرؤوس الآي. وجوز أن يكون الكلام من باب التجريد نحو رأيت به أسدا أي رأيت برؤيته أسدا فكأنه قيل هنا فاسأل بسؤاله خبيرا، والمعنى إن سألته وجدته خبيرا، والباء عليه ليست صلة فإنها باء التجريد وهي على ما ذهب إليه الزمخشري سببية والخبير عليه هو الله تعالى أيضا. وقد ذكر هذا الوجه السجاوندي. واختاره صاحب الكشف قال: وهو أوجه ليكون كالتتميم لقوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ إلخ فإنه لإثبات القدرة مدمجا فيه العلم، وكون ضمير به راجعا إلى ما ذكر من الخلق والاستواء، والخبير في الآية هو الله تعالى مروي عن الكلبي. وروى تفسير الخبير بِهِ تعالى عن ابن جريج أيضا. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الخبير هو جبريل عليه السلام، وقيل: هو من وجد ذلك في الكتب القديمة المنزلة من عنده تعالى أي فاسأل بما ذكر من الخلق والاستواء من علم به من أهل الكتب ليصدقك، وقيل: إذا أريد بالخبير من ذكر فضمير بِهِ للرحمن، والمعنى إن أنكروا إطلاق الرحمن عليه تعالى فاسأل به من يخبرك من أهل الكتاب ليعرفوا مجيء ما يرادفه في كتبهم. وفيه أنه لا يناسب ما قبله ولأن فيه عود الضمير للفظ الرَّحْمنُ دون معناه وهو خلاف الظاهر ولأنه كان الظاهر حينئذ أن يؤخر عن قوله تعالى: مَا الرَّحْمنُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 38 وقيل: الخبير محمد صلّى الله عليه وسلّم وضمير بِهِ للرحمن والمراد فاسأل بصفاته والخطاب لغيره صلّى الله عليه وسلّم ممن لم يعلم ذلك وليس بشيء كما لا يخفى، وقيل ضمير بِهِ للرحمن، والمراد فاسأل برحمته وتفاصيلها عارفا يخبرك بها أو المراد فاسأل برحمته حال كونه عالما بكل شيء على أن خَبِيراً حال من الهاء لا مفعول اسأل كما في الأوجه السابقة. وجوز أبو البقاء أن يكون خَبِيراً حالا من الرَّحْمنُ إذا رفع باستوى. وقال: يضعف أن يكون حالا من فاعل اسأل لأن الخبير لا يسأل إلا على جهة التوكيد مثل وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً [البقرة: 91] والوجه الأقرب الأولى في الآية من بين الأوجه المذكورة لا يخفى، وقرىء «فسل» . وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ القائل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو الله عز وجل على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام. ولا يخفى موقع هذا الاسم الشريف هنا، وفيه كما قال الخفاجي: معنى أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد قالُوا على سبيل التجاهل والوقاحة وَمَا الرَّحْمنُ كما قال فرعون وما رب العالمين حين قال له موسى عليه السلام إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [الأعراف: 104] وهو عالم به عز وجل كما يؤذن بذلك قول موسى عليه السلام له: لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ [الإسراء: 102] والسؤال يحتمل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 39 أن يكون عن المسمى ووقع بما دون من لأنه مجهول بزعمهم فهو كما يقال للشبح المرئي ما هو فإذا عرف أنه من ذوي العلم قيل من هو، ويحتمل أن يكون عن معنى الاسم ووقوعه بما حينئذ ظاهر. وقيل: سألوا عن ذلك لأنهم ما كانوا يطلقونه على الله تعالى كما يطلقون الرحيم والرحوم والراحم عليه تعالى أو لأنهم ظنوا أن المراد به غيره عز وجل فقد شاع فيما بينهم تسمية مسيلمة برحمان اليمامة فظنوا أنه المراد بحمل التعريف على العهد. وقيل: لأنه كان عبرانيا وأصله رخمان بالخاء المعجمة فعرب ولم يسمعوه. والأظهر عندي أن ذلك عن تجاهل وأن السؤال عن المسمى ولذا قالوا: أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا أي للذين تأمرنا بالسجود له من غير أن نعرفه. فما موصولة والعائد محذوف. وأصل الجملة المشتملة عليه ما أشرنا إليه. ثم صار تأمرنا بسجوده ثم تأمرنا سجوده كأمرتك الخير ثم تأمرناه بحذف المضاف ثم تأمرنا. واعتبار الحذف تدريجا مذهب أبي الحسن ومذهب سيبويه أنه حذف كل ذلك من غير تدريج. ويحتمل أن تكون ما نكرة موصوفة وأمر العائد على ما سمعت. ويجوز أن تكون مصدرية واللام تعليلية والمسجود له محذوف أو متروك أي أنسجد له لأجل أمرك إيانا أو أنسجد لأجل أمرك إيانا. وقرأ ابن مسعود والأسود بن زيد وحمزة والكسائي «يأمرنا» بالياء من تحت على أن الضمير للنبي صلّى الله عليه وسلّم وهذا القول قول بعضهم لبعض وَزادَهُمْ أي الأمر بالسجود للرحمن والإسناد مجازي، والجملة معطوفة على قالُوا أي قالوا ذلك وزادهم نُفُوراً عن الإيمان وفي اللباب أن فاعل زادَهُمْ ضمير السجود لما روي أنه صلّى الله تعالى عليه وسلّم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم سجدوا فتباعدوا عنهم مستهزئين، وعليه فليست معطوفة على جواب إذا بل على مجموع الشرط والجواب كما قيل: وفي- لا يستقدمون- من قوله تعالى: إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [يونس: 49] والأول أولى وأظهر تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً الظاهر أنها البروج الإثنا عشر المعروفة. وأخرج ذلك الخطيب في كتاب النجوم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وهي في الأصل القصور العالية وأطلقت عليها على طريق التشبيه لكونها للكواكب كالمنازل الرفيعة لساكنيها ثم شاع فصار حقيقة فيها، وعن الزجاج أن البرج كل مرتفع فلا حاجة إلى التشبيه أو النقل. واشتقاقه من التبرج بمعنى الظهور، والذي يقتضيه مشرب أهل الحديث أنها في السماء الدنيا ولا مانع منه عقلا لا سيما إذا قلنا بعظم ثخنها بحيث يسع الكواكب وما تقتضيه على ما ذكره أهل الهيئة وهي عندهم أقسام الفلك الأعظم المسمى على ما قيل بالعرش ولم يرد فيما أعلم إطلاق السماء عليه وإن كان صحيحا لغة سميت بأسماء صور من الثوابت في الفلك الثامن وقعت في محاذاتها وقت اعتبار القسمة وتلك الصور متحركة بالحركة البطيئة كسائر الثواب، وقد قارب في هذه الأزمان أن تخرج كل صورة عما حاذته أولا وابتداؤها عندهم من نقطة الاعتدال الربيعي وهي نقطة معينة من معدل النهار لا تتحرك بحركة الفلك الثامن ملاقية لنقطة أخرى من منطقة البروج تتحرك بحركته وإذا لم يتحرك مبدأ البروج بتلك الحركة لم يتحرك ما عداها، وقد جعل الله تعالى ثلاثة منها ربيعية وهي الحمل والثور والجوزاء وتسمى التوأمين أيضا، وثلاثة صيفية وهي السرطان والأسد والسنبلة وتسمى العذراء أيضا وهذه الستة شمالية وثلاثة خريفية وهي الميزان والعقرب والقوس ويسمى الرامي أيضا، وثلاثة شتوية وهي الجدي والدلو ويسمى الدالي وساكب الماء أيضا. والحوت وتسمى السمكتين وهذه الستة جنوبية، ولحلول الشمس في كل من الاثني عشر يختلف الزمان حرارة وبرودة والليل والنهار طولا وقصرا وبذلك يظهر بحكم جري العادة في عالم الكون والفساد آثار جليلة من نضج الثمار وإدراك الزروع ونحو ذلك مما لا يخفى، ولعل ذلك هو وجه البركة في جعلها. وأما ما يزعمه أهل الأحكام من الآثار إذا كان شيء منها طالعا وقت الولادة أو شروع في عمل من الأعمال أو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 40 وقت حلول الشمس نقطة الحمل الذي هو مبدأ السنة الشمسية في المشهور فهو محض ظن ورجم بالغيب وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك مفصلا، ولهم في تقسيمها إلى مذكر ومؤنث (1) وليلي ونهاري وحار وبارد وسعد ونحس إلى غير ذلك كلام طويل ولعلنا نذكر شيئا منه بعد أن شاء الله تعالى، ومن أراده مستوفى فليرجع إلى كتبهم، ثم الظاهر أن البروج المجعولة مما لا دخل للاعتبار فيها، والمذكور في كلام أهل الهيئة أنها حاصلة من اعتبار فرض ست دوائر معلومة قاطعة للعالم فيكون للاعتبار دخل فيها وإن لم تكن في ذلك كأنياب الأغوال لوجود مبدأ الانتزاع فيها فإن كان الأمر على هذا الطرز عند أهل الشرع بأن يعتر تقسيم ما هي فيه إلى اثنتي عشرة قطعة وتسمى كل قطعة برجا فالظاهر أن المراد بجعله تعالى إياها جعل ما يتم به ذلك الاعتبار ويتحقق به أمر التفاوت والاختلاف بين تلك البروج، وفيه من الخير الكثير ما فيه وقيل: إن في الآية إيماء إلى أن اعتبار التقسيم كان عن وحي، والمشهور أن من اعتبر ذلك أولا هرمس وهو على ما قيل إدريس عليه السلام فتأمل. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أن البروج قصور على أبواب السماء فيها الحرس، وقيل: هي القصور في الجنة، قال الأعمش: وكان أصحاب عبد الله يقرؤون في السماء قصورا، وتعقب بأنه يأباه السياق لأن الآية قد سيقت للتنبيه على ما يقوم به الحجة على الكفرة الذين لا يسجدون للرحمن جل شأنه وبيان أنه المستحق للسجود ببيان آثار قدرته سبحانه وكماله جل جلاله، والظاهر أن يكون ذلك بذكر أمور مدركة معلومة لهم وتلك القصور ليست كذلك، وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد أنها النجوم، وروي ذلك عن قتادة أيضا، وعن أبي صالح تقييدها بالكبار وأطلق عليها ذلك لعظمها وظهورها لا سيما التي من أول المراتب الثلاثة للقدر الأول من الأقدار الستة. وأنت تعلم أنه لم يعهد إطلاق البروج على النجوم فالأولى أن يراد بها المعنى الأول المروي عن ابن عباس الذي هو أظهر من الشمس وَجَعَلَ فِيها أي في السماء، وقيل: في البروج سِراجاً هي الشمس كقوله تعالى: وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً [نوح: 16] وقرأ عبد الله وعلقمة والأعمش والأخوان «سرجا» بالجمع مضموم الراء، وقرأ الأعمش أيضا والنخعي وابن وثاب كذلك إلا أنهم سكنوا الراء وهو على ما قيل من قبيل إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النحل: 120] لأن الشمس لعظمها وكمال إضاءتها لأنها سرج كثيرة أو الجمع باعتبار الأيام والمطالع، وقد جمعت لهذين الأمرين في قول الشاعر: لمعان برق أو شعاع شموس وعلى هذا القول تتحد القراءتان، وقال بعض الأجلة: الجمع على ظاهره، والمراد به الشمس والكواكب الكبار، ومنهم من فسره بالكواكب الكبار، واعترض على الأول بأنه يلزم تخصيص القمر بالذكر في قوله تعالى: وَقَمَراً مُنِيراً بعد دخوله في السرج، والمناسب تخصيص الشمس لكمال مزيتها على ما سواها. ورد بأنه بعد تسليم دخوله في السرج خص بالذكر لأن سنيهم قمرية ولذا يقدم الليل على النهار وتعتبر الليلة لليوم الذي بعدها فهم أكثر عناية به مع أنه على ما ذكره يلزمه ترك ذكر الشمس وهي أحق بالذكر من غيرها والاعتذار عنه بأنها لشهرتها كأنها مذكورة ولذا لم تنظم مع غيرها في قرن لا يجدي. والقمر معروف ويطلق عليه بعد الليلة الثالثة إلى آخر الشهر، قيل: وسمي بذلك لأنه يقمر ضوء الكواكب، وفي الصحاح لبياضه وفي وصفه ما يشعر بالاعتناء به، وعلى الفرق المشهور بين الضوء والنور يكون في وصفه بمنيرا دون مضيئا إشارة إلى أن ما يشاهد فيه مستفاد من غيره وهو الشمس بل قال غير   (1) وزعم بعضهم أن أول الجدي وأول العقرب خنثى اهـ منه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 41 واحد: إن نور جميع الكواكب مستفاد منها وإن لم يظهر اختلاف تشكلاته بالقرب والبعد منها كما في نور القمر. وقرأ الحسن والأعمش والنخعي وعصمة عن عاصم «وقمرا» بضم القاف وسكون الميم، واستظهر أبو حيان أنها لغة في القمر كالرشد والرشد والعرب والعرب، وقيل: هو جمع قمراء وهي الليلة المنيرة بالقمر والكلام على حذف مضاف أي وذا قمر أي صاحب ليال قمر، والمراد بهذا الصاحب القمر نفسه ويكون قوله سبحانه: مُنِيراً صفة لذلك المضاف المحذوف لأن المحذوف قد يعتبر بعد حذفه كما في قول حسان رضي الله تعالى عنه: بردى يصفق بالرحيق السلسل فإنه يريد ماء بردى ولذا قال يصفق بالياء من تحت ولو لم يراع المضاف لقال تصفق بالتاء وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً أي ذوي خلفة يخلف كل منهما الآخر بأن يقوم مقامه فيما ينبغي أن يعمل فيه، وروي هذا عن ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير، وقيل: بأن يعقبه ويجيء بعده وهو اسم للحالة من خلف كالركبة والجلسة من ركب وجلس. ونصبه على أنه مفعول ثان لجعل أو حال إن كان بمعنى خلق، وجعله بعضهم بمعنى اختلافا والمراد الاختلاف في الزيادة والنقصان كما قيل أو في السواد والبياض كما روي عن مجاهد أو فيما يعم ذلك وغيره كما هو محتمل وفي البحر يقال: بفلان خلفة واختلاف إذا اختلف كثيرا إلى متبرزه. ومن هذا المعنى قول زهير: بها العين والآرام يمشين خلفة ... وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم وقول الآخر يصف امرأة تنتقل من منزل في الشتاء إلى منزل في الصيف دأبا: ولها بالماطرون إذا ... أكل النمل الذي جمعا خلفة حتى إذا ارتفعت ... سكنت من جلق بيعا في بيوت وسط دسكرة ... حولها الزيتون قد نبعا انتهى. وجوز عليه أن يكون المراد يذهب كل منهما ويجيء كثيرا. واعتبار المضاف المقدر على حاله وكذا فيما قبله. وفي القاموس الخلف والخلفة بالكسر المختلف. وعليه لا حاجة إلى تقدير المضاف، والمعنى جعلهما مختلفين والإفراد لكونه مصدرا في الأصل لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أي ليكونا وقتين للمتذكر من فاته ورده من العبادة في أحدهما تداركه في الآخر، وروي هذا عن جماعة من السلف، وروى الطيالسي وابن أبي حاتم أن عمر رضي الله تعالى عنه أطال صلاة الضحى فقيل له: صنعت شيئا لم تكن تصنعه قال: إنه بقي على من وردي شيء فأحببت أن أتمه أو قال: أقضيه وتلا هذه الآية وكأن التذكر مجاز عن أداء ما فات وهو «مما يتوقف الأداء عليه، وفي الكلام تقدير كما أشير إليه ويجوز أن يكون تقدير معنى لا إعراب أَوْ أَرادَ شُكُوراً أن يشكر الله تعالى بأداء نوع من العبادة لم يكن وردا له. وفي مجمع البيان المعنى لمن أراد النافلة بعد أداء الفريضة، ويجوز أن يكون المعنى لمن أراد أن يتذكر ويتفكر في بدائع صنع الله تعالى فيعلم أنه لا بد لما ذكر من صانع حكيم واجب الذات ذي رحمة على العباد أو أراد أن يشكر الله سبحانه على ما فيهما من النعم وهو وجه حسن يكاد لا يلتفت لغيره لو لم يكن مأثورا، والظاهر أن اللام على هذا صلة جَعَلَ ولما كان ظهور فائدة ذلك لمن أراد التذكر أو أراد الشكر اقتصر عليه، وجوز أن تكون للتعليل وأَوْ للتنويع على معنى الاشتمال على هذين المعنيين أو للتخيير على معنى الاستقلال بكل ولا منع من الاجتماع. وفائدة هذا الأسلوب إفادة الاستقلال ولو ذكر الواو بدلها لتوهم المعية، ولعل في التعبير أولا بأن والفعل دون المصدر الصريح كما في الشق الثاني مع أنه أخصر إيماء إلى الاعتناء بأمر التذكر فتذكر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 42 وقرأ أبي بن كعب «أن يتذكر» وهو أصل ليذكر فأبدل التاء ذالا وأدغم وقرأ النخعي وابن وثاب وزيد بن علي وطلحة وحمزة «أن يذكر» مضارع ذكر الثلاثي بمعنى تذكر وَعِبادُ الرَّحْمنِ كلام مستأنف لبيان أوصاف خلص عباد الله تعالى وأحوالهم الدنيوية والأخروية بعد بيان حال النافرين عن عبادته سبحانه والسجود له عز وجل وإضافتهم إلى الرحمن ذوي غيره من أسمائه تعالى وضمائره عز وجل لتخصيصهم برحمته أو لتفضيلهم على من عداهم لكونهم مرحومين منعما عليهم كما يفهم من فحوى الإضافة إلى مشتق. وفي ذلك أيضا تعريض بمن قالوا: وما الرحمن؟. والأكثرون أن عبادا هنا جمع عبد، وقال ابن بحر: جمع عابد كصاحب وصحاب وراجل ورجال ويوافقه قراءة اليماني «وعبّاد» بضم العين وتشديد الباء فإنه جمع عابد بالإجماع وهو على هذا من العبادة وهي أن يفعل ما يرضاه الرب وعلى الأول من العبودية وهي أن يرضى ما يفعله الرب، وقال الراغب: العبودية إظهار التذلل والعبادة أبلغ منها لأنها غاية التذلل. وفرق بعضهم بينهما بأن العبادة فعل المأمورات وترك المنهيات رجاء الثواب والنجاة من العقاب بذلك والعبودية فعل المأمورات وترك المنهيات لا لما ذكر بل لمجرد إحسان الله تعالى عليه. قيل: وفوق ذلك العبودة وهو فعل وترك ما ذكر لمجرد أمره سبحانه ونهيه عز وجل واستحقاقه سبحانه الذاتي لأن يعظم ويطاع، وإليه الإشارة بقوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ [الكوثر: 2] وقرأ الحسن «وعبد» بضم العين والباء. وهو كما قال الأخفش جمع عبد كسقف وسقف. وأنشد: انسب العبد إلى آبائه ... أسود الجلدة من قوم عبد وهو على كل حال مبتدأ وفي خبره قولان: الأول أنه ما في آخر السورة الكريمة من الجملة المصدرة باسم الإشارة، والثاني وهو الأقرب أنه قوله تعالى: الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً والهون مصدر بمعنى اللين والرفق، ونصبه إما على أنه نعت لمصدر محذوف أي مشيا هونا أو على أنه حال من ضمير يَمْشُونَ والمراد يمشون هينين في تؤدة وسكينة ووقار وحسن سمت لا يضربون بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم أشرا وبطرا، وروي نحو هذا عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة والفضيل بن عياض وغيرهم، وعن الإمام أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أن الهون مشي الرجل بسجيته التي جبل عليها لا يتكلف ولا يتبختر. وأخرج الآمدي في شرح ديوان الأعشى بسنده عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه رأى غلاما يتبختر في مشيته فقال له: إن البخترة مشية تكره إلا في سبيل الله تعالى. وقد مدح الله تعالى أقواما بقوله سبحانه: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً فاقصد في مشيتك. وقيل: المشي الهون مقابل السريع وهو مذموم فقد أخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة وابن النجار عن ابن عباس قالا: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن» . وأخرج ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران إن هَوْناً بمعنى حلماء بالسريانية فيكون حالا لا غير، والظاهر أنه عربي بمعنى اللين والرفق. وفسره الراغب بتذلل الإنسان في نفسه لما لا يلحق به غضاضة وهو الممدوح. ومنه الحديث «المؤمن هين لين» والظاهر بقاء المشي على حقيقته وأن المراد مدحهم بالسكينة والوقار فيه من غير تعميم. نعم يلزم من كونهم يمشون كذلك أنهم هينون لينون في سائر أمورهم بحكم العادة على ما قيل. واختار ابن عطية أن المراد مدحهم بعدم الخشونة والفظاظة في سائر أمورهم وتصرفاتهم. والمراد أنهم يعيشون بين الناس هينين في كل أمورهم. وذكر المشي لما أنه انتقال في الأرض وهو يستدعي معاشرة الناس ومخالطتهم واللين مطلوب فيها غاية الطلب. ثم قال: وأما أن يكون المراد مدحهم بالمشي وحده هونا فباطل فكم ماش هونا رويدا وهو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 43 ذئب أطلس، وقد كان صلّى الله عليه وسلّم يتكفأ في مشيه كأنما يمشي في صبب وهو عليه الصلاة والسلام الصدر في هذه الآية. وفيه بحث من وجهين فلا تغفل. وقرأ اليماني والسلمي «يمشّون» مبنيا للمفعول مشددا وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ أي السفهاء وقليلو الأدب كما في قوله: ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا قالُوا سَلاماً بيان لحالهم في المعاملة مع غيرهم إثر بيان حالهم في أنفسهم أو بيان لحسن معاملتهم. وتحقيق للينهم عند تحقق ما يقتضي خلاف ذلك إذا خلى الإنسان وطبعه أي إذا خاطبوهم بالسوء قالوا تسلما منكم ومتاركة لا خير بيننا وبينكم ولا شر. فسلاما مصدر أقيم مقام التسليم وهو مصدر مؤكد لفعله المضمر، والتقدير نتسلم تسلما منكم، والجملة مقول القول. وإلى هذا ذهب سيبويه في الكتاب ومنع أن يراد السلام المعروف بأن الآية مكية والسلام في النساء وهي مدنية ولم يؤمر المسلمون بمكة أن يسلموا على المشركين. وقال الأصم: هو سلام توديع لا تحية كقول إبراهيم عليه السلام لأبيه سَلامٌ عَلَيْكَ [مريم: 47] ولا يخفى أنه راجع إلى المتاركة وهو كثير في كلام العرب. وقال مجاهد: المراد قالوا قولا سديدا. وتعقب بأن هذا تفسير غير سديد لأن المراد هاهنا يقولون هذه اللفظة لا أنهم يقولون قولا ذا سداد بدليل قوله تعالى: سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الأنعام: 54، الأعراف: 46، الرعد: 24، القصص: 55، الزمر: 73] لا نبتغي الجاهلين. ورده صاحب الكشف بأن تلك الآية لا تخالف هذا التفسير فإن قولهم. سلام عليكم من سداد القول أيضا كيف والظاهر أن خصوص اللفظ غير مقصود بل هو أو ما يؤدي مؤداه أيضا من كل قول يدل على المتاركة مع الخلو عن الإثم واللغو وهو حسن لا غبار عليه. وفي بعض التواريخ كما في البحر أن إبراهيم بن المهدي كان منحرفا عن علي كرّم الله تعالى وجهه فرآه في النوم قد تقدم إلى عبور قنطرة فقال له: إنما تدعي هذا الأمر بامرأة ونحن أحق به منك فحكي ذلك على المأمون ثم قال: ما رأيت له بلاغة في الجواب كما يذكر عنه فقال له المأمون: فما أجابك به قال: كان يقول لي: سلاما سلاما فقال المأمون: يا عم قد أجابك بأبلغ جواب ونبهه على هذه الآية فخزي إبراهيم واستحيى عليه من الله تعالى ما يستحق، والظاهر أن المراد مدحهم بالإغضاء عن السفهاء وترك مقابلتهم في الكلام ولا تعرض في الآية لمعاملتهم مع الكفرة فلا تنافي آية القتال ليدعي نسخها بها لأنها مكية وتلك مدنية. ونقل عن أبي العالية واختاره ابن عطية أنها نسخت بالنظر إلى الكفرة بآية القتال. وقوله تعالى: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً بيان لحالهم في معاملتهم مع ربهم. وكان الحسن إذا قرأ ما تقدم يقول: هذا وصف نهارهم وإذا قرأ هذه قال: هذا وصف ليلهم. والبيتوتة أن يدركك الليل نمت أو لم تنم ولِرَبِّهِمْ متعلق بما بعده. وقدم للفاصلة والتخصيص والقيام جمع قائم أو مصدر أجرى مجراه أي يبيتون ساجدين وقائمين لربهم سبحانه أي يحيون الليل كلا أو بعضا بالصلاة، وقيل: من قرأ شيئا من القرآن بالليل في صلاة فقد بات ساجدا وقائما، وقيل: أريد بذلك فعل الركعتين بعد المغرب والركعتين بعد العشاء، وقيل: من شفع وأوتر بعد أن صلى العشاء فقد دخل في عموم الآية. وبالجملة في الآية حض على قيام الليل في الصلاة. وقدم السجود على القيام ولم يعكس وإن كان متأخرا في الفعل لأجل الفواصل ولأنه أقرب ما يكون العبد فيه من ربه سبحانه وإباء المستكبرين عنه في قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ الآية. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 44 وقرأ أبو البرهسم «سجودا» على وزن قعودا وهو أوفق بقياما وَالَّذِينَ يَقُولُونَ في أعقاب صلواتهم أو في عامة أوقاتهم رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً أي لازما كما أخرجه الطستي عن ابن عباس وأنشد رضي الله تعالى عنه في ذلك قول بشر بن أبي حاتم: ويوم النسار ويوم الجفار ... كانا عذابا وكانا غراما ومثله قول الأعشى: إن يعاقب يكن غراما وإن يع ... ط جزيلا فإنه لا يبالي وهذا اللزوم إما للكفار أو المراد به الامتداد كما في لزوم الغريم وفي رواية أخرى عنه تفسيره بالفظيع الشديد. وفسره بعضهم بالمهلك، وفي حكاية قولهم هذا مزيد مدح لهم ببيان أنهم مع حسن معاملتهم مع الخلق واجتهادهم في عبادة الحق يخافون العذاب ويبتهلون إلى ربهم عز وجل في صرفه عنهم غير محتفلين بأعمالهم كقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ [المؤمنون: 60] وفي ذلك تحقيق إيمانهم بالبعث والجزاء، والظاهر أن قوله تعالى: إِنَّ عَذابَها إلخ من كلام الداعين وهو تعليل لاستدعائهم المذكور بسوء حال عذابها. وكذا قوله تعالى: إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً وهو تعليل لذلك بسوء حالها في نفسها. وترك العطف للإشارة إلى أن كلا منهما مستقل بالعلية، وقيل: تعليل لما علل به أولا وضعفه ابن هشام في التذكرة بأنه لا مناسبة بين كون الشيء غراما وكونه ساء مستقرا. وأجيب بأنه بملاحظة اللزوم والمقام فإن المقام من شأنه اللزوم، وقيل: كلتا الجملتين من كلامه تعالى ابتداء علل بهما القول على نحو ما تقدم أو علل ذلك بأولاهما وعللت الأولى بالثانية، وجوز كون إحداهما مقولة والأخرى ابتدائية والكل كما ترى. وساءَتْ في حكم بئست والمخصوص بالذم محذوف تقديره هي وهو «الرابط» لهذه الجملة بما هي خبر عنه إن لم يكن ضمير القصة. ومُسْتَقَرًّا تمييز وفيها ضمير مبهم عائد على مُسْتَقَرًّا مفسر به وأنث لتأويل المستقر بجهنم أو مطابقة للمخصوص. ألا ترى إلى ذي الرمة كيف أنث الزورق على تأويل السفينة حيث كان المخصوص مؤنثا في قوله: أو حرة عيطل ثبجاء مجفرة ... دعائم الزور نعمت زورق البلد قيل: ويجوز أن تكون ساءَتْ بمعنى أحزنت فهي فعل متصرف متعد وفاعله ضمير جهنم ومفعوله محذوف أي أحزنت أهلها وأصحابها ومُسْتَقَرًّا تمييز أو حال وهو مصدر بمعنى الفاعل أو اسم مكان وليس بذاك. والظاهر أن مُسْتَقَرًّا ومقاما كقوله: وألفى قولها كذبا ومينا وحسنه كون المقام يستدعي التطويل أو كونه فاصلة، وقيل: المستقر للعصاة والمقام للكفرة وإن في الموضعين للاعتناء بشأن الخبر. وقرأت فرقة «ومقاما» بفتح الميم أي مكان قيام وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا أي لم يتجاوزوا حد الكرم وَلَمْ يَقْتُرُوا أي ولم يضيقوا تضييق الشحيح، وقال أبو عبد الرحمن الجبلي: الإسراف هو الإنفاق في المعاصي والقتر الإمساك عن طاعة، وروي نحو ذلك عن ابن عباس ومجاهد وابن زيد، وقال عون بن عبد الله بن عتبة: الإسراف أن تنفق مال غيرك. وقرأ الحسن وطلحة والأعمش وحمزة والكسائي وعاصم «يقتروا» بفتح الياء وضم التاء ومجاهد وابن كثير وأبو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 45 عمرو بفتح الياء وكسر التاء ونافع وابن عامر بضم الياء وكسر التاء وقرأ العلاء ابن سبابة (1) واليزيدي بضم الياء وفتح القاف وكسر التاء مشددة وكلها لغات في التضييق وأنكر أبو حاتم لغة أقتر رباعيا هنا وقال: إنما يقال أقتر إذا افتقر ومنه وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ [البقرة: 236] وغاب عنه ما حكاه الأصمعي، وغيره من أقتر بمعنى ضيق وَكانَ إنفاقهم بَيْنَ ذلِكَ المذكور من الإسراف والقتر قَواماً وسطا وعدلا سمي به لاستقامة الطرفين وتعادلهما كأن كلا منهما يقاوم الآخر كما سمي سواء لاستوائهما وقرأ حسان «قواما» بكسر القاف، فقيل: هما لغتان بمعنى واحد وقيل: هو بالكسر ما يقام به الشيء، والمراد به هنا ما يقام به الحاجة لا يفضل عنها ولا ينقص، وهو خبر ثان.. لكان مؤكد للأول وهو بَيْنَ ذلِكَ أو هو الخبر وبَيْنَ ذلِكَ إما معمول لكان على مذهب من يرى أن كان الناقصة تعمل في الظرف وإما حال من قَواماً لأنه لو تأخر لكان صفة، وجوز أن يكون ظرفه لغوا متعلقا به أو بَيْنَ ذلِكَ هو الخبر وقَواماً حال مؤكدة، وأجاز الفراء أن يكون بَيْنَ ذلِكَ اسم كان وبني لإضافته إلى مبني كقوله تعالى: وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ [هود: 66] في قراءة من فتح الميم، ومنه قول الشاعر: لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت ... حمامة في غصون ذات أوقال وتعقبه الزمخشري بأنه من جهة الإعراب لا بأس به ولكن المعنى ليس بقوي لأن ما بين الإسراف والتقتير قوام لا محالة فليس في الخبر الذي هو معتمد الفائدة فائدة. وحاصله أن الكلام عليه من باب كان الذاهب جاريته صاحبها وهو غير مفيد. ولا يخفى أنه غير وارد على قراءة قَواماً بالكسر على القول الثاني فيه وعلى غير ذلك متجه. وما قيل من أنه من باب شعري شعري والمعنى كان قواما معتبرا مقبولا غير مقبول لأنه مع بعده إنما ورد فيما اتحد لفظه وما نحن فيه ليس كذلك. وكذا ما قيل: إن بَيْنَ ذلِكَ أعم من القوام بمعنى العدل الذي يكون نسبة كل واحد من طرفيه إليه على السواء فإن ما بين الإقتار والإسراف لا يلزم أن يكون قواما بهذا المعنى إذ يجوز أن يكون دون الإسراف بقليل وفوق الإقتار بقليل فإنه تكلف أيضا إذ ما بينهما شامل لحاق الوسط وما عداه كالوسط من غير فرق ومثله لا يستعمل في المخاطبات لألغازه، وقيل: لأنه بعد تسليم جواز الأخبار عن الأعم بالأخص يبعد أن يكون مدحهم بمراعاة حاق الوسط مع ما فيه من الحرج الذي نفى عن الإسلام. وفيه أنه لا شك في جواز الأخبار عن الأعم بالأخص نحو الذي جاءني زيد والقائل لم يرد إلحاق الحقيقي بل التقريبي كما يدل عليه قوله بقليل ولا حرج في مثله فتأمل. ولعل الأخبار عن إنفاقهم بما ذكر بعد قوله تعالى: إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا المستلزم لكون إنفاقهم كذلك للتنصيص على أن فعلهم من خير الأمور فقد شاع خير الأمور أوساطها، والظاهر أن المراد بالإنفاق ما يعم إنفاقهم على أنفسهم وإنفاقهم على غيرها والقوام في كل ذلك خير، وقد أخرج أحمد والطبراني عن أبي الدرداء عن النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم «من فقه الرجل رفقه في معيشته» . وأخرج ابن ماجة في سننه عن أنس قال: «قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم إن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت» وحكي عن عبد الملك بن مروان أنه قال لعمر بن عبد العزيز عليه الرحمة حين زوجه ابنته فاطمة ما نفقتك فقال له عمر: الحسنة بين السيئتين ثم تلا الآية. وقد مدح الشعراء التوسط في الأمور والاقتصاد في المعيشة قديما وحديثا، ومن ذلك قوله:   (1) قوله سبابة كذا بخطه وانظره اه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 46 ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد ... كلا طرفي قصد الأمور ذميم وقول حاتم: إذا أنت قد أعطيت بطنك سؤله ... وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا وقول الآخر: إذا المرء أعطى نفسه كل ما اشتهت ... ولم ينهها تاقت إلى كل باطل وساقت إليه الإثم والعار بالذي ... دعته إليه من حلاوة عاجل إلى غير ذلك وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ أي لا يشركون به غيره سبحانه. وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ أي حرمها الله تعالى بمعنى حرم قتلها لأن التحريم إنما يتعلق بالأفعال دون الذوات فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه مبالغة في التحريم إِلَّا بِالْحَقِّ متعلق بلا يقتلون والاستثناء مفرغ من أعم الأسباب أي لا يقتلونها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق المزيل لحرمتها وعصمتها كالزنا بعد الإحصان والكفر بعد الإيمان، وجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف أي لا يقتلونها نوعا من القتل إلا قتلا ملتبسا بالحق وأن يكون حالا أي لا يقتلونها في حال من الأحوال إلا حال كونهم ملتبسين بالحق. وقيل: يجوز أن يكون متعلقا بالقتل المحذوف والاستثناء أيضا من أعم الأسباب أي لا يقتلون النفس التي حرم الله تعالى قتلها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق. ويكون الاستثناء مفرغا في الإثبات لاستقامة المعنى بإرادة العموم أو لكون حرم نفيا معنى. ولا يخفى ما فيه من التكلف وَلا يَزْنُونَ ولا يطؤون فرجا محرما عليهم، والمراد من نفي هذه القبائح العظيمة التعريض بما كان عليه أعداؤهم من قريش وغيرهم وإلا فلا حاجة إليه بعد وصفهم بالصفات السابقة من حسن المعاملة وإحياء الليل بالصلاة ومزيد خوفهم من الله تعالى لظهور استدعائها نفي ما ذكر عنهم. ومنه يعلم حل ما قيل الظاهر عكس هذا الترتيب وتقديم التخلية على التحلية فكأنه قيل. والذين طهرهم الله تعالى وبرأهم سبحانه مما أنتم عليه من الإشراك وقتل النفس المحرمة كالموؤدة والزنا. وقيل: إن التصريح بنفي الإشراك مع ظهور إيمانهم لهذا أو لإظهار كمال الاعتناء والإخلاص وتهويل أمر القتل والزنا بنظمهما في سلكه، وقد صح من رواية البخاري ومسلم والترمذي عن ابن مسعود قال: سألت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أي الذنب أكبر؟ قال: أن تجعل لله تعالى ندا وهو خلقك قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني خليلة جارك فأنزل الله تعالى تصديق ذلك وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الآية. وأخرج الشيخان وأبو داود والنسائي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن ناسا من أهل الشرك قد قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا ثم أتوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزلت وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الآية ونزلت قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزمر: 53] الآية . وقد ذكر الإمام الرازي أن ذكر هذا بعد ما تقدم لأن الموصوف بتلك الصفات قد يرتكب هذه الأمور تدينا فبين سبحانه أن المكلف لا يصير بتلك الخلال وحدها من عباد الرحمن حتى ينضاف إلى ذلك كونه مجانبا لهذه الكبائر وهو كما ترى، وجوز أن يقال في وجه تقديم التحلية على التخلية كون الأوصاف المذكورة في التحلية أوفق بالعبودية التي جعلت عنوان الموضوع لظهور دلالتها على ترك الأنانية ومزيد الانقياد والخوف والاقتصاد في التصرف بما أذن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 47 المولى بالتصرف فيه. ولا يأبى هذا قصد التعريض بما ذكر في التخلية. ويؤيد هذا القصد التعقيب بقوله عز وجل: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً أي ومن يفعل ما ذكر يلق في الآخرة عقابا لا يقادر قدره. وتفسير الأثام بالعقاب مروي عن قتادة وابن زيد ونقله أبو حيان عن أهل اللغة وأنشد قوله: جزى الله ابن عروة حيث أمسى ... عقوقا والعقوق له جزاء أخرج ابن الأنباري عن ابن عباس أنه فسره لنافع بن الأزرق بالجزاء وأنشد قول عامر بن الطفيل: وروينا الأسنة من صداه ... ولاقت حمير منا أثاما والفرق يسير: وقال أبو مسلم الأثام الإثم والكلام عليه على تقدير مضاف أي جزاء أثام أو هو مجاز من ذكر السبب وإرادة المسبب، وقال الحسن: هو اسم من أسماء جهنم، وقيل: اسم بئر فيها، وقيل: اسم جبل. وروى جماعة عن عبد الله بن عمر ومجاهد أنه واد في جهنم، وقال مجاهد: فيه قيح ودم. وأخرج ابن المبارك في الزهد عن شفى الأصبحي أن فيه حيات وعقارب في فقار إحداهن مقدار سبعين قلة من سم والعقرب منهن مثل البغلة الموكفة، وعن عكرمة اسم لأودية في جهنم فيها الزناة. وقرىء «يلق» بضم الياء وفتح اللام والقاف مشددة، وقرأ ابن مسعود وأبو رجاء «يلقى» بألف كأنه نوى حذف الضمة المقدرة على الألف فأقرت الألف وقرأ أبو مسعود أيضا «أياما» جمع يوم يعني شدائد، واستعمال الأيام بهذا المعنى شائع ومنه يوم ذو أيام وأيام العرب لوقائعهم ومقاتلتهم يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ بدل من «يلق» بدل كل من كل أو بدل اشتمال. وجاء الإبدال من المجزوم بالشرط في قوله: متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... تجد حطبا جزلا ونارا تأججا وَيَخْلُدْ فِيهِ أي في ذلك العذاب المضاعف مُهاناً ذليلا مستحقرا فيجتمع له العذاب الجسماني والروحاني وقرأ الحسن وأبو جعفر وابن كثير «يضعّف» بالياء والبناء للمفعول وطرح الألف والتضعيف. وقرأ شيبة وطلحة بن سليمان وأبو جعفر أيضا «نضعّف» بالنون مضمومة وكسر العين مضعفة و «العذاب» بالنصب، وطلحة بن مصرف «يضاعف» مبنيا للفاعل و «العذاب» بالنصب وقرأ طلحة بن سليمان «وتخلد» بتاء الخطاب على الالتفات المنبي عن شدة الغضب مرفوعا وقرأ أبو حيوة «وتخلّد» مبنيا للمفعول مشدد اللام مجزوما. ورويت عن أبي عمرو وعنه كذلك مخففا وقرأ أبو بكر عن عاصم «يضاعف» و «يخلد» بالرفع فيهما، وكذا ابن عامر، والمفضل عن عاصم «يضاعف» . و «يخلد» مبنيا للمفعول مرفوعا مخففا. والأعمش بضم الياء مبنيا للمفعول مشددا مرفوعا وقد عرفت وجه الجزم، وأما الرفع فوجهه الاستئناف، ويجوز جعل الجملة حالا من فاعل يَلْقَ، والمعنى يلق أثاما مضاعفا له العذاب، ومضاعفته مع قوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: 40] وقوله سبحانه: وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها [الأنعام: 160] قيل لانضمام المعصية إلى الكفر، ويدل عليه قوله تعالى إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فإن استثناء المؤمن يدل على اعتبار الكفر في المستثنى منه. وأورد عليه أن تكرر لا النافية يفيد نفي كل من تلك الأفعال بمعنى لا يوقعون شيئا منها فيكون وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ بمعنى ومن يفعل شيئا من ذلك ليتحد مورد الإثبات والنفي فلا دلالة على الانضمام، والمستثنى من جمع بين ما ذكر من الإيمان والتوبة والعمل الصالح فيكون المستثنى منه غير جامع لها، فلعل الجواب أن المضاعفة بالنسبة إلى عذاب ما دون المذكورات. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 48 وتعقب بأن الجواب المذكور لا بعد فيه وإن لم يذكر ما دونها إلا أن الإيراد ليس بشيء لأن الكلام تعريض للكفرة ومن يفعل شيئا من ذلك منهم فقد ضم معصيته إلى كفره ولو لم يلاحظ ذلك على ما اختاره لزم أن من ارتكب كبيرة يكون مخلدا ولا يخفى فساده عندنا، وما ذكر من اتحاد مورد الإثبات والنفي ليس بلازم. ثم إن في الكلام قرينة على أن المستثنى منه من جمع بين أضدادها كما علمت ولذا جمع بين الإيمان والعمل الصالح مع أن العمل مشروط بالإيمان فذكره للإشارة إلى انتفائه عن المستثنى منه ولذا قدم التوبة عليه، ويحتمل أن تقديمها لأنها تخلية، وقال بعضهم: ليس المراد بالمضاعفة المذكورة ضم قدرين متساويين من العذاب كل منهما بقدر ما تقتضيه المعصية بل المراد لازم ذلك وهو الشدة فكأنه قيل: ومن يفعل ذلك يعذب عذابا شديدا ويكون ذلك العذاب الشديد جزاء كل من تلك الأفعال ومماثلا له، والقرينة على المجاز قوله تعالى: وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها ونحوه، ويراد من الخلود المكث الطويل الصادق بالخلود الأبدي وغيره، ويكون لمن أشرك باعتبار فرده الأول، ولمن ارتكب إحدى الكبيرتين الأخيرتين باعتبار فرده الآخر وهو كما ترى، ومثله ما قيل من أن المضاعفة لحفظ ما تقتضيه المعصية فإن الأمر الشديد إذا دام هان. هذا والظاهر أن الاستثناء متصل على ما هو الأصل فيه، وقال أبو حيان: الأولى عندي أن يكون منقطعا أي لكن من تاب إلخ لأن المستثنى منه على تقدير الاتصال محكوم عليه بأنه يضاعف له العذاب فيصير التقدير إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فلا يضاعف له العذاب، ولا يلزم من انتفاء التضعيف لقاء العذاب غير المضعف، وفيه إن قوله تعالى الآتي فَأُوْلئِكَ إلخ احتراس لدفع توهم ثبوت أصل العذاب بإفادة أنهم لا يلقونه أصلا على أكمل وجه، وقيل أيضا في ترجيح الانقطاع: إن الاتصال مع قطع النظر عن إيهامه ثبوت أصل العذاب بل وعن إيهامه الخلود غير مهان يوهم أن مضاعفة العمل الصالح شرط لنفي الخلود مع أنه ليس كذلك. ثم أية ضرورة تدعو إلى أن يرتكب ما فيه إيهام ثم يتشبث بأذيال الاحتراس، على أن الظاهر أن يجعل من مبتدأ والجملة المقرونة بالفاء خبره وقرنت بذلك لوقوعها خبرا عن الموصول كما في قولك: الذي يأتيني فله درهم، وأنا أميل لما مال إليه أبو حيان لمجموع ما ذكر، وذكر الموصوف في قوله سبحانه: وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً مع جريان الصالح والصالحات مجرى الاسم للاعتناء به والتنصيص على مغايرته للأعمال السابقة. فَأُوْلئِكَ إشارة إلى الموصول، والجمع باعتبار معناه كما أن الإفراد في الأفعال الثلاثة باعتبار لفظه أي فأولئك الموصوفون بالتوبة والإيمان والعمل الصالح. يُبَدِّلُ اللَّهُ في الدنيا سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ بأن يمحو سوابق معاصيهم بالتوبة ويثبت مكانها لواحق طاعاتهم كما يشير إلى ذلك كلام كثير من السلف، وقيل: المراد بالسيئات والحسنات ملكتهما لأنفسهما أي يبدل عز وجل بملكة السيئات ودواعيها في النفس ملكة الحسنات بأن يزيل الأولى ويأتي بالثانية، وقيل: هذا التبديل في الآخرة، والمراد بالسيئات والحسنات العقاب والثواب مجازا من باب إطلاق السبب وإرادة المسبب، والمعنى يعفو جل وعلا عن عقابهم ويتفضل سبحانه عليهم بدله بالثواب، وإلى هذا ذهب القفال. والقاضي، وعن سعيد بن المسيب وعمرو بن ميمون ومكحول أن ذلك بأن تمحي السيئات نفسها يوم القيامة من صحيفة أعمالهم ويكتب بدلها الحسنات، واحتجوا بالحديث الذي رواه مسلم في الصحيح عن أبي ذر قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال: اعرضوا عليه صغار ذنوبه وينحى عن كبارها فيقال: عملت يوم كذا وكذا كذا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 49 وكذا وهو يقر لا ينكر وهو مشفق من الكبائر فيقال: أعطوه مكان كل سيئة عملها حسنة فيقول: إن لي ذنوبا لم أرها هنا قال: ولقد رأيت رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم ضحك حتى بدت نواجذه» ، ونحو هذا ما أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله عليه الصلاة والسلام ليأتين ناس يوم القيامة ودوا أنهم استكثروا من السيئات قيل: من هم؟ قال صلّى الله تعالى عليه وسلّم الذين يبدل الله تعالى سيئاتهم حسنات» ويسمى هذا التبديل كرم العفو، وكأنه لذلك قال أبو نواس: تعض ندامة كفيك مما ... تركت مخافة الذنب السرورا ولعل المراد أنه تغفر سيئاته ويعطى بدل كل سيئة ما يصلح أن يكون ثواب حسنة تفضلا منه عز وجل وتكرما لا أنه يكتب له أفعال حسنات لم يفعلها ويثاب عليها. وفي كلام أبي العالية ما هو ظاهر في إنكار تمني الاستكثار من السيئات، فقد أخرج عبد بن حميد عنه أنه قيل له: إن أناسا يزعمون أنهم يتمنون أن يستكثروا من الذنوب فقال: ولم ذلك؟ فقيل: يتأولون هذه الآية فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وكان أبو العالية إذا أخبر بما لا يعلم قال: آمنت بما أنزل الله تعالى من كتابه فقال ذلك ثم تلا هذه الآية يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً [آل عمران: 30] وكأنه ظن أن ما تلاه مناف لما زعموه من التمني، ويمكن أن يقال: إن ما دلت عليه تلك الآية يكون قبل الوقوف على التبديل والله تعالى أعلم. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله وَمَنْ تابَ أي عن المعاصي التي فعلها بتركها بالكلية والندم عليها وَعَمِلَ صالِحاً يتلافى به ما فرط منه او ومن خرج عن جنس المعاصي وإن لم يفعله ودخل في الطاعات فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ أي يرجع إليه سبحانه بذلك مَتاباً أي رجوعا عظيم الشأن مرضيا عنده تعالى ماحيا للعقاب محصلا للثواب أو فإنه يتوب إلى الله تعالى ذي اللطف الواسع الذي يحب التائبين ويصطنع إليهم أو فإنه يرجع إلى الله تعالى أو إلى ثوابه سبحانه مرجعا حسنا، وأيا ما كان فالشرط والجزاء متغايران، وهذا لبيان حال من تاب من جميع المعاصي وما تقدم لبيان من تاب من أمهاتها فهو تعميم بعد تخصيص وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ أي لا يقيمون الشهادة الكاذبة كما روي عن علي كرّم الله تعالى وجهه . والباقر رضي الله تعالى عنه فهو من الشهادة ، والزُّورَ منصوب على المصدر أو بنزع الخافض أي شهادة الزور أو بالزور ويفهم من كلام قتادة أن الشهادة هنا بمعنى يعم ما هو المعروف منها، أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أنه قال: أي لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم ولا يؤملونهم فيه. وأخرج جماعة عن مجاهد أن المراد بالزور الغناء، وروي نحوه عن محمد بن الحنفية رضي الله تعالى عنه، وضم الحسن إليه النياحة، وعن قتادة أنه الكذب، وعن عكرمة أنه لعب كان في الجاهلية، وعن ابن عباس أنه صنم (1) كانوا يلعبون حوله سبعة أيام، وفي رواية أخرى عنه أنه عيد المشركين وروي ذلك عن الضحاك، وعن هذا أنه الشرك فيشهدون على هذه الأقوال من الشهود بمعنى الحضور، والزُّورَ مفعول به بتقدير مضاف أي محال الزور وجوز أن يراد بالزور ما يعم كل شيء باطل مائل عن جهة الحق من الشرك والكذب والغناء والنياحة ونحوها فكأنه قيل: لا يشهدون مجالس الباطل لما في ذلك من الإشعار بالرضا به، وأيضا من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه وَإِذا مَرُّوا   (1) قال الراغب وسمي الصنم زورا في قوله: جاؤوا بزوريهم وجئنا بالأصم لكون ذلك كذبا وميلا عن الحق وظاهره أنه مطلق الصنم فتأمل اهـ منه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 50 على طريق الاتفاق بِاللَّغْوِ بما ينبغي أن يلغى ويطرح مما لا خير فيه مَرُّوا كِراماً أي مكرمين أنفسهم عن الوقوف عليه والخوض فيه معرضين عنه. وفسر الحسن اللغو كما أخرج عنه ابن أبي حاتم بالمعاصي، وأخرج هو وابن عساكر عن إبراهيم بن ميسرة قال: بلغني أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه مرّ بلهو معرضا ولم يقف فقال النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم لقد أصبح ابن مسعود وأمسى كريما ثم تلا إبراهيم وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً. وقيل: المراد باللغو الكلام الباطل المؤذي لهم أو ما يعمه والفعل المؤذي وبالكرم العفو والصفح عمن آذاهم، وإليه يشير ما أخرجه جماعة عن مجاهد أنه قال في الآية: إذا أوذوا صفحوا وجعل الكلام على هذا بتقدير مضاف أي إذا مروا بأهل اللغو أعرضوا عنهم كما قيل: ولقد أمر على اللئيم يسبني ... فمضيت ثمت قلت لا يعنيني ولا يخفى أنه ليس بلازم، وقيل: اللغو القول المستهجن، والمراد بمرورهم عليه إتيانهم على ذكره وبكرمهم الكف عنه والعدول إلى الكناية، وإليه يومىء ما أخرجه جماعة عن مجاهد أيضا أنه قال: فيها كانوا إذا أتوا على ذكر النكاح كنوا عنه، وعمم بعضهم وجعل ما ذكر من باب التمثيل، وجوز أن يراد باللغو الزور بالمعنى العام أعني الأمر الباطل عبر عنه تارة بالزور لميله عن جهة الحق وتارة باللغو لأنه من شأنه أن يلغى ويطرح، ففي الكلام وضع المظهر موضع المضمر، والمعنى والذين لا يحضرون الباطل وإذا مروا به على طريق الاتفاق أعرضوا عنه وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ القرآنية المنطوية على المواعظ والأحكام لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً أي أكبوا عليها سامعين بآذان واعية مبصرين بعيون راعية فالنفي متوجه إلى القيد على ما هو الأكثر في لسان العرب، وفي التعبير بما ذكر دون أكبوا عليها سامعين مبصرين ونحوه تعريض لما عليه الكفرة والمنافقون إذا ذكروا بآيات ربهم، والخرور السقوط على غير نظام وترتيب، وفي التعبير به مبالغة في تأثير التذكير بهم، وقيل: ضمير عليها للمعاصي المدلول عليها باللغو، والمعنى إذا ذكروا بآيات ربهم المتضمنة للنهي عن المعاصي والتخويف لمرتكبها لم يفعلوها ولم يكونوا كمن لا يسمع ولا يبصر وهو كما ترى. وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ بتوفيقهم للطاعة كما روي عن ابن عباس والحسن وعكرمة ومجاهد فإن المؤمن الصادق إذا رأى أهله قد شاركوه في الطاعة قرت بهم عينه وسر قلبه وتوقع نفعهم له في الدنيا حيا وميتا ولحوقهم به في الأخرى، وذكر أنه كان في أول الإسلام يهتدي الأب والابن كافر والزوج والزوجة كافرة فلا يطيب عيش ذلك المهتدي فكان يدعو بما ذكر، وعن ابن عباس قرة عين الوالد بولده أن يراه يكتب الفقه، ومن ابتدائية متعلقة بهب أي هب لنا من جهتهم. وجوز أن تكون بيانية كأنه قيل: هب لنا قرة أعين ثم بينت القرة وفسرت بقوله سبحانه: مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا وهذا مبني على مجيء من للبيان وجواز تقدم المبين على المبين، وقرة العين كناية عن السرور والفرح وهو مأخوذ من القر وهو البرد لأن دمعة السرور باردة ولذا يقال في ضده: أسخن الله تعالى عينه، وعليه قول أبي تمام: فأما عيون العاشقين فأسخنت ... وأما عيون الشامتين فقرت وقيل: هو مأخوذ من القرار لأن ما يسر يقر النظر به ولا ينظر إلى غيره، وقيل: في الضد أسخن الله تعالى عينه على معنى جعله خائفا مترقبا ما يحزنه ينظر يمينا وشمالا وأماما ووراء لا يدري من أين يأتيه ذلك بحيث تسخن عينه لمزيد الحركة التي تورث السخونة، وفيه تكلف، وقيل: أَعْيُنٍ بالتنكير مع أن المراد بها أعين القائلين وهي معينة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 51 لقصد تنكير المضاف للتعظيم وهو لا يكون بدون تنكير المضاف إليه، وجمع القلة على ما قال الزمخشري لأن أعين المتقين قليلة بالإضافة إلى عيون غيرهم. وتعقبه أبو حيان وابن المنير بأن المتقين وإن كانوا قليلا بالإضافة إلى غيرهم إلا أنهم في أنفسهم على كثرة من العدد والمعتبر في إطلاق جمع القلة أن يكون المجموع قليلا في نفسه لا بالإضافة إلى غيره، وأجيب بأن المراد أنه استعمل الجمع المذكور في معنى القلة مجردا عن العدد بقرينة كثرة القائلين وعيونهم، واستظهر ابن المنير أن ذلك لأن المحكي كلام كل واحد من المتقين فكأنه قيل: يقول كل واحد منهم هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين فتدبر وتأمل في وجه اختيار هذا الجمع في غير هذا الموضع مما لا يتأتى فيه ما ذكروه هاهنا. وأنا أظن أنه اختير الأعين جمعا للعين الباصرة والعيون جمعا للعين الجارية في جميع القرآن الكريم ويخطر لي في وجه ذلك شيء لا أظنه وجيها ولعلك تفوز بما يغنيك عن ذكره والله تعالى ولي التوفيق وقرأ طلحة وأبو عمرو وأهل الكوفة غير حفص «وذريتنا» على الأفراد. وقرأ عبد الله وأبو الدرداء وأبو هريرة «قرأت» على الجمع وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً أي اجعلنا بحيث يقتدون بنا في إقامة مراسم الدين بإفاضة العلم والتوفيق للعمل، وإمام يستعمل مفردا وجمعا كهجان والمراد به هنا الجمع ليطابق المفعول الأول لجعل، واختير على أئمة لأنه أوفق بالفواصل السابقة واللاحقة، وقيل: هو مفرد وأفرد مع لزوم المطابقة لأنه اسم جنس فيجوز إطلاقه على معنى الجمع مجازا بتجريده من قيد الوحدة أو لأنه في الأصل مصدر وهو لكونه موضوعا للماهية شامل للقليل والكثير وضعا فإذا نقل لغيره قد يراعي أصله أو لأن المراد واجعل كل واحد منا أو لأنهم كنفس واحدة لاتحاد طريقتهم واتفاق كلمتهم. وفي إرشاد العقل السليم بعد نقل ما ذكر أن مدار التوجيه على أن هذا الدعاء صدر عن الكل على طريق المعية وهو غير واقع أو عن كل واحد وهو غير ثابت، فالظاهر أنه صدر عن كل واحد قول واجعلني للمتقين إماما فعبر عنهم للإيجاز بصيغة الجمع وأبقى إِماماً على حاله. وتعقب بأن فيه تكلفا وتعسفا مع مخالفته للعربية وأنه ليس مداره على ذلك بل إنهم شركوا في الحكاية في لفظ واحد لاتحاد ما صدر عنهم مع أنه يجوز اختيار الثاني لأن التشريك في الدعاء أدعى للإجابة فاعرف ولا تغفل. وروي عن مجاهد أن إماما جمع أم بمعنى قاصد كصيام جمع صائم، والمعنى اجعلنا قاصدين للمتقين مقتدين بهم، وما ذكر أولا أقرب كما لا يخفى وليس في ذلك كما قال النخعي: طلب للرياسة بل مجرد كونهم قدوة في الدين وعلماء عاملين، وقيل: في الآية ما يدل على أن الرياسة في الدين مما ينبغي أن يطلب، وإعادة الموصول في المواقع السبعة مع كفاية ذكر الصلات بطريق العطف على صلة الموصول الأول للإيذان بأن كل واحد مما ذكر في حيز صلة الموصولات المذكورة وصف جليل على حياله له شأن خطير حقيق بأن يفرد له موصوف مستقل ولا يجعل شيء من ذلك تتمة لغيره، وتوسيط العاطف بين الموصولات لتنزيل الاختلاف العنواني منزلة الاختلاف الذاتي كما عرفته فيما سبق غير مرة أُوْلئِكَ إشارة إلى المتصفين بما فصل في حيز الصلات من حيث اتصافهم به وفيه دلالة على أنهم متميزون منتظمون بسببه في سلك الأمور المشاهدة، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الفضل، وهو مبتدأ خبره جملة قوله تعالى: يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ والجملة على الأقرب استئناف لا محل لها من الإعراب مبينة لما لهم في الآخرة من السعادة الأبدية إثر بيان ما لهم من الدنيا من الأعمال السنية، والْغُرْفَةَ الدرجة العالية من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 52 المنازل وكل بناء مرتفع عال، وقد فسرت هنا على ما روي عن ابن عباس ببيوت من زبرجد ودر وياقوت. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن سهل بن سعد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه: «قال فيها بيوت من ياقوتة حمراء أو زبرجدة خضراء أو درة بيضاء ليس فيها فصم ولا وصم» ، وقيل: أعلى منازل الجنة، ولا يأباه الخبر لجواز أن تكون الغرف الموصوفة فيه هناك، وروي عن الضحاك أنها الجنة، وقيل: السماء السابعة، وعلى تفسيرها بجمع، ويؤيده قوله تعالى: وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ [سبأ: 37] وقرىء فيه في الغرفة يكون المراد بها الجنس وهو يطلق على الجمع كما سمعت آنفا، وإيثار الجمع هنالك على ما قال الطيبي لأنها رتبت على الإيمان والعمل الصالح ولا خفاء في تفاوت الناس فيهما وعلى ذلك تتفاوت الأجزية، وهاهنا رتب على مجموع الأوصاف الكاملة فلذا جيء بالواحد دلالة على أن الغرف لا تفاوت بِما صَبَرُوا أي بسبب صبرهم على أن الباء للسببية وما مصدرية، وقيل: هي للبدل كما في قوله: فليت لي بهم قوما إذا ركبوا ... شنوا الإغارة فرسانا وركبانا أي بدل صبرهم ولم يذكر متعلق الصبر ليعم ما سلف من عبادتهم فعلا وتركا وغيره من أنواع العبادة والكل مدمج فيه فإنه إما عن المعاصي وإما على الطاعات وإما على الله تبارك وتعالى وهو أعلى منهما ويعلم من ذلك وجه إيثار صَبَرُوا على فعلوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً أي تحييهم الملائكة عليهم السلام ويدعون لهم بطول الحياة والسلامة عن الآفات أو يحيي بعضهم بعضا ويدعو له بذلك، والمراد من الدعاء به التكريم وإلقاء السرور والمؤانسة وإلا فهو متحقق لهم ويعطون التبقية والتخليد مع السلامة من كل آفة فليس هناك دعاء أصلا. وقرأ طلحة ومحمد اليماني وأهل الكوفة غير حفص «يلقون» بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف خالِدِينَ فِيها لا يموتون ولا يخرجون، وهو حال من ضمير يُجْزَوْنَ أو من ضمير يُلَقَّوْنَ. حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً مقابل «ساءت مستقرا» معنى ومثله إعرابا فتذكر ولا تغفل قُلْ أمر لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلّم بأن يبين للناس أن الفائزين بتلك النعماء الجليلة التي يتنافس فيها المتنافسون إنما نالوها بما عدد من محاسنهم ولولاها لم يعتد بهم أصلا أي قل للناس مشافها لهم بما صدر عن جنسهم من خير وشر ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي أي أي عبء يعبأ بكم وأي اعتداد يعتد بكم لَوْلا دُعاؤُكُمْ أي عبادتكم له عز وجل حسبما مر تفصيله، فإن ما خلق له الإنسان معرفة الله تعالى وطاعته جل وعلا وإلا فهو والبهائم سواء فما متضمنة لمعنى الاستفهام وهي في محل النصب وهي عبارة عن المصدر، وأصل العبء الثقل وحقيقة قولهم: ما عبأت به ما اعتددت له من فوادح همي ومما يكون عبئا عليّ كما تقول: ما اكترثت له أي ما أعددت له من كوارثي ومما يهمني. وقال الزجاج: معناه أي وزن يكون لكم عنده تعالى لولا عبادتكم، ويجوز أن تكون ما نافية أي ليس يعبأ، وأيا ما كان فجواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه أي لولا دعاؤكم لما اعتد بكم، وهذا بيان لحال المؤمنين من المخاطبين. وقوله سبحانه: فَقَدْ كَذَّبْتُمْ بيان لحال الكفرة منهم، والمعنى إذا أعلمتكم أن حكمي أني لا أعتد بعبادي إلا لعبادتهم فقد خالفتم حكمي ولم تعملوا عمل أولئك المذكورين، فالفاء مثلها في قوله: فقد جئنا خراسانا والتكذيب مستعار للمخالفة، وقيل: المراد فقد قصرتم في العبادة على أنه من قولهم: كذب القتال إذا لم يبالغ فيه، والأول أولى وإن قيل: إن المراد من التقصير في العبادة تركها. وقرأ عبد الله وابن عباس وابن الزبير «فقد كذب الكافرون» وهو على الجزء: 10 ¦ الصفحة: 53 معنى كذب الكافرون منكم لعموم الخطاب للفريقين على ما أشرنا إليه وهو الذي اختاره الزمخشري واستحسنه صاحب الكشف، واختار غير واحد أنه خطاب لكفرة قريش، والمعنى عليه عند بعض ما يعبأ بكم لولا عبادتكم له سبحانه أي لولا إرادته تعالى التشريعية لعبادتكم له تعالى لما عبأ بكم ولا خلقكم، وفيه معنى من قوله تعالى: ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] وقيل: المعنى ما يعبأ بكم لولا دعاؤه سبحانه إياكم إلى التوحيد على لسان رسوله صلّى الله تعالى عليه وسلّم أي لولا إرادة ذلك. وقيل: المعنى ما يبالي سبحانه بمغفرتكم لولا دعاؤكم معه آلهة أو ما يفعل بعذابكم لولا شرككم كما قال تعالى: ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ [النساء: 147] ، وقيل: المعنى ما يعبأ بعذابكم لولا دعاؤكم إياه تعالى وتضرعكم إليه في الشدائد كما قال تعالى: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ [العنكبوت: 65] وقال سبحانه: فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ [الأنعام: 42] ، وقيل: المعنى ما خلقكم سبحانه وله إليكم حاجة إلا أن تسألوه فيعطيكم وتستغفروه فيغفر لكم، وروي هذا عن الوليد بن الوليد رضي الله تعالى عنه. وأنت تعلم أن ما آثره الزمخشري لا ينافي كون الخطاب لقريش من حيث المعنى فقد خصص بهم في قوله تعالى: فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً أي جزاء التكذيب أو أثره لازما يحيق بكم حتى يكبكم في النار كما يعرب عنه الفاء الدالة على لزوم ما بعدها لما قبلها فضمير «يكون» لمصدر الفعل المتقدم بتقدير مضاف أو على التجوز، وإنما لم يصرح بذلك للإيذان بغاية ظهوره وتهويل أمره وللتنبيه على أنه مما لا يكتنهه البيان. وقيل: الضمير للعذاب، وقد صرح به من قرأ «يكون العذاب لزاما» ، وصح عن ابن مسعود أن اللزام قتل يوم بدر، وروي عن أبي ومجاهد وقتادة وأبي مالك ولعل إطلاقه على ذلك لأنه لوزم فيه بين القتلى لِزاماً. وقرأ ابن جريج تكون بتاء التأنيث على معنى تكون العاقبة، وقرأ المنهال، وأبان بن ثعلب وأبو السمال «لزاما» بفتح اللام مصدر لزم يقال: لزم لزوما ولزاما كثبت ثبوتا وثباتا، ونقل ابن خالويه عن أبي السمال أنه قرأ «لزام» على وزن حذام جعله مصدرا معدولا عن اللزمة كفجار المعدول عن الفجرة والله تعالى أعلم هذا. ومن باب الإشارة قيل في قوله تعالى: وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ إشارة قصور حال المنكرين على أولياء الله تعالى حيث شاركوهم في لوازم البشرية من الأكل والشرب ونحوهما وقالوا في قوله تعالى: وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً إن وجه فتنته النظر إليه نفسه والغفلة فيه عن ربه سبحانه، ويشعر هذا بأن كل ما سوى الله تعالى فتنة من هذه الحيثية. وقال ابن عطاء في قوله تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً أطلعناهم على أعمالهم فطالعوها بعين الرضا فسقطوا من أعيننا بذلك وجعلنا أعمالهم هباء منثورا، وهذه الآية وإن كانت في وصف الكفار لكن في الحديث أن في المؤمنين من يجعل عمله هباء كما تضمنته، فقد أخرج أبو نعيم في الحلية والخطيب في المتفق والمفترق عن سالم مولى أبي حذيفة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ليجاءن يوم القيامة بقوم معهم حسنات مثل جبال تهامة حتى إذا جيء بهم جعل الله تعالى أعمالهم هباء ثم قذفهم في النار، قال سالم: بأبي وأمي يا رسول الله حل لنا هؤلاء القوم قال: كانوا يصومون ويصلون ويأخذون هنئة من الليل ولكن كانوا إذا عرض عليهم شيء من الحرام وثبوا عليه فادحض الله تعالى أعمالهم» وذكر في قوله تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ الآية أن حكمه عام في كل متحابين على معصية الله تعالى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 54 وعن مالك بن دينار نقل الأحجار مع الأبرار خير من أكل الخبيص مع الفجار، وفي قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ أنه يلزم من هذا مع قولهم كل ولي على قدم نبي أن يكون لكل ولي عدو يتظاهر بعداوته، وفيه إشارة إلى سوء حال من يفعل ذلك مع أولياء الله تعالى. ولذا قيل: إن عداوتهم علامة سوء الخاتمة والعياذ بالله تعالى، وفي قوله تعالى: الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ إشارة إلى أنهم كانوا متوجهين إلى جهة الطبيعة ولذا حشروا منكوسين، وفي قوله تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا إنه عام في كل من مال إلى هوى نفسه واتبعه فيما توجه إليه، ومن هنا دقق العارفون النظر في مقاصد أنفسهم حتى إنهم إذا أمرتهم بمعروف لم يسارعوا إليه وتأملوا ماذا أرادت بذلك فقد حكي عن بعضهم أن نفسه لم تزل تحسه على الجهاد في سبيل الله تعالى فاستغرب ذلك منها لعلمه أن النفس أمارة بالسوء فأمعن النظر فإذا هي قد ضجرت من العبادة فأرادت الجهاد رجاء أن تقتل فتستريح مما هي فيه من النصب ولم تقصد بذلك الطاعة بل قصدت الفرار منها، وقيل في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ الآية أي ألم تر كيف مد ظل عالم الأجسام وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً في كتم العدم ثم جعلنا شمس عالم الأرواح على وجود ذلك الظل دليلا بأن كانت محركة لها إلى غايتها المخلوقة هي لأجلها فعرف من ذلك أنه لولا الأرواح لم تخلق الأجساد، وفي قوله تعالى: ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً إشارة إلى أن كل مركب فإنه سينحل إلى بسائطه إذا حصل على كماله الأخير وبوجه آخر الظل ما سوى نور الأنوار يستدل به على صانعه الذي هو شمس عالم الوجود. وهذا شأن الذاهبين من غيره سبحانه إليه عز وجل، وفي قوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْنَا إشارة إلى مرتبة أعلى من ذلك وهي الاستدلال به تعالى على غيره سبحانه كقوله تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ وهذه مرتبة الصديقين. وقوله سبحانه: ثُمَّ قَبَضْناهُ كقوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] وأَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشورى: 53] وبوجه آخر الظل حجاب الذهول والغفلة والشمس شمس تجلي المعرفة من أفق العناية عند صباح الهداية ولو شاء سبحانه لجعله دائما لا يزول، وإنما يستدل على الذهول بالعرفان، وفي قوله تعالى: ثُمَّ قَبَضْناهُ إشارة إلى أن الكشف التام يحصل بالتدريج عند انقضاء مدة التكليف وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً تستترون به عن رؤية الأجانب لكم واطلاعهم على حالكم من التواجد وسكب العبرات وَالنَّوْمَ سُباتاً راحة لأبدانكم من نصب المجاهدات وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً تنتشرون فيه لطلب ضرورياتكم وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ أي رياح الاشتياق على قلوب الأحباب بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ من التجليات والكشوف وَأَنْزَلْنا من سماء الكرم ماء حياة العرفان لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً أي قلوبا ميتة وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وهم الذين غلبت عليهم الصفات الحيوانية يسقيهم سبحانه ليردهم إلى القيام بالعبادات وَأَناسِيَّ كَثِيراً وهم الذين سكنوا إلى رياض الإنس يسقيهم سبحانه من ذلك ليفطمهم عن مراضع الإنسانية إلى المشارب الروحانية وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ أي القرآن الذي هو ماء حياة القلوب بينهم لِيَذَّكَّرُوا به موطنهم الأصلي فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً بنعمة القرآن وما عرفوا قدرها وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ بحر الروح وبحر النفس هذا وهو بحر الروح عَذْبٌ فُراتٌ من الصفات الحميدة الربانية، وهذا وهو بحر النفس مِلْحٌ أُجاجٌ من الصفات الذميمة الحيوانية وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً فحرام على الروح أن يكون منشأ الصفات الذميمة وعلى النفس أن تكون معدن الصفات الحميدة. وذكر أن البرزخ هو القلب، وقال ابن عطاء: تلاطمت صفتان فتلاقيتا في قلوب الخلق فقلوب أهل المعرفة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 55 منورة بأنوار الهداية مضيئة بضياء الإقبال وقلوب أهل النكرة مظلمة بظلمات المخالفة معرضة عن سنن التوفيق وبينهما قلوب العامة ليس لها علم بما يرد عليها وما يصدر منها ليس معها خطاب ولا لها جواب، وقيل: البحر العذب إشارة إلى بحر الشريعة وعذوبته لما أن الشريعة سهلة لا حرج فيها ولا دقة في معانيها ولذلك صارت مورد الخواص والعوام، والبحر الملح إشارة إلى بحر الحقيقة وملوحته لما أن الحقيقة صعبة المسالك لا يكاد يدرك ما فيها عقل السالك، والبرزخ إشارة إلى الطريقة فإنها ليست بسهلة كالشريعة ولا صعبة كالحقيقة بل بين بين تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً قيل: هو إشارة إلى أنه سبحانه جعل في سماء القلوب بروج المنازل والمقامات وهي اثنا عشر التوبة والزهد والخوف والرجاء والتوكل والصبر والشكر واليقين. والإخلاص والتسليم والتفويض والرضا وهي منازل الأحوال السيارة شمس التجلي وقمر المشاهدة وزهرة الشوق ومشتري المحبة وعطارد الكشوف ومريخ الفناء وزحل البقاء «وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا» بغير فخر ولا خيلاء لما شاهدوا من كبرياء الله تعالى وجلاله جل شأنه. وذكر بعضهم أن هؤلاء العباد يعاملون الأرض معاملة الحيوان لا الجماد ولذا يمشون عليها هونا وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ وهم أبناء الدنيا قالُوا سَلاماً أي سلامة من الله تعالى من شركم أو إذا خاطبهم كل ما سوى الله تعالى من الدنيا والآخرة وما فيهما من اللذة والنعيم وتعرض لهم ليشغلهم عما هم فيه قالُوا سَلاماً سلام متاركة وتوديع وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً لما علموا أن الصلاة معراج المؤمن والليل وقت اجتماع المحب بالحبيب: نهاري نهار الناس حتى إذا بدا ... لي الليل هزتني إليك المضاجع أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ... ويجمعني والهم بالليل جامع وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً إشارة إلى مزيد خوفهم من القطيعة والبعد عن محبوبهم وذلك ما عنوه بعذاب جهنم لا العذاب المعروف فإن المحب الصادق يستعذبه مع الوصال ألا تسمع ما قيل: فليت سليمى في المنام ضجيعتي ... في جنة الفردوس أو في جهنم وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا إشارة إلى أن فيوضاتهم حسب قابلية المفاض عليه لا يسرفون فيها بأن يفيضوا فوق الحاجة ولا يقترون بأن يفيضوا دون الحاجة أو إلى أنهم إذا أنفقوا وجودهم في ذات الله تعالى وصفاته جل شأنه لم يبالغوا في الرياضة إلى حد تلف البدن ولم يقتروا في بذل الوجود بالركون إلى الشهوات وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ برفع حوائجهم إلى الأغيار وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قتلها إِلَّا بِالْحَقِّ أي إلا بسطوة تجلياته تعالى وَلا يَزْنُونَ بالتصرف في عجوز الدنيا ولا ينالون منها شيئا إلا بإذنه تعالى وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ لا يحضرون مجالس الباطل من الأقوال والأفعال وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ وهو ما لا يقربهم إلى محبوبهم مَرُّوا كِراماً معرضين عنه وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً بل أقبلوا عليها بالسمع والطاعة مشاهدين بعيون قلوبهم أنوار ما ذكروا به من كلام ربهم وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا من ازدوج معنا وصحبنا وذرياتنا الذين أخذوا عنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ بأن يوفقوا للعمل الصالح وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً وهم الفائزون بالفناء والبقاء الأتمين أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ وهو مقام العندية بِما صَبَرُوا في البداية على تكاليف الشريعة، وفي الوسط على التأدب بآداب الطريقة، وفي النهاية على ما تقتضيه الحقيقة وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً الجزء: 10 ¦ الصفحة: 56 هي أنس الأسرار بالحي القيوم وَسَلاماً وهو سلامة القلوب من خطور القطيعة خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً لأنها مشهد الحق ومحل رضا المحبوب المطلق، نسأل الله تعالى أن يمن علينا برضائه ويمنحنا بسوابغ نعمائه وآلائه بحرمة سيد أنبيائه وأحب أحبائه صلّى الله عليه وسلّم وشرف قدره وعظم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 57 سورة الشّعراء وفي تفسير الإمام مالك تسميتها بسورة الجامعة، وقد جاء في رواية ابن مردويه عن ابن عباس وعبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهم إطلاق القول بمكيتها، وأخرج النحاس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت بمكة سوى خمس آيات من آخرها نزلت بالمدينة وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ [الشعراء: 224] إلى آخرها، وروي ذلك عن عطاء وقتادة، وقال مقاتل: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً [الشعراء: 197] الآية مدنية أيضا، قال الطبرسي: وعدة آياتها مائتان وسبع وعشرون آية في الكوفي والشامي والمدني الأول ومائتان وست وعشرون في الباقي. ووجه اتصالها بما قبلها اشتمالها على بسط وتفصيل لبعض ما ذكر فيما قبل، وفيها أيضا من تسليته صلّى الله تعالى عليه وسلّم ما فيها، وقد افتتحت كلتا السورتين بما يفيد مدح القرآن الكريم وختمتا بإيعاد المكذبين به كما لا يخفى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 58 طسم تقدم الكلام في أمثاله إعرابا وغيره والكلام هنا كالكلام هناك بيد أنه أخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب أنه قال في هذا الطاء من ذي الطول والسين من القدوس والميم من الرحمن، وأمال فتحة الطاء حمزة والكسائي وأبو بكر وقرأ نافع كما روي عنه أبو علي الفارسي في الحجة بين بين ولم يمل صرفا لأن الألف منقلبة عن ياء فلو أميلت إليها انتقض غرض القلب وهو التخفيف. وروى بعض عنه أنه قرأ كباقي السبعة من غير إمالة أصلا نظرا إلى أن الطاء حرف استعلاء يمنع من الإمالة، وقرأ حمزة بإظهار نون سين لأنه في الأصل لكونه أحد أسماء الحروف المقطعة منفصل عما بعده وأدغمها الباقون لما رأوها متصلة في حكم كلمة واحدة خصوصا على القول بالعلمية، وقرأ عيسى بكسر الميم من «طسم» هنا وفي القصص، وجاء كذلك عن نافع، وفي مصحف عبد الله ط س م من غير اتصال وهي قراءة أبي جعفر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ إشارة إلى السورة، وما في ذلك من معنى البعد للتنبيه على بعد منزلة المشار إليه في الفخامة والمراد بالكتاب القرآن وبالمبين الظاهر إعجازه على أنه من أبان بمعنى بان والكلام على تقدير مضاف أو على أن الإسناد فيه مجازي، وجوز أن يكون المبين من أبان المتعدي ومفعوله محذوف أي الأحكام الشرعية أو الحق، والأول أنسب بالمقام، والمعنى هذه آيات مخصوصة من القرآن مترجمة باسم مستقل، والمراد ببيان كونها بعضا منه وصفها بما اشتهر به الكل من النعوت الجليلة، وقيل: الإشارة إي القرآن والتأنيث لرعاية الخبر، والمراد بالكتاب السورة، والمعنى آيات هذا القرآن المؤلف من الحروف المبسوطة كآيات هذه السورة المتحدي بها فأنتم عجزتم عن الإتيان بمثل هذه السورة فحكم تلك الآيات كذلك وهو كما ترى. ومن الناس من فسر الْكِتابِ الْمُبِينِ باللوح المحفوظ ووصفه بالمبين لإظهاره أحوال الأشياء للملائكة عليهم السلام والأولى ما سمعته أولا لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أي قائل إياها من شدة الوجد كما قال الليث وأنشد قول الفرزدق: ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه ... لشيء نحته عن يديه المقادر وقال الأخفش والفراء يقال بخع يبخع بخعا وبخوعا أي أهلك من شدة الوجد وأصله الجهد، ومنه قول عائشة في عمر رضي الله تعالى عنهما: بخع الأرض أي جهدها حتى أخذ ما فيها من أموال الملوك، وقال الكسائي: بخع الأرض بالزراعة جعلها ضعيفة بسبب متابعة الحراثة وقال الزمخشري وتبعه المطرزي: أصل البخع أن تبلغ بالذبح البخاع بكسر الباء وهو عرق مستبطن الفقار وذلك أقصى حد الذبح، ولم يطلع على ذلك ابن الأثير مع مزيد بحثه ولا ضير في ذلك. وقرأ زيد بن علي وقتادة رحمهم الله تعالى «باخع نفسك» بالإضافة على خلاف الأصل فإن الأصل في اسم الفاعل إذا استوفى شروط العمل أن يعمل على ما أشار إليه سيبويه في الكتاب، وقال الكسائي: العمل والإضافة سواء، وذهب أبو حيان إلى أن الإضافة أحسن من العمل، ولعل في مثل هذا الموضع لإشفاق المتكلم، ولما استحال في حقه سبحانه جعلوه متوجها إلى المخاطب، ولما كان غير واقع منه أيضا قالوا. المراد الأمر به لدلالة الإنكار المستفاد من سوق الكلام عليه فكأنه قيل: أشفق على نفسك أن تقتلها وجدا وحسرة على ما فاتك من إسلام قومك، وقال العسكري: هي في مثل هذا الموضع موضوعة موضع النهي، والمعنى لا تبخع نفسك، وقيل: وضعت موضع الاستفهام والتقدير هل أنت باخع، وحكي مثله عن ابن عطية إلا أنه قال: المراد الإنكار أي لا تكن باخعا نفسك أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ تعليل للبخع. ولما لم يصح كون عدم كونهم في المستقبل مؤمنين كما يفيده ظاهر الكلام علة لذلك لعدم المقارنة والعلة ينبغي أن تقارن المعلول قدروا- خيفة- فقالوا: خيفة أن لا يؤمنوا بذلك الكتاب المبين، ومن الأجلة من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 59 لم يقدر ذلك بناء على أن المراد لاستمرارهم على عدم قبول الإيمان بذلك الكتاب لأن كلمة كان للاستمرار وصيغة الاستقبال لتأكيده وأريد استمرار النفي وجوز أن يكون الكون بمعنى الصحة والمعنى لامتناع إيمانهم والقول بأن فعل الكون أتى به لأجل الفاصلة ليس بشيء. وقوله تعالى: إِنْ نَشَأْ إلخ استئناف لتعليل الأمر بإشفاقه على نفسه صلّى الله عليه وسلّم أو النهي عن البخع، ومفعول المشيئة محذوف وهو على المشهور ما دل عليه مضمون الجزاء، وجوز أن يكون مدلولا عليه بما قبل أي إن نشأ إيمانهم نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً ملجئة لهم إلى الإيمان قاسرة عليه كما نتق الجبل فوق بني إسرائيل وتقديم الظرفين على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر. وقرأ أبو عمرو في رواية هارون عنه «إن يشأ ينزل» على الغيبة والضمير له تعالى، وفي بعض المصاحف لو شئنا لأنزلنا فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ أي منقادين وهو خبر عن الأعناق وقد اكتسبت التذكير وصفة العقلاء من المضاف إليه فأخبر عنها لذلك بجمع من يعقل كما نقله أبو حيان عن بعض أجلة علماء العربية. واختصاص جواز مثل ذلك الشعر كما حكاه السيرافي عن النحويين مما لم يرتضه المحققون ومنهم أبو العباس وهو ممن خرج الآية على ذلك، وجوز أن يكون ذلك لما أنها وصفت بفعل لا يكون إلا مقصودا للعاقل وهو الخضوع كما في قوله تعالى: رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يوسف: 4] وأن يكون الكلام على حذف مضاف وقد روعي بعد حذفه أي أصحاب أعناقهم، ولا يخفى أن هذا التقدير ركيك مع الإضافة إلى ضميرهم، وقال الزمخشري: أصل الكلام فظلوا لها خاضعين فأقحمت الأعناق لبيان موضع الخضوع لأنه يتراءى قبل التأمل لظهور الخضوع في العنق بنحو الانحناء أنه هو الخاضع دون صاحبه وترك الجمع بعد الإقحام على ما كان عليه قبل، وقال الكسائي: إن خاضعين حال للضمير المجرور لا للأعناق. وتعقبه أبو البقاء فقال: هو بعيد في التحقيق لأن خاضِعِينَ يكون جاريا على غير فاعل (ظلت) فيفتقر إلى إبراز ضمير الفاعل فكان يجب أن يكون خاضعين هم فافهم، وقال ابن عباس ومجاهد، وابن زيد والأخفش: الأعناق الجماعات يقال: جاء في عنق من الناس أي جماعة، والمعنى ظلت جماعاتهم أي جملتهم. وقيل: المراد بها الرؤساء والمقدمون مجازا كما يقال لهم: رؤوس وصدور فيثبت الحكم لغيرهم بالطريق الأولى، وظاهر كلامهم أن إطلاق العنق على الجماعة مطلقا رؤساء أم لا حقيقة وذكر الطيبي عن الأساس أن من المجاز أتاني عنق من الناس للجماعة المتقدمة وجاؤوا رسلا رسلا وعنقا عنقا والكلام يأخذ بعضه بأعناق بعض ثم قال: يفهم من تقابل رسلا رسلا لقوله: عنقا عنقا أن في إطلاق الأعناق على الجماعات اعتبار الهيئة المجتمعة فيكون المعنى فظلوا خاضعين مجتمعين على الخضوع متفقين عليه لا يخرج أحد منهم عنه. وقرأ عيسى وابن أبي عبلة «خاضعة» وهي ظاهرة على جميع الأقوال في الأعناق بيد أنه إذا أريد بها ما هو جمع العنق بمعنى الجارحة كان الإسناد إليها مجازيا ولَها في القراءتين صلة ظلت أو الوصف والتقديم للفاصلة أو نحو ذلك لا للحصر، وظلت عطف على ننزل ولا بد من تأويل أحد الفعلين بما هو من نوع الآخر لأنه وإن صح عطف الماضي على المضارع إلا أنه هنا غير مناسب فإنه لا يترتب الماضي على المستقبل بالفاء التعقيبية أو السببية ولا يعقل ذلك والمعقول عكسه، وبتأويل أحد الفعلين يدفع ذلك لكن اختار بعضهم تأويل ظلت بتظل وكأن العدول عنه ليؤذن الماضي بسرعة الانفعال وأن نزول الآية لقوة سلطانه وسرعة ترتب ما ذكر عليه كأنه كان واقعا قبله، وبعضهم تأويل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 60 ننزل بأنزلنا، ولعل وضعه موضعه لاستحضار صورة إنزال تلك الآية العظيمة الملجئة إلى الإيمان وحصول خضوع رقابهم عند ذلك في ذهن السامع ليتعجب منه فتأمل. وقرأ طلحة «فتظل» بفك الإدغام، والجزم وضعف الحريري في درة الغواص الفك في مثل ذلك، ورجح صاحب الكشف القراءة بأنها أبلغ لإفادة الماضي ما سمعته آنفا، هذا والظاهر أنه لم تحقق إنزال هذه الآية لأن سنة الله تعالى تكليف الناس بالإيمان من دون إلجاء، نعم إذا قيل: المراد آية مذلة لهم كما روي عن قتادة جاز أن يقال بتحقق ذلك، ولعل ما روي عن ابن عباس كما في البحر والكشاف من قوله نزلت هذه الآية فينا وفي بني أمية ستكون لنا عليهم الدولة فتذل أعناقهم بعد صعوبة ويلحقهم هوان بعد عزة ناظر إلى هذا، وعن أبي حمزة الثمالي أن الآية صوت يسمع من السماء في نصف شهر رمضان وتخرج له العواتق من البيوت، وهذا قول بتحقق الإنزال بعد وكأن ذلك زمان المهدي رضي الله تعالى عنه، ومن صحة ما ذكر من الأخبار في القلب شيء والله تعالى أعلم. وقوله تعالى: وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ بيان لشدة شكيمتهم وعدم ارعوائهم عما كانوا عليه من الكفر والتكذيب بغير ما ذكر من الآية الملجئة تأكيدا لصرف رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم عن الحرص على إسلامهم. ومن الأولى مزيدة لتأكيد العموم، وجوز أن تكون تبعيضية، والجار والمجرور متعلق بمحذوف هو صفة لمقدر كما نشير إليه إن شاء الله تعالى، والثانية لابتداء الغاية مجازا متعلقة بيأتيهم أو بمحذوف هو صفة لذكر، وأيا ما كان ففيه دلالة على فضله وشرفه وشناعة ما فعلوا به. والتعرض لعنوان الرحمة لتغليظ شناعتهم وتهويل جنايتهم فإن الإعراض عما يأتيهم من جنابه جل وعلا على الإطلاق شنيع قبيح وعما يأتيهم بموجب رحمته تعالى لمحض منفعتهم أشنع وأقبح أي ما يأتيهم تذكير وموعظة أو طائفة من القرآن من قبله عز وجل بمقتضى رحمته الواسعة يجدد تنزيله حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة إلا جددوا إعراضا عنه واستمروا على ما كانوا عليه، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال محله النصب على الحالية من مفعول يَأْتِيهِمْ بإضمار قد أو بدونه على الخلاف المشهور أي ما يأتيهم من ذكر في حال من الأحوال إلا حال كونهم معرضين عنه فَقَدْ كَذَّبُوا أي بالذكر الذي يأتيهم تكذيبا صريحا مقارنا للاستهزاء به ولم يكتفوا بالإعراض عنه حيث جعلوه تارة سحرا وتارة أساطير الأولين وأخرى شعرا. وقال بعض الفضلاء: أي فقد تموا على التكذيب وكان تكذيبهم مع ورود ما يوجب الإقلاع من تكرير إتيان الذكر كتكذيبهم أول مرة، وللتنبيه على ذلك عبر عنه بما يعبر عن الحادث ويشعر باعتبار مقارنة الاستهزاء حسبما أشير إليه قوله تعالى: فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ لاقتضائه تقدم الاستهزاء، وقيل: إن ذاك لدلالة الإعراض والتكذيب على الاستهزاء، والمراد بأنباء ذلك ما سيحيق بهم من العقوبات العاجلة والآجلة وكل آت قريب، وقيل: من عذاب يوم بدر أو يوم القيامة والأول أولى، وعبر عن ذلك بالأنباء لكونه مما أنبأ به القرآن العظيم أو لأنهم بمشاهدته يقفون على حقيقة حال القرآن كما يقفون على الأحوال الخافية عنهم باستماع الأنباء. وفيه تهويل له لأن النبأ يطلق على الخبر الخطير الذي له وقع عظيم أي فسيأتيهم لا محالة مصداق ما كانوا يستهزؤون به قبل من غير أن يتدبروا في أحواله ويقفوا عليها. وقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ بيان لإعراضهم عن الآيات التكوينية بعد بيان إعراضهم عن الآيات التنزيلية، والهمزة للإنكار التوبيخي والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أأصروا على ما هم عليه من الكفر بالله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 61 تعالى وتكذيب ما يدعوهم إلى الإيمان به عز وجل ولم ينظروا إلى عجائب الأرض الزاجرة لهم عن ذلك والداعية إلى الإيمان به تعالى، وقال أبو السعود بعد جعل الهمزة للإنكار والعطف على مقدر يقتضيه المقام: أي أفعلوا ما فعلوا من الإعراض عن الآيات والتكذيب والاستهزاء بها ولم ينظروا إلى عجائب الأرض الزاجرة عما فعلوا والداعية إلى الإقبال على ما أعرضوا عنه انتهى. وهو ظاهر في أن الآية مرتبطة بما قبلها من قوله تعالى: وَما يَأْتِيهِمْ إلخ وهو قريب بحسب اللفظ إلا أن فيه أن النظر إلى عجائب الأرض لا يظهر كونه زاجرا عن التكذيب بكون القرآن منزلا من الله عز وجل وداعيا إلى الإقبال إليه، وقال ابن كمال: التقدير ألم يتأملوا في عجائب قدرته تعالى ولم ينظروا انتهى. والظاهر أن الآية عليه ابتداء كلام فافهم، وقيل: هو بيان لتكذيبهم بالمعاد إثر بيان تكذيبهم بالمبدأ وكفرهم به عز وجل والعطف على مقدر أيضا، والتقدير أكذبوا بالبعث ولم ينظروا إلى عجائب الأرض الزاجرة عن التكذيب بذلك والأول أولى وأظهر، وأيا ما كان فالكلام على حذف مضاف كما أشير إليه، وجوز أن يراد من الأرض عجائبها مجازا وقوله تعالى: كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ استئناف مبين لما في الأرض من الآيات الزاجرة عن الكفر الداعية إلى الإيمان. وكم خبرية في موضع نصب على المفعولية بما بعدها وهي مفيدة للكثرة وجيء بكل معها لإفادة الإحاطة والشمول فيفيد أن كثرة أفراد كل صنف صنف فيكون المعنى أنبتنا فيها شيئا كثيرا من كل صنف على أن من تبعيضية أو كثرة الأصناف فيكون المعنى أنبتنا فيها شيئا كثيرا هو كل صنف على أن من بيانية، وأيا ما كان فلا تكرار بينهما، وقد يقال: المعنى أو لم ينظروا إلى نفس الأرض التي هي طبيعة واحدة كيف جعلناها منبتا لنباتات كثيرة مختلفة الطبائع وحينئذ ليس هناك حذف مضاف ولا مجاز ويكون قوله تعالى: كَمْ أَنْبَتْنا فِيها إلخ يدل اشتمال بحسب المعنى وهو وجه حسن فافهمه لئلا تظن رجوعه إلى ما تقدم واحتياجه إلى ما احتاج إليه من الحذف أو التجوز، والزوج الصنف كما أشرنا إليه. وذكر الراغب أن كل ما في العالم زوج من حيث إن له ضدا ما أو مثلا ما أو تركيبا ما بل لا ينفك بوجه من تركيب، والكريم من كل شيء مرضيه ومحموده، ومنه قوله: حتى يشق الصفوف من كرمه فإنه أراد من كونه مرضيا في شجاعته وهو صفة لزوج أي من كل زوج كثير المنافع وهي تحتمل التخصيص والتوضيح، ووجه الأول دلالته على ما يدل عليه غيره في شأن الواجب تعالى وزيادة حيث يدل على النعمة الزاجرة لهم عما هم عليه أيضا، ووجه الثاني التنبيه على أنه تعالى ما أنبت شيئا إلا وفيه فائدة كما يؤذن به قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة: 29] وأيا ما كان فالظاهر عدم دخول الحيوان في عموم المنبت، وذهب بعض إلى دخوله بناء على أن خلقه من الأرض إنبات له كما يشير إليه قوله تعالى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17] وعن الشعبي التصريح بدخول الإنسان فيه، فقد روي عنه أنه قال الناس: من نبات الأرض فمن صار إلى الجنة فهو كريم ومن صار إلى النار فبضد ذلك. إِنَّ فِي ذلِكَ أي الإنبات أو المنبت لَآيَةً عظيمة دالة على ما يجب عليهم الإيمان به من شؤونه عز وجل، وما ألطف ما قيل في صف النرجس: تأمل في رياض الورد وانظر ... إلى آثار ما صنع المليك الجزء: 10 ¦ الصفحة: 62 عيون من لجين شاخصات ... على أهدابها ذهب سبيك على قضب الزبرجد شاهدات ... بأن الله ليس له شريك وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ قيل: أي وما كان في علم الله تعالى ذلك. واعترض بناء على أنه يفهم من السياق العلية بأن علمه تعالى ليس علة لعدم إيمانهم لأن العلم تابع للمعلوم لا بالعكس. ورد بأن معنى كون علمه تعالى تابعا للمعلوم أن علمه سبحانه في الأزل بمعلوم معين حادث تابع لماهيته بمعنى أن خصوصية العلم وامتيازه عن سائر العلوم إنما هو باعتبار أنه علم بهذه الماهية وأما وجود الماهية فيما لا يزال فتابع لعلمه تعالى الأزلي التابع لماهيته بمعنى أنه تعالى لما علمها في الأزل على هذه الخصوصية لزم أن تتحقق وتوجد فيما لا يزال كذلك فنفس موتهم على الكفر وعدم إيمانهم متبوع لعلمه الأزلي ووقوعه تابع له، ونقل عن سيبويه إن كانَ صلة والمعنى وما أكثرهم مؤمنين فالمراد الإخبار عن حالهم في الواقع لا في علم الله تعالى الأزلي وارتضاه شيخ الإسلام، وقال: هو الأنسب بمقام بيان عتوهم وغلوهم في المكابرة والعناد مع تعاقد موجبات الإيمان من جهته عز وجل وأما نسبة كفرهم إلى علمه تعالى فربما يتوهم منها كونهم معذورين فيه بحسب الظاهر ويحتاج حينئذ إلى تحقيق عدم العذر بما يخفى على العلماء المتقنين، والمعنى على الزيادة وما أكثرهم مؤمنين مع عظم الآية الموجبة للإيمان لغاية تماديهم في الكفر والضلالة وانهماكهم في الغي والجهالة. ويجوز على قياس ما مر عن بعض الأجلة في قوله تعالى: أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أن يقال: إن كانَ للاستمرار واعتبر بعد النفي فالمراد استمرار نفي إيمان أكثرهم مع عظم الآية الموجبة لإيمانهم، وفيه من تقبيح حالهم ما فيه. وهذا المعنى وإن تأتي على تقدير إسقاط كانَ بأن يعتبر الاستمرار الذي تفيده الجملة الاسمية بعد النفي أيضا إلا أنه فرق بين الاستمرارين بعد اعتبار كان قوة وضعفا فتدبر، ونسبة عدم الإيمان إلى أكثرهم لأن منهم من لم يكن كذلك وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ أي الغالب على كل ما يريده من الأمور التي من جملتها الانتقام من هؤلاء الكفرة الرَّحِيمُ أي البالغ في الرحمة ولذلك يمهلهم ولا يؤاخذهم بغتة بما اجترءوا عليه من العظائم الموجبة لفنون العقوبات أو العزيز في انتقامه ممن كفر الرحيم لمن تاب وآمن أو العزيز في انتقامه من الكفرة الرحيم لك بأن يقدر من يؤمن بك إن لم يؤمن هؤلاء، والتعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم من تشريفه عليه الصلاة والسلام والعدة الخفية له صلّى الله تعالى عليه وسلّم ما لا يخفى، وتقديم العزيز لأن ما قبله أظهر في بيان القدرة أو لأنه أدل على دفع المضار الذي هو أهم من جلب المصالح. وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى كلام مستأنف مقرر لسوء حالهم ومسل له صلّى الله عليه وسلّم أيضا لكن بنوع آخر من أنواع التسلية على ما قيل: وإِذْ منصوب على المفعولية بمقدر خوطب به النبي صلّى الله عليه وسلّم معطوف على ما قبله عطف القصة على القصة، والتقدير عند بعض واذكر في نفسك وقت ندائه تعالى أخاك موسى عليه السلام وما جرى له مع قومه من التكذيب مع ظهور الآيات وسطوح المعجزات لتعلم أن تكذيب الأمم لأنبيائهم ليس بأول قارورة كسرت ولا بأول صحيفة نشرت فيهون عليك الحال وتستريح نفسك مما أنت فيه من البلبال. وعند شيخ الإسلام واذكر لقومك وقت ندائه تعالى موسى عليه السلام وذكرهم بما جرى على قوم فرعون بسبب تكذيبهم إياه عليه السلام زاجرا لهم عما هم عليه من التكذيب وتحذيرا من أن يحيق بهم مثل ما حاق بهم حتى يتضح لديك أنهم في غاية العناد والإصرار لا يردعهم أخذ أضرابهم من المكذبين الأشرار ولا يؤثر فيهم الوعظ والإنذار، وهذا التقدير يناسب صدر القصة الآتية أعني قوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ [الشعراء: 69] والأول يناسب القصص المصدرة بكذبت على ما قيل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 63 والأظهر عندي تقدير واذكر لقومك لوضوح اقتضاء وَاتْلُ عَلَيْهِمْ له. ولا نسلم اقتضاء تلك القصص المصدرة بكذبت تقدير اذكر في نفسك وأمر المناسبة مشترك وإن سلّم اختصاصها به فهي لا تقاوم الاقتضاء المذكور. نعم الأظهر أن يكون وجه التسلي بما ذكر كونه عليه الصلاة والسلام ليس بدعا من الرسل ولا قومه بدعا من الأقوام في التكذيب مع ظهور الآيات وسطوح المعجزات وقد تضمن الأمر بذكر ذلك لهم الأمر بالتسلي به على أتم وجه فتدبر. وأيا ما كان فوجه توجيه الأمر بالذكر إلى الوقت مع أن المقصود ذكر ما فيه قد مر مرارا. وقيل: إن ذلك المقدر معطوف على مقدر آخر أي خذ الآيات أو ترقب إتيان الأنباء واذكر وهو تكلف لا حاجة إليه. وقيل: إِذْ ظرف لقال بعد وليس بذاك، ومعنى نادى دعا. وقيل: أمر أَنِ ائْتِ أي بأن ائت على أن إن مصدرية حذف عنها حرف الجر أو أي ائت على أنها مفسرة. الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ بالكفر والمعاصي. واستعباد بني إسرائيل وذبح أبنائهم وليس هذا مطلع ما ورد في حيز النداء وإنما هو ما فصل في سورة [طه: 12- 13] من قوله تعالى: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ إلى قوله سبحانه: لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى وسنة القرآن الكريم إيراد ما جرى في قصة واحدة من المقالات بعبارات شتى وأساليب مختلفة لاقتضاء المقام ما يكون فيه من العبارات كما حقق في موضعه. قَوْمَ فِرْعَوْنَ عطف بيان للقوم الظالمين جيء به للإيذان بأنهم علم في الظلم كان معنى القوم الظالمين وترجمته قوم فرعون، وقال أبو البقاء: بدل منه، ورجح أبو حيان الأول بأنه أقضى لحق البلاغة لإيذانه بما سمعت، ولعل الاقتصار على القوم للعلم بأن فرعون أولى بما ذكر وقد خص في بعض المواضع للدلالة على ذلك، وجوز أن يقال قوم فرعون شامل له شمول بني آدم آدم عليه السلام أَلا يَتَّقُونَ حال بتقدير القول أي ائتهم قائلا لهم ألا يتقون. وقرأ عبد الله بن مسلم بن يسار وشقيق بن سلمة وحماد بن سلمة وأبو قلابة بتاء الخطاب، ويجوز في مثل ذلك الخطاب والغيبة فيقال قل لزيد تعطي عمرا كذا ويعطي عمرا كذا وقرىء بكسر النون مع الخطاب والغيبة والأصل يتقونني فحذفت إحدى النونين لاجتماع المثلين وحذفت ياء المتكلم اكتفاء بالكسرة. وقول موسى عليه السلام ذلك بطريق النيابة عنه عز وجل نظير ما في قوله تعالى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة: 186] فكأنه قيل: ائتهم قائلا قولي لهم ألا تتقونني، وقال الزمخشري هو كلام مستأنف اتبعه عز وجل إرساله إليهم للإنذار والتسجيل عليهم بالظلم تعجيبا لموسى عليه السلام من حالهم التي شنعت في الظلم والعسف ومن أمنهم العواقب وقلة خوفهم وحذرهم من أيام الله عز وجل، وقراءة الخطاب على طريقة الالتفات إليهم وجبههم وضرب وجوههم بالإنكار والغضب عليهم، وإجراء ذلك في تكليم المرسل إليهم في معنى إجرائه بحضرتهم وإلقائه في مسامعهم لأنه مبلغه ومنهيه وناشره بين الناس فلا يضر كونهم غيبا حقيقة في وقت المناجاة، وفيه مزيد حث على التقوى لمن تدبر وتأمل انتهى، والاستئناف عليه قيل: بياني بتقدير لم هذا الأمر؟، وقيل: هو نحوي إذ لا حاجة إلى هذا السؤال بعد ذكرهم بعنوان الظلم ودفع بالعناية، ولعل ما ذكرناه أسرع تبادرا إلى الفهم. وقال أيضا: يحتمل أن يكون لا يَتَّقُونَ حالا من الضمير في الظَّالِمِينَ أي يظلمون غير متقين الله تعالى وعقابه عز وجل فأدخلت همزة الإنكار على الحال دلالة على إنكار عدم التقوى والتوبيخ عليه ليفيد إنكار الظلم من طريق الأولى فإن فائدة الإتيان بهذه الحال الإشعار بأن عدم التقوى هو الذي جرأهم على الظالم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 64 وتعقبه أبو حيان بأنه خطأ فاحش لأن فيه مع الفصل بين العامل والمعمول بالأجنبي لزوم أعمال ما قبل: الهمزة فيما بعدها. وأجيب بمنع كون الفاصل أجنبيا وأنه يتوسع في الهمزة وهو كما ترى، وجوز أيضا في ألا يتقون بالياء التحتية وكسر النون أن يكون بمعنى ألا يا ناس اتقون نحو قوله تعالى: أَلَّا يَسْجُدُوا [النمل: 25] فتكون أَلا كلمة واحدة للعرض ويا ندائية سقطت ألفها لالتقاء الساكنين وحذف المنادى وما بعده فعل أمر ويكون إسقاط الألفين مخالفا للقياس، ولا يخفى أنه تخريج بعيد وأن الظاهر أن ألا للعرض المضمن الحض على التقوى في جميع القراءات. قالَ استئناف بياني كأنه قيل: فماذا قال موسى عليه السلام؟ فقيل: قال متضرعا إلى الله عز وجل. رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ من أول الأمر وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي معطوفان على خبر إن فيفيد أن فيه عليه السلام ثلاث علل. خوف التكذيب وضيق الصدر وامتناع انطلاق اللسان والظاهر ثبوت الأمرين الأخيرين في أنفسهما غير متفرعين على التكذيب ليدخلا تحت الخوف لكن قرأ الأعرج وطلحة وعيسى وزيد بن علي وأبو حيوة وزائدة عن الأعمش ويعقوب بنصب الفعلين عطفا على يُكَذِّبُونِ فيفيد دخولهما تحت الخوف ولأن الأصل توافق القراءتين قيل إنهما متفرعان على ذلك كأنه قيل: رب إني أخاف تكذيبهم إياي ويضيق صدري انفعالا منه ولا ينطلق لساني من سجن اللكنة وقيد العي بانقباض الروح الحيواني الذي تتحرك به العضلات الحاصل عند ضيق الصدر واغتمام القلب، والمراد حدوث تلجلج اللسان له عليه السلام بسبب ذلك كما يشاهد في كثير من الفصحاء إذا اشتد غمهم وضاقت صدورهم فإن ألسنتهم تتلجلج حتى لا تكاد تبين عن مقصود، هذا إن قلنا: إن هذا الكلام كان بعد دعائه عليه السلام بحل العقدة واستجابة الله تعالى له بإزالتها بالكلية أو المراد ازدياد ما كان فيه عليه السلام إن قلنا: إنه كان قبل الدعاء أو بعده لكن لم تزل العقدة بالكلية وإنما انحل منها ما كان يمنع من أن يفقه قوله عليه السلام فصار يفقه قوله مع بقاء يسير لكنة، وقال بعضهم: لا حاجة إلى حديث التفرع بل هما داخلان تحت الخوف بالعطف على يُكَذِّبُونِ كما في قراءة النصب وذلك بناء على ما جوزه البقاعي من كون أَخافُ بمعنى اعلم أو أظن فتكون أن مخففة من الثقيلة لوقوعها بعد ما يفيد علما أو ظنا، ويلتزم على هذا كون أَخافُ في قراءة النصب على ظاهره لئلا تأبى ذلك ويدعي اتحاد المآل، وحكى أبو عمرو الداني عن الأعرج أنه قرأ بنصب «يضيق» ورفع يَنْطَلِقُ، والكلام في ذلك يعلم مما ذكر، وأيا ما كان فالمراد من ضيق الصدر ضيق القلب وعبر عنه بما ذكر مبالغة ويراد منه الغم، ثم هذا الكلام منه عليه السلام ليس تشبثا بأذيال العلل والاستعفاء عن امتثال أمره عز وجل وتلقيه بالسمع والطاعة بل هو تمهيد عذر في استدعاء عون له على الامتثال وإقامة الدعوة على أتم وجه فإن ما ذكره ربما يوجب اختلال الدعوة وانتباذ الحجة وقد تضمن هذا الاستدعاء قوله تعالى: فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ كأنه قال أرسل جبريل عليه السلام إلى هارون واجعله نبيا وآزرني به واشدد به عضدي لأن في الإرسال إليه عليه السلام حصول هذه الأغراض كلها لكن بسط في سورة القصص واكتفى هاهنا بالأصل عما في ضمنه. ومن الدليل على أن المعنى على ذلك لا أنه تعلل وقوع فَأَرْسِلْ معترضا بين الأوائل والرابعة أعني وَلَهُمْ إلخ فأذن بتعلقه بها ولو كان تعللا لآخر وليس أمره بالإتيان مستلزما لما استدعاه عليه السلام، وتقدير مفعول (أرسل) ما أشرنا إليه قد ذهب إليه غير واحد، وبعضهم قدر ملكا إذ لا جزم في أنه عليه السلام كان يعلم إذ ذاك أن جبريل عليه السلام رسول الله عز وجل إلى من يستنبئه سبحانه من البشر، وفي الخبر أن الله تعالى أرسل موسى إلى هارون وكان هارون بمصر حين بعث الله تعالى موسى نبيا بالشام ، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: أقبل موسى عليه السلام إلى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 65 أهله فسار بهم نحو مصر حتى أتاها ليلا فتضيف على أمه وهو لا يعرفهم في ليلة كانوا يأكلون الطفيشل (1) فنزلت في جانب الدار فجاء هارون عليه السلام فلما أبصر ضيفه سأل عنه أمه فأخبرته أنه ضيف فدعاه فأكل معه فلما قعدا تحدثا فسأله هارون من أنت؟ قال: أنا موسى فقام كل واحد منهما إلى صاحبه فاعتنقه فلما أن تعارفا قال له موسى: يا هارون انطلق معي إلى فرعون فإن الله تعالى قد أرسلنا إليه قال هارون: سمعا وطاعة فقامت أمهم فصاحت وقالت: أنشد كما بالله تعالى أن لا تذهبا إلى فرعون فيقتلكما فأبيا فانطلقا إليه ليلا الخبر والله تعالى أعلم بصحته وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ أي تبعة ذنب فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه أو سمى باسمه مجازا بعلاقة السببية، والمراد به قتل القبطي خباز فرعون بالوكزة التي وكزها وقصته مبسوطة في غير موضع، وتسميته ذنبا بحسب زعمهم بما ينبىء عنه قوله تعالى لهم: فَأَخافُ إن آتيتهم وحدي أَنْ يَقْتُلُونِ بسبب ذلك، ومراده عليه السلام بهذا استدفاع البلية خوف فوات مصلحة الرسالة وانتشار أمرها كما هو اللائق بمقام أولي العزم من الرسل عليهم السلام فإنهم يتوقون لذلك كما كان يفعل صلّى الله عليه وسلّم حتى نزل عليه وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، ولعل الحق أن قصد حفظ النفس معه لا ينافي مقامهم. وفي الكشاف أنه عليه السلام فرق أن يقتل قبل أداء الرسالة، وظاهره أنه وإن كان نبيا غير عالم بأنه يبقى حتى يؤدي الرسالة وإليه ذهب بعضهم لاحتمال أنه إنما أمر بذلك بشرط التمكين مع أن له تعالى نسخ ذلك قبله. وقال الطيبي: الأقرب أن الأنبياء عليهم السلام يعلمون إذا حملهم الله تعالى على أداء الرسالة أنه سبحانه يمكنهم وأنهم سيبقون إلى ذلك الوقت وفيه منع ظاهر، وفي الكشف أنه على القولين يصح قول الزمخشري فرق إلخ لأن ذلك كان قبل الاستنباء فإن النداء كان مقدمته ولا أظنك تقول به، وقوله تعالى: قالَ كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا إجابة له عليه السلام إلى الطلبتين حيث وعده عز وجل دفع بلية الأعداء بردعه عن الخوف وضم إليه أخاه بقوله: (اذهبا) فكأنه قال له عز وجل: ارتدع عن خوف القتل فإنك بأعيننا فاذهب أنت وأخوك هارون الذي طلبته، وجاء النشر على عكس اللف لاختصاص ما قدم بموسى عليه السلام وظاهر السياق يقتضي عدم حضور هارون ففي الخطاب المذكور تغليب والفعل معطوف على الفعل الذي يدل عليه كَلَّا كما أشرنا إليه، وقيل: الفاء فصيحة، والمراد بالآيات ما بعثهما الله تعالى به من المعجزات وفيها رمز إلى أنها تدفع ما يخافه، وقوله عز وجل: إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ تعليل للردع عن الخوف ومزيد تسلية لهما بضمان كمال الحفظ والنصرة كقوله تعالى: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى [طه: 46] والخطاب لموسى وهارون ومن يتبعما من بني إسرائيل فيتضمن الكلام البشارة بالإشارة إلى علو أمرهما واتباع القوم لهما، وذهب سيبويه إلى أنه لهما عليهما السلام ولشرفهما وعظمتهما عند الله تعالى عوملا في الخطاب معاملة الجمع، واعترض بأنه يأباه ما بعده وما قبله من ضمير التثنية، وقيل: هو لهما عليهما السلام ولفرعون واعتبر لكون الموعود بمحضر منه وإن شئت ضم إلى ذلك قوم فرعون أيضا، واعترض بأن المعية العامة- أعني المعية العلمية- لا تختص بأحد لقوله تعالى: وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ [المجادلة: 7] والمعية الخاصة وهي معية الرأفة والنصرة لا تليق بالكافر ولو بطريق التغليب، وأجيب بأن خصوص المعية لا يلزم أن يكون بما ذكر بل بوجه آخر وهو تخليص أحد المتخاصمين من الآخر بنصرة المحق والانتقام من المبطل، وأيا ما كان فالظرف في موضع الخبر لأن ومُسْتَمِعُونَ خبر ثان أو الخبر مُسْتَمِعُونَ   (1) كسميذع نوع من المرق اقاموس. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 66 والظرف متعلق به أو متعلق بمحذوف وقع حالا من ضميره وتقديمه للاهتمام أو الفاصلة أو الاختصاص بناء على أن يراد بالمعية الاستماع في حقه عز وجل وهو مجاز عن السمع اختير للمبالغة لأن فيه تسلما للإدراك وهو مما ينزه الله تعالى عنه سواء كان بحاسة أم لا فسقط ما قيل من أن السمع في الحقيقة إدراك بحاسة فإن أريد به مطلق الإدراك فالاستماع مثله فلا حاجة إلى التجوز فيه، وإلى التجوز هنا ذهب غير واحد، وقال بعضهم: إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ جملة استعارة تمثيلية مثّل سبحانه حاله عز وجل بحال ذي شوكة قد حضر مجادلة قوم يستمع ما يجري بينهما ليمد أولياءه ويظهرهم على أعدائهم مبالغة في الوعد بالإعانة وحينئذ لا تجوز في شيء من مفرداته ولا يكون مُسْتَمِعُونَ مطلقا عليه تعالى فلا يحتاج إلى جعله بمعنى سامعين إلا أن يقال: إنه في المستعار منه كذلك لأن المقصود السمع دون الاستماع الذي قد لا يوصل إليه لكنه كما ترى. وجوز أن يكون إِنَّا مَعَكُمْ فقط تمثيلا لحاله عز وجل في نصره وإمداده بحال من ذكر ويكون الاستماع مجازا عن السمع وهو بحسب ظاهره لكونه لم يطلق عليه سبحانه كالسمع كالقرينة وإن كان مجازا والقرينة في الحقيقة عقلية وهي استحالة حضوره تعالى شأنه في مكان، ولا بد على هذا من أن يقال: إن الاستماع المذكور في تقرير التمثيل ليس هو الواقع في النظم الكريم بل هو من لوازم حضور الحكم للخصومة وفيه بعد. ثم إن ما ذكروه وإن كان مبنيا على جعل الخطاب لموسى وهارون وفرعون يمكن إجراؤه على جعله لهما عليهما السلام ولم يتبعهما أو لهما فقط أيضا بأدنى عناية فافهم ولا تغفل. وزعم بعضهم إن المعية والاستماع على حقيقتهما ولا تمثيل، والمراد أن ملائكتنا معكم مستمعون وهو مما لا ينبغي أن يستمع، ولا بد في الكلام على هذا التقدير من إرادة الإعانة والنصرة وإلا فبمجرد معية الملائكة عليهم السلام واستماعهم لا يطيب قلب موسى عليه السلام. والفاء في قوله تعالى: أْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ لترتيب ما بعدها على ما قبلها من الوعد الكريم، وليس هذا مجرد تأكيد للأمر بالذهاب لأن معناه الوصول إلى المأتي لا مجرد التوجه إلى المأتي كالذهاب. وأفرد الرسول هنا لأنه مصدر بحسب الأصل وصف به كما يوصف بغيره من المصادر للمبالغة كرجل عدل فيجري فيه كما يجري فيه من الأوجه، ولا يخفى الأوجه منها، وعلى المصدرية ظاهر قول كثير عزة: لقد كذب الواشون ما فهت عندهم ... بسر ولا أرسلتهم برسول وأظهر منه قول العباس بن مرداس: ألا من مبلغ عني خفافا ... رسولا بيت أهلك منتهاها (1) أو لاتحادهما للإخوة أو لوحدة المرسل أو المرسل به أو لأن قوله تعالى: إِنَّا بمعنى إن كان كلامنا فصح إفراد الخبر كما يصح في ذلك، وفائدته الإشارة إلى أن كلا منهما مأمور بتبليغ ذلك ولو منفردا، وفي التعبير برب العالمين رد على اللعين نقض لما كان أبرمه من ادعاء الألوهية وحمل لطيف له على امتثال الأمر، وأَنْ في قوله تعالى: أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ مفسرة لتضمن الإرسال المفهوم من الرسول معنى القول، وجوز أبو حيان كونها مصدرية على معنى أنا رسوله عز وجل بالأمر بالإرسال وهو بمعنى الإطلاق والتسريح كما في قولك: أرسلت الحجر من   (1) حيث أنث الضمير باعتبار الرسالة اهـ منه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 67 يدي وأرسل الصقر، والمراد خلهم يذهبوا معنا إلى فلسطين وكانت مسكنهما عليهما السلام، وكان بنو إسرائيل قد استعبدوا أربعمائة سنة وكانت عدتهم حين أرسل موسى عليه السلام ستمائة وثلاثين ألفا على ما ذكره البغوي. قالَ أي فرعون لموسى عليه السلام بعد ما أتياه وقالا له ما أمرا به، ويروى أنهما انطلقا إلى باب فرعون فلم يؤذن لهما سنة حتى قال البواب: إن هاهنا إنسانا يزعم أنه رسول رب العالمين فقال: ائذن له لعلنا نضحك منه فأذن له فدخلا فأدّيا إليه الرسالة فعرف موسى عليه السلام فقال عند ذلك أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وفي خبر آخر أنهما أتيا ليلا فقرع الباب ففزع فرعون وقال: من هذا الذي يضرب بابي هذه الساعة؟ فأشرف عليهما البواب فكلمهما فقال له موسى: أنا رسول رب العالمين فأتى فرعون وقال: إن هاهنا إنسانا مجنونا يزعم أنه رسول رب العالمين فقال: أدخله فدخل فقال ما قص الله تعالى ، وأراد اللعين من قوله: أَلَمْ نُرَبِّكَ إلخ الامتنان، وفِينا على تقدير المضاف أي منازلنا، والوليد فعيل بمعنى مفعول يقال لمن قرب عهده بالولادة، وإن كان على ما قال الراغب: يصح في الأصل لمن قرب عهده أو بعد كما يقال لما قرب عهده بالاجتناء جنيّ فإذا كبر سقط عنه هذا الاسم، وقال بعضهم: كان دلالته على قرب العهد من صيغة المبالغة، وكون الولادة لا تفاوت فيها نفسها وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ قيل: لبث فيهم ثلاثين سنة ثم خرج إلى مدين وأقام به عشر سنين ثم عاد إليهم يدعوهم إلى الله تعالى ثلاثين سنة ثم بقي بعد الغرق خمسين، وقيل: لبث فيهم اثنتي عشرة سنة ففر بعد أن وكز القبطي إلى مدين فأقام به عشر سنين يرعى غنم شعيب عليه السلام ثم ثماني عشرة سنة بعد بنائه على امرأته بنت شعيب فكمل له أربعون سنة فبعثه الله تعالى وعاد إليهم يدعوهم إليه عز وجل والله تعالى أعلم. وقرأ أبو عمرو في رواية «من عمرك» بإسكان الميم، والجار والمجرور في موضع الحال من سِنِينَ كما هو المعروف في نعت النكرة إذا قدم وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ يعني قتل القبطي. وبخه به بعد ما امتن وعظمه عليه بالإبهام الذي في الموصول، وأراد في ذلك القدح في نبوته عليه السلام. وقرأ الشعبي «فعلتك» بكسر الفاء يريد الهيئة وكانت قتلة بالوكز، والفتح في قراءة الجمهور لإرادة المرة وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ أي بنعمتي حيث عمدت إلى قتل رجل من خواصي كما روي عن ابن زيد أو وأنت حينئذ من جملة القوم الذين تدعي كفرهم الآن كما حكي عن السدي، وهذا الحكم منه بناء على ما عرفه من ظاهر حاله عليه السلام إذ ذاك لاختلاطه بهم والتقية معهم بعدم الإنكار عليهم وإلا فالأنبياء عليهم السلام معصومون عن الكفر قبل النبوة وبعدها، وقيل: كان ذلك افتراء منه عليه السلام، واستبعد بأنه لو علم بإيمانه أولا لسجنه أو قتله، والجملة على الاحتمالين في موضع الحال من إحدى التاءين في الفعلين السابقين. وجوز أن يكون ذلك حكما مبتدأ عليه عليه السلام بأنه من الكافرين بإلهيته كما روي عن الحسن أو ممن يكفرون في دينهم حيث كانت لهم آلهة يعبدونهم أو من الكافرين بالنعم المعتادين لغمطها ومن اعتاد ذلك لا يكون مثل هذه الجناية بدعا منه، فالجملة مستأنفة أو معطوفة على ما قبلها، والأولى عندي ما تقدم من جعل الجملة حالا لتكون مع نظيرتها في الجواب على طرز واحد لتعين الحالية هناك ولما يتضمن كلام اللعين أمرين تصدى عليه السلام لردهما على سبيل اللف والنشر المشوش فرد أولا ما وبخه به قدحا في نبوته أعني قوله: وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ إلخ اعتناء بذلك واهتماما به وذلك بما حكاه سبحانه عنه بقوله جل وعلا: قالَ فَعَلْتُها أي تلك الفعلة إِذاً أي إذ ذاك على ما آثره بعض المحققين سقي الله تعالى ثراه من أن إِذاً ظرف مقطوع عن الإضافة مؤثرا فيه الفتحة على الكسرة لخفتها وكثرة الدور، وأقر عليه السلام بالقتل لثقته بحفظ الله تعالى له، وقيد الفعل بما يدفع كونه قادحا في النبوة وهو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 68 جملة وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ أي من الجاهلين وقد جاء كذلك في قراءة ابن عباس وابن مسعود كما نقله أبو حيان في البحر لكنه قال: ويظهر أن ذاك تفسير للضالين لا قراءة مروية عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وأراد عليه السلام بذلك على ما روي عن قتادة أنه فعل ذلك جاهلا به غير متعمد إياه فإنه عليه السلام إنما تعمد الوكز للتأديب فأدى إلى ما أدى، وفي معنى ما ذكر ما روي عن ابن زيد من أن المعنى وأنا من الجاهلين بأن وكزتي تأتي على نفسه وقيل: المعنى فعلتها مقدما عليها من غير مبالاة بالعواقب على أن الجهل بمعنى الإقدام من غير مبالاة كما فسر بذلك في قوله: ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا وهذا مما يحسن على بعض الأوجه في تقرير الجواب المذكور، قيل: إن الضلال هاهنا المحبة كما فسر بذلك في قوله تعالى: إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ [يوسف: 95] وعني عليه السلام أنه قتل القبطي غيرة لله تعالى حيث كان عليه السلام من المحبين له عز وجل وهو كما ترى، ومثله ما قيل أراد من الجاهلين بالشرائع، وفسر الضلال بذلك في قوله تعالى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى [الضحى: 7] ، وقال أبو عبيدة: من الناسين، وفسر الضلال بالنسيان في قوله تعالى: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى [البقرة: 282] وعليه قيل المراد فعلتها ناسيا حرمتها، وقيل: ناسيا أن وكزي ذلك مما يفضي إلى القتل عادة والذي أميل إليه من بين هذه الأقوال ما روي عن قتادة، وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة القصص ما يتعلق بهذا المقام. وأخرج أبو عبيد وابن المنذر وابن جريج عن ابن مسعود أنه قرأ «فعلتها إذانا من الضالين» فَفَرَرْتُ أي خرجت هاربا مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ أي حين توقعت مكروها منكم وذلك حين قيل له: «إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك» ومن هنا يعلم وجه جمع ضمير الخطاب، وقرأ حمزة في رواية لما بكسر اللام وتخفيف الميم على أن اللام حرف جر وما مصدرية أي لخوفي إياكم فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً أي نبوة أو علما وفهما للأشياء على ما هي عليه والأول مروي عن السدي، وتأول بعضهم ذلك بأنه أراد علما هو من خواص النبوة فيكون الحكم بهذا المعنى أخص منه بالمعنى الثاني، وقرأ عيسى «حكما» بضم الكاف وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ إشارة على ظاهر الأول من تفسيري الحكم إلى تفضله تعالى عليه برتبة هي فوق رتبة النبوة أعني رتبة الرسالة ولم يقل فوهب لي رب حكما ورسالة أو وجعلني رسولا إعظاما لأمر الرسالة وتنبيها لفرعون على أن رسالته عليه السلام ليس أمرا مبتدعا بل هو مما جرت به سنة الله تعالى شأنه، وحاصل الرد أن ما ذكرت من نسبة القتل إلى مسلم لكنه ليس مما أوبخ به ويقدح في نبوتي لأنه كان قبل النبوة من غير تعمد حيث كان الوكز للتأديب وترتب عليه ذلك، ورد ثانيا امتنانه الذي تضمنه قوله: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً إلخ فقال: وَتِلْكَ أي التربية المفهومة من قوله: أَلَمْ نُرَبِّكَ إلخ نِعْمَةٌ تَمُنُّها أي تنعم بها عَلَيَّ فهو من باب الحذف والإيصال، وتمن من المنة بمعنى الأنعام والمضارع لاستحضار الصورة، وجوز أن يكون من المن والمعنى تلك نعمة تعدها عليّ فليس هناك حذف وإيصال، والمضارع قيل على ظاهره من الاستقبال وفيه منع ظاهر أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي ذللتهم واتخذتهم عبيدا يقال: عبدت الرجل وأعبدته إذا اتخذته عبدا. قال الشاعر: علام يعبدني قومي وقد كثرت ... فيهم أباعر ما شاؤوا وعبدان؟ وأن وما بعدها في تأويل مصدر مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف والجملة حالية أو مفسرة أو على أنه بدل من تِلْكَ أو نعمة أو عطف أو منصوب على أنه بدل من الهاء في تَمُنُّها أو مجرور بتقدير الباء السببية أو اللام على أحد القولين في محل أن وما بعدها بعد حذف الجار، والقول الآخر إن محله النصب، وحاصل الرد إن ما ذكرت نعمة ظاهرا وهي في الحقيقة نقمة حيث كانت بسبب إذلال قومي وقصدك إياهم بذبح أبنائهم ولولا ذلك لم أحصل بين الجزء: 10 ¦ الصفحة: 69 يديك ولم أكن في مهد تربيتك، وقيل: تِلْكَ إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة لا يدرى ما هي إلا بتفسيرها وأَنْ عَبَّدْتَ عطف بيان لها، والمعنى تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها عليّ، وحاصل الرد إنكار ما أمتن به أيضا. ويريد حمل الكلام على رد كون ذلك نعمة في الحقيقة قراءة الضحاك «وتلك نعمة ما لك أن تمنها عليّ» ، وإلى ذلك ذهب قتادة وكذا الأخفش والفراء إلا أنهما قالا بتقدير همزة الاستفهام للإنكار بعد الواو، والأصل وأتاك نعمة إلخ، وأبى بعض النحاة حذف حرف الاستفهام في مثل هذا الموضع. وقال أبو حيان: الظاهر أن هذا الكلام إقرار منه عليه السلام بنعمة فرعون كأنه يقول: وترتبيتك إياي نعمة عليّ من حيث إنك عبدت غيري وتركتني واتخذتني ولدا لكن لا يدفع ذلك رسالتي. وإلى هذا التأويل ذهب السدي والطبري وليس بذاك. وأيا ما كان فالآية ظاهرة في أن كفر الكافر لا يبطل نعمته، وذهب بعضهم أن الكفر يبطل النعمة لئلا يجتمع استحقاق المدح واستحقاق الذم، وفيه أنه لا ضير في ذلك لاختلاف جهتي الاستحقاقين. هذا وذهب الزمخشري إلى أن إِذاً في قوله تعالى: فَعَلْتُها إِذاً جواب وجزاء وبين وجه كون الكلام جزاء بقوله: قول «وفعلت فعلتك» فيه معنى إنك جازيت نعمتي بما فعلت فقال له موسى عليه السلام: نعم فعلتها مجازيا لك تسليما لقوله كان نعمته عنده جديرة بأن تجازى بنحو ذلك الجزاء. واعترض بأن هذا لا يلائم قوله: وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ لأنه يدل على أنه اعترف بأنه فعل ذلك جاهلا أو ناسيا. وفي الكشف تحقيق ما ذكره الزمخشري أن الترتيب الذي هو معنى الشرط والجزاء حاصل ولما كانا ماضيين كان ذلك تقديريا كأنه قال: إن كان ذلك كفرانا بنعمتك فقد فعلته جزاء، ولكن الوصف أي كونه كفرانا غير مسلم. وأمده بقوله: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها وفيه القول بالموجب أيضا. وقوله: وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ على هذا كأنه اعتذار ثان أي كنت تستحق ذلك عندي وأيضا كنت من الحائدين عن منهج الصواب لا في اعتقاد استحقاق مكافأة صنيعك بمثل تلك ولكن في الإقدام قبل الإذن من الملك العلام، والحاصل أنه نسبه إلى مقابلة الإحسان بالإساءة وقررها بكونه كافرا، فأجاب عليه السلام بأن المقابلة حاصلة ولكن أين الإحسان وما كنت كافرا بك فإنه عين الهدى بل ضالا في الإقدام على الفعل وما كنت كافرا لنعمة منعم أصلا ولكن كنت فاعلا لذلك خطأ، ومنه ظهر أن قوله: وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ لا ينافي تقرير الزمخشري بل يؤيده اه. ولا يخفى أن الأوفق بحديث الجزاء أن يكون المراد بقوله: فعلتها وأنا من الضالين فعلتها مقدما عليها من غير مبالاة على أن الضلال بمعنى الجهل المفسر بالإقدام من غير مبالاة لكن التزام كون إِذاً هنا للجواب والجزاء التزام ما لا يلزم فإن الصحيح الذي قال به الأكثرون أنها قد تتمحض للجواب، وفي البحر أنهم حملوا ما في هذه الآية على ذلك، وتوجيه كونها للجزاء فيها بما ذكر لا يخلو عن تكلف، والأظهر عندي معنى ما آثره بعض أفاضل المحققين من أنها ظرف مقطوع عن الإضافة ولا أرى فيه ما يقال سوى أنه معنى لم يذكره أكثر علماء العربية وهم لم يحيطوا بكل شيء علما، وإن أبيت هذا فهي للجواب فقط، ومن العجيب قول ابن عطية: إنها هنا صلة في الكلام ثم قوله: وكأنها بمعنى حينئذ ولو اكتفى به على أنه تفسير معنى لكان له وجه فتأمل، والله تعالى أعلم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 70 قالَ فِرْعَوْنُ مستفهما عن المرسل سبحانه وَما رَبُّ الْعالَمِينَ وتحقيق ذلك على ما قال العلامة الطيبي. إنه عز وجل لما أمرهما بقوله سبحانه: فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ فلا بد أن يكونا ممتثلين مؤديين لتلك الرسالة بعينها عند اللعين فلما أديت عنده اعترض أولا بقوله: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً إلى آخره وثانيا بقوله: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ ولذلك جيء بالواو العاطفة وكرر قال للطول فكأنه قال: أأنت الرسول وما رب العالمين؟ وقال الزمخشري: إن اللعين لما قال له بوابه: إن هاهنا من يزعم أنه رسول رب العالمين قال له عند دخوله: وما رب العالمين؟ واعترض بأنه نظم مختل لسبق المقاولة بينهم كما أشار إليه هو في سابق كلامه. وانتصر له صاحب الكشف فقال: أراد أنه تعالى ذكر مرة فقولا إنّا رسولا ربك أن أرسل وأخرى قُولا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 71 إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ والقصة واحدة والمجلس واحد فحمله على أن الثاني ما أداه البواب من لسانه عليه السلام والأول ما خاطبه به موسى عليه السلام مشافهة وأن اللعين أخذ أولا في الطعن فيه وإن مثله ممن قرف برذائل الأخلاق لا يرشح لمنصب عال فضلا عما ادعاه وثانيا في السؤال عن شأن من ادعى الرسالة عنه استهزاء، ومن هذا تبين أن سبق المقاولة لا يدل على اختلال النظم الذي أشار إليه انتهى. وجوز بعضهم وقوع الأمر مرتين وأن فرعون سأل أولا بقوله: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى وسأل ثانيا بقوله: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ وقد قص الله تعالى الأول فيما أنزل جل وعلا أولا وهو سورة طه والثاني فيما أنزله سبحانه ثانيا وهو سورة الشعراء، فقد روي عن ابن عباس أن سورة طه نزلت ثم الواقعة ثم طسم الشعراء، وقال آخر: يحتمل أنهما إنما قالا: َّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ والاقتصار في سورة طه على ذكر ربوبيته تعالى لفرعون لكفايته فيما هو المقصود، وعلى القول بوقوع الأمر مرتين قيل: إن فرعون سأل في المرة الأولى بقوله: فَمَنْ رَبُّكُما طلبا للوصف المشخص كما يقتضيه ظاهر الجواب خلافا للسكاكي في دعواه أنه سؤال عن الجنس كأنه قال: أبشر هو أم ملك أم جني؟ والجواب من الأسلوب الحكيم وأخرى بما رب العالمين طلبا للماهية والحقيقة انتقالا لما هو أصعب ليتوصل بذلك إلى بعض أغراضه الفاسدة حسبما قص الله تعالى بعد، وما يسأل بها عن الحقيقة مطلقا سواء كان المسئول عن حقيقته من أولي العلم أو لا فلا يتوهم أن حق الكلام حينئذ أن يقال من رب العالمين؟ حتى يوجه بأنه لإنكار اللعين له عز وجل عبر بما، ولما كان السؤال عن الحقيقة مما لا يليق بجنابه جل وعلا. قالَ عليه السلام عادلا عن جوابه إلى ذكر صفاته عز وجل على نهج الأسلوب الحكيم إشارة إلى تعذر بيان الحقيقة رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا والكلام في امتناع معرفة الحقيقة وعدمه قد مر عليك فتذكر، ورفع رَبُّ على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو رب السماوات والأرض وما بينهما من العناصر والعنصريات إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي إن كنتم موقنين بالأشياء محققين لها علمتم ذلك أو إن كنتم موقنين بشيء من الأشياء فهذا أولى بالإيقان لظهوره وإنارة دليله فإن هذه الأجرام المحسوسة ممكنة لتركبها وتعددها وتغير أحوالها فلها مبدأ واجب لذاته ثم ذلك المبدأ لا بد أن يكون مبدأ لسائر الممكنات ما يمكن أن يحس بها وما لا يمكن وإلا لزم تعدد الواجب أو استغناء بعض الممكنات عنه وكلاهما محال، وجواب أن محذوف كما أشرنا إليه. قالَ فرعون عند سماع جوابه عليه السلام خوفا من أن يعلق منه في قلوب قومه شيء لِمَنْ حَوْلَهُ من أشراف قومه، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كانوا خمسمائة رجل عليهم الأساور وكانت للملوك خاصة أَلا تَسْتَمِعُونَ جوابه يريد التعجيب منه والإزراء بقائله وكان ذلك لعدم مطابقته للسؤال حيث لم يبين فيه الحقيقة المسئول عنها وكونه في زعمه نظرا لما عليه قومه من الجهالة غير واضح في نفسه لخفاء العلم بإمكان ما ذكر أو حدوثه الذي هو علة الحاجة إلى المبدأ الواجب لذاته عليهم وقد بالغ اللعين في الإشارة إلى عدم الاعتداد بالجواب المذكور حيث أوهم أن مجرد استماعهم له كاف في رده وعدم قبوله، وكان موسى عليه السلام لما استشعر ذلك من اللعين قالَ عدولا إلى ما هو أوضح وأقرب إعطاء لمنصب الإرشاد حقه حسب الإمكان لتعذر الوقوف على الحقيقة كما سمعت رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ فإن الحدوث والافتقار إلى واجب مصور حكيم في المخاطبين وآبائهم الذين ذهبوا وعدموا أظهر والنظر في الأنفس أقرب وأوضح من النظر في الآفاق ولما رأى اللعين ذلك وقوي عنده خوف فتنة قومه قالَ مبالغا في الرد والإشارة إلى عدم الاعتداد بذلك مصرحا بما ينفر قلوبهم عن قائله وقبول ما يجيء به. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 72 إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ حيث يسأل عن شيء ويجيب عن شيء آخر وينبه على ما في جوابه ولا ينتبه، وسماه رسولا بطريق الاستهزاء، وأضافه إلى مخاطبيه ترفعا من أن يكون مرسلا إلى نفسه وأكد ذلك بالوصف، وفيه إثارة لغضبهم واستدعاء لإنكارهم رسالته بعد سماع الخبر ترفعا بأنفسهم عن أن يكونوا أهلا لأن يرسل إليهم مجنون. وقرأ مجاهد وحميد والأعرج «أرسل» على بناء الفاعل أي الذي أرسله ربه إليكم، وكأنه عليه السلام لما رأى خشونة في رد اللعين وإيماء منه إلا أنه عليه السلام لم يتنبه لما في جوابه الأول من الخفاء عند قومه بل كان عدوله عنه إلى الجواب الثاني لما رماه به عليه اللعنة قالَ عليه السلام تفسيرا لجوابه الأول وإزالة لخفائه ليعلم أن العدول ليس إلا لظهور ما عدل إليه ووضوحه وقربه إلى الناظر لا لما رمي به وحاشاه مع الإشارة إلى تعذر بيان الحقيقة أيضا بالإصرار على الجواب بالصفات رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما وذلك لأنه لم يكن في الجواب الأول تصريح باستناد حركات السماوات وما فيهما وتغيرات أحوالها وأوضاعها وكون الأرض تارة مظلمة وأخرى منورة إلى الله تعالى، وفي هذا إرشاد إلى ذلك فإن ذكر المشرق والمغرب منبىء عن شروق الشمس وغروبها المنوطين بحركات السماوات وما فيها على نمط بديع يترتب عليه هذه الأوضاع الرصينة وكل ذلك أمور حادثة لا شك في افتقارها إلى محدث قادر عليم حكيم، وارتكب عليه السلام الخشونة كما ارتكب معه بقوله: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ أي إن كنتم تعقلون شيئا من الأشياء أو إن كنتم من أهل العقل علمتم أن الأمر كما قلته وأشرت إليه فإن فيه تلويحا إلى أنهم بمعزل من دائرة العقل وأنهم الأحقاء بما رموه به عليه السلام من الجنون. وقرأ عبد الله وأصحابه والأعمش «رب المشارق والمغارب» على الجمع فيهما، ولما سمع اللعين منه عليه السلام تلك المقالات المبينة على أساس الحكم البالغة وشاهد شدة حزمه وقوة عزمه على تمشية أمره وأنه ممن لا يجارى في حلبة المحاورة قالَ ضاربا صفحا عن المقاولة إلى التهديد كما هو ديدن المحجوج العنيد: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ وفيه مبالغة في رده عن دعوى الرسالة حيث أراد منه ما أراد ولم يقنع منه عليه السلام بترك دعواها وعدم التعرض له، وفيه أيضا عتو آخر حيث أوهم أن موسى عليه السلام متخذ له إلها في ذلك الوقت وإن اتخاذه غيره إلها بعد مشكوك، وبالغ في الأبعاد على تقدير وقوع ذلك حيث أكد الفعل بما أكد وعدل عن لأسجننك الأخصر لذلك أيضا فإن أل في المسجونين للعهد فكأنه قال: لأجعلنك ممن عرفت أحوالهم في سجوني، وكان عليه اللعنة يطرحهم في هوة عميقة قيل: عمقها خمسمائة ذراع وفيها حيات وعقارب حتى يموتوا. هذا وقال بعضهم: السؤال هنا وفي سورة طه عن الوصف والقصة واحدة والمجلس واحد واختلاف العبارات فيها لاقتضاء كل مقام ما عبر به فيه ويلتزم القول بأن الواقع هو القدر المشترك بين جميع تلك العبارات، وبهذا ينحل إشكال اختلاف العبارات مع دعوى اتحاد القصة والمجلس لكن تعيين القدر المشترك الذي يصح أن يعبر عنه بكل من تلك العبارات يحتاج إلى نظر دقيق مع مزيد لطف وتوفيق، ثم إن العلماء اختلفوا في أن اللعين هل كان يعلم أن للعالم ربا هو الله عز وجل أولا، فقال بعضهم: كان يعلم ذلك بدليل لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الإسراء: 102] ومنهم من استدل بطلبه شرح الماهية زعما منه أن فيه الاعتراف بأصل الوجود وذكروا أن ادعاءه الألوهية وقوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات: 24] إنما كان إرهابا لقومه الذين استخفهم ولم يكن ذلك عن اعتقاد وكيف يعتقد أنه رب العالم وهو يعلم بالضرورة أنه وجد بعد أن لم يكن ومضى على العالم ألوف من السنين وهو ليس فيه ولم يكن له إلا ملك مصر ولذا قال شعيب لموسى عليهما السلام: لما جاءه في مدين لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص: 25] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 73 وقال بعضهم: إنه كان جاهلا بالله تعالى ومع ذلك لا يعتقد في نفسه أنه خالق السماوات والأرض وما فيهما بل كان دهريا نافيا للصانع سبحانه معتقدا وجوب الوجود بالذات للأفلاك وإن حركاتها أسباب لحصول الحوادث ويعتقد أن من ملك قطرا وتولى أمره لقوة طالعه استحق العبادة من أهله وكان ربا لهم ولهذا خصص ألوهيته وربوبيته ولم يعمهما حيث قال: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص: 38] وأَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى، وجوز أن يكون من الحلولية القائلين بحلول الرب سبحانه وتعالى في بعض الذوات ويكون معتقدا حلوله عز وجل فيه ولذلك سمى نفسه إلها، وقيل: كان يدعي الألوهية لنفسه ولغيره وهو ما كان يعبده من دون الله عز وجل كما يدل عليه ظاهر قوله تعالى: وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [الأعراف: 127] وهو وكذا ما قبله بعيد، والذي يغلب على الظن ويقتضيه أكثر الظواهر أن اللعين كان يعرف الله عز وجل وأنه سبحانه هو خالق العالم إلا أنه غلبت عليه شقوته وغرته دولته فأظهر لقومه خلاف علمه فأذعن منهم له من كثر جهله ونزر عقله، ولا يبعد أن يكون في الناس من يذعن بمثل هذه الخرافات ولا يعرف أنها مخالفة للبديهيات، وقد نقل لي من أثق به أن رجلين من أهل نجد قبل ظهور أمر الوهابي فيما بينهم بينما هما في مزرعة لهما إذ مر بهما طائر طويل الرجلين لم يعهدا مثله في تلك الأرض فنزل بالقرب منهما فقال أحدهما للآخر: ما هذا؟ فقال له: لا ترفع صوتك هذا ربنا فقال له معتقدا صدق ذلك الهذيان: سبحانه ما أطول كراعيه وأعظم جناحيه، وأما من له عقل منهم ولا يخفى عليه بطلان مثل ذلك فيحتمل أن يكون قد وافق ظاهرا لمزيد خوفه من فرعون أو مزيد رغبته بما عنده من الدنيا كما نشاهد كثيرا من العقلاء وفسقة العلماء وافقوا جبابرة الملوك في أباطيلهم العلمية والعملية حبا للدنيا الدنية أو خوفا مما يتوهمونه من البلية، ويحتمل أن يكون قد اعتقد ذلك حقيقة بضرب من التوجيه وإن كان فاسدا كزعم الحلول ونحوه، والمنكر على القائل أنا الحق والقائل ما في الجبة إلا الله يزعم أن معتقدي صدقهما كمعتقدي صدق فرعون في قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات: 24] وسؤال اللعين لموسى عليه السلام حكاية لما وقع في عبارته بقوله: ما رَبُّ الْعالَمِينَ كان لإنكاره لظاهر أن يكون للعالمين رب سواه، وجواب موسى عليه السلام له لم يكن إلا لإبطال ما يدعيه ظاهرا وإرشاد قومه إلى ما هو الحق الحقيق بالقبول ولذا لم يقصر الخطاب في الأجوبة عليه، والتعجيب المفهوم من قوله: أَلا تَسْتَمِعُونَ لزعمه ظاهرا أنه عليه السلام ادعى خلاف أمر محقق وهي ربوبية نفسه، ولما داخله من خوف إذعان قومه لما قاله موسى عليه السلام ما داخله بالغ في صرفهم عن قبول الحق بقوله: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ولما رأى أن ذلك لم يفد في دفع موسى عليه السلام عن إظهار الحق وإبطال ما كان يظهره من الباطل ذب عن دعواه الباطلة بالتهديد وتشديد الوعيد فقال: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ولعل أجوبته عليه السلام مشيرة إلى إبطال اعتقاد نحو الحلول بأن فيه الترجيح بلا مرجح وبأنه يستلزم المربوبية لما فيه من التغير، وبعد هذا القول عندي قول بعضهم: إنه عليه اللعنة كان دهريا إلى آخر ما سمعته آنفا، والتعجيب لزعمه حقيقة أنه عليه السلام ادعى خلاف أمر محقق وهو ربوبية نفسه عليه اللعنة والله تعالى أعلم، ولما رأى عليه السلام فظاظة فرعون قالَ على جهة التلطف به والطمع في إيمانه أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ أي تفعل ذلك ولو جئتك بشيء مبين أي موضح لصدق دعواي يريد به المعجزة فإنها جامعة بين الدلالة على وجود الصانع وحكمته وبين الدلالة على صدق دعوى من ظهرت على يده، والتعبير عنها بشيء للتهويل، والواو للعطف على جملة مقابلة للجملة المذكورة، ومجموع الجملتين المتعاطفتين في موضع الحال، ولَوْ للبيان تحقيق ما يفيده الكلام السابق من الحكم على كل حال مفروض من الأحوال المقارنة له على الإجمال بإدخالها على أبعدها منه وأشدها منافاة له ليظهر تحققه مع ما عداه من الأحوال بطريق الأولوية أي أتفعل في ذلك حال عدم مجيئي بشيء مبين وحال مجيئي به، وتصدير المجيء بلو دون إن ليس لبيان استبعاده في نفسه بل بالنسبة إلى فرعون، وجعل بعضهم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 74 الواو للحال على معنى أن الجملة التي بعدها حال أي أتفعل في ذلك جائيا بشيء مبين وهو ظاهر كلام الكشاف هنا، وظاهر كلام الكشف أن الاستفهام للإنكار على معنى لا تقدر على فعل ذلك مع أني نبي بالمعجزة، والظاهر تعلق هذا الكلام بالوعيد الصادر من اللعين فذلك في تفسيره إشارة إلى جعله عليه السلام من المسجونين فكأنه قال: أتجعلني من المسجونين إن اتخذت إلها غيرك ولو جئتك بشيء مبين؟. وعلى ذلك حمل الطيبي كلام الكشاف ثم قال: يمكن أن يقال إن الواو عاطفة وهي تستدعي معطوفا عليه وهو ما سبق في أول المكالمة بين نبي الله تعالى وعدوه، والهمزة مقحمة بين المعطوف والمعطوف عليه للتقرير، والمعنى أتقر بالوحدانية وبرسالتي إن جئتك بعد الاحتجاج بالبراهين القاهرة والمعجزات الباهرة الظاهرة. ولَوْ بمعنى أن عزيز، ويؤيد هذا التأويل ما في [الأعراف: 105] قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ انتهى. وهو كما ترى. وفيه جعل مُبِينٍ من أبان اللازم بمعنى بان، وجعله من أبان المتعدي وحذف المفعول كما أشرنا إليه أنسب للمقام، ولما سمع فرعون هذا الكلام من موسى عليه السلام قالَ حيث طمع أن يجد موضع معارضة فَأْتِ بِهِ أي بشيء مبين إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أي فيما يدل عليه كلامك من أنك تأتي بشيء موضح لصدق دعواك أو من الصادقين في دعوى الرسالة من رب العالمين، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه أي إن كنت من الصادقين فأت به، وقدره الزمخشري أتيت به، والمشهور تقديره من جنس الدليل. وقال الحوفي: يجوز أن يكون ما تقدم هو الجواب وجاز تقديم الجواب لأن حذف الشرط لم يعمل في اللفظ شيئا، وقد بهت الزمخشري عامله الله تعالى بعدله أهل السنة بما هم منه براء كما بينه صاحب الكشف وغيره فارجع إليه إن أردته فَأَلْقى موسى بعد أن قال له فرعون ذلك عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ظاهر ثعبانيته أي ليس بتمويه وتخييل كما يفعله السحرة، والثعبان أعظم ما يكون من الحيات واشتقاقه من ثعب الماء بمعنى جرى جريا متسعا، وسمي به لجريه بسرعة من غير رجل كأنه ماء سائل، والظاهر أن نفس العصا انقلبت ثعبانا وليس ذلك بمحال إذا كان بسلب الوصف الذي صارت به عصا وخلقه وصف الذي يصير ثعبانا بناء على رأي بعض المتكلمين من تجانس الجواهر واستوائها في قبول الصفات إنما المحال انقلابها ثعبانا مع كونها عصا لامتناع كون الشيء الواحد في الزمن الواحد عصا وثعبانا، وقيل: إن ذلك بخلق الثعبان بدلها وظواهر الآيات تبعد ذلك، وقد جاء في الأخبار ما يدل على مزيد عظم هذا الثعبان ولا يعجز الله تعالى شيء، وقد مر بيان كيفية الحال. وَنَزَعَ يَدَهُ من جيبه فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ أي بياضها يجتمع النظارة على النظر إليه لخروجه عن العادة، وكان بياضا نورانيا. روي أنه لما أبصر أمر العصا قال: هل لك غيرها؟ فأخرج عليه السلام يده فقال: ما هذه قال: يدي فأدخلها في إبطه ثم نزعها ولها شعاع يكاد يغشي الأبصار ويسد الأفق قالَ لِلْمَلَإِ أشراف قومه حَوْلَهُ منصوب لفظا على الظرفية وهو ظرف مستقر وقع حالا أي مستقرين حوله وجوز أن يكون في موضع الصفة للملأ على حد: ولقد أمر على اللئيم يسبني والأول أسهل وأنسب. ومن العجيب ما نقله أبو حيان عن الكوفيين أنهم يجعلون الملأ اسم موصول وحَوْلَهُ متعلق بمحذوف وقع الجزء: 10 ¦ الصفحة: 75 صلة له كأنه قيل: قال للذين استقروا حوله إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ فائق في علم السحر يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ قسرا مِنْ أَرْضِكُمْ التي نشأتم فيها وتوطنتموها بِسِحْرِهِ وفي هذا غاية التنفير عنه عليه السلام وابتغاء الغوائل له إذ من أصعب الأشياء على النفوس مفارقة الوطن لا سيما إذا كان ذلك قسرا وهو السر في نسبة الإخراج والأرض إليهم فَماذا تَأْمُرُونَ أي أمر تأمرون فمحل ماذا النصب على المصدرية وتَأْمُرُونَ من الأمر ضد النهي ومفعوله محذوف أي تأمروني، وفي جعله عبيده بزعمه آمرين له مع ما كان يظهره لهم من دعوى الألوهية والربوبية ما يدل على أن سلطان المعجزة بهره وحيره حتى لا يدري أي طرفيه أطول فزل عند ذكر دعوى الألوهية وحط عن منكبيه كبرياء الربوبية وانحط عن ذروة الفرعنة إلى حضيض المسكنة ولهذا أظهر استشعار الخوف من استيلائه عليه السلام على ملكه. وجوز أن يكون ماذا في محل النصب على المفعولية وأن يكون «تأمرون» من المؤامرة بمعنى المشاورة لأمر كل بما يقتضيه رأيه ولعل ما تقدم أولى. قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ أي أخّر أمرهما إلى أن تأتيك السحرة من أرجأته إذا أخرته، ومنه المرجئة وهم الذين يؤخرون العمل لا يأتونه ويقولون: لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة. وقرأ أهل المدينة والكسائي وخلف «أرجه» بكسر الهاء، وعاصم وحمزة «أرجه» بغير همز وسكون الهاء، والباقون «أرجئه» بالهمز وضم الهاء، وقال أبو علي: لا بد من ضم الهاء مع الهمزة ولا يجوز غيره، والأحسن أن لا يبلغ بالضم إلى الواو، ومن قرأ بكسر الهاء فأرجه عنده من أرجيته بالياء دون الهمزة والهمز على ما نقل الطيبي أفصح، وقد توصل الهاء المذكورة بياء فيقال: أرجهي كما يقال مررت بهي، وذكر الزجاج أن بعض الحذاق بالنحو لا يجوز إسكان نحوها، أَرْجِهْ أعني هاء الإضمار، وزعم بعض النحويين جواز ذلك واستشهد عليه ببيت مجهول ذكره الطبرسي: وقال هو شعر لا يعرف قائله والشاعر يجوز أن يخطىء. وقال بعض الأجلة: الإسكان ضعيف لأن هذه الهاء إنما تسكن في الوقف لكنه أجرى الوصل مجرى الوقف، وقيل: المعنى احبسه، ولعلهم قالوا ذلك لفرط الدهشة أو تجلدا ومداهنة لفرعون وإلا فكيف يمكنه أن يحبسه مع شاهد منه من الآيات وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ شرطاء يحشرون السحرة ويجمعونهم عندك يَأْتُوكَ مجزوم في جواب الأمر أي إن تبعثهم يأتوك بِكُلِّ سَحَّارٍ كثير العمل بالسحر عَلِيمٍ فائق في علمه، ولكون المهم هنا هو العمل أتوا بما يدل على التفضيل فيه، وقرأ الأعمش وعاصم في رواية «بكل ساحر عليم» فَجُمِعَ السَّحَرَةُ أي المعهودون على أن التعريف كما في المفتاح عهدي، وقال الفاضل المحقق: إن المعهود قد يكون عاما مستغرقا كما هنا ولا منافاة بينهما كما يتوهم وفيه بحث فتأمل. لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ لما وقت به من ساعات يوم معين وهو وقت الضحى من يوم الزينة على أن الميقات من صفات الزمان، وفي الكشاف هو ما وقت به أي حدد من زمان أو مكان ومنه مواقيت الإحرام وَقِيلَ لِلنَّاسِ استبطاء لهم في الاجتماع وحثا على التبادر إليه هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ في ذلك الميقات فالاستفهام مجاز عن الحث والاستعجال كما في قول تأبط شرا: هل أنت باعث دينار لحاجتنا ... أو عبد رب أخا عون بن مخراق (1)   (1) دينار اسم رجل وعبد رب منصوب بالعطف على محله وهو اسم رجل أيضا وأخا عون منادى لا نعت، ويجوز أن يكون عطف بيان لعبد رب اهـ منه. [ ..... ] الجزء: 10 ¦ الصفحة: 76 فإنه يريد ابعث أحدهما إلينا سريعا ولا تبطئ به لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ أي في دينهم إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ لا موسى عليه السلام، وليس مرادهم بذلك إلا أن لا يتبعوا موسى عليه السلام في دينه لكن ساقوا كلامهم مساق الكناية حملا للسحرة على الاهتمام والجد في المغالبة، وجوز أن يكون مرادهم اتباع السحرة أي الثبات على ما كانوا عليه من الدين ويدعي أنهم كانوا على ما يريد فرعون من الدين. والظاهر أن فرعون غير داخل في القائلين، وعلى تقدير دخوله لم يجوز بعضهم إرادة المعنى الحقيقي لهذا الكلام لامتناع اتباع مدعي الإلهية السحرة، وجوزه آخرون لاحتمال أن يكون قال ذلك لما استولى عليه من الدهشة من أمر موسى عليه السلام كما طلب الأمر ممن حوله لذلك، ولعل إتيانهم بأن للإلهاب وإلا فالأوفق بمقامهم أن يقولوا إذا كانوا هم الغالبين فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً أي لأجرا عظيما إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ لا موسى عليه السلام ولعلهم أخرجوا الشرط على أسلوب ما وقع في كلام القائلين موافقة لهم وإلا فلا يناسب حالهم إظهار الشك في غلبتهم. قالَ فرعون لهم نَعَمْ لكم ذلك وَإِنَّكُمْ مع ذلك إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ عندي، قيل: قال لهم: تكونون أول من يدخل عليّ وآخر من يخرج عني. وإِذاً عند جمع على ما تقتضيه في المشهور من الجواب والجزاء، ونقل الزركشي في البرهان عن بعض المتأخرين أنها هنا مركبة من إِذاً التي هي ظرف زمان ماض والتنوين الذي هو عوض عن جملة محذوفة بعدها وليست هي الناصبة للمضارع. وقد ذهب إلى ذلك في نظير لآية الكافيجي والقاضي تقي الدين بن رزين وأنا ممن يقول بإثبات هذا المعنى لها. والمعنى عليه وإنكم إذا غلبتم أو إذا كنتم الغالبين لمن المقربين. وقرىء «نعم» بفتح النون وكسر العين وذلك لغة في نَعَمْ. قالَ لَهُمْ مُوسى أي بعد ما قال له السحرة: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى [طه: 65] أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ لم يرد عليه السلام الأمر بالسحر والتمويه حقيقة فإن السحر حرام وقد يكون كفرا فلا يليق بالمعصوم الأمر به بل الإذن بتقديم ما علم بإلهام أو فراسة صادقة أو قرائن الحال أنهم فاعلوه البتة ولذا قال: ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ ليتوصل بذلك إلى إبطاله. وهذا كما يؤمر الزنديق بتقرير حجته لترد وليس في ذلك الرضا الممتنع فإنه الرضا على طريق الاستحسان وليس في الإذن المذكور ومطلق الرضا غير ممتنع، ومما اشتهر من قولهم: الرضا بالكفر كفر ليس على إطلاقه كما عليه المحققون من الفقهاء والأصوليين فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا أي وقد قالوا عند الإلقاء بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ أي بقوته التي يمتنع بها من الضيم من قولهم. أرض عزاز أي صلبة إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ لا موسى عليه السلام، والظاهر أن هذا قسم منهم بعزته عليه اللعنة على الغلبة وخصوها بالقسم هنا لمناسبتها للغلبة وقسمهم على ذلك لفرط اعتقادهم في أنفسهم وإتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى به من السحر. وفي ذلك إرهاب لموسى عليه السلام بزعمهم، وعدلوا عن الخطاب إلى الغيبة في قولهم: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ تعظيما له، وهذا القسم من نوع أقسام الجاهلية، وقد سلك كثير من المسلمين في الإيمان ما هو أشنع من إيمانهم لا يرضون بالقسم بالله تعالى وصفاته عز وجل ولا يعتدون بذلك حتى يحلف أحدهم بنعمة السلطان أو برأسه أو برأس المحلف أو بلحيته أو بتراب قبر أبيه فحينئذ يستوثق منه، ولهم أشياء يعظمونها ويحلفون بها غير ذلك، ولا يبعد أن يكون الحلف بالله تعالى كذبا أقل إثما من الحلف بها صدقا وهذا مما عمت به البلوى ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى العلي العظيم، وقال ابن عطية بعد أن ذكر أنه قسم: والأحرى أن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 77 يكون على جهة التعظيم والتبرك باسمه إذا كانوا يعبدونه كما تقول إذا ابتدأت بشيء بسم الله تعالى وعلى بركة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ونحو ذلك. فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ أي تبتلع بسرعة، وأصل التلقف الأخذ بسرعة وقرأ أكثر السبعة «تلّقّف» بفتح اللام والتشديد والأصل تتلقف فحذفت إحدى التاءين. والتعبير بالمضارع لاستحضار السورة والدلالة على الاستمرار ما يَأْفِكُونَ أي الذي يقلبونه من حاله الأول وصورته بتمويههم وتزويرهم فيخيلون حبالهم وعصيهم أنها حيات تسعى. فما موصولة حذف عائدها للفاصلة، وجوز أن تكون مصدرية أي تلقف إفكهم تسمية للمأفوك به مبالغة فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ أي خروا ساجدين إثر ما شاهدوا ذلك من غير تلعثم وتردد لعلمهم بأن مثل ذلك خارج عن حدود السحر وأنه أمر إلهي قد ظهر على يده عليه السلام لتصديقه، وعبر عن الخرور بالإلقاء لأنه ذكر مع الإلقاءات فسلك به طريق المشاكلة وفيه أيضا مع مراعاة المشاكلة أنهم حين رأوا ما رأوا لم يتمالكوا أن رموا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين كأنهم أخذوا فطرحوا طرحا فهناك استعارة تبعية زادت حسنها المشاكلة، وبحث في ذلك بعضهم بأن الله تعالى خالق خرورهم عند أهل الحق وخلقه هو الإلقاء فلا حاجة إلى التجوز. وأنت تعلم أن إيجاد خرورهم وخلقه فيهم لا يسمى إلقاء حقيقة ولغة ثم ظاهر كلامهم أن فاعل الإلقاء لو صرح به هو الله عز وجل بما خولهم من التوفيق، وجوز الزمخشري أن يكون إيمانهم أو ما عاينوا من المعجزة الباهرة ثم قال: ولك أن لا تقدر فاعلا لأن (ألقي) بمعنى خروا وسقطوا. وتعقب هذا أبو حيان بأنه ليس بشيء إذ لا يمكن أن يبني الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله إلا وقد حذف الفاعل فناب ذلك عنه أما أنه لا يقدر فاعل فقول ذاهب عن الصواب، ووجه ذلك صاحب الكشف بأنه أراد أنه لا يحتاج إلى تقدير فاعل آخر غير من أسند إليه المجهول لأنه فاعل الإلقاء ألا ترى أنك لو فسرت سقط بألقى نفسه لصح. والطيبي بأنه أراد أنه لا يحتاج إلى تعيين فاعل لأن المقصود الملقى لا تعيين من ألقاه كما تقول قتل الخارجي. وأنت تعلم أن التعليل الذي ذكره الزمخشري إلى ما اختاره صاحب الكشف أقرب. وبالجملة لا بد من تأويل كلام صاحب الكشاف فإنه أجل من أن يريد ظاهره الذي يرد عليه ما أورده أبو حيان، وفي سجود السحرة وتسليمهم دليل على أن منتهى السحر تمويه وتزويق يخيل شيئا لا حقيقة له لأن السحر أقوى ما كان في زمن موسى عليه السلام ومن أتى به فرعون أعلم أهل عصره به وقد بذلوا جهدهم وأظهروا أعظم ما عندهم منه ولم يأتوا إلا بتمويه وتزويق كذا قيل. والتحقيق أن ذلك هو الغالب في السحر لا أن كل سحر كذلك. وقول القزويني: إن دعوى أن في السحر تبديل صورة حقيقة من خرافات العوام وأسمار النسوة فإن ذلك مما لا يمكن في سحر أبدا لا يخلو عن مجازفة، واستدل بذلك أيضا على أن التبحر في كل علم نافع فإن أولئك السحرة لتبحرهم في علم السحر علموا حقية ما أتى به موسى عليه السلام وأنه معجزة فانتفعوا بزيادة علمهم لأنه أداهم إلى الاعتراف بالحق والإيمان لفرقهم بين المعجزة والسحر. وتعقب بأن هذا إنما يثبت حكما جزئيا كما لا يخفى، وذكر بعض الأجلة أنهم إنما عرفوا حقية ذلك بعد أن أخذ موسى عليه السلام العصا فعادت كما كانت وذلك أنهم لم يروا لحبالهم وعصيهم بعد أثرا، وقالوا: لو كان هذا سحرا لبقيت حبالنا وعصيّنا ولعلها على هذا صارت أجزاء هبائية وتفرقت أو عدمت لانقطاع تعلق الإرادة بوجودها. وقال الشيخ الأكبر قدس سره في الباب السادس عشر والباب الأربعين من الفتوحات: إن العصا لم تلقف إلا صور الحيات الجزء: 10 ¦ الصفحة: 78 من الحبال والعصي وأما هي فقد بقيت ولم تعدم كما توهمه بعض المفسرين ويدل عليه قوله تعالى: تَلْقَفْ ما صَنَعُوا [طه: 69] وهم لم يصنعوا إلا الصور ولولا ذلك لوقعت الشبهة للسحرة في عصا موسى عليه السلام فلم يؤمنوا انتهى ملخصا فتأمل قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ بدل اشتمال من (ألقي) لما بين الإلقاء المذكور وهذا القول من الملابسة أو حال بإضمار قد أو بدونه، ويحتمل أن يكون استئنافا بيانيا كأنه قيل: فما قالوا؟ فقيل: قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ عطف بيان لرب العالمين أو بدل منه جيء به لدفع توهم إرادة فرعون حيث كان قومه الجهلة يسمونه بذلك وللإشعار بأن الموجب لإيمانهم به تعالى ما أجراه سبحانه على أيديهما من المعجزة القاهرة. ومعنى كونه تعالى ربهما أنه جل وعلا خالقهما ومالك أمرهما. وجوز أن يكون إضافة الرب إليهما باعتبار وصفهما له سبحانه بما تقدم من قول موسى عليه السلام: رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا [الشعراء: 24] وقوله: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [الشعراء: 26] وقوله: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما [الشعراء: 28] فكأنهم قالوا: آمنا برب العالمين الذي وصفه موسى وهارون، ولا يخفى ما فيه وإن سلم سماعهم للوصف المذكور بعد أن حشروا من المدائن قالَ فرعون للسحرة آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ أي بغير أن آذن لكم بالإيمان له كما في قوله تعالى: قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي [الكهف: 109] إلا أن الإذن منه ممكن أو متوقع إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فتواطأتم على ما فعلتم فيكون كقوله: إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ [الأعراف: 123] إلخ أو علمكم شيئا دون شيء فلذلك غلبكم كما قيل، ولا يرد عليه أنه لا يتوافق الكلامان حينئذ إذ يجوز أن يكون فرعون قال كلا منهما وإن لم يذكرا معا هنا، وأراد اللعين بذلك التلبيس على قومه كيلا يعتقدوا أنهم آمنوا عن بصيرة وظهور حق. وقرأ الكسائي وحمزة وأبو بكر وروح «أآمنتم» بهمزتين فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وبال ما فعلتم. واللام قيل للابتداء دخلت الخبر لتأكيد مضمون الجملة والمبتدأ محذوف أي فلأنتم سوف تعلمون. وليست للقسم لأنها لا تدخل على المضارع إلا مع النون المؤكدة. وجمعها مع سوف للدلالة على أن العلم كائن لا محالة وإن تأخر لداع، وقيل: هي للقسم وقاعدة التلازم بينها وبين النون فيما عدا صورة الفصل بينها وبين الفعل بحرف التنفيس وصورة الفصل بينهما بمعمول الفعل كقوله تعالى: لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ [آل عمران: 158] وقال أبو علي: هي اللام التي في لأقومن ونابت سوف عن إحدى نوني التأكيد فكأنه قيل: فلتعلمن، وقوله تعالى حكاية عنه: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ بيان لمفعول تَعْلَمُونَ المحذوف الذي أشرنا إليه وتفصيل لما أجمل ولذا فصل وعطف بالفاء في محل آخر، وقد مر معنى مِنْ خِلافٍ قالُوا أي السحرة لا ضَيْرَ أي لا ضرر علينا فيما ذكرت من قطع الأيدي وما معه، والضير مصدر ضار وجاء مصدره أيضا ضورا، وهو اسم لا وخبرها محذوف وحذفه في مثل ذلك كثير، وقوله تعالى: إِنَّا إِلى رَبِّنا أي الذي آمنا به مُنْقَلِبُونَ تعليل لنفي الضير أي لا ضير في ذلك بل لنا فيه نفع عظيم لما يحصل لنا من الصبر عليه لوجه الله تعالى من الثواب العظيم أو لا ضير علينا فيما تفعل لأنه لا بد من الموت بسبب من الأسباب والانقلاب إلى الله عز وجل. ومن لم يمت بالسيف مات بغيره ... تعددت الأسباب والموت واحد وحاصله نفي المبالاة بالقتل معللا بأنه لا بد من الموت، ونظير ذلك قول علي كرّم الله تعالى وجهه: لا أبالي أوقعت على الموت أم وقع الموت عليّ، أو لا ضير علينا في ذلك لأن مصيرنا ومصيرك إلى رب يحكم بيننا فينتقم لنا منك، وفي معنى ذلك قوله: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 79 إلى ديان يوم الدين نمضي ... وعند الله تجتمع الخصوم ولم يرتضه بعضهم لأن فيه تفكيك الضمائر لكونها للسحرة فيما قبل وبعد ومنع بدخولهم في ضمير الجمع فتأمل، وقوله تعالى: إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أي لأن كنا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ تعليل ثان لنفي الضير ولم يعطف إيذانا بأنه مما يستقل بالعلية، وقيل إن عدم العطف لتعلق التعليل بالمعلل الأول مع تعليله وجوز أن يكون تعليلا للعلة والأول أظهر أي لا ضير علينا في ذلك إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا لكوننا أول المؤمنين، والطمع إما على بابه كما استظهره أبو حيان لعدم الوجوب على الله عز وجل، وإما بمعنى التيقن كما قيل به في قول إبراهيم عليه السلام وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء: 82] وقولهم: أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ يحتمل أنهم أرادوا به أول المؤمنين من أتباع فرعون أو أول المؤمنين من أهل المشهد أو أول المؤمنين من أهل زمانهم، ولعل الإخبار بكونهم كذلك لعدم علمهم بمؤمن سبقهم بالإيمان فهو إخبار مبني على غالب الظن ولا محذور فيه كذا قيل، وقيل: أرادوا أول من أظهر الإيمان بالله تعالى وبرسوله عند فرعون كفاحا بعد الدعوة وظهور الآية فلا يرد مؤمن آل فرعون. وآسية، وكذا لا يرد بنو إسرائيل لأنهم- كما في البحر- كانوا مؤمنين قبلهم إما لعدم علم السحرة بذلك أو لأن كلا من المذكورين لم يظهر الإيمان بالله تعالى ورسوله عند فرعون كفاحا بعد الدعوة وظهور الآية فتأمل. وقرأ أبان بن تغلب وأبو معاذ «إن كنا» بكسر همزة «إن» وخرج على أن إن شرطية والجواب محذوف يدل عليه ما قبله أي إن كنا أول المؤمنين فإنا نطمع، وجعل صاحب اللوامح الجواب إِنَّا نَطْمَعُ المتقدم وقال: جاز حذف الفاء منه لتقدمه وهو مبني على مذهب الكوفيين وأبي زيد والمبرد حيث يجوزون تقديم جواب الشرط، وعلى هذا فالظاهر أنهم لم يكونوا متحققين بأنهم أول المؤمنين، وقيل: كانوا متحققين ذلك لكنهم أبرزوه في صورة الشك لتنزيل الأمر المعتمد منزلة غيره تمليحا وتضرعا لله تعالى، وفي ذلك هضم النفس والمبالغة في تحري الصدق والمشاكلة مع نَطْمَعُ على ما هو الظاهر فيه، وجوز أبو حيان أن تكون إن هي المخففة من الثقيلة ولا يحتاج إلى اللام الفارقة لدلالة الكلام على أنهم مؤمنون فلا احتمال للنفي، وقد ورد مثل ذلك في الفصيح ففي الحديث: «إن كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحب العسل» ، وقال الشاعر: ونحن أباة الضيم من آل مالك ... وإن مالك كانت كرام المعادن وعلى هذا الوجه يكونون جازمين بأنهم أول المؤمنين أتم جزم. واختلف في أن فرعون هل فعل بهم ما أقسم عليه أولا والأكثرون على أنه لم يفعل لظاهر قوله تعالى: أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ [القصص: 35] وبعض هؤلاء زعم أنهم لما سجدوا رأوا الجنات والنيران وملكوت السماوات والأرض وقبضت أرواحهم وهم ساجدون، وظواهر الآيات تكذب أمر الموت في السجود، وأما رؤية أمر ما ذكر فلا جزم عندي بصدقه والله تعالى أعلم. وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي وذلك بعد سنين أقام بين ظهرانيهم يدعوهم إلى الحق ويظهر لهم الآيات فلم يزيدوا إلا عتوا وعنادا حسبما فصل في سورة [الأعراف: 130] بقوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ الآيات. وقرىء «أن أسر» بكسر النون ووصل الألف من سرى. وقرأ اليماني «أن سر» أمرا من سار يسير إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ تعليل للأمر بالإسراء أي يتبعكم فرعون وجنوده مصبحين فأسر ليلا بمن معك حتى لا يدركوكم قبل الوصول إلى البحر بل يكونون على أثركم حين تلجون البحر فيدخلون مداخلكم فأطبقه عليهم فأغرقهم فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ الفاء فصيحة أي فأسرى بهم وأخبر فرعون بذلك فأرسل فِي الْمَدائِنِ أي مدائن مصر حاشِرِينَ جامعين للعساكر ليتبعوهم إِنَّ هؤُلاءِ يريد بني إسرائيل والكلام على إرادة القول، والظاهر أنه حال أي قائلا إن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 80 هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ أي طائفة من الناس، وقيل: هي السفلة منهم، وقيل: بقية كل شيء خسيس، ومنه ثوب شرذام وشرذامة أي خلق مقطع، قال الراجز: جاء الشتاء وقميصي أخلاق ... شراذم يضحك منه التواق وقرىء «لشرذمة» بإضافة شر مقابل خير إلى ذمة، قال أبو حاتم: وهي قراءة من لا يؤخذ منه ولم يروها أحد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قَلِيلُونَ صفة شرذمة، وكان الظاهر قليلة إلا أنه جمع باعتبار أن الشرذمة مشتملة على أسباط كل سبط منهم قليل، وقد بالغ اللعين في قلتهم حيث ذكرهم أولا باسم دال على القلة وهو شرذمة ثم وصفهم بالقلة ثم جمع القليل للإشارة إلى قلة كل حزب منهم وأتى بجمع السلامة وقد ذكر أنه دال على القلة واستقلهم بالنسبة إلى جنوده. فقد أخرج ابن أبي حاتم عن السدي أن موسى عليه السلام خرج في ستمائة ألف وعشرين ألفا لا يعد فيهم ابن عشرين لصغره ولا ابن ستين لكبره وتبعهم فرعون على مقدمته هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف حصان، وقيل: أرسل فرعون في أثرهم ألف ألف وخمسمائة ألف ملك مسور مع كل ملك ألف وخرج هو في جمع عظيم وكانت مقدمته سبعمائة ألف رجل كل رجل على حصان وعلى رأسه بيضة، وهم كانوا على ما روي عن ابن عباس ستمائة ألف وسبعين ألفا، وأنا أقول: إنهم كانوا أقل من عساكر فرعون ولا أجزم بعدد في كلا الجمعين، والأخبار في ذلك لا تكاد تصح وفيها مبالغات خارجة عن العادة. والمشهور عند اليهود أن بني إسرائيل كانوا حين خرجوا من مصر ستمائة ألف رجل خلا الأطفال وهو صريح ما في التوراة التي بأيديهم. وجوز أن يراد بالقلة الذلة لا قلة العدد بل هي مستفادة من شرذمة يعني أنهم لقلتهم أذلاء لا يبالى بهم ولا يتوقع غلبتهم، وقيل: الذلة مفهومة من شرذمة بناء على أن المراد منها بقية كل شيء خسيس أو السفلة من الناس، وقَلِيلُونَ إما صفة لها أو خبر بعد خبر لأن، والظاهر ما تقدم. وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ لفاعلون ما يغيظنا من مخالفة أمرنا والخروج بغير إذننا مع ما عندهم من أموالنا المستعارة، فقد روي أن الله تعالى أمرهم أن يستعيروا الحلي من القبط فاستعاروه وخرجوا به ، وتقديم لَنا للحصر والفاصلة واللام للتقوية أو تنزيل المتعدي منزلة اللازم وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ أي إنا لجمع من عاداتنا الحذر والاحتراز واستعمال الحزم في الأمور، أشار أولا إلى عدم ما يمنع اتباعهم من شوكتهم ثم إلى تحقيق ما يدعو إليه من فرط عداوتهم ووجوب التيقظ في شأنهم حثا عليه أو اعتذارا بذلك إلى أهل المدائن كيلا يظن به عليه اللعنة ما يكسر سلطانه. وقرأ جمع من السبعة. وغيرهم «حذرون» بغير ألف، وفرق بين حاذر بالألف وحذر بدونها بأن الأول اسم فاعل يفيد التجدد والحدوث والثاني صفة مشبهة تفيد الثبات، وقريب منه ما روي عن الفراء والكسائي أن الحذر من كان الحذر في خلقته فهو متيقظ منتبه، وقال أبو عبيدة: هما بمعنى واحد، وذهب سيبويه إلى أن حذرا يكون للمبالغة وأنه يعمل كما يعمل حاذر فينصب المفعول به، وأنشد: حذر أمورا لا تضير وآمن ... ما ليس منجيه من الأقدار وقد نوزع في ذلك بما هو مذكور في كتب النحو. وعن ابن عباس وابن جبير والضحاك وغيرهم أن الحاذر التام السلاح. وفسروا ما في الآية بذلك، وكأنه بمعنى صاحب حذر وهي آلة الحرب سميت بذلك مجازا، وحمل على ذلك الجزء: 10 ¦ الصفحة: 81 قوله تعالى: خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء: 71] ، وقرأ سميط بن عجلان وابن أبي عمار وابن السميقع «حادرون» بالألف والدال المهملة من قولهم: عين حدرة أي عظيمة وفلان حادر أي متورم. قال ابن عطية: والمعنى ممتلئون غيظا وأنفة. وقال ابن خالويه: الحادر السمين القوي الشديد والمعنى أقوياء أشداء. ومنه قول الشاعر: أحب الصبي السوء من أجل أمه ... وأبغضه من بغضها وهو حادر وقيل: المعنى تام والسلاح على هذه القراءة أيضا أخذا من الحدارة بمعنى الجسامة والقوة فإن تام السلاح يتقوى به كما يتقوى بأعضائه، و (جميع) على جميع القراءات والمعاني بمعنى الجمع وليست التي يؤكد بها كما أشرنا إليه ولو كانت هذه المؤكدة لنصبت فَأَخْرَجْناهُمْ أي فرعون وجنوده أي خلقنا فيهم داعية الخروج بهذا السبب الذي تضمنته الآيات الثلاث فحملتهم عليه أو خلقنا خروجهم مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ كانت لهم بحافتي النيل كما روي عن ابن عمر. وغيره وَكُنُوزٍ أي أموال كنزوها وخزنوها تحت الأرض. وخصت بالذكر لأن الأموال الظاهرة أمور لازمة لهم لأنها من ضروريات معاشهم فإخراجهم عنها معلوم بالضرورة. وقيل: لأن أموالهم الظاهرة قد انطمست بالتدمير. وتعقب بأن الإخراج قبل الانطماس إذ من جملة الأموال الظاهرة الجنات والإخبار عنهم بأنهم أخرجوا منها بعنوان كونها جنات والأصل فيه الحقيقة. وعلى تقدير تسليم أنه بعد يرد أن المدمر ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون وهو مفسر بالقصور والعمارات والجنان فيبقى ما سوى ذلك غير محكوم عليه بالتدمير من الأموال الظاهرة مع أنهم أخرجوا منه أيضا فيحتاج توجيه عدم التعرض له بغير ما ذكر. وقيل: المراد بالكنوز أموالهم الباطنة والظاهرة وأطلق عليها ذلك لأنها لم ينفق منها في طاعة الله تعالى، ونقل ذلك عن مجاهد والأول أوفق باللغة. وأكثر جهلة أهل مصر يزعمون أن هذه الكنوز في المقطم من أرض مصر وأنها موجودة إلى الآن وقد بذلوا على إخراجها أموالا كثيرة لشياطين المغاربة وغيرهم فلم يظفروا إلا بالتراب أو حجر الكذان، وقال ابن جبير: المراد بالعيون عيون الذهب وهو خلاف المتبادر، ومثله ما قاله الضحاك من أن المراد بالكنوز الأنهار وَمَقامٍ كَرِيمٍ هي المساكن الحسان كما قال النقاش، وعن ابن لهيعة أنها كانت بالفيوم من أرض مصر، وقيل: مجالس الأمراء والأشراف والحكام التي تحفها الأتباع، وقيل: الأسرة في الكال، وحكى الماوردي أنها مرابط الخيل، وعن ابن عباس ومجاهد والضحاك أنها المنابر للخطباء. وقرأ قتادة والأعرج «ومقام» بضم الميم من أقام كَذلِكَ إما في موضع نصب على أن يكون صفة لمصدر مقدر أي إخراجا مثل ذلك الإخراج أخرجنا، والإشارة إلى مصدر الفعل أو في موضع جر على أن يكون صفة لمقام أي مقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم، وعلى الوجهين لا يرد أنه يلزم تشبيه الشيء بنفسه كما زعم أبو حيان لما مر تحقيقه أو في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك، والمراد تقرير الأمر وتحقيقه. واختار هذا الطيبي فقال: هو أقوى الوجوه ليكون قوله تعالى: وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ أي ملكناها لهم تمليك الإرث عطفا عليه، والجملتان معترضتان بين المعطوف عليه وهو فَأَخْرَجْناهُمْ والمعطوف وهو قوله تعالى: فَأَتْبَعُوهُمْ لأن الاتباع عقب الإخراج لا الإيراث. قال الواحدي: إن الله تعالى رد بني إسرائيل إلى مصر بعد ما أغرق فرعون وقومه فأعطاهم جميع ما كان لقوم فرعون من الأموال والعقار والمساكن، وعلى غير هذا الوجه يكون (أورثنا) عطفا على (أخرجنا) ولا بد من تقدير نحو فأردنا إخراجهم وإيراث بني إسرائيل ديارهم فخرجوا وأتبعوهم انتهى، ويفهم من كلام بعضهم أن جملة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 82 أَوْرَثْناها إلخ معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه في جميع الأوجه، وما ذكر عن الواحدي من أن الله تعالى رد بني إسرائيل إلى مصر بعد ما أغرق فرعون وقومه ظاهره وقوع ذلك بعد الغرق من غير تطاول مدة. وأظهر منه في هذا ما روي عن الحسن قال: كما عبروا البحر ورجعوا وورثوا ديارهم وأموالهم ورأيت في بعض الكتب أنهم رجعوا مع موسى عليه السلام وبقوا معه في مصر عشر سنين، وقيل: إنه رجع بعضهم بعد إغراق فرعون وهم الذين أورثوا أموال القبط وذهب الباقون مع موسى عليه السلام إلى أرض الشام. وقيل: إنهم بعد أن جاوزوا البحر ذهبوا إلى الشام ولم يدخلوا مصر في حياة موسى عليه السلام وملكوها زمن سليمان عليه السلام، والمذكور في التوراة التي بأيدي اليهود اليوم صريح في أنهم بعد أن جاوزوا البحر توجهوا إلى أرض الشام وقد فصلت قصة ذهابهم إليها وأكثر التواريخ على هذا وظواهر كثير من الآيات تقتضي ما ذكره الواحدي والله تعالى أعلم، ومعنى (أتبعوهم) لحقوهم يقال: تبعت القوم فأتبعهم أي تلوتهم فلحقتهم كأن المعنى فجعلتهم تابعين لي بعد ما كنت تابعا لهم مبالغة في اللحوق، وضمير الفاعل لقوم فرعون والمفعول لبني إسرائيل. وقرأ الحسن «فاتّبعوهم» بوصل الهمزة وشد التاء مُشْرِقِينَ أي داخلين في وقت شروق الشمس أي طلوعها من أشرق زيد دخل في وقت الشروق كأصبح دخل في وقت الصباح وأمسى دخل في وقت المساء، وقال أبو عبيدة: هو من أشرق توجه نحو الشرق كأنجد توجه نحو نجد وأعرق توجه نحو العراق أي فاتبعوهم متوجهين نحو الشرق. والجمهور على الأول، وعن السدي أن الله تعالى ألقى على القبط الموت ليلة خرج موسى عليه السلام بقومه فمات كل بكر رجل منهم فشغلوا عن طلبهم بدفنهم حتى طلعت الشمس ومثل ذلك في التوراة بزيادة موت أبكار بهائمهم أيضا، والوصف حال من الفاعل، وقيل: هو حال من المفعول. ومعنى مُشْرِقِينَ في ضياء بناء على ما روي أن بني إسرائيل كانوا في ضياء، وكان فرعون وقومه في ضباب وظلمة تحيروا فيها حتى جاوز بنو إسرائيل البحر ولا يكاد يصح ذلك لقوله تعالى: فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ أي تقاربا بحيث رأى كل واحد منهما الآخر، نعم ذكر في التوراة ما حاصله أن بني إسرائيل لما خرجوا كان أمامهم نهارا عمود من غمام وليلا عمود من نار ليدلهم ذلك على الطريق فلما طلبهم فرعون ورأوا جنوده خافوا جدا ولاموا موسى عليه السلام في الخروج وقالوا له: أمن عدم القبور بمصر أخرجتنا لنموت في البر أما قلنا لك: دعنا نخدم المصريين فهو خير من موتنا في البر فقال لهم موسى: لا تخافوا وانظروا إغاثة الله تعالى لكم ثم أوحى الله تعالى إلى موسى أن يضرب بعصاه البحر فتحول عمود الغمام إلى ورائهم وصار بينهم وبين فرعون وجنوده ودخل الليل ولم يتقدم أحد من جنود فرعون طول الليل وشق البحر ثم دخل بنو إسرائيل وليس في هذا ما يصحح أمر الحالية المذكورة فتأمل. وقرأ الأعمش وابن وثاب «ترا» بغير همز على مذهب التخفيف بين بين ولا يصح تحقيقها بالقلب للزوم ثلاث ألفات متسقة وذلك مما لا يكون أبدا قاله أبو الفضل الرازي، وقال ابن عطية وقرأ حمزة «تريئي» بكسر الراء وبمد ثم بهمز، وروي مثله عن عاصم وروي عنه أيضا «تراءى» بالفتح والمد، وقال أبو جعفر أحمد بن علي الأنصاري في كتابه الإقناع تَراءَا الْجَمْعانِ في الشعراء إذا وقف عليها حمزة والكسائي أمالا الألف المنقلبة عن لام الفعل، وحمزة يميل ألف تفاعل وصلا ووقفا كإمالة الألف المنقلبة. وقرىء «فلما تراءت» الفئتان قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ أي لملحقون جاؤوا بالجملة الاسمية مؤكدة بحرفي التأكيد للدلالة على تحقق الإدراك واللحاق وتنجيزهما، وأرادوا بذلك التحزن وإظهار الشكوى طلبا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 83 للتدبير. وقرأ الأعرج وعبيد بن عمير «لمدّركون» بفتح الدال مشددة وكسر الراء من الإدراك بمعنى الفناء والاضمحلال يقال: أدرك الشيء إذا فني تتابعا وأصله التتابع وهو ذهاب أحد على أثر آخر ثم صار في عرف اللغة بمعنى الهلاك وأن يفني شيئا فشيئا حتى يذهب جميعه، وقد جاء التتابع بهذا المعنى في قول الحماسي: أبعد بني أمي الذين تتابعوا ... أرجي حياة أم من الموت أجزع والمعنى إنا لهالكون على أيديهم شيئا فشيئا قالَ موسى عليه السلام ردعا لهم عن ذلك وإرشادا إلى أن تدبير الله عز وجل يغني عن تدبيره: كَلَّا لن يدركوكم إِنَّ مَعِي رَبِّي بالحفظ والنصرة سَيَهْدِينِ قريبا إلى ما فيه نجاتكم منهم ونصركم عليهم، ولم يشركهم عليه السلام في المعية والهداية إخراجا للكلام على حسب ما أشاروا إليه في قولهم: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ من طلب التدبير منه عليه السلام، وقيل: لما كان عليه السلام هو الأصل وغيره تبع له محفوظون منصورون بواسطته وشرفه وكرامته قال: مَعِي دون معنا وكذا قال: سَيَهْدِينِ دون سيهدينا، وقيل: قال ذلك جزاء لهم على غفلتهم عن قوله تعالى له عليه السلام أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ [القصص: 35] حتى خافوا فقالوا ما قالوا فإن الظاهر أنهم سمعوا ذلك من موسى عليه السلام في مدة بقائهم معه في مصر أو غفلتهم عن عناية الله تعالى بهم حين كانوا مع القبط في مصر حيث لم يصبهم ما أصابهم من الدم ونحوه من الآيات المقتضية بواسطة حسن الظن إنجاءهم منهم حين أمروا بالخروج فلحقوهم وكان تأديبه لهم على ذلك بمجرد عدم إشراكهم فيما ذكر لا أنه نفاه عنهم كما يتوهم من تقديم الخبر فإن تقديمه لأجل الاهتمام بأمر المعية التي هي مدار النجاة المطلوبة، وقيل: للحصر لكن بالنسبة إلى فرعون وجمعه، وقيل: على القول الثاني في توجيه عدم إشراكهم: إنه للحصر بالنسبة إليهم أيضا على معنى إن معي أولا وبالذات ربي لا معكم كذلك، وقيل: قدم المعية هنا وأخرت في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة: 40] لأن المخاطب هنا بنو إسرائيل وهم أغبياء يعرفون الله عز وجل بعد النظر والسماع من موسى عليه السلام والمخاطب هناك الصديق رضي الله تعالى عنه وهو ممن يرى الله تعالى قبل كل شيء، ولاختلاف المقام نظم نبينا صلّى الله عليه وسلّم صاحبه معه في المعية ولم يقدم له ردعا وزجرا وخاطبه على نحو مخاطبة الله تعالى له عليه الصلاة والسلام عند تسليته بما صورته النهي عن الحزن، وأتى بالاسم الجامع وهو لفظ الله دون اسم مشعر بصفة واحدة مثلا ولم يكن كلام موسى عليه السلام ومخاطبته لقومه على هذا الطرز وسبحان من فضل بعض العالمين على بعض. وزعم بعضهم أن في الكلام حذفا والتقدير إن معي وعد ربي ولذلك قال: مَعِي دون معنا وفيه ما فيه. فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ هو القلزم على الصحيح، وقيل: بحر من وراء مصر يقال له أساف، وقيل: النيل، والظاهر أن هذا الإيحاء كان بعد القول المذكور ولم يكن مأمورا بالضرب يوم الأمر بالإسراء، فقد أخرج ابن عبد الحكم عن مجاهد أنه لما انتهى موسى عليه السلام وبنو إسرائيل إلى البحر قال مؤمن آل فرعون: يا نبي الله أين أمرت فإن البحر أمامك وقد غشينا آل فرعون فقال: أمرت بالبحر فاقتحم مؤمن آل فرعون فرسه فرده التيار فجعل موسى عليه السلام لا يدري كيف يصنع وكان الله تعالى قد أوحى إلى البحر أن أطع موسى وآية ذلك إذا ضربك بعصاه فأوحى الله تعالى إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر. وأخرج أيضا من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن موسى لما انتهى إلى البحر أقبل يوشع بن نون على فرسه فمشى على الماء واقتحم غيره خيولهم فرسوا في الماء، وقال أصحاب موسى: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ فدعا موسى ربه فغشيتهم ضبابة حالت بينهم وبينه وقيل: له اضرب بعصاك البحر وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 84 عباس أن الله تعالى أوحى إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر وأوحى إلى البحر أن اسمع لموسى وأطع إذا ضربك فبات البحر له أفكل أي رعدة لا يدري من أي جوانبه يضربه، وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن حمزة بن يوسف بن عبد الله ابن سلام أن موسى عليه السلام لما انتهى إلى البحر قال: يا من كان قبل كل شيء والمكون لكل شيء والكائن بعد كل شيء اجعل لنا مخرجا فأوحى الله تعالى إليه أن اضرب بعصاك البحر. وروي أنه عليه السلام قال: اللهم لك الحمد وإليك المشتكى وإليك المستغاث وأنت المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وفي الدر المنثور من رواية ابن مردويه عن ابن مسعود مرفوعا ما يدل على أنه عليه السلام قال ذلك حين الانفلاق فَانْفَلَقَ أي فضربه فانفلق فالفاء فصيحة، وزعم ابن عصفور في مثل هذا التركيب أن المحذوف هو ضرب، وفاء انفلق والفاء الموجودة هي فاء ضرب وهذا أشبه شيء بلغي العصافير وكأنه كان سكران حين قاله، وفي هذا الحذف إشارة إلى سرعة امتثاله عليه السلام، وإنما أمر عليه السلام بالضرب فضرب وترتب الانفلاق عليه إعظاما لموسى عليه السلام بجعل هذه الآية العظيمة مترتبة على فعله ولو شاء عز وجل لفلقه بدون ضربه بالعصا، ويروى أنه لم ينفلق حتى كناه بأبي خالد فقال انفلق أبا خالد: وكان بأمر الله تعالى إياه بذلك ، وعن قيس بن عباد أنه عليه السلام حين جاءه قال له: انفلق أبا خالد فقال: لن أنفلق لك يا موسى أنا أقدم منك وأشد خلقا فنودي عند ذلك اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق ، وفي رواية عن ابن مسعود أنه عليه السلام حين انتهى إليه قال: أنفرق فقال له: لقد استكبرت يا موسى وهل انفرقت لأحد من ولد آدم فأوحى الله تعالى إليه أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق، وفي حديث أخرجه الخطيب في المتفق والمفترق عن أبي الدرداء مرفوعا أنه عليه السلام ضربه فتأطط كما يتأطط العرش ثم ضربه الثانية فمثل ذلك ثم ضربه الثالثة فانصدع وهذا صريح في أن الضرب كان ثلاثا، وقيل: ضربه مرة واحدة فانفلق، وقيل: ضربه اثنتي عشرة مرة فانفلق في كل مرة عن مسلك لسبط. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أنه قال: كان البحر ساكنا لا يتحرك فلما كان ليلة ضربه موسى بالعصا صار يمد ويجزر ولا أظن لهذا صحة، والظاهر أن المد والجزر كانا قبل أن يخلق الله تعالى موسى عليه السلام ولا ينبغي لعاقل اعتقاد غيره، ومثل هذا عندي كثير من الأخبار السابقة، والأسلم الاقتصار على ما قص الله تعالى من أنه أوحى سبحانه إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ أي كالجبل المنيف الثابت في مقره، وظاهر الآية أن الطود مطلق الجبل، وقال في الصحاح: الطود الجبل العظيم. والمراد بالفرق قطعة من الماء ارتفعت فصار ما تحتها كالسرداب على ما ذكره بعض الأجلة، وحينئذ لا إشكال في قول من قال: إن الفروق اثنا عشرة والمسالك كذلك بعدة أسباط بني إسرائيل وقد سلك كل سبط منهم في مسلك منها، والمشهور أن الفرق قطعة انفصلت من الماء عما يقابلها وحينئذ لا يتأتى ذلك القول بل لا بد عليه على ما قيل من كون الفروق ثلاثة عشر حتى يحصل في خلالها اثنا عشر مسلكا بعدد الأسباط، وقيل: إذا كانت الفروق اثني عشر فلا بد أن تكون المسالك ثلاثة عشر لأن الفرق الأول والثاني عشر لا بد أن يكونا منفصلين عما يحاذيهما من البحر فيكون بين كل منهما وبين ما يحاذيه من البحر مسلك وإن لم يكن كسائر المسالك بين فرقين إذ لو اتصلا لم يمييزا عنه ولم يتحقق حينئذ اثنا عشر فرقا بل أقل، ولا بعد في أن يختار كون الفروق اثني عشر والمسالك ثلاثة عشر يجعل الفرق الأول والثاني عشر منفصلين عما يحاذيهم من البحر بين كل منهما وبينه مسلك، ويقال: إن كل سبط من الأسباط الاثني عشر سلك في مسلك وسلك في الثالث عشر من آمن بموسى عليه السلام من القبط انتهى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 85 وأورد عليه أنه لم يذكر في الآثار أن المسالك ثلاثة عشر وإنما المذكور فيها أنها اثنا عشر ومن ادعى ذلك فعليه البيان، والأبعد عن القيل والقال ما تقدم عن بعض الأجلة وأثر قدرة الله تعالى عليه أعظم، وخلق الداعية إلى سلوك ذلك في قلوب الداخلين لا سيما قوم فرعون أغرب وكذا الاحتياج إلى الكوى أظهر. فقد روي أن بني إسرائيل قالوا: نخاف أن يغرق بعضنا ولا نشعر فجعل الله تعالى بينهم كوى حتى يرى بعضهم بعضا ، نعم قيل عليه: إن في بعض الآثار ما يأباه، فقد أخرج أبو العباس محمد بن إسحاق السراج في تاريخه. وابن عبد البر في التمهيد من طريق يوسف بن مهران عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن صاحب الردم كتب إلى معاوية يسأله عن أشياء منها مكان طلعت فيه الشمس لم تطلع قبل ولا بعد فيه فلم يعلم معاوية جواب ذلك فكتب يسأل ابن عباس فأجاب عن كل إلى أن قال: وأما المكان الذي طلعت فيه الشمس لم تطلع قبل ولا بعد فيه فالمكان الذي انفلق من البحر لبني إسرائيل فإن كون الفرق مقببا كالسرداب مانع من طلوع الشمس وشروقها على الأرض من غير واسطة كما هو الظاهر من السؤال. وأجيب بأنه بعد تسليم صحة الخبر لا إباء لجواز شروق الشمس على أرض الفرق المقبب من غير واسطة من جهة المدخل والمخرج أو شروقها على أرض البحر قبل التقبيب ولم يتعرض المفسرون هنا فيما وقفت عليه لكيفية الانطلاق، وقد رأيت فيما ينسب إلى كليات أبي البقاء أنه قد ورد أن بني إسرائيل لما دخلوا البحر خرجوا من الجانب الذي دخلوا منه وحينئذ لا يتأتى ذلك على كون الانفلاق خطيا وإنما يتأتى على كونه قوسيا ثم إنه ذكر في عدة الفروق والمسالك كلاما ظاهره الاختلال، وقد تصدى بعض الفضلاء لشرحه وتوجيهه بما لا يخلو عن تعسف، وحاصل ما ذكره ذلك البعض مع زيادة ما أنه يحتمل إذا كان انفلاق البحر إلى اثني عشر فرقا أن يكون الفرق الأول والثاني عشر متصلين بالبر الشطي بأن يكون الماء الواقع حذاء كل منهما من جهة البر مرتفعا ومنضما إلى كل ومعدود من أجزائه بحيث يصير الماء المرتفع المنضم والفرق الأصلي المنضم إليه فرقا واحدا متصلا طرفه بالبر من غير فصل بينه وبينه بشيء. وأورد عليه أنه يلزم عليه أن تكون المسالك أحد عشر فيحتاج إلى سلوك سبطين معا أو متعاقبا في مسلك واحد أوسع من سائر المسالك أو مساو له ولا خفاء في أنه خلاف الظاهر والمأثور، وأيضا يلزم أن يكون كل من الفرقين الأول والثاني عشر أعظم غلظا من كل من البواقي لما سمعت من الانضمام والظاهر تساويها فيه، وأيضا يلزم خروج الماء الملاصق للبر عما الأصل فيه من غير داع إليه، ويحتمل أن يكون الماء الواقع حذاء كل من الأول والثاني عشر من جهة البر مرتفعا بمعنى ذاهبا ويكون الفرقان المذكوران متصلين بالبر باعتبار أنهما متصلان بالمسلكين الظاهرين من تحت الماء الذاهب المتصلين بالبر. ويرد عليه بعض ما ورد على سابقه وبقاء سبط من بني إسرائيل أو سبطين بلا حاجب لهم عن فرعون وجنوده من الماء. ويحتمل أن يكونا منفصلين عن البر بأن يبقى الماء المتصل به على حاله بحرا من غير ارتفاع وحينئذ يحتمل أن تكون المسالك ثلاثة عشر باعتبار انكشاف الأرض بين الفرق الأول والبحر الباقي على حاله المتصل بالبر فيكون هذا المسلك خارج الطود الأول وانكشافها بين الفرق الثاني عشر والبحر الباقي على حالة المتصل بالبر من الجانب الآخر فيكون هذا المسلك خارج الفرق الثاني عشر، وعلى هذا الاحتمال يلزم تعطل أحد المسالك أو التزام سلوك من آمن من القبط فقط فيه، ويحتمل أن تكون المسالك اثني عشر كالفروق بأن يكون الانكشاف بين الفرق الأول والبحر الباقي على حالة المتصل بالبر من جهة فرعون وجنوده فقط أو يكون الانكشاف بين الفرق الثاني عشر والبحر الباقي على حاله من الجانب الآخر فقط، وهذا بعيد لعظم هذا القوس المنكشف جدا وطول زمان قطعه، فالظاهر وقوع الجزء: 10 ¦ الصفحة: 86 احتمال كون الانكشاف بين الفرق الأول والبحر الباقي على حاله من جهة فرعون، وبالجملة احتمال انفصال الفرقين الأول والأخير وكون الانكشاف بين الأول والبحر مما يلي فرعون دون الأخير والبحر مما يلي الجانب الآخر واتحاد المسالك والفروق في كون كل اثني عشر هو الأقرب للوقوع اه. ولا يخفى أنه يلزم عليه أن لا يكون جميع المسالك في خلال الفروق فإن لم يتعين القول بكون جميعها فيه إذ ليس في الآثار أكثر من كون المسالك اثني عشر مسلكا فلا بأس به، وإن استحسنت ما تقدم عن بعض الأجلّة في المراد بالفرق فاعتبره على تقدير كون الانفلاق قوسيا أيضا، ثم إن ما ذكر من كون الخروج من جهة الدخول لم أره في غير ما ينسب إلى كليات أبي البقاء وهو أوفق بالقول برجوع موسى عليه السلام وقومه إلى مصر بعد الخروج من البحر وإغراق فرعون وجنوده فيه وتوقف ذلك على كون الانفلاق قوسيا لأنه لو كان خطيا يلزم أن يكون الرجوع في طريق الدخول وهو ظاهر البطلان لأن الأعداء في أثرهم، واحتمال أن تكون المسالك الخطية ثلاثة عشر وأن بني إسرائيل سلكوا اثني عشر منها واتبعهم فيها فرعون وجنوده وخرجوا قبل أن يصلوا إليهم ودخلوا جميعا في المسلك الثالث عشر من الجانب المخالف لجانب دخولهم متوجهين فيه إلى جانب دخولهم فلم يخرجوا حتى صار جميع أعدائهم في تلك المسالك الإثني عشر التي اتبعوهم فيها فخرجوا وغشي أعداءهم من اليم ما غشيهم لا يخفى ما فيه، والقول بالعود إلى مصر مع القول بأن الانفلاق كان خطيا يتوقف على هذا أو على الانفلاق مرة أخرى أو على العبور بالسفن أو سلوك طريق إلى مصر غير الطريق الذي سلكوه خارجين منها إلى البحر. والظاهر أنه لم يكن شيء من ذلك، ولا بأس على ما قيل بالقول بكون الانفلاق قوسيا سواء قلنا بالرجوع إلى مصر أم لا، وما يقال عليه من أنه يلزم حينئذ أن تكون مداخل تلك المسالك ومخارجها في جانب فرعون وجنوده وذلك مما يوجب خوف بني إسرائيل من الدخول لاحتمال أن يدخل عليهم أعداؤهم من الطرف الآخر الذي هو محل الخروج فيلاقوهم في الطريق على طرف الثمام كما لا يخفى على ذوي الأفهام. وجوز على القول بأن الانفلاق كان قوسيا أن يكون دخول موسى عليه السلام وقومه من أحد طرفي القوس ودخول فرعون وجنوده من الطرف الآخر ليلاقوا موسى عليه السلام وقومه حتى إذا كمل الجمعان دخولا رجع موسى عليه السلام وقومه القهقرى حتى إذا خرجوا جميعا أغرق الله تعالى فرعون وجنوده أو حتى إذا كمل جمع موسى عليه السلام دخولا وبان لهم أول الداخلين لملاقاتهم رجعوا القهقرى حتى إذا خرجوا جميعا وقد كمل جمع فرعون دخولا أهلك الله تعالى عدوهم فغشيه من اليم ما غشيه وهو كما ترى. والذي ذهب إليه أهل الكتاب أن الانفلاق كان خطيا وأن المسالك اثني عشر مسلكا لكل سبط مسلك ولا تقبيب هناك وأنه قد فتحت لهم كوى ليرى القريب قريبه ويرى الرجل من سبط زوجته من سبط آخر وأنهم خرجوا من الجهة المقابلة لجهة دخولهم وتوجهوا إلى أرض الشام، وليس في كتابنا ما هو نص في تكذيبه بل في الأخبار ما يشهد بصحة بعضه، واتحاد الفروق والمسالك في العدد يحتاج إلى نقل صحيح يثبته، والآية هنا لا تدل على أكثر من تعدد الفروق والله تعالى أعلم، وحكى يعقوب عن بعض القراء أنه قرأ «كل فلق» باللام بدل الراء، قال الراغب: الفرق يقارب الفلق لكن الفلق يقال اعتبارا بالانشقاق والفرق يقال اعتبارا بالانفصال. ومنه الفرقة للجماعة المنفردة من الناس وَأَزْلَفْنا عطف على (أوحينا) ، وقيل: على محذوف يقتضيه السياق والتقدير فأدخلنا بني إسرائيل فيما انفلق من البحر وأزلفنا ثَمَّ أي هنالك الْآخَرِينَ أي فرعون وجنوده أي قربناهم من قوم موسى عليه السلام حتى دخلوا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 87 على أثرهم مداخلهم، وجوز أن يراد قربنا بعضهم من بعض وجمعناهم لئلا ينجو منهم أحد. أخرج ابن عبد الحكم عن مجاهد قال: كان جبريل عليه السلام بين الناس بين بني إسرائيل وبين آل فرعون فجعل يقول لبني إسرائيل: ليلحق آخركم بأولكم ويستقبل آل فرعون فيقول: رويدكم ليلحقكم آخركم فقالت بنو إسرائيل: ما رأينا سائقا أحسن سياقا من هذا وقال آل فرعون: ما رأينا وازعا أحسن زعة من هذا ، وقرأ الحسن وأبو حيوة «وزلفنا» بدون همزة، وقرأ أبي وابن عباس وعبد الله بن الحارث «وأزلقنا» بالقاف عوض الفاء أي أزلقنا أقدامهم، والمعنى أذهبنا عزهم كقوله: تداركتما عبسا وقد ثل عرشها ... وذبيان إذ زلت بأقدامها النعل ويحتمل أن يجعل الله تعالى طريقهم في البحر على خلاف ما جعله لبني إسرائيل يبسا فيزلقهم فيه. هذا وقال صاحب اللوامح: قيل من قرأ بالقاف أراد بالآخرين فرعون وقومه ومن قرأ بالفاء أراد بهم موسى عليه السلام وأصحابه أي جمعنا شملهم وقربناهم بالنجاة. ولا يخفى أنه يبعد إرادة موسى عليه السلام وأصحابه من الآخرين قوله سبحانه: وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ أي وأنجيناهم من الهلاك في أيدي أعدائهم ومن الغرق في البحر بحفظه على تلك الهيئة إلى أن خرجوا إلى البر، وقيل: وَمَنْ مَعَهُ للإشارة إلى أن إنجاءهم كان ببركة مصاحبة موسى عليه السلام ومتابعته، وقيل: لينتظم من آمن به عليه السلام من القبط إذ لو قيل وقومه لتبادر منه بنو إسرائيل وفيه بحث ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ فرعون وجنوده بإطباق البحر عليهم بعد خروج موسى عليه السلام ومن معه وكان له وجبة. روي عن ابن عباس أن بني إسرائيل لما خرجوا سمعوا وجبة البحر فقالوا: ما هذا؟ فقال موسى عليه السلام: غرق فرعون وأصحابه فرجعوا ينظرون فألقاهم البحر على الساحل : والتعبير عن فرعون وجنوده بالآخرين للتحقير، والظاهر أن ثُمَّ للتراخي الزماني، ولعل الأولى حملها على التراخي المعنوي لما بين المعطوفين من المباعدة المعنوية إِنَّ فِي ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من القصة، وما فيه من معنى البعد لتعظيم شأن المشار إليه وقيل: لبعد المسافة بالنظر إلى مبدأ القصة لَآيَةً أي لآية عظيمة توجب الإيمان بموسى عليه السلام وتصديقه بما جاء به، وأريد بها على ما قيل انقلاب العصا ثعبانا وخروج يده عليه السلام بيضاء للناظرين وانفلاق البحر وأفردت لاتحاد المدلول. وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ أي أكثر قوم فرعون الذين أمر موسى عليه السلام أن يأتيهم وهم القبط على ما استظهره أبو حيان حيث لم يؤمن منهم سوى مؤمن آل فرعون. وآسية امرأة فرعون، وبعض السحرة على القول بأن بعضهم من القبط لا كلهم كما عليه أهل الكتاب وهو الذي يقتضيه ظاهر كلام بعض منا. والعجوز التي دلت موسى على قبر يوسف عليهما السلام ليلة الخروج من مصر ليحمل عظامه معه، وقيل: المراد بالآية ما كان في البحر من إنجاء موسى عليه السلام ومن معه وإغراق الآخرين، وضمير أَكْثَرُهُمْ للناس الموجودين بعد الإغراق والإنجاء من قوم فرعون الذين لم يخرجوا معه لعذر ومن بني إسرائيل، والمراد بالإيمان المنفي عنهم التصديق اليقيني الجازم الذي لا يقبل الزوال أصلا أي وما كان أكثر الناس الموجودين بعد تحقق هذه الآية العظيمة وظهورها مصدقين تصديقا يقينيا جازما لا يقبل الزوال فإن الباقين في مصر من القبط لم يؤمن أحد منهم مطلقا وأكثر بني إسرائيل كانوا غير متيقنين ولذا سألوا بقرة يعبدونها وعبدوا العجل فلا يقال لهم مؤمنون بالمعنى المذكور، ويكفي في إيمان البعض الذي يدل عليه المفهوم كون البعض المؤمن من بني إسرائيل وحيث كان المراد وما كان أكثرهم بعد تحقق آيتي الإغراق والإنجاء وظهورهما مؤمنين لا يصح جعل الضمير للقبط إلا ببيان الأقل المؤمن والأكثر الكافر منهم بعد تحقق الآيتين، وما ذكر في بيان الأقل المؤمن منهم ليس كذلك إذ إيمان من ذكر كان في ابتداء الرسالة على أن العجوز من بني إسرائيل كما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 88 جاء في حديث أخرجه الفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن أبي موسى مرفوعا بل أخرج ابن عبد الحكم من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما (1) أنها شارح ابنة أشير بن يعقوب عليه السلام فهي بنت أخي يوسف عليه السلام فتكون أقرب من موسى عليه السلام إلى إسرائيل. وأجيب بأن من يرجع الضمير على القبط لا يلزمه أن يفسر الآية بالإغراق والإنجاء بل يقول: المراد بها المعجزات من العصا واليد وانفلاق البحر ويقول: إن إيمان الأقل بعد تحقق بعضها كاف لاتحاد مدلولها في تحقق المفهوم، وأما إرجاع الضمير على الناس الموجودين بعد الإغراق والإنجاء من بني إسرائيل وقوم فرعون الذين لم يخرجوا معه فخلاف الظاهر وكذا حمل الإيمان على ما ذكر وجعل أكثر بني إسرائيل المخصوصين بالإنجاء غير مؤمنين وإن حصل منهم عند وقوع بعض الآيات ما لا ينبغي صدوره من المؤمنين فإنهم لم يستمروا عليه. فقد أخرج الخطيب في المتفق والمفترق عن أبي الدرداء جعل النبي صلّى الله عليه وسلّم يصفق بيديه ويعجب من بني إسرائيل وتعنتهم لما حضروا البحر وحضر عدوهم جاؤوا موسى عليه السلام فقالوا: قد حضرنا العدو فماذا أمرت قال: إن أنزل هاهنا فإما أن يفتح لي ربي ويهزمهم وإما أن يفرق لي هذا البحر فانطلق نفر منهم حتى وقعوا في البحر فأوحى الله تعالى إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فضربه فتأطط كما يتأطط العرش ثم ضربه الثانية فمثل ذلك ثم ضربه الثالثة فانصدع فقالوا هذا عن غير سلطان موسى فجازوا البحر فلم يسمع بقوم أعظم ذنبا ولا أسرع توبة منهم. ومتى حمل الإيمان على ما ذكر وصح نفي الإيمان عمن صدر منه ما يدل على عدم رسوخه جاز إرجاع الضمير على بني إسرائيل خاصة فإن أكثرهم لم يكونوا راسخين فيه. وظاهر عبارة بعضهم يوهم إرجاعه إليهم وليس ذاك بشيء، وقد سلك شيخ الإسلام في تفسير الآية مسلكا تفرد في سلوكه فيما أظن فقال: إن في ذلك أي في جميع ما فصل مما صدر عن موسى عليه السلام وظهر على يديه من المعجزات القاهرة ومما فعل فرعون وقومه من الأقوال والأفعال وما فعل بهم من العذاب والنكال لآية أي آية وآية عظيمة لا تكاد توصف موجبة لأن يعتبر بها المعتبرون ويقيسوا شأن النبي صلّى الله عليه وسلّم بشأن موسى عليه السلام وحال أنفسهم بحال أولئك المهلكين ويجتنبوا تعاطي ما كانوا يتعاطونه من الكفر والمعاصي ومخالفة الرسول ويؤمنوا بالله تعالى ويطيعوا رسوله صلّى الله عليه وسلّم كيلا يحل بهم ما حل بأولئك أو إن فيما فصل في القصة من حيث حكايته عليه السلام إياها على ما هي عليه من غير أن يسمعها من أحد لآية عظيمة دالة على أن ذلك بطريق الوحي الصادق موجبة للإيمان بالله تعالى وحده وطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وما كان أكثرهم أي أكثر هؤلاء الذين سمعوا قصتهم منه عليه الصلاة والسلام مؤمنين لا بأن يقيسوا شأنه صلّى الله عليه وسلّم بشأن موسى عليه السلام وحال أنفسهم بحال أولئك المكذبين المهلكين ولا بأن يتدبروا في حكايته عليه الصلاة والسلام لقصتهم من غير أن يسمعها من أحد مع كون كل من الطريقين مما يؤدي إلى الإيمان قطعا، ومعنى ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ما أكثرهم مؤمنين على أن كانَ زائدة كما هو رأي سيبويه فيكون كقوله تعالى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: 103] وهو إخبار منه تعالى بما سيكون من المشركين بعد سماع الآيات الناطقة بالقصة تقريرا لما مر من قوله تعالى: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا [الشعراء: 5] إلخ، وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على استقرارهم على عدم الإيمان واستمرارهم عليه. ويجوز أن تجعل كانَ بمعنى صار كما في قوله تعالى: وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ [البقرة: 34، ص: 74]   (1) وذكر بعضهم أن اسم هذه العجوز مريم بنت ياموشا اهـ منه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 89 فالمعنى وما صار أكثرهم مؤمنين مع ما سمعوا من الآية العظيمة الموجبة للإيمان بما ذكر من الطريقين فيكون الإخبار بعدم الصيرورة قبل الحدوث للدلالة على كمال تحققه وتقرره كقوله تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل: 1] وادعى إن هذا التفسير هو الذي تقتضيه جزالة النظم الكريم من مطلع السورة الكريمة إلى آخر القصص السبع بل إلى آخر السورة الكريمة اقتضاء بينا. ثم قال: وأما ما قيل من أن ضمير أَكْثَرُهُمْ لأهل عصر فرعون من القبط وغيرهم وأن المعنى وما كان أكثر أهل مصر مؤمنين حيث لم يؤمن منهم إلا آسية ومؤمن آل فرعون والعجوز التي دلت على قبر يوسف عليه السلام وبنو إسرائيل بعد ما نجوا سألوا بقرة يعبدونها واتخذوا العجل وقالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة: 55] فبمعزل عن التحقيق كيف لا ومساق كل قصة من القصص الواردة في السورة الكريمة سوى قصة إبراهيم عليه السلام إنما هو لبيان حال طائفة معينة قد عتوا عن أمر ربهم وعصوا رسله كما يفصح عنه تصدير القصص بتكذيبهم المرسلين بعد ما شاهدا ما بأيديهم من الآيات العظام ما يوجب عليهم الإيمان ويزجرهم عن الكفر والعصيان وأصروا على ما هم عليه من التكذيب فعاقبهم الله تعالى لذلك بالعقوبة الدنيوية وقطع دابرهم بالكلية فكيف يمكن أن يخبر عنهم بعدم إيمان أكثرهم لا سيما بعد الإخبار بهلاكهم وعد المؤمنين من جملتهم أولا وإخراجهم منها آخرا مع عدم مشاركتهم لهم في شيء مما حكى عنهم من الجنايات أصلا مما يجب تنزيه التنزيل عن أمثاله. ورجوع ضمير أَكْثَرُهُمْ في قصة إبراهيم عليه السلام إلى قومه مما لا سبيل إليه أيضا أصلا لظهور أنهم ما ازدادوا بما سمعوه منه إلا طغيانا وكفرا حتى اجترءوا على تلك العظيمة التي فعلوها به فكيف يعبر عنهم بعدم إيمان أكثرهم وإنما آمن له لوط فنجاهما الله تعالى إلى الشام فتدبر اه. وتعقب بأن فيها محذورا من عدة أوجه. أما أولا فلأن حمل كان على الصلة مع ظهور الوجه الصحيح غير صحيح وقد لزم هنا بعد هذا حمل الجملة الاسمية باعتبار الاستمرار على أنهم لا يكونون بعد نزول هذه الآية مؤمنين. وإن جعل بمعنى صار يلزم جعله مضارعا لكن عدل عنه للدلالة على كمال التحقق. وهذا أيضا مع إمكان المعنى العاري عن الاحتياج لذلك غير مناسب، وأما ثانيا فلأن إرجاع ضمير أَكْثَرُهُمْ إلى قوم نبينا صلّى الله عليه وسلّم صرف عن مرجعه المتقدم المذكور لفظا سيما في القصص الآتية المصدرة بكذبت، وأما ثالثا فلأن قوله: لا بأن يقيسوا شأنه عليه الصلاة والسلام بشأن موسى عليه السلام إلخ لا يخلو عن صعوبة إذ الأمر المشترك بينهما عليهما الصلاة والسلام ليس إلا أن كلا منهما نبي مؤيد بالمعجزات مطلقا وأما إن نظر إلى خصوصيات المعجزات فلا يخفى أنه لا مشاركة بينهما. وكذا قياس حالهم على حال فرعون وقومه لا يخلو عنها على هذا القياس وأما رابعا فلأن قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً إلخ قد ذكر على هذا النسق في سبعة مواضع ولا بد من تنسيق تفسيره على نظام واحد فيها مهما أمكن. ومن جملة ذلك ما في قصة نبي الله تعالى لوط عليه السلام وقد ذكر فيها من حال قومه فعلهم الشنيع المعهود ثم إهلاك جميعهم. وما في قصة نبي الله تعالى شعيب عليه السلام وقد ذكر فيها من حال أصحاب الأيكة عملهم المتعلق بالكيل والوزن ثم إهلاك جميعهم من غير تصريح بحيثية كفر كل قوم فلا يناسب فيهما أن يقال: إن في ذلك لآية موجبة لإيمان قريش بأن يقيسوا حال أنفسهم بحال أولئك المهلكين ويجتنبوا تعاطي ما كانوا يتعاطون من المعاصي هذا على الطريق الأول وأما الطريق الثاني ففيه أيضا عدة محذورات. أما أولا وثانيا فلما ذكر أولا وثانيا، وأما ثالثا فلأن كلا من كلتا القصتين ذكر هنا على وجه الإجمال وذكر مفصلا في سورة أخرى وكل منهما ذكر محدث بحسب نزوله فلا وجاهة في أن يقال: وما أكثرهم مؤمنين بك بأن يتدبروا في حكايتك لقصتهم من غير أن تسمعها من أحد بناء على أنهم قد سمعوها منه عليه الصلاة والسلام مفصلة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 90 قبل نزول هذه الآية مع أن كون حكايته صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك من غير أن يسمعه من أحد مما يؤدي إلى إيمانهم قطعا محل تردد، وأما رابعا فلأن آخر هذه القصة قوله تعالى: وَأَنْجَيْنا. ثُمَّ أَغْرَقْنَا وكذا آخر قصة لوط عليه السلام قوله تعالى: فَنَجَّيْناهُ [الشعراء: 170] ثُمَّ دَمَّرْنَا [الشعراء: 172] وأَمْطَرْنا [الشعراء: 173] فالمتبادر أن تكون الإشارة إلى نفس المحكي المشتمل على الأفعال العجيبة الإلهية لا إلى حكايتها. وأما ما قاله في تزييف ما قيل فليس بشيء أيضا لأن نسبة التكذيب إلى كل قوم من الأقوام الذين نسب إليهم إنما هي باعتبار الأكثر كما يرشد إليه قوله تعالى في قصة قوم نوح عليه السلام حكاية عنهم بعد أن قال سبحانه: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 105] قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشعراء: 111] وقوله عز وجل بعد ذلك حكاية عن نوح عليه السلام ما قال في جوابهم وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 114] فيكون ضمير أَكْثَرُهُمْ راجعا إلى القوم غير ملاحظ فيهم ذلك. ومثله كثير في الكلام ويراد بالأكثر في المواضع السبعة جمع موصوفون بزيادة الكثرة سواء كان البعض المؤمن واحدا أو أكثر فلا يرد أنه كيف يعبر عن قوم إبراهيم عليه السلام بعدم إيمان أكثرهم وإنما آمن له لوط عليه السلام فتأمل انتهى، ولا يخفى ما فيه من الغث والسمين. وأنا أختار كما اختار شيخ الإسلام رجوع الضمير إلى قوم نبينا عليه الصلاة والسلام وأول السورة الكريمة وآخرها في الحديث عنهم وتسليته صلّى الله عليه وسلّم عما قالوه في شأن كتابه الأكرم ونهيه صريحا وإشارة عن أن يذهب بنفسه الشريفة عليهم حسرات وكل ذلك يقتضي اقتضاء لا ريب فيه رجوع الضمير إلى قومه عليه الصلاة والسلام ويهون أمر عدم رجوعه إلى الأقرب لفظا ويكون الارتباط على هذا بين الآيات أقوى. وأختار أن الإشارة إلى ما تضمنته القصة وأن المعنى أن فيما تضمنته هذه القصة لآية عظيمة دالة على ما يجب على قومك الإيمان به من شؤونه عز وجل وما كان أكثرهم مؤمنين بذلك وكذا يقال في جميع ما يأتي إن شاء الله تعالى وكل ذلك على نمط ما تقدم. وكذا الكلام في كانَ وما يتعلق بالجملة. والكلام في قوله تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كالكلام فيما تقدم أيضا، ولعل تخريج ما ذكر على هذا الوجه أحسن من تخريج شيخ الإسلام فتأمل والله تعالى أعلم بحقائق ما أنزل من الكلام. وَاتْلُ عَلَيْهِمْ عطف على المضمر العامل في إِذْ نادى إلخ أي اذكر ذلك لقومك واتل عليهم نَبَأَ إِبْراهِيمَ أي خبره العظيم الشأن حسبما أوحى إليك ليتأكد عندك لعدم تأثرهم بما فيه العلم بشدة عنادهم. وتغيير الأسلوب لمزيد الاعتناء بأمر هذه القصة لأن عدم الإيمان بعد وقوفهم على ما تضمنته أقوى دليل على شدة شكيمتهم لما أن إبراهيم عليه السلام جدهم الذي يفتخرون بالانتساب إليه والتأسي به عليه السلام إِذْ قالَ منصوب على الظرفية لنبأ على ما ذهب إليه أبو البقاء أي نبأه وقت قوله لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ أو على المفعولية لأتل على أنه بدل من نبأ على ما يقتضيه كلام الحوفي أي اتل عليهم وقت قوله لهم ما تَعْبُدُونَ على أن المتلو ما قاله عليه السلام لهم في ذلك الوقت. وضمير قَوْمِهِ عائد على إبراهيم، وقيل: عائد على أبيه ليوافق قوله تعالى: إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنعام: 74] ويلزم عليه التفكيك. وسألهم عليه السلام عما يعبدون ليبني على جوابهم أن ما يعبدونه بمعزل عن استحقاق العبادة بالكلية لا للاستعلام إذ ذلك معلوم مشاهد له عليه السلام قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ لم يقتصروا على الجواب الكافي بأن يقولوا أصناما كما في قوله تعالى: ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً [النحل: 30] ويَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 91 قُلِ الْعَفْوَ [البقرة: 219] إلى غير ذلك بل أطنبوا فيه بإظهار الفعل وعطف دوام عكوفهم على أصنامهم مع أنه لم يسأل عنه قصدا إلى إبراز ما في نفوسهم الخبيثة من الابتهاج والافتخار بذلك. وهو على ما في الكشف من الأسلوب الأحمق، والمراد بالظلول الدوام كما في قولهم: لو ظل الظلم هلك الناس. وتكون ظل على هذا تامة. وقد قال بمجيئها كذلك ابن مالك وأنكره بعض النحاة، وقيل: فعل الشيء نهارا فقد كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل فتكون ظل على هذا ناقصة دالة على ثبوت خبرها لاسمها في النهار. واختار بعض الأجلة الأول لتبادر الدوام وكونه أبلغ مناسبا لمقام الابتهاج والافتخار، واختار الزمخشري الثاني لأنه أصل المعنى وهو مناسب للمقام أيضا لأنه يدل على إعلانهم الفعل لافتخارهم به. وعاكِفِينَ على الأول حال وعلى الثاني خبر والجار متعلق به. وإيراد اللام دون على لإفادة معنى زائد كأنهم قالوا: نظل لأجلها مقبلين على عبادتها أو مستديرين حولها. وهذا أيضا على ما قيل من جملة إطنابهم قالَ استئناف مبني على سؤال نشأ من تفصيل جوابهم هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ دخل فعل السماع على غير مسموع، ومذهب الفارسي أنه حينئذ يتعدى إلى اثنين ولا بد أن يكون الثاني مما يدل على صوت فالكاف هنا عنده مفعول أول والمفعول الثاني محذوف والتقدير هل يسمعونكم تدعون وحذف لدلالة قوله تعالى: إِذْ تَدْعُونَ عليه. ومذهب غيره أنه حينئذ متعد إلى واحد، وإذا وقعت بعده جملة ملفوظة أو مقدرة فهي في موضع الحال منه إن كان معرفة وفي موضع الصفة له إن كان نكرة. وجوز فيها البدلية أيضا. وإذا دخل على مسموع تعدى إلى واحد اتفاقا، ويجوز أن يكون ما هنا داخلا على ذلك على أن التقدير هل يسمعون دعاءكم فحذف المضاف لدلالة إِذْ تَدْعُونَ أيضا عليه، وقيل: السماع هنا بمعنى الإجابة كما في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم إني أعوذ بك من دعاء لا يسمع» ومنه قوله عز وجل: إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ [آل عمران: 38] أي هل يجيبونكم وحينئذ لا نزاع في أنه متعد لواحد ولا يحتاج إلى تقدير مضاف. والأولى إبقاؤه على ظاهر معناه فإنه أنسب بالمقام، نعم ربما يقال: إن ما قيل أوفق بقراءة قتادة ويحيى بن يعمر «يسمعونكم» بضم الياء وكسر الميم من أسمع والمفعول الثاني محذوف تقديره الجواب. وإِذْ ظرف لما مضى وجيء بالمضارع لاستحضار الحال الماضية وحكايتها. وأما كون هل تخلص المضارع لاستقبال فلا يضر هنا لأن المعتبر زمان الحكم لا زمان التكلم وهو هنا كذلك لأن السماع بعد الدعاء، وقال أبو حيان: لا بد من التجوز في إِذْ بأن تجعل بمعنى إذا أو التجوز في المضارع بأن يجعل بمعنى الماضي. واعتبار الاستحضار أبلغ في التبكيت وقرىء بإدغام ذال إِذْ في تاء تَدْعُونَ وذلك بقلبها تاء وإدغامها في التاء. أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ بسبب عبادتكم لهم أَوْ يَضُرُّونَ أي يضرونكم بترككم لعبادتهم إذ لا بد للعبادة لا سيما عند كونها على ما وصفتم من المبالغة فيها من جلب نفع أو دفع ضر. وترك المفعول للفاصلة. ويدل عليه ما قبله، وقيل: المراد أو يضرون من أعرض عن عبادتهم كائنا من كان وهو خلاف الظاهر الذي يقتضيه العطف. قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ أضربوا عن أن يكون لهم سمع أو نفع أو ضر اعترافا بما لا سبيل لهم إلى إنكاره واضطروا إلى إظهار أن لا سند لهم سوى التقليد فكأنهم قالوا لا يسمعون ولا ينفعوننا ولا يضرون وإنما وجدنا آباءنا يفعلون مثل فعلنا ويعبدونهم مثل عبادتنا فاقتدينا بهم. وتقديم المفعول المطلق للفاصلة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 92 قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أي أنظرتم فأبصرتم أو تأملتم فعلمتم أي شيء استدمتم على عبادته أو أي شيء تعبدونه أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ والكلام إنكار وتوبيخ يتضمن بطلان آلهتهم وعبادتها وأن عبادتها ضلال قديم لا فائدة في قدمه إلا ظهور بطلانه كما يؤذن بهذا وصف آبائهم بالأقدمين. وقوله تعالى: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي قيل: تعليل لما يفهم من ذلك من إني لا أعبدهم أو لا تصح عبادتهم وقيل: خبر لما كنتم إذا المعنى أفأخبركم وأعلمكم بمضمون هذا. واختار بعض الأجلة أنه بيان وتفسير لحال ما يعبدونه التي لو أحاطوا بها علما لما عبدوه أي فاعلموا أنهم أعداء لعابديهم الذين يحبونهم كحب الله تعالى لما أنهم يتضررون من جهتهم تضرر الرجل من جهة عدوه فإطلاق العدو عليهم من باب التشبيه البليغ. وجوز أن يكون من باب المجاز العقلي بإطلاق وصف السبب على المسبب من حيث إن المغري والحامل على عبادتهم هو الشيطان الذي هو عدو مبين للإنسان والأول أظهر. والداعي للتأويل أن الأصنام لكونها جمادات لا تصلح للعداوة. وما قيل: إن الكلام على القلب والأصل فإني عدو لهم ليس بشيء. وقال النسفي: العدو اسم للمعادي والمعادي جميعا فلا يحتاج إلى تأويل ويكون كقوله: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ [الأنبياء: 57] وصور الأمر في نفسه تعريضا لهم كما في قوله تعالى: وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 93 وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس: 22] ليكون أبلغ في النصح وأدعى للقبول. ومن هنا استعمل الأكابر التعريض في النصح. ومنه ما يحكى عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أن رجلا واجهه بشيء فقال: لو كنت بحيث أنت لاحتجت إلى أدب. وسمع رجل ناسا يتحدثون في الحجر فقال: ما هو بيتي ولا بيتكم. وضمير (إنهم) عائد على ما وجمع مراعاة لمعناها وإفراد العدو مع أنه خبر عن الجمع إما لأنه مصدر في الأصل فيطلق على الواحد المذكر وغيره أو لاتحاد الكل في معنى العداوة أو لأن الكلام بتقدير فإن كلا منهم أو لأنه بمعنى النسب أي ذو كذا فيستوي فيه الواحد وغيره كما قيل. وقوله سبحانه: إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ استثناء منقطع من ضمير «إنهم» عند جماعة منهم الفراء واختاره الزمخشري أي لكن رب العالمين ليس كذلك فإنه جل وعلا ولي من عبده في الدنيا والآخرة لا يزال يتفضل عليه بالمنافع. وقال الزجاج: هو استثناء متصل من ذلك الضمير العائد على ما تَعْبُدُونَ ويعتبر شموله لله عز وجل وفي آبائهم الأقدمين من عبد الله جل وعلا من غير شك أو يقال: إن المخاطبين كانوا مشركين وهم يعبدون الله تعالى والأصنام. وتخصيص الأصنام هنا بالذكر للرد لا لأن عبادتهم مقصورة عليها ولو سلّم أنه لذلك فهو باعتبار دوام العكوف وذلك لا ينافي عبادتهم إياه عز وجل أحيانا، وقال الجرجاني: إن الاستثناء من ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ وإِلَّا بمعنى دون وسوى وفي الآية تقديم وتأخير والأصل أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون إلا رب العالمين أي دون رب العالمين فإنهم عدو لي ولا يخفى ما فيه الَّذِي خَلَقَنِي صفة لرب العالمين. ووصفه تعالى بذلك وبما عطف عليه مع اندراج الكل تحت ربوبيته تعالى للعالمين زيادة في الإيضاح في مقام الإرشاد، وقيل: تصريحا بالنعم الخاصة به عليه السلام وتفصيلا لها لكونها أدخل في اقتضاء تخصيص العبادة به تعالى وقصر الالتجاء في جلب المنافع الدينية والدنيوية ودفع المضار العاجلة والآجلة عليه تعالى. فَهُوَ يَهْدِينِ عطف على الصلة أي فهو يهديني وحده جل شأنه إلى كل ما يهمني ويصلحني من أمور المعاش والمعاد هداية متصلة بحين الخلق ونفخ الروح متجددة على الاستمرار كما ينبىء عنه الفاء وصيغة المضارع فإنه تعالى يهدي كل ما خلقه لما خلق له هداية متدرجة من مبتدأ إيجاده إلى منتهى أجله يتمكن بها من جلب منافعه ودفع مضاره إما طبعا وإما اختيارا مبدؤها بالنسبة إلى الإنسان هداية الجنين لامتصاص دم الطمث في المشهور ومنتهاها الهداية إلى طريق الجنة والتنعم بنعيمها المقيم، وجوز الحوفي وغيره كون الموصول مبتدأ وجملة هو يَهْدِينِ خبره ودخلت الفاء في خبره لتضمنه معنى الشرط نحو الذي يأتيني فله درهم. وتعقبه أبو حيان بأن الفاء إنما يؤتى بها في خبر الموصول لتضمنه معنى الشرط إذا كان عاما وهنا لا يتخيل فيه العموم فليس ما نحن فيه نظير المثال. وأيضا الفعل الذي هو خلق مما لا يمكن فيه تجدد بالنسبة إلى إبراهيم عليه السلام فلعل ذلك على مذهب الأخفش من جواز زيادة الفاء في الخبر مطلقا نحو زيد فاضربه، وأجيب بأن اشتراط العموم غير مسلم كما فصله الرضي وإنما هو أغلبي. وبأن مطلق الخلق مما يمكن فيه التجدد وهو ممكن الإرادة وإن ظهر في صورة المخصوص وتسبب الخلق للهداية بمقتضى الحكمة، وقيل: إنه سبب للإخبار بها لتحققها وليس بشيء ويلزم على الإعراب المذكور أن يكون الموصول في قوله سبحانه: وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ مبتدأ محذوف الخبر لدلالة ما قبله عليه وكذا اللذان بعده. ولا يخفى ما في ذلك لفظا ومعنى فاللائق بجزالة التنزيل الإعراب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 94 الأول وعليه يكون الموصول عطفا على الموصول الأول، وإنما كرر الموصول في المواضع الثلاثة مع كفاية عطف ما في حيز الصلة من الجمل الست على صلة الموصول الأول للإيذان بأن كل واحدة من تلك الصلات نعت جليل له تعالى مستقل في استيجاب الحكم حقيق بأن تجري عليه عز وجل بحيالها ولا تجعل من روادف غيرها، والظاهر أن المراد إطعام الطعام المعروف وسقي الشراب المعهود وجيء بهو هنا دون الخلق لشيوع إسناد الإطعام والسقي إلى غير عز وجل بخلاف الخلق وعلى هذا القياس فيما جيء فيه بهو وما ترك مما يأتي إن شاء الله تعالى. وعن أبي بكر الوراق أن المعنى يطعمني بلا طعام ويسقيني بلا شراب كما جاء «إني أبيت يطعمني ربي ويسقين» وهو مشرب صوفي. وأتى بهذين الصفتين بعد ما تقدم لما أن دوام الحياة وبقاء نظام خلق الإنسان بالغذاء والشراب ما سلك فيهما مسلك العدل وهو أشد احتياجا إليهما منه إلى غيرهما ألا ترى أن أهل النار وهم في النار لم يشغلهم ما هم فيه من العذاب عن طلبهما فقالوا: «أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله» . وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ عطف على «يطعمني ويسقين» نظم معهما في سلك الصلة لموصول واحد لما أن الصحة والمرض من متفرعات الأكل والشرب غالبا: فإن الداء أكثر ما تراه ... يكون من الطعام أو الشراب وقالت الحكماء: لو قيل لأكثر الموتى ما سبب آجالكم لقالوا: التخم ونسبة المرض الذي هو نقمة إلى نفسه والشفاء الذي هو نعمة إلى الله جل شأنه لمراعاة حسن الأدب كما قال الخضر عليه السلام: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها [الكهف: 79] وقال: فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما [الكهف: 82] ولا يرد إسناده الإماتة وهي أشد من المرض إليه عز وجل في قوله: وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ لإمكان الفرق بأن الموت قد علم واشتهر أنه قضاء محتوم من الله عز وجل على سائر البشر وحكم عام لا يخص ولا كذلك المرض فكم من معافى منه إلى أن يبغته الموت فالتأسي بعموم الموت يسقط أثر كونه نقمة فيسوغ الأدب نسبته إليه تعالى. وأما المرض فلما كان يخص به بعض البشر دون بعض كان نقمة محققة فاقتضى العلو في الأدب أن ينسبه الإنسان إلى نفسه باعتبار السبب الذي لا يخلو منه. ويؤيد ذلك أن كل ما ذكر مع غير المرض أخبر عن وقوعه بتا وجزما لأنه أمر لا بد منه وأما المرض فلما كان قد يتفق وقد لا أورده مقرونا بشرط إذا فقال: وَإِذا مَرِضْتُ وكان يمكنه أن يقول: والذي أمرض فيشفيني كما قال في غيره فما عدل عن المطابقة والمجانسة المأثورة إلا لذلك كذا قاله ابن المنير. وقال الزمخشري: إنما قال: مرضت دون أمرضني لأن كثيرا من أسباب المرض يحدث بتفريط من الإنسان في مطاعمه ومشاربه وغير ذلك وكأنه إنما عدل في التعليل عن حسن الأدب لما رأى أنه عليه السلام أضاف الإماتة إليه عز وجل وهي أشد من المرض ولم يخطر له الفرق بما مر أو نحوه وغفل عن أن المعنى الذي أبداه في المرض ينكسر بالموت أيضا فإن المرض كما يكون بسبب تفريط الإنسان في المطعم وغيره كذلك الموت الناشئ عن سبب هذا المرض الذي يكون بتفريط الإنسان وقد أضاف عليه السلام الإماتة مطلقا إليه عز شأنه. وقال بعض الأجلة بعد التعليل بحسن الأدب في وجه إسناد الإماتة إليه تعالى: إنها حيث كانت معظم خصائصه عز وجل كالإحياء بدءا وإعادة وقد نيطت أمور الآخرة جميعا بها وبما بعدها من البعث نظمهما في سمط واحد في قوله: وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ على أن الموت لكونه ذريعة إلى نيله عليه السلام للحياة الأبدية بمعزل من أن يكون غير مطبوع عنده عليه السلام انتهى، وأولى من هذه العلاوة ما قيل: إن الموت لأهل الكمال وصلة إلى نيل المحاب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 95 الأبدية التي يستحقر دونها الحياة الدنيوية. وفيه تخليص العاصي من اكتساب المعاصي، ثم إن حمل المرض والشفاء على ما هو الظاهر منهما هو الذي ذهب إليه المفسرون. وعن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أن المعنى وإذا مرضت بالذنوب فهو يشفيني بالتوبة ولعله لا يصح وإن صح فهو من باب الإشارة لا العبارة، وثُمَّ في قوله: ثُمَّ يُحْيِينِ للتراخي الزماني لأن المراد بالإحياء الإحياء للبعث وهو متراخ عن الإماتة في الزمان في نفس الأمر وإن كان كل آت قريب، وأثبت ابن أبي إسحاق ياء المتكلم في يَهْدِيَنِي وما بعده وهي رواية عن نافع وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ استعظم عليه السلام ما عسى يندر منه من فعل خلاف الأولى حتى سماه خطيئة. وقيل: أراد بها قوله: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات: 89] وقوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا [الأنبياء: 63] ، وقوله لسارة هي أختي، ويدل على أنه عليه السلام عدها من الخطايا ما ورد في حديث الشفاعة من امتناعه عليه السلام من أن يشفع حياء من الله عز وجل لصدور ذلك عنه. وفيه أنه وإن صح عدها من الخطايا بالنظر إليه عليه السلام لما قالوا: إن حسنات الأبرار سيئات المقربين إلا أنه لا يصح إرادتها هنا لما أنها إنما صدرت عنه عليه السلام بعد هذه المقاولة الجارية بينه وبين قومه، أما الثالثة فظاهرة لوقوعها بعد مهاجرته عليه السلام إلى الشام وأما الأوليان فلأنهما وقعتا مكتنفتين بكسر الأصنام، ومن البين أن جريان هذه المقالات فيما بينهم كان في مبادئ الأمر، وهذا أولى مما قيل: إنها من المعاريض وهي لكونها في صورة الكذب يمتنع لها من تصدر عنه من الشفاعة ولكونها ليست كذبا حقيقة لا تفتقر إلى الاستغفار فلا يصح إرادتها هنا لأن ذلك الامتناع ليس إلا لعده إياها من الخطايا ومتى عدت منها افتقرت إلى الاستغفار، وقيل: أراد بها ما صدر عنه عند رؤية الكوكب والقمر والشمس من قوله: هذا رَبِّي [الأنعام: 76] وكان ذلك قبل هذه المقاولة كما لا يخفى، وقد تقدم أن ذلك ليس من الخطيئة في شيء، وقيل: أراد بها ما عسى يندر منه من الصغائر وهو قريب مما تقدم، وقيل: أراد بها خطيئة من يؤمن به عليه السلام كما قيل نحوه في قوله تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 2] ، وهو كما ترى والطمع على ظاهره ولم يجزم عليه السلام لعلمه أن لا وجوب على الله عز وجل. وعن الحسن أن المراد به اليقين وليس بذاك. والظرفان متعلقان بيغفر. والإتيان بالأول للإشارة إلى أن نفع مغفرته تعالى إنما يعود إليه عليه السلام. وتعليق المغفرة بيوم الدين مع أن الخطيئة إنما تغفر في الدنيا لأن أثرها يتبين يومئذ ولأن في ذلك تهويلا لذلك اليوم. وإشارة إلى وقوع الجزاء فيه إن لم تغفر. وفي هذه الجملة من التلطف بأبيه وقومه في الدعوة إلى الإيمان ما فيها. وقرأ الحسن «خطاياي» على الجمع رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً لما ذكر لهم من صفاته عز وجل مما يدل على كمال لطفه تعالى به ما ذكر حمله ذلك على مناجاته تعالى ودعائه لربط العتيد وجلب المزيد. والمراد بالحكم على ما اختاره الإمام الحكمة التي هي كمال القوة العلمية بأن يكون عالما بالخير لأجل العمل به. وقيل: الأولى أن يفسر بكمال العلم المتعلق بالذات والصفات وسائر شؤونه عز وجل وأحكامه التي يتعبد بها. وقيل: هي النبوة ورد بأنها كانت حاصلة له عليه السلام. فالمطلوب إما عين الحاصل وهو محال ضرورة امتناع تحصيل الحاصل أو غيره وهو محال أيضا لأن الشخص الواحد لا يكون نبيا مرتين. وأجيب بمنع كونها حاصلة وقت الدعاء سلمنا ذلك إلا أنه لا محذور لجواز أن يكون المراد طلب كمالها ويكون بمزيد القرب والوقوف على الأسرار الإلهية والأنبياء عليهم السلام متفاوتون في ذلك. وجوز أن يكون المراد طلب الثبات ولا يجب على الله تعالى شيء. والمراد بقوله: وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ طلب كمال القوة العملية بأن يكون موفقا لأعمال ترشحه للانتظام في زمرة الكاملين الراسخين في الصلاح المنزهين عن كبائر الذنوب وصغائرها. وقدم الدعاء الأول على الثاني لأن القوة العلمية مقدمة على القوة العملية لأنه يمكن أن يعلم الحق وإن لم يعمل به وعكسه غير الجزء: 10 ¦ الصفحة: 96 ممكن، ولأن العلم صفة الروح والعمل صفة البدن فكما أن الروح أشرف من البدن كذلك العلم أشرف من العمل، وقيل: المراد بالحكم الحكمة التي هي الكمال في العلم والعمل. والمراد بقوله: وَأَلْحِقْنِي إلخ طلب الكمال في العمل، وذكره بعد ذلك تخصيص بعد تعميم اعتناء بالعمل من حيث إنه النتيجة والثمرة للعلم. وقيل: المراد بالأول ما يتعلق بالمعاش وبالثاني ما يتعلق بالمعاد. وقيل: المراد بالحكم رياسة الخلق وبالإلحاق بالصالحين التوفيق للعدل فيما بينهم مع القيام بحقوقه تعالى. وقيل: المراد بهذا الجمع بينه عليه السلام وبين الصالحين في الجنة، وأنت تعلم أنه لا يحسن بعد هذا الدعاء طلبه أن يكون من ورثة جنة النعيم والأولى عندي أن يفسر الحكم بالحكمة بمعنى الكمال في العلم والعمل والإلحاق بالصالحين بجعل منزلته كمنزلتهم عنده عز وجل والمراد بطلب ذلك أن يكون علمه وعمله مقبولين إذ ما لم يقبلا لا يلحق صاحبهما بالصالحين ولا تجعل منزلته كمنزلتهم. وكأنه لذلك عدل عن قول: رب هب لي حكما وصلاحا أو رب هب لي حكما واجعلني من الصالحين إلى ما في النظم الكريم فتأمل ولا تغفل وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ أي اجعل لنفعي ذكرا صادقا في جميع الأمر إلى يوم القيامة، وحاصله خلد صيتي وذكري الجميل في الدنيا وذلك بتوفيقه للآثار الحسنة والسنن المرضية لديه تعالى المستحسنة التي يقتدي بها الآخرون ويذكرونه بسببها بالخير وهم صادقون. فاللسان مجاز عن الذكر بعلاقة السببية واللام للنفع ومنه يستفاد الوصف بالجميل، وتعريف الْآخِرِينَ للاستغراق والكلام مستلزم لطلب التوفيق للآثار الحسنة التي أشرنا إليها وكأنه المقصود بالطلب على أبلغ وجه ولا بأس بأن يريد تخليد ذكره بالجميل ومدحه بما كان عليه عليه السلام في زمانه ولكون الثناء الحسن مما يدل على محبة الله تعالى ورضائه كما ورد في الحديث يحسن طلبه من الأكابر من هذه الجهة والقصد كل القصد هو الرضا. ويحتمل أن يراد بالآخرين آخر أمة يبعث فيها نبي وأنه عليه السلام طلب الصيت الحسن والذكر الجميل فيهم ببعثة نبي فيهم يجدد أصل دينه ويدعو الناس إلى ما كان يدعوهم إليه من التوحيد معلما لهم أن ذلك ملة إبراهيم عليه السلام فكأنه طلب بعثة نبي كذلك في آخر الزمان لا تنسخ شريعته إلى يوم القيامة وليس ذلك إلا نبينا محمدا صلّى الله عليه وسلّم وقد طلب بعثته عليهما الصلاة والسلام بما هو أصرح مما ذكر أعني قوله: وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ [البقرة: 129] إلخ، ولذا قال صلّى الله تعالى عليه وسلم: «أنا دعوة إبراهيم عليه السلام» . وقيل إذا أريد ذلك فلا بد من تقدير مضاف في كلامه عليه السلام أي اجعل لي صاحب لسان صدق في الآخرين أو جعل اللسان مجازا عن الداعي بإطلاق الجزء على الكل لأن الدعوة باللسان فكأنه قال: اجعل لي داعيا إلى الحق صادقا في الآخرين، ولا يخفى أن فيما ذكرناه غني عن ذلك كله، وفي تعليقات شيخ مشايخنا العلامة صبغة الله الحيدري طاب ثراه على تفسير البيضاوي في هذه الآية كلام ناشىء من قلة إمعان النظر فلا تغتر به. واستدل الإمام مالك بهذه الآية على أنه لا بأس أن يحب الرجل أن يثني عليه صالحا، وفائدة ذلك بعد الموت على ما قال بعض الأجلة انصراف الهمم إلى ما به يحصل له عند الله تعالى زلفى وأنه قد يصير سببا لاكتساب المثنى أو غيره نحو ما أثنى به فيثاب فيشاركه فيه المثنى عليه كما هو مقتضى «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» ولا يخفى عليك أن الأمور بمقاصدها وَاجْعَلْنِي في الآخرة مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ قد مر معنى وراثة الجنة فتذكر. واستدل بدعائه عليه السلام بهذا بعد ما تقدم من الأدعية على أن العمل الصالح لا يوجب دخول الجنة وكذا كون العبد ذا منزلة عند الله عز وجل وإلا لاستغنى عليه السلام بطلب الكمال في العلم والعمل وكذا بطلب الإلحاق بالصالحين ذوي الزلفى عنده تعالى عن طلب ذلك، وأنت تعلم أنه تحسن الإطالة في مقام الجزء: 10 ¦ الصفحة: 97 الابتهال ولا يستغني بملزوم عن لازم في المقال فالأولى الاستدلال على ذلك بغير ما ذكر وهو كثير مشتهر، هذا وفي بعض الآثار ما يدل على مزيد فضل هذه الأدعية. أخرج ابن أبي الدنيا في الذكر وابن مردويه من طريق الحسن عن سمرة بن جندب قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا توضأ العبد لصلاة مكتوبة فأسبغ الوضوء ثم خرج من باب داره يريد المسجد فقال حين يخرج بسم الله الذي خلقني فهو يهدين هداه الله تعالى للصواب - ولفظ ابن مردويه- لصواب الأعمال والذي هو يطعمني ويسقين أطعمه الله تعالى من طعام الجنة وسقاه من شراب الجنة وإذا مرضت فهو يشفين شفاه الله تعالى وجعل مرضه كفارة لذنوبه والذي يميتني ثم يحيين أحياه الله تعالى حياة السعداء وأماته ميتة الشهداء والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين غفر الله تعالى له خطاياه كلها ولو كانت مثل زبد البحر رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين وهب الله تعالى له حكما وألحقه بصالح من مضى وصالح من بقي واجعل لي لسان صدق في الآخرين كتب في ورقة بيضاء أن فلان بن فلان من الصادقين ثم يوفقه الله تعالى بعد ذلك للصدق واجعلني من ورثة جنة النعيم جعل الله تعالى له القصور والمنازل في الجنة» وكان الحسن رضي الله تعالى عنه يزيد فيه واغفر لوالدي كما ربياني صغيرا وكأنه أخذ من قوله: وَاغْفِرْ لِأَبِي قال ابن عباس كما أخرج عنه ابن أبي حاتم أي امنن عليه بتوبة يستحق بها مغفرتك، وحاصله وفقه للإيمان كما يلوح به تعليله بقوله: إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ وهذا ظاهر إذا كان هذا الدعاء قبل موته وإن كان بعد الموت فالدعاء بالمغفرة على ظاهره وجاز الدعاء بها لمشرك والله تعالى لا يغفر أن يشرك به لأنه لم يوح إليه عليه السلام بذلك إذ ذاك والعقل لا يحكم بالامتناع، وفي شرح مسلم للنووي (1) أن كونه عز وجل لا يغفر الشرك مخصوص بهذه الأمة وكان قبلهم قد يغفر وفيه بحث، وقيل: لأنه كان يخفي الإيمان تقية من نمروذ ولذلك وعده بالاستغفار فلما تبين عداوته للإيمان في الدنيا بالوحي أو في الآخرة تبرأ منه. وقوله على هذا: مِنَ الضَّالِّينَ بناء على ما ظهر لغيره من حاله أو معناه من الضالين في كتم إيمانه وعدم اعترافه بلسانه تقية من نمروذ، والكلام في هذا المقام طويل وقد تقدم شيء منه فتذكر وَلا تَحْزَنِي بتعذيب أبي أو ببعثه في عداد الضالين بعدم ترفيقه للإيمان أو بمعاتبتي على ما فرطت أو بنقص رتبتي عن بعض الوراث أو بتعذيبي. وحيث كانت العاقبة مجهولة وتعذيب من لا ذنب له جائز عقلا صح هذا الطلب منه عليه السلام، وقيل: يجوز أن يكون ذلك تعليما لغيره وهو من الخزي بمعنى الهوان أو من الخزاية بفتح الخاء بمعنى الحياء يَوْمَ يُبْعَثُونَ أي الناس كافة، والإضمار وإن لم يسبق ذكرهم لما في عموم البعث من الشهرة الفاشية المغنية عنه، وقيل: الضمير للضالين والكلام من تتمة الدعاء لأبيه كأنه قال: لا تخزني يوم يبعث الضالون وأبي فيهم، ولا يخفى أنه يجوز على الأول أن يكون من تتمة الدعاء لأبيه أيضا، واستظهر ذلك لأن الفصل بالدعاء لأبيه بين الدعوات لنفسه خلاف الظاهر، وعلى ما ذكر يكون قد دعا لأشد الناس التصاقا به بعد أن فرغ من الدعاء لنفسه. يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ بدل من يَوْمَ يُبْعَثُونَ جيء به تأكيدا لتهويل ذلك اليوم وتمهيدا لما يعقبه من الاستثناء وهو إلى قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً إلخ من كلام إبراهيم عليه السلام، وابن عطية بعد أن أعرب الظرف بدلا من الظرف الأول قال: إن هذه الآيات عندي منقطعة عن كلام إبراهيم عليه السلام وهي أخبار من الله عز وجل تتعلق بصفة ذلك اليوم الذي طلب إبراهيم أن لا يخزيه الله تعالى فيه، ولا يخفى عدم صحة ذلك مع البدلية،   (1) نقله الشهاب اهـ منه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 98 والمراد بالنون معناه المتبادر، وقيل: المراد بهم جميع الأعوان، وقيل: المعنى يوم لا ينفع شيء من محاسن الدنيا وزينتها، واقتصر على ذكر المال والبنين لأنهما معظم المحاسن والزينة، وقوله تعالى: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ استثناء من أعم المفاعيل، ومَنْ محل نصب أي يوم لا ينفع مال وإن كان مصروفا في الدنيا إلى وجوه البر والخيرات ولا بنون وإن كانوا صلحاء مستأهلين للشفاعة أحدا إلا من أتى الله بقلب سليم عن مرض الكفر والنفاق ضرورة اشتراط نفع كل منهما بالإيمان، وفي هذا تأييد لكون استغفاره عليه السلام لأبيه طلبا لهدايته إلى الإيمان لاستحالة طلب مغفرته بعد موته كافرا مع علمه عليه السلام بعدم نفعه لأنه من باب الشفاعة، وقيل: هو استثناء من فاعل يَنْفَعُ ومن في محل رفع بدل منه والكلام على تقدير مضاف إلى من أي لا ينفع مال ولا بنون إلا مال وبنون من أتى الله بقلب سليم حيث أنفق ماله في سبيل البر وأرشد بنيه إلى الحق وحثهم على الخير وقصد بهم أن يكونوا عبادا لله تعالى مطيعين شفعاء له يوم القيامة، وقيل: هو استثناء مما دل عليه المال والبنون دلالة الخاص على العام أعني مطلق الغنى والكلام بتقدير مضاف أيضا كأنه قيل: يوم لا ينفع غنى إلا غنى من أتى الله بقلب سليم وغناه سلامة قلبه وهو من الغنى الديني وقد أشير إليه في بعض الأخبار. أخرج أحمد والترمذي: وابن ماجة عن ثوبان قال: لما نزلت وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ [التوبة: 34] الآية قال بعض أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لو علمنا أي المال خير اتخذناه فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أفضله لسان ذاكر وقلب شاكر وزوجة صالحة تعين المؤمن على إيمانه» وقيل: هو استثناء منقطع من مالٌ والكلام أيضا على تقدير مضاف أي لا ينفع مال ولا بنون إلا حال من أتى الله بقلب سليم، والمراد بحاله سلامة قلبه، قال الزمخشري: ولا بد من تقدير المضاف ولو لم يقدر لم يحصل للاستثناء معنى، ومنع ذلك أبو حيان بأنه لو قدر مثلا لكن من أتى الله بقلب سليم يسلم أو ينتفع يستقيم المعنى. وأجاب عنه في الكشف بأن المراد أنه على طريق الاستثناء من مال لا يتحصل المعنى بدون تقدير المضاف، وما ذكره المانع استدراك من مجموع الجملة إلى جملة أخرى وليس من المبحث في شيء، ولما لم يكن هذا مناسبا للمقام جعله الزمخشري مفروغا عنه فلم يلم عليه بوجه، وقد جوز اتصال الاستثناء بتقدير الحال على جعل الكلام من باب: تحية بينهم ضرب وجيع ومثاله أن يقال: هل لزيد مال وبنون فقال ماله وبنوه سلامة قلبه تريد نفي المال والبنين عنه وإثبات سلامة القلب بدلا عن ذلك، هذا وكون المراد من القلب السليم القلب السليم عن مرض الكفر والنفاق هو المأثور عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن سيرين وغيرهم، وقال الإمام: هو الخالي عن العقائد الفاسدة والميل إلى شهوات الدنيا ولذاتها ويتبع ذلك الأعمال الصالحات إذ من علامة سلامة القلب تأثيرها في الجوارح. وقال سفيان: هو الذي ليس فيه غير الله عز وجل، وقال الجنيد قدس سره: هو اللديغ من خشية الله تعالى القلق المنزعج من مخافة القطيعة وشاع إطلاق السليم في لسان العرب على اللديغ، وقيل: هو الذي سلّم من الشرك المعاصي وسلّم نفسه لحكم الله تعالى وسالم أولياءه وحارب أعداءه وأسلم حيث نظر فعرف واستسلم وانقاد لله تعالى وأذعن لعبادته سبحانه، والأنسب بالمقام المعنى المأثور وما ذكر من تأويلات الصوفية، وقال في الكشاف فيما نقل عن الجنيد قدس سره وما بعده: إنه من بدع التفاسير وصدقه أبو حيان بذلك في شأن الأول. وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ عطف على لا يَنْفَعُ وصيغة الماضي فيه وفيما بعده من الجمل المنتظمة معه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 99 في سلك العطف للدلالة على تحقق الوقوع وتقرره كما أن صيغة المضارع في المعطوف عليه للدلالة على الاستمرار وهو متوجه إلى النفع فيدل الكلام على استمرار انتفاء النفع واستمراره حسبما يقتضيه مقام التهويل أي قربت الجنة للمتقين عن الكفر، وقيل: عنه وعن سائر المعاصي بحيث يشاهدونها من الموقف ويقفون على ما فيها من فنون المحاسن فيبتهجون بأنهم المحشرون إليها. وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ الضالين عن طريق الحق وهو التقوى والإيمان أي جعلت بارزة لهم بحيث يرونها مع ما فيها من أنواع الأحوال الهائلة ويتحسرون على أنهم المسوقون إليها، وفي اختلاف الفعلين على ما ذكره بعض المحققين ترجيح لجانب الوعد لأن التعبير بالإزلاف وهو غاية التقريب يشير إلى قرب الدخول وتحققه ولذا قدم لسبق رحمته تعالى بخلاف الإبراز وهو الإراءة ولو من بعد فإنه مطمع في النجاة كما قيل من العمود إلى العمود فرج، وقال ابن كمال: في اختلاف الفعلين دلالة على أن أرض الحشر قريبة من الجحيم، وحاصله أن الجنة بعيدة من أرض المحشر بعدا مكانيا والنار قريبة منها قربا مكانيا فلذا سند الإزلاف أي التقريب إلى الجنة دون الجحيم، قيل: ولعله مبني على أن الجنة في السماء وأن النار تحت الأرض وأن تبديل الأرض يوم القيامة بمدها وإذهاب كريتها إذ حينئذ يظهر أمر البعد والقرب لكن لا يخفى أن كون الجنة في السماء مما يعتقده أهل السنة وليس في ذلك خلاف بينهم يعتد به وأما كون النار تحت الأرض ففيه توقف، قال الجلال السيوطي في إتمام الدراية: نعتقد أن الجنة في السماء ونقف عن النار ونقول: محلها حيث لا يعلمه إلا الله تعالى فلم يثبت عندي حديث أعتمده في ذلك، وقيل تحت الأرض انتهى، وكون تبديل الأرض بمدها وإذهاب كريتها قول لبعضهم، واختار الإمام القرطبي بعد أن نقل في التذكرة أحاديث كثيرة أن تبديل الأرض بمعنى أن الله سبحانه يخلق أرضا أخرى بيضاء من فضة لم يسفك عليها دم حرام ولا جرى فيها ظلم قط، والأولى أن يقال في بعد الجنة وقرب النار من أرض المحشر: إن الوصول إلى الجنة بالعبور على الصراط وهو منصوب على متن جهنم كما نطقت به الأخبار فالوصول إلى جهنم أولا وإلى الجنة آخرا بواسطة العبور وهو ظاهر في القرب والبعد، ثم إن ظاهر الآية يقتضي أن الجنة تنقل عن مكانها اليوم يوم القيامة إذ التقريب يستدعي النقل وليس في الأحاديث على ما نعلم ما يدل على ذلك نعم جاء فيها ما يدل على نقل النار. ففي التذكرة أخرج مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: «قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم: يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك» ، والظاهر أن معنى يؤتى بها يجاء بها من المحل الذي خلقها الله تعالى فيه وقد صرح بذلك في التذكرة، وقال أبو بكر الرازي في أسئلته فإن قيل: قال الله تعالى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ أي قربت والجنة لا تنتقل عن مكانها ولا تحول قلنا: معناه وأزلفت المتقون إلى الجنة وهذا كما يقال الحاج إذا دنوا إلى مكة قربت مكة منا، وقيل: معناه أنها كانت محجوبة عنهم فلما رفعت الحجب بينها وبينهم كان ذلك تقريبا انتهى، ويرد على الأخير أنه يمكن أن يقال مثله في الجحيم وحينئذ يسأل عن وجه اختلاف الفعلين. ويرد على القول بأن الجنة لا تنتقل عن مكانها أنه خلاف ظاهر الآية ولا يلزم لصحة القول به نقل حديث يدل على نقلها يومئذ فلا مانع من القول به وتفويض الكيفية إلى علم من لا يعجزه شيء وهو بكل شيء عليم وإذا أريد التأويل فليكن ذلك بحمل التقريب على التقريب بحسب الرؤية وإن لم يكن هناك نقل فقد يرى الشيء قريبا وإن كان في نفس الأمر في غاية البعد كما يشاهد ذلك في النجوم، وقد يقرب البعيد في الرؤية بواسطة المناظر والآلات الموضوعة لذلك وقد ينعكس الحال بواسطتها أيضا فيرى القريب بعيدا ومتى جاز وقوع ذلك بواسطة الآلات في هذه النشأة جاز أن يقع في النشأة الأخرى بما لا يعلمه إلا اللطيف الخبير فتأمل والله تعالى أعلم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 100 وقرأ الأعمش «فبرزت» بالفاء، وقرأ مالك بن دينار «وبرزت» بالفتح والتخفيف «والجحيم» بالرفع على الفاعلية وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ في الدنيا تَعْبُدُونَ تستمرون على عبادته مِنْ دُونِ اللَّهِ أي أين آلهتكم الذين كنتم تزعمون أنهم شفعاؤكم في هذا الموقف هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ بدفع ما تشاهدون من الجحيم وما فيها من العذاب أَوْ يَنْتَصِرُونَ بدفع ذلك عن أنفسهم، وهذا سؤال تقريع لا يتوقع له جواب ولذلك قيل: فَكُبْكِبُوا فِيها أي ألقوا في الجحيم على وجوههم مرة بعد أخرى إلى أن يستقروا في قعرها فالكبكبة تكرير الكب وهو مما ضوعف فيه الفاء كما قال الزجاج وجمهور البصريين، وذهب الكوفيون إلى أن الثالث بدل من مثل الثاني فأصل كبكب عندهم كبب فأبدل من الباء الثانية كاف وضمير الجمع لما يعبدون من دون الله وهم الأصنام وأكد بالضمير المنفصل أعني هُمْ وكلا الضميرين للعقلاء واستعملا في الأصنام تهكما أو بناء على إعطائها الفهم والنطق أي كبكب فيها الأصنام وَالْغاوُونَ الذين عدوها. والتعبير عنهم بهذا العنوان دون العابدون للتسجيل عليهم بوصف الغواية، وفي تأخير ذكرهم عن ذكر آلهتهم رمز إلى أنهم يؤخرون في الكبكبة عنها ليشاهدوا سوء حالها فينقطع رجاؤهم قبل دخول الجحيم. وعن السدي أن ضمير (كبكبوا) ومؤكده لمشركي العرب والغاوون سائر المشركين وقيل: الضمير للمشركين مطلقا ويراد بهم التبعة والغاوون هم القادة المتبعون، وقيل: الضمير لمشركي الإنس مطلقا والْغاوُونَ الشياطين والكل كما ترى ويبعد الأخير. قوله تعالى: وَجُنُودُ إِبْلِيسَ فإن الظاهر أن المراد منه الشياطين وإنه عطف على ما قبله والعطف يقتضي المغايرة بالذات في الأغلب ولا حاجة إلى تخريجه على الأقل وجعله من باب: إلى الملك الندب وابن الهمام وقيل: المراد بجنود إبليس متبعوه من عصاة الثقلين، واختار بعض الأجلة الأول وادعى أنه الوجه لأن السياق والسباق في بيان سوء حال المشركين في الجحيم وقد قال ذلك إبراهيم عليه السلام لقومه المشركين فلا وجاهة لذكر حال قوم آخرين في هذا الحال بل لا وجود لهم في القصة وذكر الشياطين مع المشركين لكونهم المسولين لهم عبادة الأصنام، ولا يخفى أن للتعميم وجها أيضا من حيث إنّ فيه مزيد تهويل لذلك اليوم، وقوله تعالى: أَجْمَعُونَ تأكيد للضمير وما عطف عليه. وقوله سبحانه: قالُوا إلخ استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ عما قبله كأنه لما قيل كبكب الآلهة والغاوون عبدتها والشياطين الداعون إليها قيل: فما وقع؟ فقيل: قالوا أي العبدة الغاوون وَهُمْ أي الغاوون فِيها يَخْتَصِمُونَ أي يخاصمون من معهم من الأصنام والشياطين، والجملة في موضع الحال، والمراد قالوا معترفين بخطئهم وانهماكهم في الضلالة متحسرين معيرين لأنفسهم والحال أنهم بصدد مخاصمة من معهم مخاطبين لآلهتهم حيث يجعلها الله تعالى أهلا للخطاب تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِنْ مخففة من المثقلة واسمها على ما قيل ضمير الشأن محذوف واللام فارقة بينها وبين النافية كما ذهب إليه البصريون أي إنه أي الشأن كنا في ضلال مبين، وذهب الكوفيون إلى أن أن نافية واللام بمعنى إلا أي ما كنا إلا في ضلال واضح لا خفاء فيه، ووصفهم له بالوضوح للمبالغة في إظهار ندمهم وتحسرهم وبيان خطئهم في رأيهم مع وضوح الحق كما ينبىء عنه تصديرهم قسمهم بحرف التاء المشعرة بالتعجب على ما قيل. وقوله سبحانه: إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ ظرف لكونهم في ضلال مبين، وقيل: لمحذوف دل عليه الكلام أي ضللنا، وقيل: للضلال المذكور وإن كان فيه ضعف صناعي من حيث إن المصدر الموصوف لا يعمل بعد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 101 الوصف، ويهون أمر ذلك كون المعمول ظرفا، وقيل: ظرف لمبين، وجوز أن تكون إِذْ تعليلية كما قيل به في قوله تعالى: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف: 39] وصيغة المضارع لاستحضار الصورة الماضية أي تالله لقد كنا في غاية الضلال الفاحش وقت تسويتنا إياكم أو لأنا سويناكم أيها الأصنام في استحقاق العبادة برب العالمين الذي أنتم أدنى مخلوقاته وأذلهم وأعجزهم وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ الظاهر بناء على ما تقدم من أن الاختصام مع الأصنام والشياطين أن يكون المراد بالمجرمين الشياطين ليكون ذلك من الاختصام معهم وإن لم يورد على وجه الخطاب كما أن ما تقدم من الاختصام مع الأصنام، وكون المراد بهم ذلك مروي عن مقاتل، وفي إرشاد العقل السليم أنه بيان لسبب ضلالهم بعد اعترافهم بصدوره عنهم، والمراد بالمجرمين رؤساؤهم وكبراؤهم، وفي قوله تعالى: رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا [الأحزاب: 67] . وعن السدي هم الأولون الذين اقتدوا بهم، وقيل: من دعاهم إلى عبادة الأصنام من الجن والإنس. وعن ابن جريج أنهم إبليس وابن آدم القاتل لأنه أول من سن القتل والمعاصي، والقصر قيل بالنسبة إلى الأصنام، ولعلهم أرادوا بنفي الإضلال عنها إهانتها بأنها لا قدرة لها وفيه تأكيد لكونهم في ضلال مبين، ولعل الأولى كونه قصرا حقيقيا بادعاء أنهم الأوحديون في سببية الإضلال حتى إن سببية غيرهم له كلا سببية، وهذا واضح في الشياطين لأن إضلال غيرهم من الكبراء ونحوهم بواسطة إضلالهم لأنهم الذين يزينون الباطل المتبوع والتابع، ويمكن أن يعتبر في غيرهم بضرب من التأويل وذلك إذا أريد بالمجرمين غيرهم، ثم إن المشركين لا يزالون في حيرة يوم القيامة لا يدرون بم يتشبثون فلا يضر إسنادهم الإضلال تارة إلى شيء وأخرى إلى غيره على أن الإسناد إلى كل باعتبار هذا. وجوز أن يكون الاختصام بين العبدة بعضهم مع بعض، والخطاب في نُسَوِّيكُمْ للأصنام من غير التزام القول بجعلهم أهلا له بل هو كخطاب المضطر للحجر والشجر، وفيه مبالغة في التحسر والندامة، والمعنى أن العبدة مع تخاصم بعضهم مع بعض بأن يقول أحدهم للآخر: أنت مبدأ ضلالي ولولا أنت لكنت مؤمنا اعترفوا بجرمهم وتعجبوا وبينوا سببه، وجوز أيضا أن يكون من الأصنام ينطقهم الله تعالى فيخاصمون العبدة فضمير هُمْ عائد عليهم، والمعنى قال العبدة معترفين بضلالهم متعجبين منه مبينين سببه: إن كنا إلخ والحال إن الأصنام يخاصمونهم قائلين: نحن جمادات متبرئون عن جميع المعاصي وأنتم اتخذتمونا إلهة فألقيتمونا في هذه الورطة. وهذا كله على تقدير كون جملة قالُوا مستأنفة كما هو الظاهر، وجوز أن يكون جُنُودُ إِبْلِيسَ مبتدأ وجملة قالُوا إلخ خبره وضمير قالُوا وكذا ما بعده عائد عليه. وأنت تعلم أنه مع كونه خلاف الظاهر لا يتسنى على تقدير أن يراد بجنود إبليس الشياطين لما أن المقول المذكور لا يصح أن يكون منهم وإذا أريد بهم متبعوه من عصاة الثقلين عبادة الأصنام وغيرهم يرد أن المقول المذكور قول فرقة منهم وهي العبدة فإسناده إلى الجميع خلاف الظاهر ويبعد كل البعد بل لو قيل بفساده لم يبعد احتمال كون كل شخص سواء كان من عبدة الأصنام أو غيره يخاصم مع كل من يصادفه من غير صلاحية الآخر للاختصام ويقول ما ذكر للأصنام لغاية الحيرة والضجرة، نعم لو أريد بجنود إبليس على تقدير كونه مبتدأ ورجوع الضمائر إليه الغاوون بعينهم وتكون الإضافة للعهد، والتعبير عنهم بهذا العنوان بعد التعبير عنهم بالعنوان السابق لتذليلهم لم يبعد جدا. ومن الناس من جوز الابتدائية والخبرية المذكورتين وفسر الجنود بالعصاة مطلقا. وجعل ضمير قالُوا للغاوون وضمير هُمْ ويَخْتَصِمُونَ للجنود أو للأصنام وفيه مع خروج الآية عليه عن حسن الانتظام ما لا يخفى على ذوي الأفهام. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 102 وقوله تعالى: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ مرتب على ما اعترفوا به من عظم الجناية وظهور الضلالة. والمراد التلهف والتأسف على فقد شفيع يشفع لهم مما هم فيه أو صديق شفيق يهمه ذلك وقد ترقوا لمزيد انحطاط حالهم في التأسف حيث نفوا أولا أن يكون لهم من ينفعهم في تخليصهم من العذاب بشفاعته ونفوا ثانيا أن يكون لهم من يهمه أمرهم ويشفق عليهم ويتوجع لهم وإن لم يخلصهم وأتى بالشافع في سياق النفي جمعا وإن كان حكم هذا الجمع في الاستغراق لمكان من الزائدة حكم المفرد بلا خلاف إنما الخلاف فيما إذا لم تزد من بعد النفي داخلة على الجمع رعاية لما كانوا يأتون به في الإثبات من الجمع. وقال في الكشاف: جمع الشافع لكثرة الشفعاء ووحد الصديق لقلته ألا ترى أن الرجل إذا امتحن بإرهاق ظالم نهضت جماعة وافرة من أهل بلدة رحمة له وحسبة إن لم تسبق له بأكثرهم معرفة وأما الصديق الصادق في ودادك الذي يهمه ما يهمك فهو أعز من بيض الأنوق، ويجوز أن يريد بالصديق الجمع أي فإنه يطلق عليه لما أنه على زنة المصدر بخلاف الشافع. وذكر البيضاوي في توحيد الصديق وجها آخر أيضا، وهو أن الصديق الواحد يسعى أكثر مما يسعى الشفعاء، وحاصله أن الواحد في معنى الجمع بحسب العادة فلذا اكتفي به لما فيه من المطابقة المعنوية كما قيل: الناس ألف منهمو كواحد ... وواحد كالألف إن أمر عنا وقال بعض الكلمة: إن إيراد الشافعين بصيغة الجمع لمجرد مصلحة الفاصلة، وأما إيراد الصديق مفردا فلأن المقام مقام المفرد ومصلحة الفاصلة حصلت قبله وهو كما ترى، وقال سعد أفندي: لا يبعد أن يكون جمع الأول وإفراد الثاني إشارة إلى أنه لا فرق بين الاستغراقين، وفيه أن إيثار صيغة لإفادة مسألة عربية ليس من دأب القرآن المجد، والذي أميل إليه أن الإفراد على الأصل والجمع وإن أدى مؤداه على سنن ما كانوا يقولونه ويزعمونه في الدنيا من تعدد الشفعاء ولا يضر في ذلك كون المنفي هنا أعم من المثبت هناك من حيث شموله للأصنام والكبراء والملائكة والأنبياء عليهم السلام كما هو المتبادر إلى الفهم، وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة عن ابن جريج أن المعنى فما لنا من شافعين من أهل السماء ولا صديق حميم من أهل الأرض. وزعم بعضهم أنهم عنوا بالشافعين هنا ما عنوا بالمجرمين من كبرائهم وساداتهم وفرعوا النفي على قولهم ما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ فكأنهم قالوا: سادتنا وكبراؤنا الذين أضلونا مجرمون معذبون مثلنا فلم يقدروا على السعي في نفعنا والشفاعة لنا، وفي الكشاف فما لنا من شافعين كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبيين ولا صديق كما نرى لهم أصدقاء فإنه لا يتصادق في الآخرة إلا المؤمنون قال تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف: 67] أو فما لنا من شافعين ولا صديق حميم من الذين كنا نعدهم شفعاء وأصدقاء لأنهم كانوا يعتقدون في أصنامهم أنهم شفعاؤهم عند الله تعالى وكان لهم الأصدقاء من شياطين الإنس أو أرادوا أنهم وقعوا في مهلكة علموا أن الشفعاء والأصدقاء لا ينفعونهم ولا يدفعون عنهم فقصدوا بنفيهم نفي ما يتعلق بهم من النفع لأن ما لا ينفع حكمه حكم المعدوم انتهى. والظاهر على هذا الأخير أن الكلام كناية عن شدة الأمر بحيث لا ينفع فيه أحد ولو أدنى نفع وهو وجه وجيه، والوجه الأول لا يكاد يتسنى على مذهب المعتزلة الذين لا يجوزون الشفاعة في الخلاص من النار بعد دخولها أو قبله لأن الظاهر من قولهم فما لنا من شافعين كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبيين فما لنا من شافعين الجزء: 10 ¦ الصفحة: 103 يخلصونا من النار كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبيين يخلصونهم منها فارتضاء الزمخشري لهذا الوجه غريب اللهم إلا أن يقال: المراد التشبيه باعتبار مطلق الشفاعة والمعتزلة يجوزون بعض أصنافها كالشفاعة في زيادة الدرجات في الجنة لكن لا يخلو عن بعد والله تعالى أعلم، و (لو) في قوله تعالى: فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً مستعملة في التمني بدليل نصب قوله سبحانه: فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ في جوابها وأصلها لو الامتناعية وحيث إن التمني يكون لما يمتنع أريد بها ذلك مجازا مرسلا أو استعارة تبعية ثم شاع حتى صارت كالحقيقة في ذلك، وقيل: هي حقيقة فيما ذكر وقيل: أصلها المصدرية وليس بشيء. والمعنى فليت لنا رجعة إلى الدنيا فإن نكون من المؤمنين فلا ينالنا إذا متنا فبعثنا مثل ما نحن فيه من العذاب الذي لا ينفع فيه أحد، وجوز كون لو شرطية وجوابها محذوف والتقدير لفعلنا من الخيرات كيت وكيت أو لخلصنا من العذاب أو لكان لنا شفعاء وأصدقاء أو ما أضلنا المجرمون، والتقدير الأول أجزل، ويقدر المحذوف بعد فَنَكُونَ إلخ لأن المصدر المتحصل منه معطوف على كَرَّةً أي فلو أن لنا كرة فنكونا من المؤمنين لفعلنا إلخ. وتعقب شيخ الإسلام ذلك بأنه إنما يفيد تحقق مضمون الجواب على تقدير تحقق كرتهم وإيمانهم معا من غير دلالة على استلزام الكرة للإيمان أصلا مع أنه المقصود حتما، وفي قوله: من غير دلالة إلخ بحث على ما قيل حيث يمكن أن يقال: حاصل الآية إن تيسر لنا الرجعة والإيمان المتعقب إياها لفعلنا من عبادات أهل الإيمان ما يقصر عنه العبارة، والتزام ثمرات الإيمان التزام للإيمان أولا، ومقصودهم بيان استلزام الرجعة لفعل الخيرات كلها، وأما نفس الإيمان بعد هذه المشاهدة فلا يحتاج إلى البيان. وقال بعض الناس: إن قولهم فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بمعنى فنكون من المقبول إيمانهم وقبول الله تعالى إيمانهم لا يترتب على رجعتهم البتة بل يجوز أن يتخلف فلا بد أن يكون مرادهم إن تيسر لنا الرجعة وإن قبل إيماننا لفعلنا إلخ فليس المقصود الدلالة على استلزام الكرة للإيمان كما زعم شيخ الإسلام، ونوقش فيه بأن تيسر الرجعة إنما يكون لرحمة الله تعالى وعفوه وهي تستلزم قبول إيمانهم، والحق أنه لا ينبغي الالتفات إلى احتمال شرطية لو والتكلف له مع جزالة المعنى الظاهر المتبادر، والكلام في قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ قد تقدم آنفا فلا حاجة إلى إعادته وقد علمت مختارنا في ذلك فتذكر فما في العهد من قدم، ولشيخ الإسلام كلام في هذه الآية لا يخفى ما فيه على المتأمل فتأمل كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ القوم كما في المصباح يذكر ويؤنث وكذلك كل اسم جمع لا واحد له من لفظه نحو رهط ونفر ولذا يصغر على قويمة، وقيل: هو مذكر ولحقت فعله علامة التأنيث على إرادة الأمة والجماعة منه وتكذيبهم المرسلين باعتبار إجماع الكل على التوحيد وأصول الشرائع التي لا تختلف باختلاف الأزمنة والإعصار، وجوز أن يراد بالمرسلين نوح عليه السلام بجعل اللام للجنس فهو نظير قولك: فلان يركب الدواب ويلبس البرود وما له إلا دابة واحدة وبرد واحد، وإِذْ في قوله تعالى: إِذْ قالَ لَهُمْ ظرف للتكذيب على أنه عبارة عن زمان مديد وقع فيه ما وقع من الجانبين إلى تمام الأمر كما أن تكذيبهم عبارة عما صدر منهم من حين ابتداء دعوته عليه السلام إلى انتهائها، وزعم بعضهم أن إِذْ للتعليل أي كذبت لأجل أن قال لهم: أَخُوهُمْ نُوحٌ أي نسيبهم كما يقال: يا أخا العرب ويا أخا تميم، وعلى ذلك قوله: لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 104 والضمير لقوم نوح، وقيل: هو للمرسلين والأخوة المجانسة وهو خلاف الظاهر أَلا تَتَّقُونَ الله عز وجل حيث تعبدون غيره إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ من الله تعالى أرسلني لمصلحتكم أَمِينٌ مشهور بالأمانة فيما بينكم، وقيل: أمين على أداء رسالته جل شأنه فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ فيما آمركم به من التوحيد والطاعة لله تعالى، وقدم الأمر بتقوى الله تعالى على الأمر بالطاعة لأن تقوى الله تعالى سبب لطاعته عليه السلام وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على ما أنا متصد له من الدعا والنصح مِنْ أَجْرٍ أي ما أطلب منكم على ذلك أجرا أصلا لا مالا ولا غيره إِنْ أَجْرِيَ فيما أتولاه إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ فهو سبحانه الذي يؤجرني في ذلك تفضلا منه لا غيره، والفاء في قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ لترتيب ما بعدها على ما قبلها من تنزهه عليه السلام من الطمع كما أن نظيرتها السابقة لترتيب ما بعدها على كونه رسولا من الله تعالى بما فيه نفع الدارين مع أمانته، والتكرير للتأكيد والتنبيه على أن كلا منهما مستقل في إيجاب التقوى والطاعة فكيف إذا اجتمعا، وقرىء «إن أجري» بسكون الياء وهو والفتح لغتان مشهورتان في مثل ذلك اختلف النحاة في أيتهما الأصل. قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ أي وقد اتبعك على أن الجملة في موضع الحال وقد لازمة فيها إذا كان فعلها ماضيا وكثير من الأجلة لا يوجب ذلك، وقرأ عبد الله وابن عباس والأعمش وأبو حيوة والضحاك وابن السميقع وسعيد بن أبي سعيد الأنصاري وطلحة ويعقوب «وأتباعك» جمع تابع كصاحب وأصحاب، وقيل: جمع تبيع كشريف وأشراف، وقيل: جمع تبع كبطل وأبطال، وهو مرفوع على الابتداء والْأَرْذَلُونَ خبره، والجملة في موضع الحال أيضا، وقيل: معطوف على الضمير المستتر في نُؤْمِنُ وحسن ذلك للفصل بلك والْأَرْذَلُونَ صفته، ولا يخفى أنه ركيك معنى، وعن اليماني «وأتباعك» بالجر عطفا على الضمير في لَكَ وهو قليل وقاسه الكوفيون والْأَرْذَلُونَ رفع بإضمارهم، وهو جمع الأرذل على الصحة والرذالة الخسة والدناءة، والظاهر أنهم إنما استرذلوا المؤمنين به عليه السلام لسوء أعمالهم يدل عليه قوله في الجواب (1) : قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي ما وظيفتي إلا اعتبار الظواهر وبناء الأحكام عليها دون التجسس والتفتيش عن البواطن، وما استفهامية، وقال الحوفي والطبرسي: نافية، وعليه يكون في الكلام حذف أي وما علمي بما كانوا يعملون ثابت إِنْ حِسابُهُمْ أي ما محاسبتهم على ما يعملون إِلَّا عَلى رَبِّي فاعتبار البواطن من شؤونه عز وجل وهو المطلع عليها لَوْ تَشْعُرُونَ أي بشيء من الأشياء أو لو كنتم من أهل الشعور لعلمتم ذلك لكنكم لستم كذلك فلذا قلتم ما قلتم، وأل على هذا الوجه للجنس، وقال جمع: إن استرذالهم إياهم لقلة نصيبهم من الدنيا، وقيل: لكونهم من أهل الصناعات الدنيئة، وقد كانوا كما روي عن عكرمة حاكة وأساكفة، وقيل: لاتضاع نسبهم، ومنشأ ذلك على الجميع سخافة عقولهم وقصور أنظارهم لأن الفقر ليس من الرذالة في شي: قد يدرك المجد الفتى ورداؤه ... خلق وجيب قميصه مرقوع وكذا خسة الصناعة لا تزري بالشرف الأخروي ولا تلحق التقي نقيصة عند الله عز وجل، وقد أنشد أبو العتاهية: وليس على عبد تقي نقيصة ... إذا صحح التقوى وإن حاك أو حجم   (1) في الأصل قوله في الجواب «وما علمي» والتلاوة قال وما علمي فصححناه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 105 ومثلها صفة النسب فقد قيل: أبي الإسلام لا أب لي سواه ... إذا افتخروا بقيس أو تميم وما ذكره الفقهاء في باب الكفاءة مبني على عرف العامة لانتظام أمر المعاش ونحوه على أنه روي عن الإمام مالك عدم اعتبار شيء من ذلك أصلا وأن المسلمين كيفما كانوا أكفاء بعضهم لبعض، وأل على هذه الأقوال للعهد. والجواب بما ذكر عما أشاروا إليه بقولهم ذلك من أن إيمانهم لم يكن عن نظر وبصيرة وإنما كان لحظ نفساني كحصول شوكة بالاجتماع ينتظمون بها في سلك ذوي الشرف ويعدون بها في عدادهم، وحاصله وما وظيفتي إلا اعتبار الظواهر دون الشق عن القلوب والتفتيش عما في السرائر فما يضرني عدم إخلاصهم في إيمانهم كما تزعمون وجوز أن يقال: إنهم لما قالوا: وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ وعنوا الذين لا نصيب لهم من الدنيا أو الذين اتضعت أنسابهم أو كانوا من أهل الصنائع الدنيئة تغابى عليه السلام عن مرادهم وخيل لهم أنهم عنوا بالأرذلين من لا إخلاص له في العمل ولم يؤمن عن نظر وبصيرة فأجابهم بما ذكر كأنه ما عرف من الأرذلين إلا ذلك، ولو جعل هذا نوعا من الأسلوب الحكيم لم يبعد عندي، وفيه من لطف الرد عليهم وتقبيح ما هم عليه ما لا يخفى، وزعم بعضهم أنهم عنوا بالأرذلين نساءه عليه السلام وبنيه وكناته وبني بنيه واسترذالهم لعضة النسب لا يتصور في جميعهم حقيقة كما لا يخفى فلا بد عليه من اعتبار التغليب ونحوه، وقرأ الأعرج وأبو زرعة وعيسى بن عمر الهمداني «يشعرون» بياء الغيبة وقوله تعالى: وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ جواب عما أوهمه كلامهم من استدعاء طردهم وتعليق إيمانهم بذلك حيث جعلوا أتباعهم مانعا عنه، وقد نزلوا لذلك منزلة من يدعي أنه عليه السلام ممن يطرد المؤمنين وأنه ممن يشترك معه فيه فقدم المسند إليه وأولى حرف النفي لإفادة أن ذلك ليس شأنه بل شأن المخاطبين. وجوز أن يكون التقديم للتقوى وهو أقل مؤنة كما لا يخفى، وقيل: إنهم طلبوا منه عليه السلام طردهم فأجابهم بذلك كما طلب رؤساء قريش من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طرد من آمن به من الضعفاء فنزلت وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [الأنعام: 52] الآية، وقوله تعالى: إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ كالعلة له أي ما أنا إلا رسول مبعوث لإنذار المكلفين وزجرهم عما لا يرضيه سبحانه وتعالى سواء كانوا من الأشرفين أو الأرذلين فكيف يتسنى لي طرد من زعمتم أنهم أرذلون. وحاصله أنا مقصور على إنذار المكلفين لا أتعداه إلى طرد الأرذلين منهم أو ما عليّ إلا إنذاركم بالبرهان الواضح وقد فعلته وما عليّ استرضاء بعضكم بطرد الآخرين، وحاصله أنا مقصور على إنذاركم لا أتعداه إلى استرضائكم. وقيل: إن مجموع الجملتين جواب وإن إيلاء الضمير حرف النفي يدل على أنهم زعموا أنه عليه السلام موصوف بصفتين، إحداهما اتباع أهوائهم بطرد المؤمنين لأجل أن يؤمنوا، وثانيتهما أنه نذير مبين فقصر الحكم على الثاني دون الأول ولا يخلو عن بحث قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ عما أنت عليه لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ أي المرميين بالحجارة كما روي عن قتادة، وهو توعد بالقتل كما روي عن الحسن، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أن المعنى من المشتومين على أن الرجم مستعار للشتم كالطعن، وفي إرشاد العقل السليم أنهم قاتلهم الله تعالى قالوا ذلك في أواخر الأمر، ومعنى قوله تعالى: قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ استمروا على تكذيبي وأصروا عليه بعد ما دعوتهم هذه الأزمنة المتطاولة ولم يزدهم دعائي إلا فرارا. وهذا ليس بإخبار بالاستمرار على التكذيب لعلمه عليه السلام أن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 106 عالم الغيب والشهادة أعلم ولكنه أراد إظهار ما يدعو عليهم لأجله وهو تكذيب الحق لا تخويفهم له واستخفافهم به في قولهم: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ تلطفا في فتح باب الإجابة، وقيل: لدفع توهم الخلق فيه المتجاوز أو الحدة، وقيل: إنه خبر لم يقصد منه الإعلام أصلا وإنما أورد لغرض التحزن والتفجع كما في قوله: قومي هم قتلوا أميم أخي ... فلئن رميت يصيبني سهمي ويبعد ذلك في الجملة تفريع الدعاء عليهم بقوله تعالى: فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً على ذلك أي أحكم بيننا بما يستحقه كل واحد منا من الفتاحة بمعنى الحكومة، وفَتْحاً مصدر، وجوز أن يكون مفعولا به على أنه بمعنى مفتوحا وهذه حكاية إجمالية لدعائه عليه السلام المفصل في سورة نوح وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي من قصدهم أو شؤم أعمالهم، وفيه إشعار بحلول العذاب بهم فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ على حسب دعائه عليه السلام فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ أي المملوء بهم وبما يحتاجون إليه حالا كالطعام أو مالا كالحيوان. والفلك يستعمل واحدا وجمعا، وحيث أتى في القرآن الكريم فاصلة استعمل مفردا أو غير فاصلة استعمل جمعا كما في البحر ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ أي بعد إنجائهم، وثُمَّ للتفاوت الرتبي، ولذا قال سبحانه بعد الْباقِينَ أي من قومه. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الكلام فيه نظير الكلام فيما تقدم، وكذا الكلام في قوله تعالى كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ بيد أن تأنيث الفعل هنا باعتبار أن المراد بعاد القبيلة وهو اسم أبيهم الأقصى، وكثيرا ما يعبر عن القبيلة إذا كانت عظيمة بالأب وقد يعبر عنها ببني أو بآل مضافا إليه فيقال: بنو فلان أو آل فلان، وكذا الكلام في قوله سبحانه: إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ وحكاية الأمر بالتقوى والإطاعة ونفي سؤال الأجر في القصص الخمس وتصديرها بذلك للتنبيه على أن مبنى البعثة هو الدعاء إلى معرفة الحق والطاعة فيما يقرب المدعو إلى الثواب ويبعده من العقاب وأن الأنبياء عليهم السلام مجتمعون على ذلك وإن اختلفوا في بعض فروع الشرائع المختلفة باختلاف الأزمنة والإعصار وأنهم عليهم السلام منزهون عن المطامع الدنيوية بالكلية. ولعله لم يسلك هذا المسلك في قصتي موسى وإبراهيم عليهما السلام تفننا مع ذكر ما يشعر بذلك، وقيل: إن ما ذكر ثمة أهم وكانت منازل عاد بين عمان وحضرموت وكانت أخصب البلاد وأعمرها فجعلها الله تعالى مفاوز ورمالا، ويشير إلى عمارتها قوله تعالى أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ أي طريق كما روي عن ابن عباس وقتادة. وأخرج ابن جرير وجماعة عن مجاهد أن الريع الفج بين الجبلين وعن أبي صخر أنه الجبل والمكان المرتفع عن الأرض وعن عطاء أنه عين الماء والأكثرون على أنه المكان المرتفع وهو رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ومنه ريع النبات وهو ارتفاعه بالزيادة والنماء. وقرأ ابن أبي عبلة «ريع» بفتح الراء آيَةً أي علما كما روى عن الحبر رضي الله تعالى عنه، وقيل: قصرا عاليا مشيدا كأنه علم وإليه ذهب النقاش وغيره واستظهره ابن المنير ويمكن حمل ما روي عن الحبر عليه وحينئذ فقوله تعالى: تَعْبَثُونَ على معنى تعبثون ببنائها لما أنهم لم يكونوا محتاجين إليها وإنما بنوها للفخر بها. والبعث مالا فائدة فيه حقيقة أو حكما، وقد ذم رفع البناء لغير غرض شرعي في شريعتنا أيضا، وقيل: إن عبثهم في ذلك من حيث إنهم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 107 بنوها ليهتدوا بها في أسفارهم والنجوم تغني عنها. واعترض بأن الحاجة تدعو لذلك لغيم مطبق أو ما يجري مجراه. وأجيب بأن الغيم نادر لا سيما في ديار العرب مع أنه لو احتيج إليها لم يحتج إلى أن تجعل في كل ريع فيكون بناؤها كذلك عبثا. وقال الفاضل اليمني: إن أماكنها المرتفعة تغني عنها فهي عبث، وقيل: كانوا يبنون ذلك ليشرفوا على المارة والسابلة فيسخروا منهم ويعبثوا بهم: وروي ذلك عن الكلبي والضحاك، وعن مجاهد وابن جبير أن الآية برج الحمام كانوا يبنون البروج في كل ريع ليلعبوا بالحمام ويلهوا به، وقيل: بيت العشار يبنونه بكل رأس طريق فيجلسون فيه ليعشروا مال من يمر بهم. وله نظير في بلادنا اليوم، ولا مستعان إلا بالله العلي العظيم. والجملة في موضع الحال وهي حال مقدرة على بعض الأقوال وَتَتَّخِذُونَ أي تعملون مَصانِعَ أي مآخذ للماء ومجاري تحت الأرض كما روي عن قتادة، وفي رواية أخرى عنه أنها برك الماء. وعن مجاهد أنها القصور المشيدة، وقيل: الحصون المحكمة. وأنشدوا قول لبيد: وتبقى جبال بعدنا ومصانع وليس بنص في المدعي لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ أي راجين أن تخلدوا في الدنيا أو عاملين عمل من يرجو الخلود فيها فلعل على بابها من الرجاء، وقيل: هي للتعليل وفي قراءة عبد الله كي تخلدون. وقال ابن زيد: هي للاستفهام على سبيل التوبيخ والهزء بهم أي هل أنتم تخلدون، وكون لعل للاستفهام مذهب كوفي، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: المعنى كأنكم خالدون وقرىء بذلك كما روي عن قتادة، وفي حرف أبي «كأنكم تخلدون» وظاهر ما ذكر أن لعل هنا للتشبيه، وحكي ذلك صريحا الواقدي عن البغوي. وفي البرهان هو معنى غريب لم يذكره النحاة. ووقع في صحيح البخاري أن لعل في الآية للتشبيه انتهى. وقرأ قتادة «تخلدون» مبنيا للمفعول مخففا ويقال: خلد الشيء وأخلده غيره، وقرأ أبي وعلقمة «تخلّدون» مبنيا للمفعول مشددا كما قال الشاعر: وهل يعمن إلا سعيد مخلد ... قليل هموم ما يبيت بأوجال وَإِذا بَطَشْتُمْ أي أردتم البطش بسوط أو سيف بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ مسلطين غاشمين بلا رأفة ولا قصد تأديب ولا نظر في العاقبة. وأول الشرط بما ذكر ليصح التسبب وتقييد الجزاء بالحال لا يصححه لأن المطلق ليس سببا للمقيد، وقيل: لا يضر الاتحاد لقصد المبالغة، وقيل: الجزائية باعتبار الإعلام والأخبار وهو كما ترى. ونظير الآية قوله: متى تبعثوها تبعثوها ذميمة ودل توبيخه عليه السلام إياهم بما ذكر على استيلاء حب الدنيا والكبر على قلوبهم حتى أخرجهم ذلك عن حد العبودية فَاتَّقُوا اللَّهَ واتركوا هذه الأفعال وَأَطِيعُونِ فيما أدعوكم إليه فإنه أنفع لكم وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ أي بالذي تعرفونه من النعم فما موصولة والعائد محذوف والعلم بمعنى المعرفة، وقوله تعالى: أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ منزل منزلة بدل البعض كما ذكره غير واحد من أهل المعاني، ووجهه عندهم أن المراد التنبيه على نعم الله تعالى والمقام يقتضي اعتناء بشأنه لكونه مطلوبا في نفسه أو ذريعة إلى غيره من الشكر بالتقوى، وقوله سبحانه: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 108 أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ إلخ أو في بتأدية ذلك المراد لدلالته على النعم بالتفصيل من غير إحالة على علم المخاطبين المعاندين فوزانه وزان- وجهه- في أعجبني زيد وجهه لدخول الثاني في الأول لأن ما تَعْلَمُونَ يشمل الأنعام وما بعدها من المعطوفات، ولا يخفى ما في التفصيل بعد الإجمال من المبالغة، وفي البحر إن قوله تعالى: بِأَنْعامٍ على مذهب بعض النحويين بدل من قوله سبحانه: بِما تَعْلَمُونَ وأعيد العامل كقوله تعالى: اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً [يس: 20، 21] والأكثرون لا يجعلون مثل هذا أبدالا وإنما هو عندهم من تكرار الجمل وإن كان المعنى واحدا ويسمى التتبيع، وإنما يجوز أن يعاد العامل عندهم إذا كان حرف جر دون ما يتعلق به نحو مررت بزيد بأخيك انتهى. ونقل نحوه عن السفاقسي، وقال أبو حيان: الجملة مفسرة لما قبلها ولا موضع لها، وبدأ بذكر الأنعام لأنها تحصل بها الرياسة والقوة على العدو والغنى الذي لا تكمل اللذة بالبنين وغيرهم في الأغلب إلا به وهي أحب الأموال إلى العرب ثم بالبنين لأنهم معينوهم على الحفظ والقيام عليها ومن ذلك يعلم وجه قرنهما، ووجه قرن الجنات والعيون في قوله تعالى: وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ظاهر وكذا وجه قرنهما مع الأنعام، وقوله سبحانه: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إلخ في موضع التعليل أي إني أخاف عليكم إن لم تتقوا وتقوموا بشكر هذه النعم: عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ في الدنيا والآخرة فإن كفران النعمة مستتبع للعذاب كما أن شكرها مستلزم لزيادتها قال تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7] وعلل بما ذكر دون استلزام التقوى للزيادة لأن زوال النعمة يحزن فوق ما تسر زيادتها ودرء المضار مقدم على جلب المنافع: قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ فإنا لا نرعوي عما نحن عليه قالوا ذلك على سبيل الاستخفاف وعدم المبالاة بما خوفهم به عليه السلام، وعدلوا عن أم لم تعظ الذي يقتضيه الظاهر للمبالغة في بيان قلة اعتدادهم بوعظه عليه السلام لما في كلامهم على ما في النظم الجليل من استواء وعظه والعدم الصرف البليغ وهو عدم كونه من عداد الواعظين وجنسهم، وقيل: في وجه المبالغة إفادة كان الاستمرار والْواعِظِينَ الكمال واعتبارهما بقرينة المقام بعد النفي أي سواء علينا أوعظت أم استمر انتفاء كونك من زمرة من يعظ انتفاء كاملا بحيث لا يرجى منك نقيضه، وقال في البحر: إن المقابلة بما ذكر لأجل الفاصلة كما في قوله تعالى: سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ [الأعراف: 193] وكثيرا ما يحسن مع الفواصل ما لا يحسن دونه وليس بشيء كما لا يخفى. وروي عن أبي عمرو والكسائي إدغام الظاء في التاء في «وعظت» وبالإدغام قرأ ابن محيصن. والأعمش إلا أن الأعمش زاد ضمير المفعول فقرأ «أوعظتنا» وينبغي أن يكون إخفاء لأن الظاء مجهورة مطبقة والتاء مهموسة منفتحة فالظاء أقوى منها والإدغام إنما يحسن في المتماثلين أو في المتقاربين إذا كان الأول أنقص من الثاني. وأما إدغام الأقوى في الأضعف فلا يحسن، وإذا جاء شيء من ذلك في القرآن بنقل الثقات وجب قبوله وإن كان غيره أفصح وأقيس. وقوله تعالى: إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ تعليل لما ادعوه من المساواة أي ما هذا الذي جئتنا به الإعادة الأولين يلفقون مثله ويدعون إليه أو ما هذا الذي نحن عليه من الحياة والموت إلا عادة قديمة لم يزل الناس عليها أو ما هذا الذي نحن عليه من الدين إلا عادة الأولين الذين تقدمونا من الآباء وغيرهم ونحن بهم مقتدون، وقرأ أبو قلابة والأصمعي عن نافع «خلق» بضم الخاء وسكون اللام، والمعنى عليه كما تقدم. وقرأ عبد الله وعلقمة والحسن وأبو جعفر وأبو عمرو وابن كثير والكسائي «خلق» بفتح الخاء وسكون اللام أي ما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 109 هذا إلا اختلاق الأولين وكذبهم، ويؤيد هذا المعنى ما روى علقمة عن عبد الله أنه قرأ «إلا اختلاق الأولين» ويكون هذا كقول سائر الكفرة أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الأنعام: 25 وغيرها] أو ما خلقنا هذا إلا خلق الأولين نحيي كما حيوا ونموت كما ماتوا، ومرادهم إنكار البعث والحساب المفهوم من تهديدهم بالعذاب، ولعل قولهم: وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أي على ما نحن عليه من الأعمال أصرح في ذلك فَكَذَّبُوهُ أي أصروا على تكذيبه عليه السلام فَأَهْلَكْناهُمْ بسببه بريح صرصر. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ هو اسم عجمي عند بعض والأكثرون على أنه عربي وترك صرفه لأنه اسم قبيلة، وهو فعول من الثمد وهو الماء القليل الذي لا مادة له ومنه قيل فلان مثمود ثمدته النساء أي قطعن مادة مائة لكثرة غشيانه لهن ومثمود إذا كثر عليه السؤال حتى نفد مادة ماله أو ما يبقى في الجلد أو ما يظهر في الشتاء ويذهب في الصيف. وفي القاموس ثمود قبيلة ويصرف وتضم الثاء وقرىء به أيضا. وفي سبائك الذهب أنه في الأصل اسم لأبي القبيلة ثم نقل وجعل اسما لها، ووجه تأنيث الفعل هنا نظير ما تقدم في قوله تعالى: «كذبت عاد» وكذا الكلام في قوله سبحانه: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 110 إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ كالكلام فيما تقدم وقوله تعالى: أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ إنكار لأن يتركوا فيما هم فيه من النعمة آمنين عن عذاب يوم عظيم فالاستفهام مثله في قوله تعالى السابق: أَتَبْنُونَ وقوله تعالى اللاحق: أَتَأْتُونَ وكأن القوم اعتقدوا ذلك فأنكره عليه السلام عليهم، وجوز أن يكون الاستفهام للتقرير تذكيرا للنعمة في تخليته تعالى إياهم وأسباب نفعهم آمنين من العدو ونحوه واستدعاء لشكر ذلك بالإيمان. وفي الكشف أن هذا أوفق في هذا المقام، وما موصولة وهاهُنا إشارة إلى المكان الحاضر القريب أي أتتركون في الذي استقر في مكانكم هذا من النعمة، وقوله تعالى: فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ بدل من- ما هاهنا- بإعادة الجار كما قال أبو البقاء وغيره، وفي الكلام إجمال وتفصيل نحو ما تقدم في قصة عاد. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 111 وجوز أن يكون ظرفا لآمنين الواقع حالا وليس بذاك، والهضيم الداخل بعضه في بعض كأنه هضم أي شدخ. وسأل عنه نافع بن الأزرق بن عباس رضي الله تعالى عنهما فقال له: المنضم بعضه إلى بعض فقال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم أما سمعت قول امرئ القيس: دار لبيضاء العوارض طفلة ... مهضومة الكشحين ريا المعصم وقال الزهري: هو اللطيف أول ما يخرج، وقال الزجاج: هو الذي رطبه بغير نوى وروي عن الحسن. وقيل: هو المتدلي لكثرة ثمره، وقيل: هو النضيج من الرطب وروي عن عكرمة، وقيل: الرطب المذنب وروى عن يزيد بن أبي زياد، فوصف الطلع بالهضيم إما حقيقة أو مجاز وهو حقيقة وصف لثمره، وجعل بعضهم على بعض الأقوال الطلع مجازا عن الثمر لأوله إليه، والنخل اسم جنس جمعي يذكر كما في قوله تعالى: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [القمر: 20] ويؤنث كما هنا، وليس ذلك لأن المراد به الإناث فإنه معلوم بقرينة المقام ولو ذكر الضمير. وإفراده بالذكر مع دخوله في الجنات لفضله على سائر أشجارها أو لأن المراد بها غيره من الأشجار. وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ أي أشرين بطرين كما روي عن ابن عباس ومحمد بن العلاء، وجاء في رواية أخرى عن ابن عباس تفسيره بنشطين مهتمين، وقال أبو صالح: أي حاذقين وبذلك فسره الراغب. وقال ابن زيد: أي أقوياء، وأنت تعلم أن هذه الجملة داخلة في حيز الاستفهام السابق والأوفق به على القول الأول وعلى القول الثاني كل من الأقوال الباقية وكلها سواء في ذلك إلا أنه يفهم من كلام بعضهم أن الفراهة حقيقة في النشاط مجاز في غيره وعليه يترجح تفسيره بنشطين إذا أريد التذكير. وقرأ أبو حيوة وعيسى والحسن «تنحتون» بفتح الحاء. وقرىء «تنحاتون» بألف بعد الحاء إشباعا، وعن عبد الرحمن بن محمد عن أبيه أنه قرأ «ينحتون» بالياء آخر الحروف وكسر الحاء، وعن أبي حيوة والحسن أيضا أنهما قرآ بالياء التحتية وفتح الحاء وقرأ عبد الله وابن عباس وزيد بن علي والكوفيون وابن عامر «فارهين» بألف بعد الفاء، وقراءة الجمهور أبلغ لما ذكروا في حاذر وحذر وقرأ مجاهد «متفرهين» فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ كأنه عنى بالخطاب جمهور قومه بالمسرفين كبراءهم وأعلامهم في الكفر والإضلال وكانوا تسعة رهط ونسبة الإطاعة إلى الأمر مجاز وهي للآمر حقيقة وفي ذلك من المبالغة ما لا يخفى وكونه لا يناسب المقام فيه بحث. ويجوز أن تكون الإطاعة مستعارة للامتثال لما بينهما من الشبه في الإفضاء إلى فعل ما أمر به أو مجازا مرسلا عنه للزومه له. ويحتمل أن يكون هناك استعارة مكنية وتخييلية، وجوز عليه أن يكون الأمر واحد الأمور وفيه من البعد ما فيه والإسراف تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر، والمراد به هنا زيادة الفساد وقد أوضح ذلك على ما قيل بقوله تعالى: الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ولعل المراد ذمهم بالضلال في أنفسهم بالكفر والمعاصي وإضلالهم غيرهم بالدعوة لذلك، وللإيماء إلى عدم اختصاص شؤم فعلهم بهم حثا على امتثال النهي قيل فِي الْأَرْضِ والمراد بها أرض ثمود، وقيل: الأرض كلها ولما كان يُفْسِدُونَ لا ينافي إصلاحهم أحيانا أردف بقوله تعالى: وَلا يُصْلِحُونَ لبيان كمال إفسادهم وأنه لم يخالطه إصلاح أصلا قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ أي الذين سحروا كثيرا حتى غلب على عقولهم، وقيل: أي من ذوي السحر أي الرئة فهو كناية عن كونه من الأناسي فقوله تعالى: ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا على هذا تأكيد له وعلى الأول هو مستأنف للتعليل أي أنت مسحور لأنك بشر مثلنا لا تميز لك علينا فدعواك إنما هي لخلل في عقلك فَأْتِ بِآيَةٍ أي بعلامة على صحة دعواك إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فيها قالَ هذِهِ ناقَةٌ أي بعد ما أخرجها الله تعالى بدعائه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 112 روي أنهم اقترحوا عليه ناقة عشراء تخرج من صخرة عينوها ثم تلد سقبا فقعد عليه السلام يتذكر فقال له: جبريل عليه السلام صل ركعتين وسل ربك ففعل فخرجت الناقة وبركت بين أيديهم ونتجت سقبا مثلها في العظم فعند ذلك قال لهم: هذه ناقة لَها شِرْبٌ أي نصيب مشروب من الماء كالسقي وألقيت للنصيب من السقي والقوت وكان هذا الشرب من عين عندهم. وفي مجمع البيان عن علي كرّم الله تعالى وجهه أن تلك العين أول عين نبعت في الأرض وقد فجرها الله عز وجل لصالح عليه السلام وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ فاقتنعوا بشربكم ولا تزاحموها على شربها. وقرأ ابن أبي عبلة «شرب» بضم الشين فيهما، واستدل بالآية على جواز قسمة ماء نحو الآبار على هذا الوجه وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ كضرب وعقر فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ وصف اليوم بالعظم لعظم ما يحل فيه وهو أبلغ من عظم العذاب وهذا من المجاز في النسبة، وجعل عَظِيمٍ صفة عَذابُ والجر للمجاورة نحو هذا جحر ضب خرب ليس بشيء فَعَقَرُوها نسب العقر إليهم كلهم مع أن عاقرها واحد منهم وهو قدار بن سالف وكان نساجا على ما ذكره غير واحد، وجاء في رواية أن مسطعا ألجأها إلى مضيق في شعب فرماها بسهم فأصاب رجلها فسقطت ثم ضربها قدار لما روي أن عاقرها قال: لا أعقرها حتى ترضوا أجمعين فكانوا يدخلون على المرأة في خدرها فيقول: أترضين؟ فتقول: نعم وكذلك الصبيان فرضوا جميعا ، وقيل: لأن العقر كان بأمرهم ومعاونتهم جميعا كما يفصح عنه قوله تعالى: فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ [القمر: 29] وفيه بحث فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ خوفا من حلول العذاب كما قال جمع، وتعقب بأنه مردود بقوله تعالى: وَقالُوا أي بعد ما عقروها: يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، وأجيب بأن قوله بعد ما عقروها في حيز المنع إذ الواو لا تدل على الترتيب فيجوز أن يريدوا بما تعدنا من المعجزة أو الواو حالية أي والحال أنهم طلبوها من صالح ووعدوه الإيمان بها عند ظهورها مع أنه يجوز ندم بعض وقول بعض آخر ذلك بإسناد ما صدر من البعض إلى الكل لعدم نهيهم عنه أو نحو ذلك أو ندموا كلهم أولا خوفا ثم قست قلوبهم وزال خوفهم أو على العكس، وجوز أن يقال: إنهم ندموا على عقرها ندم توبة لكنه كان عند معاينة العذاب وعند ذلك لا ينفع الندم، وقيل: لم ينفعهم ذلك لأنهم لم يتلافوا ما فعلوا بالإيمان المطلوب منهم. وقيل: ندموا على ترك سقبها ولا يخفى بعده، ومثله ما قيل: إنهم ندموا على عقرها لما فاتهم به من لبنها، فقد روي أنه إذا كان يوما أصدرتهم لبنا ما شاؤوا فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ الموعود وكان صيحة خمدت لها أبدانهم وانشقت قلوبهم وماتوا عن آخرهم وصب عليهم حجارة خلال ذلك. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ وكانوا من أصهاره عليه السلام أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ إنكار وتوبيخ والإتيان كناية عن الوطء. والذُّكْرانَ جمع ذكر مقابل الأنثى، والظاهر أن مِنَ الْعالَمِينَ متصل به أي أتأتون الذكران من أولاد بني آدم على فرط كثرتهم وتفاوت أجناسهم وغلبة إناثهم على ذكرانهم كأن الإناث قد أعوزتكم فالمراد بالعالمين الناس لأن المأتي الذكور منهم خاصة والقرينة إيقاع الفعل والجمع بالواو والنون من غير نظر إلى تغليب. وأما خروج الملك والجن فمن الضرورة العقلية. ويجوز أن يكون متصلا بتأتون أي أتأتون من بين من عداكم من العالمين الذكران لا يشارككم فيه غيركم فالمراد بالعالمين كل من يتأتى منه الإتيان. والعالم على هذا ما يعلم به الخالق سبحانه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 113 والجمع للتغليب وخروج غيره لما مر. ولا يضر كون الحمار والخنزير يأتيان الذكور في أمر الاختصاص للندرة أو لإسقاطهما عن حيز الاعتبار، وجوز أن يراد بالعالمين على الوجه الثاني الناس أيضا، وإذا قيل بشمولهم لمن تقدم من العالمين تفيد الآية أنهم أول من سن هذه السنة السيئة كما يفصح عنه قوله تعالى: ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ [الأعراف: 80، العنكبوت: 28] . وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ لأجل استمتاعكم، وكلمة مِنْ في قوله تعالى: مِنْ أَزْواجِكُمْ للبيان إن أريد بما جنس الإناث، ولعل في الكلام حينئذ مضافين محذوفين أي وتذرون إتيان فروج ما خلق لكم أو للتبعيض إن أريد بما العضو المباح من الأزواج. ويؤيده قراءة ابن مسعود «ما أصلح لكم ربكم من أزواجكم» وحينئذ يكتفي بتقدير مضاف واحد أي وتذرون إتيان ما خلق ويكون في الكلام على ما قيل تعريض بأنهم كانوا يأتون نساءهم أيضا في محاشهن ولم يصرح بإنكاره كما صرح بإنكار إتيان الذكران لأنه دونه في الإثم. وهو على المشهور عند أهل السنة حرام بل كبيرة، وقيل: هو مباح، وقد تقدم الكلام (1) في ذلك مبسوطا عند الكلام في قوله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة: 223] وقيل: ليس في الكلام مضاف محذوف أصلا، والمراد ذمهم بترك ما خلق لهم وعدم الالتفات إليه بوجه من الوجوه فضلا عن الإتيان، وأنت تعلم أن المعنى ظاهر على التقدير، وقوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ إضراب انتقالي والعادي المتعدي في ظلمه المتجاوز فيه الحد ومتعلقه مقدر وهو إما عام أو خاص أي بل أنتم قوم متعدون متجاوزون الحد في جميع المعاصي وهذا من جملتها أو متجاوزون عن حد الشهوة حيث زدتم على سائر الناس بل أكثر الحيوانات. وقيل: متجاوزون الحد في الظلم حيث ظلمتم بإتيان ما لم يخلق للإتيان وترك إتيان ما خلق له، وفي البحر أن تصدير الجملة بضمير الخطاب تعظيما لفعلهم وتنبيها على أنهم مختصمون بذلك كأنه قيل: بل أنتم قوم عادون لا غيركم قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ عن توبيخنا وتقبيح أمرنا أو عما أنت عليه من دعوى الرسالة ودعوتنا إلى الإيمان وإنكار ما أنكرته من أمرنا لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ أي من المنفيين من قريتنا المعهودين، وكأنهم كانوا يخرجون من غضبوا عليه بسبب من الأسباب، وقيل: بسبب إنكار تلك الفاحشة من بينهم على عنف وسوء حال، ولهذا هددوه عليه السلام بذلك، وعدلوا عن لنخرجنك الأخصر إلى ما ذكر ولا يخفى ما في الكلام من التأكيد. قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ أي من المبغضين غاية البغض، قال الراغب: يقال قلاه ويقليه فمن جعله من الواو فهو من القلو أي الرمي من قولهم: قلت الناقة براكبها قلوا وقلوت بالقلة إذا رميتها فكأن المقلو بقذفه القلب من بغضه فلا يقبله. ومن جعله من الياء فهو من قليت السويق على المقلاة فكأن شدة البغض تقلي الفؤاد والكبد   (1) بيد أني وقفت عند كتابتي في هذا الموضع على كلام العز بن عبد السلام في أماليه في هذا المبحث حاصله أن حرمة إتيان الزوجة في المحل المكروه ليست إجماعية إلا أن معظم أهل الإسلام على تحريمه كما قال الطرسوسي والخلاف فيه يسير جدا كالذي لا عبرة به. ويذكر أن ابن عبد الحكم نقل حله عن الشافعي وأن الربيع قال: كذب والله ابن عبد الحكم. وقد نص الإمام على تحريمه في ست كتب ولم يحفظ عن مالك شيء في إباحته البتة ونقله من كتاب السر غير صحيح بل في كتاب البيان والتحصيل لابن رشد الأندلسي النص على خلاف ذلك. ورواية الطحاوي عن أبي الفرج عن ابن القاسم حله لا يعول عليها ولا تصح. وأما إباحة زيد ابن أسلم ونافع لذلك فلا يؤخذ بها فنافع إمام في القراءات وليس معدودا في الفقهاء أهل الحل والعقد، وأما زيد فصاحب تفسير لا يعتد لخلافه فليحفظ اه منه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 114 وتشويهما، فقول أبي حيان: إن قلى بمعنى أبغض يائي، والذي بمعنى طبخ وشوى واوي ناش من قلة الاطلاع، والعدول عن قالي إلى ما في النظم الجليل لأنه أبلغ فإنه إذا قيل: قالي لم يفد أكثر من تلبسه بالفعل بخلاف قوله: مِنَ الْقالِينَ إذ يفيد أنه مع تلبسه من قوم عرفوا واشتهروا به فيكون راسخ القدم عريق العرف فيه، وقد صرح بذلك ابن جني وغيره، واللام في «لعملكم» قيل للتبيين كما في سقيا لك فهو متعلق بمحذوف أعني- أعني.، وقيل: هي للتقوية ومتعلقها عند من يرى تعلق حرف التقوية محذوف أي إني من القالين لعملكم من القالين. وقيل: هي متعلقة بالقالين المذكور ويتوسع في الظروف ما لا يتوسع في غيرها فتقدم حيث لا يقدم غيرها، والمراد بعملهم إما ما أنكره عليه السلام عليهم من إتيان الذكران وترك ما خلق ربهم سبحانه لهم وإما ما يشمل ذلك وسائر ما نهاهم عنه وأمرهم بضده من الأعمال القلبية والقالبية، وقابل عليه السلام تهديدهم ذلك بما ذكر تنبيها على عدم الاكتراث به وأنه راغب في الخلاص من سوء جوارهم لشدة بغضه لعملهم ولذلك أعرض عن محاورتهم وتوجه إلى الله تعالى قائلا: رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ أي من شؤم عملهم أو الذي يعملونه وعذابه الدنيوي. وقيل: يحتمل أن يكون دعاء بالنجاة من التلبس بمثل عملهم وهو بالنسبة إلى الأهل دونه عليه السلام إذ لا يخشى تلبسه بذلك لمكان العصمة. واعترض بأن العذاب كذلك إذ لا يعذب من لم يجن وفيه منع ظاهر. كيف وقد قال سبحانه: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: 25] . وقيل: قد يدعو المعصوم بالحفظ عن الوقوع فيما عصم عنه كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ [إبراهيم: 35] وهو مسلم إلا أن الظاهر أن المراد النجاة مما ينالهم بسبب عملهم من العذاب الدنيوي. ويؤيده ظاهر قوله تعالى: فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ. والظاهر أن المراد بأهله أهل بيته. وجوز أن يكون المراد بهم من تبع دينه مجازا فيشمل أهل بيته المؤمنين وسائر من آمن به. وقيل: لا حاجة إلى هذا التعميم إذ لم يؤمن به عليه السلام إلا أهل بيته. والمراد بهذه العجوز امرأته عليه السلام وكانت كافرة مائلة إلى القوم راضية بفعلهم. والتعبير عنها بالعجوز للإيماء إلى أنه مما لا يشق أمر هلاكها على لوط عليه السلام وسائر أهله بمقتضى الطبيعة البشرية. وقيل: للإيماء إلى أنها قد عسيت في الكفر ودامت فيه إلى أن صارت عجوزا، والغابر الباقي بعد مضي من معه. وأنشد ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في ذلك قول عبيد بن الأبرص: ذهبوا وخلفني المخلف فيهم ... فكأنني في الغابرين غريب والمراد فنجيناه وأهله من العذاب بإخراجهم من بينهم ليلا عند مشارفة حلوله بهم إلا عجوزا مقدرة في الباقين في العذاب بعد سلامة من خرج. وإنما اعتبر البقاء في العذاب دون البقاء في الدار لما روي أنها خرجت مع لوط عليه السلام فأصابها حجر في الطريق فهلكت، وقيل: المراد من الباقين في الدار بناء على أنها لهلاكها كأنها ممن بقي فيها أو أنها خرجت ثم رجعت فهلكت كما في بعض الروايات أو أنها لم تخرج مع لوط عليه السلام أصلا كما في البعض الآخر منها. وقيل: الغابر طويل العمر وكأنه إنما أطلق عليه ذلك لبقائه مع مضي من كان معه. والمراد وصف العجوز بأنها طاعنة في السن وقرأ عبد الله كما روى عنه مجاهد «وواعدنا أن نؤتيه أهله أجمعين إلا عجوزا في الغابرين» ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ أهلكناهم أشد إهلاك وأفظعه وكان ذلك الائتفاك. والظاهر العطف على (نجينا) والتدمير متراخ عن التنجية من مطلق العذاب فلا حاجة إلى القول بأن المراد أردنا تنجيته أو حكمنا بها أو معنى فَنَجَّيْناهُ فاستجبنا دعاءه في تنجيته وكل ذلك خلاف الظاهر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 115 وجوز الطيبي كون ثُمَّ للتراخي في الرتبة وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً أي نوعا من المطر غير معهود فقد كان حجارة من سجيل كما صرح به في قوله تعالى: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [هود: 82] . وجمع الأمران لهم زيادة في إهانتهم. وقيل: كان الائتفاك لطائفة والأمطار لأخرى منهم. وكانت هذه على ما روى عن مقاتل للذين كانوا خارجين من القرية لبعض حوائجهم ولعله مراد قتادة بالشذاذ فيما روي عنه فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ اللام فيه للجنس وبه يتسنى وقوع المضاف إليه فاعل ساء بناء على أنها بمعنى بئس. والمخصوص بالذم محذوف وهو مطرهم وإذا لم تكن ساء كذلك جاز كونها للعهد. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ الأيكة الغيضة التي تنبت ناعم الشجر وهي غيضة من ساحل البحر إلى مدين يسكنها طائفة وكانوا ممن بعث إليهم شعيب عليه السلام وكان أجنبيا منهم ولذلك قيل. إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ ولم يقل أخوهم، وقيل: الْأَيْكَةِ الشجر الملتف وكان شجرهم الدوم وهو المقل، وعلى القولين أَصْحابُ الْأَيْكَةِ غير أهل مدين، ومن غريب النقل عن ابن عباس أنهم هم أصحاب مدين. وقرأ الحرميان وابن عامر «ليكة» بلام مفتوحة بعدها ياء بغير ألف ممنوع الصرف هنا، وفي ص قال أبو عبيدة: وجدنا في بعض كتب التفسير أن «ليكة» اسم للقرية والْأَيْكَةِ البلاد كلها كمكة وبكة، ورأيتها في الإمام مصحف عثمان رضي الله تعالى عنه في [الحجر: 78] و [ق: 14] الْأَيْكَةِ وفي [الشعراء: 176، وص: 13] ليكة واجتمعت مصاحف الأمصار كلها بعد ذلك ولم تختلف، وفي الكشاف من قرأ بالنصب، وزعم أن ليكة بوزن ليلة اسم بلد فتوهم قاد إليه خط المصحف حيث وجدت مكتوبة هنا وفي «ص» بغير ألف، وفي المصحف أشياء كتبت على خلاف الخط المصطلح عليه وإنما كتبت في هاتين السورتين على حكم لفظ اللافظ كما يكتب أصحاب النحو الآن لأن والأولى لولى لبيان لفظ المخفف. وقد كتبت في سائر القرآن على الأصل والقصة واحدة على أن «ليكة» اسم لا يعرف انتهى، وتعقب بأنه دعوى من غير ثبت وكفى ثبتا للمخالف ثبوت القراءة في السبعة وهي متواترة كيف وقد انضم إليه ما سمعت عن بعض كتب التفسير. وإن لم تعول عليه فما روى البخاري في صحيحه الْأَيْكَةِ وليكة الغيضة، هذا وإن الأسماء المرتجلة لا منع منها، وفي البحر أن كون مادة ل ي ك مفقودة في لسان العرب كما تشبث به من أنكر هذه القراءة المتواترة إن صح لا يضر وتكون الكلمة عجمية ومواد كلام العجم مخالفة في كثير مواد كلام العرب فيكون قد اجتمع على منع صرفها العلمية والعجمة والتأنيث، وبالجملة إنكار الزمخشري صحة هذه القراءة يقرب من الردة والعياذ بالله تعالى. وقد سبقه في ذلك المبرد وابن قتيبة والزجاج والفارسي والنحاس، وقرىء «ليكة» بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام والجر بالكسرة وتكتب على حكم لفظ اللافظ بدون همزة وعلى الأصل بالهمزة وكذا نظائرها. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أَوْفُوا الْكَيْلَ أي أتموه وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ أي حقوق الناس بالتطفيف ولعل المبالغة المستفادة من التركيب متوجهة إلى النهي أو أنه لا يعتبر المفهوم لنحو ما قيل في قوله تعالى: لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً [آل عمران: 130] وأيا ما كان ففي النهي المذكور تأكيد للأمر السابق عليه وَزِنُوا الموزونات. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 116 بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ أي بالميزان السوي، وقيل: القسطاس القبان وروي ذلك عن الحسن، وهو عند بعض معرب رومي الأصل ومعناه العدل وروي ذلك عن مجاهد وعند آخرين عربي فقيل: هو من القسط ووزنه فعلاع بتكرير العين شذوذا إذ هي لا تكرر وحدها مع الفصل باللام، وقيل: من قسطس وهو رباعي ووزنه فعلال، والمراد الأمر بوفاء الوزن وإتمامه والنهي عن النقص دون النهي عن الزيادة، والظاهر أنه لم ينه عنها ولم يؤمر بها في الكيل والوزن، وكأن ذلك دليل على أن من فعلها فقد أحسن ومن لم يفعلها فلا عليه. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن معنى وَزِنُوا إلخ وعدلوا أموركم كلها بميزان العدل الذي جعله الله تعالى لعباده، والظاهر إذ عادل سبحانه به أَوْفُوا الْكَيْلَ [الأنعام: 152] ما تقدم. وقرأ أكثر السبعة «بالقسطاس» بضم القاف وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ أي لا تنقصوهم شيئا من حقوقهم أي حق كان فإضافة أشياء جنسية ويجوز أن تكون للاستغراق، والمراد مقابلة الجمع بالجمع فيكون المعنى لا تبخسوا أحدا شيئا، وجوز أن يكون الجمع للإشارة إلى الأنواع فإنهم كانوا يبخسون كل شيء جليلا كان أو حقيرا، وهذا تعميم بعد تخصيص بعض المراد بالذكر لغاية انهماكهم فيه، وقيل: المراد بأشيائهم الدراهم والدنانير وبخسها بالقطع من أطرافها ولولاه لم يجمع. وبخس مما يتعدى إلى اثنين فالمنصوبان مفعولاه، وقيل هو متعد لواحد فالثاني بدل اشتمال وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بالقتل والغارة وقطع الطريق ونحو ذلك، والعثو الفساد أو أشده و «مفسدين» حال مؤكدة، وجوز أن يكون المراد مفسدين آخرتكم فتكون حالا مؤسسة وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ أي وذوي الجبلة أي الخلقة والطبيعة أو والمجبولين على أحوالهم التي بنوا عليها وسبلهم التي قيضوا لسلوكها المتقدمين عليكم من الأمم، وجاء في رواية عن ابن عباس أن الجبلة الجماعة إذا كانت عشرة آلاف كأنها شبهت على ما قيل بالقطعة العظيمة من الجبل، وقيل: هي الجماعة الكثيرة مطلقا كأنها شبهت بما ذكر أيضا. وقرأ أبو حصين والأعمش والحسن بخلاف عنه «الجبلّة» بضم الجيم والباء وشد اللام وقرأ السلمي «الجبلة» بكسر الجيم وسكون الباء كالخلقة، وفي نسخة عنه بفتح الجيم وسكون الباء قيل وتشديد اللام في القراءتين للمبالغة قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا الكلام فيه نظير ما تقدم في قصة ثمود بيد أنه أدخل الواو بين الجملتين هنا للدلالة على أن كلا من التسحير والبشرية مناف للرسالة فكيف إذا اجتمعا وأرادوا بذلك المبالغة في التكذيب، ولم تدخل هناك حيث لم يقصد إلا معنى واحد وهو كونه مسحرا ثم قرر بكونه بشرا مثلهم كذا في الكشاف، وفي الكشف أن فيه ما يلوح إلى اختصاص كل بموضعه وإن الكلام هنالك في كونه مثلهم غير ممتاز بما يوجب الفضيلة ولهذا عقبوه بقولهم: فَأْتِ بِآيَةٍ [الشعراء: 154] فدل على أنهم لم يجعلوا البشرية منافية للنبوة وإنما جعلوا الوصف تمهيدا للاشتراك وأنه أبدع في دعواه، وهاهنا ساقوا ذلك مساق ما ينافي النبوة فجعلوا كل واحد صفة مستقلة في المنافاة ليكون أبلغ. وجعلوا إنكار النبوة أمرا مفروغا ولذا عقبوه بقولهم: وَإِنْ نَظُنُّكَ إلخ، وقال النيسابوري في وجه الاختصاص: إن صالحا عليه السلام قلل في الخطاب فقللوا في الجواب وأكثر شعيب عليه السلام في الخطاب ولهذا قيل له: خطيب الأنبياء فأكثروا في الجواب، ولعله أراد أن شعيبا عليه السلام بالغ في زجرهم فبالغوا في تكذيبه ولا كذلك صالح عليه السلام مع قومه فتأمل، وإِنْ في قوله سبحانه: وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ هي المخففة من الثقيلة واللام في لَمِنَ هي الفارقة، وقال الكوفيون: إن نافية واللام بمعنى إلا وهو خلاف مشهور أي وإن الشأن نظنك من الكاذبين في الدعوى أو ما نظنك إلا من الكاذبين فيها، ومرادهم أنه عليه السلام وحاشاه راسخ القدم في الكذب في دعواه الرسالة أو فيها وفي دعوى نزول العذاب الذي يشعر به الأمر بالتقوى من التهديد. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 117 وظاهر حالهم أنهم عنوا بالظن الإدراك الجازم، وقوله عز وجل: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ من الاقتراح الذي تحته كل الإنكار على نحو إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال: 32] ولعلهم قابلوا به ما أشعر به الأمر بالتقوى مما ذكرنا، وكِسَفاً أي قطعا كما روي عن ابن عباس وقتادة جمع كسفة كقطعة. وقرأ الأكثرون «كسفا» بكسر الكاف وسكون السين وهو أيضا جمع كسفة مثل سدرة وسدر، وقيل: الكسف والكسفة كالريع والريعة وهي القطعة، والمراد بالسماء إما المظلة وهو الظاهر وإما السحاب، والظاهر أن الجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لما قبله وتعلقه بأسقط في غاية السقوط، وجوز عليه أن يراد بالسماء جهة العلو، وجواب أن محذوف دل عليه فأسقط، ومن جوز تقدم الجواب جعله الجواب. قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ أي هو تعالى أعلم بأعمالكم من الكفر والمعاصي وبما تستوجبون عليها من العذاب فسينزله عليكم حسبما تستوجبون في وقته المقدر له لا محالة فَكَذَّبُوهُ فاستمروا على تكذيبه وكذبوه تكذيبا بعد تكذيب فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ وذلك على ما أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن عباس أن الله تعالى بعث عليهم حرا شديدا فأخذ بأنفاسهم فدخلوا أجواف البيوت فدخل عليهم فخرجوا منها هرابا إلى البرية فبعث الله تعالى عليهم سحابة فأظلتهم من الشمس وهي الظلة فوجدوا لها بردا ولذة فنادى بعضهم بعضا حتى إذا اجتمعوا تحتها أسقطها الله عز وجل عليهم نارا فأكلتهم جميعا. وجاء في كثير من الروايات أن الله عز وجل سلط عليهم الحر سبعة أيام ولياليهن ثم كان ما كان من الخروج إلى البرية وما بعده وكان ذلك على نحو ما اقترحوه لا سيما على القول بأنهم عنوا بالسماء السحاب، وفي إضافة العذاب إلى يوم الظلة دون نفسها إيذان بأن لهم عذابا آخر غير عذاب الظلة وفي ترك بيانه تعظيم لأمره. وقد أخرج ابن جرير والحاكم وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: من حدثك من العلماء ما عذاب يوم الظلة فكذبه، وكأنه أراد بذلك مجموع عذاب الظلة الذي ذكر في الخبر السابق والعذاب الآخر الذي آذنت به الإضافة إلى اليوم إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي في الشدة والهول وفظاعة ما وقع فيه من الطامة والداهية التامة. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ هذا آخر القصص السبع التي سيقت لما علمته سابقا، ولعل الاقتصار على هذا العدد على ما قيل لأنه عدد تام وأنا أفوض العلم بسر ذلك وكذا العلم بسر ترتيب القصص على هذا الوجه لحضرة علام الغيوب جل شأنه، وقوله سبحانه: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ إلخ عود لما في مطلع السورة الكريمة من التنويه بشأن القرآن، العظيم، ورد ما قال المشركون فيه فالضمير راجع إلى القرآن، وقيل: هو تقرير لحقية تلك القصص وتنبيه على إعجاز القرآن ونبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم فإن الأخبار عنها ممن لم يتعلمها لا يكون إلا وحيا من الله عز وجل، فالضمير لما ذكر من الآيات الكريمة الناطقة بتلك القصص المحكية، وجوز أن يكون للقرآن الذي هي من جملته والإخبار عن ذلك بتنزيل للمبالغة والمراد أنه لمنزل من الله تعالى ووصفه سبحانه بربوبية العالمين للإيذان بأن تنزيله من أحكام تربيته عز وجل ورأفته بالكل نَزَلَ بِهِ أي أنزله على أن الباء للتعدية. وقال أبو حيان وابن عطية: هي للمصاحبة والجار والمجرور في موضع الحال كما في قوله تعالى: وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ [المائدة: 61] أي نزل مصاحبا له الرُّوحُ الْأَمِينُ يعني جبرائيل عليه السلام، وعبر عنه بالروح الجزء: 10 ¦ الصفحة: 118 لأنه يحيي به الخلق في باب الدين أو لأنه روح كله لا كالناس الذين في أبدانهم روح، ووصف عليه السلام بالأمين لأنه أمين وحيه تعالى وموصوله إلى من شاء من عباده جل شأنه من غير تغيير وتحريف أصلا. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر وابن عامر نزل به الروح الأمين بتشديد الزاي ونصب الروح والْأَمِينُ أي جعل الله تعالى الروح الأمين نازلا به عَلى قَلْبِكَ متعلق بنزل لا بالأمين. والمراد بالقلب إما الروح وهو أحد إطلاقاته كما قال الراغب: وكون الإنزال عليه على ما قال غير واحد لأنه المدرك والمكلف دون الجسد. وقد يقال: لما كان له صلّى الله عليه وسلّم جهتان جهة ملكية يستفيض بها وجهة بشرية يفيض بها جعل الإنزال على روحه صلّى الله عليه وسلّم لأنها المتصفة بالصفات الملكية التي يستفيض بها من الروح الأمين. وللإشارة إلى ذلك قيل عَلى قَلْبِكَ دون عليك الأخصر. وقيل: إن هذا لأن القرآن لم ينزل في الصحف كغيره من الكتب، وأما العضو المخصوص وهو الإطلاق المشهور. وتخصيصه بالإنزال عليه قيل للإشارة إلى كمال تعقله صلّى الله عليه وسلّم وفهمه ذلك المنزل حيث لم تعتبر واسطة في وصوله إلى القلب الذي هو محل العقل كما يقتضيه ظاهر كثير من الآيات والأحاديث ويشهد له العقل على ما لا يخفى على من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. وقد أطال في الانتصار لذلك الإمام في تفسيره. ورد على من ذهب إلى أن الدماغ محل العقل، وقيل: للإشارة إلى صلاح قلبه عليه الصلاة والسلام وتقدسه حيث كان منزلا لكلامه تعالى ليعلم منه حال سائر أجزائه صلّى الله عليه وسلّم فإن القلب رئيس جميع الأعضاء وملكها ومتى صلح الملك صلحت الرعية وفي الحديث: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» ، وقد يقال: يجوز أن يكون التخصيص لأن الله تعالى جعل لقلب رسوله صلّى الله عليه وسلّم سمعا مخصوصا يسمع به ما ينزل عليه من القرآن تمييزا لشأنه على سائر ما يسمعه ويعيه على حد ما قيل وذكره النووي في شرح صحيح مسلم في قوله تعالى: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى [النجم: 11] من أن الله عز وجل جعل لفؤاده عليه الصلاة والسلام بصرا فرآه به سبحانه ليلة المعراج. وهذا كله على القول بأن جبرائيل عليه السلام ينزل بالألفاظ القرآنية المحفوظة له بعد أن نزل القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة أو التي يحفظها من اللوح عند الأمر بالإنزال أو التي يوحى بها إليه أو التي يسمعها منه سبحانه على ما قاله بعض أجلة السلف عنده فيلقيها إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم على ما هي عليه من غير تغيير أصلا. وكذا على القول بأن جبرائيل عليه السلام ألقى عليه المعاني القرآنية وأنه عبر عنها بهذه الألفاظ العربية ثم نزل بها كذلك فألقاها إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم. وأما على القول بأنه عليه السلام إنما نزل بالمعاني خاصة إلى النبي عليه الصلاة والسلام وأنه عليه الصلاة والسلام علم تلك المعاني وعبر عنها بلغة العرب فقيل: إن القلب بمعنى العضو المخصوص لا غير وتخصيصه لأن المعاني إنما تدرك بالقوة المودعة فيه، وقيل: يجوز أن يراد به الروح وروحه عليه الصلاة والسلام لغاية تقدسها وكمالها في نفسها تدرك المعاني من غير توسط آلة. ومن الناس من ذهب إلى هذا القول وجعل الآية دليلا له وهو قول مرجوح. ومثله القول بأن جبرائيل عليه السلام ألقى عليه المعاني فعبر عنها بألفاظ فنزل بما عبر هو به. والقول الراجح أن الألفاظ منه عز وجل كالمعاني لا مدخل لجبرائيل عليه السلام فيها أصلا. وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يسمعها ويعيها بقوى إلهية قدسية لا كسماع البشر إياها منه عليه الصلاة والسلام وتنفعل عند ذلك قواه البشرية، ولهذا يظهر على جسده الشريف صلّى الله عليه وسلّم ما يظهر ويقال لذلك: برجاء الوحي حتى يظن في بعض الأحايين أنه أغمي عليه عليه الصلاة والسلام. وقد يظن أنه صلّى الله عليه وسلّم أغفي. وعلى هذا يخرج ما رواه مسلم عن أنس قال: «بينا رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم بين أظهرنا إذ أغفى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 119 إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ فقال: أنزل عليّ آنفا سورة فقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ [الكوثر: 1- 3] ولا يحتاج من قال: إن الأشبه أن القرآن كله نزل في اليقظة إلى تأويل هذا الخبر بأنه عليه الصلاة والسلام خطر له في تلك الإغفاءة سورة الكوثر التي نزلت قبلها في اليقظة أو عرض عليه الكوثر الذي أنزلت فيه السورة فقرأها عليهم، ثم إنه على ما قيل من أن بعض القرآن نزل عليه عليه الصلاة والسلام وهو نائم استدلالا بهذا الخبر يبقى ما قلناه من سماعه عليه الصلاة والسلام ما ينزل إليه صلّى الله عليه وسلّم ووعيه إياه بقوى إلهية قدسية ونومه عليه الصلاة والسلام لا يمنع من ذلك كيف وقد صح عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «تنام عيني ولا ينام قلبي» . وقد ذكر بعض المتصدرين في محافل الحكمة من المتأخرين في بيان كيفية نزول الكلام وهبوط الوحي من عند الله تعالى بواسطة الملك على قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم أن الروح الإنساني إذا تجرد عن البدن، وخرج عن وثاقة من بيت قالبه وموطن طبعه مهاجرا إلى ربه سبحانه لمشاهدة آياته الكبرى وتطهر عن درن المعاصي واللذات والشهوات والوساوس العادية والمتعلقات لاح له نور المعرفة والإيمان بالله تعالى وملكوته الأعلى وهذا النور إذا تأكد وتجوهر كان جوهرا قدسيا يسمى في لسان الحكمة النظرية بالعقل الفعال وفي لسان الشريعة النبوية بالروح القدسي وبهذا النور الشديد العقلي يتلألأ فيه أسرار ما في الأرض والسماء ويتراءى منه حقائق الأشياء كما يتراءى بالنور الحسي البصري الأشباح المثالية في قوة البصر إذا لم يمنع حجاب، والحجاب هاهنا هو آثار الطبيعة وشواغل هذه الأولى فإذا عريت النفس عن دواعي الطبيعة والاشتغال بما تحتها من الشهوة والغضب والحس والتخيل وتوجهت بوجهها شطر الحق وتلقاء عالم الملكوت الأعلى اتصلت بالسعادة القصوى فلاح لها سر الملكوت وانعكس عليها قدس اللاهوت ورأت عجائب آيات الله تعالى الكبرى، ثم إن هذه الروح إذا كانت قدسية شديدة القوى قوية الآثار لقوة اتصالها بما فوقها فلا يشغلها شأن عن شأن ولا يمنعها جهة فوقها عن جهة تحتها فتضبط الطرفين وتسع قوتها الجانبين لشدة تمكنها في الحد المشترك بين الملك والملكوت كالأرواح الضعيفة التي إذا مالت إلى جانب غاب عنها الجانب الآخر وإذا ركنت إلى مشعر من المشاعر ذهلت عن المشعر الآخر وإذا توجهت هذه الروح القدسية التي لا يشغلها شأن عن شأن ولا تصرفها نشأة عن نشأة وتلقت المعارف الإلهية بلا تعلم بشري بل من الله تعالى يتعدى تأثيرها إلى قواها ويتمثل لروحه البشري صورة ما شاهده بروحه القدسي وتبرز منها إلى ظاهر الكون فتتمثل للحواس الظاهرة سيما السمع والبصر لكونهما أشرف الحواس الظاهرة فيرى ببصره شخصا محسوسا في غاية الحسن والصباحة ويسمع بسمعه كلاما منظوما في غاية الجودة والفصاحة، فالشخص هو الملك النازل بإذن الله تعالى الحامل للوحي الإلهي، والكلام هو كلام الله تعالى وبيده لوح فيه كتاب هو كتاب الله تعالى، وهذا الأمر المتمثل بما معه أو فيه ليس مجرد صورة خيالية لا وجود لها في خارج الذهن والتخيل كما يقوله من لا حظ له من علم الباطن ولا قدم له في أسرار الوحي والكتاب كبعض أتباع المشائين معاذ الله تعالى عن هذه العقيدة الناشئة عن الجهل بكيفية الإنزال والتنزيل ثم قال: إنارة قلبية وإشارة عقلية عليك أن تعلم أن للملائكة ذوات حقيقية وذوات إضافية مضافة إلى ما دونها إضافة النفس إلى البدن الكائن في النشأة الآخرة فأما ذواتها الحقيقية فإنما هي أمرية قضائية قولية وأما ذواتها الإضافية فإنما هي خلقية قدرية تنشأ منها الملائكة اللوحية وأعظمهم إسرافيل عليه السلام وهؤلاء الملائكة اللوحية يأخذون الكلام الإلهي والعلوم اللدنية من الملائكة القلمية ويثبتونها في صحائف ألواحهم القدرية الكتابية، وإنما كان يلاقي النبي صلّى الله عليه وسلّم في معراجه الصنف الأول من الملائكة ويشاهد روح القدس في اليقظة فإذا اتصلت الروح النبوية بعالمهم عالم الوحي الرباني يسمع كلام الله تعالى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 120 وهو إعلام الحقائق بالمكالمة الحقيقة وهي الإفاضة والاستفاضة في مقام قاب قوسين أو أدنى وهو مقام القرب ومقعد الصدق ومعدن الوحي والإلهام، وكذا إذا عاشر النبي الملائكة الأعلين يسمع صريف أقلامهم وإلقاء كلامهم وهو كلام الله تعالى النازل في محل معرفتهم وهي ذواتهم وعقولهم لكونهم في مقام القرب، ثم إذا نزل عليه الصلاة والسلام إلى ساحة الملكوت السماوي يتمثل له صورة ما عقله وشاهده في لوح نفسه الواقعة في عالم الأرواح القدرية السماوية ثم يتعدى منه الأثر إلى الظاهر، وحينئذ يقع للحواس شبه دهش ونوم لما أن الروح القدسية لضبطها الجانبين تستعمل المشاعر الحسية لكن لا في الأغراض الحيوانية بل في سبيل السلوك إلى الرب سبحانه فهي تشائع الروح في سبيل معرفته تعالى وطاعته فلا جرم إذا خاطبه الله تعالى خطابا من غير حجاب خارجي سواء كان الخطاب بلا واسطة أو بواسطة الملك واطلع على الغيب فانطبع في فص نفسه النبوية نقش الملكوت وصورة الجبروت تنجذب قوة الحس الظاهر إلى فوق ويتمثل لها صورة غير منفكة عن معناها وروحها الحقيقي لا كصورة الأحلام والخيالات العاطلة عن المعنى فيتمثل لها حقيقة الملك بصورته المحسوسة بحسب ما يحتملها فيرى ملكا على غير صورته التي كانت له في عالم الأمر لأن الأمر إذا نزل صار خلقا مقدرا فيرى صورته الخلقية القدرية ويسمع كلاما مسموعا بعد ما كان وحيا معقولا أو يرى لوحا بيده مكتوبا فالموحى إليه يتصل بالملك أولا بروحه العقلي ويتلقى منه المعارف الإلهية ويشاهد ببصره العقلي آيات ربه الكبرى ويسمع بسمعه العقلي كلام رب العالمين من الروح الأعظم. ثم إذا نزل عن هذا المقام الشامخ الإلهي يتمثل له الملك بصورة محسوسة بحسبه ثم ينحدر إلى حسه الظاهر ثم إلى الهواء وهكذا الكلام في كلامه فيسمع أصواتا وحروفا منظومة مسموعة يختص هو بسماعها دون غيره فيكون كل من الملك وكلامه وكتابه قد تأدى من غيبه إلى شهادته ومن باطن سره إلى مشاعره، وهذه التأدية ليست من قبيل الانتقال والحركة للملك الموحي من موطنه ومقامه إذ كل له مقام معلوم لا يتعداه ولا ينتقل عنه بل مرجع ذلك إلى انبعاث نفسي النبي عليه الصلاة والسلام من نشأة الغيب إلى نشأة الظهور، ولهذا كان يعرض له شبه الدهش والغشي ثم يرى ويسمع ثم يقع منه الإنباء والإخبار فهذا معنى تنزيل الكتاب وإنزال الكلام من رب العالمين انتهى. وفيه ما تأباه الأصول الإسلامية مما لا يخفى عليك وقد صرح غير واحد من المحدثين والمفسرين وغيرهم بانتقال الملك وهو جسم عندهم ولم يؤول أحد منهم نزوله فيما نعلم، نعم أولوا نزول القرآن وإنزاله. قال الأصفهاني في أوائل تفسيره: اتفق أهل السنة والجماعة على أن كلام الله تعالى منزل واختلفوا في معنى الإنزال، فمنهم من قال: إظهار القراءة، ومنهم من قال: إن الله تعالى الهم كلامه جبريل عليه السلام وهو في السماء وعلمه قراءته ثم جبريل أداه في الأرض وهو يهبط في المكان وفي ذلك طريقتان، إحداهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم انخلع من صورة البشرية إلى صورة الملكية وأخذه من جبريل عليه السلام، وثانيتهما أن الملك انخلع إلى البشرية حتى يأخذه النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم منه، والأولى أصعب الحالين انتهى وقال الطيبي: لعل نزول القرآن على الرسول عليه الصلاة والسلام أن يتلقفه الملك تلقفا روحانيا أو يحفظه من اللوح المحفوظ فينزل به إلى الرسول ويلقيه عليه. وقال القطب في حواشي الكشاف الإنزال في اللغة الإيواء وبمعنى تحريك الشيء من علو إلى سفل وكلاهما لا يتحققان في الكلام فهو مستعمل بمعنى مجازي فمن قال: القرآن معنى قائم بذات الله تعالى فإنزاله أن توجد الكلمات والحروف الدالة على ذلك المعنى ويثبتها في اللوح المحفوظ. ومن قال: القرآن هو الألفاظ الدالة على المعنى القائم بذاته تعالى فإنزاله مجرد إثباته في اللوح المحفوظ، وهذا المعنى مناسب لكونه مجازا عن أول المعنيين اللغويين. ويمكن أن يكون المراد بإنزاله إثباته في السماء الدنيا بعد الإثبات في اللوح المحفوظ وهذا مناسب للمعنى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 121 الثاني، والمراد بإنزال الكتب على الرسل أن يتلقفها الملك من الله تعالى تلقفا روحانيا أو يحفظها من اللوح المحفوظ وينزل بها فيلقيها عليهم انتهى وفيه بحث لا يخفى، وعندي أن إنزاله إظهاره في عالم الشهادة بعد أن كان في عالم الغيب، ثم إن ظاهر الآية يقتضي أن جميع القرآن نزل به الروح الأمين على قلبه الشريف صلّى الله تعالى عليه وسلم وهذا ينافي ما قيل: إن آخر سورة البقرة كلمه الله تعالى بها ليلة المعراج حيث لا واسطة احتجاجا بما أخرجه مسلم عن ابن مسعود «لما أسري برسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم انتهى إلى سدرة المنتهى» الحديث وفيه: «فأعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصلوات الخمس وأعطى خواتيم سورة البقرة وغفر لمن لا يشرك من أمته بالله تعالى شيئا المقحمات» ، وأجيب بعد تسليم أن يكون ما ذكر دليلا لذلك يجوز أن يكون قد نزل جبريل عليه السلام بما ذكر أيضا تأكيدا وتقريرا أو نحو ذلك، وقد ثبت نزوله عليه السلام بالآية الواحدة مرتين لما ذكر، وجوز أن تكون الآية باعتبار الأغلب، واعتبر بعضهم كونها كذلك لأمر آخر وهو أن من القرآن ما نزل به إسرافيل عليه السلام وهو ما كان في أول النبوة وفيه أن ذلك لم يثبت أصلا. وفي الإتقان أخرج الإمام أحمد في تاريخه من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي قال: أنزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم النبوة وهو ابن أربعين سنة فقرن بنبوته إسرافيل عليه السلام ثلاث سنين فكان يعلمه الكلمة والشيء ولم ينزل عليه القرآن على لسانه فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل عليه فنزل عليه القرآن على لسانه عشر سنين انتهى، وهو صريح في خلاف ذلك وإن كان فيه ما يخالف الصحيح المشهور من أن جبريل عليه السلام هو الذي نزل عليه عليه الصلاة والسلام بالوحي من أول الأمر إلا أنه نزل عليه صلّى الله عليه وسلّم غيره عليه السلام من الملائكة أيضا ببعض الأمور، وكثيرا ما ينزلون لتشييع الآيات القرآنية مع جبريل عليه وعليهم السلام. ومن الناس من اعتبر كونها باعتبار الأغلب لأن إنزال جبريل عليه السلام قد لا يكون على القلب بناء على ما ذكره الشيخ محيي الدين قدس سره في الباب الرابع عشر من الفتوحات من قوله: اعلم أن الملك يأتي النبي عليه الصلاة والسلام بالوحي على حالين تارة ينزل بالوحي على قلبه وتارة يأتيه في صورة جسدية من خارج فيلقى ما جاء به إلى ذلك النبي على أذنه فيسمعه أو يلقيه على بصره فيبصره فيحصل له من النظر ما يحصل من السمع سواء. وتعقب بأنه لا حاجة إلى ما ذكر، وما نقل عن محيي الدين قدس سره لا يدل على أن نزول الوحي إلى كل نبي يكون على هذين الحالين فيجوز أن يكون نزول الوحي إلى نبينا صلّى الله عليه وسلّم على الحال الأولى فقط سلمنا دلالته على العموم وأن نزول الوحي إلى نبينا عليه الصلاة والسلام قد يكون بتمثل الملك بناء على بعض الأخبار الصحيحة في ذلك لكن لا نسلم أنه يدل على أن نزول الوحي إذا كان الموحى قرآنا يكون على الحال الثانية سلمنا دلالته على ذلك لكن لا نسلم صحة جعله مبنى لتأويل الآية، وكي يؤول كلام الله تعالى لكلام مناف لظاهره صدر من غير معصوم، ويكفي محيي الدين قدس سره من علماء الشريعة أن يؤولوا كلامه ليوافق كلام الله عز وجل فيسلم من الطعن، ولعل من يؤول في مثل ذلك يحسن الظن بمحيي الدين قدس سره ويقول: إنه لم يقل ذلك إلا لدليل شرعي فقد قال قدس سره في الكلام على الإذن من الفتوحات: اعلم أني لم أقرر بحمد الله تعالى في كتابي هذا ولا غيره قط أمرا غير مشروع وما خرجت عن الكتاب والسنة في شيء من تصانيفي، وقال في الباب السادس والستين وثلاثمائة من الكتاب المذكور جميع ما أتكلم به في مجالسي وتأليفي إنما هو من حضرة القرآن العظيم فإني أعطيت مفاتيح العلم فيه فلا أستمد قط في علم من العلوم إلا منه كل ذلك حتى لا أخرج عن مجالسة الحق تعالى في مناجاته بكلامه أو بما تضمنه كلامه سبحانه إلى غير ذلك فالداعي للتأويل في الحقيقة ذلك الدليل لا نفس كلامه قدس سره العزيز وهو اللائق بالمسلمين الكاملين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 122 وقوله تعالى: لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ متعلق بنزل أي نزل به لتنذرهم بما في تضاعيفه من العقوبات الهائلة. وإيثار ما في النظم الكريم للدلالة على انتظامه صلّى الله عليه وسلّم في سلك أولئك المنذرين المشهورين في حقية الرسالة وتقرر العذاب المنذر به، وكذا قوله سبحانه: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ متعلق بنزل عند جمع من الأجلة ويكون حينئذ على ما قال الشهاب بدلا من بِهِ بإعادة العامل، وتقديم لِتَكُونَ إلخ للاعتناء بأمر الإنذار ولئلا يتوهم أن كونه عليه الصلاة والسلام من جملة المنذرين المذكورين متوقف على كون الإنزال بلسان عربي مبين، واستحسن كون الباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال من ضمير بِهِ أي نزل به ملتبسا بلغة عربية واضحة المعنى ظاهرة المدلول لئلا يبقى لهم عذر، وقيل: بلغة مبينة لهم ما يحتاجون إليه من أمور دينهم ودنياهم على أن مُبِينٍ من أبان المتعدي، والأول أظهر. وجوز أن تعلق الجار والمجرور بالمنذرين أي لتكون من الذين أنذروا بلغة العرب وهم هود وصالح وإسماعيل وشعيب ومحمد صلّى الله عليه وسلّم، وزاد بعضهم خالد بن سنان وصفوان بن حنظلة عليهما السلام. وتعقب بأنه يؤدي إلى أن غاية الإنذار كونه عليه السلام من جملة المنذرين باللغة العربية فقط من هود وصالح وشعيب عليهم السلام، ولا يخفى فساده كيف لا، والطامة الكبرى في باب الإنذار ما أنذره نوح وموسى عليهما السلام، وأشد الزواجر تأثيرا في قلوب المشركين ما أنذره إبراهيم عليه السلام لانتمائهم إليه وادعائهم أنهم على ملته عليه السلام، وذكر بعضهم أن المراد على هذا الوجه أنك أنذرتهم كما أنذر آباؤهم الأولون وأنك لست بمبتدع بهذا فكيف كذبوك، والحق أن الوجه المذكور دون الوجه السابق، وأما أنه فاسد معنى كما يقتضيه كلام المتعقب فلا. وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أي وإنّ ذكر القرآن لفي الكتب المتقدمة على أن الضمير للقرآن والكلام على حذف مضاف وهذا كما يقال: إن فلانا في دفتر الأمير. وقيل: المراد وإن معناه لفي الكتب المتقدمة وهو باعتبار الأغلب فإن التوحيد وسائر ما يتعلق بالذات والصفات وكثيرا من المواعظ والقصص مسطور في الكتب السابقة فلا يضران منه ما ليس في ذلك بحسب الظن الغالب كقصة الإفك وما كان في نكاح امرأة زيد وما تضمنه صدر سورة التحريم وغير ذلك. واشتهر عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه جوز قراءة القرآن بالفارسية والتركية والهندية وغير ذلك من اللغات مطلقا استدلالا بهذه الآية. وفي رواية تخصيص الجواز بالفارسية لأنها أشرف اللغات بعد العربية لخبر لسان أهل الجنة العربي والفارسي الدري. وفي رواية أخرى أنها إنما تجوز بالفارسية إذا كان ثناء كسورة الإخلاص أما إذا كان غيره فلا تجوز، وفي أخرى أنها إنما تجوز بالفارسية في الصلاة إذا كان المصلي عاجزا عن العربية وكان المقروء ذكرا وتنزيها أما القراءة بها في غير الصلاة أو في الصلاة وكان القارئ يحسن العربية أو في الصلاة وكان القارئ عاجزا عن العربية لكن كان المقروء من القصص والأوامر والنواهي فإنها لا تجوز، وذكر أن هذا قول صاحبيه. وكان رضي الله تعالى عنه قد ذهب إلى خلافه ثم رجع عنه إليه. وقد صحح رجوعه عن القول بجواز القراءة بغير العربية مطلقا جمع من الثقات المحققين. وللعلامة حسن الشر نبلالي رسالة في تحقيق هذه المسألة سماها النفحة القدسية في أحكام قراءة القرآن وكتابته بالفارسية فمن أراد التحقيق فليرجع إليها. وكان رجوع الإمام عليه الرحمة عما اشتهر عنه لضعف الاستدلال بهذه الآية عليه كما لا يخفى على المتأمل. وفي الكشف أن القرآن كان هو المنزل للإعجاز إلى آخر ما يذكر في معناه فلا شك أن الترجمة ليست بقرآن وإن كان هو المعنى القائم بصاحبه فلا شك أنه غير ممكن القراءة، فإن قيل: هو المعنى المعبر عنه بأي لغة كان قلنا لا شك في اختلاف الأسامي باختلاف اللغات وكما لا يسمى القرآن بالتوراة لا يسمى التوراة بالقرآن فالأسماء لخصوص الجزء: 10 ¦ الصفحة: 123 العبارات فيها مدخل لا أنها لمجرد المعنى المشترك اه، وفيه بحث فإن قوله تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا [فصلت: 44] يستلزم تسميته قرآنا أيضا لو كان أعجميا فليس لخصوص العبارة العربية مدخل في تسميته قرآنا، والحق أن قرآنا المنكر لم يعهد فيه نقل عن المعنى اللغوي فيتناول كل مقروء، أما القرآن باللام فالمفهوم منه العربي في عرف الشرع فلخصوص العبارة مدخل في التسمية نظرا إليه، وقد جاء كذلك في الآية الدالة على وجوب القراءة أعني قوله سبحانه: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل: 20] وبذلك تم المقصود، وجعل من فيه للتبعيض وإرادة المعنى من هذا البعض لا يخفى ما فيه، وقيل: ضمير إِنَّهُ عائد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وليس بواضح، وقرأ الأعمش «زبر» بسكون الباء. أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً الهمزة للتقرير أو للإنكار والنفي والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام كأنه قيل: أغفلوا عن ذلك ولم يكن لهم آية دالة على أنه تنزيل رب العالمين وإنه لفي زبر الأولين على أن لَهُمْ متعلق بالكون قدم على اسمه وخبره للاهتمام أو بمحذوف هو حال من آيَةً قدمت عليها لكونها نكرة وآيَةً خبر للكون قدم على اسمه الذي هو قوله تعالى: أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر، والعلم بمعنى المعرفة والضمير للقرآن أي ألم يكن لهم آية معرفة علماء بني إسرائيل القرآن بنعوته المذكورة في كتبهم، وعن قتادة أن الضمير للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: العلم على معناه المشهور والضمير للحكم السابق في قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ إلخ وفيه بعد كما لا يخفى، وذكر الثعلبي عن ابن عباس أن أهل مكة بعثوا إلى أحبار يثرب يسألونهم عن النبي فقالوا: هذا زمانه وذكروا نعته وخلطوا في أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم فنزلت الآية في ذلك، وهو ظاهر في أن الضمير له عليه الصلاة والسلام ويؤيده كون الآية مكية. وقال مقاتل: هي مدنية، وعلماء بني إسرائيل عبد الله بن سلام ونحوه كما روي عن ابن عباس ومجاهد، وذلك أن جماعة منهم أسلموا ونصوا على مواضع من التوراة والإنجيل فيها ذكر الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: علماؤهم من أسلم منهم ومن لم يسلم، وقيل أنبياؤهم فإنهم نبهوا على ذلك وهو خلاف الظاهر، ولعل أظهر الأقوال كون المراد به معاصريه صلّى الله تعالى عليه وسلّم من علماء أهل الكتابين المسلمين وغيرهم. وقرأ ابن عامر والجحدري «تكن» بالتأنيث و «آية» بالرفع وجعلت اسم تكن وأَنْ يَعْلَمَهُ خبرها. وضعف بأن فيه الإخبار عن النكرة بالمعرفة، ولا يدفعه كون النكرة ذات حال بناء على أحد الاحتمالين في لَهُمْ، وجوز أن يكون آيَةً الاسم ولَهُمْ متعلقا بمحذوف هو الخبر و «أن يعلمه» بدلا من الاسم أو خبر مبتدأ محذوف، وأن يكون الاسم ضمير القصة ولَهُمْ آيَةً مبتدأ وخبر والجملة خبر تكن وأَنْ يَعْلَمَهُ بدلا أو خبر مبتدأ محذوف وأن يكون الاسم ضمير القصة وآيَةً خبر أَنْ يَعْلَمَهُ والجملة خبر تكن وأن تكون تكن تامة. وآيَةً فاعلا وأَنْ يَعْلَمَهُ بدلا أو خبرا لمحذوف ولَهُمْ إما حالا أو متعلقا بتكن وقرأ ابن عباس «تكن» بالتأنيث وآيَةً بالنصب كقراءة من قرأ «ثم لم تكن» بالتأنيث فتنتهم بالنصب «إلا أن قالوا» وكقول لبيد يصف العير والأتان: فمضى وقدمها وكانت عادة ... منه إذا هي عردت إقدامها وذلك إما على تأنيث الاسم لتأنيث الخبر، وإما لتأويل «أن يعلمه» بالمعرفة وتأويل أن قالوا بالمقالة وتأويل الأقدام بالمتقدمة، ودعوى اكتساب التأنيث فيه من المضاف إليه ليس بشيء لفقد شرطه المشهور. وقرأ الجحدري تعلمه بالتأنيث على أن المراد جماعة علماء بني إسرائيل وكتب في المصحف «علمؤا» بواو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 124 بين الميم والألف ووجه ذلك بأنه على لغة من يميل ألف علماء إلى الواو كما كتبوا الصلوات والزكات والربو بالواو على تلك اللغة وَلَوْ نَزَّلْناهُ أي القرآن كما هو بنظمه الرائق المعجز عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ الذين لا يقدرون على التكلم بالعربية، وهو جمع أعجمي كما في التحرير وغيره إلا أنه حذف ياء النسب منه تخفيفا. ومثله الأشعرين جمع أشعري في قول الكميت: ولو جهزت قافية شرودا ... لقد دخلت بيوت الأشعرينا وقد قرأه الحسن وابن مقسم بياء النسب على الأصل، وقال ابن عطية: هو جمع أعجم وهو الذي لا يفصح وإن كان عربي النسب والعجمي هو الذي نسبته في العجم خلاف العرب وإن كان أفصح الناس انتهى. واعترض بأن أعجم مؤنثة عجماء وفعل فعلاء لا يجمع جمع سلامة، وأجيب بأن الأعجم في الأصل البهيمة العجماء لعدم نطقها ثم نقل أو تجوز به عما ذكر وهو بذلك المعنى ليس له مؤنث على فعلاء فلذلك جمع جمع السلامة، وتعقب بأنه قد صرح العلامة محمد بن أبي بكر الرازي في كتابه غرائب القرآن بأن الأعجم هو الذي لا يفصح والأنثى العجماء ولو سلّم أنه ليس له بذلك المعنى مؤنث فالأصل مراعاة أصله. وفيه أن كون ارتفاع المانع لعارض مجوزا مما صرح به النحاة. ثم إن كون أفعل فعلاء لا يجمع جمع سلامة مذهب البصريين والفراء وغيره من الكوفيين يجوزونه فلعل من قال: إنه جمع أعجم قاله بناء على ذلك. وظاهر الجمع المذكور يقتضي أن يكون المراد به العقلاء، وعن بعضهم أنه جمع أعجم مرادا به ما لا يعقل من الدواب العجم وجمع جمع العقلاء لأنه وصف بالتنزيل عليه وبالقراءة في قوله تعالى: فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ فإن الظاهر رجوع ضمير الفاعل إلى بعض الأعجمين وهما من صفات العقلاء، والمراد بيان فرط عنادهم وشدة شكيمتهم في المكابرة كأنه قيل: ولو نزلناه بهذا النظم الرائق المعجز على من لا يقدر على التكلم بالعربية أو على ما ليس من شأنه التكلم أصلا من الحيوانات العجم فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ قراءة صحيحة خارقة للعادة ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ مع انضمام إعجاز القراءة إلى إعجاز المقروء، وقيل: المراد بالأعجمين جمع أعجم أعم من أن يكون عاقلا أو غيره، ونقل ذلك الطبرسي عن عبد الله بن مطيع، وذكر أنه روي عن ابن مسعود أنه سئل عن هذه الآية وهو على بعير فأشار إليه وقال: هذا من الأعجمين. والطبري على ما في البحر يروي نحو هذا عن ابن مطيع، والمراد أيضا بيان فرط عنادهم، وقيل: هو جمع أعجم مرادا به ما لا يعقل وضمير الفاعل في (قرأه) للنبي صلّى الله عليه وسلّم وضمير عَلَيْهِمْ لبعض الأعجمين وكذا ضمير كانُوا والمعنى لو نزلنا هذا القرآن على بعض البهائم فقرأه محمد صلّى الله عليه وسلّم على أولئك البهائم ما كانوا أي أولئك البهائم مؤمنين به فكذلك هؤلاء لأنهم كالأنعام بل هم أضل سبيلا، ولا يخفى ما فيه، وقيل: المراد ولو نزلناه على بعض الأعجمين بلغة العجم فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين لعدم فهمهم ما فيه، وأخرج ذلك عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة وهو بعيد عما يقتضيه مقام بيان تماديهم في المكابرة والعناد. واستند بعضهم بالآية عليه في منع أخذ العربية في مفهوم القرآن إذ لا يتصور على تقدير أخذها فيه تنزيله بلغة العجم إذ يستلزم ذلك كون الشيء الواحد عربيا وعجميا وهو محال. وأجيب بأن ضمير نزلناه ليس راجعا إلى القرآن المخصوص المأخوذ في مفهومه العربية بل إلى مطلق القرآن ويراد منه ما يقرأ أعم من أن يكون عربيا أو غيره، وهذا نحو رجوع الضمير للعام في ضمن الخاص في قوله تعالى: ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ [فاطر: 11] الآية فإن ضمير عمره راجع إلى شخص بدون وصفه بمعمر إذ لا يتصور نقص عمر المعمر كما لا يخفى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 125 وقال بعضهم في الجواب: إن الكلام على حذف مضاف، والمراد وَلَوْ نَزَّلْناهُ معناه بلغة العجم على بعض الأعجمين فتدبر وفي لفظ بَعْضِ على كل الأقوال إشارة إلى كون ذلك المفروض تنزيله عليه واحدا من عرض تلك الطائفة كائنا من كان وبِهِ متعلق بمؤمنين، ولعل تقديمه عليه للاهتمام وتوافق رؤوس الآي. والضمير في قوله تعالى: كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ على ما يقتضيه انتظام الضمائر السابقة واللاحقة في سلك واحد للقرآن وإليه ذهب الرماني وغيره، والمعنى على ما قيل مثل ذلك السلك البديع المذكور سلكناه أي أدخلنا القرآن في قلوب المجرمين ففهموا معانيه وعرفوا فصاحته وأنه خارج عن القوى البشرية وقد انضم إليه علم أهل الكتابين بشأنه وبشارة الكتب المنزلة بإنزاله فقوله تعالى: لا يُؤْمِنُونَ بِهِ جملة مستأنفة مسوقة لبيان أنهم لا يتأثرون بأمثال تلك الأمور الداعية إلى الإيمان به بل يستمرون على ما هم عليه حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ الملجئ إلى الإيمان به وحينئذ لا ينفعهم ذلك. والمراد بالمجرمين المشركون الذين عادت عليهم الضمائر من لَهُمْ وعَلَيْهِمْ وكانُوا وعدل عن ضميرهم إلى ما ذكر تأكيدا لذمهم، وقال الزمخشري في معنى ذلك: أي مثل هذا السلك سلكناه في قلوبهم وهكذا مكناه وقررناه فيها وعلى مثل هذه الحال وهذه الصفة من الكفر به والتكذيب له وضعناه فيها فكيف ما فعل بهم وصنع، وعلى أي وجه دبر أمرهم فلا سبيل إلى أن يتغيروا عما هم عليه من جحوده وإنكاره كما قال سبحانه: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأنعام: 7] وموقع قوله تعالى لا يُؤْمِنُونَ بِهِ إلخ مما قبله موقع الموضح والملخص لأنه مسوق لثباته مكذبا مجحودا في قلوبهم فاتبع ما يقرر هذا المعنى من أنهم لا يزالون على التكذيب به وجحوده حتى يعاينوا الوعيد. ويجوز أن يكون حالا أي سلكناه فيها غير مؤمن به اه. وتعقب بأن الأول هو الأنسب بمقام بيان غاية عنادهم ومكابرتهم مع تعاضد أدلة الإيمان وتناجد مبادئ الهداية والإرشاد وانقطاع أعذارهم بالكلية، وقد يقال: إن هذا التفسير أوفق بتسليته صلّى الله عليه وسلّم التي هي كالمبنى لهذه السورة الكريمة وبها صدرت حيث قال سبحانه: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء: 3] كأنه جل وعلا بعد أن ذكر فرط عنادهم وشدة شكيمتهم في المكابرة وهو تفسير واضح في نفسه فهو عندي أولى مما تقدم. وفي المطلع أن الضمير للتكذيب والكفر المدلول عليه بقوله تعالى: ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ وبه قال يحيى بن سلام، وروى عن ابن عباس والحسن، والمعنى وكذلك سلكنا التكذيب بالقرآن والكفر به في قلوب مشركي مكة ومكناه فيها، وقوله تعالى: لا يُؤْمِنُونَ إلخ واقع موقع الإيضاح لذلك ولا يظهر على هذا الوجه كونه حالا ولا أرى لهذا المعنى كثرة بعد عن قول من قال أي على مثل هذا السلك سلكنا القرآن وعلى مثل هذه الحال وهذه الصفة من الكفر به والتكذيب له وضعناه في قلوبهم، وحاصل الأول كذلك سلكنا التكذيب بالقرآن في قلوبهم. وحاصل هذا وكذلك سلكنا القرآن بصفة التكذيب به في قلوبهم فتأمل، وجوز جعل الضمير للبرهان الدال عليه قوله تعالى: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ وهو بعيد لفظا ومعنى، هذا وذهب بعضهم إلى أن المراد بالمجرمين غير الكفرة المتقدمين الذين عادت عليهم الضمائر وهم مشركو مكة من المعاصرين لهم ومن يأتي بعدهم وذلك إشارة إلى السلك في قلوب أولئك المشركين أي مثل ذلك السلك في قلوب مشركي مكة سلكناه في قلوب المجرمين غيرهم لاشتراكهم في الوصف، وقوله سبحانه: لا يُؤْمِنُونَ بِهِ إلخ بيان لحال المشركين الجزء: 10 ¦ الصفحة: 126 المتقدمين الذين اعتبروا في جانب المشبه به أو إيضاح لحال المجرمين وبيان لما يقتضيه التشبيه وهو كما ترى ونقل في البحر عن ابن عطية أنه أريد مجرمي كل أمة أي إن سنة الله تعالى فيهم أنهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب فلا ينفعهم الإيمان بعد تلبس العذاب بهم، وهذا على جهة المثال لقريش أي هؤلاء كذلك، وكشف الغيب بما تضمنته الآية يوم بدر انتهى، وكأنه جعل ضمير سَلَكْناهُ لمطلق الكفر لا للكفر بالقرآن، وضمير بِهِ لله تعالى أو لما أمروا بالإيمان به للقرآن وإلا فلا يكاد يتسنى ذلك، وعلى كل حال لا ينبغي أن يعول عليه. فَيَأْتِيَهُمْ أي العذاب بَغْتَةً أي فجأة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي بإتيانه فَيَقُولُوا أي تحسرا على ما فات من الإيمان وتمنيا للإمهال لتلافي ما فرطوه هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ أي مؤخرون، والفاء في الموضعين عاطفة وهي كما يدل عليه كلام الكشاف للتعقيب الرتبي دون الوجودي كأنه قيل: حتى يكون رؤيتهم للعذاب الأليم فما هو أشد منها وهو مفاجأته فما هو أشد منه وهو سؤالهم النظرة نظير ما في قولك إن أسأت مقتك الصالحون فمقتك الله تعالى، فلا يرد أن البغت من غير شعور لا يصح تعقبه للرؤية في الوجود، وقال سري الدين المصري عليه الرحمة في توجيه ما تدل عليه الفاء من التعقيب: إن رؤية العذاب تكون تارة بعد تقدم أماراته وظهور مقدماته ومشاهدة علاماته وأخرى بغتة لا يتقدمها شيء من ذلك فكانت رؤيتهم العذاب محتاجة إلى التفسير فعطف عليها بالفاء التفسيرية قوله تعالى: فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وصح بينهما معنى التعقيب لأن مرتبة المفسر في الذكر أن يقع بعد المفسر كما فعل في التفصيل بالقياس إلى الإجمال كما يستفاد من تحقيقات الشريف في شرح المفتاح. ويمكن أن تكون الآية من باب القلب كما هو أحد الوجوه في قوله تعالى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا [الأعراف: 4] للمبالغة في مفاجأة رؤيتهم العذاب حتى كأنهم رأوه قبل المفاجأة. والمعنى حتى يأتيهم العذاب الأليم بغتة فيروه انتهى. وجعلها بعضهم للتفصيل، واعترض على ما قال صاحب الكشاف بأن العذاب الأليم منطو على شدة البغت فلا يصح الترتيب والتعقيب الرتبي وهو وهم كما لا يخفى. والظاهر أن جملة وهم لا يشعرون حال مؤكدة لما يفيده بَغْتَةً فإنها كما قال الراغب مفاجأة الشيء من حيث لا يحتسب. ثم إن هذه الرؤية وما بعدها إن كانت في الدنيا كما قيل فإتيان العذاب الأليم فيها بغتة مما لا خفاء فيه لأنه قد يفاجئهم فيها ما لم يكن يمر بخاطرهم على حين غفلة. وإن كانت في الآخرة فوجه إتيانه فيها بغتة على ما زعمه بعضهم أن المراد به أن يأتيهم من غير استعداد له وانتظار فافهم، واختار بعضهم أن ذلك أعم من أن يكون في الدنيا أو في الآخرة. وقرأ الحسن وعيسى «تأتيهم» بتاء التأنيث، وخرج ذلك الزمخشري على أن الضمير للساعة، وأبو حيان عن أنه للعذاب بتأويل العقوبة، وقال أبو الفضل الرازي: للعذاب وأنث لاشتماله على الساعة فاكتسى منها التأنيث وذلك لأنهم كانوا يسألون عذاب القيامة تكذيبا بها انتهى وهو في غاية الغرابة وكأنه اعتبر إضافة العذاب إلى الساعة معنى بناء على أن المراد بزعمه حتى يروا عذاب الساعة الأليم، وقال: باكتسائه التأنيث منها بسبب إضافته إليها لأن الإضافة إلى المؤنث قد تكسى المضاف المذكر التأنيث كما في قوله: كما شرقت صدر القناة من الدم ولم أر أحدا سبقه إلى ذلك. وقرأ الحسن «بغتة» بالتحريك، وفي حرف أبي رضي الله تعالى عنه «ويروه بغتة» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 127 أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ أي يطلبونه قبل أوانه وذلك قولهم: أمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. وقولهم: فائتنا بما تعدنا ونحوهما أَفَرَأَيْتَ أي فاخبر إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ أي مدة من الزمان بطول الأعمال وطيب المعاش أو عمر الدنيا على ما روي عن عكرمة. وعبر عن ذلك بما ذكر إشارة إلى قلته ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ أي الذين كانوا يوعدونه من العذاب ما أَغْنى عَنْهُمْ أي أي شيء أو أي غناء أغنى عنهم ما كانُوا يُمَتَّعُونَ أي كونهم ممتعين ذلك التمتيع المديد على أن ما مصدرية كما هو الأولى أو الذي كانوا يمتعونه من متاع الحياة الدنيا على أنها موصولة حذف عائدها. وأيا ما كان فالاستفهام للنفي والإنكار. وقيل: ما نافية أي لم يغن عنهم ذلك في دفع العذاب أو تخفيفه، والأول أولى لكونه أوفق لصورة الاستخبار وأدل على انتفاء الإغناء على أبلغ وجه وآكده وفي ربط النظم الكريم ثلاثة أوجه كما في الكشاف، الأول أن قوله سبحانه: أَفَرَأَيْتَ إلخ متصل بقوله تعالى: هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ وقوله جل وعلا: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ معترض للتبكيت وإنكار أن يستعجل العذاب من هو معرض لعذاب يسأل فيه النظرة والإمهال طرفة عين فلا يجاب إليها، والمعنى على هذا كما في الكشف أنه لما ذكر أنهم لا يؤمنون دون مشاهدة العذاب قال سبحانه: إن هذا العذاب الموعود وإن تأخر أياما قلائل فهو لاحق بهم لا محالة وهنالك لا ينفعهم ما كانوا فيه من الاغترار المثمر لعدم الإيمان، وأصل النظم الكريم لا يؤمنون حتى يروا العذاب وكيت وكيت فإن متعناهم سنين ثم جاءهم هذا العذاب الموعود فأي شيء أو فأي غناء يغني عنهم تمتيعهم تلك الأيام القلائل فجيء بفعل الرؤية والاستفهام ليكون في معنى أخبر إفادة لمعنى التعجب والإنكار وأن من حق هذه القصة أن يخبر بها كل أحد حتى يتعجب. ووسط أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ للتبكيت والهمزة فيه للإنكار، وجيء بالفاء دلالة على ترتبه على السابق كأنه لما وصف العذاب قيل: أيستعجل هذا العذاب عاقل. وفي الإرشاد اختيار أن قوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ متصل بقوله سبحانه: هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ وجعل الفاء لترتيب الاستخبار على ذلك القول وهي متقدمة على الهمزة معنى وتأخيرها عنها صورة لاقتضاء الهمزة الصدارة وإن أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ معترض للتوبيخ والتبكيت وجعل الفاء فيه للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أيكون حالهم كما ذكر من الاستنظار عند نزول العذاب الأليم فيستعجلون بعذابنا وبينهما من التنافي ما لا يخفى على أحد أو أيغفلون عن ذلك مع تحققه وتقرره فيستعجلون إلخ، وصاحب الكشف بعد أن قرر كما ذكرنا قال: إن العطف على مقدر في هذا الوجه لا وجه له، ولعل المنصف يقول: لكل وجهة. والثاني أن قوله تعالى: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ كلام يوبخون به يوم القيامة عند قولهم فيه هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ حكى لنا لطفا ويَسْتَعْجِلُونَ عليه في معنى استعجلتم إذ كذلك يقال لهم ذلك اليوم، وكأن أمر الترتيب أو العطف على مقدر، وارتباط أَفَرَأَيْتَ إلخ بقولهم: هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ على نحو ما تقدم في الوجه السابق. والثالث أن قوله تعالى: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ متصل بما بعده غير مترتب على ما قبله وذلك أن استعجالهم بالعذاب إنما كان لاعتقادهم أنه غير كائن ولا لاحق بهم وأنهم ممتعون بأعمار طوال في سلامة. وأمن فقال عز وجل: أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ أشرا وبطرا واستهزاء واتكالا على الأمل الطويل ثم قال سبحانه: هب أن الأمر كما يعتقدون من تمتيعهم وتعميرهم فإذا لحقهم الوعيد بعد ذلك ما ينفعهم حينئذ ما مضى من طول أعمارهم وطيب معايشهم. وعلى هذا يكون فَبِعَذابِنا إلخ عطفا على مقدر بلا خلاف نحو أيستهزئون فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 128 وقوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ إلخ تعجبا من حالهم مترتبا على الاستهزاء والاستعجال، والكلام نظير ما تقول لمخاطبك: هل تغتر بكثرة العشائر والأموال فاحسب أنها بلغت فوق ما تؤمل أليس بعده الموت وتركهما على حسرة. وهذا الوجه أظهر من الوجه الذي قبله، وأيا ما كان فقوله سبحانه: (بعذابنا) متعلق بيستعجلون قدم عليه للإيذان بأن مصب الإنكار والتوبيخ كون المستعجل به عذابه جل جلاله مع ما فيه على ما قيل من رعاية الفواصل. وقرىء «يمتعون» من الامتاع وفي الآية موعظة عظيمة لمن له قلب. روي عن ميمون بن مهران أنه لقي الحسن في الطواف وكان يتمنى لقاءه فقال له: عظني فلم يزده على تلاوة هذه الآية فقال ميمون: لقد وعظت فأبلغت وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ من القرى المهلكة إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ قد أنذروا أهلها إلزاما للحجة، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبرا مقدما ومُنْذِرُونَ مبتدأ، والجملة في موضع الحال من قَرْيَةٍ قاله أبو حيان ثم قال: الأعراب أن يكون لَها في موضع الحال وارتفع مُنْذِرُونَ بالجار والمجرور أي إلا كائنا لها منذرون فيكون من مجيء الحال مفردا لا جملة، ومجيء الحال من المنفي كقولك ما مررت بأحد إلا قائما فصبح انتهى، وفي الوجهين مجيء الحال من النكرة. وحسن ذلك على ما قيل عمومها لوقوعها في حيز النفي مع زيادة من قبلها، وكأن هذا القائل جعل العموم مسوغا لمجيء الحال قياسا على جعلهم إياه مسوغا للابتداء بالنكرة لاشتراك العلة. وذهب الزمخشري إلى أن «لها منذرون» جملة في موضع الصفة لقرية ولم يجوز أبو حيان كون الجملة الواقعة بعد إلا صفة ثم قال: مذهب الجمهور إنه لا تجيء الصفة بعد إلا معتمدة على أداة الاستثناء نحو ما جاءني أحد إلا راكب وإذا سمع خرج على البدل أي إلا رجل راكب. ويدل على صحة هذا المذهب أن العرب تقول: ما مررت بأحد إلا قائما ولا يحفظ من كلامها ما مررت بأحد إلا قائم فلو كانت الجملة في موضع الصفة للنكرة لورد المفرد بعد إلا صفة لها فإن كانت الصفة غير معتمدة على الأداة جاءت الصفة بعد إلا نحو ما جاءني أحد إلا زيد خير من عمرو فإن التقدير ما جاءني أحد خير من عمرو إلا زيد انتهى فتذكر. وايا ما كان فضمير «لها» للقرية التي هي لما سمعت في معنى الجمع فكأنه قيل وما أهلكنا القرى إلا لها منذرون على معنى أن للكل منذرين أعم من أن يكون لكل قرية منها منذر واحد أو أكثر. وقوله تعالى: ذِكْرى منصوب على الحال من الضمير في مُنْذِرُونَ عند الكسائي وعلى المصدر عند الزجاج فعلى الحال إما أن يقدر ذوي ذكرى أو يقدر مذكرين أو يبقى على ظاهره اعتبارا للمبالغة. وعلى المصدر فالعامل مُنْذِرُونَ لأنه في معنى مذكرون فكأنه قيل: مذكرون ذكرى أي تذكرة. وأجاز الزمخشري أن يكون مفعولا له على معنى أنهم ينذرون لأجل الموعظة والتذكرة. وأن يكون مرفوعا على أنه خبر مبتدأ محذوف بمعنى هذه ذكرى، والجملة اعتراضية أو صفة بمعنى منذرون ذوو ذكرى أو مذكرين أو جعلوا نفس الذكرى مبالغة لإمعانهم في التذكرة وإطنابهم فيها، وجوز أيضا أن يكون متعلقا بأهلكنا على أنه مفعول له. والمعنى ما أهلكنا من قرية ظالمين إلا بعد ما ألزمناهم الحجة بإرسال المنذرين إليهم ليكون إهلاكهم تذكرة وعبرة لغيرهم فلا يعصوا مثل عصيانهم ثم قال: وهذا هو الوجه المعول عليه. وبين ذلك في الكشف بقوله: لأنه وعيد للمستهزئين وبأنهم يستحقون أن يجعلوا نكالا وعبرة لغيرهم كالأمم السوالف حيث فعلوا مثل فعلهم من الاستهزاء والتكذيب فجوزوا بما جوزوا وحينئذ يتلاءم الكلام انتهى، وتعقب بأن مذهب الجمهور أن ما قبل إلا لا يعمل فيما بعدها إلا أن يكون مستثنى أو مستثنى منه أو تابعا له غير معتمد على الأداة والمفعول له ليس واحدا من هذه الثلاثة فلا يجوز أن يتعلق بأهلكنا. ويتخرج جواز ذلك على مذهب الكسائي والأخفش وإن كانا لم ينصبا على المفعول له هنا وكان ذلك لما في نصبه عليه من التكلف وأمر الالتئام سهل كما لا يخفى وَما كُنَّا ظالِمِينَ أي ليس شأننا أن يصدر عنا بمقتضى الحكمة ما هو في صورة الظلم لو صدر من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 129 غيرنا بأن نهلك أحدا قبل إنذاره أو بأن نعاقب من لم يظلم. ولإرادة نفي أن يكون ذلك من شأنه عز شأنه قال: وَما كُنَّا دون وما نظلم وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ متعلق بقوله تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ إلخ وهو رد لقول مشركي قريش إن لمحمد صلّى الله عليه وسلّم تابعا من الجن يخبره كما تخبر الكهنة وأن القرآن مما ألقاه إليه عليه الصلاة والسلام. والتعبير بالتفعيل لأن النزول لو وقع لكان بالاستراق التدريجي، وقرأ الحسن وابن السميقع «الشياطون» فقال أبو حاتم: هو غلط من الحسن أو عليه، وقال النحاس: هو غلط عند جميع النحويين. وقال المهدوي: هو غير جائز في العربية، وقال الفراء: غلط الشيخ ظن أنها النون التي على هجائين، وقال النضر بن شميل: إن جاز أن يحتج بقول العجاج ورؤبة فهلا جاز أن يحتج بقول الحسن وصاحبه مع أنا نعلم أنهما لم يقرءا به إلا وقد سمعا فيه، وقال يونس بن حبيب. سمعت أعرابيا يقول دخلت بساتين من ورائها بساتون فقلت: ما أشبه هذا بقراءة الحسن انتهى. ووجهت هذه القراءة بأنه لما كان آخره كآخر يبرين وفلسطين وقد قيل فيهما يبرون وفلسطون أجرى فيه نحو ما أجرى فيهما فقيل الشياطون. وحقه على هذا على ما في الكشاف أن يشتق من الشيطوطة وهي الهلاك، وفي البحر نقلا عن بعضهم إن كان اشتقاقه من شاط أي احترق يشيط شوطة كان لقراءتهما وجه. قيل: ووجهها أن بناء المبالغة منه شياط وجمعه الشياطون فخففا الياء وقد روى عنهما التشديد وقرأ به غيرهما، وقال بعض: إنه جمع شياط مصدر شاط كخاط خياطا كأنهما ردا الوصف إلى المصدر بمعناه مبالغة ثم جمعا والكل كما ترى، وقال صاحب الكشف. لا وجه لتصحيح هذه القراءة البتة. وقد أطنب ابن جني في تصحيحها ثم قال: وعلى كل حال فالشياطون غلط وأبو حيان لا يرضى بكونه غلطا ويقول: قرأ به الحسن. وابن السميقع والأعمش ولا يمكن أن يقال. غلطوا لأنهم من العلم ونقل القرآن بمكان والله تعالى أعلم. والذي أراه أنه متى صح رفع هذه القراءة إلى هؤلاء الأجلة لزم توجيهها فإنهم لا يقرؤون إلا عن رواية كغيرهم من القراء في جميع ما يقرؤنه عندنا، وزعم المعتزلة أن بعض القراءات بالرأي. وَما يَنْبَغِي لَهُمْ أي وما يصح وما يستقيم لهم ذلك وَما يَسْتَطِيعُونَ أي وما يقدرون على ذلك أصلا. إِنَّهُمْ أي الشياطين عَنِ السَّمْعِ لما يتكلم به الملائكة عليهم السلام في السماء لَمَعْزُولُونَ أي ممنوعون بالشهب بعد أن كانوا ممكنين كما يدل عليه قوله تعالى: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً [الجن: 8، 9] والمراد تعليل ما تقدم على أبلغ وجه لأنهم إذا كانوا ممنوعين عن سماع ما تتكلم به الملائكة في السماء كانوا ممنوعين من أخذ القرآن المجيد من اللوح المحفوظ أو من بيت العزة أو من سماعه إذ يظهره الله عز وجل لمن شاء في سمائه من باب أولى، وقيل: المعنى إنهم لمعزولون عن السمع لكلام الملائكة عليهم السلام لأنه مشروط بالمشاركة في صفات الذات وقبول فيضان الحق والانتقاش بالصور الملكوتية ونفوسهم خبيثة ظلمانية شريرة بالذات لا تقبل ذلك والقرآن الكريم مشتمل على حقائق ومغيبات لا يمكن تلقيها إلا من الملائكة عليهم السلام، وتعقب بأنه إن أراد أن السمع لكلام الملائكة عليهم السلام مطلقا مشروط بصفات هم متصفون بنقائضها فهو غير مسلم كيف وقد ثبت أن الشياطين كانوا يسترقون السمع وظاهر الآيات أنهم إلى اليوم يسترقونه ويخطفون الخطفة فيتبعهم شهاب ثاقب وأيضا لو كان ما ذكر شرطا للسمع وهو منتف فيهم فأي فائدة للحرس ومنعهم عن السمع بالرجوم. وأيضا لو صح ما ذكر لم يتأت لهم سماع القرآن العظيم من الملائكة عليهم السلام سواء كان مشتملا على الجزء: 10 ¦ الصفحة: 130 الحقائق والمغيبات أم لا فما فائدة في قوله: والقرآن مشتمل إلخ إلى غير ذلك. وإن أراد أن السمع لكلام الملائكة عليهم السلام إذا كان وحيا منزلا على الأنبياء عليهم السلام مشروط بما ذكر فهو مع كونه خلاف ظاهر الكلام غير مسلم أيضا كيف وقد ثبت أن جبريل عليه السلام حين ينزل بالقرآن ينزل معه رصد حفظا للوحي من الشيطان وقد قال عز وجل: فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ [الجن: 26- 28] وأيضا ظاهر العزل عن السمع يقتضي أنهم كانوا ممكنين منه قبل ثم منعوا عنه فيلزم على ما ذكر أنهم كانوا يسمعون الوحي من قبل مع أن نفوسهم خبيثة ظلمانية شريرة بالذات فيبطل كون المشاركة المذكورة شرطا للسمع، فإن ادعى أن الشرط كان موجودا إذ ذاك ثم فقد والتزم القول بجواز تغير ما بالذات فهو مما لم يقم عليه دليل وقياس جميع الشياطين على إبليس عليه اللعنة مما لا يخفى حاله فتدبر. وبالجملة الذي أميل إليه في معنى الآية ما ذكرته أولا. وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى ما يتعلق بذلك، وجوز كون ضمير إِنَّهُمْ للمشركين. والمراد أنهم لا يصغون للحق لعنادهم، وفي الآية شمة من قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ [البقرة: 257] وهو بعيد جدا. فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ خوطب به النبي صلّى الله عليه وسلّم مع استحالة صدور المنهي عنه عليه الصلاة والسلام تهييجا وحثا لازدياد الإخلاص فهو كناية عن أخلص في التوحيد حتى لا ترى معه عز وجل سواه. وفيه لطف لسائر المكلفين ببيان أن الإشراك من القبح والسوء بحيث ينهي عنه من لم يمكن صدوره عنه فكيف بمن عداه. وكأن الفاء فصيحة أي إذا علمت ما ذكر فلا تدع مع الله إلها آخر وَأَنْذِرْ العذاب الذي يستتبعه الشرك والمعاصي عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ أي ذوي القرابة القريبة أو الذين هم أكثر قربا إليك من غيرهم. والعشيرة على ما قال الجوهري: رهط الرجل الأدنون. وقال الراغب هم أهل الرجل الذين يتكثر بهم أي يصيرون له بمنزلة العدد الكامل وهو العشرة. واشتهر أن طبقات الأنساب ست، الأولى الشعب بفتح الشين وهو النسب الأبعد كعدنان، الثانية القبيلة وهي ما انقسم فيه الشعب كربيعة ومضر الثالثة العمارة بكسر العين وهي ما انقسم فيه أنساب القبيلة كقريش وكنانة الرابعة البطن وهو ما انقسم فيه أنساب العمارة كبني عبد مناف وبني مخزوم الخامسة الفخذ وهو ما انقسم فيه أنساب البطن كبني هاشم وبني أمية السادسة الفصيلة وهي ما انقسم فيه أنساب الفخذ كبني العباس وبني عبد المطلب وليس دون الفصيلة إلا الرجل وولده. وحكى أبو عبيد عن ابن الكلبي عن أبيه تقديم الشعب ثم القبيلة ثم الفصيلة ثم العمارة ثم الفخذ فأقام الفصيلة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 131 مقام العمارة في ذكرها بعد القبيلة والعمارة مقام الفصيلة في ذكرها قبل الفخذ ولم يحك ما يخالفه ولم يذكر في الترتيبين العشيرة، وفي البحر أنها تحت الفخذ فوق الفصيلة، والظاهر أن ذلك على الترتيب الأول. وحكى بعضهم بعد أن نقل الترتيب المذكور عن النووي عليه الرحمة أنه قال في تحرير التنبيه: وزاد بعضهم العشيرة قبل الفصيلة، ويفهم من كلام البعض أن العشيرة إذا وصفت بالأقرب اتخذت مع الفصيلة التي هي سادسة الطبقات، وأنت تعلم أن الأقربية إذا كانت مأخوذة في مفهومها كما يفهم من كلام الجوهري تستغني دعوى الاتحاد عن الوصف المذكور. وفي كليات أبي البقاء كل جماعة كثيرة من الناس يرجعون إلى أب مشهور بأمر زائد فهو شعب كعدنان ودونه القبيلة وهي ما انقسمت فيها أنساب الشعب كربيعة ومضر، ثم العمارة وهي ما انقسمت فيها أنساب القبيلة كقريش وكنانة، ثم البطن وهي ما انقسمت فيها أنساب العمارة كبني عبد مناف. وبني مخزوم، ثم الفخذ وهي ما انقسمت فيها أنساب البطن كبني هاشم وبني أمية ثم العشيرة وهي ما انقسمت فيها أنساب الفخذ كبني العباس وبني أبي طالب والحي يصدق على الكل لأنه للجماعة المتنازلين بمربع منهم انتهى. ولم يذكر فيه الفصيلة وكأنه يذهب إلى اتحادها بالعشيرة، ووجه تخصيص عشيرته صلّى الله تعالى عليه وسلّم الأقربين بالذكر مع عموم رسالته عليه الصلاة والسلام دفع توهم المحاباة وأن الاهتمام بشأنهم أهم وأن البداءة تكون بمن يلي ثم من بعده كما قال سبحانه: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [التوبة: 123] وفي كيفية الإنذار أخبار كثيرة، منها ما أخرجه البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ صعد النبي صلّى الله عليه وسلّم على الصفا فجعل ينادي يا بني فهر يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقا قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا فنزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ [المسد: 1، 2] » ومنها ما أخرجه أحمد وجماعة عن أبي هريرة قال: «لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قريشا وعم وخص فقال: يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا يا معشر بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا يا معشر بني قصي أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا يا معشر بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لك ضرا ولا نفعا ألا إن لكم رحما وسأبلها ببلالها» . وجاء في بعض الروايات أنه صلّى الله تعالى عليه وسلّم لما نزلت الآية جمع عليه الصلاة والسلام بني هاشم فأجلسهم على الباب وجمع نساءه وأهله فأجلسهم في البيت ثم أطلع عليهم فأنذرهم ، وجاء في بعض آخر منها أنه عليه الصلاة والسلام أمر عليا كرّم الله تعالى وجهه أن يصنع طعاما ويجمع له بني عبد المطلب ففعل وجمعهم وهم يومئذ أربعون رجلا فبعد أن أكلوا أراد صلّى الله عليه وسلّم أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال: لقد سحركم صاحبكم فتفرقوا ثم دعاهم من الغد إلى مثل ذلك ثم بدرهم بالكلام فقال: يا بني عبد المطلب إني أنا النذير إليكم من الله تعالى والبشير قد جئتكم بما لم يجىء به أحد جئتكم بالدنيا والآخرة، فأسلموا تسلموا وأطيعوا تهتدوا إلى غير ذلك من الأخبار والروايات وإذا صح الكل فطريق الجمع أن يقال بتعدد الإنذار. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 132 ومن الروايات ما يتمسك به الشيعة فيما يدعونه في أمر الخلافة وهو مؤول أو ضعيف أو موضوع وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ورهطك منهم المخلصين وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أمر له صلّى الله تعالى عليه وسلّم بالتواضع على سبيل الاستعارة أو التمثيلية أو المجاز المرسل وعلاقته اللزوم، ويستعمل في التكبر رفع الجناح وعلى ذلك جاء قول الشاعر: وأنت الشهير بخفض الجناح ... فلا تك في رفعه أجدلا ومِنَ قيل: بيانية لأن من اتبع في أصل معناه أعم ممن اتبع لدين أو غيره ففيه إبهام وبذكر المؤمنين المراد بهم المتبعون للدين زال ذلك، وقيل: للتبعيض بناء على شيوع من اتبع فيمن اتبع للدين وحمل المؤمنين على من صدق باللسان ولو نفاقا ولا شك أن المتبعين للدين بعض المؤمنين بهذا المعنى، وجوز أن يحمل على من شارف وإن لم يؤمن ولا شك أيضا أن المتبعين المذكورين بعضهم وفي الآية على القولين أمر بالتواضع لمن اتبع للدين. وقال بعضهم: على تقدير كونها بيانية أن المؤمنين يراد بهم الذين لم يؤمنوا بعد وشارفوا لأن يؤمنوا كالمؤلفة مجاز باعتبار الأول وكان- من اتبعك- شائعا في من آمن حقيقة. ومن آمن مجازا فبين بقوله تعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إن المراد بهم المشارفون أي تواضع للمشارفين استمالة وتأليفا، وعلى تقدير كونها تبعيضية يراد بالمؤمنين الذين قالوا آمنا وهم صنفان: صنف صدق واتبع وصنف ما وجد منهم إلا التصديق فقيل: من المؤمنين وأريد بعض الذين صدقوا واتبعوا أي تواضع لبعض المؤمنين وهم الذين اتبعوك محبة ومودة. وعلى هذا يكون الذين أمر صلّى الله عليه وسلّم بالتواضع لهم على تقدير البيان غير الذي أمر عليه الصلاة والسلام بالتواضع لهم على تقدير التبعيض. وقال بعض الأجلة الاتباع والإيمان توأمان إذ المتبادر من اتباع عليه الصلاة والسلام اتباعه الديني وكذا المتبادر من الإيمان الإيمان الحقيقي، وذكر مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لإفادة التعميم كذكر يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام: 38] بعد طائر في قوله تعالى: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ وتفيد الآية الأمر بالتواضع لكل من آمن من عشيرته صلّى الله عليه وسلّم وغيرهم. وقال الطيبي: الإجراء على أفانين البلاغة أن يحمل الكلام على أسلوب وضع المظهر موضع المضمر وإن الأصل وأنذر عشيرتك الأقربين. واخفض جناحك لمن اتبعك منهم فعدل إلى المؤمنين ليعم ويؤذن أن صفة الإيمان هي التي يستحق أن يكرم صاحبها ويتواضع لأجلها من اتصف بها سواء كان من عشيرتك أو غيرهم وليس هذا بالبعيد لكني أختار كون من بيانية وإن عموم من اتبعك باعتبار أصل معناه. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج قال: لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ بدأ صلّى الله عليه وسلّم بأهل بيته وفصيلته فشق ذلك على المسلمين فأنزل الله تعالى: «واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين» . فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ الظاهر أن الضمير المرفوع في عَصَوْكَ عائد على من أنذر صلّى الله عليه وسلّم بإنذارهم وهم العشيرة أي فإن عصوك ولم يتبعوك بعد إنذارهم فقل: إني بريء من عملكم أو الذي تعملونه من دعائكم مع الله تعالى إلها آخر، وجوز أن يكون عائدا على الكفار المفهوم من السياق، وقيل: هو عائد على من اتبع من المؤمنين أي فإن عصوك يا محمد في الأحكام وفروع الإسلام بعد تصديقك والإيمان بك وتواضعك لهم فقل: إني بريء مما تعملون من المعاصي أي أظهر عدم رضاك بذلك وإنكاره عليهم. وذكر على هذا أنه صلّى الله عليه وسلّم لو أمر بالبراءة منهم ما بقي شفيعا للعصاة يوم القيامة، والآية على غير هذا القول منسوخة. أخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال: أمره سبحانه بهذا ثم نسخه فأمره بجهادهم، وفي البحر هذه موادعة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 133 نسختها آية السيف وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ فهو سبحانه يقهر من يعصيك منهم ومن غيرهم بعزته وينصرك برحمته، وتقديم وصف العزة قيل لأنه أوفق بمقام التسلي عن المشاق اللاحقة من القوم إليه صلّى الله عليه وسلّم، وجوز أن يكون ذلك لأن العزة كالعلة المصححة للتوكل والرحمة كالعلة الداعية إليه، وفسره غير واحد بتفويض الرجل أمره إلى من يملك أمره ويقدر على أن ينفعه ويضره. وقالوا: المتوكل من إن دهمه أمر لم يحاول دفعه عن نفسه بما هو معصية لله تعالى، وذكر بعضهم أن هذا من أحط مراتب التوكل وأدناها، ونقل عن بعض العارفين أنه فيما بين الناس على ثلاث درجات. الأولى التوكل مع الطلب ومعاطاة السبب على نية شغل النفس ونفع الخلق وترك الدعوى، والثانية التوكل مع إسقاط الطلب وغض العين عن السبب اجتهادا في تصحيح التوكل وقمع تشرف النفس تفرغا إلى حفظ الواجبات والثالثة التوكل مع معرفة التوكل النازعة إلى الخلاص من علة التوكل. وذلك أن يعلم أن الله تعالى لم يترك أمرا مهملا بل فرغ من الأشياء كلها وقدرها وشأنه سبحانه سوق المقادير إلى المواقيت، فالمتوكل من أراح نفسه من كد النظر ومطالعة السبب سكونا إلى ما سبق من القسمة مع استواء الحالين وهو أن يعلم أن الطلب لا ينفع والتوكل لا يمنع ومتى طلع بتوكله عوضا كان توكله مدخولا وقصده معلولا وإذا خلص من رق الأسباب ولم يلاحظ في توكله سوى خالص حق الله تعالى كفاه الله تعالى كل مهم. وبين العلامة الطيبي إن في قوله تعالى: «وتوكل» إلخ إشارة إلى المراتب الثلاث بما فيه خفاء. وفي مصاحف أهل المدينة والشام «فتوكل» بالفاء وبه قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر وشيبة وخرج على الإبدال من جواب الشرط. وجعل في الكشاف الفاء للعطف وما بعده معطوفا على فَقُلْ أو فَلا تَدْعُ وما ذكر أولا أظهر الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ أي إلى الصلاة وَتَقَلُّبَكَ أي ويرى سبحانه تغيرك من حال كالجلوس والسجود إلى آخر كالقيام فِي السَّاجِدِينَ أي فيما بين المصلين إذا أممتهم، وعبر عنهم بالساجدين لأن السجود حالة مزيد قرب العبد من ربه عز وجل وهو أفضل الأركان على ما نص عليه جمع من الأئمة، وتفسير هذه الجملة بما ذكر مروي عن ابن عباس وجماعة من المفسرين إلا أن منهم من قال: المراد حين تقوم إلى الصلاة بالناس جماعة، وقيل: المعنى يراك حين تقوم للتهجد ويرى تقلبك أي ذهابك ومجيئك فيما بين المتهجدين لتتصفح أحوالهم وتطلع عليهم من حيث لا يشعرون وتستبطن سرائرهم وكيف يعملون لآخرتهم كما روى أنه لما نسخ فرض قيام الليل طاف صلّى الله تعالى عليه وسلّم تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون حرصا على كثرة طاعاتهم فوجدها كبيوت النحل لما سمع لها من دندنتهم بذكر الله تعالى والتلاوة. وعن مجاهد أن المراد بقوله سبحانه: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ تقلب بصره عليه الصلاة والسلام فيمن يصلي خلفه فإنه صلّى الله تعالى عليه وسلّم كان يرى من خلفه، ففي صحيح البخاري عن أنس قال: «أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم بوجهه فقال: أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري» . وفي رواية أبي داود عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم كان يقول: «استووا استووا استووا والذي نفسي بيده إني لأراكم من خلفي كما أراكم من بين يدي» ولا يخفى بعد حمل ما في الآية على ما ذكر. وقيل: المراد بالساجدين المؤمنون، والمعنى يراك حين تقوم لأداء الرسالة ويرى تقلبك وترددك فيما بين المؤمنين أو معهم فيما فيه إعلان أمر الله تعالى وإعلاء كلمته سبحانه، وتفسير الساجدين بالمؤمنين مروي عن ابن عباس وقتادة إلا أن كون المعنى ما ذكر لا يخلو عن خفاء. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 134 وعن ابن جبير أن المراد بهم الأنبياء عليهم السلام، والمعنى ويرى تقلبك كما يتقلب غيرك من الأنبياء عليهم السلام في تبليغ ما أمروا بتبليغه وهو كما ترى، وتفسير الساجدين بالأنبياء رواه جماعة منهم الطبراني والبزار وأبو نعيم عن ابن عباس أيضا إلا أنه رضي الله تعالى عنه فسر التقلب فيهم بالتنقل في أصلابهم حتى ولدته أمه عليه الصلاة والسلام، وجوز على حمل التقلب على التنقل في الأصلاب أن يراد بالساجدين المؤمنون، واستدل بالآية على إيمان أبويه صلّى الله تعالى عليه وسلّم كما ذهب إليه كثير من أجلة أهل السنة، وأنا أخشى الكفر على من يقول فيهما رضي الله تعالى عنهما على رغم أنف على القارئ وأضرابه بضد ذلك إلا أني لا أقول بحجية الآية على هذا المطلب، ورؤية الله تعالى انكشاف لائق بشأنه عز شأنه غير الانكشاف العلمي ويتعلق بالموجود والمعدوم الخارجي عند العارفين، وقالوا: إن رؤية الله تعالى للمعدوم نظير رؤية الشخص القيامة ونحوها في المنام وكثير من المتكلمين أنكروا تعلقها بالمعدوم، ومنهم من أرجعها إلى صفة العلم وتحقيق ذلك في محله، وفي وصفه تعالى برؤيته حاله صلّى الله عليه وسلّم التي بها يستأهل ولايته بعد وصفه بما تقدم تحقيق للتوكل وتوطين لقلبه الشريف عليه الصلاة والسلام عليه. وقرأ جناح بن حبيش «ويقلّبك» مضارع قلب مشددا وخرج ذلك أبو حيان على العطف على يراك وجوز العطف على تَقُومُ . وفي الكلام على هذه القراءة إشارة إلى وقوع تقلبه صلّى الله عليه وسلّم في الساجدين على وجه الكمال وكمال التقلب في الصلاة كونه بخشوع يغفل معه عما سوى الله تعالى إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ بكل ما يصح تعلق السمع به ويندرج فيه ما يقوله صلّى الله عليه وسلّم الْعَلِيمُ بكل ما يصح تعلق العلم به ويندرج فيه ما يعمله أو ينويه عليه الصلاة والسلام، وفي الجملة الاسمية إشارة إلى أنه سبحانه متصف بما ذكر أزلا وأبدا ولا توقف لذلك على وجود المسموعات والمعلومات في الخارج، والحصر فيها حقيقي أي هو تعالى كذلك لا غيره سبحانه وتعالى. وكأن الجملة متعلقة بالجملتين الواقعتين في حيز الجزاء جيء بها للتح ريض على القول السابق والتوكل، وجوز أن تكون متعلقة بما في حيز الصلة والمراد منها التحريض على إيقاع الأقوال والأفعال التي في الصلاة على أكمل وجه فتأمل. وقوله تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ إلخ مسوق لبيان استحالة تنزل الشياطين على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد بيان امتناع تنزلهم بالقرآن، وهذه الجملة وقوله تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ إلخ وقوله سبحانه: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ إلخ أخوات وفرق بينهن بآيات ليست في معناهن ليرجع إلى المجيء بهن وتطرية ذكر ما فيهن كرة بعد كرة فيدل بذلك على أن المعنى الذي نزلن فيه من المعاني التي اشتدت عناية الله تعالى بها، ومثاله أن يحدث الرجل بحديث وفي صدره اهتمام بشيء منه وفضل عناية فتراه يعيد ذكره ولا ينفك عن الرجوع إليه، والاستفهام للتقرير وعَلى مَنْ متعلق بتنزل قدم عليه لصدارة المجرور وتقديم الجار لا يضر كما بين في النحو، وقال الزمخشري في ذلك: إن من متضمنة معنى الاستفهام وليس معنى التضمن أن الاسم دل على معنيين معا معنى الاسم ومعنى الحرف وإنما معناه أن الأصل أمن فحذف حرف الاستفهام واستمر الاستعمال على حذفه كما حذف من هل والأصل أهل كما قال: سائل فوارس يربوع بشدتنا ... أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم فإذا أدخلت حرف الجر على من فقدر الهمزة قبل حرف الجر في ضميرك كأنك تقول: أعلى من تنزل الشياطين كقولك: أعلى زيد مررت اه. وتعقبه صاحب الفرائد بقوله: يشكل ما ذكر بقولهم: من أين أنت ومن أين جئت وقوله تعالى: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [عبس: 18] وقوله فيم: وبم ومم وحتام ونحوها. وأجاب صاحب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 135 الكشف بأنه لا إشكال في نحو من أين أنت؟ لأن التقدير أمن البصرة أم من الكوفة مثلا ولا يخفى أنه لا يحتاج على ما حققه النحاة إلى جميع ذلك، وجملة عَلى مَنْ تَنَزَّلُ إلخ في موضع نصب بأنبئكم لأنه معلق بالاستفهام وهي إما سادة مسد المفعول الثاني إن قدرت الفعل متعديا لاثنين ومسد مفعولين إن قدرته متعديا لثلاثة، والمراد هل أعلمكم جواب هذا الاستفهام- أعني على من تنزل الشياطين- وأصل تنزل تتنزل فحذف إحدى التاءين. والكلام على معنى القول عند أبي حيان كأنه قيل: قل يا محمد هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أي كثير الإفك وهو الكذب أَثِيمٍ كثير الإثم، وكُلِّ للتكثير وجوز أن تكون للإحاطة ولا بعد في تنزلها على كل كامل في الإفك والإثم كالكهنة نحو شق بن رهم بن نذير وسطيح بن ربيعة بن عدي، والمراد بواسطة التخصيص في معرض البيان أو السياق أو مفهوم المخالفة عند القائل به قصر تنزلهم على كل من اتصف بما ذكر من الصفات وتخصيص له بهم لا يتخطاهم إلى غيرهم وحيث كانت ساحة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منزهة عن أن يحوم حولها شائبة شيء من تلك الأوصاف اتضح استحالة تنزلهم عليه عليه الصلاة والسلام يُلْقُونَ أي الأفاكون السَّمْعَ أي سمعهم إلى الشياطين، وإلقاء السمع مجاز عن شدة الإصغاء للتلقي فكأنه قيل: يصغون أشد إصغاء إلى الشياطين فيتلقون منهم ما يتلقون وَأَكْثَرُهُمْ أي الأفاكين كاذِبُونَ فيما يقولونه من الأقاويل، والأكثرية باعتبار أقوالهم على معنى أن هؤلاء قلما يصدقون في أقوالهم وإنما هم في أكثرها كاذبون ومآله وأكثر أقوالهم كاذبة لا باعتبار ذواتهم حتى يلزم من نسبة الكذب إلى أكثرهم كون أقلهم صادقين على الإطلاق ويلتزم لذلك كون الأكثر بمعنى الكل. وليس معنى الأفاك من لا ينطق إلا بالإفك حتى يمتنع منه الصدق بل من يكثر الإفك فلا ينافيه أن يصدق نادرا في بعض الأحايين، وجوز أن يكون السمع بمعنى المسموع وإلقاؤه مجاز عن ذكره أن يلقى الأفاكون إلى الناس المسموع من الشياطين وأكثرهم كاذبون فيما يحكون عن الشياطين ولم يرتضه بعضهم لبعده أو لقلة جدواه على ما قيل. واختلف في سبب كون أكثر أقوالهم كاذبة فقيل: هو بعد البعثة كونهم يتلقون منهم ظنونا وأمارات إذ ليس لهم من علم الغيب نصيب وهم محجوبون عن خبر السماء ولعدم صفاء نفوسهم قلما تصدق ظنونهم مع ذلك يضم الأفاكون إليها لعدم وفائها بمرادهم على حسب تخيلاتهم أشياء لا يطابق أكثرها الواقع، وقبل البعثة إذ كانوا غير محجوبين عن خبر السماء وكانوا يسمعون من الملائكة عليهم السلام ما يسمعونه من الأخبار الغيبية يحتمل أن يكون كثرة غلط الأفاكين في الفهم لقصور فهمهم عنهم، ويحتمل أن يكون ضمهم إلى ما يفهمونه من الحق أشياء من عند أنفسهم لا يطابق أكثرها الواقع، ويحتمل أن يكون كثرة غلط الشياطين الذين يوجون إليهم في الفهم عن الملائكة عليهم السلام لقصور فهمهم عنهم، ويحتمل أن يكون ضم الشياطين إلى ما يفهمونه من الحق من الملائكة عليهم السلام أشياء من عند أنفسهم لا يطابق أكثرها الواقع، ويحتمل أن يكون مجموع ما ذكر. وقيل: هو قبل البعثة يحتمل أن يكون أحد هذه الأمور وأما بعد البعثة فهو كثرة خلطهم الكذب فيما تخطفه الشياطين عند استراقهم السمع من الملائكة ويلقونه إليهم. فقد أخرج البخاري ومسلم وابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «سأل أناس النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الكهان فقال: إنهم ليسوا بشيء فقالوا: يا رسول الله إنهم يحدثون أحيانا بالشيء يكون حقا قال: تلك الكلمة من الحق (1) يحفظها الجني فيقذفها في أذن وليه فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة ، وقيل: هو قبل البعثة وبعدها كثرة   (1) ورواية من الجن بجيم ونون بدله رواية صحيحة اهـ منه بزيادة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 136 خلط الأفاكين الكذب فيما يتلقونه من الشياطين، أما كثرته قبل البعثة فلظاهر الخبر المذكور، وأما كثرته بعد البعثة فلما أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال في هذه الآية: كانت الشياطين تصعد إلى السماء فتستمع ثم تنزل إلى الكهنة فتخبرهم فتحدث الكهنة بما أنزلت به الشياطين من السمع وتخلط به الكهنة كذبا كثيرا فيحدثون به الناس فأما ما كان من سمع السماء فيكون حقا وأما ما خلطوه به من الكذب فيكون كذبا، ولا يخفى أن القول بأن الشياطين بعد البعثة يلقون ما يسترقونه من السمع إلى الكهنة غير مجمع عليه، ومن القائلين به من يجوز أن يكون ضمير يُلْقُونَ في الآية راجعا إلى الشياطين، والمعنى يلقي الشياطين المسموع من الملأ الأعلى قبل أن يرجموا من بعض المغيبات إلى أوليائهم وأكثرهم كاذبون فيما يوحون به إليهم، إذ لا يسمعونهم على نحو ما تكلمت به الملائكة عليهم السلام لشرارتهم أو لقصور فهمهم أو ضبطهم أو إفهامهم، وقيل: المعنى عليه ينصت الشياطين ويستمعون إلى الملأ الأعلى قبل الرجم وأكثرهم كاذبون فيما يوحون به إلى أوليائهم بعد لشرارتهم أو لأنهم لا يسمعون في أنفسهم أو لا يسمعون أولياءهم بعد ذلك السمع كلام الملائكة عليهم السلام على وجهه، وجملة يُلْقُونَ على تقدير كون الضمير للأفاكين صفة لِكُلِّ أَفَّاكٍ لأنه في معنى الجمع سواء أريد بإلقاء السمع الإصغاء إلى الشياطين أو إلقاء المسموع إلى الناس، وجوز أن تكون استئنافا إخبارا لحالهم على كلا التقديرين لما أن كلا من تلقيهم من الشياطين وإلقائهم إلى الناس يكون بعد التنزل، واستظهر تقدير المبتدأ على هذا، وأن تكون استئنافا مبنيا على السؤال كأنه قيل: ما يفعلون عند تنزل الشياطين أو ما يفعلون بعد تنزلهم؟ فقيل: يلقون إليهم أسماعهم ليحفظوا ما يوحون به إليهم أو يلقون ما يسمعونه منهم إلى الناس، وجوز أن تكون حالا منتظرة على التقديرين أيضا. وهي على تقدير كون الضمير للشياطين، والمعنى ما سمعت أولا قيل: تحتمل أن تكون استئنافا مبينا للغرض من التنزل مبنيا على السؤال عنه كأنه قيل لم تنزل عليهم؟ فقيل: يلقون إليهم ما سمعوه، وأن تكون حالا منتظرة من ضمير الشياطين أي تنزل على كل أفاك أثيم ملقين ما يسمعونه من الملأ الأعلى إليهم وعلى ذلك التقدير والمعنى ما سمعت ثانيا قيل: لا يجوز أن تكون استئنافا نظير ما ذكر آنفا ولا أن تكون حالا أيضا لأن الفاء السمع بمعنى الإنصات مقدم على التنزل المذكور فكيف يكون غرضا منه أو حالا مقارنة أو منتظرة ويتعين كونها استئنافا للإخبار بحالهم. وتعقب بأنه غير سديد لأن ذكر حالهم السابقة على تنزلهم المذكور قبله غير خليق بجزالة التنزيل، ومن هنا قيل: إن جعل الضمير للشياطين وحمل إلقاء السمع على إنصاتهم وتسمعهم إلى الملأ الأعلى مما لا سبيل إليه وفيه نظر، وجملة أَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ استئنافية أو تحتمل الاستئنافية والحالية، هذا واعلم أن هاهنا إشكالا واردا على بعض الاحتمالات في الآية لأنها عليه تفيد أن الشياطين يسمعون من الملائكة عليهم السلام ما يسمعونه ويلقونه إلى الأفاكين. وقد تقدم ما يدل على منعهم عن السمع أعني قوله تعالى: إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [الشعراء: 212] . وأجيب بأن المراد بالسمع فيما تقدم السمع المعتد به وفيما هاهنا السمع في الجملة ويراد به الخطفة المذكورة في قوله سبحانه: إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ [الصافات: 10] والكلمة المذكورة في خبر الصحيحين وابن مردويه السابق آنفا، واعترض بأن من خطف لا يبقى حيا إلى أن يوصل ما خطفه إلى وليه لظاهر قوله تعالى: إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ فإن ظاهره أنه يهلك بالشهاب الذي لحقه. وأجيب بأن نفي بقائه حيا غير مسلم، ولا نسلم أن الآية ظاهرة فيما ذكر إذ ليس فيها أكثر من اتباع الشهاب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 137 الثاقب إياه وهو يحتمل الزجر كما يحتمل الإهلاك فليرد اتباعه للزجر مع بقائه حيا فإن الخبر المذكور يقتضي بقاءه كذلك. وجاء عن ابن عباس أن الشياطين كانوا لا يحجبون عن السماوات وكانوا يدخلونها ويأتون بأخبارها فيلقون إلى الكهنة فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث سماوات فلما ولد محمد صلّى الله عليه وسلّم منعوا من السماوات كلها فما منهم من أحد يريد استراق السمع إلا رمي بشهاب وهو الشعلة من النار فلا يخطىء أبدا فمنهم من يقتله ومنهم من يحرق وجهه ومنهم من يخبله فيصير غولا يضل الناس في البراري، وقيل: إن المراد بالسمع فيما تقدم سمع الوحي وفيما هنا سمع المغيبات غيره وهم غير ممنوعين عنه قبل البعثة وبعدها، وهذا مأخوذ من كلام عبد الرحمن بن خلدون في مقدمة تاريخه التي لم ينسج على منوالها وإن كان للطعن فيها مجال قال: إن الآيات إنما دلت على منع الشياطين من نوع واحد من أخبار السماء وهو ما يتعلق بخبر البعثة ولم يمنعوا مما سوى ذلك، بل ربما يقال: إن في كلامه بعد إشعارا ما بأن المنع إنما كان بين يدي النبوة فقط. لا قبل ذلك ولا بعده. ولا يخفى أن الظواهر تشهد بمنعهم مطلقا إلى يوم القيامة، بل قد يدعي أن في الآيات ما يدل على أن حفظ السماء بالكواكب لم يحدث وإن خلقها لذلك وهو ظاهر في أنهم كانوا ممنوعين أيضا قبل ولادته صلّى الله تعالى عليه وسلّم من خبر السماء، ويشكل هذا على ظاهر العزل إلا أن يدعي أن المنع قبل لم يكن بمثابة المنع بعد فالعزل عما كان يجعل المنع شديدا بالنسبة إليه. وفي اليواقيت والجواهر في عقائد الأكابر لمولانا عبد الوهاب الشعراني عليه الرحمة الصحيح أن الشياطين ممنوعون من السمع منذ بعث رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم إلى يوم القيامة وبتقدير استراقهم فلا يتوصلون إلى الإنس ليخبروهم بما استرقوه بل تحرقهم الشهب وتفنيهم انتهى. قيل ويلزم القائلين بهذا حمل ما في خبر الصحيحين على كهان كانوا قبل البعثة وقد أدركهم السائلون وهو الذي يقتضيه كلام القاضي أيضا. فقد نقل النووي عنه في شرحه صحيح مسلم أنه قال: كانت الكهانة في العرب ثلاثة أضرب، أحدها أن يكون للإنسان ولي من الجن يخبره بما يسترقه من السمع من السماء وهذا القسم بطل من حين بعث نبينا صلّى الله تعالى عليه وسلّم إلى آخر ما قال. وهو ظاهر كلام البوصيري حيث يقول: بعث الله عند مبعثه الشه ... ب حراسا وضاق عنها الفضاء تطرد الجن عن مقاعد للسم ... ع كما يطرد الذئب الرعاء فمحت آية الكهانة آيا ... ت من الوحي ما لهن انمحاء وقد قيل في الجواب عن الإشكال نحو هذا وهو أن تنزل الشياطين وإلقاءهم ما يسمعونه من السماء إلى أوليائهم حسبما تفيده الآية المذكورة في أحد محاملها إنما كان قبل البعثة حيث لم يكن حينئذ منع أو كان لكنه لم يكن شديدا. والمنع من السمع الذي يفيده قوله تعالى: إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ إنما كان بعد البعثة وكان على أتم وجه، وهذا مشكل عندي بابن الصياد وما كان منه فإنهم عدوه من الكهان، وقد صح أنه قال للنبي عليه الصلاة والسلام حين سأله عن أمره: يأتيني صادق وكاذب وأن النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم امتحنه فأضمر له آية الدخان وهي قوله تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ [الدخان: 10] وقال صلّى الله عليه وسلم: خبأت لك خبأ فقال ابن الصياد: هو الدخ أي الدخان وهي لغة فيه كما ذهب إليه الجمهور فقال له النبيّ صلّى الله تعالى عليه وسلم: «اخسأ فلن تعدو قدرك» . وقد قال القاضي كما نقل النووي عنه أيضا: أصح الأقوال إنه لم يهتد من الآية التي أضمرها النبي عليه الصلاة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 138 والسلام إلا لهذا اللفظ الناقص على عادة الكهان إذا ألقى الشيطان إليهم بقدر ما يخطف قبل أن يدركه الشهاب ويدل عليه قوله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «اخسأ فلن تعدو قدرك» أي القدر الذي يدركه الكهان من الاهتداء إلى بعض الشيء وما لا يبين منه حقيقته ولا يصل به إلى بيان وتحقيق أمور الغيب، وقد يقال في دفع هذا الإشكال: إن ابن الصياد كان من الضرب الثاني من الكهان وهم الذين تخبرهم الشياطين بما يطرأ أو يكون في أقطار الأرض وما خفي عنهم مما قرب أو بعد، والصحيح جواز وجودهم بعد البعثة خلافا للمعتزلة وبعض المتكلمين حيث قالوا باستحالة وجود هذا الضرب، وكذا الضرب السابق آنفا، وأنه يحتمل أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أسر إلى بعض أصحابه الذين كانوا معه ما أضمره أو كانت سورة الدخان مكتوبة في يده صلّى الله عليه وسلّم أو كتب الآية وحدها في يده عليه الصلاة والسلام، وكلا القولين الأخيرين حكاهما الداودي عن بعض العلماء كما في شرح صحيح مسلم. وأيا ما كان يكون ابن الصياد قد أخبر بأمر طارئ تطلع عليه الشياطين بدون استراق السمع من السماء وليس ذلك من الإطلاع على ما في القلب في شيء، ومع ذلك لم يخبر به تاما بل أخبر به على نحو إخبار الكهان السابقين على زمن البعثة الذين هم من الضرب الأول في النقص. ولعل مراد القاضي بقوله: إنه لم يهتد من الآية التي أضمرها صلّى الله عليه وسلّم إلا لهذا اللفظ الناقص على عادة الكهان إذا ألقى الشيطان إليهم بقدر ما يخطف إلخ تشبيه حاله مع أنه من الضرب الثاني بحال من تقدمه من الكهان الذين هم من الضرب الأول وإلا لأشكل كلامه هذا مع ما نقلناه عنه أولا كما لا يخفى، وكأنه يقول برجم المسترقين للسمع قبل البعثة أيضا إلا أنه لم يكن بمثابة ما كان بعد البعثة، وقد ذهب إلى هذا جمع من المحدثين. ومن الناس من قال: إن الشيطان إذا خطف الخطفة فاتبعه شهاب ثاقب ألقى ما يخطفه إلى من تحته قبل أن يدركه الشهاب ثم إن من تحته يوصل ذلك إلى الكاهن ولا يكاد يصح ذلك، وقيل: إن ما يلقيه الشياطين إلى الكهنة بعد البعثة هو ما يسمعونه من الملائكة عليهم السلام في العنان وهو المراد بقوله تعالى: يُلْقُونَ السَّمْعَ وما هم ممنوعون عنه هو السمع من الملائكة عليهم السلام في السماء وهو المراد بقوله تعالى: إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ واستدل لذلك بما أخرجه البخاري وابن المنذر عن عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الملائكة تحدث في العنان والعنان الغمام بالأمر في الأرض فيسمع الشيطان الكلمة فيقرها في أذن الكاهن كما يقر القارورة فيزيدون معها مائة كذبة ، ولا يخفى أنه ليس في الخبر تعرض للسمع من الملائكة عليهم السلام في السماء بالمعنى المعروف لا نفيا ولا إثباتا، وقد يختار القول بأن الشياطين إنما منعوا بعد البعثة عن سمع ما يعتد به من علم الغيب من ملائكة السماء أو العنان ومن خطف خطفة يعتد بها من ذلك اتبعه الشهاب وأهلكه ولم يدعه يوصلها بوجه من الوجوه إلى الكهنة، وأما سمع ما لا يعتد به فقد يقع لهم ويوصلونه إلى الكهنة فيخلطون به من الكذب ما يخلطون، فحيث حكم عليهم بالعزل عن السمع أريد بالسمع السمع الكامل المعتد به وحيث حكم عليهم بإلقاء السمع أريد بالسمع السمع في الجملة وأدنى ما يصدق عليه أنه سمع، والظاهر أن ما حصل لابن الصياد كان من هذا السمع ولا يكاد يعدل عن ذلك، ويقال: إنه كان من الضرب الثاني للكهانة إلا إن ثبت أحد الشقوق الثلاثة وفي ثبوت ذلك كلام، نعم قوله صلّى الله عليه وسلّم: «خبأت» ظاهر في أن هناك ما يخبأ في كف أو كم أو نحوهما والآية ما لم تكتب لا تكون كذلك، ولهذا احتاج القائلون بأنه صلّى الله عليه وسلّم إنما أضمر له الآية في قلبه إلى تأويل خبأت بأضمرت. ويمكن أن يقال على بعد: إن الشياطين قد منعوا بعد البعثة عن السمع مطلقا بالشهب المحرقة لهم، وإرجاع ضمير يُلْقُونَ إلى الشياطين ضعيف لأن المقام في بيان من يتنزلون عليه لا بيان حالهم أو إلقاء سمعهم بمعنى إصغائهم إلى الملأ الأعلى وأَكْثَرُهُمْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 139 بمعنى كلهم والتعبير به للإشارة إلى أن الأكثرية المذكورة كافية في المقصود. والمراد يصغون ليسمعوا فلا يسمعون إلا أنه أقيم وأكثرهم كاذبون مقام لا يسمعون أو إلقاء السمع بمعنى إلقاء ما يسمعه الناس من الأفاكين إليهم ولا يلزم من ذلك أن يكونوا سمعوه من الملائكة عليهم السلام إذ يجوز أن يكونوا اخترعوه من عند أنفسهم ظنا وتخمينا وألقوه إلى أوليائهم ولا يبعد صدقهم في بعضه. والأمر في تسميته مسموعا هين. وما ورد في حديث الصحيحين وابن مردويه محمول على ما كان قبل البعثة، ويقال: إنهم كانوا يسمعون في الجملة وقد يحمل ما في الآية على ذلك وإليه ذهب بعضهم، وحمل خطف الكلمة فيه على حدسها بواسطة بعض الأوضاع الفلكية ونحو ذلك ليجوز اعتبار كونه بعد البعثة مما لا أظن أحدا يرتضيه، وليس في قصة ابن الصياد ما هو نص في أن ما قاله كان عن سمع من الملائكة عليهم السلام ألقاه الشيطان إليه. وكأني بك تستبعد تحدث الملائكة عليهم السلام في السماء بما أضمره صلّى الله تعالى عليه وسلّم وصعود الشياطين حين السؤال من غير ريث واستراقهم ونزولهم في أسرع وقت بما أجاب به ابن الصياد وما هو إلا ضرب من ضروب الكهانة. وتحقيق أمرها على ما ذكره الفاضل عبد الرحمن بن خلدون أن للنفس الإنسانية استعدادا للانسلاخ عن البشرية إلى الروحانية التي فوقها. ويحصل من ذلك لمحة للبشر من صنف الأتقياء بما فطروا عليه من ذلك ولا يحتاجون فيه إلى اكتساب ولا استعانة بشيء من المدارك ولا من التصورات ولا من الأفعال البدنية كلاما أو حركة ولا بأمر من الأمور ويعطي التقسيم العقلي إن هاهنا صنفا آخر من البشر ناقصا عن رتبة هذا الصنف نقصان الضد عن ضده الكامل وهو صنف من البشر مفطور على أن تتحرك قوته العقلية حركتها الفكرية بالإرادة عند ما يتبعها النزوع لذلك وهي ناقصة عنه فيتشبث لأعمال الحيلة بأمور جزئية محسوسة أو متخيلة كالأجسام الشفافة وعظام الحيوان وسجع الكلام وما سنح من طير أو حيوان ويديم ذلك الإحساس والتخيل مستعينا به في ذلك الانسلاخ الذي يقصده ويكون كالمشيع له وهذه القوة التي هي مبدأ في هذا الصنف لذلك الإدراك هي الكهانة ولكون هذه النفوس مفطورة على النقص والقصور عن الكمال كان إدراكها الجزئيات أكثر من إدراكها الكليات وتكون مشتغلة بها غافلة عن الكليات ولذلك كثيرا ما تكون المتخيلة فيهم في غاية القوة وتكون الجزئيات عندها حاضرة عتيدة وهي لها كالمرآة تنظر فيها دائما ولا يقوى الكاهن على الكمال في إدراك المعقولات لأن نقصانه فطري ووحيه شيطاني، وأرفع أحوال هذا الصنف أن يستعين بالكلام الذي فيه السجع والموازنة ليشتغل به عن الحواس ويقوي في الجملة على ذلك الانسلاخ الناقص فيهجس في قلبه من تلك الحركة والذي يشيعها من ذلك الأجنبي ما يقذف على لسانه وربما صدق ووافق الحق وربما كذب لأنه يتمم أمر نقصه بأجنبي عن ذات المدارك ومباين لها غير ملائم فيعرض له الصدق والكذب جميعا ويكون غير موثوق به وربما يفزع إلى الظنون والتخمينات حرصا على الظفر بالإدراك بزعمه وتمويها على السائلين، ولما كان انسلاخ النبي عليه الصلاة والسلام عن البشرية واتصاله بالملأ الأعلى من غير مشيع ولا استعانة بأجنبي كان صادقا في جميع ما يأتي به وكان الصدق من خواص النبوة، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلّم لابن الصياد حين سأله كاشفا عن حاله بقوله عليه الصلاة والسلام: «كيف يأتيك هذا الأمر؟ فقال: يأتيني صادق وكاذب: خلط عليك الأمر» يريد عليه الصلاة والسلام نفي النبوة عنه بالإشارة إلى أنها مما لا يعتبر فيه الكذب بحال، وإنما قيل: أرفع أحوال هذا الصنف السجع لأن معين السجع أخف من سائر المعينات من المرئيات والمسموعات وتدل خفة المعين على قرب ذلك الانسلاخ والاتصال والبعد فيه عن العجز في الجملة، ولا انحصار لعلوم الكهان فيما يكون من الشياطين بل كما تكون من الشياطين تكون من أنفسهم بانسلاخها انسلاخا غير تام واتصالها في الجملة بواسطة بعض الأسباب بعالم لا تحجب عنه الحوادث الجزء: 10 ¦ الصفحة: 140 المستقبلة وغيرها فانقطاع خبر السماء بعد البعثة عن الشياطين بالرجم إن سلم لا يدل على انقطاع الكهانة. ثم إن هؤلاء الكهان إذا عاصروا زمن النبوة فإنهم عارفون بصدق النبي ودلالة معجزته لأن لهم بعض الوجدان من أمر النبوة ولا يصدهم عن الإيمان ويدعوهم إلى العناد إلا وساوس المطامع بحصول النبوة لهم كما وقع لامية ابن أبي الصلت فإنه كان يطمع أن يكون نبيا وكذا وقع لابن الصياد ومسيلمة وغيرهما، وربما تنقطع تلك الأماني فيؤمنون أحسن إيمان كما وقع لطليحة الأسدي. وقارب بن الأسود وكان لهما في الفتوحات الإسلامية من الآثار ما يشهد بحسن الإيمان، وذكر في بيان استعداد بعض الأشخاص أعم من أن يكونوا كهانا أو غيرهم للإخبار بالأمور الغيبية قبل ظهورها كلاما طويلا، حاصلة أن النفس الإنسانية ذات روحانية ولها بذاتها الإدراك من غير واسطة لكنها محجوبة عنه بالانغماس في البدن والحواس وشواغلها لأن الحواس أبدا جاذبة لها إلى الظاهر بما فطرت عليه من الإدراك الجسماني وربما تنغمس عن الظاهر إلى الباطن فيرتفع حجاب البدن لحظة إما بالخاصة التي هي للإنسان على الإطلاق مثل النوم أو بالخاصة الموجودة في بعض الأشخاص كالكهنة أهل السجع وأهل الطرق بالحصى والنوى والناظرين في الأجسام الشفافة من المرايا والمياه وقلوب الحيوانات وأكبادها وعظامها وقد يلحق بهم المجانين أو بالرياضة الدينية مثل أهل الكشف من الصوفية أو السحرية مثل أهل الكشف من الجوكية فتلتفت حينئذ إلى الذوات التي فوقها من الملأ الأعلى لما بين أفقها وأفقهم من الاتصال في الوجود وتلك الذوات إدراك محض وعقول بالفعل وفيها صور الموجودات وحقائقها كما قرر في محله فيتجلى فيها شيء من تلك الصور وتقتبس منها علما، وربما وقعت تلك الصور المدركة إلى الخيال فيصرفها في القوالب المتعادة ثم تراجع الحس بما أدركت إما مجردا أو في قوالبه فتخبر به انتهى، ولا يخفى أن فيه ذهابا إلى ما يقوله الفلاسفة في الملأ الأعلى وكثيرا ما يسمونه عالم المجردات وقد يسمونه عالم العقول وهي محصورة في المشهور عنهم في عشرة ولا دليل لهم على هذا الحصر ولذا قال بعض متأخريهم بأنها لا تكاد تحصى، وللمتكلمين والمحققين من السلف في ذلك كلام لا يتسع هذا الموضع لذكره، وأنا أقول ولا ينكره إلا جهول: لله عز وجل خواص في الأزمنة والأمكنة والأشخاص ولا يبعد بعد انقطاع خبر السماء عن الشياطين بالرجم أن يجعل لبعض النفوس الإنسانية خاصية التكلم بما يصدق كلا أو بعضا مع اطلاع وكشف يفيد العلم بما أخبر به أو بدون ذلك بأن ينطقه سبحانه بشيء فيتكلم به من غير علم بالمخبر به ويوافق الواقع. وقد اتفق لي ذلك وعمري نحو خمس سنين وذلك أني رجعت من الكتاب إلى البيت وشرعت ألعب فيه على عادة الأطفال فنهتني والدتي رحمها الله تعالى عن ذلك وأمرتني بالنوم لأستيقظ صباحا فأذهب إلى الكتاب فقلت لها: غدا يقتل الوزير ولا أذهب إلى الكتاب وهو مما لا يكاد يمر بفكر فلم تلتفت إلى ذلك وأنامتني فلما أصبحت تأهبت للذهاب فجاء ابن أخت لها وأسر إليها كلاما لم أسمعه فتغير حالها ومنعتني عن الذهاب ولا أدري لم ذلك فأردت الخروج إلى الدرب لألعب مع أمثالي فمنعتني أيضا فقعدت وهي مضطربة البال تطلب أحدا يخبرها عن حال والدي عليه الرحمة حيث ذهب قبيل طلوع الشمس إلى المدرسة فخرجت إلى الدرب على حين غفلة منها فوجدت الناس بين راكض ومسرع يتحدثون بأن الوزير قتله بعض خدمه وهو في صلاة الفجر فرجعت إليها مسرعا مسرورا بصدق كلامي وكنت قد أنسيته ولم يخطر ببالي حتى سمعت الناس يتحدثون بذلك. وفي اليواقيت والجواهر للشعراني عليه الرحمة في بحث الفرق بين المعجزة والكهانة أن الكهانة كلمات تجري على لسان الكاهن ربما توافق وربما تخالف وفيه شمة مما ذكرنا هذا والله تعالى أعلم. والظاهر على ما قيل أن قوله تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ إلخ كلام مسوق منه تعالى لبيان تنزيه النبي صلّى الله عليه وسلّم عن أن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 141 يكون وحاشاه ممن تنزل عليه الشياطين وإبطال لقولهم في القرآن إنه من قبيل ما يلقى إلى الكهنة، وفي البحر ما هو ظاهر في أنه على معنى القول أي قل يا محمد هل أنبئكم إلخ وهو مسوق للتنزيه والإبطال المذكورين، وقوله تعالى: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ مسوق لتنزيهه عليه الصلاة والسلام أيضا عن أن يكون وحاشاه من الشعراء وإبطال زعم الكفرة أن القرآن من قبيل الشعر. والمتبادر منه الكلام المنظوم المقفى ولذلك قال كثير من المفسرين: إنهم رموه عليه الصلاة والسلام بكونه آتيا بشعر منظوم مقفى حتى تأولوا عليه ما جاء في القرآن مما يكون موزونا بأدنى تصرف كقوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ [الإسراء: 33] ويكون بهذا الاعتبار شطرا من الطويل وكقوله سبحانه: إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى [القصص: 76] ويكون من (1) المديد، وكقوله عز وجل: فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ [الأحقاف: 25] ويكون من البسيط، وقوله تبارك وتعالى: أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ [هود: 60] ويكون من الوافر، وقوله جل وعلا: صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب: 56] ويكون من الكامل إلى غير ذلك مما استخرجوه منه من سائر البحور، وقد استخرجوا منهما يشبه البيت التام كقوله تعالى: وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [التوبة: 14] . وتعقب ذلك بأنهم لم يقصدوا هذا المقصد فيما رموه به صلّى الله عليه وسلّم إذ لا يخفى على الأغبياء من العجم فضلا عن بلغاء العرب إن القرآن الذي جاء به صلّى الله عليه وسلّم ليس على أساليب الشعر وهم ما قالوا فيه عليه الصلاة والسلام شاعر إلا لما جاءهم بالقرآن واستخراج ما ذكر ونحوه منه ليس إلا لمزيد فصاحته وسلاسته ولم يؤت به لقصد النظم. ولو اعتبر في كون الكلام شعرا إمكان استخراج كلام منظوم منه لكان كثير من الأطفال شعرا. فإن كثيرا من كلامهم يمكن فيه ذلك، والظاهر أنهم إنما قصدوا رميه صلّى الله تعالى عليه وسلّم بأنه وحاشاه ثم حاشاه يأتي بكلام مخيل لا حقيقة له، ولما كان ذلك غالبا في الشعراء الذين يأتون بالمنظوم من الكلام عبروا عنه عليه الصلاة والسلام بشاعر وعما جاء به بالشعر، ومعنى الآية والشعراء يجاريهم ويسلك مسلكهم ويكون من جملتهم الغاوون الضالون عن السنن الحائرون فيما يأتون وما يذرون ولا يستمرون على وتيرة واحدة في الأفعال والأقوال والأحوال لا غيرهم من أهل الرشد المهتدين إلى طريق الحق الثابتين عليه، والحصر مستفاد من بناء يَتَّبِعُهُمُ إلخ على الشعراء عند الزمخشري كما قرره في تفسير قوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة: 15] وقوله سبحانه: وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ [المزمل: 20] ومن لا يرى الحصر في مثل هذا التركيب يأخذه من الوصف المناسب أعني أن الغواية جعلت علة للاتباع فإذا انتفت انتفى وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ استشهاد على أن الشعراء إنما يتبعهم الغاوون وتقرير له. والخطاب لكل من تتأتى منه الرؤية للإشارة إلى أن حالهم من الجلاء والظهور بحيث لا يختص برؤيته راء دون راء. وضمير الجمع للشعراء أي ألم تر أن الشعراء في كل واد من أودية القيل والقال وفي كل شعب من شعاب الوهم والخيال وفي كل مسلك من مسالك الغي والضلال يهيمون على وجوههم لا يهتدون إلى سبيل معين من السبل بل يتحيرون في سباسب الغواية والسفاهة ويتيهون في تيه الصلف والوقاحة ديدنهم تمزيق الأعراض المحمية والقدح في الأنساب الطاهرة السنية والنسيب بالحرم والغزل والابتهار والتردد بين طرفي الإفراط والتفريط في المدح والهجاء وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ من الأفاعيل غير مكترثين بما يستتبعه من اللوم فكيف يتوهم أن يتبعهم في مسلكهم ذلك ويلحق بهم وينتظم في سلكهم من تنزهت ساحته عن أن يحوم حولها شائبة الاتصاف بشيء من الأمور المذكورة   (1) قوله من المديد كذا بخطه وهو من الخفيف كما لا يخفى اه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 142 واتصف بمحاسن الصفات الجليلة وتخلق بمكارم الأخلاق الجميلة وحاز جميع الكمالات القدسية وفاز بجملة الملكات السنية الإنسية مستقرا على أقوم منهاج مستمرا على صراط مستقيم لا يرى له العقل السليم من هاج ناطقا بكل أمر رشيد داعيا إلى صراط الله تعالى العزيز الحميد مؤيدا بمعجزات قاهرة وآيات ظاهرة مشحونة بفنون الحكم الباهرة وصنوف المعارف الباهرة مستقلة بنظم رائق وأسلوب فائق أعجز كل منطيق ماهر وبكت كل مفلق ساحر، هذا وقد قيل في تنزيهه صلّى الله تعالى عليه وسلّم عن أن يكون من الشعراء: إن اتباع الشعراء الغاوون واتباعه عليه الصلاة والسلام ليسوا كذلك. وتعقب بأنه لا ريب في أن تعليل عدم كونه صلّى الله تعالى عليه وسلّم منهم بكون اتباعه عليه الصلاة والسلام غير غاوين مما لا يليق بشأنه العالي، وقيل: ضمير الجمع للغاوين، وتعقب بأن المحدث عنهم الشعراء، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الغاوين هم الرواة الذين يحفظون شعر الشعراء ويروونه عنهم مبتهجين به. وفي رواية أخرى عنه أنهم الذين يستحسنون أشعارهم وإن لم يحفظوها، وعن مجاهد وقتادة أنهم الشياطين. وروي عن ابن عباس أيضا أن الآية نزلت في شعراء المشركين عبد الله بن الزبعري وهبيرة بن وهب المخزومي ومسافع بن عبد مناف وأبو عزة الجمحي وأمية بن أبي الصلت قالوا: نحن نقول مثل قول محمد وكانوا يهجونه ويجتمع إليهم الأعراب من قومهم يستمعون أشعارهم وأهاجيهم وهم الغاوون الذين يتبعونهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضا أنه قال: تهاجى رجلان على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحدهما من الأنصار والآخر من قوم آخرين، وكان مع كل واحد منهما غواة من قومه وهم السفهاء فأنزل الله تعالى وَالشُّعَراءُ الآيات وفي القلب من صحة الخبر شيء، والظاهر من السياق أنها نزلت للرد على الكفرة الذين قالوا في القرآن ما قالوا. وقرأ عيسى بن عمرو «الشعراء» بالنصب على الاشتغال. وقرأ السلمي والحسن بخلاف عنه «يتبعهم» مخففا. وقرأ الحسن وعبد الوارث عن أبي عمرو «يتّبعهم» بالتشديد وتسكين العين تخفيفا وقد قالوا: عضد بسكون الضاد فغيروا الضمة واقعة بعد الفتحة فلأن يغيروها واقعة بعد الكسرة أولى، وروى هارون فتح العين عن بعضهم، واستشكله أبو حيان، وقيل: إنه للتخفيف أيضا، واختياره على السكون لحصول الغرض به مع أن فيه مراعاة الأصل في الجملة لما بين الحركتين من المشاركة الجنسية ولا كذلك ما بين الضم والسكون وهو غريب كما لا يخفى. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا استثناء للشعراء المؤمنين الصالحين الذين يكثرون ذكر الله عز وجل ويكون أكثر أشعارهم في التوحيد والثناء على الله سبحانه وتعالى والحث على الطاعة والحكمة والموعظة والزهد في الدنيا والترهيب عن الركون إليها والاغترار بزخارفها والافتتان بملاذها الفانية والترغيب فيما عند الله تعالى ونشر محاسن رسوله صلّى الله عليه وسلّم ومدحه وذكر معجزاته ليتغلغل حبه في سويداء قلوب السامعين وتزداد رغباتهم في اتباعه ونشر مدائح آله وأصحابه وصلحاء أمته لنحو ذلك ولو وقع منهم في بعض الأوقات هجو وقع بطريق الانتصار ممن هجاهم من غير اعتداء ولا زيادة كما يشير إليه قراءة بعضهم «وانتصروا بمثل ما ظلموا» ، وقيل: المراد بالمستثنين شعراء المؤمنين الذين كانوا ينافحون عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويكافحون هجاة المشركين، واستدل لذلك بما أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة إن هذه الآية نزلت في رهط من الأنصار هاجوا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، منهم كعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت وعن السدي نحوه، وبما أخرج جماعة عن أبي حسن سالم البراد أنه قال: لما نزلت وَالشُّعَراءُ الآية جاء عبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت الجزء: 10 ¦ الصفحة: 143 وكعب بن مالك وهم يبكون فقالوا: يا رسول الله لقد أنزل الله تعالى هذه الآية وهو يعلم أنّا شعراء هلكنا فأنزل الله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ فدعاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتلاها عليهم. وأنت تعلم أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قرأ قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا إلى آخر الصفات فقال: هم أبو بكر وعمر وعلي وعبد الله بن رواحة ولعله من باب الاقتصار على بعض ما يدل عليه اللفظ فقد جاء عنه في بعض الروايات ما يشعر بالعموم، هذا واستدل بالآية على ذم الشعر والمبالغة في المدح والهجو وغيرهما من فنونه وجوازه في الزهد والأدب ومكارم الأخلاق وجواز الهجو لمن ظلم انتصارا كذا قيل. واعلم أن الشعر باب من الكلام حسنه حسن وقبيحه قبيح، وفي الحديث: «إن من الشعر لحكمة» وقد سمع رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم الشعر وأجاز عليه وقال عليه الصلاة والسلام لحسان رضي الله تعالى عنه:- اهجهم- يعني المشركين فإن روح القدس سيعينك، وفي رواية «اهجهم وجبريل معك» . وأخرج ابن سعد عن ابن بريدة أن جبريل عليه السلام أعان حسانا على مدحته النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم بسبعين بيتا، وأخرج أحمد والبخاري في التاريخ وأبو يعلى وابن مردويه عن كعب بن مالك أنه قال للنبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم إن الله تعالى أنزل في الشعراء ما أنزل فكيف ترى فيه؟ فقال: إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل ، وأخرج ابن سعد عن محمد بن سيرين «قال: رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم ليلة وهم في سفر أين حسان بن ثابت فقال: لبيك يا رسول الله وسعديك قال: خذ فجعل ينشده ويصغي إليه حتى فرغ من نشيده فقال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم: لهذا أشد عليهم من وقع النبل» ، ويروى عن هشام ابن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم بني لحسان بن ثابت منبرا في المسجد ينشد عليه الشعر . وأخرج الديلمي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه مرفوعا الشعراء الذين يموتون في الإسلام يأمرهم الله تعالى أن يقولوا شعرا يتغنى به الحور العين لأزواجهن في الجنة والذين ماتوا في الشرك يدعون بالويل والثبور في النار ، وقد أنشد كل من الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم أجمعين الشعر، وكذا كثير من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فمن شعر أبي بكر رضي الله تعالى عنه: أمن طيف سلمى بالبطاح الدمائث ... أرقت وأمر في العشيرة حادث ترى من لؤي فرقة لا يصدها ... عن الكفر تذكير ولا بعث باعث رسول أتاهم صادق فتكذبوا ... عليه وقالوا لست فينا بماكث ولما دعوناهم إلى الحق أدبروا ... وهروا هرير المجحرات اللواهث فكم قد مثلنا فيهم بقرابة ... وترك التقى شيء لهم غير كارث فإن يرجعوا عن كفرهم وعقوقهم ... فما طيبات الحل مثل الخبائث وإن يركبوا طغيانهم وضلالهم ... فليس عذاب الله عنهم بلابث ونحن أناس من ذؤابة غالب ... لنا العز منها في الفروع الأثائث فأولى برب الراقصات عشية ... حراجيج تخدي في السريح الرثائث كأدم ظباء حول مكة عكف ... يردن حياض البئر ذات النبائث لئن لم يفيقوا عاجلا من ضلالهم ... ولست إذا آليت يوما بحانث لتبتدرنهم غارة ذات مصدق ... تحرم أطهار النساء الطوامث الجزء: 10 ¦ الصفحة: 144 تغادر قتلى يعصب الطير حولهم ... ولا ترأف الكفار رأف ابن حارث فأبلغ بني سهم لديك رسالة ... وكل كفور يبتغي الشر باحث فإن تشعثوا عرضي على سوء رأيكم ... فإني من أعراضكم غير شاعث ومن شعر عمر رضي الله تعالى عنه وكان من أنقد أهل زمانه للشعر وأنفذهم فيه معرفة: توعدني كعب ثلاثا يعدها ... ولا شك أن القول ما قاله كعب وما بي خوف الموت إني لميت ... ولكن خوف الذنب يتبعه الذنب وقوله ويروى للأعور الثني: هون عليك فإن الأمور ... بكف الإله مقاديرها فليس بآتيك منهيها ... ولا قاصر عنك مأمورها ومنه وقد لبس بردا جديدا فنظر الناس إليه، ويروى لورقة بن نوفل من أبيات: لا شيء مما ترى تبقى بشاشته ... يبقى الإله ويفنى المال والولد لم تغن عن هرمز يوما خزائنه ... والخلد حاوله عاد فما خلدوا ولا سليمان إذ تجري الرياح له ... والإنس والجن فيما بينها ترد حوض هنالك مورود بلا كذب ... لا بد من ورده يوما كما وردوا ومن شعر عثمان رضي الله تعالى عنه: غنى النفس يغني النفس حتى يكفها ... وإن عضها حتى يضر بها الفقر ومن شعر علي كرّم الله تعالى وجهه وكان مجودا حتى قيل: إنه أشعر الخلفاء رضي الله تعالى عنهم يذكر همدان ونصرهم إياه في صفين: ولما رأيت الخيل تزحم بالقنا نواصيها حمر النحور دوامي وأعرض نقع في السماء كأنه عجاجة دجن ملبس بقتام ونادى ابن هند في الكلاع وحمير وكندة في لخم وحي جذام تيممت همدان الذين هم هم إذا ناب دهر جنتي وسهامي فجاوبني من خيل همدان عصبة فوارس من همدان غير لئام فخاضوا لظاها واستطاروا شرارها وكانوا لدى الهيجا كشرب مدام فلو كنت بوابا على باب جنة لقلت لهمدان ادخلوا بسلام وقد جمعوا ما نسب إليه رضي الله تعالى عنه من الشعر في ديوان كبير ولا يصح منه إلا اليسير، ومن شعر ابنه الحسن رضي الله تعالى عنهما، وقد خرج على أصحابه مختضبا: نسود أعلاها وتأبى أصولها فليت الذي يسود منها هو الأصل ومن شعر الحسين رضي الله تعالى عنه وقد عاتبه أخوه الحسن رضي الله تعالى عنه في امرأته: لعمرك إنني لأحب دارا تحل بها سكينة والرباب أحبهما وأبذل جل مالي وليس للائمي عندي عتاب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 145 ومن شعر فاطمة رضي الله تعالى عنها قالته يوم وفاة أبيها عليه الصلاة والسلام: ماذا على من شم تربة أحمد أن لا يشم مدى الزمان غواليا صبت عليّ مصائب لو أنها صبت على الأيام صرن لياليا ومن شعر العباس رضي الله تعالى عنه يوم حنين يفتخر بثبوته مع رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم: ألا هل أتى عرسي مكري وموقفي ... بوادي حنين والأسنة تشرع وقولي إذا ما النفس جاشت لها قرى ... وهام تدهدى والسواعد تقطع وكيف رددت الخيل وهي مغيرة ... بزوراء تعطي باليدين وتمنع نصرنا رسول الله في الحرب سبعة ... وقد فر من قد فر عنه فأقشعوا ومن شعر ابنه عبد الله رضي الله تعالى عنهما: إذا طارقات الهم ضاجعت الفتى ... وأعمل فكر الليل والليل عاكر وباكرني في حاجة لم يجد لها ... سواي ولا من نكبة الدهر ناصر فرجت بمالي همه من مقامه ... وزايله هم طروق مسامر وكان له فضل عليّ بظنه ... بي الخير أني للذي ظن شاكر وهلم جرا إلى حيث شئت، وليس من بني عبد المطلب كما قيل رجالا ولا نساء من لم يقل الشعر حاشا النبي صلى الله تعالى عليه وسلّم ليكون ذلك أبلغ في أمره عليه الصلاة والسلام، ولأجلة التابعين ومن بعدهم من أئمة الدين وفقهاء المسلمين شعر كثير أيضا، ومن ذلك قول الشافعي رضي الله تعالى عنه: ومتعب العيس مرتاح إلى بلد ... والموت يطلبه في ذلك البلد وضاحك والمنايا فوق هامته ... لو كان يعلم غيبا مات من كمد من كان لم يؤت علما في بقاء غد ... فما (1) يفكر في رزق لبعد غد والاستقصاء في هذا الباب يحتاج إلى إفراده بكتاب وفيما ذكر كفاية، وقد مدحه أيضا غير واحد من الأجلة فعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري مر من قبلك بتعلم الشعر فإنه يدل على معالي الأخلاق وصواب الرأي ومعرفة الأنساب، وعن علي كرّم الله تعالى وجهه الشعر ميزان العقول. وكان ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول: إذا قرأتم شيئا من كتاب الله تعالى فلم تعرفوه فاطلبوه في أشعار العرب فإن الشعر ديوان العرب، وما أخرجه أحمد وابن أبي شيبة عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: بينما نحن نسير مع رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم إذ عرض شاعر ينشد فقال النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم: «لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحا خير من أن يمتلىء شعرا» حمله الشافعي عليه الرحمة على الشعر المشتمل على الفحش، وروي نحوه عن عائشة رضي الله تعالى عنها، فقد أخرج الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن عائشة أنه بلغها أن أبا هريرة يروي عن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم «لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلىء شعرا» من الشعر الذي هجيت به يعني نفسه الشريفة عليه الصلاة والسلام ذكر ذلك المرشدي في فتاواه نقلا عن كتاب بستان   (1) في نسخة ماذا يفكر اهـ منه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 146 الزاهدين، ولا يخفى أنه يبعد الحمل المذكور التعبير بيمتلىء فإن الكثير والقليل مما فيه فحش أو هجو لسيد الخلق صلى الله تعالى عليه وسلم سواء، وما أحسن قول الماوردي: الشعر في كلام العرب مستحب ومباح ومحظور فالمستحب ما حذر من الدنيا ورغب في الآخرة وحث على مكارم الأخلاق والمباح ما سلم من فحش أو كذب والمحظور نوعان كذب وفحش وهما جرح في قائله وأما منشده فإن حكاه اضطرارا لم يكن جرحا أو اختيارا جرح، وتبعه على ذلك الروياني وجعل الروياني ما فيه الهجو لمسلم سواء كان بصدق أو كذب من المحظور أيضا، ووافقه جماعة إلا أن إثم الصادق أخف من إثم الكاذب كما قال القمولي. وإثم الحاكي على ما قال الرافعي دون إثم المنشد، وقال الأذرعي: ليس هذا على إطلاقه بل إذا استوى الحاكي والمنشد أما إذا أنشده ولم يذعه فأذاعه الحاكي فإثمه أشد بلا شك، واحترز بقيد المسلم عما فيه الهجو لكافر فإن فيه تفصيلا. وفصل بعضهم ما فيه الهجو لمسلم أيضا وذلك أن كثيرا من العلماء أطلقوا جواز هجو الكافر استدلالا بأمره صلى الله تعالى عليه وسلّم حسانا ونحوه بهجو المشركين، وقال بعضهم: محل ذلك الكفار على العموم وكذا المعين الحربي ميتا كان أو حيا حيث لم يكن له قريب معصوم يتأذى به، وأما الذمي أو المعاهد أو الحربي الذي له قريب ذمي أو مسلم يتأذى به فلا يجوز هجوه كما قاله الأذرعي وابن العماد وغيرهما وقالوا: إن هجو حسان وإن كان في معين لكنه في حربي، وعلى التنزل فهو ذب عن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم فيكون من القرب فضلا عن المباحات، وألحق الغزالي وتبعه جمع المبتدع بالحربي فيجوز هجوه ببدعته لكن لمقصد شرعي كالتحذير من جهته، وجوز ابن العماد هجو المرتد دون تارك الصلاة والزاني المحصن. وما قاله في المرتد واضح لأنه كالحربي بل أقبح وفي الأخيرين محله حيث لم يتجاهر أما المتجاهر بفسقه فيجوز هجوه بما تجاهر به فقط لجواز غيبته بذلك فقط. وقال البلقيني: الأرجح تحريم هجو المتجاهر المذكور لا لقصد زجره لأنه قد يتوب وتبقى وصمة الشعر السائر عليه ولا كذلك الكافر إذا أسلم. ورد بأن مجاهرته بالمعصية وعدم مبالاته بالناس وكلامهم فيه صيراه غير مجترم ولا مراعى فهو المهدر لحرمة نفسه بالنسبة لما تجاهر به فلم يبال ببقاء تلك الوصمة عليه. نعم لو قيل بحرمة إنشاده بعد التوبة إذا كان يتأذى به هو أو قريبه المسلم أو الذي أو بعد موته إذا كان يتأذى به من ذكر لم يبعد، وذكر جماعة أن من جملة المحظور أيضا ما فيه تشبيب بغلام ولو غير معين مع ذكر أنه يعشقه أو بامرأة أجنبية معينة وإن لم يذكرها بفحش أو بامرأة مبهمة مع ذكرها بالفحش ولم يفرقوا بين إنشاء ذلك وإنشاده، واعتبر بعضهم التعيين في الغلام كالمرأة فلا يحرم التشبيب بمبهم. قال الأذرعي وهو الأقرب والأول ضعيف جدا، وقال أيضا: يجب القطع بأنه إذا شبب بحليلته ولم يذكر سوى المحبة والشوق أو ذكر شيئا من التشبيهات الظاهرة أنه لا يضر وكذا إذا ذكر امرأة مجهولة ولم يذكر سوءا. وفي الإحياء في حرمة التشبيب بنحو وصف الخدود والأصداغ وسائر أوصاف النساء نظر، والصحيح أنه لا يحرم نظمه ولا إنشاده بصوت وغير صوت. وعلى المستمع أن (1) ينزله على امرأة معينة فإن نزله على حليلته جاز أو على غيرها فهو العاصي بالتنزيل ومن هذا وصفه فينبغي أن يجتنب السماع، وذكر بعض الفضلاء أن ما يحرم إنشاؤه قد لا تحرم روايته فإن المغازي روي فيها قصائد الكفار الذين هاجوا فيها الصحابة رضي الله تعالى عنهم ولم ينكر ذلك   (1) قوله أن ينزله إلخ كذا بخطه ولعل المناسب أن لا ينزله بحرف النفي اهـ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 147 أحد، وقد روى أنه صلّى الله عليه وسلّم أذن في الشعر الذي تقاولت به الشعراء في يومي بدر، وأحد وغيرهما إلا قصيدة ابن أبي الصلت الحائية انتهى، قال الأذرعي: ولا شك في هذا إذا لم يكن فيه فحش ولا أذى لحي ولا ميت من المسلمين ولم تدع حاجة إليه، وقد ذم العلماء جريرا، والفرزدق في تهاجيهما ولم يذموا من استشهد بذلك على إعراب وغيره من علم اللسان، ويجب حمل كلام الأئمة على غير ذلك مما هو عادة أهل اللعب والبطالة وعلى إنشاد شعر شعراء العصر إذا كان إنشاؤه حراما إذ ليس فيه إلا أذى أو وقيعة في الإحياء أو إساءة الأحياء في أمواتهم أو ذكر مساوئ الأموات وغير ذلك وليس مما يحتج به في اللغة ولا غيرها فلم يبق إلا اللعب بالأعراض، وزاد بعض حرمة شعر فيه تعريض وجعل التعريض في الهجو كالتصريح وله وجه وجيه. وقال آخر: إن ما فيه فخر مذموم وقليله ككثيره، والحق إن ذلك أن تضمن غرضا شرعيا فلا بأس به، وللسلف شعر كثير من ذلك وقد تقدم لك بعض منه، وحمل الأكثرون الخبر السابق على ما إذا غلب عليه الشعر وملك نفسه حتى اشتغل به عن القرآن والفقه ونحوهما ولذلك ذكر الامتلاء، والحاصل أن المذموم امتلاء القلب من الشعر بحيث لا يتسع لغيره ولا يلتفت إليه. وليس في الخبر ذم إنشائه ولا إنشاده لحاجة شرعية وإلا لوقع التعارض بينه وبين الأخبار الصحيحة الدالة على حل ذلك وهي أكثر من أن تحصى وأبعد من أن تقبل التأويل كما لا يخفى. وما روي عن الإمام الشافعي من قوله: ولولا الشعر بالعلماء يزري ... لكنت اليوم أشعر من لبيد محمول على نحو ما حمل الأكثرون الخبر عليه وإلا فما قاله شعر، وفي معناه قول شيخنا علاء الدين علي أفندي تغمده الله تعالى برحمته مخاطبا خاتمة الوزراء في الزوراء داود باشا من أبيات: ولو لداعيه يرضى الشعر منقبة ... لقمت ما بين منشيه ومنشده هذا وسيأتي إن شاء الله تعالى كلام يتعلق بهذا البحث أيضا عند الكلام في قوله تعالى: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ [يس: 69] ومن اللطائف أن سليمان بن عبد الملك سمع قول الفرزدق: فبتن بجانبي مصرعات ... وبت أفض أغلاق الختام فقال له قد وجب عليك الحد فقال يا أمير المؤمنين: قد درأ الله تعالى عني الحد بقوله سبحانه: وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ تهديد شديد ووعيد أكيد لما في سَيَعْلَمُ من تهويل متعلقه وفي الَّذِينَ ظَلَمُوا من الإطلاق والتعميم، وقد كان السلف الصالح يتواعظون بها، وختم بها أبو بكر رضي الله تعالى عنه وصيته حين عهد لعمر رضي الله تعالى عنه وذلك أنه أمر عثمان رضي الله تعالى عنه أن يكتب في مرض موته حينئذ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة عند آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة في الحال التي يؤمن فيها الكافر ويتقى فيها الفاجر ويصدق فيها الكاذب إني قد استخلفت عليكم عمر ابن الخطاب فإن يعدل فذاك ظني به ورجائي فيه وأن يجر ويبدل فلا علم لي بالغيب والخير أردت ولكل امرئ ما اكتسب وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ، وتفسير الظلم بالكفر وإن كان شائعا في عدة مواضع من القرآن الكريم إلا أن الأنسب على ما قيل هنا الإطلاق لمكان قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وقال الطيبي: سياق الآية بعد ذكر المشركين الذين آذوا رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم وما لقي منهم من الشدائد كما مر من أول السورة يؤيد تفسير الظلم بالكفر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 148 وروى محيي السنة الذين ظلموا أشركوا وهجوا رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم وقرأ ابن عباس وابن أرقم عن الحسن «أي منفلت ينفلتون» بالفاء والتاء الفوقية من الانفلات بمعنى النجاة، والمعنى إن الظالمين يطمعون أن ينفلتوا من عذاب الله تعالى وسيعلمون أن ليس لهم وجه من وجوه الانفلات وَسَيَعْلَمُ هنا معلقة وأي استفهام مضاف إلى مُنْقَلَبٍ والناصب له يَنْقَلِبُونَ، والجملة سادة مسد المفعولين كذا في البحر. وقال أبو البقاء: أي منقلب مصدر نعت لمصدر محذوف والعامل يَنْقَلِبُونَ أي ينقلبون انقلابا أي منقلب ولا يعمل فيه يعلم لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله: وتعقب بأنه تخليط لأن أيا إذا وصف بها لم تكن استفهاما. وقد صرحوا بأن الموصوف بها قسيم الاستفهامية، وتحقيق انقسام- أي- يطلب من كتب النحو والله تعالى أعلم. ومما قيل في بعض الآيات من باب الإشارة طسم قال الجنيد: الطاء طرب التائبين في ميدان الرحمة. والسين سرور العارفين في ميدان الوصلة والميم مقام المحبين في ميدان القربة، وقيل: الطاء طهارة القدم من الحدثان والسين سناء صفاته تعالى التي تكشف في مرايا البرهان والميم مجده سبحانه الذي ظهر بوصف البهاء في قلوب أهل العرفان. وقيل: الطاء طهارة قلب نبيه صلّى الله تعالى عليه وسلّم عن تعلقات الكونين والسين سيادته صلّى الله تعالى عليه وسلّم على الأنبياء والمرسلين عليهم السلام. والميم مشاهدته عليه الصلاة والسلام جمال رب العالمين، وقيل: الطاء شجرة طوبى والسين سدرة المنتهى والميم محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم، وقيل غير ذلك لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ إلخ فيه إشارة إلى كمال شفقته صلّى الله عليه وسلّم على أمته وإن الحرص على إيمان الكافر لا يمنع سوابق الحكم وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ إلى آخر القصة فيه إشارة إلى حسن التعاضد في المصالح الدينية والتلطف بالضال في إلزامه بالحجج القطعية وأنه لا ينبغي عدم الاحتفال بمن ربيته صغيرا ثم رأيته وقد منحه الله تعالى ما منحه من فضله كبيرا، وقال بعضهم: إن فيه إشارة إلى ما في الأنفس وجعل موسى إشارة إلى موسى القلب وفرعون إشارة إلى فرعون النفس وقومه إشارة إلى الصفات النفسانية وبني إسرائيل إشارة إلى الصفات الروحانية والفعلة إشارة إلى قتل قبطي الشهوة والعصا إشارة إلى عصا الذكر أعني لا إله إلا الله واليد إشارة إلى يد القدرة وكونها بيضاء إشارة إلى كونها مؤيدة بالتأييد الإلهي والناظرين إشارة إلى أرباب الكشف الذين ينظرون بنور الله تعالى والسحرة إشارة إلى الأوصاف البشرية والأخلاق الردية والناس إشارة إلى الصفات الناسوتية والأجر إشارة إلى الحظوظ الحيوانية والحبال إشارة إلى حبال الحيل والعصي إشارة إلى عصي التمويهات والمخيلات والمدائن إشارة إلى أطوار النفس وهكذا. وعلى هذا الطريق سلكوا في الإشارة في سائر القصص. فجعلوا إبراهيم إشارة إلى القلب وأباه وقومه إشارة إلى الروح وما يتولد منها والأصنام إشارة إلى ما يلائم الطباع من العلويات والسفليات وهكذا مما لا يخفى على من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وللشيخ الأكبر قدس سره في هذه القصص كلام عجيب من أراده فليطلبه في كتبه وهو قدس سره ممن ذهب إلى أن خطيئة إبراهيم عليه السلام التي أرادها بقوله: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ كانت إضافة المرض إلى نفسه في قوله: وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وقد ذكر قدس سره إنه اجتمع مع إبراهيم عليه السلام فسأله عن مراده بها فأجابه بما ذكر. وقال في باب أسرار الزكاة من الفتوحات إن قول الرسول إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ لا يقدح في كمال عبوديته فإن قوله: ذلك لأن يعلم أن كل عمل خالص يطلب الأجر بذاته وذلك لا يخرج العبد عن أوصاف العبودية فإن العبد في صورة الأجير وليس بأجير حقيقة إذ لا يستأجر السيد عبده بل يستأجر الأجنبي وإنما العمل نفسه يقتضي الأجرة وهو لا يأخذها العامل وهو العبد فهو قابض الأجرة من الله تعالى فأشبه الأجير في قبض الأجرة وخالفه بالاستئجار اهـ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 149 وحقق أيضا ذلك في الباب السادس عشر والثلاثمائة من الفتوحات، وذكر في الباب السابع عشر والأربعمائة منها أن أجر كل نبي يكون على قدر ما ناله من المشقة الحاصلة له من المخالفين وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ فيه إشارة إلى أنه ليس للشيطان قوة حمل القرآن لأنه خلق من نار وليس لها قوة حمل النور ألا ترى أن نار الجحيم كيف تستغيث عند مرور المؤمن عليها وتقول: جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي ولنحو ذلك ليس له قوة على سمعه، وهذا بالنسبة إلى أول مراتب ظهوره فلا يرد أنه يلزم على ما ذكر أن الشياطين لا يسمعون آيات القرآن إذا تلوناها ولا يحفظونها وليس كذلك. نعم ذكر أنهم لا يقدرون أن يسمعوا آية الكرسي. وآخر البقرة وذلك لخاصية فيهما وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ فيه إشارة إلى أن النسب إذا لم ينضم إليه الإيمان لا ينفع شيئا، ولما كان حجاب القرابة كثيفا أمر صلّى الله عليه وسلّم بإنذار عشيرته الأقربين وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ هم أهل النسب المعنوي الذي هو أقرب من النسب الصوري كما أشار إليه ابن الفارض قدس سره بقوله: نسب أقرب في شرع الهوى ... بيننا من نسب من أبوي وأنا أحمد الله تعالى كما هو أهله على أن جعلني من الفائزين بالنسبين حيث وهب لي الإيمان وجعلني من ذرية سيد الكونين صلّى الله تعالى عليه وسلّم فها أنا من جهة أم أبي من ذرية الحسن ومن جهة أبي من ولد الحسين رضي الله تعالى عنهما: نسب كأن عليه من شمس الضحى ... نورا ومن فلق الصباح عمودا والله عز وجل هو ولي الإحسان المتفضل بصنوف النعم على نوع الإنسان والصلاة والسلام على سيد العالمين وآله وصحبه أجمعين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 150 سورة النّمل وتسمى أيضا كما في الدر المنثور سورة سليمان، وهي مكية كما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم، وذهب بعضهم إلى مدنية بعض آياتها كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وعدد آياتها خمس وتسعون آية حجازي وأربع بصري وشامي وثلاث كوفي، ووجه اتصالها بما قبلها أنها كالتتمة لها حيث زاد سبحانه فيها ذكر داود وسليمان وبسط فيها قصة لوط عليه السلام أبسط مما هي قبل وقد وقع فيها إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً [النمل: 7] إلخ وذلك كالتفصيل لقوله سبحانه فيما قبل: فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ الشعراء: 21] وقد اشتمل كل من السورتين على ذكر القرآن وكونه من الله تعالى وعلى تسليته صلّى الله عليه وسلّم إلى غير ذلك، وروي عن ابن عباس وجابر بن زيد أن الشعراء نزلت ثم طس ثم القصص. طس قرىء بالإمالة وعدمها، والكلام فيه كالكلام في نظائره من الفواتح. تِلْكَ إشارة إلى السورة المذكورة، وأداة البعد للإشارة إلى بعد المنزلة في الفضل والشرف أو إلى الآيات التي تتلى بعد نظير الإشارة في قوله تعالى: الم ذلِكَ الْكِتابُ [البقرة: 1، 2] أو إلى مطلق الآيات، ومحله الرفع الجزء: 10 ¦ الصفحة: 151 على الابتداء خبره قوله تعالى: آياتُ الْقُرْآنِ والجملة مستأنفة أو خبر لقوله تعالى: طس وإضافة آياتُ إلى الْقُرْآنِ لتعظيم شأنها فإن المراد به المنزل المبارك المصدق لما بين يديه الموصوف بالكمالات التي لا نهاية لها، ويطلق على كل المنزل عليه صلّى الله عليه وسلّم للإعجاز وعلى بعض منه، وجوز هنا إرادة كل من المعنيين وإذا أريد الثاني فالمراد بالبعض جميع المنزل عند نزول السورة، وقوله تعالى: وَكِتابٍ مُبِينٍ عطف على الْقُرْآنِ والمراد به القرآن وعطفه عليه مع اتحاده معه في الصدق كعطف إحدى الصفتين على الأخرى كما في قولهم: هذا فعل السخي والجواد الكريم، وتنوينه للتفخيم، و «المبين» إما من أبان المتعدي أي مظهر ما في تضاعيفه من الحكم والأحكام وأحوال القرون الأولى وأحوال الآخرة التي من جملتها الثواب والعقاب أو سبيل الرشد والغيّ أو نحو ذلك، والمشهور في أمثال هذا الحذف أنه يفيد العموم. وأما من أبان اللازم بمعنى بأن أي ظاهر الإعجاز أو ظاهر الصحة للإعجاز وهو على الاحتمالين صفة مادحة لكتاب مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة. ولما كان في التنكير نوع من الفخامة وفي التعريف نوع آخر وكان الغرض الجمع للاستيعاب الكامل عرف القرآن ونكر الكتاب وعكس في الحجر، وقدم المعرف في الموضعين لزيادة التنويه، ولما عقبه سبحانه بالحديث عن الخصوص هاهنا قدم كونه قرآنا لأنه أدل على خصوص المنزل على محمد صلّى الله تعالى عليه وسلّم للإعجاز كذا في الكشف. وقال بعض الأجلة: قدم الوصف الأول هاهنا نظرا إلى حال تقدم القرآنية على حال الكتابية وعكس هنالك لأن المراد تفخيمه من حيث اشتماله على كمال جنس الكتب الإلهية حتى كأنه كلها ومن حيث كونه ممتازا عن غيره نسيج وحده بديعا في بابه والإشارة إلى امتيازه عن سائر الكتب بعد التنبيه على انطوائه على كمالات غيره من الكتب أدخل في المدح لئلا يتوهم من أول الأمر أن امتيازه عن غيره لاستقلاله بأوصاف خاصة به من غير اشتماله على نعوت كمال سائر الكتب الكريمة، وفي هذا حمل أل على الجنس في الكتاب. والظاهر أنها في الْقُرْآنِ للعهد فيختلف معناها في الموضعين وإليه يشير ظاهر كلام الكشاف كما قيل، واعتذر له بأنه إذا رجع المعنيان إلى التفخيم فلا بأس بمثل هذا الاختلاف، وجوز أن تكون في الموضعين للعهد وأن تكون فيهما للجنس فتأمل، وقيل: إن اختصاص كل من الموضعين بما اختص به من تعيين الطريق. وجوز أن يراد بالكتاب اللوح المحفوظ وإبانته أنه خط فيه ما هو كائن إلى يوم القيامة فهو يبينه للناظرين فيه، وتأخيره هنا عن القرآن باعتبار تعلق علمنا به وتقديمه في الحجر عليه باعتبار الوجود الخارجي فإن القرآن بمعنى المقروء لنا مؤخر عن اللوح المحفوظ ولا يخفى أن إرادة غير اللوح من الكتاب أظهر. وقال بعضهم: لا يساعد إرادة اللوح منه هاهنا إضافة الآيات إليه إذ لا عهد باشتماله على الآيات ولا وصفه بالهداية والبشارة إذ هما باعتبار إبانته فلا بد من اعتبارها بالنسبة إلى الناس الذين من جملتهم المؤمنون لا إلى الناظرين فيه. وقرأ ابن أبي عبلة «وكتاب مبين» برفعهما، وخرج على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أي وآيات كتاب، وقيل: يجوز عدم اعتبار الحذف والكتاب لكونه مصدرا في الأصل يجوز الإخبار به عن المؤنث، وقيل: رب شيء يجوز تبعا ولا يجوز استقلالا ألا ترى أنهم حظروا جاءتني زيد وأجازوا جاءتني هند وزيد، وقوله تعالى: هُدىً وَبُشْرى في حيز النصب على الحالية من آياتُ على إقامة المصدر مقام الفاعل فيه للمبالغة كأنها نفس الهدى والبشارة، والعامل معنى الإشارة وهو الذي سمته النحاة عاملا معنويا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 152 وجوز أبو البقاء على قراءة الرفع في كِتابٍ كون الحال منه ثم قال: ويضعف أن يكون من المجرور ويجوز أن يكون حالا من الضمير في مُبِينٍ على القراءتين، وجوز أبو حيان كون النصب على المصدرية أي تهدي هدي وتبشر بشرى أو الرفع على البدلية من آياتُ، واشتراط الكوفيين في إبدال النكرة من المعرفة شرطين اتحاد اللفظ وأن تكون النكرة موصوفة نحو قوله تعالى: لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ [العلق: 15، 16] غير صحيح كما في شرح التسهيل لشهادة السماع بخلافه أو على أنه خبر بعد خبر لتلك أو خبر لمبتدأ محذوف أي هي هدى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ يحتمل أن يكون قيدا للهدى والبشرى معا، ومعنى هداية الآيات لهم وهم مهتدون أنها تزيدهم هدى قال سبحانه: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة: 124] وأما معنى تبشيرها إياهم فظاهر لأنها تبشرهم برحمة من الله تعالى ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم كذا قيل، وفي الحواشي الشهابية أن الهدى على هذا الاحتمال، إما بمعنى الاهتداء أو على ظاهره وتخصيص المؤمنين لأنهم المنتفعون به وإن كانت هدايتها عامة، وجعل المؤمنين بمعنى الصائرين للإيمان تكلف كحمل هداهم على زيادته، ويحتمل أن يكون قيدا للبشرى فقط ويبقى الهدى على العموم وهو بمعنى الدلالة والإرشاد أي هدى لجميع المكلفين وبشرى للمؤمنين الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ صفة مادحة للمؤمنين، وكنى بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة عن عمل الصالحات مطلقا، وخصا لأنهما على ما قيل إما العبادة البدنية والمالية، والظاهر أنه حمل الزكاة على الزكاة المفروضة. وتعقب بأن السورة مكية والزكاة إنما فرضت بالمدينة، وقيل كان في مكة زكاة مفروضة إلا أنها لم تكن كالزكاة المفروضة بالمدينة فلتحمل في الآية عليها، وقيل: الزكاة هنا بمعنى الطهارة من النقائص وملازمة مكارم الأخلاق وهو خلاف المشهور في الزكاة المقرونة بالصلاة ويبعده تعليق الإيتاء بها، وقوله تعالى: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ يحتمل أن يكون معطوفا على جملة الصلة، ويحتمل أن يكون في موضع الحال من ضمير الموصول، ويحتمل أن يكون استئنافا جيء به للقصد إلى تأكيد ما وصف المؤمنون به من حيث إن الإيقان بالآخرة يستلزم الخوف المستلزم لتحمل مشاق التكليف فلا بد من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وقد أقيم الضمير فيه مقام اسم الإشارة المفيد لاكتساب الخلافة بالحكم باعتبار السوابق فكأنه قيل: وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هم الموقنون بالآخرة، وسمى الزمخشري هذا الاستئناف اعتراضا وكونه لا يكون إلا بين شيئين يتعلق أحدهما بالآخر كالمبتدأ والخبر غير مسلم عنده. واختار هذا الاحتمال فقال: إنه الوجه ويدل عليه أنه عقد الكلام جملة ابتدائية وكرر فيها المبتدأ الذي هو هُمْ حتى صار معناها وما يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح لأن خوف العاقبة يحملهم على تحمل المشاق انتهى. وأنكر ابن المنير إفادة نحو هذا التركيب الاختصاص وادعى أن تكرار الضمير للنظرية لمكان الفصل بين الضميرين بالجار والمجرور، والحق أنه يفيد ذلك كما صرحوا به في نحو هو عرف، وكذا يفيد التأكيد لما فيه من تكرار الضمير. وزعم أبو حيان أن فيما ذكره الزمخشري دسيسة الاعتزال، ولا يخفى أنه ليس في كلامه أكثر من الإشارة إلى أن المؤمن العاصي لم يوقن بالآخرة حق الإيقان، ولعل جعل ذلك دسيسة مبني على أنه بنى ذلك على مذهبه في أصحاب الكبائر وقوله فيهم بالمنزلة بين المنزلتين. وأنت تعلم أن القول بما اختاره في الآية لا يتوقف على القول المذكور وتغيير النظم الكريم على الوجهين الأولين لما لا يخفى، وتقديم بِالْآخِرَةِ في جميع الأوجه لرعاية الفاصلة، وجوز أن يكون للحصر الإضافي كما في الحواشي الشهابية إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ بيان لأحوال الجزء: 10 ¦ الصفحة: 153 الكفرة بعد أحوال المؤمنين أي لا يؤمنون بها وبما فيها من الثواب على الأعمال الصالحة والعقاب على الأعمال السيئة حسبما ينطق به القرآن زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ القبيحة بما ركبنا فيهم من الشهوات والأماني حتى رأوها حسنة فَهُمْ يَعْمَهُونَ يتحيرون ويترددون والاستمرار في الاشتغال بها والانهماك فيها من غير ملاحظة لما يتبعها. والفاء لترتيب المسبب على السبب. ونسبة التزيين إليه عز وجل عند الجماعة حقيقة وكذا التزيين نفسه، وذهب الزمخشري إلى أن التزيين إما مستعار للتمتيع بطول العمر وسعة الرزق وإما حقيقة وإسناده إليه سبحانه وتعالى مجاز وهو حقيقة للشيطان كما في قوله تعالى: زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [الأنفال: 48] . والمصحح لهذا المجاز إمهاله تعالى الشيطان وتخليته حتى يزين لهم. والداعي له إلى أحد الأمرين إيجاب رعاية الأصلح عليه عز وجل. ونسب إلى الحسن أن المراد بالأعمال الأعمال الحسنة وتزيينها بيان حسنها في أنفسها حالا واستتباعها لفنون المنافع مآلا أي زينا لهم الأعمال الحسنة فهم يترددون في الضلال والإعراض عنها. والفاء عليه لترتيب ضد المسبب على السبب كما في قولك: وعظته فلم يتعظ، وفيه إيذان بكمال عتوهم ومكابرتهم وتعكيسهم الأمور، وتعقب هذا القول بأن التزيين قد ورد غالبا في غير الخير نحو قوله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ [آل عمران: 14] زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا [البقرة: 212] زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 137] إلخ ووروده في الخير قليل نحو قوله تعالى: حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات: 7] ويبعد حمل الأعمال على الأعمال الحسنة إضافتها إلى ضميرهم وهم لم يعملوا حسنة أصلا. وكون إضافتها إلى ذلك باعتبار أمرهم بها، وإيجابها عليهم لا يدفع البعد. وذكر الطيبي أنه يؤيد ما ذكر أولا أن وزان فاتحة هذه السورة إلى هاهنا وزان فاتحة البقرة فقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وقوله سبحانه: زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ كقوله جل وعلا: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [البقرة: 7] . وقد سبق بيان وجه دلالة ذلك على مذهب الجماعة هناك وإن التركيب من باب تحقيق الخبر وإن المعنى استمرارهم على الكفر وإنهم بحيث لا يتوقع منهم الإيمان ساعة فساعة أمارة لرقم الشقاء عليهم في الأزل والختم على قلوبهم وأنه تعالى زين لهم سوء أعمالهم فهم لذلك في تيه الضلال يترددون وفي بيداء الكفر يعمهون، ودل على هذا التأويل إيقاع لفظ المضارع في صلة الموصول والماضي في خبره وترتيب قوله تعالى: فَهُمْ يَعْمَهُونَ بالفاء عليه، واختصاص الخطاب بما يدل على الكبرياء والجبروت من باب تحقيق الخبر نحو قول الشاعر: إن التي ضربت بيتا مهاجرة ... بكوفة الجند غالت ودها غول وفي الأخبار الصحيحة ما ينصر هذا التأويل أيضا أُوْلئِكَ إشارة إلى المذكورين الموصوفين بالكفر والعمه وهو مبتدأ خبره الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ يحتمل أن يكون المراد لهم ذلك في الدنيا بأن يقتلوا أو يؤسروا أو تشدد عليهم سكرات الموت لقوله تعالى: وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ويحتمل أن يكون المراد لهم ذلك في الدارين وهو الذي استظهره أبو حيان ويكون قوله تعالى: وَهُمْ إلخ لبيان أن ما في الآخرة أعظم العذابين بناء على أن «الأخسرين» أفعل تفضيل، والتفضيل باعتبار حاليهم في الدارين أي هم في الآخرة أخسر منهم في الدنيا لا غيرهم كما يدل عليه تعريف الجزأين على معنى أن خسرانهم في الآخرة أعظم من خسرانهم في الدنيا من حيث إن عذابهم في الآخرة غير منقطع أصلا وعذابهم في الدنيا منقطع ولا كذلك غيرهم من عصاة المؤمنين لأن خسرانهم في الآخرة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 154 ليس أعظم من خسرانهم في الدنيا من هذه الحيثية فإن عذابهم في الآخرة ينقطع ويعقبه نعيم الأبد حتى يكادوا لا يخطر ببالهم أنهم عذبوا كذا قيل. وقال بعضهم: إن التفضيل باعتبار ما في الآخرة أي هم في الآخرة أشد الناس خسرانا لا غيرهم لحرمانهم الثواب واستمرارهم في العقاب بخلاف عصاة المؤمنين، ويلزم من ذلك كون عذابهم في الآخرة أعظم من عذابهم في الدنيا ويكفي هذا في البيان، وقال الكرماني: إن أفعل هنا للمبالغة لا للشركة، قال أبو حيان: كأنه يقول: ليس للمؤمن خسران البتة حتى يشركه فيه الكافر ويزيد عليه ولم يتفطن لكون المراد أن خسران الكافر في الآخرة أشد من خسرانه في الدنيا فالاشتراك الذي يدل عليه أفعل إنما هو بين ما في الآخرة وما في الدنيا اه كلامه. وكأنه يسلم أن ليس للمؤمن خسران البتة وفيه بحث لا يخفى، وتقديم فِي الْآخِرَةِ إما للفاصلة أو للحصر، وقوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ كلام مستأنف سيق بعد بيان بعض شؤون القرآن الكريم تمهيدا لما يعقبه من الأقاصيص، وتصديره بحرفي التأكيد لإبراز كمال العناية بمضمونه وبنى الفعل للمفعول وحذف الفاعل وهو جبريل عليه السلام للدلالة عليه في قوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء: 143] ولقي المخفف يتعدى لواحد والمضاعف يتعدى لاثنين وهما هنا نائب الفاعل والقرآن، والمراد وإنك لتعطي القرآن تلقنه مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ أي أي حكيم وأي عليم، وفي تفخيمهما تفخيم لشأن القرآن وتنصيص على علو طبقته عليه الصلاة والسلام في معرفته والإحاطة بما فيه من الجلائل والدقائق، والحكمة كما قال الراغب من الله عز وجل معرفة الأشياء وإيجادها على غاية الأحكام، ومن الإنسان معرفة الموجودات وفعل الخيرات وجمع بينها وبين العلم مع أنه داخل في معناها لغة كما سمعت لعمومه إذ هو يتعلق بالمعدومات ويكون بلا عمل ودلالة الحكمة على أحكام العمل وإتقانه وللإشعار بأن ما في القرآن من العلوم منها ما هو حكمة كالشرائع ومنها ما هو ليس كذلك كالقصص والأخبار الغيبية. وقوله تعالى: إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ منصوب على المفعولية بمضمر خوطب به النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم وأمر بتلاوة بعض من القرآن الذي تلقاه صلّى الله عليه وسلّم من لدنه عز وجل تقريرا لما قبله وتحقيقا له أي اذكر لهم وقت قول موسى عليه السلام لأهله، وجوز أن تكون إِذْ ظرفا لعليم. وتعقبه في البحر بأن ذلك ليس بواضح إذ يصير الوصف مقيدا بالمعمول، وقال في الكشف: ما يتوهم من دخل التقييد بوقت معين مندفع إذ ليس مفهوما معتبرا عند المعتبر ولأنه لما كان تمهيد القصة حسن أن يكون قيدا لها كأنه قيل: ما أعلمه حيث فعل بموسى عليه السلام ما فعل، ولما كان ذلك من دلائل العلم والحكمة على الإطلاق لم يضر التقييد بل نفع لرجوعه بالحقيقة إلى نوع من التعليل والتذكير اهـ. ولا يخفى أن الظاهر مع هذا هو الوجه الأول ثم إن قول موسى عليه السلام إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ كان في أثناء سيره خارجا من مدين عند وادي طوى وكان عليه السلام قد حاد عن الطريق في ليلة باردة مظلمة فقدح فاصلد زنده فبدا له من جانب الطور نار، والمراد بالخبر الذي يأتيهم به من جهة النار الخبر عن حال الطريق لأن من يذهب لضوء نار على الطريق يكون كذلك ولم يجرد الفعل عن السين إما للدلالة على بعد مسافة النار في الجملة حتى لا يستوحشوا إن أبطأ عليه السلام عنهم أو لتأكيد الوعد بالإتيان فإنها كما ذكره الزمخشري تدخل في الوعد لتأكيده وبيان أنه كائن لا محالة وإن تأخر، وما قيل من أن السين للدلالة على تقريب المدة دفعا للاستيحاش إنما ينفع على ما قيل في اختياره على سوف دون التجريد الذي يتبادر من الفعل معه الحال الذي هو أتم في دفع الاستيحاش. ولعل الأولى اعتبار كونه للتأكيد، لا يقال: إنه عليه السلام لم يتكلم بالعربية وما ذكر من مباحثها لأنا نقول: ما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 155 المانع من أن يكون في غير اللغة العربية ما يؤدي مؤداها بل حكاية القول عنه عليه السلام بهذه الألفاظ يقتضي أنه تكلم في لغته بما يؤدي ذلك ولا بد، وجمع الضمير إن صح أنه لم يكن معه عليه السلام غير امرأته للتعظيم وهو الوجه في تسمية الله تعالى شأنه امرأة موسى عليه السلام بالأهل مع أنه جماعة الأتباع أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ أي بشعلة نار مقبوسة أي مأخوذة من أصلها فقبس صفة شهاب أو بدل منه، وهذه قراءة الكوفيين ويعقوب، وقرأ باقي السبعة والحسن «بشهاب قبس» بالإضافة واختارها أبو الحسن وهي إضافة بيانية لما بينهما من العموم والخصوص كما في ثوب خز فإن الشهاب يكون قبسا وغير قبس، والعدتان على سبيل الظن ولذلك عبر عنهما بصيغة الترجي في سورة طه فلا تدافع بين ما وقع هنا وما وقع هناك، والترديد للدلالة على أنه عليه السلام إن لم يظفر بهما لم يعدم أحدهما بناء على ظاهر الأمر وثقة بسنة الله عز وجل أنه لا يكاد يجمع حرمانين على عبد. وقيل: يجوز أن يقال الترديد لأن احتياجه عليه السلام إلى أحدهما لا لهما لأنه كان في حال الترحال وقد ضل عن الطريق فمقصوده أن يجد أحدا يهدي إلى الطريق فيستمر في سفره فإن لم يجده يقتبس نارا ويوقدها ويدفع ضرر البرد في الإقامة. وتعقب بأنه قد ورد في القصة أنه عليه السلام كان قد ولد له عند الطور ابن في ليلة شاتية وظلمة مثلجة وقد ضل الطريق وتفرقت ماشيته فرأى النار فقال لأهله ما قال وهو يدل على احتياجه لهما معا لكنه تحرى عليه السلام الصدق فأتى بأو لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ أي رجاء أو لأجل أن تستدفئوا بها، والصلاة بكسر الصاد والمد ويفتح بالقصر الدنو من النار لتسخين البدن وهو الدفء ويطلق على النار نفسها أو هو بالكسر الدفء وبالفتح النار فَلَمَّا جاءَها أي النار التي قال فيها إِنِّي آنَسْتُ ناراً وقيل: الضمير للشجرة وهو كما ترى، وما ظنه داعيا ليس بداع لما أشرنا إليه نُودِيَ أي موسى عليه السلام من جانب الطور أَنْ بُورِكَ معناه أي بورك على أن أن مفسرة لما في النداء من معنى القول دون حروفه. وجوز أن تكون أن المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن، ومنعه بعضهم لعدم الفصل بينها وبين الفعل بقد أو السين أو سوف أو حرف النفي وهو مما لا بد منه إذا كانت مخففة لما في الحجة لأبي علي الفارسي أنها لما كانت لا يليها إلا الأسماء استقبحوا أن يليها الفعل من غير فاصل. وأجيب بأن ما ذكر ليس على إطلاقه. فقد صرحوا بعدم اشتراط الفصل في مواضع، منها ما يكون الفعل فيه دعاء فلعل من جوز كونها المخففة هاهنا جعل بُورِكَ دعاء على أنه يجوز أن يدعي أن الفصل بإحدى المذكورات في غير ما استثنى أغلبي لقوله: علموا أن يؤملون فجادوا ... قبل أن يسألوا بأعظم سؤل وجوز أن تكون المصدرية الناصبة للأفعال وبُورِكَ حينئذ إما خبر أو إنشاء للدعاء. وادعى الرضي أن بورك إذا جعل دعاء فإن مفسرة لا غير لأن المخففة لا يقع بعدها فعل إنشائي إجماعا وكذا المصدرية وهو مخلف لما ذكره النحاة، ودعوى الإجماع ليست بصحيحة، والقول بأن يفوت معنى الطلب بعد التأويل بالمصدر قد تقدم ما فيه، وفي الكشف يمنع عن جعلها مصدرية عدم سداد المعنى لأن بُورِكَ إذ ذاك ليس يصلح بشارة وقد قالوا: إن تصدير الخطاب بذلك بشارة لموسى عليه السلام بأنه قد قضى له أمر عظيم تنتشر منه في أرض الشام كلها البركة وهذا بخلاف ما إذا كان بُورِكَ تفسيرا للشأن اهـ وفيه نظر، وعلى الوجهين الكلام على حذف حرف الجر أي نودي بأن إلخ، والجار والمجرور متعلق بما عنده وليس نائب الفاعل بل نائب الفاعل ضمير موسى عليه السلام، وقيل: هو نائب الفاعل ولا ضمير. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 156 وقال بعضهم في الوجه الأول أيضا إن الضمير القائم مقام الفاعل ليس لموسى عليه السلام بل هو لمصدر الفعل أي نودي هو أي النداء، وفسر النداء بما بعده، والأظهر في الضمير رجوعه لموسى وفي أن أنها مفسرة وفي بُورِكَ أنه خبر وهو من البركة وقد تقدم معناها، وقيل: هنا المعنى قدس وطهر وزيد خيرا مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها ذهب جماعة إلى أن في الكلام مضافا مقدرا في موضعين أي من في مكان النار ومن حول مكانها قالوا: ومكانها البقعة التي حصلت فيها وهي البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى: نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ [القصص: 30] وتدل على ذلك قراءة أبي «تباركت الأرض ومن حولها» واستظهر عموم من لكل مَنْ في ذلك الوادي وحواليه من أرض الشام الموسومة بالبركات لكونها مبعث الأنبياء عليهم السلام وكفاتهم أحياء وأمواتا ولا ولا سيما تلك البقعة التي كلم الله تعالى موسى عليه السلام فيها. وقيل: من في النار موسى عليه السلام ومن حولها الملائكة الحاضرون عليهم السلام، وأيد بقراءة أبي فيما نقل أبو عمرو الداني وابن عباس ومجاهد وعكرمة «ومن حولها من الملائكة» وهي عند كثير تفسير لا قراءة لمخالفتها سواد المصحف المجمع عليه، وقيل: الأول الملائكة والثاني موسى عليهم السلام، واستغنى بعضهم عن تقدير المضاف بجعل الظرفية مجازا عن القرب التام، وذهب إلى القول الثاني في المراد بالموصولين، وأيا ما كان فالمراد بذلك بشارة موسى عليه السلام، والمراد بقوله تعالى على ما قيل: وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ تعجيب له عليه السلام من ذلك وإيذان بأن ذلك مريده ومكونه رب العالمين تنبيها على أن الكائن من جلائل الأمور وعظائم الشؤون، ومن أحكام تربيته تعالى للعالمين أو خبر له عليه السلام بتنزيهه سبحانه لئلا يتوهم من سماع كلامه تعالى التشبيه بما للبشر أو طلب منه عليه السلام لذلك. وجوز أن يكون تعجبا صادرا منه عليه السلام بتقدير القول أي وقال سبحان الله إلخ، وقال السدي: هو من كلام موسى عليه السلام قاله لما سمع النداء من الشجرة تنزيها لله تعالى عن سمات المحدثين، وكأنه على تقدير القول أيضا، وجعل المقدر عطفا على نُودِيَ. وقال ابن شجرة: هو من كلام الله تعالى ومعناه وبورك من سبح الله تعالى رب العالمين، وهذا بعيد من دلالة اللفظ جدا، وقيل: هو خطاب لنبينا صلّى الله عليه وسلّم مراد به التنزيه وجعل معترضا بين ما تقدم وقوله تعالى: يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فإنه متصل معنى بذلك والضمير للشأن، وقوله سبحانه: أَنَا اللَّهُ مبتدأ وخبر والْعَزِيزُ الْحَكِيمُ نعتان للاسم الجليل ممهران لما أريد إظهاره على يده من المعجزة أي أنا الله القوي القادر على ما لا تناله الأوهام من الأمور العظام التي من جملتها أمر العصا واليد الفاعل كل ما أفعله بحكمة بالغة وتدبير رصين، والجملة خبر إن مفسرة لضمير الشأن. وجوز أن يكون الضمير راجعا إلى ما دل عليه الكلام وهو المكلم المنادي وأَنَا خبر أي إن مكلمك المنادي لك أنا، والاسم الجليل عطف بيان لأنا، وتجوز البدلية عند من جوز إبدال الظاهر من ضمير المتكلم بدل كل، ويجوز أن يكون أَنَا توكيدا للضمير واللَّهُ الخبر. وتعقب أبو حيان إرجاع الضمير للمكلم المنادى بأنه إذا حذف الفاعل وبنى فعله للمفعول لا يجوز عود ضمير على ذلك المحذوف لأنه نقض للغرض من حذفه والعزم على أن لا يكون محدثا عنه، وفيه أنه لم يقل أحد إنه عائد على الفاعل المحذوف بل على ما دل عليه الكلام ولو سلّم فلا امتناع في ذلك إذا كان في جملة أخرى وأيضا قوله والعزم على أن لا يكون محدثا عنه غير صحيح لأنه قد يكون محدثا عنه ويحذف للعلم به وعدم الحاجة إلى ذكره، ثم إن الحمل مفيد من غير رؤية لأنه عليه السلام علمه سبحانه علم اليقين بما وقر في قلبه فكأنه رآه عز وجل، هذا وفي قوله تعالى: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ إلخ أقوال أخر، الأول الجزء: 10 ¦ الصفحة: 157 أن المراد بمن في النار نور الله تعالى وبمن حولها الملائكة عليهم السلام وروي ذلك عن قتادة. والزجاج. والثاني أن المراد بمن في النار الشجرة التي جعلها الله محلا للكلام وبمن حولها الملائكة عليهم السلام أيضا ونقل هذا عن الجبائي وفي ما ذكر إطلاق مَنْ على غير العالم. والثالث ما أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس. قال في قوله تعالى: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ يعني تبارك وتعالى نفسه كان نور رب العالمين في الشجرة ومن حولها يعني الملائكة عليهم السلام، واشتهر عنه كون المراد بمن في النار نفسه تعالى وهو مروي أيضا عن الحسن وابن جبير وغيرهما كما في البحر. وتعقب ذلك الإمام بأنا نقطع بأن هذه الرواية عن ابن عباس موضوعة مختلقة. وقال أبو حيان: إذا ثبت ذلك عن ابن عباس ومن ذكر أول على حذف أي بورك من قدرته وسلطانه في النار، وذهب الشيخ إبراهيم الكوراني في رسالته تنبيه العقول على تنزيه الصوفية عن اعتقاد التجسيم والعينية والاتحاد والحلول إلى صحة الخبر عن الحبر رضي الله تعالى عنه وعدم احتياجه إلى التأويل المذكور فإن الذي دعا المؤولين أو الحاكمين بالوضع إلى التأويل أو الحكم بالوضع ظن دلالته على الحلول المستحيل عليه تعالى وليس كذلك بل ما يدل عليه هو ظهوره سبحانه في النار وتجليه فيها وليس ذلك من الحلول في شيء فإن كون الشيء مجلى لشيء ليس كونه محلا له فإن الظاهر في المرآة مثلا خارج عن المرآة بذاته قطعا بخلاف الحال في محل فإنه حاصل فيه ثم إن تجليه تعالى وظهوره في المظاهر يجامع التنزيه. ومعنى الآية عنده فلما جاءها نودي أن بورك أي قدس أو نحو ذلك من تجلى وظهر في صورة النار لما اقتضته الحكمة لكونها مطلوبة لموسى عليه السلام ومن حولها من الملائكة أو منهم ومن موسى عليهم السلام، وقوله تعالى: وَسُبْحانَ اللَّهِ دفع لما يتوهمه التجلي في مظهر النار من التشبيه أي وسبحان الله عن التقيد بالصورة والمكان والجهة وإن ظهر فيها بمقتضى الحكمة لكونه موصوفا بصفة رب العالمين الواسع القدوس الغني عن العالمين ومن هو كذلك لا يتقيد بشيء من صفات المحدثات بل هو جل وعلا باق على إطلاقه حتى عن قيد الإطلاق في حال تجليه وظهوره فيما شاء من المظاهر. ولهذا ورد في الحديث الصحيح «سبحانك حيث كنت» فأثبت له تعالى التجلي في الحيث ونزهه عن أن يتقيد بذلك «يا موسى» إنه أي المنادي المتجلي في النار أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ فلا أتقيد بمظهر للعزة الذاتية لكني الحكيم ومقتضى الحكمة الظهور في صورة مطلوبك. وذكر أن تقدير المضاف كما فعل بعض المفسرين عدول عن الظاهر لظن المحذور فيه. وقد تبين أن لا محذور فلا حاجة إلى العدول انتهى، وكأني بك تقول: هذا طور ما وراء طور العقول. ثم إنه لا مانع على أصول الصوفية أن يريدوا بمن حولها الله عز وجل أيضا إذ ليس في الدار عندهم غيره سبحانه ديار، ولا بعد في أن تكون الآية عند ابن عباس إن صح عنه ما ذكر من المتشابه والمذاهب فيه معلومة عندك. والأوفق بالعامة التأويل بأن يقال: المراد أن بورك من ظهر نوره في النار. ولعل في خبر الحبر السابق ما يشير إليه. وإضافة النور إليه تعالى لتشريف المضاف وهو نور خاص كان مظهرا لعظيم قدرته تعالى وعظمته، وسمعت من بعض أجلة المشايخ يقول: إن هذا النور لم يكن عينا ولا غيرا على نحو قول الأشعري في صفاته عز وجل الذاتية وهو أيضا منزع صوفي يرجع بالآخرة إلى حديث التجلي والظهور كما لا يخفى فتأمل. وَأَلْقِ عَصاكَ عطف على بُورِكَ منتظم معه في سلك تفسير النداء أي نودي أن بورك وأن ألق عصاك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 158 ويدل عليه قوله تعالى: وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ بعد قوله سبحانه: أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ بتكرير أن فإن القرآن يفسر بعضه بعضا وهذا ما اختاره الزمخشري. وأورد عليه أن تجديد النداء في قوله تعالى: يا مُوسى إلخ يأباه. ورد بأنه ليس بتجديد نداء لأنه من جملة تفسير النداء المذكور، وقيل: لا يأباه لأنه جملة معترضة وفيه بحث، واعترض أيضا بأن بُورِكَ إخبار وَأَلْقِ إنشاء ولا يعطف الإنشاء على الإخبار، ومن هنا قيل: إن العطف على ذلك بتقدير وقيل له: ألق أو العطف على مقدر أي افعل ما آمرك وألق، وفيه إنه في مثل هذا يجوز عطف الإنشاء على الإخبار لكون النداء في معنى القول بل أجاز سيبويه جاء زيد ومن عمرو بالعطف. ولا يرد هذا أصلا على من يجعل «بورك» إنشاء، ويرد على من جعل العطف على أفعل محذوفا أن الظاهر حينئذ فألق بالفاء، واختار أبو حيان كون العطف على جملة إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ولم يبال باختلاف الجملتين اسمية وفعلية وإخبارية وإنشائية لما ذكر أن الصحيح عدم اشتراط تناسب الجملتين المتعاطفتين في ذلك لما سمعت آنفا عن سيبويه، والفاء في قوله تعالى: فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ فصيحة تفصح عن جملة قد حذفت ثقه بظهورها ودلالة على سرعة وقوع مضمونها كأنه قيل: فألقاها فانقلبت حية فلما أبصرها تتحرك بشدة اضطرب، وجملة تَهْتَزُّ في موضع الحال من مفعول رأى فإنها بصرية كما أشرنا إليه لا علمية كما قيل. وقوله تعالى: كَأَنَّها جَانٌّ في موضع حال أخرى منه أو هو حال من ضمير تَهْتَزُّ على طريقة التداخل، والجان الحية الصغيرة السريعة الحركة شبهها سبحانه في شدة حركتها واضطرابها مع عظم جثتها بصغار الحيات السريعة الحركة فلا ينافي هذا قوله تعالى في موضع آخر: فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ [الأعراف: 107، الشعراء: 32] . وقيل: يجوز أن يكون الإخبار عنها بصفات مختلفة باعتبار تنقلها فيها، وقرأ الحسن والزهري وعمرو بن عبيد: «جأن» بهمزة مفتوحة هربا من التقاء الساكنين وإن كان على حده كما قيل: دأبة وشأبة. وَلَّى مُدْبِراً أي انهزم وَلَمْ يُعَقِّبْ أي ولم يرجع على عقبه من عقب المقاتل إذا كر بعد الفرار قال الشاعر: فما عقبوا إذ قيل هل من معقب ... ولا نزلوا يوم الكريهة منزلا وهذا مروي عن مجاهد، وقريب منه قول قتادة: أي لم يلتفت وهو الذي ذكره الراغب، وكان ذلك منه عليه السلام لخوف لحقه، قيل: لمقتضى البشرية فإن الإنسان إذ رأى أمرا هائلا جدا يخاف طبعا أو لما أنه ظن أن ذلك لأمر أريد وقوعه به، ويدل على ذلك قوله سبحانه: يا مُوسى لا تَخَفْ أي من غيري أي مخلوق كان حية أو غيرها ثقة بي واعتمادا عليّ أو لا تخف مطلقا على تنزيل الفعل منزلة اللازم، وهذا إما لمجرد الإيناس دون إرادة حقيقة النهي وإما للنهي عن منشأ الخوف وهو الظن الذي سمعته، وقوله تعالى: إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ تعليل للنهي عن الخوف، وهو على ما قيل يؤيد أن الخوف كان للظن المذكور وأن المراد لا تَخَفْ مطلقا، والمراد من لَدَيَّ في حضرة القرب مني وذلك حين الوحي. والمعنى أن الشأن لا ينبغي للمرسلين أن يخافوا حين الوحي إليهم بل لا يخطر ببالهم الخوف وإن وجد ما يخاف منه لفرط استغراقهم إلى تلقي الأوامر وانجذاب أرواحهم إلى عالم الملكوت، والتقييد بلديّ لأن المرسلين في سائر الأحيان أخوف الناس من الله عز وجل فقد قال تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] ولا أعلم منهم بالله تعالى شأنه، وقيل: المعنى لا تخف من غيري أو لا تخف مطلقا فإن الذي ينبغي أن يخاف منه أمثالك الجزء: 10 ¦ الصفحة: 159 المرسلون إنما هو سوء العاقبة وأن الشأن لا يكون للمرسلين عندي سوء عاقبة ليخافوا منه. والمراد بسوء العاقبة ما في الآخرة لا ما في الدنيا لئلا يرد قتل بعض المرسلين عليهم الصلاة والسلام، والمراد بلديّ على ما قال الخفاجي: عند لقائي وفي حكمي على ما قال ابن الشيخ، وأيا ما كان يلزم مما ذكر أن المرسلين عليهم السلام لا يخافون سوء العاقبة لأن الله تعالى آمنهم من ذلك فلو خافوا لزم أن لا يكونوا واثقين به عز وجل وهذا هو الصحيح كما في الحواشي الشهابية عند الأشعري، وظاهر الآثار يقتضي أنهم عليهم السلام كانوا يخافون ذلك، فقد روى أنه عليه الصلاة والسلام كان يكثر أن يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فقالت له عائشة رضي الله تعالى عنها يوما: يا رسول الله إنك تكثر أن تدعو بهذا الدعاء فهل تخشى؟ فقال صلّى الله تعالى عليه وسلم: وما يؤمنني يا عائشة وقلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن إذا أراد يقلب قلب عبده» وظاهر بعض الآيات يقتضي ذلك أيضا مثل قوله تعالى: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ [الأعراف: 99] وكون الله تعالى آمنهم من ذلك إن أريد به ما جاء في ضمن تبشيرهم بالجنة فقد صرح أن المبشرين بالجنة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا يخافون من سوء العاقبة مع علمهم ببشارته تعالى إياهم بالجنة، ويعلم منه أن الخوف يجتمع مع البشارة، ولا يلزم من ذلك عدم الوثوق به عز وجل لأنه لاحتمال أن يكون هناك شرط لم يظهره الله تعالى لهم للابتلاء ونحوه من الحكم الإلهية، وإن أريد به ما كان بصريح آمنتكم من سوء العاقبة كان هذا الاحتمال قائما أيضا فيه ويحصل الخوف من ذلك، وإن أريد به ما اقتضاه جعله تعالى إياهم معصومين من الكفر ونحوه ورد أن الملائكة عليهم السلام جعلهم الله تعالى معصومين من ذلك أيضا وهم يخافون. ففي الأثر لما مكر بإبليس بكى جبرائيل وميكائيل عليهما السلام فقال الله عز وجل لهما: ما يبكيكما؟ قالا: يا رب ما نأمن مكرك فقال تعالى: هكذا كونا لا تأمنا مكري ، ولعل ذلك لأن العصمة عندنا على ما يقتضيه أصل استناد الأشياء كلها إلى الفاعل المختار ابتداء كما في المواقف وشرحه الشريف الشريفي أن لا يخلق الله تعالى في الشخص ذنبا، وعند الحكماء بناء على ما ذهبوا إليه من القول بالإيجاب واعتبار استعداد القوابل ملكة تمنع الفجور وتحصل ابتداء بالعلم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات وتتأكد بتتابع الوحي بالأوامر والنواهي وهي بكلا المعنيين لا تقتضي استحالة الذنب، أما عدم اقتضائها ذلك بالمعنى الأول فلأن عدم خلقه تعالى إياه ليس بواجب عليه سبحانه ليكون خلقه مستحيلا عليه تعالى ومتى لم يكن الخلق مستحيلا عليه تعالى فكيف يحصل الأمن من المكر، وأما عدم اقتضائها ذلك بالمعنى الثاني فلأن زوال تلك الملكة ممكن أيضا واقتضاء العلم بالمثالب والمناقب إياها ابتداء وتأكدها بتتابع الوحي ليس من الضرورات العقلية ومتى كان الأمر كذلك لا يحصل الأمن بمجرد حصول الملكة، نعم قال قوم: العصمة تكون خاصية في نفس الشخص أو في بدنه يمتنع بسببها صدور الذنب عنه، وقد يستند إليه من يقول بالأمن، ولا يخفى أنه لو سلّم تمام الاستدلال به على هذا المطلب فهو في حد ذاته غير صحيح. ففي المواقف وشرحه أنه يكذب هذا القول أنه لو كان صدور الذنب ممتنعا لما استحق النبي عليه الصلاة والسلام المدح بترك الذنب إذ لا مدح بترك ما هو ممتنع لأنه ليس بمقدور داخلا تحت الاختيار، وأيضا فالإجماع على أن الأنبياء عليهم السلام مكلفون بترك الذنوب مثابون به ولو كان صدور الذنب ممتنعا عنهم لما كان الأمر كذلك، وأيضا فقوله تعالى: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ [الكهف: 110] يدل على مماثلتهم عليهم السلام لسائر الناس فيما يرجع إلى البشرية والامتياز بالوحي فلا يمتنع صدور الذنب عنهم كما لا يمتنع صدوره عن سائر البشر اهـ، وذكر الخفاجي في شرح الشفاء عن ابن الهمام أنه قال في التحرير: العصمة عدم القدرة على المعصية وخلق مانع عنها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 160 غير ملجىء، ثم قال: وهو مناسب لقول الماتريدي العصمة لا تزيل المحنة أي الابتلاء المقتضي لبقاء الاختيار، ومعناه كما في الهداية أنها لا تجبره على الطاعة ولا تعجزه عن المعصية بل هي لطف من الله تعالى تحمله على فعله وتزجره عن الشر مع بقاء الاختيار وتحقيق للابتلاء اه، وهو ظاهر على عدم الاستحالة الذاتية لصدور الذنب، ولعل ما وقع في كلام بعض الأجلة من استحالة وقوع الذنب منهم عليهم السلام محمول على الاستحالة الشرعية كما يؤذن به كلام العلامة ابن حجر في شرح الهمزية، وبالجملة الذي تقتضيه الظواهر ويشهد له العقل أن الأنبياء عليهم يخافون ولا يأمنون مكر الله تعالى لأنه وإن استحال صدور الذنب عنهم شرعا لكنه غير مستحيل عقلا بل هو من الممكنات التي يصح تعلق قدرة الله تعالى بها ومع ملاحظة إمكانه الذاتي وأن الله تعالى لا يجب عليه شيء وقيام احتمال تقييد المطلق بما لم يصرح به لحكمة كالمشيئة لا يكاد يأمن معصوم من مكر الملك الحي القيوم فالأنبياء والملائكة كلهم خائفون ومن خشيته سبحانه عز وجل مشفقون، وليس لك أن تخص خوفهم بخوف الإجلال إذ الظاهر العموم ولا دليل على الخصوص يعول عليه عند فحول الرجال، نعم قد يقال بإمكان حصول الأمن من المكر وذلك بخلق الله تعالى علما ضروريا في العبد بعدم تحقق ما يخاف منه في وقت من الأوقات أصلا لعلم الله تعالى عدم تحققه كذلك وإن كان ممكنا ذاتيا، ولعله يحصل لأهل الجنة لتتم لذتهم فيها فقد قيل: فإن شئت أن تحيا حياة هنية ... فلا تتخذ شيئا تخاف له فقدا ولا يبعد حصوله لمن شاء الله تعالى من عباده يوم القيامة قبل دخولها أيضا، ولم تقم أمارة عندي على حصوله في هذه النشأة لأحد والله تعالى أعلم فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك، وروى الإمام عن بعضهم أنه قال معنى الآية: إني إذا أمرت المرسلين بإظهار معجز فينبغي أن لا يخافوا فيما يتعلق بإظهار ذلك وإلا فالمرسل قد يخاف لا محالة. وقوله تعالى: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ الاستثناء فيه منقطع عند كثير إلا أنه روي عن الفراء والزجاج وغيرهما أن المراد بمن ظلم من أذنب من غير الأنبياء عليهم السلام، قال صاحب المطلع: والمعنى عليه لكن من ظلم من سائر العباد ثم تاب فإني أغفر له، وقال جماعة: إن المراد به من فرطت منه صغيرة ما وصدر منه خلاف الأولى بالنسبة إلى شأنه من المرسلين عليهم السلام. والمراد استدراك ما يختلج في الصدر من نفي الخوف عن كلهم وفيهم من صدر منه ذلك، والمعنى عليه لكن من صدر منهم ما هو في صورة الظلم ثم تاب فإني أغفر له فلا ينبغي أن يخاف أيضا، وهو شامل على ما قيل لمن فعل منهم شيئا من ذلك قبل رسالته، وخصه بعضهم بمن صدر منه شيء من ذلك قبل النبوة وقال: يؤيده لفظه ثُمَّ فإنها ظاهرة في التراخي الزماني، ولعل الظاهر كونه خاصا بمن صدر منه بعد الرسالة لظهور المرسل في المتلبس بالرسالة لا فيمن يتلبس بها بعد أو الأعم، وكأن فيما ذكر على الوجهين الأولين تعريضا بما وقع من موسى عليه السلام من وكزه القبطي واستغفاره، وتسميته ظلما مشاكلة لقوله عليه السلام ظلمت نفسي ، ولم يجعلوه على هذا متصلا مع دخول المستثني في المستثنى منه أعني المرسلين مطلقا لأنه لو كان متصلا لزم إثبات الخوف لمن فرطت منه صغيرة ما منهم لاستثنائه من الحكم وهو نفي الخوف عنهم ونفي النفي إثبات وذلك خلاف المراد فلا يكون متصلا بل هو شروع في حكم آخر. ورجح الطيبي ما قاله الجماعة بأن مقام تلقي الرسالة وابتداء المكالمة مع الكليم يقتضي إزالة الخوف بالكلية وهو ظاهر على ما قالوه، وروى عن الحسن ومقاتل وابن جريج والضحاك ما يقتضي أنه استثناء متصل والظاهر أنهم أرادوا بمن من أراده الجماعة وفي اتصاله على ما سمعت خفاء. وربما يقال: إن من يطلق الاتصال عليه في رأي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 161 الجماعة يكتفي في الاتصال بمجرد كون المستثني من جنس المستثنى منه فإن كفى فذاك وإلا يلتزم إثبات الخوف ويجعل «بدل» عطفا على مستأنف محذوف كأنه قيل: إلا من فرطت منه صغيرة فإنه يخاف فمن فرط ثم تاب غفر له فلا يخاف. وحاصله إلا من ظلم فإنه يخاف أولا ويزول عنه الخوف بالتوبة آخرا، وعن الفراء في رواية أخرى عنه أنه استثناء متصل من جملة محذوفة والتقدير وإنما يخاف غيرهم إلا من ظلم. ورده النحاس بأن الاستثناء من محذوف لا يجوز ولو جاز هذا لجاز أن يقال: لا تضرب القوم إلا زيدا على معنى وإنما اضرب غيرهم إلا زيدا وهذا ضد البيان والمجيء بما لا يعرف معناه انتهى وهو كما قال: ولا يجدي نفعا القول باعتبار مفهوم المخافة. وقالت فرقة: إن إلا بمعنى الواو والتقدير ولا من ظلم إلخ. وتعقبه في البحر بأنه ليس بشيء للمباينة التامة بين إلا والواو فلا تقع أحداهما موقع الأخرى. وحسن الظن يجوز أنهم لم يصرحوا بكون إلا بمعنى الواو وإنما فهم من نسبه إليهم من تقديرهم وهو يحتمل أن يكون تقدير معنى لا إعراب فلا تغفل، والظاهر انقطاع الاستثناء، ولعل الأوفق بشأن المرسلين أن يراد بمن ظلم من ارتكب ذنبا كبيرا أو صغيرا من غيرهم، وثُمَّ يحتمل أن تكون للتراخي الزمان فتفيد الآية المغفرة لمن بدل على الفور من باب أولى، ويحتمل أن تكون للتراخي الرتبي وهو ظاهر بين الظلم والتبديل المذكور والتبديل قد يتعدى إلى مفعولين بنفسه نحو بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها [النساء: 56] وقد يتعدى إلى أحدهما بنفسه وإلى الآخر بالباء أو بمن وهو المذهوب به والمبدل منه نحو بدله بخوفه أو من خوفه أمنا وقد يتعدى إلى واحد نحو بدلت الشيء أي غيرته. وَمِنْهُ فمن بدل بعد ما سمعه والمعنى هنا على المتعدي إلى مفعولين. وقد تعدى إلى أحدهما. وهو المبدل منه بالباء أو بمن فكأنه قيل: ثم بدل بظلمه أو من ظلمه حسنا، ويشير إليه قوله تعالى: بَعْدَ سُوءٍ وحاصله ثم ترك الظلم وأتى بحسن، والمراد به التوبة. فيكون المعنى في الآخرة إلا من ظلم ثم تاب وعدل عنه إلى ما في النظم الجليل لأنه أوفق بمقام الإيناس كذا قيل، والظاهر عليه أن إسناد التبديل إلى من ظلم حقيقي، وقيل: إن المعنى ثم رفع الظلم والسوء ومحاه من صحيفة أعماله ووضع مكانه الحسن بسبب توبته نظير ما في قوله تعالى: يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ [الفرقان: 70] ، وإسناد التبديل إلى من ظلم على هذا مجازي لأنه سبب لتبديل الله تعالى له بتوبته، وكأني بك تختار الأول، ومحل «من» على كل من تقديري انقطاع الاستثناء واتصاله ظاهر. والظاهر أنها موصولة في التقديرين. ولا يخفى أنها إذا اعتبرت منصوبة المحل على الاستثناء أو مرفوعته على البدل تكون جملة «فإني» إلخ مستأنفة. ومن قدر في الكلام محذوفا عطف عليه بَدَّلَ، وقال: التقدير من ظلم ثم بدل جعل الجملة خبر من، وجوز بعضهم أن تكون شرطية وجملة فَإِنِّي إلخ جوابها فتأمل ولا تغفل. وقرأ أبو جعفر وزيد بن أسلم «ألا من ظلم» بفتح الهمزة وتخفيف اللام على أن إِلَّا حرف استفتاح. وجعل أبو حيان مَنْ على هذه القراءة شرطية ولا أراه واجبا وقرأ محمد بن عيسى الأصبهاني «حسنى» على وزن فعلى ممنوع الصرف. وقرأ ابن مقسم «حسنا» بضم الحاء والسين منونا. وقرأ مجاهد وأبو حيوة وابن أبي علي والأعمش وأبو عمرو في رواية الجعفي وعصمة وعبد الوارث وهارون وعياش «حسنا» بفتح الحاء والسين مع التنوين وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ أي جيب قميصك وهو مدخل الرأس منه المفتوح إلى الصدر لا ما يوضع فيه الدراهم ونحوها كما هو معروف الآن لأنه مولد، ولم يقل سبحانه في كمك لأنه عليه السلام كان لابسا إذ ذاك مدرعة من صوف لا كم لها، وقيل: الجيب القميص نفسه لأنه يجاب أي يقطع فهو فعل بمعنى مفعول، وقال السدي: فِي جَيْبِكَ أي تحت إبطك. ولعل مراده أن المعنى أدخلها في جيبك وضعها تحت إبطك، وكانت مدرعته عليه السلام على ما روى عن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 162 ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا أزرار لها، وقد ورد في بعض الآثار أن نبينا صلّى الله عليه وسلّم كان مطلق القميص في بعض الأوقات، ففي سنن أبي داود باب في حل الأزرار لم أخرج فيه من طريق معاوية بن قرة قال: حدثني أبي قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في رهط من مزينة فبايعناه وإن قميصه لمطلق، وفي رواية البغوي في معجم الصحابة لمطلق الأزرار قال: فبايعه ثم أدخلت يدي في جيب قميصه فمسست الخاتم، قال عروة فما رأيت معاوية ولا أباه قط إلا مطلقي أزرارهما، ولا يزرانها أبدا وجاء أيضا عليه الصلاة والسلام أمر بزر الأزرار. فقد أخرج الطبراني عن زيد بن أبي أوفى «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نظر إلى عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه فإذا أزراره محلولة فزرها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيده وقال: اجمع عطفي ردائك على نحرك» وفي هذين الأثرين ما هو ظاهر في أن جيب القميص كان إذ ذاك على الصدر كما هو اليوم عند العرب. وهو يبطل القول بأنه خلاف السنة وأنه من شعائر اليهود، وأمره تعالى إياه عليه السلام بإدخال يده في جيبه مع أنه سبحانه قادر على أن يجعلها بيضاء من غير إدخال للامتحان وله سبحانه أن يمتحن عباده بما شاء، والظاهر أن قوله تعالى: تَخْرُجْ جواب الأمر لأن خروجها مترتب على إدخالها، وقيل: في الكلام حذف تقديره وأدخل يدك في جيبك تدخل وأخرجها تخرج فحذف من الأول ما أثبت مقابله في الثاني ومن الثاني ما أثبت مقابله في الأول فيكون في الكلام صنعة الاحتباك وهو تكلف لا حاجة إليه، وقوله تعالى: بَيْضاءَ حال وكذا قوله تعالى: مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وهو احتراس وقد تقدم الكلام فيه. وكذا قوله سبحانه: فِي تِسْعِ آياتٍ أي آية معدودة من جملة تسع آيات أو معجزة لك معها على أن التسع هي: الفلق والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمسة وهي جعل أسبابهم حجارة والجدب في بواديهم والنقصان في مزارعهم ولمن عد العصا واليد من التسع أن يعد الجدب والنقصان في المزارع واحدا ولا يعد الفلق منها لأنه عليه السلام لم يبعث به إلى فرعون وإن تقدمه بيسير، ومن عده يقول: يكفي معاينته له في البعث به أو هو بعث به لمن آمن من قومه ولم تخلف من القبط ولم يؤمن، وفي التقريب أن الطمسة والجدب والنقصان يرجع إلى شيء واحد فالتسع هذا الواحد. والعصا واليد وما بقي من المذكورات. وذهب صاحب الفرائد إلى أن الجراد. والقمل واحد، والجدب. والنقصان واحد، وجوز أن يكون في تسع منقطعا عما قبله متعلقا بمحذوف أي اذهب في تسع آيات. ويدل على ذلك قوله تعالى بعد: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا وفي بمعنى مع، ونظير هذا الحذف ما في قوله: أتوا ناري فقلت منون أنتم ... فقالوا الجن قلت عموا ظلاما وقلت إلى الطعام فقال منهم ... فريق يحسد الإنس الطعاما فإن التقدير هلموا إلى الطعام. ويتعلق بهذا المحذوف قوله تعالى: إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وعلى ما تقدم يتعلق بمحذوف وقع حالا أي مبعوثا أو مرسلا إلى فرعون، وأيا ما كان فقوله تعالى: إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ مستأنف استئنافا بيانيا كأنه قيل لم أرسلت إليهم بما ذكر؟ فقيل: إنهم إلخ، والمراد بالفسق إما الخروج عما ألزمهم الشرع إياه إن قلنا بأنهم قد أرسل قبل موسى عليه السلام من يلزمهم اتباعه وهو يوسف عليه السلام، وإما الخروج عما ألزمه العقل واقتضاء الفطرة إن قلنا بأنه لم يرسل إليهم أحد قبله عليه السلام. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 163 فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا أي ظهرت لهم على يد موسى عليه السلام، فالمجيء مجاز عن الظهور وإسناده إلى الآيات حقيقي، وقال بعض الأجلة: المجيء حقيقة وإسناده إلى الآيات مجازي وهو حقيقة لموسى عليه السلام ولما بينهما من الملابسة لكونها معجزة له عليه السلام ساغ ذلك. ولعل النكتة في العدول عن- فلما جاءهم موسى بآياتنا- إلى ما في النظم الجليل الإشارة إلى أن تلك الآيات خارجة عن طوقه عليه السلام كسائر المعجزات وأنه لم يكن له عليه السلام تصرف في بعضها وكونه معجزة له لإخباره به ووقوعه بدعائه ونحوه، ولا ينافي هذا الإسناد إليه لكونها جارية على يديه للإعجاز في قوله سبحانه: فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا [القصص: 36] في محل آخر، وقد بين بعضهم وجها لاختصاص كل منهما بمحله بأن ثمة ذكر مقاولته عليه السلام ومجادلتهم معه فناسب الإسناد إليه، وهنا لما لم يكن كذلك ناسب الإسناد إليها لأن المقصود بيان جحودهم بها، وإضافة الآيات للعهد، وفي إضافتها إلى ضمير العظمة ما لا يخفى من تعظيم شأنها مُبْصِرَةً حال من الآيات أي بينة واضحة، وجعل الإبصار لها وهو حقيقة لمتأمليها للملابسة بينها وبينهم لأنهم إنما يبصرون بسبب تأملهم فيها فالإسناد مجازي من باب الإسناد إلى السبب، ويجوز أن يراد مبصرة كل من نظر إليها من العقلاء أو من فرعون وقومه لقوله تعالى: وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ أي جاعلته بصيرا من أبصره المتعدي بهمزة النقل من بصر والإسناد أيضا مجازي. ويجوز أن تجعل الآيات كأنها تبصر فتهدي لأن العمي لا تقدر على الاهتداء فضلا أن تهدي غيرها فيكون في الكلام استعارة مكنية تخييلية مرشحة، قال في الكشف: وهذا الوجه أبلغ، وقيل: إن فاعلا أطلق للمفعول فالمجاز إما في الطرف أو في الإسناد فتأمل. وقرأ قتادة وعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما مُبْصِرَةً بفتح الميم والصاد على وزن مسبعة ، وأصل هذه الصيغة أن تصاغ في الأكثر لمكان كثر فيه مبدأ الاشتقاق فلا يقال: مسبعة مثلا إلا لمكان يكثر فيه السباع لا لما فيه سبع واحد ثم تجوز بها عما هو سبب لكثرة الشيء وغلبته كقولهم: الولد مجبنة ومبخلة أي سبب لكثرة جبن الوالد وكثرة بخله وهو المراد هنا أي سببا لكثرة تبصر الناظرين فيها، وقال أبو حيان هو مصدر أقيم مقام الاسم وانتصب على الحال أيضا قالُوا هذا أي الذي نراه أو نحوه سِحْرٌ مُبِينٌ أي واضح سحريته على أن مُبِينٌ من أبان اللازم وَجَحَدُوا بِها أي وكذبوا بها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ أي علمت علما يقينيا أنها آيات من عند الله تعالى، والاستيقان أبلغ من الإيقان. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 164 وفي البحر أن استفعل هنا بمعنى تفعل كاستكبر بمعنى تكبر، والأبلغ أن تكون الواو للحال والجملة بعدها حالية إما بتقدير قد أو بدونها ظُلْماً أي للآيات كقوله تعالى: بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ [الأعراف: 9] وقد ظلموا بها أي ظلم حيث حطوها عن رتبتها العالية وسموها سحرا، وقيل: ظلما لأنفسهم وليس بذاك وَعُلُوًّا أي ترفعا واستكبارا عن الإيمان بها كقوله تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها [الأعراف: 36] وانتصابهما إما على العلية من جَحَدُوا وهي على ما قيل باعتبار العاقبة والادعاء كما في قوله: لدوا للموت وابنوا للخراب وأما على الحال من فاعله أي جحدوا بها ظالمين عالين، ورجح الأول بأنه أبلغ وأنسب بقوله تعالى: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أي ما آل إليه فرعون وقومه من الإغراق على الوجه الهائل الذي هو عبرة للظالمين، وإنما لم يذكر تنبيها على أنه عرضة لكل ناظر مشهور لدى كل باد وحاصر. وأدخل بعضهم في العاقبة حالهم في الآخرة من الإحراق والعذاب الأليم. وفي إقامة الظاهر مقام الضمير ذم لهم وتحذير لأمثالهم. وقرأ عبد الله وابن وثاب والأعمش وطلحة وأبان بن تغلب «وعليا» بقلب الواو ياء وكسر العين واللام، وأصله فعول لكنهم كسروا العين اتباعا، وروى ضمها عن ابن وثاب والأعمش وطلحة. وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً كلام مستأنف مسوق لتقرير ما سبق من أنه عليه السلام تلقى القرآن من لدن حكيم عليم كقصة موسى عليه السلام، وتصديره بالقسم لإظهار كمال الاعتناء بمضمونه أي آتينا كل واحد منهما طائفة من العلم لائقة به من علم الشرائع والأحكام وغير ذلك مما يختص بكل منهما كصنعة لبوس ومنطق الطير، وخصها مقاتل بعلم القضاء، وابن عطاء بالعلم بالله عز وجل، ولعل الأولى ما ذكر أو علما سنيا غزيرا فالتنوين على الأول للتقليل وهو أوفق بكون القائل هو الله عز وجل فإن كل علم عنده سبحانه قليل وعلى الثاني للتعظيم والتكثير وهو أوفق بامتنانه جل جلاله فإنه سبحانه الملك العظيم فاللائق بشأنه الامتنان بالعظيم الكثير فلكل وجهة، وربما يرجح الثاني، ومما ينبغي أن لا يلتفت إليه كون التنوين للنوعية أي نوعا من العلم والمراد به علم الكيمياء وَقالا أي قال كل منهما شكرا لما أوتيه من العلم الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا بما آتانا من العلم عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ على أن عبارة كل منهما فضلني إلا أنه عبر عنهما عند الحكاية بصيغة المتكلم مع الغير إيجازا، وحكاية الأقوال المتعددة سواء كانت صادرة عن المتكلم أو عن غيره بعبارة جامعة للكل مما ليس بعزيز، ومن ذلك قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ [المؤمنون: 51] قيل وبهذا ظهر حسن موقع العطف بالواو دون الفاء إذ المتبادر من العطف بالفاء ترتب حمل كل منهما على إيتاء ما أوتي كل منهما لا على إيتاء ما أوتي نفسه فقط. وتعقب بأنه إذا سلّم ما ذكر فالعطف بالواو أيضا يتبادر معه كون حمد كل منهما على إيتاء ما أوتي كل منهما فما يمنع من ذلك مع الواو يمنع نحوه مع الفاء، وقال العلامة الزمخشري: عطف بالواو دون الفاء مع أن الظاهر العكس كما في قولك: أعطيته فشكر إشعارا بأن ما قالاه بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلم وشيء من مواجبه فأضمر ذلك ثم عطف عليه التحميد كأنه قال سبحانه: ولقد آتيناهما علما فعملا فيه وعلماه وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة، وقالا: الحمد لله الذي فضلنا، وحاصله أن إيتاء العلم من جلائل النعم وفواضل المنح يستدعي إحداث الشكر أكثر مما ذكر فجيء بالواو لأنها تستدعي إضمارا فيضمر ما يقتضيه موجب الشكر من قوله: فعملا به وعلماه فإنه شكر فعلي، وقوله: وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة فإنه شكر قلبي، وبقوله تعالى: وَقالا إلخ تتم أنواع الشكر لأنه شكر لساني، وفي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 165 الطي إيماء بأن المطوي جاوز حد الإحصاء، ويعلم مما ذكر أن هذا الوجه لاختيار العطف بالواو أولى مما ذهب إليه السكاكي من تفويض الترتب إلى العقل لأن المقام يستدعي الشكر البالغ وهو ما يستوعب الأنواع وعلى ما ذهب إليه يكون بنوع القولي منها وحده، وهو أولى مما قيل أيضا: إنه لم يعطف بالفاء لأن الحمد على نعم عظيمة من جملتها العلم ولو عطف بالفاء لكان الحمد عليه فقط لأن السياق ظاهر في أن الحمد عليه لا على ما يدخل هو في جملته، وهل هناك على ما ذكره العلامة تقدير حقيقة أم لا قولان، وممن ذهب إلى الأول من يسمى هذه الواو الواو الفصيحة، والظاهر أن المراد من الكثير المفضل عليه من لم يؤت مثل علمهما عليهما السلام، وقيل: ذاك ومن لم يؤت علما أصلا. وتعقب بأنه يأباه تبيين الكثير بعبادة تعالى المؤمنين فإن خلوهم عن العلم بالمرة مما لا يمكن، وفي تخصيصهما الكثير بالذكر إشارة إلى أن البعض مفضلون عليهما كذا قيل، والمتبادر من البعض القليل، وفي الكشاف أن في قوله تعالى: عَلى كَثِيرٍ أنهما فضلا على كثير وفضل عليهما كثير. وتعقب بأن فيه نظرا إذ يدل بالمفهوم على أنهما لم يفضلا على القليل فإما أن يفضل القليل عليهما أو يساوياه فلا بل يحتمل الأمرين. ورده صاحب الكشف بأن الكثير لا يقابله القليل في مثل هذا المقام بل يدل على أن حكم الأكثر بخلافه، ولما بعد تساوي الأكثر من حيث العادة لا سيما والأصل التفاوت حكم صاحب الكشاف بأنه يدل على أنه فضل عليهما أيضا كثير على أن العرف طرح التساوي في مثله عن الاعتبار وجعل التقابل بين المفضل والمفضل عليه، ألا ترى أنهم إذا قالوا: لا أفضل من زيد فهم أنه أفضل من الكل انتهى. وفي الآية أوضح دليل على فضل العلم وشرف أهله حيث شكرا على العلم وجعلاه أساس الفضل ولم يعتبرا دونه مما أوتياه من الملك العظيم وتحريض للعلماء على أن يحمدوا الله تعالى على ما آتاهم من فضله وأن يتواضعوا ويعتقدوا أن في عباد الله تعالى من يفضلهم في العلم، ونعم ما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه حين نهى على المنبر عن التغالي في المهور فاعترضت عليه عجوز بقوله تعالى: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً [النساء: 20] الآية: كل الناس أفقه من عمر، وفيه من جبر قلب العجوز وفتح باب الاجتهاد ما فيه، وجعل الشيعة له من المثالب من أعظم المثالب وأعجب العجائب. ولعل في الآية إشارة إلى جواز أن يقول العالم: أنا عالم. وقال قال ذلك جملة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم منهم أمير المؤمنين علي كرّم الله تعالى وجهه. وعبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، وما شاع من حديث: «من قال أنا عالم فهو جاهل» إنما يعرف من كلام يحيى بن أبي كثير موقوفا عليه على ضعف في إسناده، ويحيى هذا من صغار التابعين فإنه رأى أنس بن مالك وحده، وقد وهم بعض الرواة فرفعه إلى النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم، وتحقيقه في أعذب المناهل للجلال السيوطي. وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ أي قام مقامه في النبوة والملك وصار نبيا ملكا بعد موت أبيه داود عليهما السلام فوراثته إياه مجاز عن قيامه مقامه فيما ذكر بعد موته، وقيل: المراد وراثة النبوة فقط، وقيل: وراثة الملك فقط، وعن الحسن ونسبه الطبرسي إلى أئمة أهل البيت أنها وراثة المال، وتعقب بأنه قد صح «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» وقد ذكره الصديق. والفاروق رضي الله تعالى عنهما بحضرة جمع من الصحابة وهم الذين لا يخافون في الله تعالى لومة لائم ولم ينكره أحد منهم عليهما. وأخرج أبو داود والترمذي عن أبي الدرداء قال: «سمعت رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم يقول: إن العلماء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 166 ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ولكن ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر» وروى محمد بن يعقوب الرازي في الكافي عن أبي البحتري عن أبي عبد الله جعفر الصادق أنه قال ذلك أيضا ، ومما يدل على أن هذه الوراثة ليست وراثة المال ما روى الكليني عن أبي عبد الله أن سليمان ورث داود وأن محمدا ورث سليمان صلّى الله تعالى عليه وسلم، وأيضا وراثة المال لا تختص بسليمان عليه السلام فإنه كان لداود عدة أولاد غيره كما رواه الكليني عنه أيضا، وذكر غيره أنه عليه السلام توفي عن تسعة عشر ابنا فالأخبار بها عن سليمان ليس فيه كثير نفع وإن كان المراد الأخبار بما يلزمها من بقاء سليمان بعد داود عليهما السلام فما الداعي للعدول عما يفيده من غير خفاء مثل وقال سليمان بعد موت أبيه داود «يا أيها الناس» إلخ. وأيضا السياق والسباق يأبيان أن يكون المراد وراثة المال كما لا يخفى على منصف، والظاهر أن الرواية عن الحسن غير ثابتة وكذا الرواية عن أئمة أهل البيت رضي الله تعالى عنهم، فقد سمعت في رواية الكليني عن الصادق رضي الله تعالى عنه ما ينافي ثبوتها، ووراثة غير المال شائعة في الكتاب الكريم فقد قال عز من قائل: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ [فاطر: 32] ، وقال سبحانه: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ [الأعراف: 169] ولا يضر تفاوت القرينة فافهم. وكان عمره يوم توفي داود عليهما السلام اثنتي عشرة سنة أو ثلاث عشرة وكان داود قد أوصى له بالملك فلما توفي ملك وعمره ما ذكر، وقيل: إن داود عليه السلام ولاه على بني إسرائيل في حياته حكاه في البحر. وَقالَ تشهيرا لنعمة الله تعالى وتعظيما لقدرها ودعاء للناس إلى التصديق بنبوته بذكر المعجزات الباهرات التي أوتيها لا افتخارا يا أَيُّهَا النَّاسُ الظاهر عمومه جميع الناس الذين يمكن عادة مخاطبتهم. وقال بعض الأجلة: المراد به رؤساء مملكته وعظماء دولته من الثقلين وغيرهم، والتعبير عنهم بما ذكر للتغليب، وأخرج ابن أبي حاتم عن الأوزاعي أنه قال: الناس عندنا أهل العلم عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ أي نطقه وهو في المتعارف كل لفظ يعبر به عما في الضمير مفردا أو مركبا، وقد يطلق على كل ما يصوت به على سبيل الاستعارة المصرحة، ويجوز أن يعتبر تشبيه المصوت بالإنسان ويكون هناك استعارة بالكناية وإثبات النطق تخييلا، وقيل يجوز أيضا أن يراد بالنطق مطلق الصوت على أنه مجاز مرسل وليس بذاك. ويحتمل الأوجه الثلاثة قوله: لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت ... حمامة في غصون ذات أوقال وقد يطلق على ذلك للمشاكلة كما في قولهم: الناطق والصامت للحيوان والجماد، والذي علمه عليه السلام من منطق الطير هو على ما قيل ما يفهم بعضه من بعض من معانيه وأغراضه، ويحكى أنه عليه السلام مر على بلبل في شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه فقال لأصحابه أتدرون ما يقول؟ قالوا: الله تعالى ونبيه أعلم قال: يقول أكلت نصف ثمرة فعلى الدنيا العفاء وصاحت فاختة فأخبر أنها تقول ليت ذا الخلق لم يخلقوا، وصاح طاوس فقال يقول كما تدين تدان، وصاح هدهد فقال: يقول استغفروا الله تعالى يا مذنبون، وصاح طيطوى فقال: يقول كل حي ميت وكل جديد بال، وصاح خطاف فقال: يقول قدّموا خيرا تجدوه، وصاحت رخمة فقال: يقول سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه، وصاح قمري فأخبر أنه يقول: سبحان ربي الأعلى، وقال الحدأ: يقول كل شيء هالك إلا الله تعالى، والقطاة تقول: من سكت سلم، والببغاء يقول: ويل لمن الدنيا همه والديك يقول: اذكروا الله تعالى يا غافلون. والنسر يقول: يا ابن آدم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 167 عش ما شئت آخرك الموت. والعقاب يقول: في البعد من الناس أنس، والضفدع يقول: سبحان ربي القدوس والقنبرة تقول: اللهم العن مبغض محمد وآل محمد، والزرزور يقول: اللهم إني أسألك قوت يوم بيوم يا رزاق والدراج يقول: الرحمن على العرش استوى انتهى. ونظم الضفدع في سلك المذكورات من الطير ليس في محله، ومع هذا الله تعالى أعلم بصحة هذه الحكاية. وقيل: كانت الطير تكلمه عليه السلام معجزة له نحو ما وقع من الهدهد في القصة الآتية. وقيل: علم عليه السلام ما تقصده الطير في أصواتها في سائر أحوالها فيفهم تسبيحها ووعظها وما تخاطبه به عليه السلام وما يخاطب به بعضها بعضا. وبالجملة علم من منطقها ما علم الإنسان من منطق بني صنفه، ولا يستبعد أن يكون للطير نفوس ناطقة ولغات مخصوصة تؤدي بها مقاصدها كما في نوع الإنسان إلا أن النفوس الإنسانية أقوى وأكمل، ولا يبعد أن تكون متفاوتة تفاوت النفوس الإنسانية الذي قال به من قال. ويجوز أن يعلم الله تعالى منطقها من شاء من عباده ولا يختص ذلك بالأنبياء عليهم السلام، ويجري ما ذكرناه في سائر الحيوانات وذهب بعض الناس إلى أن سليمان عليه السلام علم منطقها أيضا إلا أنه نص على الطير لأنها كانت جندا من جنوده يحتاج إليها في التظليل من الشمس وفي البعث في الأمور، ولا يخفى أن الآية لا تدل على ذلك فيحتاج القول به إلى نقل صحيح، وزعم بعضهم أنه عليه السلام علم أيضا منطق النبات فكان يمر على الشجرة فتذكر له منافعها ومضارها، ولم أجد في ذلك خبرا صحيحا. وكثير من الحكماء من يعرف خواص النبات بلونه وهيئته وطعمه وغير ذلك. ولا يحتاج في معرفتها إلى نطقه بلسان القال. والضمير في عُلِّمْنا وأُوتِينا قيل: له ولأبيه عليهما السلام وهو خلاف الظاهر. والأولى كونه له عليه السلام، ولما كان ملكا مطاعا خاطب رعيته على عادة الملوك لمراعاة قواعد السياسة من التمهيد لما يراد من الرعية من الطاعة والانقياد في الأوامر والنواهي ولم يكن ذلك تعاظما وتكبرا منه عليه السلام، ومراعاة قواعد السياسة للتوصل بها إلى ما فيه رضا الله عز وجل من الأمور المهمة. وقد أمر نبينا صلّى الله عليه وسلّم العباس بحبس أبي سفيان حتى تمر عليه الكتائب يوم الفتح لذلك، وكُلِّ في الأصل للإحاطة وترد للتكثير كثيرا نحو قولك: فلان يقصده كل أحد ويعلم كل شيء وهي كناية في ذلك أو مجاز مشهور، وهذا المعنى هو المراد هنا إذا جعلت مِنْ صلة وهو المناسب لمقام التحدث بالنعم، وإن لم تجعل صلة فهي على أصلها فيما قيل. وأنت تعلم أنه لا يتسنى ذلك إلا إذا أريد الكل المجموعي وهو كما ترى. وفي البحر أن قوله تعالى: عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ إشارة إلى النبوة. وقوله سبحانه: وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إشارة إلى الملك، والجملتان كالشرح للميراث وعن مقاتل أنه أريد بما أوتيه النبوة والملك وتسخير الجن والإنس والشياطين والريح وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هو ما يهمه عليه السلام من أمر الدنيا والآخرة. وقد يقال: إنه ما يحتاجه الملك من آلات الحرب وغيرها إِنَّ هذا إشارة إلى ما ذكر من التعليم والإيتاء لَهُوَ الْفَضْلُ والإحسان من الله تعالى الْمُبِينُ الواضح الذي لا يخفى على أحد أو أن هذا الفضل الذي أوتيته لهو الفضل المبين. فيكون من كلامه عليه السلام قطعا ذيل به ما تقدم منه ليدل على أنه إنما قال ما قال على سبيل الشكر كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» بالراء المهملة آخره كما في الرواية المشهورة أي أقول هذا القول شكرا لا فخرا. ويقرب من هذا المعنى ولا فخر بالزاي كما في الرواية الغير المشهورة. وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ أي جمع له عساكره من الأماكن المختلفة مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ بيان للجنود في البحر وغيره. ولا يلزم من ذلك أن يكون الجنود المحشورون له عليه السلام جميع الجن وجميع الإنس الجزء: 10 ¦ الصفحة: 168 وجميع الطير إذ يأبى ذلك مع قطع النظر عن العقل قصة بلقيس الآتية بعد، وكذا قصة الهدهد. ونقل عن بعضهم أنه عليه السلام كان يأتيه من كل صنف من الطير واحد وهو نص في أن المحشور ليس جميع الطير. ولا يكاد يصح إرادة الجميع في الجميع على ما ذكره الإمام في الآية أيضا وهو أن المعنى أنه جعل الله تعالى كل هذه الأصناف جنوده لأنه وإن لم يستدع الحضور والاجتماع في موضع واحد بل يكفي فيه مجرد الانقياد والدخول في حيطة تصرفه والاتباع له حيث كانوا لأباء قصة بلقيس أيضا عنه فإن المناسب الإخبار بهذا الجعل بعد الإخبار بدخولها ومن معها في حيطة تصرفه. والظاهر أن هذا الحشر ليس إلا جمع العساكر ليذهب بهم إلى محاربة من لم يدخل في ربقة طاعته عليه السلام. وكونه ليذهب بهم إلى مكة شكرا على ما وفق له من بناء بيت المقدس خلاف الظاهر. لكن إذا صح فيه خبر قبل، وأن المجموع من الأنواع المذكورة ما يليق بشأنه وأبهته وعظمته سواء جعلت مِنَ بيانية أو تبعيضية. وكونه عليه السلام أحد المؤمنين اللذين ملكا المعمورة بأسرها إذا سلمنا صحة الخبر الدال عليه وسلامته من المعارض وأنه نص في المطلوب لا يستدعي سوى دخول سكان المعمورة في عداد رعيته وحيطة ملكته وليس ذلك دفعيا بل هو إن صح كان بحسب التدريج. وقد ذكر بعض المؤرخين أن بلقيس إنما دخلت تحت طاعته في السنة الخامسة والعشرين من ملكه، وكانت مدة ملكه عليه السلام أربعين سنة وكذا كانت مدة ملك أبيه داود عليهما السلام. والظاهر أن الحاشر لكل نوع من الأنواع الثلاثة أشخاص منهم فيكون من كل نوع أشخاص مأمورون بذلك معدون له. ولا تستعبد ذلك في الطير إذا كنت من المؤمنين بقصة الهدهد، ولا يلزمك التزام ما قاله الإمام من أن الله تعالى جعل للطير عقلا في أيام سليمان عليه السلام ولم يجعل لها ذلك في أيامنا فما عليك بأس إذا قلت بأنها على حالة واحدة اليوم وذلك اليوم. ولا نعني بعقلها إلا ما تهتدي به لأغراضها، ووجود ذلك اليوم فيها وكذا في غيرها من سائر الحيوانات مما لا ينكره إلا مكابر، وما علينا أن نقول: إن عقولها من حيث هي كعقول الإنسان من حيث هي. ولعل فيها من يهتدي إلى ما لا يهتدي إليه الكثير من بني آدم كالنحل، ولعمري أنها لو كانت خالية من العقل كما يقال وفرض وجود العقل فيها لا أظن أنها تصنع بعد وجوده أحسن مما تصنعه اليوم. وهي خالية منه ولا يجب أن يكون كل عاقل مكلفا فلتكن الطيور كسائر العقلاء الذين لم يبعث إليهم نبي يأمرهم وينهاهم، ويجوز أيضا أن تكون عارفة بربها مؤمنة به جل وعلا من غير أن يبعث إليها نبي كمن ينشأ بشاهق جبل وحده ويكون مؤمنا بربه سبحانه بل كونها مؤمنة بالله تعالى مسبحة له وكذا سائر الحيوانات مما تشهد له ظواهر الآيات والأخبار، وقد قدمنا بعضا من ذلك وليس عندنا ما يجب له التأويل، وبالغ بعضهم فزعم أنها مكلفة وفيها وكذا في غيرها من الحيوانات أنبياء لهم شرائع خاصة واستدل عليه بما استدل والمشهور إكفار من زعم ذلك. وقد نص على إكفاره جمع من الفقهاء، وتخصيص الأنواع الثلاثة بالذكر ظاهر في أنه عليه السلام لم يسخر له الوحش. وفي خبر أخرجه الحاكم عن محمد ابن كعب ما هو ظاهر في تسخيره له عليه السلام أيضا، وسنذكره قريبا إن شاء الله تعالى لكنه لا يعول عليه، وتقديم الجن للمسارعة إلى الإيذان بكمال قوة ملكه عليه السلام وعزة سلطانه من أول الأمر لما أن الجن طائفة عاتية وقبيلة طاغية ماردة بعيدة من الحشر والتسخير. ولم يقدم الطير على الإنس مع أن تسخيرها أشق أيضا وأدل على قوة الملك وعزة السلطان لئلا يفصل بين الجن والإنس المتقابلين والمشتركين في كثير من الأحكام. وقيل في تقديم الجن: إن مقام التسخير لا يخلو من تحقير وهو مناسب لهم وليس بشيء لأن التسخير للأنبياء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 169 عليهم السلام شرف لأنه في الحقيقة لله عز وجل الذي سخر كل شيء. وإذا اعتبر في نفسه فالتعليل بذلك غير مناسب للمقام ويكفي هذا في عدم قبوله فَهُمْ يُوزَعُونَ أي يحبس أولهم ليلحق آخرهم فيكونوا مجتمعين لا يتخلف منهم أحد وذلك للكثرة العظيمة، ويجوز أن يكون ذلك لترتيب الصفوف كما هو المعتاد في العساكر والأول أولى وفيه مع الدلالة على الكثرة والإشعار بكمال مسارعتهم إلى السير الدلالة على أنهم كانوا مسوسين غير مهملين لا يتأذى أحد بهم. وأصل الوزع الكف والمنع، ومنه قول عثمان رضي الله تعالى عنه: ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن. وقول الحسن لا بد للقاضي من وزعة، وقول الشاعر: ومن لم يزعه لبه وحياؤه ... فليس له من شيب فوديه وازع وتخصيص حبس أوائلهم بالذكر دون سوق أواخرهم مع أن التلاحق يحصل بذلك أيضا لأن في ذلك شفقة على الطائفتين، أما الأوائل فمن جهة أن يستريحوا في الجملة بالوقوف عن السير، وأما الأواخر فمن جهة أن لا يجهدوا أنفسهم بسرعة السير، وقيل: إن ذلك لما أن أواخرهم غير قادرين على ما يقدر عليه أوائلهم من السير السريع، وأخرج الطبراني، والطستي في مسائله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه يحبس أولهم على آخرهم حتى تنام الطير والله تعالى أعلم بصحة الخبر. والظاهر أن هذا الوزع إذا لم يكن سيرهم بتسيير الريح في الجو، والأخبار في قصته عليه السلام كثيرة. فقد أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: كان يوضع لسليمان ثلاثمائة ألف كرسي فيجلس مؤمني الإنس مما يليه ومؤمني الجن من ورائهم ثم يأمر الطير فتظله ثم يأمر الريح فتحمله فيمرون على السنبلة فلا يحركونها، وأخرج الحاكم عن محمد بن كعب قال: بلغنا أن سليمان عليه السلام كان معسكره مائة فرسخ خمسة وعشرون للإنس وخمسة وعشرون للجن وخمسة وعشرون للوحش وخمسة وعشرون للطير وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة وسبعمائة سرية فيأمر الريح العاطف فترفعه ثم يأمر الرخاء فتسير به. وأوحى الله عز وجل إليه وهو يسير بين السماء والأرض إني قد زدتك في ملكك إنه لا يتكلم أحد من الخلائق بشيء إلا جاءت به الريح إليك وألقته في سمعك . ويروى أن الجن نسجت له عليه السلام بساطا من ذهب وإبريسم فرسخا في فرسخ ومنبره في وسطه من ذهب فيصعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة فتقعد الأنبياء عليهم السلام على كراسي الذهب والعلماء على كراسي الفضة وحولهم الناس وحول الناس الجن والشياطين وتظله الطير بأجنحتها وترفع ريح الصبا البساط مسيرة شهر. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن المنذر عن وهب بن منبه قال: مر سليمان عليه السلام وهو في ملكه وقد حملته الريح على رجل حراث من بني إسرائيل فلما رآه قال: سبحان الله لقد أوتي آل داود ملكا فحملتها الريح فوضعتها في أذنه فقال: ائتوني بالرجل قال: ماذا قلت؟ فأخبره فقال سليمان: إني خشيت عليك الفتنة لثواب سبحان الله عند الله يوم القيامة أعظم مما رأيت. آل داود أوتوا فقال الحراث أذهب الله تعالى همك كما أذهبت همي. وفي بعض الروايات أنه عليه السلام نزل ومشى إلى الحراث وقال: إنما مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه ثم قال: لتسبيحة واحدة يقبلها الله تعالى خير مما أوتي آل داود ، وأكثر الأخبار في هذا الشأن لا يعول عليها فعليك بالإيمان بما نطق به القرآن ودلت عليه الأخبار الصحيحة وإياك من الانتصار لما لا صحة له مما يذكره كثير من القصاص والمؤرخين مما فيه مبالغات شنيعة بمجرد أنها أمور ممكنة يصح تعلق قدرته عز وجل بها فتفتح بذلك باب السخرية بالدين والعياذ بالله تعالى، ولا يبعد أن يكون أكثر ما تضمن مثل ذلك من وضع الزنادقة يريدون به التنفير عن دين الجزء: 10 ¦ الصفحة: 170 الإسلام حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ حتى هي التي يبتدأ بها الكلام ومع ذلك هي غاية لما قبلها وهي هاهنا غاية لما ينبىء عنه قوله تعالى: فَهُمْ يُوزَعُونَ من السير كأنه قيل: فساروا حتى إذا أتوا إلخ، ووادي النمل واد بأرض الشام كثير النمل على ما روي عن قتادة ومقاتل، وقال كعب: هو وادي السدير من أرض الطائف، وقيل: واد بأقصى اليمن وهو معروف عند العرب مذكور في أشعارها، وقيل: هو واد تسكنه الجن والنمل مراكبهم وهذا عندي مما لا يلتفت إليه. وتعدية الفعل إليه بكلمة على مع أنه يتعدى بنفسه أو بإلى إما لأن إتيانهم كان من جانب عال فعدي بها للدلالة على ذلك كما قال المتنبي: ولشدما جاوزت قدرك صاعدا ... ولشدما قربت عليك الأنجم لما كان قرب الأنجم وإن أراد بها أبيات شعره من فوق، وإما لأن المراد بالإتيان عليه قطعه وبلوغ آخره من قولهم: أتى على الشيء إذا أنفده وبلغ آخره. ثم الإتيان عليه بمعنى قطعه مجاز عن إرادة ذلك وإلا لم يكن للتحذير من الحطم الآتي وجه إذ لا معنى له بعد قطع الوادي الذي فيه النمل ومجاوزته، والظاهر على الوجهين أنهم أتوا عليه مشاة، ويحتمل أنهم كانوا يسيرون في الهواء فأرادوا أن ينزلوا هناك فأحست النملة بنزولهم فأنذرت النمل قالَتْ نَمْلَةٌ جواب إذا. والظاهر أنها صوتت بما فهم سليمان عليه السلام منه معنى يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ وهذا كما يفهم عليه السلام من أصوات الطير ما يفهم، ولا يقدح في ذلك أنه عليه السلام لم يعلم إلا منطق الطير إما لأنها كانت من الطير ذات جناحين كما أخرج ابن أبي حاتم عن الشعبي وهو وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة، وكم رأينا نملة لها جناحان تطير بهما، وكون ذلك لا يقتضي عدها من الطير محل نظر وإما لأن فهم ما ذكر وقع له عليه السلام هذه المرة فقط ولم يطرد كفهم أصوات الطير، وليس في الآية السابقة ولا في الأخبار ما ينفي فهم ما يقصده غير الطير من الحيوانات بدون اطراد، وقال ابن بحر: إنها نطقت بذلك معجزة لسليمان عليه السلام كما نطق الضب والذراع لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال مقاتل: وقد سمع عليه السلام قولها من ثلاثة أميال، ويلزم على هذا أنها أحست بنزولهم من هذه المسافة والسمع من سليمان منها غير بعيد لأن الريح كما جاء في الآثار توصل الصوت إليه أو لأن الله تعالى وهبه إذ ذاك قوة قدسية سمع بها إلا أن إحساس النملة من تلك المسافة بعيد، والمشهور عند العرب بالإحساس من بعيد القراد حتى ضربوا به المثل. وأنت تعلم أنه لا ضرر في إنكار صحة هذا الخبر، وقيل: إنه عليه السلام لم يسمع صوتا أصلا وإنما فهم ما في نفس النملة إلهاما من الله تعالى، وقال الكلبي: أخبره ملك بذلك وإلى أنه لم يسمع صوتا يشير قول جرير: لو كنت أوتيت كلام الحكل ... علم سليمان كلام النمل فإنه أراد بالحكل ما لا يسمع صوته وقال بعضهم: كأنها لما رأتهم متوجهين إلى الوادي فرت عنهم مخافة حطمهم فتبعها غيرها وصاحت صيحة تنبهت بها ما بحضرتها من النمل فتبعتها فشبه ذلك بمخاطبة العقلاء ومناصحتهم ولذلك أجروا مجراهم حيث جعلت هي قائلة وما عداها من النمل مقولا له فيكون الكلام خارج مخرج الاستعارة التمثيلية، ويجوز أن يكون فيه استعارة مكنية. وأنت تعلم أنه لا ضرورة تدعو إلى ذلك. ومن تتبع أحوال النمل لا يستبعد أن تكون له نفس ناطقة فإنه يدخر في الصيف ما يقتات به في الشتاء ويشق ما يدخره من الحبوب نصفين مخافة أن يصيبه الندى فينبت إلا الكزبرة والعدس الجزء: 10 ¦ الصفحة: 171 فإنه يقطع الواحدة منهما أربع قطع ولا يكتفي بشقها نصفين لأنها تنبت كما تنبت إذا لم تشق. وهذا وأمثاله يحتاج إلى علم كلي استدلالي وهو يحتاج إلى نفس ناطقة، وقد برهن شيخ الأشراف على ثبوت النفس الناطقة لجميع الحيوانات. وظواهر الآيات والأخبار الصحيحة تقتضيه كما سمعت قديما وحديثا فلا حاجة بك إلى أن تقول: يجوز أن يكون الله تعالى قد خلق في النملة إذ ذاك النطق وفيما عداها من النمل العقل والفهم وأما اليوم فليس في النمل ذلك. ثم إنه ينبغي أن يعلم أن الظاهر أن علم النملة بأن الآتي هو سليمان عليه السلام وجنوده كان عن إلهام منه عز وجل وذلك كعلم الضب برسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم حين تكلم معه وشهد برسالته عليه الصلاة والسلام، والظاهر أيضا أنها كانت كسائر النمل في الجثة، وفيه اليوم ما يقرب من الذبابة ويسمى بالنمل الفارسي، وبالغ بعض القصاص في كبرها ولا يصح له مستند. وفي بعض الآثار أنها كانت عرجاء واسمها طاخية، وقيل: جرمى، وفي البحر اختلف في اسمها العلم ما لفظه وليت شعري من الذي وضع لها لفظا يخصها أبنو آدم أم النمل انتهى، والذي يذهب إلى أن للحيوانات نفوسا ناطقة لا يمنع أن تكون لها أسماء وضعها بعضها لبعض لكن لا بألفاظ كألفاظنا بل بأصوات تؤدى على نحو مخصوص من الأداء ولعله يشتمل على أمور مختلفة كل منها يقوم مقام حرف من الحروف المألوفة لنا إذا أراد أن يترجم عنها من عرفها من ذوي النفوس القدسية ترجمها بما نعرف، ويقرب هذا لك أن بعض كلام الإفرنج وأشباههم لا نسمع منه إلا كما نسمع من أصوات العصافير ونحوها وإذا ترجم لنا بما نعرفه ظهر مشتملا على الحروف المألوفة، والظاهر أن تاء نَمْلَةٌ للوحدة فتأنيث الفعل لمراعاة ظاهر التأنيث فلا دليل في ذلك على أن النملة كانت أنثى قاله بعضهم. وعن قتادة أنه دخل الكوفة فالتف عليه الناس فقال: سلوا عما شئتم- وكان أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه حاضرا وهو غلام حدث- فقال: سلوه عن نملة سليمان أكانت ذكر أم أنثى؟ فسألوه فأفحم فقال أبو حنيفة: كانت أنثى فقيل له: من أين عرفت؟ فقال من كتاب الله تعالى وهو قوله تعالى: «قالت نملة» ولو كان ذكرا لقال سبحانه قال نملة، وذلك أن النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى فيميز بينهما بعلامة نحو قولهم: حمامة ذكر وحمامة أنثى وهو وهي كذا في الكشاف، وتعقبه ابن المنير فقال: لا أدري العجب منه أم من أبي حنيفة إن ثبت ذلك عنه، وذلك أن النملة كالحمامة والشاة تقع على الذكر وعلى الأنثى لأنه اسم جنس فيقال: نملة ذكر ونملة أنثى كما يقولون: حمامة ذكر وحمامة أنثى وشاة ذكر وشاة أنثى فلفظها مؤنث ومعناها محتمل فيمكن أن تؤنث لأجل لفظها وإن كانت واقعة على ذكر بل هذا هو الفصيح المستعمل، ألا ترى قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يضحى بعوراء ولا عمياء ولا عجفاء» كيف أخرج عليه الصلاة والسلام هذه الصفات على اللفظ مؤنثة ولا يعني صلّى الله عليه وسلّم الإناث من الأنعام خاصة فحينئذ قوله تعالى: قالت نملة روعي فيه تأنيث اللفظ وأما المعنى فيحتمل التذكير والتأنيث على حد سواء، وكيف يسأل أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه بهذا ويفحم به قتادة مع غزارة علمه، والأشبه أن ذلك لا يصح عنهما اهـ. وقال ابن الحاجب عليه الرحمة: التأنيث اللفظي هو أن لا يكون بإزائه ذكر في الحيوان كظلمة وعين، ولا فرق بين أن يكون حيوانا أو غيره كدجاجة وحمامة إذا قصد به مذكر فإنه مؤنث لفظي، ولذلك كان قول من زعم أن النملة في قوله تعالى: قالَتْ نَمْلَةٌ أنثى لورود تاء التأنيث في قالَتْ وهما لجواز أن يكون مذكرا في الحقيقة، وورود تاء التأنيث كورودها في الفعل المؤنث اللفظي نحو جاءت الظلمة. وأجاب بعض فضلاء ما وراء النهر وقال: لعمري إنه قد تعسف هاهنا ابن الحاجب وترك الواجب حيث اعترض على إمام أهل الإسلام، واعتراضه يقوله: وورود تاء التأنيث كورودها إلخ ليس بشيء إذ لو كان جائزا أن يؤتى بتاء التأنيث في الفعل لمجرد صورة التأنيث في الفاعل المذكر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 172 الحقيقي لكان ينبغي جواز أن يقال: جاءتني طلحة مع أنه لا يجوز، وجوابه عن ذلك في شرحه بقوله: وليس ذلك كتأنيث أسماء الأعلام فإنها لا يعتبر فيها إلا المعنى دون اللفظ خلافا للكوفيين. والسر فيه هو أنهم نقلوها عن معانيها إلى مدلول آخر فاعتبروا فيها المدلول الثاني، ولو اعتبروا تأنيثها لكان اعتبارا للمدلول الأول فيفسد المعنى فلذلك لا يقال: أعجبتني طلحة تناقض محض كأنه نسي ما أمضى في صدر كتابه من قوله فإن سمى به مذكر فشرطه الزيادة يعني فإن سمي بالمؤنث المعنوي فشرطه الزيادة على ثلاثة أحرف فلا يخفى على من له أدنى مسكة أن عقرب مع أن علامة التأنيث فيه مقدرة العلمية لا تمنعها عن اعتبار تأنيثها حتى تمنع من الصرف فكيف تمنع العلمية عن اعتبار التأنيث في طلحة مع أن علامة التأنيث فيه لفظية فإذن ليس طرح التاء عن الفعل إلا لأن التاء إنما يجاء بها علامة لتأنيث الفاعل، والفاعل هاهنا مذكر حقيقي فكذا النملة لو كان مذكرا لكان هو مع طلحة حذو القذة بالقذة. وينصر قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه ما نقل عن ابن السكيت هذا بطة ذكر وهذا حمامة ذكر وهذا شاة إذا عنيت كبشا وهذا بقرة إذا عنيت ثورا فإن عنيت به أنثى قلت: هذه بقرة اهـ. وارتضاه الطيبي ثم قال فظهر أن القول ما قالت حذام والمذهب ما سلكه الإمام. وفي الكشف أن التاء في نملة للوحدة فهي في حكم المؤنث اللفظي جاز أن تعامل معاملته كتمر وتمرة على ما نص عليه في المفصل، ولا يشكل بنحو طلحة حيث لم يجز إلحاق فعله التاء لأن أسماء الأعلام يعتبر فيها المعنى دون اللفظ خلافا للكوفيين إلى آخر ما ذكره ابن الحاجب، ولا نقض باعتبار التأنيث في عقرب أن سمي به مذكر ولا في طلحة نفسه باعتبار منع الصرف على ما ظنه بعض فضلاء ما وراء النهر. وصوبه شيخنا الطيبي لأن اعتبار المعنى هو فيما يرجع إلى المعنى لا فيما يرجع إلى اللفظ، وإلحاق العلامة باعتبار الفاعل إما للتأنيث الحقيقي وإما لشبه التأنيث من الوحدة أو الجمعية ونحوها فإذا لم يبق المعنى أعني التأنيث وشبه التأنيث فلا وجه للإلحاق. وأما منع الصرف فلا نظر فيه إلى معنى التأنيث بل إلى هذه الزيادة لفظا أو تقديرا وذلك غاير مختلف في المنقول والمنقول عنه، وكفاك دليلا لاعتبار اللفظ وحده في هذا الحكم تفرقتهم في سقر بين تسمية المذكر به والمؤنث دون عقرب فلو تأمل المناقض لكان ما أورده عليه لا له هذا، وإن الإمام رضي الله تعالى عنه كوفي والقاعدة على أصله مهدومة انتهى. وهو كلام متين. والحزم القول بعدم صحة هذه الحكاية فأبو حنيفة رضي الله تعالى عنه من عرفت وإن كان إذ ذاك غلاما حدثا. وقتادة بن دعامة السدوسي بإجماع العارفين بالرجال كان بصيرا بالعربية فيبعد كل البعد وقوع ما ذكر منهما والله تعالى أعلم. والحطم الكسر والمراد به الإهلاك. والنهي في الظاهر لسليمان عليه السلام وجنوده وهو في الحقيقة نهي على طريق الكناية للنمل عن التوقف حتى تحطم لأن الحطم غير مقدور لها نحو قولك: لا أرينك هاهنا فإنه في الظاهر نهي للمتكلم عن رؤية المخاطب والمقصود نهي المخاطب عن الكون بحيث يراه المتكلم فالجملة استئناف أو بدل اشتمال من جملة ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ، وقول بعضهم: إذا كان المعنى النهي عن التوقف حتى تحطم يحصل الاتحاد بين الجملتين يقتضي أنه بدل كل من كل بناء على أن الأمر بالشيء عين النهي عن ضده وعلى ما ذكر لا حاجة إليه وبالجملة اعتراض أبي حيان على وجه الإبدال باختلاف مدلولي الجملتين ليس في محله، وجوز الزمخشري كون لا يحطمنكم جوابا للأمر، أعني- ادخلوا- ولا حينئذ نافية وتعقب بأن دخول النون في جواب الشرط مخصوص بضرورة الشعر كقوله: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 173 مهما تشأ منه فزارة تعطه ... ومهما تشأ منه فزارة يمنعا وفي الكتاب وهو قليل في الشعر شبهوه بالنهي حيث كان مجزوما غير واجب. وأرادت النملة على ما في الكشاف لا يحطمنكم جنود سليمان فجاءت بما هو أبلغ. ونحوه قوله: عجبت من نفسي ومن إشفاقها حيث أراد عجبت من إشفاق نفسي فجاء بما هو أبلغ للإجماع والتفصيل. وتعقب ذلك في البحر بأن فيه القول بزيادة الأسماء وهي لا تجوز بل الظاهر إسناد الحطم إليه عليه السلام وإلى جنوده والكلام على حذف مضاف أي خيل سليمان وجنوده أو نحو ذلك مما يصح تقديره وللبحث فيه مجال وجملة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ حال من مجموع المتعاطفين والضمير لهما. وجوز أن تكون حالا من الجنود والضمير لهم، وأيا ما كان ففي تقييد الحطم بعدم الشعور بمكانهم المشعر بأنه لو شعروا بذلك لم يحطموا ما يشعر بغاية أدب النملة مع سليمان عليه السلام وجنوده، وليت من طعن في أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم ورضي الله تعالى عنهم تأسى بها فكف عن ذلك وأحسن الأدب، وروي أن سليمان عليه السلام لما سمع قول النملة: يا أَيُّهَا النَّمْلُ إلخ قال ائتوني بها فأتوا بها فقال لم حذرت النمل ظلمي؟ أما علمت أني نبي عدل فلم قلت: لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وجنوده فقالت: أما سمعت قولي: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ومع ذلك إني لم أرد حطم النفوس وإنما أردت حطم القلوب خشيت أن يروا ما أنعم الله تعالى به عليك من الجاه والملك العظيم فيقعوا في كفران النعم فلا أقل من أن يشتغلوا بالنظر إليك عن التسبيح فقال لها سليمان عظيني فقالت أعلمت لم سمي أبوك داود؟ قال: لا قالت: لأنه داوى جراحة قلبه وهل تدري لم سميت سليمان؟ قال: لا قالت: لأنك سليم القلب والصدر. ثم قالت: أتدري لم سخر الله تعالى لك الريح؟ قال: لا قالت: أخبرك الله تعالى بذلك أن الدنيا كلها ريح فمن اعتمد عليها فكأنما اعتمد على الريح . وهذا ظاهر الوضع كما لا يخفى وفيه ما يشبه كلام الصوفية والله تعالى أعلم بصحة ما روى من أنها أهدت إليه نبقة وأنه عليه السلام دعا للنمل بالبركة. وجوز أن تكون جملة هُمْ لا يَشْعُرُونَ في موضع الحال من النملة والضمير للجنود كالضمائر السابقة في قوله تعالى: فَهُمْ يُوزَعُونَ وقوله سبحانه: حَتَّى إِذا أَتَوْا وهي من كلامه تعالى أي قالت ذلك في حال كون الجنود لا يشعرون به وليس بشيء وقد يقرب منه ما قيل إنه يجوز أن تكون الجملة معطوفة على مقدر وهي من كلامه عز وجل كأنه قيل: فهم سليمان ما قالت والجنود لا يشعرون بذلك. وقرأ الحسن وطلحة ومعتمر بن سليمان وأبو سليمان التيمي نملة بضم الميم كسمرة وكذلك النمل كالرجل والرجل لغتان، وعن أبي سليمان التيمي نملة ونمل بضم النون والميم. وقرأ شهر بن حوشب «مسكنكم» على الإفراد. وعن أبي «أدخلن مساكنكن لا يحطمنكن» مخففة النون التي قبل الكاف. وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة وعيسى بن عمر الهمداني الكوفي. ونوح القاضي بضم الياء وفتح الحاء وشد الطاء والنون مضارع حطم مشددا. وعن الحسن بفتح الياء (1) وإسكان الحاء وشد الطاء وعنه كذلك مع كسر الحاء وأصله يحتطمنكم من الاحتطام. وقرأ ابن أبي إسحاق وطلحة ويعقوب وأبو عمرو في رواية عبيد كقراءة الجمهور إلا   (1) قوله وإسكان الحاء كذا بخطه ولعله سبق قلم ففي الكشاف وقرىء لا يَحْطِمَنَّكُمْ بفتح الحاء وكسرها وأصله يحتطمنكم اهـ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 174 أنهم سكنوا نون التأكيد، وقرأ الأعمش بحذف النون وجزم الميم. ولا خلاف على هذه القراءة في جواز أن يكون الفعل مجزوما في جواب الأمر فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها تفريع على ما تقدم فلا حاجة إلى تقدير معطوف عليه أي فسمعها فتبسم وجعل الفاء فصيحة كما قيل. ولعله عليه السلام إنما تبسم من ذلك سرورا بما ألهمت من حسن حاله وحال جنوده في باب التقوى والشفقة وابتهاجا بما خصه الله تعالى به من إدراك ما هو همس بالنسبة إلى البشر وفهم مرادها منه. وجوز أن يكون ذلك تعجبا من حذرها وتحذيرها واهتدائها إلى تدبير مصالحها ومصالح بني نوعها: والأول أظهر مناسبة لما بعد من الدعاء. وانتصب ضاحِكاً على الحال أي شارعا في الضحك أعني قد تجاوز حد التبسم إلى الضحك أو مقدر الضحك بناء على أنه حال مقدرة كما نقله الطيبي عن بعضهم. وقال أبو البقاء هو حال مؤكدة وهو يقتضي كون التبسم والضحك بمعنى والمعروف الفرق بينهما قال ابن حجر التبسم مبادئ الضحك من غير صوت والضحك انبساط الوجه حتى تظهر الأسنان من السرور مع صوت خفي فإن كان فيه صوت يسمع من بعد فهو القهقهة، وكأن من ذهب إلى اتحاد التبسم والضحك خص ذلك بما كان من الأنبياء عليهم السلام فإن ضحكهم تبسم، وقد قال البوصيري في مدح نبينا صلّى الله عليه وسلّم: سيد ضحكه التبسم والم ... شي الهوينا ونومه الإغفاء وروى البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: ما رأيته صلّى الله عليه وسلّم مستجمعا قط ضاحكا أي مقبلا على الضحك بكليته إنما كان يتبسم، والذي يدل عليه مجموع الأحاديث إن تبسمه عليه الصلاة والسلام أكثر من ضحكه وربما ضحك حتى بدت نواجذه. وكونه ضحك كذلك مذكور في حديث آخر أهل النار خروجا منها وأهل الجنة دخولا الجنة. وقد أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وكذا في حدب أخرجه البخاري في المواقع أهله في رمضان، وليس في حديث عائشة السابق أكثر من نفيها رؤيتها إياه صلّى الله عليه وسلّم مستجمعا ضاحكا وهو لا ينافي وقوع الضحك منه في بعض الأوقات حيث لم تره. وأول الزمخشري ما روى من أنه صلّى الله عليه وسلّم ضحك حتى بدت نواجذه بأن الغرض منه المبالغة في وصف ما وجد منه عليه الصلاة والسلام من الضحك النبوي وليس هناك ظهور النواجذ وهي أواخر الأضراس حقيقة، ولعله إنما لم يقل سبحانه: فتبسم من قولها بل جاء جل وعلا بضاحكا نصبا على الحال ليكون المقصود بالإفادة التجاوز إلى الضحك بناء على أن المقصود من الكلام الذي فيه قيد إفادة القيد نفيا أو إثباتا، وفيه إشعار بقوة تأثير قولها فيه عليه السلام حيث أداه ما عراه منه إلى أن تجاوز حد التبسم آخذا في الضحك ولم يكن حاله التبسم فقط. وكأنه لما لم يكن قول فضحك من قولها في إفادة ما ذكرنا مثل ما في النظم الجليل لم يؤت به، وفي البحر أنه لما كان التبسم يكون للاستهزاء وللغضب كما يقولون: تبسم تبسم الغضبان وتبسم تبسم المستهزئ وكان الضحك إنما يكون للسرور والفرح أتى سبحانه بقوله تعالى: ضاحِكاً لبيان أن التبسم لم يكن استهزاء ولا غضبا انتهى. ولا يخفى أن دعوى أن الضحك لا يكون إلا للسرور والفرح يكذبها قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ [المطففين: 29] فإن هذا الضحك كان من مشركي قريش استهزاء بفقرائهم كعمار وصهيب وخباب وغيرهم كما ذكره المفسرون ولم يكن للسرور والفرح. وكذا قوله تعالى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ [المطففين: 34] كما هو الظاهر. وإن هرعت إلى التأويل قلنا الواقع يكذبها فإن أنكرت ضحك الجزء: 10 ¦ الصفحة: 175 منك أولو الألباب، وفيه أيضا غير ذلك فتأمل والله تعالى الهادي إلى صوب الصواب، وقرأ ابن السميقع «ضحكا» على أنه مصدر في موضع الحال، وجوز أن يكون منصوبا على أنه مفعول مطلق نحو شكرا في قولك حمد شكرا. وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ أي اجعلني أزع شكر نعمتك أي أكفه وأرتبطه لا ينفلت عني وهو مجاز عن ملازمة الشكر والمداومة عليه فكأنه قيل: رب اجعلني مداوما على شكر نعمتك، وهمزة أوزع للتعدية، ولا حاجة إلى اعتبار التضمين. وكون التقدير رب يسر لي أن أشكر نعمتك وازعا إياه وعن ابن عباس أن المعنى اجعلني أشكر. وقال ابن زيد: أي حرضني. وقال أبو عبيدة أي أولعني. وقال الزجاج فيما قيل أي ألهمني. وتأويله في اللغة كفني عن الأشياء التي تباعدني عنك. قال الطيبي فعلى هذا هو كناية تلويحية فإنه طلب أن يكفه عما يؤدي إلى كفران النعمة بأن يلهمه ما به تقيد النعمة من الشكر. وإضافة النعمة للاستغراق أي جميع نعمك. وقرىء «أوزعني» بفتح الياء الَّتِي أَنْعَمْتَ أي أنعمتها، وأصله أنعمت بها إلا أنه اعتبر الحذف والإيصال لفقد شرط حذف العائد المجرور وهو أن يكون مجرورا بمثل ما جر به الموصول لفظا ومعنى ومتعلقا، ومن لا يقول باطراد ذلك لا يعتبر ما ذكر ولا أرى فيه بأسا عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ أدرج ذكر والديه تكثيرا للنعمة فإن الأنعام عليهما أنعام عليه من وجه مستوجب للشكر أو تعميما لها فإن النعمة عليه عليه السلام يرجع نفعها إليهما، والفرق بين الوجهين ظاهر، واقتصر على الثاني في الكشاف وهو أوفق بالشكر. وكون الدعاء المذكور بعد وفاة والديه عليهما السلام قطعا، ورجح الأول بأنه أوفق بقوله تعالى: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً [سبأ: 13] بعد قوله سبحانه: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا [سبأ: 10] إلخ، وقوله تعالى: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ [الأنبياء: 81، سبأ: 12] إلخ فتدبر فإنه دقيق وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً عطف على أَنْ أَشْكُرَ فيكون عليه السلام قد طلب جعله مداوما على عمل العمل الصالح أيضا. وكأنه عليه السلام أراد بالشكر الشكر باللسان المستلزم للشكر بالجنان وأردفه بما ذكر تتميما له لأن عمل الصالح شكر بالأركان، وفي البحر أنه عليه السلام سأل أولا شيئا خاصا وهو شكر النعمة وثانيا شيئا عاما وهو عمل الصالح، وقوله تعالى: تَرْضاهُ قيل صفة مؤكدة أو مخصصة إن أريد به كمال الرضا، واختير كونه صفة مخصصة. والمراد بالرضا القبول وهو ليس من لوازم العمل الصالح أصلا لا عقلا ولا شرعا وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ أي في جملتهم. والكلام عن الزمخشري كناية عن جعله من أهل الجنة. وقدر بعضهم الجنة مفعولا ثانيا لأدخلني، وعلى كونه كناية لا حاجة إلى التقدير، والداعي لأحد الأمرين على ما قيل دفع التكرار مع ما قبل لأنه إذا عمل عملا صالحا كان من الصالحين البتة إذ لا معنى للصالح إلا العامل عملا صالحا، وأردف طلب المداومة على عمل الصالح بطلب إدخاله الجنة لعدم استلزام العمل الصالح بنفسه إدخال الجنة، ففي الخبر «لن يدخل أحدكم الجنة عمله قيل ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى برحمته» وكأن في ذكر بِرَحْمَتِكَ في هذا الدعاء إشارة إلى ذلك. ولا يأبى ما ذكر قوله تعالى: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف: 72] لأن سببية العمل للإيراث برحمة الله تعالى. وقال الخفاجي: لك أن تقول إنه عليه السلام عد نفسه غير صالح تواضعا أي فلا يحتاج إلى التقدير ولا إلى نظم الكلام في سلك الكناية، ولا يخفى أن هذا لا يدفع السؤال بإغناء الدعاء بالمداومة على عمل الصالح عنه. وقيل: المراد أن يجعله سبحانه في عداد الأنبياء عليهم السلام ويثبت اسمه مع أسمائهم ولا يعزله عن منصب النبوة الذي هو منحة إلهية لا تنال بالأعمال ولذا ذكر الرحمة في البين، ونقل الطبرسي عن ابن عباس ما يلوح بهذا المعنى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 176 وقيل: المراد أدخلني في عداد الصالحين واجعلني أذكر معهم إذا ذكروا، وحاصله طلب الذكر الجميل الذي لا يستلزمه عمل الصالح إذ قد يتحقق من شخص في نفس الأمر ولا يعده الناس في عداد الصالحين. وفي هذا الدعاء شمة من دعاء إبراهيم عليه السلام وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء: 84] ومقاصد الأنبياء في مثل ذلك أخروية، وقيل: يحتمل أنه أراد بعمل الصالح القيام بحقوق الله عز وجل وأراد بالصلاح في قوله: فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ القيام بحقوقه تعالى وحقوق عباده فيكون من قبيل التعميم بعد التخصيص. وتعيين ما هو الأولى من هذه الأقوال مفوض إلى فكرك والله تعالى الهادي، وكان دعاؤه عليه السلام على ما في بعض الآثار بعد أن دخل النمل مساكنهن، قال في الكشاف: روي أن النملة أحست بصوت الجنود ولا تعلم أنهم في الهواء فأمر سليمان عليه السلام الريح فوقفت لئلا يذعرن حتى دخلن مساكنهن ثم دعا بالدعوة وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ أي أراد معرفة الموجود منها من غيره، وأصل التفقد معرفة الفقد، والظاهر أنه عليه السلام تفقد كل الطير وذلك بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك والاهتمام بالرعايا لا سيما الضعفاء منها قيل وكان يأتيه من كل صنف واحد فلم ير الهدهد، وقيل: كانت الطير تظله من الشمس وكان الهدهد يستر مكانه الأيمن فمسته الشمس فنظر إلى مكان الهدهد فلم يره، وعن عبد الله بن سلام أن سليمان عليه السلام نزل بمفازة لا ماء فيها وكان الهدهد يرى الماء في باطن الأرض فيخبر سليمان بذلك فيأمر الجن فتسلخ الأرض عنه في ساعة كما تسلخ الشاة فاحتاجوا إلى الماء فتفقد لذلك الطير فلم يرد الهدهد فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ وهو طائر معروف منتن يأكل الدم فيما قيل ويكنى بأبي الأخبار وأبي الربيع وأبي ثمامة وبغير ذلك مما ذكره الدميري، وتصغيره على القياس هديهد، وزعم بعضهم أنه يقال في تصغيره هداهد بقلب الياء ألفا، وأنشدوا: كهداهد كسر الرماة جناحه ونظير ذلك دوابه وشوابه في دويبه وشويبه. والظاهر أن قوله عليه السلام ذلك مبني على أنه ظن حضوره ومنع مانع له من رؤيته أي عدم رؤيتي إياه مع حضوره لأي سبب ألساتر أم لغيره ثم لاح له أنه غائب فاضرب عن ذلك وأخذ يقول: أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ كأنه يسأل عن صحة ما لاح له، فأم هي المنقطعة كما في قولهم إنها لإبل أم شاء. وقال ابن عطية: مقصد الكلام الهدهد غاب ولكنه أخذ اللازم من مغيبه وهو أن لا يراه فاستفهم على جهة التوقيف عن اللازم وهذا ضرب من الإيجاز، والاستفهام الذي في قوله: ما لِيَ ناب مناب الهمزة التي تحتاجها أم انتهى. وظاهره أن أم متصلة والهمزة قائمة مقام همزة الاستفهام فالمعنى عنده أغاب عني الآن فلم أره حال التفقد أم كان ممن غاب قبل ولم أشعر بغيبته والحق ما تقدم، وقيل في الكلام قلب والأصل ما للهدهد لا أراه، ولا يخفى أنه لا ضرورة إلى ادعاء ذلك، نعم قيل هو أوفق بكون التفقد للعناية، وذكر أن اسم هذا الهدهد يعفور، وكون الهدهد يرى الماء تحت الأرض رواه ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخرج ابن أبي حاتم وسعيد بن منصور عن يوسف بن ماهك أن ابن عباس حين قال ذلك اعترض عليه نافع بن الأزرق كعادته بأنه كيف ذاك والهدهد ينصب له الفخ ويوضع فيه الحبة وتستر بالتراب فيصطاد فقال رضي الله تعالى عنه إن البصر ينفع ما لم يأت القدر فإذا جاء القدر حال دون البصر فقال ابن الأزرق: لا أجادلك الجزء: 10 ¦ الصفحة: 177 بعدها بشيء، ولا مانع من أن يقال: يجوز أن يرى الحبة أيضا إلا أنه لا يعرف أن التقاطها من الفخ يوجب اصطياده، وكثير من الطيور وسائر الحيوانات يصطاد بما يراه بنوع حيلة. ويجوز أيضا أن يراها ويعرف المكيدة في وضعها إلا أن القدر يغلب عليه فيظن أنه ينجو إذا التقطها بأحد وجوه يتخيلها فيكون نظير من يخوض المهالك لظن النجاة مع مشاهدة هلاك الكثير ممن خاضها قبله وإذا أراد الله تعالى بقوم أمرا سلب من ذوي العقول عقولهم، نعم إن رؤيته الماء تحت الأرض وإن جاز على ما تقتضيه أصول الأشاعرة أمر يستبعده العقل جدا ولا جزم لي بصحة الخبر السابق، وتصحيح الحاكم محكوم عليه عند المحدثين بما تعلم، ومثله ما تقدم عن ابن سلام وكذا غيره من الأخبار التي وقفت عليها في هذا الشأن، وليس في الآية إشارة إلى ذلك بل الظاهر بناء على ما يقتضيه حال سليمان عليه السلام أن التفقد كان منه عليه السلام عناية بأمور ملكه واهتماما بضعفاء جنده، وكأنه عليه السلام أخرج كلامه كما حكاه النظم الجليل لغلبة ظنه أنه لم يصبه ما أهلكه وليكون ذلك مع التفقد من باب الجمع بين صفتي الجمال والجلال وهو الأكمل في شأن الملوك، ولعل ما وقع من حديث النملة كان كالحالة المذكرة له عليه السلام للتفقد. وعلى ما تقدم عن ابن سلام أن الحالة المذكرة بل الداعية هي النزول في المفازة التي لا ماء فيها، وكون الهدهد قنا قنه، ويحكون في ذلك أن سليمان عليه السلام حين تم له بناء بيت المقدس تجهز ليحج بحشره فوافى الحرم وأقام به ما شاء وكان يقرب كل يوم طول مقامه خمسة آلاف بقرة وخمسة آلاف ناقة وعشرين ألف شاة وقال لأشراف من معه إن هذا مكان يخرج منه نبي عربي صفته كذا وكذا يعطي النصر على من عداه وينصر بالرعب من مسيرة شهر القريب والبعيد عنده سواء في الحق لا تأخذه في الله تعالى لومة لائم قالوا: فبأي دين يدين يا نبي الله؟ فقال: بدين الحنيفية فطوبى لمن آمن به وأدركه فقالوا: كم بيننا وبين خروجه؟ قال: مقدار ألف عام فليبلغ الشاهد منكم الغائب فإنه سيد الأنبياء وخاتم الرسل عليهم السلام، ثم عزم على السير إلى اليمن فخرج من مكة صباحا يؤم سهيلا فوافى صنعاء وقت الزوال وذلك مسيرة شهر فرأى أرضا أعجبته خضرتها فنزل ليتغذى ويصلي فلم يجدوا الماء فكان ما كان. وفي بعض الآثار ما يعارض حكاية الحج، فقد روي عن كعب الأحبار أن سليمان عليه السلام سار من إصطخر يريد اليمن فمر على مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: هذه دار هجرة نبي يكون آخر الزمان طوبى لمن اتبعه، ولما وصل إلى مكة رأى حول البيت أصناما تعبد فجاوزه فبكى البيت فأوحى الله تعالى إليه ما يبكيك؟ قال يا رب أبكاني أن هذا نبي من أنبيائك ومعه قوم من أوليائك مروا عليّ ولم يهبطوا ولم يصلوا عندي والأصنام تعبد حولي من دونك فأوحى الله تعالى إليه لا تبك فإني سوف أبكيك وجوها سجدا وأنزل فيك قرآنا جديدا وأبعث منك نبيا في آخر الزمان أحب أنبيائي إليّ واجعل فيك عمارا من خلقي يعبدونني وأفرض عليهم فريضة يرفون إليك رفيف النسر إلى وكره ويحنون إليك حنين الناقة إلى ولدها والحمامة إلى بيضها وأطهرك من الأوثان وعبدة الشيطان، ثم مضى سليمان حتى أتى على وادي النمل، ولا يظهر الجمع بين الخبرين، ولعل المقدار الذي يصح من الأخبار أنه عليه السلام لما تم له بناء بيت المقدس حج وأكثر من تقريب القرابين وبشر بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وقصد اليمن وتفقد الطير فلم ير الهدهد فتوعده بقوله: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً قيل بنتف ريشه وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد وابن جريج. والظاهر أن المراد جميع ريشه، وقال يزيد بن رومان بنتف ريش جناحيه، وقال ابن وهب بنتف نصف ريشه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 178 وزاد بعضهم مع النتف إلقاءه للنمل وآخر تركه في الشمس، وقيل: ذلك بطليه بالقطران وتشميسه وقيل بحبسه في القفص، وقيل بجمعه مع غير جنسه، وقيل بإبعاده من خدمة سليمان عليه السلام، وقيل بالتفريق بينه وبين إلفه، وقيل بإلزامه خدمة أقرانه. وفي البحر الأجود أن يجعل كل من الأقوال من باب التمثيل وهذا التعذيب للتأديب. ويجوز أن يبيح الله تعالى له ذلك لما رأى فيه من المصلحة والمنفعة كما أباح سبحانه ذبح البهائم والطيور للأكل وغيره من المنافع وإذا سخر له الطير ولم يتم ما سخر من أجله إلا بالتأديب والسياسة جاز أن يباح له ما يستصطلح به. وفي الإكليل للجلال السيوطي قد يستدل بالآية على جواز تأديب الحيوانات والبهائم بالضرب عند تقصيرها في المشي أو إسراعها أو نحو ذلك. وعلى جواز نتف ريش الحيوان لمصلحة بناء على أن المراد بالتعذيب المذكور نتف ريشه. وذكر فيه أن ابن العربي استدل بها على أن العذاب على قدر الذنب لا على قدر الجسد. وعلى أن الطير كانوا مكلفين إذ لا يعاقب على ترك فعل إلا من كلف به اهـ فلا تغفل أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ كالترقي من الشديد إلى الأشد فإن في الذبح تجريع كأس المنية. وقد قيل: كل شيء دون المنية سهل أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي بحجة تبين عذره في غيبته. وما ألطف التعبير بالسلطان دون الحجة هنا لما أن ما أتى به من العذر انجر إلى الإتيان ببلقيس وهي سلطان. ثم إن هذا الشق وإن قرن بحرف القسم ليس مقسما عليه في الحقيقة وإنما المقسم عليه حقيقة الأولان وأدخل هذا في سلكهما للتقابل. وهذا كما في الكشف نوع من التغليب لطيف المسلك، ومآل كلامه عليه السلام ليكونن أحد الأمور على معنى إن كان الإتيان بالسلطان لم يكن تعذيب ولا ذبح وإن لم يكن كان أحدهما فاو في الموضعين للترديد. وقيل: هي في الأول للتخيير بين التعذيب والذبح وفي الثاني للترديد بينهما وبين الإتيان بالسلطان وهو كما ترى. وزعم بعضهم أنها في الأول للتخيير وفي الثاني بمعنى إلا وفيه غفلة عن لام القسم، وجوز أن تكون الأمور الثلاثة مقسما عليها حقيقة، وصح قسمه عليه السلام على الإتيان المذكور لعلمه بالوحي أنه سيكون أو غلبة ظنه بذلك لأمر قام عنده يفيدها وإلا فالقسم على فعل الغير في المستقبل من دون علم أو غلبة ظن به لا يكاد يسوغ في شريعة من الشرائع، وتعقب بأن قوله: سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ [النمل: 27] ينافي حصول العلم وما حكاه له. ودفع المنافاة بأنه يجوز أن يأتي بحجة لا يعلم سليمان عليه السلام ولا يظن صدقها وكذبها غير سديد إذ قوله: مُبِينٍ يأباه. وبالجملة الوجه ما ذكر أو لا فتأمل. وقرأ عيسى بن عمر «ليأتينّ» بنون مشددة مفتوحة بغير ياء، وكتب في الإمام «لا أذبحه» بزيادة ألف بين الذال والألف المتصلة باللام ولا يعلم وجهه كأكثر ما جاء فيه مما يخالف الرسم المعروف، وقيل: هو التنبيه على أن الذبح لم يقع. وقال ابن خلدون في مقدمة تاريخه: إن الكتابة العربية كانت في غاية الإتقان والجودة في حمير ومنهم تعلمها مضر إلا أنهم لم يكونوا مجيدين لبعدهم عن الحضارة وكان الخط العربي أول الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الإتقان والجودة وإلى التوسط لمكان العرب من البداوة والتوحش وبعدهم عن الصنائع وما وقع في رسم المصحف من الصحابة رضي الله تعالى عنهم من الرسوم المخالفة لما اقتضته أقيسة رسوم الخط وصناعته عند أهلها كزيادة الألف في «لا أذبحنه» من قلة الإجادة لصنعة الخط واقتفاء السلف رسمهم ذلك من باب التبرك. وتوجيه بعض المغفلين تلك المخالفة بما وجهه بها ليس بصحيح والداعي له إلى ذلك تنزيه الصحابة عن النقص لما زعم أن الخط كمال ولم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 179 يتفطن لأن الخط من جملة الصنائع المدنية المعاشية وذلك ليس بكمال في حقهم إذ الكمال في الصنائع إضافي وليس بكمال مطلق إذ لا يعود نقصه على الذات في الدين ونحوه وإنما يعود على أسباب المعاش. وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام أميا وكان ذلك كمالا في حقه وبالنسبة إلى مقامه عليه الصلاة والسلام. ومثل الأمية تنزه عليه الصلاة والسلام عن الصنائع العملية التي هي أسباب المعاش والعمران ولا يعد ذلك كمالا في حقنا إذ هو صلّى الله عليه وسلّم منقطع إلى ربه عز وجل ونحن متعاونون على الحياة الدنيا ومن هنا قال عليه الصلاة والسلام: «أنتم أعلم بأمور دنياكم» انتهى ملخصا. وأنت تعلم أن كون زيادة الألف في «لا أذبحنه» لقلة إجادتهم رضي الله تعالى عنهم صنعة الكتابة في غاية البعد، وتعليل ذلك بما تقدم من التنبيه على عدم وقوع الذبح كذلك وإلا لزادوها في لَأُعَذِّبَنَّهُ لأن التعذيب لم يقع أيضا. وما أشار إليه من أن الإجادة في الخط ليس بكمال في حقهم أن أراد به أن تحسين الخط وإخراجه على صور متناسبة يستحسنها الناظر وتميل إليها النفوس كسائر النقوش المستحسنة ليس بكمال في حقهم ولا يضر بشأنهم فقده فمسلم لكن هذا شيء وما نحن فيه شيء، وإن أراد به أن الإتيان بالخط على وجهه المعروف عند أهله من وصل ما يصلونه وفصل ما يفصلونه ورسم ما يرسمونه وترك ما يتركونه ليس بكمال فهذا محل بحث ألا ترى أنه لا يعترض على العالم بقبح الخط وخروجه عن الصور الحسنة والهيئات المستحسنة ويعترض عليه بوصل ما يفصل وفصل ما يوصل ورسم ما لا يرسم وعدم رسم ما يرسم ونحو ذلك إن لم يكن ذلك لنكتة. والظاهر أن الصحابة الذين كتبوا القرآن كانوا متقنين رسم الخط عارفين ما يقتضي أن يكتب وما يقتضي أن لا يكتب. وما يقتضي أن يوصل. وما يقتضي أن لا يوصل إلى غير ذلك لكن خالفوا القواعد في بعض المواضع لحكمة ويستأنس لذلك بما أخرجه ابن الأنباري في كتابه التكملة عن عبد الله بن فروخ قال: قلت لابن عباس يا معشر قريش أخبروني عن هذا الكتاب العربي هل كنتم تكتبونه قبل أن يبعث الله تعالى محمدا صلّى الله عليه وسلّم تجمعون منه ما اجتمع وتفرقون منه ما افترق مثل الألف واللام والنون؟ قال: نعم قلت: وممن أخذتموه؟ قال: من حرب بن أمية قلت: وممن أخذه حرب؟ قال: من عبد الله بن جدعان قلت: وممن أخذه عبد الله بن جدعان؟ قال: من أهل الأنبار قلت: وممن أخذه أهل الأنبار؟ قال: من طار طرأ عليهم من أهل اليمن قلت: وممن أخذ ذلك الطارئ؟ قال: من الخلجان بن القسم كاتب الوحي لهود النبي عليه السلام وهو الذي يقول: في كل عام سنة تحدثونها ... ورأي على غير الطريق يعبر وللموت خير من حياة تسبنا ... بهاجرهم فيمن يسب وحمير انتهى، وفي كتاب محاصرة الأوائل ومسامرة الأواخر أن أول من اشتهر بالكتابة في الإسلام من الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأبيّ بن كعب وزيد بن ثابت رضي الله تعالى عنهم، والظاهر أنهم لم يشتهروا في ذلك إلا لإصابتهم فيها. والقول بأن هؤلاء الأجلة وسائر الصحابة لم يعرفوا مخالفة رسم الألف هنا لما يقتضيه قوانين أهل الخط وكذا سائر ما وقع من المخالفة مما لا يقدم عليه من له أدنى أدب وإنصاف. ومثل هذا القول بأنه يحتمل أنه عرف ذلك من عرف منهم إلا أنه ترك تغييره إلى الموافق للقوانين أو وافقه على الغلط للتبرك، ومن الناس من جوز أن يكون ما وقع من الصحابة من الرسم المخالف بسبب قلة مهارة من أخذوا عنه صنعة الخط فيكون هو الذي خالف في مثل ذلك ولم يعلموا أنه خالف فالقصور إن كان ممن أخذوا عنه وإما هم فلا قصور فيهم إذ لم يخلوا بالقواعد التي أخذوها وإخلالهم بقواعد لم تصل إليهم ولم يعلموا بها لا يعد قصورا، وهذا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 180 قريب مما تقدم إلا أنه ليس فيه ما فيه من البشاعة، ثم إن الإنصاف بعد كل كلام يقتضي الإقرار بقوة دعوى أن المخالفة لضعف صناعة الكتابة إذ ذاك إن صح أنها وقعت أيضا في غير الإمام من المكاتبات وغيرها ولعله لم يصح وإلا لنقل فتأمل والله تعالى يتولى هداك. فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ الظاهر أن الضمير للهدهد وبَعِيدٍ صفة زمان والكلام بيان لمقدر كأنه قيل: ما مضى من غيبته بعد التهديد؟ فقيل: مكث غير بعيد أي مكث زمانا غير مديد، ووصف زمان مكثه بذلك للدلالة على إسراعه خوفا من سليمان عليه السلام وليعلم كيف كان الطير مسخرا له، وقيل: الضمير لسليمان وهو كما ترى، وقيل: بَعِيدٍ صفة مكان أي فمكث الهدهد في مكان غير بعيد من سليمان، وجعله صفة الزمان أولى، ويحكى أنه حين نزل سليمان عليه السلام حلق الهدهد فرأى هدهدا واسمه فيما قيل عفير واقعا فانحط إليه فوصف له ملك سليمان وما سخر له من كل شيء وذكر له صاحبه ملك بلقيس، وذهب معه لينظر فما رجع إلا بعد العصر، وفي بعض الآثار أنه عليه السلام لما لم يره دعا عريف الطير وهو النسر فسأله فلم يجد عنده علمه ثم قال لسيد الطير وهو العقاب: علي به فارتفعت فنظرت فإذا هو مقبل فقصدته فناشدها الله تعالى وقال: بحق الله الذي قواك وأقدرك عليّ ألا رحمتني فتركته وقالت: ثكلتك أمك إن نبي الله تعالى قد حلف ليعذبنك أو ليذبحنك قال: وما استثنى؟ قالت: بلى قال: أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ فقال: نجوت إذا فلما قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحيه يجرها على الأرض تواضعا له فلما دنا منه أخذ برأسه فمده إليه فقال: يا نبي الله تعالى اذكر وقوفك بين يدي الله عز وجل فارتعد سليمان وعفا عنه، وعن عكرمة أنه إنما عفا عنه لأنه كان بارا بأبويه يأتيهما بالطعام فيزقهما لكبرهما، ثم سأله: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 181 فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ أي علما ومعرفة وحفظته من جميع جهاته، وابتداء كلامه بذلك لترويجه عنده عليه السلام وترغيبه في الإصغاء إلى اعتذاره واستمالة قلبه نحو قبوله فإن النفس للاعتذار المنبئ عن أمر بديع أقبل وإلى تلقي ما لا تعلمه أميل، وأيد ذلك بقوله: وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ حيث فسر إبهامه السابق نوع تفسير وأراه عليه السلام أنه كان بصدد إقامة خدمة مهمة له حيث عبر عما جاء به بالنبإ الذي هو الخبر الخطير والشأن الكبير ووصفه بما وصفه، وقال الزمخشري: إن الله تعالى ألهم الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام على ما أوتي من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجمة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة ابتلاء له في علمه وتنبيها على أن في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علما بما لم يحط به ليتحاقر إليه نفسه ويصغر إليه علمه ويكون لطفا به في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء وأعظم بها فتنة انتهى، وتعقب بأن ما أحاط به من الأمور المحسوسة التي لا تعد الإحاطة بها فضيلة ولا الغفلة عنها نقيصة لعدم توقف إدراكها الأعلى مجرد إحساس يستوي فيه العقلاء وغيرهم وماذا صدر عنه عليه السلام مع ما حكى عنهما حكي من الحمد والشكر والدعاء حتى يليق بالحكمة الإلهية تنبيهه عليه السلام على تركه، واعترض بأن قوله: أَحَطْتُ إلخ ظاهر في أنه كلام مدل بعلمه مصغر لما عند صاحبه وأن العلم بالأمور المحسوسة وإن لم يكن فضيلة إلا أن فقده بالنسبة إلى سليمان عليه السلام وملكه وإلقاء الريح الأخبار في سمعه يدل على ما يدل، وفي التنبيه المذكور تثبيت منه تعالى له عليه السلام على الحمد والشكر وهو مما يناسب دعاؤه السابق بقوله: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ، ولعل الأولى والأظهر مع هذا ما ذكر أولا. وسَبَإٍ منصرف على أنه لحي من الناس سموا باسم أبيهم سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وفي حديث فروة وغيره عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن سبأ اسم رجل ولد عشرة من الولد تيامن منهم ستة وتشاءم أربعة والستة (1) حمير وكندة والأزد وأشعر وخثعم، والأربعة لخم وجذام وعاملة وغسان وقيل: سبأ لقب لأبي هذا الحي من قحطان واسمه عبد شمس، وقيل: عامر، ولقب بذلك لأنه أول من سبى. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «من سبأ» بفتح الهمزة غير مصروف على أنه اسم للقبيلة ثم سميت به مأرب سبأ وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث، وجوز أن يراد به على الصرف الموضع المخصوص وعلى منع الصرف المدينة المخصوصة، وأنشدوا على صرفه قوله: الواردون وتيم في ذرى سبأ ... قد عض أعناقهم جلد الجواميس وقرأ قنبل من طريق النبال بإسكان الهمزة وخرج على إجراء الوصل مجرى الوقف، وقال مكي: الإسكان في الوصل بعيد غير مختار ولا قوي، وقرأ الأعمش «من سبإ» بكسر الهمزة من غير تنوين حكاها عنه ابن خالويه وابن عطية، وخرجت على أن الجر بالكسرة لرعاية ما نقل عنه فإنه في الأصل اسم الرجل أو مكان مخصوص وحذف التنوين لرعاية ما نقل إليه فإنه جعل اسما للقبيلة أو للمدينة وهو كما ترى، وقرأ ابن كثير في رواية «من سبى» بتنوين الباء على وزن رحى جعله مقصورا مصروفا، وذكر أبو معاذ أنه قرأ «من سبأي» بسكون الباء وهمزة مفتوحة غير منونة على وزن فعلى فهو ممنوع من الصرف للتأنيث اللازم. وروى ابن حبيب عن اليزيدي «من سبأ» بألف ساكنة كما في قولهم: تفرقوا أيدي سبأ وقرأت فرقة «بنبإ» بالألف عوض الهمزة وكأنها قراءة من قرأ سبا بالألف لتتوازن الكلمتان كما توازنت في قراءة من قرأهما بالهمزة المكسورة   (1) قوله والستة حمير إلخ المذكور في عبارته خمسة ويؤخذ السادس من حديث آخر أورده في شرح القاموس وهو مذحج كمجلس. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 182 والتنوين، وفي التحرير أن مثل «من سبا بنبإ» يسمى تجنيس التصريف وهو أن تنفرد كل من الكلمتين بحرف كما في قوله تعالى: ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ [غافر: 75] وحديث: «الخيل معقود بنواصيها الخير» . وقال الزمخشري: إن قوله تعالى: «من سبأ بنبإ» من جنس الكلام الذي سماه المحدثون البديع، وهو من محاسن الكلام الذي يتعلق باللفظ بشرط أن يجيء مطبوعا أو يصيغه عالم بجوهر الكلام يحفظ معه صحة المعنى وسداده، ولقد جاء هاهنا زائدا على الصحة فحسن وبدع لفظا ومعنى ألا ترى لو وضع مكان بِنَبَإٍ بخبر لكان المعنى صحيحا، وهو كما جاء أصح لما في النبأ من الزيادة التي يطابقها وصف الحال اهـ. وهذه الزيادة كون الخبر ذا شأن، وكون النبأ بمعنى الخبر الذي له شأن مما صرح به غير واحد من اللغويين. والظاهر أنه معنى وضعي له. وزعم بعضهم أنه ليس بوضعي وليس بشيء، وقول المحدثين: أنبأنا أحط درجة من أخبرنا غير وارد لأنه اصطلاح لهم. وقرأ الجمهور «فمكث» بضم الكاف، والفتح قراءة عاصم وأبي عمرو في رواية الجعفي وسهل وروح وقرأ أبي «فمكث ثم قال» . وعبد الله «فمكث فقال» ، وكلتا القراءتين في الحقيقة على ما في البحر تفسير لا قراءة لمخالفتها سواد المصحف. وقرىء في السبعة أَحَطْتُ بإدغام التاء في الطاء مع بقاء صفة الإطباق وليس بإدغام حقيقي. وقرأ ابن محيصن بإدغام حقيقي. واعترض ابن الحاجب القراءة الأولى بأن الإطباق وهو رفع اللسان إلى ما يحاذيه من الحنك للتصويت بصوت الحرف المخرج لا يستقيم إلا بنفس الحرف وهو الطاء هنا والإدغام يقتضي إبدالها تاء وهو ينافي وجود ذلك لأنه يقتضي أن تكون موجودة وغير موجودة وهو تناقض فالتحقيق إن نحو أحطت بالإطباق ليس فيه إدغام ولكنه لما أمكن النطق بالثاني مع الأول من غير ثقل على اللسان كان كالنطق بالمثل بعد المثل فأطلق عليه الإدغام توسعا قاله الطيبي. وفي النشر أن التاء تدغم في الطاء في قوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ [هود: 114] وفي التسهيل أنه إذا أدغم المطبق يجوز إبقاء الإطباق وعدمه. وقال سيبويه: كل كلام عربي كذا الحواشي الشهابية فتأمل. وفي قوله تعالى: أَحَطْتُ إلخ دليل بإشارة النص والإدماج على بطلان قول الرافضة إن الإمام ينبغي أن لا يخفى عليه شيء من الجزئيات، ولا يخفى أنهم إن عنوا بذلك أنه يجب أن يكون الإمام عالما على التفصيل بأحكام جميع الحوادث الجزئية التي يمكن وقوعها وأن يكون مستحضرا الجواب الصحيح عن كل ما يسأل عنه فبطلان كلامهم في غاية الظهور، وقد سئل علي كرّم الله تعالى وجهه وهو على منبر الكوفة عن مسألة فقال: لا أدري فقال السائل: ليس مكانك هذا مكان من يقول: لا أدري فقال الإمام علي كرّم الله تعالى وجهه. بلى والله هذا مكان من يقول لا أدري وأما من لا يقول ذلك فلا مكان له يعني به الله عز وجل وإن عنوا أنه يجب أن يكون عالما بجميع القواعد الشرعية وبكثير من الفروع الجزئية لتلك القواعد بحيث لو حدثت حادثة ولا يعلم حكمها يكون متمكنا من استنباط الحكم فيها على الوجه الصحيح فذاك حق وهو في معنى قول الجماعة يجب أن يكون الإمام مجتهدا. وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله. وقوله تعالى: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ أي تتصرف بهم ولا يعترض عليها أحد استئناف لبيان ما جاء به من النبأ. وتفصيل له إثر إجمال وعنى بهذه المرأة بلقيس (1) بنت شراحيل بن مالك ابن ريان من نسل يعرب بن قحطان، ويقال: من نسل تبع الحميري.   (1) بكسر الباء معرب وهو قبل التعريب بفتحها اه منه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 183 وروى ابن عساكر عن الحسن أن اسم هذه المرأة ليلى وهو خلاف المشهور، وقيل: اسم أبيها السرج بن الهداهد. ويحكى أنه كان أبوها ملك أرض اليمن كلها وورث الملك من أربعين أبا ولم يكن له ولد غيرها فغلبت بعده على الملك ودانت لها الأمة. وفي بعض الآثار أنه لما مات أبوها طمعت في الملك وطلبت من قومها أن يبايعوها فأطاعها قوم وأبى آخرون فملكوا عليهم رجلا يقال: إنه ابن عمها وكان خبيثا فأساء السيرة في أهل مملكته حتى كان يفجر بنساء رعيته فأرادوا خلعه فلم يقدروا عليه فلما رأت ذلك أدركتها الغيرة فأرسلت إليه تعرض نفسها عليه فأجابها وقال: ما منعني أن أبتدئك بالخطبة إلا الياس منك قالت: لا أرغب عنك لأنك كفؤ كريم فاجمع رجال أهلي وأخطبني فجمعهم وخطبها فقالوا: لا نراها تفعل فقال: بلى إنها رغبت في فذكروا لها ذلك فقالت: نعم فزوجوها منه فلما زفت إليه خرجت مع أناس كثير من حشمها وخدمها فلما خلت به سقته الخمر حتى سكر فقتلته وحزت رأسه وانصرفت إلى منزلها فلما أصبحت أرسلت إلى وزرائه وأحضرتهم وقرّعتهم، وقالت: أما كان فيكم من يأنف من الفجور بكرائم عشيرته ثم أرتهم إياه قتيلا، وقالت: اختاروا رجلا تملكوه عليكم فقالوا: لا نرضى غيرك فملكوها وعلموا أن ذلك النكاح كان مكرا وخديعة منها واشتهر أن أمها جنية. وقد أخرج ذلك ابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد والحكيم الترمذي وابن مردويه عن عثمان بن حاضر أن أمها امرأة من الجن يقال لها بلقمة بنت شيصا وابن أبي حاتم عن زهير بن محمد أن أمها فارعة الجنية وفي التفسير الخازني أن أباها شراحيل كان يقول لملوك الأطراف: ليس أحد منكم كفؤا لي وأبى أن يتزوج فيهم فخطب إلى الجن فزوجوه امرأة يقال لها ريحانة بنت السكن وسبب وصوله إلى الجن حتى خطب إليهم على ما قيل إنه كان كثير الصيد فربما اصطاد الجن وهم على صور الظباء فيخلى عنهم فظهر له ملك الجن وشكره على ذلك واتخذه صديقا فخطب ابنته فزوجه إياها. وقيل: إنه خرج متصيدا فرأى حيتين يقتتلان بيضاء وسوداء وقد ظهرت السوداء على البيضاء فقتل السوداء وحمل البيضاء وصب عليها الماء فأفاقت فأطلقها فلما رجع إلى داره جلس وحده منفردا فإذا هو معه شاب جميل فخاف منه فقال: لا تخف أنا الحية البيضاء الذي أحييتني والأسود الذي قتله هو عبد لنا تمرد علينا وقتل عدة منا وعرض عليه المال فقال: لا حاجة لي به ولكن إن كان لك بنت فزوجينها فزوجه ابنته فولدت له بلقيس انتهى، وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه وابن عساكر عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحد أبوي بلقيس كان جنيا» والذي ينبغي أن يعول عليه عدم صحة هذا الخبر، وفي البحر قد طولوا في قصصها يعني بلقيس بما لم يثبت في القرآن ولا الحديث الصحيح وأن ما ذكر من الحكايات أشبه شيء بالخرافات فإن الظاهر على تقدير وقوع التناكح بين الإنس والجن الذي قيل يصفع السائل عنه لحماقته وجهله أن لا يكون توالد بينهما، وقد ذكر عن الحسن فيما روى ابن عساكر أنه قيل بحضرته: إن ملكة سبأ أحد أبويها جني فقال: لا يتوالدون أي إن المرأة من الإنس لا تلد من الجن والمرأة من الجن لا تلد من الإنس. نعم روي عن مالك ما يقتضي صحة ذلك. ففي الأشباه والنظائر لابن نجيم روى أبو عثمان سعيد بن داود الزبيدي قال: كتب قوم من أهل اليمن إلى مالك يسألونه عن نكاح الجن وقالوا: إن هاهنا رجلا من الجن زعم أنه يريد الحلال فقال: ما أرى بأسا في الدين ولكن أكره إذا وجدت امرأة حامل قيل لها: من زوجك؟ قالت: من الجن فيكثر الفساد في الإسلام بذلك انتهى، ولعله لم يثبت عن مالك لظهور ما يرد على تعليل الكراهة، ثم ليت شعري إذا حملت الجنية من الإنسي هل تبقى على لطافتها فلا ترى والحمل على كثافته فيرى أو يكون الحمل لطيفا مثلها فلا يريان فإذا تم أمره تكثف وظهر كسائر بني آدم أو تكون الجزء: 10 ¦ الصفحة: 184 متشكلة بشكل نساء بني آدم ما دام الحمل في بطنها وهو فيه يتغذى وينمو بما يصل إليه من غذائها وكل من الشقوق لا يخلو عن استبعاد كما لا يخفى، وإيثار وَجَدْتُ على رأيت لما أشير إليه فيما سبق من الإيذان بكونه عند غيبته بصدد خدمته عليه السلام بإبراز نفسه في معرض من يتفقد أحوالها ويتعرفها كأنها طلبته وضالته ليعرضها على سليمان عليه السلام، وقيل: للإشعار بأن ما ظفر به أمر غير معلوم أولا لأن الوجدان بعد الفقد وفيه رمز بغرابة الحال، وضمير تَمْلِكُهُمْ لسبأ على أنه اسم للحي أو لأهلها المدلول عليهم بذكر مدينتهم على أنها اسم لها. وليس في الآية ما يدل على جواز أن تكون المرأة ملكة ولا حجة في عمل قوم كفرة على مثل هذا المطلب. وفي صحيح البخاري من حديث ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما بلغه أن أهل فارس قد ملكوا بنت كسرى قال: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» ونقل عن محمد بن جرير أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية ولم يصح عنه. وفي الأشباه لا ينبغي أن تولى القضاء وإن صح منها بغير الحدود والقصاص، وذكر أبو حيان أنه نقل عن أبي حنيفة عليه الرحمة أنها تقضي فيما تشهد فيه لا على الإطلاق ولا أن يكتب لها منشور بأن فلانة مقدمة على الحكم وإنما ذلك على سبيل التحكيم لها وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أي من الأشياء التي تحتاج إليها الملوك بقرينة تَمْلِكُهُمْ، وقد يقال: ليس الغرض إلا إفادة كثرة ما أوتيت. والجملة تحتمل أن تكون عطفا على جملة تَمْلِكُهُمْ وأن تكون حالا من ضمير تملكهم المرفوع بتقدير قد أو بدونه وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ قال ابن عباس كما أخرجه عنه ابن جرير وابن المنذر أي سرير كريم من ذهب قوائمه من جوهر ولؤلؤ حسن الصنعة غالي الثمن، وروي عنه أيضا أنه كان ثلاثين ذراعا في ثلاثين ذراعا وكان طوله في السماء ثلاثين ذراعا أيضا، وقيل: كان طوله ثمانين في ثمانين وارتفاعه ثمانين. وأخرج ابن أبي حاتم عن زهير بن محمد أنه سرير من ذهب وصفحتاه مرصعتان بالياقوت والزبرجد طوله ثمانون ذراعا في عرض أربعين ذراعا، وقيل: كان من ذهب مكللا بالدر والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر وقوائمه من الياقوت والزمرد وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق، وقيل: غير ذلك والله تعالى أعلم بحقيقة الحال، وبالجملة فالظاهر أن المراد بالعرش السرير، وقال أبو مسلم: المراد به الملك ولا داعي إليه. واستعظام الهدهد لعرشها مع ما كان يشاهده من ملك سليمان عليه السلام إما بالنسبة إلى حالها أو إلى عروش أمثالها من الملوك، وجوز أن يكون ذلك لأنه لم يكن لسليمان عليه السلام مثله وإن كان عظيم الملك فإنه قد يوجد لبعض أمراء الأطراف شيء لا يكون للملك الذي هم تحت طاعته. وأيا ما كان فوصفه بذلك بين يديه عليه السلام لما ذكر أولا من ترغيبه عليه السلام في الإصغاء إلى حديثه وفيه توجيه لعزيمته عليه السلام نحو تسخيرها ولذلك عقبه بما يوجب غزوها من كفرها وكفر قومها حيث قال: وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي يعبدونها متجاوزين عبادة الله تعالى. قال الحسن كانوا مجوسا يعبدون الأنوار، وقيل: كانوا زنادقة. والظاهر أن هذه الجملة استئناف كلام وأن الوقف على عَظِيمٌ قال صاحب المرشد ولا يوقف على عرش وقد زعم بعضهم جوازه وقال معناه عظيم عند الناس. وقد أنكر هذا الوقف أبو حاتم وغيره من المتقدمين ونسبوا القائل به إلى الجهل، وقول من قال معناه عظيم عبادتهم للشمس من دون الله تعالى قول ركيك لا يعتد به وليس في الكلام ما يدل عليه، وفي الكشاف من نوكى القصاص من وقف على عَرْشٌ يريد عظيم إن وجدتها فر من استعظام الهدهد عرشها فوقع في عظيمة وهي نسخ كتاب الله تعالى وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ التي هي عبادة الشمس ونظائرها من أصناف الكفر والمعاصي، والجملة تحتمل العطف على جملة يَسْجُدُونَ والحالية من الضمير على نحو ما مر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 185 آنفا فَصَدَّهُمْ أي الشيطان، وجوز كون الضمير للتزيين المفهوم من الفعل أي فصدهم تزيين الشيطان عَنِ السَّبِيلِ أي سبيل الحق والصواب فَهُمْ بسبب ذلك لا يَهْتَدُونَ إليه وقوله تعالى أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ أي لئلا يسجدوا واللام للتعليل وهو متعلق بصدهم أو بزين. والفاء في فَصَدَّهُمْ لا يلزم أن تكون سببية لجواز كونها تفريعية أو تفصيلية أي فصدهم عن ذلك لأجل أن لا يسجدوا لله عز وجل أو زين لهم ذلك لأجل أن لا يسجدوا له تعالى، وجوز أن تكون أن وما بعدها في تأويل مصدر وقع بدلا من أعمالهم وما بينهما اعتراض كأنه قيل وزين لهم الشيطان عدم السجود لله تعالى، وتعقب بأنه ظاهر في عد عدم السجود من الأعمال وهو بعيد، وجوز أن يكون ذلك بدلا من السبيل و (لا) زائدة مثلها في قوله تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ [الحديد: 29] كأنه قيل فصدهم عن السجود لله تعالى، وجوز أن يكون بتقدير إلى و (لا) زائدة أيضا والجار والمجرور متعلق بيهتدون كأنه قيل فهم لا يهتدون إلى السجود له عز وجل، وأنت تعلم أن زيادة- لا- وإن وقعت في الفصيح خلاف الظاهر، وجوز أن لا يكون هناك تقدير والمصدر خبر مبتدأ محذوف أي دأبهم عدم السجود، وقيل: التقدير هي أي أعمالهم عدم السجود وفيه ما مر آنفا، وقرأ ابن عباس وأبو جعفر والزهري والسلمي والحسن وحميد والكسائي «ألا» بالتخفيف على أنها للاستفتاح ويا حرف نداء والمنادى محذوف أي ألا يا قوم اسجدوا كما في قوله: ألا يا اسلمي ذات الدمالج والعقد ونظائره الكثيرة. وسقطت ألف يا وألف الوصل في (اسجدوا) وكتبت بالياء متصلة بالسين على خلاف القياس. ووقف الكسائي في هذه القراءة على ياء وابتدأ باسجدوا وهو وقف اختيار، وفي البحر الذي أذهب إليه أن مثل هذا التركيب الوارد عن العرب ليست يا فيه للنداء والمنادى محذوف لأن المنادى عندي لا يجوز حذفه لأنه قد حذف الفعل العامل في النداء وانحذف فاعله لحذفه فلو حذفنا المنادى لكان في ذلك حذف جملة النداء وحذف متعلقه وهو المنادى وإذا لم نحذفه كان دليلا على العامل فيه وهو جملة النداء وليس حرف الندا حرف جواب كنعم وبلى ولا وأجل فيجوز حذف الجملة بعده كما يجوز حذفها بعدهن لدلالة ما سبق من السؤال على الجملة المحذوفة. فيا عندي في تلك التراكيب حرف تنبيه أكد به (ألا) التي للتنبيه وجاز ذلك لاختلاف الحرفين ولقصد المبالغة في التوكيد. وإذا كان قد وجد التأكيد في اجتماع الحرفين المختلفي اللفظ العاملين في قوله: فأصبحن لا يسألنني عن بما به والمتفقي اللفظ العاملين أيضا في قوله: فلا والله لا يلفى لما بي ... ولا للما بهم أبدا دواء وجاز ذلك وإن عدّوه ضرورة أو قليلا فاجتماع غير العاملين وهما مختلفا اللفظ يكون جائزا. وليس- يا- في قوله: يا لعنة الله والأقوام كلهم حرف نداء عندي بل حرف تنبيه جاء بعده المبتدأ وليس مما حذف فيه المنادى لما ذكرناه انتهى، وللبحث فيه مجال. وعلى هذه القراءة يحتمل أن يكون الكلام استئنافا من كلام الهدهد إما خطابا لقوم سليمان عليه السلام للحث على عبادة الله تعالى أو لقوم بلقيس لتنزيلهم منزلة المخاطبين. ويحتمل أن يكون استئنافا من جهة الله عز وجل أو من سليمان عليه السلام كما قيل وهو حينئذ بتقدير القول. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 186 ولعل الأظهر احتمال كونه استئنافا من جهته عز وجل خاطب سبحانه به هذه الأمة. والجملة معترضة ويوقف على هذه القراءة على يَهْتَدُونَ استحسانا ويوجب ذلك زيادة عدة آيات هذه السورة على ما قالوه فيها عند بعض، وقيل: لا يوجبها فإن الآيات توقيفية ليس مدارها على الوقف وعدمه فتأمل. والفرق بين القراءتين معنى أن في الآية على الأولى ذما على ترك السجود وفيها على الثانية أمرا بالسجود. وأيا ما كان فالسجود واجب عند قراءة الآية، وزعم الزجاج وجوبه على القراءة الثانية وهو مخالف لما صرح به الفقهاء ولذا قال الزمخشري إنه غير مرجوع إليه. وقرأ الأعمش: «هلا يسجدون» على التحضيض وإسناد الفعل إلى ضمير الغائبين. وفي قراءة أبي «ألا تسجدون» على العرض وإسناد الفعل إلى ضمير المخاطبين، وفي حرف عبد الله «ألا هل تسجدون» بألا الاستفتاحية وهل الاستفهامية. وإسناد الفعل إلى ضمير المخاطبين قاله ابن عطية وفي الكشاف ما فيه مخالفة ما له والعالم بحقيقة الحال هو الله عز وجل. الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي يظهر الشيء المخبوء فيهما كائنا ما كان فالخبء مصدر أريد به اسم المفعول. وفسره بعضهم هنا بالمطر والنبات، وروي ذلك عن ابن زيد. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب أنه فسره بالماء والأولى التعميم كما روي ذلك جماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وفِي السَّماواتِ متعلق بالخبء، وعن الفراء أن فِي بمعنى من فالجار والمجرور على هذا متعلق بيخرج والظاهر ما تقدم. واختيار هذا الوصف لما أنه أوفق بالقصة حيث تضمنت ما هو أشبه شيء بإخراج الخبء وهو إظهار أمر بلقيس وما يتعلق به. وعلى هذا القياس اختيار ما ذكر بعد من صفاته عز وجل، وقيل: إن تخصيص هذا الوصف بالذكر لما أن الهدهد أرسخ في معرفته والإحاطة بأحكامه بمشاهدة آثاره التي من جملتها ما أودعه الله تعالى في نفسه من القدرة على معرفة الماء تحت الأرض. وأنت تعلم أن كون الهدهد أودع فيه القدرة على ما ذكر مما لم يجيء فيه خبر يعول عليه، وأيضا التعليل المذكور لا يتسنى على قراءة ابن عباس والستة الذين معه أَلَّا يَسْجُدُوا بالتخفيف إذا جعل الكلام استئنافا من جهته عز وجل أو من جهة سليمان عليه السلام. وقرأ أبي وعيسى «الخب» بنقل حركة الهمزة إلى الباء وحذف الهمزة. وحكى ذلك سيبويه عن قوم من بني تميم وبني أسد. وقرأ عكرمة بألف بدل الهمزة فلزم فتح ما قبلها وهي قراءة عبد الله ومالك بن دينار وخرجت على لغة من يقول في الوقف هذا الخبو ومررت بالخبي ورأيت الخبا وأجرى الوصل مجرى الوقف. وأجاز الكوفيون أن يقال في المرأة والكمأة المرأة والكماة بإبدال الهمزة ألفا وفتح ما قبلها. وذكر أن هذا الإبدال لغة. وجوز أن يكون الْخَبْءَ من ذلك ومنعه الزمخشري مدعيا أن ذلك لغة ضعيفة مسترذلة. وعلل بأن الهمزة إذا سكن ما قبلها فطريق تخفيفها الحذف لا القلب كما يقال في الكمء كمه. وتعقبه في الكشف فقال: تخريجه على الوقف فيه ضعفان لأن الوقف على ذلك الوجه ليس من لغة الفصحاء وإجراء الوصل مجرى الوقف فيما لا يكثر استعماله كذلك. وأما تلك اللغة فعن الكوفيين أنها قياس انتهى. وزعم أبو حاتم أن الخبا بالألف لا يجوز أصلا وهو من قصور العلم، قال المبرد: كان أبو حاتم دون أصحابه في النحو ولم يلحق بهم إلا أنه إذا خرج من بلدتهم لم يلق أعلم منه. وأشير بعطف قوله تعالى: وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ على يُخْرِجُ إلى أنه تعالى يخرج ما في العالم الإنساني من الخفايا كما يخرج ما في العالم الكبير من الخبايا لما أن المراد يظهر ما تخفونه من الأحوال فيجازيكم بها وذكر ما تعلنون لتوسيع دائرة العلم أو للتنبيه على تساويهما بالنسبة إلى العلم الإلهي كذا قيل. ويشعر كلام بعضهم بأنه أشير بما تقدم إلى كمال قدرته تعالى وبهذا إلى كمال علمه عز وجل وأنه استوى فيه الباطن والظاهر. وقدم ما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 187 تُخْفُونَ لذلك مع مناسبته لما قبله من الخبء وقدم وصفه تعالى بإخراج الخبء من السماوات لأنه أشد ملاءمة للمقام، والخطاب على ما قيل إما للناس أو لقوم سليمان أو لقوم بلقيس. وفي الكلام التفات. وقرأ الحرميان والجمهور «ما يخفون وما يعلنون» بياء الغيبة، وفي الكشاف عن أبي أنه قرأ «ألا تسجدون لله الذي يخرج الخبء من السماء والأرض ويعلم سركم وما تعلنون» . اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ في معنى التعليل لوصفه عز وجل بكمال القدرة وكمال العلم. والْعَظِيمِ بالجر صفة العرش وهو نهاية الأجرام فلا جرم فوقه، وفي الآثار من وصف عظمه ما يبهر العقول ويكفي في ذلك أن الكرسي الذي نطق الكتاب العزيز بأنه وسع السماوات والأرض بالنسبة إليه كحلقة في فلاة، وهو عند الفلاسفة محدد الجهات وذهبوا إلى أنه جسم كري خال عن الكواكب محيط بسائر الأفلاك محرك لها قسرا من المشرق إلى المغرب ولا يكاد يعلم مقدار ثخنه إلا الله تعالى، وفي الأخبار الصحيحة ما يأبى بظاهره بعض ذلك. وأيا ما كان فبين عظمه وعظم عرش بلقيس بون عظيم. وقرأ ابن محيصن وجماعة «العظيم» بالرفع فاحتمل أن يكون صفة للعرش مقطوعة بتقدير هو فتستوي القراءتان معنى. واحتمل أن يكون صفة للرب قالَ استئناف بياني كأنه قيل: فماذا فعل سليمان عليه السلام عند قوله ذلك؟ فقيل قال: سَنَنْظُرُ أي فيما ذكرته من النظر بمعنى التأمل والتفكر، والسين للتأكيد أي سنتعرف بالتجربة البتة أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ جملة معلق عنها الفعل للاستفهام. وكان مقتضى الظاهر أم كذبت وإيثار ما عليه النظم الكريم للإيذان بأن كذبه في هذه المادة يستلزم انتظامه في سلك الموسومين بالكذب الراسخين فيه فإن مساق هذه الأقاويل الملفقة مع ترتيب أنيق يستميل قلوب السامعين نحو قبولها من غير أن يكون لها مصداق أصلا لا سيما بين يدي نبي عظيم تخشى سطوته لا يكاد يصدر إلا عمن رسخت قدمه في الكذب والإفك وصار سجية له حتى لا يملك نفسه عنه في أي موطن كان، وزعم بعضهم أن ذاك لمراعاة الفاصلة وليس بشيء أصلا، وفي الآية على ما في الإكليل قبول الوالي عذر رعيته ودرء العقوبة عنهم وامتحان صدقهم فيما اعتذروا به، وقوله تعالى: اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ استئناف مبين لكيفية النظر الذي وعده عليه السلام بعد ما كتب كتابه في ذلك المجلس أو بعده. فهذا إشارة إلى الحاضر وتخصيصه عليه السلام إياه بالرسالة دون سائر ما تحت ملكه من أمناء الجن الأقوياء على التصرف والتعرف لما عاين فيه من مخايل العلم والحكمة ولئلا يبقى له عذر أصلا، وفي الآية دليل على جواز إرسال الكتب إلى المشركين من الإمام لإبلاغ الدعوة والدعاء إلى الإسلام. وقد كتب رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم إلى كسرى وقيصر وغيرهما من ملوك العرب، وقرىء في السبعة «فألقه» بكسر الهاء وياء بعدها وباختلاس الكسرة وبسكون الهاء، وقرأ مسلم بن جندب بضم الهاء وواو بعدها ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ أي تنح وحمل على ذلك لأن التولي بالكلية ينافي قوله: فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ إلا أن يحمل على القلب كما زعم ابن زيد وأبو علي وهو غير مناسب. وأمره عليه السلام إياه بالتنحي من باب تعليم الأدب مع الملوك كما روي عن وهب. والنظر بمعنى التأمل والتفكر وماذا إما كلمة استفهام في موضع المفعول ليرجعون ورجع تكون متعدية كما تكون لازمة أو مبتدأ وجملة يَرْجِعُونَ خبره. وإما أن تكون ما استفهامية مبتدأ وذا اسم موصول بمعنى الذي خبره وجملة يَرْجِعُونَ صلة الموصول والعائد محذوف. وأيا ما كان فالجملة معلق عنها فعل القلب فمحلها النصب على إسقاط الخافض، وقيل: النظر بمعنى الانتظار كما في قوله تعالى: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد: 13] فلا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 188 تعليق بل كلمة ماذا موصول في موضع المفعول كذا قيل، والظاهر أنه بمعنى التأمل وأن المراد فتأمل وتعرف ماذا يرد بعضهم على بعض من القول. وهذا ظاهر في أن الله تعالى أعطى الهدهد قوة يفهم بها ما يسمعه من كلامهم، والتعبير بالإلقاء لأن تبليغه لا يمكن بدونه. وجمع الضمير لأن المقصود تبليغ ما فيه لجميع القوم والكشف عن حالهم بعده. قالَتْ أي بعد ما ذهب الهدهد بالكتاب فألقاه إليهم وتنحى عنهم حسبما أمر به، وإنما طوى ذكره إيذانا بكمال مسارعته إلى إقامة ما أمر به من الخدمة وإشعارا بالاستغناء عن التصريح به لغاية ظهوره. روي أنه عليه السلام كتب كتابه وطبعه بالمسك وختمه بخاتمه ودفعه إلى الهدهد فذهب به فوجدها راقدة في قصرها بمأرب وكانت إذا رقدت غلقت الأبواب ووضعت المفاتيح تحت رأسها فدخل من كوة وطرح الكتاب على نحرها وهي مستلقية ، وفي رواية بين ثدييها، وقيل: نقرها فانتبهت فزعة، وقيل: أتاها والقادة والجنود حواليها فرفرف ساعة والناس ينظرون حتى رفعت رأسها فألقى الكتاب في حجرها فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت فقالت ما قالت، وقيل: كانت في البيت كوة تقع الشمس منها كل يوم فإذا نظرت إليها سجدت فجاء الهدهد فسدها بجناحيه فرأت ذلك وقامت إليه فألقى الكتاب إليها وكانت قارئة كاتبة عربية من نسل يعرب بن قحطان واشتهر أنها من نسل تبع الحميري وكان الخط العربي في غاية الإحكام والإتقان والجودة في دولة التبابعة وهو المسمى بالخط الحميري وكان بحمير كتابة تسمى المسند حروفها مفصلة وكانوا يمنعون من تعليمها إلا بإذنهم ومن حمير تعلم مضر، وقد تقدم بعض الكلام في ذلك. واختار ابن خلدون القول بأنه تعلم الكتابة العربية من التبابعة وحمير أهل الحيرة وتعلمها منهم أهل الحجاز. وظاهر كون بلقيس من العرب وأنها قرأت الكتاب يقتضي أن الكتاب كان عربيا، ولعل سليمان عليه السلام كان يعرف العربي وإن لم يكن من العرب، ومن علم منطق الطير لا يبعد أن يعلم منطق العرب الذي هو أشرف منطق، ويحتمل أن يكون عنده من يعرف ذلك وكذا من يعرف غيره من اللغات كعادة الملوك يكون عندهم من يتكلم بعدة لغات ليترجم لهم ما يحتاجونه، ويجوز أن يكون الكتاب غير عربي بل بلغة سليمان عليه السلام وقلمه وكان قلمه كما نقل عن الإمام أحمد البوني كاهنيا وكان عند بلقيس من ترجمه لها وأعلمها بما فيه فجمعت أشراف قومها وأخبرتهم بذلك واستشارتهم كما حكى سبحانه عنها بقوله جل وعلا قالت: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ إلخ، وأقدم سليمان عليه السلام على كتابة الكتاب إليها كذلك قول الهدهد: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل: 23] والمترجم من الأشياء التي يحتاج إليها الملك وأن اللائق بشأنه وعظمته أن لا يترك لسانه ويتشبه بها في لسانها، ويحتمل أنها كانت بنفسها تعرف تلك الكتابة فقرأت الكتاب لذلك، ورجح احتمال أن يكون الكتاب غير عربي بأن الكتابة لها بالعربية تستدعي الوقوف على حالها وهو عليه السلام ما وقف عليه بعد. وتعقب بأنه دله على كونها عربية قول الهدهد: جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ [النمل: 22، 23] فإنه عليه السلام ممن لا يخفى عليه كون سبأ من العرب والظاهر كون ملكتهم منهم، ووصفت الكتاب بالكرم لكونه مختوما ففي الحديث: «كرم الكتاب ختمه» ، وفي شرح أدب الكاتب يقال أكرمت الكتاب فهو كريم إذا ختمته، وقال ابن المقنع: من كتب إلى أخيه كتابا ولم يختمه فقد استخف به، وقد فسر ابن عباس وقتادة وزهير بن محمد «الكريم» هنا بالمختوم، وفيه كما قيل استحباب ختم الكتاب لكرم مضمونه وشرفه أو لكرم مرسله وعلو منزلته وعلمت ذلك بالسماع أو بكون كتابه مختوما باسمه على عادة الملوك والعظماء أو بكون رسوله به الطير أو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 189 لبداءته باسم الله عز وجل أو لغرابة شأنه ووصوله إليها على منهاج غير معتاد، وقيل: إن ذلك لظنها إياه بسبب أن الملقى له طير أنه كتاب سماوي وليس بشيء. وبناء أُلْقِيَ للمفعول لعدم الاهتمام بالفاعل، وقيل: لجهلها به أو لكونه حقيرا. وقال الشيخ الأكبر قدس سره في الفصوص: من حكمة بلقيس كونها لم تذكر من ألقى إليها الكتاب وما ذاك إلا لتعلم أصحابها أن لها اتصالا إلى أمور لا يعلمون طريقها. وفي ذلك سياسة منها أورثت الحذر منها في أهل مملكتها وخواص مدبريها وبهذا استحقت التقديم عليهم انتهى، وتأكيد الجملة للاعتناء بشأن الحكم، وأما التأكيد في قوله تعالى: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فلذاك أيضا أو لوقوعه في جواب سؤال مقدر كأنه قيل: ممن هذا الكتاب وماذا مضمونه؟ فقيل: إنه من سليمان إلخ، ويحسن التأكيد بأن في جواب السؤال ولا أرى فرقا في ذلك بين المحقق والمقدر، ويعلم مما ذكر أن ضمير إِنَّهُ الأول للكتاب وضمير إِنَّهُ الثاني للمضمون وإن لم يذكر، وليس في الآية ما يدل على أنه عليه السلام قدم اسمه على اسم الله عز وجل، وعلمها بأنه من سليمان يجوز أن يكون لكتابة اسمه بعد. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن يزيد بن رومان أنه قال: كتب سليمان بسم الله الرحمن الرحيم من سليمان بن داود إلى بلقيس ابنة ذي شرح وقومها- أن لا تعلوا - إلخ، وجوز أن يكون لكتابته في ظاهر الكتاب وكان باطن الكتاب بِسْمِ اللَّهِ إلخ، وقيل: ضمير إِنَّهُ الأول للعنوان وأنه عليه السلام عنوان الكتاب باسمه مقدما له فكتب من سليمان بِسْمِ اللَّهِ إلخ واستظهر هذا أبو حيان ثم قال: وقدم عليه السلام اسمه لاحتمال أن يبدر منها ما لا يليق إذ كانت كافرة فيكون اسمه وقاية لاسم الله عز وجل وهو كما ترى، وكتابة البسملة في أوائل الكتب مما جرت به سنة نبينا صلّى الله عليه وسلّم بعد نزول هذه الآية بلا خلاف، وأما قبله فقد قيل إن كتبه عليه الصلاة والسلام لم تفتتح بها، فقد أخرج عبد الرزاق وابن المنذر وغيرهما عن الشعبي قال: كان أهل الجاهلية يكتبون باسمك اللهم فكتب النبي صلّى الله عليه وسلّم أول ما كتب باسمك اللهم حتى نزلت بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها [هود: 41] فكتب بسم الله ثم نزلت ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ [الإسراء: 110] فكتب بسم الله الرحمن ثم نزلت آية النمل إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ الآية فكتب بسم الله الرحمن الرحيم. وأخرج أبو داود في مراسيله عن أبي مالك قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يكتب باسمك اللهم فلما نزلت إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ الآية كتب بسم الله إلخ، وروي نحو ذلك عن ميمون بن مهران وقتادة، وهذا عندي مما لا يكاد يتسنى مع القول بنزول البسملة قبل نزول هذه الآية وهذا القول مما لا ينبغي أن يذهب إلى خلافه، فقد قال الجلال السيوطي في إتقانه اختلف في أول ما نزل من القرآن على أقوال، أحدها وهو الصحيح اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1] واحتج له بعده أخبار منها خبر الشيخين في بدء الوحي وهو مشهور، وثانيها يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر: 1] وثالثها سورة الفاتحة، ورابعها البسملة ثم قال وعندي أن هذا لا يعد قولا برأسه فإنه من ضرورة نزول السورة نزول البسملة معها فهي أول آية نزلت على الإطلاق اهـ. وهو يقوي ما قلناه فإن البسملة إذا كانت أول آية نزلت كانت هي المفتتح لكتاب الله تعالى وإذا كانت كذلك كان اللائق بشأنه صلّى الله عليه وسلّم أن يفتتح بها كتبه كما افتتح الله تعالى بها كتابه وجعلها أول المنزل منه. والقول بأنها نزلت قبل إلا أنه عليه الصلاة والسلام لم يعلم مشروعيتها في أوائل الكتب والرسائل حتى نزلت هذه الآية المتضمنة لكتابة سليمان عليه السلام إياها في كتابه إلى أهل سبأ مما لا يقدم عليه إلا جاهل بقدره عليه الصلاة والسلام، وذكر بعض الأجلة أنها إذا كتبت في الكتب والرسائل فالأولى أن تكتب سطرا وحدها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 190 وفي أدب الكتاب للصولي أنهم يختارون أن يبدأ الكاتب بالبسملة من حاشية القرطاس ثم يكتب الدعاء مساويا لها ويستقبحون أن يخرج الكلام عن البسملة فاضلا بقليل ولا يكتبونها وسطا ويكون الدعاء فاضلا اهـ. وما ذكر من كتابة الدعاء بعدها لم يكن في الصدر الأول وإنما كان فيه كتابة من فلان إلى فلان. وتقديم اسم الكاتب على اسم المكتوب له مشروع وإن كان الأول مفضولا والثاني فاضلا، ففي البحر عن أنس ما كان أحد أعظم حرمة من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان أصحابه إذا كتبوا إليه كتابا بدؤوا بأنفسهم. وقال أبو الليث في البستان له: ولو بدأ بالمكتوب إليه جاز لأن الأمة قد أجمعت عليه وفعلوه انتهى. وظاهر الآية أن البسملة ليست من الخصوصيات، وقال بعضهم: إنها منها لكن باللفظ العربي والترتيب المخصوص، وما في كتاب سليمان عليه السلام لم تكن باللفظ العربي وترجمت لنا به وليس ذلك بعيد. وقرأ عبد الله «وإنه من سليمان» بزيادة واو، وخرجه أبو حيان على أنها عاطفة للجملة بعدها على جملة إِنِّي أُلْقِيَ، وقيل: هي واو الحال والجملة حالية، وقرأ عكرمة وابن أبي عبلة «أنه من سليمان وأنه» بفتح همزة أن في الموضعين، وخرج على الإبدال من كِتابٌ أي ألقي إلي أنه إلخ أو على أن يكون التقدير لأنه إلخ كأنها عللت كرم الكتاب بكونه من سليمان وبكونه مصدرا باسم الله عز وجل، وقرأ أبي «أن من سليمان وأن بسم الله» بفتح الهمزة وسكون النون، وخرج على أن أن هي المفسرة لأنه قد تقدمت جملة فيها معنى القول أو على أنها المخففة من الثقيلة وحذفت الهاء. و (أن) في قوله تعالى: أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ يحتمل أن تكون مفسرة ولا ناهية. ويحتمل أن تكون مصدرية ناصبة للفعل ولا نافية، وقيل: يجوز كونها ناهية أيضا، ومحل المصدر الرفع على أنه بدل من كِتابٌ أو خبر لمبتدأ مضمر يليق بالمقام أي مضمونه أن لا تعلوا عليّ أي أن لا تتكبروا عليّ كما يفعل جبابرة الملوك، وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في رواية وهب بن منبه والأشهب العقيلي «أن لا تغلوا» بالغين المعجمة من الغلو وهي مجاوزة الحد أي أن لا تتجاوزا حدكم وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ عطف على ما قبله فإن كانت فيه لا ناهية فعطف الأمر عليه ظاهر وإن كانت نافية وأن مصدرية فعطفه عليه من عطف الإنشاء على الأخبار والكلام فيه مشهور، والأكثرون على جوازه في مثل هذا. والمراد بالإسلام الإيمان أي وأتوني مؤمنين، وقيل: المراد به الانقياد أي ائتوني منقادين مستسلمين. والدعوة على الأول دعوة النبوة وعلى الثاني دعوة الملك واللائق بشأنه عليه السلام هو الأول. وفي بعض الآثار كما ستعلم إن شاء الله تعالى ما يؤيده. ولا يرد أنه يلزم عليه أن يكون الأمر بالإيمان قبل إقامة الحجة على رسالته فيكون استدعاء للتقليد لأن الدعوة المذكورة هي الدعوة الأولى التي لا تستدعي إظهار المعجزة وإقامة الحجة، وعادة الأنبياء عليهم السلام الدعوة إلى الإيمان أولا فإذا عورضوا أقاموا الدليل وأظهروا المعجزة وفيما نحن فيه لم يصدر معارضة، وقيل: إن الدعوة ما كانت إلا مقرونة بإقامة الحجة لأن إلقاء الكتاب إليها على تلك الحالة التي ذكرت فيما مر أولا معجزة باهرة دالة على رسالته عليه السلام دلالة بينة. وتعقب بأن كون الإلقاء المذكور معجزة غير واضح خصوصا وهي لم تقارن التحدي ورجح الثاني بأن قولها: إِنَّ الْمُلُوكَ إلخ صريح في دعوة الملك والسلطنة. وأجيب بأن ذاك لعدم تيقنها رسالته عليه السلام حينئذ أو هو من باب الاحتيال لجلب القوم إلى الإجابة بإدخال الروع عليهم من حيثية كونه عليه السلام ملكا وهذا كما ترى، والظاهر أنه لم يكن في الكتاب أكثر مما قص الله تعالى وهو إحدى الروايتين عن مجاهد، وثانيتهما أن فيه- السلام على من اتبع الهدى أما بعد فلا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين الجزء: 10 ¦ الصفحة: 191 وفي بعض الآثار أن نسخة الكتاب- من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ السلام على من اتبع الهدى - إلى آخر ما ذكر، ولعلها على ما هو الظاهر عرفت أنهم المعنيون بالخطاب من قرائن الأحوال، وقد تضمن ما قصه سبحانه البسملة التي هي هي في الدلالة على صفاته تعالى صريحا والتزاما والنهي عن الترفع الذي هو أم الرذائل والأمر بالإسلام الجامع لأمهات الفضائل فيا له كتاب في غاية الإيجاز ونهاية الإعجاز، وعن قتادة كذلك كانت الأنبياء عليهم السلام تكتب جملا لا يطيلون ولا يكثرون. هذا ولم أر في الآثار ما يشعر بأنه عليه السلام كتب ذلك على الكاغد أو الرق أو غيرهما، واشتهر على ألسنة الكتاب أن الكتاب كان من الكاغد المعروف وأن الهدهد أخذه من طرفه بمنقاره فابتل ذلك الطرف بريقه وذهب منه شيء وكان ذلك الزاوية اليمنى من جهة أسفل الكتاب، وزعموا أن قطعهم شيئا مر القرطاس من تلك الزاوية تشبيها لما يكتبونه بكتاب سليمان عليه السلام وهذا مما لا يعول عليه ولسائر أرباب الصنائع والحرف حكايات من هذا القبيل وهي عند العقلاء أحاديث خرافة. قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي كررت حكاية قولها للإيذان بغاية اعتنائها بما في حيزها، والإفتاء على ما قال صاحب المطلع الإشارة على المستفتي فيما حدث له من الحادثة بما عند المفتي من الرأي والتدبير وهو إزالة ما حدث له من الإشكال كالإشكاء إزالة الشكوى، وفي المغرب اشتقاق الفتوى من الفتى لأنها جواب في حادثة أو إحداث حكم أو تقوية لبيان مشكل، وأيا ما كان فالمعنى أشيروا عليّ بما عندكم من الرأي والتدبير فيما حدث لي وذكرت لكم خلاصته، وقصدت بما ذكرت استعطافهم وتطييب نفوسهم ليساعدوها ويقوموا معها وأكدت ذلك بقولها: ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ أي ما أقطع أمرا من الأمور المتعلقة بالملك إلا بمحضركم وبموجب آرائكم، والإتيان بكان للإيذان بأنها استمرت على ذلك أو لم يقع منها غيره في الزمن الماضي فكذا في هذا وحَتَّى تَشْهَدُونِ غاية للقطع. واستدل بالآية على استحباب المشاورة والاستعانة بالآراء في الأمور المهمة، وفي قراءة عبد الله «ما كنت قاضية أمرا» قالُوا استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية قولها كأنه قيل: فماذا قالوا في جوابها؟ فقيل قالوا: نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ في الأجساد والعدد وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ أي نجدة وشجاعة مفرطة وبلاء في الحرب قيل: كان أهل مشورتها ثلاثمائة واثني عشر رجلا كل واحد على عشرة آلاف، وروي ذلك عن قتادة. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان لصاحبة سليمان اثنا عشر ألف قيل تحت يد كل قيل مائة ألف، وقيل: كان تحت يدها أربعمائة ملك كل ملك على كورة تحت يد كل ملك أربعمائة ألف مقاتل ولها ثلاثمائة وزير يدبرون ملكها ولها اثنا عشر ألف قائد كل قائد تحت يده اثنا عشر ألف مقاتل، وهذه الأخبار إلى الكذب أقرب منها إلى الصدق، ولعمري إن أرض اليمن لتكاد تضيق عن العدد الذي تضمنه الخبران الأخيران، وليت شعري ما مقدار عدد رعيتها الباقين الذين تحتاج إلى هذا العسكر والقواد والوزراء لسياستهم وضبط أمورهم وتنظيم أحوالهم وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ تسليم للأمر إليها بعد تقديم ما يدل على القوة والشجاعة حتى لا يتوهم أنه من العجز. والأمر بمعناه المعروف أو المعنى الشأن وهو مبتدأ وإِلَيْكِ متعلق بمحذوف وقع خبرا له ويقدر مؤخرا ليفيد الحصر المقصود لفهمه من السياق أي والأمر إليك موكول. فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ من الصلح والمقاتلة نطعك ونتبع رأيك، وقيل: أرادوا نحن من أبناء الحرب لا من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 192 أبناء الرأي والمشورة وإليك الرأي والتدبير فانظري ماذا ترين نكن في الخدمة فلما أحست منهم الميل إلى الحرب والعدول عن السنن الصواب شرعت في تزييف مقالتهم المنبئة عن الغفلة عن شأن سليمان عليه السلام حسبما تعتقده، وذلك قوله تعالى: قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً من القرى على منهاج المقاتلة والحرب أَفْسَدُوها بتخريب عماراتها وإتلاف ما فيها من الأموال. وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً بالقتل والأسر والإجلاء وغير ذلك من فنون الإهانة والإذلال، ولم يقل وأذلوا أعزة أهلها مع أنه أخصر للمبالغة في التصيير والجعل وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ تصديق لها من جهته عز وجل على ما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أو هو من كلامها جاءت به تأكيدا لما وصفت من حالهم بطريق الاعتراض التذييلي وتقرير له بأن ذلك عادتهم المستمرة فالضمير للملوك، وقيل: هو لسليمان ومن معه فيكون تأسيسا لا تأكيدا. وتعقب بأن التأكيد لازم على ذلك أيضا للاندراج تحت الكلية وكأنها أرادت على ما قيل: إن سليمان ملك والملوك هذا شأنهم وغلبتنا عليه غير محققة ولا اعتماد على العدد والعدة والشجاعة والنجدة فربما يغلبنا فيكون ما يكون فالصلح خير، وقيل: إنها غلب على ظنها غلبته حيث رأت أنه سخر له الطير فجعل يرسله بأمر خاص إلى شخص خاص مغلق عليه الأبواب فأشارت لهم إلى أنه يغلب عليهم إذا قاتلوه فيفسد القرى ويذل الأعزة وأفسدت بذلك رأيهم وما أحسته منهم من الميل إلى مقاتلته عليه السلام وقررت رأيها بقولها: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ حتى أعمل بما يقتضيه الحال، وهذا ظاهر في أنها لم تثق بقبوله عليه السلام هديتها. وروي أنها قالت لقومها: إن كان ملكا دنياويا أرضاه المال وعملنا معه بحسب ذلك وإن كان نبيا لم يرضه المال وينبغي أن نتبعه على دينه، والهدية اسم لما يهدى كالعطية اسم لما يعطى، والتنوين فيها للتعظيم و (ناظرة) عطف على مُرْسِلَةٌ وبِمَ متعلق بيرجع. ووقع للحوفي أنه متعلق بناظرة وهو وهم فاحش كما في البحر، والنظر معلق والجملة في موضع المفعول به له والجملة الاسمية الدالة على الثبات المصدرة بحرف التحقيق للإيذان بأنها مزمعة على رأيها لا يلويها عنه صارف ولا يثنيها عاطف. واختلف في هديتها فعن ابن عباس أنها كانت مائة وصيف ومائة وصيفة، وقال وهب. وغيره: عمدت بلقيس إلى خمسمائة غلام وخمسمائة جارية فألبست الجواري لبس الغلمان الأقبية والمناطق وألبست الغلمان لباس الجواري وجعلت في أيديهم أساور الذهب وفي أعناقهم أطواق الذهب وفي آذانهم أقرطة وشنوفا مرصعة بأنواع الجواهر وحملت الجواري على خمسمائة رمكة والغلمان على خمسمائة برذون على كل فرس سرج من الذهب مرصع بالجوهر وعليه أغشية الديباج وبعثت إليه لبنات من ذهب ولبنات من فضة وتاجا مكللا بالدر والياقوت وأرسلت بالمسك والعنبر والعود وعمدت إلى حق فجعلت فيه درة عذراء وخرزة جزع معوجة الثقب ودعت رجلا من أشراف قومها يقال له المنذر بني عمرو وضمت إليه رجالا من قومها أصحاب رأي وعقل وكتبت معه كتابا تذكر فيه الهدية وقالت فيه: إن كنت نبيا ميز بين الغلمان والجواري وأخبر بما في الحق قبل أن تفتحه ثم قالت للرسول: فإن أخبر فقل له اثقب الدرة ثقبا مستويا وأدخل في الخرزة خيطا من غير علاج أنس ولا جن وقالت للغلمان: إذا كلمكم سليمان فكلموه بكلام فيه تأنيث وتخنث يشبه كلام النساء وأمرت الجواري أن يكلموه بكلام فيه غلظة يشبه كلام الرجال، ثم قالت للرسول: انظر إلى الرجل إذا دخلت فإن نظر إليك نظرا فيه غضب فاعلم أنه ملك فلا يهولنك منظره فأنا أعز منه وإن رأيت الرجل بشاشا لطيفا فاعلم أنه نبي فتفهم منه قوله ورد الجواب فانطلق الرجل بالهدايا وأقبل الهدهد مسرعا إلى سليمان فأخبره الخبر فأمر عليه السلام الجن أن يضربوا لبنا من الذهب والفضة ففعلوا وأمرهم بعمل ميدان مقدار الجزء: 10 ¦ الصفحة: 193 تسع فراسخ وأن يفرشوا فيه لبن الذهب والفضة وأن يخلوا قدر تلك اللبنات التي معهم وأن يعملوا حول الميدان حائطا مشرفا من الذهب والفضة ففعلوا ثم قال: أي دواب البر والبحر أحسن فقالوا: يا نبي الله ما رأينا أحسن من دواب في البحر يقال لها كذا وكذا مختلفة ألوانها لها أجنحة وأعراف ونواص قال عليّ بها الساعة فأتوه بها قال: شدوها عن يمين الميدان وشماله وقال للجن: عليّ بأولادكم فاجتمع منهم خلق كثير فأقامهم على يمين الميدان وعلى شماله وأمر الجن والإنس والشياطين والوحوش والسباع والطير ثم قعد في مجلسه على سريره ووضع أربعة آلاف كرسي على يمينه وعلى شماله وأمر جميع الإنس والجن والشياطين والوحوش والسباع والطير فاصطفوا فراسخ عن يمينه وشماله فلما دنا القوم من الميدان ونظروا إلى ملك سليمان عليه السلام ورأوا الدواب التي لم يروا مثلها تروث على لبن الذهب والفضة تصاغرت إليهم أنفسهم وخبؤوا ما كان معهم من الهدايا، وقيل: إنهم لما رأوا ذلك الموضع الخالي من اللبنات خاليا خافوا أن يتهموا بذلك فوضعوا ما معهم من اللبن فيه ولما نظروا إلى الشياطين هالهم ما رأوا وفزعوا فقالت لهم الشياطين: جوزوا لا بأس عليكم وكانوا يمرون على كراديس الجن والوحش والطير حتى وقفوا بين يدي سليمان فأقبل عليهم بوجه طلق وتلقاهم ملقى حسنا وسألهم عن حالهم فأخبره رئيس القوم بما جاؤوا فيه وأعطاه الكتاب فنظر فيه وقال: أين الحق فأتى به فحركه فجاء جبريل عليه السلام فأخبره بما فيه فقال لهم: إن فيه درة غير مثقوبة وجزعة معوجة الثقب قال الرسول: صدقت فأثقب الدرة وأدخل الخيط في الجزعة فقال سليمان عليه السلام من لي بثقبها وسأل الجن والإنس فلم يكن عندهم علم ذلك ثم سأل الشياطين فقالوا نرسل إلى الأرضة فلما جاءت أخذت شعرة بفيها ونفذت في الدرة حتى خرجت من الجانب الآخر فقال لها: ما حاجتك؟ قالت: تصير رزقي في الشجر فقال: لك ذلك ثم قال: من لهذه الخرزة؟ فقالت دودة بيضاء: أنا لها يا نبي الله فأخذت الخيط بفيها ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر فقال: ما حاجتك؟ قالت: يكون رزقي في الفواكه فقال: لك ذلك ثم ميز بين الغلمان والجواري أمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم فجعلت الجارية تأخذ الماء بيدها وتضرب بها الأخرى وتغسل وجهها والغلام يأخذ الماء بيديه ويضرب به وجهه وكانت الجارية تصب الماء على باطن ساعديها والغلام على ظاهره ثم رد سليمان عليه السلام الهدية كما أخبر الله تعالى، وقيل: إنها أنفذت مع هداياها عصا كان يتوارثها ملوك حمير وقالت: أريد أن تعرفني رأسها من أسفلها وبقدح ماء وقالت: تملؤه ماء رواء ليس من الأرض ولا من السماء فأرسل عليه السلام العصا إلى الهواء وقال أي الطرفين سبق إلى الأرض فهو أصلها وأمر بالخيل فأجريت حتى عرقت وملأ القدح من عرقها وقال: هذا ليس من ماء الأرض ولا من ماء السماء اهـ. وكل ذلك أخبار لا يدرى صحتها ولا كذبها، ولعل في بعضها ما يميل القلب إلى القول بكذبه والله تعالى أعلم. فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ في الكلام حذف أي فأرسلت الهدية فلما جاء إلخ، وضمير جاءَ للرسول، وجوز أن يكون لما أهدت إليه والأول أولى، وقرأ عبد الله «فلما جاؤوا» أي المرسلون قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ خطاب للرسول والمرسل تغليبا للحاضر على الغائب وإطلاقا للجمع على الاثنين، وجوز أن يكون للرسول ومن معه وهو أوفق بقراءة عبد الله، ورجح الأول لما فيه من تشديد الإنكار والتوبيخ المستفادين من الهمزة على ما قيل وتعميمهما لبلقيس وقومها، وأيد بمجيء قوله تعالى: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ بالإفراد وتنكير (مال) للتحقير. وقرأ جمهور السبعة «تمدونن» بنونين وأثبت بعض الياء. وقرأ حمزة بإدغام نون الرفع في نون الوقاية وإثبات ياء المتكلم. وقرأ المسيبي عن نافع بنون واحدة خفيفة والمحذوف نون الوقاية، وجوز أن يكون الأولى فرفعه بعلامة مقدرة كما قيل في قوله: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 194 أبيت أسري وتبيتي تدلكي ... وجهك بالعنبر والمسك الذكي فَما آتانِيَ اللَّهُ أي من النبوة والملك الذي لا غاية وراءه خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ أي من المال الذي من جملته ما جئتم به، وقيل: عنى بما آتاه المال لأنه المناسب للمفضل عليه والأول أولى لأنه أبلغ، والجملة تعليل للإنكار والكلام كناية عن عدم القبول لهديتهم، وليس المراد منه الافتخار بما أوتيه فكأنه قيل: أنكر إمدادكم إياي بمال لأن ما عندي خير منه فلا حاجة لي إلى هديتكم ولا وقع لها عندي، والظاهر أن الخطاب المذكور كان أول ما جاؤوه كما يؤذن به قوله تعالى: فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ إلخ. ولعل ذلك لمزيد حرصه على إرشادهم إلى الحق، وقيل: لعله عليه السلام قال لهم ما ذكر بعد أن جرى بينهم وبينه ما جرى مما في خبر وهب وغيره، واستدل بالآية على استحباب هدايا المشركين. والظاهر أن الأمر كذلك إذا كان في الرد مصلحة دينية لا مطلقا، وإنما لم يقل: وما آتاني الله خير مما آتاكم لتكون الجملة حالا لما أن مثل هذه الحال وهي الحال المقررة للإشكال يجب أن تكون معلومة بخلاف العلة وهي هنا ليست كذلك، وقوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ إضراب عما ذكر من إنكار الإمداد بالمال وتعليله إلى بيان ما حملهم عليه من قياس حاله عليه السلام على حالهم وهو قصور همتهم على الدنيا والزيادة فيها فالمعنى أنتم تفرحون بما يهدى إليكم لقصور همتكم على الدنيا وحبكم الزيادة فيها، ففي ذلك من الحط عليهم ما لا يخفى، والهدية مضافة إلى المهدي إليه وهي تضاف إلى ذلك كما تضاف إلى المهدي أو إضراب عن ذلك إلى التوبيخ بفرحهم بهديتهم التي أهدوها إليه عليه السلام فرح افتخار وامتنان واعتداد بها، وفائدة الإضراب التنبيه على أن إمداده عليه السلام بالمال منكر قبيح، وعد ذلك مع أنه لا قدر له عنده عليه السلام مما يتنافس فيه المتنافسون أقبح والتوبيخ به أدخل، قيل: وينبىء عن اعتدادهم بتلك الهدية التنكير في قول بلقيس: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ بعد عدها إياه عليه السلام ملكا عظيما. وكذا ما تقدم في خبر وهب وغيره من حديث الحق والجزعة وتغيير زي الغلمان والجواري وغير ذلك، وقيل: فرحهم بما أهدوه إليه عليه السلام من حيث توقعهم به ما هو أزيد منه فإن الهدايا للعظماء قد تفيد ما هو أزيد منها مالا أو غيره كمنع تخريب ديارهم هنا، وقيل: الكلام كناية عن الرد، والمعنى أنتم من حقكم أن تفرحوا بأخذ الهدية لا أنا فخذوها وافرحوا وهو معنى لطيف إلا أن فيه خفاء ارْجِعْ أمر للرسول ولم يجمع الضمير كما جمعه فيما تقدم من قوله: أَتُمِدُّونَنِ إلخ لاختصاص الرجوع به بخلاف الإمداد نحوه، وقيل: هو أمر للهدهد محملا كتابا آخر وأخرج ذلك ابن أبي حاتم عن زهير بن زهير. وتعقب بأنه ضعيف دراية ورواية وقرأ عبد الله «ارجعوا» على أنه أمر للمرسلين والفعل هنا لازم أي انقلب وانصرف إِلَيْهِمْ أي إلى بلقيس وقومها فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ أي فو الله لنأتينهم بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها أي لا طافة لهم بمقاومتها ولا قدرة لهم على مقابلتها وأصل القبل المقابلة فجعل مجازا أو كناية عن الطاقة والقدرة عليها. وقرأ عبد الله «بهم» وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ عطف على جواب القسم مِنْها أي من سبأ أَذِلَّةً أي حال كونهم أذلة بعد ما كانوا فيه من العز والتمكين، وفي جمع القلة تأكيد لذلتهم، وقوله تعالى: وَهُمْ صاغِرُونَ حال أخرى، والصغار وإن كان بمعنى الذل إلا أن المراد به هنا وقوعهم في أسر واستعباد فيفيد الكلام أن إخراجهم بطريق الأسر لا بطريق الإجلاء وعدم وقوع جواب القسم لأنه كان معلقا بشرط قد حذف عند الحكاية ثقة بدلالة الحال عليه كأنه قيل: ارجع إليهم فليأتوني مسلمين وإلا فلنأتنيهم إلخ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 195 قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ في الكلام حذف أي فرجع الرسول إليها وأخبرها بما أقسم عليه سليمان فتجهزت للمسير إليه إذ علمت أنه نبي ولا طاقة لها بقتاله، فروي أنها أمرت عند خروجها فجعل عرشها في آخر سبعة أبيات بعضها في جوف بعض في آخر قصر من قصورها وغلقت الأبواب ووكلت به حراسا يحفظونه وتوجهت إلى سليمان في أقيالها وأتباعهم وأرسلت إلى سليمان إني قادمة عليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك وما تدعو إليه من دينك، قال عبد الله بن شداد: فلما كانت على فرسخ من سليمان قال: أيكم يأتيني بعرشها. وعن ابن عباس كان سليمان مهيبا لا يبتدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه فنظر ذات يوم رهجا قريبا منه فقال: ما هذا؟ فقالوا: بلقيس فقال: أيكم إلخ ، ومعنى مسلمين على ما روي عنه طائعين، وقال بعضهم: هو بمعنى مؤمنين، واختلفوا في مقصوده عليه السلام من استدعائه عرشها، فعن ابن عباس وابن زيد أنه عليه السلام استدعى ذلك الجزء: 10 ¦ الصفحة: 196 ليريها القدرة التي هي من عند الله تعالى وليغرب عليها. ومن هنا قال في الكشاف: لعله أوحى إليه عليه السلام باستيثاقها من عرشها فأراد أن يغرب عليها ويريها بذلك بعض ما خصه الله تعالى: من إجراء العجائب على يده مع اطلاعها على عظيم قدرة الله تعالى وعلى ما يشهد لنبوة سليمان عليه السلام ويصدقها انتهى وتقييد الإتيان بقوله: قَبْلَ إلخ لما أن ذلك أبدع وأغرب وأبعد من الوقوع عادة وأدل على عظيم قدرة الله عز وجل وصحة نبوته عليه السلام وليكون اطلاعها على بدائع المعجزات في أول مجيئها. وقال الطبري: أراد عليه السلام أن يختبر صدق الهدهد في قوله: وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل: 23] واستبعد ذلك لعدم احتياجه عليه السلام إلى هذا الاختبار فإن أمارة الصدق في ذلك غاية الوضوح لديه عليه السلام لا سيما إذا صح ما روي عن وهب وغيره. وقيل: أراد أن يؤتى به فينكر ويغير ثم ينظر أتثبته أم تنكره اختبارا لعقلها. وقال قتادة وابن جريج: إنه عليه السلام أراد أخذه قبل أن يعصمها وقومها الإيمان ويمنع أخذ أموالهم. قال في الكشف: فيه أن حل الغنائم مما اختص به نبينا صلّى الله عليه وسلّم، وقال في التحقيق لا يناسب رد الهدية. وتعليله بقوله: فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ. وأجيب بأن هذا ليس من باب أخذ الغنائم وإنما هو من باب أخذ مال الحربي. والتصريف بغير رضاه مع أن الظاهر أنه بوحي فيجوز أنه من خصوصياته لحكمة ولم يكن ذلك هدية لها حتى لا يناسب الرد السابق وفيه بحث، ولعل الألصق بالقلب أن ذاك لينكره فيمتحنها اختبارا لعقلها مع إراءتها بعض خوارقه الدالة على صحة نبوته وعظيم قدرة الله عز وجل. ثم الظاهر أن هذا القول بعد رد الهدية وهو الذي عليه الجمهور. وفي رواية عن ابن عباس أنه عليه السلام قال ذلك حين ابتدأ النظر في صدق الهدهد من كذبه لما قال: وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ ففي ترتيب القصص تقديم وتأخير وأظن أنه لا يصح هذا عن ابن عباس قالَ عِفْرِيتٌ أي خبيث مارد مِنَ الْجِنِّ بيان له إذ يقال للرجل الخبيث المنكر الذي يعفر أقرانه، وقرأ أبو حيوة «عفريت» بفتح العين وقرأ أبو رجاء وأبو السمال وعيسى ورويت عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه «عفرية» بكسر العين وسكون الفاء وكسر الراء بعدها ياء مفتوحة بعدها تاء التأنيث، وقال ذو الرمة: كأنه كوكب في إثر عفرية ... مصوب في سواد الليل منقضب وقرأت فرقة «عفر» بلا ياء ولا تاء ويقال في لغة طيىء وتميم: عفراة بألف بعدها تاء التأنيث، وفيه لغة سادسة عفارية وتاء عفريت زائدة للمبالغة في المشهور. وفي النهاية الياء في عفرية وعفارية للإلحاق بشرذمة وعذافرة والهاء فيهما للمبالغة والتاء في عفريت للإلحاق بقنديل اهـ. واسم هذا العفريت على ما أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس صخر. وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير عن شعيب الجبائي أن اسمه كوزن. وأخرج ابن أبي حاتم عن يزيد ابن رومان أن اسمه كوزي. وقيل: اسمه ذكوان أَنَا آتِيكَ بِهِ أي بعرشها، وآتي يحتمل أن يكون مضارعا وأن يكون اسم فاعل. قيل: وهو الأنسب بمقام ادعاء الإتيان به في المدة المذكورة في قوله تعالى: قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ أي من مجلسك الذي تجلس فيه للحكومة وكان عليه السلام يجلس من الصبح إلى الظهر في كل يوم قاله قتادة ومجاهد ووهب وزهير بن محمد وقيل: أي قبل أن تستوي من جلوسك قائما وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ لا ينتقل على حمله. والقوة صفة تصدر عنها الأفعال الشاقة ويطيق بها من قامت به لتحمل الأجرام العظيمة ولذا اختير قوي على قادر هنا، وظاهر كلام بعضهم أن في الكلام حذفا فمنهم من قال: أي على حمله ومنهم قال: أي على الإتيان به، ورجح الثاني الجزء: 10 ¦ الصفحة: 197 بالتبادر نظرا إلى أول الكلام. والأول بأنه أنسب بقوله لقوي: أَمِينٌ لا أقتطع منه شيئا ولا أبدله قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ فصله عما قبله للإيذان بما بين القائلين ومقالتيهما وكيفيتي قدرتيهما على الإتيان به من كمال التباين أو لإسقاط الأول عن درجة الاعتبار. واختلف في تعيين هذا القائل فالجمهور ومنهم ابن عباس ويزيد بن رومان والحسن على أنه آصف بن برخيا بن شمعيا بن منكيل، واسم أمه باطورا من بني إسرائيل كان وزير سليمان على المشهور، وفي مجمع البيان أنه وزيره وابن أخته وكان صديقا يعلم الاسم الأعظم، وقيل كان كاتبه. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد أنه رجل اسمه اسطوم، وقيل: أسطورس. وأخرج ابن أبي حاتم عن زهير بن محمد أنه رجل يقال له ذو النور. وأخرج هو أيضا عن ابن لهيعة أنه الخضر عليه السلام، وعن قتادة أن اسمه مليخا وقيل: ملخ، وقيل: تمليخا، وقيل: هود، وقالت جماعة هو ضبة بن أد جد بني ضبة من العرب وكان فاضلا يخدم سليمان كان على قطعة من خيله، وقال النخعي هو جبريل عليه السلام، وقيل: هو ملك آخر أيد الله تعالى به سليمان عليه السلام، وقال الجبائي: هو سليمان نفسه عليه السلام. ووجه الفصل عليه واضح فإن الجملة حينئذ مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه قيل: فما قال سليمان عليه السلام حين قال العفريت ذلك؟ فقيل: قال إلخ ويكون التعبير عنه بما في النظم الكريم للدلالة على شرف العلم وأن هذه الكرامة كانت بسببه، ويكون الخطاب في قوله: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ للعفريت وإنما لم يأت به أولا بل استفهم القوم بقوله: أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها ثم قال ما قال وأتى به قصدا لأن يريهم أنه يتأتى له ما لا يتهيأ لعفاريت الجن فضلا عن غيرهم. وتخصيص الخطاب بالعفريت لأنه الذي تصدى لدعوى القدرة على الإتيان به من بينهم، وجعله لكل أحد كما في قوله تعالى: ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا [النساء: 3] غير ظاهر بالنسبة إلى ما ذكر. وآثر هذا القول الإمام وقال إنه أقرب لوجوه. الأول أن الموصول موضوع في اللغة لشخص معين بمضمون الصلة المعلومة عند المخاطب والشخص المعلوم بأن عنده علم الكتاب هو سليمان وقد تقدم في هذه السورة ما يستأنس به لذلك فوجب إرادته وصرف اللفظ إليه وآصف وإن شاركه في مضمون الصلة لكن هو فيه أتم لأنه نبي وهو أعلم بالكتاب من أمته، الثاني إن إحضار العرش في تلك الساعة اللطيفة درجة عالية فلو حصلت لأحد من أمته دونه لاقتضى تفضيل ذلك عليه السلام وأنه غير جائز، الثالث أنه لو افتقر في إحضاره إلى أحد من أمته لاقتضى قصور حاله في أعين الناس. الرابع أن ظاهر قوله عليه السلام فيما بعد هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي إلخ يقتضي أن ذلك الخارق قد أظهره الله تعالى بدعائه عليه السلام اهـ. وللمناقشة فيه مجال. واعترض على هذا القول بعضهم بأن الخطاب في آتِيكَ يأباه فإن حق الكلام عليه أن يقال: أنا آتي به قبل أن يرتد إلى الشخص طرفه مثلا، وقد علمت دفعه. وبأن المناسب أن يقال فيما بعد- فلما أتى به- دون فَلَمَّا رَآهُ إلخ. وأجيب عن هذا بأن قوله ذاك للإشارة إلى أنه لا حول ولا قوة له فيه، ولعل الأظهر أن القائل أحد أتباعه، ولا يلزم من ذلك أنه عليه السلام لم يكن قادرا على الإتيان به كذلك فإن عادة الملوك تكليف أتباعهم بمصالح لهم لا يعجزهم فعلها بأنفسهم فليكن ما نحن فيه جاريا على هذه العادة، ولا يضر في ذلك كون الغرض مما يتم بالقول وهو الدعاء ولا يحتاج إلى أعمال البدن وأتعابه كما لا يخفى. وفي فصوص الحكم كان ذلك على يد بعض أصحاب سليمان عليه السلام ليكون أعظم لسليمان في نفوس الحاضرين، وقال القيصري: كان سليمان قطب وقته ومتصرفا وخليفة على العالم وكان آصف وزيره وكان كاملا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 198 وخوارق العادات قلما تصدر من الأقطاب والخلفاء بل من ورّاثهم وخلفائهم لقيامهم بالعبودية التامة واتصافهم بالفقر الكلي فلا يتصرفون لأنفسهم في شيء، ومن منن الله تعالى عليهم أن يرزقهم صحبة العلماء الأمناء يحملون منهم أثقالهم وينفذون أحكامهم وأقوالهم اهـ، وما في الفصوص أقرب لمشرب أمثالنا على أن ما ذكر لا يخلو عن بحث على مشرب القوم أيضا. وفي مجمع البيان روى العياشي بإسناده قال: التقى موسى بن محمد بن علي بن موسى ويحيى بن أكثم فسأله عن مسائل منها: هل كان سليمان محتاجا إلى علم آصف؟ فلم يجب حتى سأل أخاه علي بن محمد فقال: اكتب له لم يعجز سليمان عن معرفة ما عرف آصف لكنه عليه السلام أحب أن يعرف أمته من الجن والإنس أنه الحجة من بعده، وذلك من علم سليمان أودعه آصف بأمر الله ففهمه الله تعالى ذلك لئلا يختلف في إمامته كما فهم سليمان في حياة داود لتعرف إمامته من بعده لتأكيد الحجة على الخلق اهـ وهو كما ترى. والمراد بالكتاب الجنس المنتظم لجميع الكتب المنزلة وقيل: اللوح المحفوظ، وكون المراد به ذلك على جميع الأقوال السابقة في الموصول بعيد جدا، وقيل: المراد به الذي أرسل إلى بلقيس، ومن ابتدائية وتنكير عِلْمٌ للتفخيم والرمز إلى أنه علم غير معهود، قيل: كان ذلك العلم باسم الله تعالى الأعظم الذي إذا سئل به أجاب، وقد دعا ذلك العالم به فحصل غرضه، وهو يا حي يا قيوم، وقيل يا ذا الجلال والإكرام، وقيل الله الرحمن وقيل: هو بالعبرانية آهيا شراهيا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الزهري أنه دعا بقوله: يا إلهنا وإله كل شيء إلها واحدا لا إله إلا أنت ائتني بعرشها ، والطرف تحريك الأجفان وفتحها للنظر إلى شيء ثم تجوز به عن النظر وارتداده انقطاعه بانضمام الأجفان ولكونه أمرا طبيعيا غير منوط بالقصد أوثر الارتداد على الرد، فالمعنى آتيك به قبل أن ينضم جفن عينك بعد فتحه، وقيل: لا حاجة إلى اعتبار التجوز في الطرف إذ المراد قبل ارتداد تحريك الأجفان بطبقها بعد فتحها وفيه نظر، والكلام جار على حقيقته وليس من باب التمثيل للسرعة، فقد روي أن آصف قال لسليمان عليه السلام: مد عينيك حتى ينتهي طرفك فمد طرفه فنظر نحو اليمن فقبل أن يرتد إليه حضر العرش عنده. وقيل: هو من باب التمثيل فيحتمل أن يكون قد أتى به في مدة طلوع درجة أو درجتين أو نحو ذلك. وعن ابن جبير وقتادة أن الطرف بمعنى المطروف أي من يقع إليه النظر، وأن المعنى قبل أن يصل إليك من يقع طرفك عليه في أبعد ما ترى إذا نظرت أمامك وهو كما ترى فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ أي فلما رأى سليمان عليه السلام العرش ساكنا عنده قارّا على حاله التي كان عليها قالَ تلقيا للنعمة بالشكر جريا على سنن إخوانه الأنبياء عليهم السلام وخلص عباد الله عز وجل هذا أي الإتيان بالعرش أو حضوره بين يدي في هذه المدة القصيرة، وقيل: أي التمكن من إحضاره بالواسطة أو بالذات مِنْ فَضْلِ رَبِّي أي تفضله جل شأنه على من غير استحقاق ذاتي لي له ولا عمل مني يوجبه عليه سبحانه وتعالى، وفي الكلام حذف أي فأتاه به فرآه فلما رآه إلخ وحذف ما حذف للدلالة على كمال ظهوره واستغنائه عن الإخبار به وللإيذان بكمال سرعة الإتيان به كأنه لم يقع بين الوعد به ورؤيته عليه السلام إياه شيء ما أصلا، وفي تقييد رؤيته باستقراره عنده تأكيد لهذا المعنى لإيهامه أنه لم يتوسط بينهما ابتداء الإتيان أيضا كأنه لم يزل موجودا عنده. فمستقرا منتصب على الحال وعِنْدَهُ متعلق به. وهو على ما أشرنا إليه كون خاص ولذا ساغ ذكره. وظن بعضهم أنه كون عام فأشكل عليهم ذكره مع قول جمهور النحاة: إن متعلق الظرف إذا كان كونا عاما وجب حذفه فالتزم بعضهم لذلك كون الظرف متعلقا برآه لا به. ومنهم من ذهب كابن مالك إلى أن حذف ذلك أغلبي وأنه قد يظهر كما في هذه الآية. وقوله: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 199 لك العز إن مولاك عز وإن يهن ... فأنت لدي بحبوحة الهون كائن وأنت تعلم أنه يمكن اعتبار ما في البيت كونا خاصا كالذي في الآية. وفي كيفية وصول العرش إليه عليه السلام حتى رآه مستقرا عنده خلاف. فأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن عساكر عن ابن عباس أنه قال لم يجر عرش صاحبة سبأ بين السماء والأرض ولكن انشقت به الأرض فجرى تحت الأرض حتى ظهر بين يدي سليمان وإلى هذا ذهب مجاهد وابن سابط وغيرهما وقيل نزل بين يدي سليمان عليه السلام من السماء وكان عليه السلام إذ ذاك في أرض الشام على ما قيل رجع إليها من صنعاء وبينها وبين مأرب محل العرش نحو من مسافة شهرين. وعلى القول بأنه كان في صنعاء فالمسافة بين محله ومحل العرش نحو ثلاثة أيام، وأيا ما كان فقطعه المسافة الطويلة في الزمن القصير أمر ممكن وقد أخبر بوقوعه الصادق فيجب قبوله، وقد اتفق البر والفاجر على وقوع ما هو أعظم من ذلك وهو قطع الشمس في طرفة عين آلافا من الفراسخ مع أن نسبة عرش بلقيس إلى جرمها نسبة الذرة إلى الجبل، وقال الشيخ الأكبر قدس سره إن آصف تصرف في عين العرش فأعدمه في موضعه وأوجده عند سليمان من حيث لا يشعر أحد بذلك إلا من عرف الخلق الجديد الحاصل في كل آن وكان زمان وجوده عين زمان عدمه وكل منهما في آن وكان عين قول آصف عين الفعل في الزمان فإن القول من الكامل بمنزلة كن من الله تعالى. ومسألة حصول العرش من أشكل المسائل إلا عند من عرف ما ذكرناه من الإيجاد والإعدام فما قطع العرش مسافة ولا زويت له أرض ولا خرقها اه ملخصا. وله تتمة ستأتي إن شاء الله تعالى، وما ذكره من أنه كان بالإعدام والإيجاد مما يجوز عندي وإن لم أقل بتجدد الجواهر تجدد الأعراض عند الأشعري إلا أنه خلاف ظاهر الآية. واستدل بها على ثبوت الكرامات. وأنت تعلم أن الاحتمال يسقط الاستدلال. وعلل عليه السلام تفضله تعالى بذلك عليه بقوله: لِيَبْلُوَنِي أي ليعاملني معاملة المبتلى أي المختبر أَشْكُرُ على ذلك بأن أراه محض فضله تعالى من غير حول من جهتي ولا قوة وأقوم بحقه أَمْ أَكْفُرُ بأن أجد لنفسي مدخلا في البين أو أقصر في إقامة مواجبه كما هو شأن سائر النعم الفائضة على العباد، وأخرج ابن المنذر وابن جرير عن ابن جريج أن المعنى ليبلوني أأشكر إذا أتيت بالعرش أم أكفر إذا رأيت من هو أدنى مني في الدنيا أعلم مني، ونقل مثله في البحر عن ابن عباس والظاهر عدم صحته، وأبعد منه عن الصحة ما أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال لما رآه مستقرا عنده جزع وقال: رجل غيري أقدر على ما عند الله عز وجل مني، ولعل الحق الجزم بكذب ذلك، وجملة أَأَشْكُرُ إلخ في موضع نصب على أنها مفعول ثان لفعل البلوى وهو معلق بالهمزة عنها إجراء له مجرى العلم وإن لم يكن مرادفا له. وقيل: محله النصب على البدل من الياء وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ أي لنفعها لأنه يربط به القيد ويستجلب المزيد ويحط به عن ذمته عبء الواجب ويتخلص عن وصمة الكفران وَمَنْ كَفَرَ أي لم يشكر فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ عن شكره كَرِيمٌ بترك تعجيل العقوبة والأنعام مع عدم الشكر أيضا، والظاهر أن من شرطية والجملة المقرونة بالفاء جواب الشرط، وجوز أن يكون الجواب محذوفا دل عليه ما قبله من قسيمه والمذكور قائم مقامه أي ومن كفر فعلى نفسه أي فضرر كفرانه عليها. وتعقب بأنه لا يناسب قوله: كَرِيمٌ وجوز أيضا أن تكون من موصولة ودخلت الفاء في الخبر لتضمنها معنى الشرط قالَ أي سليمان عليه السلام كررت الحكاية مع كون المحكي سابقا ولاحقا من كلامه عليه السلام تنبيها على ما بين السابق واللاحق من المخالفة لما أن الأول من باب الشكر لله عز وجل والثاني أمر لخدمه نَكِّرُوا لَها عَرْشَها أي اجعلوه بحيث لا يعرف ولا يكون ذلك إلا بتغييره عما كان الجزء: 10 ¦ الصفحة: 200 عليه من الهيئة والشكل، ولعل المراد التغيير في الجملة. روي عن ابن عباس ومجاهد والضحاك إنه كان بالزيادة فيه والنقص منه، وقيل: بنزع ما عليه من الجواهر، وقيل: بجعل أسفله أعلاه ومقدمه مؤخره، ولام لَها للبيان كما في هَيْتَ لَكَ [يوسف: 23] فيدل على أنها المرادة خاصة بالتنكير نَنْظُرْ بالجزم على أنه جواب الأمر. وقرأ أبو حيوة بالرفع على الاستئناف أَتَهْتَدِي إلى معرفته أو إلى الجواب اللائق بالمقام. وقيل: إلى الإيمان بالله تعالى ورسوله عليه السلام إذا رأت تقدم عرشها وقد خلفته مغلقة عليه الأبواب موكلة عليه الحراس والحجاب وحكاه الطبرسي عن الجبائي، وفيه أنه لا يظهر مدخلية التنكير في الإيمان أَمْ تَكُونُ أي بالنسبة إلى علمنا مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ أي إلى ما ذكر من معرفة عرشها أو الجواب اللائق بالمقام فإن كونها في نفس الأمر منهم وإن كان أمرا مستمرا لكن كونها منهم عند سليمان عليه السلام وقومه أمر حادث يظهر بالاختبار فَلَمَّا جاءَتْ شروع في حكاية التجربة التي قصدها سليمان عليه السلام أي فلما جاءت بلقيس سليمان وقد كان العرش منكرا بين يديه قِيلَ أي من جهة سليمان بالذات أو بالواسطة أَهكَذا عَرْشُكِ أي أمثل هذا العرش الذي ترينه عرشك الذي تركتيه ببلادك، ولم يقل: أهذا عرشك لئلا يكون تلقينا لها فيفوت ما هو المقصود من الأمر بالتنكير من إبراز العرش في معرض الإشكال والاشتباه حتى يتبين لديه عليه السلام حالها وقد ذكرت عنده عليه السلام بسخافة العقل. وفي بعض الآثار أن الجن خافوا من أن يتزوجها فيرزق منها ولدا يحوز فطنة الإنس وخفة الجن حيث كانت لها نسبة إليهم فيضبطهم ضبطا قويا فرموها عنده بالجنون وأن رجليها كحوافر البهائم فلذا اختبرها بهذا وبما يكون سببا للكشف عن ساقيها، ومن لم يقل بنسبتها إلى الجن: يقول لعلها رماها حاسد بذلك فأراد عليه السلام اختبارها ليقف على حقيقة الحال، ومنهم من يقول: ليس ذاك إلا ليقابلها بمثل ما فعلت هي حيث نكرت الغلمان والجواري وامتحنته عليه السلام بالدرة العذراء والجزعة المعوجة الثقب وكون ذلك في عرشها الذي يبعد كل البعد إحضاره مع بعد المسافة وشدة محافظتها له أتم وأقوى ويتضمن أيضا من إظهار المعجزة ما لا يخفى، وهذا عندي ألصق بالقلب من غيره قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ أجابت بما أنبأ عن كمال عقلها حيث لم تجزم بأنه هو لاحتمال أن يكون مثله بل أتت بكأن الدالة كما قيل على غلبة الظن في اتحاده معه مع الشك في خلافه وليست كأن هنا للدلالة على التشبيه كما هو الغالب فيها. وذكر ابن المنير في الانتصاف ما يدل على أنها تفيد قوة الشبه فقال: الحكمة في عدول بلقيس في الجواب عن هكذا هو المطابق للسؤال إلى كَأَنَّهُ هُوَ إن كَأَنَّهُ هُوَ عبارة من قوي عنده الشبه حتى شكك نفسه في التغاير بين الأمرين وكاد يقول هو هو وتلك حال بلقيس، وأما هكذا هو فعبارة جازم بتغاير الأمرين حاكم بوقوع الشبه بينهما لا غير فلا تطابق حالها فلذا عدلت عنها إلى ما في النظم الجليل. وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ من تتمة كلامها على ما اختاره جمع من المفسرين كأنها استشعرت مما شاهدته اختبار عقلها وإظهار معجزة لها ولما كان الظاهر من السؤال هو الأول سارعت إلى الجواب بما أنبأ عن كمال رجاحة عقلها، ولما كان إظهار المعجزة دون ذلك في الظهور ذكرت ما يتعلق به آخرا وهو قولها: وَأُوتِينَا إلخ وفيه دلالة على كمال عقلها أيضا، ومعناه وأوتينا العلم بكمال قدرة الله تعالى وصحة نبوتك من قبل هذه المعجزة أو من قبل هذه الحالة بما شاهدناه من أمر الهدهد وما سمعناه من رسلنا إليك من الآيات الدالة على ذلك وكنا مؤمنين من ذلك الوقت فلا حاجة إلى إظهار هذه المعجزة، ولك أن تجعله من تتمة ما يتعلق بالاختبار وحاصلة لا حاجة إلى الاختبار لأني آمنت قبل وهذا كاف في الدلالة على كمال عقلي. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 201 وجوز أن يكون لبيان منشأ غلبة الظن بأنه عرشها والداعي إلى حسن الأدب في محاورته عليه السلام أي وأوتينا العلم بإتيانك بالعرش من قبل الرؤية أو من قبل هذه الحالة بالقرائن أو الأخبار وكنا من ذلك الوقت مؤمنين، والتعبير بنون العظمة جار على سنن تعبيرات الملوك وفيه تعظيم لأمر إسلامها وليس ذاك لإرادة نفسها ومن معها من قومها إذ يبعده قوله تعالى: وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وهو بيان من جهته عز وجل لما كان يمنعها من إظهار ما ادعت من الإسلام إلى الآن أي صدها عن إظهار ذلك يوم أوتيت العلم الذي يقتضيه عبادتها القديمة للشمس، فما مصدرية والمصدر فاعل صد، وجوز كونها موصولة واقعة على الشمس وهي فاعل أيضا والإسناد مجازي على الوجهين. وقوله تعالى: إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ تعليل لسببية عبادتها المذكورة للصد أي إنها كانت من قوم راسخين في الكفر فلذلك لم تكن قادرة على إظهار إسلامها وهي بين ظهرانيهم إلى أن حضرت بين يدي سليمان عليه السلام. وقرأ سعيد بن جبير وابن أبي عبلة «أنها» بفتح الهمزة على تقدير لام التعليل أي لأنها أو جعل المصدر بدلا من فاعل صد بدل اشتمال. وقيل: قوله تعالى: وَأُوتِينَا إلخ من كلام قوم سليمان عليه السلام كأنهم لما سمعوها أجابت السؤال بقولها: كَأَنَّهُ هُوَ قالوا. قد أصابت في جوابها فطبقت المفصل وهي عاقلة لبيبة وقد رزقت الإسلام وعلمت قدرة الله عز وجل وصحة النبوة بالآيات التي تقدمت وبهذه الآية العجيبة من أمر عرشها وعطفوا على ذلك قولهم: وأوتينا العلم بالله تعالى وبقدرته وبصحة ما جاء من عنده سبحانه قبل علمها ولم نزل على دين الإسلام، وكان هذا منهم شكرا لله تعالى على فضلهم عليها وسبقهم إلى العلم بالله تعالى والإسلام قبلها، ويومىء إلى هذا المطوي جعل علمهم وإسلامهم قبلها، وقوله تعالى: وَصَدَّها إلخ على هذا يحتمل أن يكون من تتمة كلام القوم. ويحتمل أن يكون ابتداء أخبار من جهته عز وجل. وعن مجاهد وزهير بن محمد أن وَأُوتِينَا من كلام سليمان عليه السلام، وفي وَصَدَّها إلخ عليه أيضا احتمال، ولا يخفي ما في جعل وَأُوتِينَا إلخ من كلام القوم أو من كلام سليمان عليه السلام من البعد والتكلف وليس في ذلك جهة حسن سوى اتساق الضمائر المؤنثة. وقيل: إن وَأُوتِينَا إلخ من تتمة كلامها. وقوله تعالى: وَصَدَّها إلخ ابتداء أخبار من جهته تعالى لبيان حسن حالها وسلامة إسلامها عن شوب الشرك بجعل فاعل صدها ضميره عز وجل أو ضمير سليمان عليه السلام. وما مصدرية أو موصولة قبلها حرف جر مقدر أي صدها الله تعالى أو سليمان عن عبادتها من دون الله أو عن الذي تعبده من دونه تعالى. ونقل ذلك أبو حيان عن الطبري وتعقبه بقوله: وهو ضعيف لا يجوز إلا في الشعر نحو قوله: تمرون الديار ولم تعوجوا وليس من مواضع حذف حرف الجر. وأنت تعلم أن المعنى مع هذا مما لا ينشرح له الصدر، وأبعد بعضهم كل البعد فزعم أن قوله تعالى: وَصَدَّها إلخ متصل بقوله سبحانه: أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ والواو فيه للحال وقد مضمرة وفي البحر أنه قول مرغوب عنه لطول الفصل بينها ولأن التقديم والتأخير لا يذهب إليه إلا عند الضرورة. ولعمري من أنصف رأى أن ما ذكر مما لا ينبغي أن يخرج عليه كلام الله تعالى المجيد، وأنا أقول بعد القيل والقال: إن وجه ربط هذه الجمل مما يحتاج إلى تدقيق النظر فليتأمل والله تعالى الموفق. لَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ استئناف بياني كأنه قيل فماذا قيل لها بعد الامتحان المذكور؟ فقيل: يلَ لَهَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 202 ادْخُلِي إلخ ولم يعطف على قوله تعالى: أَهكَذا عَرْشُكِ لئلا يفوت هذا المعنى. وجيء بلها هنا دون ما مر لمكان أمرها، وصَّرْحَ القصر وكل بناء عال. ومنه ابْنِ لِي صَرْحاً [غافر: 36] وهو من التصريح وهو الإعلان البالغ، وقال مجاهدصَّرْحَ هنا البركة وقال ابن عيسى الصحن وصرحة الدار ساحتها وروي أن سليمان عليه السلام أمر الجن قبل قدومها فبنوا له على طريقها قصرا من زجاج أبيض وأجرى من تحته الماء وألقى فيه من دواب البحر السمك وغيره. وفي رواية أنهم بنوا له صرحا وجعلوا له طوابيق من قوارير كأنها الماء وجعلوا في باطن الطوابيق كل ما يكون من الدواب في البحر ثم أطبقوه، وهذا أوفق بظاهر الآية- ووضع سريره في صدره فجلس عليه وعكفت عليه الطير والجن والإنس وفعل ذلك امتحانا لها أيضا على ما قيل، وقيل: ليزيدها استعظاما لأمره وتحقيقا لنبوته وثباتا على الدين، وقيل لأن الجن قالوا له عليه السلام إنها شعراء الساقين ورجلها كحافر الحمار فأراد الكشف عن حقيقة الحال بذلك، وقال الشيخ الأكبر قدس سره ما حاصله إنه أراد أن ينبهها بالفعل على أنها صدقت في قولها في العرش «كأنه هو» حيث إنه انعدم في سبأ ووجد مثله بين يديه فجعل لها صرحا في غاية اللطف والصفاء كأنه ماء صاف وليس به، وهذا غاية الإنصاف منه عليه السلام ولا أظن الأمر كما قال والله تعالى أعلم. واستدل بالآية على القول بأن أمرها بدخول الصرح ليتوصل به إلى كشف حقيقة الحال على إباحة النظر قبل الخطبة وفيه تفصيل مذكور في كتب الفقه. َمَّا رَأَتْهُ أي رأت صحنه بناء على أن الصرح بمعنى القصرسِبَتْهُ لُجَّةً أي ظنته ماء كثيرا كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها لئلا تبتل أذيالها كما هو عادة من يريد الخوض في الماء، وقرأ ابن كثير برواية قنبل «سأقيها» بهمز ألف ساق حملا له على جمعه سؤق وأسؤق فإنه يطرد في الواو المضمومة هي أو ما قبلها قلبها همزة فانجر ذلك بالتبعية إلى المفرد الذي في ضمنه. وفي البحر حكى أبو علي أن أبا حية النميري كان يهمز كل واو قبلها ضمة وأنشد: أحب المؤقدين إلى مؤسى وفي الكشف الظاهر أن الهمز لغة في ساق ويشهد له هذه القراءة الثابتة في السبعة. وتعقب بأنه يأباه الاشتقاق. وأيا ما كان فقول من قال: إن هذه القراءة لا تصح لا يصح الَ أي سليمان عليه السلام حين رأى ما اعتراها من الدهشة والرعب، وقيل: القائل هو الذي أمرها بدخول الصرح وهو خلاف الظاهرنَّهُ أي ما حسبته لجةرْحٌ مُمَرَّدٌ أي مملس ومنه الأمرد للشاب الذي لا شعر في وجهه وشجرة مرداء لا ورق عليها ورملة مرداء لا تنبت شيئا والمراد المتعري من الخيرنْ قَوارِيرَ من الزجاج وهو جمع قارورة. لَتْ حين عاينت هذا الأمر العظيم بِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي أي بما كنت عليه من عبادة الشمس، وقيل: بظني السوء بسليمان عليه السلام حيث ظنت أنه يريد إغراقها في اللجة وهو بعيد. ومثله ما قيل أرادت ظلمت نفسي بامتحاني سليمان حتى امتحنني لذلك بما أوجب كشف ساقي بمرأى منه أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ تابعة له مقيدة به، وما في قوله تعالى: لَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ من الالتفات إلى الاسم الجليل لإظهار معرفتها بألوهيته تعالى وتفرده باستحقاق العبادة وربوبيته لجميع الموجودات التي من جملتها ما كانت تعبده قبل ذلك من الشمس، وكأن هذا القول تجديد لإسلامها على أتم وجه وقد أخرجته مخرجا لا أنانية فيه ولا كبر أصلا كما لا يخفى. واختلف في أمرها بعد الإسلام فقيل إنه عليه السلام تزوجها وأحبها وأقرها على ملكها وأمر الجن فبنوا لها سيلحين وغمدان وكان يزورها في الشهر مرة فيقيم عندها ثلاثة أيام وولدت له. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 203 وأخرج ابن عساكر عن سلمة بن عبد الله بن ربعي أنه عليه السلام أمهرها بعلبك، وذكر غير واحد أنها حين كشفت عن ساقيها أبصر عليهما شعرا كثيرا فكره أن يتزوجها كذلك فدعا الإنس فقال: ما يذهب بهذا؟ فقالوا: يا رسول الله المواسي فقال: المواسي تقطع ساقي المرأة . وفي رواية أنه قيل لها ذلك فقالت لم يمسسني الحديد قط فكره سليمان المواسي وقال: إنها تقطع ساقيها ثم دعا الجن فقالوا مثل ذلك ثم دعا الشياطين فوضعوا له النورة ، قال ابن عباس وكان ذلك اليوم أول يوم رؤيت فيه النورة، وعن عكرمة أن أول من وضع النورة شياطين الإنس وضعوها لبلقيس وهو خلاف المشهور، ويروى أن الحمام وضع يومئذ. وفي تاريخ البخاري عن أبي موسى الأشعري قال: «قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم أول من صنعت له الحمامات سليمان» وأخرج الطبراني. وابن عدي في الكامل والبيهقي في شعب الإيمان عنه أيضا قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: «أول من دخل الحمام سليمان فلما وجد حره قال أوه من عذاب الله تعالى» وروي عن وهب أنه قال: زعموا أن بلقيس لما أسلمت قال لها سليمان: اختاري رجلا من قومك أزوجكه فقالت: أمثلي يا نبي الله تنكح الرجال وقد كان في قومي من الملك والسلطان ما كان؟ قال: نعم إنه لا يكون في الإسلام إلا ذلك وما ينبغي لك أن تحرمي ما أحل الله تعالى لك فقالت: زوجني إن كان لا بد من ذلك ذا تبع ملك همدان فزوجها إياه ثم ردها إلى اليمن وسلط زوجها ذا تبع على اليمن ودعا زوبعة أمير جن اليمن فقال: اعمل لذي تبع ما استعملك فيه فلم يزل بها ملكا يعمل له فيها حتى مات سليمان فلما أن حال الحول وتبين الجن موته عليه السلام أقبل رجل منهم فسلك تهامة حتى إذا كان في جوف اليمن صرخ بأعلى صوته يا معشر الجن إن الملك سليمان قد مات فارفعوا أيديكم فرفعوا أيديهم وتفرقوا وانقضى ملك ذي تبع وملك بلقيس مع ملك سليمان عليه السلام. وقال عون بن عبد الله: سأل رجل عبد الله بن عتبة هل تزوج سليمان بلقيس فقال انتهى أمرها إلى قولها: سْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قيل: يعني لا علم لنا وراء ذلك. والمشهور أنه عليه السلام تزوجها وإليه ذهب جماعة من أهل الأخبار وأخرج البيهقي في الزهد عن الأوزاعي قال: كسر برج من أبراج تدمر فأصابوا فيه امرأة حسناء دعجاء مدمجة كأن أعطافها طي الطوامير عليها عمامة طولها ثمانون ذراعا مكتوب على طرف العمامة بالذهب «بسم الله الرحمن الرحيم أنا بلقيس ملكة سبأ زوجة سليمان بن داود عليهما السلام ملكت من الدنيا كافرة ومؤمنة ما لم يملكه أحد قبلي ولا يملكه أحد بعدي صار مصيري إلى الموت فاقصروا يا طالبي الدنيا» والله تعالى أعلم بصحة الخبر، وكم في هذه القصة من أخبار الله تعالى أعلم بالصحيح منها، والقصة في نفسها عجيبة وقد اشتملت على أشياء خارقة للعادة بل يكاد العقل يحيلها في أول وهلة، ومما يستغرب ولله تعالى فيه سر خفي خفاء أمر بلقيس على سليمان عدة سنين كما قاله غير واحد مع أن المسافة بينه وبينها لم تكن في غاية البعد وقد سخر الله تعالى له من الجن والشياطين والطير والريح ما سخر وهذا أغرب من خفاء أمر يوسف على يعقوب عليهما السلام بمراتب، وسبحان من لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات وفي الأرض، وهذا وللصوفية في تطبيق ما في هذه القصة على ما في الأنفس كلام طويل، ولعل الأمر سهل على من له أدنى ذوق بعد الوقوف على بعض ما مر من تطبيقاتهم ما في بعض القصص على ذلك والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا عطف على قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً مسوق لما سيق هو له، واللام واقعة في جواب قسم محذوف أي وبالله لقد أرسلنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً وإنما أقسم على ذلك اعتناء بشأن الحكم، وصالِحاً بدل من أَخاهُمْ أو عطف بياني، وأن في قوله تعالى: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مفسرة لما في الإرسال من معنى القول دون حروفه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 204 وجوز كونها مصدرية حذف منها حرف الجر أي بأن، وقيل لأن ووصلها بالأمر جائز لا ضير فيه كما مر. وقرىء بضم النون اتباعا لها للباء فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ أي فاجأ إرسالنا تفرقهم واختصامهم فآمن فريق وكفر فريق وكان ما حكى الله تعالى في محل آخر بقوله سبحانه: قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ [الأعراف: 75] الآية. فإذا فجائية والعامل فيها مقدر لا يَخْتَصِمُونَ خلافا لأبي البقاء لأنه صفة فَرِيقانِ كما قال ومعمول الصفة لا يتقدم على الموصوف، وقيل: هذا حيث لا يكون المعمول ظرفا، وضمير يَخْتَصِمُونَ لمجموع الفريقين ولم يقل يختصمان للفاصلة، ويوهم كلام بعضهم أن الجملة خبر ثان وهو كما ترى، وهُمْ راجع إلى ثمود لأنه اسم للقبيلة، وقيل: إلى هؤلاء المذكورين ليشمل صالحا عليه السلام والفريقان حينئذ أحدهما صالح وحده وثانيهما قومه. والحامل على هذا كما ذكره ابن عادل العطف بالفاء فإنها تؤذن أنهم عقيب الإرسال بلا مهلة صاروا فريقين ولا يصير قومه عليه السلام فريقين إلا بعد زمان. وفيه أنه يأباه قوله تعالى: اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ وتعقيب كل شيء بحسبه على أنه يجوز كون الفاء لمجرد الترتيب. ولعل فريق الكفرة أكثر ولذا ناداهم بقوله يا قوم كما حكي عنه في قوله تعالى: قالَ يا قَوْمِ لجعله في حكم الكل أي قال عليه السلام للفريق الكافر منهم بعد ما شاهد منهم ما شاهد من نهاية العتو والعناد حتى بلغوا من المكابرة إلى أن قالوا له عليه السلام يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين متلطفا بهم يا قوم لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ أي بالعقوبة التي تسوءكم قَبْلَ الْحَسَنَةِ أي التوبة فتؤخرونها إلى حين نزولها حيث كانوا من جهلهم وغوايتهم يقولون إن وقع إبعاده تبنا حينئذ وإلا فنحن على ما نحن عليه لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ أي هلا تستغفرونه تعالى قبل نزولها لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بقبولها إذ سنة الله تعالى عدم القبول عند النزول. وقد خاطبهم عليه السلام على حسب تخمينهم وجهلهم في ذلك بأن ما خمنوه من التوبة إذ ذاك فاسدة وأن استعجالهم ذلك خارج من المعقول. والتقابل بين السيئة والحسنة بالمعنى الذي سمعت حاصل من كون أحدهما حسنا والآخر سيئا، وقيل: المراد بالسيئة تكذيبهم إياه عليه السلام وكفرهم به وبالحسنة تصديقهم وإيمانهم، والمراد من قوله: لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ إلخ لومهم على المسارعة إلى تكذيبهم إياه وكفرهم به وحضهم على التوبة من ذلك بترك التكذيب والإيمان. وحاصله لومهم على إيقاع التكذيب عند الدعوة دون التصديق وحضهم على تلافي ذلك. وإيهام الكلام انتفاء اللوم على إيقاع التكذيب بعد التصديق مما لا يكاد يلتفت إليه. ولا يخفى بعد طي الكشح عن المناقشة فيما ذكر أن المناسب لما حكى الله تعالى عن القوم في سورة الأعراف ولما جاء في الآثار هو المعنى الأول. ومن هنا ضعف ما روي عن مجاهد من تفسير الحسنة برحمة الله تعالى لتقابل السيئة المفسرة بعقوبته عز وجل ويكون المراد من استعجالهم بالعقوبة قبل الرحمة طلبهم إياها دون الرحمة فتأمل قالُوا اطَّيَّرْنا أصله تطيرنا وقرىء به فأدغمت التاء في الطاء وزيدت همزة الوصل ليتأتى الابتداء، والتطير التشاؤم عبر عنه بذلك لما أنهم كانوا إذا خرجوا مسافرين فيمرون بطائر يزجرونه فإن مر سانحا بأن مر من ميامن الشخص إلى مياسرة تيمنوا وإن مر بارحا بأن مر من المياسر إل الميامن تشاءموا لأنه لا يمكن للمار به كذلك أن يرميه حتى ينحرف فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر استعير لما كان سببا لهما من قدر الله تعالى وقسمته عز وجل أو من عمل العبد الذي هو سبب الرحمة والنعمة أي تشاءمنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ في دينك حيث تتابعت علينا الشدائد- وقد كانوا قحطوا- ولم نزل في اختلاف وافتراق مذ اخترعتم دينكم، وتشاؤمهم يحتمل أن يكون من المجموع وأن يكون من كل من المتعاطفين. قالَ طائِرُكُمْ أي سببكم الذي منه ينالكم ما ينالكم من الشر عِنْدَ اللَّهِ وهو قدره سبحانه أو عملكم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 205 المكتوب عنده عز وجل بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ إضراب من بيان طائرهم الذي هو مبدأ ما يحيق بهم إلى ذكر ما هو الداعي إليه أي بل أنتم قوم تختبرون بتعاقب السراء والضراء أو تعذبون أو يفتنكم الشيطان بوسوسته إليكم الطيرة، وجاء تُفْتَنُونَ بتاء الخطاب على مراعاة أَنْتُمْ وهو الكثير في لسان العرب، ويجوز في مثل هذا التركيب «يفتنون» بياء الغيبة على مراعاة لفظ قَوْمٌ وهو قليل في لسانهم وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ أي مدينة ثمود وقريتهم وهي الحجر تِسْعَةُ رَهْطٍ هو اسم جمع يطلق على العصابة دون العشرة كما قال الراغب وفي الكشاف هو من الثلاثة أو من السبعة إلى العشرة، وقيل: بل يقال إلى الأربعين وليس بمقبول، وأصله على ما نقل عن الكرماني من الترهيط وهو تعظيم اللقم وشدة الأكل، وقد أضيف العدد إليه. وقد اختلف في جواز إضافته إلى اسم الجمع فذهب الأخفش إلى أنه لا ينقاس وما ورد من الإضافة إليه فهو على سبيل الندور، وقد صرح سيبويه أنه لا يقال ثلاث غنم. وذهب قوم إلى أنه يجوز ذلك وينقاس وهو مع ذلك قليل، وفصل قوم بين أن يكون اسم الجميع للقليل كرهط ونفر وذود فيجوز أن يضاف إليه إجراء له مجرى جمع القلة أو للكثير أو يستعمل لهما فلا يجوز إضافته إليه بل إذا أريد تمييزه به جيء به مقرونا بمن كخمسة من القوم، وقال تعالى: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ [البقرة: 260] وهو قول المازني. واختار غير واحد أن إضافة تسعة إلى رهط هاهنا باعتبار أن رهطا لكونه اسم جمع للقليل في حكم أشخاص ونحوه من جموع القلة وهي يضاف إليها العدد كتسعة أشخاص وتسع أنفس وهذا معنى قولهم: إن وقوع رهط تمييزا لتسعة باعتبار المعنى فكأنه قيل تسعة أشخاص، وقيل: أي تسعة أنفس، وتأنيث العدد لأنه المذكور في النظم الكريم رَهْطٍ وهو مذكر فليس ذاك من غير الفصيح كقوله ثلاثة أنفس وثلاث ذود، نعم تقدير ما تقدم أسلم من المناقشة، وأما ما قيل أي تسعة رجال ففيه الغفلة عما أشرنا إليه، ثم إنه ليس المراد أن الرهط بمعنى الشخص أو بمعنى النفس بل إن التسعة من الأشخاص أو من الأنفس هي الرهط فليس المعدود بالتسعة ما دل عليه الرهط من الجماعة ليكون هناك تسع جماعات لا تسعة أفراد. وقال الإمام: الأقرب أن يكون المراد تسعة جمع إذ الظاهر من الرهط الجماعة، ثم يحتمل أنهم كانوا قبائل، ويحتمل أنهم دخلوا تحت العدد لاختلاف صفاتهم وأحوالهم لا لاختلاف النسب اهـ، وقيل: كان هؤلاء التسعة رؤساء مع كل واحد منهم رهط، ولذا قيل تسعة رهط وأسماؤهم عن وهب الهذيل بن عبد رب وغنم بن غنم ودباب ابن مهرج وعمير بن كردية وعاصم بن مخزمة وسبيط بن صدقة وسمعان بن صفي وقدار بن سالف وهم الذين سعوا في عقر الناقة وكانوا عتاة قوم صالح ومن أبناء أشرافهم، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن أسماءهم دعمي ودعيم وهرمي وهريم ودواب وصواب ودياب ومسطح وقدار وهو الذي عقر الناقة يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ لا في المدينة فقط إفسادا بحتا لا يخالطه شيء من الصلاح كما ينطق به قوله تعالى: وَلا يُصْلِحُونَ أي لا يفعلون شيئا من الإصلاح أو لا يصلحون شيئا من الأشياء، والمراد أن عادتهم المستمرة ذلك الإفساد كما يؤذن به المضارع، والجملة في موضع الصفة لرهط أو لتسعة. قالُوا استئناف ببيان بعض ما فعلوا من الفساد أي قال بعضهم لبعض في أثناء المشاورة في أمر صالح عليه السلام. وكان ذلك على ما روي عن ابن عباس بعد أن عقروا الناقة أنذرهم بالعذاب، وقوله: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [هود: 65] إلخ تَقاسَمُوا بِاللَّهِ أمر من التقاسم أي التحالف وقع مقول القول وهو قول الجمهور. وجوز أن يكون فعلا ماضيا بدلا من قالُوا أو حالا من فاعله بتقدير قد أو بدونها أي قالوا متقاسمين ومقول الجزء: 10 ¦ الصفحة: 206 القول لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ إلخ، وجوز أبو حيان على هذا أن يكون بالله من جملة المقول. والبيات مباغتة العدو ومفاجأته بالإيقاع به ليلا وهو غافل، وأرادوا قتله عليه السلام وأهله ليلا وهم غافلون، وعن الإسكندر أنه أشير عليه بالبيات فقال: ليس من آيين الملوك استراق الظفر. وقرأ ابن أبي ليلى «تقسموا» بغير ألف وتشديد السين، والمعنى كما في قراءة الجمهور وقرأ الحسن وحمزة والكسائي «لتبيتنه» بالتاء على خطاب بعضهم لبعض. وقرأ مجاهد وابن وثاب وطلحة والأعمش «ليبيتنه» بياء الغيبة. وتَقاسَمُوا على هذه القراءة لا يصح إلا أن يكون خبرا بخلافه عن القراءتين الأوليين فإنه يصح أن يكون خبرا كما يصح أن يكون أمرا. وذلك لأن الأمر خطاب والمقسم عليه بعده لو نظر إلى الخطاب وجب تاء الخطاب ولو نظر إلى صيغة قولهم عند الحلف وجب النون فأما ياء الغائب فلا وجه له. وإما إذا جعل خبرا فهو على الغائب كما تقول حلف ليفعلن ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ أي لولي صالح والمراد به طالب ثأره من ذوي قرابته إذا قتل. وقرأ «لتقولن» بالتاء من قرأ «لتبيتنه» كذلك. وقرأ «ليقولن» بياء الغيبة من قرأ بها فيما تقدم، وقرأ حميد بن قيس الأول بياء الغيبة وهذا بالنون، قيل: والمعنى على ذلك قالوا متقاسمين بالله ليبيتنه قوم منا ثم لنقولن جميعنا لوليه ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ أي ما حضرنا هلاكهم على أن مَهْلِكَ مصدر كمرجع أو مكان هلاكهم على أنه للمكان أو زمان هلاكهم على أنه للزمان. والمراد نفي شهود الهلاك الواقع فيه، واختاروا نفي شهود مهلك أهله على نفي قتلهم إياهم قصدا للمبالغة كأنهم قالوا ما شهدنا ذلك فضلا عن أن نتولى إهلاكهم. ويعلم من ذلك نفي قتلهم صالحا عليه السلام أيضا لأن من لم يقتل اتباعه كيف يقتله، وقيل في الكلام حذف أي ما شهدنا مهلك أهله ومهلكه، واستظهره أبو حيان ثم قال وحذف مثل هذا المعطوف جائز في الفصيح كقوله تعالى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] أي والبرد، وقال الشاعر: فما كان بين الخير لو جاء سالما ... أبو حجر إلا ليال قلائل أي بين الخير وبيني اه وفيه ما لا يخفى. وقيل: الضمير في أَهْلَهُ يعود على الولي. والمراد بأهل الولي صالح وأهله. واعترض بأنه لو أريد أهل الولي لقيل أهلك أو أهله. ومنع بأن ذلك غير لازم. فقد قرىء «قل للذين كفروا ستغلبون» بالخطاب والغيبة ووجه ذلك ظاهر. نعم رجوع الضمير إلى الولي خلاف الظاهر كما لا يخفى، وقرأ الجمهور «مهلك» بضم الميم وفتح اللام من أهلك وفيه الاحتمالات الثلاث. وقرأ أبو بكر «مهلك» بفتحهما على أنه مصدر وَإِنَّا لَصادِقُونَ عطف على ما شَهِدْنا كما ذهب إليه الزجاج، والمعنى ونحلف وإنا لصادقون، وجوز أن تكون الواو للحال أي والحال إنا لصادقون فيما ذكرنا واستشكل ادعاؤهم الصدق في ذلك وهم عقلاء ينفرون عن الكذب ما أمكن. وأجيب بأن حضور الأمر غير مباشرته في العرف لأنه لا يقال لمن قتل رجلا أنه حضر قتله وإن كان الحضور لازما للمباشرة فحلفوا على المعنى العرفي على العادة في الإيمان وأوهموا الخصم أنهم أرادوا معناه اللغوي فهم صادقون غير حانثين، وكونهم من أهل التعارف أيضا لا يضر بل يفيد فائدة تامة، وقال الزمخشري. كأنهم اعتقدوا أنهم إذا بيتوا صالحا وبيتوا أهله فجمعوا بين البياتين، ثم قالوا ما شهدنا مهلك أهله فذكروا أحدهما كانوا صادقين لأنهم فعلوا البياتين جميعا لا أحدهما. وتعقب بأن من فعل أمرين وجحد أحدهما لم يكن في كذبه شبهة وإنما تتم الحيلة لو فعلوا أمرا واحدا وادعى عليهم فعل أمرين فجحدوا المجموع. ولذا لم يختلف العلماء في أن من حلف لا أضرب زيدا فضرب زيدا وعمرا كان حانثا بخلاف من حلف لا أضرب زيدا وعمرا ولا آكل رغيفين فأكل أحدهما فإنه محل خلاف للعلماء في الحنث وعدمه، والحق أن تبرئتهم من الكذب فيما ذكر غير لازمة حتى يتكلف لها وهم الذين كذبوا على الله تعالى ورسوله عليه السلام وارتكبوا ما هو أقبح من الكذب فيما ذكر، ومقصود الزمخشري تأييد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 207 ما يزعمه وهو وقومه من قاعدة التحسين والتقبيح بالعقل بموافقة قوم صالح عليها ولا يكاد يتم له ذلك وَمَكَرُوا مَكْراً بهذه المواضعة وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي أهلكناهم إهلاكا غير معهود أو جازينا مكرهم من حيث لا يحتسبون فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ شروع في بيان ما ترتب على ما باشروه من المكر، والظاهر أن كَيْفَ خبر مقدم لكان وعاقِبَةُ الاسم أي كان عاقبة مكرهم واقعة على وجه عجيب يعتبر به، والجملة في محل نصب على أنها مفعول انظر وهي معلقة لمكان الاستفهام، والمراد تفكر في ذلك. وقوله تعالى: أَنَّا دَمَّرْناهُمْ في تأويل مصدر وقع بدلا من «عاقبة مكرهم» أو خبر مبتدأ محذوف هو ضمير العاقبة، والجملة مبينة لما في عاقبة مكرهم من الإبهام أي هو أوهى تدميرنا وإهلاكنا إياهم وَقَوْمَهُمْ الذين لم يكونوا منهم في مباشرة التبييت أَجْمَعِينَ بحيث لم يشذ منهم شاذ أو هو على تقدير الجار أي لتدميرنا إياهم أو بتدميرنا إياهم ويكون ذلك تعليلا لما ينبىء عنه الأمر بالنظر في كيفية عاقبة أمرهم من الهول والفظاعة. وجوز بعضهم كونه بدلا من كَيْفَ، وقال آخرون: لا يجوز ذلك لأن البدل عن الاستفهام يلزم فيه إعادة حرفه كقولك كيف زيد أصحيح أم مريض؟. وجوز أن يكون هو الخبر لكان وتكون كَيْفَ حينئذ حالا والعامل فيها كان أو ما يدل عليه الكلام من معنى الفعل، ويجوز أن تكون كان تامة وكَيْفَ عليه حال لا غير والاحتمالات الجائزة في أَنَّا دَمَّرْناهُمْ لا تخفى. وقرأ الأكثر إنا بكسر الهمزة فكيف خبر كان وعاقِبَةُ اسمها وجملة أَنَّا دَمَّرْناهُمْ استئناف لتفسير العاقبة، وجوز أن تكون خبر مبتدأ محذوف. قال الخفاجي: الظاهر أنه الشأن أو ضميره لا شيء آخر مما يحتاج للعائد ليعترض عليه بعدم العائد. ولا يرد عليه أن ضمير الشأن المرفوع منع كثير من النحويين حذفه فإنه غير مسلم، ويجوز أن تكون كانَ تامة وكَيْفَ حال كما تقدم ولم يجوز الجمهور كونها ناقصة والخبر جملة أَنَّا دَمَّرْناهُمْ لعدم الرابط، وقيل: يجوز ويكفي للربط وجود ما يرجع إلى متعلق المبتدأ إذ رجوعه إليه نفسه غير لازم وهو تكلف وإنما يتمشى على مذهب الأخفش القائل إذا قام بعض الجملة مقام مضاف إلى العائد اكتفى به، وغيره من النحاة يأباه، وجوز أبو حيان على كلتا القراءتين أن تكون كانَ زائدة وعاقِبَةُ مبتدأ وكَيْفَ خبر مقدم له. وقرأ أبي «أن دمرناهم» بأن التي من شأنها أن تنصب المضارع ويجري في المصدر الاحتمالات السابقة فيه على قراءة «أنا» بفتح الهمزة. هذا وفي كيفية التدمير خلاف، فروى أنه كان لصالح عليه السلام مسجد في الحجر في شعب يصلي فيه فقالوا زعم صالح أنه يفرغ منا بعد ثلاث فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث فخرجوا إلى الشعب وقالوا إذا جاء يصلي قتلناه ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم فبعث الله تعالى صخرة من الهضب حيالهم فبادروا فطبقت عليهم فم الشعب فلم يدر قومهم أين هم ولم يدروا ما فعل بقومهم وعذب الله تعالى كلا منهم في مكانه ونجى صالحا ومن معه، وقيل: جاؤوا بالليل شاهري سيوفهم، وقد أرسل الله تعالى ملائكة ملء دار صالح عليه السلام فرموهم بالحجارة يرونها ولا يرون راميا وهلك سائر القوم بالصيحة وقيل: إنهم عزموا على تبييته عليه السلام وأهله فأخبر الله تعالى بذلك صالحا فخرج عنهم ثم أهلكهم بالصيحة وكان ذلك يوم الأحد فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ جملة مقررة لما قبلها. وقوله تعالى: خاوِيَةً أي خالية أو ساقطة متهدمة أعاليها على أسافلها كما روي عن ابن عباس بِما ظَلَمُوا أي بسبب ظلمهم المذكور حال من بُيُوتُهُمْ والعامل فيها معنى الإشارة. وقرأ عيسى بن عمر «خاوية» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي خاوية أو خبر بعد خبر لتلك أو خبر لها وبُيُوتُهُمْ بدل وبيوتهم هذه هي التي قال فيها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 208 صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه عام تبوك «لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين» الحديث . وهي بوادي القرى بين المدينة والشام إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر من التدمير العجيب بظلمهم لَآيَةً لعبرة عظيمة لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي ما من شأنه أن يعلم من الأشياء أو لقوم يتصفون بالعلم، وقيل: لقوم يعلمون هذه القصة وليس بشيء، وفي هذه الآية على ما قيل دلالة على الظلم يكون سببا لخراب الدور. وروي عن ابن عباس أنه قال أجد في كتاب الله تعالى أن الظلم يخرب البيوت وتلا هذه الآية، وفي التوراة ابن آدم لا تظلم يخرب بيتك، قيل وهو إشارة إلى هلاك الظالم إذ خراب بيته متعقب هلاكه، ولا يخفى أن كون الظلم بمعنى الجور والتعدي على عباد الله تعالى سببا لخراب البيوت مما شوهد كثيرا في هذه الأعصار، وكونه بمعنى الكفر كذلك ليس كذلك. نعم لا يبعد أن يكون على الكفرة يوم تخرب فيه بيوتهم إن شاء الله تعالى وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا صالحا ومن معه من المؤمنين وَكانُوا يَتَّقُونَ من الكفر والمعاصي اتقاء مستمرا فلذا خصوا بالنجاة، روي أن الذين آمنوا به عليه السلام كانوا أربعة آلاف خرج بهم صالح إلى حضرموت وحين دخلها مات ولذلك سميت بهذا الاسم وبنى المؤمنون بها مدينة يقال لها حاضورا، وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر وَلُوطاً منصوب بمضمر معطوف على «أرسلنا» في صدر قصة صالح عليه السلام داخل معه في حيز القسم أي وأرسلنا لوطا إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ ظرف للإرسال على أن المراد به أمر ممتد وقع فيه الإرسال وما جرى بينه وبين قومه من الأحوال والأقوال. وجوز أن يكون منصوبا بإضمار اذكر معطوفا على ما تقدم عطف قصة على قصة وإِذْ بدل منه بدل اشتمال وليس بذاك. وقيل: هو معطوف على صالِحاً. وتعقب بأنه غير مستقيم لأن صالحا بدل أو عطف بيان لأخاهم وقد قيد بقيد مقدم عليه وهو «إلى ثمود» فلو عطف عليه تقيد به ولا يصح لأن لوطا عليه السلام لم يرسل إلى ثمود وهو متعين إذا تقدم القيد بخلاف ما لو تأخر، وقيل إن تعينه غير مسلم إذ يجوز عطفه على مجموع القيد والمقيد لكنه خلاف المألوف في الخطابيات وارتكاب مثله تعسف لا يليق، وجوز أن يكون عطفا على الذين آمنوا. وتعقب بأنه لا يناسب أساليب سرد القصص من عطف إحدى القصتين على الأخرى لا على تتمة الأولى وذيلها كما لا يخفى أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ أي أتفعلون الفعلة المتناهية في القبح والسماجة، والاستفهام إنكاري. وقوله تعالى: وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ جملة حالية من فاعل تَأْتُونَ مفيدة لتأكيد الإنكار فإن تعاطي القبيح من العالم بقبحه أقبح وأشنع، وتُبْصِرُونَ من بصر القلب أي أتفعلونها والحال أنتم تعلمون علما يقينيا كونها كذلك. (1) ويجوز أن يكون من بصر العين أي وأنتم ترون وتشاهدون كونها فاحشة على تنزيل ذلك لظهوره منزلة المحسوس، وقيل: مفعول تُبْصِرُونَ من المحسوسات حقيقة أي وأنتم تبصرون آثار العصاة قبلكم أو وأنتم ينظر بعضكم بعضا لا يستتر ولا يتحاشى من إظهار ذلك لعدم اكتراثكم به، ووجه إفادة الجملة على الاحتمالين تأكيد الإنكار أيضا ظاهر، وقوله تعالى: أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً تثنية للإنكار وبيان لما يأتونه من الفاحشة بطريق التصريح بعد الإبهام، وتحلية الجملة بحرفي التأكيد للإيذان بأن مضمونها مما لا يصدق وقوعه أحد لكمال شناعته، وإيراد المفعول بعنوان الرجولية دون الذكورية لتربيته التقبيح وبيان اختصاصه ببني آدم، وتعليل الإتيان بالشهوة تقبيح على تقبيح لما أنها ليست في محلها، وفيه إشارة إلى أنهم مخطئون في محلها فعلا، وفي قوله تعالى: مِنْ دُونِ النِّساءِ   (1) تم الجزء التاسع عشر من تفسير روح المعاني ويليه إن شاء الله تعالى الجزء العشرون وأوله فما كان جواب قومه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 209 أي متجاوزين النساء اللاتي هن محال الشهوة إشارة إلى أنهم مخطؤن فيه تركا، ويعلم مما ذكرنا أن شَهْوَةً مفعول له للإتيان، وجوز أن يكون حالا. بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ أي تفعلون فعل الجاهلين بقبح ذلك أو يجهلون العاقبة أو الجهل بمعنى السفاهة والمجون أي بل أنتم قوم سفهاء ما جنون كذا في الكشاف، وأيا ما كان فلا ينافي قوله تعالى: وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ولم يرتض ذلك الطيبي وزعم أن كلمة الإضراب تأباه: ووجه الآية بأنه تعالى لما أنكر عليهم فعلهم على الإجمال وسماه فاحشة وقيده بالحال المقررة لجهة الإشكال تتميما للإنكار بقوله تعالى: وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أراد مزيد ذلك التوبيخ والإنكار فكشف عن حقيقة تلك الفاحشة وأشار سبحانه إلى ما أشار ثم أضرب عن الكل بقوله سبحانه: بَلْ أَنْتُمْ إلخ أي كيف يقال لمن يرتكب هذه الفحشاء وأنتم تعلمون فأولى حرف الإضراب ضمير أَنْتُمْ وجعلهم قوما جاهلين والتفت في تَجْهَلُونَ موبخا معيرا اه وفيه نظر. والقول بالالتفات هنا مما قاله غيره أيضا وهو التفات من الغيبة التي في قَوْمٌ إلى الخطاب في تَجْهَلُونَ وتعقبه الفاضل السالكوتي بأنه وهم إذ ليس المراد بقوم قوم لوط حتى يكون المعبر عنه في الأسلوبين واحدا كما هو شرط الالتفات بل معنى كلي حمل على قوم لوط عليه السلام. وقال بعض الأجلة: إن الخطاب فيه مع أنه صفة لقوم- وهو اسم ظاهر- من قبيل الغائب لمراعاة المعنى لأنه متحد مع أَنْتُمْ لحمله عليه، وجعله غير واحد مما غلب فيه الخطاب، وأورد عليه أن في التغليب تجوزا ولا تجوز هنا. وأجيب بأن نحو تَجْهَلُونَ موضوع للخطاب مع جماعة لم يذكروا بلفظ غيبة وهنا ليس كذلك فكيف لا يكون فيه تجوز، وقيل قولهم إن في التغليب تجوزا خارج مخرج الغالب، وقال الفاضل السالكوتي إن قوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ إلخ من المجاز باعتبار ما كان فإن المخاطب في تَجْهَلُونَ باعتبار كون القوم مخاطبين في التعبير بأنتم فلا يرد أن اللفظ لم يستعمل فيه في غير ما وضع له ولا الهيئة التركيبية ولم يسند الفعل إلى غير ما هو له فيكون هناك مجاز فافهم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 210 الجزء العشرون الجزء: 10 ¦ الصفحة: 211 بسم الله الرحمن الرحيم فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ أي من اتبع دينه وإخراجه عليه السلام يعلم من باب أولى. وقال بعض المحققين: المراد بآل لوط هو عليه السلام ومن تبع دينه كما يراد من بني آدم آدم وبنوه، وأيا ما كان فلا تدخل امرأته عليه السلام فيهم، وقوله سبحانه: إِلَّا إلخ استثناء مفرغ واقع في موقع اسم كان، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق «جواب» بالرفع فيكون ذاك واقعا موقع الخبر، وقد مر تحقيق الكلام في مثل هذا التركيب، وفي قوله تعالى: مِنْ قَرْيَتِكُمْ بإضافة القرية إلى- كم- تهوين لأمر الإخراج، وقوله جل وعلا: إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ تعليل للأمر على وجه يتضمن الاستهزاء أي إنهم أناس يزعمون التطهر والتنزه عن أفعالنا أو عن الأقذار ويعدون فعلنا قذرا وهم متكلفون بإظهار ما ليس فيهم، والظاهر أن هذا الجواب صدر عنهم في المرة الأخيرة من مراتب مواعظه عليه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 213 السلام بالأمر والنهي لا أنه لم يصدر عنهم كلام آخر غيره فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ أي بعد إهلاك القوم فالفاء فصيحة إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها أي قدرنا كونها مِنَ الْغابِرِينَ أي الباقين في العذاب، وقدر المضاف لأن التقدير يتعلق بالفعل لا بالذات، وجاء في آية أخرى ما يقتضي ذلك، وهو قوله تعالى: قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ [الحجر: 60] . وقرأ أبو بكر «قدرناها» بتخفيف الدال وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً غير معهود فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ أي فبئس مطر المنذرين مطرهم، وقد مر مثل هذا فارجع إلى ما ذكرناه عنده. قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى إثر ما قص سبحانه وتعالى على رسوله صلّى الله عليه وسلّم قصص الأنبياء المذكورين وأخبارهم الناطقة بكمال قدرته تعالى وعظم شأنه سبحانه وبما خصهم به من الآيات القاهرة والمعجزات الباهرة الدالة على جلالة أقدارهم وصحة أخبارهم، وقد بين على ألسنتهم صحة الإسلام والتوحيد وبطلان الكفر والإشراك وأن من اقتدى بهم فقد اهتدى ومن أعرض عنهم فقد تردى في مهاوي الردى، وشرح صدره الشريف صلّى الله تعالى عليه وسلّم بما في تضاعيف تلك القصص من فنون المعارف الربانية، ونور قلبه بأنوار الملكات السبحانية الفائضة من عالم القدس، وقرر بذلك فحوى قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ [النمل: 6] . أمر صلّى الله تعالى عليه وسلّم أن يحمده بأتم وجه على تلك النعم ويسلم على كافة الأنبياء عليهم السلام الذين من جملتهم من قصت أخبارهم وشرحت آثارهم عرفانا لفضلهم وأداء لحق تقدمهم واجتهادهم في الدين، فالمراد بالعباد المصطفين الأنبياء عليهم السلام لدلالة المقام، وقوله تعالى في آية أخرى: وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [الصافات: 181] ، وقيل: هذا أمر له صلّى الله تعالى عليه وسلّم بحمده تعالى على هلاك الهالكين من كفار الأمم، والسلام على الأنبياء وأتباعهم الناجين صلّى الله تعالى عليهم وسلم، والسلام على غير الأنبياء عليهم السلام إذا لم يكن استقلالا مما لا خلاف في جوازه، ولعل المنصف لا يرتاب في جوازه على عباد الله تعالى المؤمنين مطلقا، وقيل: أمر له عليه الصلاة والسلام بالحمد على ما خصه جل وعلا به من رفع عذاب الاستئصال عن أمته ومخالفتهم لمن قبلهم ممن ذكرت قصته من الأمم المستأصلة بالعذاب، وبالسلام على الأنبياء الذين صبروا على مشاق الرسالة. فالمراد بالمصطفين الأنبياء خاصة، وأخرج عبد بن حميد والبزار وابن جرير وغيرهم عن ابن عباس أنه قال فيهم: هم أصحاب محمد صلّى الله تعالى عليه وسلّم اصطفاهم الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن سفيان الثوري أنه قال في وَسَلامٌ إلخ: نزلت في أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم خاصة. وهذا ظاهر في القول بجواز السلام على غير الأنبياء استقلالا كما هو مذهب الحنابلة وغيرهم، والكلام على جميع هذه الأقوال متصل بما قبله، وجعله الزمخشري من باب الاقتضاب كأنه خطبة مبتدأة حيث قال: أمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يتلو هذه الآيات الناطقة بالبراهين على وحدانيته تعالى وقدرته على كل شيء وحكمته أعني قوله سبحانه: آللَّهُ إلخ، وأن يستفتح بتحميده والسلام على أنبيائه والمصطفين من عباده. وفيه تعليم حسن وتوقيف على أدب جميل وبعث على التيمن بالذكرين والتبرك بهما والاستظهار بمكانهما على قبول ما يلقى إلى السامعين وإصغائهم إليه وإنزاله من قلوبهم المنزلة التي يبغيها المسمع، ولقد توارثت العلماء والخطباء والوعاظ كابرا عن كابر هذا الأدب فحمدوا الله تعالى وصلوا على رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم أمام كل علم مفاد وقبل كل موعظة وتذكرة وفي مفتتح كل خطبة، وتبعهم المتراسلون فآجروا عليه أوائل كتبهم في الفتوح والتهاني وغير ذلك من الحوادث التي لها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 214 شأن انتهى، ولعل جعل ذلك تخلصا من قصص الأنبياء عليهم السلام إلى ما جرى له صلى الله تعالى عليه وسلّم مع المشركين أولى، وأبعد الأقوال باتصاله بما قبله، وجعل ذلك أمرا للوط عليه السلام بأن يحمده تعالى على إهلاك كفرة قومه، وأن يسلم على من اصطفاه بالعصمة عن الفواحش والنجاة عن الهلاك لعدم ملاءمته لما بعده واحتياجه إلى تقدير وقلنا له، وعزا هذا القول ابن عطية للفراء، وقال: هذه عجمة من الفراء، والظاهر أن سَلامٌ مبتدأ وما بعده خبره، والجملة معطوفة على الْحَمْدُ لِلَّهِ داخلة معه في حيز القول. وقرأ أبو السمال «الحمد لله» بفتح اللام آللَّهُ بالمد لقلب همزة الاستفهام ألفا والأصل أالله. خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ والظاهر أن (ما) موصولة والعائد محذوف أي (الله) الذي ذكرت شؤونه العظيمة خير أم الذي يشركونه من الأصنام، وخَيْرٌ أفعل تفضيل ومرجع الترديد إلى التعريض بتبكيت الكفرة من جهته عز وجل وتسفيه آرائهم الركيكة والتهكم بهم إذ من البين أن ليس فيما أشركوه به سبحانه شائبة خير حتى يمكن أن يوازن بينه وبين من هو خير محض، وقيل: خَيْرٌ ليست للتفضيل مثلها في قولك: الصلاة خير تعني خيرا من الخيور، والمختار الأول، واستظهره أبو حيان، وقال: كثيرا ما يجيء هذا النوع من أفعل التفضيل حيث يعلم ويتحقق أنه لا شركة هناك، وإنما يذكر على سبيل إلزام الخصم وتنبيهه على الخطأ ويقصد بالاستفهام في مثل ذلك إلزامه الإقرار بحصر التفضيل في جانب واحد وانتفائه عن الآخر، واستظهر أيضا كون المراد بالخيرية الخيرية في الذات، وقيل: الخيرية فيما يتعلق بها، وفي الكلام حذف في موضعين، والتقدير أعبادة الله تعالى خير أم عبادة ما يشركون، وقيل: (ما) مصدرية والحذف في موضع واحد، والتقدير أتوحيد الله خير أم إشراكهم ولا داعي لجميع ذلك، وأيا ما كان فضمير الغائب لقريش ونحوهم من المشركين، وقيل: لأولئك المهلكين وليس بشيء، وقرأ الأكثرون- تشركون- بالتاء الفوقانية على توجيه الخطاب لمن ذكرنا من الكفرة وهو الأليق بما بعده من سياق النظم الكريم، وجعل أبو البقاء هذه الجملة من جملة القول المأمور به، وتعقب بأنه يأباه قوله تعالى: فَأَنْبَتْنا إلخ فإنه صريح في أن التبكيت من قبله عز وجل بالذات، وحمله على أنه حكاية منه عليه الصلاة والسلام لما أمر به بعبادته كما في قوله سبحانه: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزمر: 53] ، تعسف ظاهر من غير داع إليه، وفي بعض الآثار أنه صلّى الله تعالى عليه وسلّم كان إذا قرأ هذه الآية قال: بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم ، و (أم) في قوله تعالى: أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ منقطعة لا متصلة كالسابقة، وبل المقدرة على القراءة الأولى وهي قراءة الحسن وقتادة وعاصم وأبي عمرو للإضراب والانتقال من التبكيت تعريضا إلى التصريح به خطابا على وجه أظهر منه لمزيد التأكيد والتشديد، وأما على القراءة الثانية فلتثنية التبكيت وتكرير الإلزام كنظائرها الآتية، والهمزة لحملهم على الإقرار بالحق الذي لا محيص لمن له أدنى تمييز عن الإقرار به، ومن مبتدأ خبره محذوف مع أم المعادلة للهمزة تعويلا على ما سبق في الاستفهام الأول خلا- أن تشركون- المقدر هاهنا بتاء الخطاب على القراءتين معا، وهكذا في المواضع الأربعة الآتية، والمعنى أم من خلق قطري العالم الجسماني ومبدأي منافع ما بينهما وَأَنْزَلَ لَكُمْ التفات إلى خطاب الكفرة على القراءة الأول لتشديد التبكيت والإلزام، واللام تعليلية أي وأنزل لأجلكم ومنفعتكم مِنَ السَّماءِ ماءً أي نوعا منه وهو المطر فَأَنْبَتْنا بِهِ بمقتضى الحكمة لا أن الإنبات موقوف عليه عقلا، وقيل: أي أنبتنا عنده حَدائِقَ جمع حديقة وهي كما في البحر البستان سواء أحاط به جدار أم لا، وهو ظاهر إطلاق تفسير ابن عباس حيث فسر الحدائق لابن الأزرق بالبساتين ولم يقيد، وقال الزمخشري: هي البستان عليه حائط من الإحداق وهو الإحاطة، وهو مروي عن الضحاك، وقال الراغب: هي قطعة من الأرض ذات ماء سميت حديقة تشبيها بحدقة العين في الهيئة وحصول الماء فيها، ولعل الأظهر ما في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 215 البحر وكأن وجه تسمية البستان عليه حديقة أن من شأنها أن تحدق بالحيطان أو تصرف نحوها الأحداق وتنظر إليها ذاتَ بَهْجَةٍ أي ذات حسن ورونق يبتهج به الناظر ويسر ما كانَ لَكُمْ أي ما صح وما أمكن لكم أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها فضلا عن خلق ثمرها وسائر صفاتها البديعة خير أم ما تشركون، وتقدير الخبر هكذا هو ما اختاره الزمخشري وتبعه غيره. وقال ابن عطية: يقدر الخبر يكفر بنعمته ويشرك به ونحو هذا في المعنى، وقال أبو الفضل الرازي في كتاب اللوامح له: ولا بد من إضمار معادل وذلك المضمر كالمنطوق لدلالة الفحوى عليه، والتقدير أم من خلق السماوات والأرض كمن لم يخلق، وكذلك يقدر في أخواتها، وقد أظهر في غير هذا الموضع ما أضمر هنا كقوله تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ [النحل: 17] انتهى، ولعل الأولى ما اختاره جار الله وكذا يقال فيما بعد. وقرأ الأعمش «أمن» بالتخفيف على أن الهمزة للاستفهام، ومن بدل من الاسم الجليل وتقديم صلتي الإنزال على مفعوله لما مر مرارا من التشويق إلى المؤخر، والالتفات إلى التكلم بنون العظمة لتأكيد اختصاص الفعل بحكم المقابلة بذاته تعالى والإيذان بأن إنبات تلك الحدائق المختلفة الأصناف والأوصاف والألوان والطعوم والروائح والأشكال مع ما لها من الحسن البارع والبهاء الرائع بماء واحد أمر عظيم لا يكاد يقدر عليه إلا هو وحده عز وجل ورشح ذلك بقوله تعالى: ما كانَ لَكُمْ إلخ سواء كان صفة لحدائق أو حالا أو استئنافا، وتوحيد وصفها السابق أعني ذات بهجة لما أن المعنى جماعة حدائق ذات بهجة، وهذا شائع في جمع التكسير كقوله تعالى: أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ [البقرة: 25، النساء: 57، آل عمران: 15] وكذا الحال في ضمير شجرها. وقرأ ابن أبي عبلة «ذوات» بالجمع «بهجة» بفتح الهاء أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ أي أإله آخر كائن مع الله تعالى الذي ذكر بعض أفعاله التي لا يكاد يقدر عليها غيره حتى يتوهم جعله شريكا له تعالى في العبادة، وهذا تبكيت لهم بنفي الألوهية عما يشركونه به عز وجل في ضمن النفي الكلي على الطريقة البرهانية بعد تبكيتهم بنفي الخيرية عنه بما ذكر من الترديد فإن أحدا ممن له أدنى تمييز كما لا يقدر على إنكار انتفاء الخيرية عنه بالمرة لا يكاد يقدر على إنكار انتفاء الألوهية عنه رأسا لا سيما بعد ملاحظة انتفاء أحكامها عما سواه عز وجل، وكذا الحال في المواقع الأربعة الآتية، وقيل: المراد نفي أن يكون معه تعالى إله آخر في الخلق، وما عطف عليه لكن لا على أن التبكيت بنفس ذلك النفي فقط فإنهم لا ينكرونه حسبما يدل عليه قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25، الزمر: 38] بل بإشراكهم به تعالى ما يعترفون بعدم مشاركته له سبحانه فيما ذكر من لوازم الألوهية كأنه قيل: أإله آخر مع الله في خواص الألوهية حتى يجعل شريكا له تعالى في العبادة، وقيل: المعنى أغيره يقرن به سبحانه ويجعل له شريكا في العبادة مع تفرده جل شأنه بالخلق والتكوين. فالإنكار للتوبيخ والتبكيت مع تحقق المنكر دون النفي كما في الوجهين السابقين، ورجح بأنه الأظهر الموافق لقوله تعالى: وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ [المؤمنون: 91] والأوفى بحق المقام لإفادته نفي وجود إله آخر معه تعالى رأسا لا نفي معيته في الخلق وفروعه فقط. وقرأ هشام عن ابن عامر «آاله» بتوسيط مدة بين الهمزتين وإخراج الثانية بين بين، وقرأ أبو عمرو ونافع وابن كثير «أإلها» بالنصب على إضمار فعل يناسب المقام مثل أتجعلون أو أتدعون أو أتشركون. بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ إضراب وانتقال من تبكيتهم بطريق الخطاب إلى بيان سوء حالهم وحكايته لغيرهم ويَعْدِلُونَ من العدول بمعنى الانحراف أي بل هم قوم عادتهم العدول عن طريق الحق بالكلية والانحراف عن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 216 الاستقامة في كل أمر من الأمور فلذلك يفعلون ما يفعلون من العدول عن الحق الواضح الذي هو التوحيد والعكوف على الباطل البين الذي هو الإشراك، وقيل: من العدل بمعنى المساواة أي يساوون به غيره تعالى من آلهتهم، وروي ذلك عن ابن زيد، والأول أنسب بما قبله، وقيل: الكلام عليه خال عن الفائدة. أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً أي جعلها بحيث يستقر عليها الإنسان والدواب بإبداء بعضها من الماء ودحوها وتسويتها حسبما يدور عليه منافعهم- فقرارا- بمعنى مستقرا لا بمعنى قارة غير مضطربة كما زعم الطبرسي فإن الفائدة على ذلك أتم، والجعل إن كان تصييريا فالمنصوبان مفعولان وإلا فالثاني حال مقدرة، وجملة قوله تعالى: أَمَّنْ جَعَلَ إلخ على ما قيل: بدل من قوله سبحانه: أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ إلى آخر ما بعدها من الجمل الثلاث وحكم الكل واحد، وقال بعض الأجلة: الأظهر أن كل واحدة منها إضراب وانتقال من التبكيت بما قبلها إلى التبكيت بوجه آخر داخل في الإلزام بجهة من الجهات، وإلى الإبدال ذهب صاحب الكشاف، وسننقل إن شاء الله تعالى عن صاحب الكشف ما فيه الكشف عن وجهه وَجَعَلَ خِلالَها أي أوساطها جمع خلل، وأصله الفرجة بين الشيئين فهو ظرف حل محل الحال من قوله تعالى: أَنْهاراً وساغ ذلك مع كونه نكرة لتقدم الحال أو المفعول الثاني- لجعل- وأَنْهاراً هو المفعول الأول، والمراد بالأنهار ما يجري فيها لا المحل الذي هو الشق أي جعل خلالها أنهارا جارية تنتفعون بها وَجَعَلَ لَها أي لصلاح أمرها رَواسِيَ أي جبالا ثوابت فإن لها مدخلا عاديا اقتضته الحكمة في انكشاف المسكون منها وانحفاظها عن الميد بأهلها وتكون المياه الممدة للأنهار المفضية لنضارتها في حضيضها إلى غير ذلك، وذكر بعضهم في منفعة الجبال تكوّن المعادن فيها ونبع المنابع من حضيضها ولم يتعرض لمنفعة منعها الأرض عن الحركة والميلان، وعلل ترك التعرض بأنه لو كان المقصود ذلك لذكر عقب جعل الأرض قرارا، ومن أنصف رأى أن منع الجبال الأرض عن الحركة والميلان اللذين يخرجان الأرض عن حيز الانتفاع ويجعلان وجودها كعدمها من أهم ما يذكر هنا لأنه مما به صلاح أمرها ورفعة شأنها، وذكر لَها دون فيها أو عليها ظاهر في أن المراد ما هو من هذا القبيل من المنافع فتأمل. وإرجاع ضمير لَها للأنهار ليكون المعنى وجعل لإمدادها رواسي ينبع من حضيضها الماء فيمدها لا يخفى ما فيه وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ أي العذب والملح- عن الضحاك- أو بحري فارس والروم- عن الحسن- أو بحري العراق والشام- عن السدي- أو بحري السماء والأرض- عن مجاهد- حاجِزاً فاصلا يمنع من الممازجة، وقد مر الكلام في تحقيق ذلك فتذكر أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ في الوجود أو في إبداع هذه البدائع على ما مر بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي شيئا من الأشياء معتدا به ولذلك لا يفهمون بطلان ما هم عليه من الشرك مع كمال ظهوره أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وهو الذي أحوجته شدة من الشدائد وألجأته إلى اللجأ والضراعة إلى الله عز وجل، فهو اسم مفعول من الاضطرار الذي هو افتعال من الضرورة، ويرجع إلى هذا تفسير ابن عباس له بالمجهود، وتفسير السدي بالذي لا حول ولا قوة له، وقيل: المراد بذلك المذنب إذا استغفر، واللام فيه على ما قيل: للجنس لا للاستغراق حتى يلزم إجابة كل مضطر وكم من مضطر لا يجاب. وجوز حمله على الاستغراق لكن الإجابة مقيدة بالمشيئة كما وقع ذلك في قوله تعالى: فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ [الأنعام: 41] ، ومع هذا كره النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم أن يقول الشخص: اللهم اغفر لي إن شئت وقال عليه الصلاة والسلام: «إنه سبحانه لا مكره له» ، والمعتزلة يقيدونها بالعلم بالمصلحة لإيجابهم رعاية المصالح عليه جل وعلا، وقال صاحب الفرائد: ما من مضطر دعا إلا أجيب وأعيد نفع دعائه إليه إما في الدنيا وإما في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 217 الآخرة، وذلك أن الدعاء طلب شيء. فإن لم يعط ذلك الشيء بعينه يعط ما هو أجل منه أو إن لم يعط هذا الوقت يعط بعده اهـ. وظاهره حمله على الاستغراق من دون تقييد للإجابة، ولا يخفى أنه إذا فسرت الإجابة بإعطاء السائل ما سأله حسبما سأل لا بقطع سؤاله سواء كان بالإعطاء المذكور أم بغيره لم يستقم ما ذكره، وقال العلامة الطيبي: التعريف للعهد لأن سياق الكلام في المشركين يدل عليه الخطاب بقوله تعالى: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ والمراد التنبيه على أنهم عند اضطرارهم في نوازل الدهر وخطوب الزمان كانوا يلجأون إلى الله تعالى دون الشركاء والأصنام، ويدل على التنبيه قوله تعالى: أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ قال صاحب المفتاح: كانوا إذا حزبهم أمر دعوا الله تعالى دون أصنامهم، فالمعنى إذا حزبكم أمر أو قارعة من قوارع الدهر إلى أن تصيروا آيسين من الحياة من يجيبكم إلى كشفها ويجعلكم بعد ذلك تتصرفون في البلاد كالخلفاء أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ فلا يكون المضطر عاما ولا الدعاء فإنه مخصوص بمثل قضية الفلك، وقد أجيبوا إليه في قوله تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [يونس: 22] الآية اهـ. وأنت تعلم أنه بعيد غاية البعد، ولعل الأولى الحمل على الجنس والتقييد بالمشيئة وهو سبحانه لا يشاء إلا ما تقتضيه الحكمة، والدعاء بشيء من قبيل أحد الأسباب العادية فافهم وَيَكْشِفُ السُّوءَ أي يرفع عن الإنسان ما يعتريه من الأمر الذي يسوءه، وقيل: الكشف أعم من الدفع والرفع، وعطف هذه الجملة على ما قبلها من قبيل عطف العام على الخاص، وقيل: المعنى ويكشف سوءه أي المضطر، أو ويكشف عنه السوء والعطف من قبيل عطف التفسير فإن إجابة المضطر هي كشف السوء عنه الذي صار مضطرا بسببه وهو كما ترى. وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أي خلفاء من قبلكم من الأمم في الأرض بأن ورثكم سكناها والتصرف فيها بعدهم، وقيل: المراد بالخلافة الملك والتسلط، وقرأ الحسن ونجعلكم بنون العظمة أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ الذي هذه شؤونه ونعمه تعالى قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ أي تذكرا قليلا، أو زمانا قليلا تتذكرون- فقليلا- نصب على المصدرية، أو على الظرفية لأنه صفة مصدر أو ظرف مقدر، وما- مزيدة على التقديرين لتأكيد معنى القلة التي أريد بها العدم، أو ما يجري مجراه في الحقارة وعدم الجدوى، ومفعول تَذَكَّرُونَ محذوف للفاصلة، فقيل: التقدير تذكرون نعمه، وقيل: تذكرون مضمون ما ذكر من الكلام، وقيل: تذكرون ما مر لكم من البلاء والسرور، ولعل الأولى نعمه المذكورة، وللإيذان بأن المتذكر في غاية الوضوح بحيث لا يتوقف إلا على التوجه إليه كان التذييل بنفي التذكر، وقرأ الحسن والأعمش وأبو عمرو- يذكرون- بياء الغيبة، وقرأ أبو حيوة- «تتذكرون» - بتاءين أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أي يرشدكم في ظلمات الليالي في البر والبحر بالنجوم ونحوها من العلامات، وإضافة الظلمات إلى البر والبحر للملابسة وكونها فيهما، وجوز أن يراد بالظلمات الطرق المشبهات مجازا فإنها كالظلمات في إيجاب الحيرة. وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ قد تقدم تفسير نظير هذه الجملة أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ نفي لأن يكون معه سبحانه إله آخر، وقوله تعالى: تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ تقرير وتحقيق له، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار للإشعار بعلة الحكم أي تعالى وتنزه بذاته المنفردة بالألوهية المستتبعة لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال والجمال، المقتضية لكون جميع المخلوقات مقهورة تحت قدرته عَمَّا يُشْرِكُونَ أي عن وجود ما يشركونه به سبحانه بعنوان كونه إلها وشريكا له تعالى، أو تعالى الله عن شركة أو مقارنة ما يشركونه به سبحانه، ويجوز أن تكون (ما) مصدرية أي تعالى الله عن إشراكهم، وقرىء «عما تشركون» بتاء الخطاب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 218 أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ أي يوجده مبتدئا له ثُمَّ يُعِيدُهُ يكرر إيجاده ويرجعه كما كان، وذلك بعد إهلاكه ضرورة أن الإعادة لا تعقل إلا بعده، والظاهر أن المراد بهذا ما يكون من الإعادة بالبعث بعد الموت، فأل في الخلق ليست للاستغراق لأن منه ما لا يعاد بالإجماع، ومنه ما في إعادته خلاف بين المسلمين، وتفصيله في محله. واستشكل الحمل على الإعادة بالبعث بأن الكلام مع المشركين وأكثرهم منكرون لذلك فكيف يحمل الكلام عليه ويخاطبون به خطاب المعترف؟ وأجيب بأن تلك الإعادة لوضوح براهينها جعلوا كأنهم معترفون بها لتمكنهم من معرفتها فلم يبق لهم عذر في الإنكار وقيل: إن منهم من اعترف بها، والكلام بالنسبة إليه وليس بذاك، وأما تجويز كون أل للجنس وأن المراد بالبدء والإعادة ما يشاهد في عالم الكون والفساد من إنشاء بعض الأشياء وإهلاكها، ثم إنشاء أمثالها وذلك مما لا ينكره المشركون المنكرون للإعادة بعد الموت فليس بشيء أصلا كما لا يخفى وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي بأسباب سماوية وأرضية قد رتبها على ترتيب بديع تقتضيه الحكمة التي عليها بنى أمر التكوين أَإِلهٌ آخر موجود مَعَ اللَّهِ حتى يجعل شريكا له سبحانه في العبادة، وقوله تعالى: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ أمر له عليه الصلاة والسلام بتبكيتهم إثر تبكيت أي هاتوا برهانا عقليا أو نقليا يدل على أن معه عز وجل إلها، وقيل: أي هاتوا برهانا على أن غيره تعالى يقدر على شيء مما ذكر من أفعاله عز وجل، وتعقب بأن المشركين لا يدعون ذلك صريحا ولا يلتزمون كونه من لوازم الألوهية وإن كان منها في الحقيقة فمطالبتهم بالبرهان عليه لا على صريح دعواهم مما لا وجه له، وفي إضافة البرهان إلى ضميرهم تهكم بهم لما فيها من إيهام أن لهم برهانا وأنى لهم ذلك، وقيل: إن الإضافة لزيادة التبكيت كأنه قيل: نحن نقنع منكم بما تعدونه أنتم أيها الخصوم برهانا يدل على ذلك وإن لم نعده نحن ولا أحد من ذوي العقول كذلك، ومع هذا أنتم عاجزون عن الإتيان به إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في تلك الدعوى، واستدل به على أن الدعوى لا تقبل ما لم تنور بالبرهان. هذا وفي الكشف أن مبنى هذه الآيات الترقي لأن الكلام في إثبات أن لا خيرية في الأصنام مع أن كل خير منه تبارك وتعالى، فأجمل أولا بذكر اسمه سبحانه الجامع في قوله تعالى: آللَّهُ ثم أخذ في المفصل فجعل خلق السماوات والأرض تمهيدا لإنزال الماء وإنبات الحدائق لا بل للأخير، يدل عليه الالتفات هنالك والتأكيد بقوله تعالى: ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا كأنه يذكر سبحانه ما فيها من المنافع الكثيرة لونا وطعما ورائحة واسترواح ظل. ولما أثبت أنه فعله الخاص أنكر أن يكون له شريك وجعلهم عادلين عن منهج الصواب أو عادلين به سبحانه من لا يستحق، والأول أظهر، ثم ترقى منه إلى ما هو أكثر لهم خيرا وأظهر في نفعهم من جعل الأرض قرارا وما عقبه، فذكر جل وعلا ما لا يتم الإنبات المذكور إلا به مع منافع يتصاغر لديها منفعة الإنبات، وعقبه بجهلهم المطلق المنتج للعدول المذكور، وأسوأ منه وأسوأ، ثم بالغ في الترقي فذكر ما هو لصيق بهم دون واسطة من دفع أو نفع فخص إجابتهم عند الاضطرار، وعم بكشف السوء والمضار، هذا فيما يرجع إلى دفع المحذور وإقامتهم خلفاء في الأرض ينتفعون بها وبما فيها كما أحبوا، وهذا أتم من الأولين وأعم وأجل موقعا وأهم، ولهذا فصل بعدم التذكر وبولغ فيه تلك المبالغات، وأما ذكر الهداية في ظلمات البر والبحر وذكر إرسال الرياح المبشرة استطرادا لمناسبة حديث الرياح مع الهداية في البحر، فمن متممات الخلافة وإجابة المضطر وكشف السوء فافهم. ونبه على هذا بأنه فصل بقوله تعالى: تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ثم ختم ذلك كله بالإضراب عن هذا الأسلوب بتذكير نعمتي الإيجاد والإعادة، فكل نعمة دونهما لتوقف النعم الدنيوية والأخروية عليها، وعقبه بإجمال الجزء: 10 ¦ الصفحة: 219 يتضمن جميع ما عدده أولا وزيادة أعني رزقهم من السماء والأرض، وأدمج في تأخيره أنه دون النعمتين، ولهذا بكتهم بطلب البرهان فيما ليس (1) وسجل بكذبهم دلالة على تعلقه بالكل وأن هذه الخاتمة ختام مسكي، والمعرض عن تشام نفحاته مسكي، وعن هذا التقرير ظهر وجه الإبدال مكشوف النقاب والحمد لله تعالى المنعم الوهاب اهـ. وفي غرة التنزيل للراغب ما يؤيده، وقد لخصه الطيبي في شرح الكشاف، والله تعالى أعلم بأسرار كتابه. قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ بعد ما تحقق تفرده تعالى بالألوهية ببيان اختصاصه بالقدرة الكاملة التامة والرحمة الشاملة العاملة عقب بذكر ما لا ينفك عنه، وهو اختصاصه تعالى بعلم الغيب تكميلا لما قبله وتمهيدا لما بعده من أمر البعث، وفي البحر قيل: سأل الكفار عن وقت القيامة- التي وعدوها- الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلّم وألحوا عليه عليه الصلاة والسلام فنزل قوله: قُلْ لا يَعْلَمُ الآية، فمناسبتها على هذا لما قبلها من قوله تعالى: أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ أتم مناسبة، والظاهر المتبادر إلى الذهن أن من فاعل يعلم وهو موصول أو موصوف، والغيب مفعوله، والاسم الجليل مرفوع على البدلية من مَنْ والاستثناء على ما قيل: منقطع تحقيقا متصل تأويلا على حدّ ما في قول الراجز: وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس بناء على إدخال اليعافر في الأنيس بضرب من التأويل فيفيد المبالغة في نفي علم الغيب عمن في السماوات والأرض بتعليق علمهم إياه بما هو بين الاستحالة من كونه تعالى منهم كأنه قيل: إن كان الله تعالى ممن فيهما ففيهم من يعلم الغيب يعني أن استحالة علمهم الغيب كاستحالة أن يكون الله تعالى منهم، ونظير هذا مما لا استثناء فيه قوله: تحية بينهم ضرب وجيع وقيل: هو منقطع على حد الاستثناء في قوله: عشية ما تغني الرماح مكانها ... ولا النبل إلا المشرفي المصمم يعني أنه من اتباع أحد المتباينين الآخر نحو ما أتاني زيد إلا عمرو وما أعانه إخوانكم إلا إخوانه، وقد ذكرهما سيبويه، وذكر ابن مالك أن الأصل فيهما: ما أتاني أحد إلا عمرو، وما أعانه أحد إلا إخوانه فجعل مكان أحد بعض مدلوله وهو زيد وإخوانكم، ولو لم يذكر الدخلاء فيمن نفي عنه الإتيان والإعانة، ولكن ذكرا توكيدا لقسطهما من النفي دفعا لتوهم المخاطب أن المتكلم لم يخطر له هذا الذي أكد به، فذكر تأكيدا، وعليه يكون الأصل في الآية لا يعلم أحد الغيب إلا الله فحذف أحد وجعل مكانه بعض مدلوله وهو من في السماوات والأرض، والبعض الآخر من ليس فيهما، ويكفي في كونه مدلولا له صدقه عليه ولا يجب في ذلك وجوده في الخارج، فقد صرحوا أن من الكلي ما يمتنع وجود بعض أفراده أو كلها في الخارج على أن من أجلة الإسلاميين من قال بوجود شيء غير الله عز وجل، وليس في السماوات ولا في الأرض وهو الروح الأمرية فإنها لا مكان لها عندهم على نحو العقول المجردة عند الفلاسفة، وقال: إن شرط الاتباع في هذا النوع أن يستقيم حذف المستثنى منه والاستغناء عنه بالمستثنى فإن لم يوجد هذا الشرط تعين النصب عند التميمي. والحجازي كما في قوله تعالى: لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ [هود: 43] ، فإن الاستغناء فيه بالمستثنى عما قبله ممتنع إلا بتكلف، وزعم المازني أن اتباع المنقطع من تغليب   (1) قوله: فيما ليس، وسجل إلخ هكذا في نسخة المؤلف اهـ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 220 العاقل على غيره، ويلزم عليه أن يختص بأحد وشبهه وهو فاسد- كما قال ابن خروف- لأن ما يبدل منه في هذا الباب غير ما ذكر أكثر من أن يحصى اهـ. وكلام الزمخشري يوهم صدره أن الاستثناء هنا من قبيل الاستثناء في المثالين اللذين ذكرهما سيبويه، وفي البيت الذي ذكرناه قبيلهما، ويفهم عجزه أنه من قبيل الاستثناء في الرجز السابق، وأن الداعي إلى اختيار المذهب التميمي نكتة المبالغة التي سمعتها، وقد صرحوا أن إفادة تلك النكتة إنما تتأتى إذا جعل الاستثناء منقطعا تحقيقا متصلا تأويلا، ولعل الحق أنه إذا أريد الدلالة على قوة النفي تعين جعل الاستثناء نحو الاستثناء في قوله: «وبلدة» إلخ، وإذا أريد الدلالة على عموم النفي تعين جعله نحو الاستثناء في قولهم: ما أعانه إخوانكم إلا إخوانه فتدبر، وجوز كونه متصلا كما هو الأصل في الاستثناء على أن المراد بمن في السماوات والأرض من اطلع عليهما اطلاع الحاضر فيهما مجازا مرسلا أو استعارة، وأيا ما كان فهو معنى مجازي عام له تعالى شأنه ولذوي العلم من خلقه وهو المخلص من لزوم ارتكاب الجمع بين الحقيقة والمجاز المختلف في صحته كما فعله بعض القائلين بالاتصال، وقيل: يعلق الجار والمجرور على ذلك التقدير بنحو يذكر من الأفعال المنسوبة على الحقيقة إلى الله تعالى وإلى المخلوقين لا بنحو استقر مما لا يصح نسبته إليه سبحانه على الحقيقة أي لا يعلم من يذكر في السماوات والأرض الغيب إلا الله، ويجوز تعليقه باستقر أيضا إلا أنه يجعل مسندا إلى مضاف حذف وأقيم المضاف إليه مقامه أي لا يعلم من استقر ذكره في السماوات والأرض الغيب إلا الله فحذف الفعل والمضاف واستتر الضمير لكونه مرفوعا، وهذا وما قبله كما ترى، واعترض حديث الاتصال بأنه يلزم عليه التسوية بينه تعالى وبين غيره في إطلاق لفظ واحد وهو أمر مذموم، فقد أخرج مسلم وأبو داود والنسائي عن عدي بن حاتم أن رجلا خطب عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ومن يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بئس خطيب القوم أنت قل ومن يعص الله ورسوله» ، وأجيب بأن ذلك مما يذم إذا صدر من البشر أما إذا صدر منه تعالى فلا يذم على أن كونه مما يذم إذا صدر من البشر مطلقا ممنوع، فقد روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أنس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ثلاث من كن فيه وجد بهن طعم الإيمان من كان الله تعالى ورسوله أحب إليه مما سواهما» الحديث ، ولعل مدار الذم والمدح تضمن ذلك نكتة لطيفة وعدم تضمنه إياها، وقد قيل في حديث أنس: النكتة في تثنية الضمير الإيماء إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين، والنكتة في إفراده في حديث عدي الإشعار بأن كلا من العصيانين مستقل باستلزام الغواية، وقد مر الكلام في هذا المبحث فتذكر، وجوز أن يعرب من مفعول- يعلم. والغيب- بدل اشتمال منه، والاسم الجليل فاعل يَعْلَمُ ويكون استثناء مفرغا أي لا يعلم غيب من في السماوات والأرض إلا الله ولا يخفى بعده. والغيب في الأصل مصدر غابت الشمس وغيرها إذا استترت عن العين، واستعمل في الشيء الغائب الذي لم تنصب له قرينة وكون ذلك غيبا باعتباره بالناس ونحوهم لا بالله عز وجل فإنه سبحانه لا يغيب عنه تعالى شيء لكن لا يجوز أن يقال: إنه جل وعلا لا يعلم الغيب قصدا إلى أنه لا غيب بالنسبة إليه ليقال يعلمه، وقد شنع الشيخ أحمد الفاروقي السرهندي المشهور بالإمام الرباني في مكتوباته- على من قال ذلك قاصدا ما ذكر- أتم تشنيع كما هو عادته جزاه الله تعالى خيرا فيمن لم يتأدب بآداب الشريعة الغراء، والظاهر عموم الغيب، وقيل: المراد به الساعة، وقيل: ما يضمره أهل السماوات والأرض في قلوبهم، وقيل: المراد جنس الغيب، ويلزم من نفي علم جنسه عن غيره عز وجل نفي علم كل فرد من أفراده عن ذلك الغير، ولا يضر في ذلك أن الآية لا تدل حينئذ على ثبوت علم كل غيب له عز وجل بل قصارى ما تدل عليه ثبوت علم جنس الغيب له سبحانه لأنه المنفي صريحا عن المستثنى منه ولا يلزم من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 221 ثبوت علم هذا الجنس ثبوت علم كل فرد من أفراده لأنها لم تسق للاستدلال بها على ذلك، وكم وكم من دليل عقلي ونقلي يدل عليه، وتعقب بأن الغيب من حيث إنه غيب لا يتفاوت فمتى ثبت العلم ببعض أفراده ثبت العلم بجميعها دفعا للزوم الترجيح بلا مرجح فتأمل. واختار بعضهم الاستغراق أي لا يعلم من في السماوات والأرض كل غيب إلا الله فإنه سبحانه يعلم كل غيب لأنه الأوفق بالمقام، واعترض بأنه يلزم أن يكون من أهل السماوات والأرض من يعلم بعض الغيوب، وظاهر كلام كثير من الأجلة يأبى ذلك، ويؤيده ما أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي وأحمد وجماعة من المحدثين من حديث مسروق عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: من زعم أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم يخبر الناس بما يكون في غد. وفي بعض الروايات. يعلم ما في غد فقد أعظم على الله تعالى الفرية والله تعالى يقول: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ، وجوز بعضهم أن يكون منهم من يعلم بعض الغيوب، ففي بيان قواطع الإسلام تأليف العلامة ابن حجر بعد الرد على من أكفر من قيل له: أتعلم الغيب؟ فقال: نعم لأن فيما قاله تكذيب النص وهو قوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [الأنعام: 59] ، وقوله تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [الجن: 26، 27] ما نصه: وعلى كل فالخواص يجوز أن يعلموا الغيب في قضية أو قضايا كما وقع لكثير منهم واشتهر، والذي اختص به تعالى إنما هو علم الجميع وعلم مفاتح الغيب المشار إليها بقوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ [الجن: 26] الآية، وينتج من هذا التقرير أن من ادعى علم الغيب في قضية أو قضايا لا يكفر وهو محمل ما في الروضة، ومن ادعى علمه في سائر القضايا يكفر وهو محمل ما في أصلها إلا أن عبارته لما كانت مطلقة تشمل هذا وغيره ساغ للنووي الاعتراض عليه فإن أطلق فلم يرد شيئا، فالأوجه ما اقتضاه كلام النووي من عدم الكفر انتهى. ولعل الحق أن يقال: إن علم الغيب المنفي عن غيره جل وعلا هو ما كان للشخص لذاته أي بلا واسطة في ثبوته له، وهذا مما لا يعقل لأحد من أهل السماوات والأرض لمكان الإمكان فيهم ذاتا وصفة وهو يأبى ثبوت شيء لهم بلا واسطة، ولعل في التعبير عن المستثنى منه بمن في السماوات والأرض إشارة إلى علة الحكم، وما وقع للخواص ليس من هذا العلم المنفي في شيء ضرورة أنه من الواجب عز وجل أفاضه عليهم بوجه من وجوه الإفاضة فلا يقال: إنهم علموا الغيب بذلك المعنى ومن قاله كفر قطعا، وإنما يقال: إنهم أظهروا أو اطلعوا. بالبناء للمفعول، على الغيب أو نحو ذلك مما يفهم الواسطة في ثبوت العلم لهم، ويؤيد ما ذكر أنه لم يجىء في القرآن الكريم نسبة علم الغيب إلى غيره تعالى أصلا، وجاء الإظهار على الغيب لمن ارتضى سبحانه من رسول لا يقال: يجوز على هذا أن يقال: أعلم فلان الغيب بالبناء للمفعول أيضا على معنى أن الله تعالى أعلمه وعرفه ذلك بطريق من طرق الإعلام والتعريف، ومتى جاز هذا جاز أن يقال: علم فلان الغيب بقصد نسبة علمه الحاصل من إعلامه إليه لأنا نقول: لا كلام في جواز. أعلم. بالبناء للمفعول، وإنما الكلام في قولك: ومتى جاز هذا جاز أن يقال إلخ، فنقول: إن أريد بالجواز في تالي الشرطية الجواز معنى أي الصحة من حيث المعنى فمسلم لكن ليس كل ما جاز معنى بهذا المعنى جاز شرعا استعماله، وإن أريد الجواز شرعا بمعنى عدم المنع من استعماله فهو ممنوع لما فيه من الإيهام والمصادمة لظواهر الآيات كآية قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وغيرها وقد سمعت عن الإمام الرباني قدس سره النوراني أنه حط كل الحط على من قال الله سبحانه: «لا يعلم الغيب» متأولا له بما تقدم لما فيه من المصادمة للنصوص القرآنية وغيرها، وفي ذلك من سوء الأدب ما فيه، وقد شنعوا أيضا على من قال: أكره الحق وأحب الفتنة وأفر من الرحمة مريدا بالحق الموت، وبالفتنة المال أو الولد، وبالرحمة المطر لما في ظاهره من الشناعة والبشاعة ما لا يخفى. نعم لا يكفر قائل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 222 ذلك بذلك القصد ويلزمه التعزير كيلا يعود إلى قوله، ثم إن علم غير الغيب من المحسوسات والمعقولات وإن كان لا يثبت لشيء من الممكنات بلا واسطة في الثبوت أيضا إلا أنه في نسبته لشيء منها لم يعتبر إلا اتصافه به غير مقيد بنفي تلك الواسطة لما أنه لم يرد حصر ذلك العلم به عز وجل ونفيه عمن سواه جل وعلا بل صرح في مواضع أكثر من أن تحصى بنسبته إلى غيره سبحانه ولو ورد فيه ما ورد في علم الغيب لالتزم فيه ما التزم فيه، وعلى ما تقرر لا يكون علم العقول بما لم يكن بعد من الحوادث على ما يزعمه الفلاسفة من علم الغيب بل هو لو سلّم علم حصل لهم من الفياض المطلق جل شأنه بطريق من الطرق التي تقتضيها الحكمة فلا ينبغي أن يقال فيهم: إنهم عالمون بالغيب، وقائله إما كافر أو مسلم آثم، وكذا يقال في علم بعض المرتاضين من المسلمين الصوفية والكفرة الجوكية فإن كل ما يحصل لهم من ذلك فإنما هو بطريق الفيض ومراتبه وأحواله لا تحصى، والتأهل له قد يكون فطريا، وقد يكون كسبيا، وطرق اكتسابه متشعبة لا تكاد تستقصى، وإفاضة ذلك على كفرة المرتاضين وإن أشبهت إفاضته على المؤمنين المتقين إلا أن بين الأمرين فرقا عظيما عند المحققين، وقد ذكر بعض المتصوفة أنه ما من حق إلا وقد جعل له باطل يشبهه لأن الدار دار فتنة وأكثر ما فيها محنة، ويلحق بعلم المرتاضين من الجوكية علم بعض المتصوفة المنسوبين إلى الإسلام المهملين أكثر أحكامه الواجبة عليهم المنهمكين في ارتكاب المحظورات في نهارهم وليلهم، فلا ينبغي اعتقاد أن ذلك كرامة بل هو نقمة مفضية إلى حسرة وندامة، وأما علم النجومي بالحوادث الكونية حسبما يزعمه فليس من هذا القبيل لأن تلك الحوادث التي يخبر بها ليست من الغيب بالمعنى الذي ذكرناه إذ هي وإن كانت غائبة عنا إلا أنها على زعمه مما نصب لها قرينة من الأوضاع الفلكية والنسب النجومية من الاقتران والتثليث والتسديس والمقابلة ونحو ذلك، وعلمه بدلالة القرائن التي يزعمها ناشىء من التجربة وما تقتضيه طبائع النجوم والبروج التي دل عليها بزعمه اختلاف الآثار في عالم الكون والفساد فلا أرى العلم بها إلا كعلم الطبيب الحاذق إذا رأى صفراويا مثلا علم رتبة مزاجه وحققها يأكل مقدارا معينا من العسل أنه يعتريه بعد ساعة أو ساعتين كذا وكذا من الألم، وإطلاق علم الغيب على ذلك فيه ما فيه، وإن أبيت إلا تسمية ذلك غيبا فالعلم به لكونه بواسطة الأسباب لا يكون من علم الغيب المنفي عن غيره تعالى في شيء وكذا كل علم بخفي حصل بواسطة سبب من الأسباب كعلمنا بالله تعالى وصفاته العلية وعلمنا بالجنة والنار ونحو ذلك، على أنك إذا أنصفت تعلم أن ما عند النجومي ونحوه ليس علما حقيقيا وإنما هو ظن وتخمين مبني على ما هو أوهن من بيت العنكبوت كما سنحقق ذلك بما لا مزيد عليه في محله اللائق به إن شاء الله تعالى. وأقوى ما عنده معرفة زمني الكسوف والخسوف وأزمنة تحقق النسب المخصوصة بين الكواكب وهي ناشئة من معرفة مقادير الحركات للكواكب والأفلاك الكلية والجزئية وهي أمور محسوسة تدرك بالأرصاد والآلات المعمولة لذلك، وبالجملة علم الغيب بلا واسطة كلا أو بعضا مخصوص بالله جل وعلا لا يعلمه أحد من الخلق أصلا، ومتى اعتبر فيه نفي الواسطة بالكلية تعين أن يكون من مقتضيات الذات فلا يتحقق فيه تفاوت بين غيب وغيب، فلا بأس بحمل أل في الغيب على الجنس، ومتى حملت على الاستغراق فاللائق أن لا يعتبر في الآية سلب العموم بل يعتبر عموم السلب، ويلتزم أن القاعدة أغلبية. وكذا يقال في السلب والعموم في جانب الفاعل فتأمل فهذا ما عندي ولعل ما عندك خير منه والله تعالى أعلم. وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ أي متى ينشرون من القبور مع كونه مما لا بد لهم منه، ومن أهم الأمور عندهم- فأيان- اسم استفهام عن الزمان، ولذا قيل: إن أصلها أي آن أي أيّ زمان، وإن كان المعروف خلافه وهي معمولة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 223 ليبعثون، والجملة في موضع النصب. بيشعرون. وعلقت يَشْعُرُونَ لمكان الاستفهام، وضمير الجمع للكفرة وإن كان عدم الشعور بما ذكر عاما لئلا يلزم التفكيك بينه وبين ما يذكر بعد من الضمائر الخاصة بهم قطعا، وقيل: الكل لمن وإسناد خواص الكفرة إلى الجميع من قبيل بنو فلان فعلوا كذا والفاعل بعض منهم، وفيه بحث. وقرأ السلمي. «إيان» . بكسر الهمزة وهي لغة بني سليم بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ إضراب عما تقدم على وجه يفيد تأكيده وتقريره، وأصل ادَّارَكَ تدارك فأدغمت التاء في الدال فسكنت فاجتلبت همزة الوصل وهو من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك وهو مراد من فسر التدارك هنا بالاضمحلال والفناء، وإلا فأصل التدارك التتابع والتلاحق مطلقا، وفِي الْآخِرَةِ متعلق بعلمهم. والعلم يتعدى بفي كما يتعدى بالباء، وهي حينئذ بمعنى الباء كما نص عليه الفراء وابن عطية وغيرهما، والمعنى بل تتابع علمهم في شأن الآخرة التي ما ذكر من البعث حال من أحوالها حتى انقطع وفني ولم يبق لهم علم بشيء مما سيكون فيها قطعا مع توفر أسبابه فهو ترق عن وصفهم بجهل فاحش إلى وصفهم بجهل أفحش، وليس تدارك علمهم بذلك على معنى أنه كان لهم علم به على الحقيقة فانتفى شيئا فشيئا، بل على طريقة المجاز بتنزيل أسباب العلم ومباديه من الدلائل العقلية والسمعية منزلة نفسه، وإجراء تساقطها عن درجة اعتبارهم كلما لا حظوها مجرى تتابعها إلى الانقطاع. وجوز أن يكون الكلام على تقدير مضاف أي ادّارك أسباب علمهم، والتدارك مجاز عما ذكر من التساقط، وقوله تعالى: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها إضراب وانتقال عن عدم علمهم بها إلى ما هو أفحش منه على نحو ما مر وهو حيرتهم في ذلك أي بل هم في شك عظيم من نفس الآخرة وتحققها كمن تحير في أمر لا يجد عليه دليلا فضلا عن الأمور التي ستقع فيها، وقوله سبحانه: بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ إضراب وانتقال عن وصفهم بكونهم شاكين إلى وصفهم بما هو أفظع منه وهو كونهم عميا قد اختلت بصائرهم بالكلية بحيث لا يكادون يدركون طريق العلم بها وهو الدلائل الدالة على أنها كائنة لا محالة، فالمراد عَمُونَ عن دلائلها أو عمون عن كل ما يوصلهم إلى الحق ويدخل فيه دلائلها دخولا أوليا، ومِنْها متعلق بعمون، قدم عليه رعاية للفواصل، ولعل تعديته بمن دون عن لجعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه، والكفر بالعاقبة والجزاء يدع الشخص عاكفا على تحصيل مصالح بطنه وفرجه لا يتدبر ولا يتبصر فيما عدا ذلك. وجوز أن يكون ادَّارَكَ بمعنى استحكم وتكامل ووصفهم باستحكام علمهم بذلك وتكامله من باب التهكم بهم كما تقول لأجهل الناس: ما أعلمك على سبيل الهزء، ومآل التهكم المذكور نفي علمهم بذلك كما في الوجه السابق لكن على الوجه الأبلغ، والإضرابان من باب الترقي من الوصف بالفظيع إلى الوصف بالأفظع نحو ما تقدم وهو وجه حسن، ويشعر كلام بعض المحققين بترجيحه على ما ذكرنا أولا. وجوز أيضا أن يكون المراد بالإدراك الاستحكام لكن على معنى استحكم أسباب علمهم بأن القيامة كائنة لا محالة من الآيات القاطعة والحجج الساطعة وتمكنوا من المعرفة فضل تمكن وهم جاهلون في ذلك، وفيه أن دلالة النظم الكريم على إرادة وهم جاهلون ليست بواضحة. وقال الكرماني: التدارك التتابع، والمراد بالعلم هنا الحكم والقول والمعنى بل تتابع منهم القول والحكم في الآخرة وكثر منهم الخوض فيها، فنفاهم بعضهم. وشك فيها بعضهم واستبعدها بعضهم وفيه ما فيه. وقيل: إن في الآخرة متعلق. بادّارك. وإليه ذهب الزجاج والطبرسي، واقتضته بعض الآثار المروية عن ابن عباس الجزء: 10 ¦ الصفحة: 224 رضي الله تعالى عنهما، والمعنى على هذا عند بعضهم بل استحكم في الآخرة علمهم بما جهلوه في الدنيا حيث رأوا ذلك عيانا، وكان الظاهر يدّارك بصيغة الاستقبال إلا أنه عبر بصيغة الماضي لتحقق الوقوع. وقيل: التدارك عليه من تداركت أمر فلان إذا تلافيته، ومفعوله هنا محذوف أي بل تدارك في الآخرة علمهم ما جهلوه في الدنيا أي تلافاه، وحاصل المعنى بل علموا ذلك في الآخرة حين لم ينفعهم العلم، والتعبير بصيغة الماضي على ما علمت، ولا يخفى أن في وجه ترتيب الإضرابات الثلاث حسب ما في النظم الكريم على هذين الوجهين خفاء فتدبر. وقرأ أبيّ أم «تدارك» . على الأصل وجعل أم بدل بَلِ، وقرأ سليمان بن يسار بل أدرك بنقل حركة الهمزة إلى اللام وشد الدال بناء على وزنه افتعل، فأدغم الدال وهي فاء الكلمة في التاء بعد قلبها دالا فصار فيه قلب الثاني للأول كما في قولهم: اثرد وأصله اثترد من الثرد، والهمزة المحذوفة المنقول حركتها إلى اللام هي همزة الاستفهام أدخلت على ألف الوصل فانحذفت ألف الوصل ثم انحذفت هي وألقيت حركتها على لام بل، وقرأ أبو رجاء والأعرج وشيبة وطلحة وتوبة العنبري كذلك إلا أنهم كسروا لام «بل» ، وروى ذلك عن ابن عياش وعاصم والأعمش. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر وأهل مكة. «بل أدرك» . على وزن أفعل بمعنى تفاعل، ورويت عن أبي بكر عن عاصم، وقرأ عبد الله في رواية وابن عباس في رواية أبي حيوة وغيره عنه والحسن وقتادة وابن محيصن. «بل آدّرك» . بمدة بعد همزة الاستفهام، وأصله أأدرك فقلبت الثانية ألفا تخفيفا كراهة الجمع بين همزتين، وأنكر أبو بكر بن أبي العلاء هذه الرواية، وقال أبو حاتم: لا يجوز الاستفهام بعد «بل» لأن بل للإيجاب، والاستفهام في هذا الموضع إنكار بمعنى لم يكن كما في قوله تعالى: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ [الزخرف: 19] ، أي لم يشهدوا خلقهم فلا يصح وقوعهما معا للتنافي الذي بين الإيجاب والإنكار اهـ. وقد أجاز بعض المتأخرين، كما قال أبو حيان، الاستفهام بعد بَلِ وشبهه بقول القائل: أخبزا أكلت، بل أماء شربت على ترك الكلام الأول والأخذ في الثاني، وقرأ مجاهد «أم أدرك» جعل أم بدل بَلِ وأدرك على وزن أفعل، وقرأ ابن عباس في رواية أيضا «بل أدارك» بهمزة داخلة على ادَّارَكَ فتسقط همزة الوصل المجتلبة لأجل الإدغام والنطق بالساكن، وقرأ ابن مسعود أيضا بل أأدرك بهمزتين همزة الاستفهام وهمزة أفعل، وقرأ الحسن أيضا والأعرج. «بل أدرك» . بهمزة، وادغام فاء الكلمة وهي الدال في فاء افتعل بعد صيرورة التاء دالا، وقرأ ورش في رواية. «بل ادّرك» . بحذف همزة أدرك، ونقل حركتها إلى اللام، وقرأ ابن عباس أيضا. «بلى أدرك» . بحرف الإيجاب الذي يوجب به المستفهم المنفي، وقرأ. «بل آإدّارك» . بألف بين الهمزتين، فهذه عدة قراءات فما فيه منها استفهام صريح أو مضمن فهو إنكار ونفي، وما فيه بلى فقد قال فيه أبو حاتم: إن كان يلي جوابا لكلام تقدم جاز أن يستأنف بعده كأن قوما أنكروا ما تقدم من القدرة فقيل لهم: بلى إيجابا لما نفوا، ثم استؤنف بعده الاستفهام وعودل بقوله تعالى: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بمعنى أم هم في شك منها لأن حروف العطف قد تتناوب، وكف عن الجملتين بقوله تعالى: بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ اهـ، يعني أن المعنى أأدرك علمهم بالآخرة أم شكوا؟ فبل بمعنى أم عودل بها الهمزة، وتعقبه في البحر بأن جعل بل بمعنى أم ومعادلتها لهمزة الاستفهام ضعيف جدا، وقال بعض المحققين: ما فيه بلى فإثبات لشعورهم وتفسير له بالإدراك على وجه التهكم الذي هو أبلغ وجوه النفي والإنكار وما بعده من قوله تعالى: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ إلخ له بالإدراك على وجه التهكم الذي هو أبلغ وجوه النفي والإنكار وما بعده من قوله تعالى: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ إلخ إضراب عن التفسير مبالغة في النفي ودلالة على أن شعورهم بها أنهم شاكون فيها بل إنهم منها عمون فهو على منوال: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 225 تحية بينهم ضرب وجيع أو رد وإنكار لشعورهم على أن الإضراب إبطالي فافهم، وقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ كالبيان لجهلهم بالآخرة وعما هم منها ووضع الموصول موضع ضميرهم لذمهم بما في حيز صلته والإشعار بعلة حكمهم الباطل الذي تضمنه مقول القول، وإذا. ظرف لمحذوف دل عليه مخرجون. أي أنخرج إذا كنا ترابا ولا مساغ لأن يكون ظرفا لَمُخْرَجُونَ لأن كلا من الهمزة وإن واللام على ما قيل: مانعة من عمل ما بعدها فيما قبلها فكيف بها إذا اجتمعت، ولم يعتبر بعضهم اللام مانعة بناء على ما قرر في النحو من جواز تقدم معمول خبر إن المقرون باللام عليه نحو إن زيدا طعامك لآكل، ويكفي حينئذ مانعان وأظن أن من قال: يتوسع في الظروف ما لا يتوسع في غيرها لا يقول باطراد الحكم في مثل هذا الموضع ومرادهم بالإخراج الإخراج من القبور، وجوز أن يكون الإخراج من حال الفناء إلى الحياة، والأول هو الظاهر، وتقييد الإخراج بوقت كونهم ترابا ليس لتخصيص الإنكار بالإخراج حينئذ فقط فإنهم منكرون للإحياء بعد الموت مطلقا وإن كان البدن على حاله بل لتقوية الإنكار بتوجيهه إلى الإخراج في حالة منافية له بزعمهم، وقوله سبحانه: وَآباؤُنا عطف على اسم كان واستغنى بالفصل بالخبر عن الفصل بالتأكيد، وتكرير الهمزة في أإنا. للمبالغة والتشديد في الإنكار، وتحلية الجملة بأن واللام لتأكيد الإنكار لا لإنكار التأكيد كما يوهمه ظاهر النظم الكريم، فإن تقديم الهمزة لأصالتها في الصدارة، والضمير في. أإنا. لهم ولآبائهم لأن الكون ترابا قد تناولهم وآباءهم، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو. أئذا. وأ إنا. بالجمع بين الاستفهامين، وقلب الثانية ياء وفصل بينهما بألف أبو عمرو. وقرأ نافع «إذا» بهمزة واحدة مكسورة فهمزة الاستفهام مقدرة مع الفعل المقدر لأن المعنى ليس على الخبر، وآينا، بهمزة الاستفهام وقلب الثانية ياء وبينهما مدة، وقرأ آخرون أئذا. باستفهام ممدود أننا بنونين من غير استفهام لَقَدْ وُعِدْنا هذا أي الإخراج المذكور نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ أي من قبل وعد محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم، وتقديم الموعد على نَحْنُ هنا للدلالة على أنه هو الذي تعمد بالكلام وقصد به حتى كأن ما سواه مطرح وعلاوة له كما ينبىء عن ذلك ذكر ما صدر منهم أنفسهم مؤكدا مقررا مكررا وتأخيره عنه في آية سورة المؤمنين لرعاية الأصل، ولا مقتضى للعدول إذ لم يذكر هناك سوى أتباعهم أسلافهم في الكفر وإنكار البعث من غير نعي ذلك عليهم، والجملة استئناف مسوق لتقرير الإنكار وتصديرها بالقسم لمزيد التأكيد، وقوله تعالى: إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ تقرير إثر تقرير. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 226 قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ بسبب تكذيبهم الرسل عليهم الصلاة والسلام فيما دعوهم إليه من الإيمان بالله عز وجل وحده وباليوم الآخر الذي تنكرونه فإن في مشاهدة عاقبتهم ما فيه كفاية لأولي الأبصار، وفي التعبير عن المكذبين بالمجرمين الأعم منه بحسب المفهوم لطف بالمؤمنين في ترك الجرائم لما فيه من إرشادهم إلى أن الجرم مطلقا مبغوض لله عز وجل وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ لإصرارهم على الكفر والتكذيب وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ أي في حرج صدر مِمَّا يَمْكُرُونَ أي من مكرهم فإن الله تعالى يعصمك من الناس. وقرأ ابن كثير «ضيق» بكسر الضاد وهو مصدر أيضا، وجوز أن يكون مفتوح الضاد مخففا من ضيق، وقد قرىء كذلك أي لا تكن في أمر ضيق، وكره أبو علي كون ذلك مخففا مما ذكر لأنه يقتضي حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، وليس من الصفات التي تقوم مقام الموصوف باطراد، وفيه بحث. وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ أي العذاب العاجل الموعود، وكأنهم فهموا وعدهم بالعذاب من الأمر بالسير والنظر في عاقبة أمثالهم المكذبين، ويعلم منه وجه للتعبير- بيقولون- وعدم إجرائه على سنن ما قبله أعني وقال الذين كفروا وسؤالهم عن وقت إتيان هذا العذاب على سبيل الاستهزاء والإنكار، ولذا قالوا: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ عانين إن كنتم صادقين في إخباركم بإتيانه فبينوا لنا وقته، والجمع باعتبار شركة المؤمنين في الإخبار بذلك قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ أصل معنى رَدِفَ تبع والمراد به هنا لحق، ووصل وهو مما يتعدى بنفسه وباللام كنصح. وقيل: اللام مزيدة لتأكيد وصول الفعل إلى المفعول به كما زيدت الباء لذلك في قوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195] ، وقيل: إن اللام لتضمين رَدِفَ معنى دنا وهو يتعدى باللام كما يتعدى بمن وإلى كما في الأساس ولتضمينه ذلك عدي بمن في قوله: فلما ردفنا من عمير وصحبه ... تولوا سراعا والمنية تعنق وقيل: اللام داخلة على المفعول لأجله والمفعول به الذي يتعدى إليه الفعل بنفسه محذوف أي رَدِفَ الخلق لأجلكم ولا يخفى ضعفه، وقيل: إن الكلام تم عند رَدِفَ على أن فاعله ضمير يعود على الوعد، ثم استأنف بقوله تعالى: لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ على أن بَعْضُ مبتدأ، ولَكُمْ متعلق بمحذوف وقع خبرا له، ولا يخفى ما فيه من التفكيك للكلام والخروج عن الظاهر لغير داع لفظي ولا معنوي، والمعنى قل عسى أن يكون لحقكم ووصل إليكم بعض الذي تستعجلون حلوله وتطلبونه وقتا فوقتا، والمراد بهذا البعض عذاب يوم بدر، وقيل: عذاب القبر وليس بذاك، ونسبة استعجال ذلك إليهم بناء على ما يقتضيه ما هم عليه من التكذيب والاستهزاء وإلا فلا استعجال منهم حقيقة، والترجي المفهوم من عسى قيل: راجع إلى العباد. وقال الزمخشري: إن عسى ولعل وسوف في وعد الملوك ووعيدهم تدل على صدق الأمر وجده وما لا مجال الجزء: 10 ¦ الصفحة: 227 للشك بعده، وإنما يعنون بذلك إظهار وقارهم وأنهم لا يعجلون بالانتقام لإدلالهم بقهرهم وغلبتهم ووثوقهم بأن عدوهم لا يفوتهم وأن الرمزة إلى الأغراض كافية من جهتهم، فعلى ذلك جرى وعد الله تعالى ووعيده سبحانه انتهى. وعليه ففي الكلام استعارة تمثيلية ولا يخفى حسن ذلك، وإيثار ما عليه النظم الكريم على أن يقال: عسى أن يردفكم إلخ لكونه أدل على تحقق الوعد، وقرأ ابن هرمز «ردف» بفتح الدال وهو لغة فيه. وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ أي لذو إفضال وإنعام كثير على كافة الناس، ومن جملة إفضاله عز وجل وإنعامه تعالى تأخير عقوبة هؤلاء على ما يرتكبونه من المعاصي وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ أي لا يشكرونه جل وعلا على إفضاله سبحانه عليهم ومنهم هؤلاء، وقيل: لا يعرفون حق فضله تعالى عليهم تعبيرا عن انتفاء معرفتهم ذلك بانتفاء ما يترتب عليها من الشكر وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ أي ما تخفيه من الأسرار التي من جملتها عداوتك وَما يُعْلِنُونَ أي وما يظهرونه من الأقوال والأفعال التي من جملتها ما حكي عنهم فليس تأخير عقوبتهم لخفاء حالهم عليه سبحانه، أو فيجازيهم على ذلك، وفعل القلب إذا كان مثل الحب والبغض والتصديق والتكذيب والعزم المصمم على طاعة أو معصية فهو مما يجازى عليه، وفي الآية إيذان بأن لهم قبائح غير ما حكي عنهم، وتقديم الاكتنان ليظهر المراد من استواء الخفي والظاهر في علمه جل وعلا، أو لأن مضمرات الصدور سبب لما يظهر على الجوارح، وإلى الرمز إلى فساد صدورهم التي هي المبدأ لسائر أفعالهم أوثر ما عليه النظم الكريم على أن يقال: وإن ربك ليعلم ما يكنون وما يعلنون. وقرأ ابن محيصن وحميد وابن السميفع «تكنّ» بفتح التاء وضم الكاف من كن الشيء ستره وأخفاه. وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي من شيء خفي ثابت الخفاء فيهما على أن غائِبَةٍ صفة غلبت في هذا المعنى فكثر عدم إجرائها على الموصوف ودلالتها على الثبوت وإن لم تنقل إلى الاسمية كمؤمن وكافر، فتاؤها ليست للتأنيث إذ لم يلاحظ لها موصوف تجري عليه كالراوية للرجل الكثير الرواية فهي تاء مبالغة، ويجوز أن تكون صفة منقولة إلى الاسمية سمي بها ما يغيب ويخفى، والتاء فيها للنقل كما في الفاتحة، والفرق بين المغلب والمنقول- على ما قال الخفاجي- ان الأول يجوز إجراؤه على موصوف مذكر بخلاف الثاني. والظاهر عموم الغائبة أي ما من غائبة كائنة ما كانت إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ أي بين، أو مبين لما فيه لمن يطالعه وينظر فيه من الملائكة عليهم السلام وهو اللوح المحفوظ، واشتماله على ذلك إن كان متناهيا لا إشكال فيه وإن كان غير متناه ففيه إشكال ظاهر ضرورة قيام الدليل على تناهي الأبعاد واستحالة وجود ما لا يتناهى، ولعل وجود الأشياء الغير المتناهية في علم الله تعالى في اللوح المحفوظ على نحو ما يزعمونه من وجود الحوادث في الجفر الجامع وإن لم يكن ذلك حذو القذة بالقذة. وقيل: المراد بالكتاب المبين علمه تعالى الأزلي الذي هو مبدأ لإظهار الأشياء بالإرادة والقدرة، وقيل: حكمه سبحانه الأزلي وإطلاق الكتاب على ما ذكر من باب الاستعارة ولا يخفى ما في ذلك. وقيل: المراد به القرآن واشتماله على كل غائبة على نحو ما ذكرنا في اشتمال اللوح المحفوظ عليه، وقد ذكر أن بعض العارفين استخرج من الفاتحة أسماء السلاطين العثمانية ومدد سلطنتهم إلى آخر من يتسلطن منهم أدام الله تعالى ملكهم إلى يوم الدين ووفقهم لما فيه صلاح المسلمين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 228 وذكر بعضهم في هذا الوجه أنه مناسب لما بعد من وصف القرآن وفيه ما فيه، وقال الحسن: الغائبة هو يوم القيامة وأهوالها، وقال صاحب الغنيان: الحوادث والنوازل، وقيل: أعمال العباد، وقيل: ما غاب من عذاب السماء والأرض، والعموم أولى، وروي ذلك عن ابن عباس، فقد أخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم عنه أنه قال في الآية يقول سبحانه: ما من شيء في السماء والأرض سرا وعلانية إلا يعلمه سبحانه وتعالى، وأخذ منه بعضهم حمل الكتاب على العلم الأزلي، وفيه نظر لجواز أن يكون قد جعل كون ذلك في كتاب مبين كناية عن علمه تعالى به. وذهب أبو حيان إلى أنه رضي الله تعالى عنه اعتبر في الآية حذف أحد المتقابلين اكتفاء بالآخر وكلامه رضي الله تعالى عنه محتمل لذلك، ويحتمل أنه ذكر العلانية في بيان المعنى لأن من علم السر علم العلانية من باب أولى، ويحتمل أن ذلك لأنه ما من علانية إلا وهي غيب بالنسبة إلى بعض الأشخاص، فيكون قد أشار رضي الله تعالى عنه ببيان المعنى وذكر السر والعلانية فيه إلى أن المراد- بغائبة- في الآية ما يشملهما وهو ما اتصف بالغيبة أعم من أن تكون مطلقة أو إضافية كذا قيل فتدبر. إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ لما ذكر سبحانه ما يتعلق بالمبدأ والمعاد ذكر تعالى ما يتعلق بالنبوة فإن القرآن أعظم ما تثبت به نبوة نبينا صلّى الله تعالى عليه وسلّم فذكر جل وعلا أنه يقص على بني إسرائيل، والمراد بهم- كما روي عن قتادة- اليهود والنصارى أكثر ما تجدد واستمر اختلافهم فيه على وجهه ويبين لهم حقيقة الأمر فيه وذلك مما يقتضي إسلامهم لو تأملوا وأنصفوا لكنهم لم يفعلوا وكابروا مثلكم أيها المشركون، ومما اختلفوا فيه أمر المسيح عليه السلام، فمن قائل: هو الله تعالى، ومن قائل: ابن الله سبحانه، ومن قائل: ثالث ثلاثة، ومن قائل: هو نبي كغيره من الأنبياء عليهم السلام، ومن قائل: هو- وحاشاه- كاذب في دعواه النبوة وينسب مريم فيه إلى ما هي منزهة عنه رضي الله تعالى عنها وهم اليهود الذين كذبوه، وأمر النبي المبشر به في التوراة، فمن قائل: هو يوشع عليه السلام، ومن قائل: هو عيسى عليه السلام، ومن قائل: إنه لم يأت إلى الآن وسيأتي آخر الزمان ومما اختلفوا فيه أمر الخنزير فقالت اليهود: بحرمة أكله، وقالت النصارى: بحله إلى غير ذلك. وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ على الإطلاق فيدخل فيهم من آمن من بني إسرائيل دخولا أوليا، وتخصيص المؤمنين بهم كما فعل بعضهم خلاف الظاهر، وتخصيص المؤمنين بالذكر مع أنه رحمة للعالمين لأنهم المنتفعون به إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ أي بين بني إسرائيل الذين اختلفوا أو بين المؤمنين وبين الناس بِحُكْمِهِ قيل: أي بحكمته جل شأنه، ويدل عليه قراءة جناح بن حبيش بحكمه- بكسر الحاء وفتح الكاف- جمع حكمة مضاف إلى ضميره تعالى، وقيل: المراد بالحكم المحكوم به إطلاقا للمصدر على اسم المفعول، والمراد بالمحكوم به الحق والعدل، وعلى الوجهين لم يبق على المعنى المصدري، والداعي لذلك أن- يقضي- بمعنى يحكم فلو بقي الحكم على المعنى المصدري لصار الكلام نحو قولك: زيد يضرب بضربه وهو لا يقال مثله في كلام عربي، وأورد عليه أنه يصح أن يقال ذلك على معنى يضرب بضربه المعروف بالشدة مثلا، فالمعنى هنا يحكم بحكمه المعروف بملابسة الحق، أو يحكم بحكم نفسه تعالى لا بحكم غيره عز شأنه كالبشر، وقيل عليه: ليس المانع لصحة مثل هذا القول إضافة المصدر إلى ضمير الفاعل فإنه لا كلام في صحته كإضافته إلى ضمير المفعول في- سعى لها سعيها- إنما المانع دخول الباء على المصدر المؤكد، ثم إن المعنى الأول يوهم أن له سبحانه حكما غير معروف بملابسة الحق، والثاني إنما يظهر لو قدم بحكمه، وفيه أنه على ما ذكر ليس بمصدر مؤكد، وعدم الجواز في المصدر النوعي لا سيما إذا كان من غير لفظه ليس بمسلم، وأيضا الظاهر أن المانع بزعم المؤول لزوم اللغوية لو لم يؤول بما ذكر، والأولى إبقاؤه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 229 على المصدرية، وجل الإضافة للعهد، وكون المعنى كما قال المورد: يحكم بحكمه المعروف بملابسة الحق وأمر التوهم على طرف الثمام وأيا ما كان فالضمير المجرور عائد على الرب سبحانه وعوده على القرآن على أن المعنى يحكم بالحكم الذي تضمنه القرآن واشتمل عليه من إثابة المحق وتعذيب المبطل وحينئذ لا يحتاج إلى كثرة القيل والقال لا يخفى ما فيه من القيل والقال على من له أدنى تمييز بأساليب المقال وَهُوَ الْعَزِيزُ فلا يرد حكمه سبحانه وقضاؤه جل جلاله الْعَلِيمُ بجميع الأشياء التي من جملتها ما يقضي به، والفاء في قوله تعالى: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ لترتيب الأمر على ما ذكر من شؤونه عز وجل فإنها موجبة للتوكل عليه تعالى وداعية إلى الأمر به وفي ذكره تعالى بالاسم الجامع تأييد لذلك أي فتوكل على الله الذي هذا شأنه فإنه يوجب على كل أحد أن يتوكل عليه ويفوض جميع أموره إليه جل وعلا، وقوله تعالى: إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ تعليل صريح للتوكل عليه تعالى بكونه عليه الصلاة والسلام على الحق البين، أو الفاصل بينه وبين الباطل. أو بين المحق والمبطل فإن كونه صلّى الله تعالى عليه وسلّم كذلك مما يوجب الوثوق بحفظه تعالى ونصرته وتأييده لا محالة، وقوله سبحانه: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى إلخ تعليل آخر للتوكل الذي هو عبارة عن التبتل إلى الله تعالى وتفويض الأمر إليه سبحانه والإعراض عن التشبث بما سواه وقد علل أولا بما يوجبه من جهته تعالى أعني قضاءه عز وجل بالحق وعزته وعلمه تبارك وتعالى، وثانيا بما يوجبه من جهته عليه الصلاة والسلام على أحد الوجهين أعني كونه صلّى الله تعالى عليه وسلّم على الحق ومن جهته تعالى على الوجه الآخر أعني إعانته تعالى وتأييده تعالى للمحق، ثم علل ثالثا بما يوجبه لكن لا بالذات بل بواسطة إيجابه للإعراض عن التشبث بما سواه تعالى، فإن كونهم كالموتى والصم والعمي موجب لقطع الطمع عن مشايعتهم ومعاضدتهم رأسا، وداع إلى تخصيص الاعتضاد به تعالى، وهو المعني بالتوكل عليه جل شأنه، وجوز أن يكون قوله تعالى: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ إلخ استئنافا بيانيا وقع جوابا لسؤال نشأ مما قبله، أعني إنك على الحق المبين كأنه قيل: ما بالهم غير مؤمنين بمن هو على الحق المبين فقيل: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى إلخ. وتعقب بأنه يأباه السياق، واعترض بالمنع وإنما شبهوا بالموتى على ما قيل لعدم تأثرهم بما يتلى عليهم من القوارع، وإطلاق الأسماع عن المفعول لبيان عدم سماعهم لشيء من المسموعات، وقيل: لعل المراد تشبيه قلوبهم بالموتى فيما ذكر من عدم الشعور فإن القلب مشعر من المشاعر أشير إلى بطلانه بالمرة، ثم بين بطلان مشعري الأذن والعين كما في قوله تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها [الأعراف: 179] ، وإلا فبعد تشبيه أنفسهم بالموتى لا يظهر لتشبيههم بالصم والعمي مزيد مزية وكأنه لهذا قال في البحر: أي موتى القلوب، أو شبهوا بالموتى لأنهم لا ينتفعون بما يتلى عليهم فقدم احتمال نسبة الموت إلى قلوبهم. وتعقب بأن ما ذكر تخيل بارد لأن القلب يوصف بالفقه والفهم لا السمع، وما ذكر أولا من أنهم أنفسهم شبهوا بالموتى هو الظاهر، ووجهه أنه على طريق التسليم والنظر لأحوالهم كأنه قيل: كيف تسمعهم الإرشاد إلى طريق الحق وهم موتى وهذا بالنظر لأول الدعوة ولو أحييناهم لم يفد أيضا لأنهم صم، وقد ولوا مدبرين وهذا بالنظر لحالهم بعد التبليغ البليغ ونفرتهم عنه، ثم إنا لو أسمعناهم أيضا فهم عمي لا يهتدون إلى العمل بما يسمعون، وهذا خاتمة أمرهم، ويعلم من هذا ما في ذلك من مزيد المزية الخالية عن التكلف. وجوز أن يكون التشبيه لطوائف على مراتبهم في الضلال، فمنهم من هو كالميت ومن هو كالأصم ومن هو كالأعمى، وهو وإن كان وجها خفيف المئونة إلا أنه خلاف الظاهر أيضا وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ أي الدعوة إلى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 230 أمر من الأمور، وتقييد النفي بقوله تعالى: إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ لتتميم وتأكيد النفي فإنهم مع صممهم عن الدعاء إلى الحق معرضون عن الداعي مولون على أدبارهم، ولا ريب في أن الأصم لا يسمع الدعاء مع كون الداعي بمقابلة صماخه قريبا منه، فكيف إذا كان خلفه بعيدا منه، ومثله في التتميم قول امرئ القيس: حملت ردينيا كأن سنانه ... سنا لهب لم يتصل بدخان وقرأ ابن كثير- لا يسمع الصم الدعاء- بالياء التحتانية وفتح الميم ورفع الضم وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ أي وما أنت بصارف العمي عن ضلالتهم هاديا لهم هداية موصلة إلى المطلوب لفقد الشرط العادي للاهتداء وهو البصر، وعَنْ متعلقة بالهداية باعتبار تضمنها معنى الصرف كما أشرنا إليه، وجوز أبو البقاء أن تعلق بالعمى ويكون المعنى أن العمى صدر عن ضلالتهم وفيه بعد، وإيراد الجملة الاسمية للمبالغة في نفي الهداية. وقرأ يحيى بن الحارث وأبو حيوة- «بهاد» - بالتنوين «العمي» بالنصب، وقرأ الأعمش وطلحة وابن وثاب وابن يعمر وحمزة- «تهدي» - مضارع هدى «العمي» بالنصب، وقرأ ابن مسعود- وما أن تهتدي- بزيادة أن بعد ما كما في قول امرئ القيس: حلفت لها بالله حلفة فاجر ... لناموا فما إن من حديث ولا صال و «تهتدي» - مضارع اهتدى، و «العمي» بالرفع إِنْ تُسْمِعُ أي ما تسمع إسماعا يجدي السامع نفعا. إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا أي من شأنهم الإيمان بها وهم الذين ليسوا موتى ولا صما ولا عميا. وقال بعض الأجلة: أي إلا من هو في علم الله تعالى كذلك، واعترض بأن صيغة الاستقبال وإن صحت باعتبار تعلق العلم فيما لا يزال إلا أن المناسب صيغة المضي، واختار المعترض أن المعنى إلا الذين يصدقون أن القرآن كلام الله تعالى إذ حينئذ تثبت نبوته صلّى الله عليه وسلّم فيقبل قوله ويجدي إسماعه نفعا، وتعقب بأنه ينتقض الحصر بالمصدقين في الاستقبال إن كانت الصيغة للحال وبالمصدقين في الحال إن كانت للاستقبال، وإذا دفع لزوم الانتقاض بجعلها لهما لزم استعمال المشترك في معنييه معا أو الجمع بين الحقيقة والمجاز، وأجيب بأن المراد الحال ويدخل غيره فيه بدلالة النص من غير تكليف. وقال بعض المحققين: قد يراد بالمضارع الاستقبال الشامل لجميع الأزمنة فإن الاستقبال كما يكون بالنظر لزمان الحكم والتكلم على ما حقق في الأصول يجوز أن يكون بالنظر إلى علم القائل أيضا فيشمل من يؤمن هنا من آمن حالا كما يشمل من يؤمن استقبالا فلا غبار في المعنى الذي اختاره ذلك المعترض من هذه الحيثية، نعم قيل: إن فيه شبه تحصيل الحاصل لأن التصديق بالقرآن هو استماعه النافع، ولعل من عدل عنه إنما عدل لذلك، ولم يعبأ بالمغايرة بين ذينك الأمرين الظاهرة بعد النظر الصحيح، والحق أن ما ذكر من شبه تحصيل الحاصل على طرف الثمام لظهور الفرق بين الاسماع المراد في الآية والتصديق بأن القرآن كلام الله تعالى كما لا يخفى، وجوز أن يزاد بالآيات المعجزات التي أظهرها الله تعالى على يده عليه الصلاة والسلام الشاملة للآيات التنزيلية والتكوينية وأن يراد بها الآيات التكوينية فقط، والإيمان بها التصديق بكونها آيات الله تعالى وليست من السحر وإذا أريد بالإسماع النافع على هذا إسماع الآيات التنزيلية ليؤتى بما تضمنته من الاعتقادات والأعمال كان الكلام أبعد وأبعد من أن يكون فيه شبه تحصيل الحاصل إلا أن ذلك لا يخلو عن شيء، وفي إرشاد العقل السليم أن إيراد الاسماع في النفي والإثبات دون الهداية مع قربها بأن يقال: إن تهدي إلا من يؤمن إلخ لما أن طريق الهداية هو إسماع الآيات التنزيلية فافهم، وقوله تعالى: فَهُمْ مُسْلِمُونَ قيل: تعليل لإيمانهم بها كأنه قيل: فإنهم منقادون للحق في كل وقت. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 231 وقيل: مخلصون لله تعالى من قوله تعالى: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [البقرة: 112] ، وقيل: هو تعليل لما يدل عليه الكلام من أنهم يسمعون إسماعا نافعا لهم، وفي توحيد الضمير تارة. وجمعه أخرى رعاية للفظ من ومعناها. واستدل بقوله سبحانه: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى على أن الميت لا يسمع كلام الناس مطلقا، وسيأتي إن شاء الله تعالى تفصيل الكلام في ذلك في سورة الروم على أتم وجه وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بيان لما أشير إليه بقوله تعالى: بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ من بقية ما يستعجلونه من الساعة ومباديها، والمراد بالقول ما نطق من الآيات الكريمة بمجيء الساعة وما فيها من فنون الأهوال التي كانوا يستعجلونها وبوقوعه قيامها وحصولها عبر عن ذلك به للإيذان بشدة وقعها وتأثيرها، وإسناده إلى القول لما أن المراد بيان وقوعها من حيث إنها مصداق للقول الناطق بمجيئها، وقد أريد بالوقوع دنوه واقترابه كما في قوله تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النحل: 1] ففيه مجاز المشارفة أي إذا دنا وقوع مدلول القول المذكور الذي لا يكادون يسمعونه ومصداقه. أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ وذلك على ما أخرج ابن مردويه من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا، وهو. وجماعة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما موقوفا «حين يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» . وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: «أكثروا الطواف بالبيت من قبل أن يرفع وينسى الناس مكانه وأكثروا تلاوة القرآن من قبل أن يرفع، قيل: وكيف يرفع ما في صدور الرجال؟ قال: يسرى عليهم ليلا فيصبحون منه فقراء وينسون قول لا إله إلا الله ويقعون في قول الجاهلية وأشعارهم فذلك حين يقع القول عليهم» ، وهذا ظاهر في أن خروج الدابة حين لا يبقى في الأرض خير، ويقتضي ذلك أن يكون بعد موت عيسى والمهدي وأتباعهما عليهم السلام، وسيأتي إن شاء الله تعالى من الأخبار ما هو ناطق بأنها تخرج وعيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون. وأخرج نعيم بن حماد عن وهب بن منبه قال: أول الآيات الروم والثانية الدجال والثالثة يأجوح ومأجوج والرابعة عيسى والخامسة الدخان والسادسة الدابة، وصوب السفاريني أنها قبل الدخان، والحق أنها تخرج وفي الناس مؤمن وكافر، فالظاهر أن الخبر المذكور عن ابن مسعود غير صحيح، ويدل على ما ذكرنا من الحق ما أخرج أحمد والطيالسي ونعيم بن حماد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: تخرج دابة الأرض ومعها عصا موسى وخاتم سليمان عليهما السلام فتجلو (1) وجه المؤمن بالخاتم وتحطم أنف الكافر بالعصا حتى يجتمع الناس على الخوان يعرف المؤمن من الكافر» وقد اختلفت الروايات فيها اختلافا كثيرا، فحكى أبو حيان في البحر والدميري في حياة الحيوان رواية أنه يخرج في كل بلد دابة مما هو مبثوث نوعها في الأرض فليست دابة واحدة وعليه يراد بدابة الجنس الصادق بالمتعدد، وأكثر الروايات أنها دابة واحدة وهو الصحيح، فالتعبير عنها باسم الجنس وتأكيد إبهامه بالتنوين الدال على التفخيم من الدلالة على غرابة شأنها وخروج أوصافها عن طور البيان ما لا يخفى، وعلى كونها واحدة اختلف فيها أيضا فقيل: هي من الإنس واستؤنس له بما روى محمد بن كعب القرظي قال: سئل عليّ كرّم الله تعالى وجهه عن الدابة فقال: أما والله إنها ليست بدابة لها ذنب ولكن لها لحية ، وفي الميزان للذهبي عن جابر الجعفي-   (1) قوله: فتجلو إلخ قال الطيبي: أهل الحديث يروونه بالحاء المهملة وفتح اللام والهمز من حلأت الأديم إذا قشرته، وفي الكشاف، وكذا في المطلع بالجيم من جلوت السيف إذا صقلته اهـ منه. [ ..... ] الجزء: 10 ¦ الصفحة: 232 وهو كذاب- قال أبو حنيفة: ما لقيت أكذب منه أنه كان يقول: هي من الإنس وأنها عليّ نفسه كرّم الله تعالى وجهه وعلى ذلك جمع من إخوانه الشيعة ولهم في ذلك روايات: منها ما رواه عليّ بن إبراهيم في تفسيره عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: قال رجل لعمار بن ياسر: يا أبا اليقظان آية في كتاب الله تعالى أفسدت قلبي، قال عمار: وأية آية هي؟! فقال: قوله تعالى: وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ الآية فأية دابة هذه؟ قال عمار: والله ما أجلس ولا آكل ولا أشرب حتى أريكها فجاء عمار مع الرجل إلى أمير المؤمنين علي كرّم الله تعالى وجهه وهو يأكل تمرا وزبدا فقال: يا أبا اليقظان هلم فجلس عمار يأكل معه فتعجب الرجل منه فلما قام عمار قال الرجل: سبحان الله حلفت أنك لا تجلس ولا تأكل ولا تشرب حتى ترينيها قال عمار: قد أريتكها إن كنت تعقل، وروى العياشي هذه القصة بعينها عن أبي ذر أيضا وكل ما يروونه في ذلك كذب صريح، وفيه القول بالرجعة التي لا ينتهض لهم عليها دليل. وفي بعض الآثار ما يعارض ما ذكر، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن النزال بن سبرة قال: قيل لعلي كرّم الله تعالى وجهه: إن ناسا يزعمون أنك دابة الأرض، فقال: والله إن لدابة الأرض لريشا وزغبا وما لي ريش ولا زغب وإن لها لحافرا وما لي من حافر وإنها لتخرج من حفر الفرس الجواد ثلاثا وما خرج ثلثها، والمشهور- وهو الحق- أنها دابة ليست من نوع الإنسان، فقيل: هي الثعبان الذي كان في جوف الكعبة واختطفته العقاب حين أرادت قريش بناء البيت الحرام فمنعهم وأن العقاب التي اختطفته ألقته بالحجون فالتقمته الأرض، وذكر ذلك الدميري عن ابن عباس، والأكثرون على أنها غيرها. أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن الزبير أنه وصف الدابة فقال: رأسها رأس ثور وعينها عين خنزير وأذنها أذن فيل وقرنها قرن إيل وعنقها عنق نعامة وصدرها صدر أسد ولونها لون نمر وخاصرتها خاصرة هرة وذنبها ذنب كبش وقوائمها قوائم بعير بين كل مفصلين اثنا عشر ذراعا- زاد ابن جرير- بذراع آدم عليه السلام. ونقل السفاريني عن كعب أنه قال: صوتها صوت حمار، وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس أنه قال: الدابة مؤلفة ذات زغب وريش فيها من ألوان الدواب كلها وفيها من كل أمة سيما وسيماها من هذه الأمة أنها تتكلم بلسان عربي مبين، وعن أبي هريرة أنه قال: فيها من كل لون وما بين قرنيها فرسخ للراكب، وفي رواية أخرى عن ابن عباس أن لها عنقا مشرفا يراها من بالمشرق كما يراها من بالمغرب ولها وجه كوجه الإنسان ومنقار كمنقار الطير ذات وبر وزغب، وعن وهب وجهها وجه رجل وسائر خلقها كخلق الطير، وصرح في بعض الروايات بأن لها جناحين، وذكر بعضهم أن طولها ستون ذراعا، واختلف في محل خروجها فقيل: المسجد الحرام لما أخرج ابن جرير عن حذيفة بن اليمان قال: «ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الدابة فقال حذيفة: يا رسول الله من أين تخرج؟ قال: من أعظم المساجد حرمة على الله تعالى بينما عيسى عليه السلام يطوف بالبيت ومعه المسلمون إذ تضطرب الأرض من تحتهم تحرك القنديل وينشق الصفا مما يلي المسجد فتخرج الدابة من الصفا أول ما يبدو رأسها ملمعة ذات وبر وريش لن يدركها طالب ولن يفوتها هارب تسم الناس مؤمن وكافر: أما المؤمن فيرى وجهه كأنه كوكب دري وتكتب بين عينيه مؤمن وأما الكافر فتنكت بين عينيه نكتة سوداء وتكتب كافر» . وأخرج ابن أبي شيبة والخطيب في تالي التلخيص عن ابن عمر قال: تخرج الدابة من جبل جياد في أيام التشريق والناس بمنى ، وأخرج ابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تخرج دابة الأرض من جياد فيبلغ صدرها الركن ولم يخرج ذنبها بعد وهي دابة ذات وبر وقوائم» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 233 وأخرج البخاري في تاريخه وابن ماجة وابن مردويه عن بريدة رضي الله تعالى عنه قال: «ذهب بي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى موضع بالبادية قريب من مكة فإذا أرض يابسة حولها رمل فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تخرج الدابة من هذا الموضع فإذا شبر في شبر» . وجاء في بعض الروايات أنها تخرج من أقصى البادية ، وفي بعض من مدينة قوم لوط ، وفي بعض أن لها ثلاث خرجات في الدهر: تخرج في أول خرجة في أقصى اليمن منتشرا ذكرها بالبادية ولا يدخل ذكرها القرية يعني مكة، ثم تخرج خرجة أخرى فيعلو ذكرها في البادية ويدخل القرية، ثم بينما الناس في أعظم المساجد حرمة لم يرعهم إلا وهي في ناحية المسجد من الركن الأسود وباب بني مخزوم فيرفضّ الناس عنها شتى وتثبت عصابة من المسلمين عرفوا أنهم لن يعجزوا الله تعالى فتنفض عن رأسها التراب فتجلو عن وجوههم حتى كأنهم الكواكب الدرية ، واختلف أيضا في أنها هل تخلق يوم تخرج أو هي مخلوقة الآن؟ فقيل: إنها تخلق يوم تخرج، وقيل: إنها مخلوقة الآن لكن لم تؤمر بالخروج. واستدل بما روي عن ابن عباس أنه قرع الصفا بعصاه وهو محرم وقال: إن الدابة لتسمع قرع عصاي هذه، وعليه من يقول: إنها الثعبان، ومن يقول: إنها الجساسة التي تتجسس الأخبار للدجال كما هو المروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وزعم بعضهم أنها مخلوقة في عهد الأنبياء المتقدمين عليهم السلام، فقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد ابن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن «أن موسى عليه السلام سأل ربه سبحانه أن يريه الدابة فخرجت ثلاثة أيام ولياليهن تذهب في السماء لا يرى واحد من طرفيها فرأى عليه السلام منظرا فظيعا فقال: يا رب ردها فردها ، وجاء في حديث أخرجه نعيم بن حماد في الفتن والحاكم في المستدرك عن ابن مسعود أنها إذا خرجت تقتل إبليس عليه اللعنة- وهو ساجد- وذلك بعد طلوع الشمس من مغربها وتحقق هلاكه عنده، والأخبار في هذه الدابة كثيرة. وفي البحر أنهم اختلفوا- في ماهيتها وشكلها ومحل خروجها وعدد خروجها ومقدار ما يخرج منها وما تفعل بالناس وما الذي تخرج به- اختلافا مضطربا معارضا بعضه بعضا فاطرحنا ذكره لأن نقله تسويد للورق بما لا يصح وتضييع لزمان نقله اه، وهو كلام حق وأنا إنما نقلت بعض ذلك دفعا لشهوة من يحب الاطلاع على شيء من أخبارها صدقا كان أو كذبا، وقد تصدى السفاريني في كتابه البحور الزاخرة للجمع بين بعض هذه الأخبار المتعارضة ولا أظنه أتى بشيء. ثم إن الأخبار المذكورة أقربها للقبول الخبر الذي حسنه الترمذي، ومن الأخبار في هذا الباب ما صححه الحاكم وتصحيحه محكوم عليه بين المحدثين بعدم الاعتبار، وقصارى ما أقول في هذه الدابة أنها دابة عظيمة ذات قوائم ليست من نوع الإنسان أصلا يخرجها الله تعالى آخر الزمان من الأرض، وفي تقييد إخراجها بقوله سبحانه: مِنَ الْأَرْضِ نوع إشارة على ما قيل: إلى أن خلقها ليس بطريق التوالد بل هو بطريق التولد نحو خلق الحشرات. وقيل: إنه للإشارة إلى تكونها في جوف الأرض فيكون في إخراجها من الأرض رمز إلى ما يكون في الساعة التي أخرجت هي بين يديها من تشقق الأرض وخروج الناس من جوفها أحياء كاملة خلقتهم، وفي هذا وما قبله ذهاب إلى تعلق مِنَ الْأَرْضِ ب أَخْرَجْنا وهو الظاهر الذي ينبغي أن يعول عليه دون كونه متعلقا بمحذوف وقع صفة لدابة أي دابة كائنة من الأرض. تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ أي تكلمهم بأنهم كانوا لا يتيقنون بآيات الله تعالى الناطقة بمجيء الساعة ومباديها أو بجميع آياته التي من جملتها تلك الآيات، وقيل: بآياته التي من جملتها خروجها بين يدي الساعة وليس بذاك، وإضافة الآيات إلى نون العظمة لأنها حكاية منه تعالى لمعنى قولها لا لعين عبارتها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 234 وقيل: لأنها حكاية منها لقول الله عز وجل وقيل: لاختصاصها به تعالى وأثرتها عنده سبحانه كما يقول بعض خواص الملك خيلنا وبلادنا، وإنما الخيل والبلاد لمولاه، وقيل: هناك مضاف محذوف أي بآيات ربنا. والظاهر أن ضمير الجمع في تكلمهم للكفرة المنكرين للبعث مطلقا لا للكفرة المحدث عنهم فيما سبق بخصوصهم ضرورة أنهم ليسوا موجودين عند إخراج الدابة لتكلمهم، وتكليمها إياهم- وهم موتى- بعيد أو غير معقول، والرجعة التي يعتقدها الشيعة لا نعتقدها، والآية الآتية لا تدل كما يزعمون عليها. ويسهل أمر ذلك أنه ليس مدار الحديث عنهم سوى ما هم عليه من الشرك والكفر بالآيات وإنكار البعث وذلك موجود فيهم وفي الكفرة الموجودين عند إخراج الدابة، ومثله ضميرا- عليهم. ولهم- والمراد بالناس الكفرة الماضون مطلقا لا مشركو أهل مكة فقط، والمراد بإخبارها إياهم بذلك التحسر على ما فاتهم من الإيقان بما قرب وقوعه وظهور بطلان ما اعتقدوه فيه ومؤاخذتهم على التكذيب به أشد مؤاخذة، وفي ذلك استدعاء لأمثالهم إلى ترك ما هم عليه مما شاركوهم به من التكذيب وإنكار البعث، وجوز أن يراد بالناس مشركو أهل مكة وأمر الإخبار على حاله. وقيل: يجوز أن تكون الضمائر للناس لا للكفرة منهم خاصة، ويراد بالناس إما الكفرة المنكرون للبعث، والمراد بالإخبار التنفير عما كانوا عليه من الإنكار ليثبت المؤمن ويرتدع الكافر، وإما مشركو أهل مكة والمراد بالإخبار ذلك. وقيل: المراد به التشنيع عليهم بين أحبائهم وأعدائهم وكان بلسان الدابة ليكون أبلغ لما فيه من ظهور خطئهم عند ما لا يظن إدراكه له فضلا عن النطق به وإذاعته على سبيل التشنيع، وكان بين يدي الساعة ليردفه بلا كثير فصل ما يشبهه من شهادة الأعضاء عليهم وهي أبعد وقوعا مع تشنيع الدابة، وفي وقوعها بعده ما يشبه الترقي من العظيم إلى الأعظم، وأيد كون الضمائر للناس على الإطلاق وأن المراد بالناس المذكور في النظم الكريم أهل مكة ما روي عن وهب أن الدابة تخبر كل من تراه أن أهل مكة كانوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن لا يوقنون وقيل: ضميرا- عليهم. ولهم- لمشركي أهل مكة المحدث عنهم فيما سبق، ومعنى لَهُمْ لذمهم أو نحوه، وضمير تُكَلِّمُهُمْ للناس الموجودين عند الإخراج أو للكفرة كذلك، والمراد بالناس المذكور في النظم الكريم أولئك المشركون، وقيل: غير ذلك، ولا يخفى عليك بأدنى تأمل ما هو الأولى والأظهر في الآية من الأقوال، وأيا ما كان فوصف الناس بعدم الإيقان بالآيات مع أنهم كانوا جاحدين لها للإيذان بأنه كان من حقهم أن يوقنوا بها ويقطعوا بصحتها، وقد اتصفوا بنقيض ذلك وكون التكليم من الكلام هو الظاهر، ويؤيده قراءة أبي- تنبئهم- وقراءة يحيى بن سلام تحدثهم. وقيل: هو من الكلم بمعنى الجرح والتفعيل للتكثير، ويؤيده قراءة ابن عباس ومجاهد وابن جبير وأبي زرعة والجحدري وأبي حيوة وابن أبي عبلة «تكلمهم» بفتح التاء وسكون الكاف وتخفيف اللام وقراءة بعضهم- «تجرحهم» - مكان تكلمهم، وكأنه أريد بالجرح ما هو مقابل التعديل، ويرجع ذلك إلى معنى التشنيع ورجوع الضمائر عليه إلى الكفرة المحدث عنهم فيما سبق مما لا غبار عليه، وقوله تعالى: أَنَّ النَّاسَ إلخ بتقدير بأن الناس، والمعنى تشنع عليهم بهذا الكلام، ويراد بالناس فيه أولئك المشنع عليهم، وظاهر الآية وقوعه في كلامها بهذا اللفظ، ولعل فهم السامعين كون المراد به مشركي مكة وقت التشنيع بمعونة قرينة تدل على ذلك إذ ذاك، ويحتمل أن يكون الواقع فيه بدله مشركي مكة أو نحوه، لكن جاء في الحكاية بلفظ الناس، والنكتة فيه على ما قيل: الإيماء إلى كثرتهم. وقيل: الرمز إلى مزيد قبح عدم الإيقان منهم، ويعلم مما ذكر وجه العدول عن- أنهم- إلى أَنَّ النَّاسَ وجوز أن يكون بتقدير حرف التعليل أي لأن الناس إلخ، وهو تعليل من جهته تعالى لجرحها إياهم، وفيه إقامة الظاهر مقام الضمير الراجع كالضمائر السابقة إلى مشركي مكة، وجوز أن تقدر الباء على أنها سببية. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 235 وجوز أيضا أن يكون المراد بالكلم الجرح بمعنى الوسم، فقد روي أنها تسم جبهة الكافر، وفي رواية أخرى أنها تحطم أنفه بعصا موسى عليه السلام التي معها ، واختار بعضهم كون المراد به ما ذكر لما في حديث أخرجه نعيم بن حماد وابن مردويه عن عمر رضي الله تعالى عنه مرفوعا ليس ذلك بحديث ولا كلام ولكنه سمة تسم من أمرها الله تعالى ، وسأل أبو الحوراء ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هل ما في الآية تكلمهم أو تكلمهم؟ فقال كل ذلك تفعل تكلم المؤمن وتكلم الكافر تجرحه، والظاهر أن الضمائر على تقدير أن يراد بالكلم الجرح، والوسم راجعة إلى الكفرة على الإطلاق دون المحدث عنهم فيما سبق إذ لا معنى لوسمها إياهم، ويتعين أن يراد بالناس أولئك الكفرة الذين عادت عليهم الضمائر، ولعل المعنى تسمهم لأنهم كانوا في علمنا بآياتنا لا يوقنون، وقرأ ابن مسعود- بأن- وجعلت مؤيدة لكون التكليم من الكلام وهو مبني على الظاهر وإلا فالباء تحتمل أن تكون للسببية فتلائم كونه من الكلم بمعنى الجرح، وقرأ بعض السبعة- إن- بكسر الهمزة، وخرج على إضمار القول. أو إجراء التكليم من الكلام مجراه، أو على أن الكلام استئناف مسوق من جهته سبحانه للتعليل فتدبر. وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا بيان إجمالي لحال المكذبين عند قيام الساعة بعد بيان بعض مباديها، ويَوْمَ منصوب بفعل مضمر خوطب به نبينا صلّى الله عليه وسلّم أي اذكر يوم، وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت مع أن المقصود تذكير ما وقع فيه من الحوادث قد مر بيان سره مرارا، والمراد بهذا الحشر الحشر للتوبيخ والعذاب بعد الحشر الكلي الشامل لكافة الخلق وهو المذكور فيما بعد من قوله تعالى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ [النمل: 87] إلى آخره، ولعل تقديم ما تضمن هذا على ما تضمن ذلك دون العكس مع أن الترتيب الوقوعي يقتضيه للإيذان بأن كلا مما تضمنه هذا وذاك من الأحوال طامة كبرى وداهية دهياء حقيقة بالتذكير على حيالها ولو روعي الترتيب الوقوعي لربما توهم أن الكل داهية واحدة قد أمر بذكرها كما مر في سورة البقرة مع أن الأنسب بذكر أن الكفرة لا يوقنون بالآيات المراد به أنهم يكذبون بها أن يذكر بعده ما تضمن التوبيخ منه عز وجل والتعذيب على ذلك التكذيب، ومن الثانية بيانية جيء بها لبيان فَوْجاً، ومن الأولى تبعيضية لأن كل أمة منقسمة إلى مصدق ومكذب، أي ويوم نجمع من كل أمة من أمم الأنبياء عليهم السلام أو من أهل كل قرن من القرون جماعة كثيرة مكذبة بآياتنا فَهُمْ يُوزَعُونَ أي يحبس أولهم على آخرهم حتى يتلاحقوا ويجتمعوا في موقف التوبيخ والمناقشة، وفيه من الدلالة على كثرة عددهم وتباعد أطرافهم ما لا يخفى، وقيل: مِنْ الثانية تبعيضية كالأولى، والمراد بالفوج جماعة من الرؤساء المتبوعين للكفرة، وعن ابن عباس أبو جهل والوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة يساقون بين يدي أهل مكة وهكذا يحشر قادة سائر الأمم بين أيديهم إلى النار وهذه الآية من أشهر ما استدل بها الإمامية على الرجعة. قال الطبرسي في تفسيره مجمع البيان: واستدل بهذه الآية على صحة الرجعة من ذهب إلى ذلك من الإمامية بأن قال: إن دخول مِنْ في الكلام يوجب التبعيض فدل بذلك على أنه يحشر قوم دون قوم وليس ذلك صفة يوم القيامة الذي يقول فيه سبحانه: وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف: 47] ، وقد تظاهرت الأخبار عن أئمة الهدى من آل محمد صلّى الله تعالى عليه وسلّم في أن الله تعالى سيعيد عند قيام المهدي قوما ممن تقدم موتهم من أوليائه وشيعته ليفوزوا بثواب نصرته ومعونته ويبتهجوا بظهور دولته، ويعيد أيضا قوما من أعدائه لينتقم منهم وينالوا بعض ما يستحقونه من العقاب بالقتل على أيدي شيعته أو الذل والخزي بما يشاهدون من علو كلمته. ولا يشك عاقل أن هذا مقدور لله تعالى غير مستحيل في نفسه وقد فعل الله تعالى ذلك في الأمم الخالية ونطق القرآن بذلك في عدة مواضع مثل قصة عزير وغيره عليه السلام، وصح عن النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم قوله: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 236 «سيكون في أمتي كل ما كان في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتموه» ، وتأول جماعة من الإمامية ما ورد من الأخبار في الرجعة على رجوع الدولة والأمر والنهي دون رجوع الأشخاص وإحياء الأموات، وأولوا الأخبار الواردة في ذلك لما ظنوا أن الرجعة تنافي التكليف وليس كذلك لأنه ليس فيها ما يلجىء إلى فعل الواجب والامتناع من القبيح، والتكليف يصح معها كما يصح مع ظهور المعجزات الباهرة والآيات القاهرة كفلق البحر وقلب العصا ثعبانا وما أشبه ذلك ولأن الرجعة لم تثبت بظواهر الأخبار المنقولة فيتطرق التأويل عليها، وإنما المعول عليه في ذلك إجماع الشيعة الإمامية وإن كانت الأخبار تعضده وتؤيده انتهى. وأقول: أول من قال بالرجعة عبد الله بن سبأ ولكن خصها بالنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم، وتبعه جابر الجعفي في أول المائة الثانية فقال برجعة الأمير كرّم الله تعالى وجهه أيضا لكن لم يوقتها بوقت، ولما أتى القرن الثالث قرر أهله من الإمامية رجعة الأئمة كلهم وأعدائهم وعينوا لذلك وقت ظهور المهدي، واستدلوا على ذلك بما رووه عن أئمة أهل البيت، والزيدية كافة منكرون لهذه الدعوى إنكارا شديدا، وقد ردّوها في كتبهم على وجه مستوفى بروايات عن أئمة أهل البيت أيضا تعارض روايات الإمامية، والآيات المذكورة هنا لا تدل على الرجعة حسبما يزعمون ولا أظن أن أحدا منهم يزعم دلالتها على ذلك، بل قصارى ما يقول: إنها تدل على رجعة المكذبين أو رؤسائهم فتكون دالة على أصل الرجعة وصحتها لا على الرجعة بالكيفية التي يذكرونها، وفي كلام الطبرسي ما يشير إلى هذا. وأنت تعلم أنه لا يكاد يصح إرادة الرجعة إلى الدنيا من الآية لإفادتها أن الحشر المذكور لتوبيخ المكذبين وتقريعهم من جهته عز وجل بل ظاهر ما بعد يقتضي أنه تعالى بذاته يوبخهم ويقرعهم على تكذيبهم بآياته سبحانه، والمعروف من الآيات لمثل ذلك هو يوم القيامة مع أنها تفيد أيضا وقوع العذاب عليهم واشتغالهم به عن الجواب ولم تفد موتهم ورجوعهم إلى ما هو أشد منه وأبقى وهو عذاب الآخرة الذي يقتضيه عظم جنايتهم، فالظاهر استمرار حياتهم وعذابهم بعد هذا الحشر، ولا يتسنى ذلك إلا إذا كان حشر يوم القيامة، وربما يقال أيضا:- مما يأبى حمل الحشر المذكور على الرجعة- أن فيه راحة لهم في الجملة حيث يفوت به ما كانوا فيه من عذاب البرزخ الذي هو للمكذبين كيفما كان أشد من عذاب الدنيا، وفي ذلك إهمال لما يقتضيه عظم الجناية، وأيضا كيف تصح إرادة الرجعة منها، وفي الآيات ما يأبى ذلك، منه قوله تعالى: قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون: 99، 100] فإن آخر الآية ظاهر في عدم الرجعة مطلقا وكون الإحياء بعد الإماتة والإرجاع إلى الدنيا من الأمور المقدورة له عز وجل مما لا ينتطح فيه كبشان إلا أن الكلام في وقوعه وأهل السنة ومن وافقهم لا يقولون به ويمنعون إرادته من الآية ويستندون في ذلك إلى آيات كثيرة، والأخبار التي روتها الإمامية في هذا الباب قد كفتنا الزيدية مؤنة ردها، على أن الطبرسي أشار إلى أنها ليست أدلة وأن التعويل ليس عليها، وإنما الدليل إجماع الإمامية والتعويل ليس إلا عليه، وأنت تعلم أن مدار حجية الإجماع على المختار عندهم حصول الجزم بموافقة المعصوم ولم يحصل للسني هذا الجزم من إجماعهم هذا فلا ينتهض ذلك حجة عليه مع أن له إجماعا يخالفه وهو إجماع قومه على عدم الرجعة الكاشف عما عليه سيد المعصومين صلّى الله تعالى عليه وسلم، وكل ما تقوله الإمامية في هذا الإجماع يقول السني مثله في إجماعهم، وما ذكر من قوله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «سيكون في أمتي» الحديث لا نعلم صحته بهذا اللفظ بل الظاهر عدم صحته فإنه كان في بني إسرائيل ما لم يذكر أحد أنه يكون مثله في هذه الأمة كنتق الجبل عليهم حين امتنعوا عن أخذ ما آتاهم الله تعالى من الكتاب والبقاء في التيه أربعين سنة حين قالوا لموسى عليه السلام: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [المائدة: 24] ونزول المن والسلوى عليهم فيه إلى غير ذلك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 237 وبالجملة القول بالرجعة حسبما تزعم الإمامية مما لا ينتهض عليه دليل، وكم من آية في القرآن الكريم تأباه غير قابلة للتأويل، وكأن ظلمة بغضهم للصحابة رضي الله تعالى عنهم حالت بينهم وبين أن يحيطوا علما بتلك الآيات فوقعوا فيما وقعوا فيه من الضلالات حَتَّى إِذا جاؤُ إلى موقف السؤال والجواب والمناقشة والحساب قالَ أي الله عز وجل موبخا لهم على التكذيب لا سائلا سبحانه وتعالى سؤال استفسار لاستحالته منه عز وجل، وعدم وقوع الاستفسار عن الذنب يوم القيامة من غيره تعالى من الملائكة عليهم السلام وإن كان ممكنا على ما يدل عليه قوله تعالى: لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن: 39] على أحد التفسيرين، والالتفات لتربية المهابة أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي الناطقة بلقاء يومكم هذا، وقوله تعالى: وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً جملة حالية مفيدة لزيادة شناعة التكذيب وغاية قبحه، ومؤكدة للإنكار والتوبيخ أي أكذبتم بها بادىء الرأي غير ناظرين فيها نظرا يؤدي إلى العلم بكنهها وأنها حقيقة بالتصديق حتما، وهذا على ما قيل: ظاهر في أن المراد بالآيات فيما تقدم الآيات التنزيلية لأنها المنطوية على دلائل الصحة وشواهدها التي لم يحيطوا بها علما مع وجوب أن يتأملوا ويتدبروا فيها لا نفس الساعة وما فيها. وقال بعض الأجلة: إن التكذيب يأبى بظاهره أن يراد بالآيات الآيات التكوينية كالمعجزات ونحوها إذ ليس فيها نسبة يتعلق بها ذلك، وإرادة الأعم تستدعي اعتبار التغليب وكون التكذيب بمعنى نفي دلالتها على المراد منها كتصديق النبي صلّى الله عليه وسلّم في المعجزات ونحوه في نحوها من آيات الأنفس والآفاق خلاف الظاهر، فالأولى إبقاؤه على الظاهر وحمل الآيات على الآيات التنزيلية، وقيل: هو معطوف على- كذبتم- والهمزة لإنكار الجمع والتوبيخ عليه كأنه قيل: أجمعتم بين التكذيب بآياتي وعدم التدبر فيها. أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي أم ماذا كنتم تعملون بها على أن المراد التبكيت وأنهم لم يعملوا إلا التكذيب وهو أحد وجهين ذكرهما الزمخشري، وقرره في الكشف بأن (أم) متصلة، والأصل أكذبتم بآياتي أم صدقتم، والمعادلة بين الفعلين المتعلقين بالآيات لكن جيء بالأول مجيء معلوم محقق، وبالثاني لا على ذلك النهج تنبيها على انتفائه كأنه قيل: أهو ما عهد من التكذيب أم حدث حادث، ووجه الدلالة أنه جعل العديل مرددا فيه فلم يجعل التصديق مثل التكذيب في الاستفهام عن حاله بل إنما شك في وجود معادل التكذيب لأن قوله تعالى: أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يشمل التكذيب المذكور أولا وعديله الحقيقي، وهذه قرينة أنه لم يجأ بالاستفهام جهلا بالحال بل إنما أريد التبكيت والإلزام على معنى قل لي ويحك إن حدث أمر آخر بتّا بالقول بأنه لم يحدث ما يضاد الأول وإشعارا بأنه إذا سئل عن الذي عمله لم يجب إلا بما قدم أولا، ثم قال: وهذا وجه لائح، وإنما جاز دخول (أم) على (ما) الاستفهامية لهذه النكتة فإنها خرجت عن حقيقة الاستفهام إلى البت بالحكم لا بالمعادل بل بالأول، وثانيهما أن المعنى ما كان لكم عمل في الدنيا إلا الكفر والتكذيب بآيات الله تعالى أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من غير ذلك، وقرره في الكشف أيضا بأن (أم) على اتصالها ولكن المعادلة بين التكذيب وكل عمل غيره تعلق بالآيات أولا والإيراد على صيغة الاستفهام للنكتة السابقة فدل على أنه لم يكن لهم عمل إلا التكذيب والكفر كأنهم لم يخلقوا إلا لذلك فلأجله لم يعملوا غيره، وجعل سائر أعمالهم لاستمرار الكفر بهم نفس الكفر أو كلا عمل، ثم قال: وهذا وجه وجيه بالغ، ومنه ظهر أن دخول (أم) على أسماء الاستفهام غير منكر إذا خرجت عن حقيقة الاستفهام وهو مقاس معنى وإن كانت مراعاة صورة الاستفهام أيضا منقاسة من حيث اللفظ لكنهم يرجحون في نحوه جانب المعنى ولا يلتفتون لفت اللفظ اهـ. واختار أبو حيان كون (أم) منقطعة فتقدر ببل وحدها وهي للانتقال من توبيخ إلى توبيخ وليس في ذلك الجزء: 10 ¦ الصفحة: 238 شائبة من دخول الاستفهام على الاستفهام، وما تقدم أبعد مغزى، وماذا تحتمل أن تكون بجملتها استفهاما منصوب المحل بخبر كان وهو تَعْمَلُونَ أو مرفوعة على الابتداء والجملة بعده خبره والرابط محذوف أي تعملونه، وتحتمل أن تكون (ما) فيها استفهاما، وذا اسم موصول بمعنى الذي، وهما مبتدأ وخبر والجملة بعد صلة الموصول والعائد إليه محذوف. وقرأ أبو حيوة- «أما ذا» - بتخفيف الميم وفيها دخول الاستفهام على الاستفهام وقد سمعت وجهه. وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ حل بهم العذاب الذي هو مدلول القول الناطق بحلوله وهو كبهم في النار بِما ظَلَمُوا أي بسبب ظلمهم الذي هو تكذيبهم بآيات الله تعالى فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ بحجة لانتفائها عنهم بالكلية وابتلائهم بما حل بهم من العذاب الأليم، وقيل: يختم على أفواههم فلا يقدرون على النطق بشيء أصلا. وفي البحر أن انتفاء نطقهم يكون في موطن من مواطن القيامة أو من فريق من الناس لأن القرآن الكريم ناطق بأنهم ينطقون في بعض المواطن بأعذار وما يرجون به النجاة من النار. أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ الرؤية قلبية لا بصرية لأن نفس الليل والنهار وإن كانا من المبصرات لكن جعلهما كما ذكر من قبيل المعقولات أي ألم يعلموا أنا جعلنا الليل بما فيه من الإظلام ليستريحوا فيه بالقرار والنوم، قال بعض الرجاز: النوم راحة القوى الحسية ... من حركات والقوى النفسية وَالنَّهارَ مُبْصِراً أي ليبصروا بما فيه من الإضاءة طرق التقلب في أمور معاشهم فبولغ حيث جعل الابصار الذي هو حال الناس حالا له ووصفا من أوصافه التي جعل عليها بحيث لا ينفك عنها، ولم يسلك في الليل هذا المسلك لما أن تأثير ظلام الليل في السكون ليس بمثابة تأثير ضوء النهار في الابصار، والمشهور أن في الآية صنعة الاحتباك والتقدير جعلنا الليل مظلما ليسكنوا فيه والنهار مبصرا لينتشروا فيه إِنَّ فِي ذلِكَ أي في جعلهما كما وصفا وما في اسم الإشارة من معنى البعد للإشعار ببعد درجته في الفضل لَآياتٍ عظيمة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فإنه يدل على التوحيد وتجويز الحشر وبعث الرسل عليهم السلام لأن تعاقب النور والظلمة على وجه مخصوص غير متعين الجزء: 10 ¦ الصفحة: 239 بذاته لا يكون إلا بقدرة قاهرة ليست لما أشركه المشركون، وأن من قدر على إبدال الظلمة بالنور في مادة واحدة قادر على إبدال الموت بالحياة في مواد الأبدان، وأن من جعل الليل والنهار سببين لمنافعهم ومصالحهم لعله لا يخل بما هو مناط جميع مصالحهم في معاشهم ومعادهم وهو بعثة الرسل عليهم السلام. وفي إرشاد العقل السليم لآيات عظيمة كثيرة لقوم يؤمنون دالة على صحة البعث وصدق الآيات الناطقة به دلالة واضحة كيف لا وأن من تأمل في تعاقب الليل والنهار واختلافهما على وجوه بديعة مبنية على حكم رائقة تحار في فهمها العقول ولا يحيط بها إلا علم الله جل وعلا وشاهد في الآفاق تبدل ظلمة الليل المحاكية للموت بضياء النهار المضاهي للحياة وعاين في نفسه تبدل النوم الذي هو أخو الموت بالانتباه الذي هو مثل الحياة قضى بأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله تعالى يبعث من في القبور قضاء متقنا وجزم بأنه تعالى قد جعل هذا أنموذجا له ودليلا يستدل به على تحققه، وأن الآيات الناطقة به وبكون حال الليل والنهار برهانا عليه وسائر الآيات كلها حق نازل من عند الله تعالى اهـ. ولعل الأول أولى لا سيما إذا ضم إلى الاستدلال على جواز الحشر مشابهة النوم واليقظة للموت والحياة لما في هذا من خفاء الدلالة، وتخصيص المؤمنين بالذكر لما أنهم هم المنتفعون بالآيات، ووجه ربط هذه الآية بما قبلها أنها كالدليل على صحة ما تضمنته من الحشر وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ إما معطوف على يَوْمَ نَحْشُرُ منصوب بناصبه، أو منصوب بمضمر معطوف على ذلك الناصب، والصور- على ما في التذكرة- قرن من نور، وذكر البخاري عن مجاهد أنه كالبوق. وأخرج الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «جاء أعرابي إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ما الصور؟ قال: قرن ينفخ فيه» ، والمشهور أن صاحب الصور هو إسرافيل عليه السلام. وذكر القرطبي أن الأمم مجمعة على ذلك وهو مخلوق اليوم، فقد أخرج الترمذي وحسنه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم القرن واستمع الإذن متى يؤمر بالنفخ؟! فكأن ذلك ثقل على أصحاب رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم فقال عليه الصلاة والسلام لهم: قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل» وروي أيضا عن أبي هريرة مرفوعا «ما أطرق صاحب الصور مذ وكل به مستعدا بحذاء العرش مخافة أن يؤمر بالصيحة قبل أن يرتد طرفه كأن عينيه كوكبان دريان» . وجاء عن أبي هريرة من حديث مرفوع «إن عظم دائرة فيه كعرض السماوات والأرض» وهذا مما يؤمن به وتفوض كيفيته إلى علام الغيوب، وقيل: إن الصور بسكون الواو بمعنى الصور بضم الصاد وفتح الواو جمع صورة- وعليه أبو عبيدة- والكلام في الوجهين على حقيقته، وقيل: في الكلام استعارة تمثيلية شبه هيئة انبعاث الموتى من القبور إلى المحشر إذا نودوا بالقيام بهيئة قيام جيش نفخ لهم في المزمار المعروف وسيرهم إلى محل عين لهم، والأول قول الأكثرين- وعليه المعول- لأن قوله تعالى: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى [الزمر: 68] ظاهر في أن الصور ليس جمع صورة وإلا لقال سبحانه: فيها بدل فيه، وارتكاب التأويل بجعل الكلام من باب التمثيل ظاهر في إنكار أن يكون هناك صور حقيقة، وهو خلاف ما نطقت به الأحاديث الصحاح، وقد قال أبو الهيثم على ما نقل عنه القرطبي في تفسيره: من أنكر أن يكون الصور قرنا فهو كمن أنكر العرش والصراط والميزان وطلب لها تأويلات، وهذا النفخ قيل: المراد به النفخة الثانية، وإليه ذهب صاحب الغنيان، واختاره العلامة أبو السعود وقال: الذي يستدعيه سياق النظم الكريم وسباقه ذلك، وأن المراد بالفزع في قوله تعالى: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 240 فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ما يعتري الكل عند البعث والنشور من الرعب والتهيب الضروريين الجبليين بمشاهدة الأمور الهائلة الخارقة للعادات في الأنفس والآفاق، ثم قال: وقيل: المراد بالنفخ هي النفخة الأولى، وبالفزع هو الذي يستتبع الموت لغاية شدة الهول كما في قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ فيختص أثرها بمن كان حيا عند وقوعها دون من مات قبل ذلك من الأمم. وقيل: إن المراد بهذه النفخة الفزع التي تكون قبل نفخة الصعق التي أريدت بقوله تعالى: ما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ [ص: 15] وشنع على كلا القولين بما هو مذكور في تفسيره. وقال العلامة الطيبي الحق أن المراد بقوله تعالى: يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ هو النفخة الأولى، وقوله تعالى الآتي: وَكُلٌّ إلخ إشارة إلى النفخة الثانية، واعلم أنهم اختلفوا في عدد النفخة فقيل: ثلاث: نفخة الصعق المذكورة في قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [الزمر: 68] ، ونفخة البعث المذكورة في قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [يس: 51] ، ونفخة الفزع المذكورة في الآية المذكورة هاهنا، وهو اختيار ابن العربي. وقيل: اثنتان، ونفخة الفزع هي نفخة الصعق لأن الأمرين: الفزع بمعنى الخوف. والصعق بمعنى الموت لا زمان لها، قال القرطبي: والسنة كحديث مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص وهو طويل منه مع حذف ثم ينفخ في الصور فأول من يسمعه رجل يلوط حوضه فيصعق ثم يصعق الناس ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون. تدل على أن النفخ مرتين لا ثلاثة وهو الصحيح، ونفخ الفزع هو نفخ الصعق بعينه لاتحاد الاستثناء في آيتيهما. وتعقب في الرسالة المسماة بشرح العشر في معشر الحشر المنسوبة لابن الكمال بأنه لا دلالة في الحديث على عدم النفخة الثالثة، غايته أنه وسائر الأحاديث الواردة على نسقه ساكت عنها، ولا يلزم من ذلك عدمها، وكذا لا دلالة في اتحاد الاستثناء في الآيتين أن يكون المذكور فيهما نفخة واحدة، وهذا ظاهر، ثم قال: والصحيح عندي ما في القول الأول، من أن نفخة الفزع غير نفخة الصعق. فإن حديث الصحيحين لا تخيروني من بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا أنا بموسى عليه السلام آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أو جزي بصعقة الطور: صريح في أن الصعق يوم القيامة، وأن لا موت فيه فهو فزع بلا موت، فمن قال: هي ثلاث نفخات: نفخة الفزع، ثم نفخة الصعق وهو الموت، ثم نفخة البعث فقد أصاب في التفرقة بين نفخة الفزع ونفخة الصعق، إلا أنه لم يصب في زعمه أن نفخة الفزع قبل نفخة الصعق. كيف وقد دل حديث الصحيحين المذكور على عموم حكم نفخة الفزع للأنبياء عليهم السلام الذين ماتوا قبل نفخة الصعق أي الموت، قال القاضي عياض: إن نفخة الفزع بعد النشر حين تنشق السماوات والأرض، فظهر أن النفخات ثلاث بل أربع: نفخة يميت الله تعالى جميع الخلق بها كما جاء في الحديث وعند ذلك ينادي سبحانه: لمن الملك اليوم. وينادي على ذلك قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] . ونفخة البعث كما نطق به قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [يس: 51] ونفخة الصعق وهي نفخة الفزع بعينها وقد سمعت آيتيهما، ونفخة للإفاقة كما قال تعالى بعد ذكر نفخة الصعق ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ وقد عرفت ما في زعم أن نفخة الصعق هي نفخة الفزع بعينها فتدبر انتهى، وتعقبه بعضهم بأنه يلزم حينئذ على القول بالمغايرة بين نفخة الفزع ونفخة الصعق أن تكون النفخات خمسا ولم نسمع متنفسا يقول بذلك، وأيضا فيه القول بأن نفخة الصعق بعد نفخة البعث، ويأباه قوله صلّى الله تعالى عليه وسلم «أنا أول من تنشق عنه الأرض فأرفع رأسي فإذا موسى متعلق بقائمة من قوائم العرش فما أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 241 تعالى» فإن انشقاق الأرض عنه صلى الله تعالى عليه وسلم بعد نفخة البعث لا محالة فإذا عقبه رفع رأسه عليه الصلاة والسلام ومفاجأة كون موسى عليه السلام متعلقا بقائمة من قوائم العرش فأين نفخة الصعق. ولا يخفى أن كون النفخات خمسا لم يسمع هو الغالب على الظن ويتوقف قبول ما ذكره ثانيا على صحة ما ذكره من الخبر، ولعل القائل بما تقدم من وراء المنع، وقيل: الأظهر أن النفخات ثلاث: الأولى نفخة الصعق بمعنى الموت كما هو أحد معنييه المدلول عليها بقوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [الزمر: 68] ، والثانية نفخة البعث المدلول عليها بقوله تعالى: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: 68] وقوله سبحانه: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [يس: 51] والثالثة نفخة الفزع المدلول عليها بما هنا وهي على ما سمعت عن القاضي عياض بعد النشر حين تنشق السماوات والأرض. وأصله كما قال الراغب انقباض ونفار يعتري الشخص من الشيء المخيف والمراد به الرعب الشديد، ولعل الصعق المذكور في حديث الصحيحين هو غشي يترتب عليه بلا واسطة وعلى النفخ بواسطته وقد نص في الأساس على هذا المعنى له قال يقال صعق الرجل إذا غشي عليه من هدة أو صوت شديد يسمعه ويدل على أنه بمعنى الغشي قوله عليه الصلاة والسلام «فأكون أول من يفيق» لأن الإفاقة إنما تكون من الغشي دون الموت ولم يعبر هنا بالصعق مرادا به الغشي المذكور في الحديث لئلا يتوهم إرادة معنى الموت منه لخلوه هنا عن القرينة التي في الحديث واقترانه بما يلائم ذلك. وقد يختار ما هو المشهور من أن النفخة اثنتان ويجاب عما يشعر بالزيادة فالنفخة الأولى نفخة الصعق بمعنى الموت بحال هائلة فبها يموت من في السماوات والأرض من الأحياء قبيل ذلك إلّا من شاء الله تعالى، ويدل عليها آية ونفخ في الصور فصعق إلخ، والنفخة الثانية نفخة البعث المدلول عليها بآية ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ وبينهما في المشهور أربعون سنة، وفي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا «أربعون» بدون ذكر التمييز فقيل أربعون يوما فقال أبو هريرة أبيت فقيل أربعون شهرا فقال أبيت فقيل أربعون سنة فقال أبيت، ونفخة الفزع بمعنى الرعب والخوف هي هذه النفخة بعينها ووجه ذلك أنه ينفخ في الصور للبعث فيبعث الخلق وينشرون فإذا تحققوا يوم القيامة وشاهدوا آثار عظمة الله تعالى فزعوا ورعبوا إلا من شاء الله تعالى وترتب الفزع على النفخ بالفاء للإشارة إلى قلة الزمان الفاصل لسرعة تحققهم ومشاهدتهم ما ذكر، والإضافة في قولنا نفخة البعث وقولنا نفخة الفزع من إضافة السبب إلى المسبب إلا أن سببية النفخ للبعث بلا واسطة وسببيته للفزع بواسطة، وحديث الصحيحين «لا تخيروني من بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة» إلخ ليس فيه سوى إثبات الصعق بمعنى الغشي كما يرشد إليه ذكر الإفاقة للناس يوم القيامة ولا تعرض له لنفخ يترتب عليه ذلك، نعم التعبير بالصعق على ما ذكروا في معناه يقتضي أن يكون هناك هدة أو صوت شديد يسمعه من يسمعه فيغشى عليه إلا أنه لا يعين النفخ لجواز أن يكون ذلك من صوت حادث من انشقاق السماوات الكائن بعد البعث والفزع من يوم القيامة وما شاهدوا من أهواله. ومنع بعضهم اقتضاءه ذلك لجواز أن يراد به الغشي لحدوث أمر عظيم من أمور يوم القيامة غير النفخ، وقيل: هو من فروع النفخ للبعث وذلك أنه ينفخ فتبعث الخلائق فيتحققون ما يتحققون ويشاهدون ما يشاهدون فيفزعون فيغشى عليهم إلا ما شاء الله تعالى، وحديث الصحيحين مما لا يأبى ذلك واحتياج الإفاقة لنفخة أخرى في حيز المنع وقيل: في بيان اتحاد نفخة البعث ونفخة الفزع أن المراد بالفزع الإجابة والإسراع للقيام لرب العالمين وقد صرحت الآيات بإسراع الناس عند البعث فقال تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ وقال سبحانه: يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [المعارج: 43] ولا يخفى بعده واحتياج توجيه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 242 الاستثناء بعد عليه إلى تكلف فالأولى أن يوجه الاتحاد بما سبق فتأمل، وإيراد صيغة الماضي مع كون المعطوف أعني ينفخ مضارعا للدلالة على تحقق الوقوع كما في قوله تعالى: فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [هود: 98] بعد قوله تعالى: يَقْدُمُ قَوْمَهُ [هود: 98] ووجه تأخير بيان الأحوال الواقعة في ابتداء هذه النفخة عن بيان ما يقع بعد من حشر المكذبين قد تقدم الكلام فيه فتذكر فما في العهد من قدم إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ استثناء متصل كما هو الظاهر من من ومفعول المشيئة محذوف أي إلا من شاء الله تعالى أن لا يفزع، والمراد بذلك على ما قيل: من جاء بالحسنة لقوله تعالى فيهم: وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وتعقب بأن الفزع في تلك الآية غير الفزع المراد من قوله سبحانه: فَفَزِعَ إلخ وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى، واختلف الذين حملوا النفخ هنا على النفخة الأولى التي تكون للصعق- أي الموت- في تعيينهم فقيل هم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وروي ذلك عن مقاتل والسدي. وقال الضحاك: هم الولدان والحور العين وخزنة الجنة وحملة العرش. وحكى بعضهم هذين القولين في المراد بالمستثنى على تقدير أن يراد بالنفخ النفخة الثانية وبالفزع الخوف والرعب وأورد عليهما أن حملة العرش ليسوا من سكان السماوات والأرض لأن السماوات في داخل الكرسي ونسبتها إليه نسبة حلقة في فلاة ونسبة الكرسي إلى العرش كهذه النسبة أيضا فكيف يكون حملته في السماوات وكذا الولدان والحور وخزنة الجنة لأن هؤلاء كلهم في الجنة والجنان جميعها فوق السماوات ودون العرش على ما أفصح عنه قوله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «سقف الجنة عرش الرحمن» فما فيها من الولدان والحور والخزنة لا يصح استثناؤهم ممن في السماوات والأرض وأما جبرائيل ومن معه من الملائكة المقربين عليهم السلام فهم من الصافين المسبحين حول العرش وإذا كان العرش فوق السماوات لا يمكن أن يكون الاصطفاف حوله في السماوات، وأجيب بأنه يجوز أن يراد بالسماوات ما يعم العرش والكرسي وغيرهما من الأجرام العلوية فإنه الأليق بالمقام، وقد شاع استعمال من في السماوات والأرض عند إرادة الإحاطة والشمول. وقيل: لا مانع من حمل السماوات على السماوات السبع والتزام كون الاستثناء على القولين المذكورين منقطعا ولا يخفى ما فيه، وعد بعضهم ممن استثنى موسى عليه السلام، وأنت تعلم أنه لا يكاد يصح إلا إذا أريد بالفزع الصعق يوم القيامة بعد النفخة الثانية، أما إذا أريد به ما يكون في الدنيا عند النفخة الأولى فلا، على أن عده عليه السلام ممن لا يصعق يوم القيامة بعد قوله صلّى الله تعالى عليه وسلّم في حديث الصحيحين السابق فلا أدري أفاق قبلي أو جزي بصعقة الطور يحتاج إلى خبر صحيح وارد بعد ذلك. وروى أبو هريرة عن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم أنهم الشهداء عند ربهم يرزقون وصححه القاضي أبو بكر بن العربي كما قال القرطبي وبه رد على من زعم أنه لم يرد في تعيينهم خبر صحيح، وإلى ذلك ذهب ابن جبير ولفظه هم الشهداء متقلدو السيوف حول العرش وكذا ذهب إليه الحليمي وقال: هو مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ثم ضعف غيره من الأقوال. وقد ذكره غير واحد من المفسرين إلا أن بعضهم ذكره في تفسير من شاء الله في آية الصعق وبعض آخر ذكره في تفسيره في آية الفزع فتدبر. وَكُلٌّ أي كل واحد من الفازعين المبعوثين عند النفخة أَتَوْهُ أي حضروا الموقف بين يدي رب العزة جل جلاله للسؤال والجواب والمناقشة والحساب، وقيل: أي رجعوا إلى أمره تعالى وانقادوا. وضمير الجمع باعتبار معنى كُلٌّ وقرأ قتادة أتاه فعلا ماضيا مسندا لضمير كُلٌّ على لفظها. وقرأ أكثر السبعة آتوه اسم فاعل داخِرِينَ أي أذلاء، وقرأ الحسن والأعمش دخرين بغير ألف وهو على الجزء: 10 ¦ الصفحة: 243 القراءتين نصب على الحال من ضمير كُلٌّ وقوله سبحانه: وَتَرَى الْجِبالَ عطف على ينفخ داخل في حكم التذكير وترى من رؤية العين، وقوله تعالى: تَحْسَبُها جامِدَةً أي ثابتة في أماكنها لا تتحرك حال من فاعل ترى أو من مفعوله، وجوز أن يكون بدلا من سابقه، وقوله عز وجل. وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ حال من ضمير الجبال في تحسبها، وجوز أن يكون حالا من ضميرها في جامدة ومنعه أبو البقاء لاستلزامه أن تكون جامدة ومارة في وقت واحد أي وترى الجبال رأي العين ساكنة والحال أنها تمر في الجو مر السحاب التي تسيرها الرياح سيرا حثيثا، وذلك أن الأجرام المجتمعة المتكاثرة العدد على وجه الالتصاق إذا تحركت نحو سمت لا تكاد تبين حركتها، وعليه قول النابغة الجعدي في وصف جيش: بأرعن مثل الطود تحسب أنهم ... وقوف لحاج والركاب تهملج وقيل: شبه مرها بمر السحاب في كونها تسير سيرا وسطا كما قال الأعشى: كأن مشيتها من بيت جارتها ... مر السحائب لا ريث ولا عجل والمشهور في وجه الشبه السرعة وإن منشأ الحسبان المذكور ما سمعت، وقيل: إن حسبان الرائي إياها جامدة مع مرورها لهول ذلك اليوم فليس له ثبوت ذهن في الفكر في ذلك حتى يتحقق كونها جامدة وليس بذاك وقد أدمج في التشبيه المذكور تشبيه حال الجبال بحال السحاب في تخلخل الأجزاء وانتفاشها كما في قوله تعالى: وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة: 5] واختلف في وقت هذا، ففي إرشاد العقل السليم أنه مما يقع بعد النفخة الثانية كالفزع المذكور عند حشر الخلق يبدل الله تعالى شأنه الأرض غير الأرض ويغير هيئتها ويسير الجبال عن مقارها على ما ذكر من الهيئة الهائلة يشاهدها أهل المحشر وهي وإن اندكت وتصدعت عند النفخة الأولى لكن تسييرها وتسوية الأرض إنما يكون بعد النفخة الثانية كما نطق به قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ [طه: 105- 108] ، وقوله سبحانه: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم: 48] فإن اتباع الداعي الذي هو إسرافيل وبروز الخلق لله تعالى لا يكونان إلا بعد النفخة الثانية وقد قالوا في تفسير قوله تعالى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ [الكهف: 47] إن صيغة الماضي في المعطوف مع كون المعطوف عليه مستقبلا للدلالة على تقدم الحشر على التسيير والرؤية كأنه قيل: وحشرناهم قبل ذلك اهـ. وقال بعضهم إنه مما يقع عند النفخة الأولى وذلك أنه ترجف الأرض والجبال ثم تنفصل الجبال عن الأرض وتسير في الجو ثم تسقط فتصير كثيبا مهيلا ثم هباء منبثا، ويرشد إلى أن هذه الصيرورة مما لا يترتب على الرجفة ولا تعقبها بلا مهلة العطف بالواو دون الفاء في قوله تعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا [المزمل: 14] والتعبير بالماضي في قوله تعالى: وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ لتحقق الوقوع كما مر آنفا واليوم في قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ [طه: 105] الآية، وقوله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ إلخ يجوز أن يجعل اسما للحين الواسع الذي يقع فيه ما يكون عند النفخة الأولى من النسف والتبديل وما يكون عند النفخة الثانية من اتباع الداعي والبروز لله تعالى الواحد القهار، وقد حمل اليوم على ما يسع ما يكون عند النفختين في قوله تعالى: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ [الحاقة: 13- 15] يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ [الحاقة: 18] وهذا كما تقول جئته عام كذا وإنما مجيئك في وقت من أوقاته وقد ذهب غير الجزء: 10 ¦ الصفحة: 244 واحد إلى أن تبديل الأرض كالبروز بعد النفخة الثانية لما في صحيح مسلم عن عائشة «قلت يا رسول الله أرأيت قول الله تعالى يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ فأين يكون الناس؟ قال على الصراط» وجاء في غير خبر ما يدل على أنه قبل النفخة الأولى، وجمع صاحب الإفصاح بين الاخبار بأن التبديل يقع مرتين مرة قبل النفخة الأولى وأخرى بعد النفخة الثانية، وحكى في البحر أن أول الصفات ارتجاجها ثم صيرورتها كالعهن المنفوش ثم كالهباء بأن تتقطع بعد أن كانت كالعهن ثم نسفها بإرسال الرياح عليها ثم تطييرها بالريح في الجو كأنها غبار ثم كونها سرابا، وهذا كله على ما يقتضيه كلام السفاريني قبل النفخة الثانية، ومن تتبع الأخبار وجدها ظاهرة في ذلك، والآية هنا تحتمل كون الرؤية المذكورة فيها قبل النفخة الثانية وكونها قبلها فتأمل صُنْعَ اللَّهِ الظاهر أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة وهي جملة الحال والعامل فيه ما دلت عليه من كون ذلك من صنعه تعالى فكأنه قيل: صنع الله تعالى ذلك صنعا وهذا نحو له عليّ ألف عرفا ويسمى في اصطلاحهم المؤكد لنفسه وإلى هذا ذهب الزجاج وأبو البقاء. وقال بعض المحققين: مؤكد لمضمون ما قبله على أنه عبارة عما ذكر من النفخ في الصور وما ترتب عليه جميعا قصد به التنبيه على عظم شأن تلك الأفاعيل وتهويل أمرها والإيذان بأنها ليست بطريق إخلال نظام العالم وإفساد أحوال الكائنات بالكلية من غير أن يكون فيه حكمة بل هي من قبيل بدائع صنع الله تعالى المبنية على أساس الحكمة المستتبعة للغايات الجميلة التي لأجلها رتبت مقدمات الخلق ومبادئ الإبداع على الوجه المتين والنهج الرصين كما يعرب عنه قوله تعالى: الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ أي أتقن خلقه وسواه على ما تقتضيه الحكمة اهـ، وحسنه ظاهر. وقال الزمخشري هو من المصادر المؤكدة إلا أن مؤكده محذوف وهو الناصب ليوم ينفخ والمعنى ويوم ينفخ في الصور فكان كيت وكيت أثاب الله تعالى المحسنين وعاقب المجرمين ثم قال سبحانه: صنيع الله يريد عز وجل به الإثابة والمعاقبة إلى آخر ما قال، وهو يدل على أنه فرض اليوم ممتدا شاملا لزمان النفختين وما بعدهما وجعل المصدر مؤكدا لهذا المحذوف المدلول عليه بالتفصيل في قوله تعالى الآتي: من جاء ومن جاء وباستدعاء يوم ينفخ ناصبا وفرع عليه ما فرع وتعقبه أبو حيان بأن المصدر المؤكد لمضمون الجملة لا يجوز حذف جملته لأنه منصوب بفعل من لفظه فيجتمع حذف الفعل الناصب وحذف الجملة التي أكد مضمونها بالمصدر وذلك حذف كثير مخل ومن تتبع مساق هذه المصادر التي تؤكد مضمون الجملة وجد الجمل مصرحا بها لم يرد الحذف في شيء منها إذا الأصل أن لا يحذف المؤكد إذ الحذف ينافي التأكيد لأنه من حيث أكد معتنى به ومن حيث حذف غير معتنى به، وكأن الداعي له إلى العدول عن الظاهر على ما قيل إن الصنع المتقن لا يناسب تسيير الجبال ظاهرا وأنت تعلم أن هذا على طرف الثمام نعم الأحسن جعله مؤكدا لمضمون ما ذكر من النفخ في الصور وما بعده وجيء به للتنبيه على عظم شأن تلك الأفاعيل على ما سمعته عن بعض المحققين. وقيل هو منصوب على الإغراء بمعنى انظروا صنع الله وهو كما ترى. واستدل بالآية على جواز إطلاق الصانع على الله عز وجل وهو مبني على مذهب من يرى أن ورود الفعل كاف. واستدل بعضهم على الجواز المذكور بالخبر الصحيح «إن الله صانع كل صانع وصنعته» وتعقب بأن الشرط أن لا يكون الوارد على جهة المقابلة نحو أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الواقعة: 64] خلافا للحليمي على ما يقتضيه قوله يستحب لمن ألقى بذرا في أرض أن يقول الله تعالى الزارع والمنبت والمبلغ، وما في هذا الحديث من هذا القبيل وأيضا ما في الخبر بالإضافة فلا يدل على جواز الخالي عنها ألا ترى أن قوله صلّى الله تعالى عليه وسلّم يا صاحب كل نجوى أنت الصاحب في السفر لم يأخذوا منه أن الصاحب من غير قيد من أسمائه تعالى فكذا هو لا يؤخذ منه أن الصانع من غير قيد من أسمائه تعالى فتأمله، ونحو هذا الاستدلال بخبر مسلم «ليعزم في الدعاء فإن الله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 245 تعالى صانع ما شاء لا مكره له» فإن ما فيه من قبيل المضاف أو المقيد والأولى الاستدلال بما صح في حديث الطبراني والحاكم «اتقوا الله تعالى فإن الله تعالى فاتح لكم وصانع» ولا فرق بين المعرف والمنكر عند الفقهاء لأن تعريف المنكر لا يغير معناه ولذا يجوزون في تكبيرة الإحرام: الله الأكبر. واستدل القاضي عبد الجبار بعموم قوله سبحانه: أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ على أن قبائح العبد ليست من خلقه سبحانه وإلا وجب وصفها بأنها متقنة والإجماع مانع منه وأجيب بأن الآية مخصوصة بغير الأعراض لأن الإتقان بمعنى الإحكام وهو من أوصاف المركبات ولو سلّم فوصف كل الأعراض به ممنوع فما من عام إلا وقد خص ولو سلم فالإجماع المذكور ممنوع بل هي متقنة أيضا بمعنى أن الحكمة اقتضتها إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ جعله بعض المحققين تعليلا لكون ما ذكر من النفخ في الصور وما بعده صنعا محكما له تعالى ببيان أن علمه تعالى بظواهر أفعال المكلفين وبواطنها مما يستدعي إظهارها وبيان كيفياتها على ما هي عليه من الحسن والسوء وترتيب أخيريتها عليها بعد بعثهم وحشرهم وتسيير الجبال حسبما نطق به التنزيل. وقوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها بيانا لما أشير إليه بإحاطة علمه تعالى بأفعالهم من ترتيب أخيريتها عليها. وقال العلامة الطيبي قوله تعالى إن الله إلخ استئناف وقع جوابا لقول من يسأل فماذا يكون بعد هذه القوارع فقيل إن الله خبير بعمل العاملين فيجازيهم على أعمالهم وفصل ذلك بقوله سبحانه من جاء إلخ. والخطاب في تَفْعَلُونَ لجميع المكلفين وقرأ العربيان وابن كثير «يفعلون» بياء الغيبة. والمراد بالحسنة على ما روي عن ابن عباس وابن مسعود ومجاهد والحسن والنخعي وأبي صالح وسعيد بن جبير وعطاء وقتادة شهادة أن لا إله إلا الله وروى عبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه عن أبي هريرة وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن كعب بن عجرة أن النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم فسرها بذلك والمراد بهذه الشهادة التوحيد المقبول وقيل المراد بالحسنة ما يتحقق بما ذكر وغيره من الحسنات وهو الظاهر، نظرا إلى أن اللام حقيقة في الجنس. وقال بعضهم: الظاهر الأول، لأن الظاهر حمل المطلق على الكامل وأكمل جنس الحسنة التوحيد ولو أريد العموم لكان الظاهر الإتيان بالنكرة، ويكفي في ترجيح الأول ذهاب أكثر السلف إليه وإذا صح الحديث فيه لا يكاد يعدل عنه. وكان النخعي يحلف على ذلك ولا يستثني، والظاهر أن خيرا للتفصيل وفضل الجزاء على الحسنة كائنة ما كانت. قيل باعتبار الإضعاف أو باعتبار الدوام. وزعم بعضهم أن الكلام بتقدير مضاف أي خير من قدرها وهو كما ترى. وقال بعض الأجلة ثواب المعرفة النظرية والتوحيد الحاصل في الدنيا هي المعرفة الضرورية على أكمل الوجوه في الآخرة والنظر إلى وجهه الكريم جل جلاله وذلك أشرف السعادات. وقيل إن خيرا ليس للتفضيل ومن لابتداء الغاية أي فله خير من الخيور مبدؤه ومنشؤه منها أي من جهة الحسنة. وروي ذلك عن ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد وابن جريج وعكرمة وَهُمْ أي الذين جاؤوا بالحسنة مِنْ فَزَعٍ أي فزع عظيم هائل لا يقادر قدره يَوْمَئِذٍ ظرف منصوب بقوله تعالى: آمِنُونَ وبه أيضا يتعلق مِنْ فَزَعٍ والأمن يستعمل بالجار وبدونه كما في قوله تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ [الأعراف: 99] ، وجوز أن يكون الظرف منصوبا بفزع وأن يكون منصوبا بمحذوف وقع صفة له أي من فزع كائن في ذلك الوقت، وقرأ العربيان وابن كثير وإسماعيل بن جعفر، عن نافع فزع يومئذ بإضافة فزع إلى يوم، وكسر ميم يوم، وقرأ نافع في غير رواية إسماعيل كذلك إلا أنه فتح الميم فتح بناء لإضافة يوم إلى غير متمكن وتنوين إذ للتعويض عن جملة، والأولى على ما في البحر أن تكون الجملة المحذوفة المعوض هو عنها ما قرب من الظرف أي يوم إذ جاء بالحسنة، وجوز أن يكون التقدير يوم إذ ينفخ في الصور لا سيما إذا أريد بذلك النفخ النفخة الثانية، واقتصر عليه شيخ الإسلام، وفسر الفزع بالفزع الحاصل من مشاهدة العذاب بعد تمام المحاسبة وظهور الحسنات والسيئات الجزء: 10 ¦ الصفحة: 246 وهو الذي في قوله تعالى: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء: 103] وحكي عن الحسن أن ذاك حين يؤمر بالعبد إلى النار، وعن ابن جريج أنه حين يذبح الموت وينادى يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت وهو كذلك في قراءة التنوين وقراءة الإضافة ولا يراد به في القراءة الثانية جميع الأفزاع الحاصلة يومئذ، ومدار الإضافة كون ذلك أعظم الأفزاع وأكبرها كأن ما عداه ليس بفزع بالنسبة إليه وقال تبعا لغيره إن الفزع المدلول عليه بقوله تعالى: فَفَزِعَ إلخ ليس إلا التهيب والرعب الحاصل في ابتداء الإحساس بالشيء الهائل ولا يكاد يخلو منه أحد بحكم الجبلة وإن كان آمنا من لحاق الضرر به. وقال أبو علي: يجوز أن يراد بالفزع في القراءتين فزع واحد وأن يراد به الكثرة لأنه مصدر فإن أريد الكثرة شمل كل فزع يكون في القيامة وإن أريد الواحد فهو الذي أشير إليه بقوله تعالى: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا تتمة للكلام في الآية وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ وهو الشرك وبه فسرها من فسر الحسنة بشهادة أن لا إله إلا الله وقد علمت من هم، وقيل: المراد بها ما يعم الشرك وغيره من السيئات: فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ أي كبوا فيها على وجوههم منكوسين، فإسناد الكب إلى الوجوه مجازي لأنه يقال كبه وأكبه إذا نكسه، وقيل: يجوز أن يراد بالوجوه الأنفس كما أريدت بالأيدي في قوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195] أي فكبت أنفسهم في النار هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ على الالتفات للتشديد أو على إضمار القول أي مقولا لهم ذلك فلا التفات فيه لأنه في كلام آخر ومن شروط الالتفات اتحاد الكلامين كما حقق في المعاني، واستدل بعض المرجئة القائلين بأنه لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة بقوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ إلخ على أن المؤمن العاصي لا يعذب يوم القيامة وإلا لم يكن آمنا من فزع مشاهدة العذاب يومئذ وهو خلاف ما دلت عليه الآية الكريمة، وأجيب بمنع دخول المؤمن العاصي في عموم الآية لأن المراد بالحسنة الحسنة الكاملة وهو الإيمان الذي لم تدنسه معصية، وذلك غير متحقق فيه أو لأن المتبادر المجيء بالحسنة غير مشوبة بسيئة وهو أيضا غير متحقق فيه ومن تحقق فيه فهو آمن من ذلك الفزع بل لا يبعد أن يكون آمنا من كل فزع من أفزاع يوم القيامة وإن سلّم الدخول قلنا المراد بالفزع الآمن منه من جاء بالحسنة ما يكون حين يذبح الموت وينادي المنادي يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت كما سمعت عن ابن جريج أو حين تطبق جهنم على أهلها فيفزعون كما روي عن الكلبي وليس ذلك إلا بعد تكامل أهل الجنة دخولا الجنة والعذاب الذي يكون لبعض عصاة المؤمنين إنما هو قبل ذلك والآية لا تدل على نفيه بوجه من الوجوه. وأجاب بعضهم بأنه يجوز أن يكون المؤمن العاصي آمنا من فزع مشاهدة العذاب، وإن عذب لعلمه بأنه لا يخلد فيعد عذابه كالمشاق التي يتكلفها المحب في طريق وصال المحبوب وهذا في غاية السقوط كما لا يخفى. واستدل بعض المعتزلة بقوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ إلخ على عدم الفرق بين عذاب الكافر وعذاب المؤمن العاصي لأن مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ يعمهما وقد أثبت له الكب على الوجوه في النار فحيث كان ذلك بالنسبة إلى الكافر على وجه الخلود كان بالنسبة إلى المؤمن العاصي كذلك، وأجيب بأن المراد بالسيئة الإشراك كما روي تفسيرها به عن أكثر سلف الأمة فلا يدخل المؤمن العاصي فيمن جاء بالسيئة ولو سلّم دخوله بناء على القول بعموم السيئة فلا نسلم أن في الآية دلالة على خلوده في النار وكون الكب في النار بالنسبة إلى الكافر على وجه الخلود لا يقتضي أن يكون بالنسبة إليه كذلك فكثيرا ما يحكم على جماعة بأمر كلي ويكون الثابت لبعضهم نوعا وللبعض الآخر نوعا آخر منه وهذا مما لا ريب فيه، ثم إن الآية من باب الوعيد فيجرى فيه على تقدير دخول المؤمن العاصي في عموم من ما قاله الأشاعرة في آيات الوعيد فافهم وتأمل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 247 إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها استئناف بتقدير قل قبله وهو أمر له عليه الصلاة والسلام بأن يقول لهؤلاء الكفرة ذلك بعد ما بين لهم أحوال المبدأ والمعاد وشرح أحوال القيامة إثارة لهممهم بألطف وجه إلى أن يشتغلوا بتدارك أحوالهم وتحصيل ما ينفعهم والتوجه نحو التدبر فيما قرع أسماعهم من الآيات الباهرة الكافية في إرشادهم والشافية لعللهم والبلدة على ما روي عن ابن عباس وقتادة وغيرهما هي مكة المعظمة، وفي تاريخ مكة أنها منى قال حدثنا يحيى بن ميسرة عن خلاد بن يحيى عن سفيان أنه قال: البلدة منى والعرب تسميها بلدة إلى الآن. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية تفسيرها بذلك أيضا، وذكر بعض الأجلة أن أكثر المفسرين على الأول وتخصيصها بالإضافة لتفخيم شأنها وإجلال مكانها والتعرض لتحريمه تعالى إياها تشريف لها بعد تشريف وتعظيم إثر تعظيم مع ما فيه من الإشعار بعلة الأمر وموجب الامتثال به كما في قوله تعالى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش: 3، 4] ومن الرمز إلى غاية شناعة ما فعلوا فيها ألا ترى أنهم مع كونها محرمة من أن تنتهك حرمتها باختلاء خلاها وعضد شجرها وتنفير صيدها وإرادة الإلحاد فيها قد استمروا فيها على تعاطي أفظع أفراد الفجور وأشنع آحاد الإلحاد حيث تركوا عبادة ربها ونصبوا فيها الأوثان وعكفوا على عبادتها قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون، ولا تعارض بين ما في الآية من نسبة تحريمها إليه عز وجل وما في قوله عليه الصلاة والسلام «إن إبراهيم عليه السلام حرم مكة وأنا حرمت المدينة» من نسبة تحريمها إلى إبراهيم عليه السلام لأن ما هنا باعتبار أنه هو المحرم في الحقيقة وما في الحديث باعتبار أن إبراهيم عليه السلام مظهر لحكمه عز شأنه. وقرأ ابن عباس وابن مسعود التي صفة للبلدة وقراءة الجمهور أبلغ في التعظيم، ففي الكشف أن إجراء الوصف على الرب تعالى شأنه، تعظيم لشأن الوصف ولشأن ما يتعلق به الوصف وزيادة اختصاص له بمن أجرى عليه الوصف على سبيل الإدماج وجعل ذلك كالمسلم المبرهن ولا كذلك لو وصفت البلدة بوصف تخصيصا أو مدحا. وقوله تعالى: وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ أي خلقا وملكا وتصرفا، من غير أن يشاركه سبحانه شيء في شيء من ذلك تحقيق للحق، وتنبيه على أن إفراد مكة بالإضافة لما مر من التفخيم والتشريف مع عموم الربوبية لجميع الموجودات، واستدل به بعض الناس لجواز ما يقوله جهلة المتصوفة شيء لله، لأنه في معنى كل شيء لله عز وجل، نحو تمرة خير من جرادة، وأنت تعلم أنهم لا يأتون به لإرادة ذلك بل يقولون: شيء لله يا فلان لبعض الأكابر من أهل القبور، إما على معنى أعطني شيئا لوجه الله تعالى يا فلان، أو أنت شيء عظيم من آثار قدرة الله تعالى وقد وجهه بذلك من لم يكفرهم به وهو الحق وإن كان في ظاهره على أول التوجيهين طلب شيء ممن لا قدرة له على شيء نعم الأولى صيانة اللسان عن أمثال هذه الكلمات. وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي أثبت على ما كنت عليه من كوني من جملة الثابتين على ملة الإسلام والتوحيد أو الذين أسلموا وجوههم لله تعالى خالصة من قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [النساء: 125] وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ أي أواظب على قراءته على الناس بطريق تكرير الدعوة وتثنيته الإرشاد لكفايته في الهداية إلى طريق الرشاد، وقيل أي أواظب على قراءته لينكشف لي حقائقه الرائقة المخزونة في تضاعيفه شيئا فشيئا فإن المواظبة على قراءته من أسباب فتح باب الفيوضات الإلهية والأسرار القدسية، وقد حكي أنه صلّى الله تعالى عليه وسلّم قام ليلة يصلي فقرأ قوله تعالى: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ [المائدة: 118] فما زال يكررها ويظهر له من أسرارها ما يظهر حتى طلع الفجر ، وقيل أتلو من تلاه إذا تبعه، أي وأن أتبع القرآن، وهو خلاف الظاهر، ويؤيد ما ذكرناه أولا من المعنى ما في حرف أبي كما أخرجه أبو عبيد وابن المنذر عن هارون واتل عليهم القرآن وحكى عنه في البحر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 248 أنه قرأ واتل هذا القرآن، ولا تأييد فيه لما ذكرنا. وقرأ عبد الله وأن اتل بغير واو أمرا من تلا فجاز أن تكون أن مصدرية وصلت بالأمر، وجاز أن تكون مفسرة على إضمار أمرت فَمَنِ اهْتَدى أي بالإيمان بالقرآن والعمل بما فيه من الشرائع والأحكام، وقيل أي بالاتباع فيما ذكر من العبادة والإسلام، وتلاوة القرآن أو اتباعه فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ أي فإنما منافع اهتدائه تعود إليه وَمَنْ ضَلَّ بالكفر به والإعراض عنه، وقيل بالمخالفة فيما ذكر فَقُلْ أي له. إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ وقد خرجت عن عهدة الإنذار فليس عليّ من وبال ضلالك شيء وإنما هو عليك فقط ويعلم مما ذكرنا أن جواب الشرط جملة القول وما في حيزه والرابط المشترط في مثله محذوف وقدره بعضهم بعد المنذرين أي من المنذرين إياه، وجوز أبو حيان كون الجواب محذوفا أي من ضل فوبال ضلاله مختص به وحذف ذلك لدلالة جواب مقابله عليه، وجوز بعضهم كون الجملة بعد هي الجواب ولكونها كناية تعريضية عما قدره أبو حيان لم تحتج إلى رابط ثم إن ظاهر التصريح بقل هنا يقتضي أن يكون فمن اهتدى إلخ من كلامه عز وجل عقب به أمره صلى الله تعالى عليه وسلّم بأن يقول لهم ما قبله، ولا بعد في كونه من مقول القول المقدر قبل قوله تعالى: إِنَّما أُمِرْتُ كما سمعت وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ أي على ما أفاض عليّ من نعمائه التي من أجلها نعمة النبوة المستتبعة لفنون النعم الدينية والدنيوية ووفقني لتحمل أعبائها وتبليغ أحكامها بالآيات البينة والبراهين النيرة، وقوله تعالى: سَيُرِيكُمْ آياتِهِ من جملة الكلام المأمور به أي قل سيريكم آياته سبحانه: فَتَعْرِفُونَها أي فتعرفون أنها آيات الله تعالى حيث لا تنفعكم المعرفة، وقيل: أي سيريكم في الدنيا والمراد بالآيات الدخان وما حل بهم من نقمات الله تعالى وعد منها قتل يوم بدر واعتراف المقتولين بذلك بالفعل واعتراف غيرهم بالقوة، وقيل: هي خروج الدابة وسائر أشراط الساعة والخطاب لجنس الناس لا لمن في عهد النبوة. وأخرج ابن أبي حاتم وجماعة عن مجاهد أن المراد بالآيات الأنفسية والآفاقية فالآية كقوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت: 53] ، وقيل: المراد بها معجزات الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلّم وإضافتها إلى ضميره تعالى لأنها فعله عز وجل أظهرها على يد رسوله عليه الصلاة والسلام للتصديق، والمراد بالمعرفة ما يجامع الجحود، وقوله تعالى: وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ كلام مسوق من جهته سبحانه بطريق التذييل مقرر لما قبله متضمن للوعد والوعيد كما ينبىء عنه إضافة الرب إلى ضميره صلّى الله تعالى عليه وسلم وتخصيص الخطاب أولا به عليه الصلاة والسلام وتعميمه ثانيا للكفرة تغليبا أي وما ربك بغافل عما تعمل أنت من الحسنات وما تعملون أنتم أيها الكفرة من السيئات فيجازي كلا منكم بعمله لا محالة، وقرأ الأكثر يعملون بياء الغيبة فهو وعيد محض والمعنى وما ربك بغافل عن أعمالهم فسيعذبهم البتة فلا يحسبوا أن تأخير عذابهم لغفلة سبحانه عن أعمالهم الموجبة له ومن تأمل في الآيات ظهر له أن هذه الخاتمة مما تدهش العقول وتحير الأفهام ولله تعالى در التنزيل وماذا عسى يقال في كلام الملك العلام. ومن باب الإشارة في الآيات ما قيل وأنزل من السماء أي سماء القلب ماء هو ماء نظر الرحمة فأنبتنا به حدائق ذات بهجة من العلوم والمعاني والأسرار والحكم البالغة، ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أي أصولها لما أن العلوم الإلهية غير اختيارية بل كل علم ليس باختياري في نفسه وإلا لزم تقدم الشيء على نفسه نعم هو اختياري باعتبار الأسباب أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ أي أرض النفس قرارا في الجسد وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً من دواعي البشرية وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ من قوى البشرية والحواس وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ بحر الروح وبحر النفس حاجِزاً وهو القلب أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ وهو المستعد لشيء من الأشياء إِذا دَعاهُ بلسان الاستعداد وطلب منه تعالى ما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 249 استعد له، وقال بعضهم: المضطر المستغرق في بحار شوقه تعالى: وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً وهي النفس الناطقة والروح الإنساني مِنَ الْأَرْضِ أي أرض البشرية وعلى هذا النمط تكلموا في سائر الآيات وساق الشيخ الأكبر قدس سره قوله تعالى: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ دليلا على ما يدعيه من تجدد الجواهر كالأعراض عند الأشعري وعدم بقائها زمانين، ومبنى ذلك عنده القول بوحدة الوجود وأنه سبحانه كل يوم هو في شأن، والكلام في صحة هذا المبنى واستلزامه للمدعى لا يخفى على العارف، وأما الاستدلال بهذه الآية لهذا المطلب فمن أمهات العجائب وأغرب الغرائب والله تعالى أعلم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 250 سورة القصص مكية كلها على ما روي عن الحسن وعطاء وطاوس وعكرمة، وقال مقاتل: فيها من المدني قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ إلى قوله تعالى: لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [القصص: 52- 55] فقد أخرج الطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت هي وآخر الحديد في أصحاب النجاشي الذين قدموا وشهدوا واقعة أحد. وفي رواية عنه رضي الله تعالى عنه أن الآية المذكورة نزلت بالجحفة في خروجه عليه الصلاة والسلام للهجرة، وقيل: نزلت بين مكة والجحفة، وقال المدائني في كتاب العدد حدثني محمد ثنا عبد الله قال: حدثني أبي قال: حدثني علي بن الحسين عن أحمد بن موسى عن يحيى بن سلام قال بلغني أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حين هاجر نزل عليه جبريل عليه الصلاة والسلام بالجحفة وهو متوجه من مكة إلى المدينة فقال أتشتاق يا محمد إلى بلدك التي ولدت فيها؟ قال: نعم قال إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد الآية وهي ثمان وثمانون آية بالاتفاق، ووجه مناسبتها لما قبلها اشتمالها على شرح بعض ما أجمل فيه من أمر موسى عليه السلام. قال الجلال السيوطي: إنه سبحانه لما حكى في الشعراء قول فرعون لموسى عليه السلام: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ [الشعراء: 18، 19] إلى قول موسى عليه السلام: فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 21] . ثم حكى سبحانه في طس قول موسى عليه السلام لأهله إِنِّي آنَسْتُ ناراً [النمل: 7] إلى آخره الذي هو في الوقوع بعد الفرار وكان الأمران على سبيل الإشارة والإجمال فبسط جل وعلا في هذه السورة ما أوجزه سبحانه في السورتين وفصل تعالى شأنه ما أجمله فيهما على حسب ترتيبهما فبدأ عز وجل بشرح تربية فرعون له مصدرا بسبب ذلك من علو فرعون وذبح أبناء بني إسرائيل الموجب لإلقاء موسى عليه السلام عند ولادته في اليم خوفا عليه من الذبح وبسط القصة في تربيته وما وقع فيها إلى كبره إلى السبب الذي من أجله قتل القبطي إلى قتل القبطي وهي الفعلة التي فعل إلى النم عليه بذلك الموجب لفراره إلى مدين إلى ما وقع له مع شعيب عليه السلام وتزوجه بابنته إلى أن سار بأهله وآنس من جانب الطور نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا إلى ما وقع له فيها من المناجاة لربه جل جلاله وبعثه تعالى إياه رسولا وما استتبع ذلك إلى آخر القصة فكانت هذه السورة شارحة لما أجمل في السورتين معا على الترتيب، وبذلك عرف وجه الحكمة من تقديم طس على هذه وتأخيرها عن الشعراء في الذكر في المصحف وكذا في النزول فقد روي عن ابن عباس وجابر ابن زيد أن الشعراء نزلت، ثم طس، ثم القصص، وأيضا قد ذكر سبحانه في السورة السابقة من توبيخ الكفرة بالسؤال يوم القيامة ما ذكر، وذكر جل شأنه في هذه من ذلك ما هو أبسط وأكثر مما تقدم، وأيضا ذكر عز وجل من أمر الليل والنهار هنا فوق ما ذكره سبحانه منه هناك، وقد يقال في وجه المناسبة أيضا: إنه تعالى فصل في تلك السورة أحوال بعض المهلكين الجزء: 10 ¦ الصفحة: 251 من قوم صالح وقوم لوط وأجمل هنا في قوله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ [القصص: 58] الآيات، وأيضا بسط في الجملة هناك حال من جاء بالحسنة وحال من جاء بالسيئة وأوجز سبحانه هنا حيث قال تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ [القصص: 84] فلم يذكر عز وجل من حال الأولين أمنهم من الفزع ومن حال الآخرين كب وجوههم في النار إلى غير ذلك مما يظهر للمتأمّل. طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ قد مر ما يتعلق به من الكلام في أشباهه نَتْلُوا عَلَيْكَ أي نقرأ بواسطة جبرائيل عليه السلام فالإسناد مجازي كما في بنى الأمير المدينة والتلاوة في كلامهم على ما قال الراغب تختص باتباع كتب الله تعالى المنزلة تارة بالقراءة وتارة بالارتسام لما فيه من أمر ونهي وترغيب وترهيب أو ما يتوهم فيه ذلك وهو أخص من القراءة، ويجوز أن تكون التلاوة هنا مجازا مرسلا عن التنزيل بعلاقة أن التنزيل لازم لها أو سببها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 252 في الجملة وأن تكون استعارة له لما بينهما من المشابهة فإن كلا منهما طريق للتبليغ فالمعنى ننزل عليك مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ أي من خبرهما العجيب الشأن، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لمفعول نتلو المحذوف أي نتلو شيئا كائنا من نبئهما. والظاهر أن مِنْ تبعيضية، وجوز بعضهم كونها بيانية وكونها صلة على رأي الأخفش فنبأ مجرور، لفظا (1) مرفوع محلا مفعول نتلو ويوهم كلام بعضهم أن مِنْ هو المفعول كأنه قيل: نتلو بعض نبأ وفيه بحث، وأيا ما كان فلا تجوز في كون النبأ متلوّا لما أنه نوع من اللفظ، وقوله تعالى: بِالْحَقِّ متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل نتلو أي نتلو ملتبسين بِالْحَقِّ أو مفعوله أي نتلو شيئا من نبئهما ملتبسا بالحق أو وقع صفة لمصدر نتلو أي نتلو تلاوة ملتبسة بالحق وقوله تعالى: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ متعلق بنتلو واللام للتعليل وتخصيص المؤمنين بالذكر مع عموم الدعوة والبيان لأنهم المنتفعون به، وقد تقدم الكلام في شمول يُؤْمِنُونَ للمؤمنين حالا واستقبالا في السورة السابقة، وقوله تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ استئناف جار مجرى التفسير للمجمل الموعود وتصديره بحرف التأكيد للاعتناء بتحقيق مضمون ما بعده أي إِنَّ فِرْعَوْنَ تجبر وطغى في أرض مصر وجاوز الحدود المعهودة في الظلم والعدوان وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً أي فرقا يشيعونه في كل ما يريده من الشر والفساد أو يشيع بعضهم بعضا في طاعته أو أصنافا في استخدامه يستعمل كل صنف في عمل من بناء وحرف وحفر وغير ذلك من الأعمال الشاقة ومن لم يعمل ضرب عليه الجزية فيخدمه بأدائها أو فرقا مختلفة قد أغرى بينهم العداوة والبغضاء لئلا تتفق كلمتهم يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ أي يجعلهم ضعفاء مقهورين والمراد بهذه الطائفة بنو إسرائيل وعدهم من أهلها للتغليب أو لأنهم كانوا فيها زمانا طويلا، والجملة إما استئناف نحوي أو بياني في جواب ماذا صنع بعد ذلك وإما حال من فاعل جعل أو من مفعوله، وإما صفة لشيعا والتعبير بالمضارع لحكاية الحال الماضية، وقوله تعالى: يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ بدل من الجملة قبلها بدل اشتمال أو تفسير أو حال من فاعل يستضعف أو صفة لطائفة أو حال منها لتخصصها بالوصف وكان ذلك منه لما أن كاهنا قال له: يولد في بني إسرائيل مولود يذهب ملكك على يده. وقال السدي: إنه رأى في منامه أن نارا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر فأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل فسأل علماء قومه فقالوا: يخرج من هذا البلد رجل يكون هلاك مصر على يده فأخذ يفعل ما يفعل ولا يخفى أنه من الحمق بمكان إذ لو صدق الكاهن أو الرؤيا فما فائدة القتل وإلا فما وجهه، وفي الآية دليل على أن قتل الأولاد لحفظ الملك شريعة فرعونية. وقرأ أبو حيوة وابن محيصن «يذبح» بفتح الياء وسكون الذال إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ أي الراسخين في الإفساد ولذلك اجترأ على مثل تلك العظيمة من قتل من لا جنحة له من ذراري الأنبياء عليهم السلام لتخيل فاسد وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ أي نتفضل عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ على الوجه المذكور بإنجائهم من بأسه، وصيغة المضارع في نريد لحكاية الحال الماضية وأما نمن فمستقبل بالنسبة للإرادة فلا حاجة لتأويله وهو معطوف على قوله تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا إلخ لتناسبهما في الوقوع في حيز التفسير للنبإ وهذا هو الظاهر.   (1) قوله مرفوع محلا مفعول إلخ هكذا بخط المؤلف ولعله سقط من قلمه رحمه الله، أو والأصل أو مفعول نتلو يعني ويكون منصوب المحل اه مصححه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 253 وجوز أن تكون الجملة حالا من مفعول يستضعف بتقدير مبتدأ أي يستضعفهم فرعون ونحن نريد أن نمن عليهم وقدر المبتدأ ليجوز التصدير بالواو، وجوز أن يكون حالا من الفاعل بتقدير المبتدأ أيضا وخلوها عن العائد عليه وما يقوم مقامه لا يضر لأن الجملة الحالية إذا كانت اسمية يكفي في ربطها الواو وضعف بأنه لا شبهة في استهجان ذلك مع حذف المبتدأ، وتعقب القول بصحة الحالية مطلقا بأن الأصل في الحال المقارنة والمن بعد الاستضعاف بكثير، وأجيب بأن الحال ليس المن بل إرادته وهو مقارنة وتعلقها إنما هو بوقوع المن في الاستقبال فلا يلزم من مقارنتها مقارنته على أن منّ الله تعالى عليهم بالخلاص لما كان في شرف الوقوع جاز إجراؤه مجرى الواقع المقارن للاستضعاف وإذا جعلت الحال مقدرة يرتفع القيل والقال، وجوز بعضهم عطف ذلك على نتلو ونستضعف، وقال الزمخشري: هو غير سديد، ووجه ذلك في الكشف بقوله أما الأول فلما يلزم أن يكون خارجا عن المنبأ به وهو أعظمه وأهمه، وأما الثاني فلأنه إما حال عن ضمير جعل أو عن مفعوله أو صفة لشيعا أو كلام مستأنف وعلى الأولين ظاهر الامتناع وعلى الثالث أظهر إذ لا مدخل لذلك في الجواب عن السؤال الذي يعطيه قوله تعالى: جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً والعطف يقتضي الاشتراك لكن للعطف على يستضعف مساغ على تقدير الوصف والمعنى جعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم ونريد أن نمن عليهم منهم أي على الطائفة من الشيع فأقيم المظهر مقام المضمر الراجع إلى الطائفة وحذف الراجع إلى الشيع للعلم كأنه قيل: يستضعفهم ونريد أن نقويهم كما زعم الزمخشري في الوجه الذي جعله حالا عن مفعول يستضعف والحاصل شيعا موصوفين باستضعاف طائفة وإرادة المن على تلك الطائفة منهم بدفع الضعف. فإن قلت يدفعه أن العلم بالصفة الثانية لم يكن حاصلا بخلاف الأولى قلنا كذلك لم يكن حاصلا باستضعاف مقيد بحال الإرادة والحق أن الوجهين يضعفان لذلك وإنما أوردناه على الزمخشري لتجويزه الحال انتهى. وأورد عليه أن للعطف عليه على تقدير كونه حالا مساغا أيضا بعين ما ذكره فلا وجه للتخصيص بالوصفية وأن عدم حصول العلم بالصفة الثانية بعد تسليم اشتراط العلم بالصفة مطلقا غير مسلم فإن سبب العلم بالأولى وهو الوحي أو خبر أهل الكتاب، يجوز أن يكون سببا للعلم بالثانية، وأيضا يجوز أن يخصص جواز حالية ونريد إلخ باحتمال الاستئناف والحالية في يستضعف دون الوصف فلا يكون مشترك الإلزام، وفيه أن احتمال الحالية من المفعول لم يذكره الزمخشري فلذا لم يلتفت صاحب الكشف إلى أن للعطف عليه مساغا وأن اشتراط العلم بالصفة مما صرح به في مواضع من الكشاف والكلام معه وأن العلم بصفة الاستضعاف لكونه مفسرا بالذبح والاستحياء وذلك معلوم بالمشاهدة وليس سبب العلم ما ذكر من الوحي أو خبر أهل الكتاب وفي هذا نظر، والإنصاف أن قوله تعالى: إِنَّ فِرْعَوْنَ إلخ لا يظهر كونه بيانا لنبأ موسى عليه السلام وفرعون معا على شيء من الاحتمالات ظهوره على احتمال العطف على إن فرعون وإدخاله في حيز البيان وإلا فالظاهر من إن فرعون إلخ بدون هذا المعطوف أنه بيان لنبإ فرعون فقط فتأمل وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً مقتدى بهم في الدين والدنيا على ما في البحر، وقال مجاهد دعاة إلى الخير. وقال قتادة ولاة كقوله تعالى: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً [المائدة: 20] وقال الضحاك أنبياء وأيا ما كان ففيه نسبة ما للبعض إلى الكل وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ لجميع ما كان منتظما في سلك ملك فرعون وقومه على أكمل وجه كما يومىء إليه التعريف وذلك بأن لا ينازعهم أحد فيه وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أي في أرض مصر، وأصل التمكين أن يجعل الشيء مكانا يتمكن فيه (1) ثم استعير للتسليط وإطلاق الأمر وشاع في ذلك حتى صار حقيقة لغوية فالمعنى نسلطهم   (1) قوله أن يجعل الشيء مكانا يتمكن إلخ هكذا بخطه رحمه الله اهـ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 254 على أرض مصر يتصرفون وينفذ أمرهم فيها كيفما يشاؤون، وظاهر كلام بعضهم أن المراد بالأرض ما يعم مصر والشام مع أن المعهود هو أرض مصر لا غير وكأن ذلك لما أن الشام مقر بني إسرائيل. وقرأ الأعمش ولنمكن بلام كي أي وأردنا ذلك لنمكن أو ولنمكن فعلنا ذلك. وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما إضافة الجنود إلى ضميرهما إما للتغليب أو لأنه كان لهامان جند مخصوصون به وإن كان وزيرا أو لأن جند السلطان جند الوزير، ونري من الرؤية البصرية على ما هو المناسب للبلاغة، وجوز أن يكون من الرؤية القلبية التي هي بمعنى المعرفة، وعلى الوجهين هو ناصب لمفعولين لمكان الهمزة ففرعون وما عطف عليه مفعوله الأول، وقوله تعالى: مِنْهُمْ أي من أولئك المستضعفين متعلق به، وقوله تعالى: ما كانُوا يَحْذَرُونَ أي يتوقون من ذهاب ملكهم وهلكهم على يد مولود منهم مفعوله الثاني، والرؤية على تقدير كونها بصرية لمقدمات ذلك وعلاماته في الحقيقة لكنها جعلت له مبالغة ومثله مستفيض بينهم حتى يقال رأى موته بعينه وشاهد هلاكه وعليه قول بعض المتأخرين: أبكاني البين حتى ... رأيت غسلي بعيني وقيل: المراد رؤية وقت ذلك، وليس بذاك، والأمر على تقدير كونها بمعنى المعرفة ظاهر. لأنهم قد عرفوا ذهاب ملكهم وهلاكهم، لما شاهدوه من ظهور أولئك المستضعفين عليهم، وطلوع طلائعه من طرق خذلانهم. وفسر بعضهم الموصول بظهور موسى عليه السلام، وهو خلاف الظاهر المؤيد بالآثار وكأن ذلك منه لخفاء وجه تعلق رؤية فرعون ومن معه بذهاب ملكهم وهلكهم عليه وقد علمت وجهه، وقرأ عبد الله وحمزة والكسائي- ويرى- بالياء مضارع رأى، وفرعون بالرفع على الفاعلية، وكذا ما عطف عليه وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى قيل هي محيانة بنت يصهر بن لاوى، وقيل يوخابذ (1) وقيل يارخا وقيل يارخت، وقيل غير ذلك. والظاهر أن الإيحاء إليها كان بإرسال ملك، ولا ينافي حكاية أبي حيان الإجماع على عدم نبوتها، لما أن الملائكة عليهم السلام قد ترسل إلى غير الأنبياء وتكلمهم، وإلى هذا ذهب قطرب وجماعة وقال مقاتل منهم: إن الملك المرسل إليها هو جبريل عليه السلام. وعن ابن عباس وقتادة أنه كان إلهاما، ولا يأباه قوله تعالى: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ نعم هو أوفق بالأول. وقال قوم: إنه كان رؤيا منام صادقة قص فيها أمره عليه السلام، وأوقع الله تعالى في قلبها اليقين. وحكي عن الجبائي أنها رأت في ذلك رؤيا، فقصتها على من تثق به من علماء بني إسرائيل فعبرها لها. وقيل كان بإخبار نبي في عصرها إياها، والظاهر أن هذا الإيحاء كان بعد الولادة، وفي الأخبار ما يشهد له، فيكون في الكلام جملة محذوفة، وكأن التقدير والله تعالى أعلم: ووضعت موسى أمه في زمن الذبح فلم تدر ما تصنع في أمره وأوحينا إليها أَنْ أَرْضِعِيهِ وقيل: كان قبل الولادة، وأن تفسيرية أو مصدرية، والمراد أن أرضعيه ما أمكنك إخفاؤه. وقرأ عمر بن عبد الواحد وعمر بن عبد العزيز أن أرضعيه بكسر النون بعد حذف الهمزة على غير قياس لأن القياس فيه نقل حركتها وهي الفتحة إلى النون كما في قراءة ورش. فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ من جواسيس فرعون ونقبائه الذين يقتلون الأبناء، أو من الجيران ونحوهم أن ينموا عليه فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ أي في البحر. والمراد به النيل، ويسمى مثله بحرا، وإن غلب في غير العذب وَلا تَخافِي عليه ضيعة أو شدة من عدم رضاعه في سن الرضاع وَلا تَحْزَنِي من مفارقتك إياه إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ عن قريب   (1) قوله يوخابذ هو هكذا في نسخة المؤلف بالخاء المعجمة والباء وحرره اهـ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 255 بحيث تأمنين عليه ويومىء إلى القرب السياق، وقيل التعبير باسم الفاعل لأنه حقيقة في الحال ويعتبر لذلك في قوله سبحانه: وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ولا يضر تفاوت القربين، والجملة تعليل للنهي عن الخوف والحزن، وإيثار الجملة الاسمية وتصديرها بحرف التحقيق للاعتناء بتحقيق مضمونها أي إنا فاعلون ردّه، وجعله من المرسلين لا محالة، واستفصح الأصمعي امرأة من العرب أنشدت شعرا فقالت: أبعد قوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى الآية فصاحة وقد جمع بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين. والفاء في قوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ فصيحة والتقدير ففعلت ما أمرت به من إرضاعه وإلقائه في اليم لما خافت عليه، وحذف ما حذف تعويلا على دلالة الحال وإيذانا بكمال سرعة الامتثال. روي أنها لما ضربها الطلق دعت قابلة من الموكلات بحبالى بني إسرائيل فعالجتها، فلما وقع موسى عليه السلام على الأرض هالها نور بين عينيه وارتعش كل مفصل منها ودخل حبه قلبها بحيث منعها من السعاية فقالت لأمه: احفظيه، فلما خرجت جاء عيون فرعون فلفته في خرقة وألقته في تنور مسجور لم تعلم ما تصنع لما طاش من عقلها، فطلبوا فلم يجدوا شيئا فخرجوا وهي لا تدري مكانه فسمعت بكاءه من التنور فانطلقت إليه وقد جعل الله تعالى النار عليه بردا وسلاما فأخذته، فلما ألح فرعون في طلب الولدان واجتهد العيون في تفحصها أوحى الله تعالى إليها ما أوحى، وأرضعته ثلاثة أشهر، أو أربعة، أو ثمانية على اختلاف الروايات، فلما خافت عليه عمدت إلى بردي فصنعت منه تابوتا أي صندوقا فطلته بالقار من داخله. وعن السدي أنها دعت نجارا، فصنع لها تابوتا، وجعلت مفتاحه من داخل، ووضعت موسى عليه السلام فيه وألقته في النيل بين أحجار عند بيت فرعون، فخرج جواري آسية امرأة فرعون يغتسلن فوجدنه فأدخلنه إليها وظنن أن فيه مالا، فلما فتحنه رأته آسية ووقعت عليه رحمتها فأحبته، وأراد فرعون قتله فلم تزل تكلمه حتى تركه لها . وروي عن ابن عباس وغيره أنه كان لفرعون يومئذ بنت لم يكن له ولد غيرها وكانت من أكرم الناس إليه، وكان بها برص شديد أعيا الأطباء، وكان قد ذكر له أنها لا تبرأ إلا من قبل البحر يؤخذ منه شبه الإنس يوم كذا من شهر كذا حين تشرق الشمس فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها فتبرأ فلما كان ذلك اليوم غدا فرعون في مجلس له على شفير النيل ومعه امرأته آسية وأقبلت بنته في جواريها حتى جلست على شاطىء النيل فإذا بتابوت تضربه الأمواج فتعلق بشجرة فقال فرعون ائتوني به فابتدروا بالسفن فأحضروه بين يديه فعالجوا فتحه فلم يقدروا عليه وقصدوا كسره فأعياهم فنظرت آسية فكشف لها عن نور في جوفه لم يره غيرها فعالجته ففتحته فإذا صبي صغير فيه وله نور بين عينيه وهو يمص إبهامه لبنا فألقى الله تعالى محبته عليه السلام في قلبها وقلوب القوم وعمدت بنت فرعون إلى ريقه فلطخت به برصها فبرأت من ساعتها. وقيل: لما نظرت إلى وجهه برأت فقالت الغواة من قوم فرعون إنا نظن أن هذا هو الذي نحذر منه رمي في البحر خوفا منك فاقتله فهمّ أن يقتله فاستوهبته آسية فتركه كما سيأتي إن شاء الله تعالى والأخبار في هذه القصة كثيرة، وقد قدمنا منها ما قدمنا، وآل فرعون أتباعه وقولهم: إن الآل لا يستعمل إلا فيما فيه شرف مبني على الغالب أو الشرف فيه أعم من الشرف الحقيقي والصوري ومعنى التقاطهم إياه عليه السلام أخذهم إياه عليه السلام أخذ اللقطة أي أخذ اعتناء به وصيانة له عن الضياع لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً فيه استعارة تهكمية ضرورة أنه لم يدعهم للالتقاط أن يكون لهم عدوا وحزنا وإنما دعاهم شيء آخر كالتبني ونفعه إياهم إذا كبر. وفي تحقيق ذلك أقوال الأول أن يشبه كونه عدوّا وحزنا بالعلة الغائية كالتبني والنفع تشبيها مضمرا في النفس ولم يصرح بغير المشبه ويدل على ذلك بذكر ما يخص المشبه به وهو لام التعليل فيكون هناك استعارة مكنية أصلية الجزء: 10 ¦ الصفحة: 256 في المجرور واللام على حقيقتها، الثاني أن يشبه أولا ترتب غير العلة الغائية بترتب العلة الغائية أي يعتبر التشبيه بين الترتبين الكليين ليسري في جزئياتهما فيتحقق تبعا تشبيه ترتب كونه عدوا وحزنا أعني الترتب المخصوص على الالتقاط بترتب التبني ونحوه مما هو علة غائية- أعني الترتب المخصوص أيضا عليه- ثم يستعمل في المشبه اللام الموضوعة للدلالة على ترتب العلة الغائية الذي هو المشبه به فتكون الاستعارة أولا في العلية والعرضية وتبعا في اللام فصار حكم اللام حكم الأسد حيث استعيرت لما يشبه العلة كما استعير الأسد لما يشبه الأسد بيد أن الاستعارة هاهنا مكنية تبعية، الثالث ما أفاده كلام الخطيب الدمشقي في التلخيص والإيضاح وهو أن يقدر التشبيه أولا لكونه عدوا وحزنا بالعلة الغائية ثم يسري ذلك التشبيه إلى تشبيه ترتبه بترتب العلة الغائية فتستعار اللام الموضوعة لترتب العلة الغائية لترتب كونه عدوا وحزنا من غير استعارة في المجرور وهذا التشبيه كتشبيه الربيع بالقادر المختار ثم إسناد الإنبات إليه وهو مفاد كلام الكشاف، واختار ذلك العلامة عبد الحكيم، فقال: وهو الحق عندي لأن اللام لما كان معناها محتاجا إلى ذكر المجرور كان اللائق أن تكون الاستعارة والتشبيه فيها تابعا لتشبيه المجرور لا تابعا لتشبيه معنى كلي بمعنى كلي معنى الحرف من جزئياته كما ذهب إليه السكاكي وتبعه العلامة التفتازاني انتهى فتأمل. واستشكل أصل تعليل الالتقاط بأن الالتقاط الوجدان من غير قصد والتعليل يقتضي حقيقة القصد وهو توهم لأن الوجدان من غير قصد لا ينافي قصد أخذ ما وجد لغرض وقد علمت أن المعنى هنا فأخذه أخذ اللقطة أي أخذ اعتناء به آل فرعون ليكون إلخ، والتعليل فيه إنما هو للأخذ ولا إشكال فيه. وقال بعضهم: يحتمل تعلق اللام بمقدر أي قدرنا الالتقاط ليكون إلخ، وعليه لا تجوز في الكلام إلا عند من يقول: إن أفعال الله تعالى لا تعلل وهو أمر غير ما نحن فيه، ولا يخفى أن كلام الله سبحانه أجل وأعلى من أن يعتبر فيه مثل هذا الاحتمال، وفي جعله عليه السلام نفس الحزن ما لا يخفى من المبالغة وقرأ ابن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي وابن سعدان- حزنا- بضم الحاء وسكون الزاي، وقراءة الجمهور بفتحتين لغة قريش إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ في كل ما يأتون وما يذرون أو من شأنهم الخطأ فليس ببدع منهم ان قتلوا ألوفا لأجله ثم أخذوه يربونه ليكبر ويفعل بهم ما كانوا يحذرون، روي أنه ذبح في طلبه عليه السلام تسعون ألف وليد. وخاطِئِينَ على هذا من الخطأ في الرأي، ويجوز أن يكون من خطىء بمعنى أذنب، وفي الأساس يقال: خطىء خطأ إذا تعمد الذنب، والمعنى وكانوا مذنبين فعاقبهم الله تعالى بأن ربي عدوهم على أيديهم، والجملة على الأول اعتراض بين المتعاطفين لتأكيد خطئهم المفهوم من قوله تعالى: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً فإنه كما سمعت استعارة تهكمية على الثاني، اعتراض لتأكيد ذنبهم المفهوم من حاصل الكلام، وقيل: يتعين عليه أن تكون اعتراضا لبيان الموجب لما ابتلوا به ويحتمل على هذا أن تكون استئنافا بيانيا إن أريد بما ابتلوا به كونه عدوا وحزنا وهو لا ينافي الاعتراض عندهم، وقرىء خاطين بغير همز فاحتمل أن يكون أصله الهمز وحذفت وهو الظاهر، وقيل: هو من خطا يخطو أي خاطين الصواب إلى ضده فهو مجاز. وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ آسية بنت مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد الذي كان فرعون مصر في زمن يوسف الصديق عليه السلام وعلى هذا لم تكن من بني إسرائيل، وقيل: كانت منهم من سبط موسى عليه السلام، وحكى السهيلي أنها كانت عمته عليه السلام وهو قول غريب، والمشهور القول الأول. والجملة عطف على جملة فالتقطه آل فرعون أي وقالت امرأة فرعون له حين أخرجته من التابوت. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 257 قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ أي هو قرة عين كائنة لي ولك على أن قرة خبر مبتدأ محذوف، والظرف في موضع الصفة له ويبعد كما في البحر أن يكون مبتدأ خبره جملة قوله تعالى: لا تَقْتُلُوهُ وقالت ذلك لما ألقى الله تعالى من محبته في قلبها أو لما كشف لها فرأته من النور بين عينيه أو لما شاهدته من برء بنت فرعون من البرص بريقه أو بمجرد النظر إلى وجهه، ولتفخيم شأن القرة عدلت عن لنا إلى لي ولك وكأنها لما تعلم من مزيد حب فرعون إياها وأن مصلحتها أهم عنده من مصلحة نفسه قدمت نفسها عليه فيكون ذلك أبلغ في ترغيبه بترك قتله، فلا يقال إن الأظهر في الترغيب بذلك العكس وقد يستأنس لكون مصلحتها أهم عنده من مصلحة نفسه ما أخرج النسائي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها حين قالت له ذلك قال لك لا لي ولو قال لي كما هو لك لهداه الله تعالى كما هداها، وهذا أمر فرضي فلا ينافي ما ورد من أنه عليه اللعنة طبع كافرا، والخطاب في لا تقتلوه قيل: لفرعون وإسناد الفعل إليه مجازي لأنه الآمر والجمع للتعظيم، وكونه لا يوجد في كلام العرب الموثوق بهم إلا في ضمير المتكلم كفعلنا مما تفرد به الرضي وقلده فيه من قلده وهو لا أصل له رواية ودراية قال أبو علي الفارسي في فقه اللغة من سنن العرب مخاطبة الواحد بلفظ الجمع فيقال للرجل العظيم انظروا في أمري، وهكذا في سر الأدب وخصائص ابن جني وهو مجاز بليغ وفي القرآن الكريم منه ما التزام تأويله سفه، وقيل: هو لفرعون وأعوانه الحاضرين ورجح بما روي أن غواة قومه قالوا وقت إخراجه هذا هو الصبي الذي كنا نحذر منه فأذن لنا في قتله. وقيل: هو له ولمن يخشى منه القتل وإن لم يحضر على التغليب، واختار بعضهم كونه للمأمورين بقتل الصبيان كأنها بعد أن خاطبت فرعون وأخبرته بما يستعطفه على موسى عليه السلام أمنت منه بادرة أمن جديد بقتله فالتفتت إلى خطاب المأمورين قبل فنهتهم عن قتله معللة ذلك بقوله تعالى المحكي عنها: عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وهو أوفق باختلاف الأسلوب حيث فصلت أولا في قولها: لي ولك وأفردت ضمير خطاب فرعون ثم خاطبت وجمعت الضمير في لا تقتلوه ثم تركت التفصيل في عَسى أَنْ يَنْفَعَنا إلخ ولم تأت به على طرز قرة عين لي ولك بأن تقول: عسى أن ينفعني وينفعك مثلا فتأمل. ورجاء نفعه لما رأت فيه من مخايل البركة ودلائل النجابة: في المهد ينطق عن سعادة جده ... أثر النجابة ساطع البرهان واتخاذه ولدا لأنه لائق لتبني الملوك لما فيه من الأبهة وعطف هذا على ما قبله من عطف الخاص على العام أو تعتبر بينهما المغايرة وهو الأنسب بأو وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ حال من آل فرعون والتقدير فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا وقالت امرأته له كيت وكيت، وهم لا يشعرون بأنهم على خطأ عظيم فيما صنعوا. وقال قتادة: لا يشعرون أنه الذي يفسد ملكهم على يده. وقال مجاهد: أنه عدو لهم. وقال محمد بن إسحاق: أني أفعل ما أريد لا ما يريدون والتقدير الأول أجمع، وجوز كونه حالا من القائلة والمقول له معا. والمراد بالجمع اثنان على احتمال كون الخطاب في لا تقتلوه لفرعون فقط وكونه حالا من القائلة فقط أي قالت امرأة فرعون له ذلك والذين أشاروا بقتله لا يشعرون بمقالتها له واستعطاف قلبه عليه لئلا يغروه بقتله وعلى الاحتمالات الثلاثة هو من كلام الله تعالى، وجوز كونه حالا من أحد ضميري نتخذه على أن الضمير للناس لا لذي الحال إذ يكفي الواو للربط أي نتخذه ولدا والناس لا يعلمون أنه لغيرنا وقد تبنيناه فيكون من كلام آسية رضي الله تعالى عنها وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً أي صار خاليا من كل شيء غير ذكر موسى عليه السلام أخرجه الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس وروي ذلك أيضا عن ابن مسعود والحسن ومجاهد، ونحوه عن عكرمة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 258 وقالت فرقة: فارغا من الصبر وقال ابن زيد: فارغا من وعد الله تعالى ووحيه سبحانه إليها تناست ذلك من الهم. وقال أبو عبيدة: فارغا من الهم إذ لم يغرق وسمعت أن فرعون عطف عليه وتبناه كما يقال فلان فارغ البال وقال بعضهم: فارغا من العقل لما دهمها من الخوف والحيرة حين سمعت بوقوعه في يد عدوه فرعون كقوله تعالى: وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ [إبراهيم: 43] أي خلاء لا عقول فيها واعترض على القولين بأن الكلام عليهما لا يلائم ما بعده وفيه نظر، وقرأ أحمد بن موسى عن أبي عمرو- فواد- بالواو وقرأ- مؤسى- بهمزة بدل الواو، وقرأ فضالة بن عبيد والحسن ويزيد ابن قطيب وأبو زرعة بن عمرو بن جرير- فزعا- بالزاي والعين المهملة من الفزع وهو الخوف والقلق، وابن عباس قرعا بالقاف وكسر الراء وإسكانها من قرع رأسه إذا انحسر شعره كأنه خلا من كل شيء إلا من ذكر موسى عليه السلام، وقيل: قرعا بالسكون مصدر أي قرع قرعا من القارعة وهو الهم العظيم، وقرأ بعض الصحابة فزغا (1) بفاء مكسورة وزاي ساكنة وغين معجمة ومعناه ذاهبا هدرا والمراد هالكا من شدة الهم كأنه قتيل لا قود ولا دية فيه، ومنه قول طليحة الأسدي في أخيه حبال: فإن يك قبلي قد أصيبت نفوسهم ... فلن يذهبوا فزغا بقتل حبال وقرأ الخليل بن أحمد- فرغا- بضم الفاء والراء إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ أي أنها كادت إلخ على أن إن هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة أو ما كادت إلا تبدي به على أن إن نافية واللام بمعنى إلا وهو قول كوفي والإبداء إظهار الشيء وتعديته بالباء لتضمينه معنى التصريح، وقيل: المفعول محذوف والباء سببية أي تبدي حقيقة الحال بسببه أي بسبب ما عراها من فراقه، وقيل: هي صلة أي تبديه وكلا القولين كما ترى، والظاهر أن الضمير المجرور لموسى عليه السلام، والمعنى أنها كادت تصرح به عليه السلام وتقول وا ابناه من شدة الغم والوجد رواه الجماعة عن ابن عباس، وروي ذلك أيضا عن قتادة والسدي وعن مقاتل أنها كادت تصيح وا ابناه عند رؤيتها تلاطم الأمواج به شفقة عليه من الغرق، وقيل: المعنى أنها كادت تظهر أمره من شدة الفرح بنجاته وتبني فرعون إياه، وقيل: الضمير للوحي إنها كادت تظهر الوحي وهو الوحي الذي كان في شأنه عليه السلام المذكور في قوله تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ الآية وهو خلاف الظاهر ولا تساعد عليه الروايات لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها أي بما أنزلنا عليه من السكينة والمراد لولا أن ثبتنا قلبها وصبرناها، فالربط على القلب مجاز عن ذلك، وجواب لولا محذوف دل عليه إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ أي لولا أن ربطنا على قلبها لأبدته، وقيل: لكادت تبدي به، وقوله تعالى: لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ علة للربط على القلب، والإيمان بمعنى التصديق أي صبرناها وثبتنا قلبها لتكون راسخة في التصديق بوعدنا بأنا رادوه إليها وجاعلوه من المرسلين، ومن جعل الفراغ من الهم والحزن وكيدودة الإبداء من الفرح بتبنيه عليه السلام الذي هو فرح مذموم جعل الإيمان بمعنى الوثوق كما في قولهم على ما حكى أبو زيد ما آمنت أن أجد صحابة أي ما وثقت وحقيقته صرت ذا أمن أي ذا سكون وطمأنينة، وقال: المعنى لولا أن ربطنا على قلبها وسكنا قلقه الكائن من الابتهاج الفاسد لتكون من الواثقين بوعد الله تعالى المبتهجين بما يحق الابتهاج به وَقالَتْ لِأُخْتِهِ مريم وقيل: كلثمة وقيل: كلثوم. والتعبير عنها بأخوته دون أن يقال لبنتها للتصريح بمدار المحبة الموجبة للامتثال بالأمر قُصِّيهِ أي اتبعي أثره وتتبعي خبره، والظاهر أن هذا القول وقع منها بعد أن أصبح فؤادها فارغا فإن كانت لم تعرف مكانه إذ ذاك فظاهر وإن   (1) قوله فزغا هنا وفي البيت وقوله وزاي ساكنة إلخ هكذا بخطه رحمه الله وفي الكشاف والشهاب فرغا بالراء المهملة والغين المعجمة والبيت أورده في اللسان بالراء المهملة والغين أيضا ومع هذا فمادة فزغ بالزاي والغين المعجمة ليست موجودة في كلامهم اهـ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 259 كانت قد عرفته فتتبع الخبر ليعرف هل قتلوه أم لا ولينكشف ما هو عليه من الحال فَبَصُرَتْ بِهِ أي أبصرته والفاء فصيحة أي فقصت أثره فبصرت، وقرأ قتادة- فبصرت- بفتح الصاد وعيسى بكسرها عَنْ جُنُبٍ أي عن بعد، وقيل: أي عن شوق إليه حكاه أبو عمرو بن العلاء وقال هي لغة جذام يقولون جنبت إليك أي اشتقت، وقال الكرماني جنب صفة لموصوف محذوف أي عن مكان جنب أي بعيد وكأنه من الأضداد فإنه يكون بمعنى القريب أيضا كالجار الجنب، وقيل: أي عن جانب لأنها كانت تمشي على الشط، وقيل: النظر عن جنب أن تنظر إلى الشيء كأنك لا تريده. وقرأ قتادة والحسن وزيد بن علي رضي الله تعالى عنه، والأعرج عن جنب بفتح الجيم وسكون النون وعن قتادة أنه قرأ بفتحهما أيضا، وعن الحسن أنه قرىء بضم الجيم وإسكان النون، وقرأ النعمان بن سالم- عن جانب- والكل على ما قيل: بمعنى واحد، وفي البحر الجنب والجانب والجنابة والجناب بمعنى وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أنها تقصه وتتعرف حاله أو أنها أخته وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ أي منعناه ذلك فالتحريم مجاز عن المنع فإن من حرم عليه شيء فقد منعه ولا يصح إرادة التحريم الشرعي لأن الصبي ليس من أهل التكليف ولا دليل على الخصوصية، والمراضع جمع مرضع بضم الميم وكسر الضاد وهي المرأة التي ترضع، وترك التاء إما لاختصاصه بالنساء أو لأنه بمعنى شخص مرضع أو جمع مرضع بفتح الميم على أنه مصدر ميمي بمعنى الرضاع وجمع لتعدد مراته أو اسم مكان أي موضع الرضاع وهو الثدي مِنْ قَبْلُ أي من قبل قصها أو إبصارها أو وروده على من هو عنده، أو من قبل ذلك أي من أول أمره وظاهر صنيع أبي حيان اختياره فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ أي هل تريدون أن أدلكم عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ أي يضمنونه ويقومون بتربيته لأجلكم، والفاء فصيحة أي فدخلت عليهم فقالت، وقولها: على أهل بيت دون امرأة إشارة إلى أن المراد امرأة من أهل الشرف تليق بخدمة الملوك وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ لا يقصرون في خدمته وتربيته، وروي أن هامان لما سمع هذا منها قال إنها لتعرفه وأهله فخذوها حتى تخبر بحاله فقالت إنما أردت وهم للملك ناصحون فخلصت بذلك من الشر الذي يجوز لمثله الكذب وأحسنت وليس ببدع لأنها من بيت النبوة فحقيق بها ذلك، واحتمال الضمير لأمرين مما لا تختص به اللغة العربية بل يكون في جميع اللغات على أن الفراعنة من بقايا العمالقة وكانوا يتكلمون بالعربية فلعلها كلمت بلسانهم ويسمى هذا الأسلوب من الكلام الموجه. فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ الفاء فصيحة أي فقبلوا ذلك منها ودلتهم على أمه وكلموها في إرضاعه فقبلت فرددناه إليها أو يقدر نحو ذلك، وروي أن أخته لما قالت ما قالت أمرها فرعون بأن تأتي بمن يكفله فأتت بأمه وموسى عليه السلام على يد فرعون يبكي وهو يعلله فدفعه إليها فلما وجد ريحها استأنس والتقم ثديها فقال: من أنت منه؟ فقد أبى كل ثدي إلا ثديك فقالت إني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن لا أوتى بصبي إلا قبلني فقرره في يدها فرجعت به إلى بيتها من يومها وأمر أن يجرى عليها النفقة وليس أخذها ذلك من أخذ الأجرة على إرضاعها إياه ولو سلّم فلا نسلم أنه كان حراما فيما تدين وكانت النفقة على ما في البحر دينارا في كل يوم كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها بوصول ولدها إليها وَلا تَحْزَنَ لفراقه وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ أي جميع ما وعده سبحانه من رده وجعله من المرسلين حَقٌّ لا خلف فيه بمشاهدة بعضه وقياس بعضه عليه وإلا فعلمها بحقية ذلك بالوحي حاصل قبل. واستدل أبو حيان بالآية على ضعف قول من ذهب إلى أن الإيحاء كان إلهاما أو مناما لأن ذلك يبعد أن يقال فيه وعد، وفيه نظر وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي لا يعرفون وعده تعالى ولا حقيته أو لا يجزمون بما وعدهم جل وعلا لتجويزهم تخلفه وهو سبحانه لا يخلف الميعاد، وقيل: لا يعلمون أن الغرض الأصلي من الرد عليها علمها بذلك وما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 260 سواه من قرة عينها وذهاب حزنها تبع، وفيه أن الذي يفيده الكلام إنما هو كون كل من قرة العين والعلم كالغرض أو غرضا مستقلا، وأما تبعية غير العلم له لا سيما مع تقدم الغير فلا، وكون المفيد لذلك حذف حرف العلة من الأول لا يخفى حاله، وفي قوله تعالى: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ [البقرة: 243، وغيرها] إلخ قيل: تعريض بما فرط من أمه حين سمعت بوقوعه في يد فرعون من الخوف والحيرة وأنت تعلم أن ما عراها كان من مقتضيات الجبلة البشرية وهو يجامع العلم بعدم وقوع ما يخاف منه، ونفي العلم في مثل ذلك إنما يكون بضرب من التأويل كما لا يخفى. ثم إن الاستدراك على ما اختاره مما وقع بعد العلم، وجوز أن يكون من نفس العلم وذلك إذا كان المعنى لا يعلمون أن الغرض الأصلي من الرد عليها علمها بحقية وعد الله تعالى فتأمل. وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ أي المبلغ الذي لا يزيد عليه نشوءه، وقوله تعالى: وَاسْتَوى أي كمل وتم تأكيد وتفسير لما قبله كذا قيل: واختلف في زمان بلوغ الأشد والاستواء فأخرج ابن أبي الدنيا من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال الأشد ما بين الثماني عشرة إلى الثلاثين والاستواء ما بين الثلاثين إلى الأربعين فإذا زاد على الأربعين أخذ في النقصان، وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال: الأشد ثلاث وثلاثون سنة والاستواء أربعون سنة، وهي رواية عن ابن عباس أيضا وروي نحوه عن قتادة وقال الزجاج مرة بلوغ الأشد من نحو سبع عشرة سنة إلى الأربعين وأخرى هو ما بين الثلاثين إلى الأربعين واختاره بعضهم هنا وعلل بأن ذلك لموافقته لقوله تعالى: حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً [الأحقاف: 15] لأنه يشعر بأنه منته إلى الأربعين وهي سن الوقوف فينبغي أن يكون مبدؤه مبدأه ولا يخلو عن شيء والحق أن بلوغ الأشد في الأصل هو الانتهاء إلى حد القوة وذلك وقت انتهاء النمو وغايته وهذا مما يختلف باختلاف الأقاليم والإعصار والأحوال ولذا وقع له تفاسير في كتب اللغة والتفسير، ولعل الأولى على ما قيل: أن يقال إن بلوغ الأشد عبارة عن بلوغ القدر الذي يتقوى فيه بدنه وقواه الجسمانية وينتهي فيه نموه المعتد به والاستواء اعتدال عقله وكماله ولا ينبغي تعيين وقت لذلك في حق موسى عليه السلام إلا بخبر يعول عليه لما سمعت من أن ذاك مما يختلف باختلاف الأقاليم والإعصار والأحوال نعم اشتهر أن ذلك في الأغلب يكون في سن أربعين وعليه قول الشاعر: إذا المرء وافى الأربعين ولم يكن ... له دون ما يهوى حياء ولا ستر فدعه ولا تنفس عليه الذي مضى ... وإن جر أسباب الحياة له العمر وفي قوله تعالى: حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ما يستأنس به لذلك، وقد مر طرف من الكلام في الأشد في سورة يوسف فتذكر ولا تغفل. ثم إن حاصل المعنى على ما قيل أخيرا: ولما قوي جسمه، واعتدل عقله آتَيْناهُ حُكْماً أي نبوة على ما روي عن السدي أو علما هو من خواص النبوة على ما تأول به بعضهم كلامه وَعِلْماً بالدين والشريعة. وفي الكشاف العلم التوراة والحكم السنة وحكمة الأنبياء عليهم السلام سنتهم. قال الله تعالى: وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ [الأحزاب: 34] وقيل آتيناه سيرة الحكماء العلماء وسمتهم قبل البعث، فكان عليه السلام لا يفعل فعلا يستجهل فيه اهـ، ورجح ما قيل بأنه أوفق لنظم القصة مما تقدم، لأن استنباءه عليه السلام بعد وكز القبطي، والهجرة إلى مدين، ورجوعه منها، وإيتاؤه التوراة كان بعد إغراق فرعون، فهو بعد الوكز بكثير وبأن قوله تعالى: وَكَذلِكَ أي مثل ذلك الذي فعلناه بموسى وأمه عليهما السلام نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ على إحسانهم يأبى حمل ما تقدم على النبوة لأنها لا تكون جزاء على العمل، ومن ذهب إلى الأول جعل هذا بيانا إجماليا لإنجاز الوعد بجعله من المرسلين بعد رده لأمه، وما بعد تفصيل له، والعطف بالواو لا يقتضي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 261 الترتيب، وكون ما فعل بموسى وأمه عليهما السلام جزاء على العمل باعتبار التغليب. وقد يقال: إن أصل النبوة وإن لم تكن جزاء على العمل إلا أن بعض مراتبها، وهو ما فيه مزيد قرب من الله تعالى يكون باعتبار مزيد القرب جزاء عليه ويرجع ذلك إلى أن مزيد القرب هو الجزاء وتفاوت الأنبياء عليهم السلام في القرب منه تعالى مما لا ينبغي أن يشك فيه، ورجح ما تقدم بكونه أوفق بقوله تعالى: وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ واستلزامه حصول النبوة لكل محسن ليس بشيء أصلا، ومن ذهب إلى أن هذا الإيتاء كان قبل الهجرة قال: يجوز أن يكون المعنى آتيناه رياسة بين قومه بني إسرائيل بأن جعلناه ممتازا فيما بينهم، يرجعون إليه في مهامهم، ويمتثلونه إذا أمرهم بشيء أو نهاهم عنه، وعلما ينتفع به وينفع به غيره، وذلك إما بمحض الإلهام، أو بتوفيقه لاستنباط دقائق وأسرار مما نقل إليه من كلمات آبائه الأنبياء عليهم السلام من بني إسرائيل ولا بدع في أن يكون عليه السلام عالما بما كان عليه آباؤه الأنبياء منهم وبما كانوا يتدينون به من الشرائع بواسطة الإلهام أو بسماع ما يفيده العلم من الأخبار، ولعل هذا أولى مما نقله في الكشاف. وفي الكلام على أواخر سورة البقرة ما تنفعك مراجعته فليراجع. وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ قال ابن عباس على ما في البحر: هي منف عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها أي في وقت لا يعتاد دخولها، أو لا يتوقعونه فيه، وكان على ما روي عن الحبر وقت القائلة، وفي رواية أخرى عنه بين العشاء والعتمة وذلك أن فرعون ركب يوما وسار إلى تلك المدينة فعلم موسى عليه السلام بركوبه فلحق ودخل المدينة في ذلك الوقت. وقال ابن إسحاق: هي مصر، كان موسى عليه السلام قد بدت منه مجاهرة لفرعون وقومه بما يكرهون، فاختفى وغاب، فدخلها متنكرا. وقال ابن زيد: كان فرعون قد أخرجه منها فغاب سنين فنسي فجاء ودخلها وأهلها في غفلة بنسيانهم له، وبعد عهدهم به. وقيل: دخل في يوم عيد وهم مشغولون بلهوهم. وقيل: خرج من قصر فرعون ودخل مصر وقت القيلولة أو بين العشاءين، وقيل: المدينة عين شمس، وقيل: قرية على فرسخين من مصر يقال لها: حابين. وقيل: هي الإسكندرية، والأشهر أنها مصر، ولعله هو الأظهر والمتبادر أن- على حين- متعلق بدخل، وعليه فالظاهر أن على بمعنى في مثلها في قوله تعالى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ [البقرة: 102] على قول. وقال أبو البقاء: هو في موضع الحال من المدينة، ويجوز أن يكون في موضع الحال من الفاعل أي مختلسا اهـ ولعل الذي دعاه إلى العدول عن المتبادر احتياجه إلى جعل على بمعنى في وخفاء نكتة التعبير بها دونها أو الاكتفاء بالظرف وحده عليه والأمر ظاهر لمن له أدنى تأمل وقيل: إن الداعي إلى ذلك أن دخول المدينة في حين غفلة من أهلها ليس نصا في دخولها غافلا أهلها كما في وجه الحالية من المدينة ولا في دخولها مختلسا كما في وجه الحالية من الضمير فإن وقت الغفلة كوقت القائلة وما بين العشاءين قد لا يغفل فيه وفيه بحث. ومِنْ أَهْلِها في موضع الصفة لغفلة وما في النظم الكريم أبلغ من غفلة أهلها بالإضافة لما في التنوين من إفادة التفخيم، ولعله عدل عن ذلك إلى ما ذكر لهذا فتدبر، وقرأ أبو طالب القارئ- على حين- بفتح النون ووجه بأنه فتح لمجاورة الغين كما كسر في بعض القراءات الدال في الحمد لله لمجاورة اللام أو بأنه أجرى المصدر مجرى الفعل كأنه قيل: على حين غفل أهلها فبنى حين كما يبني إذا أضيف إلى الجملة المصدرة بفعل ماض نحو قوله: على حين عاتبت المشيب على الصبا وهو كما ترى فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ أي يتحاربان والجملة صفة لرجلين. وقال ابن عطية: في موضع الحال وهو مبني على مذهب سيبويه من جواز مجيء الحال من النكرة من غير شرط، وقرأ نعيم بن ميسرة يقتلان الجزء: 10 ¦ الصفحة: 262 بإدغام التاء في التاء ونقل فتحتها إلى القاف، وقوله تعالى: هذا مِنْ شِيعَتِهِ أي ممن شايعه وتابعه في أمره ونهيه أو في الدين على ما قاله جماعة وهم بنو إسرائيل قال في الإتقان: هو السامري وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ من مخالفيه فيما يريد أو في الدين على ما قاله الجماعة وهم القبط واسمه كما في الإتقان أيضا قانون صفة بعد صفة لرجلين والإشارة بهذا واقعة على طريق الحكاية لما وقع وقت الوجدان كأن الرائي لهما يقوله لا في المحكي لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم. وقال المبرد: العرب تشير بهذا إلى الغائب قال جرير: هذا ابن عمي في دمشق خليفة ... لو شئت ساقكم إليّ قطينا وهذه الإشارة قائمة مقام الضمير في الربط والعطف سابق على الوصفية، واختلف في سبب تقاتل هذين الرجلين، فقيل: كان أمرا دينيا، وقيل: كان أمرا دنيويا، روي أن القبطي كلف الإسرائيلي حمل الحطب إلى مطبخ فرعون فأبى فاقتتلا لذلك، وكان القبطي على ما أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير خبازا لفرعون فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ أي فطلب غوثه ونصره إياه عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ولتضمين الفعل معنى النصر عدي بعلى ويؤيده قوله تعالى بعد: اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ، ويجوز أن يكون تعديته بعلى لتضمينه معنى الإعانة ويؤيده أنه قرىء فاستعانه بالعين المهملة والنون بدل الثاء، وقد نقل هذه القراءة ابن خالويه، عن سيبويه وأبو القاسم يوسف بن علي بن جبارة عن ابن مقسم والزعفراني، وقول ابن عطية إنه ذكرها الأخفش وهو تصحيف لا قراءة مما لا ثبت له فيه، وقد حذف من جملة الصلة صدرها أي الذي هو من شيعته والذي هو من عدوه ولو لم يعتبر حذف ذلك صح فَوَكَزَهُ مُوسى أي ضرب القبطي بجمع كفه أي بكفه المضمومة أصابعها على ما أخرجه غير واحد عن مجاهد. وقال أبو حيان: الوكز الضرب باليد مجموعة أصابعها كعقد ثلاثة وسبعين وعلى القولين يكون عليه السلام قد ضربه باليد وأخرج ابن المنذر وجماعة عن قتادة أنه عليه السلام ضربه بعصاه فكأنه يفسر الوكز بالدفع أو الطعن وذلك من جملة معانيه كما في القاموس ولعله أراد بعصاه عصا كانت له فإن عصاه المشهورة أعطاه إياها شعيب عليه السلام بعد هذه الحادثة كما هو مشهور، وفي كتب التفاسير مسطور. وقرأ عبد الله فلكزه باللام وعنه فنكزه بالنون واللكز على ما في القاموس الوكز والوجء في الصدر والحنك والنكز على ما فيه أيضا الضرب والدفع، وقيل: الوكز والنكز واللكز الدفع بأطراف الأصابع، وقيل: الوكز على القلب واللكز على اللحى. روي أنه لما اشتد التناكر قال القبطي لموسى عليه السلام: لقد هممت أنه أحمله يعني الحطب عليك فاشتد غضب موسى عليه السلام، وكان قد أوتي قوة فوكزه فَقَضى عَلَيْهِ أي فقتله موسى وأصله أنهى حياته أي جعلها منتهية متقضية وهو بهذا المعنى يتعدى بعلى كما في الأساس فلا حاجة إلى تأويله بأوقع القضاء عليه، وقد يتعدى الفعل بإلى لتضمينه معنى الإيحاء كما في قوله تعالى: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ [الحجر: 66] وعود ضمير الفاعل في قضى على موسى هو الظاهر، وقيل: هو عائد على الله تعالى أي فقضى الله سبحانه عليه بالموت فقضى بمعنى حكم، وقيل: يحتمل أن يعود على المصدر المفهوم من وكزه أي فقضى الوكز عليه أي أنهى حياته قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ أي من تزيينه. وقيل: من جنس عمله والأول أوفق بقوله تعالى: إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ أي ظاهر العداوة على أن مبين صفة ثانية لعدو، وقيل: ظاهر العداوة والإضلال، ووجه بأنه صفة لعدو الملاحظ معه وصف الإضلال أو بأنه متنازع فيه لعدو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 263 ومضل كل يطلبه صفة له وأيا ما كان فمبين من أبان اللازم قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي بوكز ترتب عليه القتل فَاغْفِرْ لِي ذنبي وإنما قال عليه السلام ما قال لأنه فعل ما لم يؤذن له به وليس من سنن آبائه الأنبياء عليهم السلام في مثل هذه الحادثة التي شاهدها وقد أفضى إلى قتل نفس لم يشرع في شريعة من الشرائع قتلها، ولا يشكل ذلك على القول بأن الأنبياء عليهم السلام معصومون عن الكبائر بعد النبوة وقبلها لأن أصل الوكز من الصغائر، وما وقع من القتل كان خطأ كما قاله كعب وغيره، والخطأ وإن كان لا يخلو عن الإثم، ولذا شرعت فيه الكفارة إلا أنه صغيرة أيضا بل قيل: لا يشكل أيضا على القول بعصمتهم عن الكبائر والصغائر مطلقا لجواز أن يكون عليه السلام قد رأى أن في الوكز دفع ظالم عن مظلوم ففعله غير قاصد به القتل، وإنما وقع مترتبا عليه لا عن قصد وكون الخطأ لا يخلو عن إثم في شرائع الأنبياء المتقدمين عليهم السلام كما في شريعة نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم غير معلوم وكذا مشروعية الكفارة فيه وكأنه عليه السلام بعد أن وقع منه ما وقع تأمل فظهر له إمكان الدفع بغير الوكز وأنه لم يتثبت في رأيه لما اعتراه من الغضب فعلم أنه فعل خلاف الأولى بالنسبة إلى أمثاله فقال ما قال على عادة المقربين في استعظامهم خلاف الأولى، ثم إن هذا الفعل وقع منه عليه السلام قبل النبوة كما هو ظاهر قوله تعالى حكاية عنه في سورة الشعراء: فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 21] وبذلك قال النقاش وغيره وروي عن كعب أنه عليه السلام كان إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة ومن فسر الاستواء ببلوغ أربعين سنة وجعل ما ذكر بعد بلوغ الأشد والاستواء وإيتاء الحكم والعلم بالمعنى الذي لا يقتضي النبوة يلزمه أن يقول كان عليه السلام إذ ذاك ابن أربعين سنة أو ما فوقها بقليل. وزعم بعضهم أنه عليه السلام أراد بقوله: ظَلَمْتُ نَفْسِي إني عرضتها للتلف بقتل هذا الكافر إذ لو عرف فرعون ذلك لقتلني به وأراد بقوله: فَاغْفِرْ لِي فاستر عليّ ذلك، وجعله من عمل الشيطان لما فيه من الوقوع في الوسوسة وترقب المحذور، ولا يخفى ما فيه، ويأبى عنه قوله تعالى: فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وترتيب غفر على ما قبله بالفاء يشعر بأن المراد غفر له لاستغفاره وجملة إِنَّهُ إلخ كالتعليل للعلية أي إنه تعالى هو المبالغ في مغفرة ذنوب عباده ورحمتهم، ولذا كان استغفاره سببا للمغفرة له وتوسيط قال بين كلاميه عليه السلام لما بينهما من المخالفة من حيث إن الثاني مناجاة ودعاء بخلاف الأول، وأما توسيط قال في قوله تعالى: قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فوجهه ظاهر، والباء في بما للقسم، وما مصدرية وجواب القسم محذوف أي أقسم بإنعامك عليّ لأمتنعن عن مثل هذا الفعل. وقيل: لأتوبن، وقوله تعالى: فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ عطف على الجواب، ولعل المراد بإنعامه تعالى عليه حفظه إياه من شر فرعون ورده إلى أمه وتمييزه على سائر بني إسرائيل ونحو ذلك. وقيل المراد به مغفرته له وهو غير بعيد، ومعرفته عليه السلام أنه سبحانه غفر له إذا كان هذا القول قبل النبوة بإلهام أو رؤيا، والظهير المعين، والمجرمين جمع مجرم والمراد به من أوقع غيره في الجرم أو من أدت معاونته إلى جرم كالإسرائيلي الذي خاصمه القبطي فأدت معاونته إلى جرم في نظر موسى عليه السلام فيكون في المجرمين مجاز في النسبة للإسناد إلى السبب، وجوز أن يراد بذلك الكفار وعنى بهم من استغاثه ونحوه بناء على أنه لم يكن أسلم، وقيل: أراد بالمجرمين فرعون وقومه، والمعنى أقسم بإنعامك عليّ لأتوبن فلن أكون معينا للكفار بأن أصحبهم وأكثر سوادهم، وقد كان عليه السلام يصحب فرعون ويركب بركوبه كالولد مع الوالد وكان يسمى ابن فرعون ولا يخفى أن ما تقدم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 264 أنسب بالمقام، وجوز أن تكون الباء للقسم الاستعطافي على أنها متعلقة بفعل دعاء محذوف، وجملة فلن أكون إلخ متفرعة عليه، والفاء واقعة في جواب الدعاء أو الشرط المقدر أي بحق إنعامك عليّ اعصمني فلم أكون إلخ أو إن عصمتني فلن أكون إلخ والقسم الاستعطافي ما أكد به جملة طلبية نحو قولك بالله تعالى زرني وغير الاستعطافي ما أكد به جملة خبرية نحو والله تعالى لأقومن، وإلى هذا ذهب ابن الحاجب، وقيل: القسم الاستعطافي ما كان المقسم به مشعرا بعطف وحنو نحو بكرمك الشامل أنعم عليّ وهو صادق على ما هنا، وغير الاستعطافي ما كان المقسم به أعم من ذلك، وعلى القولين هما قسمان من مطلق القسم، وظاهر كلام الزمخشري أن المتبادر من القسم ما يؤكد به الكلام الخبري وينعقد منه يمين فما يكون المراد به الاستعطاف قسيم له وجعل بعضهم إطلاق القسم على الاستعطافي تجوزا، ويبعد إرادة الاستعطاف هنا ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن موسى عليه السلام لم يستثن أي لم يقل إن شاء الله تعالى فابتلى به أي بالكون ظهيرا للمجرمين مرة أخرى وهو ما في قوله تعالى: فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ إلخ لأن الاستثناء لا يناسب الاستعطاف لكون النفي معلقا بعصمة الله عز وجل، وجوز أن تكون الباء سببية متعلقة بفعل مقدر يعطف عليه لن أكون إلخ وما موصولة، والمعنى بسبب الذي أنعمته عليّ من القوة أشكرك فلن أستعملها إلا في مظاهرة أوليائك ولا أدع قبطيا يغلب إسرائيليا وهو إلزام لنفسه بنصرة أوليائه عز وجل كالنذر وليس هناك قسم بوجه خلافا لمن توهم ذلك ولا يخفى أن هذا وإن لم يبعده الأثر لا يخلو عن بعد نظر إلى السباق، و (لن) على جميع الأوجه المذكورة للنفي وفي البحر قيل: إنها للدعاء (1) وحكى ابن هشام رده بأن فعل الدعاء لا يسند إلى المتكلم بل إلى المخاطب أو الغائب نحو يا رب لاعذبت فلانا، ويجوز لا عذب الله تعالى عمرا ثم قال ويرده قوله: ثم لا زلت لكم خالدا خلود الجبال، ولا يخفى عليك أن كونها للدعاء على الوجه الأخير في الآية غير ظاهر وعلى الوجه الأول لا يخلو عن خفاء فلعل من جعلها للدعاء حمل بما أنعمت عليّ على الاستعطاف وعلق الجار والمجرور بنحو اعصمني وجعل الفاء تفسيرية ولن أكون إلخ تفسيرا لذلك المحذوف كما قيل: في قوله تعالى: فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا [الأنبياء: 84] فليتدبر، واحتج أهل العلم بهذه الآية على المنع من معونة الظلمة وخدمتهم. أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبيد الله بن الوليد الرصافي أنه سأل عطاء بن أبي رباح عن أخ له كاتب فقال له: إن أخي ليس له من أمور السلطان شيء إلا أنه يكتب له بقلم ما يدخل وما يخرج فإن ترك قلمه صار عليه دين واحتاج وإن أخذ به كان له فيه غنى قال: لمن يكتب؟ قال: لخالد بن عبد الله القسري قال: ألم تسمع إلى ما قال العبد الصالح رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ فلا يهتم أخوك بشيء وليرم بقلمه فإن الله تعالى سيأتيه برزق، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي حنظلة جابر بن حنظلة الضبي الكاتب قال: قال رجل لعامر يا أبا عمرو إني رجل كاتب أكتب ما يدخل وما يخرج آخذ رزقا أستغني به أنا وعيالي قال: فلعلك تكتب في دم يسفك قال: لا. قال: فلعلك تكتب في مال يؤخذ قال: لا. قال: فلعلك تكتب في دار تهدم قال: لا. قال: أسمعت بما قال موسى عليه السلام رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ قال: أبلغت إليّ يا أبا عمرو والله عز وجل لا أخط لهم بقلم أبدا قال والله تعالى لا يدعك الله سبحانه بغير رزق أبدا. وقد كان السلف يجتنبون كل الاجتناب عن خدمتهم، أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن سلمة بن نبيط قال بعث عبد الرحمن بن مسلم إلى الضحاك فقال:   (1) قوله إنها للدعاء مجيئها للدعاء مذهب جماعة منهم ابن عصفور اه منه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 265 اذهب بعطاء أهل بخارى فأعطهم فقال اعفني فلم يزل يستعفيه حتى أعفاه فقال له بعض أصحابه: ما عليك أن تذهب فتعطيهم وأنت لا ترزؤهم شيئا فقال لا أحب أن أعين الظلمة في شيء من أمرهم وإذا صح حديث ينادي مناد يوم القيامة أين الظلمة وأشباه الظلمة وأعوان الظلمة حتى من لاق لهم دواة أو برى لهم قلما فيجمعون في تابوت من حديد فيرمى بهم في جهنم فليبك من علم أنه من أعوانهم على نفسه وليقلع عما هو عليه قبل حلول رمسه، ومما يقصم الظهر ما روي عن بعض الأكابر أن خياطا سأله فقال: أنا ممن يخيط للظلمة فهل أعد من أعوانهم؟ فقال: لا. أنت منهم والذي يبيعك الإبرة من أعوانهم فلا حول ولا قوة إلا بالله تعالى العلي العظيم، ويا حسرتا على من باع دينه بدنياه واشترى رضا الظلمة بغضب مولاه. هذا وقد بلغ السيل الزبى وجرى الوادي فطم على القرى. فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً وقوع المكروه به يَتَرَقَّبُ يترصد ذلك أو الإخبار هل وقفوا على ما كان منه وكان عليه السلام فيما يروى قد دفن القبطي بعد أن مات في الرمل، وقيل: خائفا وقوع المكروه من فرعون يترقب نصرة ربه عز وجل، وقيل: يترقب أن يسلمه قومه، وقيل: يترقب هداية قومه، وقيل: خائفا من ربه عز وجل يترقب المغفرة، والكل كما ترى، والمتبادر على ما قيل: إن في المدينة متعلق بأصبح واسم أصبح ضمير موسى عليه السلام الجزء: 10 ¦ الصفحة: 266 وخائفا خبرها وجملة يترقب خبر بعد خبر أو حال من الضمير في خائفا وقال أبو البقاء: يترقب حال مبدلة من الحال الأولى أو تأكيد لها أو حال من الضمير في خائفا اهـ. وفيه احتمال كون أصبح تامة واحتمال كونها ناقصة، والخبر في المدينة ولا يخفى عليك ما هو الأولى من ذلك فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ وهو الإسرائيلي الذي قتل عليه السلام القبطي بسببه يَسْتَصْرِخُهُ أي يستغيثه من قبطي آخر برفع الصوت من الصراخ وهو في الأصل الصياح ثم تجوز به عن الاستغاثة لعدم خلوها منه غالبا وشاع حتى صار حقيقة عرفية، وقيل: معنى يستصرخه يطلب إزالة صراخه، وإذا للمفاجأة وما بعدها مبتدأ وجملة يستصرخه الخبر. وجوز أبو البقاء كون الجملة حالا والخبر إذا، والمراد بالأمس اليوم الذي قبل يوم الاستصراخ، وفي الحواشي الشهابية ان كان دخوله عليه السلام المدينة بين العشاءين فالأمس مجاز عن قرب الزمان وهو معرب لدخول أل عليه وذلك الشائع فيه عند دخولها، وقد بني معها على سبيل الندرة كما في قوله: وإني حبست اليوم والأمس قبله ... إلى الشمس حتى كادت الشمس تغرب قالَ أي موسى عليه السلام لَهُ مُوسى أي للإسرائيلي الذي يستصرخه إِنَّكَ لَغَوِيٌّ ضال مُبِينٌ بين الغواية لأنك تسببت لقتل رجل وتقاتل آخر أو لأن عادتك الجدال، واختار هذا بعض الأجلة قال: إن الأول لا يناسب قوله تعالى: فَلَمَّا أَنْ أَرادَ إلخ لأن تذكر تسببه لما ذكر باعث الاحجام لا الاقدام. ورد بأن التذكر أمر محقق لقوله تعالى: خائِفاً يَتَرَقَّبُ والباعث له على ما ذكر شفقته على من ظلم من قومه وغيرته لنصرة الحق، وقيل: إن الضمير في له والخطاب في إنك للقبطي، ودل عليه قوله: يَسْتَصْرِخُهُ وهو خلاف الظاهر، ويبعده الإظهار في قوله تعالى: فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما فإن الظاهر على ذاك به بدل الذي والبطش الأخذ بصولة وسطوة، والتنوين في عدو للتفخيم أي عدو عظيم العداوة ولإرادة ذلك لم يضفه، والمراد بالذي هو عدو لهما القبطي، وقد كان القبط أعظم الناس عداوة لبني إسرائيل وقيل: عداوته لهما لأنه لم يكن على دينهما، وقرأ الحسن وأبو جعفر «يبطش» بضم الطاء. قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ قاله الإسرائيلي الذي يستصرخه على ما روي عن ابن عباس وأكثر المفسرين وكأنه توهم إرادة البطش به دون القبطي من تسمية موسى عليه السلام إياه غويا، وقال الحسن: قاله القبطي الذي هو عدو لهما كأنه توهم من قوله للإسرائيلي إنك لغوي أنه الذي قتل القبطي بالأمس له ولا بعد فيه لأن ما ذكر إما إجمال لكلام يفهم منه ذلك أو لأن قوله ذلك لمظلوم انتصر به خلاف الظاهر فلا بعد للانتقال منه لذلك، والذي في التوراة التي بأيدي اليهود اليوم ما هو صريح في أن هذين الرجلين كانا من بني إسرائيل، وأما الرجلان اللذان رآهما بالأمس فأحدهما إسرائيلي والآخر مصري، ووجه أمر العداوة على ذلك بأن هذا الذي أراد عليه السلام أن يبطش به كان ظالما لمن استصرخه فيكون عدوا له وعاصيا لله تعالى فيكون عدوا لموسى عليه السلام، ويحتمل أن تكون عداوته لهما لكونه مخالفا لما هما عليه من الدين وإن كان إسرائيليا وفيها أيضا ما هو صريح في أن الظالم هو قائل ذلك. وأنت تعلم أن هذه التوراة لا يلتفت إليها فيما يكذب القرآن أو السنة الصحيحة وهي فيما عدا ذلك كسائر أخبار بني إسرائيل لا تصدق ولا تكذب. نعم قد يستأنس بها لبعض الأمور ثم إن ما فيها من قصة موسى عليه السلام مخالف لما قصه الله تعالى منها هنا، وفي سائر المواضع زيادة ونقصا وهو ظاهر لمن وقف عليها، ولا يخفى الحكم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 267 في ذلك، وقد خلت هنا عن ذكر مجيء مؤمن آل فرعون ونصحه لموسى عليه السلام وكذا عن ذكر ما يدل على قوله: إِنْ تُرِيدُ أي ما تريد إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وهو الذي يفعل كل ما يريد من الضرب والقتل ولا ينظر في العواقب، وقيل: المتعظم الذي لا يتواضع لأمر الله تعالى وأصله على ما قيل: النخلة الطويلة فاستعير لما ذكر إما باعتبار تعاليه المعنوي أو تعظمه. وأخرج ابن المنذر عن الشعبي أنه قال: من قتل رجلين أي بغير حق فهو جبار، ثم تلا هذه الآية، وأخرج ابن أبي حاتم نحوه عن عكرمة وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ بين الناس فتدفع التخاصم بالتي هي أحسن، ولما قال هذا انتشر الحديث وارتقى إلى فرعون وملئه فهموا بقتل موسى عليه السلام فخرج مؤمن من آل فرعون هو ابن عم فرعون ليخبره بذلك وينصحه كما قال عز وجل: وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى الآية، واسمه قيل: شمعان، وقيل: شمعون بن إسحاق، وقيل: حزقيل، وقيل: غير ذلك وكون هذا الرجل الجائي مؤمن آل فرعون هو المشهور، وقيل: هو غيره، ويسعى بمعنى يسرع في المشي وإنما أسرع لبعد محله ومزيد اهتمامه بإخبار موسى عليه السلام ونصحه، وقيل: يسعى بمعنى يقصد وجه الله تعالى كما في قوله سبحانه: وَسَعى لَها سَعْيَها [الإسراء: 19] وهو وإن كان مجازا يجوز الحمل عليه لشهرته. والظاهر أن مِنْ أَقْصَى صلة جاءَ وجملة يَسْعى صفة رَجُلٌ، وجوز أن يكون مِنْ أَقْصَى في موضع الصفة لرجل، وجملة يسعى صفة بعد صفة. وجوز أن تكون الجملة في موضع الحال من رجل، أما إذا جعل الجار والمجرور في موضع الصفة منه فظاهر لأنه وإن كان نكرة ملحق بالمعارف فيسوغ أن يكون ذا حال، وأما إذا كان متعلقا بجاء فمنع ذلك الجمهور وأجازه سيبويه، وجوز أن يعلق الجار والمجرور بيسعى وهو كما ترى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ وهم وجوه أهل دولة فرعون يَأْتَمِرُونَ بِكَ أي يتشاورن بسببك وإنما سمي التشاور ائتمارا لأن كلا من المتشاورين يأمر الآخر ويأتمر لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ من المدينة قبل أن يظفروا بك إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ اللام للبيان كما في سقيا لك فيتعلق بمحذوف أعني- أعني- ولم يجوز الجمهور تعلقه بالناصحين لأن أل فيه اسم موصول ومعمول الصلة لا يتقدم الموصول ولا بمحذوف مقدم يفسره المذكور لأن ما لا يعمل لا يفسر عاملا وعند من جوز تقدم معمول الصلة إذا كان الموصول أل خاصة لكونها على صورة الحرف، أو إذا كان المتقدم ظرفا للتوسع فيه، أو قال إن أل هنا حرف تعريف لإرادة الثبوت يجوز أن يكون لك متعلقا بالناصحين أو بمحذوف يفسره ذلك. واستدل القرطبي وغيره بالآية على جواز النميمة لمصلحة دينية فَخَرَجَ مِنْها أي من المدينة ممتثلا. خائِفاً يَتَرَقَّبُ لحوق الطالبين قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَلَمَّا تَوَجَّهَ أي صرف وجهه تِلْقاءَ مَدْيَنَ أي ما يقابل جانبها، وتلقاء في الأصل مصدر انتصب على الظرفية. ومدين قرية شعيب سميت باسم مدين بن إبراهيم عليه السلام ولم يكن في سلطان فرعون ولذا توجه لقريته، وقيل توجه إليها لمعرفته به، وقيل لقرابته منه عليهما السلام، وكان بينها وبين مصر مسيرة ثمان. قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ أي وسط الطريق المؤدّي إلى النجاة، وإنما قال عليه السلام ذلك توكلا على الله تعالى وثقة بحسن توفيقه عز وجل، وكان عليه السلام لا يعرف الطرق فعن ثلاث طرائق فأخذ في الوسطى وأخذ طالبوه في الأخريين وقالوا: المريب لا يأخذ في أعظم الطرق ولا يسلك إلا بنياتها فبقي ثماني ليال وهو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 268 حاف لا يطعم إلا ورق الشجر وعن سعيد بن جبير أنه عليه السلام لم يصل حتى سقط خف قدميه ، وروي أنه عليه السلام أخذ يمشي من غير معرفة فهداه جبريل عليه السلام إلى مدين، وعن السدي أنه عليه السلام أخذ في بنيات الطريق فجاءه ملك على فرس بيده عنزة فلما رآه موسى عليه السلام سجد له أي خضع من الفرق، فقال: لا تسجد لي ولكن اتبعني فتبعه وانطلق حتى انتهى به إلى مدين. وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ أي وصل إليه وورد. الورود بمعنى الدخول وبمعنى الشرب وليس شيء منهما مرادا والمراد بماء مدين بئر كانوا يسقون منها، فهو مجاز من إطلاق الحال وإرادة المحل وَجَدَ عَلَيْهِ أي فوق شفيره ومستقاه أُمَّةً مِنَ النَّاسِ أي جماعة كثيرة مختلفي الأصناف، ويشعر بالقيد الأول التنوين، وبالثاني من الناس لشموله للأصناف المختلفة وهي فائدة ذكره، وقيل فائدته تحقير أولئك الجماعة وأنهم لئام لا يعرفون بغير جنسهم أو محتاجون إلى بيان أنهم من البشر يَسْقُونَ الظاهر أنهم كانوا يسقون مواشي مختلفة الأنواع بمعنى أن منهم من كان يسقي إبلا ومنهم من كان يسقي غنما وهكذا، وتخصص سقيهم بنوع يحتاج إلى توقيف وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ أي في مكان أسفل من مكانهم، وقيل من قربهم أو من سواهم أو مما يلي جهته إذا قدم عليهم وإلى هذا الأخير ذهب ابن عطية حيث قال: المعنى ووجد من الجهة التي وصل إليها قبل أن يصل إلى الأمة امْرَأَتَيْنِ اسم إحداهما قيل ليا وقيل عبرا وقيل شرفا، واسم الأخرى قيل صفوريا وقيل صفوراء وقيل صفيراء، وفي الكشاف صفيراء اسم الصغرى واسم الكبرى صفراء تَذُودانِ كانتا تمنعان غنمهما عن الماء خوفا من السقاة الأقوياء قاله ابن عباس وغيره، وقيل تمنعان غنمهما عن التقدم إلى البئر لئلا تختلط بغيرها. وحكي ذلك عن الزجاج، وقال قتادة: تمنعان الناس عن غنمهما، وقال الفراء: تحبسان غنمهما عن أن تتفرق، وفي جميع هذه الأقوال تصريح بأن المذود كان غنما، والظاهر أن ذلك عن توقيف، وقيل تذودان عن وجوههما نظر الناظرين لتسترهما وهذا كما ترى قالَ ما خَطْبُكُما أي ما مخطوبكما ومطلوبكما مما أنتما عليه من التأخر والذود ولم لا تباشران السقي كغيركما؟. وأصل الخطب مصدر خطب بمعنى طلب ثم استعمل بمعنى المفعول. وفي سؤاله عليه السلام إياهما دليل على جواز مكالمة الأجنبية فيما يعني. وقرأ شمر «ما خطبكما» بكسر الخاء، قال في البحر: أي من زوجكما؟. ولم لا يسقي هو؟. وهذه قراءة شاذة نادرة اه. ولا يخفى ما فيه وإباء الجواب عنه. وقال بعضهم: الخطب فيها بمعنى المخطوب والمطلوب كما في القراءة المتواترة، ونظيره الحب بكسر الحاء المهملة بمعنى المحبوب قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ أي عادتنا أن لا نسقي حتى يصرف الرعاة مواشيهم بعد ريها عن الماء عجزا عن مساجلتهم لا أنا لا نسقي اليوم إلى تلك الغاية. وقرأ ابن مصرف «لا نسقي» بضم النون من الاسقاء، وقرأ أبو جعفر، وشيبة، والحسن وقتادة، والعربيان: ابن عامر، وأبو عمرو «يصدر» بفتح الياء وضم الدال أي حتى يصدر الرعاة بأغنامهم. وسأل بعض الملوك عن الفرق بين القراءتين من حيث المعنى. فأجيب بأن قراءة يصدر بفتح الياء تدل على فرط حيائهما وتواريهما من الاختلاط بالأجانب، وقراءة يصدر بضم الياء تدل على إصدار الرعاة المواشي ولم يفهم منها صدورهم عن الماء. وقرىء بزاي خالصة وبحرف بين الصاد والزاي، وقرىء الرعاء بضم الراء والمعروف في صيغ الجمع فعال بكسر الفاء كما في قراءة الجمهور، وأما فعال بالضم فعلى خلاف القياس لأنه من أبنية المصادر والمفردات كنباح وصراخ، وإذا استعمل في معنى الجمع كما في القراءة الشاذة فقيل هو اسم جمع لا جمع وقيل إنه جمع أصلي وقيل إنه جمع ولكن الأصل فيه الكسر، والضم فيه بدل من الكسر كما أنه بدل من الفتح في نحو سكارى، والوارد منه في كلام العرب ألفاظ محصورة ذكرها الخفاجي في شرح درة الغواص والمشهور منها على ما قال ثمانية، وقد نظمها صدر الأفاضل لا الزمخشري على الأصح بقوله: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 269 ما سمعنا كلما غير ثمان ... هي جمع وهي في الوزن فعال (1) فرباب وفرار وتؤام ... وعرام وعراق ورخال وظؤار (2) جمع ظئر وبساط، جمع بسط هكذا فيما يقال. وذهب أبو حيان إلى أن الرعاء في قراءة الجمهور ليس بقياس أيضا قال: لأنه جمع راع وقياس فاعل الصفة التي للعاقل أن تكسر على فعلة كقاض وقضاة وما سوى جمعه هذا فليس بقياس، وقرأ عياش عن أبي عمرو الرعاء بفتح الراء وهو مصدر أقيم مقام الصفة فاستوى لفظ الواحد والجماعة فيه، وجوز أن يكون مما حذف منه المضاف أي أهل الرعاء وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ إبداء منهما للعذر له عليه السلام في توليهما للسقي بأنفسهما كأنهما قالتا: إنا امرأتان ضعيفتان مستورتان لا نقدر على مساجلة الرجال ومزاحمتهم وما لنا رجل يقوم بذلك وأبونا شيخ كبير السن قد أضعفه الكبر فلا بد لنا من تأخير السقي إلى أن يقضي الناس أوطارهم من الماء، وذكر بعضهم أنه عليه السلام أخرج السؤال على ما يقتضيه كرمه ورحمته بالضعفاء حيث سألهما عن مطلوبهما من التأخر والذود قصدا لأن يجاب بطلب المعونة إلا أنهما لجلالة قدرهما حملتا قوله على ما يجاب عنه بالسبب وفي ضمنه طلب المعونة لأن إظهارهما العجز ليس إلا لذلك، وقيل: ليس في الكلام ما يدل على ضعفهما بل فيه أمارات على حيائهما وسترهما ولو أرادتا إظهار العجز لقالتا لا نقدر على السقي ومعنى وأبونا شيخ كبير أنا مع حيائنا إنما تصدينا لهذا الأمر لكبره وضعفه وإلا كان عليه أن يتولاه، ولعل الأولى أن يقال: إنهما أرادتا إظهار العجز عن المساجلة للضعف ولما جبلا عليه من الحياء، والكلام وإن لم يكن فيه ما يدل على ضعفهما فيه ما يشير إليه لمن له قلب، ويفهم من بيان معنى جوابهما المار آنفا أن جملة أبونا شيخ كبير عطف على مقدر، وجوز أن تكون حالا أي نترك السقي حتى يصدر الرعاء والحال أبونا شيخ كبير وأبوهما عند أكثر المفسرين شعيب عليه السلام. فإن قيل كيف ساغ لنبي الله تعالى أن يرضى لابنتيه بسقي الغنم؟ فالجواب: أن الأمر في نفسه ليس بمحظور فالدين لا يأباه، وأما المروءة فالناس مختلفون في ذلك والعادات متباينة فيه وأحوال العرب فيه خلاف أحوال العجم ومذهب أهل البدو فيه غير مذهب أهل الحضر خصوصا إذا كانت الحال حال ضرورة، وذهب جماعة إلى أنه ليس بشعيب عليه السلام فاخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عبيدة أنه قال كان صاحب موسى عليه السلام أثرون ابن أخي شعيب النبي عليه السلام، وحكى هذا القول عنه أبو حيان أيضا إلا أنه ذكر هارون بدل أثرون وحكاه أيضا عن الحسن إلا أنه ذكر بدله مروان، وحكى الطبرسي عن وهب وسعيد بن جبير نحو ما حكاه أبو حيان عن أبي عبيدة، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال بلغني أن أبا الامرأتين ابن أخي شعيب واسمه رعاويل وقد أخبرني من أصدق أن اسمه في الكتاب يثرون كاهن مدين والكاهن حبر، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال الذي استأجر موسى عليه السلام يثرب صاحب مدين، وجاء في رواية أخرى عنه أن اسمه يثرون وهو موافق لما نقل عن الكتاب من الاسم ولم يذكر في هاتين الروايتين نسبته إلى شعيب عليه السلام فيحتمل أن المسمى بما فيها ابن   (1) الرباب جمع ربي الشاة الحديثة العهد بالنتاج. والفرار جمع فرير ولد البقرة الوحشية، والتؤام جمع توأم المولود مع قرينه. والعرام بالعين والراء المهملتين بمعنى العراق وهو جمع عرق العظم الذي عليه بقية لحم. والرخال جمع رخلة بالكسر وبهاء، وككتف الأنثى من أولاد الضأن اهـ منه. (2) والظؤار جمع ظئر المرضع، والبساط جمع بسط الناقة التي تخلى مع ولدها اهـ منه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 270 أخيه ويحتمل أنه رجل أجنبي عنه فقد قيل: إن أباهما ليس ذا قرابة من شعيب عليه السلام وإنما هو رجل صالح، وحكى الطبرسي عن بعضهم أن يثرون اسم شعيب وقد أخبرني بعض أهل الكتاب بذلك أيضا إلا أنه قال هو عندنا يثرو بدون نون في آخره والذي رأيته أنا في الفصل الثاني من السفر الثاني من توراتهم ما ترجمته ولما سمع فرعون بهذا الخبر أي خبر القتل طلب أن يقتل موسى فهرب موسى من بين يديه وصار إلى بلد مدين وجلس على بئر ماء وكان لإمام مدين سبع بنات فجاءت ودلت وملأت الأحواض لسقي غنم أبيهن فلما جاء الرعاة فطردوهن قام موسى فأغاثهن وسقى غنمهن فلما جئن إلى رعوايل أبيهن قال ما بالكن أسرعتن المجيء اليوم إلخ، وفي أول الفصل الثالث منه ما ترجمته وكان موسى يرعى غنم يثرو حمية أمام مدين إلخ فلا تغفل، وفي البحر عند الكلام في تفسير إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ قيل: كان عمها صاحب الغنم وهو المزوج عبرت عنه بالأب إذ كان بمثابته والظاهر أن هذا القائل يقول: إنهما عنتا بالأب هنا العم، وأنت تعلم أن هذا وأمثاله مما تقدم مما لا يقال من قبل الرأي فالمدار في قبول شيء من ذلك خبر يعول عليه والأخبار التي وقفنا عليها في هذا المطلب مختلفة ولم يتميز عندنا ما هو الأرجح فيما بينها وكأني بك تعول على المشهور الذي عليه أكثر المفسرين وهو أن أباهما على الحقيقة شعيب عليه السلام إلى أن يظهر لك ما يوجب العدول عنه والظاهر من قوله تعالى: فَسَقى لَهُما أنه عليه السلام سارع إلى السقي لهما رحمة عليهما ومنشأ الترحم كونهما على الذود وكون الأمة من الناس على السقي ولهذا ذهب الشيخ عبد القاهر وصاحب الكشاف إلى أن حذف المفعول في يسقون وتذودان للقصد إلى نفس الفعل وتنزيله منزلة اللازم أي يصدر منهم السقي ومنهما الذود وقال: إن كون المسقي والمذود إبلا أو غنما خارج عن المقصود بل يوهم خلافه إذ لو قيل: أو قدر يسقون إبلهم وتذودان غنمهما لتوهم أن الترحم عليهما ليس من جهة أنهما على الذود والناس على السقي بل من جهة أن مذودهما غنم ومسقيهم إبل بناء على أن محط الفائدة في الكلام البليغ هو القيد الأخير وخالفهما في ذلك السكاكي فذهب إلى أن حذف المفعول من يسقون وتذودان لمجرد الاختصار والمراد يسقون مواشيهم وتذودان غنمهما وكذا سائر الأفعال المذكورة في هذه الآية، واختاره العلامة الثاني فقال: إن هذا أقرب إلى التحقيق لأن الترحم لم يكن من جهة صدور الذود عنهما وصدور السقي من الناس بل من جهة ذودهما غنمهما وسقي الناس مواشيهم حتى لو كانتا تذودان غير غنمهما بل مواشيهم وكان الناس يسقون غير مواشيهم بل غنمهما مثلا لم يصح الترحم ووافقه في ذلك السيد السند وقال في تحقيق المذهبين: إن الشيخين اعتبرا المفعول الذي نزل الفعلان بالنسبة إليه هو الإبل والغنم مثلا أي النوعين من المواشي بدون الإضافة كما يدل عليه قولهما إن كون المسقي والمذود إبلا أو غنما إلخ وكل منهما مقابل للآخر في نفسه وجعلا ما يضاف إليه كل في القول أو التقدير المفروض خارجا عن المفعول من حيث إنه مفعول غير ملحوظ معه فالمفعول عندهما ليس إلا مطلق الإبل والغنم فلو قدر المفعول لأدّى إلى فساد المعنى فإنهما لو كانتا تذودان إبلا لهما على سبيل الفرض لكان الترحم باقيا بحاله لأنه إنما كان لعدم قدرتهما على السقي، والسكاكي نظر إلى أن المفعول هو الغنم المضافة إليهما والمواشي المضافة إليهم وكل واحد منهما يقابل الآخر من حيث إنه مضاف فلو لم يقدر المفعول يفسد المعنى وهذا أدق نظرا وأصح معنى انتهى، وتعقبه المولى عبد الحكيم السالكوني بقوله: وفيه بحث لأن عدم التقدير إن قصد به التعميم أي يسقون مواشيهم وغير مواشيهم وتذودان غنمهما وغير غنمهما يلزم الفساد أما إذا قصد به مجرد السقي والذود من غير ملاحظة التعلق بالمفعول كما في قوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9] فلا لأن كون طبيعة السقي والذود منشأ الترحم لا يقتضي أن يكون عند تعلقه بمفعول مخصوص كذلك حتى يلزم أن يكون سقي غير مواشيهم وذود غير غنمهم محلا للترحم فتدبر، فإن منشأ ما ذكره السكاكي عدم الفرق بين الإطلاق والعموم انتهى، ولا يخفى أنه ينبغي أن يضم إلى طبيعة السقي والذود بعض الجزء: 10 ¦ الصفحة: 271 الحيثيات كحيثية تحقق طبيعة السقي من أقوياء متغلبين وتحقق طبيعة الذود من امرأتين ضعيفتين مستورتين في موضع هو مجتمع الناس للسقي وإلا فالظاهر أن مجرد طبيعة السقي والذود لا تصلح منشأ الترحم. وقال بعض الأجلة: ترك المفعول في يسقون ويذودان لأن الغرض هو الفعل لا المفعول إذ هو يكفي في البعث على سؤال موسى عليه السلام وما زاد على المقصود لكنة وفضول، وأما البعث على المرحمة فليس هذا موضعه فإن له قولهما: لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ ومن لم يفرق بين البعثين قال ما قال ورد بأن منشأ السؤال هو المرحمة لحالهما كما صرحوا به فسؤاله عليه السلام للتوسل إلى إعانتهما وبرهما لتفرس ضعفهما وعجزهما ولولاه لم يكن للتكلم مع الأجنبية داع، وقولهما: لا نَسْقِي إلخ باعث لمزيد المرحمة لقبولها للزيادة والنقص، وتعقب بأنه إنما يتم لو سلم أنه عليه السلام تفرس ضعفهما وعجزهما لأمور شاهدها، وإلا فالذود لا يدل على ذلك إذ يتحقق للضعف ولغيره، وقد نقل الخفاجي كلام جمع من الفضلاء في هذا المقام منه ما ذكرنا عن بعض الأجلة ورده واعترض بما اعترض، ثم قال: وأما ما اعترض به على المرحمة فخيال فاسد ومحط كلامه عليه الرحمة الانتصار لما ذهب إليه الشيخان وقد انتصر لهما، وقال بقولهما غير واحد. واعترض بعضهم على تقدير المفعول مضافا بأن الإضافة تشعر بالملك ولا ملك لأحد من الأمة والامرأتين فإن الظاهر في الأمة أنهم كانوا رعاء والأغلب أن الرعاء لا يملكون، والظاهر أن ما في يد الامرأتين كان ملكا لأبيهما، ولا يخفى أن هذا الاعتراض على طرف الثمام، والله تعالى أعلم، هذا والظاهر أنه عليه السلام سقى لهما من البئر التي عليها الناس ويدل عليه ما روي أنه عليه السلام دفعهم عن الماء إلى أن سقى لهما وكذا ما أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: إن موسى عليه السلام لما ورد ماء مدين وجد عليها أمة من الناس يسقون فلما فرغوا أعادوا الصخرة على البئر ولا يطيق رفعها إلا عشرة رجال فإذا هو بامرأتين قال ما خطبكما فحدثناه فأتى الصخرة فرفعها وحده ثم استسقى فلم يستسق إلا دلوا واحدا حتى رويت الغنم لكن هذا مخالف لما يقتضيه ظاهر الآية من أنه عليه السلام حين ورد ماء مدين وجد الأمة يسقون ووجد الامرأتين تذودان وهذا ظاهر في مقارنة وجدانهما لوجدانهم وذودهما لسقيهم ولا يكاد يفهم منه أن وجدانهما بعد فراغهم من السقي كما يقتضيه الخبر فلعل الخبر غير صحيح، وتصحيح الحاكم محكوم عليه بعدم الاعتبار وكأن من يقول بصحته يمنع اقتضاء الآية كون وجدان الأمة يسقون ووجدان الامرأتين تذودان في أول وقت الورود فإنه يقال: لما ورد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة وجب الصيام ووجبت الزكاة مثلا مع أن وجوب كل ليس في أول وقت الورود فيجوز أن يكون عليه السلام قد وجد أمة يسقون أول وقت وروده وبعد أن فرغوا من السقي ووضعوا الصخرة على البئر وجد امرأتين تذودان فخاطبهما بما خطبكما فكان ما كان ويحمل ذودهما على منع غنمهما عن التقدم إلى البئر لعلمهما أنها قد أطبق عليها صخرة لا يقدرون على رفعها ويتكلف في توجيه الجواب ما يتكلف أو يقول الآية على ظاهرها ويسلم اقتضاءه اتحاد الوجدانين والذود والسقي بالزمان ويمنع أن يكون في الخبر ما ينافي ذلك لجواز أن يكون المعنى لما ورد ماء مدين وجد عليه أمة يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان فلما فرغوا أعادوا الصخرة فإذا بالامرأتين حاضرتان عنده بين يديه فسألهما فحدثناه إلخ فما بعد الفراغ من السقي ليس وجدان الامرأتين تذودان وإنما هو حضورهما بين يديه والكل كما ترى وكأني بك تعتمد عدم صحة الخبر. وقيل: إنه عليه السلام سقى لهما من بئر أخرى، فقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في خبر طويل أنه عليه السلام لما سأل الامرأتين وأجابتا قال: فهل قربكما ماء؟ قالتا: لا إلا بئر عليها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 272 صخرة قد غطيت بها لا يطيقها نفر. قال: فانطلقا فأريانيها. فانطلقا معه فقال بالصخرة بيده فنحاها ثم استقى لهما سجلا واحدا فسقى الغنم ثم أعاد الصخرة إلى مكانها ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ الذي كان هناك وهو على ما روي عن ابن مسعود ظل شجرة قيل: كانت سمرة، وقيل: هو ظل جدار لا سقف له. وقيل: إنه عليه السلام جعل ظهره يلي ما كان يلي وجهه من الشمس، وهو المراد بقوله تعالى: ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ وهو كما ترى فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ أي لأي شيء تنزله من خزائن كرمك إليّ. مِنْ خَيْرٍ جل أو قل فَقِيرٌ أي محتاج وهو خبر إن وبه يتعلق لما، ولما أشرنا إليه من تضمنه معنى الاحتياج عدي باللام، وجوز أن يكون مضمنا معنى الطلب واللام للتقوية، وقيل: يجوز أن تكون للبيان فتتعلق بأعني محذوفا، و (ما) على جميع الأوجه نكرة موصوفة، والجملة بعدها صفتها، والرابط محذوف، ومن خير بيان لها، والتنوين فيه للشيوع، والكلام تعريض لما يطعمه لما ناله من شدة الجوع والتعبير بالماضي بدل المضارع في أنزلت للاستعطاف كالافتتاح برب، وتأكيد الجملة للاعتناء، ويدل على كون الكلام تعريضا لذلك ما أخرجه ابن مردويه عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما سقى موسى عليه السلام للجاريتين ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير إنه يومئذ فقير إلى كف من تمر» . وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: «لقد قال موسى عليه السلام رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير وهو أكرم خلقه عليه ولقد افتقر إلى شق تمرة ولقد لصق بطنه بظهره من شدة الجوع» وفي رواية أخرى عنه «أنه عليه السلام سأل فلقا من الخبز يشد بها صلبه من الجوع وكان عليه السلام قد ورد ماء مدين» وأنه كما روى أحمد في الزهد وغيره عن الحبر ليتراءى خضرة البقل من بطنه من الهزال وإلى كون الكلام تعريضا لذلك ذهب مجاهد وابن جبير، وأكثر المفسرين وكان علي كرّم الله تعالى وجهه يقول: والله ما سأل إلا خبزا يأكله ، وجوز أن تكون اللام للتعليل وما موصولة ومن للبيان والتنكير في خير لإفادة النوع والتعظيم، وصلة فقير مقدرة أي إني فقير إلى الطعام أو من الدنيا لأجل الذي أنزلته إليّ من خير الدين وهو النجاة من الظالمين فقد كان عليه السلام عند فرعون في ملك وثروة وليس الغرض عليه التعريض لما يطعمه ولا التشكي والتضجر بل إظهار التبجح والشكر على ذلك، ووجه التعبير بالماضي عليه ظاهر. وأنت تعلم أن هذا خلاف المأثور الذي عليه الجمهور، ومثله في ذلك ما روي عن الحسن أنه عليه السلام سأل الزيادة في العلم والحكمة ولا يخلو أيضا عن بعد. وجاء عن ابن عباس أن الامرأتين سمعتا ما قال فرجعتا إلى أبيهما فاستنكر سرعة مجيئهما فسألهما فأخبرتاه فقال لإحداهما: انطلقي فادعيه فَجاءَتْهُ إِحْداهُما قيل هي الكبرى منهما وقيل الصغرى وكانتا على ما في بعض الروايات توأمتين ولدت إحداهما قبل الأخرى بنصف نهار. وقرأ ابن محيصن «حداهما» بحذف الهمزة تخفيفا على غير قياس مثل ويلمه في ويل أمه تَمْشِي حال من فاعل جاءت. وقوله تعالى: عَلَى اسْتِحْياءٍ متعلق بمحذوف هو حال من ضمير تمشي أي جاءته ماشية كائنة على استحياء فمعناه أنها كانت على استحياء حالتي المشي والمجيء معا لا عند المجيء فقط، وتنكير استحياء للتفخيم. ومن هنا قيل جاءت متخفرة أي شديدة الحياء. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن أبي الهذيل عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال جاءت مستترة بكم درعها على وجهها وأخرجه ابن المنذر عن أبي الهذيل موقوفا عليه وفي رفعه إلى عمر رواية أخرى صححها الحاكم بلفظ واضعة ثوبها على وجهها قالَتْ استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية مجيئها إياه عليه السلام كأنه قيل: فماذا قالت له عليه السلام؟ فقيل قالت: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 273 إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا أي جزاء سقيك على أن ما مصدرية ولا يجوز أن تكون موصولة لأن ما يستحق عليه الأجر فعله لا ما سقاه إذ هو الماء المباح وأسندت الدعوة إلى أبيها وعللتها بالجزاء لئلا يوهم كلامها ريبة. وفيه من الدلالة على كمال العقل والحياء والعفة ما لا يخفى. روي أنه عليه السلام أجابها فقام معها فقال لها امشي خلفي وانعتي لي الطريق فإني أكره أن تصيب الريح ثيابك فتصف لي جسدك ففعلت. وفي رواية أن قال لها كوني ورائي فإني رجل لا أنظر إلى أدبار النساء ودليني على الطريق يمينا أو يسارا ، وروي عن ابن عباس وقتادة وابن زيد وغيرهم أنها مشت أولا أمامه فألزقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته فقال لها: امشي خلفي وانعتي لي الطريق ففعلت حتى أتيا دار شعيب عليه السلام. فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ أي ما جرى عليه من الخبر المقصوص، فإنه مصدر سمي به المفعول كالعلل قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يريد فرعون وقومه، وقال ذلك لما أنه لا سلطان لفرعون بأرضه، ويحتمل أنه قاله عن إلهام أو نحوه، واختلف في الداعي له عليه السلام إلى الإجابة فقيل الذي يلوح من ظاهر النظم الكريم أن موسى عليه السلام إنما أجاب المستدعية من غير تلعثم ليتبرك برؤية الشيخ ويستظهر برأيه لا طمعا بما صرحت به من الأجر، ألا ترى إلى ما أخرج ابن عساكر عن أبي حازم قال: لما دخل موسى على شعيب عليهما السلام إذا هو بالعشاء فقال له شعيب: كل. قال موسى. أعوذ بالله تعالى. قال: ولم ألست بجائع؟ قال: بلى، ولكن أخاف أن يكون هذا عوضا لما سقيت لهما وإنا من أهل بيت لا نبيع شيئا من عمل الآخرة بملء الأرض ذهبا قال: لا والله، ولكنها عادتي وعادة آبائي نقري الضيف ونطعم الطعام فجلس موسى عليه السلام فأكل، وقيل: الداعي له ما به من الحاجة وليس بمستنكر منه عليه السلام أن يقبل الأجر لإضرار الفقر والفاقة. فقد أخرج الإمام أحمد عن مطرف بن الشخير قال أما والله لو كان عند نبي الله تعالى شيء ما تبع مذقتها ولكن حمله على ذلك الجهد، واستدل بعضهم على أن ذهابه عليه السلام رغبة بالجزاء بما روي عن عطاء بن السائب أنه عليه السلام رفع صوته بقوله: رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ليسمعهما، ولذلك قيل له ليجزيك إلخ، وأجيب بأنه ليس بنص لاحتمال أنه إنما فعله ليكون ذريعة إلى استدعائه لا إلى استيفاء الأجر، ولا ضير فيما أرى أن يكون عليه السلام قد ذهب رغبة في سد جوعته وفي الاستظهار برأي الشيخ ومعرفته، ولا أقول إن الرغبة في سد الجوعة رغبة في استيفاء الأجر على عمل الآخرة أو مستلزمة لها، ودعوى أن الذي يلوح من ظاهر النظم الكريم أنه عليه السلام إنما أجاب للتبرك والاستظهار بالرأي لا تخلو عن خفاء، وعمله عليه السلام بقول امرأة لأنه من باب الرواية، ويعمل بقول الواحد حرا كان أو عبدا ذكرا كان أو أنثى إذا كان كذلك، ومماشاته امرأة أجنبية مما لا بأس به في نظائر تلك الحال مع ذلك الاحتياط والتورع قالَتْ إِحْداهُما وهي التي استدعته إلى أبيها وهي التي زوجها من موسى عليهما السلام يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ أي لرعي الأغنام والقيام بأمرها، وأصل الاستئجار كما قال الراغب طلب الشيء بالأجرة ثم عبر به عن تناوله بها وهو المراد هنا. وكذا في قوله سبحانه: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ وهو تعليل جار مجرى الدليل على أنه عليه السلام حقيق بالاستئجار المفهوم من طلب استئجاره، وبعضهم رتب من الآية قياسا من الشكل الأول هكذا هو قوي أمين وكل قوي أمين لائق بالاستئجار ينتج هو لائق بالاستئجار وهو المدعى المفهوم من الطلب، وتعقب بأن هذا ظاهر لو كان خير خبرا وليس هو كذلك، وأجيب بأن المعنى على ذلك إلا أنه جعل اسما للاهتمام بأمر الخيرية لأنها أم الكمال المبني عليها غيرها. وفي الكشاف فإن قيل: كيف جعل خير من استأجرت اسما لإن والقوي الأمين خبرا؟ قلت: هو مثل قوله: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 274 ألا إن خير الناس حيّا وهالكا ... أسير ثقيف عندهم في السلاسل في أن العناية هي سبب التقديم وقد صدقت حتى جعل لها ما هو أحق أن يكون خبرا اسما وأراد بذلك على ما قيل: أحقية كون خير خبرا من حيث الصناعة، ووجه بأن خيرا مضاف إلى من وهي نكرة فكذا هو والإخبار عن النكرة بالمعرفة خلاف الظاهر، وإن جوزوه في اسمي التفضيل والاستفهام، ولو جعلت موصولة فإضافة أفعل التفضيل لفظية لا تفيد تعريفا كما هو أحد قولين للنحاة فيها، وعلى القول بإفادتها التعريف يقال: المعرف باللام أعرف من الموصول وما أضيف إليه. وتعقب بأن تعريف القوي الأمين للجنس وما فيه تعريف الجنس قد ينزل منزلة النكرة، وأجيب بأن الموصول إذا أريد به الجنس كذلك وهنا تصح هذه الإرادة ليجيء التعدد الذي يقتضيه خير، وحيث كان المضاف إلى شيء دونه يكون القوي الأمين أحق بالاسمية وخير أحق بالخبرية. وإذ قلت بأن أحقية الخبرية لأن سوق التعليل يقتضيها إلا أنه عدل إلى الاسمية للاهتمام خلصت من كثير من المناقشات. وقال لي الشيخ خليل أفندي الآمدي يوم اجتمعت به وأنا شاب عند وروده إلى بغداد فجرى بحث في هذه الآية الكريمة: إن القياس المأخوذ منها من الشكل الثاني هكذا موسى القوي الأمين وخير من استأجرت القوي الأمين ينتج موسى خير من استأجرت. فقلت: أظهر ما يرد على هذا أن شرط إنتاج الشكل الثاني بحسب الكيفية اختلاف مقدمتيه بالإيجاب والسلب بأن تكون إحداهما موجبة والأخرى سالبة وهو منتف فيما ذكرت فسكت وأعرض عن البحث حذرا من الفضيحة. وأنت تعلم أن أدلة القرآن لا يلزم فيها الترتيب الذي وضعه المنطقيون فذلك صناعة أغنى الله تعالى العرب عنها، وما ذكر من أن جعل خير اسما للاهتمام هو ما اختاره غير واحد، وجوز الطيبي أن يكون تقديمه وجعله اسما من باب القلب للمبالغة، والظاهر أن أل في القوي الأمين للجنس فيندرج موسى عليه السلام وهو وجه الاستدلال. وذكر الاستئجار بلفظ الماضي مع أن الظاهر ذكره بلفظ المضارع للدلالة على أنه أمر قد جرب وعرف. وجوز الطيبي أن يكون المراد بالقوي الأمين موسى عليه السلام فكأنها قالت: إن خير من استأجرت موسى، والأول أولى. ثم إن كلامها هذا كلام حكيم جامع لا يزاد عليه لأنه إذا اجتمعت الخصلتان أعني الكفاية والأمانة في القائم بأمرك فقد فرغ بالك وتم مرادك. وقد استغنت بإرسال هذا الكلام الذي سياقه سياق المثل والحكمة أن تقول: استأجره لقوته وأمانته، ولعمري إن مثل هذا المدح من المرأة للرجل أجمل من المدح الخاص وأبقى للحشمة وخصوصا إن كانت فهمت أن غرض أبيها أن يزوجها منه، ومعرفتها قوته عليه السلام لما رأت من دفعه الناس عن الماء وحده حتى سقى لهما، ومعرفتها أمانته من عدم تعرضه لها بقبيح ما مع وحدتها وضعفها. وروي أنها لما قالت ما قالت قال لها أبوها: ما أعلمك بقوته؟ فذكرت له أنه عليه السلام أقل صخرة على البئر لا يقلها كذا وكذا وقد مر في حديث عمر رضي الله تعالى عنه أنه لا يطيق رفعها إلا عشرة رجال والنقل في عدد من يقلها مضطرب فأقل ما قالوا فيه سبعة وأكثره مائة، وقد مر ما يعلم منه حال الخبر في أصل الإقلال، وذكرت أنه نزع وحده بدلو لا ينزع بها إلا أربعون. وقال: ما أعلمك بأمانته؟ فذكرت ما كان من أمره إياها بالمشي وراءه وأنه صوب رأسه حتى بلغته الرسالة، وقدمت وصف القوة مع أن أمانة الأجير لحفظ المال أهم في نظر المستأجر لتقدم علمها بقوته عليه السلام على علمها بأمانته أو ليكون ذكر وصف الأمانة بعده من باب الترقي من المهم إلى الأهم، واستدل بقولها استأجره على مشروعية الإجارة عندهم وكذا كانت في كل ملة وهي من ضروريات الناس ومصلحة الخلطة خلافا لابن علية والأصم حيث كانا لا يجيزانها وهذا ما انعقد عليه الإجماع وخلافهما خرق له فلا يلتفت إليه وهذا لعمري غريب منهما إن كانا لا يجيزان الإجارة مطلقا، ورأيت في الإكليل أن في قوله تعالى: أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي إلخ رد على من منع الإجارة المتعلقة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 275 بالحيوان عشر سنين لأنه يتغير غالبا فلعل الإجارة التي لا يجيزانها نحو هذه الإجارة والأمر في ذلك أهون من عدم إجارة الإجارة مطلقا كما لا يخفى. قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ استئناف بياني كأنه قيل: فما قال أبوها بعد أن سمع كلامها؟ فقيل: قال إني. وفي تأكيد الجملة إظهار لمزيد الرغبة فيما تضمنته الجملة، وفي قوله: هاتَيْنِ إيماء إلى أنه كانت له بنات أخر غيرهما، وقد أخرج ابن المنذر عن مجاهد أن لهما أربع أخوات صغار، وقال البقاعي: إن له سبع بنات كما في التوراة وقد قدمنا نقل ذلك. وفي الكشاف فيه دليل على ذلك. واعترض بأنه لا دلالة فيه على ما ذكر إذ يكفي في الحاجة إلى الإشارة عدم علم المخاطب بأنه ما كانت له غيرهما. وتعقب بأنه على هذا تكفي الإضافة العهدية ولا يحتاج إلى الإشارة فهذا يقتضي أن يكون للمخاطب علم بغيرهما معهود عنده أيضا، وإنما الإشارة لدفع إرادة غيرهما من ابنتيه الأخريين المعلومتين له من بينهن ونعم ما قال الخفاجي لا وجه للمشاحة في ذلك فإن مثله زهرة لا يحتمل الفرك. وقرأ ورش وأحمد بن موسى عن أبي عمرو «أنكحك احدى» بحذف الهمزة، وقوله تعالى: عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي في موضع الحال من مفعول أُنْكِحَكَ أي مشروطا عليك أو واجبا أو نحو ذلك، ويجوز أن يكون حالا من فاعله قاله أبو البقاء، وتأجرني من أجرته كنت له أجيرا كقولك أبوته كنت له أبا، وهو بهذا المعنى يتعدى إلى مفعول واحد، وقوله تعالى: ثَمانِيَ حِجَجٍ ظرف له، ويجوز أن يكون تأجرني بمعنى تثيبني من أجره الله تعالى على ما فعل أي أثابه فيتعدى إلى اثنين ثانيهما هنا ثماني حجج. والكلام على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أي تثيبني رعية ثماني حجج أي تجعلها ثوابي وأجري على الإنكاح ويعني بذلك المهر. وجوز على هذا المعنى أن يكون ظرفا لتأجرني أيضا بحذف المفعول أي تعوضني خدمتك أو عملك في ثماني حجج، ونقل عن المبرد أنه يقال: أجرت داري ومملوكي غير ممدود وآجرت ممدودا، والأول أكثر فعلى هذا يتعدى إلى مفعولين، والمفعول الثاني محذوف، والمعنى على أن تأجرني نفسك، وقد يتعدى إلى واحد بنفسه، والثاني بمن فيقال: أجرت الدار من عمرو، وظاهر كلام الأكثرين أنه لا فرق بين آجر بالمد وأجر بدونه، وقال الراغب: يقال أجرت زيدا إذا اعتبر فعل أحدهما، ويقال: آجرته إذا اعتبر فعلاهما وكلاهما يرجعان إلى معنى، ويقال كما في القاموس أجرته أجرا وآجرته إيجارا ومؤاجرة. وفي تحفة المحتاج آجره بالمد إيجارا وبالقصر يأجره بكسر الجيم وضمها أجرا، وفيها أن الإجارة بتثليث الهمزة والكسر أفصح لغة اسم للأجرة ثم اشتهرت في العقد، والحجج جمع حجة بالكسر السنة فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً في الخدمة والعمل فَمِنْ عِنْدِكَ أي فهو من عندك من طريق التفضل لا من عندي بطريق الإلزام وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ بإلزام إتمام العشر والمناقشة في مراعاة الأوقات واستيفاء الأعمال، واشتقاق المشقة وهي ما يصعب تحمله من الشق بفتح الشين وهو فصل الشيء إلى شقين فإن ما يصعب عليك يشق عليك رأيك في أمره لتردده في تحمله وعدمه سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ في حسن المعاملة ولين الجانب والوفاء بالعهد ومراد شعيب عليه السلام بالاستثناء التبرك به وتفويض أمره إلى توفيقه تعالى لا تعليق صلاحه بمشيئته سبحانه بمعنى أنه إن شاء الله تعالى استعمل الصلاح وإن شاء عز وجل استعمل خلافه لأنه لا يناسب المقام. وقيل: لأن صلاحه عليه السلام متحقق فلا معنى للتعليق، ونحوه قول الشافعي: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 276 قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ مبتدأ وخبر أي ذلك الذي قلت وعاهدتني فيه وشارطتني عليه قائم وثابت بيننا جميعا لا يخرج عنه واحد منا لا أنا عما شرطت عليّ ولا أنت عما شرطت على نفسك، وقوله سبحانه: أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ أي أطولهما أو أقصرهما قَضَيْتُ أي وفيتك بأداء الخدمة فيه فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ تصريح بالمراد وتقرير لأمر الخيار أي لا عدوان كائن عليّ بطلب الزيادة على ما قضيته من الأجلين وتعميم انتفاء العدوان بكلا الأجلين بصدد المشارطة مع تحقق عدم العدوان في أطولهما رأسا للقصد إلى التسوية بينهما في الانتفاء أي كما لا أطالب بالزيادة على العشر لا أطالب بالزيادة على الثمان أو أيما الأجلين قضيت فلا إثم كائن عليّ كما لا إثم عليّ في قضاء الأطول لا إثم عليّ في قضاء الأقصر فقط. وقرأ عبد الله «أي الأجلين ما قضيت» فما مزيدة لتأكيد القضاء أي أي الأجلين صممت على قضائه وجردت عزيمتي له كما أنها في القراءة الأولى مزيدة لتأكيد إبهام أي وشياعها، وجعلها نافية لا يخفى ما فيه وقرأ الحسن، والعباس عن أبي عمرو «أيما» بتسكين الياء من غير تشديد كما في قول الفرزدق: تنظرت نصرا والسماكين أيهما ... عليّ من الغيث استهلت مواطره وأصلها المشددة وحذفت الياء تخفيفا وهي مما عينه واو ولامه ياء، ونص ابن جني على أنها من باب أويت قياسا واشتقاقا وقد نقل كلامه في بيان ذلك العلامة الطيبي في شرح الكشاف فليرجع إليه من شاء. وقرأ أبو حيوة وابن قطيب «فلا عدوان» بكسر العين وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ من الشروط الجارية بيننا وَكِيلٌ أي شهيد على ما روي عن ابن عباس، وقال قتادة: حفيظ، وفي البحر الوكيل الذي وكل إليه الأمر ولما ضمن معنى شاهد ونحوه عدي بعلى ومن هنا قيل: أي شاهد حفيظ، والمراد توثيق العهد وأنه لا سبيل لأحد منهما إلى الخروج عنه أصلا، وهذا بيان لما عزما عليه واتفقا على إيقاعه إجمالا من غير تعرض لبيان مواجب عقدي النكاح والإجارة في تلك الشريعة تفصيلا، وقول شعيب عليه السلام: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إلخ ظاهر في أنه عرض لرأيه على موسى عليه السلام واستدعاء منه للعقد لا إنشاء وتحقيق له بالفعل، ولم يجزم القائلون باتفاق الشريعتين في ذلك بكيفية ما وقع، فقيل لعل النكاح جرى على معينة بمهر غير الخدمة المذكورة وهي إنما ذكرت على طريق المعاهدة لا المعاقدة فكأنه قال: أريد أن أنكحك إحدى ابنتي بمهر معين إذا أجرتني ثماني حجج بأجرة معلومة فما تقول في ذلك فرضي فعقد له على معينة منهما، فلا يرد أن الإبهام في المرأة المزوجة غير صحيح، وعلى الخدمة ومنافع الحر عندنا أيضا خصوصا إذا قيل: إن مدتها غير معينة وهي أيضا ليست للزوجة بل لأبيها فكيف صح كونها مهرا، وقيل: يجوز أن يكون جرى على معينة بمهر الخدمة المذكورة ولا فساد في جعل الرعية مهرا فإنه جائز عند الشافعي عليه الرحمة وكذا عند الحنفية كما يفهم من الهداية ونقل عن صاحب المدارك أنه قال: التزوج على رعي الغنم جائز بالإجماع لأنه قيام بأمر الزوجية لا خدمة صرفة، وفي دعوى الإجماع طن أريد به إجماع الأئمة مطلقا بحث، ففي المحيط البرهاني لو تزوجها على أن يرعى غنمها سنة لم يجز على رواية الأصل، وروى ابن سماعة عن محمد أنه يجوز في الرعي، وفي الانتصاف مذهب مالك في ذلك على ثلاثة أقوال المنع والكراهة والجواز، ويقال على الجواز كانت الغنم للمزوجة لا لأبيها وليس في المدة إبهام إذ هي الحجج الثمان والزائدة قد وعد موسى عليه السلام الوفاء به إن تيسر له على أن الإبهام في المهر يجوز كما هو مبين في الفروع، وقال بعضهم: يجوز أن تكون الشرائع مختلفة في أمر الإنكاح فلعل إنكاح المبهمة جائز في شريعة شعيب عليه السلام ويكون التعيين للولي أو للزوج، وكذا جعل خدمة الولي صداقا ونحو ذلك مما لا يجوز في شريعتنا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 277 ولا يرد أن ما قص من الشرائع السالفة من غير إنكار فهو شرع لنا لأنه على الإطلاق غير مسلم. وفي الإكليل عن مكي أنه قال: في الآية خصائص في النكاح. منها أنه لم يعين الزوجة، ولا حد أول المدة، وجعل المهر إجارة، ودخل ولم ينفذ شيئا. والذي يميل إليه القلب اختلاف الشرائع في مواجب النكاح وربما يستأنس له بما في الفصل التاسع والعشرين من السفر الأول من التوراة أن يعقوب عليه السلام مضى إلى بلد أهل الشرق فإذا بئر في الصحراء على فمها صخرة عظيمة وعندها ثلاثة قطعان من الغنم فقال لرعاتها: من أين أنتم يا إخوة؟ قالوا من حران. فقال لهم: أتعرفون لابان بن ناحور؟ فقالوا: نعم. فقال: أحي هو؟ قالوا: نعم وهذه راحيل ابنته مع الغنم. ثم قال: ليس هذا وقت انضمام الماشية فاسقوا الغنم وامضوا بها فارعوها. قالوا: لا نطيق ذلك إلى أن تجتمع الرعاة ويدحرجوا الصخرة عن فم البئر فبينما هو يخاطبهم جاءت راحيل مع غنم أبيها فلما رأى ذلك تقدم ودحرج الصخرة وسقى غنم خاله لابان ثم قبل راحيل وبكى وأخبرها أنه ابن عمتها ربقا فأخبرت أباها فخرج للقائه فعانقه وقبله وأدخله إلى منزله ثم قال لابان له: أما أنت فعظمي ولحمي ومكث عنده شهرا فقال له لابان: أنت وإن كنت ذا قرابة مني لا أستحسن أن تخدمني مجانا فأخبرني بما تريد من الأجرة؟ وكان له ابنتان اسم الكبرى ليا واسم الصغرى راحيل وعينا ليا حسنتان وراحيل حسنة الحلية والمنظر فأحبها يعقوب فقال: أخدمك سبع سنين براحيل فقال: لابان: إعطائي إياها لك أصلح من إعطائي إياها لرجل آخر فأقم عندي فخدمه براحيل سبع سنين ثم قال: أعطني زوجتي فقد كملت أيامي فجمع لابان أهل الموضع وصنع لهم مجلسا فلما كان العشاء أخذ ليا بنته فزفها إليه ودخل عليها فأعطاها لابان أمته زلفا لتكون لها أمة فلما كانت الغداة فإذا هي ليا فقال للابان: ماذا صنعت بي أليس براحيل خدمتك؟ قال: نعم لكن لا تزوج الصغرى قبل الكبرى في بلدنا فأكمل أسبوع هذه وأعطيك أختها راحيل أيضا بالخدمة التي تخدمها عندي سبع سنين أخر فكمل يعقوب أسبوع ليا ثم أعطاه ابنته راحيل زوجة وأعطاها أمته بلها لتكون لها أمة، فلما دخل عليها يعقوب أحبها أكثر من حبه ليا ثم خدمه سبع سنين أخر اهـ. وأخبرني بعض أهل الكتاب أنه يجوز أن تكون خدمة الأب مهرا لابنته ويلزم الأب إرضاؤها بشيء إذا كانت كبيرة وأن ما التزم من الخدمة لا يجب فعله قبل الدخول ويكفي الالتزام والتعهد، وأن المهر عندهم كل شيء له قيمة أو ما في حكمها، وأن تسليم المرأة نفسها للزوج راضية بما يحصل لها منه من قضاء الوطر والانتفاع بدلا عن المهر قد يقوم مقام المهر، وأن حل الجمع بين الأختين كان ليعقوب عليه السلام خاصة، وهذا الأخير مما ذكره علماء الإسلام والله تعالى أعلم بصحة غيره مما ذكر من الكلام، هذا وللعلماء في الآية استدلالات. قال في الإكليل: فيها استحباب عرض الرجل موليته على أهل الخير والفضل أن ينكحوها، واعتبار الولي في النكاح، وأن العمى لا يقدح في الولاية فإنه عليه السلام كان أعمى، واعتبار الإيجاب والقبول في النكاح وقال ابن الغرس: استدل مالك بهذه الآية على إنكاح الأب البكر البالغة بغير استئمار لأنه لم يذكر فيها استئمار. قال: واحتج بعضهم على جواز أن يكتب في الصداق أنكحه إياها خلافا لمن اختار أنكحها إياه قائلا لأنه إنما يملك النكاح عليها لا عليه. وقال ابن العربي: استدل بها أصحاب الشافعي على أن النكاح موقوف على لفظ الإنكاح والتزويج. قال: واستدل بها قوم على جواز الجمع بين نكاح وإجارة في صفقة واحدة فعدوه إلى كل صفقة تجمع عقدين وقالوا بصحتها. قال: واستدل بها علماؤنا على أن اليسار لا يعتبر في الكفاءة فإن موسى عليه السلام لم يكن حينئذ موسرا. قال: وفي قوله: وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ اكتفاء بشهادة الله عز وجل إذ لم يشهد أحدا من الخلق فيدل على عدم اشتراط الإشهاد في النكاح اهـ. واستدل بها الأوزاعية على صحة البيع فيما إذا قال بعتك بألف نقدا أو ألفين نسيئة اهـ ما في الإكليل مع حذف قليل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 278 ولا يخفى ما في هذه الاستدلالات من المقالات والمنازعات. ثم إن ما تقدم عن مكي من أنه عليه السلام دخل ولم ينفذ شيئا مما قاله غيره أيضا. وقد روي أيضا من طريق الإمامية عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه ، وقيل: إنه عليه السلام لم يدخل حتى أتم الأجل، وجاء في بعض الآثار أنهما لما أتما العقد قال شعيب لموسى عليهما السلام: ادخل ذلك البيت فخذ عصا من العصي التي فيه وكان عنده عصي الأنبياء عليهم السلام فدخل وأخذ العصا التي هبط بها آدم من الجنة ولم تزل الأنبياء عليهم السلام يتوارثونها حتى وقعت إلى شعيب فقال له شعيب: خذ غير هذه فما وقع في يده إلا هي سبع مرات فعلم أن له شأنا، وعن عكرمة أنه قال. خرج آدم عليه السلام بالعصا من الجنة فأخذها جبرائيل عليه السلام بعد موته وكانت معه حتى لقي بها موسى ليلا فدفعها إليه. وفي مجمع البيان عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أنه قال: كانت عصا موسى قضيب آس من الجنة أتاه بها جبرائيل عليه السلام لما توجه تلقاء مدين. وقال السدي: كانت تلك العصا قد أودعها شعيبا ملك في صورة رجل فأمر ابنته أن تأتي بعصا فدخلت وأخذت العصا فأتته بها فلما رآها الشيخ قال ائتيه بغيرها فردها سبع مرات فلم يقع في يدها غيرها فدفعها إليه ثم ندم لأنها وديعة فتبعه فاختصما فيها ورضيا أن يحكم بينهما أول طالع: فأتاهما الملك فقال ألقياها فمن رفعها فهي له فعالجها الشيخ فلم يطقها ورفعها موسى عليه السلام . وعن الحسن ما كانت إلا عصا من الشجر اعترضها اعتراضا، وعن الكلبي الشجرة التي نودي منها شجرة العوسج ومنها كانت عصاه. وروي أنه لما شرع عليه السلام بالخدمة والرعي قال له شعيب: إذا بلغت مفرق الطريق فلا تأخذ على يمينك فإن الكلأ وإن كان بها أكثر إلا أن فيها تنينا أخشاه عليك وعلى الغنم، فلما بلغ مفرق الطريق أخذت الغنم ذات اليمين ولم يقدر على كفها ومشى على أثرها فإذا عشب وريف لم ير مثله فنام فإذا بالتنين قد أقبل فحاربته العصا حتى قتلته وعادت إلى جنب موسى عليه السلام دامية فلما أبصرها دامية والتنين مقتولا ارتاح لذلك ولما رجع إلى شعيب وجد الغنم ملأى البطون غزيرة اللبن فأخبره موسى عليه السلام بما كان ففرح وعلم أن لموسى والعصا شأنا وقال له: إني وهبت لك من نتاج غنمي هذا العام كل أدرع ودرعاء فأوحى الله تعالى إليه في المنام أن اضرب بعصاك مستقى الغنم ففعل ثم سقى فما أخطأت واحدة إلا وضعت أدرع أو درعاء فوفى له شعيب بما قال ، وحكى يحيى بن سلام أنه جعل له كل سخلة تولد على خلاف شية أمها فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام في المنام أن ألق عصاك في الماء الذي تسقي منه الغنم ففعل فولدت كلها على خلاف شيتها، وأخرج ابن ماجة والبزار وابن المنذر والطبراني وغيرهم من حديث عتبة السلمي مرفوعا «أنه عليه السلام لما أراد فراق شعيب أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به فأعطاها ما ولدت غنمه من قالب لون من ذلك العام وكانت غنمه سوداء حسناء فانطلق موسى إلى عصاه فسماها من طرفها ثم وضعها في أدنى الحوض ثم أوردها فسقاها ووقف بإزاء الحوض فلم يصدر منها شاة إلا ضرب جنبها شاة شاة فأنمت وانثنت ووضعت كلها قوالب ألوان إلا شاة أو شاتين ليس فيها فشوش أي واسعة الشخب ولا ضبوب أي طويلة الضرع تجره ولا غزور أي ضيقة الشخب ولا ثعول أي لا ضرع لها إلا كهيئة حلمتين ولا كمشة تفوت الكف أي صغيرة الضرع لا يدرك الكف» وظاهر هذا الخبر أن الهبة كانت لزوجته عليه السلام وأنه كان ذلك لما أراد فراق شعيب عليهما السلام وهو خلاف ما يقتضيه ظاهر ما تقدم فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ أي أتم المدة المضروبة لما أراد شعيب منه والمراد به الأجل الآخر كما أخرجه ابن مردويه عن مقسم عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما. وأخرج البخاري وجماعة عن ابن عباس أنه سئل أي الأجلين قضى موسى عليه السلام؟ فقال: فضى أكثرهما وأطيبهما إن رسول الله إذا قال فعل، وأخرج ابن مردويه من طريق علي بن عاصم عن أبي هارون عن أبي سعيد الخدري أن رجلا سأله أي الأجلين قضى موسى فقال: لا أدري حتى أسأل رسول الله صلّى الله تعالى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 279 عليه وسلم فسأل رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: لا أدري حتى أسأل جبريل عليه السلام فسأل جبريل فقال: لا أدري حتى أسأل ميكائيل عليه السلام فسأل ميكائيل فقال: لا أدري حتى أسأل الرفيع فسأل الرفيع فقال: لا أدري حتى أسأل إسرافيل عليه السلام فسأل إسرافيل فقال: لا أدري حتى أسأل ذا العزة جل جلاله فنادى إسرافيل بصوته الأشد يا ذا العزة أي الأجلين قضى موسى قال: «أتم الأجلين وأطيبهما عشر سنين» قال علي بن عاصم: فكان أبو هارون إذا حدث بهذا الحديث يقول: حدثني أبو سعيد عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن جبريل عن ميكائيل عن الرفيع عن إسرافيل عن ذي العزة تبارك وتعالى «أن موسى قضى أتم الأجلين وأطيبهما عشر سنين» والفاء قيل: فصيحة أي فعقد العقدين وباشر موسى ما أريد منه فلما أتم الأجل وَسارَ بِأَهْلِهِ قيل: نحو مصر بإذن من شعيب عليه السلام لزيارة والدته وأخيه وأخته وذوي قرابته وكأنه عليه السلام أقدمه على ذلك طول مدة الجناية وغلبة ظنه خفاء أمره، وقيل: سار نحو بيت المقدس وهذا أبعد عن القيل والقال. آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ أي أبصر من الجهة التي تلي الطور لا من بعضه كما هو المتبادر، وأصل الإيناس على ما قيل الإحساس فيكون أعم من الإبصار، وقال الزمخشري: هو الإبصار البين الذي لا شبهة فيه ومنه إنسان العين لأنه يبين به الشيء والإنس لظهورهم كما قيل: الجن لاستتارهم، وقيل: هو إبصار ما يؤنس به، ناراً استظهر بعضهم أن المبصر كان نورا حقيقة إلا أنه عبر عنه بالنار اعتبارا لاعتقاد موسى عليه السلام، وقال بعض العارفين: كان المبصر في صورة النار الحقيقية وأما حقيقته فوراء طور العقل إلا أن موسى عليه السلام ظنه النار المعروفة قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا أي أقيموا مكانكم وكان معه عليه السلام على قول امرأته وخادم ويخاطب الاثنان بصيغة الجمع، وعلى قول آخر كان معه ولدان له أيضا اسم الأكبر جيرشوم واسم الأصغر اليعازر ولدا له زمان إقامته عند شعيب وهذا مما يتسنى على القول بأنه عليه السلام دخل على زوجته قبل الشروع فيما أريد منه، وأما على القول بأنه لم يدخل عليها حتى أتم الأجل فلا يتسنى إلا بالتزام أنه عليه السلام مكث بعد ذلك سنين، وقد قيل به، أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: قضى موسى عشر سنين ثم مكث بعد ذلك عشرا أخرى، وعن وهب أنه عليه السلام ولد له ولد في الطريق ليلة إيناس النار، وفي البحر أنه عليه السلام خرج بأهله وماله في فصل الشتاء وأخذ على غير الطريق مخافة ملوك الشام وامرأته حامل لا يدري أليلا تضع أم نهارا فسار في البرية لا يعرف طرقها فألجأه السير إلى جانب الطور الغربي الأيمن في ليلة مظلمة مثلجة شديدة البرد، وقيل: كان لغيرته على حرمه يصحب الرفقة ليلا ويفارقهم نهارا فأضل الطريق يوما حتى أدركه الليل فأخذ امرأته الطلق فقدح زنده فأصلد فنظر فإذا نار تلوح من بعد فقال امكثوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أي بخبر الطريق بأن أجد عندها من يخبرني به وقد كانوا كما سمعت ضلوا الطريق، والجملة استئناف في معنى التعليل للأمر أَوْ جَذْوَةٍ أي عود غليظ سواء كان في رأسه نار كما في قوله: وألقى على قيس من النار جذوة ... شديدا عليها حرها والتهابها أو لم تكن كما في قوله: باتت حواطب ليلى يلتمسن لها ... جزل الجذا غير خوار ولا دعر ولذا بينت كما قال بعض المحققين بقوله تعالى: مِنَ النَّارِ وجعلها نفس النار للمبالغة كأنها لتشبث النار بها استحالت نارا، وقال الراغب: الجذوة ما يبقى من الحطب بعد الالتهاب، وفي معناه قول أبي حيان: عود فيه نار بلا لهب، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: هي عود من حطب فيه النار. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 280 وأخرج هو وجماعة عن قتادة أنها أصل شجرة في طرفها النار، قيل: فتكون من على هذا للابتداء، والمراد بالنار هي التي آنسها. وقرأ الأكثر «جذوة» بكسر الجيم والأعمش وطلحة وأبو حيوة وحمزة بضمها لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ تستدفئون وتتسخنون بها، وفيه دليل على أنهم أصابهم برد. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 281 فَلَمَّا أَتاها أي النار التي آنسها. نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ أي أتاه النداء من الجانب الأيمن بالنسبة إلى موسى عليه السلام في مسيره فالأيمن صفة الشاطئ وهو ضد الأيسر، وجوز أن يكون الأيمن بمعنى المتصف باليمن والبركة ضد الأشأم، وعليه فيجوز كونه صفة للشاطىء أو الوادي، ومِنْ على ما اختاره جمع لابتداء الغاية متعلقة بما عندها، وجوز أن تتعلق بمحذوف وقع حالا من ضمير موسى عليه السلام المستتر في نودي أي نودي قريبا من شاطىء الوادي، وجوز على الحالية أن تكون- من- بمعنى في كما في قوله تعالى: ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ [الأحقاف: 4] أي نودي كائنا في شاطىء الوادي، وقوله تعالى: فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ في موضع الحال من الشاطئ أو صلة لنودي، والبقعة القطعة من الأرض على غير هيئة التي إلى جنبها وتفتح باؤها كما في القاموس، وبذلك قرأ الأشهب العقيلي. ومسلمة، ووصفت بالبركة لما خصت به من آيات الله عز وجل وأنواره. وقيل: لما حوت من الأرزاق والثمار الطيبة وليس بذاك، وقوله سبحانه: مِنَ الشَّجَرَةِ بدل من قوله تعالى: مِنْ شاطِئِ أو الشجرة فيه بدل من شاطىء وأعيد الجار لأن البدل على تكرار العامل وهو بدل اشتمال فإن الشاطئ كان مشتملا على الشجرة إذ كانت نابتة فيه، ومِنْ هنا لا تحتمل أن تكون بمعنى في كما سمعت في من الأولى، نعم جوز فيها أن تكون للتعليل كما في قوله تعالى: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا [نوح: 25] متعلقة بالمباركة أي البقعة المباركة لأجل الشجرة، وقيل: يجوز تعلقها بالمباركة مع بقائها للابتداء على معنى أن ابتداء بركتها من الشجرة، وكانت هذه الشجرة على ما روي عن ابن عباس عنابا، وعلى ما روي عن ابن مسعود سمرة، وعلى ما روي عن ابن جريج والكلبي ووهب عوسجة. وعلى ما روي عن قتادة ومقاتل عليقة وهو المذكور في التوراة اليوم، وأن في قوله تعالى: أَنْ يا مُوسى تحتمل أن تكون تفسيرية وأن تكون مخففة من الثقيلة والأصل بأنه، والجار متعلق بنودي، والنداء قد يوصل بحرف الجر أنشد أبو علي: ناديت باسم ربيعة بن مكدم ... أن المنوه باسمه الموثوق والضمير للشأن وفسر الشأن بقوله تعالى: إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ وقرأت فرقة «أني» بفتح الهمز، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 282 واستشكل بأن أن إن كانت تفسيرية ينبغي كسر إن وهو ظاهر وإن كانت مصدرية واسمها ضمير الشأن، فكذلك إذ على الفتح تسبك مع ما بعدها بمفرد وهو لا يكون خبرا عن ضمير الشأن وخرجت على أن أن تفسيرية وأني إلخ في تأويل مصدر معمول لفعل محذوف، والتقدير أي يا موسى اعلم أني أنا الله إلخ، وجاء في سورة [طه: 11] نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ وفي سورة [النمل: 8] نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وما هنا غير ذلك بل ما في كل غير ما في الآخر فاستشكل ذلك. وأجيب بأن المغايرة إنما هي في اللفظ، وأما في المعنى المراد فلا مغايرة، وذهب الإمام إلى أنه تعالى حكى في كل من هذه السور بعض ما اشتمل عليه النداء لما أن المطابقة بين ما في المواضع الثلاثة تحتاج إلى تكلف ما والظاهر أن النداء منه عز وجل من غير توسيط ملك، وقد سمع موسى عليه السلام على ما تدل عليه الآثار كلاما لفظيا قيل: خلقه الله تعالى في الشجرة بلا اتحاد وحلول، وقيل: خلقه في الهواء كذلك وسمعه موسى عليه السلام من جهة الجانب الأيمن أو من جميع الجهات، وأنا وإن كان كل أحد يشير به إلى نفسه فليس المعنى به محل لفظه. وذهب الشيخ الأشعري، والإمام الغزالي إلى أنه عليه السلام سمع كلامه تعالى النفسي القديم بلا صوت ولا حرف، وهذا كما ترى ذاته عز وجل بلا كيف ولا كم، وذكر بعض العارفين أنه إنما سمع كلامه تعالى اللفظي بصوت وكان ذلك بعد ظهوره عز وجل بما شاء من المظاهر التي تقتضيها الحكمة وهو سبحانه مع ظهوره تعالى كذلك باق على إطلاقه حتى عن قيد الإطلاق، وقد جاء في الصحيح أنه تعالى يتجلى لعباده يوم القيامة في صورة، فيقول: أنا ربكم فينكرونه ثم يتجلى لهم بأخرى فيعرفونه ، والله تعالى وصفاته من وراء حجب العزة والعظمة والجلال فلا يحدثن الفكر نفسه بأن يكون له وقوف على الحقيقة بحال من الأحوال. مرام شط مرمى العقل فيه ... ودون مداه بيد لا تبيد وذكر بعض السلفيين أنه عليه السلام إنما سمع كلامه تعالى اللفظي بصوت منكر الظهور في المظاهر عادّا القول به من أعظم المناكر، ولابن القيم كلام طويل في تحقيق ذلك، وقد قدمنا لك في المقدمات ما يتعلق بهذا المقام فتذكر والله تعالى ولي الافهام، وقال الحسن: إنه سبحانه نادى موسى عليه السلام نداء الوحي لا نداء الكلام ولم يرتض ذلك العلماء الأعلام لما فيه من مخالفة الظاهر وأنه لا يظهر عليه وجه اختصاصه باسم الكليم من بين الأنبياء عليهم السلام، ووجه الاختصاص على القول بأنه سمع كلامه تعالى الأزلي بلا حرف ولا صوت ظاهر، وكذا على القول بأنه عليه السلام سمع صوتا دالا على كلامه تعالى بلا واسطة ملك أو كتاب سواء كان من جانب واحد لكن بصوت غير مكتسب للعباد على ما هو شأن سماعنا أو من جميع الجهات لما في كل من خرق العادة، وأما وجهه عند القائلين بأن السماع كان بعد التجلي في المظهر فكذلك أيضا إن قالوا بأن هذا التجلي لم يقع لأحد من الأنبياء عليهم السلام سوى موسى، ثم إن علمه عليه السلام بأن الذي ناداه هو الله تعالى حصل له بالضرورة خلقا منه سبحانه فيه وقيل: بالمعجزة، وأوجب المعتزلة أن يكون حصوله بها فمنهم من عينها ومنهم من لم يعينها زعما منهم أن حصول العلم الضروري ينافي التكليف، وفيه بحث. وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ عطف على أن يا موسى والفاء في قوله تعالى: فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ فصيحة مفصحة عن جمل حذفت تعويلا على دلالة الحال عليها وإشعارا بغاية سرعة تحقق مدلولاتها أي فألقاها فصارت حية فاهتزت فلما رآها تهتز وتتحرك كَأَنَّها جَانٌّ هي حية كحلاء العين لا تؤذي كثيرة في الدور، والتشبيه بها باعتبار سرعة حركتها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 283 وخفتها لا في هيئتها وجثتها. فلا يقال: إنه عليه السلام لما ألقاها صارت ثعبانا عظيما فكيف يصح تشبيهها بالجان، وقال بعضهم: يجوز أن يكون المراد تشبيهها بها في الهيئة والجثة ولا ضير في ذلك لأن لها أحوالا مختلفة تدق فيها وتغلظ، وقيل: الجان يطلق على ما عظم من الحيات فيراد عند تشبيهها بها في ذلك والأولى ما ذكر أولا وَلَّى مُدْبِراً منهزما من الخوف وَلَمْ يُعَقِّبْ أي ولم يرجع يا مُوسى أي نودي أو قيل: يا موسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ من المخاوف فإنه لا يخاف لديّ المرسلون: اسْلُكْ يَدَكَ أي أدخلها فِي جَيْبِكَ هو فتح الجبة من حيث يخرج الرأس تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي عيب وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ أي من أجل المخافة، قال مجاهد وابن زيد أمره سبحانه بضم عضده وذراعه وهو الجناح إلى جنبه ليخف بذلك فزعه ومن شأن الإنسان إذا فعل ذلك في وقت فزعه أن يقوى قلبه، وقال الثوري: خاف موسى عليه السلام أن يكون حدث به سوء فأمره سبحانه أن يعيد يده إلى جنبه لتعود إلى حالتها الأولى فيعلم أنه لم يكن ذلك سوءا بل آية من الله عز وجل وقريب منه ما قيل: المعنى إذا هالك أمر لما يغلب من شعاعها فاضممها إليك يسكن خوفك. وفي الكشاف فيه معنيان: أحدهما أن موسى عليه السلام لما قلب الله تعالى العصا حية فزع واضطرب فاتقاها بيده كما يفعل الخائف من الشيء فقيل له: إن اتقاءك بيدك فيه غضاضة عند الأعداء فإذا ألقيتها فكما تنقلب حية فأدخل يدك تحت عضدك مكان اتقائك بها ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران: اجتناب ما هو غضاضة عليك، وإظهار معجزة أخرى، والمراد بالجناح اليد لأن يدي الإنسان بمنزلة جناحي الطائر وإذا أدخل يده اليمنى تحت عضده اليسرى فقد ضم جناحه إليه، والثاني أن يراد بضم جناحه إليه تجلده وضبطه نفسه وتشدده عند انقلاب العصا حية حتى لا يضطرب ولا يرهب استعارة من فعل الطائر لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما وإلا فجناحاه مضمومان إليه مشمران. ومعنى من الرهب من أجل الرهب أي إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية فاضمم إليك جناحك، جعل الرهب الذي كان يصيبه سببا وعلة فيما أمر به من ضم جناحه إليه، ومعنى وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ وقوله تعالى: اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ على أحد التفسيرين واحد ولكن خولف بين العبارتين، وإنما كرر المعنى الواحد لاختلاف الغرضين وذلك أن الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء وفي الثاني إخفاء الرعب اهـ، وضم الجناح على الثاني كناية عن التجلد والضبط نحو قوله: اشدد حيازيمك للموت ... فإن الموت لاقيك وهو مأخوذ من فعل الطائر عند الأمن بعد الخوف، وهو في الأصل مستعار من فعل الطائر عند هذه الحالة ثم كثر استعماله في التجلد وضبط النفس حتى صار مثلا فيه وكناية عنه، وعليه يكون تتميما لمعنى إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ وهذا مأخوذ من كلام أبي علي الفارسي فإنه قال: هذا أمر منه سبحانه بالعزم على ما أراده منه وحض على الجد فيه لئلا يمنعه الجد الذي يغشاه في بعض الأحوال عما أمر بالمضي فيه. وليس المراد بالضم الضم المزيل للفرجة بين الشيئين وهو أبعد عن المناقشة مما ذكره الزمخشري. ومثله في البعد عن المناقشة ما قاله البقاعي: من أنه أريد بضم جناحه إليه تجلده وضبطه نفسه عند خروج يده بيضاء حتى لا يحذر ولا يضطرب من الخوف. وأراد بأحد التفسيرين الوجه الأول لأن المعنى عليه أدخل يدك اليمنى تحت عضدك اليسرى، وقال بعضهم: إن المعنى اضمم يديك المبسوطتين بإدخال اليمنى تحت العضد الأيسر واليسرى تحت الأيمن أو بإدخالهما في الجيب. وظاهره أنه أريد بالجناح الجناحان، وقد صرح الطبرسي بذلك في نحو ما ذكر وقال: إنه قد جاء المفرد مرادا به التثنية كما في قوله: يداك يد إحداهما الجود كله ... وراحتك اليسرى طعان تغامره الجزء: 10 ¦ الصفحة: 284 فإن المعنى يداك يدان بدلالة قوله إحداهما. وفي الكشاف أيضا من بدع التفاسير أن الرهب الكم بلغة حمير وأنهم يقولون: أعطني ما في رهبك، وليت شعري كيف صحته في اللغة وهل سمع من الأثبات الثقات التي ترضى عربيتهم؟ ثم ليت شعري كيف موقعه في الآية وكيف تطبيقه المفصل كسائر كلمات التنزيل؟ على أن موسى عليه السلام ما كان عليه ليلة المناجاة إلا زرمانقة من صوف لا كمين لها اهـ. وما أشار إليه من أن ذاك لا يطابق بلاغة التنزيل مما لا ريب فيه فإن الذاهبين إليه قالوا: المعنى عليه واضمم إليك يدك مخرجة من الكم لأن يده كانت في الكم وهو معنى كما ترى ولفظه أقصر منه في الإفادة. وأما أمر سماعه عن الأثبات فقد تعقبه في البحر بأنه مروي عن الأصمعي وهو ثقة ثبت. وقال الطيبي: قال محيي السنة: قال الأصمعي: سمعت بعض الأعراب يقول: أعطني ما في رهبك أي ما في كمك، وزعم بعضهم أن استعمال الرهب في الكم لغة بني حنيفة أيضا وهو عندهم وكذا عند حمير بفتح الراء والهاء والحزم عندي عدم الجزم بثبوت هذه اللغة. وعلى تقدير الثبوت لا ينبغي حمل ما في التنزيل الكريم عليها. والظاهر أن من الرهب متعلق باضمم وقال أبو البقاء: هو متعلق بولي، وقيل بمدبرا، وقيل بمحذوف: أي تسكن من الرهب، وقيل باضمم، ولا يخفى ما في تعلقه بسوى اضمم وإن أشار إلى تعلقه بولي أو مدبرا كلام ابن جريج على ما أخرجه عنه ابن المنذر حيث جعل الآية من التقديم والتأخير. والمراد ولى مدبرا من الرهب وقرأ الحرميان: «من الرّهب» بفتح الراء والهاء، وأكثر السبعة بضم الراء وإسكان الهاء وقرأ قتادة، والحسن، وعيسى، والجحدري بضمهما والكل لغات فَذانِكَ أي العصا واليد والتذكير لمراعاة الخبر وهو قوله تعالى: بُرْهانانِ وقيل: الإشارة إلى انقلاب العصا حية بعد إلقائها وخروج اليد بيضاء بعد إدخالها في الجيب فأمر التذكير ظاهر، والبرهان الحجة النيرة وهو فعلان لقولهم: أبره الرجل إذا جاء بالبرهان من بره الرجل إذا ابيض ويقال للمرأة البيضاء: برهاء وبرهرهة. وقال بعضهم: هو فعلان من البرة بمعنى القطع فيفسر بالحجة القاطعة، وقيل: هو فعلان لقولهم برهن ونقل عن الأكثر أن برهن مولد بنوه من لفظ البرهان، وقرأ أبو عمرو وابن كثير «فذانّك» بتشديد النون وهي لغة فيه، فقيل: إنه عوض من الألف المحذوفة من ذا حال التثنية لألفها نون وأدغمت، وقال المبرد: إنه بدل من لام ذلك كأنهم أدخلوها بعد نون التثنية، ثم قلبت اللام نونا لقرب المخرج وأدغمت وكان القياس قلب الأولى لكنه حوفظ على علامة التثنية، وقرأ ابن مسعود وعيسى وأبو نوفل وابن هرمز وشبل. «فذانيك» بياء بعد النون المكسورة وهي لغة هذيل، وقيل: بل لغة تميم، ورواها شبل عن ابن كثير، وعنه أيضا «فذانيك» بفتح النون قبل الياء على لغة من فتح نون التثنية نحو قوله: على أحوذيين استقلت عشية ... فما هي إلا لمحة وتغيب وعن ابن مسعود أنه قرأ بتشديد النون مكسورة بعدها ياء، قيل وهي لغة هذيل، وقال المهدوي: بل لغتهم تخفيفها ومِنْ في قوله تعالى: مِنْ رَبِّكَ متعلق بمحذوف هو صفة لبرهانان أي كائنان من ربك وإِلى في قوله سبحانه: إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ متعلق بمحذوف أيضا هو على ما يقتضيه ظاهر كلام بعضهم صفة بعد صفة له أي واصلان إليهم، وعلى ما يقتضيه ظاهر كلام آخرين حال منه أي مرسلا أنت بهما إليهم. وفي البحر أنه متعلق بمحذوف دل عليه المعنى تقديره اذهب إلى فرعون إِنَّهُمْ أي فرعون وملأه كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ أي خارجين عن حدود الظلم والعدوان فكانوا أحقاء بأن نرسلك بهاتين المعجزتين الباهرتين إليهم، والكلام في كانوا يعلم مما تقدم في نظائره قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ لذلك أَنْ يَقْتُلُونِ بمقابلتها، والمراد بهذا الخبر طلب الحفظ والتأييد لإبلاغ الرسالة على أكمل وجه لا الاستعفاء من الإرسال، وزعمت اليهود أنه عليه السلام استعفى ربه سبحانه من ذلك. وفي التوراة التي بأيديهم اليوم أنه قال يا رب ابعث من أنت باعثه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 285 وأكد طلب التأييد بقوله: وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً أي عونا كما روي عن قتادة وإليه ذهب أبو عبيدة وقال: يقال ردأته على عدوه أعنته. وقال أبو حيان: الردء المعين الذي يشتد به الأمر فعل بمعنى مفعول فهو اسم لما يعان به كما أن الدفء اسم لما يتدفأ به قال سلامة بن جندل: وردئي كل أبيض مشرفي ... شديد الحد عضب ذي فلول ويقال: ردأت الحائط أردؤه إذا دعمته بخشبة لئلا يسقط. وفي قوله: أَفْصَحُ مِنِّي دلالة على أن فيه عليه السلام فصاحة ولكن فصاحة أخيه أزيد من فصاحته، وقرأ أبو جعفر ونافع والمدنيان ردا بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الدال، والمشهور عن أبي جعفر أنه قرأ بالنقل ولا همز ولا تنوين. ووجهه أنه أجرى الوصل مجرى الوقف. وجوز في ردا على قراءة التخفيف كونه منقوصا بمعنى زيادة من رديت عليه إذا زدت يُصَدِّقُنِي أي يلخص بلسانه الحق ويبسط القول فيه ويجادل به الكفار، فالتصديق مجاز عن التلخيص المذكور الجالب للتصديق لأنه كالشاهد لقوله، وإسناده إلى هارون حقيقة، ويرشد إلى ذلك وأخي هارون إلخ لأن فضل الفصاحة إنما يحتاج إليه لمثل ما ذكر لا لقوله صدقت أو أخي موسى صادق فإن سحبان وباقلا فيه سواء، أو يصل جناح كلامي بالبيان حتى يصدقني القوم الذين أخاف تكذيبهم فالتصديق على حقيقته وإنما أسند إلى هارون عليه السلام لأنه ببيانه جلب تصديق القوم، ويؤيد هذا قوله: إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ لدلالته على أن التصديق على الحقيقة، وقيل: تصديق الغير بمعنى إظهار صدقه، وهو كما يكون بقول هو صادق يكون بتأييده بالحجج ونحوها كتصديق الله تعالى للأنبياء عليهم السلام بالمعجزات، والمراد به هنا ما يكون بالتأييد بالحجج، فالمعنى يظهر صدقي بتقرير الحجج وتزييف الشبه إني أخاف أن يكذبون ولساني لا يطاوعني عند المحاجة، وعليه لا حاجة إلى ادعاء التجوز في الطرف أو في الإسناد. وتعقب بأنه لا يخفى أن صدقه معناه إما قال: إنه صادق أو قال له: صدقت، فإطلاقه على غيره الظاهر أنه مجاز، وجملة يصدقني تحتمل أن تكون صفة لردءا، وأن تكون حالا، وأن تكون استئنافا. وقرأ أكثر السبعة «يصدقني» بالجزم على أنه جواب الأمر. وزعم بعضهم أن الجواب على قراءة الرفع محذوف، ويرد عليه أن الأمر لا يلزم أن يكون له جواب فلا حاجة إلى دعوى الحذف، وقرأ أبي، وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهم «يصدقوني» بضمير الجمع وهو عائد على فرعون وملئه لا على هارون والجمع للتعظيم كما قيل، والفعل على ما نقل عن ابن خالويه مجزوم فقد جعل هذه القراءة شاهدا لمن جزم من السبعة يصدقني وقال لأنه لو كان رفعا لقيل يصدقونني، وذكر أبو حيان بعد نقله أن الجزم على جواب الأمر والمعنى في يصدقون أرج تصديقهم إياي فتأمل قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ إجابة لمطلوبه وهو على ما قيل راجع لقوله فَأَرْسِلْهُ مَعِي إلخ والمعنى سنقويك به ونعينك على أن شد عضده كناية تلويحية عن تقويته لأن اليد تشتد بشدة العضد وهو ما بين المرفق إلى الكتف والجملة تشتد بشدة اليد ولا مانع من الحقيقة لعدم دخول بأخيك فيما جعل كناية أو على أن ذلك خارج مخرج الاستعارة التمثيلية شبه حال موسى عليه السلام في تقويته بأخيه بحال اليد في تقويتها بعضد شديد، وجوز أن يكون هناك مجاز مرسل من باب إطلاق السبب على المسبب بمرتبتين بأن يكون الأصل سنقويك به ثم سنؤيدك ثم سنشد عضدك به، وقرأ زيد بن علي، والحسن عضدك بضمتين، وعن الحسن أنه قرأ بضم العين وإسكان الضاد، وقرأ عيسى بفتحهما، وبعضهم بفتح العين وكسر الضاد، ويقال فيه عضد بفتح العين وسكون الضاد ولم أعلم أحدا قرأ بذلك، وقوله تعالى: وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً أي تسلطا عظيما وغلبة راجع على ما قيل أيضا لقوله: إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وقوله سبحانه: فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما تفريع على ما حصل من مراده أي لا يصلون إليكما باستيلاء أو محاجة بِآياتِنا متعلق بمحذوف قد صرح به في مواضع أخر أي اذهبا بآياتنا أو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 286 بنجعل أي نسلطكما بآياتنا أو بسلطانا لما فيه من معنى التسلط والغلبة أو بمعنى لا يصلون أي تمتنعون منهم بها أو بحرف النفي على قول بعضهم بجواز تعلق الجار به، وقال الزمخشري: يجوز أن يكون قسما جوابه لا يصلون مقدما عليه أو هو من القسم الذي يتوسط الكلام ويقحم فيه لمجرد التأكيد فلا يحتاج إلى جواب أصلا، ويرد على الأول أن جواب القسم لا يتقدمه ولا يقترن بالفاء أيضا فلعله أراد أن ذلك دال على الجواب وأما هو فمحذوف إلا أنه تساهل في التعبير، وجوز أن يكون صلة لمحذوف يفسره الغالبون في قوله سبحانه: أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ أو صلة له واللام فيه للتعريف لا بمعنى الذي أو بمعناه على رأي من يجوز تقديم ما في حيز الصلة على الموصول إما مطلقا أو إذا كان المقدم ظرفا وتقديمه إما للفاصلة أو للحصر فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ أي واضحات الدلالة على صحة رسالته عليه السلام منه عز وجل، والظاهر أن المراد بالآيات العصا واليد إذ هما اللتان أظهرهما موسى عليه السلام إذ ذاك وقد تقدم في سورة طه سر التعبير عنهما بصيغة الجمع قالُوا ما هذا الذي جئت به إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً أي سحر تختلقه لم يفعل قبله مثله فالافتراء بمعنى الاختلاق لا بمعنى الكذب أو سحر تتعلمه من غيرك ثم تنسبه إلى الله تعالى كذبا فالافتراء بمعنى الكذب لا بمعنى الاختلاق والصفة على هذين الوجهين مخصصة، وقيل: المراد بالافتراء التمويه أي هو سحر مموه لا حقيقة له كسائر أنواع السحر. وعليه تكون الصفة مؤكدة والافتراء ليس على حقيقته كما في الوجه الأول. والحق أن من أنواع السحر ما له حقيقة فتكون الصفة مخصصة أيضا وَما سَمِعْنا بِهذا أي نوع السحر أو ما صدر من موسى عليه السلام على أن الكلام على تقدير مضاف أي بمثل هذا أو الإشارة إلى ادعاء النبوة ونفيهم السماع بذلك تعمد للكذب فقد جاءهم يوسف عليه السلام من قبل بالبينات وما بالعهد من قدم. ويحتمل أنهم أرادوا نفي سماع ادعاء النبوة على وجه الصدق عندهم وكانوا ينكرون أصل النبوات ولا يقولون بصحة شيء منها كالبراهمة وككثير من الإفرنج ومن لحس من فضلاتهم اليوم. والباء كما في مجمع البيان إما على أصلها أو زائدة أي ما سمعنا هذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ أي واقعا في أيامهم، فالجار والمجرور في موضع الحال من هذا بتقدير مضاف والعامل فيه سمعنا. وجوز أن يكون بهذا على تقدير بوقوع هذا، ويكون الجار متعلقا بذلك المقدر، وأشاروا بوصف آبائهم بالأولين إلى انتفاء ذلك منذ زمان طويل وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ يريد عليه السلام بالموصول نفسه، وقرأ ابن كثير «قال» يغيروا ولأنه جواب لقولهم: إنه سحر والجواب لا يعطف بواو ولا غيرها، ووجه العطف في قراءة باقي السبعة أن المراد حكاية القولين ليوازن الناظر المحكي له بينهما فيميز صحيحهما من الفاسد وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ أي العاقبة المحمودة في الدار وهي الدنيا، وعاقبتها أن يختم للإنسان بها بما يفضي به إلى الجنة بفضل الله تعالى وكرمه ووجه إرادة العاقبة المحمودة من مطلق العاقبة انها هي التي دعا الله تعالى إليها عباده، وركب فيهم عقولا لا ترشدهم إليها ومكنهم منها وأزاح عللهم ووفر دواعيهم وحضهم عليها فكأنها لذلك هي المرادة من جميع العباد والغرض من خلقهم، وهذا ما اختاره ابن المنير موافقا لما عليه الجماعة، وحكى أن بعضهم قال له: ما يمنعك أن تقول فهم عاقبة الخير من إضافة العاقبة إلى ذويها باللام كما في هذه الآية، وقوله تعالى: وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد: 42] ، وقوله سبحانه: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف: 128، القصص: 83] إذ عاقبة الخير هي التي تكون لهم، وأما عاقبة السوء فعليهم لا لهم فقال له: لقد كان لي في ذلك مقال لولا وروده مثل أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار، ولم يقل وعليهم فاستعمال اللام مكان على دليل على إلغاء الاستدلال باللام على إرادة عاقبة الخير، وقد يقال: إن اللام ظاهرة في النفع ويكفي ذلك في انفهام كون المراد بالعاقبة عاقبة الخير، ويلتزم في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 287 نحو الآية التي أوردها ابن المنير كونها من باب التهكم، وهذا نظير ما قالوا: إن البشارة في الخير، وبشرهم بعذاب أليم من باب التهكم. وقال الطيبي انتصارا للبعض أيضا: قلت: الآية غير مانعة عن ذلك فإن قرينة اللعنة والسوء مانعة عن إرادة الخير وإنما أتى بلهم ليؤذن بأنهما حقان ثابتان لهم لازمان إياهم، ويعضده التقديم المفيد للاختصاص فتدبر وقرأ حمزة، والكسائي. «يكون» بالياء التحتية، لأن المرفوع مجازي التأنيث ومفصول عن رافعه. إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ أي لا يفوزون بمطلوب ولا ينجون عن محذور، وحاصل كلام موسى عليه السلام ربي أعلم منكم بحال من أهله سبحانه للفلاح الأعظم حيث جعله نبيا وبعثه بالهدى ووعده حسن العقبى، ولو كان كما تزعمون كاذبا ساحرا مفتريا لما أهله لذلك لأنه غني حكيم لا يرسل الكاذبين ولا ينبىء الساحرين ولا يفلح عنده الظالمون وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي قاله اللعين بعد ما جمع السحرة وتصدى للمعارضة، والظاهر أنه أراد حقيقة ما يدل عليه كلامه وهو نفي علمه بإله غيره دون وجوده فإن عدم العلم بالشيء لا يدل على عدمه، ولم يجزم بالعدم بأن يقول: ليس لكم إله غيري مع أن كلا من هذا وما قاله كذب، لأن ظاهر قول موسى عليه السلام له لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر يقتضي أنه كان عالما بأن إلههم غيره، وما تركه أوفق ظاهرا بما قصده من تبعيد قومه عن اتباع موسى عليه السلام اختيارا لدسيسة شيطانية وهو إظهار أنه منصف في الجملة ليتوصل بذلك إلى قبولهم ما يقوله لهم بعد في أمر الإله وتسليمهم إياه له اعتمادا على ما رأوا من إنصافه فكأنه قال ما علمت في الأزمنة الماضية لكم إلها غيري كما يقول موسى، والأمر محتمل وسأحقق لكم ذلك. فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ أي اصنع لي آجرا فَاجْعَلْ لِي منه صَرْحاً أي بناء مكشوفا عاليا من صرح الشيء إذا ظهر لَعَلِّي أَطَّلِعُ أي أطلع وأصعد فافتعل بمعنى الفعل المجرد كما في البحر وغيره. إِلى إِلهِ مُوسى الذي ذكر أنه إلهه وإله العالمين، كأنه يوهم قومه أنه تعالى لو كان كما يقول موسى لكان جسما في السماء كون الأجسام فيها يمكن الرقي إليه ثم قال: وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ فيما يذكر تأكيدا لما أراد وإعلاما بأن ترجيه الصعود إلى إله موسى عليه السلام ليس لأنه جازم بأنه هناك، والأمر بجعل الصرح وبنائه لا يدل على أنه بني، وقد اختلف في ذلك فقيل بناه وذكر من وصفه ما الله عز وجل أعلم به، وقيل لم يبن وعلى هذا يكون قوله ذلك وأمره للتلبيس على قومه وإيهامه إياهم أنه بصدد تحقيق الأمر، ويكون ما ذكر ذكرا لأحد طرق التحقيق فيتمكن من أن يقول بعده حققت الأمر بطريق آخر فعلمت أن ليس لكم إله غيري وأن موسى كاذب فيما يقول، وعلى الأول يحتمل أن يكون صعد الصرح وحده أو مع من يأمنه على سره وبقي ما بقي ثم نزل إليهم فقال لهم: صعدت إلى إله موسى وحققت أن ليس الأمر كما يقول وعلمت أن ليس لكم إله غيري. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: لما بني له الصرح ارتقى فوقه فأمر بنشابة فرمى بها نحو السماء فردت إليه وهي متلطخة دما فقال قتلت إله موسى، وهذا إن صح من باب التهكم بالفعل ولا أظنه يصح، وأيا ما كان فالقوم كانوا في غاية الغباوة والجهل وإفراط العماية والبلادة وإلا لما نفق عليهم مثل هذا الهذيان. ولله تعالى خواص في الأزمنة والأمكنة والأشخاص، ولا يبعد أن يقال كان فيهم من ذوي العقول من يعلم تمويهه وتلبيسه ويعتقد هذيانه فيما يقول إلا أنه نظم نفسه في سلك الجهال ولم يظهر خلافا لما عليه اللعين بحال من الأحوال وذلك إما للرغبة فيما لديه أو للرهبة من سطوته واعتدائه عليه وكم رأينا عاقلا وعالما فاضلا يوافق لذلك الظلمة الجبابرة ويصدقهم فيما يقولون وإن كان مستحيلا أو كفرا بالآخرة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 288 وكان قول اللعين لموسى عليه السلام لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين بعد هذا القول المحكي هاهنا بأن يكون قاله وأردفه بإخبارهم على البت أن لا إله لهم غيره، ثم هدد موسى بالسجن إن بدا منه ما يشعر بخلافه، وهذا وجه في الآية لا يخلو عن لطف وإن كان فيه نوع خفاء وفيها أوجه أخر. الأول أنه أراد بقوله: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي نفي العلم دون الوجود كما في ذلك الوجه إلا أنه لم ينف الوجود لأنه لم يكن عنده ما يقتضي الجزم بالعدم وأراد بقوله إني لأظنه من الكاذبين إني لأظنه كاذبا في دعوى الرسالة من الله تعالى، وأراد بقوله: يا هامان أوقد لي على الطين إلخ إعلام الناس بفساد دعواه تلك بناء على توهمه أنه تعالى إن كان كان في السماء بأنه لو كان رسولا منه تعالى فهو ممن يصل إليه، وذلك بالصعود إليه وهو مما لا يقوى عليه الإنسان فيكون من نوع المحال بالنسبة إليه فما بنى عليه وهي الرسالة منه تعالى مثله، فقوله: فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لإظهار عدم إمكان الصعود الموقوف عليه صحة دعوى الرسالة في زعمه ولعل للتهكم. الثاني أنه أراد أيضا نفي العلم بالوجود دون الوجود نفسه لكنه كان في نفي العلم ملبسا على قومه كاذبا فيه حيث كان يعلم أن لهم إلها غيره هو إله الخلق أجمعين، وهو الله عز وجل وأراد بقوله: وَإِنِّي إلخ إني لأظنه كاذبا في دعوى الرسالة كما في سابقه، وأراد بقوله يا هامان إلخ طلب أن يجعل له ما يزيل به شكه في الرسالة، وذلك بأن يبني له رصدا في موضع عال يرصد منه أحوال الكواكب الدالة على الحوادث الكونية بزعمه فيرى هل فيها ما يدل على إرسال الله تعالى إياه. وتعقب بأنه لا يناسب قوله: فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى إلا أن يراد فأطلع على حكم إله موسى بأوضاع الكواكب والنظر فيها هل أرسل موسى كما يقول أم لا؟ فيكون الكلام على تقدير مضاف وإِلى فيه بمعنى على، وجوز على هذا الوجه أن يكون قد أراد بإله موسى الكواكب فكأنه قال لعلي أصعد إلى الكواكب التي هي إله موسى فأنظر هل فيها ما يدل على إرسالها إياه أو لعلي أطلع على حكم الكواكب التي هي إله موسى في أمر رسالته وهو كما ترى، وبالجملة هذا الوجه مما لا ينبغي أن يلتفت إليه. الثالث أنه أراد بنفي علمه بإله غيره نفي وجوده وبظنه كاذبا ظنه كاذبا في إثباته إلها غيره ويفسر الظن باليقين كما في قول دريد بن الصمة: فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ... سراتهم في الفارسي المسرد فإثبات الظن المذكور لا يدفع إرادة ذلك النفي، وجوز بعضهم إبقاءه على ظاهره، وقال في دفع المنافاة: يمكن أن يقال: الظاهر أن كلامه الأول كان تمويها وتلبيسا على القوم، والثاني كان مواضعة مع صاحب سره هامان فإثبات الظن في الثاني لا يدفع أن يكون العلم في الأول لنفي المعلوم، وفيه أنه يأبى ذلك سوق الآية، والفاء في فأوقد لي وطلبه بناء الصرح راجيا الصعود إلى إله موسى عليه السلام أراد به التهكم كأنه نسب إلى موسى عليه السلام القول بأن إلهه في السماء فقال: يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً [غافر: 36] لأصعد إلى إله موسى متهكما به، وهذا نظير ما إذا أخبرك شخص بحياة زيد وأنه في داره، وأنت تعلم خلاف ذلك فتقول لغلامك بعد أن تذكر علمك بما يخالف قوله متهكما به يا غلام أسرج لي الدابة لعلي أذهب إلى فلان وأستأنس به بل ما قاله فرعون أظهر في التهكم مما ذكر فطلبه بناء الصرح بناء على هذا لا يكون منافيا لما ادعاه أولا وآخرا من العلم واليقين. وقال بعضهم في دفع ما قيل: من المنافاة: إنها إنما تكون لو لم يكن قوله: لعلي أطلع إلخ على طريق التسليم والتنزل، وقال آخر في ذلك: إن اللعين كان مشركا يعتقد أن من ملك قطرا كان إلهه ومعبود أهله فما أثبته في قوله: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 289 لَعَلِّي أَطَّلِعُ إلخ الإله لغير مملكته وما نفاه إلهها كما يشير إليه قوله لكم ولا يخلو عن بحث. وفي الكشاف القول بالمناقضة بين بناء الصرح وما ادعاه من العلم واليقين إلا أنه قال قد خفيت على قومه لغباوتهم وبلههم أو لم تخف عليهم ولكن كلا كان يخاف على نفسه سوطه وسيفه وإذا فتح هذا الباب جاز إبقاء الظن على ظاهره من غير حاجة إلى دفع التناقض، والأولى عندي السعي في دفع التناقض فإذا لم يمكن استند في ارتكاب المخذول إياه إلى جهله أو سفهه وعدم مبالاته بالقوم لغباوتهم أو خوفهم منه أو نحو ذلك، واعترض القول بأنه أراد بنفي علمه بإله غيره نفي وجوده فقال في التحقيق: وذكره غيره أيضا إنه غير سديد فإن عدم العلم بالشيء لا يدل على عدمه لا سيما عدم علم شخص واحد. وقال القاضي البيضاوي: هذا في العلوم الفعلية صحيح لأنها لازمة لتحقق معلوماتها فيلزم من انتفائها انتفاؤها ولا كذلك العلوم الانفعالية ورد بأن غرض قائل ذلك أن عدم الوجود سبب لعدم العلم بالوجود في الجملة ولا شك أنه كذلك فأطلق المسبب وأريد السبب لا أن بينهما ملازمة كلية على أنه لما كان من أقوى أسباب عدم العلم لأنه المطرد جاز أن يطلق ويراد به الوجود إذ لا يشترط في فن البلاغة اللزوم العقلي بل العادي والعرفي كاف أيضا وقد يقول أحد منا لا أعلم ذلك أي لو كان موجودا لعلمته إذا قامت قرينة وهذا الاستعمال شائع في عرفي العرب والعجم عند العامة والخاصة ومنه قول المزكي: إذا سئل عن عدالة الشهود لا أعلم كيف، وكان المخذول يدعي الإلهية، ثم الظاهر أن الكلام على تقدير إرادة نفي الوجود كناية لا مجاز، وبالجملة ما ذكر وجه وجيه وتعيين الأوجه مفوض إلى ذهنك والله تعالى الموفق. واستدل بعض من يقول: إن الله تعالى في السماء بالمعنى الذي أراده سبحانه في قوله عز وجل: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ [الملك: 16] حسبما يقول السلف بهذه الآية، ووجه ذلك بأن فرعون لو لم يسمع من موسى عليه السلام أن إلهه في السماء لما قال: فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى فقوله ذلك دليل السماع إلا أنه أخطأ في فهم المراد مما سمعه فزعم أن كونه تعالى في السماء بطريق المظروفية والتمكن ونحوهما مما يكون للأجسام، وأنت تعلم أن هذا الاستدلال في غاية الضعف وإثبات مذهب السلف لا يحتاج إلى أن يتمسك له بمثل ذلك وفي قول المخذول: أوقد لي على الطين والمراد به اللبن دون اصنع لي آجرا إشارة إلى أنه لم يكن لهامان علم بصنعة الآجر فأمره باتخاذه على وجه يتضمن التعليم، وفي الآثار ما يؤيد ذلك، فقد أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: فرعون أول من أمر بصنعة الآجر وبنائه، وأخرج هو وجماعة عن قتادة قال بلغني أن فرعون أول من طبخ الآجر وصنع له الصرح. وعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه حين سافر إلى الشام ورأى القصور المشيدة بالآجر قال ما علمت أن أحدا بنى بالآجر غير فرعون وفي أمره إياه وهو وزيره ورديفه بعمل السفلة من الإيقاد على الطين مناديا له باسمه دون تكنية وتلقيب بيا دون ما يدل على القرب في وسط الكلام دون أوله من الدلالة على تجبره وتعظمه ما لا يخفى. وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ أي رأوا كل من سواهم حقيرا بالإضافة إليهم ولم يروا العظمة والكبرياء إلا لأنفسهم فنظروا إلى غيرهم نظر الملوك إلى العبيد فِي الْأَرْضِ الأكثرون على أن المراد في أرض مصر، وقيل: المراد بها الجرم المعروف المقابل للسماء، وفي التقييد بها تشنيع عليهم حيث استكبروا فيما هو أسفل الأجرام وكان اللائق بهم أن ينظروا إلى محلهم وتسفله فلا يستكبروا بِغَيْرِ الْحَقِّ أي بغير الاستحقاق لما أن رؤيتهم تلك باطلة ولا تكون رؤية الكل حقيرا بالإضافة إلى الرائي ورؤية العظمة والكبرياء لنفسه على الخصوص دون غيره حقا إلا من الله عز وجل، ومن هنا قال الزمخشري: الاستكبار بالحق إنما هو الله تعالى وكل مستكبر سواه عز وجل فاستكباره بغير الحق، وفي الحديث القدسي: «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في النار» وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 290 بالبعث للجزاء، والظن قيل: إما على ظاهره أو عبر عن اعتقادهم به تحقيرا لهم وتمهيلا، وقرأ حمزة والكسائي ونافع لا يُرْجَعُونَ بفتح الياء وكسر الجيم. فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ أي ألقيناهم وأغرقناهم فيه، وقد مر تفصيل ذلك، وفي التعبير بالنبذ وهو إلقاء الشيء الحقير وطرحه لقلة الاعتداد به ولذلك قال الشاعر: نظرت إلى عنوانه فنبذته ... كنبذك نعلا من نعالك باليا استحقار لهم، وفي الكلام على ما قيل استعارة مكنية وتخييلية وذلك أنهم شبهوا في الحقارة بنعال بالية واستعير لهم اسم النعال ثم حذف المستعار وبقي المستعار له وجعل النبذ قرينة على أنه حقيقة والمجاز في التعلق على نحو ما قيل في أظفار المنية نشبت بفلان، وقال بعضهم: الأخذ وهو حقيقة في التناول مجاز عن خلق الداعية لهم إلى السير إلى البحر، والنبذ مجاز عن خلق الداعية لهم إلى دخوله، وفي البحر أنه كناية عن إدخالهم فيه والأولى أن يكون الكلام من باب التمثيل كأنه عز وجل فيما فعل بهم أخذهم مع كثرتهم في كف وطرحهم في اليم، والظاهر أن الفاء الأولى سببية وليست لمجرد التعقيب وأما الثانية فللتعقيب إذا أبقى الأخذ على معنى التناول أو أريد به خلق الداعية إلى السير أو نحوه أما إذا أريد به الإهلاك فهي للتفسير كما في فاستجبنا له فنجيناه ونحوه فَانْظُرْ يا محمد كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وبينها للناس ليعتبروا بها وَجَعَلْناهُمْ أي خلقناهم أَئِمَّةً قدوة للضلال بسبب حملهم لهم على الضلال كما يؤذن بذلك قوله تعالى: يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ أي إلى موجباتها من الكفر والمعاصي على أن النار مجاز عن ذلك أو على تقدير مضاف والمراد جعلهم ضالين مضلين والجعل هنا مثله في قوله تعالى: جَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام: 1] والآية ظاهرة في مذهب أهل السنة من أن الخير والشر مخلوقان لله عز وجل وأولها المعتزلة تارة بأن الجعل فيها بمعنى التسمية مثله في قوله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف: 19] أي وسميناهم فيما بين الأمم بعدهم دعاة إلى النار، وتارة بأن جعلهم كذلك بمعنى خذلانهم ومنعهم من اللطف والتوفيق للهداية والأول محكي عن الجبائي والثاني عن الكعبي، وعن أبي مسلم أن المراد صيرناهم بتعجيل العذاب لهم أئمة أي متقدمين لمن وراءهم من الكفرة إلى النار وهذا في غاية التعسف كما لا يخفى وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ بدفع العذاب عنهم بوجه من الوجوه وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا التي فتنتهم لَعْنَةً طردا وإبعادا أو لعنا من اللاعنين حيث لا تزال الملائكة عليهم السلام تلعنهم وكذا المؤمنون خلفا عن سلف وذلك إما بدخولهم في عموم من يلعنونهم من الظالمين وإما بالتنصيص عليهم نحو لعن الله تعالى فرعون وجنوده وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ من المطرودين المبعدين يقال: قبحه الله تعالى بالتخفيف أي نحاه وأبعده عن كل خير كما قال الليث، ولا يتكرر مع اللعنة المذكورة قيل: لأن معناها الطرد أيضا لأن ذلك في الدنيا وهذا في الآخرة أو ذاك طرد عن رحمته التي في الدنيا وهذا طرد عن الجنة أو على هذا يراد باللعنة فيما تقدم ما تأخر مع أن من المطرودين معناه أنهم من الزمرة المعروفين بذلك وهو أبلغ وأخص، وقال أبو عبيدة والأخفش من المقبوحين أي من المهلكين، وعن ابن عباس أي من المشوهين في الخلقة بسواد الوجوه وزرقة العيون وهذا المعنى هو المتبادر إلا أن فيه أن فعل قبح عليه لازم فبناء اسم المفعول منه غير ظاهر، وقد يقال: إذا صح هذا التفسير عن ابن عباس التزم القول بأنه سمع أيضا، وجوز أن يكون ذلك تفسيرا بما هو لازم في الجملة، ويوم القيامة متعلق بالمقبوحين أو بمحذوف يفسره ذلك على ما علمت آنفا في نظيره، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج، وعبد بن حميد عن قتادة ما هو ظاهر في أنه معطوف على هذه الدنيا وهو عطف على المحل والمروي عن ابن جريج أظهر في ذلك وكلاهما في الدر المنثور، والظاهر ما سمعته أولا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 291 وهذه الآية أظهر دليل على عدم نجاة فرعون يوم القيامة وأنه ملعون مبعد عن رحمة الله تعالى في الدنيا والآخرة فإن ضمائر جمع الغائب فيها راجعة إلى فرعون وجنوده ويكاد ينتظم من التزم إرجاعها إلى الجنود في الجنود، وفي الفتاوى الحديثية للعلامة ابن حجر روى عدي، والطبراني عن ابن مسعود أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «خلق الله تعالى يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمنا وخلق فرعون في بطن أمه كافر» . وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة وهو على ما قال أبو حيان أول كتاب فصلت فيه الأحكام مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى أقوام نوح وهود وصالح ولوط عليهم السلام والتعرض لبيان كون إيتائها بعد إهلاكهم للإشعار بأنها نزلت بعد مساس الحاجة إليها تمهيدا لما يعقبه من بيان الحاجة الداعية إلى إنزال القرآن الكريم على رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم فإن إهلاك القرون الأولى من موجبات اندراس معالم الشرائع وانطماس آثارها المؤديين إلى اختلال نظام العالم وفساد أحوال الأمم المستدعيين للتشريع الجديد بتقرير الأصول الباقية على ممر الدهور وترتيب الفروع المتبدلة بتبدل العصور وتذكير أحوال الأمم الخالية الموجبة للاعتبار، ومن غفل عن هذا قال: الأولى أن تفسر القرون الأولى بمن لم يؤمن بموسى عليه السلام ويقابلها الثانية وهي من آمن به عليه السلام، وقيل: المراد بها ما يعم من لم يؤمن بموسى من فرعون وجنوده والأمم المهلكة من قبل، وليس بذاك، وما مصدرية أي آتيناه ذلك بعد إهلاكنا القرون الأولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ أي أنوارا لقلوبهم تبصر بها الحقائق وتميز بين الحق والباطل حيث كانت عميا عن الفهم والإدراك بالكلية فإن البصيرة نور القلب الذي به يستبصر كما أن البصر نور العين الذي به تبصر ويطلق على نفس العين ويجمع على أبصار والأول يجمع على بصائر، والمراد بالناس قيل أمّته عليه السلام، وقيل ما يعمهم ومن بعدهم، وكون التوراة بصائر لمن بعث إليه نبينا صلّى الله تعالى عليه وسلّم لتضمنها ما يرشدهم إلى حقية بعثته عليه الصلاة والسلام، أو يزيدهم علما إلى علمهم. وتعقب بأنه يلزم على هذا الحض على مطالعة التوراة والعلم بما فيها، وقد صح أن عمر رضي الله تعالى عنه استأذن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم في جوامع كتبها من التوراة ليقرأها ويزداد علما إلى علمه فغضب صلّى الله تعالى عليه وسلّم حتى عرف في وجهه ثم قال: «لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي» فرمى بها عمر رضي الله تعالى عنه من يده وندم على ذلك. وأجيب بأن غضبه صلّى الله تعالى عليه وسلّم من ذلك لما أن التوراة التي بأيدي اليهود إذ ذاك كانت محرفة وفيها الزيادة والنقص وليست عين التوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام وكان الناس حديثي عهد بكفر فلو فتح باب المراجعة إلى التوراة ومطالعتها في ذلك الزمان لأدى إلى فساد عظيم فالنهي عن قراءتها حيث الإسلام حديث والخروج عن الكفر جديد لا يدل على أنها ليست في نفسها بصائر مشتملة على ما يرشد إلى حقية بعثته صلّى الله تعالى عليه وسلّم ويزيد علما بصحة ما جاء به. ومما يدل على حل الرجوع إليها في الجملة قوله تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [آل عمران: 93] وقد كان المؤمنون من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار ينقلون منها ما ينقلون من الأخبار ولم ينكر ذلك ولا سماعه أحد من أساطين الإسلام ولا فرق بين سماع ما ينقلونه منهم وبين قراءته فيها وأخذه منها وقد رجع إليها غير واحد من العلماء في إلزام اليهود والاحتجاج عليهم ببعض عباراتها في إثبات حقية بعثته صلّى الله تعالى عليه وسلم، والذي أميل إليه كون المراد بالناس بني إسرائيل فإنه الذي يقتضيه المقام. وأما مطالعة التوراة فالبحث فيها طويل، وفي تحفة المحتاج للمولى العلامة ابن حجر عليه الرحمة يحرم على غير عالم متبحر مطالعة نحو توراة علم تبدلها أو شك فيه وهو أقرب إلى التحقيق ومن سبر التوراة التي بأيدي اليهود اليوم رأى أكثرها مبدلا لا توافق بينه وبين ما في القرآن العظيم أصلا وهو المعول عليه وَهُدىً أي إلى الشرائع التي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 292 هي الطرق الموصلة إلى الله عز وجل وَرَحْمَةً حيث ينال من عمل به رحمة الله تعالى: بمقتضى وعده سبحانه فعموم رحمته بهذا المعنى لا ينافي أن من الناس من هو كافر بها وهو غير مرحوم، وانتصاب المتعاطفات على الحالية من الكتاب على أنه نفس البصائر والهدى والرحمة أو على حذف المضاف أي ذا بصائر إلخ، وجوز أبو البقاء انتصابها على العلة أي آتيناه الكتاب لبصائر وهدى ورحمة لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي كي يتذكروا بناء على أن لعل للتعليل فقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق السدي عن أبي مالك قال لعل في القرآن بمعنى كي غير آية في [الشعراء: 129] لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وحكى الواقدي عن البغويّ أنه قال جميع ما في القرآن من لعل للتعليل إلّا لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ فإنها فيه للتشبيه، والمشهور أنها للترجي. ولما كان محالا عليه عز وجل جعل بعضهم الكلام من باب التمثيل والمراد آتيناه ذلك ليكونوا على حالة قابلة للتذكر كحال من يرجى منه الخير، وبعض آخر صرف الترجي إلى المخاطبين فهو منهم لا منه تعالى، وجعل الزمخشري في ذلك استعارة تبعية حيث شبه الإرادة بالترجي لكون كل منهما طلب الوقوع، ورد بأن فيه لزوم تخلف مراد الله تعالى عن إرادته لعدم تذكر الكل إلا أن يكون من قبيل إسناد ما للبعض إلى الكل، وأنت تعلم أن الإرادة عند المعتزلة قسمان: تفويضية، وهي قد يتخلف المراد عنها، وقسرية وهي لا يتخلف المراد عنها أصلا، فمتى أريد القسم الأول منها هنا زال الإشكال إلا أن التقسيم المذكور خلاف المذهب الحق وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ شروع في بيان أن إنزال القرآن الكريم أيضا واقع زمان مساس الحاجة إليه واقتضاء الحكمة له البتة متضمنا تحقيق كونه وحيا صادقا من عند الله تعالى ببيان أن الوقوف على ما فصل من الأحوال لا يتسنى إلا بالمشاهدة أو التعلم ممن شاهدها وحيث انتفى كلاهما تبين أنه بوحي من علام الغيوب لا محالة كذا قيل: ولا يخفى أن تعين كونه بوحي لا يتم إلا بنفي كونه بالاستفاضة وكونه بالتعلم من بعض أهل الكتاب المعاصرين له صلى الله تعالى عليه وسلّم كما قال المشركون: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النحل: 103] ولعله إنما لم يتعرض لنفي ذلك وتعرض لنفي ما هو أظهر انتفاء منه للإشارة إلى ظهور انتفاء ذلك والمبالغة في دعوى ذلك حيث آذن بأن المحتاج إلى الإخبار بانتفائه ذانك الأمران (1) دونه على أنه عز وجل قد نفى في موضع آخر كونه بالتعلم من بعض أهل الكتاب ولعله يعلم منه انتفاء كونه بالاستفاضة وإن قلنا: إنه لا يعلم فدليله ظاهر جدا، ولذا لم يتشبث بكون الوقوف بها أحد من المشركين فتدبر، والمعنى على ما ذهب إليه بعضهم وما كنت حاضرا بجانب الجبل الغربي أو المكان الغربي الذي وقع فيه الميقات وأعطى الله تعالى فيه ألواح التوراة لموسى عليه السلام، والكلام على هذا من باب حذف الموصوف وإقامة صفته مقامه وهو عند قوم من باب إضافة الموصوف إلى الصفة التي جوزها الكوفيون كما في مسجد الجامع، والأصل في الجانب الغربي فيتحد الجانب والغربي على هذا الوجه وهو بعض من الغربي على الوجه الأول. إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ أي عهدنا إليه وأحكمنا أمر نبوته بالوحي وإيتاء التوراة. وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ أي من جملة الحاضرين للوحي إليه أو الشاهدين على الوحي إليه عليه السلام وهم السبعون المختارون للميقات حتى تشاهد ما جرى من أمر موسى في ميقاته فتخبر به الناس، فالشاهد من الشهادة إما بمعنى الحضور أو بمعناها المعروف واستشكل إرادة المعنى الأول بلزوم التكرار فإنه قد نفى الحضور أولا في قوله تعالى: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ وكذا إرادة المعنى الثاني بلزوم نحو ذلك لما أن نفي الحضور يستدعي نفي كونه من الشاهدين بذلك المعنى، ومن هنا قيل: المراد من الأول نفي كونه صلّى الله عليه وسلّم حاضرا بنفسه لغرض من الأغراض،   (1) هكذا الأصل تنبه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 293 ومن الثاني نفي كونه عليه الصلاة والسلام من جماعة جيء بهم ليحضروا فيطلعوا على ما يقع هناك لموسى عليه السلام لأن المراد بالشاهدين جماعة معهودون كان حالهم ذلك. وقيل: المراد بالشاهدين الملائكة عليهم السلام فقد جاء الشاهد اسما للملك كما في القاموس فكأنه قيل: ما كنت حاضرا بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى أمر نبوته بالوحي وما كنت من الملائكة الذين ينزلون ويصعدون بأمر الله تعالى ووحيه إلى أنبيائه عليهم السلام ولهم من الاطلاع على الحوادث ما ليس لغيرهم من البشر حتى يكون لك علم بما وقع لموسى عليه السلام فتخبر به الناس. وقال ابن عباس كما في التفسير الكبير والبحر: التقدير لم تحضر ذلك الموضع ولو حضرت لما شاهدت تلك الوقائع فإنه يجوز أن يكون هناك ولا يشهد ولا يرى، وقيل: وهو مختار أبي حيان إن المعنى وما كنت من الشاهدين بجميع ما أعلمناك به فهو نفي لشهادته عليه الصلاة والسلام جميع ما جرى لموسى عليه السلام فكان عموما بعد خصوص، وقيل: المراد وما كنت من الشاهدين ذلك الزمان فيكون نفيا لحضوره ومشاهدته ذلك الزمان أعم من أن يكون بجانب الغربي أو بغيره، وحاصله نفي الوجود العيني إذ ذاك فيكون ترقيا في النفي. وقيل: المراد وَما كُنْتَ إذ ذاك منتظما في سلك من يتصف بالشهادة وهم الموجودون بالوجود العيني أينما كانوا ومآله كمآل ما قبله وإن اختلفا في طريق الإرادة وتعين كون الشهادة فيما قبله بمعنى الحضور. ولعل ما قبله أظهر منه بل إذا ادعى مدع كونه أظهر من جميع ما قيل لم يبعد هذا ولا يخفى عليك حال تلك الأقوال وما فيها من القيل والقال، وفي القلب من صحة نسبة ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إليه ما فيه فتدبر جميع ذاك، والله تعالى يتولى هداك وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً أي ولكنا خلقنا بين زمانك وزمان موسى قرونا كثيرة فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وتمادى الأمد فتغيرت الشرائع والأحكام وعميت عليهم الأنباء لا سيما على آخرهم الذين أنت فيهم فاقتضت الحكمة التشريع الجديد وقص الأنباء على ما هي عليه فأوحينا إليك وقصصنا الأنباء عليك فحذف المستدرك أعني أوحينا اكتفاء بذكر ما يوجبه ويدل عليه من إنشاء القرون وتطاول الأمد وخلاصة المعنى لم تكن حاضرا لتعلم ذلك ولكن علمته بالوحي والسبب فيه تطاول الزمن حتى تغيرت الشرائع وعميت الأنباء، وقوله تعالى: وَما كُنْتَ ثاوِياً أي مقيما فِي أَهْلِ مَدْيَنَ وهم شعيب عليه السلام والمؤمنون نفي لاحتمال كون معرفته صلى الله عليه وسلّم لبعض ما تقدم من القصة بالسماع ممن شاهد ذلك، وقوله سبحانه: تَتْلُوا عَلَيْهِمْ أي تقرأ على أهل مدين بطريق التعلم منهم كما يقرأ المتعلم الدرس على معلمه آياتِنا الناطقة بما كان لموسى عليه السلام بينهم وبما كان لهم معه إما حال من المستكن في ثاويا أو خبر ثان لكنت وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ لك وموحين إليك تلك الآيات ونظائرها والاستدراك كالاستدراك السابق إلا أنه لا حذف فيه وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا أي وقت ندائنا موسى إني أنا الله رب العالمين واستنبائنا إياه وإرسالنا له إلى فرعون وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي ولكن أرسلناك بالقرآن الناطق بما ذكر وغيره لرحمة كائنة منا لك وللناس. وقيل أي علمناك رحمة ولعل الرحمة عليه مفعول ثان لعلم والمراد بها القرآن وليست مفعولا له والمفعول الثاني ما ذكر من القصة لما ستعرفه قريبا إن شاء الله تعالى، وأما جعلها منصوبة على المصدرية لفعل محذوف فحاله غني عن البيان والالتفات إلى اسم الرب للإشعار بأن ذلك من آثار الربوبية وتشريفه عليه الصلاة والسلام بالإضافة وقد اكتفى هاهنا عن ذكر المستدرك بذكر ما يوجبه من جهته تعالى كما اكتفى في الأول بذكر ما يوجبه من جهة الناس الجزء: 10 ¦ الصفحة: 294 وصرح به فيما بينهما تنصيصا على ما هو المقصود وإشعارا بأنه المراد فيهما أيضا ولله تعالى در شأن التنزيل وقوله سبحانه: لِتُنْذِرَ قَوْماً متعلق بالفعل المعلل بالرحمة وهو يستدعي أن يكون الإرسال بالقرآن أو ما في معناه كتعليم القرآن دون تعليم ما ذكر من القصة إذ لا يظهر حسن تعليله بالإنذار، وجوز أن يتعلق بالمستدركات الثلاث على التنازع. وقرأ عيسى، وأبو حيوة «رحمة» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف والتقدير ولكن هو أو هذا أو هي أو هذه رحمة والضمير أو الإشارة قيل للإرسال المفهوم من الكلام والتذكير والتأنيث باعتبار المرجع والخبر والخلاف في الأولى مشهور، وجوز أبو حيان أن يكون التقدير ولكن أنت رحمة ولتنذر على هذه القراءة متعلق بما هو صفة لرحمة وقوله جل وعلا: ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ صفة لقوما ومِنْ الأولى مزيدة للتأكيد وقوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي يتعظون بإنذارك تعليل للإنذار على القول بأن لعل للتعليل وأما على القول بأنها للترجي حقيقة أو مجازا فقيل هو في موضع الصفة بتقدير القول أي لتنذر قوما مقولا فيهم لعلهم يتذكرون والمراد بهؤلاء القوم قيل العرب، وظاهر الآية أنهم لم يبعث إليهم رسول قبل نبينا صلّى الله تعالى عليه وسلّم أصلا وليس بمراد للاتفاق على أن إسماعيل عليه السلام كان مرسلا إليهم وكأنه لتطاول الأمد بين بعثته عليه السلام وبعثة نبينا عليه الصلاة والسلام إذ بينهما أكثر من ألفي سنة (1) بكثير واندراس شرعه وعدم وقوف الأكثرين في أغلب هذه المدة على حقيقته قيل: ذلك، وقيل: إن ذلك لما صرحوا به من أن حكم بعثة إسماعيل عليه السلام قد انقطع بموته وأنه لم يرسل إليهم بعده نبي سوى النبي صلى الله تعالى عليه وسلّم قال العلامة ابن حجر في المنح المكية: من المقرر أن العرب لم يرسل إليهم رسول بعد إسماعيل عليه الصلاة والسلام وأن إسماعيل انتهت رسالته بموته وادعى قبيل هذا الاتفاق على أن إبراهيم عليه السلام ومن بعده أي سوى إسماعيل عليه السلام لم يرسلوا للعرب ورسالة إسماعيل إليهم انتهت بموته اهـ، فكأنه لقلة لبث إسماعيل عليه السلام فيهم وانقطاع حكم رسالته بعد وفاته فيما بينهم وبقائهم الأمد الطويل بغير رسول مبعوث فيهم نفي إتيان النذير إياهم من قبله صلّى الله عليه وسلّم. وذكر العلامة ابن حجر في المنح أيضا ما يفيد أن كل رسول ممن عدا نبينا صلّى الله تعالى عليه وسلّم تنقطع رسالته بموته وليس ذلك خاصا بإسماعيل عليه السلام، ويفهم من كلام العز بن عبد السلام في أماليه أن هذا الانقطاع ليس على إطلاقه فقد قال: «فائدة» كل نبي إنما أرسل إلى قومه إلا سيدنا محمدا صلّى الله تعالى عليه وسلّم فعلى هذا يكون ما عدا قوم كل نبي من أهل الفترة إلا ذرية النبي السابق عليه فإنهم مخاطبون ببعثة السابق إلا أن تدرس شريعة السابق فيصير الكل من أهل الفترة اهـ. وهو وكذا ما نقلناه عن العلامة ابن حجر عندي الآن على أعراف الرد والقبول، ولعل الله تعالى يشرح صدري بعد لتحقيق الحق في ذلك، وقيل: إن موسى، وعيسى عليهما السلام كما أرسلا لبني إسرائيل أرسلا للعرب فالمراد بنفي هذا الإتيان الفترة التي بين عيسى ونبينا عليهما الصلاة والسلام، ومنها على ما روى البخاري عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه ستمائة سنة وفي كثير من الكتب أنه خمسمائة وخمسون سنة، ونفي إتيان نبي بين زماني إتيان نبينا وإتيان عيسى عليهما الصلاة والسلام هو ما صححه جمع من العلماء لحديث لا نبي بيني وبين عيسى وقال بعضهم: إن بينهما أربعة أنبياء ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب وهو خالد بن سنان، وقيل: غير ذلك، واختار البعض أن المراد بهؤلاء القوم العرب المعاصرون له صلّى الله تعالى عليه وسلّم إذ هم الذين   (1) قوله أكثر من ألفي سنة إلخ في الحاوي للسيوطي ما يدل على أن بينهما نحوا من ثلاثة آلاف سنة اهـ منه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 295 يتصور إنذاره عليه الصلاة والسلام إياهم دون أسلافهم الماضين ولعله الأظهر، وعدم إتيان نذير إياهم من قبله صلى الله تعالى عليه وسلم على القول بانتهاء حكم رسالة الرسول سوى نبينا عليه الصلاة والسلام بموته ظاهر، وأما إذا قيل: بعدم انتهائه بذلك وبقائه حكما لرسالة الرسول يجب على من علمه من ذراري المرسل إليهم الأخذ به من حيث إنه حكم من أحكام ذلك الرسول إلى أن يأتي رسول آخر فيؤخذ به من حيث إنه حكم من أحكامه أو على الوجه الذي يأمر به فيه من النسبة إليه أو من نسبته إلى من قبله أو يترك إن جاء الثاني ناسخا له فالمراد بعدم إتيان النذير إياهم عدم وصول ما أتى به على الحقيقة إليهم ولا يمكن أن يراد بهؤلاء القوم العرب مطلقا ويقال: بأنهم لم يرسل إليهم قبل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أحد أصلا لظهور بطلانه ومنافاته لقوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر: 24] والعرب أعظم أمة وكذا لقوله تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ [يس: 6] بناء على أن- ما- فيه ليست نافية وهو على القول بأن ما فيه نافية مؤول بحمل الآباء على الآباء الأقربين، ولا يكاد يجوز في ما هاهنا ما جاز فيها من الاحتمال في آية يس بل المتعين فيها النفي ليس غير، وتكلف غيره مما لا ينبغي في كتاب الله تعالى والنذير بمعنى المنذر، واحتمال كونه مصدرا بمعنى الإنذار مما لا ينبغي أن يلتفت إليه وتغيير الترتيب الوقوعي بين قضاء الأمر بمعنى أحكام أمر نبوة موسى عليه السلام بالوحي وإيتاء التوراة وثوائه عليه السلام في أهل مدين المشار إليه بقوله تعالى: وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ والنداء للتنبيه على أن كلا من ذلك برهان مستقل على أن حكايته عليه الصلاة والسلام للقصة بطريق الوحي الإلهي ولو روعي الترتيب الوقوعي، ونفى أولا الثواء في أهل مدين ونفى ثانيا الحضور عند النداء ونفى ثالثا الحضور عند قضاء الأمر لربما توهم أن الكل دليل واحد على ما ذكر كما مر في قصة البقرة، ومن الناس من فسر قضاء الأمر بالاستنباء والنداء بالنداء لأخذ التوراة بقوله تعالى: خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ [مريم: 12] رعاية للترتيب الوقوعي بينهما وتعقب بأنه يفوت عليه التنبيه المذكور مع أنه بهذا القدر لا يرتفع تغيير الترتيب الوقوعي بالكلية بين المتعاطفات لأن الثواء في أهل مدين متقدم على القضاء والنداء في الواقع، وقد وسط في النظم الكريم بينهما، وأيضا ما تقدم من تفسير كل من القضاء والنداء بما فسر أنسب بما يلي كلا من الاستدراك، ومما يستغرب أن بعض من فسر ما ذكر بما يوافق الترتيب الوقوعي فسر الشاهدين بالسبعين المختارين للميقات ولا يكاد يتسنى ذلك عليه لأنهم إنما كانوا مع موسى عليه السلام لما أعطى التوراة فكان عليه أن يفسره بغير ذلك وقد تقدم لك عدة تفاسير لا يأبى شيء منها تفسيره ما ذكر بما يوافق الترتيب الوقوعي، وجوز على التفسير بما يوافق كون المراد بالشاهدين الملائكة عليهم السلام الذين كانوا حول النار فإن الآثار ناطقة بحضورهم حولها عند ما أتاها موسى عليه السلام وكذا قوله تعالى: أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها [النمل: 8] في قول، هذا وفي الآيات تفسيرات أخر فقال الفراء في قوله تعالى: وَما كُنْتَ ثاوِياً إلخ أي وما كنت مقيما في أهل مدين مع موسى عليه السلام فتراه وتسمع كلامه وها أنت تتلو عليهم أي على أمتك آياتنا فهو منقطع اهـ، ونحوه ما روي عن مقاتل فيه وهو أن المعنى لم تشهد أهل مدين فتقرأ على أهل مكة خبرهم ولكنا أرسلناك إلى أهل مكة وأنزلنا إليك هذه الأخبار ولولا ذلك ما علمت، وقال الضحاك: يقول سبحانه إنك يا محمد لم تكن الرسول إلى أهل مدين تتلو عليهم آيات الكتاب وإنما كان غيرك ولكنا كنا مرسلين في كل زمان رسولا فأرسلنا إلى أهل مدين شعيبا وأرسلناك إلى العرب لتكون خاتم الأنبياء اهـ. ولا يخفى أن ما قدمنا أولى بالاعتبار. وذهب جمع إلى أن النداء في قوله تعالى: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا كان نداء فيما يتعلق بهذه الأمة المحمدية على نبيها أفضل الصلاة وأكمل التحية وذكروا عدة آثار تدل على ذلك. أخرج الفريابي والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي معا في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 296 الدلائل عن أبي هريرة قال في ذلك نودوا يا أمة محمد أعطيتكم قبل أن تسألوني واستجبت لكم قبل أن تدعوني. وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعا ، وأخرج هو أيضا وأبو نعيم في الدلائل وأبو نصر السجزي في الإبانة، والديلمي عن عمرو بن عيينة قال سألت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن قوله تعالى: وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ما كان النداء وما كانت الرحمة؟ قال كتاب كتبه الله تعالى قبل أن يخلق خلقه بألفي عام ثم وضعه على عرشه ثم نادى يا أمة محمد سبقت رحمتي غضبي أعطيتكم قبل أن تسألوني وغفرت لكم قبل أن تستغفروني فمن لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبدي ورسولي صادقا أدخلته الجنة. وأخرج الختلي في الديباج عن سهل بن سعد الساعدي مرفوعا مثله ، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «لما قرب الله تعالى موسى إلى طور سيناء نجيا قال: أي رب هل أجد أكرم عليك مني؟ قربتني نجيا وكلمتني تكليما قال: نعم. محمد عليه الصلاة والسلام أكرم عليّ منك. قال: فإن كان محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أكرم عليك مني فهل أمة محمد أكرم من بني إسرائيل؟ فلقت البحر لهم وأنجيتهم من فرعون وعمله وأطعمتهم المن والسلوى. قال: نعم. أمة محمد عليه الصلاة والسلام أكرم عليّ من بني إسرائيل. قال: إلهي أرنيهم. قال: إنك لن تراهم وإن شئت أسمعتك صوتهم. قال: نعم إلهي. فنادى ربنا أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أجيبوا ربكم. قال: فأجابوا وهم في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم إلى يوم القيامة فقالوا: لبيك أنت ربنا حقا ونحن عبيدك حقا. قال: صدقتم أنا ربكم حقا وأنتم عبيدي حقا قد عفوت عنكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني فمن لقيني منكم بشهادة أن لا إله إلا الله دخل الجنة» . قال ابن عباس فلما بعث الله تعالى محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم أراد أن يمن عليه بما أعطاه وبما أعطى أمته فقال: يا محمد وما كنت بجانب الطور إذ نادينا، واستشكل ذلك بأنه معنى لا يناسب المقام ولا تكاد ترتبط الآيات عليه، ولا بد لصحة هذه الأخبار من دليل، وتصحيح الحاكم لا يخفى حاله. وقال بعض: يمكن أن يقال على تقدير صحة الأخبار إن المراد وما كنت حاضرا مع موسى عليه السلام بجانب الطور لتقف على أحواله فتخبر بها الناس ولكن أرسلناك بالقرآن الناطق بذلك وبغيره رحمة منا لك وللناس، والتوقيت بنداء أمته ليس لكون المخبر به ما كان من ذلك بل لإدخال المسرة عليه عليه الصلاة والسلام فيما يعود إليه وإلى أمته وفيه تسلية له صلى الله تعالى عليه وسلم مما يكون من أمة الدعوة من الكفر به عليه الصلاة والسلام والإباء عن شريعته وتلويح ما إلى مضمون فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ [الأنعام: 89] وحينئذ ترتبط الآيات بعضها ببعض ارتباطا ظاهرا فتأمل وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ أي عقوبة وهي على ما نقل عن أبي مسلم عذاب الدنيا والآخرة، وقيل: عذاب الاستئصال بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أي بما اقترفوا من الكفر والمعاصي ويعبر عن كل الأعمال وإن لم تصدر عن الأيدي باجتراح الأيدي وتقديم الأيدي لما أن أكثر الأعمال تزاول بها فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا أي هلا أرسلت إلينا رسولا مؤيدا من عندك بالآيات فَنَتَّبِعَ آياتِكَ الظاهرة على يده وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بما جاء به، ولولا الثانية تحضيضية كما أشرنا إليه، وقوله تعالى: فَنَتَّبِعَ جوابها ولكون التحضيض طلبا كالأمر أجيبت على نحو ما يجاب، وأما الأولى فامتناعية وجوابها محذوف ثقة بدلالة الحال عليه، والتقدير لما أرسلناك، والفاء في فَيَقُولُوا عاطفة ليقول على تصيبهم، والمقصود بالسببية لانتفاء الجواب والركن الأصيل فيها قولهم ذلك إذا أصابتهم مصيبة، فالمعنى لولا قولهم إذا عوقبوا بما اقترفوا هلا أرسلت إلينا رسولا فنتبعه ونكون من المؤمنين لما أرسلناك إليهم، وحاصله سببية القول المذكور لإرساله صلى الله تعالى عليه وسلم إليهم قطعا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 297 لمعاذيرهم بالكلية ولكن العقوبة لما كانت هي السبب للقول وكان وجوده بوجودها جعلت كأنها سبب الإرسال بواسطة القول فأدخلت عليا لولا وجيء بالقول معطوفا عليها بالفاء المعطية معنى السببية، ونكتة إيثار هذا الأسلوب وعدم جعل العقوبة قيدا مجردا أنهم لو لم يعاقبوا مثلا على كفرهم وقد عاينوا ما ألجئوا به إلى العلم اليقين لم يقولوا لولا أرسلت إلينا رسولا، وإنما السبب في قولهم هذا هو العقاب لا غير لا التأسف على ما فاتهم من الإيمان بخالقهم، وفي هذا من الشهادة القوية على استحكام كفرهم ورسوخه فيهم ما لا يخفى كقوله تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الأنعام: 28] هذا ما أراده صاحب الكشاف، وليس في الكلام عليه تقدير مضاف كما هو الظاهر. وذهب بعضهم إلى أن الكلام على تقدير مضاف أي كراهة أن تصيبهم إلخ، فالسبب للإرسال إنما هو كراهة ذلك لما فيه من إلزام الحجة ولله تعالى الحجة البالغة، وهذه الكراهة مما لا ريب في تحققها الذي تقتضيه لولا ودفعوا بهذا التقدير لزوم تحقق الإصابة والقول المذكور وانتفاء عدم الإرسال كما هو مقتضى لولا، وفي ذلك ما فيه، وقال ابن المنير: التحقيق عندي أن لولا ليست كما قال النحاة تدل على أن ما بعدها موجود أو أن جوابها ممتنع والتحرير في معناها أنها تدل على أن ما بعدها مانع من جوابها عكس لو، ثم المانع قد يكون موجودا وقد يكون مفروضا وما في الآية من الثاني فلا إشكال فيها، واستدل بالآية على أن قول من لم يرسل إليه رسول أن عذب: ربي لولا أرسلت إليّ رسولا مما يصلح للاحتجاج وإلا لما صلح لأن يكون سببا للإرسال وفي ذلك دلالة على أن العقل لا يغني عن الرسول، والبحث في ذلك شهير، والكلام فيه كثير فَلَمَّا جاءَهُمُ أي أولئك القوم، والمراد بهم هنا أهل مكة الموجودون عند البعثة وضمائر الجمع الآتية كلها راجعة إليهم. الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا أي الأمر الحق وهو القرآن المنزل عليه عليه الصلاة والسلام قالُوا تعنتا واقتراحا لَوْلا أُوتِيَ يعنونه عليه الصلاة والسلام مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى عليه السلام من الكتاب المنزل جملة وقوله تعالى: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ رد عليهم وإظهار لكون ما قالوه تعنتا محضا لا طلبا لما يرشدهم إلى الحق ومِنْ قَبْلُ متعلق بيكفروا وتعلقه بأوتي لا يظهر له وجه لائح إذ هو تقييد بلا فائدة لأنه معلوم أن ما أوتي موسى عليه السلام من قبل محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أو من قبل هؤلاء الكفرة. نعم أمر الرد عليه على حاله أي ألم يكفروا من قبل هذا القول بما أوتي موسى عليه السلام كما كفروا بهذا الحق وقوله تعالى: قالُوا استئناف مسوق لتقرير كفرهم المستفاد من الإنكار السابق وبيان كيفيته وقوله تعالى: سِحْرانِ خبر لمبتدأ محذوف أي هما يعنون ما أوتي نبينا وما أوتي موسى عليهما الصلاة والسلام سحران تَظاهَرا أي تعاونا بتصديق كل واحد منهما الآخر وتأييده إياه، وذلك أن أهل مكة بعثوا رهطا منهم إلى رؤساء اليهود في عيد لهم فسألوهم عن شأنه عليه الصلاة والسلام فقالوا: إنا نجده في التوراة بنعته وصفته فلما رجع الرهط وأخبروهم بما قالت اليهود قالوا ذلك. وقوله تعالى: وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ أي بكل واحد من الكتابين كافِرُونَ تصريح بكفرهم بهما وتأكيد لكفرهم المفهوم من تسميتهما سحرا وذلك لغاية عتوهم وتماديهم في الكفر والطغيان وقرأ الأكثرون «ساحران» وأراد الكفرة بهما نبينا وموسى عليهما الصلاة والسلام. وقرأ طلحة والأعمش «أظّاهرا» بهمزة الوصل وشد الظاء وكذا هي في حرف عبد الله وأصله تظاهرا فلما قلبت التاء ظاء وأدغمت سكنت فاجتلبت همزة الوصل ليبتدأ بالساكن، وقرأ محبوب عن الحسن، ويحيى بن الحارث الذماري وأبو حيوة وأبو خلاد عن اليزيدي تظاهرا بالتاء وتشديد الظاء. قال ابن خالويه: وتشديده لحن لأنه فعل ماض وإنما يشدد في المضارع. وقال صاحب اللوامح: لا أعرف وجهه. وقال صاحب الكامل في القراءات لا معنى له. وخرج ذلك أبو حيان على أنه مضارع حذفت منه النون بدون ناصب أو جازم، وجاء حذفها كذلك في قليل من الكلام الجزء: 10 ¦ الصفحة: 298 وفي الشعر، و «ساحران» خبر لمبتدأ محذوف، وأصل الكلام أنتما ساحران تتظاهران فحذف أنتما وأدغمت التاء في الظاء وحذفت النون وروعي الخطاب ولو قرىء يظاهرا بالياء حملا على مراعاة ساحران أو على تقديرهما لكان له وجه وكأنهم خاطبوا النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك وأرادوه وموسى عليهما الصلاة والسلام بأنتما على سبيل التغليب، هذا وتفسير الآية بما ذكر مما لا تكلف فيه ولعله هو الذي يستدعيه جزالة النظم الجليل ويقتضيه اقتضاء ظاهر قوله تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أي مما أوتياه من القرآن والتوراة أَتَّبِعْهُ أي إن تأتوا به أتبعه فالفعل مجزوم بجواب الأمر ومثل هذا الشرط يأتي به من يدل بوضوح حجته لأن الإتيان بما هو أهدى من الكتابين أمر بين الاستحالة فيوسع دائرة الكلام للتبكيت والإلزام وإيراد كلمة إِنْ في قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في أنهما سحران مختلقان مع امتناع صدقهم نوع تهكم بهم، وقرأ زيد بن علي أتبعه بالرفع على الاستئناف أي أنا أتبعه. وقال الزمخشري: الحق الرسول المصدق بالكتاب المعجز مع سائر المعجزات يعني أن المقام مقام أن يقال فلما جاءهم أي الرسول أو فلما جاءهم الرسول لكن عدل عن ذلك لإفادة تلك المعاني وما أوتي موسى بما هو أعم من الكتاب المنزل جملة واحدة واليد والعصا وغيرهما من آياته عليه السلام، وتعقب بأنه لا تعلق للمعجزات من اليد ونحوها بالمقام وكذا لا تعلق لغير القرآن من معجزات نبينا صلّى الله عليه وسلّم به ويرشد إلى ذلك ظاهر قوله تعالى: قُلْ فَأْتُوا إلخ. وجوز أن يكون ضميرا جاءَهُمُ وقالُوا راجعين إلى أهل مكة الموجودين وضمير يَكْفُرُوا وكذا ضمير قالُوا في الموضعين راجع إلى جنس الكفرة المعلوم من السياق والمراد بهم الكفرة الذين كانوا في عهد موسى عليه السلام ومِنْ قَبْلُ متعلق بيكفروا لا بأوتي لعدم ظهور الفائدة والمراد بسحرين أو ساحران موسى وهارون عليهما السلام كما روي عن مجاهد، وإطلاق سحرين عليهما للمبالغة أو هو بتقدير ذوا سحرين، والمعنى أو لم يكفر أبناء جنسهم من قبلهم بما أوتي موسى عليه السلام كما كفروا هم بما أوتيته وقال أولئك الكفرة هما أي موسى وهارون سحران أو ساحران تظاهرا، وقيل: يجوز أن تكون الضمائر راجعة إلى الموجودين والكفر والقول المذكور لأولئك السابقين حقيقة وإسنادهما إلى الموجودين مجازي لما بين الطائفتين من الملابسة. وقيل بناء على ما روي عن الحسن: من أنه كان للعرب أصل في أيام موسى عليه السلام إن المعنى أو لم يكفر آباؤهم من قبل أن يرسل محمد صلى الله تعالى عليه وسلم بما أوتي موسى قالوا هما أي موسى وهارون سحران أو ساحران تظاهرا فهو على أسلوب وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [البقرة: 49] ونحوه ويفيد الكلام عليه أن قدمهم في الكفر من الرسوخ بمكان، ولهم في العناد عرق أصيل وكون العرب لهم أصل في أيام موسى عليه السلام مما لا شبهة فيه حتى قيل: إن فرعون كان عربيا من أولاد عاد لكن في حسن تخريج الآية على ذلك كلام، وأنت تعلم أن كل هذه الأوجه ليست مما ينشرح له الصدر وفيها من التكلف ما فيها. وادعى أبو حيان ظهور رجوع ضمير يكفروا وكذا ضمير قالوا إلى قريش الذين قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى وأن نسبة ذلك إليهم لما أن تكذيبهم لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم تكذيب لموسى عليه السلام ونسبتهم السحر للرسول نسبتهم إياه لموسى وهارون عليهما السلام إذ الأنبياء عليهم السلام من واد واحد فمن نسب إلى أحد منهم ما لا يليق كان ناسبا ذلك إلى جميعهم فلا يحتاج إلى توسيط حكاية الرهط في أمر النسبة، وعليه يجوز أن يراد بكل كل واحد من الأنبياء عليهم السلام، ولا يخفى أن ما ادعاه من ظهور رجوع الضمير إلى ما ذكر أمر مقبول عند منصفي ذوي العقول، لكن توجيه نسبة الكفر والقول المبين لكيفيته مما ذكر مما يبعد قبوله، وكأنه إنما احتاج إليه لعدم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 299 ثبوت حكاية الرهط عنده، وعن قتادة أنه فسر السحران بالقرآن والإنجيل والساحران بمحمد وعيسى عليهما الصلاة والسلام وجعل ذلك القول قول أعداء الله تعالى اليهود، وتفسير الساحرين بذلك مروي عن الحسن، وروي عنه أيضا أنه فسرهما بموسى وعيسى عليهما السلام والكل كما ترى، وتفسيرهما بمحمد وموسى عليهما الصلاة والسلام مما رواه البخاري في تاريخه وجماعة عن ابن عباس. وأخرج ابن أبي حاتم عن عاصم الجحدري أنه كان يقرأ سحران ويقول هما كتابان الفرقان والتوراة ألا تراه سبحانه يقول: فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ أي فإن لم يفعلوا ما كلفتهم به من الإتيان بكتاب أهدى منهما، وإنما عبر عنه بالاستجابة إيذانا بأنه عليه الصلاة والسلام على كمال أمن من أمره، كان أمره صلى الله تعالى عليه وسلم لهم بالإتيان بما ذكر دعاء لهم إلى أمر يريد وقوعه. وقيل: المراد فإن لم يستجيبوا دعاءك إياهم إلى الإيمان بعد ما وضح لهم من المعجزات التي تضمنها كتابك الذي جاءهم فالاستجابة على ظاهرها لأن الإيمان أمر يريد صلّى الله عليه وسلّم حقيقة وقوعه منهم وهي كما في البحر بمعنى الإجابة وتتعدى إلى الداعي باللام كما في هذه الآية، وقوله تعالى: فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ [يوسف: 34] ، وقوله سبحانه: فَاسْتَجَبْنا لَهُ [الأنبياء: 76، 84، 88، 90] وبنفسها كما في بيت الكتاب: وداع دعا يا من يجيب إلى الندا ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب وقال الزمخشري: هذا الفعل يتعدى إلى الدعاء بنفسه وإلى الداعي باللام وبحذف الدعاء إذا عدي إلى الداعي في الغالب فيقال: استجاب الله تعالى دعاءه أو استجاب له ولا يكاد يقال: استجاب له دعاءه، وقوله في البيت فلم يستجبه على حذف مضاف أي فلم يستجب دعاءه انتهى، ولو جعل ضمير يستجبه للدعاء المفهوم من داع لم يحتج إلى تقدير، وجعل المفعول هنا محذوفا لذكر الداعي، ووجهه على ما قيل: إنه مع ذكر الداعي والاستجابة يتعين أن المفعول الدعاء فيصير ذكره عبثا، وجوز كون الحذف للعلم به من فعله لا لأنه ذكر الداعي، وهذا حكم الاستجابة دون الإجابة لقوله تعالى: أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ [الأحقاف: 31] فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ الزائغة من غير أن يكون لهم متمسك ما أصلا إذ لو كان لهم ذلك لأتوا به وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ استفهام إنكاري للنفي أي لا أضل ممن اتبع هواه بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ أي هو أضل من كل ضال وإن كان ظاهر السبك لنفي الأضل لا لنفي المساوي كما مر في نظائره مرارا، وقوله تعالى: بِغَيْرِ هُدىً في موضع الحال من فاعل اتبع، وتقييد الاتباع بذلك لزيادة التقرير والإشباع في التشنيع والتضليل وإلا فمقارنته لهدايته تعالى بينة الاستحالة، وقيل: للاحتراز عما يكون فيه هدى منه تعالى فإن الإنسان قد يتبع هواه ويوافق الحق، وفيه بحث إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم فانهمكوا في اتباع الهوى والإعراض عن الآيات الهادية إلى الحق المبين وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ الضمير لأهل مكة، وأصل التوصيل ضم قطع الحبل بعضها ببعض قال الشاعر: فقل لبني مروان ما نال ذمتي ... بحبل ضعيف لا يزال يوصل والمعنى ولقد أنزلنا القرآن عليهم متواصلا بعضه إثر بعض حسبما تقتضيه الحكمة أو متتابعا وعدا ووعيدا وقصصا وعبرا ومواعظ ونصائح، وقيل: جعلناه أوصالا أي أنواعا مختلفة وعدا ووعيدا إلخ، وقيل: المعنى وصلنا لهم خبر الآخرة بخبر الدنيا حتى كأنهم عاينوا الآخرة وعن الأخفش أتممنا لهم القول، وقرأ الحسن وَصَّلْنا بتخفيف الصاد والتضعيف في قراءة الجمهور للتكثير ومن هنا قال الراغب في تفسير ما في الآية عليها أي أكثرنا لهم القول موصولا بعضه ببعض لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ فيؤمنون بما فيه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 300 الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ قبل القرآن على أن الضمير للقول مرادا به القرآن أو للقرآن المفهوم منه وأيا ما كان فالمراد من قبل إيتائه هُمْ لا هؤلاء الذين ذكرت أحوالهم بِهِ أي بالقرآن يُؤْمِنُونَ وقيل: الضميران للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والمراد بالموصول على ما روي عن ابن عباس مؤمنو أهل الكتاب مطلقا، وقيل: هم أبو رفاعة في عشرة من اليهود آمنوا فأوذوا، وأخرج ابن مردويه بسند جيد وجماعة عن رفاعة القرظي ما يؤيده وقيل: أربعون من أهل الإنجيل كانوا مؤمنين بالرسول صلّى الله تعالى عليه وسلّم قبل مبعثه اثنان وثلاثون من الحبشة أقبلوا مع جعفر بن أبي طالب وثمانية قدموا من الشام بحيرا وأبرهة وأشرف وعامر وأيمن وإدريس ونافع وتميم، وقيل: ابن سلام وتميم الداري والجارود العبدي وسلمان الفارسي ونسب إلى قتادة واستظهر أبو حيان الإطلاق وأن ما ذكر من باب التمثيل لمن آمن من أهل الكتاب. وَإِذا يُتْلى أي القرآن عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ أي بأنه كلام الله تعالى: إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا أي الحق الذي كنا نعرف حقيته، وهو استئناف لبيان ما أوجب إيمانهم به، وجوز أن تكون الجملة مفسرة لما قبلها وقوله تعالى: إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل نزوله مُسْلِمِينَ بيان لكون إيمانهم به أمرا متقادم العهد لما شاهدوا ذكره في الكتب المتقدمة وأنهم على دين الإسلام قبل نزول القرآن ويكفي في كونهم على دين الإسلام قبل نزوله إيمانهم به إجمالا. وفي الكشاف والبحر أن الإسلام صفة كل موحد مصدق بالوحي والظاهر عليه أن الإسلام ليس من خصوصيات هذه الأمة من بين الأمم، وذهب السيوطي عليه الرحمة إلى كونه من الخصوصيات وألف في ذلك كراسة وقال في ذيلها: لما فرغت من تأليف هذه الكراسة واضطجعت على الفراش للنوم ورد عليّ قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ الآية فكأنما ألقي على جبل لما أن ظاهرها الدلالة للقول بعدم الخصوصية وقد فكرت فيها ساعة ولم يتجه لي فيها شيء فلجأت إلى الله تعالى ورجوت أن يفتح بالجواب عنها فلما استيقظت وقت السحر إذا بالجواب قد فتح فظهر عنها ثلاثة أجوبة: الأول أن مسلمين اسم فاعل مراد به الاستقبال كما هو حقيقة فيه دون الحال والماضي والتمسك بالحقيقة هو الأصل وتقدير الآية إنا كنا من قبل مجيئه عازمين على الإسلام به إذا جاء لما كنا نجده في كتبنا من بعثه ووصفه ويرشح هذا أن السياق يرشد إلى أن قصدهم الإخبار بحقية القرآن وأنهم كانوا على قصد الإسلام به إذا جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم وليس قصدهم الثناء على أنفسهم في حد ذاتهم بأنهم كانوا بصفة الإسلام أولا لنبو المقام عنه كما لا يخفى، الثاني أن يقدر في الآية إنا كنا من قبله مسلمين به فوصف الإسلام سببه القرآن لا التوراة والإنجيل ويرشح ذلك ذكر الصلة فيما قبل حيث قال سبحانه: هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ فإنه يدل على أن الصلة مرادة هنا أيضا إلا أنها حذفت كراهة التكرار. الثالث أن هذا الوصف منهم بناء على ما هو مذهب الأشعري من أن من كتب الله تعالى أن يموت مؤمنا فهو يسمى عنده تعالى مؤمنا ولو كان في حال الكفر وإنما لم نطلق نحن هذا الوصف عليه لعدم علمنا بما عنده تعالى، فهؤلاء لما ختم الله تعالى لهم بالدخول في الإسلام أخبروا عن أنفسهم أنهم كانوا متصفين به قبل لأن العبرة في هذا الوصف بالخاتمة ووصفهم بذلك أولى من وصف الكافر الذي يعلم الله تعالى أنه يموت على الإسلام به لأنهم كانوا على دين حق وهذا معنى دقيق استفدناه في هذه الآية من قواعد علم الكلام انتهى. ولا يخفى ضعف هذا الجواب وكذا الجواب الأول وأما الجواب الثاني فهو بمعنى ما ذكرناه في الآية وقد ذكره البيضاوي وغيره وجوز أن يراد بالإسلام الانقياد أي إنا كنا من قبل نزوله منقادين لأحكام الله تعالى الناطق بها كتابه المنزل إلينا ومنها وجوب الإيمان به فنحن مؤمنون به قيل نزوله أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر من النعوت يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ مرة على إيمانهم بكتابهم ومرة على إيمانهم بالقرآن بِما صَبَرُوا أي بصبرهم وثباتهم على الإيمانين الجزء: 10 ¦ الصفحة: 301 أو على الإيمان بالقرآن قبل النزول وبعده أو على أذى من هاجرهم وعاداهم من أهل دينهم ومن المشركين وَيَدْرَؤُنَ أي يدفعون بِالْحَسَنَةِ أي بالطاعة السَّيِّئَةَ أي المعصية فإن الحسنة تمحو السيئة قال صلّى الله تعالى عليه وسلّم لمعاذ: اتبع السيئة الحسنة تمحها ، وقيل: أي يدفعون بالحلم الأذى وقال ابن جبير: بالمعروف المنكر وقال ابن زيد: بالخير الشر وقال ابن سلام: بالعلم الجهل وبالكظم الغيظ وقال ابن مسعود: بشهادة أن لا إله إلا الله الشرك وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أي في سبيل الخير كما يقتضيه مقام المدح وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ سقط القول وقال مجاهد: الأذى والسب وقال الضحاك: الشرك وقال ابن زيد: ما غيرته اليهود من وصف الرسول صلّى الله عليه وسلّم أَعْرَضُوا عَنْهُ أي عن اللغو تكرما كقوله تعالى: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الفرقان: 72] وَقالُوا لهم (1) أي للاغين المفهوم من ذكر اللغو لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ متاركة لهم كقوله تعالى: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون: 6] سَلامٌ عَلَيْكُمْ قالوه توديعا لهم لا تحية أو هو للمتاركة أيضا كما في قوله تعالى: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان: 63] وأيا ما كان فلا دليل في الآية على جواز ابتداء الكافر بالسلام كما زعم الجصاص إذ ليس الغرض من ذلك إلا المتاركة أو التوديع. وروي عن النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم في الكفار «لا تبدءوهم بالسلام وإذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم» . نعم روي عن ابن عباس جواز أن يقال للكافر ابتداء السلام عليك على معنى الله تعالى عليك فيكون دعاء عليه وهو ضعيف، وقوله تعالى: لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ بيان للداعي للمتاركة والتوديع أي لا نطلب صحبة الجاهلين ولا نريد مخالطتهم إِنَّكَ لا تَهْدِي هداية موصلة إلى البغية لا محالة مَنْ أَحْبَبْتَ أي كل من أحببته طبعا من الناس قومك وغيرهم ولا تقدر أن تدخله في الإسلام وإن بذلت فيه غاية المجهود وجاوزت في السعي كل حد معهود، وقيل: من أحببت هدايته. وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ هدايته فيدخله في الإسلام وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ بالمستعدين لذلك وهم الذين يشاء سبحانه هدايتهم ومنهم الذين ذكرت أوصافهم من أهل الكتاب، وأفعل للمبالغة في علمه تعالى. وقيل: يجوز أن يكون على ظاهره، وأفاد كلام بعضهم أن المراد أنه تعالى أعلم بالمهتدي دون غيره عز وجل، وحيث قرنت هداية الله تعالى بعلمه سبحانه بالمهتدي وأنه جل وعلا العالم به دون غيره دل على أن المراد بالمهتدي المستعد دون المتصف بالفعل فيلزم أن تكون هدايته إياه بمعنى القدرة عليها، وحيث كانت هدايته تعالى لذلك بهذا المعنى، وجيء بلكن متوسطة بينها وبين الهداية المنفية عنه صلّى الله تعالى عليه وسلّم لزم أن تكون تلك الهداية أيضا بمعنى القدرة عليها لتقع لكن في موضعها، ولذا قيل: المعنى إنك لا تقدر أن تدخل في الإسلام كل من أحببت لأنك عبد لا تعلم المطبوع على قلبه من غيره ولكن الله تعالى يقدر على أن يدخل من يشاء إدخاله وهو الذي علم سبحانه أنه غير مطبوع على قلبه، وللبحث فيه مجال، وظاهر عبارة الكشاف حمل نفي الهداية في قوله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ على نفي القدرة على الإدخال في الإسلام وإثباتها في قوله سبحانه: وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ على وقوع الإدخال في الإسلام بالفعل، وهذا ما اعتمدناه في تفسير الآية، ووجهه أن مساق الآية لتسليته صلّى الله تعالى عليه وسلّم حيث لم ينجع في قومه الذين يحبهم ويحرص عليهم أشد الحرص إنذاره عليه الصلاة والسلام إياهم وما جاء به إليهم من الحق بل أصروا على ما هم عليه، وقالوا: لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى [القصص: 48] ثم   (1) قوله لهم أي للاغين إلخ وقع في خط المؤلف كتابة لفظ لهم بالحمرة ظنا منه رحمه الله أنها من القرآن ولذلك قال أي للاغين المفهوم إلخ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 302 كفروا به وبموسى عليهما الصلاة والسلام فكانوا على عكس قوم هم أجانب عنه صلّى الله تعالى عليه وسلّم حيث آمنوا بما جاء به من الحق وقالوا: إنه الحق من ربنا ثم صرحوا بتقادم إيمانهم به وأشاروا بذلك إلى إيمانهم بنبيهم وبما جاءهم به أيضا فلو لم يحمل إنك لا تهدي من أحببت على نفي القدرة على إدخال من أحبه عليه الصلاة والسلام في الإسلام بل حمل على نفي وقوع إدخاله صلّى الله تعالى عليه وسلّم إياه فيه لبعد الكلام عن التسلية وقرب إلى العتاب فإنه على طرز قولك لمن له أحباب لا ينفعهم إنك لا تنفع أحبابك وهو إذا لم يؤول بأنك لا تقدر على نفع أحبابك فإنما يقال على سبيل العتاب أو التوبيخ أو نحوه دون سبيل التسلية، ولما كان لهدايته تعالى أولئك الذين أوتوا الكتاب مدخلا فيما يستدعي التسلية كان المناسب إبقاء وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ على ظاهره من وقوع الهداية بالفعل دون القدرة على الهداية وإثبات ذلك له تعالى فرع إثبات القدرة ففي إثباته إثباتها لا محالة فيصادف الاستدراك المحز، وحمل المهتدين على المستعدين للهداية لا يستدعي حمل يهدي على يقدر على الهداية فما ذكر من اللزوم ممنوع ويجوز أن يراد بالمهتدين المتصفون بالهداية بالفعل، والمراد بعلمه تعالى بهم مجازاته سبحانه على اهتدائهم فكأنه قيل: وهو تعالى أعلم بالمهتدين كأولئك الذين ذكروا من أهل الكتاب فيجازيهم على اهتدائهم بأجر أو بأجرين فتأمل، والآية على ما نطقت به كثير من الأخبار نزلت في أبي طالب. أخرج عبد بن حميد ومسلم والترمذي وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال: لما حضرت وفاة أبي طالب أتاه النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم فقال: يا عماه قل لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله يوم القيامة فقال: لولا أن يعيروني قريش يقولون: ما حمله عليها إلا جزعه من الموت لأقررت بها عينك، فأنزل الله تعالى إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ الآية. وأخرج البخاري ومسلم وأحمد والنسائي وغيرهم، عن سعيد بن المسيب عن أبيه نحو ذلك، وأخرج أبو سهل السري بن سهل من طريق عبد القدوس عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ إلخ نزلت في أبي طالب ألح النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم أن يسلم فأبى فأنزل الله تعالى هذه الآية وقد روى نزولها فيه عنه أيضا ابن مردويه، ومسألة إسلامه خلافية، وحكاية إجماع المسلمين أو المفسرين على أن الآية نزلت فيه لا تصح فقد ذهب الشيعة وغير واحد من مفسريهم إلى إسلامه وادعوا إجماع أئمة أهل البيت على ذلك وأن أكثر قصائده تشهد له بذلك وكأن من يدعي إجماع المسلمين لا يعتد بخلاف الشيعة ولا يعول على رواياتهم، ثم إنه على القول بعدم إسلامه لا ينبغي سبه والتكلم فيه بفضول الكلام فإن ذلك مما يتأذى به العلويون بل لا يبعد أن يكون مما يتأذى به النبي عليه الصلاة والسلام الذي نطقت الآية بناء على هذه الروايات بحبه إياه، والاحتياط لا يخفى على ذي فهم. ولأجل عين ألف عين تكرم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 303 وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أي نخرج من بلادنا ومقرنا، وأصل الخطف الاختلاس بسرعة فاستعير لما ذكر، والآية نزلت في الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف حيث أتى النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم فقالوا: نحن نعلم أنك على الحق ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب وإنما نحن أكلة رأس أن يتخطفونا من أرضنا فرد الله تعالى عليهم خوف التخطف بقوله: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً أي ألم نعصمهم ونجعل مكانهم حرما ذا أمن بحرمة البيت الذي فيه تتاجر العرب حوله وهم آمنون فيه، فالعطف على محذوف ونُمَكِّنْ مضمن معنى الجعل، ولذا نصب حرما وآمنا للنسب كلابن وتامر، وجعل أبو حيان الإسناد فيه مجازيا لأن الآمن حقيقة ساكنوه فيستغنى عن جعله للنسب وهو وجه حسن يُجْبى إِلَيْهِ أي يحمل إليه ويجمع فيه من كل جانب وجهة ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ أي ثمرات أشياء كثيرة على أن كل للتكثير وأصل معناه الإحاطة وليست بمرادة قطعا، والجملة صفة أخرى لحرما دافعة لما عسى يتوهم من تضررهم إن اتبعوا الهدى بانقطاع الميرة، وقوله تعالى: رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا نصب عن المصدر من معنى يجبى لأن مآله يرزقون، أو الحال من ثمرات بمعنى مرزوقا وصح مجيء الحال من النكرة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 304 عند من لا يراه لتخصصها بالإضافة هنا، أو على أنه مفعول له بتقدير نسوق إليه ذلك رزقا. وحاصل الرد أنه لا وجه لخوف من التخطف إن أمنوا فإنهم لا يخافون منه وهم عبدة أصنام فكيف يخافون إذا أمنوا وضموا حرمة الإيمان إلى حرمة المقام وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ جهلة لا يتفطنون ولا يتفكرون ليعلموا ذلك فهو متعلق بقوله تعالى: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ إلخ. وقيل: هو متعلق بقوله سبحانه: من لدنا أي قليل منهم يتدبرون فيعلمون أن ذلك رزق من عند الله عز وجل إذ لو علموا لما خافوا غيره، والأول أظهر، والكلام عليه أبلغ في الذم، وقرأ المنقري «نتخطف» بالرفع كما قرىء في قوله تعالى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ [النساء: 78] برفع يدرك وخرج بأنه بتقدير فنحن نتخطف وهو تخريج شذوذ. وقرأ نافع وجماعة عن يعقوب وأبو حاتم عن عاصم «تجبى» بتاء التأنيث، وقرىء «تجني» بالنون من الجني وهو قطع الثمرة وتعديته بإلى كقولك يجني إلى فيه ويجني إلى الخافة (1) وقرأ أبان بن تغلب عن عاصم «ثمرات» بضم الثاء والميم، وقرأ بعضهم «ثمرات» بفتح الثاء وإسكان الميم، ثم إنه تعالى بعد أن رد عليهم خوفهم من الناس بين أنهم أحقاء بالخوف من بأس الله تعالى بقوله: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها أي وكثيرا من أهل قرية كانت حالهم كحال هؤلاء في الأمن وخفض العيش والدعة حتى بطروا واغتروا ولم يقوموا بحق النعمة فدمرنا عليهم وخربنا ديارهم فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ التي تمرون عليها في أسفاركم كحجر ثمود خاوية بما ظلموا حال كونها. لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ من بعد تدميرهم إِلَّا قَلِيلًا أي إلا زمانا قليلا إذ لا يسكنها إلا المارة يوما أو بعض يوم أو إلا سكنا قليلا وقلته باعتبار قلة الساكنين فكأنه قيل: لم يسكنها من بعدهم إلا قليل من الناس. وجوز أن يكون الاستثناء من المساكن أي إلا قليلا منها سكن وفيه بعد، وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ منهم إذ لم يخلفهم أحد يتصرف تصرفهم في ديارهم وسائر ذات أيديهم، وفي الكشاف أي تركناها على حال لا يسكنها أحد أو خربناها وسويناها بالأرض وهو مشير إلى أن الوراثة إما مجرد انتقالها من أصحابها وإما إلحاقها بما خلقه الله تعالى في البدء فكأنه رجع إلى أصله ودخل في عداد خالص ملك الله تعالى على ما كان أولا وهذا معنى الإرث، وانتصاب معيشتها على التمييز على مذهب الكوفيين، أو مشبه بالمفعول به على مذهب بعضهم، أو مفعول به على تضمين بطرت معنى فعل متعد أي كفرت معيشتها ولم ترع حقها على مذهب أكثر البصريين أو على إسقاط (في) أي في معيشتها على مذهب الأخفش، أو على الظرف نحو جئت خفوق النجم على قول الزجاج: وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بيان للعناية الربانية إثر بيان إهلاك القرى المذكورة أي وما صح وما استقام أو ما كان في حكمه الماضي وقضائه السابق أن يهلك القرى قبل الإنذار بل كانت سنته عز وجل أن لا يهلكها حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها أي في أصلها وكبيرتها التي ترجع تلك القرى إليها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا الناطقة بالحق ويدعوهم إليه بالترغيب والترهيب، وإنما لم يهلكهم سبحانه حتى يبعث إليهم رسولا لإلزام الحجة وقطع المعذرة بأن يقولوا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك، وإنما كان البعث في أم القرى لأن في أهل البلدة الكبيرة وكرسي المملكة ومحل الأحكام فطنة وكيسا فهم أقبل للدعوة وأشرف. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة أن أم القرى مكة والرسول محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم   (1) قوله إلى الخافة هي خريطة من أدم يشار فيها العسل انتهى منه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 305 فالمراد بالقرى القرى التي كانت في عصره عليه الصلاة والسلام والأولى أولى، والالتفات إلى نون العظمة في آياتنا لتربية المهابة وإدخال الروعة وقرىء «في إمها» بكسر الهمزة اتباعا للميم وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى عطف على ما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي وما كنا مهلكين لأهل القرى بعد ما بعثنا في أمها رسولا يدعوهم إلى الحق ويرشدهم إليه في حال من الأحوال إلا حال كونهم ظالمين بتكذيب رسولنا والكفر بآياتنا فالبعث غاية لعدم صحة الإهلاك بموجب السنة الإلهية لا لعدم وقوعه حتى يلزم تحقق الإهلاك عقيب البعث وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ أي أي شيء أصبتموه من أمور الدنيا وأسبابها فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها فهو شيء شأنه أن يتمتع به ويتزين به أياما قلائل ويشعر بالقلة لفظ المتاع وكذا ذكر أَبْقى في المقابل وفي لفظ الدنيا إشارة إلى القلة والخسة وَما عِنْدَ اللَّهِ في الجنة وهو الثواب خَيْرٌ في نفسه من ذلك لأنه لذة خالصة وبهجة كاملة وَأَبْقى لأنه أبدى وأين المتناهي من غير المتناهي أَفَلا تَعْقِلُونَ أي ألا تتفكرون فلا تفعلون هذا الأمر الواضح فتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير وتخافون على ذهاب ما أصبتموه من متاع الحياة الدنيا وتمتنعون عن اتباع الهدى المفضي إلى ما عند الله تعالى لذلك فكأن هذا رد عليهم في منع خوف التخطف إياهم من اتباعه صلى الله تعالى عليه وسلّم على تقدير تحقق وقوع ما يخافونه. وقرأ أبو عمرو يعقلون بياء الغيبة على الالتفات وهو أبلغ في الموعظة لإشعاره بأنهم لعدم عقلهم لا يصلحون للخطاب، فالالتفات هنا لعدم الالتفات زجرا لهم وقرىء «فمتاعا الحياة الدنيا» أي فتتمتعون به في الحياة الدنيا فنصب متاعا على المصدرية والحياة على الظرفية أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً أي وعدا بالجنة وما فيها من النعيم الصرف الدائم فإن حسن الوعد بحسن الموعود فَهُوَ لاقِيهِ أي مدركه لا محالة لاستحالة الخلف في وعده تعالى ولذلك جيء بالجملة الاسمية المفيدة لتحققه البتة وعطفت بالفاء المنبئة عن السببية كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا الذي هو مشوب بالآلام منغص بالاكدار مستتبع بالتحسر على الانقطاع، ومعنى الفاء الأولى ترتيب إنكار التشابه بين أهل الدنيا وأهل الآخرة على ما قبلها من ظهور التفاوت بين متاع الحياة الدنيا وما عند الله تعالى أي أبعد هذا التفاوت الظاهر يسوي بين الفريقين وقوله تعالى: ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ عطف على متعناه داخل معه في حيز الصلة مؤكد لإنكار التشابه مقوله كأنه قيل كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم نحضره أو أحضرناه يوم القيامة للنار أو العذاب وغلب لفظ المحضر في المحضر لذلك والعدول إلى الجملة الاسمية قيل للدلالة على التحقق حتما ولا يضر كون خبرها ظرفا مع العدول وحصول الدلالة على التحقق لو قيل أحضرناه لا ينافي ذلك، وقد يقال: إن فيما ذكر في النظم الجليل شيء آخر غير الدلالة على التحقيق ليس في قولك ثم أحضرناه يوم القيامة كالدلالة على التقوى أو الحصر والدلالة على التهويل والإيقاع في حيرة، ولمجموع ذلك جيء بالجملة الاسمية، ويوم متعلق بالمحضرين المذكور، وقدم عليه للفاصلة أو هو متعلق بمحذوف وقد مر الكلام في مثل ذلك، وثم للتراخي في الرتبة دون الزمان وإن صح وكان فيه إبقاء اللفظ على حقيقته لأنه أنسب بالسياق وهو أبلغ وأكثر إفادة وأرباب البلاغة يعدلون إلى المجاز ما أمكن لتضمنه لطائف النكات. وقرأ طلحة «أمن وعدناه» بغير فاء، وقرأ قالون والكسائي «ثم هو» بسكون الهاء كما قيل: عضد وعضد تشبيها للمنفصل وهو الميم الأخير من ثم بالمتصل، والآية نزلت على ما أخرج ابن جرير عن مجاهد في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفي أبي جهل وأخرج من وجه آخر عنه أنها نزلت في حمزة وأبي جهل، وقيل: نزلت في علي كرّم الله تعالى وجهه وأبي جهل ونسب إلى محمد بن كعب والسدي، وقيل: في عمار رضي الله تعالى عنه، والوليد بن المغيرة، وقيل: نزلت في المؤمن والكافر مطلقا وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ عطف على يوم القيامة لاختلافهما عنوانا وإن اتحدا ذاتا أو منصوب بإضمار الجزء: 10 ¦ الصفحة: 306 اذكر ونداؤه تعالى إياهم يحتمل أن يكون بواسطة وأن يكون بدونها وهو نداء إهانة وتوبيخ فَيَقُولُ تفسير للنداء أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أي الذين كنتم تزعمونهم شركائي فإن زعم مما يتعدى إلى مفعولين كقوله: وأن الذي قد عاش يا أم مالك ... يموت ولم أزعمك عن ذاك معزلا وحذف هنا المفعولان معا ثقة بدلالة الكلام عليهما نحو من يسمع يخل. وفي الكشاف يجوز حذف المفعولين في باب ظننت ولا يصح الاقتصار على أحدهما، وادعى بعضهم أن عدم صحة الاقتصار هو الأصح وأنه الذي ذهب إليه الأكثرون وقال الأخفش: إذا دخلت هذه الأفعال ظن وأخواتها على أن نحو ظننت أنك قائم فالمفعول الثاني منهما محذوف والتقدير ظننت قيامك كائنا لأن المفتوحة بتأويل المفرد وسيبويه يرى في ذلك أن أن مع ما بعدها سدت مسد المفعولين، وأجاز الكوفيون الاقتصار على الأول إذا سد شيء مسد الثاني كما في باب المبتدأ نحو أقائم أخواك فيقولون هل ظننت قائما أخواك؟ وقال أبو حيان: إذا دل دليل على أحدهما جاز حذفه كقوله: كأن لم يكن بين إذا كان بعده ... تلاق ولكن لا إخال تلاقيا أي لا أخال بعد البين تلاقيا وقال صاحب التحفة: يجوز الاقتصار في باب كسوت على أحد المفعولين بدليل وبغير دليل لأن الأول فيهما غير الثاني وأجاز بعضهم حذف الأول إذا كان هو الفاعل معنى نحو قوله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ [النور: 57] أي ولا يحسبن الذين كفروا إياهم أي أنفسهم معجزين، وقال الطيبي: في عدم الحذف فيما عدا ما ذكر. وجواز الحذف فيه لعل السر أن هذه الأفعال قيود للمضامين تدخل على الجمل الاسمية لبيان ما هي عليه لأن النسبة قد تكون عن علم وقد تكون عن ظن فلو اقتصر على أحد طرفي الجملة القيام قرينة توهم أن الذي سيق له الكلام والذي هو مهتم بشأنه الطرف المذكور وليس غير المذكور مما يعتنى به، نعم إذا كان الفاعل والمفعول لشيء واحد يهون الخطب، وذكر عن صاحب الإقليد ما يؤيده وقد أطال طيب الله تعالى مرقده الكلام في هذا المقام، وادعى ابن هشام أن الأولى أن يقدر هنا الذين كنتم تزعمون أنهم شركائي لأنه لم يقع الزعم في التنزيل على المفعولين الصريحين بل على أن وصلتها كقوله تعالى: الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ [الأنعام: 94] وفيه نظر. والظاهر أن المراد بالشركاء من عبد من دون الله تعالى من ملك أو جن أو إنس أو كوكب أو صنم أو غير ذلك قالَ استئناف مبني على حكاية السؤال كأنه قيل: فماذا كان بعد هذا السؤال فقيل قال: الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي ثبت عليهم مقتضى القول وتحقق مؤداه وهو قوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: 119] وغيره من آيات الوعيد، والمراد بالموصول الشركاء الذين كانوا يزعمونهم شركاء من الشياطين ورؤساء الكفر، وتخصيصهم بما في حيز الصلة مع شمول مضمونها الاتباع أيضا لأصالتهم في الكفر واستحقاق العذاب، والتعبير عنهم بذلك دون الذين زعموهم شركاء لإخراج مثل عيسى وعزير والملائكة عليهم السلام لشمول الشركاء على ما سمعت له، ومسارعتهم إلى الجواب مع كون السؤال للعبدة لتفطنهم إن السؤال منهم سؤال توبيخ وإهانة وهو يستدعي استحضارهم وتوبيخهم بالإضلال وجزمهم بأن العبدة سيقولون هؤلاء أضلونا، وقيل: يجوز أن يكون العبدة قد أجابوا معتذرين بقولهم هؤلاء أضلونا ثم قال الشركاء ما قص الله تعالى ردا لقولهم ذلك إلا أنه لم يحك إيجازا لظهوره رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا تمهيد للجواب والإشارة إلى العبدة لبيان أنهم يقولون ما يقولون بمحضر منهم وأنهم غير قادرين على إنكاره ورده وهؤُلاءِ مبتدأ خبره الموصول بعده، وجملة أغوينا صلة الموصول والعائد محذوف للتصريح به فيما بعد أي الذين أغويناهم، وقوله تعالى: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 307 أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا هو الجواب حقيقة أي ما أكرهناهم على الغي وإنما أغويناهم بطريق الوسوسة والتسويل لا بالقسر والإلجاء فغووا باختيارهم غيا مثل غينا باختيارنا، ويجوز أن يكون الموصول صفة اسم الإشارة والخبر جملة أغويناهم كما غوينا ومنع ذلك أبو علي في التذكرة بأنه يؤدي إلى أن الخبر لا يكون فيه فائدة زائدة لأن إغواءهم إياهم قد علم من الوصف. ورد بأن التشبيه دل على أنهم غووا باختيار لا أن الإغواء إلجاء وقوله: إن كما غوينا فضلة فلا تصير ذاك أصلا في الجملة ليس بشيء لأن الفضلات قد تلزم في بعض المواضع نحو زيد عمرو قائم في داره وقرأ أبان عن عاصم وبعض الشاميين «كما غوينا» بكسر الواو، قال ابن خالوية: وليس ذلك مختارا لأن كلام العرب غويت من الضلالة وغويت بالكسر من البشم تَبَرَّأْنا منهم ومما اختاروه من الكفر والمعاصي هوى من أنفسهم موجهين التبرؤ ومهيئين له إِلَيْكَ والجملة تقرير لما قبلها لأن الإقرار بالغواية تبرؤ في الحقيقة ولذا لم تعطف عليه وكذا قوله تعالى: ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ أي ما كانوا يعبدوننا وإنما كانوا يعبدون في نفس الأمر والمآل أهواءهم، وقيل: ما مصدرية متصلة بقوله تعالى: تَبَرَّأْنا وهناك جار مقدر أي تبرأنا من عبادتهم إيانا وجعلها نافية على أن المعنى ما كانوا يعبدوننا باستحقاق وحجة ليس بشيء وأيا ما كان فإيانا مفعول يعبدون قدم للفاصلة وَقِيلَ تقريعا لهم وتهكما بهم ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ الذين زعمتم فَدَعَوْهُمْ لفرط الحيرة وإلا فليس هناك طلب حقيقة للدعاء، وقيل: دعوهم لضرورة الامتثال على أن هناك طلبا، والغرض من طلب ذلك منهم تفضيحهم على رؤوس الأشهاد بدعاء من لا نفع له لنفسه قيل: والظاهر من تعقيب صيغة الأمر بالفاء في قوله تعالى: فَدَعَوْهُمْ أنها لطلب الدعاء وإيجابه والأول أبلغ في تهويل أمر أولئك الكفرة والإشارة إلى سوء حالهم وأمر التعقيب بالفاء سهل فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ضرورة عدم قدرتهم على الاستجابة والنصرة، وجوز أن يكون المراد فلم يجيبوهم لأنهم في شغل شاغل عنهم ولعلهم ختم على أفواههم إذ ذاك وَرَأَوُا الْعَذابَ الظاهر أن الضمير للداعين وقال الضحاك: هو للداعين والمدعوين جميعا، وقيل: هو للمدعوين فقط وليس بشيء. والظاهر أن الرؤية بصرية ورؤية العذاب إما على معنى رؤية مباديه أو على معنى رؤيته نفسه بتنزيله منزلة المشاهد، وجوز أن تكون علمية والمفعول الثاني محذوف أي رأوا العذاب متصلا بهم أو غاشيا لهم أو نحو ذلك. وأنت تعلم أن حذف أحد مفعولي أفعال القلوب مختلف في جوازه وتقدم آنفا عن البعض أن الأكثرين على المنع فمن منع وقال في بيان المعنى ورأوا العذاب متصلا بهم جعل متصلا حالا من العذاب لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ لو شرطية وجوابها محذوف أي لو كانوا يهتدون لوجه من وجوه الحيل يدفعون به العذاب لدفعوا به العذاب أو لو أنهم كانوا في الدنيا مهتدين مؤمنين لما رأوا العذاب. واعترض بأن الدال على المحذوف رأوا العذاب وهو مثبت فلا يقدر المحذوف منفيا وهو غير وارد لأن الالتفات إلى المعنى وإذا جاز الحذف لمجرد دلالة الحال فإذا انضم إليها شهادة المقال كان أولى وأولى، وجوز أن تكون لَوْ للتمني أي تمنوا لو أنهم كانوا مهتدين فلا تحتاج إلى الجواب وقال صاحب التقريب: فيه نظر إذ حقه أن يقال لو كنا إلا أن يكون على الحكاية كأقسم ليضربن أو على تأويل رأوا متمنين هدايتهم. وجوز على تقدير كونها للتمني أن يكون قد وضع لو أنهم كانوا مهتدين موضع تحيروا لرؤيته كان كل أحد يتمنى لهم الهداية عند ذلك الهول والتحير ترحما عليهم أو هو من الله تعالى شأنه على المجاز كما قيل: في قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ [البقرة: 103] ، وجعل الطيبي وضعه موضعه من إطلاق المسبب على السبب لأن تحيرهم سبب حامل على هذا القول. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 308 وقال عليه الرحمة: إن النظم على هذا الوجه ينطبق، واختار الإمام الرازي أنها شرطية إلا أنه لم يرتض ما قالوه في تقدير الجواب فقال بعد نقل ما قالوه: وعندي أن الجواب غير محذوف، وفي تقريره وجوه أحدها أن الله تعالى إذا خاطبهم بقوله سبحانه: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فهناك يشتد الخوف عليهم ويلحقهم شيء كالسدر والدوار فيصيرون بحيث لا يبصرون شيئا، فقال سبحانه: ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يبصرون شيئا على معنى أنهم لم يروا العذاب لأنهم صاروا بحيث لا يبصرون شيئا، وثانيها أنه تعالى لما ذكر عن الشركاء وهي الأصنام أنهم لا يجيبون الذين دعوهم قال في حقهم: وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ أي هذه الأصنام كانوا يشاهدون العذاب لو كانوا من الأحياء المهتدين، ولكنها ليست كذلك والإتيان بضمير العقلاء على حسب اعتقاد القوم بهم، وثالثها أن يكون المراد من الرؤية رؤية القلب أي والكفار علموا حقية هذا العذاب لو كانوا يهتدون وهذه الوجوه عندي خير من الوجوه المبنية على أن جواب لو محذوف فإن ذلك يقتضي تفكيك نظم الآية اهـ ولعمري إنه لم يأت بشيء وما يرد عليه أظهر من أن يخفى على من له أدنى تمييز بين الحي واللي. وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ عطف على الأول سئلوا أولا عن إشراكهم لأنه المقصود من أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ، وثانيا عن جوابهم للرسل الذين نهوهم عن ذلك. فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ أصله فعموا عن الأنباء أي لم يهتدوا إليها، وفيه استعارة تصريحية تبعية حيث استعير العمى لعدم الاهتداء ثم قلب للمبالغة فجعل الأنباء لا تهتدي إليهم وضمن العمى معنى الخفاء فعدي بعلى ولولاه لتعدى بعن ولم يتعلق بالأنباء لأنها مسموعة لا مبصرة، وفي هذا القلب دلالة على أن ما يحضر الذهن يفيض عليه ويصل إليه من الخارج ونفس الأمر إما ابتداء وإما بواسطة تذكر الصورة الواردة منه بأماراتها الخارجية فإذا أخطأ الذهن الخارج بأن لم يصل إليه لانسداد الطريق بينه وبينه بعمى ونحوه لم يمكنه إحضار ولا استحضار، وذلك لأنه لما جعل الأنباء الواردة عليهم من الخارج عميا لا تهتدي دل على أنهم عمي لا يهتدون بالطريق الأولى لأن اهتداءهم بها فإذا كانت هي في نفسها لا تهتدي فما بالك بمن يهتدي بها كذا قيل: فليتدبر، وجوز أن يكون في الكلام استعارة مكنية تخيلية أي فصارت الأنباء كالعمى عليهم لا تهتدي إليهم، والمراد بالأنباء إما ما طلب منهم مما أجابوا به الرسل عليهم السلام أو ما يعمها وكل ما يمكن الجواب به، وإذا كانت الرسل عليهم السلام يتتعتعون في الجواب عن مثل ذلك في ذلك المقام الهائل ويفوضون العلم إلى علام الغيوب مع نزاهتهم عن غائلة المسئول فما ظنك بأولئك الضلال من الأمم. وقرأ الأعمش وجناح بن حبيش وأبو زرعة بن عمرو بن جرير «فعمّيت» بضم العين وتشديد الميم. فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ أي لا يسأل بعضهم بعضا لفرط الدهشة أو العلم بأن الكل سواء في الجهل، والفاء إما تفصيلية أو تفريعية لأن سبب العمى فرط الدهشة. وقرأ طلحة «لا يساءلون» بإدغام التاء في السين فَأَمَّا مَنْ تابَ أي من الشرك وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً أي جمع بين الإيمان والعمل الصالح فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ أي الفائزين بالمطلوب عنده عز وجل الناجين عن المهروب و (عسى) للتحقيق على عادة الكرام أو للترجي من قبل التائب المذكور بمعنى فليتوقع أن يفلح، وقوله تعالى: فَأَمَّا قيل لتفصيل المجمل الواقع في ذهن السامع من بيان ما يؤول إليه حال المشركين، وهو أن حال من تاب منهم كيف يكون، والدلالة على ترتب الاخبار به على ما قبله فالآية متعلقة بما عندها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 309 وقال الطيبي: هي متعلقة بقوله تعالى: أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً [القصص: 61] والحديث عن الشركاء مستطرد لذكر الإحضار، وتعقبه في الكشف بأن الظاهر أنه ليس متعلقا به بل لما ذكر سبحانه حال من حق عليه القول من التابع والمتبوع قال تعالى شأنه حثا لهم على الإقلاع: فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ فكأنه قيل: ما ذكر لمصيرهم فأما من تاب فكلا. وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ خلقه من الأعيان والأعراض وَيَخْتارُ عطف على يخلق، والمعنى على ما قيل يخلق ما يشاؤه باختياره فلا يخلق شيئا بلا اختيار، وهذا مما لم يفهم مما يشاء فليس في الآية شائبة تكرار، وقيل في دفع ما يتوهم من ذلك غير ما ذكر مما نقله ورده الخفاجي ولم يتعرض للقدح في هذا الوجه، وأراه لا يخلو عن بعد ولي وجه في الآية سأذكره بعد إن شاء الله تعالى ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ أي التخير كالطيرة بمعنى التطير وهما والاختيار بمعنى، وظاهر الآية نفي الاختيار عن العبد رأسا كما يقوله الجبرية، ومن أثبت للعبد اختيارا قال: إنه لكونه بالدواعي التي لو لم يخلقها الله تعالى فيه لم يكن كان في حيز العدم، وهذا مذهب الأشعري على ما حققه العلامة الدواني قال: الذي أثبته الأشعري هو تعلق قدرة العبد وإرادته الذي هو سبب عادي لخلق الله تعالى الفعل فيه، وإذا فتشنا عن مبادئ الفعل وجدنا الإرادة منبعثة عن شوق له وتصور أنه ملائم وغير ذلك من أمور ليس شيء منها بقدرة العبد واختياره، وحقق العلامة الكوراني في بعض رسائله المؤلفة في هذه المسألة أن مذهب السلف أن للعبد قدرة مؤثرة بإذن الله تعالى وأن له اختيارا لكنه مجبور باختياره وادعى أن ذلك هو مذهب الأشعري دون ما شاع من أن له قدرة غير مؤثرة أصلا بل هي كاليد الشلاء ونفي الاختيار عنه على هذا نحوه على ما مر فإنه حيث كان مجبورا به كان وجوده كالعدم، وقيل: إن الآية أفادت نفي ملكهم للاختيار ويصدق على المجبور باختياره بأنه غير مالك للاختيار إذ لا يتصرف فيه كما يشاء تصرف المالك في ملكه، وقيل: المراد لا يليق ولا ينبغي لهم أن يختاروا عليه تعالى أي لا ينبغي لهم التحكم عليه سبحانه بأن يقولوا لم لم يفعل الله تعالى كذا. ويؤيده أن الآية نزلت حين قال الوليد بن المغيرة لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أو حين قال اليهود لو كان الرسول إلى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم غير جبريل عليه السلام لآمنا به على ما قيل، والجملة على هذا الوجه مؤكدة لما قبلها أو مفسرة له إذ معنى ذلك يخلق ما يشاء ويختار ما يشاء أن يختاره لا ما يختاره العباد عليه ولذا خلت عن العاطف وهي على ما تقدم مستأنفة في جواب سؤال تقديره فما حال العباد أو هل لهم اختيار أو نحوه؟ فقيل: إنهم ليس لهم اختيار، وضعف هذا الوجه بأنه لا دلالة على هذا المعنى في النظم الجليل وفيه حذف المتعلق وهو على الله تعالى من غير قرينة دالة عليه، وكون سبب النزول ما ذكر ممنوع، والقول الثاني فيه يستدعي بظاهره أن يكون ضمير لهم لليهود وفيه من البعد ما فيه، وقيل: ما موصولة مفعول يختار والعائد محذوف، والوقف على يشاء لا نافية، والوقف على يختار كما نص عليه الزجاج وعلي بن سليمان والنحاس كما في الوجهين السابقين أي ويختار الذي كان لهم فيه الخير والصلاح، واختياره تعالى ذلك بطريق التفضل والكرم عندنا وبطريق الوجوب عند المعتزلة، وإلى موصولية ما وكونها مفعول يختار ذهب الطبري إلا أنه قال في بيان المعنى عليه: أي ويختار من الرسل والشرائع ما كان خيرة للناس، وأنكر أن تكون نافية لئلا يكون المعنى أنه لم تكن لهم الخيرة فيما مضى وهي لهم فيما يستقبل، وادعى أبو حيان أنه روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما معنى ما ذهب إليه، واعترض بأن اللغة لا تساعده لأن المعروف فيها أن الخيرة بمعنى الاختيار لا بمعنى الخير وبأنه لا يناسب ما بعده من قوله تعالى: سُبْحانَ اللَّهِ إلخ، وكذا لا يناسب ما قبله من قوله سبحانه: يَخْلُقُ ما يَشاءُ، وضعفه بعضهم بأن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 310 فيه حذف العائد ولا يخفى أن حذفه كثير. وأجيب عما اعترض به الطبري بأنه يجوز أن يكون المراد بمعونة المقام استمرار النفي أو يكون المراد ما كان لهم في علم الله تعالى ذلك، وهذا بعد تسليم لزوم كون المعنى ما ذكره لو أبقى الكلام على ظاهره. وقال ابن عطية: يتجه عندي أن يكون ما مفعول يختار إذا قدرنا كان تامة أي إن الله تعالى يختار كل كائن ولا يكون شيء إلا بإذنه وقوله تعالى: لَهُمُ الْخِيَرَةُ جملة مستأنفة معناها تعديد النعمة عليهم في اختيار الله سبحانه لهم لو قبلوا وفهموا اهـ. يعني والله تعالى أعلم أن المراد خيرة الله تعالى لهم أي اختياره لمصلحتهم. وللفاضل سعدي جلبي نحو هذا إلا أنه قال في قوله تعالى: لَهُمُ الْخِيَرَةُ إنه في معنى ألهم الخيرة بهمزة الاستفهام الإنكاري، وذكر أن هذا المعنى يناسبه ما بعد من قوله سبحانه: سُبْحانَ اللَّهِ إلخ فإنه إما تعجيب عن إثبات الاختيار لغيره تعالى أو تنزيه له عز وجل عنه، ولا يخفى ضعف ما قالاه لما فيه من مخالفة الظاهر من وجوه، ويظهر لي في الآية غير ما ذكر من الأوجه، وهو أن يكون يختار معطوفا على يخلق والوقف عليه تام كما نص عليه غير واحد وهو من الاختيار بمعنى الانتقاء والاصطفاء وكذا الخيرة بمعنى الاختيار بهذا المعنى والفعل متعد حذف مفعوله ثقة بدلالة ما قبله عليه أي ويختار ما يشاء، وتقديم المسند إليه في كل من جانبي المعطوف والمعطوف عليه لإفادة الحصر، وجملة ما كان لهم الخيرة مؤكدة لما قبلها حيث تكفل الحصر بإفادة النفي الذي تضمنته، والكلام مسوق لتجهيل المشركين في اختيارهم ما أشركوه واصطفائهم إياه للعبادة والشفاعة لهم يوم القيامة كما يرمز إليه ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ وللتعبير- بما- وجه ظاهر، والمعنى وربك لا غيره يخلق ما يشاء خلقه وهو سبحانه دون غيره ينتقي ويصطفي ما يشاء انتقاءه واصطفاءه فيصطفي مما يخلقه شفعاء ويختارهم للشفاعة ويميز بعض مخلوقاته جل جلاله على بعض ويفضله عليه بما شاء ما كان لهؤلاء المشركين أن ينتقوا ويصطفوا ما شاؤوا ويميزوا بعض مخلوقاته تعالى على بعض ويجعلوه مقدما عنده عز وجل على غيره لأن ذلك يستدعي القدرة الكاملة وعدم كون فاعله محجورا عليه أصلا وأنى لهم ذلك فليس لهم إلا اتباع اصطفاء الله تعالى وهو جل وعلا لم يصطف شركاءهم الذين اصطفوهم للعبادة والشفاعة على الوجه الذي اصطفوهم عليه فما هم إلا جهال ضلال صدوا عما يلزمهم وتصدوا لما ليس لهم بحال من الأحوال، وإن شئت فنزل الفعل منزلة اللازم وقل المعنى وربك لا غيره يخلق ما يشاء خلقه وهو سبحانه لا غيره يفعل الاختيار والاصطفاء فيصطفي بعض مخلوقاته لكذا وبعضا آخر لكذا ويميز بعضا منها على بعض ويجعله مقدما عنده تعالى عليه فإنه سبحانه قادر حكيم لا يسأل عما يفعل وهو جل وعلا أعظم من أن يعترض عليه وأجل، ويدخل في الغير المنفي عنه ذلك المشركون فليس لهم أن يفعلوا ذلك فيصطفوا بعض مخلوقاته للشفاعة ويختاروهم للعبادة ويجعلوهم شركاء له عز وجل ويدخل في الاختيار المنفي عنهم ما تضمنه قولهم لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم فإن فيه انتقاء غيره صلّى الله عليه وسلّم من الوليد بن المغيرة أو عروة بن مسعود الثقفي وتمييزه بأهلية تنزيل القرآن عليه فإن صح ما قيل: في سبب نزول هذه الآية من أنه القول المذكور كان فيها رد ذلك عليهم أيضا إلا أنها لتضمنها تجهيلهم باختيارهم الشركاء واصطفائهم إياهم آلهة وشفعاء كتضمنها الرد المذكور جيء بها هنا متعلقة بذكر الشركاء وتقريع المشركين على شركهم، وربما يقال: إنها لما تضمنت تجهيلهم فيما له نوع تعلق به تعالى كاتخاذ الشركاء له سبحانه وفيما له نوع تعلق بخاتم رسله عليه الصلاة والسلام كتمييزهم غيره عليه الصلاة والسلام بأهلية الإرسال إليه وتنزيل القرآن عليه جيء بها بعد ذكر سؤال المشركين عن إشراكهم وسؤالهم عن جوابهم للمرسلين الناهين لهم عنه الذين عين أعيانهم وقلب صدر ديوانهم رسوله الخاتم لهم صلى الله تعالى عليه وسلم فلها تعلق بكلا الأمرين إلا أن تعلقها بالأمر الأول أظهر وأتم وخاتمتها تقتضيه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 311 على أكمل وجه وأحكم. وربما يقال أيضا: إن لها تعلقا بجميع ما قبلها، أما تعلقها بالأمرين المذكورين فكما سمعت، وأما تعلقها بذكر حال التائب فمن حيث إن انتظامه في سلك المفلحين يستدعي اختيار الله تعالى إياه واصطفاءه له وتمييزه على من عداه، ولذا جيء بها بعد الأمور الثلاثة وذكر انحصار الخلق فيه تعالى وتقديمه على انحصار الاختيار والاصطفاء مع أن مبنى التجهيل والرد إنما هو الثاني للإشارة إلى أن انحصار الاختيار من توابع انحصار الخلق، وفي ذكره تعالى بعنوان الربوبية إشارة إلى أن خلقه عز وجل ما شاء على وفق المصلحة والحكمة وإضافة الرب إليه صلى الله تعالى عليه وسلّم لتشريفه عليه الصلاة والسلام وهي في غاية الحسن إن صح ما تقدم عن الوليد سببا للنزول، ويخطر في الباب احتمالات أخر في الآية فتأمل فإني لا أقول ما أبديته هو المختار كيف وربك جل شأنه يخلق ما يشاء ويختار سُبْحانَ اللَّهِ أي تنزه تعالى بذاته تنزها خاصا به من أن ينازعه أحد أو يزاحم اختياره عز شأنه وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي عن إشراكهم على أن ما مصدرية ويحتمل أن تكون موصولة بتقدير مضاف أي عن مشاركة ما يشركونه به كذا قيل، وجعل بعضهم سُبْحانَ اللَّهِ تعجيبا من إشراكهم من يضرهم بمن يريد لهم كل خير تبارك وتعالى وهو على احتمال كون ما فيما تقدم موصولة مفعول يختار، والمعنى ويختار ما كان لهم فيه الخير والصلاح، ويجوز أن يكون تعجيبا أيضا من اختيارهم شركاءهم الذين أعدوهم للشفاعة وإقدامهم على ما لم يكن لهم وذلك بناء على ما ظهر لنا وظاهر كلام كثير أن الآية ليست من باب الإعمال، وجوز أن تكون منه بأن يكون كل من سبحان وتعالى طالبا عما يشركون والأفيد على ما قيل أن لا تكون منه. وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ أي ما يكنون ويخفون في صدورهم من الاعتقادات الباطلة ومن عداوتهم لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم، ونحو ذلك وَما يُعْلِنُونَ وما يظهرونه من الأفعال الشنيعة والطعن فيه عليه الصلاة والسلام وغير ذلك، ولعله للمبالغة في خباثة باطنهم لأن ما فيه مبدأ لما يكون في الظاهر من القبائح لم يقل ما يكون كما قيل: ما يعلنون. وقرأ ابن محيصن «تكن» بفتح التاء وضم الكاف وَهُوَ اللَّهُ أي وهو تعالى المستأثر بالألوهية المختص بها، وقوله سبحانه: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ تقرير لذلك كقولك: الكعبة القبلة لا قبلة إلا هي. لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ أي له تعالى ذلك دون غيره سبحانه لأنه جل جلاله المعطي لجميع النعم بالذات وما سواه وسائط، والمراد بالحمد هنا ما وقع في مقابلة النعم بقرينة ذكرها بعده بقوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إلخ. وزعم بعضهم أن الحمد هنا أعم من الشكر، واعتبر الحصر بالنسبة إلى مجموع حمدي الدارين زاعما أن الحمد في الدنيا وإن شاركه فيه غيره تعالى لكن الحمد في الآخرة لا يكون إلا له تعالى، وفيه أن الحمد مطلقا مختص به تعالى لأن الفضائل والأوصاف الجميلة كلها بخلقه تعالى فيرجع الحمد عليها في الآخرة له تعالى لأنه جل وعلا مبديها ومبدعها، ولو نظر إلى الظاهر لم يكن حمد الآخرة مختصا به سبحانه أيضا فإن نبينا صلّى الله تعالى عليه وسلّم يحمده الأولون والآخرون عند الشفاعة الكبرى، وفسر غير واحد حمده تعالى في الآخرة بقول المؤمنين: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ [الزمر: 74] ، وقولهم: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فاطر: 34] ، وقولهم: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة: 2] ، وقالوا: التحميد هناك على وجه اللذة لا الكلفة، وفي حديث رواه مسلم وأبو داود عن جابر في وصف أهل الجنة يلهمون التسبيح والتهليل كما يلهمون النفس وَلَهُ الْحُكْمُ أي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 312 القضاء النافذ في كل شيء من غير مشاركة فيه لغيره تعالى، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أي له الحكم بين عباده تعالى فيحكم لأهل طاعته بالمغفرة والفضل ولأهل معصيته بالشقاء والويل وَإِلَيْهِ سبحانه لا إلى غيره. تُرْجَعُونَ بالبعث قُلْ تقريرا لما ذكر أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني، وقرأ الكسائي «أريتم» بحذف الهمزة إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً أي دائما وهو عند البعض من السرد وهو المتابعة والإطراد والميم مزيدة لدلالة الاشتقاق عليه فوزنه فعمل ونظيره دلامص من الدلاص، يقال: درع دلاص أي ملساء لينة. واختار بعض النحاة أن الميم أصلية فوزنه فعلل لأن الميم لا تنقاس زيادتها في الوسط، ونصبه إما على أنه مفعول ثان لجعل أو على أنه حال من الليل، وقوله تعالى: إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إما متعلق بسرمدا أو بجعل وجوز أبو البقاء أيضا تعلقه بمحذوف وقع صفة لسرمدا وجعله تعالى كذلك بإسكان الشمس تحت الأرض مثلا وقوله تعالى: مَنْ إِلهٌ مبتدأ وخبر، وقوله سبحانه: غَيْرُ اللَّهِ صفة لإله. وقوله تعالى: يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ صفة أخرى له عليها يدور أمر التبكيت والإلزام كما في قوله تعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [سبأ: 24] ، وقوله سبحانه: فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ [الملك: 30] ونظائرهما خلا إنه قصد بيان انتفاء الموصوف بانتفاء الصفة، ولم يؤت بهل التي هي لطلب التصديق المناسب بحسب الظاهر للمقام، وأتى بمن التي هي لطلب التعيين المقتضي لأصل الوجود لإيراد التبكيت والإلزام على زعمهم فإنه أبلغ كما لا يخفى، وجملة مَنْ إِلهٌ إلخ قال أبو حيان: في موضع المفعول الثاني لأرأيتم وجعل الليل مما تنازع فيه أرأيتم وجعل وقال: إنه أعمل فيه الثاني فيكون المفعول الأول للأول محذوفا، وحيث جعلت تلك الجملة في موضع مفعوله الثاني لا بد من تقدير العائد فيها أي من إله غيره يأتيكم بضياء بدله مثلا، وجواب إن محذوف دل عليه ما قبله، وكذا يقال في الآية بعد، وعن ابن كثير أنه قرأ «بضآء» بهمزتين أَفَلا تَسْمَعُونَ سماع فهم وقبول الدلائل الباهرة والنصوص المتظاهرة لتعرفوا أن غير الله تعالى لا يقدر على ذلك قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بإسكان الشمس في وسط السماء مثلا مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ استراحة من متاعب الأشغال أَفَلا تُبْصِرُونَ الشواهد المنصوبة الدالة على القدرة الكاملة لتقفوا على أن غير الله تعالى لا قدرة له على ذلك، ويعلم مما ذكرنا أن كلّا من جملتي أفلا تسمعون وأ فلا تبصرون تذييل للتوبيخ الذي يعطيه قوله تعالى: أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ إلخ قبله، وأفاد الزمخشري أن ظاهر التقابل يقتضي ذكر النهار والتصرف فيه إلا أن العدول عن ذلك إلى الضياء وهو ضوء الشمس للدلالة على أنه يتضمن منافع كثيرة منها التصرف فلو أتى بالنهار لاستدعى القصر على تلك المنفعة من ضرورة التقابل ولأن المنافع للضياء لا للنهار على أن النهار أيضا من منافعه، ثم استشعر أن يقال: فلم لم يؤت بالظلام بدل الليل في الآية الثانية لتتم المقابلة من هذا الوجه؟ وأجاب بأنه ليس بتلك المنزلة فلا هو مقصود في ذاته كالضياء ولا أن المنافع من روادفه مع ما فيهما من الاستئناس والاشمئزاز، بل لو تأمل حق التأمل وجد حكم بأن الليل من منافع الضياء أيضا والظلام من ضرورات كون الشمس المضيئة تحت الأرض وإلقاء ظل الليل، ثم أفاد أن التفصلة وهو التذييل المذكور فيها إرشاد إلى هذه النكتة فإن قوله تعالى: أَفَلا تَسْمَعُونَ يدل على أن التوبيخ بعدم التأمل في الضياء أكثر من حيث إن مدرك السمع أكثر. والمراد ما يدركه العقل بواسطة السمع فلا يرد أن مدركه الأصوات وحدها ومدرك البصر أكثر من ذلك، وذلك أن ما لا يدرك بحس أصلا يدرك بواسطة السمع إذا عبر عنه المعبر بعبارة مفهمة، وأما ما يدرك بالبصر فمن مشاهدة المبصرات وهي قليلة، وأما المطالعة من الكتب فإنها أضيق مجالا من السمع وقرعه كذا في الكشف، والعلامة الطيبي قرر عبارة الكشاف بما قرر ثم قال: الأبعد من التكلف أن يجعل أفلا تسمعون تذييلا للتوبيخ المستفاد من أرأيتم إلخ قبله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 313 وكذا أَفَلا تُبْصِرُونَ على ما في المعالم أفلا تسمعون سماع فهم وقبول أفلا تبصرون ما أنتم عليه من الخطأ ليجتمع لهم الصمم والعمى من الإعراض عن سماع البراهين والإغماض عن رؤية الشواهد. ولما كانت استدامة الليل أشق من استدامة النهار لأن النوم الذي هو أجل الغرض فيه شبيه الموت والابتغاء من فضل الله تعالى الذي هو بعض فوائد النهار شبيه بالحياة قيل في الأول أفلا تسمعون أي سماع فهم وفي الثاني أفلا تبصرون أي ما أنتم عليه من الخطأ ليطابق كل من التذييلين الكلام السابق من التشديد والتوبيخ، وذكر في حاصل المعنى ما ذكرناه أولا ثم قال: وفيه أن دلالة النص أولى وأقدم من العقل، وصاحب الكشف قرر العبارة بما سمعت وذكر أن ذلك لا ينافي ما في المعالم بل يؤكده ويبين فائدة التوبيخين، ونقل الطيبي عن الراغب في غرة التنزيل أنه قال: إن نسخ الليل بالنير الأعظم أبلغ في المنافع وأضمن للمصالح من نسخ النهار بالليل، ألا ترى أن الجنة نهارها دائم لا ليل معه لاستغناء أهلها عن الاستراحة فتقديم ذكر الليل لانكشافه عن النهار الذي هو أجدى من تفاريق العصا ومنافع ضوء شمسه أكثر من أن تحصى أحق وأولى، ومعنى قوله تعالى: أَفَلا تَسْمَعُونَ أفلا تسمعون سماع من يتدبر المسموع ليستدرك منه قصد القائل ويحيط بأكثر ما جعل الله تعالى في النهار من المنافع فإن عقيب السماع استدراك المراد بالمسموع إذا كان هناك تدبر وتفكر فيه ومعنى أَفَلا تُبْصِرُونَ أتستدركون من ذلك ما يجب استدراكه انتهى. وفي الكشف أنه مؤيد لما ذكره صاحب الكشاف، وربما يقال ذكر سبحانه أولا فرضية جعل الليل سرمدا وثانيا فرضية جعل النهار كذلك لأن الليل كما قالوا مقدم على النهار شرعا وعرفا وأيضا ذلك أوفق بقوله تعالى وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ [القصص: 69] ففي المثل الليل أخفى للويل وكذا بقوله تعالى سبحانه: لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ ففي الأثر كان الخلق في ظلمة فرش الله تعالى عليهم من نوره، ولعله لاعتبار الأولية والآخرية ذيلت الآية الأولى بقوله تعالى: أَفَلا تَسْمَعُونَ بناء على أن المعنى أفلا تسمعون ممن سلف من آبائكم أو مما سلف منا أن آلهتكم لا تقدر على مثل ذلك والثانية بقوله سبحانه: أَفَلا تُبْصِرُونَ بناء على أن المعنى أفلا تبصرون أنتم عجزها عن مثل ذلك وجيء بالضياء غير موصوف في الآية الأولى وبالليل موصوفا في الثانية لما أفاده الزمخشري وقيل في وجه تذييل الآية الأولى بقوله تعالى: أَفَلا تَسْمَعُونَ دون قوله سبحانه: أَفَلا تُبْصِرُونَ أن المفروض لو تحقق بقي معه السمع دون الإبصار إذ ظلمة الليل لا تحجب السمع وتحجب البصر، وفي وجه تذييل الثانية بقوله تعالى: أَفَلا تُبْصِرُونَ دون أَفَلا تَسْمَعُونَ أن تحقق المفروض وعدمه سيان في أمر السمع دون الإبصار إذ لضياء النهار مدخل في الإبصار وليس له مدخل في السمع أصلا وهو كما ترى (واعلم) أن هاهنا إشكالا وهو أن جعل الليل سرمدا إلى يوم القيامة إن تحقق لم يتصور الإتيان بضياء أصلا وكذا جعل النهار سرمدا إلى يوم القيامة إن تحقق لم يتصور الإتيان بليل كذلك، أما من غيره تعالى فظاهر لأنه معدن العجز عن كل شيء، وأما منه عز وجل فلاستلزامه اجتماع الليل والنهار إذ لو لم يجتمعا لم يتحقق الليل مستمرا إلى يوم القيامة وكذا جعل النهار كذلك وهو خلاف المفروض واجتماعهما محال والمحال لا صلاحية له لتعلق القدرة فلا يراد. وأجيب بأن المراد إن أراد سبحانه ذلك فمن إله غيره تعالى يأتيكم بخلاف مراده سبحانه بأن يقطع الاستمرار فيأتي بنهار بعد ليل وليل بعد نهار، واعترض بأنه يفهم من الآية حينئذ أنه جل وعلا هو الذي إن أراد ذلك يأتيهم بخلاف مراده تعالى فيقطع الاستمرار وهو مشكل أيضا لأن إتيانه تعالى بخلاف مراده جل وعلا مستلزم لتخلف المراد عن الإرادة وهو محال فإذا أراد الله تبارك وتعالى شيئا على وجه إرادة لا تعليق فيها لا يمكن أن يريده على خلاف ذلك الجزء: 10 ¦ الصفحة: 314 الوجه، وأجيب بأنه يجوز أن يكون المراد إن أراد الله تعالى ذلك غير معلق له على إرادته عز شأنه خلافه لا يأتيكم بخلافه غيره عز وجل ولم يصرح بالقيد لدلالة العقل الصريح على أن الإرادة غير المعلقة لا يمكن الإتيان بخلاف موجبها أصلا، ومن الناس من ذهب إلى أنه سبحانه لا يبت إرادته فجميع ما يريده جل شأنه معلق، وقيل: الأولى أن يقال: ليس المراد سوى أن آلهتهم لا يقدرون على الإتيان بنهار بعد ليل وليل بعد نهار إذا أراد الله تعالى شأنه استمرار أحدهما، وإنما القادر على الإتيان بذلك هو الله سبحانه وحده من غير نظر إلى كون ذلك الإتيان مقيدا بتلك الإرادة فتدبر وَمِنْ رَحْمَتِهِ أي بسبب رحمته جل شأنه جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ أي في الليل وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي في النهار بالسعي بأنواع المكاسب ففي الآية ما يقال له اللف والنشر ويسمى أيضا التفسير كقول ابن حيوش: ومقرطق يغني النديم بوجهه ... عن كأسه الملأى وعن إبريقه فعل المدام ولونها ومذاقها ... في مقلتيه ووجنتيه وريقه وضمير فضله لله تعالى وجوز أبو حيان كونه للنهار على الإسناد المجازي وهو خلاف الظاهر، وفيها إشارة إلى مدح السعي في طلب الرزق وقد ورد «الكاسب حبيب الله» وهو لا ينافي التوكل وأن ما يحصل للعبد بواسطته فضل من الله عز وجل وليس مما يجب عليه سبحانه وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي ولكي تشكروا نعمته تعالى فعل ما فعل أو لتعرفوا نعمته تعالى وتشكروه عليها وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ منصوب باذكر. فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ تقريع إثر تقريع للإشعار بأنه لا شيء أجلب لغضب الله تعالى من الإشراك كما لا شيء أدخل في مرضاته من توحيده عز وجل، أو أن الأول لبيان فساد رأيهم كما يشير إليه قوله تعالى هناك: حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ [القصص: 63] ، وهذا لبيان أن إشراكهم لم يكن عن سند بل عن محض هوى كما يشير إليه قوله تعالى بعد هاتُوا بُرْهانَكُمْ أو الأول إحضار للشركاء بعدم الصلوح لقوله سبحانه بعده: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ وهذا تحسير بأنهم لم يكونوا في شيء من اتخاذهم ألا ترى قوله تعالى: وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ وَنَزَعْنا عطف على يناديهم وصيغة الماضي للدلالة على التحقق أو حال من فاعله بإضمار قد أو بدونه والالتفات إلى نون العظمة لإبراز كمال العناية بشأن النزع وتهويله أي أخرجنا بسرعة مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ من الأمم شَهِيداً شاهدا يشهد عليهم بما كانوا عليه وهو نبي تلك الأمة كما روي عن مجاهد، وقتادة، ويؤيده قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء: 41] وهذا في موقف من مواقف يوم القيامة فلا يضر كون الشهيد في موقف آخر غير الأنبياء عليهم السلام وهم أمة محمد صلّى الله تعالى عليه وسلّم أو الملائكة عليهم السلام لقوله تعالى: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ [الزمر: 69] فإنه دال في الظاهر على مغايرة الشهداء للأنبياء عليهم السلام. وقيل: يجوز اتحاد الموقف والدلالة على المغايرة غير مسلمة ولو سلمت فشهادة الأنبياء عليهم السلام لا تنافي شهادة غيرهم معهم، وقوله تعالى: مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ وإفراد شهيد ظاهر فيما تقدم، ومن هنا قال في البحر قيل: أي عدولا وخيارا، والشهيد عليه اسم جنس فَقُلْنا لكل من تلك الأمم هاتُوا بُرْهانَكُمْ على صحة ما كنتم تدينون به فَعَلِمُوا يومئذ أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ في الألوهية لا يشاركه سبحانه فيها أحد. وَضَلَّ عَنْهُمْ أي وغاب عنهم غيبة الشيء الضائع فضل مستعار لمعنى غاب استعارة تبعية. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 315 ما كانُوا يَفْتَرُونَ في الدنيا من الباطل إِنَّ قارُونَ اسم أعجمي منع الصرف للعلمية والعجمة كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أي من بني إسرائيل كما هو الظاهر، وحكى ابن عطية الإجماع عليه، واختلف في جهة قرابته من موسى عليه السلام فروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وابن جريج وقتادة وإبراهيم أنه ابن عم موسى عليه السلام فموسى بن عمران بن قاهث بقاف وهاء مفتوحة وثاء مثلثة ابن لاوي بالقصر ابن يعقوب عليه السلام وهو ابن يصهر بياء تحتية مفتوحة وصاد مهملة ساكنة وهاء مضمومة ابن قاهث إلخ. وفي مجمع البيان عن عطاء عن ابن عباس أنه ابن خالة موسى عليه السلام، وروي ذلك عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه. وحكي عن محمد بن إسحاق أنه عم موسى عليه السلام وهو ظاهر على قول من قال: إن موسى عليه السلام ابن عمران بن يصهر بن قاهث وهو ابن يصهر بن قاهث وكان يسمى المنور لحسن صورته وكان أحفظ بني إسرائيل للتوراة وأقرأهم لكنه نافق كما نافق السامري وقال: إذا كانت النبوة لموسى والمذبح والقربان لهارون فما لي؟ وروي أنه لما جاوز بهم موسى عليه السلام البحر وصارت الرسالة والحبورة لهارون يقرب القربان ويكون رأسا فيهم وكان القربان إلى موسى عليه السلام فجعله لأخيه هارون وجد قارون في نفسه فحسدهما فقال لموسى الأمر لكما ولست على شيء إلى متى أصبر قال موسى عليه السلام هذا صنع الله تعالى قال والله تعالى لا أصدقك حتى تأتي بآية فأمر رؤساء بني إسرائيل أن يجيء كل واحد بعصاه فحزمها وألقاها في القبة التي كان الوحي ينزل عليه فيها وكانوا يحرسون عصيهم بالليل فأصبحوا وإذا بعصا هارون تهتز ولها ورق أخضر وكانت من شجر اللوز فقال قارون: ما هو بأعجب مما تصنع من السحر فَبَغى عَلَيْهِمْ فطلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت أمره أو تكبر عليهم وعد من تكبره أنه زاد في ثيابه شبرا أو ظلمهم وطلب ما ليس حقه قيل: وذلك حين ملكه فرعون على بني إسرائيل. وقيل: حسدهم وطلب زوال نعمهم، وذلك ما ذكر منه في حق موسى وهارون عليهما السلام، والفاء فصيحة أي ضل فبغى، وجوز أن تكون على ظاهرها لأن القرابة كثيرا ما تدعو إلى البغي وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ أي الأموال المدخرة فهو مجاز بجعل المدخر كالمدفون إن كان الكنز مخصوصا به، وحكي في البحر أنه سميت أمواله كنوزا لأنها لم تؤد منها الزكاة وقد أمره موسى عليه السلام بأدائها فأبى وهو من أسباب عداوته إياه، وقيل: الكنوز هنا الأموال المدفونة وكان كما روي عن عطاء قد أظفره الله تعالى بكنز عظيم من كنوز يوسف عليه السلام ما إِنَّ مَفاتِحَهُ أي مفاتح صناديقه فهو على تقدير مضاف أو الإضافة لأدنى ملابسة وهو جمع مفتح بالكسر وهو ما يفتح به. وقال السدي: أي خزائنه وفي معناه قول الضحاك أي ظروفه وأوعيته، وروي نحو ذلك عن ابن عباس، والحسن وقياس واحده على هذا المفتح بالفتح لأنه اسم مكان، ويؤيد ما تقدم قراءة الأعمش مفاتيحه بياء جمع مفتاح وما موصولة ثاني مفعولي آتى ومفاتحه اسم إن وقوله تعالى: لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ خبرها والجملة صلة ما والعائد الضمير المجرور، ومنع الكوفيون جواز كون الجملة المصدرة بأن صلة للموصول، قال النحاس: سمعت علي بن سليمان- يعني الأخفش الصغير- يقول ما أقبح ما يقوله الكوفيون في الصلات إنه لا يجوز أن تكون صلة الذي إن وما عملت فيه وفي القرآن ما إن مفاتحه انتهى، ولا يخفى أن المانع من ذلك إن كان عدم السماع فالرد عليهم لا يتم إلا بشاهد لا يحتمل غير ذلك وما في الآية تحتمل أن تكون نكرة موصوفة وإن كان المانع كون إن تقع في ابتداء الكلام فلا ترتبط الجملة المصدرة بها بما قبلها فالرد بالآية المذكورة عليهم تام لأن المانع المذكور كما يمنع كون الجزء: 10 ¦ الصفحة: 316 الجملة صلة يمنع كونها صفة فتدبر، و (تنوء) من ناء به الحمل إذا أثقله حتى أماله فالباء للتعدية كما في ذهبت به، والعصبة الجماعة الكثيرة من غير تعيين لعدد خاص على ما ذكره الراغب، ومن أهل اللغة من عين لها مقدارا واختلفوا فيه فقيل من عشرة إلى خمسة عشر وهو مروي هنا عن مجاهد، وقيل: ما بين الخمسة عشر إلى الأربعين وروي ذلك عن الكلبي، وقيل: ما بين الثلاثة إلى العشرة، وقيل: من عشرة إلى أربعين وروي هذا عن قتادة وقيل: أربعون، وروي ذلك عن ابن عباس، وقيل: سبعون، وروي ذلك عن أبي صالح مولى أم هانىء وقال الخفاجي: قد يقال إن أصل معناها الجماعة مطلقا كما هو مقتضى الاشتقاق ثم إن العرف خصها بعدد واختلف فيه أو اختلف بحسب موارده، وقال أبو زيد: تنوء من نؤت بالحمل إذا نهضت به قال الشاعر: تنوء بأخراها فلأيأ قيامها ... وتمشي الهوينا عن قريب فتبهر وفي الآية على هذا قلب عند أبي عبيدة ومن تبعه والأصل تنوء العصبة بها أي تنهض، وقيل: يجوز أن لا يكون هناك قلب لأن المفاتح تنهض ملابسة للعصبة إذا نهضت العصبة بها، والأولى ما قدمناه أولا وهو منقول عن الخليل وسيبويه والفراء واختاره النحاس، وروي معناه عن ابن عباس وأبي صالح والسدي، وقرأ بديل بن ميسرة «لينوء» بالياء التحتية، وخرج ذلك أبو حيان على تقدير مضاف مذكر يرجع إليه الضمير أي ما إن حمل مفاتحه أو مقدارها أو نحو ذلك، وقال ابن جني: ذهب بالتذكير إلى ذلك القدر والمبلغ فلاحظ معنى الواحد فحمل عليه ونحوه، قول الراجز: مثل الفراخ نتفت حواصله أي حواصل ذلك أو حواصل ما ذكرنا، وقال الزمخشري: وجهه أن يفسر المفاتح بالخزائن ويعطيها حكم ما أضيفت إليه للملابسة والاتصال كقولك ذهبت أهل اليمامة انتهى، وإنما فسر المفاتح بالخزائن دون ما يفتح به ليتم الاتصال فإن اتصال الخزائن بالمخزون فوق اتصال المفاتيح به بل لا اتصال للثاني وحينئذ يكتسي التذكير من المضاف إليه كما اكتسى التأنيث من عكسه كالمثال الذي ذكره، وما تقدم عن غيره أولى. قال في الكشف لأن تفسير المفاتح بالخزائن ضعيف جدا لفوات المبالغة، وقيل: إن المفاتح بذلك المعنى غير معروف وقد سمعت أنه تفسير مأثور فإذا صح ذلك فلا يلتفت إلى ما ذكر من هذا وكلام الكشف، وذكر أبو عمرو الداني أن بديل بن ميسرة قرأ «ما إن مفتاحه» على الإفراد فلا تحتاج قراءته «لينوء» بالياء إلى تأويل، وقد بولغ في كثرة مفاتيحه فروي عن خيثمة أنها كانت وقر ستين بغلا أغر محجلا ما يزيد منها مفتاح على إصبع لكل مفتاح كنز، وفي رواية أخرى عنه كانت مفاتيح كنوز قارون من جلود كل مفتاح على خزانة على حدة فإذا ركب حملت المفاتيح على سبعين بغلا أغر محجلا. وفي البحر ذكروا من كثرة مفاتحه ما هو كذب أو يقارب الكذب فلم أكتبه، ومما لا مبالغة فيه ما روي عن ابن عباس من أن المفاتح الخزائن وكانت خزائنه يحملها أربعون رجلا أقوياء وكانت أربعمائة ألف يحمل كل رجل عشرة آلاف وعليه فأمثال قارون في الناس أكثر من خزائنه، ولعل الآية تشير إلى ما أوتيه فوق ذلك، ولا أظن الأمر كما روي عن خيثمة، وأبعد أبو مسلم في تفسير الآية فقال: المراد من المفاتح العلم والإحاطة كما في قوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ [الأنعام: 59] والمراد وآتيناه من الكنوز ما إن حفظها والاطلاع عليها ليثقل على العصبة أي هذه الكنوز لكثرتها واختلاف أصنافها تتعب حفظتها القائمين على حفظها إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ. قال الزمخشري: هو متعلق بتنوء وضعف بأن أثقال المفاتح العصبة ليس مقيدا بوقت قول قومه، وقال ابن عطية: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 317 ببغي، وضعف بنحو ذلك، وقال أبو البقاء: بآتينا، ويجوز أن يكون ظرفا لمحذوف دل عليه الكلام أي بغى عليهم إذ قال، وفي كل منهما ما سبق، وقال الحوفي منصوب باذكر محذوفا، وجوز كونه متعلقا بما بعده من قوله تعالى: قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ والجملة مقررة لبغيه ورجح تعلقه بمحذوف والتقدير أظهر التفاخر والفرح بما أوتي إذ قال له قومه لا تَفْرَحْ لا تبطر والفرح بالدنيا لذاتها مذموم لأنه نتيجة حبها والرضا بها والذهول عن ذهابها فإن العلم بأن ما فيها من اللذة مفارقة لا محالة يوجب الترح حتما كما قال أبو الطيب: أشد الغم عندي في سرور ... تيقن عنه صاحبه انتقالا وقال ابن شمس الخلافة: وإذا نظرت فإن بؤسا زائلا ... للمرء خير من نعيم زائل ولذلك قال عز وجل: وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ [الحديد: 23] والعرب تمدح بترك الفرح عند إقبال الخير قال الشاعر: ولست بمفراح إذ الدهر سرني ... ولا جازع من صرفه المتقلب وقال آخر: إن تلاق منفسا لا تلقنا ... فرح الخير ولا نكبو لضر وعلل سبحانه النهي هاهنا بكون الفرح مانعا من محبته عز وجل فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ فهو دليل على أن كون الفرح بالدنيا مذموما شرعا، وإنما قلنا: إن الفرح بها لذاتها مذموم لأن الفرح بها لكونها وسيلة إلى أمر من أمور الآخرة غير مذموم، ومحبة الله تعالى عند كثير صفة فعل أي أنه تعالى لا يكرم الفرحين بزخارف الدنيا ولا ينعم جل شأنه عليهم ولا يقربهم عز وجل، والمراد أنه تعالى يبغضهم ويهينهم ويبعدهم عن حضرته سبحانه، وقال بعضهم: إن في نفي محبته تعالى إياهم تنبيها على أن عدم محبته تعالى كاف في الزجر عما نهى عنه فما بالك بالبغض والعقاب وهو حسن، وحكى عيسى بن سليمان الحجازي أنه قرىء «الفارحين» . وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ من الكنوز والغنى الدَّارَ الْآخِرَةَ أي ثوابها أي ثواب الله تعالى فيها بصرف ذلك إلى ما يكون وسيلة إليه و (في) إما ظرفية على معنى ابتغ متقلبا ومتصرفا فيه أو سببية على معنى ابتغ بصرف ما أتاك الله تعالى ذلك وقرىء «اتبع» وَلا تَنْسَ أي ولا تترك ترك المنسي نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا أي حظك منها وهو كما أخرج الفريابي وابن أبي حاتم عن ابن عباس أن تعمل فيها لآخرتك، وروي ذلك عن مجاهد. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة هو أن تأخذ من الدنيا ما أحل الله تعالى لك، وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن منصور قال: ليس هو عرض من عرض الدنيا ولكن نصيبك عمرك أن تقدم فيه لآخرتك، وأخرج ابن المنذر وجماعة عن الحسن أنه قال في الآية: قدم الفضل وأمسك ما يبلغك، وقال مالك: هو الأكل والشرب بلا سرف، وقيل: أرادوا بنصيبه من الدنيا الكفن كما قال الشاعر: نصيبك مما تجمع الدهر كله ... رادءان تلوى فيهما وحنوط وفي نهيهم إياه عن نسيان ذلك حض عظيم له على التزود من ماله للآخرة فإن من يكون نصيبه من دنياه وجميع ما يملكه الكفن لا ينبغي له ترك التزوّد من ماله وتقديم ما ينفعه في آخرته وَأَحْسِنْ إلى عباد الله عز وجل كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ أي مثل إحسانه تعالى إليك فيما أنعم به عليك، والتشبيه في مطلق الإحسان أو لأجل إحسانه سبحانه إليك على أن الكاف للتعليل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 318 وقيل: المعنى وأحسن بالشكر الطاعة كما أحسن الله تعالى عليك بالإنعام، والكاف عليه أيضا تحتمل التشبيه والتعليل وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ نهي عن الاستمرار على ما هو عليه من الظلم والبغي. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ الكلام فيه كالكلام في قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وهذه الموعظة بأسرها كانت من مؤمني قومه كما هو ظاهر الآية، وقيل: إنها كانت من موسى عليه السلام قالَ مجيبا لمن نصحه إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي كأنه يريد الرد على قولهم: كما أحسن الله إليك لإنبائه عن أنه تعالى أنعم عليه بتلك الأموال والذخائر من غير سبب واستحقاق من قبله، وحاصله دعوى استحقاقه لما أوتيه لما هو عليه من العلم، وقوله عَلى عِلْمٍ عند أكثر المعربين في موضع الحال من مرفوع أوتيته قيد به العامل إشارة إلى علة الإيتاء ووجه استحقاقه له أي إنما أوتيته كائنا على علم، وجوز كون على تعليلية والجار والمجرور متعلق بأوتيت على أنه ظرف لغو كأنه قيل أوتيته لأجل علم، وعِنْدِي في موضع الصفة لعلم والمراد لعلم مختص بي دونكم، وجوز كونه متعلقا بأوتيت، ومعناه في ظني ورأيي كما في قولك: حكم كذا الحل عند أبي حنيفة عليه الرحمة، وفي الكشاف ما هو ظاهر في أن عندي إذا كان بمعنى في ظني ورأيي كان خبر مبتدأ محذوف أي هو في ظني ورأيي هكذا، والجملة عليه مستأنفة تقرر أن ما ذكره رأي مستقر هو عليه، قال في الكشف: وهذا هو الوجه، والمراد بهذا العلم قيل علم التوراة فإنه كان أعلم بني إسرائيل بها، وقال أبو سليمان الداراني: علم التجارة ووجوه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 319 المكاسب، وقال ابن المسيب: علم الكيمياء، وكان موسى عليه السلام يعلم ذلك فأفاد يوشع بن نون ثلثه وكالب بن يوفنا ثلثه وقارون ثلثه فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه فكان يأخذ الرصاص والنحاس فيجعلهما ذهبا، وقيل: علم الله تعالى موسى عليه السلام علم الكيمياء فعلمه موسى أخته فعلمته أخته قارون، وروي عن ابن عباس تخصيصه بعلم صنعة الذهب، وقيل: علم استخراج الكنوز والدفائن، وعن ابن زيد أن المراد بالعلم علم الله تعالى وأن المعنى أوتيته على علم من الله تعالى وتخصيص من لدنه سبحانه قصدني به، وعِنْدِي عليه بمعنى في ظني ورأيي، وقيل: العلم بمعنى المعلوم مثله في قوله تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ [البقرة: 255] وإلى ذلك يشير ما روي عن مقاتل أنه قال أي على خير علمه الله تعالى عندي وتفسيره بعلم الكيمياء شائع فيما بين أهلها، وفي مجمع البيان حكايته عن الكلبي أيضا، وأنكره الزجاج وقال: إنه لا يصح لأن علم الكيمياء باطل لا حقيقة له، وتعقبه الطيبي بأنه لعله كان من قبيل المعجز، وتعقب بأنه ليس بسديد وإلا لما تمكن قارون منه، وإنكار الكيمياء وهو لفظ يوناني معناه الحيلة أو عبراني وأصله كيم يه بمعنى أنه من الله تعالى أو فارسي وأصله كي ميا بمعنى متى يجيء على سبيل الاستبعاد غلب على تحصيل النقدين بطريق مخصوص مما لم يختص بالزجاج بل أنكرها جماعة أجلة وقالوا بعدم إمكانها، وذهب آخرون إلى خلاف ذلك. وإذا أردت نبذة من الكلام في ذلك فاستمع لما يتلى عليك. ذكر بعض المحققين أن مبنى الكلام في هذه الصناعة عند الحكماء على حال المعادن السبعة المنطرقة وهي الذهب والفضة والرصاص والقزدير (1) والنحاس والحديد والخارصيني هل هي مختلفات بالفصول فيكون كل منها نوعا غير النوع الآخر أو هي مختلفات بالخواص والكيفيات فقط فتكون كلها أصنافا لنوع واحد فالذي ذهب إليه المعلم أبو نصر الفارابي وتابعه عليه حكماء الأندلس أنها نوع واحد وأن اختلافها بالكيفيات من الرطوبة واليبوسة واللين والصلابة والألوان نحو الصفرة والبياض والسواد وهي كلها أصناف لذلك النوع الواحد وبني على ذلك إمكان انقلاب بعضها إلى بعض بتبدل الأعراض بفعل الطبيعة أو بالصنعة. وقد حكى أبو بكر بن الصائغ المعروف بابن باجة في بعض تصانيفه عن المعلم المذكور أنه قال: قد بين أرسطو في كتبه في المعادن أن صناعة الكيمياء داخلة تحت الإمكان إلا أنها من الممكن الذي يعسر وجوده بالفعل اللهم إلا أن يتفق قرائن يسهل بها الوجود وذلك أنه فحص عنها أولا على طريق الجدل فأثبتها بقياس وأبطلها بقياس على عادته فيما يكثر عناده من الأوضاع ثم أثبتها أخيرا بقياس ألفه من مقدمتين بينهما في أول الكتاب، الأولى أن الفلزات واحدة بالنوع والاختلاف الذي بينها ليس في ماهياتها وإنما هو في أعراضها فبعضه في أعراضها الذاتية وبعضه في أعراضها العرضية، والثانية أن كل شيئين تحت نوع واحد اختلفا بعرض فإنه يمكن انتقال كل منهما إلى الآخر فإن كان العرض ذاتيا عسر الانتقال وإن كل مفارقا سهل الانتقال والعسر في هذه الصناعة إنما هو لاختلاف أكثر هذه الجواهر في أعراضها الذاتية ويشبه أن يكون الاختلاف الذي بين الذهب والفضة يسيرا جدا اهـ، والذي ذهب إليه الشيخ أبو علي بن سينا وتابعه عليه حكماء المشرق أنها مختلفة بالفصول وأنها أنواع متباينة وبنى على ذلك إنكار هذه الصناعة واستحالة وجودها لأن الفصل لا سبيل بالصناعة إليه وإنما يخلقه خالق الأشياء ومقدرها وهو الله عز وجل، وهذا ما حكاه ابن خلدون عنه، وقال الإمام في المباحث المشرقية في الفصل الثامن من القسم الرابع منها: الشيخ سلم إمكان أن يصبغ النحاس بصبغ الفضة والفضة بصبغ الذهب وأن يزال عن الرصاص أكثر ما فيه من النقص، فإما أن يكون الفصل المنوع يسلب أو يكسى، قال: فلم يظهر لي إمكانه بعد، إذ هذه   (1) في نسخة والقصدير. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 320 الأمور المحسوسة تشبه أن لا تكون الفصول التي بها تصير هذه الأجساد أنواعا بل هي أعراض ولوازم وفصولها مجهولة وإذا كان الشيء مجهولا كيف يمكن قصد إيجاده وإفنائه اهـ. وغلطه الطغرائي وهو من أكابر أهل هذه الصناعة وله فيها عدة كتب ورد عليه بأن التدبير والعلاج ليس في تخليق الفصل وإبداعه وإنما هو في إعداد المادة لقبول خاصة والفصل يأتي من بعد الإعداد من لدن خالقه وبارئه جل شأنه وعظمت قدرته كما يفيض سبحانه النور على الأجسام بالصقل ولا حاجة بنا في ذلك إلى تصوره ومعرفته، وإذا كنا قد عثرنا على تخليق بعض الحيوانات مثل العقرب من التراب والتبن، والحية من الشعر وغير ذلك فما المانع من العثور على مثل ذلك في المعادن وهذا كله بالصناعة وهي إنما موضوعها المادة فيعدها التدبير والعلاج إلى قبول تلك الفصول لا أكثر، فنحن نحاول مثل ذلك في الذهب والفضة فنتخذ مادة نصفها للتدبير بعد أن يكون فيها استعداد أول لقبول صورة الذهب والفضة ثم نحاولها بالعلاج إلى أن يتم فيها الاستعداد لقبول فصلهما اهـ بمعناه وهو رد صحيح فيما يظهر، وقال الإمام بعد ذكره ما سمعت من كلام الشيخ: هو ليس بقوي لأنا نشاهد من الترياق آثارا وأفعالا مخصوصة فإما أن لا نثبت له صورة ترياقية بل نقول إن الأفعال الترياقية حاصلة من ذلك المزاج لا من صورة أخرى جاز أيضا أن يقال صفرة الذهب ورزانته حاصلتان مما فيه من المزاج لا من صورة مقومة فحينئذ لا يكون للذهب فصل منوع إلا مجرد الصفرة والرزانة ولكنهما معلومتان فأمكن أن تقصد إزالتهما واتخاذهما فبطل ما قاله الشيخ. وأما إذا أثبتنا صورة مقومة له فنقول لا شك بأنا لا نعقل من تلك الصورة إلا أنها حقيقة تقتضي الأفعال المخصوصة الصادرة عن الترياق فإما أن يكون هذا القدر من العلم يكفي في قصد الإيجاد والإبطال أو لا يكفي فإن لم يكف وجب أن لا يمكننا اتخاذ الترياق وإن كفى فهو في مسألتنا أيضا حاصل لأنا نعلم من الصورة الذهبية أنها ماهية تقتضي الذوب والصفرة والرزانة ويجاب أيضا بأنا وإن كنا لا نعلم الصورة المقومة على التفصيل إلا أنا نعلم الأعراض التي تلائمها والتي لا تلائمها ونعلم أن العرض الغير الملائم إذا اشتد في المادة بطلت الصورة مثل الصورة المائية فإنا نعلم أن الحرارة لا تلائمها وإن كنا لا نعلم ماهيتها على التفصيل فلذلك يمكننا أن نبطل الصورة المائية وأن نكسبها، أما الإبطال فبتسخين الماء وأما الاكتساب فبتبريد الهواء فكذلك في مسألتنا واحتج قوم من الفلاسفة على امتناعها بأمور: أولها، أن الطبيعة إنما تعمل هذه الأجساد من عناصر مجهولة عندنا ولتلك العناصر مقادير معينة مجهولة عندنا أيضا ولكيفيات تلك العناصر مراتب معلومة وهي مجهولة عندنا ولتمام الفعل والانفعال زمان معين مجهول عندنا، ومع الجهل بكل ذلك كيف يمكننا عمل هذه الأجساد، وثانيها: أن الجوهر الصابغ إما أن يكون أصبر على النار من المصبوغ أو يكون المصبوغ أصبر أو يتساويان فإن كان الصابغ أصبر وجب أن يفنى المصبوغ ويبقى الصابغ بعد فنائه وإن كان المصبوغ أصبر وجب أن يبقى بعد فناء الصابغ وإن تساويا في الصبر على النار فهما من نوع واحد لاستوائهما في الصبر على النار فليس أحدهما بالصابغية والآخر بالمصبوغية أولى من العكس، وثالثها: أنه لو كان بالصناعة مثلا لما كان بالطبيعة لكن التالي باطل، أما أولا: فلأنا لم نجد له شبيها، وأما ثانيا: فلأنه لو جاز أن يوجد بالصناعة ما يحصل بالطبيعة لجاز أن يحصل بالطبيعة ما يحصل بالصناعة حتى يوجد سيف أو سرير بالطبيعة، ولما ثبت امتناع التالي ثبت امتناع المقدم، ورابعها: أن لهذه الأجساد أماكن طبيعية هي معادنها وهي لها بمنزلة الأرحام للحيوان فمن جوز تولدها في غير تلك المعادن كان كمن جوز تولد الحيوانات في غير الأرحام. وأجاب الإمام عن الأول بأنه منقوض بصناعة الطب. وعن الثاني بأنه لا يلزم من استواء الصابغ والمصبوغ في الصبر على النار استواؤهما في الماهية لأن المختلفين قد يشتركان في بعض الصفات، وعن الثالث بأنه قد يوجد بالصناعة مثل ما يوجد بالطبيعة مثل النار الحاصلة بالقدح، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 321 والنوشادر قد يتخذ من الشعير وكذلك كثير من الزاجات ثم بتقدير أن لا نجد له مثالا لا يلزم الجزم بنفيه ولا يلزم من إمكان حصول الأمر الطبيعي بالصناعة إمكان عكسه بل الأمر فيه موقوف على الدليل. وعن الرابع بأن من أراد أن يقلب النحاس فضة فهو لا يكون كالمحدث للشيء بل كالمعالج للمريض، فإن النحاس من جوهر الفضة إلا أن فيه عللا وأمراضا وكما يمكن المعالجة لا في موضع التكون فكذلك في هذا الموضع، على أن حاصل الدليل أن الذي يتكون في الجبال لا يمكن تكونه بالصناعة، وفيه وقع النزاع، وابن خلدون بعد أن ذكر كلام ابن سينا ورد الطغرائي عليه قال: لنا في الرد على أهل هذه الصناعة مأخذ آخر يتبين منه استحالة وجودها وبطلان زعمهم أجمعين، وذلك أن حاصل علاجهم أنهم بعد الوقوف على المادة المستعدة بالاستعداد الأول يجعلونها موضوعا ويحاذون في تدبيرها وعلاجها تدبير الطبيعة للجسم في المعدن حتى أحالته ذهبا أو فضة ويضاعفون القوى الفاعلة والمنفعلة ليتم في زمان أقصر لأنه تبين في موضعه أن مضاعفة قوة الفاعل تنقص من زمن فعله وتبين أن الذهب إنما يتم كونه في معدنه بعد ألف وثمانين من السنين دورة الشمس الكبرى فإذا تضاعفت القوى والكيفيات في العلاج كان زمان كونه أقصر من ذلك ضرورة على ما قلناه أو يتحرون بعلاجهم ذلك حصول صورة مزاجية لتلك المادة تصيرها كالخميرة للخبز تقلب العجين إلى ذاتها وتعمل فيه ما حصل لها من الانتفاش والهشاشة ليحسن هضمه في المعدة ويستحيل سريعا إلى الغذاء فتفعل تلك الصورة الأفاعيل المطلوبة، وذلك هو الإكسير، واعلم أن كل متكون من المولدات العنصرية لا بد فيه من اجتماع العناصر الأربعة على نسبة متفاوتة إذ لو كانت متكافئة في النسبة لما حصل امتزاجها فلا بد من الجزء الغالب على الكل، ولا بد في كل ممتزج من المولدات من حرارة غريزية هي الفاعلة لكونها الحافظة لصورته ثم كل متكون في زمان لا بد من اختلاف أطواره وانتقاله في زمن التكوين من طور إلى طور حتى ينتهي إلى غايته، وانظر شأن الإنسان في تطوره نطفة ثم علقة ثم وثم إلى نهايته ونسب الأجزاء في كل طور مختلف مقاديرها وكيفياتها وإلا لكان الطور الأول بعينه هو الآخر، وكذا الحرارة المقدرة الغريزية في كل طور مخالفة لما في الطور الآخر، فانظر إلى الذهب ما يكون في معدنه من الأطوار منذ ألف سنة وثمانين، وما ينتقل فيه من الأحوال فيحتاج صاحب الكيمياء أن يساوق فعل الطبيعة في المعدن ويحاذيه بتدبيره وعلاجه إلى أن يتم، ومن شرط الصناعة مطلقا تصور ما يقصد إليه بها، فمن الأمثال السائرة في ذلك للحكماء أول العمل آخر الفكرة وآخر الفكرة أول العمل فلا بد من تصور هذه الحالات للذهب في أحواله المتعددة ونسبها المتفاوتة في كل طور وما ينوب عنه من مقدار القوى المتضاعفة ويقوم مقامه حتى يحاذي بذلك فعل الطبيعة في المعدن أو يعد لبعض المواد صورة مزاجية تكون كصورة الخميرة للخبز وتفعل في هذه المادة بالمناسبة لقواها ومقاديرها. وهذه كلها إنما يحصرها العلم المحيط وهو علمه عز وجل، والعلوم البشرية قاصرة عن ذلك، وإنما حال من يدعي حصوله على الذهب بهذه الصناعة بمثابة من يدعي صنعة تخليق الإنسان من المني ونحن إذا سلمنا الإحاطة بأجزائه ونسبه وأطواره وكيفية تخليقه في رحمه وعلم ذلك علما محصلا لتفاصيله حتى لا يشذ من ذلك شيء عن علمه سلمنا له تخليق هذا الإنسان وأنى له ذلك. والحاصل أن الفعل الصناعي على ما يقتضيه كلامهم مسبوق بتصورات أحوال الطبيعة المعدنية التي تقصد مساواتها ومحاذاتها، وفعل المادة ذات القوى فيها على التفصيل وتلك الأحوال لا نهاية لها والعلم البشري عاجز عما دونها، فقصد تصيير النحاس ذهبا كقصد تخليق إنسان أو حيوان أو نبات، وهذا أوثق ما علمته من البراهين الدالة على الاستحالة، وليست الاستحالة فيه من جهة الفصول ولا من جهة الطبيعة وإنما هي من تعذر الإحاطة وقصور البشر عنها، وما ذكره ابن سينا بمعزل عن ذلك، ولذلك وجه آخر في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 322 الاستحالة من جهة غايته وهو أن حكمة الله تعالى في الحجرين وندرتهما أنهما عمدتا مكاسب الناس ومتمولاتهم فلو حصل عليها بالصنعة لبطلت حكمة الله تعالى في ذلك إذ يكثر وجودهما حتى لا يحصل أحد من اقتنائهما على شيء، وآخر أيضا وهو أن الطبيعة لا تترك أقرب الطرق في أفعالها وترتكب الأبعد فلو كان هذا الطريق الصناعي الذي يزعمون صحته وأنه أقرب من طريق الطبيعة في معدنها وأقل زمانا صحيحا لما تركته الطبيعة إلى طريقها الذي سلكته في تكوين الذهب والفضة وتخليصهما، وأما تشبيه الطغرائي هذا التدبير بما عثر عليه من مفردات لأمثاله في الطبيعة كالعقرب والحية وتخليقهما فأمر صحيح في ذلك أدى عليه العثور كما زعم، وأما الكيمياء فلم ينقل عن أحد من أهل العلم أنه عثر عليها ولا على طريقها وما زال منتحلوها يخبطون فيها خبط عشواء ولا يظفرون إلا بالحكايات الكاذبة ولو صح ذلك لأحد منهم لحفظه عنه ولده أو تلميذه وأصحابه وتنوقل في الأصدقاء وضمن تصديقه صحة العمل بعده إلى أن ينتشر ويبلغ إلينا أو إلى غيرنا، وأما قولهم: إن الإكسير بمثابة الخميرة وإنه مركب يحيل ما حصل فيه ويقلبه إلى ذاته فليس بشيء، لأن الخميرة إنما تقلب العجين وتعده للهضم وهو فساد والفساد في المواد سهل يقع بأيسر شيء من الأفعال والطبائع، والمطلوب من الإكسير قلب المعدن إلى ما هو أشرف منه وأعلى فهو تكوين والتكوين أصعب من الفساد فلا يقاس الإكسير على الخميرة ثم قال: وتحقيق الأمر في ذلك أن الكيمياء إن صح وجودها كما يزعم الحكماء المتكلمون فيها فليس من باب الصنائع الطبيعية ولا يتم بأمر صناعي وليس كلامهم فيها من منحى الطبيعيات إنما هو من منحى كلامهم في الأمور السحرية وسائر الخوارق، وقد ذكر مسلمة المجريطي في كتابه الغاية ما يشبه ذلك وكلامه فيها في كتاب رتبة الحكيم من هذا المنحى، وكذا كلام جابر في رسائله. وبالجملة أن نيلها إن كان صحيحا فهو واقع مما وراء الصنائع والطبائع فهي إنما تكون بتأثيرات النفس وخوارق العادة كالمشيء على الماء وتخليق الطير فليست إلا معجزة أو كرامة أو سحرا، ولهذا كان كلام الحكماء فيها الغازا لا يظفر بتحقيقه إلا من خاض لجة من علوم السحر واطلع على تصرفات النفس في عالم الطبيعة، وأمور خرق العادة غير منحصرة ولا يقصد أحد إلى تحصيلها اهـ. وإلى إمكانها ذهب الإمام الرازي فقال الحق إمكانها لأن الأجساد السبعة مشتركة في أنها أجساد ذائبة صابرة على النار منطرقة وأن الذهب لم يتميز عن غيره إلا بالصفرة والرزانة أو الصورة الذهبية المفيدة لهذين العرضين إن ثبت ذلك، وما به الاختلاف لا يكون لازما لما به الاشتراك، فإذن يمكن أن تتصف جسمية النحاس بصفرة الذهب ورزانته وذلك هو المطلوب، والحق أن الكيمياء ممكنة وأنها من الصنائع الطبيعية لكن العلم بها من أقاصي العلوم الصعبة التي لا يطلع عليها إلا من أهله الله تعالى لها واختصه سبحانه من عباده وأوليائه بها وهو علم تاهت في طلبه العقول وطاشت الأحلام، وأصله من الوحي الإلهي وحصل لبعض بالتصفية وكثرة النظر مع التجربة ووصل إلى من ليس أهلا للوحي ولم يتعاط ما تعاطاه البعض بالتعلم ممن من الله تعالى به عليه، وقال أرس: وهو من أجلة أهل هذا العلم كان أوله وحيا من الله تعالى ثم درس وباد فاستخرجه من استخرجه من الكتب وقد جرت سنة الله تعالى فيمن ظفر به بكتمه إلا على من شاء الله تعالى وتواصت الحكماء على كتمه عن غير أهله بل قيل: إن الله تعالى أخذ على العقول في فطرتها المواثيق بكتمانه وصيانته والاحتراس من إذاعته وإضاعته ولذا ترى الحكماء قد ألغزوه نهاية الالغاز وأغمضوه غاية الإغماض حتى عد كلامهم من لم يعرف مرامهم حديث خرافة وحكم على قائله بالسفه والسخافة وبهذا الكتم حفظت حكمة الله تعالى التي زعمها ابن خلدون في النقدين وسقط استدلاله الذي سمعته فيما مر. وقد نص جابر بن حيان وهو إمام في هذه الصنعة وإنكار أنه كان موجودا حمق في كتابه سر الأسرار على ما قلنا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 323 حيث قال: كل حكيم وضع رمزه وكتابه على معنى مبهم من وضع الحل والإصعاد والغسل على أربع طبائع وسماها الأجساد الثقال ووصف التدابير على لفظ ومعنى مشتبه، فهو عند الحكيم مفتوح، وعند الجهلة مغلق، وربما تعدوا إلى أخذ تلك الأجساد بعينها واختبروها ولم ينتفعوا بها، وشتموا الحكماء على كتمانهم هذا العمل وإنما عمارة الدنيا بالدراهم والدنانير وإن الناس الصناع والمقاتلة لا يعملون إلا لرغبة أو رهبة فعلموا أنهم إن أفشوا هذا السر حتى يعلمه كل أحد لم يتم أمر الدنيا وخربت، ولم يعمل أحد لأحد فخرجوا من ذلك وكتموه اهـ. ثم لا يخفى أن ما ذكره ابن خلدون أولا من أن الاستحالة لعدم الإحاطة إذا ثبت أنها كانت عن وحي ليس بشيء على أن فيه ما فيه وإن لم يثبت ذلك، ومثل ذلك ما ذكره من أن الطبيعة لا تترك أقرب الطرق في أفعالها وترتكب الأبعد، لأنا نقول ما يحصل من الطبائع أيضا، فيكون لها طريقان بعيد اقتضت الحكمة أن تسلكه غالبا وقريب اقتضت الحكمة أيضا أن تسلكه نادرا بواسطة من شاء الله تعالى من عباده، وكون المنتحلين لم يزالوا يخبطون خبط عشواء إن أراد بهم أئمة هذه الصناعة كهرمس وسقراط وأفلاطون وأغاريمون وفيثاغورس، وهرقل، وفرفوريوس، ومارية، وذوسيموس، وأرس، وذو مقراط، وسفيدوس، وبليناس، ومهراريس، وجابر بن حيان، والمجريطي، وأبو بكر بن وحشية، ومحمد بن زكريا الرازي وغيرهم ممن لا يحصون كثرة فهم لم يخبطوا، ودون إثبات خبطهم خرط القتاد، وإلغازهم لنكتة صرحوا بها لا يدل على خبطهم، وإن أراد بهم من يتعاطاها من المشاقين في عصره وفي هذه الأعصار فما ذكره مسلم في أكثرهم وهو لا يطعن في إمكانها. وقد ذم الطغرائي هذا الصنف من الناس فقال في كتابه تراكيب الأنوار: إن المعلم الناصح موجود في كل صنعة إلا في هذا الفن، وكيف يرجى النصح عند قوم يسمون فيما بينهم بالحسدة وتحالفوا فيما بينهم أن لا يوضحوا هذه السرائر أبدا لا سيما في هذا الزمان الذي قد باد فيه هذا العلم جملة وصار المتعرض له والباحث عنه عند الناس مسخرة وقد عنيت برهة من الزمان أبحث عن كل من يظن أن عنده طرفا من هذا العلم فما وجدت أحدا شم له رائحة ولا عرف منه شطر كلمة، ووجدت منتحلي هذه الصنعة الشريفة بين خادع يبيع دينه ومروءته بعرض من الدنيا قليل ويتلف أموال الناس بالتجارب الصادرة عن الجهل، وبين مخدوع مأخوذ عن رشده بالأمل الخائب والطمع الكاذب والتشاغل بالباطل عن طلب المعاش الجميل والتعويل على الأماني والأكاذيب. قصارى أحدهم أن ينظر في كتب جابر وأضرابه فيأخذ بظواهر كلامهم، ويغتر بجلايا دعاويهم دون حقائق معانيهم وهم وجميع من مضى من حكماء هذه الصنعة يحذرون الناس من الاغترار بظواهر كتبهم، وينادون على أنفسهم بأنهم يرمزون ويلغزون ولا يلتفت إلى قولهم ولا يصدقون إلى آخر ما قال. وقد تفاقم الأمر في زماننا إلى ما لا تتسع العبارة لشرحه، وكون الكيمياء من تأثيرات النفوس وخوارق العادات فلا تكون إلا معجزة أو كرامة أو سحرا ليس بشيء بل هي بأسباب عادية لكنها خفية على أكثر الناس لا دخل لتأثير النفوس فيها أصلا. نعم قد يكون من النبي أو الولي ما يكون من الكيماوي من غير معاطاة تلك الأسباب فيكون ذلك كرامة أو معجزة، وكون منحى كلام بعض الحكماء فيها منحى كلامهم في الأمور السحرية لا يدل على أنها من أنواع السحر أو توابعه فإن ذلك من إلغازهم لأمرها، وقد تفننوا في الإلغاز لها وسلكوا في ذلك كل مسلك، فوضع بليناس كتابه فيها على الأفلاك والكواكب، ومنهم من تكلم عليها بالأمثال ومنهم من تكلم عليها بالحكايات التي هي أشبه شيء بالخرافات إلى غير ذلك. وبالجملة هي صنعة قل من يعرفها جدا، وأعد الاشتغال بها والتصدي لمعرفتها من كتبها من غير حكيم عارف برموزها كما يفعله جهلة المنتحلين لها اليوم محض جنون، وكون أصلها الوحي الإلهي أو نحو ذلك هو الذي يغلب على الظن، وقد أورد الطغرائي في كتبه كجامع الأسرار وغيره ما يدل على ذلك، فذكر أنه روي عن هرمس أنه قال: إن الله عز وجل أوحى إلى شيث بن آدم عليهما السلام أن ازرع الذهب في الأرض البيضاء النقية واسقه ماء الحياة ، وقالت مارية: إني لست أقول لكم من تلقاء نفسي، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 324 ولكني أقول لكم ما أمر الله تعالى به نبيه موسى عليه السلام وأعلمه أن الحجر النسطريس هو الذي يمسك الصبغ وقال بنسبتها إلى موسى عليه السلام ذوسيموس وأرس، وذكر أرس أن العمل بها كان طوع اليهود بمصر، وكان يوسف عليه السلام وهو أول من دخل مصر من بني إسرائيل يعرف ذلك فأكرمه فرعون لحكمته التي آتاه الله تعالى إياها، وذكر أيضا فصلا مرموزا فيها نسبه إلى سليمان عليه السلام. وقال الطرسوسي في كتابه: إن الله تعالى لما أهبط آدم عليه السلام من الجنة عوضه علم كل شيء وكان علم الصنعة مما علمه، وانتقل من قوم إلى قوم كما انتقلت العلوم الأخر إلى أيام هرمس الأول، وقال أيضا: حدثونا عن محمد بن جرير الطبري بإسناد له متصل أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها وأعطيت الكبريت الأبيض والأحمر» . وروى جابر عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه في ذلك روايات كثيرة حتى أنه أسند إليه عدة من كتبه ولا أحقق قوله ولا أكذبه وأجله لموضعه من العلم والعمل عن الافتراء على الأئمة، وروي عن أمير المؤمنين علي كرّم الله تعالى وجهه أنه سئل فقيل: له ما تقول فيما خاض الناس فيه من علم الكيمياء؟ فأطرق مليا ثم رفع رأسه ثم قال: سألتموني عن أخت النبوة وتوأم المروة لقد كان وإنه لكائن وما من شجرة ولا مدرة ولا شيء إلا وفيه أصل وفرع أو أصل أو فرع قيل: يا أمير المؤمنين أما تعلمه؟ قال: والله تعالى أنا أعلم به من العالمين له لأنهم يتكلمون بالعلم على ظاهره دون باطنه وأنا أعلم العلم ظاهره وباطنه، قيل: فاذكر لنا منه شيئا نأخذه منك، قال: والله تعالى لولا أن النفس أمارة بالسوء لقلت: قيل: فما كان تقول؟ قال: إني أعلم أن في الزئبق الرجراج والذهب الوهاج والحديد المزعفر وزنجار النحاس الأخضر لكنوزا لا يؤتى على آخرها يلقح بعضها ببعض فتفتر عن ذهب كامن، قيل: يا أمير المؤمنين ما نعلم هذا، قال: هو ماء جامد وهواء راكد ونار حائلة وأرض سائلة قالوا ما نفقه هذا، قال: لو حل للمؤمنين من أهل الحكمة أن يكلموا الناس على غير هذا لعلمه الصبيان في المكاتب اهـ كلام الطغرائي باختصار. وذكر في كتابه مفاتيح الرحمة ومصابيح الحكمة عن ستين نبيا وحكيما أنهم قالوا بحقية هذا العلم، وفي القلب من صحة هذه الأخبار شيء، والأغلب على الظن أنه لو كان في الكيمياء خبر مقبول عند المحدثين لشاع ولما أنكرها من هو من أجلتهم كشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية فإنه كان ينكر ثبوتها وألف رسالة في إنكارها، ولعل رد الشيخ نجم الدين ابن أبي الذر البغدادي وتزييفه ما قاله فيها كما زعم الصفدي إنما كان فيما هو من باب الاستدلالات العقلية فإن الرجل في باب النقليات مما لا يجاريه نجم الدين المذكور وأمثاله وهو في باب العقليات وإن كان جليلا أيضا إلا أنه دونه في النقليات، والمطلب دقيق حتى أن بعض من تعقد عليه الخناصر اضطرب في أمرها فأنكرها تارة وأقر بها أخرى، فهذا شيخ الحكماء ورئيسهم أبو علي بن سينا سمعت ما نقل عنه أولا، وحكي عنه الرجوع عنه، وعلى جودة ذهنه وعلو كعبه في الحكمة بأقسامها لم يقف على حقيقة عملها حتى قال الطغرائي في تراكيب الأنوار ما ينقضي عجبي من أبي علي بن سينا كيف استجاز وضع رسالة في هذا الفن فضح بها نفسه وخالف الأصول التي عنده وقصر فيها عن كثير من الحشوية الطغام المظلمة الأذهان الكليلة الأفهام. وقال في جامع الأسرار: إن الشيخ أبا علي بن سينا لفرط شغفه بهذا العلم وحدسه القوي بأنه حق صنف رسالة فيه فأحسن فيما يتعلق بأصول الطبيعيات ولخفاء طريق القوم واستعمائها دونه لم يذكر في التدابير المختصة بعلمنا لفظة صحيحة ولا أشار إلى ذكر المزاج الحق والأوزان والتراكيب المكتومة والنيران وطبقاتها والآلة التي لا يتم العمل إلا بها وهي أحد الشرائط العشرة، ولم يتجاوز ما عند الحشوية من تدابير الزوابق والكباريت والدفن في زبل الخيل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 325 والتشاغل بهذه القاذورات ولولا آفة الإعجاب وحسن ظن الإنسان بعلمه وحرصه على أن لا يشذ عنه شيء من المعارف لكان من الواجب على مثله مع غزارة علمه وعلو طبقته في الأبحاث الحقيقية أن يكتفي بما عنده، ولا يتعرض لما لا يعلمه، وقد تأدى إلينا من تدابيره عن أصحابه الذين شاهدوها أنه لم يكن يعرف حقيقة علمنا، وقد رأينا بخطه من التعاليق الملتقطة من كلام جابر بن حيان، وخالد بن يزيد ما يدل أيضا على ذلك اهـ ملخصا، والكلام في هذا المطلب طويل وفيما ذكرنا كفاية لمن أحب الاطلاع على شيء مما قيل في ذلك، والله تعالى الموفق، ثم إن القول بأن المراد بالعلم في الآية علم استخراج الكنوز والدفائن يستدعي ثبوت هذا العلم، وأهل علم الحرف وعلم الطلسمات يقولون به ولهم في ذلك كلام طويل والعقل يجوز ثبوته، والله تعالى أعلم بثبوته في نفس الأمر. أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً تقرير لعلمه ذلك وتنبيه على خطئه في اغتراره وعلمه بذلك من التوراة أو من موسى عليه السلام أو من كتب التواريخ أو من القصّاص، والقوة تحتمل القوة الحسية والمعنوية، والجمع يحتمل جمع المال وجمع الرجال، والمعنى ألم يقف على ما يفيده العلم ولم يعلم ما فعل الله تعالى بمن هو أشد منه قوة حسا أو معنى وأكثر مالا أو جماعة يحوطونه ويخدمونه حتى لا يغتر بما اغتر به، ويحتمل أن تكون الهمزة للإنكار داخلة على مقدر، وجملة أولم يعلم حالية مقررة للإنكار ودالة على انتفاء ما دخلت عليه كما في قولك: أتدعي الفقه وأنت لا تعرف شروط الصلاة، والمراد رد ادعائه العلم والتعظم به بنفي هذا العلم عنه أي أعلم ما ادعاه ولم يعلم هذا حتى يقي به نفسه مصارع الهالكين، وقيل: إن لَمْ يَعْلَمْ عطف على ذلك المقدر ونفي العلم عنه لعدم جريه على موجبه وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ الظاهر أن هذا في الآخرة وأن ضمير ذنوبهم للجرمين، وفاعل السؤال إما الله تعالى أو الملائكة عليهم السلام، والمراد بالسؤال المنفي هنا، وكذا في قوله تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن: 39] على ما قيل: سؤال الاستعلام، ونفي ذلك بالنسبة إليه عز وجل ظاهر، وبالنسبة إلى الملائكة عليهم السلام لأنهم مطلعون على صحائفهم أو عارفون إياهم بسيماهم كما قال سبحانه: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ [الرحمن: 41] . والمراد بالسؤال المثبت في قوله عز وجل: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: 92] سؤال التوبيخ والتقريع فلا تناقض بين الآيتين، وجوز أن يكون السؤال في الموضعين بمعنى والنفي والإثبات باعتبار موضعين أو زمانين، والمواقف يوم القيامة كثيرة واليوم طويل فلا تناقض أيضا، والظاهر أن الجملة غير داخلة في حيز العلم، ولعل وجه اتصالها بما قبلها أنه تعالى لما هدد قارون بذكر إهلاك من قبله من أضرابه في الدنيا أردف ذلك بما فيه تهديد كافة المجرمين بما هو أشنع وأشنع من عذاب الآخرة فإن عدم سؤال المذنب مع شدة الغضب عليه يؤذن بالإيقاع به لا محالة، وجعل الزمخشري الجملة تذييلا لما قبلها، وقيل: إن ذلك في الدنيا. والمراد أنه تعالى أهلك من أهلك من القرون عن علم منه سبحانه بذنوبهم فلم يحتج عز وجل إلى مسألتهم عنها، وقيل: إن ضمير ذنوبهم لمن هو أشد قوة وهو المهلك من القرون، والإفراد والجمع باعتبار اللفظ والمعنى، والمعنى ولا يسأل عن ذنوب أولئك المهلكين غيرهم ممن أجرم، ويعلم أنه لا يسأل عن ذنوبهم من لم يجرم بالأولى لما بين الصنفين من العداوة فمآل المعنى لا يسأل عن ذنوب المهلكين غيرهم ممن أجرم وممن لم يجرم، بل كل نفس بما كسبت رهينة، وكلا القولين كما ترى، وربما يختلج في ذهنك عطف هذه الجملة على جملة الاستفهام أو جعلها حالا من فاعل أهلك أو من مفعوله لكن إذا تأملت أدنى تأمل أخرجته من ذهنك وأبيت حمل كلام الله تعالى الجليل على ذلك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 326 وقرأ أبو جعفر في رواية «ولا تسأل» بتاء الخطاب والجزم «المجرمين» بالنصب، وقرأ أبو العالية وابن سيرين وَلا تُسْئَلُ كذلك ولم ندر أنصبا المجرمين كأبي جعفر أم رفعاه كما هو في قراءة الجمهور، والظاهر الأول، وجوز صاحب اللوامح الثاني، وذكر له وجهين: الأول أن يكون ضمير ذنوبهم للمهلكين من القرون وارتفاع المجرمين بإضمار المبتدأ أي هم المجرمون، والثاني أن يكون المجرمون بدلا من ضمير ذنوبهم باعتبار أن أصله الرفع لأن إضافة ذنوب إليه بمنزلة إضافة المصدر إلى اسم الفاعل وأورد على هذا أن ذنوب جمع فإن كان جمع مصدر ففي إعماله خلاف. فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ عطف على قال وما بينهما اعتراض، وقوله تعالى: فِي زِينَتِهِ إما متعلق بخرج أو بمحذوف هو حال من فاعله أي فخرج عليهم كائنا في زينته. قال قتادة: ذكر لنا أنه خرج هو وحشمه على أربعة آلاف دابة عليهم ثياب حمر منها ألف بغلة بيضاء وعلى دوابهم قطائف الأرجوان. وقال السدي: خرج في جوار بيض على سروج من ذهب على قطف أرجوان وهن على بغال بيض عليهن ثياب حمر وحلي ذهب، وقيل: خرج على بغلة شهباء عليها الأرجوان وعليها سرج من ذهب ومعه أربعة آلاف خادم عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر وعلى يمينه ثلاثمائة غلام وعلى يساره ثلاثمائة جارية بيض عليهن الحلي والديباج. وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أنه خرج في سبعين ألفا عليهم المعصفرات، وكان ذلك أول يوم في الأرض رئيت المعصفرات فيه، وقيل غير ذلك من الكيفيات، وكان ذلك الخروج على ما قيل يوم السبت قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ قيل كانوا جماعة من المؤمنين، وقالوا ذلك جريا على سنن الجبلة البشرية من الرغبة في السعة واليسار. وعن قتادة أنهم تمنوا ذلك ليتقربوا به إلى الله تعالى وينفقوه في سبيل الخير، ولعل إرادتهم الحياة الدنيا ليتوصلوا بها للآخرة لا لذاتها فإن إرادتها لذاتها ليست من شأن المؤمنين، وقيل: كانوا كفارا ومنافقين، وتمنيهم مثل ما أوتي دونه نفسه من باب الغبط ولا ضرر فيه على المشهور، وقيل: ضرره دون ضرر الحسد «فقد قيل لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هل يضر الغبط؟ فقال: لا إلا كما يضر العضاه الخبط» وفي الكشف الظاهر أنه نفي للضرر على أبلغ وجه فإن الشجر ربما ينتفع بالخبط فضلا عن التضرر، وفيه أنه قد يفضي إلى الضرر إشارة إلى متعلق الغبط من ديني أو دنيوي، وقائل ذلك إن كان الكفرة ففيه من ذم الحسد ما فيه إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ قال الضحاك: أي درجة عظيمة، وقيل نصيب كثير من الدنيا، والحظ البخت والسعد، ويقال: فلان ذو حظ وحظيظ ومحظوظ، والجملة تعليل لتمنيهم وتأكيد له وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي بأحوال الدنيا والآخرة كما ينبغي ومنهم يوشع عليه السلام، وإنما لم يوصفوا بإرادة ثواب الآخرة تنبيها على أن العلم بأحوال النشأتين يقتضي الإعراض عن الأولى والإقبال على الأخرى حتما، وأن تمني المتمنين ليس إلا لعدم علمهم بهما كما ينبغي. وقيل المراد بالعلم: معرفة الثواب والعقاب، وقيل: معرفة التوكل، وقيل: معرفة الأخبار، وما تقدم أولى وَيْلَكُمْ دعاء بالهلاك بحسب الأصل ثم شاع استعماله في الزجر عما لا يرتضى، والمراد به هنا الزجر عن التمني وهو منصوب على المصدرية لفعل من معناه ثَوابُ اللَّهِ في الآخرة خَيْرٌ مما تتمنونه لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فلا يليق بكم أن تتمنوه غير مكتفين بثوابه عز وجل، هذا على القول بأن المتمنين كانوا مؤمنين أو فآمنوا لتفوزوا بثوابه تعالى الذي هو خير من ذلك، وتقدير المفضل عليه ما تتمنوه لاقتضاء المقام إياه، ويجوز أن يقدر عاما ويدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا أي خير من الدنيا وما فيها وَلا يُلَقَّاها أي هذه المقالة أو الكلمة التي تكلم بها العلماء، والمراد بها المعنى اللغوي أو الثواب، والتأنيث باعتبار أنه بمعنى المثوبة أو الجنة المفهومة من الثواب، وقيل: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 327 الإيمان والعمل الصالح، والتأنيث والإفراد باعتبار أنهما بمعنى السيرة أو الطريقة، ومعنى تلقيها إما فهمها أو التوفيق للعمل بها إِلَّا الصَّابِرُونَ على الطاعات وعن المعاصي والشهوات، ولعل المراد بالصابرين على القول الأخير في مرجع الضمير المتصفون بالصبر في علم الله تعالى فتدبر فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ. روى ابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن قارون كان ابن عم موسى عليه السلام وكان يتبع العلم حتى جمع علما فلم يزل في ذلك حتى بغى على موسى عليه السلام وحسده، فقال موسى: إن الله تعالى أمرني أن آخذ الزكاة فأبى فقال: إن موسى عليه السلام يريد أن يأكل أموالكم جاءكم بالصلاة وجاءكم بأشياء فاحتملتموها فتحتملوه أن تعطوه أموالكم، قالوا: لا نحتمل فما ترى؟ فقال لهم: أرى أن أرسل إلا بغيّ من بغايا بني إسرائيل فنرسلها إليه فترميه بأنه أرادها على نفسها فأرسلوا إليها فقالوا لها: نعطيك حكمك على أن تشهدي على موسى أنه فجر بك. قالت: نعم. فجاء قارون إلى موسى عليه السلام قال: اجمع بني إسرائيل فأخبرهم بما أمرك ربك. قال: نعم فجمعهم فقالوا له: بما أمرك ربك؟ قال: أمرني أن تعبدوا الله تعالى ولا تشركوا به شيئا وأن تصلوا الرحم وكذا وكذا، وقد أمرني في الزاني إذا زنى وقد أحصن أن يرجم. قالوا: وإن كنت أنت؟ قال: نعم. قالوا: فإنك قد زنيت. قال: أنا؟ فأرسلوا إلى المرأة فجاءت، فقالوا: ما تشهدين على موسى عليه السلام؟ فقال لها موسى عليه السلام: أنشدك بالله تعالى إلا ما صدقت، فقالت: أما إذ أنشدتني بالله تعالى فإنهم دعوني وجعلوا لي جعلا على أن أقذفك بنفسي وأنا أشهد أنك بريء وأنك رسول الله فخر موسى عليه السلام ساجدا يبكي فأوحى الله تعالى إليه ما يبكيك؟ قد سلطناك على الأرض فمرها تطعك فرفع رأسه فقال: خذيهم فأخذتهم إلى أعقابهم، فجعلوا يقولون: يا موسى يا موسى فقال خذيهم فأخذتهم إلى ركبهم فجعلوا يقولون يا موسى يا موسى فقال: خذيهم فغيبتهم فأوحى الله تعالى يا موسى سألك عبادي وتضرعوا إليك فلم تجبهم وعزتي لو أنهم دعوني لأجبتهم وفي بعض الروايات أنه جعل للبغيّ ألف دينار ، وقيل: طستا من ذهب مملوءة ذهبا، وفي بعض أنه عليه السلام قال في سجوده: يا رب إن كنت رسولك فاغضب لي فأوحى الله تعالى إليه مر الأرض بما شئت فإنها مطيعة لك، فقال: يا بني إسرائيل إن الله تعالى بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن كان معه فليلزم ومن كان معي فليعتزل فاعتزلوا جميعا غير رجلين. ثم قال: يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الركب ثم إلى الأوساط ثم إلى الأعناق وهم يتضرعون إلى موسى عليه السلام ويناشدونه الرحم وهو عليه السلام لا يلتفت إلى قولهم لشدة غضبه ويقول خذيهم حتى انطبقت عليهم فأوحى الله تعالى يا موسى ما أفظك استغاثوا بك مرارا فلم ترحمهم أما وعزتي لو إياي دعوا مرة واحدة لوجدوني قريبا مجيبا ، وفي رواية أن الله سبحانه أوحى إليه ما أشد قلبك وعزتي وجلالي لو بي استغاث لأغثته، فقال عليه السلام: رب غضبا لك فعلت. ثم إن بني إسرائيل قالوا: إنما فعل موسى عليه السلام به ذلك ليرثه، فدعا الله تعالى حتى خسف بداره وأمواله. وفي بعض الأخبار أن الخسف به وبداره كان في زمان واحد، وكانت داره فيما قيل: من صفائح الذهب وجاء في عدة آثار أنه يخسف به كل يوم قامة وأنه يتجلجل في الأرض لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة والله تعالى أعلم بصحة ذلك، بل هو مشكل إن صح ما قاله الفلاسفة في مقدار قطر الأرض ولم يقل بأن لها حركة أصلا، وأما الخسف فلا شك في إمكانه الذاتي والوقوعي وسببه العادي مبين في محله فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ أي جماعة معينة مشتقة من فأوت قلبه إذا ميلته، وسميت الجماعة بذلك لميل بعضهم إلى بعض وهو محذوف اللام ووزنه فعة، وقال الراغب: إنه محذوف العين فوزنه فلة وأنه من الفيء وهو الرجوع لأن بعض الجماعة يرجع إلى بعض ومِنْ صلة أي فما كان الجزء: 10 ¦ الصفحة: 328 له فئة يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ بدفع العذاب عنه وَما كانَ أي بنفسه مِنَ المُنْتَصِرِينَ أي الممتنعين عن عذابه عز وجل، يقال: نصره من عدوه فانتصر أي منعه فامتنع، ويحتمل أن يكون المعنى وما كان من المنتصرين بأعوانه فذكر ذلك للتأكيد وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ أي مثل مكانه ومنزلته لما تقدم من قولهم مثل ما أوتي، وجوز كون هذا على ظاهرة ومِثْلَ هناك مقحمة وليس بذاك بِالْأَمْسِ منذ زمان قريب وهو مجاز شائع، وجوز حمله على الحقيقة والجار والمجرور متعلق بتمنوا أو بمكانه، قيل: والعطف بالفاء التي تقتضي التعقيب في فَخَسَفْنا يدل عليه. وفي البحر دل أصبح إذا حمل على ظاهره على أن الخسف به وبداره كان ليلا وهو أفظع العذاب إذ الليل مقر الراحة والسكون، وقال بعضهم: هي بمعنى صار أي صار المتمنون. يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ أي يفعل كل واحد من البسط والقدر أي التضييق والقتر لا لكرامة توجب البسط ولا لهوان يوجب التضييق، ووي عند الخليل وسيبويه اسم فعل ومعناها أعجب وتكون للتحسر والتندم أيضا كما صرحوا به، وعن الخليل أن القوم ندموا فقالوا متندمين على ما سلف منهم «وي» وكل من ندم وأراد إظهار ندمه قال «وي» ولعل الأظهر إرادة التعجب بأن يكونوا تعجبوا أولا مما وقع وقالوا ثانيا كأن إلخ وكأن فيه عارية عن معنى التشبيه جيء بها للتحقيق كما قيل ذلك في قوله: وأصبح بطن مكة مقشعرا ... كأن الأرض ليس بها هشام وأنشد أبو علي: كأنني حين أمسي لا تكلمني ... متيم يشتهي ما ليس موجودا وقيل: هي غير عارية عن ذلك، والمراد تشبيه الحال المطلق بما في حيزها إشارة إلى أنه لتحققه وشهرته يصلح أن يشبه به كل شيء وهو كما ترى وزعم الهمداني أن الخليل ذهب إلى أن «وي» للتندم وكأن للتعجب والمعنى ندموا متعجبين في أن الله تعالى يبسط إلخ، وفيه أن كون كأن للتعجب مما لم يعهد، وأيا ما كان فالوقف كما في البحر على (وي) والقياس كتابتها مفصولة وكتبت متصلة بالكاف لكثرة الاستعمال وقد كتبت على القياس في قول زيد بن عمرو بن نفيل: وي كأن من يكن له نشب يح ... بب ومن يفتقر يعش عيش ضر وقال الأخفش: الكاف متصلة بها وهي اسم فعل بمعنى أعجب والكاف حرف خطاب لا موضع لها من الإعراب كما قالوا في ذلك ونحوه، والوقف على ويك، وعلى ذلك جاء قول عنترة: ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها ... قيل الفوارس ويك عنتر أقدم و (أن) عنده مفتوحة الهمزة بتقدير العلم أي أعلم أن الله إلخ، وذهب الكسائي ويونس وأبو حاتم وغيرهم إلى أن أصله ويلك فخفف بحذف اللام فبقي ويك، وهي للردع والزجر والبعث على ترك ما لا يرضى، وقال أبو حيان: هي كلمة تحزن وأنشد في التحقيق قوله: ألا ويك المضرة لا تدوم ... ولا يبقى على البؤس النعيم والكاف على هذا في موضع جر بالإضافة، والعامل في أن فعل العلم المقدر كما سمعت أو هو بتقدير لأن على أنه بيان للسبب الذي قيل لأجله ويك، وحكى ابن قتيبة عن بعض أهل العلم أن معنى ويك رحمة لك بلغة حمير، وقال الجزء: 10 ¦ الصفحة: 329 الفراء: ويك في كلام العرب كقول الرجل: ألا ترى إلى صنع الله تعالى شأنه، وقال أبو زيد وفرقة معه: وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ويكأن حرف واحد بجملته وهو بمعنى ألم تر. لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بعدم إعطائه تعالى ما تمنيناه من إعطائنا مثل ما أعطاه قارون لَخَسَفَ بِنا أي الأرض كما خسف به أو لولا أن من الله تعالى علينا بالتجاوز عن تقصيرنا في تمنينا ذلك لخسف بنا جزاء ذلك كما خسف به جزاء ما كان عليه. وقرأ الأعمش «لولا منّ» بحذف أَنْ وهي مرادة، وروي عنه من الله برفع من والإضافة. وقرأ الأكثر «لخسف بنا» على البناء للمفعول وبِنا هو القائم مقام الفاعل، وجوز أن يكون ضمير المصدر أي لخسف هو أي الخسف بنا على معنى لفعل الخسف بنا، وقرأ ابن مسعود وطلحة والأعمش «لا نخسف بنا» على البناء للمفعول أيضا وبِنا أو ضمير المصدر قائم مقام الفاعل، وعنه أيضا «لتخسّف» بتاء وشد السين مبنيّا للمفعول وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ لنعمة الله تعالى أو المكذبون برسله عليهم السلام وبما وعدوا من ثواب الآخرة، والكلام في- ويكأن- هنا كما تقدم بيد أنه جوز هنا أن يكون لأن على بعض الاحتمالات تعليلا لمحذوف بقرينة السياق أي لأنه لا يفلح الكافرون فعل ذلك أي الخسف بقارون، واعتبار نظيره فيما سبق دون اعتبار هذا هنا، وضمير ويكأنه للشأن. هذا وفي مجمع البيان أن قصة قارون متصلة بقوله تعالى: نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى [القصص: 3] عليه السلام، وقيل: هي متصلة بقوله سبحانه: فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى، وقيل: لما تقدم خزي الكفار وافتضاحهم يوم القيامة ذكر تعالى عقيبه أن قارون من جملتهم وأنه يفتضح يوم القيامة كما افتضح في الدنيا، ولما ذكر سبحانه فيما تقدم قول أهل العلم ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ ذكر محل ذلك الثواب بقوله عز وجل: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ مشيرا إشارة تعظيم وتفخيم إلى ما نزل لشهرته منزلة المحسوس المشاهد كأنه قيل: تلك التي سمعت خبرها وبلغك وصفها، والدَّارُ صفة لاسم الإشارة الواقع مبتدأ وهو يوصف بالجامد ولا حاجة إلى تقدير مضاف أي نعيم الدار كما يوهمه كلام البحر، والْآخِرَةُ صفة للدار، والمراد بها الجنة وخبر المبتدأ قوله تعالى: نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ أي غلبة وتسلطا وَلا فَساداً أي ظلما وعدوانا على العباد كدأب فرعون وقارون، وليس الموصول مخصوصا بهما، وفي إعادة لا إشارة إلى أن كلا من العلو والفساد مقصود بالنفي، وفي تعليق الموعد بترك إرادتهما لا بترك أنفسهما من مزيد تحذير منهما. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة أنه قال: العلو في الأرض التكبر وطلب الشرف والمنزلة عند سلاطينها وملوكها والفساد العمل بالمعاصي وأخذ المال بغير حقه. وعن الكلبي العلو الاستكبار عن الإيمان والفساد الدعاء إلى عبادة غير الله تعالى، وروي عن مقاتل تفسير العلو بما روي عن الكلبي، وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عن علي كرّم الله تعالى وجهه أنه كان يمشي في الأسواق وحده وهو وال يرشد الضال ويعين الضعيف ويمر بالبقال والبياع فيفتتح عليه القرآن ويقرأ تلك الدار الآخرة إلى آخرها، ويقول: نزلت هذه الآية تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ إلخ، في أهل العدن والتواضع من الولاة وأهل القدرة من سائر الناس. وأخرج ابن مردويه عن عدي بن حاتم أنه لما دخل على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ألقى إليه وسادة فجلس على الأرض، فقال عليه الصلاة والسلام أشهد أنك لا تبغي علوا في الأرض ولا فسادا فأسلم رضي الله تعالى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 330 عنه، وعن الفضيل أنه قرأ الآية ثم قال: ذهبت الأماني هاهنا، وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يرددها حتى قبض، وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي كرّم الله تعالى وجهه أنه قال: إن الرجل ليحب أن يكون شسع نعله أجود من شسع نعل صاحبه فيدخل في هذه الآية. ولعل هذا إذا أحب ذلك ليفتخر على صاحبه ويستهينه وإلا فقد روى أبو داود عن أبي هريرة أن رجلا أتى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وكان جميلا فقال: يا رسول الله إني رجل حبب إليّ الجمال وأعطيت منه ما ترى حتى ما أحب أن يفوقني أحد إما قال بشراك نعل وإما قال بشسع نعل أفمن الكبر ذلك؟ قال لا ولكن الكبر من بطر الحق وغمط الناس. وروى مسلم وأبو داود والترمذي عن ابن مسعود «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا، ونعله حسنا قال: إن الله تعالى جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس» واستدل بعض المعتزلة بالآية بناء على عموم العلو والفساد فيها على تخليد مرتكب الكبيرة في النار، وفي الكشاف ما هو ظاهر في ذلك، والتزم بعضهم في الجواب تفسير العلو والفساد بما فسرهما به الكلبي وآخر أن المراد بهما ما يكون مثل العلو والفساد اللذين كانا من فرعون وقارون. ورد بأن التذييل بقوله تعالى: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ يدل على أن العمدة هي التقوى ولا يكفي ترك العلو والفساد المقيدين. وأجيب بأن المتقي هاهنا هو المتقي من علو فرعون وفساد قارون أو من لم يكن من المؤمنين مثل فرعون في الاستكبار على الله تعالى بعدم امتثال أوامره والارتداع عن زواجره ولم يكن مثل قارون في إرادة الفساد في الأرض وإخراج كل شيء من كونه منتفعا به لا سيما نفسه فإن غاية إفسادها الامتناع من عبادة ربها لأنها خلقت للعبادة فإذا امتنع عنها خرجت عن كونها منتفعا بها وليس معنى المتقي إلا ذلك. وتعقبه صاحب الكشف بأن الأول تقييد بلا دليل والثاني هو الذي يسعى له المعتزلي، وقال الفاضل الخفاجي: إما أن يراد بالعاقبة المحمودة على وجه الكمال أو يراد بالمتقي المتقي ما لا يرضاه الله تعالى مثل حال قارون بقرينة المقام، والنصوص الدالة على أن غير الكفار لا يخلد في النار فلا وجه للقول بأن ذلك تقييد بلا دليل مع أن مبنى الاستدلال على أن اللام للتخصيص وهو ممنوع، وقال بعض في الجواب على تقدير إرادة العموم في علوا وفسادا: إن المراد من جعل الجنة للذين لا يريدون شيئا منهما تمكينهم منها أتم تمكين نحو قولك: جعل السلطان بلد كذا لفلان وذلك لا ينافي أن يدخلها غيرهم من مرتكب الكبيرة ويكون فيها بمنزلة دون منزلتهم، ولعله إنما دخلها بشفاعة بعض منهم، وقريب منه ما قيل: إن جعلها لهم باعتبار أنهم أهلها الأولون وملوكها السابقون وغيرهم إنما يرد عليهم وينزل بهم ويقال في قوله تعالى: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ نحو ما مر آنفا عن الخفاجي. بقي في الآية كلام آخر، وهو أن بعضهم استدل بها على عدم وجود الجنة اليوم بناء على أن معنى نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ إلخ نخلقها في المستقبل لأجلهم، وأجيب بأنه يحتمل أن يكون الجعل متعديا إلى مفعولين ثانيهما لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ إلخ فيصير المعنى نجعلها كائنة وحاصلة لهم في الزمان المستقبل فتفيد الآية أن جعلها كائنة لهم غير حاصل الآن لا جعلها نفسها وهو محل النزاع، ودفع بأن المتبادر من جعل الدار كائنة لزيد تمكينه وعدم منعه من التمكن فيها سواء حصل له التمكن فيها أو لم يحصل، فمعنى نَجْعَلُها لِلَّذِينَ إلخ تمكنهم في الاستقبال من التمكن فيها، ولا يخفى ركاكته لأن التمكين من التمكن فيها لازم لوجودها غير منفك عنها على ما يدل عليه قوله تعالى: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ فلا يمكن أن تكون نفس الجنة الآن ويكون جعلها كائنة لهم في الاستقبال، وحمل الجعل على التمكن بالفعل والتمكين من التمكن وإن كان لازما لوجود الجنة لكن التمكن فيها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 331 بالفعل غير لازم بل يكون فيما سيجيء عدول عن المتبادر فإن المتبادر من قولك: جعلك الدار لزيد تمكينه من التمكن فيها لإجعل زيد متمكنا فيها بالفعل فتدبر ذلك كله مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ بمقابلتها خَيْرٌ مِنْها ذاتا ووصفا وقدرا على ما قيل، وجوز كون خَيْرٌ واحد الخيور وليس بأفعل التفضيل ومَنْ سببية أي فله خير بسبب فعلها وهو خلاف الظاهر، وقد تقدم الكلام في ذلك وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ وضع فيه الموصول والظاهر موضع الضمير لتهجين حال المسيئين بتكرير إسناد السيئة إليهم، وفي جمع السيئات دون الحسنة قيل إشارة إلى قلة المحسنين وكثرة المسيئين، وقد يقال: إنه إشارة إلى أن ضم السيئة إلى السيئة لا يزيد جزاءها بل جزاؤها إذا انفردت مثل جزائها إذا انضم إليها غيرها وأن عدم ضم الحسنة إلى الحسنة لا يؤثر في مقابلتها بما هو خير منها، ولعل قلة المحسنين تفهم من عدم اعتبار الجمعية في مَنْ في قوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وكثرة المسيئين تفهم من اعتبار الجمعية فيها إذ الموصول قائم مقام ضميرها في قوله تعالى: وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي إلا مثل ما كانوا يعملون فحذف المثل وأقيم مقامه ما كانوا يعملون مبالغة في المماثلة، وهذا لطف منه عز وجل إذ ضاعف الحسنة ولم يرض بزيادة جزاء السيئة مقدار ذرة، وقيل: لا حاجة إلى اعتبار المضاف فإن أعمالهم أنفسها تظهر يوم القيامة في صورة ما يعذبون به، ولا يخفى ما فيه، وفي ذكر عملوا ثانيا دون جاؤوا إشارة إلى أن ما يجزون عليه ما كان عن قصد لأن العمل يخصه كما قال الراغب، وفي التفسير الكبير للإمام الرازي في أثناء الكلام على تفسير قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ [الكهف : 9] الآية أن في التعبير بجاء دون عمل بأن يقال: من عمل الحسنة فله خير منها ومن عمل السيئة إلخ دلالة على أن استحقاق الثواب أي والعقاب مستفاد من الخاتمة لا من أول العمل، ويؤكد ذلك أنه لو مضى عمره في الكفر ثم أسلم في آخر الأمر كان من أهل الثواب وبالضد، ولا يخلو عن حسن، ولعل نكتة التعبير بعملوا ثانيا تتأتى عليه أيضا. وفي قوله تعالى: فَلا يُجْزَى إلخ دون فللذين عملوا السيئات ما كانوا يعملون أو فما للذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون إشارة إلى أنه قد يحصل العفو عن العقاب، ولله تعالى در التنزيل ما أكثر أسراره، واستشكل ما تدل عليه الآية من أن جزاء السيئة مثلها بأن من كفر فمات على الكفر يعذب عذاب الأبد، وأين هو من كفر ساعة؟ وأجيب بأن أمر المماثلة مجهول لنا لا سيما على القول بنفي الحسن والقبح العقليين للأفعال، وقصارى ما نعلم أن الله تعالى جعل لكل ذنب جزاء أخبر عز وجل أنه مماثل له، وقد أخبر سبحانه أن جزاء الكفر عذاب الأبد فنؤمن به وبأنه مما تقتضيه الحكمة وما علينا إذا لم نعلم جهة المماثلة ووجه الحكمة فيه، وكذا يقال في الذنوب التي شرع الله تعالى لها حدودا في الدنيا كالزنا وشرب الخمر وقذف المحصن وحدودها التي شرعها جل شأنه لها فإنا لا نعلم وجه تخصيص كل ذنب منها بحد مخصوص من تلك الحدود المختلفة لكنا نجزم بأن ذلك لا يخلو عن الحكمة، وأجاب الإمام عن مسألة الكفر وعذاب الأبد بأن ذلك لأن الكافر كان عازما أنه لو عاش إلى الأبد لبقي على ذلك الكفر، وقيل: في وجه تعذيب الكافر أبد الآباد إن جزاء المعصية يتفاوت حسب تفاوت عظمة المعصي فكلما كان المعصي أعظم كان الجزاء أعظم، فحيث كان الكفر معصية من لا تتناهى عظمته جل شأنه كان جزاؤه غير متناه، وقياس ذلك أن يكون جزاء كل معصية كذلك إلا أنه لم يكن كذلك فيما عدا الكفر فضلا منه تعالى شأنه لمكان الإيمان، وقيل أيضا: إن كل كفر قولا كان أو فعلا يعود إلى نسبة النقص إليه عز وجل المنافي لوجوب الوجود المقتضي لوجوده سبحانه أزلا وأبدا وإذا توهم هناك زمان ممتد كان غير متناه فحيث كان الكفر مستلزما نفي وجوده تعالى شأنه فيما لا يتناهى كان جزاؤه غير متناه ولا كذلك سائر المعاصي فتدبر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 332 إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ أي أوجب عليك العمل به كما روي عن عطاء وعن مجاهد أي أعطاكه، وعن مقاتل وإليه ذهب الفراء وأبو عبيدة أي أنزله عليك والمعول عليه ما تقدم. لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ أي إلى محل عظيم القدر اعتدت به وألفته على أنه من العادة لا من العود، وهو كما في صحيح البخاري، وأخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس مكة، وروي ذلك أيضا عن مجاهد والضحاك وجوز أن يكون من العود، والمراد به مكة أيضا بناء على ما في مجمع البيان عن القتيبي أن معاد الرجل بلده لأنه يتصرف في البلاد ثم يعود إليه، وقد يقال: أطلق المعاد على مكة لأن العرب كانت تعود إليها في كل سنة لمكان البيت فيها، وهذا وعد منه عز وجل لنبيه صلّى الله تعالى عليه وسلّم وهو بمكة أنه عليه الصلاة والسلام يهاجر منها ويعود إليها، وروي عن غير واحد أن الآية نزلت بالجحفة بعد أن خرج صلّى الله تعالى عليه وسلّم من مكة مهاجرا واشتاق إليها، ووجه ارتباطها بما تقدمها تضمنها الوعد بالعاقبة الحسنى في الدنيا كما تضمن ما قبلها الوعد بالعاقبة الحسنى في الآخرة. وقيل: إنه تعالى لما ذكر من قصة موسى عليه السلام وقومه مع قارون وبغيه واستطالته عليهم وهلاكه ونصرة أهل الحق عليه ما ذكر جل شأنه هنا ما يتضمن قصة سيدنا صلوات الله تعالى وسلامه عليه وأصحابه مع قومه واستطالتهم عليه وإخراجهم إياه من مسقط رأسه ثم إعزازه عليه الصلاة والسلام بالإعادة إلى مكة وفتحه إياها منصورا مكرما ووسط سبحانه بينهما ما هو كالتخلص من الأول إلى الثاني. وأخرج الحاكم في التاريخ والديلمي عن عليّ كرّم الله تعالى وجهه عن النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم أنه فسر المعاد بالجنة ، وأخرج تفسيره بها ابن أبي شيبة والبخاري في تاريخه وأبو يعلى وابن المنذر عن أبي سعيد الخدري وأخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس، والتنكير عليه للتعظيم أيضا، ووجه ارتباط الآية بما قبلها أنها كالتصريح ببعض ما تضمنه ذلك. واستشكل رده عليه الصلاة والسلام إلى الجنة من حيث إنه يقتضي سابقية كونه صلّى الله تعالى عليه وسلم فيها مع أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن فيها. وأجيب بالتزام السابقية المذكورة ويكفي فيها كونه صلّى الله تعالى عليه وسلّم فيها بالقوة إذ كان في ظهر آدم عليهما الصلاة والسلام حين كان فيها، وقيل: إنه صلّى الله تعالى عليه وسلّم لما كان مستعدا لها من قبل كان كأنه كان فيها فالسابقية باعتبار ذلك الاستعداد على نحو ما قيل في قوله تعالى في الكفار: ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ [الصافات: 68] ولا يخفى ما في كلا القولين من البعد، وقريب منهما ما قيل: إن ذلك باعتبار أنه عليه الصلاة والسلام دخلها ليلة المعراج، وقد يقال: إن تفسيره بالجنة بيان لبعض ما يشعر به المعاد بأن يكون عبارة عن المحشر فقد صار كالحقيقة فيه لأنه ابتداء العود إلى الحياة التي كان المعاد عليها وجعله عظيما كما يشعر به التنوين لعظمة ما له صلّى الله تعالى عليه وسلّم فيه ومنه الجنة، فالمعاد بواسطة تنوينه الدال على التعظيم يشعر بالجنة لأنها الحاوية مما أعد له صلّى الله عليه وسلّم من الأمور العظيمة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وقريب من تفسيره بالمحشر تفسيره بالآخرة كما أخرج ذلك عبد بن حميد وابن مردويه، عن أبي سعيد الخدري، وتفسيره بيوم القيامة كما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس وعبد بن حميد عن عكرمة إلا أنه على ما ذكر اسم زمان، وعلى ما تقدم اسم مكان. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 333 ومما يشعر بأنه ليس المراد مجرد الرد إلى المحشر أو الآخرة أو يوم القيامة ما أخرجه الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال في الآية: إن له معادا يبعثه الله تعالى يوم القيامة ثم يدخله الجنة، ويتخرج على نحو ما قلنا تفسيره بالمقام المحمود وهو مقام الشفاعة العظمى يوم القيامة. وجاء في رواية أخرى رواها عبد بن حميد وابن مردويه عن ابن عباس وأبي سعيد الخدري أيضا تفسيره بالموت، ورواها معهما عن الحبر الفريابي وابن أبي حاتم والطبراني، وكونه معادا لقوله تعالى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [البقرة: 28] ولعل تعظيمه باعتبار أنه باب لوصوله صلّى الله تعالى عليه وسلّم إلى ما أعد الله عز وجل له من المقام المحمود والمنزلة العليا في الجنة إلى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وجل المقصود ما أشعر به التعظيم. وأخرج ابن أبي حاتم عن نعيم القاري أنه فسره ببيت المقدس. وكأن إطلاق المعاد عليه باعتبار أنه صلّى الله تعالى عليه وسلّم أسرى به إليه ليلة المعراج، والوعد برده عليه الصلاة والسلام إليه وعد له بالإسراء إليه مرة أخرى أو باعتبار أن أرضه أرض المحشر فالمراد بالرد إليه الرد إلى المحشر، وهذا غاية ما يقال في توجيه ذلك. فإن قبل فذاك وإلا فالأمر إليك وكأني بك تختار ما في صحيح البخاري ورواه الجماعة الذين تقدم ذكرهم عن ابن عباس من أنه مكة. وربما يخطر بالبال أن يراد بالمعاد الأمر المحبوب بنوع تجوز ويجعل بحيث يشمل مكة والجنة وغيرهما مما هو محبوب لديه صلّى الله تعالى عليه وسلم، ويراد برده عليه الصلاة والسلام إلى الأمر المحبوب إيصاله إليه مرة بعد أخرى فالرد هنا مثله في قوله تعالى: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ [إبراهيم: 9] وعليه يهون أمر اختلاف الروايات التي سمعتها في ذلك فتدبر. قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى يريد بذلك نفسه صلّى الله تعالى عليه وسلّم وبقوله سبحانه: وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ المشركين الذين بعث إليهم صلّى الله تعالى عليه وسلّم ومَنْ منتصب بفعل يدل عليه أعلم لا بأعلم لأن أفعل لا ينصب المفعول به في المشهور أي يعلم من جاء إلخ، وأجاز بعضهم أن يكون منصوبا بأعلم على أنه بمعنى عالم، والمراد أنه عز وجل يجازي كلا ممن جاء بالهدى ومن هو في ضلال على عمله، والجملة تقرير لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ إلخ. وفي معالم التنزيل هذا جواب لكفار مكة لما قالوا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلّم إنك في ضلال، ولعله لهذا وكون السبب فيه مجيئه عليه الصلاة والسلام إليهم بالهدى قيل في جانبه صلّى الله تعالى عليه وسلّم من جاء بالهدى وفي جانبهم من هو في ضلال مبين، ولم يؤت بهما على طرز واحد وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ تقرير لذلك أيضا أي سيردك إلى معاد كما أنزل إليك القرآن العظيم الشأن وما كنت ترجوه، وقال أبو حيان والطبرسي: هو تذكير لنعمته عز وجل عليه الصلاة والسلام وقوله تعالى: إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ على ما ذهب إليه الفراء وجماعة استثناء منقطع أي ولكن ألقاه تعالى إليك رحمة منه عز وجل، وجوز أن يكون استثناء متصلا من أعم العلل أو من أعم الأحوال على أن المراد نفي الإلقاء على أبلغ وجه، فيكون المعنى ما ألقي إليك الكتاب لأجل شيء من الأشياء إلا لأجل الترحم أو في حال من الأحوال إلا في حال الترحم فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ أي معينا لهم على دينهم، قال مقاتل: إن كفار مكة دعوه صلّى الله تعالى عليه وسلم إلى دين آبائه فذكره الله تعالى نعمه ونهاه عن مظاهرتهم على ما هم عليه وَلا يَصُدُّنَّكَ أي الكافرون عَنْ آياتِ اللَّهِ أي قراءتها والعمل بها. بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ أي بعد وقت إنزالها وإيحائها إليك المقتضي لنبوتك ومزيد شرفك، وقرأ يعقوب «يصدنك» بالنون الخفيفة وقرىء «يصدنك» مضارع أصد بمعنى صدّ حكاه أبو زيد عن رجل من كلب قال: وهي لغة قومه وقال الشاعر: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 334 أناس أصدوا الناس بالسيف عنهم ... صدود السواقي عن أنوف الحوائم وَادْعُ الناس إِلى رَبِّكَ إلى عبادته جل وعلا وتوحيده سبحانه وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بمظاهرتهم وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ أي ولا تعبد معه تعالى غيره عز وجل، وهذا وما قبله للتهييج والإلهاب وقطع أطماع المشركين عن مساعدته عليه الصلاة والسلام إياهم وإظهار أن المنهي عنه في القبح والشرية بحيث ينهى عنه من لا يتصور وقوعه منه أصلا، وروى محيي السنة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: الخطاب في الظاهر للنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم، والمراد به أهل دينه وهو في معنى ما حكى عنه الطبرسي أن هذا وأمثاله من باب. إياك أعني واسمعي يا جارة. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وحده كُلُّ شَيْءٍ أي موجود مطلقا هالِكٌ أي معدوم محض، والمراد كونه كالمعدوم وفي حكمه إِلَّا وَجْهَهُ أي إلا ذاته عز وجل وذلك لأن وجود ما سواه سبحانه لكونه ليس ذاتيا بل هو مستند إلى الواجب تعالى في كل آن قابل للعدم وعرضة له فهو كلا وجود وهذا ما اختاره غير واحد من الأجلة، والكلام عليه من قبيل التشبيه البليغ، والوجه بمعنى الذات مجاز مرسل وهو مجاز شائع وقد يختص بما شرف من الذوات، وقد يعتبر ذلك هنا، ويجعل نكتة للعدول عن إلا إياه إلى ما في النظم الجليل. وفي الآية بناء على ما هو الأصل من اتصال الاستثناء دليل على صحة إطلاق الشيء عليه جل وعلا. وقريب من هذا ما قيل: المعنى كل ما يطلق عليه الموجود معدوم في حد ذاته إلا ذاته تعالى، وقيل: الوجه بمعنى الذات إلا أن المراد ذات الشيء، وإضافته إلى ضميره تعالى باعتبار أنه مخلوق له سبحانه نظير ما قيل في قوله تعالى: تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ [المائدة: 116] من أن المراد بالنفس الثاني نفس عيسى عليه السلام وإضافته إليه تعالى باعتبار أنه مخلوق له جل وعلا، والمعنى كل شيء قابل للهلاك والعدم إلا الذات من حيث استقبالها لربها ووقوفها في محراب قربها فإنها من تلك الحيثية لا تقبل العدم، وقيل: الوجه بمعنى الجهة التي تقصد ويتوجه إليها، والمعنى كل شيء معدوم في حد ذاته إلا الجهة المنسوبة إليه تعالى وهو الوجود الذي صار به موجودا، وحاصله أن كل جهات الموجود من ذاته وصفاته وأحواله هالكة معدومة في حد ذاتها إلا الوجود الذي هو النور الإلهي، ومن الناس من جعل ضمير وجهه للشيء وفسر الشيء بالموجود بمعنى ما له نسبة إلى حضرة الوجود الحقيقي القائم بذاته وهو عين الواجب سبحانه، وفسر الوجه بهذا الوجود لأن الموجود يتوجه إليه وينسب، والمعنى كل منسوب إلى الوجود معدوم إلا وجهه الذي قصده وتوجه إليه وهو الوجود الحقيقي القائم بذاته الذي هو عين الواجب جل وعلا، ولا يخفى الغث والسمين من هذه الأقوال، وعليها كلها يدخل العرش والكرسي والسماوات والأرض والجنة والنار، ونحو ذلك في العموم. وقال غير واحد: المراد بالهلاك خروج الشيء عن الانتفاع به المقصود منه إما بتفرق أجزائه أو نحوه، والمعنى كل شيء سيهلك ويخرج عن الانتفاع به المقصود منه إلا ذاته عز وجل، والظاهر أنه أراد بالشيء الموجود المطلق لا الموجود وقت النزول فقط فيؤول المعنى إلى قولنا: كل موجود في وقت من الأوقات سيهلك بعد وجوده إلا ذاته تعالى، فيدل ظاهر الآية على هلاك العرش والجنة والنار والذي دل عليه الدليل عدم هلاك الأخيرين. وجاء في الخبر أن الجنة سقفها عرش الرحمن ، ولهذا اعترض بهذه الآية على القائلين بوجود الجنة والنار الآن والمنكرين له القائلين بأنهما سيوجدان يوم الجزاء ويستمران أبد الآباد، واختلفوا في الجواب عن ذلك فمنهم من قال: إن كلّا ليست للإحاطة بل للتكثير كما في قولك: كل الناس جاء إلا زيدا إذا جاء أكثرهم دون زيد، وأيد بما روي عن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 335 الضحاك أنه قال في الآية: كل شيء هالك إلا الله عز وجل والعرش والجنة والنار، ومنهم من قال: إن المراد بالهلاك الموت والعموم باعتبار الاحياء الموجودين في الدنيا، وأيد بما روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير الآية: كل حي ميت إلا وجهه. وأخرج عنه ابن مردويه أنه قال: لما نزلت كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: 185، الأنبياء: 35، العنكبوت: 57] قيل يا رسول الله فما بال الملائكة؟ فنزلت كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ فبين في هذه الآية فناء الملائكة والثقلين من الجن والإنس وسائر عالم الله تعالى وبريته من الطير والوحوش والسباع والأنعام وكل ذي روح أنه هالك ميت، وأنت تعلم أن تخصيص الشيء بالحي الموجود في الدنيا لا بد له من قرينة فإن اعتبر كونه محكوما عليه بالهلاك حيث شاع استعماله في الموت وهو إنما يكون في الدنيا قرينة فذاك وإلا فهو كما ترى، ومن الناس من التزم ما يقتضيه ظاهر العموم من أنه كل ما يوجد في وقت من الأوقات في الدنيا والأخرى يصير هالكا بعد وجوده بناء على تجدد الجواهر وعدم بقاء شيء منها زمانين كالإعراض عند الأشعري، ولا يخفى بطلانه، وإن ذهب إلى ذلك بعض أكابر الصوفية قدست أسرارهم. وقال سفيان الثوري: وجهه تعالى العمل الصالح الذي توجه به إليه عز وجل، فقيل: في توجيه الاستثناء إن العمل المذكور قد كان في حيز العدم فلما فعله العبد ممتثلا أمره تعالى أبقاه جل شأنه له إلى أن يجازيه عليه أو أنه بالقبول صار غير قابل للفناء لما أن الجزاء عليه قام مقامه وهو باق، وروي عن أبي عبد الله الرضا رضي الله تعالى عنه أنه ارتضى نحو ذلك، وقال المعنى كل شيء من أعمال العباد هالك وباطل إلا ما أريد به وجهه تعالى ، وزعم الخفاجي أن هذا كلام ظاهري. وقال أبو عبيدة: المراد بالوجه جاهه تعالى الذي جعله في الناس وهو كما ترى لا وجه له، والسلف يقولون الوجه صفة نثبتها لله تعالى ولا نشتغل بكيفيتها ولا بتأويلها بعد تنزيهه عز وجل عن الجارحة لَهُ الْحُكْمُ أي القضاء النافذ في الخلق وَإِلَيْهِ عز وجل تُرْجَعُونَ عند البعث للجزاء بالحق والعدل لا إلى غيره تعالى ورجوع العباد إليه تعالى عند الصوفية أهل الوحدة بمعنى ما وراء طور العقل. وقيل: ضمير إليه للحكم، وقرأ عيسى «ترجعون» مبنيا للفاعل، هذا والكلام من باب الإشارة في آيات هذه السورة أكثره فيما وقفنا عليه من باب تطبيق ما في الآفاق على ما في الأنفس ولعله يعلم بأدنى تأمل فيما مر بنا في نظائرها فتأمل والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل وهو جل وعلا حسبنا ونعم الوكيل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 336 سورة العنكبوت أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت بمكة، وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير نحو ذلك، وروي القول بأنها مكية عن الحسن وجابر وعكرمة وعن بعضهم أنها آخر ما نزل بمكة. وفي البحر عن الحبر وقتادة أنها مدنية وقال يحيى بن سلام: هي مكية إلا من أولها إلى قوله: وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ [العنكبوت: 11] وذكر ذلك الجلال السيوطي في الإتقان ولم يعزه، وأنه لما أخرجه ابن جرير في سبب نزولها ثم قال: قلت ويضم إلى ذلك وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ [العنكبوت: 60] الآية لما أخرجه ابن أبي حاتم في سبب نزولها وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك وهي تسع وستون آية بالإجماع كما قال الداني والطبرسي، وذكر الجلال في وجه اتصالها بما قبلها أنه تعالى أخبر في أول السورة السابقة عن فرعون أنه عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ [القصص: 4] وافتتح هذه بذكر المؤمنين الذين فتنهم الكفار وعذبوهم على الإيمان بعذاب دون ما عذب به فرعون بني إسرائيل بكثير تسلية لهم بما وقع لمن قبلهم وحثا على الصبر، ولذا قيل هنا: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [العنكبوت: 3] وأيضا لما كان في خاتمة الأولى الإشارة إلى هجرة النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم أي في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [القصص: 85] على بعض الأقوال، وفي خاتمة هذه الإشارة إلى هجرة المؤمنين بقوله تعالى: يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ [العنكبوت: 56] ناسب تتاليهما. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 337 الم سبق الكلام فيه وفي نظائره ولم يجوز بعضهم هنا ارتباط ما بعده به ارتباطا أعرابيا لأن الاستفهام مانع منه وبحث فيه بأن اللازم في الاستفهام تصدره في جملته وهو لا ينافي وقوع تلك الجملة خبرا ونحوه كقولك: زيد هل قام أبوه؟ فلو قيل هنا المعنى المتلو عليك أَحَسِبَ النَّاسُ إلى آخر السورة صح فلا يقال أيضا إن المانع منه عدم صحة ارتباطه بما قبله معنى. نعم الارتباط خلاف الظاهر، والاستفهام للإنكار، والحسبان مصدر كالغفران مما يتعلق بمضامين الجمل لأنه من الأفعال الداخلة على المبتدأ والخبر وذلك للدلالة على وجه ثبوتها في الذهن أو في الخارج من كونها مظنونة أو متيقنة فتقتضي مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر أو ما يسد مسدهما وقد سد مسدهما هنا على ما قاله الحوفي وابن عطية وأبو البقاء: قوله تعالى: أَنْ يُتْرَكُوا وسد أن المصدرية الناصبة للفعل مع مدخولها مسد الجزأين مما قاله ابن مالك، ونقله عنه الدماميني في شرح التسهيل، وزعم بعضهم أن ذلك إنما هو في أن المفتوحة مشددة ومثقلة مع مدخولها، والترك هنا على ما ذكره الزمخشري بمعنى التصيير المتعدي لمفعولين كما في قوله تعالى: تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ [البقرة: 17] وقول الشاعر: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 338 فتركته جزر السباع ينشنه ... يقضمن قلة رأسه والمعصم فضمير الجمع نائب مفعول أول والمفعول الثاني متروك بدلالة الحال الآتية أي كما هم أو على ما هم عليه كما في قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا [التوبة: 16] على ما قدره الزمخشري فيه وقوله سبحانه: أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا بمعنى لأن يقولوا متعلق بيتركوا على أنه غير مستقر، وقوله تعالى: وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ في موضع الحال من ضمير يتركوا، ويجوز أن لا يعتبر كون المفعول الثاني ليتركوا متروكا بل تجعل هذه الجملة الحالية سادة مسده، ألا ترى أنك لو قلت: علمت ضربي زيدا قائما صح، على أن ترك ليس كأفعال القلوب في جميع الأحكام، بل القياس أن يجوز الاكتفاء فيه بالحال من غير نظر إلى أنه قائم مقام الثاني لأن قولك: تركته وهو جزر السباع كلام صحيح كما تقول أبقيته على هذه الحالة، وهو نظير سمعته يتحدث في أنه يتم بالحال بعده أو الوصف، وهاهنا زاد أنه يتم أيضا بما يجري مجرى الخبر، وجوز أن تكون هذه الجملة هي المفعول الثاني لا سادة مسده وتوسط الواو بين المفعولين جائز كما في قوله: وصيرني هواك وبي ... لحيني يضرب المثل وقد نص شارح أبيات المفصل على أنه حكي عن الأخفش أنه كان يجوز كان زيد وأبوه قائم على نقصان كان وجعل الجملة خبرا مع الواو تشبيها لخبر كان بالحال فمتى جاز في الخبر عنده فليجز في المفعول الثاني وهو كما نرى، واستظهر الطيبي كون الترك هنا متعديا لواحد على أنه بمعنى التخلية وليس بذاك وجوز الحوفي وأبو البقاء أن يكون أَنْ يَقُولُوا بدلا من أن يتركوا وجوز أن يكون أَنْ يُتْرَكُوا هو المفعول الأول لحسب وهُمْ لا يُفْتَنُونَ في موضع الحال من الضمير وَإِنْ يَقُولُوا بتقدير اللام هو المفعول الثاني، وكونه علة لا ينافي ذلك كما في قولك: حسبت ضربه للتأديب، والتقدير أحسب الناس تركهم غير مفتونين لقولهم: آمنا، والمفعول الثاني ليتركوا متروك بدلالة الحال، واعترضه صاحب التقريب بما حاصله أن الحسبان لتعلقه بمضامين الجمل إذا أنكر يكون باعتبار المفعول الثاني فإذا قلت: أحسبته قائما فالمنكر حسبان قيامه وكذلك إذا قيل: أحسب الناس تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا أفاد إنكار حسبان أن الترك غير مفتونين لهذه العلة بل إنما هو لعلة أخرى ولا يلائم سبب النزول ولا مقصود الآية. واختار أن يكون أَنْ يُتْرَكُوا سادا مسد المفعولين وأَنْ يَقُولُوا علة للحسبان أي أحسبوا لقولهم آمنا أن يتركوا غير مفتونين، وأجيب بأن أصل الكلام ألا يفتنون لقولهم آمنا على إنكار أن يكون سببا لعدم الفتن، ثم قيل: أيتركون غير مفتونين لقولهم آمنا مبالغة في إنكار أن يبقوا من غير فتن لذلك ثم أدخل على حسبان الترك مبالغة على مبالغة، وإنما يرد ما أورد إذا لم يلاحظ أصل الكلام ويجعل مصب الإنكار الحسبان من أول الأمر. وقيل: إنما يلزم ما ذكر لو لم يقدر أحسبوا تركهم غير مفتونين بمجرد قولهم: آمنا دون إخلاص وعمل صالح أما لو قدر ذلك استقام كما صرح به الزجاج، على أن ذلك مبني على اعتبار المفهوم، واعترض ذلك بعضهم من حيث اللفظ بأن فيه الفصل بين الحال وذيها بثاني مفعولي حسب وهو أجنبي وأجيب بأن الفصل غير ممتنع بل الأحسن أن لا يقع فصل إلا إذا اعترض ما يوجبه، وهاهنا الاهتمام بشأن الخبر حسن التقديم لأن مصب الإنكار ذلك، ولا يخفى أنه يحتاج إلى مثل هذا الجواب على ما يقتضيه الظاهر من جعل أَنْ يُتْرَكُوا في تأويل مصدر وقع مفعولا أولا وَإِنْ يَقُولُوا في تأويل مصدر أيضا مجرور بلام مقدرة والجار والمجرور في موقع المفعول الثاني، وأما على ما ذكره بعض المحققين من أنهما لم يجعلا كذلك وإنما جعل أَنْ يَقُولُوا معمولا ليتركوا بتقدير اللام وجعل أَنْ يُتْرَكُوا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 339 سادا مسد المفعولين واقتضى المعنى أن يقال أحسب الناس تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا بجعل تركهم مفعولا أولا ولقولهم مفعولا ثانيا فلا يحتاج إليه لأنه إن جرينا مع اللفظ كان أَنْ يُتْرَكُوا سادا مسد المفعولين فلا يكون فيه مفعول ثان فاصل بين الحال وذيها وإن جرينا مع المعنى واعتبرنا الكلام مجردا عن أن المصدرية وجيء به كما سمعت كانت الحال متصلة بذيها، وقيل: يجوز أن يكون المفعول الأول لحسب محذوفا أي أحسب الناس أنفسهم وأَنْ يُتْرَكُوا في موضع المفعول الثاني على أنه في تأويل مصدر وهو في تأويل اسم المفعول أي متروكين وهم لا يفتنون في موضع الحال كما تقدم وأن يؤمنوا بتقدير لأن يؤمنوا متعلق بيتركوا فكأنه قيل: أحسب الناس أنفسهم متروكين غير مفتونين لقولهم آمنا، وقيل: إن هذا المعنى حاصل على تقدير سد أَنْ يُتْرَكُوا مسد المفعولين فتأمل فيه وفيما قبله، ولعل الأبعد عن التكلف ما ذكرناه أولا، والمراد إنكار حسبانهم أن يتركوا غير مفتونين بمجرد أن يقولوا آمنا واستبعاد له وتحقيق أنه تعالى يمتحنهم بمشاق التكاليف كالمهاجرة والمجاهدة ورفض الشهوات ووظائف الطاعات وفنون المصائب في الأنفس والأموال ليتميز المخلص من المنافق والراسخ في الدين من المتزلزل فيه فيعامل كل بما يقتضيه ويجازيهم سبحانه بحسب مراتب أعمالهم فإن مجرد الإيمان وإن كان عن خلوص لا يقتضي غير الخلاص من الخلود في النار. وذكر بعضهم أنه سبحانه لو أثاب المؤمن يوم القيامة من غير أن يفتنه في الدنيا لقال الكافر المعذب: ربي لو أنك كنت فتنته في الدنيا لكفر مثلي فإيمانه الذي تثيبه عليه مما لا يستحق الثواب له فبالفتنة يلجم الكافر عن مثل هذا القول ويعوض المؤمن بدلها ما يعوض بحيث يتمنى لو كانت فتنته أعظم مما كانت والآية على ما أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الشعبي نزلت في أناس كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام فكتب إليهم أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من المدينة لما نزلت آية الهجرة أنه لا يقبل منكم إقرار ولا إسلام حتى تهاجروا فخرجوا عامدين إلى المدينة فاتبعهم المشركون فردوهم فنزلت فيهم هذه الآية فكتبوا إليهم أنزلت فيكم آية كذا وكذا فقالوا: نخرج فإن اتبعنا أحد قاتلناه فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم فمنهم من قتل ومنهم من نجا فأنزل الله تعالى فيهم ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل: 110] . وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال سمعت ابن عمير وغيره يقولون: كان أبو جهل يعذب عمار بن ياسر وأمه ويجعل على عمار درعا من حديد في اليوم الصائف وطعن في فرج أمه برمح ففي ذلك نزلت أَحَسِبَ النَّاسُ إلخ، وقيل: نزلت في مهجع مولى عمر بن الخطاب قتل ببدر فجزع عليه أبواه وامرأته «و قال فيه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: سيد الشهداء مهجع وهو أول من يدعى إلى باب الجنة» ، وقيل: نزلت في عياش أخي أبي جهل غدر وعذب ليرتد كما سيأتي خبره إن شاء الله تعالى، وفسر الناس بمن نزلت فيهم الآية، وقال الحسن الناس هنا المنافقون. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حال من الناس أو من ضمير يفتنون، وعلى الأول يكون علة لإنكار الحسبان أي أحسبوا ذلك وقد علموا أن سنة الله تعالى على خلافه ولن تجد لسنة الله تعالى تبديلا، وعلى الثاني بيانا لأنه لا وجه لتخصيصهم بعدم الافتنان، وحاصله أنه على الأول تنبيه على الخطأ، وعلى الثاني تخطئة، والمراد بالذين من قبلهم المؤمنون أتباع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أصابهم من ضروب الفتن والمحن ما أصابهم فصبروا وعضوا على دينهم بالنواجذ كما يعرب عنه قوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا [آل عمران: 146] الآيات. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 340 وروى البخاري وأبو داود والنسائي عن خباب بن الأرت قال: «شكونا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ولقد لقينا من المشركين شدة فقلنا: ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا أي في قولهم آمنا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ في ذلك والفاء لترتيب ما بعدها على ما يفصح عنه ما قبلها من وقوع الامتحان، واللام واقعة في جواب القسم، والالتفات إلى الاسم الجليل لإدخال الروعة وتربية المهابة، وتكرير الجواب لزيادة التأكيد والتقرير، ويتوهم من الآية حدوث علمه تعالى بالحوادث وهو باطل. وأجيب بأن الحادث تعلق علمه تعالى بالمعدوم بعد حدوثه، وقال ابن المنير: الحق أن علم الله تعالى واحد يتعلق بالموجود زمان وجوده وقبله وبعده على ما هو عليه، وفائدة ذكر العلم هاهنا وإن كان سابقا على وجود المعلوم التنبيه بالسبب على المسبب وهو الجزاء فكأنه قيل: فو الله ليعلمن بما يشبه الامتحان والاختبار الذين صدقوا في الإيمان الذي أظهروه والذين هم كاذبون فيه مستمرون على الكذب فليجازين كلا بحسب علمه فيه، وفي معناه ما قاله ابن جني من أنه من إقامة السبب مقام المسبب، والغرض فيه ليكافئن الله تعالى الذين صدقوا وليكافئن الكاذبين وذلك أن المكافأة على الشيء إنما هي مسببة عن علم، وقال محيي السنة: أي فليظهرن الله تعالى الصادقين من الكاذبين حتى يوجد معلوما لأن الله تعالى عالم بهم قبل الاختبار. وقرأ علي كرّم الله تعالى وجهه وجعفر بن محمد والزهري رضي الله تعالى عنهم «فليعلمن» بضم الياء وكسر اللام على أنه مضارع أعلم المنقولة بهمزة التعدية من علم المتعدية إلى واحد وهي التي بمعنى عرف فيكون الفعل على هذه القراءة متعديا لاثنين والثاني هنا محذوف أي فليعلمن الله الذين صدقوا منازلهم من الثواب وليعلمن الكاذبين منازلهم من العقاب وذلك في الآخرة، أو الأول محذوف أي فليعلمن الله الناس الذين صدقوا وليعلمنهم الكاذبين أي يشهدهم هؤلاء في الخير وهؤلاء في الشر، والظاهر أن ذلك في الآخرة أيضا، وقال أبو حيان: في الدنيا والآخرة، وجوز أن يكون ذلك من الاعلام وهو وضع العلامة والسمة فيتعدى لواحد أي يسمهم بعلامة يعرفون بها يوم القيامة كبياض الوجوه وسوادها، وقيل: يسمهم سبحانه بعلامة يعرفون بها في الدنيا كقوله عليه الصلاة والسلام: «من أسر سريرة ألبسه الله تعالى رداءها» . وقرأ الزهري الفعل الأول كما قرأ الجماعة، والفعل الثاني كما قرأ علي كرّم الله تعالى وجهه وجعفر والزهري رضي الله تعالى عنهم أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا قال مجاهد: أي يعجزونا فلا نقدر على مجازاتهم على أعمالهم والانتقام منهم وأصل السبق الفوت، ثم أريد منه ما ذكر وقيل: أي يعجلونا محتوم القضاء، والأول أولى. وفسر قتادة على ما أخرجه عنه عبد بن حميد وابن جرير السَّيِّئاتِ بالشرك والجمع باعتبار تعدد المتصفين به وإطلاق العمل على الشرك سواء قلنا إنه ما كان عن فكر وروية كما قيل: أو عن قصد كما قال الراغب: أم لا لا ضير فيه لأنه يكون بعبادة الأصنام وغيرها، وقيل: المراد بالسيئات المعاصي غير الكفر فالآية في المؤمنين قطعا، وهم وإن لم يحسبوا أن يفوتوه تعالى ولم تطمع نفوسهم في ذلك لكن نزل جريهم على غير موجب العلم وهو غفلتهم وإصرارهم على المعاصي منزلة من لم يتيقن الجزاء، ويحسب أنه يفوت الله عز وجل. وعمم بعضهم فحمل السيئات على الكفر والمعاصي، وتعليق العمل بها بناء على تسليم تخصيصه بما سمعت الجزء: 10 ¦ الصفحة: 341 يحتمل أن يكون باعتبار التغليب، وظاهر الآثار يدل على أن هذه الآية نزلت في شأن الكفرة، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: يريد سبحانه بالذين يعملون السيئات الوليد بن المغيرة وأبا جهل والأسود والعاصي بن هشام وشيبة وعتبة والوليد بن عتبة وعتبة بن أبي معيط وحنظلة بن وائل وأنظارهم من صناديد قريش، وفي البحر أن الآية وإن نزلت على سبب فهي تعم جميع من يعمل السيئات من كافر ومسلم، والظاهر أن أَمْ منقطعة بمعنى بل التي للإضراب بمعنى الانتقال وهو انتقال من إنكار حسبان عدم الفتن لمجرد الإيمان إلى إنكار حسبان عدم المجازاة على عمل السيئات. وقال ابن عطية: أَمْ معادلة للهمزة في قوله تعالى: أَحَسِبَ وكأنه سبحانه قرر الفريقين، قرر المؤمنين على ظنهم أنهم لا يفتنون، وقرر الكافرين الذين يعملون السيئات في تعذيب المؤمنين وغير ذلك على ظنهم أنهم يسبقون نقمات الله تعالى ويعجزونه انتهى. ورد بأنها لو كانت معادلة للهمزة لكانت متصلة والتالي باطل لأن شرط المتصلة أن يكون ما بعدها مفردا نحو أزيد قائم أم عمرو أو ما هو في تقدير المفرد نحو أقام زيد أم قعد وجوابها تعيين أحد الشيئين أو الأشياء وبعدها هنا جملة ولا يمكن الجواب هنا أيضا بأحد الشيئين فالحق أنها منقطعة والاستفهام الذي تشعر به إنكاري لا يحتاج للجواب كما لا يخفى، والظاهر أن الحسبان متعد إلى مفعولين وأن أَنْ يَسْبِقُونا ساد مسدهما. وجوز الزمخشري هنا أن يضمن معنى التقدير فيكون متعديا لواحد وإن يسبقونا هو ذلك الواحد، وتعقبه أبو حيان بأن التضمين ليس بقياس ولا يصار إليه إلا عند الحاجة وهنا لا حاجة إليه ساءَ ما يَحْكُمُونَ أي بئس الذي يحكمونه حكمهم ذلك على أن ساء بمعنى بئس وما موصولة ويَحْكُمُونَ صلتها، والعائد محذوف وهي فاعل ساء، والمخصوص بالذم محذوف أو بئس حكما يحكمونه حكمهم ذلك على أن ما موصوفة ويحكمون صفتها والرابط محذوف وهي تمييز وفاعل ساء ضمير مفسر بالتمييز والمخصوص محذوف أيضا. وقال ابن كيسان: ما مصدرية، والمصدر المؤول مخصوص بالذم فالتمييز محذوف، وجوز كون ساء بمعنى قبح وما إما مصدرية أو موصولة أو موصوفة، والمضارع للاستمرار إشارة إلى أن دأبهم ذلك أو هو واقع موقع الماضي لرعاية الفاصلة وكلا الوجهين حكاهما في البحر، والأول أولى، وعندي أن مثل هذا لا يقال: إلا في حق الكفرة مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه قال: أي من كان يخشى البعث في الآخرة فالرجاء بمعنى الخوف كما في قول الهذلي في وصف عسال: إذا لسعته الدبر لم يرج لسعها ... وخالفها في بيت نوب عوامل ولعل إرادة البعث من لقائه عز وجل لأنه من مباديه، وقيل: لعله جعل لقاء الله تعالى عبارة عن الوصول إلى العاقبة إلا أنه لما كان البعث من أعظم ما يتوقف ذلك عليه خصه بالذكر، وفي الكشاف أن لقاء الله تعالى مثل للوصول إلى العاقبة من تلقي ملك الموت والبعث والحساب والجزاء، مثلت تلك الحال بحال عبد قدم على سيده بعد عهد طويل وقد اطلع مولاه على ما كان يأتي ويذر فإما أن يلقاه ببشر وترحيب لما رضي من أفعاله أو بضد ذلك لما سخطه منها، فمعنى مَنْ كانَ إلخ من كان يأمل تلك الحال وأن يلقى فيها الكرامة من الله تعالى والبشرى، فالكلام عنده من باب التمثيل والرجاء بمعنى الأمل والتوقع. وجوز أن يكون بمعنى ذلك إلا أن الكلام بتقدير مضاف أي من كان يتوقع ملاقاة جزاء الله تعالى ثوابا أو عقابا أو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 342 ملاقاة حكمه عز وجل يوم القيامة وأن يكون بمعنى الخوف، والمضاف محذوف أيضا أي من كان يخاف ملاقاة عقاب الله تعالى، وأن يكون بمعنى ظن حصول ما فيه مسرة وتوقعه كما هو المشهور، والمضاف كذلك أيضا، أي من كان يرجو ملاقاة ثواب الله تعالى، ويجوز أن لا يقدر مضاف، ويجعل لقاء الله تعالى مجازا عن الثواب لما أنه لازم له. واختار بعضهم أن الرجاء بمعناه المشهور وأن لقاء الله تعالى مشاهدته سبحانه على الوجه اللائق به عز وجل كما يقوله أهل السنة والجماعة إذ لا حاجة للخروج عن الظاهر من غير ضرورة وما حسبه المعتزلي منها فليس منها كما بين في علم الكلام أي من كان يتوقع مشاهدة الله تعالى يوم القيامة التي لا نعيم يعدلها ويلزمها الفوز بكل خير ونعيم فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ الأجل غاية لزمان ممتد عينت لأمر من الأمور، وقد يطلق على كل ذلك الزمان، والأول أشهر في الاستعمال أي فإن الوقت الذي عينه جل شأنه لذلك لَآتٍ لا محالة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه لأن أجزاء الزمان على التقضي والتصرم دائما، ومجيء ذلك الوقت كناية عن إتيان ما فيه ووقوعه، والجملة الاسمية قائمة مقام جواب الشرط وهي في الحقيقة دليل الجواب المحذوف أي فليبادر ما ينفقه من امتثال الأوامر واجتناب المناهي أو فليبادر ما يحقق أمله ويصدق رجاءه أو نحو ذلك مما يلائم الشرط فتدبر. وقيل: يجوز أن تكون هي الجواب على أن المراد بها المعنى الملائم للشرط كما ذكر وَهُوَ السَّمِيعُ جل شأنه لأقوال العباد الْعَلِيمُ بأحوالهم من الأعمال الظاهرة والعقائد والصفات الباطنة، والجملة تذييل لتحقيق حصول المرجو والمخوف وعدا ووعيدا وَمَنْ جاهَدَ في طاعة الله عز وجل. فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ لعود المنفعة من الثواب المعد لذلك إليها إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ فلا حاجة له إلى طاعتهم وإنما أمرهم سبحانه بها تعريضا لهم للثواب بموجب رحمته وحكمته. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ الكفر الأصلي أو العارضي بالإيمان والمعاصي بما يتبعها من الطاعات وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أي أحسن جزاء أعمالهم والجزاء الحسن أن يجازي بحسنة حسنة، وأحسن الجزاء أن تجازى الحسنة الواحدة بالعشر وزيادة، وقيل: لو قدر لنجزينهم بأحسن أعمالهم أو جزاء أحسن أعمالهم لإخراج المباح جاز وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً أي أمرناه بتعهدهما ومراعاتهما، وانتصب حسنا على أنه وصف لمصدر محذوف أي إيصاء حسنا أي ذا حسن أو هو في حد ذاته حسن لفرط حسنه كقوله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً [البقرة: 83] وهذا ما اختاره أبو حيان ولا يخلو عن حسن، وقال الزمخشري: حسنا مفعول به لمصدر محذوف مضاف إلى والديه أي وصيناه بإيتاء والديه أو بإيلاء والديه حسنا، وفيه إعمال المصدر محذوفا وإبقاء عمله وهو لا يجوز عند البصريين، وجوز أن يكون حسنا مصدرا لفعل محذوف أي أحسن حسنا، والجملة في موضع المفعول لوصي لتضمنه معنى القول، وهذا على مذهب الكوفيين القائلين بأن ما يتضمن معنى القول يجوز أن يعمل في الجمل من غير تقدير للقول، وعند البصريين يقدر القول في مثل ذلك وعليه يجوز أن يكون مفعولا به لفعل محذوف والجملة مقول القول وجملة القول مفسرة للتوصية أي قلنا أولهما أو افعل بهما حسنا، وعلى هذا يحسن الوقف على بوالديه لاستئناف الجملة بعده، ورجح تقدير الأمر بأنه أوفق لما بعده من الخطاب والنهي الذي هو أخوه لكن ضعف ما فيه كثرة تقدير بكثرة التقدير، ونقل ابن عطية عن الكوفيين أنهم يجعلون حسنا مفعولا لفعل محذوف ويقدرون أن يفعل حسنا، وفيه حذف أن وصلتها وإبقاء المعمول وهو لا يجوز عند البصريين، وقيل: إن حسنا منصوب بنزع الخافض وبوالديه متعلق بوصينا والباء فيه بمعنى في أي وصينا الإنسان في أمر والديه بحسن وهو كما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 343 ترى، وقرأ عيسى والجحدري «حسنا» بفتحتين وفي مصحف أبي «إحسانا» وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما عطف على ما قبله ولا بد من إضمار القول إن لم يضمر قبل أي وقلنا: إن جاهداك إلخ لئلا يلزم عطف الإنشاء على الخبر لأن الجملة الشرطية إذا كان جوابها إنشاء فهي إنشائية كما صرحوا به فإذا لم يضمر القول لا يليق عطفها على وصينا لما ذكر ولا على ما عمل فيه لكونه في معنى القول وهو أحسن وإن توافقا في الإنشائية لأنه ليس من الوصية بالوالدين لأنه منهي عن مطاوعتهما، وأما عطفه على قلنا المفسر للتوصية فلا يضر لما فيه من تقييدها بعدم الإفضاء إلى المعصية مآلا فكأنه قيل: أحسن إليهما وأطعهما ما لم يأمراك بمعصية فتأمل، والظاهر الذي يقتضيه المقام أن ما عام لما سواه تعالى شأنه وقوله سبحانه: بِهِ على حذف مضاف أي ما ليس لك بإلهيته علم، وتنكير علم للتحقير. والمراد لتشرك بي شيئا لا يصح أن يكون إلها ولا يستقيم، وفي العدول عنه إلى ما في النظم الجليل إيذان بأن ما لا يعلم صحته ولو إجمالا كما في التقليد لا يجوز اتباعه وإن لم يعلم بطلانه فكيف بما علم على أتم وجه بطلانه، وجعل العلامة الطيبي نفي العلم كناية عن نفي المعلوم، وعلل ذلك بأن هذا الأسلوب يستعمل غالبا في حق الله تعالى نحو «أتعلمون الله بما لا يعلم» (1) ثم قال: وفيه إشارة إلى أن نفي الشرك من العلوم الضرورية وأن الفطرة السليمة مجبولة عليه على ما ورد «كل مولود يولد على الفطرة» وذلك أن المخاطب بقوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ جنس الإنسان انتهى، وفيه بحث. ومتعلق تطعهما محذوف لوضوح دلالة الكلام عليه أي وإن استفرغا جهدهما في تكليفك لتشرك بي غيري مما لا إلهية له فلا تطعهما في ذلك فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وفي تعليق النهي عن طاعتهما بمجاهدتهما في التكليف إشعار بأن موجب النهي فيما دونها من التكليف ثابت بطريق الأولوية وكذا موجبه في مجاهدة أحدهما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ أي مرجع من آمن منكم- ومن أشرك- ومن بر- ومن عق والجملة مقررة لما قبلها ولذا لم تعطف فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بأن أجازي كلا منكم بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر. والآية نزلت في سعد بن أبي وقاص، وذلك أنه رضي الله تعالى عنه حين أسلم قالت أمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس: يا سعد بلغني أنك صبأت فو الله تعالى لا يظلني سقف بيت من الضح والريح وأن الطعام والشراب عليّ حرام حتى تكفر بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم وكان أحب ولدها إليها فأبى سعد وبقيت ثلاثة أيام كذلك فجاء سعد إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فشكا إليه فنزلت هذه الآية والتي في لقمان والتي في الأحقاف فأمره رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يداريها ويترضاها بالإحسان. وروي أنها نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي، وذلك أنه هاجر مع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما متوافقين حتى نزلا المدينة فخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام أخواه لأمه أسماء بنت مخرمة امرأة من بني تميم من بني حنظلة فنزلا بعياش وقالا له: إن من دين محمد صلة الأرحام وبر الوالدين وقد تركت أمك لا تطعم ولا تشرب ولا تأوي بيتا حتى تراك وهي أشد حبا لك منا فاخرج معنا وفتلا منه في الذروة والغارب فاستشار عمر رضي الله تعالى عنه فقال هما يخدعانك ولك عليّ أن أقسم ما لي بيني وبينك فما زالا به حتى أطاعها وعصى عمر رضي الله عنه تعالى عنه فقال عمر رضي الله تعالى عنه: أما إذ عصيتني فخذ ناقتي فليس في الدنيا بعير يلحقها فإن رابك منهم ريب فارجع، فلما انتهوا إلى البيداء قال أبو جهل: إن ناقتي قد كلت فاحملني معك، قال: نعم. فنزل ليوطىء لنفسه   (1) نص الآية 79 من سورة آل عمران: قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ .... الجزء: 10 ¦ الصفحة: 344 وله فأخذاه فشداه وثاقا وجلده كل واحد مائة جلدة وذهبا به إلى أمه، فقالت: لا تزال بعذاب حتى ترجع عن دين محمد صلى الله تعالى عليه وسلم فنزلت. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ أي في زمرة الراسخين في الصلاح الكاملين فيه، والصلاح ضد الفساد وهو جامع لكل خير، وله مراتب غير متناهية ومرتبة الكمال فيه مرتبة عليا، ولذا طلبها الأنبياء عليهم السلام كما قال سليمان عليه السلام وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل: 19] ويحتمل أن يكون الكلام بتقدير مضاف أي في مدخل الصالحين وهي الجنة، والموصول مبتدأ ولندخلنهم الخبر على ما ذكره أبو البقاء، وجوز أن يكون في موضع نصب على تقدير لندخلن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم وَمِنَ النَّاسِ أي بعضهم مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ أي لأجله عز وجل على أن في للسببية، أو المراد في سبيل الله تعالى بأن عذبهم المشركون على الإيمان به تعالى جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ أي نزلوا ما يصيبهم من أذيتهم كَعَذابِ اللَّهِ أي منزلة عذابه تعالى في الآخرة فجزعوا من ذلك ولم يصبروا عليه وأطاعوا الناس وكفروا بالله تعالى كما يطيع الله تعالى من يخاف عذابه سبحانه فيؤمن به عز وجل. وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ بأن حصل للمؤمنين فتح وغنيمة لَيَقُولُنَّ بضم اللام الثانية وحذف ضمير الجمع لالتقاء الساكنين، وهذا الضمير عائد إلى من والجمع بالنظر إلى معناها، كما أن إفراد الضمائر العائدة إليها فيما سبق بالنظر إلى لفظها، وحكى أبو معاذ النحوي أنه قرىء «ليقولن» بفتح اللام على إفراد الضمير كما فيما سبق إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أي مشايعين لكم في الدين فأشركونا فيما حصل من الغنيمة، وقيل: أي مقاتلين معكم ناصرين لكم فالمراد الصحبة في القتال. ورد بأنها غير واقعة، والآية نزلت في ناس من ضعفة المسلمين كانوا إذا مسهم أذى من الكفار وافقوهم وكانوا يكتمونه من المسلمين وبذلك يكونون منافقين، ولذا قال ابن زيد والسدي: إن الآية في المنافقين فرد الله تعالى عليهم ذلك بقوله سبحانه: أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ وهو في الظاهر عطف على مقدر أي أيخفى حالهم وليس إلخ أو أليس المتفرسون الذين ينظرون بنور الله تعالى بأحوالهم عالمين وليس إلخ، و (أعلم) إما على أصله أي أليس هو عز وجل أعلم من العالمين بما في صدور العالمين من الأخلاق والنفاق حتى يفعلوا ما يفعلون من الارتداد والإخفاء عن المسلمين وادعاء كونهم منهم لنيل الغنيمة أو هو بمعنى عالم. وقال قتادة: نزلت فيمن هاجر فردهم المشركون إلى مكة، وقيل: نزلت في ناس مؤمنين أخرجهم المشركون إلى بدر فارتدوا وهم الذين قال الله تعالى فيهم: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ [النساء: 97] الآية، وما تقدم هو الأوفق لما سبق من الآية وما لحق من قوله سبحانه: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بالإخلاص وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ سواء كان كفرهم بأذية أو لا، والمراد بالعلم المجازاة أي ليجزينهم بما لهم من الإيمان والنفاق، وكأن تلوين الخطاب في الذين آمنوا والمنافقين لرعاية الفواصل، والظاهر أن الآية بناء على أن النفاق ظهر في المدينة مدنية، وهو يؤيد ما تقدم من عدها من المستثنيات، ولعل من يقول إنها مكية لظاهر إطلاق جمع القول بمكية السورة، وأن تعذيب الكفرة المسلمين إنما كان في الأغلب بمكة يمنع ذلك أو يذهب إلى أنها من الأخبار بالغيب فتدبر وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا بيان لحملهم المؤمنين على الكفر بالاستمالة بعد بيان حملهم إياهم عليه بالأذية والوعيد، ووصفهم بالكفر هاهنا دون ما سبق لما أن مساق الكلام لبيان جنايتهم وفيما سبق لبيان جناية من أضلوه، واللام للتبليغ أي قالوا مخاطبين لهم اتَّبِعُوا سَبِيلَنا أي اسلكوا طريقتنا التي نسلكها في الدين، عبر عن ذلك بالاتباع الذي هو المشي خلف ماش آخر تنزيلا للمسلك منزلة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 345 السالك فيه أو اتبعونا في طريقتنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ أي إذا كان ذلك الاتباع خطيئة يؤاخذ عليها يوم القيامة كما تقولون أو ولنحمل ما عليكم من الخطايا إن كان بعث ومؤاخذة، وإنما أمروا أنفسهم بالحمل عاطفين له على الأمر بالاتباع للمبالغة في تعليق الحمل بالاتباع، فكأن أصل الكلام اتبعوا سبيلنا نحمل خطاياكم بجزم نحمل على أنه جواب الأمر، فيكون المعنى إن تتبعوا نحمل فعدل عنه إلى ما في النظم الجليل للمبالغة المذكورة، ومنشؤها الإشارة إلى أن الحمل لتحققه كأنه أمر واجب أمروا به من آمر مطاع، والتعليق على الشرط الذي تضمنه الأمر كما في قولهم: أكرمني أنفعك لا يفيد ذلك، والداعي لهم إلى المبالغة التشجيع على الاتباع، والحمل هنا مجاز، وفي البحر شبه القيام بما يتحصل من عواقب الإثم بالحمل على الظهر والخطايا بالمحمول، وقال مجاهد: الحمل هنا من الحمالة لا من الحمل انتهى. والآية على ما أخرج جماعة عن مجاهد نزلت في كفار قريش قالوا لمن آمن منهم: لا نبعث نحن ولا أنتم فاتبعونا فإن كان عليكم شيء فعلينا. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن الحنفية قال كان أبو جهل وصناديد قريش يتلقون الناس إذا جاؤوا إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يسلمون يقولون: إنه يحرم الخمر ويحرم الزنا ويحرم ما كانت تصنع العرب فارجعوا فنحن نحمل أوزاركم فنزلت هذه الآية ، وقيل: قائل ذلك أبو سفيان بن حرب وأمية بن خلف قالا لعمر رضي الله تعالى عنه: إن كان في الإقامة على دين الآباء إثم فنحن نحمله عنك. وقيل: قائله الوليد بن المغيرة، ونسبة ما صدر عن الواحد للجمع شائعة، وقد تقدم الكلام غير مرة في وجه ذلك، وقرأ الحسن وعيسى ونوح القارئ «ولتحمل» بكسر لام الأمر، ورويت عن عليّ كرّم الله تعالى وجهه وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ نفي مؤكد عن سبيل الاستمرار لكونهم حاملين شيئا ما من خطاياهم التي التزموا حملها، فالباء زائدة لتأكيد النفي والاستمرار الذي تفيده الجملة الاسمية معتبر بعد النفي، ومن الأولى للبيان وهو مقدم من تأخير، ومن الثانية مزيدة لتأكيد الاستغراق، وهذه الجملة اعتراض أو حال. وقرأ داود بن أبي هند فيما ذكر أبو الفضل الرازي «من خطيئتهم» على التوحيد قال: ومعناه الجنس، ودل على ذلك اتصافه بضمير الجماعة، وذكر ابن خالويه وأبو عمرو الداني أن داود هذا قرأ «من خطيئاتهم» جمع خطيئة جمع السلامة بالألف والتاء، وذكر ابن عطية عنه أنه قرأ من «خطيهم» بفتح الطاء وكسر الياء، وينبغي أن يحمل كسر الياء على أنها همزة سهلت بين بين فأشبهت الياء لأن قياس تسهيلها هو ذلك وقوله تعالى: إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ استئناف مقرر للنفي السابق، والكذب قيل راجع إلى تعليق الحمل بالاتباع فإنه إخبار لا إلى الأمر السابق لأنه إنشاء ولا يجري الكذب فيه، وتعقب بأن التعليق لا يلزمه أن يكون إخبار بل هو ضمان معلق أي إنشاء الضمان عند وجود الصفة، ولذا قال الزمخشري: إن ضامن ما لا يعلم اقتداره على الوفاء به لا يسمى كاذبا لا حين ضمن ولا حين عجز لأنه في الحالين لا يدخل تحت حد الكاذب وهو المخبر عن الشيء لا على ما هو عليه وجعل هذا سؤالا عن وجه التعبير بكاذبون، وأجاب عن ذلك بوجهين، ثانيهما على ما في الكشف هو الوجه، وحاصله أن الكذب ليس راجعا إلى أنهم غير حاملين ليقال: إن الضامن لا يسمى كاذبا بل أخبر الله تعالى أنهم عجزوا عما ضمنوه ومع ذلك هم كاذبون في وعد إنشاء الضمان عند وجود الوصف، والمحصل أن من وعد الضمان إن ضمن ولم يحقق لا يسمى كاذبا وإن لم يضمن سمي كاذبا، وأولهما أنه شبه الله تعالى حالهم حيث علم أن ما ضمنوه لا طريق لهم إلى أن يفوا به فكان ضمانهم عنده سبحانه لا على ما هو عليه المضمون بالكاذبين الذين خبرهم لا على ما عليه المخبر عنه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 346 وقال بعض المحققين: الكذب راجع إلى الخبر الذي في ضمن وعدهم بالحمل وهم أنهم قادرون على إنجاز ما وعدوا، والكذب كما يتطرق إلى الكلام باعتبار منطوقه يتطرق إليه باعتبار ما يلزم مدلوله، وفي الانتصاف أن في قوله تعالى: إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ نكتة حسنة يستدل بها على صحة مجيء الأمر بمعنى الخبر فإن من الناس من أنكره والتزم تخريج جميع ما ورد في ذلك على أصل الأمر ولم يتم له ذلك في هذه الآية لأنه سبحانه أردف قولهم وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ على صيغة الأمر بقوله تعالى: إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ والتكذيب إنما يتطرق إلى الاخبار انتهى، ويعلم منه وجه كونهم كاذبين في قولهم ذلك مع إخراجهم له مخرج الأمر إلا أن في كون الآية دليلا على ما ذكره نظرا كما لا يخفى. وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ بيان لما يستتبعه قولهم ذلك في الآخرة من المضرة لأنفسهم بعد بيان عدم منفعته لمخاطبيهم أصلا، والتعبير عن الخطايا بالأثقال للإيذان بغاية ثقلها وكونها فادحة، واللام واقعة في جواب قسم محذوف أي وبالله ليحملن أثقال أنفسهم كاملة وَأَثْقالًا أخر مَعَ أَثْقالِهِمْ وهي أثقال ما تسببوا بالإضلال والحمل على الكفر والمعاصي من غير أن ينقص من أثقال من أضلوه شيء ما. فقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن الحسن أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «أيما داع دعا إلى هدي فاتبع عليه وعمل به فله مثل أجور الذين اتبعوه ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئا وأيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع عليها وعمل بها فعليه مثل أوزار الذين اتبعوه ولا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا» قال عون: وكان الحسن يقرأ عليها وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم، وللإشارة إلى استقلال أثقال أنفسهم وأنها نهضتهم واستفرغت جهدهم وأن الأثقال الأخر كالعلاوة عليها اختير ما في النظم الجليل على أن يقال وليحملن أثقالا مع أثقالهم. وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ سؤال تقريع وتبكيت عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ أي يختلقونه في الدنيا من الأكاذيب والأباطيل التي من جملتها كذبهم هذا. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً شروع في بيان افتتان الأنبياء عليهم السلام بأذية أممهم إثر بيان افتتان المؤمنين بأذية الكفار تأكيدا للإنكار على الذين يحسبون أن يتركوا بمجرد الإيمان بلا ابتلاء وحثا لهم على الصبر فإن الأنبياء عليهم السلام حيث ابتلوا بما أصابهم من جهة أممهم من فنون المكاره وصبروا عليها فلأن يصبر هؤلاء المؤمنون أولى وأحرى، والظاهر أن الواو للعطف وهو من عطف القصة على القصة، قال ابن عطية: والقسم فيها بعيد يعني أن يكون المقسم به قد حذف وبقي حرفه وجوابه فإن فيه حذف المجرور وإبقاء الجار، وهم قالوا: لا بد من ذكر المجرور، والفاء للتعقيب فالمتبادر أنه عليه السلام لبث في قومه عقيب الإرسال المدة المذكورة وقد جاء مصرحا به في بعض الآثار. أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: بعث الله تعالى نوحا عليه السلام وهو ابن أربعين سنة، ولبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله تعالى وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا، وعلى هذه الرواية يكون عمره عليه السلام ألف سنة وخمسين سنة، وقيل: إنه عليه السلام عمر أكثر من ذلك، أخرج ابن جرير عن عون بن أبي شداد قال: إن الله تعالى أرسل نوحا عليه السلام إلى قومه وهو ابن خمسين وثلاثمائة سنة فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ثم عاش بعد ذلك خمسين وثلاثمائة سنة فيكون عمره ألف سنة وستمائة وخمسين سنة، وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة قال: كان الجزء: 10 ¦ الصفحة: 347 عمر نوح عليه السلام قبل أن يبعث إلى قومه وبعد ما بعث ألفا وسبعمائة سنة، وعن وهب أنه عليه السلام عاش ألفا وأربعمائة سنة، وفي جامع الأصول كانت مدة نبوته تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الغرق خمسين سنة، وقيل: مائتي سنة وكانت مدة الطوفان ستة أشهر آخرها يوم عاشوراء. وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون ما ذكر الله عز وجل مدة إقامته عليه السلام من لدن مولده إلى غرق قومه، وقيل: يحتمل أن يكون ذلك جميع عمره عليه السلام، ولا يخفى أن المتبادر من الفاء التعقيبية ما تقدم وجاء في بعض الآثار أنه عليه السلام أطول الأنبياء عليهم السلام عمرا ، أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب ذم الدنيا عن أنس بن مالك قال: جاء ملك الموت إلى نوح عليهما السلام فقال: يا أطول النبيين عمرا كيف وجدت الدنيا ولذتها؟ قال: كرجل دخل بيتا له بابان فقال وسط الباب هنيهة ثم خرج من الباب الآخر ، ولعل ما عليه النظم الكريم في بيان مدة لبثه عليه السلام للدلالة على كمال العدد وكونه متعينا نصا دون تجوز فإن تسعمائة وخمسين قد يطلق على ما يقرب منه ولما في ذكر الألف من تخييل طول المدة لأنها أول ما تقرع السمع فإن المقصود من القصة تسلية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وتثبيته على ما كان عليه من مكابدة ما يناله من الكفرة وإظهار ركاكة رأي الذين يحسبون أنهم يتركون بلا ابتلاء، واختلاف المميزين لما في التكرير في مثل هذا الكلام من البشاعة، والنكتة في اختيار السنة أولا أنها تطلق على الشدة والجدب بخلاف العام فناسب اختيار السنة لزمان الدعوة الذي قاسى عليه السلام فيه ما قاسى من قومه فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ أي عقيب تمام المدة المذكورة، والطوفان قد يطلق على كل ما يطوف بالشيء على كثرة وشدة من السيل والريح والظلام قال العجاج: حتى إذا ما يومها تصبصبا ... وغم طوفان الظلام الأثأبا (1) وقد غلب على طوفان الماء وهو المراد هنا وَهُمْ ظالِمُونَ أي والحال هم مستمرون على الظلم لم يتأثروا بما سمعوا من نوح عليه السلام من الآيات ولم يرعووا عما هم عليه من الكفر والمعاصي هذه المدة المتمادية فَأَنْجَيْناهُ أي نوحا عليه السلام وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ أي من ركب فيها معه من أولاده وأتباعه، وكانوا ثمانين، وقيل: ثماني وسبعين نصفهم ذكور ونصفهم إناث منهم أولاد نوح سام وحام ويافث ونساؤهم، وعن محمد بن إسحاق كانوا عشرة خمسة رجال وخمس نسوة، وروي مرفوعا كانوا ثمانية نوح وأهله وبنوه الثلاثة أي مع أهليهم وَجَعَلْناها أي السفينة آيَةً لِلْعالَمِينَ عبرة وعظة لهم لبقائها زمانا طويلا على الجودي يشاهدها المارة ولاشتهارها فيما بين الناس، ويجوز كون الضمير للحادثة والقصة المفهومة مما قبل وهي عبرة للعالمين لاشتهارها فيما بينهم وَإِبْراهِيمَ نصب بإضمار اذكر معطوفا على ما قبله عطف القصة على القصة فلا ضير في اختلافهما خبرا وإنشاء وإذ في قوله تعالى: إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ بدل اشتمال منه لأن الأحيان تشتمل على ما فيها، وقد جوز ذلك الزمخشري وابن عطية، وتعقب ذلك أبو حيان بأن إذ لا تتصرف فلا تكون مفعولا به والبدلية تقتضي ذلك. ثم ذكر أن إذ إن كانت ظرفا لما مضى لا يصح أن تكون معمولة لأذكر لأن المستقبل لا يقع في الماضي فلا يجوز قم أمس، وإذا خلعت من الظرفية الماضوية وتصرف فيها جاز أن تكون مفعولا به ومعمولا لأذكر، وجوز غير واحد أن يكون نصبا بالعطف على نوحا فكأنه قيل: وأرسلنا إبراهيم فإذ حينئذ ظرف للإرسال، والمعنى على ما قيل أرسلناه حين تكامل عقله وقدر على النظر والاستدلال وترقى من رتبة الكمال إلى درجة التكميل حيث تصدى لإرشاد الخلق إلى طريق الحق، وهذا   (1) قوله الأثأبا هو شجر الأثل اهـ منه. [ ..... ] الجزء: 10 ¦ الصفحة: 348 على ما قاله بعض المحققين لما أن القول المذكور في حيز إذ إنما كان منه عليه السلام بعد ما راهق قبل الإرسال، وأنت تعلم أن قوله تعالى: وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [العنكبوت: 18] إلخ إذا كان من قوله عليه السلام لقومه كالنص في أن القول المحكي عنه عليه السلام كان بعد الإرسال وفي الحواشي السعدية أن ذلك إشارة إلى دفع ما عسى أن يقال: الدعوة تكون بعد الإرسال والمفهوم من الآية تقدمها عليه، وحاصله أنه ليس المراد من الدعوة ما هو نتيجة الإرسال بل ما هو نتيجة كمال العقل وتمام النظر، مع أن دلالة الآية على تقدمها غير مسلمة ففي الوقت سعة، ويجوز أن يكون القصد هو الدلالة على مبادرته عليه السلام للامتثال اهـ فتدبر. وجوز أبو البقاء، وابن عطية أن يكون نصبا بالعطف على مفعول أنجيناه وهو كما ترى، والأوفق بما يأتي إن شاء الله تعالى من قوله تعالى: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً [الأعراف: 85، هود: 84، العنكبوت: 36] أن يكون النصب بالعطف على نوحا وقرأ أبو حنيفة، والنخعي وأبو جعفر وإبراهيم بالرفع على أن التقدير ومن المرسلين إبراهيم، وقيل: التقدير ومما ينبغي ذكره إبراهيم، وقيل: التقدير وممن أنجينا إبراهيم، وعلى الأول المعول لدلالة ما قبل وما بعد عليه، ويتعلق بذلك المحذوف إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده وَاتَّقُوهُ أن تشركوا به سبحانه شيئا ذلِكُمْ أي ما ذكر من العبادة والتقوى خَيْرٌ لَكُمْ من كل شيء فيه خيرية أو مما أنتم عليه على تقدير الخيرية فيه على زعمكم، ويجوز كون خير صفة لا اسم تفضيل إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي الخير والشر وتميزون أحدهما من الآخر، أو إن كنتم تعلمون شيئا من الأشياء بوجه من الوجوه فإن ذلك كاف في الحكم بخيرية ما ذكر من العبادة والتقوى إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً بيان لبطلان دينهم وشريته في نفسه بعد بيان شريته بالنسبة إلى الدين الحق، أي ما تعبدون من دونه تعالى إلا أوثانا هي في نفسها تماثيل مصنوعة لكم ليس فيها وصف غير ذلك وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً أي وتكذبون كذبا حيث تسمونها آلهة وتدعون أنها شفعاؤكم عند الله سبحانه أو تعملونها وتنحتونها للإفك والكذب، واللام لام العاقبة وإلا فهم لم يعملوها لأجل الكذب، وجوز أن يكون ذلك من باب التهكم. وقال بعض الأفاضل: الأظهر كون إفكا مفعولا به والمراد به نفس الأوثان وجعلها كذبا مبالغة، أو الإفك بمعنى المأفوك وهو المصروف عما هو عليه، وإطلاقه على الأوثان لأنها مصنوعة وهم يجعلونها صانعا. وقرأ علي كرّم الله تعالى وجهه والسلمي وعون العقيلي وعبادة وابن أبي ليلى وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «تخلّقون» بفتح التاء والخاء واللام مشددة، قال ابن مجاهد: ورويت عن ابن الزبير وأصله تتخلقون فحذفت إحدى التاءين وهو من تخلق بمعنى تكذب وصيغة التكلف للمبالغة. وزعم بعضهم جواز أن يكون تفعل بمعنى فعل، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما أيضا «تخلقون» من خلق بالتشديد للتكثير في الخلق بمعنى الكذب والافتراء، وقرأ ابن الزبير وفضيل بن زرقان «أفكا» بفتح الهمزة وكسر الفاء على أنه مصدر كالكذب واللعب أو وصف كالحذر وقع صفة لمصدر مقدر أي خلقا أفكا أي ذا أفك إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً بيان لشرية ما يعبدونه من حيث إنه لا يكاد يجديهم نفعا، ورِزْقاً يحتمل أن يكون مصدرا مفعولا به ليملكون، والمعنى لا يستطيعون أن يرزقوكم شيئا من الرزق، وأن يكون بمعنى المرزوق أي لا يستطيعون، إيتاء شيء من الرزق وجوز على المصدرية أن يكون مفعولا مطلقا ليملكون من معناه ولمحذوف والأصل لا يملكون أن يرزقوكم رزقا وهو كما ترى ونكر. وقال بعض الأجلة: للتحقير والتقليل مبالغة في النفي، وخص الرزق لمكانته من الخلق فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ أي كله على أن تعريف الرزق للاستغراق. قال الطيبي: هذا من المواضع التي ليست المعرفة المعادة عين الأول فيها، وجوز أن تكون عين الأول بناء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 349 على أن كلا منهما مستغرق وَاعْبُدُوهُ عز وجل وحده وَاشْكُرُوا لَهُ على نعمائه متوسلين إلى مطالبكم بعبادته مقيدين بشكره تعالى للعتيد ومستجلبين به للمزيد، فالجملتان ناظرتان لما قبلهما، وجوز أن يكونا ناظرتين لقوله تعالى: إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ كأنه قيل: استعدوا للقائه تعالى بالعبادة والشكر فإنه إليه ترجعون، وجوز بعض المحققين أن تكون هذه الجملة تذييلا لجملة ما سبق مما حكي عن إبراهيم عليه السلام أو لأوله، والمعنى إليه تعالى لا إلى غيره سبحانه ترجعون بالموت ثم بالبعث فافعلوا ما أمرتكم به وما بينهما اعتراض لتقرير الشرية كما سمعت. وقرىء «ترجعون» بفتح التاء من رجع رجوعا وَإِنْ تُكَذِّبُوا عطف على مقدر تقديره فإن تصدقوني فقد فزتم بسعادة الدارين وإن تكذبوا أي تكذبوني فيما أخبرتكم به من أنكم إليه تعالى ترجعون بالبعث فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وهذا تعليل للجواب في الحقيقة، والأصل فلا تضرونني بتكذيبكم فإنه قد كذب أمم قبلكم رسلهم وهم شيث وإدريس ونوح وهود وصالح عليهم السلام فلم يضرهم تكذيبهم شيئا وإنما ضر أنفسهم حيث تسبب لما حل بهم من العذاب فكذا تكذيبكم إياي وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي التبليغ الذي لا يبقى معه شك وما عليه أن يصدقه قومه البتة وقد خرجت عن عهدة التبليغ بما لا مزيد عليه فلا يضرني تكذيبكم بعد ذلك أصلا. وهذه الآية أعني وَإِنْ تُكَذِّبُوا إلخ على ما ذكرنا من جملة قصة إبراهيم عليه السلام وكذا ما بعد على ما قيل إلى قوله تعالى: ما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ [الأعراف: 82، النمل: 56، العنكبوت: 24، 29] وجوز أن يكون ذلك اعتراضا بذكر شأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقريش وهدم مذهبهم والوعيد على سوء صنيعهم توسط بين طرفي القصة من حيث إن مساقها لتسلية رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم والتنفيس عنه بأن أباه خليل الرحمن كان مبتلي بنحو ما ابتلي به من شرك القوم وتكذيبهم وتشبيه حاله فيهم بحال إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، قالوا: وفي وَإِنْ تُكَذِّبُوا اعتراضية، والخطاب منه تعالى أو من النبي صلى الله تعالى عليه وسلّم على معنى وقل لقريش إِنْ تُكَذِّبُوا إلخ. وذهب بعض المحققين إلى أن قوله تعالى: إِنْ تُكَذِّبُوا إلخ من كلام إبراهيم عليه السلام، وقوله سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ إلخ كلام مستأنف مسوق من جهته تعالى للإنكار على تكذيبهم بالبعث مع وضوح دليله، والهمزة لإنكار عدم رؤيتهم الموجب لتقريرها، والواو للعطف على مقدر أي ألم ينظروا ولم يعلموا كيفية خلق الله تعالى الخلق ابتداء من مادة ومن غير مادة أي قد علموا ذلك. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بخلاف عنه «ألم تروا» بتاء الخطاب، وهو على ما قال هذا البعض لتشديد الإنكار وتأكيده ولا يحتاج عليه إلى تقدير قول ومن لم يجعل ذلك كلاما مستأنفا مسوقا من جهته تعالى للإنكار على تكذيبهم بالبعث قال: إن الخطاب على تقدير القول أي قال لهم رسلهم: «ألم تروا» . ووجه ذلك بأنه جعل ضمير أَوَلَمْ يَرَوْا على قراءة الغيبة لأمم في قوله تعالى: أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ فيجعل في قراءة الخطاب له أيضا ليتحد معنى القراءتين، وحينئذ يحتاج لتقدير القول ليحكي خطاب رسلهم معهم إذ لا مجال للخطاب بدونه. وقيل: إن ذاك لأنه لا يجوز أن يكون الخطاب لمنكري الإعادة من أمة إبراهيم أو نبينا عليهما الصلاة والسلام وهم المخاطبون بقوله تعالى: وَإِنْ تُكَذِّبُوا لأن الاستفهام للإنكار أي قد رأوا فلا يلائم قوله تعالى: قُلْ سِيرُوا إلخ لأن المخاطبين فيها هم المخاطبون أولا، يعني إن كانت الرؤية علمية فالأمر بالسير والنظر لا يناسب لمن حصل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 350 له العلم بكيفية الخلق، والقول بأن الأول دليل أنفسي، والثاني آفاقي مخالف للظاهر من وجوه اهـ فتدبر، ولعل الأظهر والأبعد عن القيل والقال في نظم الآيات ما نقلناه عن بعض المحققين. وقرأ الزبيري وعيسى وأبو عمرو بخلاف عنه كيف يبدأ على أنه مضارع بدأ الثلاثي مع إبدال الهمزة ألفا كما ذكره الهمداني، وقوله تعالى: ثُمَّ يُعِيدُهُ عطف على أَوَلَمْ يَرَوْا لا على يبدىء لأن الرؤية إن كانت بصرية فهي واقعة على الإبداء دون الإعادة فلو عطف عليه لم يصح وكذا إذا كانت علمية لأن المقصود الاستدلال بما علموه من أحوال المبدأ على المعاد لإثباته فلو كان معلوما لهم كان تحصيلا للحاصل. وجوز العطف عليه بتأويل الإعادة بإنشائه تعالى كل سنة مثل ما أنشأه سبحانه في السنة السابقة من النبات والثمار وغيرهما فإن ذلك مما يستدل به على صحة البعث ووقوعه على ما قيل من غير ريب، وعن مقاتل أن الخلق هنا الليل والنهار وليس بشيء إِنَّ ذلِكَ أي ما ذكر من الإعادة، وجوز أن يكون المشار إليه ما ذكر من الأمرين عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ إذ لا يحتاج فعله تعالى إلى شيء خارج عن ذاته عز وجل. قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ أمر لإبراهيم عليه السلام أن يقول لقومه ذلك عند بعض المحققين، وكذا جعله من جعل جميع ما تقدم من قصة إبراهيم عليه السلام، ومن جعل قوله تعالى: وَإِنْ تُكَذِّبُوا إلى قوله تعالى: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ اعتراضا جعل هذا أمرا لنبينا صلّى الله عليه وسلّم أن يقول ذلك لقريش. وجوز أن يجعل نظم الآيات السابقة على ما نقل عن بعض المحققين ويجعل هذا أمرا للنبي عليه الصلاة والسلام أن يقول ذلك لهم فإنهم مثل قوم إبراهيم عليه السلام والأمم الذين من قبلهم في التكذيب بالبعث والإنكار له، وما في حيز هذا القول متضمن ما يدل على صحته، وعدم اتحاده مع ما سبق لا يضر. وأيا ما كان فإضافة الرحمة إلى ضمير المتكلم فيما يأتي إن شاء الله تعالى لما أن ذلك حكاية كلامه عز وجل على وجهه ومثله في القرآن الكريم كثير، والسير كما قال الراغب: المضي في الأرض، وعليه يكون في الآية تجريد، والظاهر أن المراد به المضي بالجسم، وجوز أن يراد به إجالة الفكر. وحمل على ذلك فيما يروى في وصف الأنبياء عليهم السلام أبدانهم في الأرض سائرة وقلوبهم في الملكوت جائلة، ومنهم من حمل ذلك على الجد في العبادة المتوصل بها إلى الثواب، والمعنى على ما قلنا أولا امضوا في الأرض وسيحوا فيها فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الله تعالى الْخَلْقَ أي كيف خلقهم ابتداء على أطوار مختلفة وطبائع متغايرة وأخلاق شتى، فإن ترتيب النظر على السير في الأرض مؤذن بتتبع أحوال أصناف الخلق القاطنين في أقطارها، وعلى هذا تتغاير الكيفية في الآية السابقة والكيفية في هذه الآية لما أن الأولى كما علمت باعتبار المادة وعدمها وهذه باعتبار تغاير الأحوال. ولعل التعبير في الآية الأولى بالمضارع أعني يُبْدِئُ دون الماضي كما هنا لاستحضار الصورة الماضية لما أن بدء الخلق من مادة وغيرها أغرب من بدء الخلق على أطوار مختلفة على معنى أن خلق الأشياء أغرب من جعل أطوارها مختلفة، وأنت إذا لا حظت أن خلق الأشياء يعود في الآخرة إلى إيجادها من كتم العدم من غير سبق مادة دفعا للتسلسل وأن جعل أطوارها مختلفة إنما هو بعد سبق المادة ولو سبقا ذاتيا وهو ما قام به الاختلاف أعني ذوات الأشياء لا تشك في أن الأول أغرب من الثاني، ولذا ترى التمدح بأصل الخلق في القرآن العظيم أكثر من التمدح بالجعل المذكور. وقد وافق الصيغة في الإشعار بالغرابة بناء الفعل من باب الافعال فإنه غير مستعمل ولذا قالوا: إنه مخل بالفصاحة لولا وقوعه مع (يعيد) ، ومما يقرب من هذا السر ما قيل في وجه حذف الياء من يسر في قوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ [الفجر: 4] من أن ذلك لأن الليل يسرى فيه لا يسري أي ليدل مخالفة الظاهر في اللفظ على مخالفته في المعنى وهو معنى دقيق. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 351 وقيل في وجه التعبير بما ذكر إفادة الاستمرار التجددي وهو بناء على المعنى الثاني في الآية. وقال بعضهم في تغاير الدليلين: إن هذا عيني وذلك علمي أو هذا آفاقي والأول أنفسي وقرأ الزهري «كيف بدأ الخلق» بتخفيف الهمزة بإبدالها ألفا ثم حذفها في الوصل. قال أبو حيان: وهو تخفيف غير قياسي كما قال: فارعي فزارة لا هناك المرتع، وقياس تخفيف هذا التسهيل بين بين ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ أي بعد النشأة الأولى التي شاهدتموها والنشأة الإيجاد والخلق، والتعبير عن الإعادة التي هي محل النزاع بالنشأة الآخرة المشعرة بكون البدء نشأة أولى للتنبيه على أنهما شأن واحد من شؤون الله تعالى حقيقة واسما من حيث إن كلّا منهما اختراع وإخراج من العدم إلى الوجود ولا فرق بينهما إلا بالأولية والأخروية كذا قيل. والظاهر أنه مبني على أن الجسد يعدم بالكلية ثم يعاد خلقا جديدا لا أنه تتفرق أجزاؤه ثم تجمع بعد تفرقها وإلى كل ذهب بعض، والأدلة متعارضة، والمسألة كما قال ابن الهمام عند المحققين ظنية، وفي كتاب الاقتصاد في الاعتقاد لحجة الإسلام الغزالي، فإن قيل: فما تقولون أتعدم الجواهر والاعراض ثم تعادان جميعا أو تعدم الأعراض دون الجواهر وإنما تعاد الأعراض؟ قلنا: كل ذلك ممكن ولكن ليس في الشرع دليل قاطع على تعيين أحد هذه الممكنات انتهى، وذهب ابن الهمام إلى أن الحق وقوع الكيفيتين إعادة ما انعدم بعينه وتأليف ما تفرق من الأجزاء، وقد يقال: إن بدء الإنسان ونحوه ليس اختراعا محضا وإخراجا من كتم العدم إلى الوجود في الحقيقة لما أنه مخلوق من التراب وسائر العناصر، والظاهر أن فناءه ليس عبارة عن صيرورته عدما محضا بل هو عبارة عن انحلاله إلى ما تركب منه ورجوع كل عنصر إلى عنصره. نعم لا شك في فناء بعض الأعراض وانعدامها بالكلية، وقد يستثنى منه بعض الأجزاء فلا ينحل إلى ما منه التركيب بل يبقى على ما كان عليه وهو عجب الذنب لظاهر حديث الصحيحين «ليس شيء من الإنسان لا يبلى إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب منه يركب الخلق يوم القيامة» وتأويله بما أوله به ملا صدرا في أسفاره مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، وحينئذ فالإعادة تكون بتركيب ما انحل من العناصر وضمه إلى هذا الجزء فلا تكون اختراعا محضا وإخراجا من كتم العدم إلى الوجود في الحقيقة، لكن لكل من البدء والإعادة شبه تام بالاختراع والإخراج المذكور، وبه يصح أن يقال لكل اختراع وإخراج من العدم إلى الوجود فلا تغفل، والجملة معطوفة على جملة سِيرُوا فِي الْأَرْضِ داخلة معها في حيز القول، ولا يضر تخالفهما خبرا وإنشاءا فإنه جائز بعد القول وما له محل من الإعراب، ولا يصح عطفها على بدأ الخلق لأنها لا تصلح أن تكون موقعا للنظر أما إن كان بمعنى الإبصار فظاهر وأما إن كان بمعنى التفكر فلأن التفكر في الدليل لا في النتيجة، وإظهار الاسم الجليل وإيقاعه مبتدأ مع إضماره في بدأ لإبراز مزيد الاعتناء ببيان تحقق الإعادة بالإشارة إلى علة الحكم فإنه الاسم الجامع لصفات الكمال ونعوت الجلال وتكرير الإسناد ورد ما تقدم على مقتضى الظاهر فلا يحتاج للتوجيه وكون المراد منه ليس إثبات الإعادة لمن أنكرها فلذا لم ينسج على هذا المنوال غير مسلم، وقرأ أبو عمرو وابن كثير «النشاءة» بالمد وهما لغتان كالرأفة والرآفة والقصر أشهر، ومحلها النصب على أنها مصدر مؤكد لينشىء بحذف الزوائد والأصل الإنشاءة أو بحذف العامل أي ينشىء فينشؤون النشأة الآخرة نحو أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17] إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تعليل لما قبله بطريق التحقيق فإن من علم قدرته عز وجل على جميع الممكنات التي من جملتها الإعادة لا يتصور أن يتردد في قدرته سبحانه عليها ولا في وقوعها بعد ما أخبر به، ثم اعلم أن أكثر المنكرين للبعث لا يقولون باستحالته كجمع النقيضين بل غاية ما عندهم استبعاده، والرد على هؤلاء بهذه الآيات ونحوها ظاهر لما فيها مما يزيل الاستبعاد من الإبداء الذي هو في الشاهد أشق من الإعادة، ومنهم من يقول باستحالته عقلا فلا يصلح متعلقا للقدرة، وهؤلاء هم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 352 القائلون باستحالة إعادة المعدوم، والرد عليهم بعد تسليم أن ما نحن فيه من إعادة المعدوم وليس من جمع المتفرق بإبطال ما استدلوا به على الاستحالة، وقد تكفلت الكتب الكلامية بذلك، وأما الرد عليهم بهذه الآيات ونحوها فلما فيها من الإشارة إلى تزييف أدلة الاستحالة فتدبر يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ جملة مستأنفة لبيان ما بعد النشأة الآخرة أي يعذب بعد النشأة الآخرة من يشاء تعذيبه وهم المنكرون لها وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ رحمته وهم المقرون بها وَإِلَيْهِ سبحانه لا إلى غيره تُقْلَبُونَ أي تردون، والجملة تقرير للإعادة وتوطئة لما بعد، وتقديم التعذيب لما أن الترهيب أنسب بالمقام من الترغيب وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ له تعالى عن إجراء حكمه وقضائه عليكم فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ أي بالهرب في الأرض الفسيحة أو الهبوط في مكان بعيد الغور والعمق بحيث لا يوصل إليه فيها ولا بالتحصن في السماء التي هي أفسح منها أو التي هي أمنع لمن حل فيها عن أن تناله أيدي الحوادث فيما ترون لو استطعتم الرقي إليها كما في قوله تعالى: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا [الرحمن: 33] أو البروج والقلاع المرتفعة في جهتها على ما قيل، وهو خلاف الظاهر، وقال ابن زيد والفراء: إن فِي السَّماءِ صلة موصول محذوف هو مبتدأ محذوف الخبر والتقدير ولا من في السماء بمعجز، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، وضعف بأن فيه حذف الموصول مع بقاء صلته وهو لا يجوز عند البصريين إلا في الشعر كقول حسان: أمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء على ما هو الظاهر فيه، على أن ابن مالك اشترط في جوازه عطف الموصول المحذوف على موصول آخر مذكور كما في هذا البيت، وبأن فيه حذف الخبر أيضا مع عدم الحاجة إليه، ولهذا جعل بعضهم الموصول معطوفا على أنتم ولم يجعله مبتدأ محذوف الخبر ليكون العطف من عطف الجملة على الجملة، وزعم بعضهم أن الموصول محذوف في موضعين وأنه مفعول به لمعجزين وقال: التقدير وما أنتم بمعجزين من في الأرض أي من الإنس والجن ولا من في السماء أي من الملائكة عليهم السلام فكيف تعجزون الله عز وجل، ولا يخفى أن هذا في غاية البعد ولا ينبغي أن يخرج عليه كلام الله تعالى. وقيل ليس في الآية حذف أصلا، والسماء هي المظلة إلا أن أَنْتُمْ خطاب لجميع العقلاء فيدخل فيهم الملائكة ويكون السماء بالنظر إليهم والأرض بالنظر إلى غيرهم من الإنس والجن وهو كما ترى. وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ يحرسكم من بلاء أرضي أو سماوي وَلا نَصِيرٍ يدفعه عنكم وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أي بدلائله التكوينية والتنزيلية الدالة على ذاته وصفاته وأفعاله، فيدخل فيها النشأة الأولى الدالة على صحة البعث والآيات الناطقة به دخولا أوليا، وتخصيصها بدلائل وحدانيته تعالى لا يناسب المقام وَلِقائِهِ الذي تنطق به تلك الآيات أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر من الكفر بآياته تعالى ولقائه عز وجل يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي أي ييأسون منها يوم القيامة على أنه وعيد، وإلا فالكافر لا يوصف باليأس في الدنيا لأنه لا رجاء له، وصيغة الماضي للدلالة على التحقق، وجوز أن يكون المراد إظهار مباينة حالهم وحال المؤمنين لأن حال المؤمن الرجاء والخشية وحال الكافر الاغترار واليأس فهو لا يخطر بباله رجاء ولا خوفا إن أخطر المخوف بباله كان حاله اليأس بدل الخوف وإن أخطر المرجو كان حاله الاغترار بدل الرجاء، فكأنه تنصيص على كفرهم وتعريف لحالهم، وأن يكون الكلام على الاستعارة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 353 شبهوا بالآيسين من الرحمة وهم الذين ماتوا على الكفر لأنه ما دامت الحياة لا يتحقق اليأس من الرحمة لرجاء الإيمان، أو من قدر آيسا من الرحمة على الفرض دلالة على توغلهم في الكفر وعدم ارعوائهم وقرأ الذماري وأبو جعفر، «ييسوا» بغير همز بل بياء بدل الهمزة وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في تكرير اسم الإشارة وتكرير الإسناد وتنكير العذاب ووصفه بالأليم من الدلالة على فظاعة حالهم ما لا يخفى لكن قال الإمام: إنه تعالى أضاف الرحمة إلى نفسه عز وجل دون العذاب ليؤذن بأن رحمته جل وعلا سبقت غضبه سبحانه، وأنت تعلم أن في الآية على هذا دلالة على سوء حالهم أيضا لإفادتها أنهم حرموا تلك الرحمة العظيمة بما ارتكبوه من العظائم فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ بالنصب على أنه خبر كان واسمها قوله تعالى: إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ. وقرأ الحسن: وسالم الأفطس بالرفع على العكس، وقد مر ما فيه في نظائره، والمراد بالقتل ما كان بسيف ونحوه فتظهر مقابلة الإحراق له، ولا حاجة إلى جعل أو بمعنى بل، والآمرون بذلك إما بعضهم لبعض أو كبرائهم قالوا لأتباعهم: اقتلوه فتستريحوا منه عاجلا أو حرقوه بالنار فإما أن يرجع إلى دينكم إذا مضته النار وإما أن يموت بها إن أصر على قوله ودينه، وأيا ما كان ففيه إسناد ما للبعض إلى الكل، وجاء هنا الترديد بين قتله عليه السلام وإحراقه فقد يكون ذلك من قائلين ناس أشاروا بالقتل وناس بالإحراق، وفي اقترب قالوا حرقوه اقتصروا على أحد الشيئين وهو الذي فعلوه رموه عليه السلام في النار ولم يقتلوه ثم إنه ليس المراد أنهم لم يصدر عنهم بصدد الجواب عن حججه عليه السلام إلا هذه المقالة الشنيعة كما هو المتبادر من ظاهر النظم الكريم، بل إن ذلك هو الذي استقر عليه جوابهم بعد اللتيا والتي في المرة الأخيرة، وإلا فقد صدر عنهم من الخرافات والأباطيل ما لا يحصى فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ الفاء فصيحة أي فألقوه في النار فأنجاه الله تعالى منها بأن جعلها سبحانه عليه بردا وسلاما حسبما بين في مواضع أخر، وقد مر بيان كيفية إلقائه عليه السلام فيها وإنجائه تعالى إياه منها، وكان ذلك في كوثى من سواد الكوفة، وكونه في المكان المشهور اليوم من أرض الرها وعنده صورة المنجنيق وماء فيه سمك لا يصطاد ولا يؤكل حرمة له لا أصل له إِنَّ فِي ذلِكَ أي في إنجائه عليه السلام منها لَآياتٍ بينة عجيبة وهي حفظه تعالى إياه من حرها وإخمادها في زمان يسير وإنشاء روض في مكانها. وعن كعب أنه لم يحترق بالنار إلا الحبل الذي أوثقوه عليه السلام به، ولولا وقوع اسم الإشارة في أثناء القصة لكان الأولى كونه إشارة إلى ما تضمنته لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ خصهم بالذكر لأنهم المنتفعون بالفحص عنها، والتأمل فيها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 354 وَقالَ إبراهيم عليه السلام مخاطبا لهم بعد أن أنجاه الله تعالى من النار. إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي لتتوادوا بينكم وتتواصلوا لاجتماعكم على عبادتها واتفاقكم عليها وائتلافكم كما يتفق الناس على مذهب فيكون ذلك سبب تحابهم وتصادقهم، فالمفعول له غاية مترتبة على الفعل ومعلول له في الخارج، أو المعنى إن مودة بعضكم بعضا هي التي دعتكم إلى اتخاذها بأن رأيتم بعض من تودّونه اتخذها فاتخذتموها موافقة له لمودتكم إياه، وهذا كما يرى الإنسان من يوده يفعل شيئا فيفعله مودّة له، فالمفعول له على هذا علة باعثة على الفعل وليس معلولا له في الخارج، والمراد نفى أن يكون فيها نفع أو ضر وأن الداعي لاتخاذها رجاء النفع أو خوف الضر، وكأنه لم يعتبر ما جعلوه علة لاتخاذها علة وهو ما أشاروا إليه في قولهم: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: 3] للإشارة إلى أن ذلك لكونه أمرا موهوما لا حقيقة له مما لا ينبغي أن يكون علة باعثة وسببا حاملا لمن له أدنى عقل. وقال بعضهم: يجوز أن يكون المخاطبون في هذه الآية أناسا مخصوصين، والقائلون: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى أناسا غيرهم، وقيل: إنّ الأوثان أول ما اتخذت بسبب المودة، وذلك أنه كان أناس صالحون فماتوا وأسف عليهم أهل زمانهم فصوروا أحجارا بصورهم حبا لهم فكانوا يعظمونها في الجملة ولم يزل تعظيمها يزداد جيلا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 355 فجيلا حتى عبدت، فالآية إشارة إلى ذلك، والمعنى إنما اتخذ أسلافكم من دون الله أوثانا إلخ، ومثله في القرآن الكريم كثير، وثاني مفعولي اتخذتم محذوف تقديره آلهة. وقال مكي: يجوز أن يكون اتخذ متعديا إلى مفعول واحد كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ [الأعراف: 152] ورد بأنه مما حذف مفعوله الثاني أيضا، وجوز أن يكون مودة هو المفعول الثاني بتقدير مضاف أي ذات مودة وكونها ذات مودة باعتبار كونها سبب المودة، وظاهر كلام الكشاف أن المضاف المحذوف هو لفظ سبب، وقد يستغنى عن التقدير بتأويل مودة بمودودة، أو بجعلها نفس المودة مبالغة، واعترض جعل مودة المفعول الثاني بأنه معرفة بالإضافة إلى المضاف إلى الضمير والمفعول الأول نكرة وذلك غير جائز لأنهما في الأصل مبتدأ وخبر. وأجيب بأنه لا يلزم من غير جواز ذلك في أصلهما عدم جوازه فيهما، وإذا سلم اللزوم فلا يسلم كون المفعول الثاني هنا معرفة بالإضافة لما أنها على الاتساع فهي من قبيل الإضافة اللفظية التي لا تفيد تعريفا وإنما تفيد تخفيفا في اللفظ، كذا قيل: وهو كما ترى. وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر «مودة» بالنصب والتنوين بينكم بالنصب، والوجه أن مودة منصوب على أحد الوجهين السابقين و «بينكم» منصوب به أو بمحذوف وقع صفة له، وابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورويس «مودة بينكم» برفع مودة مضافة إلى بين وخفض بين بالإضافة، وخرج الرفع على أن مودة خبر مبتدأ محذوف أي هي مودة على أحد التأويلات المعروفة والجملة صفة أوثانا، وجوز كونها المفعول الثاني أو على أنها خبر إن على أن ما مصدرية، أي إن اتخاذكم، أو موصولة قد حذف عائدها وهو المفعول الأول، أي إن الذي اتخذتموه من دون الله أوثانا مودة بينكم، ويجري فيه التأويلات التي أشرنا إليها. وقرأ الحسن وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو عمرو في رواية الأصمعي والأعشى عن أبي بكر «مودة» بالرفع والتنوين «بينكم» بالنصب، ووجه كل معلوم مما مر. وروي عن عاصم «مودة» بالرفع من غير تنوين و «بينكم» بفتح النون، جعله مبنيا لإضافته إلى لازم البناء فمحله الجر بإضافة مودة إليه، ولذا سقط التنوين منها. وفي قوله تعالى: فِي الْحَياةِ الدُّنْيا على هذه القراءات والأوجه فيها أوجه من الإعراب ذكرها أبو البقاء. الأول: أن يتعلق باتخذتم على جعل ما كافة ونصب مودة لا على جعلها موصولة أو مصدرية، ورفع مودة لئلا يؤدي إلى الفصل بين الموصول وما في حيز الصلة بالخبر. الثاني: أن يتعلق بنفس مودة إذا لم يجعل بين صفة لها بناء على أن المصدر إذا وصف لا يعمل مطلقا، وأجاز ابن عطية هذا التعلق وإن جعل بين صفة لما أنه يتسع بالظرف ما لم يتسع في غيره، فيجوز عمل المصدر به بعد الوصف. الثالث: أن يتعلق بنفس بينكم لأن معناه اجتماعكم أو وصلكم. الرابع: أن يجعل حالا من بينكم لتعرفه بالإضافة. وتعقب أبو حيان هذين الوجهين بعد نقلهما عن أبي البقاء كما ذكرنا بأنهما إعرابان لا يتعقلان. الخامس: أن يجعل صفة ثانية لمودة إذا نونت وجعل بينكم صفة لها، وأجاز ذلك مكي وأبو حيان أيضا. السادس: أن يتعلق بمودة ويجعل بينكم ظرفا متعلقا بها أيضا، وعمل مودة في ظرفين لاختلافهما. السابع: أن يجعل حالا من الضمير في بينكم إذا جعل وصفا لمودة والعامل الظرف لأن العامل في ذي الحال هو العامل في الحال، ولا يجوز أن يكون العامل مودة لذلك. وقال مكي: لأنك قد وصفتها ومعمول المصدر متصل به فيكون قد فرقت بين الصلة والموصول بالصفة. وعن ابن مسعود أنه قرأ «إنما اتخذتم من دون الله أوثانا إنما مودة بينكم في الحياة الدنيا» بزيادة «إنما» بعد أوثانا ورفع «مودة» بلا تنوين وجر بين بالإضافة وخرجت على أن مودة مبتدأ وفي الحياة الدنيا خبره، والمعنى إنما توادكم عليها أو مودتكم إياها كائن أو كائنة في الحياة الدنيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يتبدل الحال حيث يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ وهم العبدة بِبَعْضٍ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 356 وهم الأوثان وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي يلعن كل فريق منكم ومن الأوثان حيث ينطقها الله تعالى الفريق الآخر، وفيه تغليب الخطاب وضمير العقلاء، وجوز أن يكون الخطاب للعبدة لا غير، والمراد بكفر بعضهم ببعض التناكر أي ثم يوم القيامة يظهر التناكر والتلاعن بينكم أيتها العبدة للأوثان. وَمَأْواكُمُ النَّارُ أي هي منزلكم الذي تأوون إليه ولا ترجعون منه أبدا. وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ يخلصونكم منها كما خلصني ربي من النار التي ألقيتموني فيها، وجمع الناصرين لوقوعه في مقابلة الجمع، أي ما لأحد منكم من ناصر أصلا فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ أي صدقه عليه السلام في جميع مقالاته أو بنبوته حين ادعاها لا أنه صدقه فيما دعا إليه من التوحيد ولم يكن كذلك قبل، فإنه عليه السلام كان متنزها عن الكفر، وما قيل: إنه آمن له عليه السلام حين رأى النار لم تحرقه ضعيف رواية وكذا دراية، لأنه بظاهره يقتضي عدم إيمانه قبل وهو غير لائق به عليه السلام، وحمله بعضهم على نحو ما ذكرنا أو على أن يراد بالإيمان الرتبة العالية منها وهي التي لا يرتقي إليها إلا الأفراد، ولوط على ما في جامع الأصول ابن أخيه هاران بن تارح، وذكر بعضهم أنه ابن أخته بالتاء الفوقية وَقالَ إبراهيم عليه السلام: كما ذهب إليه قتادة والنخعي وقيل: الضمير للوط عليه السلام وليس بشيء لما يلزم عليه من التفكيك، والجملة استئناف بياني كأنه قيل: فماذا كان منه عليه السلام؟ فقيل: قال إِنِّي مُهاجِرٌ أي من قومي إِلى رَبِّي أي إلى الجهة التي أمرني ربي بالهجرة إليها، وقيل: إلى حيث لا أمنع عبادة ربي، وقيل: المعنى مهاجر من خالفني من قومي متقربا إلى ربي إِنَّهُ عز وجل هُوَ الْعَزِيزُ الغالب على أمره فيمنعني من أعدائي الْحَكِيمُ الذي لا يفعل فعلا إلا وفيه حكمة ومصلحة فلا يأمرني إلا بما فيه صلاحي. روي أنه عليه السلام هاجر من كوثى من سواد الكوفة مع لوطا وسارة ابنة عمه إلى حران، ثم منها إلى الشام فنزل قرية من أرض فلسطين، ونزل لوط سذوم وهي المؤتفكة على مسيرة يوم وليلة من قرية إبراهيم عليهما السلام، وكان عمره إذ ذاك على ما في الكشاف والبحر خمسا وسبعين سنة، وهو أول من هاجر في الله تعالى وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ولدا ونافلة حين أيس من عجوز عاقر، والجملة معطوفة على ما قبل ولا حاجة إلى عطفها على مقدر كأصلحنا أمره، ولم يذكر سبحانه إسماعيل عليه السلام، قيل لأن المقام مقام الامتنان وذكر الإحسان وذلك بإسحاق ويعقوب لما أشرنا إليه بخلاف إسماعيل وقيل لأنه لا يناسب ذكره هاهنا لأنه ابتلي بفراقه ووضعه بمكة مع أمه دون أنيس، وقال الزمخشري: إنه عليه السلام ذكر ضمنا وتلويحا بقوله تعالى: وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ ولم يصرح به لشهرة أمره وعلو قدره، هذا مع أن المخاطب نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم وهو من أولاده وأعلم به، والمراد بالكتاب جنسه المتناول للكتب الأربعة وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ على ما عمل لنا فِي الدُّنْيا قال مجاهد: بإنجائه من النار ومن الملك الجبار والثناء الحسن عليه بحيث يتولاه كل أمة، وضم إلى ذلك ابن جريج الولد الذي قرت به عينه. وقد يضم إلى ذلك أيضا استمرار النبوة في ذريته، وقال السدي: إن ذلك إراءته عليه السلام مكانه من الجنة، وقال بعضهم: هو التوفيق لعمل الآخرة، وقيل: هو الصلاة عليه إلى آخر الدهر، وقال الماوردي: هو بقاء ضيافته عند قبره وليس ذلك لنبي غيره، ولا يخفى حال بعض هذه الأقوال، وذكر بعضهم أن المراد آتيناه أجره بمقابلة هجرته إلينا، وعليه لا يصح عد الإنجاء من النار من الأجر بل يعد إعطاء الولد والذرية الطيبة واستمرار النبوة فيهم ونحوه ذلك مما كان له عليه السلام بعد الهجرة من الأجر، وعطف هذا وما بعده من قوله تعالى: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 357 أي لفي عداد الكاملين في الصلاح من التعميم بعد التخصيص، بأنه لما عدد ما أنعم به عليه من النعم الدينية والدنيوية قال سبحانه: وجمعنا له مع ما ذكر خير الدارين وَلُوطاً عطف على إبراهيم أو على نوحا والكلام في قوله تعالى: إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ كالذي في القصة السابقة. إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ الفعلة البالغة في القبح، وقرأ الجمهور «أئنكم» على الاستفهام الإنكاري: ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ استئناف مقرر لكمال قبحها، فإن إجماع جميع أفراد العالمين على التحاشي عنها ليس إلا لكونها مما تشمئز منه الطباع السليمة وتنفر منه النفوس الكريمة، وجوز أبو حيان كون الجملة حالا من ضمير تأتون، كأنه قيل: إنكم لتأتون الفاحشة مبتدعين لها غير مسبوقين بها أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ أي تنكحونهم وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ أي وتقطعون الطريق بسبب تكليف الغرباء والمارة تلك الفعلة القبيحة وإتيانهم كرها أو وتقطعون سبيل النسل بالإعراض عن الحرث وإتيان ما ليس بحرث، وقيل: تقطعون الطريق بالقتل وأخذ المال، وقيل: تقطعونه بقبح الأحدوثة وَتَأْتُونَ أي تفعلون فِي نادِيكُمُ أي في مجلسكم الذي تجتمعون فيه، وهو اسم جنس إذ أنديتهم في مجالسهم كثيرة، ولا يسمى ناديا إلا إذا كان فيه أهله فإذا ناموا عنه لم يطلق عليه ناد الْمُنْكَرَ أخرج أحمد والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه والطبراني والبيهقي في الشعب وغيرهم عن أم هانىء بنت أبي طالب قالت: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى: وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فقال: كانوا يجلسون بالطريق فيخذفون أبناء السبيل ويسخرون منهم ، وعن مجاهد ومنصور والقاسم بن محمد وقتادة وابن زيد هو إتيان الرجال في مجالسهم يرى بعضهم بعضا، وعن مجاهد أيضا هو لعب الحمام وتطريف الأصابع بالحناء والصفير والخذف ونبذ الحياء في جميع أمورهم، وعن ابن عباس هو تضارطهم وتصافعهم فيها، وفي رواية أخرى عنه هو الخذف بالحصى والرمي وبالبنادق والفرقعة ومضغ العلك والسواك بين الناس وحل الإزار والسباب والفحش في المزاح ولم يأت في قصة لوط عليه السلام أنه دعا قومه إلى عبادة الله تعالى كما جاء في قصة إبراهيم وكذا في قصة شعيب الآتية لأن لوطا كان من قوم إبراهيم وفي زمانه وقد سبقه إلى الدعاء لعبادة الله تعالى وتوحيده واشتهر أمره عند الخلق فذكر لوط عليه السلام ما اختص به من المنع من الفاحشة وغيرها، وأما إبراهيم وشعيب عليهما السلام فجاءا بعد انقراض من كان يعبد الله عز وجل ويدعو إليه سبحانه فلذلك دعا كل منهما قومه إلى عبادته تعالى كذا في البحر. فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أي فيما تعدنا من نزول العذاب على ما في الكشاف وغيره، وهذا ظاهر في أنه عليه السلام كان أوعدهم بالعذاب، وقيل: أي في دعوى استحقاقنا العذاب على ما نحن عليه المفهومة من التوبيخ المعلوم من الاستفهام الإنكاري، وقيل: أي في دعوى استقباح ذلك الناطق بها كلامك وهذا الجواب صدر عنهم في المرة الأولى من مرات مواعظ لوط عليه السلام، وما في سورة الأعراف المذكور في قوله تعالى: وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ [الأعراف: 82] الآية وما في سورة النمل المذكور في قوله تعالى: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ [النمل: 56] الآية فقد صدر عنهم بعد هذه المرة فلا منافاة بين الحصر هنا والحصر هناك، قاله أبو حيان وتبعه أبو السعود. وتعقب بأن هذا التعيين يحتاج إلى توقيف. وأجيب بأن مضموني الجوابين يشعران بالتقدم والتأخر، وذلك أن ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ من باب التكذيب والسخرية وهو أوفق بأوائل المواعظ والتوبيخات وأَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ ونحوه من باب التعذيب والانتقام، وهو أنسب بأن يكون بعد تكرر الوعظ والتوبيخ الموجب لضجرهم ومزيد تألمهم مع قدرتهم على التشفي، وهذا القدر يكفي لدعوى التقدم والتأخر، وقيل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 358 في دفع المنافاة بين الحصرين: إن ما هنا جواب قومه عليه السلام له إذ نصحهم، وما هناك جواب بعضهم لبعض إذ تشاوروا في أمره، وقيل: إن أحد الجوابين صدر عن كبار قومه وأمرائهم والآخر صدر عن غيرهم، وظاهر صنيع بعض الأجلة يقتضي اختيار أن يكون كل من الحصرين بالإضافة إلى الجواب الذي يرجوه عليه السلام في متابعته فتأمل. قالَ رَبِّ انْصُرْنِي أي بإنزال العذاب الموعود عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ بابتداع الفاحشة وسنها فيما بعدهم والإصرار عليها واستعجال العذاب بطريق السخرية، وإنما وصفهم بذلك مبالغة في استنزال العذاب وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى أي البشارة بالولد والنافلة قالُوا أي لإبراهيم عليه السلام في تضاعيف الكلام إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ أي قرية سذوم وهي أكبر قرى قوم لوط وفيها نشأت الفاحشة أولا على ما قيل، ولذا خصت بالذكر، وفي الإشارة بهذه إشارة إلى أنها كانت قريبة من محل إبراهيم عليه السلام وإضافة مُهْلِكُوا إلى أَهْلِ لفظية لأن المعنى على الاستقبال، وجوز كونها معنوية لتنزيل ذلك منزلة الماضي لقصد التحقيق والمبالغة إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ تعليل للإهلاك بإصرارهم على الظلم وتماديهم في فنون الفساد وأنواع المعاصي، والتأكيد في الموضعين للاعتناء بشأن الخبر وقال سبحانه: إِنَّ أَهْلَها دون إنهم مع أنه أظهر وأخصر تنصيصا على اتفاقهم على الفساد كما اختاره الخفاجي. وقال بعض المدققين: إن ذلك للدلالة على أن منشأ فساد جبلتهم خبث طينتهم، ففيه إشارة خفية إلى أن المراد من أهل القرية من نشأ فيها فلا يتناول لوطا عليه السلام، واعترض بأنه يبعد كل البعد خفاؤها لو كانت على إبراهيم عليه السلام كما هو ظاهر قوله تعالى: قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً وقيل: يجوز أن يكون عليه السلام علم ما أشاروا إليه من عدم تناول أهل القرية إياه لكنه أراد التنصيص على حاله ليطمئن قلبه لكمال شفقته عليه، وقيل: أراد أن يعلم هل يبقى في القرية عند إهلاكهم أو يخرج منها ثم يهلكون، وكأن في قوله: إِنَّ فِيها دون إن منهم إشارة إلى ذلك، وأفهم كلام بعض المحققين أن قوله: إِنَّ فِيها لُوطاً اعتراض على الرسل عليهم السلام بأن في القرية من لم يظلم بناء على أن المتبادر من إضافة الأهل إليها العموم، وحمل الأهل على من سكن فيها وإن لم يكن تولده بها، أو معارضة للموجب للهلاك وهو الظلم بالمانع وهو أن لوطا بين ظهرانيهم وهو لم يتصف بصفتهم، وأن جواب الرسل المحكي بقوله تعالى: قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ تسليم لقوله عليه السلام في لوط مع ادعاء مزيد العلم به باعتبار الكيفية وأنهم ما كانوا غافلين عنه، وجواب عنه بتخصيص الأهل بمن عداه وأهله على الاعتراض، أو بيان وقت إهلاكهم بوقت لا يكون لوط وأهله بين ظهرانيهم على المعارضة، وفيه ما يدل على جواز تأخير البيان عن الخطاب في الجملة، والذي يغلب على الظن أنهم أرادوا بأهل القرية من نشأ بها على ما هو المتعارف فلا يكون لوط عليه السلام داخلا في الأهل، ويؤيد ذلك تأييدا ما قول قومه أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ وفهم إبراهيم عليه السلام ما أرادوه وعلم أن لوطا ليس من المهلكين إلا أنه خشي أن يكون هلاك قومه وهو بين ظهرانيهم في القرية فيوحشه ذلك ويفزعه. ولعله عليه السلام غلب على ظنه ذلك حيث لم يتعرضوا لإخراجه من قرية المهلكين مع علمهم بقرابته منه ومزيد شفقته عليه فقال: إِنَّ فِيها لُوطاً على سبيل التحزن والتفجع كما في قوله تعالى: إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى [آل عمران: 36] وجل قصده ان لا يكون فيها حين الإهلاك فأخبروه أولا بمزيد علمهم به وأفادوه ثانيا بما يسره ويسكن جأشه نظير ما في قوله تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى [آل عمران: 36] وأكدوا الوعد بالتنجية إما للإشارة إلى مزيد اعتنائهم بشأنه وإما لتنزيلهم إبراهيم عليه السلام منزلة من ينكر تنجيته لما شاهدوا منه في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 359 حقه، وتحمل التنجية على إخراجه من بين القوم وفصله عنهم وحفظه مما يصيبهم فإنها بهذا المعنى الفرد الأكمل، ويلائم هذا ما قيل في قوله تعالى: إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ أي من الباقين في القرية وهو أحد تفسيرين، ثانيهما ما روي عن قتادة وهو تفسيره الغابرين بالباقين في العذاب فتأمل، فكلام الله تعالى ذو وجوه، وفسر الأهل هنا بأتباع لوط عليه السلام المؤمنين، وجملة كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ مستأنفة وقد مر الكلام في ذلك وكذا في الاستثناء فارجع إليه وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا المذكورون بعد مفارقتهم إبراهيم عليه السلام لُوطاً سِيءَ بِهِمْ أي اعتراه المساءة والغم بسبب الرسل مخافة أن يتعرض لهم قومه بسوء كما هو عادتهم مع الغرباء، وقد جاؤوا إليه عليه السلام بصور حسنة إنسانية. وقيل: ضمير بِهِمْ للقوم أي سيء بقومه لما علم من عظيم البلاء النازل بهم، وكذا ضمير بِهِمْ الآتي وليس بشيء، وأَنْ مزيدة لتأكيد الكلام التي زيدت فيه فتؤكد الفعلين واتصالهما المستفاد من لما حتى كأنهما وجدا في جزء واحد من الزمان فكأنه قيل: لما أحس بمجيئهم فاجأته المساءة من غير ريث. وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً أي وضاق بشأنهم وتدبير أمرهم ذرعه أي طاقته كقولهم: ضاقت يده، ويقابله رحب ذرعه بكذا إذا كان مطيقا له قادرا عليه، وذلك أن طويل الذراع ينال ما لا يناله قصير الذراع. وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ عطف على سيء، وجوز أن يكون عطفا على مقدر أي قالوا: إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ [هود: 81] وقالوا إلخ، وأيا ما كان فالقول كان بعد أن شاهدوا فيه مخايل التضجر من جهتهم وعاينوا أنه عليه السلام قد عجز عن مدافعة قومه حتى آلت به الحال إلى أن قال: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود: 80] والخوف للمتوقع والحزن للواقع في الأكثر، وعليه فالمعنى لا تخف من تمكنهم منا ولا تحزن على قصدهم إيانا وعدم اكتراثهم بك، ونهيهم عن الخوف من التمكن إن كان قبل إعلامهم إياه أنهم رسل الله تعالى فظاهر، وإن كان بعد الإعلام فهو لتأنيسه وتأكيد ما أخبروه به. وقال الطبرسي: المعنى لا تخف علينا وعليك ولا تحزن بما نفعله بقومك إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ فلا يصيبكم ما يصيبهم من العذاب إِلَّا امْرَأَتَكَ إنها كانَتْ في علم الله تعالى مِنَ الْغابِرِينَ وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب «لننجينه» و «منجوك» بالتخفيف من الإنجاء، ووافقهم ابن كثير في الثاني. وقرأ الجمهور بشد نون التوكيد، وفرقه بتخفيفها، وأيا ما كان فمحل الكاف من منجوك الجر بالإضافة ولذا حذفت النون عند سيبويه و «أهلك» منصوب على إضمار فعل أي وننجي أهلك، وذهب الأخفش وهشام إلى أن الكاف في محل النصب وأهلك معطوف عليه وحذفت النون لشدة طلب الضمير الاتصال بما قبله للإضافة، وقال بعض الأجلة: لا مانع من أن يكون لمثل هذا الكاف محلان الجر والنصب ويجوز العطف عليها بالاعتبارين، وقرأ نافع وابن كثير والكسائي «سيء» بإشمام السين الضم، وقرأ عيسى وطلحة «سوء» بضمها وهي لغة بني هذيل وبني دبير يقولون في نحو قيل وبيع قول وبوع وعليه قوله: حوكت على نولين إذ تحاك ... تختبط الشوك ولا تشاك إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ استئناف مسوق لبيان ما أشير إليه بوعد التنجية من نزول العذاب عليهم، والرجز العذاب الذي يقلق المعذب أي يزعجه من قولهم: ارتجز إذا ارتجس واضطرب وقرأ ابن عامر «منزّلون» بالتشديد. وابن محيصن «رجزا» بضم الراء بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي بسبب فسقهم المعهود المستمر، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 360 وقرأ أبو حيوة والأعمش بكسر السين وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها أي من القرية على ما عليه الأكثر آيَةً بَيِّنَةً قال ابن عباس: هي آثار ديارها الخربة، وقال مجاهد: هي الماء الأسود على وجه الأرض، وقال قتادة: هي الحجارة التي أمطرت عليهم وقد أدركتها أوائل هذه الأمة، وقال أبو سليمان الدمشقي: هي أن أساسها أعلاها وسقوفها أسفلها إلى الآن وأنكر ذوو الأبصار ذلك، وقال الفراء: المعنى تركناها آية كما يقال: إن في السماء آية ويراد أنها آية. وتعقبه أبو حيان بأنه لا يتجه إلا على زيادة (من) في الواجب نحو قوله: أمرهت منها جبة وتيسا يريد أمهرتها. وقال بعضهم: إن ذلك نظير قولك: رأيت منه أسدا، وقيل: الآية حكايتها العجيبة الشائعة، وقيل: ضمير مِنْها للفعلة التي فعلت بهم والآية الحجارة، أو الماء الأسود والظاهر ما عليه الأكثر. ولا يخفى معنى (من) على هذه الأقوال لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي يستعملون عقولهم في الاستبصار والاعتبار، فالفعل منزل منزلة اللازم ولِقَوْمٍ متعلق بتركنا أو ببينة، واستظهر الثاني هذا، وفي الآيات من الدلالة على ذم اللواطة وقبحها ما لا يخفى، فهي كبيرة بالإجماع، ونصوا على أنها أشد حرمة من الزنا. وفي شرح المشارق للأكمل أنها محرمة عقلا وشرعا وطبعا، وعدم وجوب الحد فيها عند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه لعدم الدليل عنده على ذلك لا لخفتها، وقال بعض العلماء: إن عدم وجوب الحد للتغليظ لأن الحد مطهر، وفي جواز وقوعها في الجنة خلاف، ففي الفتح قيل: إن كانت حرمتها عقلا وسمعا لا تكون في الجنة وإن كانت سمعا فقط جاز أن تكون فيها والصحيح أنها لا تكون لأن الله تعالى استبعدها واستقبحها فقال سبحانه: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ [العنكبوت: 28] وسماها خبيثة فقال عز وجل كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ [الأنبياء: 74] والجنة منزهة عنها. وتعقب هذا الحموي بأنه لا يلزم من كون الشيء خبيثا في الدنيا أن لا يكون له وجود في الجنة ألا ترى أن الخمر أم الخبائث في الدنيا ولها وجود في الجنة، وفيه بحث، لأن خبث الخمر في الدنيا لإزالتها العقل الذي هو عقال عن كل قبيح وهذا الوصف لا يبقى لها في الجنة ولا كذلك اللواطة. وفي الفتوحات المكية في صفة أهل الجنة أنهم لا أدبار لهم لأن الدبر إنما خلق في الدنيا لخروج الغائط وليست الجنة محلا للقاذورات، وعليه فعدم وجودها في الجنة ظاهر، ولا أظن ذا غيرة صادقة تسمح نفسه أن يلاط به في الجنة سرا أو علنا، وجواز وقوعها فيها قد ينجر إلى أن تسمح نفسه بذلك أو يجبر عليه وذلك إذا اشتهى أحد أن يلوط به إذ لا بد من حصول ما يشتهيه، وهذا وإن لم يكن قطعيا في عدم وقوع اللواطة مطلقا في الجنة إلا أنه يقوي القول بعدم الوقوع فتأمل وَإِلى مَدْيَنَ متعلق بأرسلنا مقدر معطوف على أرسلنا في قصة نوح أي وأرسلنا إلى مدين أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ لهم يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ أي توقعوه وما سيقع فيه من فنون الأهوال وافعلوا اليوم من الأعمال ما تأمنون به غائلته، أو الأمر بالرجاء أمر بفعل ما يترتب عليه الرجاء إقامة المسبب مقام السبب، وفي الكلام مضاف مقدر فالمعنى افعلوا ما ترجون به ثواب اليوم الآخر، وجوز أن لا يقدر مضاف، وإرادة الثواب من إطلاق الزمان على ما فيه، وقيل: الأمر برجاء الثواب أمر بسببه اقتضاء بلا تجوز فيه بعلاقة السببية. وقال أبو عبيدة: الرجاء هنا بمعنى الخوف والمعنى وخافوا جزاء اليوم الآخر من انتقام الله تعالى منكم إن لم تعبدوه وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ حال مؤكدة لأن العثو الفساد فَكَذَّبُوهُ فيما تضمنه كلامه من أنهم إن لم يمتثلوا أمره ونهيه وقع بهم العذاب وإليه ذهب أبو حيان، وقيل: من أنه تعالى مستحق لأن يعبد وحده سبحانه وأن اليوم الآخر متحقق الوقوع أو نحو ذلك فَأَخَذَتْهُمُ بسبب تكذيبهم إياه الرَّجْفَةُ أي الزلزلة الشديدة وفي سورة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 361 هود وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ [هود: 94] أي صيحة جبريل عليه السلام فإنها الموجبة للرجفة بسبب تمويجها للهواء وما يجاورها من الأرض، وفسر مجاهد الرجفة هنا بالصيحة، فقيل: لذلك وقيل: لأنها رجفت منها القلوب فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ أي بلدهم فإن الدار تطلق على البلد، ولذا قيل: للمدينة دار الهجرة أو المراد مساكنهم وأقيم فيه الواحد مقام الجمع لأمن اللبس لأنهم لا يكونون في دار واحدة ولعل فيه إشارة إلى أن الرجفة خربت مساكنهم وهدمت ما بينها من الجدران فصارت كمسكن واحد جاثِمِينَ أي باركين على الركب، والمراد ميتين على ما روي عن قتادة. وفي مفردات الراغب هو استعارة للمقيمين من قولهم: جثم الطائر إذا قعد ولطىء بالأرض ويرجع هذا إلى ميتين أيضا وَعاداً وَثَمُودَ منصوبان بإضمار فعل ينبىء عنه ما قبله من قوله تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي وأهلكنا عادا وثمود، وقوله تعالى: وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ عطف على ذلك المضمر أي وقد ظهر لكم أتم ظهور إهلاكنا إياهم من جهة مساكنهم أو بسببها. وذلك بالنظر إليها عند اجتيازكم بها ذهابا إلى الشام وإيابا منه، وجوز كون مِنْ تبعيضية، وقيل: هما منصوبان بإضمار اذكروا أي واذكروا عادا وثمود. والمراد ذكر قصتهما أو بإضمار اذكر خطابا له صلّى الله تعالى عليه وسلم، وجملة قَدْ تَبَيَّنَ حيالية، وقيل: هي بتقدير القول أي وقل: قد تبين، وجوز أن تكون معطوفة على جملة واقعة في حيز القول أي اذكر عادا وثمود قائلا قد مررتم على مساكنهم وقد تبين لكم إلخ، وفاعل تبين الإهلاك الدال عليه الكلام أو مساكنهم على أن مِنْ زائدة في الواجب، ويؤيده قراءة الأعمش «مساكنهم» بالرفع من غير من، وكون مِنْ هي الفاعل على أنها اسم بمعنى بعض مما لا يخفى حاله. وقيل: هما منصوبان بالعطف على الضمير في فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ والمعنى يأباه، وقال الكسائي: منصوبان بالعطف على الذين من قوله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وهو كما ترى، والزمخشري لم يذكر في ناصبهما سوى ما ذكرناه أولا وهو الذي ينبغي أن يعول عليه. وقرأ أكثر السبعة «وثمودا» بالتنوين بتأويل الحي، وهو على قراءة ترك التنوين بتأويل القبيلة، وقرأ ابن وثاب «وعاد وثمود» بالخفض فيهما والتنوين عطفا على مدين على ما في البحر أي وأرسلنا إلى عاد وثمود وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ بوسوسته وإغوائه أَعْمالَهُمْ القبيحة من الكفر والمعاصي فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ أي الطريق المعهود وهو السوي الموصل إلى الحق، وحمله على الاستغراق حصرا له في الموصل إلى النجاة تكلف وَكانُوا أي عاد وثمود لا أهل مكة كما توهم: مُسْتَبْصِرِينَ أي عقلاء يمكنهم التمييز بين الحق والباطل بالاستدلال والنظر ولكنهم أغفلوا ولم يتدبروا وقيل: عقلاء يعلمون الحق ولكنهم كفروا عنادا وجحودا، وقيل: متبينين أن العذاب لاحق بهم بإخبار الرسل عليهم السلام لهم ولكنهم لجوا حتى لقوا ما لقوا. وعن قتادة والكلبي كما في مجمع البيان أن المعنى كانوا مستبصرين عند أنفسهم فيما كانوا عليه من الضلالة يحسبون أنه على هدى وأخرج ابن المنذر وجماعة عن قتادة أنه قال: أي معجبين بضلالتهم وهو تفسير بحاصل ما ذكر، وهو مروي كما في البحر عن ابن عباس ومجاهد، والضحاك، والجملة في موضع الحال بتقدير قد أو بدونها وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ معطوف على عادا، وتقديم قارون لأن المقصود تسلية النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فيما لقي من قومه لحسدهم له، وقارون كان من قوم موسى عليه السلام وقد لقي منه ما لقي، أو لأن حاله أوفق بحال عاد وثمود فإنه كان من أبصر الناس وأعلمهم بالتوراة ولم يفده الاستبصار شيئا كما لم يفدهم كونهم مستبصرين شيئا، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 362 أو لأن هلاكه كان قبل هلاك فرعون وهامان فتقديمه على وفق الواقع، أو لأنه أشرف من فرعون وهامان لإيمانه في الظاهر وعلمه بالتوراة وكونه ذا قرابة من موسى عليه السلام، ويكون في تقديمه لذلك في مقام الغضب إشارة إلى أن نحو هذا الشرف لا يفيد شيئا ولا ينقذ من غضب الله تعالى على الكفر وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا عن الايمان والطاعة فِي الْأَرْضِ إشارة إلى قلة عقولهم لأن من في الأرض لا ينبغي له أن يستكبر. وَما كانُوا سابِقِينَ أي فائتين أمر الله تعالى، من قولهم: سبق طالبه أي فاته ولم يدركه، ولقد أدركهم أمره تعالى أي إدراك فتداركوا نحو الدمار والهلاك، وقال أبو حيان: المعنى وما كانوا سابقين الأمم إلى الكفر أي تلك عادة الأمم مع رسلهم عليهم السلام، وليس بذاك وأيا ما كان فالظاهر أن ضمير كانوا لقارون وفرعون وهامان، وقيل: الجملة عطف على أهلكنا المقدر سابقا وضمير- كانوا- لجميع المهلكين، وفيه تبر للنظم الجليل فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ هذا وما بعده كالفذلكة للآيات المتضمنة تعذيب من كفر ولم يمتثل أمر من أرسل إليه، وقال أبو السعود: هذا تفسير لما ينبىء عنه عدم سبقهم بطريق الإبهام وما بعده تفصيل للأخذ، وفي القلب منه شيء. وكأنه اعتبر رجوع ضمير- كانوا- إلى المهلكين، وقد علمت حاله وتقديم المفعول للاهتمام بأمر الاستيعاب والاستغراق، وقال الفاضل: المذكور للحصر أي كل واحد من المذكورين عاقبناه بجنايته لا بعضا دون بعض، وبحث فيه بأن كلّا متكفلة بهذا المعنى قدمت أو أخرت، وأجيب بأنا لا نسلم أنه يفهم منها لا بعضا إذا أخرت وإنما يفهم منها بواسطة التقديم فتأمل، والكلام في مرجع ضمير بذنبه سؤالا وجوابا لا يخفى على من أحاط علما بما قيل في قولهم: كل رجل وضيعته. وقولهم: الترتيب جعل كل شيء في مرتبته، وهو شهير بين الطلبة فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً أي ريحا عاصفا فيها حصباء، وقيل: ملكا رماهم بالحصباء وهم قوم لوط. وقال ابن عطية: يشبه أن يدخل عاد في ذلك لأن ما أهلكوا به من الريح كانت شديدة وهي لا تخلو عن الحصب بأمور مؤذية، والحاصب هو العارض من ريح أو سحاب إذا رمي بشيء وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ هم مدين وثمود ولم يقل أخذناه بالصيحة ليوافق ما قبله وما بعده في إسناد الفعل إليه تعالى الأوفق بقوله تعالى: فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ دفعا لتوهم أن يكون سبحانه هو الصائح وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وهو قارون وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وهو فرعون ومن معه، وذكر بعضهم قوم نوح عليه السلام أيضا. واعترض بأنهم ليسوا من المذكورين، وتعقب بأنهم أول المذكورين في هذه السورة من الأمم السالفة ولعل المعترض أراد بالمذكورين المذكورين متناسقين أي بلا فصل بأمة لم تفد قصتها إهلاكها، وقوم نوح وإن ذكروا أولا لكن فصل بينهم وبين نظائرهم من المهلكين بقصة قوم إبراهيم عليه السلام وهي لم تفد أنهم أهلكوا، وذكر النيسابوري أنه سبحانه قرر بقوله تعالى: فَكُلًّا إلخ أمر المذنبين بإجمال آخر يفيد أنهم عذبوا بالعناصر الأربعة فجعل ما منه تركيبهم سببا لعدمهم وما منه بقاؤهم سببا لفنائهم، فالحاصب وهو حجارة محماة تقع على كل واحد منهم فتنفذ من الجانب الآخر إشارة إلى التعذيب بعنصر النار، والصيحة وهي تموج شديد في الهواء إشارة إلى التعذيب بعنصر الهواء، والخسف إشارة إلى التعذيب بعنصر التراب، والغرق إشارة إلى التعذيب بعنصر الماء اه ولا يخفى ما فيه وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ أي ما كان سبحانه مريدا لظلمهم وذلك بأن يعاقبهم من غير جرم لأنه خلاف ما تقتضيه الحكمة. وفي أنوار التنزيل أي ما كان سبحانه ليعاملهم معاملة الظالم فيعاقبهم بغير جرم إذ ليس ذلك من سنته عز وجل، ويفيد ذلك أنه لو وقع منه تعالى تعذيبهم من غير جرم لا يكون ظلما لأنه تعالى مالك الملك يتصرف به كما يشاء فله أن يثيب العاصي ويعذب المطيع، وهذا أمر مشهور بين الأشاعرة والكلام في تحقيقه يطلب من علم الكلام. وقد أسلفنا في تفسير قوله تعالى: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 363 لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء: 23] ما ينفعك في هذا المقام تذكره فتذكر وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالاستمرار على مباشرة ما يوجب ذلك من الكفر والمعاصي باختيارهم، وقال مولانا الشيخ إبراهيم الكوراني ما حاصله: إن ظلم الكفرة أنفسهم إنما هو لسوء استعدادهم الذي هم عليه في نفس الأمر من غير مدخل للجعل فيه وبلسان ذلك الاستعداد طلبوا من الجواد المطلق جل وعلا ما صار سببا لظهور شقائهم اهـ، والبحث في ذلك طويل الذيل فليطلب من محله، وتقديم المعمول لرعاية رؤوس الآي مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ استئناف متضمن تقبيح حال أولئك المهلكين الظالمين لأنفسهم وأضرابهم ممن تولى غير الله عز وجل، وفيه إشارة إلى أعظم أنواع ظلمهم فالمراد بالموصول جميع المشركين الذين عبدوا من دون الله عز وجل الأوثان. وجوز أن يكون جميع من اتخذ غيره تعالى متكلا ومعتمدا آلهة كان ذلك أو غيرها، ولذا عدل إلى أولياء من آلهة أي صفتهم أو شبههم كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ أي كصفتها أو شبهها. اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ بيان لصفة العنكبوت التي يدور عليها أمر التشبيه، والجملة على ما نقل عن الأخفش من لزوم الوقف على العنكبوت مستأنفة لذلك وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ إلخ في موضع الحال من فاعل اتخذت المستكن فيه، وجوز كونه في موضع الحال من مفعوله بناء على جواز مجيء الحال من النكرة، وعلى الوجهين وضع المظهر موضع الضمير الراجع إلى ذي الحال، والجملة من تتمة الوصف. واللام في البيوت للاستغراق، والمعنى مثل المتخذين لهم من دون الله تعالى أولياء في اتخاذهم إياهم كمثل العنكبوت وذلك أنها اتخذت لها بيتا والحال أن أوهن كل البيوت وأضعفها بيتها، وهؤلاء اتخذوا لهم من دون الله تعالى أولياء والحال أن أوهن كل الأولياء وأضعفها أولياؤهم، وإن شئت فقل: إنها اتخذت بيتا في غاية الضعف وهؤلاء اتخذوا لها أو متكلا في غاية الضعف فهم وهي مشتركان في اتخاذ ما هو في غاية الضعف في بابه، ويجوز أن تكون جملة اتخذت حالا من العنكبوت بتقدير قد أو بدونها أو صفة لها لأن أل فيها للجنس، وقد جوزوا الوجهين في الجمل الواقعة بعد المعرف بأل الجنسية نحو قوله تعالى: كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً [الجمعة: 5] وعن الفراء أن الجملة صلة لموصول محذوف وقع صفة الْعَنْكَبُوتِ أي التي اتخذت، وخرج الآية التي ذكرناها على هذا واختار حذف الموصول في مثله ابن درستويه، وعليه لا يوقف على العنكبوت، وأنت تعلم أن كون الجملة صفة أظهر. والمعنى حينئذ مثل المشرك الذي عبد الوثن بالقياس إلى الموحد الذي عبد الله تعالى كمثل عنكبوت اتخذت بيتا بالإضافة إلى رجل بنى بيتا بآجر وجص أو نحته من صخر وكما أن أوهن البيوت إذا استقريتها بيتا بيتا بيت العنكبوت كذلك أضعف الأديان إذا استقريتها دينا دينا عبادة الأوثان، وهو وجه حسن ذكره الزمخشري في الآية، وقد اعتبر فيه تفريق التشبيه، والغرض إبراز تفاوت المتخذين والمتخذ مع تصوير توهين أمر أحدهما وإدماج توطيد الآخر، وعليه يجوز أن يكون قوله تعالى: وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ جملة حالية لأنه من تتمة التشبيه، وإن يكون اعتراضية لأنه لو لم يؤت به لكان في ضمنه ما يرشد إلى هذا المعنى وإلى كونه جملة حالية ذهب الطيبي. وقال صاحب الكشف: كلام الزمخشري إلى كونه اعتراضية أقرب لأن قوله: وكما أن أوهن البيوت إلخ ليس فيه إيماء إلى تقييد الأول، وقد تعقب أبو حيان هذا الوجه بأنه لا يدل عليه لفظ الآية، وإنما هو تحميل اللفظ ما لا يحتمله كعادته في كثير من تفسيره، وهذه مجازفة على صاحب الكشاف كما لا يخفى، ويجوز أن يكون المعنى مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء فيما اتخذوه معتمدا ومتكلا في دينهم وتولوه من دون الله تعالى كمثل العنكبوت فيما نسجته واتخذته بيتا، والتشبيه على هذا من المركب فيعتبر في جانب المشبه اتخاذ ومتخذ واتكال عليه، وكذلك في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 364 الجانب الآخر ما يناسبه ويعتبر تشبيه الهيئة المنتزعة من ذلك كله بالهيئة المنتزعة من هذا بالأسر، والغرض تقرير وهن أمر دينهم وأنه بلغ الغاية التي لا غاية بعدها، ومدار قطب التشبيه أن أولياءهم بمنزلة منسوج العنكبوت ضعف حال وعدم صلوح اعتماد، وعلى هذا يكون قوله تعالى: إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ تذييلا يقرر الغرض من التشبيه. وجوز أن يكون المعنى والغرض من التشبيه ما سمعت إلا أنه يجعل التذييل استعارة تمثيلية ويكون ما تقدم كالتوطئة لها، فكأنه قيل: وإن أوهن ما يعتمد عليه في الدين عبارة الأوثان، وهي تقرر الغرض من التشبيه بتبعية تقرير المشبه، وكأن التقرير في الوجه السابق بتبعية تقرير المشبه به، وهذا قريب من تجريد الاستعارة وترشيحها، ونظير ذلك قولك: زيد في الكرم بحر والبحر لا يخيب من أتاه إذا كان البحر الثاني مستعارا للكريم، وذكر الطرفين إنما يمنع من كونه استعارة لو كان في جملته، ورجح السابق لأن عادة البلغاء تقرير أمر المشبه به ليدل به على تقرير المشبه، ولأن هذا إنما يتميز عن الألغاز بعد سبق التشبيه. وجوز أن يكون قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ إلخ كالمقدمة الأولى، وقوله سبحانه: وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ كالثانية وما هو كالنتيجة محذوف مدلول عليه بما بعد كما في الكشف، والمجموع يدل على المراد من تقرير وهن أمر دينهم وأنه بلغ الغاية التي لا غاية بعدها على سبيل الكناية الإيمائية فتأمل، والظاهر أن المراد بالعنكبوت النوع الذي ينسج بيته في الهواء ويصيد به الذباب لا النوع الآخر الذي يحفر بيته في الأرض ويخرج في الليل كسائر الهوام، وهي على ما ذكره غير واحد من ذوات السموم فيسن قتلها لذلك، لا لما أخرج أبو داود في مراسيله عن يزيد بن مرثد من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «العنكبوت شيطان مسخها الله تعالى فمن وجدها فليقتلها» فإنه كما ذكر الدميري ضعيف. وقيل: لا يسن قتلها فقد أخرج الخطيب عن عليّ كرّم الله تعالى وجهه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخلت أنا وأبو بكر الغار فاجتمعت العنكبوت فنسجت بالباب فلا تقتلوهن» ذكر هذا الخبر الجلال السيوطي في الدر المنثور، والله تعالى أعلم بصحته وكونه مما يصلح للاحتجاج به، ونصوا على طهارة بيتها لعدم تحقق كون ما تنسج به من غذائها المستحيل في جوفها مع أن الأصل في الأشياء الطهارة، وذكر الدميري أن ذلك لا تخرجه من جوفها بل من خارج جلدها، وفي هذا بعد. وأنا لم أتحقق أمر ذلك ولم أعين كونه من فمها أو دبرها أو خارج جلدها لعدم الاعتناء بشأن ذلك لا لعدم إمكان الوقوف على الحقيقة، وذكر أنه يحسن إزالة بيتها من البيوت لما أسند الثعلبي وابن عطية وغيرهما عن علي كرّم الله تعالى وجهه أنه قال: «طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت فإن تركه في البيوت يورث الفقر» وهذا إن صح عن الإمام علي كرّم الله تعالى وجهه فذاك، وإلا فحسن الإزالة لما فيها من النظافة ولا شك بندبها. والتاء في العنكبوت زائدة كتاء طالوت فوزنه فعللوت وهو يقع على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، ومن استعماله مذكرا قوله: على هطالهم منهم بيوت ... كأن العنكبوت هو ابتناها واستظهر الفاضل سعدي جلبي كون المراد به هنا الواحد، وذهب إلى تأنيثه أيضا فذكر أنه اختير هنا تأنيثه لأنه المناسب لبيان الخور والضعف فيما يتخذه، وقال مولانا الخفاجي معرضا به: الظاهر أن المراد الجمع لا الواحد لقوله تعالى: الَّذِينَ وأما أفراد البيت فلأن المراد الجنس، ولذلك أنث اتَّخَذَتْ لا لأن المراد المؤنث، وفي القاموس العنكبوت معروف وهي العنكباة والعنكبوة والعنكباء، والذكر عنكب وهي عنكبة، وجمعه عنكبوتات وعناكب، والعكاب، والعكب والأعكب أسماء الجموع، وتعقب بأن عد ما عدا ما ذكره أولا اسم جمع لا وجه له لأن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 365 أعكب لا يصح فيه ذلك، وذكروا في جمعه أيضا عناكيب، واختلف في نونه فقيل أصلية، وقيل: زائدة كالتاء، وجمعه على عكاب يدل على ذلك. وذكر السجستاني في غريب سيبويه أنه ذكر عناكب في موضعين فقال في موضع: وزنه فناعل وفي آخر فعالل، فعلى الأول النون زائدة وهو مشتق من العكب وهو الغلظ اهـ المراد منه، ولعل الأقرب على ذلك كونه مشتقا من العكب بالفتح بمعنى الشدة في السير فكأنه لشدة وثبه لصيد الذباب أو لشدة حركته عند قراره أطلق عليه اسم العنكبوت لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي لو كانوا يعلمون شيئا من الأشياء لعلموا أن هذا مثلهم أو أن أمر دينهم بالغ هذه الغاية من الوهن، وقيل: أي لو كانوا يعلمون وهن الأوثان لما اتخذوها أولياء من دون الله تعالى، وفي الكشف أن قوله تعالى: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ على جميع التقادير أي المذكورة في الكشاف وقد ذكرناها فيما مر من الإيغال، جهلهم سبحانه في الاتخاذ ثم زادهم جل وعلا تجهيلا أنهم لا يعلمون هذا الجهل البين الذي لا يخفى على من له أدنى مسكة، ولَوْ شرطية وجوابها محذوف على ما أشرنا إليه، وجوز بعضهم كونها للتمني فلا جواب لها وهو غير ظاهر. إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ على إضمار القول أي قل للكفرة إن الله إلخ، وقيل: لا حاجة إلى إضماره لجواز أن يكون (تدعون) من باب الالتفات للإيذان بالغضب، وفيه بحث. وقرأ أبو عمرو وسلام «يعلم ما» بالإدغام. وأبو عمرو وعاصم بخلاف «يدعون» بياء الغيبة حملا على ما قبله، وما استفهامية منصوبة بتدعون ويَعْلَمُ معلقة عنها فالجملة في موضع نصب بها ومِنْ الأولى متعلقة بتدعون على ما هو الظاهر ومِنْ الثانية للتبيين وجوز كونها للتبعيض، ويجوز كون ما نافية ومن الثانية مزيدة وشيء مفعول تدعون، أي لستم تدعون من دونه تعالى شيئا، كأن ما يدعونه من دونه عز وجل لمزيد حقارته لا يصلح أن يسمى شيئا، وجوز كونها مصدرية وهي وما بعدها في تأويل مصدر مفعول يعلم على أنها بمعنى يعرف ناصبة لمفعول واحد ومن تبعيضية، أي يعرف دعاءكم وعبادتكم بعض شيء من دونه وقيل: مِنْ للتبيين وشَيْءٍ بمعنى ذلك المصدر وتنوينه للتحقير، أي يعرف دعوتكم من دونه هي دعوة حقيرة، وجوز كونها موصولة مفعول يعلم بمعنى يعرف ومفعول تدعون عائدها المحذوف ومن إما بيان للموصول أو تبعيضية. وجوز زيادتها على هذا الوجه وما بعده، ولا يخفى ما فيه. والكلام على الوجهين الأولين في ما تجهيل للكفرة المتخذين من دون الله تعالى أولياء لما فيهما من نفي الشيئية عما اتخذوه وليا والاستفهام عنه الذي هو في معنى النفي لأنه إنكار، وفيه توكيد للمثل لأن كون معبودهم ليس بشيء يعبأ به مناسب ولذا لم يعطف، وعلى الوجهين الأخيرين فيها وعيد لهم لأن العلم بدعوتهم وعبادتهم عبارة عن مجازاتهم عليها وكذا العلم بما يدعونه عبارة عن مجازاتهم على دعائهم إياه، وترك العطف فيه لأنه استئناف، ويجوز إرادة التجهيل والوعيد في الوجوه كلها، وقوله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 366 تعالى: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ في موضع الحال ويفهم منه التعليل على المعنيين، فإن من فرط الغباوة إشراك ما لا يعد شيئا بمن هذا شأنه، وإن الجماد بالإضافة إلى القادر القاهر على كل شيء البالغ في العلم وإتقان الفعل الغاية القاصية كالمعدوم البحت، وإن من هذا صفته قادر على مجازاتهم. وَتِلْكَ الْأَمْثالُ أي هذا المثل ونظائره من الأمثال المذكورة في الكتاب العزيز. نَضْرِبُها لِلنَّاسِ تقريبا لما بعد من أفهامهم وَما يَعْقِلُها على ما هي عليه من الحسن واستتباع الفوائد إِلَّا الْعالِمُونَ الراسخون في العلم المتدبرون في الأشياء على ما ينبغي. وروى محيي السنة بسنده عن جابر «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم تلا هذه الآية وَتِلْكَ الْأَمْثالُ الآية فقال العالم من عقل عن الله تعالى فعمل بطاعته واجتنب سخطه» خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي محقا مراعيا للحكم والمصالح على أنه حال من فاعل خلق أو ملتبسة بالحق الذي لا محيد عنه مستتبعة للمنافع الدينية والدنيوية على أنها حال من مفعوله، فإنها مع اشتمالها على جميع ما يتعلق به معاشهم شواهد دالة على شؤونه تعالى المتعلقة بذاته سبحانه وصفاته كما يفصح عنه قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ دالة لهم على ما ذكر من شؤونه عز وجل، وتخصيص المؤمنين بالذكر مع عموم الهداية والإرشاد في خلقهما للكل لأنهم المنتفعون بذلك اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ أي دم على تلاوة ذلك تقربا إلى الله تعالى بتلاوته وتذكرا لما في تضاعيفه من المعاني وتذكيرا للناس وحملا لهم على العمل بما فيه من الأحكام ومحاسن الآداب ومكارم الأخلاق وَأَقِمِ الصَّلاةَ أي داوم على إقامتها. وحيث كانت الصلاة منتظمة للصلوات المكتوبة المؤداة بالجماعة وكان أمره صلى الله تعالى عليه وسلم بإقامتها متضمنا لأمر الأمة بها علل بقوله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ كأنه قيل: وصل بهم إن الصلاة تنهاهم عن الفحشاء والمنكر، ومعنى نهيها إياهم عن ذلك أنها لتضمنها صنوف العبادة من التكبير والتسبيح والقراءة والوقوف بين يدي الله عز وجل والركوع والسجود له سبحانه الدال على غاية الخضوع والتعظيم كأنها تقول لمن يأتي بها لا تفعل الفحشاء والمنكر ولا تعص ربا هو أهل لما أتيت به، وكيف يليق بك أن تفعل ذلك وتعصيه عز وجل وقد أتيت مما يدل على عظمته تعالى وكبريائه سبحانه من الأقوال والأفعال بما تكون به إن عصيت وفعلت الفحشاء أو المنكر كالمتناقض في أفعاله، وبما ذكر ينحل الإشكال المشهور وهو أنا نرى كثيرا من المرتكبين للفحشاء والمنكر يصلون ولا ينتهون عن ذلك، فإن نهيها إياهم عن الفحشاء والمنكر بهذا المعنى لا يستلزم انتهاءهم. ألا ترى أن الله تعالى ينهى عن ذلك أيضا كما قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ [النحل: 90] والناس لا ينتهون وليس نهي الصلاة بأعظم من نهيه سبحانه وتعالى، فإذا لم يكن هناك استلزام فكيف يكون هنا. وما أرى هذا الإشكال إلا مبنيا على توهم استلزام النهي للانتهاء، وهو توهم باطل وتخيل عاطل لا يشهد له عقل ولا يؤيده نقل. ونقل أبو حيان عن ابن عباس والكلبي وابن جريج وحماد بن أبي سليمان أن الصلاة تنهى عن ذلك ما دام المصلي فيها، وكأنهم أرادوا أنها كالناهية للمصلي القائلة له لا تفعل ذلك ما دام فيها لأنه إذا فرغ منها فقد انقطعت الأقوال والأفعال التي كان النهي بما تدل عليه من العظمة والكبرياء. ونقل عن القطب أنه قال في جواب الإشكال: إن الصلاة تقام لذكر الله تعالى كما قال عز من قائل: أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: 14] ومن كان ذاكرا لله عز وجل منعه ذلك عن الإتيان بما يكرهه منه تعالى مما قل أو كثر وكل من تراه يصلي ويأتي الفحشاء والمنكر فهو بحيث لو لم يكن يصلي لكان أشد إتيانا فقد أثرت الصلاة في تقليل فحشائه ومنكره، وهو كما ترى، وقيل: إن المراد أن الصلاة سبب للانتهاء عن ذلك، وليس هذا كليا لما أن الصلاة في حكم النكرة وهي في الإثبات لا يجب أن تعم فينحل الإشكال، وعلى ما قلنا لا يضر دعوى الكلية. نعم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 367 النهي الذي ذكرناه يتفاوت بحسب تفاوت أداء الصلاة فهو في صلاة أديت على أتم ما يكون من الخشوع والتدبر لما يتلى فيها مع الإتيان بفروضها وواجباتها وسننها وآدابها على أحسن أحوالها أتم، وقد يضعف النهي فيها حتى كأنه لا تنهى كما في الصلاة التي تؤدى مع الغفلة التامة والإخلال بما يليق فيها وهي الصلاة المردودة التي تلف كما يلف الثوب الخلق ويرمى بها وجه صاحبها فتقول له: ضيعك الله تعالى كما ضيعتني، وكأن مراد القائل: إن المراد بالصلاة التي تنهى عما ذكر هي الصلاة المقبولة هو هذا. وقد يجعل الانتهاء علامة القبول. روى بعض الإمامية عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أنه قال: من أحب أن يعلم قبلت صلاته أم لم تقبل فلينظر هل منعته عن الفحشاء والمنكر فبقدر ما منعته قبلت منه، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير والبيهقي في شعب الإيمان عن الحسن قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له» وفي لفظ: «لم يزدد بها من الله تعالى إلا بعدا» وأخرجه بهذا اللفظ ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعا. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قيل له: إن فلانا يطيل الصلاة فقال: إن الصلاة لا تنفع إلا من أطاعها ثم قرأ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وقد يتفق لمن يكثر الصلاة أن تقع بعض صلاته على الوجه اللائق فتقبل لطفا من الله تعالى وكرما، ويظهر أثر ذلك بالانتهاء عن المعاصي، ويشير إلى هذا ما أخرج أحمد وابن حيان والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: إن فلانا يصلي بالليل فإذا أصبح سرق قال سينهاه ما تقول» وأصرح منه فيما ذكرنا ما روي أن فتى من الأنصار كان يصلي مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الصلاة ولا يدع شيئا من الفواحش إلا ركبه فوصف له، فقال عليه الصلاة والسلام: إن صلاته ستنهاه» فلم يلبث إلا أن تاب ، إلا أن ابن حجر ذكر فيه أنه لم يجده في كتب الحديث. ثم إن حمل الصلاة في الآية على الصلاة المعروفة هو الظاهر المؤيد بالآثار والأخبار الصحيحة، وأخرج ابن جرير عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن المراد بها هنا القرآن، وقال ابن بحر: إن المراد بها الدعاء أي أقم الدعاء إلى أمر الله تعالى إن الدعاء إلى أمره سبحانه ينهى عن الفحشاء والمنكر، وكل منهما عدول عن الظاهر من غير داع. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن الربيع بن أنس أنه كان يقرأ «إن الصلاة تأمر بالمعروف وتنهى عن الفحشاء والمنكر» وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ. قال ابن عباس وابن مسعود وابن عمر وأبو قرة ومجاهد وعطية: المعنى لذكر الله تعالى إياكم أكبر من ذكركم إياه سبحانه، وفي لفظ لذكر الله تعالى العبد أكبر من ذكر العبد لله تعالى، وعن ابن عباس أنه قال ذلك ثم قرأ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة: 152] . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن أبي مالك أنه قال ذكر الله تعالى العبد في الصلاة أكبر من الصلاة، فذكر مصدر مضاف إلى الفاعل والمفعول محذوف وكذا المفضل عليه وهو خاص على ما سمعت، وجوز أن يكون عاما أي أكبر من كل شيء، وقيل: المعنى ولذكر العبد لله تعالى في الصلاة أكبر من سائر أركان الصلاة، وقيل: أي ولذكر العبد لله تعالى في الصلاة أكبر من ذكره إياه سبحانه خارج الصلاة، وقيل: أي ولذكر العبد لله تعالى أكبر من سائر أعماله، وروي عن جماعة من السلف ما يقتضيه. أخرج أحمد في الزهد وابن المنذر عن معاذ بن جبل قال: «ما عمل آدمي عملا أنجى له من عذاب الله تعالى من ذكر الله تعالى، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله تعالى قال: ولا أن يضرب بسيفه حتى ينقطع لأن الله تعالى يقول في كتابه وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 368 وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن أبي الدرداء قال: «ألا أخبركم بخير أعمالكم وأحبها إلى مليككم وأسماها في درجاتكم وخير من أن تغزوا عدوكم فيضربوا رقابكم وتضربوا رقابهم وخير من إعطاء الدنانير والدراهم قالوا: وما هو يا أبا الدرداء؟ قال ذكر الله تعالى وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ» . وأخرج ابن جرير عن سلمان أنه سئل أي العمل أفضل؟ قال: أما تقرأ القرآن؟ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ لا شيء أفضل من ذكر الله، ونسب في البحر إلى أبي الدرداء. وسلمان رضي الله تعالى عنهما القول الذي ذكرناه أولا عمن سمعت، ولعل ذلك إحدى روايتين عنهما، وجاء عن ابن عباس أيضا رواية تشعر بأن المراد بذكر الله تعالى ذكر العبد له سبحانه. أخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر والحاكم في الكنى والبيهقي في شعب الإيمان عن عنترة قال: قلت لابن عباس رضي الله تعالى عنهما أي العمل أفضل؟ قال: ذكر الله أكبر وما قعد قوم في بيت من بيوت الله تعالى يدرسون كتاب الله ويتعاطونه بينهم إلا أظلتهم الملائكة بأجنحتها وكانوا أضياف الله تعالى ما داموا فيه حتى يفيضوا في حديث غيره وما سلك رجل طريقا يلتمس فيه العلم إلا سهل الله تعالى له طريقا إلى الجنة. وقيل: المراد بذكر الله الصلاة كما في قوله تعالى: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة: 9] أي وللصلاة أكبر من سائر الطاعات وإنما عبر عنها به للإيذان بأن ما فيها من ذكر الله تعالى هو العمدة في كونها مفضلة على الحسنات ناهية عن السيئات، وقيل: المعنى ولذكر الله تعالى عند الفحشاء والمنكر، وذكر نهيه عنهما ووعيده عليهما أكبر في الزجر من الصلاة، (فذكر) على هذه الأقوال مصدر مضاف للمفعول والمفضل عليه محذوف، وجوز أن لا يكون أفعل للتفضيل سواء كانت إضافة المصدر للفاعل أم للمفعول كما في الله أكبر وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ من الخير والطاعة فيجازيكم بذلك أحسن المجازاة، وقال أبو حيان: يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ من الخير والشر فيجازيكم بحسبه ففيه وعد ووعيد وحث على المراقبة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 369 بسم الله الرحمن الرحيم وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ من اليهود والنصارى، وقيل: من نصارى نجران إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ بالخصلة التي هي أحسن كمقابلة الخشونة باللين، والغضب بالكظم، والمشاغبة بالنصح، والسورة بالأناة كما قال سبحانه: ادفع بالتي هي أحسن [المؤمنون: 96، فصلت: 34] إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ بالإفراد في الاعتداء والعناد، ولم يقبلوا النصح، ولم ينفع فيهم الرفق فاستعملوا معهم الغلظة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 3 وأخرج ابن جرير عن مجاهد أن الذين ظلموا هم الذين أثبتوا الولد والشريك أو قالوا يد الله تعالى مغلولة، أو الله سبحانه فقير أو آذوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهذه الغلظة التي تفهم الآية الإذن بها لا تصل إلى القتال لأولئك الظالمين من أهل الكتاب على أي وجه من الوجوه المذكورة كان ظلمهم لأن ظاهر كون السورة مكية أن هذه الآية مكية، والقتال في المشهور لم يشرع بمكة وليست الغلظة محصورة فيه كما لا يخفى، وقيل: المعنى ولا تجادلوا في الداخلين في الذمة المؤدين للجزية إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا فنبذوا الذمة ومنعوا الجزية فإن أولئك مجادلتهم بالسيف. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد ما يقرب منه، وتعقب بأن السورة مكية والحرب والجزية مما شرع بالمدينة، وكون الآية بيانا لحكم آت بعد بعيد وأيضا لا قرينة على التخصيص. وقيل: يجوز أن يكون القائل بذلك ذاهبا إلى أن الآية مدنية ومكية السورة باعتبار أغلب آياتها أو ممن يقول: بأن الحرب شرع بمكة في آخر الأمر، والسورة آخر ما نزل بها إلا أنه لم يقع وعدم الوقوع لا يدل على عدم المشروعية. وعن ابن زيد أن المراد بأهل الكتاب مؤمنوا أهل الكتاب وبالتي هي أحسن موافقتهم فيما حدثوا به من أخبار أوائلهم وبالذين ظلموا من بقي منهم على كفره وهو كما ترى، واختلف في نسخ الآية. فأخرج أبو داود في ناسخه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في المصاحف عن قتادة أنه قال: نهى في هذه الآية عن مجادلة أهل الكتاب، ثم نسخ ذلك فقال سبحانه: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة: 29] الآية ولا مجادلة أشد من السيف، وقال في مجمع البيان: الصحيح أنها غير منسوخة لأن المراد بالجدال المناظرة وذلك على الوجه الأحسن هو الواجب الذي لا يجوز غيره. وقال بعض الأجلة: إن المجادلة بالحسنى في أوائل الدعوة لأنها تتقدم القتال فلا يلزم النسخ ولا عدم القتال بالكلية، وأما كون النهي يدل على عموم الأزمان فيلزم النسخ فلا يتم ما ذكر فيدفعه أن من يقاتل كمانع الجزية داخل في المستثنى فلا نسخ وإنما هو تخصيص بمتصل، وكون ذلك يقتضي مشروعية القتال بمكة ليس بصحيح لأنه مسكوت عنه فتأمل. وقرأ ابن عباس «ألا بالتي» إلخ، على أن «الا» حرف تنبيه واستفتاح، والتقدير، ألا جادلوهم التي هي أحسن وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا من القرآن وَالذي أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ أي وبالذي أنزل إليكم من التوراة والإنجيل، وهذا القول نوع من المجادلة بالتي هي أحسن، وعن سفيان بن حسين أنه قال: هذه مجادلتهم بالتي هي أحسن، وأخرج البخاري، والنسائي، وغيرهما عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرؤون الكتاب بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم» الآية ، والتصديق والتكذيب ليسا نقيضين فيجوز ارتفاعهما. وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ لا شريك له في الألوهية وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ أي مطيعون خاصة كما يؤذن بذلك تقديم لَهُ، وفيه تعريض باتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله تعالى. وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ تجريد للخطاب لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وذلك إشارة إلى مصدر الفعل الذي بعده، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلة المشار إليه في الفضل أي مثل ذلك الإنزال البديع الشأن الموافق لإنزال سائر الكتب أنزلنا إليك القرآن الذي من جملته هذه الآية الناطقة بما ذكر من المجادلة بالتي هي أحسن، وقيل: الإشارة إلى ما تقدم لذكر الكتاب وأهله أي وكما أنزلنا الكتب إلى من قبلك أنزلنا إليك الكتاب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 4 فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ من الطائفتين اليهود والنصارى على أن المراد بالكتاب جنسه الشامل للتوراة والإنجيل والكلام على ظاهره، وقيل: هو على حذف مضاف أي آتيناهم علم الكتاب يُؤْمِنُونَ بِهِ بالكتاب الذي أنزل إليك، وقيل: الضمير له صلى الله تعالى عليه وسلم وهو كما ترى، والمراد بهم في قول من تقدم عهد النبي صلى تعالى عليه وسلم من أولئك حيث كانوا مصدقين بنزول القرآن حسبما علموا مما عندهم من الكتاب، والمضارع لاستخصار تلك الصورة في الحكاية وتخصيصهم بإيتاء الكتاب للإيذان بأن ما بعدهم من معاصري رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد نزع عنهم الكتاب بالنسخ، وفي قول آخر معاصروه عليه الصلاة والسلام العاملون بكتابهم من عبد الله بن سلام وأضرابه، وتخصيصهم بإيتاء الكتاب لما أنهم هم المنتفعون به فكأن من عداهم لم يؤتوه، قيل: هذا يؤيد القول: بأن الآيات المذكورة مدنية إذ كونها مكية وعبد الله ممن أسلم بعد الهجرة بناء على أنه إعلام من الله تعالى بإسلامهم في المستقبل، والتفصيل باعتبار الإعلام بعيد جدا، وجوز الطبرسي أن يراد بالموصول المسلمون من هذه الأمة وضمير بِهِ للقرآن، ولا يخفى ما فيه، ولعل الأظهر كون المراد به علماء أهل الكتابين الحريون بأن ينسب إليهم إيتاء الكتاب كعبد الله بن سلام، وأضرابه، ولا بعد في كون الآيات مكية بناء على ما سمعت، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن إيمانهم به مترتب على إنزاله على الوجه المذكور وَمِنْ هؤُلاءِ أي ومن العرب أو من أهل مكة على أن المراد بالموصول عبد الله، واضرابه، أو ممن في عصره صلى الله تعالى عليه وسلم من اليهود والنصارى على أن المراد به من تقدم مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ أي بالكتاب الذي أنزل إليك، وَمِنْ على ما استظهره بعضهم تبعيضية واقعة موقع المبتدأ وله نظائر في الكتاب الكريم وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا أي وَما يَجْحَدُ به، وأقيم هذا الظاهر مقام الضمير للتنبيه على ظهور دلالة الكتاب على ما فيه وكونه من عند الله عزّ وجلّ، والإضافة إلى نون العظمة لمزيد التفخيم، وفيما ذكر غاية التشنيع على من يجحد به. والجحد كما قال الراغب: نفي ما في القلب ثباته وإثبات ما في القلب نفيه، وفسر هنا بالإنكار عن علم فكأن قيل: وما ينكر آياتنا مع العلم بها إِلَّا الْكافِرُونَ أي المتوغلون في الكفر المصممون عليه فإن ذلك يمنعهم عن الإقرار والتسليم، وقيل: يجوز أن يفسر بمطلق الإنكار، ويراد بالكافرين المتوغلون في الكفر أيضا لدلالة فحوى الكلام، والتعبير بآياتنا على ذلك أي وما ينكر آياتنا مع ظهورها وارتفاع شأنها إلا المتوغلون في الكفر لأن ذلك يصدهم عن الاعتناء بها والالتفات إليها والتأمل فيها يؤديهم إلى معرفة حقيقتها، والمراد بهم من اتصف بتلك الصفة من غير قصد إلى معين، وقيل: هم كعب بن الأشرف، وأصحابه. وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ أي وما كنت من قبل أنزلنا إليك الكتاب تقدر على أن تتلو مِنْ كِتابٍ أي كتابا على أن مِنْ صلة وَلا تَخُطُّهُ ولا تقدر على أن تخطه بِيَمِينِكَ أو ما كانت عادتك أن تتلوه ولا تخطه، وذكر اليمين زيادة تصوير لما نفى عنه صلى الله تعالى عليه وسلم من الخط فهو مثل العين في قولك: نظرت بعيني في تحقيق الحقيقة وتأكيدها حتى لا يبقى للمجاز مجاز إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ أي لو كنت ممن يقدر على التلاوة والخط أو ممن يعتادهما لارتاب مشركو مكة وقالوا: لعله التقطه من كتب الأوائل، وحيث لم تكن كذلك لم يكن لارتيابهم وجه، وكأن احتمال التعلم مما لم يلتفت إليه لظهور أن مثله من الكتاب المفصل الطويل لا يتلقى ويتعلم إلا في زمان طويل بمدارسة لا يخفى مثلها، ووصف مشركي مكة بالإبطال باعتبار ارتيابهم وكفرهم وهو عليه الصلاة والسلام أمي فكأنه قيل: إذن لارتاب هؤلاء المبطلون الآن وكان إذ لارتيابهم وجه، وقيل: وصفهم بذلك باعتبار ارتيابهم، وهو صلى الله تعالى عليه وسلم أمي وباعتبار ارتيابهم وهو عليه الصلاة والسلام ليس بأميّ أما كونهم مبطلين الجزء: 11 ¦ الصفحة: 5 بالاعتبار الأول فظاهر، وأما كونهم كذلك بالاعتبار الثاني فلأن غاية ما يلزم من عدم أميته صلّى الله عليه وسلم انتفاء أحد وجوه الإعجاز، ويكفي الباقي في الغرض فيكون المرتاب مبطلا كالمرتاب في نبوة الأنبياء الذين لم يكونوا أميين وصحة ما جاؤوا به. والأول أظهر، وكون المراد بالمبطلين مشركي مكة هو المروي عن مجاهد، وقال قتادة: هم أهل الكتاب أي لو كنت تتلو من قبل أو تخط لارتاب أهل الكتاب لأن نعتك في كتابهم أمي، ووصفهم بالإبطال قيل: باعتبار ارتيابهم وهو عليه الصلاة والسلام أمي كما هو الواقع، وإلا فهم ليسوا بمبطلين في ارتيابهم على فرض عدم كونه صلى الله تعالى عليه وسلم أميا، وفي الكشف هذا فرض وتمثيل دلالة على أن مدار الأمر على المعجز، وأن كونه عليه الصلاة والسلام أميا لا يخط ليس مما لا يتم دعواه به، وتلك الدلالة لا تختلف والمنكر مبطل اهـ فتأمل. هذا واختلف في أنه صلى الله تعالى عليه وسلم هل كان بعد النبوة يقرأ ويكتب أم لا؟ فقيل: إنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يحسن الكتابة واختاره البغوي في التهذيب وقال: إنه الأصح، وادعى بعضهم أنه صلى الله تعالى عليه وسلم صار يعلم الكتابة بعد أن كان لا يعلمها وعدم معرفتها بسبب المعجزة لهذه الآية. فلما نزل القرآن واشتهر الإسلام وظهر أمر الارتياب تعرف الكتابة حينئذ، وروى ابن أبي شيبة، وغيره: «ما مات صلى الله تعالى عليه وسلم حتى كتب وقرأ» . ونقل هذا للشعبي فصدقه وقال: سمعت أقواما يقولونه وليس في الآية ما ينافيه، وروى ابن ماجة عن أنس قال: «قال صلى الله تعالى عليه وسلم: رأيت ليلة أسري بي مكتوبا على باب الجنة الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر» والقدرة على القراءة فرع الكتابة ورد باحتمال إقدار الله تعالى إياه عليه الصلاة والسلام عليها بدونها معجزة أو فيه مقدر وهو فسألت عن المكتوب فقيل: إلخ، ويشهد للكتابة أحاديث في صحيح البخاري وغيره كما ورد في صلح الحديبية فأخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الكتاب وليس يحسن يكتب فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله الحديث ، وممن ذهب إلى ذلك أبو ذر عبد بن أحمد الهروي، وأبو الفتح النيسابوري، وأبو الوليد الباجي من المغاربة، وحكاه عن السمناني، وصنف فيه كتابا، وسبقه إليه ابن منية، ولما قال أبو الوليد ذلك طعن فيه ورمي بالزندقة وسب على المنابر ثم عقد له مجلس فأقام الحجة على مدعاة وكتب به إلى علماء الأطراف فأجابوا بما يوافقه، ومعرفة الكتابة بعد أميته صلّى الله عليه وسلم لا تنافي المعجزة بل هي معجزة أخرى لكونها من غير تعليم، وردّ بعض الأجلة كتاب الباجي لما في الحديث الصحيح- إنا أمية لا نكتب ولا نحسب. ، وقال: كل ما ورد في الحديث من قوله: كتب فمعناه أمر بالكتابة كما يقال: كتب السلطان بكذا لفلان، وتقديم قوله تعالى: مِنْ قَبْلِهِ على قوله سبحانه: وَلا تَخُطُّهُ كالصريح في أنه عليه الصلاة والسلام لم يكتب مطلقا وكون القيد المتوسط راجعا لما بعده غير مطرد، وظن بعض الأجلة رجوعه إلى ما قبله وما بعده فقال: يفهم من ذلك أنه عليه الصلاة والسلام كان قادرا على التلاوة والخط بعد إنزال الكتاب ولولا هذا الاعتبار لكان الكلام خلوا عن الفائدة، وأنت تعلم أنه لو سلم ما ذكره من الرجوع لا يتم أمر الإفادة إلا إذا قيل بحجية المفهوم والظان ممن لا يقول بحجيته، ولا يخفى أن قوله عليه الصلاة والسلام: «إنّا أمّة أمّية لا نكتب ولا نحسب» ليس نصا في استمرار نفي الكتابة عنه عليه الصلاة والسلام، ولعل ذلك باعتبار أنه بعث عليه الصلاة والسلام وهو كذا وأكثر من بعث إليهم وهو بين ظهرانيهم من العرب أميون لا يكتبون ولا يحسبون فلا يضر عدم بقاء وصف الأمية في الأكثر بعد، وأما ما ذكر من تأويل كتب بأمر بالكتابة فخلاف الظاهر، وفي شرح صحيح مسلم للنواوي عليه الرحمة نقلا عن القاضي عياض أن قوله في الرواية التي ذكرناها: ولا يحسن يكتب فكتب الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6 كالنص في أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كتب بنفسه فالعدول عنه إلى غيره مجاز لا ضرورة إليه ثم قال: وقد طال كلام كل فرقة في هذه المسألة وشنعت كل فرقة على الأخرى في هذا فالله تعالى أعلم. ورأيت في بعض الكتب ولا أدري الآن أي كتاب هو أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يكن يقرأ ما يكتب لكن إذا نظر إلى المكتوب عرف ما فيه بإخبار الحروف إياه عليه الصلاة والسلام عن أسمائها فكل حرف يخبره عن نفسه أنه حرف كذا وذلك نظير إخبار الذراع إياه صلى الله تعالى عليه وسلم بأنها مسمومة. وأنت تعلم أن مثل هذا لا يقبل بدون خبر صحيح ولم أظفر به بَلْ هُوَ أي القرآن، وهذا إضراب عن ارتيابهم، أي ليس القرآن مما يرتاب فيه لوضوح أمره بل هو آياتٌ بَيِّناتٌ واضحات ثابتة راسخة فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ من غير أن يلتقط من كتاب يحفظونه بحيث لا يقدر على تحريفه بخلاف غيره من الكتب، وجاء في وصف هذه الأمة صدورهم أناجيلهم، وكون ضمير هو للقرآن هو الظاهر، ويؤيده قراءة عبد الله «بل هي آيات بينات» ، وقال قتادة: الضمير للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقرأ «بل هو آية بينة» على التوحيد، وجعله بعضهم له عليه الصلاة والسلام على قراءة الجمع على معنى بل النبي وأموره آيات، وقيل: الضمير لما يفهم من النفي السابق أي كونه لا يقرأ لا يخط آيات بينات في صدور العلماء من أهل الكتاب لأن ذلك نعت النبي عليه الصلاة والسلام في كتابهم، والكل كما ترى، وفي الأخير حمل الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ على علماء أهل الكتاب وهو مروي عن الضحاك والأكثرون على أنهم علماء الصحابة أو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وعلماء أصحابه، وروي هذا عن الحسن وروى بعض الإمامية عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما أنهم الأئمة من آل محمد صلّى الله عليه وسلم وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا مع كونها كما ذكر إِلَّا الظَّالِمُونَ المتجاوزون للحد في الشر والمكابرة والفساد وَقالُوا أي كفار قريش بتعليم بعض أهل الكتاب. وقيل: الضمير لأهل الكتاب لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ مثل ناقة صالح وعصا موسى، وقرأ أكثر أهل الكوفة «آية» على التوحيد قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ ينزلها حسبما يشاء من غير دخل لأحد في ذلك قطعا وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ليس من شأني إلا الإنذار بما أوتيت من الآيات لا الإتيان بما اقترحتموه فالقصر قصر قلب أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ كلام مستأنف وارد من جهته تعالى ردا على اقتراحهم وبيانا لبطلانه والهمزة للإنكار والنفي والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أقصر ولم يكفهم آية مغنية عن سائر الآيات أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ الناطق بالحق المصدق لما بين يديه من الكتب السماوية وأنت بمعزل من مدارستها وممارستها يُتْلى عَلَيْهِمْ تدوم تلاوته عليهم متحدين به فلا يزال معهم آية ثابتة لا تزول ولا تضمحل كما تزول كل آية بعد كونها، وقيل: يُتْلى عَلَيْهِمْ أي أهل الكتاب بتحقيق ما في أيديهم من نعتك ونعت دينك، وله وجه إن كان ضمير قالوا فيما تقدم لأهل الكتاب وأما إذا كان لكفار قريش فلا يخفى ما فيه. إِنَّ فِي ذلِكَ أي الكتاب العظيم الشأن الباقي على ممر الدهور، وقيل: الذي هو حجة بينة لَرَحْمَةً أي نعمة عظيمة وَذِكْرى أي تذكرة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أي همهم الإيمان لا التعنت فالجار والمجرور متعلق بذكرى والفعل مراد به الاستقبال، ويجوز أن يكون رحمة وَذِكْرى مما تنازعا في الجار والمجرور فيجوز أن يكون الفعل للحال، وأخرج الفريابي، والدارمي، وأبو داود في مراسيله، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن يحيى بن جعدة قال: «جاء ناس من المسلمين بكتف قد كتبوا فيها بعض ما سمعوه من اليهود فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: كفى بقوم حمقا أو ضلالة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم فنزلت أَوَلَمْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 7 يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ الآية» . وأخرج الإسماعيلي في معجمه وابن مردويه عن يحيى هذا ما هو قريب مما ذكر مرويا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. ويُؤْمِنُونَ على هذا على ظاهره لا غير، وتعقب بأن السياق والسباق مع الكفرة وإن الظاهر كون أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ الآية جوابا لقولهم: لَوْلا أُنْزِلَ إلخ، وفي جعل سبب النزول ما ذكر خروج عن ذلك فتأمل. وعليه تكون الآية دليلا لمن منع تتبع التوراة ونحوها. وروي هذا المنع عن عائشة رضي الله تعالى عنها. أخرج ابن عساكر عن أبي مليكة قال: أهدى عبد الله بن عامر بن ركن إلى عائشة رضي الله تعالى عنها هدية فظنت أنه عبد الله بن عمرو فردتها وقالت: يتتبع الكتب وقد قال الله تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ فقيل لها: «إنه عبد الله بن عامر فقبلتها» وجاء في عدة أخبار ما يقتضي المنع، أخرج عبد الرزاق في المصنف والبيهقي في شعب الإيمان، عن الزهري أن حفصة جاءت إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بكتاب من قصص يوسف في كتف فجعلت تقرأه عليه والنبي عليه الصلاة والسلام يتلون وجهه فقال: «والذي نفسي بيده لو أتاكم يوسف وأنا بينكم فاتبعتموه وتركتموني ضللتم أنا حظكم من النبيين وأنتم حظي من الأمم» . وأخرج عبد الرزاق والبيهقي أيضا عن أبي قلابة «أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه مرّ برجل يقرأ كتابا فاستمعه ساعة فاستحسنه فقال للرجل: اكتب لي من هذا الكتاب قال: نعم فاشترى أديما فهيأه ثم جاء به إليه فنسخ له في ظهره وبطنه ثم أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فجعل يقرأه عليه وجعل وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم يتلون فضرب رجل من الأنصار الكتاب وقال: «ثكلتك أمك يا ابن الخطاب ألا ترى وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلم منذ اليوم وأنت تقرأ عليه هذا الكتاب فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عند ذلك: إنما بعثت فاتحا وخاتما وأعطيت جوامع الكلم وخواتمه واختصر لي الحديث اختصارا فلا يهلكنكم المتهوكون» أي الواقعون في كل أمر بغير رويّة، وقيل: المتحيرون إلى ذلك من الأخبار، وحقق بعضهم أن المنع إنما هو عند خوف فساد في الدين وذلك مما لا شبهة فيه في صدر الإسلام، وعليه تحمل الأخبار، وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر. قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً أي عالما بما صدر عني من التبليغ والإنذار وبما صدر عنكم من مقابلتي بالتكذيب والإنكار فيجازي سبحانه كلا بما يليق به يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي من الأمور التي من جملتها شأني وشأنكم فهو تقرير لما قبله من كفايته تعالى شهيدا، وجوز أن يكون المعنى كفى به عزّ وجلّ شاهدا بصدقي أي مصدقا لي فيما ادعيته بالمعجزات تصديق الشاهد لدعوى المدعي، وجملة يَعْلَمُ إما صفة شَهِيداً أو حال أو استئناف لتعليل كفايته، وقيل عليه: إن هذا الوجه لا يلائمه قوله تعالى: بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ سواء تعلق بكفى أو بشهيدا ولا قوله سبحانه: يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ إلخ، وفيه تأمل. وقد يؤيد ذلك بما روي أن كعب بن الأشرف، وأصحابه قالوا: يا محمد من يشهد بأنك رسول الله فنزلت قُلْ كَفى الآية إلا أن في القلب من صحة هذه الرواية شيئا لما أن السياق والسباق مع كفرة قريش فلا تغفل. وأيّا ما كان فلا منافاة بين هذه الآية، وقوله تعالى: وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ [البقرة: 23] بناء على أن المعنى لا تستشهدوا بالله تعالى ولا تقولوا الله تعالى يشهد أن ما ندعيه حق كما يقوله العاجز عن إقامة البينة إما لأن الشهيد هاهنا بمعنى العالم والكلام وعد ووعيد، وإما بمعنى المصدق بالمعجزات وليست الشهادة بأحد المعنيين هناك، والباء في بِاللَّهِ زائدة والاسم الجليل فاعل كَفى، وقال الزجاج: «إن الباء دخلت لتضمن كفى معنى اكتف فالباء كما قال اللقاني معدية لا زائدة، قال ابن هشام في المغني: وهو من الحسن بمكان ويصححه قولهم: اتقى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 8 الله تعالى امرؤ فعل خيرا يثب عليه أي ليتق بدليل جزم يثب ويوجبه قولهم: «كفى بهند بترك التاء فإن احتج بالفاصل فهو مجوز لا موجب بدليل وما تسقط من ورقة فإن عورض بأحسن بهند فالتاء لا تلحق صيغ الأمر وإن كان معناها الخبر اهـ» . وتعقب ذلك الشيخ يس الحمصي في حواشيه على التصريح فقال: «أقول تفسير كَفى على هذا القول باكتف غير صحيح إذ فاعل كَفى حينئذ ضمير المخاطب، وكَفى ماض وهو لا يرفع ضمير المخاطب المستتر اهـ وفيه بعد بحث لا يخفى على المتأمل» . وظن بعض الناس أن كَفى على هذا القول اسم فعل أمر يخاطب به المفرد المذكر وغيره نحو حي في حي على الصلاة فالمعنى هنا اكتفوا بالله، وأنت تعلم أن هذا بعيد الإرادة من كلام الزجاج ويأباه كلام ابن هشام، وقال ابن السراج: الفاعل ضمير الاكتفاء، قال ابن هشام: وصحة قوله موقوفة على جواز تعلق الجار بضمير المصدر وهو قول الفارسي، والرماني أجازوا مروري بزيد حسن وهو بعمرو قبيح، وأجاز الكوفيون أعماله في الظرف وغيره، ومنع جمهور البصريين أعماله مطلقا اهـ. وتعقب ذلك ابن الصائغ فقال: لا نسلم توقف الصحة على ذلك لجواز أن تكون الباء للحال، وعليه يكون المعنى كَفى هو أي الاكتفاء حال كونه ملتبسا بالله تعالى، ولا يخفى أنه ما لم يبطل هذا القول لا يتم ما ادعاه ابن هشام من أن ترك التاء في كفى بهند يوجب كون كفى مضمنا معنى اكتف فتدبر وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أي بغير الله عزّ وجلّ وهو شامل لنحو عيسى والملائكة عليهم السلام. والباطل في الحقيقة عبادتهم وليس الباطل هنا مثله في قول حسان: ألا كل شيء ما خلا الله باطل، وقال مقاتل: أي بعبادة الشيطان، وقيل: أي بالصنم وَكَفَرُوا بِاللَّهِ مع تعاضد موجبات الإيمان به عزّ وجلّ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ المغبونون في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالإيمان فاستوجبوا العقاب يوم الحساب، وفي الكلام على ما قيل: استعارة مكنية شبه استبدال الكفر بالإيمان المستلزم للعقاب باشتراء مستلزم للخسران، وفي الخسران استعارة تخييلية هي قرينتها لأن الخسران متعارف في التجارات، وهذا الكلام ورد مورد الإنصاف حيث لم يصرح بأنهم المؤمنون بالباطل الكافرون بالله عزّ وجلّ بل أبرزه في معرض العموم ليهجم به التأمل على المطلوب فهو كقوله تعالى: إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: 24] وكقول حسان: فشركما لخيركما الفداء وهذا من قبيل المجادلة بالتي هي أحسن وَيَسْتَعْجِلُونَكَ أي ويستعجلك كفار قريش بِالْعَذابِ على طريقة الاستهزاء والتعجيز والتكذيب به بقولهم: مَتى هذَا الْوَعْدُ وقولهم: أمطر علينا حجارة أو ائتنا بعذاب ونحو ذلك وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى قد ضربه الله تعالى لعذابهم وسماه وأثبته في اللوح لَجاءَهُمُ الْعَذابُ المعين لهم حسبما استعجلوا به، وقال ابن جبير: المراد بالأجل يوم القيامة لما روي أنه تعالى وعد رسوله صلّى الله عليه وسلم أن لا يعذب قومه بعذاب الاستئصال وأن يؤخر عذابهم إلى يوم القيامة، وقال ابن سلام: المراد به أجل ما بين النفختين، وقيل: يوم بدر، وقيل: وقت فنائهم بآجالهم، وفيه بعد ظاهر لما أنهم ما كانوا يوعدون بفنائهم الطبيعي ولا كانوا يستعجلون به وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ جملة مستأنفة مبنية لما أشير إليه في الجملة السابقة من مجيء العذاب عند حلول الأجل، أي وبالله تعالى لَيَأْتِيَنَّهُمْ العذاب الذي عين لهم عند حلول الأجل بَغْتَةً أي فجأة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي بإتيانه، ولعل المراد بإتيانه كذلك أنه لا يكون بطريق التعجيل عند استعجالهم والإجابة إلى مسؤولهم فإن ذلك إتيان برأيهم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 9 وشعورهم لا أنه يأتيهم وهم قارّون آمنون لا يحظرونه بالبال كدأب بعض العقوبات النازلة على بعض الأمم بياتا وهم نائمون أو ضحى وهم يلعبون لما أن إتيان عذاب الآخرة وعذاب يوم بدر ليس من هذا القبيل قاله بعضهم، وقال آخرون: إتيانه كذلك من حيث إنه غير متوقع لهم وإتيان عذاب الآخرة ونحو كذلك لإنكارهم البعث، وكذا عذاب القبر أو اعتقادهم شفاعة آلهتهم لهم في دفع العذاب عنهم، وكذا إتيان عذاب يوم بدر لأنهم لغرورهم كانوا لا يتوقعون غلبة المسلمين ولا تخطر لهم ببال على ما بين في السير. يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ استئناف مسوق لغاية تجهيلهم وركاكة رأيهم وهو ظاهر في أن ما استعجلوه عذاب الآخرة، وجملة إِنَّ جَهَنَّمَ إلخ في موضع الحال أي يستعجلونك بالعذاب والحال أن محل العذاب الذي لا عذاب فوقه محيط بهم كأنه قيل: يستعجلونك بالعذاب وأن العذاب لمحيط بهم أي سيحيط بهم على إرادة المستقبل من اسم الفاعل، أو كالمحيط بهم الآن لإحاطة الكفر والمعاصي الموجبة إياه بهم على أن في الكلام تشبيها بليغا أو استعارة أو مجازا مرسلا أو تجوزا في الإسناد، وقيل: إن الكفر والمعاصي هي النار في الحقيقة لكنها ظهرت في هذه النشأة بهذه الصورة، والمراد بالكافرين المستعجلون، ووضع الظاهر موضع الضمير للإشعار بعلة الحكم أو جنس الكفرة وهم داخلون فيه دخولا أوليا يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ ظرف لمضمر قد طوي ذكره إيذانا بغاية كثرته وفظاعته كأنه قيل: يوم يأتيهم ويجللهم العذاب الذي أشير إليه بإحاطة جهنم بهم يكون من الأحوال والأهوال ما لا يفي به المقال، وقيل: ظرف لمحيطة على معنى وإن جهنم ستحيط بالكافرين يوم يغشاهم العذاب مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ أي من جميع جهاتهم فما ذكر للتعميم كما في الغدو والآصال، قيل: وذكر الأرجل للدلالة على أنهم لا يقرون ولا يجلسون وذلك أشد العذاب وَيَقُولُ أي الله عزّ وجلّ، وقيل: الملك الموكل بهم. وقرأ ابن كثير وابن عامر والبصريون «ونقول» بنون العظمة وهو ظاهر في أن القائل هو الله تعالى. وقرأ أبو البرهسم «وتقول» بالتاء على أن القائل جهنم، ونسب القول إليها هنا كما نسب في قوله تعالى: وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق: 30] وقرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة «ويقال» مبنيا للمفعول ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي جزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا على الاستمرار من السيئات التي من جملتها الاستعجال بالعذاب. يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ نزلت على ما روي عن مقاتل والكلبي في المستضعفين من المؤمنين بمكة أمروا بالهجرة عنها وعلى هذا أكثر المفسرين، وعمم بعضهم الحكم في كل من لا يتمكن من إقامة أمور الدين كما ينبغي في أرض لممانعة من جهة الكفرة أو غيرهم فقال: تلزمه الهجرة إلى أرض يتمكن فيها من ذلك، وروي هذا عن ابن جبير وعطاء ومجاهد. ومالك بن أنس، وقال مطرف بن الشخير: إن الآية عدة منه تعالى بسعة الرزق في جميع الأرض، وعلى القولين فالمراد بالأرض الأرض المعروفة، وعن الجبائي أن الآية عدة منه عزّ وجلّ بإدخال الجنة لمن أخلص له سبحانه العبادة وفسر الأرض بأرض الجنة، والمعول عليه ما تقدم، والفاء في فَإِيَّايَ فاء التسبب عن قوله تعالى: إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ كما تقول: إن زيدا أخوك فأكرمه وكذلك لو قلت: إنه أخوك فإن أمكنك فأكرمه، و (إياي) معمول لفعل محذوف يفسره المذكور، ولا يجوز أن يكون معمولا له لاشتغاله بضميره وذلك المحذوف جزاء لشرط حذف وعوض عنه هذا المعمول، والفاء في فَاعْبُدُونِ هي الفاء الواقعة في الجزاء إلا أنه لما وجب حذفه جعل المفسر المؤكد له قائما مقامه لفظا وأدخل الفاء عليه إذ لا بد منها للدلالة على الجزاء، ولا تدخل على معمول المحذوف أعني إياي وإن فرض خلوه عن فاء لتمحضه عوضا عن فعل الشرط فتعين الدخول على المفسر وأيضا ليطابق المذكور المحذوف من كل وجه، ولزم أن يقدر الفعل المحذوف الجزء: 11 ¦ الصفحة: 10 العامل في (إياي) مؤخرا لئلا يفوت التعويض عن فعل الشرط مع إفادة ذلك معنى الاختصاص والإخلاص، فالمعنى إن أرضي واسعة فإن لم تخلصوا إلى العبادة في أرض فأخلصوها لي في غيرها، وجعل الشرط إن لم تخلصوا لدلالة الجواب المذكور عليه، ولا منع من أن تكون الفاء الأولى واقعة في جواب شرط آخر ترشيحا للسببية على معنى أن أرضي واسعة وإذا كان كذلك فإن لم تخلصوا لي إلخ، وقيل: الفاء الأولى جواب شرط مقدر وأما الثاني فتكرير ليوافق المفسر، المفسر فيقال حينئذ: المعنى إن أرضي واسعة إن لم تخلصوا لي العبادة في أرض فأخلصوها لي في غيرها، وتكون جملة الشرط المقدرة أعني إن لم تخلصوا إلخ مستأنفة عرية عن الفاء، وما تقدم أبعد مغزى. وجعل بعض المحققين الفاء الثانية لعطف ما بعدها على المقدر العامل في (إياي) قصدا لنحو الاستيعاب كما في خذ الأحسن فالأحسن. وتعقب بأنه حينئذ لا يصلح المذكور مفسر لعدم جواز تخلل العاطف بين مفسر ومفسرا البتة، وأما ما ذكره الإمام السكاكي في قوله تعالى: فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [النحل: 51] من أن الفاء عاطفة والتقدير فإياي ارهبوا فارهبون فإنه أراد به أنها في الأصل كذلك لا في الحال على ما حققه صاحب الكشف، هذا وقد أطالوا الكلام في هذا المقام وقد ذكرنا جملة منه في أوائل تفسير سورة البقرة فراجعه مع ما هنا وتأمل والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ جملة مستأنفة جيء بها حثا على إخلاص العبادة والهجرة لله تعالى حيث أفادت أن الدنيا ليست دار بقاء وأن وراءها دار الجزاء أي كل نفس من النفوس واجدة مرارة الموت ومفارقة البدن البتة فلا بد أن تذوقوه ثم ترجعون إلى حكمنا وجزائنا بحسب أعمالكم فمن كانت هذه عاقبته فلا بد له من التزود والاستعداد، وفي قوله تعالى: ذائِقَةُ الْمَوْتِ استعارة لتشبيه الموت بأمر كريه الطعم مره، والعدول عن تذوق الموت للدلالة على التحقق، وثُمَّ للتراخي الزماني أو الرتبي. وقرأ أبو حيوة «ذائقة» بالتنوين «الموت» بالنصب، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه «ترجعون» مبنيا للفاعل ، وروى عاصم «يرجعون» بياء الغيبة وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ أي لننزلنهم على وجه الإقامة، وجملة القسم وجوابه خبر المبتدأ أعني الَّذِينَ ورد به وبأمثاله على ثعلب المانع من وقوع جملة القسم والمقسم عليه خبرا للمبتدأ، وقوله تعالى: مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً أي علالي وقصورا جليلة لا قصور فيها، وهي على ما روي عن ابن عباس من الدر والزبرجد والياقوت، مفعول ثان للتبوئة. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه، وعبد الله، والربيع بن خيثم، وابن وثاب، وطلحة، وزيد بن علي، وحمزة، والكسائي «لنثوينهم» بالثاء المثلثة الساكنة بعد النون وإبدال الهمزة ياء من الثواء بمعنى الإقامة فانتصاب غُرَفاً حينئذ إما بإجرائه مجرى لننزلنهم فهو مفعول به له أو بنزع الخافض على أن أصله بغرف فلما حذف الجار انتصب أو على أنه ظرف والظرف المكاني إذا كان محدودا كالدار والغرفة لا يجوز نصبه على الظرفية إلا أنه أجري هنا مجرى المبهم توسعا كما في قوله تعالى لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الأعراف: 16] على ما فصل في النحو. وروي عن ابن عامر انه قرأ «غرفا» بضم الراء تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ صفة لغرفا خالِدِينَ فِيها أي في الغرف، وقيل: في الجنة نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ أي الأعمال الصالحة والمخصوص بالمدح محذوف ثقة بدلالة ما قبله عليه أي نعم أجرى العاملين الغرف أو أجرهم، ويجوز كون التمييز محذوفا أي نعم أجرا أجر العاملين، وقرأ ابن وثاب «فنعم» بفاء الترتيب الَّذِينَ صَبَرُوا صفة للعاملين أو خبر مبتدأ محذوف أو نصب على المدح أي صبروا على أذية المشركين وشدائد المهاجرة وغير ذلك من المحن والمشاق وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي ولم يتوكلوا فيما يأتون ويذرون إلا على الله تعالى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 11 وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا لما روي أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أمر المؤمنين الذين كانوا بمكة المهاجرة إلى المدينة قالوا: كيف نقدم بلدة ليس لنا فيها معيشة؟ فنزلت، أي وكم من دابة لا تطيق حمل رزقها لضعفها أو لا تدخره وإنما تصبح ولا معيشة عندها. عن ابن عيينة ليس شيء يخبأ إلا الإنسان والنملة والفأرة، وعن ابن عباس لا يدخر إلا الآدمي والنمل والفأرة والعقعق ويقال للعقعق مخابي إلا أنه ينساها، وعن بعضهم رأيت البلبل يحتكر في حضنيه والظاهر عدم صحته، وذكر لي بعضهم أن أغلب الكوامن من الطير يدخر والله تعالى أعلم بصحته. اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ ثم إنها مع ضعفها وتوكلها وإياكم مع قوتكم واجتهادكم سواء في أنه لا يرزقها وإياكم إلا الله تعالى لأن رزق الكل بأسباب هو عزّ وجلّ المسبب لها وحدة فلا تخافوا على معاشكم بالمهاجرة ولما كان المراد إزالة ما في أوهامهم من الهجرة على أبلغ وجه قيل: يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ دون يرزقكم وإياها وَهُوَ السَّمِيعُ البالغ في السمع فيسمع قولكم هذا الْعَلِيمُ البالغ في العلم فيعلم ما انطوت عليه ضمائركم وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي أهل مكة مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ إذ لا سبيل لهم إلى إنكاره ولا التردد فيه، والاسم الجليل مرفوع على الابتداء والخبر محذوف لدلالة السؤال عليه أو على الفاعلية لفعل محذوف لذلك أيضا فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ إنكار واستبعاد من جهته تعالى لتركهم العمل بموجبه، والفاء للترتيب أو واقعة في جواب شرط مقدر أي إذا كان الأمر كذلك فكيف يصرفون عن الإقرار بتفرده عزّ وجلّ في الألوهية مع إقرارهم بتفرده سبحانه فيما ذكر من الخلق والتسخير. وقدر بعضهم الشرط فإن صرفهم الهوى والشيطان لمكان بناء يُؤْفَكُونَ للمفعول، ولعل ما ذكرناه أولى. اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ أن يبسطه له لا غيره مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ أي يضيق عليه، والضمير عائد على من يَشاءُ الذي يبسط له الرزق أي عائد عليه مع ملاحظة متعلقة فيكون المعنى أنه تعالى شأنه يوسع على شخص واحد رزقه تارة ويضيقه عليه أخرى، والواو لمطلق الجمع فقد يتقدم التضييق على التوسيع أو عائد على من الجزء: 11 ¦ الصفحة: 12 يَشاءُ بقطع النظر عن متعلقه فالمراد من يشاء آخر غير المذكور فهو نظير عندي درهم ونصفه أي نصف درهم آخر، وهذا قريب من الاستخدام، فالمعنى أنه تعالى شأنه يوسع على بعض الناس ويضيق على بعض آخر، وقرأ علقمة «ويقدر» بضم الياء وفتح القاف وشد الدال إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فيعلم أن كلّا من البسط والقدر في أي وقت يوافق الحكمة والمصلحة فيفعل كلا منهما في وقته أو فيعلم من يليق ببسط الرزق فيبسطه له ومن يليق بقدره له فيقدر له، وهذه الآية أعني قوله تعالى: اللَّهُ يَبْسُطُ إلخ تكميل لمعنى قوله سبحانه: اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ لأن الأول كلام في المرزوق وعمومه وهذا كلام في الرزق وبسطه وقترته، وقوله سبحانه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ إلخ معترض لتوكيد معنى الآيتين وتعريض بأن الذين اعتمدتم عليهم في الرزق مقرون بقدرتنا وبقوتنا كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 58] قاله العلامة الطيبي. وقال صاحب الكشف قدس سره: اعترض ليفيد أن الخالق هو الرزاق وأن من أفاض ابتداء وأوجد أولى أن يقدر على الإبقاء وأكد به ما ضمن في قوله عزّ وجلّ: وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ معترفين بأنه عزّ وجلّ الموجد للممكنات بأسرها أصولها وفرعها ثم إنهم يشركون به سبحانه بعض مخلوقاته الذي لا يكاد يتوهم منه القدرة على شيء ما أصلا قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على إظهار الحجة واعترافهم بما يلزمهم، وقيل: حمده عليه الصلاة والسلام على العصمة مما هم عليه من الضلال حيث أشركوا مع اعترافهم بأن أصول النعم وفروعهما منه جلّ جلاله فيكون كالحمد عند رؤية المبتلى، وقيل: يجوز أن يكون حمدا على هذا وذاك بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ما يقولون وما فيه من الدلالة على بطلان الشرك وصحة التوحيد أو لا يعقلون شيئا من الأشياء فلذلك لا يعملون بمقتضى قولهم هذا فيشركون به سبحانه أخس مخلوقاته، قيل: إضراب عن جهلهم الخاص في الإتيان بما هو حجة عليهم إلى أن ذلك لأنهم مسلوبو العقول فلا يبعد عنهم مثله، وقوله تعالى: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ معترض وجعله الزمخشري في سورة لقمان إلزاما وتقريرا لاستحاقه تعالى العبادة، وقيل: لا يَعْقِلُونَ ما تريد بتحميدك عند مقالهم ذلك، ولم يرتضه بعض المحققين لخفائه وقلة جدواه وتكلف توجيه الإضراب فيه. وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إشارة تحقير وكيف لا والدنيا لا تزن عند الله تعالى جناح بعوضة، فقد أخرج الترمذي عن سهل بن سعد قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لو كانت الدنيا تعدل عند الله تعالى جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء» . وقال بعض العارفين: الدنيا أحقر من ذراع خنزير ميت بال عليها كلب بيد مجذوم، ويعلم مما ذكر حقارة ما فيها من الحياة بالطريق الأولى إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ أي إلّا كما يلهو ويلعب به الصبيان يجتمعون عليه ويبتهجون به ساعة ثم يتفرقون عنه، وهذا من التشبيه البليغ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ أي لهي دار الحياة الحقيقية إذ لا يعرض الموت والفناء لمن فيها أو هي ذاتها حياة للمبالغة، والْحَيَوانُ مصدر حي سمي به ذو الحياة في غير هذا المحل، وأصله حييان فقلبت الياء الثانية واوا على خلاف القياس فلامه ياء وإلى ذلك ذهب سيبويه. وقيل: إن لامه واو نظرا إلى ظاهر الكلمة وإلى حياة علم رجل، ولا حجة على كونه ياء في حي لأن الواو في مثله تبدل ياء لكسر ما قبلها نحو شقي من الشقوة، وهو أبلغ من الحياة لما في بناء فعلان من معنى الحركة والاضطراب اللازم للحياة ولذلك اختير عليها في هذا المقام المقتضى للمبالغة وقد علمتها في وصف الحياة الدنيا المقابلة للدار الآخرة لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ شرط جوابه محذوف أي لو كانوا يعلمون لما داروا عليها الدنيا التي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 13 أصلها عدم الحياة، ثم ما يحدث فيها من الحياة عارضة سريعة الزوال وشيكة الاضمحلال وكون لَوْ للتمني بعيد فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ متصل بما دلّ عليه شرح حالهم، والركوب الاستعلاء على الشيء المتحرك وهو متعد بنفسه كما في لِتَرْكَبُوها [النحل: 8] واستعماله هاهنا وفي أمثاله نفي للإيذان بأن المركوب في نفسه من قبيل الأمكنة وحركته قسرية غير إرادية، والفاء للتعقب وفي الكلام معنى الغاية فكأنه قيل: هم مصروفون عن توحيد الله تعالى مع إقرارهم بما يقتضيه لاهون بما هو سريع الزوال ذاهلون عن الحياة الأبدية حتى إذا ركبوا في الفلك ولقوا الشدائد دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي كائنين في صورة من أخلص دينه وملته أو طاعته من المؤمنين حيث لا يذكرون إلّا الله تعالى ولا يدعون سواه سبحانه لعلمهم بأنه لا يكشف الشدائد إلّا هو عزّ وجلّ وفيه تهكم به سواء أريد بالدين الملة أو الطاعة أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فلأنهم لا يستمرون على هذه الحال فهي قبيحة باعتبار المآل فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ أي فاجؤوا المعاودة إلى الشرك ولم يتأخروا عنها ولا وقتا. لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا الظاهر أن اللام في الموضعين لام كي أي يشركون ليكونوا كافرين بما آتيناهم من نعمة النجاة بسبب شركهم وليتمتعوا باجتماعهم على عبادة الأصنام وتوادهم عليها فالشرك سبب لهذا الكفران، وأدخلت لام كي على مسببه لجعله كالغرض لهم منه فهي لام العاقبة في الحقيقة، وقيل: اللام فيهما لام الأمر والأمر بالكفران والتمتع مجاز في التخلية والخذلان والتهديد كما تقول عند الغضب على من يخالفك: افعل ما شئت، ويؤيده قراءة ابن كثير، والأعمش، وحمزة، والكسائي «وليتمتعوا» بسكون اللام فإن لام كي لا تسكن، وإذا كانت الثانية لذلك لام الأمر فالأولى مثلها ليتضح العطف، وتخالفهما محوج الى التكلف بأن يكون المراد كما قال أبو حيان عطف كلام على كلام لا عطف فعل على فعل، وقوله تعالى: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أي عاقبة ذلك حين يعاقبون عليه يوم القيامة مؤيد للتهديد أَوَلَمْ يَرَوْا ألم ينظروا ولم يشاهدوا أَنَّا جَعَلْنا أي بلدهم حَرَماً مكانا حرم فيه كثير مما ليس بمحرم في غيره من المواضع آمِناً أهله عما يسوءهم من السبي والقتل على أن أمنه كناية عن أمن أهله أو على أن الإسناد مجازي أو على أن في الكلام مضافا مقدرا، وتخصيص أهل مكة وأن أمن كل من فيه حتى الطيور والوحوش لأن المقصود الامتنان عليهم ولأن ذلك مستمر في حقهم. وأخرج جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أن أهل مكة قالوا: يا محمد ما يمنعنا أن ندخل في دينك إلا مخافة أن يتخطفنا الناس لقلتنا والعرب أكثر منّا فمتى بلغهم أنّا قد دخلنا في دينك اختطفنا فكلنا أكلة رأس فأنزل الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ يختلسون من حولهم قتلا وسبيا إذا كانت العرب حوله في تغاور وتناهب. والظاهر أن الجملة حالية بتقدير مبتدأ أي وهم يتخطف إلخ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ أن أبعد ظهور الحق الذي لا ريب فيه أو أبعد هذه النعمة المكشوفة وغيرها بالصنم، وقيل: بالشيطان يؤمنون وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ وهي المستوجبة للشكر حيث يشركون به تعالى غيره سبحانه، وتقديم الصلة في الموضعين للاهتمام بها لأنها مصب الإنكار أو للاختصاص على طريق المبالغة لأن الإيمان إذا لم يكن خاصا لا يعتد به ولأن كفران غير نعمته عزّ وجلّ بجنب كفرانها لا يعد كفرانا. وقرأ السلمي، والحسن «تؤمنون» و «تكفرون» بتاء الخطاب فيهما وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن زعم أن له سبحانه شريكا وكونه كذبا على الله تعالى لأنه في حقه فهو كقولك: كذب على زيد إذا وصفه بما ليس فيه أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ يعني الرسول أو الكتاب لَمَّا جاءَهُ أي حين مجيئه إياه، وفيه تسفيه لهم حيث لم يتأملوا ولم يتوقفوا حين جاءهم بل سارعوا إلى التكذيب أول ما سمعوه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 14 أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ أي ثواء وإقامة لهم أو مكان يثوون فيه ويقيمون، والكلام على كلا الوجهين تقرير لثوائهم في جهنم لأن الاستفهام فيه معنى النفي وقد دخل على نفي ونفي النفي إثبات كما في قول جرير: ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح أي ألا يستوجبون الثواء أو المكان الذي يثوى فيه فيها وقد افتر وأمثل هذا الكذب على الله تعالى وكذبوا بالحق مثل هذا التكذيب أو إنكار واستبعاد لاجترائهم على ما ذكر من الافتراء والتكذيب مع علمهم بحال الكفرة أي ألم يعلموا أن في جهنم مثوى للكافرين حتى اجترءوا هذه الجرأة، وجعلهم عالمين بذلك لوضوحه وظهوره فنزلوا منزلة العالم به، والتعريف في (الكافرين) على الأول للعهد فالمراد بهم أولئك المحدث عنهم وهم أهل مكة، وأقيم الظاهر مقام الضمير لتعليل استيجابهم المثوى، ولا ينافي كون ظاهره أن العلة افتراؤهم وتكذيبهم لأنه لا يغايره والتعليل يقبل التعدد، وعلى الثاني للجنس فالمراد مطلق جنس الكفرة ويدخل أولئك فيه دخولا أوليا برهانيا وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا في شأننا ومن أجلنا ولوجهنا خالصا ففيه مضاف مقدر، وقيل: لا حاجة إلى التقدير بحمل الكلام على المبالغة بجعل ذات الله سبحانه مستقرا للمجاهدة وأطلقت المجاهدة لتعم مجاهدة الأعادي الظاهرة والباطنة بأنواعهما لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا سبل السير إلينا والوصول إلى جنابنا، والمراد نزيدنهم هداية إلى سبل الخير وتوفيقا لسلوكها فإن الجهاد هداية أو مرتب عليها، وقد قال تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [محمد: 17] وفي الحديث «من عمل بما علم ورثه الله تعالى علم ما لم يعلم» . ومن الناس من أول جاهَدُوا: بأرادوا الجهاد وأبقى لَنَهْدِيَنَّهُمْ على ظاهره، وقال السدي: المعنى والذين جاهدوا بالثبات على الإيمان لنهدينهم سبلنا إلى الجنة، وقيل: المعنى والذين جاهدوا في الغزو لنهدينهم سبل الشهادة والمغفرة، وما ذكر أولا أولى، والموصول مبتدأ وجملة القسم وجوابه خبره نظير ما مر من قوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً [العنكبوت: 58] . وَإِنَّ اللَّهَ المتصف بجميع صفات الكمال الذي بلغت عظمته في القلوب ما بلغت لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ معية النصرة والمعونة وتقدم الجهاد المحتاج لهما قرينة قوية على إرادة ذلك، وقال العلامة الطيبي: إن قوله تعالى: لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ قد طابق قوله سبحانه: جاهَدُوا لفظا ومعنى، أما اللفظ فمن حيث الإطلاق في المجاهدة والمعية، وأما المعنى فالمجاهد للأعداء يفتقر إلى ناصر ومعين، ثم إن جملة قوله عزّ وجلّ: إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ تذييل للآية مؤكد بكلمتي التوكيد محلى باسم الذات ليؤذن بأن من جاهد بكليته وشراشره في ذاته جلّ وعلا تجلى له الرب عزّ اسمه الجامع في صفة النصرة والإعانة تجليا تاما، ثم إن هذه خاتمة شريفة للسورة لأنها مجاوبة لمفتتحها ناظرة الى فريدة قلادتها أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت: 2] لامحة الى واسطة عقدها يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [العنكبوت: 56] وهي في نفسها جامعة فاذة اهـ. و (أل) في المحسنين يحتمل أن تكون للعهد فالمراد بالمحسنين الذين جاهدوا، ووجه إقامة الظاهر مقام الضمير ظاهر وإلى ذلك ذهب الجمهور، ويحتمل أن يكون للجنس فالمراد بهم مطلق جنس من أتى بالأفعال الحسنة ويدخل أولئك دخولا أوليا برهانيا. وقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه فسر الْمُحْسِنِينَ بالموحدين وفيه تأييد ما للاحتمال الثاني والله تعالى أعلم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 15 ومن باب الإشارة في الآيات أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا الآية قال ابن عطاء: ظن الخلق أنهم يتركون مع دعاوى المحبة ولا يطالبون بحقائقها وهي صب البلاء على المحب وتلذذه بالبلاء الظاهر والباطن، وهذا كما قال العارف ابن الفارض قدس سره: وتعذيبكم عذب لديّ وجوركم ... علي بما يقضي الهوى لكم عدل وذكروا أن المحبة والمحنة توأمان «وبالامتحان يكرم الرجل أو يهان» وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ إشارة إلى حال الكاذبين في دعوى المحبة وهم الذين يصرفون عنها بأذى الناس لهم إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ قال ابن عطاء: أي اطلبوا الرزق بالطاعة والإقبال على العبادة، وقال سهل: اطلبوه في التوكل لا في المكسب فإن طلب الرزق فيه سبيل العوام وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي أي مهاجر من نفسي ومن الكون إليه عزّ وجلّ، وقال ابن عطاء: أي راجع إلى ربي من جميع ما لي وعليّ، والرجوع إليه عزّ وجلّ بالانفصال عما دونه سبحانه، ولا يصح لأحد الرجوع إليه تعالى وهو متعلق بشيء من الكون بل لا بد أن ينفصل من الأكوان أجمع وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ سئل الجنيد قدس سره عن هذه الآية فقال: كل شيء يجتمع الناس عليه إلا الذكر فهو منكر مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ أشار سبحانه وتعالى إلى من اعتمد على غير الله عزّ وجلّ في أسباب الدنيا والآخرة فهو منقطع عن مراده غير واصل إليه، قال ابن عطاء: من اعتمد شيئا سوى الله تعالى كان هلاكه في نفس ما اعتمد عليه، ومن اتخذ سواه عزّ وجلّ ظهيرا قطع عن نفسه سبيل العصمة ورد إلى حوله وقوته. وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ فيه إشارة إلى أن دقائق المعارف لا يعرفها إلا أصحاب الأحوال العالمون به تعالى وبصفاته وسائر شؤونه سبحانه لأنهم علماء المنهج، وذكر أن العالم على الحقيقة من يحجزه علمه عن كل ما يبيحه العلم الظاهر، وهذا هو المؤيد عقله بأنوار العلم اللدني إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ذكر أن حقيقة الصلاة حضور القلب بنعت الذكر والمراقبة بنعت الفكر فالذكر في الصلاة يطرد الغفلة التي هي الفحشاء والفكر يطرد الخواطر المذمومة وهي المنكر، هذا في الصلاة وبعدها تنهى هي إذا كانت صلاة حقيقية وهي التي انكشف فيها لصاحبها جمال الجبروت وجلال الملكوت وقرت عيناه بمشاهدة أنوار الحق جلّ وعلا عن رؤية الأعمال والأعواض، وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: الصلاة إذا كانت مقبولة تنهى عن مطالعات الأعمال والأعواض وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ قال ابن عطاء: أي ذكر الله تعالى لكم أكبر من ذكركم له سبحانه لأن ذكره تعالى بلا علة وذكركم مشوب بالعلل والأماني والسؤال، وأيضا ذكره تعالى صفته وذكركم صفتكم ولا نسبة بين صفة الخالق جل شأنه وبين صفة المخلوق وأين التراب من رب الأرباب بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ فيه إشارة إلى أن عرائس حقائق القرآن لا تنكشف إلا لأرواح المقربين من العارفين والعلماء الربانيين لأنها أماكن أسرار الصفات وأوعية لطائف كشوف الذات، قال الصادق على آبائه وعليه السلام: لقد تجلى الله تعالى في كتابه لعباده ولكن لا يبصرون يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ قال سهل: إذا عمل بالمعاصي والبدع في أرض فاخرجوا منها إلى أرض المطيعين، وكأن هذا لئلا تنعكس ظلمة معاصي العاصين على قلوب الطائعين فيكسلوا عن الطاعة، وذكروا أن سفر المريد سبب للتخلية والتحلية، وإليه الإشارة بما أخرجه الطبراني والقضاعي، والخطيب، والشيرازي في الألقاب، والخطيب وابن النجار، والبيهقي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما الجزء: 11 ¦ الصفحة: 16 قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: سافروا تصحوا وتغنموا كل نفس ذائقة الموت فلا يمنعنكم خوف الموت من السفر وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ فلا يمنعنكم عنه فقد الزاد أو العجز عن حمله وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا قال ابن عطاء: أي الذين جاهدوا في رضانا لنهدينهم إلى محل الرضا، والمجاهدة كما قال: الافتقار الى الله تعالى بالانقطاع عن كل ما سواه، وقال بعضهم: أي الذين شغلوا ظواهرهم بالوظائف لنوصلن أسرارهم إلى اللطائف، وقيل: أي الذين جاهدوا نفوسهم لأجلنا وطلبا لنا لنهدينهم سبل المعرفة بنا والوصول إلينا، ومن عرف الله تعالى عرف كل شيء ومن وصل إليه هان عنده كل شيء، كان عبد الله بن المبارك يقول: من اعتاصت عليه مسألة فليسأل أهل الثغور عنها لقوله تعالى: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وجهاد النفس هو الجهاد الأكبر نسأل الله تعالى التوفيق لما يحب ويرضى والحفظ التام من كل شر بحرمة حبيبه سيد البشر صلى الله تعالى عليه وسلم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 17 سورة الروم مكية كما روي عن ابن عباس، وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم بل قال ابن عطية، وغيره: لا خلاف في مكيتها ولم يستثنوا منها شيئا، وقال الحسن: هي مكية إلا قوله تعالى: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ [الروم: 17] الآية وهو خلاف مذهب الجمهور والتفسير المرضي كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه، وآيها ستون وعند بعض تسع وخمسون، ووجه اتصالها بالسورة السابقة على ما قاله الجلال السيوطي أنها ختمت بقوله تعالى: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [العنكبوت: 69] وافتتحت هذه بوعد من غلب من أهل الكتاب بالغلبة والنصر وفرح المؤمنين بذلك وأن الدولة لأهل الجهاد فيه ولا يضرهم ما وقع لهم قبل ذلك من هزيمة، هذا مع تواخيها لما قبلها في الافتتاح- بالم- ولا يخفى أن قتال أهل الكتاب ليس من المجاهدة في الله عزّ وجلّ وبذلك تضعف المناسبة، ومن وقف على أخبار سبب النزول ظهر له أن ما افتتحت به هذه السورة متضمنا نصرة المؤمنين بدفع شماتة أعدائهم المشركين وهم لم يزالوا مجاهدين في الله تعالى ولأجله ولوجهه عزّ وجلّ ولا يضر عدم جهادهم بالسيف عند النزول، وهذا في المناسبة أوجه فيما أرى من الوجه الذي ذكره الجلال فتأمل. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 18 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم الكلام فيه كالذي مرّ في أمثاله من الفواتح الكريمة غُلِبَتِ الرُّومُ هي قبيلة عظيمة من ولد رومي بن يونان بن علجان بن يافث نوح عليه السلام وقيل: من ولد يافان بن يافث، وقيل: من ولد رعويل بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام، وقال الجوهري: من ولد روم بن عيص المذكور صارت لها وقعة مع فارس على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فغلبتها وقهرتها فارس فِي أَدْنَى الْأَرْضِ أي أقربها. والمراد بالأرض أرض الروم على أن (أل) نائبة مناب الضمير المضاف إليه والأقربية بالنظر إلى أهل مكة لأن الكلام معهم أو المراد بها أرض مكة ونواحيها لأنها الأرض المعهودة عندهم والأقربية بالنظر إلى الروم أو المراد بالأرض أرض الروم لذكرهم والأقربية بالنظر إلى عدوهم أعني فارس لحديث المغلوبية، وقد جاء من طرق عديدة أن الحرب وقع بين أذرعات وبصرى، وقال ابن عباس، والسدي: بالأردن وفلسطين، وقال مجاهد: بالجزيرة يعني الجزيرة العمرية لا جزيرة العرب، وجعل كل قول موافقا لوجه من الأوجه الثلاثة على الترتيب، وصحح ابن حجر القول الأول. وقرأ الكلبي «في أداني الأرض» وَهُمْ أي الروم مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ أي غلب فارس إياهم على أنه مصدر مضاف إلى مفعوله أو إلى نائب فاعله إن كان مصدر المجهول ورجحه بعضهم بموافقته للنظم الجليل. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه، وابن عمر رضي الله تعالى عنهما، ومعاوية بن قرة «غلبهم» بسكون اللام، وعن أبي عمرو أنه قرأ «غلابهم» على وزن كتاب والكل مصادر غلب، والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى: سَيَغْلِبُونَ وفي ذلك تأكيد لما يفهم من السين ولكون مغلوبهم من كان غالبهم، وفي بناء الجملة على الضمير تقوية للحكم أي سيغلبون فارس البتة، وقوله تعالى: فِي بِضْعِ سِنِينَ متعلق بسيغلبون أيضا. والبضع ما بين الثلاث إلى العشرة عن الأصمعي، وفي المجمل ما بين الواحد: إلى التسعة، وقيل: «هو ما فوق الجزء: 11 ¦ الصفحة: 19 الخمس ودون العشر» وقال المبرد: ما بين العقدين في جميع الأعداد. روي أن فارس غزوا الروم فوافوهم بأذرعات وبصرى فغلبوا عليهم فبلغ ذلك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه وهم بمكة فشق ذلك عليهم وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يكره أن يظهر الأميون من المجوس على أهل الكتاب من الروم وفرح الكفار بمكة وشمتوا فلقوا أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا: إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب وأنكم قاتلتمونا لنظهرن عليكم الله فأنزل الله تعالى الم غُلِبَتِ الرُّومُ الآيات فخرج أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى الكفار فقال: أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا فلا تفرحوا ولا يفرسنّ الله تعالى عينكم فو الله ليظهرنّ الروم على فارس أخبرنا بذلك نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم فقام إليه أبيّ بن خلف فقال: كذبت فقال له: أبو بكر رضي الله تعالى عنه: أنت أكذب يا عدو الله تعالى أنا حبك (1) عشر قلائص مني وعشر قلائص منك فإن ظهرت الروم على فارس غرمت وإن ظهرت فارس غرمت إلى ثلاث سنين فناحبه ثم جاء أبو بكر إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره فقال عليه الصلاة والسلام: ما هكذا ذكرت إنما البعض ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الخطر ومادّه في الأجل فخرج أبو بكر فلقي أبيا فقال: لعلك ندمت؟ قال: لا تعال أزايدك في الخطر وأمادك في الأجل فاجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين قال: قد فعلت فلما أراد أبو بكر الهجرة طلب منه أبيّ كفيلا بالخطر إن غلب فكفل به ابنه عبد الرحمن فلما أراد أبي الخروج إلى أحد طلبه عبد الرحمن بالكفيل فأعطاه كفيلا ومات أبي من جرح جرحه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وظهرت الروم على فارس لما دخلت السنة السابعة. وجاء في الروايات أنهم ظهروا عليهم يوم الحديبية ، وأخرج الترمذي وحسنه أنه لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأخذ أبو بكر رضي الله تعالى عنه الخطر من ورثة أبي وجاء به إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: تصدق به ، وفي رواية أبي يعلى، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وابن عساكر عن البراء بن عازب أنه عليه الصلاة والسلام قال: «هذا السحت تصدق به» . واستشكل بأنه إن كان ذلك قبل تحريم القمار كما أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن قتادة، والترمذي وصححه عن نيار بن مكرم السلمي وهو الظاهر لأن السورة مكية وتحريم الخمر والميسر من آخر القرآن نزولا فما وجه كونه سحتا؟ وإن كان بعد التحريم فكيف يؤمر بالتصدق بالحرام الغير المختلط بغيره وصاحبه معلوم وفي مثل ذلك يجب رد المال عليه، فإن قيل: إنه مال حربي والحادثة وقعت بمكة وهي قبل الفتح دار حرب والعقود الفاسدة تجوز فيها عند أبي حنيفة ومحمد عليهما الرحمة لم يظهر قوله سحتا، وكأني بك تمنع صحة هذه الرواية وإذا لم تثبت صحتها يبقى الأمر بالتصدق، وحينئذ يجوز أن يكون لمصلحة رآها رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو تصدق بحلال أما إذا كان ذلك قبل تحريم القمار كما هو المعول عليه فظاهر، وأما إن كان بعد التحريم فلأن أبا حنيفة، ومحمدا قالا بجواز العقود الفاسدة في دار الحرب بين المسلمين والكفار واحتجا على صحة ذلك بما وقع من أبي بكر في هذه القصة، وقد تظافرت الروايات أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم ينكر عليه المناحبة وإنما أنكر عليه التأجيل بثلاث سنين وأرشده إلى أن يزايدهم، وربما يقال على تقدير الصحة: إن السحت ليس بمعنى الحرام بل بمعنى ما يكون سببا للعار والنقص في المروءة حتى كأنه يسحتها أي يستأصلها كما في قوله صلّى الله عليه وسلم: «كسب الحجام سحت» فقد قال الراغب: إن هذا لكونه ساحتا للمروءة لا للدين فكأنه صلّى الله عليه وسلم رأى أن تمول ذلك وإن كان حلالا مخل بمروءة أبي بكر رضي الله   (1) قوله أناحبك أي أراهنك اهـ منه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 20 تعالى عنه فأطلق عليه السحت، ولا يأبى ذلك إذنه عليه الصلاة والسلام في المناحبة لما أنها لا تضر بالمروءة أصلا وفيها من إظهار اليقين بصدق ما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلم ما فيها وكان عليه الصلاة والسلام على ثقة من صلاح الصديق رضي الله تعالى عنه وأنه إذا أمره بالتصدّق بما يأخذه ونهاه عن تموله لم يخالفه، وقيل: السحت هنا بمعنى ما لا شيء على من استهلكه وهو أحد إطلاقاته كما في النهاية، والمراد هذا الذي لا شيء عليك إذا استهلكته وتصرفت فيه حسبما تشاء تصدق به كأنه عليه الصلاة والسلام بعد أن أخبر الصديق رضي الله تعالى عنه بأنه لا مانع له من التصرف فيه حسبما يريد أرشده إلى ما هو الأولى والأحرى فقال: تصدق به ، وهو كما ترى، وقيل: إن السحت كما في النهاية يرد في الكلام بمعنى الحرام مرة وبمعنى المكروه أخرى ويستدل على ذلك بالقرائن فيجوز أن يكون في الخبر إذا صح فيه بمعنى المكروه إذ الأمر بالتصدق يمنع أن يكون بمعنى الحرام فيتعين كونه بمعنى المكروه، وفيه نظر، وأما تفسير السحت بالحرام والتزام القول بجواز التصدق بالحرام لهذا الخبر فمما لا يلتفت إليه أصلا فتأمل. وكانت كلتا الغلبتين في سلطنة خسرو برويز، قال في روضة الصفا ما ترجمته: إنه لما مضى من سلطنة خسرو أربعة عشر سنة غدر الروميون بملكهم وقتلوه مع ابنه بناطوس وهرب ابنه الآخر إلى خسرو فجهز معه ثلاثة رؤساء أولى قدر رفيع مع عسكر عظيم فدخلوا بلاد الشام وفلسطين وبيت المقدس وأسروا من فيها من الأساقفة وغيرهم وأرسلوا إلى خسرو الصليب الذي كان مدفونا عندهم في تابوت من ذهب وكذلك استولوا على الإسكندرية وبلاد النوبة إلى أن وصلوا إلى نواحي القسطنطينية وأكثروا الخراب وجهدوا على إطاعة الروميين لابن قيصر فلم تحصل، قيل: إن الروميين جعلوا عليهم حاكما شخصا اسمه هرقل وكان سلطانا عادلا يخاف الله تعالى فلما رأى تخريب فارس قد شاع في بلاد الروم من النهب والقتل تضرع وبكى وسأل الله تعالى تخليص الروميين فصادف دعاؤه هدف الإجابة فرأى في ليالي متعددة في منامه أنه قد جيء إليه بخسرو في عنقه سلسلة، وقيل له: عجل بمحاربة برويز لأنه يكون لك الظفر والنصرة فجمع هرقل عسكره بسبب تلك الرؤيا وتوجه من قسطنطينية إلى نصيبين فسمع خسرو فجهز اثني عشر ألفا مع أمير من أمرائه فقابلهم هرقل فكسرهم وقتل منهم تسعة آلاف مع رؤسائهم. وفي بعض الروايات أنهم ربطوا خيولهم بالمدائن، ورأيت في بعض الكتب أن سبب ظهور الروم على فارس أن كسرى بعث إلى أميره شهريار وهو الذي ولاه على محاربة الروم أن اقتل أخاك فرخان لمقالة قالها وهو قوله: لقد رأيتني جالسا على سرير كسرى فلم يقتله فبعث إلى فارس إني قد عزلت شهريار ووليت أخاه فرخان فاطلع فرخان على حقيقة الحال فرد الملك إلى أخيه وكتب شهريار إلى قيصر ملك الروم فتعاونا على كسرى فغلبت الروم فارس وجاء الخبر ففرح المسلمون وكان ذلك من الآيات البينات الباهرة الشاهدة بصحة النبوة وكون القرآن من عند الله عزّ وجلّ لما في ذلك من الإخبار عن الغيب الذي لا يعلمه الله تعالى العليم الخبير، وقد صح أنه أسلم عند ذلك ناس كثير. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه، وابن عباس، وابن عمر، وأبو سعيد الخدري، والحسن، ومعاوية بن قرة «غلبت الروم» على البناء للفاعل وسَيَغْلِبُونَ على البناء للمفعول، والمعنى على ما قيل: إن الروم غلبوا على ريف الشام وسيغلبهم المسلمون وقد غزاهم المسلمون في السنة التاسعة من نزول الآية ففتحوا بعض بلادهم، وإضافة «غلب» عليه من إضافة المصدر إلى الفاعل، ووفق بين القراءتين بأن الآية نزلت مرتين مرة بمكة على قراءة الجمهور ومرة يوم بدر كما رواه الترمذي وحسنه عن أبي سعيد على هذه القراءة. وقال بعض الأجلة: الصواب أن يبقى نزولها على ظاهره ويراد بغلب المسلمين إياهم ما كان في غزوة مؤتة وكانت في جمادى الأولى سنة ثمان وذلك قريب من التاريخ الذي ذكروه لنزول الآية أولا ولا حاجة إلى تعدد النزول الجزء: 11 ¦ الصفحة: 21 فإنه يجوز تخالف معنى القراءتين إذا لم يتناقضا، وكون فريق غالبا ومغلوبا في زمانين غير متدافع فتأمل انتهى. ولا يخفى على من سبر السبر أن هذا مما لا يكاد يتسنى لأن الروم لم يغلبهم المسلمون في تلك الغزوة بل انصرفوا عنهم بعد أن أصيبوا بجعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة، وعباد بن قيس في آخرين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين كالمغلوبين، بل ذكر ابن هشام أنهم لما أتوا المدينة جعل الناس يحثون على الجيش التراب ويقولون: يا فرار فررتم في سبيل الله تعالى وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله تعالى» وروي أن أم سلمة قالت لامرأة سلمة بن هشام بن العاص بن المغيرة: مالي لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومع المسلمين؟ فقالت: والله ما يستطيع أن يخرج كلما خرج صاح به الناس يا فرار ففررتم في سبيل الله حتى قعد في بيته ولم يخرج، وذكر أبياتا لقيس اليعمري يعتذر فيها مما صنع يومئذ وصنع الناس وقد تضمنت كما قال بيان أن القوم حاجزوا وكرهوا الموت وأن خالد بن الوليد انحاز بمن معه، على أن فيما ذكر أنه الصواب بحثا بعد: فلعل الأول في التوفيق إذا صحت هذه القراءة ما ذكر أولا فتأمل.. وفي البحر كان شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير يحكي عن أبي الحكم بن برجان أنه استخرج من قوله تعالى: الم غُلِبَتِ الرُّومُ- إلى- سِنِينَ افتتاح المسلمين بيت المقدس معينا زمانه ويومه وكان إذ ذاك بيت المقدس قد غلبت عليه النصارى وإن ابن برجان مات قبل الوقت الذي عينه للفتح وإنه بعد موته بزمان افتتحه المسلمون في الوقت الذي عينه أبو الحكم وكان أبو جعفر يعتقد في أبو الحكم هذا أنه كان يتطلع على أشياء من المغيبات يستخرجها من كتاب الله تعالى انتهى، واستخرج بعض العارفين كمحيي الدين قدس سره، والعراقي، وغيرهم المغيبات من القرآن العظيم أمر شهير وهو مبني على قواعد حسابية وأعمال حرفية لم يرد شيء منها عن سلف الأمة ولا حجر على فضل الله عزّ وجلّ وكتاب الله تعالى فوق ما يخطر للبشر، وقد سئل علي كرم الله تعالى وجهه هل أسر إليكم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شيئا كتمه عن غيركم فقال: لا إلّا أن يؤتي الله تعالى عبدا فهما في كتابه، هذا ونسأل الله سبحتانه أن يوفقنا لفهم أسرار كتابه بحرمة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه. لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ أي من قبل هذه الحالة ومن بعدها وهو حاصل ما قيل أي من قبل كونهم غالبين وهو وقت كونهم مغلوبين ومن بعد كونهم مغلوبين وهو وقت كونهم غالبين، وتقديم الخبر للتخصيص، والمعنى أن كلا من كونهم مغلوبين أولا وغالبين آخرا ليس إلا بأمر الله تعالى شأنه وقضائه عزّ وجلّ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران: 140] وقرأ أبو السمال، والجحدري عن العقيلي «من قبل ومن بعد» بالكسر والتنوين فيهما فليس هناك مضاف إليه مقدر أصلا على المشهور كأنه قيل: لله الأمر قبلا وبعدا أي في زمان متقدم وفي زمان متأخر، وحذف بعضهم الموصوف، وذكر السكاكي أن المضاف إليه مقدر في مثل ذلك أيضا والتنوين عوض عنه، وجوز الفراء الكسر من غير تنوين، وقال الزجاج: إنه خطأ لأنه إما أن لا يقدر فيه الإضافة فينون أو يقدر فيبنى على الضم، وأما تقدير لفظه قياسا على قوله: بين ذراعي وجبهة الأسد فقياس مع الفارق لذكره فيه بعد وما نحن فيه ليس كذلك، وقال النحاس للفراء في كتابه: في القرآن أشياء كثيرة الغلط، منها أنه زعم أنه يجوز «من قبل ومن بعد» بالكسر بلا تنوين وإنما يجوز «من قبل ومن بعد» على أنهما نكرتان أي من متقدم ومن متأخر، وذهب إلى قول الفراء بن هشام في بعض كتبه، وحكى الكسائي عن بعض بني أسد «لله الأمر من قبل ومن بعد» على أن الأول مخفوض منون والثاني مضموم بلا تنوين. وَيَوْمَئِذٍ أي ويوم إذ يغلب الروم فارسا يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ وتغليبه من له كتاب على من لا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 22 كتاب له وغيظ من شمتهم من كفار مكة وكون ذلك مما يتفاءل به لغلبة المؤمنين على الكفار، وقيل: نصر الله تعالى صدق المؤمنين فيما أخبروا به المشركين من غلبة الروم على فارس، وقيل: نصره عزّ وجلّ أنه ولّى بعض الظالمين بعضا وفرق بين كلمتهم حتى تناقضوا وتحاربوا وقلل كل منهما شوكة الآخر، وعن أبي سعيد الخدري أنه وافق ذلك يوم بدر، وفيه من نصر الله تعالى العزيز للمؤمنين وفرحهم بذلك ما لا يخفى، والأول أنسب لقوله تعالى: يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ أي من يشاء أن ينصره من عباده على عدوه ويغلبه عليه فإنه استئناف مقرر لمضمون قوله تعالى: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ والظاهر أن (يوم) متعلق بيفرح وكذا بِنَصْرِ وجوز تعلق (يوم) به، وكذا جوز تعلق بِنَصْرِ بالمؤمنين، وقيل: يَوْمَئِذٍ عطف على قبل أو بعد كأنه حصر الأزمنة الثلاثة الماضي والمستقبل والحال ثم ابتدأ الاخبار بفرح المؤمنين وَهُوَ الْعَزِيزُ المبالغ في العزة والغلبة فلا يعجزه من شاء أن ينصر عليه كائنا من كان الرَّحِيمُ المبالغ في الرحمة فينصر من يشاء أن ينصره أي فريق كان، والمراد بالرحمة هنا هي الدنيوية، أما على القراءة المشهورة فظاهر لأن كلا الفريقين لا يستحق الرحمة الأخروية، وأما على القراءة الأخيرة فلأن المسلمين وإن كانوا مستحقين لها لكن المراد هاهنا نصرهم الذي هو من آثار الرحمة الدنيوية، وتقديم وصف الْعَزِيزُ لتقدمه في الاعتبار. وَعْدَ اللَّهِ مصدر مؤكد لمضمون الجملة المتقدمة من قوله تعالى: سَيَغْلِبُونَ وقوله سبحانه: يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ويقال له المؤكد لنفسه لأن ذلك في معنى الوعد وعامله محذوف وجوبا كأنه قيل: وعد الله تعالى ذلك وعدا لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ أي وعد كان مما يتعلق بالدنيا والآخرة لما في خلفه من النقص المستحيل عليه عزّ وجلّ، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار للتعليل الحكمي وتفخيمه، والجملة استئناف مقرر لمعنى المصدر، وجوز أن يكون حالا منه فيكون كالمصدر الموصوف كأنه سبحانه يقول: وعد الله تعالى وعدا غير مخلف وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أنه تعالى لا يخلف وعده لجهلهم بشؤونه عزّ وجلّ وعدم تفكرهم فيما يجب له جلّ شأنه وما يستحيل عليه سبحانه أو لا يعلمون ما سبق من شؤونه جلّ وعلا، وقيل: لا يعلمون شيئا أو ليسوا من أولي العلم حتى يعلموا ذلك يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وهو ما يحسون به من زخارفها وملاذها وسائر أحوالها الموافقة لشهواتهم الملائمة لأهوائهم المستدعية لانهماكهم فيها وعكوفهم عليها. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يعلمون منافعها ومضارها ومتى يزرعون ومتى يحصدون وكيف يجمعون وكيف يبنون أي ونحو ذلك مما لا يكون لهم منه أثر في الآخرة، وروي نحوه عن قتادة، وعكرمة. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال في الآية: بلغ من حذق أحدهم بأمر دنياه أنه يقلب الدرهم على ظفره فيخبرك بوزنه وما يحسن يصلي، وقال الكرماني: كل ما يعلم بأوائل الروية فهو الظاهر وما يعلم بدليل العقل فهو الباطن وقيل: هو هنا التمتع بزخارفها والتنعم بملاذها، وتعقب بأنهما ليسا مما علموه منها بل من أفعالهم المرتبة على علمهم، وعن ابن جبير أن الظاهر هو ما علموه من قبل الكهنة مما تسترقه الشياطين، وليس بشيء كما لا يخفى، وأيا ما كان فالظاهر أن المراد بالظاهر مقابل الباطن، وتنويه للتحقير والتخسيس أي يعلمون ظاهرا حقيرا خسيسا وقيل: هو بمعنى الزائل الذاهب كما في قول الهذلي: وعيرها الواشون أني أحبها ... وتلك شكاة ظاهر عنك عارها أي يعلمون أمرا زائلا لا بقاء له ولا عاقبة من الحياة الدنيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ التي هي الغاية القصوى والمطلب الأسنى هُمْ غافِلُونَ لا تخطر ببالهم فكيف يتفكرون فيها وفيما يؤدي إلى معرفتها من الدنيا وأحوالها، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 23 والجملة معطوفة على يَعْلَمُونَ وإيرادها اسمية للدلالة على استمرار غفلتهم ودوامها، وهُمْ الثانية تكرير للأولى وتأكيد لفظي لها دافع للتجوز وعدم الشمول، والفصل بمعمول الخبر وإن كان خلاف الظاهر لكن حسنه وقوع الفصل في التلفظ والاعتناء بالآخرة أو هو مبتدأ وغافِلُونَ خبره والجملة خبر هُمْ الأولى، وجملة يَعْلَمُونَ إلخ بدل من جملة لا يَعْلَمُونَ على ما ذهب إليه صاحب الكشف فإن الجاهل الذي لا يعلم أن الله لا يخلف وعده أو لا يعلم شؤونه تعالى السابقة ولا يتفكر في ذلك هو الذي قصر نظره على ظاهر الحياة الدنيا، والمصحح للبدلية اتحاد ما صدقا عليه، والنكتة المرجحة له جعل علمهم والجهل سواء بحسب الظاهر، وجملة وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ إلخ مناد على تمكن غفلتهم عن الآخرة المحققة لمقتضى الجملة السابقة تقريرا لجهالتهم وتشبيها لهم بالبهائم المقصور إدراكها على ظواهر الدنيا الخسيسة دون أحوالها التي هي من مبادئ العلم بأمور الآخرة. واختار العلامة الطيبي أن جملة يَعْلَمُونَ إلخ استئنافية لبيان موجب جهلهم بأن وعد الله تعالى حق وأن لله سبحانه الأمر من قبل ومن بعد وأنه جلّ شأنه ينصر المؤمنين على الكافرين ولعله الأظهر أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا إنكار واستقباح لقصر نظرهم على ما ذكر من ظاهر الحياة الدنيا مع الغفلة عن الآخرة، والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام، وقوله سبحانه: فِي أَنْفُسِهِمْ ظرف للتفكر، وذكره مع أن التفكر لا يكون إلا في النفس لتحقيق أمره وزيادة تصوير حال المتفكرين كما في اعتقده في قلبك وأبصره بعينك، وقوله عزّ وجلّ: ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ متعلق إما بالعلم الذي يؤدي إليه التفكر ويدل عليه أو بالقول الذي يترتب عليه كما في قوله تعالى: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا [آل عمران: 191] أي أعلموا ظاهر الحياة الدنيا فقط أو أقصروا النظر على ذلك ولم يحدثوا التفكر في قلوبهم فيعلموا أنه تعالى ما خلق السماوات والأرض وما بينهما من المخلوقات التي هم من جملتها ملتبسة بشيء من الأشياء إلا ملتبسة بالحق أو يقولوا هذا القول معترفين بمضمونه إثر ما علموه، والمراد بالحق هو الثابت الذي يحق أن يثبت لا محالة لابتنائه على الحكم البالغة التي من جملتها استشهاد المكلفين بذواتها وصفاتها وأحوالها على وجود صانعها ووحدته وعلمه وقدرته واختصاصه بالمعبودية وصحة أخباره التي من جملتها إحياؤهم بعد الفناء بالحياة الأبدية ومجازاتهم بحسب أعمالهم عما يتبين المحسن من المسيء ويمتاز درجات افراد كل من الفريقين حسب امتياز طبقات علومهم واعتقاداتهم المترتبة على أنظارهم فيما نصب في المصنوعات من الآيات والدلائل والإمارات والمخايل كما نطق به قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك: 2] فإن العمل غير مختص بعمل الجوارح ولذلك فسره عليه الصلاة والسلام بقوله: «أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله تعالى وأسرع في طاعة الله عزّ وجلّ» . وقوله سبحانه: وَأَجَلٍ مُسَمًّى عطف على الحق أي وبأجل معين قدره الله تعالى لبقائها لا بد لها من أن تنتهي إليه لا محالة وهو وقت قيام الساعة وتبدل الأرض غير الأرض والسماوات، هذا وجوز أن يكون قوله تعالى: فِي أَنْفُسِهِمْ متعلقا بيتفكروا ومفعولا له بالواسطة على معنى أولم يتفكروا في ذواتهم وأنفسهم التي هي أقرب المخلوقات إليهم وهم أعلم بشؤونها وأخبر بأحوالها منهم بأحوال ما عداها فيتدبروا ما أودعها الله تعالى ظاهر أو باطنا من غرائب الحكم الدالة على التدبير دون الإهمال وأنه لا بد لها من انتهاء إلى وقت يجازيها الحكيم الذي دبر أمرها على الإحسان إحسانا وعلى الإساءة مثلها حتى يعلموا عند ذلك أن سائر الخلائق كذلك أمرها جار على الحكمة والتدبير وأنه لا بد لها من الانتهاء إلى ذلك الوقت. وتعقب بأن أمر معاد الإنسان ومجازاته بما عمل من الإساءة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 24 والإحسان هو المقصود بالذات والمحتاج إلى الإثبات فجعله ذريعة إلى إثبات معاد ما عداه مع كونه بمعزل من الأجزاء تعكيس للأمر فتدبر. وجوز أبو حيان أن يكون ما خَلَقَ إلخ مفعول يَتَفَكَّرُوا معلقا عنه بالنفي، وأنت تعلم أن التعليق في مثله ممنوع أو قليل، وقوله تعالى: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ تذييل مقرر لما قبله ببيان أن أكثرهم غير مقتصرين على ما ذكره من الغفلة من أحوال الآخرة والأعراض عن التفكر فيما يرشدهم إلى معرفتها من خلق السماوات والأرض وما بينهما من المصنوعات بل هم منكرون جاحدون لقاء حسابه تعالى وجزائه عزّ وجلّ بالبعث، وهم القائلون بأبدية الدنيا كالفلاسفة على المشهور أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ توبيخ لهم بعدم اتعاظهم بمشاهدة أحوال أمثالهم الدالة على عاقبتهم ومآلهم والهمزة للإنكار التوبيخي أو الإبطالي وحيث دخلت على النفي وإنكار النفي إثبات قيل: إنها لتقرير المنفي والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أقعدوا في أماكنهم ولم يسيروا في الأرض، وقوله تعالى: فَيَنْظُرُوا عطف على يسيروا داخل في حكمه والمعنى أنهم قد ساروا في أقطار الأرض وشاهدوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم المهلكة كعاد، وثمود، وقوله تعالى: كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً إلخ بيان لمبدأ أحوالهم ومآلها يعني أنهم كانوا أقدر منهم على التمتع بالحياة الدنيا حيث كانوا أشد منهم قوة وَأَثارُوا الْأَرْضَ أي قلبوها للحرث والزراعة كما قال الفراء، وقيل: لاستنباط المياه واستخراج المعادن وغير ذلك. وقرأ أبو جعفر «وآثاروا» بمدة بعد الهمزة، وقال ابن مجاهد: ليس بشيء وخرج ذلك أبو الفتح على الإشباع كقوله. ومن ذم الزمان بمنتزاح وذكر أن هذا من ضرورة الشعر ولا يجيء في القرآن، وقرأ أبو حيوة وأثروا من الأثرة وهو الاستبداد بالشيء وآثروا الأرض أي أبقوا فيها آثارا وَعَمَرُوها أي وعمرها أولئك الذين كانوا قبلهم بفنون العمارات من الزراعة والغرس والبناء وغيرها، وقيل: أي أقاموا بها، يقال عمرت بمكان كذا وعمرته أي أقمت به أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها أي عمارة أكثر من عمارة هؤلاء إياها والظاهر أن الأكثرية اعتبارا لكم وعممه بعضهم فقال: أكثر كما وكيفا وزمانا، وإذا أريد العمارة بمعنى الإقامة فالمعنى أقاموا بها إقامة أكثر زمانا من إقامة هؤلاء بها، وفي ذكر أفعل تهكم بهم إذ لا مناسبة بن كفار مكة وأولئك الأمم المهلكة فإنهم كانوا معروفين بالنهاية في القوة وكثرة العمارة وأهل مكة ضعفا ملجؤون إلى واد غير ذي زرع يخافون أن يتخطفهم الناس، ونحو هذا يقال إذا سرت العمارة بالإقامة فإن أولئك كانوا مشهورين بطول الأعمار جدا وأعمار أهل مكة قليلة بحيث لا مناسبة يعتد بها بينها وبين أعمال أولئك المهلكين. وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات أو الآيات الواضحات فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ أي فكذبوهم فأهلكهم فما كان الله تعالى شأنه ليهلكهم من غير جرم يستدعيه من قبلهم، وفي التعبير عن ذلك بالظلم اظهار لكمال نزاهته تعالى عنه وإلا فقد قال أهل السنة: إن إهلاكه تعالى من غير جرم ليس من الظلم في شيء لأنه عزّ وجلّ مالك والمالك يفعل بملكه ما يشاء والنزاع في المسألة شهير وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث ارتكبوا باختيارهم من المعاصي ما أوجب بمقتضى الحكمة ذلك، وتقديم أَنْفُسَهُمْ على يَظْلِمُونَ للفاصلة وجوز أن يكون للحصر بالنسبة إلى الرسل الذين يدعونهم ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا أي عملوا السيئات، ووضع الموصول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بالإساءة والإشعار بعلة الحكم، وثُمَّ للتراخي الحقيقي أو للاستبعاد والتفاوت في الرتبة السُّواى أي العقوبة السوأى وهي العقوبة بالنار فإنها تأنيث الأسوأ كالحسنى تأنيث الأحسن أو مصدر كالبشرى وصف به العقوبة مبالغة كأنها نفس السوء، وهي مرفوعة على أنها اسم وكان خبرها عاقِبَةَ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 25 وقرأ الحرميان، وأبو عمرو «عاقبة» بالرفع على أنه اسم كان و «السوأى» بالنصب على الخبرية، وقرأ الأعمش، والحسن «السوي» بإبدال الهمزة واوا وإدغام الواو فيها، وقرأ ابن مسعود «السوء» بالتذكير أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ علة للحكم المذكور أي لأن أو بأن كذبوا وهو في الحقيقة مبين لما أشعر به وضع الموصول موضع الضمير لأنه مجمل. وقوله تعالى: وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ عطف على كَذَّبُوا داخل معه في حكم العلية وإيراد الاستهزاء بصيغة المضارع للدلالة على استمراره وتجدده، وجوز أن يكون السُّواى مفعولا مطلقا لأساؤوا من غير لفظه أو مفعولا به له لأن أساؤوا بمعنى اقترفوا واكتسبوا، والسوأى بمعنى الخطيئة لأنه صفة أو مصدره مؤول بها وكونه صفة مصدر أساؤوا من لفظه أي الإساءة السوأى بعيد لفظا مستدرك معنى وأَنْ كَذَّبُوا اسم كان. وكون التكذيب عاقبتهم مع أنهم لم يخلوا عنه إما باعتبار استمراره أو باعتبار أنه عبارة عن الطبع، وجوز أن يكون أن كذبوا بدلا من السُّواى الواقع اسما لكان أو عطف بيان لها أو خبر مبتدأ محذوف أي هي أن كذبوا، وأن تكون أَنْ تفسيرية بمعنى أي والمفسر إما أساؤوا أو السُّواى فإن الإساءة تكون قولية كما تكون فعلية فإذن قبلها مضمن معنى القول دون حروفه ويظهر ذلك التضمن بالتفسير، وإذا جاز وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا [ص: 6] فهذا أجوز فليس هذا الوجه متكلفا خلافا لأبي حيان. وجوز في قراءة الحرميين، وأبي عمرو وأن تكون السُّواى صلة الفعل وأَنْ كَذَّبُوا تابعا له أو خبر مبتدأ محذوف أو على تقدير حرف التعليل وخبر كان محذوفا تقديره وخيمة ونحوه وتعقب ذلك في البحر فقال: هو فهم أعجمي لأن الكلام مستقل في غاية الحسن بلا حذف وقد تكلف له محذوف لا يدل عليه دليل، وأصحابنا لا يجيزون حذف خبر كان اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ أي ينشئهم. وقرأ عبد الله وطلحة «يبدىء» بضم الياء وكسر الدال، وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر فما بالعهد من قدم. ثُمَّ يُعِيدُهُ بالبعث ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ للجزاء، وتقديم المعمول للتخصيص، وكان الظاهر يرجعون بياء الغيبة إلا أنه عدل عنه إلى خطاب المشركين لمكافحتهم بالوعيد ومواجهتهم بالتهديد وإيهام إن ذلك مخصوص بهم فهو التفات للمبالغة في الوعيد والترهيب. وقرأ أبو عمرو، وروح «يرجعون» بياء الغيبة كما هو الظاهر وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ التي هي وقت إعادة الخلق ومرجعهم إليه عزّ وجلّ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ أي يسكتون وتنقطع حجتهم، قال الراغب: الإبلاس الحزن المعترض من شدة اليأس ومنه اشتق إبليس فيما قيل، ولما كان المبلس كثيرا ما يلزم السكوت وينسى ما يعنيه قبل أبلس فلان إذا سكت وانقطعت حجته وأبلست الناقة فهي مبلاس إذا لم ترغ من شدة الضبعة (1) وقال ابن ثابت: يقال أبلس الرجل إذا يئس من كل خير، وفي الحديث «وأنا مبشرهم إذا أبلسوا» والمراد بالمجرمين على ما أفاده الطيبي أولئك الذين أساؤوا والسوأى لكنه وضع الظاهر موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بهذا الوصف الشنيع والإشعار بعلة الحكم. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه، والسلمي «يبلس» بفتح اللام وخرج على أن الفعل من أبلسه إذا أسكته، وظاهره أنه يكون متعديا وقد أنكره أبو البقاء، والسمين، وغيرهما حتى تكلفوا وقالوا: أصله يبلس إبلاس المجرمين على إقامة المصدر مقام الفاعل ثم حذفه وإقامة المضاف إليه مقامه. وتعقبه الخفاجي عليه الرحمة فقال: لا يخفى عدم صحته لأن إبلاس المجرمين مصدر مضاف لفاعله وفاعله هو فاعل الفعل بعينه فكيف يكون نائب الفاعل فتأمل. وأنت تعلم أنه متى صحت القراءة لا تسمع دعوى عدم سماع استعمال أبلس متعديا.   (1) قوله «الضبعة» هي شدة شهوة الناقة للفحل اهـ منه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 26 وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ ممن أشركوهم بالله سبحانه في العبادة ولذا أضيفوا إليهم. وقيل: إن الإضافة لإشراكهم إياهم بالله تعالى في أموالهم والمراد بهم الأوثان، وقال مقاتل: الملائكة عليهم السلام، وقيل: الشياطين، وقيل: رؤساؤهم شُفَعاءُ يجيرونهم من عذاب الله تعالى كما كانوا يزعمون، وجيء بالمضارع منفيا بلم التي تقلبه ماضيا للتحقق، وصيغة الجمع لوقوعها في مقابلة الجمع لوقوعها في مقابلة أي لم يكن لواحد منهم شفيع أصلا. وقرأ خارجة عن نافع، وابن سنان عن أبي جعفر، والأنطاكي عن شيبة «ولم تكن» بالتاء الفوقية. وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ أي بإلهيتهم وشركتهم كما يشير إليه العدول عن وكانوا بهم كافِرِينَ حيث يئسوا منهم ووقفوا على كنه أمرهم، وَكانُوا للدلالة على الاستمرار لا للمحافظة على رؤوس الفواصل كما توهم. وقيل: إنها للمضي كما هو الظاهر، والباء في بِشُرَكائِهِمْ سببية أي وكانوا في الدنيا كافرين بالله تعالى بسببهم ولم يرتضه بعض الأجلة إذ ليس في الأخبار بذلك فائدة يعتد بها، ولأن المتبادر أن يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ظرف للإبلاس وما عطف عليه ولذا قيل: إن المناسب عليه جعل الواو حالية ليكون المعنى أنهم لم يشفعوا لهم مع أنهم سبب كفرهم في الدنيا وهو أحسن من جعله معطوفا على مجموع الجملة مع الظرف، مع أنه عليه ينبغي القطع للاحتياط إلّا أن يقال: إنه ترك تعويلا على القرينة العقلية، وهو خلاف الظاهر، وكتب «شفعواء» في المصحف بواو بعدها ألف وهو خلاف القياس والقياس ترك الواو أو تأخيرها عن الألف لكن الأول أحسن كما ذكر في الرسم، وكذا خولف القياس في كتابة السُّواى حيث كتبت بالألف قبل الياء والقياس كما في الكشف الحذف لأن الهمز يكتب على نحو ما يسهل وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أعيد لتهويله وتفظيع ما يقع فيه وهو ظرف للفعل بعده، وقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ على ما ذكره الطبرسي بدل منه. وفي البحر التنوين في «يومئذ» تنوين عوض من الجملة المحذوفة أي ويوم تقوم الساعة يوم إذ يبلس المجرمون يَتَفَرَّقُونَ وظاهره أن «يومئذ» ظرف لتقوم، ولا يخفى ما في جعل الجملة المعوض عنها التنوين حينئذ ما ذكره من النظر. وفي إرشاد العقل السليم أن قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ تهويل ليوم قيام الساعة إثر تهويل وفيه رمز إلى أن التفرق يقع في بعض منه، وفي وجه الرمز إلى ذلك بما ذكر خفاء، وضمير يَتَفَرَّقُونَ للمسلمين والكافرين الدال عليهما، ما قبل من عموم الخلق وما بعد من التفصيل، وذهب إلى ذلك الزمخشري، وجماعة. وقال في الإرشاد: هو لجميع الخلق المدلول عليهم بما تقدم من مبدئهم ومرجعهم وإعادتهم لا المجرمون خاصة، وقال أبو حيان: يظهر أنه عائد على الخلق قبله وهو المذكور في قوله تعالى: اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ والمراد بتفرقهم اختلافهم في المحال والأحوال كما يؤذن به التفصيل، وليس ذلك باعتبار كل فرد بل باعتبار كل فريق، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال في ذلك هؤلاء في عليين وهؤلاء في أسفل سافلين، والتفصيل يؤذن بذلك أيضا، وهذا التفرق بعد تمام الحساب. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ الروضة الأرض ذات النبات والماء، وفي المثل أحسن من بيضة في روضة يريدون بيضة النعامة، وباعتبار الماء قيل: أرض الوادي واستراض أي كثر ماؤه وأراضهم أرواهم بعض الري من أراضي الحوض إذا صب فيه من الماء ما يوارى أرضه، ويقال: شربوا حتى أراضوا أي شربوا عللا بعد نهل. وقيل: معنى أراضوا صبوا اللبن على اللبن، وظاهر تفسير الكثير للروضة اعتبار النبات والماء فيها، وأظن أن ابن قتيبة صرح بأنه لا يقال الأرض ذات نبات بلا ماء روضة. وقيل: هي البستان الحسن، وقيل: موضع الخضرة، وقال الخفاجي: الروضة البستان وتخصيصها بذات الأنهار الجزء: 11 ¦ الصفحة: 27 بناء على العرف، وأيّا ما كان فتنوينها هنا للتفخيم والمراد بها الجنة، والحبر السرور يقال: حبره يحبره بالضم حبرا وحبرة وحبورا إذا سره سرورا تهلل له وجهه وظهر فيه أثره، وفي المثل امتلأت بيوتهم حبرة فهم ينتظرون العبرة، وحكى الكسائي حبرته أكرمته ونعمته، وقيل: الحبرة كل نعمة حسنة والتحبير التحسين، ويقال: فلان حسن الحبر والسبر بالفتح إذا كان جميلا حسن الهيئة، واختلفت الأقوال في تفسيره هنا فأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس، وابن أبي حاتم عن الضحاك أنهما قالا: يحبرون يكرمون. وأخرج جماعة عن مجاهد يحبرون ينعمون، وقال أبو بكر بن عياش: يتوجهون على رؤوسهم. وقال ابن كيسان: يحلون، وقال الأوزاعي، ووكيع، ويحيى بن أبي كثير: يسمعون الأغاني، وأخرج عبد بن حميد عن الأخير أنه قال: قيل يا رسول الله ما الحبر؟ فقال عليه الصلاة والسلام: اللذة والسماع. وذكر بعضهم أن الظاهر يسرون ولم يذكر ما يسرون به إيذانا بكثرة المسار وما جاء في الخبر فمن باب الاقتصار على البعض، ولعل السائل كان يحب السماع فذكره صلى الله تعالى عليه وسلم له لذلك، والتعبير بالمضارع للإيذان بتجدد السرور لهم ففي كل ساعة يأتيهم ما يسرون به من متجددات الملاذ وأنواعها المختلفة. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا التي من جملتها الآيات الناطقة بما فصل وَلِقاءِ الْآخِرَةِ أي وكذبوا بالبعث، وصرح بذلك مع اندراجه في تكذيب الآيات للاعتناء به، وقوله تعالى: فَأُولئِكَ إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة من الكفر والتكذيب بآياته تعالى وبلقاء الآخرة للإيذان بكمال تميزهم بذلك عن غيرهم وانتظامهم في سلك المشاهدات، وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإشعار ببعد منزلتهم في الشر أي فأولئك الموصوفون بما ذكر من القبائح فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ على الدوام لا يغيبون عنه أبدا، والظاهر أن الفسقة من أهل الإيمان غير داخلين في أحد الفريقين أما عدم دخولهم في الذين كفروا وكذبوا بالآيات والبعث فظاهر وأما عدم دخولهم في الذين آمنوا وعملوا الصالحات فإما لأن ذلك لا يقال في العرف إلّا على المؤمنين المجتنبين المفسقات على ما قيل، وإما لأن المؤمن الفاسق يصدق على المؤمن الذي لم يعمل شيئا من الصالحات أصلا فهم غير داخلين في ذلك باعتبار جميع الأفراد وحكمهم معلوم من آيات أخر فلا تغفل. فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ أثر ما بين حال فريقي المؤمنين العاملين بالصالحات والكافرين المكذبين بالآيات وما لهما من الثواب والعقاب أرشد سبحانه إلى ما ينجي من الثاني ويفضي إلى الأول من تنزيه الله عزّ وجلّ عن كل ما لا يليق بشأنه جلّ شأنه ومن حمده تعالى والثناء عليه ووصفه بما هو أهله من الصفات الجميلة والشؤون الجليلة، وتقديم الأول على الثاني لما أن التخلية متقدمة على التحلية مع أنه أول ما يدعي إليه الذين كفروا المذكورون قبل بلا فصل، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وظاهر كلامهم أن (سبحان) هنا منصوب بفعل أمر محذوف فكأنه قيل: إذا علمتم ذلك أو إذا صح واتضح حال الفريقين، ومآلهما فسبحوا سبحان الله إلخ أي نزهوه تعالى تنزيهه اللائق به عزّ وجلّ في هذه الأوقات، قال في الكشف: وفيه إشكال لأن سبحان الله لزم طريقة واحدة لا ينصبه فعل الأمر لأنه إنشاء من نوع آخر، والجواب أن ذلك توضيح للمعنى وأن وقوعه جواب الشرط على منوال إن فعلت كذا فنعم ما فعلت فإنه إنشاء أيضا لكنه ناب مناب الخبر وأبلغ، كذلك هو لإنشاء تنزيهه تعالى في الأوقات هربا من وبيل عقابه وطلبا لجزيل ثوابه، والشرط والجواب مقول على ألسنة العباد انتهى، وفي حواشي شيخ زاده أن الأمر بل الجملة الإنشائية مطلقا لا يصح تعليقها بالشرط لأن الإنشاء إيقاع المعنى بلفظ يقارنه ولو جاز تعليقه للزم تأخره عن زمان التلفظ وأنه غير جائز وإنما المعلق بالشرط هو الإخبار عن إنشاء التمني والترجي وإنشاء المدح والذم والاستفهام ونحوها فإذا قلت: إن فعلت كذا غفر الله تعالى لك الجزء: 11 ¦ الصفحة: 28 أو فنعم ما فعلت كان المعنى فقد فعلت ما تستحق بسببه أن يغفر الله تعالى لك أو أن تمدح بسببه إلّا أن الجملة الإنشائية أقيمت مقامه للمبالغة للدلالة على الاستحقاق فمعنى الآية إذا كان الأمر كما تقرر فأنتم تسبحون الله تعالى في الأوقات المذكورة وهو في معنى الأمر بالتسبيح فيها انتهى. ولعله أظهر مما في الكشف بل لا يظهر ما ذكر فيه من دعوى أن الشرط والجواب مقول على ألسنة العباد. ويوهم كلام بعضهم أن الكلام بتقدير القول حيث قال: كأنه قيل إذا صح واتضح عاقبة المطيعين والعاصين فقولوا: نسبح سبحان إلخ، والمعنى فسبحوه تسبيحا في الأوقات، ولا يخفى ما فيه، وكأني بك تمنع لزوم سبحان طريقة واحدة وهي التي ذكرت أولا، ويجوز نصب فعل الأمر لها إذا اقتضاه المقام وأشعر به الكلام، ولكن كأنك تميل إلى اعتبار كون الجملة خبرية لفظا إنشائية معنى بأن يراد بها الأمر لتوافق جملة لَهُ الْحَمْدُ فإنها وإن كانت خبرية إلّا أن الأخبار بثبوت الحمد له تعالى ووجوبه على المميزين من أهل السماوات والأرض كما يشعر به اتباع ذلك. ذكر الوعد والوعيد وتفريعه عليه بالفاء في معنى الأمر به على أبلغ وجه على ما صرح به بعض الأجلة فكأنه حينئذ قد قيل: فسبحوا الله تعالى تسبيحه اللائق به سبحانه في هذه الأوقات واحمدوه، وظاهر كلام الأكثرين أن جملة لَهُ الْحَمْدُ إلخ معطوفة على الجملة التي قبلها وأن عَشِيًّا معطوف على حِينَ تُمْسُونَ بل هم صرحوا بهذا، وعلى ما ذكر يكون جملة لَهُ الْحَمْدُ فاصلة بين المعطوف والمعطوف عليه، وما أشبه الآية حينئذ بآية الوضوء على ماذهب إليه أهل السنة. وفي الكشاف أن عَشِيًّا متصل بقوله تعالى: حِينَ تُمْسُونَ وقوله تعالى: وَلَهُ الْحَمْدُ إلخ اعتراض بينهما، ومعناه أن على المميزين كلهم من أهل السماوات والأرض أن يحمدوه. وإلى كون الجملة معترضة ذهب أبو البقاء أيضا، وجعل قوله تعالى: فِي السَّماواتِ حالا من الحمد، وفي جواز مجيء الحال منه على احتمال كونه مبتدأ وهو الظاهر خلاف، ولعل من لا يجوّز ذلك يجعل الجار متعلقا بالثبوت الذي تقتضيه النسبة، والمراد بالتسبيح والحمد ظاهرهما على ما ذهب إليه جمع من الأجلة، وقيل: المراد بالتسبيح الصلاة وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه عن أبي رزين قال: جاء نافع بن الأزرق إلى ابن عباس فقال: هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ فقال: نعم فقرأ فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ صلاة المغرب وَحِينَ تُصْبِحُونَ صلاة الصبح وَعَشِيًّا صلاة العصر وَحِينَ تُظْهِرُونَ صلاة الظهر، وقرأ «ومن بعد صلاة العشاء» وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر عنه قال: جمعت هذه الآية مواقيت الصلاة فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ المغرب والعشاء وَحِينَ تُصْبِحُونَ الفجر وَعَشِيًّا العصر وَحِينَ تُظْهِرُونَ الظهر، وذهب الحسن إلى ذلك حتى أنه ذهب إلى أن الآية مدنية لما أنه يرى فرضية الخمس بالمدينة وأنه كان الواجب بمكة ركعتين في أي وقت اتفقت الصلاة فيه، والصحيح أنها فرضت بمكة ويدل عليه حديث المعراج دلالة بينة. واختار الإمام الرازي حمل التسبيح على التنزيه فقال: إنه أقوى والمصير إليه أولى لأنه يتضمن الصلاة وذلك لأن التنزيه المأمور به يتناول التنزيه بالقلب وهو الاعتقاد الجازم وباللسان مع ذلك وهو الذكر الحسن وبالأركان معهما جميعا وهو العمل الصالح، والأول هو الأصل والثاني ثمرة الأول والثالث ثمرة الثاني، وذلك لأن الإنسان إذا اعتقد شيئا ظهر من قلبه على لسانه وإذا قال ظهر صدقه في مقاله من أحوال أفعاله واللسان ترجمان الجنان والأركان برهان اللسان لكن الصلاة أفضل أعمال الأركان وهي مشتملة على الذكر باللسان والقصد بالجنان فهو تنزيه في التحقيق، فإذا قال سبحانه نزهوني وهذا نوع من أنواع التنزيه والأمر المطلق لا يختص بنوع دون نوع فيجب حمله على كل ما هو تنزيه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 29 فيكون هذا أمرا بالصلاة، ثم إن قولنا يناسبه ما تقدم وذلك لأن الله تعالى لما بين أن المقام الأعلى والجزاء الأوفى لمن آمن وعمل الصالحات حيث قال عزّ وجلّ: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ قال سبحانه: إذا علمتم أن ذلك المقام لمن آمن وعمل الصالحات والإيمان تنزيه بالجنان وتوحيد باللسان والعمل الصالح استعمال الأركان فالكل تنزيهات وتحميدات فسبحان الله أي فأتوا بذلك الذي هو الموصل إلى الحبور في الرياض والحضور على الحياض اهـ، وأنا بالإمام أقتدي في دعوى أولوية الحمل على الظاهر، واختار أيضا أن قوله تعالى: لَهُ الْحَمْدُ اعتراض مؤكد بين المعطوف والمعطوف عليه مطلقا ومعناه على ما سمعت عن الكشاف أن على المميزين كلهم أن يحمدوه فإن حمل التسبيح على الصلاة فهو كلام يؤكد الوجوب لأن الحمد يتجوز به عن الصلاة كالتسبيح، ووجه التأكيد دلالته على أنه أمر عم المكلفين من أهل السماوات والأرض، وأن حمل على الظاهر فوجهه أن ذلك جار مجرى الاستدراك للأمر بالتسبيح، ولما كان من واد واحد كان كل منهما مؤكدا للآخر فدل على دوام وجوب الحمد في الأوقات ووجوب التسبيح على أهل السماوات والأرض، وأما الدلالة على الوجوب فمن اتباع سبحان اللَّهِ إلخ ذكر الوعد والوعيد بالفاء فإنه يفهم تعين ذلك طريقا للخلاص عن الدركات والوصول إلى الدرجات وما يتعين طريقا لذلك كان واجبا كذا في الكشف. وذكر الإمام أن في هذا الاعتراض لطيفة وهو أن الله تعالى لما أمر العباد بالتسبيح كأنه قال جلّ وعلا: بين لهم أن تسبيحهم الله تعالى لنفعهم لا لنفع يعود إلى الله عزّ وجلّ فعليهم أن يحمدوا الله تعالى إذا سبحوه جلّ شأنه، وهذا كما في قوله تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ [الحجرات: 17] . وجوز بعضهم كون عَشِيًّا معطوفا على قوله تعالى: فِي السَّماواتِ ورد بأنه لا يعطف ظرف الزمان على المكان ولا عكسه، وقيل: يحتمل أن يكون معطوفا على مقدر أي وله الحمد في السماوات والأرض دائما وعشيا على أنه تخصيص بعد تعميم والجملة اعتراضية أو حالية وهو كما ترى، وتخصيص الأوقات المذكورة بالذكر لظهور آثار القدرة والعظمة والرحمة فيها، وقدم الإمساء على الإصباح لتقدم الليل والظلمة، وقدم العشي على الإظهار لأنه بالنسبة إلى الإظهار كالإمساء بالنسبة إلى الإصباح. وفي البحر قوبل بالعشي الإمساء وبالإظهار الإصباح لأن كلا منهما يعقب بما قابله فالعشي يعقبه الإمساء والإصباح يعقبه الإظهار، وقال العلامة أبو السعود: إن تقديم عَشِيًّا على حِينَ تُظْهِرُونَ لمراعاة الفواصل وليس بذاك وذكر الإمام أنه قدم الإمساء على الإصباح هاهنا وأخر في قوله تعالى: سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب: 42] لأن أول الكلام هاهنا ذكر الحشر والإعادة وكذا آخره والإمساء آخر فذكر الآخر أولا لتذكر الآخرة، وتغيير الأسلوب في عَشِيًّا لما أنه لا يجيء منه الفعل بمعنى الدخول في العشي كالمساء والصباح والظهيرة، ولعل السر في ذلك على ما قيل: إنه ليس من الأوقات التي تختلف فيها أحوال الناس وتتغير تغيرا ظاهرا مصححا لوصفهم بالخروج عما قبلها والدخول فيها كالأوقات المذكورة فإن كلا منها وقت يتغير فيه الأحوال تغيرا ظاهرا، أما في المساء والصباح فظاهر. وأما في الظهيرة فلأنها وقت يعاد فيه التجرد عن الثياب للقيلولة كما مرت إليه الإشارة في سورة النور، هذا وفضل التسبيح والتحميد أظهر من أن يستدل عليه، وذكروا في فضل ما تضمنته الآية عدة أخبار، فأخرج الإمام أحمد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن السني في عمل اليوم والليلة والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في الدعوات عن معاذ بن أنس عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «ألا أخبركم لم سمى الله تعالى إبراهيم خليله الذي وفى لأنه يقول كلما أصبح وأمسى سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 30 وأخرج أبو داود، والطبراني، وابن السني، وابن مردويه عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «من قال حين يصبح سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون إلى قوله تعالى: وكذلك تخرجون أدرك ما فاته في يومه ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته من ليلته» إلى غير ذلك من الأخبار، ولعل فيه تأييدا لكون فَسُبْحانَ إلخ مقولا على ألسنة العباد فتأمل. وقرأ عكرمة «حين تمسون وحينا تصبحون» بتنوين حين فالجملة صفة حذف منها العائد والتقدير تمسون فيه وتصبحون فيه، وعلى قراءة الجمهور الجملة مضاف إليها ولا تقدير للضمير أصلا يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ الإنسان من النطفة وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ النطفة من الإنسان وهو التفسير المأثور عن ابن عباس، وابن مسعود، ولعل مرادهما التمثيل، وعن مجاهد يخرج المؤمن من الكافر ويخرج الكافر من المؤمن، وقيل: أي يعقب الحياة بالموت وبالعكس وَيُحْيِ الْأَرْضَ بالنبات بَعْدَ مَوْتِها يبسها فالإحياء والموت مجازان وَكَذلِكَ أي مثل ذلك الإخراج البديع الشأن تُخْرَجُونَ من قبوركم. وقرأ ابن وثاب، وطلحة، والأعمش «تخرجون» بفتح التاء وضم الراء، وهذا على ما قيل نوع تفصيل لقوله تعالى: يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [الروم: 11] وَمِنْ آياتِهِ الباهرة الدالة على أنكم تبعثون دلالة أوضح من دلالة ما سبق فإن دلالة بدأ خلقهم على إعادتهم أظهر من دلالة إخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي ومن دلالة إحياء الأرض بعد موتها عليها أَنْ خَلَقَكُمْ أي في ضمن خلق آدم عليه السلام لما مر مرارا من أن خلقه عليه السلام منطو على خلق ذرياته انطواء إجماليا مِنْ تُرابٍ لم يشم رائحة الحياة قط ولا مناسبة بينه وبين ما أنتم عليه في ذاتكم وصفاتكم، وقيل: خلقهم من تراب لأنه تعالى خلق مادتهم منه فهو مجاز أو على تقدير مضاف ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ أي في الأرض تتصرفون في أغراضكم وأسفاركم، وإِذا فجائية وثُمَّ على ما ذهب إليه أبو حيان للتراخي الحقيقي لما بين الخلق والانتشار من المدة، وقال العلامة الطيبي: إنها للتراخي الرتبي لأن المفاجأة تأبى الحقيقي. ورد بأنه لا مانع من أن يفاجىء أحدا أمر بعد مضي مدة من أمر آخر أو أحدهما حقيقي والآخر عرفي. وتعقب بأنه على تسليم صحته يأباه الذوق فإنه كالجمع بين الضب والنون فما ذكره الطيبي أنسب بالنظم القرآني، والظاهر أن الجملة معطوفة على المبتدأ قبلها وهي بتأويل مفرد كأنه قيل: ومن آياته خلقكم من تراب ثم مفاجأتكم وقت كونكم بشرا منتشرين كذا قيل، وفي وقوع الجملة مبتدأ بمثل هذا التأويل نظر إلا أن يقال: إنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع ويتخيل من كلام بعضهم أن العطف على خَلَقَكُمْ بحسب المعنى حيث قال: أي ثم فاجأتم وقت كونكم بشرا منتشرين، ويفهم من كلام صاحب الكشف في نظير الآية أعني قوله تعالى الآتي: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ أنه أقيمت الجملة مقام المفرد من حيث المعنى لأنها تفيد فائدته، والكلام على أسلوب مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران: 97] لأنه في معنى وأمن داخله، وأما من حيث الصورة فهي جملة معطوفة على قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ وفائدة هذا الأسلوب الإشعار بأن ذلك آية خارجة من جنس الآيات مستقلة بشأنها مقصودة بذاتها فتأمل وَمِنْ آياتِهِ الدالة على البعث أيضا أَنْ خَلَقَ لَكُمْ أي لأجلكم مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً فإن خلق أصل أزواجكم حواء من ضلع آدم عليه السلام متضمن لخلقهن من أنفسكم على ما عرفت من التحقيق- فمن- تبعيضية والأنفس بمعناها الحقيقي، ويجوز أن تكون مِنْ ابتدائية والأنفس مجاز عن الجنس أي خلق لكم من جنسكم لا من جنس آخر، قيل: وهو الأوفق بقوله تعالى: لِتَسْكُنُوا إِلَيْها أي لتميلوا إليها يقال: سكن إليه إذا مال فإن المجانسة من دواعي النظام والتعارف كما أن المخالفة من أسباب التفرق والتنافر وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ أي بين الأزواج إما على تغليب الرجال على النساء في الخطاب أو على حذف ظرف معطوف على الظرف المذكور أي جعل بينكم وبينهن كما في قوله تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 31 رُسُلِهِ [البقرة: 285] وقيل: بين أفراد الجنس أو بين الرجال والنساء، وتعقب بأنه يأباه قوله تعالى: مَوَدَّةً وَرَحْمَةً فإن المراد بهما ما كان منهما بعصمة الزواج قطعا أي جعل بينكم بالزواج الذي شرعه لكم توادا وترحما من غير أن يكون بينكم سابقة معرفة ولا مرابطة مصححة للتعاطف من قرابة أو رحم. قيل: المودة والرحمة من الله تعالى والفرك وهو بغض أحد الزوجين الآخر من الشيطان. وقال الحسن ومجاهد وعكرمة المودة كناية عن النكاح والرحمة كناية عن الولد، وكون المودة بمعنى المحبة كناية عن النكاح أي الجماع للزومها له ظاهر، وأما كون الرحمة كناية عن الولد للزومها له فلا يخلو عن بعد، وقيل: مودة للشابة ورحمة للعجوز، وقيل: مودة للكبير ورحمة للصغير، وقيل: هما اشتباك الرحم والكل كما ترى إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر من خلقهم من تراب وخلق أزواجهم من أنفسهم وإلقاء المودة والرحمة فهو إشارة إلى جميع ما تقدم، وقيل: إلى ما قبله وليس بذاك، وما فيه من معنى البعد مع قرب المشار إليه للإشعار ببعد منزلته لَآياتٍ عظيمة لا يكتنه كنهها كثيرة لا يقادر قدرها لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في تضاعيف تلك الأفاعيل المبنية على الحكم، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله مع التنبيه على أن ما ذكر ليس بآية فذة بل هي مشتملة على آيات شتى وإنها تحتاج إلى تفكر كما تؤذن بذلك الفاصلة. وذكر الطيبي أنه لما كان القصد من خلق الأزواج والسكون إليها وإلقاء المحبة بين الزوجين ليس مجرد قضاء الشهوة التي يشترك بها البهائم بل تكثير النسل وبقاء نوع المتفكرين الذين يؤديهم الفكر إلى المعرفة والعبادة التي ما خلقت السماوات والأرض إلا لها ناسب كون المتفكرين فاصلة هنا وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ أي لغاتكم بأن علم سبحانه كل صنف لغته أو ألهمه جلّ وعلا وضعها وأقدره عليها فصار بعض يتكلم بالعربية وبعض بالفارسية وبعض بالرومية إلى غير ذلك مما الله تعالى أعلم بكميته. وعن وهب أن الألسنة اثنان وسبعون لسانا في ولد حام سبعة عشر وفي ولد سام تسعة عشر، وفي ولد يافث ستة وثلاثون، وجوز أن يراد بالألسنة أجناس النطق وأشكاله فقد اختلف ذلك اختلافا كثيرا فلا تكاد تسمع منطقين متساويين في الكيفية من كل وجه، ولعل هذا أولى مما تقدم. والإمام حكى الوجه الأول وقدم عليه ما هو ظاهر في أن المراد بالأسنة الأصوات والنغم ونص على أنه أصح من المحكي وَأَلْوانِكُمْ بياض الجلد وسواده وتوسط فيما بينهما أو تصوير الأعضاء وهيئاتها وألوانها وحلاها بحيث وقع التمايز بين الأشخاص حتى أن التوأمين مع توافق موادهما وأسبابهما والأمور الملاقية لهما في التخليق يختلفان في شيء من ذلك لا محالة وإن كانا في غاية التشابه، فالألوان بمعنى الضروب والأنواع كما يقال: ألوان الحديث وألوان الطعام، وهذا التفسير أعم من الأول، وإنما نظم اختلاف الألسنة والألوان في سلك الآيات الآفاقية من خلق السماوات والأرض مع كونه من الآيات الأنفسية الحقيقة بالانتظام في سلك ما سبق من خلق أنفسهم وأزواجهم للإيذان باستقلاله والاحتراز عن توهم كونه من متممات خلقهم إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر من خلق السماوات والأرض واختلاف الألسنة والألوان لَآياتٍ عظيمة كثيرة لِلْعالِمِينَ أي المتصفين بالعلم كما في قوله تعالى: وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت: 43] وقرأ الكثير «العالمين» بفتح اللام، وفيه دلالة على وضوح الآيات وعدم خفائها على أحد من الخلق كافة وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ أي نومكم بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ لاستراحة القوى النفسانية وتقوي القوى الطبيعية وَابْتِغاؤُكُمْ أي طلبكم مِنْ فَضْلِهِ أي بالليل والنهار، وحذف ذلك لدلالة ما قبل عليه، ونظيره قوله: عجبت لهم إذ يقتلون نفوسهم ... ومقتلهم عند الوغى كان أغدرا فإنه أراد يقتلون نفوسهم عند السلم وحذف لدلالة الوغى في الشطر الثاني عليه، والنوم بالليل والابتغاء من الجزء: 11 ¦ الصفحة: 32 الفضل أي الكسب بالنهار أمران معتادان، وأما النوم بالنهار فكنوم القيلولة، وأما الكسب بالليل فكما يقع من بعض المكتسبين، وأهل الحرف من السعي والعمل ليلا لا سيما في أطول الليالي وعدم وفاء نهارهم بأغراضهم، ومن ذلك حراسة الحوانيت بالأجرة وكذا قطع البراري في الأسفار ليلا للتجارة ونحوها، وقال الزمخشري: وهذا من باب اللف وترتيبه ومن آياته منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار إلّا أنه فصل بين القرينين الأولين أعني منامكم وابتغاؤكم بالقرينين الآخرين أعني الليل والنهار لأنهما ظرفان والظرف والواقع فيه كشيء واحد مع إعانة اللف على الاتحاد وهو الوجه الظاهر لتكرره في القرآن وأسد المعاني ما دلّ عليه القرآن انتهى، والظاهر أنه أراد باللف الاصطلاحي ولا يأبى ذلك توسيط الليل والنهار لأنهما في نية التأخير وإنما وسطا للاهتمام بشأنهما لأنهما من الآيات في الحقيقة لا المنام والابتغاء على ما حققه في الكشف مع تضمن توسيطهما مجاورة كل لما وقع فيه فالجار والمجرور وقيل حال مقدمة من تأخير أي كائنين بالليل والنهار، وقيل: خبر مبتدأ محذوف أي ذلك بالليل والنهار، والجملة في النظم الكريم معترضة، وعلى كلا القولين لا يرد على الزمخشري لزوم كون النهار معمولا للابتغاء مع تقدمه عليه وعطفه على معمول مَنامُكُمْ وفي اقتران الفضل بالابتغاء إشارة إلى أن العبد ينبغي أن لا يرى الرزق من نفسه وبحذقه بل يرى كل ذلك من فضل ربه جلّ وعلا. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ أي شأنهم أن يسمعوا الكلام سماع تفهم واستبصار، وفيه إشارة إلى ظهور الأمر بحيث يكفي فيه مجرد السماع لمن له فهم وبصيرة ولا يحتاج إلى مشاهدة وإن كان مشاهدا. وقال الطيبي: جيء بالفاصلة هكذا لأن أكثر الناس منسدحون بالليل كالأموات ومتردّدون بالنهار كالبهائم لا يدرون فيم هم ولم ذلك لكن من ألقى السمع وهو شهيد يتنبه لوعظ الله تعالى ويصغي إليه لأن مر الليالي وكر النهار ينادينان بلسان الحال الرحيل الرحيل من دار الغرور إلى دار القرار كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً [الفرقان: 62] وذكر الإمام أن من الأشياء ما يحتاج في معرفته إلى موقف يوقف عليه ومرشد يرشد إليه فيفهم إذا سمع من ذلك المرشد، ولما كان المنام والابتغاء قد يقع لكثير أنهما من أفعال العباد فيحتاج معرفة أنهما من آياته تعالى إلى مرشد يعين الفكر قيل: لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ فكأنه قيل: لقوم يسمعون ويجعلون بالهم إلى كلام المرشد انتهى ولعل الاحتياج إلى مرشد يعين الفكر في أن الليل والنهار من الآيات بناء على ما سمعت في بيان نكتة التوسيط أظهر فتأمل وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ ذهب أبو علي إلى أنه بتقدير أن المصدرية والأصل أن يريكم فحذف أن وارتفع الفعل وهو الشائع بعد الحذف في مثل ذلك، وشذ بقاؤه منصوبا بعده وقد روي بالوجهين قول طرفة: ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي وجوز كونه مما نزل فيه الفعل منزلة المصدر فلا تقدر أن بل الفعل مستعمل في جزء معناه وهو الحدث مقطوع فيه النظر عن الزمان فيكون اسما في صورة الفعل فيريكم بمعنى الرؤية، وحمل على ذلك في المشهور قولهم: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، وجوز فيه أن يكون مما حذف فيه أن وأيد بأنه روي فيه تسمع بالنصب أيضا ولم يرتضه بعض الأجلة لأن المعنى ليس على الاستقبال، وأما أن تراه فالاستقبال فيه بالنسبة إلى السماع فلا ينافيه، ومثله قوله: فقالوا ما تشاء فقلت ألهو ... إلى الإصباح آثر ذي أثير ورجح الحمل على التنزيل منزلة اللازم دلالة على أنه كالحال اهتماما بشأن المراد لقوله: آثر ذي أثير، والتعليل بأن ما تشاء سؤال عما يشاؤوه في الحال وأن للاستقبال ليس بالوجه لأن المشيئة تتعلق بالمستقبل أبدا، وقال الجامع الجزء: 11 ¦ الصفحة: 33 الأصفهاني: تقدير الآية ومن آياته آية يريكم البرق على أن يُرِيكُمُ صفة وحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه كما في قوله: وما الدهر إلا تارتان فمنهما ... أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح أي فمنهما تارة أموت قيل فلا بد من راجع فقدر فيها أو بها، ونص على الثاني الرماني كما في البحر وكلاهما لا يسد- كما في الكشف- عليه المعنى، وقيل: التقدير ومن آياته البرق ثم استؤنف يريكم البرق، وقيل: مِنْ آياتِهِ حال من البرق أي يريكم البرق حال كونه من آياته، وجوز أبو حيان تعلقه يريكم ومِنْ لابتداء الغاية وفيه مخالفة لنظرائه. وفي الكشف لعل الأوجه أن يكون من آياته خبر مبتدأ محذوف أي من آياته ما يذكر أو ما يتلى عليكم ثم قيل: يُرِيكُمُ الْبَرْقَ بيانا لذلك ثم قال: وهذا أقل تكلفا من الكل، وأنت تعلم أن الأوجه ما توافق الآية به نظائرها. خَوْفاً أي من الصواعق وَطَمَعاً في المطر قاله الضحاك، وقال قتادة: خوفا للمسافر لأنه علامة المطر وهو يضره لعدم ما يكنه ولا نفع له فيه وطمعا للمقيم، وقيل: خوفا أن يكون خلبا وطمعا أن يكون ماطرا وقال ابن سلام: خوفا من البرد أن يهلك الزرع وطمعا في المطر، ونصبهما على العلة عند الزجاج، وهو على مذهب من لا يشترط في نصب المفعول له اتحاد المصدر والفعل المعلل في الفاعل ظاهر وأما على مذهب الأكثرين المشترطين لذلك فقيل في توجيهه: إن ذلك على تقدير مضاف أي إرادة خوف وطمع أو على تأويل الخوف والطمع بالإخافة والأطماع إما بأن يجعل أصلهما ذلك على حذف الزوائد أو بأن يجعلا مجازين عن سببيهما. وقيل: إن ذلك لأن إراءتهم تستلزم رؤيتهم فالمفعولون فاعلون في المعنى فكأنه قيل: لجعلكم رائين خوفا وطمعا. واعترض بأن الخوف والطمع ليسا غرضين للرؤية ولا داعيين لها بل يتبعانها فكيف يكونان علة على فرض الاكتفاء بمثل ذلك عند المشترطين، ووجه بأنه ليس المراد بالرؤية مجرد وقوع البصر بل الرؤية القصدية بالتوجه والالتفات فهو مثل قعدت عن الحرب جبنا ولم يرتض ذلك أبو حيان أيضا ثم قال: لو قيل على مذهب المشترطين أن التقدير يريكم البرق فترونه خوفا وطمعا فحذف العامل للدلالة عليه لكان إعرابا سائغا، وقيل: لعل الأظهر نصبهما على العلة للإراءة لوجود المقارنة والاتحاد في الفاعل فإن الله تعالى هو خالق الخوف والطمع، وكون معنى قول النحاة لا بد أن يكون المفعول له فعل الفاعل أنه لا بد من كونه متصفا به كالإكرام في قولك: جئتك إكراما لك أن سلم فلا حجر من الانتصاب على التشبيه في المقارنة والاتحاد المذكور. وتعقب بأن كون المعنى ما ذكر مما لا شبهة فيه وقد ذكره صاحب الانتصاف وغيره فإن الفاعل اللغوي غير الفاعل الحقيقي فالتوقف فيه وادعاء أنه لا حجر من الانتصاب على التشبيه مما لا وجه له، وأنا أميل إلى عدم اشتراط الاتحاد في الفاعل لكثرة النصب مع عدم الاتحاد كما يشهد بذلك التتبع والرجوع إلى شرح الكافية للرضى، والتأويل مع الكثرة مما لا موجب له، وجوز أن يكون النصب هنا على المصدر أي تخافون خوفا وتطمعون طمعا على أن تكون الجملة حالا، وأولى منه أن يكونا نصبا على الحال أي خائفين وطامعين. وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً وقرأ غير واحد بالتخفيف فَيُحْيِي بِهِ أي بسبب الماء الْأَرْضَ بأن يخرج سبحانه به النبات بَعْدَ مَوْتِها يبسها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم في استنباط أسبابها وكيفية تكونها ليظهر لهم كمال قدرة الصانع جلّ شأنه وحكمته سبحانه، وقال الطيبي: لما كان ما ذكر تمثيلا لإحياء الجزء: 11 ¦ الصفحة: 34 الناس وإخراج الموتى وكان التمثيل لإدناء المتوهم المعقول وإراءة المتخيل في صورة المحقق ناسب أن تكون الفاصلة لقوم يعقلون. وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ. أي بقوله تعالى قوما أو بإرادته عزّ وجلّ، والتعبير عنها بالأمر للدلالة على كمال القدرة والغنى عن المبادئ والأسباب، وليس المراد بإقامتهما إنشاءهما لأنه قد بين حاله بقوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ولا إقامتهما بغير مقيم محسوس كما قيل فإن ذلك من تتمات إنشائهما وإن لم يصرح به تعويلا على ما ذكر في موضع آخر من قوله تعالى: خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها [لقمان: 10] الآية بل قيامهما وبقاؤهما على ما هما عليه إلى أجلهما الذي أشير إليه بقوله تعالى فيما قبل: ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى [الروم: 8] . ولما كان البقاء مستقبلا باعتبار أواخره وما بعد نزول هذه الآية أظهرت هنا كلمة أَنْ التي هي علم في الاستقبال. والإمام ذهب إلى أن القيام بمعنى الوقوف وعدم النزول ثم قال على ما لخصه بعضهم: ذكرت أَنْ هاهنا دون قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ لأن القيام لما كان غير متغير أخرج الفعل- بأن- العلم في الاستقبال وجعل مصدرا ليدل على الثبوت، وإراءة البرق لما كانت من الأمور المتجددة جيء بلفظ المستقبل ولم يذكر معه ما يدل على المصدر اهـ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ إِذا الأولى شرطية والثانية فجائية نائية مناسب الفاء في الجزاء لاشتراكهما في التعقيب. والجملة الشرطية قيل: معطوفة على أَنْ تَقُومَ على تأويل مفرد كأنه قيل: ومن آياته قيام السماء والأرض بأمره ثم خروجكم من قبوركم بسرعة إذا دعاكم، وصاحب الكشف يقول: إنها أقيمت مقام المفرد من حيث المعنى وأما من حيث الصورة فهي جملة معطوفة على قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ وذلك على أسلوب مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران: 97] وفائدته ما سمعته قريبا، وظاهر كلام بعض الأفاضل أن العطف عليه ظاهر في عدم قصد عد ما ذكر آية. واختار أبو السعود عليه الرحمة كون العطف من عطف الجمل وأن المذكور ليس من الآيات قال: حيث كانت آية قيام السماء والأرض بأمره تعالى متأخرة عن سائر الآيات المعدودة متصلة بالبعث في الوجود أخرت عنهن وجعلت متصلة به في الذكر أيضا فقيل: ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ الآية، والكلام مسوق للأخبار بوقوع البعث ووجوده بعد انقضاء أجل قيامهما مترتب على تعدد آياته تعدد آياته تعالى الدالة عليه غير منتظم في سلكها كما قيل كأنه قيل: ومن آياته قيام السماء والأرض على هيئتهما بأمره عزّ وجلّ إلى أجل مسمى قدره الله تعالى لقيامهما ثم إذا دعاكم أي بعد انقضاء الأجل في الأرض وأنتم في قبوركم دعوة واحدة بأن قال سبحانه: أيها الموتى أخرجوا فجأتم الخروج منها، ولعل ما أشار إليه صاحب الكشف أدق وأبعد مغزى فتأمل، وَمِنَ الْأَرْضِ متعلق بدعا ومِنْ لابتداء الغاية ويكفي في ذلك إذا كان الداعي هو الله تعالى نفسه لا الملك بأمره سبحانه كون المدعو فيها يقال دعوته من أسفل الوادي فطلع إلي لا بدعوة فإنه إذا جاء نهر الله جلّ وعلا بطل نهر معقل. نعم جوز كون ذلك صفة لها وأن يكون حالا من الضمير المنصوب ولا يتخرجون لأن ما بعد إذا لا يعمل فيما قبلها، وقال ابن عطية: إن مِنْ عندي لانتهاء الغاية وأثبت ذلك سيبويه، وقال أبو حيان: إنه قول مردود عند أصحابنا، وظواهر الأخبار أن الموتى يدعون حقيقة للخروج من القبور، وقيل: المراد تشبيه ترتب حصول الخروج على تعلق إرادته بلا توقف واحتياج إلى تجشم عمل بسرعة ترتب إجابة الداعي المطاع على دعائه، ففي الكلام استعارة تمثيلية أو تخييلية ومكنية بتشبيه الموتى بقوم يريدون الذهاب إلى محل ملك عظيم متهيئين لذلك وإثبات الدعوة لهم قرينتها أو هي تصريحية تبعية في قوله تعالى: دَعاكُمْ إلى آخرها، وثم إما للتراخي الزماني أو للتراخي الرتبي، والمراد عظم ما في المعطوف من إحياء الموتى في نفسه وبالنسبة إلى المعطوف عليه فلا ينافي قوله تعالى الآتي: وَهُوَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 35 أَهْوَنُ عَلَيْهِ وكونه أعظم من قيام السماء والأرض لأنه المقصود من الإيجاد والإنشاء وبه استقرار السعداء والأشقياء في الدرجات والدركات وهو المقصود من خلق الأرض والسماوات، فاندفع ما قاله ابن المنير من أن مرتبة المعطوف عليه هنا هي العليا مع إن كون المعطوف في مثله ارفع درجة أكثري لا كلي كما صرح به الطيبي فلا مانع من اعتبار التراخي الرتبي لو لم يكن المعطوف أرفع درجة، ويجوز حمل التراخي على مطلق البعد الشامل للزماني والرتبي. وقرأ السبعة ما عدا حمزة والكسائي «تخرجون» بضم التاء وفتح الراء، وهذه الآية ذكر أنها مما تقرأ على المصاب، أخرج ابن أبي حاتم عن الأزهر بن عبد الله الجرازي قال: يقرأ على المصاب إذا أخذ. وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ وذكر الإمام. وأبو حيان في وجه ترتيب الآيات وتذييل كل منهما بما ذيل كلاما طويلا أن احتجته فارجع إليه. وَلَهُ عزّ وجلّ خاصة كل مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الملائكة والثقلين خلقا وملكا وتصرفا ليس لغيره سبحانه شركة في ذلك بوجه من الوجوه كُلٌّ لَهُ لا لغيره جلّ وعلا قانِتُونَ منقادون لفعله لا يمتنعون عليه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 36 جلّ شأنه من الشؤون وإن لم ينقد بعضهم لأمره سبحانه فالمراد طلعة الإرادة لا طاعة الأمر بالعبادة، وهذا حاصل ما روي عن ابن عباس، وقال الحسن: قانِتُونَ قائمون بالشهادة على وحدانيته تعالى كما قال الشاعر: وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد وقال ابن جبير: قانِتُونَ مخلصون، وقيل: مقرون بالعبودية، وعليهما ليس العموم على ظاهره وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد الموت والتكرير لزيادة التقرير لشدة إنكارهم البعث والتمهيد لما بعده من قوله تعالى: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ الضمير المرفوع للإعادة وتذكيره لرعاية الخبر أو لأنها مؤولة بأن والفعل وهو في حكم المصدر المذكر أو لتأويلها بالبعث ونحوه، وكونه راجعا إلى مصدر مفهوم من يُعِيدُهُ وهو لم يذكر بلفظ الإعادة لا يفيد على ما قيل لأنه اشتهر به فكأنه إذا فهم منه يلاحظ فيه خصوص لفظه والضمير المجرور لله تعالى شأنه، وأَهْوَنُ للتفضيل أي والإعادة أسهل على الله تعالى من المبدأ، والأسهلية على طريقة التمثيل بالنسبة لما يفعله البشر مما يقدرون عليه، فإن إعادة شيء من مادته الأولى أهون عليهم من إيجاده ابتداء، والمراد التقريب لعقول الجهلة المنكرين للبعث وإلا فكل الممكنات بالنسبة إلى قدرته تعالى عزّ وجلّ سواء فكأنه قيل: وهو أهون عليه بالإضافة إلى قدركم والقياس على أصولكم. وذكر الزمخشري وجها آخر للتفضيل وهو أن الإنشاء من قبيل التفضل الذي يتخير فيه الفاعل بين أن يفعله وأن لا يفعله والإعادة من قبيل الواجب الذي لا بد من فعله لأنها لجزاء الأعمال وجزاؤها واجب والأفعال أما محال والمحال ممتنع أصلا خارج عن المقدور، وأما ما يصرف الحكيم عن فعله صارف وهو القبيح وهو رديف المحال لأن الصارف يمنع وجود الفعل كما تمنعه الإحالة، وأما تفضل والتفضل حاله بين بين للفاعل أن يفعله وأن لا يفعله، وأما واجب لا بد من فعله ولا سبيل إلى الإخلال به فكان الواجب أبعد الأفعال من الامتناع وأقربها من الحصول فلما كانت الإعادة من قبيل الواجب كانت أبعد الأفعال من الامتناع وإذا كانت أبعدها منه كانت أدخلها في التأتي والتسهل فكانت أهون منها وإذا كانت كذلك كانت أهون من الإنشاء اهـ. قال في التقريب: وفيه نظر لأنه مبني على الوجوب العقلي ولأن الوجوب إذا كان بالذات نافي القدرة كالامتناع وإلا كان ممكنا فتساوى الفعلان لاشتراكهما في مصحح المقدورية وهو الإمكان. وتعقبه في الكشف بقوله أقول: أنه غير واجب بالذات ولا يلزم منه المساواة مع التفضل في سهولة التأتي وأما المساواة في مصحح المقدورية فلا مدخل لها فيما نحن فيه، والحاصل منه أنه لو سلم منه أن الداعي إلى فعله أقوى فلا شك أنه أقرب إلى الوجود مما لا يكون الداعي كذلك. نعم إذا خلص الداعي إلى القسمين صارا سواء، وليس البحث على ذلك التقدير اهـ. والحق ما قاله أبو السعود من أنه ليس المراد بأهونية الفعل أقربيته إلى الوجود باعتبار كثرة الأمور الداعية للفاعل إلى إيجاده وقوة اقتضائها لتعلق قدرته به بل أسهلية تأتيه وصدوره عنه عند تعلق قدرته بوجوده وكونه واجبا بالغير، ولا تفاوت في ذلك بين أن يكون ذلك التعلق بطريق الإيجاب أو بطريق الاختيار. وروى الزجاج عن أبي عبيدة وكثير من أهل اللغة أن أَهْوَنُ هاهنا بمعنى هين، وروي ذلك عن ابن عباس، والربيع، وكذا هو في مصحف عبد الله، وهذا كما يقال: الله تعالى أكبر أي كبير وأنت أوحد الناس أي واحدهم وإني لأوجل أي وجل. وفي الكشف التحقيق أنه من باب الزيادة المطلقة، وإنما قيل بمعنى الهين لأنه يؤدي مؤداه، وقيل: أفعل على ظاهره وضمير عليه عائد على الخلق على معنى أن الإعادة أيسر على المخلوق لأن البداءة فيها تدريج من طور إلى طور إلى أن يصير إنسانا والإعادة لا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 37 تحتاج إلى التدريجات في الأطوار إنما يدعوه الله تعالى فيخرج وأما على معنى أن الإعادة أسهل على المخلوق أي أن يعيدوا شيئا ويفعلوه ثانيا بعد ما زاولوا فعله وعرفوه أولا أسهل من أن يفعلوه أولا قبل المزاولة وإذا كان هذا حال المخلوق فما بالك بالخالق، ولا يخفى أن الظاهر رجوع الضمير إليه تعالى، ثم إن الجار والمجرور صلة أَهْوَنُ وقدمت الصلة في قوله تعالى: هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ [مريم: 9، 21] وأخرت هنا لأنه قصد هنالك الاختصاص وهو محزه فقيل هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وإن كان صعبا عندكم أن يولد بين هم وعاقر وأما هاهنا فلا معنى للاختصاص كيف والأمر مبني على ما يعقلون من أن الإعادة أسهل من الابتداء فلو قدمت الصلة لتغير المعنى، ولما أخبر سبحانه بأن الإعادة أهون عليه على طريق التمثيل عقب ذلك بقوله تعالى: وَلَهُ تعالى شأنه خاصة الْمَثَلُ أي الوصف العجيب الشأن كالقدرة العامة والحكمة التامة وسائر صفات الكمال الْأَعْلى الذي ليس لغيره ما يدانيه فضلا عما يساويه فكأنه قيل هذا لتفهيم العقول القاصرة إذ صفاته تعالى عجيبة وقدرته جلّ شأنه عامة وحكمته سبحانه تامة فكل شيء بدأ وإعادة وإيجادا وإعداما على حد سواء ولا مثل له تعالى ولا ند، وعن قتادة، ومجاهد أن الْمَثَلُ الْأَعْلى لا إله إلّا الله، ولعلهما أرادا بذلك الوحدانية في ذاته تعالى وصفاته سبحانه، والكلام عليه مرتبط بما قبله أيضا كأنه قيل: ما ذكر لتفهيم العقول القاصرة لأنه تعالى لا يشاركه أحد في ذاته تعالى وصفاته عزّ وجلّ، وقيل: مرتبط بما بعده من قوله تعالى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ وقال الزجاج: المثل قوله تعالى: هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ قد ضربه الله تعالى مثلا فيما يسهل ويصعب عندكم وينقاس على أصولكم فاللام في المثل للعهد وهو محمول على ظاهره غير مستعار للوصف العجيب الشأن فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ متعلق بمضمون الجملة المتقدمة على معنى أنه سبحانه قد وصف بذلك وعرف به فيهما على ألسنة الخلائق وألسنة الدلائل، وقيل: بالأعلى، وقيل: بمحذوف هو حال منه أو من الْمَثَلُ أو من ضميره في الْأَعْلى وقيل: متعلق بما تعلق به لَهُ أي له في السماوات والأرض المثل الأعلى، والمراد أن دلالة خلقهما على عظيم القدرة أتم من دلالة الإنشاء فهو أدل على جواز الإعادة ولهذا جعل أعلى من الإنشاء فتأمل وَهُوَ الْعَزِيزُ القادر الذي لا يعجز عن بدء ممكن وإعادته الْحَكِيمُ الذي يجري الأفعال على سنن الحكمة والمصلحة ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا يتبين به بطلان الشرك مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي منتزعا من أحوالها التي هي أقرب الأمور إليكم وأعرفها عندكم وأظهرها دلالة على ما ذكر من بطلان الشرك لكونها بطريق الأولوية، ومِنْ لابتداء الغاية وقوله تعالى: هَلْ لَكُمْ إلى آخره تصوير للمثل، والاستفهام إنكاري بمعنى النفي ولَكُمْ خبر مقدم وقوله تعالى: مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ في موضع الحال من شُرَكاءَ بعد لأنه نعت نكرة تقدم عليها والعامل فيها كان في البحر هو العالم في الجار والمجرور الواقع خبرا ومِنْ للتبعيض وما واقعة على النوع، وقوله تعالى: مِنْ شُرَكاءَ مبتدأ ومِنْ مزيدة لتأكيد النفي المستفاد من الاستفهام، وقوله تعالى: فِي ما رَزَقْناكُمْ متعلق بشركاء أي هل شركاء فيما رزقناكم من الأموال وما يجري مجراها مما تنصرفون فيه كائنون من النوع الذي ملكته أيمانكم من نوع العبيد والإماء كائنون لكم. وجوز أن يكون لَكُمْ متعلقا بشركاء ويكون فِي ما رَزَقْناكُمْ في موضع الخبر كما تقول: لزيد في المدينة مبغض فلزيد متعلق بمبغض الذي هو مبتدأ وفي المدينة الخبر أي هل شركاء لكم كائنون مما ملكته إيمانكم كائنون فيما رزقناكم، وقوله تعالى: فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ جملة في موضع الجواب للاستفهام الإنكاري وَفِيهِ متعلق بسواء، وفي الكلام محذوف معطوف على (أنتم) أي فأنتم وهم أي المماليك مستوون فيه لا فرق بينكم وبينهم في التصرف فيه، وقيل: لا حذف و (أنتم) شامل للمماليك بطريق التغليب، وقوله تعالى: تَخافُونَهُمْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 38 خبر آخر لأنتم، وقال أبو البقاء: حال من ضمير (أنتم) الفاعل في سَواءٌ وقوله تعالى: كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ في موضع الصفة لمصدر محذوف أي تخافونهم أن تستبدوا بالتصرف فيه بدون رأيهم خيفة كائنة مثل خيفتكم من هو من نوعكم يعني الأحرار المساهمين لكم، والمقصود نفي مضمون ما فصل من الجملة الاستفهامية أي لا ترضون بأن يشارككم فيما رزقناكم من الأموال ونحوها مماليككم وهم أمثالكم في البشرية غير مخلوقين لكم بل لله تعالى فكيف تشركون به سبحانه في المعبودية التي هي من خصائصه تعالى الذاتية مخلوقه سبحانه بل مصنوع مخلوقه جلّ وعلا حيث تصنعونه بأيديكم ثم تعبدونه. وقرأ ابن أبي عبلة «أنفسكم» بالرفع على أن المصدر مضاف للمفعول وأَنْفُسِكُمْ فاعلة، قال أبو حيان: وهو وجه حسن ولا قبح في إضافة المصدر إلى المفعول مع وجود الفاعل كَذلِكَ أي مثل ذلك التفصيل الواضح نُفَصِّلُ الْآياتِ أي نبينها ونوضحها لا تفصيلا أدنى منه فإن التمثيل تصوير للمعاني المعقولة بصورة المحسوس وإبراز لأوابد المدركات على هيئة المأنوس فيكون في غاية الإيضاح والبيان. لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي يستعملون عقولهم في تدبير الأمثال، وقيل: في تدبير الأمور مطلقا ويدخل في ذلك الأمثال دخولا أوليا، وخصهم بالذكر مع عموم تفصيل الآيات للكل لأنهم المنتفعون بها، وذكر العرمة الطيبي أنه لما كان ضرب الأمثال لإدناء المتوهم إلى المعقول وإراءة المتخيل في صورة المحقق ناسب أن تكون الفاصلة لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وهذه النكتة هنا أظهر منها فيما تقدم فتذكر. وقرأ عباس عن أبي عمرو «يفصّل» بياء الغيبة رعيا لضرب إذ هو مسند لما يعود للغائب وقراءة الجمهور بالنون للحمل على رَزَقْناكُمْ وذكر بعض العلماء أن في هذه الآية دليلا على صحة أصل الشركة بين المخلوقين لافتقار بعضهم إلى بعض كأنه قيل: الممتنع المستقبح شركة العبيد لساداتهم أما شركة السادات بعضهم لبعض فلا تمتنع ولا تستقبح بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أعراض عن مخاطبتهم ومحاولة إرشادهم إلى الحق بضرب المثل وتفصيل الآيات واستعمال المقدمات الحقة المعقولة وبيان لإستحالة تبعيتهم للحق كأنه قيل: لم يعقلوا شيئا من الآيات المفصلة بل اتبعوا أَهْواءَهُمْ الزائغة، ووضع الموصول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بأنهم في ذلك الاتباع ظالمون واضعون للشيء في غير موضعه أو ظالمون لأنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد بِغَيْرِ عِلْمٍ أي جاهلين ببطلان ما أتوا منكبين عليه لا يصرفهم عنه صارف حسبما يصرف العالم إذا اتبع الباطل علمه ببطلانه فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ أي خلق فيه الضلال وجعله كاسبا له باختياره وَما لَهُمْ أي لمن أضله الله تعالى، والجمع باعتبار المعنى مِنْ ناصِرِينَ يخلصونهم من الضلال ويحفظونهم من تبعاته وآفاته على معنى ليس لواحد منهم ناصر واحد على ما هو المشهور في مقابلة الجمع بالجمع، ومَنْ مزيدة لتأكيد النفي، والكلام مسوق لتسلية رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وتوطئة لأمره عليه الصلاة والسلام بقوله سبحانه: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً قال العلامة الطيبي: إنه تعالى عقيب ما عدد الآيات البينات والشواهد الدالة على الوحدانية ونفي الشرك وإثبات القول بالمعاد وضرب سبحانه المثل وقال سبحانه: كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أراد جلّ شأنه أن يسلي حبيبه صلوات الله تعالى وسلامه عليه ويوطنه على اليأس من إيمانهم فأضرب تعالى عن ذلك وقال سبحانه: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ وجعل السبب في ذلك أنه عزّ وجلّ ما أراد هدايتهم وأنه مختوم على قلوبهم ولذلك رتب عليه قوله تعالى: فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ على التقريع والإنكار ثم ذيل سبحانه الكل بقوله تعالى: وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يعني إذا أراد الله تعالى منهم ذلك فلا مخلص لهم منه ولا أحد ينقذهم لا أنت ولا غيرك فلا تذهب نفسك عليهم حسرات فاهتم بخاصة نفسك ومن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 39 تبعك وأقم وجهك إلخ اهـ، ومنه يعلم حال الفاء في قوله تعالى: فَمَنْ وكذا في قوله سبحانه: فَأَقِمْ وقدر النيسابوري للثانية إذا تبين الحق وظهرت الوحدانية فأقم إلخ، ولعل ما أشار إليه الطيبي أولى، ثم إنه يلوح من كلامه احتمال أن يكون الموصول قائما مقام ضمير الَّذِينَ ظَلَمُوا فتدبر. و «أقم» من أقام العود ويقال قوم العود أيضا إذا عدله، والمراد الأمر بالإقبال على دين الإسلام والاستقامة والثبات عليه والاهتمام بترتيب أسبابه على أن الكلام تمثيل لذلك فإن من اهتم بشيء محسوس بالبصر عقد إليه طرفة وسدد إليه نظره وأقبل عليه بوجه غير ملتفت عنه فكأنه قيل: فعدل وجهك للدين وأقبل عليه إقبالا كاملا غير ملتفت يمينا وشمالا، وقال بعض الأجلة: إن إقامة الوجه للشيء كناية عن كمال الاهتمام به، ولعله أراد بالكناية المجاز المتفرع على الكناية فإنه لا يشترط فيه إمكان إرادة المعنى الحقيقي، ونصب حَنِيفاً على الحال من الضمير في (أقم) أو من الدين، وجوز أبو حيان كونه حالا من الوجه، وأصل الحنف الميل من الضلال إلى الاستقامة وضده الجنف بالجيم فِطْرَتَ اللَّهِ نصب على الإغراء أي الزموا فطرة الله تعالى، ومن أجاز إضمار أسماء الأفعال جوز أن يقدر هنا عليكم اسم فعل، وقال مكي: هو نصب بإضمار فعل أي اتبع فطرة الله ودل عليه قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ لأن معناه اتبع الدين، واختاره الطيبي وقال: أنه أقرب في تأليف النظم لأنه موافق لقوله تعالى: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ ولترتب قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ عليه بالفاء. وجوز أن يكون نصبا بإضمار أعني وأن يكون مفعولا مطلقا لفعل محذوف دل عليه ما بعد أي فطركم فطرة الله، ولا يصح عمل فطر المذكور بعد فيه لأنه من صفته، وأن يكون منصوبا بما دل عليه الجملة السابقة على أنه مصدر مؤكد لنفسه. وأن يكون بدلا من حَنِيفاً والمتبادر إلى الذهن النصب على الإغراء، وإضمار الفعل على خطاب الجماعة مع أن المتقدم فَأَقِمْ هو ما اختاره الزمخشري ليطابق قوله تعالى: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وجعله حالا من ضمير الجماعة المسند إليه الفعل، وجعل قوله تعالى: وَاتقوا وَأَقِيمُوا وَلا تَكُونُوا معطوفا على ذلك الفعل. وقال الطيبي: بعد ما اختار تقرير اتبع ورجحه بما سمعت: وأما قوله تعالى: مُنِيبِينَ فهو حال من الضمير في (أقم) وإنما جمع لأنه مردد على المعنى لأن الخطاب للنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم وهو خطاب لأمته فكأنه قيل: أقيموا وجوهكم منيبين. وقال الفراء: أي أقم وجهك ومن تبعك كقوله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ [هود: 112] فلذلك قال سبحانه: مُنِيبِينَ وفي المرشد أن مُنِيبِينَ متعلق بمضمر أي كونوا منيبين لقوله تعالى بعد: وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ اهـ. ولا يخفى على المنصف حسن كلام الزمخشري، وما أن ذكر من خطابه صلّى الله تعالى عليه وسلم خطاب الأمة يؤكد الدلالة وعلى ذلك المضمر لا أنه يجوز أن يكون مُنِيبِينَ حالا من الضمير في (أقم) وظاهر كلام الفراء يقتضي كون الحال من مذكور ومحذوف وهو قليل في الكلام، وإضمار كونوا مع إضمار فعل ناصب لفطرة الله موجب لكثرة الإضمار، وإضماره دون إضمار فيما قيل موجب لارتكاب خلاف المتبادر هناك، والفطرة على ما قال ابن الأثير للحالة كالجلسة والركبة من الفطر بمعنى الابتداء والاختراع، وفسرها الكثير هنا بقابلية الحق والتهيؤ لإدراكه، وقالوا: معنى لزومها الجريان على موجبها وعدم الإخلال به باتباع الهوى وتسويل شياطين الأنس والجن، ووصفها بقوله تعالى: الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لتأكيد وجوب امتثال الأمر، وعن عكرمة تفسيرها بدين الإسلام. وفي الخبر ما يدل عليه، أخرج ابن مردويه عن حماد بن عمر الصفار قال: سألت عن قتادة عن قوله تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها فقال: حدثني أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلى الله الجزء: 11 ¦ الصفحة: 40 تعالى عليه وسلم فطرة الله التي فطر الناس عليها دين الله تعالى» والمراد بفطرهم على دين الإسلام خلقهم قابلين له غير نابين عنه ولا منكرين له مجاوبا للعقل مساوقا للنظر الصحيح حتى لو تركوا لما اختاروا عليه دينا آخر، ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم ما من مولود يولد إلّا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء» والمراد بالناس على التفسيرين جميعهم. وزعم بعضهم أن المراد بهم على التفسير الثاني المؤمنون وليس بشيء. واستشكل الاستغراق بأنه ورد في الغلام الذي قتله الخضر عليه السلام أنه طبع على الكفر. وأجيب بأن معنى ذلك أنه قدر أنه لو عاش يصير كافرا بإضلال غيره له أو بآفة من الآفات البشرية، وهذا على ما قيل هو المراد من قوله عليه الصلاة والسلام: «الشقي شقي في بطن أمه» وذلك لا ينافي الفطر على دين الإسلام بمعنى خلقه متهيأ له مستعدا لقبوله فتأمل فالمقام محتاج بعد إلى تحقيق، وقيل: فطرة الله العهد المأخوذ على بني آدم، ومعنى فطرهم على ذلك على ما قيل خلقهم مركوزا فيهم معرفته تعالى كما أشير إليه بقوله سبحانه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25، الزمر: 38] وقوله سبحانه: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ تعليل للأمر بلزوم فطرته تعالى أو لوجوب الامتثال به فالمراد بخلق الله فطرته المذكورة أولا ففيه إقامة المظهر مقام المضمر من غير لفظه السابق، والمعنى لا صحة ولا استقامة لتبديل فطرة الله تعالى بالإخلال بموجبها وعدم ترتيب مقتضاها عليها باتباع الهوى وقبول وسوسة الشياطين، وقيل: المعنى لا يقدر أحد على أن يغير خلق الله سبحانه وفطرته عزّ وجلّ فلا بد من حمل التبديل على تبديل نفس الفطرة بإزالتها رأسا ووضع فطرة أخرى مكانها غير مصححة لقبول الحق والتمكن من إدراكه ضرورة، فإن التبديل بالمعنى الأول مقدور بل واقع قطعا فالتعليل حينئذ من جهة أن سلامة الفطرة متحققة في كل أحد فلا بد من لزومها بترتيب مقتضاها عليها وعدم الإخلال به بما ذكر من اتباع الهوى ووسوسة الشياطين، وقال الإمام: يحتمل أن يقال: إن الله تعالى خلق خلقه للعبادة وهم كلهم عبيده لا تبديل لخلق الله أي ليس كونهم عبيدا مثل كون المملوك عبدا للإنسان فإنه ينتقل عنه إلى غيره ويخرج عن ملكه بالعتق بل لا خروج للخلق عن العبادة والعبودية، وهذا لبيان فساد قول من يقول: العبادة لتحصيل الكمال وإذا كمل للعبد بها لا يبقى عليه تكليف. وقول المشركين: إن الناقض لا يصلح لعبادة الله تعالى وإنما يعبد نحو الكواكب وهي عبيد الله تعالى، وقول النصارى: إن عيسى عليه السلام كمل بحلول الله تعالى فيه وصار إلها اهـ وفيه ما فيه، ومما يستغرب ما روي عن ابن عباس من أن معنى لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ النهي عن خصاء الفحول من الحيوان، وقيل: إن الكلام متعلق بالكفرة كأنه قيل: فأقم وجهك للدين حنيفا والزم فطرة الله التي فطر الناس عليها فإن هؤلاء الكفرة خلق الله تعالى لهم الكفر ولا تبديل لخلق الله أي أنهم لا يفلحون. وأنت تعلم أنه لا ينبغي حمل كلام الله تعالى على نحو هذا ذلِكَ إشارة إلى الدين المأمور بإقامة الوجه له أو إلى لزوم فطرة الله تعالى المستفاد من الإغراء أو إلى الفطرة والتذكير باعتبار الخبر أو بتأويل المشار إليه بمذكر الدِّينُ الْقَيِّمُ المستوي الذي لا عوج فيه ولا انحراف عن الحق بوجه من الوجوه كما ينبىء عنه صيغة المبالغة، وأصله قيوم على وزن فيعل اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء فيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ذلك فيصدون عنه صدودا. وقيل: أي لا علم لهم أصلا ولو علموا لعلموا ذلك على أن الفعل منزل منزلة اللازم مُنِيبِينَ إِلَيْهِ أي راجعين إليه تعالى بالتوبة وإخلاص العمل من ناب نوبة ونوبا إذا رجع مرة بعد أخرى، ومن النواب أي النحل سميت الجزء: 11 ¦ الصفحة: 41 بذلك لرجوعها إلى مقرها، وقيل: أي منقطعين إليه تعالى من الناب السن خلف الرباعية لما يكون بها من الانقطاع ما لا يكون بغيرها. وتعقب بأنه بعيد لأن الناب يأتي وهذا واوي، وقد تقدم غير بعيد عدة أقوال في وجه نصبه، وزاد عليها في البحر القول بكونه نصبا على الحال من النَّاسَ في قوله تعالى: فَطَرَ النَّاسَ وقدمه على سائر الأقوال وهو كما ترى، وتقدم أيضا ما قيل في عطف قوله تعالى: وَاتَّقُوهُ أي من مخالفة أمره تعالى وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ المبدلين لفطرة الله سبحانه تبديلا، والظاهر أن المراد بهم كل من أشرك بالله عزّ وجلّ، والنهي متصل بالأوامر قبله، وقيل: بأقيموا الصلاة، والمعنى ولا تكونوا من المشركين بتركها وإليه ذهب محمد بن أسلم الطوسي وهو كما ترى، وقوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ بدل من المشركين بإعادة الجار، وتفريقهم لدينهم اختلافهم فيما يعبدونه على اختلاف أهوائهم، وقيل: اختلافهم في اعتقاداتهم مع اتحاد معبودهم، وفائدة الإبدال التحذير عن الانتماء إلى حزب من أحزاب المشركين ببيان أن الكل على الضلال المبين. وقرأ حمزة، والكسائي «فارقوا» أي تركوا دينهم الذي أمروا به أو الذي اقتضته فطرتهم وَكانُوا شِيَعاً أي فرقا تشايع كل فرقة أمامها الذي مهد لها دينها وقرره ووضع أصوله كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ من الدين المعوج المؤسس على الرأي الزائغ والزعم الباطل فَرِحُونَ مسرورون ظنا منهم أنه حق، والجملة قيل اعتراض مقرر لمضمون ما قبله من تفريق دينهم وكونهم شيعا، وقيل: في موضع نصب على أنها صفة شِيَعاً بتقدير العائد أي كل حزب منهم، وزعم بعضهم كونها حالا. وجوز أن يكون فَرِحُونَ صفة لكل كقول الشماخ: وكل خليل غير هاضم نفسه ... لوصل خليل صارم أو معارز والخبر هو الظرف المتقدم أعني قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ فيكون منقطعا عما قبله، وضعف بأنه يوصف المضاف إليه في نحوه صرح به الشيخ ابن الحاجب في قوله: وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان وفي البحر أن وصف المضاف إليه في نحوه هو الأكثر وأنشد قوله: جادت عليه كل عين ترة ... فتركن كل حديقة كالدرهم وما قيل: إنه إذا وصف به كُلُّ دل على أن الفرح شامل للكل وهو أبلغ ليس بشيء بل العكس أبلغ لو تؤمل أدنى تأمل وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ أي شدة دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ راجعين إليه تعالى من دعاء غيره عزّ وجلّ من الأصنام وغيرها ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً خلاصا من تلك الشدة إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ الذي كانوا دعوه منيبين إليه يُشْرِكُونَ أي فاجأ فريق منهم الإشراك وذلك بنسبة خلاصهم إلى غيره تعالى من صنم أو كوكب أو نحو ذلك من المخلوقات وتخصيص هذا الفعل ببعضهم لما أن بعضهم ليسوا كذلك، وتنكير ضُرٌّ ورَحْمَةً للتعليل إشارة إلى أنهم لعدم صبرهم يجزعون لأدنى مصيبة ويطغون لأدنى نعمة، و «ثم» للتراخي الرتبي أو الزماني لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ اللام فيه للعاقبة وكونها تقتضي المهلة ولذا سميت لام المآل والشرك والكفر متقاربان لا مهلة بينهما كما قيل لا وجه له، وقيل: للأمر وهو للتهديد كما يقال عند الغضب اعصني ما استطعت وهو مناسب لقوله سبحانه: فَتَمَتَّعُوا فإنه أمر تهديدي، واحتمال كونه ماضيا معطوفا على يُشْرِكُونَ لا يخفى حاله، والفاء للسببية، والتمتع التلذذ، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وبال تمتعكم. وقرأ أبو العالية «فيمتعوا» بالياء التحتية مبنيا للمفعول وهو معطوف على (يكفروا) فسوف يعلمون بالياء التحتية أيضا، وعن أبي العالية أيضا «فيتمتعوا» بياء تحتية قبل التاء وهو معطوف على (يكفروا) أيضا، وعن ابن مسعود «وليتمتعوا» باللام والياء الجزء: 11 ¦ الصفحة: 42 التحتية وهو عطف على «ليكفروا» أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً التفات من الخطاب إلى الغيبة إيذانا بالإعراض عنهم وتعديدا لجناياتهم لغيرهم بطريق المباثة، وأَمْ منقطعة، والسلطان لحجة فالإنزال مجاز عن التعليم أو الإعلام، وقوله تعالى: فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بمعنى فهو يدل على أن التكلم مجاز عن الدلالة، ولك أن تعتبر هنا جميع ما اعتبروه في قولهم: نطقت الحال من الاحتمالات، ويجوز أن يراد بسلطانا ذا سلطان أي ملكا معه برهان فلا مجاز أولا وآخرا. وجملة هو يَتَكَلَّمُ جواب للاستفهام الذي تضمنته أَمْ إذ المعنى بل أأنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ أي بإشراكهم بالله عزّ وجلّ، وصحته على أن (ما) مصدرية وضمير بِهِ له تعالى أو بالأمر الذي يشركون بسببه وألوهيته على أن (ما) موصولة وضمير بِهِ لها والباء سببية، والمراد نفي أن يكون لهم مستمسك يعول عليه في شركهم وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً أي نعمة من صحة وسعة ونحوهما فَرِحُوا بِها بطرا وأشرا فإنه الفرح المذموم دون الفرح حمدا وشكرا، وهو المراد في قوله تعالى: «قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا» وقال الامام: المذموم الفرح بنفس الرحمة والممدوح الفرح برحمة الله تعالى من حيث إنها مضافة إلى الله تعالى وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ شدة بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ بشؤم معاصيهم إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ أي فاجؤوا القنوط من رحمته عزّ وجلّ، والتعبير بإذا أولا لتحقق الرحمة وكثرتها دون المقابل، وفي نسبة الرحمة إليه تعالى دون السيئة تعليم للعباد أن لا يضاف إليه سبحانه الشر وهو كثير كقوله تعالى: أَنْعَمْتَ والْمَغْضُوبِ في [الفاتحة: 7] ، وعدم بيان سبب إذاقة الرحمة وبيان سبب إصابة السيئة إشارة إلى أن الأول تفضل والثاني عدل، والتعبير بالمضارع في إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ لرعاية الفاصلة والدلالة على الاستمرار في القنوط، والمراد بالناس إما فريق آخر غير الأول على أن التعريف للعهد أو للجنس وإما الفريق الأول لكن الحكم الأول ثابت لهم في حال تدهشهم كمشاهدة العرق وهذا الحكم في حال آخر لهم فلا مخالفة بين قوله تعالى: «وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه» وقوله سبحانه: «وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم ينقطون» فلا يحتاج إلى تكلف التوفيق بأن الدعاء اللساني جار على العادة فلا ينافي القنوط القلبي ولذا سمع بعض الخائضين في دم عثمان رضي الله تعالى عنه يدعو في طوافه ويقول: اللهم اغفر لي ولا أظنك تفعل، أو المراد يفعلون فعل القانطين كالاهتمام بجمع الذخائر أيام الغلاء، ولا يخفى أن في المفاجأة نبوة ما عن هذا فتأمل. وقرىء «يقنطون» بكسر النون أَوَلَمْ يَرَوْا أي ألم ينظروا ولم يشاهدوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ أن يبسطه تعالى له وَيَقْدِرُ أي ويضيقه على من يشاء أن يضيقه عليه، وهذا إما باعتبار شخصين أو باعتبار شخص واحد في زمانين، والمراد إنكار فرحهم وقنوطهم في حالتي الرخاء والشدة أي أو لم يروا ذلك فما لهم لم يشكروا ولم يحتسبوا في السراء والضراء كالمؤمنين إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور أي البسط وضده أو جميع ما ذكر لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فيستدلون بها على كمال القدرة والحكمة ولله تعالى در من قال: نكد الأريب وطيب عيش الجاهل ... قد أرشداك إلى حكيم كامل قال الطيبي: كانت الفاصلة قوله تعالى: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إيذانا بأنه تعالى يفعل ذلك بمحض مشيئته سبحانه وليس الغنى بفعل العبد وجهده ولا العدم بعجزه وتقاعده ولا يعرف ذلك إلا من آمن بأن ذلك تقدير العزيز العليم كما قال: كم من أريب فهم قلبه ... مستكمل العقل مقلّ عديم ومن جهول مكثر ماله ... ذلك تقدير العزيز العليم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 43 فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ من الصلة والصدقة وسائر المبرات وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ما يستحقانه، والخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلم على أنه عليه الصلاة والسلام المقصود أصالة وغيره من المؤمنين تبعا، وقال الحسن: هو خطاب لكل سامع، وجوز غير واحد أن يكون لمن بسط له الرزق، ووجه تعلق هذا الأمر بما قبله واقترانه بالفاء على ما ذكره الزمخشري أنه تعالى لما ذكر أن السيئة أصابتهم بما قدمت أيديهم أتبعه ذكر ما يجب أن يفعل وما يجب أن يترك، وحاصله على ما في الكشف أن امتثال أوامره تعالى مجلبة رضاه والحياة الطيبة تتبعه كما أن عصيانه سبحانه مجلبة سخطه والجدب والضيقة من روادفه فإذا استبان ذلك فآت يا محمد ومن تبعه أو فآت يا من بسط له الرزق ذا القربى حقه إلخ، وذكر الإمام وجها آخر مبنيا على أن الأمر متفرع على حديث البسط والقدر وهو أنه تعالى لما بين أنه سبحانه يبسط ويقدر أمر جلّ وعلا بالإنفاق إيذانا بأنه لا ينبغي أن يتوقف الإنسان في الإحسان فإن الله تعالى إذا بسط الرزق لا ينقص بالإنفاق وإذا قدر لا يزداد بالإمساك كما قيل: إذ جادت الدنيا عليك فجد بها ... على الناس طرّا إنها تتقلب فلا الجود يفنيها إذا هي أقبلت ... ولا البخل يبقيها إذا هي تذهب قال صاحب الكشف روح الله تعالى روحه: إن ما ذكره الزمخشري أوفق لتأليف النظم الجليل فإن قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لتتميم الإنكار على من فرح بالنعمة عن شكر المنعم ويئس عند زوالها عنه، والظاهر على ما ذكره الإمام أن المراد بالحق الحق المالي وكذا المراد به في جانب المسكين وابن السبيل، وحمل ذلك بعضهم على الزكاة المفروضة. وتعقب بأن السورة مكية والزكاة إنما فرضت بالمدينة واستثناء هذه الآية ودعوى أنها مدنية يحتاج إلى نقل صحيح، وسبق النزول على الحكم بعيد ولذا لم يذكر هنا بقية الأصناف، وحكي أن أبا حنيفة استدل بالآية على وجوب النفقة لكل ذي رحم محرم ذكرا كان أو أنثى إذا كان فقيرا أو عاجزا عن الكسب، ووجه بأن (آت) أمر للوجوب، والظاهر من الحق بقرينة ما قبله أنه مالي ولو كان المراد الزكاة لم يقدم حق ذوي القربى إذ الظاهر من تقديمه المغايرة، والشافعية أنكروا وجوب النفقة على من ذكر وقالوا: لا نفقة بالقرابة إلّا على الولد والوالدين على ما بين في الفقه، والمراد بالحق المصرح به في ذي القربى صلة الرحم بأنواعها وبالحق المعتبر في جانب المسكين وابن السبيل صدقة كانت مفروضة قبل فرض الزكاة أو الزكاة المفروضة والآية مدنية أو مكية والنزول سابق على الحكم. واعترض على هذا بأنه إذا فسر حق الأخيرين بالزكاة وجب تفسير الأول بالنفقة الواجبة لئلا يكون لفظ الأمر للوجوب والندب، ولذا استدل أبو حنيفة عليه الرحمة بالآية على ما تقدم، وفيه بحث. وقال بعض أجلّة الشافعية رادا على الاستدلال: إنه كيف يتم مع احتمال أن يكون الأمر بإيتاء الصدقة أيضا بدليل ما تلاه، ثم إن ذَا الْقُرْبى مجمل عند المستدل ومن أين له أنه بين بذي الرحم المحرم، وكذلك قوله تعالى: حَقَّهُ ثم قال: والحق أنه أمر بتوفير حقه من الصلة لا خصوص النفقة وصلة الرحم من الواجبات المؤكدة انتهى، والحق أحق بالاتباع، ودليل الإمام عليه الرحمة ليس هذا وحده كما لا يخفى على علماء مذهبه. وخص بعض الخطاب به صلّى الله تعالى عليه وسلّم وقال: المراد بذي القربى بنو هاشم وبنو المطلب أمر صلى الله تعالى عليه وسلم أن يؤتيهم حقهم من الغنيمة والفيء، وفي مجمع البيان للطبرسي من الشيعة المعنى وآت يا محمد ذوي قرابتك حقوقهم التي جعلها الله تعالى لهم من الأخماس. وروى أبو سعيد الخدري وغيره أنه لما نزلت هذه الآية أعطى عليه الصلاة والسلام فاطمة رضي الله تعالى عنها فدكا وسلمه إليها، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله انتهى وفيه أن هذا ينافي ما اشتهر عند الطائفتين من أنها رضي الله تعالى عنها ادعت فدكا بطريق الجزء: 11 ¦ الصفحة: 44 الإرث، وزعم بعضهم أنها ادعت الهبة وأتت على ذلك بعلي والحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم وبأم أيمن رضي الله تعالى عنها فلم يقبل منها لمكان الزوجية والبنوة وعدم كفاية المرأة الواحدة في الشهادة في هذا الباب فادعت الإرث فكان ما كان وهذا البحث مذكور على أتم وجه في التحفة إن أردته فارجع إليه، وخص بعضهم ابْنَ السَّبِيلِ بالضيف وحقه بالإحسان إليه إلى أن يرتحل والمشهور أنه المنقطع عن ماله وبين المعنيين عموم من وجه، وقدم ذو القربى اعتناء بشأنه وهو السر في تقديم المفعول الثاني على العطف والعدول عن وآت ذا القربى والمسكين وابن السبيل حقهم، وعبر عن القريب بذي القربى في جميع المواضع ولم يعبر عن المسكين بذي المسكنة لأن القرابة ثابتة لا تتجدد وذو كذا لا يقال في الأغلب إلا في الثابت ألا ترى أنهم يقولون لمن تكرر منه الرأي الصائب فلان ذو رأي ويكاد لا تسمعهم يقولون لمن أصاب مرة في رأيه كذلك وكذا نظائر ذلك من قولهم: فلان ذو جاه وفلان ذو إقدام، والمسكنة لكونها مما تطرأ وتزول لم يقل في المسكين ذو مسكنة كذا قال الإمام: ذلِكَ أي الإيتاء المفهوم من الأمر خَيْرٌ في نفسه أو خير من غيره لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ أي ذاته سبحانه أي يقصدونه عزّ وجلّ بمعروفهم خالصا أو جهته تعالى أي يقصدون جهة التقرب إليه سبحانه لا جهة أخرى والمعنيان كما في الكشف متقاربان ولكن الطريقة مختلفة. وَأُولئِكَ المتصفون بالإيتاء هُمُ الْمُفْلِحُونَ حيث حصلوا بإنفاق ما يفنى النعيم المقيم، والحصر إضافي على ما قيل: أي أولئك هم المفلحون لا الذين بخلوا بما لهم ولم ينفقوا منه شيئا. وقيل: هو حقيقي على أن المتصفين بالإيتاء المذكور هم الذين آمنوا وأقاموا الصلاة وأنابوا إليه تعالى واتقوه عزّ وجلّ فلا منافاة بين هذا الحصر والحصر المذكور في أول سورة البقرة فتأمل وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً الظاهر أنه أريد به الزيادة المعروفة في المعاملة التي حرمها الشارع إليه ذهب الجبائي وروي ذلك عن الحسن ويشهد له ما روي عن السدي من أن الآية نزلت في ربا ثقيف كانوا يرون وكذا كانت قريش، وعن ابن عباس ومجاهد، وسعيد بن جبير، والضحاك، ومحمد بن كعب القرظي، وطاوس وغيرهم أنه أريد به العطية التي يتوقع بها مزيد مكافأة وعليه فتسميتها ربا مجاز لأنها سبب للزيادة، وقيل: لأنها فضل لا يجب على المعطي. وعن النخعي أن الآية نزلت في قوم يعطون قراباتهم وإخوانهم على معنى نفعهم وتمويلهم والتفضيل عليهم وليزيدوا في أموالهم على جهة النفع لهم وهي رواية عن ابن عباس فالمراد بالربا العطية التي تعطى للأقارب للزيادة في أموالهم، ووجه تسميتها بما ذكر معلوم مما ذكرنا، وأيا ما كان- فمن- بيان- لما- لا للتعليل. وقرأ ابن كثير «أتيتم» بالقصر ومعناه على قراءة الجمهور أعطيتم وعلى هذه القراءة جئتم أي ما جئتم به من عطاء ربا لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ أي ليزيد ذلك الربا ويزكو في أموال الناس الذين آتيتموهم إياه، وقال ابن الشيخ: المعنى على تفسير الربا بالعطية ليزيد ذلك الربا في جذب أموال الناس وجلبها، وفي معناه ما قيل ليزيد ذلك بسبب أموال الناس وحصول شيء منها لكم بواسطة العطية، وعن ابن عباس، والحسن، وقتادة، وأبي رجاء، والشعبي، ونافع، ويعقوب، وأبي حيوة «لتربوا» بالتاء الفوقية مضمومة وإسناد الفعل إليهم وهو باب الأفعال المتعدية لواحد بهمزة التعدية والمفعول محذوف أي لتربوه وتزيدوه في أموال الناس أو هو من قبيل يجرح في عراقيبها نصلى أي لتربوا وتزيدوا أموال الناس، ويجوز أن يكون ذلك للصيرورة أي لتصيروا ذوي ربا في أموال الناس. وقرأ أبو مالك «لتربوها» بضمير المؤنث وكان الضمير للربا على تأويله بالعطية أو نحوها فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ أي فلا يبارك فيه في تقديره تعالى وحكمه عزّ وجلّ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ أي من صدقة تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ تبتغون به وجهه تعالى خالصا فَأُولئِكَ هُمُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 45 الْمُضْعِفُونَ أي ذوو الأضعاف على أن مضعفا اسم فاعل من أضعف أي صار ذا ضعف بكسر فسكون بأن يضاعف له ثواب ما أعطاه كما قوى وأيسر إذا صار ذا قوة ويسار فهو لصيرورة الفاعل ذا أصله، ويجوز أن يكون من أضعف والهمزة للتعدية والمفعول محذوف أي الذين ضعفوا ثوابهم وأموالهم ببركة الزكاة. ويؤيد هذا الوجه قراءة أبي «المضعفون» اسم مفعول، وكان الظاهر أن يقال: فهو يربو عند الله لأنه الذي تقتضيه المقابلة إلا أنه غير في العبارة إذا أثبت غير ما قبله وفي النظم إذا أتى فيما قبل بجملة فعلية وهنا بجملة اسمية مصدرة باسم الإشارة مع ضمير الفصل لقصد المبالغة فأثبت لهم المضاعفة التي هي أبلغ من مطلق الزيادة على طريق التأكيد بالاسمية والضمير وحصر ذلك فيهم بالاستحقاق مع ما في الإشارة من التعظيم لدلالته على علو المرتبة وترك ما أتوا وذكر المؤتى إلى غير ذلك، والالتفات عن الخطاب حيث قيل: فأولئك دون فأنتم للتعظيم كأنه سبحانه خاطب بذلك الملائكة عليهم السلام وخواص الخلق تعريفا لحالهم، ويجوز أن يكون التعبير بما ذكر للتعميم بأن يقصد بأولئك هؤلاء وغيرهم، والراجع في الكلام إلى ما محذوف إن جعلت موصولة وكذلك إن جعلت شرطية على الأصح لأنه خبر على كل حال أي فأولئك هم المضعفون به أو فمؤتوا على صيغة اسم الفاعل أولئك المضعفون، والحذف لما في الكلام من الدليل عليه، وعلى تقدير مؤتوه العام لا يكون هناك التفات بالمعنى المتعارف، واعتبار الالتفات أولى، وفي الكشاف أن الكلام عليه أملأ بالفائدة وبين ذلك بأن الكلام مسوق لمدح المؤتين حثا في الفعل وهو على تقدير الالتفات من وجوه. أحدها الإشارة بأولئك تعظيما لهم والثاني تقريه الملائكة عليهم السلام بمدحهم. والثالث ما في نفس الالتفات من الحسن. والرابع ما في أولئك على هذا من الفائدة المقررة في نحو فذلك أن يهلك فحسبي ثناؤه بخلافه إذا جعل وصفا للمؤتين وعلى ذلك التقدير يفيد تعظيم الفعل لا الفاعل وإن لزم بالعرض فلا يعارض ما يفيده بالأصالة فتأمل، والآية على المعنى الأول للربا في معنى قوله عزّ وجلّ: يمحق الله الربا ويربي الصدقات [البقرة: 276] سواء بسواء، والذي يقتضيه كلام كثير أنها تشعر بالنهي عن الربا بذلك المعنى لكن أنت تعلم أنها لو أشعرت بذلك لأشعرت بحرمة الربا بمعنى العطية التي يتوقع بها مزيد مكافأة على تقدير تفسير الربا بها مع أنهم صرحوا بعدم حرمة ذلك على غيره صلّى الله تعالى عليه وسلم وحرمتها عليه عليه الصلاة والسلام لقوله تعالى: ولا تمنن تستكثر [المدثر: 6] وكذا صرحوا بأن ما يأخذه المعطي لتلك العطية من الزيادة على ما أعطاه ليس بحرام ودافعه ليس بآثم لكنه لا يثاب على دفع الزيادة لأنها ليست صلة مبتدأة بل بمقابلة ما أعطي أولا ولا ثواب فيما يدفع عوضا وكذا لا ثواب في إعطاء تلك العطية أولا لأنها شبكة صيد، ومعنى قول بعض التابعين الجانب المستغزر يثاب من هبته أن الرجل الغريب إذا أهدى إليك شيئا لتكافئه وتزيده شيئا فأثبه من هديته وزده. اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ الظاهر أن الاسم الجليل مبتدأ والَّذِي خبره والاستفهام إنكاري ومِنْ شُرَكائِكُمْ خبر مقدم ومِنْ مبتدأ مؤخر ومِنْ فيه للتبعيض ومِنْ ذلِكُمْ صفة شَيْءٍ قدمت عليه فأعربت حالا ومِنْ فيه للتبعيض أيضا وشَيْءٍ مفعول يفعل ومِنْ الداخلة عليه مزيدة لتأكيد الاستغراق، وجوز الزمخشري أن يكون الاسم الجليل مبتدأ والَّذِي صفته والخبر هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ إلخ والرابط اسم الإشارة المشار به إلى أفعاله تعالى السابقة- فمن ذلكم- بمعنى من أفعاله، ووقعت الجملة المذكورة خبرا لأنها خبر منفي معنى وإن كانت استفهامية ظاهرا فكأنه قيل: الله الخالق الرازق المميت المحيي لا يشاركه شيء ممن لا يفعل أفعاله هذه، وبعضهم جعلها خبرا بتقدير القول فكأنه قيل: الله الموصوف بكونه خالقا ورازقا ومميتا ومحييا مقول في حقه هل من شركائكم من هو موصوف بما هو موصوف به. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 46 وتعقب ذلك أبو حيان بأن اسم الإشارة لا يكون رابطا إلا إذا أشير به إلى المبتدأ وهو هنا ليس إشارة إليه لكنه شبيه بما أجازه الفراء من الربط بالمعنى وخالفه الناس وذلك في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ [البقرة: 234] فإن التقدير يتربصن أزواجهم فقدر الضمير بمضاف إلى ضمير الَّذِينَ فحصل به الربط. وكذلك قدر الزمخشري من ذلكم بمن أفعاله المضاف إلى ضمير المبتدأ لكن لا يخفى أن الإضافة غير معتبرة وعلى تقدير اعتبارها يلزم تقدير مضاف آخر، وجوز أن تكون مِنْ الأولى لبيان من يفعل ومتعلقها محذوف ومَنْ يَفْعَلُ فاعل لفعل محذوف أي هل حصل واستقر من يفعل كائنا من شركائكم، وكذا جوز في مِنْ الثانية أن تكون لبيان المستغرق، وقيل: إن من الأولى ومن الثانية زائدتان كالثالثة وهو كما ترى، والآية على ما قلناه أولا متضمنة جملتين دلت الأولى على إثبات ما هو من اللوازم المساوية للألوهية من الخلق والرزق والإماتة والإحياء له عزّ وجلّ وأفادت الثانية بواسطة عكس السالبة الكلية نفيها رأسا عن شركائهم الذين اتخذوهم شركاء له سبحانه من الأصنام وغيرها مؤكدا بالإنكار، والعقل حاكم بأن ما يتخذ شريكا كالذي اتخذ في الحكم المذكور أعني نفي تلك الأفعال منه، وإن شئت جعلت شُرَكائِكُمْ شاملا للصنفين ويفهم من ذلك عدم صحة الشركة إذ لا يعقل شركة ما ليس باله لعدم وجود لازم الألوهية فيه لمن هو إله في الألوهية ولتأكيد ذلك قال سبحانه وتعالى: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي عن شركهم، والتعبير بالمضارع لما في الشرك من الغرابة أو للإشعار باستمراره وتجدده منهم، وأشار بعضهم إلى أن تينك الجملتين يؤخذ منهما مقدمتان موجبة وسالبة كلية مرتبتان على هيئة قياس من الشكل الثاني وأن قوله تعالى: سُبْحانَهُ إلخ يؤخذ منه سالبة كلية هي نتيجة ذلك القياس فتكون الجملتان المذكورتان في حكم قياس من الشكل الثاني، وقوله تعالى: سُبْحانَهُ إلخ في حكم النتيجة له، ولا يخفى احتياج ذلك إلى تكلف فتأمل جدا، وقرأ الأعمش، وابن وثاب «تشركون» بتاء الخطاب الجزء: 11 ¦ الصفحة: 47 ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ كالجدب والموتان وكثرة الحرق والغرق وإخفاق الصيادين والغاصة ومحق البركات من كل شيء وقلة المنافع في الجملة وكثرة المضارع، وعن ابن عباس أجدبت الأرض وانقطعت مادة البحر وقالوا: إذا انقطع القطر عميت دواب البحر، وقال مجاهد: ظهر الفساد في البر بقتل ابن آدم أخاه وفي البحر بأخذ السفن غصبا، وفي رواية عن ابن عباس بأخذ جلندي كل سفينة غصبا، ولعل المراد التمثيل، وكذا يقال في قتل ابن آدم أخاه وكان أول معصية ظهرت في البر قال الضحاك: كانت الأرض خضرة مونقة لا يأتي ابن آدم شجرة إلا وجد عليها ثمرة وكان ماء البحر عذبا وكان لا يفترس الأسد البقر ولا الذئب الغنم فلما قتل قابيل هابيل اقشعر ما في الأرض وشاكت الأشجار وصار ماء البحر ملحا زعافا وقصد الحيوان بعضه بعضا. وذكر أن أول معصية في البحر غصب جلندي كل سفينة تمر عليه فكأن تخصيص الآمرين بالذكر لذلك، وأيا ما كان فالبر والبحر على ظاهرهما، وعن مجاهد البر البلاد البعيدة من البحر والبحر السواحل والمدن التي عند البحر والأنهار، وقال قتادة: البر الفيافي ومواضع القبائل وأهل الصحارى والعمود والبحر المدن، والعرب تسمي الأمصار بحارا لسعتها، ومنه قول سعد بن عبادة في عبد الله بن أبي ابن سلول، ولقد أجمع أهل هذه البحيرة يعني المدينة ليتوجوه. قال أبو حيان: ويؤيد هذا قراءة عكرمة «والبحور» بالجمع ورويت عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وجوز النحاس أن يكون البحر على ظاهره إلا أن الكلام على حذف مضاف أي مدن البحر فهو مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: 82] وجوز أيضا أن يراد بالفساد المعاصي من قطع الطريق والظلم وغيرهما، و (أل) في الْبَرِّ وَالْبَحْرِ للجنس وكذا في الْفَسادُ أي ظهر جنس الفساد من الجدب والموتان ونحوهما في جنس البر وجنس البحر بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ أي بسبب ما فعله الناس من المعاصي والذنوب وشؤمه وهذا كقوله تعالى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: 30] وهو على التفسير الأول للفساد ظاهر وأما على تفسيره بالمعاصي فالمعنى ظهرت المعاصي في البر والبحر بكسب الناس إياها وفعلهم لها، ومعنى قوله تعالى: لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ على الأول ظاهر وهو أن الله تعالى قد أفسد أسباب دنياهم ومحقها وبال بعض أعمالهم في الدنيا قبل أن يعاقبهم بجميعها في الآخرة لعلهم يرجعون عما هم عليه وأما على الثاني فاللام مجاز على معنى أن ظهور المعاصي بسببهم مما استوجبوا به أن يذيقهم الله تعالى وبال أعمالهم إرادة الرجوع فكأنهم إنما فسدوا وتسببوا لفشو المعاصي في الأرض لأجل ذلك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 48 وقرأ السلمي، والأعرج، وأبو حيوة، وسلام، وسهل، وروح، وابن حسان، وقنبل من طريق ابن مجاهد، وابن الصباح، وأبي الفضل الواسطي عنه ومحبوب عن أبي عمرو «لنذيقهم» بالنون، وظهور الفساد المذكور على ما أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة كان قبل أن يبعث النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فلما بعث عليه الصلاة والسلام رجع من رجع من الناس عن الضلال والظلم، وقيل: كان أوائل البعثة وذلك أن كفار قريش فعلوا ما فعلوا من المعاصي والإصرار على الشرك وإيذاء الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم فدعا صلى الله تعالى عليه وسلم عليهم فأقحطوا وحل بهم من البلاء ما حل فأخبر الله سبحانه أن ذلك بسبب معاصيهم ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون. وفسر هذا القائل: النَّاسِ بكفار قريش، وقيل: كان في زمان سابق على زمان النزول أعم من أن يكون الزمان الذي قبيل البعثة أو بعيدها أو غير ذلك، وحكم الآية عام في كل فساد يظهر إلى يوم القيامة، ومن هنا قيل: من أذنب ذنبا يكون جميع الخلائق من الإنس والدواب والوحوش والطيور والذر خصماءه يوم القيامة لأنه تعالى يمنع المطر بشؤم المعصية فيتضرر بذلك أهل البر والبحر جميعا، وروي عن شقيق الزاهد أنه قال: من أكل الحرام فقد خان جميع الناس، ووجه تعلق الآية بما قبلها أن فيها نعي ما يعم الشرك وغيره من المعاصي وفيما قبل نعي الشرك وفيها من تخويف المشركين ما فيها. وقال الإمام: في وجه التعلق هو أن الشرك سبب الفساد كما قال تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] وإذا كان الشرك سببه جعل الله تعالى إظهارهم الشرك مورثا لظهور الفساد ولو فعل بهم ما يقتضيه قولهم لفسدت السماوات والأرض كما قال سبحانه: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا [مريم: 90] وإلى هذا أشار عزّ وجلّ بقوله سبحانه: لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا انتهى، فتأمل وأنصف. وقوله تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ مسوق لتأكيد تسبب المعاصي لغضب الله تعالى ونكاله حيث أمروا بأن يسيروا فينظروا كيف أهلك الله تعالى الأمم وأذاقهم سوء العاقبة بمعاصيهم ويتحققوا صدق ما تقدم، وقوله تعالى: كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ استئناف للدلالة على أن الشرك وحده لم يكن سبب لتدمير جميعهم بل هو سبب للتدمير في أكثرهم وما دونه من المعاصي سبب له في قليل منهم. وجوز أن يكون للدلالة على أن سوء عاقبتهم لفشو الشرك وغلبته فيهم ففيه تهويل لأمر الشرك بأنه فتنة لا تصيب الذين ظلموا خاصة فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ أي إذا كان الأمر كذلك فأقم وتمام الكلام فيما هنا يعلم مما تقدم في هذه السورة الكريمة مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ جوز أن يتعلق بمرد وهو مصدر بمعنى الرد، والمعنى لا يرده سبحانه بعد أن يجيء به ولا رد له من جهته عزّ وجلّ فيفيد انتفاء رد غيره تعالى له بطريق برهاني، واعترض بأنه لو كان كذلك للزم تنوين يَوْمٌ لمشابهته للمضاف. وأجيب بأنه مبني على ما قاله ابن مالك في التسهيل من أنه قد يعامل الشبيه بالمضاف معاملته فيترك تنوينه وحمل عليه قوله عليه الصلاة والسلام «لا مانع لما أعطيت» وتفصيله في شرحه، وبعضهم جعله متعلقا بمحذوف يدل عليه مَرَدَّ أي لا يرد من جهته تعالى أي لا يرده هو عزّ وجلّ وقيل: هو خبر مبتدأ محذوف والتقدير هو أي الرد المنفي كائن من الله تعالى، والجملة استئناف جواب سؤال تقديره ممن ذلك الرد المنفي؟ وقيل: هو متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير في الظرف الواقع خبرا للا، وقيل: متعلق بالنفي أو بما دلّ عليه، وقيل: متعلق بمحذوف وقع صفة اليوم، وجوز كثير تعلقه بيأتي أي من قبل أن يأتي من الله تعالى يوم لا يقدر أحد أن يرده. وتعقب بأن ذلك خلاف المتبادر من اللفظ والمعنى وهو مع ذلك قليل الفائدة وارتضاه الطيبي فقال: هذا الوجه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 49 أبلغ لإطلاق الرد وتفخيم اليوم وإن إتيانه من جهة عظيم قادر ذي سلطان قاهر ومنه يعلم أن ذلك ليس قليل الفائدة. نعم إن فيه الفصل الملبس وحال سائر الأوجه لا يخفى على ذي تمييز يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ يأتي يَصَّدَّعُونَ أصله يتصدعون فقلبت تاؤه صادا وأدغمت والتصدع في الأصل تفرق أجزاء الأواني ثم استعمل في مطلق التفرق أي يتفرقون فريق في الجنة وفريق في السعير، وقيل: يتفرقون تفرق الأشخاص على ما ورد في قوله تعالى: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة: 4] لا تفرق الفريقين فإن المبالغة في التفرق المستفادة من يَصَّدَّعُونَ إنما تناسب الأول، ورجح الثاني بأنه المناسب للسياق والسباق إذا الكلام في المؤمنين والكافرين فما ذكر بيان لتباينهم في الدارين ويكفي للمبالغة شدة بعد ما بين المنزلتين حسا ومعنى وهو تفسير رواه عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة، وروي أيضا عن ابن زيد مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي وبال كفره وهي النار المؤبدة ففي الكلام مضاف مقدر أو الكفر مجاز عن جزائه بل عن جميع المضار التي لا ضرر وراءها، وأفراد الضمير باعتبار لفظ مَنْ وفيه إشارة إلى قلة قدرهم عند الله تعالى وحقارتهم مع ما علم من كثرة عددهم، وجمعه في قوله تعالى: وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ باعتبار معناها، وفيه مع رعاية الفاصلة إشارة إلى كثرة قدرهم وعظمهم عند الله تعالى، ويَمْهَدُونَ من مهد فراشه وطأه أي يوطؤون لأنفسهم كما يوطىء الرجل لنفسه فراشه لئلا يصيبه في مضجعه ما ينبيه وينغص عليه مرقده من نتوء أو ق أو بعض ما يؤذي الراقد فكأنه شبه حالة المكلف مع عمله الصالح وما يتحصل به من الثواب ويتخلص من العقاب بحالة من يمهد فراشه ويوطؤه ليستريح عليه ولا يصيبه في مضجعه ما ينغص عليه، وجوز أن يكون المعنى فعلى أنفسهم يشفقون على أن ذلك من قولهم في المثل للمشفق أم فرشت فأنامت فيكون الكلام كناية إيمائية عن الشفقة والمرحمة والأولى أظهر، والظاهر أن هذه التوطئة لما بعد الموت من القبر وغيره، وأخرج جماعة عن مجاهد أنه قال: فلأنفسهم يمهدون أي يسوون المضاجع في القبر وليس بذاك. وتقديم الظرف في الموضعين للدلالة على الاختصاص وقيل: للاهتمام، ومقابلة من كَفَرَ- بمن عمل صالحا- لا بمن آمن إما للتنويه بشأن الإيمان بناء على أنه المراد بالعمل الصالح وإما لمزيد الاعتناء بشأن المؤمن العامل بناء على أن المراد بالعمل الصالح ما يشمل العمل القلبي والقالبي ويشعر بأن المراد بمن عمل صالحا المؤمن العالم قوله تعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ فإنه علّة ليمهدون وأقيم فيه الموصول مقام الضمير تعليلا للجزاء لما أن الموصول في معنى المشتق والتعليق به يفيد عليه مبدأ الاشتقاق، وذكر مِنْ فَضْلِهِ للدلالة على أن الإثابة تفضل محض وتأويله بالعطاء أو الزيادة على ما يستحق من الثواب عدول عن الظاهر، وجوز أن يكون ذلك علّة ليصدعون والاقتصار على جزاء المؤمنين للإشعار بأنه المقصود بالذات والاكتفاء بفحوى قوله تعالى: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ فإن عدم المحبة كناية عن البغض في العرف. وهو يقتضي الجزاء بموجبه فكأنه قيل: وليعاقب الكافرين. وفي الكشاف أن تكرير الذين آمنوا وعملوا الصالحات وترك الضمير إلى الصريح لتقرير أنه لا يفلح عنده تعالى إلّا المؤمن الصالح، وقوله تعالى: إِنَّهُ إلخ تقرير بعد تقرير على الطرد والعكس ويعني بذلك كل كلامين يقرر الأول الثاني وبالعكس سواء كان صريحا وإشارة أو مفهوما ومنطوقا وذلك كقول ابن هانىء: فما جازه جود ولا حل دونه ... ولكن يصير الجود حيث يصير وبيانه فيما نحن فيه أن قوله تعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يدل بمنطوقه على ما قرر على اختصاصهم بالجزاء التكريمي وبمفهومه على أنهم أهل الولاية والزلفى، وقوله سبحانه: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ لتعليل الاختصاص يدل بمنطوقه على أن عدم المحبة يقتضي حرمانهم وبمفهومه على أن الجزاء لأضدادهم. موفر فهو جلّ وعلا محب الجزء: 11 ¦ الصفحة: 50 للمؤمنين، وذكر العلامة الطيبي الظاهر أن قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ الآية بتمامها كالمورد للسؤال والخطاب لكل أحد من المكلفين وقوله تعالى: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ الآية وارد على الاستئناف منطو على الجواب فكأنه لما قيل: أقيموا على الدين القيم قبل مجيء يوم يتفرقون فيه فقيل: ما للمقيمين على الدين وما على المنحرفين عنه وكيف يتفرقون، فأجيب من كفر فعليه كفره الآية، وأما قوله سبحانه: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا الآية فينبغي أن يكون تعليلا للكل ليفصل ما يترتب على ما لهم وعليهم لكن يتعلق بيمهدون وحده لشدة العناية بشأن الإيمان والعمل الصالح وعدم الأعباء بعمل الكافر ولذلك وضع موضعه إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ انتهى فلا تغفل، وفي الآية لطيفة نبّه عليها الإمام قدس سره وهي أن الله عزّ وجلّ عند ما أسند الكفر والإيمان إلى العبيد قدم الكافر وعند ما أسند الجزاء إلى نفسه قدم المؤمن لأن قوله تعالى: مَنْ كَفَرَ وعيد للمكلف ليمتنع عما يضره لينقذه سبحانه من الشر وقوله تعالى: وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً تحريض له وترغيب في الخير ليوصله إلى الثواب والإنقاذ مقدم عند الحكيم الرحيم وأما عند الجزاء فابتدأ جلّ شأنه بالإحسان إظهارا للكرم والرحمة. هذا ولما ذكر سبحانه ظهور الفساد والهلاك بسبب المعاصي ذكر ظهور الصلاح ولم يذكر عزّ وجلّ أنه بسبب العمل الصالح لأن الكريم يذكر لعقابه سببا لئلا يتوهم منه الظلم ولا يذكر لإحسانه فقال عزّ من قائل: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ الجنوب ومهبها من مطلع سهيل إلى مطلع الثريا والصبا ومهبها من مطلع الثريا إلى بنات نعش، والشمال ومهبها من بنات نعش إلى مسقط النسر الطائر فإنها رياح الرحمة وأما الدبور ومهبها من مسقط النسر الطائر إلى مطلع سهيل فريح العذاب، وذكر أن الثلاثة الأول تلقح السحاب الماطر وتجمعه فلذا كانت رحمة، وعن أبي عبيدة الشمال عند العرب للروح والجنوب للأمطار والأنداء والصبا لإلقاح الأشجار والدبور للبلاء وأهونه أن تثير غبارا عاصفا يقذي العين وهي أقلهن هبوبا، وروى الطبراني، والبيهقي في سننه عن ابن عباس من حديث ذكر فيه ما كان يفعله ويقوله صلّى الله عليه وسلم إذا هاجت ريح: «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا» وهو مبني على أن الرياح للرحمة والريح للعذاب، وفي نهاية العرب تقول: لا تلقح السحاب إلّا من رياح مختلفة فكأنه قال صلى الله تعالى عليه وسلم اللهم اجعلها لقاحا للسحاب ولا تجعلها عذابا ثم قال: وتحقيق ذلك مجيء الجمع في آيات الرحمة والواحد في قصص العذاب كالريح العقيم وريحا صرصرا، وقال بعضهم: إن ذاك لأن الريح إذا كانت واحدة جاءت من جهة واحدة فصدمت جسم الحيوان والنبات من جهة واحدة فتؤثر فيه أثرا أكثر من حاجته فتضره ويتضرر الجانب المقابل لعكس ممرها ويفوته حظه من الهواء فيكون داعيا إلى فساده بخلاف ما إذا كانت رياحا فإنها تعم جوانب الجسم فيأخذ كل جانب حظه فيحدث الاعتدال، وأنت تعلم أنه قد تفرد الريح حيث لا عذاب كما في قوله تعالى: وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [يوسف: 22] وقوله سبحانه: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ [الأنبياء: 81] والحديث مختلف فيه فرمز السيوطي لحسنه، وقال الحافظ الهيثمي: في سنده حسين بن قيس وهو متروك وبقية رجاله رجال الصحيح، ورواه ابن عدي في الكامل من هذا الوجه وأعله بحسين المذكور، ونقل تضعيفه عن أحمد والنسائي. نعم إن الحافظ عزاه في الفتح لأبي يعلى وحده عن أنس رفعه، وقال إسناده صحيح فليحفظ ذلك. وقرأ ابن كثير، والكسائي، والأعمش «الريح» مفردا على إرادة معنى الجمع ولذا قال سبحانه: مُبَشِّراتٍ أي بالمطر وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ يعني المنافع التابعة لها كتذرية الحبوب وتخفيف العفونة وسقي الأشجار إلى غير ذلك من اللطف والنعم، وقيل: الخصب التابع لنزول المطر المسبب عنها أو الروح الذي هو مع هبوبها، ولأوجه التخصيص، والواو للعطف، والعطف على علة محذوفة دلّ عليها مُبَشِّراتٍ أي ليبشركم وليذيقكم أو على الجزء: 11 ¦ الصفحة: 51 مُبَشِّراتٍ باعتبار المعنى فإن الحال قد يقصد بها التعليل نحو أهن زيدا مسيئا أي لإساءته فكأنه قيل: لتبشركم وليذيقكم، وكونه من عطف التوهم أو توهم على يُرْسِلَ بإضمار فعل معلل والتقدير ويرسلها ليذيقكم، وكون التقدير ويجري الرياح ليذيقكم بعيد قيل: أو على جملة ومن آياته إلخ بتقدير وليذيقكم أرسلها أو فعل ما فعل، ولم يعتبره بعضهم لأن المقصود اندراج الإذاقة في الآيات، وقيل: الواو زائدة وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ في البحر عند هبوبها بِأَمْرِهِ عزّ وجلّ وإنما جيء بهذا القيد لأن الريح قد تهب ولا تكون مؤاتية فلا بد من انضمام إرادته تعالى وأمره سبحانه للريح حتى يتأتى المطلوب، وقيل: للإشارة إلى أن هبوبها مواتية أمر من أموره تعالى التي لا يقدر عليها غيره عزّ وجلّ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ بتجارة البحر وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي ولتشكروا نعمة الله تعالى فيما ذكر لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ اعتراض لتسليته صلّى الله عليه وسلم بمن قبله على وجه يتضمن الوعد له عليه الصلاة والسلام والوعيد لمن عصاه، وفي ذلك أيضا تحذير عن الإخلال بمواجب الشكر. والمراد بقومهم أقوامهم والإفراد للاختصار حيث لا لبس والمعنى ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى أقوامهم كما أرسلناك إلى قومك جاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي جاء كل قوم رسولهم بما يخصه من البينات كما جئت قومك ببيناتك انْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا الفاء فصيحة أي فآمن بعض وكذب بعض فانتقمنا، وقيل: أي فكذبوهم فانتقمنا منهم ووضع الموصول موضع ضميرهم للإشعار بالعلة والتنبيه على مكان المحذوف، وجوز أن تكون تفصيلا للعموم بأن فيهم مجرما مقهورا ومؤمنا منصورا كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ فيه مزيد تشريف وتكرمة للمؤمنين حيث جعلوا مستحقين على الله تعالى أن ينصرهم وإشعار بأن الانتقام لأجلهم، والمراد بهم ما يشمل الرسل عليهم الصلاة والسلام، وجوز تخصيص ذلك بالرسل بجعل التعريف عهديا، وظاهر الآية أن هذا النصر في الدنيا، وفي بعض الآثار ما يشعر بعدم اختصاصه بها وأنه عام لجميع المؤمنين فيشمل من بعد الرسل من الأمة. أخرج ابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «ما من امرئ مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله تعالى أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة ثم تلا عليه الصلاة والسلام وكان حقا علينا نصر المؤمنين» وفي هذا إشعار بأن قًّا خبر كان وصْرُ الْمُؤْمِنِينَ الاسم كما هو الظاهر، وإنما آخر الاسم لكون ما تعلق به فاصلة وللاهتمام بالخبر إذ هو محط الفائدة على ما في البحر. قال ابن عطية: ووقف بعض القراء على قًّا على أن اسم كان ضمير الانتقام أي وكان الانتقام حقا وعدلا لا ظلما، ورجوعه إليه على حد اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة: 8] ولَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ جملة مستأنفة وهو خلاف الظاهر المؤيد بالخبر وإن لم يكن فيه محذور من حيث المعنى اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ استئناف مسوق لبيان ما أجمل فيما سيق من أحوال الرياح فَتُثِيرُ سَحاباً تحركه وتنشره فَيَبْسُطُهُ بسطا تاما متصلا تارة فِي السَّماءِ في سمتها لا في نفس السماء بالمعنى المتبادر كَيْفَ يَشاءُ سائرا وواقفا مطبقا وغير مطبق من جانب دون جانب إلى غير ذلك فالجملة الإنشائية حال بالتأويل وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً أي قطعا تارة أخرى. وقرأ ابن عامر بسكون السين على أنه مخفف من المفتوح أو جمع كسفة أي قطعة أو مصدر كعلم وصف به مبالغة أو بتأويله بالمفعول أو بتقدير ذا كسف فَتَرَى يا من يصح منه الرؤية الْوَدْقَ أي المطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ أي فرجه جمع خلل في التارتين الاتصال والتقطع فالضمير للسحاب وهو اسم جنس يجوز تذكيره وتأنيثه، وجوز على قراءة «كسفا» بالسكون أن يكون له، وليس بشيء. فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ بلادهم وأراضيهم، والباء في بِهِ للتعدية إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 52 فاجاؤوا الاستبشار بمجيء الخصب وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ الودق مِنْ قَبْلِهِ أي التنزيل لَمُبْلِسِينَ أي آيسين، والتكرير للتأكيد، وأفاد كما قال ابن عطية الإعلام بسرعة تقلب قلوب البشر من الإبلاس إلى الاستبشار، وذلك أن مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ يحمل الفسحة في الزمان فجاء مِنْ قَبْلِهِ للدلالة على الاتصال ودفع ذلك الاحتمال، وقال الزمخشري: أكد ليدل على بعد عهدهم بالمطر فيفهم منه استحكام يأسهم، وما ذكره ابن عطية أقرب لأن المتبادر من القبلية الاتصال وتأكيد دال على شدته. وأبو حيان أنكر على كلا الشيخين وقال: ما ذكراه من فائدة التأكيد غير ظاهر وإنما هو عندي لمجرد التأكيد ويفيد رفع المجاز فقط، وقال قطرب: ضمير قَبْلِهِ للمطر فلا تأكيد. وأنت تعلم أنه يصير التقدير من قبل تنزيل المطر من قبل المطر وهو تركيب لا يسوغ في كلام فصيح فضلا عن القرآن، وقيل: الضمير للزرع الدال عليه المطر أي من قبل تنزيل المطر من قبل أن يزرعوا، وفيه أن مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ متعلق بمبلسين ولا يمكن تعلق مِنْ قَبْلِهِ به أيضا لأن حرفي جر بمعنى لا يتعلقان بعامل واحد إلّا أن يكون بوساطة حرف العطف أو على جهة البدل ولا عاطف هنا ولا يصح البدل ظاهرا، وجوز بعضهم فيه بدل الاشتمال مكتفيا فيه يكون الزرع ناشئا عن التنزيل فكان التنزيل مشتملا عليه وهو كما ترى. وقال المبرد: الضمير للسحاب لأنهم لما رأوا السحاب كانوا راجين المطر، والمراد من قبل رؤية السحاب، ويحتاج أيضا إلى حرف عطف حتى يصح تعلق الحرفين بمبلسين، وقال علي بن عيسى: الضمير للإرسال، وقال الكرماني: للاستبشار لأنه قرن بالإبلاس ومن عليهم به، وأورد عليهما أمر التعلق من غير عطف كما أورد على من قبلهما فإن قالوا بحذف حرف العطف ففي جوازه في مثل هذا الموضع قياسا خلاف. واختار بعضهم كونه للاستبشار على أن مِنْ متعلقة بينزل ومِنْ الأولى متعلقة بمبلسين لأنه يفيد سرعة تقلب قلوبهم من اليأس إلى الاستبشار بالإشارة إلى غاية تقارب زمانيهما ببيان اتصال اليأس بالتنزيل المتصل بالاستبشار بشهادة إذا الفجائية فتأمل، وإِنْ مخففة من الثقيلة واللام في لمبلسين هي الفارقة، ولا ضمير شأن مقدرا لإن، لأنه إنما يقدر للمفتوحة وأما المكسورة فيجب إهمالها كما فصله في المغني، وبعض الأجلة قال بالتقدير فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ المترتبة على تنزيل المطر من النبات والأشجار وأنواع الثمار، والفاء للدلالة على سرعة ترتبها عليه. وقرأ الحرميان، وأبو عمرو، وأبو بكر «أثر» بالإفراد وفتح الهمزة والثاء، وقرأ سلام «إثر» بكسر الهمزة وإسكان الثاء، وإسكان الثاء، وقوله تعالى: كَيْفَ يُحْيِ أي الله تعالى الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها في حيز النصب بنزع الخافض وكَيْفَ معلق لانظر أي فانظر لإحيائه تعالى البديع للأرض بعد موتها، وقال ابن جني: على الحالية بالتأويل أي محييا، وأيا ما كان فالمراد بالأمر بالنظر التنبيه علي عظيم قدرته تعالى وسعة رحمته عزّ وجلّ مع ما فيه من التمهيد لما يعقبه من أمر البعث. وقرأ الجحدري، وابن السميفع، وأبو حيوه «تحي» بتاء التأنيث والضمير عائد على الرحمة، وجوز على قراءة الحرميين ومن معهما أن يكون الضمير للأثر على أنه اكتسب التأنيث من المضاف إليه، وليس بشيء كما لا يخفى إِنَّ ذلِكَ العظيم الشأن لَمُحْيِ الْمَوْتى لقادر على إحيائهم فإنه إحداث لمثل ما كان في مواد أبدانهم من القوى الحيوانية كما أن إحياء الأرض إحداث لمثل ما كان فيها من القوى النباتية، وقيل: يحتمل أن يكون النبات الحادث من أجزاء نباتية تفتتت وتبدّدت واختلطت بالتراب الذي فيه عروقها في بعض الأعوام السالفة فيكون كالإحياء بعينه بإعادة المواد والقوى لا بإعادة القوى فقط، وهو احتمال واهي القوى بعيد، ولا نسلم أن المسلم المسترشد يعلم وقوعه، وقوله تعالى: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تذييل مقرّر لمضمون ما قبله أي مبالغ في القدرة على جميع الجزء: 11 ¦ الصفحة: 53 الأشياء التي من جملتها إحياؤهم لما أن نسبة قدرته عزّ وجلّ إلى الكل سواء. وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا أي النبات المفهوم من السياق كما قال أبو حيان أو الأثر المدلول عليه بالآثار أو النبات المعبر عنه بها على ما قاله بعضهم، والنبات في الأصل مصدر يقع على القليل والكثير ثم سمي به ما ينبت، وقال ابن عيسى: الضمير للسحاب لأنه إذا كان مصفرا لم يمطر، وقيل: للريح وهي تذكر وتؤنث، وكلا القولين ضعيفان كما في البحر. وقرأ جناح بن حبيش «مصفارا» بألف بعد الفاء، واللام في لَئِنْ موطئة للقسم دخلت على حرف الشرط، والفاء في فَرَأَوْهُ فصيحة، واللام في قوله تعالى: لَظَلُّوا لام جواب القسم الساد مسد الجوابين والماضي بمعنى المستقبل كما قاله أبو البقاء، ومكي، وأبو حيان، وغيرهم، وعلل ذلك بأنه في المعنى جواب (إن) وهو لا يكون إلّا مستقبلا، وقال الفاضل اليمني: إنما قدروا الماضي بمعنى المستقبل من حيث إن الماضي إذا كان متمكنا متصرفا ووقع جوابا للقسم فلا بد فيه من قد واللام معا فالقصر على اللام لأنه مستقبل معنى وفيه نظر، وقدروه بمضارع مؤكد بالنون أي وبالله تعالى لئن أرسلنا ريحا حارة أو باردة فضربت زرعهم بالصفار فرأوه مصفرا بعد خضرته ونضارته ليظلنّ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد الإرسال أو من بعد اصفرار زرعهم، وقيل: من بعد كونهم راجين مستبشرين يَكْفُرُونَ من غير تلعثم نعمة الله تعالى، وفيما ذكر من ذمهم بعدم تثبتهم وسرعة تزلزلهم بين طرفي الإفراط والتفريط ما لا يخفى حيث كان الواجب عليهم أن يتوكلوا على الله سبحانه في كل حال ويلجؤوا إليه عزّ وجلّ بالاستغفار إذا احتبس عنهم المطر ولا ييأسوا من روح الله تعالى ويبادروا إلى الشكر بالطاعة إذا أصابهم جلّ وعلا برحمته ولا يفرطوا في الاستبشار وأن يصبروا على بلائه تعالى إذا اعترى زرعهم آفة ولا يكفروا بنعمائه جلّ شأنه فعكسوا الأمر وأبوا ما يجديهم وأتوا بما يؤذيهم، ولا يخفى ما في الآيات من الدلالة على ترجيح جانب الرحمة على جانب العذاب فلا تغفل. وقوله تعالى: فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى تعليل لما يفهم من الكلام السابق كأنه قيل: لا تحزن لعدم اهتدائهم بتذكيرك فإنك إلخ، وفي الكشف اعلم أن قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ كلام سبق مقرر لما فهم من قوله سبحانه: لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ [الروم: 47] الآية لدلالته على أنه عزّ وجلّ ينتقم من المكذبين برسول الله صلّى الله عليه وسلم وينصر متابعيه فذكر فيه من البينات ما أجمل هنالك مما يدل على القدرة والحكمة والرحمة واختير من الأدلة ما يجمع الثلاثة وفيه ما يرشد إلى تحقيق طرفي الإيمان أعني المبدأ والمعاد وصرح بكفرانهم بالنعمة وذمهم في الحالات الثلاث لأن ذلك مما يعرفه أهل الفطرة السليمة ويتخلق به وأدمج فيه دلالته على المعاد بقوله تعالى: فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ ولما فرغ من حديث ذمهم بنى على هذا المدمج وما دل عليه سياق الكلام من تماديهم في الضلالة مثل هذه البينات التي لا أتم منها في الدلالة فقال سبحانه: فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ إلى قوله تعالى: فَهُمْ مُسْلِمُونَ وفيه أنهم إذا لا محالة من الذين ينتقم منهم وأنك وأشياعك من المنصورين والله تعالى أعلم اهـ، فتأمله مع ما ذكرنا. وقد تقدم الكلام في هذه الجملة خالية عن الفاء في سورة النمل وكذا في قوله تعالى: وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ بيد أنا نذكر هنا ما ذكره الأجلة في سماع الموتى وفاء بما وعدنا هنالك فنقول ومن الله تعالى التوفيق: نقل عن العلامة ابن الهمام أنه قال: أكثر مشايخنا على أن الميت لا يسمع استدلالا بقوله تعالى: فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ونحوها يعني من قوله تعالى: وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فاطر: 22] ولذا لم يقولوا بتلقين القبر وقالوا: لو حلف لا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 54 يكلم فلانا فكلمه ميتا لا يحنث، وحكى السفاريني في البحور الزاخرة أن عائشة ذهبت إلى نفي سماع الموتى ووافقها طائفة من العلماء على ذلك، ورجحه القاضي أبو يعلى من أكابر أصحابنا- يعني الحنابلة- في كتابه الجامع الكبير واحتجوا بقوله تعالى: فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ونحوه، وذهبت طوائف من أهل العلم إلى سماعهم في الجملة. وقال ابن عبد البر: إن الأكثرين على ذلك وهو اختيار ابن جرير والطبري وكذا ذكر ابن قتيبة، وغيره، واحتجوا بما في الصحيحين عن أنس عن أبي طلحة رضي الله تعالى عنهما قال: «لما كان يوم بدر وظهر عليهم- يعني مشركي قريش- رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمر ببضعة وعشرين رجلا وفي رواية أربع وعشرين رجلا من صناديد قريش فألقوا في طوى أي بئر من أطواء بدر وأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ناداهم يا أبا جهل بن هشام، يا أمية بن خلف يا عتبة بن ربيعة أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقا فإني قد وجدت ما وعد ربي حقا؟ فقال عمر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها فقال: والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، زاد في رواية لمسلم عن أنس «ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا» وبما أخرجه أبو الشيخ من مرسل عبيد بن مرزوق قال: «كانت امرأة بالمدينة تقمّ المسجد فماتت فلم يعلم بها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فمر على قبرها فقال عليه الصلاة والسلام: ما هذا القبر؟ فقالوا: أم محجن قال: التي كانت تقم المسجد؟ قالوا: نعم فصف الناس فصلى عليها فقال صلّى الله عليه وسلم: أي العمل وجدت أفضل؟ قالوا يا رسول الله أتسمع؟ قال: ما أنتم بأسمع منها فذكر عليه الصلاة والسلام أنها أجابته قم المسجد» وبما رواه البيهقي، والحاكم وصححه وغيرهما عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم وقف على مصعب بن عمير وعلى أصحابه حين رجع من أحد فقال: «أشهد أنكم أحياء عند الله تعالى فزوروهم وسلموا عليهم فو الذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلا ردوا عليه إلى يوم القيامة» وبما أخرج ابن عبد البر وقال عبد الحق الإشبيلي إسناده صحيح عن ابن عباس مرفوعا «ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا يسلم عليه إلا عرفه ورد عليه» وبما أخرج ابن أبي الدنيا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: «الروح بيد ملك يمشي به مع الجنازة يقول له: أتسمع ما يقال لك؟ فإذا بلغ حفرته دفنه معه» وبما في الصحيحين من قوله صلّى الله عليه وسلم: «إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه أنه ليسمع قرع نعالهم» وأجابوا عن الآية فقال السهيلي: إنها كقوله تعالى: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ أي إن الله تعالى هو الذي يسمع ويهدي. وقال بعض الأجلة: إن معناها لا تسمعهم إلّا أن يشاء الله تعالى أو لا تسمعهم سماعا ينفعهم، وقد ينفى الشيء لانتفاء فائدته وثمرته كما في قوله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها [الأعراف: 279] الآية، وهذا التأويل يجوز أن يعتبر في قوله تعالى: وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ ويكون نكتة العدول عن- فإنك لا تسمع الموتى ولا الصم- إلى ما في النظم الجليل العناية بنفي الإسماع ويجوز أن لا يعتبر فيه ويبقى الكلام على ظاهره ويكون نكتة العدول الإشارة إلى أن لا تُسْمِعُ في كل من الجملتين بمعنى. وقال الذاهبون إلى عدم سماعهم: الأصل عدم التأويل والتمسك بالظاهر إلى أن يتحقق ما يقتضي خلافه، وأجابوا عن كثير مما استدل به الآخرون فقال بعضهم: إن ما وقع في حديث أبي طلحة رضي الله تعالى عنه يجوز أن يكون معجزة له صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو مراد من قال: إنه من خصوصياته عليه الصلاة والسلام وهي من خوارق العادة، والكلام في موافقها وهو الذي نفي في آية فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ونحوها وفي قوله عليه الصلاة والسلام: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» دون ما أنتم بأسمع لما يقال ونحوه منهم تأييد ما لذلك، وحديث أبي الشيخ مرسل وحكم الاستدلال به معروف، على أن احتمال الخصوصية قائم فيه أيضا: وفي صحيح البخاري قال قتادة: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 55 أحياهم الله تعالى يعني أهل الطوى حتى أسمعهم قوله صلى الله تعالى عليه وسلم توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما، ويؤيد ما أخرج البخاري، ومسلم، والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عمر قال: «وقف النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على قليب بدر فقال: هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ ثم قال عليه الصلاة والسلام: إنهم الآن يسمعون ما أقول» حيث قيد صلى الله تعالى عليه وسلم سماعهم بالآن، وإذا قلنا، بأن الميت يسأل سبعة أيام في قبره مؤمنا كان أو منافقا أو كافرا وإنه حين السؤال تعاد إليه روحه كان لك أن تقول: يجوز أن يكون خطاب أهل القليب حين إعادة أرواحهم إلى أبدانهم للسؤال فإنه كما في حديث أخرجه أحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي كان في اليوم الثالث من قتلهم، ويحتمل أن يكون خطابه صلى الله تعالى عليه وسلم لأم محجن كان وقت السؤال بأن يكون ذلك قبل مضي سبعة أيام عليها، وعليه لا يكون سماعهم من المتنازع فيه لأنهم حين سمعوا أحياء لا موتى، ويرد على هذا أن عمر رضي الله تعالى عنه قال عليه الصلاة والسلام: ما تكلم من أجساد لا أرواح لها، ولم ينكر ذلك عليه صلى الله تعالى عليه وسلم بل قال له عليه الصلاة والسلام له: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» ولو كان الأمر كما قال قتادة لكان الظاهر أن يقول صلى الله تعالى عليه وسلم له رضي الله تعالى عنه: ليس الأمر كما تقول إن الله عزّ وجلّ أحياهم لي أو نحو ذلك، وعائشة رضي الله تعالى عنها أنكرت ما وقع في الحديث مما استدل به على المقصود، ففي صحيح البخاري عن هشام عن أبيه قال: ذكر عند عائشة أن ابن عمر رفع إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم «إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، فقالت: وهل ابن عمر إنما قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إنه ليعذب بخطيئته وذنبه وإن أهله ليبكون عليه الآن» قالت: وذلك مثل قوله: إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قام على القليب وفيه قتلى بدر من المشركين فقال لهم ما قال إنهم ليسمعون ما أقول إنما قال: «إنهم الآن ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق» ثم قرأت فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فاطر: 22] وتعقب ذلك السهيلي فقال: عائشة رضي الله تعالى عنها لم تحضر قول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فغيرها ممن حضر أحفظ للفظه عليه الصلاة والسلام، وقد قالوا له: يا رسول الله أتخاطب قوما قد جيفوا؟ فقال ما أنتم بأسمع لما أقول منهم قالوا: وإذا جاز أن يكونوا في تلك الحالة عالمين يعني كما تقول عائشة جاز أن يكونوا سامعين اهـ هو كلام قوي، ولا يقدح عدم حضورها في روايتها لأنه مرسل صحابي وهو محمول على أنه سمع ذلك ممن حضره أو من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ولو كان ذلك قادحا في روايتها لقدح في رواية ابن عمر السابقة فإنه لم يحضر أيضا، ولا مانع من أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام قال اللفظين جميعا فإنه كما علم من كلام السهيلي لا تعارض بينهما، وقال بعضهم فيما رواه البيهقي، والحاكم وصححه، وغيرهما: إنا لا نسلم صحته وتصحيح الحاكم محكوم عليه بعدم الاعتبار، وإن سلمنا صحته نلتزم القول بأن الموتى الذين لا يسمعون هم من عدا الشهداء أما الشهداء فيسمعون في الجملة لامتيازهم على سائر الموتى بما أخبر عنهم من أنهم أحياء عند الله عزّ وجلّ، وقيل في حديث ابن عبد البر: إن عبد الحق وإن قال إسناده صحيح إلا أن الحافظ ابن رجب تعقبه وقال: إنه ضعيف بل منكر وفي حديث ابن أبي الدنيا إنه على تسليم صحته لا يثبت المطلوب لأن خطاب الملك عليه السّلام للروح الذي بيده وهو ليس بميت، وفي حديث الصحيحين من سماع العبد قرع نعال أصحابه إذا دفنوه وانصرفوا عنه إنه إذ ذاك تعود إليه روحه للسؤال فيسمع وهو حي والجمهور على عود الروح إلى الجسد أو بعضه وقت السؤال على وجه لا يحس به أهل الدنيا إلا من شاء الله تعالى منهم ووراء ذلك مذاهب، فمذهب ابن جرير وجماعة من الكرامية أن السؤال في القبر على البدن فقط وأن الله تعالى يخلق فيه إدراكا بحيث يسمع ويعلم ويلذ ويألم، وعلى هذا المذهب يمكن أن يقال نحو ما قيل على الأول، ومذهب ابن حزم وابن ميسرة إنه على الروح فقط، ومذهب أبي الهذيل واتباعه أن الميت لا يشعر بشيء الجزء: 11 ¦ الصفحة: 56 أصلا إلا بين النفختين، والحق أن الموتى يسمعون في الجملة وهذا على أحد وجهين، أولهما أن يخلق الله عزّ وجلّ في بعض أجزاء الميت قوة يسمع بها متى شاء الله تعالى السلام ونحوه مما يشاء الله سبحانه سماعه إياه ولا يمنع من ذلك كونه تحت أطباق الثرى وقد انحلت منه هاتيك البنية وانفصمت العرى ولا يكاد يتوقف في قبول ذلك من يجوز أن يرى أعمى الصين بقة أندلس، وثانيهما أن يكون ذلك السماع للروح بلا وساطة قوة في البدن ولا يمتنع أن تسمع بل أن تحس وتدرك مطلقا بعد مفارقتها البدن بدون وساطة قوى فيه وحيث كان لها على الصحيح تعلق لا يعلم حقيقته وكيفيته إلا الله عزّ وجلّ بالبدن كله أو بعضه بعد الموت وهو غير التعلق بالبدن الذي كان لها قبلة أجرى الله سبحانه عادته بتمكينها من السمع وخلقه لها عند زيارة القبر وكذا عند حمل البدن إليه وعند الغسل مثلا ولا يلزم من وجود ذلك التعلق والقول بوجود قوة السمع ونحوه فيها نفسها أن تسمع كل مسموع لما أن السماع مطلقا وكذا سائر الإحساسات ليس الا تابعا للمشيئة فما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن فيقتصر على القول بسماع ما ورد السمع بسماعه من السلام ونحوه، وهذا الوجه الذي يترجح عندي ولا يلزم عليه التزام القول بأن أرواح الموتى مطلقا في أفنية القبور لما أن مدار السماع عليه مشيئة الله تعالى والتعلق الذي لا يعلم كيفيته وحقيقته إلا هو عزّ وجلّ فلتكن الروح حيث شاءت أو لا تكن في مكان كما هو رأي من يقول بتجردها. ويؤخذ من كلام ذكره العارف ابن مرجان في شرح اسماء الله تعالى الحسنى تحقيق على وجه آخر وهو أن للشخص نفسا مبرأة من باطن ما خلق منه الجسم وهي روح الجسم وروحا أوجدها الله تبارك وتعالى من باطن ما برأ منه النفس وهي للنفس بمنزلة النفس للجسم فالنفس حجابها وبعد المفارقة في العبد المؤمن تجعل الحقيقة الروحانية عامرة العلو من السماء الدنيا إلى السماء السابعة بل إلى حيث شاء الله تعالى من العلو في سرور ونعيم وتجعل الحقيقة النفسانية عامرة السفل من قبره إلى حيث شاء الله تعالى من الجو ولذلك لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلم موسى قائما يصلي في قبره وإبراهيم عليه السلام تحت الشجرة قبل صعوده عليه الصلاة والسلام إلى السماء ولقيهما عليهما السلام بعد الصعود في السماوات العلا فتلك أرواحهما وهذه نفوسهما وأجسادهما في قبورهما وكذا يقال في الكافر إلا أن الحقيقة الروحانية له لا تكون عامرة العلو فلا تفتح لهم أبواب السماء بل تكون عامرة دار شقائها والعياذ بالله تعالى، وبين الحقيقتين اتصال وبوساطة ذلك ومشيئته عزّ وجلّ يسمع من سلم عليه في قبره السلام ولا يختص السماع في السلام عند الزيارة ليلة الجمعة ويومها وبكرة السبت أو يوم الجمعة ويوما قبلها ويوما بعدها بل يكون ذلك في السلام عند الزيارة مطلقا فالميت يسمع الله تعالى روحه السلام عليه من زائره في أي وقت كان ويقدره سبحانه على رد السلام كما صرح في بعض الآثار. وما أخرجه العقيلي من أنهم يسمعون السلام ولا يستطيعون رده محمول على نفي استطاعة الرد على الوجه المعهود الذي يسمعه الاحياء، وقيل: رد السلام وعدمه مما يختلف باختلاف الأشخاص فرب شخص يقدره الله تعالى على الرد ولا يثاب عليه لانقطاع العمل وشخص آخر لا يقدره عزّ وجلّ، وعندي أن التعلق أيضا مما يتفاوت قوة وضعفا بحسب الأشخاص بل وبحسب الأزمان أيضا وبذلك يجمع بين الاخبار والآثار المختلفة. وأما الجواب عن الآية التي الكلام فيها ونحوها مما يدل بظاهره على نفي السماع فيعلم مما تقدم فليفهم والله تعالى أعلم اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ مبتدأ وخبر أي ابتدأكم ضعفاء وجعل الضعف أساس أمركم كقوله تعالى: وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً [النساء: 28] فمن ابتدائية وفي الضعف استعارة مكنية حيث شبه بالأساس والمادة وفي إدخال من عليه تخييل، ويجوز أن يراد من الضعف الضعيف بإطلاق المصدر على الوصف مبالغة أو بتأويله به أو الجزء: 11 ¦ الصفحة: 57 يراد من ذي ضعف والمراد بذلك النطفة أي الله تعالى الذي ابتدأ خلقكم من أصل ضعيف وهو النطفة كقوله تعالى: مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [السجدة: 8، المرسلات: 20] وهذا التفسير وإن كان مأثورا عن قتادة إلا أن الأول أولى وأنسب بقوله تعالى: ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً وذلك عند بلوغكم الحلم أو تعلق الروح بأبدانكم ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً إذا أخذ منكم السن والمراد بالضعف هنا ابتداؤه ولذا أخر الشيب عنه أو الأعم فقوله سبحانه: شَيْبَةً للبيان أو للجمع بين تغيير قواهم وظواهرهم، وفتح عاصم وحمزة ضاد «ضعف» في الجمع وهي قراءة عبد الله: وأبي رجاء. وقرأ الجمهور بضمها فيه والضم والفتح لغتان في ذلك كما في الفقر والفقر الفتح لغة تميم والضم لغة قريش، ولذا اختار النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قراءة الضم كما ورد حديث رواه أبو داود والترمذي وحسنه، وأحمد وابن المنذر والطبراني والدارقطني وغيرهم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما انه قال: قرأت على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ أي بالفتح فقال: مِنْ ضَعْفٍ يا بني أي بالضم لأنها لغة قومه عليه الصلاة والسلام ولم يقصد صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك رد القراءة الأخرى لأنها ثابتة بالوحي أيضا كالقراءة التي اختارها، وروي عن عاصم الضم أيضا، وعنه أيضا الضم في الأولين والفتح في الأخير، وروي عن أبي عبد الرحمن والجحدري، والضحاك الضم في الأول والفتح فيما بعد. وقرأ عيسى بضم الضاد والعين وهي لغة أيضا فيه. وحكي عن كثير من اللغويين أن الضعف بالضم ما كان في البدن والضعف بالفتح ما كان في العقل، والظاهر انه لا فرق بين المضموم والمفتوح وكونهما مما يوصف به البدن والعقل، والمراد بضعف الثاني عين الأول، ونكر لمشاكلة قُوَّةً وبالأخير غيره فإنه ضعف الشيخوخة وذاك ضعف الطفولية، والمراد بقوة الثانية عين الأولى ونكرت لمشاكلة ضَعْفاً وحديث النكرة إذا أعيدت كانت غير أغلبي، وتكلف بعضهم لتحصيل المغايرة فيما نكر وكرر في الآية فتدبر يَخْلُقُ ما يَشاءُ خلقه من الأشياء التي من جملتها ما ذكر من الضعف والقوة والشيبة وخلقها أما بمعنى خلق أسبابها أو محالها واما إيجادها أنفسها وهو الظاهر ولا داعي للتأويل فإنها ليست بعدم صرف وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ المبالغ في العلم والقدرة فإن الترديد فيما ذكر من الأحوال المختلفة مع إمكان غيره من أوضح دلائل العلم والقدرة. وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أي القيامة سميت بها لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا أو لأنها تقع بغتة وصارت علما لها بالغلبة كالنجم للثريا والكوكب للزهرة، والمراد بقيامها وجودها أو قيام الخلائق فيها يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا أي ما أقاموا في القبور كما روي عن الكلبي ومقاتل، والمراد به ما أقاموا بعد الموت غَيْرَ ساعَةٍ أي قطعة من الزمان قليلة، وروى غير واحد عن قتادة أنهم يعنون ما لبثوا في الدنيا كذلك وقيل: يعنون ما لبثوا فيما بين فناء الدنيا والبعث وهو ما بين النفختين، وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم «ما بين النفختين أربعون قيل أربعون يوما يا أبا هريرة قال أبيت قيل أربعون شهرا قال أبيت قيل أربعون سنة قال أبيت» وعنى بقوله رضي الله تعالى عنه أبيت: امتنعت من بيان ذلك لكم أو أبيت أن أسأل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك، ولهذا الحديث قيل لا يعلم أهي أربعون سنة أم أربعون ألف سنة. وحكى السفاريني في البحور الزاخرة عن بعضهم دعوى اتفاق الروايات على أن ما بين النفختين أربعون عاما، وأنا أقول: الحق أنه لا يعلمه إلا الله تعالى ودعوى الاتفاق لم يقم عندي دليل عليها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 58 وذكر الزمخشري أن ذلك وقت ينقطع عذابهم فيه واستقلوا مدة لبثهم كذبا على ما روي عن الكلبي أو نسيانا لما عراهم من هول المطلع على ما قيل، وجوز أن يكون استقلالهم تلك المدة بالإضافة إلى مدة عذابهم يومئذ ولا يبعد علمهم بها سواء كان هذا القول في أول وقت الحشر أو في أثنائه أو بعد دخول النار، وجوز أن يكونوا عدوا مدة بقائهم في الدنيا ساعة لعدم انتفاعهم بها والكثير بلا نفع قليل كما أن القليل مع النفع كثير فالكلام تأسف وتحسر على إضاعتهم أيام حياتهم، وبين الساعة وساعة جناس تام مماثل كما أطبق عليه البلغاء إلا من لا يعتد به ولا يضر في ذلك اختلاف الحركة الإعرابية ولا وجود أل في إحدى الكلمتين لزيادتها على الكلمة، وكذا لا يضر اتحاد مدلولهما في الأصل لأن المعرف فيه كالمنكر بمعنى القطعة من الزمان لمكان النقل في المعرف وصيرورته علما على القيامة كسائر الأعلام المنقولة وأخذ أحدهما من الآخر لا يضر أيضا كما يوضح ذلك ما قرروه في جناس الاشتقاق، وظن بعضهم أن الساعة في القيامة مجاز ولذا أنكر التجنيس هنا إذا التجنيس المذكور لا يكون بين حقيقة ومجاز فلا تجنيس في نحو ركبت حمارا ولقيت حمارا معهما تعني رجلا بليدا واشتهر أنه لم يقع في القرآن الكريم هذا النوع من الجناس إلا في هذا الموضع، واستنبط شيخ الإسلام ابن حجر عليه الرحمة موضعا آخر وهو قوله تعالى يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ [النور: 43، 44] لأن الأبصار الأول جمع بصر والابصار الثاني مراد به ما هو جمع بصيرة، وتعقب بأنه وإن كان الأبصار الثاني مراد به ما هو جمع بصيرة إلا أنه ليس من باب الحقيقة بل بطريق المجاز والاستعارة لأن البصيرة ما تجمع على أبصار بل على بصائر، فقد قال علماء العربية: إن صيغة أفعال من جموع القلة لا تطرد إلا في اسم ثلاثي مفتوح الفاء كبصر وأبصار أو مكسورها كعنب وأعناب أو مضمومها كرطب وأرطاب ساكن العين كثوب وأثواب أو محركها كما تقدم وكعضد وأعضاد وفخذ وأفخاذ، وصيغة فعائل من جموع الكثرة لا تطرد إلا في اسم رباعي مؤنث بالتاء أو بالمعنى ثالثة مدة كسحابة وسحائب وبصيرة وبصائر وحلوبة وحلائب وشمال وشمائل وعجوز وعجائز وسعيد علم امرأة وسعائد فاستعيرت الأبصار للبصائر بجامع ما بينهما من الإدراك والتمييز وقد سمعت أن هذا النوع لا يكون بين حقيقة ومجاز فليحفظ كَذلِكَ أي مثل ذلك الإفك كانُوا أي في الدنيا يُؤْفَكُونَ أي يصرفون عن الصدق والتحقيق، والغرض من سوق الآية الإغراق في وصف المجرمين بالتمادي في التكذيب والإصرار على الباطل أو مثل ذلك الإفك كانوا يؤفكون في الاغترار بما تبين لهم الآن أنه ما كان إلا ساعة فسوق الكلام للتعجب من اغترارهم بلا مع السراب والغرض أن يحقر عندهم ما فيه من التمتعات وزخارف الدنيا كي يقلعوا عن العناد ويرجعوا إلى سبيل الرشاد فكأنه: قيل مثل ذلك الإفك العجيب الشأن كانوا يؤفكون في الدنيا اغترار بما عدده ساعة استقصارا والصارف لهم هو الله تعالى أو الشيطان أو الهوى، وأيا ما كان فليس ذاك إلا لسوء اختيارهم وخباثة استعدادهم، وفي الآية على أحد الأقوال دليل على وقوع الكذب في الآخرة من الكفرة. واستدل بها بعضهم على نفي عذاب القبر، وليس بشيء وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ في الدنيا من الملائكة أو الإنس أو منهما جميعا لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ أي في علمه وقضائه أو ما كتبه وعينه سبحانه أو اللوح المحفوظ أو القرآن وهو قوله تعالى: وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون: 100] وأيا ما كان فالجار والمجرور متعلق بما عنده. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم- وفيه من البعد ما فيه- إن الكلام على التقديم والتأخير والأصل وقال الذين أوتوا العلم والإيمان في كتاب الله لقد لبثتم إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ والكلام ولما قالوه مؤكد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 59 باليمين أو توبيخ وتفضيح وتهكم بهم فتأمل فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ الذي كنتم توعدون في الدنيا والفاء فصيحة كأنه قيل: إن كنتم منكرين البعث فهذا يومه أي فنخبركم أنه قد تبين بطلان إنكاركم وجوز أن تكون عاطفة والتعقب ذكرى أو تعليلة وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أنه حق لتفريطكم في النظر فتستعجلون به استهزاء، وقيل: لا تعلمون البعث ولا تتعرفون به فلذا صار مصيركم إلى النار. وقرأ الحسن «البعث» بفتح العين فيهما، وقرىء بكسرهما وهو اسم والمفتوح مصدر، وفي الآية من الدلالة على فضل العلماء ما لا يخفى فَيَوْمَئِذٍ أي إذ يقع ذلك من أقسام الكفار وقول أولي العلم لهم لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ أي عذرهم. وقرأ الأكثر «تنفع» بالتاء محافظة على ظاهر الأمر للفظ وإن توسط بينهما فاصل وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ الاستيعاب طلب العتبى وهي الاسم من الإعتاب بمعنى إزالة العتب كالعطاء والاستعطاء أي لا يطلب منهم إزالة عتب الله تعالى، والمراد به غضبه سبحانه عليهم بالتوبة والطاعة فإنه قد حق عليهم العذاب وإن شئت قلت: أي لا يقال ارضوا ربكم بتوبة وطاعة كما كان يقال لهم ذلك في الدنيا، وقيل: أي لا يستقيلون فيستقالون بردهم إلى الدنيا. وقال ابن عطية: هذا إخبار عن هول يوم القيامة وشدة أحواله على الكفرة بأنهم لا ينفعهم الاعتذار ولا يعطون عتبى وهي الرضا يُسْتَعْتَبُونَ بمعنى يعتبون كما تقول يملك ويستملك والباب في استفعل أنه طلب الشيء وليس هذا منه لأن المعنى يفسد إذ كان المفهوم منه ولا يطلب منهم عتبى انتهى، فجعل استفعل بمعنى فعل. وحاصل المعنى عليه على ما في البحر هم من الإهمال وعدم الالتفات إليهم بمنزلة من لا يؤهل للعتب، وقيل: المعنى عليه هم لا يعاتبون على سيئاتهم بل يعاقبون، وما ذكرناه أولا هو الذي ينبغي أن يعول عليه، ويا ليت شعري أين ما ادعاه ابن عطية من الفساد إذا كان المفهوم منه لا يطلب منهم عتبى على ما سمعت. وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي وبالله تعالى لقد وصفنا للناس من كل صفة كأنها مثل في غرابتها وقصصنا عليهم كل صفة عجيبة الشأن كصفة المبعوثين يوم القيامة وما يقولون وما يقال لهم وما لا ينفع من اعتذارهم ولا يسمع من استعتابهم، فضرب المثل اتخاذه وصنعه من ضرب الخاتم واللبن. والمثل مجاز عن الصفة الغريبة، والمراد بهذا القرآن إما هذه السورة الجليلة الشأن أو المجموع وهو الظاهر، ومِنْ تبعيضية وجوزت الزيادة وقيل: المعنى وبالله تعالى لقد بينا للناس من كل مثل ينبؤهم عن التوحيد والبعث وصدق الرسول عليه الصلاة والسلام، فضرب بمعنى بين والمثل على أصله، وقيل: بمعنى الدليل العجيب والقرآن بمعنى المجموع وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ أي مع ضربنا لهم من كل مثل في هذا القرآن الجليل الشأن لئن جئتهم بآية من آياته لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لفرط عتوهم وعنادهم وقساوة قلوبهم مخاطبين لك وللمؤمنين إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ أي مزورون، وجوز حمل الآية على المعجزة أي لئن جئتهم بمعجزة من المعجزات التي اقترحوها ليقولن الذين كفروا إلخ، والإتيان بالموصول دون الضمير لبيان السبب الحامل على القول المذكور، وإذا أريد بالناس ما يعم الكفرة غيرهم فوجه الإظهار ظاهر، وتوحيد الخطاب في جِئْتَهُمْ على ما يقتضيه الظاهر، وأما جمعه في قولهم: إِنْ أَنْتُمْ فلئلا يبقى بزعمهم له عليه الصلاة والسلام شاهد من المؤمنين حيث جعلوا الكل مدعين، وقال الإمام: في توحيد الخطاب في جِئْتَهُمْ وجمعه في أَنْتُمْ لطيفة وهي أن الله تعالى قال: إن جئتهم بكل آية جاءت بها الرسل عليهم السلام ويمكن أن يجاء بها يقولوا: أنتم كلكم أيها المدعون للرسالة مبطلون انتهى، ولا يخفى أن ما ذكرناه أحسن وألطف كَذلِكَ أي مثل ذلك الطبع الفظيع، وجوز أن يكون المعنى مثل ذلك القول يَطْبَعُ أي يختم اللَّهُ الذي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 60 جلت عظمته وعظمت وقدرته عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أي لا يطلبون العلم ولا يتحرون الحق بل يصرون على خرافات اعتقدوها وترهات ابتدعوها، فإن الجهل المركب يمنع إدراك الحق ويوجب تكذيب المحق، ومن هنا قالوا: هو شر من الجهل البسيط، وما ألطف ما قيل: قال حمار الحكيم توما ... لو أنصفوني لكنت أركب لأنني جاهل بسيط ... وصاحبي جاهل مركب وإطلاق العلم على الطلب مجاز لما أنه لازم له عادة، وقيل: المعنى يطبع الله تعالى على قلوب الذين ليسوا من أولي العلم، وليس بذاك، والمراد من الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ يحتمل أن يكون الذين كفروا فيكون قد وضع الموصول موضع ضميرهم بما في حيز الصلة، ويحتمل أن يكون عاما ويدخل فيه أولئك دخولا أوليا. وظاهر كلام بعض الأجلة يميل إلى الاحتمال الأول، وقد تقدم الكلام في طبعه وختمه عزّ وجلّ على القلب. فَاصْبِرْ أي إذا علمت حالهم وطبع الله تعالى على قلوبهم فاصبر على مكارههم من الأقوال الباطلة والأفعال السيئة إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وقد وعدك عزّ وجلّ بالنصرة وإظهار الدين وإعلاء كلمة الحق ولا بد من إنجازه والوفاء به لا محالة وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ لا يحملنك على الخفة والقلق الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ بما تتلو عليهم من الآيات البينة بتكذيبهم إياها وإيذائهم لك بأباطيلهم التي من جملتها قولهم: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ فإنهم شاكون ضالون ولا يستبدع أمثال ذلك منهم، وقيل: أي لا يوقنون بأن وعد الله حق وهو كما ترى، والحمل وإن كان لغيره صلى الله تعالى عليه وسلم لكن النهي راجع إليه عليه الصلاة والسلام فهو من باب لا أرينك هاهنا وقد مرّ تحقيقه فكأنه قيل: لا تخف لهم جزعا، وفي الآية من إرشاده تعالى لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم وتعليمه سبحانه له كيف يتلقى المكاره بصدر رحيب ما لا يخفى. وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب «ولا يستحقنك» بحاء مهملة وقاف من الاستحقاق، والمعنى لا يفتننك الذين لا يوقنون ويكونوا أحق بك من المؤمنين على أنه مجاز عن ذلك لأن من فتن أحدا استماله إليه حتى يكون أحق به من غيره، والنهي على هذه القراءة راجع إلى أمته عليه الصلاة والسلام دونه صلى الله تعالى عليه وسلم لمكان العصمة، وقد تقدّم نظائر ذلك وما للعلماء من الكلام فيها. وقرأ الجمهور بتشديد النون وخففها ابن أبي عبلة، ويعقوب، ومن لطيف ما يروى ما أخرجه ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، والبيهقي في سننه عن علي كرّم الله تعالى وجهه أن رجلا من الخوارج ناداه وهو في صلاة الفجر فقال: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ فأجابه كرّم الله تعالى وجهه وهو في الصلاة فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ولا بدع في هذا الجواب من باب مدينة العلم وأخي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هذا. ومن باب الإشارة في الآيات الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ إلى آخره، قيل: الألف إشارة إلى إلفة طبع المؤمنين واللام إلى لؤم طبع الكافرين والميم إلى مغفرة رب العالمين جلّ شأنه، والروم إشارة إلى القلب، وفارس المشار إليهم بالضمير النائب عن الفاعل إشارة إلى النفس، والمؤمنون إشارة إلى الروح والسر والعقل، ففي الآية إشارة إلى أن حال أهل الطلب يتغير بتغير الأوقات فيغلب فارس النفس روم القلب تارة ويغلب روم القلب فارس النفس بتأييد الله تعالى ونصره سبحانه تارة أخرى وذلك في بضع سنين أيام الطلب ويومئذ يفرح المؤمنون الجزء: 11 ¦ الصفحة: 61 الروح والسر والعقل، وعلى هذا المنهاج سلك النيسابوري: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا فيه إشارة إلى حال المحجوبين ووقوفهم على ظواهر الأشياء، وما من شيء إلّا له ظاهر وهو ما تدركه الحواس الظاهرة منه، وباطن وهو ما يدركه العقل بإحدى طرق الإدراك من وجوه الحكمة فيه، ومنه ما هو وراء طور العقل وهو ما يحصل بواسطة الفيض الإلهي وتهذيب النفس أتم تهذيب وهو وإن لم يكن من مستنبطات العقل إلّا أن العقل يقبله، وليس معنى أنه ما وراء طور العقل أن العقل يحيله ولا يقبله كما يتوهم، ومما ذكرنا يعلم أن الباطن لا يجب أن يتوصل إليه بالظاهر بل قد يحصل لا بواسطته وذلك أعلى قدرا من حصوله بها، فقول من يقول: إنه لا يمكن الوصول إلى الباطن إلا بالعبور على الظاهر لا يخلو عن بحث فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ أي يسرون بالسماع في روضة الشهود وذلك غذاء أرواحهم ونعيمها، وأعلى أنواع السماع في هذه النشأة عند السادة الصوفية ما يكون من الحضرة الإلهية بالأرواح القدسية والأسماع الملكوتية، وهذه الأسماع لم يفارقها سماع أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: 172] واشتهر عندهم السماع في سماع الأصوات الحسنة وسماع الأشياء المحركة لما غلب عليهم من الأحوال من الخوف والرجاء والحب والتعظيم وذلك كسماع القرآن والوعظ والدف والشبابة والأوتار والمزمار والحداء والنشيد وفي ذلك الممدوح والمذموم. وفي قواعد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام الكبرى تفصيل الكلام في ذلك على أتم وجه، وسنذكر إن شاء الله تعالى قريبا ما يتعلق بذلك والله تعالى هو الموفق للصواب فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ إلخ فيه إشارة إلى أنه ينبغي استغراق الأوقات في تنزيه الله سبحانه والثناء عليه جلّ وعلا بما هو سبحانه وتعالى أهله فإن ذلك روضة هذه النشأة، وفي الأثر أن حلق الذكر رياض الجنة يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ فيه إشارة إلى أن الفرع لا يلزم أن يكون كأصله: إنما الورد من الشوك ولا ... ينبت النرجس إلّا من بصل وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها فيه إشارة إلى أن الاشتراك في الجنسية من أسباب الإلفة إن الطيور على أشباهها تقع كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ فيه إشارة إلى أنه عزّ وجلّ لم يكره أحدا ما هو عليه إن حقا وإن باطلا، وإنما وقع التعاشق بين النفوس بحسب استعدادها وما هي عليه فأعطى سبحانه جلت قدرته كل عاشق معشوقه الذي هام به قلب استعداده وصار حبه ملء فؤاده وهذا سرح الفرح، وما ألطف ما قال قيس بن ذريح: تعلق روحي روحها قبل خلقنا ... ومن قبل ما كنا نطافا وفي المهد فزاد كما زدنا فأصبح ناميا ... وليس إذا متنا بمنفصم العقد ولكنه باق على كل حادث ... وزائرنا في ظلمة القبر واللحد وَإِذا مَسَّ النَّاسَ الآية فيها إشارة إلى أن طبيعة الإنسان ممزوجة من هداية الروح وإطاعتها ومن ضلال النفس وعصيانها، فالناس إذا أظلتهم المحنة ونالتهم الفتنة ومستهم البلية وانكسرت نفوسهم وسكنت دواعيها وتخصلت أرواحهم عن أسر ظلمة شهواتها رجعت أرواحهم إلى الحضرة ووافقتها النفوس على خلاف طباعها فدعوا ربهم منيبين إليه فإذا جاد سبحانه عليهم بكشف ما نالهم ونظر جلّ وعلا باللطف فيما أصابهم عاد منهم من تمرد إلى عادته المذمومة وطبيعته الدنية المشئومة ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ إلخ في إشارة إلى أن الشرور ليست مرادة لذاتها بل هي كبط الجرح وقطع الأصبع التي فيها آكلة فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ فيه إشارة لأهل الوراثة المحمدية أهل الإرشاد بأن يصبروا على مكاره المنكرين المحجوبين الذين لا يوقنون بصدق الجزء: 11 ¦ الصفحة: 62 أحوالهم ولذا يستخفون بهم وينظرون إليهم بنظر الحقارة ويعيرونهم وينكرون عليهم فما يقولون ويفعلون، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الموقنين وأن يحفظنا وأولادنا وإخواننا من الأمراض القلبية والقالبية بحرمة نبيه الأمين صلى الله تعالى وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 63 سورة لقمان أخرج ابن الضريس، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: أنزلت سورة لقمان بمكة، ولا استثناء في هذه الرواية. وفي رواية النحاس في تاريخه عنه استثناء ثلاث آيات منها وهي وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ [لقمان: 27] إلى تمام الثلاث فإنها نزلن بالمدينة، وذلك أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لما هاجر قال له أحبار اليهود: بلغنا أنك تقول: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 85] أعنيتنا أم قومك؟ قال: كلّا عنيت فقالوا: إنك تعلم أننا أوتينا التوراة وفيها بيان كل شيء فقال عليه الصلاة والسلام: ذلك في علم الله تعالى قليل فأنزل الآيات. ونقل الداني عن عطاء، وأبو حيان عن قتادة أنهما قالا: هي مكية إلا آيتين هما وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ إلى آخر الآيتين، وقيل: هي مكية إلّا آية وهي قوله تعالى: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ [لقمان: 4] فإن إيجابهما بالمدينة، وأنت تعلم أن الصلاة فرضت بمكة ليلة الإسراء كما في صحيح البخاري وغيره فما ذكر من أن إيجابها بالمدينة غير مسلم، ولو سلم فيكفي كونهم مأمورين بها بمكة ولو ندبا فلا يتم التقريب فيها، نعم المشهور أن الزكاة إيجابها بالمدينة فلعل ذلك القائل أراد أن إيجابهما معا تحقق بالمدينة لا أن إيجاب كل منهما تحقق فيها، ولا يضر في ذلك أن إيجاب الصلاة كان بمكة، وقيل: إن الزكاة إيجابها كان بمكة كالصلاة وتقدير الأنصباء هو الذي كان بالمدينة وعليه لا تقريب فيهما، وايها ثلاث وثلاثون في المكي والمدني وأربع وثلاثون في عدد الباقين. وسبب نزولها على ما في البحر أن قريشا سألت عن قصة لقمان مع ابنه وعن بر والديه فنزلت. ووجه مناسبتها لما قبلها على ما فيه أيضا أنه قال تعالى فيما قبل: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الروم: 58] وأشار إلى ذلك في مفتتح هذه السورة، وأنه كان في آخر ما قبلها وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ [الروم: 58] وفيها وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً [لقمان: 7] وقال الجلال السيوطي: ظهر لي في اتصالها بما قبلها مع المؤاخاة في الافتتاح- بألم إن قوله تعالى: هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [لقمان: 43] متعلق بقوله تعالى فيما قبل: وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ [الروم: 56] الآية فهذا عين إيقانهم بالآخرة وهم المحسنون الموصوفون بما ذكر، وأيضا ففي كلتا السورتين جملة من الآيات وابتداء الخلق. وذكر في السابقة فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ [الروم: 15] وقد فسر بالسماع وذكر هنا وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ [لقمان: 6] وقد فسر بالغناء وآلات الملاهي اهـ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 64 وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك، وأقول في الاتصال أيضا: إنه قد ذكر فيما تقدم قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم: 27] وهنا قوله سبحانه: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ [لقمان: 28] وكلاهما يفيد سهولة البعث وقرر ذلك هنا بقوله عزّ وجلّ قائلا: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ وذكر سبحانه هناك قوله تعالى: وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ [الروم: 33] وقال عزّ وجلّ هنا: وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ [لقمان: 32] فذكر سبحانه في كل من الآيتين قسما لم يذكره في الأخرى إلى غير ذلك. وما ألطف هذا الاتصال من حيث إن السورة الأولى ذكر فيها مغلوبية الروم وغلبتهم المبنيتين على المحاربة بين ملكين عظيمين من ملوك الدنيا تحاربا عليها وخرج بذلك عن مقتضى الحكمة فإن الحكيم لا يحارب على دنيا دنية لا تعدل عند الله تعالى جناح بعوضة وهذه ذكر فيها قصة عبد مملوك على كثير من الأقوال حكيم زاهد في الدنيا غير مكترث بها ولا ملتفت إليها أوصى ابنه بما يأبى المحاربة ويقتضي الصبر والمسالمة وبين الأمرين من التقابل ما لا يخفى. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ أي ذي الحكمة، ووصف الكتاب بذلك عند بعض المغاربة مجاز لأن الوصف بذلك للتملك وهو لا يملك الحكمة بل يشتمل عليها ويتضمنها فلأجل ذلك وصف بالحكيم بمعنى ذي الحكمة، واستظهر الطيبي أنه على ذلك من الاستعارة المكنية. والحق أنه من باب عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة: 21] على حد لابن وتامر. نعم يجوز أن يكون هناك استعارة بالكناية أي الناطق بالحكمة كالحي، ويجوز أن يكون الحكيم من صفاته عزّ وجلّ ووصف الكتاب به من باب الإسناد المجازي فإنه منه سبحانه بدا، وقد يوصف الشيء بصفة مبدئه كما في قول الأعشى: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 65 وغريبة تأتي الملوك حكيمة ... قد قلتها ليقال من ذا قالها وأن يكون الأصل الحكيم منزله أو قائله فحذف المضاف إلى الضمير المجرور وأقيم المضاف إليه مقامه فانقلب مرفوعا ثم استسكن في الصفة المشبهة وأن يكون الْحَكِيمِ فعيلا بمعنى مفعل كما قالوا: عقدت العسل فهو عقيد أي معقد وهذا قليل، وقيل: هو بمعنى حاكم، وتمام الكلام في هذه الآية قد تقدم في الكلام على نظيرها هُدىً وَرَحْمَةً بالنصب على الحالية من آياتُ والعامل فيهما معنى الإشارة على ما ذكره غير واحد وبحث فيه. وقرأ حمزة، والأعمش، والزعفراني، وطلحة، وقنبل من طريق أبي الفضل الواسطي، ونظيف بالرفع على الخبر بعد الخبر- لتلك- على مذهب الجمهور أو الخبر لمحذوف أي هي أو هو هدى ورحمة عظيمة لِلْمُحْسِنِينَ أي العاملين الحسنات، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة للمتعاطفين، وقوله تعالى: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ إما مجرور على أنه صفة كاشفة أو بدل أو بيان لما قبله، وإما منصوب أو مرفوع على القطع وعلى كل فهو تفسير للمحسنين على طريقة قول أوس بن حجر: الألمعي الذي يظن بك الظن ... كأن قد رأى وقد سمعا فقد حكي عن الأصمعي أنه سأل عن الألمعي فأنشده ولم يزد عليه، وهذا ظاهر على تقدير أن يراد بالحسنات مشاهيرها المعهودة في الدين، وأما على تقدير أن يراد بها جميع ما يحسن من الأعمال فلا يظهر إلا باعتبار جعل المذكورات بمنزلة الجميع من باب «كل الصيد في جوف الفرا» ، وقيل: إذا أريد بالحسنات المذكورات يكون الموصول صفة كاشفة وقوله تعالى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ استئنافا، وإذا أريد بها جميع ما يحسن من الأعمال وكان تخصيص المذكورات بالذكر لفضل اعتداد بها يكون الموصول مبتدأ وجملة أُولئِكَ عَلى هُدىً إلخ خبره والكلام استئناف بذكر الصفة الموجبة للاستئهال. وقيل: إن الموصول على التقديرين صفة إلا أنه على التقدير الأول كاشفة وعلى التقدير الثاني صفة مادحة للوصف لا للموصوف، وبناء يُوقِنُونَ على هُمْ للتقوى، وأعيد الضمير للتأكيد ولدفع توهم كون بِالْآخِرَةِ خبرا وجبرا للفصل بين المبتدأ وخبره ولم يؤخر الفاصل للفاصلة. وذكر بعض أجلة المفسرين في قوله تعالى أول سورة البقرة: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ إن بناء يُوقِنُونَ على هُمْ يدل على أن مقابليهم ليسوا من اليقين في ظل ولا فيء وأن تقديم «في الآخرة» يدل على أن ما عليه مقابلوهم ليس من الآخرة في شيء وذلك لإفادة تقديم الفاعل المعنوي وتقديم الجار على متعلقه الاختصاص فانظر هل يتسنى نحو ذلك هنا، وقد مر أول سورة البقرة ما يعلم منه وجه اختيار اسم الإشارة ووجه تكراره، وفي الآية كلام بعد لا يخفى على من راجع ما ذكروه من الكلام على ما يشبهها هناك وتأمل فراجع وتأمل. وَمِنَ النَّاسِ أي بعض من الناس أو بعض الناس مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ أي الذي أو فريق يشتري على أن مناط الإفادة والمقصود بالأصالة هو اتصافهم بما في حيز الصلة أو الصفة لا كونهم ذوات أولئك المذكورين، والجملة عطف على ما قبلها بحسب المعنى كأنه قيل: من الناس هاد مهدي ومنهم ضال مضل أو عطف قصة على قصة، وقيل: إنها حال من فاعل الإشارة أي أشير الى آيات الكتاب حال كونها هدى ورحمة والحال من الناس من يشتري إلخ، ولَهْوَ الْحَدِيثِ على ما روي عن الحسن كل ما شغلك عن عبادة الله تعالى وذكره من السمر والأضاحيك والخرافات والغناء ونحوها، والإضافة بمعنى من أن أريد بالحديث المنكر كما في حديث «الحديث في الجزء: 11 ¦ الصفحة: 66 المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش» بناء على أنها بيانية وتبعيضية أن أريد به ما هو أعم منه بناء على مذهب بعض النحاة كابن كيسان، والسيرافي قالوا: إضافة ما هو جزء من المضاف إليه بمعنى من التبعيضية كما يدل عليه وقوع الفصل بها في كلامهم، والذي عليه أكثر المتأخرين وذهب إليه ابن السراج، والفارسي وهو الأصح أنها على معنى اللام كما فصله أبو حيان في شرح التسهيل وذكره شارح اللمع. وعن الضحاك أن لَهْوَ الْحَدِيثِ الشرك، وقيل: السحر، وأخرج ابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي الصهباء قال سألت عبد الله بن مسعود عن قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ قال: هو والله الغناء وبه وفسر كثير، والأحسن تفسيره بما يعم كل ذلك كما ذكرناه عن الحسن، وهو الذي يقتضيه ما أخرجه البخاري في الأدب المفرد، وابن أبي الدنيا، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في سننه عن ابن عباس أنه قال: لَهْوَ الْحَدِيثِ هو الغناء، وأشباهه، وعلى جميع ذلك يكون الاشتراء استعارة لاختياره على القرآن واستبداله به، وأخرج ابن عساكر عن مكحول في قوله تعالى: مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ قال الجواري الضاربات. وأخرج آدم، وابن جرير، والبيهقي في سننه عن مجاهد أنه قال فيه: هو اشتراؤه المغني والمغنية والاستماع إليه وإلى مثله من الباطل، وفي رواية ذكرها البيهقي في السنن عن ابن مسعود أنه قال: في الآية هو رجل يشتري جارية تغنيه ليلا أو نهارا واشتهر أن الآية نزلت في النضر بن الحارث، ففي رواية جويبر عن ابن عباس أنه اشترى قينة فكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته، فيقول: أطعميه واسقيه وغنيه ويقول: خذ أخير مما يدعوك إليه محمد صلى الله تعالى عليه وسلم من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه فنزلت. وفي أسباب النزول للواحدي عن الكلبي، ومقاتل أنه كان يخرج تاجرا إلى فارس فيشتري أخبار الأعاجم وفي بعض الروايات كتب الأعاجم فيرويها ويحدث بها قريشا ويقول لهم: إن محمدا عليه الصلاة والسلام يحدثكم بحديث عاد، وثمود وأنا أحدثكم بحديث رستم، وإسفنديار وأخبار الأكاسرة فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن فنزلت، وقيل: إنها نزلت في ابن خطل اشترى جارية تغني بالسب، ولا يأبى نزولها فيمن ذكر الجمع في قوله تعالى بعد: أُولئِكَ لَهُمْ كما لا يخفى على الفطن، والاشتراء على أكثر هذه الروايات على حقيقته ويحتاج في بعضها إلى عموم المجاز أو الجمع بين الحقيقة والمجاز كما لا يخفى على من دقق النظر، وجعل المغنية ونحوها نفس لهو الحديث مبالغة كما جعل النِّساءِ في قوله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ [آل عمران: 14] نفس الزينة. وفي البحر إن أريد بلهو الحديث ما يقع عليه الشراء كالجواري المغنيات وككتب الأعاجم فالاشتراء حقيقة ويكون الكلام على حذف مضاف أي من يشتري ذات لهو الحديث. وقال الخفاجي: عليه الرحمة لا حاجة إلى تقدير ذات لأنه لما اشتريت المغنية لغنائها فكأن المشتري هو الغناء نفسه فتدبره، وفي الآية عند الأكثرين ذم للغناء بأعلى صوت وقد تضافرت الآثار وكلمات كثير من العلماء الأخيار على ذمه مطلقا لا في مقام دون مقام، فأخرج ابن أبي الدنيا، والبيهقي، في شعبه عن ابن مسعود قال: إذا ركب الرجل الدابة ولم يسم ردفه شيطان فقال: تغنه فإن كان لا يحسن قال: تمنه، وأخرجا أيضا عن الشعبي قال: عن القاسم بن محمد أنه سأل عن الغناء فقال للسائل: أنهاك عنه وأكرهه لك فقال السائل: أحراء هو؟ قال: انظر يا ابن أخي إذا ميز الله تعالى الحق من الباطل في أيهما يجعل سبحانه الغناء، وأخرجا عنه أيضا أنه قال: «لعن الله تعالى المغني والمغني له» ، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 67 وفي السنن عن ابن مسعود قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل» ، وأخرج عنه نحوه ابن أبي الدنيا ورواه عن أبي هريرة، والديلمي عنه وعن أنس وضعفه ابن القطان، وقال النووي لا يصح، وقال العراقي: رفعه غير صحيح لأن في إسناده من لم يسم وفيه إشارة إلى أن وقفه على ابن مسعود صحيح وهو في حكم المرفوع إذ مثله لا يقال من قبل الرأي. وأخرج ابن أبي الدنيا وابن مردويه عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «ما رفع أحد صوته بغناء إلا بعث الله تعالى إليه شيطانين يجلسان على منكبيه يضربان بأعقابهما على صدره حتى يمسك» وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن أبي عثمان الليثي قال: قال يزيد بن الوليد الناقص: يا بني أمية إياكم والغناء فإنه ينقص الحياء ويزيد في الشهوة ويهدم المروءة وإنه لينوب عن الخمر ويفعل ما يفعل السكر فإن كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء فإن الغناء داعية الزنا، وقال الضحاك: الغناء منفدة للمال مسخطة للرب مفسدة للقلب، وأخرج سعيد بن منصور، وأحمد، والترمذي، وابن ماجة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وغيرهم عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام في مثل هذا أنزلت هذه الآية وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ إلى آخر الآية» وفي رواية ابن أبي الدنيا، وابن مردويه عن عائشة قالت: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن الله تعالى حرم القينة وبيعها وثمنها وتعليمها والاستماع إليها ثم قرأ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ويعود هذا ونحوه إلى ذم الغناء. وقيل: الغناء جاسوس القلب وسارق المروءة والعقول يتغلغل في سويداء القلوب ويطلع على سرائر الأفئدة ويدب إلى بيت التخييل فينشر ما غرز فيها من الهوى والشهوة والسخافة والرعونة فبينما ترى الرجل وعليه سمت الوقار وبهاء العقل وبهجة الإيمان ووقار العلم كلامه حكمة وسكوته عبرة فإذا سمع الغناء نقص عقله وحياؤه وذهبت مروءته وبهاؤه فيستحسن ما كان قبل السماع يستقبحه ويبدي من أسراره ما كان يكتمه وينتقل من بهاء السكوت والسكون إلى كثرة الكلام والهذيان والاهتزاز كأنه جان وربما صفق بيديه ودق الأرض برجليه وهكذا تفعل الخمر إلى غير ذلك، واختلف العلماء في حكمه فحكي تحريمه عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه القاضي أبو الطيب، والقرطبي، والماوردي، والقاضي عياض. وفي التاتار خانية اعلم أن التغني حرام في جميع الأديان، وذكر في الزيادات أن الوصية للمغنين والمغنيات مما هو معصية عندنا وعند أهل الكتاب، وحكي عن ظهير الدين المرغيناني: أنه قال من قال لمقرىء زماننا أحسنت عند قراءته كفر. وصاحبا الهداية والذخيرة سمياه كبيرة. هذا في التغني للناس في غير الأعياد والأعراس ويدخل فيه تغني صوفية زماننا في المساجد والدعوات بالأشعار والأذكار مع اختلاط أهل الأهواء والمراد بل هذا أشد من كل تغني لأنه مع اعتقاد العبادة وأما التغني وحده بالأشعار لدفع الوحشة أو في الأعياد والأعراس فاختلفوا فيه والصواب منعه مطلقا في هذا الزمان انتهى. وفي الدر المختار التغني لنفسه لدفع الوحشة لا بأس به (1) عند العامة على ما في العناية وصححه العيني (2)   (1) قوله لا بأس به إلخ لما جاء عن أنس بن مالك أنه دخل على أخيه البراء بن مالك وكان من دهاة الصحابة وكان يتغنى وأجيب بأنه يجوز أن يكون معنى يتغنى ينشد الأشعار أي المباحة اهـ منه. (2) قوله وصححه العيني وإليه ذهب شمس الأئمة السرخسي اهـ منه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 68 وغيره. قال ولو فيه وعظ وحكمة فجائز اتفاقا ومنهم من أجازه في العرس كما جاز ضرب الدف فيه ومنهم من أباحه مطلقا ومنهم من كرهه مطلقا انتهى. وفي البحر والمذهب حرمته مطلقا فانقطع الاختلاف بل ظاهر الهداية أنه كبيرة ولو لنفسه وأقره المصنف وقال: ولا تقبل شهادة من يسمع الغناء أو يجلس مجلسه انتهى كلام الدر. وذكر الإمام أبو بكر الطرسوسي في كتابه في تحريم السماع أن الإمام أبا حنيفة يكره الغناء ويجعله من الذنوب وكذلك مذهب أهل الكوفة سفيان، وحماد، وإبراهيم، والشعبي، وغيرهم لا اختلاف بينهم في ذلك ولا نعلم خلافا بين أهل البصرة في كراهة ذلك والمنع منه انتهى وكأن مراده بالكراهة الحرمة، والمتقدمون كثيرا ما يريدون بالمكروه الحرام كما في قوله تعالى: كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً [الإسراء: 38] ونقل عليه الرحمة فيه أيضا عن الإمام مالك انه نهى عن الغناء وعن استماعه وقال: إذا اشترى جارية فوجدها مغنية فله أن يردها بالعيب وإنه سئل ما ترخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال: إنما يفعله عندنا الفساق؟ ونقل التحريم عن جمع من الحنابلة على ما حكاه شارح المقنع وغيره، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب البلغة أن أكثر أصحابهم على التحريم وعن عبد الله ابن الإمام أحمد انه قال: سألت أبي عن الغناء فقال ينبت النفاق في القلب لا يعجبني ثم ذكر قول مالك: إنما يفعله عندنا الفساق، وقال المحاسبي في رسالة الإنشاء الغناء حرام كالميتة، ونقل الطرسوسي أيضا عن كتاب أدب القضاء أن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه قال: إن الغناء لهو مكروه يشبه الباطل والمحال من استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته، وفيه أنه صرح أصحابه العارفون بمذهبه بتحريمه وأنكروا على من نسب إليه حله كالقاضي أبي الطيب، والطبري، والشيخ أبي إسحاق في التنبيه وذكر بعض تلامذة البغوي في كتابه الذي سماه التقريب أن الغناء حرام فعله وسماعه، وقال ابن الصلاح في فتاواه بعد كلام طويل: فإذن هذا السماع حرام بإجماع أهل الحل والعقد من المسلمين انتهى. والذي رأيته في الشرح الكبير للجامع الصغير للفاضل المناوي أن مذهب الشافعي أنه مكروه تنزيها عند أمن الفتنة، وفي المنهاج يكره الغناء بلا آلة قال العلامة ابن حجر لما صح عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وذكر الحديث السابق الموقوف عليه وإنه جاء مرفوعا من طرق كثيرة بينها في كتابه كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع ثم قال: وزعم أنه لا دلالة فيه على كراهته لأن بعض المباح كلبس الثياب الجميلة ينبت النفاق في القلب وليس بمكروه يرد بأنا لا نسلم أن هذا ينبت نفاقا أصلا، ولئن سلمناه فالنفاق مختلف فالنفاق الذي ينبته الغناء من التخنث وما يترتب عليه أقبح وأشنع كما لا يخفى ثم قال: وقد جزم الشيخان يعني النووي والرافعي في موضع بأنه معصية وينبغي حمله على ما فيه وصف نحو خمر أو تشبب بأمرد أو أجنبية ونحو ذلك مما يحمل غالبا على معصية، قال الأذرعي: أما ما اعتيد عند محاولة عمل وحمل ثقيل كحداء الأعراب لإبلهم والنساء لتسكين صغارهن فلا شك في جوازه بل ربما يندب إذا نشط على سير أو رغب في خير كالحداء في الحج والغزو، وعلى هذا يحمل ما جاء عن بعض الصحابة انتهى، وقضية قولهم بلا آلة حرمته مع الآلة، قال الزركشي لكن القياس تحريم الآلة فقط وبقاء الغناء على الكراهة انتهى. ومثل الاختلاف في الغناء الاختلاف في السماع فأباحه قوم كما أباحوا الغناء واستدلوا على ذلك بما رواه البخاري عن عائشة قالت: «دخل على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث فاضطجع على الفراش وحول وجهه- وفي رواية لمسلم- تسجى بثوبه ودخل أبو بكر فانتهرني وقال مزمارة الشيطان عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأقبل عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: دعهما فلما غفل غمرتهما فخرجتا وكان يوم عيد» الحديث ووجه الاستدلال أن هناك غناء أو سماعا وقد أنكر عليه الصلاة والسلام إنكار أبي بكر رضي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 69 الله تعالى عنه بل فيه دليل أيضا على جواز سماع الرجل صوت الجارية ولو لم تكن مملوكة لأنه عليه الصلاة والسلام سمع ولم ينكر على أبي بكر سماعه بل أنكر إنكاره وقد استمرتا تغنيان إلى أن أشارت إليهما عائشة بالخروج. وإنكار أبي بكر على ابنته رضي الله تعالى عنهما مع علمه بوجود رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان لظن أن ذلك لم يكن بعلمه عليه الصلاة والسلام لكونه دخل فوجده مغطى بثوبه فظنه نائما. وفي فتح الباري استدل جماعة من الصوفية بهذا الحديث على إباحة الغناء وسماعه بآلة وبغير آلة. ويكفي في رد ذلك ما رواه البخاري أيضا بعيده عن عائشة أيضا قالت: «دخل علي أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث قالت: وليستا بمغنيتين فقال أبو بكر: أبمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وذلك في يوم عيد فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا» فنفت فيه عنهما من طريق المعنى ما أثبتته لهما باللفظ لأن الغناء يطلق على رفع الصوت وعلى الترنم الذي تسميه العرب النصب بفتح النون وسكون المهملة وعلى الحداء ولا يسمى فاعله مغنيا وإنما يسمى بذلك من ينشد بتمطيط وتكسير وتهييج وتشويق بما فيه تعريض بالفواحش أو تصريح. قال القرطبي: قولها «ليستا بمغنيتين» أي ليستا ممن يعرف الغناء كما تعرفه المغنيات المعروفات بذلك وهذا منهما تجوز عن الغناء المعتاد عند المشتهرين به وهو الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن، وهذا النوع إذا كان في شعر فيه وصف محاسن النساء والخمر وغيرهما من الأمور المحرمة لا يختلف في تحريمه وأما ما ابتدعه الصوفية في ذلك فمن قبيل ما لا يختلف في تحريمه لكن النفوس الشهوانية غلبت على كثير ممن ينسب إلى الخير حتى لقد ظهرت في كثير منهم فعلات المجانين والصبيان حتى رقصوا بحركات متطابقة وتقطيعات متلاحقة وانتهى التواقح بقوم منهم إلى أن جعلوها من باب القرب وصالح الأعمال وأن ذلك يثمر سني الأحوال، وهذا على التحقيق من آثار الزندقة وقول أهل المخرقة والله تعالى المستعان انتهى كلام القرطبي، وكذا الغرض من كلام فتح الباري وهو كلام حسن بيد أن قوله: وإنما يسمى بذلك من ينشد إلخ لا يخلو عن شيء بناء على أن المتبادر عموم ذلك لما يكون في المنشد منه تعريض أو تصريح بالفواحش ولما لا يكون فيه ذلك، وقال بعض الأجلة: ليس في الخبر الإباحة مطلقا بل قصارى ما فيه إباحته في سرور شرعي كما في الأعياد والأعراس فهو دليل لمن أجازه في العرس كما أجاز ضرب الدف فيه، وأيضا إنكار أبي بكر رضي الله تعالى عنه ظاهر في أنه كان سمع من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذم الغناء والنهي عنه فظن عموم الحكم فأنكر، وبإنكاره عليه الصلاة والسلام عليه إنكاره تبين له عدم العموم. وفي الخبر الآخر ما يدل على أنه أوضح له صلى الله تعالى عليه وسلم مقرونا ببيان الحكمة وهو أنه يوم عيد فلا ينكر فيه مثل هذا كما لا ينكر في الأعراس، ومع هذا أشار صلى الله تعالى عليه وسلم بالتفافه بثوبه وتحويل وجهه الشريف إلى أن الإعراض عن ذلك أولى، وسماع صوت الجارية الغير المملوكة بمثل هذا الغناء إذا أمنت الفتنة مما لا بأس به فليكن الخبر دليلا على جوازه. واستدل بعضهم على ذلك بما جاء عن أنس بن مالك أنه دخل على أخيه البراء بن مالك وكان من دهاة الصحابة رضي الله تعالى عنهم وكان يتغنى، ولا يخفى ما فيه فإن هذا التغني ليس بالمعنى المشهور، ونحوه التغني في قوله عليه الصلاة والسلام: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» وسفيان بن عيينة وأبو عبيدة فسرا التغني في هذا الحديث بالاستغناء فكأنه قيل: ليس منا من لم يستغن بالقرآن عن غيره، وهو مع هذا تغن لإزالة الوحشة عن نفسه في عقر داره، ومثله ما روي عن عبد الله بن عوف قال: أتيت باب عمر رضي الله تعالى عنه فسمعته يغني: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 70 فكيف ثوائي بالمدينة بعد ما ... قضى وطرا منها جميل بن معمر أراد به جميلا الجمحي وكان خاصا به فلما استأذنت عليه قال لي: أسمعت ما قلت؟ قلت: نعم قال: إنا إذا خلونا قلنا ما يقول الناس في بيوتهم. وحرم جماعة السماع مطلقا، وقال الغزالي: السماع إما محبوب بأن غلب على السامع حب الله تعالى ولقائه ليستخرج به أحوالا من المكاشفات والملاطفات، وإما مباح بأن كان عنده عشق مباح لحليلته أو لم يغلب عليه حب الله تعالى ولا الهوى، وإما محرم بأن غلب عليه هوى محرم. وسئل العز بن عبد السلام عن استماع الإنشاد في المحبة والرقص فقال: الرقص بدعة لا يتعاطاه إلا ناقص العقل فلا يصلح إلا للنساء، وأما استماع الإنشاد المحرك للأحوال السنية وذكر أمور الآخرة فلا بأس به بل يندب عند الفتور وسآمة القلب، ولا يحضر السماع من في قلبه هوى خبيث فإنه يحرك ما في القلب، وقال أيضا: السماع يختلف باختلاف السامعين والمسموع منهم، وهم أما عارفون بالله تعالى ويختلف سماعهم باختلاف أحوالهم فمن غلب عليه الخوف أثر فيه السماع عند ذكر المخوفات نحو حزن وبكاء وتغير لون، وهو إما خوف عقاب أو فوات ثواب أو أنس وقرب وهو أفضل الخائفين والسامعين وتأثير القرآن فيه أشد، ومن غلب عليه الرجاء أثر فيه السماع عند ذكر المطمعات والمرجيات، فإن كان رجاؤه للأنس والقرب كان سماعه أفضل سماع الراجين وإن كان رجاؤه للثواب فهذا في المرتبة الثانية، وتأثير السماع في الأول أشد من تأثيره في الثاني، ومن غلب عليه حب الله تعالى لإنعامه فيؤثر فيه سماع الإنعام والإكرام، أو لجماله سبحانه المطلق فيؤثر فيه ذكر شرف الذات وكمال الصفات، وهو أفضل مما قبله لأن سبب حبه أفضل الأسباب، ويشتد التأثير فيه عند ذكر الإقصاء والأبعاد، ومن غلب عليه التعظيم والإجلال وهو أفضل من جميع ما قبله، وتختلف أحوال هؤلاء في المسموع منه، فالسماع من الولي أشد تأثيرا من السماع من عامي ومن نبي أشد تأثيرا منه ومن ولي، ومن الرب عزّ وجلّ أشد تأثيرا من السماع من نبي لأن كلام المهيب أشد تأثيرا في الهائب من كلام غيره كما أن كلام الحبيب أشد تأثيرا في المحب من كلام غيره، ولهذا لم يشتغل النبيون والصديقون وأصحابهم بسماع الملاهي والغناء واقتصروا على كلام ربهم جلّ شأنه، ومن يغلب عليه هوى محرم يعشق حليلته فهو يؤثر فيه آثار الشوق وخوف الفراق ورجاء التلاق فسماعه لا بأس به، ومن يغلب عليه هوى محرم كعشق أمرد أو أجنبية فهو يؤثر فيه السعي إلى الحرام وما أدى إلى الحرام فهو حرام، وأما من لم يجد في نفسه شيئا من هذه الأقسام الستة فيكره سماعه من جهة أن الغالب على العامة إنما هي الأهواء الفاسدة فربما هيجه السماع إلى صورة محرمة فيتعلق بها ويميل إليها، ولا يحرم عليه ذلك لأنا لا نتحقق السبب المحرم، وقد يحضر السماع قوم من الفجرة فيبكون وينزعجون لأغراض خبيثة انطووا عليها ويراؤون الحاضرين بأن سماعهم لشيء محبوب، وهؤلاء قد جمعوا بين المعصية وبين إيهام كونهم من الصالحين، وقد يحضر السماع قوم قد فقدوا أهاليهم ومن يعز عليهم ويذكرهم المنشد فراق الأحبة وعدم الأنس فيبكي أحدهم ويوهم الحاضرين أن بكاءه لأجل رب العالمين جل وعلا وهذا مراء بأمر غير محرم، ثم قال: اعلم أنه لا يحصل السماع المحمود إلا عند ذكر الصفات الموجبة للأحوال السنية والأفعال الرضية، ولكل صفة من الصفات حال مختص بها، فمن ذكر صفة الرحمة أو ذكر بها كانت حاله حال الراجين وسمعه سماعهم، ومن ذكر شدة النقمة أو ذكر بها كانت حاله حال الخائفين وسماعه سماعهم، وعلى هذا القياس، وقد تغلب الأحوال على بعضهم بحيث لا يصغي إلى ما يقوله المنشد ولا يلتفت إليه لغلبة حاله الأولى عليه انتهى، وقد نقله بعض الأجلة وأقره وفيه ما يخالف ما نقل عن الغزالي. ونقل القاضي حسين عن الجنيد قدس سره أنه قال: الناس في السماع إما عوام وهو حرام عليهم لبقاء نفوسهم، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 71 وإما زهاد وهو مباح لهم لحصول مجاهدتهم، وإما عارفون وهو مستحب لهم لحياة قلوبهم، وذكر نحوه أبو طالب المكي وصححه السهروردي عليه الرحمة في عوارفه، والظاهر أن الجنيد أراد بالحرام معناه الاصطلاحي. واستظهر بعضهم أنه لم يرد ذلك وإنما أراد أنه لا ينبغي، ونقل بعضهم عن الجنيد قدس سره أنه سئل عن السماع فقال: هو ضلال للمبتدي والمنتهي لا يحتاج إليه، وفيه مخالفة لما سمعت. وقال القشيري رحمه الله تعالى: إن للسماع شرائط منها معرفة الأسماء والصفات ليعلم صفات الذات من صفات الأفعال وما يمتنع في نعت الحق سبحانه وما يجوز وصفه تعالى به وما يجب وما يصح إطلاقه عليه عز شأنه من الأسماء وما يمتنع، ثم قال: فهذه شرائط صحة السماع على لسان أهل التحصيل من ذوي العقول، وأما عند أهل الحقائق فالشرط فناء النفس بصدق المجاهدة ثم حياة القلب بروح المشاهدة فمن لم تتقدم بالصحة معاملته ولم تحصل بالصدق منازلته فسماعه ضياع وتواجده طباع، والسماع فتنة يدعو إليها استيلاء العشق إلا عند سقوط الشهوة وحصول الصفوة، وأطال بما يطول ذكره، قيل: وبه يتبين تحريم السماع على أكثر متصوفة الزمان لعقد شروط القيام بأدائه. ومن العجب أنهم ينسبون السماع والتواجد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ويروون عن عطية أنه عليه الصلاة والسلام دخل على أصحاب الصفة يوما فجلس بينهم، وقال عليه الصلاة والتحية: هل فيكم من ينشدنا أبياتا. فقال واحد: لسعت حية الهوى كبدي ولا طبيب لها ولا راقي إلا الحبيب الذي شغفت به فعنده رقيتي وترياقي فقام عليه الصلاة والسلام وتمايل حتى سقط الرداء الشريف عن منكبيه فأخذه أصحاب الصفة فقسموه فيما بينهم بأربعمائة قطعة ، وهو لعمري كذب صريح وإفك قبيح لا أصل له بإجماع محدثي أهل السنة وما أراه إلا من وضع الزنادقة. فهذا القرآن العظيم يتلوه جبريل عليه السلام صلى الله تعالى عليه وسلم ويتلوه هو أيضا ويسمعه من غير واحد ولا يعتريه عليه الصلاة والسلام شيء مما ذكروه في سماع بيتين هما كما سمعت سبحانك هذا بهتان عظيم، وأنا أقول: قد عمت البلوى بالغناء والسماع في سائر البلاد والبقاع ولا يتحاشى من ذلك في المساجد وغيرها بل قد عين مغنون يغنون على المنائر في أوقات مخصوصة شريفة بأشعار مشتملة على وصف الخمر والخانات وسائر ما يعد من المحظورات، ومع ذلك قد وظف لهم من غلة الوقف ما وظف ويسمونهم الممجدين، ويعدون خلو الجوامع من ذلك من قلة الاكتراث بالدين، وأشنع من ذلك ما يفعله أبالسة المتصوفة ومردتهم ثم إنهم قبحهم الله تعالى إذا اعترض عليهم بما اشتمل عليه نشيدهم من الباطل يقولون: نعني بالخمر المحبة الإلهية وبالسكر غلبتها وبمية، وليلى، وسعدى مثلا المحبوب الأعظم وهو الله عزّ وجلّ، وفي ذلك من سوء الأدب ما فيه وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ [الأعراف: 180] وفي القواعد الكبرى للعز بن عبد السلام ليس من أدب السماع أن يشبه غلبة المحبة بالسكر من الخمر فإنه سوء الأدب وكذا تشبيه المحبة بالخمر أم الخبائث فلا يشبه ما أحبه الله تعالى بما أبغضه وقضى بخبثه ونجاسته فإن تشبيه النفيس بالخسيس سوء الأدب بلا شك فيه، وكذا التشبيه بالخصر والردف ونحو ذلك من التشبيهات المستقبحات، ولقد كره لبعضهم قوله: أنتم روحي ومعلم راحتي ولبعضهم قوله: فأنت السمع والبصر لأنه لا شبيه له بروحه الخسيسة وسمعه وبصره اللذين لا قدر لهما، ثم إنه وإن أباح بعض أقسام السماع حط على من يرقص ويصفق عنده فقال: أما الرقص والتصفيق فخفة ورعونة مشبهة برعونة الإناث لا يفعلها إلا أرعن أو متصنع كذاب، وكيف يتأتى الرقص المتزن بأوزان الغناء ممن طاش لبه وذهب قلبه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم» ولم يكن أحد من هؤلاء الذين يقتدى بهم يفعل شيئا من ذلك، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 72 وإنما استحوذ الشيطان على قوم يظنون أن طربهم عند السماع إنما هو متعلق بالله تعالى شأنه ولقد مانوا فيما قالوا وكذبوا فيما ادعوا من جهة أنهم عند سماع المطربات وجدوا لذتين. إحداهما لذة قليل من الأحوال المتعلقة بذي الجلال. والثانية لذة الأصوات والنغمات والكلمات الموزونات الموجبات للذات ليست من آثار الدين ولا متعلقة بأموره فلما عظمت عندهم اللذات غلطوا فظنوا أن مجموع ما حصل لهم إنما حصل بسبب حصول ذلك القليل من الأحوال وليس كذلك بل الأغلب عليهم حصول لذات النفوس التي ليست من الدين في شيء. وقد حرم بعض العلماء التصفيق لقوله عليه الصلاة والسلام: «إنما التصفيق للنساء» ولعن رسول الله صلّى الله عليه وسلم المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء، ومن هاب الإله أدرك شيئا من تعظيمه لم يتصور منه رقص ولا تصفيق ولا يصدر أن إلا من جاهل، ويدل على جهالة فاعلهما أن الشريعة لم ترد بهما في كتاب ولا سنة ولم يفعل ذلك أحد من الأنبياء ولا معتبر من أتباعهم وإنما يفعل ذلك الجهلة السفهاء الذين التبست عليهم الحقائق بالأهواء، وقد قال تعالى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89] ولقد مضى السلف وأفاضل الخلف ولم يلابسوا شيئا من ذلك فما ذاك إلا غرض من أغراض النفس وليس بقربة إلى الرب جلّ وعلا، وفاعله إن كان ممن يقتدى به ويعتقد أنه ما فعله إلا لكونه قربة فبئس ما صنع لإيهامه أن هذا من الطاعات وإنما هو من أقبح الرعونات. وأما الصياح والتغاشي ونحوهما فتصنع ورياء، فإن كان ذلك عن حال لا يقتضيهما فإثم الفاعل من جهتين. إحداهما إيهامه الحال الثابتة الموجبة لهما. والثانية تصنعه ورياؤه، وإن كان عن مقتض أثم إثم رياء لا غير. وكذلك نتف الشعور وضرب الصدور وتمزيق الثياب محرم لما فيه من إضاعة المال، وأي ثمرة لضرب الصدور ونتف الشعور وشق الجيوب إلا رعونات صادرة عن النفوس اهـ كلامه، ومنه يعلم ما في نقل الأسنوي عنه رحمه الله تعالى أنه كان يرقص في السماع، والعلامة ابن حجر قال: يحمل ذلك على مجرد القيام والتحرك لغلبة وجد وشهود وتجل لا يعرفه إلا أهله، ومن ثم قال الإمام إسماعيل الحضرمي: موقف الشمس عن قوم يتحركون في السماع هؤلاء قوم يروحون قلوبهم بالأصوات الحسنة حتى يصيروا روحانيين فهم بالقلوب مع الحق وبالأجساد مع الخلق، ومع هذا فلا يؤمن عليهم العدو ولا يعول عليهم فيما فعلوا ولا يقتدى بهم فيما قالوا اهـ، وما ذكره فيمن يصدر عنه نحو الصياح والتغاشي عن حال يقتضيه لا يخلو عن شيء، فقد قال البلقيني فيما يصدر عنهم من الرقص الذي هو عند جمع ليس بمحرم ولا مكروه لأنه مجرد حركات على استقامة أو اعوجاج ولأنه عليه الصلاة والسلام، أقر الحبشة عليه في مسجده يوم عيد، وعند آخرين مكروه، وعند هذا القائل حرام إذا كثر بحيث أسقط المروءة إن كان باختيارهم فهم كغيرهم وإلا فليسوا بمكلفين، واستوضحه بعض الأجلة وقال: يجب اطراده في سائر ما يحكى عن الصوفية مما يخالف ظواهر الشرع فلا يحتج به لأنه إن صدر عنهم في حال تكليفهم فهم كغيرهم أو مع غيبتهم لم يكونوا مكلفين به، والذي يظهر لي أن غناء الرجل بمثل هذه الألحان إن كان لدفع الوحشة عن نفسه فمباح غير مكروه كما ذهب إليه شمس الأئمة السرخسي لكن بشرط أن لا يسمعه من يخشى عليه الفتنة من امرأة أو غيرها ولا من يستخف به ويسترذله وبشرط أن لا يغير اسم معظم بنحو زيادة ليست فيه في أصل وضعه لأجل أن لا يخرج عن مقتضى الصنعة مثل أن يقول في الله إيلاه وفي محمد موحامد، هذا مع كون ما يتغنى به مما لا بأس بإنشاده وإن كان للناس للهو في غير حادث سرور كعرس بأجرة أو بدونها ازدرى به لذلك أو لم يزدر كان ما يتغنى به مباح الإنشاد أو لم يكن فحرام وإن أمنت الفتنة وأراه من الصغائر كما يقتضيه كلام الماوردي حيث قال: وإذا قلنا بتحريم الأغاني والملاهي فهي من الصغائر دون الكبائر، وإن كان في حادث سرور فهو مباح إن أمنت الفتنة وكان ما يتغنى به جائز الإنشاد ولم يغير فيه اسم معظم ولم يكن سببا للازدراء به وهتك مروءته ولا لاجتماع الرجال والنساء على وجه محظور، وإن كان سببا لمحرم فهو حرام وتتفاوت مراتب حرمته حسب تفاوت حرمة ما كان هو سببا له وإن كان للناس لا للهو بل لتنشيطهم على ذكر الله الجزء: 11 ¦ الصفحة: 73 تعالى كما يفعل في بعض حلق التهليل في بلادنا فمحتمل الإباحة إن لم يتضمن مفسدة ولعله إلى الكراهة أقرب. وربما يقال: إنه حينئذ قربة كالحداء وهو ما يقال خلف الإبل من زجر وغيره إذا كان منشطا لسير هو قربة لأن وسيلة القربة به اتفاقا فيقال: لم نقف على خبر في اشتمال حلق الذكر على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وكذا على عهد خلفائه وأصحابه رضي الله تعالى عنهم وهم أحرص الناس على القرب على هذا الغناء ولا على سائر أنواعه وصحت أحاديث في الحداء ولذا أطلق جمع القول بندبه وكونهم نشطين بدون ذلك لا يمنع أن يكون فيهم من يزيده ذلك نشاطا فلو كان لذلك قربة لفعلوه ولو مرة ولم ينقل أنهم فعلوه أصلا، على أنه لا يبعد أن يقال: إنه يشوش على الذاكرين ولا يتم لهم معه معنى الذكر وتصوره وهو بدون ذلك لا ثواب فيه بالإجماع، ولعل ما يفعل على المنائر مما يسمونه تمجيدا منتظم عند الجهلة في سلك وسائل القرب بل يعده أكثرهم قربة من حيث ذاته وهو لعمري عند العالم بمعزل عن ذلك، وإن كان لحاجة مرض تعين شفاؤه به فلا شك في جوازه والإكباب على المباح منه يخرم المروءة كاتخاذه حرفة، وقول الرافعي: لا يخرمها إذا لاق به رده الزركشي بأن الشافعي نص على رد شهادته وجرى عليه أصحابه لأنها حرفة دنية ويعد فاعلها في العرف ممن لا حياء له، وعن الحسن أن رجلا قال له: ما تقول في الغناء؟ قال: نعم الشيء الغناء يوصل به الرحم وينفس به عن المكروب ويفعل فيه المعروف قال: إنما أعني الشد، قال: وما الشد أتعرف منه شيئا؟ قال: نعم قال: فما هو؟ فاندفع الرجل يغني ويلوي شدقيه ومنخريه ويكسر عينيه فقال الحسن: ما كنت أرى أن عاقلا يبلغ من نفسه ما أرى، واختلفوا في تعاطي خارم المروءة على أوجه. ثالثها إن تعلقت به شهادة حرم وإلا فلا. قال بعض الأجلة: وهو الأوجه لأنه يحرم عليه التسبب في إسقاط ما تحمله وصار أمانة عنده لغيره ويظهر لي أنه إن كان ذلك من عالم يقتدى به أو كان ذلك سببا للازدراء حرم أيضا وإن سماعه أي استماعه لا مجرد سماعه بلا قصد عند أمن الفتنة وكون ما يتغنى به جائز الإنشاد وعدم تسببه لمعصية كاستدامة مغن لغناء آثم به مباح والإكباب عليه كما قال النووي: بسقط المروءة كالإكباب على الغناء المباح، والاختلاف في تعاطي مسقطها قد ذكرناه آنفا وأما سماعه عند عدم أمن الفتنة وكون ما يتغنى به غير جائز الإنشاد وكونه متسببا لمعصية فحرام، وتتفاوت مراتب حرمته ولعلها تصل إلى حرمة كبيرة، ومن السماع المحرم سماع متصوفة زماننا وإن خلا عن رقص فإن مفاسده أكثر من أن تحصى وكثير مما يسمعونه من الأشعار من أشنع ما يتلى ومع هذا يعتقدونه قربة ويزعمون أن أكثرهم رغبة فيه أشدهم رغبة أو رهبة قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون. ولا يخفى على من أحاط خبرا بما تقدم عن القشيري وغيره أن سماعهم مذموم عند من يعتقدون انتصاره لهم ويحسبون أنهم وإياه من حزب واحد فويل لمن شفعاؤه خصماؤه وأحباؤه أعداؤه، وأما رقصهم عليه فقد زادوا به في الطنبور رنة وضموا كسر الله تعالى شوكتهم بذلك إلى السفه جنة. وقد أفاد بعض الأجلة أنه لا تقبل شهادة الصوفية الذين يرقصون على الدف الذي قيل يباح أو يسن ضربه لعرس وختان وغيرهما من كل سرور، ومنه قدوم عالم ينفع المسلمين رادا على من زعم القبول فقال: وعن بعضهم تقبل شهادة الصوفية الذين يرقصون على الدف لاعتقادهم أن ذلك قربة كما تقبل شهادة حنفي شرب النبيذ لاعتقاده إباحته وكذا كل من فعل ما اعتقد إباحته اهـ، ورد بأنه خطأ قبيح لأن اعتقاد الحنفي نشأ عن تقليد صحيح ولا كذلك غيره وإنما منشؤه الجهل والتقصير فكان خيالا باطلا لا يلتفت إليه اهـ. ثم إني أقول: لا يبعد أن يكون صاحب حال يحركه السماع ويثير منه ما يلجئه إلى الرقص أو التصفيق أو الصعق والصياح وتمزيق الثياب أو نحو ذلك مما هو مكروه أو حرام فالذي يظهر لي في ذلك أنه إن علم من نفسه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 74 صدور ما ذكر كان حكم الاستماع في حقه حكم ما يترتب عليه، وإن تردد فيه فالأحوط في حقه إن لم نقل بالكراهة عدم الاستماع، ففي الخبر «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» ثم إن ما حصل له شيء من ذلك بمجرد السماع من غير قصد ولم يقدر على دفعه أصلا فلا لوم ولا عتاب فيه عليه، وحكمه في ذلك حكم من اعتراه نحو عطاس وسعال قهريين ولا يشترط في دفع اللوم والعتاب عنه كون ذلك مع غيبته فلا يجب على من صدر منه ذلك إن لم يغب إعادة الوضوء للصلاة مثلا، ولينظر فيما لو اعتراه وهو في الصلاة بدون غيبة هل حكمه حكم نحو العطاس والسعال إذا اعتراه فيها أم لا، والذي سمعته عن بعض الكبار الثاني فتدبر. ومن الناس من يعتريه شيء مما ذكر عند سماع القرآن إما مطلقا أو إذا كان بصوت حسن، وقلما يقع ذلك من سماع القرآن أو غيره لكامل. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه قيل لها: إن قوما إذا سمعوا القرآن صعقوا فقالت: القرآن أكرم من أن يسرق منه عقول الرجال ولكنه كما قال الله تعالى: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 23] وكثيرا ما يكون لضعف تحمل الوارد، وبعض المتصنعين يفعله رياء، وعن ابن سيرين أنه سئل عمن يسمع القرآن فيصعق فقال: ميعاد ما بيننا وبينهم أن يجلسوا على حائط فيقرأ عليهم القرآن من أوله إلى آخره فإن صعقوا فهو كما قالوا، ولا يرد على إباحة الغناء وسماعه في بعض الصور خبر ابن مسعود «الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل» لا لأن الغناء فيه مقصور وأن المراد به غنى المال الذي هو ضد الفقر إذ يرد ذلك أن الخبر روي من وجه آخر بزيادة والذكر ينبت الإيمان في القلب كما ينبت الماء الزرع، ومقابلة الغناء بالذكر ظاهر في المراد به التغني، على أن الرواية كما قال بعض الحفاظ بالمد بل لأن المراد أن الغناء من شأنه أن يترتب عليه النفاق أي العملي بأن يحرك إلى غدر وخلف وعد وكذب ونحوها ولا يلزم من ذلك اطراد الترتب. وربما يشير إلى ذلك التشبيه في قوله: كما ينبت الماء البقل فإن إنبات الماء البقل غير مطرد، ونظير ذلك في الكلام كثير، والقائل بإباحته في بعض الصور إنما يبيحه حيث لا يترتب عليه ذلك. نعم لا شك أن ما هذا شأنه الأحوط بعد كل قيل وقال عدم الرغبة فيه كذا قيل. وقيل: يجوز أن يكون أريد بالنفاق الإيماني، ويؤيده مقابلته في بعض الروايات بالإيمان ويكون مساق الخبر للتنفير عن الغناء إذ كان الناس حديثي عهد بجاهلية كان يستعمل فيها الغناء للهو ويجتمع عليه في مجالس الشرب، ووجه انباته للنفاق إذ ذاك أن كثيرا منهم لقرب عهده بلذة الغناء وما يكون عنده من اللهو والشرب وغيره من أنواع الفسق يتحرك قلبه لما كان عليه ويحن حنين العشار إليه ويكره لذلك الإيمان الذي صده عما هنالك ولا يستطيع لقوة شوكة الإسلام أن يظهر ما أضمر وينبذ الإيمان وراء ظهره ويتقدم إلى ما عنه تأخر فلم يسعه إلا النفاق لما اجتمع عليه مخافة الردة والاشتياق فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك، وأما الآية فإن كان وجه الاستدلال بها تسمية الغناء لهوا فكم لهو هو حلال وإن كان الوعيد على اشترائه واختياره فلا نسلم أن ذلك على مجرد الاشتراء لجواز أن يكون على الاشتراء ليضل عن سبيل الله تعالى ولا شك أن ذلك من الكبائر ولا نزاع لنا فيه وقال ابن عطية: الذي يترجح أن الآية نزلت في لهو الحديث مضافا إلى الكفر فلذلك اشتدت ألفاظ الآية بقوله تعالى: لِيُضِلَّ إلخ اهـ. ومما ذكرنا يعلم ما في الاستدلال بها على حرمة الملاهي كالرباب والجنك والسنطير والكمنجة والمزمار وغيرها من الآلات المطربة بناء على ما روي عن ابن عباس والحسن أنهما فسرا لَهْوَ الْحَدِيثِ بها نعم أنه يحرم استعمالها واستماعها لغير ما ذكر فقد صح من طرق خلافا لما وهم فيه ابن حزم الضال المضل فقد علقه البخاري ووصله الإسماعيلي، وأحمد، وابن ماجة، وأبو نعيم وأبو داود بأسانيد صحيحة لا مطعن فيها وصححه جماعة آخرون الجزء: 11 ¦ الصفحة: 75 من الأئمة كما قاله بعض الحفاظ أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «ليكونن في أمتي قوم يستحلون الخز والخمر والمعازف» وهو صريح في تحريم جميع آلات اللهو المطربة ومما يشبه الصريح في ذلك ما رواه ابن أبي الدنيا في كتاب ذم الملاهي عن أنس، وأحمد، والطبراني عن ابن عباس، وأبي أمامة مرفوعا «ليكونن في هذه الأمة خسف وقذف ومسخ وذلك إذا شربوا الخمور واتخذوا القينات وضربوا بالمعازف» وهي الملاهي التي سمعتها، ومنها الصنج العجمي وهو صفر يجعل عليه أوتار يضرب بها على ما ذهب إليه غير واحد خلافا للماوردي حيث قال: إن الصنج يكره مع الغناء ولا يكره منفردا لأنه بانفراده غير مطرب، ولعله أراد به العربي وهو قطعتان من صفر تضرب أحدهما بالأخرى فإنه بحسب الظاهر هو الذي لا يطرب منفردا لكن يزيد الغناء طربا، وذكر أنه يستعمله المخنثون في بعض البلاد، ولا يبعد عليه القول بالحرمة، ومنها اليراع وهو الشبابة فإنه مطرب بانفراده بل قال بعض أهل الموسيقى: إنه آلة كاملة جامعة لجميع النغمات إلا يسيرا، وقد أطنب الإمام الدولعي وهو من أجلة العلماء في دلائل تحريمه ومنها القياس وهو إما أولى أو مسار وقال: العجب كل العجب ممن هو من أهل العلم بزعم أن الشبابة حلال اهـ ومنه يعلم ما في قول التاج السبكي في توشيحه لم يقر عندي دليل على تحريم اليراع مع كثرة التتبع والذي أراه الحل فإن انضم إليه محرم فلكل منهما حكمة، ثم الأولى عندي لمن ليس من أهل الذوق الإعراض عنه مطلقا لأن غاية ما فيه حصول لذة نفسانية وهي ليست من المطالب الشرعية وأما أهل الذوق فحالهم مسلم إليهم وهم على حسب ما يجدونه من أنفسهم اهـ. وحكي عن العز بن عبد السلام، وابن دقيق العيد أنهما كانا يسمعان ذلك والظاهر أنه كذب لا أصل له وبذلك جزم بعض الأجلة، ولا يبعد حلها إذا صفر فيها كالأطفال والرعاء على غير القانون المعروف من الإطراب. ومنها العود وهو آلة للهو غير الطنبور وأطلقه بعضهم عليه وحكاية النجس ابن طاهر عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي أنه كان يسمع العود من جملة كذبه وتهوره كدعواه إجماع الصحابة والتابعين على إباحة الغناء واللهو، ومثله في المجازفة وارتكاب الأباطيل على الجزم ابن حزم لا الدف فيجوز ضربه من رجل وامرأة لا من امرأة فقط خلافا للحليمي واستماعه لعرس ونكاح وكذا غيرهما من كل سرور في الأصح وبحل ذي الجلاجل منه وهي إما نحو حلق يجعل داخله كدف العرب أو صنوج عراض من صفر تجعل في حروف دائرته كدف العجم جزم جماعة وجزم آخرون بحرمته وبها أقول لأنه كما قال الأذرعي أشد إطرابا من أكثر الملاهي المتفق على تحريمها، وبعض المتصوفة ألفوا رسائل في حل الأوتار والمزامير وغيرها من آلات اللهو وأتوا فيها بكذب عجيب على الله تعالى وعلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعلى أصحابه رضي الله تعالى عنهم والتابعين والعلماء العاملين وقلدهم في ذلك من لعب به الشيطان وهوى به الهوى إلى هوة الحرمان فهو عن الحق بمعزل وبينه وبين حقيقة التصوف ألف ألف منزل، وإذا تحقق لديك قول بعض الكبار بحل شيء من ذلك فلا تغتر به لأنه مخالف لما عليه أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم من الأكابر المؤيد بالأدلة القوية التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك ما عدا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ومن رزق عقلا مستقيما وقلبا من الأهواء الفاسدة سليما لا يشك في أن ذلك ليس من الدين وأنه بعيد بمراحل عن مقاصد شريعة سيد المرسلين صلى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه أجمعين واستدل بعض أهل الإباحة على حل الشبابة بما أخرجه ابن حبان في صحيحه عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سمع صوت زمارة راع فجعل إصبعيه في أذنيه وعدل عن الطريق وجعل يقول: يا نافع أتسمع فأقول: نعم فلما قلت: لا رجع إلى الطريق ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يفعله، وأخرجه ابن أبي الدنيا، والبيهقي عن نافع أيضا، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 76 وسأل عنه الحافظ محمد بن نصر السلامي فقال: إنه حديث صحيح، ووجه الاستدلال به أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يأمر ابن عمر وكان عمره إذ ذاك كما قال الحافظ المذكور سبع عشرة سنة بسد أذنيه ولا نهى الفاعل فلو كان ذلك حراما لأمر ونهى عليه الصلاة والسلام، وسد أذنيه صلى الله تعالى عليه وسلم يحتمل أن يكون لكونه عليه الصلاة والسلام إذ ذاك في حال ذكر أو فكر وكان السماع يشغله عليه الصلاة والسلام والتحية ويحتمل أن يكون إنما فعله صلّى الله عليه وسلم تنزيها وقال الأذرعي: بهذا الحديث استدل أصحابنا على تحريم المزامير وعليه بنوا التحريم في الشبابة اهـ. والحق عندي أنه ليس نصا في حرمتها لأن سد الأذنين عند السماع من باب فعله صلّى الله عليه وسلم وليس مما وضح فيه أمر الجبلة ولأثبت تخصيصه به عليه الصلاة والسلام ولا مما وضح أنه بيان لنص علم جهته من الوجوب والندب والإباحة فإن كان مما علمت صفته فلا يخلو من أن تكون الوجوب أو الندب أو الإباحة لا جائز أن تكون الوجوب المستلزم لحرمة سماع اليراع إذ لا قائل بأنه يجب على أحد سد الأذنين عند سماع محرم إذ يأمن الإثم بعدم القصد فقد قالوا: إن الحرام الاستماع لا مجرد السماع بلا قصد، وفي الزواجر الممنوع هو الاستماع لا السماع لا عن قصد اتفاقا، ومن ثم صرح أصحابنا- يعني الشافعية- أن من بجواره آلات محرمة ولا يمكنه إزالتها لا يلزمه النقلة ولا يأثم بسماعها لا عن قصد وإصغاء اهـ، والظاهر أن الأمر كذلك عند سائر الأئمة، نعم لهم تفصيل في القعود في مكان فيه نحو ذلك، قال في تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار: دعي إلى وليمة وثمة لعب وغناء قعد وأكل ولو على المائدة لا ينبغي أن يقعد بل يخرج معرضا لقوله تعالى: فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام: 68] فإن قدر على المنع فعل وإلا يقدر صبر إن لم يكن ممن يقتدى به فإن كان مقتدى به ولم يقدر على المنع خرج ولا يقعد لأن فيه شين الدين، والمحكي عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه كان قبل أن يصير مقتدى به، وإن علم أولا لا يحضر أصلا سواء كان ممن يقتدى به أولا اهـ فتعين كونها الندب أو الإباحة وكلا الأمرين لا يستلزمان الحرمة فيحتمل أن يكون ذلك حراما أو مكروها يندب سد الأذنين عند سماعه احتياطا من أن يدعو إلى الاستماع المحرم أو المكروه، وإن كان مما لم تعلم صفته فقد قالوا فيما كان كذلك المذاهب فيه بالنسبة إلى الأمة خمسة الوجوب والندب والإباحة والوقف والتفصيل وهو أنه إن ظهر قصد القربة فالندب وإلا فالإباحة ويعلم مما ذكرنا الحال على كل مذهب والذي يغلب على الظن أن ما أشار إليه الخبر إن كان الزمر بزمارة الراعي على وجه التأنق وإجراء النغمات التي تحرك الشهوات كما يفعله من جعل ذلك صنعته اليوم فاستماعه حرام وسد الأذنين المشار إليه فيه لعله كان منه عليه الصلاة والسلام تعليما للأمة أحد طرق الاحتياط المعلوم حاله لئلا يجرهم ذلك إلى الاستماع وإلا فالاستماع لمكان العصمة مما لا يتصور في حقه صلى الله تعالى عليه وسلم، ومن عرف قدر الصحابة واطلع على سبيلهم وحرصهم على التأسي به عليه الصلاة والسلام لم يشك في أن ابن عمر رضي الله تعالى عنه سد أذنيه أيضا تأسيا ويكون حينئذ قوله عليه الصلاة والسلام الذي يشير إليه الخبر له رضي الله تعالى عنه أتسمع على معنى تسمع (1) أتسمع وإنما أسقط تسمع لدلالة الحال عليه إذ من سد أذنيه لا يسمع، وإنما أذن له صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك لموضع الحاجة وهذا أقرب من احتمال كون سد الأذنين منه صلى الله تعالى عليه وسلم لأنه كان في حال ذكر أو فكر وكان يشغله صلى الله تعالى عليه وسلم عند السماع. وأما عدم نهيه عليه الصلاة والسلام من كان يرمز عن الزمر والإنكار عليه فلا يسلم دلالته على الجواز فإنه يجوز   (1) قوله على معنى تسمع هي بشد الميم في خط المؤلف اهـ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 77 أن يكون الصوت جاء من بعيد وبين الزامر وبينه عليه الصلاة والسلام ما يمنع من الوصول إليه أو لم يعرف عينه صلّى الله عليه وسلم لأن الصوت قد جاء من وراء حجاب ولا تتحقق القدرة معه على الإنكار، ويجوز أيضا أن يكون التحريم معلوما من قبل وعلم من النبي صلّى الله عليه وسلم الإصرار عليه وأن يكون قد علم إصرار ذلك الفاعل على فعله فيكون ذلك كاختلاف أهل الذمة إلى كنائسهم، وفي مثل ذلك لا يدل السكوت وعدم الإنكار على الجواز إجماعا، ومن قال بأن الكافر غير مكلف بالفروع قال: يجوز أن يكون ذلك الزامر كافرا وأن السكوت في حقه ليس دليل الجواز وإن كان الزمر بها لا على وجه التأنق وإجراء النغمات التي تحرك الشهوات فلا بعبد في أن يقال بالجواز والإباحة فعلا واستماعا، وسد الأذنين عليه لغاية التنزه اللائق به عليه الصلاة والسلام، وقول الأذرعي في الجواب إن قوله في الخبر: زمارة راع لا يعين أنها الشبابة فإن الرعاة يضربون بالشعيبية وغيرها يوهم أن ما يسمى شعيبية مباح مفروغ منه وفيه نظر فإنها عبارة عن عدة قصبات صغار ولها اطراب بحسب حذق متعاطيها فهي شبابة أو مزمار لا محالة، وفي إباحة ذلك كلام، وبعد هذا كله نقول: إن الخبر المذكور رواه أبو داود وقال: إنه منكر وعليه لا حجة فيه للطرفين وكفى الله تعالى المؤمنين القتال، ثم إنك إذا ابتليت بشيء من ذلك فإياك ثم إياك أن تعتقد أن فعله أو استماعه قربة كما يعتقد ذلك من لا خلاق له من المتصوفة فلو كان الأمر كما زعموا لما أهمل الأنبياء أن يفعلوه ويأمروا اتباعهم به، ولم ينقل ذلك عن أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولا أشار إليه كتاب من الكتب المنزلة من السماء، وقد قال الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ولو كان استعمال الملاهي المطربات او استماعها من الدين ومما يقرب إلى حضرة رب العالمين لبينه صلّى الله عليه وسلم وأوضحه كمال الإيضاح لأمته، وقد قال عليه الصلاة والسلام «والذي نفسي بيده ما تركت شيئا يقربكم من الجنة ويباعدكم عن النار إلا أمرتكم به وما تركت شيئا يقربكم من النار ويباعدكم عن الجنة إلا نهيتكم عنه» وما ذكر داخل في الشق الثاني كما لا يخفى على من له قلب سليم وعقل مستقيم فتأمل وأنصف وإياك من الاعتراض قبل أن تراجع تعرف، ولنا عودة إن شاء الله تعالى للكلام في هذا المطلب يسر الله تعالى ذلك لنا بحرمة حبيبه الأعظم صلّى الله عليه وسلم. واستدل بعضهم بالآية على القول بأن لهو الحديث الكتب التي اشتراها النضر بن الحارث على حرمة مطالعة كتب تواريخ الفرس القديمة وسماع ما فيها وقراءته، وفيه بحث، ولا يخفى أن فيها من الكذب ما فيها فالاشتغال بها لغير غرض ديني خوض في الباطل، وعده ابن نجيم في رسالته في بيان المعاصي من الصغائر ومثل له بذكر تنعم الملوك والأغنياء فافهم هذا، ومن الغريب البعيد وفيه جعل الاشتراء بمعنى البيع ما ذهب إليه صاحب التحرير قال: يظهر لي أنه أراد سبحانه بلهو الحديث ما كانوا يظهرونه من الأحاديث في تقوية دينهم والأمر بالدوام عليه وتغيير صفة الرسول عليه الصلاة والسلام وأن التوراة تدل على أنه من ولد إسحاق عليه السلام يقصدون صد أتباعهم عن الإيمان وأطلق اسم الاشتراء لكونهم يأخذون على ذلك الرشا والجعائل من ملوكهم، وقال: يؤيده قوله تعالى: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وهو كما ترى، والمراد بسبيله تعالى دينه عزّ وجلّ أو قراءة كتابه سبحانه أو ما يعمهما، واللام في لِيُضِلَّ للتعليل. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو «ليضل» بفتح الياء، والمراد ليثبت على ضلاله ويزيد فيه فإن المخبر عنه ضال قبل: واللام للعاقبة وكونها على أصلها كما قيل بعيد، وجوز الزمخشري أن يكون قد وضع «ليضل» على هذه القراءة موضع ليضل من قبل أن من أضل كان ضالا لا محالة فدل بالرديف وهو الضلال على المردوف وهو الإضلال، ووجه الدلالة أنه أريد بالضلال المضاعف في شأن من جانب سبيل الله تعالى وتركه رأسا وهذا الضلال لا ينفك عن الإضلال وبالعكس، وبه يندفع نظر صاحب الفرائد بأن الضلال لا يلزمه إلا ضلال، وفيه توافق القراءتين وبقاء اللام على حقيقتها، وهي على الوجهين متعلقة بقوله سبحانه: يَشْتَرِي وقوله عزّ وجلّ: بِغَيْرِ عِلْمٍ يجوز أن يكون الجزء: 11 ¦ الصفحة: 78 متعلقا به أيضا أي يشتري ذلك بغير علم بحال ما يشتريه أو بالتجارة حيث استبدل الضلال بالهدى والباطل بالحق، ويجوز أن يكون متعلقا بيضل أي ليضل عن سبيله تعالى جاهلا أنها سبيله عزّ وجلّ أو جاهلا أنه يضل أو جاهلا الحق وَيَتَّخِذَها بالنصب عطفا على «يضل» والضمير للسبيل فإنه مما يذكر ويؤنث، وجوز أن يكون للآيات، وقيل: يجوز أن يكون للأحاديث لأن الحديث اسم جنس بمعنى الأحاديث وهو كما ترى هُزُواً أي مهزوءا به. وقرأ جمع من السبعة يَتَّخِذَها بالرفع عطفا على يَشْتَرِي وجوز أن يكون على إضمار هو أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ لما اتصفوا به من اهانتهم الحق بإيثار الباطل عليه وترغيب الناس فيه والجزاء من جنس العمل، وأُولئِكَ إشارة إلى مِنَ وما فيه من معنى البعد للإشارة إلى بعد المنزلة في الشرارة، والجمع في اسم الإشارة والضمير باعتبار معناها كما أن الأفراد في الفعلين باعتبار لفظها، وكذا في قوله تعالى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ ففي الآية مراعاة اللفظ ثم مراعاة المعنى ثم مراعاة اللفظ ونظيرها في ذلك قوله تعالى في سورة [الطلاق: 2] وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ الآية، قال أبو حيان: ولا نعلم جاء في القرآن ما حمل على اللفظ ثم على المعنى ثم على اللفظ غير هاتين الآيتين، وقال الخفاجي: ليس كذلك فإن لها نظائر أي وإذا تتلى على المشتري المذكور آياتُنا الجليلة الشأن وَلَّى أعرض عنها غير معتد بها مُسْتَكْبِراً مبالغا في التكبر فالاستفعال بمعنى التفعل كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها حال من ضمير وَلَّى أو من ضمير مُسْتَكْبِراً أي مشابها حاله في أعراضه تكبرا أو في تكبره حال من لم يسمعها وهو سامع، وفيه رمز إلى أن من سمعها لا يتصور منه التولية والاستكبار لما فيها من الأمور الموجبة للإقبال عليها والخضوع لها على طريقة قول الخنساء: أيا شجر الخابور ما لك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف وكَأَنْ المخففة ملغاة لا حاجة إلى تقدير ضمير شأن فيها وبعضهم يقدره كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً أي صمما مانعا من السماع، وأصل معنى الوقر الجمل الثقيل استعير للصمم ثم غلب حتى صار حقيقة فيه. والجملة حال من ضمير لم يسمعها أو هي بدل منها بدل كل من كل أو بيان لها ويجوز أن تكون حالا من أحد السابقين، ويجوز أن تكون كلتا الجملتين مستأنفتين والمراد من الجملة الثانية الترقي في الذم وتثقيل كَأَنْ في الثانية كأنه لمناسبته للثقل في معناه، وقرأ نافع «في أذنيه» بسكون الذال تخفيفا فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي أعلمه أن العذاب المفرط في الإيلام لاحق به لا محالة، وذكر البشارة للتهكم إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بيان لحال المؤمنين بآياته تعالى إثر بيان حال الكافرين بها أي أن الذين آمنوا بآياته تعالى وعملوا بموجبها لَهُمْ بمقابلة ما ذكر من إيمانهم وعملهم جَنَّاتُ النَّعِيمِ أي النعيم الكثير وإضافة الجنات إليه باعتبار اشتمالها عليه نظير قولك: كتب الفقه. وفي هذا إشارة إلى أن لهم نعيمها بطريق برهاني فهو أبلغ من لهم نعيم الجنات إذ لا يستدعي ذلك على أن تكون نفس الجنات ملكا لهم فقد يتنعم بالشيء غير مالكه، وقيل: في وجه الأبلغية إنه لجعل النعيم فيه أصلا ميزت به الجنات فيفيد كثرة النعيم وشهرته، وأيا ما كان فجنات النعيم هي الجنات المعروفة. وأخرج ابن أبي حاتم عن مالك بن دينار قال: جنات النعيم بين جنات الفردوس وبين جنات عدن وفيها جوار خلقن من ورد الجنة قيل: ومن يسكنها؟ قال: الذين هموا بالمعاصي فلما ذكروا عظمتي راقبوني والذين انثنت أصلابهم في خشيتي ، والله تعالى أعلم بصحة الخبر، والجملة خبر أن، قيل: والأحسن أن يجعل لَهُمْ هو الخبر لأن وجَنَّاتُ النَّعِيمِ مرتفعا به على الفاعلية، وقوله تعالى: خالِدِينَ فِيها حال من الضمير المجرور أو المستتر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 79 في لَهُمْ بناء على أنه خبر مقدم أو من جَنَّاتُ بناء على أنه فاعل الظرف لاعتماده بوقوعه خبرا والعامل ما تعلق به اللام. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «خالدون» بالواو وهو بتقدير هو وَعْدَ اللَّهِ مصدر مؤكد لنفسه أي لما هو كنفسه وهي الجملة الصريحة في معناه أعني قوله تعالى: لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ فإنه صريح في الوعد. وقوله تعالى: حَقًّا مصدر مؤكد لتلك الجملة أيضا إلا أنه يعد مؤكدا لغيره إذ ليس كل وعد حقا في نفسه. وجوز أن يكون مؤكدا لوعد الله المؤكد، وأن يكون مؤكدا لتلك الجملة معدودا من المؤكد لنفسه بناء على دلالتها على التحقيق والثبات من أوجه عدة وهو بعيد. وفي الكشف لا يصح ذلك لأن الأخبار المؤكدة لا تخرج عن احتمال البطلان فتأمل وَهُوَ الْعَزِيزُ الذي لا يغلبه شيء ليمنع من انجاز وعده وتحقيق وعيده الْحَكِيمُ الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة، ويفهم هذا الحصر من الفحوى، والجملة تذييل لحقية وعده تعالى المخصوص بمن ذكر المؤمي إلى الوعيد لأضدادهم خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ إلخ استئناف جيء به للاستشهاد بما فصل فيه على عزته عزّ وجلّ التي هي كمال القدرة وحكمته التي هي كمال العلم وإتقان العمل وتمهيد قاعدة التوحيد وتقريره وإبطال أمر الإشراك وتبكيت أهله، والعمد جمع عماد كأهب جمع أهاب وهو ما يعمد به أي يسند يقال عمدت الحائط إذا دعمته أي خلقها بغير دعائم على أن الجمع لتعدد السماوات، وقوله تعالى: تَرَوْنَها استئناف في جواب سؤال تقديره ما الدليل على ذلك؟ فهو مسوق لإثبات كونها بلا عمد لأنها لو كانت لها عمد رؤية فالجملة لا محل لها من الاعراب والضمير المنصوب للسماوات والرؤية بصرية لا علمية حتى يلزم حذف أحد مفعوليها، وجوز أن يكون صفة لعمد فالضمير لها أي خلقها بغير عمد مرئية على التقييد للرمز الى أنه تعالى عمدها بعمد لا ترى وهي عمد القدرة، وروي ذلك عن مجاهد وكون عمادها في كل عصر الإنسان الكامل في ذلك العصر ولذا إذا انقطع الإنسان الكامل وذلك عند انقطاع النوع الإنساني تطوى السماوات كطي السجل للكتب كلام لا عماد له من كتاب أو سنة فيما نعلم وفرق كل ذي علم عليم وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ بيان لصنعه تعالى البديع في قرار الأرض إثر بيان صنعه عزّ وجلّ الحكيم في قرار السماوات أي ألقى فيها جبالا شوامخ أو ثوابت كراهة أَنْ تَمِيدَ أو لئلا تميد أي تضطرب بِكُمْ لو لم يلق سبحانه وتعالى فيها رواسي لما أن الحكمة اقتضت خلقها على حال لو خلت معه عن الجبال لمادت بالمياه المحيطة بها الغامرة لأكثرها والرياح العواصف التي تقتضي الحكمة هبوبها أو بنحو ذلك، وقد يعد منه حركة ثقيل عليها، وقد ذكر بعض الفلاسفة أنه يلزم بناء على كرية الأرض ووجوب انطباق مركز ثقلها على مركز العالم حركتها مع ما فيها من الجبال بسبب حركة ثقيلة من جانب منها إلى آخر لتغير مركز الثقل حينئذ إلا أنه لم يظهر ذلك لكون الأثقال المتحركة عليها كلا شيء بالنسبة إليها مع ما فيها، ولعل من يعد حركة الثقيل عليها من أسباب الميد لو خلت من الجبال يقول: لا يبعد حركة ثقيل عليها كماء جرى من من مكان إلى آخر فاجتمع حتى صار بحرا عظيما مع ما ينضم إلى ذلك مما تنقله الأهوية من الرمال الكثيرة والتراب يكون له مقدار يعتد به بالنسبة إلى الأرض خالية من الجبال فتتحرك بحركته إلى خلاف جهته، ثم إن الميد لولا الرواسي بنحو المياه والرياح متصور على تقدير كون الأرض كرية كما ذهب إلى الغزالي وكذا ذهب إليه كرية السماء، وجاء في رواية عن ابن عباس ما يقتضيه وإليه ذهب أكثر الفلاسفة مستدلين عليه بما في التذكرة وشروحها وغير ذلك وهو الذي يشهد له الحس والحدس، وعلى تقدير كونها غير كروية كما ذهب إليه من ذهب واختلفوا في شكلها عليه وتفصيل ذلك الجزء: 11 ¦ الصفحة: 80 يطلب من محله، ولا دلالة في الآية على انحصار حكمة إلقاء الرواسي فيها بسلامتها عن الميد فإن لذلك حكما لا تحصى. وكذا لا دلالة فيها على عدم حركتها على الاستدارة دائما كما ذهب إليه أصحاب فيثاغورس، ووراءه مذاهب أظهر بطلانا منه. نعم الأدلة النقلية والعقلية على ذلك كثيرة وَبَثَّ فِيها أي أوجد وأظهر، وأصل البث الإثارة والتفريق ومنه فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا [الواقعة: 6] وكَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة: 4] وفي تأخيره إشارة إلى توقفه على إزالة الميد مِنْ كُلِّ دابَّةٍ من كل نوع من أنواعها وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً هو المطر والمراد بالسماء جهة العلو، وجوز تفسيرها بالمظلة وكون الإنزال منها بضرب من التأويل، وترك التأويل لا ينبغي أن يعول عليه إلا إذا وجد من الأدلة ما يضطرنا إليه لأن ذلك خلاف المشاهد فَأَنْبَتْنا فِيها أي بسبب ذلك الماء مِنْ كُلِّ زَوْجٍ أي صنف كَرِيمٍ أي شريف كثير المنفعة، والالتفات إلى ضمير العظمة في الفعلين لإبراز مزيد الاعتناء بهما لتكررهما مع ما فيهما من استقامة حال الحيوان وعمارة الأرض ما لا يخفى. هذا أي ما ذكر من السماوات والأرض وسائر الأمور المعدودة خَلْقُ اللَّهِ أي مخلوقه فَأَرُونِي أي أعلموني وأخبروني، والفاء واقعة في جواب شرط مقدر أي إذا علمتم ذلك فأروني ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ مما اتخذتموهم شركاء له سبحانه في العبادة حتى استحقوا به العبودية، وماذا يجوز أن يكون اسما واحدا استفهاميا ويكون مفعولا لخلق مقدما لصدارته وأن يكون ما وحدها اسم استفهام مبتدأ وذا اسم موصول خبرها وتكون الجملة معلقا عنها سادة مسد المفعول الثاني لأروني، وأن يكون ماذا كله اسما موصولا فقد استعمل كذلك على قلة على ما قال أبو حيان ويكون مفعولا ثانيا له والعائد محذوف في الوجهين وقوله تعالى: بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ إضراب عن تبكيتهم بما ذكر إلى التسجيل عليهم بالضلال البين المستدعي للإعراض عن مخاطبتهم بالمقدمات المعقولة الحقة لإستحالة أن يفهموا منها شيئا فيهتدوا به إلى العلم ببطلان ما هم عليه أو يتأثروا من الإلزام والتبكيت فينزجروا عنه، ووضع الظاهر موضع ضميرهم للدلالة على أنهم بإشراكهم واضعون للشيء في غير موضعه ومتعدون عن الحد وظالمون لأنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 81 وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ كلام مستأنف مسوق لبيان بطلان الشرك بالنقل بعد الإشارة إلى بطلانه بالعقل.. ولقمان اسم اعجمي لا عربي مشتق من اللقم وهو على ما قيل: ابن باعوراء قال وهب: وكان ابن أخت أيوب عليه الصلاة والسلام، وقال مقاتل: كان ابن خالته، وقال عبد الرحمن السهيلي: هو ابن عنقا بن سرون، وقيل: كان من أولاد آزر وعاش ألف سنة وأدرك داود عليه السلام وأخذ منه العلم وكان يفتي قبل مبعثه فلما بعث قطع الفتوى فقيل له فقال: ألا أكتفي إذا كفيت، وقيل: كان قاضيا في بني إسرائيل، ونقل ذلك عن الواقدي إلا أنه قال: وكان زمانه بين محمد، وعيسى عليهما الصلاة والسلام، وقال عكرمة، والشعبي كان نبيا، والأكثرون على أنه كان في زمن داود عليه السلام ولم يكن نبيا. واختلف فيه أكان حرا أو عبدا والأكثرون على أنه كان عبدا. واختلفوا فقيل: كان حبشيا، وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد. وأخرج ذلك ابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعا ، وذكر مجاهد في وصفه أنه كان غليظ الشفتين مصفح القدمين، وقيل: كان نوبيا مشقق الرجلين ذا مشافر، وجاء ذلك في رواية عن ابن عباس وابن المسيب، ومجاهد. وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الله بن الزبير قال: قلت لجابر بن عبد الله ما انتهى إليكم من شأن لقمان؟ قال: كان قصيرا أفطس من النوبة، وأخرج هو، وابن جرير، وابن المنذر عن ابن المسيب أنه قال: إن لقمان كان أسود من سودان مصر ذا مشافر أعطاه الله تعالى الحكمة ومنعه النبوة. واختلف فيما كان يعانيه من الأشغال فقال خالد بن الربيع: كان نجارا بالراء وفي معاني الزجاج كان نجادا بالدال وهو على وزن كتان من يعالج الفرش والوسائد ويخيطهما. وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد في الزهد، وابن المنذر عن ابن المسيب أنه كان خياطا وهو أعم من النجاد، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان راعيا وقيل: كان يحتطب لمولاه كل يوم حزمة ولا وثوق لي بشيء من هذه الأخبار وإنما نقلتها تأسيا بمن نقلها من المفسرين الأخيار عن أني أختار أنه كان رجلا صالحا حكيما ولم يكن نبيا. والْحِكْمَةَ على ما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس العقل والفهم والفطنة. وأخرج الفريابي، وأحمد في الزهد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن مجاهد أنها العقل والفقه والإصابة في القول، وقال الراغب: هي معرفة الموجودات وفعل الخيرات وقال الإمام: هي عبارة عن توفيق العمل بالعلم ثم قال: وإن أردنا تحديدا بما يدخل فيه حكمة الله تعالى فنقول: حصول العمل على وفق المعلوم وقال أبو حيان: هي المنطق الذي يتعظ به ويتنبه ويتناقله الناس لذلك، وقيل: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 82 إتقان الشيء علما وعملا وقيل: كمال حاصل باستكمال النفس الإنسانية باقتباس العلوم النظرية واكتساب الملكة التامة على الأفعال الفاضلة على قدر طاقتها وفسرها كثير من الحكماء بمعرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بقدر الطاقة البشرية. ولهم تفسيرات أخر وما لها وما عليها من الجرح والتعديل مذكوران في كتبهم ومن حكمته قوله لابنه: أي بني إن الدنيا بحر عميق وقد غرق فيها ناس كثير فاجعل سفينتك فيها تقوى الله تعالى وحشوها الإيمان وشراعها التوكل على الله تعالى لعلك أن تنجو ولا أراك ناجيا، وقوله: من كان له من نفسه واعظ كان له من الله عزّ وجلّ حافظ ومن أنصف الناس من نفسه زاده الله تعالى بذلك عزا والذل في طاعة الله تعالى أقرب من التعزز بالمعصية وقوله: ضرب الوالد لولده كالسماد للزرع وقوله: يا بني إياك والدّين فإنه ذلّ النهار وهم الليل وقوله يا بني ارج الله عزّ وجلّ رجاء لا يجزيك على معصيته تعالى وخف الله سبحانه خوفا لا يؤيسك من رحمته تعالى شأنه، وقوله: من كذب ذهب ماء وجهه ومن ساء خلقه كثر غمه ونقل الصخور من مواضعها أيسر من إفهام من لا يفهم، وقوله: يا بني حملت الجندل والحديد وكل شيء ثقيل فلم أحمل شيئا هو أثقل من جار السوء، وذقت المرار فلم أذق شيئا هو أمر من الفقر، يا بني لا ترسل رسولك جاهلا فإن لم تجد حكيما فكن رسول نفسك، يا بني إياك والكذب فإنه شهي كلحم العصفور عما قليل يغلي صاحبه، يا بني احضر الجنائز ولا تحضر العرس فإن الجنائز تذكرك الآخرة والعرس يشهيك الدنيا، يا بني لا تأكل شبعا على شبع فإن القاءك إياه للكلب خير من أن تأكله، يا بني لا تكن حلوا فتبلع ولا مرا فتلفظ، وقوله لابنه: لا يأكل طعامك إلا الأتقياء وشاور في أمرك العلماء، وقوله: لا خير في أن تتعلم ما لم تعلم ولما تعمل بما قد علمت فإن مثل ذلك رجل احتطب حطبا فحمل حزمة وذهب يحملها فعجز عنها فضم إليها أخرى، وقوله: يا بني إذا أردت أن تؤاخي رجلا فأغضبه قبل ذلك فإن أنصفك عند غضبه وإلا فاحذره، وقوله: لتكن كلمتك طيبة وليكن وجهك بسطا تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم العطاء، وقوله: يا بني أنزل نفسك من صاحبك منزلة من لا حاجة له بك ولا بد لك منه، يا بني كن كمن لا يبتغي محمدة الناس ولا يكسب ذمهم فنفسه منه في عناء، والناس منه في راحة، وقوله: يا بني امتنع بما يخرج من فيك فإنك ما سكت سالم وإنما ينبغي لك من القول ما ينفعك إلى غير ذلك مما لا يحصى أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ أي أي أشكر على أن أَنِ تفسيرية وما بعدها تفسير لإيتاء الحكمة وفيه معنى القول دون حروفه سواء كان بإلهام أو وحي أو تعليم. وجوز أن يكون تفسيرا للحكمة باعتبار ما تضمنه الأمر، وجعل الزجاج أَنِ مصدرية بتقدير اللام التعليلية ولا يفوت معنى الأمر كما مرّ تحقيقه. وحكى سيبويه كتبت إليه بأن قم، والجار متعلق بآياتنا، وجوز كونها مصدرية بلا تقدير على أن المصدر بدل اشتمال من الحكمة، وهو بعيد وَمَنْ يَشْكُرْ إلخ استئناف مقرر لمضمون ما قبله موجب للامتثال بالأمر أي ومن يشكر له تعالى فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لأن نفعه من ارتباط القيد واستجلاب المزيد والفوز بجنة الخلود مقصورة عليها وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عن كل شيء فلا يحتاج إلى الشكر ليتضرر بكفر من كفر حَمِيدٌ حقيق بالحمد وإن لم يحمده أحد أو محمود بالفعل ينطق بحمده تعالى جميع المخلوقات بلسان الحال، فحميد فعيل بمعنى محمود على الوجهين، وعدم التعرض لكونه سبحانه وتعالى مشكورا لما أن الحمد متضمن للشكر بل هو رأسه كما قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «الحمد رأس الشكر لم يشكر الله تعالى بعد لم يحمده» فإثباته له تعالى إثبات للشكر له قطعا، وفي اختيار صيغة المضي في هذا الشق قيل: إشارة إلى قبح الكفران وأنه لا ينبغي إلا أن يعد في خبر كان، وقيل: إشارة إلى أنه كثير متحقق بخلاف الشكر وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: 13] وجواب الشرط محذوف قام مقامه قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ إلخ، وكان الأصل ومن كفر فإنما يكفر على نفسه لأن الله غني حميد، وحاصله ومن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 83 كفر فضرر كفره عائد عليه لأنه تعالى غني لا يحتاج إلى الشكر ليتضرر سبحانه بالكفر محمود بحسب الاستحقاق أو بنطق ألسنة الحال فكلا الوصفين متعلقات بالشق الثاني، وجوز أن يكون غَنِيٌّ تعليلا لقوله سبحانه: فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وقوله عزّ وجلّ: حَمِيدٌ تعليلا للجواب المقدر للشرط بقرينة مقابله وهو فإنما يكفر على نفسه، وأن يكون كل منهما متعلقا بكل منهما، ولا يخفى ما في ذلك من التكلف الذي لم يدع إليه ولم تقم عليه قرينة فتدبر. وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ تاران على ما قال الطبري، والقتيبي، وقيل: ما ثان بالمثلثة، وقيل: أنعم، وقيل: أشكم وهما بوزن أفعل، وقيل: مشكم بالميم بدل الهمزة، وَإِذْ معمول لا ذكر محذوفا، وقيل: يحتمل أن يكون ظرفا لآتينا والتقدير وآتيناه الحكمة إذا قال واختصر لدلالة المقدم عليه، وقوله تعالى: وَهُوَ يَعِظُهُ جملة حالية، والوعظ- كما قال الراغب- زجر مقترن بتخويف، وقال الخليل، هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب يا بُنَيَّ تصغير اشفاق ومحبة لا تصغير تحقير: ولكن إذا ما حب شيء تولعت ... به أحرف التصغير من شدة الوجد وقال آخر: ما قلت حبيبي من التحقير ... بل يعذب اسم الشيء بالتصغير وقرأ البزي هنا «يا بنيّ» بالسكون وفيما بعد «يا بني إنها» بكسر الياء ويا بُنَيَّ أَقِمِ [لقمان: 17] بفتحها، وقنبل بالسكون في الأولى والثالثة والكسر في الوسطى، وحفص، والمفضل عن عاصم بالفتح في الثلاثة على تقدير يا بنيا والاجتزاء بالفتحة عن الألف، وقرأ باقي السبعة بالكسر فيها لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ قيل: كان ابنه كافرا ولذا نهاه عن الشرك فلم يزل يعظه حتى أسلم، وكذا قيل في امرأته. وأخرج ابن أبي الدنيا في نعت الخائفين عن الفضل الرقاشي قال: ما زال لقمان يعظ ابنه حتى مات. وأخرج عن حفص بن عمر الكندي قال: وضع لقمان جرابا من خردل وجعل يعظ ابنه موعظة ويخرج خردلة فنفذ الخردل فقال: يا بني لقد وعظتك موعظة لو وعظتها جبلا لتفطر فتفطر ابنه، وقيل: كان مسلما والنهي عن الشرك تحذير له عن صدوره منه في المستقبل، والظاهر أن الباء متعلق بما عنده، ومن وقف على لا تُشْرِكْ جعل الباء للقسم أي أقسم بالله تعالى إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ والظاهر أن هذا من كلام لقمان ويقتضيه كلام مسلم في صحيحه، والكلام تعليل للنهي أو الانتهاء عن الشرك، وقيل: هو خير من الله تعالى شأنه منقطع عن كلام لقمان متصل به في تأكيد المعنى، وكون الشرك ظلما لما فيه من وضع الشيء في غير موضعه وكونه عظيما لما فيه من التسوية بين من لا نعمة إلا منه سبحانه ومن لا نعمة له. وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إلخ كلام مستأنف اعترض به على نهج الاستطراد في أثناء وصية لقمان تأكيدا لما فيه من النهي عن الإشراك فهو من كلام الله عزّ وجلّ لم يقله سبحانه للقمان، وقيل: هو من كلامه تعالى قاله جلّ وعلا له وكأنه قيل: قلنا له أشكر وقلنا له وصينا الإنسان إلخ، وفي البحر لما بين لقمان لابنه أن الشرك ظلم ونهاه عنه كان ذلك حثا على طاعة الله تعالى ثم بين أن الطاعة أيضا تكون للأبوين وبين السبب في ذلك فهو من كلام لقمان مما وصى به ابنه أخبر الله تعالى عنه بذلك، وكلا القولين كما ترى، والمعنى وأمرنا الإنسان برعاية والديه حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً أي ضعفا عَلى وَهْنٍ أي ضعف، والمصدر حال من أُمُّهُ بتقدير مضاف أي ذات وهن وجوز جعله نفسه حالا مبالغة لكنه مخالف للقياس إذ القياس في الحال كونه مشتقا، ويجوز أن يكون مفعولا لا مطلقا لفعل مقدر أي تهن وهنا، والجملة حال من أُمُّهُ أيضا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 84 وأيا ما كان فالمراد تضعف ضعفا متزايدا بازدياد ثقل الحمل إلى مدة الطلق، وقيل: ضعفا متتابعا وهو ضعف الحمل وضعف الطلق وضعف النفاس، وجوز أن يكون حالا من الضمير المنصوب في حَمَلَتْهُ العائد على الْإِنْسانَ وهو الذي يقتضيه ما أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال: وَهْناً الولد عَلى وَهْنٍ الوالدة وضعفها، والمراد أنها حملته حال كونه ضعيفا على ضعيف مثله، وليس المراد أنها حملته حال كونه متزايد الضعف ليقال أن ضعفه لا يتزايد بل ينقص. وقرأ عيسى الثقفي، وأبو عمرو في رواية وَهْناً عَلى وَهْنٍ بفتح الهاء فيهما فاحتمل أن يكون من باب تحريك العين إذا كانت حرف حلق كالشعر والشعر على القياس المطرد عند الكوفي كما ذهب إليه ابن جني، وأن يكون مصدر وهن بكسر الهاء يوهن بفتحها فإن مصدره جاء كذلك وهذا كما يقال تعب يتعب تعبا كما قيل، وكلام صاحب القاموس ظاهر في عدم اختصاص أحد المصدرين بأحد الفعلين قال: الوهن الضعف في العمل ويحرك والفعل كوعد وورث وكرم. وَفِصالُهُ أي فطامه وترك إرضاعه. وقرأ الحسن، وأبو رجاء وقتادة، والجحدري، ويعقوب «وفصله» وهو أعم من الفصال، والفصال هاهنا أوقع من الفصل لأنه موقع يختص بالرضاع وإن رجعنا إلى أصل واحد على ما قاله الطيبي فِي عامَيْنِ أي في انقضاء عامين أي في أول زمان انقضائهما، وظاهر الآية أن مدة الرضاع عامان وإلى ذلك ذهب الإمام الشافعي، والإمام أحمد، وأبو يوسف، ومحمد، وهو مختار الطحاوي. وروي عن مالك، وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن مدة الرضاع الذي يتعلق به التحريم ثلاثون شهرا لقوله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [الأحقاف: 15] ، ووجه الاستدلال به أنه سبحانه وتعالى ذكر شيئين وضرب لهما مدة فكانت لكل واحد منهما بكمالها كالأجل المضروب للدينين على شخصين بأن قال: أجلت الدين الذي لي على فلان والدين الذي لي على فلان سنة فإنه يفهم أن السنة بكمالها لكل، أو على شخص بأن قال لفلان على ألف درهم وعشرة أقفزة إلى سنة فصدقه المقر له في الأجل فإذا مضت السنة يتم أجلهما جميعا إلا أنه قام النقص في أحدهما أعني مدة الحمل لقول عائشة الذي لا يقال مثله إلّا سماعا: الولد لا يبقى في بطن أمه أكثر من سنتين ولو بقدر فلكة مغزل فتبقى مدة الفصال على ظاهرها، وما ذكر هنا أقل مدته وفيه بحث أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ تفسير لوصينا كما اختاره النحاس فإن تفسيرية، وجوز أن تكون مصدرية بتقدير لام التعليل قبلها وهو متعلق بوصينا وبلا تقدير على أن يكون المصدر بدلا من- والديه- بدل الاشتمال، وعليه كأنه قيل: وصينا الإنسان بوالديه بشكرهما وذكر شكر الله تعالى لأن صحة شكرهما تتوقف على شكره عزّ وجلّ كما قيل في عكسه لا يشكر الله تعالى من لا يشكر الناس ولذا قرن بينهما في الوصية، وفي هذا من البعد ما فيه، وأما القول بأن الأمر يأبى التفسير والتعليل والبدلية فليس بشيء كما أشرنا إليه قريبا، وعلى الأوجه الثلاثة يكون قوله تعالى: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ- إلى- عامَيْنِ اعتراضا مؤكدا للتوصية في حق الأم خصوصا لذكر ما قاسته في تربيته وحمله، ولذا قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما في حديث صحيح رواه الترمذي، وأبو داود عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده لمن سأله عمن يبره: أمك وأجابه عن سؤاله به ثلاث مرات، وعن بعض العرب أنه حمل أمه إلى الحج على ظهره وهو يقول في حدائه: أحمل أمي وهي الحمالة. ... ترضعني الدرة والعلالة ولا يجازي والد فعاله ولله تعالى در من قال: لأمك حق لو علمت كبير ... كثيرك يا هذا لديه يسير الجزء: 11 ¦ الصفحة: 85 فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي ... لها من جراها أنة وزفير وفي الوضع لو تدري عليها مشقة ... فمن غصص لها الفؤاد يطير وكم غسلت عنك الأذى بيمينها ... وما حجرها إلا لديك سرير وتفديك مما تشتكيه بنفسها ... ومن ثديها شرب لديك نمير وكم مرة جاعت وأعطتك قوتها ... حنوا وإشفاقا وأنت صغير فآها لذي عقل ويتبع الهوى ... وآها لأعمى القلب وهو بصير فدونك فارغب في عميم دعائها ... فأنت لما تدعو به لفقير واختلف في المراد بالشكر المأمور به فقيل هو الطاعة وفعل ما يرضي كالصلاة والصيام بالنسبة إليه تعالى وكالصلة والبر بالنسبة إلى الوالدين، وعن سفيان بن عيينة من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى ومن دعا لوالديه في أدبارها فقد شكرهما ولعل هذا بيان لبعض أفراد الشكر إِلَيَّ الْمَصِيرُ تعليل لوجوب الامتثال بالأمر أي إلى الرجوع لا إلى غيري فأجازيك على ما صدر عنك مما يخالف أمري. وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ أي باستحقاقه الإشراك أو بشركته له تعالى في استحقاق العبادة، والجار متعلق بقوله تعالى: عِلْمٌ وما مفعول تُشْرِكَ كما اختاره ابن الحاجب ثم قال: ولو جعل تُشْرِكَ بمعنى الذي يمعنى تكفر وجعلت ما نكرة أو بمعنى كفرا أو الكفر وتكون نصبا على المصدرية لكان وجها حسنا، والكلام عليه أيضا بتقدير مضاف أي وأن جاهدك الوالدان على أن تكفر بي كفرا ليس لك أو الكفر الذي ليس لك بصحته أو بحقيته علم فَلا تُطِعْهُما في ذلك والمراد استمرار نفي العلم لا نفي استمراره فلا يكون الإشراك إلا تقليدا. وفي الكشاف أراد سبحانه بنفي العلم نفي ما يشرك أي لا تشرك بي ما ليس بشيء يريد عزّ وجلّ الأصنام كقوله سبحانه ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [العنكبوت: 42] وجعله الطيبي على ذلك من باب نفي الشيء بنفي لازمه وذلك ان العلم تابع للمعلوم فإذا كان الشيء معدوما لم يتعلق به موجودا، ونقل عن ابن المنير أنه عليه من باب: على لاحب لا يهتدى بمناره أي ما ليس باله فيكون لك علم بإلهيته وفي الكشف أن الزمخشري أراد أنه بولغ في نفي الشريك حتى جعل كلا شيء ثم بولغ حتى ما لا يصح أن يتعلق به علم والمعدوم يصح أن يعلم ويصح أن يقال إنه شيء فادخل في سلك المجهول مطلقا وليس من قبيل نفي العلم لنفي وجوده وهذا تقرير حسن وفيه مبالغة عظيمة منه يظهر ترجيح هذا المسلك في هذا المقام على أسلوب: ولا ترى الضب بها ينجحر اهـ فافهم ولا تغفل وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً أي صحابا معروفا يرتضيه الشرع ويقتضيه الكرم والمروءة كإطعامهما واكسائهما وعدم جفائهما وانتهارهما وعيادتهما إذا مرضا ومواراتهما إذا ماتا، وذكر فِي الدُّنْيا لتهوين أمر الصحبة والإشارة إلى أنها في أيام قلائل وشيكة الانقضاء فلا يضر تحمل مشقتها لقلة أيامها وسرعة انصرامها وقيل للإشارة إلى أن الرفق بهما في الأمور الدنيوية دون الدينية. وقيل: ذكره لمقابلته بقوله تعالى: «ثم إليّ مرجعكم» وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ أي رجع إِلَيَّ بالتوحيد والإخلاص بالطاعة، وحاصله اتبع سبيل المخلصين لا سبيلهما ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ أي رجوعك ورجوعهما وزاد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 86 بعضهما من أناب وهو خلاف الظاهر، وأيا ما كان ففيه تغليب للخطاب على الغيبة فَأُنَبِّئُكُمْ عند رجوعكم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بأن أجازي كلّا منكم بما صدر عنه من الخير والشر، والآية نزلت في سعد بن أبي وقاص أخرج أبو يعلى، والطبراني، وابن مردويه، وابن عساكر عن أبي عثمان النهدي أن سعد بن أبي وقاص قال: أنزلت في هذه الآية وَإِنْ جاهَداكَ الآية كنت رجلا برا بأمي فلما أسلمت قالت: يا سعد وما هذا الذي أراك قد أحدثت؟ لتدعن دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعير بي فيقال يا قاتل أمه قلت: لا تفعلي يا أمه فإني لا أدع ديني هذا لشيء فمكثت يوما وليلة لا تأكل فأصبحت قد جهدت فمكثت يوما وليلة لا تأكل فأصبحت قد اشتد جهدها فلما رأيت ذلك قلت: يا أمه تعلمين والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا الشيء فإن شئت فكلي وإن شئت لا تأكلي فلما رأت ذلك أكلت فنزلت هذه الآية، وذكر بعضهم أن هذه وما قبلها أعني قوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ الآية نزلتا فيه قيل ولكون النزول فيه قيل: من أناب بتوحيد الضمير حيث أريد بذلك أبو بكر رضي الله تعالى عنه فإن إسلام سعد كان بسب إسلامه. وأخرج الواحدي عن عطاء عن ابن عباس قال إنه يريد بمن أناب أبو بكر وذلك أنه حين أسلم رآه عبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد وعثمان وطلحة والزبير فقالوا لأبي بكر آمنت وصدقت محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم فقال أبو بكر: نعم فأتوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فآمنوا وصدقوا فأنزل الله تعالى يقول لسعد: وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ يعني أبا بكر رضي الله تعالى عنه، وابن جريج يقول كما أخرج عنه ابن المنذر من أناب محمد عليه الصلاة والسلام، وغير واحد يقول هو صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنون، والظاهر هو العموم. يا بُنَيَّ إلخ رجوع إلى القصة بذكر بقية ما أريد حكايته من وصايا لقمان أثر تقرير ما في مطلعه من النهي عن الشرك وتأكيده بالاعتراض إِنَّها أي الخصلة من الإساءة والإحسان لفهمها من السياق. وقيل: وهو كما ترى إنها أي التي سألت عنها، فقد روي أن لقمان سأله ابنه أرأيت الحبة تقع في مغاص البحر أيعلمها الله تعالى فقال يا بني إنها أي التي سألت عنها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أي إن تكن مثلا في الصغر كحبة الخردل والمثقال ما يقدر به غيره لتساوي ثقلهما وهو في العرف معلوم. وقرأ نافع، والأعرج، وأبو جعفر «مثقال» بالرفع على أن الضمير للقصة وتَكُ مضارع كان التامة والتأنيث لإضافة الفاعل إلى المؤنث كما في قول الأعشى: وتشرق بالقول الذي قد أذعته ... كما شرقت صدر القناة من الدم أو لتأويله بالزنة أو الحسنة والسيئة فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ أي فتكن مع كونها في أقصى غايات الصغر والقماءة في أخفى مكان وأحرزه كجوف الصخرة أو حيث كانت في العالم العلوي أو السفلي، وقيل: في أخفى مكان وأحرزه كجوف الصخرة أو أعلاه كمحدب السماوات أو أسفله كمقعر الأرض، ولا يخفى أنه لا دلالة في النظم على تخصيص المحدب والمقعر ولعل المقام يقتضيه إذ المقصود المبالغة. وفي قوله تعالى: فِي السَّماواتِ لا يأبى ذلك لأنها ذكرت بحسب المكانية أو للمشاكلة أو هي بمعنى على، وعبر بها للدلالة على التمكن ومع هذا الظاهر ما تقدم، وفي البحر أنه بدأ بما يتعقله السامع أولا وهو كينونة الشيء في صخرة وهو ما صلب من الحجر وعسر الإخراج منه ثم أتبعه بالعالم العلوي وهو أغرب للسامع ثم أتبعه بما يكون مقر الأشياء للشاهد وهو الأرض، وقيل: إن خفاء الشيء وصعوبة نيله بطرق بغاية صغره ويبعده عن الرائي وبكونه في ظلمة وباحتجاجه فمثقال حبة من خردل إشارة إلى غاية الصغر، وفِي صَخْرَةٍ إشارة إلى الحجاب وفِي السَّماواتِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 87 إشارة إلى البعد وفِي الْأَرْضِ إشارة إلى الظلمة فإن جوف الأرض أشد الأماكن ظلمة أو يقال فليس المراد بصخرة صخرة معينة، وعن ابن عباس، والسدي أن هذه الصخرة هي التي عليها الأرض، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن الأرض على نون والنون على البحر بحر على صخرة خضراء خضرة الماء منها والصخرة على قرن ثور وذلك الثور على الثرى ولا يعلم ما تحت الثرى إلّا الله تعالى. وفسر بعضهم الصخرة بهذه الصخرة، وقيل: هي صخرة في الريح، قال ابن عطية: وكل ذلك ضعيف لا يثبت سنده وإنما معنى الكلام المبالغة والانتهاء في التفهيم أي إن قدرته عزّ وجلّ تنال ما يكون في تضاعيف صخرة وما يكون في السماء وما يكون في الأرض اهـ، والأقوى عندي وضع هذه الأخبار ونحوها فليست الأرض إلّا في حجر الماء وليس الماء إلّا في جوف الهواء وينتهي الأمر إلى عرش الرحمن جلّ وعلا والكل في كف قدرة الله عزّ وجلّ. وقرأ عبد الرحيم الجزري فَتَكُنْ بكسر الكاف وشد النون وفتحها، وقرأ محمد بن أبي فجة البعلبكي «فتكن» بضم التاء وفتح الكاف والنون مشددة، وقرأ قتادة «فتكن» بفتح التاء وكسر الكاف وسكون النون ورويت هذه القراءة عن الجزري أيضا، والفعل في جميع ما ذكر من وكن الطائر إذا استقر في وكنته أي عشه ففي الكلام استعارة أو مجاز مرسل كما في المشفر، والضمير للمحدث عنه فيما يسبق، وجوز أن يكون للابن والمعنى أن تختف أو تخف وقت الحساب يحضرك الله تعالى، ولا يخفى أنه غير ملائم للجواب أعني قوله تعالى: يَأْتِ بِهَا اللَّهُ أي يحضرها فيحاسب عليها، وهذا إما على ظاهره أو المراد يجعلها كالحاضر المشاهدة لذكرها والاعتراف بها إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ يصل علمه تعالى إلى كل خفي خَبِيرٌ عالم بكنهه. وعن قتادة لطيف باستخراجها خبير بمستقرها، وقيل: ذو لطف بعباده فيلطف بالإتيان بها بأحد الخصمين خبير عالم بخفايا الأشياء وهو كما ترى، والجملة علة مصححة للإتيان بها، أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن رباح اللخمي إنه لما وعظ لقمان ابنه وقال: إِنَّها إِنْ تَكُ الآية أخذ حبة من خردل فأتى بها إلى اليرموك وهو واد في الشام فألقاها في عرضه ثم مكث ما شاء الله تعالى ثم ذكرها وبسط يده فأقبل بها ذباب حتى وضعها في راحته والله تعالى أعلم، وبعد ما أمره بالتوحيد الذي هو أول ما يجب على المكلف في ضمن النهي عن الشرك ونبهه على كمال علمه تعالى وقدرته عزّ وجلّ أمره بالصلاة التي هي أكمل العبادات تكميلا من حيث العمل بعد تكميله من حيث الاعتقاد فقال مستميلا له: يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ تكميلا لنفسك، ويروى أنه قال له: يا بني إذا جاء وقت الصلاة فلا تؤخرها لشيء صلها واسترح منها فإنها دين، وصل في جماعة ولو على رأس زج وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ تكميلا لغيرك والظاهر أنه ليس المراد معروفا ومنكرا معينين. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أنه قال: وأمر بالمعروف يعني التوحيد وانه عن المنكر يعني الشرك وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ من الشدائد والمحن لا سيما فيما أمرت به من إقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واحتياج الآخرين للصبر على ما ذكر ظاهر، والأول لأن إتمام الصلاة والمحافظة عليها قد يشق ولذا قال تعالى: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ [البقرة: 45] وقال ابن جبير: واصبر على ما أصابك في أمر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقول: إذا أمرت بمعروف أو نهيت عن منكر وأصابك في ذلك أذى وشدة فاصبر عليه إِنَّ ذلِكَ أي الصبر على ما أصابك عند ابن جبير، وهو يناسب إفراد اسم الإشارة وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد منزلته في الفضل، أو الإشارة إلى الصبر وإلى سائر ما أمر به والأفراد للتأويل بما ذكر وأمر البعد على ما سمعت مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي مما عزمه الله تعالى وقطعه قطع إيجاب وروي ذلك عن ابن جريج، والعزم بهذا المعنى مما ينسب إلى الله تعالى ومنه ما الجزء: 11 ¦ الصفحة: 88 ورد من عزمات الله عزّ وجلّ ، والمراد به هنا المعزوم إطلاقا للمصدر على المفعول، والإضافة من إضافة الصفة إلى الموصوف أي الأمور المعزومة. وجوز أن يكون العزم بمعنى الفاعل أي عازم الأمور من عزم الأمر أي جد فعزم الأمور من باب الإسناد المجازي كمكر الليل لا من باب الإضافة على معنى في وإن صح، وقيل: يريد من مكارم الأخلاق وعزائم أهل الحزم السالكين طريق النجاة، واستظهر أبو حيان إنه أراد من لازمات الأمور الواجبة، ونقل عن بعضهم أن العزم هو الحزم بلغة هذيل، والحزم والعزم أصلان، وما قاله المبرد من أن العين قلبت حاء ليس بشيء لاطراد تصاريف كل من اللفظين فليس أحدهما أصلا للآخر، والجملة تعليل لوجوب الامتثال بما سبق وفيه اعتناء بشأنه وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ أي لا تمله عنهم ولا تولهم صفحة وجهك كما يفعله المتكبرون قاله ابن عباس، وجماعة وأنشدوا: وكنا إذا الجبار صعر خده ... أقمنا له من ميله فتقوما فهو من الصعر بمعنى الصيد وهو داء يعتري البعير فيلوي منه عنقه ويستعار للتكبر كالصعر، وقال ابن خويز منداد: نهى أن يذل نفسه من غير حاجة فيلوى عنقه، ورجح الأول بأنه أوفق بما بعد، ولام لِلنَّاسِ تعليلية والمراد ولا تصعر خدك لأجل الإعراض عن الناس أو صلة. وقرأ نافع وأبو عمرو. وحمزة، والكسائي «تصاعر» بألف بعد الصاد. وقرأ الجحدري تصعر مضارع أصعر والكل واحد مثل علاه وعالاه وأعلاه. وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ التي هي أحط الأماكن منزلة مَرَحاً أي فرحا وبطرا، مصدر وقع موقع الحال للمبالغة أو لتأويله بالوصف أو تمرح مرحا على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف والجملة في موضع الحال أو لأجل المرح على أنه مفعول له، وقرىء مرحا بكسر الراء على أنه وصف في موضع الحال إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ تعليل للنهي أو موجبه والمختال من الخيلاء وهو التبختر في المشي كبرا، وقال الراغب: التكبر عن تخيل فضيلة تراءت للإنسان من نفسه، ومنه تؤول لفظ الخيل لما قيل إنه لا يركب أحد فرسا إلا وجد في نفسه نخوة، والفخور من الفخر وهو المباهاة في الأشياء الخارجة عن الإنسان كالمال والجاه ويدخل في ذلك تعداد الشخص ما أعطاه لظهور أنه مباهاة بالمال، وعن مجاهد تفسير الفخور بمن يعدد ما أعطى ولا يشكر الله عزّ وجلّ، وفي الآية عند الزمخشري لف ونشر معكوس حيث قال: المختال مقابل للماشي مرحا وكذلك الفخور للمصعر خده كبرا وذلك لرعاية الفواصل على ما قيل، ولا يأبى ذلك كون الوصية لم تكن باللسان العربي كما لا يخفى. وجوز أن يكون هناك لف ونشر مرتب فإن الاختيال يناسب الكبر والعجب وكذا الفخر يناسب المشي مرحا. والكلام على رفع الإيجاب الكلي والمراد السلب الكلي، وجوز أن يبقى على ظاهره، وصيغة فَخُورٍ للفاصلة ولأن ما يكره من الفخر كثرته فإن القليل منه يكثر وقوعه فلطف الله تعالى بالعفو عنه وهذا كما لطف بإباحة اختيال المجاهد بين الصفين وإباحة الفخر بنحو المال لمقصد حسن وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ بعد الاجتناب عن المرح فيه أي توسط فيه بين الدبيب والإسراع من القصد وهو الاعتدال، وجاء في عدة روايات إلّا أن في أكثرها مقالا يخرجها عن صلاحية الاحتجاج بها كما لا يخفى على من راجع شرح الجامع الصغير للمناوي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم «سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن» أي هيبته وجماله أي تورثه حقارة في أعين الناس، وكأن ذلك لأنها تدل على الخفة وهذا أقرب من قول المناوي لأنها تتعب فتغير البدن والهيئة. وقال ابن مسعود: كانوا ينهون عن خبب اليهود ودبيب النصارى ولكن مشيا بين ذلك، وما في النهاية من أن عائشة نظرت إلى رجل كاد يموت تخافتا فقالت: ما لهذا؟ فقيل: إنه من القراء فقالت: كان عمر رضي الله تعالى عنه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 89 سيد القراء وكان إذا مشى أسرع وإذا قال أسمع وإذا ضرب أوجع. فالمراد بالإسراع فيه ما فوق دبيب المتماوت (1) وهو الذي يخفي صوته ويقل حركاته مما يتزيا بزي العباد كأنه يتكلف في اتصافه بما يقربه من صفات الأموات ليوهم أنه ضعف من كثرة العبادة فلا ينافي الآية، وكذا ما ورد في صفته صلى الله تعالى عليه وسلم إذا يمشي كأنما ينحط من صبب وكذا لا ينافيها قوله تعالى وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الفرقان: 63] إذ ليس الهون فيه المشي كدبيب النمل، وذكر بعض الأفاضل أن المذموم اعتياد الإسراع بالإفراط فيه، وقال السخاوي: محل ذم الإسراع ما لم يخش من بطء السير تفويت أمر ديني، لكن أنت تعلم أن الإسراع المذهب للخشوع لإدراك الركعة مع الإمام مثلا مما قالوا أنه مما لا ينبغي فلا تغفل، وعن مجاهد أن القصد في المشي التواضع فيه، وقيل: جعل البصر موضع القدم، والمعول عليه ما تقدم: وقرىء. «وأقصد» بقطع الهمزة ونسبها ابن خالويه للحجازي من أقصد الرامي إذا سدد سهمه نحو الرمية ووجهه إليها ليصيبها أي سدد في مشيك والمراد أمش مشيا حسنا، وكأنه أريد التوسط به بين المشيين السريع والبطيء فتتوافق القراءتان وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ أي انقص منه واقصر من قولك فلان يغض من فلان إذا قصر به وضع منه وحط من درجته. وفي البحر الغض رد طموح الشيء كالصوت والنظر ويستعمل متعديا بنفسه كما في قوله: فغض الطرف إنك من نمير ومتعديا بمن كما هو ظاهر قول الجوهري غض من صوته. والظاهر إن ما في الآية من الثاني، وتكلف بعضهم جعل من فيها للتبعيض، وادعى آخر كونها زائدة في الإثبات، وكانت العرب تفتخر بجهارة الصوت وتمدح به في الجاهلية ومنه، قول الشاعر: جهير الكلام جهير العطاس ... جهير الرواء جهير النعم ويخطو على العم خطو الظليم ... ويعلو الرجال بخلق عمم والحكمة في غض الصوت المأمور به أنه أوفر للمتكلم وأبسط لنفس السامع وفهمه إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ أي أقبحها يقال وجه منكر أي قبيح قال في البحر: وهو أفعل بني من فعل المفعول كقولهم: أشغل من ذات النحيين وبناؤه من ذلك شاذ، وقال بعض: أي أصعبها على السمع وأوحشها من نكر بالضم نكارة ومنه يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ [القمر: 6] أي أمر صعب لا يعرف، والمراد بالأصوات أصوات الحيوانات أي إن أنكر أصوات الحيوانات لَصَوْتُ الْحَمِيرِ جمع حمار كما صرح به أهل اللغة ولم يخالف فيه عير السهيلي قال: إنه فعيل اسم جمع كالعبيد وقد يطلق على اسم الجمع الجمع عند اللغويين، والجملة تعليل للأمر بالغض على أبلغ وجه وآكده حيث شبه الرافعون أصواتهم بالحمير وهم مثل في الذم البليغ والشتيمة ومثلت أصواتهم بالنهاق الذي أوله زفير وآخره شهيق ثم أخلى الكلام من لفظ التشبيه وأخرج مخرج الاستعارة، وفي ذلك من المبالغة في الذم والتهجين والإفراط في التثبيط عن رفع الصوت والترغيب عنه ما فيه، وإفراد الصوت مع جمع ما أضيف هو إليه للإشارة إلى قوة تشابه أصوات الحمير حتى كأنها صوت واحد هو أنكر الأصوات، وقال الزمخشري أن ذلك لما أن المراد ليس بيان حال صوت كل واحد من آحاد هذا الجنس حتى يجمع بل بيان صوت هذا الجنس من بين أصوات سائر الأجناس. قيل: فعلى هذا كان المناسب لصوت الحمار بتوحيد المضاف إليه وأجيب بأن المقصود من الجمع التتميم والمبالغة في التنفير فإن الصوت إذا توافقت عليه الحمير كان أنكر. وأورد عليه أنه يوهم أن الأنكرية في التوافق دون الانفراد وهو لا يناسب   (1) ورأى عمر رضي الله تعالى عنه رجلا متماوتا فقال: لا تمت علينا ديننا أماتك الله تعالى، ورأى رجلا مطأطئا رأسه فقال: ارفع رأسك فإن الإسلام ليس بمريض اهـ منه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 90 المقام وأجيب بأنه لا يلتفت إلى مثل هذا التوهم وقيل: لم يجمع الصوت المضاف لأنه مصدر وهو لا يثنى ولا يجمع ما لم تقصد الأنواع كما في أَنْكَرَ الْأَصْواتِ فتأمل، والظاهر أن قوله تعالى: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ من كلام لقمان لابنه تنفيرا له عن رفع الصوت، وقيل: هو من كلام الله تعالى وانتهت وصية لقمان بقوله: وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ رد سبحانه به على المشركين الذين كانوا يتفاخرون بجهارة الصوت ورفعه مع أن ذلك يؤذي السامع ويقرع الصماخ بقوة وربما يخرق الغشاء الذي هو داخل الأذن وبين عزّ وجلّ أن مثلهم في رفع أصواتهم مثل الحمير وأن مثل أصواتهم التي يرفعونها مثل نهاقها في الشدة مع القبح الموحش وهذا الذي يليق أن يجعل وجه شبه لا الخلو عن ذكر الله تعالى كما يتوهم بناء على ما أخرج ابن أبي حاتم عن سفيان الثوري قال: صياح كل شيء تسبيحه إلّا الحمار لما أن وجه الشبه ينبغي أن يكون صفة ظاهرة وخلو صوت الحمار عن الذكر ليس كذلك، على أنا لا نسلم صحة هذا الخبر فإن فيه ما فيه. ومثله ما شاع بين الجهلة من أن نهيق الحمار لعن للشيعة الذين لا يزالون ينهقون بسبب الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومثل هذا من الخرافات التي يمجها السمع ما عدا سمع طويل الأذنين، والظاهر أن المراد بالغض من الصوت الغض منه عند التكلم والمحاورة، وقيل: الغض من الصوت مطلقا فيشمل الغض منه عند العطاس فلا ينبغي أن يرفع صوته عنده أن أمكنه عدم الرفع، وروي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه ما يقتضيه ثم إن الغض ممدوح إن لم يدع داع شرعي إلى خلافه، وأردف الأمر بالقصد في المشي بالأمر بالغض من الصوت لما أنه كثيرا ما يتوصل إلى المطلوب بالصوت بعد العجز عن التوصل إليه بالمشي كذا قيل، هذا وأبعد بعضهم في الكلام على هذين الأمرين فقال: إن الأول إشارة إلى التوسط في الأفعال والثاني إشارة إلى الاحتراز من فضول الكلام والتوسط في الأقوال، وجعل قوله تعالى: إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ إلخ إشارة إلى إصلاح الضمير وهو كما ترى. وقرأ ابن أبي عبلة «أصوات الحمير» بالجمع بغير لام التأكيد أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ رجوع إلى سنن ما سلف قبل قصة لقمان من خطاب المشركين وتوبيخ لهم على إصرارهم على ما هم عليه مع مشاهدتهم لدلائل التوحيد، والتسخير على ما قال الراغب سياقة الشيء إلى الغرض المختص به قهرا، وفي إرشاد العقل السليم المراد به أما جعل المسخر بحيث ينفع المسخر له أعم من أن يكون منقادا له يتصرف فيه كيف يشاء ويستعمله كيف يريد كعامة ما في الأرض من الأشياء المسخرة للإنسان المستعملة له من الجماد والحيوان أو لا يكون كذلك بل يكون سببا لحصول مراده من غير أن يكون له دخل في استعماله كجميع ما في السماوات من الأشياء التي نيطت بها مصالح العباد معاشا أو معادا، وأما جعله منقادا للأمر مذللا على أن معنى لَكُمْ لأجلكم فإن جميع ما في السماوات والأرض من الكائنات مسخرة لله تعالى مستتبعة لمنافع الخلق وما يستعمله الإنسان حسبما يشاء وإن كان مسخرا له بحسب الظاهر فهو في الحقيقة مسخر لله عزّ وجلّ وَأَسْبَغَ أي أتم وأوسع عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ جمع نعمة وهي في الأصل الحالة المستلذة فإن بناء الفعلة كالجلسة والركبة للهيئة ثم استعملت فيما يلائم من الأمور الموجبة لتلك الحالة إطلاقا للمسبب على السبب، وفي معنى ذلك قولهم: هي ما ينتفع به ويستلذ ومنهم من زاد ويحمد عاقبته، وقال بعضهم: لا حاجة إلى هذه الزيادة لأن اللذة عند المحققين أمر تحمد عاقبته وعليه لا يكون لله عز وجلّ على كافر نعمة، ونقل الطيبي عن الإمام أنه قال: النعمة عبارة عن المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير، ومنهم من يقول: المنفعة الحسنة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير قالوا: وإنما زدنا قيد الحسنة لأن النعمة يستحق بها الشكر وإذا كانت قبيحة لا يستحق بها الشكر، والحق أن هذا القيد غير معتبر لأنه يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان وإن كان فعله محظورا لأن جهة الشكر كونه إحسانا وجهة استحقاق الذم والعقاب الحظر فأي امتناع في الجزء: 11 ¦ الصفحة: 91 اجتماعهما، ألا ترى أن الفاسق يستحق الشكر لإنعامه والذم لمعصية الله تعالى فلم لا يجوز أن يكون الأمر هاهنا كذلك، أما قولنا: المنفعة فلأن المضرة المحضة لا تكون نعمة، وقولنا: المفعولة على جهة الإحسان لأنه لو كان نفعا وقصد الفاعل به نفع نفسه لا نفع المفعول به لا يكون نعمه وذلك كمن أحسن إلى جاريته ليربح عليها اهـ، ويعمل منه حكم زيادة ويحمد عاقبته ظاهِرَةً وَباطِنَةً أي محسوسة ومعقولة معروفة لكم وغير معروفة، وعن مجاهد النعمة الظاهرة وظهور الإسلام والنصرة على الأعداء والباطنة الإمداد من الملائكة عليهم السلام، وعن الضحاك الظاهرة حسن الصورة وامتداد القامة وتسوية الأعضاء والباطنة المعرفة، وقيل: الظاهرة البصر والسمع واللسان وسائر الجوارح والباطنة القلب والعقل والفهم، وقيل: الظاهرة نعم الدنيا والباطنة نعم الآخرة، وقيل: الظاهرة نحو إرسال الرسل وإنزال الكتب والتوفيق لقبول الإسلام والإتيان به والثبات على قدم الصدق ولزوم العبودية والباطنة ما أصاب الأرواح في عالم الذر من رشاش نور النور وأول الغيث قطر ثم ينسكب. ونقل بعض الإمامية عن الباقر رضي الله تعالى عنه أنه قال: الظاهرة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وما جاء به من معرفة الله تعالى وتوحيده والباطنة ولا يتنا أهل البيت وعقد مودتنا ، والتعميم الذي أشرنا إليه أولا أولى، لكن أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن عطاء قال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن قوله تعالى وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً قال: هذه من كنوز علمي سألت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال أما الظاهرة فما سوي من خلقك وأما الباطن فما ستر من عورتك ولو أبداها لقلاك أهلك فمن سواهم. وفي رواية أخرى رواها ابن مردويه، والديلمي، والبيهقي، وابن النجار عن ابن عباس أنه قال: سألت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن قوله تعالى وَأَسْبَغَ إلخ قال: أما الظاهرة فالإسلام وما سوي من خلقك وما أسبغ عليك من رزقه وأما الباطنة فما ستر من مساوئ عملك فإن صح ما ذكر فلا يعدل عنه إلى التعميم إلا أن يقال: الغرض من تفسير الظاهرة والباطنة بما فسرنا به التمثيل وهو الظاهر لا التخصيص وإلا لتعارض الخبران. ثم إن ظاهر هذين الخبرين يقتضي كون الذنب وهو المعبر عنه في الأول بما ستر من العورة وفي الثاني بما ستر من مساوئ العمل نعمة ولم نر في كلامهم التصريح بإطلاقها عليه ويلزمه أن من كثرت ذنوبه كثرت نعم الله تعالى عليه فكان المراد أن النعمة الباطنة هي ستر ما ستر من العورة ومساوئ العمل ولم يقل كذلك اعتمادا على وضوح الأمر، وجاء في بعض الآثار ما يقتضي ذلك، أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي عن مقاتل أنه قال في الآية: ظاهِرَةً الإسلام وَباطِنَةً ستره تعالى عليكم المعاصي، بل جاء في بعض روايات الخبر الثاني وأما ما بطن فستر مساوئ عملك. وجوز أن يكون ما في ما ستر في الخبرين مصدرية ومن صلة ستر لا بيان لما وقرأ يحيى بن عمارة وأصبغ بالصاد وهي لغة بني كلب يبدلون من السين إذا اجتمعت مع أحد الحروف المستعلية الغين والخاء والقاف صادا فيقولون في سلخ صلخ وفي سقر صقر وفي سائغ صائغ ولا فرق في ذلك بين أن يفصل بينهما فاصل وأن لا يفصل، وظاهر كلام بعضهم أنه لا فرق أيضا بين أن تتقدم السين على أحد تلك الأحرف وأن تتأخر، واشترط آخر تقدم السين، وذكر الخفاجي أنه ابدال مطرد. وقرأ بعض السبعة وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «نعمة» بالإفراد وقرىء «نعمته» بالإفراد والإضافة، ووجه الافراد بإرادة الجنس كما قيل ذلك في قوله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها وقال الزجاج: من قرأ «نعمة» فعلى معنى ما أعطاهم من التوحيد ومن قرأ نعمه بالجمع فعلى جميع ما أنعم به عليهم والأول أولى، ونصب ظاهِرَةً الجزء: 11 ¦ الصفحة: 92 وَباطِنَةً في قراءة التعريف على الحالية وفي قراءة التنكير على الوصفية وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ من الجدال وهو المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة، وأصله من جدلت الحبل أي أحكمت فتله كان المتجادلين يفتل كل منهما صاحبه عن رأيه وقيل: الأصل في الجدال الصراع وإسقاط الإنسان صاحبه على الجدالة وهي الأرض الصلبة وكأن الجملة في موضع الحال من ضميره تعالى فيما قيل أي ألم تروا إن الله سبحانه فعل ما فعل من الأمور الدالة على وحدته سبحانه وقدرته عزّ وجلّ والحال من الناس من ينازع ويخاصم كالنضر بن الحارث وأبي ابن خلف كانا يجادلان النبي صلّى الله عليه وسلم فِي اللَّهِ أي في توحيده عزّ وجلّ وصفاته جلّ شأنه كالمشركين المنكرين وحدته سبحانه وعموم قدرته جلت قدرته وشمولها للبعث ولم يقل فيه بدل في الله بإرجاع الضمير للاسم الجليل في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ تهويلا لأمر الجدال بِغَيْرِ عِلْمٍ مستفاد من دليل عقلي وَلا هُدىً راجع إلى رسول مأخوذ منه، وجوز جعل الهدى نفس الرسول مبالغة وفيه بعد وَلا كِتابٍ أنزله الله تعالى مُنِيرٍ أي ذي نور والمراد به واضح الدلالة على المقصود، وقيل: منقذ من ظلمة الجهل والضلال بل يجادلون بمجرد التقليد كما قال سبحانه وَإِذا قِيلَ لَهُمُ أي لمن يجادل والجمع باعتبار المعنى اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا يريدون عبادة ما عبدوه من دون الله عزّ وجلّ، وهذا ظاهر في منع التقليد في أصول الدين والمسألة خلافية فالذي ذهب إليه الأكثرون ورجحه الإمام الرازي والآمدي أنه لا يجوز التقليد في الأصول بل يجب النظر والذي ذهب إليه عبيد الله بن الحسن العنبري وجماعة الجواز وربما قال بعضهم أنه الواجب على المكلف وإن النظر في ذلك والاجتهاد فيه حرام، وعلى كل يصح عقائد المقلد المحق وإن كان آثما بترك النظر على الأول، وعن الأشعري أنه لا يصح إيمانه، وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري: هذا مكذوب عليه لما يلزمه تكفير العوام وهم غالب المؤمنين، والتحقيق أنه إن كان التقليد أخذا لقول الغير بغير حجة مع احتمال شك ووهم بأن لا يجزم المقلد فلا يكفي إيمانه قطعا لأنه لا إيمان مع أدنى تردد فيه وإن كان لكن جزما فيكفي عند الأشعري وغيره خلافا لأبي هاشم في قوله لا يكفي بل لا بد لصحة الإيمان من النظر، وذكر الخفاجي أنه لا خلاف في امتناع تقليد من لم يعلم أنه مستند الى دليل حق، وظاهر ذم المجادلين بغير علم ولا هدى ولا كتاب أنه يكفي في النظر الدليل النقلي الحق كما يكفي فيه الدليل العقلي. أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ أي يدعو آباءهم لا أنفسهم كما قيل: فإن مدار إنكار الاستتباع كون المتبوعين تابعين للشياطين وينادي عليه قوله تعالى: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة: 170] بعد قوله سبحانه: بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا [البقرة: 170] ويعلم منه حال رجوع الضمير الى المجموع أي أولئك المجادلين وآباؤهم إِلى عَذابِ السَّعِيرِ أي إلى ما يؤول إليه أو يستبب منه من الإشراك وإنكار شمول قدرته عزّ وجلّ للبعث ونحو ذلك من الضلالات، وجوز بقاء عَذابِ السَّعِيرِ على حقيقته والاستفهام للإنكار ويفهم التعجيب من السياق أو للتعجيب ويفهم الإنكار من السياق والواو حالية والمعنى أيتبعونهم ولو كان الشيطان يدعوهم أي في حال دعاء الشيطان إياهم إلى العذاب، وجوز كون الواو عاطفة على مقدر أي أيتبعونهم لو لم يكن الشيطان يدعوهم الى العذاب ولو كان يدعوهم إليه، وهما قولان مشهوران في الواو الداخلة على لَوْ الوصلية ونحوها، وكذا في احتياجها إلى الجواب قولان قول بالاحتياج وقول بعدمه لانسلاخها عن معنى الشرط، ومن ذهب إلى الأول قدره هنا لا يتبعوهم وهم مما لا غبار عليه على تقدير كون الواو عاطفة، وأما على تقدير كونها حالية فزعم بعضهم أنه لا يتسنى وفيه نظر، وقد مرّ الكلام على نحو هذه الآية الكريمة فتذكر. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 93 وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ بأن فوض إليه تعالى جميع أموره وأقبل عليه سبحانه بقلبه وقالبه، فالإسلام كالتسليم التفويض، والوجه الذات، والكلام كناية عما أشرنا إليه من تسلم الأمور جميعها إليه تعالى والإقبال التام عليه عزّ وجلّ وقد يعدى الإسلام باللام قصدا لمعنى الإخلاص. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه، والسلمي، وعبد الله بن مسلم بن يسار «يسلّم» بتشديد اللام من التسليم وهو أشهر في معنى التفويض من الإسلام وَهُوَ مُحْسِنٌ أي في أعماله والجملة في موضع الحال. فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى تعلق أتم تعلق بأوثق ما يتعلق به من الأسباب وهذا تشبيه تمثيلي مركب حيث شبه حال المتوكل على الله عزّ وجلّ المفوض إليه أموره كلها المحسن في أعماله بمن ترقى في جبل شاهق أو تدلى منه فتمسك بأوثق عروة من حبل متين مأمون انقطاعه، وجوز أن يكون هناك استعارة في المفرد وهو العروة الوثقى بأن يشبه التوكل النافع المحمود عاقبته بها فتستعار له وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ أي هي صائرة إليه عزّ وجلّ لا إلى غيره جلّ جلاله فلا يكون لأحد سواه جلّ وعلا تصرف فيها بأمر ونهي وثواب وعقاب فيجازي سبحانه هذا المتوكل أحسن الجزاء، وقيل: فيجازي كلا من هذا المتوكل وذاك المجادل بما يليق به بمقتضى الحكمة، وأل في الأمور للإستغراق، وقيل: تحتمل العهد على أن المراد الأمور المذكورة من المجادلة وما بعدها، وتقديم إِلَى اللَّهِ للحصر ردا على الكفرة في زعمهم مرجعية آلهتهم لبعض الأمور. واختار بعضهم كونه إجلالا للجلالة ورعاية للفاصلة ظنا منه أن الاستغراق مغن عن الحصر وهو ليس كذلك. وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ أي فلا يهمنك ذلك إِلَيْنا لا إلى غيرنا مَرْجِعُهُمْ رجوعهم بالبعث يوم القيامة فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أي بعملهم أو بالذي عملوه في الدنيا من الكفر والمعاصي بالعذاب والعقاب، وقيل: إلينا مرجعهم في الدارين فنجازيهم بالإهلاك والتعذيب والأول أظهر وأيا ما كان فالجملة في موضع التعليل كأنه قيل: لا يهمنك كفر من كفر لأنا ننتقم منه ونعاقبه على عمله أو الذي عمله والجمع في الضمائر الثلاثة باعتبار معنى من كما أن الافراد في الأول باعتبار لفظها، وقرىء في السبع «ولا يحزنك» مضارع أحزن مزيد حزن اللام وقدر اللزوم ليكون للنقل فائدة وحزن وأحزن لغتان، قال اليزيدي: حزنه لغة قريش وأحزنه لغة تميم وقد قرىء بهما، وذكر الزمخشري أن المستفيض في الاستعمال ماضي الأفعال ومضارع الثلاثي والعهدة في ذلك عليه إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ تعليل للتنبئة المعبر بها عن المجازاة أي يجازيهم سبحانه لأنه عزّ وجلّ عليم بالضمائر فما ظنك بغيرها. نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا تمتيعا قليلا أو زمانا قليلا فإن ما يزول بالنسبة إلى ما يدوم قليل ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ ثقيل عليهم ثقل الإجرام الغلاظ، والمراد بالاضطرار أي الإلجاء إلزامهم ذلك العذاب الشديد إلزام المضطر الذي لا يقدر على الانفكاك مما ألجئ إليه، وفي الانتصاف تفسير هذا الاضطرار ما في الحديث من أنهم لشدة ما يكابدون من النار يطلبون البرد فيرسل عليهم الزمهرير فيكون أشد عليهم من اللهب فيتمنون عود اللهب اضطرارا فهو اختيار عن اضطرار وبأذيال هذه البلاغة تعلق الكندي حيث قال: يرون الموت قداما وخلفا ... فيختارون والموت اضطرار وقيل: المعنى نضم إلى الإحراق الضغط والتضييق فلا تغفل وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ أي خلقهن الله تعالى، وجوز أن يكون التقدير الله خلقهن والأول أولى كما فصل في محله وقولهم ذلك لغاية وضوح الأمر بحيث اضطروا إلى الاعتراف به قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على إلزامهم وإلجائهم إلى الاعتراف بما يوجب بطلان ما هم عليه من إشراك غيره تعالى به جلّ شأنه في العبادة التي لا يستحقها غير الخالق والمنعم الحقيقي. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 94 وجوز جعل المحمود عليه جعل دلائل التوحيد بحيث لا ينكرها المكابر أيضا بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن ذلك يلزمهم قيل: وفيه إيغال حسن كأنه قال سبحانه: وإن جهلهم انتهى إلى أن لا يعلموا أن الحمد لله ما موقعه في هذا المقام، وقد مر تمام الكلام في نظير الآية في العنكبوت فتذكر. لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خلقا وملكا وتصرفا ليس لأحد سواه عزّ وجلّ استقلالا ولا شركة فلا يستحق العبادة فيهما غيره سبحانه وتعالى بوجه من الوجوه، وهذا إبطال لمعتقدهم من وجه آخر لأن المملوك لا يكون شريكا لمالكه فكيف يستحق ما هو حقه من العبادة وغيرها إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ عن كل شيء الْحَمِيدُ المستحق للحمد وإن لم يحمده جلّ وعلا أحد أو المحمود بالفعل يحمده كل مخلوق بلسان الحال، وكأنه الجملة جواب عما يوشك أن يخطر ببعض الأذهان السقيمة من أنه هل اختصاص ما في السموات والأرض به عزّ وجلّ لحاجته سبحانه إليه، وهو جواب بنفي الحاجة على أبلغ وجه فقد كان يكفي في الجواب إن الله غني الا أنه جيء بالجملة متضمنة للحصر للمبالغة وجيء بالحميد أيضا تأكيدا لما تفيده من نفي الحاجة بالإشارة إلى أنه تعالى منعم على من سواه سبحانه أو متصف بسائر صفات الكمال فتأمل جدا، وقال الطيبي: إن قوله تعالى: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تهاون بهم وإبداء أنه تعالى مستغن عنهم وعن حمدهم وعبادتهم ولذلك علل بقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ أي عن حمد الحامدين الْحَمِيدُ أي المستحق للحمد وإن لم يحمدوه عزّ وجلّ. وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ أي لو ثبت كون ما في الأرض من شجرة أقلاما- فإن- وما بعدها فاعل ثبت مقدر بقرينة كون أَنَّ دالة على الثبوت والتحقق وإلى هذا ذهب المبرد، وقال سيبويه: إن ذلك مبتدأ مستغن عن الخبر لذكر المسند والمسند إليه بعده، وقيل: مبتدأ خبره، مقدر قبله، وقال ابن عصفور: بعده وما فِي الْأَرْضِ اسم أن ومِنْ شَجَرَةٍ بيان- لما- أو للضمير العائد إليها في الظرف فهو في موضع الحال منها أو منه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 95 أي ولو ثبت أن الذي استقر في الأرض كائنا من شجرة، وأَقْلامٌ خبر أن قال أبو حيان: وفيه دليل دعوى الزمخشري وبعض العجم ممن ينصر قوله: إن خبر أن الجائية بعد- لو- لا يكون اسما جامدا ولا اسما مشتقا بل يجب أن يكون فعلا وهو باطل ولسان العرب طافح بخلافه، قال الشاعر: ولو أنها عصفورة لحسبتها ... مسومة تدعو عبيدا وأزنما وقال آخر: ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر ... تنبو الحوادث عنه وهو ملموم إلى غير ذلك، وتعقب بأن اشتراط كون خبرها فعلا إنما هو إذا كان مشتقا فلا يرد أَقْلامٌ هنا ولا ما ذكر في البيتين، وأما قوله تعالى: لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ [الأحزاب: 20] فلو فيه للتمني والكلام في خبر أن الواقعة بعد لو الشرطية. والمراد بشجرة كل شجرة والنكرة قد تعم في الإثبات إذا اقتضى المقام ذلك كما في قوله تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ [التكوير: 14] وقول ابن عباس رضي الله عنهما لبعض أهل الشام وقد سأله عن المحرم إذا قتل جرادة أيتصدق بتمرة فدية لها؟ تمرة خير من جرادة على ما اختاره جمع ولا نسلم المنافاة بين هذا العموم وهذه التاء فكأنه قيل: ولو أن كل شجرة في الأرض أقلام إلخ، وكون كل شجرة أقلاما باعتبار الأجزاء أو الأغصان فيؤول المعنى إلى لو أن أجزاء أو أغصان كل شجرة في الأرض أقلاما إلخ، ويحسن إرادة العموم في نحو ما نحن فيه كون الكلام الذي وقعت فيه النكرة شرطا بلو وللشرط مطلقا قرب ما من النفي فما ظنك به إذا كان شرطا بها وإن كانت هنا ليست بمعناها المشهور من انتفاء الجواب لانتفاء الشرط أو العكس بل هي دالة على ثبوت الجواب أو حرف شرط في المستقبل على ما فصل في المغني، واختيار شَجَرَةٍ على أشجار أو شجر لأن الكلام عليه أبعد عن اعتبار التوزيع بأن تكون كل شجرة من الأشجار أو الشجر قلما المخل بمقتضى المقام من المبالغة بكثرة كلماته تعالى شأنه. وفي البحر أن هذا مما وقع فيه المفرد موقع الجمع والنكرة موقع المعرفة، ونظيره ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ [البقرة: 106] ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ [فاطر: 2] وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ [النحل: 49] وقول العرب: هذا أول فارس وهذا أفضل عالم يراد من الآيات ومن الرحمات ومن الدواب وأول الفرسان وأفضل العلماء ذكر المفرد النكرة وأريد به معنى الجمع المعرف باللام وهو مهيع في كلام العرب معروف وكذلك يقدر هنا من الشجرات أو من الأشجار اهـ فلا تغفل. وقال الزمخشري: إنه قال سبحانه شَجَرَةٍ على التوحيد دون اسم الجنس الذي هو شجر لأنه أريد تفصيل الشجر شجرة شجرة حتى لا يبقى من جنس الشجر ولا واحدة إلا وقد بريت أقلاما وتعقب بأن إفادة المفرد التفصيل بدون تكرار غير معهود والمعهود إفادته ذلك بالتكرير نحو جاؤوني رجلا رجلا فتأمل، واختيار جمع القلة في أَقْلامٌ مع أن الأنسب للمقام جمع الكثرة لأنه لم يعهد للقلم جمع سواه وقلام غير متداول فلا يحسن استعماله وَالْبَحْرُ أي المحيط فأل للعهد لأنه المتبادر ولأنه الفرد للكامل إذ قد يطلق على شعبه وعلى الأنهار العظام كدجلة والفرات، وجوز إرادة الجنس ولعل الأول أبلغ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد نفاده وقيل من ورائه سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مفروضة كل منها مثله في السعة والإحاطة وكثرة الماء، والمراد بالسبعة الكثرة بحيث تشمل المائة والألف مثلا لا خصوص العدد المعروف كما في قوله عليه الصلاة والسلام: «المؤمن يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء» واختيرت لها لأنها عدد تام كما عرفت عند الكلام في قوله تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ وكثير من المعدودات التي لها شأن كالسماوات والكواكب السيارة والأقاليم الحقيقية وأيام الأسبوع إلى غير ذلك منحصر في سبع فلعل في ذكرها هنا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 96 دون سبعين المتجوز به عن الكثرة أيضا رمزا إلى شأن كون تلك الأبحر عظيمة ذات شأن ولما لم تكن موضوعة في الأصل لذلك بل للعدد المعروف القليل جاء تمييزها أبحر بلفظ القلة دون بحور وإن كان لا يراد به إلا الكثرة ليناسب بين اللفظين فكما تجوز في السبعة واستعملت للتكثير تجوز في أبحر واستعمل فيه أيضا، وكان الظاهر بعد جعل ما في الأرض من شجر أقلاما أن يقال: والبحر مداد لكن جيء بما في النظم الجليل لأن يمده يغني عن ذكر المداد لأنه من قولك: مد الدواة وأمدها أي جعلها ذات مداد وزاد في مدادها ففيه دلالة على المداد مع ما يزيد في المبالغة وهو تصوير الامداد المستمر حالا بعد حال كما تؤذن به صيغة المضارع فأفاد النظم الجليل جعل البحر المحيط بمنزلة الدواة وجعل أبحر سبعة مثله مملوءة مدادا فهي تصب فيه مدادها أبدا صبا لا ينقطع، ورفع الْبَحْرُ على ما استظهره أبو حيان فيه على الابتداء وجملة يمده خبره والواو للحال والجملة حال من الموصول أو الضمير الذي في صلته أي لو ثبت كون ما في الأرض من شجرة أقلاما في حال كون البحر ممدودا بسبعة أبحر، ولا يضر خلو الجملة عن ضمير ذي الحال فإن الواو يحصل بها من الربط ما لا يتقاعد عن الضمير لدلالتها على المقارنة، وأشار الزمخشري إلى أن هذه الجملة وما أشبهها كقوله: وقد اغتدي والطير في وكناتها ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل وجئت والجيش مصطف من الأحوال التي حكمها حكم الظروف لأنها في معناها إذ معنى جئت والجيش مصطف مثلا ومعنى جئت وقت اصطفاف الجيش واحد وحيث إن الظرف يربطه بما قبله تعلقه به وإن لم يكن فيه ضمير وهو إذا وقع حالا استقر فيه الضمير فما يشبهه كأنه فيه ضمير مستقر، ولا يرد عليه اعتراض أبي حيان بأن الظرف إذا وقع حالا ففي العامل فيه الضمير ينتقل إلى الظرف، والجملة الاسمية إذا كانت حالا بالواو فليس فيها ضمير منتقل فكيف يقال انها في حكم الظرف. نعم الحق أن الربط بالواو كاف عن الضمير ولا يحتاج معه إلى تكلف هذه المئونة، وجوز أن تكون الجملة حالا من الأرض والعامل فيه معنى الاستقرار والرابط ما سمعت أو أل التي في الْبَحْرُ بناء على رأي الكوفيين من جواز كون أل عوضا عن الضمير كما في قوله تعالى جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ [ص: 50] أي ولو ثبت كون الذي استقر في الأرض من شجرة أقلاما حال كون بحرها ممدودا بسبعة أبحر قال في الكشف: ولا بد أن يجعل مِنْ شَجَرَةٍ بيانا للضمير العائد إلى ما لئلا يلزم الفضل بين أجزاء الصلة بالأجنبي. والْبَحْرُ على تقدير جعل آل فيه عوضا عن المضاف إليه العائد إلى الأرض يحتمل أن يراد به المعهود وأن يراد به غيره، وقال الطيبي: إن البحر على ذلك يعم جميع الأبحر لقرينة الإضافة ويفيد أن السبعة خارجة عن بحر الأرض وعلى ما سواه يحتمل الحصة المعهودة المعلومة عند المخاطب. ورد بأنه لا فرق بينهما بل كون بحرها للعهد أظهر لأن العهد أصل الإضافة ولا ينافيه كون الأرض شاملة لجميع الأقطار لأن المعهود البحر المحيط وهو محيط بها كلها، وجوز الزمخشري كون رفعه بالعطف على محل أن ومعمولها، وجملة يَمُدُّهُ حال على تقدير لو ثبت كون ما في الأرض من شجرة أقلاما وثبت أقلاما وثبت البحر ممدودا بسبعة أبحر، وتعقب بأن الدال على الفعل المحذوف هو أن وخبره على ما قرر في بابه فإذن لا يمكن إفضاء إلى المعطوف دون ملاحظة دال وفي هذا العطف إخراج عن الملاحظة، وأجيب بأنه يحتمل في التابع ما لا يحتمل في المتبوع، ثم لا يخفى أن العطف على هذا من عطف المفرد لا المفرد على الجملة كما قيل إذ الظاهر أن المعطوف عليه إنما هو المصدر الواقع فاعلا لثبت وهو مفرد لا جملة، وجوز أن يكون العطف على ذلك بناء على رأي من يجعله مبتدأ، وتعقب بأنه يلزم أن يلي لو الاسم الصريح الواقع مبتدأ إذ يصير الجزء: 11 ¦ الصفحة: 97 التقدير ولو البحر على ما قال أبو حيان لا يجوز إلّا في ضرورة شعر نحو قوله: لو بغير الماء حلقي شرق ... كنت كالغصان بالماء اعتصاري (1) وأجيب بأنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع كما في نحو رب رجل وأخيه يقولان ذلك، وقال بعضهم: إنه يلزم على العطف السابق أن يلي لو الاسم الصريح وهو أيضا مخصوص بالضرورة وأجاب بما أجيب وفيه عندي تأمل، وجوز كون الرفع على الابتداء وجملة يَمُدُّهُ خبر المبتدأ والواو واو المعية وجملة المبتدأ وخبره في موضع المفعول معه بناء على أنه يكون جملة كما نقل عن ابن هشام ولا يخفى بعده، وجوز كون الواو على ذلك للاستئناف وهو استئناف بياني كأنه؟ قيل: ما المداد حينئذ فقيل: والبحر إلخ، وتعقب بأن اقتران الجواب بالواو وإن كانت استئنافية غير معهود، وما قيل إنه يقترن بها إذا كان جوابا للسؤال على وجه المناقشة لا للاستعلام مما لا يعتمد عليه، ومن هنا قيل: الظاهر على إرادة الاستئناف أن يكون نحويا، وجوز في هذا التركيب غير ما ذكر من أوجه الإعراب أيضا. وقرأ البصريان «والبحر» بالنصب على أنه معطوف على اسم أن ويَمُدُّهُ خبر له أي ولو أن البحر ممدود بسبعة أبحر. قال ابن الحاجب في أماليه: ولا يستقيم أن يكون يَمُدُّهُ حالا لأنه يؤدي أيضا إلى تقييد المبتدأ الجامد بالحال ولا يجوز لأنها بيان الفاعل أو المفعول والمبتدأ ليس كذلك ويؤدي إلى كون المبتدأ لا خبر له ولا يستقيم أن يكون أَقْلامٌ خبرا له لأنه خبر الأول اهـ، ولم يذكر احتمال تقدير الخبر لظهور أنه خلاف الظاهر. وجوز أن يكون منصوبا على شريطة التفسير عطفا على الفعل المحذوف أعني ثبت ودخول لو على المضارع جائزة، وجملة يَمُدُّهُ إلخ حينئذ لا محل لها من الإعراب. وقرأ عبد الله «وبحر» بالتنكير والرفع وخرج ذلك ابن جني على أنه مبتدأ وخبره محذوف أي هناك بحر يمده إلخ، والواو واو الحال لا محالة، ولا يجوز أن يعطف على أَقْلامٌ لأن البحر وما فيه ليس من حديث الشجر والأقلام وإنما هو من حديث المداد. وفي البحر أن الواو على هذه القراءة للحال أو للعطف على ما تقدم، وإذا كانت للحال كان الْبَحْرُ مبتدأ وسوغ الابتداء به مع كونه نكرة تقدم تلك الواو فقد عد من مسوغات ابتداء بالنكرة كما في قوله: سرينا ونجم قد أضاء فمذ بدا ... محياك أخفى ضوءه كل شارق اهـ ولا يخفى أنه إذا عطف على فاعل ثبت فجملة يَمُدُّهُ في موضع الصفة له لا حال منه وجوز ذلك من جوز مجيء الحال من النكرة، والظاهر على تقدير كونه مبتدأ جعل الجملة خبره ولا حاجة إلى جعل خبره محذوفا كما فعل ابن جني. وقرأ ابن مسعود، وأبي «تمده» بتاء التأنيث من مد كالذي في قراءة الجمهور، وقرأ ابن مسعود أيضا، والحسن، وابن مصرف، وابن هرمز «يمده» بضم الياء التحتية من الأمداد، وقال ابن الشيخ: يمد بفتح فضم ويمد بضم فكسر لغتان بمعنى، وقرأ جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما «والبحر مداده» أي ما يكتب به من الحبر، وقال ابن عطية: هو   (1) الاعتصار بالماء أن يشربه قليلا ليسيغ ما غص به من الطعام اهـ منه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 98 مصدر ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ جواب لَوْ وفي الكلام اختصار يسمى حذف إيجاز ويدل على المحذوف السياق والتقدير ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر ممدود بسبعة أبحر وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله تعالى ما نفدت لعدم تناهيها ونفد تلك الأقلام والمداد لتناهيها، ونظير ذلك في الاشتمال على إيجاز الحذف قوله تعالى: أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ [البقرة: 196] أي فحلق رأسه لدفع ما به من الأذى ففدية، والمراد بكلماته تعالى كلمات علمه سبحانه وحكمته جلّ شأنه وهو الذي يقتضيه سبب النزول على ما أخرج ابن جرير عن عكرمة قال: سأل أهل الكتاب رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم عن الروح فأنزل سبحانه وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 85] فقالوا: تزعم (1) أنا لم نؤت من العلم إلّا قليلا وقد أوتينا التوراة وهي الحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا فنزلت وَلَوْ أَنَ إلخ. وظاهر هذا أن اليهود قالوا ذلك له عليه الصلاة والسلام مشافهة وهو ظاهر في أن الآية مدنية، وقيل: إنهم أمروا وفد قريش أن يقولوا له صلّى الله تعالى عليه وسلم ذلك وهذا القائل يقول: إنها مكية، وحاصل الجواب أنه وإن كان ما أوتيتموه خيرا كثيرا لكونه حكمة إلّا أنه قليل بالنسبة إلى حكمته عزّ وجلّ. وفي رواية أنه أنزل بمكة قوله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ إلخ فلما هاجر عليه الصلاة والسلام أتاه أحبار اليهود فقالوا بلغنا أنك تقول: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا أفعنيتنا أم قومك فقال صلّى الله تعالى عليه وسلم: «كلا عنيت» فقالوا: ألست تتلو فيما جاءك إنا أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء فقال عليه الصلاة والتحية: «وهي في علم الله تعالى قليل وقد أتاكم ما إن علمتم به نجوتم» «قالوا: يا محمد كيف تزعم هذا وأنت تقول: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة: 269] فكيف يجتمع؟ فقال صلّى الله تعالى عليه وسلم: «هذا علم قليل وخير كثير» فأنزل الله تعالى هذه الآية . وهذا نص في أن الآية مدنية، وقيل: المراد بها مقدوراته جلّ وعلا وعجائبه عزّ وجلّ التي إذا أراد سبحانه شيئا منها قال تبارك وتعالى: كُنْ فَيَكُونُ [البقرة: 117 وغيرها] ومن ذلك قوله تعالى في عيسى: وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ [النساء: 171] وإطلاق الكلمات على ما ذكر من إطلاق السبب على المسبب، وعلى هذا وجه ربط الآية بما قبلها أظهر على ما قيل وهو أنه سبحانه لما قال: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وكان موهما لتناهي ملكه جلّ جلاله أردف سبحانه ذلك بما هو ظاهر بعدم التناهي وهذا ما اختاره الإمام المراد بكلماته تعالى إلّا أن في انطباقه على سبب النزول خفاء، وعن أبي مسلم المراد بها ما وعد سبحانه به أهل طاعته من الثواب وما أوعد جلّ شأنه به أهل معصيته من العقاب، وكأن الآية عليه بيان لأكثرية ما لم يظهر بعد من ملكه تعالى بعد بيان كثرة ما ظهر، وقيل: المراد بها ما هو المتبادر منها بناء على ما أخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وغيرهم عن قتادة قال: قال المشركون إنما هذا كلام يوشك أن ينفذ فنزلت وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ الآية، وفي وجه ربط الآية عليه بما قبلها وكذا بما بعدها خفاء جدا إلّا أنه لا يقتضي كونها مدنية، وإيثار الجمع المؤنث سالم بناء على أنه كجمع المذكر جمع قلة لأشعاره وإن اقترن بما قد يفيد معه الاستغراق والعموم من أل أو الإضافة نظرا لأصل وضعه وهو القلة بأن ذلك لا يفي بالقليل فكيف بالكثير. وقرأ الحسن «ما نفد» بغير تاء «كلام الله» بدل كلمات الله إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يعجزه جلّ شأنه شيء حَكِيمٌ لا يخرج عن علمه تعالى وحكمته سبحانه شيء، والجملة تعليل لعدم نفاد كلماته تبارك وتعالى. ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ أي إلّا كخلقها وبعثها في سهولة التأتي بالنسبة إليه عزّ وجلّ إذ لا   (1) قوله فقالوا تزعم عن ابن جريج أن القائل حيي بن أخطب اهـ منه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 99 يشغله تعالى شأن عن شأن لأن مناط وجود الكل تعلق إرادته تعالى الواجبة أو قوله جلّ وعلا: كن مع قدرته سبحانه الذاتية وإمكان المتعلق ولا توقف لذلك على آلة ومباشرة تقتضي التعاقب ليختلف عنده تعالى الواحد والكثير كما يختلف ذلك عند العباد إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ يسمع كل مسموع بَصِيرٌ يبصر كل مبصر في حالة واحدة لا يشغله إدراك بعضها عن إدراك بعض فكذا الخلق والبعث وحاصله كما أنه تعالى شأنه ببصر واحد يدرك سبحانه المبصرات وبسمع واحد يسمع جلّ وعلا المسموعات ولا يشغله بعض ذلك عن بعض كذلك فيما يرجع إلى القدرة والفعل فهو استشهاد بما سلموه فشبه المقدورات فيما يراد منها بالمدركات فيما يدرك منها كذا في الكشف. واستشكل كون ذلك مسلما بأنه قد كان بعضهم إذا طعنوا في الدين يقول: أسروا قولكم لئلا يسمع إله محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم فنزل وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [الملك: 13] . وأجيب بأنه لا اعتداد بمثله من الحماقة بعد ما رد عليهم ما زعموا وأعلموا بما أسروا، وقيل: إن الجملة تعليل لإثبات القدرة الكاملة بالعلم الواسع وأن شيئا من المقدورات لا يشغله سبحانه عن غيره لعلمه تعالى بتفاصيلها وجزئياتها فيتصرف فيها كما يشاء كما يقال: فلان يجيد عمل كذا لمعرفته بدقائقه ومتمماته، والمقصود من إيراد الوصفين إثبات الحشر والبشر لأنهما عمدتان فيه ألّا ترى كيف عقب ذلك بما يدل على عظيم القدرة وشمول العلم. وأيّا ما كان يندفع توهم أن المناسب لما قبل أن يقال: إن الله قوي قدير أو نحو ذلك دون ما ذكر لأن الخلق والبعث ليسا من المسموعات والمبصرات، وعن مقاتل أن كفار قريش قالوا: إن الله تعالى خلقنا أطوارا نطفة علقة مضغة لحما فكيف يبعثنا خلقا جديدا في ساعة واحدة فنزلت وذكر النقاش أنها نزلت في أبي بن خلف، وأبي الأسود، ونبيه، ومنبه ابني الحجاج، وذكر في سبب نزولها فيهم نحو ما ذكر، وعلى كون سبب النزول ذلك قيل: المعنى أنه تعالى سميع بقولهم ذلك بصير بما يضمرونه وهو كما ترى أَلَمْ تَرَ قيل: خطاب لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلم وقيل: عام لكل من يصلح للخطاب وهو الأوفق لما سبق وما لحق أي ألم تعلم. أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أي يدخل كل واحد منها في الآخر ويضيفه سبحانه إليه فيتفاوت بذلك حاله زيادة ونقصانا، وعدل عن يولج أحد الملوين في الآخر مع أنه أخصر للدلالة على استقلال كل منهما في الدلالة على كمال القدرة، وقدم الليل على النهار لمناسبته لعالم الإمكان المظلم من حيث إمكانه الذاتي، وفي بعض الآثار كان العالم في ظلمة فرش الله تعالى عليهم من نوره، وهذا الإيلاج إنما هو في هذا العالم ليس عند ربك صباح ولا مساء، وقدم الشمس على القمر في قوله تعالى: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ مع تقديم الليل الذي فيه سلطان القمر على النهار الذي فيه سلطان الشمس لأنها كالمبدأ للقمر ولأن تسخيرها لغاية عظمها أعظم من تسخير القمر وأيضا آثار ذلك التسخير أعظم من آثار تسخيره وقال الإمام في تعليل تقديم كل على ما قدم وعليه: لأن الأنفس تطلب سبب المقدم أكثر مما تطلب سبب المؤخر وبين ذلك بما بين، ولعل ما ذكرناه أولى لا سيما إذا صح أن نور القمر مستفاد من ضياء الشمس وعطف قوله سبحانه سَخَّرَ على قوله تعالى يُولِجُ والاختلاف بينهما صيغة لما أن إيلاج أحد الملوين في الآخر متجدد في كل حين وأما التسخير فأمر لا تعدد فيه ولا تجدد وإنما التعدد والتجدد في آثاره كما يشير ذلك إلى قوله تعالى: كُلٌّ أي كل واحد من الشمس والقمر يَجْرِي يسير سيرا سريعا مستمرا إِلى أَجَلٍ أي منتهى للجري مُسَمًّى سماه الله تعالى وقدره لذلك، وهو كما قال الحسن يوم القيامة فإنه لا ينقطع جرى النيرين وتبطل حركتهما إلّا في ذلك اليوم، والظاهر أن هذا الجري هو هذه الحركة التي يشاهدها كل ذي بصر من أهل المعمورة، وهي عند الفلاسفة بواسطة الفلك الأعظم فإن حركته كذلك وبها حركة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 100 سائر الأفلاك وما فيها من الكواكب ويسمى حركة الكل والحركة اليومية والحركة السريعة والحركة الأولى والحركة على خلاف التوالي والحركة الشرقية، وبعضهم يسميها الحركة الغربية، وقيل: ما يعم هذه الحركة وحركتهما الخاصة بهما وهي حركتهما بواسطة فلكيهما على التوالي من المغرب إلى المشرق وهي للقمر أسرع منها للشمس، وليس في العقل الصريح والنقل الصحيح ما يأبى إثبات هاتين الحركتين لكل من النيرين كما لا يخفى على المنصف العارف، ومنتهى هذا الجري العام لهاتين الحركتين يوم القيامة أيضا، والجملة على تقدير عموم الخطاب اعتراض بين المعطوفين لبيان الواقع بطريق الاستطراد، وعلى تقدير اختصاصه به صلّى الله تعالى عليه وسلم يجوز أن تكون حالا من الشمس والقمر فإن جريهما إلى يوم القيامة من جملة ما في حيز رؤيته عليه الصلاة والسلام، وقيل جريهما عبارة عن حركتهما الخاصة بهما والأجل المسمى لجري الشمس آخر السنة المسماة بالسنة الشمسية الحقيقية وهي زمان مفارقة الشمس أية نقطة تفرض من فلك البروج إلى عودها إليها بحركتها الخاصة، وجعلوا ابتداءها من حين حلول الشمس رأس الحمل ومدتها عند بعض ثلاثمائة وخمسة وستون يوما بليلته وربع يوم كذلك وعند بطليموس ثلاثمائة وخمسة وستون يوما بليلته وخمس ساعات وخمسة وخمسون دقيقة واثنتا عشر ثانية، وعند بعض المتأخرين ثلاثمائة وخمسة وستون يوما وخمس ساعات وست وأربعون دقيقة وأربع وعشرون ثانية، وعند الحكيم محيي الدين الكسر الزائد خمس ساعات ودقيقة، وبالرصد الجديد الذي تولاه الطوسي بمراغة خمس ساعات وتسع وأربعون دقيقة، ووجد برصد سمرقند أزيد من هذا بربع دقيقة، وأما الاصطلاحية فاعتبرها بعض كالروم والأقدمين من الفرس ثلاثمائة وخمسة وستون يوما بليلته وربع يوم كذلك وأخذ الكسر ربعا تاما إلّا أن الروم يجعلون ثلاث سنين ثلاثمائة وخمسة وستين ويكبسون في الرابعة بيوم والفرس كانوا يكسبون في مائة وعشرين سنة بشهر، واعتبرها بعض آخر كالقبط والمستعملين لتاريخ الفرس من المحدثين ثلاثمائة وستين يوما بليلته وأسقط الكسر رأسا ولجري القمر آخر الشهر القمري الحقيقي وهو زمان مفارقة القمر أي وضع يعرض له من الشمس إلى عوده إليه، وجعلوا ابتداءه من اجتماع الشمس والقمر وزمان ما بين الاجتماعين المتتالين كط لان من الأيام ودقائقها وثوانيها تقريبا وأما الشهر الغير الحقيقي فالمعتبر فيه الهلال ويختلف زمان ما بين الهلالين كما هو معروف. قيل: وعلى هذا فالجملة بيان لحكم تسخيرهما أو تنبيه على كيفية إيلاج أحد الملوين في الآخر، وكون ذلك بحسب اختلاف جريان الشمس على مداراتها اليومية فكلما كان جريانها متوجها إلى سمت الرأس تزداد القوس التي فوق الأرض كبرا فيزداد النهار طولا بانضمام بعض أجزاء الليل إليه إلى أن يبلغ المدار الذي هو أقرب المدارات إلى سمت الرأس وذلك عند بلوغها إلى رأس السرطان ثم ترجع متوجهة إلى التباعد عن سمت الرأس فلا تزال القسي التي فوق الأرض تزداد صغرا فيزداد النهار قصرا بانضمام بعض أجزائه إلى الليل إلى أن يبلغ المدار الذي هو أبعد المدارات اليومية عن سمت الرأس وذلك عند بلوغها رأس الجدي. وأنت تعلم أنه لا مدخل لجريان القمر في الإيلاج فالتعرض له في الآية الكريمة يبعد هذا الوجه، ولعل الأظهر على تقدير جعل جريهما عبارة عن حركتهما الخاصة بهما أن يجعل الأجل المسمى عبارة عن يوم القيامة أو يجعل عبارة عن آخر السنة والشهر المعروفين عند العرب فتأمل، وجرى يتعدى بإلى تارة وباللام أخرى وتعديته بالأول باعتبار كون المجرور غاية وبالثاني باعتبار كونه غرضا فتكون اللام لام تعليل أو عاقبة وجعلها الزمخشري للاختصاص ولكل وجه، ولم يظهر لي وجه اختصاص هذا المقام بإلى وغيره باللام. وقال النيسابوري: وجه ذلك أن هذه الآية صدرت بالتعجيب فناسب التطويل وهو كما ترى فتدبر، وقوله تعالى: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 101 وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ عطف على قوله: أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ إلخ داخل معه في حيز الرؤية على تقديري خصوص الخطاب وعمومه فإن من شاهد مثل ذلك الصنع الرائق والتدبير اللائق لا يكاد يغفل عن كون صانعه عزّ وجلّ محيطا بحلائل أعماله ودقائقها وقرأ عياش عن أبي عمرو «بما يعملون» بياء الغيبة ذلِكَ إشارة إلى ما تضمنته الآيات وأشارت إليه من سعة العلم وكمال القدرة واختصاص الباري تعالى شأنه بها بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ أي بسبب أنه سبحانه وحده الثابت المتحقق في ذاته أي الواجب الوجود. وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلها الْباطِلُ المعدوم في حد ذاته وهو الممكن الذي لا يوجد إلّا بغيره وهو الواجب تعالى شأنه وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ على الأشياء الْكَبِيرُ عن أن يكون له سبحانه شريك أو يتصف جلّ وعلا بنقص لا بشيء أعلى منه تعالى شأنه شأنا وأكبر سلطانا، ووجه سببية الأول لما ذكر أن كونه تعالى وحده واجب الوجود في ذاته يستلزم أن يكون هو سبحانه وحده الموجد لسائر المصنوعات البديعة الشأن فيدل على كمال قدرته عزّ وجلّ وحده والإيجاب قد أبطل في الأصول ومن صدرت عنه جميع هاتيك المصنوعات لا بد من أن يكون كامل العلم على ما بين في الكلام، ووجه سببية الثالث لذلك أن كونه تعالى وحده عليا على جميع الأشياء متسلطا عليها متنزها عن أن يكون له سبحانه شريك أو يتصف بنقص عزّ وجلّ يستلزم كونه تعالى وحده واجب الوجود في ذاته وقد سمعت الكلام فيه، وأما وجه سببية كون ما يدعونه من دونه إلها باطلا ممكنا في ذاته لذلك فهو أن إمكانه على علو شأنه عندهم على ما عداه مما لم يعتقدوا إلهيته يستلزم إمكان غيره مما سوى الله عزّ وجلّ لأن ما فيه مما يدل على إمكانه موجود في ذلك حذو القذة بالقذة ومتى كان ما يدعونه إلها من دونه تعالى وغيره مما سوى الله سبحانه وتعالى ممكنا انحصر وجوب الوجود في الله تعالى فيكون جلّ وعلا وحده واجب الوجود في ذاته وقد علمت إفادته للمطلوب وكأنه إنما قيل إن ما يدعون من دونه الباطل دون أن ما سواه الباطل مثلا نظير قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل تنصيصا على فظاعة ما هم عليه واستلزم ذلك إمكان ما سوى الله تعالى من الموجودات من باب أولى بناء على ما يزعم المشركون في آلهتهم من علو الشأن ولم يكتف في بيان السبب بقوله سبحانه: بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ بل عطف عليه ما عطف مع أنه مما يعود إليه وتشعر تلك الجملة به إظهارا لكمال العناية بالمطلوب وبما يفيده منطوق المعطوف من بطلان الشريك وكونه تعالى هو العلي الكبير. وقيل: أي ذلك الاتصاف بما تضمنته الآيات من عجائب القدرة والحكمة بسبب أن الله تعالى هو الإله الثابت إلهيته وأن من دونه سبحانه باطل الإلهية وإن الله تعالى هو العلي الشأن الكبير السلطان ومدار أمر السببية على كونه سبحانه هو الثابت الإلهية وبين ذلك الطيبي بأنه قد تقرر أن من كان إلها كان قادرا خالقا عالما إلى غير ذلك من صفات الكمال ثم قال إن قوله تعالى بأن الله هو الحق كالفذلكة لما تقدم من قوله تعالى: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ الى هذا المقام وقوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ كالفذلكة لتلك الفواصل المذكورة هنالك كلها. ولعل ما قدمنا أولى بالاعتبار، وقال العلامة أبو السعود في الاعتراض على ذلك: أنت خبير بأن حقيته تعالى وعلوه وكبرياءه وإن كانت صالحة لمناطية ما ذكر من الصفات لكن بطلان إلهية الأصنام لا دخل له في المناطية قطعا فلا مساغ لنظمه في سلك الأسباب بل هو تعكيس للأمر ضرورة أن الصفات المذكورة هي المقتضية لبطلانها لا أن بطلانها يقتضيها انتهى، وفيه تأمل والعجب منه أنه ذكر مثل ما اعترض عليه في نظير هذه الآية في سورة الحج ولم يتعقبه بشيء. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 102 وجوز أن يكون المعنى ذلك أي ما تلي من الآيات الكريمة بسب بيان أن الله هو الحق إلهيته فقط ولأجله لكونها ناطقة بحقية التوحيد ولأجل بيان بطلان إلهية ما يدعون من دونه لكونها شاهدة شهادة بينة لا ريب فيها ولأجل بيان أنه تعالى هو المرتفع على كل شيء المتسلط عليه فإن ما في تضاعيف تلك الآيات الكريمة مبين لاختصاص العلو والكبرياء به أي بيان وهو وجه لا تكلف فيه سوى اعتبار حذف مضاف كما لا يخفى وكأنه إنما قيل هنا: وأن ما يدعون من دونه الباطل بدون ضمير الفصل، وفي سورة الحج وأن ما يدعون من دونه هو الباطل بتوسيط ضمير الفصل لما أن الحط على المشركين وآلهتهم في هذه السورة دون الحط عليهم في تلك السورة. وقال النيسابوري في ذلك إن آية الحج وقعت بين عشر آيات كل آية مؤكدة مرة أو مرتين فناسب ذلك توسيط الضمير بخلاف ما هنا ويمكن أن يقال تقدم في تلك السورة ذكر الشيطان مرات فلهذا ذكرت تلك المؤكدات بخلاف هذه السورة فإنه لم يتقدم ذكر الشيطان فيها نحو ذكره هناك، وقرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر، وأبو بكر «تدعون» بتاء الخطاب أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ استشهاد آخر على باهر قدرته جلّ وعلا وغاية حكمته عزّ وجلّ وشمول إنعامه تبارك وتعالى، والمراد بنعمة الله تعالى إحسانه سبحانه في تهيئة أسباب الجري من الريح وتسخيرها فالباء للتعدية كما في مررت بزيد أو سببية متعلقة بتجري. وجوز أن يراد بنعمته تعالى ما أنعم جلّ شأنه به بما تحمله الفلك من الطعام والمتاع ونحوه فالباء للملابسة والمصاحبة متعلقة بمحذوف وقع حالا من ضمير الفلك أي تجري مصحوبة بنعمته تعالى وقرأ موسى بن الزبير «الفلك» بضم اللام ومثله معروف في فعل مضموم الفاء. حكي عن عيسى بن عمر أنه قال: ما سمع فعل بضم الفاء وسكون العين إلّا وقد سمع فيه فعل بضم العين. وفي الكشاف كل فعل يجوز فيه فعل كما يجوز في كل فعل فعل، وجعل ضم العين للإتباع وإسكانها للتخفيف. وقرأ الأعرج، والأعمش، وابن يعمر «بنعمات الله» بكسر النون وسكون العين جمعا بالألف والتاء وهو جمع نعمة بكسر فسكون، ويجوز كما قال غير واحد في كل جمع مثله تسكين العين على الأصل وكسرها اتباعا للفاء وفتحها تخفيفا. فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ سالك القصد أي الطريق المستقيم لا يعدل عنه لغيره، وأصله استقامة الطريق ثم أطلق عليه مبالغة، والمراد بالطريق المستقيم التوحيد مجازا فكأنه قيل: فمنهم مقيم على التوحيد، وقول الحسن: أي مؤمن يعرف حق الله تعالى في هذه النعمة يرجع إلى هذا، وقيل: مقتصد من الاقتصاد بمعنى اتوسط والاعتدال. والمراد حينئذ على ما قيل متوسط في أقواله وأفعاله بين الخوف والرجاء موف بما عاهد عليه الله تعالى في البحر، وتفسيره بموف بعهده مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ويدخل في هذا البعض على هذا المعنى عكرمة بن أبي جهل فقد روى السدي عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: لما كان فتح مكة أمر رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم الناس أن يكفوا عن قتل أهلها إلّا أربعة نفر منهم قال: اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة عكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن خطل، وقيس بن ضبابة، وعبد الله بن أبي سرح . فأما عكرمة فركب البحر فأصابتهم ريح عاصفة فقال أهل السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا هاهنا فقال عكرمة: لئن لم ينجني في البحر إلّا الإخلاص ما ينجني في البر غيره. اللهم إن لك عليّ عهدا إن أنت عافيتي مما أنا فيه أن آتي محمّدا صلّى الله تعالى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 103 عليه وسلم حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفوا كريما فجاء وأسلم، وقيل: متوسط في الكفر لانزجاره بما شاهده بعض الانزجار. وقيل: متوسط في الإخلاص الذي كان عليه في البحر فإن الإخلاص الحادث عند الخوف قلما يبقى لأحد عند زوال الخوف. وأيا ما كان فالظاهر أن المقابل لقسم المقتصد محذوف دل عليه قوله تعالى: وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ والآية دليل ابن مالك ومن وافقه على جواز دخول الفاء في جواب لما ومن لم يجوز قال: الجواب محذوف أي فلما نجاهم إلى البر انقسموا قسمين فمنهم مقتصد ومنهم جاهد، والختار من الختر وهو أشد الغدر ومنه قولهم: إنك لا تمد لنا شبرا من غدر إلّا مددنا لك باعا من غدر، وبنحو ذلك فسره ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لابن الأزرق وأنشد قول الشاعر: لقد علمت واستيقنت ذات نفسها ... بأن لا تخاف الدهر صرمي ولا ختري ونحوه قول عمرو بن معد يكرب: وإنك لو رأيت أبا عمير ... ملأت يديك من غدر وختر وفي مفردات الراغب الختر غدر يختر فيه الإنسان أي يضعف ويكسر لاجتهاده فيه أي وما يجحد بآياتنا ويكفر بها إلّا كل غدار أشد الغدر لأن كفره نقض للعهد الفطري، وقيل: لأنه نقض لما عاهد الله تعالى عليه في البحر من الإخلاص له عزّ وجلّ كَفُورٍ مبالغ في كفران نعم الله تعالى، وخَتَّارٍ مقابل لصبار لأن من غدر لم يصبر على العهد وكفور مقابل لشكور يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ أمر بالتقوى على سبيل الموعظة والتذكير بيوم عظيم بعد ذكر دلائل الوحدانية، ويجزى من جزى بمعنى قضى ومنه قيل للمتقاضي المتجازي أن لا يقضي والد عن ولده شيئا. وقرأ أبو السمال، وعامر بن عبد الله، وأبو السوار «لا يجزىء» بضم الياء وكسر الزاي مهموزا ومعناه لا يغني والد عن ولده ولا يفيده شيئا من أجزأت عنك مجزأ فلان أي أغنيت. وقرأ عكرمة «يجزي» بضم الياء وفتح الزاي مبنيا للمفعول والجملة على القراءات صفة يوما والراجع إلى الموصوف محذوف أي فيه فأما أن يحذف برمته وأما على التدريج بأن يحذف حرف الجر فيعدى الفعل إلى الضمير ثم يحذف منصوبا، وقوله تعالى: وَلا مَوْلُودٌ أما عطف على والِدٌ فهو فاعل يَجْزِي وقوله تعالى: هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً في موضع الصفة له والمنفي عنه هو الجزاء في الآخرة والمثبت له الجزاء في الدنيا أو معنى هو جاز أي من شأنه الجزاء لعظيم حق الوالد أو المراد بلا يجزي لا يقبل ما هو جاز به، وأما مبتدأ والمسوغ للابتداء به مع أنه نكرة تقدم النفي، وذهل المهدوي عن ذلك فمنع صحة كونه مبتدأ وجملة هُوَ جازٍ خبره وشَيْئاً مفعول به أو منصوب على المصدرية لأنه صفة مصدر محذوف وعلى الوجهين قيل تنازعه يَجْزِي وجازٍ واختيار ما لا يفيد التأكيد في الجملة الأولى وما يفيده في الجملة الثانية لأن أكثر المسلمين وأجلتهم حين الخطاب كان آباؤهم قد ماتوا على الكفر وعلى الدين الجاهلي فلما كان غناء الكافر عن المسلم بعيدا لم يحتج نفيه إلى التأكيد، ولما كان غناء المسلم عن الكافر مما يقع في الأوهام أكد نفيه قاله الزمخشري. وتعقبه ابن المنير بأنه يتوقف صحته على أن هذا الخطاب كان خاصا بالموجودين حينئذ والصحيح أنه عام لهم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 104 ولكل من ينطلق عليه اسم الناس، ورده في الكشف بأن المتقدمتين فاسدتان، أما الثانية فلما تقرّر في أصول الفقه أن يا أَيُّهَا النَّاسُ يتناول الموجودين، وأما لغيرهم فبالإعلام أو بطريقه والمالكية موافقة، وأما الأولى فعلى تقدير التسليم لا شك أن أجلة المؤمنين وأكابرهم إلى انقراض الدنيا هم النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم ومعلوم أن أكثرهم قبض آباؤهم على الكفر فمن أين التوقيف اهـ. واختار ابن المنير في وجه ذلك أن الله تعالى لما أكد الوصية بالآباء وقرن وجوب شكرهم بوجوب شكره عزّ وجلّ وأوجب على الولد أن يكفي والده ما يسوء بحسب نهاية إمكانه قطع سبحانه هاهنا وهم الوالد في أن يكون الولد في القيامة يجزيه حقه عليه ويكفيه ما يلقاه من أهوال يوم القيامة كما أوجب الله تعالى عليه في الدنيا ذلك في حقه فلما كان جزاء الولد عن الوالد مظنة الوقوع لأنه سبحانه حض عليه في الدنيا كان جديرا بتأكيد النفي لإزالة هذا الوهم ولا كذلك العكس وقريب منه ما قاله الإمام: إن الولد من شأنه أن يكون جازيا عن والده لما عليه من الحقوق والولد يجزي لما فيه من النفقة وليس ذلك بواجب عليه فلذا قال سبحانه في الولد: لا يَجْزِي وفي الولد وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ ألا ترى أنه يقال لمن يحيك وليست الحياكة صنعته هو يحيك ولمن يحيك وهي صنعته هو حائك، وقيل: إن التأكيد في الجملة الثانية الدلالة على أن المولود أولى بأن لا يجزي لأنه دون الوالد في الحنو والشفقة فلما كان أولى بهذا الحكم استحق التأكيد وفي القلب منه شيء، وقد يقال: إن العرب كانوا يدخرون الأولاد لنفعهم ودفع الأذى عنهم وكفاية ما يهمهم ولعل أكثر الناس كذلك فأريد حسم توهم نفعهم ودفعهم الأذى، وكفاية المهم في حق آبائهم يوم القيامة فأكدت الجملة المفيدة لنفي ذلك عنهم وعد من جملة المؤكدات التعبير بالمولود لأنه من ولد بغير واسطة بخلاف الولد فإنه عام يشمل ولد الولد فإذا أفادت الجملة أن الولد الأدنى لا يجزي عن والده علم أن من عداه من ولد لا يجزي عن جده من باب أولى. واعترض بأن هذه التفرقة بين الولد والمولود لم يثبتها أهل اللغة، ورد بأن الزمخشري، والمطرزي ذكرا ذلك وكفى بهما حجة، ثم إن في عموم الولد لولد الولد أيضا مقالا فقد ذهب جمع أنه خاص بالولد الصلبي حقيقة. وقال صاحب المغرب يقال للصغير مولود وإن كان الكبير مولودا أيضا لقرب عهده من الولادة كما يقال لبن حليب ورطب جني للطري منهما، ووجه أمر التأكيد عليه بأنه إذا كان الصغير لا يجزي حينئذ مع عدم اشتغاله بنفسه لعدم تكليفه في الدنيا فالكبير المشغول بنفسه من باب أولى وهو كما ترى، وخصص بعضهم العموم بغير صبيان المسلمين لثبوت الأحاديث بشفاعتهم لوالديهم. وتعقب بأن الشفاعة ليست بقضاء ولو سلم فلتوقفها على القبول يكون القضاء منه عزّ وجلّ حقيقة فتدبر. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ قيل بالثواب والعقاب على تغليب الوعد على الوعيد أو هو بمعناه اللغوي حَقٌّ ثابت متحقق لا يخلف وعدم إخلاف الوعد بالثواب مما لا كلام فيه وأما عدم إخلاف الوعد بالعقاب ففيه كلام والحق أنه لا يخلف أيضا، وعدم تعذيب من يغفر له من العصاة المتوعدين فليس من إخلاف الوعيد في شيء لما أن الوعيد في حقهم كان معلقا بشرط لم يذكر ترهيبا وتخويفا، والجملة على هذا تعليل لنفي الجزاء، وقيل: المراد أن وعد الله بذلك اليوم حق، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه لما قيل: يا أيها الناس اتقوا يوما (1) إلخ سأل سائل أن يكون ذلك اليوم؟ فقيل: إن وعد الله حق أي نعم يكون لا محالة لمكان الوعد به فهو جواب على أبلغ وجه، وإليه يشير كلام   (1) قوله «اتقوا يوما» إلخ هكذا بخطه والتلاوة تقدمت اتقوا ربكم واخشوا يوما. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 105 الإمام فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا بأن تلهيكم بلذاتها عن الطاعات وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ أي الشيطان كما روي عن ابن عباس، وعكرمة، وقتادة، ومجاهد والضحاك بأن يحملكم على المعاصي بتزيينها لكم ويرجيكم التوبة والمغفرة منه تعالى أو يذكر لكم أنها لا تضر من سبق في علم الله تعالى موته على الإيمان وأن تركها لا ينفع من سبق في العلم موته على الكفر، وعن أبي عبيدة كل شيء غرك حتى تعصي الله تعالى وتترك ما أمرك سبحانه به فهو غرور شيطانا أو غيره، وإلى ذلك ذهب الراغب قال: الغرور كل ما يغر الإنسان من مال وجاه وشهوة وشيطان. وقد فسر بالشيطان إذ هو أخبث الغارين وبالدنيا لما قيل: الدنيا تغر وتضر وتمر، وأصل الغرور من غر فلانا إذا أصاب غرته أي غفلته ونال منه ما يريد والمراد به الخداع، والظاهر أن بِاللَّهِ صلة يَغُرَّنَّكُمْ أي لا يخدعنكم بذكر شيء من شؤونه تعالى يجسركم على معاصيه سبحانه. وجوز أن يكون قسما وفيه بعد، وقرأ ابن أبي إسحاق، وابن أبي عبلة، ويعقوب، «تغرنكم» بالنون الخفيفة، وقرأ سمال بن حرب، وأبو حيوة «الغرور» بضم الغين وهو مصدر والكلام من باب جد جده، ويمكن تفسيره بالشيطان يجعله نفس الغرور مبالغة إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ إلخ، أخرج ابن المنذر عن عكرمة أن رجلا يقال له الوارث بن عمرو جاء إلى النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فقال: يا محمد متى قيام الساعة؟ وقد أجدبت بلادنا فمتى تخصب؟ وقد تركت امرأتي حبلى فما تلد؟ وقد علمت ما كسبت اليوم فماذا أكسب غدا؟ وقد علمت بأي أرض ولدت فبأي أرض أموت، فنزلت هذه الآية، وذكر نحوه محيي السنة البغوي ، والواحدي، والثعلبي فهو نظرا إلى سبب النزول جواب لسؤال محقق ونظرا إلى ما قبلها من الآي جواب لسؤال مقدر كأن قائلا يقول: متى هذا اليوم الذي ذكر من شأنه ما ذكر؟ فقيل إن الله، ولم يقل إن علم الساعة عند الله مع أنه أخصر لأن اسم الله سبحانه أحق بالتقديم ولأن تقديمه وبناء الخبر عليه يفيد الحصر كما قرّره الطيبي مع ما فيه من مزية تكرر الإسناد، وتقديم الظرف يفيد الاختصاص أيضا بل لفظ عند كذلك لأنها تفيد حفظه بحيث لا يوصل إليه فيفيد الكلام من أوجه اختصاص علم وقت القيامة بالله عزّ وجلّ، وقوله تعالى: وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ أي في إبانه من غير تقديم ولا تأخير في بلد لا يتجاوزه به وبمقدار تقتضيه الحكمة، الظاهر أنه عطف على الجملة الظرفية المبنية على الاسم الجليل على عكس قوله تعالى: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ [المؤمنون: 21] فيكون خبرا مبنيا على الاسم الجليل مثل المعطوف عليه فيفيد الكلام الاختصاص أيضا والمقصود تقييدات التنزيل الراجعة إلى العلم لا محض القدرة على التنزيل إذ لا شبهة فيه فيرجع الاختصاص إلى العلم بزمانه ومكانه ومقداره كما يشير إلى ذلك كلام الكشف، وقال العلامة الطيبي في شرح الكشاف: دلالة هذه الجملة على علم الغيب من حيث دلالة المقدور المحكم المتقن على العلم الشامل وقوله تعالى وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ أي أذكر أم أنثى أتام أم ناقص وكذلك ما سوى ذلك من الأحوال عطف على الجملة الظرفية أيضا نظير ما قبله، وخولف بين عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وبين هذا ليدل في الأول على مزيد الاختصاص اعتناء بأمر الساعة ودلالة على شدة خفائها، وفي هذا على استمرار تجدد التعلقات بحسب تجدد المتعلقات مع الاختصاص، ولم يراع هذا الأسلوب فيما قبله بأن يقال: ويعلم الغيث مثلا إشارة بإسناد التنزيل الى الاسم الجليل صريحا إلى عظم شأنه لما فيه من كثرة المنافع لأجناس الخلائق وشيوع الاستدلال بما يترتب عليه من إحياء الأرض على صحة البعث المشار إليه بالساعة في الكتاب العظيم قال تعالى: وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى [الروم: 49، 50] وقال سبحانه: وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ [الروم: 19] إلى غير ذلك، وربما يقال: إن لتنزيل الغيث وإن لم يكن الغيث الجزء: 11 ¦ الصفحة: 106 المعهود دخلا في المبعث بناء على ما ورد من حديث مطر السماء بعد النفخة الأولى مطرا كمني الرجال ، وقيل: الاختصاص راجع إلى التنزيل وما ترجع إليه تقييداته التي يقتضيها المقام من العلم، وفي ذلك ردّ على القائلين مطرنا بنوء كذا وللاعتناء برد ذلك لما فيه من الشرك في الربوبية عدل عن يعلم إلى يُنَزِّلُ وهو كما ترى، وقوله تعالى: وَما تَدْرِي نَفْسٌ أي كل نفس برة كانت أو فاجرة كما يدل عليه وقوع النكرة في سياق النفي ماذا تَكْسِبُ غَداً أي في الزمان المستقبل من خير أو شر، وقوله سبحانه: وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ عطف على ما استظهره صاحب الكشف على قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وأشار إلى أنه لما كان الكلام مسوقا للاختصاص لا لإفادة أصل العلم له تعالى فإنه غير منكر لزم من النفي على سبيل الاستغراق اختصاصه به عزّ وجلّ على سبيل الكناية على الوجه الأبلغ، وفي العدول عن لفظ العلم إلى لفظ الدراية لما فيها من معنى الختل والحيلة لأن أصل دري رمي الدرية وهي الحلقة التي يقصد رميها الرماة وما يتعلم عليه الطعن والناقة التي يسببها الصائد ليأنس بها الصيد فيستتر من ورائها فيرميه وفي كل حيلة، ولكونها علما بضرب من الختل والخيلة لا تنسب إليه عزّ وجلّ إلّا إذا أولت بمطلق العلم كما في خبر خمس «لا يدريهن إلا الله تعالى» وقيل: قد يقال الممنوع نسبتها إليه سبحانه بانفراده تعالى أما مع غيره تبارك اسمه تغليبا فلا، ويفهم من كلام بعضهم صحة النسبة إليه جلّ وعلا على سبيل المشاكلة كما في قوله: لا هم لا أدري وأنت الداري. فلا حاجة إلى ما قيل: إنه كلام أعرابي جلف لا يعرف ما يجوز إطلاقه على الله تعالى وما يمتنع فيكون المعنى لا تعرف كل نفس وإن أعملت حيلها ما يلصق بها ويختص ولا يتخطاها ولا شيء أخص بالإنسان من كسبه وعاقبته فإذا لم يكن له طريق إلى معرفتهما كان من معرفة ما عداهما أبعد وأبعد، وقد روعي في هذا الأسلوب الإدماج المذكور ولذا لم يقل: ويعمل ماذا تكسب كل نفس ويعلم أن كل نفس بأي أرض تموت، وجوز أن يكون أصل وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وأن ينزل الغيث فحذف أن وارتفع الفعل كما في قوله: أيهذا الزاجري أحضر الوغى وكذا قوله سبحانه: وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ والعطف على عِلْمُ السَّاعَةِ فكأنه قيل: إن الله عنده علم الساعة وتنزيل الغيث وعلم ما في الأرحام، ودلالة ذلك على اختصاص علم تنزيل الغيث به سبحانه ظاهر لظهور أن المراد بعنده تنزيل الغيث عنده علم تنزيله، وإذا عطف يُنَزِّلُ على السَّاعَةِ كان الاختصاص أظهر لانسحاب علم المضاف إلى الساعة الى الإنزال حينئذ فكأنه قيل: إن الله عنده علم الساعة وعلم تنزيل الغيث، وهذا العطف لا يكاد يتسنى في وَيَعْلَمُ إذ يكون التقدير وعنده علم علم ما في الأرحام وليس ذاك بمراد أصلا. وجعل الطيبي وَما تَدْرِي نَفْسٌ إلخ معطوفا على خبر إن من حيث المعنى بأن يجعل المنفي مثبتا بأن يقال: ويعلم ماذا تكسب كل نفس غدا ويعلم أن كل نفس بأي أرض تموت وقال: إن مثل ذلك جائز في الكلام إذا روعي نكتة كما في قوله تعالى: أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الأنعام: 151] فإن العطف فيه باعتبار رجوع التحريم إلى ضد الإحسان وهي الإساءة، وذكر في بيان نكتة العدول عن المثبت إلى المنفي نحو ما ذكرنا آنفا. وتعقب ذلك صاحب الكشف بأن عنه مندوحة أي بما ذكر من عطفه على جملة إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وقال الإمام: في وجه نظم الجمل الحق أنه تعالى لما قال: وَاخْشَوْا يَوْماً إلخ وذكر سبحانه أنه كائن بقوله عزّ وجلّ قائلا: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فكأن قائلا يقول: فمتى هذا اليوم؟ فأجيب بأن هذا العلم مما لم يحصل لغيره تعالى وذلك قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ثم ذكر جلّ وعلا الدليلين اللذين ذكرا مرارا على البعث. أحدهما إحياء الأرض بعد موتها المشار إليه بقوله تعالى: وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ والثاني الخلق ابتداء المشار الجزء: 11 ¦ الصفحة: 107 إليه بقوله سبحانه: وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ فكأنه قال عزّ وجلّ: يا أيها السائل إنك لا تعلم وقتها ولكنها كائنة والله تعالى قادر عليها كما هو سبحانه قادر على إحياء الأرض وعلى الخلق في الأرحام ثم بعد جلّ شأنه له أن يعلم ذلك بقوله عزّ وجلّ وما تدري إلخ فكأنه قال تعالى: يا أيها السائل إنك تسأل عن الساعة أيان مرساها وإن من الأشياء ما هو أهم منها لا تعلم معاشك ومعادك فما تعلم ماذا تكسب غدا مع أنه فعلك وزمانك ولا تعلم أين تموت مع أنه شغلك ومكانك فكيف تعلم قيام الساعة متى يكون والله تعالى ما علمك كسب غدك ولا علمك أين تموت مع أن لك في ذلك فوائد شتى وإنما لم يعلمك لكي تكون في كل وقت بسبب الرزق راجعا متوكلا عليه سبحانه ولكيلا تأمن الموت إذا كنت في غير الأرض التي أعلمك سبحانه أنك تموت فيها فإذا لم يعلمك ما تحتاج إليه كيف يعلمك ما لا حاجة لك إليه وهو وقت القيامة وإنما الحاجة إلى العلم بأنها تكون وقد أعلمك جلّ وعلا بذلك على ألسنة أنبيائه تعالى عليهم الصلاة والسلام انتهى، ولا يخفى أن الظاهر على ما ذكره أن يقال: وبخلق ما في الأرحام كما قال سبحانه: وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ووجه العدول عن ذلك إلى ما في النظم الجليل غير ظاهر على أن كلامه بعد لا يخلو عن شيء، وكون المراد اختصاص علم هذه الخمس به عزّ وجلّ هو الذي تدل عليه الأحاديث والآثار، فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة من حديث طويل «أنه صلى الله تعالى عليه وسلم سئل متى الساعة؟ فقال للسائل: ما المسئول عنها بأعلم من السائل وسأخبرك عن أشراطها إذا ولدت الأمة ربها وإذا تطاول رعاة الإبل إليهم في البنيان في خمس لا يعلمهن إلا الله تعالى ثم تلا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ الآية» أي إلى آخر السورة كما في بعض الروايات، وما وقع عند البخاري في التفسير من قوله: إلى الأرحام تقصير من بعض الرواة، وأخرجها أيضا هما وغيرهما عن ابن قال: عمر قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «مفتاح- وفي رواية مفاتح- الغيب خمس لا يعلمها إلا الله تعالى لا يعلم أحد ما يكون في غد ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام ولا تعلم نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت وما يدري أحد متى يجيء المطر» . وأخرج أحمد، والبزار، وابن مردويه، والروياني، والضياء بسند صحيح عن بريدة قال «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: خمس لا يعلمهن إلّا الله إن الله عنده علم الساعة الآية» وظاهر هذه الأخبار يقتضي أن ما عدا هذه الخمس من المغيبات قد يعلمه غيره عزّ وجلّ وإليه ذهب من ذهب. أخرج حميد بن زنجويه عن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم أنه ذكر العلم بوقت الكسوف قبل الظهور فأنكر عليه فقال: إنما الغيب خمس وتلا هذه الآية وما عدا ذلك غيب يعلمه قوم ويجهله قوم، وفي بعض الأخبار ما يدل على أن علم هذه الخمس لم يؤت للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ويلزمه أنه لم يؤت لغيره عليه الصلاة والسلام من باب أولى. أخرج أحمد، والطبراني، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أوتيت مفاتيح كل شيء إلّا الخمس إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ» الآية وأخرج أحمد، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه عن ابن مسعود قال: أوتي نبيكم صلّى الله عليه وسلم مفاتيح كل شيء غير الخمس إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الآية. وأخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: لم يغم على نبيكم صلّى الله عليه وسلم إلّا الخمس من سرائر الغيب هذه الآية في آخر لقمان إن الله عنده علم الساعة إلى آخر السورة ، وأخرج سعيد بن منصور، وأحمد، والبخاري في الأدب عن ربعي بن حراش قال: حدثني رجل من بني عامر أنه قال: يا رسول الله هل بقي من العلم شيء لا تعلمه؟ فقال عليه الصلاة والسلام: لقد علمني الله تعالى خيرا وإن من العلم ما لا يعلمه إلا الله تعالى الخمس إن الله عنده علم الساعة الآية ، وصرح بعضهم باستئثار الله تعالى بهن، أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن قتادة أنه قال في الآية: خمس الجزء: 11 ¦ الصفحة: 108 من الغيب استأثر الله تعالى بهن فلم يطلع عليهن ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا إن الله عنده علم الساعة ولا يدري أحد من الناس متى تقوم الساعة في أي سنة ولا في أي شهر أليلا أم نهارا وينزل الغيث فلا يعلم أحد متى ينزل الغيث أليلا أم نهارا ويعمل ما في الأحلام فلا يعلم أحد ما في الأرحام أذكرا أم أنثى أحمر أو أسود ولا تدري نفس ماذا تكسب غدا أخيرا أم شرا وما تدري بأي أرض تموت ليس أحد من الناس يدري أين مضجعه من الأرض أفي بحر أم في بر في سهل أم في جبل، والذي ينبغي أن يعلم أن كل غيب لا يعلمه إلا الله عزّ وجلّ وليس المغيبات محصورة بهذه الخمس وإنما خصت بالذكر لوقوع السؤال عنها أو لأنها كثيرا ما تشتاق النفوس إلى العلم بها، وقال القسطلاني: ذكر صلّى الله عليه وسلم خمسا وإن كان الغيب لا يتناهى لأن العدد لا ينفي زائدا عليه ولأن هذه الخمسة هي التي كانوا يدعون علمها انتهى، وفي التعليل الأخير نظر لا يخفى وأنه يجوز أن يطلع الله تعالى بعض أصفيائه على إحدى هذه الخمس ويرزقه عزّ وجلّ العلم بذلك في الجملة وعلمها الخاص به جلّ وعلا ما كان على وجه الإحاطة والشمول لأحوال كل منها وتفصيله على الوجه الأتم، وفي شرح المناوي الكبير للجامع الصغير في الكلام على حديث بريدة السابق خمس لا يعلمهن إلا الله على وجه الإحاطة والشمول كليا وجزئيا فلا ينافيه اطلاع الله تعالى بعض خواصه على بعض المغيبات من هذه الخمس لأنها جزئيات معدودة، وإنكار المعتزلة لذلك مكابرة انتهى، ويعلم مما ذكرنا وجه الجمع بين الأخبار الدالة على استئثار الله تعالى بعلم ذلك وبين ما يدل على خلافه كبعض إخباراته عليه الصلاة والسلام بالمغيبات التي هي من هذا القبيل يعلم ذلك من راجع نحو الشفاء والمواهب اللدنية مما ذكر فيها معجزاته صلّى الله عليه وسلم وأخباره عليه الصلاة والسلام بالمغيبات، وذكر القسطلاني أنه عزّ وجلّ إذا أمر بالغيث وسوقه إلى ما شاء من الأماكن علمته الملائكة الموكلون به ومن شاء سبحانه من خلقه عزّ وجلّ، وكذا إذا أراد تبارك تعالى خلق شخص في رحم يعلم سبحانه الملك الموكل بالرحم بما يريد جلّ وعلا كما يدل عليه ما أخرجه البخاري عن أنس بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى وكل بالرحم ملكا يقول: يا رب نطفة يا رب علقة يا رب مضغة فإذا أراد الله تعالى أن يقضي خلقه قال: أذكر أم أنثى شقي أم سعيد فما الرزق والأجل؟ فيكتب في بطن أمه فحينئذ يعلم بذلك الملك ومن شاء الله تعالى من خلقه عزّ وجلّ» وهذا لا ينافي الاختصاص والاستئثار بعلم المذكورات بناء على ما سمعت منا من أن المراد بالعلم الذي استأثر سبحانه به العلم الكامل بأحوال كل على التفصيل فما يعلم به الملك ويطلع عليه بعض الخواص يجوز أن يكون دون ذلك العلم بل هو كذلك في الواقع بلا شبيهة، وقد يقال فيما يحصل للأولياء من العلم بشيء مما ذكر إنه ليس بعلم يقيني قال: علي القارئ في شرح الشفا: الأولياء وإن كان قد ينكشف لهم بعض الأشياء لكن علمهم لا يكون يقينيا وإلهامهم لا يفيد إلا أمرا ظنيا ومثل هذا عندي بل هو دونه بمراحل علم النجومي ونحوه بواسطة أمارات عنده بنزول الغيث وذكورة الحمل أو أنوثته أو نحو ذلك ولا أرى كفر من يدعي مثل هذا العلم فإنه ظن عن أمر عادي، وقد نقل العسقلاني في فتح الباري عن القرطبي أنه قال: من ادعى علم شيء من الخمس غير مسندة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان كاذبا في دعواه وأما ظن الغيب فقد يجوز من المنجم وغيره إذا كان عن أمر عادي وليس ذلك بعلم، وعليه فقول القسطلاني من ادعى علم شيء منها فقد كفر بالقرآن العظيم ينبغي أن يحمل العلم فيه على نحو العلم الذي استأثر الله تعالى به دون مطلق العلم الشامل للظن وما يشبهه، وبعد هذا كله أن أمر الساعة أخفى الأمور المذكورة وأن ما أطلع الله تعالى عليه نبيه صلّى الله عليه وسلم من وقت قيامها في غاية الإجمال وإن كان أتم من علم غيره من البشر صلّى الله عليه وسلم وقوله عليه الصلاة والسلام: «بعثت أنا والساعة كهاتين» لا يدل على أكثر من العلم الإجمالي بوقتها ولا أظن أن خواص الملائكة عليهم السلام أعلم منه صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك، ويؤيد ظني ما رواه الحميدي في نوادره بالسند عن الشعبي قال: سأل عيسى ابن مريم جبريل عليهما السلام عن الساعة فانتفض بأجنحته، وقال: ما المسئول بأعلم من السائل، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 109 والمراد التساوي في العلم بأن الله تعالى استأثر بعلمها على الوجه الأكمل ويرشد إلى العلم الإجمالي بها ذكر أشراطها كما لا يخفى، ويجوز أن يكون الله تعالى أطلع حبيبه عليه الصلاة والسلام على وقت قيامها على وجه كامل لكن لا على وجه يحاكي علمه تعالى به إلّا أنه سبحانه أوجب عليه صلى الله تعالى عليه وسلم كتمه لحكمة ويكون ذلك من خواصه عليه الصلاة والسلام، وليس عندي ما يفيد الجزم بذلك، هذا وخص سبحانه المكان في قوله تعالى: وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ليعرف الزمان من باب أولى فإن الأول في وسع النفس في الجملة بخلاف الثاني، وأخرج أحمد وجماعة عن أبي غرة الهذلي قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إذا أراد الله تعالى قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة فلم ينته حتى يقدمها ثم قرأ عليه الصلاة والسلام وما تدري نفس بأي أرض تموت» وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن خيثمة أن ملك الموت مرّ على سليمان عليه السلام فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظر إليه فقال الرجل: من هذا؟ قال: ملك الموت فقال: كأنه يريدني فمر الريح أن تحملني وتلقيني بالهند ففعل فقال الملك: كان دوام نظري إليه تعجبا منه إذ أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك. وتَدْرِي في الموضعين معلقة فالجملة من قوله تعالى: ماذا تَكْسِبُ في موضع المفعول، ويجوز أن تكون ماذا كلها موصولا منصوب المحل بتدري كأنه قيل: وما تدري نفس الشيء الذي تكسبه غدا وبِأَيِّ متعلق بتموت والباء ظرفية، والجملة في موضع نصب بتدري. وقرأ غير واحد من السبعة «ينزل» من الإنزال، وقرأ موسى الأسواري، وابن أبي عبلة «بأية أرض» بتاء التأنيث لإضافتها إلى المؤنث وهي لغة قليلة فيها كما أن كلا إذا أضيفت إلى مؤنث قد تؤنث نادرا فيقال: كلتهن فعلن ذلك فليعلم والله عزّ جلّ أعلم إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ مبالغ في العلم فلا يعزب عن علمه سبحانه شيء من الأشياء خَبِيرٌ يعلم بوطنها كما يعلم ظواهرها فالجمع بين الوصفين للإشارة الى التسوية بين علم الظاهر والباطن عنده عزّ وجلّ والجملة على ما قيل في موضع التعليل لعلمه سبحانه بما ذكر، وقيل: جواب سؤال نشأ من نفي دراية الأنفس ماذا تكسب غدا وبأي أرض تموت كأنه قيل: فمن يعلم ذلك فقيل: إن الله عليم خبير وهو جواب بأن الله تعالى يعلم ذلك وزيادة، ولا يخفى أنه إذا كانت هذه الجملة من تتمة الجملتين اللتين قبلها كانت دلالة الكلام على انحصار العلم بالأمرين اللذين نفي العلم بهما عن كل نفس ظاهرة جدا فتأمل ذاك والله عزّ وجلّ يتولى هداك ومن باب الإشارة في السورة الكريمة الم إشارة إلى آلائه تعالى ولطفه جلّ شأنه ومجده عزّ وجلّ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ بحضور القلب والإعراض عن السوي وهي صلاة خواص الخواص، وأما صلاة الخواص فبنفي الخطرات الردية والإرادات الدنيوية ولا ضر فيها طلب الجنة ونحوه، وأما صلاة العوام فما يفعله أكثر الناس ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ ببذل الوجود للملك المعبود لنيل المقصود وهي زكاة الأخص، وزكاة الخاصة ببذل المال كله لتصفية قلوبهم عن صدأ محبة الدنيا، وزكاة العامة ببذل القدر المعروف من المال المعلوم على الوجه المشروع المشهور لتزكية نفوسهم عن نجاسة البخل وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ هو ما يشغل عن الله تعالى ذكره ويحجب عنه عزّ وجلّ استماعه، وأما الغناء فهو عند كثير منهم أقسام منها ما هو من لهو الحديث، ونقل بعضهم عن الجنيد قدّس سره أنه قال: السماع على أهل النفوس حرام لبقاء نفوسهم وعلى أهل القلوب مباح لوفور علومهم وصفاء قلوبهم وعلى أصحابنا واجب لفناء حظوظهم، وعن أبي بكر الكناني سماع العوام على متابعة الطبع وسماع المريدين رغبة ورهبة وسماع الأولياء رؤية الآلاء والنعم وسماع العارفين على المشاهدة وسماع أهل الحقيقة على الكشف والعيان ولكل من هؤلاء مصدر ومقام، وذكروا أن من القوم من يسمع في الله ولله الجزء: 11 ¦ الصفحة: 110 وبالله ومن الله جلّ وعلا ولا يسمع بالسمع الإنساني بل يسمع بالسمع الرباني كما في الحديث القدسي «كنت سمعه الذي يسمع به» وقالوا: إنما حرم اللهو لكونه لهوا فمن لا يكون لهوا بالنسبة إليه لا يحرم عليه إذ علة لحرمة في حقه منتفية والحكم يدور مع العلة وجودا وعدما، ويلزمهم القول بحل شرب المسكر لمن لا يسكره لا سيما لمن يزيده نشاطا للعبادة مع ذلك، ومن زنادقة القلندرية من يقول بحل الخمر والحشيشة ونحوها من المسكرات المحرمة بلا خلاف زاعمين أن استعمال ذلك يفتح عليهم أبواب الكشوف، وبعض الجهلة الذين لعب بهم الشيطان يطلبون منهم المدد في ذلك الحال قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ قيل: هي إدراك خطاب الحق بوصف الإلهام، وذكروا أن الحكمة موهبة الأولياء كما أن الوحي موهبة الأنبياء عليهم السلام فكل ليس بكسبي إلا أن للكسب مدخلا ما في الحكمة، فقد ورد «من أخلص لله تعالى أربعين صباحا تفجرت ينابيع الحكمة من قلبه» والحكمة التي يزعم الفلاسفة أنها حكمة ليست بحكمة إذ هي من نتائج الفكر ويؤتاها المؤمن والكافر وقلما تسلم من شوائب آفات الوهم، ولهذا وقع الاختلاف العظيم بين أهلها وعدها بعض الصوفية من لهو الحديث ولم يبعد في ذلك عن الصواب، وأشارت قصة لقمان إلى التوحيد ومقام جمع الجمع وعين الجمع واتباع سبيل الكاملين والإعراض عن السوي وتكميل الغير والصبر على الشدائد والتواضع للناس وحسن المماشاة والمعاملة والسيرة وترك التماوت في المشي وترك رفع الصوت، وقيل: الْحَمِيرِ في قوله تعالى: إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ هم الصوفية الذين يتكلمون بلسان المعرفة قبل أن يؤذن لهم، وطبق بعضهم جميع ما في القصة على ما في الأنفس وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً قال الجنيد: النعم الظاهرة حسن الأخلاق والنعم الباطنة أنواع المعارف، وقيل: على قراءة النعمة الظاهرة اتباع ظاهر العلم والباطنة طلب الحقيقة في الاتباع، وقيل: النعمة الظاهرة بلا زلة والباطنة قلب بلا غفلة. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ يشير الى أهل الجدل من الفلاسفة فإنهم يجادلون في ذات الله تعالى وصفاته عزّ وجلّ كذلك عند التحقيق لأنهم لا يعتبرون كلام الرسل عليهم الصلاة والسلام ولا الكتب المنزلة من السماء وأكثر علومهم مشوب بآفة الوهم ومع هذا فشؤون الله جلّ وعلا طور ما وراء طور العقل: هيهات أن تصطاد عنقاء البقا ... بلعابهن عناكب الأفكار وأبعد من محدب الفلك التاسع حصول علم بالله عزّ وجلّ وبصفاته جل شأنه يعتد به بدون نور إلهي يستضيء العقل به وعقولهم في ظلمات بعضها فوق بعض، وقد سدت أبواب الوصول إلّا على متبع للرسول صلّى الله عليه وسلم قال بعضهم مخاطبا لحضرة صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام: وأنت باب الله أي امرئ ... أتاه من غيرك لا يدخل ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ إلى قوله سبحانه وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ فيه إشارة الى أنه سبحانه تمام وفوق التمام، والمراد بالأول من حصل له كل ما جاز له وإليه الإشارة بقوله تعالى: هُوَ الْحَقُّ والمراد بالثاني من حصل له ذلك وحصل لما عداه ما جاز له وإليه الإشارة بقوله تعالى: هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ووراء هذين الشيئين ناقص وهو ما ليس له ما ينبغي كالصبي والمريض والأعمى ومكتف وهو من أعطى ما تندفع به حاجته في وقته كالإنسان الذي له من الآلات ما تندفع به حاجته في وقته ولكنها في معرض التحلل والزوال إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الآية ذكر غير واحد حكايات عن الأولياء متضمنة لاطلاع الله تعالى إياهم على ما عدا علم الساعة من الخمس وقد علمت الجزء: 11 ¦ الصفحة: 111 الكلام في ذلك، وأغرب ما رأيت ما ذكره الشعراني عن بعضهم أنه كان يبيع المطر فيمطر على أرض من يشتري منه متى شاء، ومن له عقل مستقيم لا يقبل مثل هذه الحكاية، وكم للقصاص أمثالها من رواية نسأل الله تعالى أن يحفظنا وإياكم من اعتقاد خرافات لا أصل لها وهو سبحانه ولي العصمة والتوفيق. وقرأ ابن أبي عبلة «بنعمات الله» بفتح النون وكسر العين جمعا لنعمة بفتح النون وهي اسم للتنعيم، وقيل: بمعنى النعمة بالكسر لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ أي بعض دلائل ألوهيته تعالى ووحدته سبحانه وقدرته جلّ شأنه وعمله عزّ وجلّ، وقوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ تعليل لما قبله أي أن فيما ذكر لآيات عظيمة في ذاتها كثيرة في عددها لكل مبالغ في الصبر على بلائه سبحانه ومبالغ في الشكر على نعمائه جلّ شأنه. وصَبَّارٍ شَكُورٍ كناية عن المؤمن من باب حي مستوي القامة عريض الأظفار فإنه كناية عن الإنسان لأن هاتين الصفتين عمدتا الإيمان لأنه وجميع ما يتوقف عليه إما ترك للمألوف غالبا وهو بالصبر أو فعل لما يتقرب به وهو شكر لعمومه فعل القلب والجوارح واللسان، ولذا ورد الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر، وذكر الوصفين بعد الفلك فيه أتم مناسبة لأن الراكب فيه لا يخلو عن الصير والشكر، وقيل: المراد بالصبار كثير الصبر على التعب في كسب الأدلة من الأنفس والآفاق وإلّا فلا اختصاص للآيات بمن تعب مطلقا وكلا الوصفين بنيا بناء مبالغة، وفعال على ما في البحر أبلغ من فعول لزيادة حروفه، قيل: وإنما اختير زيادة المبالغة في الصبر إيماء إلى أن قليله لشدة مرارته وزيادة ثقله على نفس كثير وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ أي علاهم وغطاهم من الغشاء بمعنى الغطاء من فوق وهو المناسب هنا، وقيل: أي أي أتاهم من الغشيان بمعنى الإتيان وضمير غَشِيَهُمْ أن اتحد بضمير المخاطبين قبله ففي الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة وإلّا فلا التفات، والموج ما يعلو من غوارب الماء وهو اسم جنس واحدة موجة وتنكيره للتعظيم والتكثير، ولذا أفرد مع جمع المشبه به في قوله تعالى: كَالظُّلَلِ وهو جمع ظلة كغرفة وغرف وقربة وقرب، والمراد بها ما أظل من سحال أو جبل أو غيرهما. وقال الراغب: الظلة السحابة تظل وأكثر ما يقال فيما يستوخم ويكره، وفسر قتادة الظل هنا بالسحاب، وبعضهم بالجبال، وقرأ محمد بن الحنفية رضي الله تعالى عنه «كالظلال» وهو جمع ظلة أيضا كعلبة وعلاب وجفرة وجفار، وإذا ظرف لقوله تعالى: دَعَوُا أي دعوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ إذا غشيهم موج كالظلل وإنما فعلوا ذلك حينئذ لزوال ما ينازع الفطرة من الهوى والتقليد بما دهاهم من الخوف الشديد. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 112 سورة السجدة وتسمى المضاجع أيضا كما في الإتقان، وفي مجمع البيان أنها كما تسمى سورة السجدة تسمى سجدة لقمان لئلا تلتبس بحم السجدة، وأطلق القول بمكيتها، أخرج ابن الضريس، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس إنها نزلت بمكة، وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير مثله، وجاء في رواية أخرى عن الحبر استثناء، أخرج النحاس عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: نزلت سورة السجدة بمكة سوى ثلاث آيات أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً إلى تمام الآيات الثلاث، وروي مثله عن مجاهد، والكلبي، واستثنى بعضهم أيضا آيتين أخريين وهما قوله تعالى: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ [السجدة: 16] إلخ، واستدل عليه ببعض الروايات في سبب النزول وستطلع على ذلك إن شاء الله تعالى واستبعد استثناؤهما لشدة ارتباطهما بما قبلهما، وهي تسع وعشرون آية في البصري وثلاثون في الباقية، ووجه مناسبتها لما قبلها اشتمال كل على دلائل الألوهية، وفي البحر لما ذكر سبحانه فيما قبل دلائل التوحيد وهو الأصل الأول ثم ذكر جلّ وعلا المعاد وهو الأصل الثاني وختم جل شأنه به السورة ذكر تعالى في بدء هذه السورة الأصل الثالث وهو النبوة وقال الجلال السيوطي في وجه الاتصال بما قبلها: إنها شرح لمفاتيح الغيب الخمسة التي ذكرت في خاتمة ما قبل، فقوله تعالى: ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [السجدة: 5] شرح قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان: 34] ولذلك عقب بقوله سبحانه: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ [السجدة: 6] وقوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ [السجدة: 7] شرح قوله سبحانه: وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ [لقمان: 34] وقوله تبارك وتعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة: 7] الآيات شرح قوله جل جلاله: وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ [لقمان: 34] وقوله عزّ وجلّ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ [السجدة: 5] وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها [السجدة: 13] شرح قوله تعالى: وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وقوله جلّ وعلا: أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ [السجدة: 10] إلى قوله تعالى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [السجدة: 11] شرح قوله سبحانه: وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان: 34] اه، ولا يخلو عن نظر، وجاء في فضلها أخبار كثيرة، أخرج أبو عبيد وابن الضريس من مرسل المسيب بن رافع أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «تجيء الم تنزيل- وفي رواية- الم السجدة يوم القيامة لها جناحان تظل صاحبها وتقول: لا سبيل عليه لا سبيل عليه» . وأخرج الدارمي، والترمذي، وابن مردويه عن طاوس قال: الم السجدة، وتبارك الذي بيده الملك تفضلان على كل سورة في القرآن بستين حسنة، وفي رواية عن ابن عمر تفضلان ستين درجة على غيرهما من سور القرآن. وأخرج أبو عبيد في فضائله، وأحمد، وعبد بن حميد، والدارمي، والترمذي، والنسائي، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن جابر قال: «كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ الم تنزيل السجدة وتبارك الذي بيده الملك» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 113 وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من قرأ تبارك الذي بيده الملك والم تنزيل السجدة بين المغرب والعشاء الآخرة فكأنما قام ليلة القدر» . وروى نحوه هو، والثعلبي، والواحدي من حديث أبي بن كعب، والثعلبي دونهم من حديث ابن عباس، وتعقب ذلك الشيخ ولي الدين قائلا: لم أقف عليه وهذه الروايات كلها موضوعة، لكن رأيت في الدر المنثور أن الخرائطي أخرج في مكارم الأخلاق من طريق حاتم بن محمد عن طاوس أنه قال: ما على الأرض رجل يقرأ الم تنزيل السجدة وتبارك الذي بيده الملك في ليلة إلّا كتب له مثل أجر ليلة القدر، قال: حاتم: فذكرت ذلك لعطاء فقال: صدق طاوس والله ما تركتهن منذ سمعت بهن إلّا أن أكون مريضا، ولم أقف على ما قيل في هذا الخبر صحة وضعفا ووضعا، وفيه أخبار كثيرة في فضلها غير هذا الله تعالى أعلم بحالها، وكان عليه الصلاة والسلام يقرؤوها وهَلْ أَتى [الإنسان: 1] في صلاة فجر الجمعة وهو مشعر بفضلها والحديث في ذلك صحيح لا مقال فيه. أخرج ابن أبي شيبة، والبخاري، ومسلم، والنسائي، وابن ماجة عن أبي هريرة قال «كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقرأ في الفجر يوم الجمعة الم تنزيل السجدة وهل أتى على الإنسان» وأخرج أبو داود، وهؤلاء إلا البخاري نحوه عن ابن عباس. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم إن جعل اسما للسورة أو القرآن فحمله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هذا ألم، وقوله تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتابِ خبر بعد خبر على أنه مصدر باق على معناه لقصد المبالغة أو بتقدير مضاف أو هو مؤول باسم المفعول أي منزل وإضافته إلى الكتاب من إضافة الصفة إلى الموصوف أو بيانية بمعنى من، وقوله سبحانه: لا رَيْبَ فِيهِ خبر ثالث، وقوله تعالى: مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ خبر رابع، وجوز أن يكون الم مبتدأ وما بعده أخبار له أي المسمى بألم الكتاب المنزل لا ريب فيه كائن من رب العالمين، وتعقب بأن ما يجعل عنوانا للموضوع حقه أن يكون قبل ذلك معلوم الانتساب إليه وإذ لا عهد بالنسبة قبل فحقها الإخبار بها. وقال أبو البقاء: الم يجوز أن يكون مبتدأ وتَنْزِيلُ بمعنى منزل خبره ولا رَيْبَ فِيهِ حال من الجزء: 11 ¦ الصفحة: 114 الْكِتابِ والعامل فيها المضاف وهي حال مؤكدة وهي حال مؤكدة ومِنْ رَبِّ متعلق بتنزيل، ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف هو حال من الضمير المجرور في فِيهِ والعامل فيها الظرف لا رَيْبَ لأنه هنا مبني وفيه ما سمعت، وهذا التعليق يجوز أيضا على تقدير أن يكون الم خبر مبتدأ محذوف وما بعده أخبارا لذلك المحذوف، وإن جعل الم مسرودا على نمط التعديد فلا محل له من الإعراب، وفي إعراب ما بعد عدة أوجه، قال البقاء: يجوز أن يكون تَنْزِيلُ مبتدأ ولا رَيْبَ فِيهِ الخبر ومِنْ رَبِّ حال كما تقدم، ولا يجوز على هذا أن يتعلق بتنزيل لأن المصدر قد أخبر عنه، ويجوز أن يكون الخبر مِنْ رَبِّ ولا رَيْبَ حالا من الْكِتابِ وأن يكون خبرا بعد خبر انتهى. ووجه منع التعليق بالمصدر بعد ما أخبر عنه أنه عامل ضعيف فلا يتعدى عمله لما بعد الخبر وعن التزام حديث التوسع في الظرف سعة هنا أو أن المتعلق من تمامه والاسم لا يخبر عنه قبل تمامه، وجوز ابن عطية تعلق مِنْ رَبِّ ريب وفيه أنه بعيد عن المعنى المقصود، وجوز الحوفي كون تَنْزِيلُ خبر مبتدأ محذوف أي المؤلف من جنس ما ذكر تنزيل الكتاب، وقال أبو حيان: الذي أختاره أن يكون تَنْزِيلُ مبتدأ ولا رَيْبَ فِيهِ اعتراض لا محل له من الإعراب ومِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ الخبر وضمير فِيهِ راجع لمضمون الجملة أعني كونه منزلا من رب العالمين لا للتنزيل ولا للكتاب كأنه قيل: لا ريب في ذلك أي في كونه منزلا من رب العالمين وهذا ما اعتمد عليه الزمخشري وذكر أنه الوجه ويشهد لوجاهته قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ فإن قولهم هذا مفترى إنكار لأن يكون من رب العالمين أي فالأنسب أن يكون نفي الريب عما أنكروه وهو كونه من رب العالمين جلّ شأنه، وقيل: أي فلا بد من أن يكون مورده حكما مقصودا بالإفادة لا قيد للحكم بنفي الريب عنه، وفيه بحث، وكذا قوله سبحانه: بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فإن تقرير لما قبله فيكون مثله في الشهادة ثم قال في نظم الكلام على ذلك: إنه أسلوب صحيح محكم أثبت سبحانه أولا أن تنزيله من رب العالمين وإن ذلك مما لا ريب فيه أي لا مدخل للريب في أنه تنزيل الله تعالى وهو أبعد شيء منه لأن نافي الريب ومميطه معه لا ينفك أصلا عنه وهو كونه معجزا للبشر، ثم أضرب جلّ وعلا عن ذلك إلى قوله تعالى: «أم يقولون افتراه» لأن «أم» هي المنقطعة الكائنة بمعنى بل والهمزة إنكارا لقولهم وتعجيبا منه لظهور عجز بلغائهم عن مثل أقصر سورة منه فهو أما قول متعنت مكابر أو جاهل عميت منه النواظر، ثم أضرب سبحانه عن الإنكار إلى إثبات أنه الحق من ربك، وفي الكشف أن الزمخشري بين وجاهة كون تَنْزِيلُ الْكِتابِ مبتدأ ولا رَيْبَ فِيهِ اعتراضا ومِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ خبرا بحسن موقع الاعتراض إذ ذاك حسن الإنكار على الزاعم إنه مفتري مع وجود نافي الريب ومميطه ثم إثبات ما هو المقصود وعدم الالتفات إلى شغب هؤلاء المكابرة بعد التلخيص البليغ بقوله تعالى: بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وما في إيثار لفظ الْحَقُّ وتعريفه تعريف الجنس من الحسن ويقرب عندي من هذا الوجه جعل تَنْزِيلُ مبتدأ وجملة لا رَيْبَ فِيهِ في موضع الحال من الْكِتابِ ومِنْ رَبِّ خبرا فتدبر ولا تغفل، وزعم أبو عبيدة أن أَمْ بمعنى بل الانتقالية وقال: إن هذا خروج من حديث إلى حديث وليس بشيء. والظاهر أن مِنْ رَبِّكَ في موضع الحال أي كائنا من ربك، وقيل: يجوز جعله خبر ثانيا وإضافة الرب إلى العالمين أولا ثم إلى ضمير سيد المخاطبين صلى الله تعالى عليه وسلم ثانيا بعد ما فيه من حسن التخلص إلى إثبات النبوة وتعظيم شأنه علا شأنه فيه أنه عليه الصلاة والسلام العبد الجامع الذي جمع فيه ما فرق في العالم بالأسر، ووروده على أسلوب الترقي دلّ على أن جمعيته صلى الله تعالى عليه وسلم أتم مما لكل العالم وحق له ذلك صلوات الله تعالى وسلامه عليه لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ بيان للمقصود من تنزيله فقيل هو متعلق بتنزيل، وقيل: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 115 بمحذوف أي أنزله لتنذر إلخ، وقيل: بما تعلق به مِنْ رَبِّكَ وقَوْماً مفعول أول لتنذر والمفعول الثاني محذوف أي العقاب وما نافية كما هو الظاهر ومِنْ الأولى صلة وَنَذِيرٌ فاعل أَتاهُمْ ويطلق على الرسول وهو المشهور وعلى ما يعمه والعالم الذي ينذر عنه عزّ وجلّ قيل: وهو المراد هنا كما في قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر: 24] . وجوز أن يكون النذير هاهنا مصدرا بمعنى الإنذار ومِنْ قَبْلِكَ أي من قبل إنذارك أو من قبل زمانك متعلق بأتى والجملة في موضع الصفة لقوما، والمراد بهم قريش على ما ذهب إليه غير واحد، قال في الكشف: الظاهر أنه لم يبعث رسول منهم قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلم وكانوا ملزمين بشرائع الرسل من قبل وإن كانوا مقصرين في البحث عنها لا سيما دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام إن قلنا: إن دعوتي موسى، وعيسى عليهما السلام لم تعما وهو الأظهر، وقد تقدم لك القول بانقطاع حكم نبوة كل نبي ما عدا نبينا صلّى الله عليه وسلم بعد موته فلا يكلف أحد مطلقا يجيء بعده باتباعه والقول بالانقطاع إلا بالنسبة لمن كان من ذريته، والظاهر أن قريشا كانوا ملزمين بملة ابراهيم وإسماعيل عليهما السلام وإنهم لم يزالوا على ذلك إلى أن فشت في العرب عبادة الأصنام التي أحدثها فيهم عمرو الخزاعي لعنه الله تعالى فلم يبق منهم على الملة الحنيفية إلّا قليل بل أقل من القليل فهم داخلون في عموم قوله تعالى وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ فإنه عام للرسول وللعالم ينذر كذا قيل. واستشكل مع ما هنا، وأجيب بأن المراد ما أتاهم نذير منهم من قبلك وإليه يشير كلام الكشف وهناك أو من غيرها أو يحمل النذير فيه على الرسول، وفي تلك الآية على الأعم قال أبو حيان: في تفسير سورة الملائكة إن الدعاء إلى الله تعالى لم ينقطع عن كل أمة إما بمباشرة من أنبيائهم وإما بنقل إلى وقت بعثة محمد صلّى الله عليه وسلم والآيات التي تدل على أن قريشا ما جاءهم نذير معناها لم يباشرهم وآباءهم الأقربين قربين وإما أن النذارة انقطعت فلا نعم لما شرعت آثارها تندرس بعث محمد صلى الله تعالى عليه وسلم. وما ذكره أهل علم الكلام من حال أهل الفترات فإن ذلك على حسب الفرض لا أنه واقع فلا توجد أمة على وجه الأرض إلا وقد علمت الدعوة إلى الله عزّ وجلّ وعبادته انتهى. وفي القلب منه شيء، ومقتضاه أن المنفي هاهنا إتيان نذير مباشر أي نبي من الأنبياء عليهم السلام قريشا الذين كانوا في عصره عليه الصلاة والسلام قبله صلّى الله عليه وسلم وأنه كان فيهم من ينذرهم ويدعوهم إلى عبادة الله تعالى وحده بالنقل أي عن نبي كان يدعو إلى ذلك، والأول مما لا ينبغي أن يختلف فيه اثنان بل لا ينبغي أن يتوقف فيه إنسان، والثاني مظنون التحقق في زيد بن عمرو بن نفيل العدوي والد سعيد أحد العشرة فإنه عاصر النبي صلّى الله عليه وسلم واجتمع وآمن به قبل بعثته عليه والصلاة السلام ولم يدركها إذ قد مات وقريش تبني الكعبة وكان ذلك قبل البعثة بخمس سنين، وكان على ملة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، فقد صح عن هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر قالت: لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل مسندا ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش والذي نفسي بيده ما أصبح أحد منكم على دين إبراهيم غيري، وفي بعض طرق الخبر عنه أيضا بزيادة، وكان يقول: اللهم إني لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به ولكني لا أعلم ثم يسجد على راحلته، وذكر موسى بن عقبة في المغازي سمعت من أرضي يحدث أن زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبحهم لغير الله تعالى وصح أنه لم يأكل من ذبائح المشركين التي أهل بها لغير الله، وأخرج الطيالسي في مسنده عن ابنه سعيد أنه قال: قلت للنبي صلّى الله عليه وسلم: إن أبي كان كما رأيت وكما بلغك أفأستغفر له: قال، نعم فإنه يبعث يوم القيامة أمة وحده ولا يبعد ممن كان هذا شأنه الإنذار والدعوة إلى عبادة الله تعالى بل من أنصف يرى تضمن كلامه الذي حكته أسماء وإنكاره على قريش الذبح لغير الله تعالى الذي ذكره الطيالسي الدعوة إلى دين إبراهيم عليه السلام وعبادة الله سبحانه وحده، وكذا تضمن كلامه النقل أيضا، ويعلم مما نقلناه أن الرجل رضي الله تعالى عنه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 116 لم يكن نبيا وهو ظاهر، وزعم بعضهم أنه كان نبيا، واستدل على ذلك بأنه كان يسند ظهره إلى الكعبة ويقول: هلموا إلى فإنه لم يبق على دين الخليل غيري وصحة ذلك ممنوعة، وعلى فرض التسليم لا دليل فيه على المقصود كما لا يخفى على من له أدنى ذوق، ومثل زيد رضي الله تعالى عنه قس بن ساعدة الإيادي فإنه رضي الله تعالى عنه كان مؤمنا بالله عزّ وجلّ داعيا إلى عبادته سبحانه وحده وعاصر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومات قبل البعثة على الملة الحنيفية وكان من المعمرين، ذكر السجستاني أنه عاش ثلاثمائة وثمانين سنة، وقال المرزباني: ذكر كثير من أهل العلم أنه عاش ستمائة سنة وذكروا في شأنه أخبارا كثيرة لكن قال الحافظ ابن حجر في كتابه الإصابة قد أفرد بعض الرواة طريق قس وفيه شعره وخطبته هو في الطوالات للطبراني وغيرها وطرقه كلها ضعيفة وعد منها ما عد فليراجع، ثم إن الإشكال إنما يتوهم لو أريد بقريش جميع أولاد قصي أو فهر أو النضر أو الياس أو مضر أما إذا أريد من كان منهم حين بعث صلّى الله عليه وسلم فلا كما لا يخفى على المتأمل فتأمل، وقيل: المراد بهم العرب قريش وغيرهم ولم يأت المعاصرين منهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم نذير من الأنبياء عليهم السلام غيره صلّى الله عليه وسلم وكان فيهم من ينذر ويدعو إلى التوحيد وعبادة الله تعالى وحده وليس بنبي على ما سمعت آنفا، وأما العرب غير المعاصرين فلم يأتهم من عهد إسماعيل عليه السلام نبي منهم بل لم يرسل إليهم نبي مطلقا، وموسى. وعيسى وغيرهما من أنبياء بني إسرائيل عليهم الصلاة والسلام لم يبعثوا إليهم على الأظهر، وخالد بن سنان العبسي عند الأكثرين ليس بنبي، وخبر ورود بنت له عجوز على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم لها: مرحبا بابنة نبي ضيعه قومه ونحوه من الأخبار مما للحفاظ فيه مقال لا يصلح معه للاستدلال، وفي شروح الشفاء والإصابة للحافظ ابن حجر بعض الكلام في ذلك، وقيل: المراد بهم أهل الفترة من العرب وغيرهم حتى أهل الكتاب، والمعنى ما أتاهم نذير من قبلك بعد الضلال الذي حدث فيهم. هذا وكأني بك تحمل النذير هنا على الرسول الذي ينذر عن الله عزّ وجلّ وكذا في قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ ليوافق قوله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ [النحل: 36] وأظن أنك تجعل التنوين في أمة للتعظيم أي وأن من أمة جليلة معتنى بأمرها إلّا خلا فيها نذير ولقد بعثنا في كل أمة جليلة معتنى بأمرها رسولا أو تعتبر العرب أمة وبني إسرائيل أمة ونحو ذلك أمة دون أهل عصر واحد وتحمل من لم يأتهم نذير على جماعة من أمة لم يأتهم بخصوصهم نذير، ومما يستأنس به في ذلك أنه حين ينفي إتيان النذير ينفي عن قوم ونحوه لا عن أمة فليتأمل، وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام في هذا المقام، وجوز كون ما موصولة وقعت مفعولا ثانيا لتنذر ومِنْ نَذِيرٍ عليه متعلق بأتاهم أي لتنذر قوما العقاب الذي أتاهم من نذير من قبلك أي على لسان نذير من قبلك واختاره أبو حيان، وعليه لا مجال لتوهم الإشكال لكن لا يخفى أنه خلاف المتبادر الذي عليه أكثر المفسرين، والاقتصار على الإنذار في بيان الحكمة لأنه الذي يقتضيه قولهم: افْتَراهُ دون التبشير لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ أي لأجل أن يهتدوا بإنذارك إياهم أو راجيا لاهتدائهم، وجعل الترجي مستعارا للإرادة منسوبا إليه عزّ وجلّ نزغة اعتزالية: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ مرّ بيانه فيما سلف على مذهبي السلف والخلف ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أي ما لكم مجاوزين الله عزّ وجلّ أي رضاه سبحانه وطاعته تعالى ولي ولا شفيع أي لا ينفعكم هذان من الخلق عنده سبحانه دون رضاه جل جلاله- فمن دونه- حال من مجرور لَكُمْ والعامل الجار أو متعلقه، وعلى هذا المعنى لا دليل في الخطاب على أنه تعالى شفيع دون غيره ليقال: كيف ذاك وتعالى جل شأنه أن يكون شفيعا، وكفى في ذلك رده صلّى الله عليه وسلم على الأعرابي حيث قال: إنا نستشفع بالله تعالى إليك ، وقد يقال: الممتنع اطلاق الشفيع عليه تعالى بمعناه الحقيقي وأما إطلاقه عليه سبحانه بمعنى الناصر مجازا فليس بممتنع، ويجوز أن يعتبر ذلك هنا وحينئذ يجوز أن يكون مِنْ دُونِهِ حالا مما بعد قدم عليه لأنه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 117 نكرة ودون بمعنى غير، والمعنى ما لكم ولي ولا ناصر غير الله تعالى، ويجوز أن يكون حالا من المجرور كما في الوجه السابق، والمعنى ما لكم إذا جاوزتم ولايته ونصرته جل وعلا ولي ولا ناصر، ويظهر لي أن التعبير بالشفيع هنا من قبيل المشاكلة التقديرية لما أن المشركين المنذرين كثيرا ما كانوا يقولون في آلهتهم هؤلاء شفعاؤنا ويزعمون أن كل واحد منها شفيع لهم أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ أي ألا تسمعون هذه المواعظ فلا تتذكرون بها أو أتسمعونها فلا تتذكرون بها، فالإنكار على الأول متوجه إلى عدم السماع وعدم التذكر معا، وعلى الثاني إلى عدم التذكر مع تحقق ما يوجبه من السماع. يُدَبِّرُ الْأَمْرَ قيل: أي أمر الدنيا وشؤونها، وأصل التدبير النظر في دابر الأمر والتفكر فيه ليجيء محمود العاقبة وهو في حقه عزّ وجلّ مجاز عن إرادة الشيء على وجه الإتقان ومراعاة الحكمة والفعل مضمن معنى الإنزال والجار أن في قوله تعالى: مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ متعلقان به ومن ابتدائية وإلى انتهائية أي يريده تعالى على وجه الإتقان ومراعاة الحكمة منزلا له من السماء إلى الأرض، وإنزاله من السماء باعتبار أسبابه فإن أسبابه سماوية من الملائكة عليهم السلام وغيرهم ثُمَّ يَعْرُجُ أي يصعد ويرتفع ذلك الأمر بعد تدبيره إِلَيْهِ عزّ وجلّ وهذا العروج مجاز عن ثبوته في علمه تعالى أي تعلق علمه سبحانه به تعلقا تنجيزيا بأن يعمله جلّ وعلا موجودا بالفعل أو عن كتابته في صحف الملائكة عليهم السلام القائمين بأمره عزّ وجلّ موجودا كذلك فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ أي في برهة متطاولة من الزمان فليس المراد حقيقة العدد، وعبر عن المدة المتطاولة بالألف لأنها منتهى المراتب وأقصى الغايات وليس مرتبة فوقها إلا ما يتفرع منها من أعداد مراتبها، والفعلان متنازعان في الجار والمجرور وقد أعمل الثاني منهما فيه فتفيد الآية طول امتداد الزمان بين تعلق إرادته سبحانه بوجود الحوادث في أوقاتها متقنة مراعي فيها الحكمة وبين وجودها كذلك، وظاهرها يقتضي أن وجودها لا يتوقف على تعلق الإرادة مرة أخرى بل يكفي فيه التعلق السابق وقيل: فِي يَوْمٍ متعلق بيعرج وليس الفعلان متنازعين فيه، والمراد بعروج الأمر إليه بعد تدبيره سبحانه إياه وصول خبر وجوده بالفعل كما دبر جل وعلا بواسطة الملك وعرضه ذلك في حصرة قد أعدها سبحانه للاختبار بما هو جلّ جلاله أعلم به اظهار الكمال عظمته تبارك وتعالى وعظيم سلطنته جلت سلطنته وهذا كعرض الملائكة عليهم السلام أعمال العباد الوارد في الأخبار، وألف سنة على حقيقتها وهي مسافة ما بين الأرض ومحدب السماء الدنيا بالسير المعهود للبشر فإن ما بين السماء والأرض خمسمائة عام وثخن السماء كذلك كما جاء في الأخبار الصحيحة والملك يقطع ذلك في زمان يسير فالكلام على التشبيه فكأنه قيل: يريد تعالى الأمر متقنا مراعي فيه الحكمة بأسباب سماوية نازلة آثارها وأحكامها إلى الأرض فيكون كما أراد سبحانه فيعرج ذلك الأمر مع الملك ويرتفع خبره إلى حضرته سبحانه في زمان هو كألف سنة مما تعدون، وقيل: العروج إليه تعالى صعود خبر الأمر مع الملك إليه عزّ وجلّ كما هو مروي عن ابن عباس، وقتادة، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك والفعلان متنازعان في يَوْمٍ والمراد أنه زمان تدبير الأمر لو دبره البشر وزمان العروج لو كان منهم أيضا وإلا فزمان التدبير والعروج يسير، وقيل: المعنى يدبر أمر الدنيا بإظهاره في اللوح المحفوظ فينزل الملك الموكل به من السماء إلى الأرض ثم يرجع الملك أو الأمر مع الملك إليه تعالى في زمان هو نظر للنزول والعروج كألف سنة مما تعدون، وأريد به مقدار ما بين الأرض ومقعر سماء الدنيا ذهابا وإيابا، والظاهر أن يُدَبِّرُ عليه مضمن معنى الإنزال، والجاران متعلقان به لا بفعل محذوف أي فينزل به الملك من السماء إلى الأرض كما قيل، وزعم بعضهم أن ضمير إِلَيْهِ للسماء وهي قد تذكر كما في قوله تعالى: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [المزمل: 18] وقيل: المعنى يدبر سبحانه أمر الدنيا كلها من السماء الجزء: 11 ¦ الصفحة: 118 الى الأرض لكل يوم من أيام الرب جلّ شأنه وهو ألف سنة كما قال سبحانه: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج: 47] ثم يصير إليه تعالى ويثبت عنده عزّ وجلّ ويكتب في صحف ملائكته جلّ وعلا كل وقت من أوقات هذه المدة ما يرتفع من ذلك الأمر ويدخل تحت الوجود إلى أن تبلغ المدة آخرها ثم يدبر أيضا ليوم آخر وهلم جرا إلى أن تقوم الساعة، ويشير إلى هذا ما روي عن مجاهد قال: إنه تعالى يدبر ويلقي إلى الملائكة أمور ألف سنة من سنينا وهو اليوم عنده تعالى فإذا فرغت ألقي إليهم مثلها، وعليه الأمر بمعنى الشأن والجاران متعلقان به أو بمحذوف حال منه ولا تضمين في يُدَبِّرُ والعروج إليه تعالى مجاز عن ثبوته وكتبه في صحف الملائكة وأَلْفَ سَنَةٍ على ظاهره وفِي يَوْمٍ يتعلق بالفعلين واعمل الثاني كأنه قيل: يدبر الأمر ليوم مقداره كذا ثم يعرج إليه تعالى فيه كما تقول: قصدت ونظرت في الكتاب أي قصدت إلى الكتاب ونظرت فيه، ولا يمنع اختلاف الصلتين من التنازع، وتكرار التدبير إلى يوم القيامة يدل عليه العدول إلى المضارع مع أن الأمر ماض كأنه قيل: يجدد هذا الأمر مستمرا وقيل: المعنى يدبر أمر الدنيا من السماء إلى الأرض إلى أن تقوم الساعة ثم يعرج إليه تعالى ذلك الأمر كله أي يصير إليه سبحانه ليحكم فيه في يوم كان مقداره ألف سنة وهو يوم القيامة، وعليه الأمر بمعنى الشأن والجاران متعلقان به أو بمحذوف حال له كما في سابقه، والعروج إليه تعالى الصيرورة إليه سبحانه لا ليثبت في صحف الملائكة بل ليحكم جلّ وعلا فيه. وفِي يَوْمٍ متعلق بالعروج ولا تنازع، والمراد بيوم مقداره كذا يوم القيامة، ولا ينافي هذا قوله تعالى: كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج: 4] بناء على أحد الوجهين فيه لتفاوت الاستطالة على حسب الشدة أو لأن ثم خمسين موطنا كل موطن ألف سنة، وقيل: المعنى ينزل الوحي مع جبريل عليه السلام من السماء إلى الأرض ثم يرجع إليه تعالى ما كان من قبوله أو رده مع جبريل عليه السلام في يوم مقدار مسافة السير فيه ألف سنة وهو ما بين السماء والأرض هبوطا وصعودا، فالأمر عليه مراد به الوحي كما في قوله تعالى: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ [غافر: 15] والعروج إليه تعالى عبارة عن خبر القبول والرد مع عروج جبريل عليه السلام والتدبير والعروج في اليوم لكن على التوسع والتوزيع فالفعلان متنازعان في الظرف ولكن لا اختلاف في الصلة ولا تنافي الآية على هذا قوله تعالى شأنه: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ بناء على الوجه الآخر فيه وستعرفهما إن شاء الله تعالى لأن العروج فيه إلى العرش وفيها الى السماء الدنيا وكلاهما عروج إلى الله تعالى على التجوز. وقيل: المراد بالأمر المأمور به من الطاعات والأعمال الصالحات، والمعنى ينزل سبحانه ذلك مدبرا من السماء إلى الأرض ثم لا يعمل به ولا يصعد إليه تعالى ذلك المأمور به خالصا يرتضيه إلا في مدة متطاولة لقلة الخلص من العباد وعليه يُدَبِّرُ مضمن معنى الإنزال ومن وإلى متعلقان به، ومعنى العروج الصعود كما في قوله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر: 10] والغرض من الألف استطالة المدة، والمعنى استقلال عبادة الخلص واستطالة مدة ما بين التدبير والوقوع، وثُمَّ للاستبعاد، واستدل لهذا المعنى بقوله تعالى إثر ذلك: قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ [الأعراف: 10، المؤمنون: 78، السجدة: 9] لأن الكلام بعضه مربوط بالبعض وقلة الشكر مع وجود تلك الإنعامات دالة على الاستقلال المذكور. وقيل: المعنى يدبر أمور الشمس في طلوعها من المشرق وغروبها في المغرب ومدارها في العالم من السماء إلى الأرض وزمان طلوعها إلى أن تغرب وترجع إلى موضعها من الطلوع مقداره في المسافة ألف سنة وهي تقطع ذلك في يوم وليلة. هذا ما قالوه في الآية الكريمة في بيان المراد منها، ولا يخفى على ذي لب تكلف أكثر هذه الأقوال الجزء: 11 ¦ الصفحة: 119 ومخالفته للظاهر جدا وهي بين يديك فاختر لنفسك ما يحلو، ويظهر لي أن المراد بالسماء جهة العلو مثلها في قوله تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ [الملك: 16] وبعروج الأمر إليه تعالى صعود خبره كما سمعت عن الجماعة وفِي يَوْمٍ متعلق بالعروج بلا تنازع، وأقول: إن الآية من المتشابه وأعتقد أن الله تعالى يدبر أمور الدنيا وشؤونها ويريدها متقنة وهو سبحانه مستو على عرشه وذلك هو التدبير من جهة العلو ثم يصعد خبر ذلك مع الملك إليه عزّ وجلّ إظهارا لمزيد عظمته جلت عظمته وعظيم سلطنته عظمت سلطنته إلى حكم هو جلّ وعلا أعلم بها وكل ذلك بمعنى لائق به تعالى مجامع للتنزيه مباين للتشبيه حسبما يقوله السلف في أمثاله، وقول بعضهم: العرش موضع التدبير وما دونه موضع التفصيل وما دون السماوات موضع التصريف فيه رائحة ما مما ذكرنا، وأما تقدير يوم العروج هنا بألف سنة وفي آية أخرى بخمسين ألف سنة فقد كثر الكلام في توجيهه وقد تقدم لك بعض منه. وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في المصاحف، والحاكم وصححه عن عبد الله بن أبي مليكة قال: دخلت على ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنا وعبد الله بن فيروز مولى عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه فسأله عن قوله تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ فكأن ابن عباس اتهمه فقال: ما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة؟ فقال: إنما سألتك لتخبرني فقال رضي الله تعالى عنه: هما يومان ذكرهما الله تعالى في كتابه الله تعالى أعلم بهما وأكره أن أقول في كتاب الله ما لا أعلم فضرب الدهر من ضرباته حتى جلست إلى ابن المسيب فسأله عنهما إنسان فلم يخبر ولم يدر فقلت: ألا أخبرك بما سمعت من ابن عباس؟ قال: بلى أخبرته فقال للسائل: هذا ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أبى أن يقول فيهما وهو أعلم مني. وبعض المتصوفة يسمون اليوم المقدر بألف سنة باليوم الربوبي واليوم المقدر بخمسين ألف سنة باليوم الإلهي، ومحيي الدين قدس سره يسمى الأول يوم الرب والثاني يوم المعارج، وقد ذكر ذلك وأياما أخر كيوم الشأن ويوم المثل ويوم القمر ويوم الشمس ويوم زحل وأيام سائر السيارة ويوم الحمل وأيام سائر البروج في الفتوحات. وقد سألت رئيس الطائفة الكشفية الحادثة في عصرنا في كربلاء عن مسألة فكتب في جوابها ما كتب واستطرد بيان إطلاقات اليوم وعد من ذلك أربعة وستين إطلاقا، منها إطلاقه على اليوم الربوبي وإطلاقه على اليوم الإلهي وأطال الكلام في ذلك المقام، ولعلنا إن شاء الله تعالى ننقل لك منه شيئا معتدا به في موضع آخر، وسنذكر إن شاء الله تعالى أيضا تمام الكلام فيما يتعلق بالجمع بين هذه الآية وقوله سبحانه تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج: 4] وقوله تعالى: مِمَّا تَعُدُّونَ صفة أَلْفَ أو صفة سَنَةٍ. وقرأ ابن أبي عبلة «يعرج» بالبناء للمفعول والأصل يعرج به فحذف الجار واستتر الضمير. وقرأ جناح بن حبيش «ثم يعرج الملائكة» إليه بزيادة الملائكة قال أبو حيان: ولعله تفسير منه لسقوطه في سواد المصحف. وقرأ السلمي، وابن وثاب، والأعمش والحسن بخلاف عنه «يعدون» بياء الغيبة ذلِكَ أي الذات الموصوف بتلك الصفات المقتضية للقدرة التامة والحكمة العامة عالِمُ الْغَيْبِ أي كل ما غاب عن الخلق وَالشَّهادَةِ أي كل ما شاهده الخلق فيدبر سبحانه ذلك على وفق الحكمة، وقيل: الغيب الآخرة والشهادة الدنيا الْعَزِيزُ الغالب على أمره الرَّحِيمُ للعباد، وفيه إيماء بأنه عزّ وجلّ متفضل فيما يفعل جلّ وعلا، واسم الإشارة مبدأ والأوصاف الثلاثة بعده أخبار له، ويجوز أن يكون الأول خبرا والأخيران نعتان للأول. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما بخفض الأوصاف الثلاثة على أن ذلك إشارة إلى الأمر مرفوع المحلى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 120 على أنه فاعل يَعْرُجُ والأوصاف مجرورة على البدلية من ضمير إِلَيْهِ وقرأ أبو زيد النحوي بخفض الوصفين الأخيرين على أن ذلِكَ إشارة إلى الله تعالى مرفوع المحل على الابتداء وعالِمُ خبره والوصفان مجروران على البدلية من الضمير، وقوله تعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ خبر رابع أو نعت ثالث أو نصب على المدح، وجوز أبو البقاء كونه خبر مبتدأ محذوف أي هو الذي، وكون الْعَزِيزُ مبتدأ والرَّحِيمُ صفته وهذا خبره وجملة خَلَقَهُ في محل جر صفة شَيْءٍ ويجوز أن تكون في محل نصب صفة كُلَّ واحتمال الاستئناف بعيد أي حسن سبحانه كل مخلوق من مخلوقاته لأنه ما من شيء منها إلا وهو مرتب على ما اقتضته الحكمة واستدعته المصلحة فجميع المخلوقات حسنة وإن تفاوتت في مراتب الحسن كما يشير إليه قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين: 4] ونفى التفاوت في خلقه تعالى في قوله سبحانه: ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ [الملك: 3] على معنى ستعرفه إن شاء الله تعالى غير مناف لما ذكر، وجوز أن يكون المعنى علم كيف يخلقه من قوله، قيمة المرء ما يحسن وحقيقته يحسن معرفته أي يعرفه معرفة حسنة بتحقيق وإيقان، ولا يخفى بعده. وقرأ العربيان، وابن كثير «خلقه» بسكون اللام فقيل: هو بدل اشتمال من كُلَّ والضمير المضاف إليه له وهو باق على المعنى المصدري، وقيل: هو بدل كل من كل أو بدل بعض من كل والضمير لله تعالى وهو بمعنى المخلوق، وقيل: هو مفعول ثان لأحسن على تضمينه معنى أعطى أي أعطى سبحانه كل شيء خلقه اللائق به بطريق الإحسان والتفضل، وقيل: هو المفعول الأول وكُلَّ شَيْءٍ المفعول الثاني وضميره لله سبحانه على تضمين الإحسان معنى الإلهام كما قال الفراء أو التعريف كما قال أبو البقاء، والمعنى أللهم أو عرف خلقه كل شيء مما يحتاجون إليه فيؤول إلى معنى قوله تعالى: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: 50] . واختار أبو علي في الحجة ما ذكره سيبويه في الكتاب أنه مفعول مطلق لأحسن من معناه والضمير لله تعالى نحو قوله تعالى: صُنْعَ اللَّهِ [النمل: 88] ووَعْدَ اللَّهِ [النساء: 122 وغيرها] وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ أي آدم عليه السلام مِنْ طِينٍ أو بدأ خلق هذا الجنس المعروف مِنْ طِينٍ حيث بدأ خلق آدم عليه السلام خلقا منطويا على فطرة سائر أفراد الجنس انطواء إجماليا منه، وقرأ الزهري «بدا» بالألف بدلا من الهمزة قال في البحر: وليس القياس في هدأ هدا بإبدال الهمزة ألفا بل قياس هذه الهمزة التسهيل بين بين على أن الأخفش حكى في قرأت قريت قيل: وهي لغة الأنصار فهم يقولون في بدأ بدي بكسر عين الكلمة وياء بعدها، وطيىء يقولون في فعل هذا نحو بقي بقي كرمي فاحتمل أن تكون قراءة الزهري على هذه اللغة بأن يكون الأصل بدى ثم صار بدا، وعلى لغة الأنصار قال ابن رواحة: باسم الإله وبه بدينا ... ولو عبدنا غيره شقينا ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ أي ذريته سميت بذلك لأنها تنسل وتنفصل منه مِنْ سُلالَةٍ أي خلاصة وأصلها ما يسل ويخلص بالتصفية مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ممتهن لا يعتنى به وهو المني ثُمَّ سَوَّاهُ عدله بتكميل أعضائه في الرحم وتصويرها على ما ينبغي، وأصل التسوية جعل الأجزاء متساوية، وثُمَّ للترتيب الرتبي أو الذكري وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ أضاف الروح إليه تعالى تشريفا له كما في بيت الله تعالى وناقة الله تعالى وإشعارا بأنه خلق عجيب وصنع بديع، وقيل: إضافة لذلك إيماء إلى أن له شأنا له مناسبة ما إلى حضرة الربوبية. ومن هنا قال أبو بكر الرازي: من عرف نفسه فقد عرف ربه، ونفخ الروح قيل: مجاز عن جعلها متعلقة بالبدن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 121 وهو أوفق بمذهب القائلين بتجرد الروح وأنها غير داخلة في البدن من الفلاسفة وبعض المتكلمين كحجة الإسلام الغزالي عليه الرحمة، وقيل: هو على حقيقته والمباشر له الملك الموكل على الرحم وإليه ذهب القائلون بأن الروح جسم لطيف كالهواء سار في البدن سريان ماء الورد في الورد والنار في الجمر، وهو الذي تشهد له ظواهر الأخبار وأقام العلامة ابن القيم عليه نحو مائة دليل. وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ التفات إلى الخطاب لا يخفى موقع ذكره بعد نفخ الروح وتشريفه بخلعة الخطاب حين صلح للخطاب والجعل ابداعي واللام متعلقة به، والتقدم على المفعول الصريح لما مرّ مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر مع ما فيه من نوع طول يخل تقديمه بجزالة النظم الكريم، وتقديم السمع لكثرة فوائده فإن أكثر أمور الدين لا تعلم إلّا من جهته وأفرد لأنه في الأصل مصدر. وقيل: للإيماء إلى أن مدركه نوع واحد وهو الصوت بخلاف البصر فإنه يدرك الضوء واللون والشكل والحركة والسكون وبخلاف الفؤاد فإنه يدرك مدركات الحواس بواسطتها وزيادة على ذلك أي خلق لمنفعتكم تلك المشاعر لتعرفوا أنها مع كونها في أنفسها نعما جليلة لا يقادر قدرها وسائل إلى التمتع بسائر النعم الدينية والدنيوية الفائضة عليكم وتشكروها بأن تصرفوا كلا منها إلى ما خلق هو له فتدركوا بسمعكم الآيات التنزيلية الناطقة بالتوحيد والبعث وبأبصاركم الآيات التكوينية الشاهدة بهما وتستدلوا بأفئدتكم على حقيتهما، وقوله تعالى: قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ بيان لكفرهم بتلك النعم بطريق الاعتراض التذييلي والقلة بمعنى النفي كما ينبىء عنه ما بعده. ونصب الوصف على أنه صفة لمحذوف وقع معمولا لتشكرون أي شكرا قليلا تشكرون أو زمانا قليلا تشكرون. واستظهر الخفاجي عليه الرحمة كون الجملة حالية لا اعتراضية الجزء: 11 ¦ الصفحة: 122 وَقالُوا كلام مستأنف مسوق لبيان أباطيلهم بطريق الالتفات إيذانا بأن ما ذكر من عدم شكرهم تلك النعم موجب للاعراض عنهم وتعديد جناياتهم لغيرهم بطريق المباثة، وروي أن القائل أبي بن خلف فضمير الجمع لرضا الباقين بقوله أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أي ضعنا فيه بأن صرنا ترابا مخلوطا بترابها بحيث لا نتميز منه فهو من ضل المتاع إذا ضاع أو غبنا فيها بالدفن وإن لم نصر ترابا وإليه ذهب قطرب، وأنشد قول النابغة يرثي النعمان بن المنذر: وآب مضلوه بعين جلية ... وغودر بالجولان حزم ونائل وقرأ يحيى بن يعمر، وابن محيصن، وأبو رجاء، وطلحة، وابن وثاب «ضللنا» بكسر اللام ويقال: ضل يضل كضرب يضرب وضل يضل كعلم يعلم وهما بمعنى والأول اللغة المشهورة الفصيحة وهي لغة نجد والثاني لغة أهل العالية. وقرأ أبو حيوة ضللنا بضم الضاد المعجمة وكسر اللام ورويت عن علي كرم الله تعالى وجهه. وقرأ الحسن، والأعمش، وأبان بن سعيد بن العاصي «صللنا» بالصاد المهملة وفتح اللام ونسبت إلى علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وعن الحسن أنه كسر اللام ويقال فيه نحو ما يقال في ضل بالضاد المعجمة وزيادة أصل بالهمزة كافعل، قال الفراء: والمعنى صرنا بين الصلة وهي الأرض اليابسة الصلبة كأنها من الصليل لأن اليابس الصلب إذا انشق يكون له صليل. وقيل: أنتنا من الصلة وهو النتن، وقيل للأرض الصلة لأنها است الدنيا وتقول العرب ضع الصلة على الصلة، وقال النحاس لا نعرف في اللغة صللنا ولكن يقال أصل اللحم وصل وأخم وخم إذا نتن وهذا غريب منه. وقرأ ابن عامر «إذا» بترك الاستفهام والمراد الإخبار على سبيل الاستهزاء والتهكم والعامل في «إذا» ما دلّ عليه قوله تعالى: إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ وهو نبعث أو يجدد خلقنا، ولا يصح أن يكون هو العامل لمكان الاستفهام وإن وكل منهما لا يعمل ما بعده فيما قبله ويعتبر ما ذكر من نبعث أو يجدد خلقنا جوابا لإذا إذا اعتبرت شرطية لا ظرفية محضة والهمزة للإنكار والمراد تأكيد الإنكار لا إنكار التأكيد كما هو المتبادر من تقديمها على أداته فإنها مؤخرة عنها في الاعتبار وتقديمها عليها لقوة اقتضائها الصدارة. وقرأ نافع، والكسائي، ويعقوب «إنا» بترك الاستفهام على نحو ما ذكر آنفا بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ إضراب وانتقال عن بيان كفرهم بالبعث إلى بيان ما هو أبلغ وأشنع منه وهو كفرهم بلقاء ملائكة ربهم عند الموت وما يكون بعده جميعا، وقيل: هو إضراب وترق من التردّد في البعث واستبعاده إلى الجزم بجحده بناء على أن لقاء الرب كناية عن البعث، ولا يضر فيه على ما يقال الخفاجي كون الاستفهام السابق إنكاريا وهو يؤول إلى الجحد فتأمل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 123 قُلْ ردا عليهم يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ يستوفي نفوسكم لا يترك منها شيئا من أجزائها أو لا يترك شيئا من جزئياتها ولا يبقي أحدا منكم، وأصل التوفي أخذ الشيء بتمامه، وفسر بالاستيفاء لأن التفعل والاستفعال يلتقيان كثيرا كتقضيته واستقضيته وتعجلته واستعجلته، ونسبة التوفي إلى ملك الموت باعتبار أنه عليه الصلاة والسلام يباشر قبض الأنفس بأمره عزّ وجلّ كما يشير إلى قوله سبحانه: الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ أي بقبض أنفسكم ومعرفة انتهاء آجالكم. وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن أبي جعفر محمد بن علي رضي الله تعالى عنهما قال: دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على رجل من الأنصار يعوده فإذا ملك الموت عليه السلام عند رأسه فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: يا ملك الموت ارفق بصاحبي فإنه مؤمن فقال: أبشر يا محمد فإني بكل مؤمن رفيق واعلم يا محمد أني لأقبض روح ابن آدم فيصرح أهله فأقوم في جانب من الدار فأقول والله ما لي من ذنب وإن لي لعودة وعودة الحذر الحذر وما خلق الله تعالى من أهل بيت ولا مدر ولا شعر ولا وبر في بر ولا بحر إلّا وأنا أتصفحهم فيه كل يوم وليلة خمس مرات حتى أني لأعرف بصغيرهم وكبيرهم منهم بأنفسهم والله يا محمد إني لا أقدر أقبض روح بعوضة حتى يكون الله تبارك وتعالى الذي يأمر بقبضه، وأخرج نحوه الطبراني، وأبو نعيم، وابن منده ونسبته إليه عزّ وجلّ في قوله سبحانه: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ [الزمر: 42] باعتبار أن أفعال العباد كلها مخلوطة له جلّ وعلا لا مدخل للعباد فيها بسوى الكسب كما يقوله الأشاعرة أو باعتبار أن ذلك بإذنه تعالى ومشيئته جلّ شأنه ونسبته إلى الرسل في قوله تعالى: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا [الأنعام: 61] وإلى الملائكة في قوله سبحانه: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ [النحل: 28] لما أن ملك الموت لا يستقل به بل له أعوان كما جاء في الآثار يعالجون نزع الروح حتى إذا قرب خروجها قبضها ملك الموت، وقيل: المراد بملك الموت الجنس، وقال بعضهم: إن بعض الناس يتوفاهم ملك الموت وبعضهم يتوفاهم الله عزّ وجلّ بنفسه، أخرج ابن ماجة عن أبي أمامة قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يقول إن الله تعالى وكل ملك الموت عليه السلام بقبض الأرواح إلا شهداء البحر فإنه سبحانه يتولى قبض أرواحهم» . وجاء ذلك أيضا في خبر آخر يفيد أن ملك الموت للأنس غير ملك الموت للجن والشياطين وما لا يعقل. أخرج ابن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: وكل ملك الموت عليه السلام بقبض أرواح المؤمنين فهو الذي يلي قبض أرواحهم وملك في الجن وملك في الشياطين وملك في الطير والوحش والسباع والحيتان والنمل فهم أربعة أملاك والملائكة يموتون في الصعقة الأولى وأن ملك الموت يلي قبض أرواحهم ثم يموت وأما الشهداء في البحر فإن الله تعالى يلي قبض أرواحهم لا يكل ذلك إلى ملك الموت بكرامتهم عليه سبحانه. والذي ذهب إليه الجمهور أن ملك الموت لمن يعقل وما لا يعقل من الحيوان واحد وهو عزرائيل ومعناه عبد الله فيما قيل نعم له أعوان كما ذكرنا، وخبر الضحاك عن ابن عباس الله تعالى أعلم بصحته ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ بالبعث للحساب والجزاء. ومناسبة هذه الآية لما قبلها على ما ذكرنا في توجيه الإضراب ظاهرة لأنهم لما جحدوا لقاء ملائكة ربهم عند الموت وما يكون بعده ذكر لهم حديث توفى ملك الموت إياهم إيماء إلى أنهم سيلاقونه وحديث الرجوع إلى الله تعالى بالبعث للحساب والجزاء، وأما على ما قيل فوجه المناسبة أنهم لما أنكر والبعث والمعاد رد عليهم بما ذكر لتضمن قوله تعالى: ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ البعث وزيادة ذكر توفي ملك الموت إياهم وكونه موكلا بهم لتوقف البعث على وفاتهم ولتهديدهم وتخويفهم وللإشارة إلى أن القادر على الإماتة قادر على الإحياء، وقيل: إن ذلك لرد ما يشعر به كلامهم من أن الموت بمقتضى الطبيعة حيث أسندوه إلى أنفسهم في قولهم: أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ فليس عندهم بفعل الله تعالى ومباشرة ملائكته، ولا يخفى بعده. وأبعد منه ما قيل في المناسبة: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 124 إن عزرائيل وهو عبد من عبيده تعالى إذا قدر على تخليص الروح من البدن مع سريانها فيه سريان ماء الورد في الورد والنار في الجمر فكيف لا يقدر خالق القوى والقدر جل شأنه على تمييز أجزائهم المختلطة بالتراب وكيف يستبعد البعث مع القدرة الكاملة له عزّ وجلّ لما أن ذلك السريان مما خفي على العقلاء حتى أنكره بعضهم فكيف بجهلة المشركين فتأمل. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «ترجعون» بالبناء للفاعل وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ وهم القائلون: أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أو جنس المجرمين وهو من حملتهم ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ مطرقوها من الحياء والخزي عِنْدَ رَبِّهِمْ حين حسابهم لم يظهر من قبائحهم التي اقترفوها في الدنيا. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «نكسوا رؤوسهم» فعلا ماضيا ومفعولا رَبَّنا بتقدير القول الواقع حالا والعامل فيه ناكِسُوا أي يقولون ربنا إلخ وهو أولى من تقدير يستغيثون بقولهم: ربنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا أي صرنا ممن يبصر ويسمع وحصل لنا الاستعداد لإدراك الآيات المبصرة والآيات المسموعة وكنا من قبل عميا صما لا ندرك شيئا فَارْجِعْنا إلى الدنيا نَعْمَلْ صالِحاً حسبما تقتضيه تلك الآيات وهذا على ما قيل ادعاء منهم لصحة مشعري البصر والسمع، وقوله تعالى: إِنَّا مُوقِنُونَ استئناف لتعليل ما قبله، وقيل: استئناف لم يقصد به التعليل، وعلى التقديرين هو متضمن لادعائهم صحة الأفئدة والاقتدار على فهم معاني الآيات والعمل بما يوجبها، وفيه من إظهار الثبات على الإيقان وكمال رغبتهم فيه ما فيه، وكأنه لذلك لم يقولوا: أبصرنا وسمعنا وأيقنا فارجعنا إلخ، ولعل تأخير السمع لأن أكثر العمل الصالح الموعود يترتب عليه دون البصر فكان عدم الفصل بينهما بالبصر أولى، ويجوز أن يقدر لكل من الفعلين مفعول مناسب له مما يبصرونه ويسمعونه بأن يقال: أبصرنا البعث الذي كنا ننكره وما وعدتنا به على إنكاره وسمعنا منك ما يدل على تصديق رسلك عليهم السلام ويراد به نحو قوله تعالى: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا [الأنعام: 130] لا الإخبار الصريح بلفظ أن رسلي صادقون مثلا أو يقال أبصرنا البعث وما وعدتنا به وسمعنا قول الرسل أي سمعناه سمع طاعة وإذعان أو يقال: أبصرنا قبح أعمالنا التي كنا نراها في الدنيا حسنة وسمعنا قول الملائكة لنا إن مردكم إلى النار، وقيل: أرادوا أبصرنا رسلك وسمعنا كلامهم حين كنا في الدنيا أو أبصرنا آياتك التكوينية وسمعنا آياتك التنزيلية في الدنيا فلك الحجة علينا وليس لنا حجة فارجعنا إلخ، ولا يخفى حال هذا القيل، وعلى سائر هذه التقادير وجه تقديم الأبصار على السماع ظاهر، و «لو» هي التي سماها غير واحد امتناعية وجوابها محذوف تقديره لرأيت أمرا فظيعا لا يقادر قدره. والخطاب في «ترى» لكل أحد ممن يصح منه الرؤية إذ المراد بيان كمال سوء حالهم وبلوغها من الفظاعة إلى حيث لا يختص استغرابها واستفظاعها براء دون راء ممن اعتاد مشاهدة الأمور البديعة والدواهي الفظيعة بل كل من يتأتى منه الرؤية يتعجب من هولها وفظاعته، وقيل: لأن القصد إلى بيان أن حالهم قد بلغت من الظهور إلى حيث يمتنع خفاؤها البتة فلا يختص برؤيتها راء دون راء، والجواب المقدر أوفق بما ذكر أولا، والفعل منزل منزلة اللازم فلا يقدر له مفعول أي لو تكن منك رؤية في ذلك الوقت لرأيت أمرا فظيعا، وجوز أن يكون الخطاب خاصا بسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلم ولَوْ للتمني كأنه قيل: ليتك ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم لتشمت بهم، وحكم التمني منه تعالى حكم الترجي وقد تقدم، ولا جواب لها حينئذ عند الجمهور، وقال أبو حيان، وابن مالك: لا بد لها من الجواب استدلالا بقول مهلهل في حرب البسوس: فلو نبش المقابر عن كليب ... فيخبر بالذنائب أي زير بيوم الشعثمين لقر عينا ... وكيف لقاء من تحت القبور الجزء: 11 ¦ الصفحة: 125 فإن لو فيه للتمني بدليل نصب فيخبر وله جواب وهو قوله لقر، ورد بأنها شرطية ويخبر عطف على مصدر متصيد من نبش كأنه قيل: لو حصل نبش فأخبار، ولا يخفى ما فيه من التكلف، وقال الخفاجي عليه الرحمة: لو قيل: إنها لتقدير التمني معها كثيرا أعطيت حكمه واستغنى عن تقدير الجواب فيها إذا لم يذكر كما في الوصلية ونصب جوابها كان أسهل مما ذكر، وجوز أن يقدر لترى مفعول دلّ عليه ما بعد أي لو ترى المجرمين أو لو ترى نكسهم رؤوسهم والمضي في لو الامتناعية وإذ لأن أخباره تعالى عما تحقق في علمه الأزلي لتحققه بمنزلة الماضي فيستعمل فيه ما دلّ على المضي مجازا كلو وإذ، هذا ومن الغريب قول أبي العباس في الآية: المعنى قل يا محمد للمجرم ولو ترى وقد حكاه عنه أبو حيان ثم قال: رأى أن الجملة معطوفة على يَتَوَفَّاكُمْ داخلة تحت قُلْ السابق ولذا لم يجعل الخطاب فيه للرسول عليه الصلاة والسلام انتهى كلامه فلا تغفل. وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها مقدر بقول معطوف على مقدر قبل قوله تعالى: رَبَّنا أَبْصَرْنا إلخ وهو جواب لقولهم فَارْجِعْنا يفيد أنهم لو أرجعوا لعادوا لما نهوا عنه لسوء اختيارهم وأنهم ممن لم يشأ الله تعالى إعطاؤهم الهدى أي ونقول: لو شئنا أي لو تعلقت مشيئتنا تعلقا فعليا بأن نعطي كل نفس من النفوس البرة والفاجرة هداها أي ما تهتدي به إلى الإيمان والعمل الصالح، وفسره بعضهم بنفس الإيمان والعمل الصالح والأول أولى، وأما تفسيره بما سأله الكثرة من الرجوع إلى الدنيا أو بالهداية إلى الجنة فليس بشيء لأعطيناها إياه في الدنيا التي هي دار الكسب وما أخرناه إلى دار الجزاء وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي أي ثبت وتحقق قولي وسبقت كلمتي حيث قلت لإبليس عند قوله: لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ. فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 84، 85] وهو المعنى بقوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ كما يلوح به تقديم الجنة على الناس فإنه في الخطاب لإبليس مقدم وتقديمه هناك لأنه الأوفق لمقام تحقير ذلك المخاطب عليه اللعنة، وقيل: التقديم في الموضعين لأن الجهنميين من الجنة أكثر. ويعلم مما ذكرنا وجه العدول عن ضمير العظمة في قوله سبحانه: وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا إلى ضمير الوحدة في قوله جلّ وعلا: وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي وذلك لأن ما ذكر إشارة إلى ما وقع في الرّد على اللعين وقد وقع فيه القول والإملاء مسندين إلى ضمير الوحدة ليكون الكلام على طرز لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ [ص: 82، 83] في توحيد الضمير، وقد يقال: ضمير العظمة أوفق بالكثرة الدال عليها «كل نفس» والضمير الآخر أوفق بما دون تلك الكثرة الدال عليه مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أو يقال: إنه وحد الضمير في الوعيد لما أن المعنى به المشركون فكأنه أخرج الكلام على وجه لا يتوهم فيه متوهم نوعا من أنواع الشركة أصلا أو أخرج على وجه يلوح بما عدلوا عنه من التوحيد إلى ما ارتكبوه مما أوجب لهم الوعيد من الشرك، أو يقال: وحد الضمير في لَأَمْلَأَنَّ لأن الإملاء لا تعدد فيه فتوحيد الضمير أوفق به ويقال نظير ذلك في حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي والإيتاء يتعدد المؤتى فضمير العظمة أوفق به ويقال نظيره في شِئْنا فتدبر، ولا يلزم من قوله تعالى: أَجْمَعِينَ دخول جميع الجن والإنس فيها، وأما قوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم: 71] فالورود فيه غير الدخول، وقد مرّ الكلام في ذلك لأن أَجْمَعِينَ تفيد عموم الأنواع لا الإفراد فالمعنى لأملأنها من ذينك النوعين جميعا كملأت الكيس من الدراهم والدنانير جميعا كذا قيل، ورد بأنه لو قصد ما ذكر لكان المناسب التثنية دون الجمع بأن يقال كليهما، واستظهر أنها لعموم الأفراد والتعريف في الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ للعهد والمراد عصاتهما ويؤيده الآية المتضمنة خطاب إبليس، وحاصل الآية لو شئنا إيتاء كل نفس هداها لآتيناها إياه لكن تحقق القول مني لأملأن جهنم إلخ فبموجب ذلك القول لم نشأ إعطاء الهدى على العموم بل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 126 منعناه من أتباع إبليس الذين أنتم من جملتهم حيث صرفتم اختياركم إلى الغي بإغوائه ومشيئتنا لأفعال العباد منوطة باختيارهم إياها فلما لم تختاروا الهدى واخترتم الضلال لم نشأ إعطاءه لكم وإنما أعطيناه الذين اختاروه من البررة وهم المعنيون بما سيأتي إن شاء الله تعالى من قوله سبحانه: إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الآية فيكون مناط عدم مشيئته تعالى إعطاء الهدى في الحقيقة سوء اختيارهم لا تحقق القول، وإنما قيدت المشيئة بما مرّ من التعلق الفعلي بأفعال العباد عند حدوثها لأن المشيئة الأزلية من حيث تعلقها بما سيكون من أفعالهم إجمالا متقدمة على تحقق كلمة العذاب فلا يكون عدمها منوطا بتحققها وإنما مناطه علمه تعالى أنه لا يصرف اختيارهم فيما سيأتي إلى الغي وإيثارهم له على الهدى فلو أريدت هي من تلك الحيثية لاستدرك بعدمها بأن يقال: ولكن لم نشأ ونيط ذلك بما ذكر من المناط على منهاج قوله تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ [الأنفال: 23] كذا قال بعض الأجلة. وقد يقال: يجوز أن يراد بالمشيئة المشيئة الأزلية من حيث تعلقها بما سيكون من أفعالهم ويراد بالقول علم الله تعالى فإنه وكذا كلمة الله سبحانه يطلق على ذلك كما قال الراغب، وذكر منه قوله تعالى: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [يس: 7] وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ [يونس: 96] وحاصل المعنى لو شئنا في الأزل إيتاء كل نفس هداها في الدنيا لآتيناها إياه ولكن ثبت وتحقق علمي أزلا بتعذيب العصاة فبموجب ذلك لم نشأ إذ لا بد من وقوع المعلوم على طبق العلم لئلا يلزم انقلاب العلم جهلا ووقوع ذلك يستدعي وجود العصاة إذ تعذيب العصاة فرع وجودهم ومشيئة إيتاء الهدى كل نفس تستلزم طاعة كل نفس ضرورة استلزام العلة للمعلول فيلزم أن تكون النفس المعذبة عاصية طائعة وهو محال وهذا المحال جاء من مشيئته إيتاء كل نفس هداها مع علمه تعالى بتعذيب العصاة فإما أن ينتفي العلم المذكور وهو محال لأن تعلق علمه سبحانه بالمعلوم على ما هو عليه ضروري فتعين انتفاء المشيئة لذلك ويرجح هذا بالآخرة إلى أن سبب انتفاء مشيئته إيتاء الهدى للعصاة سوء ما هم عليه في أنفسهم لأن المشيئة تابعة للعلم والعلم تابع للمعلوم في نفسه فعلمه تعالى بتعذيب العصاة يستدعي علمه سبحانه إياهم بعنوان كونهم عصاة فلا يشاؤهم جلّ جلاله إلّا بهذا العنوان الثابت لهم في أنفسهم ولا يشاؤهم سبحانه على خلافه لأن مشيئته تعالى إياهم كذلك تستدعي تعلق العلم بالشيء على خلاف ما هو عليه في نفس الأمر وليس ذلك علما. ويمكن أن يبقى العلم على ظاهره ويقال: إنه تعالى لم يشأ هداهم لأنه جلّ وعلا قال لإبليس عليه اللعنة: إنه سبحانه يعذب أتباعه ولا بد ولا يقول تعالى خلاف ما يعلم فلا يشاء تبارك وتعالى خلاف ما يقول ويرجع بالآخرة أيضا إلى أنه تعالى لم يشأ هداهم لسوء ما هم عليه في أنفسهم بأدنى تأمل، وما آل الجواب على التقريرين لا فائدة لكم في الرجوع لسوء ما أنتم عليه في أنفسكم، ولا يخفى أن ما ذكر مبني على القول بالأعيان الثابتة وأن الشقي شقي في نفسه والسعيد سعيد في نفسه وعلم الله تعالى إنما تعلق بهما على ما هما عليه في أنفسهما وأن مشيئته تعالى إنما تعلقت بإيجادهما حسبما علم جلّ شأنه فوجدا في الخارج بإيجاده تعالى على ما هما عليه في أنفسهما فإذا تم هذا تم ذاك وإلا فلا، والفاء في قوله تعالى: فَذُوقُوا لترتيب الأمر بالذوق على ما يعرب عنه ما قيل من نفي الرجع إلى الدنيا أو على قوله تعالى: وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي إلخ، ولعل هذا أسرع تبادرا، وجعلها بعضهم واقعة في جواب شرط مقدر أي إذا يئستم من الرجوع أو إذا حق القول فذوقوا، وجوز كونها تفصيلية والأمر للتهديد والتوبيخ، والباء في قوله سبحانه: بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا للسببية و (ما) مصدرية وهذا صفة يوم جيء به للتهويل، وجوز كونه مفعول ذُوقُوا وهو إشارة إلى ما هم فيه من نكس الرؤوس والخزي والغم، وعلى الأول يكون مفعول ذُوقُوا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 127 محذوفا والوصفية أظهر أي فذوقوا بسبب نسيانكم لقاء هذا اليوم الهائل وترككم التفكر فيه والتزود له بالكلية، وهذا تصريح بسبب العذاب من قبلهم فلا ينافي أن يكون له سبب آخر حقيقيا كان أو غيره، والتوبيخ به من بين الأسباب لظهوره وكونه صادرا منهم لا يسعهم إنكاره، والمراد بنسيانهم ذلك تركهم التفكر فيه والتزود له كما أشرنا إليه وهو بهذا المعنى اختياري يوبخ عليه ولا يكاد يصح إرادة المعنى الحقيقي وإن صح التوبيخ عليه باعتبار تعمد سببه من الانهماك في اتباع الشهوات، ومثله في كونه مجازا النسيان في قوله تعالى: إِنَّا نَسِيناكُمْ أي تركناكم في العذاب ترك المنسي بالمرة وجعل بعضهم هذا من باب المشاكلة ولم يعتبر كون الأول مجازا مانعا منها قيل: والقرينة على قصد المشاكلة فيه أنه قصد جزاؤهم من جنس العمل فهو على حد وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: 40] ، وقوله تعالى: وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تكرير للتأكيد والتشديد وتعيين المفعول المبهم للذوق والإشعار بأن سببه ليس مجرد ما ذكر من النسيان بل به أسباب أخر من فنون الكفر والمعاصي التي كانوا مستمرين عليها في الدنيا، ولما كان فيه زيادة على الأول حصلت به مغايرته له استحق العطف عليه ولم ينظم الكل في سلك واحد للتنبيه على استقلال كل من النسيان وما ذكر في استيجاب العذاب، وفي إبهام المذوق أولا وبيانه ثانيا بتكرير الأمر وتوسيط الاستئناف المنبئ عن كمال السخط بينهما من الدلالة على غاية التشديد في الانتقام منهم ما لا يخفى. وقوله تعالى: إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا استئناف مسوق لتقرير عدم استحقاقهم لإيتاء الهدى والإشعار بعدم إيمانهم لو أوتوه بتعيين من يستحقه بطريق القصر كأنه قيل: إنكم لا تؤمنون بآياتنا الدالة على شؤوننا ولا تعملون بموجبها عملا صالحا ولو ارجعناكم إلى الدنيا وإنما يؤمن الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها أي وعظوا خَرُّوا سُجَّداً أثر ذي أثير من غير تردّد ولا تلعثم فضلا عن التسويف إلى معاينة ما نطقت به من الوعد والوعيد أي سقطوا ساجدين تواضعا لله تعالى وخشوعا وخوفا من عذابه عزّ وجلّ، قال أبو حيان: هذه السجدة من عزائم سجود القرآن، وقال ابن عباس: السجود هنا الركوع. وروي عن ابن جريج، ومجاهد ان الآية نزلت بسبب قوم من المنافقين كانوا إذا أقيمت الصلاة خرجوا من المسجد فكان الركوع يقصد من هذا ويلزم على هذا أن تكون الآية مدنية ومن مذهب ابن عباس أن القارئ لآية السجدة يركع واستدل بقوله تعالى وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ [ص: 24] اه. ولا يخفى ما في الاستدلال من المقال وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أي ونزهوه تعالى عند ذلك عن كل ما لا يليق به سبحانه من الأمور التي من جملتها العجز عن البعث ملتبسين بحمده تعالى على نعمائه جلّ وعلا التي من أجلها الهداية بإيتاء الآيات والتوفيق إلى الاهتداء بها فالحمد في مقابلة النعمة، والباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال، والتعرض لعنوان الربوبية بطريق الالتفات مع الإضافة إلى ضميرهم للإشعار بعلة التسبيح والتحميد بانهم يفعلونهما بملاحظة ربوبيته تعالى لهم وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن الإيمان والطاعة كما يفعل من يصر مستكبرا كأن لم يسمع الآيات، والجملة عطف على الصلة أو حال من أحد ضميري خَرُّوا وسَبَّحُوا وجوز عطفها على أحد الفعلين، وقوله تعالى: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ جملة مستأنفة لبيان بقية محاسنهم. وجوز أن تكون حالية أو خبرا ثانيا للمبتدأ، والتجافي البعد والارتفاع والجنوب جمع جنب الشقوق، وذكر الراغب أن أصل الجنب الجارحة ثم يستعار في الناحية التي تليها كعادتهم في استعارة سائر الجوارح لذلك نحو اليمين والشمال، والْمَضاجِعِ جمع المضجع أماكن الاتكاء للنوم أي تتنحى وترتفع جنوبهم عن مواضع النوم وهذا كناية عن تركهم النوم ومثله قول عبد الله بن رواحة يصف النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 128 نبي تجافى جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالمشركين المضاجع والمشهور أن المراد بذلك التجافي القيام لصلاة النوافل بالليل وهو قول الحسن، ومجاهد، ومالك، والأوزاعي، وغيرهم. وفي الأخبار الصحيحة ما يشهد له، أخرج أحمد، والترمذي، وصححه، والنسائي، وابن ماجة، ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم، وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان عن معاذ بن جبل قال: «كنت مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في سفر فأصبحت يوما قريبا منه ونحن نسير فقلت: يا نبي الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار؟ قال: لقد سألت عن عظيم وإنه يسير على من يسره الله تعالى عليه تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ثم قال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة وصلاة الرجل في جوف الليل ثم قرأ تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ حتى بلغ يعملون الحديث. وقال أبو الدرداء، وقتادة، والضحاك هو أن يصلي الرجل العشاء والصبح في جماعة، وعن الحسن، وعطاء هو أن لا ينام الرجل حتى يصلي العشاء، أخرج الترمذي وصححه، وابن جرير، وغيرهما عن أنس قال: إن هذه الآية تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ زلت في انتظار الصلاة التي تدعي العتمة، وفي رواية أخرى عنه أنه قال فيها نزلت فينا معاشر الأنصار كنا نصلي المغرب فلا نرجع إلى رحالنا حتى نصلي العشاء مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وقيل: هو أن يصلي الرجل المغرب ويصلي بعدها إلى العشاء، فقد أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن عدي، وابن مردويه عن مالك بن دينار قال: سألت أنس بن مالك عن هذه الآية تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ قال: كان قوم من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من المهاجرين الأولين يصلون المغرب ويصلون بعدها إلى عشاء الآخرة فنزلت هذه الآية فيهم، وقال قتادة، وعكرمة: هو أن يصلي الرجل ما بين المغرب والعشاء واستدل له بما أخرجه محمد بن نصر عن عبد الله بن عيسى قال: كان ناس من الأنصار يصلون ما بين المغرب والعشاء فنزلت فيهم تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية: تتجافى جنوبهم لذكر الله تعالى كلما استيقظوا ذكروا الله عزّ وجلّ إما في الصلاة وإما في قيام أو قعود أو على جنوبهم لا يزالون يذكرون الله تعالى، وروى نحوه هو ومحمد بن نصر عن الضحاك، والجمهور عولوا على ما هو المشهور، وفي فضل التهجد ما لا يحصى من الأخبار وأفضله على ما نص عليه غير واحد ما كان في الأسحار. يَدْعُونَ رَبَّهُمْ حال من ضمير جُنُوبُهُمْ وقد أضيف إليه ما هو جزء، وجوز على احتمال كون جملة تَتَجافى إلخ حالية أن تكون حالا ثانية مما جعلت تلك حالا منه وعلى احتمال كونها خبرا ثانيا للمبتدأ أن تكون خبرا ثالثا، وجوز كونها مستأنفة، والظاهر أن المراد بدعائهم ربهم سبحانه المعنى المتبادر، وقيل: المراد به الصلاة خَوْفاً أي خائفين من سخطه تعالى وعذابه عزّ وجلّ وعدم قبول عبادتهم وَطَمَعاً في رحمته تبارك وتعالى فالمصدران حالان من ضمير يَدْعُونَ وجوز أن يكونا مصدرين لمقدر أي يخافون خوفا ويطمعون طمعا وتكون الجملة حينئذ حالا، وأن يكونا مفعولا له ولا يخفى أن الآية على الحالية أمدح. وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ إياه من المال يُنْفِقُونَ في وجوه الخير فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ أي كل نفس من النفوس لا ملك مقرب ولا نبي مرسل فضلا عمن عداهم فإن النكرة في سياق النفي تعم. والفاء سببية أو فصيحة أي أعطوا فوق الجزء: 11 ¦ الصفحة: 129 رجاءهم فلا تعلم نفس ما أُخْفِيَ لَهُمْ أي لأولئك الذين عددت نعوتهم الجليلة مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ أي ما تقر به أعين، وفي إضافة القرة إلى الأعين على الإطلاق لا إلى أعينهم تنبيه على أن ما أخفي لهم في غاية الحسن والكمال. وروى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول الله تعالى: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بله ما أطلعتكم عليه اقرؤوا إن شئتم فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين» وأخرج الفريابي، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: إنه لمكتوب في التوراة «لقد أعد الله تعالى للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر» ولا يعلم ملك مقرب ولا نبي مرسل وأنه لفي القرآن فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي جوزوا جزاء بسبب ما كانوا يعملونه من الأعمال الصالحة فجزاء مفعول مطلق لفعل مقدر والجملة مستأنفة. وجوز جعلها حالية، وقيل: يجوز جعله مصدرا مؤكدا لمضمون الجملة المتقدمة، وقيل: يجوز أن يكون مفعولا له لقوله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ على معنى منعت العلم للجزاء أو لأخفى فإن إخفاءه لعلو شأنه، وعن الحسن أنه قال: أخفى القوم أعمالا في الدنيا فأخفى الله تعالى لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت أي أخفى ذلك ليكون الجزاء من جنس العمل. وفي الكشف أن هذا يدل على أن الفاء في قوله تعالى: فَلا تَعْلَمُ رابطة للأحق بالسابق وأصله فلا يعلمون والعدول لتعظيم الجزاء، وعدم ذكر الفاعل في أُخْفِيَ ترشيح له لأن جازيه من هو العظيم وحده فلا يذهب وهل إلى غيره سبحانه اه فتأمل. وقرأ حمزة، ويعقوب، والأعمش «أخفي» بسكون الياء فعلا مضارعا للمتكلم، وابن مسعود «نخفي» بنون العظمة، والأعمش أيضا «أخفيت» بالإسناد إلى ضمير المتكلم وحده، ومحمد بن كعب أُخْفِيَ فعلا ماضيا مبنيا للفاعل. وما في جميع ذلك اسم موصول مفعول تَعْلَمُ والعلم بمعنى المعرفة والعائد الضمير المستتر النائب عن الفاعل على قراءة الجمهور وضميره محذوف على غيرها، وقال أبو البقاء: يجوز أن تكون ما استفهامية وموضعها رفع بالابتداء وأُخْفِيَ لَهُمْ خبره على قراءة من فتح الياء وعلى قراءة من سكنها وجعل أُخْفِيَ مضارعا يكون ما في موضع نصب بأخفى ويعلم منه حالها على سائر القراءات، وإذا كانت استفهامية يجوز أن يكون العلم بمعنى المعرفة وأن يكون على ظاهره فيتعدى لمفعولين تسد الجملة الاستفهامية مسدهما، وعلى كل من احتمالي الموصولية والاستفهامية فالإيهام للتعظيم، وقرأ عبد الله، وأبو الدرداء، وأبو هريرة وعون، والعقيلي «من قرأت» على الجمع بالألف والتاء، وهي رواية عن أبي عمرو، وأبي جعفر، والأعمش، وجمع المصدر أو اسمه لاختلاف أنواع القرة، والجار والمجرور في موضع الحال. أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً أي أبعد ظهور ما بينهما من التباين البين يتوهم كون المؤمن الذي حكيت أوصافه الفاضلة كالفاسق الذي ذكرت أحواله القبيحة العاطلة، وأصل الفسق الخروج من فسقت الثمرة إذا خرجت من قشرها ثم استعمل في الخروج عن الطاعة وأحكام الشرع مطلقا فهو أعم من الكفر وقد يخص به كما في قوله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [النور: 55] وكما هنا لمقابلته بالمؤمن مع ما ستسمعه بعد إن شاء الله تعالى: لا يَسْتَوُونَ التصريح به مع إفادة الإنكار لنفي المشابهة بالمرة على أبلغ وجه وآكده لزيادة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 130 التأكيد وبناء التفصيل الآتي عليه، والجمع باعتبار معنى من كما أن الافراد فيما سبق باعتبار لفظها، وقيل: الضمير لاثنين وهما المؤمن والكافر والتثنية جمع. أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى تفصيل لمراتب الفريقين بعد نفي استوائهما وقيل: بعد ذكر أحوالهما في الدنيا، وأضيفت الجنان إلى المأوى لأنها المأوى والمسكن الحقيقي والدنيا منزل مرتحل عنه لا محالة، وقيل: المأوى علم لمكان مخصوص من الجنان كعدن، وقيل: جنة المأوى لما روي عن ابن عباس، أنها تأوي إليها أرواح الشهداء، وروي أنها عن يمين العرش ولا يخفى ما في جعله علما من البعد وأيا ما كان فلا يبعد أن يكون فيه رمز إلى ما ذكر من تجافيهم عن مضاجعهم التي هي مأواهم في الدنيا. وقرأ طلحة «جنة المأوى» بالإفراد نُزُلًا أي ثوابا وهو في الأصل ما يعد للنازل من الطعام والشراب والصلة ثم عم كل عطاء، وانتصابه على أنه حال من جَنَّاتُ والعامل فيه الظرف، وجوز أن يكون جمع نازل فيكون حالا من ضمير الَّذِينَ آمَنُوا وقرأ أبو حيوة «نزلا» بإسكان الزاي كما في قوله: وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا ... جعلنا القنا والمرهفات له نزلا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي بسبب الذي كانوا يعملونه في الدنيا من الأعمال الصالحة على أن ما موصولة والعائد محذوف والباء سببية، وكون ذلك سببا بمقتضى فضله تعالى ووعده عزّ وجلّ فلا ينافي حديث «لا يدخل أحدكم الجنة بعمله» ويجوز أن تكون الباء للمقابلة والمعارضة كعلى في نحو بعتك الدار على ألف درهم أي فلهم ذلك على الذي كانوا يعملونه. وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا أي خرجوا عن الطاعة فكفروا وارتكبوا المعاصي فَمَأْواهُمُ أي فمسكنهم ومحلهم النَّارُ وذكر بعضهم أن المأوى صار متعارفا فيما يكون ملجأ للشخص ومستراحا يستريح إليه من الحر والبرد ووهما فإذا أريد هنا يكون في الكلام استعارة تهكمية كما في قوله تعالى فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: 21، التوبة: 34، الانشقاق: 24] ، وجوز أن يكون استعمال ذلك من باب المشاكلة لأنه لما ذكر في أحد القسمين فلهم جنات المأوى ذكر في الآخر فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا استئناف لبيان كيفية كون النار مأواهم والكلام على حد قوله تعالى: جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ [الكهف: 77] على ما قيل، والمعنى كلما شارفوا الخروج منها وقربوا منه أعيدوا فيها ودفعوا إلى قعرها، فقد روي أنهم يضربهم لهب النار فيرتفعون إلى أعلاها حتى إذا قربوا من بابها وأرادوا أن يخرجوا منها يضربهم اللهب فيهوون إلى قعرها وهكذا يفعل بهم أبدا ، وقيل: الكلام على ظاهره إلا أن فيه حذفا أي كلما أرادوا أن يخرجوا منها فخرجوا من معظمها أعيدوا فيها، ويشير إلى أن الخروج من معظمها قوله تعالى: فِيها دون إليها، وجوز أن يكون الكلام هنا عبارة عن خلودهم فيها، وأيا ما كان لا منافاة بين هذه الآية وقوله تعالى: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة: 167] وَقِيلَ لَهُمْ تشديدا عليهم وزيادة في غيظهم. ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ أي بعذاب النار تُكَذِّبُونَ على الاستمرار في الدنيا وأظهرت النار مع تقدمها قبل لزيادة التهديد والتخويف وتعظيم الأمر، وذكر ابن الحاجب في أماليه وجها آخر للإظهار وهو أن الجملة الواقعة بعد القول حكاية لما يقال لهم يوم القيامة عند إرادتهم الخروج من النار فلا يناسب ذلك وضع الضمير إذ ليس القول حينئذ مقدما عليه ذكر النار وإنما ذكرها سبحانه قبل إخبارا عن أحوالهم، ونظر فيه الطيبي عليه الرحمة بأن هذا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 131 القول داخل أيضا في حيز الأخبار لعطفه على أُعِيدُوا الواقع جوابا لكلما فكما جاز الإضمار في المعطوف عليه جاز فيه أيضا إن لم يقصد زيادة التهديد والتخويف. ورد بأن المانع أنه حكاية لما يقال لهم يوم القيامة والأصل في الحكاية أن تكون على وفق المحكي عنه دون تغيير ولا إضمار في المحكي لعدم تقدم ذكر النار فيه. وتعقب بأنه قد يناقش فيه بأن مراده أنه يجوز رعاية المحكي والحكاية وكما أن الأصل رعاية المحكي الأصل الإضمار إذا تقدم الذكر فلا بد من مرجح. وقال بعض المحققين: أراد ابن الحاجب أن الإظهار هو المناسب في هذه الجملة نظرا إلى ذاتها ونظرا إلى سياقها أما الأول فلأنها تقال من غير تقدم ذكر النار، وأما الثاني فلأن سياق الآية للتهديد والتخويف وتعظيم الأمر وفي الإظهار من ذلك ما ليس في الإضمار، وهذا بعيد من أن يرد عليه نظر الطيبي، والإنصاف أن كلا من الإضمار والإظهار جائز وأنه رجح الإظهار اقتضاء السياق لذلك ونقل عن الراغب ما يدل على أن المقام في هذه الآية مقام الضمير حيث ذكر عنه أنه قال في درة التنزيل: إنه تعالى قال هاهنا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ وقال سبحانه في آية أخرى: عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ [سبأ: 42] فذكر جل وعلا هاهنا وأنث سبحانه هناك والسر في ذلك أن النار هاهنا وقعت موقع الضمير والضمير لا يوصف فأجرى الوصف على العذاب المضاف إليها وهو مذكر وفي تلك الآية لم يجر ذكر النار في سياقها فلم تقع النار موقع الضمير فأجرى الوصف عليها وهي مؤنثة دون العذاب فتأمل وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى أي الأقرب، وقيل: الأقل وهو عذاب الدنيا فإنه أقرب من عذاب الآخرة وأقل منه، واختلف في المراد به فروى النسائي وجماعة وصححه الحاكم عن ابن مسعود أنه سنون أصابتهم وروي ذلك عن النخعي، ومقاتل، وروى الطبراني وآخرون وصححه والحاكم عن ابن مسعود أيضا أنه ما أصابهم يوم بدر. وروي نحوه عن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما بلفظ هو القتل بالسيف نحو يوم بدر، وعن مجاهد القتل والجوع. وأخرج مسلم، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند، وأبو عوانة في صحيحه، وغيرهم عن أبي بن كعب أنه قال: هو مصائب الدنيا والروم والبطشة والدخان، وفي لفظ مسلم أو الدخان. وأخرج ابن المنذر، وابن جرير، عن ابن عباس أنه قال: هو مصائب الدنيا وأسقامها وبلاياها، وفي رواية عنه وعن الضحاك وابن زيد بلفظ مصائب الدنيا في الأنفس والأموال، وفي معناه ما أخرج ابن مردويه عن أبي إدريس الخولاني قال: سألت عبادة بن الصامت عن قوله تعالى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ الآية فقال: سألت رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم عنها فقال عليه الصلاة والسلام: هي المصائب والأسقام والأصار عذاب للمسرف في الدنيا دون عذاب الآخرة قلت: يا رسول الله فما هي لنا؟ قال: زكاة وطهور، وفي رواية عن ابن عباس أنه الحدود . وأخرج هنا عن أبي عبيدة أنه فسره بعذاب القبر، وحكي عن مجاهد أيضا دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ هو عذاب يوم القيامة كما روي عن ابن مسعود، وغيره، وقال: ابن عطية لا خلاف في أنه ذلك، وفي التحرير إن أكثرهم على أن العذاب الأكبر عذاب يوم القيامة في النار، وقيل: هو القتل والسبي والأسر، وعن جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما أنه خروج المهدي بالسيف انتهى. وعليهما يفسر العذاب الأدنى بالسنين أو الأسقام أو نحو ذلك مما يكون أدنى مما ذكر، وعن بعض أهل البيت تفسيره بالدابة والدجال، والمعول عليه ما عليه الأكثر. وإنما لم يقل الأصغر في مقابلة الْأَكْبَرِ أو إلّا بعد في مقابلة الْأَدْنى لأن المقصود هو التخويف والتهديد وذلك إنما يحصل بالقرب لا بالصغر وبالكبر لا بالبعد، قاله النيسابوري ملخصا له من كلام الإمام، وكذا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 132 أوجب أبو حيان إلّا أنه قال: إن الأدنى يتضمن الأصغر لأنه منقض بموت المعذب والأكبر يتضمن الأبعد لأنه واقع في الآخرة فحصلت المقابلة من حيث التضمن وصرح بما هو آكد في التخويف لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي لعل من بقي منهم يتوب قاله ابن مسعود، وقال الزمخشري: أو لعلهم يريدون الرجوع ويطلبونه كقوله تعالى: فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً [السجدة: 12] وسميت إرادة الرجوع رجوعا كما سميت إرادة القيام قياما في قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة: 6] ويدل عليه قراءة من قرأ «يرجعون» على البناء للمفعول انتهى. وهو على ما حكي عن مجاهد وروي عن أبي عبيدة فيتعلق لَعَلَّهُمْ إلخ بقوله تعالى: ولَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى كما في الأول إلا أن الرجوع هنالك التوبة وهاهنا الرجوع الى الدنيا ويكون من باب فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص: 8] أو يكون الترجي راجعا إليهم، ووجه دلالة القراءة المذكورة عليه أنه لا يصح الحمل فيها على التوبة، والظاهر التفسير المأثور، والقراءة لا تأباه لجواز أن يكون المعنى عليهم لعلهم يرجعهم ذلك العذاب عن الكفر إلى الإيمان، و (لعل) لترجي المخاطبين كما فسرها بذلك سيبويه، وعن ابن عباس تفسيرها هنا بكى وكأن المراد كي نعرضهم بذلك للتوبة، وجعلها الزمخشري لترجيه سبحانه ولاستحالة حقيقة ذلك منه عزّ وجلّ حمله على إرادته تعالى، وأورد على ذلك سؤالا أجاب عنه على مذهبه في الاعتزال فلا تلتفت إليه، هذا والآيات من قوله تعالى: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً إلى هنا نزلت في علي كرم الله وجهه، والوليد بن عقبة بن أبي معيط أخي عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه لأمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، أخرج أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني، والواحدي، وابن عدي، وابن مردويه، والخطيب، وابن عساكر من طرق عن ابن عباس قال: قال الوليد بن عقبة لعلي كرم الله تعالى وجهه أنا أحد منك سنانا وأبسط منك لسانا وأملأ للكتيبة منك فقال علي رضي الله تعالى عنه: اسكت فإنما أنت فاسق فنزلت أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً إلخ. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي نحو ذلك، وأخرج هذا أيضا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنها نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه، والوليد بن عقبة ولم يذكر ما جرى. وفي رواية أخرى عنه أنها نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه، ورجل من قريش ولم يسمه ، وفي الكشاف روي في نزولها أنه شجر بين علي رضي الله تعالى عنه، والوليد بن عقبة يوم بدر كلام فقال له الوليد: اسكت فإنك صبي أنا أشب منك شبابا وأجلد منك جلدا وأدرب منك لسانا وأحد منك سنانا وأشجع منك جنانا وأملأ منك حشوا في الكتيبة فقال له علي كرم الله تعالى وجهه: اسكت فإنك فاسق فنزلت ، ولم نره بهذا اللفظ مسندا، وقال الخفاجي: قال ابن حجر إنه غلط فاحش فإن الوليد لم يكن يوم بدر رجلا بل كان طفلا لا يتصور منه حضور بدر وصدور ما ذكر. ونقل الجلال السيوطي عن الشيخ ولي الدين هو غير مستقيم فإن الوليد يصغر عن ذلك وأقول: بعض الأخبار تقتضي أنه لم يكن مولودا يوم بدر أو كان صغيرا جدا، أخرج أبو داود في السنن من طريق ثابت بن الحجاج عن أبي موسى عبد الله الهمداني عنه أنه قال: لما افتتح رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم مكة جعل أهل مكة يأتونه بصبيانهم فيمسح على رؤوسهم فأتي بي إليه عليه الصلاة والسلام وأنا مخلق فلم يمسني من أجل الخلوق إلّا أن ابن عبد البر قال: إن أبا موسى مجهول، وأيضا ذكر الزبير، وغيره من أهل العلم بالسير أن أم كلثوم بنت عقبة لما خرجت مهاجرة إلى النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم في الهدنة سنة سبع خرج أخواها الوليد وعمارة ليرداها، وهو ظاهر في أنه لم يكن صبيا يوم الفتح إذ من يكون كذلك كيف يكون ممن خرج ليرد أخته قبل الفتح، وبعض الأخبار تقتضي أنه كان رجلا يوم بدر، فقد ذكر الحافظ ابن حجر في كتابه الإصابة أنه قدم في فداء ابن عم أبيه الحارث بن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 133 أبي وجرة بن أبي عمرو بن أمية وكان أسر يوم بدر فافتداه بأربعة آلاف وقال: حكاه أهل المغازي ولم يتعقبه بشيء، وسوق كلامه ظاهر في ارتضائه ووجه اقتضائه ذلك أن ما تعاطاه من أفعال الرجال دون الصبيان، وهذا الذي ذكرناه عن ابن حجر يخالف ما ذكره عنه الخفاجي عليه الرحمة مما مرّ آنفا، ولا ينبغي أن يقال: يجوز أن يكون صغيرا ذلك اليوم صغرا يمكن معه عادة الحضور فحضر وجرى ما جرى لأن وصفه بالفسق بمعنى الكفر والوعيد عليه بما سمعت في الآيات مع كونه دون البلوغ مما لا يكاد يذهب إليه إلّا من يلتزم أن التكليف بالإيمان إذ ذاك كان مشروطا بالتمييز، ولا أن يقال: يجوز أن تكون هذه القصة بعد إسلامه وقد أطلق عليه فاسق وهو مسلم في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات: 60] فقد قال ابن عبد البر: لا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن إنها نزلت فيه حيث إنه صلّى الله عليه وسلم بعثه مصدقا إلى بني المصطلق فعاد وأخبر أنهم ارتدوا ومنعوا الصدقة ولم يكن الأمر كذلك لأن الفسق هاهنا بمعنى الكفر وهناك ليس كذلك، ثم اعلم أن القول بأنها نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه والوليد لكلام جرى يوم بدر يقتضي أنها مدنية والمختار عند بعضهم خلافه. وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها بيان إجمالي لمن قابل آيات الله تعالى بالإعراض بعد بيان حال من قابلها بالسجود والتسبيح والتحميد، وكلمة ثُمَّ لاستبعاد الإعراض عنها عقلا مع غاية وضوحها وإرشادها إلى سعادة الدارين كما في قول جعفر بن علية الحارثي: ولا يكشف الغماء إلّا ابن حرة ... يرى غمرات الموت ثم يزورها والمراد أن ذلك أظلم من كل ظالم إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ قيل: أي من كل من اتصف بالإجرام وكسب الأمور المذمومة وإن لم يكن بهذه المثابة مُنْتَقِمُونَ فكيف ممن هو أظلم من كل ظالم وأشد جرما من كل جارم، ففي الجملة إثبات الانتقام منه بطريق برهاني. وجوز أن يراد بالمجرم المعرض المذكور وقد أقيم المظهر مقام المضمر الراجع إلى مَنْ باعتبار معناها وكان الأصل إنا منهم منتقمون ليؤذن بأن علة الانتقام ارتكاب هذا المعرض مثل هذا الجرم العظيم: وفسر البغوي المجرمين هنا بالمشركين. وقال الطيبي عليه الرحمة بعد حكايته: ولا ارتياب أن الكلام في ذم المعرضين وهذا الأسلوب أذم لأنه يقر أن الكافر إذا وصف بالظلم والإجرام حمل على نهاية كفره وغاية تمرده لأن هذه الآية كالخاتمة لأحوال المكذبين القائلين: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ [السجدة: 3] وغيرها والتخلص إلى قصة الكليم مسلاة لقلب الحبيب عليهما الصلاة والسلام إلى آخر ما ذكره فليراجع. وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي جنس الكتاب فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ أي شك. وقرأ الحسن «مرية» بضم الميم مِنْ لِقائِهِ أي لقائك ذلك الجنس على أن لقاء مصدر مضاف إلى المفعول وفاعله محذوف وهو ضمير النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم والضمير المذكور للكتاب المراد به الجنس وإيتاء ذلك الجنس باعتبار إيتاء التوراة ولقاؤه باعتبار لقاء القرآن، وهذا كقوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ [النمل: 6] وقوله سبحانه: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً [الإسراء: 13] وحمل بعضهم الْكِتابَ على العهد أي الكتاب المعهود وهو التوراة ولما لم يصح عود الضمير إليه ظاهرا لأنه عليه الصلاة والسلام لم يلق عين ذلك الكتاب قيل: الكلام على تقدير مضاف أي لقاء مثله أو على الاستخدام أو أن الضمير راجع إلى القرآن المفهوم منه، ولا يخفى ما في كل من البعد، والمعنى إنّا آتينا موسى مثل ما آتيناك من الكتاب ولقيناه من الوحي مثل ما لقيناك من الوحي فلا تكن في شك من أنك لقيت مثله ونظيره، وخلاصة ما تؤذن به الفاء التفريعية أن معرفتك بأن موسى عليه السلام أوتي التوراة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 134 ينبغي أن تكون سببا لإزالة الريب عنك في أمر كتابك ونهيه عليه الصلاة والسلام عن أن يكون في شك المقصود منه نهي أمته صلّى الله تعالى عليه وسلم والتعريض بمن اتصف بذلك، وقيل المصدر مضاف إلى الفاعل والمفعول محذوف هو ضميره عليه الصلاة والسلام أي من لقائه إياك وصوله إليك، وفي التعبير باللقاء دون الإيتاء من تعظيم شأنه صلّى الله تعالى عليه وسلم ما لا يخفى على المتدبر، وقد يقال: إن التعبير به على الوجه السابق مؤذن بالتعظيم أيضا لكن من حيثية أخرى فتدبر. وقل: الكتاب التوراة وضمير لِقائِهِ عائد إليه من غير تقدير مضاف ولا ارتكاب استخدام، ولقاء مصدر مضاف إلى مفعوله وفاعله موسى أي من لقاء موسى الكتاب أو مضاف إلى فاعله ومفعوله موسى أي من لقاء الكتاب موسى ووصوله إليه، فالفاء مثلها في قوله: ليس الجمال بمئزر ... فاعلم وإن رديت بردا دخلت على الجملة المعترضة بدل الواو اهتماما بشأنها، وعن الحسن أن ضمير لِقائِهِ عائد على ما تضمنه الكلام من الشدة والمحنة التي لقي موسى عليه السلام فكأنه قيل: ولقد آتينا موسى هذا العبء الذي أنت بسبيله فلا تمتر أنك تلقى ما لقي هو من الشدة والمحنة بالناس، والجملة اعتراضية ولا يخفى بعده، وأبعد منه بمراحل ما قيل: الضمير لملك الموت الذي تقدم ذكره والجملة اعتراضية أيضا، بل ينبغي أن يجل كلام الله تعالى عن مثل هذا التخريج. وأخرج الطبراني، وابن مردويه، والضياء في المختارة بسند صحيح عن ابن عباس أنه قال في الآية: أي من لقاء موسى، وأخرج ابن المنذر، وغيره عن مجاهد نحوه، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية أنه قال كذلك فقيل له: أو لقي عليه الصلاة والسلام موسى؟ قال: نعم ألا ترى إلى قوله تعالى: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا [الزخرف: 45] وأراد بذلك لقاءه صلّى الله تعالى عليه وسلم إياه ليلة الإسراء كما ذكر في الصحيحين، وغيرهما، وروي نحو ذلك عن قتادة وجماعة من السلف، وقاله المبرد حين امتحن الزجاج بهذه الآية، وكان المراد من قوله تعالى: «فلا تكن في مرية من لقائه» على هذا وعده تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بلقاء موسى وتكون الآية نازلة قبل الإسراء، والجملة اعتراضية بالفاء بدل الواو كما سمعت آنفا. وجعلها مفرعة على ما قبلها غير ظاهر، وبهذا اعترض بعضهم على هذا التفسير، وبالفرار إلى الإعراض سلامة من الاعتراض وكأني بك ترجحه على التفسير الأول من بعض الجهات والله تعالى الموفق وَجَعَلْناهُ أي الكتاب الذي آتيناه موسى، وقال قتادة أي وجعلنا موسى عليه السلام هُدىً أي هاديا من الضلالة لِبَنِي إِسْرائِيلَ خصوا بالذكر لما أنهم أكثر المنتفعين به، وقيل: لأنه لم يتعبد بما في كتابه عليه الصلاة والسلام ولد إسماعيل صلّى الله تعالى عليه وسلم. وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً قال قتادة: رؤساء في الخير سوى الأنبياء عليهم السلام، وقيل: هم الأنبياء الّذين كانوا في بني إسرائيل يَهْدُونَ بقيتهم بما في تضاعيف الكتاب من الحكم والأحكام إلى طريق الحق أو يهدونهم إلى ما فيه من دين الله تعالى وشرائعه عزّ وجلّ بِأَمْرِنا إياهم بأن يهدوا على أن الأمر واحد الأوامر، وهذا على القول بأنهم أنبياء ظاهر، وأما على القول بأنهم ليسوا بأنبياء فيجوز أن يكون أمره تعالى إياهم بذلك على حد أمر علماء هذه الأمة بقوله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ الآية. وجوز أن يكون الأمر واحد الأمور والمراد يهدون بتوفيقنا لَمَّا صَبَرُوا قال قتادة: على ترك الدنيا، وجوز الجزء: 11 ¦ الصفحة: 135 غيره أن يكون المراد لما صبروا على مشاق الطاعة ومقاساة الشدائد في نصرة الدين، ولَمَّا يحتمل أن تكون هي التي فيها معنى الجزاء نحو لما أكرمتني أكرمتك أي لما صبروا جعلنا أئمة، ويحتمل أن تكون هي التي بمعنى الحين الخالية عن معنى الجزاء، والظاهر أنها حينئذ ظرف لجعلنا أي أئمة حين صبروا، وجوز أبو البقاء كونها ظرفا ليهدون. وقرأ عبد الله، وطلحة، والأعمش، وحمزة، والكسائي، ورويس لَمَّا بكسر اللام وتخفيف الميم على أن اللام للتعليل وما مصدرية أي لصبرهم وهو متعلق بجعلنا أو بيهدون. وقرأ عبد الله أيضا «بما» بالباء السببية وما المصدرية أي بسبب صبرهم وَكانُوا بِآياتِنا التي في تضاعيف الكتاب، وقيل: المراد بها ما يعم الآيات التكوينية، والجار متعلق بقوله تعالى: يُوقِنُونَ أي كانوا يوقنون بها لإمعانهم فيها النظر لا بغيرها من الأمور الباطلة، وهو تعريض بكفرة أهل مكة، والجملة معطوفة على صَبَرُوا فتكون داخلة في حيز لَمَّا وجوز أن تكون معطوفة على جَعَلْنا وأن تكون في موضع الحال من ضمير صَبَرُوا. والمراد كذلك لنجعلن الكتاب الذي آتيناكه أو لنجعلنك هدى لأمتك ولنجعلن منهم أئمة يهدون مثل تلك الهداية إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ أي يقضي بَيْنَهُمْ قيل: بين الأنبياء عليهم السلام وأممهم، وقيل: بين المؤمنين والمشركين يَوْمَ الْقِيامَةِ فيميز سبحانه بين المحق والمبطل فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من أمور الدين. أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ الهمزة للإنكار والواو للعطف على منوي يقتضيه المقام ويناسب المعطوف معنى على ما اختاره غير واحد، وفعل الهداية أما من قبيل فلان يعطي في أن المراد إيقاع نفس الفعل بلا ملاحظة المفعول، وأما بمعنى التبيين والمفعول محذوف والفاعل ضمير عائد إلى ما في الذهن ويفسره قوله تعالى: كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ وكم في محل نصب بأهلكنا أي أغفلوا ولم يفعل الهداية لهم أو ولم يبين لهم مآل أمرهم أو طريق الحق كثرة من أهلكنا أو كثرة إهلاك من أهلكنا من القرون الماضية مثل عاد، وثمود وقوم لوط، ولا يجوز أن تكون كَمْ فاعلا لصدارتها كما نص على ذلك الزجاج حاكيا له عن البصريين، وقال الفراء: كم في موضع رفع بيهد كأنك قلت: أو لم يهد لهم القرون الهالكة فيتعظوا ولا أن يكون محذوفا لأن الفاعل لا يحذف إلّا في مواضع مخصوصة ليس منها ولا مضمرا عائدا إلى ما بعد لأنه يلزم عود الضمير إلى متأخر لفظا ورتبة في غير محل جوازه، ولا الجملة نفسها لأنها لا تقع فاعلا على الصحيح إلّا إذا قصد لفظها نحو تعصم لا إله إلّا الله الدماء والأموال، وجوز أن يكون الفاعل ضميره تعالى شأنه لسبق ذكره سبحانه في قوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ إلخ وأيد بقراءة زيد «نهد لهم» بنون العظمة، قال الخفاجي: والفعل بكم عن المفعول وهو مضمون الجملة لتضمنه معنى العلم فلا تغفل. يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ أي يمرون في متاجرهم على ديارهم وبلادهم ويشاهدون آثار هلاكهم، والجملة حال من ضمير لَهُمْ، وقيل: من الْقُرُونِ، والمعنى أهلكناهم حال غفلتهم، وقيل: مستأنفة بيان لوجه هدايتهم. وقرأ ابن السميفع «يمشّون» بالتشديد على أنه تفعيل من المشي للتكثير إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر من إهلاكنا للأمم الخالية العاتية أو في مساكنهم لَآياتٍ عظيمة في أنفسها كثيرة في عددها أَفَلا يَسْمَعُونَ هذه الآيات سماع تدبر واتعاظ أَوَلَمْ يَرَوْا الكلام فيه كالكلام في أَوَلَمْ يَهْدِ أي أعموا ولم يشاهدوا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ بسوق السحاب الحامل له، وقيل: نسوق نفس الماء بالسيول، وقيل: بإجرائه في الأنهار ومن العيون إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ أي التي جرز نباتها أي قطع إما لعدم الماء وإما لأنه رعي وأزيل كما في الكشاف. وفي مجمع البيان الأرض الجرز اليابسة التي ليس فيها نبات لانقطاع الأمطار عنها من قولهم سيف جراز أي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 136 قطاع لا يبقي شيئا إلّا قطعه وناقة جراز إذا كانت تأكل كل شيء فلا تبقي شيئا إلّا قطعته بفيها ورجل (1) جروز أي أكول، قال الراجز: خب حروز وإذا جاع بكى وقال الراغب: الجرز منقطع النبات من أصله وأرض مجروزة أكل ما عليها، وفي مثل لا ترضى شانئة إلّا بجروزة أي بالاستئصال، والجارز الشديد من السعال تصور منه معنى الجرز وهو القطع بالسيف اهـ، ويفهم مما قاله أن الجرز يطلق على ما انقطع نباته لكونه ليس من شأنه الإنبات كالسباخ وهو غير مناسب هنا لقوله تعالى: فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً والظاهر أن المراد الأرض المتصفة بهذه الصفة أي أرض كانت، وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنها قرى بين اليمن والشام. وأخرج هو وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي شيبة عن ابن عباس أنها أرض باليمن، وإلى عدم التعيين ذهب مجاهد، أخرج عنه جماعة أنه قال: الأرض الجرز هي التي لا تنبت وهي أبين ونحوها من الأرض وقرىء «الجرز» بسكون الراء، وضمير بِهِ للماء والكلام على ظاهره عند السلف الصالح وقالت الأشاعرة: المراد فنخرج عنده، والزرع في الأصل مصدر وعبر به عن المزروع والمراد به ما يخرج بالمطر مطلقا فيشمل الشجر وغيره ولذا قال سبحانه: تَأْكُلُ مِنْهُ أي من ذلك الزرع أَنْعامُهُمْ كالتبن والقصيل والورق وبعض الحبوب المخصوصة بها وَأَنْفُسُهُمْ كالبقول والحبوب التي يقتاتها الإنسان، وفي البحر يجوز أن يراد بالزرع النبات المعروف وخص بالذكر تشريفا له ولأنه أعظم ما يقصد من النبات، ويجوز أن يراد به النبات مطلقا، وقدم الأنعام لأن انتفاعها مقصور على ذلك والإنسان قد يتغذى بغيره ولأن أكلها منه مقدم لأنها تأكله قبل أن يثمر ويخرج سنبله، وقيل ليترقى من الأدنى إلى الأشرف وهم بنو آدم. وقرأ أبو حيوة، وأبو بكر في رواية «يأكل» بالياء التحتية أَفَلا يُبْصِرُونَ أي ألا يبصرون فلا يبصرون ذلك ليستدلوا به على كمال قدرته تعالى وفضله عزّ وجلّ، وجعلت الفاصلة هنا يُبْصِرُونَ لأن ما قبله مرئي وفيما قبله يَسْمَعُونَ لأن ما قبله مسموع، وقيل: ترقيا إلى الأعلى في الاتعاظ مبالغة في التذكير ورفع العذر. وقرأ ابن مسعود «يبصرون» بالتاء الفوقية وَيَقُولُونَ على وجه التكذيب والاستهزاء مَتى هذَا الْفَتْحُ أي الفصل للخصومة بينكم وبيننا، وكأن هذا متعلق بقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وقيل: أي النصر علينا، أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة قال: قال الصحابة رضي الله تعالى عنهم إن لنا يوما يوشك أن نستريح فيه وننتقم فيه فقال المشركون: متى هذا الفتح إلخ فنزلت وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في أن الله تعالى هو يفصل بين المحقين والمبطلين، وقيل: في أن الله تعالى ينصركم علينا. قُلْ تبكيتا لهم وتحقيقا للحق يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ أخرج الفريابي، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: يوم الفتح يوم القيامة، وهو كما في البحر منصوب بلا ينفع، والمراد بالذين كفروا إما أولئك القائلون المستهزءون فالإظهار في مقام الإضمار لتسجيل كفرهم وبيان علة الحكم، وإما ما يعمهم وغيرهم وحينئذ يعلم حكم أولئك المستهزئين بطريق برهاني، والمراد من   (1) قوله جروز أي أكول قال الراغب هو الذي يأكل ما على الخوان اهـ منه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 137 قوله تعالى: وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ استمرار النفي الظاهر أن الجملة عطف على لا يَنْفَعُ إلخ والقيد معتبر فيها، وظاهر سؤالهم بقولهم مَتى هذَا الْفَتْحُ يقتضي الجواب بتعيين اليوم المسئول عنه إلّا أنه لما كان غرضهم في السؤال عن وقت الفتح استعجالا منهم على وجه التكذيب والاستهزاء أجيبوا على حسب ما عرف من غرضهم فكأنه قيل لهم: لا تستعجلوا به ولا تستهزئوا فكأني بكم وقد حصلتم في ذلك اليوم وآمنتم فلم ينفعكم الإيمان واستنظرتم في إدراك العذاب فلم تنظروا، وهذا قريب من الأسلوب الحكيم هذا وتفسير يَوْمَ الْفَتْحِ بيوم القيامة ظاهر على القول بأن المراد بالفتح الفصل للخصومة فقد قال سبحانه: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ولا يكاد يتسنى على القول بأن المراد به النصر على أولئك القائلين إذا كانوا عانين به النصر والغلبة عليهم في الدنيا كما هو ظاهر مما سمعت عن مجاهد، وعليه قيل: المراد بيوم الفتح يوم بدر، أخرج ذلك الحاكم وصححه، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل: يوم فتح مكة، وحكي ذلك عن الحسن، ومجاهد، واستشكل كلا القولين بأن قوله تعالى: يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ ظاهر في عدم قبول الإيمان من الكافر يومئذ مع أنه آمن ناس يوم بدر فقبل منهم وكذا يوم فتح مكة. وأجيب بأن الموصول على كل منهما عبارة عن المقتولين في ذلك اليوم على الكفر، فمعنى لا ينفعهم إيمانهم أنهم لا إيمان لهم حتى ينفعهم فهو على حد قوله: على لا حب لا يهتدى بمناره سواء أريد بهم قوم مخصوصون استهزؤوا أم لا وسواء عطف قوله تعالى: وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ على المقيد أو على المجموع فتأمل. وتعقب بأن ذلك خلاف الظاهر، وأيضا كون يوم الفتح يوم بدر بعيد عن كون السورة مكية وكذا كونه يوم فتح مكة، ويبعد هذا أيضا قلة المقتولين في ذلك اليوم جدا تدبر. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم، وعن ابن عباس أن ذلك منسوخ بآية السيف، ولا يخفى أنه يحتمل أن المراد الإعراض عن مناظرتهم لعدم نفعها أو تخصيصه بوقت معين فلا يتعين النسخ. وَانْتَظِرْ النصرة عليهم وهلاكهم إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ قال الجمهور: أي الغلبة عليكم كقوله تعالى: فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ [التوبة: 52] وقيل: الأظهر أن يقال: إنهم منتظرون هلاكهم كما في قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ الآية، ويقرب منه ما قيل: وانتظر عذابنا لهم أنهم منتظرون أي هذا حكمهم وإن كانوا لا يشعرون فإن استعجالهم المذكور وعكوفهم على ما هم عليه من الكفر والمعاصي في حكم انتظارهم العذاب المترتب عليه لا محالة وقرأ اليماني «منتظرون» بفتح الظاء اسم مفعول على معنى أنهم أحقاء أن ينتظر هلاكم أو أن الملائكة المترتب عليه السلام ينتظرونه والمراد أنهم هالكون لا محالة هذا. «ومن باب الإشارة» قوله تعالى: ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ فيه إشارة إلى أنه لا ينبغي الالتفات إلى الأسباب والاعتماد عليها، وقوله سبحانه: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ فيه إشارة إلى أن تدبير العباد عند تدبيره عزّ وجلّ لا أثر له فطوبى لمن رزق الرضا بتدبير الله تعالى واستغنى عن تدبيره الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ فيه إرشاد إلى أنه لا ينبغي لأحد أن يستقبح شيئا من المخلوقات، وقد حكي أن نوحا عليه السلام بصق على كلب أجرب فأنطق الله تعالى الكلب فقال: يا نوح أعبتني أم عبت خالقي فناح عليه السلام لذلك زمانا طويلا فالأشياء كلها حسنة كل في بابه والتفاوت إضافي، وفي قوله تعالى: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ إلى آخر الآية بعد قوله الجزء: 11 ¦ الصفحة: 138 سبحانه: الَّذِي أَحْسَنَ إلخ إشارة إلى التنقل في أطوار الحسن والعروج في معارجه فكم بين الطين والإنسان السميع البصير العالم فإن الإنسان مشكاة أنوار الذات والصفات والطين بالنسبة إليه كلا شيء إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ إشارة إلى حال كاملي الإيمان وعلو شأن السجود والتسبيح والتحميد والتواضع لعظمته عزّ وجلّ تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً إشارة إلى سهرهم في مناجاة محبوبهم وملاحظة جلاله وجماله، وفي قوله: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ أي من المعارف وأنواع الفيوضات يُنْفِقُونَ إشارة إلى تكميلهم للغير بعد كما لهم في أنفسهم وذكر القوم أن العذاب الأدنى الحرص على الدنيا، والعذاب الأكبر العذاب على ذلك. وقال بعضهم: الأول التعب في طلب الدنيا والثاني شتات السر، وقيل: الأول حرمان المعرفة والثاني الاحتجاب عن مشاهدة المعروف، وقيل: الأول الهوان والثاني الخذلان وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ فيه إشارة إلى ما ينبغي أن يكون المرشد عليه من الأوصاف وهو الصبر على مشاق العبادات وأنواع البليات وحبس النفس عن ملاذ الشهوات والإيقان بالآيات فمن يدعي الإرشاد وهو غير متصف بما ذكر فهو ضال مضلل فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ فيه إشارة إلى أنه ينبغي الإعراض عن المنكرين المستهزئين بالعارفين والسالكين إذا لم ينجع فيهم الإرشاد والنصيحة وإلى أنهم هالكون لا محال فإن الإنكار الذي لا يعذر صاحبه سمّ قاتل وسهم هدفه المقاتل نعوذ بالله تعالى من الحور بعد الكور بحرمة حبيبة إلّا كرم صلّى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 139 سورة الأحزاب أخرج البيهقي في الدلائل وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: نزلت سورة الأحزاب بالمدينة، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله، وهي ثلاث وسبعون آية قال الطبرسي بالإجماع، وقال الداني هذا متفق عليه، وأخرج عبد الرزاق في المصنف، والطيالسي، وسعيد بن منصور، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند، والنسائي والحاكم وصححه، والضياء في المختارة وآخرون عن زر بن حبيش قال: قال لي أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه كائن (1) تقرأ سورة الأحزاب أو كائن تعدها؟ قلت: ثلاثا وسبعين آية فقال: اقطع (2) لقد رأيتها وإنها لتعادل سورة البقرة، ولقد قرأنا فيها «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم» فرفع فيما رفع وأراد رضي الله تعالى عنه بذلك النسخ، وأما كون الزيادة كانت في صحيفة عند عائشة فأكلها الداجن (3) فمن وضع الملاحدة وكذبهم في أن ذلك ضاع بأكل الداجن من غير نسخ كذا في الكشاف. وأخرج أبو عبيد في الفضائل، وابن الانباري، وابن مردويه عن عائشة قالت: كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمان النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم مائتي آية فلما كتب عثمان رضي الله تعالى عنه المصاحف لم يقدر منها إلا على ما هو الآن، وهو ظاهر في الضياع من القرآن، ومقتضى ما سمعت أنه موضوع، والحق أن كل خبر ظاهره ضياع شيء من القرآن إما موضوع أو مؤول، ووجه اتصالها بما قبلها على ما قال الجلال السيوطي تشابه مطلع هذه ومقطع تلك فإن تلك ختمت بأمر النبي صلّى الله عليه وسلم بالإعراض عن الكافرين وانتظار عذابهم وهذه بدأت بأمره عليه الصلاة والسلام بالتقوى وعدم طاعة الكافرين والمنافقين واتباع ما أوحى إليه والتوكل عليه عزّ وجلّ حيث قال سبحانه وتعالى:   (1) أي كم اهـ منه. (2) أي احسب اهـ منه. (3) الداجن وكذا الراجن بالراء ما يألف البيوت ويأنس من شاة وغيرها اهـ منه. [ ..... ] الجزء: 11 ¦ الصفحة: 140 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ ناداه جلّ وعلا بوصفه عليه الصلاة والسلام دون اسمه تعظيما له وتفخيما، قال في الكشاف إنه تعالى جعل نداءه من بين الأنبياء عليهم السلام بالوصف كرامة له عليه الصلاة والسلام وتشريفا وربأ بمحله وتنويها بفضله، وأوقع اسمه في الأخبار في قوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح: 29] وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ [آل عمران: 144] لتعليم الناس بأنه رسول الله وتلقين لهم أن يسموه بذلك ويدعوه به فلا تفاوت بين النداء والإخبار، ألا ترى إلى ما لم يقصد به التعليم والتلقين من الأخبار كيف ذكره تعالى بنحو ما ذكره في النداء كما في قوله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة: 128] وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ [الفرقان: 30] النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب: 6] إلى غير ذلك. وتعقبه في الكشف بأن أمر التعليم والتلقين في قوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ظاهر أما في قوله تعالى وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ فلا، على أن قوله تعالى: وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ [محمد: 2] ينقض ما بناه، نعم النداء يناسب التعظيم وربما يكون نداء سائر الأنبياء عليهم السلام في كتبهم أيضا على نحو منه، وحكي في القرآن بأسمائهم دفعا للإلباس، والأشبه أنه لما قل ذكره صلّى الله تعالى عليه وسلم باسمه دلّ على أنه أعظم شأنا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 141 صلوات الله تعالى وسلامه وعليهم أجمعين، وفيه نظر. واختار الطيبي طيب الله تعالى ثراه أن النداء المذكور هنا للاحتراس وجبر ما يوهمه الأمر والنهي كقوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: 43] وظاهر سياق ما بعد أن المعنى بالأمر بالتقوى هو النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم لا أمته كما قيل في نظائره والمقصود الدوام والثبات عليها، وقيل: الازدياد منها فإن لها بابا واسعا وعرضا عريضا لا ينال مداه وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ أي المجاهدين بالكفر وَالْمُنافِقِينَ المضمرين لذلك فيما يريدون من الباطل أخرج ابن جرير عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إن أهل مكة منهم الوليد بن المغيرة، وشيبة بن ربيعة دعوا النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم أن يرجع عن قوله على أن يعطوه شطر أموالهم (1) وخوفه المنافقون واليهود بالمدينة إن لم يرجع قتلوه فنزلت، وذكر الثعلبي والواحدي بغير إسناد أن أبا سفيان بن حرب، وعكرمة بن أبي جهل، وأبا الأعور (2) السلمي قدموا عليه عليه الصلاة والسلام في زمان الموادعة التي كانت بينه صلّى الله تعالى عليه وسلم وبينهم وقام معهم عبد الله بن أبي، ومعتب بن قشير، والجد بن قيس فقالوا لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم: ارفض ذكر آلهتنا وقل: إنها تشفع وتنفع وندعك وربك فشق ذلك على النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين وهموا بقتلهم فنزلت، وقيل: نزلت في ناس من ثقيف قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فطلبوا منه عليه الصلاة والسلام أن يمتعهم باللات والعزى سنة قالوا: لتعلم قريش منزلتنا منك ولا يبعد أن يكون المراد بالنهي الثبات على عدم الإطاعة، وذكره بعد الأمر بالتقوى المراد منه الثبات عليها على ما قيل من قبيل التخصيص بعد التعميم لاقتضاء المقام الاهتمام به، وقيل: من قبيل التأكيد، وقيل: متعلق كل من التقوى والإطاعة مغاير للآخر على ما روى الواحدي، والثعلبي، والمعنى اتق الله تعالى في نقض العهد ونبذ الموادعة ولا تطع الكافرين من أهل مكة والمنافقين من أهل المدينة فيما طلبوا منك من رفض ذكر آلهتهم وقولك: إنها تشفع وتنفع وكأنه إنما قدم الأمر بتقوى الله تعالى في نقض العهد لما أن المؤمنين قد هموا بما يقتضيه بخلاف الإطاعة المنهي عنها فإنها مما لم يهم بما يقتضيها أحد أصلا فكان الاهتمام بالأمر أتم من الاهتمام بذلك النهي إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً مبالغا في العلم والحكمة فيعلم الأشياء من المصالح والمفاسد فلا يأمرك إلّا بما فيه مصلحة ولا ينهاك إلّا عما فيه مفسدة ولا يحكم إلّا بما تقتضيه الحكمة البالغة فالجملة تعليل للأمر والنهي مؤكد لوجوب الامتثال بها. وقيل: المعنى أن الله كان عليما بمن يتقي فيجازيه بما يليق به حكيما في هدي من شاء وإضلال من شاء فالجملة تسلية له صلّى الله تعالى عليه وسلم، وليس بشيء، وقوله تعالى: وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ عطف على ما تقدم من قبيل عطف العام على الخاص أي اتبع في كل ما تأتي وتذر من أمور الدين ما يوحى إليك من الآيات التي من جملتها هذه الآية الآمرة بتقوى الله تعالى الناهية عن إطاعة الكفرة والمنافقين، والتعرض لعنوان الربوبية لتأكيد وجوب الامتثال بالأمر إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً قيل: الخطاب للرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم والجمع للتعظيم، وقال أبو البقاء: إنما جاء بالجمع لأنه عنى بقوله تعالى: اتَّبِعْ ما يُوحى إلخ اتبع أنت وأصحابك وقيل: للغائبين من الكفرة المنافقين وبطريق الالتفات ولا يخفى بعده. نعم يجوز أن يكون للكل على ضرب من التغليب، وأيا ما كان فالجملة تعليل للأمر وتأكيد لموجبه فكأنه قيل على الأول: إن الله تعالى يعلم بما تعمل فيرشدك إلى ما فيه   (1) وفي رواية ويزوجه شيبة بنته اهـ منه. (2) اسمه عمرو بن أبي سفيان اهـ منه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 142 الصلاح فلا بد من اتباع الوحي والعمل بمقتضاه حتما، وعلى الثاني أن الله تعالى خبير بما يعمل الكفرة والمنافقون من الكيد والمكر فيأمرك سبحانه بما يدفعه فلا بد من اتباع ما يوحيه جلّ وعلا إليك، وعلى الثالث أن الله تعالى خبير بما تعمل ويعمل الكفرة والمنافقون فيرشدك إلى ما فيه صلاح حالك ويطلعك على كيدهم ومكرهم ويأمرك جلّ شأنه بما يدفع ذلك ويرده فلا بد من اتباع وحيه تعالى والعمل بموجبه. وقرأ أبو عمرو «يعملون» بياء الغيبة على أن الضمير للكفرة والمنافقين. وجوز كونه عاما فلا تغفل وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي فوض جميع أمورك إليه عزّ وجلّ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا حافظا موكولا إليه كل الأمور، والإظهار في مقام الإضمار للتعظيم ولتستقل الجملة استقلال المثل. ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ أخرج أحمد، والترمذي وحسنه، وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والضياء في المختارة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قام النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم يوما يصلي فخطر خطرة فقال المنافقون الذين يصلون معه ألا ترى أن له قلبين قلبا معكم وقلبا معهم فنزلت، وفي رواية عنه رضي الله تعالى عنه صلّى الله تعالى عليه وسلم صلاة فسها فيها فخطرت منه كلمة فسمعها المنافقون فأكثروا فقالوا: إن له قلبين ألم تسمعوا إلى قوله وكلامه في الصلاة إن له قلبا معكم وقلبا مع أصحابه فنزلت، وقال مقاتل في تفسيره، وإسماعيل بن أبي زياد الشامي، وغيرهما: نزلت في أبي معمر الفهري كان أهل مكة يقولون: له قلبان من قوة حفظه وكانت العرب تزعم أن كل لبيب أريب له قلبان حقيقة، وأبو معمر هذا اشتهر بين أهل مكة بذي القلبين وهو على ما في الإصابة جميل بن أسيد مصغر الأسد، وقيل: ابن أسد مكبرا وسماه ابن دريد عبد الله ابن وهب، وقيل: إن ذا القلبين هو جميل بن معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة (1) بن جمح الجمحي وهو المعني بقوله: وكيف ثوائي البيت وقد تقدم في تفسيره سورة لقمان، والمعول على ما في الإصابة، وحكي أنه كان يقول: (2) إن لي قلبين أفهم بأحدهما أكثر مما يفهم محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم فروي أنه انهزم يوم بدر فمرّ بأبي سفيان وهو معلق إحدى نعليه بيده والأخرى في رجله فقال له أبو سفيان: ما فعل الناس؟ فقال: هم ما بين مقتول وهارب فقال له: ما بال إحدى نعليك في رجلك والأخرى في يدك؟ فقال: ما ظننت إلّا أنهما في رجلي فأكذب الله تعالى قوله وقولهم. وعن الحسن أنه كان جماعة يقول الواحد منهم: نفس تأمرني ونفس تنهاني فنزلت، والجعل بمعنى الخلق ومن سيف خطيب، والمراد ما خلق سبحانه لأحد أو لذي قلب من الحيوان مطلقا قلبين فخصوص الرجل ليس بمقصود وتخصيصه بالذكر لكمال لزوم الحياة فيه فإذا لم يكن ذلك له فكيف بغيره من الإناث، وأما الصبيان فمآلهم إلى الرجولية، وقوله سبحانه: فِي جَوْفِهِ للتأكيد والتصوير كالقلوب في قوله تعالى: وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46] وذكر في بيان عدم جعله تعالى قلبين في جوف بناء على ما هو الظاهر من أن المراد بالقلب المضغة الصنوبرية أن النفس الناطقة وكذا الحيوانية لا بد له من متعلق ومتعلقها هو الروح وهو جسم لطيف بخاري يتكون من ألطف أجزاء الأغذية لأن شد الأعصاب يبطل قوى الحس والحركة عما وراء موضع الشد مما لا يلي جهة الدماغ والشد لا يمنع إلّا نفوذ الأجسام، والتجارب الطبية أيضا شاهدة بذلك، وحيث إن النفس واحدة فلا بد من عضو واحد يكون تعلقها به أولا ثم بسائر الأعضاء بواسطته.   (1) في البحر حارثة بدل حذافة اهـ منه. (2) وأسلم بعد وعده ابن حجر في الصحابة وكذا جميل الجمحي اهـ منه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 143 وقد ذكر غير واحد أن أول عضو يخلق هو القلب فإنه المجمع للروح فيجب أن يكون التعلق أولا به ثم بواسطته بالدماغ والكبد وبسائر الأعضاء فمنبع القوى بأسرها منه وذلك يمنع التعدد إذ لو تعدد بأن كان هناك قلبان لزم أن يكون كل منهما أصلا للقوى وغير أصل لها أو توارد علتين على معلول واحد، ولا يخفى على من له قلب أن هذا مع ابتنائه على مقدمات لا تكاد تثبت عند أكثر الإسلاميين من السلف الصالح والخلف المتأخرين ولو بشق الأنفس أمر إقناعي لا برهان قطعي، على أن للفلسفي أيضا له فيه مقالا، وقد يفسر القلب بالنفس بناء على أن سبب النزول ما روي عن الحسن إطلاقا للمتعلق على المتعلق وقد بينوا وحدة النفس وأنه لا يجوز أن تتعلق نفسان فأكثر ببدن بما يطول ذكره، وللبحث فيه مجال فليراجع، ثم إن هذا التفسير بناء على أن سبب النزول ما ذكر غير متعين بل يجوز تفسير القلب عليه بما هو الظاهر المتبادر أيضا، وحيث إن القلب متعلق النفس يكون نفي جعل القلبين دالا على نفي جعل النفسين فتدبر. وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ إبطال لما كان في الجاهلية من اجزاء أحكام الأمومة على المظاهر منها، والظهار لغة مصدر ظاهر وهو مفاعلة من الظهر ويستعمل في معان مختلفة راجعة إليه معنى ولفظا بحسب اختلاف الأغراض فيقال ظاهرته إذا قابلت ظهرك بظهره حقيقة وكذا إذا غايظته باعتبار أن المغايظة تقتضي هذه المقابلة، وظاهرته إذا نصرته باعتبار أنه يقال: قوي ظهره إذا نصره وظاهرت بين ثوبين إذا لبست أحدهما فوق الآخر على اعتبار جعل ما يلي به كل منهما الآخر ظهرا للثوب، ويقال: ظاهر من زوجته إذ قال لها أنت عليّ كظهر أمي نظير لي إذ قال لبيك وأفف إذا قال أف، وكون لفظ الظهر في بعض هذه التراكيب مجازا لا يمنع الاشتقاق منه ويكون المشتق مجازا أيضا والمراد منه هنا المعنى الأخير، وكان ذلك طلاقا منهم. وإنما عدي بمن مع أنه يتعدى بنفسه لتضمنه معنى التباعد ونحوه مما فيه معنى المجانبة ويتعدى بمن، والظهر في ذلك مجاز على ما قيل عن البطن لأنه إنما يركب البطن فقوله: كظهر أمي بمعنى كبطنها بعلاقة المجاورة ولأنه عموده، قال ابن الهمام: لكن لا يظهر ما هو الصارف عن الحقيقة من النكات، وقال الأزهري ما معناه: خصوا الظهر لأنه محل الركوب والمرأة تركب إذ غشيت فهو كناية تلويحية انتقل من الظهر إلى المركوب ومنه إلى المغشي، والمعنى أنت محرمة علي لا تركبين كما لا يركب ظهر الأم وقيل: خص الظهر لأن إتيان المرأة من ظهرها في قبلها حراما عندهم فإتيان أمه من ظهرها أحرم فكثر التغليظ، وقيل: كنوا بالظهر عن البطن لأنهم يستقبحون ذكر الفرج وما يقرب منه سيما في الأم وما شابه بها، وليس بذاك وهو في الشرع تشبيه الزوجة أو جزء منها شائع أو معبر به عن الكل بما لا يحل النظر إليه من المحرمة على التأييد ولو برضاع أو صهرية وزاد في النهاية قيد الاتفاق ليخرج التشبيه بما لا يحل النظر إليه ممن اختلف في تحريمها كالبنت من الزنا، وتحقيق الحق في ذلك في فتح القدير، وخص باسم الظهار تغليبا للظهر لأنه كان الأصل في استعمالهم وشرطه في المرأة كونها زوجة وفي الرجل كونه من أهل الكفارة، وركنه اللفظ المشتمل على ذلك التشبيه، وحكمه حرمة الوطء ودواعيه إلى وجود الكفارة وتمام الكلام فيه في كتب الفروع، وسيأتي إن شاء الله تعالى بعض ذلك في محله. وقرأ قالون، وقنبل هنا وفي المجادلة والطلاق «اللاء» بالهمز من غير ياء، وورش بياء مختلسة الكسرة، والبزي، وأبو عمرو «اللاي» ياء ساكنة بدلا من الهمزة وهو بدل مسموع لا مقيس وهي لغة قريش، وقرأ أهل الكوفة غير عاصم «تظاهرون» بفتح التاء وتخفيف الظاء وأصله تتظاهرون فحذفت إحدى التاءين. وقرأ ابن عامر «تظّاهرون» بفتح التاء وتشديد الظاء وأصله كما تقدم إلّا أنه أدغمت التاء الثانية في الظاء.. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 144 وقرأ الحسن «تظهّرون» بضم التاء وفتح الظاء المخففة وشد الهاء المكسورة مضارع ظهر بتشديد الهاء بمعنى ظاهر كعقد بمعنى عاقد، وقرأ ابن وثاب فيما نقل ابن عطية «تظهرون» بضم التاء وسكون الظاء وكسر الهاء مضارع أظهر، وقرأ هارون عن أبي عمرو «تظهرون» بفتح التاء والهاء وسكون الظاء مضارع ظهر بتخفيف الهاء، وفي مصحف أبي «تتظهرون» بتاءين ومعنى الكل واحد. وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ إبطال لما كان في الجاهلية أيضا وصدر من الإسلام من أنه إذا تبنى الرجل ولد غيره أجريت أحكام النبوة عليه، وقد تبنى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قبل البعثة زيد بن حارثة، والخطاب عامر بن ربيعة، وأبو حذيفة مولاه سالما إلى غير ذلك، وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد أن قوله تعالى: وَما جَعَلَ إلخ، نزلت في زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه. و «أدعياء» جمع دعي وهو الذي يدعى ابنا فهو فعيل بمعنى مفعول وقياسه أن يجمع على فعلى كجريح وجرحى لا على أفعلاء فإن الجميع عليه قياس فعيل المعتل اللام بمعنى فاعل كتقي وأتقياء فكأنه شبه به في اللفظ فحمل عليه وجمع جمعه كما قالوا في أسير وقتيل أسراء وقتلاء، وقل: إن هذا الجمع مقيس في المعتل مطلقا، وفيه نظر. ذلِكُمْ قيل: إشارة إلى ما يفهم من الجمل الثلاث من أنه قد يكون قلبان في جوف والظهار والادعاء، وقيل: إلى ما يفهم من الأخيرتين، وقيل: إلى ما يفهم من الأخيرة قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ فقط من غير أن يكون له مصداق وحقيقة في الواقع ونفس الأمر فإذن هو بمعزل عن القبول أو استتباع الأحكام كما زعمتم. وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ الثابت المحقق في نفس الأمر وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ أي سبيل الحق فدعوا قولكم وخذوا بقوله عزّ وجلّ. وقرأ قتادة على ما في البحر «يهدي» بضم الياء وفتح الهاء وشد الدال، وفي الكشاف أنه قرأ «وهو الذي يهدي السبيل» ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ أي انسبوهم إليهم وخصوهم بهم، أخرج الشيخان، والترمذي، والنسائي، وغيرهم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم ما كنا ندعوه إلّا زيد بن محمد حتى نزل القرآن ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ إلخ فقال النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم: أنت زيد بن حارثة بن شراحيل ، وكان من أمره رضي الله تعالى عنه على ما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه كان في أخواله بني معن من بني ثعل من طيىء فأصيب في نهب من طيىء فقدم به سوق عكاظ وانطلق حكيم بن حزام بن خويلد إلى عكاظ يتسوق بها فأوصته عمته خديجة أن يبتاع لها غلاما ظريفا عربيا إن قدر عليه فلما قدم وجد زيدا يباع فيها فأعجبه ظرفه فابتاعه فقدم به عليها وقال لها: إني قد ابتعت لك غلاما ظريفا عربيا فإن أعجبك فخذيه وإلّا فدعيه فإنه قد أعجبني فلما رأته خديجة أعجبها فأخذته فتزوجها رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وهو عندها فأعجب النبي عليه الصلاة والسلام ظرفه فاستوهبه (1) منها فقالت: أهبه لك فإن أردت عتقه فالولاء لي فأبى عليها عليه الصلاة والسلام فأوهبته له إن شاء أعتق وإن شاء أمسك قال: فشب عند النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم ثم إنه خرج في إبل لأبي طالب بأرض الشام فمرّ بأرض قومه فعرفه عمه فقام إليه فقال: من أنت يا غلام؟ قال: غلام من أهل مكة قال: من أنفسهم؟ قال: لا قال: فحر أنت أم مملوك؟ قال: بل مملوك قال: لمن؟ قال: لمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب فقال له: أعرابي أنت أم عجمي؟ قال: عربي قال: ممن أصلك؟ قال: من كلب قال: من أي كلب؟ قال: من بني عبد ود قال: ويحك ابن   (1) يروى أنه كان ابن ثمان حين وهب اهـ منه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 145 أنت؟ قال: ابن حارثة بن شراحيل قال: وأين أصبت؟ قال: في أخوالي قال: ومن أخوالك؟ قال طيىء قال: ما اسم أمك؟ قال: سعدي فالتزمه وقال: ابن حارثة ودعا أباه فقال: يا حارثة هذا ابنك فأتاه حارثة فلما نظر إليه عرفه قال: كيف صنع مولاك إليك؟ قال: يؤثرني على أهله وولده فركب معه أبوه وعمه وأخوه حتى قدموا مكة فلقوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال له حارثة: يا محمد أنتم أهل حرم الله تعالى وجيرانه وعند بيته تفكون العاني وتطعمون الأسير ابني عندك فامنن علينا وأحسن إلينا في فدائه فإنك ابن سيد قومه وإنا سنرفع إليك في الفداء ما أحببت فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أعطيكم خيرا من ذلك قالوا: وما هو؟ قال أخيره فإن اختاركم فخذوه بغير فداء وإن اختارني فكفوا عنه فقال: جزاك الله تعالى خيرا فقد أحسنت فدعاه رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فقال: يا زيد أتعرف هؤلاء؟ قال: نعم هذا أبي وعمي وأخي فقال عليه الصلاة والسلام: فهم من قد عرفتهم فإن اخترتهم فاذهب معهم وإن اخترتني فأنا من تعلم قال له زيد: ما أنا بمختار عليك أحدا أبدا أنت معي بمكان الوالد والعم قال أبوه وعمه: أيا زيد أتختار العبودية؟ قال: ما أنا بمفارق هذا الرجل فلما رأى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم حرصه عليه قال: اشهدوا أنه حر وأنه ابني يرثني وأرثه فطابت نفس أبيه وعمه لما رأوا من كرامته عليه عليه الصلاة والسلام فلم يزل في الجاهلية يدعى زيد بن محمد حتى نزل القرآن ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ فدعي زيد بن حارثة، وفي بعض الروايات أن أباه سمع أنه بمكة فأتاه هو وعمه وأخوه فكان ما كان هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ تعليل للأمر والضمير لمصدر ادعوا كما في قوله تعالى: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة: 8] ، وأَقْسَطُ أفعل تفضيل قصد به الزيادة مطلقا من القسط بمعنى العدل والمراد به البالغ في الصدق فاندفع ما يتوهم من أن المقام يقتضي ذكر الصدق لا العدل أي دعاؤكم إياهم لآبائهم بالغ في العدل والصدق وزائد فيه في حكم الله تعالى وقضائه عزّ وجلّ. وجوز أن يكون أفعل على ما هو الشائع فيه، والمعنى أعدل مما قالوه ويكون جعله ذا عدل مع أنه زور لا عدل فيه أصلا على سبيل التهكم فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا أي تعرفوا آباءَهُمْ فتنسبوهم إليهم فَإِخْوانُكُمْ أي فهم إخوانكم فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ أي وأولياؤكم فيه فادعوهم بالأخوة والمولوية بتأويلهما بالأخوة والولاية في الدين، وبهذا المعنى قيل لسالم بعد نزول الآية مولى حذيفة وكان قد تبناه قبل، وقيل: مَوالِيكُمْ أي بنو أعمامكم، وقيل: معتقوكم ومحرروكم وكأن دعاءهم بذلك لتطييب قلوبهم ولذا لم يؤمر بدعائهم بأسمائهم فقط. وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي إثم فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ أي فيما فعلتموه من ذلك مخطئين جاهلين قبل النهي وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ أي ولكن الجناح والإثم فيما تعمدتموه بعد النهي على أن ما في محل الجر عطفا على ما من فِيما أَخْطَأْتُمْ وتعقب بأن المعطوف المجرور لا يفصل بينه وبين ما عطف عليه، ولذا قال سيبويه في قولهم ما مثل عبد الله يقول ذلك ولا أخيه: إنه حذف المضاف من جهة المعطوف وأبقى المضاف إليه على إعرابه والأصل ولا مثل أخيه ليكون العطف على المرفوع. وأجيب بالفرق بين ما هنا والمثال وأن لا فصل فيه لأن المعطوف هو الموصول مع صلته أعني ما تعمدت على مثله أعني ما أخطأتم أو ولكن ما تعمدتم فيه الجناح على أن ما في موضع رفع على الابتداء وخبره جملة مقدرة، ونسبة التعمد إلى القلوب على حد النسبة في قوله تعالى: فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة: 238] وكون المراد في الأول قبل النهي وفي الثاني بعده أخرجه الفريابي، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد، وقيل: كلا الأمرين بعد النهي والخطأ مقابل العمد، والمعنى لا إثم عليكم إذا قلتم لولد غيركم يا بني على سبيل الخطأ وعدم التعمد كأن سهوتم أو سبق لسانكم ولكن الإثم عليكم إذا قلتم ذلك متعمدين، وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال في الآية: لو دعوت رجلا لغير أبيه وأنت ترى أنه أبوه لم يكن عليك بأس ولكن ما تعمدت وقصدت دعاءه لغير أبيه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 146 وجوز أن يراد بقوله تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ إلخ العفو عن الخطأ دون العمد على طريق العموم لحديث عائشة (1) رضي الله تعالى عنها قالت: «قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم إني لست أخاف عليكم الخطأ ولكن أخاف عليكم العمد» وحديث ابن عباس (2) قال: قال عليه الصلاة والسلام وضع عن أمتي الخطأ والنسيان «وما أكرهوا عليه» ثم تناول لعمومه خطأ التبني وعمده، والجملة على تقديري الخصوص والعموم واردة على سبيل الاعتراض التذييلي تأكيدا لامتثال ما ندبوا إليه مع ادماج حكم مقصود في نفسه، وجعلها بعضهم عطفا مؤولا بجملة طلبية على معنى ادعوهم لآباؤهم هو أقسط لكم ولا تدعوهم لأنفسكم متعمدين فتأثموا على تقدير الخصوص وجملة مستطردة على تقدير العموم وتعقب بأنه تكلف عنه مندوحة، وظاهر الآية حرمة تعمد دعوة الإنسان لغير أبيه، ولعل ذلك فيما إذا كانت الدعوة على الوجه الذي كان في الجاهلية، وأما إذا لم تكن كذلك كما يقول الكبير للصغير على سبيل التحنن والشفقة يا ابني وكثيرا ما يقع ذلك فالظاهر عدم الحرمة. وفي حواشي الخفاجي على تفسير البيضاوي النبوة وإن صح فيها التأويل كالإخوة لكن نهي عنها بالتشبيه بالكفرة والنهي للتنزيه انتهى، ولعله لم يرد بهذا النهي ما تدل عليه الآية المذكورة فإن ما تدل عليه نهي التحريم عن الدعوة على الوجه الذي كان في الجاهلية، والأولى أن يقال في تعليل النهي: سدا لباب التشبيه بالكفرة بالكلية، وهذا الذي ذكره الخفاجي من كراهة قول الشخص لولد غيره يا ابني حكاه لي من أرتضيه عن فتاوى ابن حجر الكبرى، وحكم التبني بقوله: هو ابني إن كان عبدا للقائل العتق على كل حال ولا يثبت نسبه منه إلا إذا كان مجهول النسب وكان بحيث يولد مثله لمثله ولم يقر قبله بنسب من غيره، وعند الشافعي لا عبرة بالتبني فلا يفيد العتق ولا ثبوت النسب، وتحقيق ذلك في موضعه، ثم الظاهر أنه لا فرق إذا لم يعرف الأب بين أن يقال يا أخي وأن يقال يا مولاي في أن كلا منهما مباح مطلقا حينئذ لكن صرح بعضهم بحرمة أن يقال للفاسق يا مولاي لخبر في ذلك، وقيل: لما أن فيه تعظيمه وهو حرام، ومقتضاه أن قول يا أخي إذا كان فيه تعظيم بأن كان من جليل الشأن حرام أيضا، فلعل الدعاء لغير معروف الأب بما ذكر مخصوص بما إذا لم يكن فاسقا ودليل التخصيص هو دليل حرمة تعظيم الفاسق فتدبر، وكذا الظاهر أنه لا فرق في أمر الدعوة بين كون المدعو ذكرا وكونه أنثى لكن لم نقف على وقوع التبني للإناث في الجاهلية والله تعالى أعلم وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً فيغفر للعامد إذا تاب رَحِيماً ولذا رفع سبحانه الجناح عن المخطئ، ويعلم من الآية أنه لا يجوز انتساب الشخص إلى غير أبيه، وعد ذلك بعضهم من الكبائر لما أخرج الشيخان، وأبو داود عن سعد بن أبي وقاص أن النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم قال: «من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام» . وأخرج الشيخان أيضا «من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله تعالى والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله تعالى منه صرفا ولا عدلا» وأخرجا أيضا «ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلم إلّا كفر» . وأخرج الطبراني في الصغير من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وحديثه حسن قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم كفر من تبرأ من نسب وإن دق أو ادعى نسبا لا يعرف» إلى غير ذلك من الأخبار، هذا ومناسبة قوله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ إلخ لما قبله أنه شروع في ذكر شيء من الوحي الذي أمر صلّى الله عليه وسلم في اتباعه كذا قيل، وقيل: إنه تعالى لما أمر   (1) أخرجه ابن مردويه اهـ منه. (2) أخرجه ابن ماجة اهـ منه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 147 بالتقوى كان من حقها أن لا يكون في القلب تقوى غير الله تعالى فإن المرء ليس له قلبان يتقي بأحدهما لله تعالى وبالآخر غيره سبحانه إلّا بصرف القلب عن جهة الله تعالى إلى غيره جلّ وعلا ولا يليق ذلك بمن يتقي الله تعالى حق تقاته، وعن أبي مسلم أنه متصل بقوله تعالى: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ [الأحزاب: 48] حيث جيء به للرد عليهم، والمعنى ليس لأحد قلبان يؤمن بأحدهما ويكفر بالآخر وإنما هو قلب واحد فإما أن يؤمن وإما أن يكفر، وقيل: هو متصل- بلا تطع واتبع- والمعنى أنه لا يمكن الجمع بين اتباعين متضادين اتباع الوحي والقرآن واتباع أهل الكفر الطغيان فكني عن ذلك بذكر القلبين لأن الاتباع يصدر عن الاعتقاد وهو من أفعال القلوب فكما لا يجمع قلبان في جوف واحد لا يجمع اعتقادان متضادان في قلب واحد، وقيل: هو متصل بقوله تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا من حيث إنه مشعر بوحدته عزّ وجلّ فكأنه قيل: وتوكل على الله وكفى به تعالى وكيلا فإنه سبحانه وتعالى وحده المدبر لأمور العالم، ثم أشار سبحانه وتعالى إلى أن أمر الرجل الواحد لا ينتظم ومعه قلبان فكيف تنتظم أمور العالم وله إلهان، وقيل: إن ذاك مسوق للتنفير عن إطاعة الكفرة والمنافقين بحكاية أباطيلهم، وذكر أن قوله تعالى: ما جَعَلَ إلخ ضرب مثلا للظهار والتبني أي كما لا يكون لرجل قلبان لا تكون المظاهرة أما والمتنبي، ابنا، وجعل المذكورات الثلاث بجملتها مثلا فيما لا حقيقة له وارتضى ذلك غير واحد، وقال الطيبي: إن هذا أنسب لنظم القرآن لأنه تعالى نسق المنفيات الثلاث عن ترتيب واحد، وجعل سبحانه قوله جلّ وعلا: ذلِكُمْ فذلكة لها ثم حكم تعالى بأن ذلك قول لا حقيقة له، وثم ذيل سبحانه وتعالى الكل بقوله تعالى: وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ وتعقبه في الكشف بأن سبب النزول وقوله سبحانه بعد التذييل ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ الآية شاهد أصدق بأن الأول مضروب للتبني ثم إنهم ما كانوا يجعلون الأزواج أمهات بل كانوا يجعلون اللفظ طلاقا فإدخاله في قرن مسألة التبني استطرادا هو الوجه لا أنه قول لا حقيقة له كالأول. وانتصر الخفاجي للجماعة فقال: لو كان مثلا للتبني فقط لم يفصل منه، وكون القلبين لرجل وجعل المتبنى ابنا في جميع الأحكام مما لا حقيقة له في نفس الأمر ولا في شرع ظاهر، وكذا جعل الأزواج كالأمهات في الحرمة المؤبدة مطلقا من مخترعاتهم التي لم يستندوا فيها إلى مستند شرعي فلا حقيقة له أيضا فما ادعاه غير وارد عليهم لا سيما مع مخالفته لما روي عنهم انتهى، ويد الله تعالى مع الجماعة، وبين الطيبي نظم الآيات من مفتتح السورة إلى هاهنا فقال: إن الاستهلال بقوله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ دال على أن الخطاب مشتمل على التنبيه على أمر معتنى بشأنه لائح فيه معنى التهيج والإلهاب، ومن ثم عطف عليه وَلا تُطِعِ كما يعطف الخاص على العام وأردف النهي بالأمر على نحو قولك لا تطع من يخذلك واتبع ناصرك، ولا يبعد أن يسمى بالطرد والعكس، ثم أمر بالتوكل تشجيعا على مخالفة أعداء الدين والالتجاء إلى حريم جلال الله تعالى ليكفيه شرورهم، ثم عقب سبحانه كلا من تلك الأوامر على سبيل التتميم والتذييل بما يطابقه، وعلل قوله تعالى وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ بقوله سبحانه وتعالى إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً تتميما للارتداع أي اتق الله فيما تأتي وتذر في سرك وعلانيتك لأنه تعالى عليم بالأحوال كلها يجب أن يحذر من سخطه حكيم لا يحب متابعة حبيبه أعداءه، وعلل قوله تعالى: وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً تتميما أيضا أي اتبع الحق ولا تتبع أهواءهم الباطلة وآراءهم الزائغة لأن الله تعالى يعلم عملك وعملهم فيكافىء كلا ما يستحقه وذيل سبحانه وتعالى قوله تبارك وتعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ بقوله تعالى: وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا تقريرا وتوكيدا على منوال فلان ينطبق بالحق والحق أبلج يعني من حق من يكون كافيا لكل الأمور أن تفوض الأمور إليه وتوكل عليه، وفصل قوله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 148 مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ على سبيل استئناف تنبيها على بعض من أباطيلهم وتمحلاتهم، وقوله تعالى: ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ إلخ فذلكة لتلك الأقوال آذنت بأنها جديرة بأن يحكم عليها بالبطلان وحقيق بأن يذم قائلها فضلا عن أن يطاع، ثم وصل تعالى وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ إلخ على هذه الفذلكة بجامع التضاد على منوال ما سبق في وَلا تُطِعِ واتَّبِعْ وفصل قوله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وقوله تعالى: النَّبِيُّ إلخ وهلم جرا إلى آخر السورة تفصيلا لقول الحق والاهتداء إلى السبيل القويم انتهى فتأمل ولا تغفل النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ أي أحق وأقرب إليهم مِنْ أَنْفُسِهِمْ أو أشد ولاية ونصرة لهم منها فإنه عليه الصلاة والسلام لا يأمرهم ولا يرضى منهم إلّا بما فيه صلاحهم ونجاحهم بخلاف النفس فإنها إما امارة بالسوء وحالها ظاهر أو لا فقد تجهل بعض المصالح وتخفى عليها بعض المنافع وأطلقت الأولوية ليفيد الكلام أولويته عليه الصلاة والسلام في جميع الأمور ويعلم من كونه صلّى الله تعالى عليه وسلم أولى بهم من أنفسهم كونه عليه الصلاة والسلام أولى بهم من كل من الناس، وقد أخرج البخاري وغيره عن أبي هريرة عنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من مؤمن إلّا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة اقرؤوا إن شئتم النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا فإن ترك دينا أو ضياعا (1) فليأتني فأنا مولاه» ولا يلزم عليه كون الأنفس هنا مثلها في قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: 29] لأن إفادة الآية المدعي على الظاهر ظاهرة أيضا، وإذا كان صلّى الله تعالى عليه وسلم بهذه المثابة في حق المؤمنين يجب عليه أن يكون أحب إليهم من أنفسهم وحكمه عليه الصلاة والسلام عليهم أنفذ من حكمها وحقه آثر لديهم من حقوقها وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها، وسبب نزول الآية على ما قيل ما روي من أنه عليه الصلاة والسلام أراد غزوة تبوك فأمر الناس بالخروج فقال أناس منهم: يستأذن آباءنا وأمهاتنا فنزلت ، ووجه دلالتها على السبب أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم إذا كان أولى من أنفسهم فهو أولى من الأبوين بالطريق الأولى ولا حاجة إلى حمل أنفسهم عليه على خلاف المعنى المتبادر كما أشرنا إليه آنفا وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ أي منزلات منزلة أمهاتهم في تحريم النكاح واستحقاق التعظيم وأما فيما عدا ذلك من النظر إليهن والخلوة بهن وارثهن ونحو ذلك فهن كالأجنبيات، وفرع على هذا القسطلاني في المواهب أنه لا يقال لبناتهن أخوات المؤمنين في الأصح، والطبرسي وهو شيعي أنه لا يقال لإخوانهن أخوال المؤمنين، ولا يخفى أنه يسر حسوا بارتغاء، وفي المواهب أن في جواز النظر إليهن وجهين أشهرهما المنع، ولكون وجه الشبه مجموع ما ذكر قالت عائشة رضي الله عنها لامرأة قالت لها يا أمه: أنا أم رجالكم لا أم نسائكم أخرجه ابن سعد، وابن المنذر والبيهقي في سننه عنها، ولا ينافي هذا استحقاق التعظيم منهن أيضا. وأخرج ابن سعد عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها أنها قالت أنا أم الرجال منكم والنساء وعليه يكون ما ذكر وجه الشبه بالنسبة إلى الرجال وأما بالنسبة إلى النساء فهو استحقاق التعظيم، والظاهر أن المراد من أزواجه كل من أطلق عليها أنها زوجة له صلّى الله تعالى عليه وسلم من طلقها ومن لم يطلقها، وروى ذلك ابن أبي حاتم عن مقاتل فيثبت الحكم لكلهن وهو الذي نص عليه الإمام الشافعي وصححه في الروضة، وقيل: لا يثبت الحكم لمن فارقها عليه الصلاة والسلام في الحياة كالمستعيذة والتي رأى بكشحها بياضا وصحح أمام الحرمين، والرافعي في الصغير تحريم المدخول بها فقط لما روي أن الأشعث بن قيس نكح المستعيذة في زمن عمر رضي الله تعالى عنه فهم عمر برجمه فأخبره أنها لم تكن مدخولا بها فكف، وفي رواية أنه رضي الله تعالى عنه هم برجمها فقالت له: ولم هذا؟ وما ضرب   (1) أي عيالا ضياعا اهـ منه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 149 على حجاب ولا سميت للمسلمين أما فكف عنها، وذكر في المواهب أن في حل من اختارت منهن الدنيا للأزواج منهن الدنيا للأزواج طريقين، أحدهما طرد الخلاف والثاني القطع بالحل، واختار هذا الإمام والغزالي، وحكى القول بأن المطلقة لا يثبت لها هذا الحكم عن الشيعة، وقد رأيت في بعض كتبهم نفي الأمومة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالوا: لأن النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فوض إلى علي كرم الله تعالى وجهه أن يبقي من يشاء من أزواجه ويطلق من يشاء منهن بعد وفاته وكالة عنه عليه الصلاة والسلام وقد طلق رضي الله تعالى عنه عائشة يوم الجمل فخرجت عن الأزواج ولم يبق لها حكمهن وبعد أن كتبت هذا اتفق لي أن نظرت في كتاب ألفه سليمان بن عبد الله البحراني عليه من الله تعالى ما يستحق في مثالب جمع من الصحابة حاشى رضي الله تعالى عنهم فرأيت ما نصه: روى أبو منصور أحمد بن أبي طالب الطبرسي في كتاب الاحتجاج عن سعد بن عبد الله أنه سأل القائم المنتظر وهو طفل في حياة أبيه فقال له يا مولانا وابن مولانا روي لنا أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم جعل طلاق نسائه إلى أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه حتى أنه بعث في يوم الجمل رسولا إلى عائشة وقال: إنك أدخلت الهلاك على الإسلام وأهله بالغش الذي حصل منك وأوردت أولادك في موضع الهلاك بالجهالة فإن امتنعت وإلّا طلقتك فأخبرنا يا مولانا عن معنى الطلاق الذي فوض حكمه رسول صلّى الله تعالى عليه وسلم إلى أمير المؤمنين فقال: إن الله تقدس اسمه عظم شأن نساء النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فخصهن بشرف الأمهات فقال عليه الصلاة والسلام: يا أبا الحسن إن هذا الشرف باق ما دمنا على طاعة الله تعالى فأيتهن عصت الله تعالى بعدي بالخروج عليك فطلقها من الأزواج وأسقطها من شرف أمهات المؤمنين، ثم قال: وروى الطبرسي أيضا في الاحتجاج عن الباقر أنه قال: لما كان يوم الجمل وقد رشق هودج عائشة بالنبل قال علي كرم الله تعالى وجهه: والله ما أراني إلّا مطلقها فأنشد الله تعالى رجلا سمع رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم يقول: يا علي أمر نسائي بيدك من بعدي لما قام فشهد فقام ثلاثة عشر رجلا فشهدوا بذلك الحديث، ورأيت في بعض الأخبار التي لا تحضرني الآن ما هو صريح في وقوع الطلاق اهـ ما قاله البحراني عامله الله تعالى بعدله. وهذا لعمري من السفاهة والوقاحة والجسارة على الله تعالى ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم بمكان وبطلانه أظهر من أن يخفى وركاكة ألفاظه تنادي على كذبه بأعلى صوت ولا أظنه قولا مرضيا عند من له أدنى عقل منهم فلعن الله تعالى من اختلقه وكذا من يعتقده، وأخرج الفريابي، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي في سننه عن ابن عباس أنه كان يقرأ «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم» وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة أنه قال: كان في الحرف الأول «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أبوهم» وفي مصحف أبي رضي الله تعالى عنه كما روى عبد الرزاق، وابن المنذر، وغيرهما «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم» وإطلاق الأب عليه صلّى الله تعالى عليه وسلم لأنه سبب للحياة الأبدية كما أن الأب سبب للحياة أيضا بل هو عليه الصلاة والسلام أحق بالأبوة منه وعن مجاهد كل نبي أب لأمته، ومن هنا قيل في قول لوط هؤلاء بناتي أنه أراد المؤمنات ووجهه ما ذكر، ويلزم من هذه الأبوة على ما قيل أخوة المؤمنين. ويعلم مما روي عن مجاهد أن الأبوة ليست من خصوصياته عليه الصلاة والسلام وهذا ليس كأمومة أزواجه فإنها على ما في المواهب من الخصوصيات فلا يحرم نكاح أزواج من عداه صلّى الله تعالى عليه وسلم من الأنبياء عليهم السلام من بعدهم على أحد من أممهم وَأُولُوا الْأَرْحامِ أي ذوو القرابات الشاملون للعصبات لا ما يقابلهم بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ في النفع بميراث وغيره من النفع المالي أو في التوارث ويؤيده سبب النزول الآتي ذكره فِي كِتابِ اللَّهِ أي فيما كتبه في اللوح أو فيما أنزله وهي آية المواريث أو هذه الآية أو فيما كتبه سبحانه وفرضه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 150 وقضاه مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ صلة لأولى فمدخول مِنْ هو المفضل عليه وهي ابتدائية مثلها في قولك: زيد أفضل من عمرو أي أولو الأرحام بحق القرابة أولى في كل نفع أو بالميراث من المؤمنين بحق الدين ومن المهاجرين بحق الهجرة، وقال الزمخشري: يجوز أن يكون بيانا لأولو الأرحام أي الأقرباء من هؤلاء بعضهم أولى بأن يرث بعضا من الأجانب، والأول هو الظاهر، وكان في المدينة توارث بالهجرة وبالموالاة في الدين ذلك بآية آخر الأنفال أو بهذه الآية، وقيل: بالإجماع وأرادوا كشفه عن الناسخ وإلّا فهو لا يكون ناسخا كما لا يخفى، ورفع بَعْضُهُمْ يجوز أن يكون على البدلية وأن يكون على الابتداء وفِي كِتابِ متعلق بأولى ويجوز أن يكون حالا والعامل فيه معنى أَوْلى ولا يجوز على ما قال أبو البقاء أن يكون حالا من أُولُوا للفصل بالخبر ولأنه لا عامل إذا، وقوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً إما استثناء متصل من أعم ما تقدر الأولوية فيه من النفع كأنه قيل: القريب أولى من الأجنبي من المؤمنين والمهاجرين في كل نفع من ميراث وصدقة وهدية ونحو ذلك إلّا في الوصية فإنها المرادة بالمعروف فالأجنبي أحق بها من القريب الوارث فإنها لا تصح لوارث، وأما استثناء منقطع بناء على أن المراد بما فيه الأولوية هو التوارث فيكون الاستثناء من خلاف الجنس المدلول عليه بفحوى الكلام كأنه قيل: لا تورثوا غير أولي الأرحام لكن فعلكم إلى أوليائكم من المؤمنين والمهاجرين الأجانب معروفا وهو أن توصوا لمن أحببتم منهم بشيء جائز فيكون ذلك له بالوصية لا بالميراث، ويجوز أن يكون المعروف عاما لما عدا الميراث، والمتبادر إلى الذهن انقطاع الاستثناء واقتصر عليه أبو البقاء، ومكي وكذا الطبرسي وجعل المصدر مبتدأ محذوف الخبر كما أشرنا إليه. وتفسير الأولياء بمن كان من المؤمنين والمهاجرين هو الذي يقتضيه السياق فهو من وضع الظاهر موضع الضمير بناء على أن مِنْ فيما تقدم للابتداء لا للبيان، وأخرج ابن جرير، وغيره عن مجاهد تفسيره بالذين والى بينهم النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، وأخرج ابن المنذر، وابن جرير، وابن أبي حاتم. عن محمد بن الحنفية أنه قال: نزلت هذه الآية في جواز وصية المسلم لليهودي والنصراني، وأخرجوا عن قتادة أنه قال: الأولياء القرابة من أهل الشرك والمعروف الوصية، وحكي في البحر عن جماعة منهم الحسن، وعطاء أن الأولياء يشمل القريب والأجنبي المؤمن والكافر وأن المعروف أعم من الوصية. وقد أجازها للكافر القريب وكذا الأجنبي جماعة من الفقهاء والإمامية يجوزونها لبعض ذوي القرابة الكفار وهم الوالدان والولد لا غير، والنهي عن اتخاذ الكفار أولياء لا يقتضي النهي عن الإحسان إليهم والبر لهم. وعدّي تَفْعَلُوا بإلى لتضمنه معنى الإيصال والإسداء كأنه قيل: إلّا أن تفعلوا مسدين إلى أوليائكم معروفا كانَ ذلِكَ أي ما ذكر في الآيتين أعني ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ والنَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وجوز أن يكون إشارة إلى ما سبق من أول السورة إلى هنا أو إلى ما بعد قوله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ أو إلى ما ذكر في الآية الأخيرة وفيه بحث فِي الْكِتابِ أي في اللوح أو القرآن وقيل في التوراة مَسْطُوراً أي مثبتا بالإسطار وعن قتادة أنه قال في بعض القراءات: كان ذلك عند الله مكتوبا أن لا يرث المشرك المؤمن فلا تغفل. وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ مقدر بأذكر على أنه مفعول لا ظرف لفساد المعنى، وهو معطوف على ما قبله عطف القصة على القصة أو على مقدر كخذ هذا، وجوز أن يكون ذلك عطفا على خبر كان وهو بعيد وإن كان قريبا، ولما كان ما سبق متضمنا أحكاما شرعها الله تعالى وكان فيها أشياء مما كان في الجاهلية وأشياء مما كان في الإسلام أبطلت ونسخت اتبعه سبحانه بما فيه حث على البليغ فقال عزّ وجلّ: وَإِذْ إلخ واذكر وقت أخذنا من النبيين كافة عهودهم بتبليغ الرسالة والشرائع والدعاء إلى الدين الحق وذلك على ما قال الزجاج وغيره وقت استخراج الجزء: 11 ¦ الصفحة: 151 البشر من صلب آدم عليه السلام كالذر، وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة أنه سبحانه أخذ من النبيين عهودهم بتصديق بعضهم بعضا واتباع بعضهم بعضا، وفي رواية أخرى عنه أنه أخذ الله تعالى ميثاقهم بتصديق بعضهم بعضا والإعلان بأن محمدا رسول الله وإعلان رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم أن لا نبي بعده وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ تخصيصهم بالذكر مع اندراجهم في النبيين اندراجا بينا للإيذان بمزيد مزيتهم وفضلهم وكونهم من مشاهير أرباب الشرائع. واشتهر أنهم هم أولو العزم من الرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين وأخرج البزار عن أبي هريرة أنهم خيار ولد آدم عليهم الصلاة والسلام، وتقديم نبيا صلّى الله تعالى عليه وسلم مع أنه آخرهم بعثة للإيذان بمزيد خطره الجليل أو لتقدمه في الخلق، فقد أخرج ابن أبي عاصم والضياء في المختارة عن أبي بن كعب مرفوعا بدىء بي الخلق وكنت آخرهم في البعث ، وأخرج جماعة عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم قال: «كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث ، وكذا في الاستنباء فقد جاء في عدة روايات أنه عليه الصلاة والسلام قال: «كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد» وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قيل يا رسول الله متى أخذ ميثاقك؟ قال: وآدم بين الروح والجسد ، ولا يضر فيما ذكر تقديم نوح عليه السلام في آية الشورى أعني قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً [الشورى: 13] الآية إذ لكل مقام مقال والمقام هناك وصف دين الإسلام بالأصالة والمناسب فيه تقديم نوح فكأنه قيل: شرع لكم الدين الأصيل الذي بعث عليه نوح في العهد القديم وبعث عليه محمد عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء في العهد الحديث وبعث عليه من توسط بينهما من الأنبياء والمشاهير، وقال ابن المنير: السر في تقديمه صلّى الله تعالى عليه وسلم أنه هو المخاطب والمنزل عليه هذا المتلو فكان أحق بالتقديم، وفيه بحث وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً أي عهد عهد عظيم الشأن أو وثيقا قويا وهذا هو الميثاق الأول وأخذه هو أخذه، والعطف مبني على تنزيل التغاير العنواني منزلة التغاير الذاتي كما في قوله تعالى: وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ [هود: 58] أثر قوله سبحانه: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [هود: 58] وفي ذلك من تفخيم الشأن ما فيه ولهذا لم يقل عزّ وجلّ: وإذ أخذنا من النبيين ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ميثاقا غليظا مثلا، وقال سبحانه ما في النظم الكريم، وقيل: الميثاق الغليظ اليمين بالله تعالى فيكون بعد ما أخذ الله سبحانه من النبيين الميثاق بتبليغ الرسالة والدعوة إلى الحق أكد باليمين بالله تعالى على الوفاء بما حملوا فالميثاقان متغايران بالذات، وقوله عزّ وجلّ: لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ قيل متعلق بمضمر مستأنف مسوق لبيان علة الأخذ المذكور وغايته أي فعل الله تعالى ذلك ليسأل إلخ وقيل: متعلق بأخذنا، وتعقب بأن المقصود تذكير نفس الميثاق ثم بيان علته وغايته بيانا قصديا كما ينبىء عنه تغيير الأسلوب بالالتفات إلى الغيبة، والمراد بالصادقين النبيون الذين أخذ ميثاقهم ووضع موضع ضميرهم للإيذان من أول الأمر بأنهم صادقوا فيما سألوا عنه وإنما السؤال لحكمة تقتضيه أي ليسأل الله تعالى يوم القيامة النبيين الذين صدقوا عهودهم عن كلامهم الصادق الذي قالوه لأقوامهم أو عن تصديق أقوامهم إياهم، وسؤالهم عليهم السلام عن ذلك على الوجهين لتبكيت الكفرة المكذبين كما في قوله تعالى يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ [المائدة: 109] أو المراد بهم المصدقون بالنبيين، والمعنى ليسأل المصدقين للنبيين عن تصديقهم إياهم فيقال: هل صدقتم؟ وقيل: يقال لهم هل كان تصديقكم لوجه الله تعالى؟ وجه إرادة ذلك أن مصدق الصادق صادق وتصديقه صدق، وقيل: المعنى ليسأل المؤمنين الذين صدقوا عهدهم حين أشهدهم على أنفسهم عن صدقهم عهدهم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 152 وتعقب بأنه يأباه مقام تذكير ميثاق النبيين وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً قيل عطف على فعل مضمر متعلقا فيما قيل: وقيل: على مقدر دلّ عليه لِيَسْئَلَ كأنه قيل فأثاب المؤمنين وأعد للكافرين إلخ، وقيل: على أَخَذْنا وهو عطف معنوي كأنه قيل: أكد الله تعالى على النبيين الدعوة إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين وأعد للكافرين إلخ. وقيل: على (يسئل) بتأويله بالمضارع ولا بد من ملاحظة مناسبة ليحسن العطف وقيل: على مقدر وفي الكلام الاحتباك والتقدير ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد لهم ثوابا عظيما ويسأل الكاذبين عن كذبهم وأعد لهم عذابا أليما فحذف من كل منهما ما ثبت في الآخر، وقيل: إن الجملة حال من ضمير (يسئل) بتقدير قد أو بدونه، ولا يخفى أقلها تكلفا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ شروع في ذكر قصة الأحزاب وهي وقعة الخندق، وكانت على ما قال ابن إسحاق في شوال سنة خمس، وقال مالك: سنة أربع. والنعمة إن كانت مصدرا بمعنى الإنعام فالجار متعلق بها وإلّا فهو متعلق بمحذوف وقع حالا منها أي كائنة عليكم، وقوله تعالى: إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ ظرف لنفس النعمة أو لثبوتها لهم، وقيل: منصوب بأذكر على أنه بدل اشتمال من نِعْمَةَ والمراد بالجنود الأحزاب، وهم قريش يقودهم أبو سفيان، وبنو أسد يقودهم طليحة، وغطفان يقودهم عيينة، وبنو عامر يقودهم عامر بن الطفيل، وبنو سليم يقودهم أبو الأعور السلمي، وبنو النضير رؤساؤهم حيي ابن أخطب وأبناء أبي الحقيق، وبنو قريظة سيدهم كعب بن أسد، وكان بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم عهد فنبذه بسعي حيي، وكان مجموعهم عشرة آلاف في قول وخمسة عشر ألفا في آخر، وقيل: زهاء اثني عشر ألفا فلما سمع رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم بإقبالهم حفر خندقا قريبا من المدينة محيطا بها بإشارة سلمان الفارسي أعطى كل أربعين ذراعا لعشرة، ثم خرج عليه الصلاة والسلام في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب معسكره والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالذراري والنساء فدفعوا في الآطام، واشتد الخوف وظن المؤمنون كل ظن وبحم النفاق كما قص الله تعالى، ومضى قريب من شهر على الفريقين لا حرب بينهم سوى الرمي بالنبل والحجارة من وراء الخندق إلّا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود وكان يعد بألف فارس، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطاب، وهبيرة بن أبي وهب، ونوفل بن عبد الله قد ركبوا خيولهم وتيمموا من الخندق مكانا ضيقا فضربوا بخيولهم فاقتحموا فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع فخرج علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه في نفر من المسلمين رضي الله تعالى عنهم حتى أخذ عليهم الثغرة التي اقتحموا منها فأقبلت الفرسان معهم وقتل علي كرم الله تعالى وجهه عمرا في قصة مشهورة فانهزمت خيله حتى اقتحمت من الخندق هاربة وقتل مع عمرو منبه بن عثمان بن عبد الدار. ونوفل بن عبد العزى، وقيل: وجد نوفل في جوف الخندق فجعل المسلمون يرمونه بالحجارة فقال لهم: قتلة أجمل من هذه ينزل بعضكم أقاتله فقتله الزبير بن العوام. وذكر ابن إسحاق أن عليا كرم الله تعالى وجهه طعنه في ترقوته حتى أخرجها من مراقه فمات في الخندق وبعث المشركون إلى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم يشترون جيفته بعشرة آلاف فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هو لكم لا نأكل ثمن الموتى، ثم أنزل الله تعالى النصر وذلك قوله تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً عطف على جاءَتْكُمْ مسوق لبيان النعمة إجمالا وسيأتي أن شاء الله تعالى بقيتها في آخر القصة. وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وهم الملائكة عليهم السلام وكانوا على ما قيل ألفا، روي أن الله تعالى بعث عليهم صبا باردة في ليلة باردة فاخصرتهم وسفت التراب في وجوههم وأمر الملائكة عليهم السلام فقلعت الأوتاد وقطعت الأطناب وأطفأت النيران وأكفأت القدور وماجت الخيل بعضها في بعض وقذف في قلوبهم الرعب وكبرت الملائكة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 153 في جوانب عسكرهم فقال طليحة بن خويلد الأسدي: أما محمد صلّى الله عليه وسلم فقد بدأكم بالسحر فالنجاء النجاء فانهزموا، وقال حذيفة رضي الله تعالى وقد ذهب ليأتي رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم بخبر القوم. خرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت في ضوء نار لهم توقد وإذا رجل أدهم ضخم يقول بيده على النار ويمسح خاصرته ويقول: الرحيل الرحيل لا مقام لكم وإذا الرجل في عسكرهم ما يجاوز عسكرهم شبرا فو الله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم والربح تضربهم ثم خرجت نحو النبي عليه الصلاة والسلام فلما صرت في نصف الطريق أو نحو ذلك إذا أنا بنحو عشرين فارسا متعممين فقالوا: أخبر صاحبك أن الله تعالى كفاه القوم. وقرأ الحسن «وجنودا» بفتح الجيم، وقرأ أبو عمرو في رواية، وأبو بكر في رواية أيضا «لم يروها» بياء الغيبة وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من حفر الخندق وترتيب مبادئ الحرب أعلاه لكلمة الله تعالى، وقيل: من التجائكم إليه تعالى ورجائكم من فضله عزّ وجلّ. وقرأ أبو عمرو «يعملون» بياء الغيبة أي بما يعمله الكفار من التحرز والمحاربة وإغراء بعضهم بعضا عليها حرصا على إبطال حقكم، وقيل: من الكفر والمعاصي بَصِيراً ولذلك فعل ما فعل من نصركم عليهم، والجملة اعتراض مقرّر لما قبله إِذْ جاؤُكُمْ بدل من إِذْ جاءَتْكُمْ بدل كل من كل، وقيل: هو متعلق بتعملون أو ببصيرا مِنْ فَوْقِكُمْ من أعلى الوادي من جهة المشرق والإضافة إليهم لأدنى ملابسة، والجائي من ذلك بنو غطفان، ومن تابعهم من أهل نجد، وبنو قريظة، وبنو النضير وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ من أسفل الوادي من قبل المغرب، والجائي من ذلك قريش ومن شايعهم من الأحابيش، وبني كنانة، وأهل تهامة، وقيل: الجائي من فوق بنو قريظة، ومن أسفل قريش، وأسد، وغطفان، وسليم، وقيل: غير ذلك. ويحتمل أن يكون من فوق ومن أسفل كناية عن الإحاطة من جميع الجوانب كأنه قيل: إذ جاؤوكم محيطين بكم كقوله تعالى: يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [العنكبوت: 55] وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ عطف على ما قبله داخل معه في حكم التذكير أي حين مالت الأبصار عن سننها وانحرفت عن مستوى نظرها حيرة ودهشة. وقال الفراء: أي حين مالت عن كل شيء فلم تلتفت إلّا إلى عدوها وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ أي خافت خوفا شديدا وفزعت فزعا عظيما لأنها تحركت عن موضعها وتوجهت إلى الحناجر لتخرج. أخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة أنه قال في الآية: إن القلوب لو تحركت وزالت خرجت نفسه ولكن إنما هو الفزع فالكلام على المبالغة، وقيل: القلب عند الغضب يندفع وعند الخوف يجتمع فيتقلص بالحنجرة وقد يفضي إلى أن يسد مخرج النفس فلا يقدر المرء أن يتنفس ويموت خوفا، وقيل: إن الرئة تنتفخ من شدة الفزع والغضب والغم الشديد وإذا انتفخت ربت وارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة، ومن ثم قيل للجبان: انتفخ سحره، وإلى حمل الكلام على الحقيقة ذهب قتادة. أخرج عنه عبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم أنه قال في الآية: أي شخصت عن مكانها فلولا أنه ضاق الحلقوم عنها أن تخرج لخرجت، وفي مسند الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال: قلنا يا رسول الله هل من شيء نقوله فقد بلغت القلوب الحناجر؟ قال: نعم اللهم استر عورتنا وآمن روعاتنا قال: فضرب الله تعالى وجوه أعدائه بالريح فهزمهم الله تعالى بالريح ، والخطاب في قوله تعالى: وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا لمن يظهر الإيمان على الإطلاق، والظنون جمع الظن وهو مصدر شامل للقليل والكثير، وإنما جمع للدلالة على تعدد أنواعه، وقد جاء كذلك في أشعارهم أنشد أبو عمرو في كتاب الألحان: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 154 إذا الجوزاء أردفت الثريا ... ظننت بآل فاطمة الظنونا أي تظنون بالله تعالى أنواع الظنون المختلفة فيظن المخلصون منكم الثابتون في ساحة الإيمان أن ينجز سبحانه وعده في إعلاء دينه ونصرة نبيه صلّى الله تعالى عليه وسلم، ويعرب عن ذلك ما سيحكى عنهم من قولهم هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ الآية، أو أن يمتحنهم فيخافون أن تزل أقدامهم فلا يتحملون ما نزل بهم، وهذا لا ينافي الإخلاص والثبات كما لا يخفى، ويظن المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما حكي عنهم في قوله تعالى: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ الآية، وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال في الآية: ظنون مختلفة ظن المنافقون أن محمدا صلّى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه يستأصلون وأيقن المؤمنون أن ما وعد والله ورسوله حق وأنه سيظهر على الدين كله، وقد يختار أن الخطاب للمؤمنين ظاهرا وباطنا واختلاف ظنونهم بسبب أنهم يظنون تارة أن الله سبحانه سينصرهم على الكفار من غير أن يكون لهم استيلاء عليهم أولا، وتارة أنه عزّ وجلّ سينصر الكفار عليه فيستولون على المدينة ثم ينصرهم عليهم بعد، وأخرى أنه سبحانه سينصر الكفار بحيث يستأصلونهم وتعود الجاهلية، أو بسبب أن بعضهم يظن هذا وبعضهم يظن ذاك وبعضهم يظن ذلك. ويلتزم أن الظن الذي لا يليق بحال المؤمن كان من خواطر النفس التي أوجبها الخوف الطبيعي ولم يمكن البشر دفعها ومثلها عفو، أو يقال: ظنونهم المختلفة هي ظن النصر بدون نيل العدو منهم شيئا وظنه بعد النيل وظن الامتحان وعلى هذا لا يحتاج إلى الاعتذار، وأيا ما كان فالجملة معطوفة على زاغَتِ وصيغة المضارع لاستحضار الصورة والدلالة على الاستمرار، وكتب الظُّنُونَا وكذا أمثاله من المنصوب المعرف بأل كالسبيلا والرسولا في المصحف بألف في آخره، فحذفها أبو عمرو وقفا ووصلا، وابن كثير، والكسائي وحفص يحذفونها وصلا خاصة ويثبتها باقي السبعة في الحالين، واختار أبو عبيد، والحذاق أن يوقف على نحو هذه الكلمة بالألف ولا توصل فتحذف أو تثبت لأن حذفها مخالف لما اجتمعت عليه مصاحف الأمصار ولأن إثباتها في الوصل معدوم في لسان العرب نظمهم ونثرهم لا في اضطرار ولا في غيره، أما إثباتها في الوقف ففيه اتباع الرسم وموافقة لبعض مذاهب العرب لأنهم يثبتون هذه الألف في قوافي أشعارهم ومصاريعها ومن ذلك قوله: أقلّي اللوم عاذل والعتابا (1) والفواصل في الكلام كالمصاريع، وقال أبو علي: إن رؤوس الآي تشبه بالقوافي من حيث كانت مقاطع كما كانت القوافي مقاطع هُنالِكَ ظرف مكان ويستعمل للزمان وقيل: إنه مجاز وهو أنسب هنا، وأيا ما كان فهو ظرف لما بعده لا لتظنون كما قيل أي في ذلك الزمان الهائل أو في ذلك المكان المدحض ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ أي اختبرهم الله تعالى، والكلام من باب التمثيل، والمراد عاملهم سبحانه وتعالى معاملة المختبر فظهر المخلص من المنافق والراسخ من المتزلزل، وابتلاؤهم على ما روي عن الضحاك بالجوع، وعلى ما روي عن مجاهد بشدة الحصار، على ما قيل بالصبر على الإيمان. وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً أي اضطربوا اضطرابا شديدا من شدة الفزع وكثرة الأعداء، وعن الضحاك «أنهم زلزلوا عن أماكنهم حتى لم يكن لهم إلّا موضع الخندق» وقيل: أي حركوا إلى الفتنة فعصموا. وقرأ أحمد بن موسى اللؤلؤي عن أبي عمرو «زلزلوا» بكسر الزاي قاله ابن خالويه، وقال الزمخشري: وعن أبي عمرو إشمام زاي زلزلوا وكأنه عنى إشمامها الكسر ووجه الكسر انه اتباع حركة الزاي الأولى لحركة الثانية ولم يعتد بالساكن كما لم يعتد به من قال منتن بكسر الميم اتباعا لحركة التاء وهو اسم فاعل من أنتن. وقرأ الجحدري وعيسى «زلزلا» بفتح الزاي، ومصدر فعلل   (1) في رواية اهـ منه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 155 من المضاعف يجوز فيه الفتح والكسر نحو قلقل قلقالا، وقد يراد بالمفتوح اسم الفاعل نحو صلصال بمعنى مصلصل، فإن كان من غير المضاعف فما سمع منه على فعلال مكسور الفاء نحو سرهفه سرهافا وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ عطف على إِذْ زاغَتِ وصيغة المضارع لما مر من الدلالة على استمرار القول واستحضار صورته. وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ظاهر العطف أنهم قوم لم يكونوا منافقين فقيل: هم قوم كان المنافقون يستميلونهم بإدخال الشبهة عليهم، وقيل: قوم كانوا ضعفاء الاعتقاد لقرب عهدهم بالإسلام، وجوز أن يكون المراد بهم المنافقون أنفسهم والعطف لتغاير الوصف كقوله: إلى الملك القرم وابن الهمام. ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ من الظفر وإعلاء الدين إِلَّا غُرُوراً أي وعد غرور، وقيل: أي قولا باطلا وفي البحر أي أمرا يغرنا ويوقعنا فيما لا طاقة لنا به روي أن الصحابة بينما يحفرون الخندق عرضت لهم صخرة بيضاء مدورة شديدة جدا لا تدخل فيها المعاول فشكوا إلى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فأخذ المعول من سلمان رضي الله تعالى عنه فضربها ضربة دعها وبرقت منها برقة أضاء منها ما بين لابتي المدينة حتى لكأن مصباحا في جوف ليل مظلم فكبر رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وكبر المسلمون ثم ضربها الثانية فصدعها وبرقت منها برقة أضاء منها ما بين لابتيها فكبر عليه الصلاة والسلام وكبّر المسلمون ثم ضربها الثالثة فكسرها وبرقت برقة أضاء منها ما بين لابتيها فكبر صلّى الله تعالى عليه وسلم وكبر المسلمون فسأل عن ذلك فقال عليه الصلاة والسلام: أضاء لي في الأولى قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب فأخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة عليها وأضاء لي الثانية قصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب وأخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهرة عليها وأضاء لي في الثالثة قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب وأخبرني جبريل عليه السلام أن أمتي ظاهر عليها فأبشروا بالنصر فاستبشر المسلمون وقال رجل من الأنصار يدعى معتب بن قشير وكان منافقا: أيعدنا محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم أن يفتح لنا مدائن اليمن وبيض المدائن وقصور الروم وأحدنا لا يستطيع أن يقضي حاجته إلّا قتل هذا والله الغرور فأنزل الله تعالى في هذا وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ إلخ. وفي رواية قال المنافقون حين سمعوا ذلك ألا تعجبون يحدثكم ويعدكم ويمنيكم الباطل أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق ولا تستطيعون أن تبرزوا فأنزل الله تعالى قوله سبحانه إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ ووجه الجمع على القول بأن القائل واحد أن الباقين راضون بذلك قابلوه منه، والظاهر أن نسبة الوعد إلى الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة من المنافقين الذين لا يعتقدون اتصافه صلّى الله تعالى عليه وسلم بالرسالة ولا أن الوعد وعد الله تعالى شأنه كانت من باب المماشاة أو الاستهزاء وإن كانت قد وقعت من غيرهم فهي بالتبعية لهم. ويجوز أن يكون وقوع ما ذكر في الحكاية لا في كلامهم ويستأنس له بما وقع في بعض الآثار وبعضهم بحث عن إطلاق الرسول عليه صلّى الله تعالى عليه وسلم فقال أنه في الحكاية لا في كلامهم كما يشهد بذلك ما روي عن معتب أو هو تقية لا استهزاء لأنه لا يصح بالنسبة لغير المنافقين فتأمل ولا تغفل وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ قال السدي: هم عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه، وقال مقاتل: هم بنو سلمة، وقال أوس بن رومان هم أوس بن قيظي وأصحابه بنو حارثة وضمير مِنْهُمْ للمنافقين أو للجميع يا أَهْلَ يَثْرِبَ هو اسم المدينة المنورة، وقال أبو عبيدة اسم بقعة وقعت المدينة في ناحية منها، وقيل: اسم أرضها وهو عليها ممنوع من الصرف للعملية ووزن الفعل أو التأنيث ولا ينبغي تسمية المدينة بذلك أخرج أحمد، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن البراء بن عازب قال قال رسول الله صلّى الله الجزء: 11 ¦ الصفحة: 156 تعالى عليه وسلم من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله تعالى هي طابة هي طابة هي طابة وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن رسول الله عليه الصلاة والسلام لا تدعونها يثرب فإنها طيبة يعني المدينة ومن قال يثرب فليستغفر الله تعالى ثلاث مرات هي طيبة هي طيبة هي طيبة ، وفي الحواشي الخفاجية أن تسميتها به مكروهة كراهة تنزيهية، وذكر في وجه ذلك أن هذا الاسم يشعر بالتثريب وهو اللوم والتعبير. وقال الراغب: التثريب التقريع بالذنب والثرب شحمة رقيقة، ويثرب يصح أن يكون أصله من هذا الباب والياء تكون فيه زائدة انتهى، وقيل: يثرب اسم رجل من العمالقة وبه سميت المدينة وكان يقال لها أثرب أيضا، ونقل الطبرسي عن الشريف المرتضى أن للمدينة أسماء منها يثرب وطيبة وطابة والدار والسكينة وجائزة والمحبورة والمحبة والمحبوبة والعذراء والمرحومة والقاصمة ويندّد انتهى، وكأن القائلين اختاروا يثرب من بين الأسماء مخالفة له صلّى الله تعالى عليه وسلم لما علموا من كراهيته عليه الصلاة والسلام لهذا الاسم من بينها، ونداؤهم أهل المدينة بعنوان أهليتهم لها ترشيح لما بعد من الأمر بالرجوع إليها لا مُقامَ لَكُمْ أي لا مكان إقامة أو لا إقامة لكم أي لا ينبغي أو لا يمكن لكم الإقامة هاهنا. وقال أبو جعفر، وشيبة، وأبو رجاء، والحسن، وقتادة، والنخعي، وعبد الله بن مسلم، وطلحة وأكثر السبعة «لا مقام» بفتح الميم وهو يحتمل أيضا المكان أي لا مكان قيام والمصدر أي لا قيام لكم، والمعنى على نحو ما تقدم فَارْجِعُوا أي إلى منازلكم بالمدينة ليكون ذلك أسلم لكم من القتل أو ليكون لكم عند هذه الأحزاب يد، قيل: ومرادهم أمرهم بالفرار على ما يشعر به ما بعد لكنهم عبروا عنه بالرجوع ترويجا لمقالتهم وإيذانا بأنه ليس من قبيل الفرار المذموم، وقيل: المعنى لا مقام لكم في دين محمد صلّى الله عليه وسلم فارجعوا إلى ما كنتم عليه من الشرك أو فارجعوا عما بايعتموه عليه وأسلموه إلى أعدائه عليه الصلاة والسلام، أو لا مقام لكم بعد اليوم في يثرب أو نواحيها لغلبة الأعداء فارجعوا كفارا ليتسنى لكم المقام فيها لارتفاع العداوة حينئذ. وقيل: يجوز أن يكونوا خافوا من قتل النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم إياهم بعد غلبته عليه الصلاة والسلام حيث ظهر أنهم منافقون فقالوا: لا مُقامَ لَكُمْ على معنى لا مقام لكم مع النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم لأنه إن غلب قتلكم فارجعوا عما بايعتموه عليه وأسلموه عليه الصلاة والسلام أو فارجعوا عن الإسلام واتفقوا مع الأحزاب أو ليس لكم محل إقامة في الدنيا أصلا إن بقيتم على ما أنتم عليه فارجعوا عما بايعتموه عليه عليه الصلاة والسلام إلى آخره، والأول أظهر وأنسب بما بعده، وبعض هذه الأوجه بعيد جدا كما لا يخفى. وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ عطف على قالَتْ وصيغة المضارع لما مرّ من استحضار الصورة، والمستأذن على ما روي عن ابن عباس، وجابر بن عبد الله بنو حارثة بن الحارث، قيل: أرسلوا أوس بن قيظي أحدهم للاستئذان، وقال السدي: جاء هو ورجل آخر منهم يدعى أبا عرابة بن أوس، وقيل: المستأذن بنو حارثة، وبنو سلمة استأذنوه عليه الصلاة والسلام في الرجوع ممتثلين بأمر أولئك القائلين يا أهل يثرب. وقوله تعالى: يَقُولُونَ بدل من يَسْتَأْذِنُ أو حال من فاعله أو استئناف مبني على السؤال عن كيفية الاستئذان إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ أي ذليلة الحيطان يخاف عليها السراق كما نقل عن السدي، وقال الراغب: أي متخرقة ممكنة لمن أرادها، وقال الكلبي: أي خالية من الرجال ضائعة، وقال قتادة: قاصية يخشى عليها العدو وأصلها على ما قيل مصدر بمعنى الخلل ووصف بها مبالغة وتكون صفة للمؤنث والمذكر والمفرد وغيره كما هو شأن المصادر، وجوز أن تكون صفة مشبهة على أنها مخفف عورة بكسر الواو كما قرأ بذلك هنا وفيما بعد ابن عباس، وأبو الجزء: 11 ¦ الصفحة: 157 يعمر، وقتادة، وأبو رجاء، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة، وأبو طالوت، وابن مقسم، وإسماعيل بن سليمان عن ابن كثير من عورت الدار إذا اختلت، قال ابن جني: صحة الواو على هذا شاذة والقياس قلبها الفا فيقال عارة كما يقال كبش صاف ونعجة صافة ويوم راح ورجل مال والأصل صوف وصوفة وروح ومول، وتعقب بأن القياس إنما يقتضي القلب إذا وقع القلب في الفعل وعور هنا قد صحت عينه حملا على أعور المشدد، ورجح كونها مصدرا وصف به للمبالغة بأنه الأنسب بمقام الاعتذار كما يفصح عنه تصدير مقالتهم بحرف التحقيق، لكن ينبغي أن يقال في قوله تعالى: وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إذا أجرى فيه هذا اللفظ كما أجرى فيما قبله أن المراد المبالغة في النفي على نحو ما قيل (1) قوله تعالى: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] والواو فيه للحال أي يقولون ذلك والحال أنها ليست كذلك إِنْ يُرِيدُونَ أي ما يريدون بالاستئذان إِلَّا فِراراً أي هربا من القتال ونصرة المؤمنين قاله جماعة، قيل: فرار من الدين وَلَوْ دُخِلَتْ أي البيوت كما هو الظاهر عَلَيْهِمْ أي على هؤلاء القائلين، وأسند الدخول إلى بيوتهم وأوقع عليهم لما أن المراد فرض دخولها وهم فيها لا فرض دخولها مطلقا كما هو المفهوم لو لم يذكر الجار والمجرور ولا فرض الدخول عليهم مطلقا كما هو المفهوم لو أسند الجار والمجرور وفاعل الدخول الداخل من أهل الفساد من كان أي لو دخل كل من أراد الدخول من أهل الدعارة والفساد بيوتهم وهم فيها مِنْ أَقْطارِها جمع قطر بمعنى الناحية والجانب ويقال قتر بالتاء لغة فيه أي من جميع جوانبها وذلك بأن تكون مختلة بالكلية وهذا داخل في المفروض فلا يخالف قوله تعالى وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ ثُمَّ سُئِلُوا أي طلب منهم من جهة طائفة أخرى عند تلك النازلة والرجفة الهائلة الْفِتْنَةَ أي القتال كما قال الضحاك لَآتَوْها أي لأعطوها أولئك السائلين كأنه شبه الفتنة والمطلوب اتباعهم فيها بأمر نفيس يطلب منهم بذله ونزل إطاعتهم وابتاعهم بمنزلة بذل ما سألوه وإعطائه، وقرأ نافع، وابن كثير «لأتوها» بالقصر أي لفعلوها وَما تَلَبَّثُوا بِها أي بالفتنة، والباء للتعدية أي ما لبثوها وما أخروها إِلَّا يَسِيراً أي إلا تلبثا يسيرا أو إلّا زمانا يسيرا وهو مقدار ما يأخذون فيه سلاحهم على ما قيل، وقيل: مقدار ما يجيبون السؤال فيه، وكلاهما عندي من باب التمثيل، والمراد أنهم لو سألهم غيرك القتال وهم في أشد حال وأعظم بلبال لأسرعوا جدا فضلا عن التعلل باختلال البيوت مع سلامتها كما فعلوا الآن. والحاصل أن طلبهم الأذن في الرجوع ليس لاختلال بيوتهم بل لنفاقهم وكراهتهم نصرتك، وقال ابن عطية: المعنى ولو دخلت المدينة من أقطارها واشتد الحرب الحقيقي ثم سألوا الفتنة والحرب لمحمد صلّى الله تعالى عليه وسلم لطاروا إليها ولم يتلبثوا في بيوتهم لحفظها إلّا يسيرا قيل قدر ما يأخذون سلاحهم انتهى، فضمير دُخِلَتْ عنده عائد على المدينة وباء بِها للظرفية كما هو ظاهر كلامه، وجوز أن تكون سببية والمعنى على تقدير مضاف أي ولم يتلبثوا بسبب حفظها، وقيل: يجوز أن تكون للملابسة أيضا، والضمير على كل تقدير للبيوت وفيه تفكيك الضمائر. وعن الحسن، ومجاهد، وقتادة الْفِتْنَةَ الشرك، وفي معناه ما قيل: هي الردة والرجوع إلى إظهار الكفر، وجعل بعضهم ضميري دُخِلَتْ بِها للمدينة وزعم أن المعنى ولو دخلت المدينة عليهم من جميع جوانبها ثم سألوا الرجوع إلى إظهار الكفر والشرك لفعلوا وما لبثوا بالمدينة بعد إظهار كفرهم إلّا يسيرا فإن الله تعالى يهلكهم أو يخرجهم بالمؤمنين، وقيل: ضمير دُخِلَتْ للبيوت أو للمدينة وضمير بِها للفتنة بمعنى الشرك والباء للتعدية، والمعنى ولو دخلت عليهم ثم سئلوا الشرك لأشركوا وما أخروه إلّا يسيرا، وقريب منه قول قتادة أي لو دخلت عليهم ثم   (1) قوله ما قيل إلخ كذا بخطه ولعل لفظة في ساقطة من قلمه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 158 سألوا الشرك لأعطوه طيبة به أنفسهم وما تحسبوا به إلّا يسيرا، وجوز أن تكون الباء لغير ذلك، وقيل: فاعل الدخول أولئك العساكر المتحزبة، والوجوه المحتملة في الآية كثيرة كما لا يخفى على من له أدنى تأمل. وما ذكرناه أولا هو الأظهر فيما أرى. وقرأ الحسن «سولوا» بواو ساكنة بعد السين المضمومة قالوا: وهي من سال يسال كخاف يخاف لغة في سأل المهموز العين، وحكى أبو زيد هما يتساولان، وقال أبو حيان: ويجوز أن يكون أصلها الهمز لأنه يجوز أن يكون سولوا على قول من يقول في ضرب مبنيا للمفعول ضرب ثم سهل الهمزة بإبدالها واوا على قول من قال في بؤس بوس بابدال الهمزة واوا لضم ما قبلها. وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو، والأعمش «سيلوا» بكسر السين من غير همز نحو قيل، وقرأ مجاهد «سويلوا» واو ساكنة بعد السين المضمومة وياء مكسورة بدلا من الهمزة وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ هؤلاء هم الفريق المستأذنون وهم بنو حارثة عند الأكثرين. وقيل: هم بنو سلمة كانوا قد جبنوا يوم أحد ثم تابوا وعاهدوا يومئذ قبل يوم الخندق أن لا يفروا، وعن ابن عباس أنهم قوم عاهدوا بمكة ليلة العقبة أن يمنعوه صلّى الله عليه وسلم مما يمنعون منه أنفسهم، وقيل: أناس غابوا عن وقعة بدر فحزنوا على ما فاتهم مما أعطى أهل بدر من الكرامة فقالوا: لئن أشهدنا الله تعالى قتالا لنقاتلن و (عاهد) أجرى مجرى اليمين لذلك تلقى بقوله تعالى: لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وجاء بصيغة الغيبة على المعنى ولو جاء كما لفظوا به لكان التركيب لا تولي الأدبار وتولية الإدبار كناية عن الفرار والانهزام فإن الفار يولي دبره من فر منه وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا عن الوفاء به مجازي عليه وذلك يوم القيامة، والتعبير بالماضي على ما في مجمع البيان لتحقق الوقوع، وقيل: أي كان عند الله تعالى مسؤولا عن الوفاء به أو مسؤولا مقتضى حتى يوفى به. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 159 قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ أي لن ينفعكم ذلك ويدفع عنكم ما أبرم في الأزل عليكم من موت أحدكم حتف أنفه أو قتله بسيف ونحوه فإن المقدر كائن لا محالة وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا أي وإن نفعكم الفرار بأن دفع عنكم ما أبرم عليكم فمتعتم لم يكن ذلك التمتيع إلا تمتيعا قليلا أو زمانا قليلا. وهذا من باب فرض المحال ولم يقل: ولو نفعكم إخراجا للكلام مخرج المماشاة أو إذا نفعكم الفرار فمتعتم بالتأخير بأن كان ذلك معلقا عند الله تعالى على الفرار مربوطا به لم يكن التمتيع إلّا قليلا فإن أيام الحياة وإن طالت قصيرة، وعمر تأكله ذرات الدقائق وإن كثر قليل، وقال بعض الأجلة: المعنى لا ينفعكم نفعا دائما أو تاما في دفع الأمرين المذكورين الموت أو القتل بالكلية إذ لا بد لكل شخص من موت حتف أنفه أو قتل في وقت معين لا لأنه سبق به القضاء لأنه تابع للمقضى فلا يكون باعثا عليه بل لأنه مقتضى ترتب الأسباب والمسببات بحسب جري العادة على مقتضى الحكمة فلا دلالة فيه على أن الفرار لا يغني شيئا حتى يشكل بالنهي عن الإلقاء إلى التهلكة وبالأمر بالفرار عن المضار، وقوله تعالى: وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا يدل على أن في الفرار نفعا في الجملة إذ المعنى لا تمتعون على تقدير الفرار إلّا متاعا قليلا، وفيه ما فيه فتأمل. وذكر الزمخشري أن بعض المروانية مر على حائط مائل فأسرع فتليت له هذه الآية فقال: ذلك القليل نطلب وكأنه مال إلى الوجه الثاني أو إلى ما ذكره البعض في الآية وجواب الشرط لأن محذوف لدلالة ما قبله عليه وإِذاً تقدمها هاهنا حرف عطف فيجوز فيها الإعمال والإهمال لكنه لم يقرأ هنا إلّا بالإهمال. وقرىء بالإعمال في قوله تعالى في سورة [الإسراء: 76] وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ وقرىء «لا يمتعون» بياء الغيبة. قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً استفهام في معنى النفي أي لا أحد يمنعكم من الله عزّ وجلّ وقدره جلّ جلاله إن خيرا وإن شرا فجعلت الرحمة قرينة السوء في العصمة مع أنه لا عصمة إلّا من السوء لما في العصمة من معنى المنع، وجوز أن يكون في الكلام تقدير والأصل قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة فاختصر نظير قوله: ورأيت زوجك في الوغى ... متقلدا سيفا ورمحا فإنه أراد وحاملا أو ومعتقلا رمحا، ويجري نحو التوجيه السابق في الآية، وجوز الطيبي أن يكون المعنى من الذي يعصمكم من الله أراد بكم سوءا أو من الذي يمنع رحمة الله منكم إن أراد بكم رحمة، وقرينة التقدير ما في الجزء: 11 ¦ الصفحة: 160 يَعْصِمُكُمْ من معنى المنع، واختير الأول لسلامته عن حذف حملة بلا ضرورة. وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا ينفعهم وَلا نَصِيراً يدفع الضرر عنهم، والمراد الأولى فيجدوه إلخ فهو كقوله: ولا ترى الضب بها ينجحر اهـ وهو معطوف على ما قبله بحسب المعنى فكأنه قيل: لا عاصم لهم ولا ولي ولا نصير أو الجملة حالية. قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ أي المثبطين عن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا أي أقبلوا إلينا أو قربوا أنفسكم إلينا، قال ابن السائب: الآية في عبد الله بن أبي، ومعتب بن قشير، ومن رجع من المنافقين من الخندق إلى المدينة كانوا إذا جاءهم المنافق قالوا له: ويحك اجلس ولا تخرج ويكتبون إلى إخوانهم في العسكر أن ائتونا فإنّا ننتظركم، وقال قتادة: هي في المنافقين كانوا يقولون لإخوانهم من ساكني المدينة من أنصار رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم: ما محمد عليه الصلاة والسلام وأصحابه إلّا أكلة رأس ولو كانوا لحما لالتهمهم أبو سفيان وأصحابه فخلوهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: انصرف رجل من عند رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم يوم الأحزاب إلى شقيقه فوجد عنده شواء ونبيذا فقال له: أنت هاهنا ورسول الله عليه الصلاة والسلام بين الرماح والسيوف فقال: هلم إلى فقد أحيط بك وبصاحبك والذي يحلف به لا يستقبلها محمد أبدا فقال: كذبت والذي يحلف به لأخبرنه بأمرك فذهب ليخبره صلّى الله تعالى عليه وسلم فوجد جبريل عليه السلام قد نزل بهذه الآية. وقيل: هؤلاء اليهود كانوا يقولون لأهل المدينة: تعالوا إلينا وكونوا معنا، وكأن المراد من أهل المدينة المنافقون منهم المعلوم نفاقهم عند اليهود وقَدْ للتحقيق أو للتقليل وهو باعتبار المتعلق، ومِنْكُمْ بيان للمعوقين لا صلته كما أشير إليه، والمراد بالإخوة التشارك في الصفة وهو النفاق على القول الأول، والكفر بالنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم على القول الأخير، والصحبة والجوار وسكنى المدينة على القول الثاني وكذا على القول الثالث فإن ذلك يجامع الأخوة في النسب، وظاهر صيغة الجمع يقتضي أن الآية لم تنزل في ذينك الشقيقين وحدهما فلعلها نزلت فيهما وفي المنافقين القائلين ذلك والأنصار المخلصين المقول لهم، وجواز كونها نزلت في جماعة من الإخوان في النسب مجرد احتمال وإن كان له مستند سمعي فلتحمل الأخوة عليه على الأخوة في النسب ولا ضير، والقول بجميع الأقوال الأربعة المذكورة وحمل الأخوة على الأخوة في الدين والأخوة في الصحبة والجوار والأخوة في النسب لا يخفى حاله، وهَلُمَّ عند أهل الحجاز يسوى فيه بين الواحد والجماعة، وأما عند تميم فيقال: هلم يا رجل وهلموا يا رجال، وهو عند بعض الأئمة صوت سمي به الفعل، واشتهر أنه يكون متعديا كهلم شهداءكم بمعنى أحضروا أو قربوا ولازما كهلم إلينا بناء على تفسيره بأقبلو إلينا وأما على تفسيره بقربوا أنفسكم إلينا فالظاهر أنه متعد حذف مفعوله، وجوز كونه لازما وهذا تفسير لحاصل المعنى، وفي البحر أن الذي عليه النحويون أن هلم ليس صوتا وإنما هو مركب اختلف في أصل تركيبه فقيل: مركب من ها التي للتنبيه والمم بمعنى أقصد وأقيل وهو مذهب البصريين، وقيل: من هل وأم، والكلام على المختار من ذلك مبسوط في محله. وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ أي الحرب والقتال وأصل معناه الشدة إِلَّا قَلِيلًا أي إتيانا أو زمانا قليلا فقد كانوا لا يأتون العسكر إلّا أن لا يجدوا بدا من إتيانه فيأتون ليرى الناس وجوههم فإذا غفلوا عنهم عادوا إلى بيوتهم، ويجوز أن يكون صفة مفعول مقدر كما كان صفة المصدر أو الزمان أي إلّا بأسا قليلا على أنهم يعتذرون في البأس الكثير ولا يخرجون إلّا في القليل، وإتيان البأس على هذه الأوجه على الجزء: 11 ¦ الصفحة: 161 ظاهره، ويجوز أن يكون كناية عن القتال، والمعنى ولا يقاتلون إلّا قتالا قليلا كقوله تعالى ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا وقلته إما لقصر زمانه وإما لقلة غنائه، وأيا ما كان فالجملة حال من الْقائِلِينَ وقيل: يجوز أيضا أن تكون عطف بيان على قَدْ يَعْلَمُ وهو كما ترى، وقيل: هي من مقول القول وضمير الجمع لأصحاب النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم أي القائلين ذلك والقائلين لا يأتي أصحاب محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم حرب الأحزاب ولا يقامونهم إلّا قليلا، وهذا القول خلاف المتبادر وكأنه ذهب إليه من قال أن الآية في اليهود. أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ أي بخلاء عليكم بالنفقة والنصرة على ما روي عن مجاهد وقتادة، وقيل: بأنفسهم، وقيل: بالغنيمة عند القسم، وقيل: بكل ما فيه منفعة لكم وصوب هذا أبو حيان، وذهب الزمخشري إلى أن المعنى أضناء بكم يترفرفون عليكم كما يفعل الرجل بالذاب عنه المناضل دونه عند الخوف وذلك لأنهم يخافون على أنفسهم لو غلب النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم ومن معه من المؤمنين حيث لم يكن لهم من يمنع الأحزاب عنهم ولا من يحمي حوزتهم سواهم، وقيل: كانوا يفعلون ذلك رياء، والأكثرون ذهبوا إلى ما سمعت قبل وعدل إليه مختصرو كشافه أيضا وذلك على ما قيل لأن ما ذهب إليه معنى ما في التفريع بعد فيحتاج إلى جعله تفسيرا، ورجحه بعض الأجلة على ما ذهب إليه الأكثر فقال: إنما اختاره ليطابق معنى ويقابل قوله وتعالى بعد: أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ ولأن الاستعمال يقتضيه فإن الشح على الشيء هو أن يراد بقاؤه كما في الصحاح وأشار إليه بقوله: أضناء بكم، وما ذكره غيره لا يساعده الاستعمال انتهى. قال الخفاجي: إن سلم ما ذكر من الاستعمال كان متعينا وإلّا فلكل وجهة كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام، وأَشِحَّةً جميع شحيح على غير القياس إذ قياس فعيل الوصف المضعف عينه ولامه أن يجمع على أفعلاء كضنين وأضناء وخليل وأخلاء فالقياس أشحاء وهو مسموع أيضا، ونصبه عند الزجاج وأبي البقاء على الحال من فاعل يَأْتُونَ على معنى تركوا الإتيان أشحة، وقال الفراء: على الذم، وقيل: على الحال من ضمير هَلُمَّ إِلَيْنا أو من ضمير يعوقون مضمرا، ونقل أولهما عن الطبري وهو كما ترى، وقيل: من الْمُعَوِّقِينَ أو من القائلين، وردا بأن فيهما الفصل بين أبعاض الصلة، وتعقب بأن الفاصل من متعلقات الصلة وإنما يظهر الرد على كونه حالا من الْمُعَوِّقِينَ لأنه قد عطف على الموصول قبل تمام صلته. وقرأ ابن أبي عبلة «أشحة» بالرفع على إضمار مبتدأ أي هم أشحة فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ من العدو وتوقع أن يستأصل أهل المدينة رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ أي أحداقهم أو بأحداقهم على أن الباء للتعدية فيكون المعنى تدير أعينهم أحداقهم، والجملة في موضع الحال أي دائرة أعينهم من شدة الخوف. كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ صفة لمصدر يَنْظُرُونَ أو حال من فاعله أو لمصدر تَدُورُ أو حال من أَعْيُنُهُمْ أي ينظرون نظرا كائنا كنظر المغشي عليه من معالجة سكرات الموت حذرا وخوفا ولواذا بك أو ينظرون كائنين كالذي إلخ أو تدور أعينهم دورانا كائنا كدوران عين الذي إلخ أو تدور أعينهم كائنة كعين الذي إلخ، وقيل: معنى الآية إذا جاء الخوف من القتال وظهر المسلمون على أعدائهم رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم في رؤيتهم وتجول وتضطرب رجاء أن يلوح لهم مضرب لأنهم يحضرون على نية شر لا على نية خير، والقول الأول هو الظاهر فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أي آذوكم بالكلام وخاصموكم بألسنة سلطة ذربة قاله الفراء، وعن قتادة بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسمة الغنيمة يقولون: أعطونا أعطونا فلستم بأحق بها منا، وقال يزيد بن رومان: بسطوا ألسنتهم في أذاكم وسبكم وتنقيص ما أنتم عليه من الدين. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 162 وقال بعض الأجلة: أصل السلق بسط العضو ومده للقهر سواء كان يدا أو لسانا فسلق اللسان بإعلان الطعن والذم وفسر السلق هنا بالضرب مجازا كما قيل للذم طعن، والحامل عليه توصيف الألسنة بحداد، وجوز أن يشبه اللسان بالسيف ونحوه على طريق الاستعارة المكنية ويثبت له السلق بمعنى الضرب تخييلا، وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس رضي الله تعالى عنه السلق في الآية فقال: الطعن باللسان قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ فقال: نعم أما سمعت قول الأعشى: فيهم الخصب والسماحة والنجدة ... فيهم والخاطب المسلاق وفسره الزجاج بالمخاطبة الشديدة قال: معنى سلقوكم خاطبوكم أشد مخاطبة وأبلغها في الغنيمة يقال: خطيب مسلاق وسلاق إذا كان بليغا في خطبته، واعتبر بعضهم في السلق رفع الصوت وعلى ذلك جاء قوله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «ليس منا من سلق أو حلق» قال في النهاية أي رفع صوته عند المصيبة، وقيل: إن تصك المرأة وجهها وتمرشه، والأول أصح، وزعم بعضهم ان المعنى في الآية بسطوا ألسنتهم في مخادعتكم بما يرضيكم من القول على جهة المصانعة والمجاملة، ولا يخفى ما فيه، وقرأ ابن أبي عبلة «صلقوكم» بالصاد. أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أي بخلاء حريصين على مال الغنائم على ما روي عن قتادة، وقيل: على ما لهم الذي ينفقونه، وقال الجبائي: أي بخلاء بأن يتكلموا بكلام فيه خير، وذهب أبو حيان إلى عموم الخير. ونصب أَشِحَّةً على الحال من فاعل سَلَقُوكُمْ أو على الذم، ويؤيده قراءة ابن أبي عبلة «أشحة» بالرفع لأنه عليه خبر مبتدأ محذوف أي هم أَشِحَّةً والجملة مستأنفة لا حالية كما هو كذلك على الذم، وغاير بعضهم بين الشح هنا والشح فيما مرّ بأن ما هنا مقيد بالخبر المراد به مال الغنيمة وما مرّ مقيد بمعاونة المؤمنين ونصرتهم أو بالإنفاق في سبيل الله تعالى فلا يتكرر هذا مع ما سبق، والزمخشري لما ذهب إلى ما ذهب هناك، قال هنا: فإذا ذهب الخوف وحيزت الغنائم ووقعت القسمة نقلوا ذلك الشح وتلك الضنة والرفرفة عليكم إلى الخير وهو المال والغنيمة ونسوا تلك الحالة الأولى واجترءوا عليكم وضربوكم بألسنتكم إلخ، وقد سمعت ما قال بعض الأجلة في ذلك. ويمكن أن يقال في الفرق بين هذا وما سبق: إن المراد مما سبق ذمهم بالبخل بكل ما فيه منفعة أو بنوع منه على المؤمنين ومن هذا ذمهم بالحرص على المال أو ما فيه منفعة مطلقا من غير نظر إلى كون ذلك على المؤمنين أو غيرهم وهو أبلغ في ذمهم من الأول أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر من صفات السوء لَمْ يُؤْمِنُوا بالإخلاص فإنهم المنافقون الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا في قلوبهم الكفر فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ أي أظهر بطلانها لأنها باطلة منذ عملت إذ صحتها مشروطة بالإيمان بالإخلاص وهم مبطنون الكفر وفي البحر أي لم يقبلها سبحانه فكانت كالمحبطة وعلى الوجهين المراد بالأعمال العبادات المأمور بها، وجوز أن يكون المراد بها ما عملوه نفاقا وتصنعا وإن لم يكن عبادة، والمعنى فأبطل عزّ وجلّ صنعهم ونفاقهم فلم يبق مستتبعا لمنفعة دنيوية أصلا. وحمل بعضهم الأعمال على العبادات والإحباط على ظاهره بناء على ما روي عن ابن زيد عن أبيه قال نزلت الآية في رجل بدري نافق بعد بدر ووقع منه ما وقع فأحبط الله تعالى عمله في بدر وغيرها، وصيغة الجمع تبعد ذلك وكذا قوله تعالى: لَمْ يُؤْمِنُوا فإن هذا كما هو ظاهر هذه الرواية قد آمن قبل، وأيضا قوله عليه الصلاة والسلام: «لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» يأبى ذلك فالظاهر والله تعالى أعلم أن هذه الرواية غير صحيحة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 163 وَكانَ ذلِكَ أي الإحباط عَلَى اللَّهِ يَسِيراً أي هينا لا يبالي به ولا يخاف سبحانه اعتراضا عليه، وقيل: أي هينا سهلا عليه عزّ وجلّ، وتخصيص يسره بالذكر مع أن كل شيء عليه تعالى يسير لبيان أن أعمالهم بالإحباط المذكور لكمال تعاضد الحكم المقتضية له وعدم مانع عنه بالكلية، وقيل: ذلك إشارة إلى حالهم من الشح ونحوه، والمعنى كان ذلك الحال عليه عزّ وجلّ هينا لا يبالي به ولا يجعله سبحانه سببا لخذلان المؤمنين وليس بذاك، والمقصود مما ذكر التهديد والتخويف يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا أي هم من الجزع والدهشة لمزيد جبنهم وخوفهم بحيث هزم الله الأحزاب فرحلوا وهم يظنون أنهم لم يرحلوا، وقيل: المراد هؤلاء لجبنهم يحسبون الأحزاب لم ينهزموا وقد انهزموا فانصرفوا عن الخندق راجعين إلى المدينة لذلك، وهذا إن صحت فيه رواية فذاك وإلّا فالظاهر أنه مأخوذ من قوله تعالى: وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا لدلالته ظاهرا على أنهم خارجون عن معسكر رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحثون إخوانهم على اللحاق بهم، وكون المراد هلموا إلى رأينا أو إلى مكاننا الذي هو في طرف لا يصل إليه السهم خلاف الظاهر، وكذا من قوله سبحانه وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ على ما هو الظاهر أيضا إذ يبعد حمله على اتحاد المكان ولو في الخندق وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ كرة ثانية يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ تمنوا أنهم خارجون إلى البدو وحاصلون مع الأعراب وهم وأهل العمود، وقرأ عبد الله، وابن عباس، وابن يعمر، وطلحة «بدى» جمع باد كغاز وغزى وليس بقياس في معتل اللام وقياسه فعلة كقاض وقضاة وفي رواية أخرى عن ابن عباس «بدوا» فعلا ماضيا، وفي رواية صاحب الاقليد «بدى» بوزن عدى يَسْئَلُونَ أي كل قادم من جانب المدينة عَنْ أَنْبائِكُمْ عما جرى عليكم من الأحزاب يتعرفون أحوالكم بالاستخبار لا بالمشاهدة فرقا وجبنا، واختيار البداوة ليكونوا سالمين من القتال، والجملة في موضع الحال من فاعل بادون، وحكى ابن عطية أن أبا عمرو، وعاصما، والأعمش قرؤوا «يسلون» بغير همز نحر قوله تعالى سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ [البقرة: 211] ولم يعرف ذلك عن أبي عمرو وعاصم، ولعل ذلك في شاذهما ونقلها صاحب اللوامح عن الحسن والأعمش، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وقتادة والجحدري، والحسن، ويعقوب بخلاف عنهما «يسألون» بتشديد السين والمد وأصله يتساءلون فأدغمت التاء في السين أي يسأل بعضهم بعضا أي يقول بعضهم لبعض: ماذا سمعت وماذا بلغك؟ أو يتساءلون الأعراب أي يسألونهم كما تقول: رأيت الهلال وتراءيته وأبصرت زيدا وتباصرته وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ أي في هذه الكرة المفروضة بقوله تعالى: وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ او لَوْ كانُوا فِيكُمْ في الكرة الأولى السابقة ولم يرجعوا إلى داخل المدينة وكانت محاربة بالسيوف ومبارزة الصفوف ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا رياء وسمعة وخوفا من التعبير قال مقاتل والجياني والبعلبكي: هو قليل من حيث هو رياء ولو كان الله تعالى كان كثيرا لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ الظاهر أن الخطاب للمؤمنين الخلص المخاطبين من قبل في قوله تعالى: عَنْ أَنْبائِكُمْ وقوله سبحانه: وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ. والإسوة بكسرة الهمزة كما قرأ الجمهور وبضمها كما قرأ عاصم الخصلة، وقال الراغب: الحالة التي يكون عليها الإنسان وهي اسم كان ولَكُمْ الخبر وفِي رَسُولِ اللَّهِ متعلق بما تعلق به لَكُمْ أو في موضع من أُسْوَةٌ لأنه لو تأخر جاز أن يكون نعتا لها أو متعلق بكان على مذهب من أجاز فيها ناقصة وفي أخواتها أن تعمل في الظرف، وجوز أن يكون في رسول الله الخبر ولكم تبيين أي أعني لكم أي والله لقد كان لكم في رسول الله خصلة حسنة من حقها أن يؤتسى ويقتدى بها كالثبات في الحرب ومقاساة الشدائد ويجوز أن يراد بالأسوة القدوة بمعنى المقتدى على معنى هو صلّى الله تعالى عليه وسلم في نفسه قدوة يحسن التأسي به، وفي الكلام صنعة التجريد وهو الجزء: 11 ¦ الصفحة: 164 أن ينتزع من ذي صفة آخر مثله فيها مبالغة في الاتصاف نحو لقيت منه أسدا وهو كما يكون بمعنى من يكون بمعنى في كقوله: أراقت بنو مروان ظلما دماءنا ... وفي الله إن لم يعدلوا حكم عدل وكقوله: في البيضة عشرون منّا حديدا أي هي نفسها هذا القدر من الحديد، والآية وإن سيقت للاقتداء به عليه الصلاة والسلام في أمر الحرب من الثبات ونحوه فهي عامة في كل أفعاله صلّى الله تعالى عليه وسلم إذا لم يعلم أنها من خصوصياته كنكاح ما فوق أربع نسوة، أخرج ابن ماجة، وابن أبي حاتم عن حفص بن عاصم قال: قلت لعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما رأيتك في السفر لا تصلي قبل الصلاة ولا بعدها فقال يا ابن أخي صحبت رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم كذا وكذا فلم أره يصلي قبل الصلاة ولا بعدها ويقول الله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ وأخرج عبد الرزاق في المصنف عن قتادة قال: هم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن ينهي عن الحبرة فقال رجل: أليس قد رأيت رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم يلبسها؟ قال عمر: بلى قال الرجل ألم يقل الله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فترك ذلك عمر رضي الله تعالى عنه. وأخرج الشيخان، والنسائي، وابن ماجة، وغيرهم عن ابن عمر أنه سأل عن رجل معتمر طاف بالبيت أيقع على امرأته قبل أن يطوف بين الصفا والمروة فقال قدم رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فطاف بالبيت وصلّى خلف المقام ركعتين وسعى بين الصفا والمروة قرأ لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ وأخرج الشيخان، وغيرهما عن ابن عباس قال: إذ حرم الرجل عليه امرأته فهو يمين يكفرها، وقال: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ إلى غير ذلك من الأخبار، وتمام الكلام في كتب الأصول. لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ أي يؤمل الله تعالى وثوابه كما يرمز إليه أثر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وعليه يكون قد وضع الْيَوْمَ الْآخِرَ بمعنى يوم القيامة موضع الثواب لأن ثوابه تعالى يقع فيه فهو على ما قال الطيبي من إطلاق اسم المحل على الحال، والكلام نحو قولك: أرجو زيدا وكرمه مما يكون ذكر المعطوف عليه فيه توطئة للمعطوف وهو المقصود وفيه من الحسن والبلاغة ما ليس في قولك: أرجو زيدا كرمه على البدلية: وقال صاحب الفرائد، يمكن أن يكون التقدير يرجو رحمة الله أو رضا الله وثواب اليوم الآخر ففي الكلام مضافان مقدران، وعن مقاتل أي يخشى الله تعالى ويخشى البعث الذي فيه جزاء الأعمال على أنه وضع اليوم الآخر موضع البعث لأنه يكون فيه، والرجاء عليه بمعنى الخوف، ومتعلق الرجاء بأي معنى كان أمر من جنس المعاني لأنه لا يتعلق بالذوات، وقدر بعضهم المضاف إلى الاسم الجليل لفظ أيام مرادا بها الوقائع فإن اليوم يطلق على ما يقع فيه من الحروب والحوادث واشتهر في هذا حتى صار بمنزلة الحقيقة وجعل قرينة هذا التقدير المعطوف وجعل العطف من عطف الخاص على العام، والظاهر أن الرجاء على هذا بمعنى الخوف، وجوز أن يكون الكلام عليه كقولك: أرجو زيدا وكرمه، وأن يكون الرجاء فيه بمعنى الأمل إن أريد ما في اليوم من النصر والثواب، وأن يكون بمعنى الخوف والأمل معا بناء على جواز استعمال اللفظ في معنييه أو في حقيقته ومجازه وإرادة ما يقع فيه من الملائم والمنافر، وعندي أن تقدير أيام غير متبادر إلى الفهم، وفسر بعضهم الْيَوْمَ الْآخِرَ بيوم السياق والمتبادر منه يوم القيامة و (من) على ما قيل بدل من ضمير الخطاب في لَكُمْ وأعيد العامل للتأكيد وهو بدل كل من كل والفائدة فيه الحث على التأسي، وإبدال الاسم الظاهر من ضمير المخاطب هذا الإبدال جائز عند الكوفيين، والأخفش، ويدل عليه قوله: بكم قريش كفينا كل معضلة ... وأم نهج الهدى من كان ضليلا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 165 ومنع ذلك جمهور البصريين: ومن هنا قال صاحب التقريب، هو بدل اشتمال أو بدل بعض من كل، ولا يتسنى إلّا على القول بأن الخطاب عام وهو مخالف للظاهر كما سمعت، ومع هذا يحتاج إلى تقدير منكم، وقال أبو البقاء: يجوز أن يكون لمن متعلقا بحسنة أو بمحذوف وقع صفة لها لأنه وقع بعد نكرة، وقيل: يجوز أن يكون صفة لأسوة، وتعقب بأن المصدر الموصوف لا يعمل فيما بعد وصفه، وكذا تعدد الوصف بدون العطف لا يصح، وقد صرح بمنع ذلك الإمام الواحدي، ولا يخفى أن المسألة خلافية فلا تغفل. وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً أي ذكرا كثيرا وقرن سبحانه بالرجاء كثرة الذكر لأن المثابرة على كثرة ذكره عزّ وجلّ تؤدي إلى ملازمة الطاعة وبها يتحقق الائتساء برسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم ومما ينبغي أن يعلم أنه قد صرح بعض الأجلة كالنووي أن ذكر الله تعالى المعتبر شرعا ما يكون في ضمن جملة مفيدة كسبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلّا بالله ونحو ذلك وما لا يكون بمفرد لا يعد شرعا ذكرا نحو الله أو قادر أو سميع أو بصير إذ لم يقدر هناك ما يصير به اللفظ كلاما، والناس عن هذا غافلون، وأنهم أجمعوا على أن الذكر المتعبد بمعناه لا يثاب صاحبه ما لم يستحضر معناه فالمتلفظ بنحو سبحان الله ولا إله إلّا الله إذا كان غافلا عن المعنى غير ملاحظ ومستحضرا إياه لا يثاب إجماعا، والناس أيضا عن هذا غافلون فإنا لله وإنا إليه راجعون وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ بيان لما صدر عن خلص المؤمنين عند اشتباه الشؤون واختلاط الظنون بعد حكاية ما صدر عن غيرهم أي لما شاهدوهم حسبما وصفوا لهم قالُوا هذا إشارة عند بعض المحققين إلى ما شاهدوه من غير أن يخطر ببالهم لفظ يدل عليه فضلا عن تذكيره وتأنيثه فإنهما من أحكام اللفظ نعم يجوز التذكير باعتبار الخبر الذي هو ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فإن ذلك العنوان أول ما يخطر ببالهم عند المشاهدة، وعند الأكثر إشارة إلى الخطب والبلاء، وما موصولة عائدها محذوف وهو المفعول الثاني لوعد أي الذي وعدناه الله، وجوز أن تكون مصدرية أي هذا وعد الله تعالى ورسوله إيانا وأرادوا بذلك ما تضمنه قوله تعالى في سورة [البقرة: 214] أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ كما أخرج ذلك ابن جرير، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأخرجه جماعة عن قتادة أيضا ونزلت آية البقرة قبل الواقعة بحول على ما أخرجه جويبر عن الضحاك عن الحبر رضي الله تعالى عنه. وفي البحر عن ابن عباس قال: «قال النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم لأصحابه: إن الأحزاب سائرون إليكم تسعا أو عشرا أي في آخر تسع ليال أو عشر أي من وقت الإخبار أو من غرة الشهر فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد قالوا ذلك فمرادهم بذلك ما وعد بهذا الخبر. وتعقبه ابن حجر بأنه لم يوجد في كتب الحديث، وقرىء بإمالة الراء «رأى» نحو الكسرة وفتح الهمزة وعدم إمالتها، وروى إمالتهما وإمالة الهمزة دون الراء على تفصيل فيه في النشر فليراجع وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ الظاهر أنه داخل في حيز القول فجوز أن يكون عطفا على جملة هذا ما وَعَدَنَا إلخ أو على صلة الموصول وهو كما ترى، وأن يكون في موضع الحال بتقدير قد أو بدونه. وأيا ما كان فالمراد ظهر صدق خبر الله تعالى ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم لأن الصدق محقق قبل ذلك والمترتب على رؤية الأحزاب ظهوره، وجوز أن يكون المعنى وصدق الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام في النصرة والثواب كما صدق الله تعالى ورسوله في البلاء، والإظهار مع سبق الذكر للتعظيم ولأنه لو أضمر وقيل وصدق جاء الجمع بين الله تعالى وغيره في ضمير واحد والأولى تركه أو قيل وصدق وهو ورسوله بقي الإظهار في مقام الإضمار فلا يندفع السؤال كذا قيل، وحديث الجمع قد مرّ ما فيه وَما زادَهُمْ أي ما رأوا المفهوم من قوله تعالى: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 166 وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ إلخ ورجوع الضمير إلى المصدر المفهوم من رَأَ يعكر عليه التذكير، وأرجعه بعضهم إلى الشهود المفهوم من ذلك، وجوز رجوعه إلى الوعد أو الخطب والبلاء المفهومين من السياق أو الإشارة. وقرأ ابن أبي عبلة «وما زادوهم» بضمير الجمع العائد على الأحزاب إِلَّا إِيماناً بالله تعالى وبمواعيده عزّ وجلّ وَتَسْلِيماً لأوامره جلّ شأنه وأقداره سبحانه، واستدل بالآية على جواز زيادة الإيمان ونقصه ومن أنكر قال: إن الزيادة فيما يؤمن به لا في نفس الإيمان والبحث في ذلك مشهور وفي كتب الكلام على أبسط وجه مسطور مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي المؤمنين بالإخلاص مطلقا لا الذين حكيت محاسنهم خاصة رِجالٌ أي رجال صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ من الثبات مع الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم والمقاتلة للأعداء، وقيل: من الطاعات مطلقا ويدخل في ذلك ما ذكر دخولا أوليا، وسبب النزول ظاهر في الأول. أخرج الإمام أحمد، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وجماعة عن أنس قال: غاب عمي أنس بن النضر عن بدر فشق عليه وقال: أول مشهد شهده رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم غبت عنه لئن أراني الله تعالى مشهدا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما بعد ليرين الله تعالى ما أصنع فشهد يوم أحد فاستقبله سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه فقال: يا أبا عمرو أين؟ قال: واها لريح الجنة أجدها دون أحد فقاتل حتى قتل فوجد في جسده بضع وثمانون من ضربة وطعنة ورمية ونزلت هذه الآية مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ وكانوا يرون أنها نزلت فيه وأصحابه. وفي الكشاف نذر رجال من الصحابة أنهم إذ لقوا حربا مع رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا أي نذروا الثبات التام والقتال الذي يفضي بحسب العادة إلى نيل الشهادة وهم عثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وحمزة، ومصعب بن عمير، وغيرهم، وعن الكلبي، ومقاتل أن هؤلاء الرجال هم أهل العقبة السبعون أهل البيعة، وقال يزيد بن رومان: هم بنو حارثة والمعول عليه عندي ما قدمته، ومعنى صَدَقُوا أتوا بالصدق من صدقني إذا قال الصدق، ومحل ما عاهَدُوا النصب أما على نزع الخافض وهو في وإيصال الفعل إليه كما في قولهم صدقني سن بكرة على رواية النصب أي في سن بكره والمفعول محذوف والأصل صدقوا الله فيما عاهدوه، وإما على أنه هو المفعول الصريح. وجعل ما عاهدوا عليه بمنزلة شخص معاهد على طريق الاستعارة المكنية وجعله مصدوقا تخييل وعلى الإسناد المجازي فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ تفصيل لحال الصادقين وتقسيم لهم إلى قسمين، والنحب على ما قال الراغب النذر المحكوم بوجوبه يقال: قضى فلان نحبه أي وفى بنذره. وقال أبو حيان: النذر بالشيء الذي يلتزمه الإنسان ويعتقد الوفاء به قال الشاعر: عشية فر الحارثيون بعد ما ... قضى نحبه في ملتقى القوم هوبر وقال جرير: بطخفة جالدنا الملوك وخيلنا ... عشية بسطام جرين على نحب أي على أمر عظيم التزم القيام به، وشاع قضى فلان نحبه بمعنى مات إما على أن النحب مستعار استعارة تصريحية للموت لأنه كنذر لازم في رقبة كل إنسان والقرينة حالية والقضاء ترشيح، وأما على أن قضاء النحب مستعار له. وجوز أن يراد بالنحب في الآية النذر وأن يراد الموت، وقال بعض الأجلة يجوز أن يكون مستعارا لالتزام الموت شهيدا إما بتنزيل التزام أسبابه التي هي أفعال اختيارية للناذر منزلة التزام نفسه، وإما بتنزيل نفسه منزلة أسبابه وإيراد الالتزام الجزء: 11 ¦ الصفحة: 167 عليه وهو الأنسب بمقام المدح، وجعله استعارة للموت لأنه كنذر لازم مسخ للاستعارة. وإذهاب برونقها وإخراج للنظم الكريم عن مقتضى المقام بالكلية انتهى، وفيه منع ظاهر كما لا يخفى على المنصف. والذي يقتضيه ظاهر بعض الأخبار أن النحب هنا بمعنى النذر وقضاؤه أداؤه والوفاء به، فقد أخرج ابن أبي عاصم، والترمذي وحسنه، وابن جرير، الطبراني، وابن مردويه عن طلحة أن أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم قالوا لأعرابي جاهل: سله عمن قضى نحبه من هو؟ وكانوا لا يجترؤون على مسألته يوقرونه ويهابونه فسأله الأعرابي ثم إني اطلعت من باب المسجد فقال: أين السائل عمن قضى نحبه؟ قال الأعرابي: إن قال هذا ممن قضى نحبه، وأخرج ابن منده، وابن عساكر عن أسماء بنت أبي بكر قالت: دخل طلحة بن عبيد الله على النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فقال: يا طلحة أنت ممن قضى نحبه، وأخرج الحاكم عن عائشة نحوه. وأخرج الترمذي وغيره عن معاوية أنه قال: سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: طلحة ممن قضى نحبه ، وكأن عليا كرم الله وجهه عنى مدحه بذلك في قوله وقد قيل له حدثنا عن طلحة: ذاك امرؤ نزل فيه آية من كتاب الله فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وقد أخرج ذلك عنه كرم الله تعالى وجهه أبو الشيخ، وابن عساكر وكان رضي الله تعالى عنه قد ثبت يوم أحد حتى أصيبت يده، وإلى حمل النحب على حقيقته ذهب مجاهد فالمعنى منهم وفى بعهده وأدّى نذره وَمِنْهُمْ أي وبعضهم مَنْ يَنْتَظِرُ يوما فيه جهاد فيقضي نحبه ويؤدي نذره ويفي بعهده، ومن حمل ما عاهدوا الله تعالى على العموم وأبقى النحب على حقيقته قال: المعنى منهم من وفى بعهود الإسلام وما يلزم من الطاعات ومنهم من ينتظر الحصول في أعلى مراتب الإيمان والصلاح، واستشكل إبقاء النحب على حقيقته لأن وفاء النذر عين صدق العهد فيكون مآل المعنى من المؤمنين رجال عاهدوا الله تعالى وصدقوا أي فعلوا ووفوا بما عاهدوا الله تعالى عليه فمنهم من فعل ووفى بما عاهد، وفيه تقسيم الشيء إلى نفسه، ويشكل على هذا المعنى قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ لأن المنتظر غير واف فكيف يجعل قسما من الذين صدقوا أي وفوا، وأجيب بأن المراد بالمصدق في الآية مطابقة النسبة الكلامية للنسبة الخارجة وهذا الكلام المتضمن لهذه النسبة هو ما اقتضاه عهدهم على الثبات من نحو قولهم: لئن أرانا الله مشهدا مع رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم لنثبتن ولنقاتلن، واتصاف الخبر بالصدق، وكذا المخبر به لا يقتضي أكثر من مطابقة نسبته للواقع في أحد الأزمنة فنجو يقوم زيد صادق وكذا المخبر به وقت الأخبار به وإن كان وقوع القيام بعد ألف سنة مثلا، وكذا نحو إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود صادق وإن كان التكلم به ليلا فهؤلاء الرجال لما أخبروا عن أنفسهم إنهم أن أراهم الله تعالى مشهدا مع رسوله عليه الصلاة والسلام ثبتوا وقاتلوا وعلم سبحانه أن هذا مطابق للواقع أخبر تعالى عنهم بأنهم صدقوا ثم قسمهم عزّ وجلّ إلى قسمين قسم أدّى ما أخبر عن نفسه أنه يؤديه وقسم ينتظر وقتا يؤديه فيه، ولا يتصف هذا القسم بالكذب إلّا إذا مات وقد أراه الله تعالى ذلك ولم يؤد، ومن أخبر الله تعالى عنهم بالصدق ما ماتوا حتى أدوا فلا إشكال. نعم الإشكال على تقدير أن يراد بالصدق فيما عاهدوا تحقيق العهد فيما أظهروه من أفعالهم كما فسره الراغب ويراد من قضاء النحب وفاء النذر أو العهد كما لا يخفي، وقيل: المراد بصدقهم المذكور مطابقة ما في ألسنتهم لما في قلوبهم على خلاف المنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم. ولا إشكال في التقسيم حينئذ، وقيل: الصدق بالمعنى المشهور بين الجمهور إلّا أن المراد بصدقوا يصدقون، وعبر عن المضارع بالماضي لتحقق الوقوع، وكلا القولين كما ترى، وعن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن قوله تعالى: قَضى نَحْبَهُ فقال: أجله الذي قدر له الجزء: 11 ¦ الصفحة: 168 فقال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم أما سمعت قول لبيد: ألا تسألان المرء ماذا يحاول ... أنحب فيقضي أم ضلال وباطل وأخرج جماعة عنه أنه فسر ذلك بالموت، وروي نحوه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وعليه لا مانع من أن يراد بصدقوا ما عاهدوا الله عليه كما ذكر عن الراغب حققوا العهد فيما أظهروه من أفعالهم، فيكون المعنى من المؤمنين رجال عاهدوا الله تعالى على الثبات والقتال إذ لقوا حربا مع رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وحققوا ذلك وثبتوا فمنهم من مات ومن منهم من ينتظر الموت، والذي يقتضيه السياق أن المراد قضى نحبه ثابتا بأن يكون قد استشهد كأنس بن النضر، ومعصب بن عمير، ويحتمل أن يراد ما أعم من ذلك فيدخل من مات بعد الثبات حتف أنفه قبل نزول الآية إن كان هنالك من هو كذلك، وعدوا ممن ينتظر عثمان وطلحة وأول ما ورد في طلحة من أنه ممن قضى نحبه بأن المراد أنه في حكم من استشهد، وأوجبوا ذلك فيما أخرج سعيد بن منصور، وأبو يعلى، وابن المنذر، وأبو نعيم وابن مردويه عن عائشة أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قال: «من سره أن ينظر إلى رجل يمشي على الأرض قد قضى نحبه فلينظر إلى طلحة» وأخرج ابن مردويه من حديث جابر بن عبد الله مثله. وفي إرشاد العقل السليم عن عائشة بلفظ «من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي في الأرض، وقد قضى نحبه فلينظر إلى طلحة» وفي مجمع البيان عن أبي إسحاق عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: نزلت فينا رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ الآية وإنا والله المنتظر ، وفي وصفهم بالانتظار المنبئ عن الرغبة في المنتظر شهادة حقة بكمال اشتياقهم إلى الشهادة، وقيل: إلى الموت مطلقا حبا للقاء الله تعالى ورغبة فيما عنده عزّ وجلّ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا عطف على صَدَقُوا وفاعله فاعله أي وما بدلوا عهدهم وما غيروه تبديلا ما لا أصلا ولا وصفا بل ثبتوا عليه راغبين فيه مراعين لحقوقه على أحسن ما يكون، أما الذين قضوا فظاهر، وأما الباقون فيشهد به انتظارهم أصدق شهادة، وتعميم عدم التبديل للفريق الأول مع ظهور حالهم للإيذان بمساواة الفريق الثاني لهم في الحكم، وجوز أن يكون ضمير بَدَّلُوا للمنتظرين خاصة بناء على أن المحتاج إلى البيان حالهم، وفي الكلام تعريض بمن بدل من المنافقين حيث ولوا الأدبار وكانوا عاهدوا لا يولون الأدبار فكأنه قيل: وما بدلوا تبديلا كما بدل المنافقون فتأمل جميع ذاك والله تعالى يتولى هداك لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ أي الذين صدقوا ما عدوا الله تعالى عليه بِصِدْقِهِمْ أي بسبب صدقهم، وصرح بذلك مع أنه يقتضيه تعليق الحكم بالمشتق اعتناء بأمر الصدق، ويكتفي بما يقتضيه التعليق في قوله تعالى: وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ لأنه الأصل ولا داعي إلى خلافه، والمراد ويعذب المنافقين بنفاقهم إِنْ شاءَ أي تعذيبهم أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أي فلا يعذبهم بل يرحمهم سبحانه إن شاء عزّ وجلّ كذا قيل: وظاهره أن كلا من التعذيب والرحمة للمنافقين يوم القيامة ولو ماتوا على النفاق معلق بمشيئته تعالى. واستشكل بأن النفاق أقبح الكفر كما يؤذن به قوله تعالى إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء: 145] وقد أخبر عزّ وجلّ أنه سبحانه يعذب الكفرة مطلقا حتما لا محالة فكيف هذا التعليق وأجيب بأنه لا إشكال فإن الله جلّ جلاله لا يجب عليه شيء والتعليق لذلك فهو جلّ شأنه إن شاء عذب المنافق وإن شاء رحمه لكن المتحقق أنه تبارك وتعالى شاء تعذيبه ولم يشأ رحمته فكأنه قيل: إن شاء يعذب المنافقين في الآخرة لكنه سبحانه شاء تعذيبهم فيها أو يتوب عليهم إن شاء لكنه جلّ وعلا لم يشأ، ورفع مقدم الشرطية الثانية في مثل هذه القضية ينتج رفع التالي، وإنما لم تقيد مجازاة الصادقين بالمشيئة كما قيد تعذيب المنافقين والتوبة عليهم بها مع أنه تعالى إن شاء يجزي الصادقين وإن شاء لم يجزهم لمكان نفي وجوب شيء عليه تعالى لمجموع أمرين هما تحقق مشيئة المجازاة وكون الرحمة مقصودة بالذات بخلاف العذاب، وكأنه سبحانه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 169 لهذا الأخير لم يقل ليثيب أو لينعم وقال سبحانه في المقابل: وَيُعَذِّبَ وقال بعض الأجلة: إن التوبة عليهم مشروطة بتوبتهم ومعنى توبته تعالى على العباد قبول توبتهم فكأنه قيل: أو يقبل توبتهم إن تابوا، وحذف الشرط لظهور استلزام المذكور له، ويجوز أن تفسر توبته تعالى عليهم بتوفيقه تعالى إياهم للتوبة إليه سبحانه، وكلا هذين المعنيين لتوبته تعالى وارد كما في القاموس، وأيا ما كان فالأمر معلق بالمشيئة ضرورة أنه لا يجب عليه سبحانه قبول التوبة ولا التوفيق لها، والمراد من تعليق تعذيب المنافقين بالمشيئة أنه تعالى أن شاء عذبهم بإبقائه منافقين وإن شاء سبحانه لم يعذبهم بأن يسلب عنهم وصف النفاق بالتوفيق إلى الإخلاص في الإيمان. وقال ابن عطية: تعذيب المنافقين ثمرة إقامتهم على النفاق وموتهم عليه والتوبة موازنة لتلك الإقامة وثمرتها تركهم بلا عذاب فهناك أمران إقامة على النفاق، وتوبة منه وعنهما ثمرتان تعذيب ورحمة فذكر تعالى على جهة الإيجار واحدة من هاتين وواحدة من هاتين ودل ما ذكر على ما ترك ذكره، ويدلك على أن معنى قوله تعالى لِيُعَذِّبَ ليديم على النفاق قوله سبحانه: إِنْ شاءَ ومعادلته بالتوبة وحرف أَوْ انتهى، وأراد بذلك حل الإشكال، وكأن ما ذكره يؤول إلى أن التقدير ليقيموا على النفاق فيموتوا عليه إن شاء فيعذبهم أو يتوب عليهم فيرحمهم فحذف سبب التعذيب وأثبت المسبب وهو التعذيب وأثبت سبب الرحمة والغفران وحذف المسبب وهو الرحمة والغفران وذلك من قبيل الاحتباك، قال في البحر: وهذا من الإيجاز الحسن، وقال السدي: المعنى ويعذب المنافقين إن شاء أن يميتهم على نفاقهم أو يتوب عليهم بنقلهم من النفاق إلى الإيمان، وكأنه جعل مفعول المشيئة الإماتة على النفقة دون التعذيب كما هو الظاهر لما سمعت من استشكال تعليق تعذيبهم بالمشيئة مع أنه متحتم، وقيل لذلك أيضا: إن المراد يعذبهم في الدنيا إن شاء أو يتوب عليهم فلا يعذبهم فيها، وحكي هذا عن الجبائي والكلام عليه في غاية الظهور، وقد يقال: المراد بالمنافقين الجماعة المخصوصون القائلون ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً [الأحزاب: 12] على أن ذلك كالاسم لهم فلا يلاحظ فيه مبدأ الاشتقاق ولا يجعل علة للحكم بل العلة له ما يفهم من سياق الكلام فيكون المعلق بالمشيئة تعذيب أناس مخصوصين ويكون المعنى يعذب فلانا وفلانا مثلا إن شاء بأن يميتهم سبحانه مصرين على ما هم عليه مما يقتضي التعذيب أو يتوب عليهم بأن يوفقهم للتوبة فيرحمهم، ويجوز أن يراد بالصادقين نحو هذا وحينئذ يكون قوله سبحانه: بِصِدْقِهِمْ تصريحا بما يفهم من السياق، ويفهم من كلام شيخ الإسلام أن ذكر الصدق وحده من باب الاكتفاء حيث قال في معنى الآية: ليجزي الله الصادقين بما صدر عنهم من الأقوال والوفاء قولا وفعلا ويعذب المنافقين بما صدر عنهم من الأعمال والأقوال المحكية، قيل: ولم يقل في جانب المنافقين بنفاقهم لقوله سبحانه: أَوْ يَتُوبَ إلخ فإنه يستدعي فعلا خاصا بهم فتأمل، والظاهر أن اللام في لِيَجْزِيَ للتعليل، والكلام عند كثير تعليل للمنطوق من نفي التبديل عن الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه والمعرض به من إثبات التعريض لمن سواهم من المنافقين فإن الكلام على ما سمعت في قوة وما بدلوا تبديلا كما بدّل المنافقون فقوله: لِيَجْزِيَ ويُعَذِّبَ متعلق بالمنفي والمثبت على اللف والنشر التقديري، وجعل تبديل المنافقين علة للتعذيب مبني على تشبيه المنافقين بالقاصدين عاقبة السوء على نهج الاستعارة المكنية والقرينة إثبات معنى التعليل، وقيل: إن اللام للعلة حقيقة بالنظر إلى المنطوق ومجازا بالنظر إلى المعرض به ويكون من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز وقد جوزه من جوزه. وقيل: لا يبعد جعل لِيَجْزِيَ إلخ تعليلا للمنطوق المقيد بالمعرض به فكأنه قيل: ما بدلوا كغيرهم ليجزيهم بصدقهم ويعذب غيرهم إن لم يتب، وأنه يظهر بحسن صنيعهم قبح غيره، وبضدها تتبين الأشياء، وقيل: تعليل لصدقوا وحكي ذلك عن الزجاج، وقيل: لما يفهم من قوله تعالى: وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً وقيل: لما الجزء: 11 ¦ الصفحة: 170 يستفاد من قوله تعالى: وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ كأنه قيل: ابتلاهم الله تعالى برؤية ذلك الخطب ليجزي الآية، واختاره الطيبي قائلا: إنه طريق أسهل مأخذا وأبعد عن التعسف وأقرب إلى المقصود من جعله تعليلا للمنطوق والمعرض به، واختار شيخ الإسلام كونه متعلقا بمحذوف والكلام مستأنف مسوق بطريق الفذلكة لبيان ما هو داع إلى وقوع ما حكي من الأقوال والأفعال على التفصيل وغاية كما في قوله تعالى: لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ [الأحزاب: 8] كأنه قيل: وقع جميع ما وقع ليجزي الله إلخ، وهو عندي حسن وإن كان فيه حذف فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً أي لمن تاب، وهذا اعتراض فيه بعث إلى التوبة. وقوله سبحانه: وَرَدَّ اللَّهُ إلخ رجوع إلى حكاية بقية القصة وتفصيل لتتمة النعمة المشار إليها إجمالا بقوله تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها [الأحزاب: 9] وهو معطوف على (أرسلنا) وقد وسط بينهما بيان كون ما نزل بهم واقعة طامة تحيرت به العقول والأفهام وداهية تحاكت فيها الركب وزلت الأقدام، وتفصيل ما صدر عن فريقي أهل الإيمان وأهل الكفر والنفاق من الأحوال والأقوال لإظهار عظم النعمة وإبانة خطرها الجليل ببيان وصولها إليهم عند غاية احتياجهم إليها أي فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها ورددنا بذلك الَّذِينَ كَفَرُوا والالتفات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة، وجوز شيخ الإسلام ولعل صنيعه يشير إلى أولويته حيث بدأ به كونه معطوفا على فاعلي المقدر قبل: لِيَجْزِيَ اللَّهُ كأنه قيل إثر حكاية الأمور المذكورة وقع ما وقع من الحوادث ورد الله الذين كفروا وقيل هو معطوف من حيث المعنى على قوله تعالى لِيَجْزِيَ كأنه قيل فكان عاقبة الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه أن جزاهم الله تعالى بصدقهم ورد أعدائهم وهذا الرد من جملة جزائهم على صدقهم وهو كما ترى، والمراد بالذين كفروا الأحزاب على ما روي غير واحد عن مجاهد، والظاهر أنه عنى المشركين واليهود الذين تحزبوا. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه فسر ذلك بأبي سفيان، وأصحابه، ولعله الأولى، وعلى القولين المراد رد الله الذين كفروا من محل اجتماعهم حول المدينة وتحزبهم إلى مساكنهم بِغَيْظِهِمْ حال من الموصول لا من ضمير كَفَرُوا والباء للملابسة أي ملتبسين بغيظهم وهو أشد الغضب، وقوله تعالى: لَمْ يَنالُوا خَيْراً حال من ذاك أيضا أو من ضمير بِغَيْظِهِمْ أي غير ظافرين بخير أصلا، وفسر بعضهم الخير بالظفر بالنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين، وإطلاق الخير عليه مبني على زعمهم، وفسره بعضهم بالمال كما في قوله تعالى: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات: 8] والأولى أن يراد به كل خير عندهم فالنكرة في سياق النفي تعم، وجوز أن يكون الجملة مستأنفة لبيان سبب غيظهم أو بدلا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ أي وقاهم سبحانه ذلك، وكَفَى هذه تتعدى لاثنين، وقيل: هي بمعنى أغنى وتتعدى إلى مفعول واحد. والكلام هنا على الحذف والإيصال والأصل وكفى الله المؤمنين عن القتال أي أغناهم سبحانه عنه ولا وجه له وهذه الكفاية كانت كما أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة بالريح والملائكة عليه السلام، وقيل: بقتل علي كرم الله تعالى وجهه عمرو بن عبد ود. وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، وابن عساكر عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه كان يقرأ هذا الحرف «وكفى الله المؤمنين القتال بعلي بن أبي طالب» وفي مجمع البيان هو المروي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه ولا يكاد يصح ذلك، والظاهر ما روي عن قتادة لمكان قوله تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها [الأحزاب: 9] وكأن المراد بالقتال الذي كفاهم الله تعالى إياه القتال على الوجه المعروف من تعبية الصفوف والرمي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 171 بالسهام والمقارعة بالسيوف أو القتال الذي يقتضيه ذلك التحزب والاجتماع بحكم العادة. وفي البحر ما هو ظاهر في أن المراد كفى الله المؤمنين مداومة القتال وعودته فإن قريشا هزموا بقوة الله تعالى وعزته عزّ وجلّ وما غزوا المسلمين بعد ذلك وإلّا فقد وقع قتال في الجملة وقتل من المشركين على ما روي عن ابن إسحاق ثلاثة نفر من بني عبد الدار بن قصي منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار أصابه سهم فمات منه بمكة، ومن بني مخزوم بن يقظة نوفل بن عبد الله بن المغيرة اقتحم الخندق فتورط فيه فقتل، ومن بني عامر بن لؤي ثم من بني مالك بن حسل عمرو بن عبد ود نازله علي كرم الله تعالى وجهه كما علمت فقتله. وروي عن ابن شهاب أنه رضي الله تعالى عنه قتل يؤمئذ ابنه حسل أيضا فيكون من قتل من المشركين أربعة واستشهد من المؤمنين بسبب هذه الغزوة سعد بن معاذ وأنس بن أويس بن عتيك وعبد الله بن سهل وهم من بني عبد الأشهل، والطفيل بن النعمان، وثعلبة بن عثمة وهما من بني جشم بن الخزرج من بني سلمة، وكعب بن زيد وهو من بني النجار ثم من بني دينار أصابه سهم غرب فقتله، قال ابن إسحاق: ولم يستشهد إلّا هؤلاء الستة رضي الله تعالى عنهم وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا على إحداث كل ما يريد جل شأنه عَزِيزاً غالبا على كل شيء وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ أي عاونوا الأحزاب المردودة مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وهم بنو قريظة عند الجمهور، وعن الحسن أنهم بنو النضير وعلى الأول المعول مِنْ صَياصِيهِمْ أي من حصونهم جمع صيصية وهي كل ما يمتنع به ويقال لقرن الثوار والظباء ولشوكة الديك التي في رجله كالقرن الصغير، وتطلق الصياصي على الشوك الذي للنساجين ويتخذ من حديد قاله أبو عبيدة وأنشد لدريد بن الصمة الجشمي: نظرت إليه والرماح تنوشه ... كوقع الصياصي في النسيج الممدد وتطلق على الأصول أيضا قال: أبو عبيدة إن العرب تقول جذ الله تعالى صئصئه أي أصله. وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ أي الخوف الشديد بحيث أسلموا فيهم للقتل وأهليهم وأولادهم للأسر حسبما ينطق به قوله تعالى: فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً أي من غير أن يكون من جهتهم حراك فضلا عن المخالفة والاستعصاء. وفي البحر أن قذف الرعب سبب لإنزالهم ولكن قدم المسبب لما أن السرور بإنزالهم أكثر والإخبار به أهم، وقدم مفعول تَقْتُلُونَ لأن القتل وقع على الرجال وكانوا مشهورين وكان الاعتناء بحالهم أهم ولم يكن في المأسورين هذا الاعتناء بل الاعتناء هناك بالأسر أشد، ولو قيل: وفريقا تأسرون لربما ظن قبل سماع تأسرون أنه يقال بعد تهزمون: أو نحو ذلك، وقيل: قدم المفعول في الجملة الأولى لأن مساق الكلام لتفصيله وأخر في الثانية لمراعاة الفواصل، وقيل التقديم لذلك وأما التأخير فلئلا يفصل بين القتل وأخيه وهو الأسر فاصل، وقيل: غوير بين الجملتين في النظم لتغاير حال الفريقين في الواقع فقد قدم أحدهما فقتل وأخر الآخر فأسروا وقرأ ابن عامر والكسائي «الرّعب» بضم العين وقرأ أبو حيوة «تأسرون» بضم السين، وقرأ اليماني «يأسرون» بياء الغيبة وقرأ ابن أنس عن ابن ذكوان بها فيه وفي يقتلون ولا يظهر لي وجه وجيه لتخصيص الاسم بصيغة الغيبة فتأمل، وتفصيل القصة على سبيل الاختصار إنه لما كانت صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب أو ظهر يوم تلك الليلة على ما في بعض الروايات وقد رجع رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم والمسلمون إلى داخل المدينة أتى جبريل عليه السلام معتجرا بعمامة إستبرق على بغلة عليها رحالة عليها قطيفة من ديباج رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو عند زينب بنت جحش تغسل رأسه الشريف وقد غسلت شقه فقال: أوقد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: نعم، فقال: عفا الله تعالى عنك ما وضعت الملائكة عليهم السلام السلاح بعد وما رجعت إلّا الآن من طلب القوم وإن الله تعالى يأمرك بالمسير إلى بني قريظة وإني عامد إليهم فمزلزل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 172 بهم حصونهم فأمر عليه الصلاة والسلام مؤذنا فأذن في الناس من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلّا ببني قريظة واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم وقدم علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه برايته إليهم وابتدرها الناس فسار كرم الله تعالى وجهه حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فرجع حتى لقيه عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله لا عليك أن تدنو من هؤلاء الأخابث قال: لم؟ أظنك سمعت لي منهم أذى قال: نعم يا رسول الله قال لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا فلما دنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم من حصونهم قال: يا إخوان القردة هل أخزاكم الله تعالى وأنزل بكم نقمته؟ قالوا: يا أبا القاسم ما كنت جهولا وفي رواية فحاشا وكان عليه الصلاة والسلام قد مرّ بنفر من أصحابه بالصورين قبل أن يصل إليهم فقال: هل مرّ بكم أحد قالوا: يا رسول الله قد مرّ بنا دحية بن خليفة الكلبي على بغلة بيضاء عليها رحالة عليها قطيفة ديباج فقال عليه الصلاة والسلام: ذلك جبريل عليه السلام بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ويقذف الرعب في قلوبهم ولما أتاهم صلّى الله عليه وسلم نزل على بئر من آبارها من ناحية أموالهم يقال لها بئر أنا وتلاحق الناس فأتى رجال من بعد العشاء الآخرة ولم يصلوا العصر لقول رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم لا يصلين أحد العصر إلّا ببني قريظة وقد شغلهم ما لم يكن لهم منه بد في حربهم فلما أتوا صلوها بعد العشاء فما عابهم الله تعالى بذلك في كتابه ولا عنفهم رسوله عليه الصلاة والسلام. وحاصرهم صلّى الله تعالى عليه وسلم خمسة وعشرين ليلة، وقيل: إحدى وعشرين، وقيل: خمس عشرة وجهدهم الحصار وخافوا أشد الخوف وقد كان حي بن أخطب دخل معهم في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان وفاء لكعب بن أسد بما عاهده عليه فلما أيقنوا بأن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم قال لهم كعب: يا معشر يهود قد نزل بكم من الأمر ما ترون وإني عارض عليكم خلالا فخذوا أيها شئتم قالوا: وما هي؟ قال: نتابع هذا الرجل ونصدقه فو الله لقد تبين لكم أنه نبي مرسل وأنه الذي تجدونه في كتابكم فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا ولا نستبدل به غيره قال فإذا أبيتم على هذه فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه رجالا مصلتين بالسيوف لم نترك وراءنا ثقلا حتى يحكم الله تعالى بيننا وبينهم فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه وأن نظهر فلعمري لنتخذن النساء والأبناء قالوا: نقتل هؤلاء المساكين فما خير العيش بعدهم قال: فإن أبيتم على هذه فإن الليلة ليلة السبت وإنه عسى أن يكون محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه قد أمنونا فيها فأنزلوا لعلنا نصيب منهم غرة قالوا: نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يحدث من كان قبلنا إلّا من قد علمت فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ قال: فما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازما ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف، وكانوا حلفاء الأوس نستشيره في أمرنا فأرسله عليه الصلاة والسلام إليهم فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه فرقّ لهم وقالوا له: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم قال: نعم وأشار بيده إلى حلقه إنه الذبح فعرف أنه قد خان الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام فلم يرجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وذهب إلى المدينة وربط نفسه بجذع في المسجد حتى نزلت توبته رضي الله تعالى عنه ثم إنه عليه الصلاة والسلام استنزلهم فتواثب الأوس فقالوا: يا رسول الله إنهم موالينا دون الخزرج وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل بني قريظة حاصر بني قينقاع وقد كانوا حلفاء الخزرج فنزلوا على حكمه فسأله إياهم عبد الله بن أبي ابن سلول فوهبهم له فلما كلمته الأوس قال عليه الصلاة والسلام ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا: بلى قال: فذاك إلى سعد بن معاذ وكان رسول الجزء: 11 ¦ الصفحة: 173 الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قد جعله في خيمة لامرأة من أسلم يقال لها رفيدة في مسجده كانت تداوي الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به صنيعة من المسلمين وقد كان رضي الله تعالى عنه قد أصيب يوم الخندق رماه رجل من قريش يقال له ابن العرقة بسهم فأصاب أكحله فقطعه فدعا الله تعالى فقال: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني من قريظة، وروي أن بني قريظة هم اختاروا النزول على حكم سعد ورضي رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم بذلك فأتاه قومه وهو في المسجد فحملوه على حمار وقد وطؤوا له بوسادة من آدم وكان رجلا جسيما جميلا ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهم يقولون: يا أبا عمرو أحسن في مواليك فإن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم فلما أكثروا عليه قال: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله تعالى لومة لائم فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني عبد الأشهل فنعى إليهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد عن كلمته التي سمع منه فلما انتهى سعد إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام والمسلمين قال صلّى الله تعالى عليه وسلم: «قوموا إلى سيدكم» فأما المهاجرون من قريش فقالوا: إنما أراد رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم الأنصار وأما الأنصار فيقولون: قد عم بها عليه الصلاة والسلام المسلمين فقاموا إليه فقالوا: يا أبا عمرو إن رسول الله تعالى عليه وسلم قد ولّاك أمر مواليك لتحكم فيهم فقال سعد: عليكم عهد الله تعالى وميثاقه أن الحكم فيهم لما حكمت؟ قالوا: نعم قال: وعلى من هاهنا في الناحية التي فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو معرض برسول الله عليه الصلاة والسلام؟ فقال صلّى الله تعالى عليه وسلم. نعم قال سعد: فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء فكبر النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم وقال: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة فحبسهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم في دار بنت الحارث امرأة من بني النجار ثم خرج إلى سوق المدينة التي هي سوقها اليوم فخندق بها خنادق ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم في تلك الخنادق يخرج إليهم بها أرسالا وفيهم عدو الله تعالى حيي بن أخطب وكعب بن أسد رأس القوم وهم ستمائة أو سبعمائة والمستكثر لهم يقول: كانوا بين الثمانمائة والتسعمائة وقد قالوا لكعب وهم يذهب بهم إلى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم: أرسالا يا كعب ما تراه يصنع بنا؟ قال: أفي كل موطن لا تعقلون أما ترون الداعي لا ينزع ومن ذهب منكم لا يرجع هو والله القتل فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم، وأتي بحيي بن أخطب عدو الله تعالى وعليه حلة تفاحية (1) قد شقها عليه من كل ناحية قدر أنملة أنملة لئلا يسلبها مجموعة يداه إلى عنقه بحبل فلما نظر إلى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قال: أما والله ما لمت نفسي في عداوتك ولكنه من يخذل الله تعالى يخذل ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله تعالى كتاب وقدر وملحمة كتبت على بني إسرائيل ثم جلس فضربت عنقه فقال فيه جبل بن جدال التغلبي: لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه ... ولكنه من يخذل الله يخذل لجاهد حتى أبلغ النفس عذرها ... وقلقل يبغي العز كل مقلقل وروي أن ثابت بن قيس بن شماس رضي الله تعالى عنه استوهب من رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم الزبير بن باطا القرظي لأنه منّ عليه في الجاهلية يوم بعاث فقال صلّى الله تعالى عليه وسلم هو لك فأتاه فقال: إن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قد وهب لي دمك فهو لك قال: شيخ كبير فما يصنع بالحياة ولا أهل له ولا ولد؟ فأتى ثابت رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله امرأته وولده قال: هم لك فأتاه فقال   (1) قال ابن هشام تفاحية ضرب من الوشي اهـ منه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 174 قد وهب لي رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم أهلك وولدك فهم لك قال أهل بيت بالحجاز لا مال لهم فما بقاؤهم على ذلك فأتى رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: ما له قال: هو لك فأتاه فقال: قد أعطاني رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم مالك فهو لك فقال أي ثابت: ما فعل الذي كان وجهه مرآة صينية يتمرأ فيها عذارى الحي كعب بن أسد؟ قال: قتل قال: فما فعل مقدمتنا إذا شددنا وحاميتنا إذا فررنا غزال بن شموال؟ قال: قتل قال: فما فعل المجلسان؟ يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة قال: قتلوا قال: فإني أسألك يا ثابت بيدي عندك ألا ألحقني بالقوم فو الله ما في العيش بعد هؤلاء من خير فما أنا بصابر لله تعالى قتلة ذكر ناصح حتى ألقى الأحبة فقدمه ثابت فضرب عنقه فلما بلغ أبا بكر رضي الله تعالى عنه قوله: ألقى الأحبة قال: يلقاهم والله في جهنم خالدين فيها مخلدين، واستوهبت سلمى بنت أقيس أم المنذر أخت سليط بن قيس وكانت إحدى خالات رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قد صلت معه القبلتين وبايعته مبايعة النساء رفاعة بن شموال القرظي وقالت: بأبي أنت وأمي يا نبي الله هب لي رفاعة فإنه زعم أنه سيصل ويأكل لحم الجمل فوهبه عليه الصلاة والسلام لها فاستحيته. وقتل منه كل من أنبت من الذكور، وأما النساء فلم يقتل منهم إلا امرأة يقال لها لبابة زوجة الحكم القرظي وكانت قد طرحت الرحى على خلاد بن سويد فقتلته. اخرج ابن إسحاق عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت: والله ان هذه الامرأة لعندي تحدث معي وتضحك ظهرا وبطنا ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يقتل رجالها بالسيوف إذ هتف هاتف باسمها أين فلانة قالت: أنا والله قلت لها: ويلك ما لك؟ قالت: اقتل قلت: ولم؟ قالت: لحدث أحدثته فانطلق بها فضربت عنقها فكانت عائشة رضي الله تعالى عنها تقول: فو الله ما أنسى عجبا منها طيب نفسها وكثرة ضحكها وقد عرفت أنها تقتل، ثم إن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قسم أموالهم ونساءهم وأبناءهم على المسلمين، وأعلم في ذلك اليوم سهمان الخيل وسهمان الرجال، وأخرج منها الخمس وكان للفرس سهمان وللفارس سهم وللراجل الذي ليس له فرس سهم، وكانت الخيل في تلك الغزوة ستة وثلاثين فرسا وهو أول فيء وقعت فيه السهمان وأخرج منه الخمس على ما ذكر ابن إسحاق، ثم بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم سعد بن زيد الأنصاري أخا بني عبد الأشهل بسبايا من سبايا القوم وكانت السبايا كلها على ما قيل سبعمائة وخمسين إلى نجد فابتاع بها لهم خيلا وسلاحا وكان عليه الصلاة والسلام قد اصطفى لنفسه الكريمة من نسائهم ريحانة بنت عمرو وكانت في ملكه صلّى الله عليه وسلم حتى توفي، وقد كان عليه الصلاة والسلام عرض عليها أن يتزوجها ويضرب عليها الحجاب فقالت: يا رسول الله بل تتركني في ملك فهو أخف علي وعليك فتركها صلّى الله عليه وسلم وكانت حين سباها قد أبت إلا اليهودية فعزلها عليه الصلاة والسلام ووجد في نفسه لذلك فبينما هو صلّى الله تعالى عليه وسلم مع أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه فقال: إن هذا لنعلا ابن شعبة جاء يبشرني بإسلام ريحانة فجاءه فقال: يا رسول الله قد أسلمت ريحانة فسره ذلك من أمرها ، وكان الفتح على ما في البحر في آخر ذي القعدة وهذه الغزوة وغزوة الخندق كانتا في سنة واحدة كما يدل عليه ما ذكرناه أول القصة وهو الصحيح خلافا لمن قال: ان كلا منهما في سنة، ولما انقضى شأن بني قريظة انفجر لسعد رضي الله تعالى عنه جرحه فمات شهيدا، وقد استبشرت الملائكة عليهم السلام بروحه واهتزّ له العرش، وفي ذلك يقول رجل من الأنصار: وما اهتز عرش الله من موت هالك ... سمعنا به إلا لسعد أبي عمرو واستشهد يوم بني قريظة على ما روي عن ابن إسحاق من المسلمين ثم من بني الحارث بن الخزرج خلاد بن سويد بن ثعلبة بن عمرو وطرحت عليه رحى فشدخته شدخا شديدا، وذكروا ان رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قال: إن له لأجر شهيدين ، ومات أبو سنان بن محصن بن حرثان أخو بني أسد بن خزيمة ورسول الله عليه الصلاة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 175 والسلام محاصر بني قريظة فدفن في مقبرتهم التي يدفنون فيها اليوم واليه دفنوا موتاهم في الإسلام، وتمام الكلام فيما وقع في هذه الغزوة في كتب السير، وقوله تعالى: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ عطف على قوله سبحانه وتعالى: أَنْزَلَ إلخ، والمراد بأرضهم مزارعهم، وتقدمت لكثرة المنفعة بها من النخل والزروع. وفي قوله عزّ وجلّ: أَوْرَثَكُمْ إشعار بأنه انتقل إليهم ذلك بعد موت أولئك المقتولين وأن ملكهم إياه ملك قوي ليس بعقد الفسخ أو الإقالة وَدِيارَهُمْ أي حصونهم وَأَمْوالَهُمْ نقودهم ومواشيهم وأثاثهم التي اشتملت عليها أرضهم وديارهم. أخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة من خبر طويل أن سعدا رضي الله تعالى عنه حكم بقتل مقاتلهم وسبي ذراريهم بأن أعقارهم للمهاجرين دون الأنصار فقال قومه: أتؤثر المهاجرين بالأعقار علينا؟ فقال: إنكم ذو أعقار وإن المهاجرين لا أعقار لهم، وأمضى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم حكمه. وفي الكشاف روي أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم جعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار فقالت الأنصار في ذلك فقال عليه الصلاة والسلام: إنكم في منازلكم، وقال عمر رضي الله تعالى عنه: أما تخمس كما خمست يوم بدر؟ قال: لا إنما جعلت هذه لي طعمة دون الناس قال: رضينا بما صنع الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم. وذكر الجلال السيوطي أن الخبر رواه الواقدي من رواية خارجة بن زيد عن أم العلاء، قالت: لما غنم رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم بني النضير جعل الحديث، ومن طريق المسور بن رفاعة قال: فقال عمر يا رسول الله ألا تخمس ما أصيب من بني النضير الحديث اهـ، وعليه لا يحسن من الزمخشري ذكره هاهنا مع أن الآيات عنده في شأن بني قريظة، وسيأتي الكلام فيما وقع لبني النضير في تفسير سورة الحشر إن شاء الله تعالى وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها قال مقاتل، ويزيد بن رومان، وابن زيد: هي خيبر فتحت بعد بني قريظة، وقال قتادة: كان يتحدث أنها مكة، وقال الحسن: هي أرض الروم وفارس، وقيل: اليمن، وقال عكرمة: هي ما ظهر عليه المسلمون إلى يوم القيامة واختاره في البحر، وقال عروة: لا أحسبها إلا كل أرض فتحها الله تعالى على المسلمين أو هو عزّ وجلّ فاتحها إلى يوم القيامة، والظاهر أن العطف على أَرْضَهُمْ واستشكل بأن الإرث ماض حقيقة بالنسبة إلى المعطوف عليه ومجازا بالنسبة الى هذا المعطوف. وأجيب بأنه يراد بأورثكم أورثكم في علمه وتقديره وذلك متحقق فيما وقع من الإرث كأرضهم وديارهم وأموالهم وفيما لم يقع بعد كإرث ما لم يكن مفتوحا وقت نزول الآية. وقدر بعضهم أورثكم في جانب المعطوف مرادا به يورثكم إلا أنه عبر بالماضي لتحقق الوقوع والدليل المذكور، واستبعد دلالة المذكور عليه لتخالفهما حقيقة ومجازا. وقيل: الدليل ما بعد من قوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ إلخ، ثم إذا جعلت الأرض شاملة لما فتح على أيدي الحاضرين ولما فتح على أيدي غيرهم ممن جاء بعدهم لا يخص الخطاب الحاضرين كما لا يخفى. ومن بدع التفاسير أنه أريد بهذه الأرض نساؤهم، وعليه لا يتوهم إشكال في العطف. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «لم تطوها» بحذف الهمزة أبدل همزة تطأ الفا على حد قوله: إن السباع لتهدى في مرابضها ... والناس لا يهتدى من شرهم أبدا فالتقت ساكنة مع الواو فحذفت كقولك لم تروها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً فهو سبحانه قادر على أن يملككم ما شاء يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا أي السعة والتنعم فيها وَزِينَتَها أي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 176 زخرفها وهو تخصيص بعد تعميم فَتَعالَيْنَ أي أقبلن بإرادتكن واختياركن لإحدى الخصلتين كما يقال أقبل يخاصمني وذهب يكلمني وقام يهددني، وأصل تعال أمر بالصعود لمكان عال ثم غلب في الأمر بالمجيء مطلقا والمراد هاهنا ما سمعت، وقال الراغب: قال بعضهم إن أصله من العلو وهو ارتفاع المنزلة فكأنه دعاء إلى ما فيه رفعة كقولك: افعل كذا غير صاغر تشريفا للمقول له، وهذا المعنى غير مراد هنا كما لا يخفى أُمَتِّعْكُنَّ أي أعطكن متعة الطلاق، والمتعة للمطلقة التي لم يدخل بها ولم يفرض لها في العقد واجبة عند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وأصحابه، ولسائر المطلقات مستحبة، وعن الزهري متعتان أحدهما يقضي بها السلطان ويجبر عليها من طلق قبل أن يفرض ويدخل بها والثانية حق على المتقين من طلق بعد ما فرض ودخل. وخاصمت امرأة إلى شريح في المتعة فقال: متعها إن كنت من المتقين ولم يجبره، وعن سعيد بن جبير المتعة حق مفروض، وعن الحسن لكل مطلقة متعة إلا المختلعة والملاعنة، والمتعة درع وحمار وملحفة على حسب السعة والاقتار إلا أن يكون نصف مهرها أقل من ذلك فيجب لها الأقل منهما ولا ينقص من خمسة دراهم لأن أقل المهر معشرة دراهم فلا ينقص من نصفها كذا في الكشاف، وتمام الكلام في الفروع، والفعل مجزوم على أنه جواب الأمر وكذا قوله تعالى: وَأُسَرِّحْكُنَّ وجوز أن يكون الجزم على أنه جواب الشرط ويكون فَتَعالَيْنَ اعتراضا بين الشرط وجزائه، والجملة الاعتراضية قد تقترن بالفاء كما في قوله: واعلم فعلم المرء ينفعه ... أن سوف يأتي كل ما قدرا وقرأ حميد الخراز «أمتعكن وأسرحكن» بالرفع على الاستئناف، وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «أمتعكن» بالتخفيف من أمتع، والتسريح في الأصل مطلق الإرسال ثم كنى به عن الطلاق أي وأطلقكن سَراحاً أي طلاقا جَمِيلًا أي ذا حسن كثير بأن يكون سنيا لا ضرار فيه كما في الطلاق البدعي المعروف عند الفقهاء. وفي مجمع البيان تفسير السراح الجميل بالطلاق الخالي عن الخصومة والمشاجرة، وكان الظاهر تأخير التمتيع عن التسريح لما أنه مسبب عنه إلا أنه قدم عليه إيناسا لهن وقطعا لمعاذيرهن من أول الأمر، وهو نظير قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: 43] من وجه ولأنه مناسب لما قبله من الدنيا: وجوز أن يكون في محلة بناء على أن إرادة الدنيا بمنزلة الطلاق والسراح الإخراج من البيوت فكأنه قيل: إن أردتن الدنيا وطلقتن فتعالين أعطكن المتعة وأخرجكن من البيوت إخراجا جميلا بلا مشاجرة ولا إيذاء، ولا يخفى بعده وسبب نزوله الآية على ما قيل: إن أزواجه عليه الصلاة والسلام سألنه ثياب الزينة وزيادة النفقة. وأخرج أحمد، ومسلم، والنسائي، وابن مردويه من طريق أبي الزبير عن جابر قال: أقبل أبو بكر رضي الله تعالى عنه والناس ببابه جلوس والنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم جالس فلم يؤذن له ثم أذن لأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فدخلا والنبي صلّى الله عليه وسلم جالس وحوله نساؤه وهو ساكت فقال عمر: لأكلمن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم لعله يضحك فقال: يا رسول الله لو أردت ابنة زيد يعني امرأته رضي الله تعالى عنه سألتني النفقة آنفا فوجأت عنقها فضحك النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم حتى بدأ ناجذه وقال: هن حولي سألنني النفقة فقام أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى عائشة ليضربها وقام عمر رضي الله تعالى عنه إلى حفصة كلاهما يقولان: تسألان النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم ما ليس عنده فنهاهما رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقلن نساؤه: والله لا نسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد هذا المجلس ما ليس عنده. وأنزل الله تعالى الخيار فبدأ بعائشة فقال عليه الصلاة والسلام: إني ذاكر لك أمرا ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك قالت: ما هو؟ فتلا عليها يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ الآية قالت عائشة: أفيك أستأمر أبوي؟ بل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 177 أختار الله تعالى ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم وأسألك أن لا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله تعالى لم يبعثني متعنتا ولكن بعثني معلما مبشرا لا تسألني امرأة منهن عما اخبرتني إلا أخبرتها ، وفي خبر رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم عن قتادة، والحسن أنه لما نزلت آية التخيير كان تحته عليه الصلاة والسلام تسع نسوة خمس من قريش: عائشة، وحفصة، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة، وأم سلمة بنت أبي أمية وكان تحته صفية بنت حيي الخيبرية، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث من بني المصطلق وبدأ بعائشة فلما اختارت الله تعالى ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم والدار الآخرة رئي الفرح في وجه رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فتتابعن كلهن على ذلك فلما خيرهن واخترن الله عزّ وجلّ ورسوله عليه الصلاة والسلام والدار الآخرة شكرهن الله جلّ شأنه على ذلك إذ قال سبحانه: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ [الأحزاب: 52] فقصره الله تعالى عليهن وهن التسع اللاتي اخترن الله عزّ وجلّ ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم. وأخرج ابن سعد عن عمرو بن سعيد عن أبيه عن جده أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم خير نساءه فاخترن جميعا الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام غير العامرية اختارت قومها فكانت بعد تقول: أنا الشقية وكانت تلقط البعر وتبيعه وتستأذن على أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم فتقول: أنا الشقية. وأخرج أيضا عن ابن جناح قال: اخترنه جميعا غير العامرية كانت ذاهبة العقل حتى ماتت. وجاء في بعض الروايات عن ابن جبير غير الحميرية وهي العامرية، وكان هذا التخيير كما روي عن عائشة، وأبي جعفر بعد أن هجرهن عليه الصلاة والسلام شهرا تسعة وعشرين يوما. وفي البحر أنه لما نصر الله تعالى نبيه صلّى الله تعالى عليه وسلم ورد عنه الأحزاب وفتح عليه النضير وقريظة ظن أزواجه عليه الصلاة والسلام أنه اختص بنفائس اليهود وذخائرهم فقعدن حوله وقلن: يا رسول الله بنات كسرى، وقيصر في الحلي والحلل والإماء والخول ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق وآلمن قلبه الشريف عليه الصلاة والسلام بمطالبتهن له بتوسعة الحال وأن يعاملهن بما تعامل به الملوك وأبناء الدنيا أزواجهم فأمره الله تعالى بأن يتلو عليهن ما نزل في أمرهن وما أحسن موقع هذه الآيات على هذا بعد انتهاء قصة الأحزاب وبني قريظة كما لا يخفى، ويفهم من كلام الإمام أنها متعلقة بأول السورة وذلك أن مكارم الأخلاق منحصرة في شيئين: التعظيم لإمر الله تعالى والشفقة على خلقه عزّ وجلّ فبدأ سبحانه بإرشاد حبيبه عليه الصلاة والسلام إلى ما يتعلق بجانب التعظيم له تعالى فقال سبحانه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الأحزاب: 2] إلخ ثم أرشده سبحانه الى ما يتعلق بجانب الشفقة، وبدأ بالزوجات لأنهن أولى الناس بذلك، وقدم سبحانه الشرطية المذكورة على قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إلخ لأن سبب النزول ما سمعت. وقال الإمام: إن التقديم إشارة إلى أن النبي صلّى الله عليه وسلم غير ملتفت إلى الدنيا ولذاتها غاية الالتفات، وذكر أن في وصف السراح بالجميل إشارة إلى ذلك أيضا، ومعنى إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إن كنتن تردن رسول الله وإنما ذكر الله عزّ وجلّ للإيذان بجلالة محله عليه الصلاة والسلام عنده تعالى وَالدَّارَ الْآخِرَةَ أي نعيمها الباقي الذي لا قدر عنده للدنيا وما فيها فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ أي هيأ ويسّر لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ بمقابلة إحسانهن أَجْراً لا تحصى كثرته عَظِيماً لا تستقصى عظمته، و (من) للتبيين لأن كلهن كن محسنات. وقيل: ويجوز فيه التبعيض على أن المحسنات المختارات لله ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم واختيار الجميع لم يعلم وقت النزول، وهو على ما قال الخفاجي عليه الرحمة بعيد، وجواب إِنْ في الظاهر ما قرن بالفاء الجزء: 11 ¦ الصفحة: 178 إلا أنه قيل الماضي فيه بمعنى المضارع الدال على الاستقبال والتعبير به دونه لتحقق الوقوع، وقيل: الجواب محذوف نحو تثبن أو تنلن خيرا وما ذكر دليله، وتجريد الشرطية الأولى عن الوعيد للمبالغة في تحقيق معنى التخيير والاحتراز عن شائبة الإكراه، قيل: وهو السر في تقديم التمتيع على التسريح ووصف التسريح بالجميل. هذا واختلف فيما وقع من التخيير هل كان تفويض الطلاق إليهن حتى يقع الطلاق بنفس الاختيار او لا فذهب الحسن، وقتادة وأكثر أهل العلم (1) على ما في إرشاد العقل السليم وهو الظاهر إلى أنه لم يكن تفويض الطلاق وإنما كان تخييرا لهن بين الإرادتين على أنهن إن أردن الدنيا فارقهن النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم كما ينبىء عنه قوله تعالى: فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ وذهب آخرون إلى أنه كان تفويضا للطلاق إليهن حتى لو أنهن اخترن انفسهن كان ذلك طلاقا، وكذا اختلف في حكم التخيير بأن يقول الرجل لزوجته اختاري فتقول اخترت نفسي أو اختاري نفسك فتقول اخترت فعن زيد بن ثابت أنه يقع الطلاق الثلاث وبه أخذ مالك في المدخول بها وفي غيرها يقبل من الزوج دعوى الواحدة، وعن عمر، وابن عباس، وابن مسعود أنه يقع واحدة رجعية وهو قول عمر بن عبد العزيز، وابن أبي ليلى، وسفيان، وبه أخذ الشافعي، وأحمد. وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه يقع واحدة بائنة ، وروى ذلك الترمذي عن ابن مسعود، وأيضا عن عمر رضي الله تعالى عنهما، وبذلك أخذ أبو حنيفة عليه الرحمة، فإن اختارت زوجها فعن زيد بن ثابت أنه تقع طلقة واحدة وعن علي كرم الله تعالى وجهه روايتان إحداهما أنه تقع واحدة رجعية والأخرى أنه لا يقع شيء أصلا وعليه فقهاء الأمصار. وذكر الطبرسي أن المروي عن أئمة أهل البيت رضوان الله تعالى عليهم أجمعين اختصاص التخيير بالنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم وأما غيره عليه الصلاة والسلام فلا يصح له ذلك. واختلف في مدة ملك الزوجة الاختيار إذا قال لها الزوج ذلك فقيل: تملكه ما دامت في المجلس وروي هذا عن عمر، وعثمان، وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم. وبه قال جابر بن عبد الله، وجابر بن زيد، وعطاء، ومجاهد، والشعبي، والنخعي، ومالك، وسفيان، والأوزاعي، وأبو حنيفة، والشافعي، وأبو ثور، وقيل: تملكه في المجلس وفي غيره وهو قول الزهري، وقتادة، وأبي عبيدة، وابن نصر وحكاه صاحب المغني عن علي كرم الله تعالى وجهه. وفي بلاغات محمد بن الحسن أنه كرم الله تعالى وجهه قائل بالاقتصار على المجلس كقول الجماعة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وتمام الكلام في هذه المسألة وما لكل من هذه الأقوال وما عليه يطلب من كتب الفروع كشروح الهداية وما يتعلق بها بيد أبي أقول: كون ما في الآية هو المسألة المذكور في الفروع التي وقع الاختلاف فيها مما لا يكاد يتسنى، وتأويل الخفاجي استدلال من استدل بها في هذا المقام بما لا يخلو عن كلام عند ذوي الأفهام. هذا وذكر الإمام في الكلام على تفسير هذه الآية عدة مسائل. الأولى أن التخيير منه صلّى الله تعالى عليه وسلم قولا كان واجبا عليه عليه الصلاة والسلام بلا شك لأنه إبلاغ الرسالة، وأما معنى فكذلك على القول بأن الأمر للوجوب. الثانية أنه لو أردن كلهن أو إحداهن الدنيا فالظاهر نظرا إلى منصب النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم أنه يجب عليه التمتيع والتسريح لأن الخلف في الوعد منه عليه الصلاة والسلام غير جائز. الثالثة أن الظاهر أنه لا تحرم المختارة بعد البينونة على غيره عليه الصلاة والسلام وإلا لا يكون التخيير ممكنا من التمتع بزينة الدنيا. الرابعة أن الظاهر أن من   (1) ومنهم ابن الهمام اهـ منه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 179 اختارت الله تعالى ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم يحرم على النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم نظرا إلى منصبه الشريف طلاقها والله تعالى أعلم. يا نِساءَ النَّبِيِّ تلوين للخطاب وتوجيه له إليهن لإظهار الاعتناء بنصحهن ونداؤهن هاهنا وفيما بعد بالإضافة اليه عليه الصلاة والسلام لأنها التي يدور عليها ما يرد عليهن من الأحكام، واعتبار كونهن نساء في الموضعين أبلغ من اعتبار كونهن أزواجا كما لا يخفى على المتأمل مَنْ يَأْتِ بالياء التحتية حملا على لفظ مَنْ، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما، والجحدري، وعمرو بن قائد الأسواري ويعقوب بالتاء الفوقية حملا على معناها مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ بكبيرة مُبَيِّنَةٍ ظاهرة القبح من بين بمعنى تبين، وقرأ ابن كثير، وأبو بكر مبينة بفتح الياء والمراد بها على ما قيل: كل ما يقترف من الكبائر، وأخرج البيهقي في السنن عن مقاتل بن سليمان أنها العصيان للنبي صلّى الله عليه وسلم، وقيل: ذلك وطلبهن ما يشق عليه الصلاة والسلام أو ما يضيق به ذرعه ويغتم صلّى الله عليه وسلم لأجله. ومنع في البحر أن يراد بها الزنا قال: لأن النبي صلّى الله عليه وسلم معصوم من ارتكاب نسائه ذلك ولأنه وصفت الفاحشة بالتبين والزنا مما يتستر به ومقتضاه منع إرادة الأعم ثم قال: وينبغي أن تحمل الفاحشة على عقوق الزوج وفساد عشرته، ولا يخلو كلامه عن بحث والإمام فسرها به، وجعل الشرطية من قبيل لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] من حيث إن ذلك ممكن الوقوع في أول النظر ولا يقع جزما فإن الأنبياء صان الله تعالى زوجاتهم عن ذلك، وقد تقدم بعض الكلام في هذه المسألة في سورة النور وسيأتي إن شاء الله تعالى طرف مما يتعلق بهما أيضا يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ يوم القيامة على ما روي عن مقاتل أو فيه، وفي الدنيا على ما روي عن قتادة ضِعْفَيْنِ أي يعذبن ضعفي عذاب غيرهن أي مثليه فإن مكث غيرهن ممن أتى بفاحشة مبينة في النار يوما مثلا مكثن هن لو أتين بمثل ما أتى يومين. وإن وجب على غيرهن حد لفاحشة وجب عليهن لو أتين بمثلها حدان، وقال أبو عمرو، وأبو عبيدة فيما حكى الطبري عنهما الضعفان أن يجعل الواحدة ثلاثة فيكون عليهن ثلاثة حدود أو ثلاثة أمثال عذاب غيرهن، وليس بذاك، وسبب تضعيف العذاب أن الذنب منهن أقبح فإن زيادة قبحه تابعة لزيادة فضل المذنب والنعمة عليه وتلك ظاهرة فيهن ولذلك جعل حد الحر ضعف حد الرقيق وعوتب الأنبياء عليهم السلام بما لا يعاتب به الأمم وكذا حال العالم بالنسبة الى الجاهل فليس من يعلم كمن لا يعلم، وروي عن زين العابدين رضي الله تعالى عنه أنه قال له رجل: إنكم أهل بيت مغفور لكم فغضب وقال: نحن أحرى أن يجري فينا ما أجرى الله تعالى في أزواج النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم من أن نكون كما تقول إنا نرى لمحسننا ضعفين من الأجر ولمسيئنا ضعفين من العذاب وقرأ هذه الآية والتي تليها ، وقرأ الحسن، وعيسى، وأبو عمرو «يضعف» بالياء التحتية مبنيا للمفعول بلا ألف والجحدري، وابن كثير، وابن عامر «نضعف» بالنون مبنيا للفاعل بلا ألف أيضا وزيد بن علي، وابن محيصن، وخارجة عن أبي عمرو «نضاعف» بالنون والألف والبناء للفاعل وفرقة «يضاعف» بالياء والألف والبناء للفاعل، وقرأ «العذاب» بالرفع من قرأ بالبناء للمفعول وبالنصب من قرأ للفاعل وَكانَ ذلِكَ أي تضعيف العذاب عليهن عَلَى اللَّهِ يَسِيراً أي سهلا لا يمنعه جلّ شأنه عنه كونهن نساء النبي صلّى الله عليه وسلم بل هو سبب له. تم بحمد الله الجزء الحادي والعشرون ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثاني والعشرون وأوله وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 180 الجزء الثاني العاشر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 181 وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ أي ومن تخشع وتخضع لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ عملا صالِحاً كصلاة وصوم وحج وإيتاء زكاة وهذا العمل غير القنوت لله تعالى على ما سمعت من تفسيره فلا تكرار، وفسره بعضهم بالطاعة ودفع التكرار بأن المراد وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لرسول الله وَتَعْمَلْ صالِحاً لله تعالى، وذكر الله إنما هو لتعظيم الرسول صلّى الله عليه وسلم يجعل طاعته غير منفكة عن طاعة الله عزّ وجلّ، وبعضهم بما ذكر أيضا إلا أنه دفع التكرار بأن المراد بالعمل الصالح الجزء: 11 ¦ الصفحة: 183 الخدمة الحسنة والقيام بمصالح البيت لا نحو الصلاة والصيام وبالطاعة المفسر بها القنوت امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وفسره بعضهم بدوام الطاعة فقيل في دفع التكرار نحو ما مر، وقيل: المراد به الدوام على الطاعة السابقة وبالعمل الصالح: العبادات التي يكلفن بها بعد. وقيل: القنوت السكوت كما قيل ذلك في قوله تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ [البقرة: 238] والمراد به هاهنا السكوت عن طلب ما لم يأذن الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم لهن به من زيادة النفقة وثياب الزينة، وقيل غير ذلك. نُؤْتِها أَجْرَها الذي تستحقه على ذلك فضلا وكرما مَرَّتَيْنِ فيكون أجرها مضاعفا وهذا في مقابلة يضاعف لها العذاب ضعفين. أخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس أنه قال في حاصل معنى الآيتين: أنه من عصى منكن فإنه يكون للعذاب عليها الضعف منه على سائر نساء المؤمنين ومن عمل صالحا فإن الأجر لها الضعف على سائر نساء المسلمين، ويستدعي هذا أنه إذا أثيب نساء المسلمين على الحسنة بعشر أمثالها أثبن هن على الحسنة بعشرين مثلا لها وإن زيد للنساء على العشر شيء زيد لهن ضعفه، وكأنه والله تعالى أعلم إنما قيل نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ دون يضاعف لها الأجر كما قيل في المقابل يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ لأن أصل تضعيف الأجر ليس من خواصهن بل كل من عمل صالحا من النساء والرجال من هذه الأمة يضاعف أجره فأخرج الكلام مغايرا لما تقتضيه المقابلة رمزا إلى أن تضعيف الأجر على طرز مغاير لطرز تضعيف العذاب مع تضمن الكلام المذكور الإشارة إلى مزيد تكريمهن ووفور الاعتناء بهن فإن الإحسان المكرر أحلى، ومن تأمل في الجملتين ظهر له تغليب جانب الرحمة على جانب الغضب وكفى بالتصريح بفاعل إيتاء الأجر وجعله ضمير العظمة والتعبير عما يؤتون من النعيم بالأجر مع إضافته إلى ضميرهن مع خلو جملة تضعيف العذاب عن مثل ذلك شهداء على ما ذكر، ثم إن تضعيف أجرهن لمزيد كرامتهن رضي الله تعالى عنهن على الله عزّ وجلّ مما منّ به عليهن من النسبة إلى خير البرية عليه من الله تعالى أفضل الصلاة وأكمل التحية، والظاهر أن ذلك ليس بالنسبة إلى أعمالهن الصالحة التي عملنها في حياته صلّى الله عليه وسلم فقط بل يضاعف أجرهن عليها وعلى الأعمال الصالحة التي يعملنها بعد وفاته عليه الصلاة والسلام. وقال بعض الأجلة: إن هاتين المرتين إحداهما على الطاعة والأخرى على طلبهن رضاء للنبي صلّى الله عليه وسلم بالقناعة وحسن المعاشرة، وجعل في البحر وغيره سبب التضعيف هذا الطلب وتلك لطاعة، ولا يخفى أن ما ذكروه موهم لعدم التضعيف بالنسبة لما فعلوه من العمل الصالح بعد وفاته صلّى الله عليه وسلم، وقال بعض المدققين: أراد من جعل سبب مضاعفة أجورهن ما ذكر التطبيق على لفظ الآية حيث جعل القنوت لله ولرسوله مع ما تلاه سببا ويدمج فيه أن مضاعفة العذاب إنما نشأت من أن النشوز مع الرسول صلّى الله عليه وسلم وطلب ما يشق عليه ليس كالنشوز مع سائر الأزواج ولذلك اقتضى مضاعفة العذاب وكذلك طاعته وحسن التخلق معه والمعاشرة على عكس ذلك فهذا يؤكد ما قالوا من أن سبب تضعيف العذاب زيادة قبح الذنب منهن وفيه أن العكس يوجب العكس فتأمل. وقال بعض المفسرين: العذاب الذي توعد به ضعفين هو عذاب الدنيا ثم عذاب الآخرة وكذلك الأجر فالمرتان إحداهما في الدنيا وثانيتهما في الأخرى، ولا يخفى ضعفه وقرأ الجحدري والأسواري ويعقوب في رواية وكذا ابن عامر «ومن تقنت» بتاء التأنيث حملا على المعنى وقرأ السلمي وابن وثاب وحمزة والكسائي بياء من تحت في الأفعال الثلاثة على أن في «يؤتها» ضمير اسم الله تعالى، وذكر أبو البقاء أن بعضهم قرأ «ومن تقنت» بالتاء من فوق حملا على المعنى «ويعمل» بالياء من تحت حملا على اللفظ فقال بعض النحويين: هذا ضعيف لأن التذكير أصل فلا يجعل تبعا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 184 للتأنيث وما عللوه به قد جاء مثله في القرآن وهو قوله تعالى: خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا [الأنعام: 139] انتهى فتذكر وَأَعْتَدْنا لَها في الجنة زيادة على أجرها المضاعف رِزْقاً كَرِيماً عظيم القدر رفيع الخطر مرضيا لصاحبه، وقيل الرزق الكريم ما يسلم من كل آفة. وجوز ابن عطية أن يكون في ذلك وعد دنياوي أي إن رزقها في الدنيا على الله تعالى وهو كريم من حيث هو حلال وقصد برضا من الله تعالى في نيله، وهو كما ترى يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ ذهب جمع من الرجال إلى أن المعنى ليس كل واحدة منكن كشخص واحد من النساء أي من نساء عصركن أي إن كل واحدة منكن أفضل من كل واحدة منهن لما امتازت بشرف الزوجية لرسول الله وأمومة المؤمنين- فأحد- باق على كونه وصف مذكر إلا أن موصوفه محذوف ولا بدّ من اعتبار الحذف في جانب المشبه كما أشير إليه، وقال الزمخشري: أحد في الأصل بمعنى وحد وهو الواحد ثم وضع في النفي العام مستويا فيه المذكر والمؤنث والواحد وما وراءه، والمعنى لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء أي إذا تقصيت أمة النساء جماعة جماعة لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة، وقد استعمل بمعنى المتعدد أيضا في قوله تعالى: وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ [النساء: 152] لمكان بَيْنَ المقتضية للدخول على متعدد وحمل أحد على الجماعة على ما في الكشف ليطابق المشبه، والمعنى على تفضيل نساء النبي صلّى الله عليه وسلم على نساء غيره لا النظر إلى تفضيل واحدة على واحدة من آحاد النساء فإن ذلك ليس مقصودا من هذا السياق ولا يعطيه ظاهر اللفظ. وكون ذلك أبلغ لما يلزم عليه تفضيل جماعتهن على كل جماعة ولا يلزم ذلك تفضيل كل واحدة على كل واحدة من آحاد النساء لو سلم لكان إذا ساعده اللفظ والمقام، واعترضه أيضا بعضهم بأنه يلزم عليه أن يكون كل واحدة من نساء النبي صلّى الله عليه وسلم أفضل من فاطمة رضي الله تعالى عنها مع أنه ليس كذلك. وأجيب عن هذا بأنه لا مانع من التزامه إلا أنه يلتزم كون الأفضلية من حيث أمومة المؤمنين والزوجية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم لا من سائر الحيثيات فلا يضر فيه كون فاطمة رضي الله تعالى عنها أفضل من كل واحدة منهن لبعض الحيثيات الأخر بل هي من بعض الحيثيات كحيثية البضعية أفضل من كل من الخلفاء الأربعة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، نعم أورد على ما في الكشاف أن أحد الموضوع في النفي العام همزته أصلية غير منقلبة عن الواحد وقد نص على ذلك أبو علي، وخالف فيه الرضي فنقل عنه أن همزة أحد في كل مكان بدل من الواو، والمشهور التفرقة بين الواقع في النفي العام والواقع في الإثبات بأن همزة الأول أصلية وهمزة الثاني منقلبة عن الواو. وفي العقد المنظوم في ألفاظ العموم للفاضل القرافي قد أشكل هذا على كثير من الفضلاء لأن اللفظين صورتهما واحدة ومعنى الوحدة يتناولهما والواو فيها أصلية فيلزم قطعا انقلاب ألف أحد مطلقا عنها وجعل ألف أحدهما منقلبا دون ألف الآخر تحكم، وقد أطلعني الله تعالى على جوابه وهو أن أحد الذي لا يستعمل إلا في النفي معناه إنسان بإجماع أهل اللغة وأحد الذي يستعمل في الإثبات معناه الفرد من العدد فإذا تغاير مسماهما تغاير اشتقاقهما لأنه لا بدّ فيه من المناسبة بين اللفظ والمعنى ولا يكفي فيه أحدهما، فإذا كان المقصود به الإنسان فهو الذي لا يستعمل إلا في النفي وهمزته أصلية، وإن قصد به العدد ونصف الإثنين فهو الصالح للإثبات والنفي وألفه منقلبة عن واو اهـ، ولا يخفى أنه إذا سلم الفرق المذكور ينبغي أن تكون الهمزة هنا أصلية، وإلى أن همزة الواقع في النفي أصلية ذهب أبو حيان فقال: إن ما ذكره الزمخشري من قوله: ثم وضع في النفي العام إلخ غير صحيح لأن الذي يستعمل في النفي العام مدلوله غير مدلول واحد لأن واحدا ينطلق على كل شيء اتصف بالوحدة وأحد المستعمل في النفي العام مخصوص بمن يعقل وذكر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 185 النحويون أن مادته همزة وحاء ودال ومادة أحد بمعنى واحد أصله واو وحاء ودال فقد اختلفا مادة ومدلولا. وذكر أن ما في قوله تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة: 285] يحتمل أن يكون الذي للنفي العام ويحتمل أن يكون بمعنى واحد، ويكون قد حذف معطوف أي بين واحد وواحد من رسله كما قال الشاعر: فما كان بين الخير لو جاء سالما ... أبو حجر إلا ليال قلائل وقال الراغب: أحد يستعمل على ضربين في النفي لاستغراق جنس الناطقين، ويتناول القليل والكثير على الاجتماع والانفراد نحو ما في الدار أحد أي لا واحد ولا اثنان فصاعدا لا مجتمعين ولا متفرقين، وهذا المعنى لا يمكن في الإثبات لأن نفي المتضادين يصح، ولا يصح إثباتهما، فلو قيل في الدار أحد لكان إثبات أحد منفرد مع إثبات ما فوق الواحد مجتمعين ومتفرقين وهو بين الإحالة ولتناوله ما فوق الواحد صح نحو فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الحاقة: 47] وفي الإثبات على ثلاثة أوجه، استعماله في الواحد المضموم إلى العشرات كأحد عشر وأحد وعشرين، واستعماله مضافا أو مضافا إليه بمعنى الأول نحو أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي [يوسف: 41] وقولهم يوم الأحد، واستعماله وصفا وهذا لا يصح إلا في وصفه تعالى شأنه، أما أصله- أعني وحد- فقد يستعمل في غيره سبحانه كقول النابغة: كأن رحلي وقد زال النهار بنا ... بذي الجليل على مستأنس وحد انتهى. وهو محتمل لدعوى انقلاب همزته عن واو مطلقا ولدعوى انقلابها عنها في الاستعمال الأخير. ولا يخفى على المنصف أن كون المعنى في الآية ما ذكره الزمخشري أظهر، وتفضيل كل واحدة من نسائه صلّى الله عليه وسلم على كل واحدة واحدة من سائر النساء لا يلزم أن يكون لهذه الآية بل هو لدليل آخر إما عقلي أو نص مثل قوله تعالى: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الأحزاب: 6] وقيل يجوز أن يكون ذلك لها فإنها تفيد بحسب عرف الاستعمال تفضيل كل منهن على سائر النساء لأن فضل الجماعة على الجماعة يكون غالبا لفضل كل منها. إِنِ اتَّقَيْتُنَّ شرط لنفي المثلية وفضلهن على النساء وجوابه محذوف دل عليه المذكور والاتقاء بمعناه المعروف في لسان الشرع، والمفعول محذوف أي إن اتقيتن مخالفة حكم الله تعالى ورضا رسوله صلّى الله عليه وسلم، والمراد إن دمتن على اتقاء ذلك ومثله شائع أو هو على ظاهره والمراد به التهييج بجعل طلب الدنيا والميل إلى ما تميل إليه النساء لبعده من مقامهن بمنزلة الخروج من التقوى أو شرط جوابه قوله تعالى: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ والاتقاء بمعناه الشرعي أيضا، وفي البحر أنه بمعنى الاستقبال أي إن استقبلتن أحدا فلا تخضعن، وهو بهذا المعنى معروف في اللغة قال النابغة: سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتقتنا باليد أي استقبلتنا باليد، ويكون هذا المعنى أبلغ في مدحهن إذ لم يعلق فضلهن على التقوى ولا علق نهيهن عن الخضوع بها إذ هن متقيات لله تعالى في أنفسهن، والتعليق يقتضي ظاهره أنهن لسن متحليات بالتقوى، وفيه أن اتقى بمعنى استقبل وإن كان صحيحا لغة، وقد ورد في القرآن كثيرا كقوله تعالى: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ [الزمر: 24] إلا أنه لا يتأتى هاهنا لأنه لا يستعمل في ذلك المعنى إلا مع المتعلق الذي تحصل به الوقاية، كقوله سبحانه: بِوَجْهِهِ وقول النابغة باليد وما استدل به أمره سهل، وظاهر عبارة الكشاف اختيار كون إِنِ اتَّقَيْتُنَّ شرطا جوابه فلا تخضعن، وفسر إِنِ اتَّقَيْتُنَّ بإن أردتن التقوى وإن كنتن متقيات مشيرا بذلك إلى أنه لا بدّ من الجزء: 11 ¦ الصفحة: 186 تجوز في الكلام لأن الواقع أن المخاطبات متقيات فإما أن يكون المقصود الأولى المبالغة في النهي فيفسر بأن أردتن التقوى، وإما أن يكون المقصود التهييج والإلهاب، فيفسر بأن كنتن متقيات فليس في ذلك جمع بين الحقيقة والمجاز كما توهم، وقد قرر ذلك في الكشف، ومعنى لا تخضعن بالقول لا تجبن بقولكن خاضعا أي لينا خنثا على سنن كلام المريبات والمومسات، وحاصله لا تلنّ الكلام ولا ترققنه، وهذا على ما قيل في غير مخاطبة الزوج ونحوه كخاطبة الأجانب وإن كن محرمات عليهم على التأبيد. روي عن بعض أمهات المؤمنين أنها كانت تضع يدها على فمها إذا كلمت أجنبيا تغير صوتها بذلك خوفا من أن يسمع رخيما لينا، وعد إغلاظ القول لغير الزوج من جملة محاسن خصال النساء جاهلية وإسلاما، كما عد منها بخلهن بالمال وجبنهن، وما وقع في الشعر من مدح العشيقة برخامة الصوت وحسن الحديث ولين الكلام فمن باب السفه كما لا يخفى. وعن الحسن أن المعنى لا تكلمن بالرفث، وهو كما ترى فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ أي فجور وزنا، وبذلك فسره ابن عباس وأنشد قول الأعشى: حافظ للفرج راض بالتقى ... ليس ممن قلبه فيه مرض والمراد نية أو شهوة فجور وزنا، وعن قتادة تفسيره بالنفاق، وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما، أنه قال: المرض مرضان فمرض زنا ومرض نفاق، ونصب (يطمع) في جواب النهي وقرأ أبان ابن عثمان وابن هرمز «فيطمع» بالجزم وكسر العين لالتقاء الساكنين وهو عطف على محل فعل النهي على أنه نهي لمريض القلب عن الطمع عقيب نهيهن عن الخضوع بالقول كأنه قيل: فلا تخضعن بالقول فلا يطمع الذي في قلبه مرض، وقال أبو عمرو الداني: قرأ الأعرج وعيسى «فيطمع» بفتح الياء وكسر الميم، ونقلها ابن خالويه عن أبي السمال قال: وقد روي ذلك عن ابن محيصن، وذكر أن الأعرج وهو ابن هرمز قرأ «فيطمع» بضم الياء وفتح العين وكسر الميم أي فيطمع هو أي الخضوع بالقول. والَّذِي مفعول أو الذي فاعل والمفعول محذوف أي فيطمع الذي في قلبه مرض نفسه وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً حسنا بعيدا عن الريبة غير مطمع لأحد، وقال الكلبي: أي صحيحا بلا هجر ولا تمريض، وقال الضحّاك: عنيفا، وقيل أي قولا أذن لكم فيه، وقيل: ذكر الله تعالى وما يحتاج إليه من الكلام وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ من قر يقر من باب علم أصله اقررن فحذفت الراء الأولى وألقيت فتحتها على ما قبلها وحذفت الهمزة للإستغناء عنها بتحرك القاف. وذكر أبو الفتح الهمداني في كتاب التبيان وجها آخر قال: قار يقار إذا اجتمع ومنه القارة لاجتماعها، ألا ترى إلى قول عضل والديش: اجتمعوا فكونوا قارة فالمعنى واجمعن أنفسكن في البيوت. وقرأ الأكثر وَقَرْنَ بكسر القاف من وقر يقر وقارا إذا سكن وثبت، وأصله أو قرن ففعل به ما فعل بعدن من وعد أو من قر يقر المضاعف من باب ضرب وأصله اقررن حذفت الراء الأولى وألقيت كسرتها إلى القاف وحذفت الهمزة للاستغناء عنها. وقال مكي وأبو علي: أبدلت الراء التي هي عين الفعل ياء كراهة التضعيف ثم نقلت حركتها إلى القاف ثم حذفت لسكونها وسكون الراء بعدها وسقطت الهمزة لتحرك القاف وهذا غاية في التمحل، وفي البحر ان قررت وقررت بالفتح والكسر كلاهما من القرار في المكان بمعنى الثبوت فيه وقد حكى ذلك أبو عبيدة والزجاج وغيرهما، وأنكر قوم منهم المازني مجيء قررت في المكان بالكسر أقر بالفتح وإنما جاء قرت عينه تقر بالكسر في الماضي والفتح في المضارع والمثبت مقدم على النافي. وقرأ ابن أبي عبلة «واقررن» بألف الوصل وكسر الراء الأولى والمراد على جميع القراءات أمرهن رضي الله تعالى عنهن بملازمة البيوت وهو أمر مطلوب من سائر النساء. أخرج الترمذي والبزار عن ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 187 المرأة عورة فإذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان وأقرب ما تكون من رحمة ربها وهي في قعر بيتها» وأخرج البزار عن أنس قال جئن النساء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقلن: يا رسول الله ذهب الرجال بالفضل والجهاد في سبيل الله تعالى فهل لنا عمل ندرك به فضل المجاهدين في سبيل الله تعالى فقال عليه الصلاة والسلام: «من قعدت منكن في بيتها فإنها تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله تعالى» وقد يحرم عليهن الخروج بل قد يكون كبيرة كخروجهن لزيارة القبور إذا عظمت مفسدته وخروجهن ولو إلى المسجد وقد استعطرن وتزين إذا تحققت الفتنة أما إذا ظنت فهو حرام غير كبيرة، وما يجوز من الخروج كالخروج للحج وزيارة الوالدين وعيادة المرضى، وتعزية الأموات من الأقارب ونحو ذلك، فإنما يجوز بشروط مذكورة في محلها. وظاهر إضافة البيوت إلى ضمير النساء المطهرات إنها كانت ملكهن وقد صرح بذلك الحافظ غلام محمد الأسلمي نور الله تعالى ضريحه في التحفة الاثني عشرية، وذكر فيها أنه عليه الصلاة والسلام بنى كل حجرة لمن سكن فيها من الأزواج وكانت كل واحدة منهن تتصرف بالحجرة الساكنة هي فيها تصرف المالك في ملكه بحضوره صلّى الله عليه وسلم، وقد ذكر الفقهاء أن من بنى بيتا لزوجته وأقبضه إياها كان كمن وهب زوجته بيتا وسلمه إليها، فيكون البيت ملكا لها ويشهد لدعوى أن الحجرة التي كانت تسكنها عائشة رضي الله تعالى عنها كانت ملكا لها غير الإضافة في بُيُوتِكُنَّ الداخل فيه حجرتها استئذان عمر رضي الله تعالى عنه لدفنه فيها منها بمحضر من الصحابة، وعدم إنكار أحد منهم حتى علي كرّم الله تعالى وجهه، واستئذان الحسن رضي الله تعالى عنه منها لذلك أيضا الثابت عند أهل السنّة والشيعة، كما ذكر في الفصول المهمة في معرفة الأئمة وغيره من كتبهم فإن تلك الحجرة لو كانت لبيت المال لحديث «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» لاستأذن رضي الله تعالى عنه من الوزغ مروان فإنه إذ ذاك كان حاكم المدينة المنوّرة والمتصرف في بيت المال، ولو كانت للورثة بناء على زعم الشيعة من أنه صلّى الله عليه وسلم يورث كغيره لزم الاستئذان من سائر الأزواج أيضا لتعلق حقهن فيها على زعمهم بل يلزم الاستئذان أيضا من عصبته عليه الصلاة والسلام المستحقين لما يبقى بعد النصف والثمن إذا قلنا بتوريثهم فحيث لم يستأذن رضي الله تعالى عنه إلا منها علم أنها ملكها وحدها. والقول بأنه علم رضا الجميع سواها رضي الله تعالى عنها فاستأذنها لذلك لا يقوم لهم حجة، ولهم في هذا الباب أكاذيب لا يعول عليها ولا يلتفت أريب إليها، منها أن عائشة رضي الله تعالى عنها أذنت للحسن رضي الله تعالى عنه حين استأذنها في الدفن في الحجرة المباركة، ثم ندمت بعد وفاته رضي الله تعالى عنه وركبت على بغلة لها وأتت المسجد ومنعت الدفن ورمت السهام على جنازته الشريفة الطاهرة وادعت الميراث. وأنشأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقول: تجملت تبلغت وإن عشت تفيلت ... لك التسع من الثمن فكيف الكل ملكت وركاكة هذا الشعر تنادي بكذب نسبته إلى ذلك الحبر رضي الله تعالى عنه، وليت شعري أي حاجة لها إلى الركوب ومسكنها كان تلك الحجرة المباركة فلو كانت بصدد المنع لأغلقت بابها ثم إنها رضي الله تعالى عنها كيف يظن بها ولها من العقل الحظ الأوفر بالنسبة إلى سائر أخواتها أمهات المؤمنين تدعي الميراث وهي وأبوها رضي الله تعالى عنهما رويا بمحضر الصحابة الذين لا تأخذهم في الله تعالى لومة لائم «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» هذا، ويجوز أن تكون إضافة البيوت إلى ضمير النساء المطهرات باعتبار أنهن ساكنات فيها قائمات بمصالحها قيمات عليها، واستعمال الخاصة والعامة شائع بإضافة البيوت إلى الأزواج بهذا الاعتبار. والاستئذان يجوز أن يكون لانتقال كل بيت إلى ملك الساكنة فيه بعد وفاته صلّى الله عليه وسلم من جهة الخليفة ولي بيت المال لما رأى من المصلحة في تخصيص كل منهن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 188 بمسكنه وتركه لها على نحو الإقطاع من بيت المال، ومما يستأنس به لكون الإضافة إلى ضميرهن بهذا الاعتبار لا لكون البيوت ملكهن إضافة البيت إلى النبي صلّى الله عليه وسلم في غير ما أثر، بل سيأتي إن شاء الله تعالى إضافة البيوت إليه عليه الصلاة والسلام وذلك في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ [الأحزاب: 53] الآية وهي أحق بأن تكون للملك فليراجع هذا المطلب وليتأمل وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى التبرج على ما روي عن مجاهد وقتادة وابن أبي نجيح المشي بتبختر وتكسر وتغنج، وعن مقاتل أن تلقي المرأة خمارها على رأسها ولا تشده فيواري قلائدها وقرطها وعنقها ويبدو ذلك كله منها، وقال المبرد: أن تبدي من محاسنها ما يجب عليها ستره، قال الليث: ويقال تبرجت المرأة إذا أبدت محاسنها من وجهها وجسدها ويرى مع ذلك من عينها حسن نظر، وقال أبو عبيدة: أن تخرج من محاسنها ما تستدعي به شهوة للرجال، وأصله على ما في البحر من البرج وهو سعة العين وحسنها، ويقال طعنة برجاء أي واسعة وفي أسنانه برج إذا تفرق ما بينها وقيل: هو البرج بمعنى القصر، ومعنى تبرجت المرأة ظهرت من برجها أي قصرها، وجعل الراغب إطلاق البرج على سعة العين وحسنها للتشبيه بالبرج في الأمرين، ولا يخفى أنه لو فسر التبرج هنا بالظهور من البرج تكون هذه الجملة كالتأكيد لما قبلها فالأولى أن لا يفسر به، وتبرج مصدر تشبيهي مثل له صوت صوت حمار أي لا تبرجن مثل تبرج الجاهلية الأولى، وقيل في الكلام إضمار مضافين أي تبرج نساء أيام الجاهلية، وإضافة نساء على معنى في والمراد بالجاهلية الأولى على ما أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس الجاهلية ما بين نوح وإدريس عليهما السّلام وكانت ألف سنة، قال: وإن بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبال، وكان رجال الجبال صباحا وفي النساء دمامة، وكان نساء السهل ورجاله على العكس فاتخذ أهل السهل عيدا يجتمعون إليه في السنة، فتبرج النساء للرجال والرجال لهن، وأن رجلا من أهل الجبل هجم عليهم في عيدهم فرأى النساء وصباحتهن فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك فتحولوا إليهن فنزلوا معهن فظهرت الفاحشة فيهن، وفي رواية أن المرأة إذ ذاك تجتمع بين زوج وعشيق. وأخرج ابن جرير عن الحكم بن عيينة قال: كان بين آدم ونوح عليهما السّلام ثمانمائة سنة فكان نساؤهم من أقبح ما يكون من النساء ورجالهم حسان وكانت المرأة تراود الرجل عن نفسه وهي الجاهلية الأولى. وروي مثله عن عكرمة، وقال الكلبي هي ما بين نوح وإبراهيم عليهما السّلام، وقال مقاتل: كانت زمن نمروذ وكان فيه بغايا يلبسن أرق الدروع ويمشين في الطرق، وروي عنه أيضا أن الجاهلية الأولى زمن إبراهيم عليه السّلام والثانية زمن محمد صلّى الله عليه وسلم قبل أن يبعث، وقال أبو العالية: كانت الأولى زمن داود وسليمان عليهما السلام وكان للمرأة قميص من الدر غير مخيط الجانبين يظهر منه الأعكان والسوأتان. وقال المبرد: كانت المرأة تجمع بين زوجها وخدنها للزوج نصفها الأسفل وللخدن نصفها الأعلى يتمتع به في التقبيل والترشف، وقيل: ما بين موسى وعيسى عليهما السّلام، وقال الشعبي: ما بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام قال الزجاج: وهو الأشبه لأنهم هم الجاهلية المعروفة كانوا يتخذون البغايا، وإنما قيل الْأُولى لأنه يقال لكل متقدم ومتقدمة أول وأولى، وتأويله أنهم تقدموا على أمة محمد صلّى الله عليه وسلم وروي عن ابن عباس ما هو نص في أن الأولى هنا مقابل الأخرى، وقال الزمخشري: يجوز أن تكون الجاهلية الأولى جاهلية الكفر قبل الإسلام والجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق والفجور في الإسلام فكأن المعنى ولا تحدثن بالتبرج جاهلية في الإسلام تتشبهن بها بأهل جاهلية الكفر. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 189 وقال ابن عطية: الذي يظهر عندي أن الجاهلية الأولى إشارة إلى الجاهلية التي تخصهن فأمرن بالنقلة عن سيرتهن فيها وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفر وقلة الغيرة ونحو ذلك. وفي حديث أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي أنه صلّى الله عليه وسلم قال لأبي ذر وكان قد عير رجلا أمه أعجمية فشكاه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية ، وفسرها ابن الأثير بالحالة التي عليها العرب قبل الإسلام من الجهل بالله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام وشرائع الدين والمفاخرة بالأنساب والكبر والتجبر وغير ذلك والله تعالى أعلم، وتمسك الرافضة في طعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها وحاشاها من كل طعن بخروجها من المدينة إلى مكة ومنها إلى البصرة وهناك وقعت وقعة الجمل بهذه الآية قالوا: إن الله تعالى أمر نساء النبي صلّى الله عليه وسلم وهي منهن بالسكون في البيوت ونهاهن عن الخروج وهي بذلك قد خالفت أمر الله تعالى ونهيه عزّ وجلّ. وأجيب بأن الأمر بالاستقرار في البيوت والنهي عن الخروج ليس مطلقا وإلا لما أخرجهن صلّى الله عليه وسلم بعد نزول الآية للحج والعمرة ولما ذهب بهن في الغزوات ولما رخص لهن لزيارة الوالدين وعيادة المرضى وتعزية الأقارب وقد وقع كل ذلك كما تشهد به الأخبار، وقد صح أنهن كلهن كن يحججن بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلا سودة بنت زمعة، وفي رواية عن أحمد عن أبي هريرة إلا زينب بنت جحش. وسودة ولم ينكر عليهن أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم الأمير كرّم الله تعالى وجهه وغيره، وقد جاء في الحديث الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال لهن بعد نزول الآية: «أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن» فعلم أن المراد الأمر بالاستقرار الذي يحصل به وقارهن وامتيازهن على سائر النساء بأن يلازمن البيوت في أغلب أوقاتهن ولا يكن خراجات ولاجات طوافات في الطرق والأسواق وبيوت الناس، وهذا لا ينافي خروجهن للحج أو لما فيه مصلحة دينية مع التستر وعدم الابتذال، وعائشة رضي الله تعالى عنها، إنما خرجت من بيتها إلى مكة للحج وخرجت معها لذلك أيضا أم سلمة رضي الله تعالى عنها وهي وكذا صفية مقبولة عند الشيعة لكنها لما سمعت بقتل عثمان رضي الله تعالى عنه وانحياز قتلته إلى علي كرّم الله تعالى وجهه حزنت حزنا شديدا واستشعرت اختلال أمر المسلمين وحصول الفساد والفتنة فيما بينهم، وبينما هي كذلك جاءها طلحة والزبير ونعمان بن بشير وكعب بن عجرة في آخرين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم هاربين من المدينة خائفين من قتلة عثمان رضي الله تعالى عنهم لما أنهم أظهروا المباهاة بفعلهم القبيح، وأعلنوا بسب عثمان فضاقت قلوب أولئك الكرام وجعلوا يستقبحون ما وقع ويشنعون على أولئك السفلة ويلومونهم على ذلك الفعل الأشنع فصح عندهم عزمهم على إلحاقهم بعثمان رضي الله تعالى عنه وعلموا أن لا قدرة لهم على منعهم إذا هموا بذلك فخرجوا إلى مكة ولاذوا بأم المؤمنين وأخبروها الخبر فقالت لهم: أرى الصلاح أن لا ترجعوا إلى المدينة ما دام أولئك السفلة فيها محيطين بمجلس الأمير علي كرّم الله تعالى وجهه غير قادر على القصاص منهم أو طردهم فأقيموا ببلد تأمنون فيه وانتظروا انتظام أمور أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه وقوة شوكته واسعوا في تفرقهم عنه وإعانته على الانتقام منهم ليكونوا عبرة لمن بعدهم فارتضوا ذلك واستحسنوه فاختاروا البصرة لما أنها كانت إذ ذاك مجمعا لجنود المسلمين ورجحوها على غيرها وألحوا على أمهم رضي الله تعالى عنها أن تكون معهم إلى أن ترتفع الفتنة ويحصل الأمن وتنتظم أمور الخلافة وأرادوا بذلك زيادة احترامهم وقوة أمنيتهم لما أنها أم المؤمنين والزوج المحترمة غاية الاحترام لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وأنها كانت أحب أزواجه إليه وأكثرهن قبولا عنده وبنت خليفته الأول رضي الله تعالى عنه فسارت معهم بقصد الإصلاح وانتظام الأمور وحفظ عدة نفوس من كبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم وكان معها ابن أختها عبد الله بن الزبير وغيره من أبناء أخواتها أم كلثوم زوج طلحة وأسماء زوج الزبير بل كل من معها بمنزلة الأبناء في المحرمية وكانت في هودج من حديد. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 190 فبلغ الأمير كرّم الله تعالى وجهه خبر التوجه إلى البصرة أولئك القتلة السفلة على غير وجهه وحملوه على أن يخرج إليهم ويعاقبهم، وأشار عليه الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهم بعدم الخروج واللبث إلى أن يتضح الحال فأبى رضي الله تعالى عنه ليقضي الله أمرا كان مفعولا فخرج كرّم الله تعالى وجهه ومعه أولئك الأشرار أهل الفتنة فلما وصلوا قريبا من البصرة أرسلوا القعقاع إلى أم المؤمنين، وطلحة والزبير ليتعرف مقاصدهم ويعرضها على الأمير رضي الله تعالى عنه وكرّم الله وجهه فجاء القعقاع إلى أم المؤمنين فقال: يا أماه ما أشخصك وأقدمك هذه البلدة؟ فقالت: أي بني الإصلاح بين الناس ثم بعثت إلى طلحة والزبير فقال القعقاع: أخبراني بوجه الصلاح قالا: إقامة الحد على قتلة عثمان وتطييب قلوب أوليائه فيكون ذلك سببا لأمننا وعبرة لمن بعدهم فقال القعقاع: هذا لا يكون إلا بعد اتفاق كلمة المسلمين وسكون الفتنة فعليكما بالمسالمة في هذه الساعة فقالا: أصبت وأحسنت فرجع إلى الأمير كرّم الله تعالى وجهه فأخبره بذلك فسر به واستبشر وأشرف القوم على الرجوع ولبثوا ثلاثة أيام لا يشكون في الصلح فلما غشيتهم ليلة اليوم الرابع وقررت الرسل والوسائط في البين أن يظهروا المصالحة صبيحة هذه الليلة ويلاقي الأمير كرّم الله تعالى وجهه طلحة والزبير رضي الله تعالى عنهما وأولئك القتلة ليسوا حاضرين معه وتحققوا ذلك ثقل عليهم واضطربوا وضاقت عليهم الأرض بما رحبت فتشاوروا فيما بينهم أن يغيروا على من كان مع عائشة من المسلمين ليظنوا الغدر من الأمير كرّم الله تعالى وجهه فيهجموا على عسكره فيظنوا بهم أنهم هم الذين غدروا فينشب القتال ففعلوا ذلك فهجم من كان مع عائشة على عسكر الأمير وصرخ أولئك القتلة بالغدر فالتحم القتال وركب الأمير متعجبا فرأى الوطيس قد حمي والرجال قد سبحت بالدماء فلم يسعه رضي لله تعالى عنه إلا الاشتغال بالحرب والطعن والضرب، وقد نقل الواقعة كما سمعت الطبري وجماهير ثقاة المؤرخين ورووها كذلك من طرق متعددة عن الحسن وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن عباس، وما وراء ذلك مما رواه الشيعة عن أسلافهم قتلة عثمان مما لا يلتفت له، ويدل على تغلب القتلة وقوة شوكتهم ما في نهج البلاغة المقبول عند الشيعة من أنه قال للأمير كرّم الله تعالى وجهه بعض أصحابه: لو عاقبت قوما أجلبوا على عثمان فقال: يا إخوتاه إني لست أجهل ما تعلمون ولكن كيف لي بهم والمجلبون على شوكتهم يملكوننا ولا نملكهم وها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم والتفت إليهم أعرابكم وهم خلالكم يسومونكم ما شاؤوا. فحيث كان الخروج أولا للحج ومعها من محارمها من معها ولم يكن الأمر بالاستقرار في البيوت يتضمن النهي عن مثله لم يتوجه الطعن به أصلا، وكذا المسير إلى البصرة لذلك القصد فإنه ليس أدون من سفر حج النفل وما ترتب عليه لم يكن في حسابها ولم يمر ببالها ترتبه عليه، ولهذا لما وقع ما وقع وترتب ما ترتب ندمت غاية الندم، فقد روي أنها كلما كانت تذكر يوم الجمل تبكي حتى يبتل معجرها، بل أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن المنذر وابن أبي شيبة وابن سعد عن مسروق قال: كانت عائشة رضي الله تعالى عنها إذا قرأت وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ بكت حتى تبل خمارها وما ذاك إلا لأن قراءتها تذكرها الواقعة التي قتل فيها كثير من المسلمين، وهذا كما أن الأمير كرّم الله تعالى وجهه أحزنه ذلك، فقد صح أنه رضي الله تعالى عنه لما وقع الانهزام على من مع أم المؤمنين وقتل من قتل من الجمعين طاف في مقتل القتلى فكان يضرب على فخذيه ويقول: يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا، وليس بكاؤها عند قراءة الآية لعلمها بأنها أخطأت في فهم معناها أو أنها نسيتها يوم خرجت كما توهم، وقال في ذلك مستهزئا كاظم الأزدي البغدادي من متأخري شعراء الرافضة من قصيدة طويلة كفر بعدة مواضع فيها: حفظت أربعين ألف حديث ومن الذكر آية تنساها الجزء: 11 ¦ الصفحة: 191 نعم قد ينضم لما ذكرناه في سبب البكاء أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال يوما لأزواجه المطهرات وفيهن عائشة «كأني بإحداكن تنبحها كلاب الحوأب» وفي بعض الروايات الغير المعتبرة عند أهل السنّة بزيادة «فإياك أن تكوني يا حميراء» ولم تكن سألت قبل المسير عن الحوأب هل هو واقع في طريقها أم لا حتى نبحتها في أثناء المسير كلاب عند ماء فقالت لمحمد بن طلحة: ما اسم هذا الماء؟ فقال: يقولون له حوأب فقالت أرجعوني وذكرت الحديث وامتنعت عن المسير وقصدت الرجوع فلم يوافقها أكثر من معها ووقع التشاجر حتى شهد مروان بن الحكم مع نحو من ثمانين رجلا من دهاقين تلك الناحية بأن هذا الماء ماء آخر وليس هو حوأبا فمضت لشأنها بسبب ذلك وتعذر الرجوع ووقوع الأمر، فكأنها رضي الله تعالى عنها رأت سكوتها عن السؤال وتحقيق الحال قبل المسير تقصيرا منها وذنبا بالنسبة إلى مقامها فبكت له. ولما تقدم وما زعمته الشيعة من أنها رضي الله تعالى عنها كانت هي التي تحرض الناس على قتل عثمان وتقول: اقتلوا نعثلا فقد فجره تشبهه بيهودي يدعى نعثلا حتى إذا قتل وبايع الناس عليا قالت: ما أبالي أن تقع السماء على الأرض قتل والله مظلوما وأنا طالبة بدمه فذكرها عبيد بما كانت تقول فقالت: قد والله قلت وقال الناس فأنشد: فمنك البداء ومنك الغير ... ومنك الرياح ومنك المطر وأنت أمرت بقتل الإمام ... وقلت لنا إنه قد فجر كذب لا أصل له وهو من مفتريات ابن قتيبة وابن أعثم الكوفي والسمساطي وكانوا مشهورين بالكذب والافتراء، ومثل ذلك في الكذب زعمهم أنها رضي الله تعالى عنها ما خرجت وسارت إلى البصرة إلا لبغض علي كرّم الله تعالى وجهه فإنها لم تزل تروي مناقبه وفضائله، ومن ذلك ما رواه الديلمي أنها قالت: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم حبّ عليّ عبادة» وقالت بعد وقوع ما وقع: والله لم يكن بيني وبين علي إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها. وقد أكرمها علي كرّم الله تعالى وجهه وأحسن مثواها وبالغ في احترامها وردها إلى المدينة ومعها جماعة من نساء أعيان البصرة عزيزة كريمة، وهذا مما يرد به على الرافضة الزاعمين كفرها وحاشاها بما فعلت، وما روي عن الأحنف بن قيس من أن عليّا كرّم الله تعالى وجهه لما ظهر على أهل الجمل أرسل إلى عائشة أن ارجعي إلى المدينة فأبت فأعاد إليها الرسول وأمره أن يقول لها: والله لترجعن أو لأبعثن إليك نسوة من بكر بن وائل معهن شفار حداد يأخذنك بها فلما رأت ذلك خرجت لا يعول عليه وإن قيل: إنه رواه أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف لمخالفته لما رواه الأوثق حتى كاد يبلغ مبلغ التواتر، هذا ولا يعكر على القول بجواز الخروج للحج ونحوه ما أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر عن محمد بن سيرين قال: ثبت أنه قيل لسودة رضي الله تعالى عنها زوج النبي صلّى الله عليه وسلم: ما لك لا تحجين ولا تعتمرين كما يفعل أخواتك؟ فقالت: قد حججت واعتمرت وأمرني الله تعالى أن أقر في بيتي فو الله لا أخرج من بيتي حتى أموت قال: فو الله ما خرجت من باب حجرتها حتى أخرجت جنازتها لأن ذلك مبني على اجتهادها كما أن خروج الأخوات مبني على اجتهادهن، نعم أخرج أحمد عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لنسائه عام حجة الوداع: «هذه ثم لزوم الحصر» قال: فكان كلهن يحججن إلا زينب بنت جحش وسودة بنت زمعة وكانتا تقولان: والله لا تحركنا دابة بعد أن سمعنا ذلك من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، والمراد بقوله عليه الصلاة والسلام: هذه إلخ أنكن لا تعدن تخرجن بعد هذه الحجة من بيوتكن وتلزمن الحصر وهو جمع حصير الذي يبسط في البيوت من القصب وتضم الصاد وتسكن تخفيفا وهو في معنى النهي عن الخروج للحج فلا يتم ما ذكر أولا ويشكل خروج سائر الأزواج لذلك. وأجيب بأن الخبر ليس نصا في النهي عن الخروج للحج بعد تلك الحجة وإلا لما خرج له سائر الأزواج الطاهرات من غير نكير الجزء: 11 ¦ الصفحة: 192 أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم عليهن بل جاء أن عمر رضي الله تعالى عنه أرسلهن للحج في عهده وجعل معهن عثمان وعبد الرحمن بن عوف وقال لهما: إنكما ولدان باران لهن فليكن أحدكما قدام مراكبهن والآخر خلفها ولم ينكر أحد فكان إجماعا سكوتيا على الجواز فكأن زينب وسودة فهما من الخبر قضيت هذه الحجة أو أبيحت لكن هذه الحجة بخصوصهما ثم الواجب بعدها عليكن لزوم البيوت فلم يحجا بعد لذلك، وغيرهما فهم منه المناسب لكن أو اللائق بكن هذه الحجة أي جنسها أو هذه الحالة من السفر للحج أو لأمر ديني مهم ثم بعد الفراغ المناسب أو اللائق لزوم البيوت فيكون مفاده إباحة الخروج لذلك، ومن أنصف لا يكاد يقول بإفادة الخبر الأمر بلزوم البيوت والنهي عن الخروج منها مطلقا بعد تلك الحجة بخصوصها فإن النبي صلّى الله عليه وسلم مرض في بيت عائشة رضي الله تعالى عنها وبقي مريضا فيه حتى توفي عليه الصلاة والسلام ولا يكاد يشك أحد في خروج سائرهن لعيادته أو يتصور استقرارهن في بيوتهن غير بالين شوقهن برؤية طلعته الشريفة حتى توفي صلّى الله عليه وسلم فإن مثل ذلك لا يفعله أقل النساء حبا لأزواجهن الذين لا قدر لهم فكيف يفعله الأزواج الطاهرات مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو هو وحبهن له حبهن. ثم إن الجواب المذكور إنما يحتاج إليه بعد تسليم صحة الخبر ويحتاج الجزم بصحته إلى تنقير ومراجعة فلينقر وليراجع والله تعالى أعلم. وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ أمرن بهما لإنافتهما على غيرهما وكونهما أساس العبادات البدنية والمالية. وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي في كل ما تأتين وتذرن لا سيما فيما أمرتن به ونهيتن عنه. إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً استئناف بياني مفيد تعليل أمرهن ونهيهن، والرجس في الأصل الشيء القذر وأريد به هنا عند كثير الذنب مجازا، وقال السدي: الإثم وقال الزجاج: الفسق وقال ابن زيد: الشيطان، وقال الحسن: الشرك، وقيل: الشك، وقيل: البخل والطمع، وقيل: الأهواء والبدع، وقيل: إن الرجس يقع على الإثم وعلى العذاب وعلى النجاسة وعلى النقائص، والمراد به هنا ما يعم كل ذلك، ولا يخفى عليك ما في بعض هذه الأقوال من الضعف، وأل فيه للجنس أو للاستغراق، والمراد بالتطهير قيل التحلية بالتقوى، والمعنى على ما قيل إنما يريد الله ليذهب عنكم الذنوب والمعاصي فيما نهاكم ويحليكم بالتقوى تحلية بليغة فيما أمركم، وجوز أن يراد به الصون، والمعنى إنما يريد سبحانه ليذهب عنكم الرجس ويصونكم من المعاصي صونا بليغا فيما أمر ونهى جل شأنه. واختلف في لام لِيُذْهِبَ فقيل زائدة وما بعدها في موضع المفعول به ليريد فكأنه قيل: يريد الله إذهاب الرجس عنكم وتطهيركم، وقيل: للتعليل ثم اختلف هؤلاء فقيل المفعول محذوف أي إنما يريد الله أمركم ونهيكم ليذهب أو إنما يريد منكم ما يريد ليذهب أو نحو ذلك، وقال الخليل وسيبويه ومن تابعهما: الفعل في ذلك مقدر بمصدر مرفوع بالابتداء واللام وما بعدها خبر أي إنما إرادة الله تعالى للإذهاب على حد ما قيل في- تسمع بالمعيدي خير من أن تراه- فلا مفعول للفعل، وقال الطبرسي: اللام متعلق بمحذوف تقديره وإرادته ليذهب وهو كما ترى، وهذا الذي ذكروه جار في قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [النساء: 26] أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [الأنعام: 71] وقول الشاعر: أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل مكان ونصب أَهْلَ على النداء، وجوز أن يكون على المدح فيقدر أمدح أو أعني، وأن يكون على الاختصاص وهو قليل في المخاطب ومنه بك الله نرجو الفضل، وأكثر ما يكون في المتكلم كقوله: نحن بنات طارق نمشي على النمارق. وأل في البيت للعهد، وقيل: عوض عن المضاف إليه أي بيت النبي صلّى الله عليه وسلم والظاهر أن المراد به بيت الطين الجزء: 11 ¦ الصفحة: 193 والخشب لا بيت القرابة والنسب وهو بيت السكنى لا المسجد النبوي كما قيل، وحينئذ فالمراد بأهله نساؤه صلّى الله عليه وسلم المطهرات للقرائن الدالة على ذلك من الآيات السابقة واللاحقة مع أنه عليه الصلاة والسلام ليس له بيت يسكنه سوى سكناهن، وروى ذلك غير واحد، أخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر من طريق عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نزلت إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ إلخ في نساء النبي صلّى الله عليه وسلم خاصة، وأخرج ابن مردويه من طريق ابن جبير عنه ذلك بدون لفظ خاصة، وقال عكرمة من شاء بأهلته أنها نزلت في أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم، وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن عكرمة أنه قال في الآية: ليس بالذي تذهبون إليه إنما هو نساء النبي صلّى الله عليه وسلم. وروى ابن جرير أيضا أن عكرمة كان ينادي في السوق أن قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ نزل في نساء النبي صلّى الله عليه وسلم، وأخرج ابن سعد عن عروة لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ قال: يعني أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم وتوحيد البيت لأن بيوت الأزواج المطهرات باعتبار الإضافة إلى النبي صلّى الله عليه وسلم بيت واحد وجمعه فيما سبق ولحق باعتبار الإضافة إلى الأزواج المطهرات اللاتي كن متعددات وجمعه في قوله سبحانه الآتي إن شاء الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ [الأحزاب: 53] دفعا لتوهم إرادة بيت زينب لو أفرد من حيث أن سبب النزول أمر وقع فيه كما ستطلع عليه إن شاء الله تعالى، وأورد ضمير جمع المذكر في عَنْكُمُ ويُطَهِّرَكُمْ رعاية للفظ الأهل والعرب كثيرا ما يستعملون صيغ المذكر في مثل ذلك رعاية للفظ وهذا كقوله تعالى خطابا لسارة: امرأة الخليل عليهما السّلام أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود: 73] ومنه على ما قيل قوله سبحانه: قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً خطابا من موسى عليه السّلام لامرأته ولعل اعتبار التذكير هنا أدخل في التعظيم، وقيل: المراد هو صلّى الله عليه وسلم ونساؤه المطهرات رضي الله تعالى عنهن وضمير جمع المذكر لتغليبه عليه الصلاة والسلام عليهن. وقيل: المراد بالبيت بيت النسب ولذا أفرد ولم يجمع كما في السابق واللاحق. فقد أخرج الحكيم الترمذي والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي معا في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى قسم الخلق قسمين فجعلني في خيرهما قسما فذلك قوله تعالى: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ [الواقعة: 27] . وَأَصْحابُ الشِّمالِ [الواقعة: 41] فأنا من أصحاب اليمين وأنا خير أصحاب اليمين ثم جعل القسمين أثلاثا فجعلني في خيرها ثلثا فذلك قوله تعالى (1) : وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ [الواقعة: 9، 10] فأنا من السابقين وأنا خير السابقين ثم جعل إلا ثلاث قبائل فجعلني في خيرها قبيلة وذلك قوله تعالى: وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: 13] وأنا أتقى ولد آدم وأكرمهم على الله تعالى ولا فخر ثم جعل القبائل بيوتا فجعلني في خيرها بيتا فذلك قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً أنا وأهل بيتي مطهرون من الذنوب» فإن المتبادر من البيت الذي هو قسم من القبيلة البيت النسبي، واختلف في المراد بأهله فذهب الثعلبي إلى أن المراد بهم جميع بني هاشم ذكورهم وإناثهم، والظاهر أنه أراد مؤمني بني هاشم وهذا هو المراد بالآل عند الحنفية، وقال بعض الشافعية: المراد بهم آله صلّى الله عليه وسلم الذين هم مؤمنو بني هاشم والمطلب، وذكر الراغب أن أهل البيت تعورف في أسرة النبي صلّى الله عليه وسلم مطلقا وأسرة الرجل على ما في القاموس رهطه أي قومه وقبيلته الأدنون، وقال في موضع آخر: صار أهل البيت   (1) قوله: وأصحاب المشأمة إلخ كذا بخطه وفيه حذف صدر الآية وهو الثلث الأول اهـ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 194 متعارفا في إله عليه الصلاة والسلام، وصح عز زيد بن أرقم في حديث أخرجه مسلم أنه قيل له: من أهل بيته نساؤه صلّى الله عليه وسلم؟ فقال: لا ايم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده صلّى الله عليه وسلم ، وفي آخر أخرجه هو أيضا مبين هؤلاء الذين حرموا الصدقة أنه قال: هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس ، وقال بعض الشيعة: أهل البيت سواء أريد به البيت المدر والخشب أم بيت القرابة والنسب عام، أما عمومه على الثاني فظاهر، وأما على الأول فلأنه يشمل الإماء والخدم فإن البيت المدري يسكنه هؤلاء أيضا وقد صح ما يدل على أن العموم غير مراد. أخرج الترمذي والحاكم وصححاه وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في سننه من طرق عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت في بيتي نزلت إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت وفي البيت فاطمة وعلي والحسن والحسين فجللهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بكساء كان عليه ثم قال: هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. وجاء في بعض الروايات أنه عليه الصلاة والسلام أخرج يده من الكساء وأومأ بها إلى السماء وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ثلاث مرات. وفي بعض آخر أنه عليه الصلاة والسلام ألقى عليهم كساء فدكيا ثم وضع يده عليهم ثم قال: اللهم إن هؤلاء أهل بيتي وفي لفظ آل محمد فاجعل صلواتك وبركاتك على آل محمد كما جعلتها على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. وجاء في رواية أخرجها الطبراني عن أم سلمة أنها قالت: فرفعت الكساء لأدخل معهم فجذبه صلّى الله عليه وسلم من يدي وقال: إنك على خير ، وفي أخرى رواها ابن مردويه عنها أنها قالت ألست من أهل البيت؟ فقال صلّى الله عليه وسلم إنك إلى خير إنك من أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم وفي آخرها رواها الترمذي وجماعة عن عمر بن أبي سلمة ربيب النبي عليه الصلاة والسلام قال: قالت أم سلمة وأنا معهم: يا نبي الله قال: أنت على مكانك وإنك على خير وأخبار إدخاله صلّى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وابنيهما رضي الله تعالى عنهم تحت الكساء، وقوله عليه الصلاة والسلام اللهم هؤلاء أهل بيتي ودعائه لهم وعدم إدخال أم سلمة أكثر من أن تحصى، وهي مخصصة لعموم أهل البيت بأي معنى كان البيت فالمراد بهم من شملهم الكساء ولا يدخل فيهم أزواجه صلّى الله عليه وسلم، وقد صرح بعدم دخولهن من الشيعة عبد الله المشهدي وقال المراد من البيت بيت النبوة ولا شك أن أهل البيت لغة شامل للأزواج بل للخدام من الإماء اللائي يسكن في البيت أيضا: وليس المراد هذا المعنى اللغوي بهذه السعة بالاتفاق فالمراد به آل العباء الذين خصصهم حديث السكاء وقال أيضا: إن كون البيوت جمعا في بُيُوتِكُنَّ وإفراد البيت في أَهْلَ الْبَيْتِ يدل على أن بيوتهن غير بيت النبي صلّى الله عليه وسلم اهـ، وفيه ما ستعلمه إن شاء الله تعالى وقيل المراد بالبيت بيت السكنى وبيت النسب وأهل ذلك أهل كل من البيتين وقد سمعت ما قيل فيه وفيه الجمع بين الحقيقة والمجاز. وقال بعض المحققين: المراد بالبيت بيت السكنى وأهله على ما يقتضيه سياق الآية وسباقها والأخبار التي لا تحصى كثرة ويشهد له العرف من له مزيد اختصاص به إما بالسكنى فيه مع القيام بمصالحه وتدبير شأنه والاهتمام بأمره وعدم كون الساكن في معرض التبدل والتحول بحكم العادة الجارية من بيع وهبة كالأزواج أو بالسكنى فيه كذلك بدون ملاحظة القيام بالمصالح كالأولاد أو بقربة من صاحبه تقضي بحسب العادة بالتردد إليه والجلوس فيه من غير طلب من صاحبه لذلك أو بعدم المنع من ذلك فالأولاد الذين لا يسكنونه وكأولادهم وإن نزلوا وكالأعمام وأولاد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 195 الأعمام على هذا يحصل الجمع بين الأخبار وقد سمعت بعضها كحديث الكساء ولا دلالة فيه على الحصر، وكالحديث الحسن أنه صلّى الله عليه وسلم اشتمل على العباس وبنيه بملاءة ثم قال: يا رب هذا عمي وصنو أبي وهؤلاء أهل بيتي فاسترهم من النار كستري إياهم بملاءتي هذه فأمنت أسكفة الباب وحوائط البيت فقالت آمين ثلاثا . وجاء في بعض الروايات أنه عليه الصلاة والسلام ضم إلى أهل الكساء علي وفاطمة والحسنين رضي الله تعالى عنهم بقية بناته وأقاربه وأزواجه وصح عن أم سلمة في بعض آخر أنها قالت، فقلت يا رسول الله أما أنا من أهل البيت؟ فقال: بلى إن شاء الله تعالى ، وفي بعض آخر أيضا أنها قالت له صلّى الله عليه وسلم؟ ألست من أهلك قال: بلى وأنه عليه الصلاة والسلام أدخلها الكساء بعد ما قضى دعاءه لهم ، وقد تكرر كما أشار إليه المحب الطبري منه صلّى الله عليه وسلم الجمع وقول هؤلاء أهل بيتي والدعاء في بيت أم سلمة وبيت فاطمة رضي الله تعالى عنهما وغيرهما وبه جمع بين اختلاف الروايات في هيئة الاجتماع وما جلل صلّى الله عليه وسلم به المجتمعين وما دعا به لهم، وما أجاب به أم سلمة وعدم إدخالها في بعض المرات تحت الكساء ليس لأنها ليست من أهل البيت أصلا بل لظهور أنها منهم حيث كانت من الأزواج اللاتي يقتضي سياق الآية وسباقها دخولهن فيهم بخلاف من أدخلوا تحته رضي الله تعالى عنهم فإنه عليه الصلاة والسلام لو لم يدخلهم ويقل ما قال لتوهم عدم دخولهم في الآية لعدم اقتضاء سياقها وسباقها ذلك، وذكر ابن حجر على تقدير صحة بعض الروايات المختلفة الحمل على أن النزول كان مرتين، وقد أدخل صلّى الله عليه وسلم بعض من لم يكن بينه وبينه قرابة شبيبة ولا نسبية في أهل البيت توسعا وتشبيها كسلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه حيث قال عليه الصلاة والسلام «سلمان منا أهل البيت» وجاء في رواية صحيحة أن واثلة قال: وأنا من أهلك يا رسول الله؟ فقال: عليه الصلاة والسلام وأنت من أهلي فكان واثلة يقول: إنها لمن أرجى ما أرجو ، والخبر الدال بظاهره على أن المراد بالبيت البيت النسبي أعني خبر الحكيم الترمذي ومن معه عن ابن عباس يجوز حمل البيت فيه على بيت المدر والحيوان ينقسم إلى رومي وزنجي مثلا كما ينقسم الإنسان إليهما على أن في رواته من وثقه ابن معين وضعفه غيره والجرح مقدم على التعديل وما روي عن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه من نفي كون أزواجه صلّى الله عليه وسلم أهل بيته وكون أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده عليه الصلاة والسلام فالمراد بأهل البيت فيه أهل البيت الذين جعلهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثاني الثقلين لا أهل البيت بالمعنى الأعم المراد في الآية، ويشهد لهذا ما في صحيح مسلم عن يزيد بن حبان قال: انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم فلما جلسنا إليه قال له حصين: لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وسمعت حديثه وغزوت معه وصليت خلفه لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا حدثنا يا زيد بما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: يا ابن أخي والله لقد كبرت سني وقدم عهدي ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلّى الله عليه وسلم فما حدثتكم فاقبلوا وما لا لا تكلفونيه ثم قال: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوما فينا خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة فحمد الله تعالى وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال: «أما بعد ألا يا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وإني تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب لله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به» فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال: «وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي ثلاثا- فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده- قال: ومن هم قال هم آل على وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس» الحديث فإن الاستدراك بعد جعله النساء من أهل بيته صلّى الله عليه وسلم ظاهر في أن الغرض بيان المراد بأهل البيت في الحديث الذي حدث به عن رسول الله عليه الصلاة والسلام وهم فيه ثاني الثقلين فلأهل البيت إطلاقان يدخل في أحدهما النساء ولا يدخلن في الآخر وبهذا يحصل الجمع بين هذا الخبر والخبر السابق المتضمن نفيه رضي الله تعالى عنه كون النساء من أهل البيت. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 196 وقال بعضهم: إن ظاهر تعليله نفي كون النساء أهل البيت بقوله: ايم الله إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها يقتضي أن لا يكن من أهل البيت مطلقا فلعله أراد بقوله في الخبر السابق نساؤه من أهل بيته نساؤه إلخ بهمزة الاستفهام الإنكاري فيكون بمعنى ليس نساؤه من أهل بيته كما في معظم الروايات في غير صحيح مسلم ويكون رضي الله تعالى عنه ممن يرى أن نساءه عليه الصلاة والسلام لسن من أهل البيت أصلا ولا يلزمنا أن ندين الله تعالى برأيه لا سيما وظاهر الآية معنا وكذا العرف وحينئذ يجوز أن يكون أهل البيت الذين هم أحد الثقلين بالمعنى الشامل للأزواج وغيرهن من أصله وعصبته صلّى الله عليه وسلم الذين حرموا الصدقة بعده ولا يضر في ذلك عدم استمرار بقاء الأزواج كما استمر بقاء الآخرين مع الكتاب كما لا يخفى اهـ، وأنت تعلم أن ظاهر ما صح من قوله صلّى الله عليه وسلم: «إني تارك فيكم خليفتين- وفي رواية- ثقلين كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض» يقتضي أن النساء المطهرات غير داخلات في أهل البيت الذين هم أحد الثقلين لأن عترة الرجل كما في الصحاح نسله ورهطه الأدنون، وأهل بيتي في الحديث الظاهر أنه بيان له أو بدل منه بدل كل من كل وعلى التقديرين يكون متحدا معه فحيث لم تدخل النساء في الأول لم تدخل في الثاني. وفي النهاية أن عترة النبي صلّى الله عليه وسلم بنو عبد المطلب وقيل أهل بيته الأقربون وهم أولاده وعلي وأولاده رضي الله تعالى عنهم، وقيل: عترته الأقربون والأبعدون منهم اهـ. والذي رجحه القرطبي أنهم من حرمت عليهم الزكاة، وفي كون الأزواج المطهرات كذلك خلاف قال ابن حجر: والقول بتحريم الزكاة عليهن ضعيف وإن حكي ابن عبد البرّ الإجماع عليه فتأمل، ولا يرد على حمل أهل البيت في الآية على المعنى الأعم ما أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن أبي سعيد الخدري قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم نزلت هذه الآية في خمسة في وفي علي وفاطمة وحسن وحسين إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا» إذ لا دليل فيه على الحصر والعدد لا مفهوم له، ولعل الاقتصار على من ذكر صلوات الله تعالى وسلامه عليهم لأنهم أفضل من دخل في العموم وهذا على تقدير صحة الحديث والذي يغلب على ظني أنه غير صحيح إذ لم أعهد نحو هذا في الآيات منه صلّى الله عليه وسلم في شيء من الأحاديث الصحيحة التي وقفت عليها في أسباب النزول، وبتفسير أهل البيت بمن له مزيد اختصاص به على الوجه الذي سمعت يندفع ما ذكره المشهدي من شموله للخدام والإماء والعبيد الذين يسكنون البيت فإنهم في معرض التبدل والتحول بانتقالهم من ملك إلى ملك بنحو الهبة والبيع وليس لهم قيام بمصالحه واهتمام بأمره وتدبير لشأنه إلا حيث يؤمرون بذلك، ونظمهم في سلك الأزواج ودعوى أن نسبة الجميع إلى البيت على حد واحد مما لا يرتضيه منصف ولا يقول به إلا متعسف. وقال بعض المتأخرين: إن دخولهم في العموم مما لا بأس به عند أهل السنّة لأن الآية عندهم لا تدل على العصمة ولا حجر على رحمة الله عزّ وجلّ ولأجل عين ألف عين تكرم، وأما أمر الجمع والأفراد فقد سمعت ما يتعلق به، والظاهر على هذا القول أن التعبير بضمير جمع المذكر في عَنْكُمُ للتغليب، وذكر أن في عَنْكُمُ عليه تغليبين أحدهما تغليب المذكر على المؤنث، وثانيهما تغليب المخاطب على الغائب إذ غير الأزواج المطهرات من أهل البيت لم يجر لهم ذكر فيما قبل ولم يخاطبوا بأمر أو نهي أو غيرهما فيه، وأمر التعليل عليه ظاهر وإن لم يكن كظهوره على القول بأن المراد بأهل البيت الأزواج المطهرات فقط. واعتذر المشهدي عن وقوع جملة إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ إلخ في البين بأن مثله واقع في القرآن الكريم فقد قال تعالى شأنه: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ [النور: 54] ثم قال سبحانه بعد تمام الآية: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ [النور: 56] فعطف أقيموا على أطيعوا مع وقوع الفصل الكثير بينهما، وفيه أنه وقع الجزء: 11 ¦ الصفحة: 197 بعد أَقِيمُوا الصَّلاةَ إلخ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فلو كان العطف على ما ذكر لزم عطف أطيعوا على أطيعوا وهو كما ترى. سلمنا أن لا فساد في ذلك إلا أن مثل هذا الفصل ليس في محل النزاع فإنه فصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالأجنبي من حيث الإعراب وهو لا ينافي البلاغة وما نحن فيه على ما ذهبوا إليه فصل بأجنبي باعتبار موارد الآيات اللاحقة والسابقة، وإنكار منافاته للبلاغة القرآنية مكابرة لا تخفى. ومما يضحك منه الصبيان أنه قال بعد: إن بين الآيات مغايرة إنشائية وخبرية لأن آية التطهير جملة ندائية وخبرية وما قبلها وما بعدها من الأمر والنهي جمل إنشائية وعطف الإنشائية على الخبرية لا يجوز، ولعمري أنه أشبه كلام من حيث الغلط بقول بعض عوام الأعجام: خسن وخسين دختران مغاوية وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [النور: 40] ثم إن الشيعة استدلوا بالآية بعد قولهم: بتخصيص أهل البيت فيها بمن سمعت وجعل لِيُذْهِبَ مفعولا به ل يُرِيدُ وتفسير الرجس بالذنوب على العصمة فذهبوا إلى أن عليا وفاطمة والحسنين رضي الله تعالى عنهم معصومون من الذنوب عصمته صلّى الله عليه وسلم منها، وتعقبه بعض أجلة المتأخرين بأنه لو فرض تعين كل ما ذهبوا إليه لا تسلم دلالتها على العصمة بل لها دلالة على عدمها إذ لا يقال في حق من هو طاهر: إني أريد أن أطهره ضرورة امتناع تحصيل الحاصل، وغاية ما في الباب أن كون أولئك الأشخاص رضي الله تعالى عنهم محفوظين من الرجس والذنوب بعد تعلق الإرادة بإذهاب رجسهم يثبت بالآية ولكن هذا أيضا على أصول أهل السنّة لا على أصول الشيعة لأن وقوع مراده تعالى غير لازم عندهم لإرادته عزّ وجلّ مطلقا وبالجملة لو كانت إفادة معنى العصمة مقصودة لقيل هكذا إن الله أذهب عنكم الرجس أهل البيت وطهركم تطهيرا وأيضا لو كانت مفيدة للعصمة ينبغي أن يكون الصحابة لا سيما الحاضرين في غزوة بدر قاطبة معصومين لقوله تعالى فيهم: وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة: 6] بل لعل هذا أفيد لما فيه من قوله سبحانه: وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ فإن وقوع هذا الإتمام لا يتصور بدون الحفظ عن المعاصي وشر الشيطان اهـ. وقرر الطبرسي وجه الاستدلال بها على العصمة بأن إِنَّما لفظة محققة لما أثبت بعدها نافية لما لم يثبت فإذا قيل: إنما لك عندي درهم أفاد أنه ليس للمخاطب عنده سوى درهم فتفيد الآية تحقق الإرادة ونفي غيرها، والإرادة لا تخلو من أن تكون هي الإرادة المحضة أو الإرادة التي يتبعها التطهير وإذهاب الرجس لا يجوز أن تكون الإرادة المحضة لأنه سبحانه وتعالى قد أراد من كل مكلف ذلك بالإرادة المحضة فلا اختصاص لها بأهل البيت دون سائر المكلفين ولأن هذا القول يقتضي المدح والتعظيم لهم بلا ريب ولا مدح في الإرادة المجردة فتعين إرادة الإرادة بالمعنى الثاني، وقد علم أن من عدا أهل الكساء غير مراد فتختص العصمة بهم اهـ. وهو كما ترى، على أنه قد ورد في كتب الشيعة ما يدل على عدم عصمة الأمير كرّم الله تعالى وجهه وهو أفضل من ضمه الكساء بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم ففي نهج البلاغة أنه كرّم الله تعالى وجهه قال لأصحابه: لا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل فإني لست بفوق أن أخطئ ولا آمن من ذلك في فعلي إلا أن يلقي الله تعالى في نفسي ما هو أملك به مني. وفيه أيضا كان كرّم الله تعالى وجهه يقول في دعائه: اللهم اغفر لي ما تقربت به إليك وخالفه قلبي ، وقصد التعليم كما في بعض الأدعية النبوية بعيد كذا قيل فتدبر ولا تغفل، وفسر بعض أهل السنّة الإرادة هاهنا بالمحبة قالوا: لأنه لو أريد بها الإرادة التي يتحقق عندها الفعل لكان كل من أهل البيت إلى يوم القيامة محفوظا من كل ذنب والمشاهد خلافه، والتخصيص بأهل الكساء وسائر الأئمة الاثني عشر كما ذهب إليه الإمامية المدعون عصمتهم مما لا يقوم عليه دليل عندنا، والمدح جاء من جهة الاعتناء بشأنهم وإفادتهم محبة الله تعالى لهم هذا الأمر الجليل الشأن ومخاطبته سبحانه إياهم بذلك وجعله قرآنا يتلى إلى يوم القيامة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 198 وقد يستدل على كون الإرادة هاهنا بالمعنى المذكور دون المعنى المشهور الذي يتحقق عنده الفعل بأنه صلّى الله عليه وسلم قال حين أدخل عليا وفاطمة والحسنين رضي الله تعالى عنهم تحت الكساء «اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا» فإنه أي حاجة للدعاء لو كان ذلك مرادا بالإرادة بالمعنى المشهور وهل هو الادعاء بحصول واجب الحصول. واستدل بهذا بعضهم على عدم نزول الآية في حقهم وإنما أدخلهم صلّى الله عليه وسلم في أهل البيت المذكور في الآية بدعائه الشريف عليه الصلاة والسلام ولا يخلو جميع ما ذكر عن بحث، والذي يظهر لي أن المراد بأهل البيت من لهم مزيد علاقة به صلّى الله عليه وسلم ونسبة قوية قريبة إليه عليه الصلاة والسلام بحيث لا يقبح عرفا اجتماعهم وسكناهم معه صلّى الله عليه وسلم في بيت واحد ويدخل في ذلك أزواجه والأربعة أهل الكساء وعلي كرّم الله تعالى وجهه مع ماله من القرابة من رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد نشأ في بيته وحجره عليه الصلاة والسلام فلم يفارقه وعامله كولده صغيرا أو صاهره وآخاه كبيرا، والإرادة على معناها الحقيقي المستتبع للفعل، والآية لا تقوم دليلا على عصمة أهل بيته صلّى الله عليه وسلم وعليهم وسلم الموجودين حين نزولها وغيرهم ولا على حفظهم من الذنوب على ما يقوله أهل السنّة لا لاحتمال أن يكون المراد توجيه الأمر والنهي أو نحوه لإذهاب الرجس والتطهير بأن يجعل المفعول به «ليريد» محذوفا ويجعل لِيُذْهِبَ و «يطهر» في موضع المفعول له وإن لم يكن فيه بأس وذهب إليه من ذهب بل لأن المعنى حسبما ينساق إليه الذهن ويقتضيه وقوع الجملة موقع التعليل للنهي والأمر نهاكم الله تعالى وأمركم لأنه عزّ وجلّ يريد بنهيكم وأمركم إذهاب الرجس عنكم وتطهيركم وفي ذلك غاية المصلحة لكم ولا يريد بذلك امتحانكم وتكليفكم بلا منفعة تعود إليكم وهو على معنى الشرط أي يريد بنهيكم وأمركم ليذهب عنكم الرجس ويطهركم إن انتهيتم وائتمرتم ضرورة أن أسلوب الآية نحو أسلوب قول القائل لجماعة علم أنهم إذا شربوا الماء أذهب عنهم عطشهم لا محالة يريد الله سبحانه بالماء ليذهب عنكم العطش فإنه على معنى يريد سبحانه بالماء إذهاب العطش عنكم إن شربتوه فيكون المراد إذهاب العطش بشرط شرب المخاطبين الماء لا الإذهاب مطلقا. فمفاد التركيب في المثال تحقق إذهاب العطش بعد الشرب وفيما نحن فيه إذهاب الرجس والتطهير بعد الانتهاء والائتمار لأن المراد الإذهاب المذكور بشرطهما فهو متحقق الوقوع بعد تحقق الشرط وتحققه غير معلوم إذ هو أمر اختياري وليس متعلق الإرادة، والمراد بالرجس الذنب وبإذهابه إزالة مبادئه بتهذيب النفس وجعل قواها كالقوة الشهوانية والقوة الغضبية بحيث لا ينشأ عنهما ما ينشأ من الذنوب كالزنا وقتل النفس التي حرم الله تعالى وغيرهما لا إزالة نفس الذنب بعد تحققه في الخارج وصدوره من الشخص إذ هو غير معقول إلا على معنى محوه من صحائف الأعمال وعدم المؤاخذة عليه وإرادة ذلك كما ترى. وكأن مآل الإذهاب التخلية ومآل التطهير التحلية بالحاء المهملة، والآية متضمنة الوعد منه عزّ وجلّ لأهل بيت نبيه صلّى الله عليه وسلم بأنهم أن ينتهوا عما ينهي عنه ويأتمروا بما يأمرهم به يذهب عنهم لا محالة مبادئ ما يستهجن ويحليهم أجلّ تحلية بما يستحسن، وفيه إيماء إلى قبول أعمالهم وترتب الآثار الجميلة عليها قطعا ويكون هذا خصوصية لهم ومزية على من عداهم من حيث إن أولئك الأغيار إذا انتهوا وائتمروا لا يقطع لهم بحصول ذلك. ولذا نجد عباد أهل البيت أتم حالا من سائر العباد المشاركين لهم في العبادة الظاهرة وأحسن أخلاقا وأزكى نفسا وإليهم تنتهي سلاسل الطرائق التي مبناها كما لا يخفى على سالكيها التخلية والتحلية اللتان هما جناحان للطيران إلى حظائر القدس والوقوف على أوكار الأنس حتى ذهب قوم إلى أن القطب في كل عصر لا يكون إلا منهم خلافا للأستاذ أبي العباس المرسي حيث ذهب كما نقل عنه تلميذه التاج بن عطاء الله إلى أنه قد يكون من غيرهم، ورأيت الجزء: 11 ¦ الصفحة: 199 في مكتوبات الإمام الفاروقي الرباني مجدد الألف الثاني قدس سره ما حاصله أن القطبية لم تكن على سبيل الأصالة إلا الأئمة أهل البيت المشهورين ثم إنها صارت بعدهم لغيرهم على سبيل النيابة عنهم حتى انتهت النوبة إلى السيد الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره النوراني فنال مرتبة القطبية على سبيل الأصالة فلما عرج بروحه القدسية إلى أعلى عليين نال من نال بعده تلك الرتبة على سبيل النيابة عنه فإذا جاء المهدي ينالها أصالة كما نالها غيره من الأئمة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين اهـ، وهذا مما لا سبيل إلى معرفته والوقوف على حقيته إلا بالكشف وأنى لي به. والذي يغلب على ظني أن القطب قد يكون من غيرهم لكن قطب الأقطاب لا يكون إلا منهم لأنهم أزكى الناس أصلا وأوفرهم فضلا وأن من ينال هذه الرتبة منهم لا ينالها إلا على سبيل الأصالة دون النيابة والوكالة وأنا لا أعقل النيابة في ذلك المقام وإن عقلت قلت: كل قطب في كل عصر نائب عن نبينا عليه من الله تعالى أفضل الصلاة وأكمل السلام ولا بدع في نيابة الأقطاب بعده عنه صلّى الله عليه وسلم كما نابت عنه الأنبياء قبله فهو عليه الصلاة والسلام الكامل المكمل للخليقة والواسطة في الإفاضة عليهم على الحقيقة وكل من تقدمه عصرا من الأنبياء وتأخر عنه من الأقطاب والأولياء نواب عنه ومستمدون منه، وأقول إن السيد الشيخ عبد القادر قدس سره وغمرنا بره قد نال ما نال من القطبية بواسطة جده عليه الصلاة والسلام على أتم وجه وأكمل حال فقد كان رضي الله تعالى عنه من أجلة أهل البيت حسنيا من جهة الأب حسينيا من جهة الأم لم يصبه نقص لو أن وعسى وليت ولا ينكر ذلك إلا زنديق أو رافضي ينكر صحبة الصديق وأرى أن قوله رضي الله تعالى عنه: أفلت شموس الأولين وشمسنا ... أبدا على فلك العلا لا تغرب لا يدل على أن من ينال القطبية بعده من أهل البيت الذين عنصرهم وعنصره واحد نائب عنه ليس له فيض إلا منه بل غاية ما يدل عليه ويومىء إليه استمرار ظهور أمره وانتشار صيته وشهرة طريقته وعموم فيضه لمن استفاض على الوجه المعروف عند أهله منه وذلك مما لا يكاد ينكر وأظهر من الشمس والقمر، هذا ما عندي في الكلام على الآية الكريمة المتضمنة لفضيلة لأهل البيت عظيمة، ويعلم منه وجه التعبير بيريد على صيغة المضارع ووجه تقديم إذهاب الرجس على التطهير ووجه دعائه صلّى الله عليه وسلم لأهل الكساء بإذهاب الرجس من غير حاجة إلى القول بأن ذلك طلب للدوام كما قيل في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا ونحوه ولا يورد عليه كثير مما يورد على غيره ومع هذا لمسلك الذهن اتساع ولا حجر على فضل الله عزّ وجلّ فلا مانع من أن يوفق أحدا لما هو أحسن من هذا وأجل فتدبر ذاك والله سبحانه يتولى هداك. وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ أي اذكرن للناس بطريق العظة والتذكير، وقيل: أي تذكرن ولا تنسين ما يتلى في بيوتكن مِنْ آياتِ اللَّهِ أي القرآن وَالْحِكْمَةِ هي السنّة على ما أخرج ابن جرير. وغيره عن قتادة وفسرت بنصائحه صلّى الله عليه وسلم، وعن عطاء عن ابن عباس أنه كان في المصحف بدل الْحِكْمَةِ السنّة حكاه محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في أوائل تفسيره مفاتيح الأسرار، وقال جمع: المراد بالآيات والحكمة القرآن وهو أوفق بقوله سبحانه: يُتْلى أي اذكرن ما يتلى من الكتاب الجامع بين كونه آيات الله تعالى البينة الدالة على صدق النبوة بأوجه شتى وكونه حكمة منطوية على فنون العلوم والشرائع، وهذا تذكير بما أنعم عليهن حيث جعلهن أهل بيت النبوة ومهبط الوحي وما شاهدن من برحاء الوحي مما يوجب قوة الإيمان والحرص على الطاعة وفيه حث على الانتهاء والائتمار فيما كلفنه، وقيل: هذا هذا أمر بتكميل الغير بعد الأمر بما فيه كما لهن ويعلم منه وجه توسيط إِنَّما يُرِيدُ إلخ في البين والتعرض للتلاوة في البيوت دون النزول فيها مع أنها الأنسب لكونها مهبط الوحي لعمومها لجميع الآيات ووقوعها في الجزء: 11 ¦ الصفحة: 200 كل البيوت وتكررها الموجب لتمكنهن من الذكر والتذكير بخلاف النزول، وقيل: إن ذلك لرعاية الحكمة بناء على أن المراد بها السنة فإنها لم تنزل نزول القرآن وتعقب بأنها لم تتل أيضا تلاوته، وعدم تعيين التالي لتعم تلاوة جبريل وتلاوة النبي عليهما الصلاة والسلام وتلاوتهن وتلاوة غيرهن تعليما وتعلما. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «تتلى» بتاء التأنيث إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً يعلم ويدبر ما يصلح في الدين ولذلك فعل ما فعل من الأمر والنهي أو يعلم من يصلح للنبوة ومن يستأهل أن يكون من أهل بيته، وقيل: يعمل الحكمة حيث أنزل كتابه جامعا بين الوصفين، وجوز بعضهم أن يكون اللطيف ناظرا للآيات لدقة إعجازها والخبير للحكمة لمناسبتها للخبرة. إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ أي الداخلين في السلم المنقادين لحكم الله تعالى أو المفوضين أمرهم لله عزّ وجلّ من الذكور والإناث وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ المصدقين بما يجب أن يصدق به من الفريقين. وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ المداومين على الطاعات القائمين بها وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ في أقوالهم التي يجب الصدق فيها، وقيل في القول والعمل. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أنه قال أي في إيمانهم وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ على المكاره وعلى العبادات وعن المعاصي وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ المتواضعين لله تعالى بقلوبهم وجوارحهم. وقيل: الذين لا يعرفون من عن أيمانهم وشمائلهم إذا كانوا في الصلاة وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ بما يحسن التصدق به من فرض وغيره وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ الصوم المشروع فرضا كان أو نفلا، وعن عكرمة الاقتصار على صوم رمضان، وقيل: من تصدق في كل أسبوع بدرهم فهو من المتصدقين ومن صام البيض من كل شهر فهو من الصائمين وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ عما لا يرضى به الله تعالى. وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ بالألسنة والقلوب ومدار الكثرة العرف عند جمع، وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: لا يكتب الرجل من الذاكرين الله كثيرا حتى يذكر الله تعالى قائما وقاعدا ومضطجعا. وأخرج أبو داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا أيقظ الرجل امرأته من الليل فصليا ركعتين كانا تلك الليلة من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات» وقيل: المراد بذكر الله تعالى ذكر آلائه سبحانه ونعمه وروي ذلك عن عكرمة ومآل هذا إلى الشكر وهو خلاف الظاهر. أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ بسبب كسبهم ما ذكر من الصفات مَغْفِرَةً لما اقترفوا من الصغائر لأنهن مكفرات بالأعمال الصالحة كما ورد وَأَجْراً عَظِيماً على ما عملوا من الطاعات، والآية وعد للأزواج المطهرات وغيرهن ممن اتصفت بهذه الصفات، أخرج أحمد والنسائي وغيرهما عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: قلت للنبي صلّى الله عليه وسلم ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال؟ فلم يرعني منه صلّى الله عليه وسلم ذات يوم إلا نداءه على المنبر وهو يقول: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ إلى آخر الآية ، وضمير ما لنا للنساء على العموم ففي رواية أخرى رواها النسائي وجماعة عنها أيضا أنها قالت: قلت للنبي عليه الصلاة والسلام ما لي أسمع الرجال يذكرون في القرآن والنساء لا يذكرون؟ فأنزل الله تعالى إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ الآية. وفي بعض الآثار ما يدل على أن القائل غيرها، أخرج الترمذي وحسنه والطبراني وعبد بن حميد وآخرون عن أم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 201 عمارة الأنصارية أنها أتت النبي صلّى الله عليه وسلم فقالت: ما أرى كل شيء إلا للرجال وما أرى النساء يذكرن بشيء فنزلت هذه الآية إِنَّ الْمُسْلِمِينَ إلخ. وأخرج ابن جرير عن قتادة قال: دخل نساء على نساء النبي صلّى الله عليه وسلم فقلن: قد ذكركن الله تعالى في القرآن وما يذكرنا بشيء أما فينا ما يذكر فأنزل الله تعالى إِنَّ الْمُسْلِمِينَ الآية ، وفي رواية أخرى عنه أنه قال لما ذكر أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم قال النساء: لو كان فينا خير لذكرنا فأنزل الله تعالى الآية. ولا مانع أن يكون كل ذلك، وعطف الإناث على الذكور كالمسلمات على المسلمين والمؤمنات على المؤمنين ضروري لأن تغاير الذوات المشتركة في الحكم يستلزم العطف ما لم يقصد السرد على طريق التعديد، وعطف الزوجين أعني مجموع كل مذكر ومؤنث كعطف مجموع المؤمنين والمؤمنات على مجموع المسلمين والمسلمات غير لازم وإنما ارتكب هاهنا للدلالة على أن مدار إعداد ما أعد لهم جمعهم بين هذه النعوت الجميلة. وذكر الفروج متعلقا للحفظ لكونها مركب الشهوة الغالبة وذكر الاسم الجليل متعلقا للذكر لأنه الاسم الأعظم المشعر بجميع الصفات الجليلة، وحذف متعلق كل من الحافظات والذاكرات لدلالة ما تقدم عليه، وجعل الذكر آخر الصفات لعمومه وشرفه وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت: 45] وتذكير الضمير في أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ لتغليب الذكور على الإناث وإلا فالظاهر لهم ولهن، ولله تعالى در التنزيل أشار في أول الآية وآخرها إلى أفضلية الذكور على الإناث وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ أي ما صح وما استقام لرجل ولا امرأة من المؤمنين إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أي قضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وذكر الله تعالى لتعظيم أمره بالإشارة إلى أنه عليه الصلاة والسلام بمنزلة من الله تعالى بحيث تعد أوامره أوامر الله عزّ وجلّ أو للإشعار بأن ما يفعله صلّى الله عليه وسلم إنما يفعله بأمره لأنه لا ينطق عن الهوى فالنظم إما من قبيل فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الأنفال: 41] أو من قبيل وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة: 62] أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ أي أن يختاروا من أمرهم ما شاؤوا بل يجب عليهم أن يجعلوا رأيهم تبعا لرأيه عليه الصلاة والسلام واختيارهم تلوا لاختياره. والخيرة مصدر من تخير كالطيرة مصدر من تطير، ولم يجىء على ما قيل مصدر بهذه الزنة غيرهما، وقيل: هي صفة مشبهة وفسرت بالمتخير، ومِنْ أَمْرِهِمْ متعلق بها أو بمحذوف وقع حالا منها، وجمع الضمير في لَهُمْ رعاية للمعنى لوقوع مؤمن ومؤمنة في سياق النفي والنكرة الواقعة في سياقه تعم، وكان من حقه على ما في الكشاف توحيده كما تقول: ما جاءني من امرأة ولا رجل إلا كان من شأنه كذا: وتعقبه أبو حيان بأن هذا عطف بالواو والتوحيد في العطف بأو نحو من جاءك من شريف أو وضيع أكرمه فلا يجوز إفراد الضمير في ذاك إلا بتأويل الحذف. وجمعه في أَمْرِهِمْ مع أنه للرسول صلّى الله عليه وسلم أوله ولله عزّ وجلّ للتعظيم على ما قيل. وقال بعض الأجلة: لم يظهر عندي امتناع أن يكون عائدا على ما عاد عليه الأول على أن يكون المعنى ناشئة من أمرهم أي دواعيهم السائقة إلى اختيار خلاف ما أمر الله ورسوله صلّى الله عليه وسلم أو يكون المعنى الاختيار في شيء من أمرهم أي أمورهم التي يعنونها. ويرجح عوده على ما ذكر بعدم التفكيك ورد بأن ذاك قليل الجدوى ضرورة أن الخيرة ناشئة من دواعيهم أو واقعة في أمورهم وهو بين مستغن عن البيان بخلاف ما إذا كان المعنى بدل أمره الذي قضاه عليه الصلاة والسلام أو متجاوزين عن أمره لتأكيده وتقريره للنفي وهذا هو المانع من عوده إلى ما عاد عليه الأول، والحق أنه لا مانع من ذلك على أن يكون المعنى ما كان للمؤمنين أن يكون لهم اختيار في شيء من أمورهم إذا قضى الله ورسوله لهم أمرا، ولا نسلم أن ما عد مانعا مانع فتدبر. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 202 ولعل الفائدة في العدول عن الظاهر في الضمير الأول على ما قال الطيبي الإيذان بأنه كما لا يصح لكل فرد فرد من المؤمنين أن يكون لهم الخيرة كذلك لا يصح أن يجتمعوا ويتفقوا على كلمة واحدة لأن تأثير الجماعة واتفاقهم أقوى من تأثير الواحد، ويستفاد منه فائدة الجمع في الضمير الثاني على تقدير عوده على ما عاد عليه الأول وكذا وجه إفراد الأمر إذا أمعن النظر وقرأ الحرميان والعربيان وأبو عمرو وأبو جعفر وشيبة والأعرج وعيسى تكون بتاء التأنيث والوجه ظاهر ووجه القراءة بالياء وهي قراءة الكوفيين والحسن والأعمش والسلمي أن المرفوع بالفعل مفصول مع كون تأنيثه غير حقيقي، وقرىء كما ذكر عيسى بن سليمان «الخيرة» بسكون الياء وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في أمر من الأمور ويعمل فيه برأيه فَقَدْ ضَلَّ طريق الحق ضَلالًا مُبِيناً أي بين الانحراف عن سنن الصواب، والظاهر أن هذا في الأمور المقضية على ما يشعر به السوق، والآية على ما روي عن ابن عباس وقتادة ومجاهد وغيرهم نزلت في زينب بنت جحش من عمته صلّى الله عليه وسلم أميمة بنت عبد المطلب وأخيها عبد الله خطبها رسول الله صلّى الله عليه وسلم لمولاه زيد بن حارثة وقال: إني أريد أزوجك زيد بن حارثة فإني قد رضيته لك فأبت وقالت: يا رسول الله لكني لا أرضاه لنفسي وأنا أيم قومي وبنت عمتك فلم أكن لأفعل. وفي رواية أنها قالت: أنا خير منه حسبا ووافقها أخوها بعد الله على ذلك فلما نزلت الآية رضيا وسلما فأنكحها رسول الله صلّى الله عليه وسلم زيدا بعد أن جعلت أمرها بيده وساق إليها عشرة دنانير وستين درهما مهرا وخمارا وملحفة ودرعا وإزارا وخمسين مدا من طعام وثلاثين صاعا من تمر. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكانت أول امرأة هاجرت من النساء فوهبت نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلم فزوجها زيد بن حارثة فحطت (1) هي وأخوها وقالت إنما أردنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فزوجنا عبده وَإِذْ تَقُولُ خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلم أي اذكر وقت قولك لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بتوفيقه للإسلام وتوفيقك لحسن تربيته وعتقه ومراعاته وتخصيصه بالتبني ومزيد القرب وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بالعمل بما وفقك الله تعالى له من فنون الإحسان التي من جملتها تحريره وهو زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه، وإيراده بالعنوان المذكور كما قال شيخ الإسلام: لبيان منافاة حاله لما صدر عنه عليه الصلاة والسلام من إظهار خلاف ما في ضميره الشريف إذ هو إنما يقع عند الاستحياء والاحتشام وكلاهما مما لا يتصور في حق زيد رضي الله تعالى عنه، وجوز أن يكون بيانا لحكمة إخفائه صلّى الله عليه وسلم ما أخفاه لأن مثل ذلك مع مثله مما يطعن به الناس كما قيل: وأظلم خلق الله من بات حاسدا ... لمن كان في نعمائه يتقلب أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ أي زينب بنت جحش وذلك أنها كانت ذا حدة ولا زالت تفخر على زيد بشرفها ويسمع منها ما يكره فجاء رضي الله تعالى عنه يوما إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن زينب قد اشتد علي لسانها وأنا أريد أن أطلقها فقال له عليه الصلاة والسلام: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ في أمرها ولا تطلقها ضرارا وتعللا بتكبرها واشتداد لسانها عليك. وتعدية أَمْسِكْ بعلى لتضمينه معنى الحبس. وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ عطف على تَقُولُ وجوزت الحالية بتقدير وأنت تخفي أو بدونه كما هو ظاهر كلام الزمخشري في مواضع من كشافه، والمراد بالموصول على ما أخرج الحكيم الترمذي وغيره عن   (1) قوله فحطت هي وأخوها إلخ كذا بخطه ولعلها فخطئت إلخ وحرر اهـ. [ ..... ] الجزء: 11 ¦ الصفحة: 203 علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما ما أوحى الله تعالى به إليه أن زينب سيطلقها زيد ويتزوجها بعد عليه الصلاة والسلام وإلى هذا ذهب أهل التحقيق من المفسرين كالزهري وبكر بن العلاء والقشيري والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم وَتَخْشَى النَّاسَ تخاف من اعتراضهم وقيل: أي تستحي من قولهم: إن محمدا صلّى الله عليه وسلم تزوج زوجة ابنه، والمراد بالناس الجنس والمنافقون وهذا عطف على ما تقدم أو حال. وقوله: وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ في موضع الحال لا غير، والمعنى والله تعالى وحده أحق أن تخشاه في كل أمر فتفعل ما أباحه سبحانه لك وأذن لك فيه، والعتاب عند من سمعت على قوله عليه الصلاة والسلام ذلك مع أَمْسِكْ مع علمه بأنه سيطلقها ويتزوجها هو صلّى الله عليه وسلم بعده وهو عتاب على ترك الأولى. وكان الأولى في مثل ذلك أن يصمت عليه الصلاة والسلام أو يفوض الأمر إلى رأي زيد رضي الله تعالى عنه. وأخرج جماعة عن قتادة أنه صلّى الله عليه وسلم كان يخفي إرادة طلاقها ويخشى قالة الناس إن أمره بطلاقها وأنه عليه الصلاة والسلام قال له: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وهو يحب طلاقها، والعتاب عليه على ظهار ما ينافي الإضمار، وقد رد ذلك القاضي عياض في الشفاء وقال: لا تسترب في تنزيه النبي صلّى الله عليه وسلم عن هذا الظاهر وأنه يأمر زيدا بإمساكها وهو يحب تطليقه إياها كما ذكره جماعة من المفسرين إلى آخر ما قال. وذكر بعضهم أن إرادته صلّى الله عليه وسلم طلاقها وحبه إياه كان مجرد خطوره بباله الشريف بعد العلم بأنه يريد مفارقتها، وليس هناك حسد منه عليه الصلاة والسلام وحاشاه له عليها فلا محذور، والأسلم ما ذكرناه عن زين العابدين رضي الله تعالى عنه والجمهور، وحاصل العتاب لم قلت أمسك عليك زوجك وقد أعلمتك أنه ستكون من أزواجك وهو مطابق للتلاوة لأن الله تعالى أعلم أنه مبدي ما أخفاه عليه الصلاة والسلام ولم يظهر غير تزويجها منه فقال سبحانه: زَوَّجْناكَها فلو كان المضمر محبتها وإرادة طلاقها ونحو ذلك لأظهره جل وعلا، وللقصاص في هذه القصة كلام لا ينبغي أن يجعل في حيز القبول. منه ما أخرجه ابن سعد والحاكم عن محمد بن يحيى بن حبان أنه صلّى الله عليه وسلم جاء إلى بيت زيد فلم يجده وعرضت زينب عليه دخول البيت فأبى أن يدخل وانصرف راجعا يتكلم بكلام لم تفهم منه سوى سبحان الله العظيم سبحان مصرف القلوب فجاء يد فأخبرته بما كان فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال له: بلغني يا رسول الله إنك جئت منزلي فهلا دخلت يا رسول الله لعل زينب أعجبتك فأفارقها فقال عليه الصلاة والسلام: أمسك عليك زوجك واتق الله فما استطاع زيد إليها سبيلا بعد ففارقها ، وفي تفسير علي بن إبراهيم أنه صلّى الله عليه وسلم أتى بيت زيد فرأى زينب جالسة وسط حجرتها تسحق طيبا بفهر لها فلما نظر إليها قال: سبحان خالق النور تبارك الله أحسن الخالقين فرجع فجاء زيد فأخبرته الخبر فقال لها: لعلك وقعت في قلب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فهل لك أن أطلقك حتى يتزوجك رسول الله عليه الصلاة والسلام فقالت: أخشى أن تطلقني ولا يتزوجني فجاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال له: أريد أن أطلق زينب فأجابه بما قص الله تعالى إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتتبع، وفي شرح المواقف أن هذه القصة مما يجب صيانة النبي صلّى الله عليه وسلم عن مثله فإن صحت فميل القلب غير مقدور مع ما فيه من الابتلاء لهما، والظاهر أن الله تعالى لما أراد نسخ تحريم زوجة المتبنى أوحى إليه عليه الصلاة والسلام أن يتزوج زينب إذا طلقها زيد فلم يبادر له صلّى الله عليه وسلم مخافة طعن الأعداء فعوتب عليه، وهو توجيه وجيه قاله الخفاجي عليه الرحمة ثم قال: إن القصة شبيهة بقصة داود عليه السّلام لا سيما وقد كان النزول عن الزوجة في صدر الهجرة جاريا بينهم من غير حرج فيه انتهى، وأبعد بعضهم فزعم أن وَتُخْفِي إلخ خطاب كسابقه من الله عزّ وجلّ أو من النبي صلّى الله عليه وسلم لزيد فإنه أخفى الميل إليها وأظهر الرغبة عنها لما وقع في قلبه أن النبي صلّى الله عليه وسلم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 204 يود أن تكون من نسائه، هذا وفي قوله تعالى: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وصول الفعل الرافع الضمير المتصل إلى الضمير المجرور وهما لشخص واحد فهو كقوله: هون عليك ودع عنك نهبا صيح في حجراته، وذكروا في مثل هذا التركيب أن على وعن اسمان ولا يجوز أن يكونا حرفين لامتناع فكر فيك وأعين بك بل هذا مما تكون فيه النفس أي فكر في نفسك وأعين بنفسك، والحق عندي جواز ذلك التركيب مع حرفية علي وعن فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً أي طلقها كما روي عن قتادة وهو كناية عن ذلك مثل لا حاجة لي فيك، ومعنى الوطر الحاجة وقيدها الراغب بالمهمة، وقال أبو عبيدة: هو كالأدب وأنشد للربيع بن ضبع: ودعنا قبل أن نودعه ... لما قضى من شبابنا وطرا ويفسر الأدب بالحاجة الشديدة المقتضية للاحتيال في دفعها ويستعمل تارة في الحاجة المفردة وأخرى في الاحتيال وإن لم تكن حاجة، وقال المبرد: هو الشهوة والمحبة يقال: ما قضيت من لقائك وطرا أي ما استمتعت منك حتى تنتهي نفسي وأنشد: وكيف ثوائي بالمدينة بعد ما ... قضى وطرا منها جميل بن معمر وعن ابن عباس تفسير الوطر هنا بالجماع، والمراد لم يبق له بها حاجة الجماع وطلقها، وفي البحر نقلا عن بعضهم أنه رضي الله تعالى عنه أنه لم يتمكن من الاستمتاع بها، وروى أبو عصمة نوح بن أبي مريم بإسناد رفعه إليها أنها قالت ما كنت أمتنع منه غير أن الله عزّ وجلّ منعني منه، وروي أنه كان يتورم ذلك منه حين يريد أن يقربها فيمتنع. قيل: ولا يخفى أنه على هذا يحسن جدا جعل قضاء الوطر كناية عن الطلاق فتأمل، وفي الكلام تقدير أي فلما قضى زيد منها وطرا وانقضت عدتها، وقيل: إن قضاء الوطر يشعر بانقضاء العدة لأن القضاة الفراغ من الشيء على التمام فكأنه قيل: فلما قضى زيد حاجته من نكاحها فطلقها وانقضت عدتها فلم يكن في قلبه ميل إليها ولا وحشة من فراقها زَوَّجْناكَها أي جعلناها زوجة لك بلا واسطة عقد أصالة أو وكالة، فقد صح من حديث البخاري والترمذي أنها رضي الله تعالى عنها كانت تفخر على أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم تقول: زوجكن أهاليكن وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات، وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال كانت تقول للنبي عليه الصلاة والسلام: إني لأدل عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهن إن جدي وجدك واحد وإني أنكحك الله إياي من السماء وإن السفير لجبريل عليه السّلام، ولعلها أرادت سفارته عليه السّلام بين الله تعالى وبين رسوله صلّى الله عليه وسلم وإلا فالسفير بينه عليه الصلاة والسلام وبينها كان زيدا أخرج أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم عن أنس قال: لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لزيد: اذهب فاذكرها علي فانطلق قال: فلما رأيتها عظمت في صدري فقلت: يا زينب أبشري أرسلني رسول الله صلّى الله عليه وسلم يذكرك قالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن وجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم ودخل عليها بغير إذن. ومن حديث أخرجه الطبراني والبيهقي في سننه وابن عساكر من طريق ابن زيد الأسدي عن مذكور مولى زينب قالت طلقني زيد فبت طلاقي فلما انقضت عدتي لم أشعر إلا والنبي عليه الصلاة والسلام قد دخل عليّ وأنا مكشوفة الشعر فقلت: هذا من السماء دخلت يا رسول الله بلا خطبة ولا شهادة فقال: الله تعالى المزوج وجبريل الشاهد ، ولا يخفى أن هذا بظاهره يخالف ما تقدم من الحديث والمعول على ذاك، وقيل: المراد بزوجناكها أمرناك بتزوجها. وقرأ علي وابناه ريحانتا رسول الله صلّى الله عليه وسلم الحسن والحسين وابنه محمد بن الحنفية وجعفر الصادق رضي الله الجزء: 11 ¦ الصفحة: 205 تعالى عنهم أجمعين «زوجتكها» بتاء الضمير للمتكلم وحده لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ أي ضيق وقيل إثم، وفسره بهما بعضهم كالطبرسي بناء على جواز استعمال المشترك في معنييه مطلقا كما ذهب إليه الشافعية أو في النفي كما ذهب إليه العلّامة ابن الهمام من الحنفية فِي أَزْواجِ أي في حق تزوج أزواج أَدْعِيائِهِمْ الذين تبنوهم إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً أي إذا طلقهن الأدعياء وانقضت عدتهن فإن لهم في رسول الله أسوة حسنة، واستدل بهذا على أن ما ثبت له صلّى الله عليه وسلم من الأحكام ثابت لأمته إلا ما علم أنه من خصوصياته عليه الصلاة والسلام بدليل، وتمام الكلام في المسألة مذكور في الأصول، والمراد بالحكم هاهنا على ما سمعت أولا مطلق تزوج زوجات الأدعياء وهو على ما قيل ظاهر وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ أي ما يريد تكوينه من الأمور أو مأموره الحاصل بكن مَفْعُولًا مكونا لا محالة، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله من تزويج زينب رضي الله تعالى عنها ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ أي ما صح وما استقام في الحكمة أن يكون له حرج فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ أي قسم له صلّى الله عليه وسلم وقدر من قولهم: فرض له في الديوان كذا، ومنه فروض العساكر لما يقطعه السلطان لهم ويرسم به، وقال قتادة: أي فيما أحل له، وقال الحسن: فيما خصه به من صحة النكاح بلا صداق، وقال الضحّاك: من الزيادة على الأربع سُنَّةَ اللَّهِ أي سن الله تعالى ذلك سنّة فهو مصدر منصوب بفعل مقدر من لفظه، والجملة مؤكدة لما قبلها من نفي الحرج، وذهب الزمخشري إلى أنه اسم موضوع موضع المصدر كقولهم: تربا وجندلا أي رغما وهوانا وخيبة، وكأنه لم تثبت عنده مصدريته، وقيل: منصوب بتقدير الزم ونحوه. قال ابن عطية: ويجوز أن يكون نصبا على الإغراء كأنه قيل: فعليه سنّة الله. وتعقبه أبو حيان بأنه ليس بجيد لأن عامل الاسم في الإغراء لا يجوز حذفه، وأيضا تقدير فعليه سنّة الله بضمير الغائب لا يجوز إذ لا يغرى غائب وقولهم عليه رجلا ليسنى مؤول وهو مع ذلك نادر. واعترض بأن قوله: لأن عامل الاسم في الإغراء لا يجوز حذفه ممنوع، وهو خلاف ما يفهم من كتب النحو وبأن ما ذكره في أمر إغراء الغائب مسلم لكن يمكن توجيهه هاهنا كما لا يخفى، ثم قيل: إن ظاهر كلام ابن عطية يشعر بأن النصب بتقدير الزم قسيم للنصب على الإغراء وليس كذلك بل هو قسم منه اهـ فتدبر. فِي الَّذِينَ خَلَوْا أي مضوا مِنْ قَبْلُ أي من قبلك من الأنبياء عليه الصلاة والسلام حيث لم يحرج جل شأنه عليهم في الإقدام على ما أحل لهم ووسع عليهم في باب النكاح وغيره وقد كانت تحتهم المهائر والسراري وكانت لداود عليه السّلام مائة امرأة وثلاثمائة سرية ولسليمان عليه السّلام ثلاثمائة امرأة وسبعمائة سرية. وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي أنه كان له عليه السّلام ألف امرأة، والظاهر أنه عنى بالمرأة ما يقابل السرية ويحتمل أنه أراد بها الأعم فيوافق ما قبله. يروى أن اليهود قاتلهم الله تعالى عابوه وحاشاه من العيب صلّى الله عليه وسلم بكثرة النكاح وكثرة الأزواج فرد الله تعالى عليهم بقوله سبحانه: سُنَّةَ اللَّهِ الآية. وقيل: إنه جل وعلا أشار بذلك إلى ما وقع لداود عليه السّلام من تزوجه امرأة أوريا. وأخرج ذلك ابن المنذر والطبراني عن ابن جريج، واسم تلك الامرأة عنده اليسية وهذا مما لا يلتفت إليه، والقصة عند المحققين لا أصل لها وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً أي عن قدر أو ذا قدر ووصفه بمقدور نحو وصف الظل بالظليل والليل بالأليل في قولهم ظل ظليل وليل أليل في قصد التأكيد، والمراد بالقدر عند جمع المعنى المشهور للقضاء وهو الإرادة الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه، وجوز كونه بالمعنى المشهور له وهو إيجاد الأشياء على قدر مخصوص وكمية معينة من وجوه المصلحة وغيرها، والمعنى الأول أظهر، والقضاء والقدر يستعمل كل منهما بمعنى الآخر وفسر الأمر بنحو ما فسر به فيما سبق. وجوز أن يراد به الأمر الذي هو واحد الأوامر من غير تأويل ويراد أن أتباع أمر الله تعالى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 206 المنزل على أنبيائه عليهم السلام والعمل بموجبه لازم مقضي في نفسه أو هو كالمقضي في لزوم اتباعه، ولا يخفى تكلفه، وظاهر كلام الإمام اختيار أن الأمر واحد الأمور وفرق بين القضاء والقدر بما لم نقف عليه لغيره فقال ما حاصله القضاء ما يكون مقصودا له تعالى في الأصل والقدر ما يكون تابعا والخير كله بقضاء وما في العالم من الضرر بقدر كالزنا والقتل ثم بنى على ذلك لطيفة وهو أنه لما قال سبحانه: زَوَّجْناكَها ذيله بأمرا مفعولا لكونه مقصودا أصليا وخيرا مقضيا ولما قال جل شأنه: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا إشارة إلى قصة داود عليه السّلام حيث افتتن بامرأة أوريا قال سبحانه: قَدَراً مَقْدُوراً لكون الافتتان شرا غير مقصود أصلي من خلق المكلف، وفيه ما فيه، والجملة اعتراض وسط بين الموصولين الجاريين مجرى الواحد للمسارعة إلى تقرير نفي الحرج وتحقيق الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ صفة للذين خلوا أو هو في محل رفع أو نصب على إضمارهم أو على المدح. وقرأ عبد الله بلغوا فعلا ماضيا، وقرأ أبي «رسالة» على التوحيد لجعل الرسالات المتعددة لاتفاقها في الأصول وكونها من الله تعالى بمنزلة شيء واحد وإن اختلفت أحكامها وَيَخْشَوْنَهُ أي يخافونه تعالى في كل ما يأتون ويذرون لا سيما في أمر تبليغ الرسالة وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ في وصفهم بقصرهم الخشية على الله تعالى تعريض بما صدر عنه عليه الصلاة والسلام من الاحتراز عن لائمة الناس من حيث إن إخوانه المرسلين لم تكن سيرتهم التي ينبغي الاقتداء بها ذلك، وهذا كالتأكيد لما تقدم من التصريح في قوله سبحانه: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ وتوهم بعضهم أن منشأ التعريض توصيف الأنبياء بتبليغ الرسالات وحمل الخشية على الخشية في أمر التبليغ لوقوعها في سياقه وفيه ما لا يخفى وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أي كافيا للمخاوف أو محاسبا على الكبار والصغائر من أفعال القلب والجوارح فلا ينبغي أن يخشى غيره، والإظهار في مقام الإضمار لما في هذا الاسم الجليل ما ليس في الضمير، واستدل بالآية على عدم جواز التقية على الأنبياء عليهم السّلام مطلقا، وخص ذلك بعض الشيعة في تبليغ الرسالة وجعلوا ما وقع منه صلّى الله عليه وسلم في هذه القصة المشار إليه بقوله تعالى وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ بناء على أن الخشية فيه بمعنى الخوف لا على أن المراد الاستحياء من قول الناس تزوج زوجة ابنه كما قاله ابن فورك من التقية الجائزة حيث لم تكن في تبليغ الرسالة، ولا فرق عندهم بين خوف المقالة القبيحة وإساءة الظن وبين خوف المضار في أن كلا يبيح التقية فيما لا يتعلق بالتبليغ، ولهم في التقية كلام طويل وهي لأغراضهم ظل ظليل، والمتتبع لكتب الفرق يعرف أن قد وقع فيها إفراط وتفريط وصواب وتخليط وإن أهل السنّة والجماعة قد سلكوا فيها الطريق الوسط وهو الطريق الأسلم الأمين سالكه من الخطأ والغلط، أما الإفراط فللشيعة حيث جوزوا بل أوجبوا على ما حكي عنهم إظهار الكفر لأدنى مخافة أو طمع، وأما التفريط فللخوارج والزيدية حيث لا يجوزون في مقابلة الدين مراعاة العرض وحفظ النفس والمال أصلا، وللخوارج تشديدات عجيبة في هذا الباب، وقد سبوا وطعنوا بريدة الأسلمي أحد أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم بسبب أنه رضي الله تعالى عنه كان يحافظ فرسه في صلاته خوفا من أن يهرب. ومذهب أهل السنّة أن التقية وهي محافظة النفس أو العرض أو المال من نحو الأعداء بإظهار محظور ديني مشروعة في الجملة. وقسموا العدو إلى قسمين: الأول من كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين كالمسلم والكافر ويلحق به من كانت عداوته لاختلاف المذهب اختلافا يجر إلى تكفير أصحاب أحد المذهبين أصحاب المذهب الآخر كأهل السنّة والشيعة، والثاني من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية كالمال والمرأة وعلى هذا تكون التقية أيضا قسمين: أما الأول فالتقية ممن كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين حقيقة أو حكما وقد ذكروا في ذلك أن من يدعي الإيمان الجزء: 11 ¦ الصفحة: 207 إذا وقع في محل لا يمكن أن يظهر دينه وما هو عليه لتعرض المخالفين وجب عليه أن يهاجر إلى محل يقدر فيه على الإظهار ولا يجوز له أن يسكن هنالك ويكتم دينه بعذر الاستضعاف فأرض الله تعالى واسعة، نعم إن كان له عذر غير ذلك كالعمى والحبس وتخويف المخالف له بقتله أو قتل ولده أو أبيه أو أمه على أي وجه كان القتل تخويفا يظن معه وقوع ما خوف به جاز له السكنى والموافقة بقدر الضرورة ووجب عليه السعي في الحيلة للخروج وإن لم يكن التخويف كذلك كالتخويف بفوات المنفعة أو بلحوق المشقة التي يمكنه تحملها كالحبس مع القوت والضرب القليل الغير المهلك لا يجوز له الموافقة وإن ترتب على ذلك موته كان شهيدا، وأما الثاني فالتقية ممن كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية. وقد اختلف العلماء في وجوب الهجرة وعدمه فيه فقال بعضهم: تجب الهجرة لوجوب حفظ المال والعرض. وقال جمع: لا تجب إذ الهجرة عن ذلك المقام مصلحة من المصالح الدنيوية ولا يعود بتركها نقصان في الدين إذ العدو المؤمن كيفما كان لا يتعرض لعدوه الضعيف المؤمن مثله بالسوء من حيث هو مؤمن. وقال بعض الأجلة على طريق المحاكمة: الحق أن الهجرة هاهنا قد تجب أيضا وذلك إذا خاف هلاك نفسه أو أقاربه أو الإفراط في هتك حرمته، وقال: إنها مع وجوبها ليست عبادة إذ التحقيق أنه ليس كل واجب عبادة يثاب عليها فإن الأكل عند شدة المجاعة والاحتراز عن المضرات المعلومة أو المظنونة في المرض وعن تناول السمومات في حال الصحة وما أشبه ذلك أمور واجبة ولا يثاب فاعلها عليها اهـ، وفيه بحث، وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من زبر العلماء الأعلام، ولعل لنا عودة إن شاء الله تعالى لذكر شيء من ذلك والله تعالى الهادي لسلوك أقوم المسالك. بقي لنا فيما يتعلق بالآية شيء وهو ما قيل: إنه سبحانه وصف المرسلين الخالين عليهم الصلاة والسلام بأنهم لا يخشون أحدا إلا الله وقد أخبر عزّ وجلّ عن موسى عليه السّلام بأنه قال: إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا [طه: 45] وهل خوف ذلك إلا خشية غير الله تعالى فما وجه الجمع؟ قلت: أجيب بأن الخشية أخص من الخوف. قال الراغب: الخشية خوف يشوبه تعظيم وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه، وذكر في ذلك عدة آيات منها هذه الآية، ونفي الخاص لا يستلزم نفي العام فقد يجتمع مع إثباته، وهذا أولى مما قيل في الجواب من أن الخشية أخص من الخوف لأنها الخوف الشديد والمنفي في الآية هاهنا هو ذلك لا مطلق الخوف المثبت فيما حكي عن موسى عليه السّلام، وأجاب آخر بأن المراد بالخشية المنفية الخوف الذي يحدث بعد الفكر والنظر وليس من العوارض الطبيعية البشرية، والخوف المثبت هو الخوف العارض بحسب البشرية بادىء الرأي وكم قد عرض مثله لموسى عليه السّلام ولغيره من إخوانه وهو مما لا نقص فيه كما لا يخفى على كامل وهو جواب حسن، وقيل: إن موسى عليه السّلام إنما خاف أن يعجل فرعون عليه بما يحول بينه وبين إتمام الدعوة وإظهار المعجزة فلا يحصل المقصود من البعثة فهو خوف لله عزّ وجلّ، والمراد بما نفي عن المرسلين هو الخوف عنه سبحانه بمعنى أن يخاف غيره جل وعلا فيخل بطاعته أو يقدم على معصيته وأين هذا من ذاك فتأمل تولى الله تعالى هداك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 208 ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ رد لمنشأ خشيته صلّى الله عليه وسلم الناس المعاتب عليها بقوله تعالى: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ وهو قولهم: إن محمدا عليه الصلاة والسلام تزوج زوجة ابنه زيد بنفي كون زيد ابنه الذي يحرم نكاح زوجته عليه صلّى الله عليه وسلم على أبلغ وجه كما ستعرفه قريبا إن شاء الله تعالى، والرجال جمع رجل بضم الجيم كما هو المشهور وسكونه وهو على ما في القاموس الذكر إذا احتلم وشب أو هو رجل ساعة يولد، وفي بعض ظواهر الآيات والأخبار ما هو مؤيد للثاني نحو قوله تعالى لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ [النساء: 7] وقوله سبحانه: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً [النساء: 12] ونحو قوله عليه الصلاة والسلام: «فلأولى رجل ذكر» والبحث الذي ذكره بعض أجلة المتأخرين فيما ذكر من الأمثلة لا يدفع كون الظاهر منها ذلك عند المنصف، وقد يذكر لتأييد الأول قوله تعالى: وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ [النساء: 98] فإن الرجال فيه للبالغين، وفيه بحث، نعم ظاهر كلام الزمخشري وهو إمام له قدم راسخة في اللغة وغيرها من العلوم العربية يدل على أن الرجل هو الذكر البالغ، وأيا ما كان فإضافة رجال إلى ضمير المخاطبين باعتبار الولاد فإن أريد بالرجال الذكور البالغون فالمعنى ما كان محمد أبا أحد من أبنائكم أيها الناس الذكور البالغين الذين ولدتموهم، وإن أريد بهم الذكور مطلقا فالمعنى ما كان محمد أبا أحد من أبنائكم الذين ولدتموهم مطلقا كبارا كانوا أو صغارا. والأب حقيقة لغوية في الوالد على ما يفهم من كلام كثير من اللغويين، والمراد بالأبوة المنفية هنا الأبوة الحقيقة الشرعية التي يترتب عليها أحكام الأبوة الحقيقية اللغوية من الإرث ووجوب النفقة وحرمة المصاهرة سواء كانت بالولادة أو بالرضاع أو بتبني من يولد مثله لمثله وهو مجهول النسب فحيث نفي كونه صلّى الله تعالى عليه وسلم أبا أحد من رجالهم بأي طريق كانت الأبوة، ومن المعلوم أن زيدا أحد من رجالهم تحقق نفي كونه عليه الصلاة والسلام أبا له مطلقا، أما كونه صلّى الله تعالى عليه وسلم ليس أبا له بالولادة فمما لا نزاع فيه ولم يتوهم أحد خلافه، ومثله كونه عليه الصلاة والسلام ليس أبا له بالرضاع، وأما كونه صلّى الله تعالى عليه وسلم ليس أبا له بالتبني مع تحقق تبنيه عليه الصلاة والسلام فلأن الأبوة بالتبني التي نفيت إنما هي الأبوة الحقيقية الشرعية وما كان من التبني لا يستتبعها لتوقفها شرعا على شرائط، منها كون المتبني مجهول النسب وذلك منتف في زيد فقد كان معروف النسب فيما بينهم، وقد تقدم لك أنه ابن حارثة، وتعميم نفي أبوته صلّى الله عليه وسلم لأحد من رجالهم بحيث شمل نفي الأبوة بالولادة الأبوة بالرضاع والأبوة بالتبني مع أنه لا كلام في انتفاء الأوليين وإنما الكلام في انتفاء الأخيرة فقط إذ هي التي يزعمها من يقول: تزوج محمد عليه الصلاة والسلام زوجة ابنه للمبالغة في نفي الأبوة بالتبني التي زعموا ترتب أحكام الأبوة الحقيقة عليها بنظم ما خفي في سلك ما لا خفاء فيه أصلا. ولعل هذا هو السر في قوله سبحانه ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ دون ما كان محمد أبا أحد من الرجال أو ما كان محمد أبا أحد منكم، ولعله لهذا أيضا صرح بنفي أبوته صلّى الله عليه وسلم لأحد من رجالهم ليعلم منه نفي بنوة أحد من رجالهم له عليه الصلاة والسلام، ولم يعكس الحال بأن يصرح بنفي بنوة أحد من رجالهم له عليه الصلاة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 209 والسلام ليعلم نفي أبوته صلّى الله عليه وسلم لأحد من رجالهم، ويؤتي بما بعد على وجه ينتظم مع ما قبل وبحمل الأبوة المنفية على الأبوة الحقيقية الشرعية ينحل إشكال في الآية وهو أن سياقها لنفي أبوته عليه الصلاة والسلام لزيد ليرد به على من يعترض على النبي صلّى الله عليه وسلم بتزوجه مطلقته فإن أريد بالأبوة الأبوة الحقيقية اللغوية وهي ما يكون بالولادة لم تلائم السياق ولم يحصل بها الرد المذكور مع أنه هو المقصود إذ لم يكن أحد يزعم ويتوهم أنه صلّى الله عليه وسلم كان أبا زيد بالولادة، وأن أريد بها الأبوة المجازية التي تحقق بالتبني ونحوه فنفيها غير صحيح لأنه عليه الصلاة والسلام كان أبا لزيد مجازا لتبنيه إياه ولم يزل زيد يدعى بابن محمد صلّى الله عليه وسلم حتى نزل قوله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ [الأحزاب: 5] فدعوه حينئذ بابن حارثة، ووجه انحلاله بما ذكرنا من أن المراد بالأبوة الأبوة الحقيقية الشرعية أن هذه الأبوة تكون بالولادة وبالرضاع وبالتبني بشرطه وهي بأنواعها غير متحققة في زيد، أما عدم تحققها بالنوعين الأولين فظاهر، وأما عدم تحققها بالنوع الأخير فلأن التبني وإن وقع إلا أن شرطه الذي به يستتبع الأبوة الحقيقية الشرعية مفقود كما علمت، وبجعل إضافة الرجال إلى ضمير المخاطبين باعتبار الولادة يندفع استشكال النفي المذكور بأنه عليه الصلاة والسلام قد ولد له عدة ذكور فكيف يصح النفي لأن من ولد له عليه الصلاة والسلام ليس مضافا للمخاطبين باعتبار الولادة بل هو مضاف إليه صلّى الله عليه وسلم باعتباره، ومن خص الرجال بالبالغين قال: لا ينتقض العموم بذلك لأن جميع من ولد له عليه الصلاة والسلام مات صغيرا ولم يبلغ مبلغ الرجال، وقيل: لا إشكال في ذلك لأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن له ابن يوم نزول الآية لأن السورة مدنية نزلت على ما نقل عن ابن الأثير في تاريخ الكامل السنة الخامسة من الهجرة من الهجرة وفيها تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلم بزينب، ومن ولد له صلّى الله عليه وسلم من الذكور ممن عدا إبراهيم فإنما ولد بمكة قبل الهجرة وتوفي فيها، وإبراهيم وإن ولد بالمدينة لكن ولد السنة الثامنة من الهجرة فلم يكن مولودا يوم النزول بل بعده وهو كما ترى، وكما استشكل النفي بما ذكر استشكل بالحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما فقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم أبا لهما حقيقة شرعية، ولم يرتض بعضهم هنا الجواب بخروجهما بالإضافة لأن لهما نسبة إلى المخاطبين باعتبار الولادة لدخول علي كرّم الله تعالى وجهه فيهم وهما ولداه، وارتضاه آخر بناء على أن الإضافة للاختصاص باعتبار الولادة ولا اختصاص للحسنين بعلي رضي الله تعالى عنهم باعتبارها لما أنهما ولدا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أيضا لكن بالواسطة فإن قبل هذا فذاك وإلا فالجواب، أما ما قيل من أن المراد بالرجال البالغون ولم يكونا رضي الله تعالى عنهما يوم النزول كذلك فإن الحسن رضي الله تعالى عنه ولد السنة الثالثة من الهجرة والحسين رضي الله تعالى عنه ولد السنة الرابعة منها لخمس خلون من شعبان وقد علقت به أمه عقب ولادة أخيه بخمسين ليلة أو أقل وكان النزول بعد ولادتهما على ما سمعت آنفا، وأما ما قيل من أن المراد بالأب في الآية الأب الصلب ومعلوم أنه صلّى الله عليه وسلم لم يكن أباهما كذلك فتدبر، وقيل: ليس المراد من الآية سوى نفي أبوته صلّى الله عليه وسلم لأحد من الرجال بالتبني لتنتفي أبوته عليه الصلاة والسلام لزيد التي يزعمها المعترض كما يدل عليه سوق الآية الكريمة فكأنه قيل: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم كما زعمتم حيث قلتم إنه أبو زيد لتبنيه إياه وهي ساكتة عن نفي أبوته صلّى الله عليه وسلم لأحد بالولادة أو بالرضاع وعن إثباتها فلا سؤال بمن ولد له صلّى الله عليه وسلم من الذكور ولا بالحسنين رضي الله تعالى عنهم ولا جواب. وإلى اختيار هذا يميل كلام أبي حيان والله تعالى أعلم. واستدل بعض الشافعية بهذه الآية على أنه لا يجوز أن يقال للنبي عليه الصلاة والسلام أبو المؤمنين حكاه صاحب الروضة ثم قال: ونص الشافعي عليه الرحمة على أنه يجوز أن يقال له صلّى الله عليه وسلم أبو المؤمنين أي في الحرمة ونحوها، وقال الراغب بعد أن قال الأب الوالد ما نصه: ويسمى كل من كان سببا في إيجاد شيء أو إصلاحه أو ظهوره أبا ولذلك سمي النبي صلّى الله عليه وسلم أبا المؤمنين قال الله تعالى: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 210 النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الأحزاب: 6] وفي بعض القراءات «وهو أب لهم» وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال لعلي كرّم الله تعالى وجهه: «أنا وأنت أبوا هذه الأمة» وإلى هذا أشار صلّى الله عليه وسلم بقوله: «كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي» اهـ فلا تغفل، وعلى جواز الإطلاق قالوا: إن قوله تعالى: وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ استدراك من نفي كونه عليه الصلاة والسلام أبا أحد من رجالهم على وجه يقتضي حرمة المصاهرة ونحوها إلى إثبات كونه صلّى الله عليه وسلم أبا لكل واحد من الأمة فيما يرجع إلى وجوب التوقير والتعظيم له صلّى الله عليه وسلم ووجوب الشفقة والنصيحة لهم عليه عليه الصلاة والسلام فإن كل رسول أب لأمته فيما يرجع إلى ذلك، وحاصله أنه استدراك من نفي الأبوة الحقيقية الشرعية التي يترتب عليها حرمة المصاهرة ونحوها إلى إثبات الأبوة المجازية اللغوية التي هي من شأن الرسول عليه الصلاة والسلام وتقتضي التوقير من جانبهم والشفقة من جانبه صلّى الله عليه وسلم وقيل في توجيه الاستدراك أيضا إنه لما نفيت أبوته صلّى الله عليه وسلم لأحد من رجالهم مع اشتهار أن كل رسول أب لأمته ولذا قيل: إن لوطا عليه السّلام عني بقوله: هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ [هود: 78] المؤمنات من أمته يتوهم نفي رسالته صلّى الله عليه وسلم بناء على توهم التلازم بين الأبوة والرسالة فاستدرك بإثبات الرسالة تنبيها على أن الأبوة المنفية شيء والمثبتة للرسول شيء آخر، وأما قوله سبحانه وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ فقد قيل إنه جيء به ليشير إلى كمال نصحه وشفقته صلّى الله عليه وسلم فيفيد أن أبوته عليه الصلاة والسلام للأمة المشار إليها بقوله تعالى: وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ أبوة كاملة فوق أبوة سائر الرسل عليهم السّلام لأممهم وذلك لأن الرسول الذي يكون بعده رسول ربما لا يبلغ في الشفقة غايتها وفي النصيحة نهايتها اتكالا على من يأتي بعده كالوالد الحقيقي إذا علم أن لولده بعده من يقوم مقامه، وقيل: إنه جيء به للإشارة إلى امتداد تلك الأبوة المشار إليها بما قبل إلى يوم القيامة فكأنه قيل: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ بحيث تثبت بينه وبينه حرمة المصاهرة ولكن كان أبا كل واحد منكم وأبا أبنائكم وأبناء أبنائكم وهكذا إلى يوم القيامة بحيث يجب له عليكم وعلى من تناسل منكم احترامه وتوقيره ويجب عليه لكم ولمن تناسل منكم الشفقة والنصح الكامل، وقيل: إنه جيء به لدفع ما يتوهم من قوله تعالى: مِنْ رِجالِكُمْ من أنه صلّى الله عليه وسلم يكون أبا أحد من رجاله الذين ولدوا منه عليه الصلاة والسلام بأن يولد له ذكر فيعيش حتى يبلغ مبلغ الرجال وذلك لأن كونه عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين يدل على أنه لا يعيش له ولد ذكر حتى يبلغ لأنه لو بلغ لكان منصبه أن يكون نبيا فلا يكون هو صلّى الله عليه وسلم خاتم النبيين ويراد بالأب عليه الأب الصلب لئلا يعترض بالحسنين رضي الله تعالى عنهما، ودليل الشرطية ما رواه إبراهيم السدي عن أنس قال: كان إبراهيم- يعني ابن النبي صلّى الله عليه وسلم- قد ملأ المهد ولو بقي لكان نبيا لكن لم يبق لأن نبيكم آخر الأنبياء عليهم السّلام، وجاء نحوه في روايات أخر. أخرج البخاري من طريق محمد بن بشر عن إسماعيل بن أبي خالد قال: قلت لعبد الله بن أبي أوفى رأيت إبراهيم ابن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: مات صغيرا ولو قضى بعد محمد صلّى الله عليه وسلم نبي عاش ابنه إبراهيم ولكن لا نبي بعده. وأخرج أحمد عن وكيع عن إسماعيل سمعت ابن أبي أوفى يقول: لو كان بعد النبي نبي ما مات ابنه. وأخرج ابن ماجة وغيره من حديث ابن عباس لما مات إبراهيم ابن النبي صلّى الله عليه وسلم وقال: «إن له مرضعا في الجنة ولو عاش لكان صديقا نبيا ولو عاش لأعتقت أخواله من القبط وما استرق قبطي» وفي سنده أبو شيبة إبراهيم بن عثمان الواسطي وهو على ما قال القسطلاني ضعيف، ومن طريقه أخرجه ابن منده في المعرفة وقال: إنه غريب، وكأن النووي لم يقف على هذا الخبر المرفوع أو نحوه أو وقف عليه ولم يصح عنده فقال في تهذيب الأسماء واللغات: وأما ما روي عن بعض المتقدمين لو عاش إبراهيم لكان نبيا فباطل وجسارة على الكلام على المغيبات ومجازفة وهجوم على الجزء: 11 ¦ الصفحة: 211 عظيم، ومثله ابن عبد البرّ فقد قال في التمهيد: لا أدري ما هذا فقد ولد نوح عليه السّلام غير نبي ولو لم يلد النبي إلا نبيا لكان كل أحد نبيا لأنهم من نوح عليه السّلام، وأنا أقول: لا يظن بالصحابي الهجوم على الأخبار عن مثل هذا الأمر بالظن، فالظاهر أنه لم يخبر إلا عن توقيف من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وإذا صح حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المرفوع ارتفع الخصام، لكن الظاهر أن هذا الأمر في إبراهيم خاصة بأن يكون قد سبق في علم الله تعالى أنه لو عاش لجعله جل وعلا نبيا لا لكونه ابن النبي صلّى الله عليه وسلم بل لأمر هو جل شأنه به أعلم واللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: 124] وحينئذ يرد على الشرطية السابقة أعني قوله لأنه: لو بلغ لكان منصبه أن يكون نبيا منع ظاهر، والدليل الذي سيق فيما سبق لا يثبتها لما أن ظاهره الخصوص فيجوز أن يبلغ ولد ذكر له عليه الصلاة والسلام غير إبراهيم ولا يكون نبيا لعدم أهليته للنبوة في علم الله تعالى لو عاش. وقول بعض الأفاضل: ليس مبنى تلك الشرطية على اللزوم العقلي والقياس المنطقي بل على مقتضى الحكمة الإلهية وهي أن الله سبحانه أكرم بعض الرسل عليهم السّلام بجعل أولادهم أنبياء كالخليل عليه السّلام ونبينا صلّى الله عليه وسلم أكرمهم عليه وأفضلهم عنده فلو عاش أولاده اقتضى تشريف الله تعالى له وأفضليته عنده ذلك ليس بشيء لأنا نقول: لا يلزم من إكرام الله تعالى بعض رسله عليهم السّلام بنبوة الأولاد وكون نبينا صلّى الله عليه وسلم أكرمهم وأفضلهم اقتضاء التشريف والأفضلية نبوة أولاده لو عاشوا وبلغوا ليقال إن حكمة كونه عليه الصلاة والسّلام خاتم النبيين لكونها أجل وأعظم منعت من أن يعيشوا فينبؤوا، ألا ترى أن الله تعالى أكرم بعض الرسل بجعل بعض أقاربهم في حياتهم وبعد مماتهم أنبياء معينين لهم ومؤيدين لشريعتهم غير مخالفين لها في أصل أو فرع كموسى عليه السّلام ونبينا عليه الصلاة والسّلام أكرمهم وأفضلهم ولم يجعل له ذلك. فإن قيل: إنه عوض صلّى الله عليه وسلم عنه بأن جعل جل شأنه له من أقاربه وأهل بيته علماء أجلاء كأنبياء بني إسرائيل كعلي كرّم الله تعالى وجهه كما يرشد إليه قوله صلّى الله عليه وسلم له رضي الله تعالى عنه «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» قلنا: فلم لا يجوز أن يبقى سبحانه له عليه الصلاة والسّلام أولادا ذكورا بالغين ويعوضه عن نبوتهم التي منعت عنها حكمة الخاتمية نحو ما عوضه عن نبوة بعض أقاربه التي منعت عنها تلك الحكمة وذلك أقرب لمقتضى التشريف كما لا يخفى، وقيل: الملازمة مستفادة من الآية لأنه لولاها لم يكن للاستدراك معنى إذ لكن تتوسط بين متقابلين فلا بدّ من منافاة بنوتهم له عليه الصلاة والسّلام لكونه خاتم النبيين وهو إنما يكون باستلزام بنوتهم نبوتهم، ولا يقدح فيه قوله تعالى: رَسُولَ اللَّهِ كما يتوهم لأنه لو سلم رسالتهم لكانت إما في عصره صلّى الله عليه وسلم وهي تنافي رسالته أو بعده وهي تنافي خاتميته اهـ، وفيه أن الملازمة في قوله: ولولا ذلك لم يكن للاستدراك معنى ممنوعة، والدليل المذكور لم يثبتها لجواز أن يكون معنى الاستدراك ما ذكرناه أولا، على أن فيما ذكره بعد ما لا يخفى، وقيل في توجيه الاستدراك: إنه لما كان عدم النسل من الذكور يفهم منه أنه لا يبقي حكمه صلّى الله عليه وسلم ولا يدوم ذكره استدرك بما ذكر وهو كما ترى. وقال بعض المتأخرين: يجوز أن لا يكون الاستدراك بلكن هنا بمعنى رفع التوهم الناشئ من أول الكلام كما في قولك: ما زيد كريم لكنه شجاع بل بمعنى أن يثبت لما بعدها حكم مخالف لما قبلها نحو ما هذا ساكن لكنه متحرك وما هذا أبيض لكنه أسود وقد جاء كذلك في بعض آي الكتاب الكريم كما في قوله تعالى: يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ [الأعراف: 67] فإن نفي السفاهة لا يوهم انتفاء الرسالة ولا انتفاء ما يلزمها من الهدى والتقوى حتى يجعل استدراكا بالمعنى الأول اهـ فليتأمل. ومن العجيب أن ابن حجر الهيتمي قال في فتاواه الحديثية: إنه لا بعد في إثبات النبوة لإبراهيم ابن النبي صلّى الله عليه وسلم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 212 في صغره وقد ثبت في الصغر لعيسى ويحيى عليهما السّلام، ثم نقل عن السبكي كلاما في حديث «كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد» حاصله أن حقيقته عليه الصلاة والسّلام قد تكون من قبل آدم آتاها الله تعالى النبوة بأن خلقها مهيأة لها وأفاضها عليها من ذلك الوقت وصار نبيا ثم قال: وبه يعلم تحقيق نبوة سيدنا إبراهيم في حال صغره اهـ وفيه بحث. وخبر أنه عليه الصلاة والسّلام أدخل يده في قبره بعد دفنه وقال: «أما والله إنه لنبي ابن نبي» في سنده من ليس بالقوي فلا يعول عليه ليتكلف لتأويله، والخاتم اسم آلة لما يختم به كالطابع لما يطبع به فمعنى خاتم النبيين الذي ختم النبيون به ومآله آخر النبيين، وقال المبرد: «خاتم» فعل ماض على فاعل وهو في معنى ختم النبيين فالنبيين منصوب على أنه مفعول به وليس بذاك وقرأ الجمهور «وخاتم» بكسر التاء على أنه اسم فاعل أي الذي ختم النبيين، والمراد به آخرهم أيضا، وفي حرف ابن مسعود ولكن نبيا ختم النبيين، والمراد بالنبي ما هو أعم من الرسول فيلزم من كونه صلّى الله عليه وسلم خاتم النبيين كونه خاتم المرسلين والمراد بكونه عليه الصلاة والسّلام خاتمهم انقطاع حدوث وصف النبوة في أحد من الثقلين بعد تحليه عليه الصلاة والسّلام بها في هذه النشأة. ولا يقدح في ذلك ما أجمعت الأمة عليه واشتهرت فيه الأخبار ولعلها بلغت مبلغ التواتر المعنوي ونطق به الكتاب على قول ووجب الإيمان به وأكفر منكره كالفلاسفة من نزول عيسى عليه السّلام آخر الزمان لأنه كان نبيا قبل تحلي نبينا صلّى الله عليه وسلم بالنبوة في هذه النشأة ومثل هذا يقال في بقاء الخضر عليه السّلام على القول بنبوته وبقائه، ثم إنه عليه السّلام حين ينزل باق على نبوته السابق لم يعزل عنها قال لكنه لا يتعبد بها لنسخها في حقه وحق غيره وتكليفه بأحكام هذه الشريعة أصلا وفرعا فلا يكون إليه عليه السّلام وحي ولا نصب أحكام بل يكون خليفة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وحاكما من حكام ملته بين أمته بما علمه في السماء قبل نزوله من شريعته عليه الصلاة والسّلام كما في بعض الآثار أو ينظر في الكتاب والسنّة وهو عليه السّلام لا يقصر عن رتبة الاجتهاد المؤدي إلى استنباط ما يحتاج إليه أيام مكثه في الأرض من الأحكام وكسره الصليب وقتله الخنزير ووضعه الجزية وعدم قبولها مما علم من شريعتنا صوابيته في قوله صلّى الله عليه وسلم (1) : «إن عيسى ينزل حكما عدلا يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية» فنزوله عليه السّلام غاية لا قرار الكفار ببذل الجزية على تلك الأحوال ثم لا يقبل إلا الإسلام لا نسخ لها قاله شيخ الإسلام إبراهيم اللقاني في هداية المريد لجوهرة التوحيد، وقوله: إنه عليه السّلام حين ينزل باق على نبوته السابقة لم يعزل عنه بحال لكنه لا يتعبد بها إلخ أحسن من قول الخفاجي الظاهر أن المراد من كونه على دين نبينا صلّى الله عليه وسلم انسلاخه عن وصف النبوة والرسالة بأن يبلغ ما يبلغه عن الوحي وإنما يحكم بما يتلقى عن نبينا عليه الصلاة والسّلام ولذا لم يتقدم لأمامة الصلاة مع المهدي ولا أظنه عنى بالانسلاخ عن وصف النبوة والرسالة عزله عن ذلك بحيث لا يصح إطلاق الرسول والنبي عليه عليه السّلام فمعاذ الله أن يعزل رسول أو نبي عن الرسالة أو النبوة بل أكاد لا أتعقل ذلك، ولعله أراد أنه لا يبقى له وصف تبليغ الأحكام عن وحي كما كان له قبل الرفع فهو عليه السّلام نبي رسول قبل الرفع وفي السماء وبعد النزول وبعد الموت أيضا، وبقاء النبوة والرسالة بعد الموت في حقه وحق غيره من الأنبياء والمرسلين عليهم السّلام حقيقة مما ذهب إليه غير واحد فإن المتصف بهما وكذا بالإيمان هو الروح وهي باقية لا تتغير بموت البدن، نعم ذهب الأشعري كما قال النسفي إلى أنهما بعد الموت باقيان حكما، وما أفاده كلام اللقاني من أنه عليه السّلام يحكم بما علم في السماء قبل نزوله من الشريعة قد أفاده السفاريني في البحور الزاخرة وهو الذي أميل له، وأما أنه يجتهد ناظرا في الكتاب والسنّة فبعيد وإن كان عليه   (1) حديث صحيح وفي الصحيحين ما هو بمعناه اهـ منه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 213 السّلام قد أوتي فوق ما أوتي مجتهدو الأمم مما يتوقف عليه الاجتهاد بكثير إذ قد ذهب معظم أهل العلم إلى أنه حين ينزل يصلي وراء المهدي رضي الله تعالى عنه صلاة الفجر وذلك الوقت يضيق عن استنباط ما تضمنته تلك الصلاة من الأقوال والأفعال من الكتاب والسنّة على الوجه المعروف. نعم لا يبعد أن يكون عليه السّلام قد علم في السماء بعضا ووكل إلى الاجتهاد والأخذ من الكتاب والسنّة في بعض آخر، وقيل: إنه عليه السّلام يأخذ الأحكام من نبينا صلّى الله عليه وسلم شفاها بعد نزوله وهو في قبره الشريف عليه الصلاة والسّلام، وأيد بحديث أبي يعلى «والذي نفسي بيده لينزلن عيسى ابن مريم ثم لئن قام على قبري وقال يا محمد لأجيبنه» . وجوز أن يكون ذلك بالاجتماع معه عليه الصلاة والسّلام روحانية ولا بدع في ذلك فقد وقعت رؤيته صلّى الله عليه وسلم بعد وفاته لغير واحد من الكاملين من هذه الأمة والأخذ منه يقظة، قال الشيخ سراج الدين بن الملقن في طبقات الأولياء: قال الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل الظهر فقال لي: يا بني لم لا تتكلم؟ قلت: يا أبتاه أنا رجل أعجم كيف أتكلم على فصحاء بغداد فقال: افتح فاك ففتحته فتفل فيه سبعا وقال: تكلم على الناس وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة فصليت الظهر وجلست وحضرني خلق كثير فأرتج عليّ فرأيت عليا كرّم الله تعالى وجهه قائما بإزائي في المجلس فقال لي: يا بني لم لا تتكلم؟ قلت: يا أبتاه قد أرتج علي فقال: افتح فاك ففتحته فتفل فيه ستا فقلت: لم لا تكملها سبعا قال: أدبا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم توارى عني فقلت: غواص الفكر يغوص في بحر القلب على درر المعارف فيستخرجها إلى ساحل الصدر فينادي عليها سمسار ترجمان اللسان فتشتري بنفائس أثمان حسن الطاعة في بيوت إذن الله أن ترفع، وقال أيضا في ترجمة الشيخ خليفة بن موسى النهر ملكي: كان كثير الرؤية لرسول الله عليه الصلاة والسّلام يقظة ومناما فكان يقال: إن أكثر أفعاله يتلقاه منه صلّى الله عليه وسلم يقظة ومناما ورآه في ليلة واحدة سبع عشرة مرة قال له في إحداهن: يا خليفة لا تضجر مني فكثير من الأولياء مات بحسرة رؤيتي، وقال الشيخ تاج الدين بن عطاء الله في لطائف المنن: قال رجل للشيخ أبي العباس المرسي يا سيدي صافحني بكفك هذه فإنك لقيت رجالا وبلادا فقال: والله ما صافحت بكفي هذه إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: وقال الشيخ لو حجب عني رسول الله صلّى الله عليه وسلم طرفة عين ما عددت نفسي من المسلمين، ومثل هذه النقول كثير من كتب القوم جدا. وفي تنوير الحلك لجلال الدين السيوطي الذي رد به على منكري رؤيته صلّى الله عليه وسلم بعد وفاته في اليقظة طرف معتد به من ذلك، وبدأ في الاستدلال على ذلك بما أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي» وأخرج الطبراني مثله من حديث مالك بن عبد الله الخثعمي ومن حديث أبي بكرة، وأخرج الدارمي مثله من حديث أبي قتادة. وللمنكرين اختلاف في تأويله فقيل: المراد فسيراني في القيامة فهناك اليقظة الكاملة كما يشير إليه الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا. وتعقب بأنه لا فائدة في هذا التخصيص لأن كل أمته يرونه يوم القيامة من رآه منهم في المنام ومن لم يره، وقيل: المراد الرؤية على وجه خاص من القرب والحظوة منه صلّى الله عليه وسلم يوم القيامة أو حصول الشفاعة له أو نحو ذلك، ولا يرد عليه ما ذكر، وقيل: المراد بمن من آمن به لي حياته ولم يره لكونه حينئذ غائبا عنه فيكون الخبر مبشرا له بأنه لا بدّ أن يراه في اليقظة يعني بعيني رأسه، وقيل: بعين قلبه حكاهما القاضي أبو بكر بن العربي، وقال الإمام أبو محمد بن أبي جمرة في تعليقه على الأحاديث التي انتقاها من صحيح البخاري: هذا الحديث يدل على أن من يراه صلّى الله عليه وسلم في النوم فسيراه في اليقظة وهل هذا على عمومه في حياته وبعد مماته عليه الصلاة والسّلام أو هذا كان في حياته وهل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 214 ذلك لكل من رآه مطلقا أو خاص بمن فيه الأهلية والاتباع لسنّته عليه الصلاة والسّلام اللفظ يعطي العموم ومن يدعي الخصوص فيه بغير مخصص منه صلّى الله عليه وسلم فمتعسف، وأطال الكلام في ذلك ثم قال: وقد ذكر عن السلف والخلف وهلم جرا ممن كانوا رأوه صلّى الله عليه وسلم في النوم وكانوا ممن يصدقون بهذا الحديث فرأوه بعد ذلك في اليقظة وسألوه عن أشياء كانوا منها متشوشين فأخبرهم بتفريجها ونص لهم على الوجوه التي منها يكون فرجها فجاء الأمر كذلك بلا زيادة ولا نقص انتهى المراد منه، ثم أن رؤيته صلّى الله عليه وسلم يقظة عند القائلين بها أكثر ما تقع بالقلب ثم يترقى الحال إلى أن يرى بالبصر، واختلفوا في حقيقة المرئي فقال بعضهم المرئي ذات المصطفى صلّى الله عليه وسلم بجسمه وروحه، وأكثر أرباب الأحوال على أنه مثاله وبه صرح الغزالي فقال: ليس المراد أنه يرى جسمه وبدنه بل مثالا له صار ذلك المثال آلة يتأدى بها المعنى الذي في نفسه قال: والآلة تارة تكون حقيقة وتارة تكون خيالية والنفس غير المثال المتخيل فما رآه من الشكل ليس هو روح المصطفى صلّى الله عليه وسلم ولا شخصه بل هو مثال له على التحقيق. وفصل القاضي أبو بكر بن العربي فقال: رؤية النبي صلّى الله عليه وسلم بصفته المعلومة إدراك على الحقيقة ورؤيته على غير صفته إدراك للمثال واستحسنه الجلال السيوطي وقال: بعد نقل أحاديث وآثار ما نصه فحصل من مجموع هذا الكلام النقول والأحاديث أن النبي صلّى الله عليه وسلم حي بجسده وروحه وأنه يتصرف ويسير حيث شاء في أقطار الأرض وفي الملكوت وهو بهيئته التي كان عليها قبل وفاته لم يتبدل منه شيء وأنه مغيب عن الأبصار كما غيبت الملائكة مع كونهم أحياء بأجسادهم فإذا أراد الله تعالى رفع الحجاب عمن أراد إكرامه برؤيته رآه على هيئته التي هو عليه الصلاة والسّلام عليها لا مانع من ذلك ولا داعي إلى التخصيص برؤية المثال اهـ، وذهب رحمه الله تعالى إلى نحو هذا في سائر الأنبياء عليهم السّلام فقال إنهم أحياء ردت إليهم أرواحهم بعد ما قبضوا وأذن لهم في الخروج من قبورهم والتصرف في الملكوت العلوي والسفلي، وهذا الذي ذكره من الخروج من القبور ذكر أخبارا كثيرة تشهد له. منها ما أخرجه ابن حبان في تاريخه والطبراني في الكبير وأبو نعيم في الحلية عن أنس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما من نبي يموت فيقيم في قبره إلا أربعين صباحا» ومنها ما رواه عبد الرزاق في مصنفه عن الثوري عن أبي المقدام عن سعيد بن المسيب قال: ما مكث نبي في الأرض أكثر من أربعين يوما، وأبو المقدام هو ثابت بن هرمز شيخ صالح، ومنها ما ذكره إمام الحرمين في النهاية ثم الرافعي في الشرح أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أنا أكرم على ربي من أن يتركني في قبري بعد ثلاث» زاد إمام الحرمين وروى أكثر من يومين. والذي يغلب على الظن أن رؤيته صلّى الله عليه وسلم بعد وفاته بالبصر ليست كالرؤية المتعارفة عند الناس من رؤية بعضهم لبعض وإنما هي جمعية حالية وحالة برزخية وأمر وجداني لا يدرك حقيقته إلا من باشره، ولشدة شبه تلك الرؤية بالرؤية البصرية المتعارفة يشتبه الأمر على كثير من الرائين فيظن أنه رآه صلّى الله عليه وسلم ببصره الرؤية المتعارفة وليس كذلك، وربما يقال إنها رؤية قلبية ولقوتها تشتبه بالبصرية، والمرئي إما روحه عليه الصلاة والسّلام التي هي أكمل الأرواح تجردا وتقدسا بأن تكون قد تطورت وظهرت بصورة مرئية بتلك الرؤية مع بقاء تعلقها بجسده الشريف الحي في القبر السامي المنيف على حد ما قاله بعضهم من أن جبريل عليه السّلام مع ظهوره بين يدي النبي عليه الصلاة والسّلام في صورة دحية الكلبي أو غيره لم يفارق سدرة المنتهى، وإما جسد مثالي تعلقت به روحه صلّى الله عليه وسلم المجردة القدسية، ولا مانع من أن يتعدد الجسد المثالي إلى ما لا يحصى من الأجساد مع تعلق روحه القدسية عليه من الله تعالى ألف ألف صلاة وتحية بكل جسد منها ويكون هذا التعلق من قبيل تعلق الروح الواحدة بأجزاء بدن واحد ولا تحتاج في إدراكاتها وإحساساتها في ذلك التعلق إلى ما تحتاج إليه من الآلات في تعلقها بالبدن في الشاهد، وعلى ما ذكر يظهر وجه ما نقله الشيخ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 215 صفي الدين بن أبي منصور والشيخ عبد الغفار عن الشيخ أبي العباس الطنجي من أنه رأى السماء والأرض والعرش والكرسي مملوءة من رسول الله صلّى الله عليه وسلم وينحل به السؤال عن كيفية رؤية المتعددين له عليه الصلاة والسّلام في زمان واحد في أقطار متباعدة. ولا يحتاج معه إلى ما أشار إليه بعضهم وقد سئل عن ذلك فأنشد: كالشمس في كبد السماء وضوءها ... يغشى البلاد مشارقا ومغاربا وهذه الرؤية إنما تقع في الأغلب للكاملين الذين لم يخلوا باتباع الشريعة قدر شعيرة، ومتى قويت المناسبة بين رسول الله صلّى الله عليه وسلم وبين أحد من الأمة قوي أمر رؤيته إياه عليه الصلاة والسّلام، وقد تقع لبعض صلحاء الأمة عند الاحتضار لقوة الجمعية حينئذ، والرؤية التي تكون يقظة لمن رآه صلّى الله عليه وسلم في المنام إن كانت في الدنيا فهي على نحو رؤية بعض الكاملين إياه صلّى الله عليه وسلم وهي أكمل من الرؤيا وإن كان المرئي فيهما هو رسول الله عليه الصلاة والسّلام، وآخر مظان تحققها وقت الموت. ولعل الأغلب في حق العامة تحققها فيه، وإن كانت في الآخرة فالأمر فيها واضح ويرجح عندي كونها في الآخرة على وجه خاص من القرب والحظوة وما شاكل ذلك أن البشارة في الخبر عليه أبلغ، ثم إن الخبر المذكور فيما مر مذكور في صحيح مسلم بالسند إلى أبي هريرة أنه قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: من رآني في المنام فسيراني في اليقظة أو لكأنما رآني في اليقظة لا يتمثل الشيطان بي» فلا قطع على هذه الرواية بأنه عليه الصلاة والسّلام قال: فسيراني فإن كان الواقع في نفس الأمر ذلك فالكلام فيه ما سمعت، وإن كان الواقع لكأنما رآني فهو كقوله صلّى الله عليه وسلم في خبر آخر: «فقد رآني» وفي آخر أيضا «فقد رأى الحق» والمعنى أن رؤياه صحيحة، وما تقدم من أن الأنبياء عليهم السّلام يخرجون من قبورهم أي بأجسامهم وأرواحهم كما هو الظاهر ويتصرفون في الملكوت العلوي والسفلي فمما لا أقول به، والخبر السابق الذي أخرجه ابن حبان والطبراني وأبو نعيم عن أنس وهو قوله صلّى الله عليه وسلم: «ما من نبي يموت فيقيم في قبره إلا أربعين صباحا» قد أخرجوه عن الحسن بن سفيان عن هشام بن خالد الأزرق عن الحسن بن يحيى الخشني عن سعيد بن عبد العزيز عن يزيد بن أبي مالك عن أنس رضي الله تعالى عنه وقال فيه ابن حبان: هو باطل والخشني منكر الحديث جدا يروي عن الثقات ما لا أصل له. وفي الميزان عن الدارقطني الخشني متروك ومن ثم حكم ابن الجوزي بوضع الحديث وهو مع ذلك بعض حديث والحديث بتمامه عند الطبراني «ما من نبي يموت فيقيم في قبره إلا أربعين صباحا حتى ترد إليه روحه ومررت ليلة أسري بي بموسى وهو قائم يصلي في قبره» وهو على هذا لا يدل على أنه بعد الأربعين لا يقيم في قبره بل يخرج منه وإنما يدل على أنه لا يبقى في القبر ميتا كسائر الأموات أكثر من أربعين صباحا بل ترد إليه روحه ويكون حيا، وأين هذا من دعوى الخروج من القبر بعد الأربعين، والحياة في القبر لا تستلزم الخروج وأنا أقول بها في حق الأنبياء عليهم السّلام، وقد ألف البيهقي جزءا في حياتهم في قبورهم وأورد فيه عدة أخبار. ولا يضرني بعد ظهور أن الحديث السابق لا يدل على الخروج المنازعة في وصفه وبلوغه بما له من الشواهد درجة الحسن، والأخبار المذكورة بعد فيما سبق المراد منها كلها إثبات الحياة في القبر بضرب من التأويل، والمراد بتلك الحياة نوع من الحياة غير معقول لنا وهي فوق حياة الشهداء بكثير، وحياة نبينا صلّى الله عليه وسلم أكمل وأتم من حياة سائرهم عليهم السّلام، وخبر «ما من مسلم يسلم على إلا رد الله تعالى علي روحي حتى أرد عليه السّلام» محمول على إثبات الجزء: 11 ¦ الصفحة: 216 إقبال خاص والتفات روحاني يحصل من الحضرة الشريفة النبوية إلى عالم الدنيا وتنزل إلى عالم البشرية حتى يحصل عند ذلك رد السلام، وفيه توجيهات أخر مذكورة في محلها، ثم إن تلك الحياة في القبر وإن كانت يترتب عليها بعض ما يترتب على الحياة في الدنيا المعروفة لنا من الصلاة والأذان والإقامة ورد السلام المسموع ونحو ذلك إلا أنها لا يترتب عليها كل ما يمكن أن يترتب على تلك الحياة المعروفة ولا يحس بها ولا يدركها كل أحد فلو فرض انكشاف قبر نبي من الأنبياء عليهم السّلام لا يرى الناس النبي فيه إلا كما يرون سائر الأموات الذين لم تأكل الأرض أجسادهم، وربما يكشف الله تعالى على بعض عباده فيرى ما لا يرى الناس، ولولا هذا لأشكل الجمع بين الأخبار الناطقة بحياتهم في قبورهم، وخبر أبي يعلى وغيره بسند صحيح كما قال الهيثمي مرفوعا إن موسى نقل يوسف من قبره بمصر ، ثم إني أقول بعد هذا كله إن ما نسب إلى بعض الكاملين من أرباب الأحوال من رؤية النبي صلّى الله عليه وسلم بعد وفاته وسؤاله والأخذ عنه لم نعلم وقوع مثله في الصدر الأول، وقد وقع اختلاف بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم من حين توفي عليه الصلاة والسّلام إلى ما شاء الله تعالى في مسائل دينية وأمور دنيوية وفيهم أبو بكر وعلي رضي الله تعالى عنهما وإليهما ينتهي أغلب سلاسل الصوفية الذين تنسب إليهم تلك الرؤية ولم يبلغنا أن أحدا منهم ادعى أنه رأى في اليقظة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأخذ عنه ما أخذ، وكذا لم يبلغنا أنه صلّى الله عليه وسلم ظهل لمتحير في أمر من أولئك الصحابة الكرام فأرشده وأزال تحيره، وقد صح عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال في بعض الأمور: ليتني كنت سألت رسول الله عليه الصلاة والسّلام عنه، ولم يصح عندنا أنه توسل إلى السؤال منه صلّى الله عليه وسلم بعد الوفاة نظير ما يحكى عن بعض أرباب الأحوال، وقد وقفت على اختلافهم في حكم الجد مع الأخوة فهل وقفت على أن أحدا منهم ظهر له الرسول صلّى الله عليه وسلم فأرشده إلى ما هو الحق فيه، وقد بلغك ما عرا فاطمة البتول رضي الله تعالى عنها من الحزن العظيم بعد وفاته صلّى الله عليه وسلم وما جرى لها في أمر فدك فهل بلغك أنه عليه الصلاة والسّلام ظهر لها كما يظهر للصوفية فبل لوعتها وهون حزنها وبين الحال لها وقد سمعت بذهاب عائشة رضي الله تعالى عنها إلى البصرة وما كان من وقعة الجمل فهل سمعت تعرضه صلّى الله عليه وسلم لها قبل الذهاب وصده إياها عن ذلك لئلا يقع أو تقوم الحجة عليها على أكمل وجه إلى غير ذلك مما لا يكاد يحصى كثرة، والحاصل أنه لم يبلغنا ظهوره عليه الصلاة والسّلام لأحد من أصحابه وأهل بيته وهم هم مع احتياجهم الشديد لذلك وظهوره عند باب مسجد قباء كما يحكيه بعض الشيعة افتراء محض وبهت بحت وبالجملة عدم ظهوره لأولئك الكرام، وظهوره لمن بعدهم مما يحتاج إلى توجيه يقنع به ذوو الأفهام، ولا يحسن معنى أن أقول: كل ما يحكى عن الصوفية من ذلك كذب لا أصل له لكثرة حاكيه وجلالة مدعيه، وكذا لا يحسن مني أن أقول: إنهم إنما رأوا النبي صلّى الله عليه وسلم مناما فظنوا ذلك لخفة النوم وقلة وقته يقظة فقالوا: رأينا يقظة لما فيه من البعد ولعل في كلامهم ما يأباه، وغاية ما أقول: إن تلك الرؤية من خوارق العادة كسائر كرامات الأولياء ومعجزات الأنبياء عليهم السّلام وكانت الخوارق في الصدر الأول لقرب العهد بشمس الرسالة قليلة جدا وأنى يرى النجم تحت الشعاع أو يظهر كوكب وقد انتشر ضوء الشمس في البقاع فيمكن أن يكون قد وقع ذلك لبعضهم على سبيل الندرة ولم تقتض المصلحة إفشاءه، ويمكن أن يقال: إنه لم يقع لحكمة الابتلاء أو لخوف الفتنة أو لأن في القوم من هو كالمرآة له صلّى الله عليه وسلم أو ليهرع الناس إلى كتاب الله تعالى وسنّته صلّى الله عليه وسلم فيما يهمهم فيتسع باب الاجتهاد وتنتشر الشريعة وتعظم الحجة التي يمكن أن يعقلها كل أحد أو لنحو ذلك. وربما يدعي أنه عليه الصلاة والسّلام ظهر ولكن كان متسترا في ظهوره كما روي أن بعض الصحابة أحب أن يرى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فجاء إلى ميمونة فأخرجت له مرآته فنظر فيها فرأى صورة رسول الله عليه الصلاة والسّلام ولم ير صورة نفسه فهذا كالظهور الذي يدعيه الصوفية إلا أنه بحجاب المرآة، وليس من باب التخيل الذي قوي بالنظر إلى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 217 مرآته عليه الصلاة والسّلام وملاحظة أنه كثيرا ما ظهرت فيها صورته حسبما ظنه ابن خلدون. فإن قبل قولي هذا وتوجيهي لذلك الأمر فبها ونعمت وإلا فالأمر مشكل فاطلب لك ما يحله والله سبحانه الموفق للصواب. هذا وقيل يجوز أن يكون عيسى عليه السّلام قد تلقى من نبينا عليه الصلاة والسّلام أحكام شريعته المخالفة لما كان عليه وهو من الشريعة حال اجتماعه معه قبل وفاته في الأرض لعلمه أنه سينزل ويحتاج إلى ذلك واجتماعه معه كذلك جاء في الأخبار. أخرج ابن عدي عن أنس «بينا نحن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذ رأينا بردا ويدا فقلنا يا رسول الله ما هذا البرد الذي رأينا واليد؟ قال: قد رأيتموه قالوا: نعم قال: ذلك عيسى ابن مريم سلم عليّ» وفي رواية ابن عساكر عنه «كنت أطوف مع النبي صلّى الله عليه وسلم حول الكعبة إذ رأيته صافح شيئا ولم أره قلنا: يا رسول الله صافحت شيئا ولا نراه قال: ذلك أخي عيسى ابن مريم انتظرته حتى قضى طوافه فسلمت عليه» ومن هنا عد عليه السّلام من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وقيل: إنه عليه السّلام بعد نزوله يتلقى أحكام شريعتنا من الملك بأن يعلمه إياها أو يوقفه عليها لا على وجه الإيحاء بها عليه من جهته عزّ وجلّ وبعثته بها ليكون في ذلك رسالة جديدة متضمنة نبوة جديدة، وقد دل قوله تعالى: وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ على انقطاعها بل على نحو تعليم الشيخ ما علمه من الشريعة تلميذه، ومجرد الاجتماع بالملك والأخذ عنه وتكليمه لا يستدعي النبوة، ومن توهم استدعاءه إياها فقد حاد- كما قال اللقاني- عن الصواب فقد كلمت الملائكة عليهم السّلام مريم وأم موسى في قول ورجلا خرج لزيارة أخ له في الله تعالى وبلغته أن الله عزّ وجلّ يحبه كحبه لأخيه فيه. وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الذكر عن أنس قال: قال أبي بن كعب لأدخلن المسجد فلأصلين ولأحمدن الله تعالى بمحامد لم يحمده بها أحد فلما صلى وجلس ليحمد الله تعالى ويثني عليه إذا هو بصوت عال من خلف يقول: اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله علانيته وسره لك الحمد إنك على كل شيء قدير اغفر لي ما مضى من ذنوبي واعصمني فيما بقي من عمري وارزقني أعمالا زاكية ترضى بها عني وتب عليّ فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقص عليه فقال: ذاك جبريل عليه السّلام ، والأخبار طافحة برؤية الصحابة للملك وسماعهم كلامه، وكفي دليلا لما نحن فيه قوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت: 30] الآية فإن فيها نزول الملك على غير الأنبياء في الدنيا وتكليمه إياه ولم يقل أحد من الناس: إن ذلك يستدعي النبوة وكون ذلك لأن النزول والتكليم قبيل الموت غير مفيد كما لا يخفى، وقد ذهب الصوفية إلى نحو ما ذكرناه، قال حجة الإسلام الغزالي في كتابه- المنقذ من الضلال- أثناء الكلام على مدح أولئك السادة: ثم إنهم وهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم أصواتا ويقتبسون منهم فوائد ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق. وقال تلميذه القاضي أبو بكر بن العربي أحد أئمة المالكية في كتابه قانون التأويل: ذهبت الصوفية إلى أنه إذا حصل للانسان طهارة النفس وتزكية القلب وقطع العلائق وحسم مواد أسباب الدنيا من الجاه والمال والخلطة بالجنس والإقبال على الله تعالى بالكلية علما دائما وعملا مستمرا كشفت له القلوب ورأى الملائكة وسمع كلامهم واطلع على أرواح الأنبياء والملائكة، وسماع كلامهم ممكن للمؤمن كرامة وللكافر عقوبة اهـ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 218 ونسب إلى بعض أئمة أهل البيت أنه قال: إن الملائكة لتزاحمنا في بيوتنا بالركب، والظاهر من كلامهم أن الاجتماع بهم والأخذ عنهم لا يكون إلا للكاملين ذوي النفوس القدسية وأن الإخلال بالسنّة مانع كبير عن ذلك، ويرشد إليه ما أخرجه مسلم في صحيحه عن مطرف قال: قال لي عمران بن حصين قد كان ملك يسلم على حتى اكتويت فترك ثم تركت المكي فعاد، ويعلم مما ذكرنا أن مدعيه إذا كان مخالفا لحكم الكتاب والسنّة كاذب لا ينبغي أن يصغي إليه ودعواه باطلة مردودة عليه فأين الظلمة من النور والنجس من الطهور، ثم إنه لا طريق إلى معرفة كون المجتمع به ملكا بعد خبر الصادق سوى العلم الضروري الذي يخلقه الله تعالى في العبد بذلك ويقطع بعدم كونه ملكا متى خالف ما ألقاه وأتى به الكتاب أو السنّة أو إجماع الأمة ومثله فيما أرى التكلم بما يشبه الهذيان ويضحك منه الصبيان وينبغي لمن وقع له ذلك أن لا يشيعه ويعلن به لما فيه من التعرض للفتنة، فقد أخرج مسلم عن مطرف أيضا من وجه آخر قال: بعث إليّ عمران بن حصين في مرضه الذي توفي فيه فقال: إني محدثك فإن عشت فاكتم عني وإن مت فحدث بها إن شئت إنه قد سلم عليّ- وفي رواية الحاكم في المستدرك- اعلم يا مطرف أنه كان يسلم على الملائكة عند رأسي وعند البيت وعند باب الحجرة فلما اكتويت ذهب ذلك قال: فلما برأ كلمه قال: اعلم يا مطرف أنه عاد إلى الذي كنت أكتم عليّ حتى أموت، وكذا ينبغي أن لا يقول لإلقاء الملك عليه إيحاء لما فيه من الإيهام القبيح وهو إيهام وحي النبوة الذي يكفر مدعيه بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم بلا خلاف بين المسلمين، وأطلق بعض الغلاة من الشيعة القول بالإيحاء إلى الأئمة الأطهار وهم رضي الله تعالى عنهم بمعزل عن قبول قول أولئك الأشرار. فقد روي أن سديرا الصير في سأل جعفرا الصادق رضي الله تعالى عنه فقال: جعلت فداك إن شيعتكم اختلفت فيكم فأكثرت حتى قال بعضهم: إن الإمام ينكت في أذنه، وقال آخرون: يوحى إليه، وقال آخرون: يقذف في قلبه، وقال آخرون: يرى في منامه، وقال آخرون: إنما يفتي بكتب آبائه فبأي جوابهم آخذ يجعلني الله تعالى فداك؟ قال: لا تأخذ بشيء مما يقولون يا سدير نحن حجج الله تعالى وأمناؤه على خلقه حلالنا من كتاب الله تعالى وحرامنا منه، حكاه محمد بن عبد الكريم الشهرستاني في أول تفسيره مفاتيح الأسرار وقد ظهر في هذا العصر (1) عصابة من غلاة الشيعة لقبوا أنفسهم بالبابية لهم في هذا الباب فصول يحكم بكفر معتقدها كل من انتظم في سلك ذوي العقول، وقد كاد يتمكن عرقهم في العراق لولا همة واليه النجيب الذي وقع على همته وديانته الاتفاق حيث خذلهم نصره الله تعالى وشتت شملهم وغضب عليهم رضي الله تعالى عنه وأفسد عملهم فجزاه الله تعالى عن الإسلام خيرا ودفع عنه في الدارين ضيما وضيرا. وادعى بعضهم الوحي إلى عيسى عليه السّلام بعد نزوله، وقد سئل عن ذلك ابن حجر الهيثمي فقال نعم يوحي إليه عليه السّلام وحي حقيقي كما في حديث مسلم وغيره عن النواس بن سمعان، وفي رواية صحيحة «فبينما هو كذلك إذ أوحى الله تعالى يا عيسى إني أخرجت عبادا لي لا يد لأحد بقتالهم فحول عبادي إلى الطور وذلك الوحي على لسان جبريل عليه السّلام إذ هو السفير بين الله تعالى وأنبيائه» لا يعرف ذلك لغيره، وخبر لا وحي بعدي باطل، وما اشتهر أن جبريل عليه السّلام لا ينزل إلا الأرض بعد موت النبي صلّى الله عليه وسلم فهو لا أصل له، ويرده خبر الطبراني ما أحب أن يرقد الجنب حتى يتوضأ فإني أخاف أن يتوفى وما يحضره جبريل عليه السّلام فإنه يدل على أن جبريل ينزل إلى الأرض ويحضر موت كل مؤمن توفاه الله تعالى وهو على طهارة اهـ، ولعل من نفي الوحي عنه عليه السّلام بعد نزوله أراد وحي التشريع وما ذكر وحي لا تشريع فيه فتأمل. وكونه صلّى الله عليه وسلم خاتم النبيين مما نطق به الكتاب   (1) سنة 1261 اهـ منه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 219 وصدعت به السنّة وأجمعت عليه الأمة فيكفر مدعي خلافه ويقتل إن أصر. ومن السنة ما أخرج أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن مردويه عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى دارا بناه فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها فجعل الناس يطوفون به ويتعجبون له ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين» وصح عن جابر مرفوعا نحو هذا، وكذا عن أبي بن كعب وأبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهم، وللشيخ محيي الدين بن عربي قدس سره كلام في حديث اللبنة قد انتقده عليه جماعة من الأجلة فعليك بالتمسك بالكتاب والسنّة والله تعالى الحافظ من الوقوع في المحنة، ونصب رَسُولَ على إضمار كان لدلالة كان المتقدمة عليه والواو عاطفة للجملة الاستدراكية على ما قبلها، وكون لكن المخففة عند الجمهور للعطف إنما هو عند عدم الواو وكون ما بعدها مفردا، وجوز أن يكون النصب بالعطف على أَبا أَحَدٍ وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو «ولكنّ» بالتشديد فنصب «رسول» على أنه اسم لكن والخبر محذوف تقديره ولكن رسول الله وخاتم النبيين هو أي محمد صلّى الله عليه وسلم، وقال الزمخشري: تقديره ولكن رسول الله من عرفتموه أي لم يعش له ولد ذكر، وحذف خبر لكن وأخواتها جائز إذا دل عليه الدليل، ومما جاء في لكن قول الشاعر: فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي ... ولكن زنجيا عظيم المشافر أي ولكن زنجيا عظيم المشافر أنت، وفيه بحث لا يخفى على ذي معرفة، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وابن أبي عبلة بتخفيف «لكن» ورفع «رسول» - و «خاتم» أي ولكن هو رسول الله إلخ كما قال الشاعر: ولست الشاعر السفاف فيهم ... ولكن مدرة الحرب العوالي أي ولكن أنا مدرة وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ أعم من أن يكون موجودا أو معدوما عَلِيماً فيعلم سبحانه الأحكام والحكم التي بينت فيما سبق والحكمة في كونه عليه الصلاة والسّلام خاتم النبيين. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ بما هو جل وعلا أهله من التهليل والتحميد والتمجيد والتقديس ذِكْراً كَثِيراً يعم أغلب الأوقات والأحوال كما قال غير واحد، وعن ابن عباس الذكر الكثير أن لا ينسى جل شأنه، وروي ذلك عن مجاهد أيضا، وقيل: إن يذكر سبحانه بصفاته العلى وأسمائه الحسنى وينزه عما لا يليق به، وعن مقاتل هو أن يقال: سبحان الله والحمد الله ولا إله إلّا الله والله أكبر على كل حال، وعن العترة الطاهرة رضي الله تعالى عنهم من قال ذلك ثلاثين مرة فقد ذكر الله تعالى ذكرا كثيرا ، وفي مجمع البيان عن الواحدي بسنده إلى الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس قال: جاء جبريل عليه السّلام إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: يا محمد قل سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم عدد ما علم وزنة ما علم وملء ما علم فإنه من قالها كتب له بها ست خصال كتب من الذاكرين الله تعالى كثيرا وكان أفضل من ذكره بالليل والنهار وكن له غرسا في الجنة وتحاتت عنه خطاياه كما تحات ورق الشجرة اليابسة وينظر الله تعالى إليه ومن نظر الله تعالى إليه لم يعذبه كذا رأيته في مدونه فلا تغفل، وقال بعضهم: مرجع الكثرة العرف. وَسَبِّحُوهُ ونزهوه سبحانه عما لا يليق به بُكْرَةً وَأَصِيلًا أي أول النهار وآخره، وتخصيصهما بالذكر ليس لقصر التسبيح عليهما دون سائر الأوقات بل لأنافه فضلهما على سائر الأوقات لكونهما تحضرهما ملائكة الليل والنهار وتلتقي فيهما كأفراد التسبيح من بين الأذكار مع اندراجه فيها لكونه العمدة بينها، وقيل: كلا الأمرين متوجه إليهما كقولك: صم وصلّ يوم الجمعة، وبتفسير الذكر الكثير بما يعم أغلب الأوقات لا تبقى حاجة إلى تعلقهما بالأول الجزء: 11 ¦ الصفحة: 220 وعن ابن عباس أن المراد بالتسبيح الصلاة أي بإطلاق الجزء على الكل والتسبيح بكرة صلاة الفجر والتسبيح أصيلا صلاة العشاء، وعن قتادة نحو ما روي عن ابن عباس إلا أنه قال: أشار بهذين الوقتين إلى صلاة الغداة وصلاة العصر وهو أظهر مما روي عن الحبر وتعقب ما روي عنهما بأن فيه تجوزا من غير ضرورة، وقد يقال: إن التسبيح على حقيقته لكن التسبيح بكرة بالصلاة فيها والتسبيح أصيلا بالصلاة فيه فتأمل وجوز أن يكون المراد بالذكر المأمور به تكثير الطاعات والإقبال عليها فإن كل طاعة من جملة الذكر ثم خص من ذلك التسبيح بكرة وأصيلا أي الصلاة في جمع أوقاتها أو صلاة الفجر والعصر أو الفجر والعشاء لفضل الصلاة على غيرها من الطاعات البدنية، ولا يخفى بعده هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ إلخ استئناف جار مجرى التعليل لما قبله من الأمرين وَمَلائِكَتُهُ عطف على الضمير في يُصَلِّي لمكان الفصل المغني عن التأكيد بالمنفصل لا على هُوَ والصلاة في المشهور- وروي ذلك عن ابن عباس- من الله تعالى رحمة ومن الملائكة استغفار ومن مؤمني الإنس والجن دعاء، ويجوز على رأي من يجوز استعمال اللفظ في معنيين أن يراد بالصلاة هنا المعنيان الأولان فيراد بها أولا الرحمة وثانيا الاستغفار، ومن لا يجوز كأصحابنا يقول بعموم المجاز بأن يراد بالصلاة معنى مجازي عام يكون كلا المعنيين فردا حقيقيا له وهو إما الاعتناء ربما فيه خير المخاطبين وصلاح أمرهم فإن كلا من الرحمة والاستغفار فرد حقيقي له وهذا المجاز من الصلاة بمعنى الدعاء وهو إما استعارة لأن الاعتناء يشبه الدعاء لمقارنة كل منهما لإرادة الخير والأمر المحبوب أو مجاز مرسل لأن الدعاء مسبب عن الاعتناء وأما الترحم والانعطاف المعنوي المأخوذ من الصلاة المعروفة المشتملة على الانعطاف الصوري الّذي هو الركوع والسجود، ولا ريب في أن استغفار الملائكة عليهم السّلام ودعاءهم للمؤمنين ترحم عليهم، وأما أن ذلك سبب للرحمة لكونهم مجابي الدعوة كما قيل ففيه بحث، ورجح جعل المعنى العام ما ذكر بأنه أقرب لما بعد فإنه نص عليه فيه بقوله تعالى: وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً فدل على أن المراد بالصلاة الرحمة. واعترض بأن رحم متعد وصلى قاصر فلا يحسن تفسيره به، وبأنه يستلزم جواز رحم عليه، وبأنه تعالى غاير بينهما بقوله سبحانه: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ [البقرة: 157] للعطف الظاهر في المغايرة، وأجيب بأنه ليس المراد بتفسير صلى برحم إلا بيان أن المعنى الموضوع له صلى هو الموضوع له رحم مع قطع النظر عن معنى التعدي واللزوم فإن الرديفين قد يختلفان في ذلك وهو غير ضار فزعم أن ذلك لا يحسن وأنه يلزم جواز رحم عليه ليس في محله على أنه يحسن تعدية صلى بعلي دون رحم لما في الأول من ظهور معنى التحنن والتعطف والعطف لأن الصلاة رحمة خاصة ويكفي هذا القدر من المغايرة، وقيل: إن تعدد الفاعل صير الفعل كالمتعدد فكأن الرحمة مرادة من لفظ والاستغفار مراد من آخر فلا حاجة إلى القول بعموم المجاز وليس هناك استعمال لفظ واحد حقيقة وحكما في معنيين وهو كما ترى، ومثله كون مَلائِكَتُهُ مبتدأ خبره محذوف لدلالة ما قبل عليه كأنه قيل هو الّذي يصلي عليكم وملائكته يصلون عليكم فهناك لفظان حقيقة كل منهما بمعنى، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يزيدك علما بأمر الصلاة، وسبب نزول الآية ما أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر قال: لما نزلت: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب: 56] قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: ما أنزل الله تعالى عليك خيرا إلا أشركنا فيه فنزلت هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي من ظلمات المعاصي إلى نور الطاعة، وقال الطبرسي: من الجهل بالله تعالى إلى معرفته عزّ وجلّ فإن الجهل أشبه شيء بالظلمة والمعرفة أشبه شيء بالنور، وقال ابن زيد: أي من الضلالة إلى الهدى، وقال مقاتل: من الكفر إلى الإيمان، وقيل: من النار إلى الجنة حكاه الماوردي، وقيل: من القبور إلى البحث حكاه أبو حيان وليس بشيء، واللام متعلقة بيصلي أي يعتني بكم هو سبحانه وملائكته ليخرجكم أو يترحم هو عزّ وجلّ وملائكته ليخرجكم بذلك من الظلمات إلى النور وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً الجزء: 11 ¦ الصفحة: 221 اعتراض مقرر لمضمون ما قبله أي كان سبحانه بكافة المؤمنين الذين أنتم من زمرتهم كامل الرحمة ولذا يفعل بكم ما يفعل بالذات وبالواسطة أو كان بكم رحيما على أن المؤمنين مظهر وضع موضع المضمر مدحا لهم وإشعارا بعلة الرحمة، وقوله تعالى تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ بيان للأحكام الآجلة لرحمته تعالى بهم بعد بيان آثارها العاجلة من الإخراج المذكور، والتحية أن يقال: حياك الله أي جعل لك حياة وذلك إخبار ثم يجعل دعاء، ويقال حيا فلان فلانا تحية إذا قال له ذلك، وأصل هذا اللفظ من الحياة ثم جعل كل دعاء تحية لكون جميعه غير خارج عن حصول الحياة أو سبب حياة أم لدينا أو لآخرة. وهو هنا مصدر مضاف إلى المفعول وقع مبتدأ وسَلامٌ مرادا به لفظه خبره، والمراد ما يحييهم الله تعالى به ويقوله لهم يوم يلقونه سبحانه ويدخلون دار كرامته سلام أي هذا اللفظ. روي أن الله تعالى يقول: سلام عليكم عبادي أنا عنكم راض فهل أنتم عني راضون فيقولون: بأجمعهم يا ربنا إنا راضون كل الرضا وورد أن الله تعالى يقول: السلام عليكم مرحبا بعبادي المؤمنين الذين أرضوني في دار الدنيا باتباع أمري، وقيل: تحييهم الملائكة عليهم السّلام بذلك إذا دخلوا الجنة كما قال تعالى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ. وقيل: تحييهم عند الخروج من القبور فيسلمون عليهم ويبشرونهم بالجنة، وقيل عند الموت. وروي عن ابن مسعود أنه قال: إذا جاء ملك الموت لقبض روح المؤمن قال: ربك يقرئك السلام ، قيل: فعلى هذا الهاء في يَلْقَوْنَهُ كناية عن غير مذكور وهو ملك الموت، ولا ضرورة تدعو لذلك إذ لا مانع من أن يكون الضمير لله تعالى عليه كما هو كذلك على الأقوال الآخر جميعا. ولقاء الله تعالى على ما أشار إليه الإمام عبارة عن الإقبال عليه تعالى بالكلية بحيث لا يعرض للشخص ما يشغله ويلهيه أو يوجب غفلته عنه عزّ وجلّ ويكون ذلك عند دخول الجنة وفيها وعند البعث وعند الموت. وقال الراغب: ملاقاة الله تعالى عبارة عن القيامة وعن المصير إليه عزّ وجلّ، وقال الطبرسي: هي ملاقاة ثوابه تعالى وهو غير ظاهر على جميع الأقوال السابقة بل ظاهر على بعضها كما لا يخفى، وعن قتادة في الآية أنهم يوم دخولهم الجنة يحيي بعضهم بعضا بالسلام أي سلمنا وسلمت من كل مخوف، والتحية عليه على ما قال الخفاجي مصدر مضاف للفاعل. وفي البحر هي عليه مصدر مضاف للمحيي والمحيي لا على جهة العمل لأن الضمير الواحد لا يكون فاعلا مفعولا ولكنه كقوله تعالى: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ [الأنبياء: 78] أي للحكم الّذي جرى بينهم. وكذا يقال هنا التحية الجارية بينهم هي سلام، وقول المحيي في ذلك اليوم سلام إخبار لا دعاء لأنه أبلغ على ما قيل فتدبر، وأحرى الأقوال بالقبول عندي أن الله تعالى يسلم عليهم يوم يلقونه إكراما لهم وتعظيما. وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً أي وهيأ عزّ وجلّ لهم ثوابا حسنا، والظاهر أن التهيئة واقعة قبل دخول الجنة والتحية ولذا لم تخرج الجملة مخرج ما قبلها بأن يقال وأجرهم أجر كريم أي ولهم أجر كريم، وقيل: هي بعد الدخول والتحية فالكلام لبيان لآثار رحمته تعالى الفائضة عليهم بعد دخول الجنة عقيب بيان آثار رحمته الواصلة إليهم قبل ذلك، ولعل إيثار الجملة الفعلية على الاسمية المناسبة لما قبلها للمبالغة في الترغيب والتشويق إلى الموعود ببيان أن الأمر الّذي هو المقصد الأقصى من بين سائر آثار الرحمة موجود بالفعل مهيأ لهم مع ما فيه من مراعاة الفواصل يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً على من بعثت إليهم تراقب أحوالهم وتشاهد أعمالهم وتتحمل عنهم الشهادة بما صدر عنهم من التصديق والتكذيب وسائر ما هم عليه من الهدى والضلال وتؤديها يوم القيامة أداء مقبولا فيما لهم وما عليهم، وهو الجزء: 11 ¦ الصفحة: 222 حال مقدرة وإن اعتبر الإرسال أمرا ممتدا لاعتبار التحمل والأداء في الشهادة، والإرسال بذلك الاعتبار وإن قارن التحمل إلا أنه غير مقارن للاداء وإن اعتبر الامتداد. وقيل: بإطلاق الشهادة على التحمل فقط تكون الحال مقارنة والأحوال المذكورة بعد على اعتبار الامتداد مقارنة، ولك أن لا تعتبره أصلا فتكون الأحوال كلها مقدرة، ثم أن تحمل الشهادة على من عاصره صلّى الله عليه وسلم واطلع على عمله أمر ظاهر، وأما تحملها على من بعده بأعيانهم فإن كان مرادا أيضا ففيه خفاء لأن ظاهر الأخبار أنه عليه الصلاة والسلام لا يعرف أعمال من بعده بأعيانهم، روى أبو بكر وأنس وحذيفة وسمرة وأبو الدرداء عنه صلّى الله عليه وسلم ليردن على ناس من أصحابي الحوض حتى إذا رأيتهم وعرفتهم اختلجوا دوني فأقول: يا رب أصيحابي أصيحابي فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك . نعم قد يقال: إنه عليه الصلاة والسلام يعلم بطاعات ومعاص تقع بعده من أمته لكن لا يعلم أعيان الطائعين والعاصين، وبهذا يجمع بين الحديث المذكور وحديث عرض الأعمال عليه صلّى الله عليه وسلم كل أسبوع أو أكثر أو أقل، وقيل: يجمع بابه عليه الصلاة والسلام يعلم الأعيان أيضا إلا أنه نسي فقال: أصيحابي، ولتعظيم قبح ما أحدثوا قيل له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، وقيل: يعرض ما عدا الكفر وهون كما ترى، وأما زعم أن التحمل على من بعده إلى يوم القيامة لما أنه صلّى الله عليه وسلم حي بروحه وجسده يسير حيث شاء في أقطار الأرض والملكوت فمبني على ما علمت حاله، ولعل في هذين الخبرين ما يأباه كما لا يخفى على المتدبر، وأشار بعض السادة الصوفية إلى أن الله تعالى قد أطلعه صلّى الله عليه وسلم على أعمال العباد فنظر إليها ولذلك أطلق عليه عليه الصلاة والسلام شاهد. قال مولانا جلال الدين الرومي قدس سره العزيز في مثنويه: در نظر بودش مقامات العباد ... زان سبب نامش خدا شاهد نهاد فتأمل ولا تغفل، وقيل: المراد شاهدا على جميع الأمم يوم القيامة بأن أنبياءهم قد بلغوهم الرسالة ودعوهم إلى الله تعالى، وشهادته بذلك لما علمه من كتابه المجيد، وقيل: المراد شاهدا بأن لا إله إلا الله وَمُبَشِّراً تبشر الطائعين بالجنة وَنَذِيراً تنذر الكافرين والعاصين بالنار، ولعموم الإنذار وخصوص التبشير قيل: مبشرا ونذيرا على صيغة المبالغة دون ومنذرا مع أن ظاهر عطفه على مُبَشِّراً يقتضي ذلك وقدم التبشير لشرف المبشرين ولأنه المقصود الأصلي إذ هو صلّى الله عليه وسلم رحمة للعالمين وكأنه لهذا جبر ما فاته من المبالغة بقوله تعالى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ وَداعِياً إِلَى اللَّهِ أي إلى الإقرار به سبحانه وبوحدانيته وبسائر ما يجب الإيمان به من صفاته وأفعاله عزّ وجلّ، ولعل هذا هو مراد ابن عباس وقتادة من قولهما أي شهادة أن لا إله إلا الله بِإِذْنِهِ أي بتسهيله وتيسيره تعالى، وأطلق الإذن على التسهيل مجازا لما أنه من أسبابه لا سيما الإذن من الله عزّ وجلّ ولم يحمل على حقيقته وإن صح هنا أن يأذن الله تعالى شأنه له عليه الصلاة والسلام حقيقة في الدعوة لأنه قد فهم من قوله سبحانه: إنا أرسلناك داعيا أنه صلّى الله عليه وسلم مأذون له في الدعوة، ومما ذكر يعلم أن بِإِذْنِهِ من متعلقات داعيا، وقيدت الدعوة بذلك إيذانا بأنها أمر صعب المنال وخطب في غاية الإعضال لا يتأتى إلا بإمداد من جناب قدسه كيف لا وهو صرف للوجوه عن القبل المعبودة وإدخال للأعناق في قلادة غير معهودة، وجوز رجوع القيد للجميع والأول أظهر وَسِراجاً مُنِيراً يستضيء به الضالون في ظلمات الجهل والغواية ويقتبس من نوره أنوار المهتدين إلى مناهج الرشد والهداية، وهو تشبيه إما مركب عقلي أو تمثيل منتزع من عدا أمور أو مفرق، وبولغ في الوصف بالإنارة لأن من السرج ما لا يضيء إذا قل سليطه ودقت فتيلته. وقال الزجاج: هو معطوف على شاهدا بتقدير مضاف أي ذا سراج منير، وقال الفراء: إن شئت كان نصبا على معنى وتاليا سراجا منيرا، وعليهما السراج المنير القرآن، وإذا فسر بذلك احتمل على ما قيل أن يعطف على كاف الجزء: 11 ¦ الصفحة: 223 أَرْسَلْناكَ على معنى أرسلناك والقرآن إما على سبيل التبعية وإما من باب متقلدا سيفا ورمحا، وقيل: إنه على تقدير تاليا سراجا يجوز هذا العطف أي إنا أرسلناك وتاليا سراجا كقوله تعالى: يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً [البينة: 2] على أنه الجامع بين الأمرين على نحو: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً [الأنبياء: 48] أي أرسلنا بإرسالك تاليا. وجوز أن يراد وجعلناك تاليا، وقيل: يجوز أن يراد بذا سراج القرآن وحينئذ يكون التقدير إنا أرسلناك وأنزلنا عليك ذا سراج. وتعقب بأن جعل القرآن ذا سراج تعسف، والحق أن كل ما قيل كذلك. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ عطف على مقدر يقتضيه المقام ويستدعيه النظام كأنه قيل: فراقب أحوال الناس وبشر المؤمنين. وجوز عطفه على الخبر السابق عطف القصة على القصة، وقيل: هو معطوف عليه ويجعل في معنى الأمر لأنه في معنى ادعهم شاهدا ومبشرا ونذيرا إلخ وبشر المؤمنين منهم بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً أي عطاء جزيلا وهو كما روي عن الحسن وقتادة الجنة وما أوتوا فيها ويؤيده قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [الشورى: 22] وقيل: المعنى فضلا على سائر الأمم في الرتبة والشرف أو زيادة على أجور أعمالهم بطريق التفضل والإحسان. أخرج ابن جرير وابن عكرمة عن الحسن قال لما نزل: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 2] قالوا: يا رسول الله قد علمنا ما يفعل بك فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله تعالى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ نهى عن مداراتهم في أمر الدعوة ولين الجانب في التبليغ والمسامحة في الإنذار كني عن ذلك بالنهي عن طاعتهم مبالغة في النهي والتنفير عن المنهي عليه بنظمها في سلكها وتصوير بصورتها، وحمل غير واحد النهي على التهييج والإلهاب من حيث إنه صلّى الله عليه وسلم لم يطعهم حتى ينهى، وجعله بعضهم من باب إياك أعني واسمعي يا جارة فلا تغفل. وَدَعْ أَذاهُمْ أي لا تبال بإيذائهم إياك بسبب إنذارك إياهم واصبر على ما ينالك منهم قاله قتادة فأذاهم مصدر مضاف للفاعل، وقال أبو حيان: الظاهر أنه مصدر مضاف للمفعول لما نهى صلّى الله عليه وسلم عن طاعتهم أمر بترك إيذائهم وعقوبتهم ونسخ منه ما يخص الكافرين بآية السيف وروي نحوه عن مجاهد والكلبي والأول أولى وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في كل ما تأتي وتذر من الشؤون التي من جملتها هذا الشأن فإنه عزّ وجلّ يكفيهم وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا موكولا إليه الأمور في كل الأحوال، وإظهار الاسم الجليل في موقع الإضمار لتعليل الحكم وتأكيد استقلال الاعتراض التذييلي ولما وصف صلّى الله عليه وسلم بنعوت خمسة قوبل كل واحد منها بخطاب يناسبه خلا أنه لم يذكر ما قابل الشاهد صريحا وهو لأمر بالمراقبة ثقة بظهور دلالة المبشر عليه وهو الأمر بالتبشير حسبما ذكر آنفا وقابل النذير بالنهي عن مداراة الكافرين والمنافقين والمسامحة في إنذارهم وقوبل الداعي بإذنه بالأمر بالتوكل عليه من حيث إنه عبارة عن الاستمداد منه تعالى والاستعانة به عزّ وجلّ وقوبل السراج المنير بالاكتفاء به تعالى فإن من أيده الله تعالى بالقوة القدسية ورشحه للنبوة وجعله برهانا نيرا يهدي الخلق من ظلمات الغي إلى نور الرشاد حقيق بأن يكتفي به تعالى عمن سواه، وجعل الزمخشري مقابل الشاهد وبشر المؤمنين ومقابل الإعراض عن الكافرين والمنافقين المبشر أعني المؤمنين وتكلف في ذلك. وقال الطيبي طيب الله تعالى ثراه: نظير هذه الآية ما روى البخاري: والإمام أحمد عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلم في التوراة قال: والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للمؤمنين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح ولن يقبضه الله تعالى حتى يقيم به الملة العوجاء ويفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلقا، وروى الدارمي نحوه عن عبد الله بن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 224 سلام فقوله: حرز للمؤمنين مقابل لقوله تعالى: وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ فإن دعوته صلّى الله عليه وسلم إنما حصلت فائدتها فيمن وفقه الله تعالى: بتيسيره وتسهيله فلذلك آمنوا من مكاره الدنيا وشدائد الآخرة فكان صلوات الله تعالى وسلامه عليه بهذا الاعتبار حرزا لهم، وقوله: سميتك المتوكل إلخ مقابل لقوله: وَسِراجاً مُنِيراً فعلم أن قوله تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا مناسب لقوله تعالى: وَسِراجاً مُنِيراً فإن السراج مضيء في نفسه ومنور لغيره فبكونه متوكلا على الله تعالى يكون كاملا في نفسه فهو مناسب لقوله: أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل إلى قوله: يعفو ويصفح وكونه منيرا يفيض الله تعالى عليه يكون مكملا لغيره وهو مناسب لقوله: حتى يقيم به الملة العوجاء إلخ ثم قال: ويمكن أن ينزل المراتب على لسان أهل العرفان فقوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً [الفتح: 8] هو مقام الشريعة ودعوة الناس إلى الإيمان وترك الكفر ونتيجة الإعراض عما سوى الله تعالى والأخذ في السير والسلوك والالتجاء إلى حريم لطفه تعالى والتوكل عليه عزّ وجلّ وقوله، سبحانه: وَسِراجاً مُنِيراً هو مقام الحقيقة ونتيجته فناء السالك وقيامه بقيوميته تعالى اهـ، ولا يخفى تكلف ما قرره في الحديث والله تعالى أعلم بمزاده. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها عود إلى ذكر النساء، والنكاح هنا العقد بالاتفاق واختلفوا في مفهومه لغة فقيل هو مشترك بين الوطء والعقد اشتراكا لفظيا، وقيل: حقيقة في العقد مجاز في الوطء، وقيل: بقلبه وقيل هو مشترك بينهما اشتراكا معنويا وهو من أفراد المشكك وحقيقته الضم والجمع كما في قوله: ضممت إلى صدري معطر صدرها ... كما نكحت أم الغلام صبيها ونقل المبرد ذلك عن البصريين وغلام ثعلب الشيخ عمر والزاهد عن الكوفيين، ثم المتبادر من لفظ الضم تعلقه بالأجسام لا الأقوال لأنها أعراض يتلاشى الأول منها قبل وجود الثاني فلا يصادف الثاني ما ينضم إليه وهذا يقتضي كونه مجازا في العقد، وإن اعتبر الضم أعم من ضم الجسم إلى الجسم والقول إلى القول جاز أن يكون النكاح حقيقة في كل من الوطء والعقد وجاز أن يكون مجازا على التفصيل المعروف في استعمال العام في كل فرد من أفراده، واختار الراغب القول الثاني من الأقوال السابقة وبالغ في عدم قبول الثالث: فقال هو حقيقة في العقد ثم استعير للجماع ومحال أن يكون في الأصل للجماع ثم استعير للعقد لأن أسماء الجماع كلها كنايات لاستقباحهم ذكره كاستقباح تعاطيه ومحال أن يستعير من لا يقصد فحشا اسم ما يستفظعونه لما يستحسنه. واختار الزمخشري الثالث فقال: النكاح الوطء وتسمية العقد نكاحا لملابسته له من حيث إنه طريق له ونظيره تسمية الخمر إثما لأنها سبب في اقتراف الإثم، ولم يرد لفظ النكاح في كتاب الله تعالى إلا في معنى العقد لأنه في حق الوطء من باب التصريح به ومن آداب القرآن الكناية عنه بلفظ الملامسة والمماسسة والقربان والتغشي والإتيان، وأراد على ما قيل إنه في العقد حقيقة شرعية منسى فيه المعنى اللغوي، وبحث في قوله لم يرد لفظ النكاح في كتاب الله تعالى إلا في معنى العقد بأنه في قوله تعالى: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة: 23] بمعنى الوطء وهذا ما عليه الجمهور وخالف في ذلك ابن المسيب، وتمام الكلام في موضعه، والمس في الأصل معروف وكني به هنا عن الجماع، والعدة هي الشيء المعدود وعدة المرأة المراد بها الأيام التي بانقضائها يحل لها التزوج أي يا أيها الذين آمنوا إذا عقدتم على المؤمنات وتزوجتموهن ثم طلقتموهن من قبل أن تجامعوهن فما لكم عليهن من عدة بأيام يتربصن فيها بأنفسهن تستوفون عددها على أن تعتدون مطاوع عد يقال عد الدراهم فاعتدها أي استوفى عددها نحو قولك كلته فأكتلته ووزنته فاتزنته أو تعدونها على أن افتعل بمعنى فعل، وإسناد الفعل إلى الرجال للدلالة على أن العدة حق الأزواج الجزء: 11 ¦ الصفحة: 225 ما أشعر به قوله تعالى: فَما لَكُمْ واعترض بأن المذكور في كتب الفروع كالهداية وغيرها أنها حق الشرع ولذا لا تسقط لو أسقطها الزوج ولا يحل لها الخروج ولو أذن لها وتتداخل العدتان ولا تداخل في حق العبد وحق الولد أيضا ولذا قال صلّى الله عليه وسلم: «لا يحل لامرىء مؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره» وفرعوا على ذلك أنهما لا يصدقان في إبطالها باتفاقهما على عدم الوطء. وأجيب بأنه ليس المراد أنها صرف حقهم بل أن نفعها وفائدتها عائدة عليهم لأنها لصيانة مياههم والأنساب الراجعة إليهم فلا ينافي أن يكون للشرع والولد حق فيها يمنع إسقاطها ولو فرض أنها صرف حقهم يجوز أن يقال: إن عدم سقوطها بإسقاطهم لا ينافي ذلك إلا إذا ثبت أن كل حق للعبد إذا أسقطه العبد سقط وليس كذلك فإن بعض حقوق العبد لا تسقط بإسقاطه كالإرث وحق الرجوع الهبة وخيار الرؤية، ثم أن في الاستدلال بالحديث على أنها حق الولد تأملا كما لا يخفى، وتخصيص المؤمنات مع عموم الحكم للكتابيات للتنبيه على أن المؤمن شأنه أن يتخير لنطفته ولا ينكح إلا مؤمنة، وحاصله أنه لبيان الأحرى والأليق بعد ما فصل في البقرة نكاح الكتابيات، وفائدة المجيء بثم مع أن الحكم ثابت لمن تزوج امرأة وطلقها على الفور كثبوته لمن تزوجها وطلقها بعد مدة مديدة إزاحة ما عسى يتوهم أن تراخي الطلاق له دخل في إيجاب العدة لاحتمال الملاقاة والجماع سرا كما أن له دخلا في النسب، ويمكن أن تكون الإشارة إلى التراخي الرتبي فإن الطلاق وإن كان مباحا لا كراهة فيه على ما قيل لقوله تعالى: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة: 236] غير محبوب كالنكاح من حيث إنه يؤدي إلى قطع الوصلة وحل قيد العصمة المؤدي لقلة التناسل الّذي به تكثر الأمة ولهذا ورد كما أخرج أبو داود وابن ماجة والحاكم والطبراني وابن عدي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعا «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» ورواه البيهقي مرسلا بدون ابن عمر بل قال العلامة ابن الهمام: الأصح حظره وكراهته إلا لحاجة لما فيه من كفران نعمة النكاح وللأخبار الدالة على ذلك، ويحمل لفظ المباح في الخبر المذكور على ما أبيح في بعض الأوقات أعني أوقات تحقق الحاجة المبيحة وهو ظاهر في رواية لأبي داود ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق، والفعل لا عموم له في الأزمان والحاجة المبيحة الكبر والريبة مثلا ومن المبيح عدم اشتهائها بحيث يعجز أو يتضرر بإكراهه نفسه على جماعها مع عدم رضاها بإقامتها في عصمته من غير وطء أو قسم. وأما ما روي عن الحسن السبط رضي الله تعالى عنه وكان قيل له في كثرة تزوجه وطلاقه فقال: أحب الغناء فقد قال تعالى: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ [النساء: 130] فهو رأي منه إن كان على ظاهره، وكل ما نقل عن طلاق الصحابة رضي الله تعالى عنهم فمحمله وجود الحاجة، وظاهر الآية يقتضي عدم وجوب العدة بمجرد الخلوة لأنه سبحانه نفى فيها وجوب العدة إذا طلقت قبل الجماع والخلوة ليست جماعا وهي عندنا إذا كانت صحيحة على الوجه المبين في كتب الفروع كالجماع في وجوب العدة فتجب فيه العدة احتياطا لتوهم الشغل نظرا إلى التمكن الحقيقي بل قالوا هو مثله في جميع أحكامه سوى عشرة نظمها أفضل من عاصرناه من الفقهاء الشيخ محمد الأمين الشامي الشهير بابن عابدين بقوله: وخلوته كالوطء في غير عشرة ... مطالبة بالوطء إحصان تحليل وفيء وارث رجعة فقد عنة ... وتحريم بنت عقد بكر وتغسيل وظاهر قولهم بوجوب العدة فيها أنها واجبة قضاء وديانة. وفي الفتح قال العتابي: تكلم مشايخنا في العدة الواجبة بالخلوة الصحيحة أنها واجبة ظاهرا أو حقيقة فقيل: لو تزوجت وهي متيقنة بعدم الدخول حل لها ديانة لا قضاء الجزء: 11 ¦ الصفحة: 226 اهـ، ولم يتعقبه بشيء وذكره سعدي جلبي في حواشي البيضاوي وقال: ينبغي أن يكون التعويل على هذا القول. وتعقب ذلك الشهاب الخفاجي بأنه وإن نقله فقهاؤنا فقد صرحوا بأنه لا يعول عليه ونحن لم نر هذا التصريح فليتتبع، ثم لا يخفى أن عدم وجوب العدة في الطلاق بعد الخلوة مما يعد منطوقا صريحا في الآية إذا فسر المس بالجماع وليس من باب المفهوم حتى يقال: إنا لا نقول به كما يتوهم فلا بدّ لإثبات وجوب العدة في ذلك من دليل، ومن الناس من حمل المس فيها على الخلوة إطلاقا لاسم المسبب على السبب إذا المس مسبب عن الخلوة عادة، واعترض بأنه لم يشتهر المس بمعنى الخلوة ولا قرينة في الكلام على إرادته منه، وأيضا يلزم عليه أنه لو طلقها وقد وطئها بحضرة الناس عدم وجوب العدة لأنه قد طلقها قبل الخلوة. وأجيب عن هذا بأن وجوب العدة في ذلك بالإجماع، وبأن العدة إذا وجبت في الطلاق بمجرد الخلوة كانت واجبة فيه بالجماع من باب أولى وكيف لا تجب به ووجوبها بالخلوة لاحتمال وقوعه فيها لا لذاتها، وقيل: إن المس لما لم يرد ظاهره وإلا لزمت العدة فيما لو طلقها بعد أن مسها بيده في غير خلوة مع أنه لا تلزم في ذلك بلا خلاف علم أنه كنى به عن معنى آخر من لوازم الاتصال فهو الجماع وما في معناه من الخلوة الصحيحة، وفيه نظر لأن عدم صحة إرادة ظاهره لا يوجب إرادة ما يعم الجماع والخلوة لم لا يجوز إرادة الجماع ويرجحها شهرة الكناية بذلك ونحوه عن الجماع، وإطلاقه عليه إما من إطلاق اسم السبب على المسبب أو من إطلاق اسم المطلق على أخص بخصوصه وهو الأوجه على ما ذكره العلامة ابن الهمام، وبالجملة القول بأن ظاهر الآية يقتضي عدم وجوب العدة بمجرد الخلوة قول متين وحق مبين فتأمل. وفي البحر لأبي حيان الظاهر أن المطلقة إذا راجعها زوجها قبل أن تنقضي عدتها ثم فارقها قبل أن يمسها لا تتم عدتها من الطلقة الأولى لأنها مطلقة قبل الدخول بها وبه قال داود وقال عطاء وجماعة: تمضي في عدتها عن طلاقها الأول وهو أحد قولي الشافعي، وقال مالك: لا تبنى على العدة من الطلاق الأول وتستأنف العدة من يوم طلقها الطلاق الثاني وهو قول جمهور فقهاء الأمصار، والظاهر أيضا أنها لو كانت بائنا غير مبتوتة فتزوجها في العدة ثم طلقها قبل الدخول فكالرجعية في قول داود ليس عليها عدة لا بقية عدة الطلاق الأول ولا استئناف عدة للثاني ولها نصف المهر، وقال الحسن: وعطاء وعكرمة وابن شهاب ومالك والشافعي وعثمان البتي وزفر: لها نصف الصداق وتتم بقية العدة الأولى، وقال الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة، وأبو يوسف: لها مهر كامل للنكاح الثاني وعدة مستقبلة جعلوها في حكم المدخول بها لاعتدادها من مائة اهـ، وفيه أيضا الظاهر أن الطلاق لا يكون إلا بعد العقد فلا يصح طلاق من لم يعقد عليها وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين. وقالت طائفة كثيرة منهم مالك يصح ذلك وعنى بطلاق من لم يعقد عليها قول الرجل كل امرأة أتزوجها فهي طالق أو إن تزوجت فلانة فهي طالق. وقد أخرج جماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه سئل عن ذلك فقال: هو ليس بشيء فقيل له: إن ابن مسعود كان يقول إن طلق ما لم ينكح فهو جائز فقال: أخطأ في هذا وتلا الآية وفي بعض الروايات أنه قال: رحم الله تعالى أبا عبد الرحمن لو كان كما قال لقال الله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن» ولكن إنما قال: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ. وفي الدر المنثور عدة أحاديث مرفوعة ناطقة بأن لا طلاق قبل نكاح، والمذكور في فروعنا أن ذلك من باب التعليق وشرطه الملك أو الإضافة إليه فإذا قال: إن نكحت امرأة فهي طالق أو إن نكحتك فأنت طالق وكل امرأة أنكحها فهي طالق يقع الطلاق إذا نكح لأن ذلك تعليق وفيه إضافة إلى الملك ويكفي معنى الشرط إلا في المعينة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 227 باسم ونسب كما إذا قال: فلانة بنت فلان التي أتزوجها فهي طالق أو بإشارة في الحاضرة كما لو قال: هذه المرأة التي أتزوجها طالق فإنها لا تطلق في الصورتين لتعريفها فلغا الوصف بالتي أتزوجها فصار كأنه قال: فلانة بنت فلان أو هذه المرأة طالق وهي أجنبية ولم توجد الإضافة إلى الملك فلا يقع الطلاق إذا تزوجها فتدبر. وقرىء «تماسوهن» بضم التاء وألف بعد الميم، وعن ابن كثير وغيره من أهل مكة «تعتدونها» بتخفيف الدال ونقلها عن ابن كثير بن خالويه وأبو الفضل الرازي في اللوامح عنه وعن أهل مكة، وقال ابن عطية: روى ابن أبي بزة عن ابن كثير أنه قرأ بتخفيف الدال من العدوان كأنه قال: فما لكم عدة تلزمونها عدوانا وظلما لهن، والقراءة الأولى أشهر عنه وتخفيف الدال وهم من ابن أبي بزة اهـ، وليس بوهم إذ قد نقله عنه جماعة غيره، وخرج ذلك على أن تَعْتَدُّونَها من الاعتداء بمعنى الظلم كما في قوله تعالى: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا [البقرة: 31] والمراد تعتدون فيها كقوله: ويوما شهدناه سليما وعامرا ... قليل سوى طعن الدراك نوافله أي شهدنا فيه فحذف حرف الجر ووصل الفعل بالضمير، وقال أبو حيان: إن الاعتداء يتعدى بعلى فالمراد تعتدون عليهن فيها، ونظيره في حذف على قوله: تحن فتبدي ما بها من صبابة ... وأخفي الذي لولا الأسى لقضاني فإنه أراد لقضي عليّ، وجوز أن يكون ذلك على إبدال أحد الدالين بالتاء، وقيل عليه: إنه تخريج غير صحيح لأن عد يعد من باب نصر كما في كتب اللغة فلا وجه لفتح التاء لو كانت مبدلة من الدال فالظاهر حمله على حذف إحدى الدالين تخفيفا، وقرأ الحسن بإسكان العين كغيره وتشديد الدال جمعا بين الساكنين فَمَتِّعُوهُنَّ أي فأعطوهن المتعة وهي في المشهور درع أي قميص وخمار وهو ما تغطي به المرأة رأسها وملحفة وهي ما تلتحف به من قرنها إلى قدمها ولعلها ما يقال له إزار اليوم، وهذا على ما في البدائع أدنى ما تكسى به المرأة وتتستر عند الخروج. ويفهم من كلام فخر الإسلام والفاضل البر جندي أنه يعتبر عرف كل بلدة فيما تكسى به المرأة عند الخروج، والمفتى به الأشبه بالفقه قول الخصاف إنها تعتبر بحالهما فإن كانا غنيين فلها الأعلى من الثياب أو فقيرين فالأدنى أو مختلفين فالوسط، وتجب لمطلقة قبل الوطء والخلوة عند معتبرها لم يسم لها في النكاح تسمية صحيحة من كل وجه مهر ولا تزيد على نصف مهر المثل ولا تنقص عن خمسة دراهم فإن ساوت النصف فهي الواجبة وأن كان النصف أقل منها فالواجب الأقل إلا أن ينقص عن خمسة دراهم فيكمل لها الخمسة. وفي البدائع لو دفع لها قيمة المتعة أجبرت على القبول، فمعنى الآية على ما سمعت وكان الأمر للوجوب فمتعوهن إن لم يكن مفروضا لهن في النكاح وروي هذا عن ابن عباس، وأما المفروض لها فيه إذا طلقت قبل المس فالواجب لها نصف المفروض لا غير. وأما المتعة فهي على ما في المبسوط والمحيط وغيرهما من المعتبرات مستحبة، وعلى ما في بعض نسخ القدوري ومشى عليه صاحب الدرر غير مستحبة أيضا والأرجح أنها مستحبة، وفي قول الشافعي القديم أنها واجبة كما في صورة عدم الفرض، وجوز أن تبقى الآية على ظاهرها ويكون المراد ذكر حكم المطلقة قبل المس سواء فرض لها في النكاح أم لم يفرض ويراد بالمتعة العطاء مطلقا فيعم نصف المفروض والمتعة المعروفة في الفقه ويكون الأمر للوجوب أيضا أو يراد بالمتعة معناها المعروف ويحمل الأمر على ما يشمل الوجوب والندب. وادعى سعيد بن المسيب كما أخرج عبد بن حميد أن الآية منسوخة بآية: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 228 وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ [البقرة: 237] قال: فصار لها نصف الصداق ولا متاع لها، وأنكر الحسن وأبو العالية النسخ وقالا لها نصف الصداق ولها المتاع. وجاء في رواية أخرى أخرجها عبد بن حميد عن الحسن أيضا أن لكل مطلقة متاعا دخل بها أم لم يدخل بها فرض لها أو لم يفرض ، وظاهره دعوى الوجوب في الكل وهو خلاف ما عندنا، وقد علمت الحكم في صورتين وهو في الصورتين الباقيتين الاستحباب، وأما دعوى النسخ فلا يخفى ما فيها، والظاهر أن الفاء لتفريع ما بعدها على ما قبلها، وقيل: فصيحة أي إذا كان كما ذكر فمتعوهن وَسَرِّحُوهُنَّ أي أخرجوهن من منازلكم إذ ليس لكم عليهن عدة وأصل التسريح أن ترعى الإبل السرح وهو شجر له ثمرة ثم جعل لكم إرسال في الرعي ثم لكل إرسال وإخراج سَراحاً جَمِيلًا مشتملا على كلام طيب عاريا عن أذى ومنع واجب، وقيل: السراح الجميل أن لا يطالبوهن بما آتوهن، وقال الجبائي: هو الطلاق السني، وليس بشيء لأن ذاك لعطفه على التمتيع الواقع بعد الفاء مرتب على الطلاق فيلزم ترتب الطلاق السني على الطلاق والضمير لغير المدخول بهن فلا يمكن أن يكون ذلك طلاقا مرتبا على الطلاق الأول لأن غير المدخول بهن لا يتصور فيها لحوق طلاق بعد طلاق آخر مع أنها إذا طلقت بانت. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ أي مهورهن كما قال مجاهد، وغيره وأطلق الأجر على المهر لأنه أجر على الاستمتاع بالبضع وغيره مما يجوز به الاستمتاع وتقييد الإحلال له بإعطائها معجله كما يفهم من معنى آتَيْتَ ظاهرا ليس لتوقف الحل عليه بل لإيثار الأفضل له صلّى الله عليه وسلم فإن في التعجيل براءة الذمة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 229 وطيب النفس ولذا كان سنّة السلف لا يعرف منهم غيره، وقال الإمام: من الناس من قال بأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يجب عليه إعطاء المهر أولا وذلك لأن المرأة لها الامتناع من تسليم نفسها إلى أن تأخذ المهر والنبي صلّى الله عليه وسلم ما كان يستوفي ما لا يجب له والوطء قبل إيتاء الصداق غير مستحق وإن كان حلالا وكيف والنبي عليه الصلاة والسلام إذا طلب شيئا حرم الامتناع فلو طلب التمكين قبل إيتاء المهر لزم أن يجب وأن لا يجب وهو محال ولا كذلك أحدنا اهـ وفيه بحث لا يخفى، وحمل الإيتاء على الإعطاء وما في حكمه كالتسمية في العقد، وجعل التقييد لإيثار الأفضل أيضا فإن التسمية أولى من تركها وإن جاز العقد بدونها ولزم مهر المثل خلاف الظاهر. واستدل أبو الحسن الكرخي من أصحابنا بقوله تعالى: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ على أن النكاح ينعقد بلفظ الإجارة كما ينعقد بلفظ التزويج ويكون لفظ الإجارة مجازا عنه لأن الثابت بكل منهما ملك منفعة فوجد المشترك ورد بأنه لا يلزم من تسمية المهر أجرا صحة النكاح بلفظ الإجارة وما ذكر من التجوز ليس بشيء لأن الإجارة ليست سببا لملك المنفعة حتى يتجوز بها عنه قاله في الهداية، وقال بعضهم: إن الإجارة لا تنعقد إلا مؤقتة والنكاح يشترط فيه نفيه فيتضادان فلا يستعار أحدهما للآخر. وتعقب بأنه إن كان المتضادان هما العرضين اللذين لا يجتمعان في محل واحد لزمكم مثله في البيع من كونه لا يجامع النكاح مع جواز العقد به عند الأصحاب، على أن التحقيق أن التوقيت ليس مفهوم لفظ الإجارة ولا جزأ منه بل شرط لاعتباره فيكون خارجا عنه فهو مجرد تمليك المنافع بعوض غير أنه إذا وقع مجردا لا يعتبر شرعا على مثال الصلاة فإنها الأقوال والأفعال المعروفة ولو وجدت من غير طهارة لا تعتبر، ولا يقال: إن الطهارة جزء مفهوم الصلاة هذا ومثل تقييد إحلال الأزواج بما ذكر على ما قيل تقييد إحلال المملوكة بكونها ممن باشر سباءها وشاهده في قوله تعالى وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ فإن المشتراة لا يتحقق بدء أمرها وما جرى عليها لجواز كون السبي ليس في محله، ولذا نكح بعض المتورعين الجواري بعقد بعد الشراء مع القول بعدم صحة العقد على الإماء. واستشكل ذلك بمارية بنت شمعون القبطية رضي الله تعالى عنها فإنها لم تكن مسبية بل أهداها له صلّى الله عليه وسلم أمير القبط جريج بن مينا صاحب الإسكندرية ومصر وأجيب بأن هذا غير وارد لأن هدايا أهل الحرب للإمام لها حكم الفيء، وقد يقال: إنه يستشكل بسرية له صلّى الله عليه وسلم أخرى وهي جارية وهبتها له عليه الصلاة والسلام زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها وكان هجرها عليه الصلاة والسلام في شأن صفية بنت حيي ذا الحجة والمحرم وصفر فلما كان شهر ربيع الأول الذي قبض فيه رضي عنها ودخل عليها فقالت ما أدري ما أجزيك فوهبتها له وقد عدوها من سراريه صلّى الله عليه وسلم والجواب المذكور لا يتسنى فيها، ولعل الجواب عن ذلك أنه عليه الصلاة والسلام تسراها بيانا للجواز ولا يبعد أنه كان متحققا بدء أمرها وما جرى ليها بحيث كأنه باشر سبيها وشاهده، ويحتمل أنها كانت مما أفاء الله تعالى عليه الصلاة والسلام فملكتها زينب ببعض أسباب الملك ثم وهبتها له صلّى الله عليه وسلم. ومع ذلك قد أطلق عليه الصلاة والسلام حل المملوكة بعد ولم يقيد بحسب الظاهر بكونها مما أفاء الله عليه في قوله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ. ثم إن هبة هذه الجارية كانت شهر وفاته صلّى الله عليه وسلم والآية نزلت قبل لأنها نزلت أما سنّة الأحزاب وهي السنة الخامسة من الهجرة وإما بعيد الفتح وهو السنة الثامنة منها وعلى هذا يكون ما وقع من أمر مارية متقدما على نزول الآية لأنها أهديت له صلّى الله عليه وسلم السنة السابعة من الهجرة فإنه عليه الصلاة والسلام فيها أرسل رسله إلى الملوك ومنهم حاطب بن أبي بلتعة اللخمي أرسله إلى المقوقس أمير القبط المتقدم ذكره فقدم منه بمارية وبأختها شيرين وبأخ أو بابن عم لها خصي يقال له مابور وببغلة تسمى دلدلا وبحمار يسمى يعفورا أو عفيرا وبألف مثقال ذهبا وبغير ذلك فتدبر، ومثل ما ذكر على ما قيل تقييد القرائب بكونها مهاجرات معه صلّى الله عليه وسلم في قوله سبحانه: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 230 وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ فهن أفضل من غيرهن، والمعية للتشريك في الهجرة لا للمقارنة في الزمان كأسلمت مع سليمان، قال أبو حيان: يقال دخل فلان معي وخرج معي أي كان عمله كعملي وإن لم يقترنا في الزمان، ولو قلت: خرجنا معا اقتضى المعنيين الاشتراك في الفعل والاقتران في الزمان وهو كلام حسن، وحكى الماوردي قولا بأن الهجرة شرط في إحلال الأزواج على الإطلاق وهو ضعيف جدا. وقولا آخر بأنها شرط في إحلال قراباته عليه الصلاة والسلام المذكورات واستدل له بما أخرجه ابن سعد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أم هانىء فاختة بنت أبي طالب قالت: «خطبني رسول الله صلّى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ إلى قوله سبحانه: هاجَرْنَ مَعَكَ قالت فلم أكن أحل له لأني لم أهاجر معه كنت من الطلقاء» وأجيب بأن عدم الحل لفقد الهجرة إنما فهم من قول أم هانىء فلعلها إنما قالت ذلك حسب فهمها إياه من الآية وهو لا ينتهض حجة علينا إلا إذا جاءت به رواية عن النبي صلّى الله عليه وسلم، لا يقال: إنه أخرج ابن سعد عن أبي صالح مولى أم هانىء قال: «خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلم أم هانىء بنت أبي طالب فقالت: يا رسول الله إني مؤتمة وبني صغار فلما أدرك بنوها عرضت نفسها عليه عليه الصلاة والسلام فقال: أما الآن فلا إن الله تعالى أنزل علي يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ- إلى- اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ ولم تكن من المهاجرات وهو يدل على أنه نفسه صلّى الله عليه وسلم فهم الحرمة وإلا لتزوجها لأنا نقول بعد تسليم صحة الخبر: لا نسلم أنه صلّى الله عليه وسلم فهم الحرمة وعدم التزوج يجوز أن يكون لكونه خلاف الأفضل، ويدل خبر أم هانىء على أن هذه الآية نزلت بعد الفتح فلا تغفل. وادعى بعضهم أن تحريم نكاح غير المهاجرة عليه صلّى الله عليه وسلم كان أولا ثم نسخ، وعن قتادة أن معنى هاجَرْنَ مَعَكَ أسلمن معك، قيل: وعلى هذا لا يحرم عليه عليه الصلاة والسلام إلا الكافرات وهو في غاية البعد كما لا يخفى، والظاهر أن المراد بأزواجك اللاتي آتيت مهورهن نساؤه صلّى الله عليه وسلم اللاتي كن في عصمته وقد آتاهن مهورهن كعائشة وحفصة وسودة وبما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك نحو ريحانة بناء على ما قاله محمد بن إسحاق أنه صلّى الله عليه وسلم لما فتح قريظة اصطفاها لنفسه فكانت عنده حتى توفيت عنده وهي في ملكه ووافقه في ذلك غيره أخرج الواقدي بسنده إلى أيوب بن بشير قال: إنه عليه الصلاة والسلام أرسل بها إلى بيت سلمى بنت قيس أم المنذر فكانت عندها حتى حاضت حيضة ثم طهرت من حيضها فجاءت أم المنذر فأخبرته صلّى الله عليه وسلم فجاءها في منزل أم المنذر فقال لها: إن أحببت أن أعتقتك وأتزوجك فعلت وإن أحببت أن تكوني في ملكي أطؤك بالملك فعلت فقالت: يا رسول الله أحب أن أخف عليك وأن أكون في ملكك فكانت في ملك رسول الله صلّى الله عليه وسلم يطؤها حتى ماتت . وذهب بعضهم إلى أنه عليه الصلاة والسلام أعتقها وتزوجها، وأخرج ذلك الواقدي أيضا عن ابن أبي ذئب عن الزهري ثم قال: وهذا الحديث أثبت عندنا: وروي عنها أنها قالت: لما سبيت بنو قريظة عرض السبي على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فكنت فيمن عرض عليه فأمر بي عزلت وكان له صفي كل غنيمة فلما عزلت خار الله تعالى لي فأرسل بي إلى منزل أم المنذر بنت قيس أياما حتى قتل الأسرى وفرق السبي فدخل علي صلّى الله عليه وسلم فتجنبت منه حياء فدعاني فأجلسني بين يديه فقال: إن اخترت الله ورسوله اختارك رسول الله لنفسه فقلت: إني اختار الله تعالى ورسوله فلما أسلمت أعتقني رسول الله صلّى الله عليه وسلم وتزوجني وأصدقني اثنتي عشرة أوقية ذهبا كما كان يصدق نساءه وأعرس بي في بيت أم المنذر وكان يقسم لي كما يقسم لنسائه وضرب علي الحجاب، ولم يذكر ابن الأثير غير القول بإعتاقها وتزوجها ومنهم من ذهب إلى أنها أسلمت فأعتقها عليه الصلاة والسلام فلحقت بأهلها وكانت تحتجب عندهم وتقول: لا يراني أحد بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وحكي لحوقها بأهلها عن الزهري وادعى بعضهم بقاءها حية بعده عليه الصلاة والسلام وأنها توفيت سنة ست عشرة أيام خلافة عمر رضي الله تعالى عنه. وذكر ابن كمال في الجزء: 11 ¦ الصفحة: 231 تفسيره لبيان الموصول صفية وجويرية. والمذكور في أكثر المعتبرات في أمرهما أن صفية لما جمع سبي خيبر أخذها دحية وقد قال له صلّى الله عليه وسلم: اذهب فخذ جارية ثم أخبر عليه الصلاة والسلام أنها لا تصلح إلا له لكونها بنت سيد قومه فقال لدحية: خذ غيرها وأخذها رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأعتقها وتزوجها وكان صداقها نفسها، وأن جويرية في غزوة بني المصطلق وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري فكاتبته على نفسها ثم جاءت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث وكان من أمري ما لا يخفى عليك ووقعت في سهم ثابت بن قيس وإني كاتبت نفسي فجئت أسألك في كتابتي فقال عليه الصلاة والسلام فهل لك إلى ما هو خير: قالت؟ وما هو يا رسول الله؟ قال: أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك قالت: قد فعلت، وقال ابن هشام ويقال اشتراها صلّى الله عليه وسلم من ثابت وأعتقها وتزوجها وأصدقها أربعمائة درهم ، ولا يخفى عليك أنه إذا كان المراد إحلال ما ملكت يمينه صلّى الله عليه وسلم حين الملك من حيث إنه ملك له وإن لم يحصل وطء بالفعل يدخل جميع ما ملكه عليه الصلاة والسلام من الجواري حين الملك ولا يضر الإعتاق والتزوج بعد ذلك وحل الوطء بسبب النكاح لا الملك وإن كان المراد إحلال ذلك مع وقوع الوطء بالفعل ووصف الملك قائم لا يصح بيان الموصول إلا بمملوكة وطئها عليه الصلاة والسلام وهي ملكه كريحانة في قول وجارية أصابها في بعض السبي وعدوها من سراريه صلّى الله عليه وسلم ولم يذكر المعظم اسمها وعد الجلبي من سراريه عليه الصلاة والسلام جارية سماها زليخة القرظية فلعلها هي التي لم تسم وكمارية القبطية والجارية التي وهبتها له عليه الصلاة والسلام زينب، وقد سمعت الكلام فيهما آنفا والمراد ببنات عمه وبنات عماته بنات القرشيين وبنات القرشيات فإنه يقال للقرشيين قربوا أو بعدوا أعمامه صلّى الله عليه وسلم وللقرشيات قربن أو بعدن عماته عليه الصلاة والسلام، والمراد ببنات خاله وبنات خالاته بنات بني زهرة ذكورهم وإناثهم وإلى هذا ذهب الطبرسي في مجمع البيان ولم يذكر غيره، وإطلاق الأعمام والعمات على أقارب الشخص من جهة أبيه ذكورا وإناثا قربوا أو بعدوا والأخوال والخالات على أقاربه من جهة أمه كذلك شائع في العرف كثير في الاستعمال. واللاتي نكحهن ودخل بهن صلّى الله عليه وسلم من القرشيات ست وكان نكاحه بعضهن قبل نزول الآية بيقين ونكاحه بعضهن الآخر محتمل للقبلية والبعدية كما لا يخفى على من راجع كتب السير وسمع ما قيل في وقت نزول الآية، ولم نقف على أنه عليه الصلاة والسلام نكح أحدا من الزهريات أصلا فالمراد بإحلال نكاح أولئك مجرد جوازه وهو لا يستدعي الوقوع، وإذا حمل العم على أخي الأب والعمة على أخته والخال على أخي الأم والخالة على أختها اقتضى ظاهر الآية أن يكون له صلّى الله عليه وسلم عم وعمة وخال وخالة كذلك وأن يكون لهم بنات وذلك مشهور في شأن العم والعمة وبناتهما فقد ذكر معظم أهل السير عدة أعمام له صلّى الله عليه وسلم وعدة بنات لهم كالعباس ومن بناته أم حبيبة تزوجها أسود المخزومي وكان قد خطبها رسول الله صلّى الله عليه وسلم على ما قيل فوجد أباها أخاه من الرضاعة كان قد أرضعتهما ثويبة مولاة أبي لهب، وكأبي طالب ومن بناته أم هانىء وقد سمعت ما قيل في شأنها وجمانة كانت إحدى المبايعات له صلّى الله عليه وسلم وكانت تحت أبي سفيان بن الحارث عمها، وكأبي لهب ومن بناته خالدة تزوجها عثمان بن أبي العاصي الثقفي وولدت له، ودرة أسلمت وهاجرت وكانت تحت الحارث بن نوفل ثم تحت دحية الكلبي، وعزة تزوجها أوفى بن أمية، وكالزبير ومن بناته ضباعة زوجة المقداد بن الأسود وأم الحكم ويقال إنها أخته عليه الصلاة والسلام من الرضاعة وكان يزورها بالمدينة وكحمزة ومن بناته أمامة لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم من عمرة القضاء أتى بها من مكة وزوجها سلمة بن أم سلمة ومقتضى قول القسطلاني أن حمزة أخوه صلّى الله عليه وسلم من الرضاعة أرضعتهما ثويبة بلبن ابنها مسروح أنها لا تحل له عليه الصلاة والسلام بل ذكر هو أيضا أنها عرضت عليه فقال هي ابنة أخي من الرضاعة وكالحارث ومن بناته الجزء: 11 ¦ الصفحة: 232 أروى زوجة أبي وداعة وكالمقوم ومن بناته من اسمها أروى أيضا زوجة ابن عمها أبي سفيان بن الحارث وذكروا أيضا له صلّى الله عليه وسلم عدة عمات وعدة بنات لهن، منهن أميمة ومن بناتها زينب أم المؤمنين وهي التي نزل فيها قوله تعالى: فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها [الأحزاب: 37] وأم حبيبة وكانت زوجة عبد الرحمن بن عوف، وحمنة وكانت عند مصعب بن عمير ثم عند طلحة أحد العشرة، ومنهن البيضاء ومن بناتها أروى أم عثمان رضي الله تعالى عنه وأم طلحة بنتا كريز بن ربيعة، ومنهن عاتكة ومن بناتها قريبة بنت زاد الراكب أبي أمية بن المغيرة، ومنهن صفية ومن بناتها صفية بنت الحارث بن حارثة وأم حبيبة بنت العوام بن خويلد، وأما الخال والخالة فلم يشتهر ذكرهما، نعم ذكر في الإصابة فريعة بنت وهب الزهرية رفعها النبي صلّى الله عليه وسلم وقال: من أراد أن ينظر إلى خالة رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلينظر إلى هذه، وفيها أيضا فاختة بنت عمرو الزهرية خالة النبي صلّى الله عليه وسلم. أخرج الطبراني من طريق عبد الرحمن بن عثمان الوقاصي عن ابن المنكدر عن جابر سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: وهبت خالتي فاختة بنت عمرو غلاما وأمرتها أن لا تجعله جازرا ولا صائغا ولا حجاما ، والوقاصي ضعيف. وقال: في صفية بنت عبد المطلب هي شقيقة حمزة أمهما هالة خالة رسول الله صلّى الله عليه وسلم أي هالة بنت وهب كما في المواهب ولم نقف لهذه الخالة على بنت غير صفية عمته عليه الصلاة والسلام، وكذا لم نقف على بنات لمن ذكرنا قبلها، ووقفنا على خال واحد له عليه الصلاة والسلام وهو عبد يغوث بن وهب ولم نقف على بنت له وإنما وقفنا على ابنين أحدهما الأرقم وله ابن يسمى عبد الله وهو صحابي كتب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ولصاحبيه وكان على بيت المال في خلافة عمر رضي الله تعالى عنه وكان أثيرا عنده حتى أن حفصة روت عنه أنه قال لها: لولا أن ينكر على قومك لاستخلفت عبد الله بن الأرقم، وقيل: هو ابن عبد يغوث والأرقم هو عبد يغوث، والبخاري على ما قلنا وقد أسلم يوم الفتح، وقال بعضهم فيه: خال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومن الناس من ذكر لعبد الله هذا أخا سماه عبد الرحمن بن الأرقم وأثبت له الصحبة وفي ذلك مقال، وثانيهما الأسود وأطلق عليه النبي عليه الصلاة والسلام اسم الخال، فقد روي أنه كان أحد المستهزئين به صلّى الله عليه وسلم فقصد جبريل عليه السّلام إهلاكه فقال صلّى الله عليه وسلم: يا جبريل خالي فقال: دعه عنك ، وله ابن هو عبد الرحمن وبنت هي خالدة وكانت من المهاجرات الصالحات وقد أطلق عليها أيضا اسم الخالة. أخرج المستغفري من طريق أبي عمير الجرمي عن معمر عن الزهري عن عبيد الله مرسلا قال: دخل النبي صلّى الله عليه وسلم منزله فرأى عند عائشة امرأة فقال: من هذه يا عائشة قالت: هذه إحدى خالاتك فقال: إن خالاتي بهذه البلدة لغرائب فقالت: هذه خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث فقال: سبحان الذي يخرج الحي من الميت قرأها مثقلة. وأخرج موسى بن إبراهيم عن أبيه عن أبي سلمة عن عائشة موصولا نحوه ، وفي هذا الخبر وما قبله إطلاق الخال والخالة على قرابة الأم وإن لم يكن الخال أخاها والخالة أختها، وبذلك يتأيد ما ذكرناه سابقا فاحفظ ذاك والله تعالى يتولى هداك، وإياك أن تظن الأمر فرضيا أو أن الخطاب وإن كان خاصا في الظاهر عام في الحقيقة فيكفي وجود بنات خال وبنات خالات لغيره عليه الصلاة والسلام كما يظن ذلك من يشهد العم بجهله ويصدق الخال بقلة عقله، هذا وقد كثر السؤال عن حكمة أفراد العم والخال وجمع العمة والخالة حتى أن السبكي على ما قيل صنف جزءا فيه سماه الهمة في أفراد العم وجمع العمة. قال الخفاجي: وقد رأيت لهم فيه كلمات ضعيفة كقول الرازي إن العم والخال على زنة المصدر ولذا لم يجمعا بخلاف العمة والخالة، وقيل لم يجمعا ليعما إذا أضيفا، والعمة والخالة لا يعمان لتاء الوحدة وهي إن لم تمنع العموم حقيقة تأباه ظاهرا، ولا يأبى ذلك قوله تعالى في سورة: بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ [النور: 61] لأنه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 233 على الأصل، ثم قال: وأحسن منه ما قيل إن أعمامه صلّى الله عليه وسلم العباس وحمزة رضي الله تعالى عنهما أخواه من الرضاع لا تحل له بناتهما، وأبو طالب ابنته أم هانىء لم تكن مهاجرة اهـ، وما ادعى ضعفه فهو كما قال وما زعم أنه أحسن منه إن كان كما نقلناه بهذا المقدار خاليا عن إسقاط شيء حسبما وجدناه في نسختنا فهو مما لا حسن فيه فضلا عن كونه أحسن، وإن كان له تتمة فالنظر فيه بعد الاطلاع عليها إليك وأظنه على العلات ليس بشيء. وقال بعض الأجلة المعاصرين من العلماء المحققين لا زال سعيد زمانه سابقا بالفضل على أقرانه: يحتمل أن يكون إفراد العم لأنه بمنزلة الأب بل قد يطلق عليه الأب ومنه في قول: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ [الأنعام: 74] والأب لا يكون إلا واحدا فكان الافراد أنسب بمن ينزل منزلته ويكون جمع العمة على الأصل وإفراد الخال ليكون على وفق العم وجمع الخالة وإن كانت بمنزلة الأم لتكون على وفق العمات، ويحتمل أن يكون إفراد المذكر وجمع المؤنث لقلة الذكور وكثرة الإناث، وقد ورد في الآثار ما يدل على أن النساء أكثر من الرجال. وقال آخر من أولئك الأجلة لا زالت مدارس العلم تزهو به وتشكر فضله: إن ذلك لما فيه من الحسن اللفظي فإن بين العم والعمات والخال والخالات نوعا من الجناس ولأن أعمامه عليه الصلاة والسلام كانوا على ما ذكره صاحب ذخائر العقبى اثني عشر عما وعماته كن ستا فلو قيل أعمامك لتوهم أنهم أقل من اثني عشر لأنه جمع قلة وغاية ما يصدق هو عليه تسعة أو عشرة على قول ولو قيل: عمتك لم تتحقق الإشارة إلى قلتهن فلذا أفرد العم وجمعت العمة وقيل: خالك وخالاتك ليوافق ما قبل، وأنا أقول: الذي يغلب على ظني في ذلك ما حكاه أبو حيان عن القاضي أبي بكر بن العربي من أن ما ذكر عرف لغوي على معنى أنه جرى عرف اللغويين في مثل ذلك على إفراد العم والخال وجمع العمة والخالة، ونحن قد تتبعنا كثيرا من أشعار العرب فلم نر العم مضافا إليه ابن أو بنت بالإفراد أو الجمع إلا مفردا نحو قوله: جاء شقيق عارضا رمحه ... إن بني عمك فيهم رماح وقوله: فتى ليس لابن العم كالذئب إن رأى ... بصاحبه يوما دما فهو آكله وقوله: قالت بنات العم يا سلمى وإن ... كان فقيرا معدما قالت وإن وقوله: يا بنت عما لا تلومي واهجعي ... فليس يخلو عنك يوما مضجعي إلى ما لا يحصى كثرة، وأما اطراد إفراد الخال وجمع العمة والخالة إذا أضيف إليها ما ذكر فلست على ثقة من أمره، فإذا كان الأمر في المذكورات كالأمر في العم فليس فوق هذا الجواب جواب، والظن بالقاضي أنه لم يحكم بما حكم إلا عن بينة مع أني لا أطلق القول بعدم قبول حكم القاضي بعلمه ولا أفتي به، نعم لهذا القاضي حكم مشهور في أمر الحسين رضي الله تعالى عنه ولعن من رضي بقتله لا يرتضيه إلا يزيد زاد الله عزّ وجلّ عليه عذابه الشديد، وعلى تقدير كون الأمر في العم ومن معه كما قال يحتمل أن يكون الداعي لإفراد العم والخال الرجوع إلى أصل واحد مع ما بين الذكور من جهة العمومة والخئولة في حق الشخص المدلى بهما من التناصر والتساعد فلذلك ترى الشخص يهرع لدفع بليته إلى ذكور عمومته وخؤولته، وذلك التعاضد يجعل المتعدد في حكم الواحد، ويقوي هذا الاعتبار هنالك الجزء: 11 ¦ الصفحة: 234 إضافة الفرع كالبنين والبنات إلى ذلك، ولعل في الإفراد مع جمع المضاف المذكور إشارة إلى أن البنين والبنات وإن كانوا بنين وبنات لمتعددين في نفس الأمر إلا أنهم في حكم البنين والبنات لواحد وأن كل واحد من الأعمام والأخوال لمزيد شفقته على أبناء وبنات كل كأنه أب لأبناء وبنات كل، وهذا الذي ذكرناه لا يوجد في العمات والخالات. ولا يرد عليه جمع العم والخال في آية النور كما لا يخفى على من له أدنى نور يهتدي به إذا أشكلت الأمور، ويمكن أن يقال في الحكمة هاهنا خاصة: إنه لما كان المفرد أصلا والمجموع فرعه والمذكر أصلا والمؤنث فرعه أتى بالعم والخال المذكرين مفردين وبالعمة والخالة المؤنثين مجموعين فاجتمع في الأولين أصلان وفي الأخيرين فرعان بحكم شبيه الشيء منجذب إليه وإن الطيور على أشباهها تقع، وما ألطف هذا الاجتماع في منصة مقام النكاح لما فيه من الإشارة إلى الكفاءة وأن المناسب ضم الجنس إلى جنسه كما يقتضيه بعض الآيات وهو لعمري ألطف من جمع المذكر وإفراد المؤنث ليجتمع في كل أصل وفرع فيوافق ما في النكاح من اجتماع ذكر هو أصل وأنثى هي فرع لخلوه عن الإشارة إلى ذلك الضم المناسب المستحسن عند كل ذي رأي صائب على أن في جمع أصلين في العم موافقة لما في النكاح من جمع الزوجين الذين هما أصلان لما يتولد منهما وإذا اعتبر جمعهما في الخال الذي قرابته من جهة الأم التي لا تعتبر في النسب وافق الجملة ما في النكاح من اجتماع أصل وفرع فلا يفوت ذلك بالكلية على ما في النظم الجليل. وأيضا في الانتقال من الإفراد إلى الجمع في جانبي العمومة والخئولة إشارة إلى ما في النكاح من انتقال كل من الزوج والزوجة من حال الانفراد إلى حال الاجتماع فلله تعالى در التنزيل، هذا ما عندي وهو زهرة ربيع لا تحمل الفرك ومع هذا قسه إلى ما سمعت عن ساداتنا المعاصرين واختر لنفسك ما يحلو والله تعالى أعلم بأسرار كتابه. وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً بالنصب عطفا على مفعول أحللنا عند جمع وليس معنى أَحْلَلْنا إنشاء لاحلال الناجز ولا الاخبار عن إحلال ماض بل إعلام بمطلق الإحلال المنتظم لما سبق ولحق فلا يعكر على ذلك الشرط وهذا كما تقول أبحت لك أن تكلم فلانا إن سلم عليك، ولما فيه من البحث قال بعضهم: إنه نصب بفعل يفسره ما قبل أي ويحل لك امرأة أو وأحللنا لك امرأة وهو مستقبل لمكان الشرط. وقرأ أبو حيوة بالرفع على أنه مبتدأ والخبر محذوف أي وامرأة مؤمنة أحللناها لك أيضا إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ أي ملكته المتعة بها بأي عبارة كانت بلا مهر. وقرأ أبي والحسن والشعبي وعيسى وسلام «أن وهبت» بفتح الهمزة أي لأن وهبت وقيل: أي وقت أن وهبت أو مدة أن وهبت فتكون أن وما بعدها في تأويل مصدر منصوب على الظرفية، وأكثر النحاة لا يجيزونه في غير المصدر الصريح كآتيك خفوق النجم وغير ما المصدرية، وجوز أن يكون المصدر بدلا من امْرَأَةً وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «إذ وهبت» وإذ ظرف لما مضى وقيل: هي مثلها في قوله تعالى: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف: 39] إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها أي يتملك المتعة بها بأي عبارة كانت بلا مهر وهذا شرط للشرط الأول في استيجاب الحل فهبتها نفسها منه صلّى الله عليه وسلم لا يوجب له حلها إلا بإرادته نكاحها وهذه الإرادة جارية مجرى قبول الهبة، وقال ابن كمال: الإرادة المذكورة عبارة عن القبول ولا وجه لحملها على الحقيقة لأن قوله تعالى: يَسْتَنْكِحَها يغني عن الإرادة بمعناه الوضعي وهو يشير إلى أن السين للطلب، وكلام بعض الأجلة على هذا حيث قال: إرادة طلب النكاح كناية عن القبول. وقيل: استفعل هنا بمعنى فعل فالاستنكاح بمعنى النكاح لئلا يتوهم التكرار وفيه نظر، واستظهر صاحب هذا القيل حمل الإرادة على الإرادة المتقدمة على الهبة بناء على أن التركيب يقتضي تقدم هذا الشرط فقد قالوا: إذا اجتمع الجزء: 11 ¦ الصفحة: 235 شرطان فالثاني شرط في الأول متأخر في اللفظ متقدم في الوقوع وهو بمنزلة الحال، ومن هنا قال الفقهاء: لو قال: إن ركبت إن أكلت فأنت طالق لا تطلق ما لم يتقدم الآكل على الركوب ليتحقق تقييد الحالية. واستشكل السمين هذه القاعدة بما هنا بناء على أنهم جعلوا ذلك الشرط بمنزلة القبول لاقتضاء الواقع ذلك، ثم ذكر أنه عرضه على علماء عصره فلم يجدوا مخلصا منه إلا بأن هذه القاعدة ليست بكلية بل مخصوصة بما لم تقم قرينة على تأخر الثاني كما في نحو إن تزوجتك إن طلقتك فعبدي حرّ فإن الطلاق لا يتقدم التزوج وما نحن فيه من هذا القبيل ثم قال: فمن جعل الشرط الثاني هنا مقدما لم يصب ورأيت في الفن السابع من الأشباه والنظائر النحوية للجلال السيوطي عليه الرحمة كلاما لابن هشام ذكر فيه أن جعل الآية كالمثال ونظمهما في سلك مسألة اعتراض الشرط على الشرط هو ما ذهب إليه جماعة منهم ابن مالك وذهب هو إلى أن المثال من مسألة الاعتراض المذكور دون الآية واحتج عليه بما احتج، ثم ذكر الخلاف في صحة تركيب ما وقع فيه الاعتراض كالمثال وأن الجمهور على جوازه وهو الصحيح وأن المجيزين اختلفوا في تحقيق ما يقع به مضمون الجواب الواقع بعد الشرطين على ثلاثة مذاهب، أحدهما أنه إنما يقع بمجموع أمرين، أحدهما حصول كل من الشرطين، والآخر كون الشرط الثاني واقعا قبل وقوع الأول ففي المثال لا يقع الطلاق إلا بوقوع الركوب والأكل من تقدم وقوع الأكل على الركوب، وذكر أن هذا مذهب الجمهور. وثانيها أنه يقع بحصول الشرطين مطلقا وذكر أنه حكاه له بعض العلماء عن إمام الحرمين وأنه رآه محكيا عن غيره بعد. وثالثها أنه يقع بوقوع الشرطين على الترتيب فإنما تطلق في المثال إذا ركبت أولا ثم أكلت وأبطل كلا من المذهبين الأخيرين وذكر في توجيه التركيب على المذهب الأول مذهبين. الأول مذهب الجمهور أن الجواب المذكور للشرط الأول وجواب الثاني محذوف لدلالة الأول وجوابه عليه ولإغناء ذلك عنه وقيامه مقامه لزم في وقوع المعلق على ذلك أن يكون الثاني واقعا قبل الأول ضرورة أن الجواب لا بدّ من تأخره عن الشرط فكذا الأمر في القائم مقام الشرط، والثاني مذهب ابن مالك أن الجواب المذكور للأول والثاني لا جواب له لا مذكور ولا مقدر لأنه مقيد للأول تقييده بحال واقعة موقعه فالمعنى في المثال إن ركبت آكلة فأنت طالق، وفيه أنه خارج عن القياس وأنه لا يطرد في إن قمت إن قعدت فأنت طالق وأن الشرط بعيد عن مذهب الحال لمكان الاستقبال. وبالجملة قد أطال الكلام في هذه المسألة وهي مسألة شهيرة ذكرها الأصوليون وغيرهم وفيما ذكرنا فيها اكتفاء بأقل اللازم هاهنا فتأمل. وأكثر العلماء على وقوع الهبة واختلفوا في تعيين الواهبة فعن ابن عباس وقتادة وعكرمة هي ميمونة بنت الحارث الهلالية، وفي المواهب يقال: إن ميمونة وهبت نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلم وذلك أن خطبته عليه الصلاة والسلام انتهت إليها وهي على بعيرها فقالت: البعير وما عليه لله ولرسوله صلّى الله عليه وسلم وكان ذلك سنة سبع بعد غزوة خيبر وبنى عليها عليه الصلاة والسلام بسرف على عشرة أميال من مكة، وعليه تكون إرادة النكاح سابقة على الهبة فيضعف به قول السمين: وعن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما والضحاك ومقاتل هي أم شريك غزية بنت جابر بن حكيم الدوسية، قال في الصفوة: والأكثرون على أنها هي التي وهبت نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلم فلم يقبلها فلم تتزوج حتى ماتت. وفي الدر المنثور عن منير بن عبد الله الدوسي أنه عليه الصلاة والسلام قبلها، وعن عروة والشعبي هي زينب بنت خزيمة من الأنصار كانت تدعى في الجاهلية أم المساكين لإطعامها إياهم وكان ذلك في سنة ثلاث ولم تلبث عنده صلّى الله عليه وسلم إلا قليلا حتى توفيت رضي الله تعالى عنها. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في السنن عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: التي وهبت نفسها الجزء: 11 ¦ الصفحة: 236 للنبي صلّى الله عليه وسلم خولة بنت حكيم وقد أرجأها عليه الصلاة والسلام فتزوجها عثمان بن مظعون بإذنه صلّى الله عليه وسلم وقال بعضهم: يجوز تعدد الواهبات فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن عروة بن الزبير قال: كانت خولة بنت حكيم من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلّى الله عليه وسلم فقالت عائشة: أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل فلما نزلت: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ قالت عائشة: يا رسول الله ما أرى ربك إلا يسارع لك في هواك فقوله: من اللاتي وهبن أنفسهن صريح في تعددهن، وأنكر بعضهم وقوع الهبة وقيل: إن قوله تعالى: إِنْ وَهَبَتْ يشير إلى عدم وقوعها وأنها أمر مفروض وكذا تنكير امْرَأَةً فالمراد الإعلام بالإحلال في هذه الصورة إن اتفقت وأنكر بعضهم القبول. أخرج ابن سعد عن ابن أبي عون أن ليلى بنت الحطيم وهبت نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلم ووهبن نساء أنفسهن فلم نسمع أن النبي صلّى الله عليه وسلم قبل منهن أحدا، وما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي في السنن عن ابن عباس قال: لم يكن عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها له يحتمل نفي القبول ويحتمل نفي الهبة، وإيراده صلّى الله عليه وسلم في الموضعين بعنوان النبوة بطريق الالتفات للتكرمة والإيذان بأنها المناط لثبوت الحكم فيختص به عليه الصلاة والسلام حسب اختصاصها به كما ينطق به قوله تعالى: خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ويتضمن ذلك الإشارة إلى أن هبة من تهب لم تكن حرصا على الرجال وقضاء الوطر بل على الفوز بشرف خدمته صلّى الله عليه وسلم والنزول في معدن الفضل، وبذلك يعلم أن قول عائشة: ما في امرأة وهبت نفسها لرجل خير وكذا اعتراضها السابق صادر من شدة غيرتها رضي الله تعالى عنها على رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولا بدع فالمحب غيور وقد قال بعض المحبين: أغار إذا آنست في الحي أنة ... حذارا وخوفا أن تكون لحبه ونصب خالِصَةً على أنه مصدر مؤكد للجملة قبله، وفاعله في المصادر على ما قال الزمخشري غير حريز كالعافية والكاذبة، وادعى أبو حيان عزتها، والكثير على تعلق ذلك بإحلال الواهبة أي خلص لك إحلالها خالصة أي خلوصا، وقال الزجاج: هو حال من امْرَأَةً لتخصصها بالوصف أي أحللناها خالصة لك لا تحل لأحد غيرك في الدنيا والآخرة. وقال أبو البقاء: هو حال من ضمير وَهَبَتْ أو صفة لمصدر محذوف أي هبة خالصة. وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ذاك خلوص لك وخصوص أو هي أي تلك المرأة أو الهبة خالصة لك لا تتجاوز المؤمنين. واستدل الشافعية رضي الله تعالى عنهم به على أن النكاح لا ينعقد بلفظ الهبة لأن اللفظ تابع للمعنى وقد خص عليه الصلاة والسلام بالمعنى فيختص باللفظ، وقال بعض أجلة أصحابنا في ذلك: إن المراد بالهبة في الآية تمليك المتعة بلا عوض بأي لفظ كان لا تمليكها بلفظ وهبت نفسي فحيث لم يكن ذلك نصافي التمليك بهذا اللفظ لم يصلح لأن يكون مناطا للخلاف في انعقاد النكاح بلفظ الهبة إيجابا وسلبا، ومعنى خلوص الإحلال المذكور له صلّى الله عليه وسلم من دون المؤمنين كونه متحققا في حقه غير متحقق في حقهم إذ لا بدّ في الإحلال لهم من مهر المثل. وظاهر كلام العلامة ابن الهمام اعتبار لفظ الهبة حيث قال في الفتح: قد ورد النكاح بلفظ الهبة وساق الآية ثم قال: والأصل عدم الخصوصية حتى يقوم دليلها، وقوله تعالى: خالِصَةً لَكَ يرجع إلى عدم المهر بقرينة إعقابه بالتعليل بنفي الحرج فإن الحرج ليس في ترك لفظ إلى غيره خصوصا بالنسبة إلى أفصح العرب بل في لزوم المال، وبقرينة وقوعه في مقابلة المؤتى أجورهن فصار الحاصل أحللنا لك الأزواج المؤتى مهورهن والتي وهبت نفسها لك فلم تأخذ مهرا خالصة هذه الخصلة لك من دون المؤمنين أما هم فقد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم إلخ من الجزء: 11 ¦ الصفحة: 237 المهر وغيره. وأبدى صدر الشريعة جواز كونه متعلقا بأحللنا قيدا في إحلال أزواجه له صلّى الله عليه وسلم لإفادة عدم حلهن لغيره صلّى الله عليه وسلم انتهى، وجوز بعضهم كونه قيدا في إحلال الإماء أيضا لإفادة عدم حل إمائه كأزواجه لأحد بعده عليه الصلاة والسلام، وبعض آخر كونه قيدا لإحلال جميع ما تقدم على القيود المذكورة أي خلص إحلال ما أحللنا لك من المذكورات على القيود المذكورة خلوصها من دون المؤمنين فإن إحلال الجميع على القيود المذكورة غير متحقق في حقهم بل المتحقق فيه إحلال بعض المعدود على الوجه المعهود، واختاره الزمخشري، وأيا ما كان فقوله تعالى: قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ اعتراض بين المتعلق والمتعلق، والأول على جميع الأوجه قوله سبحانه: لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ والثاني على الوجه الأخير وهو تعلق خالصة بجميع ما سلف من الإحلالات الأربع قوله تعالى خالِصَةً وهو مؤكد معنى اختصاصه عليه الصلاة والسلام بما اختص به بأن كلا من الاختصاص عن علم وأن هذه الحظوة مما يليق بمنصب الرسالة فحسب فالمعنى أن الله تعالى قد علم ما ينبغي من حيث الحكمة فرضه على المؤمنين في حق الأزواج والإماء وعلى أي حد وصفة ينبغي أن يفرض عليهم ففرضه واختصك سبحانه بالتنزيه واختيار ما هو أولى وأفضل في دنياك حيث أحل جل شأنه لك أجناس المنكوحات وزاد لك الواهبة نفسها من غير عوض لئلا يكون عليك ضيق في دينك، وهو على الوجه الأول الذي ذكرناه وهو تعلق خالصة بالواهبة خاصة قوله عزّ وجلّ: إِنَّا أَحْلَلْنا وهو الذي استظهره أبو حيان وأمر الاعتراض عليه في حاله، وبعضهم يجعل المتعلق خالصة على سائر الأوجه والتعلق به باعتبار ما فيه من معنى ثبوت الإحلال وحصوله له صلّى الله عليه وسلم لا باعتبار اختصاصه به عليه الصلاة والسلام لأن مدار انتفاء الحرج هو الأول لا الثاني الذي هو عبارة عن عدم ثبوته لغيره صلّى الله عليه وسلم. وقال ابن عطية: إن لِكَيْلا إلخ متعلق بمحذوف أي بينا هذا البيان وشرحنا هذا الشرح لئلا يكون عليك حرج ويظن بك أنك قد أثمت عند ربك عزّ وجلّ فلا اعتراض على هذا، ولا يخلو عن اعتراض فتدبر ولا تغفل. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً أي كثير المغفرة فيغفر ما يشاء مما يعسر التحرز عنه وغيره رَحِيماً أي وافر الرحمة، ومن رحمته سبحانه أن وسع الأمر في مواقع الحرج تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ أي تؤخر من تشاء من نسائك وتترك مضاجعتها وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وتضم إليك من تشاء منهن وتضاجعها، وروي هذا عن قتادة. وعن ابن عباس والحسن أي تطلق من تشاء منهن وتمسك من تشاء، وقال بعضهم: الإرجاء والإيواء لإطلاقهما يتناولان ما في التفسيرين وما ذكر فيهما فإنما هو من باب التمثيل ولا يخلو عن حسن، وفي رواية عن الحسن أن ضمير مِنْهُنَّ لنساء الأمة والمعنى تترك نكاح من تشاء من نساء أمتك فلا تنكح وتنكح منهن من تشاء. وقال: كان صلّى الله عليه وسلم إذا خطب امرأة لم يكن لغيره أن يخطبها حتى يتركها وعن زيد بن أسلم والطبري أنه للواهبات أنفسهن أي تقبل من تشاء من المؤمنات اللاتي يهبن أنفسهن لك فتؤويها إليك وتترك من تشاء منهن فلا تقبلها، وعن الشعبي ما يقتضيه، فقد أخرج ابن سعد والبيهقي في السنن وغيرهما عنه قال: كن نساء وهبن أنفسهن لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فدخل ببعضهن وأرجأ بعضهن فلم يقربن حتى توفي عليه الصلاة والسلام ولم ينكحن بعده، منهن أم شريك فذلك قوله تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ ويشهد لما تقدم من رجوعه إلى النساء ما أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وغيرهم عن أبي رزين قال: هم رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يطلق من نسائه فلما رأين ذلك أتينه فقلن لا تخل سبيلنا وأنت في حل فيما بيننا وبينك افرض لنا من نفسك ومالك ما شئت فأنزل الله تعالى الآية أرجأ منهن نسوة وكان ممن أرجأ ميمونة وجويرية وأم حبيبة وصفية وسودة وكان ممن آوى عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب رضي الله تعالى عنهن أجمعين. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر «ترجىء» بالهمزة وهو عند الزجاج الجزء: 11 ¦ الصفحة: 238 أجود والمعنى واحد وَمَنِ ابْتَغَيْتَ أي طلبت مِمَّنْ عَزَلْتَ أي تجنبت وحمل هذا التجنب على ما كان بطلاق، ومن شرطية منصوبة بما بعدها، وقوله تعالى فَلا جُناحَ عَلَيْكَ جوابها أي من طلبتها ممن طلقت فليس عليك إثم في طلبها أو موصولة والجملة خبرها أي والتي طلبتها لا جناح عليك في طلبها والمراد نفي أن يكون عليه عليه الصلاة والسلام إثم في إرجاع المطلقة، وقيل من موصولة معطوفة على مَنْ تَشاءُ الثاني والمراد به غير المطلقة ومعنى فلا جناح عليك فلا إثم عليك في شيء مما ذكر من الأرجاء والإيواء والابتغاء والمراد تفويض ذلك إلى مشيئته صلّى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: المراد به ما كان بترك مضاجعة بدون طلاق، والمقصود من الآية بيان أن له صلّى الله عليه وسلم ترك مضاجعة من شاء من نسائه ومضاجعة من شاء منهن أي ممن لم يكن أرجأها وترك مضاجعتها والرجوع إلى مضاجعة من ترك مضاجعتها واعتزلها فمن عزل هي المرجأة، وأفاد صاحب الكشاف أن الآية متضمنة قسمة جامعة لما هو الفرض لأنه صلّى الله عليه وسلم إما أن يطلق وإما أن يمسك وإذا أمسك ضاجع أو ترك وقسم أو لم يقسم وإذا طلق وعزل فأما أن يخلي المعزولة لا يبتغيها أو يبتغيها وانفهام الطلاق والإمساك بأقسامه بواسطة إطلاق الأرجاء والإيواء في قوله تعالى: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي وانفهام ابتغاء المعزولة من قوله سبحانه وَمَنِ ابْتَغَيْتَ إلخ ومتى فهم أن لا جناح في ابتغاء المعزولة بالطلاق وردها إلى النكاح فهم منه أن رفع النكاح في عدم ردها من طريق الأولى ولقد أجاد فيما أفاد، وجوز بعضهم أن يكون من مبتدأ وفي الكلام معطوف وخبر محذوفان أي ومن ابتغيت ممن عزلت ومن لم تعزل سواء، وقوله سبحانه: فَلا جُناحَ عَلَيْكَ تأكيد لذلك ولا يخفى بعده وتعسفه، وقال الحسن: معنى- ومن ابتغيت- إلخ من مات من نسائك اللواتي عندك أو خليت سبيلها فلا جناح عليك في أن تستبدل عوضها من اللاتي أحللت لك فلا تزداد على عدة نسائك اللاتي عندك كذا في البحر، وكأنه جعل من للبدل كالتي في قوله تعالى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ [التوبة: 38] ومن عزلت شاملا لمن ماتت ومن طلقت وكلاهما بعيد، وثانيهما أبعد من أولهما بكثير ومثله اعتبار ما اعتبره من القيود وبالجملة هو قول تبعد نسبته إلى الحسن، وأبعد من ذلك نسبته إلى ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما في الدر المنثور. ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ أي تفويض الأمر إلى مشيئتك أقرب إلى قرة عيونهن وسرورهن ورضاهن جميعا لأنه حكم كلهن فيه سواء ثم أن سويت بينهن وجدن ذلك تفضلا منك وإن رجحت بعضهن علمن أنه بحكم الله تعالى فتطمئن به نفوسهن، وروي هذا عن قتادة، والمراد بما آتيتهن عليه ما صنعت معهن فيتناول ترك المضاجعة والقسم، وعن ابن عباس ومجاهد أن المعنى أنهن إذا علمن أن لك ردهن إلى فراشك بعد ما اعتزلتهن قرت أعينهن ولم يحزنّ ويرضين بما تفعله من التسوية والتفضيل لأنهن يعلمن أنك لم تطلقهن، وظاهره جعل المشار إليه العلم بأن له صلّى الله عليه وسلم الإيواء، وأظهر منه في ذلك قول الجبائي ذلك العلم منهن بأنك إذا عزلت واحدة كان لك أن تؤويها بعد ذلك أدنى لسرورهن وقرة أعينهن. وقال بعض الأجلة: كون الإشارة إلى التفويض أنسب لفظا لأن ذلك للبعيد وكونها إلى الإيواء أنسب معنى لأن قرة عيونهن بالذات إنما هي بالإيواء فلا تغفل، والأعين جمع قلة وأريد به هاهنا جمع الكثرة وكأن اختياره لأنه أوفق بكمية الأزواج، وقرأ ابن محيصن «تقر» من أقر وفاعله ضميره صلّى الله عليه وسلم «أعينهنّ» بالنصب على المفعولية. وقرىء «تقرّ» مبنيا للمفعول وأعينهن بالرفع نائب الفاعل وكُلُّهُنَّ بالرفع في جميع ذلك وهو توكيد لنون يَرْضَيْنَ. وقرأ أبو إياس جوية بن عائذ «كلهن» بالنصب تأكيدا لضميره في «آتيتهن» قال ابن جني: وهذه القراءة راجعة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 239 إلى معنى قراءة العامة «كلّهنّ» بضم اللام وذلك أن رضاهن كلهن بما أوتين كلهن على انفرادهن واجتماعهن فالمعنيان إذن واحد إلا أن للرفع معنى وذلك أن فيه إصراحا من اللفظ بأن يرضين كلهن، والإصلاح في القراءة الشاذة إنما هو في إتيانهن وإن كان محصول الحال فيهما واحدا مع التأويل انتهى، وقال الطيبي في توكيد الفاعل دون المفعول إظهار لكمال الرضا منهن وإن لم يكن الإيتاء كاملا سويا، وفي توكيد المفعول إظهار أنهن مع كمال الإيتاء غير كاملات في الرضا والأول أبلغ في المدح لأن فيه معنى التتميم وذلك أن المؤكد يرفع إيهام التجوز عن المؤكد انتهى فتأمل وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ خطاب له صلّى الله عليه وسلم ولأزواجه المطهرات على سبيل التغليب. والمراد بما في القلوب عام ويدخل فيه ما يكون في قلوبهن من الرضا بما دبر الله تعالى في حقهن من تفويض الأمر إليه صلّى الله عليه وسلم ومقابل ذلك وما في قلبه الشريف عليه الصلاة والسلام من الميل إلى بعضهن دون بعض، والكلام بعث على الاجتهاد في تحسين ما في القلوب، ولعل اعتباره صلّى الله عليه وسلم في الخطاب لتطييب قلوبهن، وفي الكشاف أن هذا وعيد لمن لم يرض منهن بما دبر الله تعالى من ذلك وفوض سبحانه إلى مشيئة رسوله عليه الصلاة والسلام وبعث على تواطؤ قلوبهن والتصافي بينهن والتوافق على طلب رضا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وطيب نفسه الكريمة، والظاهر أنه غير قائل بدخوله صلّى الله عليه وسلم في الخطاب، وحينئذ فأما أن يقول: إنه عام لهن ولسائر المؤمنين وإما أن يقول بأنه خاص بهن ولعله ظاهر كلامه وعليه لا يظهر وجهه التذكير، وربما يقال على الأول: إن المقام غير ظاهر في اقتضاء دخول سائر المؤمنين في الخطاب، وقال ابن عطية: الإشارة بذلك هاهنا إلى ما في قلب رسول الله صلّى الله عليه وسلم من محبة شخص دون شخص ويدخل في المعنى المؤمنون، وربما يتخيل أن الخطاب لجميع المكلفين والكلام بعث على تحسين ما في القلوب في شأن ما دبر الله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلم في أمر أزواجه ونفي الخواطر الرديئة بأن يظن أن ذاك هو الذي تقتضيه الحكمة وأنه دليل على كمال المحبوبية، ولا يتوهم خلافه فإن بعض الملحدين طعنوا كالنصارى في كثرة تزوجه عليه الصلاة والسلام وكونه في أمر النساء على حال لم يبح لأمته من حل جمع ما فوق الأربع وعدم التقيد بالقسم لهن مثلا وزعموا أن في ذلك دليلا على غلبة القوة الشهوية فيه عليه الصلاة والسلام وذلك مناف لتقدس النفس الذي هو من شأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فجزموا والعياذ بالله تعالى بنفي نبوته وأن ما فعله صلّى الله عليه وسلم لم يكن منه تعالى بل ليس ذلك إلا منه عليه الصلاة والسلام ولا يخفى أن قائلي ذلك على كفرهم جهلة بمراتب الكمال صم عن سماع آثاره عليه الصلاة والسلام ومن سبر الأخبار علم أنه صلّى الله عليه وسلم أكمل الأنبياء على الإطلاق لغاية كمال بشريته وملكيته وآثار الكمال الأول تزوج ما فوق الأربع والطواف عليهن كلهن في الليلة الواحدة وآثار الكمال الثاني أنه عليه الصلاة والسلام كثيرا ما كان يبيت ويصبح لا يأكل ولا يشرب وهو على غاية من القوة وعدم الاكتراث بترك ذلك وليس لأحد من الأنبياء عليهم السّلام اجتماع هذين الكمالين حسب اجتماعهما فيه عليه الصلاة والسلام ولتكثره النساء حكمة دينية جليلة أيضا وهي نشر أحكام شرعية لا تكاد تعلم إلا بواسطتهن مع تشييد أمر نبوته فإن النساء لا يكدن يحفظن سرا وهن أعلم الناس بخفايا أزواجهن فلو وقف نساؤه عليه الصلاة والسلام على أمر خفي منه يخل بمنصب النبوة لأظهرنه، وكيف يتصور إخفاؤه بينهن مع كثرتهن. وكل سر جاوز الاثنين شاع. وفي عدم إيجاب القسم عليه عليه الصلاة والسلام تأكيد لذلك كما لا يخفى على المنصف وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً مبالغا في العلم فيعلم كل ما يبدي ويخفي حَلِيماً مبالغا في الحلم فلا يعجل سبحانه بمقابلة من يفعل خلاف ما يحب حسبما يقتضيه فعله من عتاب أو عقاب أو فيصفح عما يغلب على القلب من الميول ونحوها، هذا وفي البحر اتفقت الروايات على أنه عليه الصلاة والسلام كان يعدل بين أزواجه المطهرات في القسمة حتى مات ولم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 240 يستعمل شيئا مما أبيح له ضبطا لنفسه وأخذا بالأفضل غير ما جرى لسودة فإنها وهبت ليلتها لعائشة وقالت: لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب أنه قال لم يعلم أن رسول الله أرجأ منهن شيئا ولا عزله بعد ما خيرن فاخترنه. وأخرج الشيخان وأبو داود والنسائي وغيرهم عن عائشة أن رسول الله عليه الصلاة والسلام كان يستأذن في يوم المرأة منا بعد أن أنزلت هذه الآية تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ فقيل لها: ما كنت تقولين؟ قالت: كنت أقول له إن كان ذاك إلى فإني لا أريد أن أوثر عليك أحدا فتأمله مع حكاية الاتفاق السابق والله تعالى الموفق. لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ بالياء لأن تأنيث الجمع غير حقيقي وقد وقع بفصل أيضا، والمراد بالنساء الجنس الشامل للواحدة ولم يؤت بمفرد لأنه لا مفرد له من لفظه والمرأة شاملة للجارية وليست بمرادة، واختصاص النساء بالحرائر بحكم العرف، وقرأ البصريان بالتاء الفوقية، وسهل وأبو حاتم يخير فيهما، وأيا كان ما كان فالمراد يحرم عليك نكاح النساء مِنْ بَعْدُ قيل أي من بعد التسع اللاتي في عصمتك اليوم، أخرج ابن سعد عن عكرمة قال: لما خير رسول الله صلّى الله عليه وسلم أزواجه اخترنه فأنزل الله تعالى لا يحل لك النساء من بعد هؤلاء التسع اللاتي اخترنك أي لقد حرم عليك تزويج غيرهن، وأخرج أبو داود في ناسخه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أنس قال لما خيرهن فاخترن الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم قصره عليهن فقال سبحانه لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في الآية حبسه الله تعالى عليهن كما حبسهن عليه عليه الصلاة والسلام، وقدر بعضهم المضاف إليه المحذوف اختيارا أي من بعد اختيارهن الله تعالى ورسوله. وقال الإمام: هو أولى وكأن ذلك لكونه أدل على أن التحريم كان كرامة لهن وشكرا على حسن صنيعهن. وجوز آخر أن يكون التقدير من بعد اليوم وماله تحريم من عدا اللاتي اخترنه عليه الصلاة والسلام. وحكي في البحر عن ابن عباس وقتادة قال: لما خيرن فاخترن الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم جازاهن أن حظر عليه النساء غيرهن وتبديلهن ونسخ سبحانه بذلك ما أباحه له قبل من التوسعة في جميع النساء، وحكي أيضا عن مجاهد وابن جبير أن المعنى من بعد إباحة النساء على العموم، وقيل التقدير من بعد التسع على معنى أن هذا العدد مع قطع النظر عن خصوصية المعدود نصابه صلّى الله عليه وسلم من الأزواج كما أن الأربع نصاب أمته منهن فالمعنى لا يحل لك الزيادة على التسع وَلا أَنْ تَبَدَّلَ أصله تتبدل فخفف بحذف إحدى التاءين أي ولا يحل لك أن تستبدل بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ بأن تطلق واحدة منهن وتنكح بدلها أخرى، ففي الآية حكمان حرمة الزيادة وحرمة الاستبدال، وظاهره أنه يحل له عليه الصلاة والسلام نكاح امرأة أخرى على تقدير أن تموت واحدة من التسع، وإذا كان المراد من الآية تحريم من عدا اللاتي اخترنه عليه الصلاة والسلام أفادت الآية أنه لو ماتت واحدة منهن لم يحل له نكاح أخرى، وكلام ابن عباس السابق ظاهر في ذلك جدا، وكأن قوله تعالى: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ إلخ عليه لدفع توهم أن المحرم ليس إلا أن يرعهن صلّى الله عليه وسلم بواحدة من الضرائر. وفي رواية أخرى عن عكرمة أن المعنى لا يحل لك النساء من بعد هؤلاء اللاتي سمي الله تعالى لك في قوله سبحانه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ الآية فلا يحل له صلّى الله عليه وسلم ما وراء الأجناس الأربعة كالأعرابيات والغرائب ويحل له منها ما شاء، وأخرج عبد بن حميد والترمذي وحسنه وغيرهما عن ابن عباس ما هو ظاهر في ذلك حيث قال في الخبر وقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ إلى قوله سبحانه: خالِصَةً لَكَ وحرم ما سوى ذلك من أصناف النساء، وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن جرير وابن المنذر والضياء في المختارة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 241 وغيرهم عن زياد قال: قلت لأبي بن كعب رضي الله تعالى عنه أرأيت لو أن أزواج النبي عليه الصلاة والسلام متن أما يحل له أن يتزوج قال: وما يمنعه من ذلك قلت: قوله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ فقال: إنما أحل له ضربا من النساء ووصف له صفة فقال سبحانه يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك إلى قوله تعالى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إلخ ثم قال تبارك وتعالى لا يحل لك النساء من بعد هذه الصفة، وعلى هذا القول قال الطيبي: يكون قوله سبحانه: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ إلخ تأكيدا لما قبله من تحريم غير ما نص عليه من الأجناس الأربعة وكأن ضمير بهن للأجناس المذكورة في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ الآية والمعنى لا يحل لك أن تترك هذه الأجناس وتعدل عنها إلى أجناس غيرها، وقال شيخ الإسلام أبو السعود عليه الرحمة بعد ما حكي القول المذكور يأباه قوله تعالى: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ إلخ فإن معنى إحلال الأجناس المذكورة إحلال نكاحهن فيكون التبدل بهن إحلال نكاح غيرهن بدل إحلال نكاحهن وذلك إنما يتصور بالنسخ الذي هو ليس من الوظائف البشرية انتهى فتأمل ولا تغفل، وقيل وَلا أَنْ تَبَدَّلَ من البدل الذي كان في الجاهلية كان يقول الرجل للرجل بادلني بامرأتك وأبادلك بامرأتي فينزل كل واحد منهما عن امرأته لآخر، وروي نحوه عن ابن زيد وأنكر هذا القول الطبري وغيره في معنى الآية وقالوا ما فعلت العرب ذاك قط، وما روي من حديث عيينة بن حصن أنه قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم حين دخل عليه بغير استئذان وعنده عائشة: من هذه الحميراء؟ فقال: عائشة فقال عيينة: يا رسول الله إن شئت نزلت لك عن سيدة نساء العرب جمالا ونسبا فليس بتبديل ولا أراد ذلك وإنما احتقر عائشة رضي الله تعالى عنها لأنها كانت إذ ذاك صبية، ومن مزيد لتأكيد الاستغراق فيشمل النهي تبدل الكل والبعض: وقوله تعالى: وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ في موضع الحال فاعل تبدل والتقدير مفروضا إعجابك بهن، وحاصله ولا تبدل بهن من أزواج على كل حال، وظاهر كلام بعضهم أنه لا يجوز أن يكون حالا من مفعوله أعني أزواجا وعلل ذلك بتوغله في التنكير وتعقب بأنه مخالف لكلام النحاة فإنهم جوزوا الحال من النكرة إذا وقعت منفية لأنها تستغرق حينئذ فيزول إبهامها كما صرح به الرضي. وقيل إن التنكير مانع من الحالية هاهنا لأن الحال تقاس بالصفة والواو مانعة من الوصفية فتمنع من الحالية ومنع لزوم القياس مع أن الزمخشري وغيره جوزوا دخول الواو على الصفة لتأكيد لصوقها، وقيل في عدم جواز ذلك إن ذا الحال إذا كان نكرة يجب تقديمها ولم تقدم هاهنا. وتعقب بأن ذلك غير مسلم في الجملة المقرونة بالواو لكونه بصورة العاطف. واستظهر صاحب الكشف الجواز وذكر أن المعنى في الحالين لا يتفاوت كثير تفاوت لأنه إذا تقيد الفعل لزم تقيد متعلقاته وإنما الاختلاف في الأصالة والتبعية، وضمير حسنهن للأزواج والمراد بهن من يفرضن بدلا من أزواجه اللاتي في عصمته عليه الصلاة والسلام فتسميتهن أزواجا باعتبار ما يعرض مالا وهذا بناء على أن باء البدل في بهن داخلة على المتروك دون المأخوذ فلو اعتبرت داخلة على المأخوذ كان الضمير للنساء لا للأزواج، وممن أعجبه صلّى الله عليه وسلم حسنهن على ما قيل أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب بعد وفاته رضي الله تعالى عنه، وفي قوله سبحانه: وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ على ما نقل عن ابن عطية دليل على جواز أن ينظر الرجل إلى من يريد زواجها وفي الأخبار أدلة على ذلك وتفصيل الأقوال فيه في كتب الفروع. واختلف في أن الآية الدالة على عدم حل النساء له صلّى الله عليه وسلم هل هي محكمة أم لا. فعن أبي بن كعب وجماعة منهم الحسن وابن سيرين واختاره الطبري واستظهره أبو حيان أنها محكمة وعن علي كرّم الله تعالى وجهه وابن عباس وأم سلمة رضي الله تعالى عنهما والضحاك عليه الرحمة أنها منسوخ وروي ذلك عن عائشة رضي الله تعالى عنها. أخرج أبو داود في ناسخه والترمذي وصححه والنسائي والحاكم وصححه أيضا وابن المنذر وغيرهم عنها الجزء: 11 ¦ الصفحة: 242 قالت: لم يمت رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى أحل الله تعالى له أن يتزوج من النساء ما شاء إلا ذات محرم لقوله سبحانه: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وهذا ظاهر في أن الناسخ قوله تعالى: تُرْجِي إلخ وهو مبني على أن المعنى تطلق من تشاء وتمسك من تشاء، ووجه النسخ به على هذا التفسير أنه يدل بعمومه على أنه أبيح له صلّى الله عليه وسلم الطلاق والإمساك لكل من يريد فيدل على أن له تطليق منكوحاته ونكاح من يريد من غيرهن إذ ليس المراد بالإمساك إمساك من سبق نكاحه فقد لعموم من تشاء وقوله سبحانه: تُؤْوِي ليس مقيدا بمنهن كذا قال الخفاجي: وفي القلب منه شيء ولا بدّ على القول بأن النسخ بذلك من القول بتأخر نزوله عن نزول الآية المنسوخة إذ لا يمكن النسخ مع التقدم وهو ظاهر ولا يعكر التقدم في المصحف لأن ترتيبه ليس على حسب النزول وقال بعضهم: إن الناسخ السنة ويغلب على الظن أنها كانت فعله عليه الصلاة والسلام. أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبد الله بن شداد أنه قال: في قوله تعالى: وَلا أَنْ تَبَدَّلَ إلخ ذلك لو طلقهن لم يحل له أن يستبدل وقد كان ينكح بعد ما نزلت هذه الآية ما شاء ونزلت وتحته تسع نسوة ثم تزوج بعد أم حبيبة بنت أبي سفيان وجويرية بنت الحارث رضي الله تعالى عنهما، والظاهر على القول بأن الآية نزلت كرامة للمختارات وتطييبا لخواطرهن وشكرا لحسن صنيعهن عدم النسخ والله تعالى أعلم، وقوله: إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ استثناء من النساء متصل بناء على أصل اللغة لتناوله عليه الحرائر والإماء ومنقطع بناء على العرف لاختصاصه فيه بالحرائر ولا أن تبدل بهن من أزواج كالصريح فيه. وقال ابن عطية: إن ما إن كانت موصولة واقعة على الجنس فهو استثناء من الجنس مختار فيه الرفع على البدل من النساء ويجوز النصب على الاستثناء وإن كانت مصدرية فهي في موضع نصب لأنه استثناء من غير الجنس الأول انتهى، وليس بجيد لأنه قال والتقدير إلا ملك اليمين وملك بمعنى مملوك فإذا كان بمعنى مملوك لم يصح الجزم بأنه ليس من الجنس وأيضا لا يتحتم النصب وإن فرضنا أنه من غير الجنس حقيقة بل أهل الحجاز ينصبون وبنو تميم يبدلون وأيا ما كان فالظاهر حل المملوكة له صلّى الله عليه وسلم سواء كانت مما أفاء الله تعالى عليه أم لا وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً أي راقبا أو مراقبا والمراد كان حافظا ومطلعا على كل شيء فاحذروا تجاوز حدوده سبحانه وتخطي حلاله إلى حرامه عزّ وجلّ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ شروع في بيان بعض الحقوق على الناس المتعلقة به صلّى الله عليه وسلم وهو عند نسائه، والحقوق المتعلقة بهن رضي الله تعالى عنهن ومناسبة ذلك لما تقدم ظاهرة، والآية عند الأكثرين نزلت يوم تزوج عليه الصلاة والسلام زينب بنت جحش. أخرج الإمام أحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه من طرق عن أنس قال: لما تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلم زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا فلما رأى ذلك قام فلما قام قام من قام وقعد ثلاثة نفر فجاء النبي صلّى الله عليه وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس ثم إنهم قاموا فانطلقت فجئت أخبرت النبي صلّى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ الآية والنهي للتحريم، وقوله سبحانه: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ بتقدير باء المصاحبة استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا تدخلوها في حال من الأحوال إلا حال كونكم مصحوبين بالإذن. وجوز أبو حيان كونه بتقدير باء السببية فيكون الاستثناء من أعم الأسباب أي لا تدخلوها بسبب من الأسباب إلا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 243 بسبب الإذن، وذهب الزمخشري إلى أنه استثناء من أعم الأوقات أي لا تدخلوها في وقت من الأوقات إلا وقت أن يؤذن لكم. وأورد عليه أبو حيان أن الوقوع موقع الظرف مختص بالمصدر الصريح دون المؤول فلا يقال أتيتك أن يصيح الديك وإنما يقال أتيتك صياح الديك، ولا يخفى أن القول بالاختصاص أحد قولين للنحاة في المسألة نعم إنه الأشهر والزمخشري إمام في العربية لا يعترض عليه بمثل هذه المخالفة. وزعم بعضهم أن الوقت مقدر في نظم الكلام فيكون محذوفا حذف حرف الجر وأن هذا ليس من باب وقوع المصدر موقع الظرف. وأجاز بعض الأجلة كون ذلك استثناء من أعم الأحوال بلا تقدير الباء بل باعتبار أن المصدر مؤول باسم المفعول أي لا تدخلوها إلا مأذونا لكم والمصدر المسبوك قد يؤول بمعنى المفعول كما قيل في قوله تعالى: ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى [يونس: 37] إن المعنى ما كان هذا القرآن مفتري فمن قال كون المصدر بمعنى المفعول غير معروف في المؤول لم يصب، وقيل فيما ذكر مخالفة لقول النحاة المصدر المسبوك معرفة دائما كما صرح به في المغني. وتعقبه الخفاجي بأن الحق أنه سطحي وأنه قد يكون نكرة وذكر قوله تعالى: ما كانَ إلخ، وقوله سبحانه: إِلى طَعامٍ متعلق بيؤذن وعدي بإلى مع أنه يتعدى بفي فيقال أذن له في كذا لتضمينه معنى الدعاء للإشعار بأنه لا ينبغي أن يدخلوا على طعام بغير دعوة وإن تحقق الإذن الصريح في دخول البيت فإن كل إذن ليس بدعوة، وقيل يجوز أن يكون قد تنازع فيه الفعلان تَدْخُلُوا ويُؤْذَنَ وهو مما لا بأس به، وقوله تعالى: غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ أي غير منتظرين نضجه وبلوغه تقول أنى الطعام يأني أنى كقلى يقلي قلى إذا نضج وبلغ قاله الزجاج، وقال مكي: إناه ظرف زمان مقلوب آن التي بمعنى الحين فقلبت النون قبل الألف وغيرت الهمزة إلى الكسرة أي غير ناظرين آنه أي حينه والمراد حين إدراكه ونضجه أو حين أكله حال من فاعل تدخلوا وهو حال مفرغ من أعم الأحوال كما سمعت في أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ وإذا جعل ذلك حالا فهي حال مترادفة فكأنه قيل: لا تدخلوا في حال من الأحوال إلا مصحوبين بالإذن غير ناظرين، والظاهر أنها حال مقدرة ويحتمل أن تكون مقارنة، والزمخشري بعد أن جعل ما تقدم نصبا على الظرفية جعل هذا حالا أيضا لكنه قال بعد وقع الاستثناء على الوقت والحال معا كأنه قيل لا تدخلوا بيوت النبي إلا وقت الإذن ولا تدخلوها إلا غير ناظرين. وتعقبه أبو حيان بأنه لا يجوز على مذهب الجمهور من أنه لا يقع بعد إلا في الاستثناء إلا المستثنى أو المستثنى منه أو صفة المستثنى منه ثم قال وأجاز الأخفش والكسائي ذلك في الحال أجاز ما ذهب القوم إلا يوم الجمعة راحلين عنا فيجوز ما قاله الزمخشري عليه ولا يخفى على المتأمل في كلام الزمخشري أنه بعيد بمراحل عن جعل الآية الكريمة كالمثال المذكور لأنه على التأخير والتقديم وكلامه آب عن اعتبار ذلك في الآية نعم لو اقتصر على جعل غَيْرَ ناظِرِينَ حالا من ضمير تَدْخُلُوا لأمكن أن يقال: إن مراده لا تدخلوا غير ناظرين إلا أن يؤذن لكم ويكون المعنى أن دخولهم غير ناظرين إناه مشروط بالإذن وأما دخولهم ناظرين فممنوع مطلقا بطريق الأولى ثم قدم المستثنى وأخر الحال. وتعقبه بعضهم بأن فيه استثناء شيئين وهما الظرف والحال بأداة واحدة وقد قال ابن مالك في التسهيل: لا يستثنى بأداة واحدة دون عطف شيئان وظاهره عدم جواز ذلك سواء كان الاستثناء مفرغا أم لا وسواء كان الشيئان مما يعمل فيهما العامل المتقدم أم لا فلا يجوز قام القوم إلا زيدا عمرا ولا ما قام القوم إلا زيدا عمرا أو إلا زيد عمرو ولا ما قام إلا خالد بكر ولا ما أعطيت أحدا شيئا إلا عمرا دانقا ولا ما أعطيت إلا عمرا دانقا ولا ما أخذ أحد شيئا إلا زيد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 244 درهما ولا ما أخذ أحد إلا زيد درهما، والكلام في هذه المسألة وما يصح من هذه التراكيب وما لا يصح وإذا صح فعلى أي وجه يصح طويل عريض والذي أميل إليه تقييد إطلاقهم لا يستثنى بأداة واحدة دون عطف شيئان بما إذا كان الشيئان لا يعمل فيهما العامل السابق قبل الاستثناء فلا يجوز ما قام إلا زيد إلا بكر مثلا إذ لا يكون للفعل فاعلان دون عطف ولا ما ضربت إلا زيدا عمرا مثلا إذ لا يكون لضرب مفعولان دون عطف أيضا، وأرى جواز نحو ما أعطيت أحدا شيئا إلا عمرا دانقا ونحو ما ضرب إلا زيد عمرا من غير حاجة إلى التزام إبدال اسمين من اسمين نظير قوله: ولما قرعنا النبع بالنبع بعضه ... ببعض أبت عيدانه أن تكسرا في الأول وإضمار فعل ناصب لعمرو دل عليه المذكور في الثاني، وما ذكره ابن مالك في الاحتجاج على الشبه بالعطف حيث قال: كما لا يقدر بعد حرف العطف معطوفان كذلك لا يقدر بعد حرف الاستثناء مستثنيان لا يتم علينا فإنا نقول في العطف بالجواز في مثل ما ضرب زيد عمرا وبكر خالدا قطعا فنحو ما أعطيت أحدا شيئا إلا زيدا دانقا كذلك، وقوله: إن الاستثناء في حكم جملة مستأنفة لأن معنى جاء القوم إلا زيدا جاء القوم ما منهم زيد وهو على ما قيل يقتضي أن لا يعمل ما قبل إلا فيما بعدها في مثل ما ذكر لأنها بمثابة ما وليس ذلك من الصور المستثناة ليس بشيء كما لا يخفى، وما في أمالي الكافية من أنه لا بدّ في المستثنى المفرغ من تقدير عام فلو استعمل بعد إلا شيئان فأما أن لا يقدر عام أصلا وهو يخالف حكم الباب أو يقدر عامان وهو يؤدي إلى أمر خارج عن القياس من غير ثبت ولو جاز في الاثنين جاز فيما فوقهما وهو ظاهر البطلان أو يقدر لأحدهما دون الآخر وهو يؤدي إلى اللبس فيما قصد. تعقبه الحديثي بأن لقائل أن يختار الثالث ويقول: العام لا يقدر إلا للذي يلي إلا منهما لأنه المستثنى المفرغ ظاهرا فلا يحصل اللبس أصلا، وأبو حيان قدر في الآية محذوفا وجعل غَيْرَ ناظِرِينَ حالا من الضمير فيه والتقدير ادخلوا غير ناظرين وهو الذي يقتضيه كلام ابن مالك حيث أوجب في نحو ما ضرب إلا زيد عمرا جعل عمرا مفعولا لمحذوف دل عليه المذكور، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا وقعت جوابا لسؤال نشأ من الجملة الأولى كأنه لما قيل ما ضرب إلا زيد سأل سائل من ضرب؟ فقيل: ضرب عمرا، وذكر العلامة تقي الدين السبكي عليه الرحمة في رسالته المسماة بالحلم والأناة في إعراب غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وفيها يقول الصلاح الصفدي: يا طالب النحو في زمان ... أطول ظلا من القناة وما تحلى منه بعقد ... عليك بالحلم والأناة إن الظاهر أن الزمخشري ما قال ذلك إلا تفسير معنى والمستثنى في الحقيقة هو المصدر المتعلق به الظرف والحال فكأنه قيل: لا تدخلوا إلا دخولا مصحوبا بكذا ثم قال: ولست أقول بتقدير مصدر هو عامل فيهما فإن العمل للفعل المفرغ وإنما أردت شرح المعنى، ومثل هذا الإعراب هو الذي نختاره في قوله تعالى: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [آل عمران: 19] أي إلا اختلافا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم فمن بعد ما جاءهم وبغيا ليسا مستثنيين بل وقع عليهما المستثنى وهو الاختلاف كما تقول ما قمت إلا يوم الجمعة ضاحكا أمام الأمير في دارة فكلها يعلم فيها الفعل المفرغ من جهة الصناعة وهي من جهة المعنى كالشيء الواحد لأنها بمجموعها بعض من المصدر الذي تضمنه الفعل المنفي وهذا أحسن من أن يقدر اختلفوا بغيا بينهم لأنه حينئذ لا يفيد الحصر وعلى ما قلناه يفيد الحصر فيه كما أفاده في قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ فهو حصر في شيئين لكن بالطريق الذي قلناه لا أنه استثناء شيئين بل استثناء شيء صادق على شيئين، ويمكن حمل كلام الزمخشري على ذلك فقوله: وقع الاستثناء على الوقت والحال معا صحيح، إن المستثنى أعم لأن الأعم يقع على الأخص والواقع على الجزء: 11 ¦ الصفحة: 245 الواقع واقع فتخلص عما ورد عليه من قول النحاة لا يستثنى بأداة واحدة دون عطف شيئان انتهى فتدبره، وجوز أن يكون غَيْرَ ناظِرِينَ حالا من المجرور في لَكُمْ ولم يذكره الزمخشري، وفي الكشف لو جعل حالا من ذلك لأفاد ما ذكره من حيث إنه نهى عن الدخول في جميع الأوقات إلا وقت وجود الإذن المقيد، وقال العلامة تقي الدين لم يجعل حالا من ذلك وإن كان جائزا من جهة الصناعة لأنه يصير حالا مقدرة ولأنهم لا يصيرون منهيين عن الانتظار بل يكون ذلك قيدا في الإذن وليس المعنى على ذلك بل على أنهم نهوا أن يدخلوا إلا بإذن ونهوا إذا دخلوا أن يكونوا غير ناظرين إناه فلذلك امتنع من جهة المعنى أن يكون العامل فيه يُؤْذَنَ وأن يكون حالا من مفعوله اهـ. ولعله أبعد نظرا مما في الكشف، وقرأ ابن أبي عبلة «غير» بالكسر على أنه صفة لطعام فيكون جاريا على غير من هو له، ومذهب البصريين في ذلك وجوب إبراز الضمير بأن يقال هنا غير ناظر أنتم أو غير ناظرين أنتم ولا بأس بحذفه عند الكوفيين إذا لم يقع لبس كما هنا والتخريج المذكور عليه، وقد أمال حمزة والكسائي «إناه» بناء على أنه مصدر أني الطعام إذا أدرك، وقرأ الأعمش «إناءة» بمدة بعد النون وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا استدراك من النهي عن الدخول بغير إذن فيه دلالة على أن المراد بالإذن إلى الطعام الدعوة إليه فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا أي فإذا أكلتم الطعام فتفرقوا ولا تلبثوا، والفاء للتعقيب بلا مهلة للدلالة على أنه ينبغي أن يكون دخولهم بعد الإذن والدعوة على وجه يعقبه الشروع في الأكل بلا فصل، والآية على ما ذهب إليه الجل من المفسرين خطاب لقوم كانوا يتحينون طعام النبي صلّى الله عليه وسلم فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه مخصوصة بهم وبأمثالهم ممن يفعل مثل فعلهم في المستقبل فالنهي مخصوص بمن دخل بغير دعوة وجلس منتظرا للطعام من غير حاجة فلا تفيد النهي عن الدخول بأذن لغير طعام ولا عن الجلوس واللبث بعد الطعام لمهم آخر، ولو اعتبر الخطاب عاما لكان الدخول واللبث المذكوران منهيا عنهما ولا قائل به، ويؤيد ما ذكر ما أخرجه عبد بن حميد عن الربيع عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كانوا يتحينون فيدخلون بيت النبي صلّى الله عليه وسلم فيجلسون فيتحدثون ليدرك الطعام فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الآية وكذا ما أخرجه ابن أبي حاتم عن سليمان بن أرقم قال نزلت في الثقلاء ومن هنا قيل إنها آية الثقلاء، وتقدم لك القول بجواز كون إِلى طَعامٍ قد تنازع فيه الفعلان تَدْخُلُوا ويُؤْذَنَ والأمر عليه ظاهر. وقال العلامة ابن كمال: الظاهر أن الخطاب عام لغير المحارم وخصوص السبب لا يصلح مخصصا على ما تقرر في الأصول، نعم يكون وجها لتقييد الإذن بقوله تعالى إِلى طَعامٍ فيندفع وهم اعتبار مفهومه انتهى وفيه بحث فتأمل والمشهور في سبب النزول ما ذكرناه أول الكلام في الآية عن الإمام أحمد والشيخين وغيرهم فلا تغفل. وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ أي لحديث بعضكم بعضا أو لحديث أهل البيت بالتسمع له فاللام تعليلية أو اللام المقوية ومُسْتَأْنِسِينَ مجرور معطوف على ناظِرِينَ ولا زائدة، يجوز أن يكون منصوبا معطوفا على غَيْرَ كقوله تعالى: وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة: 7] وجوز أن يكون حالا مقدرة أو مقارنة من فاعل فعل حذف مع فاعله وذلك معطوف على المذكور والتقدير ولا تدخلوها أو لا تمكثوا مستأنسين لحديث إِنَّ ذلِكُمْ أي اللبث الدال عليه الكلام أو الاستئناس أو المذكور من الاستئناس والنظر أو الدخول على غير الوجه المذكور، والأول أقوى ملاءمة للسياق والسباق كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ لأنه يكون مانعا له عليه الصلاة والسلام عن قضاء بعض أوطاره مع ما فيه من تضييق المنزل عليه صلّى الله عليه وسلم وعلى أهله فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ أي من إخراجكم بأن يقول لكم اخرجوا أو من منعكم عما يؤذيه على ما قيل فالكلام على تقدير المضاف لقوله تعالى: وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ فإنه يدل على أن المستحيا منه معنى من المعاني لاذواتهم ليتوارد النفي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 246 والإثبات على شيء واحد كما يقتضيه نظام الكلام فلو كان المراد الاستحياء من ذواتهم لقال سبحانه والله لا يستحيي منكم فالمراد بالحق إخراجهم أو المنع عن ذلك، ووضع الحق موضعه لتعظيم جانبه وحاصل الكلام أنه تعالى لم يترك الحق وأمركم بالخروج، والتعبير بعدم الاستحياء للمشاكلة، وجوز أن يكون الكلام على الاستعارة أو المجاز المرسل، واعتبار تقدير المضاف مما ذهب إليه الزمخشري وكثير وهو الذي ينبغي أن يعول عليه، وفي الكشف فإن قلت: الاستحياء من زيد للإخراج مثلا هو الحقيقة والاستحياء من استخراجه توسع بجعل ما نشأ منه الفعل كالصلة وكلتا العبارتين صحيحة يصح إيقاع إحداهما موقع الأخرى، قلت: أريد أنه لا بدّ من ملاحظة معنى الإخراج فإما أن يقدر الإخراج ويوقع عليه فيكثر الإضمار ولا يطابق اللفظ نفيا وإثباتا، وإما أن يقدر المضاف فيقل ويطابق، ومع وجود المرجح وفقد المانع لا وجه للعدول فلا بدّ مما ذكر. وقال العلامة ابن كمال: إن قوله تعالى: فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ تعليل المحذوف دل عليه السياق أي ولا يخرجكم فيستحيي منكم ولذلك صدر بأداة التعليل ولو كان المعنى يستحيي من إخراجكم لكان حقه أن يصدر بالواو، وفيه أن الكلام بعد تسليم ما ذكر على تقدير المضاف. وزعم بعضهم أن الأصل فيستحيي منكم من الحق والله لا يستحيي منكم من الحق والمراد بالحق إخراجهم على أن ذلك من الاحتباك وكلا حرفي الجر ليس بمعنى واحد بل الأول للابتداء والثاني للتعليل، وقال: إن الحمل على ذلك هو الأنسب للإعجاز التنزيلي والاختصار القرآني ولا يخفى ما فيه. وقرأت فرقة كما في البحر «فيستحي» بكسر الحاء مضارع استحى وهي لغة بني تميم والمحذوف إما عين الكلمة فوزنه يستفل أو لامها فوزنه يستفع، وفي الكشاف قرىء «لا يستحي» بياء واحدة وأظن أن القراءة بياء واحدة في الفعل في الموضعين، هذا والظاهر حرمة اللبث على المدعو إلى طعام بعد أن يطعم إذا كان في ذلك أذى لرب البيت وليس ما ذكر مختصا بما إذا كان اللبث في بيت النبي عليه الصلاة والسلام، ومن هنا كان الثقيل مذموما عند الناس قبيح الفعل عند الأكياس. وعن ابن عباس وعائشة رضي الله تعالى عنهما حسبك في الثقلاء أن الله عزّ وجلّ لم يحتملهم وعندي كالثقيل المذكور من يدعى في وقت معين مع جماعة فيتأخر عن ذلك الوقت من غير عذر كثير شرعي بل لمحض أن ينتظر ويظهر بين الحاضرين مزيد جلالته وأن صاحب البيت لا يسعه تقديم الطعام للحاضرين قبل حضوره مخافة منه أو احتراما له أو لنحو ذلك فيتأذى لذلك الحاضرون أو صاحب البيت، وقد رأينا من هذا الصنف كثيرا نسأل الله تعالى العافية إن فضله سبحانه كان كبيرا وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ الضمير لنساء النبي صلّى الله عليه وسلم المدلول عليهن بذكر بيوته عليه الصلاة والسلام أي وإذا طلبتم منهن مَتاعاً أي شيئا يتمتح به من الماعون وغيره فَسْئَلُوهُنَ فاطلبوا منهن ذلك مِنْ وَراءِ حِجابٍ أي ستر. أخرج البخاري وابن جرير وابن مردويه عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله تعالى آية الحجاب وكان رضي الله تعالى عنه حريصا على حجابهن وما ذاك إلا حبا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم. أخرج ابن جرير عن عائشة أن أزواج النبي عليه الصلاة والسلام كن يخرجن بالليل إذ برزن إلى المناصع وهو صعيد أفيح وكان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول للنبي صلّى الله عليه وسلم: احجب نساءك فلم يكن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يفعل فخرجت سودة بنت زمعة رضي الله تعالى عنها ليلة من الليالي عشاء وكانت امرأة طويلة فناداها عمر رضي الله الجزء: 11 ¦ الصفحة: 247 تعالى عنه بصوته الأعلى قد عرفناك يا سودة حرصا على أن ينزل الحجاب فأنزل الله تعالى الحجاب وذلك أحد موافقات عمر رضي الله تعالى عنه وهي مشهورة، وعد الشيعة ما وقع منه رضي الله تعالى عنه في خبر ابن جرير من المثالب قالوا: لما فيه من سوء الأدب وتخجيل سودة حرم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وإيذائها بذلك. وأجاب أهل السنّة بعد تسليم صحة الخبر أنه رضي الله تعالى عنه رأى أن لا بأس بذلك لما غلب على ظنه من ترتب الخير العظيم عليه، ورسوله الله صلّى الله عليه وسلم وإن كان أعلم منه وأغير لم يفعل ذلك انتظارا للوحي وهو اللائق بكمال شأنه مع ربه عزّ وجلّ. وأخرج البخاري في الأدب والنسائي من حديث عائشة أنها كانت تأكل معه عليه الصلاة والسلام (1) وكان يأكل معهما بعض أصحابه فأصابت يد رجل يدها فكره النبي صلّى الله عليه وسلم ذلك فنزلت ، ولا يبعد أن يكون مجموع ما ذكر سببا للنزول، ونزل الحجاب على ما أخرج ابن سعد عن أنس سنة خمس من الهجرة. وأخرج عن صالح بن كيسان أن ذلك في ذي القعدة منها ذلِكُمْ الظاهر أنه إشارة إلى السؤال من وراء حجاب، وقيل: هو إشارة إلى ما ذكر من عدم الدخول بغير إذن وعدم الاستئناس للحديث عند الدخول وسؤال المتاع من وراء حجاب أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ أي أكثر تطهيرا من الخواطر الشيطانية التي تخطر للرجال في أمر النساء وللنساء في أمر الرجال فإن الرؤية سبب التعلق والفتنة، وفي بعض الآثار النظر سهم مسموم من سهام إبليس، وقال الشاعر: والمرء ما دام ذا عين يقلبها ... في أعين العين موقوف على الخطر يسر مقلته ما ساء مهجته ... لا مرحبا بانتفاع جاء بالضرر وَما كانَ لَكُمْ أي وما صح وما استقام لكم أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ أي تفعلوا في حياته فعلا يكرهه ويتأذى به كاللبث والاستئناس بالحديث الذي كنتم تفعلونه وغير ذلك، والتعبير عنه عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة لتقبيح ذلك الفعل والإشارة إلى أنه بمراحل عما يقتضيه شأنه صلّى الله عليه وسلم إذ في الرسالة من نفعهم المقتضي للمقابلة بالمثل دون الإيذاء ما فيها وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً من بعد وفاته أو فراقه وهو كالتخصيص بعد التعميم فإن نكاح زوجة الرجل بعد فراقه إياها من أعظم الأذى. ومن الناس من تفرط غيرته على زوجته حتى يتمنى لها الموت لئلا تنكح من بعده وخصوصا العرب فإنهم أشد الناس غيرة. وحكى الزمخشري أن بعض الفتيان قتل جارية له يحبها مخافة أن تقع في يد غيره بعد موته. وظاهر النهي أن العقد غير صحيح، وعموم الأزواج ظاهر في أنه لا فرق في ذلك بين المدخول بها وغيرها كالمستعيذة والتي رأى بكشحها بياضا فقال لها عليه الصلاة والسلام قبل الدخول «الحقي بأهلك» وهو الذي نص عليه الإمام الشافعي وصححه في الروضة. وصحح إمام الحرمين والرافعي في الصغير أن التحريم للمدخول بها فقط لما روي أن الأشعث بن قيس الكندي نكح المستعيذة في زمن عمر رضي الله تعالى عنه فهم عمر برجمه فأخبر أنها لم يكن مدخولا بها فكف من غير نكير. وروي أيضا أن قتيلة بنت قيس أخت الأشعث المذكور تزوجها عكرمة بن أبي جهل بحضرموت وكانت قد زوجها أخوها قبل من رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقبل أن يدخل بها حملها معه إلى حضرموت وتوفي عنها عليه الصلاة   (1) وفي مجمع البيان للطبرسي أن مجاهدا روى عن عائشة أنها كانت تأكل مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم حسيا في قعب فمر عمر فدعاه عليه الصلاة والسلام فأكل فأصابت أصبعه أصبع عائشة فقال: لو أطاع فيكن ما رأتكن عين فنزلت آية الحجاب اهـ منه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 248 والسلام فبلغ ذلك أبا بكر رضي الله تعالى عنه فقال: هممت أن أحرق عليها بيتها فقال له عمر: ما هي من أمهات المؤمنين ما دخل بها صلّى الله عليه وسلم ولا ضرب عليها الحجاب. وقيل: لم يحتج عليه بذلك بل احتج بأنها ارتدت حين ارتد أخوها فلم تكن من أمهات المؤمنين بارتدادها وكذا هو ظاهر في أنه لا فرق في ذلك بين المختارة منهن الدنيا كفاطمة بنت الضحاك بن سفيان الكلابي في رواية ابن إسحاق والمختارة الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم كنسائه عليه الصلاة والسلام التسع اللاتي توفي عنهن. وللعلماء في حل مختارة الدنيا للأزواج طريقان، أحدهما طرد الخلاف، والثاني القطع بالحل واختاره الإمام والغزالي عليهما الرحمة، وكأن من قال بحل غير المدخول بها وبحل المختارة المذكورة حمل الأزواج على من كن في عصمته يوم نزول الآية وعلى من يشبههن ولسن إلا المدخولات بهن اللاتي اخترنه عليه الصلاة والسلام، وإذا حمل ذلك وأريد بقوله تعالى: مِنْ بَعْدِهِ من بعد فراقه يلزم حرمة نكاح من طلقها صلّى الله عليه وسلم من تلك الأزواج على المؤمنين وهو كذلك، ومن هنا اختلف القائلون بانحصار طلاقه صلّى الله عليه وسلم بالثلاث فقال بعضهم: تحل له عليه الصلاة والسلام من طلقها ثلاثا من غير محلل، وقال آخرون، لا تحل له أبدا، وظاهر التعبير بالأزواج عدم شمول الحكم لأمة فارقها صلّى الله عليه وسلم بعد وطئها. وفي المسألة أوجه ثالثها أنها تحرم إن فارقها بالموت كمارية رضي الله تعالى عنها ولا تحرم إن باعها أو وهبا في الحياة. وحرمة نكاح أزواجه عليه الصلاة والسلام من بعده من خصوصياته صلّى الله عليه وسلم، وسمعت عن بعض جهلة المتصوفة أنهم يحرمون نكاح زوجة الشيخ من بعده على المريد وهو جهل ما عليه مزيد إِنَّ ذلِكُمْ إشارة إلى ما ذكر من إيذائه عليه الصلاة والسلام ونكاح أزواجه من بعده، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته في الشر والفساد كانَ عِنْدَ اللَّهِ في حكمه عزّ وجلّ عَظِيماً أي أمرا عظيما وخطبا هائلا لا يقادر قدره، وفيه من تعظيمه تعالى لشأن رسوله صلّى الله عليه وسلم وإيجاب حرمته حيا وميتا ما لا يخفى. ولذلك بالغ عزّ وجلّ في الوعيد حيث قال سبحانه: إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً مما لا خير فيه على ألسنتكم كأن تتحدثوا بنكاحهن أَوْ تُخْفُوهُ في صدوركم فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً كامل العلم فيجازيكم بما صدر عنكم من المعاصي البادية والخافية لا محالة، وهذا دليل الجواب والأصل إن تبدوا شيئا أو تخفوه يجازكم به فإن الله إلخ. وقيل هو الجواب على معنى فأخبركم أن الله إلخ، وفي تعميم شَيْءٍ في الموضعين مع البرهان على المقصود من ثبوت علمه تعالى بما يتعلق بزوجاته صلّى الله عليه وسلم مزيد تهويل وتشديد ومبالغة الوعيد، وسبب نزول الآية على ما قيل: إنه لما نزلت آية الحجاب قال رجل: أننهى أن نكلم بنات عمنا إلا من وراء حجاب لئن مات محمد صلّى الله عليه وسلم لنتزوجن نساءه، وفي بعض الروايات تزوجت عائشة أو أم سلمة. وأخرج جويبر عن ابن عباس أن رجلا أتى بعض أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم فكلمها وهو ابن عمها فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لا تقومن هذا المقام بعد يومك هذا فقال: يا رسول الله إنها ابنة عمي والله ما قلت لها منكرا ولا قالت لي قال النبي صلّى الله عليه وسلم: قد عرفت ذلك أنه ليس أحد أغير من الله تعالى وأنه ليس أحد أغير مني فمضى ثم قال عنفني من كلام ابنة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 249 عمي لأتزوجنها من بعده فأنزل الله تعالى هذه الآية فأعتق ذلك الرجل رقبة وحمل على عشرة أبعرة في سبيل الله تعالى وحج ماشيا من كلمته. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة أن طلحة بن عبيد الله قال: لو قبض النبي صلّى الله عليه وسلم تزوجت عائشة فنزلت وَما كانَ لَكُمْ الآية. قال ابن عطية: كون القائل طلحة رضي الله تعالى عنه لا يصح وهو الذي يغلب على ظني ولا أكاد أسلم الصحة إلا إذا سلم ما تضمنه خبر ابن عباس مما يدل على الندم العظيم، وفي بعض الروايات أن بعض المنافقين قال حين تزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أم سلمة بعد أبي سلمة وحفصة بعد خنيس بن حذافة ما بال محمد صلّى الله عليه وسلم يتزوج نساءنا والله لو قد مات لأجلنا السهام على نسائه فنزلت، ولعمري إن ذلك غير بعيد عن المنافقين وهو أبعد من العيوق عن المؤمنين المخلصين لا سيما من كان من المبشرين رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ورأيت لبعض الأجلة أن طلحة الذي قال ما قال ليس هو طلحة أحد العشرة وإنما هو طلحة آخر لا يبعد منه القول المحكي وهذا من باب اشتباه الاسم فلا إشكال. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 250 لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ استئناف لبيان من لا يجب عليهن الاحتجاب عنه، روي أنه لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب أو نحن يا رسول الله نكلمهن أيضا من وراء حجاب فنزلت ، والظاهر أن المعنى لا إثم عليهن في ترك الحجاب من آبائهن إلخ، وروي ذلك عن قتادة، وعن مجاهد أن المراد لا جناح عليهن في وضع الجلباب وإبداء الزينة للمذكورين، وفي حكمهم كل ذي رحم محرم من نسب أو رضاع على ما روى ابن سعد عن الزهري، وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود في ناسخه عن عكرمة قال: بلغ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن عائشة رضي الله تعالى عنها احتجبت من الحسن رضي الله تعالى عنه فقال: إن رؤيته لها لحل، ولم يذكر العم والخال لأنهما بمنزلة الوالدين أو لأنه اكتفى عن ذكرهما بذكر أبناء الأخوة وأبناء الأخوات فإن مناط عدم لزوم الحجاب بينهن وبين الفريقين عين ما بينهن وبين العم والخال من العمومة والخئولة لما أنهن عمات لأبناء الاخوة وخالات لأبناء الأخوات، وقال الشعبي لم يذكرا وإن كانا من المحارم لئلا يصفاها لأبنائهما وليسوا من المحارم، وقد أخرج نحو ذلك ابن جرير وابن المنذر عن علي كرّم الله تعالى وجهه، وقد كره الشعبي وعكرمة أن تضع المرأة خمارها عند عمها أو خالها مخافة وصفه إياها لابنه، وهذا القول عندي ضعيف لجريان ذلك في النساء كلهن ممن لم يكن أمهات محارم، ولا أرى صحة الرواية عن علي كرّم الله تعالى وجهه وَلا نِسائِهِنَّ أي النساء المؤمنات على ما روي عن ابن عباس وابن زيد ومجاهد، والإضافة إليهن باعتبار أنهن على دينهن فيحتجبن على الكافرات ولو كتابيات، وفي البحر دخل في نسائهن الأمهات والأخوات وسائر القرابات ومن يتصل بهن من المتصرفات لهن والقائمات بخدمتهن. وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ ظاهره من العبيد والإماء، وأخرجه ابن مردويه عن ابن عباس وإليه ذهب الإمام الشافعي، وقال الخفاجي: مذهب أبي حنيفة أنه مخصوص بالإماء وعلى الظاهر استثنى المكاتب قال أبو حيان: إنه صلّى الله عليه وسلم أمر بضرب الحجاب دونه وفعلته أم سلمة مع مكاتبها نبهان وَاتَّقِينَ اللَّهَ في كل ما تأتين وتذرن لا سيما فيما أمرتن به وما نهيتن عنه، وفي البحر في الكلام حذف والتقدير اقتصرن على هذا واتقين الله تعالى فيه أن تتعدينه إلى غيره، وفي نقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب فضل تشديد في طلب التقوى منهن إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً لا تخفى عليه خافية ولا تتفاوت في علمه الأحوال فيجازي سبحانه على الأعمال بحسبها، هذا واختلف في حرمة رؤية أشخاصهن مستترات فقال بعضهم بها ونسب ذلك إلى القاضي عياض، وعبارته فرض الحجاب مما اختصصن به فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها ولا إظهار شخوصهن وإن كن مستترات إلا ما دعت إليه ضرورة من براز. ثم استدل بما في الموطأ أن حفصة لما توفي عمر رضي الله تعالى عنه سترتها النساء عن أن يرى شخصها وأن زينب بنت جحش جعلت لها القبة فوق نعشها لتستر شخصها انتهى، وتعقب ذلك الحافظ ابن حجر فقال: ليس فيما ذكره دليل على ما ادعاه من فرض ذلك عليهن فقد كن بعد النبي صلّى الله عليه وسلم يحججن ويطفن وكان الصحابة ومن بعدهم يسمعون منهن الحديث وهن مستترات الأبدان لا الأشخاص اهـ، وأنا أرى أفضلية ستر الأشخاص فلا يبعد القول بندبه لهن وطلبه منهن أزيد من غيرهن، وفي البحر ذهب عمر رضي الله تعالى عنه إلى أنه لا يشهد جنازة زينب إلا ذو محرم منها مراعاة للحجاب فدلته أسماء بنت عميس على سترها في النعش بقبة تضرب عليه وأعلمته أنها رأت ذلك في بلاد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 251 الحبشة فصنعه عمر رضي الله تعالى عنه، وروي أنه صنع ذلك في جنازة فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ كالتعليل لما أفاده الكلام السابق من التشريف العظيم الذي لم يعهد له نظير، والتعبير بالجملة الاسمية للدلالة على الدوام والاستمرار، وذكر أن الجملة تفيد الدوام نظرا إلى صدرها من حيث إنها جملة اسمية وتفيد التجدد نظرا إلى عجزها من حيث إنها جملة فعلية فيكون مفادها استمرار الصلاة وتجددها وقتا فوقتا، وتأكيدها بأن للاعتناء بشأن الخبر، وقيل لوقوعها في جواب سؤال مقدر هو ما سبب هذا التشريف العظيم؟ وعبر بالنبي دون اسمه صلّى الله عليه وسلم على خلاف الغالب في حكايته تعالى عن أنبيائه عليهم السّلام إشعارا بما اختص به صلّى الله عليه وسلم من مزيد الفخامة والكرامة وعلو القدر، وأكد ذلك الإشعار بأل التي للغلبة إشارة إلى أنه صلّى الله عليه وسلم المعروف الحقيق بهذا الوصف، وقال بعض الأجلة: إن ذاك للإشعار بعلة الحكم، ولم يعبر بالرسول بدله ليوافق ما قبله من قوله تعالى: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ لأن الرسالة أفضل من النبوة على الصحيح الذي عليه الجمهور خلافا للعز بن عبد السلام فتعليق الحكم بها لا يفيد قوة استحقاقه عليه الصلاة والسلام للصلاة بخلاف تعليقه بما هو دونها مع وجودها فيه وهو معنى دقيق لا يتسارع إلى الاعتراض عليه، وإضافة الملائكة للاستغراق. وقيل: مَلائِكَتَهُ ولم يقل الملائكة إشارة إلى عظيم قدرهم ومزيد شرفهم بإضافتهم إلى الله تعالى وذلك مستلزم لتعظيمه صلّى الله عليه وسلم بما يصل إليه منهم من حيث إن العظيم لا يصدر منه إلا عظيم، ثم فيه التنبيه على كثرتهم وأن الصلاة من هذا الجمع الكثير الذي لا يحيط بمنتهاه غير خالقه واصلة إليه صلّى الله عليه وسلم على ممر الأيام والدهور مع تجددها كل وقت وحين، وهذا أبلغ تعظيم وأنهاه وأشمله وأكمله وأزكاه. واختلفوا في معنى الصلاة من الله تعالى وملائكته عليهم السلام على نبيه صلّى الله عليه وسلم على أقوال فقيل: هي منه عزّ وجلّ ثناؤه عليه عند ملائكته وتعظيمه، ورواه البخاري عن أبي العالية وغيره عن الربيع بن أنس وجرى عليه الحليمي في شعب الإيمان، وتعظيمه تعالى إياه في الدنيا بإعلاء ذكره وإظهار دينه وإبقاء العمل بشريعته، وفي الآخرة بتشفيعه في أمته وإجزال أجره ومثوبته وإبداء فضله للأولين والآخرين بالمقام المحمود وتقديمه على كافة المقربين الشهود، وتفسيرها بذلك لا ينافي عطف غيره كالآل والأصحاب عليه لأن تعظيم كل أحد بحسب ما يليق به، وهي من الملائكة الدعاء له عليه الصلاة والسلام على ما رواه عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي العالية، وقيل: هي منه تعالى رحمته عزّ وجلّ، ونقله الترمذي عن الثوري وغير واحد من أهل العلم ونقل عن أبي العالية أيضا، وعن الضحّاك وجرى عليه المبرد وابن الأعرابي والإمام الماوردي وقال: إن ذلك أظهر الوجوه. واعترض بما مر عند الكلام في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ [الأحزاب: 43] والجواب هو الجواب، وبأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم سألوا كما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى لما نزلت عن كيفية الصلاة فلو لم يكونوا فهموا المغايرة بينها وبين الرحمة ما سألوا عن كيفيتها مع كونهم علموا الدعاء بالرحمة في التشهد. وأجيب بأنها رحمة خاصة فسألوا عن الكيفية ليحيطوا علما بذلك الخصوص، وهي من الملائكة كما سمعت أولا، ويلزم على هذا وذلك استعمال اللفظ في معنيين ولا يجوزه كثير كالحنفية، والقائلون بأحد القولين الذين لا يجوزون الاستعمال المذكور اختلفوا في التقصي عن ذلك في الآية فقال بعضهم: في الآية حذف والأصل إن الله يصلي وملائكته يصلون فيكون قد أدى كل معنى بلفظ، وقال آخر: تعدد الفاعل صير الفعل كالمتعدد، وقال صدر الشريعة ويجوز أن يكون المعنى واحدا حقيقيا وهو الدعاء والمعنى والله تعالى أعلم أنه تعالى يدعو ذاته والملائكة بإيصال الخير وذلك في حقه تعالى بالرحمة وفي حق الملائكة بالاستغفار، وفيه دغدغة لا تخفى، وقال جمع من المحققين: يتقصى عن ذلك بعموم المجاز فيراد معنى مجازي عام يكون كل من المعاني فردا حقيقيا له وهو الاعتناء بما فيه خيره الجزء: 11 ¦ الصفحة: 252 صلّى الله عليه وسلم وصلاح أمره وإظهار شرفه وتعظيم شأنه أو الترحم والانعطاف المعنوي. وقال بعض الأجلة: إن معنى الصلاة يختلف باعتبار حال المصلي والمصلّى له والمصلّى عليه، والأولى أنها موضوعة هنا للقدر المشترك وهو الاعتناء بالمصلّى عليه أو إرادة وصول الخير، وقال آخر: الصواب أن الصلاة لغة بمعنى واحد وهو العطف ثم هو بالنسبة إليه تعالى الرحمة وإلى الملائكة عليهم السّلام الاستغفار وإلى الآدميين الدعاء. وتعقب بأن العطف بمعناه الحقيقي مستحيل عليه تعالى فيلزم من اعتباره مسندا إليه تعالى وإلى الملائكة عليهم السّلام ما يلزم. وأجيب بأنا لا نسلم الاستحالة إلا إذا كان العطف في الغائب كالعطف في الشاهد لا يتحقق إلا بقلب ونحوه من صفات الأجسام المستحيلة عليه سبحانه، ونحن من وراء المنع فكثير مما في الشاهد شيء وهو في الله تعالى وراء ذلك ويسند إليه سبحانه على الحقيقة كالسمع والبصر وكذا الإرادة. وقد ذهب السلف إلى عدم تأويل الرحمة فيه تعالى بأحد التأويلين المشهورين مع أنها في الشاهد لا تتحقق إلا بما يستحيل عليه تعالى ولو أوجب ذلك التأويل لم يبق بأيدينا غير محتاج إليه إلا قليل، وقد تقدم ما يتعلق بهذا المطلب في غير موضع من هذا الكتاب، وقد يختار أن الصلاة هنا تعظيم لشأنه صلّى الله عليه وسلم يقارنه عطف لائق به تعالى وبملائكته، وإذا انسحبت عليه عليه الصلاة والسّلام وعلى أحد من المؤمنين تعلقت بكل حسبما يليق به، وجمع الله سبحانه والملائكة في ضمير واحد لا ينافي قوله عليه الصلاة والسّلام لمن قال: من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى «بئس خطيب القوم أنت قل ومن يعص الله ورسوله» لأن ذلك منه تعالى محض تشريف للملائكة عليهم السّلام لا يتوهم منه نقص ولذا قيل إذا صدر مثله عن معصوم قيل كما في قوله صلّى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما» وقال بعضهم: لا بأس بذلك مطلقا، وذم الخطيب لأنه وقف على يعصهما وسكت سكتة واستدل بخبر لأبي داود، وقيل يقبح إذا كان في جملتين كما في كلام الخطيب ولا يقبح إذا كان في واحدة كما في الآية وكلام الحبيب عليه الصلاة والسّلام وفيه بحث. وقرأ ابن عباس وعبد الوارث عن أبي عمرو «وملائكته» بالرفع فعند الكوفيين غير الفراء هو عطف على محل إن واسمها، والفراء يشترط في العطف على ذلك خفاء إعراب اسم إن كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ [المائدة: 69] وكما في قول الشاعر: ومن يك أمسى في المدينة رحله ... فإني وقيار بها لغريب وهل خفاء الإعراب شامل للاسم المقصور والمضاف للياء أو خاص بالمبني فيه خلاف، وعند البصريين والفراء هو مبتدأ وجملة يُصَلُّونَ خبره وخبر إن محذوف ثقة بدلالة ما بعد عليه أي إن الله يصلي وملائكته يصلون يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ أي عظموا شأنه عاطفين عليه فإنكم أولى بذلك. وظاهر سوق الآية أنه لإيجاب اقتدائنا به تعالى فيناسب اتحاد المعنى مع اتحاد اللفظ، وقراءة ابن مسعود صلوا عليه كما صلّى عليه وكذا قراءة الحسن فصلوا عليه أظهر فيما ذكر فيبعد تفسير صلوا عليه بقولوا: اللهم صلّ على النبي أو نحوه. ومن فسره بذلك أراد أن المراد بالتعظيم المأمور به ما يكون بهذا اللفظ ونحوه مما يدل على طلب التعظيم لشأنه عليه الصلاة والسّلام من الله عزّ وجلّ لقصور وسع المؤمنين عن أداء حقه عليه الصلاة والسّلام. وما جاء في الأخبار إرشاد إلى كيفية ذلك وصفته لا أنه تفسير للفظ صلوا، وجاء ذلك على عدة أوجه والجمع ظاهر. أخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة والإمام أحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 253 وابن ماجه وابن مردويه عن كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رجل: يا رسول الله أما السّلام عليك فقد علمناه فكيف الصلاة عليك قال: «قل اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. وأخرج الإمام مالك والإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن أبي حميد الساعدي أنهم قالوا: يا رسول الله كيف نصلي عليك؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «قولوا اللهم صلي على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد» وأخرج الإمام أحمد والبخاري والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن أبي سعيد الخدري قلنا: يا رسول الله هذا السّلام عليك قد علمنا فكيف الصلاة عليك؟ قال: «قولوا اللهم صلّ على محمد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم» . وأخرج النسائي وغيره عن أبي هريرة، أنهم سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم كيف نصلي عليك. قال: «قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد والسّلام كما قد علمتم» وأخرج الإمام أحمد. وعبد بن حميد وابن مردويه عن ابن بريدة رضي الله تعالى عنه قال: قلنا يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ قال: «قولوا اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على محمد وعلى آل محمد كما جعلتها على إبراهيم إنك حميد مجيد» إلى غير ذلك مما ملئت منه كتب الحديث إلا أن في بعض الروايات المذكورة فيها مقالا، والظاهر من السؤال أنه سؤال عن الصفة كما أشرنا إليه قبل وهو الذي رجحه الباجي وغيره وجزم به القرطبي وقيل: إنه سؤال عن معنى الصلاة وبأي لفظ تؤدى والحامل لهم على السؤال على هذا أن السّلام لما ورد في التشهد بلفظ مخصوص فهموا أن الصلاة أيضا تقع بلفظ مخصوص ولم يفروا إلى القياس لتيسر الوقوف على النص سيما والأذكار يراعى فيها اللفظ ما أمكن فوقع الأمر كما فهموه فإنه لم يقل عليه الصلاة والسّلام كالسلام بل علمهم صفة أخرى كذا قيل ويقال على الأول: إنهم لما سمعوا الأمر بالصلاة بعد سماع أن الله عزّ وجلّ وملائكته عليهم السّلام يصلون عليه صلّى الله عليه وسلم وفهموا أن الصلاة منه عزّ وجلّ ومن ملائكته عليه عليه الصلاة والسّلام نوع من تعظيم لائق بشأن ذلك النبي الكريم عليه من الله تعالى أفضل الصلاة وأكمل التسليم لم يدروا ما اللائق منهم من كيفيات تعظيم ذلك الجناب وسيد ذوي الألباب صلّى الله عليه وسلم صلاة وسلاما يستغرقان الحساب فسألوا عن كيفية ذلك التعظيم فأرشدهم عليه الصلاة والسّلام إلى ما علم أنه أولى أنواعه وهو بهم رؤوف رحيم فقال صلّى الله عليه وسلم: «قولوا اللهم صلّ محمد» إلى آخر ما في بعض الروايات الصحيحة، وفيه إيماء إلى أنكم عاجزون عن التعظيم اللائق بي فاطلبوه من الله عزّ وجلّ لي. ومن هنا يعلم أن الآتي بما أمر به من طلب الصلاة له صلّى الله عليه وسلم عزّ وجلّ آت بأعظم أنواع التعظيم لتضمنه الإقرار بالعجز عن التعظيم اللائق، وقد قيل ونسب إلى الصديق رضي الله تعالى عنه العجز عن درك الإدراك إدراك. ويقرب في الجملة مما ذكرنا قول بعض الأجلة ونقله أبو اليمن بن عساكر وحسنه لما أمرنا الله تعالى بالصلاة على نبيه صلّى الله عليه وسلم لم نبلغ معرفة فضلها ولم ندرك حقيقة مراد الله تعالى فيه فأحلنا ذلك إلى الله عزّ وجلّ فقلنا اللهم صل أنت على رسولك لأنك أعلم بما يليق به وبما أردته له صلّى الله عليه وسلم انتهى، ولعل ما ذكرناه ألطف منه، ومقتضى ظاهر إرشاده صلّى الله عليه وسلم إياهم إلى طلب الصلاة عليه من الله تعالى شأنه أنه لا يحصل امتثال الأمر إلا بما فيه طلب ذلك منه عزّ وجلّ ويكفي اللهم صل على محمد لأنه الذي اتفقت عليه الروايات في بيان الكيفية، وكأن خصوصية الإنشاء لفظا ومعنى غير لازمة، ولذا قال بعض من أوجبها في الصلاة وستعلمه إن شاء الله تعالى: إنه كما يكفي اللهم صلّ على محمد، ولا يتعين اللفظ الوارد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 254 خلافا لبعضهم يكفي صلّى الله على محمد على الأصح بخلاف الصلاة على رسول الله فإنه لا يجزي اتفاقا لأنه ليس فيه إسناد الصلاة إلى الله تعالى فليس في معنى الوارد. وفي تحفة ابن حجر يكفي الصلاة على محمد إن نوى بها الدعاء فيما يظهر، وقال النيسابوري: لا يكفي صليت على محمد لأن مرتبة العبد تقصر عن ذلك بل يسأل ربه سبحانه أن يصلي عليه عليه الصلاة والسّلام وحينئذ فالمصلي عليه حقيقة هو الله تعالى، وتسمية العبد مصليا عليه مجاز عن سؤاله الصلاة من الله تعالى عليه صلّى الله عليه وسلم فتأمله. وذكروا أن الإتيان بصيغة الطلب أفضل من الإتيان بصيغة الخبر. وأجيب عن إطباق المحدثين على الإتيان بها بأنه مما أمرنا به من تحديث الناس بما يعرفون إذ كتب الحديث يجتمع عند قراءتها أكثر العوام فخيف أن يفهموا من صيغة الطلب أن الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلم لم توجد من الله عزّ وجلّ بعد وإلا لما طلبنا حصولها له عليه صلاة الله تعالى وسلامه فأتى بصيغة يتبادر إلى أفهامهم منها الحصول وهي مع إبعادها إياهم من هذه الورطة متضمنة للطلب الذي أمرنا به انتهى، ولا يخفى ضعفه فالأولى أن يقال: إن ذلك لأن تصليتهم في الأغلب في أثناء الكلام الخبري نحو قال النبي صلّى الله عليه وسلم كذا وفعل صلّى الله عليه وسلم كذا فأحبوا أن لا يكثر الفصل وأن لا يكون الكلام على أسلوبين لما في ذلك من الخروج عن الجادة المعروفة إذ قلما تجد في الفصيح توسط جملة دعائية إلا وهي خبرية لفظا مع احتمال تشوش ذهن السامع وبطء فهمه وحسن الإفهام مما تحصل مراعاته فتدبر. والظاهر أنه لا يحصل الامتثال بأللهم عظم محمدا التعظيم اللائق ونحوه مما ليس فيه مشتق من الصلاة كصلّ وصلّى فإنا لم نسمع أحدا عد قائل ذلك مصليا عليه صلّى الله عليه وسلم وذلك في غاية الظهور إذا كان قولوا اللهم صل على محمد تفسيرا لقوله تعالى: صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً أي وقولوا والسّلام عليك أيها النبي ونحوه وهذا ما عليه أكثر العلماء الأجلة، وفي معنى السّلام عليك ثلاثة أوجه، أحدها السلامة من النقائص والآفات لك ومعك أي مصاحبة وملازمة فيكون السّلام مصدرا بمعنى السلامة كاللذاذ واللذاذة والملام والملامة ولما في السّلام من الثناء عدي بعلى لا لاعتبار معنى القضاء أي قضى الله تعالى عليك السّلام كما قيل لأن القضاء كالدعاء لا يتعدى بعلى للنفع ولا لتضمنه معنى الولاية والاستيلاء لبعده في هذا الوجه، ثانيها السّلام مداوم على حفظك ورعايتك ومتولّ له وكفيل به ويكون السّلام هنا اسم الله تعالى، ومعناه على ما اختاره ابن فورك وغيره من عدة أقوال ذو السلامة من كل آفة ونقيصة ذاتا وصفة وفعلا، وقيل: إذا أريد بالسلام ما هو من أسمائه تعالى فالمراد لا خلوت من الخير والبركة وسلمت من كل مكروه لأن اسم الله تعالى إذا ذكر على شيء أفاده ذلك. وقيل: الكلام على هذا التقدير على حذف المضاف أي حفظ الله تعالى عليك والمراد الدعاء بالحفظ، وثالثها الانقياد عليك على أن السّلام من المسالمة وعدم المخالفة، والمراد الدعاء بأن يصير الله تعالى العباد منقادين مذعنين له عليه الصلاة والسّلام ولشريعته وتعديته بعلى قيل: لما فيه من الإقبال فإن من انقاد لشخص وأذعن له فقد أقبل عليه، والأرجح عندي هو الوجه الأول، وقيل: معنى سَلِّمُوا تَسْلِيماً انقادوا لأوامره صلّى الله عليه وسلم انقيادا وهو غير بعيد إلا أن ظواهر الأخبار والآثار تقتضي المعنى السابق وكأنه لذلك ذهب إليه الأكثرون، والجملة صيغة خبر معناها الدعاء بالسلامة وطلبها منه تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلم واستشكل ذلك فيما إذا قال الله تعالى السّلام عليك أيها النبي أو نحوه بأن الدعاء لا يتصور منه عزّ وجلّ لأنه طلب وهو يتضمن طالبا ومطلوبا ومطلوبا منه وهي أمور متغايرة فإن كان طلبه سبحانه السلامة لنبيه عليه الصلاة والسّلام من غيره تعالى فمحاليته من أجلى البديهيات، وإن كان من ذاته عزّ وجلّ لزم أن يغاير ذاته والشيء لا يغاير ذاته ضرورة، وهذا منشأ قول بعضهم: إن في السّلام منه تعالى إشكالا له شأن فينبغي الاعتناء به وعدم إهمال أمره فقل من يدرك سره. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 255 وأجيب بأن الطلب من باب الإرادات والمريد كما يريد من غيره أن يفعل شيئا فكذلك يريد من نفسه أن يفعله هو والطلب النفسي وإن لم يكن الإرادة فهو أخص منها وهي كالجنس له فكما يعقل أن المريد يريد من نفسه فكذلك يطلب منها إذ لا فرق بين الطلب والإرادة، والحاصل أن طلب الحق جل وعلا من ذاته أمر معقول يعلمه كل واحد من نفسه بدليل أنه يأمرها وينهاها قال سبحانه: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف: 53] وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى [النازعات: 40] والأمر والنهي قسمان من الطلب وقد تصورا من الإنسان لنفسه بالنص فكذا بقية أقسام الطلب وأنواعه، وأوضح من هذا أن الطلب منه تعالى بمعنى الإرادة وتعقل إرادة الشخص من ذاته شيئا بناء على التغاير الاعتباري ومثله يكفي في هذا المقام، ومعنى اللهم سلم على النبي اللهم قل السلام على النبي على ما قيل، وقيل: معناه اللهم أوجد أو حقق السلامة له، وقيل: اللهم سلمه من النقائص والآفات. وقال بعض المعاصرين: إن السلام عليك ونحوه من الله عزّ وجلّ لإنشاء السلامة وإيجادها بهذا اللفظ نظير ما قالوه في صيغ العقود واختار أن معنى اللهم سلم على النبي اللهم أوجد السلامة أو حققها له دون قل السلام على النبي تقليلا للمسافة فتدبر، وقد يكون السلام منه عزّ وجلّ على أنبيائه عليهم السّلام نحو قوله سبحانه: سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ [الصافات: 79] . سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ [الصافات: 109] سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ [الصافات: 120] تنبيها على أنه جل شأنه جعلهم بحيث يدعى لهم ويثنى عليهم، ونصب تَسْلِيماً على أنه مصدر مؤكد، وأكد سبحانه التسليم ولم يؤكد الصلاة قيل لأنها مؤكدة بإعلامه تعالى أنه يصلي عليه وملائكته ولا كذلك التسليم فحسن تأكيده بالمصدر إذ ليس ثم ما يقوم مقامه. وإلى هذا يؤول قول ابن القيم التأكيد فيهما (1) وإن اختلف جهته فإنه تعالى أخبر في الأول بصلاته وصلاة ملائكته عليه مؤكدا له بأن وبالجمع المفيد للعموم في الملائكة وفي هذا من تعظيمه صلّى الله عليه وسلم ما يوجب المبادرة إلى الصلاة عليه من غير توقف على الأمر موافقة لله تعالى وملائكته في ذلك، وبهذا استغنى عن تأكيد «يصلي» بمصدر ولما خلا السلام عن هذا المعنى وجاء في حيز الأمر المجرد حسن تأكيده بالمصدر تحقيقا للمعنى وإقامة لتأكيد الفعل مقام تقريره وحينئذ حصل لك التكرير في الصلاة خبرا وطلبا كذلك حصل لك التكرير في السلام فعلا ومصدرا، وأيضا هي مقدمة عليه لفظا والتقديم يفيد الاهتمام فحسن تأكيد السلام لئلا يتوهم قلة الاهتمام به لتأخره، وقيل: إن في الكلام الاحتباك والأصل صلوا عليه تصلية وسلموا عليه تسليما فحذف عليه من إحدى الجملتين والمصدر من الأخرى وأضيفت الصلاة إلى الله تعالى وملائكته دون السلام وأمر المؤمنون بهما قيل لأن للسلام معنيين التحية والانقياد فأمرنا بهما لصحتهما هنا، ولم يضف لله سبحانه والملائكة لئلا يتوهم إنه في الله تعالى والملائكة بمعنى الانقياد المستحيل في حقه تعالى وكذا في حق الملائكة، وقيل الصلاة من الله سبحانه والملائكة متضمنة للسلام بمعنى التحية الذي لا يتصور غيره فكان في إضافة الصلاة إليه تعالى وإلى الملائكة استلزام لوجود السلام بهذا المعنى، وأما الصلاة منا فهي وأن استلزمت التحية أيضا إلا أنا مخاطبون بالانقياد وهي لا تستلزمه فاحتيج إلى التصريح به فينا لأن الصلاة لا تغني عن معنييه المتصورين في حقنا المطلوبين منا، ثم قيل: وهذا أولى مما قبله لأن ذلك يرد عليه قوله تعالى: سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرعد: 23، 24] ولا يرد هذان على هذا اهـ، وفيه بحث.   (1) مبتدأ وخبر اهـ منه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 256 وقال الشهاب الخفاجي عليه الرحمة: قد لاح لي في ترك تأكيد السلام وتخصيصه بالمؤمنين نكتة سرية وهي أن السلام عليه عليه الصلاة والسلام تسليمه عما يؤذيه فلما جاءت هذه الآية عقيب ذكر ما يؤذي النبي صلّى الله عليه وسلم والأذية إنما هي من البشر وقد صدرت منهم فناسب التخصيص بهم والتأكيد، وربما يقال على بعد في ذلك: إنه يمكن أن يكون سلام الله تعالى وملائكته عليه عليه الصلاة والسلام معلوما للمؤمنين قبل نزول الآية فلم يذكر ويسلمون فيها لذلك وأن كونهم مأمورين بأن يسلموا عليه صلّى الله عليه وسلم كان أيضا معلوما لهم ككيفية السلام ويؤذن بهذه المعلومية ما ورد في عدة أخبار أنهم قالوا عند نزول الآية: يا رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك وعنوا بذلك على ما قيل ما في التشهد من السلام فلما أخبروا بصلاة الله تعالى وملائكته عليه صلّى الله عليه وسلم في الآية مجردة عن ذكر السلام وأردف ذلك بالأمر بالصلاة كان مظنة عدم الاعتناء بأمر السلام أو أنه نسخ طلبه منهم فأمروا به مؤكدا دفعا لتوهم ذلك والله تعالى أعلم بحقيقة الحلا، والأمر في الآية عند الأكثرين للوجوب بل ذكر بعضهم إجماع الأئمة والعلماء عليه، ودعوى محمد بن جرير الطبري أنه للندب بالإجماع مردودة أو مؤولة بالحمل على ما زاد على مرة واحدة في العمر فقد قال القرطبي المفسر: لا خلاف في وجوب الصلاة في العمر مرة، وتفصيل الكلام في أمرها بعد إلغاء القول بندبها أن العلماء اختلفوا فيها فقيل: واجبة مرة في العمر ككلمة التوحيد لأن الأمر مطلق لا يقتضي تكرارا والماهية تحصل بمرة وعليه جمهور الأمة منهم أبو حنيفة ومالك وغيرهما، وقيل: واجبة في التشهد مطلقا، وقيل: واجبة في مطلق الصلاة، وتفرد بعض الحنابلة بتعين دعاء الافتتاح بها. وقيل: يجب الإكثار منها من غير تعيين بعدد وحكي ذلك عن القاضي أبي بكر بن بكير، وقيل: تجب في كل مجلس مرة وإن تكرر ذكره صلّى الله عليه وسلم مرارا، وقيل: تجب في كل دعاء، وقيل: تجب كلما ذكر عليه الصلاة والسلام وبه قال جمع من الحنفية منهم الطحاوي، وعبارته تجب كلما سمع ذكره من غيره أو ذكره بنفسه وجمع من الشافعية منهم الإمام الحليمي والأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني والشيخ أبو حامد الإسفرايني. وجمع من المالكية منهم الطرطوشي وابن العربي والفاكهاني وبعض الحنابلة قيل وهو مبني على القول الضعيف في الأصول أن الأمر المطلق يفيد التكرار وليس كذلك بل له أدلة أخرى كالأحاديث التي فيها الدعاء بالرغم والأبعاد والشقاء والوصف بالبخل والجفاء وغير ذلك مما يقتضي الوعيد وهو عند الأكثر من علامات الوجوب. واعترض هذا القول كثيرون بأنه مخالف للإجماع المنعقد قبل قائله إذ لم يعرف عن صحابي ولا تابعي وبأنه يلزم على عمومه أن لا يتفرغ السامع لعبادة أخرى وأنها تجب على المؤذن وسامعه والقارئ المار بذكره والمتلفظ بكلمتي الشهادة وفيه من الحرج ما جاءت الشريعة السمحة بخلافه، وبأن الثناء على الله تعالى كلما ذكر أحق بالوجوب ولم يقولوا به، وبأنه لا يحفظ عن صحابي أنه قال: يا رسول الله صلى الله عليك، وبأن تلك الأحاديث المحتج بها للوجوب خرجت مخرج المبالغة في تأكد ذلك وطلبه وفي حق من اعتاد ترك الصلاة ديدنا. ويمكن التقصي عن جميع ذلك، أما الأول فلأن القائلين بالوجوب من أئمة النقل فكيف يسعهم خرق الإجماع على أنه لا يكفي في الرد عليهم كونه لم يحفظ عن صحابي أو تابعي وإنما يتم الرد إن حفظ إجماع مصرح بعدم الوجوب كذلك وأني به، وأما الثاني فممنوع بل يمكن التفرغ لعبادات أخر، وأما الثالث فللقائلين بالوجوب التزامه وليس فيه حرج، وأما الرابع فلأن جمعا صرحوا بالوجوب في حقه تعالى أيضا، وأما الخامس فلأنه ورد في عدة طرق عن عدة من الصحابة أنهم لما قالوا: يا رسول الله قالوا: صلى الله عليك، وأما السادس فلأن حمل الأحاديث على ما ذكر لا يكفي إلا مع بيان سنده ولم يبينوه، ثم القائلون بالوجوب كما ذكر أكثرهم على أن ذلك فرض عين على كل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 257 فرد فرد وبعضهم على أنه فرض كفاية، واختلفوا أيضا هل يتكرر الوجوب بتكرر ذكره صلّى الله عليه وسلم في المجلس الواحد، وفي بعض شروح الهداية يكفي مرة على الصحيح وقال صاحب المجتبى: يتكرر وفي تكرر ذكر الله تعالى لا يتكرر، وفرق هو وغيره بينهما بما فيه نظر ويمكن الفرق بأن حقوق الله تعالى مبنية على المسامحة والتوسعة وحقوق العباد مبنية على المشاحة والتضييق ما أمكن. والقول بأنها أيضا حق الله تعالى لأمره بها سبحانه ناشئ من عدم فهم المراد بحقه تعالى، وقيل: إنها تجب في القعود آخر الصلاة بين التشهد وسلام التحلل وهذا هو مذهب الشافعي الذي صح عنه، ونقل الأسنوي أن له قولا آخر إنها سنة في الصلاة لم يعتبره أجلة أصحابه ووافقه على ذلك جماعة من الصحابة والتابعين من بعدهم وفقهاء الأمصار، فمن الصحابة ابن مسعود فقد صح عنه أنه قال: يتشهد الرجل في الصلاة ثم يصلي على النبي صلّى الله عليه وسلم ثم يدعو لنفسه، وأبو مسعود البدري وابن عمر فقد صح عنهما أنه لا تكون صلاة إلا بقراءة وتشهد وصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم فإن نسيت من ذلك شيئا فاسجد سجدتين بعد السلام، ومن التابعين الشعبي فقد صح عنه كنا نعلم التشهد فإذا قال: وأن محمدا عبده ورسوله يحمد ربه ويثني عليه ثم يصلي على النبي صلّى الله عليه وسلم ثم يسأل حاجته. وأخرج البيهقي عنه من لم يصل على النبي صلّى الله عليه وسلم في التشهد فليعد صلاته أو قال: لا تجزىء صلاته، والإمام أبو جعفر محمد الباقر فقد روى البيهقي عنه نحو ما ذكر عن الشعبي، وصوبه الدارقطني ومحمد بن كعب القرظي ومقاتل بل قال الحافظ ابن حجر: لم أر عن أحد من الصحابة والتابعين التصريح بعدم الوجوب إلا ما نقل عن إبراهيم النخعي وهذا يشعر بأن غيره كان قائلا بالوجوب، ومن فقهاء الأمصار أحمد فإنه جاء عنه روايتان والظاهر أن رواية الوجوب هي الأخيرة فإنه قال: كنت أتهيب ذلك ثم تبينت فإذا الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلم واجبة وإسحاق بن راهويه فقد قال في آخر الروايتين عنه: إذا تركها عمدا بطلت صلاته أو سهوا رجوت أن تجزئه وهو قول عند المالكية اختاره ابن العربي منهم ولعله لازم للقائلين بوجوبها كلما ذكر صلّى الله عليه وسلم لتقدم ذكره في التشهد إلا أن وجوبها بعد التشهد لذلك لا يستلزم كونها شرطا لصحة الصلاة إلا أنه يرد على القائلين بأن الشافعي رضي الله تعالى عنه شذ في قوله بالوجوب، وأما دليله رضي الله تعالى عنه على ذلك فمذكور في الأم. وقد استدل له أصحابه بعدة أحاديث منها الصحيح ومنها الضعيف وألفوا الرسائل في الانتصار له والرد على من شنع عليه كابن جرير وابن المنذر والخطابي والطحاوي وغيرهم، وأنا أرى التشنيع على مثل هذا الإمام شنيعا والتعصب مع قلة التتبع أمرا فظيعا، والكلام في السلام كالكلام في الصلاة. وقد صرح ابن فارس اللغوي بأنهما سيان في الفرضية لأن كلا منهما مأمور به في الآية والأمر للوجوب حقيقة إلا إذا ورد ما يصرفه عنه. وأفضل الكيفيات في الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلم ما علمه رسول الله عليه الصلاة والسلام لأصحابه بعد سؤالهم إياه لأنه لا يختار صلّى الله عليه وسلم لنفسه إلا الأشرف والأفضل، ومن هنا قال النووي في الروضة: لو حلف ليصلين على النبي صلّى الله عليه وسلم أفضل الصلاة لم يبر إلا بتلك الكيفية، ووجهه السبكي بأن من أتى بها فقد صلى الصلاة المطلوبة بيقين وكان له الخير الوارد في أحاديث الصلاة كذلك، ونقل الرافعي عن المروزي أنه يبر بأللهم صل على محمد وآل محمد كلما ذكرك الذاكرون وكلما سها عنه الغافلون، وقال القاضي حسين: طريق البر اللهم صلّ على محمد كما هو أهله ومستحقه، واختار البارزي أن الأفضل اللهم صل على محمد وعلى آل محمد أفضل صلواتك وعدد معلوماتك، وقال الكمال بن الهمام: كلما ذكر من الكيفيات موجود في اللهم صل أبدا أفضل صلواتك على سيدنا عبدك ونبيك ورسولك محمد وآله وسلم عليه تسليما وزده شرفا وتكريما وأنزله المنزل المقرب عندك يوم القيامة، واختار ابن حجر الهيثمي غير ذلك، ونقل ابن عرفة عن ابن عبد السلام أنه لا بدّ في السلام عليه صلّى الله عليه وسلم أن يزيد تسليما كأن يقول: اللهم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 258 صل على محمد وسلم تسليما أو صلى الله تعالى عليه وسلم تسليما، وكأنه أخذ بظاهر ما في الآية وليس أخذا صحيحا كما يظهر بأدنى تأمل، ونقل عن جمع من الصحابة ومن بعدهم أن كيفية الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلم لا يوقف فيها مع المنصوص وأن من رزقه الله تعالى بيانا فأبان عن المعاني بالألفاظ الفصيحة المباني الصريحة المعاني مما يعرب عن كمال شرفه صلّى الله عليه وسلم وعظيم حرمته فله ذلك، واحتج له بما أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن ماجة وابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: إذا صليتم على النبي صلّى الله عليه وسلم فأحسنوا الصلاة عليه فإنكم لا تدرون لعل ذلك يعرض عليه قالوا: فعلمنا؟ قال: قولوا اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين محمد عبدك ورسولك إمام الخير وقائد الخير ورسول الرحمة اللهم ابعثه مقاما محمودا يغبطه به الأولون والآخرون اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، وفي قوله سبحانه: صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً رمز خفي فيما أرى إلى مطلوبية تحسين الصلاة عليه عليه الصلاة والسلام حيث أتى به كلاما يصلح أن يكون شطرا من البحر الكامل فتدبره فإني أظن أنه نفيس، واستدل النووي رحمة الله تعالى بالآية على كراهة أفراد الصلاة عن السلام وعكسه لورود الأمر بهما معا فيها ووافقه على ذلك بعضهم، واعترض بأن أحاديث التعليم تؤذن بتقدم تعليم التسليم على تعليم الصلاة فيكون قد أفرد التسليم مرة قبل الصلاة في التشهد. ورد بأن الإفراد في ذلك الزمن لا حجة فيه لأنه لم يقع منه عليه الصلاة والسلام قصدا كيف والآية ناصة عليهما وإنما يحتمل أنه علمهم السلام وظن أنهم يعلمون الصلاة فسكت عن تعليمهم إياها فلما سألوه أجابهم صلّى الله عليه وسلم لذلك وهو كما ترى، وذكر العلامة ابن حجر الهيتمي أن الحق أن المراد بالكراهة خلاف الأولى إذ لم يوجد مقتضيها من النهي المخصوص. ونقل الحموي من أصحابنا عن منية المفتي أنه لا يكره عندنا أفراد أحدهما عن الآخر ثم قال نقلا عن العلامة ميرك وهذا الخلاف في حق نبينا صلّى الله عليه وسلم وأما غيره من الأنبياء عليهم السّلام فلا خلاف في عدم كراهة الافراد لأحد من العلماء ومن ادعى ذلك فعليه أن يورد نقلا صريحا ولا يجد إليه سبيلا انتهى. وصرح بعضهم أن الكراهة عند من يقول بها إنما هي في الافراد لفظا وأما الافراد خطا كما وقع في الأم فلا كراهة فيه، وعندي أن الاستدلال بالآية على كراهة الأفراد حسبما سمعت في غاية الضعف إذ قصارى ما تدل عليه أن كلا من الصلاة والتسليم مأمور به مطلقا ولا تدل على الأمر بالإتيان بهما في زمان واحد كأن يؤتى بهما مجموعين معطوفا أحدهما على الآخر فمن صلى بكرة وسلم عشيا مثلا فقد امتثل الأمر فإنها نظير قوله تعالى: أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ واذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ [الأحزاب: 42] إلى غير ذلك من الأوامر المتعاطفة، نعم درج أكثر السلف على الجمع بينهما فلا أستحسن العدول عنه ما ما في ذكر السلام بعد الصلاة من السلامة من توهم لا يكاد يعرض إلا للأذهان السقيمة كما لا يخفى، وفي دخوله صلّى الله عليه وسلم في الخطاب بيا أيها الذين آمنوا هنا خلاف فقال بعضهم بالدخول، وقد صرح بعض أجلة الشافعية بوجوب الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلم في صلاته وذكر أنه صلّى الله عليه وسلم كان يصلي على نفسه خارجها كما هو ظاهر أحاديث كقوله صلّى الله عليه وسلم حين ضلت ناقته وتكلم منافق فيها «إن رجلا من المنافقين شمت أن ضلت ناقة رسول الله صلّى الله عليه وسلم» وقوله حين عرض على المسلمين رد ما أخذه من أبي العاص زوج ابنته زينب قبل إسلامه «وإن زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم سألتني» الحديث فذكر التصلية والتسليم على نفسه بعد ذكره واحتمال أن ذلك في الحديثين من الراوي بعيد جدا اهـ. وتوقف بعضهم في دخوله من حيث أن قرينة سياق يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلى هنا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 259 ظاهرة في اختصاص هذا الحكم بالمؤمنين دونه صلّى الله عليه وسلم، ونظر فيه بأن ما قبل هذه الآية صريح في اختصاصه بالمؤمنين وأما هي فلا قرينة فيها على الاختصاص، وأنت تعلم أن للأصوليين في دخوله صلّى الله عليه وسلم في نحو هذه الصيغة أقوالا، عدمه مطلقا وهو شاذ، ودخوله مطلقا وهو الأصح على ما قال جمع، والدخول إلا فيما صدر بأمره بالتبليغ نحو قل يا أيها الذين آمنوا، وأنا أعول على الدخول إلا إذا أوجدت قرينة على عدم الدخول سواء كانت الأمر بالتبليغ أولا، وهاهنا السباق والسياق قرينتان على عدم الدخول فيما يظهر، وعبر بالذين آمنوا دون الناس الشامل للكفار قيل: إشارة إلى أن الصلاة عليه صلّى الله عليه وسلم من أجلّ الوسائل وأنفعها والكافر لا وسيلة له فلم يؤت بلفظ يشمله، ومخاطبة الكفار بالفروع على القول بها بالنسبة لعقابهم عليها في الآخرة فحسب على أن محل تكليفهم بها حيث أجمع عليها، ومن ثم استثنى من مخاطبتهم بها معاملتهم الفاسدة ونحوها. ولعل الأولى أن التعبير بذلك لما ذكر مع اقتضاء السياق له، وفي نداء المؤمنين بهذا الأسلوب من حثهم على امتثال الأمر ما لا يخفى، والأمر بالصلاة والتسليم من خواص هذه الأمة فلم تؤمر أمة غيرها بالصلاة والتسليم على نبيها. وكان ذلك على ما نقل عن أبي ذر الهروي في السنة الثانية من الهجرة، وقيل: كان في ليلة الإسراء، وأنت تعلم أن الآية مدنية، وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد أنها لما نزلت قال أبو بكر: ما أنزل الله عليك خيرا إلا أشركنا فيه فنزلت هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ وحكمة تغاير أسلوبي الآيتين ظاهرة على المتأمل، والصلاة منا على الأنبياء ما عدا نبينا عليه وعليهم الصلاة والسلام جائزة بلا كراهة، فقد جاء بسند صحيح على ما قاله المجد اللغوي «إذا صليتم علي المرسلين فصلوا علي معهم فإني رسول من المرسلين» وفي لفظ «إذا سلمتم عليّ فسلموا على المرسلين» وللأول طريق أخرى إسنادها حسن جيد لكنه مرسل. وأخرج عبد الرزاق والقاضي إسماعيل وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «صلوا على أنبياء الله ورسله فإن الله تعالى بعثهم كما بعثني» وهو وإن جاء من طرق ضعيفة يعمل به في مثل هذا المطلب كما لا يخفى. وأما ما حكي عن مالك من أنه لا يصلي على غير نبينا صلّى الله عليه وسلم من الأنبياء فأوله أصحابه بأن معناه إنا لم نتعبد بالصلاة عليهم كما تعبدنا بالصلاة عليه صلّى الله عليه وسلم، والصلاة على الملائكة قيل لا يعرف فيها نص وإنما تؤخذ من حديث أبي هريرة المذكور آنفا إذا ثبت أن الله تعالى سماهم رسلا. وأما الصلاة على غير الأنبياء والملائكة عليهم السّلام فقد اضطربت فيها أقوال العلماء فقيل تجوز مطلقا قال القاضي عياض وعليه عامة أهل العلم واستدل له بقوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ وبما صح من قوله صلّى الله عليه وسلم: «اللهم صلّ على آل أبي أوفى» وقوله عليه الصلاة والسلام وقد رفع يديه: «اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة» وصحح ابن حبان خبر «إن امرأة قالت للنبي صلّى الله عليه وسلم: صلّ عليّ وعلى زوجي ففعل» وفي خبر مسلم «أن الملائكة تقول لروح المؤمن: صلى الله عليك وعلى جسدك» وبه يرد على الخفاجي قوله في شرح الشفاء صلاة الملائكة على الأمة لا تكون إلا بتبعيته صلّى الله عليه وسلم. وقيل لا تجوز مطلقا. وقيل لا تجوز استقلالا وتجوز تبعا فيما ورد فيه النص كالآل أو ألحق به كالأصحاب. واختاره القرطبي وغيره وقيل تجوز تبعا مطلقا ولا تجوز استقلالا ونسب إلى أبي حنيفة وجمع. وفي تنوير الأبصار ولا يصلي على غير الأنبياء والملائكة إلا بطريق التبع وهو محتمل لكراهة الصلاة بدون تبع تحريما ولكراهتها تنزيها ولكونها خلاف الأولى لكن ذكر البيري من الحنفية من صلى على غيرهم إثم وكره وهو الصحيح. وفي رواية عن أحمد كراهة ذلك استقلالا. ومذهب الشافعية أنه خلاف الأولى وقال اللقاني: قال القاضي عياض الذي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 260 ذهب إليه المحققون وأميل إليه ما قاله مالك وسفيان واختاره غير واحد من الفقهاء والمتكلمين أنه يجب تخصيص النبي صلّى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء بالصلاة والتسليم كما يختص الله سبحانه عند ذكره بالتقديس والتنزيه ويذكر من سواهم بالغفران والرضا كما قال تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة: 100] يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ [الحشر: 10] وأيضا فهو أمر لم يكن معروفا في الصدر الأول وإنما أحدثه الرافضة في بعض الأئمة والتشبه بأهل البدع منهى عنه فتجب مخالفتهم انتهى. ولا يخفى أن كراهة التشبه بأهل البدع مقررة عندنا أيضا لكن لا مطلقا بل في المذموم وفيما قصد به التشبه بهم فلا تغفل. وجاء عن عمر بن عبد العزيز بسند حسن أو صحيح أنه كتب لعامله إن ناسا من القصاص قد أحدثوا في الصلاة على حلفائهم ومواليهم عدل صلاتهم على النبي صلّى الله عليه وسلم فإذا جاءك كتابي هذا فمرهم أن تكون صلاتهم على النبيين خاصة ودعاؤهم للمسلمين عامة ويدعوا ما سوى ذلك. وصح عن ابن عباس أنه قال: لا تنبغي الصلاة من أحد على أحد إلا على النبي صلّى الله عليه وسلم. وفي رواية عنه ما أعلم الصلاة تنبغي على أحد من أحد إلا على النبي صلّى الله عليه وسلم ولكن يدعى للمسلمين والمسلمات بالاستغفار، وكلاهما يحتمل الكراهة والحرمة. واستدل المانعون بأن لفظ الصلاة صار شعارا لعظم الأنبياء وتوقيرهم فلا تقال لغيرهم استقلالا وإن صح كما لا يقال محمد عزّ وجلّ وإن كان عليه الصلاة والسلام عزيزا جليلا لأن هذا الثناء صار شعارا لله تعالى فلا يشارك فيه غيره. وأجابوا عما مر بأنه صدر من الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام. ولهما أن يخصا من شاءا بما شاءا وليس ذلك لغيرهما إلا بإذنهما ولم يثبت عنهما إذن في ذلك. ومن ثم قال أبو اليمن ابن عساكر له صلّى الله عليه وسلم أن يصلي على غيره مطلقا لأنه حقه ومنصبه فله التصرف فيه كيف شاء بخلاف أمته إذ ليس لهم أن يؤثروا غيره بما هو له لكن نازع فيه صاحب المعتمد من الشافعية بأنه لا دليل على الخصوصية. وحمل البيهقي القول بالمنع على ما إذا جعل ذلك تعظيما وتحية وبالجواز عليها إذا كان دعاء وتبركا، واختار بعض الحنابلة أن الصلاة على الآل مشروعة تبعا وجائزة استقلالا وعلى الملائكة وأهل الطاعة عموما جائزة أيضا وعلى معين شخص أو جماعة مكروهة ولو قيل بتحريمها لم يبعد سيما إذا جعل ذلك شعارا له وحده دون مساويه ومن هو خير منه كما تفعل الرافضة بعلي كرّم الله تعالى وجهه ولا بأس بها أحيانا كما صلى عليه الصلاة والسلام على المرأة وزوجها وكما صلى عليه الصلاة والسلام على علي وعمر رضي الله تعالى عنهما لما دخل عليه وهو مسجى ثم قال: وبهذا التفصيل تتفق الأدلة، وأنت تعلم اتفاقها بغير ما ذكر. والسلام عند كثير فيما ذكر وفي شرح الجوهرة للقاني نقلا عن الإمام الجويني أنه في معنى الصلاة فلا يستعلم في الغائب ولا يفرد به غير الأنبياء عليهم السّلام فلا يقال علي عليه السّلام بل يقال رضي الله تعالى عنه. وسواء في هذا الأحياء والأموات إلا في الحاضر فيقال السّلام أو سلام عليك أو عليكم وهذا مجمع عليه انتهى. وفي حكاية الإجماع على ذلك نظر. وفي الدر المنضود السّلام كالصلاة فيما ذكر إلا إذا كان لحاضر أو تحية لحي غائب، وفرق آخرون بأنه يشرع في حق كل مؤمن بخلاف الصلاة، وهو فرق بالمدعي فلا يقبل، ولا شاهد في السّلام علينا وعلى عباد الله الصالحين لأنه وارد في محل مخصوص وليس غيره في معناه على أن ما فيه وقع تبعا لا استقلالا. وحقق بعضهم فقال ما حاصله مع زيادة عليه السّلام الذي يعم الحي والميت هو الذي يقصد به التحية كالسلام عند تلاق أو زيارة قبر وهو مستدع للرد وجوب كفاية أو عين بنفسه في الحاضر ورسوله أو كتابه في الغائب، وأما السّلام الذي يقصد به الدعاء منا بالتسليم من الله تعالى على المدعو له سواء كان بلفظ غيبة أو حضور فهذا هو الذي اختص به صلّى الله عليه وسلم عن الأمة فلا يسلم على غيره منهم إلا تبعا كما أشار إليه التقى السبكي في شفاء الغرام، وحينئذ فقد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 261 أشبه قولنا عليه السّلام قولنا عليه الصلاة من حيث أن المراد عليه السّلام من الله تعالى، ففيه إشعار بالتعظيم الذي في الصلاة من حيث الطلب لأن يكون المسلم عليه الله تعالى كما في الصلاة وهذا النوع من السّلام هو الذي ادعى الحليمي كون الصلاة بمعناه انتهى. واختلف في جواز الدعاء له صلّى الله عليه وسلم بالرحمة فذهب ابن عبد البرّ إلى منع ذلك، ورد بوروده في الأحاديث الصحيحة، منها وهو أصحها حديث التشهد السّلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، ومنها قول الأعرابي: اللهم ارحمني ومحمدا وتقريره صلّى الله عليه وسلم لذلك، وقوله صلّى الله عليه وسلم: «اللهم إني أسألك رحمة من عندك اللهم أرجو رحمتك يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث» وفي خطبة رسالة الشافعي ما لفظه صلّى الله عليه وسلم ورحم وكرم، نعم قضية كلامه كحديث التشهد أن محل الجواز إن ضم إليه لفظ الصلاة أو السّلام وإلا لم يجز وقد أخذ به جمع منهم الجلال السيوطي بل نقله القاضي عياض في الإكمال عن الجمهور، قال القرطبي: وهو الصحيح، وجزم بعدم جوازه منفردا الغزالي عليه الرحمة فقال: لا يجوز ترحم على النبي ويدل له قوله تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [النور: 63] والصلاة وإن كانت بمعنى الرحمة إلا أن الأنبياء خصوا بها تعظيما لهم وتمييزا لمرتبتهم الرفيعة على غيرهم على أنها في حقهم ليست بمعنى مطلق الرحمة بل المراد بها ما هو أخص من ذلك كما سمعت فيما تقدم. نعم ظاهر قول الأعرابي السابق وتقريره عليه الصلاة والسّلام له الجواز ولو بدون انضمام صلاة أو سلام. قال ابن حجر الهيتمي: وهو الذي يتجه وتقريره المذكور خاص فيقدم على العموم الذي اقتضته الآية ثم قال: وينبغي حمل قول من قال لا يجوز ذلك على أن مرادهم نفي الجواز المستوي الطرفين فيصدق بأن ذلك مكروه أو خلاف الأولى، وذكر زين الدين في بحره أنهم اتفقوا على أنه لا يقال ابتداء رحمه الله تعالى، وأنا أقول: الذي ينبغي أن لا يقال ذلك ابتداء. وقال الطحطاوي في حواشيه على الدر المختار: وينبغي أن لا يجوز غفر الله تعالى له أو سامحه لما فيه من إيهام النقص، وهو الذي أميل إليه وإن كان الدعاء بالمغفرة لا يستلزم وجوب ذنب بل قد يكون بزيادة درجات كما يشير إليه استغفاره عليه الصلاة والسّلام في اليوم والليلة مائة مرة. وكذا الدعاء بها للميت الصغير في صلاة الجنازة، ومثل ذلك فيما يظهر عفا الله تعالى عنه وإن وقع في القرآن فإن الله تعالى له أن يخاطب عبده بما شاء، وأرى حكم الترحم على الملائكة عليهم السّلام كحكم الترحم عليه صلّى الله عليه وسلم، ومن اختلف في نبوته كلقمان يقل فيه رضي الله تعالى عنه أو صلّى الله تعالى على الأنبياء وعليه وسلم، هذا وقد بقيت في هذا المقام أبحاث كثيرة يطول الكلام بذكرها جدا فلتطلب من مظانها والله تعالى ولي التوفيق وبيده سبحانه أزمة التحقيق. إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أريد بالإيذاء إما ارتكاب ما لا يرضيانه من الكفر وكبائر المعاصي مجازا لأنه سبب أو لازم له وإن كان ذلك بالنظر إليه تعالى بالنسبة إلى غيره سبحانه فإنه كاف في العلاقة، وقيل في إيذائه تعالى: هو قول اليهود والنصارى والمشركين يد الله مغلولة والمسيح ابن الله والملائكة بنات الله والأصنام شركاؤه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وقيل قول الذين يلحدون في آياته سبحانه، وقيل تصوير التصاوير وروي عن كعب ما يقتضيه، وقيل في إيذاء الرسول صلّى الله عليه وسلم هو قولهم: شاعر ساحر كاهن مجنون وحاشاه عليه الصلاة والسّلام، وقيل هو كسر رباعيته وشج وجهه الشريف وكان ذلك في غزوة أحد، وقيل طعنهم في نكاح صفية بنت حيي، والحق هو العموم فيهما، وإما إيذاؤه عليه الصلاة والسّلام خاصة بطريق الحقيقة وذكر الله عزّ وجلّ لتعظيمه صلّى الله عليه وسلم ببيان قربه وكونه حبيبه المختص به حتى كان ما يؤذيه يؤذيه سبحانه كما أن من يطيعه يطيع الله تعالى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 262 وجوز أن يكون الإيذاء على حقيقته والكلام على حذف مضاف أي يؤذون أولياء الله ورسوله وليس بشيء، وقيل يجوز أن يراد منه المعنى المجازي بالنسبة إليه تعالى والمعنى الحقيقي بالنسبة إلى رسوله عليه الصلاة والسّلام وتعدد المعمول بمنزلة تكرر لفظ العامل فيخف أمر الجمع بين المعنيين حتى ادعى بعضهم أنه ليس من الجمع الممنوع وليس بشيء لَعَنَهُمُ اللَّهُ طردهم وأبعدهم من رحمته فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ بحيث لا يكادون ينالون فيهما شيئا منها، وذلك في الآخرة ظاهر، وأما في الدنيا فقيل بمنعهم زيادة الهدى وَأَعَدَّ لَهُمْ مع ذلك عَذاباً مُهِيناً يصيبهم في الآخرة خاصة وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يفعلون بهم ما يتأذون به من قول أو فعل، وتقييده بقوله تعالى: بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا أي بغير جنايه يستحقون بها الأذية شرعا بعد إطلاقه فيما قبله للإيذان بأن أذى الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم لا يكون إلا في غير حق وأما أذى هؤلاء فمنه ومنه. وروي أن عمر رضي الله تعالى عنه قال يوما لأبي: يا أبا المنذر قرأت البارحة آية من كتاب الله تعالى فوقعت مني كل موقع وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ والله إني لأعاقبهم وأضربهم فقال: إنك لست منهم إنما أنت معلم ومقوم وقوله تعالى: الَّذِينَ مبتدأ وقوله سبحانه فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً أي فعلا شنيعا وقيل ما هو كالبهتان أي الكذب الذي يبهت الشخص لفظاعته في الإثم، وقيل احتمل بهتانا أي كذبا فظيعا إذا كان الإيذاء بالقول وَإِثْماً مُبِيناً أي ظاهرا بينا خبره، ودخلت الفاء لتضمن الموصول معنى الشرط، والآية قيل نزلت في منافقين كانوا يؤذون عليا كرّم الله تعالى وجهه ويسمعونه ما لا خير فيه. وأخرج ابن جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس قال: أنزلت في عبد الله بن أبي وناس معه قذفوا عائشة رضي الله تعالى عنها فخطب النبي صلّى الله عليه وسلم وقال: «من يعذرني من رجل يؤذيني ويجمع في بيته من يؤذيني فنزلت» . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه رضي الله تعالى عنها أنها نزلت في الذين طعنوا على النبي صلّى الله عليه وسلم في أخذ صفية بنت حيي رضي الله تعالى عنها، وعن الضحّاك والسدي والكلبي أنها نزلت في زناة كانوا يتبعون النساء إذا برزن بالليل لقضاء حوائجهن وكانوا لا يتعرضون إلا للإماء ولكن ربما يقع منهم التعرض للحرائر جهلا أو تجاهلا لاتحاد الكل في الزيّ واللباس، والظاهر عموم الآية لكل ما ذكر ولكل ما سيأتي من أراجيف المرجفين، وفيها من الدلالة على حرمة المؤمنين والمؤمنات ما فيها، وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في هذه الآية قال: يلقى الجرب على أهل النار فيحكون حتى تبدو العظام فيقولون ربنا بماذا أصابنا هذا فيقال: بأذاكم المسلمين، وأخرج غير واحد عن قتادة قال: إياكم وأذى المؤمن فإن الله تعالى يحوطه ويغضب له. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأصحابه أي الربا أربى عند الله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم ثم قرأ صلّى الله عليه وسلم والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا الآية» . يا أَيُّهَا النَّبِيُّ بعد ما بين سبحانه سوء حال المؤذين زجرا لهم عن الإيذاء أمر النبي صلّى الله عليه وسلم بأن يأمر بعض المتأذين منهم بما يدفع إيذاءهم في الجملة من التستر والتميز عن مواقع الإيذاء فقال عزّ وجلّ: قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ روي عن غير واحد أنه كانت الحرة والأمة تخرجان ليلا لقضاء الحاجة في الغيطان وبين النخيل من غير امتياز بين الحرائر والإماء وكان في المدينة فساق يتعرضون للإماء وربما تعرضوا للحرائر فإذا قيل لهم يقولون حسبناهن إماء فأمرت الحرائر أن يخالفن الإماء بالزيّ والتستر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 263 ليحتشمن ويهبن فلا يطمع فيهن، والجلابيب جمع جلباب وهو على ما روي عن ابن عباس الذي يستر من فوق إلى أسفل، وقال ابن جبير: المقنعة، وقيل: الملحفة، وقيل: كل ثوب تلبسه المرأة فوق ثيابها، وقيل: كل ما تتستر به من كساء أو غيره، وأنشدوا: تجلببت من سواد الليل جلبابا وقيل هو ثوب أوسع من الخمار ودون الرداء، والإدناء التقريب يقال أدناني أي قربني وضمن معنى الإرخاء أو السدل ولذا عدي بعلى على ما يظهر لي، ولعل نكتة التضمين الإشارة إلى أن المطلوب تستر يتأتى معه رؤية الطريق إذا مشين فتأمل. ونقل أبو حيان عن الكسائي أنه قال: أي يتقنعن بملاحفهن منضمة عليهن ثم قال: أراد بالانضمام معنى الإدناء، وفي الكشاف معنى يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ يرخين عليهن يقال إذا زل الثوب عن وجه المرأة أدني ثوبك على وجهك. وفسر ذلك سعيد بن جبير بيسدلن عليهن، وعندي أن كل ذلك بيان لحاصل المعنى، والظاهر أن المراد بعليهن على جميع أجسادهن، وقيل: على رؤوسهن أو على وجوههن لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه. واختلف في كيفية هذا التستر فأخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن محمد بن سيرين قال: سألت عبيدة السلماني عن هذه الآية يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ فرفع ملحفة كانت عليه فتقنع بها وغطى رأسه كله حتى بلغ الحاجبين وغطى وجهه وأخرج عينه اليسرى من شق وجهه الأيسر، وقال السدي: تغطي إحدى عينيها وجبهتها والشق الآخر إلا العين، وقال ابن عباس وقتادة: تلوي الجلباب فوق الجبين وتشده ثم تعطفه على الأنف وإن ظهرت عيناها لكن تستر الصدر ومعظم الوجه، وفي رواية أخرى عن الحبر رواها ابن جرير، وابن أبي حاتم وابن مردويه تغطي وجهها من فوق رأسها بالجلباب وتبدي عينا واحدة. وأخرج عبد الرزاق وجماعة عن أم سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ خرج نساء الأنصار كان على رؤوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها. وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: رحم الله تعالى نساء الأنصار لما نزلت يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ الآية شققن مروطهن فاعتجرن بها فصلين خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلم كأنما على رؤوسهن الغربان. ومن للتبعيض ويحتمل ذلك على ما في الكشاف وجهين، أحدهما أن يكون المراد بالبعض واحدا من الجلابيب وإدناء ذلك عليهن أن يلبسنه على البدن كله، وثانيهما أن يكون المراد بالبعض جزءا منه وإدناء ذلك عليهن أن يتقنعن فيسترن الرأس والوجه بجزء من الجلباب مع إرخاء الباقي على بقية البدن، والنساء مختصات بحكم العرف بالحرائر وسبب النزول يقتضيه وما بعد ظاهر فيه فإماء المؤمنين غير داخلات في حكم الآية. وعن عمر رضي الله تعالى عنه أن غير الحرة لا تتقنع أخرج ابن أبي شيبة عن قلابة قال: كان عمر بن الخطاب لا يدع في خلافته أمة تتقنع ويقول: القناع للحرائر لكيلا يؤذين، وأخرج هو وعبد بن حميد عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: رأى عمر رضي الله تعالى عنه جارية مقنعة فضربها بدرته وقال: ألقي القناع لا تتشبهي بالحرائر، وجاء في بعض الروايات أنه رضي الله تعالى عنه قال لأمة رأها مقنعة: يا لكعاء أتشبهين بالحرائر؟ وقال أبو حيان: نساء المؤمنين يشمل الحرائر والإماء والفتنة بالإماء أكثر لكثرة تصرفهن بخلاف الحرائر فيحتاج إخراجهن من عموم النساء إلى دليل واضح انتهى، وأنت تعلم أن وجه الحرة عندنا ليس بعورة فلا يجب ستره ويجوز النظر من الأجنبي إليه إن أمن الشهوة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 264 مطلقا وإلا فيحرم، وقال القهستاني: منع النظر من الشابة في زماننا ولو بلا شهوة وأما حكم أمة الغير ولو مدبرة أو أم ولد فكحكم المحرم فيحل النظر إلى رأسها ووجهها وساقها وصدرها وعضدها إن أمن شهوته وشهوتها. وظاهر الآية لا يساعد على ما ذكر في الحرائر فلعلها محمولة على طلب تستر تمتاز به الحرائر عن الإماء أو العفائف مطلقا عن غيرهن فتأمل، ويُدْنِينَ يحتمل أن يكون مقول القول وهو خبر بمعنى الأمر وأن يكون جواب الأمر على حد قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ [إبراهيم: 31] وفي الآية رد على من زعم من الشيعة أنه عليه الصلاة والسّلام لم يكن له من البنات إلا فاطمة صلّى الله تعالى على أبيها وعليها وسلم وأما رقية وأم كلثوم فربيبتاه عليه الصلاة والسّلام ذلِكَ أي ما ذكر من الإدناء والتستر أَدْنى أي أقرب أَنْ يُعْرَفْنَ أي يميزن عن الإماء اللاتي هن مواقع تعرضهم وإيذاءهم. ويجوز إبقاء المعرفة على معناها أي أدنى أن يعرفن أنهن حرائر فَلا يُؤْذَيْنَ من جهة أهل الريبة بالتعرض لهن بناء عن أنهن إماء. وقال أبو حيان: أي ذلك أولى أن يعرفن لتسترهن بالعفة فلا يتعرض لهن ولا يلقين بما يكرهن لأن المرأة إذا كانت في غاية التستر والانضمام لم يقدم عليها بخلاف المتبرجة فإنها مطموع فيها، وهو تفسير مبني على رأيه في النساء، وأيا ما كان فقد قال السبكي في طبقاته: إن أحمد بن عيسى من فقهاء الشافعية استنبط من هذه الآية أن ما يفعله العلماء والسادات من تغيير لباسهم وعمائمهم أمر حسن وإن لم يفعله السلف لأن فيه تمييزا لهم حتى يعرفوا فيعمل بأقوالهم وهو استنباط لطيف وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً كثير المغفرة فيغفر سبحانه ما عسى يصدر من الإخلال بالتستر، وقيل: يغفر ما سلف منهن من التفريط. وتعقب بأنه إن أريد التفريط في أمر التستر قبل نزول الآية فلا ذنب قبل الورود في الشرع وإن أريد التفريط في غير ذلك ليكون وكان الله كثير المغفرة فيغفر ما سلف من ذنوبهن وارتكابهن ما نهى عنه مطلقا فهو غير مناسب للمقام، وجوز أن يراد التفريط في أمر التستر والأمر به معلوم من آية الحجاب التزاما وهو كما ترى رَحِيماً كثير الرحمة فيثيب من امتثل أمره منهن بما هو سبحانه أهله، وقيل: رحيما بهن بعد التوبة عن الإخلال بالتستر بعد نزول الآية، وقيل: رحيما بعباده حيث راعى سبحانه في مصالحهم أمثال هذه الجزئيات. لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ عما هم عليه من النفاق وأحكامه الموجبة للإيذاء وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وهم قوم كان فيهم ضعف إيمان وقلة ثبات عليه عما هم عليه من التزلزل وما يستتبعه مما لا خير فيه وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ من اليهود المجاورين لها عما هم عليه من نشر أخبار السوء عن سرايا المسلمين وغير ذلك من الأراجيف الملفقة المستتبعة للأذية، وأصل الإرجاف التحريك من الرجفة التي هي الزلزلة وصفت به الأخبار الكاذبة لكونها في نفسها متزلزلة غير ثابتة أو لتزلزل قلوب المؤمنين واضطرابها منها، والتغاير بينه المتعاطفات على ما ذكرنا بالذات وهو الذي يقتضيه ظاهر العطف. وأخرج ابن المنذر وغيره عن مالك بن دينار قال: سألت عكرمة عن الذين في قلوبهم مرض فقال: هم أصحاب الفواحش، وعن عطاء أنه فسرهم بذلك أيضا، وفي رواية أخرى عنه أنه قال هم قوم مؤمنون كان في أنفسهم أن يزنوا فالمرض حب الزنا، وإذا فسر المرجفون على ذلك بما سمعت يكون التغاير بين المتعاطفات بالذات أيضا. وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب أن الذين في قلوبهم مرض هم المنافقون وهو المعروف في وصفهم. وأخرج هو أيضا عن عبيد بن حنين أن الذين في قلوبهم مرض والمرجفون جميعا هم المنافقون فيكون العطف مع الاتحاد بالذات لتغاير الصفات على حد: هو الملك القرم وابن الهمام الجزء: 11 ¦ الصفحة: 265 فكأنه قيل: لئن لم ينته الجامعون بين هذه الصفات القبيحة عن الاتصاف بها المفضي إلى الإيذاء لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ أي لندعونك إلى قتالهم وإجلائهم أو فعل ما يضطرهم إلى الجلاء ونحرضك على ذلك يقال أغراه بكذا إذا دعاه إلى تناوله بالتحريض عليه، وقال الراغب: غرى بكذا أي لهج به ولصق، وأصل ذلك من الغراء وهو ما يلصق به وقد أغريت فلانا بكذا ألهجت به، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أي لنسلطنك عليهم ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ عطف على جواب القسم وثم للتفاوت الرتبي والدلالة على أن الجلاء ومفارقة جوار الرسول صلّى الله عليه وسلم أعظم ما يصيبهم وأشده عندهم فِيها أي في المدينة إِلَّا قَلِيلًا أي زمانا أو جوارا قليلا ريثما يتبين حالهم من الانتهاء وعدمه أو يتلقطون عيالاتهم وأنفسهم. وفي الآية عليه كما في الانتصاف إشارة إلى أن من توجه عليه إخلاء منزل مملوك للغير بوجه شرعي يمهل ريثما ينتقل بنفسه ومتاعه وعياله برهة من الزمان حتى يتيسر له منزل آخر على حسب الاجتهاد، ونصب قَلِيلًا على ما أشرنا إليه على الظرفية أو المصدرية، وجوز أن يكون نصبا على الحال أي إلا قليلين أذلاء، ولا يخفى حاله على ذي تمييز. وقوله تعالى: مَلْعُونِينَ نصب على الذم أي أذم ملعونين أو على الحال من فاعل لا يُجاوِرُونَكَ والاستثناء شامل له عند من يرى جواز نحو ذلك، وقد تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [الأحزاب: 53] وجعل ابن عطية المعنى على الحالية ينتفون ملعونين، وجوز أن يكون حالا من ضميرهم في قوله تعالى: أَيْنَ ما ثُقِفُوا أي حصروا وظفر بهم، وكأنه على معنى أينما ثقفوا متصفين بما هم عليه أُخِذُوا أي أسروا ومنه الأخيذ للأسير وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا أي قتلوا أبلغ قتل. وقرىء «قتلوا» بالتخفيف فيكون تَقْتِيلًا مصدرا على غير الصدر. واعترض على الحالية مما ذكر بأن أداة الشرط لا يعمل ما بعدها فيما قبلها مطلقا وهذا أحد مذاهب للنحاة في المسألة، ثانيها الجواز مطلقا، وثالثها جواز تقديم معمول الجواب دون معمول الشرط. وجوز على تقدير كون قَلِيلًا حالا أن يكون مَلْعُونِينَ بدلا منه. وتعقبه أبو حيان بأن البدل بالمشتق قليل ثم قال: والصحيح أن مَلْعُونِينَ صفة لقليل أي إلا قليلين ملعونين ويكون قَلِيلًا مستثنى من الواو في لا يُجاوِرُونَكَ والجملة الشرطية صفة أيضا أي مقهورين مغلوبا عليهم اهـ، وهو كما ترى. وقوله تعالى: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ مصدر مؤكد أي سن الله تعالى ذلك في الأمم الماضية سنة وهي قتال الذين يسعون بالفساد بين قوم وإجلائهم عن أوطانهم وقهرهم أينما ثقفوا متصفين بذلك. وَلَنْ تَجِدَ أيها النبي أو يا من يصح منك الوجدان أبدا لِسُنَّةِ اللَّهِ لعادته عزّ وجلّ المستمرة تَبْدِيلًا لابتنائها على أساس الحكمة فلا يبدلها هو جل شأنه وهيهات هيهات أن يقدر غيره سبحانه على تبديلها، ومن سبر أخبار الماضين وقف على أمر عظيم في سوء معاملتهم المفسدين فيما بينهم، وكأن الطباع مجبولة على سوء المعاملة معهم وقهرهم، وفي تفسير الفخر وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا أي ليست هذه السنة مثل الحكم الذي يتبدل وينسخ فإن النسخ يكون في الأحكام أما الأفعال والأخبار فلا تنسخ. وللسدي كلام غريب في الآية لا أظن أن أحدا قال به. أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال فيها: كان النفاق على ثلاثة أوجه: نفاق مثل نفاق عبد الله بن سلول ونظائره كانوا وجوها من وجوه الأنصار فكانوا يستحيون أن يأتوا الزنا يصونون بذلك أنفسهم وهم المنافقون في الآية، ونفاق الذين في قلوبهم مرض وهم منافقون إن تيسر لهم الزنا عملوه وإن لم يتيسر لم يتبعوه ويهتموا بأمره، ونفاق المرجفين وهم منافقون يكابرون النساء يقتصون أثرهن فيغلبوهن على أنفسهم فيفجرون بهن، وهؤلاء الذين يكابرون النساء لَنُغْرِيَنَّكَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 266 بِهِمْ يقول سبحانه لنعلمنك بهم ثم قال تعالى: مَلْعُونِينَ ثم فصلت الآية أَيْنَما ثُقِفُوا يعملون هذا العمل مكابرة النساء أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا ثم قال السدي: هذا حكم في القرآن ليس يعمل به لو أن رجلا وما فوقه اقتصوا أثر امرأة فغلبوها على نفسها ففجروا بها كان الحكم فيهم غير الجلد والرجم وهو أن يؤخذوا فتضرب أعناقهم سنّة الله في الذين خلوا من قبل كذلك كان يفعل بمن مضى من الأمم ولن تجد لسنّة الله تبديلا فمن كابر امرأة على نفسها فغلبها فقتل فليس على قاتله دية لأنه يكابر انتهى، والظاهر أنه قد وقع الانتهاء من المنافقين والذين في قلوبهم مرض عما هو المقصود بالنهي وهو ما يستتبعه حالهم من الإيذاء ولم يقع من المرجفين أعني اليهود فوقع القتال والإجلاء لهم. وفي البحر الظاهر أن المنافقين يعني جميع من ذكر في الآية انتهوا عما كانوا يؤذون به الرسول صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين وتستر جميعهم وكفوا خوفا من أن يقع بهم ما وقع القسم عليه وهو الإغراء والإجلاء والقتل. وحكي ذلك عن الجبائي، وعن أبي مسلم لم ينتهوا وحصل الإغراء بقوله تعالى: جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ [التوبة: 73، التحريم: 9] وفيه أن الإجلاء والقتل لم يقعا للمنافقين والجهاد في الآية قولي، وقيل: إنهم لم يتركوا ما هم عليه ونهوا عنه جملة ولا نفذ عليهم الوعيد كاملا ألا ترى إلى إخراجهم من المسجد ونهيه تعالى عن الصلاة عليهم وما نزل في سورة براءة، وزعم بعضهم أنه لم ينته أحد من المذكورين أصلا ولم ينفذ الوعيد عليهم ففيه دليل على بطلان القول بوجوب نفاذ الوعيد في الآخرة ويكون هذا الوعيد مشروطا بالمشيئة وفيه من البعد ما فيه. يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ أي عن وقت قيامها ووقوعها، كان المشركون يسألونه صلّى الله عليه وسلم عن ذلك استعجالا بطريق الاستهزاء والمنافقون تعنتا واليهود امتحانا لما أنهم يعلمون من التوراة أنها مما أخفاه الله تعالى فيسألونه عليه الصلاة والسلام ليمتحنوه هل يوافقها وحيا أو لا قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ لا يطلع سبحانه عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا وَما يُدْرِيكَ خطاب مستقل له صلّى الله عليه وسلم غير داخل تحت الأمر مسوق لبيان أنها مع كونها غير معلومة مرجوة المجيء عن قريب، وما استفهام في موضع الرفع بالابتداء والجملة بعده خبر أي أي شيء يعلمك بوقت قيامها، والمعنى على النفي أي لا يعلمنك به شيء أصلا. لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً أي لعلها توجد وتتحقق في وقت قريب فقريبا منصوب على الظرفية واستعماله كذلك كثير، وتَكُونُ تامة ويجوز أن تكون ناقصة وإذا كان قَرِيباً الخبر واعتبر وصفا لا ظرفا فالتذكير لكونه في الأصل صفة لخبر مذكر يخبر به عن المؤنث وليس هو الخبر أي لعل الساعة تكون شيئا قريبا، وجوز أن يكون ذلك رعاية للمعنى من حيث إن الساعة بمعنى اليوم أو الوقت. وقال أبو حيان: يجوز أن يكون ذلك لأن التقدير لعل قيام الساعة فلوحظ الساعة في تكون فأنث ولوحظ المضاف المحذوف وهو قيام في قَرِيباً فذكر، ولا يخفى بعده، وقيل إن قريبا لكونه فعيلا يستوي فيه المذكر والمؤنث كما في قوله تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56] وقد تقدم ما في ذلك، وفي الكلام تهديد للمستعجبين المستهزئين وتبكيت للمتعنتين والممتحنين، والإظهار في موضع الإضمار للتهويل وزيادة التقرير وتأكيد استقلال الجملة كما أشير إليه إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ على الإطلاق أي طردهم وأبعدهم عن رحمته العاجلة والآجلة وَأَعَدَّ هيأ لَهُمْ مع ذلك في الآخرة سَعِيراً نارا شديدة الاتقاد كما يؤذن بذلك صيغة المبالغة خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا متوليا لأمرهم يحفظهم وَلا نَصِيراً ناصرا يخلصهم منها يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ظرف لعدم الوجدان، وقيل لخالدين، وقيل لنصير، وقيل مفعول لا ذكر أي يوم تصرف الجزء: 11 ¦ الصفحة: 267 وجوههم فيها من جهة إلى جهة كاللحم يشوى في النار أو يطبخ في القدر فيدور به الغليان من جهة إلى جهة أو يوم تتغير وجوههم من حال إلى حال فتتوارد عليها الهيئات القبيحة من شدة الأهوال أو يوم يلقون في النار مقلوبين منكوسين، وتخصيص الوجوه بالذكر لما أنها أكرم الأعضاء ففيه مزيد تفظيع للأمر وتهويل للخطب، ويجوز أن تكون عبارة عن كل الجسد. وقرأ الحسن وعيسى وأبو جعفر الرواسي. «تقلب» بفتح التاء والأصل تتقلب فحذفت إحدى التاءين، وقرأ ابن أبي عبلة بهما على الأصل، وحكى ابن خالويه عن أبي حيوة أنه قرأ «تقلب وجوههم» بإسناد الفعل إلى ضمير العظمة ونصب «وجوههم» على المفعولية. وقرأ عيسى الكوفة «تقلب وجوههم» بإسناد الفعل إلى ضمير السعير اتساعا ونصب الوجوه يَقُولُونَ استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية حالهم الفظيعة كأنه قيل: فماذا يصنعون عند ذلك؟ فقيل: يقولون متحسرين على ما فاتهم يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا فلا نبتلي بهذا العذاب أو حال من ضمير وُجُوهُهُمْ أو من نفسها. وجوز أن يكون هو الناصب ليوم وَقالُوا عطف على يَقُولُونَ والعدول إلى صيغة الماضي للإشعار بأن قولهم هذا ليس مستمرا كقولهم السابق بل هو ضرب اعتذار أرادوا به ضربا من التشفي بمضاعفة عذاب الذين أوردوهم هذا المورد الوخيم وألقوهم في ذلك العذاب الأليم وإن علموا عدم قبوله في حق خلاصهم بما هم فيه. رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا أي ملوكنا وولاتنا الذين يتولون تدبير السواد الأعظم منا وَكُبَراءَنا أي رؤساءنا الذين أخذنا عنهم فنون الشر وكان هذا في مقابلة ما تمنوه من إطاعة الله تعالى وإطاعة الرسول فالسادة والكبراء متغايران، والتعبير عنهما بعنوان السيادة والكبر لتقوية الاعتذار وإلا فهم في مقام التحقير والإهانة. وقدموا في ذلك إطاعة السادة لما أنه كان لهم قوة البطش بهم لو لم يطيعوهم فكان ذلك أحق بالتقديم في مقام الاعتذار وطلب التشفي، وقيل: باتحاد السادة والكبراء والعطف على حد العطف في قوله. وألفي قولها كذبا ومينا. والمراد بهم العلماء الذين لقنوهم الكفر وزينوه لهم، وعن قتادة رؤساؤهم في الشر والشرك. وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة والسلمي وابن عامر والعامة في الجامع بالبصرة ساداتنا على جمع الجمع وهو شاذ كبيوتات، وفيه على ما قيل دلالة على الكثرة، ثم إن كون سادة جمعا هو المشهور، وقيل: اسم جمع فإن كان جمعا لسيد فهو شاذ أيضا فقد نصوا على شذوذ فعلة في جميع فعيل وإن كان جمعا لمفرد مقدر وهو سائد كان ككافر وكفرة لكنه شاذ أيضا لأن فاعلا لا يجمع على فعلة إلا في الصحيح فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا أي جعلونا ضالين عن الطريق الحق بما دعونا إليه وزينوه لنا من الأباطيل، والألف للإطلاق كما في وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا. رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ أي عذابين يضاعف كل واحد منهما الآخر عذابا على ضلالهم في أنفسهم وعذابا على إضلالهم لنا وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً أي شديدا عظيما فإن الكبر يستعار للعظمة مثل كَبُرَتْ كَلِمَةً [الكهف: 5] ويستفاد التعظيم من التنوين أيضا، وقرأ الأكثر «كثيرا» بالثاء المثلثة أي كثير العدد، وتصدير الدعاء بالنداء مكررا للمبالغة في الجؤار واستدعاء الإجابة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى قيل نزلت فيما كانت من أمر زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها وتزوجه صلّى الله عليه وسلم بها وما سمع في ذلك من كلام آذاه عليه الصلاة والسلام فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا أي من قولهم أو الذي قالوه وأيا ما كان فالقول هنا بمعنى المقول، والمراد به مدلوله الواقع في الخارج وبتبرئة الله تعالى إياه من ذلك إظهار براءته عليه السّلام منه وكذبهم فيما أسندوا إليه لأن المرتب على أذاهم ظهور براءته لا براءته لأنها مقدمة عليه، واستعمال الفعل مجازا عن إظهاره، والمقول بمعنى المضمون كثير شائع فالمعنى فأظهر الله تعالى براءته من الأمر المعيب الذي نسبوه إليه عليه السّلام. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 268 وقيل: لا حاجة إلى ما ذكر فإنه تعالى لما أظهر براءته عما افتروه عليه انقطعت كلماتهم فيه فبرىء من قولهم على أن (برأه) بمعنى خلصه من قولهم لقطعه عنه، وتعقب بأنه مع تكلفه لأن قطع قولهم ليس مقصودا بالذات بل المراد انقطاعه لظهور خلافه لا بدّ من ملاحظة ما ذكر، والمراد بالأمر الذي نسبوه إليه عليه السّلام عيب في بدنه. أخرج الإمام أحمد والبخاري والترمذي وجماعة من طريق أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن موسى عليه السّلام كان رجلا حييا ستيرا لا يرى من جلده شيء استحياء منه فآذاه من آذاه من بني إسرائيل وقالوا ما يستتر هذا الستر إلا من عيب بجلده أما برص وأما أدرة وأما آفة وإن الله تعالى أراد أن يبرئه مما قالوا وأن موسى عليه السّلام خلا يوما وحده فوضع ثيابه على حجر ثم اغتسل فلما فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها وأن الحجر غدا بثوبه فأخذ موسى عليه السّلام عصاه وطلب الحجر فجعل يقول ثوبي حجر ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله تعالى وبرأه مما يقولون وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه وطفق بالحجر ضربا بعصاه فذلك قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا . وقيل: إن ذلك ما نسبوه إليه عليه السّلام من قتل هارون، أخرج ابن منيع وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه عن ابن عباس عن علي كرّم الله تعالى وجهه أنه قال في الآية: صعد موسى وهارون عليهما السّلام الجبل فمات هارون فقالت بنو إسرائيل لموسى أنت قتلته كان أشد حبا لنا منك وألين فآذوه من ذلك فأمر الله تعالى الملائكة عليهم فحملوه فمروا به على مجالس بني إسرائيل وتكلمت الملائكة عليهم السّلام بموته فبرأه الله تعالى فانطلقوا به فدفنوه ولم يعرف قبره إلا الرخم وإن الله تعالى جعله أصم أبكم ، وفي رواية عن ابن عباس وأناس من الصحابة أن الله تعالى أوحى إلى موسى إني متوف هارون فأت جبل كذا فانطلقا نحو الجبل فأذاهم بشجرة وبيت فيه سرير عليه فرش وريح طيبة فلما نظر هارون إلى ذلك الجبل والبيت وما فيه أعجبه فقال يا موسى إني أحب أن أنام على هذا السرير قال نم عليه قال نم معي فلما ناما أخذ هارون الموت قلما قبض رفع ذلك البيت وذهبت تلك الشجرة ورفع السرير إلى السماء قلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا قتل هارون وحسده لحب بني إسرائيل له وكان هارون أكف عنهم وألين لهم وكان في موسى بعض الغلظة عليهم فلما بلغه ذلك قال: ويحكم إنه كان أخي أفتروني أقتله فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا الله تعالى فنزل بالسرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدقوه ، وقيل: ما نسبوه إليه عليه السّلام من الزنا وحاشاه، روي أن قارون أغرى مومسة على قذفه عليه السّلام بنفسها ودفع إليها مالا عظيما فأقرت بالمصانعة الجارية بينها وبين قارون وفعل به ما فعل كما فصل في سورة القصص، ويبعد هذا القول تبعيدا ما جمع الموصول، وقيل: ما نسبوا إليه من السحر والجنون، وقيل: ما حكي عنهم في القرآن من قولهم: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [المائدة: 24] لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ [البقرة: 61] وقولهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة: 55] إلى غيرك ذلك ويمكن حمل ما قالوا على جميع ما ذكر. وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً أي كان ذا جاه ومنزلة عنده عزّ وجلّ، وفي معناه قول قطرب: كان رفيع القدر ونحوه قول ابن زيد: كان مقبولا، وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال وجيها مستجاب الدعوة وزاد بعضهم ما سأل شيئا إلا أعطى إلا الرؤية في الدنيا، ولا يخفى أن استجابة الدعوة من فروع رفعة القدر، وقيل: وجاهته عليه السّلام أن الله تعالى كلمه ولقب كليم الله، وقرأ ابن مسعود والأعمش وأبو حيوة «عبدا» من العبودة «لله» بلام الجر فيكون عبدا خبر كان ووجيها صفة له وهي قراءة شاذة، وفي صحة القراءة بالشواذ كلام. قال ابن خالويه: صليت خلف ابن شنبوذ في شهر رمضان فسمعته يقرأ وكان «عبدا لله» على قراءة ابن مسعود الجزء: 11 ¦ الصفحة: 269 ولعل ابن شنبوذ ممن يرى صحة القراءة بها مطلقا، ويحتمل مثل ذلك في ابن خالويه وإلا فقد قال الطيبي قال صاحب الروضة: وتصح بالقراءة الشاذة إن لم يكن فيها تغيير معنى ولا زيادة حرف ولا نقصان، وهاهنا بين المعنيين بون كما يشير إليه كلام الزمخشري ونحوه عن ابن جني يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ في كل ما تأتون وتذرون لا سيما في ارتكاب ما يكرهه تعالى فضلا عما يؤذي رسوله وحبيبه صلّى الله عليه وسلم وَقُولُوا في كل شأن من الشؤون قَوْلًا سَدِيداً قاصدا ومتوجها إلى هدف الحق من سد يسد بكسر السين سدادا بفتحها يقال سدد سهمه إذا وجهه للغرض المرمي ولم يعدل به عن سمته، والمراد على ما قيل نهيهم عن ضد هذا القول وهو القول الذي ليس بسديد ويدخل فيه ما صدر منهم في قصة زينب من القول الجائر عن العدل والقصد وكذا كل قول يؤذيه عليه الصلاة والسّلام، وعن مقاتل. وقتادة أن المعنى وقولوا قولا سديدا في شأن الرسول عليه الصلاة والسّلام وزيد وزينب، وعن ابن عباس وعكرمة تخصيص القول السديد بلا إله إلا الله، وقيل: هو ما يوافق ظاهره باطنه، وقيل: ما فيه إصلاح، ولعل ما أشرنا إليه هو الأولى يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ بالقبول والإثابة عليها على ما روي عن ابن عباس ومقاتل، وقيل إصلاح الأعمال التوفيق في المجيء بها صالحة مرضية. وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ويجعلها مكفرة باستقامتكم في القول والعلم وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في الأوامر والنواهي التي من جملتها ما تضمنته هذه الآيات فَقَدْ فازَ في الدارين فَوْزاً عَظِيماً لا يقادر قدره ولا تبلغ غايته. قال في الكشاف وهذه الآية يعني يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ إلى آخرها مقررة للتي قبلها بنيت تلك على النهي عما يؤذي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهذه على الأمر باتقاء الله تعالى في حفظ اللسان ليترادف عليهم النهي والأمر مع اتباع النهي ما يتضمن الوعيد من قصة موسى عليه السّلام لأن وصفه بوجاهته عند الله تعالى متضمن أنه تعالى انتقم له ممن آذاه واتباع الأمر الوعد البليغ فيقوي الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه انتهى فلا تغفل. إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها لما بين جل شأنه عظم شأن طاعة الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم ببيان مآل الخارجين عنها من العذاب الأليم ومنال المراعين لها من الفوز العظيم عقب ذلك عظم شأن ما يوجبها من التكاليف الشرعية وصعوبة أمرها بطريق التمثيل مع الإيذان بأن ما صدر عنهم من الطاعة وتركها صدر عنهم بعد القبول والالتزام من غير جبر هناك ولا إبرام، وعبر عنها بالأمانة وهي في الأصل مصدر كالأمن والأمان تنبيها على أنها حقوق مرعية أودعها الله تعالى المكلفين وائتمنهم عليها وأوجب عليهم تلقيها بحسن الطاعة والانقياد وأمرهم بمراعاتها والمحافظة عليها وأدائها من غير إخلال بشيء من حقوقها، وعبر عن اعتبارها بالنسبة إلى استعداد ما ذكر من السماوات وغيرها من حيث الخصوصيات بالعرض عليهن لإظهار مزيد الاعتناء بأمرها والرغبة في قبولهن لها، وعن عدم استعدادهن لقبولها ومنافاتها لما هن عليه بالإباء والإشفاق منها لتهويل أمرها وتربية فخامتها وعن قبولها بالحمل لتحقيق معنى الصعوبة المعتبرة فيها بجعلها من قبيل الأجسام الثقيلة، والمعنى أن تلك الأمانة في عظم الشأن بحيث لو كلفت هاتيك الأجرام العظام التي هي مثل في القوة والشدة مراعاتها وكانت ذات شعور وإدراك لأبين قبولها وخفن منها لكن صرف الكلام عن سننه بتصوير المفروض بصورة المحقق لزيادة تحقيق المعنى المقصود وتوضيحه. وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ أي هذا الجنس نحو: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات: 6] وإِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى [العلق: 6] وحمله إياها إما باعتبارها بالإضافة إلى استعداده أو بتكليفه إياها يوم الميثاق أي تكلفها والتزمها الجزء: 11 ¦ الصفحة: 270 مع ما فيه من ضعف البنية ورخاوة القوة، وهو إما عبارة عن قبولها بموجب استعداده الفطري أو عن القبول القولي يوم الميثاق، وتخصيص الإنسان بالذكر مع أن الجن مكلفون أيضا وكذا الملائكة عليهم السّلام وإن لم يكن في ذلك كلفة عليهم لما أنه ليس فيه ما يخالف طباعهم لأن الكلام معه، وقوله تعالى: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا اعتراض وسط بين الحمل وغايته للإيذان من أول الأمر بعدم وفائه بما تحمل، والتأكيد لمظنة التردد أي إنه كان مفرطا في الظلم مبالغا في الجهل أي بحسب غالب أفراده الذين لم يعملوا بموجب فطرتهم السليمة أو قبولهم السابق دون من عداهم من الذين لم يبدلوا فطرة الله تعالى تبديلا، ويكفي في صدق الحكم على الجنس بشيء وجوده في بعض أفراده فضلا عن وجوده في غالبها، وإلى الفريق الأول أشير بقوله تعالى: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ أي حملها الإنسان ليعذب الله تعالى بعض أفراده الذين لم يراعوها ولم يقابلوها بالطاعة على أن اللام للعاقبة فإن التعذيب وإن لم يكن غرضا من الحمل لكن لما ترتب عليه بالنسبة إلى بعض أفراده ترتب الأغراض على الأفعال المعلقة بها أبرز في معرض الغرض أي كان عاقبة حمل الإنسان لها أن يعذب الله تعالى هؤلاء من أفراده لخيانتهم الأمانة وخروجهم عن الطاعة بالكلية، وإلى الفريق الثاني أشير وبقوله سبحانه وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أي كان عاقبة حمله لها أن يتوب الله تعالى على هؤلاء من أفراده أي يقبل توبتهم لعدم خلعهم ربقة الطاعة عن رقابهم بالمرة وتلافيهم لما فرط منهم من فرطات قلما يخلو عنها الإنسان بحكم جبلته وتداركهم لها بالتوبة والإنابة والالتفات إلى الاسم الجليل أولا لتهويل الخطب وتربية المهابة، والإظهار في موضع الإضمار ثانيا لإبراز مزيد الاعتناء بأمر المؤمنين توفية لتكل من مقامي الوعيد والوعد حقه كذا قال بعض لأجلة في تفسير الآية. ووراء ذلك أقوال فقيل الأمانة الطاعة لأنها لازمة الوجود كما أن الأمانة لازمة الأداء والكلام تقرير الوعد الكريم الذي ينبىء عنه قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً بجعل تعظيم شأن الطاعة ذريعة إلى ذلك بأن من قام بحقوق مثل هذا الأمر العظيم الشأن وراعاه فهو جدير بأن يفوز بخير الدارين. وتعقب بأن جعل الأمانة التي شأنها أن تكون من جهته تعالى عبارة عن الطاعة التي هي من أفعال المكلفين التابعة للتكليف بمعزل عن التقريب وإن حمل الكلام على التقرير بالوجه الذي قرر يأباه وصف الإنسان بالظلم والجهل أولا وتعليل الحمل بتعذيب فريق والتوبة على فريق ثانيا، وقد يقال: مراد ذلك القائل أن الأمانة هي الطاعة من حيث أمره عزّ وجلّ بها وأن قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ إلخ على معنى أنه كان كذلك إن لم يراع حقها فتأمل. وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أن الأمانة الفرائض وروي نحوه عن سعيد بن جبير وهو غير ما ذكر أولا بناء على أن التكليفات الشرعية مراد بها المعنى المصدري دون اسم المفعول، وقيل: الصلاة فقد روي عن علي كرّم الله تعالى وجهه أنه كان إذا دخل وقت الصلاة اصفر وجهه الشريف وتغير لونه فسئل عن ذلك فقال: إنه دخل عليّ وقت أمانة عرضها الله تعالى على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وقد حملتها أنا مع ضعفي فلا أدري كيف أؤديها ، وحكى السفيري أنها الغسل من الجنابة، وقيل الصلاة والصيام والغسل من الجنابة فقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الأمانة ثلاث الصلاة والصيام والغسل من الجنابة» وفي رواية عن السدي والضحاك أنها أمانات الناس المعروفة والوفاء بالعهود. وقيل هي أن لا تغش مؤمنا ولا معاهدا في شيء قليل ولا كثير، وقيل: هي كلمة التوحيد لأنها المدار الأعظم للتكليفات الشرعية. وقيل هي الأعضاء والقوى، فقد أخرج ابن أبي الدنيا في الورع والحكيم الترمذي عن عبد الله بن عمر ورضي الله تعالى عنهما قال: «أول ما خلق الله تعالى من الإنسان فرجه ثم قال هذه أمانتي عندك فلا تضعها إلا في حقها فالفرج أمانة والسمع أمانة والبصر أمانة» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 271 ولا يخفى أن تفسير الأمانة في الآية بالأعضاء مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، والخبر المذكور إن صح لا يدل عليه، ومثله بل دونه بكثير أنها حروف التهجي ولا يكاد يقول به إلا أطفال المكاتب، وأقرب الأقوال المذكورة للقبول القول بأنها الفرائض أي من فعل وترك، وتخصيص شيء منها بالذكر في خبران صح لا يدل على أنه الأمانة في الآية لا غيره وكم يخص بعض أفراد العام بالذكر لنكتة، وقال أبو حيان: الظاهر أنها كل ما يؤتمن عليه من أمر ونهي وشأن دين ودنيا، ويعم هذا المعنى جميع ما تقدم، وفيها أقوال أخر ستأتي إن شاء الله تعالى، واختلفت كلمات الذاهبين إلى أنها الفرائض في تحقيق ما بعد فقيل الكلام على حذف مضاف والتقدير إنا عرضنا الأمانة على أهل السماوات إلخ. وحكي ذلك عن الجبائي وليس بشيء، وقيل الكلام على ظاهره وكذا العرض والإباء وذلك أنه عزّ وجلّ خلق للسماوات والأرض والجبال فهما وتمييزا فخيرت في الحمل فأبت وروي ذلك عن ابن عباس. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري عن ابن جريج قال: بلغني أن الله تعالى لما خلق السماوات والأرض والجبال قال: إني فارض فريضة وخالق جنة ونارا وثوابا لمن أطاعني وعقابا لمن عصاني فقالت السماوات خلقتني فسخرت في الشمس والقمر والنجوم والسحاب والريح فأنا مسخرة على ما خلقتني لا أتحمل فريضة ولا أبغي ثوابا ولا عقابا ونحو ذلك قالت الأرض والجبال، ويعلم مما ذكر أن الإباء لم يكن معصية لأنه لم يكن هناك تكليف بل تخيير، وأما كونها استحقرت أنفسها عن أن تكون محل الأمانة فلا ينفي عنهن العصيان بالإباء لو كان هناك تكليف بالحمل، وقيل: لا حذف والكلام من باب التمثيل على ما سمعت أولا. وذهب كثير إلى أن المراد بحملها التزام القيام بها وبالإنسان آدم عليه السّلام، واختلف في حمله إياها هل كان بعد عرضها عليه أو بدونه فقيل كان بعد العرض. فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم «أن الله تعالى عرض الأمانة على السماء الدنيا فأبت ثم التي تليها فأبت حتى فرغ منها ثم الأرضين ثم الجبال ثم عرضها على آدم عليه السّلام فقال نعم بين أذني وعاتقي» الخبر وقيل: بدونه. قال ابن الجوزي: لما خلق الله عزّ وجلّ آدم عليه السّلام ونفخ فيه الروح مثلت له الأمانة بصخرة ثم قال: للسماوات احملي هذه فأبت وقالت: إلهي لا طاقة لي بها وقال سبحانه: للأرض احمليها فقالت: لا طاقة بها لي وقال تعالى للجبال: احمليها فقالت: لا طاقة لي بها فأقبل آدم عليه السّلام فحركها بيده وقال لو شئت لحملتها فحملها حتى بلغت حقويه ثم وضعها على عاتقه فلما أهوى ليضعها نودي من جانب العز يا آدم مكانك لا تضعها فهذه الأمانة قد بقيت في عنقك وعنق أولادك إلى يوم القيامة ولكم عليها ثواب في حملها وعقاب في تركها ، وهذا ظاهر في أن الحمل على حقيقته وفي أن العرض على السماوات والأرض والجبال كان بمسمع من آدم عليه السّلام وإلى هذا ذهب ابن الأنباري، وفي بعض الآثار ما يدل على أن العرض عليهن قبل خلقه عليه السّلام. أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: لما خلق الله تعالى السماوات والأرض عرض عليهن الأمانة فلم يقبلنها فلما خلق آدم عليه السّلام عرضها عليه فقال: يا رب وما هي؟ قال سبحانه: هي إن أحسنت أجرتك وإن أسأت عذبتك قال: فقد تحملت يا رب فما كان بين أن تحملها إلى أن أخرج إلا قدر ما بين الظهر والعصر ، وكأني بك تختار من هذه الأقوال أن العرض على تقدير كونه بعد إعطاء الفهم والتمييز كان بمسمع من آدم عليه السّلام وأنه بعد أن سمع الإباء حملته الغيرة على الحمل، وربما يفضي بك هذا إلى اختيار القول بأنه حمل الأمانة بدون عرضها عليه كما هو ظاهر الآية وبه يتأكد وصفه بما وصف لكني لا أظنك تقول بصحة حديث تمثل الأمانة بصخرة وإن قلت بصحة تمثل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 272 المعاني بصور الأجسام كما ورد في حديث ذبح الموت وغيره، وأنا لا أميل إلى القول بأن المراد بالإنسان آدم عليه السّلام وإن كان أول أفراد الجنس ومبدأ سلسلتها لمكان إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا فإنه يبعد غاية البعد وصف صفي الله عزّ وجلّ بنص إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ [آل عمران: 33] بمزيد الظلم والجهل، وكون المعنى كان ظلوما جهولا بزعم الملائكة عليهم السّلام قول بارد، وحمله على معنى كان ظلوما لنفسه حيث حملها على ضعفه ما أبت الأجسام القوية حمله جهولا بقدر ما دخل فيه أو بعاقبة ما تحمل لا يزيل البعد، ولا استحسن كون المراد كان من شأنه لو خلي ونفسه ذلك كما قيل: الظلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عفة فلعلة لا يظلم إلا على القول بإرادة الجنس، وإخراج الكلام مخرج الاستخدام على نحو ما قالوا في عندي درهم ونصفه بعيد لفظا ومعنى، وقيل المراد بالأمانة مطلق الانقياد الشامل للطبيعي والاختياري وبعرضها استدعاؤه الذي يعم طلب الفعل من المختار وإرادة صدوره من غيره وبحملها الخيانة فيها والامتناع عن أدائها ومنه قولهم حامل الأمانة ومحتملها لمن لا يؤديها فتبرأ ذمته وأنشدوا: إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة ... وتحمل أخرى أخرجتك الودائع فيكون الإباء امتناعا من الخيانة وإتيانا بالمراد، فالمعنى أن هذه الأجرام مع عظمها وقوتها أبين الخيانة لأمانتنا وأتين بما أمرناهن به لقوله تعالى: أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: 11] وخانها الإنسان حيث لم يأت بما أمرناه به إنه كان ظلوما جهولا ولا يخفى بعده ولم نر في المأثور ما يؤيده، نعم إن العوام يقولون: إن الأرض لا تخون الأمانة حتى أنهم جرت عادتهم في بلادنا أنهم إذا أرادوا دفن ميت في مكان ولم يتيسر لهم وضعوه في قبر وقالوا حين الوضع مخاطبين الأرض: هذا أمانة عندك كذا شهرا أو كذا سنة وحثوا التراب عليه وانصرفوا فإذا نبشوا القبر قبل مضي المدة وجدوه كما وضعوه لم يتغير منه شيء فيخرجونه ويدفنونه حيث أرادوا وإذا بقي حتى تمضي المدة التي عينوها وجدوه متغيرا، وهذا أمر تواتر نقله لنا وهو مما يستبعده العقل، وإلى نحو هذا ذهب أبو إسحاق الزجاج إلا أنه قال: عرض الأمانة وضع شواهد الوحدانية في المصنوعات، ونقله عنه أبو حيان وذكر البيت المار آنفا لكنه تعقبه بأن الحمل فيه ليس نصا في الخيالة، وقيل المراد بالأمانة العقل أو التكليف وبعرضها عليهن اعتبارها بالإضافة إلى استعدادهن وبإبائهن الإباء الطبيعي الذي هو عدم اللياقة والاستعداد لها وبحمل الإنسان قابليته واستعداده لها وكونه ظلوما جهولا لما غلب عليه من القوة الغضبية الداعية للظلم والشهوية الداعية للجهل بعواقب الأمور، قيل وعليه ينتظم قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا مع ما قبله على أنه علته باعتبار حمل العقل عليه بمعنى إيداعه فيه لأجل إصلاح ما فيه من القوتين المحتاجتين إلى سلطان العقل الحاكم عليهما فكأنه قيل: حملناه ذلك لما فيه من القوى المحتاجة لقهره وضبطه، وكذا إذا أريد التكليف فإن معظم المقصود منه تعديل تلك القوى وكسر سورتها، ومن هنا قيل إنه أقرب للتحقيق، وقيل الأمانة تجلياته عزّ وجلّ بأسمائه الحسنى وصفاته تعالى العليا وعرضها عليهن وإباؤهن وحمل الإنسان كالمذكور آنفا. وقوله تعالى: «إنه كان ظلوما جهولا» تعليل للحمل مشار به إلى قوة استعداده، وقوله سبحانه: «ليعذب» تعليل للعرض على معنى عرضنا ذلك لتظهر تجلياتنا الجلالية والجمالية، ويشير إلى هذا قول العلامة الطيبي عليه الرحمة: إن الله تعالى خلق الخلق ليكون مظاهر أسمائه الحسنى وصفاته العليا فحامل معنى الكبرياء والعظمة السماوات والأرض والجبال من حيث كونها عاجزة عن حمل سائر الصفات لعدم استعدادها لقبولها ولذلك أبين أن يحملنها وأشفقن منها الجزء: 11 ¦ الصفحة: 273 وحملها الإنسان لقوة استعداده واقتداره لكونه ظلوما جهولا فاختص لذلك من بين سائر المخلوقات بقبول تجلي القهارية والتوابية والمغفرة وشاركها بقبول تجلي الرحمة وله النصيب الأوفر منها لقوة استعداده واقتداره، وهو مشرب صوفي كما لا يخفى وأنا اختار كون الأمانة كل ما يؤتمن عليه ويطلب حفظه ورعايته ولها أفراد كثيرة متفاوتة في جلالة القدر وإن عرضها على تلك الأجرام كان على وجه التخيير لهن في حملها لا الإلزام وأنهن خوطبن في ذلك وعقلن الخطاب والله عزّ وجلّ قادر على أن يخلق في كل ذرة من ذرات الكائنات الحياة والعلم كما خلقهما سبحانه في ذوي الألباب بل ذهب الفلاسفة إلى القول بثبوت النفوس والحركة الإرادية للأفلاك بل قال بعضهم نحو ذلك في الكواكب وأثبت الحركة الإرادية ونفي القواسر هناك وأن المراد بالإنسان الجنس وأن قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا في موضع التعليل للحمل. ووصف الجنس بصيغتي المبالغة لكثرة الأفراد المتصفة بالظلم والجهل منه وإن لم يكونا فيها على وجه المبالغة بل لا يخلو فرد من الأفراد عن الاتصاف بظلم ما وجهل ما، ولا يجب في وصف الجنس بصيغة المبالغة تحقق تلك الصفة في الأفراد كلا أو بعضا على وجه المبالغة، نعم إن تحقق ذلك فهو زيادة خير، كما فيما نحن فيه فإن أكثر أفراد الإنسان في غاية الظلم ونهاية الجهل، ولعل المراد بظلوم جهول من شأنه الظلم والجهل وأن قوله تعالى: لِيُعَذِّبَ إلخ متعلق بعرضنا على أنه تعليل له، وفي الكلام التفات لا يخفى، وتقديم التعذيب لأنه أوفق بصفتي الظلم والجهل، وقيل: لأن الأمانة من حكمها اللازم أن خائنها يضمن وليس من حكمها أن حافظها يؤجر، ومقابلة التعذيب بالتوبة دون الإثابة أو الرحمة للإشارة إلى أن في المؤمنين والمؤمنات من يصدر منه ما يصح أن يعذب عليه ومع ذلك لا يعذب، وفيه إشعار بأنه لا يعذب على كل ظلم وجهل وفي هذا من إدخال السرور على المؤمنين والكآبة على أضدادهم ما فيه، وأيضا أن ذلك أوفق بظاهر قوله تعالى: «إنه كان ظلوما جهولا» وقيل لم يعتبر بالإثابة لأنها علمت من قوله سبحانه: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً فعبر بما ذكر للتنبيه على أن ذلك بمحض الفضل وهو كما ترى، وقيل إن ذاك لأن التذييل متكفل بإفادة رحمتهم وإثابتهم. وقرأ الحسن كما ذكر صاحب اللوامح «ويتوب» بالرفع على الاستئناف وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أي مبالغا في المغفرة والرحمة حيث تاب على المؤمنين والمؤمنات وغفر لهم فرطاتهم وأثابهم بالفوز العظيم على طاعاتهم نسأل الله تعالى أن يتوب علينا ويغفر لنا ويثيبنا بالفوز العظيم إنه جل جلاله وعم نواله غفور رحيم. ومن باب الإشارة في آيات من هذه السورة الكريمة يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ إلخ فيه إشارة إلى عظم شأن التقوى وكذا شأن كل أمر ونهيى يتعلقان به عليه الصلاة والسّلام، وفيه أيضا إشارة إلى أنه لا ينبغي محبة أعداء الله عزّ وجلّ حيث نهى عن طاعتهم وهما كالمتلازمين ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ لأن موقعه في البدن موقع الرئيس في المملكة والحكمة تقتضي وحدة الرئيس، وفي الخبر إذا بويع خليفتان فاقتلوا أحدهما. وقيل: إن ذاك لتشعر وحدته في بدن الإنسان الذي هو العالم الأصغر المنطوي فيه العالم الأكبر بوحدة الله سبحانه في الوجود، وينبغي أن يعلم أن للقلب عندهم كما قال الصدر القونوي إطلاقين الأول إطلاقه على اللحم الصنوبري الشكل المعروف عند الخاصة والعامة والثاني إطلاقه على الحقيقة الجامعة بين الأوصاف والشؤون الربانية وبين الخصائص والأحوال الكونية الروحانية منها والطبيعة وهي تنشأ من بين الهيئة الاجتماعية الواقعة بين الصفات والحقائق الإلهية والكونية وما يشتمل عليه هذان الأصلان من الأخلاق والصفات اللازمة وما يتولد من بينهما بعد الارتياض والتزكية وظهور ذلك مما ذكر ظهور السواد بين العفص والزاج والماء وهذا هو القلب الذي أخبر عنه الحق على لسان نبيه صلّى الله عليه وسلم بقوله سبحانه: «ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن التقي النقي الوادع» وهو الجزء: 11 ¦ الصفحة: 274 محل نظر الحق ومنصة تجليه ومهبط أمره ومنزل تدليه واللحم الصنوبري أحقر من حيث صورته أن يكون محل سره جل وعلا فضلا عن أن يسعه سبحانه ويكون مطمح نظره الأعلى ومستواه، وادعوا أن تسمية ذلك الصنوبري الشكل بالقلب على سبيل المجاز باعتبار تسمية الصفة والحامل باسم الموصوف والمحمول «وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم» فيه أن الحقائق لا تنقلب وأن في القرابة النسبية خواص لا تكون في القرابة السببية فأين الأزواج من الأمهات والأدعياء من الأبناء فالأمهات أصول ولا كذلك الأزواج والأبناء فروع ولا كذلك الأدعياء، ومن هنا قيل: الولد سر أبيه، وقد أورده الشمس الفناري في مصباح الأنس حديثا بصيغة الجزم من غير عزو ولا سند ولا يصح ذلك عند المحدثين، وهو إشارة إلى الأوصاف والأخلاق والكمالات التي يحصلها الولد بالسراية من والده لا بواسطة توجه القلب إلى حضرة الغيب الإلهي وعالم المعاني فإنه باعتبار ذلك قد تحصل للولد أوصاف وأخلاق على خلاف حال والده، ومنه يظهر سر يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [الأنعام: 95، يونس: 31، الروم: 19] فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ فيه إشارة إلى أن للدين نوعا من الأبوة ولهذا قد يقع به التوارث النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ لأنه عليه الصلاة والسّلام يحب لهم فوق ما يحبون لها ويسلك بهم المسلك الذي يوصلهم إلى الحياة الأبدية وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ أي في الأزل إذ كانوا أعيانا ثابتة أو يوم الميثاق إذ صار لهم نوع تعين لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ سؤال تشريف لا تعنيف، والصدق على ما قالوا إن لا يكون في أحوالك شوب ولا في أعمالك عيب ولا في اعتقادك ريب، ومن أماراته وجود الإخلاص من غير ملاحظة المخلوق وتصفية الأحوال من غير مداخلة إعجاب وسلامة القول من المعاريض والتباعد عن التلبيس فيما بين الناس وإدامة التبري من الحول والقوة بل الخروج من الوجود المجازي شوقا إلى الوجود الحقيقي يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ إلخ طبق بعضهم ما تضمنته الآيات من قصة الأحزاب على ما في الأنفس ولا يخفى حاله، ومن غريب ما رأيت أن الشيخ محيي الدين قدس الله سره قسم الأولياء إلى أقسام وجعل منهم قسما يقال لهم اليثربيون وقال: هم قوم من الأولياء لا مقام لهم كما لسائر الأولياء وجعل قول المنافقين يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ إشارة إلى ذلك، وكم قول غريب لهذا الشيخ غفر الله تعالى له لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً لأنه عليه الصلاة والسّلام أكمل الخلق على الإطلاق وأحظى الناس بإشراق أنوار أخلاقه عليه الذين يرجون الله تعالى واليوم الآخر ويذكرونه عزّ وجلّ كثيرا لصقالة قلوبهم وقوة استعدادها لإشراق الأنوار وظهور الآثار مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ أي رجال كاملون، وقول بعضهم: أي متصرفون في الموجودات تصرف الذكور في الأناث كلام بشع تنقبض منه ككثير من كلام المتصوفة قلوب المقتفين للسلف الصالح. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا إلخ فيه إشارة إلى أن حب الدنيا وزينتها يكون سببا لمفارقة رسول الله صلّى الله عليه وسلم والبعد عن حضرته الشريفة وأن محبته عليه الصلاة والسّلام تكون سببا للأجر العظيم يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ إلخ فيه إشارة إلى تفاوت قبح المعاصي وحسن الطاعات باعتبار الأشخاص ومثل ذلك تفاوتها باعتبار الأماكن والأزمان وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ إشارة إلى مقام التسليم وأنه اللائق بالمؤمنين وهذا حكم مستمر على الأمة إلى يوم القيامة فلا ينبغي لأحد بلغه شيء عن الله عزّ وجلّ وعن رسوله صلّى الله عليه وسلم أن يختار لنفسه خلافه لإشعار ذلك باتهام الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسّلام. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 275 ولعل الإشارة في الآيات بعد ظاهرة لمن له أدنى التفات بيد أنهم أطالوا الكلام في الأمانة المذكورة في قوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ الآية فلنذكر بعضا من ذلك فنقول: قال الشيخ محيي الدين قدس سره في بلغة الغواص: إن الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض فأبين أن يحملنها هي السعة لمعرفة الله تعالى فلم يوجد في السماوات والأرض قبول لما قبله الإنسان بهذا التأليف الصوري إذ هو ثمرة العالم فهو يرى نفسه في العالم ويرى ربه سبحانه بالعالم الذي هو نفسه من حيث هو كل العالم فلذلك اتسع لما لم يسعه العالم ولذلك خصه سبحانه بالسعة حيث أخبر جل شأنه أنه لم يسعه سماواته ولا أرضه ووسعه قلب المؤمن من نوع الإنسان انتهى. وكأنه أراد بكونه وسع الحق سبحانه كونه مظهرا جامعا للأسماء والصفات على وجه لا ينافي تنزيه الحق جل جلاله، وهذا قريب مما ذكرناه في التفسير وقلنا إنه مشرب صوفي كما لا يخفي، وقال آخر: هي عبارة عن الفيض الإلهي بلا واسطة وحمله خاص بالإنسان لأن نسبته مع المخلوقات كنسبة القلب مع الشخص فالعالم شخص وقلبه الإنسان فكما أن القلب حامل للروح بلا واسطة وتسري منه بواسطة العروق والشرايين ونحوها إلى سائر البدن كذلك الإنسان حامل للفيض الإلهي بلا واسطة ويسري منه إلى ظاهر الكون وباطنه بواسطة ظاهره وباطنه من أعمال البدن والروح فظاهر العالم وباطنه معموران بظاهر الإنسان وباطنه وهذا سر الخلافة ومعنى كونه ظلوما أنه ظالم لنفسه حيث استعد لأن يحمل أمرا عظيما وكونه جهولا أنه جاهل بها حيث لم يعرف حقيقتها ولم يدرك منها سوى الصورة الحيوانية المتصفة بالصفات البهيمية من الأكل والشرب والنكاح وهاتان الصفتان في حق حاملي الأمانة ومؤدي حقها من حيث إنهما صارتا سببا لحمل الأمانة صفتا مدح وفي حق الخائنين صفتا ذم والشيء قد يكون ذما في حق شخص ومدحا في حق آخر، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل ومنه الاستمداد في فهم كلامه العزيز الجليل. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 276 سورة سباء مكية كما روي عن ابن عباس وقتادة، وفي التحرير هي مكية بإجماعهم، وقال ابن عطية: مكية إلا قوله تعالى: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [سبأ: 6] وروى الترمذي عن فروة بن مسيكة المرادي قال: أتيت النبي صلّى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله ألا أقاتل من أدبر من قومي الحديث، وفيه وأنزل في سبأ ما أنزل فقال رجل: يا رسول الله وما سبأ؟ الحديث. قال ابن الحصار هذا يدل على أن هذه القصة مدنية لأن مهاجرة فروة بعد إسلام ثقيف سنة تسع، ويحتمل أن يكون قوله وأنزل حكاية عما تقدم نزوله قبل هجرته فلا يأبى كونها مكية، وآياتها خمس وخمسون في الشامي وأربع وخمسون في الباقين، وما قيل خمس وأربعون سهو من قلم الناسخ، ووجه اتصالها بما قبلها أن الصفات التي أجريت على الله تعالى في مفتتحها مما يناسب الحكم التي في مختتم ما قبل من قوله تعالى: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ [الأحزاب: 73] إلخ. وأيضا قد أشير فيما تقدم إلى سؤال الكفار عن الساعة على جهة الاستهزاء وهاهنا قد حكي عنهم إنكارها صريحا والطعن بمن يقول بالمعاد على أتم وجه وذكر مما يتعلق بذلك ما لم يذكر هناك، وفي البحر أن سبب نزولها أن أبا سفيان قال لكفار مكة لما سمعوا لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ كأن محمدا يتوعدنا بالعذاب بعد أن نموت ويتخوفنا بالبعث واللات والعزى لا تأتينا الساعة أبدا ولا نبعث فقال الله تعالى قل يا محمد بلى وربي لتبعثن قاله مقاتل وباقي السورة تهديد لهم وتخويف، ومن هذا ظهرت المناسبة بين هذه السورة والتي قبلها انتهى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 277 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي له عزّ وجلّ خلقا وملكا وتصرفا بالإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة جميع ما وجد فيهما داخلا في حقيقتهما أو خارجا عنهما متمكنا فيهما فكأنه قيل: له هذا العالم بالأسر، ووصفه تعالى بذلك على ما قاله أبو السعود لتقرير ما أفاده تعليق الحمد المعرف بلام الحقيقة عند أرباب التحقيق بالاسم الجليل من اختصاص جميع أفراد المخلوقات به عزّ وجلّ ببيان تفرده تعالى واستقلاله بما يوجب ذلك وكون كل ما سواه سبحانه من الموجودات التي من جملتها الإنسان تحت ملكوته تعالى ليس لها في حد ذاتها استحقاق الوجود فضلا عما عداه من صفاتها بل كل ذلك نعم فائضة عليها من جهته عزّ وجلّ فما هذا شأنه فهو بمعزل من استحقاق الحمد الذي مداره الجميل الصادر عن القادر بالاختيار فظهر اختصاص جميع أفراده به تعالى، وفي الوصف بما ذكر أيضا إيذان بأنه تعالى المحمود على نعم الدنيا حيث عقب الحمد بما تضمن جميع النعم الدنيوية فيكون الكلام نظير قولك: احمد أخاك الذي حملك وكساك فإنك تريد به أحمده على حملانه وكسوته، وفي عطف قوله تعالى: وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ على الصلة كما هو الظاهر إيذان بأنه سبحانه المحمود على نعم الآخرة ليتلاءم الكلام، وفي تقييد الحمد فيه بأن محله الآخرة إيذان بأن محل الحمد الأول الدنيا لذلك أيضا فتفيد الجملتان أنه عزّ وجلّ المحمود على نعم الدنيا فيها وأنه تبارك وتعالى المحمود على نعم الآخرة فيها، وجوز أن يكون في الكلام صنعة الاحتباك وأصله الحمد لله إلخ في الدنيا وله ما في الآخرة والحمد فيها فأثبت في كل منهما ما حذف من الآخر، وقال أبو السعود: إن الجملة الثانية لاختصاص الحمد الأخروي به تعالى إثر بيان اختصاص الدنيوي به سبحانه على أن فِي الْآخِرَةِ متعلق بنفس الحمد أو بما تعلق به لَهُ من الاستقرار، وإطلاقه عن ذكر ما يشعر بالمحمود عليه ليس للاكتفاء بذكر كونه في الآخرة عن التعيين كما اكتفى فيما سبق بذكر كون المحمود عليه في الدنيا عن ذكر كون الحمد فيها أيضا بل ليعم النعم الأخروية كما في قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ [الزمر: 74] وقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ [فاطر: 35] وما يكون ذريعة إلى نيلها من النعم الدنيوية كما في قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا [الأعراف: 43] أي لما جزاؤه هذا النعيم من الإيمان والعمل الصالح. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 278 وأنت تعلم أن المتبادر إلى الذهن هو ما قرر أولا، والفرق بين الحمدين مع كون نعم الدنيا ونعم الآخرة بطريق التفضل أن الأول على نهج العبادة والثاني على وجه التلذذ والاغتباط، وقد ورد في الخبر أن أهل الجنة يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس، وقول الزمخشري: إن الأول واجب لأنه على نعمة متفضل بها والثاني ليس بواجب لأنه على نعمة واجبة الإيصال إلى مستحقها مبني على رأي المعتزلة على أن قوله: لأنه على نعمة واجبة الإيصال ليس على إطلاقه عندهم لأن ما يعطي الله تعالى العباد في الآخرة ليس مقصورا على الجزاء عندهم بل بعض ذلك تفضل وبعضه أجر، وتقديم الخبر في الجملة الثانية لتأكيد الحصر المستفاد من اللام على ما هو الشائع اعتناء بشأن نعم الآخرة، وقيل: للاختصاص لأن النعم الدنيوية قد تكون بواسطة من يستحق الحمد لأجلها ولا كذلك نعم الآخرة، وكأنه أراد لتأكيد الاختصاص أو بنى الأمر على أن الاختصاص المستفاد من اللام بمعنى الملابسة التامة لا الحصر كما فصله الفاضل اليمني، وأما أنه أراد لاختصاص الاختصاص فكما ترى، ويرد على قوله: ولا كذلك نعم الآخرة عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الإسراء: 79] فتأمل وَهُوَ الْحَكِيمُ الذي أحكم أمر الدارين ودبره حسبما تقتضيه الحكمة الْخَبِيرُ العالم ببواطن الأشياء ومكنوناتها ويلزم من ذلك علمه تعالى بغيرها، وعمم بعضهم من أول الأمر وما ذكر مبني على ما قاله بعض أهل اللغة من أن الخبرة تختص بالبواطن لأنها من خبر الأرض إذا شقها، وفي هذه الفاصلة إيذان بأنه تعالى كما يستحق الحمد لأنه سبحانه منعم يستحقه لأنه جل شأنه منعوت بالكمال الاختياري وتكميل معنى كونه تعالى منعما أيضا بأنه على وجه الحكمة والصواب وعن علم بموضع الاستحقاق والاستيجاب لا كمن يطلق عليه أنه منعم مجازا، وقوله تعالى: يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ إلخ استئناف لتفصيل بعض ما يحيط به علمه تعالى من الأمور التي نيطت بها مصالحهم الدينية والدنيوية، وجوز أن يكون تفسيرا لخبير، وأن يكون حالا من ضميره تعالى في لَهُ ما فِي السَّماواتِ فيكون لَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ اعتراضا بين الحال وصاحبها أي بعلم سبحانه ما يدخل في الأرض من المطر وَما يَخْرُجُ مِنْها من النبات قاله السدي. وقال الكلبي: ما يدخل فيها من الأموات وما يخرج منها من جواهر المعادن، والأولى التعميم في الموصولين فيشملان كل ما يلج في الأرض ولو بالوضع فيها وكل ما يخرج منها حتى الحيوان فإنه كله مخلوق من التراب. وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها أي من الملائكة قاله السدي والكلبي، والأولى التعميم فيشمل ما يَنْزِلُ المطر والثلج والبرد والصاعقة والمقادير ونحوها أيضا وَما يَعْرُجُ الأبخرة والأدخنة وأعمال العباد وأدعيتهم ونحوها أيضا، ويراد بالسماء جهة العلو مطلقا ولعل ترتيب المتعاطفات كما سمعت إفادة للترقي في المدح، وضمن العروج معنى السير أو الاستقرار على ما قيل فلذا عدي بفي دون إلى، وقيل: لا حاجة إلى اعتبار التضمين والمراد بما يعرج فيها ما يعرج في ثخن السماء ويعلم من العلم بذلك العلم بما يعرج إليها من باب أولى فتدبر، وقرأ علي كرّم الله تعالى وجهه والسلمي «ينزّل» بضم الياء وفتح النون وشد الزاي أي الله كذا في البحر. وفي الكشاف عن علي كرّم الله تعالى وجهه أنه قرأ «ننزّل» بالتشديد ونون العظمة وَهُوَ مع كثرة نعمته وسبوغ فضله الرَّحِيمُ الْغَفُورُ للمفرطين في أداء مواجب شكرها فهذا التذنيب مع كونه مقررا للخبرة مفصل لما أجمل في قوله سبحانه: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يعرف منه كيف كان كله نعمة وكالتبصر لأنواع النعم الكلية فكل منه ومن التذنيب السابق في موضعه اللاحق فلا تتوهم أن العكس أنسب. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ أرادوا بضمير المتكلم جنس البشر قاطبة لا أنفسهم أو معاصريهم فقط وبنفي إتيانها نفي وجودها بالكلية لا عدم حضورها مع تحقيقها في نفس الأمر، وإنما عبروا عنه بذلك لأنهم كانوا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 279 يوعدون بإتيانها، وقيل: لأن وجود الأمور الزمانية المستقبلة لا سيما أجزاء الزمان لا يكون إلا بالإتيان والحضور، وقيل: هو استبطاء لإتيانها الموعود بطريق الهزء والسخرية كقولهم: مَتى هذَا الْوَعْدُ؟ [الملك: 25] والأول أولى، والجملة قيل: معطوفة على ما قبلها عطف القصة على القصة وجعلها حالية غير ظاهر قُلْ بَلى رد لكلامهم وإثبات لما نفوه على معنى ليس الأمر إلا إتيانها، وقوله تعالى: وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ تأكيد له على أتم الوجوه وأكملها، وجاء القسم بالرب للإشارة إلى أن إتيانها من شؤون الربوبية، وأتى به مضافا إلى ضميره صلّى الله عليه وسلم ليدل على شدة القسم، وروى هارون كما قال ابن جني عن طليق قال: سمعت أشياخنا يقرؤون «ليأتينكم» بالياء التحتية وخرجت على أن الفاعل ضمير البعث لأن مقصودهم من نفي إتيان الساعة أنهم لا يبعثون، وقيل: الفاعل ضمير السَّاعَةُ على تأويلها باليوم أو الوقت. وتعقبه أبو حيان بأنه بعيد إذ لا يكون مثل هذا إلا في الشعر نحو: ولا أرض أبقل إبقالها وقوله تعالى: عالِمِ الْغَيْبِ بدل من المقسم به على ما ذهب إليه الحوفي وأبو البقاء، وجوز أن يكون عطف بيان، وأجاز أبو البقاء أن يكون صفة له. وتعقب بأنه صفة مشبهة وهي كما ذكره سيبويه في الكتاب لا تتعرف بالإضافة إلى معرفة والجمهور على أنها تتعرف بها ولذا ذهب جمع من الأجلة إلى أنه صفة ووصف سبحانه بإحاطة العلم إمدادا للتأكيد وتشديدا له إثر تشديد فإن عظمة حال المقسم به تؤذن بقوة حال المقسم عليه وشدة ثباته واستقامته لأنه بمنزلة الاستشهاد على الأمر وكلما كان المستشهد به أعلى كعبا وأبين فضلا وأرفع منزلة كانت الشهادة أقوى وآكد والمستشهد عليه أثبت وأرسخ، وخص هذا الوصف بالذكر من بين الأوصاف مع أن كل وصف يقتضي العظمة يتأتي به ذلك لما أن له تعلقا خاصا بالمقسم عليه فإنه أشهر إفراد الغيب في الخفاء ففيه مع رعاية التأكيد حسن الأقسام على منوال وثناياك أنها إغريض كأنه قيل: وربي العالم بوقت قيامها لتأتينكم، وفيه إدماج أن لا كلام في ثبوتها. وقال صاحب الفرائد: جيء بالوصف المذكور لأن إنكارهم البعث باعتبار أن الأجزاء المتفرقة المنتشرة يمتنع اجتماعها كما كانت يدل عليه قوله تعالى: قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ [ق: 4] الآية، فالوصف بهذه الأوصاف رد لزعمهم الاستحالة وهو أن من كان علمه بهذه المثابة كيف يمتنع منه ذلك انتهى، واستحسنه الطيبي، وقال في البحر: أتبع القسم بقوله تعالى: عالِمِ الْغَيْبِ وما بعده ليعلم أن إتيانها من الغيب الذي تفرد به عزّ وجلّ، وما ذكر أولا أبعد مغزى، وفائدة الأمر بهذه المرتبة من اليمين أن لا يبقى للمعاندين عذر ما أصلا فإنهم كانوا يعرفون أمانته صلّى الله عليه وسلم ونزاهته عن وصمة الكذب فضلا عن اليمين الفاجرة وإنما لم يصدقوه عليه الصلاة والسلام مكابرة، وغفل صاحب الفرائد عن هذه الفائدة فقال: اقتضى المقام اليمين لأن من أنكر ما قيل له فالذي وجب بعد ذلك إذا أريد إعادة القول له أن يكون مقترنا باليمين وإلا كان خطأ بالنظر إلى علم المعاني وإن كان صحيحا بالنظر إلى العربية والنحو وقد يغفل الأريب. وقرأ نافع وابن عامر ورويس وسلام والجحدري وقعنب «عالم» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو عالم، وجوز الحوفي أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي عالم الغيب هو، وجوز هو وأبو البقاء أن يكون مبتدأ والجملة بعده خبره. وقرأ ابن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي «علام» بصيغة المبالغة والخفض، وقرىء «عالم» بالرفع يكون بلا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 280 مبالغة «الغيوب» بالجمع لا يَعْزُبُ عَنْهُ أي لا يبعد ومنه روض عزيب بعيد من الناس. وقرأ الكسائي بكسر الزاي مِثْقالُ ذَرَّةٍ مقدار أصغر نملة فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ أي كائنة فيهما وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ أي مثقال ذرة وَلا أَكْبَرُ أي منه، والكلام على حد لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً ورفعهما على الابتداء والخبر قوله تعالى: إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ هو اللوح المحفوظ عند الأكثرين. والجملة مؤكدة لنفي العزوب، وقرأ الأعمش وقتادة وأبو عمرو ونافع في رواية عنهما وَلا أَصْغَرُ وَلا أَكْبَرُ بالنصب على أن لا لنفي الجنس عاملة عمل إن وما بعدها اسمها منصوب بها لأنه شبيه بالمضاف ولم ينون للوصف ووزن الفعل فليس ذلك نحو لا مانع لما أعطيت، والخبر هو الخبر على قراءة الجمهور، وقال أبو حيان: لا لنفي الجنس وهي وما بني معها مبتدأ على مذهب سيبويه والخبر إِلَّا فِي كِتابٍ وما ذكرناه في توجيه القراءتين هو الذي ذهب إليه كثير من الأجلة، وقيل: إن ذلك معطوف في قراءة الرفع على مِثْقالُ وفي القراءة الأخرى على ذَرَّةٍ والفتحة فيه نيابة عن الكسرة للوصف والوزن وإليه ذهب أبو البقاء واستشكل بأنه يصير المعنى عليه إذا كان الاستثناء متصلا كما هو الأصل لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين فإنه يعزب عنه فيه، وفساده ظاهر، والتزم السراج البلقيني على تقدير العطف المذكور أن يكون الاستثناء من محذوف والتقدير ولا شيء إلا في كتاب ثم قال: ولا بدع في حذف ما قدر لدلالة الكلام عليه، ويحصل من مجموع ذلك إثبات العلم لله تعالى بكل معلوم وأن كل شيء مكتوب في الكتاب، وقيل العطف على ما ذكر والاستثناء منقطع والمعنى لا يعزب عنه تعالى شيء من ذلك لكن هو في كتاب، وقيل العطف على ذلك والكلام نهج قوله: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب فالمعنى إن كان يعزب عنه شيء فهو الذي في كتاب مبين لكن الذي في الكتاب لا يعزب عنه فلا يعزب عنه شيء، وفيه من البعد ما فيه، وقيل: إن المراد بقوله تعالى: لا يَعْزُبُ إلخ أنه تعالى عالم به والمراد بقوله سبحانه: إِلَّا فِي كِتابٍ نحو ذلك لأن الكتاب هو علم الله تعالى، والمعنى وما يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء إلا يعلمه ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في علمه فيكون نظير قوله: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ [الأنعام: 59] وفيه أنه أبعد مما قبله، وقيل: يعزب بمعنى يظهر ويذهب والعطف على ما سمعت، والمعنى لم يظهر شيء عن الله تعالى بعد خلقه له ألا وهو مكتوب في اللوح المحفوظ، وتلخيصه كل مخلوق مكتوب، وفيه أن هذا المعنى ليعزب غير معروف وإنما المعروف ما تقدم، نعم قال الصغاني في العباب قال: أبو سعيد الضرير يقال ليس لفلان امرأة تعزبه أي تذهب عزبته بالنكاح مثل قولك تمرضه أي تقوم عليه في مرضه ثم قال الصغاني: والتركيب يدل على تباعد وتنح فتفسيره بالظهور بعيد ولئن سلمنا قربه فلأي شيء جمع بين الظهور والذهاب، وقيل إلا بمعنى الواو وهو مقدر في الكلام والكلام قد تم عند أَكْبَرُ كأنه قيل: لا يعزب عنه ذلك وهو في كتاب، ومجيء إلا بمعنى الواو ذهب إليه الأخفش من البصريين والفراء من الكوفيين. وخرج عليه قوم: يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ [النجم: 32] وخالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ [هود: 107] وقد حكي هذا القول مكي في نظير الآية ثم قال: وهو قول حسن لولا أن جميع البصريين لا يعرفون إلا بمعنى الواو كأنه لم يقف على قول الأخفش وهو من رؤساء نحاة البصرة أو لم يعتبره فلذا قال جميع البصريين، وقد كثر الكلام في هذا الوجه وارتضاه السراج البلقيني وأنا لا أراه مرضيا وإن أوقد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 281 له ألف سراج، وقيل العطف على ما سمعت وضمير عَنْهُ للغيب فلا إشكال إذ المعنى حينئذ لا يبعد عن غيبه شيء إلا ما كان في اللوح لبروزه من الغيب إلى الشهادة واطلاع الملأ الأعلى عليه. وتعقب بأن المعنى لا يساعده لأن الأمر الغيبي إذا برز إلى الشهادة لم يعزب عنه بل بقي في الغيب على ما كان عليه مع بروزه، ومعناه أن كونه في اللوح المحفوظ كناية عن كونه من جملة معلوماته تعالى وهي إما مغيبة وإما ظاهرة وكل مغيب سيظهر وإلا كان معدوما لا مغيبا وظهوره وقت ظهوره لا يرفع كونه مغيبا فلا يكون استثناء متصلا، ألا ترى أنك لو قلت علم الساعة مغيب عن الناس إلا علمهم بها حين تقوم ويشاهدونها لم يكن هذا الاستثناء متصلا كذا قيل فتأمل ولا تغفل. وأنت تعلم أن هذا الوجه على فرض عدم ورود ما ذكر عليه ضعيف لأن الظاهر الذي يقتضيه قوله تعالى: وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ الآية رجوع الضمير إلى الله عزّ وجلّ. والذي ذهب إليه أبو حيان أن الكتاب ليس هو اللوح وليس الكلام إلا كناية عن ضبط الشيء والتحفظ به وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ بكسر الراءين. وخرج علي أنه نوى مضاف إليه والتقدير ولا أصغره ولا أكبره، ومِنْ ذلِكَ ليس متعلقا بأفعل بل هو تبيين لأنه لما حذف المضاف إليه أبهم لفظا فبين بقوله تعالى من ذلك أي أعني من ذلك، ولا يخفى أنه توجيه شذوذ. لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ متعلق بقوله سبحانه: لَتَأْتِيَنَّكُمْ على أنه علة له وبيان لمقتضى إتيانها فهو من تتمة المقسم عليه، فحاصل الكلام أن الحكمة تقتضي إثباتها والعلم البالغ المحيط بالغيب وجميع الجزئيات جليها وخفيها حاصل والقدرة المقتضية لإيجاد العالم وما فيه وجعله نعمة على ما مر فقد تم المقتضى وارتفع المانع فليس في الآية اكتفاء في الرد بمجرد اليمين، واستظهر في البحر تعلقه بلا يعزب. وذهب إليه أبو البقاء وتعقب بأن علمه تعالى ليس لأجل الجزاء، وقيل متعلق بمتعلق فِي كِتابٍ وهو كما ترى. أُولئِكَ إشارة إلى الموصول من حيث اتصافه بما في حيز الصلة، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الفضل والشرف أي أولئك الموصوفون بالإيمان وعمل الأعمال الصالحات لَهُمْ بسبب ذلك مَغْفِرَةٌ لما فرط منهم من بعض فرطات قلما يخلو عنها البشر وَرِزْقٌ كَرِيمٌ حسن لا تعب فيه ولا من عليه وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا بالقدح فيها وصيد الناس عن التصديق بها مُعاجِزِينَ أي مسابقين يحسبون أنهم يفوتوننا قاله قتادة، وقال عكرمة: مراغمين، وقال ابن زيد: مجاهدين في إبطالها. وقرأ جمع «معجزين» مخففا، وابن كثير وأبو عمرو والجحدري وأبو السمال مثقلا، قال ابن الزبير: أي مثبطين عن الإيمان من أراده مدخلين عليه العجز في نشاطه، وقيل معجزين قدرة الله عزّ وجلّ في زعمهم. أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر وفيه إشارة إلى بعد منزلتهم في الشر لَهُمْ بسبب ذلك عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أي من سيء العذاب وأشده، ومن للبيان أَلِيمٌ بالرفع صفة عَذابٌ وقرأ أكثر السبعة بالجر على أنه صفة مؤكدة لرجز بناء على ما سمعت من معناه، وجعله بعضهم صفة مؤسسة له بناء على أن الرجز كما روي عن قتادة مطلق العذاب وجوز جعله صفة عَذابٌ أيضا والجر للمجاورة، والظاهر أن الموصول مبتدأ والخبر جملة أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ وجوز أن يكون في محل نصب عطفا على الموصول قبله أي ويجزي الذين سعوا وجملة أُولئِكَ لَهُمْ إلخ التي بعده مستأنفة والتي قبله معترضة. وفي البحر يحتمل على تقدير العطف على الموصول أن تكون الجملتان الجزء: 11 ¦ الصفحة: 282 المصدرتان بأولئك هما نفس الثواب والعقاب، ويحتمل أن يكونا مستأنفين والثواب والعقاب غير ما تضمنتا مما هو أعظم كرضا الله تعالى عن المؤمن دائما وسخطه على الكافر دائما، وفيه أنه كيف يتأتى حمل ذلك على رضا الله تعالى وضده وقد صرح أولا بالمغفرة والرزق الكريم وفي مقابله بالعذاب الأليم وجعل الأول جزاء. وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي ويعلم أولو العلم من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومن يطأ أعقابهم من أمته عليه الصلاة والسلام أو من آمن من علماء أهل الكتاب كما روى عن قتادة كعبد الله بن سلام وكعب وأضرابهما رضي الله تعالى عنهم الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أي القرآن هُوَ الْحَقَّ بالنصب على أنه مفعول ثان ليرى والمفعول الأول هو الموصول الثاني وهُوَ ضمير الفصل. وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع على جعل الضمير مبتدأ وجعله خبرا والجملة في موضع المفعول الثاني ليرى وهي لغة تميم يجعلون ما هو فصل عند غيرهم مبتدأ، وقوله تعالى: وَيَرَى إلخ ابتداء كلام غير معطوف على ما قبله مسوق للاستشهاد بأولي العلم على الجهلة الساعين في الآيات. وفي الكشف هو عطف على قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ على معنى وقال الجهلة: لا ساعة وعلم أولى العلم أنه الحق الذي نطق به المنزل إليك الحق. وتعقب بأنه تكلف بعيد فإن دلالة النظم الكريم على الاهتمام بشأن القرآن لا غير، وقيل عليه: أنت خبير بأن ما قبله من قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ وقوله سبحانه: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ إلخ في شأن الساعة ومنكري الحشر فكيف يكون ما ذكر بعيدا بسلامة الأمير فذكر حقية القرآن بطريق الاستطراد والمقصود بالذات حقية ما نطق به من أمر الساعة، وقال الطبري والثعلبي: إن يَرَى منصوب بفتحة مقدرة عطفا على يجزي أي وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة معاينة أنه الحق حسبما علموه قبل برهانا ويحتجوا به على المكذبين وعليه فقوله تعالى: وَالَّذِينَ سَعَوْا معطوف على الموصول الأول أو مبتدأ والجملة معترضة فلا يضر الفصل كما توهم، وجوز أن يراد بأولى العلم من لم يؤمن من الأحبار أي ليعلموا يومئذ أنه هو الحق فيزدادوا حسرة وغما. وتعقب بأن وصفهم بأولى العلم يأباه لأنه صفة مادحة ولعل المجوز لا يسلم هذا، نعم كون ذلك بعيدا لا ينكر لا سيما وظاهر المقابلة بقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا يقتضي الحمل على المؤمنين وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الذي يقهر ولا يقهر الْحَمِيدِ المحمود في جميع شؤونه عزّ وجلّ، والمراد بصراطه تعالى التوحيد والتقوى، وفاعل يهدي إما ضمير الَّذِي أُنْزِلَ أو ضمير الله تعالى ففي الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ التفات، والجملة على الأول إما مستأنفة أو في موضع الحال من الَّذِي على إضمار مبتدأ أي وهو يهدي كما في قوله: نجوت وأرهنهم مالكا أو معطوفة على الْحَقَّ بتقدير وإنه يهدي وجوز أن يكون يهدي معطوفا على الْحَقَّ عطف الفعل على الاسم لأنه في تأويله كما في قوله تعالى: صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ [الملك: 19] أي قابضات وبعكسه قوله: وألفيته يوما يبير عدوه ... وبحر عطاء يستحق المعابرا وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هم كفار قريش قالوا مخاطبا بعضهم لبعض على جهة التعجب والاستهزاء هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يعنون به النبي صلّى الله عليه وسلم والتعبير عنه عليه الصلاة والسلام بذلك من باب التجاهل كأنهم لم يعرفوا منه صلّى الله عليه وسلم إلا أنه رجل وهو عليه الصلاة والسلام عندهم أظهر من الشمس: وليس قولك من هذا بضائره ... العرب تعرف من أنكرت والعجم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 283 يُنَبِّئُكُمْ يحدثكم بأمر مستغرب عجيب. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «ينبيكم» بإبدال الهمزة ياء محضة وحكي عنه «ينبئكم» بالهمز من أنبأ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ إذا شرطية وجوابها محذوف لدلالة ما بعده عليه أي تبعثون أو تحشرون وهو العامل في إذا على قول الجمهور والجملة الشرطية بتمامها معمولة لينبئكم لأنه في معنى يقول لكم إذا مزقتم كل ممزق تبعثون ثم أكد ذلك بقوله تعالى: إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ وجوز أن يكون «إنكم لفي خلق جديد» معمولا لينبئكم وهو معلق ولولا اللام في خبر إن لكانت مفتوحة والجملة سدت مسد المفعولين والشرطية على هذا اعترض، وقد منع قوم التعليق في باب أعلم والصحيح جوزه وعليه قوله: حذار فقد نبئت أنك للذي ... ستجزى بما تسعى فتسعد أو تشقى وجوز أن تكون إذ المحض الظرفية فعاملها الذي دل عليه ما بعد يقدر مقدما أي تبعثون أو تحشرون إذا مزقتم، ولا يجوز أن يكون العامل نَدُلُّكُمْ أو يُنَبِّئُكُمْ لعدم المقارنة ولا مُزِّقْتُمْ لأن إذا مضافة إليه والمضاف إليه لا يعمل في المضاف. ولا خلق ولا جديد لأن إن لها الصدر فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها. وقال الزجاج: إذا في موضع النصب بمزقتم وهي بمنزلة من الشرطية يعمل فيها الذي يليها، وقال السجاوندي: العامل محذوف وما بعدها إنما يعمل فيها إذا كان مجزوما بها وهو مخصوص بالضرورة نحو. وإذا تصبك خصاصة فتجمل. فلا يخرج عليه القرآن فإذا لم تجزم كانت مضافة إلى ما بعدها والمضاف إليه لا يعمل في المضاف. وقال أبو حيان: الصحيح أن العامل فيها فعل الشرط كسائر أدوات الشرط، وتمام الكلام على ذلك في كتب النحو، وممزق مصدر جاء على زنة اسم المفعول كمسرح في قوله: ألم تعلم مسرّحي القوافي ... فلا عيّا بهن ولا اجتلابا وتمزيق الشيء تخريقه وجعله قطعا قطعا ومنه قوله: إذا كنت مأكولا فكن خير آكل ... وإلا فأدركني ولما أمزق والمراد إذا متم وفرقت أجسادكم كل تفريق بحيث صرتم رفاتا وترابا، ونصب كُلَّ على المصدرية. وجوز أن يكون اسم مكان فنصب كل على الظرفية لأن لها حكم ما تضاف إليه أي إذا فرقت أجسادكم في كل مكان من القبور وبطون الطير والسباع وما ذهبت به السيول كل مذهب وما نسفته الرياح فطرحته كل مطرح، وجَدِيدٍ فعيل بمعنى فاعل عند البصريين من جد الشيء إذا صار جديدا وبمعنى مفعول عند الكوفيين من جده إذا قطعه ثم شاع في كل جديد وإن لم يكن مقطوعا كالبناء، والسبب في الخلاف أنهم رأوا العرب لا يؤنثونه ويقولون ملحفة جديد لا جديدة فذهب الكوفيون إلى أنه بمعنى مفعول والبصريون إلى خلافه وقالوا ترك التأنيث لتأويله بشيء جديد أو لحمله على فعيل بمعنى مفعول كذا قيل: أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فيما ينسب إليه من أمر البعث أَمْ بِهِ جِنَّةٌ أي جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه، واستدل به أبو عمرو الجاحظ على ما ذهب إليه من أن صدق الخبر مطابقته للواقع مع الاعتقاد وكذبه عدمها معه وغيرهما ليس بصدق ولا كذب، وذلك أن الكفار وهم عقلاء من أهل اللسان عارفون باللغة حصروا أخبار النبي صلّى الله عليه وسلم بالبعث في الافتراء والأخبار حال الجنة على سبيل منع الخلو بالمعنى الأعم ولا شك أن المراد بالثاني غير الكذب لأنه قسيمه وغير الصدق لأنهم اعتقدوا عدمه، وأيضا لا دلالة لقولهم: أَمْ بِهِ جِنَّةٌ على معنى أم صدق بوجه من الوجوه فيجب أن يكون بعض الخبر ما ليس بصادق ولا كاذب ليكون ذلك منه بزعمهم وإن كان صادقا في نفس الأمر، وتوضيحه أن ظاهر كلامهم هذا يدل على طلب تعيين أحد حالي النبي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 284 صلّى الله عليه وسلم المستويين في اعتقاد المتكلم حين الإخبار بالبعث وهو يستلزم تعيين أحد حالي الخبر والاستفهام هاهنا للتقرير فيفيد ثبوت أحد الحالين للخبر ولا شك أن ثبوت أحدهما لا يثبت الواسطة ما لم يعتبر تنافيهما وكذا تنافيهما في الجمع لا يثبتها بل لا بدّ من تنافيهما في الارتفاع يعني أن خبره عليه الصلاة والسلام بالبعث لا يخلو عن أحد الأمرين المتنافيين فيكون المراد بالثاني ما هو مناف وقسيم للأول ومعلوم أنه غير الصدق فليس الصدق عبارة عن مطابقة الواقع فقط والكذب عن عدم المطابقة له كما يقول الجمهور أو عن مطابقة الاعتقاد له وعدم مطابقته له كما يقول النظام فيكونان عبارتين عن مطابقتهما وعدم مطابقتهما وتثبت الواسطة. وأجيب بأن معنى أَمْ بِهِ جِنَّةٌ أم لم يفتر فعبر عن عدم الافتراء بالجنة لأن المجنون يلزمه أن لا افتراء له كما دل عليه نقل الأئمة واستعمال العرب الكذب عن عمد ولا عمد للمجنون فالثاني ليس قسيما للكذب بل لما هو أخص منه أعني الافتراء فيكون ذلك حصرا للخبر الكاذب بزعمهم في نوعيه الكذب عن عمد والكذب لا عن عمد ولو سلم أن الافتراء بمعنى الكذب مطلقا فالمعنى أقصد الافتراء أي الكذب أم لم يقصد بل كذب بلا قصد لما به من الجنة. وقيل: المعنى افترى أم لم يفتر بل به جنون وكلام المجنون ليس بخبر لأنه لا قصد له يعتد به ولا شعور فيكون مرادهم حصره في كونه خبرا كاذبا أو ليس بخبر فلا يثبت خبر لا يكون صادقا ولا كاذبا، ونوقش فيه كما لا يخفى على من راجع كتب المعاني. بقي هاهنا بحث وهو أن الطيبي أشار إلى أن مبنى الاستدلال كون أَمْ متصلة واعترضه بأن الظاهر كونها منقطعة أما لفظا فلاختلاف مدخول الهمزة وأم وأما معنى فلأن الكفرة المعاندين لما أخرجوا قولهم هل ندلكم على رجل ينبئكم مخرج الظن والسخرية متجاهلين برسول الله صلّى الله عليه وسلم وبكلامه من إثبات الحشر والنشر وعقبوه بقولهم أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أضربوا عنه إلى ما هو أبلغ منه ترقيا من الأهون إلى الأغلظ من نسبة الجنون إليه وحاشاه صلّى الله عليه وسلم فكأنهم قالوا: دعوا حديث الافتراء فإن هاهنا ما هو أطعم منه لأن العاقل كيف يحدث بإنشاء خلق جديد بعد الرفات والتراب، ولما كان التعويل على ما بعد الاضراب من إثبات الجنون أوقع الاضراب الثاني في كلامه تعالى ردا لقولهم ونفيا للجنون عنه صلوات الله تعالى وسلامه عليه وإثباتا له فيهم إلى آخر ما قال، ولم يرتض ذلك صاحب الكشف فقال في كلام الكشاف إشارة إلى أن أم متصلة: وفائدة العدول عن الفعل في جن إيماء إلى أن الثابت هو ذلك الشق كأنه قيل: أعن افتراء هذا الكذب العجاب أم جنون، والتقابل لأن المجنون لا افتراء له فالاستدلال على الانقطاع بتخالف العديلين ساقط، وأما الترقي من الاتصال أيضا على ما لوح إليه بوجه الطف اهـ. وأنت تعلم أن ظاهر الاستدلال يقتضي الاتصال لكن قال الخفاجي: إن كون الاستدلال مبنيا على الاتصال غير مسلم فتأمل، والظاهر أفترى على الله كذبا أم به جنة من قول بعضهم لبعض. وفي البحر يحتمل أن يكون من كلام السامع المجيب لمن قال هل ندلكم ردد بين شيئين ولم يجزم بأحدهما لما في كل من الفظاعة. بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ إبطال من جهته تعالى لما قالوا بقسيميه وإثبات ما هو أشد وأفظع لهم ولذا وضع الذين لا يؤمنون موضع الضمير توبيخا لهم وإيماء إلى سبب الحكم بما بعده كأنه قيل: ليس الأمر كما زعموا بل هم في كمال اختلال العقل وغاية الضلال عن الفهم والإدراك الذي هو الجنون حقيقة وفيما يؤدي إليه ذلك من العذاب حيث أنكروا حكمة الله تعالى في خلق العالم وكذبوه عزّ وجلّ في وعده ووعيده وتعرضوا لسخطه سبحانه. وتقديم العذاب على ما يوجبه ويستتبعه للمسارعة إلى بيان ما يسوءهم ويفت في أعضادهم والأشعار بغاية سرعة ترتبه عليه كأنه يسابقه فيسبقه، ووصف الضلال بالبعيد الذي هو وصف الضال للمبالغة لأن ضلالهم إذا كان بعيدا في نفسه فكيف بهم أنفسهم. وقوله تعالى: أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 285 قيل: هو استئناف مسوق لتذكيرهم بما يعاينون مما يدل على كمال قدرته عزّ وجلّ وتنبيههم على ما يحتمل أن يقع من الأمور الهائلة في ذلك إزاحة لاستحالتهم الإحياء حتى قالوا ما قالوا فيمن أخبرهم به وتهديدا على ما اجترءوا عليه، والمعنى أعموا فلم ينظروا إلى ما أحاط بجوانبهم من السماء والأرض ولم يتفكروا أنهم أشد خلقا أم هي وأنا إن نشأ نخسف بهم الأرض كما خسفناها بقارون أو نسقط عليهم كسفا أي قطعا من السماء كما أسقطنا على أصحاب الأيكة لتكذيبهم بالآيات بعد ظهور البينات وهو تفسير ملائم للمقام إلا أن ربط قوله تعالى إن نشأ إلخ بما قبله بالطريق الذي ذكره بعيد. وفي البحر أنه تعالى وقفهم في ذلك على قدرته الباهرة وحذرهم إحاطة السماء والأرض بهم وكأن ثم حالا محذوفة أي أفلا يرون إلى ما يحيط بهم من سماء وأرض مقهورا تحت قدرتنا نتصرف فيه كما نريد إن نشأ نخسف بهم الأرض إلخ أو فلم ينظروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم محيطا بهم وهم مقهورون فيما بينه إن نشأ إلخ ولا يخلو عن شيء، وقال العلامة أبو السعود: إن قوله تعالى: أَفَلَمْ يَرَوْا إلخ استئناف مسوق لتهويل ما اجترءوا عليه من تكذيب آيات الله تعالى واستعظام ما قالوا في حقه عليه الصلاة والسلام وأنه من العظائم الموجبة لنزول أشد العقاب وحلول أفظع العذاب من غير ريث وتأخير، وقوله تعالى: إِنْ نَشَأْ إلخ بيان لما ينبىء عنه ذكر إحاطتهما بهم من المحذور المتوقع من جهتهما وفيه تنبيه على أنه لم يبق من أسباب وقوعه إلا تعلق المشيئة به أي فعلوا ما فعلوا من المنكر الهائل المستتبع للعقوبة فلم ينظروا إلى ما أحاط بهم من جميع جوانبهم بحيث لا مفر لهم عنه ولا محيص إن نشأ جريا على موجب جناياتهم نخسف إلخ، ولا يخفى أن فيه بعدا وضعف ربط بالنسبة إلى ما سمعت أولا مع أن ما بعد ليس فيه كثير ملائمة لما قبله عليه، ويخطر لي أن قوله تعالى: أَفَلَمْ يَرَوْا مسوق لتذكيرهم بأظهر شيء لهم بحيث إنهم يعاينونه أينما التفتوا ولا يغيب عن أبصارهم حيثما ذهبوا يدل على كمال قدرته عزّ وجلّ إزاحة لما دعاهم إلى ذلك الاستهزاء والوقيعة بسيد الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام من زعمهم قصور قدرته تعالى عن البعث والإحياء ضرورة أن من قدر على خلق تلك الاجرام العظام لا يعجزه إعادة أجسام هي كلا شيء بالنسبة إلى تلك الإجرام كما قال سبحانه: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس: 81] وفيه من التنبيه على مزيد جهلهم المشار إليه بالضلال البعيد ما فيه، وقوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر مما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض لَآيَةً أي لدلالة واضحة على كمال قدرة الله عزّ وجلّ وأنه لا يعجزه البعث بعد الموت وتفرق الأجزاء المحاطة بهما لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ أي راجع إلى ربه تعالى مطيع له جل شأنه لأن المنيب لا يخلو من النظر في آيات الله عزّ وجلّ والتفكر فيها كالتعليل لما يشعر به قوله سبحانه أَفَلَمْ يَرَوْا إلخ من الحث على الاستدلال بذلك على ما يزيح إنكارهم البعث وفيه تعريض بأنهم معرضون عن ربهم سبحانه غير مطيعين له جل وعلا وتخلص إلى ذكر المنيبين إليه تعالى على قول، وقوله تعالى: إِنْ نَشَأْ كالاعتراض جيء به لتأكيد تقصيرهم والتنبيه على أنهم بلغوا فيه مبلغا يستحقون به في الدنيا فضلا عن الأخرى نزول أشد العقاب وحلول أفظع العذاب وأنه لم يبق من أسباب ذلك إلا تعلق المشيئة به إلا أنها لم تتعلق لحكمة، وظني أنه حسن وتحتمل الآية غير ذلك والله تعالى أعلم بأسرار كتابه، وقيل: إن ذلك إشارة إلى مصدر يروا وهو الرؤية وذكر لتأويله بالنظر والمراد به الفكر، وقيل إشارة إلى ما تلي من الوحي الناطق بما ذكر. وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب وعيسى والأعمش وابن مصرف يشأ ويخسف ويسقط بالياء فيهن وأدغم الكسائي الفاء في الباء في يخسف بهم قال أبو علي: ولا يجوز ذلك لأن الباء أضعف في الصوت من الفاء فلا تدغم فيها وإن كانت الباء تدغم في الفاء نحو اضرب فلانا وهذا كما تدغم الباء في الميم نحو اضرب مالكا ولا تدغم الميم في الباء نحو اضمم بك لأن الباء انحطت عن الميم بفقد العنة التي فيها، وقال الزمخشري: قرأ الكسائي «يخسف بهم» بالإدغام وليست الجزء: 11 ¦ الصفحة: 286 بقوية، وأنت تعلم أن القراءة سنة متبعة ويوجد فيها الفصيح والأفصح وذلك من تيسير الله تعالى القرآن للذكر وما أدغم الكسائي إلا عن سماع فلا التفات إلى قول أبي علي ولا الزمخشري وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا أي آتيناه لحسن إنابته وصحة توبته فضلا أي نعمة وإحسانا، وقيل فضلا وزيادة على سائر الأنبياء المتقدمين عليه أو أنبياء بني إسرائيل أو على ما عدا نبينا صلّى الله عليه وسلم لأنه ما من فضيلة في أحد من الأنبياء عليهم السّلام إلا وقد أوتي عليه الصلاة والسلام مثلها بالفعل أو تمكن منها فلم يختر إظهارها أو على الأنبياء مطلقا وقد يكون في المفضول ما ليس في غيره، وقد انفرد عليه السّلام بما ذكر هاهنا، وقيل: أو على سائر الناس فيندرج فيه النبوة والكتاب والملك والصوت الحسن. وتعقب بأنه إن أريد أن كلا منها فضل لا يوجد في سائر الناس فعدم مثل ملكه وصوته محل شبهة وإن أريد المجموع من حيث هو نفيه أنه غير موجود في الأنبياء أيضا فلا وجه لتخصيصه بهذا الوجه. وأنا أرى الفضل لتفسير الفضل بالإحسان وتنكيره للتفخيم ومِنَّا أي بلا واسطة لتأكيد فخامته الذاتية بفخامته الإضافية كما في قوله تعالى: وآتَيْناهُ ... مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (1) وتقديمه على المفعول الصريح للاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ليتمكن في النفس عند وروده فضل تمكن، وذكر شؤون داود وسليمان عليهما السّلام هنا لمناسبة ذكر المنيب في قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لآية لكل عبد منيب كما أشرنا إليه، وقال أبو حيان: مناسبة قصتيهما عليهما السّلام لما قبلها هي أن أولئك الكفار أنكروا البعث لاستحالته في زعمهم فأخبروا بوقوع ما هو مستحيل في العادة مما لا يمكنهم إنكاره إذ طفحت ببعضه أخبارهم وأشعارهم، وقيل: ذكر سبحانه نعمته عليهما احتجاجا على ما منح نبينا صلّى الله عليه وسلم كأنه قيل: لا تستبعدوا هذا فقد تفضلنا على عبيدنا قديما بكذا وكذا فلما فرغ التمثيل له عليه الصلاة والسّلام رجع التمثيل لهم بسبا وما كان من هلاكهم بالكفر والعتو يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ أي سبحي معه قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد، وأخرجه ابن جرير عن أبي ميسرة إلا أنه قال: معناه ذلك بلغة الحبشة، والظاهر أنه عربي من التأويب والمراد رجعي معه التسبيح وردديه، وقال ابن عطية: إن أصل ماضيه آب وضعف للمبالغة. وتعقبه في البحر بقوله ويظهر أن التضعيف للتعدية لأن آب بمعنى رجع لازم صلته اللام فعدي بالتضعيف إذ شرحوه بقولهم رجعي معه التسبيح. يروى أنه عليه السّلام كان إذا سبح سبحت الجبال مثل تسبيحه بصوت يسمع منها ولا يعجز الله عزّ وجلّ أن يجعلها بحيث تسبح بصوت يسمع وقد سبح الحصى في كف نبينا عليه الصلاة والسّلام وسمع تسبيحه وكذا في كف أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ولا يبعد على هذا أن يقال: إنه تعالى خلق فيها الفهم أولا فناداها كما ينادى أولو الفهم وأمرها، وقال بعضهم: إنه سبحانه نزل الجبال منزلة العقلاء الذين إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا إشعارا بأنه ما من حيوان وجماد إلا وهو منقاد لمشيئته تعالى غير ممتنع على إرادته سبحانه ودلالة على عزة الربوبية وكبرياء الألوهية حيث نادى الجبال وأمرها، وقيل: المراد بتأويبها حملها إياه على التسبيح إذا تأمل ما فيها، وفيه مع كونه خلاف المأثور أن مَعَهُ يأباه، وأيضا لا اختصاص له عليه السّلام بتأويب الجبال بهذا المعنى حتى يفضل به أو يكون معجزة له، وقيل: كان عليه السّلام ينوح على ذنبه بترجيع وتحزين وكانت الجبال تسعده بأصدائها. وفيه أن الصدى ليس بصوت الجبال حقيقة وإنما هو من آثار صوت المتكلم على ما قام عليه البرهان، والله تعالى نادى الجبال وأمرها أن تؤوب معه، وأيضا أي اختصاص له عليه الصلاة والسّلام بذلك ولصوت كل أحد صدى عند الجبال،   (1) نص الآية 22 من سورة يوسف آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً ونص الآية 65 من سورة الكهف آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 287 وعن الحسن أن معنى أَوِّبِي مَعَهُ سيري معه أين سار، والتأويب سير النهار كأن الإنسان يسير الليل ثم يرجع السير بالنهار أي يردده. ومن ذلك قول تميم بن مقبل: لحقنا بحي أوبوا السير بعد ما ... دفعنا شعاع الشمس والطرف يجنح وقول آخر: يومان يوم مقامات وأندية ... ويوم سير إلى الأعداء تأويب وأورد عليه أن الجبال أوتاد الأرض ولم ينقل سيرها مع داود عليه السّلام أو غيره، وقيل: المعنى تصرفي معه على ما يتصرف فيه فكانت إذا سبح سبحت وإذا ناح ناحت وإذا قرأ الزبور قرأت. وتعقب بأنه لم يعرف التأويب بمعنى التصرف في لغة العرب، وقيل: المعنى ارجعي إلى مراده فيما يريد من حفر واستنباط أعين واستخراج معدن ووضع طريق، والجملة معمولة لقول مضمر أي قولنا يا جبال على أنه بدل من فَضْلًا بدل كل من كل أو بدل اشتمال أو قلنا يا جبال على أنه بدل من آتَيْنا وجوز كونه بدلا من فَضْلًا بناء على أنه يجوز إبدال الجملة من المفرد، وجوز أبو حيان الاستئناف وليس بذاك. وقرأ ابن عباس والحسن وقتادة وابن أبي إسحاق «أوبي» بضم الهمزة وسكون الواو أمر من الأوب وهو الرجوع وفرق بينهما الراغب بأن الأوب لا يقال إلا في الحيوان الذي له إرادة والرجوع يقال فيه وفي غيره. والمعنى على هذه القراءة عند الجمهور ارجعي معه في التسبيح وأمر الجبال كأمر الواحدة المؤنثة لأن جمع ما لا يعقل يجوز فيه ذلك، ومنه يا خيل الله اركبي وكذا مَآرِبُ أُخْرى [طه: 18] وقد جاء ذلك في جمع من يعقل من المؤنث قال الشاعر: تركنا الخيل والنعم المفدى ... وقلنا للنساء بها أقيمي لكن هذا قليل وَالطَّيْرَ بالنصب وهو عند أبي عمرو بن العلاء بإضمار فعل تقديره وسخرنا له الطير وحكى أبو عبيدة عنه أن ذاك بالعطف على فَضْلًا ولا حاجة إلى الإضمار لأن إيتاءها إياه عليه السّلام تسخيرها له، وذكر الطيبي أن ذلك كقوله: علفتها تبنا وماء باردا وقال الكسائي: بالعطف أيضا إلا أنه قدر مضافا أي وتسبيح لطير ولا يحتاج إليه، وقال سيبويه: الطير معطوف على محل جِبالُ نحو قوله: ألا يا زيد والضحاك سيرا بنصب الضحاك، ومنعه بعض النحويين للزوم دخول يا على المنادى المعرف بأل. والمجيز يقول: رب شيء يجوز تبعا ولا يجوز استقلالا، وقال الزجاج: هو منصوب على أنه مفعول معه. وتعقبه أبو حيان بأنه لا يجوز لأن قبله مَعَهُ ولا يقتضي اثنين من المفعول معه إلا على البدل أو العطف فكما لا يجوز جاء زيد مع عمرو مع زينب إلا بالعطف كذلك هذا، وقال الخفاجي: لا يأباه مَعَهُ سواء تعلق بأوبي على أنه ظرف لغو أو جعل حالا لأنهما معمولان متغايران إذ الظرف والحال غير المفعول معه وكل منها باب على حده وإنما الموهم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 288 لذلك لفظ المعية فما اعترض به أبو حيان غير متوجه وإن ظن كذلك، وأقبح من الذنب الاعتذار حيث أجيب بأنه يجوز أن يقال حذفت واو العطف من قوله تعالى: وَالطَّيْرَ استثقالا لاجتماع الواوين أو اعتبر تعلق الثاني بعد تعلق الأول. وقرأ السلمي وابن هرمز وأبو يحيى وأبو نوفل ويعقوب وابن أبي عبلة وجماعة من أهل المدينة وعاصم في رواية «والطير» بالرفع وخرج على أنه معطوف على جِبالُ باعتبار لفظه وحركته لعروضها تشبه حركة الإعراب ويغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع، وقيل معطوف على الضمير المستتر في أَوِّبِي وسوغ ذلك الفصل بالظرف، وقيل: هو بتقدير ولتؤوب الطير نظير ما قيل في قوله تعالى: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة: 35، الأعراف: 19] . وقيل: هو مرفوع بالابتداء والخبر محذوف أي والطير تؤوب وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ وجعلناه في يده كالشمع والعجين يصرفه كما يشاء من غير نار ولا ضرب مطرقة قاله السدي وغيره، وقيل: جعلناه بالنسبة إلى قوته التي آتيناها إياه لينا كالسمع بالنسبة إلى قوى سائر البشر أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ أَنِ مصدرية وهي على إسقاط حرف الجر أي ألنا له الحديد لعمل سابغات أو وأمرناه بعمل سابغات، والأول أولى، وأجاز الحوفي وغيره أن تكون مفسرة ولما كان شرط المفسرة أن يتقدمها معنى القول دون حروفه وألنّا ليس فيه ذلك قدر بعضهم قبلها فعلا محذوفا فيه معنى القول ليصح كونها مفسرة أي وأمرناه أن أعمل أي أي أعمل، وأورد عليه أن حذف المفسر لم يعهد، والسابغات الدروع وأصله صفة من السبوغ وهو التمام والكمال فغلب على الدروع كالأبطح قال الشاعر: لا سابغات ولا جأواء باسلة ... تقي المنون لدى استيفاء آجال ويقال سوابغ أيضا كما في قوله: عليها أسود ضاريات لبوسهم ... سوابغ بيض لا تخرقها النبل فلا حاجة إلى تقدير موصوف أي دروعا سابغات، ولا يرد هذا نقصا على ما قيل إن الصفة ما لم تكن مختصة بالموصوف كحائض لا يحذف موصوفها. وقرىء «صابغات» بإبدال السين صادا لأجل الغين. وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ السرد نسج في الأصل كما قال الراغب خرز ما يخشن ويغلظ قال الشماخ: فظلت سراعا خيلنا في بيوتكم ... كما تابعت سرد العنان الخوارز واستعير لنظم الحديد وفي البحر هو اتباع الشيء بالشيء من جنسه ويقال للدرع مسرودة لأنه توبع فيها الحلق بالحلق قال الشاعر: وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تبع ولصانعها سراد وزراد بإبدال السين زايا، وفسره هنا غير واحد بالنسج وقال: المعنى اقتصد في نسج الدروع بحيث تتناسب حلقها، وابن عباس فيما أخرجه عنه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق بالحلق أي اجعل حلقها على مقادير متناسبة، وقال ابن زيد: لا تعملها صغيرة فتضعف فلا يقوى الدرع على الدفاع ولا كبيرة فينال صاحبها من خلالها، وجاء في رواية أخرى عن ابن عباس تفسيرها بالمسامير وروي ذلك عن قتادة ومجاهد أي قدر مساميرها فلا تعملها دقاقا ولا غلاظا أي اجعلها على مقدار معين دقة وغيرها مناسبة للثقب الذي هيىء لها في الحلقة فإنها إن كانت دقيقة اضطربت فيها فلم تمسك طرفيها وإن كانت غليظة خرقت طرف الحلقة الموضوعة فيه فلا تمسك أيضا، ويبعد هذا أن إلانة الحديد له عليه السّلام بحيث كان كالشمع والعجين يغني عن التسمير فإنه بعد جمع الحلق وإدخال بعضه في بعض يزال انفصال طرفي كل حلقة يمزج الطرفين كما يمزج طرفا حلقة من شمع أو عجين والاحكام بذلك أتم من الأحكام بالتسمير بل لا يبقى معه حاجة إلى التسمير أصلا فلعله إن صح مبني على أنه عليه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 289 السّلام كان يعمل الحلق من غير مزج لطرفي كل فيسمر للاحكام بعد إدخال بعضه في بعض، ويظهر ذلك على التفسير الثاني لقوله تعالى: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ إذ غاية القوة كسر الحديد كما يريد من غير آلة دون وصل بعضه ببعض، ولا يعارض ذلك ما نقل عن البقاعي أنه قال: أخبرنا بعض من رأى ما نسب إلى داود عليه السّلام من الدروع أنه بغير مسامير فإنه نقل عن مجهول فلا يلتفت لمثله، وقيل معنى قَدِّرْ فِي السَّرْدِ لا تصرف جميع أوقاتك فيه بل مقدار ما يحصل به القوت وأما الباقي فاصرفه إلى العبادة قيل وهو الأنسب بالأمر الآتي، وحكي أنه عليه السّلام أول من صنع الدرع حلقا وكانت قبل صفائح وروي ذلك عن قتادة. وعن مقاتل أنه عليه السّلام حين ملك على بني إسرائيل يخرج متنكرا فيسأل الناس عن حاله فعرض له ملك في صورة إنسان فسأله فقال: نعم العبد لولا خلة فيه فقال وما هي؟ قال: يرزق من بيت المال ولو أكل من عمل يده تمت فضائله فدعا الله تعالى أن يعلمه صنعة ويسهلها عليه فعلمه صنعة الدروع وألان له الحديد فأثرى وكان ينفق ثلث المال في مصالح المسلمين وكان يفرغ من الدرع في بعض يوم أو في بعض ليل وثمنها ألف درهم. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول. وابن أبي حاتم عن ابن شوذب قال: كان داود عليه السّلام يرفع في كل يوم درعا فيبيعها بستة آلاف درهم ألفان له ولأهله وأربعة آلاف يطعم بها بني إسرائيل الخبز الحواري ، وقيل: كان يبيع الدرع بأربعة آلاف فينفق منها على نفسه وعياله ويتصدق على الفقراء، وفي مجمع البيان عن الصادق رضي الله تعالى عنه أنه عمل ثلاثمائة وستين درعا فباعها بثلاثمائة وستين ألف درهم فاستغنى عن بيت المال وَاعْمَلُوا صالِحاً خطاب لداود وآله عليهم السّلام وهم وإن لم يجر لهم ذكر يفهمون على ما قال الخفاجي التزاما من ذكره، وجوز أن يكون خطابا له عليه السّلام خاصة على سبيل التعظيم، وأيا ما كان فالظاهر أنه أمر بالعمل الصالح مطلقا، وليس هو على الوجه الثاني أمرا بعمل الدروع خالية من عيب. إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فأجازيكم به وهو تعليل للأمر أو لوجوب الامتثال به على وجه الترغيب والترهيب وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ أي وسخرنا له الريح، وقيل لِسُلَيْمانَ عطف على لَهُ في أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ والريح عطف على الْحَدِيدَ وإلانة الريح عبارة عن تسخيرها. وقرأ أبو بكر «الريح» بالرفع على أنه مبتدأ و «لسليمان» خبره والكلام على تقدير مضاف أي ولسليمان تسخير الريح، وذهب غير واحد إلى أنه مبتدأ ومتعلق الجار كون خاص هو الخبر وليس هناك مضاف مقدر أي ولسليمان الريح مسخرة، وعندي أن الجملة على القراءتين معطوفة على قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا إلخ عطف القصة على القصة، وقال ابن الشيخ: العطف على القراءة الأولى على أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ وكلتا الجملتين فعلية وعلى القراءة الثانية العطف على اسمية مقدرة دلت عليها تلك الجملة الفعلية لا عليها للتخالف فكأنه قيل: ما ذكرنا لداود ولسليمان الريح فإنها كانت له كالمملوك المختص بالمالك يأمرها بما يريد ويسير عليها حيثما يشاء، ثم قال: وإنما لم يقل ومع سليمان الريح لأن حركتها ليست بحركة سليمان بل هي تتحرك بنفسها وتحرك سليمان وجنوده بحركتها وتسير بهم حيث شاء وهذا على خلاف تأويب الجبال فإنه كان تبعا لتأويب داود عليه السّلام فلذا جيء هناك بمعه. وقرأ الحسن وأبو حيوة وخالد بن إلياس «الرياح» بالرفع جمعا غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ أي جريها بالغداة مسيرة شهر وجريها بالعشي كذلك، والجملة أما مستأنفة أو حال من الرِّيحَ ولا بدّ من تقدير مضاف في الخبر لأن الغدو والرواح ليس نفس الشهر وإنما يكونان فيه، ولا حاجة إلى تقدير في المبتدأ كما فعل مكي حيث قال: أي مسير غدوها مسيرة شهر ومسير رواحها كذلك لما لا يخفى، وقال ابن الحاجب في أماليه الفائدة في إعادة لفظ الشهر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 290 الأعلام بمقدار زمن الغدو وزمن الرواح والألفاظ التي تأتي مبينة للمقادير لا يحسن فيها الإضمار ألا ترى أنك تقول زنة هذا مثقال وزنة هذا مثقال فلا يحسن الإضمار كما لا يحسن في التمييز، وأيضا فإنه لو أضمر فالضمير إنما يكون لما تقدم باعتبار خصوصيته فإذا لم يكن له بذلك الاعتبار وجب العدول إلى الظاهر، ألا ترى أنك إذا أكرمت رجلا وكسوت ذلك الرجل بخصوصه لكانت العبارة أكرمت رجلا وكسوته ولو أكرمت رجلا وكسوت رجلا آخر لكانت العبارة أكرمت رجلا وكسوت رجلا فتبين أنه ليس من وضع الظاهر موضع الضمير كذا في حواشي الطيبي عليه الرحمة، ولا يخفى أن ما ذكره مبني على ما هو الغالب وإلا فقد قال تعالى: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ [فاطر: 11] ولم يقتصر على الإعلام بزمن الغدو ليقاس عليه زمن الرواح لأن الريح كثيرا ما تسكن أو تضعف حركتها بالعشي فدفع بالتنصيص على بيان زمن الرواح توهم اختلاف الزمانين، قال قتادة كانت الريح تقطع به عليه السّلام في الغدو إلى الزوال مسيرة شهر وفي الرواح من بعد الزوال إلى الغروب مسيرة شهر. وأخرج أحمد في الزهد عن الحسن أنه قال في الآية كان سليمان عليه السّلام يغدو من بيت المقدس فيقيل بإصطخر ثم يروح من إصطخر فيقيل بقلعة خراسان. وقد ذكر حديث هذه الريح في بعض الأشعار القديمة قال وهب: ونقله عنه في البحر وجدت أبياتا منقورة في صخرة بأرض كسكر لبعض أصحاب سليمان عليه السّلام وهي: ونحن ولا حول سوى حول ربنا ... نروح من الأوطان من أرض تدمر إذا نحن رحنا كان ريث رواحنا ... مسيرة شهر والغدو لآخر أناس شروا لله طوعا نفوسهم ... بنصر ابن داود النبي المطهر لهم في معالي الدين فضل ورفعة ... وإن نسبوا يوما فمن خير معشر متى تركب الريح المطيعة أسرعت ... مبادرة عن شهرها لم تقصر تظلم طير صفوف عليهم ... متى رفرفت من فوقهم لم تنفر وذكر أيضا رضي الله تعالى عنه أنه عليه السّلام كان مستقره تدمر وأن الجن قد بنتها له بالصفاح والعمد والرخام الأبيض والأشقر وقال: وفيه يقول النابغة: ألا سليمان إذ قال الإله له ... قم في البرية فاصددها عن الفند وجيش الجن إني قد أذنت لهم ... يبنون تدمر بالصفاح والعمد انتهى، وما ذكره في تدمر هو المشهور عند العامة وقد ذكر ذلك الثعالبي في تفسيره مع الأبيات المذكورة لكن في القاموس تدمر كتنصر بنت حسان بن أذينة بها سميت مدينتها وهو ظاهر في المخالفة، ولعل التعويل على ما فيه إن لم يمكن الجمع والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. وقرأ ابن أبي عبلة «غدوتها» «وروحتها» على وزن فعلة وهي المرة الواحدة غدا وراح وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ أي النحاس الذائب من قطر يقطر قطرا وقطرانا بسكون الطاء وفتحها، وقيل الفلزات النحاس والحديد وغيرهما، وعلى الأول جمهور اللغويين، وأريد بعين القطر معدن النحاس ولكنه سبحانه أساله كما ألان الحديد لداود فنبع كما ينبع الماء من العين فلذلك سمي عين القطر باسم ما آل إليه، وذكر الجلبي أن نسبة الإسالة إلى العين مجازية كما في جري النهر. وقال الخفاجي: إن كانت العين هنا بمعنى الماء المعين أي الجاري وإضافتها كما في لجين الماء فلا تجوز في الجزء: 11 ¦ الصفحة: 291 النسبة وإنما هو من مجاز الأول على أن العين منبع الماء ولا حاجة إليه اهـ فتأمل. وقال بعضهم: القطر النحاس وعين بمعنى ذات ومعنى أسلنا أذبنا فالمعنى أذبنا له النحاس على نحو ما كان الحديد يلين لداود عليه السّلام فكانت الأعمال تتأتى منه وهو بارد دون نار ولم يلن ولا ذاب لأحد قبله والظاهر المؤيد بالآثار أنه تعالى جعله في معدنه عينا تسيل كعيون الماء. أخرج ابن المنذر عن عكرمة أنه قال في الآية: أسأل الله تعالى له القطر ثلاثة أيام يسيل كما يسيل الماء قيل: إلى أين؟ قال: لا أدري. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: سيلت له عين من نحاس ثلاثة أيام، وفي البحر عن ابن عباس والسدي ومجاهد قالوا، أجريت له عليه السّلام ثلاثة أيام بلياليهن وكانت بأرض اليمن، وفي رواية عن مجاهد أن النحاس سال من صنعاء وقيل: كان يسيل في الشهر ثلاثة أيام. وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ يحتمل أن يكون الجار والمجرور متعلقا بمحذوف هو خبر مقدم ومِنَ في محل رفع مبتدأ ويحتمل أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا مقدما من مِنَ وهي في محل نصب عطف على الرِّيحَ وجوز أن يكون مِنَ الْجِنِّ عطفا على الريح على أن من للتبعيض ومَنْ يَعْمَلُ بدل منه وهو تكلف ويَعْمَلُ إما منزل منزلة اللازم أو مفعوله مقدر يفسره ما سيأتي إن شاء الله تعالى ليكون تفصيلا بعد الإجمال وهو أوقع في النفس بِإِذْنِ رَبِّهِ بأمره عزّ وجلّ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا أي ومن يعدل منهم عما أمرناه به من طاعة سليمان عليه السّلام. وقرىء «يزغ» بضم الياء من أزاغ مبنيا للفاعل ومفعوله محذوف أي من يمل ويصرف نفسه أو غيره، وقيل مبنيا للمفعول فلا يحتاج إلى تقدير مفعول نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ أي عذاب النار في الآخرة كما قال أكثر المفسرين وروي ذلك عن ابن عباس، وقال بعضهم: المراد تعذيبه في الدنيا. روي عن السدي أنه عليه السّلام كان معه ملك بيده سوط من نار كل ما استعصى عليه جني ضربه من حيث لا يراه الجني. وفي بعض الروايات أنه كان يحرق من يخالفه، واحتراق الجني مع أنه مخلوق من النار غير منكر فإنه عندنا ليس نارا محضة وإنما النار أغلب العناصر فيه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 292 يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ جمع محراب وهو كما قال عطية القصر، وسمي باسم صاحبه لأنه يحارب غيره في حمايته، فإن المحراب في الأصل من صيغ المبالغة اسم لمن يكثر الحرب وليس منقولا من اسم الآلة وإن جوزه بعضهم، ولابن حيوس: جمع الشجاعة والخشوع لربه ... ما أحسن المحراب في محرابه ويطلق على المكان المعروف الذي يقف بحذائه الإمام، وهو مما أحدث في المساجد ولم يكن في الصدر الأول كما قال السيوطي وألف في ذلك رسالة ولذا كره الفقهاء الوقوف في داخله. وقال ابن زيد: المحاريب المساكر، وقيل ما يصعد إليه بالدرج كالغرف، وقال مجاهد: هي المساجد سميت باسم بعضها تجوزا على ما قيل، وهو مبني على أن المحراب اسم لحجرة في المسجد يعبد الله تعالى فيها أو لموقف الإمام. وأخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة تفسيرها بالقصور والمساجد معا، وجملة يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ استئناف لتفصيل ما ذكر من عملهم، وجوز كونها حالا وهو كما ترى وَتَماثِيلَ قال الضحاك: كانت صور حيوانات، وقال الزمخشري: صور الملائكة والأنبياء والصلحاء كانت تعمل في المساجد من نحاس وصفر وزجاج ورخام ليراها الناس فيعبدوا نحو عبادتهم وكان اتخاذ الصور في ذلك الشرع جائزا كما قال في الآية اتخذ سليمان عليه السّلام تماثيل من نحاس فقال يا رب انفخ فيها الروح فإنها أقوى على الخدمة فينفخ الله تعالى فيها الروح فكانت تخدمه وإسفنديار من بقاياهم، وهذا من العجب العجاب ولا ينبغي اعتقاد صحته وما هو إلا حديث خرافة، وأما ما روي من أنهم عملوا له عليه السّلام أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما فأمر غير مستبعد فإن ذلك يكون بآلات تتحرك عند الصعود وعند القعود فتحرك الذراعين والأجنحة، وقد انتهت صنائع البشر إلى مثل ذلك في الغرابة، وقيل: التماثيل طلسمات فتعمل تمثالا للتمساح أو للذباب أو للبعوض فلا يتجاوزه الممثل به ما دام في ذلك المكان، وقد اشتهر عمل نحو ذلك عن الفلاسفة وهو مما لا يتم عندهم إلا بواسطة بعض الأوضاع الفلكية، وعلى الباب الشهيرة بباب الطلسم من أبواب بغداد تمثال حية يزعمون أنه لمنع الحيات عن الإيذاء داخل بغداد ونحن قد شاهدنا مرارا أناسا لسعتهم الحيات فمنهم من لم يتأذ ومنهم من تأذى يسيرا ولم نشاهد موت أحد من ذلك وقلما يسلم من لسعته خارج بغداد لكن لا نعتقد أن لذلك التمثال مدخلا فيما ذكر ونظن أن ذاك لضعف الصنف الموجود في بغداد من الحيات وقلة شره بالطبيعة، وقيل كانت التماثيل صور شجر أو حيوانات الجزء: 11 ¦ الصفحة: 293 محذوفة الرؤوس مما جوز في شرعنا، ولا يحتاج إلى التزام ذلك إذا صح فيه نقل فإن الحق أن حرمة تصوير الحيوان كاملا لم تكن في ذلك الشرع وإنما هي في شرعنا ولا فرق عندنا بين أن تكون الصورة ذات ظل وأن لا تكون كذلك كصورة الفرس المنقوشة على كاغد أو جدار مثلا. وحكى مكي في الهداية أن قوما أجازوا التصوير وحكاه النحاس أيضا وكذا ابن الفرس واحتجوا بهذه الآية، وأنت تعلم أنه ورد في شرعنا من تشديد الوعيد على المصورين ما ورد فلا يلتفت إلى هذا القول ولا يصح الاحتجاج بالآية، وكأنه إنما حرمت التماثيل لأنه بمرور الزمان اتخذها الجهلة مما يعبد وظنوا وضعها في المعابد لذلك فشاعت عبادة الأصنام أو سدا لباب التشبه بمتخذي الأصنام بالكلية وَجِفانٍ جمع جفنة وهي ما يوضع فيها الطعام مطلقا كما ذكره غير واحد، وقال بعض اللغويين: الجفنة أعظم القصاع ويليها القصعة وهي ما تشبع العشرة ويليها الصحفة وهي ما تشبع الخمسة ويليها المئكلة وهي ما تشبع الاثنين والثلاثة ويليها الصحيفة وهي ما تشبع الواحد، وعليه فالمراد هنا المطلق لظاهر قوله تعالى: كَالْجَوابِ أي كالحياض العظام جمع جابية من الجباية أي الجمع فهي في الأصل مجاز في الطرف أو النسبة لأنها يجبي إليها لا جابية ثم غلبت على الإناء المخصوص غلبة الدابة في ذوات الأربع، وجاء تشبيه الجفنة بالجابية في كلامهم من ذلك قول الأعشى: نفي الذم عن آل المحلق جفنة ... كجابية السيح العراقي تفهق وقول الأفوه الأودي: وقدور كالربى راسيه ... وجفان كالجوابي مترعه وذكر في سعة جفان سليمان عليه السّلام أنها كان على الواحدة منها ألف رجل. وقرىء «كالجوابي» بياء وهو الأصل وحذفها للاجتزاء بالكسرة وإجراء أل مجرى ما عاقبها وهو التنوين فكما يحذف مع التنوين يحذف مع ما عاقبه وَقُدُورٍ جمع قدر وهو ما يطبخ فيه من فخار أو غيره وهو على شكل مخصوص راسِياتٍ ثابتات على الأثافي لا تنزل عنها لعظمها قاله قتادة، وقيل: كانت عظيمة كالجبال وقدمت المحاريب على التماثيل لأن الصور توضع في المحاريب أو تنقش على جدرانها، وقدمت الجفان على القدور مع أن القدور آلة الطبخ والجفان آلة الأكل والطبخ قبل الأكل لأنه لما ذكرت الأبنية الملكية ناسب أن يشار إلى عظمة السماط الذي يمد فيها فذكرت الجفان أولا لأنها تكون فيها بخلاف القدور فإنها لا تحضر هناك كما ينبىء عنه قوله تعالى: راسِياتٍ على ما سمعت أولا، وكأنه لما بين حال الجفان اشتاق الذهن إلى حال القدور فذكرت للمناسبة. اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً بتقدير القول على الاستئناف أو الحالية من فاعل (سخرنا) المقدر وآل منادى حذف منه حرف النداء وشُكْراً نصب على أنه مفعول له، وفيه إشارة إلى أن العمل حقه أن يكون للشكر لا للرجاء والخوف أو على أنه مفعول مطلق لاعملوا لأن الشكر نوع من العمل فهو كقعدت القرفصاء، وقيل: لتضمين اعْمَلُوا معنى اشكروا، وقيل: لا شكروا محذوفا أو على أنه حال بتأويل اسم الفاعل أي اعملوا شاكرين لأن الشكر يعم القلب والجوارح أو على أنه صفة لمصدر محذوف أي اعملوا عملا شكرا أو على أنه مفعول به لا عملوا فالكلام كقولك عملت الطاعة، وقيل: إن اعملوا أقيم مقام اشكروا مشاكلة لقوله سبحانه يعملون. وقال ابن الحاجب: إنه جعل مفعولا به تجوزا. وأيا ما كان فقد روى ابن أبي الدنيا والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال: لما قيل لهم اعملوا آل داود شكرا، لم يأت ساعة على القوم إلا ومنهم قائم يصلي، وفي رواية الجزء: 11 ¦ الصفحة: 294 كان مصلى آل داود لم يخل من قائم يصلي ليلا ونهارا وكانوا يتناوبونه وكان سليمان عليه السّلام يأكل خبز الشعير ويطعم أهله خشادته، والمساكين الدرمك وهو الدقيق الحواري وما شبع قط، وقيل: له في ذلك فقال: أخاف إذا شبعت أن أنسى الجياع، وجوز بعض الأفاضل دخول داود عليه السّلام في الآل هنا لأن آل الرجل قد يعمه. ويؤيده ما أخرجه أحمد في الزهد: وابن المنذر والبيهقي في شعب الإيمان عن المغيرة بن عتيبة قال: قال داود عليه السّلام يا رب هل بات أحد من خلقك أطول ذكرا مني فأوحى الله تعالى إليه الضفدع وأنزل سبحانه عليه عليه السّلام اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً فقال داود عليه السّلام كيف أطيق شكرك وأنت الذي تنعم عليّ ثم ترزقني على النعمة الشكر فالنعمة منك والشكر منك فكيف أطيق شكرك؟ فقال جل وعلا: يا داود الآن عرفتني حق معرفتي. وجاء في رواية ابن أبي حاتم عن الفضيل أنه عليه السّلام قال يا رب: كيف أشكرك والشكر نعمة منك؟ قال سبحانه: الآن شكرتني حين علمت النعم مني ، وكذا ما أخرجه الفريابي: وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: قال داود لسليمان عليهما السّلام: قد ذكر الله تعالى الشكر فاكفني قيام النار أكفك قيام الليل قال: لا أستطيع قال: فأكفني صلاة النهار فكفاه وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ قال ابن عباس: هو الذي يشكر على أحواله كلها، وفي الكشاف هو المتوفر على أداء الشكر الباذل وسعه فيه قد شغل به قلبه ولسانه وجوارحه اعترافا واعتقادا وكدحا وأكثر أوقاته، وقال السدي هو من يشكر على الشكر، وقيل: من يرى عجزه عن الشكر لأن توفيقه للشكر نعمة يستدعي شكرا آخر لا إلى نهاية، وقد نظم هذا بعضهم فقال: إذا كان شكري نعمة الله نعمة ... علي له في مثلها يجب الشكر فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله ... وإن طالت الأيام واتسع العمر إذا مس بالنعماء عم سرورها ... وإن مس بالضراء أعقبها الأجر وقد سمعت آنفا ما روي عن داود عليه السّلام، وهذه الجملة يحتمل أن تكون داخلة في خطاب آل داود وهو الظاهر وأن تكون جملة مستقلة جيء بها إخبارا لنبينا صلّى الله عليه وسلم وفيها تنبيه وتحريض على الشكر. وقرأ حمزة «عبادي» بسكون الياء وفتحها الباقون فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ قيل أي أوقعنا على سليمان الموت حاكمين به عليه، وفي مجمع البيان أي حكمنا عليه بالموت، وقيل: أوجبناه عليه، وفي البحر أي أنفذنا عليه ما قضينا عليه في الأزل من الموت وأخرجناه إلى حيز الوجود، وفيه تكلف، وأيا ما كان فليس المراد بالقضاء أخا القدر فتدبر، ولما شرطية ما بعدها شرطها وجوابها قوله تعالى: ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ واستدل بذلك على حرفيتها وفيه نظر، وضمير دَلَّهُمْ عائد على الجن الذين كانوا يعملون له عليه السّلام، وقيل: عائد على آل سليمان، ويأباه بحسب الظاهر قوله تعالى بعد تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ والمراد بدابة الأرض الأرضة بفتحات وهي دويبة تأكل الخشب ونحوه وتسمى سرفة بضم السين وإسكان الراء المهملة وبالفاء، وفي حياة الحيوان عن ابن السكيت إنها دويبة سوداء الرأس وسائرها أحمر تتخذ لنفسها بيتا مربعا من دقاق العيدان تضم بعضها إلى بعض بلعابها ثم تدخل فيه وتموت، وفي المثل أصنع من سرفة وسماها في البحر بسوسة الخشب، والأرض على ما ذهب إليه أبو حاتم وجماعة مصدر أرضت الدابة الخشب تأرضه إذا أكلته من باب ضرب يضرب فإضافة دَابَّةُ إليه من إضافة الشيء إلى فعله، ويؤيد ذلك قراءة ابن عباس والعباس بن الفضل الْأَرْضِ بفتح الراء لأنه مصدر أرض من باب علم المطاوع لأرض من باب ضرب يقال أرضت الدابة الخشب بالفتح فأرض بالكسر كما يقال أكلت القوادح الأسنان أكلا فأكلت أكلا فالأرض بالسكون الأكل والأرض بالفتح التأثر من ذلك الفعل. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 295 وقد يفسر الأول بالتأثر الذي هو الحاصل بالمصدر لتتوافق القراءتان، وقيل الأرض بالفتح جمع أرضة وإضافة دَابَّةُ إليه من إضافة العام إلى الخاص، وقيل: إن الأرض بالسكون بمعناها المعروف وإضافة دَابَّةُ إليها قيل لأن فعلها في الأكثر فيها، وقيل لأنها تؤثر في الخشب ونحوه كما تؤثر الأرض فيه إذا دفن فيها وقيل غير ذلك والأولى التفسير الأول وإن لم تجىء الأرض في القرآن بذلك المعنى في غير هذا الموضع، وقوله تعالى: تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ في موضع الحال من دَابَّةُ أي آكلة منسأته والمنسأة العصا من نسأت البعير إذا طردته لأنها يطرد بها أو من نسأته إذا أخرته ومنه النسيء، ويظهر من هذا أنها العصا الكبيرة التي تكون مع الراعي وأضرابه. وقرأ نافع وابن عامر وجماعة «منساته» بألف وأصله منسأته فأبدلت الهمزة ألفا بدلا غير قياسي. وقال أبو عمرو: أنا لا أهمزها لأني لا أعرف لها اشتقاقا فإن كانت مما لا تهمز فقد احتطت وإن كانت مما تهمز فقد يجوز لي ترك الهمز فيما يهمز، ولعله بيان لوجه اختيار القراءة بدون همزة وبالهمز جاءت في قول الشاعر: ضربت بمنسأة وجهه ... فصار بذاك مهينا ذليلا وبدونه في قوله: إذا دببت على المنساة من هرم ... فقد تباعد منك اللهو والغزل وقرأ ابن ذكوان وبكار والوليد بن أبي عتبة وابن مسلم وآخرون «منسأته» بهمزة ساكنة وهو من تسكين المتحرك تخفيفا وليس بقياس، وضعف النحاة هذه القراءة لأنه يلزم فيها أن يكون ما قبل تاء التأنيث ساكنا غير ألف، وقيل: قياسها التخفيف بين بين والراوي لم يضبط، وأنشد هارون بن موسى الأخفش الدمشقي شاهدا على السكون في هذه القراءة قول الراجز: صريع خمر قام من وكأته ... كقومة الشيخ إلى منسأته وقرىء بفتح الميم وتخفيف الهمزة قلبا وحذفا و «منساءته» بالمد على وزن مفعالة كما يقال في الميضأة وهي آلة التوضؤ وتطلق على محله أيضا ميضاءة، وقرىء «منسيته» بإبدال الهمزة ياء. وقرأت فرقة منهم عمرو بن ثابت عن ابن جبير «من» مفصولة حرف جر «ساته» بجر التاء وهي طرف العصا وأصلها ما انعطف من طرفي القوس ويقال فيه سية أيضا استعيرت لما ذكر إما استعارة اصطلاحية لأنها كانت خضراء فاعوجت بالاتكاء عليها على ما ستسمعه إن شاء الله تعالى في القصة أو لغوية باستعمال المقيد في المطلق، وبما ذكر علم رد ما قاله البطليوسي بعد ما نقل هذه القراءة عن القراء أنه تعجرف لا يجوز أن يستعمل في كتاب الله عزّ وجلّ ولم يأت به رواية ولا سماع ومع ذلك هو غير موافق لقصة سليمان عليه السّلام لأنه لم يكن معتمدا على قوس وإنما كان معتمدا على عصا. وقرىء «أكلت منسأته» بصيغة الماضي فالجملة إما حال أيضا بتقدير قد أو بدونه وإما استئناف بياني. فَلَمَّا خَرَّ أي سقط تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أي علمت بعد التباس أمر سليمان من حياته ومماته عليهم أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ أنهم لو كانوا يعلمون الغيب كما يزعمون لعلموا موته زمن وقوعه فلم يلبثوا بعده حولا في الأعمال الشاقة إلى أن خر، والمراد بالجن الذين علموا ذلك ضعفاء الجن وبالذين نفي عنهم علم الغيب رؤساؤهم وكبارهم على ما روي عن قتادة، وجوز عليه أن يراد بالأمر الملتبس عليهم أمر علم الغيب أو المراد بالجن الجنس بأن يسند للكل ما للبعض أو المراد كبارهم المدعون علم الغيب أي علم المدعون علم الغيب منهم عجزهم وأنهم لا يعلمون الغيب، وهم وإن كانوا عالمين قبل ذلك بحالهم لكن أريد التهكم بهم كما تقول الجزء: 11 ¦ الصفحة: 296 للمبطل إذا دحضت حجته هل تبينت أنك مبطل. وأنت تعلم أنه لم يزل كذلك متبينا. وجوز أن يكون تبين بمعنى بأن وظهر فهو وغير متعد لمفعول كما في الوجه الأول فإن مفعوله فيه أَنْ لَوْ كانُوا إلخ وهو في هذا الوجه بدل من الْجِنُّ بدل اشتمال نحو تبين زيد جهله، والظهور في الحقيقة مسند إليه أي فلما خر بأن للناس وظهر أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب، ولا حاجة على ما قرر إلى اعتبار مضاف مقدر هو فاعل تبين في الحقيقة إلا أنه بعد حذفه أقيم المضاف إليه مقامه وأسند إليه الفعل ثم جعل أَنْ لَوْ كانُوا إلخ بدلا منه بدل كل من كل والأصل تبين أمر الجن أن لو كانوا إلخ، وجعل بعضهم في قوله تعالى أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ إلخ قياسا طويت كبراه فكأنه قيل لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين لكنهم لبثوا في العذاب المهين فهم لا يعلمون الغيب، ومجيء تبين بمعنى بأن وظهر لازما وبمعنى أدرك وعلم متعديا موجود في كلام العرب قال الشاعر: تبين لي أن القماءة ذلة ... وأن أعزاء الرجال طيالها وقال الآخر: أفاطم إني ميت فتبيني ... ولا تجزعي كل الأنام تموت وفي البحر نقلا عن ابن عطية قال: ذهب سيبويه إلى أن أَنْ لا موضع لها من الأعراب وإنما هي منزلة منزلة القسم من الفعل الذي معناه التحقيق واليقين، لأن هذه الأفعال التي هي تحققت وتيقنت وعلمت ونحوها تحل محل القسم- فما لبثوا- جواب القسم لا جواب لو اهـ فتأمله فإني لا أكاد أتعقله وجها يلتفت إليه. وفي أمالي العز بن عبد السّلام أن الجن ليس فاعل تَبَيَّنَتِ بل هو مبتدأ وأَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ خبره والجملة مفسرة لضمير الشأن في تَبَيَّنَتِ إذ لولا ذلك لكان معنى الكلام لما مات سليمان وخر ظهر لهم أنهم لا يعلمون الغيب وعلمهم بعدم علمهم الغيب لا يتوقف على هذا بل المعنى تبينت القصة ما هي والقصة قوله تعالى: تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ اهـ، والعجب من صدور مثله عن مثله، وما جعله مانعا عن فاعلية الْجِنُّ مدفوع بما سمعت في تفسير الآية كما لا يخفى، وفي كتاب النحاس إشارة إلى أنه قرىء «تبينت الجن» بالنصب على أن تبينت بمعنى علمت والفاعل ضمير الإنس والجن مفعوله، وقرأ ابن عباس فيما ذكر ابن خالويه ويعقوب بخلاف عنه «تبيّنت» مبنيا للمفعول، وقرأ أبي «تبينت الإنس» وعن الضحاك «تباينت الإنس» بمعنى تعارقت وتعالمت والضمير في كانُوا للجن المذكور فيما سبق وقرأ ابن مسعود «تبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب» وهي قراءات مخالفة لسواد المصحف مخالفة كثيرة وفي القصة روايات فروي أنه كان من عادة سليمان عليه السّلام أن يعتكف في مسجد بيت المقدس المدد الطوال فلما دنا أجله لم يصبح إلا رأى في محرابه شجرة نابتة قد أنطقها الله تعالى فيسألها لأي شيء أنت؟ فتقول: لكذا حتى أصبح ذات يوم فرأى الخرنوبة فسألها فقالت نبت لخراب هذا المسجد فقال: ما كان الله تعالى ليخربه وأنا حي أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس فنزعها وغرسها في حائط له واتخذ منها عصا وقال: اللهم عم على الجن موتى حتى يعلم أنهم لا يعلمون الغيب كما يموهون وقال لملك الموت: إذا أمرت بي فاعلمني فقال: أمرت بك وقد بقي من عمرك ساعة فدعا الجن فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب فقام يصلي متكئا على عصاه فقبض روحه وهو متكىء عليها وكانت الجن تجتمع حول محرابه أينما صلى فلم يكن جني ينظر إليه في صلاته إلا احترق فمر جني فلم يسمع صوته ثم رجع فلم يسمع فنظر إذا سليمان قد خر ميتا ففتحوا عنه فإذا العصا قد أكلتها الأرضة فأرادوا أن يعرفوا وقت موته الجزء: 11 ¦ الصفحة: 297 فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت منها في يوم وليلة مقدارا فحسبوا على ذلك النحو فوجدوه قد مات منذ سنة وكانوا يعملون بين يديه ويحسبونه حيا فتبين أنهم لو كانوا يعلمون الغيب لما لبثوا في العذاب سنة ، ولا يخفى أن هذا من باب التخمين والاقتصار على الأقل وإلا فيجوز أن تكون الأرضة بدت بالأكل بعد موته بزمان كثير وأنها كانت تأكل أحيانا وتترك أحيانا. وأما كون بدئها في حياته فبعيد، وكونه بالوحي إلى نبي في ذلك الزمان كما قيل فواه لأنه لو كان كذلك لم يحتاجوا إلى وضع الأرضة على العصا ليستعلموا المدة، وروي أن داود عليه السّلام أسس بناء بيت المقدس في موضع فسطاط موسى عليه السّلام فمات قبل أن يتمه فوصى به إلى سليمان فأمر الجن بإتمامه فلما بقي من عمره سنة سأل أن يعمى عليهم موته حتى يفرغوا منه ولتبطل دعواهم علم الغيب، وهذا بظاهره مخالف لما روي أن إبراهيم عليه السّلام هو الذي أسس بيت المقدس بعد الكعبة بأربعين سنة ثم خرب وأعاده داود ومات قبل أن يتمه، وأيضا إن موسى عليه السّلام لم يدخل بيت المقدس بل مات في التيه، وجاء في الحديث الصحيح أنه عليه السّلام سأل ربه عند وفاته أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر ، وأيضا قد روي أن سليمان قد فرغ من بناء المسجد وتعبد فيه وتجهز بعده للحج شكرا لله تعالى على ذلك . وأجيب عن الأول بأن المراد تجديد التأسيس، وعن الثاني بأن المراد بفسطاط موسى فسطاطه المتوارث وكانوا يضربونه يتعبدون فيه تبركا لا أنه كان يضرب هنالك في زمنه عليه السّلام، ويحتاج هذا إلى نقل فإن مثله لا يقال بالرأي فإن كان فأهلا ومرحبا، وقيل المراد به مجمع العبادة على دين موسى كما وقع في الحديث فسطاط إيمان. وقال القرطبي في التذكرة: المراد به فرقة منحازة عن غيرها، مجتمعة تشبيها بالخيمة، ولا يخفى ما فيهما وإن قيل إنهما أظهر من الأول، وعن الثالث بأن المراد بالفراغ القرب من الفراغ وما قارب الشيء له حكمه وفيه بعد واختير أن هذا رواية وذاك رواية والله تعالى أعلم بالصحيح منهما. وروي أنه عليه السّلام قد أمر ببناء صرح له فبنوه فدخله مختليا ليصفو له يوم في الدهر من الكدر فدخل عليه شاب فقال: له كيف دخلت عليّ بلا إذن؟ فقال: إنما دخلت بإذن فقال: ومن أذن لك؟ قال: رب هذا الصرح فعلم أنه ملك الموت أتى لقبض روحه فقال: سبحان الله هذا اليوم الذي طلبت فيه الصفا فقال له: طلبت ما لم يخلق فاستوثق من الاتكاء على عصاه فقبض روحه وخفي على الجن موته حتى سقط ، وروي أن أفريدون جاء ليصعد كرسيه فلما دنا ضرب الأسدان ساقه فكسراها فلم يجسر أحد بعده أن يدنو منه، ولذا لم تقربه الجن وخفي أمر موته عليهم. ونظر فيه بأن سليمان كان بعد موسى بمدة مديدة وأفريدون كان قبله لأن منوجهر من أسباط أفريدون وظهر موسى عليه في زمانه، وعلى جميع الروايات الدالة على موته عليه السّلام خروره لما كسرت العصا لضعفها بأكل الأرضة منها، ونسبة الدلالة في الآية إليها نسبة إلى السبب البعيد. ومن الغريب ما نقل عن ابن عباس أنه عليه السّلام مات في متعبده على فراشه، وقد أغلق الباب على نفسه فأكلت الأرضة المنسأة أي عتبة الباب فلما خر أي الباب علم موته فإن فيه جعل ضمير خَرَّ للباب وإليه ذهب بعضهم، وفيه أنه لم يعهد تسمية العتبة منسأة، وأيضا كان اللازم عليه خرت بتاء التأنيث ولا يجيء حذفها في مثل ذلك إلا في ضرورة الشعر، وكون التذكير على معنى العود بعيد فالظاهر عدم صحة الرواية عن الحبر والله تعالى أعلم. وحكى البغوي عنه أن الجن شكروا الأرضة فهم يأتونها بالماء والطين في جوف الخشب وهذا شيء لا أقول به ولا أعتقد صحة الرواية أيضا، وكان عمره عليه السّلام ثلاثا وخمسين سنة وملك بعد أبيه وعمره ثلاثة عشر سنة وابتدأ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 298 في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه ثم مضى وانقضى وسبحان من لا ينقضي ملكه ولا يزول سلطانه، وفي الآية دليل على أن الغيب لا يختص بالأمور المستقبلة بل يشمل الأمور الواقعة التي هي غائبة عن الشخص أيضا لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ لما ذكر عزّ وجلّ حال الشاكرين لنعمه المنيبين إليه تعالى ذكر حال الكافرين بالنعمة المعرضين عنه جل شأنه موعظة لقريش وتحذيرا لمن كفر بالنعم وأعرض عن المنعم، وسبأ في الأصل اسم رجل وهو سبأ بن يشجب بالشين المعجمة والجيم كينصر بن يعرب بن قحطان، وفي بعض الأخبار عن فروة بن مسيك قال: أتيت النبي صلّى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أخبرني عن سبأ أرجل هو أم امرأة؟ فقال: هو رجل من العرب ولد عشرة تيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة فأما الذين تيامنوا فالأزد وكندة ومذحج والأشعريون وأنمار ومنهم بجيلة وأما الذين تشاءموا فعاملة وغسان ولخم وجذام ، وفي شرح قصيدة عبد المجيد بن عبدون لعبد الملك بن عبد الله بن بدرون الحضرمي البستي أن سبأ بن يشجب أول ملوك اليمن في قول واسمه عبد شمس وإنما سمي سبأ لأنه أول من سبى السبي من ولد قحطان وكان ملكه أربعمائة وأربعا وثمانين سنة ثم سمي به الحي، ومنع الصرف عنه ابن كثير وأبو عمرو باعتبار جعله اسما للقبيلة ففيه العلمية والتأنيث، وقرأ قنبل بإسكان الهمزة على نية الوقف، وعن ابن كثير قلب همزته ألفا ولعله سكنها أولا بنية الوقف كقنبل ثم قلبها ألفا والهمزة إذا سكنت يطرد قلبها من جنس حركة ما قبلها، وقيل: لعله أخرجها بين بين فلم يؤده الراوي كما وجب، والمراد بسبأ هنا إما الحي أو القبيلة وإما الرجل الذي سمعت وعليه فالكلام على تقدير مضاف أي لقد كان في أولاد سبأ، وجوز أن يراد به البلد وقد شاع إطلاقه عليه وحينئذ فالضمير في قوله تعالى: فِي مَسْكَنِهِمْ لأهلها أولها مرادا بها الحي على سبيل الاستخدام والأمر فيه على ما تقدم ظاهر، والمسكين اسم مكان أي في محل سكناهم وهو كالدار يطلق على المأوى للجميع وإن كان قطرا واسعا كما تسمى الدنيا دارا، وقال أبو حيان: ينبغي أن يحمل على المصدر أي في سكناهم لأن كل أحد له مسكن وقد أفرد في هذه القراءة وجعل المفرد بمعنى الجمع كما في قوله: كلوا في بعض بطنكم تعفوا وقوله: قد عض أعناقهم جلد الجواميس يختص بالضرورة عند سيبويه انتهى. وبما ذكرنا لا تبقى حاجة إليه كما لا يخفى، واسم ذلك المكان مأرب كمنزل وهي من بلاد اليمن بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث، وقرأ الكسائي والأعمش وعلقمة «مسكنهم» بكسر الكاف على خلاف القياس كمسجد ومطلع لأن ما ضمت عين مضارعه أو فتحت قياس المفعل منه زمانا ومكانا ومصدرا الفتح لا غير، وقال أبو الحسن كسر الكاف لغة فاشية وهي لغة الناس اليوم والفتح لغة الحجاز وهي اليوم قليلة، وقال الفراء: هي لغة يمانية فصيحة. وقرأ الجمهور «مساكنهم» جمعا أي في مواضع سكناهم آيَةٌ أي علامة دالة بملاحظة أخواتها السابقة واللاحقة على وجود الصانع المختار وأنه سبحانه قادر على ما يشاء من الأمور العجيبة مجاز للمحسن والمسيء وهي اسم كان وقوله تعالى: جَنَّتانِ بدل منها على ما أشار إليه الفراء وصرح به مكي وغيره، وقال الزجاج: خبر مبتدأ محذوف أي هي جنتان ولا يشترط في البدل المطابقة إفرادا وغيره وكذا الخبر إذا كان غير مشتق ولم يمنع المعنى من اتحاده مع المبتدأ، ولعل وجه توحيد الآية هنا مثله في قوله تعالى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً [المؤمنون: 50] ولا حاجة إلى اعتبار مضاف مفرد محذوف هو البدل أو الخبر في الحقيقة أي قصة جنتين، وذهب ابن عطية بعد أن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 299 ضعف وجه البدلية ولم يذكر الجهة إلى أن جَنَّتانِ مبتدأ خبره قوله تعالى: عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ ولا يظهر لأنه نكرة لا مسوغ للابتداء بها إلا أن اعتقد أن ثم صفة محذوفة أي جنتان لهم أو جنتان عظيمتان وعلى تقدير ذلك يبقى الكلام متلفتا عما قبله. وقرأ ابن أبي عبلة «جنتين» بالنصب على المدح، وقال أبو حيان: على أن آية اسم كان و «جنتين» الخبر وأيا ما كان فالمراد بالجنتين على ما روي عن قتادة جماعتان من البساتين جماعة عن يمين بلدهم وجماعة عن شماله وإطلاق الجنة على كل جماعة لأنها التقارب أفرادها وتضامها كأنها جنة واحدة كما تكون بلاد الريف العامرة وبساتينها، وقيل: أريد بستانا كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله كما قال سبحانه: جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ [الكهف: 32] قيل: ولم تجمع لئلا يلزم أن لكل مسكن رجل جنة واحدة لمقابلة الجمع بالجمع، ورد بأن قوله تعالى: عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ يدفع ذلك لأنه بالنظر إلى كل مسكن إلا أنها لو جمعت أو هم أن لكل مسكن جنات عن يمين وجنات عن شمال هذا لا محذور فيه إلا أن يدعى أنه مخالف للواقع ثم أنه قيل إن في فيما سبق بمعنى عند فإن المساكن محفوفة بالجنتين لا ظرف لهما، وقيل: لا حاجة إلى هذا فإن القريب من الشيء قد يجعل فيه مبالغة في شدة القرب ولكل جهة لكن أنت تعلم أنه إذا أريد بالمساكن أو المسكن ما يصلح أن يكون ظرفا لبلدهم المحفوفة بالجنتين أو لمحل كل منهم المحفوفة بهما لم يحتج إلى التأويل أصلا فلا تغفل كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ جملة مستأنفة بتقدير قول أي قال لهم نبيهم كلوا إلخ، وفي مجمع البيان قيل: إن مساكنهم كانت ثلاثة عشر قرية في كل قرية نبي يدعوهم إلى الله عزّ وجلّ يقول كلوا من رزق ربكم إلخ، وقيل: ليس هناك قول حقيقة وإنما هو قول بلسان الحال بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ أي هذه البلدة التي فيها رزقكم بلدة طيبة وربكم الذي رزقكم وطلب شكركم رب غفور فرطات من يشكره، والجملة استئناف للتصريح بموجب الشكر، ومعنى طيبة زكية مستلذة. يروى أنها كانت لطيفة الهواء حسنة التربة لا تحدث فيها عاهة ولا يكون فيها هامة حتى أن الغريب إذا حلها وفي ثيابه قمل أو براغيث ماتت، وقيل: المراد بطيبها صحة هوائها وعذوبة مائها ووفور نزهتها وأنه ليس فيها حر يؤذي في الصيف ولا برد يؤذي في الشتاء، وقرأ رويس بنصب «بلدة» وجميع ما بعدها وذلك على المدح والوصفية. وقال أحمد بن يحيى: بتقدير اسكنوا بلدة طيبة واعبدوا ربا غفورا ومن الاتفاقات النادرة إن لفظ بلدة طيبة بحساب الجمل واعتبار هاء التأنيث بأربعمائة كما ذهب إليه كثير من الأدباء وقع تاريخا لفتح القسطنطينية وكانت نزهة بلاد الروم فَأَعْرَضُوا أي عن الشكر كما يقتضيه المقام ويدخل فيه الأعراض عن الإيمان لأنه أعظم الكفر والكفران، وقال أبو حيان: أعرضوا عما جاء به إليهم أنبياؤهم الثلاثة عشر حيث دعوهم إلى الله تعالى وذكروهم نعمه سبحانه فكذبوهم وقالوا ما نعرف لله نعمة فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ أي الصعب من عرم الرجل مثلث الراء فهو عارم وعرم إذا شرس خلقه وصعب، وفي معناه ما جاء في رواية عن ابن عباس من تفسيره بالشديد، وإضافة السيل إليه من إضافة الموصوف إلى الصفة، ومن أباها من النحاة قال التقدير سيل الأمر العرم. وقيل: العرم المطر الشديد والإضافة على ظاهرها، وقيل: هو اسم للجرذ الذي نقب عليهم سدهم فصار سببا لتسلط السيل عليهم وهو الفار الأعمى الذي يقال له الخلد وإضافة السيل إليه لأدنى ملابسة، وقال ابن جبير: العرم المسناة بلسان الحبشة، وقال الأخفش، هو بهذا المعنى عربي، وقال المغيرة بن حكيم وأبو ميسرة: العرم في لغة اليمن جمع عرمة وهي كل ما بني أو سنم ليمسك الماء ويقال لذلك البناء بلغة الحجاز المسناة، والإضافة كما في سابقه والملابسة في هذا أقوى، وعن ابن عباس وقتادة والضحاك ومقاتل هو اسم الوادي الذي كان يأتي السيل منه وبني السد فيه، ووجه إضافة السيل إليه ظاهر، وقرأ عزرة بن الورد فيما حكى ابن خالويه «العرم» بإسكان الراء تخفيفا كقولهم في الجزء: 11 ¦ الصفحة: 300 الكبد الكبد. روي أن بلقيس لما ملكت اقتتل قومها على ماء واديهم فتركت ملكها وسكنت قصرها وراودوها على أن ترجع فأبت فقالوا: لترجعن أو لنقتلنك فقالت لهم: أنتم لا عقول لكم ولا تطيعوني فقالوا: نطيعك فرجعت إلى واديهم وكانوا إذا مطروا أتاهم السيل من مسيرة ثلاثة أيام فأمرت فسد ما بين الجبلين بمسناة بالصخر والقار وحبست الماء من وراء السد وجعلت له أبوابا بعضها فوق بعض وبنت من دونه بركة منها اثنا عشر مخرجا على عدة أنهارهم وكان الماء يخرج لهم بالسوية إلى أن كان من شأنها مع سليمان عليه السّلام ما كان. وقيل: الذي بنى لهم السد هو حمير أبو القبائل اليمنية، وقيل بناه لقمان الأكبر بن عاد ورصف أحجاره بالرصاص والحديد وكان فرسخا في فرسخ ولم يزالوا في أرغد عيش وأخصب أرض حتى أن المرأة تخرج وعلى رأسها المكتل فتعمل بيديها وتسير فيمتلىء المكتل مما يتساقط من أشجار بساتينهم إلى أن أعرضوا عن الشكر وكذبوا الأنبياء عليهم السّلام فسلط الله تعالى على سدهم الخلد فوالد فيه فخرقه فأرسل سبحانه سيلا عظيما فحمل السد وذهب بالجنان وكثير من الناس، وقيل إنه أذهب السد فاختل أمر قسمة الماء ووصوله إلى جنانهم فيبست وهلكت، وكان ذلك السيل على ما قيل في ملك ذي الأذعار بن حسان في الفترة بين نبينا صلّى الله عليه وسلم وعيسى عليه السّلام، وفيه بحث على تقدير القول بأن الاعراض كان عما جاءهم من أنبيائهم الثلاثة عشر كما ستعلمه إن شاء الله تعالى عن قريب. وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ أي أذهبنا جنتيهم وأتينا بدلها جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ أي ثمر خَمْطٍ أي حامض أو مر، وعن ابن عباس الخمط الأراك ويقال لثمره مطلقا أو إذا اسود وبلغ البربر، وقيل شجر الغضا ولا أعلم هل له ثمر أم لا، وقال أبو عبيدة: كل شجرة مرة ذات شوك، وقال ابن الأعرابي: هو ثمر شجرة على صورة الخشخاش لا ينتفع به وتسمى تلك الشجرة على ما قيل بفسوة الضبع وهو على الأول صفة لأكل والأمر في ذلك ظاهر، وعلى الأخير عطف بيان على مذهب الكوفيين المجوزين له في النكرات، وقيل بدل وعلى ما بينهما الكلام على حذف مضاف أي أكل أكل خمط وذلك المضاف بدل من أكل أو عطف بيان عليه ولما حذف أقيم المضاف إليه مقامه وأعرب بإعرابه كما في البحر، وقيل هو بتقدير أكل ذي خمط، وقيل هو بدل من باب يعجبني القمر فلكه وهو كما ترى. ومنع جعله وصفا من غير ضرب من التأويل لأن الثمر لا يوصف بالشجر لا لأن الوصف بالأسماء الجامدة لا يطرد وإن جاء منه شيء نحو مررت بقاع عرفج فتأمل. وقرأ أبو عمرو «أكل خمط» بالإضافة وهو من باب ثوب خز، وقرأ ابن كثير «أكل» بسكون الكاف والتنوين وَأَثْلٍ ضرب من الطرفاء على ما قاله أبو حنيفة اللغوي في كتاب النبات له، وعن ابن عباس تفسيره بالطرفاء، ونقل الطبرسي قولا أنه السمر وهو عطف على أُكُلٍ ولم يجوز الزمخشري عطفه على خَمْطٍ معللا بأن الأثل لا ثمر له، والأطباء كداود الأنطاكي وغيره يذكرون له ثمرا كالحمص ينكسر عن حب صغار ملتصق بعضه ببعض ويفسرون الأثل بالعظيم من الطرفاء ويقولون في الطرفاء هو بري لا ثمر له وبستاني له ثمر لكن قال الخفاجي: لا يعتمد على الكتب الطبية في مثل ذلك وفي القلب منه شيء، ونحن قد حققنا أن للأثل ثمرا. وكذا لصنف من الطرفاء إلا أن ثمرهما لا يؤكل ولعل مراد النافي نفي ثمرة تؤكل، والأطباء يعدون ما تخرجه الشجر غير الورق ونحوه ثمرة أكلت أم لا، ومثله في العطف على ذلك في قوله تعالى: وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ وحكى الفضيل بن إبراهيم أنه قرىء «أثلا وشيئا» بالنصب عطفا على جَنَّتَيْنِ والسدر شجر النبق، وقال الأزهري: السدر سدران سدر لا ينتفع به ولا يصلح ورقه للغسول وله ثمرة عفصة لا تؤكل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 301 وهو الذي يسمى الضال وسدر ينبت على الماء وثمره النبق وورقه غسول يشبه شجر العناب انتهى. واختلف في المراد هنا فقيل الثاني، ووصف بقليل لفظا ومعنى أو معنى فقط وذلك إذا كان نعتا لشيء المبين به لأن ثمره مما يطيب أكله فجعل قليلا فيما بدلوا به لأنه لو كثر كان نعمة لا نقمة، وإنما أوتوه تذكيرا للنعم الزائلة لتكون حسرة عليهم، وقيل المراد به الأول حتما لأنه الأنسب بالمقام، ولم يذكر نكتة الوصف بالقليل عليه. ويمكن أن يقال في الوصف به مطلقا أن السدر له شأن عند العرب ولذا نص الله تعالى على وجوده في الجنة والبستاني منه لا يخفى نفعه والبري يستظل به أبناء السبيل ويأنسون به ولهم فيه منافع أخرى ويستأنس لعلو شأنه بما أخرجه أبو داود في سننه والضياء في المختارة عن عبد الله بن حبشي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من قطع سدرة صوب الله رأسه في النار وبما أخرجه البيهقي عن أبي جعفر قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعلي كرّم الله تعالى وجهه في مرض موته: اخرج يا علي فقل عن الله لا عن رسول الله لعن الله من يقطع السدر» وفي معناهما عدة أخبار لها عدة طرق، والكل فيما أرى محمول على ما إذا كان القطع عبثا ولو كان السدر في ملكه. وقيل في ذلك مخصوص بسدر المدينة، وإنما نهى عن قطعه ليكون إنسا وظلا لمن يهاجر إليها، وقيل بسدر الفلاة ليستظل به أبناء السبيل والحيوان، وقيل بسدر مكة لأنها حرم، وقيل بما إذا كان في ملك الغير وكان القطع بغير حق، والكل كما ترى، وأيا ما كان ففي التنصيص عليه ما يشير إلى أن له شأنا فلما ذكر سبحانه ما آل إليه حال أولئك المعرضين وما بدلوا بجنتيهم أتى جل وعلا بما يتضمن الإيذان بحقارة ما عوضوا به وهو مما له شأن عند العرب أعني السدر وقلته، والإيذان بالقلة ظاهر وأما الإيذان بالحقارة فمن ذكر شيء والعدول عن أن يقال وسدر قليل مع أنه الأخصر الأوفق بما قبله ففيه إشارة إلى غاية انعكاس الحال حيث أومأ الكلام إلى أنهم لم يؤتوا بعد إذهاب جنتيهم شيئا مما لجنسه شأن عند العرب إلا السدر وما أوتوه من هذا الجنس حقير قليل، وتسمية البدل جنتين مع أنه ما سمعت للمشاكلة والتهكم ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من التبديل، وما فيه من معنى البعد للإشارة إلى بعد رتبته في الفظاعة أو إلى مصدر قوله تعالى: جَزَيْناهُمْ كما قيل في قوله سبحانه: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143] ومحله على الأول النصب على أنه مفعول ثان، وعلى الثاني النصب على أنه مصدر مؤكد للفعل المذكور، والتقديم للتعظيم والتهويل وقيل للتخصيص أي ذلك التبديل جزيناهم لا غيره أو ذلك الجزاء الفظيع جزيناهم لا جزاء آخر بِما كَفَرُوا بسبب كفرانهم النعمة حيث نزعناها منهم ووضعنا مكانها ضدها. وقيل بسبب كفرهم بالرسل الثلاثة عشر الذين بعثوا إليهم. واستشكل هذا مع القول بأن السيل العرم كان زمن الفترة بأن الجمهور قالوا: لا نبي بين نبينا وعيسى عليهما الصلاة والسّلام، ومن الناس من قال: بينهما صلّى الله عليه وسلم أربعة أنبياء ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب وهو خالد العبسي وهو قد بعث لقومه وبنو إسرائيل لم يبعثوا للعرب وأجيب بأن ما كان زمن الفترة هو السيل العرم لا غير والرسل الثلاثة عشر هم جملة من كان في قومهم من سبأ بن يشجب إلى أن أهلكهم الله تعالى أجمعين فتأمل ولا تغفل. وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ أي ما نجازي مثل هذا الجزاء الشديد المستأصل إلا المبالغ في الكفران أو الكفر فلا يتوجه على الحصر إشكال أن المؤمن قد يعاقب في العاجل. وفي الكشف لا يراد أن المؤمن أيضا يعاقب فإنه ليس بعقاب على الحقيقة بل تمحيص ولأنه أريد المعاقبة بجميع ما يفعله من السوء، ولا كذلك للمؤمن، ولا مانع من أن يكون الجزاء عاما في كل مكافأت وأريد به المعاقبة مطلقا من غير تقييد بما سبق لقرينة جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا لتعيين المعاقبة فيه بل قال الزمخشري: هو الوجه الصحيح وذلك لعدم الإضمار ولأن التذييل هكذا آكد وأسد موقعا ولا يتوجه الإشكال لما في الكشف وقرأ الجمهور «يجازي» بضم الياء وفتح الزاي مبنيا للمفعول «الكفور» بالرفع على النيابة عن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 302 الفاعل. وقرىء «يجازي» بضم الياء وكسر الزاي مبنيا للفاعل وهو ضميره تعالى وحده «الكفور» بالنصب على المفعولية، وقرأ مسلم بن جندب «يجزى» مبنيا للمفعول «الكفور» بالرفع على النيابة، والمجازاة على ما سمعت عن الزمخشري المكافآت لكن قال الخفاجي لم ترد في القرآن إلا مع العقاب بخلاف الجزاء فإنه عام وقد يخص بالخير، وعن أبي إسحاق تقول جزيت الرجل في الخير وجازيته في الشر، وفي معناه قول مجاهد يقال في العقوبة يجازي وفي المثوبة يجزى. وقال بعض الأجلة: ينبغي أن يكون أبو إسحاق قد أراد أنك إذا أرسلت الفعلين ولم تعدهما إلى المفعول الثاني كانا كذلك وأما إذا ذكرته فيستعمل كل منهما في الخير والشر، ويرد على ما ذكر جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وكذا «وهل يجزى» في قراءة مسلم إذ الجزاء في ذلك مستعمل في الشر مع عدم ذكر المفعول الثاني، وقوله: جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر ... وحسن فعل كما يجزى سنمار وقال الراغب: يقال جزيته وجازيته ولم يجىء في القرآن إلا جزى دون جازى وذلك لأن المجازاة المكافأة وهي مقابلة نعمة بنعمة هي كفؤها ونعمة الله عزّ وجلّ تتعالى عن ذلك ولهذا لا يستعمل لفظ المكافأة فيه سبحانه وتعالى، وفيه غفلة عما هنا إلا أن يقال: أراد أنه لم يجىء في القرآن جازى فيما هو نعمة مسندا إليه تعالى فإنه لم يخطر لي مجيء ذلك فيه والله تعالى أعلم، ويحسن عندي قول أبي حيان: أكثر ما يستعمل الجزاء في الخير والمجازاة في الشر لكن في تقييدهما قد يقع كل منهما موقع الآخر، وفي قوله سبحانه: جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا دون جازيناهم بما كفروا على الوجه الثاني في اسم الإشارة ما يحكى تمتع القوم بما يسر ووقوعهم بعده فيما يسيء ويضر، ويمكن أن تكون نكتة التعبير بجزى الأكثر استعمالا في الخير، ويجوز أن يكون التعبير بذاك أول وبنجازي ثانيا ليكون كل أوفق بعلته وهذا جار على كلا الوجهين في الإشارة فتدبر جدا. وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً إلى آخره عطف بمجموعه على مجموع ما قبله عطف القصة على القصة وهو حكاية لما أوتوا من النعم في مسايرهم ومتاجرهم وما فعلوا بها من الكفران وما حاق بهم بسبب ذلك وما قبل كان حكاية لما أوتوا من النعم في مساكنهم ومحل إقامتهم وما فعلوا بها وما فعل بهم، والمراد بالقرى التي بورك فيها قرى الشام وذلك بكثرة أشجارها وأثمارها والتوسعة على أهلها وعن ابن عباس هي قرى بيت المقدس وعن مجاهد هي السراوية وعن وهب قرى صنعاء وقال ابن جبير: قرى مأرب والمعول عليه الأول حتى قال ابن عطية إن إجماع المفسرين عليه، ومعنى ظاهِرَةً على ما روي عن قتادة متواصلة يقرب بعضها من بعض بحيث يظهر لمن في بعضها ما في مقابلته من الأخرى وهذا يقتضي القرب الشديد لكن سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى ما قيل في مقدار ما بين كل قريتين وقال المبرد ظاهرة مرتفعة أي على الآكام والظراب وهي أشرف القرى، وقيل ظاهرة معروفة يقال هذا أمر ظاهر أي معروف وتعرف القرية لحسنها ورعاية أهلها المارين عليها، وقيل ظاهرة موضوعة على الطرق ليسهل سير السابلة فيها. وقال ابن عطية: الذي يظهر لي أن معنى ظاهِرَةً خارجة عن المدن فهي عبارة عن القرى الصغار التي في ظواهر المدن كأنه فصل بهذه الصفة بين القرى الصغار وبين القرى المطلقة التي هي المدن، وظواهر المدن ما خرج عنها في الفيافي ومنه قولهم نزلنا بظاهر البلد الفلاني أي خارجا عنه، ومنه قول الشاعر: فلو شهدتني من قريش عصابة ... قريش البطاح لا قريش الظواهر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 303 يعني أن الخارجين من بطحاء مكة ويقال للساكنين خارج البلد أهل الضواحي وأهل البوادي أيضا. وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ أي جعلنا نسبة بعضها إلى بعض على مقدار معين من السير قيل من سار من قرية صباحا وصل إلى أخرى وقت الظهيرة والقيلولة ومن سار بعد الظهر وصل إلى أخرى عند الغروب فلا يحتاج لحمل زاد ولا مبيت في أرض خالية ولا يخاف من عدو ونحوه، وقيل: كان بين كل قريتين ميل، وقال الضحاك: مقادير المراحل كانت القرى على مقاديرها وهذا هو إلا وفق بمعنى ظاهِرَةً على ما سمعت عن قتادة وكذا بقوله سبحانه سِيرُوا فِيها فإنه مؤذن بشدة القرب حتى كأنهم لم يخرجوا من نفس القرى، والظاهر أن سِيرُوا أمر منه عزّ وجلّ على لسان نبي أو نحوه وهو بتقدير القول أي قلنا لهم سيروا في تلك القرى لَيالِيَ وَأَيَّاماً أي متى شئتم من ليل ونهار آمِنِينَ من كل ما تكرهونه لا يختلف إلا من فيها باختلاف الأوقات، وقدم الليالي لأنها مظنة الخوف من مغتال وإن قيل الليل أخفى للويل أو لأنها سابقة على الأيام أو قلنا سيروا فيها آمنين وإن تطاولت مدة سفركم وامتدت ليالي وأياما كثيرة، قال قتادة: كانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أمان ولو وجد الرجل قاتل أبيه لم يهجه أو سيروا فيها لياليكم وأيامكم أي مدة أعماركم لا تلقون فيها إلا الأمن، وقدمت الليالي لسبقها. وأيا ما كان فقد علم فائدة ذكر الليالي والأيام وإن كان السير لا يخلو عنهما، وجوز أن لا يكون هناك قول حقيقة وإنما نزل تمكينهم من السير المذكور وتسوية مبادئه وأسبابه منزلة القول لهم وأمرهم بذلك والأمر على الوجهين للإباحة. فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا لما طالت بهم مدة النعمة بطروا وملوا وآثروا الذي هو أدنى على الذي هو خير كما فعل بنو إسرائيل وقالوا: لو كانت متاجرنا أبعد كان ما نجلبه منها أشهى وأغلى فطلبوا تبديل اتصال العمران وفصل المفاوز والقفار وفي ضمن ذلك إظهار القادرين منهم على قطعها بركوب الرواحل وتزود الأزواد الفخر والكبر على الفقراء العاجزين عن ذلك فعجل الله تعالى لهم الإجابة بتخريب القرى المتوسطة وجعلها بلقعا لا يسمع فيها داع ولا مجيب، والظاهر أنهم قالوا ذلك بلسان القال، وجوز الإمام أن يكونوا قالوا: باعِدْ بلسان الحال أي فلما كفروا فقد طلبوا أن يبعد بين أسفارهم ويخرب المعمور من ديارهم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام «بعّد» بتشديد العين فعل طلب، وابن عباس وابن الحنفية وعمرو بن قائد «ربنا» رفعا «بعّد» بالتشديد فعلا ماضيا، وابن عباس. وابن الحنفية أيضا وأبو رجاء: والحسن ويعقوب وزيد بن علي وأبو صالح، وابن أبي ليلى والكلبي ومحمد بن علي وسلام وأبو حيوة «ربّنا» رفعا و «باعد» طلبا من المفاعلة، وابن الحنفية أيضا وسعيد بن أبي الحسن أخو الحسن وسفيان بن حسين وابن السميقع «ربّنا» بالنصب «بعد» بضم العين فعلا ماضيا «بين» بالنصب إلا سعيدا منهم فإنه يضم النون ويجعل «بين» فاعلا، ومن نصب فالفاعل عنده ضمير يعود على «السير» ومن نصب «ربنا» جعله منادى فإن جاء بعده طلب كان ذلك أشرا وبطرا. وفاعل بمعنى فعل وإن جاء فعلا ماضيا كان ذلك شكوى من مسافة ما بين قراهم مع قصرها لتجاوزهم في الترفه والتنعم أو شكوى مما حل بهم من بعد الأسفار التي طلبوها بعد وقوعها أو دعاء بلفظ الخبر، ومن رفع «ربنا» فلا يكون الفعل عنده إلا ماضيا والجملة خبرية متضمنة للشكوى على ما قيل، ونصب «بين» بعد كل فعل متعد في إحدى القراءات ماضيا كان أو طلبا عند أبي حيان على أنه مفعول به، وأيد ذلك بقراءة الرفع أو على الظرفية والفعل منزل منزلة اللازم أو متعد مفعوله محذوف أي السير وهو أسهل من إخراج الظرف الغير المتصرف عن ظرفيته. وقرىء «بوعد» مبنيا للمفعول. وقرأ ابن يعمر «سفرنا» بالأفراد وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ حيث عرضوها للسخط والعذاب حين بطروا النعمة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 304 وغمطوها فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ جمع أحدوثة وهي ما يتحدث به على سبيل التلهي والاستغراب لا جمع حديث على خلاف القياس، وجعلهم نفس الأحاديث إما على المبالغة أو تقدير المضاف أي جعلناهم بحديث يتحدث الناس بهم متعجبين من أحوالهم ومعتبرين بعاقبتهم ومآلهم. وقيل المراد لم يبق منهم إلا الحديث عنهم ولو بقي منهم طائفة لم يكونوا أحاديث وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ أي فرقناهم كل تفريق على أن الممزق مصدر أو كل مطرح ومكان تفريق على أنه اسم مكان، وفي التعبير بالتمزيق الخاص بتفريق المتصل وخرقه من تهويل الأمر والدلالة على شدة التأثير والإيلام ما لا يخفى أي مزقناهم تمزيقا لا غاية وراءه بحيث يضرب مثلا في كل فرقة ليس بعدها وصال، وعن ابن سلام أن المراد جعلناهم ترابا تذروه الرياح وهو أوفق بالتمزيق إلا أن جميع أجلة المفسرين على خلافه وأن المراد بتمزيقهم تفريقهم بالتباعد، وقد تقدم لك غير بعيد حديث كيفية تفرقهم في جواب رسول الله صلّى الله عليه وسلم لفروة بن مسيك. وفي الكشاف لحق غسان بالشام وأنمار بيثرب وجذام بتهامة والأزد بعمان. وفي التحرير وقع منهم قضاعة بمكة وأسد بالبحرين وخزاعة بتهامة، وظاهر الآية أن ذلك كان بعد إرسال السيل العرم. وفي البحر أن في الحديث أن سبأ أبو عشرة قبائل فلما جاء السيل على مأرب تيامن منها ستة قبائل وتشاءمت أربعة، وزعم بعضهم أن تفرقهم كان قبيل مجيء السيل. قال عبد الملك في شرح قصيدة ابن عبدون إن أرض سبأ من اليمن كانت العمارة فيها أزيد من مسيرة شهرين للراكب المجد وكان أهلها يقتبسون النار بعضهم من بعض مسيرة أربعة أشهر فمزقوا كل ممزق وكان أول من خرج من اليمن في أول الأمر عمرو بن عامر مزيقيا، وكان سبب خروجه أنه كانت له زوجة كاهنة يقال لها طريقة الخير وكانت رأت في منامها أن سحابة غشيت أرضهم فأرعدت وأبرقت ثم صعقت فأحرقت كل ما وقعت عليه ففزعت طريفة لذلك فزعا شديدا وأتت الملك عمرا وهي تقول ما رأيت كاليوم أزال عني النوم رأيت غيما أرعد وأبرق وزمجر وأصعق فما وقع على شيء إلا أحرق فلما رأى ما داخلها من الفزع سكنها ثم إن عمرا دخل على حديقة له ومعه جاريتان من جواريه فبلغ ذلك طريفة فحرجت إليه وخرج معها وصيف لها اسمه سنان فلما برزت من بيتها عرض لها ثلاث مناجد منتصبات على أرجلهن واضعات أيديهن على أعينهن وهي دواب تشبه اليرابيع فقعدت إلى الأرض واضعة يديها على عينيها وقالت: لوصيفها إذا ذهبت هذه المناجد فأخبرني فلما ذهبت أخبرها فانطلقت مسرعة فلما عارضها الخليج الذي في حديقة عمرو وثبت من الماء سلحفاة فوقعت على الطريق على ظهرها وجعلت تروم الانقلاب فلا تستطيع وتستعين بذنبها فتحثو التراب على بطنها من جنباته وتقذف بالبول على بطنها قذفا فلما رأتها طريفة جلست إلى الأرض فلما عادت السلحفاة إلى الماء مضت طريفة إلى أن دخلت على عمرو وذلك حين انتصف النهار في ساعة شديد حرها فإذا الشجر يتكافأ من غير ريح فلما رآها استحى منها وأمر الجاريتين بالانصراف إلى ناحية ثم قال لها يا طريفة فكهنت وقالت: والنور والظلماء والأرض والسماء أن الشجر لهالك وليعودن الماء كما كان في الزمن السالك قال عمرو: من أخبرك بهذا؟ قالت: أخبرتني المناجد بسنين شدائد يقطع فيها الولد الوالد قال: ما تقولين؟ قالت: أقول قول الندمان لهيفا لقد رأيت سلحفا تجرف التراب جرفا وتقذف بالبول قذفا فدخلت الحديقة فإذا الشجر من غير ريح يتكفى قال: ما ترين في ذلك؟ قالت: هي داهية دهياء من أمور جسيمة ومصائب عظيمة قال: وما هو ويلك؟ قالت: أجل وإن فيه الويل ومالك فيه من نيل وإن الويل فيما يجيء به السيل فألقي عمرو عن فراشه وقال: ما هذا يا طريفة؟ قالت: خطب جليل وحزن طويل وخلف قليل قال: وما علامة ما تذكرين؟ قالت: اذهب إلى السد فإذا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 305 رأيت جرذا يكثر بيديه في السد الحفر ويقلب برجليه من أجل الصخر فاعلم أن الغمر عمر وأنه قد وقع الأمر قال: وما الذي تذكرين؟ قالت: وعد من الله تعالى نزل وباطل بطل ونكال بنا نكل فبغيرك يا عمرو يكون الثكل فانطلق عمرو فإذا الجرذ يقلب برجليه صخرة ما يقلها خمسون رجلا فرجع وهو يقول: أبصرت أمرا عادني منه ألم ... وهاج لي من هوله برح السقم من جرذ كفحل خنزير الأجم ... أو كبش صرم من أفاويق الغنم يسحب قطرا من جلاميد العرم ... له مخاليب وأنياب قضم ما فاته سحلا من الصخر قصم فقالت طريفة: وإن من علامة ذلك الذي ذكرته لك أن تجلس فتأمر بزجاجة فتوضع بين يديك فإن الريح يملؤها من تراب البطحاء من سهل الوادي وحزنه وقد علمت أن الجنان مظللة لا يدخلها شمس ولا ريح فأمر عمرو بزجاجة فوضعت بين يديه ولم تمكث إلا قليلا حتى امتلأت من التراب فأخبرها بذلك، وقال لها: متى يكون ذلك الخراب الذي يحدث في السد؟ قالت له: فيما بيني وبينك سبع سنين قال: ففي أيها يكون؟ قالت: لا يعلم بذلك إلا الله تعالى ولو علمه أحد لعلمته وأنه لا تأتي على ليلة فيما بيني وبين السبع سنين إلا ظننت هلاكه في غدها أو في مسائها ثم رأى عمرو في منامه سيل العرم، وقيل له: إن آية ذلك أن ترى الحصباء قد ظهرت في سعف النخل فنظر إليها فوجد الحصباء قد ظهرت فيها فعلم أنه واقع وأن بلادهم ستخرب فكتم ذلك وأجمع على بيع كل شيء له بأرض مأرب وأن يخرج منها هو وولده ثم خشي أن تنكر الناس عليه ذلك فأمر أحد أولاده إذا دعاه لما يدعوه إليه أن يتأبى عليه وأن يفعل ذلك به في الملأ من الناس وإذا لطمه يرفع هو يده ويلطمه ثم صنع عمرو طعاما وبعث إلى أهل مأرب أن عمرا قد صنع طعاما يوم مجد وذكر فأحضروا طعامه فلما جلس الناس للطعام جلس عنده ابنه الذي أمره بما قد أمره فجعل يأمره فيتأبى عليه فرفع عمرو يده فلطمه فلطمه ابنه وكان اسمه مالكا فصاح عمرو وا ذلاه يوم فخر عمرو وبهجته صبي يضرب وجهه وحلف ليقتلنه فلم يزالوا يرغبون إليه حتى ترك وقال: والله لا أقيم بموضع صنع فيه بي هذا ولأبيعن أموالي حتى لا يرث بعدي منها شيئا فقال الناس بعضهم لبعض: اغتنموا غيظ عمرو واشتروا منه أمواله قبل أن يرضى فابتاع الناس منه كل ماله بأرض مأرب وفشا بعض حديثه فيما بلغه من شأن سيل العرم فقام ناس من الأزد فباعوا أموالهم فلما أكثروا البيع استنكر الناس ذلك فأمسكوا عن الشراء فلما اجتمعت إلى عمرو أمواله أخبر الناس بشأن السيل وخرج فخرج لخروجه منها بشر كثير فنزلوا أرض عك فحاربتهم عك فارتحلوا عن بلادهم ثم اصطلحوا وبقوا بها حتى مات عمرو وتفرقوا في البلاد فمنهم من سار إلى الشام وهم أولاد جفنة بن عمرو بن عامر ومنهم من سار إلى يثرب وهم أبناء قبيلة الأوس والخزرج وأبوهما حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر وسارت أزد السراة إلى السراة وأزد عمان إلى عمان وسار مالك بن فهم إلى العراق ثم خرجت بعد عمرو بيسير من أرض اليمن طيىء فنزلت أجأ وسلمى ونزلت أبناء ربيعة ابن حارثة بن عامر بن عمرو تهامة وسموا خزاعة لانخزاعهم من إخوانهم ثم أرسل الله تعالى على السد السيل فهدمه، وفي ذلك يقول ميمون بن قيس الأعشى: وفي ذاك للمؤتسي أسوة ... ومأرب عفا عليها العرم رخام بنته لهم حمير ... إذا جاء مواره لم يرم فأروى الزروع وأعنابها ... على سعة ماؤهم إذ قسم فصاروا أيادي ما يقدرو ... ن منه على شرب طفل فطم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 306 وذكر الميداني عن الكلبي عن أبي صالح أن طريفة الكاهنة قد رأت في كهانتها أن سد مأرب سيخرب وأنه سيأتي سيل العرم فيخرب الجنتين فباع عمرو بن عامر أمواله وسار هو وقومه حتى انتهوا إلى مكة فأقاموا بها وبما حولها فأصابتهم الحمى وكانوا ببلد لا يدرون فيه ما الحمى فدعوا طريفة فشكوا إليها الذي أصابهم فقالت لهم: أصابني الذي تشكون وهو مفرق بيننا قالوا فماذا تأمرين قالت: من كان منكم ذا هم بعيد وجمل شديد ومزاد جديد فليلحق بقصر عمان المشيد فكانت أزد عمان ثم قالت: من كان منكم ذا جلد وقسر وصبر على أزمات الدهر فعليه بالأراك من بطن مر فكانت خزاعة ثم قالت: من كان منكم يريد الراسيات في الوحل المطعمات في المحل فليلحق بيثرب ذات النخل فكانت الأوس والخزرج ثم قالت: من كان منكم يريد الخمر والخمير والملك والتأسير ويلبس الديباج والحرير فليلحق ببصرى وغوير وهما من أرض الشام فكان الذين سكنوها آل جفنة من غسان ثم قالت: من كان منكم يريد الثياب الرقاق والخيل العتاق وكنوز الأرزاق والدم المهراق فليلحق بأرض العراق فكان الذين سكنوها آل جذيمة الأبرش ومن كان بالحيرة وآل محرق، والحق أن تمزيقهم وتفريقهم في البلاد كان بعد إرسال السيل، نعم لا يبعد خروج بعضهم قبيله حين استشعروا وقوعه، وفي المثل ذهبوا أيدي سبأ ويقال تفرقوا أيدي سبأ ويروى أيادي وهو بمعنى الأولاد لأنهم أعضاد الرجل لتقويه بهم. وفي المفصل أن الأيدي الأنفس كناية أو مجازا قال في الكشف: وهو حسن، ونصبه على الحالية بتقدير مثل لاقتضاء المعنى إياه مع عدم تعرفه بالإضافة، وقيل: إنه بمعنى البلاد أو الطرق من قولهم خذ يد البحر أي طريقه وجانبه أي تفرقوا في طرق شتى، والظاهر أنه على هذا منصوب على الظرفية بدون تقدير- في- كما أشار إليه الفاضل اليمني، وربما يظن أن الأيدي أو الأيادي بمعنى النعم وليس كذلك، ويقال في الشخص إذا كان مشتت الهم موزع الخاطر كان أيادي سبأ، وعليه قول كثيّر عزة: أيادي سبأ يا عز ما كنت بعدكم ... فلم يحل بالعينين بعدك منظر إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر من قصتهم لَآياتٍ عظيمة لِكُلِّ صَبَّارٍ أي شأنه الصبر على الشهوات ودواعي الهوى وعلى مشاق الطاعات، وقيل: شأنه الصبر على النعم بأن لا يبطر ولا يطغى وليس بذاك شَكُورٍ شأنه الشكر على النعم، وتخصيص هؤلاء بذلك لأنهم المنتفعون بها وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ أي حقق عليهم ظنه أو وجد ظنه صادقا، والظاهر أن ضمير عَلَيْهِمْ عائد على سبأ، ومنشأ ظنه رؤية انهماكهم في الشهوات، وقيل: هو لبني آدم ومنشأ ظنه أنه شاهد أباهم آدم عليه السّلام وهو هو قد أصغى إلى وسوسته فقاس الفرع على الأصل والولد على الوالد، وقيل: إنه أدرك ما ركب فيهم من الشهوة والغضب وهما منشآن للشرور، وقيل: إن ذاك كان ناشئا من سماع قول الملائكة عليهم السّلام: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [البقرة: 30] يوم قال سبحانه لهم: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: 30] ويمكن أن يكون منشأ ذلك ما هو عليه من السوء كما قيل: إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدق ما يعتاده من توهم وجوز أن يكون كل ما ذكر منشأ لظنه في سبأ، والكلام على الوجه الأول في الضمير على ما قال الطيبي تتمة لسابقه إما حلالا أو عطفا، وعلى الثاني هو كالتذييل تأكيدا له. وقرأ البصريون «صدق» بالتخفيف فنصب «ظنّه» على إسقاط حرف الجر والأصل صدق في ظنه أي وجد ظنه مصيبا في الواقع فصدق حينئذ بمعنى أصاب مجازا. وقيل هو منصوب على أنه مصدر لفعل مقدر أي يظن ظنه كفعلته جهدك أي تجهد جهدك، والجملة في موقع الجزء: 11 ¦ الصفحة: 307 الحال وصَدَّقَ مفسر بما مر، ويجوز أن يكون منصوبا على أنه مفعول به والفعل متعد إليه بنفسه لأن الصدق أصله في الأقوال والقول مما يتعدى إلى المفعول به بنفسه، والمعنى حقق ظنه كما في الحديث «صدق وعده ونصر عبده» وقوله تعالى: رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب: 23] . وقرأ زيد بن علي وجعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهم والزهري وأبو الجهجاه الأعرابي من فصحاء العرب وبلال بن أبي برزة بنصب «إبليس» ورفع «ظنّه» كذا في البحر والظان ذلك مع قراءة «صدّق» بالتشديد أي وجده ظنه صادقا لكن ذكر ابن جني أن الزهري كان يقرأ ذلك مع تخفيف «صدق» أي قال له الصدق حين خيل له إغواؤهم. وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو «إبليس ظنّه» برفعهما بجعل الثاني بدل اشتمال، وأبهم الزمخشري القارئ بذلك فقال قرىء بالتخفيف ورفعهما على معنى صدق عليهم ظن إبليس ولو قرىء بالتشديد مع رفعهما لكان على المبالغة في صَدَّقَ كقوله: فدت نفسي وما ملكت يميني ... فوارس صدقت فيهم ظنوني وهو ظاهر في أنه لم يقرأ أحد بذلك والله تعالى أعلم، وعلى جميع القراءات عَلَيْهِمْ متعلق بالفعل السابق وليس متعلقا بالظن على شيء منها فَاتَّبَعُوهُ أي سبأ وقيل بنو آدم إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي إلا فريقا هم المؤمنون لم يتبعوه على أن من بيانية، وتقليلهم إما لقلتهم في حد ذاتهم أو لقلتهم بالإضافة إلى الكفار، وهذا متعين على القول برجوع الضمير إلى بني آدم، وكأني بك تختار كون القلة في حد ذاتهم على القول برجوع الضمير إلى سبأ لعدم شيوع كثرة المؤمنين في حد ذاتهم منهم أو إلا فريقا من فرق المؤمنين لم يتبعوه وهم المخلصون فمن تبعيضية والمراد مطلق الاتباع الذي هو أعم من الكفر. وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ أي تسلط واستيلاء بالوسوسة والاستغواء. إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ استثناء مفرغ من أعم العلل، ومِنْ موصولة وجعلها استفهامية بعيد، والعلم المستقبل المعلل ليس هو العلم الأزلي القائم بالذات المقدس بل تعلقه بالمعلوم في عالم الشهادة الذي يترتب عليه الجزاء بالثواب والعقاب وهو مضمن معنى التميز لمكان من أي ما كان له عليهم تسلط لأمر من الأمور إلا لتعلق علمنا بمن يؤمن بالآخرة متميزا ممن هو منها في شك تعلقا حاليا يترتب عليه الجزاء وإلى هذا يشير كلام كثير من أئمة التفسير، وقيل: المعنى لنجعل المؤمن متميزا من غيره في الخارج فيتميز عند الناس، وقيل: المراد من وقوع العلم في المستقبل وقوع المعلوم لأنه لازمه فكأنه قيل ما كان ذلك لأمر من الأمور إلا ليؤمن من قدر إيمانه ويضل من قدر ضلاله، وعدل عنه إلى ما في النظم الجليل للمبالغة لما فيه من جعل المعلوم عين العلم، وقيل المراد بالعلم الجزاء فكأنه قيل على الإيمان وضده، وقيل: العلم على ظاهره إلا أن المستقبل بمعنى الماضي وعلم الله تعالى الأزلي بأهل الشك يستدعي تسلط الشيطان عليهم. وقيل: المراد لنعامل معاملة من كأنه لا يعلم ذلك وإنما يعمل ليعلم، وقيل: المراد ليعلم أولياؤنا وحزبنا ذلك، ولا يخفى عليك ما في بعض هذه الأقوال، وكان الظاهر إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن لا يؤمن بها وعدل عنه إلى ما فيه النظم الجليل لنكتة وهي أنه قوبل الإيمان بالشك ليؤذن بأن أدنى مراتب الكفر مهلكة، وأورد المضارع في الجملة الأولى إشارة إلى أن المعتبر في الإيمان الخاتمة ولأنه يحصل بنظر تدريجي متجدد، وأتى بالثانية اسمية إشارة إلى أن المعتبر الدوام والثبات على الشك إلى الموت، ونون شكا للتقليل، وأتى بفي إشارة إلى أن قليله كأنه محيط بصاحبه، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 308 وعداه بمن دون في وقدمه لأنه إنما يضر الشك الناشئ منها وأنه يكفي شك ما فيما يتعلق بها. وقرأ الزهري «ليعلم» بضم الياء وفتح اللام مبنيا للمفعول وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ أي وكيل قائم على أحواله وشؤونه، وهو إما مبالغة في حافظ وإما بمعنى محاظ كجليس ومجالس وخليط ومخالط ورضيع ومراضع إلى غير ذلك. قُلِ يا محمد للمشركين الذين ضرب لهم المثل بقصة سبأ المعروفة عندهم بالنقل في أخبارهم وأشعارهم تنبيها على بطلان ما هم عليه وتبكيتا لهم ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أي زعمتموهم آلهة كذا قدره الجمهور على أن الضمير مفعول أول وآلهة مفعول ثان وحذف الأول تخفيفا لأن الصلة والموصول بمنزلة اسم واحد فهناك طول يطلب تخفيفه والثاني لأن صفته أعني قوله تعالى: مِنْ دُونِ اللَّهِ سدت مسده فلا يلزم إجحاف بحذفهما معا، ولا يجوز أن يكون مِنْ دُونِ اللَّهِ هو المفعول الثاني إذ لا يتم به مع الضمير الكلام ولا يلتئم النظام فأي معنى معتبر لهم من دون الله على أن في جواز حذف أحد مفعولي هذا الباب اختصارا خلافا ومن أجازه قال هو قليل في كلامهم، وكذا لا يجوز أن يكون لا يملكونه لأن ما زعموه ليس كونهم غير مالكين بل خلافه، وليس ذلك أيضا بزعم بالمعنى الشائع لو سلم أنه صدر منهم بل حق، وقال ابن هشام: الأولى أن يقدر زعمتم أنهم آلهة لأن الغالب على- زعم- أن لا يقع على المفعولين الصريحين بل على ما يسد مسدهما من أن وصلتهما ولم يقع في التنزيل إلا كذلك أي فالأنسب أن يوافق المقدر المصرح به في التنزيل. ورجح تقدير الجمهور بأنه أبعد عن لزوم الإجحاف والأمر للتوبيخ والتعجيز أي ادعوهم فيما يهمكم من دفع ضر أو جلب نفع لعلهم يستجيبون لكم إن صح دعواكم. روي أن ذلك نزل عند الجوع الذي أصاب قريشا. وقوله تعالى: لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ كلام مستأنف في موقع الجواب ولم يمهلهم ليجيبوا إشعارا بتعينه فإنه لا يقبل المكابرة، وجوز تقدير ثم أجب عنهم قائلا لا يملكون إلخ وهو متضمن بيان حال الآلهة في الواقع وأنهم إذا لم يملكوا مقدار ذرة أي من خير وشر ونفع وضر كيف يكونون آلهة تعبد. فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ أي في أمر من الأمور، وذكر السماوات والأرض للتعميم عرفا فيراد بهما جميع الموجودات، وهذا كما يقال المهاجرون والأنصار ويراد جميع الصحابة رضي الله تعالى عنهم فلا يتوهم أنهم يملكون في غيرهما، ويجوز أن يقال: إن ذكرهما لأن بعض آلهة المخاطبين سماوية كالملائكة والكواكب وبعضها أرضية كالأصنام فالمراد نفي قدرة السماوي منهم على أمر سماوي والأرضي على أمر أرضي ويعلم نفي قدرته على غيره بالطريق الأولى أو لأن الأسباب القريبة للخير والشر سماوية وأرضية فالمراد نفي قدرتهم بشيء من الأسباب القريبة فكيف بغيرها وَما لَهُمْ أي لآلهتهم فِيهِما مِنْ شِرْكٍ أي شركة ما لا خلقا ولا ملكا ولا تصرفا وَما لَهُ أي لله عزّ وجلّ مِنْهُمْ أي من آلهتهم مِنْ ظَهِيرٍ أي معين يعينه سبحانه في تدبير أمرهما وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ أي لا توجد رأسا كما في قوله: على لاحب لا يهتدى بمناره لقوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ وإنما علق النفي بنفعها دون وقوعها تصريحا بنفي ما هو غرضهم من وقوعها. وقوله تعالى: إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ استثناء مفرغ من أعم الأحوال على ما اختاره الزمخشري، و (من) عبارة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 309 عن الشافع واللام الداخلة عليه للاختصاص مثلها في الكرم لزيد ولام لَهُ صلة أذن، والمراد نفي شفاعة آلهتهم لهم لكن ذكر ذلك على وجه عام ليكون طريقا برهانيا أي لا تنفع الشفاعة في حال من الأحوال أو كائنة لمن كانت إلا كائنة لشافع أذن له فيها من النبيين والملائكة ونحوهم من المستأهلين لمقام الشفاعة، ومن البين أنهم لا يؤذن لهم في الشفاعة للكفار فقد قال الله تعالى: لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً [النبأ: 38] والشفاعة لهم بمعزل عن الصواب وعدم الإذن للأصنام أبين وأبين فتبين حرمان هؤلاء الكفرة منها بالكلية أو (من) عبارة عن المشفوع له واللام الداخلة عليه للتعليل ولام لَهُ صلة أَذِنَ أي لا تنفع الشفاعة إلا كائنة لمشفوع أذن له أي لشفيعه على الإضمار لأن المشفوع لم يصدر عنه فعل حتى يؤذن له فيه أن يشفعه، واختار الزمخشري أن لام لَهُ للتعليل أي إلا لمن وقع الإذن للشفيع لأجله، ووجهه على ما في الكشف حصول الإشارة إلى الشافع والمشفوع لأن المأذون لأجله المشفوع والمأذون الشافع ولأن الغرض بيان محل النفع وهو المشفوع كان التصريح بذكره أهم، ولا يخفى أن الوجه السابق ظاهر التكلف فيه الإضمار الذي لا يقتضيه المقام، وحاصل المعنى على هذا لا تنفع الشفاعة من الشفعاء المستأهلين لها إلا كائنة لمن وقع الإذن للشفيع لأجله وفي شأنه من المستحقين للشفاعة وأما من عداهم من غير المستحقين لها فلا تنفعهم أصلا وإن فرض وقوعها من الشفعاء إذ لم يؤذن لهم في شفاعتهم بل في شفاعة غيرهم، ويثبت من هذا حرمان هؤلاء الكفرة من شفاعة الشفعاء المستأهلين للشفاعة بعبارة النص وعن شفاعة الأصنام بدلالته إذ حين حرموها من جهة القادرين عليها في الجملة فلأن يحرموها من جهة العجزة عنها بالكلية أولى، وذهب أبو حيان إلى أن الاستثناء من أعم الذوات أي لا تنفع الشفاعة لأحد إلا لمن إلخ، واستظهر احتمال أن تكون من عبارة عن المشفوع له واللام نظرا إلى الظاهر متعلقة بالشفاعة، وجوز أبو البقاء تعلقها بتنفع. وتعقبه بأنه لا يتعدى إلا بنفسه وقال أبو حيان فيه: إن المفعول متأخر فدخول اللام قليل. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي أَذِنَ مبنيا للمفعول فله قائم مقام فاعله حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ صيغة التفعيل للسلب كما في قردت البعير إذا أزلت قراده ومنه التمريض فالتفزيع إزالة الفزع، وهو على ما قال الراغب انقباض ونفار يعتري الإنسان من الشيء المخيف، وحَتَّى للغاية واختلفوا في المغيا إذ لم يكن قبلها ما يصلح أن يكون مغيا بحسب الظاهر، واختلفوا لذلك في المراد بالآية اختلافا كثيرا، فقيل: هو ما يفهم من حديث الشفاعة ويشير إليه، وذلك أن قوله تعالى: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ يؤذن بشفعاء ومشفوع لهم وأن هناك استئذانا في الشفاعة ضرورة أن وقوع الإذن يستدعي سابقية ذلك وهو مستدع للترقب والانتظار للجواب وحيث أنه كلام صادر عن مقام العظمة والكبرياء كيف وقد تقدمه ما تقدمه يدل على كون الكل في ذلك الموقف خلف سرادق العظمة ملقى عليهم رداء الهيبة، وما بعد حرف الغاية أيضا شديد الدلالة على ذلك فكأنه قيل: تقف الشفعاء والمشفوع لهم في ذلك الموقف الذي يتشبث فيه المستشفعون بأذيال الرجاء من المستشفع بهم ويقوم فيه المستشفع به على قدم الالتجاء إلى الله جل جلاله فيطرق باب الشفاعة بالاستئذان فيها ويبقون جميعا منتظرين وجلين فزعين لا يدرون ما يوقع لهم الملك الأعظم جل وعلا على رقعة سؤالهم وماذا يصح لهم بعد عرض حالهم حتى إذا أزيل الفزع عن قلوب الشفعاء والمشفوع لهم بظهور تباشير حسن التوقيع وسطوع أنوار الإجابة والارتضاء من آفاق رحمة الملك الرفيع قالوا أي قال بعضهم لبعض، والظاهر أن البعض القائل المشفوع لهم وإن شئت فأعد الضمير إليهم من أول الأمر إذ هم الأشد احتياجا إلى الأذن والأعظم اهتماما بأمره ماذا قال ربكم في شأن الإذن بالشفاعة قالوا: أي الشفعاء فإنهم المباشرون للاستئذان بالذات المتوسطون لأولئك السائلين بالشفاعة عنده عزّ وجلّ قال ربنا القول الحق أي الواقع بحسب ما تقتضيه الحكمة وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 310 والظاهر أن قوله تعالى: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ من تتمة كلام الشفعاء قالوه اعترافا بعظمة جناب العزة جل جلاله وقصور شأن كل من سواه أي هو جل شأنه المتفرد بالعلو والكبرياء لا يشاركه في ذلك أحد من خلقه وليس لكل منهم كائنا من كان أن يتكلم إلا من بعد إذنه جل وجلا، وفيه من تواضعهم بعد ترفيع قدرهم بالإذن لهم بالشفاعة ما فيه، وفيه أيضا نوع من الحمد كما لا يخفى وهذه الجملة المغياة بما ذكر لا يبعد أن تكون جوابا بالسؤال مقدر كأنه قيل: كيف يكون الإذن في ذلك الموقف للمستأذنين وكيف الحال فيه للشافعين والمستشفعين؟ فقيل: يقفون منتظرين وجلين فزعين حتى إذا إلخ، والآيات دالة على أن المشفوع لهم هم المؤمنون وأما الكفرة فهم عن موقف الاستشفاع بمعزل وعن التفزيع عن قلوبهم بألف ألف منزل، وجعل بعضهم على هذا الوجه من كون المغيا ما ذكر ضمير قُلُوبِهِمْ للملائكة وخص الشفعاء بهم وضمير قالُوا الأول لهم أيضا وضمير قالُوا الثاني للملائكة الذين فوقهم وهم الذين يبلغون ذلك إليهم وقال: إن فزعهم إما لما يقرن به الإذن من الأمر الهائل أو لغشية تصيبهم عند سماع كلام الله جل شأنه أو من ملاحظة وقوع التقصير في تعيين المشفوع لهم بناء على ورود الإذن بالشفاعة إجمالا وهو كما ترى. وقال الزجاج: تفسير هذا أن جبريل عليه السّلام لما نزل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم بالوحي ظنت الملائكة عليهم السّلام أنه نزل بشيء من أمر الساعة ففزعت لذلك فلما انكشف عنها الفزع قالوا: ماذا قال: ربكم سألت لأي شيء نزل جبريل عليه السّلام قالوا: الحق اهـ. روي ذلك عن قتادة ومقاتل وابن السائب بيد أنهم قالوا: إن الملائكة صعقوا لذلك فجعل جبريل عليه السّلام يمر بكل سماء ويكشف عنهم الفزع ويخبرهم أنه الوحي، ولم يبين الزجاج وجه اتصال الآية بما قبلها ولا بحث عن الغاية بشيء وقد ذكر نحو ذلك الإمام الرازي ثم قال في ذلك: أن حَتَّى غاية متعلقة بقوله تعالى: قُلِ لأنه تبينه بالوحي فلما قال سبحانه قُلِ فزع من في السماوات وهو لعمري من العجب العجاب. وقال الفاضل الطيبي بعد نقله ذلك التفسير: وعليه أكثر كلام المفسرين ويعضده ما روينا عن البخاري والترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا قضى الله تعالى الأمر في السماء ضربت الملائكة أجنحتها خضعانا لقوله تعالى كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم، قالوا الذي قال الحق وهو العلي الكبير» وعن أبي داود عن ابن مسعود قال: «إذا تكلم الله تعالى بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل فإذا أتاهم جبريل عليه السّلام فرّع عن قلوبهم فيقولون: يا جبريل ماذا قال ربكم؟ فيقول: الحق الحق» ثم ذكر في أمر الغاية واتصال الآية بما قبلها عل ذلك أنه يستخرج معنى المغيا من المفهوم وذلك إن المشركين لما ادعوا شفاعة الآلهة والملائكة وأجيبوا بقوله تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام والملائكة وسميتموهم باسمه تعالى والتجئوا إليهم فإنهم لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا تنفع الشفاعة من هؤلاء إلا للملائكة لكن من الإذن والفزع العظيم وهم لا يشفعون إلا للمرضيين فعبر عن الملائكة عليهم السّلام بقوله تعالى: إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ الآية كناية كأنه قيل: لا تنفع الشفاعة إلا لمن هذا شأنه ودأبه وأنه لا يثبت عند صدمة من صدمات هذا الكتاب المبين وعند سماع كلام الحق يعني الذين إذا نزل عليهم الوحي يفزعون ويصعقون حتى إذا أتاهم جبريل عليه السّلام فزع عن قلوبهم فيقولون: ماذا قال ربكم؟ فيقول: الحق انتهى، ولا يخفى على من له أدنى تمييز حاله وأنه مما لا ينبغي أن يعول عليه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 311 وقول ابن عطية: إن تأويل الآية بالملائكة إذا سمعت الوحي إلى جبريل أو الأمر بأمر الله تعالى به فتسمع كجر سلسلة الحديد على الحديد فتفزع تعظيما وهيبة، وقيل خوف قيام الساعة هو الصحيح وهو الذي تظاهرت به الأحاديث ناشىء من حرمان عطية سلامة الذوق وتدقيق النظر، والتفسير الذي ذكرناه أولا بمراحل في الحسن عما ذكر عن أكثر المفسرين، وما سمعت من الرواية لا ينافيه إذ لا دلالة فيه على أنه عليه الصلاة والسّلام ذكر ذلك في معرض تفسير الآية ولا تنافي بين التفزيعين وكأن الأكثر من المفسرين نظروا إلى ظاهر طباق اللفظ مع الحديث فنزلوا الآية على ذلك فوقعوا فيما وقعوا فيه وإن كثروا وجلوا، والقائل بما سبق نظر إلى طباق المقام وحقق عدم المنافاة وظهر له حال ما قالوه فعدل عنه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الضحاك أنه قال في الآية: زعم ابن مسعود أن الملائكة المعقبات الذين يختلفون إلى أهل الأرض يكتبون أعمالهم إذا أرسلهم الرب تبارك وتعالى فانحدروا سمع لهم صوت شديد فيحسب بالذين أسفل منهم من الملائكة أنه من أمر الساعة فيخرون سجدا وهذا كلما مروا عليهم فيفعلون من خوف ربهم تبارك وتعالى، وابن مسعود عندي أجل من أن يحمل الآية على هذا فالظاهر أنه لا يصح عنه. ومثل هذا ما زعمه بعضهم أن ذاك فزع ملائكة أدنى السماوات عند نزول المدبرات إلى الأرض، وقيل: إن حَتَّى غاية متعلقة بقوله تعالى زَعَمْتُمْ أي زعمتم الكفر إلى غاية التفزيع ثم تركتم ما زعمتم وقلتم قال الحق وإليه يشير ما أخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أنه قال في الآية: حتى إذا فزع الشيطان عن قلوبهم ففارقهم وأمانيهم وما كان يضلهم به قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير ثم قال: وهذا في بني آدم أي كفارهم عند الموت أقروا حين لا ينفعهم الإقرار، والظاهر أن في الكلام عليه التفاتا من الخطاب في زَعَمْتُمْ إلى الغيبة في قُلُوبِهِمْ وأن ضمير قالُوا الأول للملائكة الموكلين بقبض أرواحهم والمراد بالتفزيع عن القلوب كشف الغطاء وموانع إدراك الحق عنها. وما نقل عن الحسن من أنه قال: إنما يقال للمشركين ماذا قال ربك أي على لسان الأنبياء عليهم السّلام فأقروا حين لا ينفع يحتمل أن يكون كالقول المذكور في أن ذلك عند الموت ويحتمل أن يكون قولا بأن ذلك يوم القيامة إلا أن في جعل حتى غاية للزعم عليه غير ظاهر إذ لا يستصحبهم ذلك إلى يوم القيامة حقيقة كما لا يخفى، وأبعد من هذا القول كون ذلك غاية لقوله تعالى: مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وضمير قلوبهم لمن باعتبار معناه، والتفزيع كشف الغطاء ومواقع إدراك الحق بل هو مما لا ينبغي حمل كلام الله تعالى عليه. وزعم بعضهم أن المعنى إذا دعاهم إسرافيل عليه السّلام من قبورهم قالوا مجيبين ماذا قال ربكم حكاه في البحر ثم قال: والتفزيع من الفزع الذي هو الدعاء والاستصراخ كما قال زهير: إذا فزعوا طاروا إلى مستغيثهم ... طوال الرماح لا ضعاف ولا عزل وأنت تعلم أن التفزيع بالمعنى المذكور لا يتعدى بعن وأمر الغاية عليه غير ظاهر، وبالجملة ذلك الزعم ليس بشيء. واختار أبو حيان أن المغيا الاتباع في قوله تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وضمير قلوبهم عائد إلى ما عاد إليه ضمير الرفع في (اتبعوه) أعني الكفار وكذا ضمير قالُوا الثاني وضمير قالُوا الأول للملائكة وكذا ضمير رَبُّكُمْ وجملة قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ إلخ اعتراضية بين الغاية والمغيا والتفزيع حال مفارقة الحياة أو يوم القيامة وبجعل اتباعهم إبليس مستصحبا لهم إلى ذلك اليوم مجازا، ولا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 312 يخفى بعده، والوجه عندي ما ذكر أولا، وماذا تحتمل أن تكون منصوبة بقال أي أي شيء قال ربكم، وتحتمل أن تكون في موضع رفع على أن ما اسم استفهام مبتدأ وذا اسم موصول خبره وجملة قال صلة الموصول والعائد محذوف أي ما الذي قاله ربكم، وقرأ ابن عباس وابن مسعود وطلحة وأبو المتوكل الناجي وابن السميفع وابن عامر ويعقوب «فزّع» بالتشديد والبناء للفاعل والفاعل ضمير الله تعالى المستتر أي أزال الله تعالى الفزع عن قلوبهم. وقال أبو حيان: هو ضميره تعالى إن كان ضمير قلوبهم للملائكة وإن كان للكفار فهو ضمير مغريهم. وقرأ الحسن «فزع» بالتخفيف والبناء للمفعول فعن قلوبهم نائب الفاعل كما في قراءة الجمهور، وقرأ هو وأبو المتوكل أيضا وقتادة ومجاهد «فرغ» بالفاء والراء المهملة والغين المعجمة مشددا مبنيا للفاعل بمعنى أزال، وقرأ الحسن أيضا كذلك إلا أنه خفف الراء، وقرأ عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما والحسن أيضا وأيوب السختياني وقتادة أيضا وأبو مجلز «فرغ» كذلك إلا أنهم بنوه للمفعول وقرأ ابن مسعود في رواية وعيسى «افرنقع» قيل بمعنى تفرق. وقال الزمخشري: بمعنى انكشف، والكلمة مركبة من حروف المفارقة مع زيادة العين كما ركب اقمطر من حروف القمط مع زيادة الراء، وفيه إيهام أن العين والراء من حروف الزيادة وليس كذلك، وقرأ ابن أبي عبلة «الحق» بالرفع أي مقوله الحق قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أمر صلّى الله عليه وسلم أن يقول ذلك تبكيتا للمشركين بحملهم على الإقرار بأن آلهتهم لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وإن الرزاق هو الله عزّ وجلّ فإنهم لا ينكرونه وحيث كانوا يتلعثمون أحيانا في الجواب مخافة الإلزام قيل له عليه الصلاة والسّلام قُلِ اللَّهُ إذ لا جواب سواه عندهم أيضا وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي وإن أحد الفريقين منا معشر الموحدين المتوحد بالرزق والقدرة الذاتية العابدية وحده عزّ وجلّ ومنكم فرقة المشركين به العاجزين في أنفسهم عن دفع أدنى ضر وجلب أحقر نفع وفيهم النازل إلى أسفل المراتب الإمكانية المتصفون بأحد الأمرين من الاستقرار على الهدى والانغماس في الضلال، وهذا من الكلام المنصف الذي كل من سمعه من موال أو مناف قال لمن خوطب به: قد أنصفك صاحبك، وفي درجة بعد تقدمة ما قدم من التقرير البليغ دلالة ظاهرة على من هو من الفريقين على هدى ومن هو في ضلال ولكن التعريض أبلغ من التصريح وأوصل بالمجادل إلى الغرض وأهجم به على الغلبة مع قلة شغب الخصم وفل شوكته بالهوينا، ونحوه قول الرجل لصاحبه قد علم الله تعالى الصادق مني ومنك وإن أحدنا لكاذب، ومنه قول حسان يخاطب أبا سفيان بن حرب وكان قد هجا رسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل أن يسلم: أتهجوه ولست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداء وقول أبي الأسود: يقول الأرذلون بنو قشير ... طوال الدهر لا تنسى عليا بنو عم النبي وأقربوه ... أحب الناس كلهم اليا فإن يك حبهم خيرا أصبه ... ولست بمخطىء إن كان غيا وذهب أبو عبيدة إلى أن أو بمعنى الواو كما في قوله: سيان كسر رغيفه ... أو كسر عظم من عظامه والكلام من باب اللف والنشر المرتب بأن يكون على هُدىً راجعا لقوله تعالى: إِنَّا وفِي ضَلالٍ راجعا لقوله سبحانه: إِيَّاكُمْ فإن العقل يحكم بذلك كما في قول امرئ القيس: كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 313 ولا يخفى بعده، وأيا ما كان فليس هذا من باب التقية في شيء كما يزعمه بعض الجهلة، والظاهر أن لَعَلى هُدىً إلخ خبر إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ من غير تقدير حذف إذ المعنى إن أحدنا لمتصف بأحد الأمرين كقولك زيد أو عمرو في السوق أو في البيت، وقيل: هو خبر إِنَّا وخبر إِيَّاكُمْ محذوف تقديره لعلى هدى أو في ضلال مبين وقيل هو خبر إِيَّاكُمْ وخبر إِنَّا محذوف لدلالة ما ذكر عليه، وإِيَّاكُمْ على تقديران ولكنها لما حذفت انفصل الضمير. وفي البحر لا حاجة إلى تقدير الحذف في مثل هذا وإنما يحتاج إليه في نحو زيد أو عمرو قائم فتدبر، والمتبادر أن مُبِينٍ صفة ضَلالٍ ويجوز أن يكون وصفا له ولهدى والوصف وكذا الضمير يلزم إفراده بعد المعطوف بأو، وأدخل على على الهدى للدلالة على استعلاء صاحبه وتمكنه واطلاعه على ما يريد كالواقف على مكان عال أو الراكب على جواد يركضه حيث شاء، وفِي على الضلال للدلالة على انغماس صاحبه في ظلام حتى كأنه في مهواة مظلمة لا يدري أين يتوجه ففي الكلام استعارة مكنية أو تبعية. وفي قراءة أبي إنا أو إياكم إما على هدى أو في ضلال مبين. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 314 قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ هذا أبلغ في الإنصاف حيث عبر عن الهفوات التي لا يخلو عنها مؤمن بما يعبر به عن العظائم وأسند إلى النفس وعن العظائم من الكفر ونحوه بما يعبر به عن الهفوات وأسند للمخطابين وزيادة على ذلك أنه ذكر الإجرام المنسوب إلى النفس بصيغة الماضي الدالة على التحقق وعن العمل المنسوب إلى الخصم بصيغة المضارع التي لا تدل على ذلك، وذكر أن في الآية تعريضا وأنه لا يضر بما ذكر، وزعم بعضهم أنها من باب المتاركة وأنها منسوخة بآية السيف. قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا يوم القيامة عند الحشر والحساب ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ يقضي سبحانه بيننا ويفصل بعد ظهور حال كل منا ومنكم بالعدل بأن يدخل المحقين الجنة والمبطلين النار وَهُوَ الْفَتَّاحُ القاضي في القضايا المنغلقة فكيف بالواضحة كإبطال الشرك وإحقاق التوحيد أو القاضي في كل قضية خفية كانت أو واضحة، والمبالغة على الأول في الكيف وعلى الثاني في الكم، ولعل الوجه الأول أولى، وفيه إشارة إلى وجه تسمية فصل الخصومات فتحا وأنه في الأصل لتشبيه ما حكم فيه بأمر منغلق كما يشبه بأمر منعقد في قولهم: حلال المشكلات، وقرأ عيسى «الفاتح» الْعَلِيمُ بما ينبغي أن يقضي به أو بكل شيء. قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ استفسار عن شبهتهم بعد إلزام الحجة عليهم زيادة في تبكيتهم، وأرى على ما استظهره أبو حيان بمعنى أعلم فتتعدى إلى ثلاثة مفاعيل ياء المتكلم والموصول وشُرَكاءَ وعائد الموصول محذوف أي ألحقتموهم، والمراد أعلموني بالحجة والدليل كيف وجه الشركة، وجوز كون رأي بصرية تعدت بالنقل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 315 لاثنين ياء المتكلم والموصول وشُرَكاءَ حال من ضمير الموصول المحذوف أي ألحقتموهم متوهما شركتهم أو مفعول ثان لألحق لتضمينه معنى الجعل أو التسمية، والمراد أرونيهم لأنظر بأي صفة ألحقتموهم بالله عزّ وجلّ الذي ليس كمثله شيء في استحقاق العبادة أو ألحقتموهم به سبحانه جاعليهم أو مسميهم شركاء، والغرض إظهار خطئهم العظيم. وقال بعض الأجلة: لم يرد من أَرُونِيَ حقيقته لأنه صلّى الله عليه وسلم كان يراهم ويعلمهم فهو مجاز وتمثيل، والمعنى ما زعمتموه شريكا إذا برز للعيون وهو خشب وحجر تمت فضيحتكم، وهذا كما تقول للرجل الخسيس الأصل اذكر لي أباك الذي قايست به فلانا الشريف ولا تريد حقيقة الذكر وإنما تريد تبكيته وأنه إن ذكر أباه افتضح. كَلَّا ردع لهم عن زعم الشركة بعد ما كسره بالإبطال كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسّلام: أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنبياء: 67] بعد ما حج قومه بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ أي الموصوف بالغلبة القاهرة المستدعية لوجوب الوجود الْحَكِيمُ الموصوف بالحكمة الباهرة المستدعية للعلم المحيط بالأشياء، وهؤلاء الملحقون عن الاتصاف بذلك في معزل وعن الحوم حول ما يقتضيه بألف ألف منزل، والضمير أما عائد لما في الذهن وما بعده وهو الله الواقع خبرا له يفسره والْعَزِيزُ الْحَكِيمُ صفتان للاسم الجليل أو عائد لربنا في قوله سبحانه: «يفتح بيننا ربنا» على ما قيل أو هو ضمير الشأن واللَّهُ مبتدأ والْعَزِيزُ الْحَكِيمُ خبره والجملة خبر ضمير الشأن لأن خبره لا يكون إلا جملة على الصحيح وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ المتبادر أن كَافَّةً حال من الناس قدم مع إلا عليه للاهتمام كما قال ابن عطية، وأصله من الكف بمعنى المنع وأريد به العموم لما فيه من المنع من الخروج واشتهر في ذلك حتى قطع النظر فيه عن معنى المنع بالكلية فمعنى جاء الناس كافة جاؤوا جميعا، ويشير إلى هذا الإعراب ما أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد أنه قال في الآية: أي إلى الناس جميعا، وما أخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب أنه قال: أي للناس كافة، وكذا ما أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال في الآية: أرسل الله تعالى محمدا صلّى الله عليه وسلم إلى العرب والعجم فأكرمهم على الله تعالى أطوعهم له، وما نقل عن ابن عباس أنه قال: أي إلى العرب والعجم وسائر الأمم، وهو مبني على جواز تقديم الحال على صاحبها المجرور بالحرف وهو الذي ذهب إليه خلافا لكثير من النحاة أبو علي وابن كيسان وابن برهان والرضي وابن مالك حيث قال: وسبق حال ما بحرف جر قد ... أبوا ولا أمنعه فقد ورد وأبو حيان حيث قال بعد أن نقل الجواز عمن عدا الرضى من المذكورين وهو الصحيح: ومن أمثلة أبي علي زيد خير ما يكون خير منك، وقال الشاعر: إذا المرء أعيته المروءة ناشئا ... فمطلبها كهلا عليه شديد وقال آخر: تسليت طرا عنكم بعد بينكم ... بذكراكم حتى كأنكم عندي وقد جاء تقديم الحال على صاحبها المجرور وعلى ما يتعلق به، ومن ذلك قوله: مشغوفة بك قد شغفت وإنما ... حتم الفراق فما إليك سبيل وقول آخر: غافلا تعرض المنية للمرء ... فيدعى ولات حين إباء الجزء: 11 ¦ الصفحة: 316 وإذا جاز تقديمها على المجرور والعامل فتقديمها عليه دون العامل أجوز انتهى، وجعلوا هذا الوجه أحسن الأوجه في الآية وقالوا: إن ما عداه تكلف، واعترض بأنه يلزم عليه عمل ما قبل إلا وهو- أرسل- فيما بعدها وهو لِلنَّاسِ وليس بمستثنى ولا مستثنى منه ولا تابعا له وقد منعوه، وأجيب بأن التقدير وما أرسلناك للناس إلا كافة فهو مقدم رتبة ومثله كاف في صحة العمل مع أنهم يتوسعون في الظرف ما لا يتوسعون في غيره. وقال الخفاجي عليه الرحمة: الأحسن أن يجعل لِلنَّاسِ مستثنى على أن الاستثناء فيه مفرغ وأصله ما أرسلناك لشيء من الأشياء إلا لتبليغ الناس كافة، وأما تقديره بما أرسلناك للخلق مطلقا إلا للناس كافة على أنه مستثنى فركيك جدا اهـ، ولا يخفى أن في الآية على ما أستحسنه حذف المضاف والفصل بين أداة الاستثناء والمستثنى وتقديم الحال على صاحبها والكل خلاف الأصل وقلما يجتمع مثل ذلك في الكلام الفصيح. واعترض عليه أيضا بأنه يلزم حينئذ جعل اللام في لِلنَّاسِ بمعنى إلى وليس بشيء لأن أرسل يتعدى باللام وإلى كما ذكره أبو حيان وغيره فلا حاجة إلى جعلها بمعنى إلى على أنه لو جعلت بمعناها لا يلزم خطأ أصلا لمجيء كل من اللام وإلى بمعنى الآخر، وكذا لا حاجة إلى جعلها تعليلية إلا على ما استحسنه الخفاجي. وقال غير واحد: إن كَافَّةً اسم فاعل من كف والتاء فيه للمبالغة كتاء راوية ونحوه وهو حال من مفعول أَرْسَلْناكَ ولِلنَّاسِ متعلق به وإليه ذهب أبو حيان أي ما أرسلناك إلا كافا ومانعا للناس عن الكفر والمعاصي. وإلى الحالية من الكاف ذهب أبو علي أيضا إلا أنه قال: المعنى إلا جامعا للناس في الإبلاغ. وتعقبه أبو حيان بأن اللغة لا تساعد على ذلك لأن كف ليس بمحفوظ أن معناه جمع، وفيه منع ظاهر لأنه يقال: كف القميص إذا جمع حاشيته وكف الجرح إذا ربطه بخرقة تحيط به وقد قال ابن دريد: كل شيء جمعته فقد كففته مع أنه جوز أن يكون مجازا من المنع لأن ما يجمع يمتنع تفرقه وانتشاره، وقيل: إنه مصدر كالكاذبة والعاقبة والعافية وهو أيضا حال من الكاف إما باق على مصدريته بلا تقدير شيء مبالغة وإما بتأويل اسم الفاعل أو بتقدير مضاف أي إلا إذا كافة أي ذا كف أي منع للناس من الكفر، وقيل ذا منع من أن يشذوا عن تبليغك، وذهب بعضهم إلى أنه مصدر وقع مفعولا له ولم يشترط في نصبه اتحاد الفاعل كما ارتضاه الرضي، وذهب العلامة الزمخشري إلى أنه اسم فاعل من الكف صفة لمصدر محذوف وتاؤه للتأنيث أي ما أرسلناك إلا إرسالة كافة أي عامة لهم محيطة بهم لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم عن أن يخرج منها أحد منهم. واعترض عليه بأن كافة لم ترد عن العرب إلا منصوبة على الحال مختصة بالمتعدد من العقلاء وأن حذف الموصوف، وإقامة الصفة مقامه إنما يكون لما عهد وصفه بها بحيث لا تصلح لغيره وأجيب بأن كافة هاهنا غير ما التزم فيه الحالية وإن رجعا إلى معنى واحد، وما قيل من أنه لم تستعمله العرب إلا كذلك ليس بشيء وإقامة الصفة مقام موصوفها منقاس مطرد بدون شرط إذا قامت عليه قرينة، وذكر الفعل قبله دال على تقدير مصدره كما في قمت طويلا وحسنا أي قياما طويلا وحسنا. وفي الحواشي الخفاجية قد صح أن عمر رضي الله تعالى عنه قال في كتابه لآل بني كاكلة: قد جعلت لآل بني كاكلة على كافة بيت المسلمين لكل عام مائتي مثقال ذهبا إبريزا وقاله علي كرّم الله تعالى وجهه حين أمضاه فقد استعمل هذان الإمامان كافة في غير العقلاء وغير منصوب على الحالية. ولا يخفى أن بعض ما اعترض به على هذا الوجه يعترض به على بعض الأوجه السابقة أيضا، والجواب هو الجواب. والذي اختاره في الآية ما هو المتبادر، ولا بأس بالتقدم والاستعمال وارد عليه ولا قياس يمنعه، وأمر تخطي العامل إلا إلى ما ليس مستثنى ولا مستثنى منه سهل لحديث التوسع في الظرف، والآية عليه أظهر في الاستدلال على الجزء: 11 ¦ الصفحة: 317 عموم رسالته صلّى الله عليه وسلم وهي في ذلك كقوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف: 158] ولو استدل بها القاضي أبو سعيد لبهت اليهودي، وقد يستدل عليه بما لا يكاد ينكره من فعله صلّى الله عليه وسلم مع اليهود في عصره ودعوته عليه الصلاة والسّلام إياهم إلى الإسلام بَشِيراً لمن أسلم بالثواب وَنَذِيراً لمن لم يسلم بالعقاب، والوصفان حالان من مفعول أَرْسَلْناكَ وقد يجعلان على بعض الأوجه السابقة بدلا من كَافَّةً نحو بدل المفصل من المجمل فتأمل. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ذلك فيحملهم جهلهم على الإصرار على ما هم عليه من الغي والضلال وَيَقُولُونَ أي لجهلهم حقيقة أو حكما ولذا لم يعطف بالفاء وقيل يقولون أي من فرط تعنتهم وعدم العطف بالفاء لذلك. وقيل الحامل فرط الجهل وعدم العطف بالفاء لظهور تفرعه على ما قبله ومثله يوكل إلى ذهن السامع، وقيل إن ذاك لأن فرط الجهل غير الجهل وهو كما ترى، وقيل لأن هذا حال بعض وعدم العلم في قوله تعالى: لا يَعْلَمُونَ حال بعض آخر، والذي يظهر لي أن القائلين بالفعل هم بعض المشركين المعاصرين له صلّى الله عليه وسلم لا أكثر الناس مطلقا وأن المراد بصيغة المضارع الاستمرار التجددي، وقيل عبر بها استحضارا للصورة الماضية لنوع غرابة والأصل وقالوا: مَتى هذَا الْوَعْدُ بطريق الاستهزاء يعنون المبشر به والمنذر عنه أو الموعود بقوله تعالى: يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ مخاطبين رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين به. قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ أو وعد يوم على أن مِيعادُ مصدر ميمي أو اسم أقيم مقام المصدر على ما نقل عن أبي عبيدة وهو بمعنى الموعود، وقيل: الكلام على تقدير مضاف أي لكم وقوع وعد يوم أو نجز وعد يوم، وتنوين يوم للتعظيم أي يوم عظيم، وجوز أن يكون الميعاد اسم زمان وإضافته إلى يَوْمٍ للتبيين أي لبيان زمان الوعد بأنه يوم مخصوص نحو سحق ثوب وبعير سانية، وأيد الوجه الأول بوقوع الكلام جواب لقولهم مَتى هذَا الْوَعْدُ والوجه الثاني أنه قرىء «ميعاد يوم» برفعهما وتنوينهما فإن يوم على هذه القراءة بدل وذلك يقتضي أن الميعاد نفس اليوم، وكونه بدل اشتمال بعيد، وكذا ما قال أبو حيان من أنه على تقدير محذوف أي قل لكم ميعاد ميعاد يوم فلما حذف المضاف أعرب ما قام مقامه بإعرابه، وقرأ ابن أبي عبلة «ميعاد» بالرفع والتنوين «يوما» بالنصب والتنوين قال الزمخشري: وهو على التعظيم بإضمار فعل تقديره لكم ميعاد أعني يوما من صفته كيت وكيت، ويجوز الرفع على هذا أيضا، وجوز أن يكون على الظرفية لميعاد على أنه مصدر بمعنى الموعود لا اسم زمان، وقال في البحر: يجوز أن يكون انتصابه على الظرف والعامل فيه مضاف محذوف أي إنجاز وعد يوما من صفته كيت وكيت. وقرأ عيسى «ميعاد» منونا «يوم» بالنصب من غير تنوين مضافا إلى الجملة ووجه النصب ما مر آنفا. لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً إذا فاجأكم وَلا تَسْتَقْدِمُونَ أي عنه ساعة، والهاء على ما قال أبو البقاء يجوز أن تعود على مِيعادُ وإن تعود على يَوْمٍ وعلى أيهما عادت كانت الجملة وصفا له. وفي الإرشاد هي صفة لازمة لميعاد، وفي الجواب على تقدير تقييد النفي بالمفاجأة من المبالغة في التهديد ما لا يخفى، ويجوز أن يكون النفي غير مقيد بذلك فيكون وصف الميعاد بما ذكر لتحقيقه وتقديره، وقد تقدم الكلام في نظير هذه الجملة فتذكر. ولما كان سؤالهم عن الوقت على سبيل التعنت أجيبوا بالتهديد، وحاصله أنه لوحظ في الجواب المقصود من سؤالهم لا ما يعطيه ظاهر اللفظ وليس هذا من الأسلوب الحكيم فإن البليغ يلتفت لفت المعنى، وقال الطيبي: هو منه سألوا عن وقت إرساء الساعة وأجيبوا عن أحوالهم فيها فكأنه قيل: دعوا السؤال عن وقت إرسائها فإن كينونته لا بدّ منه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 318 بل سلوا عن أحوال أنفسكم حيث تكونون مبهوتين متحيرين فيها من هول ما تشاهدون فهذا أليق بحالكم من أن تسألوا عنه وهو كما ترى، وقيل: إنه متضمن الجواب بأن ذلك اليوم لا يعلمه إلا الله عزّ وجلّ لمكان تنكير يَوْمٍ وهو تعسف لا حاجة إليه. واختلف في هذا اليوم فقيل يوم القيامة وعليه كلام الطيبي، وقيل: يوم مجيء أجلهم وحضور منيتهم، وقيل: يوم بدر وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا وهو مشركو العرب لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي من الكتب القديمة كما روي عن قتادة والسدي وابن جريج، ومرادهم نفي الإيمان بجميع ما يدل على البعث من الكتب السماوية المتضمنة لذلك، ويروى أن كفار مكة سألوا أهل الكتاب عن الرسول صلّى الله عليه وسلم فأخبروهم أنهم يجدون صفته عليه الصلاة والسّلام في كتبهم فأغضبهم ذلك فقالوا ما قالوا، وضعف بأنه ليس في السياق والسباق ما يدل عليه، وقيل الذي بين يديه القيامة. وخطأ ابن عطية قائله بأن ما بين اليد في اللغة المتقدم. وتعقب بأنه قد يراد به ما مضى وقد يراد به ما سيأتي. نعم يضعف ذلك أن ما بين يدي الشيء يكون من جنسه لكن محصل كلامهم على هذا أنهم لم يؤمنوا بالقرآن ولا بما دل عليه، وأما ادعاء أن الأكثر كونه لما مضى فقد قيل أيضا إنه غير مسلم، وحكى الطبرسي أن المراد بالذين كفروا اليهود وحينئذ يراد بما بين يديه الإنجيل، ولا يخفى أن هذا القول مما لا ينبغي أن يلتفت إليه وليس في السباق والسياق ما يدل عليه وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلم أو لكل واقف عليه، ومفعول تَرى إذا أو محذوف وإِذِ ظرف له أي أي حال الظالمين ولَوْ للتمني مصروفا إلى غيره تعالى لا جواب لها أو هو مقدر أي لرأيت أمرا فظيعا أو نحوه، والظَّالِمُونَ ظاهر وضع موضع للتسجيل وبيان علة استحقاقهم، والأصل ولو ترى إذ هم موقوفون عند ربهم أي في موقف المحاسبة يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ أي يتحاورون ويتراجعون القول، والجملة في موضع الحال، وقوله تعالى: يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا استئناف لبيان تلك المجاورة أو بدل من يَرْجِعُ إلخ أي يقول الأتباع لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا في الدنيا واستتبعوهم في الغي والضلال لَوْلا أَنْتُمْ صددتمونا عن الهدى لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ بما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلم. قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا استئناف بياني كأنه قيل: فماذا قال الذين استكبروا لما اعترض عليهم الأتباع ووبخوهم؟ فقيل قالوا: أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ أنكروا أن يكونوا هم الذين صدوهم عن الإيمان وأثبتوا أنهم هم الذين صدوا أنفسهم أي لسنا نحن الذين حلنا بينكم وبين الإيمان بعد إذ صممتم على الدخول فيه بل أنتم منعتم أنفسكم حظها بإجرامكم وإيثاركم الكفر على الإيمان. ووقوع إذ مضافا إليها الظرف شائع في كلامهم كوقوعها مضافة وذلك من باب الاتساع في الظروف لا سيما الزمانية، وبهذا يجاب عما قيل إن إذ من الظروف اللازمة للظرفية فكيف وقعت هاهنا مجرورة مضافا إليها. وقال صاحب الفرائد إن إذ هاهنا جردت عن معنى الظرفية وانسلخت عنه رأسا وصيرت اسما صرفا لأن المراد من وقت مجيء الهدى هو الهدى لا الوقت نفسه فلذا أضيف إليها. وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إضرابا عن إضرابهم وإبطالا له بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي بل صدنا مكركم بنا في الليل والنهار فحذف المضاف إليه وأقيم مقامه الظرف اتساعا أو جعل الليل والنهار ماكرين على الإسناد المجازي، وقيل لا حاجة إلى ذلك فإن الإضافة على معنى في. وتعقب بأنها مع أن المحققين لم يقولوا بها يفوت باعتبارها المبالغة، ويعلم مما أشرنا إليه أن مَكْرُ فاعل لفعل محذوف، وجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف الجزء: 11 ¦ الصفحة: 319 أو مبتدأ خبره محذوف أي سبب كفرنا مكر الليل والنهار أو مكر الليل والنهار سبب كفرنا. وقرأ قتادة ويحيى بن يعمر بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ بالتنوين ونصب الظرفين أي بل صدنا مكركم أو مكر عظيم في الليل والنهار. وقرأ محمد بن جعفر وسعيد بن جبير وأبو رزين وابن يعمر أيضا «مكرّ الليل والنهار» بفتح الميم والكاف وتشديد الراء والرفع مع الإضافة أي بل صدنا كرور الليل والنهار واختلافهما، وأرادوا على ما قيل الإحالة على طول الأمل والاغترار بالأيام مع هؤلاء الرؤساء بالكفر بالله عزّ وجلّ. وقرأ ابن جبير أيضا وراشد القاري وطلحة كذلك إلا أنهم نصبوا مكرا على الظرف أي بل صددتمونا مكر الليل والنهار أي في مكرهما أي دائما، وجوز أن يكون مفعولا مطلقا أي تكرون الإغراء مكرا دائما لا تفترون عنه، وجوز صاحب اللوامح كونه ظرفا لتأمروننا بعد. وتعقبه أبو حيان بأنه وهم لأن ما بعد إذ لا يعمل فيما قبلها، وقوله تعالى: إِذْ تَأْمُرُونَنا بدل من الليل والنهار أو تعليل للمكر، وجعله في الإرشاد ظرفا له أي بل مكركم الدائم وقت أمركم لنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً على أن مكرهم إما نفس أمرهم بما ذكر وأما أمور آخر مقارنة لأمرهم داعية إلى الامتثال به من الترغيب والترهيب وغير ذلك. وجملة قالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا إلخ عطف على جملة يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا إلخ وإن تغايرتا مضيا واستقبالا. ولما كان هذا القول رجوعا منهم إلى الكلام دون قول المستكبرين أنحن صددناكم فإنه ابتداء كلام وقع جوابا للاعتراض عليهم جيء بالعاطف هاهنا ولم يجىء به هناك على ما اختاره بعضهم، وقيل: إن النكتة في ذلك أنه لما حكي قول المستضعفين بعد قوله تعالى يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ كان مظنة إن يقال: فماذا قال الذين استكبروا للذين استضعفوا وهل كان بين الفريقين تراجع؟ فقيل: قال الذين استكبروا كذا، وقال الذين استضعفوا كذا فأخرج مجموع القولين مخرج الجواب وعطف بعض الجواب على بعض فتدبر، والأنداد جمع ند هو شائع فيمن يدعي أنه شريك مطلقا لكن ذكر الشيخ الأكبر قدس سره في تفسيره الجاري فيه على مسلك المفسرين إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن وبخطه الشريف النوراني رأيته أنه مخصوص بمن يدعي الألوهية كفرعون وأضرابه لأنه بذلك ند عن الله تعالى وشرد عن رحمته سبحانه وقال الشيخ: لأنه شرد عن العبودية له جل شأنه وَأَسَرُّوا أي أضمر الظالمون من الفريقين المستكبرين والمستضعفين النَّدامَةَ على ما كان منهم في الدنيا من الضلال والإضلال نظرا للمستكبرين ومن الضلال فقط نظرا للمستضعفين، والقول بحصول ندامتهم على الإضلال أيضا باعتبار قبوله تكلف، ولم يظهروا ما يدل عليها من المحاورة وغيرها لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ لأنهم بهتوا لما عاينوه فلم يقدروا على النطق واشتغلوا عن إظهارها بشغل شاغل، وقيل: أخفاها كل عن صاحبه مخافة التعيير، وتعقب بأنه كيف يتأتى هذا مع قول المستضعفين لرؤساهم لولا أنتم لكنا مؤمنين وأي ندامة أشد من هذا، وأيضا مخافة التعيير في ذلك المقام بعيدة، وقيل: أسرّوا الندامة بمعنى أظهورها فإن أسر من الأضداد إذ الهمزة تصلح للإثبات وللسلب فمعنى أسره جعله سرا أو أزال سره ونظيره أشكيت، وأنشد الزمخشري لنفسه: شكوت إلى الأيام سوء صنيعها ... ومن عجب باك فشكا إلى المبكي فما زادت الأيام إلا شكاية ... وما زالت الأيام تشكى ولا تشكي وتعقب ابن عطية هذا القول بأنه لم يثبت قط في لغة إن أسر من الأضداد، وأنت تعلم أن المثبت مقدم على النافي فلا تغفل وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ أي القيود فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا وهم المستكبرون والمستضعفون الجزء: 11 ¦ الصفحة: 320 والأصل في أعناقهم إلا أنه أظهر في مقام الإضمار للتنويه بذمهم والتنبيه على موجب إغلالهم، واستظهر أبو حيان عموم الموصول فيدخل فيه الفريقان المذكوران وغيرهم لأن من الكفار من لا يكون له اتباع تراجعه القول في الآخرة ولا يكون هو تابعا لرئيس له كالغلام الذي قتله الخضر عليه السّلام هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي لا يجزون إلا مثل الذي كانوا يعملونه من الشر، وحاصله لا يجزون إلا شرا، وجزى قد يتعدى إلى مفعولين بنفسه كما يشير إليه قول الراغب يقال جزيته كذا وبكذا، وجوز كون ما في محل النصب بنزع الخافض وهو إما الباء أو عن أو على فإنه ورد تعدية جزى بها جميعا، وقيل: إن هذا التعدي لتضمينه معنى القضاء ومتى صح ما سمعت عن الراغب لم يحتج إلى هذا وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ من القرى مِنْ نَذِيرٍ أي نذيرا من النذر إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها أي المتوسعون في النعم فيها، والجملة في موضع الحال إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ بزعمكم من التوحيد وغيره، والجار الثاني متعلق بما عنده والأول متعلق بقوله تعالى: كافِرُونَ وهو خبر إن، وظاهر الآية أن مترفي كل قرية قالوا لرسولهم ذلك وعليه فالجمع في أرسلتم للتهكم، وقيل: لتغليب المخاطب على جنس الرسل أو على اتباعه المؤمنين به، وقال بعض الأجلة الكلام من باب مقابلة الجمع بالجمع فقيل الجمع الأول الرسل المدلول عليه بقوله تعالى: أُرْسِلْتُمْ والثاني كافِرُونَ فقد كفر كل برسوله وخاطبه بمثله فلا تغليب في الخطاب في أرسلتم، وقيل: الجمع الأول نَذِيرٍ لأنه يفيد العموم في الحكاية لا المحكي لوقوعه في سياق النفي، وليس كل قوم منكرا لجميع الرسل فحمل على المقابلة، والكلام مسوق لتسلية رسول الله صلّى الله عليه وسلم مما ابتلى به من مخالفة مترفي قومه وعداوتهم له عليه الصلاة والسلام، وتخصيص المترفين بالتكذيب لأنهم في الأغلب أول المكذبين للرسل عليهم السّلام لما شغلوا به من زخرفة الدنيا وما غلب على قلوبهم منها فهم منهمكون في الشهوات والاستهانة بمن لم يحظ منها بخلاف الفقراء فإن قلوبهم لخلوها من ذلك أقبل للخير ولذلك تراهم أكثر اتباع الأنبياء عليهم السّلام كما جاء في حديث هرقل وَقالُوا الضمير للمترفين الذين تقدم ذكرهم، وقيل: لقريش، والظاهر المتبادر هو الأول، والمراد حكاية ما شجعهم على الكفر بما أرسل به المنذرون أي وقال المترفون: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً أي أموالنا وأولادنا كثيرة جدا فأفعل للزيادة المطلقة، وجوز بقاؤه على ما هو الأكثر استعمالا والمفضل عليه محذوف أي نحن أكثر منكم أموالا وأولادا وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ بشيء من أنواع العذاب الذي يكدر علينا لذة كثرة الأموال والأولاد من خوف الملوك وقهر الأعداء وعدم نفوذ الكلمة والكد في تحصيل المقاصد ونحو ذلك، وإيلاء الضمير حرف النفي للإشارة إلى أن المخاطبين أو المؤمنين ليسوا كذلك، وحاصل قولهم نحن في نعمة لا يشوبها نقمة وهو دليل كرامتنا على الله عزّ وجلّ ورضاه عنا فلو كان ما نحن عليه من الشرك وغيره مما تدعونا إلى تركه مخالفا لرضاه لما كنا فيما كنا فيه من النعمة، ويجوز أن يكونوا قد قاسوا أمور الآخرة الموهومة أو المفروضة عندهم على أمور الدنيا وزعموا أن المنعم عليه في الدنيا منعم عليه في الآخرة، وإلى هذا الوجه ذهب جمع وقالوا: نفي كونهم معذبين إما بناء على انتفاء العذاب الأخروي رأسا وإما بناء على بناء على اعتقاد أنه تعالى أكرمهم في الدنيا فلا يهينهم في الآخرة على تقدير وقوعها، وقال الخفاجي في وجه إيلاء الضمير حرف النفي: إنه إشارة إلى أن المؤمنين معذبون استهانة بهم لظنهم أن المال والولد يدفع العذاب عنهم كما قاله بعض المشركين، وأنت تعلم أن الأظهر عليه التفريع، وذهب أبو حيان إلى أن المراد بالعذاب المنفي أعم من العذاب الأخروي والعذاب الدنيوي الذي قد ينذر به الأنبياء عليهم السّلام ويتوعدون به قومهم إن لم يؤمنوا بهم، ولعل ما ذكرناه أولا أنسب بالمقام فتأمل جدا قُلْ ردا لما زعموه من أن ذلك دليل الكرامة والرضا إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ أن يبسط له وَيَقْدِرُ على من يشاء أن يقدره عليه فربما يوسع سبحانه على العاصي ويضيق على المطيع وربما يعكس الأمر وربما يوسع عليهما معا وقد يضيق عليهما معا وقد يوسع على شخص مطيع أو عاص تارة ويضيق عليه أخرى يفعل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 321 كلا من ذلك حسبما تقتضيه مشيئته عزّ وجلّ المبنية على الحكم البالغة فلو كان البسط دليل الإكرام والرضا لاختص به المطيع وكذا لو كان التضييق دليل الإهانة والسخط لاختص به العاصي وليس فليس، والحاصل كما قيل منع كون ذلك دليلا على ما زعموا لاستواء المعادي والموالي فيه، وقال جمع: أريد أنه تعالى يفعل ذلك حسب مشيئته المبنية على الحكم فلا ينقاس عليه أمر الثواب والعقاب اللذين مناطهما الطاعة وعدمها، وقال ناصر الدين: لو كان ذلك لكرامة أو هوان يوجبانه لم يكن بمشيئته تعالى، وهو مبني على أن الإيجاب ينافي الاختيار والمشيئة وقد قال به الخفاجي أخذا من كلام مولانا جلال الدين ورد به على من رد، ولا يخفى أن دعوى المترفين الإيجاب على الله تعالى فيما هم فيه من بسط الرزق وكذا فيما فيه أعداؤهم من تضييقه غير ظاهرة حتى يرد عليهم بإثبات المشيئة التي لا تجامع الإيجاب، وقرأ الأعمش «ويقدّر» مشدد هنا وفيما بعد وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ذلك فمنهم من يزعم أن مدار البسط الشرف والكرامة ومدار التضييق الهوان والحقارة، ومنهم من تحير واعترض على الله تعالى في البسط على أناس والتضييق على آخرين حتى قال قائلهم: كم عالم عالم أعيت مذاهبه ... وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا هذا الذي ترك الأفهام حائرة ... وصير العالم النحرير زنديقا وعنى هذا القائل بالعالم النحرير نفسه، ولعمرى إنه بوصف الجاهل البليد أحق منه بهذا الوصف فالعالم النحرير من يقول: ومن الدليل على القضاء وحكمه (1) ... بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى كلام مستأنف من جهته عزّ وجلّ خوطب به الناس بطريق التلوين والالتفات مبالغة في تحقيق الحق وتقرير ما سبق كذا في إرشاد العقل السليم، وجوز أن يكون ما تقدم لنفي أن يكون القرب والكرامة مدارا وعلة لكثرة الرزق وهذا النفي أن تكون كثرة الرزق سببا للقرب والكرامة ويكون الخطاب للكفرة، والتي واقع على الأموال والأولاد، وحيث إن الجمع المكسر عقلاؤه وغير عقلائه سواء في حكم التأنيث وكان المجموع بمعنى جماعة صح الأفراد والتأنيث أي وما جماعة أموالكم وأولادكم بالجماعة التي تقربكم عندنا قربة، ولا حاجة إلى تقدير مضاف في النظم الكريم، وما ذكر تقدير معنى لا إعراب، وعن الزجاج أن في الكلام حذفا في أوله لدلالة ما في آخره والتقدير وما أموالكم بالتي تقربكم عندنا زلفى ولا أولادكم بالتي إلخ، وأنت تعلم أنه لا حاجة إليه أيضا، وجوز أن تكون التي صفة لموصوف مفرد مؤنث تقديره بالتقوى أو بالخصلة التي، وجوز الزمخشري أن تكون التي كناية عن التقوى لأن المقرب إلى الله تعالى ليس إلا تلك أي وما أموالكم ولا أولادكم بتلك الموضوعة للتقريب. وقرأ الحسن «باللاتي» جمعا وهو راجع للأموال والأولاد كالتي على ما سمعت أولا. وقرىء «بالذي» أي بالشيء الذي يقربكم. وزلفى مصدر كالقربى وانتصابه على المصدرية من المعنى. وقرأ الضحاك «زلفا» بفتح اللام وتنوين الفاء جمع زلفة وهي القربة إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً استثناء من مفعول تُقَرِّبُكُمْ على ما ذهب إليه جمع، وهو استثناء متصل إذا كان الخطاب عاما للمؤمنين والكفرة ومنقطع إذا كان خاصا بالكفرة فالموصول في محل نصب أو رفع على   (1) نسخة وكونه بدل حكمه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 322 أنه مبتدأ ما بعده خبره أو خبره مقدر أي لكن من آمن وعمل صالحا فإيمانه وعمله يقربانه. واستظهر أبو حيان الانقطاع، وقال في البحر: فإن الزجاج ذهب إلى بدليته من المفعول المذكور وغلطه النحاس بأن ضمير المخاطب لا يجوز الإبدال منه فلا يقال رأيتك زيدا، ومذاهب الأخفش والكوفيين أنه يجوز أن يبدل من ضميري المخاطب والمتكلم لكن البدل في الآية لا يصح ألا ترى أنه لا يصح تفريغ الفعل الواقع صلة لما بعد إلا فلو قلت ما زيد بالذي يضرب إلا خالدا لم يصح اهـ. وذكر بعض الأجلة أن جعله استثناء من المفعول لا يصح على جعل التي كناية عن التقوى لأنه يلزم أن تكون الأموال والأولاد تقوى في حق غير من آمن وعمل صالحا لكنها غير مقربة، وقيل لا بأس بذلك إذ يصح أن يقال وما أموالكم ولا أولادكم بتقوى إلا المؤمنين، وحاصله أن المال والولد لا يكونان تقوى ومقربين لأحد إلا للمؤمنين، وإذا كان الاستثناء منقطعا صح واتضح ذلك، وجوز أن يكون استثناء من أَمْوالُكُمْ وأَوْلادُكُمْ على حذف مضاف أي إلا أموال من آمن وعمل صالحا وأولادهم، وفي هذا إذا جعل التي كناية عن التقوى مبالغة من حيث إنه جعل مال المؤمن الصالح وولده نفس التقوى. ثم إن تقريب الأموال المؤمن الصالح بإنفاقها فيما يرضي الله تعالى وتقريب الأولاد بتعليمهم الخير وتفقيههم في الدين وترشيحهم للصلاح والطاعة. فَأُولئِكَ إشارة إلى من والجمع باعتبار معناها كما أن الأفراد فيما تقدم باعتبار لفظها، وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبتهم وبعد منزلتهم في الفضل أي فأولئك المنعوتون بالإيمان والعمل الصالح لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ أي لهم أن يجازيهم الله تعالى الضعف أي الثواب المضاعف فيجازيهم على الحسنة بعشر أمثالهم أو بأكثر إلى سبعمائة فإضافة جزاء إلى الضعف من إضافة المصدر إلى مفعوله. وقرأ قتادة «جزاء الضّعف» برفعهما فالضعف بدل، وجوز الزجاج كونه خبر مبتدأ محذوف أي هو الضعف. ويعقوب في رواية بنصب «جزاء» ورفع «الضعف» فجزاء تمييز أو حال من فاعل لَهُمْ إن كان الضعف مبتدأ أو منه إن كان فاعلا أو نصب على المصدر لفعله الذي دل عليه لَهُمْ أي يجزون جزاء، وقرىء «جزاء» بالرفع والتنوين «الضعف» بالنصب على أعمال المصدر بِما عَمِلُوا من الصالحات وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ أي في غرفات الجنة ومنازلها العالية آمِنُونَ من جميع المكاره الدنيوية والأخروية وقرأ الحسن وعاصم بخلاف عنه والأعمش ومحمد بن كعب فِي الْغُرُفاتِ بإسكان الراء، وقرأ بعض القراء بفتحها، وابن وثاب والأعمش وطلحة وحمزة وخلف «في الغرفة» بالتوحيد وإسكان الراء، وابن وثاب أيضا بالتوحيد وضم الراء والتوحيد على إرادة الجنس لأن الكل ليسوا في غرفة واحدة والمفرد أخصر مع عدم اللبس فيه وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا بالرد والطعن فيها مُعاجِزِينَ أي بحسب زعمهم الباطل الله عزّ وجلّ أو الأنبياء عليهم السّلام، وحاصله زاعمين سبقهم وعدم قدرة الله تعالى أو أنبيائه عليهم السّلام، ومعنى المفاعلة غير مقصود هاهنا أُولئِكَ الذي بعدت منزلتهم في الشر فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ لا يجديهم ما ولوا عليه نفعا، وفي ذكر العذاب دون موضعه ما لا يخفى من المبالغة قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ أي يوسعه سبحانه عليه تارة ويضيقه عليه أخرى فلا تخشوا الفقر وأنفقوا في سبيل الله تعالى وتقربوا لديه عزّ وجلّ بأموالكم وتعرضوا لنفحاته جل وعلا فمساق الآية للوعظ والتزهيد في الدنيا والحض على التقرب إليه تعالى بالإنفاق وهذا بخلاف مساق نظيرها المتقدم فإنه للرد على الكفرة كما سمعت، وأيضا ما سبق عام وما هنا خاص في البسط والتضييق لشخص واحد باعتبار وقتين كما يشعر به قوله تعالى هنا لَهُ وعدم قوله هناك، والضمير وإن كان في موضع من المبهم إلا أن سبق النظير خاليا عن ذلك وذكر هذا بعد مشتملا عليه كالقرينة على إرادة ما ذكر فلا تغفل. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 323 وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ يحتمل أن تكون ما شرطية في موضع نصب بأنفقتم وقوله تعالى: فَهُوَ يُخْلِفُهُ جواب الشرط، ويحتمل أن تكون بمعنى الذي في موضع رفع بالابتداء والجملة بعد خبره ودخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، ومِنْ شَيْءٍ تبيين على الاحتمالين، ومعنى يُخْلِفُهُ يعطي بدله وما يقوم مقامه عوضا عنه وذلك إما في الدنيا بالمال كما هو الظاهر أو بالقناعة التي هي كنز لا يفنى كما قيل وإما في الآخرة بالثواب الذي كل خلف دونه وخصه بعضهم بالآخرة، أخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: إذا كان لأحدكم شيء فليقتصد ولا يتأول هذه الآية وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ فإن الرزق مقسوم ولعل ما قسم له قليل وهو ينفق الموسع عليه، وأخرج من عدا الفريابي من المذكورين عنه أنه قال في الآية: أي ما كان من خلف فهو منه تعالى وربما أنفق الإنسان ماله كله في الخير ولم يخلف حتى يموت، ومثلها: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود: 6] يقول ما آتاها من رزق فمنه تعالى وربما لم يرزقها حتى تموت، والأول أظهر لأن الآية في الحث على الإنفاق وأن البسط والقدر إذا كانا من عنده عزّ وجلّ فلا ينبغي لمن وسع عليه أن يخاف الضيعة بالإنفاق ولا لمن قدر عليه زيادتها، وقوله تعالى: وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ تذييل يؤيد ذلك كأنه قيل: فيرزقه من حيث لا يحتسب. وقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا» وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن جابر بن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «كل ما أنفق العبد نفقة فعلى الله تعالى خلفها ضامنا إلا نفقة في بنيان أو معصية» . وأخرج البخاري وابن مردويه عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «قال الله عزّ وجلّ أنفق يا ابن آدم أنفق عليك» وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عنه قال: «قال عليه الصلاة والسّلام إن المعونة تنزل من السماء على قدر المئونة» وفي حديث طويل عن الزبير قال الله تبارك وتعالى: «أنفق أنفق عليك وأوسع أوسع عليك ولا تضيق أضيق عليك ولا تصر فأصر عليك ولا تخزن فأخزن عليك إن باب الرزق مفتوح من فوق سبع سماوات متواصل إلى العرش لا يغلق ليلا ولا نهارا ينزل الله تعالى منه الرزق على كل امرئ بقدر نيته وعطيته وصدقته ونفقته فمن أكثر أكثر له ومن أقل أقل له ومن أمسك أمسك عليه يا زبير فكل وأطعم ولا توكي فيوكى عليك ولا تحصي فيحصى عليك ولا تقتر فيقتر عليك ولا تعسر فيعسر عليك» الحديث ، ومعنى الرازقين الموصلين للرزق والموهبين له فيطلق الرازق حقيقة على الله عزّ وجلّ وعلى غيره ويشعر بذلك فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ [النساء: 8] نعم لا يقال لغيره سبحانه رازق فلا إشكال في قوله سبحانه: وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ووجه الأخيرية في غاية الظهور، وقيل إطلاق الرازق على غيره تعالى مجاز باعتبار أنه واسطة في إيصال رزقه تعالى فهو رازق صورة فاستشكل أمر التفضيل بأنه لا بدّ من مشاركة المفضل المفضل عليه في أصل الفعل حقيقة لا صورة. وأجاب الآمدي بأن المعنى خير من تسمى بهذا الاسم وأطلق عليه حقيقة أو مجازا وهو ضرب من عموم المجاز وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً أي المستكبرين والمستضعفين أو الفريقين وما كانوا يعبدون من دون الله عزّ وجلّ، ويَوْمَ ظرف لمضمر متقدم أي واذكر يوم أو متأخر أي ويوم نحشرهم جميعا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ إلى آخره يكون من الأحوال والأهوال ما لا يحيط به نطاق المقال، وظاهر العطف بثم يقتضي أن القول للملائكة متراخ عن الحشر وفي الآثار ما شهد له، فقد روي أن الخلق بعد أن يحشروا يبقون قياما في الموقف سبع آلاف سنة لا يكلمون حتى يشفع في فصل القضاء نبينا صلّى الله عليه وسلم فلعله عند ذلك يقول سبحانه للملائكة عليهم السّلام أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ تقريعا للمشركين وتبكيتا وإقناطا لهم عما علقوا به أطماعهم الفارغة من شفاعة الملائكة عليهم السّلام الجزء: 11 ¦ الصفحة: 324 لعلمه سبحانه بما تجيب به على نهج قوله تعالى لعيسى عليه السّلام: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ [المائدة: 116] وتخصيصهم بالذكر لأنهم أشرف شركاء المشركين الذين لا كتاب لهم والصالحون عادة للخطاب وعبادتهم مبدأ الشرك بناء على ما نقل ابن الوردي في تاريخه في أن سبب حدوث عبادة الأصنام في العرب أن عمرو ابن لحي مر بقوم بالشام فرآهم يعبدون الأصنام فسألهم فقالوا له هذه أرباب نتخذها على شكل الهياكل العلوية فنستنصر بها ونستسقي فتبعهم وأتى بصنم معه إلى الحجاز ورسول للعرب فعبدوه واستمرت عبادة الأصنام فيهم إلى أن جاء الإسلام وحدثت عبادة عيسى عليه السّلام بعد ذلك بزمان كثير فبظهور قصورهم عن رتبة المعبودية وتنزههم عن عبادتهم يظهر حال سائر الشركاء بطريق الأولوية. وهؤُلاءِ مبتدأ وكانُوا يَعْبُدُونَ خبره وإِيَّاكُمْ مفعول يَعْبُدُونَ قدم للفاصلة مع أنه أهم لأمر التقريع واستدل بتقديمه على جواز تقديم خبر كان إذا كان جملة عليها كما ذهب إليه ابن السراج فإن تقديم المعمول مؤذن بجواز تقديم العامل. وتعقبه أبو حيان بأن هذه القاعدة ليست مطردة ثم قال: والأولى منع ذلك إلا أن يدل على جوازه سماع من العرب، وقرأ جمهور القراء «نحشرهم» «ثم نقول» بالنون في الفعلين قالُوا استئناف بياني كأنه قيل: فماذا تقول الملائكة حينئذ؟ فقيل تقول منزهين عن ذلك سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ والعدول إلى صيغة الماضي للدلالة على التحقق أي أنت الذي نواليه من دونهم لا موالاة بيننا وبينهم كأنهم بينوا بذلك براءتهم من الرضا بعبادتهم ثم أضربوا عن ذلك ونفوا أنهم عبدوهم حقيقة بقولهم: بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أي الشياطين كما روي عن مجاهد حيث كانوا يطيعونهم فيما يسولون لهم من عبادة غير الله تعالى، وقيل صورت الشياطين لهم صور قوم من الجن وقالوا: هذه صورة الملائكة فاعبدوها فعبدوها، وقيل: كانوا يدخلون في أجواف الأصنام إذا عبدت فيعبدون بعبادتها، وقيل أرادوا أنهم عبدوا شيئا تخيلوه صادقا على الجن لا صادقا علينا فهم يعبدون الجن حقيقة دوننا، وقال ابن عطية: يجوز أن يكون في الأمم الكافرة من عبد الجن وفي القرآن آيات يظهر منها أن الجن عبدت في سورة الأنعام وغيرها أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ الضمير الثاني للجن والأول للمشركين، والأكثر على ظاهرة لأن من المشركين من لم يؤمن بهم وعبدهم اتباعا لقومه كأبي طالب أو الأكثر بمعنى الكل، واختار في البحر الأول لأن كونه بمعنى الكل ليس حقيقة وقال: إنهم لم يدعوا الإحاطة إذ يكون في الكفار من لم يطلع الله تعالى الملائكة عليهم السّلام عليهم أو أنهم حكموا على الأكثر بإيمانهم بالجن لأن الإيمان من أعمال القلب فلم يذكروا الاطلاع على عمل جميع قلوبهم لأن ذلك لله عزّ وجلّ، وجوز أن يكون الضمير الأول للإنس فالأكثر على ظاهره أي غالبهم مصدقون أنهم آلهة، وقيل مصدقون أنهم بنات الله وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [الصافات: 158] وقيل مصدقون أنهم ملائكة. فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا من جملة ما يقال للملائكة عليهم السّلام عند جوابهم بالتبري عما نسب إليهم المشركون يخاطبون بذلك على رؤوس الأشهاد إظهارا لعجزهم وقصورهم عن زاعمي عبادتهم وتنصيصا على ما يوجب خيبة رجائهم بالكلية، وقيل للكفار وليس بذاك، والفاء لترتيب الأخبار بما بعدها على جواب الملائكة عليهم السّلام، ونسبة عدم النفع والضر إلى البعض المبهم للمبالغة فيما هو المقصود الذي هو بيان عدم نفع الملائكة للعبدة بنظمه في سلك عدم نفع العبدة لهم كأن نفع الملائكة لعبدتهم في الاستحالة والانتفاء كنفع العبدة لهم، والتعرض لعدم الضر مع أنه لا بحث عنه لتعميم العجز أو لحمل عدم النفع على تقدير العبادة وعدم الضر على تقدير تركها، وقيل لأن المراد دفع الضر على حذف المضاف وفيه بعد، والمراد باليوم يوم القيامة وتقييد الحكم به مع ثبوته على الإطلاق لانعقاد رجاء المشركين على تحقق النفع يومئذ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 325 وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ عطف على يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ وقيل على لا يملك وتعقب بأنه مما يقال يوم القيامة خطابا للملائكة مترتبا على جوابهم المحكي وهذا حكاية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم لما سيقال للعبدة يومئذ إثر حكاية ما سيقال للملائكة عليهم السّلام. وأجيب بأن ذلك ليس بمانع فتدبر. ووقع الموصول هنا وصفا للمضاف إليه وفي السجدة في قوله تعالى: عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ صفة للمضاف فقال أبو حيان: لأنهم ثمت كانوا ملابسين للعذاب كما ينبىء عنه قوله تعالى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها [السجدة: 20] فوصف لهم ثمت ما لابسوه وهنا لم يكونوا ملابسين له بل ذلك أول ما رأوا النار عقب الحشر فوصف ما عاينوه لهم، وكون الموصول هنا نعتا للمضاف على أن تأنيثه مكتسب لتتحد الآيتان تكلف سمج. وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ بيان لبعض آخر من كفرهم أي إذا تتلى عليهم بلسان الرسول صلّى الله عليه وسلم آياتنا الناطقة بحقية التوحيد وبطلان الشرك قالُوا ما هذا يعنون رسول الله صلّى الله عليه وسلم التالي للآيات، والإشارة للتحقير قاتلهم الله تعالى إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ فيجعلكم من أتباعه من غير أن يكون له دين إلهي، وإضافة الآباء إلى المخاطبين لا إلى أنفسهم لتحريك عرق العصبية منهم مبالغة في تقريرهم على الشرك وتنفيرهم عن التوحيد وَقالُوا ما هذا يعنون القرآن المتلو والإشارة كالإشارة السباقة إِلَّا إِفْكٌ أي كلام مصروف عن وجهه لا مصداق له في الواقع مُفْتَرىً بإسناده إلى الله عزّ وجلّ. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ أي لأمر النبوة التي معها من خوارق العادة ما معها أو للإسلام المفرق بين المرء وزوجه وولده أو القرآن الذي تتأثر به النفوس على أن العطف لاختلاف العنوان بأن يراد بالأول معناه وبالثاني نظمه المعجز لَمَّا جاءَهُمْ من غير تدبر ولا تأمل فيه إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر سحريته. وفي ذكر قالَ ثانيا والتصريح بذكر الكفرة وما في اللامين من الإشارة إلى القائلين والمقول فيه وما في لما من المسارعة إلى البت بهذا القول الباطل إنكار عظيم له وتعجب بليغ منه، وجوز أن تكون كل جملة صدرت من قوم من الكفرة وَما آتَيْناهُمْ أي أهل مكة مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها تقتضي صحة الإشراك ليعذروا فيه فهو كقوله تعالى: أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ [الروم: 35] وقوله سبحانه: أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ [الزخرف: 21] وإلى هذا ذهب ابن زيد، وقال السدي: المعنى ما آتيناهم كتبا يدرسونها فيعلموا بدراستها بطلان ما جئت به، ويرجع إلى الأول، والمقصود نفي أن يكون لهم دليل على صحة ما هم عليه من الشرك، ومن صلة. وجمع الكتب إشارة على ما قيل إلى أنه لشدة بطلانه واستحالة إثباته بدليل سمعي أو عقلي يحتاج إلى تكرر الأدلة وقوتها فكيف يدعى ما توارت الأدلة النيرة على خلافه. وقرأ أبو حيوة «يدرسونها» بفتح الدال وشدها وكسر الراء مضارع أدرس افتعل من الدرس ومعناه يتدارسونها، وعنه أيضا «يدرسونها» من التدريس وهو تكرير الدرس أو من درس الكتاب مخففا ودرس الكتاب مشددا التضعيف فيه باعتبار الجمع. وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ أي وما أرسلنا إليهم قبلك نذيرا يدعوهم إلى الشرك وينذرهم بالعقاب على تركه وقد بان من قبل أن لا وجه له بوجه من الوجوه فمن أين ذهبوا هذا المذهب الزائغ، وفيه من التهكم والتجهيل ما لا يخفى، ويجوز أن يراد أنهم أميون كانوا في فترة لا عذر لهم في الشرك ولا في عدم الاستجابة لك كأهل الكتاب الذين لهم كتب ودين يأبون تركه ويحتجون على عدم المتابعة بأن نبيهم حذرهم ترك دينه مع أنه بين البطلان لثبوت أمر من قبله باتباعه وتبشير الكتب به، وذكر ابن عطية أن الأرض لم تخل من داع إلى توحيد الله تعالى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 326 فالمراد نفي إرسال نذير يختص بهؤلاء ويشافههم، وقد كان عند العرب كثير من نذارة إسماعيل عليه السّلام والله تعالى يقول: إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا [مريم: 54] ولكن لم يتجرد للنذارة وقاتل عليها إلا محمد صلّى الله عليه وسلم اهـ، ثم إنه تعالى هددهم بقوله سبحانه: وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم المتقدمة والقرون الخالية بما كذبوا وَما بَلَغُوا أي أهل مكة مِعْشارَ أي عشر ما آتَيْناهُمْ وقال: قوم المعشار عشر العشر ولم يرتضه ابن عطية، وقال الماوردي: المراد المبالغة في التقليل أي ما بلغوا أقل قليل مما آتينا أولئك المكذبين من طول الأعمار وقوة الأجسام وكثرة الأموال فَكَذَّبُوا أي أولئك المكذبون رُسُلِي الذين أرسلتهم إليهم فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي إنكاري لهم بالتدمير فليحذر هؤلاء من مثل ذلك. والفاء الأولى سببية وكَذَّبَ الأول ننزل منزلة اللازم أي فعل الذين من قبلهم التكذيب وأقدموا عليه، ونظير ذلك أن يقول القائل أقدم فلان على الكفر فكفر بمحمد صلّى الله عليه وسلم ومن هنا قالوا: إن كذبوا رُسُلِي عطف على كَذَّبَ الَّذِينَ عطف المقيد على المطلق وهو تفسير معنى وَما بَلَغُوا اعتراض والفاء الثانية فصيحة فيكون المعنى فحين كذبوا رسلي جاءهم إنكاري بالتدمير فكيف كان نكيري لهم، وجعل التدمير إنكار تنزيلا للفعل منزلة القول كما في قوله. ونشتم بالأفعال لا بالتكلم. أو على نحو. تحية بينهم ضرب وجيع. وجوز بعضهم أن يكون صيغة التفعيل في كَذَّبَ الَّذِينَ للتكثير وفي (كذبوا) للتعدية والمكذب فيهما واحد أي أنهم أكثروا الكذب وألفوه فصار سجية لهم حتى اجترءوا على تكذيب الرسل، وعلى الوجهين لا تكرار، وجوز أن يكون كذبوا رُسُلِي منعطفا على ما بَلَغُوا (1) من تتمة الاعتراض والضمير لأهل مكة يعني هؤلاء لم يبلغوا معشار ما آتينا أولئك المكذبين الأولين وفضلوهم في التكذيب لأن تكذيبهم لخاتم الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام تكذيب لجميع الرسل عليهم السّلام من وجهين وعليه لا يتوهم تكرار كما لا يخفى، وكون جمل ما بَلَغُوا معترضة هو الظاهر وجعل وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ تمهيدا لئلا تكون تلك الجملة كذلك يدفعه فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ لأن معناه للمكذبين الأولين البتة فلا التئام دون القول بكونها معترضة، إرجاع ضمير بَلَغُوا إلى أهل مكة والضمير المنصوب في آتَيْناهُمْ إلى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وبيان الموصول بما سمعت هو المروي عن ابن عباس وقتادة وابن زيد، وقيل الضمير الأول للذين من قبلهم والضمير الثاني لأهل مكة أي وما بلغ أولئك عشر ما آتينا هؤلاء من البينات والهدى، وقيل: الضميران للذين من قبلهم، أي كذبوا وما بلغوا في شكر النعمة ومقابلة المنّة عشر ما آتيناهم من النعم والإحسان إليهم، واستظهر ذلك أبو حيان معللا له بتناسق الضمائر حيث جعل ضمير فَكَذَّبُوا للذين من قبلهم فلا تغفل قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أي ما أرشدكم وأنصح لكم إلا بخصلة واحدة وهي على ما قال قتادة ما دل عليه ما دل عليه بقوله تعالى: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ على أنه في تأويل مصدر بدل منها أو خبر مبتدأ محذوف أي هي قيامكم أو مفعول لفعل محذوف أي أعني قيامكم، وجوز الزمخشري كونه عطف بيان لواحدة. واعترض بأن أَنْ تَقُومُوا معرفة لتقديره بقيامكم وعطف البيان يشترط فيه عند البصريين أن يكون معرفة من معرفة وهو عند الكوفيين يتبع ما قبله في التعريف والتنكير والتخالف مما لم يذهب إليه ذاهب. والظاهر أن الزمخشري ذاهب إلى جواز التخالف، وقد صرح ابن مالك في التسهيل بنسبة ذلك إليه وهو من مجتهدي علماء العربية، وجوز أن يكون قد عبر بعطف البيان وأراد البدل لتآخيها وهذا إمام الصناعة سيبويه يسمي   (1) والفاء للفذلكة على ما قيل اهـ منه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 327 التوكيد صفة وعطف البيان صفة، ثم إن كون المصدر المسبوك معرفة أو مؤولا بها دائما غير مسلم، والقيام مجاز عن الجد والاجتهاد، وقيل هو على حقيقته والمراد القيام عن مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم وليس بذاك، وقد روي نفي إرادته عن ابن جريج أي إن تجدوا وتجتهدوا في الأمر بإخلاص لوجه الله تعالى مَثْنى وَفُرادى أي متفرقين اثنين اثنين وواحدا واحدا فإن في الازدحام على الأغلب تهويش الخاطر والمنع من الفكر وتخليط الكلام وقلة الإنصاف كما هو مشاهد في الدروس التي يجتمع فيها الجماعة فإنه لا يكاد يوقف فيها على تحقيق وفي تقديم مثنى إيذان بأنه أوثق وأقرب إلى الاطمئنان، وفي البحر قدم لأن طلب الحقائق من متعاضدين في النظر أجدى من فكرة واحدة فإذا انقدح الحق بين الاثنين فكر كل واحد منهما بعد ذلك فيزيد بصيرة وشاع الفتح بين الاثنين ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا في أمره صلّى الله عليه وسلم وما جاء به لتعلموا حقيته، والوقف عند أبي حاتم هنا، وقوله تعالى ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ استئناف مسوق من جهته تعالى للتنبيه على طريقة النظر والتأمل بأن مثل هذا الأمر العظيم الذي تحته ملك الدنيا والآخرة لا يتصدى لادعائه إلا مجنون لا يبالي بافتضاحه عند مطالبته بالبرهان وظهور عجزه أو مؤيد من عند الله تعالى مرشح للنبوة واثق بحجته وبرهانه وإذ قد علمتم أنه عليه الصلاة والسلام أرجح الناس عقلا وأصدقهم قولا وأذكاهم نفسا وأفضلهم علما وأحسنهم عملا وأجمعهم للكمالات البشرية وجب أن تصدقوه في دعواه فكيف وقد انضم إلى ذلك معجزات تخر لها صم الجبال، والتعبير عنه عليه الصلاة والسلام بصاحبكم للإيماء إلى أن حاله صلّى الله عليه وسلم مشهور بينهم لأنه نشأ بين أظهرهم معروفا بما ذكرنا، وجوز أن يكون متعلقا بما قبله والوقف على جِنَّةٍ على أنه مفعول لفعل علم مقدر لدلالة التفكر عليه لكونه طريق العلم أي ثم تتفكروا فتعلموا ما بصاحبكم من جنة أو معمول لتتفكروا على أن التفكر مجاز عن العلم أو معمول له بدون ارتكاب تجوز بناء على ما ذهب إليه ابن مالك في التسهيل من أن تفكر يعلق حملا على أفعال القلوب، وجوز أن يكون هناك تضمين أي ثم تتفكروا عالمين ما بصاحبكم من جنة، وقال ابن عطية: هو عند سيبويه جواب ما ينزل منزلة القسم لأن تفكر من الأفعال التي تعطي التمييز كتبين وتكون الفكرة على هذا في آيات الله تعالى والإيمان به اهـ وهو كما ترى، وما مطلقا نافية والباء بمعنى في ومن صلة، وقيل: ما للاستفهام إلا نكاري ومن بيانية، وجوز أن تكون صلة أيضا وفيه تطويل المسافة وطيها أولى إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ هو عذاب الآخرة فإنه صلّى الله عليه وسلم مبعوث في نسم الساعة وجاء «بعثت أنا والساعة كهاتين» وضم عليه الصلاة والسلام الوسطى والسبابة على المشهور. قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ أي مهما سألتكم من نفع على تبليغ الرسالة فَهُوَ لَكُمْ والمراد نفي السؤال رأسا كقولك لصاحبك إن أعطيتني شيئا فخذه وأنت تعلم أنه لم يعطك شيئا، فما شرطية مفعول سَأَلْتُكُمْ وهو المروي عن قتادة، وقيل هي موصولة والعائد محذوف ومن للبيان، ودخلت الفاء في الخبر لتضمنها معنى الشرط أي الذي سألتكموه من الأجر فهو لكم وثمرته تعود إليكم، وهو على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إشارة إلى المودة في القربى في قوله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: 23] وكون ذلك لهم على القول بأن المراد بالقربى قرباهم ظاهر، وأما على القول بأن المراد بها قرباه عليه الصلاة والسلام فلأن قرباه صلّى الله عليه وسلم قرباهم أيضا أو هو إشارة إلى ذلك وإلى ما تضمنه قوله تعالى: ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا [الفرقان: 57] وظاهر أن اتخاذ السبيل إليه تعالى منفعتهم الكبرى، وجوز كون ما نافية ومن صلة وقوله سبحانه: فَهُوَ لَكُمْ جواب شرط مقدر أي فإذا لم أسألكم فهو لكم، وهو خلاف الظاهر. وقوله تعالى: إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ يؤيد إرادة نفي السؤال رأسا. وقرىء «إن أجري» بسكون الياء وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أي مطلع فيعلم سبحانه صدقي وخلوص نيتي قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ قال السدي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 328 وقتادة بالوحي، وفي رواية أخرى عن قتادة بالقرآن والمآل واحد، وأصل القذف الرمي بدفع شديد وهو هنا مجاز عن الإلقاء، والباء زائدة أي إن ربي يلقي الوحي وينزله على قلب من يجتبيه من عباده سبحانه، وقيل القذف مضمن معنى الرمي فالباء ليست زائدة، وجوز أن يراد بالحق مقابل الباطل والباء للملابسة والمقذوف محذوف، والمعنى إن ربي يلقي ما يلقي إلى أنبيائه عليهم السّلام من الوحي بالحق لا بالباطل. وعن ابن عباس أن المعنى يقذف الباطل بالحق أي يورده عليه حتى يبطله عزّ وجلّ ويزيله، والحق مقابل الباطل والباء مثلها في قولك قتلته بالضرب، وفي الكلام استعارة مصرحة تبعية والمستعار منه حسي والمستعار له عقلي، وجوز أن تكون الاستعارة مكنية، وقيل: المعنى يرمي بالحق إلى أقطار الآفاق على أن ذلك مجاز عن إشاعته فيكون الكلام وعدا بإظهار الإسلام وإفشائه، وفيه من الاستعارة ما فيه عَلَّامُ الْغُيُوبِ خبر ثان أو خبر مبتدأ محذوف أي هو سبحانه علام الغيوب أو صفة محمولة على محل إن مع اسمها كما جوزه الكثير من النحاة وإن منعه سيبويه أو بدل من ضمير يَقْذِفُ ولا يلزم خلو جملة الخبر من العائد لأن المبدل منه ليس في نية الطرح من كل الوجوه، وقال الكسائي: هو نعت لذلك الضمير ومذهبه جواز نعت المضمر الغائب. وقرأ عيسى وزيد بن علي وابن أبي إسحاق وابن أبي عبلة وأبو حيوة وحرب عن طلحة عَلَّامُ بالنصب فقال الزمخشري: صفة لربي، وقال أبو الفضل الرازي وابن عطية: بدل، وقال الحوفي: بدل أو صفة، وقيل نصب على المدح. وقرأ ابن ذكوان وأبو بكر وحمزة والكسائي «الغيوب» بالكسر كالبيوت، والباقون بالضم كالشعور وهو فيهما جمع، وقرىء بالفتح كصبور على أنه مفرد للمبالغة قُلْ جاءَ الْحَقُّ أي الإسلام والتوحيد أو القرآن، وقيل السيف لأن ظهور الحق به وهو كما ترى وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ أي الكفر والشرك وَما يُعِيدُ أي ذهب واضمحل بحيث لم يبق له أثر مأخوذ من هلاك الحي فإنه إذا هلك لم يبق له إبداء أي فعل أمر ابتداء ولا إعادة أي فعله ثانيا كما يقال لا يأكل ولا يشرب أي ميت فالكلام كناية عما ذكر أو مجاز متفرع على الكناية، وأنشدوا لعبيد بن الأبرص: أقفر من أهله عبيد ... فاليوم لا يبدي ولا يعيد وقال جماعة: الباطل إبليس وإطلاقه عليه لأنه مبدؤه ومنشؤه، ولا كناية في الكلام عليه، والمعنى لا ينشىء خلقا ولا يعيد أو لا يبدىء خيرا لأهله ولا يعيد أي لا ينفعهم في الدنيا والآخرة، وقيل هو الصنم والمعنى ما سمعت، وعن أبي سليمان أن المعنى إن الصنم لا يبتدىء من عنده كلاما فيجاب ولا يرد ما جاء من الحق بحجة. وما على جميع ذلك نافية، وقيل: هي على ما عدا القول الأول للاستفهام الإنكاري منتصبة بما بعدها أي أي شيء يبدي الباطل وأي شيء يعيد وماله النفي، والكلام جوز أن يكون تكميلا لما تقدم وأن يكون من باب العكس والطرد وأن يكون تذييلا مقررا لذلك فتأمل قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ عن الحق فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي أي عائدا ضرر ذلك ووباله عليها فإنها الكاسبة للشرور والأمارة بالسوء وَإِنِ اهْتَدَيْتُ إلى الحق فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي فإن الاهتداء بهدايته تعالى وتوفيقه عزّ وجلّ، وما موصولة أو مصدرية، وكان الظاهر وإن اهتديت فلها كقوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها [فصلت: 46] أو إن ضللت فإنما أضل بنفسي ليظهر التقابل لكنه عدل عن ذلك اكتفاء بالتقابل بحسب المعنى لأن الكلام عليه أجمع فإن كل ضرر فهو من النفس وبسببها وعليها وباله، وقد دل لفظ على في القرينة الأولى على معنى اللام في الثانية والباء في الثانية على معنى السببية في الأولى فكأنه قيل: قل إن ضللت فإنما أضل بسبب نفسي على نفسي وإن اهتديت فإنما اهتدى لنفسي بهداية الله تعالى وتوفيقه سبحانه، وعبر عن هذا بما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي لأنه لازمه، وجعل علي للتعليل وإن ظهر عليه التقابل ارتكاب لخلاف الظاهر من غير نكتة. وجوز أن يكون معنى القرينة الأولى قل إن ضللت فإنما أضل عليّ لا على غيري، ولا يظهر عليه أمر التقابل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 329 مطلقا، والحكم على ما قال الزمخشري عام وإنما أمر صلّى الله عليه وسلم أن يسنده إلى نفسه لأن الرسول إذا دخل تحته مع جلالة محله وسداد طريقته كان غيره أولى به، وقال الإمام: أي إن ضلال نفسي كضلالكم لأنه صادر من نفسي ووباله عليها وأما اهتدائي فليس كاهتدائكم بالنظر والاستدلال وإنما هو بالوحي المنير فيكون مجموع الحكمين عنده مختصا به عليه الصلاة والسلام، وفيما ذكره دلالة على ما قاله الطيبي على أن دليل النقل أعلى وأفخم من دليل العقل وفيه بحث. وقرأ الحسن وابن وثاب وعبد الرحمن المقرئ «ضللت» بكسر اللام و «أضل» بفتح الضاد وهي لغة تميم، وكسر عبد الرحمن همزة «أضل» وقرىء «ربي» بفتح الياء إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ فلا يخفى عليه سبحانه قول كل من المهتدي والضال وفعله وإن بالغ في إخفائهما فيجازي كلا بما يليق. وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا أي اعتراهم انقباض ونفار من الأمر المهول المخيف، والخطاب في ترى للنبي صلّى الله عليه وسلم أو لكل من تصح منه الرؤية، ومفعول تَرى محذوف أي الكفار أو فزعهم أو هو إِذْ على التجوز إذ المراد برؤية الزمان رؤية ما فيه أو هو متروك لتنزيل الفعل منزلة اللازم أي لو تقع منك رؤية وجواب لَوْ محذوف أي لرأيت أمرا هائلا، وهذا الفزع على ما أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد يوم القيامة، والظاهر عليه أنه فزع البعث وهو مروي عن الحسن وأخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة أنه في الدنيا عند الموت حين عاينوا الملائكة عليهم السّلام. وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك أنه يوم بدر فقيل هو فزع الحرب، وعن السدي وابن زيد فزع ضرب أعناقهم ومعاينة العذاب، وقيل في آخر الزمان حين يظهر المهدي ويبعث إلى السفياني جندا فيهزمهم ثم يسير السفياني إليه حتى إذا كان ببيداء من الأرض خسف به وبمن معه فلا ينجو منهم إلا المخبر عنهم فالفزع فزع ما يصيبهم يومئذ فَلا فَوْتَ فلا يفوتون الله عزّ وجلّ بهرب أو نحوه عما يريد سبحانه بهم وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ من الموقف إلى النار أو من ظهر الأرض إلى بطنها أو من صحراء بدر إلى القليب أو من تحت أقدامهم إذا خسف بهم، والمراد بذكر قرب المكان سرعة نزول العذاب بهم والاستهانة بهم وبهلاكهم وإلا فلا قرب ولا بعد بالنسبة إلى الله عزّ وجلّ، والجملة عطف على فَزِعُوا على ما ذهب إليه جماعة قال في الكشف: وكأن فائدة التأخير أن يقدر فلا فوت ثانيا إما تأكيدا وإما أن أحدهما غير الآخر تنبيها على أن عدم الفوت سبب للأخذ وأن الأخذ سبب لتحققه وجودا، وفيه مبالغة حسنة، وقيل على لا فَوْتَ على معنى فلم يفوتوا وأخذوا، واختاره ابن جني معترضا على ما تقدم بأنه لا يراد ولو ترى وقت فزعهم وأخذهم وإنما المراد ولو ترى إذ فزعوا ولم يفوتوا وأخذوا، وبما نقل عن الكشف يتحصل الجواب عنه. وجوز كونها حالا من فاعل فَزِعُوا أو من خبر لا المقدر وهو لهم بتقدير قد أو بدونه، والفاء في فَلا فَوْتَ قيل إن كانت سببية فهي داخلة على المسبب لأن عدم فوتهم من فزعهم وتحيرهم وإن كانت تعليلية فهي تدخل على السبب لترتب ذكره على ذكر المسبب، وإذا عطف أُخِذُوا عليه أو جعل حالا من الخبر يكون هو المقصود بالتفريع. وقرأ عبد الرحمن مولى بني هاشم عن أبيه وطلحة «فلا فوت وأخذ» مصدرين منونين. وقرأ أبي «فلا فوت» مبنيا «وأخذ» مصدرا منونا، وإذا رفع أخذ كان خبر مبتدأ محذوف أي وحالهم أخذ أو مبتدأ خبره محذوف أي وهناك أخذ وإلى ذلك ذهب أبو حيان، وقال الزمخشري: قرىء وأخذ بالرفع على أنه معطوف على محل لا فَوْتَ ومعناه فلا فوت هناك وهناك أخذ وَقالُوا آمَنَّا بِهِ أي بالله عزّ وجلّ على ما أخرجه جمع عن مجاهد، وقالت فرقة: أي بمحمد لله وقد مر ذكره في قوله سبحانه: ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ وقيل الضمير للعذاب، وقيل للبعث، ورجح رجوعه إلى محمد عليه الصلاة والسلام لأن الإيمان به صلّى الله عليه وسلم شامل للإيمان بالله عزّ وجلّ وبما ذكر من العذاب والبعث وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ التناوش التناول كما قال الراغب وروي عن مجاهد. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 330 وقال الزمخشري: هو تناول سهل لشيء قريب يقال ناشه ينوشه وتناوشه القوم وتناوشوا في الحرب ناش بعضهم بعضا بالسلاح، وقال الراجز: فهي تنوش الحوض نوشا من علا ... نوشا به تقطع أجواز الفلا وإبقاؤه على عمومه أولى أي من أين لهم أن يتناولوا الإيمان مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ فإنه في حيز التكليف وهم منه بمعزل بعيد، ونقل في البحر عن ابن عباس تفسير التَّناوُشُ بالرجوع أي من أين لهم الرجوع إلى الدنيا، وأنشد ابن الأنباري: تمنى أن تؤوب إلى مي ... وليس إلى تناوشها سبيل ولا يخفى أنه ليس بنص في ذلك، والمراد تمثيل حالهم في الاستخلاص بالإيمان بعد ما فات عنهم وبعد بحال من يريد أن يتناول الشيء بعد أن بعد عنه وفات في الاستحالة. وقرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو وأبو بكر «التناؤش» بالهمز وخرج على قلب الواو همزة، قال الزجاج: كل واو مضمومة ضمة لازمة فأنت بالخيار فيها إن شئت أبقيتها وإن شئت قلبتها همزة فتقول ثلاث أدور بلا همز وثلاث أدؤر بالهمز. وتعقب ذلك أبو حيان فقال: إنه ليس على إطلاقه بل لا يجوز ذلك في المتوسطة إذا كانت مدغما فيها نحو تعود وتعوذ مصدرين وقد صرح بذلك في التسهيل ولا إذا صحت في الفعل نحو ترهوك ترهوكا وتعاون تعاونا، وعلى هذا لا يصح التخريج المذكور لأن التناوش كالتعاون في أن واوه قد صحت في الفعل إذ تقول تناوش فلا يهمز. وقال الفراء: هو من نأشت أي تأخرت وأنشد قول نهشل: تمنى نئيشا أن يكون أطاعني ... وقد حدثت بعد الأمور أمور أي تمنى أخيرا، والضمير للمولى في قوله: ومولى عصاني واستبد برأيه ... كما لم يطع فيما أشاء قصير فالهمزة فيه أصلية واللفظ ورد من مادتين، وقال بعضهم: هو من نأشت الشيء إذا طلبته، قال رؤبة: أقحمني جار أبي الخابوش ... إليك نأش القدر النؤوش فالهمزة أصلية أيضا، قيل والتناؤش على هذين القولين بمعنى التناول من بعد لأن الأخير يقتضي ذلك والطلب لا يكون للشيء القريب منك الحاضر عندك فيكون من مَكانٍ بَعِيدٍ تأكيدا أو يجرد التناوش لمطلق التناول، وحمل البعد في قيده على البعد الزماني بحث فيه الشهاب بأنه غير صحيح لأن المستعار منه هو في المكان وما ذكر من أحوال المستعار له وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ حال أو معطوف أو مستأنف والأول أقرب، والضمير المجرور ولما عاد عليه الضمير السابق في آمَنَّا بِهِ مِنْ قَبْلُ أي من قبل ذلك في أوان التكليف. وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ أي كانوا يرجمون بالمظنون ويتكلمون بما لم يظهر لهم ولم ينشأ عن تحقيق في شأن الله عزّ وجلّ فينسبون إليه سبحانه الشريك ويقولون الملائكة بنات الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا أو في شأن الرسول عليه الصلاة والسلام فيقولون فيه وحاشاه: شاعر وساحر وكاهن أو في شأن العذاب أو البعث فيبتون القول بنفيه مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ من جهة بعيدة من أمر من تكلموا في شأنه، والجملة عطف على وَقَدْ كَفَرُوا وكان الظاهر وقذفوا إلا أنه عدل إلى صيغة المضارع حكاية للحال الماضية، والكلام قيل لعله تمثيل لحالهم من التكلم بما يظهر لهم ولم ينشأ عن تحقيق بحال من يرمي شيئا لا يراه من مكان بعيد لا مجال للظن في لحوقه، وجوز الزمخشري كونه عطفا على قالُوا آمَنَّا بِهِ على أنهم مثلوا في طلبهم تحصيل ما عطلوه من الإيمان في الدنيا بقولهم آمنا في الجزء: 11 ¦ الصفحة: 331 الآخرة وذلك مطلب مستبعد بمن يقذف شيئا من مكان بعيد لا مجال للظن في لحوقه حيث يريد أن يقع فيه لكونه غائبا عنه شاحطا. وقرأ مجاهد وأبو حيوة ومحبوب عن أبي عمرو «يقذفون» مبنيا للمفعول، قال مجاهد: أي ويرجمهم الوحي بما يكرهون مما غاب عنهم من السماء، وكأن الجملة في موضع الحال من ضمير كفروا كأنه قيل: وقد كفروا به من قبل وهم يقذفون بالحق الذي غاب عنهم وخفي عليهم، والمراد تعظيم أمر كفرهم، وجوز أن يراد بالغيب ما خفي من معايبهم أي وقد كفروا وهم يقذفهم الوحي من السماء ويرميهم بما خفي من معايبهم. وقال أبو الفضل الرازي: أي ويرمون بالغيب من حيث لا يعلمون، ومعناه يجازون بسوء أعمالهم ولا علم لهم بمأتاه إما في حال تعذر التوبة عند معاينة الموت وإما في الآخرة انتهى، وفي حالية الجملة عليه نوع خفاء. وقال الزمخشري: أي وتقذفهم الشياطين بالغيب ويلقنونهم إياه وكان الجملة عطف على قَدْ كَفَرُوا وقيل أي يلقون في النار وهو كما ترى وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ قال ابن عباس: هو الرجوع إلى الدنيا، وقال الحسن: هو الإيمان المقبول، وقال قتادة: طاعة الله تعالى، وقال السدي: التوبة، وقال مجاهد: الأهل والمال والولد. وقيل أي حيل بين الجيش والمؤمنين بالخسف بالجيش أو بينهم وبين تخريب الكعبة أو بينهم وبين النجاة من العذاب أو بينهم وبين نعيم الدنيا ولذتها وروي ذلك عن مجاهد أيضا و «حيل» مبني للمجهول وتائب الفاعل كما قال أبو حيان ضمير المصدر أي وحيل هو أي الحول، وحاصله وقعت الحيلولة ولإضماره لم يكن مصدرا مؤكدا فناب مناب الفاعل، وعلى ذلك يخرج قوله: وقالت متى يبخل عليك ويعتلل ... يسؤك وإن يكشف غرامك تدرب أي يعتلل هو أي الاعتلال، وقال الحوفي: قام الظرف مقام الفاعل، وتعقبه في البحر بأنه لو كان كذلك لكان مرفوعا والإضافة إلى الضمير لا تسوغ البناء وإلا لساغ جاء غلامك بالفتح ولا يقوله أحد، نعم للبناء للإضافة إلى المبني مواضع أحكمت في النحو، وماذا يقول الحوفي في قوله. وقد حيل بين العير والنزوان. فإنه نصب بين مع إضافتها إلى معرب وقرأ ابن عامر والكسائي بإشمام الضم للحاء. كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ أي بأشباههم من كفرة الأمم الدارجة، ومِنْ قَبْلُ متعلق بأشياعهم على أن المراد من اتصف بصفتهم من قبل أي في الزمان الأول، ويرجحه أن ما يفعل بجميعهم في الآخرة إنما هو في وقت واحد أو متعلق بفعل إذا كانت الحيلولة في الدنيا، وعن الضحّاك أن المراد بأشياعهم أصحاب الفيل، الظاهر أنه جعل الآية في السفياني ومن معه. إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ أي موقع في ريبة على أنه من أرابه أوقعه في ريبة وتهمة أو ذي ريبة من أراب الرجل صار ذا ريبة فإما أن يكون قد شبه الشك بإنسان يصح أن يكون مريبا على وجه الاستعارة المكنية التخييلية أو يكون الإسناد مجازيا أسند فيه ما لصاحب الشك للشك مبالغة كما يقال شعر شاعر، وكأنه من هنا قال ابن عطية: الشك المريب أقوى ما يكون من الشك، وضمير الجمع للإشباع وقيل لأولئك المحدث عنهم والله تعالى أعلم ومن باب الإشارة في بعض آيات السورة ما قيل وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ أشير بالجبال إلى عالم الملك وبالطير إلى عالم الملكوت، وقد ذكروا أنه إذا تمكن الذكر سرى في جميع أجزاء البدن فيسمع الذاكر كل جزء منه ذاكرا فإذا ترقى حاله يسمع كل ما في عالم الملك كذلك فإذا ترقى يسمع كل ما في الوجود كذلك وإن من شيء إلا يسبح بحمده وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ القلب أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وهي الحكم البالغة التي تظهر من القلب الجزء: 11 ¦ الصفحة: 332 على اللسان وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ أي في سرد الحديث بأن تتكلم بالحكمة على قدر ما يتحمله عقل مخاطبك، وقد ورد كلموا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم. ومن هنا يصعب الجواب عمن تكلم من المتصوفة بما ينكره أكثر من يسمعه من العلماء وبه ضل كثير من الناس وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ ريح العناية غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ فكان يتصرف بالهمة وقذف الأنوار في قلوب متبعيه من مسافة شهر وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ إشارة إلى قوة باطنه حيث انقاد له من جبل على المخالفة وفعل الشرور وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ وهو من شكره بالأحوال أعني التخلق بأخلاق الله تعالى: فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فيه إشارة إلى أن الضعيف قد يفيد القوي علما وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها وهي مقامات أهل الباطن من العارفين قُرىً ظاهِرَةً وهي مقامات أهل الظاهر من الناسكين سِيرُوا فِيها لَيالِيَ في ليالي البشرية وَأَيَّاماً في أيام الروحانية آمِنِينَ في خفارة الشريعة. وقال بعض الفرقة الجديدة الكشفية: القرى المبارك فيها الأئمة رضي الله تعالى عنهم والقرى الظاهرة الدعاة إليهم والسفراء بينهم وبين شيعتهم وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بميلهم إلى الدنيا وترك السير لسوء استعدادهم حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ فيه إشارة إلى أن الهيبة تمنع الفهم وَما أَرْسَلْناكَ أي ما أخرجناك من العدم إلى الوجود إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ الأولين والآخرين بَشِيراً وَنَذِيراً وهذا حاله عليه الصلاة والسلام في عالم الأرواح وفي عالم الأجساد وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ إذ لا نور لهم يهتدون به وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ هؤلاء قطاع الطريق على عباد الله تعالى ومثلهم المنكرون على أولياء الله تعالى الذين ينفرون الناس عن الاعتقاد بهم واتباعهم قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي إن النفس لأمارة بالسوء وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي من القرآن وفيه إشارة إلى أنه نور لا يبقى معه ديجور أو مراتب الاهتداء به متفاوتة حسب تفاوت الفهم الناشئ من تفاوت صفاء الباطن وطهارته، وقد ورد أن للقرآن ظاهرا وباطنا ولا يكاد يصل الشخص إلى باطنه إلا بتطهير باطنه كما يرمز إليه قوله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة: 79] نسأل الله تعالى أن يوفقنا لفهم ظاهره وباطنه إلى ما شاء من البطون فإنه جل وعلا القادر الذي يقول للشيء كن فيكون. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 333 سورة فاطر وتسمى سورة الملائكة، وهي مكية كما روي عن ابن عباس وقتادة وغيرهما، وفي مجمع البيان قال الحسن: مكية إلا آيتين: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ [فاطر: 29] الآية: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ [فاطر: 32] الآية، وآيها ست وأربعون في المدني الأخير والشامي وخمس وأربعون في الباقين، والمناسبة على ما في البحر أنه عزّ وجلّ لما ذكر في آخر السورة المتقدمة هلاك المشركين أعداء المؤمنين وإنزالهم منازل العذاب تعين على المؤمنين حمده تعالى وشكره كما في قوله تعالى: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الأنعام: 45] وينضم إلى ذلك تواخي السورتين في الافتتاح بالحمد وتقاربهما في المقدار وغير ذلك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 334 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي موجدهما من غير مثال يحتذيه ولا قانون ينتحيه، فالفطر الإبداع، وقال الراغب: هو إيجاده تعالى الشيء وإبداعه على هيئة مترشحة لفعل من الأفعال. وأخرج عبد بن حميد والبيهقي في شعب الإيمان. وغيرهما عن ابن عباس قال: كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها يعني ابتدأتها، وأصل الفطر الشق، وقال الراغب: الشق طولا ثم تجوز فيه عما تقدم وشاع فيه حتى صار حقيقة أيضا، ووجه المناسبة أن السماوات والأرض والمراد بهما العالم بأسره لكونهما ممكنين والأصل في الممكن العدم كما يشير إليه قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] وقوله عليه الصلاة والسلام: «ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن» وصرح بذلك فلاسفة الإسلام قال رئيسهم: الممكن في نفسه ليس وهو عن علته آيس كان العدم كامن فيهما وبإيجادهما يشقان ويخرج العدم منهما. وقيل في ذلك: كأنه تعالى شق العدم بإخراجهما منه، وقيل: لا مانع من حمله على أصله هنا ويكون إشارة إلى الأمطار والنبات فكأنه قيل: الحمد لله فاطر السماوات بالأمطار وفاطر الأرض بالنبات وفيه نظر ستأتي الإشارة إليه قريبا، وقوله تعالى: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا على القولين يحتمل أن يكون معناه جاعل الملائكة عليهم السلام وسائط بينه وبين أنبيائه والصالحين من عباده يبلغون إليهم رسالته سبحانه بالوحي والإلهام والرؤيا الصادقة أو جاعلهم وسائط بينه وبين خلقه عزّ وجلّ يوصلون إليهم آثار قدرته وصنعه كالأمطار والرياح وغيرهما وهم الملائكة الموكلون بأمور العالم، وهذا أنسب بالقول الثاني لكن يرد عليه أنه لا معنى لكون الأمطار شاقة للسماوات، وقال الإمام: إن الحمد يكون على النعم ونعمه تعالى عاجلة وآجلة، وهو في سورة سبأ إشارة إلى نعمة الإيجاد والحشر ودليله: يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها [سبأ: 2، الحديد: 4] وقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ [سبأ: 3] والحمد في هذه السورة إشارة إلى نعمة البقاء في الآخرة ودليله جاعل الملائكة رسلا أي يجعلهم سبحانه رسلا يتلقون عباد الله تعالى كما قال سبحانه تتلقاهم الملائكة فيجوز أن يكون المعنى الحمد لله شاق السماوات والأرض يوم القيامة لنزول الأرواح من السماء وخروج الأجساد من الأرض وجاعل الملائكة رسلا في ذلك اليوم يتلقون عباده، وعليه فأول هذه السورة متصل بآخر ما مضى لأن قوله تعالى: كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ [سبأ: 54] بيان لانقطاع رجاء من كان في شك مريب، ولما ذكر سبحانه حالهم ذكر حال المؤمنين الجزء: 11 ¦ الصفحة: 335 وبشرهم بإرسال الملائكة إليهم وأنه تعالى يفتح أبواب الرحمة لهم انتهى، وفيه من البعد ما فيه، وفاطِرِ صفة لله وإضافته محضة قال أبو البقاء: لأنه للماضي لا غير، وقال غيره: هو معروف بالإضافة إذ لم يجر على الفعل بل أريد به الاستمرار والثبات كما يقال زيد مالك العبيد جاء أي زيد الذي من شأنه أن يملك العبيد جاء، ومن جعل الإضافة غير محضة جعله بدلا وهو قليل في المشتقات، وكذا الكلام في جاعِلِ ورُسُلًا على القول بأن إضافته غير محضة منصوب به بالاتفاق، وأما على القول الآخر فكذلك عند الكسائي، وذهب أبو علي إلى أنه منصوب بمضمر يدل هو عليه لأن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي لا يعمل عنده كسائر البصريين إلا معرفا باللام، وقال أبو سعيد السيرافي: اسم الفاعل المتعدي إلى اثنين يعمل بالثاني لأنه بإضافته إلى الأول تعذرت إضافته إلى الثاني فتعين نصبه له. وعلل بعضهم ذلك بأنه بالإضافة أشبه المعرف باللام فعمل عمله هذا على تقدير كون الجعل تصييريا أما على تقدير كونه إبداعيا فرسلا حال مقدرة، وقرأ الضحاك والزهري فطر جعل فعلا ماضيا ونصب ما بعده قال أبو الفضل الرازي: يحتمل أن يكون ذلك على إضمار الذي نعتا لله تعالى أو على تقدير قد فتكون الجملة حالا. وأنت تعلم أن حذف الموصول الاسمي لا يجوز عند جمهور البصريين، وذهب الكوفيون والأخفش إلى إجازته وتبعهم ابن مالك وشرط في بعض كتبه كونه معطوفا على موصول آخر ومن حجتهم «آمنوا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم» (1) وقول حسان: أمن يهجو رسول الله منكم ... وينصره ويمدحه سواء وقول آخر: ما الذي دأبه احتياط وحزم ... وهواه أطاع يستويان واختار أبو حيان كون الجملة خبر مبتدأ محذوف أي هو فطر. وقرأ الحسن «جاعل» بالرفع على المدح وجر الْمَلائِكَةِ وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو «جاعل» بالرفع بلا تنوين ونصب «الملائكة» وخرج حذف التنوين على أنه لالتقاء الساكنين ونصب الملائكة إذا كان جاعل للمضي على مذهب الكسائي وهشام في جواز أعمال الوصف الماضي النصب. وقرأ ابن يعمر وخليد «جعل» فعلا ماضيا «الملائكة» بالنصب وذلك بعد قراءته فاطِرِ كالجمهور كقراءة من قرأ: فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً [الأنعام: 96] وفي الكشاف قرىء «فطر» و «جعل» كلاهما بلفظ الفعل الماضي. وقرأ الحسن وحميد بن قيس «رسلا» بسكون السين وهي لغة تميم، وقوله تعالى: أُولِي أَجْنِحَةٍ صفة لرسلا وأولو اسم جمع لذو كما إن أولاه اسم جمع لذا، ونظير ذلك من الأسماء المتمكنة المخاض، قال الجوهري: هي الحوامل من النوق واحدتها خلفة. وأَجْنِحَةٍ جمع جناح صيغة جمع القلة ومقتضى المقام أن المراد به الكثرة. وفي البحر قياس جمع الكثرة فيه جنح فإن كان لم يسمع كان أجنحة مستعملا في القليل والكثير، والظاهر أن الجناح بالمعنى المعروف عند العرب بيد أنا لا نعرف حقيقته وكيفيته ولا نقول إنه من ريش كريش الطائر. نعم أخرج ابن المنذر عن ابن جريج أن أجنحة الملائكة عليهم السّلام زغبة، ورأيت في بعض كتب الإمامية أن الملائكة تزدحم في مجالس الأئمة فيقع من ريشها ما يقع وأنهم يلتقطونه ويجعلون منه ثيابا لأولادهم.   (1) لا يوجد آية بهذا النصّ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 336 وهذا عندي حديث خرافة، والكشفية منهم يؤولونه بما لا يخرجه عن ذلك، وقوله تعالى: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ الظاهر أنه صفة لأجنحة، والمنع من الصرف على المشهور للصفة والعدل عن اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة. وقال الزمخشري: إنما لم تنصرف هذه الألفاظ لتكرار العدل فيها وذلك أنها عدلت عن ألفاظ الأعداد من صيغ إلى صيغ آخر كما عدل عمر عن عامر وحزام عن حازمة وعن تكرير إلى غير تكرير ففيها عدلان وأما الوصفية فلا يفترق الحال فيها بين المعدولة والمعدول عنها ألا ترك تقول مررت بنسوة أربع وبرجال ثلاثة فلا يعرج عليها. وتعقبه أبو حيان بأنه قاس الصفة في هذا المعدول على الصفة في أربع وثلاثة وليس بصحيح لأن مطلق الصفة لم يعدوه علة بل اشترطوا أن تكون الوصفية غير عارضة كما في أربع وأن لا يقبل تاء التأنيث أو تكون فيه كثلاث وثلاثة، وقال صاحب الكشف فيه: إن العدول عن التكرر لا يعتبر فيه للصيغة واعتبر في تحقق العدل ذلك ثم العدول عن الصيغة الأصلية لإفادة التكرر فلا عدولين بوجه، وبعد تسليم أن المعتبر في الوصف مقارنته لوضع المعدول فلا يضر عروضه في المعدول عنه لا اتجاه للمنع ولا معول على السند وهو قول سيبويه على ما نقله الجوهري وهو المنصور على ما نبهت إليه انتهى وتعقبه أيضا صاحب الفرائد وصاحب التقريب بعروض الوصفية في المعدول عنه وعدمه في المعدول، لكن قال الطيبي: وجدت لبعض المغاربة كلاما يصلح أن يكون جوابا عنه وهو أن ثلاث مثلا لا يخلو من أن يكون موضوعا للصفة من غير اعتبار العدد أو لا يكون فإن كان الأول لم يكن فيه العدد والمقدر خلافه، وإن كان الثاني كان الوصف عارضا لثلاث كما كان عارضا لثلاثة فيمكن أن يقال إن هذه الأعداد غير منصرفة للعدل المكرر كالجمع وألفي التأنيث انتهى، وفيه ما لا يخفى. وقال ابن عطية: إن هذه الألفاظ عدلت في حال التنكير فتعرفت بالعدل فهي لا تنصرف للعدل والتعريف وهذا قول غريب ذكر في البحر لبعض الكوفيين وفي الكشاف هي نكرات يعرفن بلام التعريف تقول فلان ينكح المثنى والثلاث والرباع، وقيل مَثْنى إلخ حال من محذوف والعامل فيه محذوف يدل عليه رُسُلًا أي يرسلون مثنى وثلاث ورباع، والمعول عليه ما تقدم، والمراد ذوي أجنحة متعددة متفاوتة في العدد حسب تفاوت ما لهم من المراتب ينزلون بها ويعرجون أو يسرعون بها حين يؤمرون، ويجوز أن تكون كلا أو بعضا لأمور أخر كالزينة فيما بينهم وكالإرخاء على الوجه حياء من الله تعالى إلى غير ذلك، والمعنى أن من الملائكة خلقا لكل واحد منهم جناحان وخلقا لكل منهم ثلاثة أجنحة وخلقا لكل منهم أربعة أجنحة، ولا دلالة في الآية على نفي الزائد بل قال بعض المحققين: إن ما ذكر من العدد للدلالة على التكثير والتفاوت لا للتعيين ولا لنفي النقصان عن اثنين. وقد أخرج الشيخان والترمذي عن ابن مسعود في قوله تعالى: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى [النجم: 18] رأى جبريل له ستمائة جناح، والترمذي عن مسروق عن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم ير جبريل في صورته إلا مرتين مرة عند سدرة المنتهى ومرة في جياد له ستمائة جناح قد سد الأفق، وقال الزمخشري: مر بي في بعض الكتب أن صنفا من الملائكة عليهم السلام لهم ستة أجنحة فجناحان يلفون بهما أجسادهم وجناحان يطيرون بهما في أمر من أمور الله تعالى وجناحان مرخيان على وجوههم حياء من الله عزّ وجلّ. والبحث عن كيفية وضع الأجنحة شفعا كانت أو وترا فيما أرى مما لا طائل تحته ولم يصح عندي في ذلك شيء ولقياس الغائب على الشاهد، قال بعضهم: إن المعنى إن في كل جانب لبعض الملائكة عليهم السّلام جناحين ولبعضهم ثلاثة ولبعضهم أربعة وإلا فلو كانت ثلاثة لواحد لما اعتدلت، وهو كما ترى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 337 وقال قوم: إن الجناح إشارة إلى الجهة، وبيانه أن الله تعالى ليس فوقه شيء وكل شيء سواه فهو تحت قدرته سبحانه والملائكة عليهم السّلام لهم وجه إلى الله تعالى يأخذون منه نعمه ويعطون من دونهم مما أخذوه بإذنه سبحانه كما قال تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشعراء: 193، 194] وقال تعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى [النجم: 5] وقال تعالى: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً [النازعات: 5] وهما جناحان وفيهم من يفعل ما يفعل من الخير بواسطة وفيهم من يفعله لا بواسطة فالفاعل بواسطة منهم من له ثلاث جهات ومنهم من له أربع جهات وأكثر، وهذا خلاف الظاهر جدا ولا يحتاج إليه السني القائل بأن الملائكة عليهم السّلام أجسام لطيفة نورية يقدرون على التشكل بالصور المختلفة وعلى الأفعال الشاقة وإنما يحتاج إليه أو إلى نحوه الفلاسفة وأتباعهم فإن الملائكة عندهم هي العقول المجردة ويسميها أهل الإشراق بالأنوار الظاهرة وبعض المتصوفة بالسرادقات النورية، وقد ذكر بعض متأخريهم أن لها ذوات حقيقية وذوات إضافية مضافة إلى ما دونها إضافة النفس إلى البدن فأما ذواتها الحقيقة فإنما هي أمرية قضائية قولية وأما ذواتها الإضافية فإنما هي خلقية قدرية تنشأ منها الملائكة اللوحية وأعظمهم إسرافيل عليه السّلام، وتطلق الملائكة عندهم على غير العقول كالمدبرات العلوية والسفلية من النفوس والطبائع، وأطالوا الكلام في ذلك وظواهر الآيات والأخبار تكذبهم والله تعالى الموفق للصواب. يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ استئناف مقرر لما قبله من تفاوت الملائكة عليهم السّلام في عدد الأجنحة ومؤذن بأن ذلك من أحكام مشيئته تعالى لا لأمر راجع إلى ذواتهم ببيان حكم كلي ناطق بأنه عزّ وجلّ يزيد في أي خلق كان كل ما يشاء أن يزيده بموجب مشيئته سبحانه ومقتضى حكمته من الأمور التي لا يحيط بها الوصف، وقال الفراء والزجاج: هذا في الأجنحة التي للملائكة أي يزيد في خلق الأجنحة للملائكة ما يشاء فيجعل لكل ستة أجنحة أو أكثر وروي ذلك عن الحسن، وكأن الجملة لدفع توهم عدم الزيادة على الأربعة. وعن ابن عباس يزيد في خلق الملائكة والأجنحة ما يشاء، وقيل الْخَلْقِ خلق الإنسان وما يَشاءُ الخلق الحسن أو الصوت الحسن أو الحظ الحسن أو الملاحة في العينين أو في الأنف أو في الوجه أو خفة الروح أو جعودة الشعر وحسنه أو العقل أو العلم أو الصنعة أو العفة في الفقر أو حلاوة النطق، وذكروا في بعض ذلك أخبارا مرفوعة والحق أن ذلك من باب التمثيل لا الحصر، والآية شاملة لجميع ذلك بل شاملة لما يستحسن ظاهرا ولما لا يستحسن وكل شيء من الله عزّ وجلّ حسن. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تعليل بطريق التحقيق للحكم المذكور فإن شمول قدرته تعالى لجميع الأشياء مما يوجب قدرته سبحانه على أن يزيد في كل خلق كل ما يشاؤوه تعالى إيجابا بينا ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ أي ما يطلقها ويرسلها فالفتح مجاز عن الإرسال بعلاقة السببية فإن فتح المغلق سبب لإطلاق ما فيه وإرساله ولذا قوبل بالإمساك والإطلاق كناية عن الإعطاء كما قيل أطلق السلطان للجند أرزاقهم فهو كناية متفرعة على المجاز. وفي اختيار لفظ الفتح رمز إلى أن الرحمة من أنفس الخزائن وأعزها منالا، وتنكيرها للإشاعة والإبهام أي أي شيء يفتح الله تعالى من خزائن رحمته أي رحمة كانت من نعمة وصحة وأمن وعلم وحكمة إلى غير ذلك مما لا يحاط به حتى أن عروة كان يقول كما أخرج ابن المنذر عن محمد بن جعفر بن الزبير عنه في ركوب المحمل هي والله رحمة فتحت للناس ثم يقول ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ إلخ. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي الرحمة المطر، وعن ابن عباس التوبة والمراد التمثيل، والجار والمجرور في موضع الحال لا في موضع الصفة لأن اسم الشرط لا يوصف فَلا مُمْسِكَ لَها أي فلا أحد يقدر على إمساكها الجزء: 11 ¦ الصفحة: 338 وَما يُمْسِكْ أي أي شيء يمسك فَلا مُرْسِلَ لَهُ أي فلا أحد يقدر على إرساله، واختلاف الضميرين لما أن مرجع الأول مبين بالرحمة ومرجع الثاني مطلق يتناولها وغيرها، وفي ذلك مع تقديم أمر فتح الرحمة إشعار بأن رحمته تعالى سبقت غضبه عزّ وجلّ كما ورد في الحديث الصحيح، وقيل المراد وما يمسك من رحمة إلا أنه حذف المبين لدلالة ما قبل عليه، والتذكير باعتبار اللفظ وعدم ما يقوي اعتبار المعنى في التلفظ. وأيد بأنه قرىء «فلا مرسل لها» بتأنيث الضمير مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد إمساكه وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب على كل ما يشاء من الأمور التي من جملتها الفتح والإمساك الْحَكِيمُ الذي يفعل كل ما يفعل حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة، والجملة تذييل مقرر لما قبلها ومعرب عن كون كل من الفتح والإمساك بموجب الحكمة التي يدور عليها أمر التكوين، وما ادعى هذه الآية إلى الانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عما سواه عزّ وجلّ وإراحة البال عن التخيلات الموجبة للتهويش وسهر الليال. وقد أخرج ابن المنذر عن عامر بن عبد قيس: قال أربع آيات من كتاب الله تعالى إذا قرأتهن فما أبالي ما أصبح عليه وأمسي ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ [يونس: 107] وسَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً [الطلاق: 7] وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود: 6] وبعد ما بين سبحانه أنه الموجد للملك والملكوت والمتصرف فيهما على الإطلاق أمر الناس قاطبة أو أهل مكة كما روي عنه ابن عباس واختاره الطيبي بشكر نعمه عزّ وجلّ فقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي إنعامه تبارك وتعالى عليكم إن جعلت النعمة مصدرا أو كائنة عليكم أن جعلت اسما أي راعوها واحفظوها بمعرفة حقها والاعتراف بها وتخصيص العبادة والطاعة بموليها فليس المراد مجرد الذكر باللسان بل هو كناية عما ذكر، وعن ابن عباس وقد جعل الخطاب لمن سمعت اذكروا نعمة الله عليكم حيث أسكنكم حرمه ومنعكم من جميع العالم والناس يتخطفون من حولكم، وعنه أيضا نعمة الله تعالى العافية، والأولى عدم التخصيص، ولما كانت نعم الله تعالى مع تشعب فنونها منحصرة في نعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء نفي سبحانه أن يكون في الوجود شيء غيره سبحانه يصدر عنه إحدى النعمتين بطريق الاستفهام الذي هو لإنكار التصديق وتكذيب الحكم فقال عزّ وجلّ: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ وهل تأتي لذلك كما في المطول وحواشيه، وقول الرضى: إن هل لا تستعمل للإنكار أراد به الإنكار على مدعي الوقوع كما في قوله تعالى: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ [الإسراء: 40] ويلزمه النفي والإنكار على من أوقع الشيء كما في قولك أتضرب زيدا وهو أخوك أي هل خالق مغاير له تعالى موجود لكم أو للعالم على أن خالِقٍ مبتدأ محذوف الخبر زيدت عليه مِنْ لتأكيد العموم وغَيْرُ اللَّهِ صفة له باعتبار محله، وصحت الوصفية به مع إضافته إلى أعرف المعارف لتوغله في التنكير فلا يكتسب تعريفا في مثل هذا التركيب، وجوز أن يكون بدلا من خالِقٍ بذلك الاعتبار ويعتبر الإنكار في حكم النفي ليكون غير الله هو الخالق المنفي ولأن المعنى على الاستثناء أي لا خالق إلا الله تعالى والبدلية في الاستثناء بغير إنما تكون في الكلام المنفي وبهذا الاعتبار زيدت مِنْ عند الجمهور وصح الابتداء بالنكرة، وكذا جوز أن يكون فاعلا بخالق لاعتماده على أداة الاستفهام نحو أقائم زيد في أحد وجهيه وهو حينئذ ساد مسد الخبر. وتعقبه أبو حيان بقوله فيه نظر وهو أن اسم الفاعل أو ما يجري مجراه إذا اعتمد على أداة الاستفهام وأجرى مجرى الفعل فرفع ما بعده هل يجوز أن تدخل عليه من التي للاستغراق فيقال هل من قائم الزيدون كما تقول هل قائم الزيدون، والظاهر أنه لا يجوز ألا ترى أنه إذا أجرى مجرى الفعل لا يكون فيه عموم بخلافه إذا دخلت عليه من ولا أحفظ مثله في لسان العرب، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 339 وينبغي أن لا يقدم على إجازة مثل هذا إلا بسماع من كلامهم، وفيه أن شرط الزيادة والأعمال موجود ولم يبد مانعا يعول عليه فالتوقف تعنت من غير توقف. وفي الكشف لا مانع من أن يكون غَيْرُ خبرا. ومنعه الشهاب بأن المعنى ليس عليه، وقرأ ابن وثاب وشقيق وأبو جعفر وزيد بن علي وحمزة والكسائي غير بالخفض صفة لخالق على اللفظ، وهذا متعين في هذه القراءة ولأن توافق القراءتين أولى من تخالفهما كان الأظهر في القراءة الأولى كونه وصفا لخالق أيضا، وقرأ الفضل بن إبراهيم النحوي «غير» بالنصب على الاستثناء، وقوله تعالى: يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ بالمطر والنبات كلام مبتدأ لا محل له من الإعراب لا صفة خالِقٍ باعتبار لفظه أو محله، قال في الكشف: لأن المعنى على التقريع والتذكير بما هم معترفون به فكأنه قيل: هل من خالق لتلك النعم التي أمرتم بذكرها أو مطلقا وهو أولى وتدخل دخولا أوليا غَيْرُ اللَّهِ ثم تمم ذلك بأنه يرزقكم من السماء والأرض وذلك أيضا يقتضي اختصاصه تعالى بالعبادة كما أن الخالقية تقتضي ذلك، وفيه أن الخالق لا يكون إلا رازقا ولو قيل هل من خالق رازق من السماء والأرض غير الله يخرج الكلام عن سننه المقصود. وجوز أن يكون خالِقٍ فاعلا لفعل مضمر يفسره المذكور والأصل هل يرزقكم خالق ومِنْ زائدة في الفاعل، وتعقب بأن ما في النظم الجليل إن كان من باب هل رجل عرف فقد صرح السكاكي بقبح هذا التركيب لأن هل إنما تدخل على الجملة الخبرية فلا بدّ من صحتها قبل دخول هل ورجل عرف لا يصح بدون اعتبار التقديم والتأخير لعدم مصحح الابتدائية سواه وإذا اعتبر التقديم والتأخير كان الكلام مفيدا لحصول التصديق بنفس الفعل فلا يصح دخول هل عليه لأنها لطلب التصديق وما حصل لا يطلب لئلا يلزم تحصيل الحاصل ولاحتمال أن يكون رجل فاعل فعل محذوف قال بالقبح دون الامتناع وإن كان من باب هل زيد عرف فقد صرح العلامة الثاني السعد التفتازاني بأنه قبيح باتفاق النحاة وأن ما ذكره صاحب المفصل من أن نحو هل زيد خرج على تقدير الفعل تصحيح للوجه القبيح البعيد لا أنه شائع حسن غاية ما في الباب أن سبب قبحه ليس ما ذكر في قبح هل زيد عرف عند السكاكي لعدم تأتيه فيه بل السبب أن هل بمعنى قد في الأصل وأصله أهل كقوله: أهل عرفت الدار بالغرتين وترك الهمزة قبلها لكثرة وقوعها في الاستفهام فأقيمت هي مقام الهمزة وتطفلت عليها في الاستفهام، وقد من لوازم الأفعال فكذا ما هي بمعناها، ولم يقبح دخولها على الجملة الاسمية التي طرفاها اسمان لأنها إذا لم تر الفعل في حيزها تتسلى عنه ذاهلة وهذا بخلاف ما إذا رأته فإنها حينئذ تتذكر عهودا بالحمى وتحن إلى الألف المألوف وتطلب معانقته ولم ترض بافتراق الاسم بينهما، ويعلم من هذا أنه لا فرق عند النحاة بين هل رجل عرف وهل زيد تعرف في القبح لذلك. وأجاب بعضهم بأن مجوز هذا الوجه الزمخشري ومتابعوه وهو لا يسلم ما ذكر لأن حرف الشرط كان مثلا ألزم للفعل من هل لأنه لا يجوز دخوله على الجملة الاسمية التي طرفاها اسمان كما دخلت عليها هل وقد جاز بلا قبح عمل الفعل بعده على شريطة التفسير كقوله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فيجوز في هل بالطريق الأولى، وقيل: يجوز أن يكون يَرْزُقُكُمْ إلخ مستأنفا في جواب سؤال مقدر تقديره أي خالق يسأل عنه، وأن يكون هو الخبر لخالق، ولا يخفى على متأمل أن ما نقل عن الكشف قاض بمرجوحية هذه الأوجه جميعها فتأمل. وفي الآية على ما هو الأولى في تفسيرها وإعرابها رد على المعتزلة في قولهم: العبد خالق لأفعاله ونصرة لأهل السنة في قولهم لا خالق إلا الله تعالى: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ استئناف مقرر للنفي المفهوم مما تقدم قصدا، ولم يجوز جار الله أن يجعل صفة لخالق كما جعل يَرْزُقُكُمْ صفة له حيث قال: ولو وصلت جملة لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كما وصلت الجزء: 11 ¦ الصفحة: 340 يَرْزُقُكُمْ لم يساعد عليه المعنى لأن قولك هل من خالق آخر سوى الله لا إله إلا ذلك الخالق غير مستقيم لأن قولك هل من خالق سوى الله إثبات لله تعالى فلو ذهبت تقول ذلك كنت مناقضا بالنفي بعد الإثبات اهـ، وبين صاحب الكشف وجه المناقضة على تقدير أن يكون غير الله صفة بأن الكلام مسوق لنفي المشاركة في الصفة المحققة أعني الخلق فقولك هل من خالق آخر سوى الله إثبات لله تعالى ونفي المشارك له فيها ثم وصف الآخر بانحصار الإلهية فيه يكون لنفي خالقيته دون تفرد بالإلهية والتفرد بالإلهية مع مغايرته لله تعالى متناقضان لأن الأول ينفيه تعالى عن ذلك علوا كبيرا والثاني يثبته مع الغير جل عن كل شريك ونقص، ثم قال: والتحقيق في هذا أن هل لإنكار ما يليها وما تلاه إن كان من تتمته ينسحب عليه حكم الإنكار بالبقية وإلا كان مبقى على حاله نفيا وإثباتا، ولما كان الكلام في الخالقية على ما مر لم يكن الوصفان أعني تفرد الآخر بالإلهية ومغايرته للقيوم الحق مصبا له وهما متناقضان في أنفسهما على ما بين فيلزم ما ذكره جار الله لزوما بينا اهـ، وقد دفع بتقريره ذلك كثيرا من القال والقيل بيد أنه لا يخلو عن بحث، ويمكن تقرير المناقضة على تقدير الوصفية بوجه أظهر لعله لا يخفى على المتأمل، ويجوز أن يكون المانع من الوصفية النظم المعجز وحاكمه الذوق السليم والكلام في ذلك طويل فتأمل، والفاء في قوله تعالى: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ لترتيب إنكار عدولهم عن التوحيد إلى الإشراك على ما قبلها كأنه قيل: وإذا تبين تفرده تعالى بالألوهية والخالقية والرازقية فمن أي وجه تصرفون عن التوحيد إلى الشرك، وقوله تعالى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ إلخ تسلية له عليه الصلاة والسّلام بعموم البلية والوعد له صلّى الله عليه وسلم والوعيد لأعدائه، والمعنى وإن استمروا على أن يكذبوك فيما بلغت إليهم من الحق المبين بعد ما أقمت عليهم الحجة وألقمتهم الحجر فتأس بأولئك الرسل في الصبر فقد كذبهم قومهم وصبروا فجملة قد كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ قائمة مقام جواب الشرط والجواب في الحقيقة تأس، وأقيمت تلك الجملة مقامه اكتفاء بذكر السبب عن ذكر المسبب، وجوز أن تجعل هي الجواب من غير تقدير ويكون المترتب على الشرط الإعلام والإخبار كما في قوله تعالى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل: 53] وتنكير رسل للتعظيم والتكثير الموجبين لمزيد التسلية والحث على التأسي والصبر على ما أصابه عليه الصلاة والسّلام من قومه أي رسل أولو شأن خطير وعدد كثير وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ لا إلى غيره عزّ وجلّ فيجازي سبحانه كلا منك ومنهم بما يليق به، وفي الاقتصار على ذكر اختصاص المرجع به تعالى مع إبهام الجزاء ثوابا وعقابا من المبالغة في الوعد والوعيد ما لا يخفى. وقرئ «ترجع» بفتح التاء من الرجوع والأول أدخل في التهويل. يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ المشار إليه بقوله سبحانه: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ من البعث والجزاء حَقٌّ ثابت لا محالة من غير خلف فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا بأن يذهلكم التمتع بمتاعها ويلهيكم التلهي بزخارفها عن تدارك ما ينفعكم يوم حلول الميعاد، والمراد نهيهم عن الاغترار بها وإن توجه النهي صورة إليها نظير قوله تعالى: لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي [هود: 89] وقولك لا أرينك هنا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ حيث إنه جل شأنه عفو كريم رؤوف رحيم الْغَرُورُ أي المبالغ في الغرور، وهو على ما روي عن ابن عباس والحسن ومجاهد الشيطان فالتعريف للعهد، ويجوز التعميم أي لا يغرنكم كل من شأنه المبالغة في الغرور بأن يمنيكم المغفرة مع الإصرار على المعصية قائلا إن الله يغفر الذنوب جميعا فإن ذلك وإن أمكن لكن تعاطي الذنوب بهذا التوقع من قبيل تناول السم تعويلا على دفع الطبيعة، وتكرير فعل النهي للمبالغة فيه ولاختلاف الغرورين في الكيفية. وقرأ أبو حيوة وأبو السمال «الغرور» بالضم على أنه مصدر غره يغره وإن قل في المتعدي أو جمع غار كقعود وسجود مصدرين وجمعين، وعلى المصدرية الإسناد مجازي إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ عداوة عامة قديمة لا تكاد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 341 تزول، ويشعر بذلك الجملة الاسمية و «لكم» وتقديمه للاهتمام فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا بمخالفتكم إياه في عقائدكم وأفعالكم وكونوا على حذر منه في مجامع أحوالكم إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ تقرير لعداوته وتحذير من طاعته بالتنبيه على أن غرضه في دعوة شيعته إلى اتباع الهوى والركون إلى ملاذ الدنيا ليس إلا توريطهم وإلقاءهم في العذاب المخلد من حيث لا يشعرون فاللام ليست للعاقبة. وزعم ابن عطية أنها لها. الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بسبب كفرهم وإجابتهم لدعوة الشيطان واتباعهم لخطواته، ولعل تنكير «عذاب» لتعظيمه بحسب المدة فكأنه قيل: لهم عذاب دائم شديد وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ عظيمة وَأَجْرٌ كَبِيرٌ لا غاية لهما بسبب ما ذكر من الإيمان والعمل الصالح، والَّذِينَ كَفَرُوا مبتدأ خبره لَهُمْ عَذابٌ وكذا الَّذِينَ آمَنُوا ولَهُمْ مَغْفِرَةٌ إلخ، وجوز بعضهم كون الَّذِينَ كَفَرُوا في موضع خفض بدلا من أَصْحابِ السَّعِيرِ أو صفة له أو في موضع نصب بدلا من حِزْبَهُ أو صفة له أو في موضع رفع بدلا من ضمير لِيَكُونُوا والكل مفوت لجزالة التركيب كما لا يخفى على الأريب أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ أي حسن له عمله السيّء فَرَآهُ فاعتقده بسبب التزيين حَسَناً فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، ومَنْ موصولة في موضع رفع على الابتداء والجملة بعدها صلتها والخبر محذوف والفاء للتفريع والهمزة للإنكار فإن كانت مقدمة من تأخير كما هو رأي سيبويه والجمهور في نظير ذلك فالمراد تفريع إنكار ما بعدها على ما قبلها من الحكمين السابقين أي إذا كانت عاقبة كل من الفريقين ما ذكر فليس الذي زين له الكفر من جهة عدوه الشيطان فاعتقده حسنا وانهمك فيه كمن استقبحه واجتنبه واختار الإيمان والعمل الصالح وإن كانت في محلها الأصلي وكان العطف على مقدر تكون هي داخلة إليه كما ذهب إليه جمع فالمراد ما في حيزها ويكون التقدير أهما أي الذين كفروا والذين آمنوا وعملوا الصالحات متساويان فالذي زين له الكفر من جهة عدوه الشيطان فاعتقده حسنا وانهمك فيه كمن استقبحه واجتنبه واختار الإيمان والعمل الصالح أي ما هما متساويان ليكون الذي زين له الكفر كمن استقبحه، وحذف هذا الخبر لدلالة الكلام عليه واقتضاء النظم الجليل إياه، وقد صرح بالجزءين في نظير الآية الكريمة من قوله تعالى: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ [محمد: 14] وقوله سبحانه: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى [الرعد: 19] وقوله عزّ وجلّ: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ [الأنعام: 122] وفي التعبير عن الكافر بمن زين له سوء عمله فرآه حسنا إشارة إلى غاية ضلاله حتى كأنه غلب على عقله وسلب تمييزه فشأن المغلوب على عقله ذلك كما يشير إليه قول أبي نوّاس: اسقني حتى تراني ... حسنا عندي القبيح وظاهر كلام الزجاج أن من شرطية حيث قال: الجواب على ضربين، أحدهما ما يدل عليه قوله تعالى: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ إلخ ويكون المعنى أفمن زين له سوء عمله فأضله الله ذهبت نفسك عليهم حسرة، وثانيهما ما يدل عليه قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ إلخ ويكون المعنى أفمن زين له سوء عمله كمن هداه الله تعالى، وإلى ذلك ذهب ابن مالك أيضا، واعترض ابن هشام على التقدير الثاني بأن الظرف لا يكون جوابا وإن قلنا إنه جملة، ووجهه أن الرضي صرح بأنه لا يكون مستقرا في غير الخبر والصفة والصلة والحال ولم يذكر الجواب لا أن ذلك لعدم الفاء، وتقديرها داخلة على مبتدأ يكون الظرف خبره والجملة بتمامها جزاء غير جائز لما فيه من التكلف كما قيل. وزعم بعضهم أنه يجوز أن يكون الزجاج قد ذهب إلى أن من موصولة وأطلق على خبرها الجواب لشبهه به في المعنى ألا تراهم يدخلون الفاء في خبر الموصول الذي صلته جملة فعلية كما يدخلونها في جواب الشرط فيقولون الجزء: 11 ¦ الصفحة: 342 الذي يأتيني فله درهم، وفيه أنه خلاف الظاهر ولا قرينة على إرادته سوى عدم صحة الجزائية، وضعف التقدير الأول بالفصل بين ما فيه الحذف ودليل المحذوف مع خفاء ربط الجملة بما قبلها عليه، ولا ينبغي أن تكون من شرطية جوابها فرآه لما في ذلك من الركاكة الصناعية فإن الماضي في الجواب لا يقترن بالفاء بدون قد مع خفاء أمر إنكار رؤية سوء العمل حسنا بعد التزيين وتفريعه على ما قبله من الحكمين، وكون الإنكار لما أن المزين هو الشيطان العدو والتفريع على قوله تعالى: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ لا يخفى حاله فالوجه المعول عليه ما تقدم جعل عليه، وقوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ تعليلا لسببية التزيين لرؤية القبيح حسنا، وفيه دفع استبعاد أن يرى الشخص القبيح حسنا بتزيين العدو إياه ببيان أن ذلك بمشيئة الله عزّ وجلّ التابعة للعلم المتعلق بالأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر وإيذان بأن أولئك الكفرة الذين زين لهم سوء عملهم فرأوه حسنا ممن شاء الله تعالى ضلالهم، وقوله تعالى: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ تفريع عليه أي إذا كان الأمر كذلك فلا تذهب نفسك إلخ، وذكر المولى سعدي جلبي أن الهمزة في أَفَمَنْ على التقدير الأول من التقديرين اللذين نقلا عن الزجاج لإنكار ذهاب نفسه صلّى الله عليه وسلم عليه عليهم حسرة والفاء في قوله سبحانه فَإِنَّ اللَّهَ إلخ تعليل لما يفهمه النظم الجليل من أنه لا جدوى للتحسر، وفي الكشف أنه تعالى لما ذكر الفريقين الذين كفروا والذين آمنوا قال سبحانه لنبيه صلّى الله عليه وسلم أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً يعني أفمن زين له سوء عمله من هذين الفريقين كمن لم يزين له فكأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال لا فقال تعالى فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ ويفهم من كلام الطيبي أن فاء فَلا تَذْهَبْ جزائية وفاء فَإِنَّ اللَّهَ للتعليل وأن الجملة مقدمة من تأخير فقد قال: إنه صلّى الله عليه وسلم كان حريصا على إيمان القوم وأن يسلك الضالين في زمرة المهتدي فقيل له عليه الصلاة والسّلام على سبيل الإنكار لذلك: أفمن زين له سوء عمله من هذين الفريقين كمن لم يزين له فلا بدّ أن يقر صلّى الله عليه وسلم بالنفي ويقول لا فحينئذ يقال له فإذا كان كذلك فلا تذهب نفسك عليهم حسرات فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فقدم وأخر انتهى وفيه نظر، وفي الآيات على ما يقتضيه ظاهر كلام الزمخشري لف ونشر وبذلك صرح الطيبي ثم قال: الأحسن أن تجعل الآيات من الجمع والتقسيم والتفريق فقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ جمع الفريقين معا في حكم نداء الناس وجمع ما لهما من الثواب والعقاب في حكم الوعد وحذرهما معا عن الغرور بالدنيا والشيطان، وأما التقسيم فهو قوله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ وأما التفريق فقوله تعالى: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ لأنه فرق فيه وبين التفاوت بين الفريقين كما قال الزمخشري أفمن زين له سوء عمله من هذين الفريقين كمن لم يزين له، وفرع على ذلك ظهور أن الفاء في أَفَمَنْ للتعقيب والهمزة الداخلة بين المعطوف والمعطوف عليه لإنكار المساواة وتقرير البون العظيم بين الفريقين وأن المختار من أوجه ذكرها السكاكي في المفتاح تقدير كمن هداه الله تعالى فحذف لدلالة فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ ولهم في نظم الآيات الكريمة كلام طويل غير ما ذكرناه من أراده فليتبع كتب التفاسير والعربية، ولعل فيما ذكرناه مقنعا لمن أوتي ذهنا سليما وفهما مستقيما. والحسرات جمع حسرة وهي الغم على ما فاته والندم عليه كأنه انحسر عنه ما حمله على ما ارتكبه أو انحسر قواه من فرط غم أو أدركه إعياء عن تدارك ما فرط منه، وانتصبت على أنها مفعول من أجله أي فلا تهلك نفسك للحسرات، والجمع مع أن الحسرة في الأصل مصدر صادق على القليل والكثير للدلالة على تضاعف اغتمامه عليه الصلاة والسّلام على أحوالهم أو على كثرة قبائح أعمالهم الموجبة للتأسف والتحسر، وعَلَيْهِمْ صلة تَذْهَبْ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 343 كما يقال هلك عليه حبا ومات عليه حزنا أو هو بيان للمتحسر عليه فيكون ظرفا مستقرا ومتعلقه مقدر كأنه قيل: على من تذهب؟ فقيل: عليهم، وجوز أن يتعلق بحسرات بناء على أنه يغتفر تقديم معمول المصدر عليه إذا كان ظرفا وهو الذي أختاره والزمخشري لا يجوز ذلك، وجوز أن يكون حسرات حالا من نَفْسُكَ كأن كلها صارت حسرات لفرط التحسر كما قال جرير: مشق الهواجر لحمهن مع السرى ... حتى ذهبن كلا كلا وصدورا يريد رجعن كلا كلا وصدورا أي لم يبق إلا كلا كلها وصدورها، وهو الذي ذهب إليه سيبويه في البيت، وقال المبرد: كلا كلا وصدورا تمييز محول عن الفاعل أي حتى ذهب كلا كلها وصدورها، ومن هذا قوله: فعلى أثرهم تساقط نفسي ... حسرات وذكرهم لي سقام وفيه مبالغات ثلاث، وقرأ عبيد بن عمير «زيّن» مبنيا للفاعل، ونصب «سوأ» وعنه أيضا «أسوأ» على وزن أفعل وأريد بأسوأ عمله الشرك، وقرأ طلحة «أمن» بغير فاء قال صاحب اللوامح: فالهمزة للاستخبار والتقرير ويجوز أن تكون للنداء وحذف ما نودي لأجله أي تفكر وارجع إلى الله فإن الله إلخ، والظاهر أنها للإنكار كما في قراءة الجمهور، وقرأ أبو جعفر، وقتادة وعيسى والأشهب وشيبة وأبو حيوة وحميد والأعمش وابن محيصن «تذهب» من أذهب مسندا إلى ضمير المخاطب «نفسك» بالنصب على المفعولية ورويت عن نافع. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ في موضع التعليل لما قبله وفيه وعيد للكفرة أي إنه تعالى عليم بما يصنعونه من القبائح فيجازيهم عليه، والآيات من قوله تعالى: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ إلى هنا نزلت على ما روي عن ابن عباس في أبي جهل ومشركي مكة، وأخرج جويبر عن الضحاك أنها نزلت في عمر رضي الله تعالى عنه. وأبي جهل حيث هدى الله تعالى عمر وأضل أبا جهل وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ مبتدأ وخبر، وقرأ حمزة، والكسائي وابن كثير «الريح» وصيغة المضارع في قوله تعالى: فَتُثِيرُ سَحاباً لحكاية الحال الماضية استحضارا لتلك الصورة البديعة الدالة على كمال القدرة والحكمة وكثيرا ما يفعلون ذلك بفعل فيه نوع تميز وخصوصية بحال تستغرب أو تهم المخاطب أو غير ذلك، ومنه قول تأبط شرا: ألا من مبلغ فتيان فهم ... بما لاقيت عند رحى بطان بأني قد رأيت الغول تهوي ... بسهب كالصحيفة صحصحان فقلت لها كلانا نضو أرض ... أخو سفر فخلي لي مكاني فشدت شدة نحوي فأهوت ... لها كفي بمصقول يماني فأضربها بلا دهش فخرت ... صريعا لليدين وللجران ولأن الإثارة خاصية للرياح وأثر لا ينفك في الغالب عنها فلا يوجد إلا بعد إيجادها فيكون مستقبلا بالنسبة إلى الإرسال، وعلى هذا يكون استعمال المضارع على ظاهره وحقيقته من غير تأويل لأن المعتبر زمان الحكم لا زمان التكلم، والفاء دالة على عدم تراخي ذلك وهو شيء آخر وجوز أن يكون الإتيان بما يدل على الماضي ثم بما يدل على المستقبل إشارة إلى استمرار الأمر وأنه لا يختص بزمان دون زمان إذ لا يصح المضي والاستقبال في شيء واحد إلا إذا قصد ذلك، وقال الإمام: اختلاف الفعلين لأنه لما أسند فعل الإرسال إلى الله تعالى وما يفعل سبحانه يكون بقوله عزّ وجلّ: كُنْ [البقرة: 117 وغيرها] فلا يبقى في العدم زمانا ولا جزء زمان جيء بلفظ الماضي دون المستقبل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 344 لوجوب وقوعه وسرعة كونه كأنه كان ولأنه تعالى فرغ من كل شيء فهو سبحانه قدر الإرسال في الأوقات المعلومة وإلى المواضع المعينة والتقدير كالإرسال ولما أسند فعل الإثارة إلى الرياح وهي تؤلف في زمان قال سبحانه: (تثير) بلفظ المستقبل اهـ. وأورد عليه قوله تعالى: في سورة الروم اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً وفي سورة الأعراف: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الأعراف: 57] حيث جيء في الإرسال فيها بالمضارع فتأمل. فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ قطعة من الأرض لا نبات فيها. وقرىء «ميت» بالتخفيف وهما بمعنى واحد في المشهور وفي كليات أبي البقاء الكفوي الميت بالتخفيف هو الذي مات والميت بالتشديد والمائت هو الذي لم يمت بعد، وأنشد: ومن يك ذا روح فذلك ميت ... وما الميت إلا من إلى القبر يحمل والمعول عليه هو المشهور فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ أي بالمطر النزل منه المدلول عليه بالسحاب فإن بينهما تلازما في الذهن كما في الخارج أو بالسحاب فإنه سبب السبب وإحياء الأرض إنبات الشجر والكلأ فيها بَعْدَ مَوْتِها يبسها وخلوها عن ذلك، وإيراد الفعلين بصيغة الماضي للدلالة على التحقيق، وإسنادهما إلى نون العظمة المنبئ عن الاختصاص به تعالى لما فيهما من مزيد الصنع ولتكميل المماثلة بين إحياء الأرض وبين البعث الذي شبه به بقوله تعالى: كَذلِكَ النُّشُورُ في كمال الاختصاص بالقدرة الربانية، وقال الإمام عليه الرحمة: أسند أَرْسَلَ إلى الغائب وساق «وأحيي» إلى المتكلم لأنه في الأول عرف سبحانه نفسه بفعل من الأفعال وهو الإرسال ثم لما عرف قال تعالى: أنا الذي عرفتني سقت السحاب وأحييت الأرض ففي الأول كان تعريفا بالفعل العجيب وفي الثاني كان تذكيرا بالنعمة فإن كمال نعمتي الرياح والسحب بالسوق والإحياء، وهو كما ترى. وقال سبحانه: فأحيينا به الأرض دون فأحييناه أي البلد الميت به تعليقا للإحياء بالجنس المعلوم عند كل أحد وهو الأرض ولأن ذلك أوفق بأمر البعث، وقال تعالى: بَعْدَ مَوْتِها مع أن الإحياء مؤذن بذلك لما فيه من الإشارة إلى أن الموت للأرض الذي تعلق بها الإحياء معلوم لهم وبذلك يقوي أمر التشبيه فليتأمل. والنشور على ما في البحر مصدر نشر الميت إذا حيى قال الأعشى: حتى يقول الناس مما رأوا ... يا عجبا للميت الناشر وفي نهاية ابن الأثير يقال نشر لميت ينشر نشورا إذا عاش بعد الموت وانشره الله تعالى أحياه، وقال الراغب: قيل نشر الله تعالى الميت وأنشره بمعنى والحقيقة أن نشر الله تعالى الميت مستعار من نشر الثوب أي بسطه كما قال الشاعر: طوتك خطوب دهرك بعد نشر ... كذاك خطوبه طيا ونشرا والمراد بالنشور هنا إحياء الأموات في يوم الحساب وهو مبتدأ والجار والمجرور قبله في موضع الخبر وقيل الكاف في حيز الرفع على الخبرية أي مثل ذلك الأحياء الذي تشاهدونه إحياء الأموات يوم القيامة في صحة المقدورية وسهولة التأتي من غير تفاوت بينهما أصلا سوى الألف في الأول دون الثاني، وقال أبو حيان: وقع التشبيه بجهات لما قبلت الأرض الميتة الحياة اللائقة بها كذلك الأعضاء تقبل الحياة أو كما أن الريح تجمع قطع السحاب كذلك يجمع الله تعالى أجزاء الأعضاء وأبعاض الموتى أو كما يسوق سبحانه الحساب إلى البلد الميت يسوق عزّ وجلّ الروح والحياة إلى البدن، وقال بعضهم: التشبيه باعتبار الكيفية. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 345 فقد أخرج ابن جرير وغيره عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: يقوم ملك بالصور بين السماء والأرض فينفخ فيه فلا يبقى خلق لله في السماوات والأرض إلا من شاء الله تعالى إلا مات ثم يرسل الله تعالى من تحت العرش ماء كمني الرجال فتنبت أجسامهم من ذلك الماء وقرأ الآية ثم يقوم ملك فينفخ فيه فتنطلق كل نفس إلى جسدها ، وفي حديث مسلم مرفوعا ينزل الله تعالى مطرا كأنه الطل فينبت أجساد الناس. ونبات الأجساد من عجب الذنب على ما ورد في الآثار وقد جاء أنه لا يبلى وهو العظم الذي في أسفل الصلب عند العجز، وقال أبو زيد الوقواقي: هو جوهر فرد يبقى من هذه النشأة لا يتغير، ولا حاجة إلى التزام أنه جوهر فرد، ووراء ذلك أقوال عجيبة في هذا العجب فقيل هو العقل الهيولاني، وقيل بل الهيولى، وعن الغزالي إنما هو النفس وعليها تنشأ النشأة الآخرة، وعن الشيخ الأكبر أنه العين الثابت من الإنسان، وعن بعض المتكلمين أنه الأجزاء الأصلية، وقال الملا صدرا الشيرازي في أسفاره: هو عندنا القوة الخيالية لأنها آخر الأكوان الحاصلة في الإنسان من القوى الطبيعية والحيوانية والنباتية المتعاقبة في الحدوث للمادة الإنسانية في هذا العالم وهي أول الأكوان الحاصلة في النشأة الآخرة ثم بين ذلك بما بين وإنه لأضعف من بيت العنكبوت وأوهن. والمعول عليه ما يوافق فهم أهل اللسان، وأي حاجة إلى التأويل بعد التصديق بقدرة الملك الديان جل شأنه وعظم سلطانه. مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ الشرف والمنعة من قولهم أرض عزاز أي صلبة وتعريفها للجنس، والآية في الكافرين كانوا يتعززون بالأصنام كما قال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا [مريم: 81] والذين آمنوا بألسنتهم من غير مواطأة قلوبهم كانوا يتعززون بالمشركين كما قال سبحانه: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ [النساء: 139] ومن اسم شرط وما بعده فعل الشرط، والجمع بين كان ويريد للدلالة على دوام الإرادة واستمرارها، وقوله تعالى: فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً دليل الجواب ولا يصح جعله جوابا من حيث الصناعة لخلوه عن ضمير يعود على من، وقد قالوا: لا بدّ أن يكون في جملة الجواب ضمير يعود على اسم الشرط إذا لم يكن ظرفا، والتقدير من كان يريد العزة فليطلبها من الله تعالى فلله وحده لا لغيره العزة فهو سبحانه يتصرف فيها كما يريد فوضع السبب موضع المسبب لأن الطلب ممن هي له وفي ملكه جميعها مسبب عنه، وتعريف العزة للإستغراق بقرينة جَمِيعاً وانتصابه على الحال، والمراد عزة الدنيا والآخرة، وتقديم الخبر على المبتدأ للاختصاص كما أشرنا إليه. ولا ينافي ذلك قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون: 8] لأن ما لله تعالى وحده العزة بالذات وللرسول صلّى الله عليه وسلم العزة بواسطة قربه من الله تعالى وما للمؤمنين العزة بواسطة الرسول عليه الصلاة والسلام، وكأنه للإشارة إلى ذلك أعيد الجار، وقدر بعضهم الجواب فليطع الله تعالى، وأيد بما رواه أنس كما في مجمع البيان عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن ربكم يقول كل يوم أنا العزيز فمن أراد عز الدارين فليطع العزيز» ومن قدر فليطلبها من الله تعالى قال: إن الطلب منه تعالى إنما يكون بالطاعة والانقياد، وعن الفراء المعنى من كان يريد علم العزة أي القدرة على القهر لمن هي فلينسبها إلى الله تعالى فهي له تعالى وحده، وقيل: المعنى من كان يريد العزة أي الغلبة فهو مغلوب لأن الغلبة لله تعالى وحده ولا تتم إلا به عزّ وجلّ ونسب هذا إلى مجاهد، وقيل: تعريف العزة الأولى للاستغراق أيضا أو للعهد والمراد الفرد الكامل، والمعنى من كان يريد العزة جميعها أو الفرد الكامل منها وهي العزة التي لا يشوبها ذلة من وجه فهو لا ينالها فإنها لله تعالى وحده، وهذا القول أحسن من القولين قبله، وأظهر الأقوال عندي الأول وهو منسوب إلى قتادة، وقوله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ إلى آخره كالبيان لطريق تحصيل العزة وسلوك السبيل إلى نيلها الجزء: 11 ¦ الصفحة: 346 وهو الطاعة القولية والفعلية، وقيل: بيان لكون العزة كلها لله تعالى وبيده سبحانه لأنها بالطاعة وهي لا يعتد بها ما لم تقبل، وقيل: استئناف كلام، وعلى الأول المعول. والْكَلِمُ اسم جنس جمعي عند جمع واحده كلمة، والمراد بالكلم الطيب على ما في الكشاف والبحر عن ابن عباس لا إله إلا الله، ومعنى كونه طيبا على ما قيل إن العقل السليم يستطيبه ويستلذه لما فيه من الدلالة على التوحيد الذي هو مدار النجاة والوسيلة إلى النعيم المقيم أو يستلذه الشرع أو الملائكة عليهم السّلام، وقيل: إنه حسن يقبله العقل ولا يرده، وإطلاق الكلم على ذلك إن كان واحده الكلمة بالمعنى الحقيقي ظاهر لتضمنه عدة كلمات لكن في وصفه بالطيب بالنظر إلى غير الاسم الجليل خفاء، ولعل ذلك باعتبار خصوصية التركيب، وإن كان واحده هنا الكلمة بالمعنى المجازي كما في قوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ [الأنعام: 115، الأعراف: 137] وكَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [المؤمنون: 100] وقوله عليه الصلاة والسلام: «أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد» وقولهم لا إله إلا الله كلمة التوحيد إلى ما لا يحصى كثرة فإطلاق الكلم على ذلك لتعدده بتعدد القائل: وكأن القرينة على إرادة المعنى المجازي للكلمة الصادق على الكلام الوصف بالطيب بناء على أن ما يستطيب ويستلذ هو الكلام دون الكلمة العرية عن إفادة حكم تنبسط منه النفس أو تنقبض أو يقال: إن كثرة إطلاق الكلمة على الكلام وشيوعه فيما بينهم حتى قال بعضهم كم نقل الحمصي في حواشي التصريح عن بعض شراح الأجرومية أنه حقيقة لغوية تغني عن القرينة، وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن الحبر أنه فسر الكلم الطيب بذكر الله تعالى، وقيل: هو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وهو ظاهر أثر أخرجه ابن مردويه والديلمي عن أبي هريرة. وقيل: هو سبحان الله وبحمده والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وتبارك الله، وهو ظاهر أثر أخرجه جماعة عن ابن مسعود، وأخرجه ابن أبي حاتم عن شهر بن حوشب أنه القرآن، وقيل: هو الثناء بالخير على صالحي المؤمنين، وقيل: هو الدعاء الذي لا ظلم فيه، وقال الإمام وبه أقتدي: المختار أنه كل كلام هو ذكر الله تعالى أو هو لله سبحانه كالنصيحة والعلم، وأما ما أفاده كلام الملا صدرا في أسفاره من أنه النفوس الطاهرة الزكية فإنه تطلق الكلمة على النفس إذا كانت كذلك كما قال تعالى في عيسى عليه السّلام: وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ [النساء: 171] فلا ينبغي أن يعد في عداد أقوال المفسرين كما لا يخفى، وصعود الكلم إليه تعالى مجاز مرسل عن قبوله بعلاقة اللزوم واستعارة بتشبيه القبول بالصعود، وجوز أن يجعل الكلم مجازا عما كتب فيه بعلاقة الحلول أو يقدر مضاف أي إليه يصعد صحيفة الكلم الطيب أو يشبه وجوده الخارجي هنا ثم الكتابي في السماء بالصعود ثم يطلق المشبه به على المشبه ويشتق منه الفعل على ما هو المعروف في الاستعارة التبعية، وقيل: لا مانع من اعتبار حقيقة الصعود للكلم فلله تعالى تجسيد المعاني، وكون الصعود إليه عزّ وجلّ من المتشابه والكلام فيه شهير، والكلام بعد ذلك كناية عن قبوله والاعتناء بشأن صاحبه، وتقديم الجار والمجرور لإفادة الحصر، وقرأ علي كرّم الله تعالى وجهه وابن مسعود رضي الله تعالى عنه والسلمي وإبراهيم «يصعد» من أصعد للكلام الطيب بالنصب، وقال ابن عطية: وقرأ الضحاك «يصعد» بضم الياء ولم يذكر مبنيا للفاعل ولا مبنيا للمفعول ولا إعراب ما بعده، وفي الكشاف وقرىء إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ على البناء للمفعول وإِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ من أصعد والمصعد هو الرجل أي يصعد إلى الله عزّ وجلّ الكلم الطيب، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما إِلَيْهِ يَصْعَدُ من صعد الكلام بالرفع. وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ مبتدأ وخبر على المشهور، واختلف في فاعل (يرفع) فقيل ضمير يعود على العمل الصالح وضمير النصب يعود على الْكَلِمُ أي والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب وروي ذلك عن ابن عباس الجزء: 11 ¦ الصفحة: 347 والحسن وابن جبير ومجاهد والضحاك وشهر بن حوشب على ما أخرجه عنه سعيد بن منصور وغيره. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس أنه فسر العمل الصالح بأداء الفرائض ثم قال: فمن ذكر الله تعالى وأدى فرائضه حمل عمله ذكر الله تعالى فصعد به إلى الله تعالى ومن ذكر الله تعالى ولم يؤد فرائضه رد كلامه على عمله وكان عمله أولى به، وتعقب ذلك ابن عطية فقال: هذا قول يرد معتقد أهل السنّة ولا يصح عن ابن عباس، والحق أن العاصي بترك فرائضه إذا ذكر الله تعالى وقال كلاما طيبا كتب له ذلك وتقبل منه وعليه وزر ترك الفرائض، والله تعالى يتقبل من كل من اتقى الشرك انتهى. ولعل المراد برفع العمل الصالح الكلم الطيب رفع قدره وجعله بحيث يترتب عليه من الثواب ما لم يترتب عليه إذا كان بلا عمل، وحديث لا يقبل الله قولا إلا بعمل ولا يقبل قولا وعملا إلا بنية ولا يقبل قولا وعملا ونية إلا بإصابة السنة المذكور في الكشاف لا أظن صحته، وقيل: إنه لو سلم صحته فالمراد نفي القبول التام، ويجوز أن يكون المراد برفعه إياه تحقيقه وتقويته وذلك باعتبار أن الكلام الطيب هو الإيمان فإنه لا شك أن العمل الصالح يثبت الإيمان ويحققه بإظهار آثاره إذ به يعلم التصديق القلبي، وقيل: الفاعل ضمير يعود على الكلم الطيب وضمير النصب يعود على العمل الصالح أي يرفع الكلم الطيب العمل الصالح. ونسب أبو حيان هذا القول إلى أبي صالح وشهر بن حوشب، وأيد بقراءة عيسى وابن أبي عبلة «والعمل الصالح» بالنصب على الاشتغال، وفيه بحث لعدم تعين ضمير الْكَلِمُ للفاعلية عليها، ومعنى رفع الكلم الطيب العمل الصالح قيل إن يزيده بهجة وحسنا. ومن فسر الكلم الطيب بالتوحيد قال: معنى ذلك جعله مقبولا فإن العمل لا يقبل إلا بالتوحيد، وقيل: الفاعل ضميره تعالى وضمير النصب يعود على العمل، وأخرج ذلك ابن المبارك عن قتادة أي والعمل الصالح يرفعه الله تعالى ويقبله. قال ابن عطية: هذا أرجح الأقوال عندي، وقيل: ضمير الفاعل يعود على العمل وكذا الضمير المنصوب والكلام على حذف مضاف أي والعمل الصالح يرفع عامله ويشرفه، ونسب ذلك أبو حيان إلى ابن عباس ثم قال: ويجوز عندي أن يكون الْعَمَلُ معطوفا على الْكَلِمُ ويَرْفَعُهُ استئناف أخبار أي يرفعهما الله تعالى، ووحد الضمير لاشتراكهما في الصعود والضمير قد يجري مجرى اسم الإشارة فيكون لفظه مفردا والمراد به التثنية فكأنه قيل: ليس صعودهما من ذاتهما بل ذلك برفع الله تعالى إياهما اهـ، وهو خلاف الظاهر جدا، ومثله ما نسبه ابن عباس وأنا لا أظن صحة نسبته إليه، وعلى التسليم يحتمل أنه رضي الله تعالى عنه أراد بقوله العمل الصالح يرفع عامله ويشرفه بيان ما تشير إليه الآية في الجملة. والذي يتبادر إلى ذهني من الآية ما روي عن قتادة واختاره ابن عطية، وتخصيص العمل الصالح برفع الله تعالى إياه على ذلك قيل لما فيه من الكلفة والمشقة إذ هو الجهاد الأكبر، وظاهر هذا أن العمل أشرف من الكلام ولا كلام في ذلك إذا أريد بالعمل الصالح ما يشمل العمل القلبي كالتصديق، ولعل الكلام عليه نظير قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا [الأعراف: 143] وقوله سبحانه: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الإسراء: 1] وكلام الإمام صريح في أن الكلم الطيب المفسر بالذكر أشرف من العمل حيث جعل صعود الكلم بنفسه دليل ترجيحه على العمل الذي يرفعه غيره، وقال في وجه ذلك: الكلام شريف فإن امتياز الإنسان عن كل حيوان بالنطق والعمل حركة وسكون يشترك فيه الإنسان وغيره والشريف إذا وصل إلى باب الملك لا يمنع ومن دونه لا يجد الطريق إلا عند الطلب، ويدل على هذا أن الكافر إذا تكلم بكلمة الشهادة أمن من عذاب الدارين إن كان ذلك عن صدق وأمن في نفسه ودمه وحرمه في الدنيا إن كان ظاهرا ولا كذلك العمل بالجوارح، وأيضا أن القلب هو الأصل وما فيه لا يظهر إلا باللسان وما في اللسان لا يبين صدقه إلا بالفعل فالقول أقرب إلى القلب من الفعل فيكون أشرف منه، اهـ وفي القلب منه شيء فتدبر. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 348 وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ أي المكرات السيئات أو أصناف المكرات السيئات على أن السَّيِّئاتِ صفة لمحذوف وليس مفعولا به ليمكرون لأن مكر لازم، وجوز أن يكون مفعولا على تضمين يقصدون أو يكسبون وعلى الأول فيه مبالغة للوعيد الشديد على قصد المكر أو هو إشارة إلى عدم تأثير مكرهم، والموصول مبتدأ وجملة قوله تعالى لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ خبره أي لهم بسبب مكرهم عذاب شديد لا يقادر قدره ولا يعبأ بالنسبة إليه بما يمكرون. والآية على ما روي عن أبي العالية في الذين مكروا برسول الله صلّى الله عليه وسلم في دار الندوة كما قال تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [الأنفال: 30] والمضارع لحكاية الحال الماضية، ووضع اسم الإشارة موضع ضميرهم في قوله سبحانه وَمَكْرُ أُولئِكَ للإيذان بكمال تميزهم بما هم عليه من الشر والفساد عن سائر المفسدين واشتهارهم بذلك، وما فيه من معنى البعد للتنبيه على ترامي أمرهم في الطغيان وبعد منزلتهم في العدوان أي ومكر أولئك المفسدين المشهورين هُوَ يَبُورُ أي يفسد، وأصل البوار فرط الكساد أو الهلاك فاستعير هنا للفساد عدم التأثير لأن فرط الكساد يؤدي إلى الفساد كما قيل كسد حتى فسد أو لأن الكاسد يكسد في الغالب لفساده ولأن الهالك فاسد لا أثر له. ومَكْرُ مبتدأ خبره جملة هُوَ يَبُورُ وتقديم الضمير للتقوى أو الاختصاص أي مكرهم هو يفسد خاصة لأمكرنا بهم، وأجاز الحوفي وأبو البقاء كون الخبر جملة يَبُورُ وهُوَ ضمير فصل. وتعقبه في البحر بأن ضمير الفصل لا يكون ما بعده فعلا ولم يذهب إلى ذلك أحد فيما علمنا إلا عبد القاهر الجرجاني في شرح الإيضاح له فإنه أجاز في كان زيد هو يقوم أن يكون هو فصلا. ورد ذلك عليه. وجوز أبو البقاء أيضا كون هُوَ تأكيدا للمبتدأ، والظاهر ما قدمناه، وقد أبار الله تعالى أولئك الماكرين بعد إبارة مكرهم حيث أخرجهم من مكة وقتلهم وأثبتهم في قليب بدر فجمع عليهم مكراتهم الثلاث التي اكتفوا في حقه عليه الصلاة والسلام بواحدة منهن وحقق عزّ وجلّ فيهم قوله سبحانه: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [آل عمران: 54] وقوله تعالى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر: 43] ووجه ارتباط الآية بما قبلها على ما ذكره شيخ الإسلام أنها بيان لحال الكلم الخبيث والعمل السيّء وأهلهما بعد بيان حال الكلم الطيب والعمل الصالح. وقال في الكشف: كأنه لما حصر سبحانه العزة وخصها به تعالى يعطيها من يشاء وأرشد إلى نيل ما به ينال ذلك المطلوب ذكر على سبيل الاستطراد حال من أراد العزة من عند غيره عزّ وجلّ وأخذ في إهانة من أعزه الله تعالى فوق السماكين قدرا وما رجع إليهم من وبال ذلك كالاستشهاد لتلك الدعوى وهو خلاصة ما ذكره الطيبي في وجه الانتظام، وروي عن مجاهد وسعيد بن جبير وشهر بن حوشب أن الآية في أصحاب الرياء وهي متصلة بما عندها على ما روي عن شهر حيث قال: وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ أي يراؤون وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ هم أصحاب الرياء عملهم لا يصعد، وقال الطيبي: إن الجملة على هذه الرواية عطف على جملة الشرط والجزاء أعني قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ إلخ فيجب حينئذ مراعاة التطابق بين القرينتين والتقابل بين الفقرتين بحسب الإمكان بأن يقدر في كل منهما ما يحصل به التقابل بدلالة المذكور في الأولى على المتروك في الأخرى وبالعكس اهـ ولا يخفى بعده، وأيا ما كان فالمضارع للاستمرار التجددي وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ دليل آخر على صحة البعث والنشور أي خلقكم ابتداء منه في ضمن خلق آدم عليه السّلام خلقا إجماليا ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ أي ثم خلقكم منها خلقا تفصيليا ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً أي أصنافا ذكرانا وإناثا كما قال سبحانه: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً [الشورى: 50] وأخرجه ابن أبي حاتم عن السدي، وأخرج هو وغيره عن قتادة أنه قال قدر بينكم الزوجية وزوج بعضكم بعضا وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ حال من الفاعل ومن زائدة أي إلا ملتبسة بعلمه تعالى ومعلومية الفاعل راجعة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 349 إلى معلومية أحواله مفصلة ومنها حال ما حملته الأنثى ووضعته فجعله من ذلك أبلغ معنى وأحسن لفظا من جعله من المفعول أعني المحمول والموضوع لأن المفعول محذوف متروك كما صرح به الزمخشري في حم السجدة، وجعله حالا من الحمل والوضع أنفسهما خلاف الظاهر وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ أي من أحد أي وما يمد في عمر أحد وسمي معمرا باعتبار الأول نحو إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً [يوسف: 36] ومن قتل قتيلا على ما ذكر غير واحد وهذا لئلا يلزم تحصيل الحاصل، وجوز أن يقال لأن يُعَمَّرُ مضارع فيقتضي أن لا يكون معمرا بعد ولا ضرورة للحمل على الماضي وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ الضمير عائد على معمر آخر نظير ما قال ابن مالك في عندي درهم ونصفه أي نصف درهم اخر، ولا يضر في ذلك احتمال أن يكون المراد مثل نصفه لأنه مثال وهو استخدام أو شبيه به وإلى ذلك ذهب الفراء وبعض النحويين ولعله الأظهر، وفسروا المعمر بالمزاد عمره بدليل ما يقابله من قوله تعالى: وَلا يُنْقَصُ إلخ وهو الذي دعاهم إلى إرجاع الضمير إلى نظير المذكور دون عينه ضرورة أنه لا يكون المزيد في عمره منقوصا من عمره، وقيل عليه: هب أن مرجع الضمير معمر آخر أليس قد نسب النقص في العمر إلى معمر وقد قلتم إنه المزاد عمره. أجيب بأن الأصل وما يعمر من أحد فسمي معمرا باعتبار ما يؤول إليه وعاد الضمير باعتبار الأصل المحول عنه فمال ذلك ولا ينقص من عمر أحد أي ولا يجعل من ابتداء الأمر ناقصا فهو نظير قولهم ضيق فم الركية، وقال آخرون: الضمير عائد على المعمر الأول بعينه والمعمر هو الذي جعل الله تعالى له عمرا طال أو قصر، ولا مانع أن يكون المعمر ومن ينقص من عمره شخصا واحدا والمراد بنقص عمره ما يمر منه وينقضي مثلا يكتب عمره مائة سنة ثم يكتب تحته مضى يوم مضى يومان وهكذا حتى يأتي إلخ وروي هذا عن ابن عباس وابن جبير وأبي مالك وحسان بن عطية والسدي، وقيل بمعناه: حياتك أنفاس تعد فكلما ... مضى نفس منها انتقصت به جزءا وقيل الزيادة والنقص في عمر واحد باعتبار أسباب مختلفة أثبتت في اللوح كما ورد في الخبر الصدقة تزيد في العمر فيجوز أن يكون أحد معمرا أي مزادا في عمره إذا عمل عملا وينقص من عمره إذا لم يعمله، وهذا لا يلزم منه تغيير التقدير لأنه في تقديره تعالى معلق أيضا وإن كان ما في علمه تعالى الأزلي وقضائه المبرم لا يعتريه محو على ما عرف عن السلف ولذا جاز الدعاء بطول العمر. وقال كعب: لو أن عمر رضي الله تعالى عنه دعا الله تعالى أخر أجله، ويعلم من هذا أن قول ابن عطية: هذا قول ضعيف مردود يقتضي القول بالأجلين كما ذهبت إليه المعتزلة ليس بشيء، ومن العجيب قول ابن كمال: النظر الدقيق يحكم بصحة أن المعمر أي الذي قدر له عمر طويل يجوز أن يبلغ ذلك العمر وأن لا يبلغ فيزيد عمره على الأول وينقص على الثاني ومع ذلك لا يلزم التغيير في التقدير لأن المقدر في كل شخص هو الأنفاس المعدودة لا الأيام المحدودة والأعوام الممدودة ثم قال: فإنهم هذا السر العجيب وكتب في الهامش حتى ينكشف لك سر اختيار حبس النفس ويتضح وجه صحة قوله عليه الصلاة والسلام: «إن الصدقة والصلة تعمران الديار وتزيدان في الأعمار» اهـ. وتعقبه الشهاب الخفاجي بأنه مما لا يعول عليه عاقل ولم يقل به أحد غير بعض جهلة الهنود مع أنه مخالف لما ورد في الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم والنسائي وابن أبي شيبة وأبو الشيخ عن عبد الله بن مسعود من قول النبي صلّى الله عليه وسلم لأم حبيبة وقد قالت: اللهم امتعني بزوجي النبي صلّى الله عليه وسلم وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية، سألت الله تعالى لآجال مضروبة وأيام معدودة الحديث وأطال الجلبي في رده وهو غني عنه اهـ. وقال بعضهم: يجوز أن لا يبلغ من قدر له عمر طويل ما قدر له بأن يغير ما قدر أولا بتقدير آخر ولا حجر على الجزء: 11 ¦ الصفحة: 350 الله تعالى، ويشير إلى ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في حديث التراويح «خشيت أن تفرض عليكم» وقوله صلّى الله عليه وسلم في دعاء القنوت «وقنى شر ما قضيت» وخوفه عليه من الله تعالى آلاف آلاف صلاة وسلام من قيام الساعة إذا اشتدت الريح مع إخباره بأن بين يديها خروج المهدي والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها إلى غير ذلك مما لم يحدث بعد، وغاية ما يلزم من ذلك تغير المعلوم ولا يلزم منه تغير العلم على ما بين في موضعه وعلى هذا لا إشكال في خبر «الصدقة تزيد في العمر» ويتضح أمر فائدة الدعاء، وما يحكى عن بعضهم من نفي القضاء المبرم يرجع إليه، وقد رأيت كراسة لبعض الأفاضل أطال الكلام فيها لتشييد هذا القول وتثبيت أركانه، والحق عندي أن ما في العلم الأزلي المتعلق بالأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر لا يتغير ويجب أن يقع كما علم وإلا يلزم الانقلاب، وما يتبادر منه خلاف ذلك إذا صح مؤول، وخبر «الصدقة تزيد في العمر» قيل إنه خبر آحاد فلا يعارض القطعيات، وقيل المراد أن الصدقة وكذا غيرها من الطاعات تزيد فيما هو المقصود الأهم من العمر وهو اكتساب الخير والكمال والبركة التي بها تستكمل النفوس الإنسانية فتفوز بالسعادة الأبدية، والدعاء حكمه حكم سائر الأسباب من الأكل والشرب والتحفظ من شدة الحر والبرد مثلا ففائدته كفائدتها، وقيل هو لمجرد إظهار الاحتياج والعبودية فليتدبر. وقيل الضمير المعمر والنقص لغيره أي ولا ينقص من عمر المعمر لغيره بأن يعطي له عمر ناقص من عمره، وقيل الضمير للمنقوص من عمره وهو وإن لم يصرح به في حكم المذكور كما قيل. وبضدها تتبين الأشياء. فيكون عائدا على ما علم من السياق أي ولا ينقص من عمر المنقوص من عمره بجعله ناقصا. وقرأ الحسن وابن سيرين وعيسى «ولا ينقص» بالبناء للفاعل وفاعله ضمير المعمر أو عُمُرِهِ ومِنْ زائدة في الفاعل وإن كان متعديا جاز كونه ضمير الله تعالى. وقرأ الأعرج مِنْ عُمُرِهِ بسكون الميم إِلَّا فِي كِتابٍ عن ابن عباس هو اللوح المحفوظ، وجوز أن يراد به صحيفة الإنسان فقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال قال: رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو بخمس وأربعين ليلة فيقول يا رب أشقي أم سعيد أذكر أم أنثى فيقول الله تعالى ويكتب ثم يكتب عمله ورزقه وأجله وأثره ومصيبته ثم تطوى الصحيفة فلا يزاد فيها ولا ينقص منها» وجوز أيضا أن يراد به علم الله عزّ وجلّ، وذكر في ربط الآيات أن قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ إلخ مساق للدلالة على القدرة الكاملة وقوله سبحانه: وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى [فصلت: 47] إلخ للعلم الشامل وقوله عزّ وجلّ: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ إلخ لإثبات القضاء والقدر، والمعنى وما يعمر منكم خطابا لأفراد النوع الإنساني وأيد بذلك الوجه الأول من أوجه وَما يُعَمَّرُ إلخ إِنَّ ذلِكَ أي ما ذكر من الخلق وما بعده مع كونه محارا للعقول والأفهام عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لاستغنائه تعالى عن الأسباب فكذلك البعث والنشور وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ طيب فُراتٌ كاسر العطش ومزيله. وقال الراغب: الفرات الماء العذب يقال للواحد، والجمع، ولعل الصوف على هذا على طرز أسود حالك وأصفر فاقع سائِغٌ شَرابُهُ سهل انحداره لخلوه مما تعافه النفس. وقرأ عيسى «سيغ» كميت بالتشديد، وجاء كذلك عن أبي عمرو وعاصم، وقرأ عيسى أيضا «سيغ» كميت بالتخفيف وَهذا مِلْحٌ متغير طعمه التغير المعروف، وقرأ أبو نهيك وطلحة «ملح» بفتح الميم وكسر اللام، وقال أبو الفتح الرازي: وهي لغة شاذة، وجوز أن يكون مقصورا من مالح للتخفيف، وهو مبني على ورود مالح والحق وروده بقلة وليس بلغة رديئة كما قيل. وفرق الإمام بين الملح والمالح بأن الملح الماء الذي فيه الطعم المعروف من أصل الخلقة كماء البحر والمالح الماء الذي وضع فيه ملح فتغير طعمه ولا يقال فيه إلا مالح ولم أره لغيره، وقال بعضهم: لم يرد مالح أصلا وهو قول الجزء: 11 ¦ الصفحة: 351 ليس بالمليح أُجاجٌ شديد الملوحة والحرارة من قولهم أجيج النار وأجتها، ومن هنا قيل هو الذي يحرق بملوحته، وهذا مثل ضرب للمؤمن والكافر، وقوله تعالى: وَمِنْ كُلٍّ أي من كل واحد منهما تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا أي غضا جديدا وهو السمك على ما روي عن السدي، وقيل الطير والسمك واختار كثير الأول، والتعبير عن السمك باللحم مع كونه حيوانا قيل للتلويح بانحصار الانتفاع به في الأكل، ووصفه بالطراوة للإشعار بلطافته والتنبيه على المسارعة إلى أكله لئلا يتسارع إليه الفساد كما ينبىء عنه جعل كل من البحرين مبدأ أكله. واستدل مالك والثوري بالآية حيث سمي فيها السمك لحما على حنث من حلف لا يأكل لحما وأكل سمكا، وقال غيرهما: لا يحنث لأن مبنى الايمان على العرف وهو فيه لا يسمى لحما ولذلك لا يحنث من حلف لا يركب دابة فركب كافرا مع أن الله تعالى سماه دابة في قوله سبحانه: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال: 55] ولا يبعد عندي أن يراد بلحما لحم السمك ودعوى التلويح بانحصار الانتفاع بالسمك في الأكل لا أظنها تامة وَتَسْتَخْرِجُونَ ظاهره ومن كل تستخرجون حِلْيَةً تَلْبَسُونَها والحلية التي تستخرج من البحر الملح اللؤلؤ والمرجان ويلبس ذلك الرجال والنساء وإن اختلفت كيفية اللبس، أو يقال عبر عن لبس نسائهم بلبسهم لكونهن منهم أو لكون لبسهن لأجلهم، ولا نعلم حلية تستخرج من البحر العذب، ولا يظهر هنا اعتبار إسناد ما للبعض إلى الكل كما اعتبر ذلك في قوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرحمن: 22] وكون بعض الصخور التي في مجاري السيول قد تكسر فيوجد فيها ماس وهو حلية تلبس إن صح لا ينفع اعتباره هنا إذ ليس فيه استخراج الحلية من البحر العذب ظاهرا، وقيل: لا يبعد أن تكون الحلية المستخرجة من ذلك عظام السمك التي يصنع منها قبضات للسيوف والخناجر مثلا فتحمل ويتحلى بها، وفيه ما فيه لا سيما إذا كانت الحلية كالحلي ما يتزين به من مصنوع المعدنيات أو الحجارة، وقال الخفاجي: لا مانع من أن يخرج اللؤلؤ من المياه العذبة وإن لم نره، ولا يخفى ما فيه من البعد. وذهب بعض الأجلة للخلاص من القيل والقال أن المراد وتستخرجون من البحر الملح خاصة حلية تلبسونها ويشعر به كلام السدي يحتمل ثلاثة أوجه، الأول أنه استطراد في صفة لبحرين وما فيهما من النعم والمنافع. والثاني أنه تتميم وتكميل للتمثيل لتفضيل المشبه به على المشبه وليس من ترشيح الاستعارة كما زعم الطيبي في شيء بل إنما هو استدراك لدعوى الاشتراك بين المشبه والمشبه به يلزم منه أن يكون المشبه أقوى وهذا الاستدراك مخصوص بالملح، وإيضاحه أنه شبه المؤمن والكافر بالبحرين ثم فضل الأجاج على الكافر بأنه قد شارك الفرات في منافع والكافر خلو من النفع فهو على طريقة قوله تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة: 74] ثم قال سبحانه: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة: 74] والثالث أنه من تتمة التمثيل على معنى أن البحرين وإن اشتركا في بعض الفوائد تفاوتا فيما هو المقصود بالذات لأن أحدهما خالطه ما لم يبقه على صفاء فطرته كذلك المؤمن والكافر وإن اتفق اتفاقهما في بعض المكارم كالشجاعة والسخاوة متفاوتان فيما هو الأصل لبقاء أحدهما على الفطرة الأصلية دون الآخر فجملة وَمِنْ كُلٍّ إلخ حالية، وعندي خير الأوجه الثلاثة أوسطها، وعلى كل يحصل الجواب عما قيل كيف يناسب ذكر منافع البحر الملح وقد شبه به الكافر؟ وقل أبو حيان: إن قوله تعالى: وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ إلخ لبيان ما يستدل به كل عاقل على أنه مما لا مدخل لصنم فيه. وقال الإمام: الأظهر أنه دليل لكمال قدرة الله عزّ وجلّ، وما ذكرنا أولا من أنه تمثيل للمؤمن والكافر هو المشهور رواية ودراية وفيه من محاسن البلاغة ما فيه وَتَرَى الْفُلْكَ السفن فِيهِ أي في كل منهما وانظر هل يحسن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 352 رجوع الضمير للبحر الملح لانسياق الذهن إليه من قوله سبحانه: وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها بناء على أن المعروف استخراجها منه خاصة وأمر الفلك فيه أعظم من أمرها في البحر العذب ولذا اقتصر على رؤية الفلك فيه على الحال التي ذكر الله تعالى، وأفرد ضمير الخطاب مع جمعه فيما سبق وما لحق لأن الخطاب لكل أحد تتأتى منه الرؤية دون المنتفعين بالبحرين فقط مَواخِرَ شواق للماء يجريها مقبلة ومدبرة بريح واحدة فالمخر الشق. قال الراغب: يقال مخرت السفينة مخرا ومخورا إذا شقت الماء بجؤجئها، وفي الكشاف يقال: مخرت السفينة الماء ويقال للسحاب بتات مخر لأنها تمخر الهواء، والسفن الذي اشتقت منه السفينة قريب من المخر لأنها تسفن الماء كأنها تقشره كما تمخره، وقيل المخر صوت جرى الفلك وجاء في سورة: وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ [النحل: 14] بتقديم مَواخِرَ وتأخير فِيهِ وعكس هاهنا فقيل في وجهه لأنه علق فِيهِ هنا بتري وثمت بمواخر، ولا يحسم مادة السؤال. والذي يظهر لي في ذلك أن آية النحل سيقت لتعداد النعم كما يؤذن بذاك سوابقها ولواحقها وتعقيب الآيات بقوله سبحانه: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [إبراهيم: 34، النحل: 18] فكان الأهم هناك تقديم ما هو نعمة وهو مخر الفلك للماء بخلاف ما هنا فإنه إنما سيق استطرادا أو تتمة للتمثيل كما علمت آنفا فقدم فيه فِيهِ إيذانا بأنه ليس المقصود بالذات ذلك، وكأن الاهتمام بما هناك اقتضى أن يقال في تلك الآية وَلِتَبْتَغُوا بالواو، ومخالفة ما هنا لذلك اقتضت ترك الواو في قوله سبحانه: لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي من فضل الله تعالى بالنقلة فيها وهو سبحانه وإن لم يجر له ذكر في الآية فقد جرى له تعالى ذكر فيما قبلها ولو لم يجر لم يشكل لدلالة المعنى عليه عز شأنه. واللام متعلقة بمواخر، وجوز تعلقها بمحذوف دل عليه الأفعال المذكورة كسخر البحرين وهيأهما أو فعل ذلك لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ تعرفون حقوقه تعالى فتقومون بطاعته عزّ وجلّ وتوحيده سبحانه. ولعل للتعليل على ما عليه جمع من الأجلة وقد قدمنا ذلك، وقال كثير: هي للترجي ولما كان محالا عليه تعالى كان المراد اقتضاء ما ذكر من النعم للشكر حتى كأن كل أحد يترجاه من المنعم عليه بها فهو تمثيل يؤول إلى أمره تعالى بالشكر للمخاطبين يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ بزيادة أحدهما ونقص الآخر بإضافة بعض أجزاء كل منهما إلى الآخر وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ عطف على يُولِجُ واختلافهما صيغة لما أن إيلاج أحد الملوين في الآخر متجدد حينا فحينا وأما تسخير النيرين فأمر لا تعدد فيه وإنما المتعدد والمتجدد آثاره، وقد أشير إليه بقوله تعالى: كُلٌّ من الشمس والقمر يَجْرِي أي بحسب حركته على المدارات اليومية المتعددة حسب تعدد أيام السنة أو بحسب حركتيه الخاصة وهي من المغرب إلى المشرق والقسرية التي هي من المشرق إلى المغرب جريانا مستمرا لِأَجَلٍ مُسَمًّى قدره الله تعالى لجريانهما وهو يوم القيامة كما روي عن الحسن. وقيل جريانهما عبارة عن حركتيهما الخاصتين بهما والأجل المسمى عبارة عن مجموع مدة دورتيهما أو منتهاها وهي للشمس سنة وللقمر شهر وقد تقدم الكلام في ذلك مفصلا ذلِكُمُ إشارة إلى فاعل الأفاعيل المذكورة، وما فيه من معنى البعد للإيذان بغاية العظمة وهو مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة أي ذلكم العظيم الشأن الذي أبدع هذه الصنائع البديعة اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وفيه من الدلالة على أن إبداعه تعالى لتلك البدائع مما يوجب ثبوت تلك الأخبار له تعالى، وفي الكشاف ويجوز في حكم الإعراب إيقاع اسم الله تعالى صفة لاسم الإشارة أو عطف بيان ورَبُّكُمْ خبرا لولا أن المعنى يأباه اهـ. قال في الكشف: فيه نظر لأن الاسم الجليل جار مجرى العلم فلا يجوز أن يقع وصفا لاسم الإشارة البتة لا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 353 لفظا ولا معنى، وكأنه فرض على تقدير عدم الغلبة، وأما إباء المعنى على تقدير تجويز الوصف فقد قيل: إن المقصود أنه تعالى المنفرد بالإلهية لا أن المنفرد بالإلهية هو ربكم لأن المشركين ما كانوا معترفين بالمنفرد على الإطلاق، وأما عطف البيان فقيل لأنه يوهم تخييل الشركة ألا ترى أنك إذا قلت ذلك الرجل سيدك عندي ففيه نوع شركة لأن ذا اسم مبهم، وكأنه أراد أن البيان حيث يذهب الوهم إلى غيره ويحتمل الشركة مناسب لا في مثل هذا المقام، وأفاد الطيبي أن ذلك يشار به إلى ما سبق للدلالة على جدارة ما بعده بسبب الأوصاف السابقة ولو كان وصفا أو بيانا لكان المشار إليه ما بعده، وهذا في الأول حسن دون الثاني اللهم إلا أن يكون قوله: أو عطف بيان إشارة إلى المذهب الذي يجعل الجنس الجاري على المبهم غير وصف فيكون حكمه حكم الوصف إذ ذاك، وبعد أن تبين أن المقام للإشارة إلى السابق فاسم الإشارة قد يجاء به لأغراض آخر اهـ. وأبو حيان: منع صحة الوصفية للعلمية ثم قال لا يظهر إباء المعنى ذلك، ويجوز أن يكون قوله تعالى: لَهُ الْمُلْكُ جملة مبتدأة واقعة في مقابلة قوله تعالى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ويكون ذلك مقررا لما قبله من التفرد بالإلهية والربوبية واستدلالا عليه إذ حاصله جميع الملك والتصرف في المبدأ والمنتهى له تعالى وليس لغيره سبحانه منه شيء، ولذا قيل إن فيه قياسا منطقيا مطويا. وجوز أن يكون مقررا لقوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ إلخ وقوله تعالى: يُولِجُ إلخ فجملة الَّذِينَ تَدْعُونَ إلخ عليه إما استئنافية أيضا وهي معطوفة على جملة لَهُ الْمُلْكُ وإما حال من الضمير المستقر في الظرف أعني له، وعلى الوجه الأول هي معطوفة على جملة ذلِكُمُ اللَّهُ إلخ أو حال أيضا، والقطمير على ما أخرج ابن جرير وغيره عن مجاهد لفافة النواة وهي القشر الأبيض الرقيق الذي يكون بين التمر والنواة وهو المعنى المشهور. أخرج ابن جرير وابن المنذر أنه القمع الذي هو على رأس التمرة، وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه القشرة على رأس النواة وهو ما بين القمع والنواة، وقال الراغب: إنه الأثر على ظهر النواة، وقيل هو قشر الثوم، وأيا ما كان فهو مثل للشيء الدنيء الطفيف، قال الشاعر: وأبوك يخصف نعله متوركا ... ما يملك المسكين من قطمير وقرأ عيسى وسلام ويعقوب يدعون بالياء التحتانية إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ استئناف مقرر لما قبله كاشف عن جلية حال ما يدعونه بأنه جماد ليس من شأنه السماع، هذا إذا كان الكلام مع عبدة الأصنام ويحتمل أن يكون مع عبدتها وعبدة الملائكة وعيسى وغيرهم من المقربين، وعدم السماع حينئذ إما لأن المعبود ليس من شأنه ذلك كالأصنام وإما لأنه في شغل شاغل وبعد بعيد عن عابده كعيسى عليه السّلام، وروي هذا عن البلخي أو لأن الله عزّ وجلّ حفظ سمعه من أن يصل إليه مثل هذا الدعاء لغاية قبحه وثقله على سمع من هو في غاية العبودية لله سبحانه، فلا يرد أن الملائكة عليهم السّلام يسمعون وهم في السماء كما ورد في بعض الآثار دعاء المؤمنين ربهم سبحانه، وفي نظم ذي النفوس القدسية في سلك الملائكة عليهم السّلام من حيثية السماع وهم في مقار نعيمهم توقف عندي بل في سماع كل من الملائكة عليهم السّلام وهم في السماء وذوي النفوس القدسية وهم في مقار نعيمهم نداء من ناداهم غير معتقد فيهم الالهية توقف عندي أيضا إذ لم أظفر بدليل سمعي على ذلك والعقل يجوزه لكن لا يكتفي بمجرد تجويزه في القول به. وَلَوْ سَمِعُوا على سبيل الفرض والتقدير مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ لأنهم لم يرزقوا قوة التكلم والسماع لا يستلزم ذلك فالمراد بالاستجابة الاستجابة بالقول، ويجوز أن يراد بها الاستجابة بالفعل أي ولو سمعوا ما نفعوكم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 354 لعجزهم عن الأفعال بالمرة، هذا إذا كان المدعون الأصنام وأما إذا كانوا الملائكة عليهم السّلام أو نحوهم من المقربين فعدم الاستجابة القولية لأن دعاءهم من حيث زعم أنهم آلهة وهم بمعزل عن الإلهية فكيف يجيبون زاعم ذلك فيهم وفيه من التهمة ما فيه، وعدم الاستجابة الفعلية يحتمل أن يكون لهذا أيضا ويحتمل أن يكون لأن نفع من دعاهم ليس من وظائفهم، وقيل لأنهم يرون ذلك نقصا في العبودية والخضوع لله عزّ وجلّ. ويجوز أن يكون هذا تعليلا للأول أيضا فتأمل وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ فضلا عن أن يستجيبوا لكم إذا دعوتموهم، وشرك مصدر مضاف إلى الفاعل أي ويوم القيامة يجحدون إشراككم إياهم وعبادتكم إياهم وذلك بأن يقدر الله تعالى الأصنام على الكلام فيقولون لهم ما كنتم إيانا تعبدون أو يظهر من حالها ظهور نار القرى ليلا على علم ما يدل على ذلك ولسان الحال أفصح من لسان المقال، ومن هذا القبيل قول ذي الرمة: وقفت على ربع لمية ناطق ... يخاطبني آثاره وأخاطبه وأسقيه حتى كاد مما أبثه ... تكلمني أحجاره وملاعبه وإن كان المدعوون الملائكة ونحوهم فأمر التكلم ظاهر، وقد حكى الله تعالى قول الملائكة للمشركين في السورة السابقة بقوله سبحانه: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [سبأ: 40، 41] وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ أي لا يخبرك بالأمر مخبر مثل مخبر خبيرا أخبرك به يعني به تعالى نفسه كما روي عن قتادة وغيره فإنه سبحانه الخبير بكنه الأمور، وهو خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلم ويجوز أن يكون غير مختص أي لا يخبرك أيها السامع كائنا من كنت مخبر هو مثل الخبير العالم الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، والمراد تحقيق ما أخبر سبحانه به من حال آلهتهم ونفي ما يدعون لهم من الإلهية. وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون ذلك من تمام ذكر الأصنام كأنه قيل: ولا يخبرك مخبر مثل من يخبرك عن نفسه وهي قد أخبرت عن أنفسها بأنها ليست بآلهة، وفيه من البعد ما فيه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 355 يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ في أنفسكم وفيما يعن لكم من أمر مهم أو خطب ملم، وتعريف الْفُقَراءُ للجنس أو للاستغراق إذ لا عهد، وعرف كذلك للمبالغة في فقرهم كأنهم لكثرة افتقارهم وشدة احتياجهم هم الفقراء فحسب وأن افتقار سائر الخلائق بالنسبة إلى فقرهم بمنزلة العدم ولذلك قال تعالى: وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً [النساء: 28] ولا يرد الجن إذ هم لا يحتاجون في المطعم والملبس وغيرهما كما يحتاج الإنسان وضعفهم ليس كضعفه فلا حاجة إلى إدخالهم في الناس تغليبا على أنه قيل لا يضر ذلك إذ الكلام مع من يظهر القوة والعناد من الناس، والقول أن القصر إضافي بالنسبة إليه تعالى لا يخفى ما فيه، وقال صاحب الفرائد: الوجه أن يقال والله تعالى أعلم المراد الناس وغيرهم وهو على طريقة تغليب الحاضر على الغائب وأولي العلم على غيرهم، وهو بعيد جدا. وقال العلامة الطيبي: الذي يقتضيه النظم الجليل أن يحمل التعريف في الناس على العهد وفي الفقراء على الجنس لأن المخاطبين هم الذي خوطبوا في قوله تعالى: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ الآية أي ذلكم المعبود هو الذي وصف بصفات الجلال لا الذين تدعون من دونه وأنتم أشد الخلائق احتياجا إليه عزّ وجلّ ولا يخلو عن حسن وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ عن كل شيء لا غيره الْحَمِيدُ المنعم على جميع الموجودات المستحق بإنعامه سبحانه للحمد، وأصله المحمود وأريد به ذلك على طريق الكناية ليناسب ذكره بعد فقرهم إذ الغني لا ينفع الفقير إلا إذا كان جوادا منعما ومثله مستحق للحمد، وهذا كالتكميل لما قبله كما في قول كعب الغنوي: حليم إذا ما الحلم زين أهله ... مع الحلم في عين العدو مهيب ويدخل في عموم المستغني عنه المخاطبون وعبادتهم، وفي كلام الطيبي رائحة التخصيص حيث قال ما سمعت نقله وهو سبحانه غني عنكم وعن عبادتكم لأنه تعالى حميد له عباد يحمدونه وإن لم تحمدوه أنتم والأولى التعميم. وما روي في سبب النزول من أنه لما كثر من النبي صلّى الله عليه وسلم الدعاء وكثر الإصرار من الكفار قالوا لعل الله تعالى محتاج لعبادتنا فنزلت لا يقتضي شيئا من التخصيص في الآية كما لا يخفى إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أي إن يشأ سبحانه إذهابكم أيها الناس والإتيان بخلق جديد يذهبكم وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ بعالم غير الناس لا تعرفونه هذا إذا كان الخطاب عاما أو إن يشأ يذهبكم أيها المشركون أو العرب ويأت بخلق جديد ليسوا على صفتكم بل مستمرون على طاعته وتوحيده. وهذا إذا كان الخطاب خاصا، وتفسير الجديد بما سمعت مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأيا ما كان فالجملة تقرير لاستغنائه عزّ وجلّ وَما ذلِكَ أي ما ذكر من إذهابهم والإتيان بخلق جديد عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ أي بصعب فإن أمره تعالى إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون. وإن كان في الناس تغليب الحاضر على الغائب وأولى العلم على غيرهم وكان الخطاب هنا على ذلك الطرز وقلنا إن الآية تشعر بأن ما يأتي به سبحانه من العالم أبدع أشكل بحسب الظاهر قول حجة الإسلام ليس في الإمكان أبدع مما كان. وأجيب بأن ذلك على فرض وقوعه داخل في حيز ما كان وهو مع هذا العالم كبعض أجزاء هذا العالم مع بعض أو بأن الأبدعية المشعور بها بمعنى والأبدعية في كلام حجة الإسلام بمعنى آخر فتدبر. وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ أي لا تحمل نفس آثمة وِزْرَ أُخْرى أي إثم نفس أخرى بل تحمل كل نفس وزرها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 356 ولا منافاة بين هذا وقوله تعالى في سورة العنكبوت وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت: 13] فإنه في الضالين المضلين وهم يحملون إثم إضلالهم مع إثم ضلالهم وكل ذلك آثامهم ليس فيها شيء من آثام غيرهم، ولا ينافيه قوله سبحانه: مَعَ أَثْقالِهِمْ لأن المراد بأثقالهم ما كان بمباشرتهم وبما معها ما كان بسوقهم وتسببهم فهو للمضلين من وجه وللآخرين من آخر وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ أي نفس أثقلتها الأوزار إِلى حِمْلِها الذي أثقلها ووزرها الذي بهظها ليحمل شيء منه ويخفف عنها، وقيل: أي إلى حمل حملها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ لم تجب بحمل شيء منه، والظاهر أن وَلا تَزِرُ إلخ نفي للحمل الاختياري تكرما من نفس الحامل ردا لقول المضلين وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ ويؤيده سبب النزول فقد روي أن الوليد بن المغيرة قال لقوم من المؤمنين اكفروا بمحمد صلّى الله عليه وسلم وعلي وزركم فنزلت. وهذا نفي للحمل بعد الطلب من الوازرة أعم من أن يكون اختيارا أو جبرا وإذا لم يجبر أحد على الحمل بعد الطلب والاستعانة علم عدم الجبر بدونه بالطريق الأولى فيعم النفي أقسام الحمل كلها، وكذا الحامل أعم من أن يكون وازرا أم لا، وجاء العموم من عدم ذكر المدعو ظاهرا، وقد يقال مع ذلك: إن في الأولى نفي حمل جميع الوزر بحيث يتعرى منه المحمول عنه، وفي الثاني نفي التخفيف فلا اتخاذ بين مضموني الجملتين كما لا يخفى، وقيل في الفرق بينهما: إن الأول نفي الحمل إجبارا والثاني نفي له اختيارا، وتعقب بأن المناسب على هذا ولا يوزر على وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها أحدا لا يحمل منه شيئا، وأيضا حق نفي الإجبار أن يتعرض له بعد نفي الاختيار، وقيل: إن الجملة الأولى كما دلت على أن المثقل بالذنوب لا يحمل أحد من ذنوبه شيئا دلت على عدله تعالى الكامل، والجملة الثانية دلت على أنه لا مستغاث من هول ذلك اليوم أيضا وهما المقصودان من الآيتين فالفرق باعتبار ذلك، ولعل ما ذكرناه أولا أولى، وذكر بعض الأفاضل في الجملة الأولى ثلاثة أسئلة قال في الأخيرين منها: لم أر من تفطن لهما وقد أجاب عن كل، الأول أن عدم حمل الغير على الغير عام في النفس الآثمة وغير الآثمة فلم خص بالآثمة مع أن التصريح بالعموم أم في العدل وأبلغ في البشارة وأخصر في اللفظ وذلك بأن يقال: ولا تحمل نفس حمل أخرى، وجوابه أن الكلام في أرباب الأوزار المعذبين لبيان أن عذابهم إنما هو بما اقترفوه من الأوزار لا بما اقترفه غيرهم، الثاني أن معنى وزر حمل الوزر لا مطلق الحمل على ما في النهاية الأثيرية حيث قال: يقال وزر يزر فهو وازر إذا حمل ما يثقل ظهره من الأشياء المثقلة ومن الذنوب فكيف صح ذكر وزر مع يزر وجوابه أنه من باب التجريد، الثالث أن وازِرَةٌ يفهم من تزر كما يفهم ضارب من يضرب مثلا فأي فائدة في ذكره؟ وجوابه أنه إذا قيل ضرب ضارب زيدا فالذي يستفاد من ضرب إنما هو ذات قام بها ضرب حدث من تعلق هذا الفعل بتلك الذات ولما عبر عن شيء بما فيه معنى الوصفية وعلق به معنى مصدري في صيغة فعل أو غيرها فهم منه في عرف اللغة أن ذلك الشيء موصوف بتلك الصفة حال تعلق ذلك المعنى به لا بسببه كما حققه بعض أجلة شراح الكشاف فيجب أن يكون معنى ضارب في المثال متصفا بضرب سابق على تعلق ضرب به وكذا يقال في وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وهذه فائدة جليلة ويزيدها جلالة استفادة العموم إذا أورد اسم الفاعل نكرة في حيز نفي، وبذلك يسقط قول العلامة التفتازاني إن ذكر فاعل الفعل بلفظ اسم فاعله نكرة قليل الجدوى جدا انتهى. وأنت تعلم أنه من مجموع الجملتين يستفاد ما ذكره في السؤال الأول من العموم، وفي خصوص هاتين الجملتين وذكرهما معا ما لا يخفى من الفائدة، وفي القاموس وزره كوعده وزرا بالكسر حمله، وفي الكشاف وزر الشيء إذا حمله، ونحوه في البحر، وعلى ذلك لا حاجة إلى التجريد فلا تغفل، وأصل الحمل ما كان على الظهر من الجزء: 11 ¦ الصفحة: 357 ثقيل فاستعير للمعاني من الذنوب والآثام، وقرأ أبو السمال عن طلحة وإبراهيم عن الكسائي «لا تحمل» بفتح التاء المثناة من فوق وكسر الميم وتقتضي هذه القراءة نصب شيء على أنه مفعول به لتحمل وفاعله ضمير عائد على مفعول تدعو المحذوف أي وإن تدع مثقلة نفسا إلى حملها لم تحمل منه شيئا وَلَوْ كانَ أي المدعو المفهوم من الدعوة ذا قُرْبى ذا قرابة من الداعي، وقال ابن عطية: اسم كان ضمير الداعي أي ولو كان الداعي ذا قرابة من المدعو، والأول أحسن لأن الداعي هو المثقلة بعينه فيكون الظاهر عود الضمير عليه وتأنيثه. وقول أبي حيان ذكر الضمير حملا على المعنى لأن قوله تعالى: مُثْقَلَةٌ لا يراد بها مؤنث المعنى فقط بل كل شخص فكأنه قيل وإن يدع شخص مثقل لا يخفي ما فيه. وقرىء ولو كان «ذو قربى» بالرفع، وخرج على أن كانَ ناقصة أيضا و «ذو قربى» اسمها والخبر محذوف أي ولو كان ذو قربى مدعوا، وجوز أن تكون تامة. وتعقب بأنه لا يلتئم معها النظم الجليل لأن الجملة الشرطية كالتتميم والمبالغة في أن لا غياث أصلا فيقتضي أن يكون المعنى أن المثقلة إن دعت أحدا إلى حملها لا يجيبها إلى ما دعته إليه ولو كان ذو القربى مدعوا، ولو قلنا إن المثقلة إن دعت أحدا إلى حملها لا يحمل مدعوها شيئا ولو حضر ذو قربى لم يحسن ذلك الحسن، وملاحظة كون ذي القربى مدعوا بقرينة السياق أو تقدير فدعته كما فعل أبو حيان خلاف الظاهر فيخفى عليه أمر الانتظام إِنَّما تُنْذِرُ إلخ استئناف مسوق لبيان من يتعظ بما ذكر أي إنما تنذر بهذه الإنذارات ونحوها الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ أي يخشونه تعالى غائبين عن عذابه سبحانه أو عن الناس في خلواتهم أو يخشون عذاب ربهم غائبا عنهم فالجار والمجرور في موضع الحال من الفاعل أو من المفعول وَأَقامُوا الصَّلاةَ أي راعوها كما ينبغي وجعلوها منارا منصوبا وعلما مرفوعا أي إنما ينفع إنذارك وتحذيرك هؤلاء من قومك دون من عداهم من أهل التمرد والعناد، ونكتة اختلاف الفعلين تعلم مما مر في قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فتذكر ما في العهد من قدم. وَمَنْ تَزَكَّى تطهر من أدناس الأوزار والمعاصي بالتأثر من هذا الإنذارات فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ لاقتصار نفعه عليها كما أن من تدنس بها لا يتدنس إلا عليها، والتزكي شامل للخشية وإقامة الصلاة فهذا تقرير وحث عليهما. وقرأ العباس عن أبي عمرو «ومن يزكي فإنما يزكي» بالياء من تحت وشد الزاي فيهما وهما مضارعان أصلهما ومن يتزكى فإنما يتزكى فأدغمت التاء في الزاي كما أدغمت في يذكرون، وقرأ ابن مسعود وطلحة «ومن أزكى» بإدغام التاء في الزاي واجتلاب همزة الوصل في الابتداء، وطلحة أيضا «فإنما تزكى» بإدغام التاء في الزاي وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ لا إلى أحد غيره استقلالا أو اشتراكا فيجازيهم على تزكيهم أحسن الجزاء وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ عطف على قوله تعالى: وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ والأعمى والبصير مثلان للكافر والمؤمن كما قال قتادة والسدي وغيرهما. وقيل: هما مثلان للصنم ولله عزّ وجلّ فهو من تتمة قوله تعالى: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ والمعنى لا يستوي الله تعالى مع ما عبدتم وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ أي ولا الباطل ولا الحق وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ولا الثواب ولا العقاب، وقيل: ولا الجنة ولا النار، والحرور فعول من الحر وأطلق كما حكي عن الفراء على شدة الحر ليلا أو نهارا، وقال أبو البقاء: هو شدة حر الشمس، وفي الكشاف الحرور السموم إلا أن السموم يكون بالنهار والحرور بالليل والنهار، وقيل: بالليل وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ تمثيل آخر للمؤمنين الذين دخلوا في الدين بعد البعثة والكافرين الذين أصروا واستكبروا فالتعريف كما قال الطيبي للعهد، وقيل: للعلماء والجهلاء. والثعالبي جعل الأعمى والبصير مثلين لهما وليس بذاك إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ أي يسمعه ويجعله مدركا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 358 للأصوات، وقال الخفاجي وغيره: ولعل في الآية ما يقتضي أن المراد يسمع من يشاء سماع تدبر وقبول لآياته عزّ وجلّ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ترشيح لتمثيل المصرين على الكفر بالأموات وإشباع في إقناطه عليه الصلاة والسلام من إيمانهم، والباء مزيدة للتأكيد أي وما أنت مسمع، والمراد بالسماع هنا ما أريد به في سابقه، ولا يأبى إرادة السماع المعروف ما ورد في حديث القليب لأن المراد نفي الأسماع بطريق العادة وما في الحديث من باب وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الأنفال: 17] وإلى هذا ذهب البعض، وقد مر الكلام في ذلك فلا تغفل. وما ألطف نظم هذه التمثيلات فقد شبه المؤمن والكافر أولا بالبحرين وفضل البحر الأجاج على الكافر لخلوه من النفع ثم بالأعمى والبصير مستتبعا بالظلمات والنور والظل والحرور فلم يكتف بفقدان نور البصر حتى ضم إليه فقدان ما يمده من النور الخارجي وقرن إليه نتيجة ذلك العمى والفقدان فكان فيه ترق من التشبيه الأول إليه ثم بالأحياء والأموات ترقيا ثانيا وأردف قوله سبحانه: وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ. وذكر الطيبي أن إخلاء الثاني من لا المؤكدة لأنه كالتمهيد لقوله تعالى: وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ ولهذا كرر وَما يَسْتَوِي وأما ذكرها في التمثيلين بعده فلأنهما مقصودان في أنفسهما إذ ما فيهما مثلان للحق والباطل وما يؤديان إليه من الثواب والعقاب دون المؤمن والكافر كما في غيرهما، وإنما حملت على أنها زائدة للتأكيد إذ ليس المراد أن الظلمات في نفسها لا تستوي بل تتفاوت فمن ظلمة هي أشد من أخرى مثلا وكذا يقال فيما بعد بل المراد أن الظلمات لا تساوي النور والظل لا يساوي الحرور والأحياء لا تساوي الأموات. وزعم ابن عطية أن دخول لا على نية التكرار كأنه قيل: ولا الظلمات والنور ولا النور والظلمات وهكذا فاستغنى بذكر الأوائل عن الثواني ودل مذكور الكلام على متروكه، والقول بأنها مزيدة لتأكيد النفي يغني عن اعتبار هذا الحذف الذي لا فائدة فيه. وقال الإمام: كررت لا فيما كررت لتأكيد المنافاة فالظلمات تنافي النور وتضاده والظل والحرور كذلك لأن المراد من الظل عدم الحر والبرد بخلاف الأعمى والبصير فإن الشخص الواحد قد يكون بصيرا. ثم يعرض له العمى فلا منافاة إلا من حيث الوصف، وأما الأحياء والأموات فيهما وإن كانا كالأعمى والبصير من حيث إن الجسم الواحد قد يكون حيا ثم يعرض له الموت لكن المنافاة بين الحي والميت أتم من المنافاة بين الأعمى والبصير فإنهما قد يشتركان في إدراك أشياء ولا كذلك الحي والميت كيف والميت مخالف الحي في الحقيقة على ما تبين في الحكمة الإلهية، وقيل لم تكرر قيل وكررت بعد لأن المخاطب في أول الكلام لا يقصر في فهم المراد، وقيل كررت فيما عدا الأخير لأنه لو قيل وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات والنور مثلا لتوهم نفي الاستواء بين مجموع الأعمى والبصير ومجموع الظلمات والنور، وفي الأخير للإعتناء وإدخال (لا) على المتقابلين لتذكير نفي الاستواء، وقدم الأعمى على البصير مع أن البصير أشرف لأنه إشارة إلى الكافر وهو موجود قبل البعثة والدعوة إلى الإيمان، ولنحو هذا قدم الظلمات على النور فإن الباطل كان موجودا فدمغه الحق ببعثته عليه الصلاة والسلام، ولم يقدم الحرور على الظل ليكون على طرز ما سبق من تقديم غير الأشرف بل قدم الظل رعاية لمناسبته للعمى والظلمة من وجه أو لسبق الرحمة مع ما في ذلك من رعاية الفاصلة. وقدم الأحياء على الأموات ولم يعكس الأمر ليوافق الأولين في تقديم غير الأشرف لأن الأحياء إشارة إلى المؤمنين بعد الدعوة والأموات إشارة إلى المصرين على الكفر بعدها ولذا قيل بعد إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ إلخ ووجود المصرين بوصف الإصرار بعد وجود المؤمنين، وقيل قدم ما قدم فيما عدا الأخير لأنه عدم وله مرتبة السبق وفي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 359 الأخير لأن المراد بالأموات. فاقدو الحياة بعد الاتصاف بها كما يشعر به أرداف ذلك بقوله تعالى: وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ فيكون للحياة مع أنها وجودية رتبة السبق أيضا، وقيل إن تقديم غير الأشرف مع انفهام أنه غير أشرف على الأشرف للإشارة إلى أن التقديم صورة لا يخل بشرف الأشرف: فالنار يعلوها الدخان وربما ... يعلو الغبار عمائم الفرسان وجمع الظلمات مع إفراد النور لتعدد فنون الباطل واتحاد الحق، وقيل لأن الظلمة قد تتعدد فتكون في محال قد تخلل بينهما نور والنور في هذا العالم وإن تعدد إلا أنه يتحد وراء محل تعدده، وجمع الأحياء والأموات على بابه لتعدد المشبه بهما ولم يجمع الأعمى والبصير لذلك لأن القصد إلى الجنس والمفرد أظهر فيه مع أن في البصراء ترك رعاية الفاصلة وهو على الذوق السليم دون البصير، فتدبر جميع ذلك والله تعالى أعلم بأسرار كتابه وهو العليم الخبير. وقرأ الأشهب والحسن «بمسمع من» بالإضافة إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ أي ما عليك إلا أن تبلغ وتنذر فإن كان المنذر ممن أراد الله تعالى هدايته سمع واهتدى وإن كان ممن أراد سبحانه ضلاله وطبع على قلبه فما عليك منه تبعة إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ أي محقين على أنه حال من الفاعل أو محقا على أنه حال من المفعول أو إرسالا مصحوبا بالحق على أنه صفة لمصدر محذوف، وجوز الزمخشري تعلقه بقوله سبحانه: بَشِيراً ومتعلق قوله تعالى: وَنَذِيراً محذوف لدلالة المقابل على مقابله أي بشيرا بالوعد الحق ونذيرا بالوعيد الحق. وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ أي ما من جماعة كثيرة أهل عصر وأمة من الأمم الدارجة في الأزمنة الماضية إِلَّا خَلا مضى فِيها نَذِيرٌ من نبي أو عالم ينذرها، والاكتفاء بذكره للعلم بأن النذارة قريبة البشارة لا سيما وقد اقترنا آنفا مع أن الإنذار أنسب بالمقام، وقيل خص النذير بالذكر لأن البشارة لا تكون إلا بالسمع فهو من خصائص الأنبياء عليهم السّلام فالبشير نبي أو ناقل عنه بخلاف النذارة فإنه تكون سمعا وعقلا فلذا وجه النذير في كل أمة، وفيه بحث. واستدل بعض الناس بهذه الآية مع قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ [الأنعام: 38] على في البهائم وسائر الحيوانات أنبياء أو علماء ينذرون، والاستدلال بذلك باطل لا يكاد نفي بطلانه على أحد حتى على البهائم، ولم نسمع القول بنبوة فرد من البهائم ونحوها إلا عن الشيخ محيي الدين ومن تابعه قدس الله سره، ورأيت في بعض الكتب أن القول بذلك كفر والعياذ بالله تعالى. وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم العاتية فلا تحزن من تكذيب هؤلاء إياك. جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ في موضع الحال على ما قال أبو البقاء إما بدون تقدير قد أو بتقديرها أي كذب الذين من قبلهم وقد جاءتهم رسلهم بِالْبَيِّناتِ أي بالمعجزات الظاهرة الدالة على صدقهم فيما يدعون وَبِالزُّبُرِ كصحف إبراهيم عليه السّلام وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ كالتوراة والإنجيل على إرادة التفصيل يعني أن بعضهم جاء بهذا وبعضهم جاء بهذا لا على إرادة الجمع وأن كل رسول جاء بجميع ما ذكر حتى يلزم أن يكون لكل رسول كتاب وعدد الرسل أكثر بكثير من عدد الكتب كما هو معروف، ومال هذا إلى منع الخلو، ويجوز أن يراد بالزبر والكتاب واحد والعطف لتغاير العنوانين لكن فيه بعد ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا وضع الظاهر موضع ضميرهم لذمهم بما حيز الصلة والأشعار بعلة الأخذ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي إنكاري عليهم بالعقوبة، وفيه مزيد تشديد وتهويل وقد تقدم الكلام في نظير هذا في سبأ فتذكر. وفي الآية من تسليته صلّى الله عليه وسلم ما فيها أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً إلخ استئناف مسوق على ما يخطر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 360 بالبال لتقرير ما أشعر به قوله تعالى: ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ من عظيم قدرته عزّ وجلّ، وقال الشيخ الإسلام: هو لتقرير ما قبله من اختلاف الناس ببيان أن الاختلاف والتفاوت أمر مطرد في جميع المخلوقات من النبات والجماد والحيوان. وقال أبو حيان: تقرير لوحدانيته تعالى بأدلة سماوية وأرضية أثر تقريرها بأمثال ضربها جل شأنه، وهذا كما ترى، والاستفهام للتقرير، والرؤية قلبية لأن إنزال المطر وإن كان مدركا بالبصر لكن إنزال الله تعالى إياه ليس كذلك، والخطاب عام أي ألم تعلم أن الله تعالى أنزل من جهة العلو ماء فَأَخْرَجْنا بِهِ أي بذلك الماء على أنه سبب عادي للإخراج، وقيل أي أخرجنا عنده، والالتفات لإظهار كمال الاعتناء بالفعل لما فيه من الصنع البديع المنبئ عن كمال القدرة والحكمة ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها أي أنواعها من التفاح والرمان والعنب والتين وغيرها مما لا يحصر، وهذا كما يقال فلان أتى بألوان من الأحاديث وقدم كذا لونا من الطعام، واختلاف كل نوع بتعدد أصنافه كما في التفاح فإن له أصنافا متغايرة لذة وهيئة وكذا في سائر الثمرات ولا يكاد يوجد نوع منها إلا وهو ذو أصناف متغايرة، ويجوز أن يراد اختلاف كل نوع باختلاف أفراده. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أنه حمل الألوان على معناها المعروف واختلافها بالصفرة والحمرة والخضرة وغيرها، وروي ذلك عن ابن عباس أيضا وهو الأوفق لما في قوله تعالى. وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ وهو إما عطف على ما قبله بحسب المعنى أو حال وكونه استئنافا مع ارتباطه بما قبله غير ظاهر، وجُدَدٌ جمع جدة بالضم وهي الطريقة من جده إذا قطعه. وقال أبو الفضل: هي من الطرائق ما يخالف لونه لون ما يليه ومنه جدة الحمار للخط الذي في وسط ظهره يخالف لونه، وسأل ابن الأزرق ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن الجدد فقال طرائق طريقة بيضاء وطريقة خضراء، وأنشد قول الشاعر: قد غادر السبع في صفحاتها جددا ... كأنها طرق لاحت على أكم والكلام على تقدير مضاف إن لم تقصد المبالغة لأن الجبال ليست نفس الطرائق أي ذو جدد. وقرأ الزهري «جدد» بضمتين جمع جديدة كسفينة وسفن وهي بمعنى جدة. وقال صاحب اللوامح هو جمع جديد بمعنى آثار جديدة واضحة الألوان. وقال أبو عبيدة: لا مدخل لمعنى الجديدة في هذه الآية. ولعل من يقول بتجدد حدوث الجبال وتكونها من مياه تنبع من الأرض وتتحجر أولا فأولا ثم تنبع من موضع قريب مما تحجر فتتحجر أيضا وهكذا حتى يحصل جبل لا يأبى حمل الآية على هذه القراءة على ما ذكر، والظاهر من الآيات والأخبار أن الجبال أحدثها الله تعالى بعيد خلق الأرض لئلا تميد بسكانها، والفلاسفة يزعمون أنها كانت طينا في بحار انحسرت ثم تحجرت، وقد أطال الإمام الكلام على ذلك في كتابه المباحث المشرقية واستدل على ذلك، بوجود أشياء بحرية كالصدف بين أجزائها، وهذا عند تدقيق النظر هباء وأكثر الأدلة مثلة، ومن أراد الاطلاع على ما قالوا فليرجع إلى كتبهم. وروي عنه أيضا أنه قرأ «جدد» بفتحتين ولم يجز ذلك أبو حاتم وقال: إن هذه القراءة لا تصح من حيث المعنى وصححها غيره وقال: الجدد الطريق الواضح المبين إلا أنه وضع المفرد موضع الجمع ولذا وصف بالجمع، وقيل هو من باب نطفة أمشاج وثوب أخلاق لاشتمال الطريق على قطع. وتعقب بأنه غير ظاهر ولا مناسب لجمع الجبال مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها أي أصنافها بالشدة والضعف لأنها مقولة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 361 بالتشكيك فمختلف صفة بيض وحمر، وأَلْوانُها فاعل له وليس بمبتدأ، ومُخْتَلِفٌ خبره لوجوب مختلفة حينئذ، وجوز أن يكون صفة جُدَدٌ وَغَرابِيبُ عطف على بِيضٌ فهو من تفاصيل الجدد والصفات القائمة بها أي ومن الجبال ذو جدد بيض وحمر، وغرابيب والغربيب هو الذي أبعد في السواد وأغرب فيه ومنه الغراب، وكثر في كلامهم اتباعه للأسود على أنه صفة له أو تأكيد لفظي فقالوا أسود غربيب كما قالوا أبيض يقق وأصفر فاقع وأحمر قاني. وظاهر كلام الزمخشري أن غَرابِيبُ هنا تأكيد لمحذوف والأصل وسود غرابيب أي شديدة السواد. وتعقب بأنه لا يصح إلا على مذهب من يجوز حذف المؤكد ومن النحاة من منع ذلك وهو اختيار ابن مالك لأن التأكيد يقتضي الاعتناء والتقوية وقصد التطويل والحذف يقتضي خلافه. ورده الصفار كما في شرح التسهيل لأن المحذوف لدليل كالمذكور فلا ينافي تأكيده، وفي بعض شروح المفصل أنه صفة لذلك المحذوف أقيم مقامه بعد حذفه، وقوله تعالى: سُودٌ بدل منه أو عطف بيان له وهو مفسر للمحذوف، ونظير ذلك قول النابغة: والمؤمن العائذات الطير يمسحها ... ركبان مكة بين الغيل والسند وفيه التفسير بعد الإبهام ومزيد الاعتناء بوصف السواد حيث دل عليه من طريق الإضمار والإظهار. ويجوز أن يكون العطف على جُدَدٌ على معنى ومن الجبال ذو جدد مختلف اللون ومنها غرابيب متحدة اللون كما يؤذن به المقابلة وإخراج التركيب على الأسلوب الذي سمعته، وكأنه لما اعتنى بأمر السواد بإفادة أنه في غاية الشدة لم يذكر بعده الاختلاف بالشدة والضعف. وقال الفراء: الكلام على التقديم والتأخير أي سود غرابيب، وقيل ليس هناك مؤكد ولا موصوف محذوف وإنما غَرابِيبُ معطوف على جُدَدٌ أو على بيض من أول الأمر وسُودٌ بدل منه، قال في البحر: وهذا حسن ويحسنه كون غربيب لم يلزم فيه أن يستعمل تأكيدا، ومنه ما جاء في الحديث إن الله تعالى يبغض الشيخ الغربيب وهو الذي يخضب بالسواد ، وفسره ابن الأثير بالذي لا يشيب أي لسفاهته أو لعدم اهتمامه بأمر آخرته، وحكي ما في البحر بصيغة قيل، وقول الشاعر: العين طامحة واليد شامخة ... والرجل لائحة والوجه غربيب وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ أي ومنهم بعض مختلف ألوانه أو بعضهم مختلف ألوانه على ما ذكروا في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ [البقرة: 8] والجملة عطف على الجملة التي قبلها وحكمها حكمها. وفي إرشاد العقل السليم أن إيراد الجملتين اسميتين مع مشاركتهما لما قبلهما من الجملة الفعلية في الاستشهاد بمضمونها على تباين الناس في الأحوال الباطنة لما أن اختلاف الجبال والناس والدواب والأنعام فيما ذكر من الألوان أمر مستمر فعبر عنه بما يدل على الاستمرار وأما إخراج الثمرات المختلفة فحيث كان أمرا حادثا عبر عنه بما يدل على الحدوث ثم لما كان فيه نوع خفاء علق به الرؤية بطريق الاستفهام التقريري المنبئ عن الحمل عليها والترغيب فيها بخلاف أحوال الجبال والناس وغيرهما فإنها مشاهدة غنية عن التأمل فلذلك جردت عن التعليق بالرؤية فتدبر اهـ، وما ذكره من أمر تعليق الرؤية مخالف لما في البحر حيث قال: وهذا استفهام تقرير ولا يكون إلا في الشيء الظاهر جدا فتأمل. وقرأ الزهري «والدواب» بتخفيف الباء مبالغة في الهرب من التقاء الساكنين كما همز بعضهم وَلَا الضَّالِّينَ لذلك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 362 وقرأ ابن السميفع «ألوانها» وقوله تعالى: كَذلِكَ في محل نصب صفة لمصدر مختلف المؤكد والتقدير مختلف اختلافا كائنا كذلك أي كاختلاف الثمرات والجبال فهو من تمام الكلام قبله والوقف عليه حسن بإجماع أهل الأداء وقوله سبحانه: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ تكملة لقوله تعالى: إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ [فاطر: 18] بتعيين من يخشاه عزّ وجلّ من الناس بعد الإيماء إلى بيان شرف الخشية ورداءة ضدها وتوعد المتصفين به وتقرير قدرته عزّ وجلّ المستدعي للخشية على ما نقول أو بعد بيان اختلاف طبقات الناس وتباين مراتبهم أما في الأوصاف المعنوية فبطريق التمثيل وأما في الأوصاف الصورية فبطريق التصريح توفية لكل واحدة منهما حقها اللائق بها من البيان، وقيل كَذلِكَ في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك أي كما بين ولخص ثم قيل: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ إلخ وسلك به مسلك الكناية من باب العرب لا تخفر الذمم دلالة على أن العلم يقتضي لخشية ويناسبها وهو تخلص إلى ذكر أوليائه تعالى مع إفادة أنهم الذين نفع فيهم الإنذار وأن لك بهم غنية عن هؤلاء المصرين، قال صاحب الكشف: والرفع أظهر ليكون من فصل الخطاب. وقال ابن عطية يحتمل أن يكون كَذلِكَ متعلقا بما بعده خارجا مخرج السبب أي كذلك الاعتبار والنظر في مخلوقات الله تعالى واختلاف ألوانها يخشى الله العلماء، ورده السمين بأن إنما لا يعمل ما بعدها فيما قبلها وبأن الوقف على كذلك عند أهل الأداء جميعا، وارتضاه الخفاجي وقال: وبه ظهر ضعف ما قيل: إن المعنى الأمر كذلك أي كما بين ولخص على أنه تخلص لذكر أولياء الله تعالى، وفيه أنه ليس في هذا المعنى عمل ما بعد إنما فيما قبلها وإجماع أهل الأداء على الوقف على كَذلِكَ إن سلم لا يظهر به ضعف ذلك، وفي بعض التفاسير المأثورة عن السلف ما يشعر بتعلق كَذلِكَ بما بعده. أخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال في الآية كما اختلفت هذه الأنعام تختلف الناس في خشية الله تعالى كذلك وهذا عندي ضعيف والأظهر ما عليه الجمهور وما قيل أدق وألطف، والمراد بالعلماء العالمون بالله عزّ وجلّ وبما يليق به من صفاته الجليلة وأفعاله الحميدة وسائر شؤونه الجميلة لا العارفون بالنحو والصرف مثلا فمدار الخشية ذلك العلم لا هذه المعرفة فكل من كان أعلم به تعالى كان أخشى. روى الدارمي عن عطاء قال: قال موسى عليه السّلام يا رب أي عبادك أحكم؟ قال الذي يحكم للناس كما يحكم لنفسه قال: يا رب أي عبادك أغنى؟ قال: أرضاهم بما قسمت له قال: يا رب أي عبادك أخشى؟ قال: أعلمهم بي وصح عنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أنا أخشاكم لله وأتقاكم له» ولكونه المدار ذكرت الخشية بعد ما يدل على كمال القدرة، ولهذه المناسبة فسر ابن عباس كما أخرج عنه ابن المنذر وابن جرير الْعُلَماءُ في الآية بالذين يعلمون أن الله تعالى على كل شيء قدير، وتقديم المفعول لأن المقصود بيان الخاشين والإخبار بأنهم العلماء خاصة دون غيرهم ولو أخر لكان المقصود بيان المخشي والإخبار بأنه الله تعالى دون غيره كما في قوله تعالى: وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ [الأحزاب: 39] والمقام لا يقتضيه بل يقتضي الأول ليكون تعريضا بالمنذرين المصرين على الكفر والعناد وأنهم جهلاء بالله تعالى وبصفاته ولذلك لا يخشون الله تعالى ولا يخافون عقابه. وأنكر بعضهم إفادة إِنَّما هنا للحصر وليس بشيء، وروي عن عمر بن عبد العزيز. وأبي حنيفة رضي الله تعالى عنهما أنهما قرءا «إنما يخشى الله» بالرفع «العلماء» بالنصب وطعن صاحب النشر في هذه القراءة، وقال أبو حيان: لعلها لا تصح عنهما، وقد رأينا كتبا في الشواذ ولم يذكروا هذه القراءة وإنما ذكرها الزمخشري وذكرها عن أبي حيوة أبو القاسم يوسف بن علي بن جنادة في كتابه الكامل وخرجت على أن الخشية مجاز عن التعظيم بعلاقة اللزوم فإن المعظم يكون مهيبا، وقيل الخشية ترد بمعنى الاختيار كقوله: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 363 خشيت بني عمي فلم أر مثلهم إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ تعليل لوجوب الخشية لأن العزة دالة على كمال القدرة على الانتقام ولا يوصف بالمغفرة والرحمة إلا القادر على العقوبة، وقيل ذكر غَفُورٌ من باب التكميل نظير ما في بيت الغنوي المذكور آنفا. والآية على ما في بعض الآثار نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وقد ظهرت عليه الخشية حتى عرفت فيه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 364 إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ أي يداومون على قراءته حتى صارت سمة لهم وعنوانا كما يشعر به صيغة المضارع ووقوعه صلة واختلاف الفعلين والمراد بكتاب الله القرآن فقد قال مطرف بن عبد الله بن الشخير: هذه آية القراء. وأخرج عبد الغني بن سعيد الثقفي في تفسيره عن ابن عباس أنها نزلت في حصين بن الحارث بن عبد المطلب القرشي، ثم إن العبرة بعموم اللفظ فلذا قال السدي في التالين: هم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال عطاء: هم المؤمنون أي عامة وهو الأرجح ويدخل الأصحاب دخولا أوليا، وقيل معنى يتلون كتاب الله يتبعونه فيعملون بما فيه، وكأنه جعل يتلو من تلاه إذا تبعه أو حمل التلاوة المعروفة على العمل لأنها ليس فيها كثير نفع دونه، وقد ورد: «رب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه» ويشعر كلام بعضهم باختيار المعنى المتبادر حيث قال: إنه تعالى لما ذكر الخشية وهي عمل القلب ذكر بعدها علم اللسان والجوارح والعبادة المالية، وجوز أن يراد بكتاب الله تعالى جنس كتبه عزّ وجلّ الصادق على التوراة والإنجيل وغيرهما فيكون ثناء على المصدقين من الأمم بعد اقتصاص حال المكذبين بقوله تعالى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ إلخ والمضارع لحكاية الحال الماضية، والمقصود من الثناء عليهم وبيان ما لهم حث هذه الأمة على اتباعهم وأن يفعلوا نحو ما فعلوا، والوجه الأول أوجه كما لا يخفى وعليه الجمهور. وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً أي مسرين ومعلنين أو في سر وعلانية، والمراد ينفقون كيفما اتفق من غير قصد إليهما، وقيل السر في الإنفاق المسنون والعلانية في الإنفاق المفروض، وفي كون الإنفاق مما رزقوا إشارة إلى أنهم لم يسرفوا ولم يبسطوا أيديهم كل البسط، ومقام التمدح مشعر بأنهم تحروا الحلال الطيب، وقيل جيء بمن لذلك، والمعتزلة يخصون الرزق بالحلال وهو أنسب بإسناد الفعل إلى ضمير العظمة، ومن لا يخصه بالحلال يقول هو التعظيم والحث على الإنفاق يَرْجُونَ بما آتوا من الطاعات تِجارَةً أي معاملة مع الله تعالى لنيل ربح الثواب على أن التجارة مجاز عما ذكر والقرينة حالية كما قال بعض الأجلة، وقوله تعالى: لَنْ تَبُورَ أي لن تكسد، وقيل لن تهلك بالخسران صفة تجارة وترشيح للمجاز، وجملة يَرْجُونَ إلخ على ما قال الفراء وأبو البقاء خبر إن، وفي إخباره تعالى عنهم بذلك إشارة إلى أنهم لا يقطعون بنفاق تجارتهم بل يأتون ما آتوا من الطاعات وقلوبهم وجلة أن لا يقبل منهم، وجعل بعضهم التجارة مجازا عن تحصيل الثواب بالطاعة وأمر الترشيح على حاله وإليه ذهب أبو السعود ثم قال: والإخبار برجائهم من أكرم الأكرمين عدة قطعية بحصول مرجوهم. وظاهر ما روي عن قتادة من تفسيره التجارة بالجنة أنها مجاز عن الربح وفسر لَنْ تَبُورَ بلن تبيد وهو كما ترى، وقوله تعالى: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ متعلق عند بعض بما دل عليه لن تعلق بِنِعْمَةِ رَبِّكَ في قوله تعالى: ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [القلم: 2] بما دل عليه- ما- لا بالحرف إذ لا يتعلق الجار به على المشهور أي ينتفي الكساد عنها وتنفق عند الله تعالى ليوفيهم أجور أعمالهم وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ على ذلك من خزائن رحمته ما يشاء وعن أبي وائل زيادته تعالى إياهم بتشفيعهم فيمن أحسن إليهم. وقال الضحاك: بتفسيح القلوب، وفي الحديث بتضعيف حسناتهم، وقيل بالنظر إلى وجهه تعالى الكريم. والظاهر أن مِنْ فَضْلِهِ راجع لما عنده ففيه إشارة إلى أن توفية أجورهم كالواجب لكونه جزاء لهم بوعده الجزء: 11 ¦ الصفحة: 365 سبحانه ويجوز أن يكون راجعا إليهما أو متعلق بمقدر يدل عليه ما قبله وهو ما عد من أفعالهم المرضية أي فعلوا ذلك ليوفيهم أجورهم إلخ، وجوز تعلقه بما قبله على التنازع وصنيع أبي البقاء يشعر باختيار تعلقه بيرجون وجعل اللام عليه لام الصيرورة. ويعقب بأنه لا مانع من جعلها لام العلة كما هو الشائع الكثير ولا يظهر للعدول عنه وجه. ووجه ذلك الطيبي بأن غرضهم فيما فعلوا لم يكن سوى تجارة غير كاسدة لأن صلة الموصول هنا علة وإيذان بتحقق الخبر ولما أدى ذلك إلى أن وفاهم الله تعالى أجورهم أتى باللام، وإنما لم يذهب إليه بعض الأجلة كالزمخشري لأن هذه اللام لا توجد إلا فيما يترتب الثاني الذي هو مدخولها على الأول ولا يكون مطلوبا نحو تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص: 8] وقوله تعالى: إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ تعليل لما قبله من التوفية والزيادة عند الكثير أي غفور لفرطات المطيعين شكور لطاعاتهم أي مجازيهم عليها أكمل الجزاء فيوفي هؤلاء أجورهم ويزيدهم من فضله، وجوز أن يكون خبرا بعد خبر والعائد محذوف أي لهم، وجوز أن يكون هو الخبر بتقدير العائد وجملة يَرْجُونَ حال من ضمير أَنْفَقُوا بناء على أن القيد المتعقب لأمور متعددة يختص بالأخير كما هو مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أو على أن رجاء التجارة النافقة أوفق بالإنفاق أو من مقدر أي فعلوا جميع ذلك راجين. واستظهره الطيبي، والجملة عليه معترضة فلا يرد أن فيه الفصل بين المبتدأ وخبره بأجنبي، وجوز أن يكون حالا من ضمير الَّذِينَ على سبيل التنازع، ولم يشتهر التنازع في الحال وأنا لا أرى فيه بأسا، واستظهر بعض المعاصرين جعل الجملة المذكورة حالا من ضمير أَنْفَقُوا لقربه وشدة الملاءمة بين الإنفاق ورجاء تجارة لها نفاق ولا يبعد أن يكون قد حذف فيما تقدم نظيرها لدلالتها عليه وجعل لِيُوَفِّيَهُمْ متنازعا فيه للأفعال الثلاثة المتعاطفة أو جعل الجملة حالا من مقدر كما سمعت آنفا ولِيُوَفِّيَهُمْ متعلقا بيرجون وجملة إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ خير المبتدأ والربط محذوف وفي جملة يَرْجُونَ إلخ احتمال الاستعارة التمثيلية ولو على بعد ولم أر من أشار إليه فتدبر. وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وهو القرآن، ومِنَ للتبيين إذ القرآن أخص من الذي أوحينا مفهوما وإن اتحدا ذاتا أو جنس الكتاب ومن للتبعيض إذ المراد من الَّذِي أَوْحَيْنا هو القرآن وهو بعض جنس الكتاب، وقيل هو اللوح ومن للابتداء هُوَ الْحَقُّ إذا كان المراد الحصر فهو من قصر المسند إليه على المسند لا العكس لعدم استقامة المعنى إلا أن يقصد المبالغة قاله الخفاجي والمتبادر الشائع في أمثاله قصر المسند على المسند إليه وهو هاهنا إن لم تقصد المبالغة قصر إضافي بالنسبة إلى ما يفتريه أهل الكتاب وينسبونه إلى الله تعالى. مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أي لما تقدمه من الكتب السماوية ونصب مُصَدِّقاً على الحالية والعامل فيه مقدر يفهم من مضمون الجملة قبله أي أحققه مصدقا وهو حال مؤكدة لأن حقيته تستلزم موافقته الكتب الإلهية المتقدمة عليه بالزمان في العقائد وأصول الأحكام، واللام للتقوية إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ محيط ببواطن أمورهم وظواهرها فلو كان في أحوالك ما ينافي النبوة لم يوح إليك مثل هذا الحق المعجز الذي هو عيار على سائر الكتب، وتقديم «الخبير» للتنبيه على أن العمدة هي الأمور الروحانية، وإلى ذلك أشار صلّى الله عليه وسلم بقوله: «إن الله لا ينظر إلى أعمالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم» ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ أي القرآن كما عليه الجمهور، والعطف قيل على الَّذِي أَوْحَيْنا وقيل على أَوْحَيْنا بإقامة الظاهر مقام الضمير العائد على الموصول، واستظهر ذلك بالقرب وتوافق الجملتين أي ثم أعطيناه من غير كد وتعب في طلبه الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا وهم كما قال ابن عباس وغيره أمة محمد صلّى الله عليه وسلم فإن الله تعالى اصطفاهم على سائر الأمم وجعلهم أمة وسطا ليكونوا شهداء على الناس وخصهم بالانتماء الجزء: 11 ¦ الصفحة: 366 إلى أكرم رسله وأفضلهم عليهم الصلاة والسلام، وثُمَّ للتراخي الرتبي فإن إيحاء الكتاب إليه صلّى الله عليه وسلم أشرف من الإيراث المذكور كأنه كالعلة له وبه تحققت نبوته عليه الصلاة والسلام التي هي منبع كل خير وليست للتراخي الزماني إذ زمان إيحائه إليه عليه الصلاة والسلام هو زمان إيراثه، وإعطائه أمته بمعنى تخصيصه بهم وجعله كتابهم الذي إليه يرجعون وبالعمل بما فيه ينتفعون، وإذا أريد بإيراثه إياهم إيراثه منه صلّى الله عليه وسلم وجعلهم منتفعين به فاهمين ما فيه بالذات كالعلماء أو بالواسطة كغيرهم بعده عليه الصلاة والسلام فهي للتراخي الزماني، والتعبير عن ذلك بالماضي لتحققه، وجوز أن يكون معنى أَوْرَثْنَا الْكِتابَ حكمنا بإيراثه وقدرناه على أنه مجاز من إطلاق السبب على المسبب فتكون ثم للتراخي الرتبي وإلا فزمان الحكم سابق على زمان الإيحاء. ووجه التعبير بالماضي عليه ظاهر. وفي شرح الرضي أن ثم قد تجيء في عطف الجمل خاصة لاستبعاد مضمون ما بعدها عن مضمون ما قبلها وعدم مناسبته له كما في قوله تعالى: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ [هود: 3، 90] فإن بين توبة العباد وهي انقطاع العبد إليه تعالى بالكلية وبين طلب لمغفرة بونا بعيدا وهذا المعنى فرع التراخي ومجازه اهـ. وابن الشيخ جعل ما هنا كما في هذه الآية، وجوز أن يكون ثُمَّ أَوْرَثْنَا إلخ متصلا بما سبق من قوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً [البقرة: 119] وإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر: 24] والمراد ثم أورثنا الكتاب من الأمم السالفة وأعطيناه بعدهم الذين اصطفيناهم من الأمة المحمدية، والكتاب القرآن كما قيل: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [الشعراء: 196] وقيل لا يحتاج إلى اعتبار ذلك ويجعل المعنى ثم أخرنا القرآن عن الأمم السالفة وأعطيناه هذه الأمة، ووجه النظم أنه تعالى قدم إرساله في كل أمة رسولا وعقبه بما ينبىء أن تلك الأمم تفرقت حزبين حزب كذبوا الرسل وما أنزل معهم وهم المشار إليهم بقوله تعالى: فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ [فاطر: 25] وحزب صدقوهم وتلوا كتاب الله تعالى وعملوا بمقتضاه وهم المشار إليهم بقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إلخ وبعد أن أثنى سبحانه على التالين لكتبه العاملين بشرائعه من بين المكذبين بها من سائر الأمم جاء بما يختص برسوله صلّى الله عليه وسلم من قوله سبحانه: وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ إلخ استطرادا معترضا ثم أخبر سبحانه بإيراثه هذا الكتاب الكريم هذه الأمة بعد إعطاء تلك الأمم الزبر والكتاب المنير، وعلى هذا يكون المعنى في أَوْرَثْنَا على ظاهره، وثم للتراخي في الأخبار أو للتراخي في الرتبة إيذانا بفضل هذا الكتاب على سائر الكتب وفضل هذه الأمة على سائر الأمم، وفي هذا الوجه حمل الكتاب في قوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ على الجنس وجعل الآية ثناء على الأمم المصدقين بعد اقتصاص حال المكذبين منهم، فإن دفع ما فيه فهو من الحسن بمكان. وجوز أن يكون عطفا على إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وإذا كان إيراث الكتاب سابقا على تلاوته فالمعنى على ظاهره وثم للتفاوت الرتبي أو للتراخي في الأخبار وَالَّذِي أَوْحَيْنا إلخ اعتراض لبيان كيفية الإيراث لأنه إذا صدقها بمطابقته لها في العقائد والأصول كان كأنه هي وكأنه انتقل إليهم ممن سلف، وهو كما ترى، وجوز على هذا وما قبله أن يراد بالكتاب الجنس، ولا يخفى أن إرادة القرآن هو الظاهر، وقيل المراد بالمصطفين علماء الأمة من الصحابة ومن بعدهم ممن يسير بسيرتهم وإيراثهم القرآن جعلهم فاهمين معناه واقفين على حقائقه ودقائقه أمناء على أسراره. وروى الإمامية عن الصادق والباقر رضي الله تعالى عنهما أنهما قالا: هي لنا خاصة وإيانا عنى أرادا أن أهل البيت أو الأئمة منهم هم المصطفون الذين أورثوا الكتاب ، واختار هذا الطبرسي الإمامي قال في تفسيره مجمع البيان: وهذا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 367 أقرب الأقوال لأنهم أحق الناس بوصف الاصطفاء والاجتباء وإيراث علم الأنبياء عليهم السّلام. وربما يستأنس له بقوله عليه الصلاة والسلام: «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله تعالى وعترتي لن يفترقا حتى يردا على الحوض» وحملهم على علماء الأمة أولى من هذا التخصيص ويدخل فيهم علماء أهل البيت دخولا أوليا ففي بيتهم نزل الكتاب ولن يفترقا حتى يردا الحوض يوم الحساب، وإذا كانت الإضافة في عِبادِنا للتشريف واختص العباد بمؤمني هذه الأمة وكانت من للتبعيض كأن حمل المصطفين على العلماء كالمتعين، وعن الجبائي أنهم الأنبياء عليهم السّلام اختارهم الله تعالى وحباهم رسالته وكتبه، وعليه يكون تعريف الكتاب للجنس والعطف على قوله تعالى: وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ وثم للتراخي في الأخبار، أخبر سبحانه أولا عما أوتيه نبينا صلّى الله عليه وسلم وهو متضمن للأخبار بإيتائه عليه الصلاة والسّلام الكتاب على أكمل وجه ثم أخبر سبحانه بتوريث إخوانه الأنبياء عليهم السّلام وإيتائهم الكتب، ومما يرد عليه أن إيتاء الأنبياء عليهم السّلام الكتب قد علم قبل من قوله تعالى: فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ [فاطر: 25] . وعن أبي مسلم أنهم المصطفون المذكورون في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ [آل عمران: 33] وهو دون ما قبله، وأيا ما كان فالموصول مفعول أول لأورثنا، والْكِتابَ مفعول ثان له قدم لشرفه والاعتناء به وعدم اللبس، ومن للبيان أو للتبعيض فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ الفاء للتفصيل لا للتعليل كما قيل، وضمير الجمع على ما سمعت أولا في تفسير الموصول للموصول، والظالم لنفسه من قصر في العمل بالكتاب وأسرف على نفسه وهو صادق على من ظلم غيره لأنه بذلك ظالم لنفسه والمشهور مقابلته بالظالم لغيره، واللام للتقوية. وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ يتردد بين العمل به ومخالفته فيعمل تارة ويخالف أخرى، وأصل معنى الاقتصاد التوسط في الأمر وَمِنْهُمْ سابِقٌ متقدم إلى ثواب الله تعالى وجنته بِالْخَيْراتِ أي بسبب الخيرات أي الأعمال الصالحة، وقيل: سابق على الظالم لنفسه والمقتصد في الدرجات بسبب الخيرات، وقيل: أي محرز الفضل بسببها بِإِذْنِ اللَّهِ أي بتيسيره تعالى وتوفيقه عزّ وجلّ، وفيه تنبيه على عزة منال هذه الرتبة وصعوبة مأخذها، وفسر بمن غلبت طاعته معاصيه وكثر عمله بكتاب الله تعالى، وما ذكر في تفسير الثلاثة مما يشير إليه كلام الحسن فقد روي عنه أنه قال: الظالم من خفت حسناته والمقتصد من استوت والسابق من رجحت، ووراء ذلك أقوال كثيرة فقال معاذ: الظالم لنفسه الذي مات على كبيرة لم يتب منها والمقتصد من مات على صغيرة ولم يصب كبيرة لم يتب منها والسابق من مات تائبا من كبيرة أو صغيرة أو لم يصب ذلك، وقيل الظالم لنفسه العاصي المسرف والمقتصد متقي الكبائر والسابق المتقي على الإطلاق، وقيل الأول المقصر في العمل والثاني العامل بالكتاب في أغلب الأوقات ولم يخل عن تخليط والثالث السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار. وقيل الأولان كما ذكر والثالث المداوم على إقامة مواجب الكتاب علما وعملا وتعليما، وقيل: الأول من أسلم بعد الفتح والثاني من أسلم قبله والثالث من أسلم قبل الهجرة، وقيل: هم من لا يبالي من أين ينال ومن قوته من الحلال ومن يكتفي من الدنيا بالبلاغ، وقيل: من همه الدنيا ومن همه العقبى ومن همه المولى، وقيل: طالب النجاة وطالب الدرجات وطالب المناجاة، وقيل: تارك الزلة وتارك الغفلة وتارك العلاقة، وقيل: من شغله معاشه عن معاده ومن شغله بهما ومن شغله معاده عن معاشه وقيل: من يأتي بالفرائض خوفا من البار ومن يأتي بها خوفا منها ورضا واحتسابا ومن يأتي بها رضا واحتسابا فقط، وقيل: الغافل عن الوقت والجماعة والمحافظ على الوقت دون الجماعة والمحافظ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 368 عليهما، وقيل: من غلبت شهوته عقله ومن تساويا ومن غلب عقله شهوته، وقيل: من لا ينهى عن المنكر ويأتيه ومن ينهى عن المنكر ويأتيه ومن يأمر بالمعروف ويأتيه، وقيل: ذو الجور وذو العدل وذو الفضل، وقيل: ساكن البادية والحاضرة والمجاهد، وقيل: من كان ظاهره خيرا من باطنه ومن استوى باطنه وظاهره ومن باطنه خير من ظاهره. وقيل: التالي للقرآن غير العالم به ولا العامل بموجبه والتالي العالم غير العامل والتالي العالم العامل، وقيل: الجاهل والمتعلم والعالم، وقيل: من خالف الأوامر وارتكب المناهي ومن اجتهد في أداء التكاليف وإن لم يوفق لذلك ومن لم يخالف تكاليف الله تعالى. وروى بعض الإمامية عن ميسر بن عبد العزيز عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه الظالم لنفسه منا من لا يعرف حق الإمام والمقتصد العارف بحق الإمام والسابق هو الإمام ، وعن زياد بن المنذر عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه الظالم لنفسه منا من علم صالحا وآخر سيئا والمقتصد المتعبد المجتهد والسابق بالخيرات علي والحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم ومن قتل من آل محمد شهيدا ، وقيل: هم الموحد بلسانه الذي تخالفه جوارحه والموحد الذي يمنع جوارحه بالتكليف والموحد الذي ينسيه التوحيد غير التوحيد، وقيل: من يدخل الجنة بالشفاعة ومن يدخلها بفضل الله تعالى ومن يدخلها بغير حساب، وقيل: من أوتي كتابه من وراء ظهره ومن أوتي كتابه بشماله ومن أوتي كتابه بيمينه، وقيل: الكافر مطلقا والفاسق والمؤمن التقي، وفي معناه ما جاء في رواية عن ابن عباس وقتادة وعكرمة الظالم لنفسه أصحاب المشأمة والمقتصد أصحاب الميمنة والسابق بالخيرات السابقون المقربون، والظاهر أن هؤلاء ومن قال نحو قولهم يجعلون ضمير مِنْهُمْ للعباد لا للموصول ولا شك أن منهم الكافر وغيره وكون العباد المضاف إلى الله تعالى مخصوصا بالمؤمنين ليس بمطرد وإنما يكون كذلك إذا قصد بالإضافة التشريف، والقول برجوع الضمير للموصول والتزام كون الاصطفاء بحسب الفطرة تعسف كما لا يخفى، وقيل: في تفسير الثلاثة غير ما ذكر، وذكر في التحرير ثلاثة وأربعين قولا في ذلك، ومن تتبع التفاسير وجدها أكثر من ذلك لكن لا يجد في أكثرها كثير تفاوت، والذي يعضده معظم الروايات والآثار أن الأصناف الثلاثة من أهل الجنة فلا ينبغي أن يلتفت إلى تفسير الظالم بالكافر إلا بتأويل كافر النعمة وإرادة العاصي منه. أخرج الإمام أحمد والطيالسي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي والترمذي وحسنه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ- إلى- بِالْخَيْراتِ هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة وكلهم في الجنة ، وقوله عليه الصلاة والسّلام وكلهم إلخ عطف تفسيري. وأخرج الطبراني وابن مردويه في البعث عن أسامة بن زيد أنه قال في الآية: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم كلهم من هذه الأمة وكلهم في الجنة» وأخرج ابن النجار عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال «سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له» وأخرج العقيلي وابن مردويه والبيهقي عن عمر بن الخطاب مرفوعا نحوه. وأخرج الإمام أحمد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وابن مردويه والبيهقي عن أبي الدرداء قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول قال الله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ فأما الذين سبقوا فأولئك يدخلون الجنة بغير حساب وأما الذين اقتصدوا فأولئك الذين يحاسبون حسابا يسيرا وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك يحبسون في طول المحشر ثم هم الذين يتلقاهم الله تعالى برحمته فهم الذين يقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور» الآية قال البيهقي: إذا كثرت الروايات في حديث ظهر أن للحديث أصلا، والأخبار في هذا الباب كثيرة وفيما الجزء: 11 ¦ الصفحة: 369 ذكر كفاية، وقدم الظالم لنفسه لكثرة الظالمين لأنفسهم وعقب بالمقتصد لقلة المقتصدين بالنسبة إليهم وأخر السابق لأن السابقين أقل من القليل قاله الزمخشري، وحكى الطبرسي أن هذا الترتيب على مقامات الناس فإن أحوال العباد ثلاث معصية ثم توبة ثم قربة فإذا عصى العبد فهو ظالم فإذا تاب فهو مقتصد فإذا صحت توبته وكثرت مجاهدته فهو سابق، وقيل: قدم الظالم لئلا ييأس من رحمة الله تعالى وأخر السابق لئلا يعجب بعمله فتعين توسيط المقتصد، وقال قطب الدين: النكتة في تقديم الظالم أنه أقرب الثلاثة إلى بداية حال العبد قبل اصطفائه بإيراث الكتاب فإذا باشره الاصطفاء فمن العباد من يتأثر قليلا وهو الظالم لنفسه ومنهم من يتأثر تأثرا وسطا وهو المقتصد ومنهم من يتأثر تأثرا تاما وهو السابق، وقريب منه ما قيل: إن الاصطفاء مشكك تتفاوت مراتبه وأولها ما يكون للمؤمن الظالم لنفسه وفوقه ما يكون للمقتصد وفوق الفوق ما يكون للسابق بالخيرات فجاء الترتيب كالترقي في المراتب، وقيل: أخر السابق لتعدد ما يتعلق به فلو قدم أو وسط لبعد في الجملة ما بين الأقسام المتعاطفة ولما كان الاقتصاد كالنسبة بين الظلم والسبق اقتضى ذلك تقديم الظالم وتأخير المقتصد ليكون المقتصد بين الظالم والسابق لفظا كما هو بينهما معنى، وقد يقال: رتب هذه الثلاثة هذا الترتيب ليوافق حالهم في الذكر بالنسبة إلى ما وعدوا به من الجنات في قوله سبحانه جَنَّاتُ عَدْنٍ الآية حالهم في الحشر عند تحقق الوعد فأخر السابق الداخل في الجنان أولا ليتصل ذكره بذكر الجنات الموعود بها وذكر قبله المقتصد وجعل السابق فاصلا بينه وبين الجنات لأنه إنما يدخلها بعده فيكون فاصلا بينه وبينها في الدخول وذكر قبلهما الظالم لنفسه لأنه إنما يدخلها ويتصل بها بعد دخولهما فتأخير السابق في المعنى تقديم وتقديم الظالم في المعنى تأخير، ويحتمل ذلك أوجها أخرى تظهر بالتأمل فتأمل، وقرأ أبو عمران الجوني وعمر بن أبي شجاع ويعقوب في رواية والقزاز عن أبي عمرو «سباق» بصيغة المبالغة ذلِكَ أي ما تقدم من الإيراث والاصطفاء هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ من الله عزّ وجلّ لا دخل للكسب فيه جَنَّاتُ عَدْنٍ مبتدأ خبره قوله تعالى: يَدْخُلُونَها ويؤيده قراءة الجحدري وهارون عن عاصم «جنات» بالنصب على الاشتغال أي يدخلون جنات عدن يدخلونها واحتمال جره بدلا من الخيرات بعيد وفيه الفصل بين البدل والمبدل منه بأجنبي فلا يلتفت إليه. وضمير الجمع للذين اصطفينا أو للثلاثة. وقال الزمخشري: ذلك إشارة إلى السبق بالخيرات وجَنَّاتُ عَدْنٍ بدل من الفضل الذي هو السبق ولما كان السبق بالخيرات سببا لنيل الثواب جعل نفس الثواب إقامة للسبب مقام المسبب ثم أبدل منه وضمير الجمع للسابق لأن القصد إلى الجنس، فخص الوعد بالقسم الأخير مراعاة لمذهب الاعتزال وهو على ما سمعت للأقسام الثلاثة وذلك هو الأظهر في النظم الجليل ليطابقه قوله تعالى بعد وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ وليناسب حديث التعظيم والاختصاص المدمج في قوله سبحانه ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ وإلا فأي تعظيم في ذلك الذكر بعد أن لز أكثر المصطفين في قرن الكافرين وليناسب ذكر الغفور بعد حال الظالم والمقتصد والشكور حال السابق ولتعسف ما ذكره من الاعراب وبعده عن الذوق وكيف لا يكون الأظهر وقد فسره كذلك أفضل الرسل ومن أنزل عليه هذا الكتاب المبين على ما مر آنفا وإليه ذهب الكثير من أصحابه الفخام ونجوم الهداية بين الأنام رضي الله تعالى عنهم وعد منهم في البحر عمر وعثمان وابن مسعود وأبا الدرداء وأبا سعيد وعائشة رضي الله تعالى عنهم، وقد أخرج سعيد بن منصور والبيهقي في البعث عن البراء بن عازب أنه قال بعد أن قرأ الآية: أشهد على الله تعالى أنه يدخلهم الجنة جميعا، وأخرج غير واحد عن كعب أنه قرأ الآية إلى لُغُوبٌ فقال دخلوها ورب الكعبة، وفي لفظ كلهم في الجنة ألا ترى على أثره وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ نعم إن أريد بالظالم لنفسه الكافر يتعذر رجوع الضمير إلى ما ذكر ويتعين رجوعه إلى السابق وإليه وإلى المقتصد لأن المراد بهما الجنس لكن لا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 370 ينبغي أن يراد بعد هاتيك الأخبار، وقرأ زر بن حبيش والزهري «جنة عدن» بالأفراد والرفع وقرأ أبو عمرو «يدخلونها» بالبناء للمفعول ورويت عن ابن كثير، وقوله تعالى: يُحَلَّوْنَ فِيها خبر ثان لجنات أو حال مقدرة، وقيل: إنها لقرب الوقوع بعد الدخول تعد مقارنة وقرى «يحلون» بفتح الياء وسكون الحاء وتخفيف اللام من حليت المرأة فهي حالية إذا لبست الحلي ويقال جيد حال إذا كان عليه الحلي مِنْ أَساوِرَ جمع سوار على ما في الإرشاد، وفي القاموس السوار ككتاب وغراب القلب كالأسوار بالضم جمعه أسورة وأساور وأساورة وسور وسؤور اهـ، وإطلاق الجمع على جمع الجمع كثير فلا مخالفة، وسوار المرأة معرب كما قال الراغب وأصله دستواره، ومن للتبعيض أي يحلون بعض أساور كأنه بعض له امتياز وتفوق على سائر الأبعاض، وجوز أن تكون للبيان لما أن ذكر التحلية مما ينبىء عن الحلي المبهم، وقيل: زائدة بناء على ما يرى الأخفش من جواز زيادتها في الإثبات، وقيل: نعت لمفعول محذوف ليحلون وأنه بمعنى يلبسون ومِنْ في قوله تعالى: مِنْ ذَهَبٍ بيانية وَلُؤْلُؤاً عطف على محل مِنْ أَساوِرَ أي ويحلون فيها لؤلؤا. أخرج الترمذي والحاكم وصححه والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلّى الله عليه وسلم تلا الآية فقال: إن عليهم التيجان إن أدنى لؤلؤة منها لتضيء ما بين المشرق والمغرب ، وقيل: عطف على المفعول المحذوف أو منصوب بفعل مضمر يدل عليه يُحَلَّوْنَ أي ويؤتون لؤلؤا. وقرأ جمع من السبعة «لؤلؤ» بالجر عطفا على ذَهَبٍ أي يحلون فيها بعض أساور من مجموع ذهب ولؤلؤ بأن تنظم حبات ذهب مع حبات لؤلؤ ويتخذ من ذلك سوار كما هو معهود اليوم في بلادنا أو بأن يرصع الذهب باللؤلؤ كما يرصع ببعض الأحجار، وقيل: أي من ذهب في صفاء اللؤلؤ، وفيه ما فيه من الكدر. ولعل من يقول بأنه لا اشتراك بين ذهب الدنيا ولؤلؤها وذهب الآخرة ولؤلؤها إلا بالاسم لا يلتزم النظم ولا الترصيع كما لا يخفى، وقرىء «لؤلؤا» بتخفيف الهمزة الأولى وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ أي إبريسم محض كما في مجمع البيان، وقال الراغب: مارق من الثياب. وتغيير الأسلوب حيث لم يقل ويلبسون فيها حريرا قيل للإيذان بأن ثبوت اللباس لهم أمر محقق غني عن البيان إذ لا يمكن عراؤهم عنه وإنما المحتاج إلى البيان إن لباسهم ماذا بخلاف الأساور واللؤلؤ فإنها ليست من اللوازم الضرورية ولذا لا يلزم العدل بين الزوجات فيها فجعل بيان تحليتهم مقصورا بالذات، ولعل هذا هو الباعث على تقديم التحلية على بيان حال اللباس، وقيل: إن ذلك للدلالة على أن الحرير ثيابهم المعتادة مع المحافظة على هيئة الفواصل وليس بذاك وَقالُوا أي ويقولون. وصيغة الماضي للدلالة على التحقق الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ حزن تقلب القلب وخوف العاقبة على ما روي عن القاسم بن محمد، وقال أبو الدرداء: حزن أهوال القيامة وما يصيب من ظلم نفسه هنالك. وأخرج الحاكم وصححه: وابن أبي حاتم وغيرهما عن ابن عباس حزن النار. وقال الضحاك حزن الموت يقولون ذلك إذا ذبح الموت، وقال مقاتل: حزن الانتقال يقولون ذلك إذا استقروا فيها، وقال قتادة: حزن أن لا تنقبل أعمالهم، وقال الكلبي: خوف الشيطان، وقال سمرة بن جندب: حزن معيشة الدنيا الخبز ونحوه، وعن ابن عباس حزن الآفات والأعراض وقيل: حزن كراء الدار والأولى أن يراد جنس الحزن المنتظم لجميع أحزان الدين والدنيا والآخرة، وكل ما سمعت من باب التمثيل وقد تقدم في الحديث «إن الذين ظلموا أنفسهم هم الذين يقولون» أي بعد أن يتلقاهم الله تعالى برحمته الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إلخ فلا تغفل وقرىء الحزن بضم الحاء وسكون الزاي ذكره جناح بن حبيش إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ للمذنبين شَكُورٌ للمطيعين. وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس أنه قال في ذلك غفر لنا العظيم من ذنوبنا وشكر لنا القليل من أعمالنا، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 371 وفي الكشاف ذكر الشكور دليل على أن القوم كثير والحسنات، وكان عليه أن يقول: وذكر الغفور دليل على أنهم كثير والفرطات فينطبق على الفرق ولا ينفك النظم ولكن منعه المذهب الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ أي دار الإقامة التي لا انتقال عنها أبدا وهي الجنة مِنْ فَضْلِهِ من إنعامه سبحانه وتفضله وكرمه فإن العمل وإن كان سببا لدخول الجنة في الجملة لكن سببيته بفضل الله عزّ وجلّ أيضا إذ ليس هناك استحقاق ذاتي، ومن علم أن العمل متناه زائل وثواب الجنة دائم لا يزول لم يشك في أن الله تعالى ما أحل من أحل دار الإقامة إلا من محض فضله سبحانه وقال الزمخشري: أي من إعطائه تعالى وإفضاله من قولهم لفلان فضول على قومه وفواضل وليس من الفضل الذي هو التفضل لأن الثواب بمنزلة الأجر المستحق والتفضل كالتبرع وفيه من الاعتزال ما فيه لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ أي تعب وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ كلال وفتور وهو نتيجة النصب، وضمه إليه وتكرير الفعل المنفي للمبالغة في بيان انتفاء كل منهما كذا قال جمع من الأجلة، وقال بعضهم: النصب التعب الجسماني واللغوب التعب النفساني. وأخرج ابن جرير عن قتادة أنه فسر النصب بالوجع والكلام من باب: لا ترى الضب بها ينجحر والجملة حال من أحد مفعولي أحل. وقرأ علي كرّم الله تعالى وجهه والسلمي «لغوب» بفتح اللام ، قال الفراء: هو ما يغب به كالفطور والسحور، وجاز أن يكون صفة لمصدر محذوف أي لا يمسنا فيها لغوب لغوب نحو شعر شاعر كأنه وصف اللغوب بأنه قد لغب أي أعيى وتعب. وقال صاحب اللوامح: يجوز أن يكون مصدرا كالقبول وإن شئت جعلته صفة لمضمر أي أمر لغوب. وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ أي لا يحكم عليهم بموت ثان فَيَمُوتُوا ليستريحوا بذلك من عذابها بالكلية وإنما فسر لا يقضي بما ذكر دون لا يموتون لئلا يلغوا فيموتوا ويحتاج إلى تأويله بيستريحوا. ونصب يموتوا في جواب النفي بإضمار أن والمراد انتفاء المسبب لانتفاء السبب أي ما يكون حكم بالموت فكيف يكون الموت. وقرأ عيسى والحسن «فيموتون» بالنون عطفا كما قال أبو عثمان المازني على يُقْضى كقوله تعالى: لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ أي لا يقضى عليهم ولا يموتون وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها المعهود لهم بل كلما خبت زيد إسعارها، والمراد دوام العذاب فلا ينافي تعذيبهم بالزمهرير ونحوه، ونائب فاعل يخفف عَنْهُمْ ومن عذابها في موضع نصب ويجوز العكس، وجوز أن تكون من زائدة فيتعين رفع مجرورها على أنه النائب عن الفاعل على ما قال أبو البقاء وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو «ولا يخفف» بإسكان الفاء شبه المنفصل بالمتصل كقوله: فاليوم أشرب غير مستحقب كَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء الفظيع نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ مبالغ في الكفر أو الكفران لا جزاء أخف وأدنى منه. وقرأ أبو عمرو وأبو حاتم عن نافع «يجزى» بالياء مبنيا للمفعول و «كلّ» بالرفع على النيابة عن الفاعل وقرىء «نجازي» بنون مضمومة وألف بعد الجيم وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها افتعال من الصراخ وهو شدة الصياح والأصل يصترخون فأبدلت التاء طاء ويستعمل كثيرا في الاستغاثة لأن المستغيث يصيح غالبا، وبه فسره هنا قتادة فقال: يستغيثون فيها، واستغاثتهم بالله عزّ وجلّ بدليل ما بعده وقيل ببعضهم لحيرتهم وليس بذاك. رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ بإضمار القول أي ويقولون بالعطف أو يقولون بدونه على أنه تفسير لما قبله أو قائلين على أنه حال من ضميرهم، وتقييد العمل الصالح بالوصف المذكور للتحسر على ما عملوه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 372 من غير الصالح مع الاعتراف به والأشعار بأن استخراجهم لتلافيه فهو وصف مؤكد ولأنهم كانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعا فكأنهم قالوا: نعمل صالحا غير الذي كنا نحسبه صالحا فنعمله فالوصف مقيد. وذكر أبو البقاء أن صالِحاً وغَيْرَ الَّذِي يجوز أن يكونا صفتين لمصدر محذوف أو لمفعول محذوف وأن يكون صالِحاً نعتا لمصدر وغَيْرَ الَّذِي مفعول نَعْمَلْ وأيا ما كان فالمراد أخرجنا من النار وردنا إلى الدنيا نعمل صالحا وكأنهم أرادوا بالعمل الصالح التوحيد وامتثال أمر الرسول عليه الصلاة والسلام والانقياد له، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: نَعْمَلْ صالِحاً نقل لا إله إلا الله أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ جواب من جهته تعالى وتوبيخ لهم في الآخرة حين يقولون رَبَّنا إلخ فهو بتقدير فنقول لهم أو فيقال لهم «أو لم نعمركم» إلخ، وفي بعض الآثار أنهم يجابون بذلك بعد مقدار الدنيا، والهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام وما موصولة أو موصوفة أي ألم نمهلكم ونعمركم الذي أي العمر الذي أو عمرا يتذكر فيه من تذكر أي يتمكن فيه من أراد التذكر وتحققت منه تلك الإرادة من التذكر والتفكر. وقال أبو حيان: ما مصدرية ظرفية أي ألم نعمركم في مدة تذكر، وتعقب بأن ضمير فِيهِ يأباه لأنها لا يعود عليها ضمير إلا على نظر الأخفش فإنه يرى اسميتها وهو ضعيف، ولعله يجعل الضمير للعمر المفهوم من (نعمر) وفيه بعد. وجعل ما نافية لا يصح كما قال ابن الحاجب لفظا ومعنى، وهذا العمر على ما روي عن علي كرّم الله تعالى وجهه وأخرجه جماعة وصححه الحاكم عن ابن عباس ستون سنة ، وقد أخرج الإمام أحمد البخاري والنسائي وغيرهم عن سهل بن سعد قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم اعذر الله تعالى إلى امرئ أخر عمره حتى بلغ ستين سنة» ،- وقيل:- هو خمسون سنة» وفي رواية عن ابن عباس أنه ست وأربعون سنة، وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن الحسن أنه أربعون سنة، وفي رواية أخرى عنه أنه سن البلوغ ، وقيل: سبع عشرة سنة، وعن قتادة ثمان عشرة سنة، وعن عرم بن عبد العزيز عشرون سنة، وعن مجاهد ما بين العشرين إلى الستين، وقرأ الأعمش «ما يذكر فيه من اذكر» بالإدغام واجتلاب همزة الوصل ملفوظا بها في الدرج وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ عطف على معنى الجملة الاستفهامية فكأنه قيل: عمرناكم وجاءكم النذير فليس من عطف الخبر على الإنشاء كما في قوله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ [الشرح: 1، 2] وجوز أن يكون عطفا على نُعَمِّرْكُمْ ودخول الهمزة عليهما فلا تغفل. والمراد بالنذير على ما روي عن السدي وابن زيد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقيل: ما معه من القرآن، وقال أبو حيان: المراد جنس النذير وهم الأنبياء عليهم السّلام فكل نبي نذير أمته، ويؤيده أنه قرىء «النذر» جمعا، وعن ابن عباس وعكرمة وسفيان بن عيينة ووكيع والحسين بن الفضل والفراء والطبري هو الشيب وفي الأثر ما من شعرة تبيض إلا قالت لأختها استعدي فقد قرب الموت، ومن هنا قيل: رأيت الشيب من نذر المنايا ... لصاحبه وحسبك من نذير وقائلة تخضب يا حبيبي ... وسود شعر شيبك بالعبير فقلت لها المشيب نذير عمري ... ولست مسودا وجه النذير وقيل: الحمى، وقيل: موت الأهل والأقارب، وقيل: كمال العقل، والاقتصار على النذير لأنه الذي يقتضيه المقام، والفاء في قوله تعالى: فَذُوقُوا لترتيب الأمر بالذوق على ما قبلها من التعمير ومجيء النذير، وفي قوله سبحانه: فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ للتعليل، والمراد بالظلم هنا الكفر، قيل كان الظاهر فما لكم لكن عدل إلى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 373 المظهر لتقريعهم، والمراد استمرار نفي أن يكون لهم نصير يدفع عنهم العذاب إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي كل غيب فيهما أي لا يخفى عليه سبحانه خافية فيهما فلا تخفى عليه جل شأنه أحوالهم التي اقتضت الحكمة أن يعاملوا بها هذه المعاملة ولا يخرجوا من النار، وقرأ جناح بن حبيش «عالم» بالتنوين «غيب» بالنصب على المفعولية لعالم إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ قيل إنه تعليل لما قبله لأنه تعالى إذا علم مضمرات الصدور وهي أخفى ما يكون كان عزّ وجلّ أعلم بغيرها، وفيه نوع خفاء، وقال الإمام: إن قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ إلخ تقرير لدوامهم في العذاب مع أنهم ما كفروا إلا أياما معدودة فكأن سائلا يسأل عن وجه ذلك فقيل: إن الله تعالى لا يخفى عليه غيب السماوات والأرض فلا يخفى عليه ما في الصدور فكان يعلم سبحانه من الكافر أن الكفر قد تمكن في قلبه بحيث لو دام إلى الأبد لما أطاع الله تعالى ولا عبده انتهى، وظاهره أن الجملة الأولى تعليل للثانية على عكس ما قيل، ويمكن أن يقال: إن قوله تعالى: فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ متضمن نفي أن يكون لهم نصير على سبيل الاستمرار ومستدع خلودهم في العذاب فكان مظنة أن يقال: كيف ينفي ذلك على سبيل الاستمرار والعادة في الشاهد قاضية بوجود نصير لمن تطول أيام عذابه فأجيب بأن الله عالم غيب السماوات والأرض على معنى أنه تعالى محيط بالأشياء علما فلو كان لهم نصير في وقت من الأوقات لعلمه ولما نفي ذلك على سبيل الاستمرار، وكذا مظنة أن يقال: كيف يخلدون في العذاب وهم قد ظلموا في أيام معدودة؟ فأجيب بأنه عليم بذات الصدور على معنى أنه تعالى يعلم ما انطوت عليه ضمائرهم فيعلم أنهم صمموا على ما هم فيه من الضلال والكفر إلى الأبد فكل من الجملتين مستأنف استئنافا بيانيا فتأمل هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ ملقى إليكم مقاليد التصرف والانتفاع بما فيها أو جعلكم خلفاء ممن قبلكم من الأمم وأورثكم ما بأيديكم من متاع الدنيا لتشكروه بالتوحيد والطاعة أو جعلكم بدل من كان قبلكم من الأمم الذين كذبوا الرسل فهلكوا فلم تتعظوا بحالهم وما حل بهم من الهلاك، والخطاب قيل عام، واستظهره في البحر، وقيل: لأهل مكة، والخلائف جمع خليفة وقد اطرد جمع فعيلة على فعائل وأما الخلفاء فجمع خليف ككريم وكرماء، وجوز الواحدي كونه جمع خليفة أيضا وهو خلاف المشهور فَمَنْ كَفَرَ منكم مثل هذه النعمة السنية وغمطها أو فمن استمر على الكفر وترك الإيمان بعد أن لطف به وجعل له ما ينبهه على ما يترتب على ذلك فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي وبال كفره وجزاؤه لا على غيره. وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً أشد الاحتقار والبغض والغضب. وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً في الآخرة وجملة وَلا يَزِيدُ إلخ بيان وتفسير لقوله سبحانه فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ولزيادة تفصيله نزل منزلة المغاير له ولولا ذلك لفصل عنه، والتكرير لزيادة التقرير والتنبيه على أن اقتضاء الكفر لكل واحد واحد من الأمرين الأمرين المقت والخسارة مستقل باقتضاء قبحه ووجوب التجنب عنه بمعنى أنه لو لم يكن الكفر مستوجبا لشيء سوى مقت الله تعالى لكفى ذلك في قبحه وكذا لو لم يستوجب شيئا سوى الخسار لكفى قُلْ تبكيتا لهم أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي آلهتكم، والإضافة إليهم لأدنى ملابسة حيث إنهم هم الذين جعلوهم شركاء الله تعالى واعتقدوهم كذلك من غير أن يكون له أصل ما أصلا. وقيل: الإضافة حقيقية من حيث إنهم جعلوهم شركاء لأنفسهم فيما يملكونه أو جعلهم الله تعالى شركاء لهم في النار كما قال سبحانه: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ والصفة عليهما مقيدة لا مؤكدة، وسياق النظم الكريم وسباقه ظاهر أن فيما تقدم أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ بدل اشتمال من أَرَأَيْتُمْ لأنه بمعنى أخبروني كأنه قيل: أخبروني عن شركائكم أروني أي جزء خلقوا من الأرض حتى يستحقوا الإلهية والشركة. وجوز أن يكون بدل كل، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 374 وقال أبو حيان: لا تجوز البدلية لأنه إذا أبدل مما دخل عليه الاستفهام فلا بدّ من دخول الأداة على البدل، وأيضا إبدال الجملة من الجملة لم يعهد في لسانهم ثم البدل على نية تكرار العامل ولا يتأتى ذلك هاهنا لأنه لا عامل لأرأيتم ثم قال: والذي أذهب إليه أن أَرَأَيْتُمْ بمعنى أخبروني وهي تطلب مفعولين أحدهما منصوب والآخر مشتمل على الاستفهام كقول العرب أرأيت زيدا ما صنع فالأول هنا شُرَكاءَكُمُ والثاني ماذا خَلَقُوا وأَرُونِي جملة اعتراضية فيها تأكيد للكلام وتسديد، ويحتمل أن يكون ذلك أيضا من باب الأعمال لأنه توارد على ماذا خَلَقُوا أرأيتم. وأروني لأن أروني قد تعلق عن مفعولها الثاني كما علقت رأى التي لم تدخل عليها همزة النقل عن مفعولها في قولهم: أما ترى أي برق هاهنا ويكون قد أعمل الثاني على المختار عند البصريين فانتهى، وما ذكره احتمال في الآية الكريمة كما أن ما ذكر أولا احتمال وما قاله في رده ليس بشيء، أما الأول فلأن لزوم دخول الأداة على البدل فيما إذا كان الاستفهام باق على معناه أما إذا نسخ عنه كما هنا فليس ذلك بلازم، وأما الثاني فلأن أهل العربية والمعاني نصوا على خلافه وقد ورد في كلام العرب كقوله: أقول له ارحل لا تقيمن عندنا ... وإلا فكن في السر والجهر مسلما وأما الثالث فلأن كون البدل على نية تكرار العامل إنما هو كما نقل الخفاجي عنهم في بدل المفردات. وليس لك أن تقول العامل هنا موجود وهو قُلْ لأن العبرة بالمقول ولا عامل فيه إذ يقال وهو ظاهر، وجوز أن لا يكون أَرَأَيْتُمْ بمعنى أخبروني بل المراد حقيقة الاستفهام عن الرؤية وأروني أمر تعجيز للتبيين أي أعلمتم هذه التي تدعونها ما هي وعلى ما هي عليه من العجز أو تتوهمون فيها قدرة فإن كنتم تعلمونها عاجزة فكيف تعبدونها أو كنتم توهمتم فيها قدرة فأروني أثرها، وما تقدم أظهر أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أي بل ألهم شركة مع الله عزّ وجلّ في خلق السماوات حتى يستحقوا ما زعمتم فيهم، وقال بعضهم: الأولى أن لا يقدر مضاف على أن المعنى أم لهم شركة معه سبحانه في السماوات خلقا وإبقاء وتصرفا لأن المقصود نفي آيات الإلهية عن الشركاء وليست محصورة في الخلق والتقدير أوفق بما قبله، والكلام قيل من باب التدرج من الاستقلال إلى الشركة ثم منها إلى حجة وبينة مكتوبة بالشركة كأنه قيل: أخبروني عن الذين تدعون من دون الله هل استبدوا بخلق شيء من الأرض حتى يكونوا معبودين مثل الله تعالى بل ألهم شركة معه سبحانه في خلق السماوات أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً أي بل آتيناهم كتابا ينطق بأنا اتخذناهم شركاء فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ أي حجة ظاهرة من ذلك الكتاب بأن لهم شركة معنا. وقال في الكشف: الظاهر أن الكلام مبني على الترقي في إثبات الشركة لأن الاستبداد بخلق جزء من الأرض شركة ما معه عزّ وجلّ والاشتراك معه سبحانه في خلق السماوات أدل على إثباتها ثم إيتاء كتاب منه تعالى على أنهم شركاؤه أدل وأدل، وقيل: هم في آتَيْناهُمْ للمشركين وكذا في- فهم- كما في قوله تعالى: أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً [الروم: 35] إلخ ففي الكلام التفات من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة إعراضا عن المشركين وتنزيلا لهم منزلة الغيب. والمعنى أن عبادة هؤلاء إما بالعقل ولا عقل يحكم بصحة عبادة من لا يخلق جزءا ما من الأرض دلالة شرك في السماء وإما بالنقل ولم نؤت المشركين كتابا فيه الأمر بعبادة هؤلاء، وفيه تفكيك للضمائر، وقال بعضهم: ضمير آتَيْناهُمْ للشركاء كالضمائر السابقة وضمير فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ للمشركين وأَمْ منقطعة للإضراب عن الكلام السابق وزعم أن لا التفات حينئذ ولا تفكيك فتأمل. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 375 وقرأ نافع وابن عامر ويعقوب وأبو بكر «على بينات» بالجمع فيكون إيماء إلى أن الشرك خطير لا بدّ فيه من تعاضد الدلائل وهو ضرب من التهكم بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً لما نفي سبحانه ما نفي من الحجج في ذلك أضرب عزّ وجلّ عنه بذكر ما حملهم على الشرك وهو تقرير الأسلاف للأخلاف وإضلال الرؤساء للأتباع بأنهم شفعاء عند الله تعالى يشفعون لهم بالتقرب إليهم، والآية عند الكثير في عبدة الأصنام وحكمها عام، وقيل: في عبدة غير الله عزّ وجلّ صنما كان أو ملكا أو غيرهما. إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا استئناف مقرر لغاية قبح الشرك وهو له أي إن الله تعالى يحفظ السماوات والأرض كراهة زوالهما أو لئلا تزولا وتضمحلا فإن الممكن كما يحتاج إلى الواجب سبحانه حال إيجاده يحتاج إليه حال بقائه، وقال الزجاج: يُمْسِكُ بمعنى يمنع وأَنْ تَزُولا مفعوله على الحذف والإيصال لأنه يتعدى بمن أي يمنعهما من أن تزولا، وفي البحر يجوز أن يكون أن تزولا بدل اشتمال من السماوات والأرض أي يمنع سبحانه زوال السماوات والأرض، وفسر بعضهم الزوال بالانتقال عن المكان أي إن الله تعالى يمنع السماوات من أن تنتقل عن مكانها فترتفع أو تنخفض ويمنع الأرض أيضا من أن تنتقل كذلك، وفي أثر أخرجه عبد بن حميد وجماعة عن ابن عباس ما يقتضيه، وقيل: زوالهما دورانهما فهما ساكنتان والدائرة بالنجوم أفلاكها وهي غير السماوات، فقد أخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وعبد بن حميد عن شقيق قال: قيل لابن مسعود إن كعبا يقول: إن السماء تدور في قطبة مثل قطبة الرحى في عمود على منكب ملك فقال: كذب كعب إن الله تعالى يقول: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وكفى بها زوالا أن تدور، والمنصور عند السلف أن السماوات لا تدور وأنها غير الأفلاك، وكثير من الإسلاميين ذهبوا إلى أنها تدور وأنها ليست غير الأفلاك، وأما الأرض فلا خلاف بين المسلمين في سكونها والفلاسفة مختلفون والمعظم على السكون، ومنهم من ذهب إلى أنها متحركة وأن الطلوع والغروب بحركتها ورد ذلك في موضعه، والأولى في تفسير الآية ما سمعت أولا وكذا كونها مسوقة لما ذكرنا، وقيل إنه تعالى لما بين فساد أمر الشركاء ووقف على الحجة في بطلانها عقب بذلك عظمته عزّ وجلّ وقدرته سبحانه ليتبين الشيء بضده وتتأكد حقارة الأصنام بذكر عظمة الله عزّ وجلّ وَلَئِنْ زالَتا أي إن أشرفتا على الزوال على سبيل الفرض والتقدير، ويؤيده قراءة ابن أبي عبلة «ولو زالتا» وقيل إن ذلك إشارة إلى ما يقع يوم القيامة من طي السماوات ونسف الجبال. إِنْ أَمْسَكَهُما أي ما أمسكهما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد إمساكه تعالى أو من بعد الزوال، والجملة جواب القسم المقدر قبل لام التوطئة في «لئن» وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، وأمسك بمعنى يمسك كما في قوله تعالى: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ [البقرة: 145] ومن الأول مزيدة لتأكيد العموم والثانية للإبتداء إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً فلذا حلم على المشركين وغفر لمن تاب منهم مع عظم جرمهم المقتضي لتعجيل العقوبة وعدم إمساك السماوات والأرض وتخريب العالم الذي هم فيه فلا يتوهم أن إلمام يقتضي ذكر القدرة لا الحلم والمغفرة وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أي حلفوا واجتهدوا في الحلف أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ الضمائر لقريش، وذلك أنهم بلغهم قبل مبعث النبي صلّى الله عليه وسلم أن طائفة من أهل الكتاب كذبوا رسلهم فقالوا: لعن الله تعالى اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم فو الله لئن جاءنا رسول لنكونن أهدى من إحدى الأمم فكان منهم بعد ما كان فأنزل الله تعالى هذه الآية لَئِنْ جاءَهُمْ جاء على المعنى وإلا فهم قالوا: «جاءنا» وكذا «ليكونن» وإحدى بمعنى واحدة، والظاهر أنها عامة وإن كانت نكرة في الإثبات لاقتضاء المقام العموم، وتعريف الْأُمَمِ للعهد والمراد الأمم الذين كذبوا رسلهم أي لئن جاءنا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 376 نذير لنكونن أهدى من كل واحدة من الأمم اليهود والنصارى وغيرهم فتؤمن جميعا ولا يكذب أحد منا أو المعنى لنكونن أهدى من أمة يقال فيها إحدى الأمم تفضيلا لها على غيرها من الأمم كما يقال هو واحد القوم وواحد عصره وكما قالوا هو أحد الأحدين وهي إحدى الأحد يريدون التفضيل في الدعاء والعقل، قال الشاعر: حتى استشاروا بي إحدى الأحد ... ليثا هزبرا ذا سلاح معتمد وقد نص ابن مالك في التسهيل على أنه قد يقال لما يستعظم مما لا نظير له هو إحدى الأحد لكن قال الدماميني في شرحه: إنما ثبت استعماله في إحدى ونحوه المضاف إلى جمع مأخوذ من لفظه كإحدى الأحد وأحد الأحدين أو المضاف إلى وصف كأحد العلماء وإحدى الكبر أما في المضاف إلى أسماء الأجناس كالأمم فيحتاج إلى نقل، وبحث فيه بأنه قد ثبت استعمال إحدى في الاستعظام من دون إضافة أصلا فإنهم يقولون للداهية العظيمة هي إحدى من سبع أي إحدى الليالي عاد في الشدة وشاع واحد قومه وأوحدهم وأوحد أمه ولم يظهر فارق بين المضاف إلى الجمع المأخوذ من اللفظ والمضاف إلى الوصف وبين المضاف إلى أسماء الأجناس ولا أظن أن مثل ذلك يحتاج إلى نقل فليتدبر. وقال صاحب الكشف: إن دلالة إِحْدَى الْأُمَمِ على التفضيل ليست بواضحة بخلاف واحد القوم ونحوه ثم وجهها أنه على أسلوب. أو يرتبط بعض النفوس حمامها. يعني أن البعض المبهم قد يقصد به التعظيم كالتنكير فإحدى مثله، وفيه أنه متى ثبت استعماله للإستعظام كانت دلالته على التفضيل في غاية الوضوح. فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ وأي نذير وهو أشرف الرسل محمد صلّى الله عليه وسلم كما روي عن ابن عباس وقتادة وهو الظاهر، وعن مقاتل هو انشقاق القمر وهو أخفى من السها والمقام عنه يأبى ما زادَهُمْ أي النذير أو مجيئه إِلَّا نُفُوراً تباعدا عن الحق وهربا منه، وإسناد الزيادة إلى ذلك مجاز لأنه هو السبب لها. والجملة جواب لها. واستدل بالآية على حرفيتها المكان النفي المانع عن عمل ما بعده فيها، وفيه بحث، وقوله تعالى: اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ بدل من نُفُوراً وقال أبو حيان: الظاهر أنه مفعول من أجله، ونقل الأول عن الأخفش، وقيل: هو حال أي مستكبرين وَمَكْرَ السَّيِّئِ هو الخداع الذي يرومونه برسول الله صلّى الله عليه وسلم والكيد له، وقال قتادة هو الشرك وروى ذلك عن ابن جريج، وهو عطف على اسْتِكْباراً وأصل التركيب وأن مكروا السيّء على أن السَّيِّئِ صفة لموصوف مقدر أي المكر المسيء ثم أقيم المصدر مقام أن والفعل وأضيف إلى ما كان صفة، وجوز أن يكون عطفا على نُفُوراً وقرأ الأعمش وحمزة «السيّء» بإسكان الهمزة في الوصل إجراء له مجرى الوقف أو لتوالي الحركات وإجراء المنفصل مجرى المتصل، وزعم الزجاج أن هذه القراءة لحن لما فيها من حذف الإعراب كما قال أبو جعفر. وزعم محمد بن يزيد أن الحذف لا يجوز في نثر ولا شعر لأن حركات الإعراب دخلت للفرق بين المعاني، وقد أعظم بعض النحويين أن يكون الأعمش قرأ بها، وقال: إنما كان يقف على هذه الكلمة فغلط من أدى عنه، والدليل على هذا أنها تمام الكلام ولذا لم يقرأ في نظيرها كذلك مع أن الحركة فيه أثقل لأنها ضمة بين كسرتين، والحق أنها ليست بلحن، وقد أكثر أبو علي في الحجة من الاستشهاد والاحتجاج للإسكان من أجل توالي الحركات والوصل بنية الوقف، وقال ابن القشيري: ما ثبت بالاستفاضة أو التواتر أنه قرىء به فلا بدّ من جوازه ولا يجوز أن يقال لحن، ولعمري أن الإسكان هاهنا أحسن من الإسكان في بارِئِكُمْ [البقرة: 54] كما في قراءة أبي عمرو، وروي عن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 377 ابن كثير «ومكر السأي» بهمزة ساكنة بعد السين وياء بعدها مكسورة وهو مقلوب السيّء المخفف من السيّء كما قال الشاعر: ولا يجزون من حسن بسيىء ... ولا يجزون من غلظ بلين وقرأ ابن مسعود «مكرا سيئا» عطف نكرة على نكرة وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ أي لا يحيط إِلَّا بِأَهْلِهِ. وقال الراغب: أي لا يصيب ولا ينزل، وأيا ما كان فهو إنما ورد فيما يكره، وزعم بعضهم أن أصل حاق حق فجيء بدل أحد المثلين بالألف نحو ذم وذام وزل وزال، وهذا من إرسال المثل ومن أمثال العرب: من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا، وعن كعب أنه قال لابن عباس: قرأت في التوراة من حفر مغواة وقع فيها قال: أنا وجدت ذلك في كتاب الله تعالى فقرأ الآية، وفي الخبر «لا تمكروا ولا تعينوا ماكرا فإن الله تعالى يقول ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله ولا تبغوا ولا تعينوا باغيا فإن الله سبحانه يقول إنما بغيكم على أنفسكم» وقد حاق مكر هؤلاء بهم يوم بدر. والآية عامة على الصحيح والأمور بعواقبها والله تعالى يمهل ولا يهمل ووراء الدنيا الآخرة وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، وبالجملة من مكر به غيره ونفذ فيه المكر عاجلا في الظاهر ففي الحقيقة هو الفائز والماكر هو الهالك، أسأل الله تعالى بحرمة حبيبه الأعظم صلّى الله عليه وسلم أن يدفع ويرفع عنا مكر الماكرين وأن يعاملهم في الدارين بعدله إنه سبحانه القوي المتين. وقرىء «ولا يحيق» بضم الياء «المكر السيء» بالنصب على أنه يحيق من أحاق المتعدي وفاعله ضمير راجع إليه تعالى والْمَكْرُ مفعوله فَهَلْ يَنْظُرُونَ أي ما ينتظرون، وهو مجاز بجعل ما يستقبل بمنزلة ما ينتظر ويتوقع إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ أي إلا سنة الله تعالى فيهم بتعذيب مكذبيهم. فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا بأن يضع سبحانه موضع العذاب وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا بأن ينقل عذابه من المكذبين إلى غيرهم، والفاء لتعليل ما يفيده الحكم بانتظارهم العذاب من مجيئه، ونفي وجدان التبديل والتحويل عبارة عن نفي وجودهما بالطريق البرهاني، وتخصيص كل منهما بنفي مستقل لتأكيد انتفائهما، والخطاب عام أو خاص به عليه الصلاة والسلام. أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ استشهاد على ما قبله من جريان سنة الله تعالى على تعذيب المكذبين بما يشاهدونه في مسايرهم ومتاجرهم في رحلتهم إلى الشام واليمن والعراق من آثار الأمم الماضية وعلامات هلاكهم، والهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر يليق بالمقام على رأي أي أقعدوا ولم يسيروا، وقوله تعالى وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً في موضع الحال بتقدير قد أو بدونها. وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ أي ليس من شأنه عز شأنه أن يسبقه ويفوته مِنْ شَيْءٍ أي شيء ومن لاستغراق الأشياء فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ هو نظير. لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً [الكهف: 49] والواو حالية أو عاطفة. وفي الإرشاد الجملة اعتراض مقرر لما يفهم مما قبله من استئصال الأمم السالفة، وظاهره أن الواو اعتراضية. إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً مبالغا في العلم والقدرة، والجملة تعليل لنفي الإعجاز وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ جميعا بِما كَسَبُوا فعلوا من السيئات كما وأخذ أولئك ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها أي ظهر الأرض وقد سبق ذكرها في قوله تعالى: فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ فليس من الإضمار قبل الذكر كما زعمه الرضي، وظهر الأرض مجاز عن ظاهرها كما قال الراغب. وغيره، وقيل: في الكلام استعارة مكنية تخييلية والمراد ما ترك عليها مِنْ دَابَّةٍ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 378 أي من حيوان يدب على الأرض لشؤم المعاصي، وقد قال سبحانه: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: 25] وهو المروي عن ابن مسعود، وقيل: المراد بالدابة الإنس وحدهم وأيد بقوله تعالى: وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو يوم القيامة فإن الضمير للناس لأنه ضمير العقلاء ويوم القيامة الأجل المضروب لبقاء نوعهم، وقيل: هو لجميع من ذكر تغليبا ويوم القيامة الأجل المضروب لبقاء جنس المخلوقات فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً فيجازي المكلفين منهم عند ذلك بأعمالهم إن شرا فشر وإن خيرا فخير، وجملة فَإِنَّ اللَّهَ إلخ موضوعة موضع الجزاء والجزاء في الحقيقة يجازي كما أشرنا إليه، هذا والله تعالى هو الموفق للخير ولا اعتماد إلا عليه. ومن باب الإشارة الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إشارة إلى إيجاد عالمي اللطافة والكثافة وإلى أن إيجاد عالم اللطافة مقدم على إيجاد عالم الكثافة، ويشير إلى ذلك ما شاع خلق الله تعالى الأرواح قبل الأبدان بأربعة آلاف سنة جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا في إيصال أوامره إلى من يشاء من عباده أو وسائط تجري إرادته سبحانه في مخلوقاته على أيديهم أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ إشارة إلى اختلافهم في الاستعداد يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ عام في الملك وغيره، وفسرت الزيادة بهبة استعداد رؤيته عزّ وجلّ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ الزيادة المشار إليها وغيرها فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ فيه إشارة إلى أن رحمته سبحانه سبقت غضبه عزّ وجلّ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ تسلية لحبيبه صلّى الله عليه وسلم وإرشاد لورثته إلى الصبر على إيذاء أعدائهم لهم وتكذيبهم إياهم وإنكارهم عليهم وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها جرت سنته تعالى في إحياء الأرض بهذه الكيفية كذلك إذا أراد سبحانه إحياء أرض القلب فيرسل أولا رياح الإرادة فتسير سحاب المحبة ثم يأتي مطر الجود والعناية فينبت في القلب رياحين الروح وأزهار البسط ونوار الأنوار ويطيب العيش. مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إشارة إلى أن العزة الحقيقية لا تحصل بدون الفناء، ولا تغفل عن حديث: «لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل» إلخ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ وهو أبعد المخلوقات من الحضرة وأسفلها وأكثفها ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ وفيها نوع ما من اللطافة ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً إشارة إلى ما حصل لهم من ازدواج الروح اللطيف العلوي والقالب الكثيف السفلي وهو مبدأ استعداد لوقوف على عوالم الغيب والشهادة وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ قيل أي بحر العلم الوهبي وبحر العلم الكسبي هذا أي بحر العلم الوهبي عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ لخلوه عن عوارض الشكوك والأوهام وَهذا أي بحر العلم الكسبي مِلْحٌ أُجاجٌ لما فيه من مشقة الفكر ومرارة الكسب وعروض الشكوك والتردد والاضطراب وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا إشارات لطيفة تتغذون بها وتتقوون على الأعمال وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وهي الأخلاق الفاضلة والآداب الجميلة والأحوال المستحسنة التي تكسب صاحبها زينة وَتَرَى الْفُلْكَ سفن الشريعة والطريقة فِيهِ مَواخِرَ جارية لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ بالوصول إلى حضرته عزّ وجلّ فعل ذلك يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ في سائر شؤونكم، ومراتب الفقر متفاوتة وكلما ازداد الإنسان قربا منه عزّ وجلّ ازداد فقره إليه لازدياد المحبة حينئذ وكلما زاد العشق زاد فقر العاشق إلى المعشوق حتى يفنى وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ فيه من البشارة ما فيه إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ أي العلماء به تعالى وبشؤونه فهم كلما ازدادوا علما ازدادوا خشية لما يظهر لهم من عظمته عزّ وجلّ وأنهم بالنسبة إليه تعالى شأنه لا شيء ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 379 وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ قيل: الظالم لنفسه السالك والمقتصد السالك المجذوب والسابق المجذوب السالك، والسالك هو المتقرب والمجذوب هو المقرب والمجذوب السالك هو المستهلك في كمالات القرب الفاني عن نفسه الباقي بربه عزّ وجلّ: وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ حزن تخيل الهجر فلا حزن للعاشق أعظم من حزن تخيل هجر معشوقه له وجفوته إياه إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ فلا بدع إذا أذهب عنا ذلك وآمننا من القطيعة والهجران الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ هو نصب الأبدان وتعبها من أعمال الطاعة للتقرب إليه سبحانه وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ هو لغوب القلوب واضطرابها من تخيل القطيعة والرد وهجر الحبيب، وقيل: لا يمسنا فيها نصب السعي في تحصيل أي أمر أردناه ولا يمسنا فيها لغوب تخيل ذهاب أي مطلوب حصلناه، وقد أشاروا إلى أن كل ذلك من فضل الله تعالى والله عزّ وجلّ ذو الفضل العظيم، هذا ونسأل الله تعالى من فضله الحلو ما تنشق منه مرارة الحسود وينفطر به قلب كل عدو وينتعش فؤاد كل محب ودود الجزء: 11 ¦ الصفحة: 380 صح من حديث الإمام أحمد وأبي داود والنسائي وابن ماجة والطبراني وغيرهم عن معقل بن يسار أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: يس قلب القرآن وعد ذلك أحد أسمائها ، وبين حجة الإسلام الغزالي عليه الرحمة وجه إطلاق ذلك عليها بأن المدار على الإيمان وصحته بالاعتراف بالحشر والنشر وهو مقرر فيها على أبلغ وجه وأحسنه ولذا شبهت بالقلب الذي به صحة البدن وقوامه واستحسنه الإمام الرازي، وأورد على ظاهره أن كل ما يجب الإيمان به لا يصح الإيمان بدونه فلا وجه لاختصاص الحشر والنشر بذلك. وأجيب بأن المراد بالصحة في كلام الحجة ما يقابل السقم والمرض ولا شك أن من صح إيمانه بالحشر يخاف من النار ويغرب في الجنة دار الأبرار فيرتدع عن المعاصي التي هي كأسقام الإيمان إذ بها يختل ويضعف ويشتغل بالطاعات التي هي كحفظ الصحة ومن لم يقو إيمانه به كان حاله على العكس فشابه الاعتراف به بالقلب الذي بصلاحه يصلح البدن وبفساده يفسد، وجوز أن يقال وجه الشبه بالقلب أن به صلاح البدن وفساده وهو غير مشاهد في الحس وهو محل لانكشاف الحقائق والأمور الخفية وكذا الحشر من المغيبات وفيه يكون انكشاف الأمور والوقوف على حقائق المقدور وبملاحظته وإصلاح أسبابه تكون السعادة الأبدية وبالإعراض عنه وإفساد أسبابه يبتلي بالشقاوة السرمدية. وفي الكشف لعل الإشارة النبوة في تسمية هذه السورة قلبا وقلب كل شيء لبه وأصله الذي ما سواه إما من مقدماته وإما من متمماته إلى ما أسفلناه في تسمية الفاتحة بأم القرآن من أن المقصود من إرسال الرسل وإنزال الكتب إرشاد العباد إلى غايتهم الكمالية في المعاد وذلك بالتحقق والتخلق المذكورين هنالك وهو المعبر عنه بسلوك الصراط المستقيم ومدار هذه السورة الكريمة على بيان ذلك أتم بيان اهـ. ويعلم منه وجه اختصاص الحشر بما ذكر في كلام الحجة فلا وجه لقول البعض في الاعتراض عليه فلا وجه إلخ، وسيأتي إن شاء الله تعالى آخر الكلام في تفسير السورة الإشارة إلى ما اشتملت عليه من أمهات علم الأصول والمسائل المعتبرة بين الفحول وتقريرها إياها بأبلغ وجه وأتمه، ولعل هذا هو السر في الأمر الوارد في صحيح الأخبار بقراءتها على الموتى أي المحتضرين، وتسمى أيضا العظيمة عند الله تعالى. أخرج أبو نصر السجزي في الإبانة وحسنه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن في القرآن لسورة تدعى العظيمة عند الله تعالى ويدعى صاحبها الشريف عند الله تعالى يشفع صاحبها يوم القيامة في أكثر من ربيعة ومضر وهي سورة يس وذكر أنها تسمى أيضا المعمة والمدافعة القاضية» . أخرج سعيد بن منصور والبيهقي عن حسان بن عطية أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «سورة يس تدعى في التوراة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 381 المعمة تعم صاحبها بخير الدنيا والآخرة وتكابد عنه بلوى الدنيا والآخرة وتدفع عنه أهاويل الدنيا والآخرة، وتدعى المدافعة القاضية تدفع عن صاحبها كل سوء وتقضي له كل حاجة» الخبر (1) وتعقبه البيهقي فقال: تفرد به محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الجدعاني عن سليمان بن دفاع وهو منكر، وهي على ما أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس مكية، واستثنى منها بعضهم قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى الآية مدعيا أنها نزلت بالمدينة لما أراد بنو سلمة النقلة إلى قرب مسجد النبي صلّى الله عليه وسلم وكانوا في ناحية المدينة فقال عليه الصلاة والسلام: «إن آثاركم تكتب» فلم ينتقلوا، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما قيل في ذلك وقوله سبحانه: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ الآية لأنها نزلت في المنافقين فتكون مدنية. وتعقب بأنه لا صحة له، وآيها ثلاث وثمانون آية في الكوفي واثنتان وثمانون في غيره، وجاء مما يشهد بفضلها وعلو شأنها عدة أخبار وآثار وقد مر آنفا بعض ذلك، وصح من حديث معقل بن يسار لا يقرؤوها عبد يريد الله تعالى والدار الآخرة إلا غفر له ما تقدم من ذنبه. وأخرج الترمذي والدارمي من حديث أنس «من قرأ يس كتب الله تعالى له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات» ولا يلزم من هذا تفضيل الشيء على نفسه إذ المراد بقراءة القرآن قراءته دون يس، وقال الخفاجي: لا يلزم ذلك إذ يكفي في صحة التفضيل المذكور التغاير الاعتباري فإن يس من حيث تلاوتها فردة غير كونها مقروءة في جملته كما إذا قلت: الحسناء في الحلة الحمراء أحسن منها في البيضاء وقد يكون للشيء مفردا ما ليس له مجموعا مع غيره كما يشاهد في بعض الأدوية ورجا أن يكون أقرب مما قدمنا وأنا لا أرجو ذلك، والظاهر أنه يكتب له الثواب المذكور مضاعفا أي كل حرف بعشرة حسنات ولا بدع في تفضيل العمل القليل على الكثير فلله تعالى أن يمن بما شاء على من شاء، ألا ترى ما صح أن هذه الأمة أقصر الأمم أعمارا وأكثرها ثوابا وأنكر الخصوصيات مكابرة، ولله تعالى در من قال: فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال وذكر بعضهم أن من قرأها أعطي من الأجر كمن قرأ القرآن اثنتين وعشرين مرة. وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أبي قلابة- وهو من كبار التابعين- أن من قرأها فكأنما قرأ القرآن إحدى عشرة مرة. وعن أبي سعيد أنه قال من قرأ يس مرة فكأنما قرأ القرآن مرتين. وحديث العشر مرفوع عن ابن عباس ومعقل بن يسار وعقبة بن عامر وأبي هريرة وأنس رضي الله تعالى عنهم فعليه المعول، ووجهه اتصالها بما قبلها على ما قاله الجلال السيوطي أنه لما ذكر في سورة [فاطر: 37، 42] قوله سبحانه: وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ وقوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ إلى قوله سبحانه: فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ وأريد به محمد صلّى الله عليه وسلم وقد أعرضوا عنه وكذبوه افتتح هذه السورة بالإقسام على صحة رسالته عليه الصلاة والسلام وأنه على صراط مستقيم لينذر قوما ما أنذر آباؤهم وقال سبحانه في [فاطر: 13] وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ وفي هذه السورة وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ... وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ [يس: 38] إلى غير ذلك ولا يخفى أن أمر المناسبة يتم على تفسير النذير بغيره صلّى الله عليه وسلم أيضا فتأمل.   (1) وأخرج الخطيب عن أنس مثله اهـ منه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 382 سورة يس بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يس الكلام فيه كالكلام في الم ونحوه من الحروف المقطعة في أوائل السور إعرابا ومعنى عند كثير. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس أنه قال: يس يا إنسان. وفي رواية أخرى عنه زيادة بالحبشية وفي أخرى عنه أيضا في لغة طيّ. قال الزمخشري: إن صح هذا فوجهه أن يكون أصله يا أنيسين فكثر النداء به على ألسنتهم حتى اقتصروا على شطره كما في القسم م الله في أيمن الله. وتعقبه أبو حيان بأن المنقول عن العرب في تصغير إنسان أنيسيان بياء قبل الألف وهو دليل على أن الإنسان من النسيان وأصله أنسيان فلما صغر رده التصغير إلى أصله ولا نعلمهم قالوا في تصغيره أنيسين، وعلى تقدير أنه بقية أنيسين فلا يجوز ذلك إلا أن يبنى على الضم ولا يبقى موقوفا لأنه منادى مقبل عليه ومع ذلك لا يجوز التصغير في أسماء الأنبياء عليهم السّلام كما لا يجوز في أسماء الله عزّ وجلّ، وما ذكره في- م- من أنه شطر أيمن قول، ومن النحويين من يقول- م- حرف قسم وليس شطر أيمن انتهى. قال الخفاجي: لزوم البناء على الضم مما لا كلام فيه فلعل من فسره بذلك يقرؤه بالضم على الأوجه فيه، وأما الجزء: 11 ¦ الصفحة: 383 الاعتراضان الآخران فلا ورود لهما أصلا، فأما الأول فلأن من يقول أنيسيان على خلاف القياس وهو الأصح لا يلزمه فيما غير منه أن يقدره كذلك وهو لم يلفظ به حتى يقال له: إنك نطقت بما لم تنطق به العرب بل هو أمر تقديري، فإذا قال: المقدر مفروض عندي على القياس هل يتوجه عليه السؤال، وأما الأخير فلأن التصغير في نحو ذلك إنما يمتنع منا وأما من الله تعالى فله سبحانه أن يطلق على نفسه عزّ وجلّ وعظماء خلقه ما أراد ويحمل حينئذ على ما يليق كالتعظيم والتحبيب ونحوه من معاني التصغير كما قال ابن الفارض: ما قلت حبيبي من التحقير ... بل يعذب اسم الشيء بالتصغير والذي قاله أبو حيان في توجيه ذلك أنهم يقولون إيسان بمعنى إنسان ويجمعون على أياسين فهذا منه ولا يخفى أنه يحتاج إلى إثبات وبعده لا يخفى ما في التخريج عليه، وقالت فرقة: يا حرف نداء والسين مقامة مقام إنسان انتزع منه حرف فأقيم مقامه، ونظيره ما جاء في الحديث «كفى بالسيف شا» أي شاهدا، وأيد بما ذهب إليه ابن عباس في حم عسق ونحوه من أنها حروف من جملة أسماء له تعالى وهي رحيم وعليم وسميع وقدير ونحو ذلك. وظاهر كلام بعضهم كابن جبير أن يس بمجموعه اسم من أسمائه عليه الصلاة والسلام وهو ظاهر قول السيد الحميري: يا نفس لا تمحضي بالود جاهدة ... على المودة إلا آل ياسينا ولتسميته صلّى الله عليه وسلم بهذين الحرفين الجليلين سر جليل عند الواقفين على أسرار الحروف، وقد تكلمت ولله تعالى الحمد فيما تعلق بهذه الكلمة الشريفة ثلاثة أيام أشرع كل يوم منها بعد العصر وأختم قبيل المغرب وذلك في مجلس وعظي في المسجد الجامع الداودي واليوم لا أستطيع أن أذكر من ذاك بنت شفة بل لا أتذكر منه إلا رسما هب عليه عاصف الزمان الغشوم فنسفه فحسبي الله عمن سواه فلا رب غيره ولا يرجى إلا خيره. وقرىء بفتح الياء وإمالتها محضا وبين بين. وقرأ جمع بسكون النون مدغمة في الواو، وآخرون بسكونها مظهرة والقراءتان سبعيتان، وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بفتح النون، قال أبو حاتم قياس قول قتادة إنه قسم أن يكون على حد- الله لأفعان- بالنصب. ويجوز أن يكون مجرورا بإضمار باء القسم وهو ممنوع من الصرف. وقال الزجاج: النصب على تقدير أتل يس وهذا على قول سيبويه أنه اسم للسورة، وقيل هو مبني والتحريك للجد في الهرب من التقاء الساكنين والفتح للخفة كما في أين، وسبب البناء غير خفي عليك إذا أحطت خبرا بما قرروا في «الم» أول سورة البقرة. ولا تغفل عما قالوا في النصب بإضمار فعل القسم من أنه لا يسوغ لما فيه من جمع قسمين على مقسم عليه واحد وهو مستكره، ولا سبيل إلى جعل الواو بعد للعطف لا للقسم لمكان الاختلاف إعرابا. وقرأ الكلبي بضم النون وخرج على أنه منادى مقصود بناء على أنه بمعنى إنسان أو على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف، ويقدر هذه إذا كان اسما للسورة وهذا إن كان اسما للقرآن وهو يطلق على البعض كما يطلق على الكل، وجعله مبتدأ محذوف الخبر وهو قسم أي يس قسمي نحو أمانة الله لأفعلن بالرفع لا يخفى حاله، وقيل الضمة فيه ضمة بناء كما في حيث. وقرأ أبو السمال وابن أبي إسحاق أيضا بكسرها، وخرج على أنه للجد في الهرب عن الساكنين بما هو الأصلي فتأمل وتذكر وَالْقُرْآنِ ابتداء قسم، وجوز أن يكون عطفا على يس على تقدير كونه مجرورا بإضمار باء القسم لا أنه قسم بعد قسم لما سمعت من كلامهم الْحَكِيمِ أي ذي حكمة على أنه صيغة نسبة كلابن وتامر أي متضمن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 384 إياها أو لناطق بالحكمة كالحي على أن يكون من الاستعارة المكنية أو المتصف بالحكمة على أن الإسناد مجازي وحقيقته الإسناد إلى الله تعالى المتكلم به. وفي البحر هو إما فعيل بمعنى مفعل كأعقدت العسل فهو عقيد أي معقد وإما للمبالغة من حاكم إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ جواب للقسم، والجملة لرد إنكار الكفرة رسالته عليه الصلاة والسلام فقد قالوا: لَسْتَ مُرْسَلًا [الرعد: 43] وتقدم ما يشعر بأنهم على جانب عظيم من الإنكار أعني قوله تعالى: فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً [فاطر: 42] استكبارا في الأرض ومكر السيّء، وهذه الآية من جملة ما أشير إليه بقوله تعالى في جوابهم عن إنكارهم قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الرعد: 43] وتخصيص القرآن بالإقسام به أولا وبوصفه بالحكيم ثانيا تنويه بشأنه على أكمل وجه. وقوله تعالى: عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ خبر ثان لأن، واختاره الزجاج قائلا: إنه الأحسن في العربية أو حل من ضميره عليه الصلاة والسلام المستكن في الجار والمجرور أو الواقع اسم إن بناء على رأي من يجوز الحال من المبتدأ، وجوز أن يكون متعلقا بالمرسلين وليس المراد به الحال أو الاستقبال أي لمن الذين أرسلوا على صراط مستقيم، وأن يكون حالا من عائد الموصول المستتر في اسم الفاعل، أو حالا من نفس الْمُرْسَلِينَ. والزمخشري لم يذكر من هذه الأوجه سوى كونه خبرا وكونه صلة للمرسلين، وأيا ما كان فالمراد بالصراط المستقيم ما يعم العقائد والشرائع الحقة وليس الغرض من الإخبار الإعلام بتمييز من أرسل على صراط مستقيم عن غيره ممن ليس على صفته ليقال إن ذلك حاصل قبله لما أن كل أحد يعلم أن المرسلين لا يكونون إلا على صراط مستقيم بل الغرض الأعلام بأنه موصوف بكذا وأن ما جاء به الموصوف بكذا تفخيما لشأنهما فسلكا في مسلك سلوكا لطريق الاختصار، وأيضا التنكير في صِراطٍ للتفخيم فهو دال على أنه أرسل من بين الصراط المستقيمة على صراط لا يكتنه وصفه وهذا شيء لم يعلم قبل، ولا يرد أن الطريق المستقيم واحد ليس إلا ألا ترى إلى قوله تعالى: فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ لأن لكل نبي شارع منهاجا هو مستقيم وباعتبار الرجوع إلى المرسل تعالى شأنه الكل متحد وباعتبار الاختصاص بالمرسل والشرائع مختلف فصح أنه أرسل من بين الصراط المستقيمة إلخ. وأيضا هو فرض والفرض تعظيم هذا الصراط بأنه لا صراط أقوم منه واقعا أو مفروضا ولا نظر إلى أن هنالك آخر أولا، وهذا قريب من أسلوب مثلك لا يفعل كذا فافهم ولا تغفل. وقوله تعالى: تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ نصب على المدح أو على المصدرية لفعل محذوف أي نزل تنزيل. وقرأ جمع من السبعة وأبو بكر وأبو جعفر وشيبة والحسن والأعرج والأعمش بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف والمصدر بمعنى المفعول أي هو تنزيل أي منزل العزيز الرحيم، والضمير للقرآن ويجوز إبقاؤه على أصله يجعله عين التنزيل، وجوز أن يكون خبر يس إن كان المراد بها السورة والجملة القسمية معترضة، والقسم لتأكيد المقسم عليه والمقسم به اهتماما فلا يقال: إن الكفار ينكرون القرآن فكيف يقسم به لإلزامهم. وقرأ أبو حيوة واليزيدي والقورصي عن أبي جعفر وشيبة بالخفض على البدلية من الْقُرْآنِ أو الصوفية له. وأيا ما كان ففيه إظهار لفخامة القرآن الإضافية بعد بيان فخامته الذاتية بوصفه بالحكمة، وفي تخصيص الاسمين الكريمين المعربين عن الغلبة الكاملة والرحمة الفاضلة حث على الإيمان به ترهيبا وترغيبا وإشعارا بأن تنزيله ناشىء عن غاية الرحمة حسبما أشار إليه قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] لِتُنْذِرَ متعلق بتنزيل أو بفعله المضمر على الوجه الثاني في إعرابه أي نزل تنزيل العزيز الرحيم لتنذر به أو بما يدل عليه لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ أي أرسلت أو إنك مرسل لتنذر قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ أي لم تنذر آباؤهم على ما روي عن قتادة فما الجزء: 11 ¦ الصفحة: 385 نافية والجملة صفة قَوْماً مبينة لغاية احتياجهم إلى الإنذار، والمراد بالإنذار الأعلام أو التخويف ومفعوله الثاني محذوف أي عذابا لقوله تعالى: نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً [النبأ: 40] والمراد بآبائهم آباؤهم الأدنون وإلا فالأبعدون قد أنذرهم إسماعيل عليه السّلام وبلغهم شريعة إبراهيم عليه السّلام. وقد كان منهم من تمسك بشرعه على أتم وجه ثم تراخى الأمر وتطاول المدد، فلم يبق من شريعته عليه السّلام إلا الاسم. وفي البحر الدعاء إلى الله تعالى لم ينقطع عن كل أمة إما بمباشرة من أنبيائهم وإما بنقل إلى وقت بعثة نبينا صلّى الله عليه وسلم والآيات التي تدل على أن قريشا ما جاءهم نذير معناها لم يباشرهم ولا آباءهم القريبين. وأما أن النذارة انقطعت فلا، ولما شرعت آثارها ندرس بعث النبي صلّى الله عليه وسلم وما ذكره المتكلمون من حال أهل الفترات فهو على حسب الفرض اهـ. وعليه فالمعنى ما أنذر آباءهم رسول أي لم يباشرهم بالإنذار لا أنه لم ينذرهم منذر أصلا فيجوز أن يكون قد أنذرهم من ليس بنبي كزيد بن عمرو بن نفيل وقس بن ساعدة فلا منافاة بين ما هنا وقوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر: 24] وليس في ذلك إنكار الفترة المذكورة في قوله تعالى: عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ [المائدة: 19] لأنها فترة إرسال وانقطاعها زمانا لا فترة إنذار مطلقا، وعن عكرمة ما بمعنى الذي، وجوز أن تكون موصوفة وهي على الوجهين مفعول ثان لتنذر أي لتنذر قوما الذي أنذره أو شيئا أنذره الرسل آباءهم الأبعدين، وقال ابن عطية: يحتمل أن تكون ما مصدرية فتكون نعتا لمصدر مؤكد أي لتنذر قوما إنذارا مثل إنذار الرسل آباءهم الأبعدين، وقيل هي زائدة وليس بشيء فَهُمْ غافِلُونَ هو على الوجه الأول متفرع على نفي الإنذار ومتسبب عنه والضمير للفريقين أي لم ينذر آباؤهم فهم جميعا لأجل ذلك غافلون، وعلى الأوجه الباقية متعلق بقوله تعالى: لِتُنْذِرَ أو بما يفيده إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وارد لتعليل إنذاره عليه الصلاة والسلام أو إرساله بغفلتهم المحوجة إليه نحو اسقه فإنه عطشان على أن الضمير للقوم خاصة فالمعنى فهم غافلون عنه أي عما أنذر آباؤهم. وقال الخفاجي: يجوز تعلقه بهذا على الأول أيضا وتعلقه بقوله تعالى: لِتُنْذِرَ على الوجوه وجعل الفاء تعليلية والضمير لهم أو لآبائهم اهـ، ولا يخفى عليك أن المنساق إلى الذهن ما قرر أولا لَقَدْ حَقَّ جواب لقسم محذوف أي والله لقد ثبت ووجب الْقَوْلُ الذي قلته لإبليس يوم قال: لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: 39، ص: 82] وهو لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: 119، السجدة: 13] عَلى أَكْثَرِهِمْ متعلق بحق. والمراد سبق في علمي دخول أكثرهم فيمن أملأ منهم جهنم وهم تبعة إبليس كما يشير إليه تقديم الجنة على الناس وصرح به قوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 85] . ولا مانع من أن يراد بالقول لكن المشهور ما تقدم، وظاهر كلام الراغب أن المراد بالقول علم الله تعالى بهم ولا حاجة إلى التزام ذلك، وقيل: الجار متعلق بالقول ويقال قال عليه إذا تكلم فيه بالشر، والمراد لقد ثبت في الأزل عذابي لهم، وفيه ما فيه، ويؤيد تعلقه بحق قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ [يونس: 96] ، ونقل أبو حيان أن المعنى حق القول الذي قاله الله تعالى على لسان الرسل عليهم السّلام من التوحيد وغيره وبأن برهانه وهو كما ترى. فَهُمْ أي الأكثر لا يُؤْمِنُونَ بإنذارك إياهم، والفاء تفريعية داخلة على الحكم المسبب عما قبله فيفيد أن ثبوت القول عليهم علة لتكذيبهم وكفرهم وهو علة له باعتبار سبق العلم بسوء اختيارهم وما هم عليه في نفس الأمر فإن علمه تعالى لا يتعلق بالأشياء إلا على ما هي عليه في أنفسها ومآله إلى أن سوء اختيارهم وما هم عليه في نفس الأمر علة لتكذيبهم وعدم إيمانهم بعد الإنذار فليس هناك جبر محض ولا أن المعلوم تابع للعلم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 386 وقال بعضهم: الفاء إما تفريعية وكون ثبوت القول علة لعدم إيمانهم مبني على أن المعلوم تابع للعلم وإما تعليلية مفيدة أن عدم الإيمان علة لثبوت القول بناء على أن العلم تابع للمعلوم ولا يلزم الجبر على الوجهين، أما على الثاني فظاهر، وأما على الأول فلأن العلم ليس علة مستقلة عند القائل بذلك بل لاختيارهم وكسبهم مدخل فيه فتأمل. والتفريع هو الذي أميل إليه إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ جمع عنق بالضم وبضمتين وهو الجيد ويقال عنيق كأمير وعنق كصرد أَغْلالًا جمع غل بالضم وهو على ما قيل ما يشد به اليد إلى العنق للتعذيب والتشديد، وفي البحر الغل ما أحاط بالعنق على معنى التثقيف والتضييق والتعذيب والأسر ومع العنق اليدان أو اليد الواحدة. وذكر الراغب أنه ما يقيد به فتجعل الأعضاء وسطه، وأصله من الغلل تدرع الشيء وتوسطه ومنه الغلل للماء الجاري بين الشجر وقد يقال له الغيل، وكأن في الكلام عليه قلبا أي جعلنا أعناقهم في إغلال كما تقول جعلت الخاتم في إصبعي أي جعلت إصبعي في الخاتم، وجوز أن يكون على حد لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه: 71] والتنوين للتعظيم والتهويل أي أغلالا عظيمة هائلة، وإسناد الفعل إلى ضمير العظمة مما يؤيد ذلك فَهِيَ أي الأغلال كما هو الظاهر إِلَى الْأَذْقانِ جمع ذقن بالتحريك مجتمع اللحيين من أسفلهما، وأل للعهد أو عوض عن المضاف إليه والظرف متعلق بكون خاص خبر هي أي فهي واصلة أو منتهية إلى أذقانهم، والفاء للتفريع، وقيل: لمجرد التعقيب بناء على عدم حمل التنوين على التعظيم والتهويل، وقوله تعالى: فَهُمْ مُقْمَحُونَ نتيجة فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فالفاء تفريعية أيضا، والمقمح على ما في النهاية الذي يرفع رأسه ويغض بصره وكأنه أراد المجهول بحيث يرفع إلخ. وقال أبو عبيدة: يقال قمح البعير قموحا إذا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب والجمع قماح، ومنه قول بشر يصف سفينة أخذهم الميد فيها: ونحن على جوانبها قعود ... نغض الطرف كالإبل القماح وقال الليث: هو رفع البعير رأسه إذا شرب الماء الكريه ثم يعود، ومنه قيل للكانونين شهرا قماح بضم القاف وكسرها لأن الإبل إذا وردت الماء ترفع رؤوسها لشدة برده، وقال الراغب القمح رفع الرأس لسف الشيء المتخذ من القمح أي البر إذا جرى في السنبل من لدن الإنضاج إلى حين الاكتناز ثم يقال لرفع الرأس كيفما كان قمح، وقمح البعير رفع رأسه وأقمحت البعير شددت رأسه إلى خلف، وقيل: المقمح الذي يجذب ذقنه حتى يصير في صدره ثم يرفع، وقال مجاهد: القامح الرافع الرأس الواضع يده على فيه، وقال الحسن: هو الطامح ببصره إلى موضع قدمه، وظاهره يقتضي أن يكون هناك نكس للرأس والمعروف في القمح الرفع، ووجه التفريع أن طوق الغل الذي في عنق المغلول يكون في ملتقى طرفيه تحت الذقن حلقة فيها رأس العمود نادرا من الحلقة إلى الذقن فلا يخليه يطأطىء ويوطىء قذاله فلا يزال مقمحا لا سيما إذا كان الغل عظيما، وقال ابن عطية: إن الإغلال عريضة تبلغ بحروفها الأذقان أي فيحصل القمح، وكلام ابن الأثير يشعر أن القمح لضيق الغل، وإن أريد جعلنا في كل من أعناقهم أغلالا كان أمر القمح أظهر وأظهر، وقال البغوي والطبري والزجاج والطبرسي: ضمير هي للأيدي وإن لم يتقدم لها ذكر لوضوح مكانها من المعنى لأن الغل يتضمن العنق واليد ولذلك سمي جامعة وما يكون في العنق وحده أو في اليد وحدها لا يسمى غلا فمتى ذكر مع العنق فاليد مرادة أيضا ومتى ذكر مع اليد كما في قراءة ابن عباس «في أيديهم أغلالا» وفي قراءة ابن مسعود «في أيمانهم أغلالا» فالعنق مرادا أيضا، وهذا ضرب من الإيجاز والاختصار ونظير ذلك قول الشاعر: وما أدري إذا يممت أرضا ... أريد الخير أيهما يليني الجزء: 11 ¦ الصفحة: 387 أالخير الذي أنا أبتغيه ... أم الشر الذي لا يأتليني حيث ذكر الخير وحده وقال أيهما أي الخير والشر، وقد علم أن الخير والشر يعرضان للإنسان، واختار الزمخشري ما تقدم ثم قال: والدليل عليه قوله تعالى: فَهُمْ مُقْمَحُونَ ألا ترى كيف جعل الأقماح نتيجة فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ ولو كان الضمير للأيدي لم يكن معنى التسبب في الأقماح ظاهرا على أن هذا الإضمار فيه ضرب من التعسف، وترك الظاهر الذي يدعوه المعنى إلى نفسه إلى الباطن الذي يجفو عنه ترك للحق الأبلج إلى الباطل اللجلج اهـ، وصاحب الانتصاف أراد الانتصار للجماعة فقال: يحتمل أن يكون الفاء في فَهُمْ مُقْمَحُونَ للتعقيب كسابقه أو للتسبب فإن ضغط اليد مع العنق يوجب الإقماح لأن اليد تبقى ممسكة بالغل تحت الذقن رافعة لها ولأن اليد إذا كانت مطلقة كانت راحة للمغلول فربما يتحيل بها على فكاك الغل فيكون منبها على انسداد باب الحيلة اهـ. قال صاحب الكشف: والجواب أنه لا فخامة للتعقيب المجرد، ثم إن ما ذكره الزمخشري وقد أشرنا إليه نحن فيما سبق مستقل في حصول الأقماح فأين التعقيب، وبه خرج الجواب عن التسبب، وقوله ولأن اليد إلخ لا يستقل جوابا دون الأولين اهـ، وعلى العلات رجوع الضمير إلى الأغلال هو الحري بالاعتبار وبلاغة الكتاب الكريم تقتضيه ولا تكاد تلتفت إلى غيره وَجَعَلْنا عطف على جَعَلْنا السابق مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ من قدامهم سَدًّا عظيما وقيل نوعا من السد وَمِنْ خَلْفِهِمْ من ورائهم سَدًّا كذلك والقدام والوراء كناية عن جميع الجهات فَأَغْشَيْناهُمْ فغطينا بما جعلناه من السد أبصارهم، وعن مجاهد فَأَغْشَيْناهُمْ فألبسنا أبصارهم غشاوة فَهُمْ بسبب ذلك لا يُبْصِرُونَ لا يقدرون على إبصار شيء ما أصلا. وقرأ جمع من السبعة وغيرهم «سدا» بضم السين وهي لغة فيه، وقيل ما كان من عمل الناس فهو بالفتح وما كان من خلق الله تعالى فهو بالضم، وقيل بالعكس. وقرأ ابن عباس وعمر بن عبد العزيز وابن يعمر وعكرمة والنخعي وابن سيرين والحسن وأبو رجاء وزيد بن علي وأبو حنيفة ويزيد البربري ويزيد بن المهلب وابن مقسم «فأغشيناهم» بالعين من العشا وهو ضعف البصر، ومجموع المتعاطفين من قوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنا إلخ تأكيد وتقرير لما دل عليه قوله سبحانه: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ إلخ من سوء اختيارهم وقبح حالهم فإن جعل الله تعالى إياهم بما أظهر فيهم من الإعجاب العظيم بأنفسهم مستكبرين عن اتباع الرسل عليهم السّلام شامخين برؤوسهم غير خاضعين لما جاؤوا به وسد أبواب النظر فيما ينفعهم عليهم بالكلية ليس إلا لأنهم سيئو الاختيار وقبيحو الأحوال قد عشقت ذواتهم ما هم عليه عشقا ذاتيا وطلبته طلبا استعداديا فلم تكن لها قابلية لغيره ولم تلتفت إلى ما سواه، وإذا قايست بين ذواتهم، وما هم عليه وبين الجسم والحيز أو الثلاثة والفردية مثلا لم تكد تجد فرقا ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [النحل: 33] ففي الكلام تشبيهات متعددة كما لوحنا إليه، وهذا الوجه هو الذي يقتضيه ما عليه كثير من الأجلة وإن لم يذكروه في الآية، وفي الانتصاف إذا فرق التشبيه كان تصميمهم على الكفر مشبها بالأغلال وكان استكبارهم عن قبول الحق والتواضع لاستماعه مشبها بالأقماح لأن المقمح لا يطأطأ رأسه، وقوله تعالى: فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ تتمة للزوم الإقماح لهم وكان عدم النظر في أحوال الأمم الخالية مشبها بسد من خلفهم وعدم النظر في العواقب المستقبلة مشبها بسد من قدامهم وفي التيسير جمع الأيدي إلى الأذقان بالأغلال عبارة عن منع التوفيق حتى استكبروا عن الحق لأن المتكبر يوصف برفع العنق والمتواضع بضده كما في قوله تعالى: فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ [الشعراء: 4] ولم يذكر المراد بجعل السد، وذكر الإمام أن المانع عن النظر في الآيات قسمان قسم يمنع عن النظر في الأنفس فشبه ذلك بالغل الذي يجعل صاحبه مقمحا لا يرى نفسه ولا يقع بصره على بدنه وقسم يمنع عن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 388 النظر في الآفاق فشبه ذلك بالسد المحيط فإن المحاط بالسد لا يقع نظره على الآفاق فلا يظهر له ما فيها من الآيات فمن ابتلي بهما حرم عن النظر بالكلية، واختار بعضهم كون إِنَّا جَعَلْنا إلخ تمثيلا مسوقا لتقرير تصميمهم على الكفر وعدم ارعوائهم عنه فيكون قد مثل حالهم في ذلك بحال الذين غلت أعناقهم، وجوز في قوله تعالى: وَجَعَلْنا إلخ أن يكون تتمة لذلك وتكميلا له وأن يكون تمثيلا مستقلا فإن جعلهم محصورين بين سدين هائلين قد غطيا أبصارهم بحيث لا يبصرون شيئا قطعا كاف في الكشف عن كمال فظاعة حالهم وكونهم محبوسين في مطمورة الغي والجهالات. وقال أبو حيان الظاهر أن قوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنا الآية على حقيقتها لما أخبر تعالى أنهم لا يؤمنون أخبر سبحانه عن شيء من أحوالهم في الآخرة إذا دخلوا النار، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع، ولا يضعف هذا كما زعم ابن عطية قوله تعالى: فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ لأن بصر الكافر يومئذ حديد يرى قبح حاله، ألا ترى إلى قوله سبحانه: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً [الإسراء: 97] وقوله سبحانه: قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى [طه: 125] فإما أن يكون ذلك حالين وإما أن يكون قوله تعالى: فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق: 22] كناية عن إدراكه ما يؤول إليه حتى كأنه يبصره، واعترض بعضهم عليه بأنه يلزم أن يكون الكلام أجنبيا في البين وتوجيهه بأنه كالبيان لقوله تعالى: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ قد دغدغ فيه، والإنصاف أنه خلاف الظاهر، وقال الضحاك: والفراء في قوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا استعارة لمنعهم من النفقة في سبيل الله تعالى كما قال سبحانه: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ [الإسراء: 29] ولعله جعل الجملة الثانية استعارة لمنعهم عن رؤية الخير والسعي فيه، ولا يخفى أن كون الكلام على هذا أجنبيا في البين في غاية الظهور، وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلم يقرأ في المسجد فيجهر بالقراءة فتأذى به ناس من قريش حتى قاموا ليأخذوه فإذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم وإذا هم لا يبصرون فجاؤوا إلى لنبي صلّى الله عليه وسلم فقالوا: ننشدك الله تعالى والرحم يا محمد قال ولم يكن بطن من بطون قريش إلا وللنبي صلّى الله عليه وسلم فيهم قرابة فدعا النبي عليه الصلاة والسلام حتى ذهب ذلك عنهم فنزلت يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إلى قوله سبحانه أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ فلم يؤمن من ذلك النفر أحد ، وروي أن الآيتين نزلتا في بني مخزوم وذلك أن أبا جهل حمل حجرا لينال بها ما يريد برسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو يصلي فأثبتت يده إلى عنقه حتى عاد إلى أصحابه والحجر قد لزق بيده فما فكوه إلا بجهد فأخذه مخزومي آخر فلما دنا من الرسول صلّى الله عليه وسلم طمس الله تعالى بصره فعاد إلى أصحابه فلم يبصرهم حتى نادوه فقام ثالث فقال: لأشدخن أنا رأسه ثم أخذ الحجر وانطلق فرجع القهقرى ينكص على عقبيه حتى خر على قفاه مغشيا عليه فقيل له: ما شأنك؟ قال: عظيم رأيت الرجل فلما دنوت منه فإذا فحل ما رأيت فحلا أعظم منه حال بيني وبينه فو اللات والعزى لو دنوت منه لأكلني فجعل الغل يكون استعارة عن منع من أراد أذاه عليه الصلاة والسلام وجعل السد استعارة عن سلب قوة الأبصار كما قيل، وقال السدي: السد ظلمة حالت فمنعت الرؤية، وجاء في الآثار غير ذلك مما يقرب منه والربط عليها غير ظاهر، ولعله باعتبار إشارة الآيتين إلى ما هو عليه من التصميم على الكفر وشدة العناد، ومع هذا الأرجح في نظر البليغ حمل الكلام على غير ما تقتضيه ظواهر الآثار مما سمعت وليس فيها ما ينافيه عند التحقيق فتأمل وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ أي مستو عندهم إنذارك إياهم وعدمه حسبما مر تحقيقه في أوائل سورة البقرة، والظاهر أن العطف على إِنَّا جَعَلْنا وكأنه جيء به للتصريح بما هم عليه في أنفسهم بعد الإشارة إليه فيما تقدم بناء على أنه مما يستتبع الجعل المذكور. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 389 وقريب منه القول بأن ما تقدم لبيان حالهم المجعول وهذا لبيان حالهم من غير ملاحظة جعل وفيه تمهيد لقوله تعالى: إِنَّما تُنْذِرُ إلخ. وفي إرشاد العقل السليم هو بيان لشأنهم بطريق التصريح أثر بيانه بطريق التمثيل، وفي الحواشي الخفاجية لم يورد بالفاء مع ترتبه على ما قبله إما تفويضا لذهن السامع أو لأنه غير مقصود هنا انتهى. وانظر هل تجد مانعا من العطف على لا يُبْصِرُونَ ليكون خبرا لهم أيضا داخلا في حيز الفاء والتفريع على ما تقدم كأنه قيل: فهم سواء عليهم إلخ، واختلاف الجملتين بالاسمية والفعلية لا أراك تعده مانعا، وقوله تعالى: لا يُؤْمِنُونَ استئناف مؤكد لما قبله مبين لما فيه من إجمال ما فيه الاستواء أو حال مؤكدة له أو بدل منه. ولما بين كون الإنذار عندهم كعدمه عقب ببيان من يتأثر منه فقال سبحانه إِنَّما تُنْذِرُ أي إنذارا مستتبعا للأثر مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ أي القرآن ما روي عن قتادة بالتأمل فيه والعمل به، وقيل: الوعظ، واتبع بمعنى يتبع، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع أو المعنى إنما ينفع إنذارك المؤمنين الذين اتبعوا، ويكون المراد بمن اتبع المؤمنين وبالإنذار الإنذار عما يفرط منهم بعد الاتباع فلا يلزم تحصيل الحاصل، وقيل: المراد من اتبع في علم الله تعالى وهم الأقلون الذين لم يحق القول عليهم وَخَشِيَ الرَّحْمنَ أي عقابه ولم يغتر برحمته عزّ وجلّ فإنه سبحانه مع عظم رحمته أليم العذاب كما نطق به قوله تعالى: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الحجر: 49] وأن عذابي هو العذاب الأليم. ومما قرر يعلم سر ذكر الرحمن مع الخشية دون القهار ونحوه بِالْغَيْبِ حال من المضاف المقدر في نظم الكلام كما أشرنا إليه أي خشي عقاب الرحمن حال كون العقاب ملتبسا بالغيب أي غائبا عنه، وحاصله خشي العقاب قبل حلوله ومعاينة أهواله. ويجوز أن يكون حالا من فاعل خَشِيَ أي خشي عقاب الرحمن غائبا عن العقاب غير مشاهد له أو خشي غائبا عن أعين الناس غير مظهر الخشية لهم لأنها علانية قلما تسلم عن الرياء، وبعضهم فسر الغيب بالقلب وجعل الجار متعلقا بخشي أي خشي في قلبه ولم يكن مظهرا للخشية وليس بخاش، قيل: ويجوز جعله حالا من الرَّحْمنَ ولا يخفى حاله، والكلام في خشي على طرز الكلام في اتَّبَعَ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ عظيمة لما سلف، وقيل: لما يفرط منه وَأَجْرٍ كَرِيمٍ حسن لا يقادر قدره لما أسلف، والفاء لترتيب البشارة أو الأمر بها على ما قبلها من اتباع الذكر والخشية. وفي البحر لما أجدت فيه النذارة فبشره إلخ فلا تغفل، وعن قتادة تفسير الأجر الكريم بالجنة والمراد نعيمها الشامل لما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وأجل جميع ذلك رؤية الله عزّ وجلّ. وقوله سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى إلخ تذييل عام للفريقين المصممين على الكفر والمشفعين بالإنذار ترهيبا وترغيبا ووعيدا ووعدا، وتكرير الضمير لإفادة الحصر أو للتقوية، وما ألطف هذا الضمير الذي عكسه كطرده هاهنا، وضمير العظمة للإشارة إلى جلالة الفعل، والتأكيد للاعتناء بأمر الخبر أو لرد الإنكار فإن الكفرة كانوا يقولون: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [المؤمنون: 37] أي إنا نحن نحيي الأموات جميعا ببعثهم يوم القيامة وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا ما أسلفوه من الأعمال الصالحة والطالحة وَآثارَهُمْ التي أبقوها بعدهم من الحسنات كعلم علموه أو كتاب ألفوه أو حبيس وقفوه أو بناء في سبيل الله تعالى بنوه وغير ذلك من وجوه البر ومن السيئات كتأسيس قوانين الظلم والعدوان وترتيب مبادئ الشر والفساد فيما بين العباد وغير ذلك من فنون الشرور التي أحدثوها وسنوها بعدهم للمفسدين. أخرج ابن أبي حاتم عن جرير بن عبد الله البجلي قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من سن سنّة حسنة فله أجرها وأجر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 390 من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ومن سن سنّة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده لا ينقص من أوزارهم شيئا ثم تلا وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ» وعن أنس أنه قال في الآية: هذا في الخطو يوم الجمعة، وفسر بعضهم الآثار بالخطأ إلى المساجد مطلقا لما أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر والترمذي وحسنه عن أبي سعيد الخدري قال كان بنو سلمة في ناحية من المدينة فأرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد فأنزل الله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ فدعاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: إنه يكتب آثاركم ثم تلا عليهم الآية فتركوا. وأخرج الإمام أحمد في الزهد وابن ماجة وغيرهما عن ابن عباس قال كانت الأنصار منازلهم بعيدة من المسجد فأرادوا أن ينتقلوا قريبا من المسجد فنزلت وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ فقالوا بل: نمكث مكاننا. وأنت تعلم أنه لا دلالة فيما ذكر على أن الآثار هي الخطا لا غير وقصاري ما يدل عليه أنها من الآثار فلتحمل الآثار على ما يعمها وغيرها. واستدل بهذين الخبرين ونحوهما على أن الآية مدنية. وقال أبو حيان: ليس ذلك زعما صحيحا وشنع عليه بما ورد مما يدل على ذلك، وانتصر له الخفاجي بأن الحديث الدال معارض بما في الصحيحين أن النبي صلّى الله عليه وسلم قرأ لهم هذه الآية ولم يذكر أنها نزلت فيهم وقراءته عليه الصلاة والسلام لا تنافي تقدم النزول ومراد أبي حيان هذا لا أنه أنكر أصل الحديث، ولا يخفى أن الحديثين السابقين ظاهران في أن الآية: نزلت يومئذ وليس في حديث الصحيحين ما يعارض ذلك، والعجب من الخفاجي كيف خفي عليه هذا، وقيل ما قدموا من النيات وآثارهم من الأعمال، والظاهر أن المراد بالكتابة الكتابة في صحف الملائكة الكرام الكاتبين ولكونها بأمره عزّ وجلّ أسندت إليه سبحانه، وأخرت في الذكر عن الأحياء مع أنها مقدمة عليه لأن أثرها إنما يظهر بعده وعلى هذا يضعف تفسير ما قدموا بالنيات بناء على ما يدل عليه بعض الأخبار من أن النيات لا تطلع عليها الملائكة عليهم السّلام ولا يؤمرون بكتابتها. وفسر بعضهم الكتابة بالحفظ أي نحفظ ذلك ونثبته في علمنا لا ننساه ولا نهمله كما يثبت المكتوب، ولعلك تختار أن كتابة ما قدموا وآثارهم كناية عن مجازاتهم عليها أن خيرا فخير وإن شرا فشر وحينئذ فوجه ذكرها بعد الأحياء ظاهر. وعن الحسن والضحاك أن إحياء الله تعالى الموتى أن يخرجهم من الشرك إلى الإيمان وجعلا الموت مجازا عن الجهل، وتعريف «الموتى» للعهد والكلام عليه توكيد الموعد المبشر به كأنه قيل: إنما ينفع إنذارك في هؤلاء لأنا نحييهم ونكتب صالح أعمالهم وآثارهم ولا يخفى ما في ذلك من البعد. وقرأ زر ومسروق «ويكتب» بالياء مبنيا للمفعول «وآثارهم» بالرفع وَكُلَّ شَيْءٍ من الأشياء كائنا ما كان، والنصب على الاشتغال أي وأحصينا كل شيء أَحْصَيْناهُ أي بيناه وحفظناه، وأصل الإحصاء العد ثم تجوز به عما ذكر لأن العد لأجله. فِي إِمامٍ أي أصل عظيم الشأن يؤتم ويقتدى به ويتبع ولا يخالف مُبِينٍ مظهر لما كان وسيكون، وهو على ما في البحر حكاية عن مجاهد وقتادة وابن زيد اللوح المحفوظ، وبيان كل شيء فيه إذا حمل العموم على حقيقته بحيث يشمل حوادث الجنة وما يتجدد لأهلها من دون انقطاع على ما نحو ما يحكى من بيان الحوادث الكونية في الجفر الجامع لكنه على طرز أعلا وأشرف، ونحو هذا ما قال غير واحد من اشتمال القرآن الكريم على كل شيء حتى أسماء الملوك ومدد ملكهم أو يقال إن بيان ذلك فيه ليس دفعة واحدة بل دفعات بأن يبين فيه جملة من الأشياء كحوادث ألف سنة مثلا ثم تمحى عند تمام الألف ويبين فيه جملة أخرى كحوادث ألف أخرى وهكذا، والداعي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 391 لما ذكر أن اللوح عند المسلمين جسم وكل جسم متناهي الأبعاد كما تشهد به الأدلة وبيان كل شيء فيه على الوجه المعروف لنا دفعة مقتض لكون المتناهي ظرفا لغير المتناهي وهو محال بالبديهة. وإذا أريد بكل شيء الأشياء التي في هذه النشأة وأفعال العباد وأحوالهم فيها فلا إشكال في البيان على الوجه المعروف دفعة. والذي يترجح عندي أن ما كتب في اللوح ما كان وما يكون إلى يوم القيامة وهو متناه وبعض الآثار تشهد بذلك والمطلق منها محمول على المقيد، وحقيقة اللوح لم يرد فيها ما يفيد القطع ولذا نمسك عن تعيينها، وكون أحد وجهيه ياقوتة حمراء والثاني زمردة خضراء جاء في بعض الآثار ولا جزم لنا بصحته، وكونه أحد المجردات وما من شيء إلا وهو يعلمه بالفعل مما لم يذهب إليه أحد من المسلمين وإنما هو من تخيلات الفلاسفة ومن حذا حذوهم فلا ينبغي أن يعول عليه، وفسر بعضهم الإمام المبين بعلمه تعالى الأزلي كما فسر أم الكتاب في قوله تعالى: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ [الرعد: 39] به وهو أصل لا يكون في صفوف صنوف الممكنات ما يخالفه كما يلوح به قول الشافعي: خلقت العباد على ما علمت ... ففي العلم يجري الفتى والمسن ووصفه بمبين لأنه مظهر فقد قالوا: العلم صفة يتجلى بها المذكور لمن قامت به أو لأن إظهار الأشياء من خزائن العدم يكون بعد تعلقه فإن القدرة إنما تتعلق بالشيء بعد العلم فالشيء يعلم أولا ثم يراد ثم تتعلق القدرة بإيجاده فيوجد، ولا يخفى ما في هذا التفسير من ارتكاب خلاف الظاهر وعليه فلا كلام في العموم، نعم في كيفية وجود الأشياء في علمه تعالى كلام طويل محله كتب الكلام. وعن الحسن أنه أريد به صحف الأعمال وليس بذاك. وحكي لي عن بعض غلاة الشيعة أن المراد بالإمام المبين علي كرّم الله تعالى وجهه وإحصاء كل شيء فيه من باب: ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد ومنهم من يزعم أن ذلك على معنى جعله كرّم الله تعالى وجهه خزانة للمعلومات على نحو اللوح المحفوظ، ولا يخفى ما في ذلك من عظيم الجهل بالكتاب الجليل نسأل الله تعالى العفو والعافية، ويمكن أن يقال: إنهم أرادوا بذلك نحو ما أراده المتصوفة في إطلاقهم الكتاب المبين على الإنسان الكامل اصطلاحا منهم على ذلك فيهون أمر الجهل، وكمال علي كرّم الله تعالى وجهه لا ينكره إلا ناقص العقل عديم الدين. وقرأ أبو السمال «وكلّ» بالرفع على الابتداء وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إما عطف على ما قبله عطف القصة على القصة وإما عطف على مقدر أي فأنذرهم واضرب لهم إلخ، وضرب المثل يستعمل تارة في تطبيق حالة غريبة بأخرى مثلها كما في قوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ [التحريم: 10] الآية. وأخرى في ذكر حالة غريبة وبيانها للناس من غير قصد إلى تطبيقها بنظيرة لها كما في قوله تعالى: وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ [إبراهيم: 45] في وجه أي بينا لكم أحوالا بديعة هي في الغرابة كالأمثال. فالمعنى على الأول اجعل أصحاب القرية مثلا لهؤلاء في الغلو في الكفر والإصرار على التكذيب أي طبق حالهم بحالهم على أن مَثَلًا مفعول ثان لا ضرب وأَصْحابَ الْقَرْيَةِ مفعوله الأول أخر عنه ليتصل به ما هو شرحه وبيانه، وعلى الثاني اذكر وبين لهم قصة هي في الغرابة كالمثل، وقوله سبحانه أَصْحابَ الْقَرْيَةِ بتقدير مضاف أي مثل أصحاب القرية وهذا المضاف بدل من مَثَلًا بدل كل من كل أو عطف بيان له على القول بجواز اختلافهما تعريفا وتنكيرا، وجوز أن يكون المقدر مفعولا وهذا حالا. والقرية كما روي عن ابن عباس وبريدة وعكرمة أنطاكية، وفي البحر أنها هي بلا خلاف. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 392 إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ بدل اشتمال من أَصْحابَ الْقَرْيَةِ أو ظرف للمقدر، وجوز أن يكون بدل كل من أَصْحابَ مرادا بهم قصتهم وبالظرف ما فيه وهو تكلف لا داعي إليه، وقيل، إذ جاءها دون إذ جاءهم إشارة إلى أن المرسلين أتوهم في مقرهم، والمرسلون عند قتادة وغيره من أجلة المفسرين رسل عيسى عليه السّلام من الحواريين بعثهم حين رفع إلى السماء، ونسبة إرسالهم إليه تعالى في قوله سبحانه: إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ بناء على أنه كان بأمره تعالى لتكميل التمثيل وتتميم التسلية، وقال ابن عباس وكعب هم رسل الله تعالى: واختاره بعض الأجلة وادعى أن الله تعالى أرسلهم ردءا لعيسى عليه السّلام مقررين لشريعته كهارون لموسى عليهما السّلام، وأيد بظاهر إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ وقول المرسل إليهم ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا إذ البشرية تنافي على زعمهم الرسالة من الله تعالى لا من غيره سبحانه، واستدل البعض على ذلك بظهور المعجزة كإبراء الأكمه وإحياء الميت على أيديهم كما جاء في بعض الآثار والمعجزة مختصة بالنبي على ما قرر في الكلام، ومن ذهب إلى الأول أجاب عن الأول بما سمعت وعن الثاني بأنهم إما أن يكونوا دعوهم على وجه فهموا منه أنهم مبلغون عن الله تعالى دون واسطة أو أنهم جعلوا الرسل بمنزلة مرسلهم فخاطبوهم بما يبطل رسالته ونزلوه منزلة الحاضر تغليبا فقالوا ما قالوه، وعن الثالث بأن ما ظهر على أيديهم إن صح الأثر كان كرامة لهم في معنى المعجزة لعيسى عليه السّلام ولا يتعين كونه معجزة لهم إلا إذا كانوا قد ادعوا الرسالة من الله تعالى بدون واسطة وهو أول المسألة، و «إذ» بدل من إذ الأولى، والاثنان قيل يوحنا وبولس، وقال مقاتل تومان وبولس، وقال شعيب الجبائي شمعون ويوحنا، وقال وهب وكعب: صادق وصدوق، وقيل نازوص وماروص. وقيل أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ دون أرسلنا إليها ليطابق إذ جاءها لأن الإرسال حقيقة إنما يكون إليهم لا إليها بخلاف المجيء وأيضا التعقيب بقوله تعالى: فَكَذَّبُوهُما عليه أظهر وهو هنا نظير التعقيب في قوله تعالى: فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ [الأعراف: 160] وسميت الفاء الفصيحة لأنها تفصح عن فعل محذوف وكان أصحاب القرية إذ ذاك عباد أصنام فَعَزَّزْنا أي قويناهما وشددنا قاله مجاهد وابن قتيبة، وقال يقال تعزز لحم الناقة إذا صلب، وقال غيره: يقال عزز المطر الأرض إذا لبدها وشدها ويقال للأرض الصلبة العزاز ومنه العز بمعناه المعروف، ومفعول الفعل محذوف أي فعززناهما بِثالِثٍ لدلالة ما قبله عليه ولأن المقصود ذكر المعزز به. وهو على ما روي عن ابن عباس شمعون الصفا ويقال سمعان أيضا، وقال وهب وكعب: شلوم. وعند شعيب الجبائي بولص بالصاد وبعضهم يحكيه بالسين. وقرأ الحسن وأبو حيوة وأبو بكر والمفضل وأبان «فعززنا» بالتخفيف وهو التشديد لغتان كشدة وشدده فالمعنى واحد، وقال أبو علي المخفف من عزه إذا غلبه ومنه قولهم من عزيز أي من غلب سلب، والمعنى عليه فغلبناهم بحجة ثالث. وقرأ عبد الله «بالثالث» فَقالُوا عطف على «فكذبوهما» فعززنا والفاء للتعقيب أي فقال الثلاثة بعد تكذيب الاثنين والتعزيز بثالث إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ولا يضر في نسبة القول إلى الثلاثة سكوت البعض إذ يكفي الاتفاق بل قالوا طريقة التكلم مع الغير كون المتكلم واحدا والغير متفقا معه قالُوا أي أصحاب القرية مخاطبين للثلاثة ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا من غير مزية لكم علينا موجبة لاختصاصكم بما تدعونه، ورفع بَشَرٌ لانتقاض النفي بإلا فإن- ما- عملت حملا على ليس فإذا انتقض نفيها بدخول إلا على الخبر ضعف الشبه فيها فبطل عملها خلافا ليونس، ومثل صفة بَشَرٌ ولم يكتسب تعريفا بالإضافة كما عرف في النحو وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ مما تدعون من الوحي على أحد وظاهر هذا القول يقتضي إقرارهم بالألوهية لكنهم ينكرون الرسالة ويتوسلون بالأصنام وكان تخصيص هذا الاسم الجليل من بين أسمائه عزّ وجلّ لزعمهم أن الرحمة تأبى إنزال الجزء: 11 ¦ الصفحة: 393 الوحي لاستدعائه تكليفا لا يعود منه نفع له سبحانه ولا يتوقف إيصاله تعالى الثواب إلى العبد عليه، وقيل ذكر الرحمن في الحكاية لا في المحكي وهم قالوا لا إله ولا رسالة لما في بعض الآثار أنهم قالوا ألنا إله سوى آلهتنا، والتعبير به لحلمه تعالى عليهم ورحمته سبحانه إياهم بعدم تعجيل العذاب آن إنكارهم ولعل ما تقدم أولى وأظهر ولا جزم بصحة ما ينافيه من الأثر. إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ فيما تدعون وهذا تصريح بما قصدوه من الجملتين السابقتين واختيار تكذبون على كاذبون للدلالة على التجدد. قالُوا أي المرسلون رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ استشهدوا بعلم الله تعالى وهو جار مجرى القسم في التأكيد والجواب بما يجاب به، وذكر أن من استشهد به كاذبا يكفر ولا كذلك القسم على كذب، وفيه تحذيرهم معارضة علم الله تعالى، وفي اختيار عنوان الربوبية رمز إلى حكمة الإرسال كما رمز الكفرة إلى ما ينافيه بزعمهم. وإضافة رب إلى ضمير الرسل لا يأبى ذلك، ويجوز أن يكون اختياره لأنه أوفق بالحال التي هم فيها من إظهار المعجز على أيديهم فكأنهم قالوا ناصرنا بالمعجزات يعلم إنا إليك لمرسلون، وتقديم المسند إليه لتقوية الحكم أو للحصر أي ربنا يعلم لا أنتم لانتفاء النظر في الآيات عنكم وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ إلا بتبليغ رسالته تعالى تبليغا ظاهرا بينا بحيث لا يخفى على سامعه ولا يقبل التأويل والحمل على خلاف المراد أصلا وقد خرجنا من عهدته فلا مؤاخذة علينا من جهة ربنا كذا قيل، والأولى أن يفسر التبليغ المبين بما قرن بالآيات الشاهدة على الصحة وهم قد بلغوا كذلك بناء على ما روي من أنهم أبرؤوا الأكمه وأحيوا الميت أو أنهم فعلوا خارقا غير ما ذكر ولم ينقل لنا ولم يلتزم في الكتاب الجليل ولا في الآثار ذكر خارق كل رسول كما لا يخفى، ثم إن ذلك أما معجزة لهم على القول بأنهم رسل الله تعالى بدون واسطة أو كرامة لهم معجزة لمرسلهم عيسى عليه السّلام على القول بأنهم رسله عليه السّلام، والمعنى ما علينا من جهة ربنا إلا التبليغ البين بالآيات وقد فعلنا فلا مؤاخذة علينا أو ما علينا شيء نطالب به من جهتكم إلا تبليغ الرسالة على الوجه المذكور وقد بلغنا كذلك فأي شيء تطلبون منا حتى تصدقونا بدعوانا ولكون تبليغهم كان بينا بهذا المعنى حسن منهم الاستشهاد بالعلم فلا تغفل، وجاء كلام الرسل ثانيا في غاية التأكيد لمبالغة الكفرة في الإنكار جدا حيث أتوا بثلاث جمل وكل منها دال على شدة الإنكار كما لا يخفى على من له أدنى تأمل قال السكاكي: أكدوا في المرة الأولى لأن تكذيب الاثنين تكذيب للثالث لاتحاد المقالة فلما بالغوا في تكذيبهم زادوا في التأكيد، وقال الزمخشري: إن الكلام الأول ابتداء أخبار والثاني جواب عن إنكار، ووجه ذلك السيد السند بأن الأول ابتداء أخبار بالنظر إلى أن مجموع الثلاثة لم يسق منهم أخبار فلا تكذيب لهم في المرة الأولى فيحمل التأكيد فيها على الاعتناء والاهتمام منهم بشأن الخبر انتهى، وفيه أن الثلاثة كانوا عالمين بإنكارهم والكلام المخرج مع المنكر لا يقال له ابتداء أخبار، وقال صاحب الكشف: أراد أنه غير مسبوق بأخبار سابق ولم يرد أنه كلام مع خالي الذهن أو جعل الابتداء باعتبار قول الثالث أو المجموع، وقال الجلبي: لعل مراده أنه بمنزلة ابتداء أخبار بالنسبة إلى إنكارهم الثاني في عدم احتياجه إلى مثل تلك المؤكدات فكان إنكارهم الأول لا يعد إنكارا بالنسبة إلى إنكارهم الثاني لا أنه ابتداء أخبار حقيقة، ولا يخفى ضعف ذلك، وقال الفاضل اليمني: إنما أكد القول الأول لتنزيلهم منزلة من أنكر إرسال الثلاثة لأنه قد لاح ذلك من إنكار الاثنين فعلى هذا يكون ابتداء أخبار بالنظر إلى إخراج الكلام على مقتضى الظاهر وإنكاريا بالنظر إلى إخراج الكلام لا على مقتضى الظاهر فنظر الزمخشري أدق من نظر السكاكي وإن قال السيد السند بالعكس، ويعلم ما فيه مما تقدم بأدنى نظر، وقال أجل المتأخرين الفاضل عبد الحكيم السالكوتي: عندي أن ما ذكره السكاكي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 394 مبني على عطف فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ على فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا والفاء للتعقيب فيكون الكلام صادرا عن الثلاثة بعد تكذيب الاثنين والتعزيز بثالث فكان كلاما مع المنكرين فجاء مؤكدا، وقول الزمخشري مبني على أنه عطف على إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ وأنه تفصيل للقصة المذكورة إجمالا بقوله سبحانه: إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إلى قوله تعالى: فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فالفاء للتفصيل فقوله تعالى: فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ بيان لقوله عزّ وجلّ: إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فيكون ابتداء إخبار صدر من الاثنين قالوا بصيغة الجمع تقريرا لشأن الخبر وقوله تعالى: قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا إلخ بيان لقوله تعالى: فَكَذَّبُوهُما وقوله سبحانه: بُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ بيان لقوله عزّ شأنه: فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فإن البلاغ المبين هو إثباتهم الرسالة بالمعجزات وهو التعزيز والغلبة ثم قال: ولا يخفى حسن هذا التفسير لموافقته للقصة المذكورة في التفاسير وملاءمته لسوق الآية فإنها ذكرت أولا إجمالا بقوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ ثم فصلت بعض التفصيل بقوله تعالى: إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إلى قوله سبحانه: فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ ثم فصلت تفصيلا تاما بقوله تعالى: فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ إلى قوله تعالى: خامِدُونَ وعدم احتياجه إلى جعل الفاء في فَكَذَّبُوهُما فصيحة بخلاف تفسير السكاكي فإنه يحتاج إلى تقدير فدعوا إلى التوحيد اهـ . ولا يخفى على المنصف أنه تفسير في غاية البعد والكلام عليه واصل إلى رتبة الألغاز، ومع هذا فيه ما فيه، وأنا أقول: لا يبعد أن يكون الزمخشري أراد بكلامه أحد الاحتمالات التي ذكرت في توجيهه إلا أن ما ذهب إليه السكاكي أبعد عن التكلف وأسلم عن القيل والقال قالُوا لما ضاقت عليهم الحيل وعييت بهم العلل إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ أي تشاءمنا بكم جريا على ديدن الجهلة حيث يتيمنون بكل ما يوافق شهواتهم وإن كان مستجلبا لكل شر ويتشاءمون بما لا يوافقها وإن كان مستتبعا لكل خير أو بناء على أن الدعوة لا تخلو عن الوعيد بما يكرهونه من إصابة ضر إن لم يؤمنوا فكانوا ينفرون عنه، وقد قال مقاتل: إنه حبس عنهم المطر وقال آخر: أسرع فيهم الجذام عند تكذيبهم الرسل عليهم السّلام، وقال ابن عطيّة: أن تطير هؤلاء كان بسبب ما دخل فيهم من اختلاف الكلمة وافتتان الناس، وأصل التطير التفاؤل بالطير البارح والسانح ثم عم، وكان مناط التطير بهم مقالتهم كما يشعر به قوله تعالى: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا أي عن مقالتكم هذه. لَنَرْجُمَنَّكُمْ بالحجارة قاله قتادة وذكر فيه احتمالان احتمال أن يكون الرجم للقتل أي لنقتلنكم بالرجم بالحجارة واحتمال أن يكون للأذى أي لنؤذينكم بذلك، وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد أنه قال: أي لنشتمنكم ثم قال: والرجم في القرآن كله الشتم. وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ قال في البحر: وهو الحريق، وقيل عذاب غيره تبقى معه الحياة، والمراد لنقتلنكم بالحجارة أو لنعذبنكم إذا لم نقتلكم عذابا أليما لا يقادر قدره تتمنون معه القتل، وقيل أريد بالعذاب الأليم العذاب الروحاني وأريد بالرجم بالحجارة النوع المخصوص من الأذى الجسماني فكأنهم قد رددوا الأمر بين إيذاء جسماني وإيذاء روحاني، وقيل أريد بالعذاب الأليم الجسماني وبالرجم العذاب والأذى الروحاني بناء على أن المراد به الشتم، وقيل غير ذلك قالُوا أي الرسل ردا عليهم طائِرُكُمْ أي سبب شؤمكم مَعَكُمْ لا من قبلنا كما تزعمون وهو سوء عقيدتكم وقبح أعمالكم. وأخرج ابن المنذر وعن ابن عباس أنه فسر الطائر بنفس الشؤم أي شؤمكم معكم وهو الإقامة على الكفر وأما نحن فلا شؤم معنا لأنا ندعو إلى التوحيد وعبادة الله تعالى وفيه غاية الدين والخير والبركة، وعن أبي عبيدة والمبرد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 395 طائِرُكُمْ أي حظكم ونصيبكم من الخير والشر معكم من أفعالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وقرأ الحسن وابن هرمز وعمرو بن عبيد وزر بن حبيش «طيركم» بياء ساكنة بعد الطاء، قال الزجاج: الطائر والطير بمعنى، وفي القاموس الطير جمع طائر وقد يقع على الواحد وذكر أن الطير لم يقع في القرآن الكريم إلا جمعا كقوله تعالى: وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ [النور: 41] فإذا كان في هذه القراءة كذلك فطائر وإن كان مفردا لكنه بالإضافة شامل لكل ما يتطير به فهو في معنى الجمع فالقراءتان متوافقتان، وعن الحسن أنه قرأ «أطيركم» مصدر أطير الذي أصله تطير فأدغمت التاء في الطاء فاجتلبت همزة الوصل في الماضي والمصدر أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بهمزتين الأولى همزة الاستفهام والثانية همزة إن الشرطية حققها الكوفيون وابن عامر وسهلها باقي السبعة. واختلف سيبويه ويونس فيما إذا اجتمع استفهام وشرط أيهما يجاب فذهب سيبويه إلى إجابة الاستفهام أي تقدير المستفهم عنه وكأنه يستغني به عن تقدير جواب الشرط فالمعنى عليه أئن ذكرتم ووعظتم بما فيه سعادتكم تتطيرون أو تتوعدون أو نحو ذلك ويقدر مضارع مرفوع وإن شئت قدرت ماضيا كتطيرتم. وذهب يونس إلى إجابة الشرط وكأنه يستغني به عن إجابة الاستفهام وتقدير مصب له فالتقدير أئن ذكرتم تتطيروا أو نحوه مما يدل عليه ما قبل ويقدر مضارع مجزوم وإن شئت قدرت ماضيا مجزوم المحل. وقرأ زر بهمزتين مفتوحتين وهي قراءة أبي جعفر. وطلحة إلا أنهما لينا الثانية بين بين، وعلى تحقيقهما جاء قول الشاعر: إن كنت داود بن أحوى مرجلا ... فلست براع لابن عمك محرما فالهمزة الأولى للاستفهام والثانية همزة إن المصدرية والكلام على تقدير حرف لام الجر أي ألأن ذكرتم تطيرتم. وقرأ الماجشون يوسف بني عقوب المدني بهمزة واحدة مفتوحة فيحتمل تقدير همزة الاستفهام فتتحد هذه القراءة والتي قبلها معنى، ويحتمل عدم تقديرها فيكون الكلام على صورة الخبر، وهو على ما قيل مسوق للتعجب والتوبيخ، وتقدير حرف الجر على حاله، والجر متعلق بمحذوف على ما يشعر به كلام الكشاف أي تطيرتم لأن ذكرتم، وقال ابن جني إِنْ ذُكِّرْتُمْ على هذه القراءة معمول طائِرُكُمْ مَعَكُمْ فإنهم لما قالوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ أجيبوا بل طائركم معكم إن ذكرتم أي هو معكم لأن ذكرتم فلم تذكروا ولم تنتهوا فاكتفي بالسبب الذي هو التذكير عن المسبب الذي هو الانتهاء كما وصفوا الطائر موضع مسببه وهو التشاؤم لما كانوا يألفونه من تكارههم نعيب الغراب أو بروحه. وقرأ الحسن بهمزة واحدة مكسورة وفي ذلك احتمالان تقدير الهمزة فتتحد هذه القراءة وقراءة الجمهور وعدم تقديرها فيكون الكلام على صورة الخبر والجواب محذوف لدلالة ما قبل عليه وتقديره كما تقدم، وقرأ أبو عمرو في رواية وزر أيضا بهمزتين مفتوحتين بينهما مدة كأنه استثقل اجتماعهما ففصل بينهما بألف. وقرأ أيضا أبو جعفر والحسن وكذا قرأ قتادة والأعمش وغيرهما «أين» بهمزة مفتوحة وياء ساكنة وفتح النون «ذكرتم» بتخفيف الكاف على أن أين ظرف أداة شرط وجوابها محذوف لدلالة طائركم عليه على ما قيل أي أين ذكرتم صحبكم طائركم والمراد شؤمكم معكم حيث جرى ذكركم وفيه من المبالغة بشؤمهم ما لا يخفى. وفي البحر من جوز تقديم الجزاء على الشرط وهم الكوفيون وأبو زيد والمبرد يجوز أن يكون الجواب طائركم معكم وكان أصله أين ذكرتم فطائركم معكم فلما قدم حذفت الفاء بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ أي عادتكم الإسراف ومجاوزة الحد في العصيان مستمرون عليه فمن ثم أتاكم الشؤم لا من قبل رسل الله تعالى وتذكيرهم فهو إضراب عما يقتضيه قوله تعالى: أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ من إنكار أن يكون ما هو سبب السعادات أجمع سبب الشؤم لأنه تنبيه وتعريك إلى البت عليهم بلزام الشؤم وإثبات الإسراف الذي هو أبلغ وهو جالب الشؤم كله أو بل أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ في الجزء: 11 ¦ الصفحة: 396 ضلالكم متمادون في غيكم حيث تتشاءمون بمن يجب التبرك به من الهداة لدين الله تعالى فهو إضراب عن مجموع الكلام أجابوهم بأنهم جعلوا أسبابا للسعادة مدمجين فيه التنبيه على سوء صنيعهم في الحرمان عنها ثم أضربوا عنه إلى ما فعل القوم من التعكيس لما يقتضيه النظر الصحيح فتأمل. وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ أي من أبعد مواضعها رَجُلٌ أي رجل عند الله تعالى فتنوينه للتعظيم، وجوز أن يكون التنكير لإفادة أن المرسلين لا يعرفونه ليتواطؤوا معه واسمه- على ما روي عن ابن عباس وأبي مجلز وكعب الأحبار ومجاهد ومقاتل- حبيب وهو ابن إسرائيل على ما قيل، وقيل: ابن مري وكان على المشهور نجارا، وقيل: كان حراثا، وقيل: قصارا، وقيل: إسكافا، وقيل: نحاتا للأصنام ويمكن أن يكون جامعا لهذه الصفات، وذكر بعضهم أنه كان في غار مؤمنا يعبد ربه عزّ وجلّ فلما سمع أن قومه كذبوا الرسل جاء يَسْعى أي يعدو ويسرع في مشيه حرصا على نصح قومه، وقيل: إنه يسمع أن قومه عزموا على قتل الرسل فقصدي وجه الله تعالى بالذب عنهم فسعى هنا مثلها في قوله تعالى: وَسَعى لَها سَعْيَها [الإسراء: 19] وهو مجاز مشهور وكونه في غار لا ينافي مجيئه من أقصى المدينة لجواز أن يكون في أقصاها غار، نعم هذا القول ظاهر في أنه كان مؤمنا وهو ينافي أنه كان نحاتا للأصنام. وأجيب بأن المراد ينحت التماثيل لا للعبادة وكان في تلك الشريعة مباحا، وحكي القول بإيمانه عن ابن أبي ليلى، ونقل في البحر عنه أنه قال: سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا قط طرفة عين علي بن أبي طالب وصاحب يس ومؤمن آل فرعون. وذكر الزمخشري وجماعة هذا حديثا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وكذا ذكروا أنه ممن آمن برسول الله صلّى الله عليه وسلم كما آمن به تبع الأكبر وورقة بن نوفل وغيرهما، ولم يؤمن أحد بنبي غيره عليه الصلاة والسلام قبل ظهوره. وقيل كان مجذوما وكان منزله أقصى باب من أبواب المدينة عبد الأصنام سبعين سنة يدعوهم لكشف ضره فلم يكشف فلما دعاه الرسل إلى عبادة الله تعالى قال: هل من آية؟ قالوا: نعم ندعو ربنا القادر يفرج عنك ما بك فقال: إن هذا لعجب لي سبعون سن أدعو هذه الآلهة فلم تستطع تفريجه فكيف يفرجه ربكم في غداة واحدة؟ قالوا: إن هذا لعجب لي سبعون سنة أدعو هذه الآلهة فلم تستطع تفريجه فكيف يفرجه ربكم في غداة واحدة؟ قالوا: ربنا على ما يشاء قدير وهذه لا تنفع شيئا ولا تضر فآمن ودعوا ربهم سبحانه فكشف عزّ وجلّ ما به كأن لم يكن به بأس فأقبل على التكسب فإذا أمسى تصدق بنصف كسبه وأنفق النصف الآخر على نفسه وعياله فلما هم قومه بقتل الرسل جاء من أقصى المدينة يسعى ، وعلى هذا نحته للأصنام غير مشكل ولا يحتاج إلى ذلك الجواب البعيد، نعم بين هذا وبين خبر سباق الأمم ثلاثة وأنه ممن آمن برسول الله صلّى الله عليه وسلم كما آمن تبع منافاة، وكون إيمانه به عليه الصلاة والسلام إنما كان على يد الرسل وإن كان خلاف الظاهر دافع للمنافاة بينه وبين الأخير فتبقى المنافاة بينه وبين الخبر الأول إلا أن يقال: المراد سباق الأمم إلى الإيمان بعد الدعوة ثلاثة لم يكفروا بعدها قط طرفة عين، ومما يدل بظاهره أن الرجل لم يكن قبل مؤمنا ما حكي أن المرسلين اللذين أرسلا أولا لما قربا إلى المدينة رأياه يرعى غنما فسألهما فأخبراه فقال: أمعكما آية؟ فقالا: نشفي المريض ونبرىء الأكمه والأبرص وكان له ولد مريض فمسحاه فبرىء فآمن، وحمل آمن على أظهر الإيمان خلاف الظاهر، والذي يترجح في نظري أنه كان مؤمنا بالمرسلين قبل مجيئه ونصحه لقومه ولا جزم لي بإيمانه ولا عدمه قبل إرسال الرسل، وظواهر الأخبار في ذلك متعارضة ومع هذا لم يتحقق عندي صحة شيء منها والله أعلم تعالى أعلم بحقيقة الحال. وجاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ هنا مقدما على رَجُلٌ عكس ما جاء في القصص وجعله أبو حيان من التفنن في البلاغة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 397 وقال الخفاجي: قدم الجار والمجرور على الفاعل الذي حقه التقديم بيانا لفضله إذ هداه الله تعالى مع بعده عنهم وإن بعده لم يمنعه عن ذلك ولذا عبر بالمدينة هنا بعد التعبير بالقرية إشارة إلى السعة وإن الله تعالى يهدي من يشاء سواء قرب أو بعد، وقيل قدم للاهتمام حيث تضمن الإشارة إلى أن إنذارهم قد بلغ أقصى المدينة فيشعر بأنهم أتوا بالبلاغ المبين، وقيل إنه لو أخر توهم تعلقه بيسعى فلم يفد أنه من أهل المدينة مسكنه في طرفها وهو المقصود، وجملة يَسْعى صفة رَجُلٌ وجوز كونها حالا منه من جوز مجيء الحال من النكرة، وقوله تعالى: قالَ استئناف بياني كأنه قيل: فماذا قال عند مجيئه؟ فقيل: قال يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ وجوز كونه بيانا للسعي بمعنى قصد وجه الله عزّ وجلّ ولا يخفى ما فيه، والتعرض لعنوان رسالتهم لحثهم على اتباعهم كما أن خطابهم بيا قوم لتأليف قلوبهم واستمالتها نحو قبول نصيحته، وقوله تعالى: اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً تكرير للتأكيد وللتوسل به إلى وصفهم بما يتضمن نفي المانع عن اتباعهم بعد الإشارة إلى تحقق المقتضى، وقوله سبحانه: وَهُمْ مُهْتَدُونَ أي ثابتون على الاهتداء بما هم عليه إلى خير الدنيا والآخرة جملة حالية فيها ما يؤكد كونهم لا يسألون الأجر ولا ما يتبعه من طلب جاه وعلو ولذا جعلت إيغالا حسنا نحو قول الخنساء: وإن صخرا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار والظاهر أن الرجل لم يقل ذلك إلا بعد سبق إيمانه، وروي أنه لما بلغته الدعوة جاء يسعى فسمع كلامهم وفهمه ثم قال لهم: أتطلبون أجرا على دعوتكم هذه؟ قالوا: لا فدعا عند ذلك قومه إلى اتباعهم والإيمان بهم قائلا: يا قَوْمِ إلخ، وللنحويين في مثل هذا التركيب وجهان، أحدهما أن تكون مَنْ بدلا من الْمُرْسَلِينَ بإعادة العامل كما أعيد إذا كان حرف جر نحو قوله تعالى: لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ وإليه ذهب بعضهم وثانيهما وإليه ذهب الجمهور أنه ليس ببدل فإنه مخصوص بما إذا كان العامل المعاد حرف جر أما إذا كان رافعا أو ناصبا فيسمون ذلك بالتتبيع لا بالبدل، واستدل بالآية على نقص من يأخذ أجرة على شيء من أفعال الشرع والبحث مستوفى في الفروع وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي تلطف في إرشاد قومه بإيراده في معرض المناصحة لنفسه وإمحاض النصح حيث أراهم أنه اختار لهم ما يختار لنفسه والمراد تقريعهم على ترك عبادة خالقهم إلى عبادة غيره كم ينبىء عنه قوله: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ مبالغة في تهديدهم بتخويفهم بالرجوع إلى شديد العقاب مواجهة وصريحا ولو قال: وإليه أرجع كان فيه تهديد بطريق التعريض، وعد التعبير بإليه ترجعون بعد التعبير بما لي لا أعبد من باب الالتفات لمكان التعريض بالمخاطبين في ما لِيَ لا أَعْبُدُ إلخ فيكون المغبر عنه في الأسلوبين واحدا بناء على ما ذهب إليه الخطيب والسعد التفتازاني من أن التعريض إما مجاز أو كناية وهو هاهنا مجاز لامتناع إرادة الموضوع له فيكون اللفظ مستعملا في غير ما وضع له فيتحد المعبر عنه، وحقق السيد السند أن المعنى التعريضي من مستتبعات الترتيب واللفظ ليس بمستعمل فيه بل هو بالنسبة إلى المستعمل فيه إما حقيقة أو مجاز أو كناية وعليه فضمير المتكلم في ما لِيَ إلخ ليس مستعملا في المخاطبين فلا يكون المعبر عنه في الأسلوبين واحدا فلا التفات، وجوز بعضهم كون الآية من الاحتباك والأصل وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وإليه أرجع ومالكم لا تعبدون الذي فطركم وإليه ترجعون فحذف من الأول نظير ما ذكر في الثاني وبالعكس وهو مفوت لما سمعت، وظاهر كلام الواحدي أنه لا تعريض في الآية حيث قال: لما قال الرجل: يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ إلخ رفعوه إلى الملك فقال له الملك: أفأنت تتبعهم؟ فقال: ما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي أي أي شيء لي إذا لم أعبد خالقي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ تردون عند البعث فيجيزكم بكفركم، ورد عليه بأنه إذا رجع الإنكار إليه دون القوم لم يكن لخطابهم بترجعون معنى وكان الظاهر أرجع. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 398 وأجيب بأنه يمكن أن يقال: إن الرجل كان في غيظ شديد من تكذيبهم الرسل وتوعدهم إياهم فانتهز الفرصة للانتقام فلما تمكن من تهديدهم أوقع قوله: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ في البين أي ما لي لا أعبد الذي من عليّ بنعمة الإيجاد ونعمة الانتقام منكم والتشفي من غيظكم إذ ترجعون إليه فيجزيكم بكفركم وتكذيبكم الرسل وعنادكم، وأنت تعلم أن النظم الجليل لا يساعد على هذا وهو ظاهر فيما تقدم، وقد عاد إلى المساق الأول من التلطف بالإرشاد فقال: أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إنكار ونفي لاتخاذ جنس الآلهة على الإطلاق وفيه من تحميق من يعبد الأصنام ما فيه. وقوله تعالى: إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً استئناف سيق لتعليل النفي المذكور، وجعله صفة لآلهة كما ذهب إليه البعض ربما يوهم أن هناك آلهة ليست كذلك، ومعنى لا تُغْنِي إلخ لا تنفعني شيئا من النفع، وهو إما على حد. لا ترى الضب بها ينجحر. أي لا شفاعة لهم حتى تنفعني، وإما على فرض وقوع الشفاعة أي لا تغني عني شفاعتهم لو وقعت شيئا وَلا يُنْقِذُونِ يخلصون من ذلك الضر بالنصر والمظاهرة، وهو ترق من الأدنى إلى الأعلى بدأ أولا بنفي الجاه وذكر ثانيا انتفاء القدرة وعبر عنه بانتفاء الإنقاذ لأنه نتيجته، وفتح ياء المتكلم في يردني طلحة السمان على ما قال ابن عطية، وقال ابن خالويه: طلحة بن مصرف وعيسى الهمذاني وأبو جعفر، ورويت عن نافع وعاصم وأبي عمرو، وقال الزمخشري: وقرىء إن يردني الرحمن بضر بمعنى إن يوردني ضرا أي يجعلني موردا للضر اهـ، قال أبو حيان: كأنه والله تعالى أعلم رأى في كتب القراءات «يردني» بفتح الياء فتوهم أنها ياء المضارعة فجعل الفعل متعديا بالياء المعدية كالهمزة فلذلك أدخل عليه همزة التعدية ونصب به اثنين، والذي في كتب الشواذ أنها ياء الإضافة المحذوفة خطأ ونطقا لالتقاء الساكنين، قال في كتاب ابن خالويه: بفتح الياء ياء الإضافة، وقال في اللوامح: «أن يردني الرحمن» بالفتح وهو أصل الياء البصرية أي المثبتة بالخط الذي يرى بالبصر لكن هذه محذوفة اهـ كلامه، وحسن الظن بالزمخشري يقتضي خلاف ما ذكره إِنِّي إِذاً أي إذا اتخذت من دونه آلهة لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ فإن إشراك ما يصنع وليس من شأنه النفع ولا دفع الضر بالخالق المقتدر الذي لا قادر غيره ولا خير إلا خيره ضلال وخطأ بين لا يخفى على من له أدنى تمييز إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ الظاهر أن الخطاب لقومه شافههم بذلك وصدع بالحق إظهارا للتصلب في الدين وعدم المبالاة بما يصدر منهم، والجملة خبرية لفظا ومعنى، والتأكيد قيل إنهم لم يعلموا من كلامه أنه آمن بل ترددوا في ذلك لما سمعوا منه ما سمعوا. وإضافة الرب إلى ضميرهم لتحقيق الحق والتنبيه على بطلان ما هم عليه من اتخاذ الأصنام أربابا أي إني آمنت بربكم الذي خلقكم فَاسْمَعُونِ أي فاسمعوا قولي فإني لا أبالي بما يكون منكم على ذلك، وقيل: مراده دعوتهم إلى الخير الذي اختاره لنفسه، وقيل لم يرد بهذا الكلام إلا أن يغضبهم ويشغلهم عن الرسل بنفسه لما رآهم لا ينجع فيهم الوعظ وقد عزموا على الإيقاع بهم وليس بشيء وقدر بعضهم المضاف المحذوف عاما وفسر السماع بالقبول كما في سمع الله تعالى لمن حمده أي فاسمعوا جميع ما قلته واقبلوه وهو مما يسمع. وجعل الخطاب للقوم في الجملتين هو المروي عن ابن عباس وكعب ووهب وأخرج الحاكم عن ابن مسعود أنه قال: لما قال صاحب يس يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ خنقوه ليموت فالتفت إلى الأنبياء فقال: إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ أي فاشهدوا فالخطاب فيهما للرسل بطريق التلوين، وأكد الخبر إظهارا لصدوره عنه بكمال الرغبة والنشاط، وأضاف الرب إلى ضميرهم روما لزيادة التقرير وإظهارا للإختصاص والاقتداء بهم كأنه قال: بربكم الذي أرسلكم أو الذي تدعوننا إلى الإيمان به، وطلب السماع منهم ليشهدوا له بالإيمان عند الله عزّ وجلّ كما يشير إليه كلام ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، وقيل الخطاب الأول لقومه والثاني للرسل خاطبهم على جهة الاستشهاد بهم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 399 والاستحفاظ للأمر عندهم، وقيل الخطابان للناس جميعا، وروي عن عاصم أنه قرأ «فاسمعون» بفتح النون، قال أبو حاتم: هذا خطأ لا يجوز لأنه أمر فإما أن تحذف كما حذفت نون الإعراب ويقال فاسمعوا وإما أن تبقى وتكسر، ومن الناس من وجهه بأن الأصل فاسمعونا أي فاسمعوا كلامنا أي كلامي وكلامهم لتشهدوا بما كان مني ومنهم. قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ استئناف لبيان ما وقع له بعد قوله ذلك، والظاهر أن الأمر إذن له بدخول الجنة حقيقة وفي ذلك إشارة إلى أن الرجل قد فارق الدنيا فعن ابن مسعود أنه بعد أن قال ما قال قتلوه بوطء الأرجل حتى خرج قصبه من دبره وألقى في بئر وهي الرس، وقال السدي: رموه بالحجارة وهو يقول: اللهم اهد قومي حتى مات، وقال الكلبي: رموه في حفرة وردوا التراب عليه فمات، وعن الحسن حرقوه حتى مات وعلقوه في بر المدينة وقبره في سور أنطاكية، وقيل: نشروه بالمنشار حتى خرج من بين رجليه. ودخوله الجنة بعد الموت دخول روحه وطوافها فيها كدخول سائر الشهداء، وقيل الأمر للتبشير لا للإذن بالدخول حقيقة قالت له ملائكة الموت ذلك بشارة له بأنه من أهل الجنة يدخلها إذا دخلها المؤمنون بعد البعث، وحكي نحو ذلك عن مجاهد. أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أنه قال في قوله تعالى: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ وجبت له الجنة، وجاء في رواية عن الحسن أنه قال: لما أراد قومه قتله رفعه الله تعالى إلى السماء حيا كما رفع عيسى عليه السّلام إلى السماء فهو في الجنة لا يموت إلا بفناء السماء وهلاك الجنة فإذا أعاد الله تعالى الجنة أعيد له دخولها فالأمر كما في الأول، والجمهور على أنه قتل، وادعى ابن عطية أنه تواتر الأخبار والروايات بذلك، وقول قتادة أدخله الله تعالى الجنة وهو فيها حي يرزق ليس نصا في نفي القتل. وفي البحر أنه أراد بقوله وهو فيها حي يرزق قوله تعالى: بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران: 169] وقال بعضهم: الجملة جواب سؤال مقدر كأنه قيل: ما حاله عند لقاء ربه عزّ وجلّ بعد ذلك التصلب في دينه. فقيل: قيل أدخل الجنة، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع، ولعل الأولى ما أشرنا إليه أولا، وإنما لم يقل قيل له لأن الغرض المهم بيان المقول لا القائل والمقول له، وقوله تعالى: قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ استئناف بياني أيضا كأنه قيل بعد أن أخبر عنه بما أخبر: فماذا قال عند نيله تلك الكرامة السنيّة؟ قال إلخ، وإنما تمني علم قومه بحاله ليحملهم ذلك على اكتساب مثله بالتوبة عن الكفر والدخول في الإيمان والطاعة جريا على سنن الأولياء في كظم الغيظ والترحم على الأعداء، وفي الحديث نصح قومه حيا وميتا. وقيل: يجوز أن يكون تمنيه ذلك ليعلموا أنهم كانوا على خطأ عظيم في أمره وأنه كان على صواب ونصيحة وشفقة وأن عداوتهم لم تكسبه إلا فوزا ولم تعقبه إلا سعادة لأن في ذلك زيادة غبطة له وتضاعف لذة وسرور، والوجه الأول أولى، والظاهر أن ما مصدرية، ويجوز أن تكون موصولة والعائد مقدر أي يا ليت قومي يعلمون بالذي غفر لي به أي بسببه ربي أو بالذي غفره أي بالغفران الذي غفره لي ربي، والمراد تعظيم مغفرته تعالى له فتؤول إلى المصدرية، وقال الزمخشري: أي بالذي غفره لي ربي من الذنوب. وتعقب بأنه ليس بجيد إذ يؤول إلى تمني علمهم بذنوبه المغفورة ولا يحسن ذلك، وكذا عطف وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ عليه لا ينتظم، وما قيل من أن الغرض منه الأعلام بعظم مغفرة الله تعالى ووفور كرمه وسعة رحمته فلا يبعد حينئذ إرادة معنى الاطلاع عليها لذلك بل هو أوقع في النفس من ذكر المغفرة مجردة عن ذكر المغفور لاحتمال حقارته تكلف. وأجاز الفراء أن تكون استفهامية والجار صلة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 400 غَفَرَ أي بأي شيء غفر لي ربي يريد به المهاجرة عن دينهم والمصابرة على أذيتهم حتى قتل. وتعقبه الكسائي بأنه لو صح ذلك لقيل بم بغير ألف فإن اللغة الفصيحة حذفها إذا جرت ما (1) الاستفهامية بحرف جر نحو عم يتساءلون، وقوله: علام أقول الرمح أثقل عاتقي ... إذا أنا لم أطعن إذا الخيل كرت فرقا بينها وبين الموصولة، وإثباتها نادر، وقيل مختص بالضرورة نحو قوله: على ما قام يشتمني لئيم ... كخنزير تمرغ في رماد وقوله: إنا قتلنا بقتلانا سراتكم ... أهل اللواء ففيما يكثر القتل وقراءة عكرمة وعيسى «عما يتساءلون» وقرأ «من المكرمين» مشدد الراء مفتوحها مفتوح الكاف. تم والحمد لله الجزء الثاني والعشرون ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثالث والعشرون وأوله وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ   (1) وخص الاستفهام لأنه اسم تام فهي معه كاسم واحد اهـ منه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 401 وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ أي قوم الرجل الذي قيل له ادخل الجنة مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد قتله، وقيل من بعد رفعه إلى السماء حيا مِنْ جُنْدٍ أي جندا فمن مزيدة لتأكيد النفي، وقيل: يجوز أن تكون للتبعيض وهو خلاف الظاهر، والجند العسكر لما فيه من الغلظة كأنه من الجند أي الأرض الغليظة التي فيها حجارة والظاهر أن المراد بهذا الجند الملائكة أي ما أنزلنا لإهلاكهم ملائكة مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ وما صح في حكمتنا أن ننزل الجند لإهلاكهم لما أنا قدرنا لكل شيء سببا حيث أهلكنا بعض من أهلكنا من الأمم بالحاصب وبعضهم بالصيحة وبعضهم بالخسف وبعضهم بالإغراق وجعلنا إنزال الجند من خصائصك في الانتصار لك من قومك وكفينا أمر هؤلاء بصيحة ملك صاح بهم فهلكوا كما قال سبحانه: إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ وفي ذلك استحقار لهم ولإهلاكهم وإيماء إلى تفخيم شأن النبي صلّى الله عليه وسلم، وفسر أبو حيان الجند بما يعم الملائكة فقال: كالحجارة والريح وغير ذلك والمتبادر ما تقدم، وقيل: الجند ملائكة الوحي الذين ينزلون على الأنبياء عليهم السلام أي قطعنا عنهم الرسالة حين فعلوا ما فعلوا ولم نعبأ بهم وأهلكناهم، وعن الحسن ومجاهد قالا قطع الله تعالى عنهم الرسالة حين قتلوا رسله، وهذا التفسير بعيد جدا، وقتل الرسل الثلاثة محكي في البحر بقيل وهو ظاهر هذا المروي لكن المعروف أنهم لم يقتلوا وإنما قتل حبيب فقط، وذهبت فرقة إلى أن ما في قوله تعالى وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ موصولة معطوفة على جُنْدٍ والمراد ما أنزلنا على قومه من بعده جندا من السماء وما أنزلنا الذي كنا منزليه على الذين من قبلهم من حجارة وريح وغير ذلك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 3 وتعقبه أبو حيان بأنه يلزم عليه زيادة مِنْ في المعرفة، ومن هنا قيل الأولى جعلها نكرة موصوفة، وأجيب بأنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع، ولا يخفى أن هذا لا يدفع بعده، ومن أبعد ما يكون قول أبي البقاء: يجوز أن تكون ما زائدة أي وقد كنا منزلين على غيرهم جندا من السماء بل هو ليس بشيء، وإن نافية وكان ناقصة واسمها مضمر وصَيْحَةً خبرها أي ما كانت هي أي الأخذة أو العقوبة إلا صيحة واحدة، روي أن الله تعالى بعث عليهم جبريل عليه السلام حتى أخذ بعضادتي باب المدينة فصاح بهم صيحة واحدة فماتوا جميعا ، وإذا فجائية وفيها إشارة إلى سرعة هلاكهم بحيث كان مع الصيحة، وقد شبهوا بالنار على سبيل الاستعارة المكنية والخمود تخييل، وفي ذلك رمز إلى أن الحي كشعلة النار والميت كالرماد كما قال لبيد: وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعد إذ هو ساطع ويجوز أن تكون الاستعارة تصريحية تبعية في الخمود بمعنى البرودة والسكون لأن الروح لفزعها عند الصيحة تندفع إلى الباطن دفعة واحدة ثم تنحصر فتنطفىء الحرارة الغريزية لانحصارها، ولعل في العدول عن هامدون إلى خامِدُونَ رمزا خفيا إلى البعث بعد الموت، والظاهر أنه لم يؤمن منهم سوى حبيب وإنهم هلكوا عن آخرهم، وفي بعض الآثار أنه آمن الملك وآمن قوم من حواشيه ومن لم يؤمن هلك بالصيحة، وهذا بعيد فإنه كان الظاهر أن يظاهر أولئك المؤمنون الرسل كما فعل حبيب ولكان لهم في القرآن الجليل ذكر ما بوجه من الوجوه اللهم إلا أن يقال: إنهم آمنوا خفية وكان لهم ما يعذرون به عن المظاهرة، ومع هذا لا يخلو بعد عن بعد، وقرأ أبو جعفر وشيبة ومعاذ بن الحارث القارئ «صيحة» بالرفع على أن كان تامة أي ما حدثت ووقعت إلا صيحة وينبغي أن لا تلحق الفعل تاء التأنيث في مثل هذا التركيب فلا يقال ما قامت إلا هند بل ما قام إلا هند لأن الكلام على معنى ما قام أحد إلا هند والفاعل فيه مذكر، ولم يجوز كثير من النحويين الإلحاق إلا في الشعر كقول ذي الرمة: طوى النحز والأجراز ما في غروضها ... وما بقيت إلا الضلوع الجراشع وقول الآخر: ما برئت من ريبة وذم ... في حربنا إلا بنات العم ومن هنا أنكر الكثير كما قال أبو حاتم هذه القراءة، ومنهم من أجاز ذلك في الكلام على قلة كما في قراءة الحسن ومالك بن دينار وأبي رجاء والجحدري وقتادة وأبي حيوة وابن أبي عبلة وأبي بحرية «لا ترى إلّا مساكنهم» بالتاء الفوقية، ووجهه مراعاة الفاعل المذكور، وكأني بك تميل إلى هذا القول، وقرأ ابن مسعود «إلا زقية» من زقى الطائر يزقو ويزقى زقوا وزقاء إذا صاح، ومنه المثل أثقل من الزواقي وهي الديكة لأنهم كانوا يسمرون إلى أن تزقوا فإذا صاحت تفرقوا يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ الحسرة على ما قال الراغب الغم على ما فات والندم عليه كأن المتحسر انحسر عنه قواه من فرط ذلك أو أدركه اعياء عن تدارك ما فرط منه، وفي البحر هي أن يركب الإنسان من شدة الندم ما لا نهاية بعده حتى يبقى حسيرا، والظاهر أن يا للنداء وحَسْرَةً هو المنادى ونداؤها مجاز بتنزيلها منزلة العقلاء كأنه قيل: يا حسرة احضري فهذه الحال من الأحوال التي من حقها أن تحضري فيها وهي ما دل عليها قوله تعالى: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ والمراد بالعباد مكذبو الرسل ويدخل فيهم المهلكون المتقدمون دخولا أوليا، وقيل: هم المراد وليس بذاك وبالحسرة المناداة حسرتهم والمستهزءون بالناصحين المخلصين المنوط بنصحهم خير الدارين أحقاء بأن يتحسروا على أنفسهم حيث فوتوا عليها السعادة الأبدية وعوضوها العذاب المقيم، ويؤيد هذا قراءة ابن عباس وأبي وعلي بن الحسين والضحاك ومجاهد والحسن «يا حسرة العباد» بالإضافة، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 4 وكون المراد حسرة غيرهم عليهم والاضافة لأدنى ملابسة خلاف الظاهر وأخرج ابن جرير. وغيره عن قتادة أنه قال في بعض القراءات «يا حسرة العباد على أنفسها ما يأتيهم» إلخ. وجوز أن تكون حسرة الملائكة عليهم السلام والمؤمنين من الثقلين، وعن الضحاك تخصيصها بحسرة الملائكة عليهم السلام وزعم أن المراد بالعباد الرسل الثلاثة وأبو العالية فسر الْعِبادِ بهذا أيضا لكنه حمل الحسرة على حسرة الكفار المهلكين قال: تحسروا حين رأوا عذاب الله تعالى وتلهفوا على ما فاتهم، وقيل: المراد بالعباد المهلكون والمتحسر الرجل الذي جاء من أقصى المدينة تحسر لما وثب القوم لقتله، وقيل: المراد بالعباد أولئك والمتحسر الرسل حين قتلوا ذلك الرجل وحل بهم العذاب ولم يؤمنوا، ولا يخفى حال هذه الأقوال وكان مراد من قال: المتحسر الرجل ومن قال المتحسر الرسل عنى أن القول المذكور قول الرجل أو قول الرسل، وفي كلام أبي حيان ما هو ظاهر في ذلك، ومع هذا لا ينبغي أن يعول على شيء مما ذكر، وجوز أن يكون التحسر منه سبحانه وتعالى مجازا على استعظام ما جنوه على أنفسهم، وأيد بأنه قرىء «يا حسرتا على العباد» فإن الأصل عليها يا حسرتي فقلبت الياء ألفا، ونحوها قراءة ابن عباس كما قال ابن خالويه «يا حسرة على العباد» بغير تنوين فإن الأصل أيضا يا حسرتي فقلبت الياء ألفا ثم حذفت الألف واكتفى عنها بالفتحة، وقرأ أبو الزناد وابن هرمز وابن جندب «يا حسرة على العباد» بالهاء الساكنة، قال في المنتقى: وقف «على حسره» وقفا طويلا تعظيما للأمر ثم قيل «على العباد» . وفي اللوامح وقفوا على الهاء مبالغة في التحسر لما في الهاء من التأهه كالتأوه، ثم وصلوه على تلك الحال. وقال الطيبي: إن العرب إذا أخبرت عن الشيء غير معتد به أسرعت فيه ولم تأت على اللفظ المعبر عنه نحو قلت لها قفي قالت لنا قاف أي وقفت فاقتصرت من جملة الكلمة على حرف منها تهاونا بالحال وتثاقلا عن الإجابة، ولا يخفى أن هذا لا يناسب المقام، وينبغي على هذا القراءة أن لا يكون عَلَى الْعِبادِ متعلقا بحسرة أو صفة له إذ لا يحسن الوقف حينئذ بل يجعل متعلقا بمضمر يدل عليه حَسْرَةً نحو يتحسر أو أتحسر على العباد، وتقدير انظروا ليس بذاك أو خبر مبتدأ محذوف لبيان المتحسر عليه أي الحسرة على العباد وتخريج قراءة «يا حسرتا» بالألف على هذا الطرز بأن يقال: قدر الوقف على المنصوب المنون فإنه يوقف عليه بالألف ككان الله على كل شيء قديرا، وضرب زيد عمرا ليس بشيء ولو سلم أنه شيء لا ينافي التأييد، وقيل يا للنداء والمنادى محذوف وحَسْرَةً مفعول مطلق لفعل مضمر وعَلَى الْعِبادِ متعلق بذلك الفعل أي يا هؤلاء تحسروا حسرة على العباد. ولعل الأوفق للمقام المتبادر إلى الأفهام أن المراد نداء حسرة كل من يتأتى منه التحسر ففيه من المبالغة ما فيه. وقوله تعالى ما يَأْتِيهِمْ إلخ استئناف لبيان ما يتحسر منه، وبِهِ متعلق بيستهزئون. وقدم عليه للحصر الادعائي وجوز أن يكون لمراعاة الفواصل. أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ الضمير لأهل مكة والاستفهام للتقرير وكم خبرية في موضع نصب باهلكنا ومِنَ الْقُرُونِ بيان لكم، وجوز بعض المتأخرين كون كَمْ مبتدأ والجملة بعده خبره وهو كلام من لا خبر عنده والجملة معمولة ليروا نافذ معناها فيها وكَمْ معلقة لها عن العمل في اللفظ لأنها وإن كانت خبرية لها صدر الكلام كالاستفهامية فلا يعمل فيها عامل متقدم على اللغة الفصيحة إلا إذا كان حرف جر أو اسما مضافا نحو على كم فقير تصدقت أرجو الثواب وابن كم رئيس صحبته. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 5 وحكى الأخفش على ما في البحر جواز تقدم عامل عليها غير ذلك عن بعضهم نحو ملكت كم غلام أي ملكت كثيرا من الغلمان عاملوها معاملة كثير والرؤية علمية لا بصرية خلافا لابن عطية لأنها لا تعلق على المشهور ولأن أهل مكة لم يحضروا إهلاك من قبلهم حتى يروه بل علموه بالأخبار ومشاهدة الآثار، والقرون جمع قرن وهم القوم المقترنون في زمن واحد كعاد وثمود وغيرهم أَنَّهُمْ الضمير عائد على معنى كَمْ وهي القرون أي إن القرون المهلكين إِلَيْهِمْ أي إلى أهل مكة لا يَرْجِعُونَ وأن وما بعدها في تأويل المفرد بدل من جملة كَمْ أَهْلَكْنا على المعنى كما نقل عن سيبويه وتبعه الزجاج أي ألم يروا كثرة إهلاكنا من قبلهم وكونهم غير راجعين إليهم. وقيل على المعنى لأن الكثرة المذكورة وعدم الرجوع ليس بينهما اتحاد بجزئية ولا كلية ولا ملابسة كما هو مقتضى البدلية لكن لما كان ذلك في معنى الذين أهلكناهم وأنهم لا يرجعون بمعنى غير راجعين اتضح فيه البدلية على أنه بدل اشتمال أو بدل كل من كل قاله الخفاجي: وأفاد صاحب الكشف على أنه من بدل الكل بجعل كونهم غير راجعين كثرة إهلاك تجوزا، وعندي أن هذا الوجه وإن لم يكن فيه إبدال مفرد من جملة وتحقق فيه مصحح البدلية على ما سمعت ولا يخلو عن تكلف، وسيبويه ليس بنبي النحو ليجب اتّباعه. وقال السيرافي: يجوز أن يجعل أَنَّهُمْ إلخ صلة أهلكناهم أي أهلكناهم بأنهم لا يرجعون أي بهذا الضرب من الهلاك، وجوز ابن هشام في المغني أن يكون إن وصلتها معمول يَرَوْا وجملة كَمْ أَهْلَكْنا معترضة بينهما وأن يكون معلقا عن كَمْ أَهْلَكْنا وأنهم إليهم لا يرجعون مفعولا لأجله، قال الشمني: ليروا والمعنى أنهم علموا لأجل أنهم لا يرجعون إهلاكهم. ورد بأنه لا فائدة يعتد بها فيما ذكر من المعنى. وتعقبه الخفاجي بقوله: لا يخفى أن ما ذكر وارد على البدلية أيضا، والظاهر أن المقصود من ذكره إما التهكم بهم وتحميقهم وإما إفادة ما يفيد تقديم إِلَيْهِمْ من الحصر أي إنهم لا يرجعون إليهم بل إلينا فيكون ما بعده مؤكدا له اه وهو كما ترى، وقال الجلبي: لعل الحق أن يجعل أول الضميرين لمعنى كَمْ وثانيهما للرسل وإن وصلتها مفعولا لأجله لأهلكناهم، والمعنى أهلكناهم لاستمرارهم على عدم الرجوع عن عقائدهم الفاسدة إلى الرسل وما دعوهم إليه فاختيار لا يَرْجِعُونَ على لم يرجعوا للدلالة على استمرار النفي مع مراعاة الفاصلة انتهى. وهو على بعده ركيك معنى، وأرك منه ما قيل الضمير أن على ما يتبادر فيهما من رجوع الأول بمعنى كَمْ والثاني لمن نسبت إليه الرؤية وأن وصلتها علة لأهلكنا، والمعنى أنهم لا يرجعون إليهم فيخبروهم بما حل بهم من العذاب وجزاء الاستهزاء حق ينزجر هؤلاء فلذا أهلكناهم، ونقل عن الفراء أنه يعمل يَرَوْا في كَمْ أَهْلَكْنا وفي أَنَّهُمْ إلخ من غير إبدال ولم يبين كيفية ذلك. وزعم ابن عطية أن أن وصلتها بدل من كَمْ ولا يخفى أنه إذا جعلها معمول أَهْلَكْنا كما هو المعروف لا يسوغ ذلك لأن البدل على نية تكرار العامل ولا معنى لقولك أهلكنا أنهم لا يرجعون ولعله تسامح في ذلك، والمراد بدل من كَمْ أَهْلَكْنا على المعنى كما حكي عن سيبويه، وأما جعل كَمْ معمولة ليروا والإبدال منها نفسها إذ ذاك فلا يخفى حاله، وقال أبو حيان: الذي تقتضيه صناعة العربية أن أَنَّهُمْ إلخ مفعول لمحذوف دل عليه المعنى وتقديره قضينا أو حكمنا أنهم إليهم لا يرجعون والجملة حال من فاعل أَهْلَكْنا على ما قال الخفاجي وأراه أبعد عن القيل والقال بيد أن في الدلالة على المحذوف خفاء فإن لم يلصق بقلبك لذلك فالأقوال بين يديك ولا حجر عليك. وكأني بك تختار ما نقل عن السيرافي ولا بأس به، وجوز على بعض الأقوال أن يكون الضمير في أَنَّهُمْ عائدا على من أسند إليه يروا وفي إِلَيْهِمْ عائدا على المهلكين، والمعنى أن الباقين لا يرجعون إلى المهلكين الجزء: 12 ¦ الصفحة: 6 بنسب ولا ولادة أي أهلكناهم وقطعنا نسلهم والإهلاك مع قطع النسل أتم وأعم، ويحسن هذا على الوجه المحكي عن السيرافي وقرأ ابن عباس والحسن «إنه» بكسر الهمزة على الاستئناف وقطع الجملة عما قبلها من جهة الاعراب. وقرأ عبد الله «ألم يروا من أهلكنا فإنهم» إلخ على قراءة الفتح بدل اشتمال، ورد بالآية على القائلين بالرجعة كما ذهب إليه الشيعة. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن أبي إسحاق قال: قيل لابن عباس أن ناسا يزعمون أن عليا كرم الله تعالى وجهه مبعوث قبل يوم القيامة؟ فسكت ساعة ثم قال: بئس القوم نحن إن نكحنا نساءه واقتسمنا ميراثه أما تقرءون أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ. وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ بيان لرجوع الكل إلى المحشر بعد بيان عدم الرجوع إلى الدنيا وإِنْ نافية وكُلٌّ مبتدأ وتنوينه عوض عن المضاف إليه، ولَمَّا بمعنى إلا ومجيئها بهذا المعنى ثابت في لسان العرب بنقل الثقات فلا يلتفت إلى زعم الكسائي أنه لا يعرف ذلك. وقال أبو عبد الله الرازي: في كونها بهذا المعنى معنى مناسب وهو أنها كأنها حرفا نفي أكد أولهما بثانيهما وهما لم وما وكذلك إلا كأنها حرفا نفي وهما إن النافية ولا فاستعمل أحدهما مكان الآخر، وهو عندي ضرب من الوساوس وجَمِيعٌ خبر المبتدأ وهو فعيل بمعنى مفعول فيفيد ما لا تفيده كُلٌّ لأنها تفيد إحاطة الأفراد وهذا يفيد اجتماعها وانضمام بعضها إلى بعض ولَدَيْنا ظرف له أو لمحضرون ومُحْضَرُونَ خبر ثان أو نعت وجمع على المعنى، والمعنى ما كلهم إلا مجموعون لدينا محضرون للحساب والجزاء. وقال ابن سلام: محضرون أي معذبون فكل عبارة عن الكفرة، ويجوز أن يراد به هذا المعنى على الأول. وفي الآية تنبيه على أن المهلك لا يترك. وقرأ جمع من السبعة لَمَّا بالتخفيف على أن إن مخففة من الثقيلة واللام فارقة وما مزيدة للتأكيد والمعنى أن الشأن كلهم مجموعون إلخ وهذا مذهب البصريين، وذهب الكوفيون إلى أن إن نافية واللام بمعنى إلا وما مزيدة والمعنى كما في قراءة التشديد وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ بالتخفيف وقرأ نافع بالتشديد، وآيَةٌ خبر مقدم للاهتمام وتنكيرها للتفخيم ولَهُمُ إما متعلق بها لأنها بمعنى العلامة أو متعلق بمضمر هو صفة لها وضمير الجمع لكفار أهل مكة ومن يجري مجراهم في إنكار الحشر، والْأَرْضُ مبتدأ والْمَيْتَةُ صفتها، وقوله تعالى أَحْيَيْناها استئناف مبين لكيفية كونها آية، وقيل في موضع الحال والعامل فيها آية لما فيها من معنى الإعلام وهو تكلف ركيك، وقيل آيَةٌ مبتدأ أول ولَهُمُ صفتها أو متعلق بها وكل من الأمرين مسوغ للابتداء بالنكرة والْأَرْضُ الْمَيْتَةُ مبتدأ ثان وصفة وجملة أَحْيَيْناها خبر المبتدأ الثاني وجملة المبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول ولكونها عين المبتدأ كخبر ضمير الشأن لم تحتج لرابط، قال الخفاجي: وهذا حسن جدا إلا أن النحاة لم يصرحوا به في غير ضمير الشأن، وقيل إنها مؤولة بمدلول هذا القول فلذا لم يحتج لذلك ولا يخفى بعده، وقيل آيَةٌ مبتدأ والْأَرْضُ خبره وجملة أَحْيَيْناها صفة الأرض لأنها لم يرد بها أرض معينة بل الجنس فلا يلزم توصيف المعرفة بالجملة التي هي في حكم النكرة، ونظير ذلك قوله: ولقد أمر على اللئيم يسبني ... فمضيت ثمت قلت لا يعنيني وأنكر جواز ذلك أبو حيان مخالفا للزمخشري وابن مالك في التسهيل وجعل جملة يسبني حالا من اللئيم، وأنت تعلم أن المعنى على استمرار مروره على من يسبه وإغماضه عنه ولهذا قال: أمر وعطف عليه فمضيت والتقييد بالحال لا يؤدي هذا المؤدى، ثم إن مدار الخبرية إرادة الجنس فليس هناك أخبار بالمعرفة عن النكرة ليكون مخالفا للقواعد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 7 كما قيل نعم أرجح الأوجه ما قرر أولا وقد مر المراد بموت الأرض وإحيائها فتذكر. وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا أي جنس الحب من الحنطة والشعير والأرز وغيرها، والنكرة قد تعم كما إذا كانت في سياق الامتنان أو نحوه، وفي ذكر الإخراج وكذا الجعل الآتي تنبيه على كمال الأحياء فَمِنْهُ أي من الحب بعد إخراجنا إياه، والفاء داخلة على المسبب ومن ابتدائية أو تبعيضية والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى يَأْكُلُونَ والتقديم للدلالة على أن الحب معظم ما يؤكل ويعاش به لما في ذلك من إيهام الحصر للاهتمام به حتى كأنه لا مأكول غيره وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ جمع نخل كعبيد جمع عبد كما ذهب إليه أكثر الأئمة وصرح به في القاموس، وقيل اسم جمع، وقال الجوهري: النخل والنخيل بمعنى واحد وعلى الأول المعول وَأَعْنابٍ جمع عنب ويقال على الكرم نفسه وعلى ثمرته كما قال الراغب: ولعله مشترك فيهما، وقيل حقيقة في الثمرة مجاز في الشجرة، وأيا ما كان فالمراد الأول بقرينة العطف على النخيل، وجمعا دون الحب قيل لتدل الجمعية على تعدد الأنواع أي من أنواع النخل وأنواع العنب وذلك لأن النخل والعنب اسمان لنوعين فكل منهما مقول على إفراد حقيقة واحدة فلا يدلان على اختلاف ما تحتهما وتعدد أنواعه إلا إذا عبر عنهما بلفظ الجمع بخلاف الحب فإنه اسم جنس وهو يشعر باختلاف ما تحته لأنه المقول على كثرة مختلفة الحقائق قولا ذاتيا فلا يحتاج في الدلالة على الاختلاف إلى الجمعية، وقولهم جمع العالم في قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة: 2] وهو اسم جنس ليشمل ما تحته من الأجناس لا ينافي ذلك قيل لأن المراد ليشمل شمولا ظاهرا متعينا وإن حصل الإشعار بدونه، وقيل جمعا للدلالة على مزيد النعمة، وأما الحب ففيه قوام البدن وهو حاصل بالجنس. وامتن عز وجل في معرض الاستدلال على أمر الحشر بجعل الجنات من النخيل والأعناب المراد بها الأشجار ولم يمتن سبحانه وتعالى بجعل ثمرات تلك الأشجار من التمر والعنب كما امتن جل جلاله بإخراج الحب إعظاما للمنة لتضمن ذلك الامتنان بالثمار وغيرها من منافع تلك الأشجار أنفسها بسائر أجزائها للإنسان نفسه بلا واسطة لا سيما النخيل، ولا دلالة في الكلام على حصر ثمرة الجعل بأكل الثمرة، وثمرة التنصيص على ذلك من بين المنافع ظاهرة وهذا بخلاف أشجار الحبوب فإنها ليست بهذه المثابة ولذا غير الأسلوب ولم يعامل ثمر ذلك معاملة الحبوب وكلام البيضاوي عليه الرحمة ظاهر في أن المراد بالأعناب الثمار المعروفة لا الكروم وعلل ذكر النخيل دون ثمارها مع أنه الأوفق بما قبل وما بعد باختصاصها بمزيد النفع وآثار الصنع وتفسير الأعناب بالثمار دون الكروم بعيد عندي لمكان العطف مع أن الجار والمجرور في موضع الصفة لجنات، والمعروف كونها من أشجار لا من ثمار. قال الراغب: الجنة كل بستان ذي شجر يستر بأشجاره الأرض، وقد تسمى الأشجار الساترة جنة وعلى ذلك حمل قوله: من النواضح تسقي جنة سحقا على أن في الآية بعد ما يؤيد إرادة الثمار فتدبر. وَفَجَّرْنا فِيها أي شققنا في الأرض. وقرأ جناح بن حبيش «فجرنا» بالتخفيف والمعنى واحد بيد أن المشدد دال على المبالغة والتكثير مِنَ الْعُيُونِ أي شيئا من العيون على أن الجار والمجرور في موضع الصفة لمحذوف، ومن بيانية وجوز كونها تبعيضية وليس بذاك، وقيل المفعول محذوف ومِنَ الْعُيُونِ متعلق بفجر ومن ابتدائية على معنى فجرنا من المنابع ما ينتفع به من الماء، وذهب الأخفش إلى زيادة من وجعل العيون مفعول فجرنا لأنه يرى جواز زيادتها في الإثبات مع تعريف مجرورها لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ متعلق بجعلنا وتأخيره عن تفجير العيون الجزء: 12 ¦ الصفحة: 8 لأنه من مبادئ الثمر أي وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب ورتبنا مبادئ ثمرها ليأكلوا، وضمير ثمره عائد على المجعول وهو الجنات ولذا أفرد وذكر ولم يقل من ثمرها أي الجنات أو من ثمرهما أي النخيل والأعناب، ومثله ما قيل عائد على المذكور والضمير قد يجري مجرى اسم الاشارة كما في قول رؤبة: فيها خطوط من سواد وبلق ... كأنه في الجلد توليع البهق (1) فإنه أراد كما قال لأبي عبيدة وقد سأله كأن ذاك، وقيل عائد على الماء لدلالة العيون عليه أو لكون الكلام على حذف مضاف أي ماء العيون، وقيل على النخيل واكتفى به للعلم باشتراك الأعناب معه في ذلك، وقيل على التفجير المفهوم من فَجَّرْنا والمراد بثمره فوائده كما تقول ثمرة التجارة الربح أو هو ظاهره والإضافة لأدنى ملابسة والكل كما ترى، وجوز أن يكون الضمير له عز وجل وإضافة الثمر إليه تعالى لأنه سبحانه خالقه فكأنه قيل: ليأكلوا مما خلقه الله تعالى من الثمر. وكان الظاهر من ثمرنا لضمير العظمة على قياس ما تقدم إلا أنه التفت من التكلم إلى الغيبة لأن الأكل والتعيش مما يشغل عن الله تعالى فيناسب الغيبة فالالتفات في موقعه. وزعم بعضهم أن هذا ليس من مظانه لأنه أولى بضمير الواحد المطاع لأنه المقصود بالإحياء والجعل والتفجير وقد أسندت إليه. ورد بأن ما سبق أفخم لأنها أفعال عامة النفع ظاهرة في كمال القدرة والثمر أحط مرتبة من الحب ولذا لم يورد على سبيل الاختصاص فلا يستحق ذلك التفخيم كيف وقد جعل بعضهم الثمر خلق الله تعالى وكماله بفعل الآدمي، وبما تقدم يستغنى عما ذكر. وقرأ طلحة وابن وثاب وحمزة والكسائي «من ثمره» بضمتين وهي لغة فيه أو هو جمع ثمار. وقرأ الأعمش «من ثمره» بضم فسكون وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ ما موصولة في محل جر عطف على ثَمَرِهِ وجعله في محل نصب عطفا على محل مِنْ ثَمَرِهِ خلاف الظاهر أي وليأكلوا من الذي عملوه أو صنعوه بقواهم، والمراد به ما يتخذ من الثمر كالعصير والدبس وغيرهما، وقال الزمخشري: أي من الذي عملته أيديهم بالغرس والسقي والآبار وليس بذاك، وجوز أن تكون ما نكرة موصوفة أي ومن شيء عملته أيديهم والأول أظهر، وقيل: ما نافية وضمير عَمِلَتْهُ راجع إلى الثمر والجملة في موضع الحال، والمراد من نفي عمل أيديهم إياه أنه بخلق الله تعالى لا بفعلهم ولا تقول المشايخ بالتوليد، وروي القول بأنها نافية عن ابن عباس والضحاك، وظاهر كلام الحبر أن الضمير راجع إلى شيئا الموصوف المحذوف والجملة حال منه، فقد روى سعيد بن منصور وابن المنذر عنه أنه قال: وجدوه معمولا لم تعمله أيديهم يعني الفرات ودجلة ونهر بلخ وأشباهها وفيه بعد. وأيد القول بالموصولية بقراءة طلحة وعيسى وحمزة والكسائي وأبي بكر «وما عملت» بلا هاء، ووجه التأييد أن الموصول مع الصلة كاسم واحد فيحسن معه لاستطالته ولاقتضائه إياه ودلالته عليه يكون كالمذكور، وتقدير اسم ظاهر غير ظاهر وقال الطيبي: جعلها نافية أولى من جعلها موصولة لئلا يوهم استقلالهم بالعمل لأن ذكر الأيدي للتأكيد في هذا المقام كما في قوله تعالى أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً [يس: 71] لأن التركيب من باب أخذته بيدي ورأيته بعيني وحينئذ لا يناسب أن يكون قوله تعالى أَحْيَيْناها إلخ تفسيرا لكون الأرض الميتة آية. وتعقبه في الكشف بأنه ليس بشيء لأن العمل من العباد بمعنى الكسب وقد جاء بما قدمت أيديكم وبما قدمت يداك فهذا التأكيد دافع للإيهام انتهى فلا تغفل. وجوز على هذه القراءة كون ما مصدرية أي وعمل أيديهم ويراد بالمصدر اسم المفعول أي معمول أيديهم   (1) ظهور النقط البيض على الشيء اه منه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 9 فيعود إلى معنى الموصولة ولا يخفى ما فيه أَفَلا يَشْكُرُونَ إنكار واستقباح لعدم شكرهم للمنعم بالنعم المعدودة بالتوحيد والعبادة، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أيرون هذه النعم أو أيتنعمون بها فلا يشكرون المنعم بها سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها استئناف مسوق لتنزيهه تعالى عما فعلوه من ترك شكره عز وجل واستعظام ما ذكر في حين الصلة من بدائع آثار قدرته وأسرار حكمته وروائع نعمائه الموجبة لشكره تعالى وتخصيص العبادة به سبحانه والتعجيب من إخلالهم بذلك والحال هذه، وقد تقدم الكلام في سُبْحانَ. وفي الإرشاد هنا أنه علم للتسبيح الذي هو التبعيد عن السوء اعتقادا وقولا أي اعتقاد البعد عنه والحكم به من سبح في الأرض والماء إذا بعد فيهما وأمعن وانتصابه على المصدرية أي أسبح سبحانه أي أنزهه عما لا يليق به عقدا وعملا تنزيها خاصا به حقيقا بشأنه عز شأنه، وفيه مبالغة عن جهة الاشتقاق وجهة العدول إلى التفعيل وجهة العدول عن المصدر الدال على الجنس إلى الاسم الموضوع له خاصة لا سيما العلم وجهة إقامته مقام المصدر مع الفعل، وقيل: هو مصدر كغفران أريد به التنزه التام والتباعد الكلي عن السوء ففيه مبالغة من جهة اسناد التنزه إلى الذات المقدس فالمعنى تنزه بذاته عن كل ما لا يليق به تعالى تنزها خاصا به سبحانه، فالجملة على هذا إخبار منه تعالى بتنزهه وبراءته عن كل ما لا يليق به مما فعلوه وما تركوه وعلى الأول حكم منه عز وجل بذلك وتلقين للمؤمنين أن يقولوه ويعتقدوا مضمونه ولا يخلوا به ولا يغفلوا به. وقدر بعضهم الفعل الناصب أمرا أي سبحوا سبحان، والمراد بالأزواج الأنواع والأصناف، وقال الراغب: الأزواج جمع زوج ويقال لكل واحد من القرينين ولكل ما يقترن بآخر مماثلا له أو مضادا وكل ما في العالم زوج من حيث إن له ضدا ما أو مثلا ما أو تركيبا ما بل لا ينفك بوجه من تركيب صورة ومادة وجوهر وعرض. مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ بيان للأزواج والمراد به كل ما ينبت فيها من الأشياء المذكورة وغيرها وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ أي وخلق الأزواج من أنفسهم أي الذكر والأنثى وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ أي والأزواج مما لم يطلعهم الله تعالى ولم يجعل لهم طريقا إلى معرفته بخصوصياته وإنما أطلعهم سبحانه على ذلك بطريق الإجمال على منهاج وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ [النحل- 8] لما نيط به وقوفهم على عظم قدرته وسعة ملكه وجلالة سلطانه عز وجل، ولعله لما كان العلم من أخص صفات الربوبية لم يثبت على وجه الكمال والإحاطة لأحد سواه سبحانه ولو كان بطريق الفيض منه تبارك وتعالى على أن ظرف الممكن يضيق عن الإحاطة فما يجهله كل أحد أكثر مما يعلمه بكثير، وقد يقال على بعض الاعتبارات: إن ما يعلمه كل أحد متناه وما يجهله غير متناه ولا نسبة بين المتناهي وغير المتناهي أصلا فلا نسبة بين معلوم كل أحد ومجهوله، وتأمل في هذا مع دعوى بعض الأكابر الوقوف على الأعيان الثابتة والاطلاع عليها وقل رب زدني علما وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ بيان لقدرته تعالى الباهرة في الزمان بعد ما بينها سبحانه في المكان، وآيَةٌ خبر مقدم واللَّيْلُ مبتدأ مؤخر وقوله تعالى نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ استئناف لبيان كونه آية، وفي التركيب احتمالات أخر تعلم مما مر إلا أن الأرجح ما ذكر أي نكشف ونزيل الضوء من مكان الليل وموضع إلقاء ظله وظلمته وهو الهواء فالنهار عبارة عن الضوء إما على التجوز أو على حذف المضاف، وقوله تعالى مِنْهُ على حذف مضاف وذلك لأن النهار والليل عبارتان عن زمان كون الشمس فوق الأفق وتحته ولا معنى لكشف أحدهما عن الآخر وأصل السلخ كشط الجلد عن نحو الشاة فاستعير لكشف الضوء عن مكان الليل وملقى ظلمته وظله استعارة تبعية مصرحة والجامع ما يعقل من ترتب أمر على آخر فإنه يترتب ظهور اللحم على كشط الجلد وظهور الظلمة على كشف الضوء عن مكان الليل، وجوز أن يكون في النهار استعارة مكنية وفي السلخ استعارة تخييلية والجمهور على ما ذكرنا ومن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 10 ابتدائية، وقيل: تبعيضية وجعلها سببية ليس بشيء، وهذا التفسير محكي عن الفراء ونحوه تفسير السلخ بالنزع، واستعمال الفاء في قوله تعالى: فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ أي داخلون في الظلام كما يفيده همزة الأفعال عليه ظاهر، ووقع في عبارة الشيخ عبد القاهر والإمام السكاكي أن المستعار له في الآية ظهور النهار من ظلمة الليل والمستعار منه ظهور المسلوخ من جلده وذلك على ما قال العلامة الطيبي والفاضل اليمني مأخوذ من قول الزجاج معنى نسلخ منه النهار نخرج منه النهار إخراجا لا يبقى معه شيء من ضوئه فالظهور في عبارتهما بمعنى الخروج وهو يتعدى بمن فلا حاجة إلى جعلها بمعنى عن. وقد جاء بهذا المعنى كما في قول عمر لأبي عبيدة رضي الله تعالى عنهما اظهر بمن معك من المسلمين إليها أي الأرض يعني أخرج إلى ظاهرها، وفي حديث عائشة رضي الله تعالى عنها كان صلّى الله عليه وسلم يصلي العصر ولم يظهر الفيء بعد من الحجرة أي لم يخرج إلى ظاهرها فسقط ما أورد عليه من أنه لو أريد الظهور لقيل «فإذا هم مبصرون» ولم يقل «فإذا هم مظلمون» لأن الواقع عقيب ظهور النهار من ظلمة الليل إنما هو الإبصار لا الإظلام من غير حاجة إلى حمل العبارة على القلب أي ظهور ظلمة الليل من النهار، وبعضهم (1) رفع هذا الإيراد بأن النهار عبارة عن مجموع المدة من طلوع الفجر أو الشمس إلى الغروب لا عن بعضها فالواقع عقيب هذه المدة كلها الدخول في الظلام. وتعقبه السالكوتي بأن الدخول في الظلام مترتب على السلخ لا على انقضاء مدة النهار. ولعل مراد البعض أن السلخ بمعنى ظهور النهار لا يتحقق إلا بظهور كل أجزائه ومتى ظهرت أجزاء النهار كلها انقضت مدته، وذكر العلامة القطب أن السلخ قد يكون بمعنى النزع نحو سلخت الإهاب عن الشاة وقد يكون بمعنى الإخراج نحو سلخت الشاة من الإهاب والشاة مسلوخة فذهب الشيخ عبد القاهر والسكاكي إلى الثاني وغيرهما إلى الأول فاستعمال الفاء في فَإِذا هُمْ ظاهر على قول الغير وأما على قولهما فإنما يصح من جهة أنها موضوعة لما يعد في العادة مرتبا غير متراخ وهذا يختلف باختلاف الأمور والعادات فقد يطول الزمان والعادة في مثله تقتضي عدم اعتبار المهلة وقد يكون بالعكس كما في هذه الآية فإن زمان النهار وإن توسط بين إخراج النهار من الليل وبين دخول الظلام لكن لعظم دخول الظلام بعد إضاءة النهار وكونه مما ينبغي أن لا يحصل إلا في أضعاف ذلك الزمان عد الزمان قريبا وجعل الليل كأنه يفاجئهم عقيب إخراج النهار من الليل بلا مهلة. ثم لا يخفى أن إذ المفاجأة إنما تصح إذا جعل السلخ بمعنى الإخراج كما يقال: أخرج النهار من الليل ففاجأه دخول الليل فإنه مستقيم بخلاف ما إذا جعل بمعنى النزع فإنه لا يستقيم أن يقال: نزع ضوء الشمس عن الهواء ففاجأه الظلام كما لا يستقيم أن يقال كسرت الكوز ففاجأه الانكسار لأن دخولهم في الظلام عين حصول الظلام فيكون نسبة دخولهم في الظلام إلى نزع ضوء النهار كنسبة الانكسار إلى الكسر فلهذا جعلا السلخ بمعنى الإخراج دون النزاع اه كلامه، وقواه العلامة الثاني بأنه لا شك أن الشيء إنما يكون آية إذا اشتمل على نوع استغراب واستعجاب بحيث يفتقر إلى نوع اقتدار إنما هو مفاجأة الظلام عقيب ظهور النهار لا عقيب زوال ضوء النهار. وقال السالكوتي: إن عدم استقامة المفاجأة فيما ذكر لأنها إنما تتصور فيما لا يكون مترقبا بل يحصل بغتة حينئذ يمكن أن يقال في الجواب: إن نزع الضوء عن الليل لكون ظهوره في غاية الكمال كان المترقب فيه أن يكون في مدة   (1) هو شيخ الإسلام في حواشيه على المطول اه منه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 11 مديدة فحصول الظلام بعده في مدة قصيرة أمر غير مترقب ثم قال وبهذا ظهر الجواب عن التقوية، وقيل إن الظلمة لكونها مما تنفر عنها الطباع وتكرهها النفوس يكون حصولها كأنه غير مترقب ويكفي نفس السلخ في الدلالة على الاقتدار، والذي يقتضيه ما سبق عن الطيبي واليمني أن الشيخ والسكاكي أرادا إخراج النهار من الليل إخراجا لا يبقى معه شيء من ضوئه كما قال الزجاج، ومآله إزالة ضوء النهار من مكان الليل وموضع ظلمته كما قال الفراء، وجاء في كلامهم الظهور بمعنى الزوال كما في قول أبي ذؤيب: وعيرها الواشون أني أحبها ... وتلك شكاة ظاهر عنك عارها وحكى الجوهري: يقال هذا أمر ظاهر عنك عاره أي زائل. وقال المرزوقي في قول الحماسي: وذلك عار يا ابن ريطة ظاهر أيضا كذلك فلا مانع من أن يكون في كلام الشيخين بهذا المعنى ويراد بالظهور الإظهار، والتعبير به مساهلة لظهور أن نسلخ متعد فيرجع الأمر إلى الإزالة فيتحد كلامهما بما قاله الفراء وكذا على ما قيل المراد بالظهور الخروج على وجه المفارقة لظهور الزوال فيه حينئذ وأمر المساهلة على حاله، وعلى القول بالاتحاد يجيء اعتراض العلامة والجواب هو الجواب فتأمل والله تعالى الهادي إلى الصواب. وفي الآية على ما قال غير واحد دلالة على أن الأصل الظلمة والنور طارئ عليها يسترها بضوئه وفي الحديث ما يشعر بذلك أيضا، روى الإمام أحمد والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إن الله تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من نوره اهتدى ومن أخطأه ضل» . وَالشَّمْسُ عطف على اللَّيْلُ أي وآية لهم الشمس. وقوله تعالى تَجْرِي إلخ استئناف لبيان كونها آية، وقيل الشَّمْسُ مبتدأ وما بعده خبر والجملة عطف على اللَّيْلُ نَسْلَخُ وقيل غير ذلك فلا تغفل، والجري المر السريع، وأصله لمر الماء ولما يجري يجريه والمعنى تسير سريعا لِمُسْتَقَرٍّ لَها لحد معين تنتهي إليه من فلكها في آخر السنة شبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره من حيث أن في كل انتهاء إلى محل معين وإن كان للمسافر قرار دونها، وروي هذا عن الكلبي واختاره ابن قتيبة، والمستقر عليه اسم مكان واللام بمعنى إلى وقرىء بها بدل اللام، وجوز أن تكون تعليلية أو لمنتهى لها من المشارق اليومية والمغارب لأنها تتقصاها مشرقا مشرقا ومغربا مغربا حتى تبلغ أقصاها ثم ترجع فذلك حدها ومستقرها لأنها لا تعدوه. وروي هذا عن الحسن وهو متفق في أن المستقر اسم مكان واللام على ما سمعت، ومختلف باعتبار أن الأول من استقرار المسافر تشبيها لانتهاء الدورة بانتهاء السفرة وهذا باعتبار مقنطرات الارتفاع وبلوغ أقصاها ومقنطرات الانخفاض كذلك والاستقرار باعتبار عدم التجاوز عن الأول في استقصاء المشارق وعن الثاني في استقصاء المغارب أو لحد لها من مسيرها كل يوم في رأي عيوننا وهو المغرب، والمستقر عليه اسم مكان أيضا واللام كما سمعت أو لكبد السماء ودائرة نصف النهاء فالمستقر (1) واللام على نظير ما تقدم. وكون ذلك محل قرارها إما مجاز عن الحركة البطيئة أو هو باعتبار ما يتراءى قال ذو الرمة يصف فرسه وجريه في الظهيرة وشدة الحر: معروريا رمض الرضراض تركضه ... والشمس حيرى لها بالجو تدويم (2)   (1) وجوز كونه مصدرا فلا تغفل اه منه. (2) هو وقوف الطائر في الهواء اه منه. [ ..... ] الجزء: 12 ¦ الصفحة: 12 أو لاستقرار لها ومكث في كل برج من البروج الاثني عشر على نهج مخصوص فالمستقر مصدر ميمي واللام داخلة على الغاية أو الحامل، وقيل تجري لبيتها وهو برج الأسد، واستقرارها عبارة عن حسن حالها فيه، وهذا غير مقبول إلا عند أهل الأحكام ولا يخفى حكمهم على محققي الإسلام، وقال قتادة. ومقاتل المعنى تجري إلى وقت لها لا تتعداه، قال الواحدي: وعلى هذا مستقرها انتهاء سيرها عند انقضاء الدنيا وهذا اختيار الزجاج كما قال النووي: في شرح صحيح مسلم، ومستقر عليه اسم زمان وفي غير واحد من الصحاح عن أبي ذر قال: «كنت مع النبي صلّى الله عليه وسلم في المسجد عند غروب الشمس فقال يا أبا ذر أتدري أين تذهب هذه الشمس؟ قلت الله تعالى ورسوله أعلم قال: تذهب لتسجد (1) فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها فيقال لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله عز وجل: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها وفي رواية أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟ قالوا: الله تعالى ورسوله أعلم قال: إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة، الحديث وفي ذلك عدة روايات وقد روي مختصرا جدا. وأخرج أحمد والبخاري، ومسلم وأبو داود والترمذي، والنسائي وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها قال مستقرها تحت العرش فالمستقر اسم مكان والظاهر أن للشمس فيه قرارا حقيقة، قال النووي: قال جماعة بظاهر الحديث، قال الواحدي: وعلى هذا القول إذا غربت الشمس كل يوم استقرت تحت العرش إلى أن تطلع، ثم قال النووي: وسجودها بتمييز وإدراك يخلقه الله تعالى فيها. وذكر ابن حجر الهيتمي في فتاويه الحديثية أن سجودها تحت العرش إنما هو عند غروبها وحكى فيها عن بعضهم أنها تطلع من سماء إلى سماء حتى تسجد تحت العرش وتقول: يا رب إن قوما يعصونك فيقال لها ارجعي من حيث جئت فتنزل من سماء إلى سماء حتى تطلع من المشرق وبنزولها إلى سماء الدنيا يطلع الفجر ، وفيها أيضا أخرج أبو الشيخ عن عكرمة أنها إذا غربت دخلت نهرا تحت العرش فتسبح ربها حتى إذا أصبحت استعفت ربها عن الخروج فيقول سبحانه لم فتقول إني إذا خرجت عبدت من دونك ، والسجود تحت العرش قد جاء أيضا من روايات الإمامية ولهم في ذلك أخبار عجيبة منها أن الشمس عليها سبعون ألف كلاب وكل كلاب يجره سبعون ألف ملك من مشرقها إلى مغربها ثم ينزعون منها النور فتخر ساجدة تحت العرش ثم يسألون ربهم هل نلبسها لباس النور أم لا؟ فيجابون بما يريده سبحانه ثم يسألونه عز وجل هل نطلعها من مشرقها أو مغربها؟ فيأتيهم النداء بما يريد جل شأنه ثم يسألون عن مقدار الضوء فيأتيهم النداء بما يحتاج إليه الخلق من قصر النهار وطوله. وفي الهيئة السنية للجلال السيوطي أخبار من هذا القبيل والصحيح من الأخبار قليل، وليس لي على صحة أخبار الإمامية وأكثر ما في الهيئة السنية تعويل نعم ما تقدم عن أبي ذر مما لا كلام في صحته وماذا يقال في أبي ذر وصدق لهجته، والأمر في ذلك مشكل إذا كان السجود والاستقرار كل ليلة تحت العرش سواء قيل منها تطلع من سماء إلى سماء حتى تصل إليه فتسجد أم قيل: إنها تستقر وتسجد تحته من غير طلوع فقد صرح إمام الحرمين وغيره بأنه لا خلاف في أنها تغرب عند قوم وتطلع على آخرين والليل يطول عند قوم ويقصر عند آخرين وبين الليل والنهار   (1) أي في الرجوع كما جاء مصرحا به في حديث آخر رواه أحمد والترمذي وغيرهما فلا تغفل اه منه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 13 اختلاف ما في الطول والقصر عند خط الاستواء، وفي بلاد بلغار قد يطلع الفجر قبل أن يغيب شفق الغروب، وفي عرض تسعين لا تزال طالعة ما دامت في البروج الشمالية وغاربة ما دامت في البروج الجنوبية فالسنة نصفها ليل ونصفها نهار على ما فصل في موضعه، والأدلة قائمة على أنها لا تسكن عند غروبها وإلا لكانت ساكنة عند طلوعها بناء على أن غروبها في أفق طلوع في غيره، وأيضا هي قائمة على أنها لا تفارق فلكها فكيف تطلع من سماء إلى سماء حتى تصل إلى العرش بل كون الأمر ليس كذلك أظهر من الشمس لا يحتاج إلى بيان أصلا وكذا كونها تحت العرش دائما بمعنى احتوائه عليها وكونها في جوفه كسائر الأفلاك التي فوق فلكها والتي تحته وقد سألت كثيرا من أجلة المعاصرين عن التوفيق بين ما سمعت من الأخبار الصحيحة وبين ما يقتضي خلافها من العيان والبرهان فلم أوفق لأن أفوز منهم بما يروي الغليل ويشفي العليل، والذي يخطر بالبال في حل ذلك الإشكال والله تعالى أعلم بحقيقة الحال أن الشمس وكذا سائر الكواكب مدركة عاقلة كما ينبىء عن ذلك قوله تعالى الآتي كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ حيث جيء بالفعل مسندا إلى ضمير جمع العقلاء وقوله تعالى إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يوسف: 4] لنحو ما ذكر يدل وعليه ظاهر ما روي عن أبي ذر من أنها تسجد وتستأذن فإن المتبادر من الاستئذان ما يكون بلسان القال دون لسان الحال. وخلق الله تعالى الإدراك والتمييز فيها حال السجود والاستئذان ثم سلبه عنها مما لا حاجة إلى التزامه بل هو بعيد غاية البعد والشواهد من الكتاب والسنة وكلام العترة على كونها ذات إدراك وتمييز مما لا تكاد تحصي كثرة وبعض يدل على ثبوت ذلك لها بالخصوص وبعضها يدل على ثبوته لها باعتبار دخولها في العموم أو بالمقايسة إذ لا قائل بالفرق ومتى كانت كذلك فلا يبعد أن يكون لها نفس ناطقة كنفس الإنسان بل صرح بعض الصوفية بكونها ذات نفس ناطقة كاملة جدا، والحكماء أثبتوا النفس للفلك وصرح بعضهم بإثباتها للكواكب أيضا وقالوا: كل ما في العالم العلوي من الكواكب والأفلاك الكلية والجزئية والتداوير حي ناطق والأنفس الناطقة الإنسانية إذا كانت قدسية قد تنسلخ عن الأبدان وتذهب متمثلة ظاهرة بصور أبدانها أو بصور أخرى كما يتمثل جبريل عليه السلام ويظهر بصورة دحية أو بصورة بعض الأعراب كما جاء في صحيح الأخبار حيث يشاء الله عز وجل مع بقاء نوع تعلق لها بالأبدان الأصلية يتأتى معه صدور الأفعال منها كما يحكى عن بعض الأولياء قدست أسرارهم أنهم يرون في وقت واحد في عدة مواضع وما ذاك إلا لقوة تجرد أنفسهم وغاية تقدسها فتمثل وتظهر في موضع وبدنها الأصلي في موضع آخر: لا تقل دارها بشرقي نجد ... كل نجد للعامرية دار وهذا أمر مقرر عند السادة الصوفية مشهور فيما بينهم وهو غير طي المسافة وإنكار من ينكر كلا منهما عليهم مكابرة لا تصدر إلا من جاهل أو معاند، وقد عجب العلامة التفتازاني من بعض فقهاء أهل السنة أي كابن مقاتل حيث حكم بالكفر على معتقد ما روي عن إبراهيم بن أدهم قدس سره أنهم رأوه بالبصرة يوم التروية ورئي ذلك اليوم بمكة، ومبناه زعم أن ذلك من جنس المعجزات الكبار وهو مما لا يثبت كرامة لولي وأنت تعلم أن المعتمد عندنا جواز ثبوت الكرامة للولي مطلقا إلا فيما يثبت بالدليل عدم إمكانه كالإتيان بسورة مثل إحدى سور القرآن، وقد أثبت غير واحد تمثل النفس وتطورها لنبينا صلّى الله عليه وسلم بعد الوفاة وادعى أنه عليه الصلاة والسلام قد يرى في عدة مواضع في وقت واحد مع كونه في قبره الشريف يصلي، وقد تقدم الكلام مستوفى في ذلك، وصح أنه صلّى الله عليه وسلم رأى موسى عليه السلام يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر ورآه في السماء وجرى بينهما ما جرى في أمر الصلوات المفروضة، وكونه عليه السلام عرج إلى السماء بجسده الذي كان في القبر بعد أن رآه النبي صلّى الله عليه وسلم مما لم يقله أحد جزما والقول به احتمال بعيد، وقد رأى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 14 صلّى الله عليه وسلم ليلة أسري به جماعة من الأنبياء غير موسى عليه السلام في السماوات مع أن قبورهم في الأرض ولم يقل أحد إنهم نقلوا منها إليها على قياس ما سمعت آنفا، وليس ذلك مما ادعى الحكميون استحالته من شغل النفس الواحدة أكثر من بدن واحد بل هو أمر وراءه كما لا يخفى على من نور الله تعالى بصريته فيمكن أن يقال: إن للشمس نفسا مثل تلك الأنفس القدسية وأنها تنسلخ عن الجرم المشاهد المعروف مع بقاء نوع من التعلق لها به فتعرج إلى العرش فتسجد تحته بلا واسطة وتستقر هناك وتستأذن ولا ينافي ذلك سير هذا الجرم المعروف وعدم سكونه حسبما يدعيه أهل الهيئة وغيرهم ويكون ذلك إذا غربت وتجاوزت الأفق الحقيقي وانقطعت رؤية سكان المعمور من الأرض إياها ولا يضر فيه طلوعها إذ ذاك في عرض تسعين ونحره لأن ما ذكرنا من كون السجود والسكون باعتبار النفس المنسلخة المتمثلة بما شاء الله تعالى لا ينافي سير الجرم المعروف بل لو كانا نصف النهار في خط الاستواء لم يضر أيضا، ويجوز أن يقال سجودها بعد غروبها عن أفق المدينة ولا يضر فيه كونها طالعة إذ ذاك في أفق آخر لما سمعت إلا أن الذي يغلب على الظن ما ذكر أولا، وعلى هذا الطرز يخرج ما يحكى أن الكعبة كانت تزور واحدا من الأولياء بأن يقال إن الكعبة حقيقة غير ما يعرفه العامة، وهي باعتبار تلك الحقيقة تزور والناس يشاهدونها في مكانها أحجارا مبنية. وقد ذكر الشيخ الأكبر قدس سره في الفتوحات كلاما طويلا ظاهرا في أن لها حقيقة غير ما يعرفه العامة وفيه أنه كان بينه وبينها زمان مجاورته مراسلات وتوسلات ومعاتبة دائمة وإنه دون بعض ذلك في جزء سماه تاج الوسائل ومنهاج الرسائل وقد سأل نجم الدين عمر النسفي مفتي الإنس والجن عما يحكى أن الكعبة كانت تزور إلخ هل يجوز القول به فقال نقض العادة على سبيل الكرامة لأهل الولاية جائز عند أهل السنة وارتضاه العلامة السعد وغيره لكن لم أر من خرج زيارتها على هذا الطرز، وظاهر كلام بعضهم أن ذلك بذهاب الجسم المشاهد منها إلى المزور وانتقاله من مكانه، ففي عدة الفتاوى والولوالجية وغيرهما لو ذهبت الكعبة لزيارة بعض الأولياء فالصلاة إلى هوائها، ويمكن أن يكون أريد به غير ما يحكى فإنه والله تعالى أعلم لم يكن بانتقال الجسم المشاهد ثم الجمع بين الحديث في الشمس وبين ما يقتضيه الحس وكلام أهل الهيئة بهذا الوجه لم أره لأحد بيد أني رأيت في بعض مؤلفات عصرينا الرشتي رئيس الطائفة الإمامية الكشفية أن سجدة الشمس عند غروبها تحت العرش عبارة عن رفع الإنية ونزع جلباب الماهية وهو عندي نوع من الرطانة لا يفهمه من لا خبرة له باصطلاحاته ولو كان ذا فطانة: وقال في موضع آخر بعد أن ذكر حديث الكلاليب السابق إن ذلك لا ينافي كلام أهل الهيئة ولا بقدر سم الخياط ولم يبين وجه عدم المنافاة مع أنها أظهر من الشمس معتذرا بأن الكلام فيه طويل ولا أظنه لو كان آتيا به إلا من ذلك القبيل، وهذا ما عندي فليتأمل والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. وقرأ عبد الله وابن عباس وزين العابدين وابنه الباقر وعكرمة وعطاء بن أبي رباح «لا مستقر لها» بلا النافية للجنس وبناء «مستقر» على الفتح فتقتضي انتفاء كل مستقر حقيقي لجرمها المشاهد وذلك في الدنيا أي هي تجري في الدنيا دائما لا تستقر. وقرأ ابن أبي عبلة بلا أيضا إلا أنه رفع «مستقر» ونونه على أعمالها أعمال ليس كما في قوله: تعز فلا شيء على الأرض باقيا ... ولا وزر مما قضى الله واقيا ذلِكَ إشارة إلى الجري المفهوم من تَجْرِي أي ذلك الجري البديع الشأن المنطوي على الحكم الرائقة التي تحار في فهمها العقول والأذهان تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الغالب بقدرته على كل مقدور الْعَلِيمِ المحيط علمه بكل معلوم، وذكر بعضهم في حكمة جريها حتى تسجد كل ليلة تحت العرش ما يقتضيه الخبر السابق تجدد اكتساب النور من العرش ويترتب عليه في عالم الطبيعة والعناصر ما يترتب وباكتسابها النور من العرش صرح به غير الجزء: 12 ¦ الصفحة: 15 واحد، ومن العجيب ما ذكره الرشتي أنها تستمد النور من ظاهر العرش وتمد فلك القمر ومن باطن العرش وتمد فلك زحل وتستمد من ظاهر الكرسي وتمد فلك عطارد ومن باطنه وتمد فلك المشتري وتستمد من ظاهر تقاطع نقطتي المنطقتين وتمد فلك الزهرة ومن باطنه وتمد فلك المريخ، وليت شعري من أين استمد فقال ما قال وذلك مما لم نجد فيه نقلا ولا نظن أنه مر بخيال، وقال الشيخ الأكبر: قدس سره إن نور الشمس ما هو من حيث عينها بل هو من تجل دائم لها من اسمه تعالى النور ونور سائر السيارات من نورها وهو في الحقيقة من تجلي اسمه سبحانه النور فما ثم إلا نوره عز وجل. وادعى كثير من أجلة المحققين أن نور جميع الكواكب ثوابتها وسياراتها مستفاد من ضوء الشمس وهو مفاض عليها من الفياض المطلق جل جلاله وعم نواله. وفي الآية رد على القائلين بأن الشمس ساكنة وهي مركز العالم والكواكب والأرض كرات دائرة عليها وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ أي صيرنا مسيره أي محله الذي يسير فيه مَنازِلَ فقدر بمعنى صير الناصب لمفعولين والكلام على حذف مضاف والمضاف المحذوف مفعوله الأول ومَنازِلَ مفعوله الثاني واختار أبو حيان تقدير مصدر مضاف متعد إلى واحد ومَنازِلَ منصوب على الظرفية أي قدرنا سيره في منازل وقدر بعضهم نورا أي قدرنا نوره في منازل فيزيد مقدار النور كل يوم في المنازل الاجتماعية وينقص في المنازل الاستقبالية لما أن نوره مستفاد من ضوء الشمس لاختلاف تشكلاته بالقرب والبعد منها مع خسوفه بحيلولة الأرض بينه وبينها وبهذا يتم الاستدلال والحق أنه لا قطع بذلك وليس هناك إلا غلبة الظن، ويجوز أن يكون قدر متعديا لاثنين ومَنازِلَ بتقدير ذا منازل، وأن يكون متعديا لواحد وهو مَنازِلَ والأصل قدرنا له منازل على الحذف والإيصال واختاره أبو السعود، ونصب الْقَمَرَ بفعل يفسره المذكور أي وقدرنا القمر قدرناه وفي ذلك من الاعتناء بأمر التقدير ما فيه، وكأنه لما أن شهرهم باعتباره ويعلم منه سر تغيير الأسلوب. وقرأ الحرميان وأبو عمرو وأبو جعفر وابن محيصن والحسن بخلاف عنه «والقمر» بالرفع قال غير واحد، على الابتداء وجملة قَدَّرْناهُ خبره، ويجوز فيما أرى أن يجري في التركيب ما جرى في قوله تعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي من الإعراب تدبر، والمنازل جمع منزل والمراد به المسافة التي يقطعها القمر في يوم وليلة وهي عند أهل الهند سبعة وعشرون لأن القمر يقطع فلك البروج في سبعة وعشرين يوما وثلث فحذفوا الثلث لأنه ناقص عن النصف كما هو مصطلح أهل التنجيم، وعند العرب وساكني البدو ثمانية وعشرون لا لأنهم تمموا الثلث واحدا كما قال بعضهم بل لأنه لما كانت سنوهم باعتبار الأهلّة مختلفة الأوائل لوقوعها في وسط الصيف تارة وفي وسط الشتاء أخرى وكذا أوقات تجارتهم وزمان أعيادهم احتاجوا إلى ضبط سنة الشمس لمعرفة فصول السنة حتى يشتغلوا في استقبال كل فصل بما يهمهم في ذلك الفصل من الانتقال إلى المراعي وغيرها فاحتالوا في ضبطها فنظروا أولا إلى القمر فوجدوه يعود إلى وضع له من الشمس في قريب من ثلاثين يوما ويختفي آخر الشهر لليلتين أو أقل أو أكثر فاسقطوا يومين من زمان الشهر فبقي ثمانية وعشرون وهو زمان ما بين أول ظهوره بالعشيات مستهلا أول الشهر وآخر رؤيته بالغدوات مستترا آخره فقسموا دور الفلك عليه فكان كل قسم اثنتي عشرة درجة وإحدى وخمسين دقيقة تقريبا وهو ستة أسباع درجة فنصيب كل برج منه منزلان وثلث ثم لما انضبط الدور بهذه القسمة احتالوا في ضبط سنة الشمس بكيفية قطعها لهذه المنازل فوجدوها تستر دائما ثلاثة منازل ما هي فيه بشاعها وما قبلها بضياء الفجر وما بعدها بضياء الشمس ورصدوا ظهور المستتر بضياء الفجر ثم بشعاعها ثم بضياء الشفق فوجدوا الزمان بين كل ظهوري منزلتين ثلاثة عشر يوما تقريبا فأيام جميع المنازل تكون ثلاثمائة وأربعة وستين لكن الشمس تقطع جميعها في ثلاثمائة وخمس وستين فزادوا يوما في أيام الجزء: 12 ¦ الصفحة: 16 منزل غفر وزادوه هاهنا اصطلاحا منهم أو لشرفه على ما تسمعه إن شاء الله تعالى وقد يحتاج إلى زيادة يومين ليكون انقضاء الثمانية والعشرين مع انقضاء السنة ويرجع الأمر إلى النجم الأول، واعلم أن العرب جعلت علامات الأقسام الثمانية والعشرين من الكواكب الظاهرة القريبة من المنطقة مما يقارب طريقة القمر في ممره أو يحاذيه فيرى القمر كل ليلة نازلا بقرب أحدها وأحوال كواكب المنازل مع المنازل كأحوال كواكب البروج مع البروج عند أهل الهيئة من أنها مسامتة للمنازل وهي في فلك الأفلاك وإذا أسرع القمر في سيره فقد يخلي منزلا في الوسط وإن أبطأ فقد يبقى ليلتين في منزل أول الليلتين في أوله وآخرهما في آخره وقد يرى في بعض الليالي بين منزلتين، وما يقال في الشهور إن الظاهر من المنازل في كل ليلة يكون أربعة عشر وكذا الخفي وأنه إذا طلع منزل غاب رقيبه وهو الخامس عشر من الطالع سمي به تشبيها له برقيب يرصده ليسقط في المغرب إذا ظهر ذلك في المشرق ظاهر الفساد لأنها ليست على نفس المنطقة ولا أبعاد ما بينها متساوية ولهذا قد يكون الظاهر ستة عشر وسبعة عشر وقد يكون الخفي ثلاثة عشر وهذه الكواكب المسماة بالمنازل المسامتة للمنازل الحقيقية على ما روي عن ابن عباس وغيره أولها الشرطان بفتح الشين والراء مثنى شرط بفتحتين وهي العلامة وهما كوكبان نيران من القدر الثالث على قرني الحمل معترضان بين الشمال والجنوب بينهما ثلاثة أشبار وبقرب الجنوبي منهما كوكب صغير سمت العرب الكل أشراطا لأنها بسقوطها علامات المطر والريح والقمر يحاذيهما وبقرب الشمالي منهما كوكب نير هو الشرطان عند بعض ويقال للشرطين الناطح أيضا ثم البطين تصغير البطن وهو ثلاثة كواكب خفية من القدر الخامس على شكل مثلث حاد الزوايا على فخذي الحمل بينه وبين الشرطين قيد رمح والقمر يجتاز بها أحيانا ثم الثريا (1) تصغير ثروى من الثراء وهو الكثرة ويسمى بالنجم وهي على المشهور عند المنجمين ستة كواكب مجتمعة كشكل مروحة مقبضها نحو المشرق وفيه انحناء في جانب الشمال، وقيل هي شبيهة بعنقود عنب وعليه قول أحيحة بن الجلاح أو قيس بن الأسلت: وقد لاح في الصبح الثريا كما ترى ... كعنقود ملاحية حين نورا والمرصود منها أربعة كلها من القدر الخامس وموضعها سنام الثور، وفي الكشف هي ألية الحمل وربما يكسفها القمر ثم الدبران بفتحتين سمي به لأنه دبر الثريا وخلفها وهو كوكب أحمر نير من القدر الأول على طرف صورة السبعة من رقوم الهند ويسمى المجدح وموقعه عين الثور والذي على طرفه الآخر من القدر الثالث على عينه الأخرى والثلاثة الباقية وهي من الثالث أيضا على وجهه وزاوية هذا الرقم على خطم الثور وبعضهم يسمى الدبران بقلب الثور وقد يكسفه القمر ثم الهقعة بفتح الهاء وسكون القاف وفتح العين المهملة وهي ثلاثة كواكب خفية مجتمعة شبيهة بنقط الثاء كأنها لطخة سحابية شبهت بالدائرة التي تكون في عرض زور الفرس أو بحيث تصيب رجل الفارس أو بلمعة بياض تكون في جنب الفرس الأيسر تسمى بذلك وتسمى الأثافي أيضا وهي على رأس الجبار المسمى بالجوزاء والقمر يحاذيها ولا يقاربها ثم الهنعة بوزن الهقعة وثانية نون وهي كوكبان من القدر الرابع والثالث شبهت بسمة في منخفض عنق الفرس وهما على رجلي التوأمين (2) مما يلي الشمال وفي الكشف هي منكب الجوزاء الأيسر والقمر يمر بهما ثم الذراع وهما كوكبان أزهران من القدر الثاني على رأسي التوأمين يعنون بهما ذراع الأسد المبسوطة إذ المقبوضة هي الشعرى الشامية مع مرزمها والقمر يقارب المبسوطة ثم النثرة وهي الفرجة بين الشاربين حيال وترة الأنف   (1) رأيت منها بواسطة بعض الآلات ما يزيد على ثلاثين كوكب اه منه. (2) الجوزاء اه منه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 17 وهو أنف الأسد وهما كوكبان خفيان من الرابع بينهما قيد ذراع ولطخة سحابية وهي على وسط السرطان ويقربها كوكبان يسميان بالحمارين واللطخة التي بينهما بالمعلف تشبها لها بالتبن وبمحظة الأسد أي موضع استتاره ويكسب القمر كلا منهما ثم الطرف وهما كوكبان صغيران من الرابع أحدهما على رأس الأسد قدام عينيه والآخر قدام يده المقدمة والقمر يحاذي أشملهما ويكسف أجنبهما ويعنون بالطرف عين الأسد ثم الجبهة ويعنون بها جبهة الأسد وهي أربعة كواكب على سطر فيه تعويج آخذ من الشمال إلى الجنوب أعظمها على طرف السطر مما يلي الجنوب يسمى قلب الأسد لكونه في موضعه ويسمى الملكي أيضا وهو من القدر الأول والقمر يمر به وبالذي يليه ثم الزبرة بضم الزاي وسكون الباء وهما كوكبان نيران على أثر الجبهة بينهما أرجح من ذراع وهما على زبرة الأسد أي كاهله عند العرب وعند المنجمين عند مؤخره فزبرة الأسد شعره الذي يزبر عند الغضب في قفاه أجنبهما من الثالث وأشملهما من الثاني وتسمى ظهر الأسد والقمر يحاذيهما من جهة الجنوب ثم الصرفة وهو كوكب واحد على طرف ذنب الأسد ويسمى ذنب الأسد والقمر يحاذيه من جهة الجنوب وسمي بذلك لأن البرد ينصرف عند سقوطه ثم العواء يمد ويقصر والقصر أجود وهي خمسة كواكب من الثالث على هيئة لام في الخط العربي ثلاثة منها آخذة من منكب العذراء الأيسر إلى تحت ثديها الأيسر وهي على سطر جنوبي من الصرفة ثم ينعطف اثنان على سطر يحيط مع الأول بزاوية منفرجة زعمت العرب أنها كلاب تعوي خلف الأسد ولذلك سميت العواء، وقيل في ذلك كأنها تعوي في أثر البرد ولهذا سميت طاردة البرد، وقيل هي من عوى الشيء عطفه فلما فيها من الانعطاف سميت بذلك. وفي الكشف العواء سافلة الإنسان ويقال إنها ورك الأسد والقمر يخرقها ثم السماك الأعزل وهو كوكب نير من الأول على كتف العذراء اليسرى قريب من المنطقة والقمر يمر به ويكسفه ويقابل السماك الأعزل السماك الرامح وليس من المنازل وسمي رامحا لكوكب يقدمه كأنه رمحه وسمي سماكا لأنه سمك أي ارتفع ثم الغفر وهي ثلاثة كواكب من الرابع على ذيل العذراء ورجلها المؤخرة على سطر معوج حدبته إلى الشمال وقيل كوكبان والقمر يمر بجنوبيهما وقد يحاذي الشمالي وهو منزل خير بعد عن شرين مقدم الأسد ومؤخر العقرب ويقال: إنه طالع الأنبياء والصالحين وسميت غفرا لسترها ونقصان نورها وذكر بعضهم أنها من كواكب الميزان ثم الزبانا بالضم وآخره ألف وهما كوكبان نيران من الثاني متباعدان في الشمال والجنوب بينهما قيد رمح على كفتي الميزان. وقال غير واحد: هما قرنا العقرب والقمر قد يكسف جنوبيهما ثم الإكليل وهي ثلاثة كواكب خفية معترضة من الشمال إلى الجنوب على سطر مقوس يشبه شكلها شكل الغفر الأوسط منها متقدم والاثنان تاليان وهي من الرابع والقمر يمر بجميعها، وقيل هي أربعة كواكب برأس العقرب ولذا سميت به وأصل معناه التاج ثم القلب وهو قلب العقرب كوكب أحمر نير أوسط الثلاثة التي على بدن العقرب على استقامة من المغرب إلى المشرق وهو من الثاني واللذان قبله وبعده ويسميان نياطين من الثالث والقمر يمر به ويكسفه من المنطقة ثم الشولة بفتح الشين المعجمة واللام وتسمى ابرة العقرب عند الحجازيين كوكبان من الثاني أزهران متقاربان على طرف ذنب العقرب في موضع الحمة والقمر يحاذيهما ثم النعائم أربعة كواكب من الثالث على منحرف تابع للشولة وتسمى النعائم الواردة أي إلى المجرة والقمر يمر باثنين منها ويحاذي الباقية ويقرب منها أربعة أخرى من الثالث على منحرف هي النعائم الصادرة أي من مجرة وكلها من صورة الرامي وسميت نعائم تشبيها بالخشبات التي تكون على البئر، ثم البلدة وهي قطعة من السماء خالية من الكواكب مستديرة شبهت ببلدة الثعلب وهي ما يكنسه بذنبه وتسمى أيضا بالمفازة والفرجة، وقيل سميت بذلك تشبها بالفرجة التي تكون بين الحاجبين وموضعها خلف الكواكب التي تسمى بالقلادة وهي عصابة الرامي ثم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 18 سعد الذابح كوكبان على قرني الجدي بينهما قدر باع جنوبيهما من الثالث والقمر يقاربه ولا يكسفه ويقرب الشمالي كوكب صغير يكاد يلتصق به يقال: إنه شاته التي يريد أن يذبحها، وقيل: إنه في مذبحة ولهذا يسمى بالذابح ثم سعد بلع (1) كوكبان على كف ساكب الماء اليسرى فوق ظهر الجدي بينهما قدر باع غربيهما من الثالث وشرقيهما من الرابع ويقرب متقدمهما كوكب صغير كأنه ابتلعه فلهذا سمي به، وفي القاموس سعد بلع كزفر معرفة منزل للقمر طلع لما قال الله تعالى يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ [هود: 44] وهو نجمان مستويان في المجرى أحدهما خفي والآخر مضيء يسمى بالعا كأنه بلع الآخر، وقيل: لأنه ليس له ما لسعد الذابح فكأنه بلغ شاته والقمر يقارب أجنبهما ولا يكسفه ثم سعد السعود كوكبان، وقيل: ثلاثة على خط مقوس بين الشمال والجنوب حدبته إلى المغرب أجنبهما والقمر يقرب منه من الخامس على طرف ذنب الجدي وأشملهما من الثالث وهو مع الآخر في القول الآخر من كواكب القوس والقمر يقارب أجنبهما وسمي بذلك لأنه في وقت طلوعه ابتداء ما به يعيشون وتعيش مواشيهم ثم سعد الأخبية أربعة كواكب من الثالث ومن كواكب الرامي على يد ساكب الماء اليمنى ثلاثة منها على شكل مثلث حاد الزوايا والرابع وسطه وهو السعد والثلاث خباؤه ولذا سمي بذلك، وقيل: لأنه يطلع قبل الدفء فيخرج من الهوام ما كان مختبئا والقمر يقاربها من ناحية الجنوب ثم الفرغ المقدم ويقال الأعلى كوكبان نيران من الثاني بينهما قيد رمح اجنبهما على متن الفرس الأكبر المجنح (2) وأشملهما على منكبه والقمر يمر بالبعد منهما ثم الفرغ المؤخر كوكبان نيران من الثاني بينهما قيد رمح أيضا أجنبهما على جناح الفرس وأشملهما مشترك بين سرته ورأس المسلسلة شبهت العرب الأربعة بفرغ الدلو وهو بفتح الفاء وسكون الراء المهملة وغين معجمة مصب الماء منها لكثرة الأمطار في وقتها ثم بطن الحوت ويقال له: الرشاء بكسر الراء أي رشاء الدلو وقلب الحوت أيضا كوكب نير من الثالث على جنب المرأة المسلسلة يحاذيه القمر ولا يقاربه وإنما سمي به لوقوعه في بطن سمكة عظيمة تحت نحر الناقة تصورها العرب من سطرين عليهما كواكب خفية بعضها من المسلسلة وبعضها من إحدى سمكتي الحوت. هذا واعلم أن هذه المنازل الثمانية والعشرين تسمي العرب الأربعة عشر الشمالية منها التي أولها الشرطان وآخرها السماك شامية والباقية منها التي أولها الغفر وآخرها بطن الحوت يمانية وأنها تسمى خروج المنزل من ضياء الفجر طلوعه وغروب رقيبه وقت الصبح سقوطه والمنازل التي يكون طلوعها في مواسم المطر الأنواء ورقباؤها إذا طلعت في غير مواسم المطر البوارح قاله القطب، وقال الجوهري: النوء سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر وطلوع رقيبه من المشرق يقابله من ساعته في كل ليلة إلى مضي ثلاثة عشر يوما ما خلا الجبهة فإن لها أربعة عشر يوما، قال أبو عبيد: ولم يسمع في النوء أنه السقوط إلا في هذا الموضع والعرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها، وقال الأصمعي: إلى الطالع في سلطانه فتقول مطرنا بنوء الثريا مثلا والجمع أنواء ونوان مثل عبد وعبدان، وذكر الطيبي عن المرزوقي أن نوء الشرطين ثلاثة أيام ونوء البطين ثلاث ليال ونوء الثريا خمس ليال ونوء الدبران ثلاث ليال ونوء الهقعة ست ليال ولا يذكرون نوأها إلا بنوء الجوزاء ونوء الهنعة لا يذكر أيضا وإنما يكون في أنواء الجوزاء والذراع لا نوء له ونوء النثرة سبع ليال ونوء الطرف ثلاث ليال ونوء الجبهة سبع والزبرة أربع والصرفة ثلاث والعواء ليلة والسماك أربع والغفر ثلاث وقيل ليلة والزبانا ثلاث والإكليل أربع والقلب ثلاث والشولة كذلك   (1) طلوعه لليلة تبقى من كانون الآخر وسقوطه لليلة تمضي من آب اه قاموس اه منه. (2) أي ذي الجناحين اه منه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 19 والنعائم ليلة والبلدة ثلاث، وقيل: ليلة وسعد الذابح ليلة وبلع وسعد السعود وسعد الأخبية والفرغ المقدم ثلاث والمؤخر أربع ولم يذكر في نسختي للرشاء نوءا. ثم إن قول الإنسان مطرنا بنوء كذا إن أراد به أن النوء نزل بالماء فهو كفر والقائل كافر حلال دمه إن لم يتب كما نص عليه الشافعي وغيره، وفي الروضة من اعتقد أن النوء يمطر حقيقة كفر وصار مرتدا وإن أراد أن النوء سبب ينزل الله تعالى به الماء حسبما علم وقدر فهو ليس بكفر بل مباح لكن قال ابن عبد البر: هو وإن كان مباحا كفر بنعمة الله تعالى وجهل بلطيف حكمته. وفي الصحيحين عن زيد بن خالد الجهني أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال أثر سماء: «هل تدرون ما قال ربكم؟ قالوا: الله تعالى ورسوله أعلم قال: قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله تعالى ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا فهو كافر بي مؤمن بالكوكب» وظاهره أن الكفر مقابل الإيمان فيحمل على ما إذا أراد القائل ما سمعت أولا والله تعالى الحافظ من كل سوء لا رب غيره ولا يرجى إلا خيره. والقمر في العرف العام هو الكوكب المعروف في جميع ليالي الشهر، والمشهور عند اللغويين أنه بعد الاجتماع مع الشمس ومفارقته إياها لا يسمى قمرا إلا من ثلاث ليال وست وعشرين ليلة وفيما عدا ذلك يسمى هلالا ولعل الأظهر في الآية حمله على المعنى الأول وهو الشائع إذا ذكر مع الشمس أي قدرنا هذا الجرم المعروف منازل ومسافات مخصوصة فسار فيها ونزلها منزلة منزلة حَتَّى عادَ أي صار في أواخر سيره وقربه من الشمس في رأي العين كَالْعُرْجُونِ هو عود عزق النخلة من بين الشمراخ إلى منبته منها وروي ذلك عن الحسن وقتادة، وعن ابن عباس أنه أصل العذق، وقيل الشمراخ وهو ما عليه البسر من عيدان العذق والكباسة، والمشهور الأول، ونونه على ما حكي عن الزجاج زائدة فوزنه فعلون من الانعراج وهو الاعوجاج والانعطاف، وذهب قوم واختاره الراغب والسمين وصاحب القاموس إلى أنها أصلية فوزنه فعلول، وقرأ سليمان التيمي «كالعرجون» بكسر العين وسكون الراء وفتح الجيم وهي لغة فيه كالبزيون والبزيون وهو بساط رومي أو السندس الْقَدِيمِ أي العتيق الذي مر عليه زمان يبس فيه ووجه الشبه الاصفرار والدقة والاعوجاج، وقيل: أقل مدة القدم حول فلو قال رجل كل مملوك لي قديم فهو حر عتق منهم من مضى له حول وأكثر، وقيل: ستة أشهر وحكاه بعض الإمامية عن أبي الحسن الرضا رضي الله عنه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 20 لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أي يتسخر ويتسهل كما في قولك النار ينبغي أن تحرق الثوب أو يحسن ويليق أي حكمة كما في قولك الملك ينبغي أن يكرم العالم، واختار غير واحد المعنى الأول، وأصل يَنْبَغِي مطاوع بغى بمعنى طلب وما طاوع وقبل الفعل فقد تسخر وتسهل، والنفي راجع في الحقيقة إلى يَنْبَغِي فكأنه قيل: لا يتسهل للشمس ولا يتسخر أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ أي في سلطانه بأن تجتمع معه في الوقت الذي حده الله تعالى له وجعله مظهرا لسلطانه فإنه عز وجل جعل لتدبير هذا العالم بمقتضى الحكمة لكل من النيرين الشمس والقمر حدا محدودا ووقتا معينا يظهر فيه سلطانه فلا يدخل أحدهما في سلطان الآخر بل يتعاقبان إلى أن يأتي أمر الله عز وجل، وهذه الجملة لنفي أن تدرك الشمس القمر فيما جعل له وقوله تعالى وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ لنفي أن يدرك القمر الشمس فيما جعل لها أي ولا آية الليل سابقة أية النهار وظاهر سلطانها في وقت ظهور سلطانها وإلى هذا المعنى يشير كلام قتادة والضحاك وعكرمة وأبي صالح واختاره الزمخشري ليناسب قوله تعالى لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها ولأن الكلام في الآيتين دل عليه قوله تعالى وَالشَّمْسُ تَجْرِي الآيتان وآخرا كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ وعبر بالإدراك أولا وبالسبق ثانيا على ما في الكشاف لمناسبة حال الشمس من بطء السير وحال القمر من سرعته، ولم يقل ولا القمر سابق الشمس ليؤذن على ما قال الطيبي بالتعاقب بين الليل والنهار وبنصوصية التدبير على المعاقبة فإنه مستفاد من الحركة اليومية التي مدار تصرف كل منهما عليها. وفي الكشف التحقيق أن المقصود بيان معاقبة كل من الشمس والقمر في ترتب الإضاءة وسلطانه على الاستقلال وكذلك اختلاف الليل والنهار فقيل: وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ كناية عن سبق آيته آيته فحصل الدلالة على الاختلاف أيضا إدماجا لأنها لا تنافي إرادة الحقيقة، وجاء من ضرورة التقابل هذا المعنى في النهار أيضا من قوله تعالى: لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ ولما ذكر مع الشمس الإدراك المؤذن بأنها طالبة للحاق قيل «لا ينبغي» رعاية للمناسبة وجيء بالفعل المؤذن بالتجدد ولما نفي السبق في المقابل أكد ذلك بأن جيء بالجملة الاسمية المحضة من دون الابتغاء لأنه مطلوب اللحوق اه. ولم يذكر السر في إدخال حرف النفي على الشمس دون الفعل المؤذن بصفتها ويوشك أن يكون أخفى من السها وكان ذلك ليستشعر منه في المقام الخطابي أن الشمس إذا خليت وذاتها تكون معدومة كما هو شأن سائر الممكنات وإنما يحصل لها ما يحصل من علته التي هي عبارة عن تعلق قدرته تعالى به على وفق إرادته سبحانه الكاملة التي لا يأبى عنها شيء من أشياء عالم الإمكان ويفيد ذلك في غاية كونها مسخرة في قبضة تصرفه عز وجل لا شيء فوق تلك المسخرية وفيه تأكيد لما يفيده قوله تعالى ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ورد بليغ لمن إليها يسند التأثير. وجوز أن يكون ذلك لإفادة كونها مسخرة لا يتسهل لها إلا ما أريد بها من حيث تقديم المسند إليه على الفعل وجعله بعد حرف النفي نحو ما أنا قلت هذا وما زيد سعى في حاجتك يفيد التخصيص أي ما أنا قلت هذا بل غيري وما زيد سعي في حاجتك بل غيره على ما حققه علماء البلاغة والمقصود من نفي تسهل إدراك القمر في سلطانه عن الشمس نفى أن يتسهل لها أن تطمس نوره وتذهب سلطانه ويرجع ذلك إلى نفي قدرتها على الطمس وإذهاب السلطان فيكون المعنى بناء على قاعدة التقديم أن الشمس لا تقدر على ذلك بل غيرها يقدر عليه وهو الله عز وجل وهذا بعد إثبات الجريان لها بتقدير العزيز العليم مشعر بكونها مسخرة لا يتسهل لها إلا ما أريد بها. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 21 وقال بعض الفضلاء فيما كتبه على هامش تفسير البيضاوي عند قوله: وإيلاء حرف النفي الشمس للدلالة على أنها مسخرة لا يتيسر لها إلا ما أريد بها وجه الدلالة أن الإيلاء المذكور يفيد التخصيص والابتغاء بمعنى الصحة والتسهيل المساوقين للاقتدار فيفيد الكلام أن الشمس ليس لها قدرة على إدراك القمر وسرعة المسير التي هي ضد لحركتها الخاصة بل القدرة عليهما لله سبحانه فهو فاعل لحركتها حقيقة ولها مجرد المحلية للحركة فصحت الدلالة المذكورة ثم قال: وتفصيل الكلام أن الله سبحانه ذكر أولا أن الشمس تجري لمستقر لها إشارة إلى حركتها الخاصة ثم ذكر سبحانه أنه قدر القمر أيضا في منازل الشمس حتى عاد كالعرجون القديم أي رجع إلى الشكل الهلالي وذلك إنما يكون عند قربه إلى الشمس ورجوعه إليها ولما كان للوهم سبيل إلى أن يتوهم أن جري الشمس وسيرها وتقدير أنوار القمر وجرمه المرئي مما يستند إلى إرادتهما على سبيل إرادتنا التي تتعلق تارة بالشيء وأخرى بضده فيصح ويتيسر للنيرين الأمران كما يصحان لنا وأن يتوهم أن إسناد أمر الشمس والقمر إلى التقدير الإلهي من قبيل إسناد أفعالنا إليه من حيث إن الأقدار والتمكين منه تعالى وأنه سبحانه المبدأ والمنتهى إلى غير ذلك من الاعتبارات. نبه جل شأنه بالتخصيص المذكور على دفع على هذا التوهم على سبيل التنبيه على كون الشيء مسخرا مضطرا في أمره بسلب اقتداره على ضده وإن لم يذكر جميع أضداده فأشار سبحانه إلى أن الحركة السريعة المفضية إلى إدراك القمر التي هي ضد الحركة الخاصة للشمس لا يصح استنادها إليها والقدرة عليها مختصة بغيرها وهو الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ حتى يظهر أن وجود الحركة الخاصة لها مستند إلى تقديره تعالى وتدبيره جل شأنه من غير مشاركة للشمس معه سبحانه ثم أردف ذلك بحكم القمر حيث قال تعالى وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ فإن الأقرب كون المعنى فيه ليس لآية الليل القدرة على أن تسبق آية النهار بحيث تفوتها ولا تكون لها مراجعة إليها ولحوق بها تنبيها على أن تقدير القمر في المنازل على الوجه المرصود الذي يعود به إلى الشكل الهلال الشبيه بالعرجون ويفضي إلى مقاربة الشمس مستند أيضا إلى تقديره تعالى وتدبيره سبحانه من غير مشاركة للقمر فيه فالجملتان في قوة التأكيد للآيتين السابقتين ولهذا فصلتا اه، وفيه دغدغة لا تخفى على ذكي فتأمل. وما أشار إليه من أن معنى لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ أن الشمس لا قدرة لها على أن تدرك القمر في سيره لبطء حركتها الخاصة وسرعة حركته كذلك قاله غير واحد. وادعى النحاس أنه أظهر ما قيل في معناه وبينه وبين ما تقدم من المعنى قرب ما بل قال بعضهم: الفرق بين الوجهين بالاعتبار، وقال بعض من ذهب إليه في وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ إن المراد أن القمر لا يسبق الشمس بالحركة اليومية وهي ما تكون له وكذا لسائر الكواكب بواسطة فلك الأفلاك فإن هذه الحركة لا يقع بسببها تقدم ولا تأخر وقيل المراد بقوله تعالى لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ إنه لا ينبغي لها أن تدركه في آثاره ومنافعه فإنه سبحانه خص كلا منهما بآثار ومنافع كالتلوين بالنسبة للقمر والنضج بالنسبة للشمس، وعن الحسن أن المراد أنهما لا يجتمعان فيما يشاهد من السماء ليلة الهلال خاصة أي لا تبقى الشمس طالعة إلى أن يطلع القمر ولكن إذا غربت طلع، وقال يحيى بن سلام: المراد لا تدركه ليلة البدر خاصة لأنه يبادر المغيب قبل طلوعها وكلا القولين لا يعول عليهما ولا ينبغي أن يلتفت إليهما، وقيل في معنى الجملة الثانية إن الليل لا يسبق النهار ويتقدم على وقته فيدخل قبل مضيه. وفي الدر المنثور عن بعض الأجلة أي لا ينبغي إذا كان ليل أن يكون ليل آخر حتى يكون النهار، وعليك بما تقدم فهو لعمري أقوم، واستدل بالآية أن النهار سابق على الليل في الخلق روى العياشي في تفسير بالإسناد عن الأشعث بن حاتم قال كنت بخراسان حيث اجتمع الرضا رضي الله تعالى عنه والمأمون والفضل بن سهل في الإيوان الجزء: 12 ¦ الصفحة: 22 بمرو فوضعت المائدة فقال الرضا: إن رجلا من بني إسرائيل سألني بالمدينة فقال: النهار خلق قبل أم الليل فما عندكم؟ فأرادوا الكلام فلم يكن عندهم شيء فقال الفضل للرضا: أخبرنا بها أصلحك الله تعالى قال نعم من القرآن أم من الحساب؟ قال له الفضل: من جهة الحساب فقال رضي الله تعالى عنه: قد علمت يا فضل أن طالع الدنيا السرطان والكواكب في مواضع شرفها فزحل في الميزان والمشتري في السرطان والمريخ في الجدي والشمس في الحمل والزهرة في الحوت وعطارد في السنبلة والقمر في الثور فتكون الشمس في العاشر وسط السماء فالنهار قبل الليل، ومن القرآن قوله تعالى: وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ أي الليل قد سبقه النهار اه. وفي الاستدلال بالآية بحث ظاهر وأما بالحساب فله وجه في الجملة. ورأى المنجمون أن ابتداء الدورة دائرة نصف النهار وله موافقة لما ذكر، والذي يغلب على الظن عدم صحة الخبر من مبتدئه فالرضى أجل من أن يستدل بالآية على ما سمعت من دعواه وفهم الإمام من قوله تعالى وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ أن الليل مسبوق لا سابق ومن قوله سبحانه يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ [الأعراف: 54، الرعد: 3] يطلبه حثيثا أن الليل سابق لأن النهار يطلبه، وأجاب عما يلزم عليه من كون الليل سابقا مسبوقا بأن المراد من الليل هنا آيته وهو القمر وهو لا يسبق الشمس بالحركة اليومية والمراد من الليل هناك نفس الليل وكل واحد لما كان في عقب الآخر كان طالبه وتعقبه أبو حيان بأن فيه جعل الضمير الفاعل في يَطْلُبُهُ عائدا على النهار وضمير المفعول عائدا على اللَّيْلَ والظاهر أن ضمير الفاعل عائد على ما هو الفاعل في المعنى وهو الليل لأنه كان قبل دخول همزة النقل يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ وضمير المفعول عائد على النَّهارَ لأنه المفعول قبل النقل وبعده وحينئذ كلتا الآيتين تفيد أن النهار سابق فلا سؤال انتهى. فتأمل ولا تغفل. وقرأ عمار بن عقيل «سابق» بغير تنوين «النهار» بالنصب قال المبرد: سمعته يقرأ فقلت ما هذا؟ قال: أردت سابق النهار بالتنوين فحذفت لأنه أخف. وفي البحر حذف التنوين لالتقاء الساكنين «وكل» أي كل واحد من الشمس والقمر إذ هما المذكوران صريحا والتنوين عوض عن المضاف إليه وقدره بعضهم ضمير جمع العقلاء ليوافق ما بعد أي كلهم وقدره آخر اسم إشارة أي كل ذلك أي المذكور الشمس والقمر فِي فَلَكٍ هو كما قال الراغب مجرى الكوكب سمي به لاستدارته كفلكة المغزل وهي الخشبة المستديرة في وسطه وفلكة الخيمة وهي الخشبة المستديرة التي توضع على رأس العمود لئلا تتمزق الخيمة. يَسْبَحُونَ أي يسيرون فيه بانبساط وكل من بسط في شيء فهو يسبح فيه، ومنه السباحة في الماء، وهذا المجرى في السماء ولا مانع عندنا أن يجري الكوكب بنفسه في جوف السماء وهي ساكنة لا تدور أصلا وذلك بأن يكون فيها تجويف مملوء هواء أو جسما آخر لطيفا مثله يجري الكوكب فيه جريان السمكة في الماء أو البندقة في الأنبوب مثلا أو تجويف خال من سائر ما يشغله من الأجسام يجري الكوكب فيه أو بأن تكون السماء بأسرها لطيفة أو ما هو مجرى الكوكب منها لطيفا فيشق الكوكب ما يحاذيه وتجري كما تجري السمكة في البحر أو في ساقية منه وقد انجمد سائره وانقطاع كرة الهواء عند كرة النار المماسة لمقعر فلك القمر عند الفلاسفة وانحصار الأجسام اللطيفة بالعناصر الثلاثة وصلابة جرم السماء وتساوي أجزائها واستحالة الخرق والالتئام عليها واستحالة وجود الخلاء لم يتم دليل على شيء منه، وأقوى ما يذكر في ذلك شبهات أوهن من بيت العنكبوت وإنه ورب السماء لأوهن البيوت. ويجوز أن يكون الفلك عبارة عن جسم مستدير ويكون الكوكب فيه يجري بجريانه في ثخن السماء من غير دوران للسماء، ولا مانع من أن يعتبر هذا الفلك لبعض الكواكب الفلك الكلي ويكون فيه نحو ما يثبته أهل الهيئة لضبط الحركات المختلفة من الأفلاك الجزئية لكن لا يضطر إلى ذلك بناء على القواعد الإسلامية كما لا يخفى إلا أن في الجزء: 12 ¦ الصفحة: 23 نسبة السبح إلى الكوكب نوع إباء بظاهره عن هذا الاحتمال، وفي كلام الأئمة من الصحابة وغيرهم إيماء إلى بعض ما ذكرنا. أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس أنه قال في الآية: كُلٌّ فِي فَلَكٍ فلكة كفلكة المغزل يسبحون يدورون في أبواب السماء كما تدور الفلكة في المغزل. وأخرج الأخيران عن مجاهد أنه قال: لا يدور المغزل إلا بالفلكة ولا تدور الفلكة إلا بالمغزل والنجوم في فلكة كفلكة المغزل فلا يدرن إلا بها ولا تدور إلا بهن. وفي الفتوحات المكية للشيخ الأكبر قدس سره جعل الله تعالى السماوات ساكنة وخلق فيها سبحانه نجوما وجعل لها في عالم سيرها وسباحتها في هذه السماوات حركات مقدرة لا تزيد ولا تنقص وجعلها عاقلة سامعة مطيعة وأوحى في كل سماء أمرها ثم إنه عز وجل لما جعل السباحة للنجوم في هذه السماوات حدثت لسيرها طرق لكل كوكب طريق وهو قوله تعالى وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ [الذاريات: 7] فسميت تلك الطرق أفلاكا فالأفلاك تحدث بحدوث سير الكواكب وهي سريعة السير في جرم السماء الذي هو مساحتها فتخرق الهواء المماس لها فيحدث لسيرها أصوات ونغمات مطربة لكون سيرها على وزن معلوم فتلك نغمات الأفلاك الحادثة من قطع الكواكب المسافات السماوية فهي تجري في هذه الطرق بعادة مستمرة قد علم بالرصد مقادير ودخول بعضها على بعض في السير وجعل سيرها للناظرين بين بطء وسرعة وجعل سبحانه لها تقدما وتأخرا في أماكن معلومة من السماء تعينها أجرام الكواكب لإضاءتها دونها إلى آخر ما قال. وقال الإمام: إن الله تعالى قادر على أن يجعل الكوكب بحيث يشق السماء فيجعل دائرة متوهمة كما لو جرت سمكة في الماء على الاستدارة وهذا هو المفهوم من قوله تعالى فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ والظاهر أن حركة الكوكب على هذا الوجه. وأرباب الهيئة أنكروا ذلك للزوم الخرق والالتئام إن انشق موضع الجري والتأم أو الخلاء إن انشق ولم يلتئم والكل محال عندهم وعندنا لا محالية في ذلك وما يلزم هنا الخرق والالتئام لأنه المفهوم من يسبحون ولا دليل لهم على الاستحالة فيما عدا المحدد وهو هناك شبهة ضعيفة لا دليل، وظاهر الآية أن كل واحد من من النيرين في فلك أي في مجرى خاص به وهذا مما يشهد به الحس وذهب إلى نحوه فلاسفة الإسلام كغيرهم من الفلاسفة بيد أنهم يقولون باتحاد الفلك والسماء ولما سمعوا عمن قبلهم أن كلا من السبع السيارة في فلك وكل الكواكب الثوابت في فلك وفوق كل ذلك فلك يحرك الجميع من المشرق إلى المغرب ويسمى فلك الأفلاك لتحريكه إياها والفلك الأعظم لإحاطته بها والفلك الأطلس لأنه كاسمه غير مكوكب وسمعوا عن الشارع ذكر السماوات السبع والكرسي والعرش أرادوا أن يطبقوا بين الأمرين فقالوا: السماوات السبع في كلام الشارع هي الأفلاك السبعة في كلام الفلاسفة فلكل من السيارات سماء من السماوات والكرسي هو فلك الثوابت والعرش هو الفلك المحرك للجميع المسمى بفلك الأفلاك وقد أخطؤوا في ذلك وخالفوا سلف الأمة فيه فالفلك غير السماء، وقوله تعالى مع ما هنا أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً [نوح: 15، 16] لا يدل على الاتحاد لما قلنا من أن الكوكب في الفلك والفلك في السماء فيكون الكوكب فيها بلا شبهة فلا يحوج الجمع إلى القول بالعينية ولم يقم دليل على كرية العرش بل ظاهر ما ورد في الأخبار من أن له قوائم يدل على عدم الكرية، نعم ورد ما يدل بظاهره أنه مقبب وهذا شيء غير ما يزعمونه فيه وكذا الكرسي لم يدل دليل على كريته كما يزعمون ومع هذا ليس عندهم دليل تام على كون الثوابت كلها في فلك فيجوز أن تكون في أفلاك كممثلات كلها فوق زحل أو بعضها فوقه وبعضها بين أفلاك العلوية وهي لا تكسف الثوابت التي عروضها أكثر من عروضها ولا لها اختلاف منظر ليعرف بأحد الوجهين كون الجزء: 12 ¦ الصفحة: 24 الجميع فوق العلوية أو كتداوير ولا يلزم اختلاف إبعاد بعضها من بعض لجواز تساوي أجرام التداوير وحركاتها ولا اختلاف حركاتها بالسرعة والبطء للبعد والقرب وموافقة الممثل ومخالفته لأنا لا نسلم أن حركاتها لا تختلف بذلك المقدار ولا اختلاف أبعادها من الأرض لأنها غير محققة، ويجوز أيضا أن تكون كلها مركوزة في محدب بمثل زحل على أنه يتحرك الحركة البطيئة والمعدل الحركة السريعة، وأيضا يجوز أن يكون فيما سموه الفلك الأطلس كواكب لا ترى لصغرها جدا أو ترى وهي سريعة الحركة ولم يرصد كل كوكب ليتحقق بطء حركة الجميع، وأيضا يجوز أن تكون السيارات أكثر من سبع فيحتاج إلى أزيد من سبع سماوات، ويقرب هذا ظفر أهل الأرصاد الجديدة بكوكب سيار غير السبع سموه باسم من ظفر به وأدركه وهو هرشل، وبالجملة لا قاطع فيما قالوه، وللشيخ الأكبر قدس سره في هذا الباب كلام آخر مبناه الكشف وهو أن العرش الذي استوى الرحمن سبحانه عليه سرير ذو أركان أربعة ووجوه أربعة هي قوائمه الأصلية وهي على الماء الجامد وفي جوفه الكرسي وهو على شكله في التربيع لا في القوائم ومقره على الماء الجامد أيضا وبين مقعر العرش وبينه فضاء واسع وهواء مخترق وفي جوف الكرسي خلق الله تعالى الفلك الأطلس جسما شفافا مستديرا مقسما إلى اثني عشر قسما هي البروج المعروفة وفي جوفه الفلك المكوكب وما بينهما الجنات وبعد أن خلق الله تعالى الأرضين واكتسى الهواء صورة الدخان خلق الله سبحانه السماوات السبع وجعل في كل منها كوكبا وهي الجواري، وزعم الخفاجي أن المراد بالفلك في الآية الفلك الأعظم لأن الشمس والقمر وكذا سائر الكواكب تتحرك بحركته فالسباحة عنده عبارة عن الحركة القسرية، وفي القلب من ذلك شيء، ثم على ما هو الظاهر من أن لكل واحد فلكا يخصه ذهبوا إلى أن فلك الشمس فوق فلك القمر لما أنه يكسفها والمكسوف فوق الكاسف ضرورة، وذكر معظم أهل الهيئة أن الفلك الأدنى فلك القمر وفوقه فلك عطارد وفوقه فلك الزهرة وفوقه فلك الشمس وفوقه فلك المريخ وفوقه فلك المشتري وفوقه فلك زحل واستدلوا على بعض ذلك بالكسف وعلى بعضه الآخر بأن فيه حسن الترتيب وجودة النظام، ولا مانع فيما أرى من القول بذلك لكن لا على الوجه الذي قال به أهل الهيئة من كون السماوات هي الأفلاك الدائرة بل على وجه يتأتى معه القول بسكون السماوات ودوران الكواكب في أفلاكها ومجاريها بعضها فوق بعض، وقد مر لك ما ينفعك في هذا المقام فراجعه، وجوز كون ضمير يَسْبَحُونَ عائدا على الكواكب ويشعر بها ذكر الشمس والقمر والليل والنهار، ورجح على الأول بأن الإتيان بضمير الجمع عليه ظاهر لا يحتاج إلى تكلف بخلافه على الأول فإنه محوج إلى أن يقال اختلاف أحوال الشمس والقمر في المطالع وغيرها نزل منزلة تعدد أفرادهما فكان المرجع شموسا وأقمارا، وظني أنه لا يحتاج إلى ذلك بناء على أنه قد يعتبر الاثنان جمعا أو بناء على ما قال الإمام من أن لفظ كل يجوز أن يوحد نظرا إلى لفظه وأن يجمع نظرا إلى كونه بمعنى الجميع وأما التثنية فلا يدل عليها اللفظ ولا المعنى قال: فعلى هذا يحسن أن يقال زيد وعمرو كل جاؤوا وكل جاءا ولا يحسن كل جاؤوا بالتثنية، واستدل بالإتيان بضمير جمع العقلاء على أن الشمس والقمر من ذوي العقول. وأجيب بأن ذاك لما أن المسند إليهما فعل ذوي العقول كما في قوله تعالى في حق الأصنام ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ [الصافات: 92] وقوله سبحانه أَلا تَأْكُلُونَ [الذاريات: 27] والظواهر غير ما ذكر مع المستدلين. واستدل بالآية بعض فلاسفة الإسلام القائلين باتحاد السماء والفلك على استدارة السماء وجعلوا من اللطائف فيها أن كُلٌّ فِي فَلَكٍ لا يستحيل بالانعكاس نحو كلامك كمالك وسر فلا كبابك الفرس وقالوا: لا يعكر على ذلك أنه سبحانه سماها سقفا في قوله عز قائلا وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ [الطور: 5] لأن السقف المقبب لا يخرج عن كونه سقفا بالتقبيب، وأنت تعلم أن السماوات غير الأفلاك ومع هذا أقول باستدارة السماوات كما ذهب إليه بعض السلف، وبعض ظواهر الأخبار يقتضي أنها أنصاف كرات كل سماء نصف كرة كالقبة على أرض من الأرضين السبع وإليه ذهب الشيخ الأكبر الجزء: 12 ¦ الصفحة: 25 وقال بالاستدارة لفلك المنازل دون السماوات السبع وادعى أن تحت الأرضين السبع التي على كل منها سماء ماء، وتحته هواء، وتحته ظلمة وعليه فليتأمل في كيفية سير الكوكب بعد غروبه حتى يطلع. ثم إن الفلاسفة الذاهبين إلى استدارة السماء تمسكوا في ذلك بأدلة أقربها على ما قيل دليلان، الأول أنا متى قصدنا عدة مساكن على خط واحد من عرض الأرض وحصلنا الكواكب المارة على سمت رأس في كل واحدة منها ثم اعتبرنا أبعاد ممرات تلك الكواكب في دائرة نصف النهار بعضها من بعض وجدناها على نسب المسافات الأرضية بين تلك المساكن، وكذلك وجدنا ارتفاع القطب فيها متفاضلا بمثل تلك النسب فتحدب السماء في العرض مشابه لتحدب الأرض فيه لكن هذا التشابه موجود في كل خط من خطوط العرض وكذا في كل خط من خطوط الطول فسطح السماء بأسره مواز لسطح الظاهر من الأرض بأسره وهذا السطح مستدير حسا فكذا سطح السماء الموازي له، والثاني أن أصحاب الأرصاد دونوا في كتبهم مقادير أجرام الكواكب وأبعاد ما بينها في الأماكن المختلفة في وقت واحد ما في أنصاف نهار تلك الأماكن مثلا متساوية وهذا يدل على تساوي أبعاد مراكز الكواكب عن مناظر الأبصار المستلزم لتساوي أبعادها عن مركز العالم لاستدارة الأرض المستلزم لكون جرم السماء كريا ونوقش في هذا بأنه إنما يصح أن لو كان الفلك ساكنا والكواكب متحركا إذ لو كان الفلك متحركا جاز أن يكون مربعا وتكون مساواة أبعاد مراكز الكواكب عن مناظر الأبصار وتساوي مقادير الأجرام للكواكب حاصلة، وفي الأول بأنه إنما يصح لو كان الإعتبار المذكور موجودا في كل خط من خطوط الطول والعرض ولا يخفى جريان كل من المناقشتين في كل من الدليلين، ولهم غير ذلك من الأدلة مذكورة بما لها وعليها في مطولات كتبهم وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ أي أولادهم، قال الراغب: الذرية أصلها الصغار من الأولاد ويقع في التعارف على الصغار والكبار معا ويستعمل للواحد والجمع وأصله للجمع، وفيه ثلاثة أقوال فقيل هو من ذرأ الله الخلق فترك همزته نحو برية وروية، وقيل: أصله ذروية، وقيل: هو فعلية من الذر نحو قمرية واستظهر حمله على الأولاد مطلقا أبو حيان، وجوز غير واحد أن يحمل على الكبار لأنهم المبعوثون للتجارة أي حملناهم حين يبعثوهم للتجارة فِي الْفُلْكِ أي السفينة سميت بذلك على ما في مجمع البيان لأنها تدور في الماء الْمَشْحُونِ أي المملوء، وقيل: هو مستعمل على أصله وهم الأولاد الصغار الذين يستصحبونهم، وقيل: المراد به النساء فإنه يطلق عليهن، وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن قتل الذراري وفسر بالنساء. وفي الفائق قال حنظلة الكاتب: كنا في غزاة عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فرأى امرأة مقتولة فقال: هاه ما كانت هذه تقاتل الحق خالدا وقل لا تقتلن ذرية ولا عسيفا ، وهي نسل الرجل وأوقعت على النساء كقولهم للمطر سماء ويراد بالنساء اللاتي يستصحبونهن وتخصيص الذرية على هذين القولين بالذكر لأن استقرارهم وتماسكهم في الفلك أعجب، وقيل: تطلق الذرية على الآباء وعلى الأبناء قاله أبو عثمان وتعقبه ابن عطية بأنه تخليط لا يعرف في اللغة، وقيل: الذرية النطف والفلك المشحون بطون النساء ذكره الماوردي ونسب إلى علي كرم الله تعالى وجهه ، والظاهر أنه لم يصح ذلك عنه رضي الله تعالى عنه وفي الآية ما يبعده وهو أشبه شيء بتأويلات الباطنية والمراد بالفلك جنسه والوصف بالمشحون أقوى في الامتنان بسلامتهم فيه، وقيل: لأنه أبعد من الخطر، وإرادة الجنس مروية عن ابن عباس ومجاهد والسدي، وفسر ما في قوله تعالى: وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ عليه بالإبل فإنها سفائن البر لكثرة ما تحمل وقلة كلالها في المسير، وإطلاق السفائن عليها شائع كما قيل: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 26 سفائن برّ والسراب بحارها وروي ذلك عن الحسن وعبد الله بن شداد، وفسره مجاهد بالأنعام الإبل وغيرها، وعن أبي مالك وأبي صالح وغيرهما وهي رواية عن ابن عباس أيضا أن المراد بالفلك سفينة نوح عليه السلام على أن التعريف للعهد فما عبارة عما سمعت أيضا عند بعض وعند آخرين هي السفن والزوارق التي كانت بعد تلك السفينة. واستشكل حمل ذريتهم في سفينة نوح عليه السلام. وأجيب بأن ذلك بحمل آبائهم الأقدمين وفي أصلابهم هؤلاء وذريتهم، وتخصيص الذرية مع أنهم محمولون بالتبع لأنه أبلغ في الامتنان حيث تضمن بقاء عقبهم وأدخل في التعجب ظاهرا حيث تضمن حمل ما لا يكاد يحصى كثرة في سفينة واحدة مع الإيجاز لأنه كان الظاهر أن يقال حملناهم ومن معهم ليبقى نسلهم فذكر الذرية يدل على بقاء النسل وهو يستلزم سلامة أصولهم فدل بلفظ قليل على معنى كثير، وقال الإمام: يحتمل عندي أن التخصيص لأن الموجودين كانوا كفارا لا فائدة في وجودهم أي لم يكن الحمل حملا لهم وإنما كان حملا لما في أصلابهم من المؤمنين، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي حملنا ذريات جنسهم وهو كما ترى، وقيل: ضمير لَهُمْ لأهل مكة وضمير ذُرِّيَّتَهُمْ للقرون الماضية الذين هم منهم وحكي ذلك عن علي بن سليمان وليس بشيء، وجوز الإمام كون الضميرين للعباد في قوله تعالى يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ [يس: 30] ولا يكون المراد في كل أشخاصا معينين بل ذلك على نحو هؤلاء القوم هم قتلوا أنفسهم على معنى قتل بعضهم بعضا فالمعنى آية لكل بعض منهم أنا حملنا ذرية كل بعض منهم أو ذرية بعض منهم وفيه من البعد ما فيه، ورجح تفسير ما بالإبل ونحوها من الأنعام دون السفن بأن المتبادر من الخلق الإنشاء والاختراع فيبعد أن يتعلق بما هو مصنوع العباد. وتعقب بأن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى عند أهل الحق وتبادر الإنشاء ممنوع وعليه يكن في الآية رد على المعتزلة كما قيل في قوله تعالى وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ [الصافات: 96] على تقدير كون ما موصولة، ومِنْ تحتمل أن تكون للبيان وأن تكون للتبعيض وجوز زيادتها على نظر الأخفش ورأيه، والظاهر أن ضمير لَهُمْ الثاني عائد على ما عاد عليه ضمير الأول، وجوز عوده على الذرية، وجوز أيضا عود ضمير مِثْلِهِ على معلوم غير مذكور تقديره من مثل ما ذكرنا من المخلوقات في قوله سبحانه سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ [يس: 36] وهو أبعد من العيوق، وأيا ما كان فلا يخفى مناسبة هذه الآية لقوله تعالى: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ وإنما لم يؤت بها على أسلوب أخواتها بأن يقال وآية لهم الفلك حملنا ذريتهم فيه كما قال سبحانه وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها [يس: 33] وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ لأنه ليس الفلك نفسه عجبا وإنما حملهم فيه هو العجب، وقرأ نافع وابن عامر والأعمش وزيد بن علي وأبان بن عثمان «ذرياتهم» بالجمع، وكسر زيد وأبان الذال وَإِنْ نَشَأْ إغراقهم نُغْرِقْهُمْ في الماء مع ما حملناهم فيه من الفلك وما يركبون من السفن والزوارق فالكلام من تمام ما تقدم فإن كان المراد بما هناك السفن والزوارق فالأمر ظاهر وإن كان المراد بها الإبل ونحوها كان الكلام من تمام صدر الآية أي نغرقهم مع ما حملنا هم فيه من الفلك وكان حديث خلق الإبل ونحوها في البين استطرادا للتماثل، ولما في ذلك من نوع بعد قيل إن قوله سبحانه وإِنْ نَشَأْ إلخ يرجح حمل الْفُلْكِ على الجنس وما على السفن والزوارق الموجودة بين بني آدم إلى يوم القيامة، وفي تعليق الإغراق بمحض المشيئة إشعار بأنه قد تكامل ما يستدعي إهلاكهم من معاصيهم ولم يبق إلا تعلق مشيئته تعالى به، وقيل إن في ذلك إشارة إلى الرد على من يتوهم إن حمل الفلك الذرية من غير أن يغرق أمر تقتضيه الطبيعة ويستدعيه امتناع الخلاء، وقرأ الحسن «نغرقهم» بالتشديد فَلا صَرِيخَ لَهُمْ أي فلا مغيث لهم يحفظهم من الغرق، وتفسير الصريخ بالمغيث مروي عن مجاهد وقتادة، ويكون بمعنى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 27 الصارخ وهو المستغيث ولا يراد هنا، ويكون مصدرا كالصراخ ويتجوز به عن الإغاثة لأن المستغيث ينادي من يستغيث به فيصرخ له ويقول جاءك العون والنصر قال المبرد في أول الكامل: قال سلامة بن جندل: كنا إذا ما أتانا صارخ فزع ... كان الصراخ له فزع المطانيب (1) يقول إذا أتانا مستغيث كانت اغاثته الجد في نصرته، وجوز إرادته هنا أي فلا اغاثة لهم وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ أي ينجون من الموت به بعد وقوعه إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً استثناء مفرغ من أعم العلل الشاملة للباعث المتقدم والغاية المتأخرة أي لا يغاثون ولا ينقذون لشيء من الأشياء إلا لرحمة عظيمة من قبلنا داعية إلى الإغاثة والإنقاذ وتمتيع بالحياة مترتب عليهما، ويجوز أن يراد بالرحمة ما يقارن التمتيع بالحياة الدنيوية فيكون كلاهما غاية للإغاثة والانقاذ أي لنوع من الرحمة وتمتيع، وإلى كونه استثناء مفرغا مما يكون مفعولا لأجله ذهب الزجاج والكسائي، والاستثناء على ما يقتضيه الظاهر متصل، وقيل: الاستثناء منقطع على معنى ولكن رحمة منا ومتاع يكونان سببا لنجاتهم وليس بذاك، وجوز أن يكون النصب بتقدير الباء أي إلا برحمة ومتاع، والجار متعلق بينقذون ولما حذف انتصب مجروره بنزع الخافض. وقيل هو على المصدرية لفعل محذوف أي إلا أن نرحمهم رحمة ونمتعهم تمتيعا، ولا يخفى حاله وكذا حال ما قبله إِلى حِينٍ أي إلى زمان قدر فيه حسبما تقتضيه الحكمة آجالهم، ومن هنا أخذ أبو الطيب قوله: ولم أسلم لكي أبقى ولكن ... سلمت من الحمام إلى الحمام والظاهر أن المحدث عنه من يشاء الله تعالى إغراقهم، وقال ابن عطية: إن فَلا صَرِيخَ لَهُمْ إلخ استئناف أخبار عن المسافرين في البحر ناجين كانوا أو مغرقين أي لا نجاة لهم إلا برحمة الله تعالى، وليس مربوطا بالمغرقين وقد يصح ربطه به والأول أحسن فتأمله اه، وقد تأملناه فوجدناه لا حسن فيه فضلا عن أن يكون أحسن. والفاء ظاهرة في تعلق ما بعدها بما قبلها وَإِذا قِيلَ لَهُمُ إلخ بيان لإعراضهم عن الآيات التنزيلية بعد بيان إعراضهم عن الآيات الآفاقية التي كانوا يشاهدونها وعدم تأملهم فيها أي إذا قيل لأهل مكة بطريق الإنذار بما نزل من الآيات أو بغيره اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ قال قتادة ومقاتل: أي عذاب الأمم التي قبلكم، والمراد اتقوا مثل عذابهم وَما خَلْفَكُمْ أي عذاب الآخرة، وقال مجاهد في رواية عكس ذلك، وجاء عنه في رواية أخرى ما بين أيديهم، ما تقدم من ذنوبهم وما خلفهم ما يأتي منها، وعن الحسن مثله، وقيل ما بين أيديهم نوازل السماء وما خلفهم نوائب الأرض، وقيل ما بين أيديهم المكاره من حيث يحتسبون وما خلفهم المكاره من حيث لا يحتسبون، وحاصل الأمر على ما قيل اتقوا العذاب أو اتقوا ما يترتب العذاب عليه لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ حال من واو اتقوا أو غاية له راجين أن ترحموا أو كي ترحموا، وفسرت الرحمة بالإنجاء من العذاب، وجواب إذا محذوف ثقة بانفهامه من قوله تعالى وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ انفهاما بينا، أما إذا كان الإنذار بالآية الكريمة فبعبارة النص، وأما إذا كان بغيرها فبدلالته لأنهم حين أعرضوا عن آيات ربهم فلأن يعرضوا عن غيرها بطريق الأولى كأنه قيل: وإذا قيل لهم اتقوا العذاب أو اتقوا ما يوجبه أعرضوا لأنهم اعتادوه وتمرنوا عليه، وما نافية وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار التجددي، ومن الأولى مزيدة لتأكيد العموم والثانية تبعيضية متعلقة بمحذوف وقع صفة لآية، وإضافة الآيات إلى اسم الرب المضاف إلى ضميرهم لتفخيم شأنها المستتبع لتهويل ما اجترءوا عليه في حقها، والمراد بها إما هذه الآيات الناطقة بما فصل من بدائع صنع الله تعالى وسوابغ آلائه تعالى الموجبة للإقبال عليها والايمان وإيتاؤها نزول   (1) لعله جمع مطناب الجيش العظيم اه منه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 28 الوحي بها أي ما نزل الوحي بآية من الآيات الناطقة بذلك إلا كانوا عنها معرضين على وجه التكذيب والاستهزاء، وإما ما يعمها والآيات التكوينية الشاملة للمعجزات وتعاجيب المصنوعات التي من جملتها الآيات الثلاث المعدودة آنفا وإيتاؤها ظهورها لهم أي ما ظهرت لهم آية من الآيات التي من جملتها ما ذكر من شؤونه تعالى الشاهدة بوحدانيته سبحانه وتفرده تعالى بالألوهية إلا كانوا عنها معرضين تاركين للنظر الصحيح فيها المؤدي إلى الإيمان به عز وجل. وفي الكلام إشارة إلى استمرارهم على الاعراض حسب استمرار إتيان الآيات، و (عن) متعلقة بمعرضين قدمت عليه للحصر الادعائي مبالغة في تقبيح حالهم، وقيل للحصر الإضافي أي معرضين عنها لا عما هم عليه من الكفر وقيل لرعاية الفواصل والجملة في حيز النصب على أنها حال من مفعول تأتي أو من فاعله المتخصص بالوصف لاشتمالها على ضمير كل منهما والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أي ما تأتيهم آية من آيات ربهم في حال من أحوالهم إلا حال إعراضهم عنها أو ما تأتيهم آية منها في حال من أحوالها إلا حال اعراضهم عنها. وجملة وَما تَأْتِيهِمْ إلخ- على ما يشعر به كلام الكشاف- تذييل يؤكد ما سبق من حديث الإعراض، وإلى كونه تذييلا ذهب الخفاجي ثم قال: فتكون معترضة أو حالا مسوقة لتأكيد ما قبلها لشمولها لما تضمنه مع زيادة إفادة التعليل الدال على الجواب المقدر المعلل به فليس من حقها الفصل لأنها مستأنفة كما توهم فتأمل وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي أعطاكم سبحانه بطريق التفضل والإنعام من أنواع الأموال، وعبر بذلك تحقيقا للحق وترغيبا في الإنفاق على منهاج قوله تعالى وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص: 77] وتنبيها على عظم جنايتهم في ترك الامتثال بالأمر، وكذلك الإتيان بمن التبعيضية، والكلام على ما قيل لذمهم على ترك الشفقة على خلق الله تعالى أثر ذمهم على ترك تعظيمه عز وجل بترك التقوى، وفي ذلك إشارة إلى أنهم أخلوا بجميع التكاليف لأنها كلها ترجع إلى أمرين التعظيم لله تعالى والشفقة على خلقه سبحانه، وقيل هو للإشارة إلى عدم مبالاتهم بنصح الناصح وإرشاده إياهم إلى ما يدفع البلاء عنهم نظير قوله تعالى وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا إلخ والمعنى عليه. إذا قيل لهم بطريق النصيحة والإرشاد إلى ما فيه نفعهم أنفقوا بعض ما آتاكم الله من فضله على المحتاجين فإن ذلك مما يرد البلاء ويدفع المكاره قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ والأول أظهر، والظاهر أن الذين كفروا هم الذين قيل لهم أنفقوا وعدل عن ضميرهم إلى الظاهر إيماء إلى علة القول المذكور، وفي كون القول للذين آمنوا إيماء إلى أنهم القائلون، قيل: لما أسلم حواشي الكفار من أقربائهم ومواليهم من المستضعفين قطعوا عنهم ما كانوا يواسونهم به وكان ذلك بمكة قبل نزول آيات القتال فندبهم المؤمنون إلى صلة حواشيهم فقالوا: أَنُطْعِمُ إلخ، وقيل: شحت قريش بسبب أزمة على المساكين من مؤمن وغيره فندبهم النبي صلّى الله عليه وسلم إلى النفقة عليهم فقالوا هذا القول، وقيل: قال فقراء المؤمنين أعطونا ما زعمتم من أموالكم أنها لله تعالى فحرموا وقالوا ذلك، وروي هذا عن مقاتل، وقال ابن عباس: كان بمكة زنادقة إذا أمروا بالصدقة قالوا لا والله أيفقره الله تعالى ونطعمه نحن وكانوا يسمعون المؤمنين يعلقون الأفعال بمشيئة الله تعالى يقولون لو شاء الله تعالى لأغنى فلانا ولو شاء لأعزه ولو شاء سبحانه لكان كذا فأخرجوا هذا الجواب مخرج الاستهزاء بالمؤمنين وبما كانوا يقولون. وقال القشيري أيضا: إن الآية نزلت في قوم من الزنادقة لا يؤمنون بالصانع وأنكروا وجوده فقولهم لو يشاء الله من باب الاستهزاء بالمسلمين. وجوز أن يكون مبنيا على اعتقاد المخاطبين ويفهم من هذا أن الزنديق من ينكر الصانع، وقد حقق الأمر فيه على الوجه الأكمل ابن الكمال في رسالة مستقلة فارجع إليها إن أردت ذلك وعن الحسن. وأبي خالد أن الآية نزلت في اليهود أمروا بالإنفاق على الفقراء فقالوا ذلك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 29 وظاهر ما تقدم يقتضي أنها في كفار مكة أمروا بالإنفاق مما رزقهم الله تعالى وهو عام في الإطعام وغيره فأجابوا بنفي الإطعام الذي لم يزالوا يفتخرون به دلالة على نفي غيره بالطريق الأولى ولذا لم يقل أننفق. وقيل لم يقل ذلك لأن الإطعام هو المراد من الإنفاق أو لأن نُطْعِمُ بمعنى نعطي وليس بذاك، وأَطْعَمَهُ جواب لَوْ وورود الموجب جوابا بغير لام فصيح ومنه أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ [الأعراف: 100] لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً [الواقعة: 70] نعم الأكثر مجيئه باللام. والظاهر أن قوله تعالى إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ من تتمة قول الذين كفروا للذين آمنوا أي ما أنتم إلا في ضلال ظاهر حيث طلبتم منا ما يخالف مشيئة الله عز وجل، ولعمري إن الإناء ينضح بما فيه فإن جوابهم يدل على غاية ضلالهم وفرط جهلهم حيث لم يعلموا أنه تعالى يطعم بأسباب منها حث الأغنياء على إطعام الفقراء وتوفيقهم سبحانه له، ويجوز أن يكون جوابا من جهته تعالى زجر به الكفرة وجهلهم به أو حكاية لجواب المؤمنين لهم فيكون على الوجهين استئنافا بيانيا جوابا لما عسى أن يقال ما قال الله تعالى أو ما قال المؤمنون في جوابهم؟. وقوله تعالى وَيَقُولُونَ عطف على الشرطية السابقة مفيد لإنكارهم البعث الذي هو مبدأ كل قبيح والنبي صلّى الله عليه وسلم لم يزل يعدهم بذلك، ومما يستحضر في أذهانهم ما تقدم من الأوامر فلذا أتوا بالإشارة إلى القريب في قولهم مَتى هذَا الْوَعْدُ يعنون وعد البعث، وجوز أن يكون ذلك من باب الاستهزاء وأرادوا متى يكون ذلك ويتحقق في الخارج إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فيما تقولون وتعدون فأخبرونا بذلك، والخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين لما أنهم أيضا كانوا يتلون عليهم الآيات الدالة عليه والآمرة بالإيمان به وكأنه لم يعتبر كونه شرا لهم ولذا عبروا بالوعد دون الوعيد، وقيل: إن ذاك لأنهم زعموا إن لهم الحسنى عند الله تعالى إن تحقق البعث بناء على أن الآية في غير المعطلة ما يَنْظُرُونَ جواب من جهته تعالى أي ما ينتظرون إِلَّا صَيْحَةً عظيمة واحِدَةً وهي النفخة الأولى في الصور التي يموت بها أهل الأرض. وعبر بالإنظار نظرا إلى ظاهر قولهم مَتى هذَا الْوَعْدُ أو لأن الصيحة لما كانت لا بد من وقوعها جعلوا كأنهم منتظروها تَأْخُذُهُمْ تقهرهم وتستولي عليهم فيهلكون وَهُمْ يَخِصِّمُونَ أي يتخاصمون ويتنازعون في معاملاتهم ومتاجرهم لا يخطر ببالهم شيء من مخايلها كقوله تعالى أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [يوسف: 107] فلا يغتروا بعدم ظهور علائمها حسبما يريدون ولا يزعمون أنها لا تأتي، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عمر قال: «لينفخن في الصور والناس في طرقهم وأسواقهم ومجالسهم حتى أن الثوب ليكون بين الرجلين يتساومان فما يرسله أحدهما من يده حتى ينفخ في الصور فيصعق به» وهي التي قال الله تعالى ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً إلخ، وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومن الساعة والرجل يليط حوضه فلا يسقى منه ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن نعجته فلا يطعمه ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فمه فلا يطعمها» وأصل يخصمون يختصمون وبه قرأ أبي فسكنت التاء وأدغمت في الصاد بعد قلبها صادا ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين، وجوز أن يكون الكسر لاتباع حركة الصاد الثانية والساكن لا يضر حاجزا. وقرأ الحرميان وأبو عمرو والأعرج وشبل وابن قسطنطين بإدغام التاء في الصاد ونقل حركتها وهي الفتحة إلى الخاء، وأبو عمرو أيضا وقالون بخلف باختلاس حركة الخاء وتشديد الصاد، وعنهما اسكان الخاء وتخفيف الصاد من خصمه إذا جادله، والمفعول عليها محذوف أي يخصم بعضهم بعضا، وقيل يخصمون مجادلتهم عن أنفسهم، وبعضهم يكسر ياء المضارعة اتباعا لكسرة الخاء وشد الصاد، وكسر ياء المضارعة لغة حكاها سيبويه عن الخليل في الجزء: 12 ¦ الصفحة: 30 مواضع، وعن نافع أنه قرأ بفتح الياء وسكون الخاء وتشديد الصاد المكسورة، وفيها الجمع بين الساكنين على حده المعروف، وكأنه يجوز الجمع بينهما إذا كان الثاني مدغما كان الأول حرف مد أيضا أم لا، وهذا ما اخترناه في نقل القراءات تبعا لبعض الأجلة والرواة في ذلك مختلفون. فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً في شيء من أمورهم إذا كانوا فيما بين أهليهم، ونصب تَوْصِيَةً على أنه مفعول به ليستطيعون، وجوز أن يكون مفعولا مطلقا لمقدر وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ إذا كانوا في خارج أبوابهم بل تبغتهم الصيحة فيموتون حيثما كانوا ويرجعون إلى الله عز وجل لا إلى غيره سبحانه. وقرأ ابن محيصن «يرجعون» بالبناء للمفعول والضمائر للقائلين مَتى هذَا الْوَعْدُ لا من حيث أعيانهم أعني أهل مكة الذين كانوا وقت النزول بل لمنكري البعث مطلقا وَنُفِخَ فِي الصُّورِ هي النفخة الثانية بينها وبين الأولى أربعون أي النفخ فيه، وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع. وقرأ الأعرج «الصور» بفتح الواو وقد مر الكلام في ذلك فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ أي القبور جمع جدث بفتحتين، وقرىء بالفاء بدل الثاء والمعنى واحد إِلى رَبِّهِمْ مالك أمرهم يَنْسِلُونَ يسرعون بطريق الإجبار لقوله تعالى لَدَيْنا مُحْضَرُونَ قيل: وذكر الرب للإشارة إلى إسراعهم بعد الإساءة إلى من أحسن إليهم حين اضطروا إليه، ولا منافاة بين هذه الآية وقوله تعالى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: 68] لجواز اجتماع القيام والنظر والمشي أو لتقارب زمان القيام ناظرين وزمان الإسراع في المشي. وقرأ ابن أبي إسحاق وأبو عمرو بخلاف عنه بضم السين قالُوا أي في ابتداء بعثهم من القبور يا وَيْلَنا أي هلاكنا أحضر فهذا أوانك وقيل أي يا قومنا انظروا ويلنا وتعجبوا منه، وعلى حذف المنادي قيل وي كلمة تعجب ولنا بيان ونسب للكوفيين وليس بشيء. وقرأ ابن أبي ليلى «يا ويلتنا» بتاء التأنيث، وعنه أيضا «يا ويلتي» بتاء بعدها ألف بدل من ياء الإضافة، والمراد أن كل واحد منهم يقول يا ويلتي مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا أي رقادنا على أنه مصدر ميمي أو محل رقادنا على أنه اسم مكان ويراد بالمفرد الجمع أي مراقدنا، وفيه تشبيه الموت بالرقاد من حيث عدم ظهور الفعل والاستراحة من الأفعال الاختيارية، ويجوز أن يكون المرقد على حقيقته والقوم لاختلاط عقولهم ظنوا كانوا نياما ولم يكن لهم إدراك لعذاب القبر لذلك فاستفهموا عن موقظهم، وقيل سموا ذلك مرقدا مع علمهم بما كانوا يقاسون فيه من العذاب لعظم ما شاهدوه فكأن ذلك مرقد بالنسبة إليه، فقد روي أنهم إذا عاينوا جهنم وما فيها من ألوان العذاب يرون ما كانوا فيه مثل النوم في جنبها فيقولون ذلك. وأخرج القرباني وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي بن كعب أنه قال: ينامون قبل البعث نومة، وأخرج هؤلاء ما عدا ابن جرير عن مجاهد قال: للكفار هجعة يجدون فيها طعم النوم قبل يوم القيامة فإذا صيح بأهل القبور يقولون يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا وروي عن ابن عباس أن الله تعالى يرفع عنهم العذاب بين النفختين فيرقدون فإذا بعثوا بالنفخة الثانية وشاهدوا الأهوال قالوا: ذلك. وفي البحر أن هذا غير صحيح الإسناد واختار أن المرقد استعارة عن مضجع الموت. وقرأ أمير المؤمنين عليّ وابن عباس والضحاك وأبو نهيك «من بعثنا» بمن الجارة والمصدر المجرور وهو متعلق بويل أو بمحذوف وقع حالا منه: ونحوه في الخبر: ويلي عليك وويلي منك يا رجل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 31 ومن الثانية متعلقة ببعث. وعن ابن مسعود أنه قرأ «من أهبنا» بمن الاستفهامية وأهب بالهمز من هب من نومه إذا انتبه وأهببته أنا أي أنبهته. وعن أبي أنه قرأ «هبنا» بلا همز قال ابن جني: وقراءة ابن مسعود أقيس فهبني بمعنى أيقظني لم أر لها أصلا ولا مر بنا في اللغة مهبوب بمعنى موقظ اللهم إلا أن يكون حرف الجر محذوفا أي هب بنا أي أيقظنا ثم حذف وأوصل الفعل، وليس المعنى على من هب فهببنا معه وإنما معناه من أيقظنا. وقال البيضاوي: هبنا بدون الهمز بمعنى أهبنا بالهمز، وقرىء «من هبنا» بمن الجارة والمصدر من هب يهب هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ جملة من مبتدأ وخبر وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ عطف على ما في حيز ما، وعطفه على الجملة الاسمية أو جعله حالا بتقدير قد بدونه خلاف الظاهر، وما موصولة محذوفة العائد أي هذا الذي وعده الرحمن والذي صدقه المرسلون أي صدق فيه من قولهم صدقت زيدا الحديث أي صدقته فيه ومنه قولهم صدقني سن بكره أو مصدرية أي هذا وعد الرحمن وصدق المرسلين على تسمية الموعود والمصدوق فيه بالوعد والصدق، وهو على ما قيل جواب من جهته عز وجل وعلى ما قال الفراء من قبل الملائكة وعلى ما قال قتادة ومجاهد من قبل المؤمنين وكان الظاهر أن يجابوا بالفاعل لأنه الذي سألوا عنه بأن يقال الرحمن أو الله بعثكم لكن عدل عنه إلى ما ذكر تذكيرا لكفرهم وتقريعا لهم عليه مع تضمنه الاشارة إلى الفاعل، وذكر غير واحد أنه من الأسلوب الحكيم على أن المعنى لا تسألوا عن الباعث فإن هذا البعث ليس كبعث النائم وإن ذلك ليس مما يهمكم الآن وإنما الذي يهمكم أن تسألوا ما هذا البعث ذو الأهوال والافزاع، وفيه من تقريعهم ما فيه. وزعم الطيبي أن ذكر الفاعل ليس بكاف في الجواب لأن قولهم مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا حكاية عن قولهم ذلك عند البعث بعد ما سبق من قولهم مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فلا بد في الجواب من قول مضمن معنيين فكان مقتضى الظاهر أن يقال بعثكم الرحمن الذي وعدكم البعث وأنبأكم به الرسل لكن عدل إلى ما يشعر بتكذيبهم ليكون أهول وفي التقريع أدخل، وهو وارد على الأسلوب الحكيم وفي دعوى عدم كفاية ذكر الفاعل في الجواب نظر، وفي إيثارهم اسم الرحمن قيل اشارة إلى زيادة التقريع من حيث إن الوعد بالبعث من آثار الرحمة وهم لم يلقوا له بالا ولم يلتفتوا إليه وكذبوا به ولم يستعدوا لما يقتضيه، وقيل آثره المجيبون من المؤمنين لما أن الرحمة قد غمرتهم فهي نصب أعينهم، واختصاص رحمة الرحمن بما يكون في الدنيا ورحمة الرحيم بما يكون في الأخرى ممنوع فقد ورد با رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما. وقال ابن زيد: هذا الجواب من قبل الكفار على أنهم أجابوا أنفسهم حيث تذكروا ما سمعوه من المرسلين عليهم السلام أو أجاب بعضهم بعضا، وآثروا اسم الرحمن طمعا في أن يرحمهم وهيهات ليس لكافر نصيب يومئذ من رحمته عز وجل، وجوز الزجاج كون هذا صفة لمرقدنا لتأويله بمشتق فيصح الوقف عليه، وقد روي عن حفص أنه وقف عليه وسكت سكتة خفيفة فحكاية إجماع القراء على الوقف على مَرْقَدِنا غير تامة، وما مبتدأ محذوف الخبر أي حق أو مبتدأ خبره محذوف أي هو أو هذا ما وعد، وفيه من البديع صنعة التجاذب وهو أن تكون كلمة محتملة أن تكون من الساق وأن تكون من اللاحق، ومثله كما قال الشيخ الأكبر قدس سره في تفسيره (1) المسمى بإيجاز البيان في الترجمة عن القرآن ومن خطه الشريف نقلت الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ [البقرة: 146، الأنعام: 20] الآية بعد قوله تعالى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة: 145]   (1) وهو على اسلوب تفاسير المفسرين دون أهل التأويل اه منه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 32 وقوله تعالى فِيهِ هُدىً- بعد- لا رَيْبَ [البقرة: 2] فليحفظ إِنْ كانَتْ أي ما كانت الفعلة أو النفخة التي حكيت آنفا إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً حصلت من نفخ إسرافيل عليه السلام في الصور، وقيل: هي قول إسرافيل عليه السلام أيتها العظام النخرة والأوصال المتقطعة والشعور المتمزقة إن الله يأمر كن أن تجتمعن لفصل القضاء. وقرىء برفع «صيحة» ومر توجيهها فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ مجموع لَدَيْنا عندنا وفي محل حكمنا وانقطاع التصرف الظاهري من غيرنا مُحْضَرُونَ لفصل الحساب من غير لبث ما طرفة عين، وفيه من تهوين أمر البعث والحشر والإيذان باستغنائهما عن الأسباب ما لا يخفى. فَالْيَوْمَ الحاضر أو المعهود وهو يوم القيامة الدال نفخ الصور عليه وانتصب على الظرف والعامل فيه قوله تعالى لا تُظْلَمُ نَفْسٌ من النفوس برة كانت أو فاجرة شَيْئاً من الظلم فهو نصب على المصدرية أو شيئا من الأشياء على أنه مفعول به على الحذف والإيصال وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي الإجزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا على الاستمرار من الكفر والمعاصي فالكلام على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه للتنبيه على قوة التلازم والارتباط بينهما كأنهما شيء واحد أو إلا بما كنتم تعملونه أي بمقابلته أو بسببه، وقيل: لا تجزون إلا نفس ما كنتم تعملونه بأن يظهر بصورة العذاب، وهذا حكاية عما يقال للكافرين حين يرون العذاب المعد لهم تحقيقا للحق وتقريعا لهم، واستظهر أبو حيان أن الخطاب يعم المؤمنين بأن يكون الكلام اخبارا من الله تعالى عما لأهل المحشر على العموم كما يشير إليه تنكير نَفْسٌ واختاره السكاكي، وقيل: عليه يأباه الحصر لأنه تعالى يوفي المؤمنين أجورهم ويزيدهم من فضله أضعافا مضاعفة. ورد بأن المعنى أن الصالح لا ينقص ثوابه والطالح لا يزاد عقابه لأن الحكمة تأبى ما هو على صورة الظلم أما زيادة الثواب ونقص العقاب فليس كذلك أو المراد بقوله تعالى وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إنكم لا تجزون إلا من جنس عملكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وقوله تعالى إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ على تقدير كون الخطاب السابق خاصا بالكفرة من جملة ما سيقال لهم يومئذ زيادة لحسرتهم وندامتهم فإن الأخبار يحسن حال أعدائهم أثر بيان سوء حالهم مما يزيدهم مساءة على مساءة وفي حكاية ذلك مزجرة لهؤلاء الكفرة عما هم عليه ومدعاة إلى الاقتداء بسيرة المؤمنين، وعلى تقدير كونه عاما ابتداء كلام وأخبار لنا بما يكون في يوم القيامة إذا صار كل إلى ما أعد لهم من الثواب والعقاب، والشغل هو الشأن الذي يصد المرء ويشغله عما سواه من شؤونه لكونه أهم عنده من الكل إما لا يجابه كمال المسرة أو كمال المساءة والمراد هاهنا هو الأول، وتنكيره للتعظيم كأنه شغل لا يدرك كنهه، والمراد به ما هم فيه من النعيم الذي شغلهم عن كل ما يخطر بالبال، وعن ابن عباس وابن مسعود، وقتادة هو افتضاض الأبكار وهو المروي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه، وفي رواية أخرى عن ابن عباس ضرب الأوتار. وقيل السماع وروي عن وكيع وعن ابن كيسان التزاور، وقيل ضيافة الله تعالى وهي يوم الجمعة في الفردوس الأعلى عند كثيب المسك وهناك يتجلى سبحانه لهم فيرونه جل شأنه جميعا، وعن الحسن نعيم شغلهم عما فيه أهل النار من العذاب، وعن الكلبي شغلهم عن أهاليهم من أهل النار لا يذكرونهم لئلا يتنغصوا، ولعل التعميم أولى. وليس مراد أهل هذه الأقوال بذلك حصر شغلهم فيما ذكروه فقط بل بيان أنه من جملة أشغالهم، وتخصيص كل منهم كلا من تلك الأمور بالذكر محمول على اقتضاء مقام البيان إياه، وأفرد الشغل باعتبار أنه نعيم وهو واحد بهذا الاعتبار، والجار مع مجروره متعلق بمحذوف وقع خبرا لأن وفاكِهُونَ خبر ثان لها وجوز أن يكون هو الخبر وفِي شُغُلٍ متعلق به أو حال من ضميره والمراد بفاكهون على ما أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 33 ابن عباس فرحون، وأخرجوا عن مجاهد أن المعنى يتعجبون بما هم فيه. وقال أبو زيد: الفاكه الطيب النفس الضحوك ولم يسمع له فعل من الثلاثي، وقال أبو مسلم: إنه مأخوذ من الفكاهة بالضم وهي التحدث بما يسر، وقيل التمتع والتلذذ قيل فاكِهُونَ ذوو فاكهة نحو لابن وتامر. وظاهر صنيع أبي حيان اختياره، والتعبير عن حالهم هذه بالجملة الاسمية قبل تحققها لتنزيل المترقب المترفع منزلة الواقع للإيذان بغاية سرعة تحققها ووقوعها، وفيه على تقدير خصوص الخطاب زيادة لمساءة المخاطبين. وقرأ الحرميان وأبو عمرو «شغل» بضم الشين وسكون الغين وهي لغة في شغل بضمتين للحجازيين ما قال الفراء. وقرأ مجاهد وأبو السمال وابن هبيرة فيما نقل عنه ابن خالويه بفتحتين، ويزيد النحوي وابن هبيرة أيضا فيما نقل عنه أبو الفضل الرازي بفتح الشين وإسكان الغين وهما لغتان أيضا فيه. وقرأ الحسن وأبو جعفر وقتادة وأبو حيوة ومجاهد وشيبة وأبو رجاء ويحيى بن صبيح ونافع في رواية «فاكهون» جمع فكه كحذر وحذرون وهو صفة مشبهة تدل على المبالغة والثبوت، وقرأ طلحة والأعمش «فاكهين» بالألف وبالياء نصبا على الحال (1) وفِي شُغُلٍ هو الخبر، وقرىء «فكهين» بغير ألف وبالياء كذلك، وقرىء «فكهون» بفتح الفاء وضم الكاف وفعل بضم العين من أوزان الصفة المشبهة كنطس وهو الحاذق الدقيق النظر الصادق الفراسة، وقوله تعالى: هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ استئناف مسوق لبيان كيفية شغلهم وتفكههم وتكميلها بما يزيدهم بهجة وسرورا من شركة أزواجهم، فهم مبتدأ وأَزْواجُهُمْ عطف عليه ومُتَّكِؤُنَ خبر والجار أن صلة له قيل قدما عليه لمراعاة الفواصل أو هو والجاران بما تعلقا به من الاستقرار أخبار مترتبة، وجوز أن يكون الخبر هو الظرف الأول والظرف الثاني متعلق بمتكئون وهو خبر مبتدأ محذوف أي هم متكئون على الأرائك أو الظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم ومُتَّكِؤُنَ مبتدأ مؤخر والجملة على الوجهين استئناف بياني، وقيل هُمْ تأكيد للمستكن في خبر إن أعني فاكهون أو في شغل. ومنعه بعضهم زعما منه أن فيه الفصل بين المؤكد والمؤكد بأجنبي ومُتَّكِؤُنَ خبر آخر لها وعَلَى الْأَرائِكِ متعلق به وكذا فِي ظِلالٍ أو هو متعلق بمحذوف هو حال من المعطوف والمعطوف عليه، ومن جوز مجيء الحال من المبتدأ جوز هذا الاحتمال على تقدير أن يكون هُمْ مبتدأ أيضا، والظلال جمع ظل وجمع فعل على فعال كثير كشعب وشعاب وذئب وذئاب، ويحتمل أن يكون جمع ظلة بالضم كقبة وقباب وبرمة وبرام، وأيد بقراءة عبد الله والسلمي وطلحة وحمزة والكسائي «في ظلل» بضم ففتح فإنه جمع ظلة لا ظل والأصل توافق القراءات، ومنذر بن سعيد يقول: مع ظلة بالكسر وهي لغة في ظلة بالضم فيكون كلقحة ولقاح وهو قليل. وفسر الإمام الظل بالوقاية عن مظان الألم ولأهل الجنة من ظل الله تعالى ما يقيهم الأسواء والجمع باعتبار ما لكل واحد منهم من ذلك أو هو متعدد للشخص الواحد باعتبار تعدد ما منه الوقاية. ويحتمل أنه جمع باعتبار كونه عظيم الشأن جليل القدر كجمع اليد بمعنى القدرة على قول في قوله تعالى: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ [الذاريات: 47] . وفسر أبو حيان الظلال جمع ظلة بالملابس ونحوها من الأشياء التي تظل كالستور، وأقول قال ابن الأثير: الظل الفيء الحاصل من الحاجز بينك وبين الشمس أي شيء كان، وقيل هو مخصوص بما كان منه إلى زوال الشمس وما   (1) في الظرف أي من المستكن اه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 34 كان بعد فهو الفيء، وأنت تعلم أن الظل بالمعنى الذي تعتبر فيه الشمس لا يتصور في الجنة إذ لا شمس فيها، ومن هنا قال الراغب: الظل ضد الضح وهو أعم من الفيء فإنه يقال ظل الليل وظل الجنة، وجاء في ظلها ما يدل على أنه كالظل الذي يكون في الدنيا قبل طلوع الشمس، فقد روى ابن القيم في حادي الأرواح عن ابن عباس أنه سئل ما أرض الجنة؟ قال: مرمرة بيضاء من فضة كأنها مرآة قيل: ما نورها؟ قال: ما رأيت الساعة التي قبل طلوع الشمس فذلك نورها إلا أنها ليس فيها شمس ولا زمهرير، وذكر ابن عطية نحو هذا لكن لم يعزه. وتعقبه أبو حيان بأنه يحتاج إلى نقل صحيح وكيف يكون ذلك وفي الحديث ما يدل على أن حوراء من حور الجنة لو ظهرت لأضاءت منها الدنيا أو نحو من هذا، ويمكن الجواب بأن المراد تقريب الأمر لفهم السائل وإيضاح الحال بما يفهمه أو بيان نورها في نفسها لا الأعم منه ومما يحصل فيها من أنوار سكانها الحور العين وغيرهم. نعم نورها في نفسها أتم من نور الدنيا قبل طلوع الشمس كما يومىء إليه ما أخرجه ابن ماجة عن أسامة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ألا هل مشمر للجنة فإن الجنة لا خطر لها أي لا عدل ولا مثل وهي ورب الكعبة نور يتلألأ» الحديث ، ويجوز حمل الظلال جمع ظل هنا على هذا المعنى وجمعه للتعدد الاعتباري، ويجوز حمل الظل على العزة والمناعة فإنه قد يعبر به عن ذلك وبهذا فسر الراغب قوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ [المرسلات: 41] وهو غير معنى الوقاية عن مظان الألم الذي ذكره الإمام، ويجوز حمله على أنه جمع ظلة على الستور التي تكون فوق الرأس من سقف وشجر ونحوهما ووجود ذلك في الجنة مما لا شبهة فيه فقد جاء في الكتاب وصح في السنة أن فيها غرفا وهي ظاهرة فيما كان ذا سقف بل صرح في بعض الأخبار بالسقف وجاء فيها أيضا ما هو ظاهر في أن فيها شجرا مرتفعا يظل من تحته، وقد صح من رواية الشيخين أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها فاقرؤوا إن شئتم وَظِلٍّ مَمْدُودٍ [الواقعة: 30] » وأخرج ابن أبي الدنيا عن ابن عباس أنه قال الظل الممدود شجرة في الجنة على ساق قدر ما يسير الراكب المجد في ظلها مائة عام في كل نواحيها يخرج إليها أهل الجنة أهل الغرف وغيرهم فيتحدثون في ظلها الخبر، وابن الأثير يقول: معنى في ظلها في ذراها وناحيتها، وكان هذا لدفع أنها تظل من الشمس أو نحوها، والْأَرائِكِ جمع أريكة وهو السرير في قول، وقيل: الوسادة حكاه الطبرسي وقال الزهري: كل ما اتكئ عليه فهو أريكة، وقال ابن عباس: لا تكون أريكة حتى يكون السرير في الحجلة فإن كان سرير بغير حجلة لا تكون أريكة وإن كانت حجلة بغير سرير لم تكن أريكة فالسرير والحجلة أريكة وفي حادي الأرواح لا تكون أريكة إلا أن يكون السرير في الحجلة وأن يكون على السرير فراش، وفي الصحاح الأريكة سرير منجد مزين في قبة أو بيت، وقال الراغب: الأريكة حجلة على سرير والجمع آرائك، وتسميتها بذلك إما لكونها في الأرض متخذة من أراك هو شجر معروف أو لكونها مكانا للإقامة من قولهم أرك بالمكان أروكا، وأصل الأروك الإقامة على رعي الأراك ثم تجوز به في غيره من الاقامات. وبالجملة إن كلام الأكثرين يدل على أن السرير وحده لا يسمى أريكة نعم يقال للمتكئ على أريكة متكىء على سرير فلا منافاة بين ما هنا وقوله تعالى: مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ [الطور: 20] لجواز أن تكون السرر في الحجال فتكون أرائك، ويجوز أن يقال: إن أهل الجنة تارة يتكئون على الأرائك وأخرى يتكئون على السرر التي ليست بآرائك، وسيأتي إن شاء تعالى ما ورد في وصف سررهم رزقنا الله تعالى وإياكم الجلوس على هاتيك السرر والاتكاء مع الأزواج على الأرائك، والظاهر أن المراد بالأزواج أزواجهم المؤمنات اللاتي كن لهم في الدنيا، وقيل أزواجهم اللاتي زوجهم الله تعالى إياهن من الحور العين، ويجوز فيما يظهر أن يراد الأعم من الصنفين ومن المؤمنات اللاتي متن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 35 ولم يتزوجن في الدنيا فزوجهن الله تعالى في الجنة من شاء من عباده بل الأعم من ذلك كله ومن المؤمنات اللاتي تزوجن في الدنيا بأزواج ماتوا كفارا فأدخلوا النار مخلدين فيها وأدخلن الجنة كامرأة فرعون فقد جاء في الأخبار أنها تكون زوجة نبينا صلّى الله عليه وسلم وجوز أن يكون المراد بأزواجهم أشكالهم في الإحسان وأمثالهم في الإيمان كما قال سبحانه: وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ [ص: 58] وقريب منه ما قيل المراد به أخلاؤهم كما في قوله تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصافات: 22] وقيل يجوز أن يراد به ما يعم الأشكال والأخلاء ومن سمعت أولا، وأنت تعلم بعد إرادة ذلك وكذا إرادة الأشكال أو الإخلاء بالخصوص لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ بيان لما يتمتعون به في الجنة من المآكل والمشارب وما يتلذذون به من الملاذ الجسمانية والروحانية بعد بيان ما لهم فيها من مجالس الأنس ومحافل القدس تكميلا لبيان كيفية ما هم فيه من الشغل والبهجة كذا قيل، ويجوز أن يكون استئنافا بيانيا وقع جواب سؤال نشأ مما يدل عليه اللام السابق من اشتغالهم بالأنس واتكائهم على الأرائك عدم تعاطيهم أسباب المأكل والمشرب فكأنه قيل: إذا كان حالهم ما ذكر فكيف يصنعون في أمر مأكلهم؟ فأجيب بقوله سبحانه: لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وهو مشير إلى أن لهم من المأكل ما لهم على أتم وجه، وأفيد أن فيه إشارة إلى أنه لا جوع هناك وليس الأكل لدفع ألم الجوع، وإنما مأكولهم فاكهة ولو كان لحما، والتنوين للتفخيم أي فاكهة جليلة الشأن، وفي قوله سبحانه: لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ دون يأكلون فيها فاكهة إشارة إلى كون زمام الاختيار بأيديهم وكونهم مالكين قادرين فإن شاؤوا أكلوا وإن شاؤوا أمسكوا. وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ أي ما يدعون به لأنفسهم أي لهم كل ما يطلبه أحد لنفسه لا إنهم يطلبون فإنه حاصل كما إذا سألك أحد فقلت: لك ذلك تعني فلم تطلب أو لهم ما يطلبون بالفعل على أن هناك طلبا وإجابة لأن الغبطة بالإجابة توجب اللذة بالطلب فإنه مرتبة سنية لا سيما والمطلوب منه والمجيب هو الله تعالى الملك الجليل جل جلاله وعم نواله، فيدعون من الدعاء بمعنى الطلب، وأصله يد تعيون على وزن يفتعلون سكنت الياء بعد أن ألقيت حركتها على ما قبلها وحذفت لسكونها وسكون الواو بعدها، وقيل بل ضمت العين لأجل واو الجمع ولم يلق حركة الياء عليها وإنما حذفت استثقالا ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين فصار يدتعون فقلبت التاء دالا وأدغمت، وافتعل بمعنى فعل الثلاثي كثير ومنه اشتوى بمعنى شوي واجتمل بمعنى جمل أي أذاب الشحم. قال لبيد: فاشتوى (1) ليلة ريح واجتمل. ولَهُمْ خبر مقدم وما مبتدأ مؤخر وهي موصولة والجملة بعدها صلة والعائد محذوف وهو إما ضمير مجرور أو ضمير منصوب على الحذف والإيصال، وجوز أن تكون ما نكرة موصوفة وأن تكون مصدرية فالمصدر (2) حينئذ مبتدأ وهو خلاف الظاهر، والجملة عطف على الجملة قبلها، وعدم الاكتفاء بعطف ما على فاكِهَةٌ لئلا يتوهم كونها عبارة عن توابع الفاكهة ومتمماتها. وجوز أن يكون يَدَّعُونَ من الافتعال بمعنى التفاعل كارتموه بمعنى تراموه أي لهم ما يتداعون، والمعنى كل ما يصح أن يطلبه أحد من صاحبه فهو حاصل لهم أو ما يطلبه بعضهم من بعض بالفعل لما في ذلك من التحاب، وأن يكون من الافتعال على ما سمعت أولا إلا إن الدعاء بمعنى التمني. قال أبو عبيدة: العرب تقول ادع علي ما شئت بمعنى تمن علي، وتقول فلان في خير ما ادعى أي تمنى أي لهم ما   (1) وغلام أرسلته أمه بألوك فبذلنا ما سأل. أرسلته فأتاه رزقه فاشترى إلخ اه منه. (2) قيل إذا جعلت مصدرية فالمصدر بمعنى المفعول اه منه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 36 يتمنون، قال الزجاج: وهو مأخوذ من الدعاء أي كل ما يدعونه أهل الجنة يأتيهم، قيل افتعل بمعنى فعل فيدعون بمعنى يدعون من الدعاء بمعناه المشهور أي لهم ما كان يدعون به الله عز وجل في الدنيا من الجنة ودرجاتها. وقوله تعالى: سَلامٌ جوز أن يكون بدلا من ما يدل بعض من كل ولزوم الضمير غير مسلم، وقوله تعالى: قَوْلًا مفعول مطلق لفعل محذوف والجملة صفة سلاما، وقوله تعالى مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ صفة قَوْلًا أي سلام يقال لهم قولا من جهة رب رحيم أي يسلم عليهم من جهته تعالى بلا واسطة تعظيما لهم، فقد أخرج ابن ماجة وجماعة عن جابر قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلم بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب قد أشرف عليهم من فوقهم فقال السلام عليكم يا أهل الجنة وذلك قول الله تعالى سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ قال فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم» وقيل بواسطة الملائكة عليهم السلام لقوله تعالى وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرعد: 23، 24] وروي ذلك عن ابن عباس وعلى الأول الأكثرون، وأما ما قيل إن ذلك سلام الملائكة على المؤمنين عند الموت فليس بشيء، والبدلية المذكورة مبنية على أن ما عامة. وجوز أن يكون بدل كل من كل على تقدير أن يراد بها خاص أو على ادعاء الاتحاد تعظيما، ولا بأس في إبدال هذه النكرة منها على تقدير موصوليتها لأنها نكرة موصوفة بالجملة بعدها، على أنه يجوز أن يلتزم جواز إبدال النكرة من المعرفة مطلقا من غير قبح، ويجوز أن يكون سَلامٌ خبر مبتدأ محذوف والجملة بعده صفته أي هو أو ذلك سلام يقال قولا من رب رحيم، والضمير لما وكذا الاشارة، وجوز أن يكون صفة لما أي لهم ما يدعون سالم أو ذو سلامة مما يكره، وقَوْلًا مصدر مؤكد لقوله تعالى لَهُمْ ما يَدَّعُونَ سلام أي عدة من رب رحيم، وهذه الوصفية على تقدير كون ما نكرة موصوفة ولا يصح على تقدير كونها موصولة للتخالف تعريفا وتنكيرا وأن يكون خبرا لما، ولَهُمْ متعلق به لبيان الجهة كما يقال لزيد الشرف متوفر أي ما يدعون سالم لهم خالص لا شوب فيه، ونصب قَوْلًا على ما سمعت آنفا. وفي الكشاف الأوجه أن ينتصب على الاختصاص وهو من مجازه فيكون الكلام جملة مفصولة عما سبق ولا ضير في نصب النكرة على ذلك، وجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف أي ولهم سلام يقال قولا من رب رحيم، وقدر الخبر مقدما لتكون الجملة على أسلوب أخواتها لا ليسوغ الابتداء بالنكرة فإن النكرة موصوفة بالجملة بعدها، وظاهر كلامهم تقدير العاطف أيضا ويمكن أن لا يقدر، وفصل الجملة على ما قيل لأنها كالتعليل لما تضمنته لآي قبلها فإن سلام الرب الرحيم منشأ كل تعظيم وتكريم، وجوز على تقدير كونه مبتدأ تقدير الخبر المحذوف عليهم قال الإمام: فيكون ذلك اخبارا من الله تعالى في الدنيا كأنه سبحانه حكى لنا وقال جل شأنه إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ ثم لما كمل بيان حالهم قال سَلامٌ عليهم وهذا كما قال سبحانه سَلامٌ عَلى نُوحٍ [الصافات: 79] وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [الصافات: 181] فيكون جل وعلا قد أحسن إلى عباده المؤمنين كما أحسن إلى عباده المرسلين ثم قال: وهذا وجه مبتكر يد ما يدل عليه فنقول: أو نقول تقديره سلام عليكم ويكون هذا نوعا من الالتفات حيث قال تعالى لهم كذا وكذا ثم قال سبحانه سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الأنعام: 54، الأعراف: 46، الرعد: 24، القصص: 55، الزمر: 73] اه. ووجه الابتداء بسلام في مثل هذا التركيب موصوفا كان أم لا معروف عند أصاغر الطلبة. وقرأ محمد بن كعب القرظي «سلم» بكسر السين وسكون اللام ومعناه سلام. وقال أبو الفضل الرازي: مسالم لهم أي ذلك مسالم وليس بذاك. وقرأ أبي وعبد الله وعيسى والغنوي «سلاما» بالنصب على المصدر أي يسلم عليهم سلاما أو على الحال من الجزء: 12 ¦ الصفحة: 37 ضمير ما في الخبر أو منها على القول بجواز مجيء الحال من المبتدأ أي ولهم مرادهم خالصا. وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ أي انفردوا عن المؤمنين إلى مصيركم من النار. وأخرج عبد بن حميد وغيره عن قتادة أي اعتزلوا عن كل خير، وعن الضحاك لكل كافر بيت من النار يكون فيه لا يرى ولا يرى أي على خلاف ما للمؤمنين من الاجتماع مع من يحبون، ولعل هذا بعد زمان من أول دخولهم فلا ينافي عتاب بعضهم بعضا الوارد في آيات أخر كقوله تعالى وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ [غافر: 47] ويحتمل أنه أراد لكل صنف كافر كاليهود والنصارى، وجوز الإمام كون الأمر أمر تكوين كما في كُنْ فَيَكُونُ [البقرة: 117، وغيرها] على معنى أن الله تعالى يقول لهم ذلك فتظهر عليهم سيماء يعرفون بها كما قال سبحانه يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ [الرحمن: 41] ولا يخفى بعده، والجملة عطفا ما على الجملة السابقة المسوقة لبيان أحوال أصحاب الجنة من عطف القصة على القصة فلا يضر التخالف إنشائية وخبرية، وكأن تغيير السبك لتخييل كمال التباين بين الفريقين وحاليهما، وإما على مضمر ينساق إليه حكاية حال أصحاب الجنة كأنه قيل إثر بيان كونهم في شغل عظيم الشأن وفوزهم بنعيم مقيم يقصر عنه البيان فليقروا بذلك عينا وامتازوا عنهم أيها المجرمون. قال أبو السعود، وقال الخفاجي: يجوز أن يكون بتقدير ويقال امتازوا على أنه معطوف على يقال المقدر العامل في قولا وهو أقرب وأقل تكلفا لأن حذف القول وقيام معموله مقامه كثير حتى قيل فيه هو البحر حدث عنه ولا حرج، وفيه بحث يظهر بأدنى تأمل، وقيل: إن المذكور من قوله تعالى إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ إلى هنا تفصيل للمجمل السابق أعني قوله تعالى: وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وبني عليه أن المعطوف عليه متضمن لمعنى الطلب على معنى فليمتز المؤمنون عنكم يا أهل المحشر إلى الجنة وامتازوا عنهم إلى النار، وتعقبه في الكشف بأنه ليس بظاهر إذ بأحد الأمرين غنية عن الآخر ثم قال: والوجه أن المقصود عطف جملة قصة أصحاب النار على جملة قصة أصحاب الجنة وأوثرها هنا الطلب زيادة للتهويل والتعنيف ألا ترى إلى قوله تعالى اصْلَوْهَا الْيَوْمَ وإن كان لا بد من التضمين فالمعطوف أولى بأن يجعل في معنى الخبر على معنى وأن المجرمون ممتازون منفردون. وفائدة العدول ما في الخطاب والطلب من النكتة اه، وما ذكره من حديث أغناه أحد الأمرين عن الآخر سهل لكون الأمر تقديريا مع أن الامتياز الأول على وجه الإكرام وتحقيق الوعد والآخر على وجه الإهانة وتعجيل الوعيد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 38 فيفيد كل منهما ما لا يفيده الآخر، نعم قال العلامة أبو السعود في ذلك: إن اعتبار فليمتز المؤمنون وإضماره بمعزل عن السداد لما أن المحكي عنهم ليس مصيرهم إلى ما ذكر من الحال المرضية حتى يتسنى ترتيب الأمر المذكور عليه بل إنما هو استقرارهم عليها بالفعل، وكون ذلك تنزيل المترقب منزلة الواقع لا يجدي نفعا لأن مناط الاعتبار والإضمار انسياق الأفهام إليه وانصباب نظم الكلام عليه فبعد التنزيل المذكور وإسقاط الترقب عن درجة الاعتبار يكون التصدي لإضمار شيء يتعلق به إخراجا للنظم الكريم عن الجزالة بالمرة، والظاهر أنه لا فرق في هذا بين التضمين والإضمار، والذي يغلب على الظن أن ما ذكر لا يفيد أثر من أولوية تقدير فليقروا عينا على تقدير فليمتازوا فليفهم، وقال بعض الأذكياء: يجوز أن يكون امْتازُوا فعلا ماضيا والضمير للمؤمنين أي انفرد المؤمنون عنكم بالفوز بالجنة ونعيمها أيها المجرمون ففيه تحسير لهم والعطف حينئذ من عطف الفعلية الخبرية على الاسمية الخبرية ولا منع منه، وتعقب بأنه مع ما فيه من المخالفة للأسلوب المعروف من وقوع النداء مع الأمر نحو يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا [يوسف: 29] قليل الجدوى وما ذكره من التحسير يكفي فيه ما قبل من ذكر ما هم عليه من التنعم وأيضا المأثور يأبى عنه غاية الإباء وهو كالنص في أن امْتازُوا فعل أمر ولا يكاد يخطر لقارىء ذلك. أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ من جملة ما يقال لهم بطريق التقريع والإلزام والتبكيت بين الأمر بالامتياز والأمر بمقاساة حر جهنم، والعهد الوصية والتقدم بأمر فيه خير ومنفعة، والمراد به هاهنا ما كان منه تعالى على ألسنة الرسل عليهم السلام من الأوامر والنواهي التي من جملتها قوله تعالى يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ [الأعراف: 27] الآية، وقوله تعالى وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة: 168] وغيرهما من الآيات الواردة في هذا المعنى، وقيل: هو الميثاق المأخوذ عليهم في عالم الذر إذ قال سبحانه لهم أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: 172] وقيل: هو ما نصب لهم من الحجج العقلية والسمعية الآمرة بعبادة الله تعالى الزاجرة عن عبادة غيره. عز وجل فكأنه استعارة لإقامة البراهين والمراد بعبادة الشيطان طاعته فيما يوسوس به إليهم ويزينه لهم عبر عنها بالعبادة لزيادة التحذير والتنفير عنها ولوقوعها في مقابلة عبادته عز وجل، وجوز أن يراد بها عبادة غير الله تعالى من الآلهة الباطل وإضافتها إلى الشيطان لأنه الآمر بها والمزين لها فالتجوز في النسبة، وقرأ طلحة والهذيل بن شرحبيل الكوفي «اعهد» بكسر الهمزة قاله صاحب اللوامح وقال هي لغة تميم، وهذا الكسر في النون والتاء أكثر من بين أحرف المضارعة وقال ابن عطية قرأ الهذيل وابن وثاب «ألم اعهد» بكسر الميم والهمزة وفتح الهاء وهي من كسر حرف المضارعة سوى الياء، وروي عن ابن وثاب «ألم أعهد» بكسر الهاء ويقال عهد وعهد اه. ولعله أراد أن كسر الميم يدل على كسر الهمزة لأن حركة الميم هي الحركة التي نقلت إليها من الهمزة وحذفت الهمزة بعد نقل حركتها لا أن الميم مكسورة والهمزة بعدها مكسورة أيضا فتلفظ بها، وقال الزمخشري: قرىء «اعهد» بكسر الهمزة وباب فعل كله يجوز في حروف مضارعته الكسر إلا في الياء و «أعهد» بكسر الهاء وقد جوز الزجاج أن يكون من باب نعم ينعم وضرب يضرب و «احهد» بإبدال العين وحدها حاء مهملة و «أحد» بإبدالها مع إبدال الهاء وادغامها وهي لغة تميم ومنه قولهم دحا محا أي دعها معها وما ذكره من قوله: إلا في الياء مبني على بعض اللغات وعن بعض كلب أنهم يكسرون الياء أيضا فيقولون يعلم مثلا وقوله في أحهد وأحد لغة بني تميم هو المشهور، وقيل: أحهد لغة هذيل وأحد لغة بني تميم وقولهم دحا محا إما يريدوا به دع هذه القربة مع هذه المرأة أودع هذه المرأة مع هذه القربة إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ أي ظاهر العداوة وهو تعليل لوجوب الانتهاء، وقيل: تعليل للنهي وعداوة اللعين جاءت من قبل عداوته لآدم عليه السلام والنداء بوصف النبوة لآدم كالتمهيد لهذا التعليل والتأكيد لعدم جريهم على الجزء: 12 ¦ الصفحة: 39 مقتضى العلم فهم والمنكرون سواء وَأَنِ اعْبُدُونِي عطف على أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ على أن أَنِ فيها مفسرة للعهد الذي فيه معنى القول دون حروفه أو مصدرية حذف عنها الجار أي ألم أعهد إليكم في ترك عبادة الشيطان وفي عبادتي وتقديم النهي على الأمر لما أن حق التخلية التقدم على التحلية قيل: وليتصل به قوله تعالى: هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ بناء على أن الإشارة إلى عبادته تعالى لأنه المعروف في الصراط المستقيم. وجعل بعضهم الاشارة إلى ما عهد إليهم من ترك عبادة الشيطان وفعل عبادة الله عز وجل. ورجح بأن عبادته تعالى إذا لم تنفرد عن عبادة غيره سبحانه لا تسمى صراطا مستقيما فتأمل والجملة استئنافية جيء بها لبيان المقتضى للعهد بعبادته تعالى أو للعهد بشقيه والتنكير للمبالغة والتعظيم أي هذا صراط بليغ في استقامته جامع لكل ما يجب أن يكون عليه واصل لمرتبة يقصر عنها التوصيف والتعريف ولذا لم يقل هذا الصراط المستقيم أو هذا هو الصراط المستقيم وإن كان مفيدا للحصر، وجوز أن يكون التنكير للتبعيض على معنى هذا بعض الصراط المستقيمة وهو للهضم من حقه على الكلام المنصف، وفيه ادماج التوبيخ على معنى أنه لو كان بعض الصراط الموصوفة بالاستقامة لكفى ذلك في انتهاجه كيف وهو الأصل والعدة كما قيل: وأقول بعض الناس عنك كناية ... خوف الوشاة وأنت كل الناس وفيه أن المطلوب الاستقامة والأمر دائر معها وقليلها كثير وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً استئناف مسوق لتشديد التوبيخ وتأكيد التقريع ببيان عدم اتعاظهم بغيرهم أثر بيان نقضهم العهد فالخطاب لمتأخريهم الذين من جملتهم كفار خصوا بزيادة التوبيخ والتقريع لتضاعف جناياتهم، وإسناد الإضلال إلى ضمير الشيطان لأنه المباشر للإغواء. والجبل- قال الراغب- الجماعة العظيمة أطلق عليهم تشبيها بالجبل في العظم، وعن الضحاك أقل الجبل وهي الأمة العظيمة عشرة آلاف، وفسره بعضهم بالجماعة وبعض بالأمة بدون الوصف وقيل هو الطبع المخلوق عليه الذي لا ينتقل كأنه جبل وهو هنا خلاف الظاهر. وقرأ العربيان، والهذيل «جبلا» بضم اليم وإسكان الباء. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بضمتين مع تخفيف اللام والحسن وابن أبي إسحاق والزهري وابن هرمز وعبد الله بن عبيد بن عمير وحفص بن حميد بضمتين وتشديد اللام، والأشهب العقيلي واليماني وحماد بن سلمة عن عاصم بكسر الجيم وسكون الباء، والأعمش بكسرتين وتخفيف اللام جمع جبلة نحر فطرة وفطر، وقرأ أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه وبعض الخراسانيين «جيلا» بكسر الجيم بعدها ياء آخر الحروف واحد الأجيال وهو الصنف من الناس كالعرب والروم. أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ عطف على مقدر يقتضيه المقام أي أكنتم تشاهدون آثار عقوباتهم فلم تكونوا تعقلون أنها لضلالهم أو فلم تكونوا تعقلون شيئا أصلا حتى ترتدعوا عما كانوا عليه كيلا يحيق بكم العذاب الأليم. وقرأ طلحة وعيسى وعاصم في رواية عبد بن حميد عنه بياء الغيبة فالضمير للجبل. وقوله تعالى: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ استئناف يخاطبون به بعد تمام التوبيخ والتقريع والإلزام والتبكيت عند إشرافهم على شفير جهنم أي هذه التي ترونها جهنم التي لم تزالوا توعدون بدخولها على ألسنة الرسل عليهم السلام والمبلغين عنهم بمقابلة عبادة الشيطان اصْلَوْهَا الْيَوْمَ أمر تحقير وإهانة كقوله تعالى ذُقْ إِنَّكَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 40 أَنْتَ [الدخان: 49] إلخ أي قاسوا حرها في هذا اليوم الذي لم تستعدوا له، وقال أبو مسلم: أي صيروا صلاها أو وقودها. وقال الطبرسي: ألزموا العذاب بها وأصل الصلا اللزوم ومنه المصلى الذي يجيء في أثر السابق للزومه أثره. بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ كفركم المستمر في الدنيا فالباء للسببية وما مصدرية واحتمال كونها موصولة بعيد. الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ كناية عن منعهم من التكلم، ولا مانع من أن يكون هناك ختم على أفواههم حقيقة. وجوز أن يكون الختم مستعارا لمعنى المنع بأن يشبه أحداث حالة في أفواههم مانعة من التكلم بالختم الحقيقي ثم يستعار له الختم ويشتق منه نختم فالاستعارة تبعية أي اليوم نمنع أفواههم من الكلام منعا شبيها بالختم، والأول أولى في نظري وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي بالذي استمروا على كسبه في الدنيا وكأن الجار والمجرور قد تنازع فيه تكلم وتشهد، ولعل المعنى والله تعالى أعلم تكلمنا أيديهم بالذي استمروا على عمله ولم يتوبوا عنه وتخبرنا به وتقول فعلوا بنا وبواسطتنا كذا وكذا وتشهد عليهم أرجلهم بذلك. ونسبة التكليم إلى الأيدي دون الشهادة لمزيد اختصاصها بمباشرة الأعمال حتى أنها كثر نسبة العمل إليها بطريق الفاعلية كما في قوله تعالى: وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ [النبأ: 40] وقوله سبحانه وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ [يس: 35] وقوله عز وجل بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [الروم: 41] وقوله جل وعلا فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: 30] إلى غير ذلك ولا كذلك إلا رجل فكانت الشهادة أنسب بها لما أنها لم تضف إليها الأعمال فكانت كالأجنبية، وكان التكليم أنسب بالأيدي لكثرة مباشرتها الأعمال وإضافتها إليها فكأنها هي العاملة، هذا مع ما في جمع التكليم مع الختم على الأفواه المراد منه المنع من التكلم من الحسن. وكأنه سبحانه لما صدر آية النور وهي قوله تعالى يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ [النور: 24] بالشهادة وذكر جل وعلا الأعضاء من الأعالي إلى الأسافل أسندها إلى الجميع ولم يخص سبحانه الأيدي بالتكليم لوقوعها بين الشهود مع أن ما يصدر منها شهادة أيضا في الحقيقة فإن كونها عاملة ليس على الحقيقة بل هي آلة والعامل هو الإنسان حقيقة وكان اعتبار الشهادة من المصدر هناك أوفق بالمقام لسبق قصة الإفك وما يتعلق لها ولذا نص فيها على الألسنة ولم ينص هاهنا عليها بل الآية ساكتة عن الإفصاح بأمرها من الشهادة وعدمها، والختم على الأفواه ليس بعدم شهادتها إذ المراد منه منع المحدث عنهم عن التكلم بألسنتهم وهو أمر وراء تكلم الألسنة أنفسها وشهادتها بأن يجعل فيها علم وإرادة وقدرة على التكلم فتتكلم هي وتشهد بما تشهد وأصحابها مختوم على أفواههم لا يتكلمون. ومنه يعلم أن آية النور ليس فيها ما هو نص في عدم الختم على الأفواه، نعم الظاهر هناك أن لا ختم وهنا أن لا شهادة من الألسنة، وعلى هذا الظاهر يجوز أن يكون المحدث عنه في الآيتين واحدا بأن يختم على أفواههم وتنطق أيديهم وأرجلهم أولا ثم يرفع الختم وتشهد ألسنتهم أما مع تجدد ما يكون من الأيدي والأرجل أو مع عدمه والاكتفاء بما كان قبل منهما وذلك أما في مقام واحد من مقامات يوم القيامة أو في مقامين، وليس في كل من الآيتين ما يدل على الحصر ونفي شهادة غير ما ذكر من الأعضاء فلا منافاة بينهما وبين قوله تعالى حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [فصلت: 20] فيجوز أن يكون هناك شهادة السمع والأبصار والألسنة والأيدي والأرجل وسائر الأعضاء كما يشعر بهذا ظاهر قوله تعالى والجلود في آية السجدة لكن لم يذكر الجزء: 12 ¦ الصفحة: 41 بعض من ذلك في بعض من الآيات اكتفاء بذكره في البعض الآخر منها أو دلالته عليه بوجه، ويجوز أن يكون المحدث عنه في كل طائفة من الناس، وقد جعل بعضهم المحدث عنه في آية السجدة قوم ثمود، وحمل أعداء الله عليهم بقوله تعالى بعد وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ [فصلت 25] ولا يبعد أن يكون المحدث عنه في آية النور أصحاب الإفك من المنافقين والذين يرمون المحصنات ثم إن آية السجدة ظاهرة في أن الشهادة عند المجيء إلى النار وآية النور ليس فيها ما يدل على ذلك، وأما هذه الآية فيشعر كلام البعض بأن الختم والشهادة فيها بعد خطاب المحدث عنهم بقوله تعالى هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ فيكون ذلك عند المجيء إلى النار أيضا، قال في إرشاد العقل السليم: إن قوله تعالى الْيَوْمَ نَخْتِمُ إلخ التفات إلى الغيبة للإيذان بأن ذكر أحوالهم القبيحة استدعى أن يعرض عنهم وتحكى أحوالهم الفظيعة لغيرهم مع ما فيه من الإيماء إلى أن ذلك من مقتضيات الختم لأن الخطاب لتلقي الجواب وقد انقطع بالكلية، لكن قال في موضع آخر: إن الشهادة تتحقق في موقف الحساب لا بعد تمام السؤال والجواب وسوقهم إلى النار، والأخبار ظاهرة في ذلك. أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري من حديث «يدعي الكافر والمنافق للحساب فيعرض ربه عليه عمله فيجحد ويقول أي رب وعزتك لقد كتب على هذا الملك ما لم أعمل فيقول له الملك أما عملت كذا في يوم كذا في مكان كذا فيقول لا وعزتك أي رب ما عملته فإذا فعل ذلك ختم علي فيه فإني أحسب أول ما تنطق منه فخذه اليمنى ثم تلا اليوم تختم على أفواههم الآية» وفي حديث أخرجه مسلم والترمذي والبيهقي عن أبي سعيد وأبي هريرة مرفوعا «إنه يلقى العبد ربه فيقول الله تعالى له أي فل ألم أكرمك إلى أن قال صلّى الله عليه وسلم فيقول آمنت بك وبكتابك وبرسولك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع فيقول: ألا نبعث شاهدنا عليك فيفكر في نفسه من الذي يشهد علي فيختم علي فيه ويقال لفخذه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله» . وفي بعض الأخبار ما يدل على أن العبد يطلب شاهدا منه فيختم على فيه، أخرج أحمد ومسلم وابن أبي الدنيا واللفظ له عن أنس في قوله تعالى الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ قال كنا عند النبي صلّى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه قال: أتدرون مم ضحكت؟ قلنا: لا يا رسول الله قال: من مخاطبة العبد ربه يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى فيقول: إني لا أجيز علىّ إلّا شاهدا مني فيقول كفى بنفسك عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا فيختم على فيه ويقال لأركانه انطقي فتنطق بأعماله ثم يخلي بينه وبين الكلام فيقول: بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل» والجمع بالتزام القول بالتعدد فتارة يكون ذلك عند الحساب وأخرى عند النار والقول باختلاف أحوال الناس فيما ذكر. وما تقدم في حديث أبي موسى من أن الفخذ اليمنى أول ما تنطق على ما يحسب جزم به الحسن، وأخرج أحمد وجماعة عن عقبة بن عامر أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إن أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يختم على الأفواه فخذه من الرجل الشمال» ثم الظاهر أن التكلم والشهادة بنطق حقيقة وذلك بعد إعطاء الله تعالى الأعضاء حياة وعلما وقدرة فيرد بذلك على من زعم أن البينة المخصوصة شرط فيما ذكر وإسناد الختم إليه تعالى دون ما بعد قيل لئلا يحتمل الجبر على الشهادة والكلام فدل على ذلك باختيار الأعضاء المذكورة بعد أقدار الله تعالى فإنه أدل على تفضيح المحدث عنهم، وهل يشهد كل عضو بما فعل به أو يشهد بذلك وبما فعل بغيره فيه خلاف والثاني أبلغ في التفظيع، والعلم بالمشهود به يحتمل أن يكون حصوله بخلق الله تعالى إياه في ذلك الوقت ولا يكون حاصلا في الدنيا ويحتمل أن يكون حصوله في الدنيا بأن تكون الأعضاء قد خلق الله تعالى فيها الإدراك فهي تدرك الأفعال كما يدركها الفاعل فإذا كان يوم القيامة رد الله تعالى لها ما كان وجعلها مستحضرة لما عملته أولا وأنطقها نطقا يفقهه المشهود الجزء: 12 ¦ الصفحة: 42 عليه، وهذا نحو ما قالوا من تسبيح جميع الأشياء بلسان القال والله تعالى على كل شيء قدير والعقل لا يحيل ذلك وليس هو بأبعد من خلق الله تعالى فيها العلم والارادة والقدرة حتى تنطق يوم القيامة فمن يؤمن بهذا فليؤمن بذلك، والتشبث بذيل الاستبعاد يجر إلى إنكار الحشر بالكلية والعياذ بالله تعالى أو تأويله بما أوله به الباطنية الذين قتل واحد منهم- قال حجة الإسلام الغزالي- أفضل من قتل مائة كافر، وعلى هذا تكون الآية من مؤيدات القول بالتسبيح القالي للجمادات ونحوها، وعلى الاحتمال الأول يؤيد القول بجواز شهادة الشاهد إذا حصل عنده العلم الذي يقطع به بأي وجه حصل وإن لم يشهد ذلك ولا حضره، وقد أفاد الشيخ الأكبر قدس سره في تفسيره المسمى بإيجاز البيان في ترجمة القرآن إن قوله تعالى وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] يفيد جواز ذلك، وذكر فيه أن الشاهد يأثم إن لم يشهد بعلمه، ولا يخفى عليك ما للفقهاء في المسألة من الكلام، وكأن الشهادة على الاحتمال الثاني بعد الاستشهاد بأن يقال للأركان ألم يفعل كذا فتقول بلى فعل. ويمكن أن تكون بعد أن تؤمر الأركان بالشهادة بأن يقال لها اشهدي بما فعلوا فتشهد معددة أفعالهم، وهذا إما بأن تذكر جميع أفعالهم من المعاصي وغيرها غير مميزة المعصية عن غيرها، وكون ذلك شهادة عليهم باعتبار الواقع لتضمنها ضررهم بذكر ما هو معصية في نفس الأمر، وإما بأن تذكر المعاصي فقط، وهذا يحتاج إلى التزام القول بأن الأركان تميز في الدنيا ما كان معصية من الأفعال ما لم يكن كذلك ولا أظنك تقول به ولم أسمع أن أحدا يدعيه. وذهب بعضهم إلى أن تكليم الأركان وشهادتها دلالتها على أفعالها وظهور آثار المعاصي عليها بأن يبدل الله تعالى هيئاتها بأخرى يفهم منها أهل الحشر ويستدلون بها على ما صدر منهم فجعلت الدلالة الخالية بمنزلة المقالية مجازا، وفيه أنه لا يصار إلى المجاز مع إمكان الحقيقة لا سيما وما يأتي في سورة السجدة من قوله تعالى قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت: 21] ظاهر جدا في النطق القالي والأخبار أظهر وأظهر، نعم يهون على هذا القول أمر الاستبعاد ولا يكاد يترك لأجله الظواهر العلماء الأمجاد، وهذا والآية كالظاهرة في تكليف الكفار بالفروع إذ لو لم يكونوا مكلفين بها لا فائدة في شهادة الأعضاء بما كسبوا، وإتمام الحجة عليهم بها وتخصيص ما كسبوا بالكفر مما لا يكاد يلتفت إليه ولا أظن أن أحدا يقول به بل ربما يدعي تخصيصه بما سوى الكفر بناء على أنه من أفعال القلب دون الأعضاء التي تشهد لكن الذي يترجح في نظري العموم. وشهادتها به إما بشهادتها بما يدل عليه من الأفعال البدنية والأقوال اللسانية أو بالعلم الضروري الذي يخلقه الله تعالى لها ذلك اليوم أو بالعلم الحاصل لها بخلق لله تعالى في الدنيا فتعلمه بواسطة الأفعال والأقوال الدالة عليه أو بطريق آخر يعلمه الله تعالى، وهي ظاهرة في أن الحشر يكون بأجزاء البدن الأصلية لا ببدن آخر ليس فيه الأجزاء الأصلية للبدن الذي كان في الدنيا إذ أركان ذلك البدن لم تكن الأعمال السيئة معمولة بها فلا يحسن الشهادة بها منها فليحفظ. وقرىء «يختم» مبنيا للمفعول «وتتكلم أيديهم» بتاءين، وقرىء «ولتكلمنا أيديهم ولتشهد أرجلهم» بلام الأمر على أن الله تعالى يأمر الأعضاء بالكلام والشهادة. وروى عبد الرحمن بن محمد بن طلحة عن أبيه عن جده طلحة أنه قرأ «ولتكلمنا أيديهم ولتشهد» بلام كي والنصب على معنى لتكليم الأيدي إيانا ولشهادة الأرجل نختم على أفواههم وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ بيان أنهم اليوم في قبضة القدرة ومستحقون للعذاب إلا أن عز وجل لم يشأ ذلك لحكمته جل وعلا الباهرة، والطمس إزالة الأثر بالمحو، والمعنى لو نشاء الطمس على أعينهم وإزالة ضوئها وصورتها بالكلية بحيث تعود ممسوحة لطمسنا عليها وأذهبنا أثرها. وجوز أن يراد بالطمس إذهاب الضوء من غير إذهاب العضو وأثره أي ولو نشاء لأعميناهم، وإيثار صيغة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 43 الاستقبال وإن كان المعنى على المضي لإفادة أن عدم الطمس على أعينهم لاستمرار عدم المشيئة فإن المضارع المنفي الواقع موقع المضي ليس بنص في إفادة انتفاء استمرار الفعل بل قد يفيد استمرار انتفائه. وقوله تعالى: فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ عطف على لَطَمَسْنا على الفرض والصراط منصوب بنزع الخافض أي فأرادوا الاستباق إلى الطريق الواضح المألوف لهم فَأَنَّى يُبْصِرُونَ أي فكيف يبصرون ذلك الطريق وجهة السلوك والمقصود إنكار أبصارهم، وحاصله لو نشاء لأذهبنا أحداقهم وأبصارهم فلو أرادوا الاستباق وسلوك الطريق الذي اعتادوا سلوكه لا يقدرون عليه ولا يبصرونه، وتأويل استبقوا بأرادوا الاستباق مما ذهب إليه البعض، وقيل لا حاجة لتأويله فإن الأعمى يجوز شروعه في السباق، ونصب الصِّراطَ بنزع الخافض ولم ينصب على الظرفية لأنه كالطريق مكان مختص ومثله لا ينتصب على الظرفية، وجوز كونه مفعولا به لتضمين استبقوا معنى ابتدروا، ونقل عن الأساس في قسم الحقيقة فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ ابتدروه، قال في الكشف: شبيه لا تضمين، وادعى بعضهم توهم دعوى أن ذلك معنى حقيقي وصاحب الأساس إنما ذكره في آخر قسم المجاز والمعنى لو شئنا لفعلنا ما فعلنا في أعينهم فلو أرادوا الاستباق متبدرين الطريق لا يبصرون، وقيل يجوز كونه مفعولا به على أن استبقوا بمعنى سبقوا ويجعل الطريق مسبوقا على التجوز في النسبة أو الاستعارة المكنية أو على أنه بمعنى جاوزوا، قال في القاموس: استبق الصراط جاوزه وظاهره أنه حقيقة في ذلك، وقال غير واحد: هو مجاز والعلاقة اللزوم، والمعنى ولو نشاء لفعلنا ما فعلنا في أعينهم فلو طالبوا أن يخلفوا الصراط الذي اعتادوا المشي فيه لعجزوا ولم يعرفوا طريقا يعني أنهم لا يقدرون إلا على سلوك الطريق المعتاد دون ما وراءه من سائر الطرق والمسالك كما ترى العميان يهتدون فيما ألفوا وضربوا به من المقاصد دون غيرها. وذهب ابن الطراوة إلى أن الصراط والطريق وما أشبههما من الظروف المكانية ليست مختصة فيجوز انتصابها على الظرفية، وهذا خلاف ما صرح به سيبويه وجعل انتصابها على الظرفية من الشذوذ وأنشد: لدن بهز الكف يعسل متنه ... فيه كما عسل الطريق الثعلب والمعنى في الآية لو انتصب على الظرفية لو نشاء لفعلنا ما فعلنا في أعينهم فلو أرادوا أن يمشوا مستبقين في الطريق المألوف كما كان ذلك هجيراهم لم يستطيعوا، وحمل الأعين على ما هو الظاهر منها أعني الأعضاء المعروفة والصراط على الطريق المحسوس هو المروي عن الحسن وقتادة، وعن ابن عباس حمل الأعين على البصائر والصراط على الطريق المعقول. أخرج ابن جرير وجماعة عنه أنه قال: ولو نشاء لطمسنا على أعينهم أعميناهم وأضللناهم عن الهدى فأنّى يبصرون فكيف يهتدون وهو خلاف الظاهر. وقرأ عيسى «فاستبقوا» على الأمر وهو على إضمار القول أي فيقال لهم استبقوا وهو أمر تعجيز إذ لا يمكنهم الاستباق مع طمس الأعين وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ أي لحولنا صورهم إلى صور أخرى قبيحة. عن ابن عباس أي لمسخناهم قردة وخنازير، وقيل: لمسخناهم حجارة وروي ذلك عن أبي صالح، ويعلم من هذا الخلاف أن في مسخ الحيوان المخصوص لا يشترط بقاء الصورة الحيوانية، وسمي بعضهم قلب الحيوان جمادا رسخا وقلبه نباتا فسخا وخص المسخ بقلبه حيوانا آخر، ومفعول المشيئة على قياس السابق أي ولو نشاء مسخهم على مكانتهم لمسخناهم عَلى مَكانَتِهِمْ أي مكانهم كالمقامة والمقام. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في معنى الآية لو نشاء لأهلكناهم في مساكنهم. وقال الحسن وقتادة وجماعة المعنى لو نشاء لأقعدناهم وأزمناهم وجعلناهم كسحا لا يقومون. وقرأ الحسن وأبو الجزء: 12 ¦ الصفحة: 44 بكر «مكاناتهم» بالجمع لتعددهم فَمَا اسْتَطاعُوا لذلك مُضِيًّا أي ذهابا إلى مقاصدهم وَلا يَرْجِعُونَ قيل هو عطف على مُضِيًّا المفعول به لاستطاعوا وهو من باب- تسمع بالمعيدي خير من أن تراه- فيكون التقدير فما استطاعوا مضيا ولا رجوعا وإلا فمفعول استطاعوا لا يكون جملة، والتعبير بذلك دون الاسم الصريح قيل للفواصل مع الإيماء إلى مغايرة الرجوع للمضي بناء على ما قال الإمام من أنه أهون من المضي لأنه ينبىء عن سلوك الطريق من قبل والمضي لا ينبىء عنه، وقيل لذلك مع الإيماء إلى استمرار النفي نظرا إلى ظاهر اللفظ ويكون هناك ترق من جهتين إذا لوحظ ما أومأ إليه الإمام، وقيل له مع الإيماء إلى أن الرجوع المنفي ما كان عن إرادة واختيار فإن اعتبارهما في الفعل المسند إلى الفاعل أقرب إلى التبادر من اعتبارهما في المصدر. واقتصر بعضهم في النكتة على رعاية الفواصل، والإمام بعد الاقتصار على رعاية الفواصل في بيان نكتة العدول عن الظاهر تقصيرا وقيل هو عطف على جملة ما استطاعوا، والمراد ولا يرجعون عن تكذيبهم لما أنه قد طبع على قلوبهم، وقيل هو عطف على ما ذكر إلا أن المعنى ولا يرجعون إلى ما كانوا عليه قبل المسخ وليس بالبعيد. وعلى القولين المراد بالمضي الذهاب عن المكان ونفي استطاعته مغن عن نفي استطاعة الرجوع، وأيا ما كان فالظاهر أن هذا وكذا ما قبله لو كان لكان في الدنيا، وقال ابن سلام: هذا التوعد كله يوم القيامة وهو خلاف الظاهر ولا يكاد يصح على بعض الأقوال. وأصل مُضِيًّا مضوي اجتمعت الواو ساكنة مع الياء فقلبت ياء كما هو القاعدة وأدغمت الياء في الياء وقلبت ضمة الضاد كسرة لتخف وتناسب الياء. وقرأ أبو حيوة وأحمد بن جبير الأنطاكي عن الكسائي «مضيا» بكسر الميم اتباعا لحركة الضاد كالعتى بضم العين والعتى بكسرها. وقرىء «مضيا» بفتح الميم فيكون من المصادر التي جاءت على فعيل كالرسيم والوجيف والصئي بفتح الصاد المهملة بعدها همزة مكسورة ثم ياء مشددة مصدر صأى الديك أو الفرخ إذا صاح وَمَنْ نُعَمِّرْهُ أي نطل عمره. نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ نقلبه فيه فلا يزال يتزايد ضعفه وانتقاص بنيته وقواه عكس ما كان عليه بدء أمره، وفيه تشبيه التنكيس المعنوي بالتنكيس الحسي واستعارة الحسي له، وعن سفيان أن التنكيس في سن ثمانين سنة، والحق أن زمان ابتداء الضعف وانتقاص البنية مختلف لاختلاف الأمزجة والعوارض كما لا يخفى. والكلام عطف على قوله تعالى وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا إلخ عطف العلة على المعلول لأنه كالشاهد لذلك. وقرأ جمع من السبعة «ننكسه» مخففا من الانكاس أَفَلا يَعْقِلُونَ أي أيرون ذلك فلا يعقلون أن من قدر على ذلك قدر على ما ذكر من الطمس والمسخ وأن عدم إيقاعهما لعدم تعلق مشيئته تعالى بهما. وقرأ نافع وابن ذكوان وأبو عمرو في رواية عياش «تعقلون» بتاء الخطاب لجرى الخطاب قبله. وَما عَلَّمْناهُ بتعليم الكتاب المشتمل على هذا البيان والتلخيص في أمر المبدأ والمعاد الشِّعْرَ إذ لا يخفى على من به أدنى مسكة أن هذا الكتاب الحكيم المتضمن لجميع المنافع الدينية والدنيوية على أسلوب أفحم كل منطيق ببيان الشعر ولا مثل الثريا للثرى، أما لفظا فلعدم وزنه وتقفيته، وأما معنى فلأن الشعر تخيلات مرغبة أو منفرة أو نحو ذلك وهو مقر الأكاذيب، ولذا قيل أعذبه أكذبه، والقرآن حكم وعقائد وشرائع. والمراد من نفي تعليمه صلّى الله عليه وسلم بتعليم الكتاب الشعر نفي أن يكون القرآن شعرا على سبيل الكناية لأن ما علمه الله الجزء: 12 ¦ الصفحة: 45 تعالى هو القرآن وإذا لم يكن المعلم شعرا لم يكن القرآن شعرا البتة، وفيه أنه عليه الصلاة والسلام ليس بشاعر إدماجا وليس هناك كناية تلويحية كما قيل، وهذا رد لما كانوا يقولونه من أن القرآن شعر والنبي صلّى الله عليه وسلم شاعر وغرضهم من ذلك أن ما جاء به عليه الصلاة والسلام من القرآن افتراء وتخيل وحاشاه ثم حاشاه من ذلك وَما يَنْبَغِي لَهُ اعتراض لتقرير ما أدمج أي لا يليق ولا يصلح له صلّى الله عليه وسلم الشعر لأنه يدعو إلى تغيير المعنى لمراعاة اللفظ والوزن ولأن أحسنه المبالغة والمجازفة والإغراق في الوصف وأكثره تحسين ما ليس بحسن وتقبيح ما ليس بقبيح وكل ذلك يستدعي الكذب أو يحاكيه الكذب وجل جناب الشارع عن ذلك كذا قيل. وقال ابن الحاجب: أي لا يستقيم عقلا أن يقول صلّى الله عليه وسلم الشعر لأنه لو كان ممن يقوله لتطرقت التهمة عند كثير من الناس في أن ما جاء به من قبل نفسه وأنه من تلك القوة الشعرية ولذا عقب هذا بقوله تعالى وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ لأنه إذا انتفت الريبة لم يبق إلا المعاندة فيحق القول عليهم، وتعقب بأن الإيجاز يرفع التهمة وإلا فكونه عليه الصلاة والسلام في المرتبة العليا من الفصاحة والبلاغة في النثر ليس بأضعف من قول الشعر في كونه مظنة تطرق التهمة بل ربما يتخيل أنه أعظم من قول الشعر في ذلك فلو كانت علة منعه عليه الصلاة والسلام من الشعر ما ذكر لزم أن يمنع من الكلام الفصيح البليغ سدا لباب الريبة ودحضا للشبهة وإعظاما للحجة فحيث لم يكن ذلك اكتفاء بالإعجاز وأن التهمة والريب معه مما لا ينبغي أن يصدر من عاقل ولذا نفي الريب مع أنه وقع علم أن العلة في أنه عليه الصلاة والسلام لا ينبغي له الشعر شيء آخر، واختار هذا ابن عطية وجعل العلة ما في قول الشعر من التخييل والتزويق للقول وهو قريب مما سمعت أولا، وهو الذي ينبغي أن يعول عليه، وفي الآية عليه دلالة على غضاضة الشعر وهي ظاهرة في أنه عليه الصلاة والسلام لم يعط طبيعة شعرية اعتناء بشأنه ورفعا لقدره وتبعيدا له صلّى الله عليه وسلم من أن يكون فيه مبدأ لما يخل بمنصبه في الجملة. وإنما لم يعط صلّى الله عليه وسلم القدرة على الشعر مع حفظه عن إنشائه لأن ذلك سلب القدرة عليه في الإبعاد عما يخل بمنصبه الجليل صلّى الله عليه وسلم ونظير ما ذكرنا العصمة والحفظ، ويفهم من كلام المواهب اللدنية أن من الناس من ذهب إلى أنه عليه الصلاة والسلام كان له قدرة على الشعر إلا أنه يحرم عليه أن يشعر وليس بذاك، نعم القول بحرمة إنشاء الشعر مقبول ومعناه على القول السابق على ما قيل حرمة التوصل إليه، وقد يقال: لا حاجة إلى التأويل وحرمة الشيء تجامع عدم القدرة عليه، وهل عدم الشعر خاص به عليه الصلاة والسلام أو عام لنوع الأنبياء قال بعضهم هو عام لهذه الآية إذ لا يظهر للخصوص نكتة، وقيل يجوز أن يكون خاصا والنكتة زيادة التكريم لما أن مقامه صلّى الله عليه وسلم فوق مقام الأنبياء عليهم السلام ويكون الثابت لهم الحفظ عن الإنشاء مع ثبوت القدرة عليه وإن صح خبر إنشاء آدم عليه السلام يوم قتل ولده: تغيرت البلاد ومن عليها ... ووجه الأرض مغبر قبيح تغير كل ذي طعم ولون ... وقل بشاشة الوجه الصبيح اتضح أمر الخصوص وعلم أن لا حفظ من الإنشاء أيضا، ولعل الحفظ حينئذ مما فيه ما يشين ويخل بمنصب النبوة مطلقا، والنكتة في الخصوص ظاهرة على ما نقل عن ابن الحاجب لأن أعظم معجزاته عليه الصلاة والسلام القرآن فربما تحصل التهمة فيه لو قال صلّى الله عليه وسلم الشعر وكذلك معجزات الأنبياء عليهم السلام فتأمل. وأيّا ما كان لا يرد أنه عليه الصلاة والسلام قال يوم حنين وهو على بغلته البيضاء وأبو سفيان بن الحارث آخذ بزمامها ولم يبق معه عليه الصلاة والسلام من الناس إلا قليل (1) .   (1) نحو مائة او اثني عشر او عشرة اه منه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 46 - أنا النبي لا كذب (1) أنا ابن عبد المطلب- لأنا لا نسلم أنه شعر فقد عرفوه بأنه الكلام المقفى الموزون على سبيل القصد وهذا مما اتفق له عليه الصلاة والسلام من غير قصد لوزنه ومثله يقع كثيرا في الكلام المنثور ولا يسمى شعرا ولا قائله شاعرا، ولا يتوهم من انتسابه صلّى الله عليه وسلم فيه إلى جده دون أبيه دليل القصد لأن النسبة إلى الجد شائعة ولأنه هو الذي قام بتربيته حيث توفي أبوه عليه الصلاة والسلام وهو حمل فحين ولد قام بأمره فوق ما يقوم الوالد بأمر الولد ولأنه كان مشهورا بينهم بالصدق والشرف والعزة فلذا خصه بالذكر ليكون كالدليل على ما قبل أو كمانع آخر من الانهزام ولأن كثيرا من الناس كانوا يدعونه عليه الصلاة والسلام بابن عبد المطلب. ومنه حديث ضمام بن ثعلبة أيكم ابن عبد المطلب على أن منهم من لم يعد الرجز مطلقا وأصله ما كان على مستفعلن ست مرات شعرا ولذا يسمى قائله راجزا لا شاعرا، وعن الخليل أن المشطور منه وهو ما حذف نصفه فبقي وزنه مستفعلن ثلاث مرات والمنهوك وهو ما حذف ثلثاه فبقي وزنه مستفعلن مرتين ليسا بشعر، وفي رواية أخرى عنه أن المجزوء وهو ما حذف من كل مصراع منه جزء فبقي وزنه مستفعلن أربع مرات كذلك فقوله صلّى الله عليه وسلم أنا النبي لا كذب إن كان نصف بيت فهو مجزو فليس بشعر على هذه الرواية وأن فرض أن هناك قصدا وإن كان بيتا تاما فهو فليس منهوك بشعر أيضا على الرواية الأولى وكونه ليس بشعر على قول من لا يرى الرجز مطلقا شعرا ظاهر. وجاء في بعض الروايات أنه عليه الصلاة والسلام حرك الباء من كذب والمطلب فلا يكون ذلك موزونا فكونه ليس بشعر أظهر وأظهر، والقول بأن ضمير لَهُ للقرآن المعلوم من السياق أي وما يصح للقرآن أن يكون شعرا فيجوز صدور الشعر عنه صلّى الله عليه وسلم ولا يحتاج إلى توجيه ليس بشيء فإنه يكفي في نفي الشعر عنه عليه الصلاة والسلام قوله سبحانه وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ مع أن الظاهر عود الضمير عليه عليه الصلاة والسلام، وأولى التوجيهات إخراج ذلك من الشعر بانتفاء القصد وبذلك يخرج ما وقع في القرآن من نظائره منه، وقد ذكرنا لك فيما مر كثيرا منها، وليس في الآية ما يدل على أن النبي صلّى الله عليه وسلم لا ينبغي له التكلم بشعر قاله بعض الشعراء والمتمثل به، وفي الأخبار ما يدل على وقوع التكلم بالبيت متزنا نادرا كما روي أنه عليه الصلاة والسلام أنشد بيت ابن رواحة: يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا استثقلت بالمشركين المضاجع وإنشاده إياه كذلك مذكور في البحر، وروي أنه صلّى الله عليه وسلم أصاب أصبعه الشريفة حجر في بعض غزواته فدميت فتمثل بقول الوليد بن المغيرة: على ما قاله ابن هشام في السيرة أو ابن رواحة على ما صححه ابن الجوزي: ما أنت إلا أصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت قيل: هو له عليه الصلاة والسلام والكلام فيه كالكلام في قوله صلّى الله عليه وسلم أنا النبي إلخ إلا أن هذا يحتمل أن يكون مشطورا إذا كان كل من شطريه بيتا وعلى وقوع التكلم بالبيت غير متزن مع إحراز المعنى كثيرا كما روي أنه عليه الصلاة والسلام أنشد: ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك من لم تزود بالأخبار   (1) فيه اشارة الى استحالة الكذب على النبي فكانه قال أنا النبي والنبي لا يكذب فلست بكاذب فيما أقول حتى أنهزم وانا متيقن ان الذي وعدني الله تعالى من النصر حق فلا يجوز عليّ الفرار. ثم أشار عليه الصلاة والسلام الى انه لا يليق به من حيث نسبه الجليل الفرار ايضا تدبر اه منه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 47 فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه ليس هكذا يا رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام «إني والله ما أنا بشاعر ولا ينبغي لي» وفي خبر أخرجه أحمد وابن أبي شيبة عن عائشة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا استراث الخبر تمثل ببيت طرفة ويأتيك من لم تزود بالأخبار. وأخرج ابن سعد وابن أبي حاتم عن الحسن أنه صلّى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت: كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا فقال أبو بكر: أشهد أنك رسول الله ما علمك الشعر وما ينبغي لك، وأخرج ابن سعيد عن عبد الرحمن بن أبي الزناد أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال للعباس بن مرداس: أرأيت قولك: أتجعل نهبي ونهب العبي د بين الأقرع وعيينة فقال له أبو بكر: رضي الله تعالى عنه بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما أنت بشاعر ولا راوية ولا ينبغي لك إنما قال بين عيينة والأقرع، وروي أنه قيل له عليه الصلاة والسلام: من أشعر الناس؟ فقال: الذي يقول: ألم ترياني كلما جئت طارقا وجدت بها وإن لم تطيب طيبا وأخرج البيهقي في سننه بسند فيه مجهول عن عائشة قالت ما جمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بيت شعر قط إلا بيتا واحدا: تفاءل بما تهوى يكن فلقلما يقال لشيء كان إلا تحقق قالت عائشة ولم يقل تحققا لئلا يعربه فيصير شعرا، ثم إنه عليه الصلاة والسلام مع هذا لم يكن يحب الشعر ففي مسند أحمد بن حنبل عن عائشة قالت: كان أبغض الحديث إليه صلّى الله عليه وسلم الشعر، وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلىء شعرا» وهذا ظاهر في ذم الإكثار منه، وما روي عن الخليل أنه قال كان الشعر أحب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم من كثير من الكلام مناف لما سمعت عن المسند، ولعل الجمع بالتفصيل بين شعر وشعر، وقد تقدم الكلام في الشعر مفصلا في سورة الشعراء فتذكر. إِنْ هُوَ أي ما القرآن إِلَّا ذِكْرٌ أي عظة من الله عز وجل وإرشاد للثقلين كما قال سبحانه: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ [يوسف: 104، ص: 87، التكوير: 27] وَقُرْآنٌ مُبِينٌ أي كتاب سماوي ظاهر أنه ليس من كلام البشر لما فيه من الإعجاز الذي ألقم من تصدي للمعارضة الحجر لِيُنْذِرَ أي القرآن أو الرسول عليه الصلاة والسلام، ويؤيده قراءة نافع وابن عامر «لتنذر» بتاء الخطاب. وقرأ اليماني «لينذر» مبنيا للمفعول ونقلها ابن خالويه عن الجحدري وقال: عن أبي السمال واليماني أنهما قرءا «لينذر» بفتح الياء والذال مضارع نذر بالشيء بكسر الذال إذا علم به. مَنْ كانَ حَيًّا أي عاقلا كما أخرج ذلك ابن جرير والبيهقي في شعب الإيمان عن الضحاك، وفيه استعارة مصرحة بتشبيه العقل بالحياة أو مؤمنا بقرينة مقابلته بالكافرين، وفيه أيضا استعارة مصرحة لتشبيه الإيمان بالحياة، ويجوز كونه مجازا مرسلا لأنه سبب للحياة الحقيقية الأبدية، والمضي في كانَ باعتبار ما في علمه عز وجل لتحققه، وقيل كان بمعنى يكون، وقيل في الكلام مجاز المشارفة ونزلت منزلة المضي وهو كما ترى، وتخصيص الإنذار به لأنه المنتفع بذلك وَيَحِقَّ الْقَوْلُ أي تجب كلمة العذاب عَلَى الْكافِرِينَ الموسومين بهذا الوسم المصرين على الكفر، وفي إيرادهم بمقابلة من كان حيا إشعار بأنهم لخلوهم عن آثار الحياة وأحكامها كالمعرفة أموات في الحقيقة، وجوز أن يكون في الكلام استعارة مكنية قرينتها استعارة أخرى. وكأنه جيء بقوله سبحانه لِيُنْذِرَ إلخ رجوعا إلى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 48 ما بدىء به السورة من قوله عز وجل: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ [يس: 6] ولو نظرت إلى هذا التخلص من حديث المعاد إلى حديث القرآن والإنذار لقضيت العجب من حسن موقعه أَوَلَمْ يَرَوْا الهمزة للإنكار والتعجيب والواو للعطف على جملة منفية مقدرة مستتبعة للمعطوف أي ألم يتفكروا أو ألم يلا حظوا أو ألم يعلموا علما يقينيا مشابها للمعاينة زعم بعضهم أن هذا عطف على قوله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا [يس: 31] إلخ والأول للحث على التوحيد بالتحذير من النقم وهذا بالتذكير بالنعم المشار إليها بقوله تعالى: أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ أي لأجلهم وانتفاعهم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أي مما تولينا إحداثه بالذات من غير مدخل لغيرنا فيه لا خلقا ولا كسبا. والكلام استعارة تمثيلية فيما ذكر، وجوز أن يكون قد كني عن الإيجاد بعمل الأيدي فيمن له ذلك ثم بعد الشيوع أريد به ما أريد مجازا متفرعا على الكناية، وقال بعضهم: المراد بالعمل الأحداث وبالأيدي القدرة مجازا، وأوثرت صيغة التعظيم والأيدي مجموعة تعظيما لشأن الأثر وإنه أمر عجيب وصنع غريب وليس بذاك، وقيل الأيدي مجاز عن الملائكة المأمورين بمباشرة الأعمال حسبما يريده عز وجل في عالم الكون والفساد كملائكة التصوير وملائكة نفخ الأرواح في الأبدان بعد إكمال تصويرها ونحوهم، ولا يخفى ما فيه. ونحوه ما قيل الأيدي مجاز عن الأسماء فإن كل أثر في العالم بواسطة اسم خاص من أسمائه عز وجل. وأنت تعلم أن الآية من المتشابه عند السلف وهم لا يجعلون اليد مضافة إليه تعالى بمعنى القدرة أفردت- كيد الله فوق أيديهم- أو ثنيت كخلقت بيدي أو جمعت كما هنا بل يثبتون اليد له عز وجل كما أثبتها لنفسه مع التنزيه الناطق به قوله سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] وارتضاه كثير ممن وفقه الله تعالى من الخلق، ولا أرى الطاعنين عليهم إلا جهلة أَنْعاماً مفعول خَلَقْنا وأخر عن الجارين المتعلقين به اعتناء بالمقدم وتشويقا إلى المؤخر وجمعا بينه وبين ما يتعلق به من أحكامه المتفرعة عليه والمراد بالأنعام الأزواج الثمانية وخصها بالذكر لما فيها من بدائع الفطرة وكثرة المنافع، وهذا كقوله تعالى: أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت فَهُمْ لَها مالِكُونَ أي متملكون لها بتمليكنا إياها لهم، والفاء قيل للتفريع على مقدر أي خلقنا لهم أنعاما وملكناها لهم فهم بسبب ذلك مالكون لها، وقيل للتفريع على خلقها لهم وفيه خفاء. وجوز أن يكون الملك بمعنى القدرة والقهر من ملكت العجين إذا أجدت عجنه، ومنه قول الربيع بن منيع الفزاري وقد سئل عن حاله بعد إذ كبر: أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا والأول أظهر ليكون ما بعد تأسيسا لا تأكيدا، وأيا ما كان فلها متعلق بمالكون واللام مقوية للعمل وقدم لرعاية الفواصل مع الاهتمام، وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على استقرار مالكيتهم لها واستمرارها. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 49 وَذَلَّلْناها لَهُمْ أي وصيرناها سهلة غير مستعصية عليهم في شيء مما يريدون بها حتى الذبح حسبما ينطق به قوله تعالى فَمِنْها رَكُوبُهُمْ فإن الفاء فيه لتفريع أحكام التذليل عليه وتفصيلها أي فبعض منها مركوبهم فركوب فعول بمعنى مفعول كحصور وحلوب وقزوع وهو مما لا ينقاس. وقرأ أبي وعائشة «ركوبتهم» بالتاء وهي فعولة بمعنى مفعولة كحلوبة، وقيل جمع ركوب، وتعقب بأنه لم يسمع فعولة بفتح الفاء في الجموع ولا في أسمائها. وقرأ الحسن والأعمش وأبو البرهسم «ركوبهم» بضم الراء وبغير تاء وهو مصدر كالقعود والدخول فأما أن يؤول بالمفعول أو يقدر مضاف في الكلام إما في جانب المسند إليه أي ذو ركوبهم أو في جانب المسند أي فمن منافعها ركوبهم وَمِنْها يَأْكُلُونَ أي وبعض منها يأكلون لحمه، والتبعيض هنا باعتبار الأجزاء وفيما قيل باعتبار الجزئيات والجملة معطوفة على ما قبلها، وغير الأسلوب لأن الأكل عام في الأنعام جميعها وكثير مستمر بخلاف الركوب كذا قيل، وقيل الفعل موضوع موضع المصدر وهو بمعنى المفعول للفاصلة. وَلَهُمْ فِيها أي في الأنعام بكلا قسميها مَنافِعُ غير الركوب والأكل كالجلود والأصواف والأوبار وغيرها وكالحراثة بالثيران وَمَشارِبُ جمع مشرب مصدر بمعنى المفعول والمراد به اللبن، وخص مع دخوله في المنافع لشرفه واعتناء العرب به، وجمع باعتبار أصنافه ولا ريب في تعددها، وتعميم المشارب للزبد والسمن والجبن والأقط لا يصح إلا بالتغليب أو التجوز لأنها غير مشروبة ولا حاجة إليه مع دخولها في المنافع، وجوز أن تكون المشارب جمع مشرب موضع الشرب. قال الإمام: وهو الآنية فإن من الجلود يتخذ أواني الشرب من القرب ونحوها، وقال الخفاجي: إذا كان موضعا فالمشارب هي نفسها لقوله سبحانه: فِيها فإنها مقرة، ولعله أظهر من قول الإمام أَفَلا يَشْكُرُونَ أي يشاهدون هذه النعم فلا يشكرون المنعم بها ويخصونه سبحانه بالعبادة وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أي متجاوزين الله تعالى الذي رأوا منه تلك القدرة الباهرة والنعم الظاهرة وعلموا أنه سبحانه المتفرد بها آلِهَةً من الأصنام وأشركوها به عز وجل في العبادة لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ رجاء أن ينصروا أو لأجل أن ينصروا من جهتهم فيما نزل بهم وأصابهم من الشدائد أو يشفعوا لهم في الآخرة، وقوله تعالى: لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ إلخ استئناف سيق لبيان بطلان رأيهم وخيبة رجائهم وانعكاس تدبيرهم أي لا تقدر آلهتهم على نصرهم، وقول ابن عطية، يحتمل أن يكون ضمير يَسْتَطِيعُونَ للمشركين وضمير نَصْرَهُمْ للأصنام ليس بشيء أصلا وَهُمْ أي أولئك المتخذون المشركون لَهُمْ أي لآلهتهم جُنْدٌ مُحْضَرُونَ أي معدون لحفظهم والذب عنهم في الدنيا. أخرجه ابن أبي حاتم وابن المنذر عن الحسن وقتادة، وقيل: المعنى أن المشركين جند لآلهتهم في الدنيا محضرون للنار في الآخرة، وجاء بذلك في رواية أخرجها ابن أبي حاتم عن الحسن، واختار بعض الأجلة أن معنى والمشركون لآلهتهم جند محضرون يوم القيامة أثرهم في النار وجعلهم جندا من باب التهكم والاستهزاء. وكذلك لام لهم الدالة على النفع، وقيل هُمْ للآلهة وضمير لَهُمْ للمشركين أي وإن الآلهة معدون محضرون لعذاب أولئك المشركين يوم القيامة لأنهم يجعلون وقود النار أو محضرون عند حساب الكفرة إظهارا لعجزهم وإقناطا للمشركين عن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 50 شفاعتهم وجعلهم جندا، والتعبير باللام في الوجهين على ما مر آنفا، واختلاف مراجع الضمائر في الآية ليس من التفكيك المحظور، والواو في قوله سبحانه وَهُمْ إلخ على جميع ما مر إما عاطفة أو حالية إلا أن الحال مقدرة في بعض الأوجه كما لا يخفى. والفاء في قوله تعالى فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ فصيحة أي إذا كان هذا حالهم مع ربهم عز وجل فلا تحزن بسبب قولهم عليك هو شاعر أو إذا كان حالهم يوم القيامة ما سمعت فلا تحزن بسبب قولهم على الله سبحانه إن له شركاء تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا أو عليك هو شاعر أو على الله تعالى وعليك ما لا يليق بشأنه عز وجل وشأنك، والاقتصار في بيان قولهم عليه صلّى الله عليه وسلم بأنه وحاشاه شاعر لأنه الأوفق بما تقدم من قوله تعالى وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ وقد يعمم فيشمل جميع ما لا يليق بشأنه عليه الصلاة والسلام من الأقوال، وتفسير الشرط الذي أفصحت عنه الفاء بما ذكرنا أولا هو المناسب لما روي عن الحسن وقتادة في معنى قوله تعالى وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ وبما ذكرنا ثانيا هو المناسب لما ذكر بعد في معنى ذلك، وقيل التقدير على الأول إذا كانوا في هذه المرتبة من سخافة العقول حيث اتخذوا رجاء النصر آلهة من دون الله عز وجل لا يقدرون على نصرهم والذب عنهم بل هم يذبون عن تلك الآلهة فلا تحزن بسبب قولهم عليك ما قالوا ولعل الأول أولى، وأيا ما كان فالنهي وإن كان بحسب الظاهر متوجها إلى قولهم لكنه في الحقيقة كما أشرنا إليه متوجه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمراد نهيه عليه الصلاة والسلام عن التأثر من الحزن بطريق الكناية على أبلغ وجه وأكده كما لا يخفى. وقرأ نافع «فلا يحزنك» بضم الياء وكسر الزاي من أحزن المنقول من حزن اللازم وجاء حزنه وأحزنه. إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ تعليل صريح للنهي بطريق الاستئناف بعد تعليلة بطريق الإشعار بناء على التقدير الثاني في الشرط فإن العلم بما ذكر مجاز عن مجازاتهم عليه أو كناية عنها للزومها إياه إذ علم الملك القادر الحكيم بما جرى من عدوه الذي تقتضي الحكمة الانتقام منه مقتض لمجازاته والانتقام منه، وهو على التقدير الأول قيل استئناف بياني وقع جواب سؤال مقدر كأنه قيل: يا رب فإذا كان حالهم معك ومع نبيك ذلك فماذا تصنع بهم؟ فقيل: إِنَّا نَعْلَمُ إلخ أي نجازيهم بجميع جناياتهم، وقيل هو تعليل لترتيب النهي على الشرط فتأمل، وما موصولة والعائد محذوف أي نعلم الذي يسرونه من العقائد الزائغة والعداوة لك ونحو ذلك والذي يعلنونه من كلمات الإشراك والتكذيب ونحوها، وجوز أن تكون مصدرية أي نعلم أسرارهم وإعلانهم والمفعول محذوف أو الفعلان منزلان منزلة اللازم والمتبادر الأول وهو الأولى. وتقديم السر على العلن لبيان احاطة علمه سبحانه بحيث إن علم السر عنده تعالى كأنه أقدم من علم العلن، وقيل: لأن مرتبة السر متقدمة على مرتبة العلن إذ ما من شيء يعلن إلا وهو أو مباديه مضمر في القلب قبل ذلك فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية حقيقة، وقيل: للإشارة إلى الاهتمام بإصلاح الباطن فإنه ملاك الأمر ولأنه محل الاشتباه المحتاج للبيان، وشاع أن الوقف على قَوْلُهُمْ متعين، وقيل: ليس به لأنه جوز في إِنَّا نَعْلَمُ إلخ كونه مقول القول على أن ذلك من باب الإلهاب والتعريض كقوله تعالى وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 14، يونس: 105، القصص: 87] أو على أن المراد فلا يحزنك قولم على سبيل السخرية والاستهزاء إنا نعلم إلخ، ومنه يعلم أنه لو قرأ قارئ أنا نعلم بالفتح وجعل ذلك بدلا من قَوْلُهُمْ لا تنتقض صلاته ولا يكفر لو اعتقد ما يعطيه من المعنى كما لو جعله تعليلا على حذف حرف التعليل، والحق أن مثل هذا التوجيه لا بأس بقبوله في درء الكفر، وأما أمر الوقف فالذي ينبغي أن يقال فيه إنه على قولهم كالمتعين أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ كلام مستأنف مسوق لبيان بطلان إنكارهم البعث بعد ما شاهدوا في أنفسهم ما يوجب التصديق به كما أن ما سبق الجزء: 12 ¦ الصفحة: 51 مسوق لبيان بطلان إشراكهم بالله عز وجل وبعد ما عاينوا فيما بأيديهم ما يوجب التوحيد والإسلام، وقيل: إنه تسلية له عليه الصلاة والسلام كقوله تعالى فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ وذلك بتهوين ما يقولونه بالنسبة إلى إنكارهم الحشر وليس بشيء. والهمزة للإنكار والتعجب والواو للعطف على جملة مقدرة هي مستتبعة للمعطوف كما مر في قوله تعالى أَوَلَمْ يَرَوْا إلخ أي ألم يتفكر الإنسان ولم يعلم أنا خلقناه من نطفة أو هي عين تلك الجملة أعيدت تأكيدا للنكير السابق وتمهيدا لإنكار ما هو أحق منه بالإنكار لما أن المنكر عين علمهم بما يتعلق بخلق أنفسهم، ولا ريب في أن علم الإنسان بأحوال نفسه أهم وإحاطته بها أسهل وأتم فالإنكار والتعجيب من الإخلال بذلك كأنه قيل ألم يعلموا خلقه تعالى لأسباب معايشهم ولم يعلموا خلقه تعالى لأنفسهم أيضا مع كون العلم بذلك في غاية الظهور ونهاية الأهمية، ويشير كلام بعض الأجلة إلى أن العطف على أَوَلَمْ يَرَوْا السابق والجامع ابتناء كل منهما على التعكيس فإنه تعالى خلق للإنسان ما خلق ليشكر فكفر وجحد المنعم والنعم وخلقه سبحانه من نطفة قذرة ليكون منقادا متذللا فطغى وتكبر وخاصم، وإيراد الإنسان مورد الضمير لأن مدار الإنكار متعلق بأحواله من حيث هو إنسان. وقوله تعالى فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ أي مبالغ في الخصومة والجدال الباطل مُبِينٌ ظاهر متجاهر في ذلك عطف على الجملة المنفية داخل في حيز الإنكار والتعجيب كأنه قيل: أو لم يرانا خلقناه من أخس الأشياء وأمهنها ففاجأ خصومتنا في أمر يشهد بصحته مبدأ فطرته شهادة بينة، وإيراد الجمل اسمية للدلالة على استقراره في الخصومة واستمراره عليها. وفي الحواشي الخفاجية أن تعقيب الإنكار بالفاء وإذا الفجائية على ما يقتضي خلافه مقو للتعجيب، والمراد بالإنسان الجنس، والخصيم إنما هو الكافر المنكر للبعث مطلقا، نعم نزلت الآية في كافر مخصوص، أخرج جماعة منهم الضياء في المختارة عن ابن عباس قال: جاء العاص بن وائل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعظم حائل ففته بيده فقال: يا محمد أيحيي الله تعالى هذا بعد ما أرم؟ قال: نعم يبعث الله تعالى هذا ثم يميتك ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم فنزلت الآيات أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ إلى آخر السورة ، وفي رواية ابن مردويه عنه أن الجائي ذلك القائل أبي بن خلف وهو الذي قتله رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوم أحد بالحربة، وروي ذلك عن أبي مالك ومجاهد وقتادة والسدي وعكرمة وغيرهم كما في الدر المنثور. وفي رواية أخرى عن الحبر أنه أبو جهل بن هشام، وفي أخرى عنه أيضا أنه عبد الله بن أبي، وتعقب ذلك أبو حيان بأن نسبة ذلك إلى أن عباس رضي الله تعالى عنهما وهم لأن السورة والآية مكية بإجماع ولأن عبد الله بن أبي لم يجاهر قط هذه المجاهرة، وحكي عن مجاهد وقتادة أنه أمية بن خلف، والذي اختاره وأدعى أنه أصح الأقوال أنه أبي بن خلف ثم قال: ويحتمل أن كلا من هؤلاء الكفرة وقع منه ذلك، وقيل معنى قوله تعالى فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ فإذا هو بعد ما كان ماء مهينا رجل مميز منطيق قادر على الخصام مبين معرب عما في ضميره فصيح فهو حينئذ معطوف على «خلقناه» والتعقيب والمفاجأة ناظران إلى خلقه، ومُبِينٌ متعد والكلام من متممات شواهد صحة البعث فقوله تعالى وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا معطوف حينئذ على الجملة المنفية داخل في حيز الإنكار، وأما على الأول فهو عطف على الجملة الفجائية، والمعنى ففاجأ خصومتنا وضرب لنا مثلا أي أورد في شأننا قصة عجيبة في نفس الأمر هي في الغرابة كالمثل وهي إنكار احيائنا العظام أو قصة عجيبة في زعمه واستبعدها وعدها من قبيل المثل وأنكرها أشد الإنكار وهي أحياؤنا إياها أو جعل لنا مثلا ونظيرا من الخلق وقاس قدرتنا على قدرتهم ونفي الكل على العموم، وقوله تعالى وَنَسِيَ خَلْقَهُ أي خلقنا إياه على الوجه المذكور الدال على بطلان ما ضربه أما عطف على «ضرب» داخل في حيز الإنكار والتعجيب أو حال من فاعله بإضمار قد أو بدونه، ونسيان خلقه بأن لم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 52 يتذكره على ما قيل وفيه دغدغة أو ترك تذكره لكفره وعناده أو هو كالناسي لعدم جريه على مقتضى التذكر وقوله سبحانه قالَ استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ من حكاية ضربه المثل كأنه قيل: أي مثل ضرب أو ماذا قال؟ فقيل: قال مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ منكرا ذلك ناكرا من أحوال العظام ما تبعد معه من الحياة غاية البعد وهو كونها رميما أي بالية أشد البلى، والظاهر أن «رميم» صفة لا اسم جامد فإن كان من رم اللام بمعنى بلى فهو فعيل بمعنى فاعل، وإنما لم يؤنث لأنه غلب استعماله غير جار على موصوف فالحق بالأسماء الجامدة أو حمل على فعيل بمعنى مفعول وهو يستوي فيه المذكر والمؤنث، وقال محيي السنة: لم يقل رميمة لأنه معدول من فاعلة فكل ما كان معدولا عن وجهه ووزنه كان مصروفا عن أخواته، ومثله «بغيا» في قوله تعالى «ما كانت أمك بغيا» أسقط الهاء منها لأنها كانت مصروفة عن باغية، وقال الأزهري: إن عظاما لكونه بوزن المفرد ككتاب وقراب عومل معاملته فقيل رميم دون رميمة وذكر له شواهد وهو غريب، وإن كان من رم المتعدي بمعنى ابلى يقال رمه أي أبلاه وأصل معناه الأكل كما ذكره الأزهري من رمث الإبل الحشيش فكان ما بلى أكلته الأرض فهو فعيل بمعنى مفعول، وتذكيره على هذا ظاهر للإجماع على أن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث. وفي المطلع الرميم اسم غير صفة كالرمة والرفات لا فعيل بمعنى فاعل أو مفعول ولأجل أنه اسم لا صفة لا يقال لم لم يؤنث وقد وقع خبرا لمؤنث؟ ولا يخفى أن له فعلا وهو رم كما ذكره أهل اللغة وهو وزن من أوزان الصفة فكونه جامدا غير ظاهر قُلْ تبكيتا له بتذكير ما نسيه من فطرته الدالة على حقيقة الحال وإرشاده إلى طريقة الاستشهاد بها يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أي أوجدها ورباها أَوَّلَ مَرَّةٍ أي في أول مرة إذ لم يسبق لها إيجاد ولا شك أن الإحياء بعد أهون من الإنشاء قبل فمن قدر على الإنشاء كان على الأحياء أقدر وأقدر، ولا احتمال لعروض العجز فإن قدرته عز وجل ذاتية أزلية لا تقبل الزوال ولا التغير بوجه من الوجوه. وفي الحواشي الخفاجية كان الفارابي يقول وددت لو أن أرسطو وقف على القياس الجلي في قوله تعالى «قل يحييها» إلخ وهو الله تعالى أنشأ العظام وأحياها أول مرة وكل من انشأ شيئا أولا قادر على إنشائه وإحيائه ثانيا فيلزم أن الله عز وجل قادر على انشائها وإحيائها بقواها ثانيا، والآية ظاهرة فيما ذهب إليه الإمام الشافعي قيل ومالك وأحمد من أن العظم تحله الحياة فيؤثر فيه الموت كسائر الأعضاء وبنوا على ذلك الحكم بنجاسة عظم الميتة ومسألة حلول الحياة في العظم وعدمه مما اختلف فيه الفقهاء والحكماء، واستدل من قال منهما بعدم حلولها فيه بأن الحياة تستلزم الحس والعظم لا إحساس له فإنه لا يتألم بقطعة كما يشاهد في القرن، وما قد يحصل في قطع العظم من التألم إنما هو لما يجاوره، وقال ابن زهر في كتاب التيسير: اضطرب كلام جالينوس في العظام هل لها احساس أم لا والذي ظهر لي أن لها حسا بطيئا وليت شعري ما يمنعها من التعفن والتفتت في الحياة غير حلول الروح الحيواني فيها انتهى. وبعض من ذهب من الفقهاء إلى أن العظام لا حياة فيها بنى عليه الحكم بطهارتها من الميتة إذ الموت زوال الحياة فحيث لم تحلها الحياة لم يحلها الموت فلم تكن نجسة. وأورد عليهم هذه الآية فقيل المراد بالعظام فيها صاحبها بتقدير أو تجوز أو المراد بإحيائها ردها لما كانت عليه غضة رطبة في بدن حي حساس، ورجح هذا على إرادة صاحبها بأن سبب النزول لا بد من دخوله وعلى تلك الإرادة لا يدخل، ويدخل على تأويل إحيائها بإعادتها لما كانت عليه. ولا يخفى أن حمل الآية على ذلك خلاف الظاهر، والظاهر مع الشافعية ومن الفقهاء القائلين بعدم نجاسة عظام الميتة من رأى قوة الاستدلال بالآية على أن العظام تحلها الحياة فعلل الطهارة بغير ما سمعت فقال: إن نجاسة الميتة ليست لعينها بل لما فيها من الرطوبة والدم السائل والعظم ليس فيه ذلك فلذا لم يكن نجسا، ومنع الشافعية كون النجاسة للرطوبة وتمام الكلام في الفروع وَهُوَ عز وجل بِكُلِّ خَلْقٍ أي مخلوق عَلِيمٌ مبالغ في العلم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 53 فيعلم جل وعلا بجميع الأجزاء المتفتتة المتبددة لكل شخص من الأشخاص أصولها وفروعها وأوضاع بعضها من بعض من الاتصال والانفصال والاجتماع والافتراق فيعيد كلا من ذلك على النمط السابق مع القوى التي كانت قبل، والجملة إما اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما تقدم أو معطوفة على الصلة، والعدول إلى الاسمية للتنبيه على أن علمه تعالى بما ذكر أمر مستمر ليس كإنشائه للمنشآت. وقوله تعالى الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً بدل من الموصول الأول وعدم الاكتفاء بعطف صلته على صلته للتأكيد ولتفاوتهما في كيفية الدلالة، والظرفان متعلقان بجعل قدما على ناراً مفعوله الصريح للاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر، والْأَخْضَرِ صفة الشجر وقرىء الخضراء، وأهل الحجاز يؤنثون الجنس المميز واحدة بالتاء مثل الشجر إذ يقال في واحده شجرة، وأهل نجد يذكرونه إلا ألفاظا استثنيت في كتب النحو، وذكر بعضهم أن التذكير لرعاية اللفظ والتأنيث لرعاية المعنى لأنه في معنى الأشجار والجمع تؤنث صفة، وقيل لأنه في معنى الشجرة وكما يؤنث صفته يؤنث ضميره كما في قوله تعالى مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ [الواقعة: 52، 53] والمشهور أن المراد بهذا الشجر المرخ والعفار يتخذ من المرخ وهو ذكر الزند الأعلى ومن العفار بفتح العين وهو أنثى الزندة السفلى ويسحق الأول على الثاني وهما خضراوان يقطر منهما الماء فتنقدح النار بإذن الله تعالى، وكون المرخ بمنزلة الذكر والعفار بمنزلة الأنثى هو ما ذكره الزمخشري وغيره واللفظ كالشاهد له، وعكس الجوهري وعن ابن عباس والكلبي في كل شجر نار إلا العناب قيل ولذا يتخذ منه مدق القصارين، وأنشد الخفاجي لنفسه: أيا شجر العناب نارك أوقدت ... بقلبي وما العناب من شجر النار واشتهر العموم وعدم الاستثناء ففي المثل في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار أي استكثرا من النار من مجدت الإبل إذا وقعت في مرعى واسع كثير، ومنه رجل ماجد أي مفضال، واختار بعضهم حمل الشجر الأخضر على الجنس وما يذكر من المرخ والعفار من باب التمثيل، وخصا لكونهما أسرع وريا وأكثر نارا كما يرشد إليه المثل، ومن إرسال المثل المرخ والعفار لا يلدان غير النار. فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ كالتأكيد لما قبله والتحقيق له أي فإذا أنتم من ذلك الشجر الأخضر توقدون النار لا تشكون في أنها نار حقيقة تخرج منه وليست كنار الحباحب، وأشار سبحانه بقوله تعالى الَّذِي إلخ إلى أن من قدر على إحداث النار من الشجر الأخضر مع ما فيه من المائية المضادة لها بكيفيته فإن الماء بارد رطب والنار حارة يابسة كان جل وعلا أقدر على إعادة الغضاضة إلى ما كان غضا فيبس وبلي، ثم إن هذه النار يخلقها الله تعالى عند سحق إحدى الشجرتين على الأخرى لا أن هناك نارا كامنة تخرج بالسحق ومِنَ الشَّجَرِ لا يصلح دليلا لذلك، وفي كل شجر نار من مسامحات العرب فلا تغفل، وإياك واعتقاد الكمون. وقوله تعالى أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ إلخ استئناف مسوق من جهته تعالى لتحقيق مضمون الجواب الذي أمر صلّى الله عليه وسلم أن يخاطبهم به ويلزمهم الحجة، والهمزة للإنكار والنفي والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أليس الذي أنشاها أول مرة وليس الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا وليس الذي خلق السماوات والأرض مع كبر جرمهما وعظم شأنهما بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ في الصغر والحقارة بالنسبة إليهما على أن المراد بمثلهم هم وأمثالهم أو على أن المراد به هم أنفسهم بطريق الكناية كما في مثلك يفعل كذا، وقال بعضهم: مثلهم في أصول الذات وصفاتها وهو المعاد، وسيأتي إن شاء الله تعالى تفصيل الكلام في هذا المقام، وزعم جماعة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 54 من المفسرين عود ضمير مِثْلَهُمْ للسماوات والأرض لشمولهما لمن فيهما من العقلاء فلذا كان ضمير العقلاء تغليبا والمقصود بالكلام دفع توهم قدم العالم المقتضي لعدم إمكان إعادته وهو تكلف ومخالف للظاهر والمشركون لا يقولون بقدم العالم فيما يظهر. وتعقب أيضا بأن قدم العالم لو فرض مع قدم النوع الإنساني وعدم تناهي أفراده في جانب المبدأ لا يأبى الحشر الجسماني إذ هو بالنسبة إلى المكلفين وهم متناهون. وزعم أن ما ثبت قدمه استحال عدمه غير تام كما قرر في محله فلا تغفل، وقرأ الجحدري وابن أبي إسحاق والأعرج وسلام ويعقوب في رواية «يقدر» بفتح الياء وسكون القاف فعلا مضارعا. بَلى جواب من جهته تعالى وتصريح بما أفاده الاستفهام الإنكاري من تقرير ما بعد النفي من القدرة على الخلق وإيذان بتعيينه للجواب نطقوا به أو تلعثموا فيه مخافة الالتزام، وقوله تعالى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ عطف على ما يفيده الإيجاب أي بلى هو سبحانه قادر على ذلك وهو جل وعلا المبالغ في الخلق والعلم كيفا وكما. وقرأ الحسن والجحدري وزيد بن علي ومالك بن دينار «الخالق» بزنة الفاعل إِنَّما أَمْرُهُ أي شأنه تعالى شأنه في الإيجاد، وجوز فيه أن يراد الأمر القولي فيوافق قوله تعالى إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ [النحل: 40] ويراد به القول النافذ. إِذا أَرادَ شَيْئاً أي إيجاد شيء من الأشياء أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ أي أوجد فَيَكُونُ أي فهو يكون ويوجد، والظاهر أن هناك قولا لفظيا هو لفظ كن وإليه ذهب معظم السلف وشؤون الله تعالى وراء ما تصل إليه الأفهام فدع عنك الكلام والخصام، وقيل ليس هناك قول لفظي لئلا يلزم التسلسل، ويجوز أن يكون هناك قول نفسي وقوله للشيء تعلقه به، وفيه ما يأباه السلف غاية الإباء، وذهب غير واحد إلى أنه لا قول أصلا وإنما المراد تمثيل لتأثير قدرته تعالى في مراده بأمر الآمر المطاع للمأمور المطيع في سرعة حصول المأمور به من غير امتناع وتوقف على شيء. وقرأ ابن عامر والكسائي «فيكون» بالنصب عطفا على يَقُولَ وجوز كونه منصوبا في جواب الأمر، وأباه بعضهم لعدم كونه أمرا حقيقة، وفيه بحث فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ تنزيه له عز وجل مما وصفوه به تعالى وتعجيب عما قالوا في شأنه عز شأنه، والفاء جزائية أي إذا علم ذلك فسبحان أو سببية لأن ما قبل سبب لتنزيهه سبحانه، والملكوت مبالغة في الملك كالرحموت والرهبوت فهو الملك التام، وفي تعليق سبحان بما في حيزه إيماء إلى أن كونه تعالى مالكا للملك كله قادرا على كل شيء مقتض للتسبيح، وفسر الملكوت أيضا بعالم الأمر والغيب فتخصيصه بالذكر قيل لاختصاص التصرف فيه به تعالى من غير واسطة بخلاف عالم الشهادة. وقرأ طلحة والأعمش «ملكة» على وزن شجرة أي بيده ضبط كل شيء، وقرىء «مملكة» على وزن مفعلة وقرىء «ملك» وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ لا إلى غيره تعالى وهذا وعد للمقرين ووعيد للمنكرين فالخطاب عام للمؤمنين والمشركين، وقيل هو وعيد فقط على أن الخطاب للمشركين لا غير توبيخا لهم ولذا عدل عن مقتضى الظاهر وهو وإليه يرجع الأمر كله ففيه دلالة على أنهم استحقوا غضبا عظيما. وقرأ زيد بن علي «ترجعون» مبنيا للفاعل. هذا ما لخص من كلامهم في هذه الآيات الكريمة وفيها دلالة واضحة على المعاد الجسماني وإيماء إلى دفع بعض الشبه عنه، وهذه المسألة من مهمات مسائل الدين وحيث إن هذه السورة الكريمة قد تضمنت من أمره ماله كانت عند أجلة العلماء الصدور قلب القرآن لا بأس بأن يذكر في إتمام الكلام فيها ما للعلماء في تحقيق أمر ذلك فأقول طالبا من الله عز وجل التوفيق إلى القول المقبول: اعلم أولا أن المسلمين اختلفوا في أن الإنسان ما هو فقيل هو هذا الهيكل المحسوس مع أجزاء سارية فيه سريان ماء الورد والنار في الفحم وهي جسم لطيف نوراني مخالف بالحقيقة والماهية الجزء: 12 ¦ الصفحة: 55 للأجسام التي منها ائتلف هذا الهيكل وإن كان لسريانه فبه بشبهه صورة ولا نعلم حقيقة هذا الجسم وهو الروح المشار إليها بقوله تعالى: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء: 85] عند معظم السلف الصالح وبينه وبين البدن علاقة يعبر عنها بالروح الحيواني وهو بخار لطيف إذا فسد وخرج عن الصلاحية لأن يكون علاقة تخرج الروح عن البدن خروجا اضطراريا وتزول الحياة، وما دام باقيا على الوجه الذي يصلح به لأن يكون علاقة تبقي الروح والحياة، وهذا الجسم المعبر عنه بالروح على ما قال الإمام القرطبي في التذكرة مما له أول وليس له آخر بمعنى أنه لا يفنى وإن فارق البدن المحسوس، وذكر فيها أن من قال إنه يفنى فهو ملحد، وقيل هو هذا الهيكل المحسوس مع النفس الناطقة التي هي جوهر مجرد بل هو الإنسان حقيقة على ما صرح به بعضهم، وإلى إثبات هذا الجوهر ذهب الحليمي والغزالي والراغب وأبو زيد الدبوسي ومعمر من قدماء المعتزلة وجمهور متأخري الإمامية وكثير من الصوفية وهو الروح الأمرية وليست داخلة البدن ولا خارجة عنه فنسبتها إليه نسبة الله سبحانه وتعالى إلى العالم وهي بعد حدوثها الزماني عندهم لا تفنى أيضا. ورد هذا المذهب ابن القيم في كتاب الروح بما لا مزيد عليه، وكما اختلفوا في ذلك اختلفوا في أن البدن هل يتفرق بعد الموت فقط أم يتفرق وتعدم ذاته بكل قال بعض، ولعل من قال بالثاني استثنى عجب الذنب لصحة خبر استثنائه من البلى، وكل هؤلاء المختلفين اتفقوا على القول بالحشر الجسماني إلا أن منهم من قال بالحشر الجسماني فقط بمعنى أنه لا يحشر إلا جسم إذ ليس وراء الجسم عندهم جوهر مجرد يسمى بالنفس الناطقة، ومنهم من قال بالحشر الجسماني والحشر الروحاني معا بمعنى أنه يحشر الجسم متعلقا به أمر ليس بجسم هو النفس الناطقة وكل من أصحاب هذين القولين منهم من يقول بأن البدن إذا تفرق تجمع أجزاؤه يوم القيامة للحشر وتقوم فيها الروح أو تتعلق كما في الدنيا بل القيام أو التعلق هناك أتم إذ لا انقطاع له أصلا بعد تحققه فالحشر عند هؤلاء بجمع الأجزاء المتفرقة وعود قيام الروح أو تعلقها إليها، والمراد بالأجزاء الأجزاء الأصلية وهي أجزاء البدن حال نفخ الروح فيه في الدنيا لا الذرة التي أخذ عليها العهد يوم أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: 172] كما قيل: والله تعالى قادر على حفظها من التحلل والتبدل وكذا على حفظها من ان تكون أجزاء بدن آخر وإن تفرقت في أقطار الأرض واختلطت بالعناصر، وقيل: يجوز أن تكون الأجزاء الأصلية يقبضها الملك بإذن الله تعالى عند حضور الموت فلا يتعلق بها الأكل ولا تختلط بالتراب ولا يحصل منها نماء نبات أو حيوان وهو مجرد احتمال لا دليل عليه بل مخالف لقوله سبحانه: قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ فإنه ظاهر في أن المحشور أجزاء رميمة مخلوطة بالتراب، ويجوز أن تكون الأجزاء الأصلية هي الأجزاء الترابية التي ينثرها الملك في الرحم على المني كما ورد في الحديث الصحيح وهو لا ينثر ترابا واحدا مرتين ويحشر البدن بعد الجمع على أكمل حالاته كما يشير إليه قوله عليه الصلاة والسلام «يحشر الناس حفاة عراة غرلا» ثم يزاد في أجساد أهل الجنة فيكون أحدهم كآدم عليه السلام طولا وعرضا، وكذا يزاد في أجساد أهل النار خلافا للمعتزلة حتى أن سن أحدهم لتكون كجبل أحد، وجاء كل من الزيادتين في الحديث فالمقطوع أو المجذوع مثلا لا يحشر إلا كاملا كما كان قبل القطع أو الجذع ومن خلق في الدنيا بأربع أيد مثلا يحشر على ما هو المعتاد المعروف في بني نوعه وكذا من خلق بلا يد أو رجل مثلا، والقول بأنه يلزم تعذيب جسد لم يعص وترك تعذيب جسد عصى ناشىء عن غفلة عظيمة إذ المعذب إنما هو الروح وهو الذي عصى ولا يعقل العصيان والتعذيب لنفس الجسد وحرقه بالنار ليس تعذيبا له نفسه وإلا لكان حرق الخشب تعذيبا له بل هو وسيلة إلى تعذيب الروح وهذا كما لو جعل شخص في صندوق حديد مثلا ووضع في النار أو لف في ثوب وضرب بالسياط حتى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 56 تخرق الثوب فالروح بمنزلة هذا الشخص والجسد بمنزلة الصندوق أو الثوب، وعلى القول بأن لكل شيء حياة لائقة به لا يلزم التعذيب أيضا إذ ليس كل حي تؤلمه النار، واعتبر ذلك بالسمند وبالنعامة وكذا بخزنة جهنم وحياتها وعقاربها والعياذ بالله عز وجل. ومنهم من يقول: إن البدن يعدم لا أنه تتفرق أجزاؤه فقط ثم يعاد للحشر بعينه، ومنهم من يقول يعدم ثم يخلق يوم القيامة مثله فتقوم فيه الروح أو تتعلق به. واستدل للقول الأول بقوله تعالى: قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ فإنه ظاهر في أن العظام لا تعدم ذواتها في الخارج ولا يكاد يفهم من الرميم أكثر من تفرق الأجزاء وكأن المنكرين استبعدوا جمعها فأشير إلى دفع استبعادهم بأن الإنشاء أبعد وقد وقع ثم دفع ما عسى يتوهم من أن اختلاط الأجزاء بعد تفرقها وعودها إلى عناصرها يوجب عدم تميزها فلا يتيسر جمعها بقوله سبحانه: وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ثم أشير إلى دفع ما يتوهم من أن الإنشاء كان تدريجيا نقلت فيه الأجزاء من حالة إلى حالة حتى حصل استعدادها للحياة ومناسبتها للروح ولا كذلك ما يكون يوم القيامة فلا مناسبة بين الأجزاء التي تجمع وبين الروح والحياة فلا يلزم من صحة الإنشاء صحة الحشر بقوله تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً وحيث كان هذا معروفا بينهم يشاهده الكبير والصغير منهم أشار سبحانه إلى الدفع به وإلا فإنشاؤه تعالى لما يكون بالتولد من الحيوان كالفأر والذباب دافع لذلك. ومن الناس من زعم أن ما يكون قبيل الساعة من الزلازل وإنزال مطر كمني الرجال ونحو ذلك لتحصيل استعداد للروح في تلك الأجزاء، وهو مما لا يحتاج إلى التزامه، وكذا استدل لذلك القول بما أرشد إليه إبراهيم عليه السلام حين قال رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى [البقرة: 260] وبقوله تعالى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ [القيامة: 3، 4] إلى غير ذلك من الآيات وفي الأخبار ما يقتضيه أيضا، واستدل لدعوى أن البدن يعدم ذاتا في القول الثاني بقوله سبحانه: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] وقوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرحمن: 26] ورد بأنه يجوز أن يكون التفرق هلاكا بل قال بعض المحققين: إن معنى الآية كل شيء ليس بموجود في الحال في حد نفسه إلا ذات الواجب تعالى بناء على أن وجود الممكن مستفاد من الغير فلا وجود فيه مع قطع النظر عن الغير بخلاف وجود الواجب تعالى فإنه من ذاته سبحانه بل عين ذاته، ويقال نظير ذلك في الآية الثانية لو سلم دخول البدن في عموم من، واستدل لدعوى أنه يخلق يوم القيامة مثله في القول الثالث بقوله تعالى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وأجيب بأن المراد مثلهم في الصغر والقماة على ما سمعت فيما تقدم، ولا يراد أنه تعالى قادر على أن يخلق يوم القيامة مثل أبدانهم التي كانت في الدنيا ويعيد أرواحهم إليها إذ لا يكاد يفهم هذا من الآية ولا داعي لالتزام القول بأن الحشر بخلق مثل البدن السابق وإن قيل بأن ذلك البدن تعدم ذاته في الخارج. ومن الناس من توهم وجوب التزامه إن قيل بذلك لاستحالة إعادة المعدوم. واستدل على الاستحالة بأنه لو أعيد لزم تخلل العدم بين الشيء ونفسه وهو محال. ورد بناء على أن الوقت ليس من المشخصات المعتبرة في الوجود بأنا لا نسلم أن التخلل هاهنا محال لأن معناه أنه كان موجودا زمانا ثم زال عنه الوجود في زمان آخر ثم اتصف بالوجود في الزمان الثالث وهو في الحقيقة تخلل العدم وقطع الاتصال بين زماني الوجود ولا استحالة فيه لوجود الطرفين المتغايرين بالذات إنما المحال تخلل العدم بين ذات الشيء ونفسه بمعنى قطع الاتصال بين الشيء ونفسه بأن يكون الشيء موجودا ولم يكن نفسه موجودا ثم يجد نفسه وهاهنا ليس كذلك فإن الشيء وجد مع نفسه في الزمان الأول ثم اتصف مع نفسه بالعدم في الزمان الآخر الجزء: 12 ¦ الصفحة: 57 ثم اتصف بالوجود مع نفسه في الزمان الثالث فلم يتحقق قطع الاتصال بين الشيء ونفسه في زمان من الأزمنة وهل هذا إلا كلبس شخص ثوبا معينا ثم خلعه ثم لبسه. واستدل أيضا بأنه لو جاز إعادة المعدوم بعينه لجاز إعادته مع مثله من كل وجه واللازم باطل لأن المتماثلين إما أن يكون أحدهما معادا دون الآخر وذلك باطل مستلزم للتحكم والترجيح بلا مرجح. وإما أن يكونا معادين وهو أيضا باطل مستلزم لاتحاد الاثنين، وإما أن لا يكون شيء منهما معادا وهو أيضا باطل مستلزم خلاف المفروض إذ قد فرض كون أحدهما معادا، وفيه أنه لا يتم إلا بإثبات فقدان الذات وبطلان الهوية فيما بين الوجودين السابق واللاحق فإنه مدار لزوم التحكم، ويجوز أن يقال: الشيء إذا عدم في الخارج بقي في نفس الأمر بحسب وجوده الذهني فيحفظ وحدته الشخصية بحسب ذلك الوجود كما لو كان متميزا ثابتا في العدم ثبوتا منفكا عن الوجود الخارجي كما ذهب إليه المعتزلة وموافقوهم، وزعم أن وحدته الشخصية غير محفوظة في الذهن إذ لا وحدة بدون الوجود ولا وجود بدون التشخص سواء كان وجودا خارجيا أو ذهنيا، والهوية الذهنية إنما تكون موجودة في الذهن بمشخصاتها الذهنية وهي بتلك المشخصات ليست هوية خارجية وإلا لزم اتصاف الهوية الخارجية بالعوارض المختصة بالوجود الذهني وهو ضروري البطلان بل بشرط تجريدها عنها، وقولهم باتحادها معها بمعنى أنها بعد التجريد عينها فليست إياها مطلقا بالفعل يتجه عليه أنه ليس معنى تجريد الهوية عن مشخصاتها جعلها خالية عنها في الواقع بل معناه قطع النظر عنها وعدم اعتبارها ولا يلزم من عدم اعتبارها اعتبار عدمها فضلا عن عدمها في الواقع وقطع النظر لا يمنع من الاتحاد في الواقع، والقول بأن قولنا: هذا معاد وهذا مبدأ قضية شخصية خارجية يتوقف صدقها على وجود الموضوع في الخارج لا ذهنية يكفي في صدقها وجود الموضوع في الذهن فقط فلا بد من انحفاظ الوحدة في الخارج ولا يكفي انحفاظها في الذهن يتجه عليه أن صدق الحكم الذهني كاف في اندفاع التحكم فتدبر، وقيل: كما أن المعدوم موجود في الذهن كذلك المبتدأ المفروض موجود فيه أيضا فليست نسبة الموجود الثاني إلى المعدوم السابق أولى من نسبته إلى المبتدأ المفروض. وتعقب بأن فيه بحثا، أما على مذهب الفلاسفة فلأن صورة المعدوم السابق مرتسمة في القوى المنطبعة للأفلاك عندهم بناء على أن صور جميع الحوادث الجسمانية منطبعة فيها بزعمهم فله صورة خيالية جزئية محفوظة الوحدة الشخصية بعد عدمه بخلاف المستأنف فإنه ليس له تلك الصورة قبل وجوده بصورته الجزئية فإذا وجد بتلك الصورة الجزئية كان معادا وإذا وجد بالصورة الكلية فإن مستأنفا، وأما على مذهب الأشاعرة من المتكلمين فلأن للمعدوم أيضا صورة جزئية حاصلة بتعلق صفة البصر من الموجد تعالى شأنه وليس تلك الصورة للمستأنف وجوده فإنها وإن كانت جزئية حقيقية أيضا إلا أنها لم تترتب على تعلق صفة البصر، ولا شك أن المترتب على تعلق صفة البصر أكمل من غير المترتب عليه فبين الصورتين تمايز واضح، وإذا انحفظ وحدة الموجود الخارجي بالصورة الجزئية الخيالية لنا فانحفاظها بالصورة الجزئية الحاصلة له سبحانه بواسطة تعلق البصر بالطريق الأولى، والقول بأن نسبة الصورة الخيالية وما هو بمنزلتها إلى كل من المعاد والمستأنف سواء أيضا فتكون الوحدة المحفوظة نوعية لا شخصية يلزم عليه أن لا تكون الصورة الخيالية جزئية بل كلية وهو خلاف ما صرحوا. واستدل أيضا بأنه لو جاز إعادة المعدوم بعينه لما حصل القطع بحدوث شيء إذ يجوز أن يكون لكل ما نعتقده حادثا وجود سابق يعدم تارة ويعاد أخرى واللازم باطل باتفاق العقلاء. وتعقب بأن التجويز العقلي لا ينكر إلا أن الأصل عدم الوجود السابق وبه يحصل نوع من العلم، ولعل ذلك من قبيل علمنا بأن جبل أحد لا ينقلب ذهبا مع تجويز العقل انقلابه وبالجملة أدلة استحالة إعادة المعدوم غير سليمة من القوادح كما لا يخفى على من راجع المطولات من كتب الجزء: 12 ¦ الصفحة: 58 الكلام، وقد أشير فيما تقدم من الآيات إلى دفع شبهة عدم انحفاظ الوحدة الشخصية بقوله تعالى وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ والذي يترجح من هذه المذاهب أن الحشر يجمع الأجزاء الأصلية الباقية من أول العمر إلى آخره وهي إما أجزاء عنصرية أكثرها ترجع إلى التراب وتختلط به كما تختلط سائر الأجزاء بعناصره أو أجزاء ترابية فقط على ما سمعت فيما تقدم غير بعيد، وهذا هو الذي ينبغي أن يعول عليه إذ حديث العناصر الأربعة وتركب البدن منها لا سيما حديث عنصر النار لم يصح فيه شيء من الشارع صلّى الله عليه وسلم ولم يذكر في كتب السلف بل هو شيء ولع فيه الفلاسفة، على أن أصحاب الفلسفة الجديدة نسمعهم ينكرون كرة النار التي قال بها المتقدمون فالأجزاء الأصلية بعد أن تتفرق وتصير ترابا يجمعها الله تعالى حيث كانت وهو سبحانه بها عليم أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14] وهذا إن ضم إليه القول بإعادة الصورة التي هي جزء جوهري من الجسم عند القائلين بتركبه منها ومن الهيولى أو العوارض المختصة بالأنواع التي هي جزء من أفراد النوع كالصورة النوعية الجوهرية كما هو مذهب النافين لتركب الجسم من الهيولى والصورة من المتكلمين يتوقف القول به على جواز إعادة المعدوم وإذا لم يضم إليه ذلك بل اكتفى بالقول يجمع الأجزاء الأصلية العنصرية وتشكيلها بشكل مثل الشكل الأول وتحليتها بعوارض مشابهة للعوارض السابقة لم يتوقف القول به على ذلك أصلا والمغايرة في الشكل وعدم اتحاد العوارض بالذات مما لا يضر في كون المحشور هو المبدأ شرعا وعرفا، ولا يلزم على ذلك التناسخ المصطلح كما لا يخفى. وفي أبكار الأفكار للآمدي بعد التفصيل المشبع بذكر الآيات والأحاديث الدالة على وقوع المعاد الجسماني والأدلة السمعية في ذلك لا يحويها كتاب ولا يحصرها خطاب وكلها ظاهرة في الدلالة على حشر الأجساد ونشرها مع إمكان ذلك في نفسه فلا يجوز تركها من غير دليل لكن هل الإعادة للأجسام بإيجادها بعد عدمها أو بتأليف أجزائها بعد تفرقها فقد اختلف فيه، والحق إمكان كل واحد من الأمرين والسمع موجب لأحدهما من غير تعيين. وبتقدير أن تكون الإعادة للأجسام بتأليف أجزائها بعد تفرقها فهل تجب إعادة عين ما تقضى ومضى من التأليفات في الدنيا أو أن الله تعالى يجوز أن يؤلفها بتأليف آخر فذهب أبو هاشم إلى المنع من إعادتها بتأليف آخر مصيرا منه إلى أن جواهر الأشخاص متماثلة وإنما يتميز كل واحد من الأجزاء بتعيينه وتأليفه الخاص فإذا لم يعد ذلك التأليف الخاص به فذلك الشخص لا يكون هو العائد بل غيره وهو مخالف حينئذ لما ورد به السمع من حشر أجساد الناس على صورهم، ومذهب من عداه من أهل الحق أن كل واحد من الأمرين جائز عقلا ولا دليل على التعيين من سمع وغيره، وما قيل من أن تعين كل شخص إنما هو بخصوص تأليفه غير مسلم بل جاز أن يكون بلونه أو بعض آخر مع التأليف. ومذهب أبي هاشم أنه لا تجب إعادة غير التأليف من الأعراض فما هو جوابه عن غير التأليف فهو جواب لنا في التأليف وما ورد من حشر الناس على صورهم ليس فيه ما يدل على إعادة عين ما تقضى من التأليف ولا مانع أن يكون الإعادة بمثل ذلك التأليف لا عينه اه. وزعم الإمام إجماع المسلمين على المعاد بجمع الأجزائية بعد افتراقها وليس بذاك لما سمعت من الخلاف في كيفيته وهو مذكور في المواقف وغيره. ومسألة إعادة الأعراض أكثر خلافا من مسألة إعادة الجواهر فذهب معظم أهل الحق إلى جواز إعادتها مطلقا حتى أن منهم من جوز إعادتها في غير محالها. والمعتزلة اتفقوا على جواز إعادة ما كان منها على أصولهم باقيا غير متولد واختلفوا في جواز إعادة ما لا بقاء له كالحرارة والأصوات والإرادات فذهب الأكثرون منهم إلى المنع من إعادتها وجوزها الأقلون كالبلخي وغيره. وذهب إلى عدم جواز إعادة المعدوم مطلقا من المسلمين أبو الحسن البصري وبعض الكرامية. ومن الناس من خص المنع فيما عدم ذاتا ووجودا وجوز فيما عدم وجودا. وإلى القول بالمعاد الجسماني ذهب اليهود والنصارى على ما نص عليه الدواني لكن ذكر الإمام في الجزء: 12 ¦ الصفحة: 59 المحصل أن سائر الأنبياء سوى نبينا صلّى الله عليه وسلم لم يقولوا إلا بالمعاد الروحاني. وقال المحقق الطوسي في تلخيصه: أما الأنبياء المتقدمون على نبينا صلّى الله عليه وسلم فالظاهر من كلام أممهم أن موسى عليه السلام لم يذكر المعاد البدني ولا أنزل عليه في التوراة لكن جاء ذلك في كتب الأنبياء الذين جاؤوا بعده كحزقيل وشعيا عليهما السلام ولذا أقر اليهود به، وأما الإنجيل فالأظهر أن المذكور فيه المعاد الروحاني وهو مخالف لما سمعت عن الإمام، ويخالفهما ما قاله حجة الإسلام الغزالي في كتابه الموسوم بالمضنون به على غير أهله من أن في التوراة أن أهل الجنة يمكثون في النعيم خمسة عشر ألف سنة ثم يصيرون ملائكة وأن أهل النار يمكثون بها كذا وأزيد ثم يصيرون شياطين فإنه ظاهر في أن موسى عليه السلام ذكر المعاد الجسماني ونزل عليه في التوراة، والحق أن الأناجيل مملوءة مما يدل ظاهرا على أن الإنسان يحشر نفسا وجسما وأما التوراة فليس ما ذكر فيها على سبيل التصريح على ما نقل لي بعض المطلعين من مسلمي أهل الكتاب على ذلك وأنكره الفلاسفة الإلهيون وقالوا بالمعاد الروحاني فقط، وهذا الإنكار مبني إما على زعم استحالة إعادة المعدوم فيه ما فيه أو على استحالة عدم تناهي الأبعاد فإن منهم من قال: الإنسان قديم بالنوع والنفوس الناطقة غير متناهية كالأبدان فلو قيل بالحشر الجسماني يلزم اجتماع الأبدان الغير المتناهية في الوجود إذ لا بد لكل نفس من بدن مستقل فيلزم بعد غير متناه لتجتمع فيه تلك الأبدان الغير المتناهية. وقال بعضهم: إن الإنسان افراده غير متناهية والعناصر متناهية فأجزاؤها لا تفي بتلك الأبدان فكيف تحشر. وتعقب بأن القدم النوعي للإنسان وعدم التناهي لأفراده مما لا يتم لهم عليه برهان. وقال ابن الكمال: بناء استحالة الحشر الجسماني على استحالة عدم تناهي الأبعاد وهم سبق إليه وهم بعض أجلة الناظرين وليس الأمر كما توهم فإن حشر الأجساد اللازم على تقدير وقوع المعاد الجسماني هو حشر المكلفين من المطيع المستحق للثواب والعاصي المستحق للعقاب لا حشر جميع أفراد البشر مكلفا كان أو غيره فإنه ليس من ضروريات الدين لأن الأخبار فيه لم تصل إلى حد التواتر ولم ينعقد عليه الإجماع وقد نبه عليه المحقق الطوسي في التجريد حيث قال: والسمع دل عليه ويتأول في المكلف بالتفريق، وقال الشارح: يعني لا إشكال في غير المكلفين فإنه يجوز أن ينعدم بالكلية ولا يعاد وأما بالنسبة إلى المكلفين فإنه يتأول العدم بتفريق الأجزاء. وفي تلخيص المحصل أيضا حيث قال: وقال القائلون بإمكان إعادة المعدوم أن الله تعالى يعدم المكلفين ثم يعيدهم ونبه على ذلك أيضا الآمدي في أبكار الأفكار حيث قرر الخلاف في إعادة المكلف ولا خفاء في أن عدم تناهي جميع أفراد البشر لا يستلزم عدم تناهي المكلفين منهم ليحتاج أمر حشرهم إلى الأبعاد الغير المتناهية اه. والحق الطعن في قولهم بالقدم النوعي وعدم تناهي أفراد الإنسان وبرهان التطبيق متكفل عندنا بإبطال الغير المتناهي اجتمعت أجزاؤه في الوجود أم لم تجتمع ترتبت أم لم تترتب، وأما قصر الحشر على المكلفين دون غيرهم من المجانين والصغار والذين لم تبلغهم الدعوة ونحوهم فليس بشيء، والأخبار في ذلك كثيرة ولعلها من قبيل المتواتر المعنوي على أنها لو لم تكن كذلك لا داعي إلى عدم اعتبارها والقول بخلاف ما تدل عليه كما لا يخفى، وذهب القدماء من الفلاسفة الطبيعيين إلى عدم ثبوت شيء من الحشر الجسماني والحشر الروحاني، ويحكى ذلك عن التناسخية ما عدا اليهود والتناسخ عندهم غير مستمر بل يقع للنفس الواحدة ثلاث مرات على ما قيل. وحكي عن جالينوس التوقف في أمر الحشر فإنه قال: لم يتبين لي أن النفس هل هي المزاج الذي ينعدم عند الموت فيستحيل إعادتها أو هي جوهر باق بعد فساد البنية فيمكن المعاد، والمشركون في شك منه مريب لذا ترى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 60 كلامهم مضطربا فيه، والمسلمون مجمعون على وقوعه إلا أنهم مختلفون كما سمعت في كيفيته وكذا هم مختلفون في وجوبه سمعا أو عقلا، فأهل السنة على وجوبه سمعا مطلقا، والمعتزلة على أنه للمكلفين واجب عقلا لوجوب الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية عندهم وكل من الأمرين يتوقف على الحشر، وفيه نظر والله تعالى أعلم. وقد اشتملت هذه السورة الكريمة على تقرير مطالب علية وتضمنت أدلة جليلة جلية ألا ترى أنه تعالى أقسم على كونه صلّى الله عليه وسلم أكمل الرسل وأن طريقه أوضح السبل وأشار سبحانه إلى أن المقصود ما ذكر بقوله تعالى لِتُنْذِرَ إلخ ثم بينه إجمالا أنه اتباع الذكر وخشية الرحمن بالغيب وتممه بضرب المثل مدمجا فيه التحريض على التمسك بحبل الكتاب والمنزل عليه وتفضيلهما على الكتب والرسل والتنبيه عليه ثانيا بأنه عبادة من إليه الرجعى وحده ثم أخذ في بيان المقدمات بذكر الآيات وأوثر منها الواضحات الدالة على العلم والقدرة والحكمة والرحمة وضمن فيه أن العبادة شكر المنعم وتلقي النعمة بالصرف في رضاه والحذر من الركون إلى من سواه ثم في بيان المتمم بذكر الوعد والوعيد بما ينال في المعاد وأدرج فيه حديث من سلك ومن ترك وذكر غايتهما ولخص فيه أن الصراط المستقيم هو عبادة الله تعالى بالإخلاص عن شائبتي الهوى والرياء حيث قدم على الأمر بعبادته تعالى التجنب عن عبادة الشيطان وضمن فيه أن أساسها التوحيد وكما أنه ذكر الآيات لئلا يكون الكلام خطابيا في المقدمات ختم بالبرهان على الإعادة ليكون على منواله في المتممات وجعل سبحانه ختام الخاتمة أنه عز وجل لا يتعاظمه شيء ولا ينقص خزائنه عطاء وأنه لا يخرج عن ملكته من قربه قبول أو بعده إباء تحقيقا لكل ما سلف على الوجه الأتم، ولما كان كلاما صادرا عن مقام العظمة والجلال وجب أن يراعى فيه نكتة الالتفات في قوله تعالى وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ليكون إجمالا لتوضيح التفصيل كذا قرره صاحب الكشف والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل. «ومن باب الاشارة» قيل إن قوله سبحانه يس إشارة إلى سيادته عليه الصلاة والسلام على جميع المخلوقات فالسيد المتولي للسواد أي الجماعة الكثيرة وهي هاهنا جميع الخلق فكأنه قيل: يا سيد الخلق وتوليته عليه الصلاة والسلام عليهم لأنه الواسطة العظمى في الإفاضة والامداد وفي الخبر: الله تعالى المعطي وأنا القاسم فمنزلته صلّى الله عليه وسلم من العالم بأسره بمنزلة القلب من البدن فما ألطف افتتاح قلب القرآن بقلب الأكوان وفي السين بيناتها وزبرها أسرار لا تحصى وكذا في مجموع يس وَالْقُرْآنِ قد يكون إشارة إليه صلّى الله عليه وسلم فقد ذكر الصوفية أنه يشار به إلى الإنسان الكامل وكذا الكتاب المبين وعلى ذلك جاء قول الشيخ الأكبر قدس سره: أنا القرآن والسبع المثاني ... وروح الروح لا روح الأواني ولا أحد أكمل من النبي عليه الصلاة والسلام، وطبق بعضهم قصة أهل انطاكية على ما في الأنفس بجعل القرية إشارة إلى القلب وأصحابها إشارة إلى النفس وصفاتها والاثنين إشارة إلى الخاطر الرحماني والإلهام الرباني والثالث المعزز به إشارة إلى الجذبة والرجل الجائي من أقصى المدينة إشارة إلى الروح، وطبق كثيرا من آيات هذه السورة على هذا الطرز، وقيل: في قوله سبحانه طائِرُكُمْ مَعَكُمْ إنه إشارة إلى استعدادهم الشيء الذي طار بهم عنقاء مغربة: إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم وقيل: في أَصْحابَ الْجَنَّةِ في قوله تعالى: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ إنه إشارة إلى طائفة من المؤمنين كان الغالب عليهم في الدنيا طلب الجنة ولذا أضيفوا إليها وهم دون أهل الله تعالى وخاصته الذين لم يلتفتوا إلى شيء سواه عز وجل فأولئك مشغولون بلذائذ ما الجزء: 12 ¦ الصفحة: 61 طلبوه وهؤلاء جلساء الحضرة المشغولون بمولاهم جل شأنه المتنعمون بوصاله ومشاهدة جماله وفرق بين الحالين وشتان ما بين الفريقين، ولذا قيل: أكثر أهل الجنة البله فافهم الإشارة. والشيطان في قوله تعالى أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إشارة إلى كل ما يطاع ويذل له غير الله عز وجل كائنا ما كان وعداوته لما أنه سبب الحجاب عن رب الأرباب، وفي قوله تعالى فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إشارة إلى أنه لا ينبغي الاكتراث بأذى الأعداء والالتفات إليه فإن الله تعالى سيجازيهم عليه إذا أوقفهم بين يديه، هذا ونسأل الله تعالى أن يحفظنا من شر الأشرار وأن ينور قلوبنا بمعرفته كما نور قلوب عباده الأبرار ونصلي ونسلم على حبيبه قلب جسد الأعيان وعلى آله وصحبه ما دامت سورة يس قلب القرآن. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 62 سورة الصّافّات مكية ولم يحكوا في ذلك خلافا وهي مائة وإحدى وثمانون آية عند البصريين ومائة واثنتان وثمانون عند غيرهم، وفيها تفصيل أحوال القرون المشار إلى إهلاكها في قوله تعالى في السورة المتقدمة أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ [يس: 31] وفيها من تفصيل أحوال المؤمنين وأحوال أعدائهم الكافرين يوم القيامة ما هو كالإيضاح لما في تلك السورة من ذلك، وذكر فيها شيء مما يتعلق بالكواكب لم يذكر فيما تقدم، ولمجموع ما ذكر ذكرت بعدها. وفي البحر مناسبة أول هذه السورة لآخر سورة يس أنه تعالى لما ذكر المعاد وقدرته سبحانه على إحياء الموتى وأنه هو منشئهم وأنه إذا تعلقت إرادته بشيء كان ذكر عز وجل هنا وحدانيته سبحانه إذ لا يتم ما تعلقت به الإرادة إيجادا وإعداما إلا بكون المريد واحدا كما يشير إليه قوله تعالى لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالصَّافَّاتِ صَفًّا إقسام من الله تعالى بالملائكة عليهم السلام كما روي عن ابن عباس وابن مسعود ومسروق ومجاهد وعكرمة وقتادة والسدي، وأبي أبو مسلم ذلك وقال: لا يجوز حمل هذا اللفظ وكذا ما بعد على الملائكة لأن اللفظ مشعر بالتأنيث والملائكة مبرؤون عن هذه الصفة، وفيه أن هذا في معنى جمع الجمع فهو جمع صافة أي طائفة أو جماعة صافة، ويجوز أن يكون تأنيث المفرد باعتبار أنه ذات ونفس والتأنيث المعنوي هو الذي لا يحسن أن يطلق عليهم وأما اللفظي فلا مانع منه كيف وهم المسمون بالملائكة، والوصف الجزء: 12 ¦ الصفحة: 63 المذكور منزل منزلة اللازم على أن المراد إيقاع نفس الفعل من غير قصد إلى المفعول أي الفاعلات للصفوف أو المفعول محذوف أي الصافات أنفسها أي الناظمات لها في سلك الصفوف بقيامها في مقاماتها المعلومة حسبما ينطق به قوله تعالى وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات: 164] وذلك باعتبار تقدم الرتبة والقرب من حظيرة القدس أو الصافات أنفسها القائمات صفوفا للعبادة، وقيل: الصافات أقدامها للصلاة، وقيل: الصافات أجنحتها في الهواء منتظرات أمر الله تعالى، وقيل: المراد بالصافات الطير من قوله تعالى وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ [النور: 41] ولا يعول على ذلك، وصَفًّا مصدر مؤكد وكذا زَجْراً في قوله تعالى فَالزَّاجِراتِ زَجْراً وقيل: صفا مفعول به وهو مفرد أريد به الجمع أي الصافات صفوفها وليس بذاك، والمراد بالزاجرات الملائكة عليهم السلام أيضا عند الجمهور، والزجر في الأصل الدفع عن الشيء بتسلط وصياح وأنشدوا: زجر أبي عروة السباع إذا ... أشفق أن يختلطن بالغنم ويستعمل بمعنى السوق والحث وبمعنى المنع، والنهي وإن لم يكن صياح والوصف منزل منزلة اللازم أو مفعوله محذوف أي الفاعلات للزجر أو الزاجرات ما نيط بها زجره من الأجرام العلوية والسفلية وغيرها على وجه يليق بالمزجور، ومن جملة ذلك زجر العباد عن المعاصي بإلهام الخير وزجر الشياطين عن الوسوسة والإغواء وعن استراق السمع كما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى، وعن قتادة المراد بالزاجرات آيات القرآن لتضمنها النواهي الشرعية، وقيل كل ما زجر عن معاصي الله عز وجل، والمعول عليه ما تقدم، وكذا المراد كما روي عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما في قوله تعالى: فَالتَّالِياتِ ذِكْراً الملائكة عليهم السلام. وذِكْراً نصب على أنه مفعول وتنوينه للتفخيم، وهو بمعنى المذكور المتلو وفسر بكتاب الله عز وجل. قال أبو صالح: هم الملائكة يجيئون بالكتاب والقرآن من عند الله عز وجل إلى الناس فالمراد بتلاوته تلاوته على الغير، وفسره بعضهم بالآيات والمعارف الإلهية والملائكة يتلونهما على الأنبياء والأولياء، وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الاشارة ما يتعلق بتلاوة الملائكة ذلك على الأولياء قدس الله تعالى أسرارهم، وقال بعض: أي فالتاليات آيات الله تعالى وكتبه المنزلة على الأنبياء عليهم السلام وغيرها من التسبيح والتقديس والتحميد والتمجيد، ولعل التلاوة على هذا أعم من التلاوة على الغير وغيرها، وقيل ذِكْراً نصب على أنه مصدر مؤكد على غير اللفظ لتكون المنصوبات على نسق واحد، وقال قتادة: التاليات ذكرا بنو آدم يتلون كتابه تعالى المنزل وتسبيحه وتكبيره، وجوز أن يكون الله تعالى أقسم بنفوس العلماء العمال الصافات أنفسها في صفوف الجماعات أو أقدامها في الصلوات الزاجرات بالمواعظ والنصائح التاليات آيات الله تعالى الدارسات شرائعه وأحكامه أو بطوائف قواد الغزاة في سبيل الله تعالى التي تصف الصفوف في مواطن الحروب الزاجرات الخيل للجهاد سوقا أو العدو في المعارك طردا التاليات آيات الله سبحانه وذكره وتسبيحه في تضاعيف ذلك. وجوز أيضا أن يكون أقسم سبحانه بطوائف الأجرام الفلكية المرتبة كالصفوف المرصوصة بعضها فوق بعض والنفوس المدبرة لتلك الأجرام بالتحريك ونحوه والجواهر القدسية المستغرقة في بحار القدس يسبحون الليل والنهار لا يفترون وهم الملائكة الكروبيون ونحوهم وهذا بعيد بمراحل عن مذهب السلف الصالح بل عن مذهب أهل السنة مطلقا كما لا يخفى، والفاء العاطفة للصفات قد تكون لترتيب معانيها الوصفية في الوجود الخارجي إذا كانت الذات المتصفة بها واحدة كما في قوله: يا لهف زيابة للحادث الس ... ابح فالغانم فالآيب الجزء: 12 ¦ الصفحة: 64 أي الذي صبح فغنم فآب ورجع أو لترتيب معانيها في الرتبة إذا كانت الذات واحدة أيضا كما في قولك: أتم العقل فيك إذا كنت شابا فكهلا أو لترتيب الموصوفات بها في الوجود كما في قولك: وقفت كذا على بني بطنا فبطنا أو في الرتبة نحو رحم الله تعالى المحلقين فالمقصرين، وكلاهما مع تعدد الموصوف والترتيب الرتبي إما باعتبار الترقي أو باعتبار التدلي، وهي إذا كانت الذات المتصفة بالصفات هنا واحدة وهم الملائكة عليهم السلام بأسرهم تحتمل أن تكون للترتيب الرتبي باعتبار الترقي فالصف في الرتبة الأولى لأنه عمل قاصر والزجر أعلى منه لما فيه من نفع الغير والتلاوة أعلى وأعلى لما فيها من نفع الخاصة الساري إلى نفع العامة بما فيه صلاح المعاش والمعاد أو للترتيب الخارجي من حيث وجود ذوات الصفات فالصف يوجد أولا لأنه كمال للملائكة في نفسها ثم يوجد بعده الزجر للغير لأنه تكميل للغير يستعد به الشخص ما لم يكمل في نفسه لا يتأهل لأن يكمل غيره ثم توجد التلاوة بناء على أنها إفاضة على الغير المستعد لها وذا لا يتحقق إلا بعد حصول الاستعداد الذي هو من آثار الزجر، وإذا كانت الذات المتصفة بها من الملائكة عليهم السلام متعددة بمعنى أن صنفا منهم كذا وصنفا آخر كذا فالظاهر أنها للترتيب الرتبي باعتبار الترقي كما في الشق الأول فالجماعات الصافات كاملون والزاجرات أكمل منها والتاليات أكمل وأكمل كما يعلم مما سبق، وقيل يجوز أن يكون بعكس ذلك بأن يراد بالصافات جماعات من الملائكة صافات من حول العرش قائمات في مقام العبودية وهم الكروبيون المقربون أو ملائكة آخرون يقال لهم كما ذكر الشيخ الأكبر قدس الله سره المهيمون مستغرقون بحبه تعالى لا يدري أحدهم أن الله عز وجل خلق غيره وذكر أنهم لم يؤمروا بالسجود لآدم عليه السلام لعدم شعورهم باستغراقهم به تعالى وأنهم المعنيون بالعالين في قوله تعالى: أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ [ص: 75] وبالزاجرات جماعات أخر أمرت بتسخير العلويات والسفليات وتدبيرها لما خلقت له وهي في الفضل على ما لها من النفع للعباد دون الصافات وبالتاليات ذكرا جماعات أخر أمرت بتلاوة المعارف على خواص الخلق وهي لخصوص نفعها دون الزاجرات أو المراد بالزاجرات الزاجرات الناس عن القبيح بإلهام جهة قبحه وما ينفر عن ارتكابه وبالتاليات ذكرا المهمات للخير والجهات المرغبة فيه، ولكون دفع الضر أولى من جلب الخير ودرأ المفاسد أهم من جلب المصالح ولذا قيل التخلية بالخاء مقدمة على التحلية كانت التاليات دون الزاجرات، وحال الفاء على سائر الأقوال السابقة في الصفات لا يخفى على من له أدنى تأمل ويجوز عندي والله تعالى أعلم أن يراد بالصافات المصطفون للعبادة من صلاة ومحاربة كفرة مثلا ملائكة كانوا أم أناسي أم غيرهما وبالزاجرات الزاجرون عن ارتكاب المعاصي بأقوالهم أو أفعالهم كائنين من كانوا وبالتاليات ذكرا التالون لآيات الله تعالى على الغير للتعليم أو نحوه كذلك، ولا عناد بين هذه الصفات فتجتمع في بعض الأشخاص، ولعل الترتيب على سبيل الترقي باعتبار نفس الصفات فالاصطفاف للعبادة كمال والزجر عن ارتكاب المعاصي أكمل والتلاوة لآيات الله تعالى للتعليم لتضمنه الأمر بالطاعات والنهي عن المعاصي والتخلي عن الرذائل والتحلي بالمعارف إلى أمور أخر أكمل وأكمل وجعل الصفات المذكورة لموصوف واحد من الملائكة على ما مر بأن تكون جماعات منهم صافات بمعنى صافات أنفسها في سلك الصفوف بالقيام في مقاماتها المعلومة أو القائمات صفوفا للعبادة وتاليات ذكرا بمعنى تاليات الآيات بطريق الوحي على الأنبياء عليهم السلام لا يخلو عن بعد فيما أرى على أن تعدد الملائكة التالين للوحي سواء كان صنفا مستقلا أم لا مما يشكل عليه ما ذكره غير واحد أن الأمين على الوحي التالي للذكر على الأنبياء هو جبريل عليه السلام لا غير، نعم من الآيات ما ينزل مشيعا بجمع من الملائكة عليهم السلام ونطق الكتاب الكريم بالرصد عند إبلاغ الوحي وهذا أمر والتلاوة على الأنبياء عليهم السلام أمر آخر فتأمل جميع ذلك، وفي المراد بالصفات المتناسقة احتمالات غير ما ذكر فلا تغفل. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 65 وأيا ما كان فالقسم بتلك الجماعات أنفسها ولا حجر على الله عز وجل فله سبحانه أن يقسم بما شاء فلا حاجة إلى القول بأن الكلام على حذف مضاف أي ورب الصافات مثلا، والآية ظاهرة الدلالة على مذهب سيبويه والخليل في مثل وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى [الليل: 1، 2] من أن الواو الثانية وما بعدها للعطف خلافا لمذهب غيرهما من أنها للقسم لوقوع الفاء فيها موقع الواو إلا أنها تفيد الترتيب. وأدغم ابن مسعود ومسروق والأعمش وأبو عمرو وحمزة التاءات الثلاث فيما يليها للتقارب فإنها من طرف اللسان وأصول الثنايا. إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ جواب للقسم وقد جرت عادتهم على تأكيد ما يهتم به بتقديم القسم ولذا قدم هاهنا فلا يقال: إنه كلام مع منكر مكذب فلا فائدة في القسم، وما قيل من أن وحدة الصانع قد ثبتت بالدليل النقلي بعد ثبوتها بالعقل ففائدته ظاهرة هنا غير تام لأن الكلام مع من لا يعترف بالتوحيد، وقد أشير إلى البرهان في قوله سبحانه رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ فإن وجودها على هذا النمط البديع أوضح دليل على وحدته عز وجل بل في كل ذرة من ذرات العالم دليل على ذلك: وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد، ورب خبر ثان لأن على مذهب من يجوز تعدد الأخبار أو خبر مبتدأ محذوف أو هو رب السماوات إلخ. وجوز أبو البقاء وغيره كونه بدلا من «واحد» فهو المقصود بالنسبة أي خالق السماوات والأرض وما بينهما من الموجودات ويدخل في عموم الموصول أفعال العباد فتدل الآية على أنها مخلوقة له تعالى ولا ينافي ذلك كون قدرة العبد مؤثرة بإذنه عز وجل كما ذهب إليه معظم السلف حتى الأشعري نفسه في آخر الأمر على ما صرح به بعض الأجلة، وفسر بعضهم الرب هنا بالملك وبالمربي، ولعل الأول أظهر. وفي دلالة الآية على كون أفعال العباد مخلوقة له على ذلك بحث، والمراد بالمشارق عند جمع مشارق الشمس لأنها المعروفة الشائعة فيما بينهم وهي بعدد أيام السنة فإنها في كل يوم تشرق من مشرق وتغرب من مغرب فالمغارب متعددة تعدد المشارق، وكأن الاكتفاء بها لاستلزامها ذلك مع أن الشروق أدل على القدرة وأبلغ في النعمة. ولهذا استدل به إبراهيم عليه السلام عند محاجة النمروذ، وعن ابن عطية أن مشارق الشمس مائة وثمانون، ووفق بعضهم بين هذا وما يقتضيه ما تقدم من مضاعفة العدد بأن مشارقها من رأس السرطان وهو أول بروج الصيف إلى رأس الجدي وهو أول بروج الشتاء متحدة معها من رأس الجدي إلى رأس السرطان فإن اعتبر ما كانت عليه وما عادت إليه واحدا كانت مائة وثمانين وإن نظر إلى تغايرهما كانت ثلاثمائة وستين، وفي هذا إسقاط الكسر فإن السنة الشمسية تزيد على ذلك العدد بنحو ستة أيام على ما بين في موضعه، وفسرت المشارق أيضا بمشارق الكواكب، ورجح بأنه المناسب لقوله تعالى بعد إِنَّا زَيَّنَّا إلخ، وهي للسيارات منها متفاوتة في العدد، وأكثرها مشارق على ما هو المعروف عند المتقدمين زحل ومشارقة إلى أن يتم دورته أكثر من مشارق الشمس إلى أن تتم دورتها بألوف، ومشارق الثوابت إلى أن تتم الدورة أكثر وأكثر فلا تغفل وتبصر، وتثنية المشرق والمغرب في قوله تعالى رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [الرحمن: 17] على إرادة مشرق الصيف ومشرق الشتاء ومغربيهما، وإعادة رَبُّ هنا مع المشارق لغاية ظهور آثار الربوبية فيها وتجددها كل يوم إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا أي أقرب السماوات من أهل الأرض فالدنيا هنا مؤنث أدنى بمعنى أقرب أفعل تفضيل بِزِينَةٍ عجيبة بديعة الْكَواكِبِ بالجر بدل من «زينة» بدل كل على أن المراد بها الاسم أي ما يزان به لا المصدر فإن الكواكب بأنفسها وأوضاع بعضها من بعض زينة وأي زينة: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 66 فكأن أجرام النجوم لوامعا ... درر نثرن على بساط أزرق وجوز أن تكون عطف بيان. وقرأ الأكثرون بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ بالإضافة على أنها بيانية لما أن الزينة مبهمة صادقة على كل ما يزان به فتقع الكواكب بيانا لها، ويجوز أن تكون لامية على أن الزينة للكواكب أضواؤها أو أوضاعها، وتفسيرها بالأضواء منقول عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وجوز أن يكون الزينة مصدرا كالنسبة وإضافتها من إضافة المصدر إلى مفعوله أي زينا السماء الدنيا بتزييننا الكواكب فيها أو من إضافة المصدر إلى فاعله أي زيناها بأن زينتها الكواكب. وقرأ ابن وثاب ومسروق بخلاف عنهما والأعمش وطلحة وأبو بكر «بزينة» منونا «الكواكب» نصبا فاحتمل أن يكون زينة مصدرا والكواكب مفعول به كقوله تعالى أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً وليس هذا من المصدر المحدود كالضربة حتى يقال لا يصح أعماله كما نص عليه ابن مالك لأنه وضع مع التاء كالكتابة والإصابة وليس كل تاء في المصدر للوحدة، وأيضا ليست هذه الصيغة صيغة الوحدة، واحتمل أن يكون الْكَواكِبِ بدلا من السَّماءَ بدل اشتمال واشتراط الضمير معه للمبدل منه إذا لم يظهر اتصال أحدهما بالآخر ما قرروه في قوله تعالى قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ [البروج: 4] . وقيل: اللام بدل منه، وجوز كونه بدلا من محل الجار والمجرور أو المجرور وحده على القولين، وكونه منصوبا بتقدير أعني. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «بزينة» منونا «الكواكب» رفعا على أنها خبر مبتدأ محذوف أي هي الكواكب أو فاعل المصدر ورفعه الفاعل قد أجازه البصريون على قلة، وزعم الفراء أنه ليس بمسموع. وظاهر الآية أن الكواكب في السماء الدنيا ولا مانع من ذلك وإن اختلفت حركاتها وتفاوتت سرعة وبطأ لجواز أن تكون في أفلاكها وأفلاكها في السماء الدنيا وهي ساكنة ولها من الثخن ما يمكن معه نضد تلك الأفلاك المتحركة بالحركات المتفاوتة وارتفاع بعضها فوق بعض. وحكى النيسابوري في تفسير سورة التكوير عن الكلبي أن الكواكب في قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور وتلك السلاسل بأيدي الملائكة عليهم السلام، وهو مما يكذبه الظاهر ولا أراه إلا حديث خرافة. وأما ما ذهب إليه جل الفلاسفة من أن القمر وحده في السماء الدنيا وعطارد في السماء الثانية والزهرة في الثالثة والشمس في الرابعة والمريخ في الخامسة والمشتري في السادسة وزحل في السابعة والثوابت في فلك فوق السابعة هو الكرسي بلسان الشرع فمما لا يقوم عليه برهان يفيد اليقين، وعلى فرض صحته لا يقدح في الآية لأنه يكفي لصحة كون السماء الدنيا مزينة بالكواكب كونها كذلك في رأي العين وَحِفْظاً نصب على أنه مفعول مطلق لفعل معطوف على زَيَّنَّا أي وحفظناها حفظا أو عطف على «زينة» باعتبار المعنى فإنه معنى مفعول له كأنه قيل: إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظا لها، والعطف على المعنى كثير وهو غير العطف على الموضوع وغير عطف التوهم وجوز كونه مفعولا له بزيادة الواو أو على تأخير العامل أي ولحفظها زيناها. وقوله تعالى: مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ متعلق بحفظنا المحذوف أو بحفظا، والمارد كالمريد المتعري عن الخيرات من قولهم شجر أمرد إذا تعرى من الورق، ومنه قيل رملة مرداء إذا لم تنبت شيئا، ومنه الأمرد لتجرده عن الشعر، وفسر هنا أيضا بالخارج عن الطاعة وهو في معنى التعري عنها، وقوله تعالى: لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى أي لا يتسمعون وهذا أصله فأدغمت التاء في السين، وضمير الجمع لكل شيطان لأنه بمعنى الشياطين. وقرأ الجمهور «لا يسمعون» بالتخفيف، والملأ في الأصل جماعة يجتمعون على رأي فيملؤون العيون رواء والنفوس جلالة وبهاء، ويطلق على مطلق الجماعة وعلى الأشراف مطلقا، والمراد بالملأ الأعلى الملائكة عليهم السلام كما روي عن السدي لأنهم في جهة العلو ويقابله الملأ الأسفل وهم الإنس والجن لأنهم في جهة السفل. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 67 وقال ابن عباس: هم أشراف الملائكة عليهم السلام، وفي رواية أخرى عنه أنهم كتابهم، وفسر العلو على الروايتين بالعلو المعنوي. وتعدية الفعل على قراءة الجمهور بإلى لتضمينه معنى الإصغاء أي لا يسمعون مصغين إلى الملأ الأعلى، والمراد نفي سماعهم مع كونهم مصغين، وفيه دلالة على مانع عظيم ودهشة تذهلهم عن الإدراك، وكذا على القراءة الأخرى وهي قراءة ابن عباس بخلاف عنه. وابن وثاب وعبد الله بن مسلم وطلحة والأعمش وحمزة والكسائي وحفص بناء على ما هو الظاهر من أن التفعل لا يخالف ثلاثيه في التعدية، واستعمال تسمع مع إلى لا يقتضي كونه غير مضمن، وقيل لا يحتاج إلى اعتبار التضمين عليها والتفعل مؤذن بالطلب فتسمع بمعنى طلب السماع، قيل: ويشعر ذلك بالإصغاء لأن طلب السماع يكون بالإصغاء فتتوافق القراءتان وإن لم يقل بالتضمين في قراءة التشديد، ولعل الأولى القول بالتضمين ونفي طلبهم السماع مع وقوعه منهم حتى قيل: إنه يركب بعضهم بعضا لذلك إما ادعائي للمبالغة في نفي سماعهم أو هو على ما قيل بعد وصولهم إلى محل الخطر لخوفهم من الرجم حتى يدهشوا عن طلب السماع، وقال أبو حيان: إن نفي التسمع لانتفاء ثمرته وهو السمع. وقال ابن كمال: عدي الفعل في القراءتين بإلى لتضمنه معنى الانتهاء أي لا ينتهون بالسمع أو التسمع إلى الملأ إلا على وليس بذاك كما لا يخفى على المتأمل الصادق، والجملة في المشهور مستأنفة استئنافا نحويا ولم يجوز كونها صفة لشيطان قالوا إذ لا معنى للحفظ من شياطين لا تسمع أو لا تسمع مع إيهامه لعدم الحفظ عمن عداها. وكذا لم يجوز كونها استئنافا بيانيا واقعا جواب سؤال مقدر إذ المتبادر أن يؤخذ السؤال من فحوى ما قبله فتقديره حينئذ لم تحفظ فيعود محذور الوصفية، وكذا كونها حالا مقدرة لأن الحال كذلك يقدرها صاحبها والشياطين لا يقدرون عدم السماع أو عدم التسمع ولا يريدونه، وجوز ابن المنير كونها صفة والمراد حفظ السماوات ممن لا يسمع أولا يسمع بسبب هذا الحفظ، وهو نظير ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا [المؤمنون: 44] ، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ [إبراهيم: 33، النحل: 12] ، وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ [الأعراف: 54] ومن هنا لم يجعل بعض الأجلة قوله عليه الصلاة والسلام «من قتل قتيلا فله سلبه» من مجاز الأول. وتعقب بأن ذلك خلاف المتبادر ولا يكاد يفهم من أضرب الرجل المضروب كونه مضروبا بهذا الضرب المأمور به لا بضرب آخر قبله، وكذا جوز صاحب الكشف كونها صفة وكونها مستأنفة استئنافا بيانيا أيضا ودفع المحذور وأبعد في ذلك المغزى كعادته في سائر تحقيقاته فقال: المعنى لا يمكنون من السماع مع الإصغاء أو لا يمكنون من التسمع مبالغة في نفي السماع كأنهم مع مبالغتهم في الطلب لا يمكنهم ذلك، ولا بد من ذلك جعلت الجملة وصفا أولا جمعا بين القراءتين وتوفية لحق الإصغاء المدلول عليه بإلى وحينئذ يكون الوصف شديد الطباق ورد الاستئناف البياني وارد على تقدير السؤال لم تحفظ؟ (1) وليس كذلك بل السؤال عما يكون عند الحفظ وعن كيفيته لأن قوله تعالى وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ مما يحرك الذهن له فقيل لا يَسَّمَّعُونَ جوابا عما يكون عنده ويُقْذَفُونَ لكيفية الحفظ، وهذا أولى من جعلها مبدأ اقتصاص مستطرد لئلا ينقطع ما ليس بمنقطع معنى انتهى. واستدقه الخفاجي واستحسنه وذكر أن حاصله أنه ليس المنفي هنا السماع المطلق حتى يلزم ما ظنوه من فساد المعنى لأنه لما تعدى بإلى وتضمن معنى الإصغاء صار المعنى حفظناها من شياطين لا تنصت لما فيها إنصاتا تاما تضبط به ما تقوله الملائكة عليهم السلام، ومآله حفظناها من شياطين مسترقة للسمع، وقوله سبحانه: إِلَّا مَنْ   (1) هكذا الأصل فليحرر. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 68 خَطِفَ إلخ ينادي على صحته، والمناقشة بحديث الأوصاف قبل العلم بها أخبار إن جاءت لا تتم فالحديث غير مطرد، وقيل: إن الأصل لأن لا يسمعوا على أن الجار متعلق بحفظا فحذفت اللام كما في جئتك أن تكرمني ثم حذفت أن ورفع الفعل كما في قوله: ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي وفيه أن حذف اللام وحذف أن ورفع الفعل وإن كان كل منهما واقعا في الفصيح إلا أن اجتماع الحذفين منكر يصان كلام الله تعالى عنه. وأبو البقاء يجوز كون الجملة صفة وكونها استئنافا وكونها حالا فلا تغفل. وَيُقْذَفُونَ أي يرمون ويرجمون مِنْ كُلِّ جانِبٍ من جوانب السماء إذا قصدوا الصعود إليها، وليس المراد أن كل واحد يرمى من كل جانب بل هو على التوزيع أي كل من صعد من جانب رمي منه. وقرأ محبوب عن أبي عمرو «يقذفون» بالبناء للفاعل ولعل الفاعل الملائكة، وجوز أن يكون الكواكب، وأمر ضمير العقلاء سهل، وقوله تعالى دُحُوراً مفعول له وعلة للقذف أي للدحور وهو الطرد والإبعاد أو مفعول مطلق ليقذفون كقعدت جلوسا لتنزيل المتلازمين منزلة المتحدين فيقام دحورا مقام قذفا أو يُقْذَفُونَ مقام يدحرون، وعلى التقديرين هو مصدر مؤكد أو حال من ضمير يُقْذَفُونَ على أنه مصدر باسم المفعول على القراءة الشائعة وهو في معنى الجمع لشموله للكثير أي مدحورين، وجوز كونه جمع داحر بمعنى مدحور كقاعد وقعود، وكونه جمع داحر من غير تأويل بناء على القراءة الأخرى، وجوز أن يكون منصوبا بنزع الخافض وهو الباء على أنه جمع دحر كدهر ودهور وهو ما يدحر به أي يقذفون بدحور. وقرأ السلمي وابن أبي عبلة والطبراني عن أبي جعفر «دحورا» بفتح الدال فاحتمل كونه نصبا بنزع الخافض أيضا وهو على هذه القراءة أظهر لأن فعولا بالفتح بمعنى ما يفعل به كثير كطهور وغسول لما يتطهر ويغسل به، واحتمل أن يكون صفة كصبور لموصوف مقدر أي قذفا دحورا طاردا لهم، وأن يكون مصدرا كالقبول وفعول في المصادر نادر ولم يأت في كتب التصريف منه إلا خمسة أحرف الوضوء والطهور والولوع والوقود والقبول كما حكي عن سيبويه وزيد عليه الوزوع بالزاي المعجمة والهوى بفتح الهاء بمعنى السقوط والرسول بمعنى الرسالة. وَلَهُمْ أي في الآخرة عَذابٌ آخر غير ما في الدنيا من عذاب الرجم بالشهب واصِبٌ أي دائم كما قال قتادة وعكرمة وابن عباس وأنشدوا لأبي الأسود: لا أشتري الحمد القليل بقاؤه ... يوما بذم الدهر أجمع واصبا وفسره بعضهم بالشديد، قيل والأول حقيقة معناه وهذا تفسير له بلازمه. والآية على ما سمعت كقوله تعالى: وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ [الملك: 5] وجوز أبو حيان أن يكون هذا العذاب في الدنيا وهو رجمهم دائما وعدم بلوغهم ما يقصدون من استراق السمع إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ استثناء متصل من واو يَسَّمَّعُونَ ومَنْ بدل منه على ما ذكره الزمخشري ومتابعوه، وقال ابن مالك: إذا فصل بين المستثنى والمستثنى منه فالمختار النصب لأن الإبدال للتشاكل وقد فات بالتراخي، وذكره في البحر هنا وجها ثانيا، وقيل: هو منقطع على أن مَنْ شرطية جوابها الجملة المقرونة بالفاء بعد وليس بذاك، والخطف الاختلاس والأخذ بخفة وسرعة على غفلة المأخوذ منه، والمراد اختلاس كلام الملائكة مسارقة كما يعرف عنه تعريف الخطفة بلام العهد لأن المراد بها أمر معين معهود فهي نصب على المصدرية، وجوز أن تكون مفعولا به على إرادة الكلمة. وقرأ الحسن وقتادة «خطّف» بكسر الخاء والطاء مشددة، قال أبو حاتم: ويقال هي لغة بكر بن وائل وتميم بن مر والأصل اختطف فسكنت التاء للإدغام وقبلها خاء ساكنة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 69 فالتقى ساكنان فحركت الخاء بالكسر على الأصل وكسرت الطاء للاتباع وحذفت ألف الوصل للاستغناء عنها. وقرىء «خطّف» بفتح الخاء وكسر الطاء مشددة ونسبها ابن خالويه إلى الحسن وقتادة وعيسى، واستشكلت بأن فتح الخاء سديد لإلقاء حركة التاء عليها، وأما كسر الطاء فلا وجه له، وقيل في توجيهها: إنهم نقلوا حركة الطاء إلى الخاء وحذفت ألف الوصل ثم قلبوا التاء وأدغموا وحركوا الطاء بالكسر على أصل التقاء الساكنين وهو كما ترى، وعن ابن عباس «خطف» بكسر الخاء والطاء مخففة أتبع على ما في البحر حركة الخاء لحركة الطاء كما قالوا نعم فَأَتْبَعَهُ أي تبعه ولحقه على أن أتبع من الأفعال بمعنى تبع الثلاثي فيتعدى لواحد شِهابٌ هو في الأصل الشعلة الساطعة من النار الموقدة، والمراد به العارض المعروف في الجو الذي يرى كأنه كوكب منقض من السماء ثاقِبٌ مضيء كما قال الحسن وقتادة كأنه ثقب الجو بضوئه، وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن يزيد الرقاشي أنه قال: يثقب الشيطان حتى يخرج من الجانب الآخر فذكر ذلك لأبي مجلز فقال: ليس ذاك ولكن ثقوبه ضوءه، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد «الثاقب» المتوقد وهو قريب مما تقدم. وأخرج عن السدي «الثاقب» المحرق، وليست الشهب نفس الكواكب التي زينت بها السماء فإنها لا تنقض وإلا لا نتقصت زينة السماء بل لم تبق، على أن المنقض إن كان نفس الكواكب بمعنى أنه ينقلع عن مركزه ويرمي به الخاطف فيرى لسرعة الحركة كرمح من نار لزم أن يقع على الأرض وهو إن لم يكن أعظم منها فلا أقل من أن ما انقض من الكواكب من حين حدث الرمي إلى اليوم أعظم منها بكثير فيلزم أن تكون الأرض اليوم مغشية بإجرام الكواكب والمشاهدة تكذب ذلك بل لم نسمع بوقوع جرم كوكب أصلا. وأصغر الكواكب عند الإسلاميين كالجبل العظيم، وعند الفلاسفة أعظم وأعظم بل صغار الثوابت عندهم أعظم من الأرض وإن التزم أنه يرمى به حتى إذا تم الغرض رجع إلى مكانه قيل عليه: إنه حينئذ يلزم أن يسمع لهويه صوت هائل فإن الشهب تصل إلى محل قريب من الأرض، وأيضا عدم مشاهدة جرم كوكب هابطا أو صاعدا يأبى احتمال انقلاع الكوكب والرمي به نفسه، وإن كان المنقض نوره فالنور لا أذى فيه فالأرض مملوءة من نور الشمس وحشوها الشياطين، على أنه إن كان المنقض جميع نوره يلزم انتقاص الزينة أو ذهابها بالكلية، وإن كان بعض نوره يلزم أن تتغير أضواء الكواكب ولم يشاهد في شيء منها ذلك، وأمر انقضاضه نفسه أو انفصال ضوئه على تقدير كون الكواكب الثوابت في الفلك الثامن المسمى بالكرسي عند بعض الإسلاميين وإنه لا شيء في السماء الدنيا سوى القمر أبعد وأبعد. والفلاسفة يزعمون استحالة ذلك لزعمهم عدم قبول الفلك الخرق والالتئام إلى أمور أخر، ويزعمون في الشهب أنها أجزاء بخارية دخانية لطيفة وصلت كرة النار فاشتعلت وانقلبت نارا ملتهبة فقد ترى ممتدة إلى طرف الدخان ثم ترى كأنها طفئت وقد تمكث زمانا كذوات الأذناب وربما تتعلق بها نفس على ما فصلوه، وهم مع هذا لا يقولون بكونها ترمى بها الشياطين بل هم ينكرون حديث الرمي مطلقا، وفي النصوص الإلهية رجوم لهم، ولعل أقرب الاحتمالات فى أمر الشهب أن الكوكب يقذف بشعاع من نوره فيصل أثره إلى هواء وتكيف بكيفية مخصوصة يقبل بها الاشتعال بما يقع عليه من شعاع الكوكب بالخاصية فيشتعل فيحصل ما يشاهد من الشهب، وإن شئت قلت: إن ذلك الهواء المتكيف بالكيفية المخصوصة إذا وصل إلى محل مخصوص من الجو أثرت فيه أشعة الكواكب بما أودعه الله تعالى فيها من الخاصية فيشتعل فيحصل ما يحصل، وتأثير الأشعة الحرق في القابل له مما لا ينكر فإنا نرى شعاع الشمس إذا قوبل ببعض المناظر على كيفية مخصوصة أحرق قال الإحراق ولو توسط بين المنظرة وبين القابل إناء بلور مملوء ماء، ويقال: إن الله تعالى يصرف ذلك الحاصل إلى الشيطان المسترق للسمع وقد يحدث ذلك وليس هناك الجزء: 12 ¦ الصفحة: 70 مسترق، ويمكن أن يقال: إنه سبحانه يخلق الكيفية التي بها يقبل الهواء الإحراق في الهواء الذي في جهة الشيطان، ولعل قرب الشيطان من بعض أجزاء مخصوصة من الهواء معد بخاصية أحدثها الله تعالى فيه لخلقه عز وجل تلك الكيفية في ذلك الهواء القريب منه مع أنه عز وجل يخلق تلك الكيفية في بعض أجزاء الهواء الجوية حيث لا شيطان هناك أيضا. وإن شئت قلت: إنه يخرج شؤبوب من شعاع الكوكب فيتأذى به المارد أو يحترق، والله عز وجل قادر على أن يحرق بالماء ويروى بالنار والمسببات عند الأسباب لا بها وكل الأشياء مسندة إليه تعالى ابتداء عند الأشاعرة، ولا يلزم على شيء مما ذكر انتقاص ضوء الكوكب، ولو سلم أنه يلزم انتقاص على بعض الاحتمالات قلنا: إنه عز وجل يخلق بلا فصل في الكوكب بدل ما نقص منه وأمره سبحانه إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون. ولا ينافي ما ذكرنا قوله تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الملك: 5] لأن جعلها رجوما يجوز أن يكون لأنه بواسطة وقوع إشعاع على ما ذكرنا من الهواء تحدث الشهب فهي رجوم بذلك الاعتبار ولا يتوقف جعلها رجوما على أن تكون نفسها كذلك بأن تنقلع عن مراكزها ويرجم بها، وهذا كما تقول: جعل الله تعالى الشمس يحرق بها بعض الأجسام فإنه صادق فيما إذا أحرق بها بتوسيط بعض المناظر وانعكاس شعاعها على قابل الإحراق. وزعم بعض الناس أن الشهب شعل نارية تحدث من أجزاء متصاعدة إلى كرة النار وهي الرجوم ولكونها بواسطة تسخين الكواكب للأرض قال سبحانه: وَجَعَلْناها رُجُوماً على التجوز في إسناد الجعل إليها أو في لفظها، ولا يخفى أن كرة النار مما لم تثبت في كلام السلف ولا ورد فيها عن الصادق عليه الصلاة والسلام خبر، وقيل: يجوز أن تكون المصابيح هي الشهب وهي غير الكواكب وزينة والسماء بالمصابيح لا يقتضي كونها فيها حقيقة إذ يكفي كونها في رأي العين ذلك، وقيل: يجوز أن يراد بالسماء جهة العلو وهي مزينة بالمصابيح والشهب كما هي مزينة بالكواكب. وتعقب هذا بأن وصف السماء بالدنيا يبعد إرادة الجهة منها. وتعقب ما قبله بأن المتبادر أن المصابيح هي الكواكب ولا يكاد يفهم من قوله تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وقوله سبحانه: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ إلا شيء واحد، وأن كون الشهب المعروفة زينة السماء مع سرعة تقضيها وزوالها وربما دهش من بعضها مما لا يسلم، والقول بأنه يجوز اطلاق الكوكب على الشهاب للمشابهة فيجوز أن يراد بالكواكب ما يشمل الشهب وزينة السماء على ما مر آنفا زيد فيه على ما تقدم ما لا يخفى ما فيه، نعم يجوز أن يقال: إن الكوكب ينفصل منه نور إذا وصل إلى محل مخصوص من الجو انقلب نارا ورؤى منقضا ولا يعجز الله عز وجل شيء، وقد يقال: إن في السماء كواكب صغارا جدا غير مرئية ولو بالأرصاد لغاية الصغر وهي التي يرمي بها أنفسها، وقوله تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ من باب عندي درهم ونصفه وإِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَحِفْظاً الآية إن كان على معنى وحفظا بها فهو من ذلك الباب أيضا وإلا فالأمر أهون فتدبر. واختلف في أن المرجوم هل يهلك بالشهاب إذا أصابه أو يتأذى به من غير هلاك فعن ابن عباس أن الشياطين لا تقتل بالشهاب ولا تموت ولكنها تحرق وتخبل أي يفسد منها بعض أعضائها، وقيل تهلك وتموت ومتى أصاب الشهاب من اختطف منهم كلمة قال للذي يليه كان كذا وكذا قبل أن يهلك، ولا يأبى تأثير الشهاب فيهم كونهم مخلوقين من النار لأنهم ليسوا من النار الصرفة كما أن الإنسان ليس من التراب الخالص مع أن النار القوية إذا استولت على الضعيفة استهلكتها، وأيا ما كان لا يقال: إن الشياطين ذوو فطنة فكيف يعقل منهم العود إلى استراق السمع مرة بعد مرة مع أن المسترق يهلك أو يتأذى الأذى الشديد واستمرار انقضاض الشهب دليل استمرار هذا الفعل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 71 منهم لأنا نقول: لا نسلم استمرار هذا الفعل منهم واستمرار الانقضاض ليس دليلا عليه لأن الانقضاض ليس دليلا عليه لأن الانقضاض يكون للاستراق ويكون لغيره فقد أشرنا فيما سبق أن الهواء قد يتكيف بكيفية مخصوصة فيحترق بسبب أشعة الكواكب وإن لم يكن هناك مسترق، وقيل: يجوز أن ترى الشهب لتعارض في الأهوية واصطكاك يحصل منه ما ترى كما يحصل البرق باصطكاك السحاب على ما روي عن بعض السلف وحوادث الجو لا يعلمها إلا الله تعالى فيجوز أن يكونوا قد استرقوا أولا فشاهدوا ما شاهدوا فتركوا واستمرت الشهب تحدث لما ذكر لا لاستراق الشياطين، ويجوز أن يقع أحيانا ممن حدث منهم ولم يعلم بما جرى على رؤوس المسترقين قبله أو ممن لا يبالي بالأذى ولا بالموت حبا لأن يقال ما أجسره أو ما أشجعه مثلا كما يشاهد في كثير من الناس يقدمون في المعارك على ما يتيقنون هلاكهم به حبا لمثل ذلك، ولعل في وصف الشيطان بالمارد ما يستأنس به لهذا الاحتمال، وأما ما قيل: إن الشهاب قد يصيب الصاعد مرة وقد لا يصيب كالموج لراكب السفينة ولذلك لا يرتدعون عنه رأسا فخلاف المأثور، فقد أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إذا رمي بالشهاب لم يخطىء من رمي به، ثم إن ما ذكر من احتمال أنهم قد تركوا بعد أن صحت عندهم التجربة لا يتم إلا على ما روي عن الشعبي من أنه لم يقذف بالنجوم حتى ولد النبي صلّى الله عليه وسلم فلما قذف بها جعل الناس يسيبون أنعامهم ويعتقون رقيقهم يظنون أنه القيامة فأتوا عبد يا ليل الكاهن وقد عمي وأخبروه بذلك فقال: انظروا إن كانت النجوم المعروفة من السيارة والثوابت فهو قيام الساعة وإلا فهو أمر حادث فنظروا فإذا هي غير معروفة فلم يمض زمن حتى أتى خبر النبي صلّى الله عليه وسلم، ووافق على عدم حدوثه قبل ابن الجوزي في المنتظم لكنه قال: إنه حدث بعد عشرين يوما من مبعثه، والصحيح أن القذف كان قبل ميلاده عليه الصلاة والسلام، وهو كثير في أشعار الجاهلية إلا أنه يحتمل أنه لم يكن طاردا للشياطين وأن يكون طاردا لهم لكن لا بالكلية وأن يكون طاردا لهم بالكلية، وعلى هذا لا يتأتى الاحتمال السابق، وعلى الاحتمال الأول من هذه الاحتمالات يكون الحادث يوم الميلاد طردهم بذلك، وعلى الثاني طردهم بالكلية وتشديد الأمر عليهم لينحسم أمرهم وتخليطهم ويصح الوحي فتكون الحجة أقطع، والذي يترجح أنه كان قبل الميلاد طاردا لكن لا بالكلية فكان يوجد استراق على الندرة وشدد في بدء البعثة، وعليه يراد بخبر لم يقذف بالنجوم حتى ولد النبي صلّى الله عليه وسلم أنه لم يكثر القذف بها، وعلى هذا يخرج غيره إذا صح كالخبر المنقول في السير أن إبليس كان يخترق السماوات قبل عيسى عليه السلام فلما بعث أو ولد حجب عن ثلاث سماوات ولما ولد النبي صلّى الله عليه وسلم حجب عنها كلها وقذفت الشياطين بالنجوم فقالت قريش: قامت الساعة فقال عتبة بن ربيعة: انظروا إلى العيوق فإن كان رمي به فقد آن قيام الساعة وإلا فلا ، وقال بعضهم: اتفق المحدثون على أنه كان قبل لكن كثر وشدد لما جاء الإسلام ولذا قال تعالى مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً [الجن: 8] ولم يقل حرست، وبالجملة لا جزم عندنا بأن ما يقع من الشهب في هذه الأعصار ونحوها رجوم للشياطين والجزم بذلك رجم بالغيب هذا وقد استشكل أمر الاستراق بأمور، منها أن الملائكة في السماء مشغولون بأنواع العبادة أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد فماذا تسترق الشياطين منهم؟ وإذا قيل: إن منهم من يتكلم بالحوادث الكونية فهم على «محدبها» والشياطين تسترق تحت مقعرها وبينهما كما صح في الأخبار خمسمائة عام فكيف يتأتى السماع لا سيما والظاهر أنهم لا يرفعون أصواتهم إذا تكلموا بالحوادث إذ لا يظهر غرض برفعها، وعلى تقدير أن يكون هناك رفع صوت فالظاهر أنه ليس بحيث يسمع من مسيرة خمسمائة عام. وعلى تقدير أن يكون بهذه الحيثية فكرة الهواء تنقطع عند كرة النار ولا يسمع صوت بدون هواء. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 72 وأجيب بأن الاستراق من ملائكة العنان وهم يتحدثون فيما بينهم بما أمروا به من السماء من الحوادث الكونية. ولَمَسْنَا السَّماءَ [الجن: 8] طلبنا خبرها أو من الملائكة النازلين من السماء بالأمر فإن ملائكة على أبواب السماء ومن حيث ينزلون يسألونهم بماذا تذهبون؟ فيخبرونهم، وليس الاستراق من الملائكة الذين على محدب السماء، وأمر كرة النار لا يصح، والهواء غير منقطع وهو كلما رق ولطف كأن أعون على السماع، على أن وجود الهواء مما لا يتوقف عليه السماع على أصول الأشاعرة ومثله عدم البعد المفرط، وظاهر خبر أخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمة أن الاستراق من الملائكة في السماء قال: «إذا قضى الله تعالى أمرا تكلم تبارك وتعالى فتخر الملائكة كلهم سجدا فتحسب الجن أن أمرا يقضى فتسترق فإذا فزع عن قلوب الملائكة عليهم السلام ورفعوا رؤوسهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا جميعا: الحق وهو العلي الكبير» وجاء في خبر أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن إبراهيم التيمي «إذا أراد ذو العرش أمرا سمعت الملائكة كجر السلسلة على الصفا فيغشى عليهم فإذا قاموا قالوا: ماذا قال ربكم؟ قال من شاء: الله الحق وهو العلي الكبير» ولعله بعد هذا الجواب يذكر الأمر بخصوصه فيما بين الملائكة عليهم السلام، وظاهر ما جاء في بعض الروايات عن ابن عباس من تفسير الملأ الأعلى بكتبة الملائكة عليهم السلام أيضا أن الاستراق من ملائكة في السماء إذ الظاهر أن الكتبة في السماء، ولعله يتلى عليهم من اللوح ما يتلى فيكتبونه لأمر ما فتطمع الشياطين باستراق شيء منه، وأمر البعد كأمر الهواء لا يضر في ذلك على الأصول الأشعرية، ويمكن أن يدعى أن جرم السماء لا يحجب الصوت وإن كثف، وكم خاصية أثبتها الفلاسفة للأفلاك ليس عدم الحجب أغرب منها. ومنها أنه يغني عن الحفظ من استراق الشياطين عدم تمكينهم من الصعود إلى حيث يسترق السمع، أو أمر الملائكة عليهم السلام بإخفاء كلامهم بحيث لا يسمعونه، أو جعل لغتهم مخالفة للغتهم بحيث لا يفهمون كلامهم. وأجيب بأن وقوع الأمر على ما وقع من باب الابتلاء، وفيه أيضا من الحكم ما فيه، ولا يخفى أن مثل هذا الإشكال يجري في أشياء كثيرة إلا أن كون الصانع حكيما وأنه جل شأنه قد راعى الحكمة فيما خلق وأمر على أتم وجه حتى قيل: ليس في الإمكان أبدع مما كان يحل ذلك ولا يبقى معه سوى تطلب وجه الحكمة وهو مما يتفضل الله تعالى به على من يشاء من عباده، والكلام في هذا المقام قد مر شيء منه فارجع إليه، ومما هنا وما هناك يحصل ما يسر الناظرين ويرضي العلماء المحققين. فَاسْتَفْتِهِمْ أي فاستخبرهم، وأصل الاستفتاء الاستخبار عن أمر حدث، ومنه الفتى لحداثة سنه، والضمير لمشركي مكة، قيل: والآية نزلت في أبي الأشد بن كلدة الجمحي وكني بذلك لشدة بطشه وقوته واسمه أسيد، والفاء فصيحة أي إذا كان لنا من المخلوقات ما سمعت أو إذا عرفت ما مر فاستخبر مشركي مكة واسألهم على سبيل التبكيت أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أي أقوى خلقة وأمتن بنية أو أصعب خلقا وأشق إيجادا أَمْ مَنْ خَلَقْنا من الملائكة والسماوات والأرض وما بينهما والمشارق والكواكب والشياطين والشهب الثواقب. وتعريف الوصول عهدي أشير به إلى ما تقدم صراحة ودلالة وغلب العقلاء على غيرهم والاستفهام تقريري، وجوز أن يكون إنكاريا، وفي مصحف عبد الله «أم من عددنا» وهو مؤيد لدعوى العهد بل قاطع بها. وقرأ الأعمش «أمن» بتخفيف الميم دون أم جعله استفهاما ثانيا تقريريا فمن مبتدأ خبره محذوف أي أمن خلقنا أشد إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ أي ملتصق كما أخرج ذلك ابن جرير وجماعة عن ابن عباس، وفي رواية أرى بلفظ ملتزق وبه أجاب ابن الأزرق وأنشد له قول النابغة: فلا تحسبون الخير لا شر بعده ... ولا تحسبون الشر ضربة لازب قيل: والمراد ملتزق بعضه ببعض، وبذلك فسره ابن مسعود كما أخرجه ابن أبي حاتم ويرجع إلى حسن العجن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 73 جيد التخمير، وأخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة أنه يلزق باليد إذا مس بها ، وقال الطبري: خلق آدم من تراب وماء وهواء ونار وهذا كله إذا خلط صار طينا لازبا يلزم ما جاوره، واللازب عليه بمعنى اللازم وهو قريب مما تقدم، وقد قرىء «لازم» بالميم بدل الباء و «لاتب» بالتاء بدل الزاي والمعنى واحد. وحكي في البحر عن ابن عباس أنه عبر عن اللازب بالحر أي الكريم الجيد، وفي رواية أنه قال: اللازب الجيد. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد أنه قال: لازب أي لازم منتن، ولعل وصفه بمنتن مأخوذ من قوله تعالى مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر: 26، 27، 33] لكن أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال: اللازب والحمأ والطين واحد كان أوله ترابا ثم صار حمأ منتنا ثم صار طينا لازبا فخلق الله تعالى منه آدم عليه السلام. وأيا ما كان فخلقهم من طين لازب إما شهادة عليهم بالضعف والرخاوة لأن ما يصنع من الطين غير موصوف بالصلابة والقوة أو احتجاج عليهم في أمر البعث بأن الطين اللازب الذي خلقوا منه في ضمن خلق أبيهم آدم عليه السلام تراب فمن أين استنكروا أن يخلقوا منه مرة ثانية حيث قالوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [المؤمنون: 82، الصافات: 16، الواقعة: 47] ويعضد هذا على ما في الكشاف ما يتلوه من ذكر إنكارهم البعث. وقوله تعالى: بَلْ عَجِبْتَ خطاب للرسول صلّى الله عليه وسلم وجوز أن يكون لكل من يقبله. وبَلْ للإضراب إما عن مقدر يشعر به فَاسْتَفْتِهِمْ إلخ أي هم لا يقرون ولا يجيبون بما هو لحق بل مثلك ممن يذعن ويتعجب من تلك الدلائل أو عن الأمر بالاستفتاء أي لا تستفتهم فإنهم معاندون لا ينفع فيهم الاستفتاء ولا يتعجبون من تلك الدلائل بل مثلك ممن يتعجب منها وَيَسْخَرُونَ أي وهم يسخرون منك ومن تعجبك ومما تريهم من الآيات، وجوز أن يكون المعنى بل عجبت من إنكارهم البعث مع هذه الآيات وهم يسخرون من أمر البعث، واختير أن يكون المعنى بل عجبت من قدرة الله تعالى على هذه الخلائق العظيمة وإنكارهم البعث وهم يسخرون من تعجبك وتقريرك للبعث، وزعم بعضهم أن المراد بمن خلقنا الأمم الماضية وليس بشيء إذ لم يسبق لهذه الأمم ذكر وإنما سبق الذكر للملائكة عليهم السلام وللسماوات والأرض وما سمعت مع أن حرف التعقيب مما يدل على خلافه، ومن قال كصاحب الفرائد عليه جمهور المفسرين سوى الإمام ووجهه بأنه لما احتج عليهم بما هم مقرون به من كونه رب السماوات والأرض ورب المشارق وألزمهم بذلك وقابلوه بالعناد قيل لهم: فانتظروا الإهلاك كمن قبلكم لأنكم لستم أشد خلقا منهم فوضع موضعه فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً وقوله تعالى: إِنَّا خَلَقْناهُمْ تعليل لأنهم ليسوا أشد خلقا أو دليل لاستكبارهم المنتج للعناد. وأيده بدلالة الاضراب واستبعاد البعث بعده لدلالته على أنه غير متعلق بما قبل الإضراب فقد ذهب عليه أن اللفظ خفي الدلالة على ما ذكر من العناد واستحقاق الإهلاك كسالف الأمم وتعليل نفي الأشدية بما علل ليس بشيء لوضوح أن السابقين أشد في ذلك، وكم من ذلك في الكتاب العزيز، وأما الإضراب فعن الاستفتاء إلى أن مثلك ممن يذعن ويتعجب من تلك الدلائل ولذا عطف عليه وَيَسْخَرُونَ وجعل ما أنكروه من البعث من بعض مساخرهم قاله صاحب الكشف فلا تغفل. وقرأ حمزة والكسائي وابن سعدان وابن مقسم «عجبت» بتاء المتكلم ورويت عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وابن مسعود والنخعي وابن وثاب وطلحة وشقيق والأعمش. وأنكر شريح القاضي هذه القراءة وقال: إن الله تعالى لا يعجب من شيء وإنما يعجب من لا يعلم، وإنكار هذا القاضي مما أفتي بعدم قبوله لأنه في مقابل بينة متواترة، وقد جاء أيضا في الخبر عجب ربكم من إلكم وقنوطكم. وأولت القراءة بأن ذلك من باب الفرض أي لو كان العجب مما يجوز عليّ لعجبت من هذه الحال أو التخييل فيجعل تعالى كأنه لإنكاره لحالهم يعدها أمرا غريبا ثم يثبت له سبحانه العجب منها، فعلى الأول تكون الاستعارة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 74 تخييلية تمثيلية كما في قولهم: قال الحائط للوتد لم تشقني فقال سل من يدقني، وعلى الثاني تكون مكنية وتخييلية كما في نحو لسان الحال ناطق بكذا والمشهور في أمثاله الحمل على اللازم فيكون مجازا مرسلا فيحمل العجب على الاستعظام وهو رؤية الشيء عظيما أي بالغا في الحسن أو القبح، والمراد هنا رؤية ما هم عليه بالغا الغاية في القبح، وليس استعظام الشيء مسبوقا بانفعال يحصل في الروع عن مشاهدة أمر غريب كما توهم ليقال: إن التأويل المذكور لا يحسم مادة الاشكال. وقال أبو حيان: يؤول على أن صفة فعل يظهرها الله تعالى في صفة المتعجب منه من تعظيم أو تحقير حتى يصير الناس متعجبين منه فالمعنى بل عجبت من ضلالتهم وسوء نحلتهم وجعلتها للناظرين فيها وفيما اقترن بها من شرعي وهداي متعجبا، وقال مكي وعلي بن سليمان: ضمير عَجِبْتَ للنبي عليه الصلاة والسلام والكلام بتقدير القول أي قل بل عجبت، وعندي لو قدر القول بعد بل كان أحسن أي بل قل عجبت، والذي يقتضيه كلام السلف إن العجب فينا انفعال يحصل للنفس عند الجهل بالسبب ولذا قيل: إذا ظهر السبب بطل العجب وهو في الله تعالى بمعنى يليق لذاته عز وجل هو سبحانه أعلم به فلا يعينون المراد والخلف يعينون. وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ أي ودأبهم أنهم إذا وعظوا بشيء لا يتعظون به أو أنهم إذا ذكر لهم ما يدل على صحة الحشر لا ينتفعون به لبلادتهم وقلة فكرهم، واستفادة الاستمرار من مقام الذم، ولعل في إذا والعطف على الماضي ما يؤيده، وقرأ ابن حبيش «ذكروا» بتخفيف الكاف وَإِذا رَأَوْا آيَةً أي معجزة تدل على صدق من يعظهم ويدعوهم إلى ترك ما هم فيه إلى ما هو خير أو معجزة تدل على صدق القائل بالحشر يَسْتَسْخِرُونَ أي يبالغون في السخرية ويقولون إنه سحر أو يطلب بعضهم من بعض أن يسخر منها، روي أن ركانة رجلا من المشركين من أهل مكة لقيه الرسول صلّى الله عليه وسلم في جبل خال يرعى غنما له وكان من أقوى الناس فقال له: يا ركانة أرأيت إن صرعتك أتؤمن بي؟ قال: نعم فصرعه ثلاثا ثم عرض له بعض الآيات دعا عليه الصلاة والسلام شجرة فأقبلت فلم يؤمن وجاء إلى مكة فقال: يا بني هاشم ساحروا بصاحبكم أهل الأرض فنزلت فيه وفي أضرابه. وقرىء «يستسحرون» بالحاء المهملة أي يعدونها سحرا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 75 وَقالُوا إِنْ هذا ما يرونه من الآيات الباهرة إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر سحريته في نفسه. أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أي كان بعض أجزائنا ترابا وبعضها عظاما، وتقديم التراب لأنه منقلب عن الأجزاء البادية، وإذا إما شرطية وجوابها محذوف دل عليه قوله تعالى: أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أي نبعث وفي عاملها الكلام المشهور، وإما متمحضة للظرفية فلا جواب لها ومتعلقها محذوف يدل عليه ذلك أيضا لا هو لأن ما بعد إن واللام لا يعمل فيما قبله أي أنبعث إذا متنا، وإن شئت فقدره مؤخرا فتقديم الظرف لتقوية الإنكار للبعث بتوجيهه إلى حالة منافية له غاية المنافاة، وكذا تكرير الهمزة للمبالغة والتشديد في ذلك وكذا تحلية الجملة بأن، واللام لتأكيد الإنكار لا لإنكار التأكيد كما يوهمه ظاهر النظم الكريم فإن تقديم الهمزة لاقتضائها الصدارة. وقرأ ابن عامر بطرح الهمزة الأولى. وقرأ نافع والكسائي ويعقوب بطرح الثانية أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ مبتدأ حذف خبره لدلالة خبر أن عليه أي أو آباؤنا الأولون مبعوثون أيضا والجملة معطوفة على الجملة قبلها. وهذا أحد مذاهب في نحو هذا التركيب. وظاهر كلام أبي حيان في شرح التسهيل أن حذف الخبر واجب فقد قال: قال من نحا إلى هذا المذهب: الأصل في هذه المسألة عطف الجمل إلا أنهم لما حذفوا الخبر لدلالة ما قبل عليه أنابوا حرف العطف مكانه ولم يقدروا إذ ذاك الخبر المحذوف في اللفظ لئلا يكون جمعا بين العوض والمعوض عنه فأشبه عطف المفردات من جهة أن حرف العطف ليس بعده في اللفظ إلا مفرد. وثاني المذاهب أن يكون معطوفا على الضمير المستتر في خبر إن إن كان مما يتحمل الضمير وكان الضمير مؤكدا أو كان بينه وبين المعطوف فاصل ما وإلا ضعف العطف. ونسب ابن هشام هذا المذهب والذي قبله إلى المحققين من البصريين. وفي تأتيه هنا من غير ضعف للفصل بالهمزة بحث فقد قال أبو حيان: إن همزة الاستفهام لا تدخل على المعطوف إلا إذا كان جملة لئلا يلزم عمل ما قبل الهمزة فيما بعدها وهو غير جائز لصدارتها. والجواب بأن الهمزة هنا مؤكدة للاستبعاد فهي في النية مقدمة داخلة على الجملة في الحقيقة لكن فصل بينهما بما فصل قد بحث فيه بأن الحرف لا يكرر للتوكيد بدون مدخوله والمذكور في النحو أن الاستفهام له الصدر من غير فرق بين مؤكد ومؤسس مع أن كون الهمزة في نية التقديم يضعف أمر الاعتداد بالفصل بها لا سيما وهي حرف واحد فلا يقاس الفصل بها على الفصل بلا في قوله تعالى: ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا [الأنعام: 148] . وثالثها أن يكون عطفا على محل إن مع ما عملت فيه، والظاهر أنه حينئذ من عطف الجمل في الحقيقة، ورابعها أن يكون عطفا على محل اسم إن لأنه كان قبل دخولها في موضع رفع، والظاهر أنه حينئذ من عطف المفردات. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 76 واعترض بأن الرفع كان بالابتداء وهو عامل معنوي، وقد بطل بالعامل اللفظي. وأجيب بأن وجوده كلا وجود لشبهه بالزائد من حيث إنه لا يغير معنى الجملة وإنما يفيد التأكيد فقط. واعترض أيضا بأن الخبر المذكور كمبعوثون في الآية يكون حينئذ خبرا عنهما وخبر المبتدأ رافعه الابتداء أو المبتدأ أو هما وخبر إن رافعه إن فيتوارد عاملان على معمول واحد: وأجيب بأن العوامل النحوية ليست مؤثرات حقيقية بل هي بمنزلة العلامات فلا يضر تواردها على معمول واحد وهو كما ترى، وتمام الكلام في محله، وعلى كل حال الأولى ما تقدم من كونه مبتدأ حذف خبره وقد قال أبو حيان: إن أرباب الأقوال الثلاثة الأخيرة متفقون على جواز القول الأول وهو يؤيد القول بأولويته، وأيا ما كان فمراد الكفرة زيادة استبعاد بعث آبائهم بناء على أنهم أقدم فبعثهم أبعد على عقولهم القاصرة. وقرأ أبو جعفر وشيبة وابن عامر ونافع في رواية. وقالوا «أو» بالسكون على أنها حرف عطف وفيه الاحتمالات الأربعة إلا أن العطف على الضمير على هذه القراءة ضعيف لعدم الفصل بشيء أصلا قُلْ نَعَمْ أي تبعثون أنتم وآباؤكم الأولون والخطاب في قوله سبحانه: وَأَنْتُمْ داخِرُونَ لهم ولآبائهم بطريق التغليب، والجملة في موضع الحال من فاعل ما دل عليه نَعَمْ أي تبعثون كلكم والحال إنك صاغرون أذلاء، وهذه الحال زيادة في الجواب نظير ما وقع في جوابه عليه الصلاة والسلام لأبي ابن خلف حين جاء بعظم قد رم وجعل يفته بيده ويقول: يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما رم فقال صلّى الله عليه وسلم له على ما في بعض الروايات «نعم ويبعثك ويدخلك جهنم» وقال غير واحد: إن ذلك من الأسلوب الحكيم. وتعقب بأن عد الزيادة منه لا توافق ما قرر في المعاني وإن كان ذلك اصطلاحا جديدا فلا مشاحة في الاصطلاح واكتفى في الجواب عن إنكارهم البعث على هذا المقدار ولم يقم دليل عليه اكتفاء بسبق ما يدل على جوازه في قوله سبحانه فَاسْتَفْتِهِمْ إلخ مع أن المخبر قد علم صدقه بمعجزاته الواقعة في الخارج التي دل عليها قوله سبحانه وَإِذا رَأَوْا آيَةً الآية. وهزؤهم وتسميتهم لها سحرا لا يضر طالب الحق، والقول بأن ذلك للاكتفاء بقيام الحجة عليهم في القيامة ليس بشيء. وقرأ ابن وثاب والكسائي «نعم» بكسر العين وهي لغة فيه. وقرىء «قال» أي الله تعالى أو رسوله صلّى الله عليه وسلم فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ الضمير راجع إلى البعثة المفهومة مما قبل، وقيل للبعث والتأنيث باعتبار الخبر. والزجرة الصيحة من زجر الراعي غنمه صاح عليها. والمراد بها النفخة الثانية في الصور ولما كانت بعثتهم ناشئة عن الزجرة جعلت إياها مجازا. والفاء واقعة في جواب شرط مقدر أو تعليلية لنهي مقدر أي إذا كان كذلك فإنما البعثة زجرة واحدة أو لا تستصعبوها فإنما هي زجرة. وجوز الزجاج أن تكون للتفسير والتفصيل وما بعدها مفسر للبعث وتعقب بأن تفسير البعث الذي في كلامهم لا وجه له والذي في الجواب غير مصرح به. وتفسير ما كني عنه بنعم مما لم يعهد. والظاهر أنه تفسير لما كني عنه بنعم وهو بمنزلة المذكور لا سيما وقد ذكر ما يقوى إحضاره من الجملة الحالية. وعدم عهد التفسير في مثل ذلك مما لا جزم لي به. وأبو حيان نازع في تقدير الشرط فقال: لا ضرورة تدعو إليه ولا يحذف الشرط ويبقى جوابه إلا إذا انجزم الفعل في الذي يطلق عليه أنه جواب الأمر والنهي وما ذكر معهما على قول بعضهم إما ابتداء فلا يجوز حذفه والجمهور على خلاف والحق معهم، وهذه الجملة إما من تتمة المقول وإما ابتداء كلام من قبله عز وجل. فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ أي فإذا هم قيام من مراقدهم أحياء يبصرون كما كانوا في الدنيا أو ينتظرون ما يفعل بهم وما يؤمرون به وَقالُوا أي المبعوثون، وصيغة الماضي لتحقق الوقوع يا وَيْلَنا أي يا هلاكنا احضر فهذا أوان حضورك هذا يَوْمُ الدِّينِ استئناف منهم لتعليل دعائهم الويل. والدين بمعنى الجزاء كما في كما تدين تدان أي هذا اليوم الذي نجازى فيه بأعمالنا، وإنما علموا ذلك لأنهم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 77 كانوا يسمعون في الدنيا أنهم يبعثون ويحاسبون ويجزون بأعمالهم فلما شاهدوا البعث أيقنوا بما بعده أيضا، وقوله تعالى: هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ كلام الملائكة جوابا لهم بطريق التوبيخ والتقريع، وقيل: هو من كلام بعضهم لبعض أيضا، ووقف أبو حاتم على يا وَيْلَنا وجعل ما بعده كلام الله تعالى أو كلام الملائكة عليهم السلام لهم كأنهم أجابوهم بأنه لا تنفع الولولة والتلهف، والفصل القضاء أو الفرق بين المحسن والمسيء وتمييز كل عن الآخر بدون قضاء احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا خطاب من الله تعالى للملائكة أو من الملائكة بعضهم لبعض. أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تقول الملائكة للزبانية: احشروا إلخ، وهو أمر بحشر الظالمين من أماكنهم المختلفة إلى موقف الحساب وقيل من الموقف إلى الجحيم، والسباق والسياق يؤيدان الأول وَأَزْواجَهُمْ أخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن منيع في مسنده والحاكم وصححه وجماعة من طريق النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال: أزواجهم أمثالهم الذين هم مثلهم يحشر أصحاب الربا مع أصحاب الربا وأصحاب الزنا مع أصحاب الزنا وأصحاب الخمر مع أصحاب الخمر. وأخرج جماعة عن ابن عباس في لفظ أشباههم وفي آخر نظراءهم. وروي تفسير الأزواج بذلك أيضا عن ابن جبير ومجاهد وعكرمة وأصل الزوج المقارن كزوجي النعل فأطلق على لازمه وهو المماثل. وجاء في رواية عن ابن عباس أنه قال: أي نساءهم الكافرات ورجحه الرماني. وقيل قرناءهم من الشياطين وروي هذا عن الضحاك والواو للعطف وجوز أن تكون للمعية. وقرأ عيسى بن سليمان الحجازي «وأزواجهم» بالرفع عطفا على ضمير ظَلَمُوا على ما في البحر أي وظلم أزواجهم. وأنت تعلم ضعف العطف على الضمير المرفوع في مثله، والقراءة شاذة وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام ونحوها، وحشرهم معهم لزيادة التحسير والتخجيل، وما قيل عام في كل معبود حتى الملائكة والمسيح وعزير عليهم السلام لكن خص منه البعض بقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى [الأنبياء: 101] الآية. وقيل ما كناية عن الأصنام والأوثان فهي لما لا يعقل فقط لأن الكلام في المشركين عبدة ذلك، وقيل ما على عمومها والأصنام ونحوها غير داخلة لأن جميع المشركين إنما عبدوا الشياطين التي حملتهم على عبادتها، ولا يناسب هذا تفسير أَزْواجَهُمْ بقرنائهم من الشياطين، ومع هذا التخصيص أقرب، وفي هذا العطف دلالة على أن الذين ظلموا المشركون وهم الأحقاء بهذا الوصف فإن الشرك لظلم عظيم فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ فعرفوهم طريقها وأروهم إياه، والمراد بالجحيم النار ويطلق على طبقة من طبقاتها وهو من الجحمة شدة تأجج النار، والتعبير بالصراط والهداية للتهكم بهم وَقِفُوهُمْ أي احبسوهم في الموقف إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ عن عقائدهم وأعمالهم، وفي الحديث «لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن خمس عن شبابه فيما أبلاه وعن عمره فيما أفناه وعن ماله مما كسبه وفيما أنفقه وعن علمه ماذا عمل به» وعن ابن مسعود يسألون عن لا إله إلا الله، وعنه أيضا يسألون عن شرب الماء البارد على طريق الهزء بهم. وروى بعض الإمامية عن ابن جبير عن ابن عباس يسألون عن ولاية علي كرم الله تعالى وجهه ، ورووه أيضا عن أبي سعيد الخدري وأولى هذه الأقوال أن السؤال عن العقائد والأعمال، ورأس ذلك لا إله إلا الله، ومن أجله ولاية علي كرم الله تعالى وجهه وكذا ولاية إخوانه الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم أجمعين. وظاهر الآية أن الحبس للسؤال بعد هدايتهم إلى صراط الجحيم بمعنى تعريفهم إياه ودلالتهم عليه لا بمعنى ادخالهم فيه وإيصالهم إليه، وجوز أن يكون صراط الجحيم طريقهم له من قبورهم إلى مقرهم وهو ممتد فيجوز كون الوقف في بعض منه مؤخرا عن بعض، وفيه من البعد ما فيه، وقيل: إن الوقف للسؤال قبل الأمر المذكور والواو لا تقتضي الترتيب، وقيل الوقف بعد الأمر عند مجيئهم النار والسؤال عما ينطق به قوله تعالى ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ أي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 78 لا ينصر بعضكم بعضا، والخطاب لهم وآلهتهم أو لهم فقط أي ما لكم لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم تزعمون في الدنيا، فقد روي أن أبا جهل قال يوم بدر: نحن جميع منتصر، وتأخير هذا السؤال إلى ذلك الوقت لأنه وقت تنجيز العذاب وشدة الحاجة إلى النصرة وحالة انقطاع الرجاء والتقريع والتوبيخ حينئذ أشد وقعا وتأثيرا، وقيل: السؤال عن هذا في موقف المحاسبة بعد استيفاء حسابهم والأمر بهدايتهم إلى الجحيم كأن الملائكة عليهم السلام لما أمروا بهدايتهم إلى النار وتوجيههم إليها سارعوا إلى ما أمروا به فقيل لهم قفوهم أنهم مسؤولون، والذي يترجح عندي أن الأمر بهدايتهم إلى الجحيم إنما هو بعد إقامة الحجة عليهم وقطع أعذارهم وذلك بعد محاسبتهم، وعطف (اهدوهم) على احْشُرُوا بالفاء إشارة إلى سرعة وقوع حسابهم، وسؤالهم ما لكم لا تناصرون الأليق أن يكون بعد تحقق ما يقتضي التناصر وليس ذلك إلا بعد الحساب والأمر بهم إلى النار فلعل الوقف لهذا السؤال في ابتداء توجههم إلى النار والله تعالى أعلم. وقرأ عيسى «أنهم» بفتح الهمزة بتقدير لأنهم، وقرأ البزي عن ابن كثير «لا تتناصرون» بتاءين بلا إدغام، وقرىء بإدغام إحداهما في الأخرى بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ منقادون لعجزهم وانسداد الحيل عليهم، وأصل الاستسلام طلب السلامة والانقياد لازم لذلك عرفا فلذا استعمل فيه أو متسالمون كأنه يسلم بعضهم بعضا للهلاك ويخذله، وجوز في الاضراب أن يكون عن مضمون ما قبله أي لا ينازعون في الوقوف وغيره بل ينقادون أو يخذلون أو عن قوله سبحانه لا تَناصَرُونَ أي لا يقدر بعضهم على نصر بعض بل هم منقادون للعذاب أو مخذولون وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ هم الأتباع والرؤساء المضلون أو الكفرة من الإنس وقرناؤهم من الجن، وروي هذا عن مجاهد وقتادة وابن زيد يَتَساءَلُونَ يسأل بعضهم بعضا سؤال تقريع بطريق الخصومة والجدال قالُوا استئناف بياني كأنه قيل: كيف يتساءلون؟ فقيل: قالوا أي الأتباع للرؤساء أو الكفرة مطلقا للقرناء إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا في الدنيا عَنِ الْيَمِينِ أي من جهة الخير وناحيته فتنهونا عنه وتصدونا قاله قتادة، ولشرف اليمين جاهلية وإسلاما دنيا وأخرى استعيرت لجهة الخير استعارة تصريحية تحقيقية، وجعلت اليمين مجازا عن جهة الخير مع أنه مجاز في نفسه فيكون ذلك مجازا على المجاز لأن جهة الخير لشهرة استعماله التحق بالحقيقة فيجوز فيه المجاز على المجاز كما قالوا في المسافة فإنها موضع الشم في الأصل لأنه من ساف التراب إذا شمه فإن الدليل إذا اشتبه عليه الطريق أخذ ترابا فشمه ليعرف أنه مسلوك أولا ثم جعل عبارة عن البعد بين المكانين ثم استعير لفرق ما بين الكلامين ولا بعد هناك، واستظهر بعضهم حمل الكلام على الاستعارة التمثيلية واعتبار التجوز في مجموع تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ لمعنى تمنعوننا وتصدوننا عن الخير فيسلم الكلام من دعوى المجاز على المجاز وكأن المراد بالخير الإيمان بما يجب الإيمان به، وجوز أن يكون المراد به الخير الذي يزعمه المضلون خيرا وأن المعنى تأتوننا من جهة الخير وتزعمون ما أنتم عليه خيرا ودين حق فتخدعوننا وتضلوننا وحكي هذا عن الزجاج. وقال الجبائي: المعنى كنتم تأتوننا من جهة النصيحة واليمن والبركة فترغبوننا بما أنتم عليه فتضلوننا وهو قريب مما قبله، وجوزوا أن تكون اليمين مجازا مرسلا عن القوة والقهر فإنها موصوفة بالقوة وبها يقع البطش فكأنه أطلق المحل على الحال أو السبب على المسبب، ويمكن أن يكون ذلك بطريق الاستعارة وتشبيه القوة بالجانب الأيمن في التقدم ونحوه، والمعنى إنكم كنتم تأتوننا عن القوة والقهر وتقصدوننا عن السلطان والغلبة حتى تحملونا على الضلال وتقسرونا عليه وإليه ذهب الفراء، وأن يكون اليمين حقيقة بمعنى القسم ومعنى إتيانهم عنه أنهم يأتونهم مقسمين لهم على حقية ما هم عليه من الباطل، والجار والمجرور في موضع الحال، وعن بمعنى الباء كما في قوله تعالى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النجم: 3] أو هو ظرف لغو، وفيه بعد، وأبعد منه أن يفسر اليمين بالشهوة والهوى لأن جهة اليمين الجزء: 12 ¦ الصفحة: 79 موضع الكبد، وهو مخالف لما حكي عن بعض من أن من أتاه الشيطان من جهة اليمين أتاه من قبل الدين فلبس عليه الحق ومن أتاه من جهة الشمال أتاه من قبل الشهوات ومن أتاه من بين يديه أتاه من قبل التكذيب بالقيامة والثواب والعقاب ومن أتاه من خلفه خوفه الفقر على نفسه وعلى من يخلف بعده فلم يصل رحما ولم يؤد زكاة قالُوا استئناف على طرز السابق أي قال الرؤساء أو قال القرناء في جوابهم بطريق الاضراب عما قالوه لهم بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وهو إنكار لإضلالهم إياهم أي أنتم أضللتم أنفسكم بالكفر ولم تكونوا مؤمنين في حد ذاتكم لا أنّا نحن أضللناكم، وقولهم: وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ أي من قهر وتسلط نسلبكم به اختياركم بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ مجاوزين الحد في العصيان مختارين له مصرين عليه جواب آخر تسليمي على فرض اضلالهم بأنهم لم يجبروهم عليه وإنما دعوهم له فأجابوا باختيارهم لموافقة ما دعوا له هواهم، وقيل: الكل جواب واحد محصله إنكم اتصفتم بالكفر من غير جبر عليه، وقولهم: فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ تفريع على صريح ما تقدم من عدم إيمان أولئك المخاصمين لهم وكونهم قوما طاغين في حد ذاتهم وعلى ما اقتضاه وأشعر به خصامهم من كفر هؤلاء المجيبين لأولئك الطاغين وغوايتهم في أنفسهم، وضمائر الجمع للفريقين فكأنهم قالوا: ولأجل أنا جميعا في حد ذاتنا لم نكن مؤمنين وكنا قوما طاغين لزمنا قول ربنا وخالقنا العالم بما نحن عليه وبما يقتضيه استعدادنا وثبت علينا وعيده سبحانه بأنا ذائقون لا محالة لعذابه عز وجل، ومرادهم أن منشأ الخصام في الحقيقة الذي هو العذاب أمر مقضي لا محيص عنه وأنه قد ترتب على كل منا بسبب أمر هو عليه في نفسه وقد اقتضاه استعداده وفعله باختياره فلا يلومن بعضنا بعضا ولكن ليلم كل منا نفسه، ونظموا أنفسهم معهم في ذلك للمبالغة في سد باب اللوم والخصام من أولئك القوم، والفاء في قولهم: فَأَغْوَيْناكُمْ أي فدعونا كم إلى الغي لتفريع الدعاء المذكور على حقية الوعيد عليهم لا لمجرد التعقيب كما قيل، وعلية ذلك للدعاء باعتبار أن وجوده الخارجي متعلقا بهم كان متفرعا عن ذلك في نفس الأمر لا باعتبار أن إصداره وإيقاعه منهم على المخاطبين كان بملاحظة ذلك كما تلاحظ العلل الغائية في الأفعال الاختيارية لأن الظاهر أو رؤساء الكفر لم يكونوا عالمين في الدنيا حقية الوعيد عليهم، نعم لا يبعد أن يكون القرناء من الشياطين عالمين بذلك من أبيهم، وكذا تسمية دعائهم إياهم إلى ما دعوهم إليه إغواء أي دعاء إلى الغي بناء على أن الكلام المذكور من الرؤساء باعتبار نفس الأمر التي ظهرت لهم في يوم القيامة، ومثل هذا يقال في قولهم: إِنَّا كُنَّا غاوِينَ بناء على أنهم إنما علموا ذلك يوم التساؤل والخصام، والجملة مستأنفة لتعليل ما قبلها، وكأن ما أشعر به التفريع باعتبار تعلق الإغواء بالمخاطبين وهذا باعتبار صدور الإغواء نفسه منهم، وهو تصريح بما يستفاد من التفريع السابق. ويجوز أن يكون إشارة إلى وجه ترتب إغوائهم إياهم على حقية الوعيد عليهم وهو حب أن يتصف أولئك المخاطبون بنحو ما اتصفوا به من الغي ويكونوا مثلهم فيه. وملخص كلامهم أنه ليس منافي حقكم على الحقيقة سوى حب أن تكونوا مثلنا وهو غير ضار لكم وإنما الضار سوء اختياركم وقبح استعدادكم فذلك الذي ترتب عليه حقية الوعيد عليكم وثبوت هذا العذاب لكم، وجوز أن يقال: إنهم نفوا عنهم الإيمان والاعتقاد الحق وأثبتوا لهم الطغيان ومجاوزة الحد في العصيان حيث لم يلتفتوا إلى ما يجب الاعتقاد الصحيح مع كثرته وظهوره ورتبوا على ذلك مع ما يقتضيه البحث حقية الوعيد وفرعوا على مجموع الأمرين أنهم دعوهم إلى الغي مرادا به الكفر لاعتقاد أمر فاسد لا مجرد عدم الإيمان أي عدم التصديق بما يجب التصديق به بدون اعتقاد أمر آخر يكفر باعتقاده، وأشاروا إلى وجه ترتب ذلك على ما ذكر وهو محبة أن يكونوا مثلهم فكأنهم قالوا: كنتم تاركين الاعتقاد الحق غير ملتفتين إليه مع ظهور أدلته الجزء: 12 ¦ الصفحة: 80 وكثرتها وكنا جميعا قد حق علينا الوعيد فدعوناكم إلى ما نحن عليه من الاعتقاد الفاسد حبا لأن تكونوا أسوة أنفسنا وهذا كقولهم رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا [القصص: 63] قال الراغب: هو إعلام منهم أنا قد فعلنا بهم غاية ما كان في وسع الإنسان أن يفعل بصديقه ما يريد بنفسه أي أفدناهم ما كان لنا وجعلناهم أسوة أنفسنا وعلى هذا فأغويناكم إنا كنا غاوين انتهى، وجوز على هذا التقدير أن يكون فَأَغْوَيْناكُمْ مفرعا على شرح حال المخاطبين من انتفاء كونهم مؤمنين وثبوت كونهم طاغين وعن الآيات معرضين، وقولهم فَحَقَّ عَلَيْنا إلخ اعتراض لتعجيل بيان أن ما الفريقان فيه أمر مقضي لا ينفع فيه القيل والقال والخصام والجدال، ويجوز على هذا أن يراد بضمير الجمع في فَحَقَّ عَلَيْنا إلخ الرؤساء أو القرناء لا ما يعمهم والمخاطبين وأشاروا بذلك إلى أن ما هم فيه يكفي عن اللوم ويومىء إلى زيادة عذابهم، ولا يخفى أن تجويز الاعتراض لا يخلو عن اعتراض، وتجويز كون الضمير في عَلَيْنا إلخ للرؤساء أو القرناء يجري على غير هذا الاحتمال فتدبر. وأيا ما كان فقولهم إِنَّا لَذائِقُونَ هو قول ربهم عز وجل ووعيده سبحانه إياهم، ولو حكي كما قيل لقيل إنكم لذائقون ولكنه عدل إلى لفظ المتكلم لأنهم متكلمون بذلك من أنفسهم. ونحوه قول القائل: لقد زعمت هوازن قل مالي ... وهل لي غير ما أنفقت مال ولو حكى قولها لقال قل مالك ومنه قول المحلف للحالف احلف لأخرجن ولتخرجن الهمزة لحكاية لفظ الحالف والتاء لإقبال المحلف على المحلف. وقال بعض الأجلة: قول الرب عز وجل هو قوله سبحانه وتعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 85] والربط على ما تقدم أظهر فَإِنَّهُمْ أي الفريقين المتسائلين، والكلام تفريع على ما شرح من حالهم يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ يتساءلون والمراد به يوم القيامة فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ كما كانوا مشتركين في الغواية. واستظهر أن المغوين أشد عذابا وذلك في مقابلة أوزارهم وأوزار مثل أوزارهم فالشركة لا تقتضي المساواة إِنَّا كَذلِكَ أي مثل ذلك الفعل البديع الذي تقتضيه الحكمة التشريعية نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أي بالمشركين لقوله سبحانه وتعالى: إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ بطريق الدعوة والتلقين لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ عن القبول. وفي إعراب هذه الكلمة الطيبة أقوال: الأول أن يكون الاسم الجليل مرفوعا على البدلية من اسم لا باعتبار المحل الأصلي وهو الرفع على الابتداء بدل بعض من كل وإلا مغنية عن الربط بالضمير. وإذا قلنا إن البدل في الاستثناء قسم على حدة مغاير لغيره من الإبدال اندفع عن هذا الوجه كثير من القيل والقال وهو الجاري على ألسنة المعربين والخبر عليه عند الأكثرين مقدر والمشهور تقديره موجود، والكلمة الطيبة في مقابلة المشركين وهم إنما يزعمون وجود آلهة متعددة ولا يقولون بمجرد الإمكان على أن نفي الوجود في هذا المقام يستلزم نفي الإمكان وكذا نفي الإمكان عمن عداه عز وجل يستلزم ثبوت الوجود بالفعل له تعالى. وجوز تقديره مستحق للعبادة ونفي استحقاقها يستلزم نفي التعدد لكن لا يتم هذا التقدير على تفسير الإله بالمستحق بالعبادة كما لا يخفى. واختار البازلي تقدير الخبر مؤخرا عن إلا الله بناء على أن تقديره مقدما يوهم كون الاسم مستثنى مفرغا من ضمير الخبر وهو لا يجوز عند المحققين وأجازه بعض وهو القول الثاني، والثالث ونسب إلى الكوفيين أن إلا عاطفة والاسم الجليل معطوف على الإله باعتبار المحل وهي عندهم بمنزلة لا العاطفة في أن ما بعدها يخالف ما قبلها إلا أن لا لنفي الإيجاب وإلا لإيجاب النفي، والرابع أن الاسم الكريم هو الخبر ولا عمل لها فيه على رأي سيبويه من أن الخبر الجزء: 12 ¦ الصفحة: 81 مرفوع بما كان مرفوعا به قبل دخولها فلا يلزم عملها في المعارف على رأيه وهو لازم على رأي غيره، وضعف هذا القول به وكذا بلزوم كون الخاص خبرا عن العام. وكون الكلام مسوقا لنفي العموم والتخصيص بواحد من أفراد ما دل عليه العام لا يجدي نفعا ضرورة أن لا هذه عند الجمهور من نواسخ المبتدأ والخبر، والخامس أن إلا بمعنى غير وهي مع اسمه عز اسمه صفة لاسم لا باعتبار المحل أي لا إله غير الله تعالى في الوجود، ولا خلل فيه صناعة وإنما التخلل فيه كما قيل معنى لأن المقصود نفي الألوهية عن غيره تعالى وإثباتها له سبحانه وعلى الاستثناء يستفاد كل من المنطوق وعلى هذا لا يفيد المنطوق إلا نفي الألوهية من غيره تعالى دون إثباتها له عز وجل، واعتبار المفهوم غير مجمع عليه لا سيما مفهوم اللقب فإنه لم يقل به إلا الدقائق وبعض الحنابلة، والسادس ونسب إلى الزمخشري أن لا إله في موضع الخبر وإلا الله في موضع المبتدأ والأصل الله إله فلما أريد قصر الصفة على الموصوف قدم الخبر وقرن المبتدأ بإلا إذ المقصور عليه هو الذي يلي إلا والمقصور هو الواقع في سياق النفي والمبتدأ إذا قرن بإلا وجب تقديم الخبر عليه كما هو مقرر في موضعه، وفيه تمحل مع أنه يلزم عليه أن يكون الخبر مبنيا مع لا وهي لا يبنى معها إلا المبتدأ وإنه لو كان الأمر كما ذكر لم يكن لنصب الاسم الواقع بعد الأوجه وقد جوزه جماعة في هذا الترتيب وترك كلامهم لواحد إن التزمته لا تجد لك ثانيا فيه، والسابع أن الاسم المعظم مرفوع بإله كما هو حال المبتدأ إذا كان وصفا فإن إلها بمعنى مألوه من أله إذا عبد فيكون قائما مقام الفاعل وسادا مسد الخبر كما في ما مضروب العمران. وتعقب بمنع أن يكون إله وصفا وإلا لوجب إعرابه وتنوينه ولا قائل به. ثم إن هذه الكلمة الطيبة يندرج فيها معظم عقائد الإيمان لكن المقصود الأهم منها التوحيد ولذا كان المشركون إذا لقنوها أولا يستكبرون وينفرون وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ يعنون بذلك قاتلهم الله تعالى النبي صلّى الله عليه وسلم. وقد جمعوا بين إنكار الوحدانية وإنكار الرسالة. ووصفهم الشاعر بالمجنون قيل تخليط وهذيان لأن الشعر يقتضي عقلا تاما به تنظم المعاني الغريبة وتصاغ في قوالب الألفاظ البديعة. وفيه نظر وكم رأينا شعراء ناقصي العقول ومنهم من يزعم أنه لا يحسن شعره حتى يشرب المسكر فيسكر ثم يقول، نعم كل من الوصفين هذيان في حقه صلّى الله عليه وسلم بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ رد عليهم وتكذيب لهم ببيان أن ما جاء به عليه الصلاة والسلام من التوحيد هو الحق الثابت الذي قام عليه البرهان وأجمع عليه كافة المرسلين فأين الشعر والجنون من ساحته صلّى الله عليه وسلم الرفيعة الشأن. وقرأ عبد الله «وصدق» بتخفيف الدال «المرسلون» بالواو رفعا أي وصدق المرسلون في التبشير به وفي أنه يأتي آخرهم إِنَّكُمْ بما فعلتم من الإشراك وتكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام والاستكبار لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ والالتفات لإظهار كمال الغضب عليهم بمشافهتهم بهذا الوعيد وعدم الاكتراث بهم وهو اللائق بالمستكبرين. وقرأ أبو السمال وأبان رواية عن عاصم لَذائِقُوا الْعَذابِ بالنصب على أن حذف النون للتخفيف كما حذف التنوين لذلك في قول أبي الأسود: فألفيته غير مستعتب ... ولا ذاكر الله إلا قليلا بجرّ ذاكر بلا تنوين ونصب الاسم الجليل. وهذا الحذف قليل في غير ما كان صلة لأل. أما فيما كان صلة لها فكثير الورود لاستطالة الصلة الداعية للتخفيف نحو قوله: الحافظو عورة العشيرة لا ... يأتيهم من ورائهم نطف ونقل ابن عطية عن أبي السمال أنه قرأ «لذائق» بالإفراد والتنوين «العذاب» بالنصب، وخرج الإفراد على أن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 82 التقدير لجمع ذائق، وقيل: على تقدير إن جمعكم لذائق. وقرىء «لذائقون» بالنون «العذاب» بالنصب على الأصل وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي إلا جزاء ما كنتم تعملونه من السيئات أو إلا بما كنتم تعملونه منها إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ استثناء منقطع من ضمير ذائقوا وما بينهما اعتراض جيء به مسارعة إلى تحقيق الحق ببيان أن ذوقهم العذاب ليس إلا من جهتهم لا من جهة غيرهم أصلا فإلا مؤولة بلكن وما بعد كخبرها فيصير التقدير لكن عباد الله المخلصين أولئك لهم رزق وفواكه إلخ. ويجوز أن يكون المعنى لكن عباد الله المخلصين ليسوا كذلك، وقيل استثناء منقطع من ضمير تُجْزَوْنَ على أن المعنى تجزون بمثل ما عملتم لكن عباد الله المخلصين يجزون أضعافا مضاعفة بالنسبة إلى ما عملوا. ولا يخفى بعده، وأبعد منه جعل الاستثناء من ذلك متصلا بتعميم الخطاب في «تجزون» لجميع المكلفين لما فيه مع احتياجه إلى التكلف الذي في سابقه من تفكيك الضمائر، والْمُخْلَصِينَ صفة مدح حيث كانت الإضافة للتشريف أُولئِكَ أي العباد المذكورون، وفيه إشارة إلى أنهم ممتازون بما اتصفوا به من الإخلاص في عبادته تعالى عمن عداهم امتيازا بالغا، وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإشعار بعلو طبقتهم وبعد منزلتهم في الفضل. وهو مبتدأ وقوله تعالى: لَهُمْ أما خبر له وقوله سبحانه: رِزْقٌ مرتفع على الفاعلية للظرف وإما خبر مقدم ورِزْقٌ مبتدأ مؤخر والجملة خبر المبتدأ والمجموع كالخبر للمستثنى المنقطع على ما أشرنا إليه أو استئناف لما أفاده الاستثناء إجمالا بيانا تفصيليا وقوله تعالى: مَعْلُومٌ أي معلوم الخصائص ككونه غير مقطوع ولا ممنوع حسن المنظر لذيذ الطعم طيب الرائحة إلى غير ذلك من الصفات المرغوبة، فلا يقال: إن الرزق لا يكون معلوما إلا إذا كان مقدرا بمقدار وقد جاء في آية أخرى يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ [غافر: 40] وما لا يدخل تحت الحساب لا يحد ولا يقدر فلا يكون معلوما، وقيل المراد معلوم الوقت لقوله تعالى وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم: 62] وعن قتادة الرزق المعلوم الجنة، وتعقب بأنه فِي جَنَّاتِ بعد يأباه. واعترض بأنه إذا كان المعنى وهم مكرمون فيها لم يكن به بأس. أجيب بأن جعلها مقر المرزوقين لا يلائم جعلها رزقا وأما إذا كان قيدا للرزق فهو ظاهر الإباء، وكون المساكن رزقا للساكن فإذا اختلف العنوان لم يكن به بأس لا يدفع ما قرر كما لا يخفى على المنصف، وقوله تعالى: فَواكِهُ بدل من رِزْقٌ بدل كل من كل، وفيه تنبيه على أنه مع تميزه بخواصه كله فواكه أو خبر مبتدأ محذوف والجملة مستأنفة أي ذلك الرزق فواكه والمراد بها ما يؤكل لمجرد التلذذ دون الاقتيات وجميع ما يأكله أهل الجنة كذلك حتى اللحم لكونهم مستغنين عن القوت لإحكام خلقتهم وعدم تحلل شيء من أبدانهم بالحرارة الغريزية ليحتاجوا إلى بدل يحصل من القوت، فالمراد بالفاكهة هنا غير ما أريد بها في قوله تعالى وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [الواقعة: 20، 21] وهي هناك بالمعنى المعروف فلا منافاة. وجوز أن يكون عطف بيان للرزق المعلوم فوجه الاختصاص ما علم به من بين الأرزاق أنه فواكه، وقيل هو بدل بعض من كل، وتخصيصها بالذكر لأنها من أتباع سائر الأطعمة فتدل على تحقق غيرها وَهُمْ مُكْرَمُونَ عند الله تعالى لا يلحقهم هوان وذلك أعظم المثوبات وأليقها بأولي الهمم، ولعل هذا إشارة إلى النعيم الروحاني بعد النعيم الجسماني الذي هو بواسطة الأكل. وقيل مكرمون في نيل الرزق حيث يصل إليهم من غير كسب وكد وسؤال كما هو شأن أرزاق الدنيا. وقرىء «مكرّمون» بالتشديد فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ أي في جنات ليس فيها إلا النعيم على أن الإضافة على معنى لام الاختصاص المفيدة للحصر. والظرف متعلق بمكرمون أو بمعلوم أو بمحذوف حال من المستكن في الجزء: 12 ¦ الصفحة: 83 مُكْرَمُونَ أو خبر ثان لأولئك أو لَهُمْ وقوله تعالى: عَلى سُرُرٍ يحتمل أن يكون حالا من المستكن في مُكْرَمُونَ أو في الظرف قبله وأن يكون خبرا فيكون قوله سبحانه مُتَقابِلِينَ حالا من المستكن فيه أو في مُكْرَمُونَ أو في الظرف أعني فِي جَنَّاتِ وأن يتعلق بمتقابلين فيكون حالا من المستكن في غيره. وأشير بتقابلهم إلى استئناس بعضهم ببعض فبعضهم يقابل بعضا للاستئناس والمحادثة. وفي بعض الأحاديث أنه ترفع عنهم الستور أحيانا فينظر بعضهم إلى بعض، وقرأ أبو السمال «سرر» بفتح الراء وهي لغة بعض تميم وكلب يفتحون ما كان جمعا على فعل من المضعف إذا كان اسما، واختلف النحويون في الصفة فمنهم من قاسها على الاسم ففتح فيقول ذلل بفتح اللام على تلك اللغة. ومنهم من خص ذلك بالاسم وهو مورد السماع. وقوله تعالى: يُطافُ عَلَيْهِمْ إما استئناف لبيان ما يكون لهم في مجالس أنسهم أو حال من الضمير في مُتَقابِلِينَ أو في أحد الجارين: وجوز كونه صفة لمكرمون. وفاعل الطواف على ما قيل من مات من أولاد المشركين قبل التكليف. ففي الصحيح أنهم خدم أهل الجنة. وقد صرح به في موضع آخر وهو قوله تعالى يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ [الواقعة: 17] وقوله سبحانه يَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ [الطور: 24] بِكَأْسٍ أي بخمر كما روي عن ابن عباس وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وغيرهما عن الضحاك قال: كل كأس ذكره الله تعالى في القرآن إنما عنى به الخمر. ونقل ذلك أيضا عن الحبر والأخفش وهو مجاز مشهور بمنزلة الحقيقة. وعليه قول الأعشى: وكأس شربت على لذة ... وأخرى تداويت منها بها ويدل على أنه أراد بها الخمر إطلاقا للمحل على الحال قوله شربت وتقدير شربت ما فيها تكلف، والقرينة هاهنا ما يأتي بعد. وجوز تفسيره بمعناه الحقيقي وهو إناء فيه خمر، وأكثر اللغويين على أن إناء الخمر لا يسمى كأسا حقيقة إلا وفيه خمر فإن خلا منه فهو قدح، والخمر ليس بمتعين، قال في البحر: الكأس ما كان من الزجاج فيه خمر أو نحوه من الأنبذة ولا يسمى كأسا إلا وفيه ذلك، وقال الراغب: الكأس الإناء بما فيه من الشراب ويسمى كل واحد منهما بانفراده كأسا يقال كأس خال ويقال شربت كأسا وكأس طيبة، ولعل كلامه أظهر في أن تسمية الخالي كأسا مجاز، وحكي عن بعضهم أنه قال: الكأس من الأواني كل ما اتسع فمه ولم يكن له مقبض ولا يراعى كونه لخمر أو لغيره مِنْ مَعِينٍ في موضع الصفة لكأس أي كائنة من شراب معين أو نهر معين أي ظاهر للعيون جار على وجه الأرض كما تجري الأنهار أو خارج من العيون والمنابع. وأصله معيون من عان الماء إذا ظهر أو نبع على أن ميمه زائدة أو هو من معن فهو فعيل على أن الميم أصلية. ووصف به خمر الجنة تشبيها لها بالماء لكثرتها حتى تكون أنهارا جارية في الجنان. ويؤذن ذلك برقتها ولطافتها وأنها لم تدس بالأقدام كخمر الدنيا كما ينبىء عن دوسها بها قوله: بنت كرم يتموها أمها ... ثم هانوها بدوس بالقدم ثم عادوا حكموها فيهم ... ويلهم من جور مظلوم حكم وقوله الآخر: وشمولة من عهد عاد قد غدت ... صرعى تداس بأرجل العصار لانت لهم حتى انتشوا فتمكنت ... منهم فصاحت فيهم بالثار وهذا مبني على أنها خمر في الحقيقة، وجوز أن تكون ماء فيه لذة الخمر ونشأته فالوصف بذلك ظاهر، وتفيد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 84 الآية وصف مائهم باللذة والنشأة، وما ذكر أولا هو الظاهر نعم قال غير واحد: لا اشتراك بين ما في الدنيا وما في الجنة إلا بالأسماء فحقيقة خمر الجنة غير حقيقة خمر الدنيا وكذا سائر ما فيهما بَيْضاءَ وصف آخر للكأس يدل على أنها مؤنثة. وعن الحسن أن خمر الجنة أشد بياضا من اللبن. وأخرج ابن جرير عن السدي أن عبد الله قرأ «صفراء» وقد جاء وصف الخمر الدنيا بذلك كما في قول أبي نواس: صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسها حجر مسته سراء والمشهور أن هذا بعد المزج وإلا فهي قبله حمراء كما قال الشاعر: وحمراء قبل المزج صفراء بعده ... أتت في ثيابي نرجس وشقائق حكت وجنة المحبوب صرفا فسلطوا ... عليها مزاجا فاكتست لون عاشق لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وصفت بالمصدر للمبالغة بجعلها نفس اللذة، وجوز أن تكون لذة تأنيث لذ بمعنى لذيذ كطب بمعنى طبيب حاذق، وأنشدوا قوله: ولذ كطعم الصرخدي تركته ... بأرض العدا من خشية الحدثان يريد وعيش لذيذ كطعم الخمر المنسوب لصرخد بلد بالشام، وفسره الزمخشري بالنوم وأراد أنه بمعنى لذيذ غلب على النوم لا أنه اسم جامد، وقوله: بحديثك اللذ الذي لو كلمك ... أسد الفلاة به أتين سراعا وفي قوله تعالى لِلشَّارِبِينَ دون لهم إشارة إلى أنها يلتذ بها الشارب كائنا من كان لا فِيها غَوْلٌ أي غائلة كما في خمر الدنيا من غاله يغوله إذا أفسده، وقال الراغب: الغول إهلاك الشيء من حيث لا يحس به يقال غاله يغوله غولا واغتاله اغتيالا، ومنه سمي السعلاة غولا، والمراد هنا نفي أن يكون فيها ضرر أصلا. وروى البيهقي وجماعة عن ابن عباس أنه قال في ذلك ليس فيها صداع وفي رواية ابن أبي حاتم عنه لا تغول عقولهم من السكر، وأخرج الطستي عنه أن نافع بن الأزرق قال: أخبرني عن قوله تعالى لا فِيها غَوْلٌ فقال: ليس فيها نتن ولا كراهية كخمر الدنيا قال: وهل تعرف العرب ذلك؟ فقال: نعم أما سمعت قول امرئ القيس: رب كأس شربت لا غول فيها ... وسقيت النديم منها مزاجا وفي رواية أخرى عنه أنه فسر ذلك بوجع البطن، وروي ذلك عن مجاهد وابن زيد وابن جبير واختير التعميم وأن التنصيص على مخصوص من باب التمثيل، وتقديم الظرف على ما قيل للتخصيص، والمعنى ليس فيها ما في خمور الدنيا من الغول، وفيه كلام في كتب المعاني وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ أي لا يسكرون كما روي عن ابن عباس وغيره، وهو بيان لحاصل المعنى، وأصل النزف نزع الشيء وإذهابه بالتدريج يقال نزفت الماء من البئر إذا نزحته ونزعته كله منها شيئا بعد شيء، ونزف الهم دمعه نزعه كله، ويقال شارب نزيف أي نزفت الخمر عقله بالسكر وأذهبته كما ينزف الرجل البئر وينزع ماءها فكأن الشارب ظرف للعقل فنزع منه، فلا ينزفون مبنيا للمفعول كما قرأ الحرميان والعربيان معناه لا تنزع عقولهم أي لا تنزع الخمر عقولهم ولا تذهبها أو الفاعل هو الله تعالى وتعدية الفعل بعن قيل لتضمينه معنى يصدرون، وقيل عن للتعليل والسببية، وأفرد هذا الفساد بالنفي وعطف على ما يعمه لأنه من عظم فساده كأنه جنس برأسه، وله سميت الخمر أم الخبائث، والمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار. وقرأ حمزة والكسائي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 85 «ينزفون» بضم الياء وكسر الزاي وتابعهما عاصم في الواقعة على أنه من أنزف الشارب إذا صار ذا نزف أي عقل أو شراب نافد ذاهب فالهمزة فيه للصيرورة، وقيل للدخول في الشيء ولذا صار لازما فهو مثل كبه فأكب، وهو أيضا بمعنى السكر لنفاد عقل السكران أو نفاد شرابه لكثرة شربه فيلزمه عليهما السكر ثم صار حقيقة فيه، قال الأبيرد اليربوعي: لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم ... لبئس الندامى كنتم آل أبجرا وفي البحر أن أنزف مشترك بين سكر ونفذ فيقال أنزف الرجل إذا سكر وأنزف إذا نفد شرابه، وتعدية الفعل للتضمين كما سبق، وجوز إرادة معنى النفاد من غير إرادة معنى السكر أي لا ينفد ولا يفنى شرابهم حتى ينغص عيشهم وليس بذاك. وقرأ ابن أبي إسحاق «ينزفون» بفتح الياء وكسر الزاي، وطلحة بفتح الياء وضم الزاي، والمراد في جميع ذلك نفي السكر على ما هو المأثور عن الجمهور. ومن الغريب ما أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: في الخمر أربع خصال السكر والصداع والقيء والبول فنزه الله تعالى خمر الجنة عنها لا فيها غول لا تغول عقولهم من السكر ولا هم عنها ينزفون لا يقيئون عنها كما يقيء صاحب خمر الدنيا عنها، وهو أقرب لاستعمال النزف في الأمور الحسية كنزف البئر والركية وما أشبه القيء وإخراج الفضلات من الجوف بنزف البئر وإخراج مائها عند نزحها، ولولا أن الجمهور على ما سمعت أولا حتى ابن عباس في أكثر الروايات عنه لقلت: إن هذا التفسير هو الأولى وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ قصرن أبصارهن على أزواجهن لا يمددن طرفا إلى غيرهم قاله ابن عباس ومجاهد وابن زيد فمتعلق القصر محذوف للعلم به، والكلام إما على ظاهره أو كناية عن فرط محبتهن لأزواجهن وعدم ميلهن إلى سواهم، وقيل المراد لا يفتحن أعينهن دلالا وغنجا، والوصف على القولين متعد، وجوز كونه قاصرا على أن المعنى ذابلات الجفن مراضه، وما أحيل ذبول الأجفان في الغواني الحسان، ولذا كثر التغزل بذلك قديما وحديثا، ومنه قول ابن الأزدي: مرضت سلوتي وصح غرامي ... من لحاظ هي المراض الصحاح والطرف في كل ذلك طرفهن، وجوز أن يكون الوصف متعديا والطرف طرف غيرهن، والمعنى قاصرات طرف غيرهن عن التجاوز إلى سواهن لغاية حسنهن فلا يتجاوزهن طرف الناظر إليهن كقول المتنبي: وخصر تثبت الأبصار فيه ... كأن عليه من حدق نطاقا وقد ذكر هذا المعنى أيضا ابن رشيق في قول امرئ القيس: من القاصرات الطرف لو دب محول ... من الذر فوق الأنف منها لأثرا وهو لعمري رشيق بيد أني أقول: الظاهر هنا أن العندية في مجالس الشرب إتماما للذة فلعل الأوفق للغيرة وإن كانت الحظيرة حظيرة قدس المعنى الأول، والجمهور قد قصروا الطرف عليه ولا يظن بهم أنهم من القاصرين، والجملة قيل عطف على ما قبلها، وقيل: في موضع الحال أي يطاف عليهم بكأس والحال عندهم نساء قاصرات الطرف عِينٌ جمع عيناء وهي الواسعة العين في جمال، ومنه قيل للبقر الوحشي عين، وقيل: العيناء واسعة العين أي كثيرة محاسن عينها، والحق أن السعة اتساع الشق والتقييد بالجمال يدفع ما عسى أن يقال، وما ألطف وأظرف ذكر عين بعد قاصرات الطرف كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ البيض معروف وهو اسم جنس الواحدة بيضة ويجمع على بيوض كما في قوله: بتيهاء قفر والمطي كأنها ... قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها الجزء: 12 ¦ الصفحة: 86 والمراد تشبيههن بالبيض الذي كنه الريش في العش أو غيره في غيره فلم تمسه الأيدي ولم يصبه الغبار في الصفاء وشوب البياض بقليل صفرة مع لمعان كما في الدر، والأكثرون على تخصيصه ببيض النعام في الأداحي لكونه أحسن منظرا من سائر البيض وأبعد عن مس الأيدي ووصول ما يغير لونه إليه، والعرب تشبه النساء بالبيض ويقولون لهن بيضات الخدور، ومنه قول امرئ القيس: وبيضة خدر لا يرام خباؤها ... تمتعت من لهو بها غير معجل والبياض المشوب بقليل صفرة في النساء مرغوب فيه جدا قيل وكذا البياض المشوب بقليل حمرة في الرجال وأما البياض الصرف فغير محمود ولذا ورد في الحلية الشريفة أبيض ليس بالأمهق. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس وهو وغيره عن ابن جبير وابن أبي حاتم وابن حرير عن السدي أن البيض المكنون ما تحت القشر الصلب بينه وبين اللباب الأصفر والمراد تشبيههن بذلك بعد الطبخ في النعومة والطراوة فالبيضة إذا طبخت وقشرت ظهر ما تحت القشرة على أتم نعومة وأكمل طراوة، ومن هنا تسمع العامة يقولون في مدح المرأة: كأنها بيضة مقشرة، ورجح ذلك الطبري بأن الوصف بمكنون يقتضيه دون المشهور لأن خارج قشر البيضة ليس بمكنون، وفيه أن المتبادر من البيض مجموع القشر وما فيه وأكلت كذا بيضة الأكل فيه قرينة إرادة ما في القشر دون المجموع إذ لا يؤكل عادة وحينئذ لا يتم ما قاله الطبري فالأول هو المقبول، ومعنى المكنون فيه ظاهر على ما سمعت، وقد نقل الخفاجي هذا المعنى عن بعض المتأخرين وتعقبه بأنه ناشىء من عدم معرفة كلام العرب وكأنه لم يقف على روايته عن الحبر ومن معه وإلا لا يتسنى له ما قال، ولعل الرواية المذكورة غير ثابتة وكذا ما حكاه أبو حيان عن الحبر من أن البيض المكنون الجوهر المصون لنبو ظاهر اللفظ عن ذلك، وقالت فرقة: المراد تشبيههن بالبيض في تناسب الأجزاء والبيضة أشد الأشياء تناسب أجزاء والتناسب ممدوح، ومن هنا قال بعض الأدباء متغزلا: تناسب الأعضاء فيه فلا ترى ... بهن اختلافا بل أتين على قدر وأنت تعلم بعد فرض تسليم أن تناسب الأجزاء في البيضة معروف بينهم أن الوصف بالمكنون مما لا يظهر له دخل في التشبيه، واستشكل التشبيه على ما تقدم بآية عروس القرآن كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ [الرحمن: 58] فإنها ظاهرة في أن في ألوانهن حمرة وأين هذا من التشبيه بالبيض المكنون على ما سمعت قبل فيتعين أن يراد التشبيه من حيث النعومة والطراوة كما روي ثانيا أو من حيث تناسب الأجزاء كما قيل أخيرا. وأجيب بأنه يجوز أن يكون المشبهات بالبيض المكنون غير المشبهات بالياقوت والمرجان، وكون البياض المشوب بالصفرة أحسن الألوان في النساء غير مسلم بل هو حسن ومثله في الحسن البياض المشوب بحمرة على أن الأحسنية تختلف باختلاف طباع الرائين، وللناس فيما يعشقون مذاهب. والجنة فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. وقيل يجوز أن يكون تشبيههن بالبيض المكنون بالنظر إلى بياض أبدانهن المشوب بصفرة ما عدا وجوههن وتشبيههن بالياقوت والمرجان بالنظر إلى بياض وجوههن المشوب بحمرة، وقيل تشبيههن بهذا ليس من جهة أن بياضهن مشوب بحمرة بل تشبيههن بالياقوت من حيث الصفاء وبالمرجان من حيث الإملاس وجمال المنظر. وإذا أريد بالمرجان الدرر الصغار كما ذهب إليه جمع دون الخرز الأحمر المعروف يجوز أن يكون التشبيه من حيث البياض المشوب بصفرة فلا إشكال أصلا فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ معطوف على يُطافُ وما بينهما معترض أو من متعلقات الأول أي يشربون فيتحادثون على الشرب كما هو عادة المجتمعين عليه قال محمد ابن فياض: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 87 وما بقيت من اللذات إلا ... محادثة الكرام على الشراب ولثمك وجنتي قمر منير ... يجول بوجهه ماء الشباب وعبر بالماضي مع أن المعطوف عليه مضارع للإشعار بالاعتناء بهذا المعطوف بالنسبة إلى المعطوف عليه فكيف لا يقبلون على الحديث وهو أعظم لذاتهم التي يتعاطونها مع ما في ذلك من الإشارة إلى تحقق الوقوع حتما وتساؤلهم عن المعارف والفضائل وما جرى لهم وعليهم في الدنيا، وما أحلى تذكر ما فات عند رفاهية الحال وفراغ البال قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ في تضاعيف محاورتهم إِنِّي كانَ لِي في الدنيا قَرِينٌ مصاحب يَقُولُ لي على طريق التوبيخ بما كنت عليه من الإيمان والتصديق بالبعث المفضي إلى ما أنا عليه اليوم إِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أي بالبعث كما ينبىء عنه قوله سبحانه أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ أي لمبعوثون ومجازون من الدين بمعنى الجزاء وقيل لمسوسون مربوبون من ذاته إذا ساسه ومنه الحديث «العاقل من دان نفسه» . وقرىء «المصّدقين» بتشديد الصاد من التصدق واعترضت هذه القراءة بأن الكلام عليها لا يلائم قوله سبحانه أَإِذا مِتْنا إلخ، وتعقب بأن فيه غفلة عن سبب النزول، أخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن عطاء الخراساني قال: كان رجلان شريكان وكان لهما ثمانية آلاف دينار فاقتسماها فعمد أكبرهما فاشترى بألف دينار أرضا فقال صاحبه: اللهم إن فلانا اشترى بألف دينار أرضا وإني أشتري منك بألف دينار أرضا في الجنة فتصدق بألف دينار ثم ابتنى صاحبه دار بألف دينار فقال: اللهم إن فلانا قد ابتنى دار بألف دينار وإني أشتري منك في الجنة دارا بألف دينار فتصدق بألف دينار ثم تزوج امرأة فأنفق عليها ألف دينار فقال: اللهم إن فلانا تزوج امرأة فأنفق عليها ألف دينار وإني أخطب إليك من نساء الجنة بألف دينار فتصدق بألف دينار ثم اشترى خدما ومتاعا بألف دينار فقال: اللهم أن فلانا اشترى خدما ومتاعا بألف دينار وإني أشتري منك خدما ومتاعا في الجنة بألف دينار فتصدق بألف دينار ثم أصابته حاجة شديدة فقال لو أتيت صاحبي هذا لعله ينالني منه معروف فجلس على طريقه حتى مر به في حشمه وأهله فقام إليه فنظر الآخر فعرفه فقال: فلان قال نعم فقال: ما شأنك؟ فقال: أصابتني بعدك حاجة فأتيتك لتصيبني بخير قال: فما فعلت بمالك؟ فقص عليه القصة فقال: أإنك لمن المصدقين بهذا اذهب فو الله لا أعطيك شيئا فرده فقضى لهما أن توفيا فكان مال المتصدق الجنة ومال الآخر النار وفيهما نزلت الآية، وقيل هما اخوان ورثا ثمانية آلاف دينار واقتسماها فكان من خبرهما ما كان، وكان الاثنان من بني إسرائيل وهذا السبب يدل على أن أحدهما كان مصدقا ومتصدقا أيضا والآخر وهو القرين أنكر عليه أنه أنفق ليجازي على إنفاقه بما هو أعظم وأبقى فقد ضيع بزعمه ماله فيما لا أصل له وهو الجزاء الأخروي ولا يكون هذا بدون البعث فلذا أنكره، وليت شعري كيف يتوهم عدم الملاءمة مع قوله تعالى أَإِنَّا لَمَدِينُونَ ولعله أنسب بتلك القراءة، وحاصل المعنى أنت المتصدق طلبا للجزاء في الآخرة فهل نحن بعد ما نفنى نبعث ونجازى، وذكر العظام مع التراب مع أن ذكر التراب يكفي ويغني عن ذلك لتصوير حال ما يشاهده ذلك الشخص من الأجساد البالية من مصير اللحم وغيره ترابا عليه عظام نخرة ليذكره ويخطر بباله ما ينافي مدعاه، وكونه للتنزل في الإنكار أو للتأكيد لا يرجحه بل يجوزه قالَ أي ذلك القائل الذي كان قرين لجلسائه بعد ما حكي لهم مقالة قرينة له في الدنيا هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ على أهل النار لأريكم ذلك القرين الذي قال لي ما حكيت لكم، والمراد من الاستفهام العرض أو الأمر على ما قيل، والغرض من ذلك إراءتهم سوء حال القرين ليؤنسهم نوع إيناس وقيل يريد بذلك بيان صدقه فيما حكاه، ولا يخفى أن ظن الكذب في غاية البعد واطلاع أهل الجنة على أهل النار ومعرفة من فيها مع ما بينهما من التباعد غير بعيد بأن يخلق الله تعالى فيهم حدة نظر ويعرفهم من أرادوا الاطلاع عليه، ولعلهم إذا أرادوا ذلك وقفوا على الأعراف الجزء: 12 ¦ الصفحة: 88 فاطلعوا على من أرادوا من أهل النار وقيل إن لهم طاقات في الجنة ينظرون منها من علو إلى أهل النار وعلم القائل بأن القرين من أهل النار لعلمه بأنه كان ينكر البعث ومنكره منهم قطعا والأصل بقاؤه على الكفر وقيل علم ذلك بأخبار الملائكة عليهم السلام إياه، وقيل قائل هَلْ أَنْتُمْ إلخ هو الله تعالى أو بعض الملائكة عليهم السلام يقول للمتحادثين من أهل الجنة هل تحبون أن تطلعوا على أهل النار لأريكم ذلك القرين فتعلموا أين منزلتكم من منزلتهم، وقيل القائل من كان له قرين والمخاطبون بأنتم الملائكة عليهم السلام وفي الكلام حذف كأنه قيل: فقال لهذا القائل حاضروه من الملائكة قرينك هذا يعذب في النار فقال للملائكة الذين أخبروه: هل أنتم مطلعون ولا يخفى ما فيه فَاطَّلَعَ أي على أهل النار فَرَآهُ أي فرأى قرينه فِي سَواءِ الْجَحِيمِ أي في وسطها، ومنه قول عيسى بن عمر لأبي عبيدة كنت أكتب حتى ينقطع سوائي، وسمي الوسط سواء لاستواء المسافة منه إلى الجوانب. وقرأ أبو عمرو في رواية حسين الجعفي مُطَّلِعُونَ بإسكان الطاء وفتح النون «فأطلع» بضم الهمزة وسكون الطاء وكسر اللام فعلا ماضيا مبنيا للمفعول، وهي قراءة ابن عباس وابن محيصن وعمار بن أبي عمار وأبي سراج وقرىء «مطّلعون» مشددا «فاطلّع» مشددا أيضا مضارعا منصوبا على جواب الاستفهام. وقرىء مطلعون بالتخفيف «فأطلع» مخففا فعلا ماضيا و «فأطلع» مخففا مضارعا منصوبا. وقرأ أبو البرهسم وعمار بن أبي عمار فيما ذكره خلف عنه «مطلعون» بتخفيف الطاء وكسر النون «فاطّلع» ماضيا مبنيا للمفعول ورد هذه القراءة أبو حاتم وغيره لجمعها بين نون الجمع وياء المتكلم والوجه مطلعي كما قال عليه الصلاة والسلام «أو مخرجي هم» ووجهها أبو الفتح على تنزيل اسم الفاعل منزلة المضارع فيقال عنده ضاربونه مثلا كما يقال يضربونه وعليه قوله: هم الآمرون الخير والفاعلونه ... إذا ما خشوا من محدث الدهر معظما وأنشد الطبري قول الشاعر: وما أدري وظني كل ظن ... أمسلمني إلى قومي شراحي (1) ومثله قول الآخر: فهل فتى من سراة الحي يحملني ... وليس حاملني إلا ابن حمال وهذه النون عند جمع نون الوقاية ألحقت مع الوصف حملا له على الفعل وليست مثل النون في القراءة. وفي البيت وإن كان إلحاق كل للحمل. وقال بعضهم: إنها نون التنوين وحركت لالتقاء الساكنين، ورد بأنه سمع إلحاقها مع أل كقوله: وليس الموافيني ومع أفعل التفضيل كما وقع في الحديث غير الدجال أخوفني عليكم. ويعلم من هذا عدم اختصاص إلحاقها بالشعر نعم هو في غيره قليل، وضعف بعضهم ما وجه به أبو الفتح وقال: إن ذلك لا يقع إلا في الشعر وخرجت أيضا على أنها من وضع المتصل موضع المنفصل وأريد بذلك أن الأصل مطلعون إياي ثم جعل المنفصل متصلا فقيل مطلعوني ثم حذفت الياء واكتفى عنها بالكسرة كما في قوله تعالى فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ [الحج: 44، سبأ: 45، فاطر: 26، الملك: 18] ومثله يقال في الفاعلونه في البيت السابق، ورد ذلك أبو حيان بأن ما ذكر ليس من محال المنفصل حتى يدعي أن المتصل وقع موقعه وادعى أولوية تخريج أبي الفتح، والبيت قيل مصنوع لا يصح الاستشهاد به، وقيل: إن الهاء هاء السكت حركت للضرورة وهو فرار من ضرورة لأخرى إذ تحريكها وإثباتها في الوصل غير جائز، وللنحاة في مسألة إثبات النون مع إضافة الوصف إلى الضمير كلام   (1) قال الفراء يريد شراحيل اه منه. [ ..... ] الجزء: 12 ¦ الصفحة: 89 طويل، حاصله أن نحو ضاربك وضارباك وضاربوك ذهب سيبويه إلى أن الضمير فيه في محل جر بالإضافة ولذا حذف التنوين ونون التثنية والجمع، وذهب الأخفش وهشام إلى أن الضمير في محل نصب وحذفها للتخفيف حتى وردتا ثابتين كما في الفاعلونه وأ مسلمني فالنون عندهما في الأخير ونحوه تنوين حرك لالتقاء الساكنين وقد سمعت ما فيه، وحديث الحمل على الفعل على العلات أحسن ما قيل في التوجيه، هذا وطلع وأطلع بالتشديد وأطلع بالتخفيف بمعنى واحد والكل لازم ويجيء الاطلاع متعديا يقال أطلعه على كذا فاطلع، و «مطلعون» في قراءة أبي عمرو بمعنى مطلعون بالتشديد ونائب فاعل أطلع ضمير القائل والفاعل هم المخاطبون واطلاعهم إياه باعتبار التسبب كأنه لما أراد الاطلاع وأحب أن لا يستبد به أدبا عرض عليهم أن يطلعوا فرغبوا وأطلعوا فكان ذلك وسيلة إلى اطلاعه فكأنهم هم الذين أطلعوه ففاء فَاطَّلَعَ فصيحة والعطف على مقدر، والمعنى على القراءة التي بعدها هل أنتم مطلعون حتى أطلع أنا أيضا فاطلعوا وأطلع هو بعد ذلك فرآه في سواء الجحيم ولا بد من تقدير اطلع بعد ذلك ليصلح ترتب فَرَآهُ على ما قبله وهَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ عليه بمعنى الأمر تأدبا ومبالغة وعلى القراءة الثانية وهي قراءة التخفيف في الكلمتين والثانية فعل ماض المعنى كما في قراءة الجمهور، وكذا على القراءة التي بعدها، وعن قراءة أبي البرهسم ومن معه هل أنتم مطلعي فأطلعوه فرآه إلخ، واطلاعهم إياه إذا كان الخطاب للجلساء بطريق التسبب كأنه طلب أن يطلعوا ليوافقهم فيطلع وهو إذا كان (1) الخطاب للملائكة عليهم السلام على ما يتبادر إلى الذهن، وعن صاحب اللوامح إن طلع وأطلع اطلاعا بمعنى أقبل وجاء والقائم مقام الفاعل على قراءة أطلع مبنيا للمفعول ضمير المصدر أو جار ومجرور محذوفان أي اطلع به لأن اطلع لازم كأقبل وقد علمت أن اطلع يجيء متعديا كأطلعت زيدا. ورد أبو حيان الاحتمال الثاني بأن نائب الفاعل لا يجوز حذفه كالفاعل فتأمل جميع ما ذكرنا ولا تغفل قالَ أي القائل لقرينه تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ أي لتهلكني، وفي قراءة عبد الله «لتغوين» ، و «إن» مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة. وفي البحر أن القسم فيه التعجب من سلامته منه إذ كان قرينه قارب أن يرديه وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي على وهي التوفيق والعصمة لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ للعذاب كما أحضرته أنت وأضرابك أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إلخ رجوع إلى محاورة جلسائه بعد إتمام الكلام مع قرينه تبجحا وابتهاجا بما أتاح الله تعالى له من الفضل العظيم والنعيم المقيم وتعريضا للقرين بالتوبيخ، وجوز أن يكون من كلام المتسائلين جميعا وأن يكون من تتمة كلام القائل يسمع قرينه على جهة التوبيخ له، واختير الأول، والهمزة للتقرير وفيها معنى التعجب والفاء للعطف على مقدر يقتضيه نظم الكلام على ما ذهب إليه الزمخشري ومتبعوه أي أنحن مخلدون فما نحن بميتين أي ممن شأنه الموت كما يؤذن به الصفة المشبهة. وقرىء «بمائتين» إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى التي كانت في الدنيا وهي متناولة عند أهل السنة لما في القبر بعد الإحياء للسؤال لعدم الاعتداد بالحياة فيه لكونها غير تامة ولا قارة وزمانها قليل جدا، والاستثناء مفرغ من مصدر مقدر كأنه قيل أفما نحن بميتين موتة إلا موتتنا الأولى، وجوز أن يكون منقطعا أي لكن الموتة الأولى كانت لنا في الدنيا وعلمهم بأنهم لا يموتون ناشىء من إخبار أنبيائهم لهم في الدنيا وإعلامهم إياهم بأن أهل الجنة لا يموتون أو من قول الملائكة عليهم السلام لهم حين دخول الجنة طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ [الزمر: 73] وقولهم ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ [الحجر: 46] وقيل إن أهل الجنة أول ما دخلوا لا يعلمون أنهم لا يموتون فإذا جيء بالموت على صورة كبش أملح وذبح فنودي يا أهل الجنة خلود بلا موت ويا أهل النار خلود بلا موت فحينئذ يعلمونه فيقولون ذلك   (1) قوله وهو إذا كان الخطاب إلخ كذا في أصله وانظر اه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 90 تحدثا بنعمة الله تعالى واغتباطا بها، ولا يخفى أن كون هذا القول المحكي هنا عند علمهم بعدم الموت من ذبحه بعيد في هذا المقام والظاهر أن هذا بعد الاطلاع والكلام مع القرين وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ كأصحاب النار، والمراد استمرار النفي وتأكيده وكذا فيما تقدم واستمرار هذا النفي نعمة جليلة وهو متضمن نفي زوال نعيمهم المحكي في قوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ [الصافات: 41] الآيات فإن زوال النعيم نوع من العذاب بل هو من أعظم أنواعه بل تصور الزوال عذاب أيضا لا يلذ معه عيش، ولذا قيل: إذا شئت أن تحيا حياة هنية ... فلا تتخذ شيئا تخاف له فقدا وكذا يتضمن نفي الهرم واختلال القوى الذي يوهمه نفي الموت فإن ذلك نوع من العذاب أيضا، وأنه إنما اختير التعرض لاستمرار نفي العذاب دون إثبات استمرار النعيم لأن نفي العذاب أسرع خطورا ببال من لم يعذب عند مشاهدة من يعذب، وقيل إن ذاك لأن درء الضرر أهم من جلب المنفعة إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الظاهر أن الإشارة إلى ما أخبروا به من استمرار نفي الموت واستمرار نفي التعذيب عنهم، ويجوز أن تكون إشارة إلى ما هم فيه من النعيم مع استمرار النفيين فإذا كان الكلام من تتمة كلام القائل أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إلخ فهو متضمن إشارة ذلك القائل إلى ظهور النعيم ويكون ترك التعرض للتصريح به للاستغناء بذلك الظهور. وجوز أن يكون هذا كلامه تعالى قاله سبحانه تقريرا لقول ذلك القائل وتصديقا له مخاطبا جل وعلا به حبيبه عليه الصلاة والسلام وأمته والتأكيد للاعتناء بشأن الخبر. وقرىء «لهو الرزق العظيم» وهو ما رزقوه من السعادة العظمى لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ أي لنيل مثل هذا الأمر الجليل ينبغي أن يعمل العاملون لا للحظوظ الدنيوية السريعة الانصرام المشوبة بفنون الآلام فتقديم الجار والمجرور للحصر وهذا إن كان إشارة إلى مشخص من حيث تشخصه فمثل غير مقحمة وإن كان إشارة إلى الجنس فهي مقحمة كما في- مثلك لا يبخل- والكلام يحتمل أن يكون من تتمة كلام القائل ولا يعكر عليه أن الآخرة ليست بدار عمل إذ ليس المراد الأمر بالعمل فيها ويحتمل أن يكون من كلامه عز وجل. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 91 وأما قوله سبحانه أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ فمن كلامه جل وعلا عند الأكثرين وهو متعلق بقوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ والقصة بينهما ذكرت بطريق الاستطراد فالإشارة إلى الرزق المعلوم. وزعم بعضهم جواز كونه من كلام القائل السابق وما هو من كلامه عز وجل قطعا هو ما يأتي إن شاء الله تعالى. وأصل النزل الفضل والريع في الطعام ويستعمل (1) في الحاصل من الشيء ومنه العسل ليس من إنزال الأرض أي مما يحصل منها، وقول الشافعي لا يجب في العسل العشر لأنه نزل طائر ويقال لما يعد للنازل من الرزق. والزقوم اسم شجرة صغيرة الورق مرّة كريهة الرائحة ذات لبن إذا أصاب جسد إنسان تورم تكون في تهامة وفي البلاد المجدبة المجاورة للصحراء سميت بها الشجرة الموصوفة بما في الآية، وكلا المعنيين للنزل محتمل هنا بيد أنه يتعين على الأول انتصابه على التمييز أي أذلك الرزق المعلوم الذي حاصله اللذة والسرور خير نزلا وحاصلا أم شجرة الزقوم التي حاصلها الألم والغم، ومعنى التفاضل بين النزلين التوبيخ والتهكم وهو أسلوب كثير الورود في القرآن، والحمل على المشاركة جائز، وعلى الثاني الظاهر انتصابه على الحال، والمعنى أن الرزق المعلوم نزل أهل الجنة وأهل النار نزلهم شجرة الزقوم فأيهما خير حال كونه نزلا، وفيه ما مر من التهكم. والحمل على التمييز لا مانع منه لفظا كما في نحوهم أكفاهم ناصرا ولكن المعنى على الحال أسد لأن المعنى المفاضلة بين تلك الفواكه وهذا الطعام في هذه الحال لا التفاضل بينهما في الوصف وإن ذلك في النزلية أدخل من الآخرة فافهم. إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ محنة وعذابا لهم في الآخرة وابتلاء في الدنيا فإنهم سمعوا أنها في النار قالوا كيف يمكن ذلك والنار تحرق الشجر وكذا قال أبو جهل ثم قال استخفافا بأمرها لا إنكارا للمدلول اللغوي: والله ما نعلم الزقوم إلا التمر والزبد فتزقموا ولم يعلموا أن من قدر على خلق حيوان يعيش في النار ويتلذذ بها أقدر على خلق الشجر في النار وحفظه من الإحراق فالنار لا تحرق إلا بإذنه أو أن الإحراق عندها لا بها. إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ منبتها في قعر النار وأغصانها ترتفع إلى دركاتها. وقرىء نابتة في أصل الجحيم طَلْعُها أي حملها، وأصله طلع النخل وهو أول ما يبدو وقبل أن تخرج شماريخه أبيض غض مستطيل كاللوز سمي به حمل هذه الشجرة إما لأنه يشابهه في الشكل أو الطلوع ولعله الأولى لمكان التشبيه بعد فيكون استعارة تصريحية أو لاستعماله بمعنى ما يطلع مطلقا فيكون كالمرسل للأنف فهو مجاز مرسل. كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ أي في تناهي الكراهة وقبح المنظر والعرب تشبه القبيح الصورة بالشيطان فيقولون   (1) وهو إما استعارة لفظية إذا رجعت فيها إلى التشبيه يأتيك عفوا نحو رأيت أسدا يرمي وإما استعارة معنوية إذا رجعت فيها إلى التشبيه لم يؤاتك تلك المؤاتاة نحو إذا أصبحت بيد الشمال زمامها كذا قال نور الدين الحكيم وتمامه في حواشي الطيبي اه منه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 92 كأنه وجه شيطان أو رأس شيطان وإن لم يروه لما أنه مستقبح جدا في طباعهم لاعتقادهم أنه شر محض لا يخلطه خير فيرتسم في خيالهم بأقبح صورة، ومن ذلك قول امرئ القيس: أتقتلني والمشرفي مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال فشبه بأنياب الأغوال وهي نوع من الشياطين ولم يرها لما ارتسم في خياله، وعلى عكس هذا تشبيههم الصورة الحسنة بالملك وذلك أنهم اعتقدوا فيه أنه خير محض لا شر فيه فارتسم في خيالهم بأحسن صورة، وعليه قوله تعالى ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف: 31] وبهذا يرد على بعض الملاحدة حيث طعن في هذا التشبيه بأنه تشبيه بما لا يعرف، وحاصله أنه لا يشترط أن يكون معروفا في الخارج بل يكفي كونه مركوزا في الذهن والخيال. وحمل التشبيه في الآية على ما ذكر هو المروي عن ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما، وزعم الجبائي أن الشياطين حين يدخلون النار تشوه صورهم جدا وتستبشع أعضاؤهم فالمراد كأنه رؤوس الشياطين الذين في النار، وفيه أن التشبيه عليه أيضا غير معروف في الخارج عند النزول، وقيل: رؤوس الشياطين شجرة معروفة تكون بناحية اليمن منكرة الصورة يقال لها الأستن وإياها عنى النابغة بقوله: تحيد عن استن سود أسافله ... مثل الإماء الغوادي تحمل الحزما قال الأصمعي: ويقال لها الصوم وأنشد: موكل بشدوف الصوم يرقبه ... من المغارب مهضوم الحشا زرم (1) وقيل: الشياطين جنس من الحيات ذوات أعراف، وأنشد الفراء: عجيز تحلف حين أحلف ... كمثل شيطان الحماط أعرف أي له عرف، وأنشد المبرد: وفي البقل إن لم يدفع الله شره ... شياطين يعدو بعضهن على بعض فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها تفريع على جعلها فتنة أي محنة وعذابا للظالمين، وضمير المؤنث للشجرة، ومن ابتدائية أو تبعيضية وهناك مضاف مقدر أي من طلعها، وقيل: من تبعيضية والضمير للطلع وأنث لإضافته إلى المؤنث أو لتأويله بالثمرة أو للشجرة على التجوز، ولا يخلو كل عن بعد ما فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ لغلبة الجوع وإن كرهوها أو للقسر على أكلها ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها أي على الشجرة التي ملؤوا منها بطونهم لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ أي لشرابا ممزوجا بماء شديد الحرارة وهذا الشراب هو الغساق أي ما يقطر من جراح أهل النار وجلودهم، وقيل: هذا هو الصديد وأما الغساق فعين في النار تسيل إليها سموم الحيات والعقارب أو دموع الكفرة فيها، وشربهم ذلك لغلبة عطشهم بما أكلوا من الشجرة فإذا شربوا تقطعت أمعاؤهم. وقرىء «لشوبا» بضم الشين وهو اسم لما يشاب به، وعلى الأول هو مصدر سمي به، وكلمة ثم قيل للتراخي الزماني وذلك أنه بعد أن يملؤوا البطون من تلك الشجرة يعطشون ويؤخر سقيهم زمانا ليزداد عطشهم فيزداد عذابهم. واعترض بأنه يأباه عطف الشرب بالفاء في قوله تعالى فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ [الواقعة: 53، 54] فلا بد من عدم توسط زمان. وأجيب بأنه يجوز أن يكون شرب الشراب الممزوج بالحميم متأخرا   (1) يصف وعلا يظن هذا الشجر قناصا فهو يرقبه والشدوف الشخوص واحدها شدف اه منه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 93 بزمان عن ملئهم البطون دون شرب الحميم وحده، وكذا يجوز أن يكون الحال مختلفا فتارة يتأخر الشرب مطلقا زمانا وأخرى لا يتأخر كذلك، وقال بعضهم: ملؤهم البطون أمر ممتد فباعتبار ابتدائه يعطف بثم وباعتبار انتهائه بالفاء. وجوز كون ثم للتراخي الرتبي لأن شرابهم أشنع من مأكولهم بكثير، وعطف ملئهم البطون بالفاء لأنه يعقب ما قبله، ولا يحسن فيه اعتبار التفاوت الرتبي حسنه في شرب الشراب المشوب بالحميم مع الأكل ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ أي مصيرهم، وقد قرىء كذلك، وقرىء أيضا «ثم أن منفذهم» لَإِلَى الْجَحِيمِ أي إلى مقرهم من النار فإن في جهنم مواضع أعد في كل موضع منها نوع من البلاء فالقوم يخرجون من محل قرارهم حيث تأجج النار ويساقون إلى موضع آخر مما دارت عليه جهنم فيه ذلك الشراب ليردوه ويسقوا منه ثم يردون إلى محلهم كما تخرج الدواب إلى مواضع الماء في البلد مثلا لترده ثم ترد إلى محلها، وإلى هذا المعنى أشار قتادة ثم تلا قوله تعالى: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن: 43، 44] ويؤيده قراءة ابن مسعود «ثم إن منقلبهم» إذ الانقلاب أظهر في الرد أو المراد ثم إن مرجعهم إلى دركات الجحيم فهو يرددون في الجحيم من مكان إلى آخر أدنى منه، وقيل: إن الشراب يقدم إليهم قبل دخول النار فيشربون ويصيرون إلى الجحيم، وهذا يحتاج إلى توقيف وإلا فهو خلاف الظاهر، وكأن بين خروج القوم للشرب وعودهم إلى مساكنهم زمانا غير يسير يتجرعون فيه ذلك الشراب ولذا جيء بثم، وهذا الشراب في مقابلة ما لأهل الجنة من الشراب المدلول عليه بقوله تعالى: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [الصافات: 45، 46] إلخ كما أن الزقوم في مقابلة ما لهم من الفواكه. وقد جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لو أن قطرة من زقوم جهنم أنزلت إلى الأرض لأفسدت على الناس معايشهم أخرجه ابن أبي شيبة فكيف بمن هو طعامه وشرابه الغساق والصديد مع الحميم، نسأل الله تعالى رضاه والجنة ونعوذ به عز وجل من غضبه والنار، وقوله سبحانه: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ تعليل لاستحقاقهم ما ذكر من فنون العذاب بتقليد الآباء في أصول الدين من غير أن يكون لهم ولا لآبائهم شيء يتمسك به أصلا أي وجدوهم ضالين في نفس الأمر ليس لهم ما يصلح شبهة فضلا عن صلاحية كونه دليلا فهم (1) من غير أن يتدبروا أنهم على الحق أولا مع ظهور كونهم على الباطل بأدنى تأمل، والإهراع الإسراع الشديد، وقيل: هو إسراع فيه شبه رعدة. وفي بناء الفعل للمفعول إشارة إلى مزيد ورغبتهم في الإسراع على آثارهم كأنهم يزعجون ويحثون حثا عليه وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أي قبل هؤلاء الظالمين الذين جعلت شجرة الزقوم فتنة لهم قريش أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ من الأمم السابقة، وهو جواب قسم محذوف، وكذا قوله تعالى وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ أنبياء أنذروهم سوء عاقبة ما هم عليه من الباطل، وتكرير القسم لإبراز كمال الاعتناء بتحقيق مضمون كل من الجملتين فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ من الهول والفظاعة لما لم يلتفتوا إلى الإنذار ولم يرفعوا إليه رأسا. والخطاب إما لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلم أو لكل من يتأتى منه مشاهدة آثارهم، وحيث كان المعنى أنهم أهلكوا إهلاكا فظيعا استثنى عنهم المخلصين بقوله عز وجل إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أي الذين أخلصهم الله تعالى بتوفيقهم للإيمان والعمل بموجوب الإنذار. وقرىء الْمُخْلَصِينَ بكسر اللام أي الذين أخلصوا دينهم لله سبحانه   (1) قوله: فهم من غير أن يتدبروا إلخ: كذا في أصله ولعله سقط من قلمه خبر قوله فهم نحو مقلدون لهم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 94 وتعالى، والاستثناء على القراءتين إما منقطع إن خصص المنذرين وإما متصل أن عمم. وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ نوع تفصيل لما أجمل فيما قبل ببيان أحوال بعض المرسلين وحسن عاقبتهم متضمن لبيان سوء عاقبة بعض المنذرين كقوم نوح عليه السلام ولبيان حسن عاقبة بعضهم الذين أخلصهم الله تعالى أو أخلصوا دينهم على القراءتين كقوم يونس عليه السلام، وتقديم قصة نوح عليه السلام على سائر القصص غني عن البيان، ونداؤه عليه السلام يتضمن الدعاء على كفار قومه وسؤاله النجاة وطلب النصرة، واللام واقعة في جواب قسم محذوف، وكذا ما في قوله تعالى: فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ والمخصوص بالمدح فيه محذوف والفاء فصيحة أي وتالله لقد دعانا نوح حين أيس من إيمان قومه بعد أن دعاهم أحقابا ودهورا فلم يزدهم دعاؤه إلا فرارا ونفورا فأجبناه أحسن الإجابة فو الله لنعم المجيبون نحن فحذف ما حذف ثقة بدلالة ما ذكر عليه، والجمع للعظمة والكبرياء وفيه من تعظيم أمر الإجابة ما فيه وأخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم إذا صلى في بيتي فمر بهذه الآية وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ قال: صدقت ربنا أنت أقرب من دعى وأقرب من بغى فنعم المدعو ونعم المعطي ونعم المسئول ونعم المولى أنت ربنا ونعم النصير» . وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ من الغرق على ما روي عن السدي، وقيل: أذى قومه ولا مانع من الجمع، والكرب على ما قال الراغب: الغم الشديد، وأصل ذلك من كرب الأرض وهو قلبها بالحفر فالغم يثير النفس إثارة ذلك، ويصح أن يكون من كربت الشمس إذا دنت للمغيب وقولهم إناء كربان نحو قربان أي قريب من الملء أو من الكرب وهو عقد غليظ في رشاء الدلو، وقد يوصف الغم بأنه عقدة على القلب. وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ فحسب حيث أهلكنا الكفرة بموجب دعائه رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: 26] وقد روي أنه مات كل من في السفينة ولم يعقبوا عقبا باقيا غير أبنائه الثلاث سام وحام ويافث وأزواجهم فإنهم بقوا متناسلين إلى يوم القيامة. أخرج الترمذي وحسنة وابن سعد وأحمد وأبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه عن سمرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «سام أبو العرب وحام أبو الحبش ويافث أبو الروم» وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعا نحوه ، نعم أخرج البزار وابن أبي حاتم والخطيب في تالي التلخيص عنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولد نوح ثلاثة: سام وحام ويافث فولد سام العرب وفارس والروم والخير فيهم وولد يافث يأجوج ومأجوج والترك والصقالبة ولا خير فيهم وولد حام القبط والسودان» ولا أعرف حال الخبر، والأكثرون على أن الناس كلهم في مشارق الأرض ومغاربها من ذرية نوح عليه السلام ولذا قيل له آدم الثاني. وإن صح أن لكنعان المغرق ولدا في السفينة لا يبعد إدراجه في الذرية فلا يقتصر على الأولاد الثلاثة، وعلى كون الناس كلهم من ذريته عليه السلام استدل بعضهم بالآية. وقالت فرقة: أبقى الله تعالى ذرية نوح عليه السلام ومد في نسله وليس الناس منحصرين في نسله بل من الأمم من لا يرجع إليه حكاه في البحر، وكأن هذه الفرقة لا تقول بعموم الغرق، ونوح عليه السلام إنما دعا على الكفار وهو لم يرسل إلى أهل الأرض كافة فإن عموم البعثة ابتداء من خواص خاتم المرسلين صلّى الله عليه وسلم ووصول خبر دعوته وهو في جزيرة العرب إلى جميع الأقطار كقطر الصين وغيره غير معلوم. والحصر في الآية بالنسبة إلى من في السفينة ممن عدا أولاده وأزواجهم فكأنه قيل: وجعلنا ذريته هم الباقين لا ذرية من معه في السفينة وهو لا يستلزم عدم بقاء ذرية من لم يكن معه وكان في بعض الأقطار الشاسعة التي لم تصل إليها الدعوة ولم يستوجب أهلها الغرق كأهل الصين فيما يزعمون، ويجوز أن تكون قائلة بالعموم وتجعل الحصر الجزء: 12 ¦ الصفحة: 95 بالنسبة إلى المغرقين وتلتزم القول بأنه لم يبق عقب لأحد من أهل السفينة هو من ذرية أحد من المغرقين أي وجعلنا ذريته هم الباقين لا ذرية أحد غيره من المغرقين، وولد كنعان إن صح وصح بقاء نسله دخل في ذريته والله تعالى أعلم وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ في الباقين غابر الدهر سَلامٌ عَلى نُوحٍ مبتدأ وخبر وجاز الابتداء بالنكرة لما فيه من معنى الدعاء، والكلام وارد على الحكاية كقولك: قرأت سُورَةٌ أَنْزَلْناها [النور: 1] وهو على ما قال الفراء وغيره من الكوفيين محكي- بترك- في موضع نصب بها أي تركنا عليه هذا الكلام بعينه. وقال آخرون: هو محكي بقول مقدر أي تركنا عليه في الآخرين قولهم سلام على نوح، والمراد أبقينا له دعاء الناس وتسليمهم عليه أمة بعد أمة، وقيل: هذا سلام منه عز وجل لا من الآخرين، ومفعول تَرَكْنا محذوف أي تركنا عليه الثناء الحسن وأبقيناه له فيمن بعده إلى آخر الدهر، ونسب هذا إلى ابن عباس ومجاهد قتادة والسدي وجملة سَلامٌ عَلى نُوحٍ معمول لقول مقدر على ما ذكر الخفاجي أي وقلنا سلام إلخ، وقال أبو حيان: مستأنفة سلم الله تعالى عليه السلام ليقتدي بذلك البشر فلا يذكره أحد بسوء، وقرأ عبد الله «سلاما» بالنصب على أنه مفعول تَرَكْنا وقوله تعالى: فِي الْعالَمِينَ متعلق بالظرف لنيابته عن عامله أو بما تعلق الظرف به. جوز كونه حالا من الضمير المستتر فيه، وأيا ما كان فهو من تتمة الجملة السابقة وجيء به للدلالة على الاعتناء التام بشأن السلام من حيث أنه أفاد الكلام عليه ثبوته في العالمين من الملائكة والثقلين أو أنه حال كونه في العالمين على نوح. وهذا كما تقول سلام على زيد في جميع الأمكنة وفي جميع الأزمنة. وزعم بعضهم جواز جعله بدلا من قوله تعالى فِي الْآخِرِينَ ويوشك أن يكون غلطا كما لا يخفى. وقوله تعالى إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ تعليل لما فعل به مما قصه الله عز وجل بكونه عليه السلام من زمرة المعروفين بالإحسان الراسخين فيه فيكون ما وقع من قبيل مجازاة الإحسان بالإحسان، وإحسانه مجاهدته أعداء الله تعالى بالدعوة إلى دينه والصبر الطويل على أذاهم ونحو ما ذكر وذلك إشارة إلى ما ذكر من الكرامات السنية التي وقعت جزاء له عليه السلام، وما في من معنى البعد للإيذان بعلو رتبته وبعد منزلته في الفضل والشرف، والكاف متعلقة بما بعدها أي مثل ذلك الجزاء الكامل نجزي الكاملين في الإحسان لاجزاء أدنى منه، وقوله تعالى: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ تعليل لكونه عليه السلام محسنا المفهوم من الكلام بخلوص عبوديته وكمال إيمانه، وفيه من الدلالة على جلالة قدرهما ما لا يخفى وإلا فمنصب الرسالة منصب عظيم والرسول لا ينفك عن الخلوص بالعبودية وكمال الإيمان فالمقصود بالصفة مدحها نفسها لا مدح موصوفها ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ أي المغايرين لنوح عليه السلام وأهله وهم كفار قومه أجمعين، وثم للتراخي الذكرى إذ بقاؤه عليه السلام ومن معه متأخر عن الإغراق وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ أي ممن شايع نوحا وتابعه في أصول الدين لَإِبْراهِيمَ وإن اختلفت فروع شريعتيهما أو ممن شايعه في التصلب في دين الله تعالى ومصابرة المكذبين ونقل هذا عن ابن عباس، وجوز أن يكون بين شريعتيهما اتفاق كلي أو أكثري وللأكثر حكم الكل، ورأيت في بعض الكتب ولا أدري الآن أي كتاب هو أن نوحا عليه السلام لم يرسل إلا بالتوحيد ونحوه من أصول العقائد ولم يرسل بفروع، قيل: وكان بين إبراهيم وبينه عليهما السلام نبيان هود وصالح لا غير، ولعله أريد بالنبي الرسول لا ما هو أعم منه، وهذا بناء على أن ساما كان نبيا وكان بينهما على ما في جامع الأصول ألف سنة ومائة واثنتان وأربعون سنة، وقيل ألفان وستمائة وأربعون سنة. وذهب الفراء إلى أن ضمير شِيعَتِهِ لنبينا محمد صلّى الله عليه وسلم، والظاهر ما أشرنا إليه وهو المروي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي وقلما يقال للمتقدم هو شيعة للمتأخر، ومنه قول الكميت الأصغر بن زيد: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 96 وما لي إلا آل أحمد شيعة ... وما لي إلا مشعب الحق مشعب وذكر قصة إبراهيم عليه السلام بعد قصة نوح لأنه كآدم الثالث بالنسبة إلى الأنبياء والمرسلين بعده لأنهم من ذريته إلا لوطا وهو بمنزلة ولده عليهما السلام، ويزيد حسن الإرداف أن نوحا نجاه الله تعالى من الغرق وإبراهيم نجاه الله تعالى من الحرق إِذْ جاءَ رَبَّهُ منصوب بأذكر كما هو المعهود في نظائره، وجوز تعلقه بفعل مقدر يدل عليه قوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ كأنه قيل: متى شايعه؟ فقيل: شايعه إذ جاء ربه، وقيل: هو متعلق بشيعة لما فيه من معنى المشايعة. ورد بأنه يلزم عمل ما قبل لام الابتداء فيما بعدها وهم لا يجوزون ذلك للصدارة فلا يقال: إن ضاربا لقادم علينا زيدا، وكذا يلزم الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي وهو لا يجوز. وأجيب بأنه لا مانع من كل إذا كان المعمول ظرفا لتوسعهم فيه بِقَلْبٍ سَلِيمٍ أي سالم من جميع الآفات كفساد العقائد والنيات السيئة والصفات القبيحة كالحسد والغل وغير ذلك، وعن قتادة تخصيص السلامة بالسلامة من الشرك، والتعميم الذي ذكرناه أولى أو سالم من العلائق الدنيوية بمعنى أنه ليس فيه شيء من محبتها والركون إليها وإلى أهلها، وقيل سليم أي حزين وهو مجاز من السليم بمعنى اللديغ من حية أو عقرب فإن العرب تسميه سليما تفاؤلا بسلامته وصار حقيقة فيه، وما تقدم أنسب بالمقام، والباء قيل للتعدية. والمراد بمجيئه ربه بقلبه إخلاصه قلبه له تعالى على سبيل الاستعارة التبعية التصريحية، ومبناها تشبيه إخلاصه قلبه له عز وجل بمجيئه إليه تعالى بتحفة في أنه سبب للفوز بالرضا، ويكتفي بامتناع الحقيقة مع كون المقام مقام المدح قرينة، فحاصل معنى التركيب إذ أخلص عليه السلام لله تعالى قلبه السليم من الآفات أو المنقطع عن العلائق أو الحزين المنكسر. وتعقب بأن سلامة القلب عن الآفات لا تكون بدون الإخلاص وكذا الانقطاع عن العلائق لا يكون بدونه. وأجيب بأنهما قد يكونان بدون ذلك كما في القلوب البله. وفي المطلع معنى مجيئه ربه بقلبه أنه أخلص قلبه لله تعالى وعلم سبحانه ذلك منه كما يعلم الغائب وأحواله بمجيئه وحضوره فضرب المجيء مثلا لذلك اه، وجعل في الكلام عليه استعارة تمثيلية بأن تشبه الهيئة المنتزعة من اخلاص إبراهيم عليه السلام قلبه لربه تعالى وعلمه سبحانه ذلك الإخلاص منه موجودا بالهيئة المنتزعة من المجيء بالغائب بمحضر شخص ومعرفته إياه وعلمه بأحواله ثم يستعار ما يستعار، ولتأدية هذا المعنى عدل عن جاء ربه سليم القلب إلى ما في النظم الجليل، وقيل الباء للملابسة ولعله المتبادر، والمراد بمجيئه ربه حلوله في مقام الامتثال ونحوه، وذكر أن نكتة العدول عما سمعت إلى ما في النظم سلامته من توهم أن الحال منتقلة لما أن الانتقال أغلب حاليها مع أنه أظهر في أن سلامة القلب كانت له عليه السلام قبل المجيء أيضا فليتدبر. إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ بدل من إذ الأولى أو ظرف لجاء أو لسليم أي أي شيء تعبدون؟. أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ أي أتريدون آلهة من دون الله تعالى إفكا أي للإفك فقدم المفعول به على الفعل للعناية لأن إنكاره أو التقرير به هو المقصود وفيه رعاية الفاصلة أيضا ثم المفعول لأجله لأن الأهم مكافحتهم بأنهم على إفك وباطل في شركهم. ويجوز أن يكون إِفْكاً مفعولا به بمعنى أتريدون إِفْكاً وتكون آلهة بدلا منه بدل كل من كل، وجعلها عين الإفك على المبالغة أو الكلام على تقدير مضاف أي عبادة آلهة وهي صرف للعبادة عن وجهها. وجوز كونه حالا من ضمير تريدون أي أفاكين أو مفعوله أي مأفوكة. وتعقب بأن جعل المصدر حالا لا يطرد إلا مع أما نحو أما علما فعالم فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ أي أيّ شيء ظنكم بمن هو حقيق بالعبادة لكونه ربا للعالمين أشككتم فيه حتى تركتم عبادته سبحانه بالكلية أو أعلمتم أي شيء هو حتى جعلتم الأصنام شركاءه سبحانه وتعالى أو أي شيء ظنكم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 97 بعقابه عز وجل حتى اجترأتم على الإفك عليه تعالى ولم تخافوا، وكان قومه عليه السلام يعظمون الكواكب المعروفة ويعتقدون السعود والنحوس والخير والشر في العالم منها ويتخذون لكل كوكب منها هيكلا ويجعلون فيها أصناما تناسب ذلك الكوكب بزعمهم ويجعلون عبادتها وتعظيمها ذريعة إلى عبادة تلك الكواكب واستنزال روحانياتها وكانوا يستدلون بأوضاعها على الحوادث الكونية عامة أو خاصة فاتفق أنّ دنا يوم عيد لهم يخرجون فيه فأرسل ملكهم إلى إبراهيم عليه السلام أن غدا عيدنا فاحضر معنا فاستشعر حصول الفرصة لحصول ما عسى أن يكون سببا لتوحيدهم فأراد أن يعتذر عن الحضور على وجه لا ينكرونه عليه فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ أي فتأمل نوعا من التأمل في أحوالها وهو في نفس الأمر على طرز تأمل الكاملين في خلق السماوات والأرض وتفكرهم في ذلك إذ هو اللائق به عليه السلام لكنه أوهمهم أنه تفكر في أحوالها من الاتصال والتقابل ونحوهما من الأوضاع التي تدل بزعمهم على الحوادث ليرتب عليه ما يتوصل به الى غرضه الذي يكون وسيلة الى إنقاذهم مما هم فيه، والظاهر بعد اعتبار الإيهام أنه إيهام التفكر في احكام طالع ولادته عليه السلام وما يدل عليه بزعمهم ما تجدد له من الأوضاع في ذلك الوقت، وهذا من معاريض الأفعال نظير ما وقع في قصة يوسف عليه السلام من تفتيش أوعية اخوته بني علاته قبل وعاء شقيقه فإن المفتش بدأ بأوعيتهم مع علمه أن الصاع ليس فيها وأخر تفتيش وعاء أخيه مع علمه بأنه فيها تعريضا بأنه لا يعرف في أي وعاء هو ونفيا للتهمة عنه لو بدأ بوعاء الأخ فَقالَ أي لهم إِنِّي سَقِيمٌ أراد أنه سيسقم ولقد صدق عليه السلام فإن كل إنسان لا بد أن يسقم وكفى باعتلال المزاج أول سريان الموت في البدن سقاما، وقيل أراد مستعد للسقم الآن أو خارج المزاج عن الاعتدال خروجا قل من يخلو عنه أو سقيم القلب لكفر كم والقوم توهموا أنه أراد قرب اتصافه بسقم لا يستطيع معه الخروج معهم إلى معيدهم، وهو على ما روي عن سفيان وابن جبير سقم الطاعون فإنهما فسرا سَقِيمٌ بمطعون وكان كما قيل أغلب الأسقام عليهم وكانوا شديدي الخوف منه لاعتقادهم العدوى فيه، وهذا وكذا قوله عليه السلام بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا [الأنبياء: 63] وقوله في زوجته سارة هي أختي من معاريض الأقوال كقول نبينا صلّى الله عليه وسلم لمن قال له في طريق الهجرة: ممن الرجل؟ من ماء حيث أراد عليه الصلاة والسلام ذكر مبدأ خلقه ففهم السائل أنه بيان قبيلته وكقول صاحبه الصديق وقد سئل عنه عليه الصلاة والسلام في ذاك أيضا: هو هاد يهديني حيث أراد شيئا وفهم السائل آخر ولا يعد ذلك كذبا في الحقيقة. وتسميته به في بعض الأحاديث الصحيحة بالنظر لما فهم الغير منه لا بالنسبة إلى ما قصده المتكلم وجعله ذنبا في حديث الشفاعة قيل لأنه ينكشف لإبراهيم عليه السلام أنه كان منه خلاف الأولى لا أن كل تعريض هو كذلك فإنه قد يجب والإمام لضيق محرابه ومجاله ينكر الحديث الوارد في ذلك وهو في الصحيحين ويقول: إسناد الكذب إلى راويه أهون من إسناده إلى الخليل عليه السلام، وقد مر الكلام في ذلك، وقيل: كانت له عليه السلام حمى لها نوبة معينة في بعض ساعات الليل فنظر ليعرف هل هي تلك الساعة فإذا هي قد حضرت فقال لهم أبي سقيم، وليس بشيء من ذلك من المعاريض، ونحوه ما أخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال: أرسل إليه عليه السلام ملكهم فقال: إن غدا عيدنا فاخرج معنا فنظر إلى نجم فقال: إن ذا النجم لم يطلع قط إلا طلع بسقم لي. وأنت تعلم أن النظر المعدى بفي بمعنى التأمل والتفكر والنظر المشار إليه لا يحتاج إلى تفكر، وعن أبي مسلم أن المعنى نظر وتفكر في النجوم ليستدل بأحوالها على حدوثها وأنها لا تصلح أن تكون آلهة فقال: إني سقيم أي سقيم النظر حيث لم يحصل له كمال اليقين انتهى، وهذا لعمري يسلب فيما أرى عن أبي مسلم الإسلام وفيه من الجهل بمقام الأنبياء لا سيما الخليل عليه وعليهم السلام ما يدل على سقم نظره نعوذ بالله تعالى من خذلانه ومكره. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 98 وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن نظر نَظْرَةً فِي النُّجُومِ كلمة من كلام العرب تقول إذا تفكر الشخص: نظر في النجوم وعليه فليس هو من المعاريض بل قوله إِنِّي سَقِيمٌ فقط منها وهذا إن أيده نقل من أهل اللغة حسن جدا، وقيل: المعنى نظر في أحوال النجوم أو في علمها أو في كتبها وأحكامها ليستدل على ما يحدث له والنظر فيها للاستدلال على بعض الأمور ليس بممنوع شرعا إذا كان باعتقاد إن الله تعالى جعلها علامة عليه والممنوع الاستدلال باعتقاد أنها مؤثرة بنفسها والجزم بكلية أحكامها، وقد ذكر الكرماني في مناسكه على ما قال الخفاجي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لرجل أراد السفر في آخر الشهر أتريد أن تخسر صفقتك ويخيب سعيك اصبر حتى يهل الهلال انتهى. وهذا البحث من أهم المباحث فإنه لم يزل معترك العلماء والفلاسفة الحكماء، وقد وعدنا بتحقيق الحق فيه وبيان كدره وصافيه فنقول وبالله تعالى التوفيق إلى سلوك أقوم طريق: اعلم أن بعض الناس أنكروا أن يكون للكواكب تأثير في هذا العالم غير وجود الضياء في المواضع التي تطلع عليها الشمس والقمر وعدمه فيما غابا عنه وما جرى هذا المجرى، وهذا خروج عن الإنصاف وسلوك في مسالك الجور والاعتساف، وبعضهم قالوا: إن لها تأثيرا ما يجري على الأمر الطبيعي مثل أن يكون البلد القليل العرض ذا مزاج مائل عن الاعتدال إلى الحر واليبس وكذا مزاج أهله وتكون أجسامهم ضعيفة وألوانهم سود وصفر كالنوبة والحبشة، وأن يكون البلد الكثير العرض ذا مزاج مائل عن الاعتدال إلى البرد والرطوبة وكذا مزاج أهله وتكون أجسامهم عبلة وألوانهم بيض وشعورهم شقر مثل الترك والصقالبة، ومثل نمو النبات واشتداده ونضج ثمره بالشمس والقمر ونحو ذلك مما يدرك بالحس، ولا بأس في نسبته إلى الكوكب على معنى أن الله تعالى أودع فيه قوة مؤثرة فأثر بإذن الله تعالى كما ينسب الإحراق إلى النار والري إلى الماء مثلا على معنى ذلك وهو مذهب السلف على ما قال الشيخ إبراهيم الكوراني في جميع الأسباب والمسببات وصرح به بعض الماتريدية، أو على معنى أن الله تعالى خلق ذلك عنده وليس فيه قوة مؤثرة مطلقا على ما يقوله الأشاعرة في كل سبب ومسبب فلا فرق بين الماء والنار مثلا عندهم في أنه ليس في كل قوة يترتب عليها ما يترتب وإنما الفرق في أنه جرت عادة الله تعالى بأن يخلق الإحراق دون الري عند النار دون الماء ويخلق الري دون الإحراق عند الماء دون النار وليس للنار والماء مدخل في الأثر من الإحراق والري سوى أن كلا مقارن لخلق الله تعالى الأثر بلا واسطة. وظواهر الأدلة مع الأولين ولا ينافي مذهبهم توحيد الأفعال وأن عز وجل خالق كل شيء كما حقق في موضعه. وبعضهم زعم أن لها تأثيرا يعرفه المنجم غير ذلك كالسعادة والنحوسة وطول العمر وقصره وسعة العيش وضيقه إلى غير ذلك مما لا يخفى على من راجع كتب أحكام طوالع المواليد وطوالع السنين والكسوف والخسوف والأعمال ونحوها، وهو مما لا ينبغي أن يعول عليه أو يلتفت إليه فليس له دليل عقلي أو نقلي بل الأدلة قائمة على بطلانه متكفلة بهدم أركانه، والقائلون به بعد اتفاقهم على أن الخير والشر والإعطاء والمنع وما أشبه ذلك يكون في العالم بالكواكب على حسب السعود والنحوس وكونها في البروج المنافرة لها أو الموافقة وحسب نظر بعضها إلى بعض بالتسديس والتربيع والتثليث والمقابلة وحسب كونها في شرفها وهبوطها ووبالها ورجعتها واستقامتها وإقامتها اختلفوا في كثير من الأصول وتكلموا بكلام يضحك منه أرباب العقول، وذلك أنهم اختلفوا في أنه على أي وجه يكون ذلك؟ فزعم قوم منهم أن فعلها بطبائعها، وزعم آخرون أن ذلك ليس فعلا لها لكنها تدل عليه بطبائعها، وزعم آخرون أنها تفعل في البعض بالعرض وفي البعض بالذات، وزعم آخرون أنها تفعل بالاختيار لا بالطبع إلا أن السعد منها لا يختار إلا الخير والنحس لا يختار إلا الشر وهذا مع قولهم إنها قد تتفق على الخير وقد تتفق على الشر مما يتعجب منه، وزعم آخرون أنها لا تفعل بالاختيار بل تدل به وهو كلام لا يعقل معناه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 99 واختلفوا أيضا فقالت فرقة: من الكواكب ما هو سعد ومنها ما هو نحس وهي تسعد غيرها وتنحسه. وقالت أخرى: هي في أنفسها طبيعة واحدة وإنما تختلف دلالتها على السعود والنحوس، وهذا قول من يقول منهم إن للفلك طبيعة مخالفة لطبيعة الأسطقسات الكائنة الفاسدة وأنها لا حارة ولا باردة ولا يابسة ولا رطبة ولا سعد ولا نحس فيها وإنما يدل بعض أجرامها وبعض أجزائها على الخير والبعض على الشر وارتباط الخير والشر والسعد والنحس بها ارتباط المدلولات بأدلتها لا ارتباط المعلولات بعللها وهو أعقل من أصحاب القول بالاقتضاء الطبيعي والعلية وإن كان قوله أيضا عند بعض الأجلة ليس بشيء لأن الدلالة الحسية لا تختلف ولا تتناقض. واختلفوا أيضا فقالت فرقة تفعل في الأبدان والأنفس جميعا وهو قول بطليموس وأتباعه، وقال الأكثرون: تفعل في الأنفس دون الأبدان، ولعل الخلاف لفظي، واختلف رؤساؤهم بطليموس ودوروسوس وأنطيقوس وريمس وغيرهم من علماء الروم والهند وبابل في الحدود وغيرها وتضادوا في المواضع التي يأخذون منها دليلهم، ومن ذلك اختلافهم في أمر سهم السعادة فزعم بطليموس أنه يعلم بأن يؤخذ أبدا العدد الذي يحصل من موضع الشمس إلى موضع القمر ويبتدىء من الطالع فيرصد منه مثل ذلك العدد على التوالي فمنتهى العدد موضع السهم، وزعم بعضهم أنه يبتدىء من الطالع فيعد مثل ذلك على خلاف التوالي، وزعم بعض الفرس أن سهم السعادة يؤخذ بالليل من القمر إلى الشمس وبالنهار من الشمس إلى القمر، وزعم أهل مصر في الحدود أنها تؤخذ من أرباب البيوت وزعم الكلدانيون أنها تؤخذ من مدبري المثلثات، واختلفوا أيضا فرتبت طائفة البروج المذكرة والمؤنثة من الطالع فعدوا واحدا مذكرا وآخر مؤنثا وصبروا الابتداء بالمذكر، وقسمت طائفة أخرى البروج أربعة أجزاء وجعلوا المذكرة هي التي من الطالع إلى وسط السماء والتي تقابلها من الغارب إلى وتد الأرض وجعلوا الربعين الباقيين مؤنثين، ومما يضحك العقلاء أنهم جعلوا البروج قسمين حار المزاج وباردة وجعلوا الحار منها ذكرا والبارد أنثى وابتدؤوا بالحمل فقالوا: هو ذكر حار والذي بعده مؤنث بارد وهكذا إلى آخرها فصارت ستة ذكورا وستة إناثا. وقال بعضهم: الأول ذكر والثلاثة بعده إناث والخامس ذكر والثلاثة بعده إناث والتاسع ذكر وما بعده إناث فالذكور ثلاثة وبعد كل ذكر إناث ثلاث مخالفة له في الطبيعة، ثم إن هذه القسمة للمذكر والمؤنث ذاتية للبروج ولها قسمة ثانية بالعرض وهي أنهم يبدؤون من الطالع إلى الثاني عشر فيأخذون واحدا ذكرا وآخر أنثى. وبعضهم يقول هي أربعة أقسام فمن وتد المشرق إلى وتد العاشر ذكر شرقي مجفف سريع، ومن وتد العاشر إلى وتد الغارب مؤنث جنوبي محرق وسط، ومن وتد الغارب إلى وتد الرابع ذكر معتل رطب غربي بطيء، ومن وتد الرابع إلى الطالع مؤنث ذليل مبرد شمالي وسط، وبعض الأوائل منهم لم يقتصر على ذلك بل ابتدأ بالدرجة الأولى من الحمل فقال هي ذكر والدرجة الثانية أنثى وهكذا إلى آخر الحوت، ولبطليموس هذيان آخر فإنه ابتدأ بأول درجة كل برج ذكر فنسب منها إلى تمام اثنتي عشرة درجة ونصف إلى الذكورية ومنه إلى تمام خمس وعشرين درجة إلى الأنوثية ثم قسم باقي البروج إلى قسمين فنسب النصف الأول إلى الذكر والآخر إلى الأنثى وفعل مثل ذلك في كل برج أنثى، ولدوروسوس هذيان آخر أيضا فإنه يقسم البروج كل برج ثمانية وخمسين دقيقة ومائة وخمسين دقيقة ثم ينظر إلى الطالع فإن كان برجا ذكرا أعطى القسمة الأولى للذكر ثم الثانية للأنثى إلى أن يأتي على البروج كلها وإن كان أنثى أعطى القسمة الأولى للأنثى ثم الثانية للذكر إلى أن يأتي على آخرها، وما لهم في شيء من ذلك دليل مع أن قولهم ببساطة الفلك يأبى اختلاف أجزائه بالحرارة والبرودة والذكورة والأنوثة، ومثل هذيانهم في قسمة الأجزاء الفلكية إلى ما ذكر قسمتهم الكواكب إلى ذلك فزعموا أن القمر والزهرة مؤنثان وأن الشمس وزحل والمشتري والمريخ مذكرة وإن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 100 عطارد ذكر أنثى وأن سائر الكواكب تذكر وتؤنث بسبب الأشكال التي تكون لها بالقياس إلى الشمس وذلك أنها إذا كانت مشرقة متقدمة على الشمس فهي مذكرة وإن كانت مغربة تابعة كانت مؤنثة وإن ذلك يكون لها بالقياس إلى أشكالها من الأفق، وذلك أنها إذا كانت في الأشكال التي من المشرق إلى وسط السماء مما تحت الأرض فهي مذكرة وإذا كانت في الربعين الباقيين فهي مؤنثة، ويلزم عليه انقلاب المذكر مؤنثا والمؤنث مذكرا. وأجاب بعضهم عن هذا الهذيان أنه لا مانع من اتصاف شيء بأمر بالقياس إلى شيء وبضده بالقياس إلى آخر وهو في نفسه غير متصف بشيء منهما كالأدكن فإنه يقال فيه أبيض بالقياس إلى الأسود وأسود بالقياس إلى الأبيض وهو في نفسه لا أسود ولا أبيض فكذا الكواكب يقال إنها ذكران وإناث بالقياس إلى الأشكال أعني الجهات والجهات إلى الرياح كالصبا والدبور والرياح إلى الكيفيات لا أنها ذكران وإناث في أنفسها، وهو تلبيس فإن الأدكن فيه شائبة بياض وسواد فمقتضى التشبيه يلزم أن يكون في الكوكب شائبة ذكورة وأنوثة، وأيضا الظاهر أن الانقسام المذكور بحسب الطبيعة والتأثير والتأثر ولا يكاد بعرف انقلاب الحقيقة والطبيعة بحسب الموضع والقرب والبعد، ومنه يعلم فساد ما قالوا: إن القمر من أول ما يهل إلى وقت انتصافه الأول في الضوء يكون فاعلا للرطوبة خاصة ومن ذلك إلى وقت الامتلاء يكون فاعلا للحرارة ومنه إلى وقت الانتصاف الثاني في الضوء يكون فاعلا لليبس ومن ذلك إلى وقت خفائه يكون فاعلا للبرودة وقاسوا ذلك على تأثيرات الشمس في الفصول والفرق مثل الشمس ظاهر، ويلزم عليه كون الشهر الواحد ذا فصول والحس يدفعه، وأيضا كلامهم هذا يخالف ما قالوه من أن قوة القمر الترطيب لقرب فلكه من الأرض وقبوله للبخارات الرطبة التي ترتفع منها إليه، ثم إن هذا القول باطل في نفسه لما أنه يلزم عليه ازدياد رطوبة القمر في كل يوم لو سلم تصاعد البخارات الرطبة إليه وتأثره منها، كذا القول بأن قوة زحل أن يبرد ويجفف تجفيفا يسيرا لبعده عن حرارة الشمس والبخارات الرطبة، وإن قوة المريخ مجففة محرقة لمشاكلة لونه لون النار ولقربه من الشمس، وكوكب الدب الأكبر كالمريخ، وإن عطاردا معتدل في التجفيف والترطيب لأنه لا يبعد عن الشمس بعدا كثيرا ولا وضعه فوق كرة القمر. ومن العجائب استدلال فضلائهم على اختلاف طبائع الكواكب باختلاف ألوانها حيث قالوا: لما كان لون زحل الغبرة والكمودة حكمنا بأنه على طبع السوداء وهو البرد واليبس فإن لها من الألوان الغبرة، ولما كان لون المريخ كلون النار قلنا طبعه حار يابس والحرارة واليبس في الشمس ظاهرتان، ولما كان لون الزهرة كالمركب من البياض والصفرة والبياض أظهر فيها قلنا طبعها البرودة والرطوبة كالبلغم، ولما كان صفرة المشتري أكثر مما في الزهرة كانت سخونته أكثر من سخونة الزهرة وكان في غاية الاعتدال، وأما القمر فهو أبيض وفيه كمودة فيدل بياضه على البرودة. وأما عطارد فتختلف ألوانه فربما رأيناه أخضر وربما رأيناه أغبر وربما رأيناه على خلاف هذين اللونين وذلك في أوقات مختلفة مع كونه من الأفق على ارتفاع واحد فلا جرم يكون له طبائع مختلفة إلا أنا لما وجدناه في الأغلب أغبر كالأرض قلنا هو مثلها في الطبع، ويرد عليه أن المشاركة في بعض الصفات لا تقتضي المشاركة في الطبيعة ولا في صفة أخرى، وأن دلالة مجرد اللون على الطبيعة ضعيفة جدا لاشتراك الكثير في لون مع اختلاف الطبائع، وأيضا الزرقة أظهر في الزهرة واختلاف ألوان عطارد لأنّا نراه قريب الأفق فيكون بيننا وبينه بخارات مختلفة، وقال أبو معشر: إن القمر لا ينسب لونه إلى البياض إلا من عدم قوة الحس البصري وفيه بعد ما فيه ولو سلم جميع ما قالوه من اختلاف طبائع البروج والكواكب بالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة فقصارى ما يترتب على ذلك ما نجده من اختلاف الأقاليم حرارة وبرودة مثلا واختلاف أشجارها وأثمارها واختلاف أجسام أهلها وألوانهم واختلاف حيواناتها إلى غير الجزء: 12 ¦ الصفحة: 101 ذلك من الاختلافات، ومع هذا نقول: إن الكواكب جزء السبب في ذلك لكن من أين لهم القول بأن جميع الحوادث في هذا العالم خيرها وشرها وصلاحها وفسادها وجميع أشخاصه وأنواعه وصوره وقواه ومدد بقاء أشخاصه وجميع أحوالها العارضة لها وتكوّن الجنين ومدة لبثه في بطن أمه وخروجه إلى الدنيا وعمره ورزقه وشقاوته وحسنه وقبحه وأخلاقه وحذقه وبلادته وجهله وعلمه إلى ما لا يحصى من أحواله وانقسام الحيوان إلى الطير وأصنافه وإلى الحيوان البحري وأنواعه والبري وأقسامه واختلاف صور الحيوانات وأفعالها وأخلاقها وثبوت العداوة بين أفراد نوع وأفراد نوع آخر منها كالذئاب والغنم وثبوت الصداقة كذلك وكذا ثبوت العداوة أو الصداقة بين أفراد النوع الواحد إلى غير ذلك مما يكون في العالم لا يكون إلا بتأثير الكواكب وهو مما لا يكاد يصح لأن طريق صحته إما الخبر الصادق أو الحس الذي يشترك فيه الناس أو ضرورة العقل أو نظره وشيء من هذا كله غير موجود، ولا يمكن الأحكاميين أن يدعوا واحدا من الثلاثة الأول وغايتهم أن يدعوا أن التجربة قادتهم إلى ذلك، ولا شك أن أقل ما لا بد منه فيها أن يحصل ذلك الشيء على حالة واحدة مرتين والوضع المعين لمجموع الكواكب لا يتكرر أصلا أو يتكرر بعد ألوف ألوف من السنين وعمر الإنسان الواحد بل عمر البشر لا تفي به. وزعم بعضهم لذلك أن مجموع الاتصالات ونسب الكواكب بعضها إلى بعض غير شرط في التأثير لتتوقف التجربة على تكراره بل يكفي بعض الاتصالات وقد يكفي واحد منها وذلك يتكرر في أزمنة قليلة فتتأتى التجربة، مثلا رداءة السفر وقد نزل القمر برج العقرب يستند إلى هذا النزول بالتجربة فإنا وجدنا تكرر ذلك وترتب الرداءة عليه كل مرة وهذا هو التجربة وكذا يقال في نظائره، وأنت تعلم أن التجارب التي دلت على كذب ما يقولون بوقوع خلافه أضعاف التجارب التي دلت على صدقه، فقد أجمع حذّاقهم سنة سبع وثلاثين عام خروج علي كرم الله تعالى وجهه إلى صفين على أنه يقتل ويقهر جيشه فانتصر على أهل الشام ولم يقدروا على التخلص إلا بالحيلة، وإن لم يسلم هذا الإجماع فإجماعهم على مثل في خروجه كرم الله تعالى وجهه لحرب الخوارج حيث كان القمر في العقرب وقوله رضي الله تعالى عنه: نخرج ثقة بالله تعالى وتوكلا عليه سبحانه وتكذيبا لقول المنجم، ونصرته الخارجة عن القياس مما شاع وذاع ولو قيل بتواتره لم يبعد، وأجمعوا سنة ست وستين على غلبة عبيد الله بن زياد وقد سار بنحو من ثمانين ألف مقاتل على المختار بن أبي عبيد فلقيه إبراهيم بن الأشتر صاحب المختار بأرض نصيبين فيما دون سبعة آلاف مقاتل فقتل من عسكره نحوا من ثلاثة وسبعين ألفا وضربه وهو لا يعرفه فقتله ولم يقتل من أصحابه أكثر من مائة. وأجمعوا يوم أسست بغداد سنة ست وأربعين ومائة على أن طالعها يقضي بأنه لا يموت فيها خليفة وشاع ذلك حتى قال بعض شعراء المنصور مهنئا له: يهنيك منها بلدة تقضى لنا ... ان الممات بها عليك حرام لما قضت أحكام طالع وقتها ... أن لا يرى فيها يموت إمام فأول ما ظهر كذب ذلك بقتل الأمين بشارع باب الأنبار فقال بعض الشعراء: كذب المنجم في مقالته التي ... كان ادعاها في بنا بغدان قتل الأمين بها لعمري يقتضي ... تكذيبهم في سائر الحسبان ثم مات فيها جماعة من الخلفاء كالواثق والمتوكل والمعتضد والناصر وغيرهم إلى أمور أخر لا تكاد تحصى أجمعوا فيها على حكم وتبين كذبهم فيه، على أنه قد يقال لهم: المؤثر في السعود والنحوس ونحوهما هل هو الكوكب وحده أو البرج وحده أو الكوكب بشرط حصوله في البرج؟ فإن قالوا بأحد الأمرين الأولين لزمهم دوام الأثر الجزء: 12 ¦ الصفحة: 102 لدوام المؤثر، وإن قالوا بالثالث لزمهم القول باختلاف البروج في الطبيعة وإلا لا تحدت آثار الكوكب فيها وكلهم مجموعون على أن الفلك بسيط لا تركيب فيه، والتزام التركيب من طبائع مختلفة ينافي قولهم بامتناع الانحلال. وزعم بعضهم أنها تفعل ما تفعل بالاختيار يستدعي إلغاء أمر الاتصال والانفصال والمقارنة والهبوط ونحو ذلك وكون ما ذكر شرطا للاختيار لا يخفى حاله، والقول بأنها تستدعي من حيث طبيعة أشعتها التسخين والتبريد وهما يوجبان اختلاف أمزجة الأبدان واختلافها يوجب اختلاف أفعال النفس يرد عليه أنا نرى التسخين مثلا يقتضي حرارة وحدة في المزاج يفعل بها شخص غاية الخير والأفعال الحميدة وآخر غاية الشر والأفعال الخبيثة فلا بد لهذا الاختلاف من موجب غير التسخين، وأيضا هم يقولون: جميع الحوادث الكونية مستند إلى الكواكب وحديث التسخين والتبريد واستلزامهما اختلاف أفعال النفس لا يتم به هذا الغرض، وذكر الإمام الرازي عليه الرحمة أن المثبتين لعلم الأحكام والتأثيرات أي من الإسلاميين احتجوا من كتاب الله تعالى بآيات وهي أنواع، الأول الآيات الدالة على تعظيم الكواكب فمنها قوله تعالى فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ [التكوير: 15، 16] وأكثر المفسرين على أن المراد هو الكواكب التي تصير راجعة تارة ومستقيمة أخرى، ومنها قوله تعالى فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ [الواقعة: 75، 76] وقد صرح سبحانه بتعظيم هذا القسم وذلك يدل على غاية جلالة مواقع النجوم ونهاية شرفها، ومنها قوله تعالى وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ [الطارق: 1، 3] قال ابن عباس: الثاقب هو زحل لأنه يثقب بنوره سمك السماوات السبع، ومنها قوله تعالى وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [الأعراف: 54] فقد بيّن سبحانه إلهيته بكون هذه الكواكب تحت تدبيره وتسخيره، النوع الثاني ما يدل على وصفه تعالى بعض الأيام بالنحوسة كقوله سبحانه فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ [فصلت: 16] النوع الثالث الآيات الدالة على أن لها تأثيرا في هذا العالم كقوله تعالى فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً [النازعات: 5] وقوله تعالى فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً [الذاريات: 4] قال بعضهم المراد هذه الكواكب. الرابع الآيات الدالة على أنه تعالى جعل حركات هذه الأجرام وخلقها على وجه ينتفع بها في مصالح هذا العالم كقوله تعالى هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ [يونس: 5] وقوله تعالى تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً [الفرقان: 61] . النوع الخامس أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه تمسك بعلم النجوم فقال سبحانه فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ [يونس: 5] السادس أنه تعالى قال لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [غافر: 57] ولا يكون المراد كبر الجثة لأن كل أحد يعلمه فوجب أن يكون المراد كبر القدر والشرف، وقال سبحانه وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا [آل عمران: 191] ولا يجوز أن يكون المراد أنه تعالى خلقها ليستدل بتركيبها وتأليفها على وجود الصانع لأن هذا القدر حاصل في تركيب البعوضة ودلالة حصول الحياة في بنية الحيوانات على وجود الصانع أقوى من دلالة تركيب الأجرام الفلكية عليه لأن الحياة لا يقدر عليها غيره تعالى وجنس التركيب يقدر عليه الغير فلما خصها سبحانه وتعالى بهذا التشريف المستفاد من قوله تعالى رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا علمنا أن في تخليقها أسرارا عالية وحكما بالغة تتقاصر عقول البشر عن إدراكها، ويقرب من هذه الآية قوله تعالى وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 103 ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [ص: 27] ولا يمكن أن يكون المراد أنه تعالى خلقها على وجه يمكن الاستدلال بها على وجود الصانع الحكيم لأن كونها دالة على الافتقار إلى الصانع أمر ثابت لها لذاتها لأن كل متحيز محدث وكل محدث مفتقر إلى الفاعل فثبت أن دلالة المتحيزات على وجود الفاعل أمر ثابت لها لذواتها وأعيانها وما كان كذلك لم يكن سبب الفعل والجعل فلم يمكن حمل الآية على هذا الوجه فوجب حملها على الوجه الذي ذكر. النوع السابع روي أن عمر بن الخيام كان يقرأ كتاب المجسطي على أستاذه فدخل عليهم واحد من المتفقهة فقال: ما تقومون؟ فقال عمر: نحن في تفسير آية من كتاب الله تعالى أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ [ق: 6] فنحن ننظر كيف خلق السماء وكيف بناها وكيف صانها عن الفروج. الثامن أن إبراهيم عليه السلام لما استدل على إثبات الصانع بقوله تعالى رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [البقرة: 258] قال له نمرود أتدعي أنه يحيي ويميت بواسطة الطبائع والعناصر أو لا بواسطتها فإن ادعيت الأول فذلك مما لا تجده البتة لأن كل ما يحدث في هذا العالم فهو بواسطة العناصر والحركات الفلكية وإن ادعيت الثاني فمثل هذا الإحياء والإماتة حاصل مني ومن كل أحد وهو المراد بقوله أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة: 258] ثم إن إبراهيم عليه السلام لم ينازع في كون هذه الحوادث السفلية مرتبطة بالحركات الفلكية بل أجاب بأن الله تعالى هو المبدأ لتلك الحركات فيكون الفعل منه سبحانه حقيقة والواحد منا لا يقدر على تحريك الأفلاك على خلاف التحريك الإلهي وهذا هو المراد بقوله فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ [البقرة: 258] وإذا عرفت نهج الكلام في هذا الباب عرفت أن القرآن العظيم مملوء من تعظيم الأجرام الفلكية وتشريف الكرات الكوكبية، وأما الأخبار فكثيرة منها ما روي أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن استقبال الشمس والقمر واستدبارهما عند قضاء الحاجة، ومنها أنه لما مات ولده صلّى الله عليه وسلم إبراهيم انكسفت الشمس فقال الناس: إنما انكسفت لموت إبراهيم فقال عليه الصلاة والسلام: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة» ومنها ما روى ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا ذكر القدر فأمسكوا وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا وإذا ذكر النجوم فأمسكوا» ومن الناس من يروي أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «لا تسافروا والقمر في العقرب» ومنهم من يرويه عن علي كرم الله تعالى وجهه وإن كان المحدثون لا يقبلونه، وأما الآثار فكثيرة أيضا فعن علي كرم الله تعالى وجهه أن رجلا أتاه آخر الشهر فقال: أريد الخروج في تجارة فقال: تريد أن يمحق الله تعالى تجارتك استقبل هلال الشهر بالخروج. وعن عكرمة أن يهوديا منجما قال له ابن عباس: ويحك تخبر الناس بما لا تدري فقال: إن لك ابنا في المكتب يحم غدا ويموت في اليوم العاشر فقال ابن عباس: ومتى تموت أنت؟ قال: على رأس السنة ثم قال له: ولا تموت أنت حتى تعمى فكان كل ذلك. وعن الشعبي قال: «قال أبو الدرداء لقد فارق رسول الله صلّى الله عليه وسلم وتركنا ولا طائر يطير بجناحيه إلا ونحن ندعي فيه علما» وليست الكواكب موكلة بالفساد والصلاح ولكن فيها دليل بعض الحوادث عرف ذلك بالتجربة، وجاء في الآثار أن أول من أعطى هذا العلم آدم عليه السلام وذلك أنه عاش حتى أدرك من ذريته أربعين ألف أهل بيت وتفرقوا عنه في الأرض وكان يغتم لخفاء خبرهم فأكرمه الله تعالى بهذا العلم فكان إذا أراد أن يعرف حال أحدهم نظر في النجوم فعرفه. وعن ميمون بن مهران أنه قال: إياكم والتكذيب بالنجوم فإنه من علم النبوة، وروي عن الشافعي أنه كان عالما بالنجوم، وجاء لبعض جيرانه ولد فحكم له بأن هذا الولد ينبغي أن يكون على عضوه الفلاني خال صفته كذا وكذا فوجد الأمر كما قال، وروى ابن إسحاق أن المنجمين أخبروا فرعون أنه سيجيء ولد من بني إسرائيل يكون هلاكه على الجزء: 12 ¦ الصفحة: 104 يده. وكذا كان كما قص الله تعالى يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ [القصص: 4] وأما المعقول فهو أن هذا العلم ما خلت عنه ملة من الملل ولا أمه من الأمم ولم يزالوا مشتغلين به معولين عليه في معرفة المصالح، ولو كان فاسدا بالكلية لاستحال إطباق أهل المشرق والمغرب من أول بناء العالم إلى آخره عليه، والتجارب في هذا الباب أكثر من أن تحصى اه كلامه. ولعمري لقد نثر الكنانة ونفض الجعبة واستفرغ الوسع وبذل الجهد وروج وبهرج وقعقع وفرقع ومن غير طحن جعجع وجمع بين ما يعلم بالضرورة أنه كذب على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعلى أصحابه وما يعلم بالضرورة أنه خطأ في تأويل كلام الله تعالى ومعرفة مراده سبحانه، ولا يروج ما ذكره إلا على مفرط في الجهل أو مقلد لأهل الباطل من المنجمين وإن أردت الإيضاح وأحببت الاتضاح فاسمع لما نقول: ما ذكره من الاستدلالات أو هي من بيوت العناكب وأشبه شيء بناء الحباحب فأما الاستدلال بقوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوارِ الْكُنَّسِ [التكوير: 15، 16] ففيه إنا لا نسلم إن هناك قسما بالنجوم فقد روي عن ابن مسعود أن المراد بالخنس بقر الوحش وهي رواية عن ابن عباس واختاره ابن جبير، وحكى الماوردي أنها الملائكة، وإذا سلم ذلك بناء على أنه الذي ذهب إليه الجمهور فأي دلالة فيه على التأثير وقد أقسم سبحانه بالليل والنهار والضحى ومكة والوالد وما ولد والفجر وليال عشر والشفع والوتر والسماء والأرض واليوم الموعود وشاهد ومشهود والمرسلات والعاصفات والناشرات والفارقات والنازعات والناشطات والسابحات والسابقات والتين والزيتون وطور سينين إلى غير ذلك فلو كان الإقسام بشيء دليلا على تأثيره لزم أن يكون جميع ما أقسم به تعالى مؤثرا وهم لا يقولون به وإن لم يكن دليلا فالاستدلال به باطل، ومثله في ذلك الاستدلال بقوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ [الواقعة: 72] وقد فسر غير واحد مواقع النجوم بمنازل القرآن ونجومه التي نزلت على النبي صلّى الله عليه وسلم في مدة ثلاث وعشرين سنة، وكذا الاستدلال بقوله سبحانه وتعالى وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ [الطارق: 1] . وأما قوله تعالى فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً [النازعات: 5] فلم يقل أحد من الصحابة والتابعين وعلماء التفسير أنه إقسام بالنجوم فهذا ابن عباس وعطاء وعبد الرحمن بن سابط وابن قتيبة وغيرهم قالوا: إن المراد بالمدبرات أمرا الملائكة حتى قال ابن عطية: لا أحفظ خلافا في ذلك، وكذلك فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً [الذاريات: 4] فتفسيرهما بالنجوم تفسير المنجمين ومن سلك سبيلهم وهو تفسير بالرأي والعياذ بالله تعالى، وأما وصفه تعالى بعض الأيام بالنحوسة كما في الآية التي ذكرها فليس ذلك لتأثير الكواكب ونحوستها بحسب ما يزعم المنجم بل لأن الله تعالى عذب أعداءه فيها فهي أيام مشاتيم على الأعداء فوصف تلك الأيام بنحسات كوصف يوم القيامة بأنه عسير على الكافرين. وكذا يقال في قوله تعالى فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ [القمر: 19] وليس مُسْتَمِرٍّ فيه صفة يَوْمِ بل هو صفة نَحْسٍ أي نحس دائم لا يقلع عنهم كما تقلع مصائب الدنيا عن أهلها، والقول بأنه صفة يَوْمِ وإن المراد به يوم أربعاء آخر الشهر وإنه نحس أبدا غلط ولا يكاد المنجم يزعم نحوسة يوم أربعاء آخر الشهر ولو شهر صفر أبدا بل كثيرا ما يحكم بغاية سعده حسبما تقتضيه الأوضاع الفلكية فيه بزعمه. وأما استدلاله بالآيات الدالة على أنه سبحانه وضع حركات هذه الأجرام على وجه ينتفع بها في مصالح هذا العالم فمن الطرائف إذ الأليق لو صح زعم المنجم أن يذكر في الآية ما يقتضيه النجوم من السعد والنحس وتعطيه من السعادة والشقاوة وتهبه من الأعمار والأرزاق والعلوم والمعارف وسائر ما في العالم من الخير والشر فإن العبرة بذلك الجزء: 12 ¦ الصفحة: 105 أعظم من العبرة بمجرد الضياء والنور ومعرفة عدد السنين والحساب، وأما ما ذكر عن إبراهيم عليه السلام من أنه تمسك بعلم النجوم حين قال إِنِّي سَقِيمٌ فسقيم جدا وقد سمعت ما قيل في الآية، ولا ينبغي أن يظن بإمام الحنفاء وشيخ الأنبياء وخليل رب الأرض والسماء أنه كان يتعاطى علم النجوم ويأخذ منه أحكام الحوادث ولو فتح هذا الباب على الأنبياء عليهم السلام لاحتمل أن يكون جميع أخبارهم عن المستقبلات من أوضاع النجوم لا من الوحي وهو كما ترى، وأما الاستدلال بقوله تعالى لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر: 57] وإن المراد به كبر القدر والشرف لأكبر الجثة ففي غاية الفساد فإن المراد من الخلق هاهنا الفعل لا المفعول، والآية للدلالة على المعاد. أي إن الذي خلق السماوات والأرض وخلقهما أكبر من خلقكم كيف يعجزه أن يعيدكم بعد الموت، ونظيرها قوله تعالى أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس: 81] وأين هذا من بحث أحكام النجوم وتأثيراتها، ومثل هذا الاستدلال بقوله تعالى وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا [آل عمران: 191] فإن خلق السماوات والأرض من أعظم الأدلة على وجود فاطرهما وكمال قدرته وحكمته وعلمه وانفراده بالربوبية ومن سوى بينهما وبين البقة فقد كابر، ولذا ترى الأشياء الضعيفة كالبعوضة والذباب والعنكبوت إنما تذكر في سياق ضرب الأمثال مبالغة في الاحتقار والضعف ولا تذكر في سياق الاستدلال على عظمة ذي الجلال جل شأنه، على أن الآية لو دلت على أن للكواكب تأثيرا لدلت على أن للأرض تأثيرا أيضا كالكواكب وهم لم يقولوا به، وما ذكره بعد من أن دلالة حصول الحياة في أبدان الحيوانات أقوى من دلالة السماوات والأرض إلى آخر ما قال في حيز المنع، ونظير ذلك الاستدلال بقوله تعالى وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا [ص: 27] فإنه لا يدل أيضا على أن للكواكب تأثيرا، وغاية ما تدل عليه هذه الآية ونظائرها أن تلك المخلوقات فيها حكم ومصالح وليست باطلة أي خالية عن ذلك، ونحن نقول بما تدل عليه ولكن لا نقول بأن تلك الحكم هي الإسعاد والإشقاء وهبة الأعمار والأرزاق إلى غير ذلك مما يزعمه المنجمون بل هي الآثار الظاهرة في عالم الطبيعة على ما سمعت ونحوها كالدلالة على وجود الصانع وكثير من صفاته جل شأنه التي ينكرها الكفرة ولا مانع من أن يقال خلق الله تعالى كذا لتظهر دلالته على كذا، ولا تتعين العبارة التي ذكرها على أنه لا بأس بها عند تدقيق النظر، ولعل ما قاله من فروع كون الماهيات غير مجعولة والكلام فيه شهير، وأما ما ذكره عن عمر بن الخيام فهو على طرف التمام، وأما ما ذكره في محاجة إبراهيم عليه السلام وتقرير المناظرة على ما قرره فلم يقل به أحد من المفسرين سلفهم وخلفهم بل قد يقطع بأنه لم يخطر بقلب المشرك الناظر وما هو إلا تفسير بالرأي والتشهي نعوذ بالله تعالى من ذلك، وأما استدلاله بما روي من نهيه عليه الصلاة والسلام عن استقبال الشمس والقمر عند قضاء الحاجة فبعيد عن حاجته بل لا دلالة للنهي المذكور على تأثير الكواكب الذي يزعمونه وإلا لدل النهي عن استقبال الكعبة عند قضاء الحاجة على أن لها تأثيرا، على أن بعض الأجلّة (1) قد ذكر أن ذلك النهي لم ينقل فيه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كلمة واحدة لا بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا متصل ولا مرسل وإنما قال بعض الفقهاء في آداب التخلي ولا يستقبل الشمس والقمر فقيل لأن ذلك أبلغ في التستر، وقيل: لأن نورهما من نوره تعالى، وقيل: لأن اسم الله تعالى مكتوب عليهما. وأما ما ذكر من حديث كسوف الشمس يوم موت إبراهيم وقوله عليه الصلاة والسلام ما قال فصحيح لكن لا يدل على ما يزعمه المنجمون، وصدر الحديث يدل على أن الشمس والقمر آيتان وليسا بربين ولا إلهين ففيه إشارة إلى   (1) هو ابن القيم اه منه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 106 نفي التصرف عنهما، وفي قوله عليه الصلاة والسلام لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته قولان، أحدهما أن موت أحد وحياته لا يكونان سببا لانكسافهما، وثانيهما أنه لا يحصل عن انكسافهما موت ولا حياة وإنما ذلك تخويف من الله تعالى لعباده أجرى العادة بحصوله في أوقات معلومة بالحساب لطلوع الهلال وإبداره وسراره، فأما سبب كسوف الشمس فتوسط القمر بين جرم الشمس وأبصارنا كسحابة تمر تحتها فإن لم يكن للقمر عرض ستر عنا كل الشمس وإن كان له عرض فبقدر ما يوجبه عرضه، وأما سبب خسوف القمر فهو توسط الأرض بينه وبين الشمس حتى يصير ممنوعا من اكتساب النور من الشمس ويبقى ظلام ظل الأرض المخروط في ممره فقد يقع كله في المخروط وقد يقع بعضه فيه ويبقى بعضه الآخر خارجا إلى آخر ما قرر في موضعه وليس في الشرع ما يأباه والوقوف على وقت الكسوف والخسوف ومقدارهما أمر سهل ولا يلزم من صدق المنجم في ذلك صدقه فيما يزعم من التأثيرات وما الإخبار بهما إلا كالإخبار بوقت طلوع الشمس في يوم كذا في ساعة كذا وكالإخبار بوقت الهلال والإبدار والسرار، ثم إنّا لا ننكر أن الله تعالى يحدث عند الكسوفين من أقضيته وأقداره ما يكون بلاء لقوم ومصيبة لهم ويجعل الكسوف سببا لذلك ولهذا أمر صلّى الله عليه وسلم عند الكسوف بالفزع إلى ذكر الله تعالى والصلاة والعتاقة والصدقة لأن هذه الأشياء تكون سببا لدفع موجب الكسف الذي جعله الله تعالى سببا لما جعله فلولا انعقاد سبب التخويف لما أمر عليه الصلاة والسلام بدفع موجبه بهذه العبادات، ولله تعالى في أيام دهره أوقات يحدث فيها ما يشاء من البلاء والنعماء ويقضي من الأسباب بما يدفع موجب تلك الأسباب لمن قامت به أو يقلله أو يخففه فمن فزع إلى تلك الأسباب أو بعضها اندفع عنه الشر الذي جعل الله تعالى الكسوف سببا له أو بعضه، ولهذا قل ما يسلم أطراف الأرض حيث يخفي الإيمان وما جاءت به الرسل فيها من شر عظيم يحصل بسبب الكسوف ويسلم منه الأماكن التي يظهر فيها نور النبوة والقيام بما جاءت به الرسل أو يقل فيها جدا. وقد جاء أنه صلّى الله عليه وسلم لما كسفت الشمس في عهده قام فزعا مسرعا يجر رداءه ونادى في الناس الصلاة جامعة وخطبهم بتلك الخطبة البليغة وأخبر أنه لم ير كيومه ذلك في الخير والشر وأمرهم عند حصول مثل تلك الحالة بالعتاقة والصدقة والصلاة والتوبة وما ذلك إلا لكونه عليه الصلاة والسلام أعلم الخلق بالله تعالى وبأمره وشأنه وتصريفه أمور مخلوقاته وتدبيره وأنصحهم للأمة وأشفقهم على العباد ولم يبين لهم عليه الصلاة والسلام أسباب الكسوفين وحسابهما لأن الجهل بذلك لا يضر والعلم به لا ينفع نفع العلم بما جاءت به الرسل عليهم السلام. وقد يقال: الأمور بالصلاة عندهما كالأمر بالصلاة عند طلوع الفجر والغروب والزوال مع تضمن ذلك رفع موجبهما الذي جعلهما الله تعالى سببا له، ومن الناس من أنكر أن يكون الكسوفان سببين لشيء من البلاء أصلا وأن سبب حصولهما ليس ما أطال الكلام فيه المنجمون ومر بعضه بل السبب هو تجلي الله تعالى عليهما لما أخرجه ابن ماجة في سننه. والإمام أحمد والنسائي من حديث النعمان بن بشير قال: انكسفت الشمس على عهد النبي صلّى الله عليه وسلم فخرج فزعا يجر ثوبه حتى أتى المسجد فلم يزل يصلي حتى انجلت ثم قال: إن ناسا يزعمون أن الشمس والقمر لا ينكسفان إلا لموت عظيم من العظماء وليس كذلك إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا تجلى الله لشيء من خلقه خشع له وأن الأمر بالصلاة لظهور آثار تجلي الجلال في هذين الجرمين العظيمين أو هو كالأمر بالصلاة عند غروب الشمس وطلوع الفجر مثلا وحكمته كحكمته والقائلون بهذا مكابرون للفلاسفة في أشياء لا ينبغي المكابرة فيها ولعلها تضر بالدين وتصير سببا لطعن الملحدين فيكابرون في كون الأفلاك مستديرة والأرض كرية وأن نور القمر مستفاد من ضياء الشمس وأن الكسوف القمري عبارة عن انمحاء نور القمر بتوسط الأرض بينه وبين الشمس من حيث الجزء: 12 ¦ الصفحة: 107 إن نوره مقتبس منها وأن الكسوف الشمسي عبارة عن وقوع جرم القمر بين الناظر والشمس عند اجتماعهما في العقدتين على دقيقة واحدة وقولهم بتأثير الأسباب المحسوسة في مسبباتها وإثبات القوى والطبائع والأفعال والانفعالات إلى غير ذلك مما تقوم عليه الأدلة اليقينية ولا تعارضه النصوص الشرعية القطعية، وما ذكروه من الحديث تعقبه حجة الإسلام الغزالي فقال: إن زيادة فإن الله إلخ لم يصح نقلا فيجب تكذيب قائلها ولو صحت لكان تأويلها أهون من مكابرة أمور قطعية فكم من ظواهر أوّلت بالأدلة العقلية التي لم تبلغ في الوضوح إلى هذا الحد وأعظم ما يفرح به الملحدة أن يصرح ناصر الشرع بأن هذا وأمثاله على خلاف الشرع فيسهل عليه إبطال الشرع إن كان شرطه أمثال ذلك اه وليس الأمر في هذه كما قال من عدم الصحة فإن إسنادها لا مطعن فيه، فابن ماجة يروي الحديث بهذه الزيادة عن محمد بن المثنى وأحمد بن ثابت وحميد بن الحسن وهم يروونه عن عبد الوهاب عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن النعمان بن بشير وكل هؤلاء ثقات حفاظ نعم الحديث الخالي عنها رواه بضعة عشر صحابيا منهم علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وعائشة وأسماء أختها وأبيّ بن كعب وجابر بن عبد الله وسمرة بن جندب وقبيصة الهلالي وعبد الله بن عمرو ومن هنا خاف بعض الأجلة أن تكون مدرجة في الحديث لكنه خلاف الظاهر وحينئذ يقال: إن كسوف الشمس والقمر يوجب لهما ضعف سلطاتهما وبهائهما وذلك يوجب لهما من الخشوع والخضوع لرب العالمين وعظمته وجلاله سبحانه ما يكون سببا لتجليه عز وجل لهما، ولا يستنكر أن يكون تجلي الله سبحانه لهما في وقت معين كما يدنو سبحانه من أهل الموقف عشية عرفة وكما ينزل تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا عند مضي نصف الليل فيحدث لهما ذلك التجلي خشوعا آخر ليس هو الكسوف فإنه إنما حدث بالسبب الذي عرفت ولم يقل النبي صلّى الله عليه وسلم إن الله تعالى إذا تجلى لهما انكسفا بل قال فإذا تجلى الله لشيء من خلقه خشع له. وفي رواية الإمام أحمد «إذا بدا الله لشيء من خلقه خشع له» فهاهنا خشوعان خشوع أوجبه كسوفهما الحادث من وضعهما الخاص وخشوع أوجبه تجليه تعالى لهما لذلك الخشوع الذي أوجبه الكسوف. وهذا توجيه لطيف المنزع يقبله العقل المستقيم والفطرة السليمة إن شاء الله تعالى. وأما استدلاله بحديث ابن مسعود ففيه على ما قيل أن الحديث لو ثبت لكان حجة عليه لا له إذ لو كان علم النجوم حقا لم يأمر صلّى الله عليه وسلم بالإمساك عند ذكر النجوم فالظاهر أنه عليه الصلاة والسلام لم يأمر بذلك إلا لأن الخوض في ذلك خوض فيما لا علم للخائض به فتأمل. وأما حديث النهي عن السفر والقمر في العقرب فصحيح من كلام المنجمين دون رسول رب العالمين صلّى الله عليه وسلم، وروايته عن علي كرم الله تعالى وجهه كذب أيضا والمشهور عنه خلاف ذلك كما سمعت في قصة خروجه لقتال الخوارج، وأما ما احتج به من الأثر عن علي كرم تعالى وجهه أن رجلا أتاه إلخ فلا يعلم ثبوته عنه رضي الله تعالى عنه، والكذابون كثيرا ما ينفقون سلعهم الباطلة بنسبتها إليه أو إلى أهل بيته، ثم لو صح عنه فليس فيه تعرض لثبوت أحكام النجوم بوجه، وقد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: «اللهم بارك لأمتي في بكورها» ونسبة أول الشهر إليه كنسبة أول النهار إليه، وكان صخر راوي الحديث إذا بعث تجارة له بعثها في أول النهار فأثرى وكثر ماله ولا يبعد أن يكون أول السنة كأول النهار أيضا فللأوائل مزية القوة كما هو مشاهد في الشباب والشيخوخة، ولله تعالى تجليات في الأزمنة والأمكنة والأشخاص وليس ذلك من تأثير الكواكب في شيء، ومثل هذا يقال فيما ذكره الكرماني وقد مر، ما ذكره عن اليهودي الذي أخبر ابن عباس رضي الله تعالى عنه فلا نسلم صحته، وإن سلم ذلك فهو من جنس إخبار الكهان بشيء من المغيبات، وقد أخبر ابن الصياد النبي صلّى الله عليه وسلم بما أخبر فقال عليه الصلاة والسلام له «إنما أنت من إخوان الكهان» وعلم مقدمة المعرفة لا يختص بما ذكره المنجمون بل له عدة أسباب يصدق الحكم معها ويكذب منها الجزء: 12 ¦ الصفحة: 108 الكهانة ومنها المنامات ومنها الفأل والزجر وضرب الحصى والخط والكتف والكشف المستند إلى الرياضة وهو كشف جزئي عن بعض الحوادث ويشترك فيه المؤمن والكافر ومنها غير ذلك، وللعمال في البحر والسعاة ونحوهم في البر علامات يعرفون بها أوقات المطر والصحو والبرد والريح وغيرها وقلما يخطئون في أخبارهم بل صوابهم في ذلك أكثر من صواب المنجم. وأما ما ذكره من حديث أبي الدرداء فالمحفوظ فيه «توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وتركنا وما طائر يقلب جناحيه إلا وقد ذكر لنا منه علما» وفيه روايات أخر صحيحة أيضا وكلها ليس فيها وليست الكواكب إلخ فهو من أعظم الأدلة على بطلان دعوى المنجمين إذ لم يذكر عليه الصلاة والسلام من أحكام النجوم شيئا البتة وقد علمهم علم كل شيء حتى الخرأة، وأما قوله إنه جاء في الآثار أن أول من أعطى هذا العلم آدم عليه السلام إلخ فكذب وافتراء على آدم عليه السلام، وقد عمل هذا الكاذب المفتري بالمثل السائر إذا كذبت فأبعد شاهدك، ونحوه ما روي عن ميمون بن مهران. وأما ما نسب إلى الشافعي فهو بعض من حكاية ذكرها أبو عبد الله الحاكم فيما ألفه في مناقبه والحكايات التي ذكرت عنه في أحكام النجوم ثلاث. إحداها قال الحاكم: قرىء على أبي يعلى حمزة بن محمد العلوي وأكثر ظني أني حضرته ثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن العباس الأزدي في آخرين قالوا ثنا محمد بن أبي يعقوب الجوال الدينوري ثنا عبد الله بن محمد البلوي حدثني خالي عمارة بن زيد قال: كنت صديقا لمحمد بن الحسن فدخلت معه يوما على هارون الرشيد فسأله ثم إني سمعت محمد بن الحسن وهو يقول: إن محمد بن إدريس يزعم أنه للخلافة أهل قال فاستشاط هارون من قوله غضبا ثم قال: علي به فلما مثل بين يديه أطرق ساعة ثم رفع رأسه إليه فقال: أيها قال الشافعي: ما أيها أمير المؤمنين أنت الداعي وأنا المدعو وأنت السائل وأنا المجيب فذكر حكاية طويلة سأله فيها عن العلوم ومعرفته بها إلى أن قال: كيف علمك بالنجوم؟ قال: أعرف الفلك الدائر والنجم السائر والقطب الثابت والمائي والناري وما كانت العرب تسميه الأنواء ومنازل النيرين والاستقامة والرجوع والنحوس والسعود وهيئاتها وطبائعها وما أستدل به في بري وبحري وأستدل في أوقات صلاتي وأعرف ما مضى من الأوقات في إمسائي وإصباحي وظعني في أسفاري ثم ساق العلوم على هذا النحو، ومن له علم بالمنقولات يعلم أن هذه الحكاية كذب مختلق وإفك مفترى على الشافعي والبلاء فيها من عند محمد بن عبد الله البلوي فإنه كذاب وضاع وهو الذي وضع رحلة الشافعي وذكر فيها مناظرته لأبي يوسف بحضرة الرشيد ولم ير الشافعي أبا يوسف ولا اجتمع به قط وإنما دخل بغداد بعد موته ويشهد بكذبها أنها تدل على أن محمدا وشى بالشافعي إلى الرشيد وأراد قتله ومحمد أجلّ من أن ينسب إليه ذلك وتعظيمه للشافعي ومحبته إياه هو المعروف كتعظيم الشافعي له وثنائه عليه، وفيها شواهد أخر على الكذب يعرفها العالم بالمنقول إذا اطلع عليها كلها، وثانيتها وهي التي أخذت منها ما ذكرها الإمام، قال الحاكم: أخبرنا أبو الوليد الفقيه قال حدثت عن الحسن بن سفيان عن حرملة: قال: كان الشافعي يديم النظر في كتب النجوم وكان له صديق وعنده جارية قد حبلت فقال: إنها تلد إليّ سبعة وعشرين يوما ويكون في فخذ الولد الأيسر خال أسود ويعيش أربعة وعشرين يوما ثم يموت فكان الأمر كما قال فأحرق بعد ذلك تلك الكتب وما عاود النظر في شيء منها، وهذا الإسناد رجاله ثقات لكن الشأن فيمن حدث أبا الوليد عن الحسن بن سفيان أو فيمن حدث الحسن عن حرملة، ويدل على كذب الحكاية أنها لو صحت لوجب أن تثنى الخناصر على هذا العلم وتشد به الأيدي لا أن تحرق كتبه ولا يعاود النظر في شيء منها، وأن الطالع عند المنجمين طالعان: طالع مسقط النطفة وهو الطالع الأصلي الذي يزعمون دلالته على وقت الولادة والحكاية لم تتضمن أن الشافعي نظر فيه ولو كان لتضمنته وطالع الولادة وأخبار الشافعي قبلها ضرورة أنه قال: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 109 إنها تلد إلى سبعة وعشرين يوما، وثالثتها قال الحاكم: أنبأني عبد الرحمن بن الحسن القاضي أن زكريا بن يحيى الساجي حدثهم قال أخبرني أحمد بن محمد ابن بنت الشافعي قال سمعت أبي يقول: كان الشافعي وهو حدث ينظر في النجوم وما نظر في شيء إلا فاق فيه فجلس يوما وامرأة تلد فحسب فقال: تلد جارية عوراء على فرجها خال أسود وتموت إلى كذا وكذا فولدت فكان كما قال فجعل على نفسه أن لا ينظر فيه أبدا، وأمر هذه الحكاية كالتي قبلها فإن ابن بنت الشافعي لم يلق الشافعي ولا رآه والشأن فيمن حدث بها عنه، وأيضا طالع مسقط النطفة لم يؤخذ والخبر قبل تحقق طالع الولادة، ثم إن تحقق هذه الحكاية إن كان قبل تحقق الحكاية التي قبلها لم تكد تحقق وإن كان تحقق تلك قبل لم تكد هذه تحقق كما لا يخفى على المنصف، والذي صح عن الشافعي في أمر النجوم أنه كان يعرف ما كانت العرب تعرفه من علم المنازل والاهتداء بالنجوم في الطرقات وأما غير ذلك من الأحكام التي يزعمها المنجمون فلا، وكان رضي الله تعالى عنه شديد الإنكار على المتكلمين مزريا بهم حكمه فيهم أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم في القبائل فما تراه يرى في المنجمين الذين شاع هذيانهم وقبح عند ذوي العقول السليمة شأنهم، نعم كانت له رضي الله تعالى عنه اليد الطولى في علم الفراسة وقد خرج إلى اليمن لجمع كتبه فجمع منها ما جمع وله فيها حكايات يقضى منها العجب، ولعل إخباره بأمر المولود لو صح من ذلك العلم والناقل لجهله أو لأمر آخر أسنده للنظر في أحكام النجوم وقال ما قال. وأما ما ذكر عن ابن إسحاق من أن فرعون كان يقتل أبناء بني إسرائيل لإخبار المنجمين إياه بأنه سيولد لهم مولود يكون هلاكه على يده فهو كما قال بعض الأجلة من أخبار أهل الكتاب ومخالف لروايات أكثر المفسرين فإنهم أحالوا ذلك على أخبار الكهان. وروى بعضهم أن قومه أخبروه بأن بني إسرائيل يزعمون أنه يولد منهم مولود يكون هلاكك على يديه وفي أخبار الكهان ما هو أعجب من ذلك. ومنها خبرهم بظهور خاتم الرسل صلّى الله عليه وسلم وانتشار أمره، ونحن لا ننكر علم تقدمة المعرفة بأسباب مفضية إلى مثل ذلك يختلف قوى الناس في إدراكها وتحصيلها وإنما كلامنا مع المنجمين في أصول علم الأحكام وبيان فسادها وكذب أكثر الأحكام التي يسندونها إليها، وأما ما ذكره في الاستدلال بالمعقول من أنه ما خلت عن هذا العلم ملة من الملل ولا أمة من الأمم وأنهم لم يزالوا مشتغلين به معولين في معرفة المصالح عليه إلى آخر ما قال ففرية من غير مرية، ويا عجبا من دعواه إطباق أهل المشرق والمغرب من أول بناء العالم إلى آخره عليه وهم يقولون إنما أسست أصوله وأوضاعه في زمن هرمس الهرامسة يعنون به إدريس عليه السلام وهو بعد بناء العالم بكثير، وأيضا قد رده كثير من الفلاسفة وجمع غفير من أساطين الإسلام حتى أنه قد ألف ما يزيده على مائة مصنف في رده وإبطاله، وقد قال أبو نصر الفارابي: اعلم أنك لو قلبت أوضاع المنجمين فجعلت الحار باردا والبارد حارا والسعد نحسا والنحس سعدا والذكر أنثى والأنثى ذكرا ثم حكمت لكانت أحكامك من جنس أحكامهم تصيب تارة وتخطىء تارات، وقد زيف أمرهم ابن سينا في كتابيه الشفاء والنجاة، وكذا أبو البركات البغدادي في كتاب التعبير له، هذا ما اختاره بعض المحققين في الرد على المنجمين وأعود فأقول: الذي أراه في هذا المقام ويترجح عندي من كلام العلماء الأعلام أن الله عز وجل لم يخلق شيئا باطلا خاليا عن حكمة ومنفعة بل خلق الأشياء علويها وسفليها جليلها ودنيها مشتملة على حكم لا تحصى ومنافع لا تستقصى وإن تفاوتت في أفرادها قلة وكثرة وخص كلا منها بخاصة لا توجد في غيرها مع اشتراك الكل في الدلالة على وجوده تعالى ووحدته وعلمه وقدرته: ولله في كل تحريكة ... وتسكينة أبدا شاهد وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 110 فالأجرام العلوية مشتركة في هذه الدلالة مختص كل منها بخاصة وشأن الكواكب في خواصها وتأثيراتها كشأن النباتات والمعدنيات والحيوانيات في خواصها وتأثيراتها، فمنها ما خاصته في نفسه غير متوقفة على ضم شيء آخر إليه، ومنها ما خاصته متوقفة على ضم شيء آخر، ومنها ما إذا ضم إليه شيء أسقط خاصته، وأبطل منفعته ومنها ما يعقل وجه تأثيره ومنها ما لا يعقل، ومنها ما يؤثر في مكان دون مكان وزمان دون مكان، ومنها ما يؤثر في جميع الأزمنة والأمكنة إلى غير ذلك من الأحوال، وكونها زينة للسماء لا يستدعي نفي أن يكون فيها منفعة أخرى على حد ما في الأرض فقد قال سبحانه: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها [الكهف: 7] مع اشتمال الأزهار وغيرها على ما تعلم وما لا تعلم من المنافع، وكذلك كونها علامات يهتدى بها في ظلمات البر والبحر وكونها رجوما للشياطين. ولا أقول ببساطة الأفلاك ولا ببساطة الكواكب ولا بانحصارها فيما يشاهد ببصر أو رصد ولا بذكورة بعض وأنوثة آخر إلى كثير مما يزعمه المنجمون، وأقول: إن الله تعالى أودع في بعضها تأثيرا حسبما أودع في أزهار الأرض ونحوها وإنها لا تؤثر إلا بإذنه عز وجل كما هو مذهب السلف في سائر الأسباب العادية وإن شئت فقل كما قال الأشاعرة فيها، وأنه لا يبعد أن يكون بعضها علامات لإحداثه تعالى أمورا لا بواسطتها في أحد العالمين العلوي والسفلي يعرفها من يوقفه الله تعالى عليها من ملائكته وخواص عباده، وارتباط كثير من السفليات بالعلويات، مما قال به الأكابر ولا ينكره إلا مكابر، ولا أنسب أثرا من الآثار إلى كوكب بخصوصه على القطع لاحتمال شركة كوكب أو أمر آخر، نعم الظاهر يقتضي كثرة مدخلية بعض الكواكب في بعض الآثار كالقمر في مد البحار وجزرها فإن منها ما يأخذ في الازدياد حين يفارق القمر الشمس إلى وقت الامتلاء ثم إنه يأخذ في الانتقاص ولا يزال نقصانه يستمر بحسب نقصان القمر إلى المحاق ومنها ما يحصل فيه المد في كل يوم وليلة مع طلوع القمر وغروبه كبحر فارس وبحر الهند وبحر الصين، وكيفيته أنه إذا بلغ القمر مشرقا من مشارق البحر ابتدأ البحر بالمد ولا يزال كذلك إلى أن يصير القمر في وسط سماء ذلك الموضع فإذا زال عن مغرب ذلك الموضع ابتدأ المد من تحت الأرض ولا يزال زائدا إلى أن يصل القمر إلى وتد الأرض فحينئذ ينتهي المد منتهاه ثم يبتدىء الجزر ثانيا ويرجع الماء كما كان، ومثل المد والجزر بحرانات الأمراض فإنها بحسب زيادة القمر ونقصانه على معنى كثرة مدخلية ذلك ظاهرا فيها إلى أمور كثيرة، ولا أقول: إن لكوكب تأثيرا في السعادة والشقاوة ونحوهما، ولا يبعد أن يكون كوكب أو كواكب باعتبار بعض الأحوال علامة لنحو ذلك يعرفها بعض الخواص، ولا وثوق بما قاله الأحكاميون وكل ما يقولونه ظن وتخمين لا دليل لهم عليه وهم فيما أسسوا عليه أحكامهم متناقضون وفي المذاهب مختلفون فللبابليين مذهب وللفرس مذهب ولأهل الهند مذهب ولأهل الصين مذهب وقد رد بعضهم على بعض وشهد بعض على بعض بفساد أصولهم ومبنى أحكامهم فقد كان أوائلهم من الأقدمين وكبار رصادهم من عهد بطليموس وطيموحارس ومانالارس قد حكموا حكما في الكواكب واتفقوا على صحته وأقام الناس على تقليدهم وبناء الأمر على ما قالوه أكثر من سبعمائة سنة فجاء من بعدهم خالد بن عبد الملك المروزي. وحسن صاحب الزيج المأموني ومحمد بن الجهم ويحيى بن أبي منصور فامتحنوا ما قالوا فوجودهم غالطين وأجمعوا على غلطهم وسموا رصدهم الرصد الممتحن. ثم حدثت بعدهم بنحو ستين سنة طائفة أخرى زعيمهم أبو معشر محمد بن جعفر فرد عليهم وبين خطاهم كما ذكره أبو سعيد شاذان المنجم في كتاب أسرار النجوم له وفيه قلت لأبي معشر الذنب بارد يابس فلم قلتم إنه يدل على التأنيث؟ فقال: هكذا قالوا قلت: فقد قالوا إنه ليس بصادق اليبس لكنه بارد عفن ملتوى كل الأعراض الغائية توهم لا يكون شيء منها يقينيا وإنما يكون توهم أقوى من توهم. ومن تأمل أحوال القوم علم أن ما معهم تفرس يصيبون معه ويخطئون، ثم حدثت بعدهم طائفة أخرى بنحو الجزء: 12 ¦ الصفحة: 111 سبعين سنة منهم أبو الحسين عبد الرحمن بن عمر المعروف بالصوفي فرد على من قبله وغلطه وألف كتابا بين فيه من الأغلاط ما بين وحمله إلى عضد الدولة ابن بويه فاستحسنه وأجزل ثوابه، ثم جاءت بعد نحو ثلاثين سنة طائفة أخرى منهم كوشيار الديلمي فألف المجمل في الأحكام وجهل فيه من يحتج للأحكام من الأحكاميين، وقال عن صناعة التنجيم: هي صناعة غير مبرهنة وللخواطر والظنون فيها مجال إلى أن قال: ومن المنفردين بعلم الأحكام من يأتي على جزئياته بحجج على سبيل النظر والجدل فيظن أنها براهين لجهله بطريق البرهان وطبيعته، ثم حدثت طائفة أخرى منهم منجم الحاكم بالديار المصرية المعروف بالفكري فوضع هو وأصحابه رصدا آخر سموه الرصد الحاكمي فخالفوا فيه أصحاب الرصد الممتحن وبنوا أمر الأحكام عليه. ثم حدثت طائفة أخرى منهم أبو الريحان البيروني مؤلف كتاب التفهيم إلى صناعة التنجيم وكان بعد كوشيار بنحو أربعين سنة فخالف من تقدمه وأتى من مناقضاتهم والرد عليهم بما هو دال على فساد صناعتهم وختم كتابه بقوله في الخبء والضمير ما أكثر افتضاح المنجمين فيه وما أكثر إصابة الزاجرين بما يستعمل من الكلام وقت السؤال ويرونه باديا من الآثار والأفعال على السائل إلى آخر ما قال، ثم حدثت طائفة أخرى منهم أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسي وكان بعد البيروتي بنحو ثمانين عاما وكان رأسا في الصناعة ومع هذا اعترف بأن قول المنجمين هذيان، ثم حدثت طائفة أخرى بالمغرب منهم أبو إسحاق الزرقال وأصحابه وكان بعد أبي الصلت بنحو مائة سنة فخالف الأوائل والأواخر في الصناعتين الرصدية والأحكامية. وآخر ما نعلم حدوثه زيج لالنت والقسيني وفيه من المخالفة لما قبله من الأزياج ما فيه. وقد ذكر فيه تقويم هرشل ومقدار حركته وهو كوكب سيار ظفر به هرشل أحد فلاسفة الإفرنج وسماه باسمه ولم يظفر به أحد قبله، وهذا الزيج أضبط الأزياج فيما يزعم المنجمون اليوم، والإفرنج على مهارة كثير منهم بعلم الرصد لا يقولون بشيء مما يقول به الأحكاميون الأوائل والأواخر ويسخرون منهم، وقد ذكر من يوثق به وجوها تدل على فساد ما بأيديهم من العلم وأنه لا يوثق به، الأول أن معرفة جميع المؤثرات الفلكية مما لا تتأتى، أما أولا فلأنه لا سبيل إلى معرفة الكواكب إلا بواسطة القوى الباصرة وإذا كان المرئي صغيرا أو في غاية البعد يتعذر رؤيته فإن أصغر الكواكب التي في فلك الثوابت وهو الذي به قوة البصر مثل كرة الأرض بضعة عشر مرة وكرة الأرض أعظم من كرة عطارد كذا مرة فلو قدرنا أنه حصل في الفلك الأعظم كواكب كثيرة كل منها كعطارد حجما فكيف ترى، ونفي هذا الاحتمال لا بدله من دليل ومع قيامه لا يحصل الجزم بمعرفة جميع المؤثرات، وإن قالوا: جاز ذلك إن أن آثار هذا الكوكب لصغره ضعيفة فلا تصل إلى هذا العالم. قلنا: صغر الجرم لا يوجب ضعف الأثر فقد أثبتم لعطارد آثارا قوية مع صغره بالنسبة إلى سائر السيارات بل أثبتم للرأس والذنب وسهم السعادة وسهم الغيب آثارا قوية وهي أمور وهمية، وأما ثانيا فالمرصود من الكواكب المرئية أقل قليل بالنسبة إلى غير المرصود فمن أين لهم الوقوف على طبيعة غير المرصود؟ وأما ثالثا فلأنه لم يحصل الوقوف على طبائع جميع المرصود أيضا وقلما تكلموا في معرفة غير الثوابت التي من القدر الأول والثاني، وأما رابعا فآلات الرصد لا تفي بضبط الثواني والثوالث فما فوق ولا شك أن الثانية الواحدة مثل الأرض كذا ألف مرة أو أقل أو أكثر، ومع هذا التفاوت العظيم كيف الوصول إلى الغرض وقد قيل إن الإنسان الشديد الجري بين رفعه رجله ووضعه الأخرى يتحرك جرم الفلك الأقصى ثلاثة آلاف ميل فإذا كان كذلك فكيف ضبط هذه المؤثرات؟ وأما خامسا فبتقدير أنهم عرفوا طبائع هذه الكواكب حال بساطتها فهل وقفوا على طبائعها حال امتزاج بعضها ببعض والامتزاجات الحاصلة من طبائع ألف كوكب أو أكثر بحسب الأجزاء الفلكية تبلغ في الكثرة إلى حيث لا يقدر العقل على ضبطها. وأما الجزء: 12 ¦ الصفحة: 112 سادسا فيقال: هب أنا عرفنا تلك الامتزاجات الحاصلة في ذلك فلا ريب أنّه لا يمكننا معرفة الامتزاجات التي كانت حاصلة قبله مع أنا نعلم قطعا أن الأشكال السالفة ربما كانت عائقة ومانعة عن مقتضيات الأشكال الحاصلة في الحال، ولا ريب أنّا نشاهد أشخاصا كثيرة من النبات والحيوان والإنسان تحدث مقارنة لطالع واحد مع أن كل واحد منها مخالف للآخر في أكثر الأمور، وذلك أن الأحوال السابقة في حق كل واحد تكون مخالفة للأحوال السابقة في حق الآخر وذلك يدل على أنه لا اعتماد على مقتضى طالع الوقت بل لا بد من الإحاطة بالطوالع السالفة وذلك مما لا وقوف عليه فإنه ربما كانت تلك الطوالع دافعة مقتضيات هذا الطالع الحاضر، وعلى هذا الوجه عول ابن سينا في كتابيه الشفاء والنجاة في إبطال هذا العلم، الثاني أن تأثير الكواكب يختلف باختلاف أقدارها فما كان من القدر الأول أثر بوقوعه على الدرجة وإن لم تضبط الدقيقة، وما كان من القدر الأخير لم يؤثر إلا بضبط الدقيقة، ولا ريب بجهالة مقادير جميع الكواكب فكيف تضبط الآثار، الثالث فساد أصولهم وتناقض آرائهم واختلافهم اختلافا عظيما من غير دليل ومتى تعارضت الأقوال وتعذر الترجيح فيما بينها لا يعول على شيء منها. الرابع أن أرصادهم لا تنفك عن نوع خلل وهي مبنى أحكامهم، وقد صنف أبو علي بن الهيثم رسالة بليغة في أقسام الخلل الواقع في آلات الرصد وبين أن ذلك ليس في وسع الإنسان دفعه وإزالته وإصابتهم في أوقات الخسوف والكسوف مع ذلك الخلل لا تستدعي إصابتهم في غيرها معه، الخامس أنا نشاهد عالما كثيرا يقتلون في ساعة واحدة في حرب وخلقا كثيرا يغرقون في ساعة واحدة مع اختلاف طوالعهم واقتضائها أحوالا مختلفة عندكم وهذا يدل على عدم اعتبار ما اعتبرتموه أولا، فإن قلتم: إن الطوالع قد يكون بعضها أقوى من بعض فلعل طالع الوقت أقوى من طالع الأصل فكان الحكم، قلنا: هذا بعينه يبطل عليكم اعتبار طالع المولود فإن الطوالع بعده مختلفة كثيرة ولعل بعضها أقوى منه فلا يفيد اعتباره شيئا، السادس أن العقل لا مساغ له في اقتضاء كوكب معين أو وضع معين تأثيرا خاصا والتجربة على قصورها معارضة بتجربة اقتضت خلافها إلى غير ذلك من من الوجوه، وأبو البركات البغدادي وإن زيف ما هم عليه إلا أنه يقر بقبول بعض الأحكام فإنه قال بعد ذكر شيء من أقوالهم التي لا دليل لهم عليها: وهذه أقوال قالها قائل فقبلها قابل ونقلها ناقل فحسن بها ظن السامع واغتر بها من لا خبرة له ولا قدرة له على النظر ثم حكم بحسبها الحاكمون بجيد ورديء وسلب وإيجاب وسعد ونحوس فصادف بعضه موافقة الوجود فصدق فاغتر به المغترون ولم يلتفتوا إلى كذب فيه بل عذروه وقالوا: هو منجم ما هو نبي حتى يصدق في كل ما يقول واعتذروا له بأن العلم أوسع من أن يحيط به ولو أحاط به لصدق في كل شيء، ولعمر الله تعالى إنه لو أحاط به علما صادقا لصدق والشأن أن يحيط به على الحقيقة لا على أن يفرض فرضا ويتوهم وهما فينقله إلى الوجود ويثبته في الموجود وينسب إليه ويقيس عليه، وبالذي يصح منه ويلتفت إليه العقلاء هي أشياء غير هذه الخرافات التي لا أصل لها مما حصل بتوقيف أو تجربة حقيقية كالقرانات والانتقالات والمقابلة وممر كوكب من المتحيرة تحت كوكب من الثابتة وما يعرض للمتحيرة من رجوع واستقامة ورجوع في شمال وانخفاض في جنوب وغير ذلك، وكأني أريد أن أختصر الكلام هاهنا وأوافق إشارتك وأعمل بحساب اختيارك رسالة في ذلك أذكر ما قيل فيها من علم أحكام النجوم من أصول حقيقية أو مجازية أو وهمية أو غلطية وفروع نتائج أنتجت عن تلك الأصول وأذكر الجائز من ذلك والممتنع والقريب والبعيد فلا أرد علم الأحكام من كل وجه كما رده من جهله ولا أقبل فيه كل قول كما قبله من لم يعقله بل أوضح موضع القبول والرد وموضع التوقيف والتجويز والذي من المنجم والذي من التنجيم والذي منهما وأوضح لك أنه لو أمكن الإنسان أن يحيط بشكل كل ما في الفلك علما لأحاط بكل ما يحويه الفلك لأن منه مبادئ الأسباب لكنه لا يمكن ويبعد عن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 113 الإمكان بعدا عظيما والبعض الممكن منه لا يهدي إلى بعض الحكم لأن البعض الآخر المجهول قد يناقض المعلوم في حكمه ويبطل ما يوجبه فنسبة المعلوم إلى المجهول من الأحكام كنسبة المعلوم إلى المجهول من الأسباب وكفى بذلك بعدا انتهى، وفيه من التأييد لبعض ما تقدم من الأوجه ما فيه. وأنا أقول: إن الإحاطة بالأسرار المودعة في الأجرام لا يبعد أن تحصل لبعض الخواص ذوي النفوس القدسية لكن بطريق الكشف أو نحوه دون الاستدلال الفكري والأعمال الرصدية مثلا وهو الذي يقتضيه كلام الشيخ الأكبر قدس سره قال في الباب الثالث والسبعين من الفتوحات: ومن الأولياء النقباء وهم اثنا عشر نقيبا في كل زمان لا يزيدون ولا ينقصون على عدد البروج الاثني عشر كل نقيب عالم بخاصية كل برج وبما أودع الله تعالى في مقامه من الأسرار والتأثيرات وما يعطى للنزلاء فيه من الكواكب السيارة والثوابت ثم قال: ومنهم النجباء وهم ثمانية في كل زمان إلى أن قال: ولهم القدم الراسخة في علم تسيير الكواكب من جهة الكشف والاطلاع لا من جهة الطريقة المعلومة عند العلماء بهذا الشأن، والنقباء هم الذين حازوا علم الفلك التاسع والنجباء حازوا علم الثمانية الأفلاك التي دونه وهي كل فلك في كوكب، ويفهم من هذا القول بالتأثيرات وأنها مفاضة من البرج على النازل فيه من الكواكب. وقد تكررت الاشارة منه إلى ذلك ففي الفصل الثالث من الباب الحادي والسبعين والثلاثمائة من الفتوحات أن الله تعالى خلق في جوف الكرسي جسما شفافا مستديرا يعني الفلك الأطلس قسمه اثني عشر قسما هي البروج وأسكن كل برج منها ملكا إلى أن قال: وجعل لكل نائب من هؤلاء الأملاك الاثني عشر في كل برج ملكه إياه ثلاثين خزانة تحتوي كل خزانة منها على علوم شتى يهبون منها لمن نزل بهم ما تعطيه مرتبته وهي الخزائن التي قال الله تعالى فيها وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الحجر: 21] وهذه الخزائن تسمى عند أهل التعاليم درجات الفلك والنازلون بها هم الجواري والنازل وعيوقاتها من الثوابت والعلوم الحاصلة من هذه الخزائن الإلهية هي ما يظهر في عالم الأركان من التأثيرات بل ما يظهر في مقعر فلك الثوابت إلى الأرض، وجعل لهؤلاء الاثني عشر نظرا في الجنان وأهلها وما فيها مخلصا من غير حجاب فما في الجنان من حكم فهو عن تولي هؤلاء بنفوسهم تشريفا لأهل الجنة وأما أهل الدنيا وأهل النار فما يباشرون ما لهم من الحكم إلا بالنواب وهم النازلون عليهم الذين ذكرناهم، وقال قدس سره في الفصل الرابع: إن الله تعالى جعل لكل كوكب من هذه الكواكب قطعا في الفلك الأطلس ليحصل من تلك الخزائن التي في بروجه وبأيدي ملائكته الاثني عشر من علوم التأثير ما تعطيه حقيقة كل كوكب وجعلها على حقائق مختلفة. انتهى المراد منه. وله قدس سره كلام غير هذا أيضا وقد سرح بنحو ما صرح به المنجمون من اختلاف طبائع البروج وأن كل ثلاثة منها على مرتبة واحدة في المزاج وأنا لا أزيد على القول بأن للأجرام العلوية كواكبها وأفلاكها أسرارا وحكما وتأثيرات غير ذاتية بل مفاضة عليها من جانب الحق والفياض المطلق جل شأنه وعظم سلطانه ومنها ما هو علامة لما شاء الله تعالى ولا يتم دليل على نفي ما ذكر ولا يعلم كمية ذلك ولا كيفيته ولا أن تأثير كذا من كوكب كذا أو كوكب كذا علامة لكذا في نفس الأمر إلا الله تعالى العليم البصير أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14] إلا أنه سبحانه قد يطلع بعض خواص عباده من البشر والملك على شيء من ذلك، ولا يبعد أن يطلع سبحانه البعض على الكل ووقوع ذلك لنبينا صلّى الله عليه وسلم مما لا أكاد أشك فيه. وقد نص بعض ساداتنا الصوفية قدست أسرارهم وأشرقت علينا أنوارهم على أن علومه عليه الصلاة والسلام التي وهبت له ثلاثة أنواع نوع أوجب عليه إظهاره وتبليغه وهو علم الشريعة والتكاليف الإلهية وقوله تعالى يا أَيُّهَا الرَّسُولُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 114 بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ [المائدة: 67] ناظر إلى ذلك دون العموم المطلق أو خصوص خلافة علي كرم الله تعالى وجهه كما يقوله الشيعة، ونوع أوجب عليه كتمانه وهو علم الأسرار الإلهية التي لا تتحملها قوة غير قوته القدسية عليه الصلاة والسلام فكما أن لله تعالى علما استأثر به دون أحد من خلقه كذلك لحبيبه الأعظم صلّى الله عليه وسلم علم استأثر به بعد ربه سبحانه لكنه مفاض منه تعالى عليه ولعله أشير إليه في قوله تعالى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى [النجم: 10] وقد يكون بين المحب والمحبوب من الأسرار ما يضن به على الأغيار، ومن هنا قيل: ومستخبر عن سر ليلى تركته ... بعمياء من ليلى بغير يقين يقولون خبرنا فأنت أمينها ... وما أنا إن خبرتهم بأمين ونوع خيره الله تعالى فيه بين الأمرين، وهذا منه ما أظهره لمن رآه أهلا له ومنه ما لم يظهره لأمر ما فلعل ما وهب له عليه الصلاة والسلام من العلم بدقائق أسرار الأجرام العلوية وحكمها وما أراد الله تعالى بها مما لم يظهره للناس كعلم الشريعة لأنه مما لا يضبط بقاعدة وتفصيل الأمر فيه لا يكاد يتيسر والبعض مرتبط بالبعض ومع هذا لا يستطيع العالم به أن يحمل الإقامة سفرا ولا الهزيمة ظفرا ولا العقد فلا ولا الإبرام نقضا ولا اليأس رجاء ولا العدو صديقا ولا البعيد قريبا ولا ولا ويوشك لو انتشر أمره وظهر حلوه ومره أن يضعف توكل كثير من العوام على الله تعالى والانقطاع إليه والرغبة فيما عنده وأن يلهوا به عن غيره وينبذوا ما سواه من العلوم النافعة لأجله فكل يتمنى أن يعلم الغيب ويطلع عليه ويدرك ما يكون في غد أو يجد سبيلا إليه بل ربما يكون ذلك سببا لبعض الأشخاص مفضيا إلى الاعتقاد القبيح والشرك الصريح، وقد كان في العرب شيء من ذلك فلو فتح هذا الباب لا تسع الخرق وعظم الشر، وقد ترك صلّى الله عليه وسلم هدم الكعبة وتأسيسها على قواعد إبراهيم عليه السلام لنحو هذه الملاحظة، فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام قال لعائشة رضي الله تعالى عنها: «لولا قومك حديثو عهد بكفر لهدمت الكعبة وأسستها على قواعد إبراهيم» ولا يبعد أيضا أن يكون في علم الله تعالى إظهار ذلك وعلم الناس به سببا لتعطل المصالح الدنيوية ومنافيا للحكمة الإلهية فأوجب على رسوله صلّى الله عليه وسلم كتمه وترك تعليمه كما علم الشرائع. ويمكن أن يكون قد علم صلّى الله عليه وسلم أن العلم بذلك من العلوم الوهبية التي يمن الله تعالى بها على من يشاء من عباده وأن من وهب سبحانه له من أمته قوة قدسية يهب سبحانه له ما يتحمله قوته منه، وقد سمعت ما سمعت في النقباء والنجباء، ويمكن أن يكون قد علم عليه الصلاة والسلام ذلك أمثالهم ومن هو أعلى قدرا منهم كالأمير علي كرم الله تعالى وجهه وهو باب مدينة العلم بطريق من طرق التعليم ومنها الإفاضة التي يذكرها بعض أهل الطرائق من الصوفية، ويجوز أن يقال: إن سر البعثة إنما هو إرشاد الخلق إلى ما يقربهم إليه سبحانه زلفى، وليس في معرفة التأثيرات الفلكية والحوادث الكونية قرب إلى الله تعالى والنبي صلّى الله عليه وسلم لم يأل جهدا في دعوة الخلق وإرشادهم إلى ما يقربهم لديه سبحانه وينفعهم يوم قدومهم عليه جل شأنه وما يتوقف عليه من أمر النجوم أمور دياناتهم كمعرفة القبلة وأوقات العبادات قد أرشد إليه من أرشد منهم وترك ما يحتاجون إليه من ذلك في أمور دنياهم كالزراعة إلى عاداتهم وما جربه كل قوم في أماكنهم وأشار إشارة إجمالية إلى بعض الحوادث الكونية لبعض الكواكب في بعض أحوالها كما في حديث الكسوف والخسوف السابق وأرشدهم إلى ما ينفعهم إذا ظهر مثل ذلك ويتضمن الاشارة الإجمالية أيضا أمره تعالى بالاستعاذة من شر القمر في بعض حالاته وذلك في قوله تعالى قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ [الفلق: 1- 3] على ما جاء في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها ويقرب في بعض الوجوه من شأنه صلّى الله عليه وسلم شأنه عليه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 115 الصلاة والسلام في أمر النباتات ونحوها فبين لهم ما يحل ويحرم من ذلك وأشار إلى منفعة بعض الأشياء من نبات وغيره ولم يفصل القول في الخواص وترك الناس فيما يأكلون ويشربون مما هو حلال على عاداتهم إلا أنه قال: كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف: 31] نعم نهى صلّى الله عليه وسلم عن الخوض في علم النجوم لطلب معرفة الحوادث المستقبلة بواسطة الأوضاع المتوقف بزعم المنجمين على معرفة الطبائع سدا لباب الشر والوقوع في الباطل لأن معرفة ذلك على التحقيق ليست كسبية كمعرفة خواص النباتات ونحوها والمعرفة الكسبية التي يزعمها المنجمون ليست بمعرفة وإنما هي ظنون لا دليل لهم عليها كما تقدم وصرح به ارسطاليس أيضا فإنه قال في أول كتابه السماع الطبيعي: إنه لا سبيل إلى اليقين بمعرفة تأثير الكواكب وحكي نحوه عن بطليموس، وكون المنهي عنه ذلك هو الذي صرح به بعض الأجلة وعليه حمل خبر أبي داود وابن ماجة «من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر» وأما الخوض في علم النجوم لتحصيل ما يعرف به أوقات الصلوات وجهة القبلة وكم مضى من الليل أو النهار وكم بقي وأوائل الشهور الشمسية ونحو ذلك ومنه فيما أرى ما يعرف به وقت الكسوف والخسوف فغير منهي عنه بل العلم المؤدي لبعض ما ذكر من فروض الكفاية بل إن كان علم النجوم عبارة عن العلم الباحث عن النجوم باعتبار ما يعرض لها من المقارنة والمقابلة والتثليث والتسديس وكيفية سيرها ومقدار حركاتها ونحو ذلك مما يبحث عنه في الزيج أو كان عبارة عما يعم ذلك والعلم الذي يتوصل به إلى معرفة ارتفاع الكوكب وانخفاضه ومعرفة الماضي من الليل والنهار ومعرفة الأطوال والأعراض ونحو ذلك مما تضمنه علم الأسطرلاب والربع المجيب ونحوهما فهو مما لا أرى بأسا في تعلمه مطلقا وإن كان عبارة عن العلم الباحث عن أحكامها وتأثيراتها التي تقتضيها باعتبار أوضاعها وطبائعها على ما يزعمه الأحكاميون. فهذا الذي اختلف في أمره فقال بعضهم بحرمة تعلمه لحديث أبي داود وابن ماجة السابق والقائل بهذا قائل بحرمة تعلم السحر وهو أحد أقوال في المسألة فيها الإفراط والتفريط، ثانيها أنه مكروه، ثالثها أنه مباح، رابعها أنه فرض كفاية، خامسها أنه كفر والجمهور على الأول ولأن فيه ترويج الباطل وتعريض الجهلة لاعتقاد أن أحكام النجوم المعروفة بين أهلها حق والكواكب مؤثرة بنفسها، وقيل: يحرم تعلمه لأنه منسوخ فقد قال الكرماني في عجائبه: كان علم النجوم علما نبويا فنسخ. وتعقب هذا بأنه لا معنى لنسخ العلم نفسه وإن حمل الكلام على معنى كان تعلمه مباحا فنسخ ذلك إلى التحريم كان في الاستدلال مصادرة وقال بعضهم: لا حرمة في تعلمه إنما الحرمة في اعتقاد صحة الأحكام وتأثيرات الكواكب على الوجه الذي يقوله جهلة الأحكاميين لا مطلقا، وأجيب عن الخبر السابق بأنه محمول على تعلم شيء من علم النجوم على وجه الاعتناء بشأنه كما يرمز إليه- اقتبس- وذلك لا يتم بدون اعتقاد صحة حكمة وأن الكواكب مؤثرات، وتعلمه على هذا الوجه حرام وبدونه مباح وفيه بحث. وقيل في الجواب: إن خبر فيمن ادعى علما بحكم من الأحكام آخذا له من النجوم قائلا الأمر كذا ولا بد لأن النجم يقتضيه البتة وهو لا شك في إثمه وحرمة دعواه التي قامت الأدلة على كذبها وهو كما ترى، كلام بعض أجلة العلماء صريح في إباحة تعلمه متى اعتقد أن الله تعالى أجرى العادة بوقوع كذا عند حلول الكوكب الفلاني منزلة كذا مثلا مع جواز التخلف، واستظهر بعض حرمة التعلم مطلقا متى كان فيه إغراء الجهلة بذلك العلم وإيقاعهم في محذور اعتقاد التأثير أو كان فيه غير ذلك من المفاسد وكراهته إن سلم من ذلك لما فيه من تضييع الأوقات فيما لا فائدة فيه ومبناه ظنون وأوهام وتخيلات، ولا يبعد القول بأنه يباح للعالم الراسخ النظر في كتبه للإطلاع على ما قالوا والوقوف على مناقضاتهم واختلافاتهم التي سمعت بعضا منها لينفر عنها الناس ويرد العاكفين عليها كما يباح له النظر في كتب الجزء: 12 ¦ الصفحة: 116 سائر أهل الباطل كاليهود والنصارى لذلك بل لو قيل بسنيته لهذا الغرض لم يبعد لكن أنت تعلم أن السلف الصالح لم يحوموا حول شيء منه بسوى ذمه وذم أهله ولم يتطلبوا كتابا من كتبه لينظروا فيه على أي وجه كان النظر ونسبة خلاف ذلك إلى أحد منهم لا تصح فالحزم اتباعهم في ذلك وسلوك مسلكهم فهو لعمري أقوم المسالك، وهذا واعترض القول باطلاعه صلّى الله عليه وسلم على ما ذكر من شأن الأجرام العلوية بأن فيه فتح باب الشبهة في كون اخباره صلّى الله عليه وسلم بالغيوب من الوحي لجواز أن تكون من أحكام النجوم على ذلك القول. وأجيب بأن الشبهة إنما تتأتى لو ثبت أنه عليه الصلاة والسلام رصد ولو مرة كوكبا من الكواكب وحقق منزلته وأخبر بغيب إذ مجرد العلم بأن لكوكب كذا حكم كذا إذا حل بمنزلة كذا لا يقيد بدون معرفة أنه حل في تلك المنزلة فحيث لم يثبت أنه صلّى الله عليه وسلم فعل ذلك لا يفتح باب الشبهة وفيه بحث ظاهر، وبأن علمه صلّى الله عليه وسلم بما تدل عليه الأوضاع عند القائلين به ليس إلا عن وحي فغاية ما يلزم على تلك الشبهة أن يكون خبره بالغيب بواسطة علم أحكام النجوم الذي علمه بالوحي وأي خلل يحصل من هذا في نبوته عليه الصلاة والسلام بل هذه الشبهة تستدعي كونه نبيا كما أن عدمها كذلك. وتعقب بأنه متى سلم أن للأوضاع الفلكية دلالة على أمور الغيبية وأنه صلّى الله عليه وسلم يعلم ما تدل عليه يقع الاشتباه بينه وبين غيره من علماء ذلك العلم المخبرين بالغيب إذا وقع كما أخبروا والتفرقة بأنه عليه الصلاة والسلام قد أوحى إليه بذلك دون الغير فرع كونه نبيا وهو أول المسألة، واختير في الجواب أن يقال: إن إخباره صلّى الله عليه وسلم بالغيب إن كان بعد ثبوت نبوته بمعجز غير ذلك لا تتأتى الشبهة إن أفهم أن خبره بواسطة الوحي ولا تضر إن لم يفهم إذ غاية ما في الباب أنه نبي لظهور المعجز على يده قبل أن أخبر بغيب بواسطة وضع فلكي وشاركه غيره في ذلك، وإن كان قبل ثبوت نبوته بمعجز غيره بأن كان التحدي بذلك الخبر ووقوع ما أخبر به فالذي يدفع الشبهة حينئذ عدم القدرة على المعارضة فلا يستطيع منجم أن يخبر صادقا بمثل ذلك بمقتضى علمه بالأوضاع ومقتضياتها فتدبر، ثم الظاهر على ما ذكره الشيخ الأكبر قدس سره في النقباء والنجباء أن لكل من الأنبياء عليهم السلام اطلاعا على ذلك إذ رتبة النبي فوق رتبة الولي وعلمه فوق علمه إذ هو الركن الأعظم في الفضل. ولا حجة في قصة موسى والخضر عليهما السلام على خلافه، أما على القول بنبوة الخضر عليه السلام فظاهر وكذا على القول بولايته وأنه فعل ما فعل عن أمر الله تعالى بواسطة نبي، وأما على القول بولايته وأنه فعل ذلك لعلم أوتيه بلا واسطة نبي فلأنه لا يدل إلا على فقدان موسى عليه السلام العلم بتلك الأمور الثلاثة وعلم الخضر بها ولا يلزم من ذلك أن يكون الخضر أعلم منه مطلقا وهو ظاهر، وعلى هذا جوز إبقاء الآية على ظاهرها فيكون إبراهيم عليه السلام قد نظر في النجوم حسبما علمه الله تعالى من أحوال الملكوت الأعلى واستدل على أنه سيسقم بما استدل، ولعل نظره كان في طالع الوقت أو نحوه أو طالع ولادته أو طالع سقوط النطفة التي خلق منها والعلم به بالوحي أو بواسطة العلم بطالع الولادة والاعتراض على ذلك بأنه يلزم عليه تقويته عليه السلام ما هم عليه من الباطل في أمر النجوم وارد أيضا على حمل ما في الآية على التعريض والجواب هو الجواب، هذا وإذا أحطت خبرا بجميع ما ذكرت لك في هذا المقام فأحسن التأمل فيما تضمنه من النقض والإبرام وقد جمعت لك ما لم أعلم أنه جمع في تفسير ولا أبرىء نفسي عن الخطأ والسهو والتقصير والله سبحانه ولي التوفيق وبيده عز وجل أزمة التحقيق، وقوله تعالى فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ تفريع على قوله عليه السلام إِنِّي سَقِيمٌ أي أعرضوا وتركوا قربه، والمراد أنهم ذهبوا إلى معيدهم وتركوه، ومُدْبِرِينَ إما حال مؤكدة أو حال مقيدة بناء على أن المراد بسقيم مطعون أو أنهم توهموا مرضا له عدوى مرض الطاعون أو غيره فإن المرض الذي له عدوى بزعم الأطباء لا يختص بمرض الطاعون فكأنه قيل: فأعرضوا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 117 عنه هاربين مخافة العدوى فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فذهب بخفية إلى أصنامهم التي يعبدونها، وأصل الروغان ميل الشخص في جانب ليخدع من خلفه فتجوز به عما ذكر لأنه المناسب هنا فَقالَ للأصنام استهزاء أَلا تَأْكُلُونَ من الطعام الذي عندكم، وكان المشركون يضعون في أيام أعيادهم طعاما لدى الأصنام لتبرك عليه، وأتى بضمير العقلاء لمعاملته عليه السلام إياهم معاملتهم ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ بجوابي فَراغَ عَلَيْهِمْ فمال مستعليا عليهم وقوله تعالى ضَرْباً مصدر لراغ عليهم باعتبار المعنى فإن المراد منه ضربهم أو لفعل مضمر هو مع فاعله حال من فاعله أي فراغ عليهم يضربهم ضربا أو هو حال منه على أنه مصدر بمعنى الفاعل أي ضاربا أو مفعول له أي لأجل ضرب. وقرأ الحسن «سفقا» و «صفقا» أيضا بِالْيَمِينِ أي باليد اليمين كما روي عن ابن عباس، وتقييد الضرب باليمين للدلالة على شدته وقوته لأن اليمين أقوى الجارحتين وأشدهما في الغالب وقوة الآلة تقتضي شدة الفعل وقوته أو بالقوة على أن اليمين مجاز عنها. روي أنه عليه السلام كان يجمع يديه في الآلة التي يضربها بها وهي الفأس فيضربها بكمال قوته، وقيل المراد باليمين الحلف، وسمي الحلف يمينا إما لأن العادة كانت إذا حلف شخص لآخر جعل يمينه بيمينه فحلف أو لأن الحلف يقوي الكلام ويؤكده، وأريد باليمين قوله عليه السلام تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ [الأنبياء: 57] والباء عليه للسببية أي ضربا بسبب اليمين الذي حلفه قبل وهي على ما تقدم للاستعانة أو للملابسة فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ أي إلى إبراهيم عليه السلام بعد رجوعهم من عيدهم وسؤالهم عن الكاسر وقولهم فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ [الأنبياء: 61] يَزِفُّونَ حال من واو أقبلوا أي يسرعون من زف النعام أسرع لخلطه الطيران بالمشي ومصدره الزف والزفيف، وقيل يَزِفُّونَ أي يمشون على تؤدة ومهل من زفاف العروس إذ كانوا في طمأنينة من أن ينال أصنامهم بشيء لعزتها، وليس بشيء. وقرأ حمزة ومجاهد وابن وثاب والأعمش «يزفّون» بضم الياء من أزف دخل في الزفيف فالهمزة ليست للتعدية أو حمل غيره على الزفيف فهي لها قاله الأصمعي وقرأ مجاهد أيضا وعبد الله بن يزيد والضحاك ويحيى بن عبد الرحمن المقري وابن أبي عبلة «يزفون» مضارع وزف بمعنى أسرع، قال الكسائي، والفراء: لا نعرف وزف بمعنى زف وقد أثبته الثقات فلا يضر عدم معرفتهما. وقرىء «يزفون» بالبناء للمفعول، وقرىء «يزفون» بسكون الزاي من زفاه إذا حداه كأن بعضهم يزفو بعضا لتسارعهم إليه قالَ بعد أن أتوا به عليه السلام وجرى ما جرى من المحاورة على سبيل التوبيخ والإنكار عليهم أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ أي الذي تنحتونه من الأصنام فما موصولة حذف عائدها وهو الظاهر المتبادر، وجوز كونها مصدرية أي أتعبدون نحتكم، وتوبيخهم على عبادة النحت مع أنهم يعبدون الأصنام وهي ليست نفس النحت للإشارة إلى أنهم في الحقيقة إنما عبدوا النحت لأن الأصنام قبله حجارة ولم يكونوا يعبدونها وإنما عبدوها بعد أن نحتوها ففي الحقيقة ما عبدوا إلا نحتهم، وفيه ما فيه وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ في موضع الحال من ضمير تَعْبُدُونَ لتأكيد الإنكار والتوبيخ والاحتجاج على أنه لا ينبغي تلك العبادة، وما موصولة حذف عائدها أيضا أي خلقكم وخلق الذي تعملونه أي من الأصنام كما هو الظاهر، وهي عبارة عن مواد وهي الجواهر الحجرية وصور حصلت لها بالنحت وكون المواد مخلوقة له عز وجل ظاهر، وكون الصور والأشكال كذلك مع أنها بفعلهم باعتبار أن الأقدار على الفعل وخلق ما يتوقف عليه من الدواعي والأسباب منه تعالى، وكون الأصنام وهي ما سمعت معمولة لهم باعتبار جزئها الصوري فهو مع كونه معمولا لهم مخلوق لله تعالى بذلك الاعتبار فلا إشكال. وفي المتمة للمسألة المهمة تأليف الشيخ إبراهيم الكوراني عليه الرحمة صريح الكلام دال على أن الله تعالى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 118 خالق للأصنام بجميع أجزائها التي منها الأشكال، ومعلوم أن الأشكال إنما حصلت بتشكيلهم فتكون الأشكال مخلوقة لله تعالى معمولة لهم لكون نحتهم وتشكيلهم عين خلق الله تعالى الأشكال بهم. ولا استحالة في ذلك لأن العبد لا قوة له إلا بالله تعالى بالنص ومن لا قوة له إلا بغيره فالقوة لذلك الغير لا له فلا قوة حقيقة إلا لله تعالى، ومن المعلوم أنه لا فعل للعبد إلا بقوة فلا فعل له إلا بالله تعالى فلا فعل حقيقة إلا لله تعالى، وكل ما كان كذلك كان النحت والتشكيل عين خلق الله سبحانه الأشكال بهم وفيهم بالذات وغيره بالاعتبار فيكون المعمول عين المخلوق بالذات وغيره بالاعتبار فإن إيجاد الله عز وجل يتعلق بذات الفعل من حيث هو وفعل العبد بالمعنى المصدري يتعلق بالفعل بمعنى الحاصل بالمصدر من حيث كونه طاعة أو معصية أو مباحا لكونه مكلفا والله تعالى له الإطلاق ولا حاكم عليه سبحانه انتهى فافهم. والزمخشري جعل أيضا ما موصولة إلا أنه جعل المخلوق له تعالى هو الجواهر ومعمولهم هو الشكل والصورة إما على أن الكلام على حذف مضاف أي وما تعملون شكله وصورته، وإما على أن الشائع في الاستعمال ذلك فإنهم يقولون عمل النجار الباب والصائغ الخلخال والبناء البناء ولا يعنون إلا عمل الشكل بدون تقدير شكل في النظم كأن تعلق العمل بالشيء هو هذا التعلق لا تعلق التكوين، وهو مبني على اعتقاده الفاسد من أن أفعال العباد مخلوقة لهم، والاحتجاج في الآية على الأول بأن يقال: إنه تعالى خلق العابد والمعبود مادة وصورة فكيف يعبد المخلوق المخلوق؟ وعلى الثاني بأنه تعالى خلق العابد ومادة المعبود فكيف يعبد المخلوق المخلوق على أن العابد منهما هو الذي عمل صورة المعبود، والأول أظهر، وعدل عن ضمير ما تَنْحِتُونَ أو الإتيان به دون ما تعملون للإيذان بأن مخلوقية الأصنام لله عز وجل ليس من حيث نحتهم لها فقط بل من حيث سائر أعمالهم أيضا من التصوير والتحلية والتزيين. وفي الكشف فائدة العدول الدلالة على أن تأثيرهم فيها ليس النحت ثم العمل يقع على النحت والأثر الحاصل منه ولا يقع النحت على الثاني فلا بد من العدول لهذه النكتة وبه يتم الاحتجاج أي الذي قيل على اعتبار الزمخشري. وجوز أن يكون الموصول عاما للأصنام وغيرها وتدخل أوليا ولا يتأتى عليه حديث العدول، وقيل ما مصدرية والمصدر مؤول باسم المفعول ليطابق ما تَنْحِتُونَ على ما هو الظاهر فيه ويتحد المعنى مع ما تقدم على احتمال الموصولية، وجوز بقاء المصدر على مصدريته والمراد به الحاصل بالمصدر أعني الأثر وكثيرا ما يراد به ذلك حتى قيل: إنه مشترك بينه وبين التأثير والإيقاع أي خلقكم وخلق عملكم، واحتج بالآية على المعتزلة وتعقب بأنه لا يصح لأن الاستدلال بذلك على أن العابد والمعبود جميعا خلق الله تعالى فكيف يعبد المخلوق مخلوقا ولو قيل: إن العابد وعمله من خلق الله تعالى لفات الملاءمة والاحتجاج، ولأن ما في الأول موصولة فهي في الثاني كذلك لئلا ينفك النظم، وما قاله القاضي البيضاوي من أنه لا يفوت الاحتجاج بل إنه أبلغ فيه لأن فعلهم إذا كان بخلق الله تعالى كان مفعولهم المتوقف على فعلهم أولى بذلك، وأيد بأن الأسلوب يصير من باب الكناية وهو أبلغ من التصريح ولا فائدة في العدول عن الظاهر إلا هذا فيجب صونا لكلام الله تعالى عن العبث تعقبه في الكشف بأنه لا يتم لأن الملازمة ممنوعة عند القوم ألا ترى أنهم معترفون بأن العبد وقدرته وإرادته من خلق الله تعالى ثم المتوقف عليهما وهو الفعل يجعلونه خلق العبد، والتحقيق أنه يفيد التوقف عليه تعالى وهم لا ينكرونه إنما الكلام في الإيجاد والأحداث ثم قال: وأظهر منه أن يقال: لأن المعمول من حيث المادة كانوا لا ينكرون أنه من خلق الله تعالى فقيل هو من حيث الصورة أيضا خلقه فهو مخلوق من جميع الوجوه مثلكم من غير فرق فلم تسوونه بالخالق وما ازداد بفعلكم إلا بعد استحقاق عن العبادة ولما كان هذا المعنى في تقرير الزمخشري على أبلغ وجه كان هذا البناء متداعيا كيفما قرر، على الجزء: 12 ¦ الصفحة: 119 أن فائدة العدول قد اتضحت حق الوضوح فبطل الحصر أيضا، وقد قيل عليه: إن المراد بالفعل الحاصل بالمصدر لأنه بالمعنى الآخر أعني الإيقاع من النسب التي ليست بموجودة عندهم، وتوقف الحاصل بالإيقاع على قدرة العبد وإرادته توقف بعيد بخلاف توقفه على الإيقاع الذي لا وجود له فيكون ما ذكره في معرض السند مجتمعا مع المقدمة الممنوعة فلا يصلح للسندية، والمراد بمفعولهم أشكال الأصنام المتوقف على ذلك المعنى القائم بهم. إذا كان ذاك بخلقه تعالى فلأن يكون الذي لا يقوم بهم بل بما يباينهم بخلقه تعالى أولى. ولا مجال للخصم أن يمنع هذه الملازمة إذ قد أثبت خلق المتولدات مطلقا للعباد بواسطة خلقهم لما يقوم بهم، وانتفاء الأول ملزوم لانتفاء الثاني فتأمل، وقال في التقريب انتصارا لمن قال بالمصدرية: إن الجواهر مخلوقة له تعالى وفاقا والأعمال مخلوقة أيضا لعموم الآية فكيف يعبد ما لا مدخل له في الخلق فدعوى فوات الاحتجاج باطلة وكذلك فك النظم والتبتير، وتعقبه في الكشف أيضا فقال فيه: إن المقدمة الوفاقية إذا لم يكن بد منها ولم تكن معلومة من هذا السياق يلزم فوات الاحتجاج، وأما الحمل على التغليب في الخطاب فتوجيه لا ترجيح والكلام في الثاني. ثم قال: وأما أن المصدرية أولى لئلا يلزم حذف الضمير فمعارض بأن الموصولة أكثر استعمالا وهي أنسب بالسياق السابق على أنه لا بد من تقدير عملهم في المنحوت فيزداد الحذف. واعترض بأنا لا نسلم الأكثرية وكذا لا نسلم أنها أنسب بالسياق لما سمعت من أن الأسلوب على ذلك من باب الكناية وهو أبلغ من التصريح والتقدير المذكور ليس بلازم لجواز إبقاء الكلام على عمومه الشامل للمنحوت بالطريق الأولى أو يقدر بمصدر مضاف إضافة عهدية، وبعضهم جعلها موصولة كناية عن العمل لئلا ينفك النظم ويظهر احتجاج الأصحاب على خلق أفعال العباد. وتعقبه أيضا بأنه أفسد من الأول لما فيه من التعقيد وفوات الاحتجاج، وكون الموصول في الأول عبارة عن الأعيان وفي الثاني كناية عن المعاني وانفكاك النظم ليس لخصوص الموصولية والمصدرية بل لتباين المعنيين وهو باق. وصاحب الانتصاف قال بتعين حملها على المصدرية لأنهم لم يعبدوا الأصنام من حيث كونها حجارة وإنما عبدوها من حيث أشكالها فهم في الحقيقة إنما عبدوا عملهم وبذلك تبتلج الحجة عليهم بأنهم وعملهم مخلوقان لله تعالى فكيف يعبد المخلوق مخلوقا مثله مع أن المعبود كسب العابد وعمله، وأجاب عن حديث لزوم انفكاك النظم بأن لنا أن نحمل الأولى على المصدرية أيضا فإنهم في الحقيقة إنما عبدوا نحتوا، وفي دعوى التعين بحث، وجوز كون ما الثانية استفهامية للإنكار والتحقير أي وأي شيء تعملون في عبادتكم أصناما نحتموها أي لا عمل لكم يعتبر، وكونها نافية أي وما أنتم تعملون شيئا في وقت خلقكم ولا تقدرون على شيء، ولا يخفى أن كلا الاحتمالين خلاف الظاهر بل لا ينبغي أن يحمل عليه التنزيل، وأظهر الوجوه كونها موصولة وتوجيه ذلك على ما يقوله الأصحاب ثم كونها مصدرية، والاستدلال بالآية عليه ظاهر، وقول صاحب الكشف: والإنصاف أن استدلال الأصحاب بهذه الآية لا يتم أن أراد به ترجيح احتجاج المعتزلة خارج عن دائرة الانصاف، ثم إنها على تقدير أن لا تكون دليلا لهم لا تكون دليلا للمعتزلة أيضا كما لا يخفى على المنصف، هذا ولما غلبهم إبراهيم عليه السلام بالحجة مالوا إلى الغلبة بقوة الشوكة قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً حائطا توقدون فيه النار، وقيل: منجنيقا. فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ في النار الشديدة من الجحمة وهي شدة التأجج والانقاد، واللام بدل عن المضاف إليه أو للعهد، والمراد جحيم ذلك البنيان التي هي فيه أو عنده فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً سوءا باحتيال فإنه عليه السلام لما قهرهم بالحجة قصدوا تعذيبه بذلك لئلا يظهر للعامة عجزهم فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ الأذلين بإبطال كيدهم وجعله برهانا ظاهرا ظهور نار القرى ليلا على علم على علو شأنه عليه السلام حيث جعل سبحانه النار عليه بردا وسلاما، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 120 وقيل: أي الهالكين، وقيل: أي المعذبين في الدرك الأسفل من النار والأول أنسب. وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي إلى حيث أمرني أو حيث أتجرد فيه لعبادته عز وجل جعل الذهاب إلى المكان الذي أمره ربه تعالى بالذهاب إليه ذهابا إليه وكذا الذهاب إلى مكان يعبده تعالى فيه لا أن الكلام بتقدير مضاف، والمراد بذلك المكان الشام، وقيل مصر وكأن المراد إظهار اليأس من إيمانهم وكراهة البقاء معهم أي إني مفارقكم ومهاجر منكم إلى ربي سَيَهْدِينِ إلى ما فيه صلاح ديني أو إلى مقصدي. والسين لتأكيد الوقوع في المستقبل لأنها في مقابلة لن المؤكد للنفي كما ذكره سيبويه، وبت عليه السلام القول لسبق وعده تعالى إياه بالهداية لما أمره سبحانه بالذهاب أو لفرط توكله عليه السلام أو للبناء على عادته تعالى معه وإنما لم يقل موسى عليه السلام مثل ذلك بل قال: عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ [القصص: 22] بصيغة التوقع قيل: لعدم سبق وعد وعدم تقدم عادة واقتضاء مقامه رعاية الأدب معه تعالى بأن لا يقطع عليه سبحانه بأمر قبل وقوعه، وتقديمه على رعاية فرط التوكل ومقامات الأنبياء متفاوتة وكلها عالية، وقيل لأن موسى عليه السلام قال ما قال قبل البعثة وإبراهيم عليه السلام قال ذلك بعدها، وقيل لأن إبراهيم كان بصدد أمر ديني فناسبه الجزم وموسى كان بصدد أمر دنيوي فناسبه عدم الجزم، ومن الغريب ما قيل ونحا إليه قتادة أنه لم يكن مراد إبراهيم عليه السلام بقوله إِنِّي إلخ الهجرة وإنما أراد بذلك لقاء الله تعالى بعد الإحراق ظانا أنه يموت في النار إذا ألقي فيها وأراد بقوله سَيَهْدِينِ الهداية إلى الجنة، ويدفع هذا القول دعاؤه بالوالد حيث قال: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ بعض الصالحين يعينني على الدعوة والطاعة ويؤنسني في الغربة، والتقدير ولدا من الصالحين وحذف لدلالة الهبة عليه فإنها الجزء: 12 ¦ الصفحة: 121 في القرآن وكلام العرب غالب استعمالها مع العقلاء في الأولاد، وقوله تعالى وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا [مريم: 53] من غير الغالب أو المراد فيه هبة نبوته لا هبة ذاته وهو شيء آخر، ولقوله تعالى فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فإنه ظاهر في أن ما بشر به عين ما استوهبه مع أن مثله إنما يقال عرفا في حق الأولاد، ولقد جمع بهذا القول بشارات أنه ذكر لاختصاص الغلام به وأنه يبلغ أو أن البلوغ بالسن المعروف فإنه لازم لوصفه بالحليم لأنه لازم لذلك السن بحسب العادة إذ قلما يوجد في الصبيان سعة صدر وحسن صبر وذلك إغضاء في كل أمر، وجوز أن يكون ذلك مفهوما من قوله تعالى (غلام) فإنه قد يختص بما بعد البلوغ وإن كان ورد عاما وعليه العرف كما ذكره الفقهاء وأنه يكون حليما وأي حلم مثل حلمه عرض عليه أبوه وهو مراهق الذبح فقال سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فما ظنك به بعد بلوغه، وقيل مانعت الله تعالى نبيا بالحلم لعزة وجود غير إبراهيم وابنه عليهما السلام، وحالهما المذكورة فيما بعد تدل على ما ذكر فيهما. والفاء في قوله تعالى فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ فصيحة تعرب عن مقدر قد حذف تعويلا على شهادة الحال وإيذانا بعدم الحاجة إلى التصريح به لاستحالة التخلف أي فوهبناه له ونشأ فلما بلغ رتبة أن يسعى معه في أشغاله وحوائجه، و «مع» ظرف للسعي وهي تدل على معنى الصحبة واستحداثها، وتعلقها بمحذوف دل عليه المذكور لأن صلة المصدر لا تتقدمه لأنه عند العمل مؤول بأن المصدرية والفعل ومعمول الصلة لا يتقدم على الموصول لأنه كتقدم جزء الشيء المرتب الأجزاء عليه أو لضعفه عن العمل فيه بحث، أما أولا فلأن التأويل المذكور على المشهور في المصدر المنكر دون المعرف، وأما ثانيا فلأنه إذا سلم العموم فليس كل ما أول بشيء حكمه حكم ما أول به، وأما ثالثا فلأن المقدم هنا ظرف وقد اشتهر أنه يغتفر فيه ما لا يغتفر في غيره. وصرحوا بأنه يكفيه رائحة الفعل وبهذا يضعف حديث المنع لضعف العامل عن العمل فالحق أنه لا حاجة في مثل ذلك إلى التقدير معرفا كان المصدر أو منكرا كقوله تعالى وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ [النور: 2] وهو الذي ارتضاه الرضى وقال به العلامة الثاني، واختار صاحب الفرائد كونها متعلقة بمحذوف وقع حالا من السَّعْيَ أي فلما بلغ السعي حال كون ذلك السعي كائنا معه، وفيه أن السعي معه معناه اتفاقهما فيه فالصحبة بين الشخصين فيه، وما قدره يقتضي الصحبة بين السعي وإبراهيم عليه السلام ولا يطابق المقام، وجوز تعلقه ببلغ، ورد بأنه يقتضي بلوغهما معا حد السعي لما سمعت من معنى مع وهو غير صحيح، وأجيب بأن مع على ذلك لمجرد الصحبة على أن تكون مرادفة عند نحو فلان يتغنى مع السلطان أي عنده ويكون حاصل المعنى بلغ عند أبيه وفي صحبته متخلقا بأخلاقه متطبعا بطباعه ويستدعي ذلك كمال محبة الأب إياه، ويجوز على هذا أن تتعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل بَلَغَ ومن مجيء مع لمجرد الصحبة قوله تعالى حكاية عن بلقيس سْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [النمل: 44] فلتكن فيما نحن فيه مثلها في تلك الآية وتعقب بأن ذاك معنى مجازي والحمل على المجاز هنالك للصارف ولا صارف فيما نحن فيه فليحمل على الحقيقة على أنه لا يتعين هنالك أن تكون لمعية الفاعل لجواز أن يراد أسلمت لله ولرسوله مثلا، تقديم (مع) إشعارا منها بأنها كانت تظن أنها على دين قبل وأنها مسلمة لله تعالى فيما كانت تعبد من الشمس فدل على أنه إسلام يعتد به من أثر متابعة نبيه لا إسلام كالأول فاسد، قال صاحب الكشف: وهذا معنى صحيح جمل الآية عليه أولى وإن حمل على معية الفاعل لم يكن بد من محذوف مع بلوغ دعوته وإظهار معجزته لأن فرق ما بين المقيد ومطلق الجمع معلوم بالضرورة، وزعم بعض أنه لا مانع من إرادة الحقيقة واستحداث إسلامهما معا على معنى أنه عليه السلام وافقها أو لقنها وليس بشيء كما لا يخفى. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 122 وقيل يراد بالسعي على تقدير تعلق مع ببلغ المسعى وهو الجبل المقصود إليه بالمشي وهو تكلف لا يصار إليه. وبالجملة الأولى تعلقها بالسعي، والتخصيص لأن الأب أكمل في الرفق وبالاستصلاح له فلا يستسعيه قبل أوانه أو لأنه عليه السلام استوهبه لذلك، وفيه على الأول بيان أوانه وأنه في غضاضة عوده كان فيه ما فيه من رصانة العقل ورزانة الحلم حتى أجاب بما أجاب، وعلى الثاني بيان استجابة دعائه عليه السلام وكان للغلام يومئذ ثلاث عشرة سنة والولد أحب ما يكون عند أبيه في سن يقدر فيه على إعانة الأب وقضاء حاجة ولا يقدر فيه على العصيان قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ يحتمل أنه عليه السلام رأى في منامه أنه فعل ذبحه فحمله على ما هو الأغلب في رؤيا الأنبياء عليهم السلام من وقوعها بعينها، ويحتمل أنه رأى ما تأويله ذلك لكن لم يذكره وذكر التأويل كما يقول الممتحن وقد رأى أنه راكب في سفينة رأيت في المنام أني ناج من هذه المحنة، وقيل إنه رأى معالجة الذبح ولم ير أنهار الدم فأني أذبحك أني أعالج ذبحك، ويشعر صنيع بعضهم اختيار أنه عليه السلام أتى في المنام فقيل له اذبح ابنك ورؤيا الأنبياء وحي كالوحي في اليقظة، وفي رواية أنه رأى ليلة التروية كأن قائلا يقول إن الله تعالى يأمرك بذبح ابنك فلما أصبح روأ في ذلك وفكر من الصباح إلى الرواح أمن الله تعالى هذا الحلم أم من الشيطان فمن ثم سمي يوم التروية فلما أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنه من الله تعالى فمن ثم سمي يوم عرفة ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره فسمي يوم النحر، وقيل إن الملائكة حين بشرته بغلام حليم قال هو إذن ذبيح الله فلما ولد وبلغ حد السعي معه قيل له أوف بنذرك، ولعل هذا القول كان في المنام وإلا فما يصنع قوله إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ وفي كلام التوراة التي بأيدي اليهود اليوم ما يرمز إلى أن الأمر بالذبح كان ليلا فإنه بعد أن ذكر قول الله تعالى له عليه السلام خذ ابنك وامض إلى بلد العبادة وأصعده ثم قربانا على أحد الجبال الذي أعرفك به قيل فأدلج إبراهيم بالغداة إلخ فالأمر إما مناما وإما يقظة لكن وقع تأكيدا لما في المنام إذ لا محيص عن الإيمان بما قصه الله تعالى علينا فيما أعجز به الثقلين من القرآن والحزم الجزم بكونه في المنام لا غير إذ لا يعول على ما في أيدي اليهود وليس في الأخبار الصحيحة ما يدل على وقوعه يقظة أيضا. ولعل السر في كونه مناما لا يقظة أن تكون المبادرة إلى الامتثال أدل على كمال الانقياد والإخلاص. وقيل: كان ذلك في المنام دون اليقظة ليدل على أن حالتي الأنبياء يقظة ومناما سواء في الصدق، والأول أولى، والتأكيد لما في تحقق المخبر به من الاستبعاد، وصيغة المضارع في الموضعين قيل لاستحضار الصورة الماضية لنوع غرابة، وقيل: في الأول لتكرر الرؤيا وفي الثاني للاستحضار المذكور أو لتكرر الذبح حسب تكرر الرؤيا أو للمشاكلة ومن نظر بعد ظهر له غير ذلك. فَانْظُرْ ماذا تَرى من الرأي وإنما شاوره في ذلك وهو حتم ليعلم ما عنده فيما نزل من بلاء الله عز وجل فيثبت قدمه إن جزع ويأمن عليه إن سلم وليوطن نفسه عليه فيهون عليه ويكتسب المثوبة بالانقياد لأمر الله تعالى قبل نزوله وليكون سنة في المشاورة، فقد قيل: لو شاور آدم الملائكة في أكله من الشجرة لما فرط منه ذلك، وقرأ حمزة والكسائي «ماذا تري» بضم التاء وكسر الراء خالصة أي ما الذي تريني إياه من الصبر وغيره أو أي شيء تريني على أن ما مبتدأ وذا موصول خبره ومفعولي ترى محذوفان أو ماذا كالشيء الواحد مفعول ثان لترى والمفعول الأول محذوف، وقرىء «ماذا ترى» بضم التاء وفتح الراء على البناء للمفعول أي ماذا تريك نفسك من الرأي، و (انظر) في جميع القراءات معلقة عن العمل وفي ماذا الاحتمالان فلا تغفل. قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ أي الذي تؤمر به فحذف الجار والمجرور دفعة أو حذف الجار أولا فعدي الفعل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 123 بنفسه نحو أمرتك الخير ثم حذف المجرور بعد أن صار منصوبا ثانيا، والحذف الأول شائع مع الأمر حتى كاد يعد متعديا بنفسه فكأنه لم يجتمع حذفان أو افعل أمرك على أن ما مصدرية والمراد بالمصدر الحاصل بالمصدر أي المأمور به، ولا فرق في جواز إرادة ذلك من المصدر بين أن يكون صريحا وأن يكون مسبوكا. وإضافته إلى ضمير إبراهيم إضافة إلى المفعول ولا يخفى بعد هذا الوجه، وهذا الكلام يقتضي تقدم الأمر وهو غير مذكور فإما أن يكون فهم من كلامه عليه السلام أنه رأى أنه يذبحه مأمورا أو علم أن رؤيا الأنبياء حق وأن مثل ذلك لا يقدمون عليه إلا بأمر، وصيغة المضارع للإيذان بغرابة ذلك مثلها في كلام إبراهيم على وجه وفيه إشارة إلى أن ما قاله لم يكن إلا عن حلم غير مشوب بجهل بحال المأمور به، وقيل: للدلالة على أن الأمر متعلق به متوجه إليه مستمر إلى حين الامتثال به، وقيل: لتكرر الرؤيا، وقيل: جيء بها لأنه لم يكن بعد أمر وإنما كانت رؤيا الذبح فأخبره بها فعلم لعلمه بمقام أبيه وإنه ممن لا يجد الشيطان سبيلا بإلقاء الخيالات الباطلة إليه في المنام أنه سيكون ذلك ولا يكون إلا بأمر إلهي فقال له افعل ما تؤمر بعد من الذبح الذي رأيته في منامك، ولما كان خطاب الأب يا بُنَيَّ على سبيل الترحم قال هو يا أَبَتِ على سبيل التوقير والتعظيم ومع ذلك أتى بجواب حكيم لأنه فوض الأمر حيث استشاره فأجاب بأنه ليس مجازها وإنما الواجب إمضاء الأمر. سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ على قضاء الله تعالى ذبحا كان أو غيره، وقيل: على الذبح والأول أولى لعموم ويدخل الذبح دخولا أوليا، وفي قوله مِنَ الصَّابِرِينَ دون صابرا وإن كانت رؤوس الآي تقتضي ذلك من التواضع ما فيه، وقيل ولعله وفق للصبر ببركته مع بركة الاستثناء وموسى عليه السلام لما لم يسلك هذا المسلك من التواضع في قوله: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً [الكهف: 69] حيث لم ينظم نفسه الكريمة في سلك الصابرين بل أخرج الكلام على وجه لا يشعر بوجود صابر سواه لم يتيسر له الصبر مع أنه لم يهمل أمر الاستثناء. وفيه أيضا إغراء لأبيه عليه السلام على الصبر لما يعلم من شفقته عليه مع عظم البلاء حيث أشار إلى أن لله تعالى عبادا صابرين وهي زهرة ربيع لا تتحمل الفرك فَلَمَّا أَسْلَما أي استسلما وانقادا لأمر الله تعالى فالفعل لازم أو سلم الذبيح نفسه وإبراهيم ابنه على أنه متعد والمفعول محذوف. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وعبد الله ومجاهد والضحاك وجعفر بن محمد والأعمش والثوري «سلما» وخرجت على ما سمعت ويجوز أن يكون المعنى فوضا إليه تعالى في قضائه وقدره، وقرىء «استسلما» وأصل لأفعال الثلاثة سلم هذا لفلان إذا خلص له فإنه سلم من أن ينازع فيه وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ صرعه على شقه فوقع جبينه على الأرض، وأصل التل الرمي على التل وهو التراب المجتمع ثم عمم في كل صرع، والجبين أحد جانبي الجبهة وشذ جمعه على أجبن وقياسه في القلة أجبنة ككثيب وأكثبة وفي الكشرة جبنان وجبن ككثبان وكثب، واللام لبيان ماخر عليه كما في قوله تعالى يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ [الإسراء: 107، 109] وقوله: وخر صريعا لليدين وللفم وليست للتعدية، وقيل المراد كبه على وجهه وكان ذلك بإشارة منه. أخرج غير واحد عن مجاهد أنه قال لأبيه: لا تذبحني وأنت تنظر إلى وجهي عسى أن ترحمني فلا تجهز علي اربط يدي إلى رقبتي ثم ضع وجهي للأرض ففعل فكان ما كان، ولا يخفى أن ارادة ذلك من الآية بعيد، نعم لا يبعد أن يكون الذبيح قال هذا. وفي الآثار حكاية أقوال غير ذلك أيضا، منها ما في خبر للسدي أنه قال لأبيه عليهما السلام: يا أبت اشدد رباطي حتى لا اضطرب واكفف عن ثيابك حتى لا ينتضح عليها من دمي شيء فتراه أمي فتحزن واسرع مر السكين الجزء: 12 ¦ الصفحة: 124 على حلقي فيكون أهون للموت علي فإذا أتيت أمي فاقرأ عليها السلام مني فأقبل عليه إبراهيم يقبله. وكل منهما يبكي ، ومنها ما في حديث أخرجه أحمد وجماعة عن ابن عباس أنه قال لأبيه وكان عليه قميص أبيض يا أبت ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره فاخلعه حتى تكفنني فيه فعالجه ليخلعه فكان ما قص الله عز وجل. وكان ذلك عند الصخرة التي بمنى، وعن الحسن في الموضع المشرف على مسجد مني، وعن الضحاك في المنحر الذي ينحر فيه اليوم، وقيل كان ببيت المقدس وحكي ذلك عن كعب، وحكى الإمام مع هذا القول أنه كان بالشام. وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا قيل ناداه من خلفه ملك من قبله تعالى بذلك، وأَنْ مفسرة بمعنى أي (1) وقرأ زيد بن علي قد صدقت بحذفها، وقرىء «صدقت» بالتخفيف، وقرأ فياض «الريا» بكسر الراء والإدغام، وتصديقه عليه السلام الرؤيا توفيته حقها من العمل وبذل وسعه في إيقاعها وذلك بالعزم والإتيان بالمقدمات ولا يلزم فيه وقوع ما رآه بعينه، وقيل هو إيقاع تأويلها وتأويلها ما وقع، ويفهم من كلام الإمام أنه الاعتراف بوجوب العمل بها، ولا يدل على الإتيان بكل ما رآه في المنام، وهل أمر عليه السلام الشفرة على حلقه أم لا قولان ذهب إلى الثاني منهما كثير من الأجلة، وقد أخرج الإمام أحمد عن ابن عباس أنه عليه السلام لما أخذ الشفرة وأراد أن يذبحه نودي من خلفه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا، وأخرج هو وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عنه أنه عالج قميصه ليخلعه فنودي بذلك. وأخرج ابن المنذر والحاكم وصححه من طريق مجاهد عنه أيضا فلما أدخل يده ليذبحه فلم يحمل المدية حتى نودي أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا فأمسك يده ، وأخرج عبد بن حميد وغيره من مجاهد فلما أدخل يده ليذبحه نودي أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا فأمسك يده ورفع رأسه فرأى الكبش ينحط إليه حتى وقع عليه فذبحه ، وفي رواية أخرى عنه أخرجها عبد بن حميد أيضا وابن المنذر أنه أمرّ السكين فانقلبت، وإلى عدم الإمرار ذهبت اليهود أيضا لما في توراتهم مد إبراهيم يده فأخذ السكين فقال له ملاك الله من السماء قائلا: يا إبراهيم يا إبراهيم قال: لبيك قال: لا تمد يدك إلى الغلام ولا تصنع به شيئا، وذهب إلى الأول طائفة فمنهم من قال: إنه أمرها ولم تقطع مع عدم المانع لأن القطع بخلق الله تعالى فيها أو عندها عادة وقد لا يخلق سبحانه، ومنهم من قال: أنه أمرها ولم تقطع لمانع، فقد أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن عطاء بن يسار أنه عليه السلام قام إليه بالشفرة فبرك عليه فجعل الله تعالى ما بين لبته إلى منحره نحاسا لا تؤثر فيه الشفرة ، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي أنه عليه السلام جر السكين على حلقه فلم ينحر وضرب الله تعالى على حلقه صفيحة من نحاس ، وأخرج الخطيب في تالي التلخيص عن فضيل بن عياض قال: أضجعه ووضع الشفرة فقلبها جبريل عليه السلام ، وأخرج الحاكم بسند فيه الواقدي عن عطاء أنه نحر في حلقه فإذا هو قد نحر في نحاس فشحذ الشفرة مرتين أو ثلاثا بالحجر ، وضعف جميع ذلك. وقيل إنه عليه السلام ذبح لكن كان كلما قطع موضعا من الحلق أوصله الله تعالى، وزعموا ورود ذلك في بعض الأخبار ولا يكاد يصح، وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى ما يتعلق بهذا المقام من الكلام، وجواب لما محذوف مقدر بعد صَدَّقْتَ الرُّؤْيا أي كان ما كان مما تنطق به الحال ولا يحيط به المقال من استبشارهما وشكرهما الله تعالى على ما أنعم عليهما من دفع البلاء بعد حلوله والتوفيق لما لم يوفق غيرهما لمثله وإظهار فضلهما مع إحراز الثواب العظيم إلى غير ذلك، وهو أولى من تقدير فإذا ونحوه، وقدره بعض البصريين بعد وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ أي أجزلنا أجرهما، وعن الخليل وسيبويه تقديره قبل   (1) قوله وقرأ زيد بن علي قد صدقت بحذفها كذا في الأصل ولعل قد صدقت من زيادة القلم وحرر القراءة اه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 125 وَتَلَّهُ قال في البحر: والتقدير فلما أسلما أسلما وتله، وقال ابن عطية: وهو عندهم كقول امرئ القيس: فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى أي أجزنا وانتحى، وهو كما ترى، وقال الكوفيون: الجواب مثبت وهو وَنادَيْناهُ على زيادة الواو، وقالت فرقة: هو وتَلَّهُ على زيادتها أيضا، ولعل الأولى ما تقدم. وقوله تعالى: إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ابتداء كلام غير داخل في النداء وهو تعليل لإفراج تلك الشدة المفهوم من الجواب المقدر أو من الجواب المذكور أعني نادينا إلخ على القول بأنه الجواب أو منه وإن لم يكن الجواب والعلة في المعنى إحسانهما، وكونه تعليلا لما انطوى عليه الجواب من الشكر ليس بشيء. إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ أي الابتلاء والاختبار البين الذي يتميز فيه المخلص من غيره أو المحنة البينة وهي المحنة الظاهرة صعوبتها وما وقع لا شيء أصعب منه ولا تكاد تخفى صعوبته على أحد ولله عز وجل أن يبتلي من شاء بما شاء وهو سبحانه الحكيم الفعال لما يريد. ولعل هذه الجملة لبيان كونهما من المحسنين، وقيل لبيان حكمة ما نالهما، وعلى التقديرين هي مستأنفة استئنافا بيانيا فليتدبر. وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ بحيوان يذبح بدله عَظِيمٍ قيل أي عظيم الجثة سمين وهو كبش أبيض أقرن أعين وفي رواية: أملح بدل أبيض، وعن الحسن أنه وعل اهبط عن ثبير، والجمهور على الأول ووافقهم الحسن في رواية رواها عنه ابن أبي حاتم وفيها أن اسمه حرير، واليهود على أنه كبش أيضا. وفسر المعظم العظيم بعظيم القدر وذلك على ما روي عن ابن عباس لأنه الكبش الذي قربه هابيل فتقبل منه وبقي يرعى في الجنة إلى يوم هذا الفداء، وفي رواية عنه وعن ابن جبير أنهما قالا: عظمه كونه من كباش الجنة رعى فيها أربعين خريفا. وقال مجاهد وصف بالعظم لأنه متقبل يقينا، وقال الحسن بن الفضل: لأنه كان من عند الله عز وجل، وقال أبو بكر الوراق: لأنه لم يكن عن نسل بل عن التكوين، وقال عمرو بن عبيد: لأنه جرت السنة به وصار دينا باقيا آخر الدهر، وقيل لأنه فدى به نبي وابن نبي، وهبوطه من ثبير كما قال الحسن في الوعل وجاء ذلك في رواية عن ابن عباس. وفي رواية عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه وجده عليه السلام قد ربط بسمرة في أصل ثبير . وعن عطاء بن السائب أنه قال: كنت قاعدا بالمنحر فحدثني قرشي عن أبيه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال له: إن الكبش نزل على إبراهيم في هذا المكان. وفي رواية عن ابن عباس أنه خرج عليه كبش من الجنة قد رعى فيها أربعين خريفا فأرسل إبراهيم عليه السلام ابنه واتبعه فرماه بسبع حصيات وأحرجه عند الجمرة الأولى فافلت ورماه بسبع حصيات وأحرجه عند الجمرة الوسطى فأفلت ورماه بسبع حصيات وأحرجه عند الجمرة الكبرى فأتى به المنحر من منى فذبح قيل وهذا أصل سنية رمي الجمار، والمشهور أن أصل السنية رمي الشيطان هناك ففي خبر عن قتادة أن الشيطان أراد أن يصيب حاجته من إبراهيم وابنه يوم أمر يذبحه فتمثل بصديق له فأراد أن يصده عن ذلك فلم يتمكن فتعرض لابنه فلم يتمكن فأتى الجمرة فانتفخ حتى سد الوادي ومع إبراهيم ملك فقال له: ارم يا إبراهيم فرمى بسبع حصيات يكبر في أثر كل حصاة فأفرج له عن الطريق ثم انطلق حتى أتى الجمرة الثانية فسد الوادي أيضا فقال الملك: ارم يا إبراهيم فرمى كما في الأولى وهكذا في الثالثة، وظاهر الآية أن الفداء كان بحيوان واحد وهو المعروف. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس أنه فدى بكبشين أملحين أقرنين أعينين ولا أعرف له صحة، ويراد بالذبح عليه لو صح الجنس، والفادي على الحقيقة إبراهيم عليه السلام، وقال سبحانه: فَدَيْناهُ على التجوز في الفداء أي أمرنا أو أعطينا أو في اسناده إليه تعالى، وجوز أن يكون هناك استعارة مكنية أيضا، وفائدة العدول عن الأصل التعظيم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 126 وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ سبق ما يعلم منه بيانه عند تفسير نظيره في آخر قصة نوح، ولعل ذكر في العالمين هناك وعدم ذكره هنا لما أن لنوح عليه السلام من الشهرة لكونه كآدم ثان للبشر ونجاة من نجا من أهل الطوفان ببركته ما ليس لإبراهيم عليه السلام. كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ذلك إشارة إلى إبقاء ذكره الجميل فيما بين الأمم لا إلى ما يشير إليه فيما سبق فلا تكرار وطرح هنا إِنَّا قيل مبالغة في دفع توهم اتحاده مع ما سبق كيف وقد سبق الأول تعليلا لجزاء إبراهيم وابنه عليهما السلام بما أشير إليه قبل وسيق هذا تعليلا لجزاء إبراهيم وحده بما تضمنه قوله تعالى وَتَرَكْنا عَلَيْهِ إلخ وما ألطف الحذف هنا اقتصارا حيث كان فيما قبله ما يشبه ذلك من عدم ذكر الابن والاقتصار على إبراهيم. وقيل لعل ذلك اكتفاء بذكر إِنَّا مرة في هذه القصة، وقال بعض الأجلة: إنه للإشارة إلى أن قصة إبراهيم عليه السلام لم تتم فإن ما بعد من قوله تعالى وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ إلخ من تكملة ما يتعلق به عليه السلام بخلاف سائر القصص التي جعل إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ مقطعا لها فإن ما بعد ليس مما يتعلق بما قبل ومع هذا لم تخل القصة من مثل تلك الجملة بجميع كلماتها وسلك فيها هذا المسلك اعتناء بها فتأمل، وقوله تعالى: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ الكلام فيه كما تقدم وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا حال من إسحاق، وكذا قوله تعالى مِنَ الصَّالِحِينَ وفي ذلك تعظيم شأن الصلاح، وفي تأخيره إيماء إلى أنه الغاية لها لتضمنها معنى الكمال والتكميل والمقصود منهما الإتيان بالأفعال الحسنة السديدة وهو في الاستعمال يختص بها. وجوز كون مِنَ الصَّالِحِينَ حالا وكون نَبِيًّا حالا من الضمير المستتر فيه، وقدم في اللفظ للاهتمام ولئلا تختل رؤوس الآي وفيه من البعد ما فيه، على أن في جواز تقديم الحال مطلقا أو اطراده في مثل هذا التركيب كلاما لا يخفى على من راجع الألفية وشروحها وفيه ما فيه بعد، وجوز أيضا كونه في موضع الصفة لنبيا والكلام على الأول وهو الذي عليه الجمهور أمدح كما لا يخفى، والمراد كونه نبيا وكونه من الصالحين في قضاء الله تعالى وتقديره أي مقتضيا كون نبيا مقتضيا كونه من الصالحين وإن شئت فقل مقدرا ولا يكونان بذلك من الحال المقدرة التي تذكر في مقابلة المقارنة بل هما بهذا الاعتبار حالان مقارنان للعامل وهو فعل البشارة أو شيء آخر محذوف أي بشرناه بوجود إسحاق نبيا إلخ، وأوجب غير واحد تقدير ذلك معللا بأن البشارة لا تتعلق بالأعيان بل بالمعاني. وتعقب بأنه إن أريد أنها لا تستعمل إلا متعلقة بالأعيان فالواقع خلافه كبشر أحدهم بالأنثى، فإن قيل إنما يصح بتقدير ولادة ونحوه من المعاني فهو محل النزاع فلا وجه له، والذي يميل إليه القلب أن المعنى على إرادة ذلك، وربما يدعي أن معنى البشارة تستدعي تقدير معنى من المعاني، وقيل هما حالان مقدران كقوله تعالى فَادْخُلُوها خالِدِينَ [الزمر: 73] أي على إبراهيم عليه السلام وَعَلى إِسْحاقَ أي أفضنا عليهما بركات الدين والدنيا بأن كثرنا نسلهما وجعلنا منهم أنبياء ورسلا. وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ بالكفر والمعاصي ويدخل فيها ظلم الغير مُبِينٌ ظاهر ظلمه، وفي ذلك تنبيه على أن النسب لا أثر له في الهدى والضلال وأن الظلم في الأعقاب لا يعود على الأصول بنقيصة وعيب، هذا وفي الآيات بعد أبحاث الأول أنهم اختلفوا في الذبيح فقال- على ما ذكره الجلال السيوطي في رسالته القول الفصيح في تعيين الذبيح- علي وابن عمر، وأبو هريرة وأبو الطفيل وسعيد جبير ومجاهد والشعبي ويوسف بن مهران والحسن البصري، ومحمد ابن كعب القرظي وسعيد بن المسيب وأبو جعفر الباقر وأبو صالح والربيع بن أنس، والكلبي. وأبو عمرو بن العلاء. وأحمد بن حنبل وغيرهم أنه إسماعيل عليه السلام لا إسحاق عليه السلام وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس ورجحه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 127 جماعة خصوصا غالب المحدثين وقال أبو حاتم: هو الصحيح، وفي الهدى أنه الصواب عند علماء الصحابة والتابعين فمن بعدهم، وسئل أبو سعيد الضرير عن ذلك فأنشد: إن الذبيح هديت إسماعيل ... نص الكتاب بذاك والتنزيل شرف به خص الإله نبينا ... وأتى به التفسير والتأويل إن كنت أمته فلا تنكر له ... شرفا به قد خصه التفضيل وفي دعواه النص نظر وهو المشهور عند العرب قبل البعثة أيضا كما يشعر به أبيات نقلها الثعالبي في تفسير عن أمية بن الصلت واستدل له بأنه الذي وهب لإبراهيم عليه السلام أثر الهجرة وبأن البشارة بإسحاق بعد معطوفة على البشارة بهذا الغلام، والظاهر التغاير فيتعين كونه إسماعيل وبأنه بشر بأن يوجد وينبأ فلا يجوز ابتلاء إبراهيم عليه السلام بذبحه لأنه علم أن شرط وقوعه منتف، والجواب بأن الأول بشارة بالوجود وهذا بشارة بالنبوة ولكن بعد الذبح- قال صاحب الكشف- ضعيف لأن نظم الآية لا يدل على أن البشارة بنبوته بل على أن البشارة بأمر مقيد بالنبوة فإما أن يقدر بوجود إسحاق بعد الذبح ولا دلالة في اللفظ عليه وإما أن يقدر الوجود مطلقا وهو المطلوب، فإن قلت: يكفي في الدلالة تقدم البشارة بالوجود أو لا قلت: ذاك عليك لا لك ومن يسلم أن المتقدم بشارة بإسحاق حتى يستتب لك المرام وبأن البشارة به وقعت مقرونة بولادة يعقوب منه على ما هو الظاهر في قوله تعالى في هود فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ [هود: 71] ومتى بشر بالولد وولد الولد دفعة كيف يتصور الأمر بذبح الولد مراهقا قبل ولادة ولده، ومنع كونه إذ ذاك مراهقا لجواز أن يكون بالغا كما ذهب إليه اليهود قد ولد له يعقوب وغيره مكابرة لا يلتفت إليها وبأنه تعالى وصف إسماعيل عليه السلام بالصبر في قوله سبحانه وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ [الأنبياء: 85] وبأنه عز وجل وصفه بصدق الوعد في قوله تعالى إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ [مريم: 54] ولم يصف سبحانه إسحاق بشيء منهما فهو الأنسب دونه بأن يقول القائل يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [مريم: 54] المصدق في قوله بفعله وبأن ما وقع كان بمكة وإسماعيل هو الذي كان فيها وبأن قرني الكبش كانا معلقين في الكعبة حتى احترقا معها أيام حصار الحجاج بن الزبير رضي الله تعالى عنه وكانا قد توارثهما قريش خلفا عن سلف، والظاهر أن ذاك لم يكن منهم إلا للفخر ولا يتم لهم إذا كان الكبش فدى لإسحاق دون أبيهم إسماعيل، وبأنه روى الحاكم في المستدرك وابن جرير في تفسيره. والأموي في مغازيه والخلعي في فوائده من طريق إسماعيل بن أبي كريمة عن عمر بن أبي محمد الخطابي عن العتبي عن أبيه عن عبد الله بن سعيد الصنابحي قال: حضرنا مجلس معاوية فتذاكر القوم إسماعيل وإسحاق أيهما الذبيح؟ فقال بعض القوم: إسماعيل وقال بعضهم: بل إسحاق فقال معاوية: على الخبير سقطتم كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأتاه أعرابي فقال: يا رسول الله خلفت الكلأ يابسا والماء عابسا هلك العيال وضاع المال فعد علي مما أفاء الله تعالى عليك يا ابن الذبيحين فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه فقال القوم: من الذبيحان يا أمير المؤمنين؟ قال: إن عبد المطلب لما أمر بحفر زمزم نذر لله تعالى إن سهل أمرها أن ينحر بعض بنيه فلما فرغ أسهم بينهم فكانوا عشرة فخرج السهم على عبد الله فأراد أن ينحره فمنعه أخواله بنو مخزوم وقالوا: ارض ربك وافد ابنك ففداه بمائة ناقة قال معاوية: هذا واحد والآخر إسماعيل وبأنه ذكر في التوراة إن الله تعالى امتحن إبراهيم فقال له: يا إبراهيم فقال: لبيك قال: خذ ابنك وحيدك الذي تحبه وامض إلى بلد العبادة وأصعده ثم قربانا على أحد الجبال الذي أعرفك به فإن معنى وحيدك الذي ليس لك وغيره ولا يصدق ذلك على إسحاق حين الأمر بالذبح لأن إسماعيل كان موجودا إذ ذاك لأنه ولد لإبراهيم على ما في التوراة وهو ابن ست وثمانين سنة وولد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 128 إسحاق على ما فيها أيضا وهو ابن مائة سنة، وأيضا قوله تعالى الذي تحبه أليق بإسماعيل لأن أول ولد له من المحبة في الأغلب ما ليس لمن بعده من الأولاد ويعلم مما ذكر أن ما في التوراة الموجودة بأيدي اليهود اليوم من ذكر هو إسحاق بعد الذي تحبه من زياداتهم وأباطيلهم التي أدرجوها في كلام الله تعالى إذ لا يكاد يلتئم مع ما قبله، وأجاب بعض اليهود عن ذلك بأن إطلاق الوحيد على إسحاق لأن إسماعيل كان إذ ذاك بمكة وهو تحريف وتأويل باطل لأنه لا يقال الوحيد وصفا للابن إلا إذا كان واحدا في النبوة ولم يكن له شريك فيها، وقال لي بعض منهم: إن إطلاق ذلك عليه لأنه كان واحدا لأمه ولم يكن لها ابن غيره فقلت: يبعد ذلك كل التبعيد إضافته إلى ضمير إبراهيم عليه السلام، ويؤيد ما قلنا ما قاله ابن إسحاق ذكر محمد بن كعب أن عمر بن عبد العزيز أرسل إلى رجل كان يهوديا فأسلم وحسن إسلامه وكان من علمائهم فسأله أي ابني إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال إسماعيل: والله يا أمير المؤمنين وأن يهود لتعلم بذلك ولكنهم يحسدونكم معشر العرب، وذكر ابن كثير أن في بعض نسخ التوراة بكرك بدل وحيدك وهو أظهر في المطلوب، وقيل: هو إسحاق ونسبه القرطبي للأكثرين وعزاه البغوي. وغيره إلى عمر وعلي وابن مسعود والعباس وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد والشعبي وعبيد بن عمير وأبي ميسرة وزيد بن أسلم وعبد الله بن شقيق والزهري والقاسم بن يزيد ومكحول وكعب وعثمان بن حاضر والسدي والحسن وقتادة وأبي الهذيل وابن سابط ومسروق وعطاء ومقاتل وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس واختاره أبو جعفر بن جرير الطبري وجزم به القاضي عياض في الشفاء. والسهيلي في التعريف والأعلام واستدل له بأنه لم يذكر الله تعالى أنه بشر بإسماعيل قبل كونه فهو إسحاق لثبوته بالنص ولأنه لم تكن تحته هاجر أم إسماعيل فالمدعو ولد من سارة، وأجيب بأنه كفى هذه الآية دليلا على أنه مبشر به أيضا لأن قوله تعالى: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ بعد استيفاء هذه القصة وتذييلها بما ذيل ظاهر الدلالة على أن هنالك بشارتين متغايرتين ثم عدم الذكر لا يدل على عدم الوجود ولا يلزم أن يكون طلب ولد من سارة ولا علم أنه عليه السلام دعا بذلك قبل أن وهبت هاجر منه لأنها أهديت إليه في حران قبل الوصول إلى الشام على أن البشارة بإسحاق كانت في الشام نصا فظاهر هذه الآية أنها قبل الوصول إليها لأن البشارة عقيب الدعاء وكان قبل الوصول إلى الشام قاله في الكشف. وبما رواه ابن جرير عن أبي كريب عن زيد بن حباب عن الحسن بن دينار عن علي بن زيد بن جدعان عن الحسن عن الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد المطلب عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «الذبيح إسحاق» . وتعقب بأن الحسن بن دينار متروك وشيخه منكر الحديث، وبما أخرج الديلمي في مسند الفردوس من طريق عبد الله بن ناجية عن محمد بن حرب النسائي عن عبد المؤمن بن عباد عن الأعمش عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن داود سأل ربه مسألة فقال اجعلني مثل إبراهيم وإسحاق ويعقوب فأوحى الله تعالى إليه إني ابتليت إبراهيم بالنار فصبر وابتليت إسحاق بالذبح فصبر وابتليت يعقوب فصبر» وبما أخرجه الدارقطني والديلمي في مسند الفردوس من طريقه عن محمد بن أحمد بن إبراهيم الكاتب عن الحسين بن فهم عن خلف بن سالم عن بهز بن أسد عن شعبة عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن ابن مسعود قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذبيح إسحاق» وبما أخرجه الطبراني في الأوسط وابن أبي حاتم في تفسيره من طريق الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن الله تعالى خيرني بين أن يغفر لنصف أمتي أو شفاعتي فاخترت شفاعتي ورجوت أن تكون أعم لأمتي ولولا الذي سبقني إليه العبد الصالح لعجلت دعوتي إن الله تعالى لما فرج عن إسحاق كرب الذبح قيل له: يا إسحاق سل تعطه قال: أما والله لأتعجلنها قبل نزغات الشيطان اللهم من مات الجزء: 12 ¦ الصفحة: 129 لا يشرك بك شيئا قد أحسن فاغفر له» وتعقب هذا بأن عبد الرحمن ضعيف، وقال ابن كثير الحديث غريب منكر وأخشى أن يكون فيه زيادة مدرجة وهي قوله: إن الله تعالى لما فرج إلخ وإن كان محفوظا فالأشبه أن السياق عن إسماعيل وحرفوه بإسحاق إلى غير ذلك من الأخبار وفيها من الموقوف والضعيف والموضوع كثير، ومتى صح حديث مرفوع في أنه إسحاق قبلناه ووضعناه على العين والرأس. والذاهبون إلى هذا القول يدعون صحة شيء منها في ذلك. وأجيب عن بعض ما استدل به للأول بأن وقوع القصة بمكة غير مسلم بل كان ذلك بالشام وتعليق القرنين في الكعبة لا يدل على وقوعها بمكة لجواز أنهما نقلا من بلاد الشام إلى مكة فعلقا فيها، وعلى تسليم الوقوع بمكة لا مانع من أن يكون إبراهيم قد سار به من الشام إليها بل قد روي القول به، أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن سعيد بن جبير قال: لما رأى إبراهيم في المنام ذبح إسحاق سار به من منزله إلى المنحر بمنى مسيرة شهر في غداة واحدة فلما صرف عنه الذبح وأمر بذبح الكبش ذبحه ثم راح به رواحا إلى منزله في عشية واحدة مسيرة شهر طويت له الأودية والجبال، وأمر الفخر لو سلم ليس بالاستدلال به كثير فخر، والخبر الذي فيه يا ابن الذبيحين غريب وفي إسناده من لا يعرف حاله وفيه ما هو ظاهر الدلالة على عدم صحته من قوله فلما فرغ أسهم بينهم فكانوا عشرة فخرج السهم على عبد الله فإن عبد الله بإجماع أهل الأخبار لم يكن مولودا عند حفر زمزم، وقصة نذر عبد المطلب ذبح أحد أولاده تروى بوجه آخر وهو أنه نذر الذبح إذا بلغ أولاده عشرا فلما بلغوها بولادة عبد الله كان ما كان. وما شاع من خبر أنا ابن الذبيحين قال العراقي لم أقف عليه، والخبر السابق بعد ما عرف حاله لا يكفي لثبوته حديثا فلا حاجة إلى تأويله بأنه أريد بالذبيحين فيه إسحاق وعبد الله بناء على أن الأب قد يطلق على العم أو أريد بهما الذابحان وهما إبراهيم وعبد المطلب بحمل فعيل على معنى فاعل لا مفعول، وحمل هؤلاء وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا على البشارة بنبوته وما تقدم على البشارة بأن يوجد قبل ولما كان التبشير هناك قبل الولادة والتسمية إنما تكون بعدها في الأغلب لم يسم هناك وسماه هنا لأنه بعد الولادة واستأنس للاتحاد بوصفه بكونه من الصالحين لأن مطلوبه كان ذلك فكأنه قيل له هذا الغلام الذي بشرت به أولا هو ما طلبته بقولك رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: 100] وأنت تعلم أن حمل على البشارة بالنبوة خلاف الظاهر إذ كان الظاهر أن يقال لو أريد ذلك بشرناه بنبوته ونحوه. وتقدير أن يوجد نبيا لا يدفعه كما لا يخفى وكذا وصفه بالصلاح الذي طلبه فتأمل. ومن العلماء من رأى قوة الأدلة من الطرفين ولم يترجح شيء منها عنده فتوقف في التعيين كالجلال السيوطي عليه الرحمة فإنه قال في آخر رسالته السابقة: كنت ملت إلى القول بأن الذبيح إسحاق في التفسير وأنا الآن متوقف عن ذلك، وقال بعضهم كما نقله الخفاجي: إن في الدلالة على كونه إسحاق أدلة كثيرة وعليه جملة أهل الكتاب ولم ينقل في الحديث ما يعارضه فلعله وقع مرتين مرة بالشام لإسحاق ومرة بمكة لإسماعيل عليهما السلام، والتوقف عندي خير من هذا القول، والذي أميل أنا إليه أنه إسماعيل عليه السلام بناء على ظاهر الآية يقتضيه وأنه المروي عن كثير من أئمة أهل البيت ولم أتيقن صحة حديث مرفوع يقتضي خلاف ذلك، وحال أهل الكتاب لا يخفى على ذوي الألباب. البحث الثاني أنه استدل بما في القصة على جواز النسخ قبل الفعل وهو مذهب كثير من الأصوليين وخالف فيه المعتزلة والصيرفي، ووجه الاستدلال على ما قرره بعض الأجلة أن إبراهيم عليه السلام أمر بذبح ولده بدليل قوله الجزء: 12 ¦ الصفحة: 130 افْعَلْ ما تُؤْمَرُ ولأنه عليه السلام أقدم على الذبح وترويع الولد ولو لم يكن مأمورا به لكان ذلك ممتنعا شرعا وعادة ونسخ عنه قبل الفعل لأنه لم يفعل ولو كان ترك الفعل مع حضور الوقت لكان عاصيا. واعترض عليه بأنا لا نسلم أنه لو لم يفعل وقد حضر الوقت لكان عاصيا لجواز أن يكون الوقت موسعا فيحصل التمكن فلا يعصى بالتأخير ثم ينسخ. وأجيب أما أولا فبأنه لو كان موسعا لكان الوجوب متعلقا بالمستقبل لأن الأمر باق عليه قطعا فإذا نسخ فقد نسخ تعلق الوجوب بالمستقبل وهو المانع من النسخ عندهم فإنهم يقولون: إذا تعلق الوجوب بالمستقبل مع بقاء الأمر عليه امتنع رفع ذلك التعلق بالنهي عنه وإلا لزم توارد الأمر والنهي على شيء واحد وهو محال، فإذا جوزوا النسخ في الواجب الموسع في وقته قبل فعله مع أن الوجوب فيه تعلق بالمستقبل والأمر باق عليه فقد اعترفوا بجواز ما منعوه وهو المطلوب، وأما ثانيا فبأنه لو كان موسعا لأخر الفعل ولم يقدم على الذبح وترويع الولد عادة إما رجاء أن ينسخ عنه وإما رجاء أن يموت فيسقط عنه لعظم الأمر ومثله مما يؤخر عادة. وتعقب هذا بأن عادة الأنبياء عليهم السلام المبادرة إلى امتثال أمر الله تعالى على خلاف عادة أكثر الناس ولا تستبعد منهم خوارق العادات وإبراهيم من أجلّهم قدرا سلمنا أن العادة ولو بالنسبة إلى الأنبياء تقتضي التأخير لكن من أين علم أنه عليه السلام لم يؤخر إلى آخر الوقت اتباعا للعادة فالمعول عليه الجواب الأول وبه يتم الاستدلال، وربما دفعوه بوجوه أخر، منها أنه لم يؤمر بشيء وإنما توهم ذلك توهما بإراءة الرؤيا ولو سلم فلم يؤمر بالذبح إنما أمر بمقدماته من إخراج الولد وأخذه المدية وتله للجبين، وتعقب هذا بأنه ليس بشيء لما مر من قوله افْعَلْ ما تُؤْمَرُ واقدامه على الذبح والترويع المحرم لولا الأمر كيف ويدل على خلافه قوله تعالى إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وقوله سبحانه وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ولولا الأمر لما كان بلاء مبينا ولما احتاج إلى الفداء، وكون الفداء عن ظنه أنه مأمور بالذبح لا يخفى حاله، وعلى أصل المعتزلة هو توريط لإبراهيم عليه السلام في الجهل بما يظهر أنه أمر وليس بأمر وذلك غير جائز، ومن لا يجوز الظن الفاسد على الأنبياء عليهم السلام فهذا عنده أدنى من لا شيء، ومنها أنا لا نسلم أنه لم يذبح بل روي أنه ذبح وكان كلما قطع شيئا يلتحم عقيب القطع وأنه خلق صفيحة نحاس أو حديد تمنع الذبح، وتعقب بأن هذا لا يسمع، أما أولا فلأنه خلاف العادة والظاهر ولم ينقل نقلا معتبرا. وأجيب بأن الرواية سند للمنع والضعف لا ينافيه والاحتمال كاف في المقام ولا ريب في جوازه كإرسال الكبش من الجنة، وأما ثانيا فلأنه لو ذبح لما احتيج إلى الفداء، وكونه لأن الإزهاق لم يحصل ليس بشيء، ولو منع الذبح بالصفيحة مع الأمر به لكان تكليفا بالمحال وهم لا يجوزونه ثم قد نسخ عنه وإلا لأثم بتركه فيكون نسخا قبل التمكن فهو لنا لا علينا. ومن السادة الحنفية من قال: ما نحن فيه ليس من النسخ لأنه رفع الحكم لا إلى بدل وهنا له بدل قائم مقامه كالفدية للصوم في حق الشيخ الفاني فعلم أنه لم يرفع حكم المأمور به. وفي التلويح فإن قيل: هب أن الخلف قام مقام الأصل لكنه استلزم حرمة الأصل أي ذبحه وتحريم الشيء بعد وجوبه نسخ لا محالة لرفع حكمه، قيل: لا نسلم كونه نسخا وإنما يلزم لو كان حكما شرعيا وهو ممنوع فإن حرمة ذبح الولد ثابتة في الأصل فزالت بالوجوب ثم عادت بقيام الشاة مقام الولد فلا تكون حكما شرعيا حتى يكون ثبوتها نسخا للوجوب انتهى، وتعقب بأن هذا بناء على ما تقرر من أن رفع الإباحة الأصلية ليس نسخا أما على أنه نسخ كما التزمه بعض الحنفية إذ لا إباحة ولا تحريم إلا بشرع كما قرروه يكون رفع الحرمة الأصلية نسخا وإذا كان رفعها نسخا أيضا يبقى الإيراد المذكور من غير جواب على ما قرر في شرح التحرير، هذا وتمام الكلام في حجة الفريقين مفصل في أصول الفقه وهذا المقدار كاف لغرض المفسر. البحث الثالث أنه استدل أبو حنيفة بالقصة على أن لو نذر أن يذبح ولده فعليه شاة، ووافقه في ذلك محمد، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 131 ونقله الإمام القرطبي عن مالك. وفي تنوير الأبصار وشرحه الدر المختار نذر أن يذبح ولده فعليه شاة لقصة الخليل عليه السلام وألغاه الثاني والشافعي كنذره قتله (1) ونقل الجصاص أن نذر القتل كنذر الذبح، واعترض على الإمام بأنه نذر معصية وجاء لا نذر في معصية الله تعالى، وقال هو: إن ذلك في شرع إبراهيم عليه السلام عبارة عن ذبح شاة ولم يثبت نسخه فليس معصية، وقال بعض الشافعية: ليس في النظم الجليل ما يدل على أنه كان نذرا من إبراهيم عليه السلام حتى يستدل به. وأجيب بأنه ورد في التفسير المأثور أنه نذر ذلك وهو في حكم النص ولذا قيل له لما بلغ معه السعي: أوف بنذرك، وبأنه إذا قامت الشاة مقام ما أوجبه الله تعالى عليه علم قيامها مقام ما يوجبه على نفسه بالطريق الأولى فيكون ثابتا بدلالة النص، والإنصاف أن مدرك الشافعي وأبي يوسف عليهما الرحمة أظهر وأقوى من مدرك الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه في هذه المسألة فتأمل وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ أنعمنا عليهما بالنبوة وغيرها من المنافع الدينية والدنيوية وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ هذا وما بعده من قبيل عطف الخاص على العام، والكرب العظيم تغلب فرعون ومن معه من القبط، وقيل الغرق وليس بذاك وَنَصَرْناهُمْ الضمير لهما مع القوم وقيل لهما فقط وجيء به ضمير جمع لتعظيمهما فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ بسبب ذلك على فرعون وقومه وهُمُ يجوز أن يكون فصلا أو توكيدا أو بدلا، والتنجية وإن كانت بحسب الوجود مقارنة لما ذكر من النصر لكنها لما كانت بحسب المفهوم عبارة عن التخليص عن المكروه بدأ بها ثم بالنصر الذي يتحقق مدلوله بمحض تنجية المنصور من عدوه من غير تغلب عليه ثم بالغلبة لتوفية مقام الامتنان حقه بإظهار أن كل مرتبة من هذه المراتب الثلاث نعمة جليلة على حيالها وَآتَيْناهُمَا بعد ذلك الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ أي البليغ في البيان والتفصيل كما يشعر به زيادة البنية وهو التوراة وَهَدَيْناهُمَا بذلك الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ الموصل إلى الحق والصواب بما فيه من تفاصيل الشرائع وتفاريع الأحكام وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ الكلام فيه نظير ما سبق في نظيره وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ قال الطبري: هو إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون أخي موسى عليهما السلام فهو إسرائيلي من سبط هارون، وحكى القتيبي أنه من سبط يوشع، وحكى الطبرسي أنه ابن عم اليسع وأنه بعث بعد حزقيل، وفي العجائب للكرماني أنه ذو الكفل، وعن وهب أنه عمر كما عمر الخضر ويبقى إلى فناء الدنيا. وأخرج ابن عساكر عن الحسن أنه موكل بالفيافي والخضر بالبحار والجزائر وإنهما يجتمعان بالموسم في كل عام، وحديث اجتماعه مع النبي صلّى الله عليه وسلم في بعض الأسفار وأكله معه من مائدة نزلت عليهما عليهما الصلاة والسلام من السماء هي خبز وحوت وكرفس وصلاتهما العصر معا رواه الحاكم عن أنس وقال: هذا حديث صحيح الإسناد وكل ذلك من التعمير وما بعده لا يعول عليه. وحديث الحاكم ضعفه البيهقي، وقال الذهبي. موضوع قبح الله تعالى من وضعه ثم قال: وما كنت أحسب ولا أجوز أن الجهل يبلغ بالحاكم إلى أن يصحح هذا، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عساكر: عن ابن مسعود أن إلياس هو إدريس ونقل عنه أنه قرأ «وإن إدريس لمن المرسلين» والمستفيض عنه أنه قرأ كالجمهور نعم قرأ ابن وثاب والأعمش والمنهال بن عمرو والحكم بن عتيبة الكوفي كذلك. وقرىء «إدراس» وهو لغة في إدريس كإبراهام في إبراهيم، وإذا فسر إلياس بإدريس على أن أحد اللفظين اسم   (1) قوله «كنذره قتله» قال الخفاجي عليه كفارة يمين عند الثاني نذر الذبح أو القتل اه منه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 132 والآخر لقب فإن كان المراد بهما من سمعت نسبه فلا بأس به وإن كان المراد بهما إدريس المشهور الذي رفعه الله تعالى مكانا عليا وهو على ما قيل أخنوخ بن يزد بن مهلاييل بن أنوش بن قينان بن شيث بن آدم وكان على ما ذكره المؤرخون قبل نوح، وفي المستدرك عن ابن عباس أن بينه وبين نوح ألف سنة، وعن وهب أنه جد نوح أشكل الأمر في قوله تعالى وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ [الأنعام: 83- 86] لأن ضمير ذُرِّيَّتِهِ إما أن يكون لإبراهيم لأن الكلام فيه وإما أن يكون لنوح لأنه أقرب ولأن يونس ولوطا ليسا من ذرية إبراهيم، وعلى التقديرين لا يتسنى نظم إلياس المراد به إدريس الذي هو قبل نوح على ما سمعت في عداد الذرية، ويرد على القول بالاتحاد مطلقا أنه خلاف الظاهر فلا تغفل. وقرأ عكرمة. والحسن بخلاف عنهما والأعرج وأبو رجاء وابن عامر وابن محيصن «وإن الياس» بوصل الهمزة فاحتمل أن يكون قد وصل همزة القطع واحتمل أن يكون اسمه يأسا ودخلت عليه أل كما قيل في اليسع، وفي حرف أبي ومصحفه و «أن إبليس» بهمزة مكسورة بعدها ياء أيضا ساكنة آخر الحروف بعدها لام مكسورة بعدها ياء أيضا ساكنة وسين مهملة مفتوحة. إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ وهم على المشهور في إلياس سبط من بني إسرائيل أسكنهم يوشع لما فتح الشام المدينة المعروفة اليوم ببعلبك وزعم بعضهم أنها كانت تسمى بكة وقيل بك بلاها. ثم سميت بما عرف على طريق التركيب المزجي، وإِذْ عند جمع مفعول اذكر محذوفا أي اذكر وقت قوله لقومه أَلا تَتَّقُونَ عذاب الله تعالى ونقمته بامتثال أوامره واجتناب نواهيه أَتَدْعُونَ بَعْلًا أي أتعبدونه أو تطلبون حاجكم منه، وهو اسم صنم لهم كما قال الضحاك والحسن وابن زيد وفي بعض نسخ القاموس أنه لقوم يونس، ولا مانع من أن يكون لهما أو ذلك تحريف. قيل وكان من ذهب طوله عشرون ذراعا وله أربعة أوجه فتنوا به وعظموه حتى أخدموه أربعمائة سادن وجعلوهم أنبياءه فكان الشيطان يدخل في جوفه ويتكلم بشريعة الضلالة والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس، وقيل هو اسم امرأة أتتهم بضلالة فاتبعوها واستؤنس له بقراءة بعضهم، بعلاء بالمد على وزن حمراء، وظاهر صرفه أنه عربي على القولين فلا تغفل. وقال عكرمة وقتادة، البعل الرب بلغة اليمن: وفي رواية أخرى عن قتادة بلغة أزد شنوءة وأستام بن عباس ناقة رجل من حمير فقال له: أنت صاحبها؟ قال: بعلها فقال ابن عباس أتدعون بعلا: أتدعون ربا ممن أنت؟ قال: من حمير، والمراد عليه أتدعون بعض البعول أي الأرباب والمراد بها الأصنام أو المعبودات الباطلة فالتنكير للتبعيض فيرجع لما قيل قبله وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ أي وتتركون عبادته تعالى أو طلب جميع حاجكم منه عز وجل على أن الكلام على حذف مضاف وقيل إن المراد بتركهم إياه سبحانه تركهم عبادته عز وجل والمراد بالخالق من يطلق عليه ذلك، وله بهذا الاعتبار إفراد وإن اختلفت جهة الإطلاق فيها فلا إشكال في إضافة أفعل إلى ما بعده، وهاهنا سؤال مشهور وهو ما وجه العدول عن تدعون بفتح التاء والدال مضارع ودع بمعنى ترك إلى تَذَرُونَ مع مناسبته ومجانسته لتدعون قبله دون تذرون وأجيب عن ذلك بأجوبة الأول أن في ذلك نوع تكلف والجناس المتكلف غير ممدوح عند البلغاء ولا يمدح عندهم ما لم يجىء عفوا بطريق الاقتضاء ولذا ذموا متكلفة فقيل فيه: طبع المجنس فيه نوع قيادة ... أو ما ترى تأليفه للأحرف قاله الخفاجي، وفي كون هذا البيت في خصوص المتكلف نظر وبعد فيه ما فيه، الثاني أن في تدعون إلباسا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 133 على من يقرأ من المصحف دون حفظ من العوام بأن يقرأه كتدعون الأول ويظن أن المراد إنكار بين دعاء بعل ودعاء أحسن الخالقين، وليس بالوجه إذ ليس من سنة الكتاب ترك ما يلبس على العوام كما لا يخفى على الخواص. والصحابة أيضا لم يراعوهم وإلا لما كتبوا المصحف غير منقوط ولا ذا شكل كما هو المعروف اليوم، وفي بقاء الرسم العثماني معتبرا إلى انقضاء الصحابة ما يؤيد ما قلنا، الثالث أن التجنيس تحسين وإنما يستعمل في مقام الرضا والإحسان لا في مقام الغضب والتهويل، وفيه بأنه وقع فيما نفاه قال تعالى وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ [الروم: 55] وقال سبحانه يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ [النور: 43، 44] وفيهما الجناس التام ولا يخفى حال المقام، الرابع ما نقل عن الإمام فإنه سئل عن سبب ترك تدعون إلى تَذَرُونَ فقال: ترك لأنهم اتخذوا الأصنام آلهة وتركوا الله تعالى بعد ما علموا أن الله سبحانه ربهم ورب آبائهم الأولين استكبارا واستنكارا فلذلك قيل وَتَذَرُونَ ولم يقل وتدعون، وفيه القول بأن دع أمر بالترك قبل العلم وذر أمر بالترك بعده ولا تساعده اللغة والاشتقاق، الخامس أن لإنكار كل من فعلي دعاء بعل وترك أحسن الخالقين علة غير علة إنكار الآخر فترك التجنيس رمزا إلى شدة المغايرة بين الفعلين، السادس أنه لما لم يكن مجانسة بين المفعولين بوجه من الوجوه ترك التجنيس في الفعلين المتعلقين بهما وإن كانت المجانسة المنفية بين المفعولين شيئا والمجانسة التي نحن بصددها بين الفعلين شيئا آخر، وكلا الجوابين كما ترى، السابع أن يدع إنما استعملته العرب في الترك الذي لا يذم مرتكبه لأنه من الدعة بمعنى الراحة ويذر بخلافه لأنه يتضمن إهانة وعدم اعتداد لأنه من الوذر قطعة اللحم الحقيرة التي لا يعتد بها. واعترض بأن المتبادر من قوله بخلافه أن يذر إنما استعملته العرب في الترك الذي يذم مرتكبه فيرد عليه قوله تعالى فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ [الأنعام: 112، 137] وقوله سبحانه وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا [البقرة: 278] إلى غير ذلك وفيه تأمل. الثامن أن يدع أخص من يذر لأنه بمعنى ترك الشيء مع اعتناء به بشهادة الاشتقاق نحو الإيداع فإنه ترك الوديعة مع الاعتناء بحالها ولهذا يختار لها من هو مؤتمن ونحوه موادعة الأحباب وأما يذر فمعناه الترك مطلقا أو مع الاعراض والرفض الكلي، قال الراغب يقال فلان يذر الشيء أي يقذفه لقلة الاعتداد به ومنه الوذر وهو ما سمعت آنفا، ولا شك أن السياق إنما يناسب هذا دون الأول إذ المراد تبشيع حالهم في الإعراض عن ربهم وهو قريب من سابقه لكنه سالم عن بعض ما فيه، التاسع أن في تدعون بفتح التاء والدال ثقلا ما لا يخفى على ذي الذوق السليم والطبع المستقيم وَتَذَرُونَ سالم عنه فلذا اختير عليه فتأمل والله تعالى أعلم، وقد أشار سبحانه وتعالى بقوله أَحْسَنَ الْخالِقِينَ إلى المقتضي للانكار المعنى بالهمز وصرح به للاعتناء بشأنه في قوله تعالى: اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ بالنصب على البدلية من أحسن الخالقين، قال أبو حيان: ويجوز كون ذاك عطف بيان إن قلنا إن إضافة أفعل التفضيل محضة، وقرأ غير واحد من السبعة بالرفع على أن الاسم الجليل مبتدأ ورَبَّكُمْ خبره أو هو خبر مبتدأ محذوف وربكم عطف بيان أو بدل منه، وروي عن حمزة أنه إذا وصل نصب وإذا وقف رفع، والتعرض لذكر ربوبيته تعالى لآبائهم الأولين لتأكيد إنكار تركهم إياه تعالى والإشعار ببطلان آراء آبائهم أيضا فَكَذَّبُوهُ فيما تضمنه كلامه من إيجاب الله تعالى التوحيد وتحريمه سبحانه الإشراك وتعذيبه تعالى عليه، وجوز أن يكون تكذيبهم راجعا إلى ما تضمنه قوله الله ربكم فَإِنَّهُمْ بسبب ذلك لَمُحْضَرُونَ أي في العذاب وإنما أطلقه اكتفاء بالقرينة أو لأن الإحضار المطلق مخصوص بالشر في العرف العام أو حيث استعمل في القرآن لإشعاره بالجبر إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ استثناء متصل من الواو في كذبوه فيدل على أن من قومه مخلصين لم يكذبوه، ومنع الجزء: 12 ¦ الصفحة: 134 كونه استثناء متصلا من ضمير (محضرون) لأنه للمكذبين فإذا استثني منه اقتضى أنهم كذبوه ولم يحضروا وفساده ظاهر، وقيل: لأنه إذا لم يستثن من ضمير كذبوا كانوا كلهم مكذبين فليس فيهم مخلص فضلا عن مخلصين ومآله ما ذكر، لكن اعترضه ابن كمال بأنه لا فساد فيه لأن استثناءهم من القوم المحضرين لعدم تكذيبهم على ما دل عليه التوصيف بالمخلصين لا من المكذبين فمآل المعنى واحد. ورد بأن ضمير محضرين للقوم كضمير كذبوا. وقال الخفاجي: لا يخفى أن اختصاص الإحضار بالعذاب كما صرح به غير واحد يعين كون ضمير محضرين للمكذبين لا لمطلق القوم فإن لم يسلمه فهو أمر آخر، وفي البحر ولا يناسب أن يكون استثناء منقطعا إذ يصير المعنى لكن عباد الله المخلصين من غير قومه لا يحضرون في العذاب وفيه بحث. وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ الكلام فيه كما في نظيره بيد أنه يقال هاهنا إن آل ياسين لغة في إلياس وكثيرا ما يتصرفون في الأسماء الغير العربية. وفي الكشاف لعل لزيادة الياء والنون معنى في اللغة السريانية، ومن هذا الباب سيناء وسينين، واختار هذه اللغة هنا رعاية للفواصل، وقيل: هو جمع إلياس على طريق التغليب بإطلاقه على قومه وأتباعه كالمهلبين للمهلب وقومه. وضعف بما ذكره النحاة من أن العلم إذا جمع أو ثني وجب تعريفه باللام جبرا لما فاته من العلمية، ولا فرق فيه بين ما فيه تغليب وبين غيره كما صرح به ابن الحاجب في شرح المفصل، لكن هذا غير متفق عليه، قال ابن يعيش في شرح المفصل (1) يجوز استعماله نكرة بعد التثنية والجمع نحو زيدان كريمان وزيدون كريمون وهو مختار الشيخ عبد القاهر وقد أشبعوا الكلام على ذلك في مفصلات كتب النحو، ثم إن هذا البحث إنما يتأتى مع من لم يجعل لام إلياس للتعريف أما من جعلها له فلا يتأتى البحث معه، وقيل: هو جمع إلياسي بياء النسبة فخفف لاجتماع الياءات في الجر والنصب كما قيل أعجمين في أعجميين وأشعرين في أشعريين، والمراد بالياسين قوم إلياس المخلصون فإنهم الاحقاء بأن ينسبوا إليه، وضعف بقلة ذلك وإلباسه بإلياس إذا جمع وإن قيل: حذف لام إلياس مزيل للإلباس، وأيضا هو غير مناسب للسياق والسباق إذ لم يذكر آل أحد من الأنبياء. وقرأ نافع وابن عامر ويعقوب وزيد بن علي «آل ياسين» بالإضافة، وكتب في المصحف العثماني منفصلا ففيه نوع تأييد لهذه القراءة، وخرجت عن أن ياسين اسم أبي إلياس ويحمل الآل على إلياس وفي الكناية عنه تفخيم له كما في آل إبراهيم عن نبينا صلّى الله عليه وسلم، وجوز أن يكون الآل مقحما على أن ياسين هو إلياس نفسه. وقيل: ياسين فيها اسم لمحمد صلّى الله عليه وسلم فآل ياسين آله عليه الصلاة والسلام، أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في «سلام على آل ياسين» نحن آل محمد آل ياسين ، وهو ظاهر في جعل ياسين اسما له صلّى الله عليه وسلم، وقيل: هو اسم للسورة المعروفة، وقيل: اسم للقرآن فآل ياسين هذه الأمة المحمدية أو خواصها. وقيل: اسم لغير القرآن من الكتب، ولا يخفى عليك أن السياق والسباق يأبيان أكثر هذه الأقوال. وقرأ أبو رجاء والحسن «على الياسين» بوصل الهمزة وتخريجها يعلم مما مر. وقرأ ابن مسعود ومن قرأ معه فيما سبق إدريس «سلام على ادراسين» وعن قتادة «وأن إدريس» وقرأ «على إدريسين» وقرأ أبي «على إيليس» كما قرأ «وإنّ إيليس لمن المرسلين» .   (1) وهو في عشرة أجزاء من أنفس كتب النحو وقد طبعناه والحمد لله. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 135 وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (1) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ سبق بيانه في الشعراء وَإِنَّكُمْ يا أهل مكة لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ على منازلهم في متاجركم إلى الشام فإن سذوم (2) في طريقه مُصْبِحِينَ داخلين في الصباح وَبِاللَّيْلِ قيل أي ومساء بأن يراد بالليل أوله لأنه زمان السير ولوقوعه مقابل الصباح، وقيل: أي نهارا وليلا وهو تأويل قبل الحاجة ولذا اختير الأول، ووجه التخصيص عليه بأنه لعل سدوم وقعت قريب منزل يمر بها المرتحل عنه صباحا والقاصد مساء، وقال بعض الأجلة: لو أبقى على ظاهره لأن ديار العرب لحرها يسافر فيها في الليل إلى الصباح خلا عن التكلف في توجيه المقابلة أَفَلا تَعْقِلُونَ أتشاهدون ذلك فلا تعقلون حتى تعتبروا به وتخافوا أن يصيبكم مثل ما أصابهم فإن منشأ ذلك مخالفتهم رسولهم ومخالفة الرسول قدر مشترك بينكم.   (1) قال الضحاك مسخت حجرا وكانت تسمى هيشفع انتهى منه. (2) سذوم بالدال المهملة والذال المعجمة بلد قوم لوط عليه السلام. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 136 وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ يروى على ما في البحر أنه عليه السلام نبىء وهو ابن ثمان وعشرين سنة، وحكي في البحر أنه كان في زمن ملوك الطوائف من الفرس وهو ابن متى بفتح الميم وتشديد التاء الفوقية مقصور، وهل هذا اسم أمه أو أبيه فيه خلاف فقيل اسم أمه وهو المذكور في تفسير عبد الرزاق، وقيل: اسم أبيه وهذا- كما قال ابن حجر- أصح، وبعض أهل الكتاب يسميه يونان بن مائي، وبعضهم يسميه يونه بن امتياي ولم نقف في شيء من الأخبار على اتصال نسبه، وفي اسمه عند العرب ست لغات تثليث النون مع الواو والياء والهمزة، والقراءة المشهورة بضم النون مع الواو. وقرأ أبو طلحة بن مصرف بكسر النون قيل أراد أن يجعله عربيا مشتقا من أنس وهو كما ترى إِذْ أَبَقَ هرب، وأصله الهرب من السيد لكن لما كان هربه من قومه بغير إذن ربه كما هو الأنسب بحال الأنبياء عليهم السلام حسن إطلاقه عليه فهو إما استعارة أو مجاز مرسل من استعمال المقيد في المطلق، والأول أبلغ، وقال بعض الكمل: الإباق الفرار من السيد بحيث لا يهتدي إليه طالب أي بهذا القصد، وكان عليه السلام هرب من قومه بغير إذن ربه سبحانه إلى حيث طلبوه فلم يجدوه فاستعير الإباق لهربه باعتبار هذا القيد لا باعتبار القيد الأول، وفيه بعد تسليم اعتبار هذا القيد على ما ذكره بعض أهل اللغة أنه لا مانع من اعتبار ذلك القيد فلا اعتبار بنفي اعتباره إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ المملوء فَساهَمَ فقارع عليه السلام من في الفلك، واستدل به من قال بمشروعية القرعة. فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ فصار من المغلوبين بالقرعة، وأصله المزلق اسم مفعول عن مقام الظفر. يروى أنه وعد قومه العذاب وأخبرهم أنه يأتيهم إلى ثلاثة أيام فلما كان اليوم الثالث خرج يونس قبل أن يأذن الله تعالى له ففقده قومه فخرجوا بالكبير والصغير والدواب وفرقوا بين كل والدة وولدها فشارف نزول العذاب بهم فعجوا إلى الله تعالى وأنابوا واستقالوا فأقالهم الله تعالى وصرف عنهم العذاب فلما لم ير يونس نزول العذاب استحى أن يرجع إليهم وقال: لا أرجع إليهم كذابا أبدا ومضى على وجهه فأتى سفينة فركبها فلما وصلت اللجة وقفت فلم تسر فقال صاحبها: ما يمنعها أن تسير إلا أن فيكم رجلا مشؤوما فاقترعوا ليلقوا من وقعت عليه القرعة في الماء فوقعت على يونس ثم أعادوا فوقعت عليه ثم أعادوا فوقعت عليه فلما رأى ذلك رمى بنفسه في الماء. فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ أي ابتلعه من اللقمة، وفي خبر أخرجه أحمد وغيره عن ابن مسعود أنه أتى قوما في سفينة فحملوه وعرفوه فلما دخلها ركدت والسفن تسير يمينا وشمالا فقال: ما بال سفينتكم؟ قالوا: ما ندري قال: ولكني أدري إن فيها عبدا آبق من ربه وإنها والله لا تسير حتى تلقوه قالوا: أما أنت والله يا نبي الله فلا نلقيك فقال لهم: اقترعوا فمن قرع فليلق فاقترعوا ثلاث مرات وفي كل مرة تقع القرعة عليه فرمى بنفسه فكان ما قص الله تعالى . وكيفية اقتراعهم على ما في البحر عن ابن مسعود أنهم أخذوا لكل سهما على أن من طفا سهمه فهو ومن غرق سهمه فليس إياه فطفا سهم يونس. وروي أنه لما وقف على شفير السفينة ليرمي بنفسه رأى حوتا- واسمه على ما أخرج ابن أبي حاتم وجماعة عن قتادة نجم- قد رفع رأسه من الماء قدر ثلاثة أذرع يرقبه ويترصده فذهب إلى ركن آخر فاستقبله الحوت فانتقل إلى آخر فوجده وهكذا حتى استدار بالسفينة فلما رأى ذلك عرف أنه أمر من الله تعالى فطرح نفسه فأخذه قبل أن يصل إلى الماء وَهُوَ مُلِيمٌ أي داخل في الملامة على أن بناء افعل للدخول في الشيء نحو أحرم إذا دخل الحرم أو آت بما يلام عليه على أن الهمزة فيه للصيرورة نحو أغد البعير أي صار ذا غدة فهو هنا لما أتى بما يستحق اللوم عليه صار ذا لوم أو مليم نفسه على أن الهمزة فيه للتعدية نحو أقدمته والمفعول محذوف، وما روي عن ابن عباس ومجاهد من تفسيره بالمسيء والمذنب فبيان لحاصل المعنى وحسنات الأبرار سيئات المقربين. وقرىء «مليم» بفتح أوله اسم مفعول وقياسه ملوم لأنه واوي يقال لمته ألومه لوما لكنه جيء به على ليم كما قالوا مشيب الجزء: 12 ¦ الصفحة: 137 ومدعي في مشوب ومدعو بناء على شيب ودعي وذلك أنه لما قلبت الواو ياء في المجهول جعل كالأصل فحمل الوصف عليه. فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ أي من الذاكرين الله تعالى كثيرا بالتسبيح كما قيل، وفي كلام قتادة ما يشعر باعتبار الكثرة، واستفادتها على ما قال الخفاجي من جعله من المسبحين دون أن يقال مسبحا فإنه يشعر بأنه عريق فيهم منسوب إليهم معدود في عدادهم ومثله يستلزم الكثرة، وقيل: من التفعيل. ورد بأن معنى سبح لم يعتبر فيه ذلك إذ هو قال سبحان الله، وقد يقال: هي من إرادة الثبوت من الْمُسَبِّحِينَ فإنه يشعر بأن التسبيح ديدن لهم، والمراد بالتسبيح هاهنا حقيقته وهو القول المذكور أو ما في معناه وروي ذلك عن ابن جبير. وهذا الكون عند بعض قبل التقام الحوت أيام الرخاء، واستظهر أبو حيان أنه في بطن الحوت وأن التسبيح ما ذكره الله تعالى في قوله سبحانه: فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء: 87] وحمله بعضهم على الذكر مطلقا، وبعض آخر على العبادة كذلك، وجماعة منهم ابن عباس على الصلاة بل روي عنه أنه قال: كل ما في القرآن من التسبيح فهو بمعنى الصلاة، وأنت تعلم أن كان اللفظ فيما ذكر حقيقة شرعية ولم يكن للتسبيح حقيقة أخرى شرعية أيضا لم يحتج إلى قرينة، وإن كان مجازا أو كان للتسبيح حقيقة شرعية أخرى احتيج إلى قرينة فإن وجدت فذاك وإلا فالأمر غير خفي عليك، وكما اختلف في زمان التسبيح بالمعنى السابق اختلف في زمانه بالمعاني الأخر، أخرج أحمد في الزهد. وغيره عن ابن جبير في قوله تعالى: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ قال: من المصلين قبل أن يدخل بطن الحوت، وأخرج أحمد وغيره أيضا عن الحسن في الآية قال: ما كان إلا صلاة أحدثها في بطن الحوت فذكر ذلك لقتادة فقال: لا إنما كان يعمل في الرخاء، وروي عن الحسن غير ما ذكر، فقد أخرج عنه ابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان والحاكم أنه قال في الآية: كان يكثر الصلاة في الرخاء فلما حصل في بطن الحوت ظن أنه الموت فحرك رجليه فإذا هي تتحرك فسجد وقال: يا رب اتخذت لك مسجدا في موضع لم يسجد فيه أحد. وأخرج ابن أبي شيبة عن الضحاك بن قيس قال: اذكروا الله تعالى في الرخاء يذكر كم في الشدة فإن يونس عليه السلام كان عبدا صالحا ذاكر الله تعالى فلما وقع في بطن الحوت قال الله تعالى فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ [يونس: 90] إلخ وإن فرعون كان عبدا طاغيا ناسيا لذكر الله تعالى فلما أدركه الغرق قال آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس: 90] . فقيل له: آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ يونس: 91] والأولى حمل زمان كونه من المسبحين على ما يعم زمان الرخاء وزمان كونه في بطن الحوت فإن لاتصافه بذلك في كلا الزمانين مدخلا في خروجه من بطن الحوت المفهوم من قوله تعالى: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ كما يشعر به ما في حديث أخرجه عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أنس مرفوعا من أنه عليه السلام لما التقمه الحوت وهوى به حتى انتهى إلى ما انتهى من الأرض سمع تسبيح الأرض فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فأقبلت الدعوة نحو العرش فقالت الملائكة: يا ربنا إنا نسمع صوتا ضعيفا من بلاد غربة قال سبحانه: وما تدرون ما ذاكم؟ قالوا: لا يا ربنا قال: ذاك عبدي يونس قالوا: الذي كنا لا نزال نرفع له عملا متقبلا ودعوة مجابة؟ قال: نعم قالوا: يا ربنا ألا ترحم ما كان يصنع في الرخاء وتنجيه عند البلاء؟ قال: بلى فأمر عز وجل الحوت فلفظه. واستظهر أبو حيان أن المراد بقوله سبحانه لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلخ لبقي في بطنه حيا إلى يوم البعث وبه أقول. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 138 وتعقب بأنه ينافيه ما ورد من أنه لا يبقى عند النفخة الأولى ذو روح من البشر والحيوان في البر والبحر. وأجيب بعد تسليم ورود ذلك أو ما يدل عليه بأنه مبالغة في طول المدة مع أنه في حيز لو فلا يرد رأسا (1) أو المراد بوقت البعث ما يشمل زمان النفخة لأنه من مقدماته فكأنه منه، وعن قتادة لكان بطن الحوت قبرا له، وظاهره أنه أريد للبث ميتا في بطنه إلى يوم البعث، ولا مانع من بقاء بنية الحوت كبنيته من غير تسلط البلاء إلى ذلك اليوم، وضمير يُبْعَثُونَ لغير مذكور وهو ظاهر فَنَبَذْناهُ بأن حملنا الحوت على لفظه فالإسناد مجازي، والنبذ على ما في القاموس طرحك الشيء أماما أو وراء أو هو عام. وقال الراغب: النبذ إلقاء الشيء وطرحه لقلة الاعتداد به، والمراد به هنا الطرح والرمي والقيد الذي ذكره الراغب لا أرغب فيه فإنه عليه السلام وإن أبق وخرج من غير إذن مولاه واعتراه من تأديبه تعالى ما اعتراه فالرب عز وجل بأنبيائه رحيم وله سبحانه في كل شأن اعتداد بهم عظيم فهو عليه السلام معتد به في حال الإلقاء وإن كان ذلك بِالْعَراءِ أي بالمكان الخالي عما يغطيه من شجر أو نبت، يروى أن الحوت سار مع السفينة رافعا رأسه يتنفس ويونس يسبح حتى انتهوا إلى البر فلفظه. ورد بأنه يأباه قوله تعالى فَنادى فِي الظُّلُماتِ وأجيب بأنه بمجرد رفع رأسه للتنفس لا يخرج منها، ثم إنّ هذا لئلا يختنق يونس أو تنحصر نفسه بحكم العادة لا ليمتنع دخول الماء جوف الحوت حتى يقال السمك لا يحتاج لذلك، ومع هذا نحن لا نجزم بصحة الخبر فقد روي أيضا أنه طاف به البحار كلها ثم نبذه على شط دجلة قريب نينوى بكسر النون الأولى وضم الثانية كما في الكشف من أرض الموصل، والالتقام كان في دجلة أيضا على ما صرح به البعض وخالف فيه أهل الكتاب، وسيأتي إن شاء الله تعالى نقل كلامهم لك في هذه القصة لتقف على ما فيه. والظاهر أن الحوت من حيتان دجلة أيضا وقد شاهدنا فيها حيتانا عظيمة جدا، وقيل كان من حيتان النيل. أخرج ابن شيبة عن وهب أنه جلس هو وطاوس ونحوهما من أهل ذلك الزمان فذكروا أي أمر الله تعالى أسرع؟ فقال بعضهم: قول الله تعالى كَلَمْحِ الْبَصَرِ [النحل: 77، القمر: 50] وقال بعضهم: السرير حين أتى به سليمان، وقال وهب: أسرع أمر الله تعالى أن يونس على حافة السفينة إذ أوحى الله سبحانه إلى نون في نيل مصر فما خر من حافتها إلا في جوفه، ولا شبهة في أن قدرة الله عز وجل أعظم من ذلك لكن الشبهة في صحة الخبر. وكأني بك تقول: لا شبهة في عدم صحته. واختلف في مدة لبثه فأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وغيره عن الشعبي قال: التقمه الحوت ضحى ولفظه عشية وكأنه أراد حين أظلم الليل، وأخرج عبد بن حميد وغيره عن قتادة قال: إنه لبث في جوفه ثلاثا، وفي كتب أهل الكتاب ثلاثة أيام وثلاث ليال، وعن عطاء وابن جبير سبعة أيام، وعن الضحاك عشرين يوما، وعن ابن عباس وابن جريج وأبي مالك والسدي ومقاتل بن سليمان والكلبي وعكرمة أربعين يوما، وفي البحر ما يدل على أنه لم يصح خبر في مدة لبثه عليه السلام في بطن الحوت وَهُوَ سَقِيمٌ مما ناله، قال ابن عباس والسدي: إنه عاد بدنه كبدن الصبي حين يولد، وعن ابن جبير أنه عليه السلام ألقي ولا شعر له ولا جلد ولا ظفر. ولعل ذلك يستدعي بحكم العادة أن لمدة لبثه في بطن الحوت طولا ما. وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ أي أنبتناها مطلة عليه مظلة له كالخيمة فعليه حال من شَجَرَةً قدمت   (1) أو أنه يبقى حيا إلى وقت النفخة ثم يموت مع من يموت ويبقى إلى يوم البعث في بطن الحوت فلا إشكال اه عبد الله نجل المصنف. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 139 عليها لأنها نكرة، واليقطين يفعيل من قطن بالمكان إذا أقام به، وزاد الطبرسي إقامة زائل لا إقامة راسخ، والمراد به على ما جاء عن الحسن والسبط. وابن عباس في رواية وابن مسعود وأبي هريرة وعمرو بن ميمون وقتادة وعكرمة وابن جبير ومجاهد في إحدى الروايتين عنهما الدباء وهو القرع المعروف، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه، وأنبتها الله تعالى مطلة عليه لأنها تجمع خصالا برد الظل والملمس وعظم الورق وأن الذباب لا يقع عليها على ما قيل، وكان عليه السلام لرقة جلده بمكثه في بطن الحوت يؤذيه الذباب ومماسة ما فيه خشونة ويؤلمه حر الشمس ويستطيب بارد الظل فلطف الله تعالى به بذلك، وذكر أن ورق القرع أنفع شيء لمن ينسلخ جلده واشتهر أن الشجر ما كان على ساق من عود فيشكل تفسير الشجرة هنا بالدباء. وأجاب أبو حيان بأنه يحتمل أن الله تعالى أنبتها على ساق لتظله خرقا للعادة، وقال الكرماني: العامة تخصص الشجر بما له ساق، وعند العرب كل شيء له أرومة تبقى فهو شجر وغيره نجم، ويشهد له قول أفصح الفصحاء صلى الله عليه وسلم شجرة الثوم انتهى. وقال بعض الأجلة: لك أن تقول أصل معناه ما له أرومة لكنه غلب في عرف أهل اللغة على ما له ساق وأغصان فإذا أطلق يتبادر منه المعنى الثاني وإذا قيد كما هنا. وفي الحديث يرد على أصله وهو الظاهر، ثم ذكر أن ما قاله أبو حيان تمحل في محل لا مجال للرأي فيه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن ابن جبير أنه قال: كل شجرة لا ساق لها فهي من اليقطين والذي يكون على وجه الأرض من البطيخ والقثاء، وفي رواية أخرى عنه أنه سئل عن اليقطين أهو القرع؟ قال: لا ولكنها شجرة سماها الله تعالى اليقطين أظلته. وفي رواية عن ابن عباس أنه كل شيء ينبت ثم يموت من عامه، وفي أخرى كل شيء يذهب على وجه الأرض. وقيل شجرة اليقطين هي شجرة الموز تغطي بورقها واستظل بأغصانها وأفطر على ثمارها، وقيل شجرة التين والأصح ما تقدم. وروي عن قتادة أنه عليه السلام كان يأكل من ذلك القرع، وجاء في رواية عن أبي هريرة أنه قال: طرح بالعراء فأنبت الله تعالى عليه يقطينة فقيل له: ما اليقطينة؟ قال: شجرة الدباء هيأ الله تعالى له أروية وحشية تأكل من حشاش الأرض فتفسح عليه فترويه من لبنها كل عشية وبكرة حتى نبتت، وقيل: إنه كان يستظل بالشجرة وتختلف إليه الأروية فيشرب من لبنها، وفي بعض الآثار أنها نبتت وأظلته في يومها. أخرج أحمد في الزهد وغيره عن وهب أنه لما خرج من البحر نام نومة فأنبت الله تعالى عليه شجرة من يقطين وهي الدباء فأظلته وبلغت في يومها فرآها قد أظلته ورأى خضرتها فأعجبته ثم نام نومة فاستيقظ فإذا هي قد يبست فجعل يحزن عليها فقيل له: أنت الذي لم تخلق ولم تسق ولم تنبت تحزن عليها وأنا الذي خلقت مائة ألف من الناس أو يزيدون ثم رحمتهم فشق عليك وهؤلاء هم أهل نينوى المعنيون بقوله تعالى: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ والإرسال على ما أخرج غير واحد عن مجاهد والحسن وقتادة هو الإرسال الأول الذي كان قبل أن يلتقمه الحوت فالعطف على قوله تعالى: وَإِنَّ يُونُسَ إلخ على سبيل البيان لدلالته على ابتداء الحال وانتهائه وعلى ما هو المقصود من الإرسال من الإيمان، واعترض بينهما بقصته اعتناء بها لغرابتها. وأورد عليه أنه يأبى عن حمله على الإرسال الأول الفاء في قوله تعالى: فَآمَنُوا فإن أولئك لم يؤمنوا عقيب إرساله الأول بل بعد ما فارقهم. وأجيب بأنه تعقيب عرفي نحو تزوج فولد له. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 140 وقيل: الأقرب أن الفاء للتفصيل أو السببية، وقيل هو إرسال ثان إليهم بعد أن أصابه ما أصابه فالعطف على ما عنده. وأورد عليه أن المروي أنهم بعد مفارقته لهم رأوا العذاب أو خافوه فآمنوا فقوله تعالى فَآمَنُوا في النظم الجليل هنا يأبى عن حمله على إرسال ثان. وأجيب بأنه يجوز أن يكون الإيمان المقرون بحرف التعقيب إيمانا مخصوصا أو أن آمنوا بتأويل أخلصوا الإيمان وجددوه لأن الأول كان إيمان بأس، وقيل هو إرسال إلى غيرهم، وقيل: إن الأولين بعد أن آمنوا سألوه أن يرجع إليهم فأبى لأن النبي إذا هاجر عن قومه لم يرجع إليهم مقيما فيهم وقال لهم: إن الله تعالى باعث إليكم نبيا. وفي خبر طويل أخرجه أحمد في الزهد وجماعة عن ابن مسعود أنه عليه السلام بعد أن نبذ بالعراء وأنبت الله تعالى عليه الشجرة وحسن حاله خرج فإذا هو بغلام يرعى غنما فقال: ممن أنت يا غلام؟ قال: من قوم يونس قال: فإذا رجعت إليهم فأقرئهم السلام وأخبرهم أنك لقيت يونس فقال له الغلام: إن تكن يونس فقد تعلم أنه من كذب ولم يكن له بينة قتل فمن يشهد لي؟ قال: تشهد لك هذه الشجرة وهذه البقعة فقال الغلام ليونس: مرهما فقال لهما يونس: إذا جاء كما هذا الغلام فاشهدا له قالتا: نعم فرجع الغلام إلى قومه وكان له اخوة فكان في منعة فأتى الملك فقال: إني لقيت يونس وهو يقرأ عليكم السلام فأمر به الملك أن يقتل فقال: إن لي بينة فأرسل معه فانتهوا إلى الشجرة والبقعة فقال لهما الغلام نشدتكما بالله هل أشهد كما يونس قالتا: نعم فرجع القوم مذعورين يقولون: تشهد لك الشجرة والأرض فأتوا الملك فحدثوه بما رأوا فتناول الملك يد الغلام فأجلسه في مجلسه وقال: أنت أحق بهذا المكان مني وأقام لهم أمرهم ذلك الغلام أربعين سنة ، وهذا دال بظاهره أنه عليه السلام لم يرجع بعد أن أصابه ما أصابه إليهم فإن صح يراد بالإرسال هنا إما الإرسال الأول الذي تضمنه قوله تعالى وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وإما إرسال آخر إلى غير أولئك القوم، والمعروف عند أهل الكتاب أنه عليه السلام لم يرسل إلا إلى أهل نينوى، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا تفصيل قصته عندهم وأَوْ على ما نقل عن ابن عباس بمعنى بل، وقيل: بمعنى الواو وبها قرأ جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما ، وقيل: للإبهام على المخاطب، وقال المبرد وكثير من البصريين: للشك نظرا إلى الناظر من البشر على معنى من رآهم شك في عددهم وقال مائة ألف أو يزيدون والمقصود بيان كثرتهم أو أن الزيادة ليست كثيرة كثرة مفرطة كما يقال هم ألف وزيادة، وقال ابن كمال: المراد يزيدون باعتبار آخر وذلك أن المكلفين بالفعل منهم كانوا مائة ألف وإذا ضم إليهم المراهقون الذين بصدد التكليف كانوا أكثر ومن هاهنا ظهر وجه التعبير بصيغة التجدد دون الثبات. وتعقب بأنه مع أن المناسب له الواو تكلف ركيك، وأقرب منه أن الزيادة بحسب الإرسال الثاني ويناسبه صيغة التجدد وإن كانت للفاصلة، وهو معطوف على جملة أَرْسَلْناهُ بتقديرهم يزيدون لا على مِائَةِ بتقدير أشخاص يزيدون أو تجريده للمصدرية فإنه ضعيف، والزيادة على ما روي عن ابن عباس ثلاثون ألفا، وفي أخرى عنه بضعة وثلاثون ألفا، وفي أخرى بضعة وأربعون ألفا، وعن نوف وابن جبير سبعون ألفا، وأخرج الترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي بن كعب قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ قال: يزيدون عشرين ألفا ، وإذا صح هذا الخبر بطل ما سواه. فَمَتَّعْناهُمْ بالحياة إِلى حِينٍ إلى آجالهم المسماة في الأزل قاله قتادة والسدي، وزعم بعضهم أن تمتيعهم بالحياة إلى زمان المهدي وهم إذا ظهر من أنصاره فهم اليوم أحياء في الجبال والقفار لا يراهم كل أحد كالمهدي عند الإمامية والخضر عند بعض العلماء والصوفية، وربما يكشف لبعض الناس فيرى أحدا منهم، وهو كذب مفترى، ولعل عدم ختم هذه القصة والقصة التي قبلها بنحو ما ختم به سائر القصص من قوله تعالى وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ [الصافات: 130] إلخ تفرقة بين شأن لوط ويونس عليهما السلام وشأن أصحاب الشرائع الكبر الجزء: 12 ¦ الصفحة: 141 وأولي العزم من المرسلين مع الاكتفاء فيهما بالتسليم الشامل لكل الرسل المذكور في آخر السورة ولتأخرهما في الذكر قربا منه والله تعالى أعلم. والمذكور في شأن يونس عليه السلام في كتب أهل الكتاب أن الله عز وجل أمره بالذهاب إلى دعوة أهل نينوى وكانت إذ ذاك عظيمة جدا لا تقطع إلا في نحو ثلاثة أيام وكانوا قد عظم شرهم وكثر فسادهم فاستعظم الأمر وهرب إلى ترسيس فجاء يافا فوجد سفينة يريد أهلها الذهاب بها إلى ترسيس فاستأجر وأعطى الأجرة وركب السفينة فهاجت ريح عظيمة وكثرت الأمواج وأشرفت السفينة على الغرق ففزع الملاحون ورموا في البحر بعض الأمتعة لتخف السفينة وعند ذلك نزل يونس إلى بطن السفينة ونام حتى علا نفسه فتقدم إليه الرئيس فقال له: ما بالك نائما؟ قم وادع إلهك لعله يخلصنا مما نحن فيه ولا يهلكنا، وقال بعضهم لبعض: تعالوا نتقارع لنعرف من أصابنا هذا الشر بسببه فتقارعوا فوقعت القرعة على يونس فقالوا له: أخبرنا ماذا عملت ومن أين أتيت وإلى أين تمضي ومن أي كورة أنت ومن أي شعب أنت؟ فقال لهم: أنا عبد الرب إله السماء خالق البر والبحر وأخبرهم خبره فخافوا خوفا عظيما. وقالوا له: لم صنعت ما صنعت يلومونه على ذلك ثم قالوا له: ما نصنع الآن بك ليسكن البحر عنا؟ فقال: ألقوني في البحر يسكن فإنه من أجلي صار هذا الموج العظيم فجهد الرجال أن يردوها إلى البر فلم يستطيعوا فأخذوا يونس وألقوه في البحر لنجاة جميع من في السفينة فسكن البحر وأمر الله تعالى حوتا عظيما فابتلعه فبقي في بطنه ثلاثة أيام وثلاث ليال وصلى في بطنه إلى ربه واستغاث به، فأمر سبحانه الحوت فألقاه إلى اليبس ثم قال عز وجل له: قم وامض إلى نينوى وناد في أهلها كما أمرتك من قبل فمضى عليه السلام ونادى وقال: تخسف نينوى بعد ثلاثة أيام فآمنت رجال نينوى بالله تعالى ونادوا بالصيام ولبسوا المسوح جميعا ووصل الخبر إلى الملك فقام عن كرسيه ونزع حلته ولبس مسحا وجلس على الرماد ونودي أن لا يذق أحد من الناس والبهائم طعاما ولا شرابا وجأروا إلى الله تعالى ورجعوا عن الشر والظلم فرحمهم الله تعالى فلم ينزل بهم العذاب فحزن يونس وقال: إلهي من هذا هربت فإني علمت أنك الرحيم الرؤوف الصبور التواب يا رب خذ نفسي فالموت خير لي من الحياة فقال: يا يونس حزنت من هذا جدا؟ فقال: نعم يا رب وخرج يونس وجلس مقابل المدينة وصنع له هناك مظلة وجلس تحتها إلى أن يرى ما يكون في المدينة فأمر الله تعالى يقطينا فصعد على رأسه ليكون ظلاله من كربه ففرح باليقطين فرحا عظيما وأمر الله تعالى دودة فضربت اليقطين فجف ثم هبت ريح سموم وأشرقت الشمس على رأس يونس عليه السلام فعظم الأمر عليه واستطيب الموت فقال له الرب: يا يونس أحزنت جدا على اليقطين؟ فقال: نعم يا رب حزنت جدا فقال سبحانه: حزنت عليه وأنت لم تتعب فيه ولم تربه بل صار من ليلته وهلك من ليلته فأنا لا أشفق على نينوى المدينة العظيمة التي فيها سكان أكثر من اثني عشر ربوة من الناس قوم لا يعلمون يمينهم ولا شمالهم وبهائمهم كثيرة انتهى، وفيه من المخالفة للحق ما فيه ولتطلع على حاله نقلته لك وكم لأهل الكتاب من باطل: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلم في صدر السورة الكريمة بتبكيت قريش وإبطال مذهبهم في إنكار البعث بطريق الاستفتاء وساق البراهين الناطقة بتحققه لا محالة وبين وقوعه وما يلقونه عند ذلك من فنون العذاب واستثنى منهم عباده المخلصين وفصل سبحانه ما لهم من النعيم المقيم، ثم ذكر سبحانه أنه قد ضل من قبلهم أكثر الأولين وأنه تعالى أرسل إليهم منذرين على وجه الإجمال، ثم أورد قصص بعض الأنبياء عليهم السلام بنوع تفصيل متضمنا كل منها ما يدل على فضلهم وعبوديتهم له عز وجل، ثم أمره صلّى الله عليه وسلم هاهنا بتبكيتهم بطريق الاستفتاء عن وجه ما تنكره العقول بالكلية وهي القسمة الباطلة اللازمة لما كانوا عليه من الاعتقاد الزائغ حيث كانوا يقولون كبعض أجناس العرب جهينة وسليم وخزاعة وبني مليح: الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا، ثم بتبكيتهم بما يتضمنه كفرهم المذكور من الاستهانة بالملائكة عليهم السلام بجعلهم إناثا، ثم أبطل سبحانه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 142 أصل كفرهم المنطوي على هذين الكفرين وهو نسبة الولد إليه سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، ولم ينظمه سبحانه في سلك التبكيت لمشاركتهم اليهود القائلين عزير ابن الله والنصارى المعتقدين عيسى ابن الله تعالى الله عن ذلك، والفاء قيل لترتيب الأمر على ما يعلم مما سبق من كون أولئك الرسل أعلام الخلق عليهم السلام عباده تعالى فإن ذلك مما يؤكد التبكيت ويظهر بطلان مذهبهم الفاسد فكأنه قيل: إذا كان رسل ربك من علمت حالهم فاستخبر هؤلاء الكفرة عن وجه كون البنات وهن أوضع الجنسين له تعالى بزعمهم والبنين الذين هم أرفعهما لهم فإنهم لا يستطيعون أن يثبتوا له وجها لأنه في غاية البطلان لا يقوله من له أدنى شيء من العقل، وقال بعض الأجلة: الكلام متصل بقوله تعالى في أول السورة فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً [الصافات: 11] على أن الفاء هنا للعطف على ذاك، والتعقيب لأنه أمر بهما من غير تراخ، وهي هناك جزائية في جواب شرط مقدر، وبهذا القول أقول. وأورد عليه أبو حيان أن فيه الفصل الطويل وقد استقبح النحاة الفصل بجملة نحو أكلت لحما وأضرب زيدا وخبزا فما ظنك بالفصل بجمل بل بما يقرب من سورة. وأجيب بأن ما ذكر في عطف المفردات وأما الجمل فلاستقلالها يغتفر فيها ذلك، والكلام هنا لما تعانقت معانيه وارتبطت مبانيه وأخذ بعضها بحجز بعض حتى كأن الجميع كلمة واحدة لم يعد البعد بعدا كما قيل: وليس يضير البعد بين جسومنا ... إذا كان ما بين القلوب قريبا ووجه ترتب المعطوف على ما قبل كوجه ترتب المعطوف عليه فإن كونه تعالى رب السماوات والأرض وتلك الخلائق العظيمة كما دل على وحدته تعالى وقدرته عز وجل دال على تنزهه سبحانه عن الولد، ألا ترى إلى قوله جل شأنه بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ [الأنعام: 101] والمناسبة بين الرد على منكري البعث والرد على مثبتي الولد ظاهرة، وقد اتحد في الجملتين السائل والمسئول والأمر وجوز بعضهم كون ضمير (استفتهم) للمذكورين من الرسل عليهم السلام والبواقي لقريش، والمراد الاستفتاء ممن يعلم أخبارهم ممن يوثق بهم ومن كتبهم وصحفهم أي ما منهم أحد ألا وينزه الله تعالى عن أمثال ذلك حتى يونس عليه السلام في بطن الحوت، ولعمري إن الرجل قد بلغ الغاية من التكلف من غير احتياج إليه، ولعله لو استغنى عن ارتكاب التجوز بالتزام كون الاستفتاء من المرسلين المذكورين حيث يجتمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم معهم اجتماعا روحانيا كما يدعيه لنفسه الشيخ محيي الدين قدس سره مع غير واحد من الأنبياء عليهم السلام ويدعي أن الأمر بالسؤال المستدعي للاجتماع أيضا في قوله تعالى وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف: 45] على هذا النمط لكان الأمر أهون وإن كان ذلك منزعا صوفيا. وأضيف الرب إلى ضميره عليه الصلاة والسلام دون ضميرهم تشريفا لنبيه صلّى الله عليه وسلم وإشارة إلى أنهم في قولهم بالبنات له عز وجل كالنافين لربوبيته سبحانه لهم، وقوله سبحانه: أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً إضراب وانتقال من التبكيت بالاستفتاء السابق إلى التبكيت بهذا أي بل أخلقنا الملائكة الذين هم من أشرف الخلائق وأقواهم وأعظمهم تقدسا عن النقائص الطبيعية إناثا والأنوثة من أخس صفات الحيوان. وقوله تعالى: وَهُمْ شاهِدُونَ استهزاء بهم وتجهيل لهم كقوله تعالى: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ [الزخرف: 19] فإن أمثال هذه الأمور لا تعلم إلا بالمشاهدة إذ لا سبيل إلى معرفتها بطريق العقل وانتفاء النقل مما لا ريب فيه فلا بد أن يكون القائل بأنوثتهم شاهدا عند خلقهم، والجملة أما حال من فاعل خَلَقْنَا أي بل أخلقناهم إناثا والحال أنهم حاضرون حينئذ أو عطف على خَلَقْنَا أي بل أهم شاهدون. وقول تعالى أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ استئناف من جهته تعالى غير داخل تحت الاستفتاء الجزء: 12 ¦ الصفحة: 143 مسوق لإبطال أصل مذهبهم الفاسد ببيان أن مبناه ليس إلا الإفك الصريح والافتراء القبيح من غير أن يكون لهم دليل أو شبهة وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فيما يتدينون به مطلقا أو في هذا القول، وفيه تأكيد لقوله تعالى: مِنْ إِفْكِهِمْ وقرىء «ولد الله» بالإضافة ورفع ولد على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ليقولون الملائكة ولد الله والولد فعل بمعنى مفعول يقع على المذكر والمؤنث والواحد والجمع ولذا وقع هنا خبرا عن الملائكة المقدر أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ بهمزة مفتوحة هي حرف استفهام حذفت بعدها همزة الوصل والاستفهام للإنكار والمراد اثبات إفكهم وتقرير كذبهم، والاصطفاء أخذ صفوة الشيء لنفسه. وقرأ نافع في رواية إسماعيل وابن جماز وجماعة وإسماعيل عن أبي جعفر وشيبة «اصطفى» بكسر الهمزة وهي همزة الوصل وتكسر إذا ابتدئ بها وخرجت على حذف أداة الاستفهام لدلالة أم بعد وإن كانت منقطعة غير معادلة لها لكثرة استعمالها معها، وجوز إبقاء الكلام على الأخبار إما على إضمار القول أي لكاذبون في قولهم اصطفى إلخ أو يقولون اصطفى إلخ على ما قيل: أو على الإبدال من قولهم ولد الله أو الملائكة ولد الله وليس دخيلا بين نسيبين، والأولى التخريج على حذف الأداة وحسم البحث فتأمل. ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ بهذا الحكم الذي نقضي ببطلانه بداهة العقول والالتفات لزيادة التوبيخ أَفَلا تَذَكَّرُونَ بحذف أحد التاءين من تتذكرون. وقرأ طلحة بن مصرف تذكرون بسكون الذال وضم الكاف من ذكر. والفاء للعطف على مقدر أي تلاحظون ذلك فلا تتذكرون بطلانه فإنه مركوز في عقل كل ذكي وغبي أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ إضراب وانتقال من توبيخهم وتبكيتهم بما ذكر بتكليفهم ما لا يدخل تحت الوجود أصلا أي بل ألكم حجة واضحة نزلت من السماء بأن الملائكة بناته تعالى ضرورة أن الحكم بذلك لا بد له من سند حسي أو عقلي وحيث انتفى كلاهما فلا بد من سند نقلي فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ الناطق بصحة دعواكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فيها، والأمر للتعجيز، وإضافة الكتاب إليهم للتهكم، وفي الآيات من الأنباء عن السخط العظيم والإنكار الفظيع لأقاويلهم والاستبعاد الشديد لأباطيلهم وتسفيه أحلامهم وتركيك عقولهم وأفهامهم مع استهزاء بهم وتعجيب من جهلهم ما لا يخفى على من تأمل فيها، وقوله تعالى وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً التفات إلى الغيبة للإيذان بانقطاعهم عن الجواب وسقوطهم عن درجة الخطاب واقتضاء حالهم أن يعرض عنهم وتحكى لآخرين جناياتهم، واستظهر أن المراد بالجنة الشياطين وأريد بالنسب المجعول المصاهرة. أخرج آدم بن أبي أياس وعبد بن حميد وابن جرير وغيرهم عن مجاهد قال: قال كفار قريش الملائكة بنات الله تعالى فقال لهم أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أي على سبيل التبكيت: فمن أمهاتهم؟ فقالوا: بنات سروات الجن وروي هذا ابن أبي حاتم عن عطية، أو أريد جعلوا بينه سبحانه وبينهم مناسبة حيث أشركوهم به تعالى في استحقاق العبادة وروي هذا عن الحسن، وقيل إن قوما من الزنادقة يقولون الله عز وجل وإبليس عليه اللعنة أخوان فالله تعالى هو الخير الكريم وإبليس هو الشرير اللئيم وهو المراد بقوله سبحانه: وَجَعَلُوا إلخ وحكى هذا الطبرسي عن الكلبي، وقال الإمام الرازي: وهذا القول عندي أقرب الأقاويل وهو مذهب المجوس القائلين بيزدان وأهرمن ويعبرون عنهما بالنور والظلمة، ويبعد هذا القول عندي أن الظاهر أن ضمير جَعَلُوا كالضمائر السابقة لقريش ولم يشتهر ذلك عنهم بل ولا عن قبيلة من قبائل العرب وليس المقام للرد على الكفرة مطلقا. وأخرج غير واحد عن مجاهد وعبد بن حميد عن عكرمة وابن أبي شيبة عن أبي صالح أن المراد بالجنة الملائكة، وحكاه في مجمع البيان عن قتادة واختاره الجبائي، والمراد بالجعل المذكور ما تضمنه قولهم: الملائكة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 144 بنات الله، وأعيد تمهيدا لما يعقبه، وهو مبني على أن الجن والملك جنس واحد مخلوقون من عنصر واحد وهو النار لكن من كان من كثيفها الدخاني فهو شيطان وهو شرذ وتمرد ومن كان من صافي نورها فهو ملك وهو خير كله، ووجه التسمية بالجن الاستتار عن عيوننا فالجن والجنة بمعنى مفعول من جنه إذا ستره، ويكون على هذا تخصيص الجن بأحد نوعيه تخصيصا طارئا كتخصيص الدابة، وعلى الأصل جاء ما هنا، ونقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن نوعا من الملائكة عليهم السلام يسمى الجن ومنهم إبليس وعبر عن الملائكة بالجنة حطالهم مع عظم شأنهم في أنفسهم أن يبلغوا منزلة المناسبة التي أضافوها إليهم في قولهم ذلك، وقد يقال: إن الاستتار كالداعي لهم إلى ذلك الزعم الباطل بناء على توهمهم بأنه إنما يليق بالإناث فقالوا: لو لم يكونوا بناته سبحانه وتعالى لما سترهم عن العيون فلذا عبر عنهم بالجنة وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أي والله لقد علمت الشياطين أي جنسهم أن الله تعالى يحضرهم ولا بد النار ويعذبهم بها ولو كانوا مناسبين له تعالى أو شركاء في استحقاق العبادة أو التصرف لما عذبهم سبحانه فضمير إِنَّهُمْ للجنة على ما عدا الوجه الأخير من الأوجه السابقة وأما عليه فهو للكفرة أي والله لقد علمت الملائكة الذين جعلوا بينه تعالى وبينهم نسبا وقالوا هم بناته أن الكفرة لمحضرون النار معذبون بها لكذبهم وافترائهم في قولهم ذلك، والمراد به المبالغة في التكذيب ببيان أن الذين يدعى لهم هؤلاء تلك النسبة ويعلمون أنهم علم منهم بحقيقة الحال يكذبونهم في ذلك ويحكمون بأنهم معذبون لأجله حكما مؤكدا، ويجوز على الأوجه الأول عود الضمير على الكفرة أيضا والمعنى على نحو ما ذكر، وعلم الملائكة أن الكفرة معذبون ظاهر، وعلم الشياطين بأنهم أنفسهم وكذا سائر الكفرة معذبون لما أن الله عز وجل توعد إبليس عليه اللعنة بما يدل على ذلك. وقوله سبحانه سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ على جميع الأوجه السابقة تنزيه من جهته تعالى لنفسه عن الوصف الذي لا يليق به، وقوله تعالى: إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ استثناء منقطع من المحضرين وما بينهما اعتراض أي ولكن المخلصون ناجون، وجوز كونه استثناء متصلا منه ويفسر ضمير إِنَّهُمْ بما يعم وهو خلاف الظاهر. وجوز كونه استثناء منقطعا من ضمير يَصِفُونَ وكونه استثناء متصلا منه وهو خلاف الظاهر أيضا. وجوز كونه استثناء من ضمير جَعَلُوا على الانقطاع لا غير وما في البين اعتراض، واختار الواحدي الوجه الأول. قال الطيبي: ويحسن كل الحسن إذا فسر الجنة بالشياطين أي وضمير إِنَّهُمْ بالكفرة ليرجع معناه إلى قوله تعالى حكاية عن اللعين لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر: 39، 40، ص: 82، 83] أي إنهم لمحضرون النار ومعذبون حيث أطاعونا في اغوائنا إياهم لكن الذين أخلصوا الطاعة لله تعالى وطهروا قلوبهم من أرجاس الشرك وأنجاس الكفر والرذائل ما عمل فيهم كيدنا فلا يحضرون ويكون ذلك مدحا للمخلصين وتعريضا بالمشركين وإرغاما لأنوفهم ومزيدا لغيظهم أي إنهم بخلاف ما هم عليه من سفه الأحلام وجهل النفوس وركاكة العقول اه. وفي بيان المعنى نوع قصور، وقوله تعالى: فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ عود إلى خطابهم، والفاء في جواب شرط مقدر أي إذا علمتم هذا أو إذا كان المخلصون ناجين فَإِنَّكُمْ إلخ، والواو للعطف وَما تَعْبُدُونَ معطوف على الضمير في فَإِنَّكُمْ وضمير عَلَيْهِ لله عز وجل والجار متعلق بفاتنين وعدي بعلى لتضمنه معنى الاستيلاء وهو استعارة من قولهم فتن غلامه أو امرأته عليه إذا أفسده والباء زائدة وهو خبر ما، والجملة خبر إن والاستثناء مفرغ من مفعول فاتنين المقدر وأَنْتُمْ خطاب للكفرة ومعبوديهم على سبيل التغليب نحو أنت وزيد تخرجان أي ما أنتم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 145 ومعبود وكم مفسدين أحدا على الله عز وجل بإغوائكم إلا من سبق في علم الله تعالى أنه من أهل النار يصلاها ويدخلها لا محالة. وجوز كون الواو هنا مثلها في قولهم كل رجل وضيعته فجملة ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ إلخ مستقلة ليست خبرا لأن وضمير عَلَيْهِ لما بتقدير مضاف وهو متعلق بفاتنين أيضا بتضمينه معنى البعث أو الحمل ولا تغليب في الخطاب كأنه قيل: إنك وآلهتكم قرناء لا تبرحون تعبدونها ثم قيل ما أنتم على عبادة ما تعبدون بباعثين أو حاملين على طريق الفتنة والإضلال أحدا إلا من سبق في علمه تعالى أنه من أهل النار، وظاهر صنيع بعضهم أن أمر التغليب في أَنْتُمْ على هذا على حاله، وأنت تعلم أن الظاهر الاتصال، وجوز أن يراد معنى المعية وخبر إن جملة ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ إلخ ويكون الكلام على أسلوب قول الوليد بن عقبة بن أبي معيط عامله الله تعالى بما هو أهله يحض معاوية على حرب الأمير علي كرم الله تعالى وجهه: فإنك والكتاب إلى على ... كدابغة وقد حلم الأديم قال في الكشف: ومعنى الآية أي عليه أنكم يا كفرة مع معبوديكم لا يتسهل لكم إلا أن تفتنوا من هو ضال مثلكم، وهو بيان لخلاصة المعنى، واستظهر أبو حيان العطف وكون الضمير للعبادة وتضمين فاتنين معنى الحمل وتغليب المخاطب على الغائب في أَنْتُمْ وكون الجملة المنفية خبر إن. وحكي عن بعضهم القول بأن على بمعنى الباء والضمير المجرور به لما تعبدون فتأمل. وقرأ الحسن وابن أبي عبلة «صالوا الجحيم» بالواو على ما فيه كتاب الكامل للهذلي، وفي كتاب ابن خالويه عنهما «صال» بالضم ولا واو. وفي اللوامح والكشاف عن الحسن «صالوا الجحيم» بضم اللام فعلى إثبات الواو هو جمع سلامة سقطت النون للإضافة. وفي الكلام مراعاة لفظ من أولا ومعناها ثانيا كما هو قوله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة: 8] وعلى عدم إثباتها فيه ثلاثة أوجه، الأول أن يكون جمعا حذفت النون منه للإضافة ثم واو الجمع لالتقاء الساكنين وأتبع الخط اللفظ. الثاني أن يكون مفردا حذفت لامه وهي الياء تخفيفا جعلت كالمنسى وجرى الإعراب على عينه كما جرى على عين يد ودم وعلى ذلك قوله تعالى: وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ [الرحمن: 54] وقوله سبحانه وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ [الرحمن: 24] بضم نون دان وراء الجوار وقولهم ما باليت به بالة فإن أصل بالة بالية بوزن عافية حدفت لامه فأجري الإعراب على عينه ولما لحقته الهاء انتقل إليها، الثالث أن يكون مفردا أيضا ويكون أصله صائل على القلب المكاني بتقديم اللام على العين ثم حذفت اللام المقدمة وهي الياء فبقي صال بوزن فاع وصار معربا كباب ونظيره شاك الجاري إعرابه على الكاف في لغة، وقوله تعالى وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ حكاية لاعتراف الملائكة بالعبودية للرد على من يزعم فيهم خلافها فهو من كلامه تعالى لكنه حكي بلفظهم وأصله وما منهم إلا إلخ أي وما منا إلا له مقام معلوم في العبادة والانتهاء إلى أمر الله تعالى في تدبير العالم مقصور عليه لا يتجاوزه ولا يستطيع أن يزل عنه خضوعا لعظمته تعالى وخشوعا لهيبته سبحانه وتواضعا لجلاله جل شأنه كما روي «فمنهم راكع لا يقيم صلبه وساجد لا يرفع رأسه» وقد أخرج الترمذي وحسنه وابن ماجة وابن مردويه عن أبي ذر قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون إن السماء أطت وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك واضعا جبهته ساجدا لله» . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ومحمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة عن عائشة قالت قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما في السماء موضع قدم إلا عليه ملك ساجد أو قائم وذلك قول الملائكة وما منا إلا له مقام معلوم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 146 وإنا لنحن الصافون» وعن السدي إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ في القرب والمشاهدة، وجعل بعضهم ذلك من كلام الجنة بمعنى الملائكة متصلا بما قبله من كلامهم وهو من قوله تعالى سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إلى الْمُسَبِّحُونَ فقال بعد أن فسر الجنة بالملائكة: إن سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ حكاية لتنزيه الملائكة إياه تعالى عما وصفه المشركون به بعد تكذيبهم لهم في ذلك بتقدير قول معطوف على عَلِمَتِ وإِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ شهادة منهم ببراءة المخلصين من أن يصفوه تعالى بذلك متضمنة لتبرئتهم منه بحكم اندراجهم في زمرة المخلصين على أبلغ وجه وأكده على أنه استثناء منقطع من واو يَصِفُونَ كأنه قيل: ولقد علمت الملائكة أن المشركين لمعذبون لقولهم ذلك وقالوا سبحان الله عما يصفون لكن عباد الله الذين نحن من جملتهم برآء من ذلك الوصف، وفَإِنَّكُمْ إلخ تعليل وتحقيق لبراءة المخلصين عما ذكر ببيان عجزهم عن إغوائهم وإضلالهم، والالتفات إلى الخطاب لإظهار كمال الاعتناء بتحقيق مضمون الكلام وما تعبدون الشياطين الذين أغووهم وفيه إيذان بتبريهم عنهم وعن عبادتهم كقوله بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ [سبأ: 41] وقولهم وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ إلخ تبين لجلية أمرهم وتعيين لحيزهم في موقف العبودية بعد ما ذكر من تكذيب الكفرة فيما قالوا وتنزيه الله تعالى عن ذلك وتبرئة المخلصين عنه وإظهار لقصور شأنهم وجعل تفسير الجنة بالملائكة هو الوجه لاقتضاء ربط الآيات وتوجيهها بما ذكر إياه وفي التعليل شيء، نعم إن هذه الآية تقوي قول من يقول: المراد بالجنة فيما سبق الملائكة عليهم السلام تقوية ظاهرة جدا وإن الربط الذي ذكر في غاية الحسن، وقيل: هو من قول الرسول عليه الصلاة والسلام أي وما من المسلمين إلا له مقام معلوم على قدر أعماله يوم القيامة وهو متصل بقوله فَاسْتَفْتِهِمْ كأنه قيل فاستفتهم وقل وما منا إلخ على معنى بكتهم بذلك وانع عليهم كفرانهم وعدد ما أنت وأصحابك متصف به من أضدادها، وإن شئت لم تقدر قل بعد علمك بأن المعنى ينساق إليه وهو بعيد فافهم والله تعالى أعلم. ومِنَّا خبر مقدم والمبتدأ محذوف للاكتفاء بصفته وهي جملة له مقام أي ما مِنَّا أحد إلا له مقام معلوم. وحذف الموصوف بجملة أو شبهها إذا كان بعض ما قبله من مجرور بمن أو في مطرد وهذا اختيار الزمخشري. وقال أبو حيان مِنَّا صفة لمبتدأ محذوف والجملة المذكورة هي الخبر أي وما أحد كائن منا إلا له مقام معلوم. وتعقب ما مر بأنه لا ينعقد كلام من ما منا أحد، وقوله سبحانه إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ هو محط الفائدة فيكون هو الخبر وإن تخيل أن إلا بمعنى غير وهي صفة لا يصح لأنه لا يجوز حذف موصوفها وفارقت غير إذا كانت صفة في ذلك لتمكن غير في الوصف وقلة تمكن إلا فيه، وقال غيره: إن فيه أيضا التفريغ في الصفات وهم منعوا ذلك، ودفع بأنه ينعقد منه كلام مفيد مناسب للمقام إذ معناه ما منا أحد متصف بشيء من الصفات إلا بصفة أن يكون له مقام معلوم لا يتجاوزه والمقصود بالحصر المبالغة أو يقال إنه صفة بدل محذوف أي ما منا أحد إلا أحد له مقام معلوم كما قاله ابن مالك في نظيره، وفيه أن فيه اعترافا بأن المقصود بالإفادة تلك الجملة وهو يستلزم أولوية كونها خبرا وما ذكر من احتمال كونه صفة لبدل محذوف فليس بشيء لأن فيه حذف المبدل والمبدل منه ولا نظير له، وبالجملة ما ذكره أبو حيان أسلم من القيل والقال، نعم قيل يجوز أن يقال: القصد هنا ليس إفادة مضمون الخبر بل الرد على الكفرة ولذا جعل الظرف خبرا وقدم فالمعنى ليس منا أحد يتجاوز مقام العبودية لغيرها بخلافكم أنتم فقد صدر منكم ما أخرجكم عن رتبة الطاعة، وفيه نظر. وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ أنفسنا أو أقدامنا في الصلاة، وقال ناصر الدين: أي في أداء الطاعة ومنازل الخدمة، وقيل: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 147 الصافون حول العرش ننتظر الأمر الإلهي، وفي البحر داعين للمؤمنين، وقيل: صافون أجنحتنا في الهواء منتظرين ما يؤمر. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن الوليد بن عبد الله بن مغيث قال: كانوا لا يصفون في الصلاة حتى نزلت وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وأخرج مسلم عن حذيفة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فضلنا على الناس بثلاث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض مسجدا وجعلت لنا تربتها طهورا إذا لم نجد الماء» وأخرج هو أيضا وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن جابر بن سمرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم» وهذه الأخبار ونحوها ترجح التفسير الأول. وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ أي المنزهون الله تعالى عما لا يليق به سبحانه ويدخل فيه ما نسبه إليه تعالى الكفرة، وقيل: أي القائلون سبحان الله. وأخرج عبد بن حميد وغيره عن قتادة أنه قال: المسبحون أي المصلون ويقتضيه ما روي عن ابن عباس أن كل تسبيح في القرآن بمعنى الصلاة، والظاهر ما تقدم، ولعل الأول إشارة إلى مزيد أدبهم الظاهر مع ربهم عز وجل والثاني إشارة إلى كمال عرفانهم به سبحانه، وقال ناصر الدين: لعل الأول إشارة إلى درجاتهم في الطاعة وهذا في المعارف، وما في أن واللام وتوسيط الفصل من التأكيد والاختصاص لأنهم المواظبون على ذلك دائما من غير فترة وخواص البشر لا تخلو من الاشتغال بالمعاش، ولعل الكلام لا يخلو عن تعريض بالكفرة، والظاهر أن الآيات الثلاث أعني قوله تعالى وَما مِنَّا إلى هنا نزلت كما نزلت أخواتها. وعن هبة الله المفسر أنها نزلت لا في الأرض ولا في السماء وعد معها آيتين من آخر سورة البقرة وآية من الزخرف وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا [الزخرف: 45] الآية قال ابن العربي: ولعله أراد في الفضاء بين السماء والأرض. وقال الجلال السيوطي: لم أقف على مستند لما ذكره إلا آخر البقرة فيمكن أن يستدل له بما أخرجه مسلم عن ابن مسعود لما أسري برسول الله صلّى الله عليه وسلم انتهى إلى سدرة المنتهى الحديث وفيه فأعطى الصلوات الخمس وأعطى خواتيم سورة البقرة وغفر لمن لا يشرك من أمته بالله شيئا المقحمات انتهى فلا تغفل وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ إن هي المخففة واللام هي الفارقة والضمير لكفار قريش كانوا يقولون قبل مبعث النبي صلّى الله عليه وسلم لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ أي كتابا من جنس الكتب التي نزلت عليهم ومثلها في كونه من عند الله تعالى: لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ لأخلصنا العبادة له تعالى ولكنا أهدى منهم، والفاء في قوله تعالى: فَكَفَرُوا بِهِ فصيحة مثلها في قوله تعالى: اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [الشعراء: 63] أي فجاءهم ذكر وأي ذكر سيد الأذكار وكتاب مهيمن على سائر الكتب والأخبار فكفروا به فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أي عاقبة كفرهم وما يحل بهم من الانتقام، وقيل أريد بالذكر العلم أي لو أن عندنا علما من الذين تقدمونا وما فعل الله تعالى بهم بعد أن ماتوا هل أثابهم أم عذبهم لأخلصنا العبادة له تعالى فجاءهم ذلك في القرآن العظيم فكفروا به، ولا يخفى بعده. وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ استئناف مقرر للوعيد وتصديره بالقسم لغاية الاعتناء بتحقيق مضمونه أي وبالله لقد سبق وعدنا لهم بالنصرة والغلبة وهو قوله تعالى: إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ فيكون تفسيرا أو بدلا من كَلِمَتُنا وجوز أن يكون مستأنفا والوعد ما في محل آخر من قوله تعالى لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة: 21] والأول أظهر، والمراد بالجند اتباع المرسلين وأضافهم إليه تعالى تشريفا لهم وتنويها بهم، وقال بعض الأجلة: هو تعميم بعد تخصيص وفيه من التأكيد ما فيه، والمراد عند السدي بالنصرة والغلبة ما كان بالحجة، وقال الحسن: المراد النصرة والغلبة في الحرب فإنه لم يقتل نبي من الأنبياء في الحرب وإنما قتل من قتل منهم غيلة أو على وجه آخر في غير الحرب وإن مات نبي قبل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 148 النصرة أو قتل فقد أجرى الله تعالى أن ينصر قومه من بعده فيكون في نصرة قومه نصرة له، وقريب منه ما قيل إن القصرين باعتبار عاقبة الحال وملاحظة المآل، وقال ناصر الدين: هما باعتبار الغالب والمقضي بالذات لأن الخير هو مراده تعالى بالذات وغيره مقضي بالتبع لحكمة وغرض آخر أو للاستحقاق بما صدر من العباد، ولذا قيل بيده الخير ولم يذكر الشر مع أن الكل من عنده عز وجل، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إن لم ينصروا في الدنيا نصروا في الآخرة، وظاهر السياق يقتضي أن ذلك في الدنيا وأنه بطريق القهر والاستيلاء والنيل من الأعداء إما بقتلهم أو تشريدهم أو إجلائهم عن أوطانهم أو استئسارهم أو نحو ذلك، والجملتان دالتان على الثبات والاستمرار فلا بد من أن يقال: إن استمرار ذلك عرفي، وقيل: هو على ظاهره واستمرار الغلبة للجند مشروط بما تشعر به الإضافة فلا يغلب اتباع المرسلين في حرب إلا لإخلالهم بما تشعر به بميل ما إلى الدنيا أو ضعف التوكل عليه تعالى أو نحو ذلك، ويكفي في نصرة المرسلين إعلاء كلمتهم وتعجيز الخلق عن معارضتهم وحفظهم من القتل في الحروب ومن الفرار فيها ولو عظمت هنالك الكروب فافهم، ولا يخفى وجه التعبير بمنصورون مع المرسلين وبالغالبون مع الجند فلا تغفل، وسمى الله عز وجل وعده بذلك كلمة وهي كلمات لأنها لما اجتمعت وتضامت وارتبطت غاية الارتباط صارت في حكم شيء واحد فيكون ذلك من باب الاستعارة، والمشهور أن إطلاق الكلمة على الكلام مجاز مرسل من اطلاق الجزء على الكل، وقال بعض العلماء: إنه حقيقة لغوية واختصاص الكلمة بالمفرد اصطلاح لأهل العربية فعليه لا يحتاج إلى التأويل، وقرأ الضحاك «كلماتنا» بالجمع، ويجوز أن يراد عليها وعودنا فتفطن، وفي قراءة ابن مسعود «على عبادنا» على تضمين «سبقت» معنى حقت فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فأعرض عنهم واصبر حَتَّى حِينٍ إلى وقت انتهاء مدة الكف عن القتال، وعن السدي إلى يوم بدر ورجحه الطبري وقيل: إلى يوم الفتح وكان قبله مهادنة الحديبية، وأخرج ابن جرير وغيره عن قتادة أنه قال: إلى يوم موتهم وحكاه الطبرسي عن ابن عباس أيضا، وقال ابن زيد: إلى يوم القيامة، وهو والذي قبله ظاهر أن في عدم اختصاص النصرة بما كان في الدنيا وَأَبْصِرْهُمْ وهم حينئذ على أسوأ حال وأفظع نكال قد حل بهم ما حل من الأسر والقتل أو أبصر بلاءهم على أن الكلام على حذف مضاف، والأمر بمشاهدة ذلك وهو غير واقع للدلالة على أنه لشدة قربه كأنه حاضر قدامه وبين يديه مشاهد خصوصا إذا قيل إن الأمر للحال أو الفور. فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ما يكون لك من التأييد والنصر، وقيل: المعنى أبصر ما يكون عليهم يوم القيامة من العذاب فسوف يبصرون ما يكون لك من مزيد الثواب، وسوف للوعيد لا للتسويف والتبعيد الذي هو حقيقتها وقرب ما حل بهم مستلزم لقرب ما يكون له عليه الصلاة والسلام فهو قرينة على عدم ارادة التبعيد منه. أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ استفهام توبيخ أخرج جويبر عن ابن عباس قال قالوا يا محمد أرنا العذاب الذي تخوفنا به وعجلنه لنا فنزلت، وروي أنه لما نزل فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ قالوا متى هذا؟ فنزلت فَإِذا نَزَلَ أي العذاب الموعود بِساحَتِهِمْ (1) وهي العرصة الواسعة عند الدور والمكان الواسع مطلقا وتجمع على سوح قال الشاعر: فكان سيان أن لا يسرحوا نعما ... أو يسرحوه بها واغبرت السوح وفي الضمير استعارة مكنية شبه العذاب بجيش يهجم على قوم وهم في ديارهم بغتة فيحل بها والنزول تخييل. وقرأ ابن مسعود «نزل» بالتخفيف والبناء للمجهول وهو لازم فالجار والمجرور نائب الفاعل، وقرىء نزل بالتشديد والبناء للمجهول أيضا وهو متعد فنائب الفاعل ضمير العذاب فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ أي فبئس صباح   (1) قال الفراء: العرب تقول نزل بساحتهم، ويريدون نزل بهم، فلا تغفل اه منه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 149 المنذرين صباحهم على أن ساء بمعنى بئس وبها قرأ عبد الله والمخصوص بالذم محذوف واللام في المنذرين للجنس لا للعهد لاشتراطهم الشيوع فيما بعد فعلى الذم والمدح ليكون التفسير بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال ولو كان ساء بمعنى قبح على أصله جاز اعتبار العهد من غير تقدير، والصباح مستعار لوقت نزول العذاب أي وقت كان من صباح الجيش المبيت للعدو وهو السائر إليه ليلا ليهجم عليه وهو في غفلته صباحا، وكثيرا ما يسمون الغارة صباحا لما أنها في الأعم الأغلب تقع فيه، وهو مجاز مرسل أطلق فيه الزمان وأريد ما وقع فيه كما يقال أيام العرب لوقائعهم. وجوز حمل الصباح هنا على ذلك، وفي الكشاف مثل العذاب النازل بهم بعد ما أنذروه فأنكروه بجيش أنذر بهجومه قوما بعض نصّاحهم فلم يلتفتوا إلى إنذاره ولا أخذوا أهبتهم ولا دبروا أمرهم تدبيرا ينجيهم حتى أناخ بفنائهم بغتة فشن عليهم الغارة وقطع دابرهم، وكانت عادة مغاويرهم إصباحا فسميت الغارة صباحا وإن وقعت في وقت آخر وما فصحت هذه الآية ولا كانت لها الروعة التي يحس بها ويروقك موردها على نفسك وطبعك إلا لمجيئها على طريقة التمثيل انتهى، وظاهره أن الكلام على الاستعارة التمثيلية وفضلها على غيرها أشهر من أن يذكر وأجل من أن ينكر، وقيل: ضمير نزل للنبي صلّى الله عليه وسلم ويراد حينئذ نزوله يوم الفتح لا يوم بدر لأنه ليس بساحتهم الأعلى تأويل ولا بخيبر لقوله صلّى الله عليه وسلم حين صبحها الله أكبر خربت خيبر أنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين لأن تلاوته عليه الصلاة والسلام تمت لاستشهاده بها والكلام هنا مع المشركين، ولا يخفى بعد رجوع الضمير إليه عليه الصلاة والسلام. وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم إثر تسلية وتأكيد لوقوع الميعاد غب تأكيد مع ما في اطلاق الفعلين عن المفعول من الإيذان ظاهرا بأن ما يبصره عليه الصلاة والسلام حينئذ من فنون المسار وما يبصرونه من فنون المضار لا يحيط به الوصف والبيان، وجوز أن يراد بما تقدم عذاب الدنيا وبهذا عذاب الآخرة سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ تنزيه لله تعالى شأنه عن كل ما يصفه المشركون به مما لا يليق بجناب كبريائه وجبروته مما حكي عنهم في السورة الكريمة وما لم يحك من الأمور التي من جملتها ترك إنجاز الموعود على موجب كلمته تعالى السابقة لا سيما في حق الرسول صلى الله عليه وسلم كما ينبىء عنه التعرض لعنوان الربوبية المعربة عن التربية والتكميل والمالكية الكلية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام أولا وإلى العزة ثانيا كأنه قيل: سبحان من هو مربيك ومكملك ومالك العزة والغلبة على الإطلاق عما يصفه المشركون به من الأشياء التي منها ترك نصرتك عليهم كما يدل عليه استعجالهم بالعذاب، ومعنى ملكه تعالى العزة على الإطلاق أنه ما من عزة لأحد من الملوك وغيرهم إلا وهو عز وجل مالكها، وقال الزمخشري: أضيف الرب إلى العزة لاختصاصه تعالى بها كأنه قيل ذو العزة كما تقول صاحب صدق لاختصاصه بالصدق، ثم ذكر جواز إرادة المعنى الذي ذكرناه، والفرق أن الإضافة على ما ذكرنا على أنه سبحانه المعز وعلى الآخر على أنه عز وجل العزيز بنفسه. ولكل وجه من المبالغة خلا عنه الآخر، وقوله تعالى: وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ تشريف للرسل كلهم بعد تنزيهه تعالى عما ذكر وتنويه بشأنهم وإيذان بأنهم سالمون عن كل المكاره فائزون بكل المآرب، وقوله سبحانه: وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ إشارة إلى وصفه تعالى بصفاته الكريمة الثبوتية بعد التنبيه على اتصافه عز وجل بجميع صفاته السلبية وإيذان باستتباعها للأفعال الحميدة التي من جملتها إفاضته تعالى على المرسلين من فنون الكرامات السنية والكمالات الدينية والدنيوية وإسباغه جل وعلا عليهم وعلى من تبعهم من صنوف النعماء الظاهرة والباطنة الموجبة لحمده تعالى وإشعار بأن ما وعده عليه السلام من النصرة والغلبة قد تحقق، والمراد تنبيه المؤمنين على كيفية تسبيحه سبحانه وتحميده والتسليم على رسله عليهم السلام الذين هم وسائط بينه تعالى وبينهم في فيضان الكمالات مطلقا عليهم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 150 وهو ظاهر في عدم كراهة إفراد السلام عليهم، ولعل توسيط التسليم على المرسلين بين تسبيحه تعالى وتحميده لختم السورة الكريمة بحمده تعالى مع ما فيه من الاشعار بأن توفيقه تعالى للتسليم من جملة نعمه تعالى الموجبة للحمد كذا في إرشاد العقل السليم. وقد يقال: تقديم التنزيه لأهميته ذاتا ومقاما، ولما كان التنزيه عما يصف المشركون وقد ذكر عز وجل إرشاد الرسل إياهم وتحذيرهم لهم من أن يصفوه سبحانه بما لا يليق به تعالى وضمن ذلك الإشارة إلى سوء حالهم وفظاعة منقلبهم أردف جلّ وعلا ذلك بالإشارة إلى حسن حال المرسلين الداعين إلى تنزيهه تعالى عما يصفه به المشركون، وفيه من الاهتمام بأمر التنزيه ما فيه، وأتى عز وجل بالحمد للإشارة إلى أنه سبحانه متصف بالصفات الثبوتية كما أنه سبحانه متصف بالصفات السلبية وهذا وإن استدعى إيقاع الحمد بعد التسبيح بلا فصل كما في قولهم سبحان الله والحمد لله وهو المذكور في الأخبار والمشهور في الأذكار إلا أن الفصل بينهما هنا بالسلام على المرسلين مما اقتضاه مقام ذكرهم فيما مر وجدد الالتفات إليهم تقديم التنزيه عما يصفه به من يرسلون إليه، ولعل من يدقق النظر يرى أن السلام هنا أهم من الحمد نظرا للمقام وإن كان هو أهم منه ذاتا والأهمية بالنظر للمقام أولى بالاعتبار عندهم ولذا تراهم يقدمون المفضول على الفاضل إذا اقتضى المقام الاعتناء به، ولعله من تتمة جملة التسبيح وبهذا ينحل ما يقال من أن حمده تعالى أجل من السلام على الرسل عليهم السلام فكان ينبغي تقديمه عليه على ما هو المنهج المعروف في الكتب والخطب، ولا يحتاج إلى ما قيل: إن المراد بالحمد هنا الشكر على النعم وهي الباعثة عليه ومن أجلها إرسال الرسل الذي هو وسيلة لخيري الدارين فقدم عليه لأن الباعث على الشيء يتقدم عليه في الوجود وإن كان هو متقدما على الباعث في الرتبة فتدبر. وهذه الآية من الجوامع والكوامل ووقوعها في موقعها هذا ينادي بلسان ذلق أنه كلام من له الكبرياء ومنه العزة جل جلاله وعم نواله. وقد أخرج الخطيب عن أبي سعيد قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول بعد أن يسلم: سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. وأخرج الطبراني عن زيد بن أرقم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: من قال دبر كل صلاة «سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين ثلاث مرات فقد اكتال بالمكيال الأوفى من الأجر ، وأخرج ابن أبي حاتم عن الشعبي قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليقل آخر مجلسه حين يريد أن يقوم سبحان ربك رب العزة» إلى آخر السورة، وأخرجه البغوي من وجه آخر متصل عن علي كرم الله تعالى وجهه موقوفا ، وجاء في ختم المجلس بالتسبيح غير هذا ولعله أصح منه، فقد أخرج أبو داود عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم كلمات لا يتكلم بهن أحد في مجلسه عند قيامه ثلاث مرات إلا كفرّ بهن عنه ولا يقولهن في مجلس خير وذكر إلا ختم له بهن عليه كما يختم بخاتم على الصحيفة سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك» لكن المشهور اليوم بين الناس أنهم يقرؤون عند ختم مجلس القراءة أو الذكر أو نحوهما الآية المذكورة سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. ومن باب الاشارة في الآيات ما قالوا وَالصَّافَّاتِ صَفًّا هي الأرواح الكاملة المكملة من الصف الأول وهو صف الأنبياء عليهم السلام والصف الثاني وهو صف الأصفياء فَالزَّاجِراتِ زَجْراً عن الكفر والفسوق بالحجج والنصائح والهمم القدسية فَالتَّالِياتِ ذِكْراً آيات الله تعالى وشرائعه عز وجل، وقيل الصافات جماعة الملائكة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 151 المهيمين والزاجرات جماعة الملائكة الزاجرين للأجرام العلوية والأجسام السفلية بالتدبير والتاليات جماعة الملائكة التالية آيات الله تعالى وجلا يا قدسه على أنبيائه وأوليائه، وتنزل الملائكة على الأولياء مما قال به الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم وقد نطق بأصل التنزل عليهم قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ وقد يطلقون على بعض الأولياء أنبياء الأولياء. قال الشعراوي في رسالة الفتح في تأويل ما صدر عن الكمل من الشطح: أنبياء الأولياء هم كل ولي أقامه الحق تعالى في تجل من مظهر تجلياته وأقام له محمد صلّى الله عليه وسلم ومظهر جبريل عليه السلام فأسمعه ذلك المظهر الروحاني خطاب الأحكام المشروعة لمظهر محمد صلّى الله عليه وسلم حتى إذا فرغ من خطابه وفزع عن قلب هذا الولي عقل صاحب هذا المشهد جميع ما تضمنه ذلك الخطاب من الأحكام المشروعة الظاهرة في هذه الأمة المحمدية فيأخذها هذا الولي كما أخذها المظهر المحمدي فيرد إلى حسه وقد وعى ما خاطب الروح به مظهر محمد صلّى الله عليه وسلم وعلم صحته علم يقين بل عين يقين فمثل هذا يعمل بما شاء من الأحاديث لا التفات له إلى تصحيح غيره أو تضعيفه فقد يكون ما قال بعض المحدثين بأنه صحيح لم يقله النبي عليه الصلاة والسلام وقد يكون ما قالوا فيه إنه ضعيف سمعه هذا الولي من الروح الأمين يلقيه على حقيقة محمد صلّى الله عليه وسلم كما سمع بعض الصحابة حديث جبريل في بيان الإسلام والإيمان والإحسان فهؤلاء هم أنبياء الأولياء ولا ينفردون قط بشريعة ولا يكون لهم خطاب بها إلا بتعريف أن هذا هو شرع محمد عليه الصلاة والسلام أو يشاهدن المنزل على رسوله صلّى الله عليه وسلم في حضرة التمثل الخارج عن ذاتهم والداخل المعبر عنه بالمبشرات في حق النائم غير أن الولي يشترك مع النبي في إدراك ما تدركه العامة في النوم في حال اليقظة فهؤلاء في هذه الأمة كالأنبياء في بني إسرائيل على مرتبة تعبد هارون بشريعة موسى مع كونه نبيا وهم الذين يحفظون الشريعة الصحيحة التي لا شك فيها على أنفسهم وعلى هذه الأمة فهم أعلم الناس بالشرع غير أن غالب علماء الشريعة لا يسلمون لهم ذلك وهم لا يلزمهم إقامة الدليل على صدقهم لأنهم ليسوا مشرعين فهم حفاظ الحال النبوي والعلم اللدني والسر الإلهي وغيرهم حفاظ الأحكام الظاهرة، وقد بسطنا الكلام على ذلك في الميزان اه. وقال بعيد هذا في رسالته المذكورة: اعلم أن بعض العلماء أنكروا نزول الملك على قلب غير النبي صلّى الله عليه وسلم لعدم ذوقه له، والحق أنه ينزل ولكن بشريعة نبيه صلّى الله عليه وسلم فالخلاف إنما ينبغي أن يكون فيما ينزل به الملك لا في نزول الملك وإذا نزل على غير نبي لا يظهر له حال الكلام أبدا إنما يسمع كلامه ولا يرى شخصه أن يرى شخصه من غير كلام فلا يجمع بين الكلام والرؤية إلا نبي والسلام اه. وقد تقدم لك طرف من الكلام في رؤية الملك فتذكر. إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ أخبار بذلك ليعلموه ولا يتخذوا من دونه تعالى آلهة من الدنيا والهوى والشيطان، ومعنى كونه عز وجل واحدا تفرده في الذات والصفات والأفعال وعدم شركة أحد معه سبحانه في شيء من الأشياء، وطبقوا أكثر الآيات بعد على ما في الأنفس، وقيل في قوله تعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ فيه إشارة إلى أن للسالك في كل مقام وقفة تناسب ذلك المقام وهو مسؤول عن أداء حقوق ذلك المقام فإن خرج عن عهدة جوابه أذن له بالعبور وإلا بقي موقوفا رهينا بأحواله إلى أن يؤدي حقوقه، وكذا طبقوا ما جاء من قصص المرسلين بعد على ما في الأنفس، وقيل في قوله تعالى: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ يشير إلى أن الملك لا يتعدى مقامه إلى ما فوقه ولا يهبط عنه إلى ما دونه وهذا بخلاف نوع الإنسان فإن من أفراده من سار إلى مقام قاب قوسين بل طار إلى منزل أو أدنى وجر هناك مطارف فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى ومنها من هوى إلى أسفل سافلين وانحط إلى قعر سجين وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ وقد ذكروا أن الإنسان قد يترقى حتى يصل إلى مقام الملك فيعبره إلى مقام قرب النوافل ومقام قرب الجزء: 12 ¦ الصفحة: 152 الفرائض وقد يهبط إلى درك البهيمية فما دونها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ نسأل الله تعالى أن يرقينا إلى مقام يرضاه ويرزقنا رضاه يوم لقاه وأن يجعلنا من جنده الغالبين وعباده المخلصين بحرمة سيد المرسلين صلّى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين سلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 153 سورة ص مكية كما روي عن ابن عباس وغيره، وقيل مدنية وليس بصحيح كما قال الداني وهي ثمان وثمانون آية في الكوفي وست وثمانون في الحجازي والبصري والشامي وخمس وثمانون في عد أيوب بن المتوكل وحده، قيل ولم يقل أحد إن ص وحدها آية كما قيل في غيرها من الحروف في أوائل السور، وفيه بحث وهي كالمتممة لما قبلها من حيث إنه ذكر فيها ما لم يذكر في تلك من الأنبياء عليهم السلام كداود وسليمان، ولما ذكر سبحانه فيما قبل عن الكفار أنهم قالوا لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات: 169] وأنهم كفروا بالذكر لما جاءهم بدأ عز وجل في هذه السورة بالقرآن ذي الذكر وفصل ما أجمل هناك من كفرهم وفي ذلك من المناسبة ما فيه، ومن دقق النظر لاح له مناسبات أخر والله تعالى الموفق. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ص بالسكون على الوقف عند الجمهور، وقرأ أبي والحسن وابن أبي إسحاق وأبو السمال وابن أبي عبلة ونصر بن عاصم «صاد» بكسر الدال والظاهر أنه كسر لالتقاء الساكنين وهو حرف من حروف المعجم نحو ق ون. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 154 وأخرج ابن جرير عن الحسن أنه أمر من صادى أي عارض، ومنه الصدى وهو ما يعارض الصوت الأول ويقابله بمثله في الأماكن الخالية والأجسام الصلبة العالية، والمعنى عارض القرآن بعملك أي اعمل بأوامره ونواهيه، وقال عبد الوهاب: أي اعرضه على عملك فانظر أين عملك من القرآن، وقيل هو أمر من صادى أي حادث، والمعنى حادث القرآن، وهو رواية عن الحسن أيضا وله قرب من الأول. وقرأ عيسى ومحبوب عن أبي عمرو وفرقة «صاد» بفتح الدال، وكذا قرؤوا قاف ونون بالفتح فيهما فقيل هو لالتقاء الساكنين أيضا طلبا للخفة، وقيل هو حركة إعراب على أن «صاد» منصوب بفعل مضمر أي اذكر أو اقرأ صاد أو بفعل القسم بعد نزع الخافض لما فيه من معنى التعظيم المتعدي بنفسه نحو الله لأفعلن أو مجرور بإضمار حرف القسم، وهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث بناء على أنه علم السورة، وقد ذكر الشريف أنه إذا اشتهر مسمى بإطلاق لفظ عليه يلاحظ المسمى في ضمن ذلك اللفظ وأنه بهذا الاعتبار يصح اعتبار التأنيث في الاسم. وقرأ ابن أبي إسحاق في رواية «صاد» بالجر والتنوين، وذلك إما لأن الثلاثي الساكن الوسط يجوز صرفه بل قيل إنه الأرجح، وإما لاعتبار ذلك اسما للقرآن كما هو أحد الاحتمالات فيه فلم يتحقق فيه العلتان فوجب صرفه، والقول بأن ذاك لكونه علما لمعنى السورة لا للفظها فلا تأنيث فيه مع العلمية ليكون هناك علتان لا يخلو عن دغدغة. وقرأ ابن السميفع وهارون الأعور والحسن في رواية «صاد» بضم الدال، وكأنه اعتبر اسما للسورة وجعل خبر مبتدأ محذوف أي هذه صاد، ولهم في معناه غير متقيدين بقراءة الجمهور اختلاف كاضرابه من أوائل السور، فأخرج عبد بن حميد عن أبي صالح قال: سئل جابر بن عبد الله وابن عباس عن «ص» فقالا: ما ندري ما هو، وهو مذهب كثير في نظائره، وقال عكرمة: سئل نافع بن الأزرق عبد الله بن عباس عن «ص» فقال: ص كان بحرا بمكة وكان عليه عرش الرحمن إذ لا ليل ولا نهار. وقال ابن جبير: هو بحر يحيي الله تعالى به الموتى بين النفختين، والله تعالى أعلم بصحة هذين الخبرين. وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال ص صدق الله، وأخرج ابن مردويه عنه أنه قال ص يقول إني أنا الله الصادق، وقال محمد بن كعب القرظي: هو مفتاح أسماء الله تعالى صمد وصانع المصنوعات وصادق الوعد. وقيل هو إشارة إلى صدود الكفار عن القرآن. وقيل حرف مسرود على منهاج التحدي، وجنح إليه غير واحد من أرباب التحقيق، وقيل اسم للسورة وإليه ذهب الخليل وسيبويه والأكثرون، وقيل اسم للقرآن وقيل غير ذلك باعتبار بعض القراءات كما سمعت عن قريب، ومن الغريب أن المعنى صاد محمد صلّى الله عليه وسلم قلوب الخلق واستمالها حتى آمنوا به، ولعل القائل به اعتبره فعلا ماضيا مفتوح الآخر أو ساكنه للموقف، وأنا لا أقول به ولا أرتضيه وجها، وهو على بعض هذه الأوجه لا حظّ له من الإعراب، وعلى بعضها يجوز أن يكون مقسما به ومفعولا لمضمر وخبر مبتدأ محذوف، وعلى بعضها يتعين كونه مقسما به، وعلى بعض ما تقدم في القراءات يتأتى ما يتأتى مما لا يخفى عليك، وبالجملة إن لم يعتبر مقسما به فالواو في قوله سبحانه وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ للقسم وإن اعتبر مقسما به فهي للعطف عليه لكن إذا كان قسما منصوبا على الحذف والإيصال يكون العطف عليه باعتبار المعنى والأصل، ثم المغايرة بينهما قد تكون حقيقية كما إذا أريد بالقرآن كله وب ص السورة أو بالعكس أو أريد ب ص البحر الذي قيل به فيما مر وبالقرآن كله أو بالسورة، وقد تكون اعتبارية كما إذا أريد بكل السورة أو القرآن على ما قيل، ولا يخفى ما تقتضيه الجزالة الخالية عن التكلف. وضعف جعل الواو للقسم أيضا بناء على قول جمع أن توارد قسمين على مقسم عليه واحد ضعيف، والذكر كما أخرج ابن جرير عن ابن عباس الشرف ومنه قوله تعالى وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: 44] أو الذكرى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 155 والموعظة للناس على ما روي عن قتادة والضحاك، أو ذكر ما يحتاج إليه في أمر الدين من الشرائع والأحكام وغيرها من أقاصيص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأخبار الأمم الدارجة والوعد والوعيد على ما قيل، وجواب القسم قيل مذكور فقال الكوفيون والزجاج هو قوله تعالى إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [ص: 64] وتعقبه الفراء بقوله: لا نجده مستقيما لتأخر ذلك جدا عن القسم، وقال الأخفش: هو إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ [ص: 14] وقال قوم: كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ [الأنعام: 6، ص: 3] وحذفت اللام أي لكم لما طال الكلام كما حذفت من قَدْ أَفْلَحَ [الشمس: 9] بعد قوله تعالى: وَالشَّمْسِ [الشمس: 10] حكاه الفراء وثعلب، وتعقبه الطبرسي بأنه غلط لأن اللام لا تدخل على المفعول وكَمْ مفعول. وقال أبو حيان: إن هذه الأقوال يجب اطراحها، ونقل السمرقندي عن بعضهم أنه بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا إلخ فإن بَلِ لنفي ما قبله وإثبات ما بعده فمعناه ليس الذين كفروا إلا في عزة وشقاق. وجوز أن يريد هذا القائل أن بَلِ زائدة في الجواب أو ربط بها الجواب لتجريدها لمعنى الإثبات، وقيل هو صاد إذ معناه صدق الله تعالى أو صدق محمد صلّى الله عليه وسلم ونسب ذلك إلى الفراء وثعلب، وهو مبني على جواز تقدم جواب القسم واعتقاد أن ص تدل على ما ذكر، ومع هذا في كون ص نفسه هو الجواب خفاء، وقيل هو جملة هذه صاد على معنى السورة التي أعجزت العرب فكأنه: قيل هذه السورة التي أعجزت العرب والقرآن ذي الذكر وهذا كما تقول: هذا حاتم والله تريد هذا هو المشهور بالسخاء والله، وهو مبني على جواز التقدم أيضا، وقيل هو محذوف فقدره الحوفي لقد جاءكم الحق ونحوه، وابن عطية ما الأمر كما تزعمون ونحوه، وقدره بعض المحققين ما كفر من كفر لخلل وجده ودل عليه بقوله تعالى بَلِ الَّذِينَ إلخ، وآخر إنه لمعجز ودل عليه ما في ص من الدلالة على التحدي بناء على أنه اسم حرف من حروف المعجم ذكر على سبيل التحدي والتنبيه على الإعجاز أو ما في أقسم بص أو هذه ص من الدلالة على ذلك بناء على أنه اسم للسورة أو أنه لواجب العمل به دل عليه ص بناء على كونه أمرا من المصاداة، وقدره بعضهم غير ذلك، وفي البحر ينبغي أن يقدر هنا ما أثبت جوابا للقسم بالقرآن في قوله تعالى: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [يس: 1، 3] . ويقوي هذا التقدير ذكر النذارة هنا في قوله تعالى وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وهناك في قوله سبحانه: لِتُنْذِرَ قَوْماً [يس: 6] فالرسالة تتضمن النذارة والبشارة، وجعل بل في قوله تعالى: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ للانتقال من هذا القسم والمقسم عليه إلى ذكر حال تعزز الكفار ومشاقتهم في قبولهم رسالته صلّى الله عليه وسلم وامتثال ما جاء به وهي كذلك على كثير من الوجوه السابقة، وقد تجعل على بعضها للإضراب عن الجواب بأن يقال مثلا: إنه لمعجز بل الذين كفروا في استكبار من الإذعان لإعجازه أو هذه السورة التي أعجزت العرب بل الذين كفروا لا يذعنون، وجعلها بعضهم للإضراب عما يفهم مما ذكر ونحوه من أن من كفر لم يكفر لخلل فيه فكأنه قيل: من كفر لم يكفر لخلل فيه بل كفر تكبرا عن اتباع الحق وعنادا، وهو أظهر من جعل ذلك إضرابا عن صريحه، وإن قدر نحو هذا المفهوم جوابا فالإضراب عنه قطعا، وفي الكشف عد هذا الإضراب من قبيل الإضراب المعنوي على نحو زيد عفيف عالم بل قومه استخفوا به على الإضراب عما يلزم الأوصاف من التعظيم كما نقل عن بعضهم عدول عن الظاهر، ويمكن أن يكون الجواب الذي عنه الإضراب ما أنت بمقصر في تذكير الذين كفروا وإظهار الحق لهم، ويشعر به الآيات بعد وسبب النزول الآتي ذكره إن شاء الله تعالى فكأنه قيل ص والقرآن ذي الذكر ما أنت بمقصر في تذكير الذين كفروا وإظهار الحق لهم بل الذين كفروا مقصرون في اتباعك والاعتراف بالحق، ووجه دلالة ما في النظم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 156 الجليل على قولنا بل الذين كفروا مقصرون إلخ ظاهر، وهذه عدة احتمالات بين يديك وإليك أمر الاختيار والسلام عليك. والمراد بالعزة ما يظهرونه من الاستكبار عن الحق لا العزة الحقيقية فإنها لله تعالى ولرسوله صلّى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وأصل الشقاق المخالفة وكونك في شق غير شق صاحبك أو من شق العصا بينك وبينه، والمراد مخالفة الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم، والتنكير للدلالة على شدتهما، والتعبير بفي على استغراقهم فيهما. وقرأ حماد بن الزبرقان وسورة عن الكسائي وميمونة عن أبي جعفر والجحدري من طريق العقيلي في «غرة» بالغين المعجمة المكسورة والراء المهملة أي في غفلة عظيمة عما يجب عليهم من النظر فيه، ونقل عن ابن الأنباري أنه قال في كتاب الرد على من خالف الإمام: إنه قرأ بها رجل وقال: إنها أنسب بالشقاق وهو القتال بجد واجتهاد وهذه القراءة افتراء على الله تعالى اه وفيه ما فيه. كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ وعيد لهم على كفرهم واستكبارهم ببيان ما أصاب أضرابهم، وكَمْ مفعول أَهْلَكْنا ومِنْ قَرْنٍ تمييز، والمعنى قرنا كثيرا أهلكنا من القرون الخالية فَنادَوْا عند نزول بأسنا وحلول نقمتنا استغاثة لينجوا من ذلك، وقال الحسن وقتادة: رفعوا أصواتهم بالتوبة حين عاينوا العذاب لينجوا منه وَلاتَ حِينَ مَناصٍ حال من ضمير (نادوا) والعائد مقدر وإن لم يلزم أي مناصهم ولات هي لا المشبهة بليس عند سيبويه زيدت عليها تاء التأنيث لتأكيد معناها وهو النفي لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى أو لأن التاء تكون للمبالغة كما في علامة أو لتأكيد شبهها بليس بجعلها على ثلاثة أحرف ساكنة الوسط، وقال الرضي: إنها لتأنيث الكلمة فتكون لتأكيد التأنيث واختصت بلزوم الأحيان ولا يتعين لفظ الحين إلا عند بعض وهو محجوج بسماع دخولها على مرادفه، وقول المتنبي: لقد تصبرت حتى لات مصطبر ... والآن أقحم حتى لات مقتحم وإن لم يهمنا أمره مخرج على ذلك بجعل المصطبر والمقتحم اسمي زمان أو القول بأنها داخلة فيه على لفظ حين مقدر بعدها والتزموا حذف أحد الجزأين والغالب حذف المرفوع كما هنا على قراءة الجمهور أي ليس الحين حين مناص، ومذهب الأخفش أنها لا النافية للجنس العاملة عمل إن زيدت عليها التاء فحين مناص اسمها والخبر محذوف أي لهم، وقيل إنها لا النافية للفعل زيدت عليها التاء ولا عمل لها أصلا فإن وليها مرفوع فمبتدأ حذف خبره أو منصوب كما هنا فبعدها فعل مقدر عامل فيه أي ولا ترى حين مناص، وقرأ أبو السمال «ولات حين» بضم التاء ورفع النون فعلى ذهب سيبويه حِينَ اسم لاتَ والخبر محذوف أي ليس حين مناص حاصلا لهم، وعلى القول الأخير مبتدأ خبره محذوف وكذا على مذهب الأخفش فإن من مذهبه كما في البحر أنه إذا ارتفع ما بعدها فعلى الابتداء أي فلا حين مناص كائن لهم. وقرأ عيسى بن عمر «ولات حين» بكسر التاء مع النون كما في قول المنذر بن حرملة الطائي النصراني: طلبوا صلحنا ولات أوان ... فأجبنا أن لات حين بقاء وخرج ذلك إما على أن لات تجر الأحيان كما أن لولا تجر الضمائر كلولاك ولولاه عند سيبويه، وإما على إضمار من كأنه قيل: لات من حين مناص ولات من أوان صلح كما جروا بها مضمرة في قولهم على كم جدع بيتك أي من جذع في أصح القولين، وقولهم: ألا رجل جزاه الله خيرا. يريدون ألا من رجل، ويكون موضع من حين مناص رفعا على أنه اسم لات بمعنى ليس كما تقول ليس من رجل قائما، والخبر محذوف على قول سيبويه وعلى أنه مبتدأ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 157 والخبر محذوف على قول غيره، وخرج الأخفش ولات أو أن على إضمار حين أي ولات حين أوان صلح فحذفت حين وأبقى أوان على جره، وقيل: إن أوان في البيت مبني على الكسر وهو مشبه بإذ في قول أبي ذؤيب: نهيتك عن طلابك أم عمرو ... بعاقبة وأنت إذ صحيح ووجه التشبيه أنه زمان قطع عنه المضاف إليه لأن الوصل أوان صلح وعوض التنوين فكسر لالتقاء الساكنين لكونه مبنيا مثله فهما شبهان في أنهما مبنيان مع وجود تنوين في آخرهما للعوض يوجب تحريك الآخر بالكسر وإن كان سبب البناء في أوان دون إذ شبه الغايات حيث جعل زمانا قطع عنه المضاف إليه وهو مراد وليس تنوين العوض مانعا عن الإلحاق بها فإنها تبنى إذا لم يكن تنوين لأن علته الاحتياج إلى المحذوف كاحتياج الحرف إلى ما يتم به، وهذا المعنى قائم نوّن أو لم ينون فإن التنوين عوض لفظي لا معنوي فلا تنافي بين التعويض والبناء لكن اتفق أنهم لم يعوضوا التنوين إلا في حال إعرابها وكأن ذلك لئلا يتمحض للتعويض بل يكون فيها معنى التمكن أيضا فلا منافاة، وثبت البناء فيما نحن فيه بدليل الكسر وكانت العلة التي في الغايات قائمة فأحيل البناء عليها، واتفق أنهم عوضوا التنوين هاهنا تشبيها بإذ في أنها لما قطعت عن الاضافة نونت أو توفية لحق اللفظ لما فات حق المعنى، وخرجت القراءة على حمل مَناصٍ على أوان في البيت تنزيلا لما أضيف إليه الظرف وهو حِينَ منزلة الظرف لأن المضاف والمضاف إليه كشيء واحد فقدرت ظرفيته وهو قد كان مضافا إذا أصله مناصهم فقطع وصار كأنه ظرف مبني مقطوع عن الإضافة منون لقطعه ثم بني ما أضيف إليه وهو حِينَ على الكسر لإضافته إلى ما هو مبني فرضا وتقديرا وهو مَناصٍ المشابه لأوان. وأورد عليه أن ما ذكر من الحمل لم يؤثر في المحمول نفسه فكيف يؤثر فيما يضاف إليه على أن في تخريج الجر في البيت على ذلك ما فيه، والعجب كل العجب ممن يرتضيه، وضم التاء على قراءة أبي السمال وكسرها على قراءة عيسى للبناء، وروي عن عيسى «ولات حين» بالضم «مناص» بالفتح، قال صاحب اللوامح: فإن صح ذلك فلعله بنى «حين» على الضم تشبيها بالغايات وبني مَناصٍ على الفتح مع لاتَ وفي الكلام تقديم وتأخير أي ولات مناص حين لكن لا إنما تعمل في النكرات المتصلة بها دون المنفصلة عنها ولو بظرف، وقد يجوز أن يكون لذلك معنى لا أعرفه انتهى، وأهون من هذا فيما أرى كون حِينَ معربا مضافا إلى مَناصٍ والفتح لمجاورة واو العطف في قوله تعالى وَعَجِبُوا نظير فتح الراء من غير في قوله: لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت ... حمامة في غصون ذات إرقال على قول والأغلب على الظن عدم صحة هذه القراءة. وقرأ عيسى أيضا كقراءة الجمهور إلا أنه كسر تاء لاتَ وعلم من هذه القراءات أن في تائها ثلاث لغات، واختلفوا في أمر الوقف عليها فقال سيبويه، والفراء وابن كيسان والزجاج: يوقف عليها بالتاء، وقال الكسائي والمبرد بالهاء، وقال أبو علي: ينبغي أن لا يكون خلاف في أن الوقف بالتاء لأن قلب التاء هاء مخصوص بالأسماء وزعم قوم أن التاء ليست ملحقة بلا وإنما هي مزيدة في أول ما بعدها واختاره أبو عبيدة، وذكر أنه رأى في الإمام «ولا تحين مناص» برسم التاء مخلوطا بأول حين، ولا يرد عليه أن خط المصحف خارج عن القياس الخطي إذ لم يقع في الإمام في محل آخر مرسوما على خلاف ذلك حتى يقال ما هنا مخالف للقياس والأصل اعتباره إلا فيما خصه الدليل، ومن هنا قال السخاوي في شرح الرائية أنا أستحب الوقف على لا بعد ما شاهدته في مصحف عثمان رضي الله تعالى عنه، وقد سمعناهم يقولون: اذهب تلان وتحين بدون لا وهو كثير في النثر والنظم انتهى، ومنه قوله: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 158 العاطفون تحين لا من عاطف ... والمطعمون زمان ما من مطعم وكون أصله العاطفونه بها السكت فلما أثبتت في الدرج قلبت تاء مما لا يصغى إليه، نعم الأولى اعتبار التاء مع لا لشهرة حين دون تحين، وقال بعضهم: إن لات هي ليس بعينها وأصل ليس ليس بكسر الياء فابدلت ألفا لتحركها بعد فتحة وأبدلت السين تاء كما في ست فإن أصله سدس، وقيل: إنها فعل ماض ولات بمعنى نقص وقل فاستعملت في النفي كقل وليس بالمعول عليه، والمناص المنجأ والفوت يقال: ناصه ينوصه إذا فاته، وقال الفراء: النوص التأخر ناص عن قرنه ينوص نوصا ومناصا أي فر وزاغ، ويقال استناص طلب المناص قال حارثة بن بدر يصف فرسا له: غمر الجراء إذا قصرت عنانه ... بيدي استناص ورام جري المسحل وعلى المعنى الأول حمله بعضهم هنا وقال: المعنى نادوا واستغاثوا طلبا للنجاة والحال أن ليس الحين حين فوات ونجاة وعن مجاهد تفسيره بالفرار، وأخرج الطستي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله تعالى وَلاتَ حِينَ مَناصٍ فقال: ليس بحين فرار وأنشد له قول الأعشى: تذكرت ليلى لات حين تذكر ... وقد بنت عنها والمناص بعيد وعن الكلبي أنه قال: كانوا إذا قاتلوا فاضطروا قال بعضهم لبعض: مناص أي عليكم بالفرار فلما أتاهم العذاب قالوا: مناص فقال الله تعالى وَلاتَ حِينَ مَناصٍ قال القشيري: فعلى هذا يكون التقدير فنادوا مناص فحذف لدلالة ما بعده عليه أي ليس الوقت وقت ندائكم به، والظاهر أن الجملة على هذا التفسير حالية أي نادوا بالفرار وليس الوقت وقت فرار، وقال أبو حيان: في تقرير الحالية وهم لات حين مناص أي لهم، وقال الجرجاني: أي فنادوا حين لا مناص أي ساعة لا منجا ولا فوت فلما قدم لا وأخر حين اقتضى ذلك الواو كما يقتضي الحال إذا جعل مبتدأ وخبرا مثل جاء زيد راكبا ثم تقول جاء زيد وهو راكب فحين ظرف لقوله تعالى فَنادَوْا انتهى. وكون الأصل ما ذكر أن حِينَ ظرف لنادوا دعوى أعجمية مخالفة لذوق الكلام العربي لا سيما ما هو أفصح الكلام ولا أدري ما الذي دعاه لذلك وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ حكاية لأباطيلهم المتفرعة على ما كان من استكبارهم وشقاقهم أي عجبوا من أن جاءهم رسول من جنسهم أي بشر أو من نوعهم وهم معروفون بالأمية فيكون المعنى رسول أمي، والمراد أنهم عدوا ذلك أمرا عجيبا خارجا عن احتمال الوقوع وأنكروه أشد الإنكار لا أنهم اعتقدوا وقوعه وتعجبوا منه وَقالَ الْكافِرُونَ وضع فيه الظاهر موضع الضمير غضبا عليهم وذما لهم وإيذانا بأنه لا يتجاسر على مثل ما يقولون إلا المتوغلون في الكفر والفسوق هذا ساحِرٌ فيما يظهره مما لا نستطيع له مثلا كَذَّابٌ فيما يسنده إلى الله عز وجل من الإرسال والإنزال. أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً بأن نفي الألوهية عنها وقصرها على واحد فالجعل بمعنى التصيير وليس تصييرا في الخارج بل في القول والتسمية كما في قوله تعالى وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف: 19] وليس ذلك من باب إنكار وحدة الوجود في شيء ليقال إن الله سبحانه نعى على الكفرة ذلك الإنكار فتثبت الوحدة فإنه عليه الصلاة والسلام ما قال باتحاد آلهتهم معه عز وجل في الوجود إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ أي بليغ في العجب فإن فعالا بناء مبالغة كرجل طوال وسراع، ووجه تعجبهم أنه خلاف ما ألفوا عليه آباءهم الذين أجمعوا على تعدد الآلهة وواظبوا على عبادتها وقد كان مدارهم في كل ما يأتون ويذرون التقليد فيعدون خلاف ما اعتادوه عجيبا بل محالا، وقيل مدار تعجبهم زعمهم عدم وفاء علم الواحد وقدره بالأشياء الكثيرة وهو لا يتم إلا إن ادعوا لآلهتهم علما الجزء: 12 ¦ الصفحة: 159 وقدرة، والظاهر أنهم لم يدعوهما لها وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25، الزمر: 38] . وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والسلمي وعيسى وابن مقسم «عجّاب» بشد الجيم وهو أبلغ من المخفف، وقال مقاتل عُجابٌ لغة أزد شنوءة، أخرج أحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير وغيرهم عن ابن عباس قال: لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل فقالوا: إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل ويقول ويقول فلو بعثت إليه فنهيته فبعث إليه فجاء النبي صلّى الله عليه وسلم فدخل البيت وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس فخشي أبو جهل إن جلس إلى أبي طالب أن يكون أرق عليه فوثب فجلس في ذلك المجلس فلم يجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم مجلسا قرب عمه فجلس عند الباب فقال له أبو طالب: أي ابن أخي ما بال قومك يشكونك يزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول قال وأكثروا عليه من القول وتكلم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا عم إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها يدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها العجم الجزية ففرحوا لكلمته ولقوله فقال القوم: ما هي؟ وأبيك لنعطينكها وعشرا قال: لا إله إلا الله فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهم يقولون: أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب. وفي رواية أنهم قالوا: سلنا غير هذا فقال عليه الصلاة والسلام «لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها» فغضبوا وقاموا غضابا وقالوا والله لنشتمنك وإلهك الذي يأمرك بهذا. وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أي وانطلق الأشراف من قريش من مجلس أبي طالب بعد ما بكّتهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وشاهدوا تصلبه في الدين ويئسوا مما كانوا يرجونه منه عليه الصلاة والسلام بواسطة عمه وكان منهم أبو جهل والعاص ابن وائل والأسود بن المطلب بن عبد يغوث وعقبة بن أبي معيط. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مجلز قال: قال رجل يوم بدر ما هم إلا النساء فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: بل هم الملأ وتلا وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا الظاهر أنه أمر بالمشي بمعنى نقل الأقدام عن ذلك المجلس، وأَنِ مفسرة فقيل في الكلام محذوف وقع حالا من الملأ أي انطلق الملأ يتحاورون والتفسير لذلك المحذوف وهو متضمن معنى القول دون لفظه، وقيل لا حاجة إلى اعتبار الحذف فإن الانطلاق عن مجلس التقاول يستلزم عادة تفاوض المنطلقين وتحاورهم بما جرى فيه وتضمن المفسر لمعنى القول أعم من كونه بطريق الدلالة وغيرها كالمقارنة ومثل ذلك كاف فيه، وقيل الانطلاق هنا الاندفاع في القول فهو متضمن لمعنى القول بطريق الدلالة، وإطلاق الانطلاق على ذلك الظاهر أنه مجاز مشهور نزل منزلة الحقيقة، وجوز أن يكون التجوز في الإسناد وأصله انطلقت ألسنتهم والمعنى شرعوا في التكلم بهذا القول، وقال بعضهم: المراد بامشوا سيروا على طريقتكم وداوموا على سيرتكم، وقيل هو من مشت المرأة إذا كثرت ولادتها ومنه الماشية وسميت بذلك لأنها من شأنها كثرة الولادة أو تفاؤلا بذلك والمراد لازم معناه أي أكثروا واجتمعوا، وقيل هو دعاء بكثرة الماشية افتتحوا به كلامهم للتعظيم كما يقال اسلم أيها الأمير واختاروه من بين الأدعية لعظم شأن الماشية عندهم. وتعقب بأنه خطأ لأن فعله مزيد يقال أمشى إذا كثرت ماشيته فكان يلزم قطع همزته والقراءة بخلافه مع أن إرادة هذا المعنى هنا في غاية البعد، وأيا ما كان فالبعض قال للبعض ذلك، وقيل قال الأشراف لأتباعهم وعوامهم، وقرىء «امشوا» بغير أن على إضمار القول دون إضمارها أي قائلين امشوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ أي اثبتوا على عبادتها متحملين لما تسمعونه في حقها من القدح. وقرأ ابن مسعود «وانطلق الملأ منهم يمشون أن اصبروا» فجملة «يمشون» حالية أو مستأنفة والكلام في «أن صبروا» كما في «أن امشوا» سواء تعلق بانطلق أو بما يليه إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ تعليل للأمر بالصبر أو لوجوب الجزء: 12 ¦ الصفحة: 160 الامتثال به، والإشارة إلى ما وقع وشاهدوه من أمر النبي صلّى الله عليه وسلم وتصلبه في أمر التوحيد ونفي الوهية آلهتهم أي إن هذا لشيء عظيم يراد من جهته صلّى الله عليه وسلم امضاؤه وتنفيذه لا محالة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه لا قول يقال من طرف اللسان أوامر يرجى فيه المسامحة بشفاعة إنسان فاقطعوا أطماعكم عن استنزاله إلى إرادتكم واصبروا على عبادة آلهتكم، وقيل: إن هذا الأمر لشيء من نوائب الدهر يراد بنا فلا حيلة إلا تجرع مرارة الصبر، وقيل: إن هذا الذي يدعيه من أمر التوحيد أو يقصده من الرئاسة والترفع على العرب والعجم لشيء يتمنى أو يريده كل أحد ولكن لا يكون لكل ما يتمناه أو يريده فاصبروا، وقيل: إن هذا أي دينكم يطلب لينتزع منكم ويطرح أو يراد ابطاله، وقيل: الإشارة إلى الصبر المفهوم من اصْبِرُوا أي إن الصبر لشيء مطلوب لأنه محمود العاقبة. وقال القفال: هذه كلمة تذكر للتهديد والتخويف، والمعنى أنه ليس غرضه من هذا القول تقرير الدين وإنما غرضه أن يستولي علينا فيحكم في أموالنا وأولادنا بما يريد فتأمل. ما سَمِعْنا بِهذا الذي يقوله فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ قال ابن عباس ومجاهد ومحمد بن كعب ومقاتل أرادوا ملة النصارى، والتوصيف بالآخرة بحسب الاعتقاد لأنهم الذين لا يؤمنون بنبوة محمد صلّى الله عليه وسلم ومرادهم من قولهم ما سمعنا إلخ إنا سمعنا خلافه وهو عدم التوحيد فإن النصارى كانوا يثلثون ويزعمون أنه الدين الذي جاء به عيسى عليه السلام وحاشاه، وعن مجاهد أيضا وقتادة أرادوا ملة العرب ونحلتها التي أدركوا عليها آباءهم، وجوز أن يكون في الملة الآخرة حالا من اسم الإشارة لا متعلقا بسمعنا أي ما سمعنا بهذا الذي يدعونا إليه من التوحيد كائنا في الملة التي تكون آخر الزمان أرادوا أنهم لم يسمعوا من أهل الكتاب والكهان الذين كانوا يحدثونهم قبل بعثة النبي صلّى الله عليه وسلم بظهور نبي أن في دينه التوحيد ولقد كذبوا في ذلك فإن حديث إن النبي المبعوث آخر الزمان يكسر الأصنام ويدعو إلى توحيد الملك العلام كان أشهر الأمور قبل الظهور، وإن أرادوا على هذا المعنى إنا سمعنا خلاف ذلك فكذبهم أقبح إِنْ هذا أي ما هذا. إِلَّا اخْتِلاقٌ أي افتعال وافتراء من غير سبق مثل له أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ أي القرآن مِنْ بَيْنِنا ونحن رؤساء الناس وأشرافهم كقولهم لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 32] ومرادهم إنكار كونه ذكرا منزلا من عند الله تعالى كقولهم لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ [الأحقاف: 11] وأمثال هذه المقالات الباطلة دليل على أن مناط تكذيبهم ليس إلا الحسد وقصر النظر على الحطام الدنيوي بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي من القرآن الذي أنزلته على رسولي المشحون بالتوحيد لميلهم إلى التقليد وإعراضهم عن الأدلة المؤدية إلى العلم بحقيته وليس في عقيدتهم ما يقطعون به فلذا تراهم ينسبونه إلى السحر تارة وإلى الاختلاق أخرى قيل للاضراب عن جميع ما قبله، وبل في قوله تعالى بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ إضراب عن مجموع الكلامين السابقين حديث الحسد في قوله تعالى أَأُنْزِلَ إلخ وحديث الشك في قوله تعالى بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ أي لم يذوقوا عذابي بعد فإذا ذاقوه زال عنهم ما بهم من الحسد والشك حينئذ يعني أنهم لا يصدقون إلا أن يمسهم العذاب فيضطروا إلى التصديق أو إضراب عن الإضراب قبله أي لم يذوقوا عذابي بعد فإذا ذاقوه زال شكهم واضطروا إلى التصديق بذكرى، والأول على ما في الكشف هو الوجه السديد وينطبق عليه ما بعد من الآيات، وقيل المعنى لم يذوقوا عذابي الموعود في القرآن ولذلك شكوا فيه وهو كما ترى، وفي التعبير بلما دلالة على أن ذوقهم العذاب على شرف الوقوع، وقوله تعالى: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ في مقابلة قوله سبحانه أَأُنْزِلَ إلخ، ونظيره في رد نظيره الجزء: 12 ¦ الصفحة: 161 أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الزخرف: 32] وأم منقطعة مقدرة ببل والهمزة، والمراد بالعندية الملك والتصرف لا مجرد الحضور. وتقديم الظرف لأنه محل الإنكار أي بل أيملكون خزائن رحمته تعالى ويتصرفون فيها حسبما يشاؤون حتى أنهم يصيبون بها من شاؤوا ويصرفونها عمن شاؤوا ويتحكمون فيها بمقتضى رأيهم فيتخيروا للنبوة بعض صناديدهم. وإضافة الرب إلى ضميره صلّى الله عليه وسلم للتشريف واللطف به عليه الصلاة والسلام، والعزيز القاهر على خلقه، والوهاب الكثير المواهب المصيب بها مواقعها، وحديث العزة والقهر يناسب ما كانوا عليه من ترفعهم بالنبوة عنه صلّى الله عليه وسلم تجبرا. والمبالغة في الوهاب من طريق الكمية تناسب قوله تعالى خَزائِنُ وتدل على حرمان لهم عظيم، وفي ذلك إدماج أن النبوة ليست عطاء واحدا بالحقيقة بل يتضمن عطايا جمة تفوت الحصر وهي من طريق الكيفية المشار إليها بإصابة المواقع للدلالة على أن مستحق العطاء ومحله من وهب ذلك وهو النبي صلّى الله عليه وسلم وفي الوصف المذكور أيضا إشارة إلى أن النبوة موهبة ربانية، وقوله تعالى أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ترشيح لما سبق أي بل لهم ملك هذه الأجرام العلوية والأجسام السفلية حتى يتكلموا في الأمور الربانية ويتحكموا في التدابير الإلهية التي يستأثر بها رب العزة والكبرياء، وقوله تعالى: فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ جواب شرط محذوف أي إن كان لهم ما ذكر من الملك فليصعدوا في المعارج والمناهج الذي يتوصل بها إلى السماوات فليدبروها وليتصرفوا فيها فإنهم لا طريق لهم إلى تدبيرها والتصرف فيها إلا ذاك أو إن ادعوا ما ذكر من الملك فليصعدوا وليتصرفوا حتى يظن صدق دعواهم فإنه لا أمارة عندهم على صدقها فلا أقل من أن يجعلوا ذلك أمارة، وقال الزمخشري ومتابعوه: أي فليصعدوا في المعارج والطرق التي يتوصل بها إلى العرش حتى يستووا عليه ويدبروا أمر العالم وملكوت الله تعالى وينزلوا الوحي إلى من يختارون ويستصوبون، وهو مناسب للمقام بيد أن فيه دغدغة، وأيا ما كان ففي أمرهم بذلك تهكم بهم لا يخفى، والسبب في الأصل الوصلة من الحبل ونحوه. وعن مجاهد الأسباب هنا أبواب السماوات، وقيل السماوات أنفسها لأن الله تعالى جعلها أسبابا عادية للحوادث السفلية جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ أي هم جند إلخ، فجند خبر مبتدأ محذوف مقدر مقدما كما هو الظاهر وما مزيدة قيل للتقليل والتحقير نحو أكلت شيئا ما، وقيل للتعظيم والتكثير، واعترض بأنه لا يلائمه مَهْزُومٌ وأجيب بأن الوصف بالعظمة والكثرة على سبيل الاستهزاء فهي بحسب اللفظ عظمة وكثرة وفي نفس الأمر ذلة وقلة، ورجح بأن الأكثر في كلامهم كونها للتعظيم نحو لأمر ما جدع قصير أنفه- لأمر ما يسود من يسود. وقول امرئ القيس: وحديث الركب يوم هنا ... وحديث ما على قصره مع أن الكلام لتسليته صلّى الله عليه وسلم وتبشيره بانهزامهم وذلك أكمل على هذا التقدير قيل إن التبشير بخذلان عدد حقير ربما أشعر بإهانة وتحقير: ألم تر أن السيف ينقص قدره ... إذا قيل إن السيف أمضى من العصا وفيه نظر، وهُنالِكَ صفة جُنْدٌ أو ظرف مَهْزُومٌ وهو إشارة إلى المكان البعيد وأريد به على قول المكان الذي تفاوضوا فيه مع الرسول صلّى الله عليه وسلم بتلك الكلمات السابقة وهو مكة وجعل ذلك إخبارا بالغيب عن هزيمتهم يوم الفتح، وقيل يوم بدر وروي ذلك عن مجاهد وقتادة، وأنت خبير بأن هنالك إذا كان إشارة إلى مكة ومتعلقا بمهزوم لا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 162 يتسنى هذا إلا إذا أريد من مكة ما يشمل بدرا، ومَهْزُومٌ خبر بعد خبر، وأصل الهزم غمز الشيء اليابس حتى ينحطم كهزم الشن وهزم القثاء والبطيخ ومنه الهزيمة لأنه كما يعبر عنه بالحطم والكسر، والتعبير عما لم يقع باسم المفعول المؤذن بالوقوع على ما في بعض شروح الكشاف للإيذان بشدة قربه حتى كأنه محقق، ومِنَ الْأَحْزابِ صفة جُنْدٌ أي هم جند قليلون أذلاء أو كثيرون عظماء كائنون هنالك من الكفار المتحزبين على الرسل مكسورون عن قريب أو جند من الأحزاب مكسورون عن قريب في مكانهم الذي تكلموا فيه بما تكلموا فلا تبال بما يقولون ولا تكترث بما يهذون. وقال أبو البقاء جُنْدٌ مبتدأ وما زائدة وهنالك نعت وكذا من الأحزاب ومهزوم خبر، وتعقبه أبو حيان بأن فيه بعد التفلتة عن الكلام الذي قبله، واعتبر الزمخشري الحصر أي ما هم إلا جند من المتحزبين مهزوم عن قريب لا يتجاوزون الجندية المذكورة إلى الأمور الربانية، وهو حسن إلا أنه اختلف في منشأ ذلك فقيل: إنه كان حق الجند أن يعرف لكونه معلوما فنكر سوقا للمعلوم مساق المجهول كأنه لا يعرف منهم إلا هذا القدر وهو أنهم جند بهذه الصفة. وقال صاحب الكشف: إنه التفخيم المدلول عليه بالتنكير، وزيادة ما الدالة على الشيوع وغاية التعظيم لدلالتهما على اختصاص الوصف بالجندية من بين سائر الصفات كأنه لا وصف لهم غيرها، وفيه منع ظاهر، ويفهم كلام العلامة الثاني أنه اعتبار كون جُنْدٌ خبرا مقدما لمبتدأ محذوف لأن المقام يقتضي الحصر فتدبر ولا تغفل. وجعل الزمخشري هُنالِكَ الموضوع للإشارة إلى المكان البعيد مستعارا للمرتبة من العلو والشرف على أنه إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل ذلك القول العظيم كما في قولهم لمن انتدب لأمر ليس من أهله لست هنالك وفيه إيماء إلى علة الذم وجوز على هذا أن تكون ما نافية أي هم جند ليسوا حيث وضعوا أنفسهم. وتعقب بأنه مما لم يقله أحد من أهل العربية ولا يليق بالمقام وفيه بحث، وجوز أن تكون هُنالِكَ إشارة إلى الزمان البعيد وهي كما قال ابن مالك قد يشار بها إليه نحو قوله تعالى: هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ [يونس: 30] وتتعلق بمهزوم، والكلام اخبار بالغيب إما عن هزيمتهم يوم الفتح أو يوم بدر كما تقدم حكايته أو يوم الخندق ولا يخفى ما فيه، وقيل: إشارة إلى زمان الارتقاء في الأسباب أي هؤلاء القوم جند مهزوم إذا ارتقوا في الأسباب وليس بالمرضي، وقيل: ما اسم موصول مبتدأ وهنالك في موضع الصلة وجند خبر مقدم ومهزوم ومن الأحزاب صفتان وهما المقصودان بالإفادة وما هنالك إشارة إلى مكة، والمراد من الذين فيها المشركون والتعبير عنهم بما لأنهم كالأنعام بل هم أضل، وقيل الأصنام وعبدتها، وأمر التعبير بما عليه أظهر ويقال فيه نحو ما قاله أبو حيان في كلام أبي البقاء وزيادة لا تخفى. وقوله تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ إلى آخره استئناف مقرر لمضمون ما قبله ببيان أحوال العتاة الطغاة مما فعلوا من التكذيب وفعل بهم من العقاب، وذُو الْأَوْتادِ صفة فرعون لا لجميع ما قبله وإلا لقيل ذوو الأوتاد، والْأَوْتادِ جمع وتد وهو معروف، وكسر التاء فيه أشهر من فتحها ويقال وتد واتد كما يقال شغل شاغل قاله الأصمعي وأنشد: لاقت على الماء جذيلا واتدا ... ولم يكن يخلفها المواعدا وقالوا: ود بإبدال التاء دالا والإدغام ووت بإبدال الدال تاء، وفيه قلب الثاني للأول وهو قليل، وأصل إطلاق ذلك على البيت المطنب بأوتاده وهو لا يثبت بدونها كما قال الأعشى: والبيت لا يبتنى إلا على عمد ... ولا عماد إذا لم ترس أوتاد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 163 فقيل إنه شبه هنا فرعون في ثبات ملكه ورسوخ سلطنته ببيت ثابت أقيم عماده وثبتت أوتاده تشبيها مضمرا في النفس على طريق الاستعارة المكنية ووصف بذي الأوتاد على سبيل التخييل، فالمعنى كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون الثابت ملكه وسلطنته وقيل: شبه الملك الثابت من حيث الثبات والرسوخ بذي الأوتاد وهو البيت المطنب بأوتاده واستعير ذو الأوتاد له على سبيل الاستعارة التصريحية قيل وهو أظهر مما مر نهايته أنه وصف بذلك فرعون مبالغة لجعله عين ملكه، والمعنى على وصفه بثبات الملك ورسوخ السلطنة واستقامة الأمر. وقال ابن مسعود وابن عباس في رواية عطية: الأوتاد الجنود يقوون ملكه كما يقوي الوتد الشيء أي وفرعون ذو الجنود فالاستعارة عليه تصريحية في الأوتاد، وقيل: هو مجاز مرسل للزوم الأوتاد للجند، وقيل المباني العظيمة الثابتة وفيه مجاز أيضا، وقال ابن عباس في رواية أخرى وقتادة وعطاء: كانت له عليه اللعنة أوتاد وخشب يلعب له بها وعليها، وقيل: كان يشبح المعذب بين أربع سوار كل طرف من أطرافه إلى سارية ويضرب في كل وتدا من حديد ويتركه حتى يموت، وروي معناه عن الحسن ومجاهد وقيل: كان يمده بين أربعة أوتاد في الأرض ويرسل عليه العقارب والحيات، وقيل: يشده بأربعة أوتاد ثم يرفع صخرة فتلقى عليه فتشدخه. وعلى هذه الأقوال الأربعة فالأوتاد ثابتة على حقيقتها وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أصحاب الغيضة وهم الذين أرسل إليهم شعيب عليه السلام نسبوا إلى غيضة كانوا يسكنونها، وقيل الأيكة اسم بلد لهم أُولئِكَ المكذبون الْأَحْزابُ أي الكفار المتحزبون على الرسل عليهم السلام المهزومون وهو مبتدأ وخبر ويفهم من ذلك أن الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم منهم هم هم وأنهم الذين وجد منهم التكذيب لأن المبتدأ والخبر في مثله متعاكسان رأسا برأس لا لأن أُولئِكَ إشارة إلى الأحزاب أولا والأحزاب ثانيا هم المكذبون، وقوله تعالى: إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ استئناف جيء به تقريرا لتكذيبهم على أبلغ وجه وتمهيدا لما يعقبه، فإن نافية ولا عمل لها لانتقاض النفي بالا، وكُلٌّ مبتدأ والاستثناء مفرغ من أعم العام وهو الخبر أي ما كل حزب من الأحزاب محكوما عليه بحكم إلا محكوما عليه بأنه كذب الرسل أو مخبرا عنه بخير إلا مخبرا عنه بأنه كذب الرسل لأن الرسل يصدق كل منهم الكل وكلهم متفقون على الحق فتكذيب كل واحد منهم تكذيب لهم جميعا، وجوز أن يكون من مقابلة الجمع بالجمع أي ما كلهم محكوما عليه بحكم أو مخبرا عنه بشيء إلا محكوما عليه أو إلا مخبرا عنه بأنه كذب رسوله، والحصر مبالغة كأن سائر أوصافهم بالنظر إلى ما أثبت لهم بمنزلة العدم فيدل على أنهم غالون في التكذيب، ويدل على غلوهم فيه أيضا إعادته متعلقا بالرسل وتنويع الجملتين إلى اسمية استثنائية وغيرها أعني قوله تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ إلخ، وجعل كل فرقة مكذبة للجميع على الوجه الأول، ويسجل ذلك عليهم استحقاقهم أشد العقاب ولذا رتب عليه قوله تعالى: فَحَقَّ عِقابِ أي ثبت ووقع على كل منهم عقابي الذي كانت توجبه جناياتهم من أصناف العقوبات فأغرق قوم نوح وأهلك فرعون بالغرق وقوم هود بالريح وثمود بالصيحة وقوم لوط بالخسف وأصحاب الأيكة بعذاب الظلة. وجوز أن يكون أُولئِكَ الْأَحْزابُ بدلا من الطوائف المذكورة والجملة بعد مستأنفة لما سمعت وأن يكون مبتدأ والجملة بعده خبر بحذف العائد أي إن كلّا منهم أو كلهم إلا كذب الرسل، والمجموع استئناف مقرر لما قبله مع ما فيه من بيان كيفية تكذيبهم وكلاهما خلاف الظاهر، وأما ما قيل من أنه خبر والمبتدأ قوله تعالى: وَعادٌ إلخ أو قوله تعالى: وَقَوْمُ لُوطٍ إلخ فمما يجب تنزيه ساحة التنزيل عن أمثاله. وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ شروع في بيان عقاب كفار مكة إثر بيان عقاب أضرابهم فإن الكلام السابق مما يوجب ترقب السامع بيانه، والنظر بمعنى الانتظار وعبر به مجازا بجعل محقق الوقوع الجزء: 12 ¦ الصفحة: 164 كأنه أمر منتظر لهم، والإشارة بهؤلاء للتحقير، والمراد بالصيحة الواحدة النفخة الثانية، أي ما ينتظر هؤلاء الكفرة الحقيرون الذين هم أمثال أولئك الطوائف المهلكة في الكفر والتكذيب شيئا إلا النفخة الثانية التي تقوم بها الساعة قاله قتادة وليس المراد أنها نفسها عقاب لهم لعمومها للبر والفاجر من جميع الأمم بل المراد أنه ليس بينهم وبين ما أعد لهم من العذاب إلا هي لتأخير عقوبتهم إلى الآخرة لما أن تعذيبهم بالاستئصال حسبما يستحقونه والنبي صلى الله عليه وسلم موجود خارج عن السنة الإلهية المبنية على الحكم الباهرة كما نطق به قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال: 33] إذ المراد من وَأَنْتَ فِيهِمْ وجوده عليه الصلاة والسلام لا مجاورته لهم كما توهم حتى يقال: لا دلالة في الآية على امتناع وقوعه بعد الهجرة لمخالفته للتفسير المشهور، وقيل المراد بالصيحة المذكورة النفخة الأول. وتعقب بأنه مما لا وجه له أصلا لما أنه لا يشاهد هو لها ولا يصعق بها إلا من كان حيا عند وقوعها وليس عقابهم الموعود واقعا عقيبها ولا العذاب المطلق مؤخرا إليها بل يحل بهم من حين موتهم. وقيل: المراد صيحة يهلكون بها في الدنيا كما هلكت ثمود، ولا يخفى أن هذا تعذيب بالاستئصال وهو مما لا يقع كما سمعت فلا يكون منتظرا، وقال أبو حيان: الصيحة ما نالهم من قتل وأسر وغلبة كما تقول صاح بهم الدهر فهي مجاز عن الشر كما في قولهم ما ينتظرون إلا مثل صيحة الحبلى أي شرا يعاجلهم، وفيه بعد. وجوز جعل هؤلاء إشارة إلى الأحزاب لما سبق ذكرهم مكررا مؤكدا استحضرهم المخاطب في ذهنه فنزل الوجود الذهني منزلة الخارجي المحسوس وأشير إليهم بما يشار به للحاضر المشاهد، واحتمال التحقير قائم ولا ينبو عنه التعبير بأولئك لأن البعد في الواقع مع أنه قد يقصد به التحقير أيضا والكلام بيان لما يصيرون إليه في الآخرة من العقاب بعد ما نزل بهم في الدنيا من العذاب، وجعلهم منتظرين له لأن ما أصابهم من عذاب الاستئصال ليس هو نتيجة ما جنوه من قبيح الأعمال إذ لا يعتد به بالنسبة إلى ما ثمت من الأهوال فهو تحذير لكفار قريش وتخويف لمن يساق له الحديث فلا وجه لما قاله أبو السعود من أن هذا ليس في حيز الاحتمال أصلا لأن الانتظار سواء كان حقيقة أو استهزاء إنما يتصور في حق من لم يترتب على أعماله نتائجها بعد، وبعد ما بين عقاب الأحزاب واستئصالهم بالمرة لم يبق مما أريد بيانه من عقوباتهم أمر منتظر بخلاف كفار قريش حيث ارتكبوا ما ارتكبوا ولما يلاقوا بعد شيئا قاله الخفاجي، ولا يخفى أن المنساق إلى الذهن هو الاحتمال الأول وهو المأثور عن السلف، والفواق الزمن الذي بين حلبتي الحالب ورضعتي الراضع ويقال للبن الذي يجتمع في الضرع بين الحلبتين فيقة ويجمع على أفواق وأفاويق جمع الجمع، والكلام على تقدير مضافين أي ما ينتظرون إلا صيحة واحدة مالها من توقف مقدار فواق أو على ذكر الملزوم الذي هو الفواق وإرادة اللازم الذي هو التوقف مقداره، وهو مجاز مشهور والمعنى أن الصيحة إذا جاء وقتها لم تستأخر هذا القدر من الزمان. وعن ابن عباس ومجاهد وقتادة تفسيره بالرجوع والترداد، وهو مجاز أطلق فيه الملزوم وأريد اللازم فإن في الزمان بين الحلبتين يرجع اللبن إلى الضرع، والمعنى أنها صيحة واحدة فحسب لا تثنى ولا تردد فالجملة عليه صفة مؤكدة لوحدة الصيحة. وقرأ السلمي وابن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي وطلحة بضم الفاء فقيل هما بمعنى واحد وهو ما تقدم كقصاص الشعر وقصاصه، وقيل: المفتوح اسم مصدر من أفاق المريض إفاقة وفاقة إذا رجع إلى الصحة وإليه يرجع تفسير ابن زيد والسدي وأبي عبيدة والفراء له بالإفاقة والاستراحة، والمضموم اسم ساعة رجوع اللبن للضرع. وقوله تعالى: وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ حكاية لما قالوه عند سماعهم بتأخير عقابهم إلى الآخرة أي قالوا بطريق الاستهزاء والسخرية ربنا عجل لنا قسطنا ونصيبنا من العذاب الذي توعدنا به ولا تؤخره إلى يوم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 165 الحساب الذي مبدؤه الصيحة المذكورة، وتصدير دعائهم بالنداء المذكور للإمعان في الاستهزاء كأنهم يدعون ذلك بكمال الرغبة والابتهال والقائل على ما روي عن عطاء النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة وهو الذي قال الله تعالى فيه سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ [المعارج: 1] وأبو جهل على ما روي عن قتادة، وعلى القولين الباقون راضون فلذا جيء بضمير الجمع، والقط القطعة من الشيء من قطه إذا قطعه ويقال لصحيفة الجائزة قط لأنها قطعة من القرطاس، ومن ذلك قول الأعشى: ولا الملك النعمان يوم لقيته ... بنعمته يعطي القطوط ويطلق قيل وهو في ذلك أكثر استعمالا وقد فسره بها هنا أبو العالية والكلبي أي عجل لنا صحيفة أعمالنا لننظر فيها وهي رواية عن الحسن، وجاء في رواية أخرى عنه أنهم أرادوا نصيبهم من الجنة، وروي هذا أيضا عن قتادة وابن جبير، وذلك أنهم سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر وعد الله تعالى المؤمنين الجنة فقالوا على سبيل الهزء: عجل لنا نصيبنا منها لنتنعم به في الدنيا ، قال السمرقندي: أقوى التفاسير أنهم سألوا أن يعجل لهم النعيم الذي كان يعده عليه الصلاة والسلام من آمن لقولهم ربنا ولو كان على ما يحمله أهل التأويل من سؤال العذاب أو الكتاب استهزاء لسألوا رسول الله ولم يسألوا ربهم، وفيه بحث يعلم مما مر آنفا. اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ على ما يتجدد من أمثال هذه المقالات الباطلة المؤذية وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ أي اذكر لهم قصته عليه السلام تعظيما للمعصية في أعينهم وتنبيها لهم على كمال قبح ما اجترءوا عليه فإنه عليه السلام مع علو شأنه وإيتائه النبوة والملك لما ألم بما هو خلاف الأولى ناله ما ألمه وأدام غمه وندمه فما الظن بهؤلاء الكفرة الأذلين الذين لم يزالوا على أكبر الكبائر مصرين أو اذكر قصته عليه السلام في نفسك وتحفظ من ارتكاب ما يوجب العتاب، وقيل إنه تعالى أمره عليه الصلاة والسلام أن يذكر قصص الأنبياء عليهم السلام الذين عرض لهم ما عرض فصبروا حتى فرج الله تعالى عنهم وأحسن عاقبتهم، ترغيبا له في الصبر وتسهيلا لأمره عليه وإيذانا ببلوغ ما يريده بذلك، وهو كما ترى، وقيل أمره بالصبر وذكر قصص الأنبياء ليكون ذلك برهانا على صحة نبوته صلى الله عليه وسلم، والذكر على هذا والأول لساني وعلى ما بينهما قلبي وهو مراد من فسر اذْكُرْ على ذلك بتذكر ذَا الْأَيْدِ أي ذا القوة يقال فلان أيد وذو أيد وذو آد وأياد بمعنى وأياد كل شيء ما يتقوى به. إِنَّهُ أَوَّابٌ أي رجاع إلى الله تعالى وطاعته عزّ وجلّ، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس ومجاهد أنهما قالا: الأواب المسبح، وعن عمرو بن شرحبيل أنه المسبح بلغة الحبشة، وأخرج الديلمي عن مجاهد قال: سالت ابن عمر عن الأواب فقال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عنه فقال: هو الرجل يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر الله تعالى ، وهذا إن صح لا يعدل عنه، والجملة تعليل لكونه عليه السلام ذا الأيد وتدل بأي معنى كان الأواب فيها على أن المراد بالأيد القوة الدينية وهي القوة على العبادة كما قال مجاهد وقتادة والحسن وغيرهم إذ لا يحسن التعليل لو حملت القوة على القوة في الجسم، نعم قد كان عليه السلام قوي الجسم أيضا إلا أن ذلك غير مراد هنا وفي التعبير عنه بعبدنا ووصفه بذي الأيد والتعليل بما ذكر دلالة على كثرة عبادته ووفور طاعته. وقد أخرج البخاري في تاريخه عن أبي الدرداء قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر داود وحدث عنه قال: كان أعبد البشر ، وأخرج الديلمي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينبغي لأحد أن يقول إني أعبد من داود» وروي أنه كان يصوم يوما ويفطر يوما وكان يقوم نصف الليل وفي ذلك دلالة على قوته في العبادة لما في كل من الصيام والقيام المذكورين من ترك راحة تذكرها قريبا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 166 إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ استئناف لبيان قصته عليه السلام، وجوز كونه لتعليل قوته في الدين وأوابيته إلى الله عزّ وجلّ، ومع متعلقة بسخر، وإيثارها على اللام لأن تسخير الجبال له عليه السلام لم يكن بطريق تفويض التصرف الكلي فيها إليه كتسخير الريح وغيرها لسليمان عليه السلام بل بطريق الاقتداء به في عبادة الله تعالى: وأخر الظرف المذكور عن الْجِبالَ وقدم في سورة [الأنبياء: 79] فقيل: وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ قال بعض الفضلاء: لذكر داود وسليمان ثمت فقدم مسارعة للتعيين ولا كذلك هنا، وجوز تعلقها بقوله تعالى: يُسَبِّحْنَ وهو أقرب بالنسبة إلى آية الأنبياء، وتسبيحهن تقديس بلسان قال لائق بهن نظير تسبيح الحصى المسموع في كف النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: تقديس بلسان الحال وتقييده بالوقتين المذكورين بعد يأباه إذ لا اختصاص لتسبيحهن الحالي بهما وكذا لا اختصاص له بكونه معه، وقيل المعنى يسرن معه على أن يسبحن من السباحة، والجملة حال من الْجِبالَ والعدول عن مسبحات مع أن الأصل في الحال الإفراد للدلالة على تجدد التسبيح حالا بعد حال نظير ما في قول الأعشى: لعمري لقد لاحت عيون كثيرة ... إلى ضوء نار في يفاع تحرق وجوز أن تكون مستأنفة لبيان كيفية التسخير ومقابلتها بمحشورة هنا كالمعينة للحالية بِالْعَشِيِّ هو كما قال الراغب: من زوال الشمس إلى الصباح أي يسبحن بهذا الوقت وليس ذلك نصا في استيعابه بالتسبيح وَالْإِشْراقِ أي وقت الإشراق، قال ثعلب: يقال شرقت الشمس إذا طلعت وأشرقت إذا أضاءت وصفت فوقت الإشراق وقت ارتفاعها عن الأفق الشرقي وصفاء شعاعها وهو الضحوة الصغرى وروي عن أم هانىء بنت أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الضحى وقال: هذه صلاة الإشراق . وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن عطاء الخراساني أن ابن عباس قال: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 167 لم يزل في نفسي من صلاة الضحى شيء حتى قرأت هذه الآية يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ وفي رواية عنه أيضا ما عرفت صلاة الضحى إلا بهذه الآية، ووجه فهم الحبر إياها من الآية أي كل تسبيح ورد في القرآن فهو عنده ما لم يرد به التعجب والتنزيه بمعنى الصلاة فحيث كانت صلاة لداود عليه السلام وقصت على طريق المدح علم منه مشروعيتها. وفي الكشف وجهه أن الآية دلت على تخصيصه عليه السلام ذينك الوقتين بالتسبيح وقد علم من الرواية أنه كان يصلي مسبحا فيهما فحكى في القرآن ما كان عليه وإن لم يذكر كيفيته فيكون في الآية ذكر صلاة الضحى وهو المطلوب أو نقول إن تسبيح الجبال غير تسبيح داود عليه السلام لأن الأول مجاز فحمل تسبيح داود على المجاز أيضا لأن المجاز أنسب اه. وتعقب بأنه إذا علم من الرواية فكيف يقال إنه أخذه من الآية والتجوز ينبغي تقليله ما أمكن، وهذا بناء على أن مَعَهُ متعلق بيسبحن حتى يكون هو عليه السلام مسبحا أي مصليا وإلا فتسبيح الجبال لا دلالة على الصلاة، ومع هذا ففيه حينئذ جمع بين معنيين مجازيين إلا أن يقال به، أو يجعل بمعنى يعظمن ويجعل تعظيم كل محمولا على ما يناسبه، وبعد اللتيا والتي لا يخلو عن كدر، وارتضى الخفاجي الأول وأراه لا يخلو عن كدر أيضا. وقال الجلبي في ذلك: يجوز أن يقال: تخصيص هذين الوقتين بالذكر دل على اختصاصهما بمزيد شرف فيصلح ذلك الشرف سببا لتعيينهما للصلاة والعبادة فإن لفضيلة الأزمنة والأمكنة أثرا في فضيلة ما يقع فيهما من العبادات، وهذا عندي أصفى مما تقدم، ويشعر به ما أخرجه الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن ابن عباس قال: كنت أمر بهذه الآية يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ فما أدري ما هي حتى حدثتني أم هانىء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى يوم فتح مكة صلاة الضحى ثمان ركعات فقال ابن عباس: قد ظننت أن لهذه الساعة صلاة لقوله تعالى: يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ هذا ولهم في صلاة الضحى كلام طويل والحق سنيتها وقد ورد فيها كما قال الشيخ ولي الدين ابن العراقي: أحاديث كثيرة صحيحة مشهورة حتى قال محمد بن جرير الطبري أنها بلغت مبلغ التواتر. ومن ذلك حديث أم هانىء الذي في الصحيحين وزعم أن تلك الصلاة كانت صلاة شكر لذلك الفتح العظيم صادفت ذلك الوقت لا أنها عبادة مخصوصة فيه دون سبب أوانها كانت قضاء عما شغل صلى الله عليه وسلم تلك الليلة من حزبه فيها خلاف ظاهر الخبر السابق عنها. وكذا ما رواه أبو داود من طريق كريب عنها أنها قالت صلى عليه الصلاة والسلام سبحة الضحى ، ومسلم في كتاب الطهارة من طريق أبي مرة عنها أيضا ففيه ثم صلى ثماني ركعات سبحة الضحى وابن عبد البر في التمهيد من طريق عكرمة بن خالد أنها قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فصلى ثمان ركعات فقلت ما هذه الصلاة؟ قال: هذه صلاة الضحى ، واحتج القائلون بالنفي بحديث عائشة إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم وما سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحة الضحى قط وإني لأسبحها، رواه البخاري ومسلم وأبو داود وأبو مالك، وحمله القائلون بالإثبات على نفي رؤيتها ذلك لما أنه روي عنها مسلم وأحمد وابن ماجة أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربعا ويزيد ما شاء الله تعالى ، وقد شهد أيضا بأنه عليه الصلاة والسلام كان يصليها على ما قال الحاكم أبو ذر الغفاري وأبو سعيد وزيد بن أرقم وأبو هريرة وبريدة الأسلمي وأبو الدرداء وعبد الله بن أبي أوفى وعتبان بن مالك وعتبة بن عبد السلمي ونعيم بن همام الغطفاني وأبو أمامة الباهلي وأم هانىء وأم سلمة، ومن القواعد المعروفة أن المثبت مقدم على النافي مع أن رواية الإثبات أكثر بكثير من رواية النفي وتأويلها أهون من تأويل تلك، وذكر الشافعية أنها أفضل التطوع بعد الرواتب لكن النووي في شرح المهذب قدم عليها صلاة التراويح فجعلها الجزء: 12 ¦ الصفحة: 168 في الفضل بين الرواتب والضحى والمذهب عنهم وجوبها عليه صلى الله عليه وسلم وأن ذلك من خصوصياته عليه الصلاة والسلام، واحتج له بما أخرجه ابن العربي بسنده عن عكرمة عن ابن عباس قال: «قال رسول الله كتب على النحر ولم يكتب عليكم وأمرت بصلاة الضحى ولم تؤمروا بها» رواه الدارقطني أيضا، وقال شيخ الحفاظ أبو الفضل بن حجر: إنه لم يثبت ذلك في خبر صحيح، وفي الأخبار ما يعكر على القول به، وذكر أن أقلها ركعتان لخبر البخاري عن أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام أوصاه بهما وأن لا يدعهما ، وأدنى كما لها أربع لما صح كان صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربعا ويزيد ما شاء فست فثمان وأكثرها اثنتا عشرة ركعة لخبر ضعيف يعمل به في مثل ذلك، وذهب الكثير إلى أن الأكثر ثمان. وذكروا أنها أفضل من اثنتي عشرة والعمل القليل قد يفضل الكثير فما يقتضيه أجرك على قدر نصبك أغلبي. وصرح ابن حجر الهيثمي عليه الرحمة بالمغايرة بين صلاة الضحى وصلاة الإشراق قال: ومما لا يسن جماعة ركعتان عقب الإشراق بعد خروج وقت الكراهة وهي غير الضحى، وتقدم لك ما يفيد اتحادهما ويدل عليه غير ذلك من الأخبار، وصح إطلاق صلاة الأوابين على صلاة الضحى كإطلاقها على الصلاة المعروفة بعد المغرب، هذا وتمام الكلام فيها في كتب الفقه والحديث، وَالطَّيْرَ عطف على الْجِبالَ على ما هو الظاهر. مَحْشُورَةً حال من الطَّيْرَ والعامل سخرنا أي وسخرنا الطير حال كونها محشورة، عن ابن عباس كان عليه السلام إذا سبح جاوبته الجبال بالتسبيح واجتمعت إليه الطير فسبحت وذلك حشرها، ولم يؤت بالحال فعلا مضارعا كالحال السابقة ليدل على الحشر الدفعي الذي هو أدل على القدرة وذلك بتوسط مقابلته للفعل أو لأن الدفعية هي الأصل عند عدم القرينة على خلافها. وقرأ ابن أبي عبلة والجحدري «والطير محشورة» برفعهما مبتدأ وخبرا، ولعل الجملة على ذلك حال من ضمير يسبحن كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ استئناف مقرر لمضمون ما قبله مصرح بما فهم منه إجمالا من تسبيح الطير، واللام تعليلية، والضمير لداود أي كل واحد من الجبال والطير لأجل تسبيحه رجاع إلى التسبيح، ووضع الأواب موضع المسبح إما لأنها كانت ترجع التسبيح والمرجع رجاع لأنه يرجع إلى فعله رجوعا بعد رجوع وإما لأن الأواب هو التواب الكثير الرجوع إلى الله تعالى كما هو المشهور ومن دأبه إكثار الذكر وإدامة التسبيح والتقديس، وقيل يجوز أن يكون المراد كل من الطير فالجملة للتصريح بما فهم، وكذا يجوز أن يراد كل من داود عليه السلام ومن الجبال والطير والضمير لله تعالى أي كل من داود والجبال والطير لله تعالى أواب أي مسبح مرجع للتسبيح وَشَدَدْنا مُلْكَهُ قويناه بالهيبة والنصرة وكثرة الجنود ومزيد النعمة، واقتصر بعضهم على الهيبة، والسدي على الجنود، وروى عنه ابن جرير والحاكم أنه كان يحرصه كل يوم وليلة أربعة آلاف. وحكي أنه كان حول محرابه أربعون ألف مستلئم يحرسونه، وهذا في غاية البعد عادة مع عدم احتياج مثله عليه السلام إليه، وكذا القول الأول كما لا يخفى على منصف، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: ادعى رجل من بني إسرائيل عند داود عليه السلام رجلا ببقرة فجحده فسأل البينة فلم تكن بينة فقال لهما عليه السلام: قوما حتى انظر في أمركما فقاما من عنده فأتى داود في منامه فقيل له: اقتل الرجل المدعي عليه فقال: إن هذه رؤيا ولست أعجل فأتى الليلة الثانية فقيل له: اقتل الرجل فلم يفعل ثم أتى الليلة الثالثة فقيل له: اقتل الرجل أو تأتيك العقوبة من الله تعالى فأرسل عليه السلام إلى الرجل فقال: إن الله تعالى أمرني أن أقتلك فقال: تقتلني بغير بينة ولا ثبت قال نعم: والله لأنفذن أمر الله عزّ وجلّ فيك فقال له الرجل لا تعجل علي حتى أخبرك إني والله ما أخذت بهذا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 169 الذنب ولكنني كنت اغتلت والد هذا فقتلته فبذلك أخذت فأمر به داود عليه السلام فقتل فعظمت بذلك هيبته في بني إسرائيل وشد به ملكه. وقرأ ابن أبي عبلة بشد الدال وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ النبوة وكمال العلم وإتقان العمل، وقيل الزبور وعلم الشرائع، وقيل كل كلام وافق الحكمة فهو حكمة وَفَصْلَ الْخِطابِ أي فصل الخصام بتمييز الحق عن الباطل فالفصل بمعناه المصدري والخطاب الخصام لاشتماله عليه أو لأنه أحد أنواعه خص به لأنه المحتاج للفصل أو الكلام الذي يفصل بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل، والصواب والخطأ وهو كلامه عليه السلام في القضايا والحكومات وتدابير الملك والمشورات، فالخطاب الكلام المخاطب به والفصل مصدر بمعنى اسم الفاعل أو الكلام الذي ينبه المخاطب على المقصود من غير التباس يراعى فيه مظان الفصل والوصل والعطف والاستئناف والإضمار والحذف والتكرار ونحوها فالخطاب بمعنى الكلام المخاطب به أيضا والفصل مصدر إما بمعنى اسم الفاعل أي الفاصل المميز للمقصود عن غيره أو بمعنى اسم المفعول أي المقصود أي الذي فصل من بين أفراد الكلام بتخليصه ومراعاة ما سمعت فيه أو الذي فصل بعضه عن بعض ولم يجعل ملبسا مختلطا. وجوز أن يراد بفصل الخطاب الخطاب القصد الذي ليس فيه اختصار مخل ولا إشباع ممل كما جاء في وصف كلام نبينا صلى الله عليه وسلم «لا نزر ولا هذر» فالخطاب بمعنى الكلام المخاطب به كما سلف والفصل إما بمعنى الفاصل لأن القصد أي المتوسط فاصل بين الطرفين وهما هنا المختصر المخل والمطنب الممل أو لأن الفصل والتمييز بين المقصود وغيره أظهر تحققا في الكلام القصد لما في أحد الطرفين من الإخلال وفي الطرف الآخر من الإملال المفضي إلى إهمال بعض المقصود وإما بمعنى المفصول لأن الكلام المذكور مفصول مميز عند السامع على المخل والممل بسلامته عن الإخلال والإملال، والإضافة على الوجه الأول من إضافة المصدر إلى مفعوله وعلى ما عداه من إضافة الصفة لموصوفها، وما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه والشعبي وحكاه الطبرسي عن الأكثرين من أن فصل الخطاب هو قوله: البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه فقيل هو داخل في فصل الخطاب على الوجه الثاني فإن فيه الفصل بين المدعي والمدعى عليه وهو من الفصل بين الحق والباطل، وجاء في بعض الروايات هو إيجاب البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه فلعله أريد أن فصل الخطاب على الوجه الأول أعني فصل الخصام كان بذاك وجعله نفسه على سبيل المبالغة، وما روي عن ابن عباس ومجاهد والسدي من أنه القضاء بين الناس والحق والإصابة والفهم فهو ليس شيئا وراء ما ذكر أولا، وأخرج ابن جرير عن الشعبي وابن أبي حاتم والديلمي عن أبي موسى الأشعري أن فصل الخطاب الذي أوتيه عليه السلام هو أما بعد، وذكر أبو موسى أنه عليه السلام أول من قال ذلك فقيل: هو داخل في فصل الخطاب وليس فصل الخطاب منحصرا فيه لأنه يفصل المقصود عما سيق مقدمة له من الحمد والصلاة أو من ذكر الله عزّ وجلّ مطلقا، وظاهره اعتبار فصل الخطاب بمعنى الكلام الذي ينبه المخاطب على المقصود إلى آخر ما مر، ويوهم صنيع بعضهم دخوله فيه باعتبار المعنى الثاني لفصل الخطاب ولا يتسنى ذلك، وحمل الخبر على الانحصار مما لا ينبغي إذ ليس في إيتاء هذا اللفظ كثير امتنان، ثم الظاهر أن المراد من أما بعد ما يؤدي مؤداه من الألفاظ لا نفس هذا اللفظ لأنه لفظ عربي وداود لم يكن من العرب ولا نبيهم بل ولا بينهم فالظاهر أنه لم يكن يتكلم بالعربية، والذي يترجح عندي أن المراد بفصل الخطاب فصل الخصام وهو يتوقف على مزيد علم وفهم وتفهيم وغير ذلك فإيتاؤه يتضمن إيتاء جميع ما يتوقف هو عليه وفيه من الامتنان ما فيه، ويلائمه أتم ملاءمة قوله تعالى: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ استفهام يراد منه التعجب والتشويق إلى استماع ما في حيزه لإيذانه بأنه من الأنباء الجزء: 12 ¦ الصفحة: 170 البديعة التي حقها أن تشيع فيما بين كل حاضر وبادي، والجملة قيل عطف على إِنَّا سَخَّرْنَا من قبيل عطف القصة على القصة، وقيل: على اذكر. والخصم في الأصل مصدر لخصمه بمعنى خاصمه أو غلبه ويراد منه المخاصم ويستعمل للمفرد والمذكر وفروعهما وجاء للجمع هنا على ما قال جمع لظاهر ضمائره بعد وربما ثني وجمع على خصوم واخصام، وأصل المخاصمة على ما قال الراغب أن يتعلق كل واحد بخصم الآخر أي بجانبه أو أن يجذب كل واحد خصم الجوالق من جانب. إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ أي علوا سوره ونزلوا إليه فتفعل للعلو على أصله نحو تسنم الجمل أي علا سنامه وتذرّى الجبل علا ذروته، والسور الجدار المحيط بالمرتفع، والمحراب الغرفة وهي العلية ومحراب المسجد مأخوذ منه لانفصاله عما عداه أو لشرفة المنزل منزلة علوه قاله الخفاجي، وقال الراغب: محراب المسجد قيل: سمي بذلك لأنه موضع محاربة الشيطان والهوى، وقيل: لكون حق الإنسان فيه أن يكون حريبا من أشغال الدنيا ومن توزع الخاطر، وقيل: الأصل فيه أن محراب البيت صدر المجلس ثم لما اتخذت المساجد سمي صدره به، وقيل: بل المحراب أصله في المسجد وهو اسم خص به صدر المجلس فسمي صدر البيت محرابا تشبيها بمحراب المسجد وكأن هذا أصح انتهى، وصرح الجلال السيوطي أن المحاريب التي في المساجد بهيئتها المعروفة اليوم لم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وله رسالة في تحقيق ذلك، وإذا متعلقة بمحذوف مضاف إلى الخصم أي نبأ تحاكم الخصم إذ تسوروا أو بنبإ على أن المراد به الواقع في عهد داود عليه السلام، وإسناد الإتيان إليه على حذف مضاف أي قصة نبأ الخصم، وجوز تعلقها به بلا حذف على جعل إسناد الإتيان إليه مجازيا أو بالخصم وهو في الأصل مصدر والظرف قنوع يكفيه رائحة الفعل، وزعم الحوفي تعلقها بأتى ولا يكاد يصح لأن إتيان نبأ الخصم لم يكن وقت تسورهم المحراب إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ إذ هذه بدل من إذ الأولى بدل كل من كل بأن يجعل زمان التسور وزمان الدخول لقربهما بمنزلة المتحدين أو بدل اشتمال بأن يعتبر الامتداد أو ظرف لتسوروا ويعتبر امتداد وقته وإلا فالتسور ليس في وقت الدخول، ويجوز أن يراد بالدخول إرادته وفيه تكلف لأنه مع كونه مجازا لا يتفرع عليه قوله تعالى: فَفَزِعَ مِنْهُمْ فيحتاج إلى تفريعه على التسور وهو أيضا كما ترى، وجوز تعلقه باذكر مقدرا، والفزع انقباض ونفار يعتري الإنسان من الشيء المخيف. روي أن الله تعالى بعث إليه ملكين في صورة إنسانين قيل هما جبريل وميكائيل عليهما السلام فطلبا أن يدخلا عليه فوجداه في يوم عبادته فمنعهما الحرس فتسورا عليه المحراب فلم يشعر إلا وهما بين يديه جالسان ، وكان عليه السلام كما روي عن ابن عباس جزأ زمانه أربعة أجزاء يوما للعبادة ويوما للقضاء ويوما للاشتغال بخاصة نفسه ويوما لجميع بني إسرائيل فيعظهم ويبكيهم، وسبب الفزع قيل: إنهم نزلوا من فوق الحائط وفي يوم الاحتجاب والحرس حوله لا يتركون من يريد الدخول عليه فخاف عليه السلام أن يؤذوه لا سيما على ما حكي أنه كان ليلا، وقيل: إن الفزع من أجل أنه ظن أن أهل مملكته قد استهانوه حتى ترك بعضهم الاستئذان فيكون في الحقيقة فزعا من فساد السيرة لا من الداخلين، وقال أبو الأحوص: فزع منهم لأنهما دخلا عليه وكل منهما آخذ برأس صاحبه، وقيل: فزع منهم لما رأى من تسورهم موضعا مرتفعا جدا لا يمكن أن يرتقى إليه بعد أشهر مع أعوان وكثرة عدد، والظاهر أن فزعه ليس إلا لتوقع الأذى لمخالفة المعتاد فلما رأوه وقد فزع قالُوا لا تَخَفْ وهو استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ من حكاية فزعه عليه السلام كأنه قيل: فماذا قالوا عند مشاهدتهم فزعه؟ فقيل: قالوا له إزالة لفزعه لا تخف خَصْمانِ خبر مبتدأ محذوف أي نحن خصمان، والمراد هنا فوجان لا شخصان متخاصمان وقد تقدم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 171 أن الخصم يشمل الكثير فيطابق ما مر من جميع الضمائر، ويؤيده على ما قيل قوله سبحانه: بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فإن نحو هذا أكثر استعمالا في قول الجماعة، وقراءة بعضهم بغى بعضهم على بعض أظهر في التأييد، ولا يمنع ذلك كون التحاكم إنما وقع بين اثنين لجواز أن يصحب كلا منهما من يعاضده والعرف يطلق الخصم على المخاصم ومعاضده وإن لم يخاصم بالفعل، وجوز أن يكون المراد اثنين والضمائر المجموعة مراد بها التثنية فيتوافقان وأيد بقوله سبحانه إِنَّ هذا أَخِي وقيل: يجوز أن يقدر خصمان مبتدأ خبره محذوف أي فينا خصمان وهو كما ترى، والظاهر أن جملة بَغى إلخ في موضع الصفة لخصمان وأن جملة نحن خصمان إلخ استئناف في موضع التعليل للنهي فهي موصولة بلا تخف، وجوز أن يكونوا قد قالوا لا تخف وسكتوا حتى سألوا ما أمركم؟ فقالوا: خصمان بغى إلخ أي جار بعضنا على بعض واستشكل قولهم هذا على القول بأنهم كانوا ملائكة بأنه إخبار عن أنفسهم بما لم يقع منهم وهو كذب والملائكة منزهون عنه. وأجيب بأنه إنما يكون كذبا لو كانوا قصدوا به الإخبار حقيقة أما لو كان فرضا لأمر صوروه في أنفسهم لما أتوا على صورة البشر كما يذكر العالم إذا صور مسألة لأحد أو كان كناية وتعريضا بما وقع من داود عليه السلام فلا، وقرأ أبو يزيد الجرار عن الكسائي «خصمان» بكسر الخاء. فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ أي ولا تتجاوزه، وقرأ أبو رجاء وابن أبي عبلة وقتادة والحسن وأبو حيوة «ولا تشطط» من شط ثلاثيا أي ولا تبعد عن الحق، وقرأ قتادة أيضا «تشطّ» مدغما من أشط رباعيا، وقرأ زر «تشاطط» بضم التاء وبألف على وزن تفاعل مفكوكا، وعنه أيضا «تشطط» من شطط، والمراد في الجميع لا تجر في الحكومة وأرادوا بهذا الأمر والنهي إظهار الحرص على ظهور الحق والرضا به من غير ارتياب بأنه عليه السلام يحكم بالحق ولا يجوز في الحكم وأحد الخصمين قد يقول نحو ذلك للإيماء إلى أنه المحق وقد يقوله اتهاما للحاكم وفيه حينئذ من الفظاظة ما فيه وعلى ما ذكرنا أولا فيه بعض فظاظة، وفي تحمل داود عليه السلام لذلك منهم دلالة على أنه يليق بالحاكم تحمل نحو ذلك من المتخاصمين لا سيما إذا كان ممن معه الحق فحال المرء وقت التخاصم لا يخفى. والعجب من حاكم أو محكم أو من للخصوم نوع رجوع إليه كالمفتي كيف لا يقتدي بهذا النبي الأواب عليه الصلاة والسلام في ذلك بل يغضب كل الغضب لأدنى كلمة تصدر ولو فلتة من أحد الخصمين يتوهم منها الحط لقدره ولو فكر في نفسه لعلم أنه بالنسبة إلى هذا النبي الأواب لا يعدل والله العظيم متك ذباب، اللهم وفقنا لأحسن الأخلاق واعصمنا من الأغلاط وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ أي وسط طريق الحق بزجر الباغي عما سلكه من طريق الجور وإرشاده إلى منهاج العدل إِنَّ هذا أَخِي إلخ استئناف لبيان ما فيه الخصومة، والمراد بالأخوة أخوة الدين أو أخوة الصداقة والإلفة أو أخوة الشركة والخلطة لقوله تعالى: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ وكل واحد من هذه الأخوات يدلي بحق مانع من الاعتداء والظلم، وقيل: هي أخوة في النسب وكان المتحاكمان أخوين من بني إسرائيل لأب وأم، ولا يخفى أن المشهور أنهما كانا من الملائكة بل قيل لا خلاف في ذلك. وأَخِي بيان عند ابن عطية وبدل أو خبر لأن عند الزمخشري، ولعل المقصود بالإفادة على الثاني قوله تعالى: لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ وهي الأنثى من بقر الوحش ومن الضأن والشاء الجبلي وتستعار للمرأة كالشاة كثيرا نحو قول ابن عون: أنا أبوهن ثلاث هنه ... رابعة في البيت صغراهنه ونعجتي خمسا توفيهنه ... ألا فتى سحج يغذيهنه وقول عنترة: يا شاة ما قنص لمن حلت له ... حرمت عليّ وليتها لم تحرم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 172 وقول الأعشى: فرميت غفلة عينه عن شاته ... فأصبت حبة قلبها وطحالها والظاهر إبقاؤها على حقيقتها هنا ويراد بها أنثى الضان، وجوز إرادة الامرأة، وسيأتي إن شاء تعالى ما يتعلق بذلك، وقرأ الحسن وزيد بن علي تِسْعٌ وَتِسْعُونَ بفتح التاء فيهما، وكثر مجيء الفعل والفعل بمعنى واحد نحو السكر والسكر ولا يبعد ذلك في التسع لا سيما وقد جاور العشر، والحسن وابن هرمز «نعجة» بكسر النون وهي لغة لبعض بني تميم، وقرأ ابن مسعود «ولي نعجة أنثى» ووجه ذلك الزمخشري بأنه يقال امرأة أنثى للحسناء الجميلة والمعنى وصفها بالعراقة في لين الأنوثة وفتورها وذلك أملح لها وأزيد في تكسرها وتثنيها ألا ترى إلى وصفهم لها بالكسول والمكسال. وقوله: فتور القيام قطيع الكلام ... لغوب العشاء إذا لم تنم وقول قيس بن الخطيم: تنام عن كبر شأنها فإذا ... قامت رويدا تكاد تنغرف وفي الكلام عليه توفية حق القسمين أعني ما يرجع إلى الظالم وما يرجع إلى المظلوم كأنه قيل: إنه مع وفور استغنائه وشدة حاجتي ظلمني حقي، وهذا ظاهر إذا كانت النعجة مستعارة وإلا فالمناسب تأكيد الأنوثة بأنها كاملة فيها فيكون أدر وأحلب لما يطلب منها على أن فيه رمزا إلى ما روي عنه فَقالَ أَكْفِلْنِيها ملكنيها، وحقيقته اجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي، وقال ابن كيسان: اجعلها كفلي أي نصيبي، وعن ابن عباس وابن مسعود تحول لي عنها وهو بيان للمراد وألصق بوجه الاستعارة وَعَزَّنِي أي غلبني، وفي المثل من عز بزاي من غلب سلب وقال الشاعر: قطاة عزها شرك فباتت ... تجاذبه وقد علق الجناح فِي الْخِطابِ أي مخاطبته إياي محاجة بأن جاء بحجاج لم أطق رده، وقال الضحاك: أي إن تكلم كان أفصح مني وإن حارب كان أبطش مني، وقال ابن عطية: كان أوجه مني وأقوى فإذا خاطبته كان كلامه أقوى من كلامي وقوته أعظم من قوتي، وقيل: أي غلبني في مغالبته إياي في الخطبة على أن الخطاب من خطبت المرأة وخطبها هو فخاطبني خطابا أي غالبني في الخطبة فغلبني حيث زوجها دوني، وهو قول من يجعل النعجة مستعارة، وتعقبه صاحب الكشف فقال: حمل الخطاب على المغالبة في خطبة النساء لا يلائم فصاحة التنزيل لأن التمثيل قاصر عنه لنبو قوله: وَلِيَ نَعْجَةٌ عن ذلك أشد النبوة وكذا قوله: أَكْفِلْنِيها إذ ينبغي على ذلك أن يخاطب به ولي المخطوبة إلا أن يجعل الأول مجازا عما يؤول إليه الحال ظنا والشرط في حسنه تحقق الانتهاء كما في أَعْصِرُ خَمْراً [يوسف: 36] والثاني مجاز عن تركه الخطبة، ولا يخفى ما فيهما من التعقيد، ثم إنه لتصريحه ينافي الغرض من التمثيل وهو التنبيه على عظم ما كان منه عليه السلام وأنه أمر يستحي من كشفه مع الستر عليه والاحتفاظ بحرمته انتهى فتأمل. وقرأ أبو حيوة وطلحة «وعزني» بتخفيف الزاي، قال أبو الفتح: حذفت إحدى الزائين تخفيفا كما حذفت إحدى السينين في قول أبي زبيد: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 173 أحسن به فهن إليه شوس وروي كذلك عن عاصم. وقرأ عبد الله وأبو وائل ومسروق والضحاك والحسن وعبيد بن عمير «وعازني» بألف بعد العين وتشديد الزاي أي وغالبني. قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ جواب قسم محذوف قصد به المبالغة في إنكار فعل ذي النعجات الكثيرة وتهجين طمعه، وليس هذا ابتداء من داود عليه السلام إثر فراغ المدعي من كلامه ولا فتيا بظاهر كلامه قبل ظهور الحال لديه فقيل: ذلك على تقدير لَقَدْ ظَلَمَكَ إن كان ما تقول حقا وقيل ثم كلام محذوف أي فأقر المدعى عليه فقال لَقَدْ ظَلَمَكَ إلخ ولم يحك في القرآن اعتراف المدعى عليه لأنه معلوم من الشرائع كلها أنه لا يحكم الحاكم إلا بعد إجابة المدعى عليه، وجاء في رواية أنه عليه السلام لما سمع كلام الشاكي قال للآخر ما تقول فأقر فقال له: لترجعن إلى الحق أو لأكسرن الذي فيه عيناك، وقال للثاني: لَقَدْ ظَلَمَكَ إلخ فتبسما عند ذلك وذهبا ولم يرهما لحينه ، وقيل: ذهبا نحو السماء بمرأى منه، وقال الحليمي: إنه عليه السلام رأى في المدعي مخايل الضعف والهضيمة فحمل أمره على أنه مظلوم كما يقول فدعاه ذلك إلى أن لا يسأل المدعى عليه فاستعجل بقوله: لَقَدْ ظَلَمَكَ ولا يخفى أنه قول ضعيف لا يعول عليه لأن مخايل الصدق كثيرا ما تظهر على الكاذب والحيلة أكثر من أن تحصى قديما وحديثا وفيما وقع من إخوة يوسف عليه السلام ولم يكونوا أنبياء على الأصح ما يزيل الاعتماد في هذا الباب، وبعض الجهلة ذهب إلى نحو هذا، وزعم أن ذنب داود عليه السلام ما كان إلا أنه صدق أحدهما على الآخر وظلمه قبل مسألته، والسؤال مصدر مضاف إلى مفعوله وتعديته إلى مفعول آخر بإلى لتضمنه معنى الإضافة كأنه قيل: لَقَدْ ظَلَمَكَ بإضافة نعجتك إلى نعاجه على وجه السؤال والطلب أو لقد ظلمك بسؤال نعجتك مضافة إلى نعاجه وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ أي الشركاء الذين خلطوا أموالهم الواحد خليط وهي الخلطة وقد غلبت في الماشية وفي حكمها عند الفقهاء كلام ذكر بعضا منه الزمخشري لَيَبْغِي ليتعدى بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ غير مراع حق الشركة والصحبة. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ منهم فإنهم يتحامون عن البغي والعدوان وَقَلِيلٌ ما هُمْ أي وهم قليل جدا فقليل خبر مقدم وهُمْ مبتدأ وما زائدة، وقد جاءت المبالغة في القلة من التنكير وزيادة ما الإبهامية ويتضمن ذلك التعجب فإن الشيء إذا بولغ فيه كان مظنة للتعجب منه فكأنه قيل: ما أقلهم، والجملة اعتراض تذييلي، وقرىء «ليبغي» بفتح الياء على تقدير حذف النون الخفيفة وأصله ليبغين كما قال طرفة بن العبد: اضرب عنك الهموم طارقها ... ضربك بالسيف قونس الفرس يريد اضربن، ويكون على تقدير قسم محذوف وذلك القسم وجوابه خبر لأن، وعلى قراءة الجمهور اللام هي الواقعة في خبر أن وجملة (يبغي) إلخ هو الخبر، وقرىء «ليبغ» بحذف الياء للتخفيف كما في قوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ [الفجر: 4] وقوله: محمد تفد نفسك كل نفس ... إذا ما خفت من أمر تبالا والظاهر أن قوله تعالى: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ إلخ من كلام داود عليه السلام تتمة لما ذكره أولا وقد نظر فيه ما كان عليه التداعي كما هو ظاهر التعبير بالخلطاء فإنه غالب في الشركاء الذين خلطوا أموالهم في الماشية وجعل على وجه استعارة النعجة ابتداء تمثيل لم ينظر فيه إلى ما كان عليه التداعي كأنه قيل: وإن البغي أمر يوجد فيما الجزء: 12 ¦ الصفحة: 174 بين المتلابسين وخص الخلطاء لكثرته فيما بينهم فلا عجب مما شجر بينكم ويترتب عليه قصد الموعظة الحسنة والترغيب في إيثار عادة الخلطاء الذين حكم لهم بالقلة وأن يكره إليهم الظلم والاعتداء الذي عليه أكثرهم مع التأسف على حالهم وأن يسلي المظلوم عما جرى عليه من خليطه وأن له في أكثر الخلطاء أسوة أو كأنه قيل: إن هذا الأمر الذي جرى بينكما أيها الخليطان كثيرا ما يجري بين الخلطاء فينظر فيه إلى خصوص حالهما، قال في الكشف: والمحمل الأظهر هذا. وعلى التقديرين هو تذييل يترتب عليه ما ذكر. ثم قال: ولعل الأظهر حمل الخلطاء على المتعارفين والمتضادين وأضرابهم ممن بينهم ملابسة شديدة وامتزاج على نحو: إن الخليط أجدوا البين فانجردوا والغلبة في الشركاء الذين خلطوا أموالهم في عرف الفقهاء فذكر الخلطاء لا ينافي ذكر الحلائل إذ لم ترد الخلطة اه. وأنت خبير بأن ذلك وإن لم يناف ذكر الحلائل لكن أولوية عدم إرادة الحلائل وإبقاء النعجة على معناها الحقيقي مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ الظن مستعار للعلم الاستدلالي لما بينهما من المشابهة الظاهرة، وفي البحر لما كان الظن الغالب يقارب العلم استعير له، فالمعنى وعلم داود وأيقن بما جرى في مجلس الحكومة أن الله تعالى ابتلاه، وقيل لما قضى بينهما نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك ثم صعدا إلى السماء حيال وجهه فعلم بذلك أنه تعالى ابتلاه، وجوز إبقاء الظن على حقيقته، وأنكر ابن عطية مجيء الظن (1) بعد العلم اليقيني وقال: لسنا نجده في كلام العرب وإنما هو توقيف بين معتقدين غلب أحدهما على الآخر وتوقعه العرب على العلم الذي ليس بواسطة الحواس فإنه اليقين التام ولكن يخلط الناس في هذا ويقولون: ظن بمعنى أيقن إلى آخر ما أطال، ويفهم منه أن إطلاق الظن على العلم الاستدلالي حقيقة والمشهور أنه مجاز، وظاهر ما بعد أنه هنا بمعنى العلم وأَنَّما المفتوحة على ما حقق بعض الأجلة لا تدل على الحصر كالمكسورة، ومن قال بإفادتها إياه حملا على المكسورة كالزمخشري لم يدع الاطراد فليس المقصود هاهنا قصر الفتنة عليه عليه السلام لأنه يقتضي انفصال الضمير، ولا قصر ما فعل به على الفعل لأن كل فعل ينحل إلى عام وخاص فمعنى ضربته فعلت ضربه على أن المعنى ما فعلنا به إلا الفتنة كما قال أبو السعود لأنه على ما قيل تعسف وإلغاز، ومن يدعي الاطراد يلتزم الثاني من القصرين المنفيين ويمنع كون ما ذكر تعسفا وإلغازا. وقرأ عمر بن الخطاب وأبو رجاء والحسن بخلاف عنه «فتّنّاه» بتشديد التاء والنون مبالغة، والضحاك «افتناه» كقوله على ما نقله الجوهري عن أبي عبيدة: لئن فتنتني لهي بالأمس افتنت ... سعيدا فأمسى قد غوى كل مسلم وقتادة وأبو عمرو في رواية «أنما فتناه» بضمير التثنية وهو راجع إلى الخصمين فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ إثر ما علم أن ما صدر عنه ذنب وَخَرَّ راكِعاً أي ساجدا على أن الركوع مجاز عن السجود لأنه لإفضائه إليه جعل كالسبب ثم تجوز به عنه أو هو استعارة لمشابهته له في الانحناء والخضوع والعرب تقول نخلة راكعة ونخلة ساجدة، وقال الشاعر:   (1) قوله بعد العلم هكذا في خط المؤلف ولعله بمعنى العلم اه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 175 فخر على وجهه راكعا ... وتاب إلى الله من كل ذنب وقيل أي خر للسجود راكعا أي مصليا على أن الركوع بمعنى الصلاة لاشتهار التجوز به عنها، وتقدير متعلق لخر يدل عليه غلبة فحواه لأنه بمعنى سقط على الأرض كما في قوله تعالى: فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل: 26] . وقال الحسين بن الفضل: أي خر من ركوعه أي سجد بعد أن كان راكعا، وظاهره إبقاء الركوع على حقيقته وجعل خر بمعنى سجد، والجمهور على ما قدمنا، واستشهد به أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وأصحابه على أن الركوع يقوم مقام السجود في سجدة التلاوة وهو قول الخطابي من الشافعية ولا فرق في ذلك بين الصلاة وخارجها كما في البزازية وغيرها. وفي الكشف قالوا أي الحنفية: إن القياس يقتضي أن يقوم الركوع مقام السجود لأن الشارع جعله ركوعا وتجوز بأحدهما عن الآخر لقيامه مقامه وإغنائه غناءه. وأيدوه بأن السجود لم يؤمر به لعينه ولهذا لم يشرع قربة مقصودة بل للخضوع وهو حاصل بالركوع «فإن قلت» : إن سجدة داود عليه السلام كانت سجدة شكر والكلام في سجدة التلاوة قلت: لا عليّ في ذلك لأني لم أستدل بفعل داود عليه السلام بل بجعل الشارع إياه مغنيا غناء السجود، ولأصحابنا يعني الشافعية أن يمنعوا أن علاقة المجاز ما ذكروه بل مطلق الميل عن الخضوع المشترك بينهما أو لأنه مقدمته كما قال الحسن: لا يكون ساجدا حتى يركع (1) أو خر مصليا والمعتبر غاية الخضوع وليس في الركوع اه. ولا يخفى أن المعروف من النبي صلى الله عليه وسلم السجود ولم نقف في خبر على أنه عليه الصلاة والسلام ركع للتلاوة بدله ولو مرة وكذا أصحابه رضي الله تعالى عنهم، وليس أمر القياس المذكور بالقوى فالأحوط فعل الوارد لا غير بل قال بعض الشافعية: إن قول الأصحاب لا يقوم الركوع مقام السجدة ظاهر في جواز الركوع وهو بعيد والقياس حرمته، وعنى صاحب الكشف بما ذكر في السؤال من أن سجدة داود عليه السلام كانت سجدة شكر أنها كانت كذلك من نبينا صلى الله عليه وسلم فقد أخرج النسائي وابن مردويه بسند جيد عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في ص وقال: سجدها داود توبة ونسجدها شكرا أي على قبول توبة داود عليه السلام من خلاف الأولى بعلى شأنه وقد لقي عليه السلام على ذلك من القلق المزعج ما لم يلقه غيره كما ستعلمه إن شاء الله تعالى، وآدم عليه السلام وإن لقي أمرا عظيما أيضا لكنه كان مشوبا بالحزن على فراق الجنة فجوزي لذلك بأمر هذه الأمة بمعرفة قدره وأنه أنعم عليه نعمة تستوجب دوام الشكر إلى قيام الساعة، ولقصته على ما في بعض الروايات شبه لما وقع لنبينا صلى الله عليه وسلم في قصة زينب المقتضي للعتب عليه بقوله تعالى: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ [الأحزاب: 37] الآية فيكون ذكرها مذكرا له عليه الصلاة والسلام وما وقع وما آل الأمر إليه مما هو أرفع وأجل فكأن ذلك اقتضى دوام الشكر بإظهار السجود له، ولعل ذلك وجه تخصيص داود بذلك مع وقوع نظيره لغيره من الأنبياء عليهم السلام فتأمله، ولا تغفل عن كون السورة مكية على الصحيح وقصة زينب رضي الله تعالى عنها مدنية، وينحل الإشكال بالتزام كون السجود بعد القصة فلينقر، وهي عند الحنفية إحدى سجدات التلاوة الواجبة كما ذكر في الكتب الفقهية، ومن فسر خَرَّ راكِعاً بخر للسجود مصليا ذهب إلى أن ما وقع من داود عليه السلام صلاة مشتملة على السجود وكانت للاستغفار وقد جاء في شريعتنا مشروعية صلاة ركعتين   (1) قوله: أو خر مصليا: هكذا في خط المؤلف، وانظر موقع هذه الجملة هنا. [ ..... ] الجزء: 12 ¦ الصفحة: 176 عند التوبة لكن لم نقف في خبر على ما يشعر بحمل ما هنا على صلاة داود عليه السلام لذلك وإنما وقفنا على أنه سجد وَأَنابَ أي رجع إلى الله تعالى بالتوبة فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ أي ما استغفرنا منه. أخرج أحمد وعبد بن حميد عن يونس بن حبان أن داود عليه السلام بكى أربعين ليلة حتى نبت العشب حوله من دموعه ثم قال: يا رب قرح الجبين ورقأ الدمع وخطيئتي علي كما هي فنودي يا داود أجائع فتطعم؟ أم ظمآن فتسقى؟ أم مظلوم فينتصر لك؟ فنحب نحبة هاج ما هنالك من الخضرة فغفر له عند ذلك ، وفي رواية عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن مجاهد أنه خر ساجدا أربعين ليلة حتى نبت من دموع عينيه من البقل ما غطى رأسه ثم قال إلخ، وروي أنه لم يشرب ماء إلا وثلثاه من دمعه وجهد نفسه راغبا إلى الله تعالى في العفو عنه حتى كاد يهلك واشتغل بذلك عن الملك حتى وثب ابن له يقال له إيشا على ملكه ودعا إلى نفسه فاجتمع إليه أهل الزيغ من بني إسرائيل فلما غفر له حاربه فهزمه. وأخرج أحمد عن ثابت أنه عليه السلام اتخذ سبع حشايا وحشاهن من الرماد حتى أنفذها دموعا ولم يشرب شرابا إلا مزجه بدمع عينيه، وأخرج عن وهب أنه اعتزل النساء وبكى حتى رعش وخددت الدموع في وجهه، ولم ينقطع خوفه عليه السلام وقلقه بعد المغفرة، فقد أخرج أحمد والحكيم الترمذي وابن جرير عن عطاء الخراساني أن داود نقش خطيئته في كفه لكي لا ينساها وكان إذا رآها اضطربت يداه. وأخرج أحمد وغيره عن ثابت عن صفوان وعبد بن حميد من طريق عطاء بن السائب عن أبي عبد الله الجدلي ما رفع داود رأسه إلى السماء بعد الخطيئة حتى مات وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى قربة بعد المغفرة. وَحُسْنَ مَآبٍ وحسن مرجع في الجنة، وأخرج عبد بن حميد عن عبيد بن عمير أنه قال في الآية: يدنو من ربه سبحانه حتى يضع يده عليه، وهو إن صح من المتشابه. وأخرج أحمد في الزهد والحكيم الترمذي وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مالك بن دينار أنه قال فيها: يقام داود عليه السلام يوم القيامة عند ساق العرش ثم يقول الرب عزّ وجلّ: يا داود مجدني اليوم بذلك الصوت الحسن الرخيم الذي كنت تمجدني به في الدنيا فيقول: يا رب كيف وقد سلبته؟ فيقول: إني راده عليك اليوم فيندفع بصوت يستغرق نعيم أهل الجنة. وهذا واختلف في أصل قصته التي ترتب عليها ما ترتب فقيل: إنه عليه السلام رأى امرأة رجل يقال له أوريا من مؤمني قومه- وفي بعض الآثار أنه وزيره- فمال قلبه إليها فسأله أن يطلقها فاستحى أن يرده ففعل فتزوجها وهي أم سليمان وكان ذلك جائزا في شريعته معتادا فيما بين أمته غير مخل بالمروءة حيث كان يسأل بعضهم بعضا أن ينزل له عن امرأته فيتزوجها إذا أعجبته، وقد كان الرجل من الأنصار في صدر الإسلام بعد الهجرة إذا كانت له زوجتان نزل عن إحداهما لمن اتخذه أخا له من المهاجرين لكنه عليه السلام لعظم منزلته وارتفاع مرتبته وعلو شأنه نبه بالتمثيل على أنه لم يكن ينبغي له أن يتعاطى ما يتعاطاه آحاد أمته ويسأل رجلا ليس له إلا امرأة واحدة أن ينزل عنها فيتزوجها مع كثرة نسائه بل كان يجب عليه أن يغالب ميله الطبيعي ويقهر نفسه ويصبر على ما امتحن به، وقيل إنه أضمر في نفسه إن قتل أوريا تزوج بها وإليه مال ابن حجر في تحفته. وقيل لم يكن أوريا تزوجها بل كان خطبها ثم خطبها هو فآثره عليه السلام أهلها فكان ذنبه أن خطب على خطبة أخيه المؤمن، وفي بعض الآثار أنه فعل ذلك ولم يكن عالما بخطبة أخيه فعوتب على ترك السؤال هل خطبها أحد أم لا؟ وقيل إنه كان في شريعته أن الرجل إذا مات وخلف امرأة فأولياؤه أحق بها إلا أن يرغبوا عن التزوج بها فلما قتل أوريا خطب امرأته ظانا أن أولياءه رغبوا عنها فلما سمعوا منعتهم هيبته وجلالته أن يخطبوها. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 177 وقيل إنه كان في عبادة فأتاه رجل وامرأة متحاكمين إليه فنظر إلى المرأة ليعرفها بعينها وهو نظر مباح فمالت نفسه ميلا طبيعيا إليها فشغل عن بعض نوافله فعوتب لذلك، وقيل إنه لم يتثبت في الحكم وظلم المدعى عليه قبل سؤاله لما ناله من الفزع وكانت الخصومة بين المتخاصمين وكانا من الإنس على الحقيقة إما على ظاهر ما قص أو على جعل النعجة فيه كناية عن المرأة، ونقل هذا عن أبي مسلم، والمقبول من هذه الأقوال ما بعد من الإخلال بمنصب النبوة، وللقصاص كلام مشهور لا يكاد يصح لما فيه من مزيد الإخلال بمنصبه عليه السلام. ولذا قال علي كرم الله تعالى وجهه على ما في بعض الكتب من حدث بحديث داود عليه السلام على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين وذلك حد الفرية على الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين ، وهذا اجتهاد منه كرم الله تعالى وجهه، ووجه مضاعفة الحد على حد الأحرار أنهم عليهم السلام سادة السادة وهو وجه مستحسن إلا أن الزين العراقي ذكر أن الخبر نفسه لم يصح عن الأمير كرم الله تعالى وجهه، وقال أبو حيان: الذي نذهب إليه ما دل عليه ظاهر الآية من أن المتسورين المحراب كانوا من الإنس دخلوا عليه من غير المدخل وفي غير وقت جلوسه للحكم وأنه فزع منهم ظانا أنهم يغتالونه إذ كان منفردا في محرابه لعبادة ربه عزّ وجلّ فلما اتضح له أنهم جاؤوا في حكومة وبرز منهم اثنان للتحاكم كما قص الله تعالى وأن داود عليه السلام ظن دخولهم عليه في ذلك الوقت ومن تلك الجهة ابتلاء من الله تعالى له أن يغتالوه فلم يقع ما كان ظنه فاستغفر من ذلك الظن حيث أخلف ولم يكن ليقع مظنونه وخر ساجدا ورجع إلى الله تعالى وأنه سبحانه غفر له ذلك الظن فإنه عزّ وجل قال فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ ولم يتقدم سوى قوله تعالى: وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ ونعلم قطعا أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الخطايا لا يمكن وقوعهم في شيء منها ضرورة إنا لو جوزنا عليهم شيئا من ذلك بطلت الشرائع ولم يوثق بشيء مما يذكرون أنه وحي من الله تعالى فما حكى الله تعالى في كتابه يمر على ما أراده الله تعالى وما حكى القصاص مما فيه نقص لمنصب الرسالة طرحناه، ونحن كما قال الشاعر: ونؤثر حكم العقل في كل شبهة ... إذا آثر الأخبار جلاس قصاص انتهى ويقرب من هذا من وجه ما قيل إن قوما قصدوا أن يقتلوه عليه السلام فتسوروا المحراب فوجدوا عنده أقواما فتصنعوا بما قص الله تعالى من التحاكم فعلم غرضهم فقصد أن ينتقم منهم فظن أن ذلك ابتلاء من الله تعالى وامتحان له هل يغضب لنفسه أم لا فاستغفر ربه مما عزم عليه من الانتقام منهم وتأديبهم لحق نفسه لعدوله عن العفو الأليق به، وقيل: الاستغفار كان لمن هجم عليه وقوله تعالى: فَغَفَرْنا لَهُ على معنى فغفرنا لأجله، وهذا تعسف وإن وقع في بعض كتب الكلام، وعندي أن ترك الأخبار بالكلية في القصة مما لا يكاد يقبله المنصف، نعم لا يقبل منها ما فيه إخلال بمنصب النبوة ولا يقبل تأويلا يندفع معه ذلك ولا بد من القول بأنه لم يكن منه عليه السلام إلا ترك ما هو الأولى بعلى شأنه والاستغفار منه وهو لا يخل بالعصمة. يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ إما حكاية لما خوطب به عليه السلام مبينة لزلفاه عنده عزّ وجلّ وإما مقول لقول مقدر معطوف على (غفرنا) أو حال من فاعله أي وقلنا له أو قائلين له يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض أي استخلفناك على الملك فيها والحكم فيما بين أهلها أو جعلناك خليفة ممن قبلك من الأنبياء القائمين بالحق، وهو على الأول مثل فلان خليفة السلطان إذا كان منصوبا من قبله لتنفيذ ما يريده، وعلى الثاني من قبيل هذا الولد خليفة عن أبيه أي ساد مسده قائم بما كان يقوم به من غير اعتبار لحياة وموت وغيرهما، والأول أظهر والمنة به أعظم فهو عليه السلام خليفة الله تعالى بالمعنى الذي سمعت، قال ابن عطية: ولا يقال خليفة الله تعالى إلا لرسوله وأما الجزء: 12 ¦ الصفحة: 178 الخلفاء فكل واحد منهم خليفة من قبله، وما يجيء في الشعر من تسمية أحدهم خليفة الله فذلك تجوز كما قال قيس الرقيات: خليفة الله في بريته ... جفت بذاك الأقلام والكتب وقالت الصحابة لأبي بكر: خليفة رسول الله وبذلك كان يدعى إلى أن توفي فلما ولي عمر قالوا خليفة خليفة رسول الله فعدل عنه اختصارا إلى أمير المؤمنين. وذهب الشيخ الأكبر محيي الدين قدس سره إلى أن الخليفة من الرسل من فوض إليه التشريع ولعله من جملة اصطلاحاته ولا مشاحة في الاصطلاح، واستدل بعضهم بالآية على احتياج الأرض إلى خليفة من الله عزّ وجلّ وهو قول من أوجب على الله تعالى نصب الإمام لأنه من اللطف الواجب عليه سبحانه، والجماعة لا يقولون بذلك والإمامة عندهم من الفروع وإن ذكروها في كتب العقائد، وليس في الآية ما يلزم منه ذلك كما لا يخفى وتحقيق المطلب في محله فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ الذي شرعه الله تعالى لك فالحق خلاف الباطل وأل فيه للعهد، وجوز أن يراد به ما هو من أسمائه تعالى أي بحكم الحق أي الله عزّ وجلّ للعلم بأن الذوات لا يكون محكوما بها. وتعقب بأن مقابلته بالهوى تأبى ذلك، ولعل من يقول به يجعل المقابل المضاف المحذوف والمقابلة باعتبار أن حكم الله تعالى لا يكون إلا بالحق، وفرع الأمر بالحكم بالحق على ما تقدم لأن الاستخلاف بكلا المعنيين مقتض للحكم العدل لا سيما على المعنى الأول لظهور اقتضاء كونه عليه السلام خليفة له تعالى أن لا يخالف حكمه حكم من استخلفه بل يكون على وفق إرادته ورضاه. وقيل المترتب مطلق الحكم لظهور ترتبه على كونه خليفة. وذكر الحق لأن به سداده، وقيل ترتب ذلك لأن الخلافة نعمة عظيمة شكرها العدل. وفي البحر أن هذا أمر بالديمومة وتنبيه لغيره ممن ولي أمور الناس أن يحكم بينهم بالحق وإلا فهو من حيث إنه معصوم لا يحكم إلا بالحق، وعلى نحو هذا يخرج النهي عندي في قوله سبحانه وتعالى: وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فإن اتباع الهوى مما لا يكاد يقع من المعصوم. وظاهر السياق أن المراد ولا تتبع هوى النفس في الحكومات، وعمم بعضهم فقال: أي في الحكومات وغيرها من أمور الدين والدنيا. وأيد بهذا النهي ما قيل إن ذنبه عليه السلام المبادرة إلى تصديق المدعي وتظليم الآخر قبل مساءلته لا الميل إلى امرأة أوريا فكأنه قيل ولا تتبع الهوى في الحكم كما اتبعته أولا، وفيه أن اتباع الهوى وحكمه بغير ما شرع الله تعالى له غير مناسب لمقامه لا سيما وقد أخبر الله تعالى قبل الإخبار بمسألة المتحاكمين أنه أتاه الحكم وفصل الخطاب فليس هذا إلا إرشادا لما يقتضيه منصب الخلافة وتنبيها لمن هو دونه عليه السلام، وأصل الهوى ميل النفس إلى الشهوة، ويقال للنفس المائلة إليها ويكون بمعنى المهوى كما في قوله: هواي مع الركب اليمانين مصعد ... جنيب وجثماني بمكة موثق وبه فسره هنا بعضهم فقال: أي لا تتبع ما تهوى الأنفس فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بالنصب على أنه جواب النهي، وقيل هو مجزوم بالعطف على النهي مفتوح لالتقاء الساكنين أي فيكون الهوى أو اتباعه سببا لضلالك عن دلائله التي نصبها على الحق وهي أعم من الدلائل العقلية والنقلية، وصد ذلك عن الدلائل إما لعدم فهمها أو العمل بموجبها، وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ تعليل لما قبله ببيان غائلته وإظهار سبيل الله في موضع الإضمار لزيادة التقرير والإيذان بكمال شناعة الضلال عنه، وخبر إن إما جملة لَهُمْ عَذابٌ على أن لَهُمْ خبر مقدم وعذاب مبتدأ وأما الظرف وعذاب مرتفع على الفاعلية بما فيه من الاستقرار. وقرأ ابن عباس والحسن بخلاف عنهما وأبو حيوة «يضّلون» بضم الياء قال أبو حيان: وهذه القراءة أعم لأنه لا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 179 يضل إلا ضال في نفسه، وقراءة الجمهور أوضح لأن المراد بالموصول من أضلهم اتباع الهوى وهم بعد أن أضلهم صاروا ضالين. وقوله تعالى: بِما نَسُوا متعلق بالاستقرار والباء سببية وما مصدرية، وقوله سبحانه: يَوْمَ الْحِسابِ مفعول نَسُوا على ما هو الظاهر أي ثابت لهم ذلك العذاب بسبب نسيانهم وعدم ذكرهم يوم الحساب وعليه يكون تعليلا صريحا لثبوت العذاب الشديد لهم بنسيان يوم الحساب بعد الاشعار بعلية ما يستتبعه ويستلزمه أعني الضلال عن سبيل الله تعالى فإنه مستلزم لنسيان يوم الحساب بالمرة بل هذا فرد من أفراده. وأخرج ابن جرير عن عكرمة أن الكلام من التقديم والتأخير أي لهم يوم الحساب عذاب شديد بما نسوا فيكون يوم الحساب ظرفا لقوله تعالى: لَهُمْ وجعل النسيان عليه مجازا عن ضلالهم عن سبيل الله بعلاقة السببية ومن ضرورته جعل مفعول النسيان سبيل الله تعالى، وعليه يكون التعليل المصرح به عين التعليل المشعر به بالذات غيره بالعنوان فتدبر. وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا أي خلقا باطلا فهو منصوب على النيابة عن المفعول المطلق نحو كل هنيئا أي أكلا هنيئا، والباطل ما لا حكمة فيه، وجوز كونه حالا من فاعل خَلَقْنَا بتقدير مضاف أي ذوي باطل، والباطل اللعب والعبث أي ما خلقنا ذلك مبطلين لاعبين كقوله تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ [الأنبياء: 16، الدخان: 38] وجوز كونه حالا من المفعول أيضا بنحو هذا التأويل، وأيا ما كان فالكلام مستأنف مقرر لما قبله من أمر المعاد والحساب فإن خلق السماء والأرض وما بينهما من المخلوقات مشتملا على الحكم الباهرة والأسرار البالغة والفوائد الجمة أقوى دليل على عظم القدرة وأنه لا يتعاصاها أمر المعاد والحساب على خلق ذلك كذلك مؤذن بأنه عزّ وجلّ لا يترك الناس إذا ماتوا سدى بل يعيدهم ويحاسبهم ولعله الأولى. وجوز كون الجملة في موضع الحال في فاعل نَسُوا جيء بها لتفظيع أمر النسيان كأنه قيل: بما نسوا يوم الحساب مع وجود ما يؤذن به وهو كما ترى، وجوز كون باطِلًا مفعولا ويفسر بخلاف الحق ويراد به متابعة الهوى كأنه قيل: ما خلقنا هذا العالم للباطل الذي هو متابعة الهوى بل للحق الذي هو مقتضي الدليل من التوحيد والتدرع بالشرع كقوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] ولا يخفى بعده، وعليه تكون الجملة مستأنفة لتقرير أمر النهي عن اتباع الهوى، وقيل: تكون عطفا على ما قبل بحسب المعنى كأنه قيل: لا تتبع الهوى لأنه يكون سببا لضلالك ولأنه تعالى لم يخلق العالم لأجل متابعة الهوى بل خلقه للتوحيد والتمسك بالشرع فلا تغفل. ذلِكَ إشارة إلى نفي من خلق ما ذكر باطلا ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي مظنونهم ليصح الحمل أو يقدر مضاف أي ظن ذلك ظن الذين كفروا فإن إنكار هم المعاد والجزاء قول بأن خلق ما ذكر خال عن الحكمة وإنما هو عبث ولذا قال سبحانه: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون: 115] أو فإن إنكارهم ذلك قول بنفي عظم القدرة وهو قول بنفي دليله وهو خلق ما ذكر مشتملا على الحكم الباهرة والأسرار، وهذا بناء على الوجه الأول في بيان التقرير وهو كما ترى فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مبتدأ وخبر والفاء لإفادة ترتب ثبوت الويل لهم على ظنهم الباطل كما أن وضع الموصول موضع ضميرهم لإشعار ما في حيز الصلة بعلية كفرهم له، ولا تنافي بينهما لأن ظنهم من باب كفرهم فيتأكد أمر التعليل، ومِنَ في قوله تعالى: مِنَ النَّارِ ابتدائية أو بيانية أو تعليلية كما في قوله تعالى: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ [البقرة: 79] ونظائره وتفيد على هذا علية النار لثبوت الويل لهم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 180 صريحا بعد الإشعار بعلية ما يؤدي إليها من ظنهم وكفرهم أي فويل لهم بسبب النار المترتبة على ظنهم وكفرهم، قيل والكلام عليه على تقدير مضاف أي من دخول النار أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أم منقطعة وتقدر ببل والهمزة، والهمزة لإنكار التسوية بين الفريقين ونفيها على أبلغ وجه وآكده، وبل للإضراب الانتقالي من تقرير أمر البعث والحساب بما مر من نفي خلق العالم باطلا إلى تقريره وتحقيقه بإنكار التسوية بين الفريقين أي بل أنجعل المؤمنين المصلحين كالكفرة المفسدين في الأرض التي جعلت مقرا لهم كما يقتضيه عدم البعث وما يترتب عليه من الجزاء لاستواء الفريقين في التمتع في الحياة الدنيا بل أكثر الكفرة أوفر حظا منها منها من أكثر المؤمنين لكن ذلك الجعل محال مخالف للحكمة فتعين البعث والجزاء حتما لرفع الأولين إلى أعلى عليين ورد الآخرين إلى أسفل سافلين كذا قالوا، وظاهره أن محالية جعل الفريقين سواء حكمة تقتضي تعين المعاد الجسماني، وفيه خفاء، والظاهر أن المعاد الروحاني يكفي لمقتضى الحكمة من إثابة الأولين وتعذيب الآخرين الدليل العقلي الذي تشير إليه الآية ظاهر في إثبات معاد لكن بعد ابطال التناسخ وهو كاف في الرد على كفرة العرب فإنهم لا يقولون بمعاد بالكلية ولم يخطر ببالهم التناسخ أصلا، ولإثبات المعاد الجسماني طريق آخر مشهور بين المتكلمين، وجعل هذا الدليل العقلي طريقا لإثباته يحتاج إلى تأمل فتأمل، وقوله تعالى: أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ إضراب وانتقال عن إثبات ما ذكر بلزوم المحال الذي هو التسوية بين الفريقين المذكورين على الإطلاق إلى إثباته بلزوم ما هو أظهر منه استحالة وهي التسوية بين أتقياء المؤمنين وأشقياء الكفرة، وحمل الفجار على فجرة المؤمنين مما لا يساعده المقام، ويجوز أن يراد بهذين الفريقين عين الأولين ويكون التكرير باعتبار وصفين آخرين هما أدخل في إنكار التسوية من الوصفين الأولين، وأيا ما كان فليس المراد من الجمعين في الموضعين أناسا بأعيانهم ولذا قال ابن عباس: الآية عامة في جميع المسلمين والكافرين. وقيل: هي في قوم مخصوصين من مشركي قريش قالوا للمؤمنين إنا نعطي في الآخرة من الخير ما لا تعطون فنزلت، وأنت تعلم أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، وفي رواية أخرى عن ابن عباس أخرجها ابن عساكر أنه قال: الذين آمنوا علي وحمزة وعبيدة بن الحارث رضي الله تعالى عنهم والمفسدين في الأرض عتبة والوليد بن عتبة وشيبة وهم الذين تبارزوا يوم بدر، ولعله أراد أنهم سبب النزول، وقوله تعالى: كِتابٌ خبر مبتدأ محذوف هو عبارة عن القرآن أو السورة، ويجوز على الثاني تقديره مذكرا أي هو أو هذا وهو الأولى عند جمع رعاية للخبر وتقديره مؤنثا رعاية للمرجع، وقوله تعالى: أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ صفته، وقوله سبحانه: مُبارَكٌ أي كثير المنافع الدينية والدنيوية خبر ثان للمبتدأ أو صفة كِتابٌ عند من يجوز تأخير الوصف الصريح عن غير الصريح. وقرىء «مباركا» بالنصب على أنه حال من مفعول «أنزلنا» وهي حالا لازمة لأن البركة لا تفارقه جعلنا الله تعالى في بركاته ونفعنا بشريف آياته، وقوله عزّ وجلّ: لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ متعلق بأنزلناه، وجوز أن يكون متعلقا بمحذوف يدل عليه وأصله ليتدبروا بتاء بعد الياء آخر الحروف، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه بهذا الأصل أي أنزلناه ليتفكروا في آياته التي من جملتها هذه الآية المعربة عن أسرار التكوين والتشريع فيعرفوا ما يدبر ويتبع ظاهرها من المعاني الفائقة والتأويلات اللائقة، وضمير الرفع لأولي الألباب على التنازع وأعمال الثاني أو للمؤمنين فقط أولهم وللمفسدين، وقرأ أبو جعفر «لتدبروا» بتاء الخطاب وتخفيف الدال وجاء كذلك عن عاصم والكسائي بخلاف عنهما، والأصل لتتدبروا بتاءين فحذفت إحداهما على الخلاف الذي فيها أهي تاء المضارعة أم التاء التي تليها، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وعلماء أمته على التغليب أي لتدبر أنت وعلماء أمتك وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ أي وليتعظ به ذوو العقول الزاكية الخالصة من الشوائب أو ليستحضروا ما الجزء: 12 ¦ الصفحة: 181 هو كالمر كوز في عقولهم لفرط تمكنهم من معرفته لما نصب عليه من الدلائل فإن إرسال الرسل وإنزال الكتب لبيان ما لا يعرف إلا من جهة الشرع كوجوب الصلوات الخمس والإرشاد إلى ما يستقل العقل بإدراكه كوجود الصانع القديم جل جلاله وعم نواله وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ وقرىء «نعم» على الأصل، والمخصوص بالمدح محذوف أي نعم العبد هو أي سليمان كما ينبىء عنه تأخيره عن داود مع كونه مفعولا صريحا لوهبنا ولأن قوله تعالى: إِنَّهُ أَوَّابٌ أي رجاع إلى الله تعالى بالتوبة كما يشعر به السياق أو إلى التسبيح مرجع له أو إلى مرضاته عزّ وجلّ تعليل للمدح وهو من حاله لما أن الضمير المجرور في قوله سبحانه: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ يعود إليه عليه السلام قطعا، وإذ منصوب باذكر، والمراد من ذكر الزمان ذكر ما وقع فيه أو ظرف لأواب أو لنعم والظرف قنوع لكن يرد على الوجهين أن التقييد يخل بكمال المدح فالأول أولى وهو كالاستشهاد على أنه أواب أي اذكر ما صدر عنه إذ عرض عليه بِالْعَشِيِّ إلخ فإنه يشهد بذلك، والعشي على ما قال الراغب من زوال الشمس إلى الصباح، وقال بعض: منه إلى آخر النهار، والظرفان متعلقان بعرض، وقوله تعالى: الصَّافِناتُ نائب الفاعل وتأخيره عنهما لما مر غير مرة من التشويق إلى المؤخر، والصافن من الخيل الذي يرفع إحدى يديه أو رجليه ويقف على مقدم حافرها وأنشد الزجاج: ألف الصفون فما يزال كأنه ... مما يقوم على الثلاث كثيرا وقال أبو عبيدة: هو الذي يجمع يديه ويسويهما وأما الذي يقف على طرف الحافر فهو المتخيم، وعن التهذيب ومتن اللغة هو المخيم، وقال القتبي: الصافن الواقف في الخيل وغيرها، وفي الحديث «من سره أن يقوم الناس له صفونا فليتبوأ مقعده من النار» أي يديمون له القيام حكاه قطرب وأنشد للنابغة: لنا قبة مضروبة بفنائها ... عتاق المهارى والجياد الصوافن وقال الفراء: رأيت العرب على هذا وأشعارهم تدل على أنه القيام خاصة والمشهور في الصفون ما تقدم وهو من الصفات المحمودة في الخيل لا تكاد تتحقق إلا في العرب الخلص الْجِيادُ جمع جواد للذكر والأنثى يقال جاد الفرس صار رائضا يجود جودة بالضم وهو جواد ويجمع أيضا على أجواد وأجاويد، وقال بعضهم: هو جمع جود كثوب وأثواب وفسر بالذي يسرع في مشيه، وقيل هو الذي يجود بالركض، وقيل: وصفت بالصفون والجودة لبيان جمعها بين الوصفين المحمودين واقفة وجارية أي إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها وإذا جرت كانت سراعا خفافا في جريها، والخيل تمدح بالسكون في الموقف كما تمدح بالسرعة في الجري، ومن ذلك قول مسلم بن الوليد: وإذا احتبى قربوسه بعنانه ... علك الشكيم إلى انصراف الزائر وقيل جيد ككيّس ضد الرديء ويجمع على جيادات وجيائد، وضعف بأنه لا فائدة في ذكره مع الصَّافِناتُ حينئذ وبأنه يفوت عليه مدح الخيل باعتبار حاليها وكون الجياد أعم فذكره تعميم بعد تخصيص فيه نظر. وفي البحر قيل الجياد الطوال الأعناق من الجيد وهو العنق، وأنا في شك من ثبوته، قال في القاموس: الجيد بالكسر العنق أو مقلده أو مقدمه جمعه أجياد وجيود وبالتحريك طولها أو دقتها مع طول وهو أجيد وهي جيداء وجيدانة جمعه جود اه، وراجعت غيره فلم أجد فيه زيادة على ذلك فلينقر، ويمكن أن يقال: إن الجياد جمع شاذ لأجيد أو جيداء أو جيدانة أو هو جمع لجيد بالتحريك كجمل وجمال ويراد بجيد أجيد أو نحوه نظير ما يراد بالخلق المخلوق والله تعالى أعلم، وأيا ما كان فالوصفان يوصف بهما المذكر والمؤنث من الخيل، والجمع بألف وتاء لا يخص المؤنث فلا حاجة بعد القول بأن ما عرض كان مشتملا على ذكور الخيل وإناثها إلى القول بأن في الصافنات تغليب المؤنث على المذكر وأنه يجوز بقلة، وأريد بالجمع هنا الكثرة فعن الكلبي أن هذه الخيل كانت ألف فرس غزا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 182 سليمان عليه السلام دمشق ونصيبين فأصابها. واستشكلت هذه الرواية بأن الغنائم لم تحل لغير نبينا صلى الله عليه وسلم كما ورد في الحديث الصحيح . وأجيب بأنه يحتمل أن تكون فيئا لا غنيمة، وعن مقاتل أنها ألف فرس ورثها من أبيه داود وكان عليه السلام قد أصابها من العمالقة وهم بنو عمليق بن عوص بن عاد بن أرم. واستشكلت هذه زيادة على الأولى بأن الأنبياء عليهم السلام لا يورثون كما جاء في الحديث الذي رواه أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه محتجا به في مسألة فدك والعوالي بمحضر الصحابة وهم الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم. وأجيب بأن المراد بالإرث حيازة التصرف لا الملك، وعقرها تقربا على ما في الأوجه في الآية بعد وجاء في بعض الروايات لا يقتضي الملك، وقال عوف: بلغني أنها كانت خيلا ذات أجنحة أخرجت له من البحر لم تكن لأحد قبله ولا بعده، وروي كونها كذلك عن الحسن، وأخرج ابن جرير وغيره عن إبراهيم التيمي أنها كانت عشرين ألف فرس ذات أجنحة، وليس في هذا شيء سوى الاستبعاد، وإذا لم يلتفت إلى الأخبار في ذلك إذ ليس فيها خبر صحيح مرفوع أو ما في حكمه يعول عليه فيما أعلم فلنا أن نقول: هي خيل كانت له كالخيل التي تكون عند الملوك وصلت إليه بسبب من أسباب الملك فاستعرضها فلم تزل تعرض عليه حتى غربت الشمس، قيل وغفل عن صلاة العصر، وحكى هذا الطبرسي عن علي كرم الله وجهه وقتادة والسدي ثم قال: وفي روايات أصحابنا أنه فاته أول الوقت. وقال الجبائي: لم يفته الفرض وإنما فاته نفل كان يفعله آخر النهار. فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي قاله عليه السلام اعترافا بما صدر عنه من الاشتغال وندما عليه وتمهيدا لما يعقبه من الأمر بردها وعقرها على ما هو المشهور، والخير كثر استعماله في المال ومنه قوله تعالى: إِنْ تَرَكَ خَيْراً [البقرة: 180] وقوله سبحانه: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [البقرة: 273] وقوله عزّ وجلّ: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات: 8] وقال بعض العلماء: لا يقال للمال خير حتى يكون كثيرا ومن مكان طيب كما روي أن عليا كرم الله تعالى وجهه دخل على مولى له فقال: ألا أوصي يا أمير المؤمنين؟ قال، لا لأن الله تعالى يقول: إِنْ تَرَكَ خَيْراً وليس لك مال كثير ، وروي تفسيره بالمال هنا عن الضحاك وابن جبير، وقال أبو حيان: يراد بالخير الخيل والعرب تسمي الخيل الخير، وحكي ذلك عن قتادة والسدي، ولعل ذلك لتعلق الخير بها، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 183 ففي الخبر «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة» والأحباب على ما نقل عن الفراء مضمن معنى الإيثار وهو ملحق بالحقيقة لشهرته في ذلك، وظاهر كلام بعضهم أنه حقيقة فيه فهو مما يتعدى بعلى لكن عدي هنا بعن لتضمينه معنى الإنابة وحُبَّ الْخَيْرِ مفعول به أي آثرت حب الخير منيبا له عن ذكر ربي أو أنبت حب الخير عن ذكر ربي مؤثرا له. وجوز كون حُبَّ منصوبا على المصدر التشبيهي ويكون مفعول أَحْبَبْتُ محذوفا أي أحببت الصافنات أو عرضها حبا مثل حب الخير منيبا لذلك عن ذكر ربي، وليس المراد بالخير عليه الخيل وذكر أبو الفتح الهمداني أن أحببت بمعنى لزمت من قوله: ضرب بعير السوء إذ أحبا واعترض بأن أحب بهذا المعنى غريب لم يرد إلا في هذا البيت وغرابة اللفظ تدل على اللكنة وكلام الله عزّ وجلّ منزه عن ذلك، مع أن اللزوم لا يتعدى بعن إلا إذا ضمن معنى يتعدى به أو تجوز به عنه فلم يبق فائدة في العدول عن المعنى المشهور مع صحته أيضا بالتضمين وجعل بعضهم الأحباب من أول الأمر بمعنى التقاعد والاحتباس وحب الخير مفعولا لأجله أي تقاعدت واحتبست عن ذكر ربي لحب الخير. وتعقب بأن الذي يدل عليه السلام اللغويين أنه لزوم عن تعب أو مرض ونحوه فلا يناسب تقاعد النشاط والتلهي الذي كان عليه السلام فيه وقول بعض الأجلة: بعد التنزل عن جواز استعمال المقيد في المطلق لما كان لزوم المكان لمحبة الخيل على خلاف مرضاة الله تعالى جعلها من الأمراض التي تحتاج إلى التداوي بأضدادها ولذلك عقرها ففي أَحْبَبْتُ استعارة تبعية لا يخفى حسنها ومناسبتها للمقام ليس بشيء لخفاء هذه الاستعارة نفسها وعدم ظهور قرينتها، وبالجملة ما ذكره أبو الفتح مما لا ينبغي أن يفتح له باب الاستحسان عند ذوي العرفان، وجوز حمل أَحْبَبْتُ على ظاهره من غير اعتبار تضمينه ما يتعدى بعن وجعل عن متعلقة بمقدر كمعرضا وبعيدا وهو حال من ضمير أَحْبَبْتُ، وجوز في عن كونها تعليلية وسيأتي إن شاء الله تعالى وو ذِكْرِ مضاف إلى مفعوله وجوز أن يكون مضافا إلى فاعله. وقيل الإضافة على معنى اللام ولا يراد بالذكر المعنى المصدري بل يراد به الصلاة فمعنى عن ذكر ربي عن صلاة ربي التي شرعها وهو كما ترى. وبعض من جعل عن للتعليل فسر ذلك الرب بكتابه عزّ وجلّ وهو التوراة أي أحببت الخيل بسبب كتاب الله تعالى وهو التوراة فإن فيه مدح ارتباطها وروي ذلك عن أبي مسلم، وقرأ أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو «إني أحببت» بفتح الياء حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ متعلق بقوله تعالى: أَحْبَبْتُ باعتبار استمرار المحبة ودوامها حسب استمرار العرض أي أنبت حب الخير عن ذكر ربي واستمر ذلك حتى غربت الشمس تشبيها لغروبها في مغربها بتواري المخباة بحجابها على طريق الاستعارة التبعية، ويجوز أن يكون هناك استعارة مكنية تخييلية وأيا ما كان فما أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن كعب، قال: الحجاب هو حجاب من ياقوت أخضر محيط بالخلائق منه اخضرت السماء، وما قيل إنه جبل دون قاف بسنة تغرب الشمس وراءه لا يخفى حاله، والناس في ثبوت جبل قاف بين مصدق ومكذب والقرافي يقول لا وجود له وإليه أميل وإن قال المثبتون ما قالوا، والباء للظرفية أو الاستعانة أو الملابسة، وعود الضمير إلى الشمس من غير ذكر لدلالة العشي عليها، والضمير المنصوب في قوله تعالى: رُدُّوها عَلَيَّ للصافنات على ما قال غير واحد. وظاهر كلامهم أنه للصافنات المذكور في الآية، ولعلك تختار أنه للخيل الدال عليها الحال المشاهدة أو الخير في قوله: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ لأن ردوها من تتمة مقالته عليه السلام والصافنات غير مذكورة في كلامه بل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 184 في كلام الله تعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم، والكلام على ما قال الزمخشري على إضمار القول أي قال ردوها علي، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه قيل: فماذا قال سليمان؟ فقيل قال: ردوها، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يحتاج إلى الإضمار إذ الجملة مندرجة تحت حكاية القول في قوله تعالى: فَقالَ إِنِّي إلخ والفاء في قوله تعالى: فَطَفِقَ مَسْحاً فصيحة مفصحة عن جملة قد حذفت ثقة بدلالة الحال عليها وإيذانا بغاية سرعة الامتثال بالأمر كما في قوله تعالى فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً أي فردوها عليه فطفق إلخ وطفق من أفعال الشروع واسمها ضمير سليمان ومَسْحاً مفعول مطلق لفعل مقدر هو خبرها أي شرع يمسح مسحا لا حال مؤول بماسحا كما جوزه أبو البقاء إذ لا بد لطفق من الخبر وليس هذا مما يسد الحال فيه مسده، وقرأ زيد بن علي «مساحا» على وزن قتال بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ أي بسوقها وأعناقها على أن التعريف للعهد وإن أل قائمة مقام الضمير المضاف إليه، والباء متعلقة بالمسح على معنى شرع يمسح السيف بسوقها وأعناقها، وقال: جمع هي زائدة أي شرع يمسح سوقها وأعناقها بالسيف، ومسحته بالسيف كما قال الراغب: كناية عن الضرب. وفي الكشاف يمسح السيف بسوقها وأعناقها يقطعها تقول مسح علاوته إذا ضرب عنقه ومسح المسفر الكتاب إذا قطع أطرافه بسيفه، وعن الحسن كسف عراقيبها وضرب أعناقها أراد بالكسف القطع ومنه الكسف في ألقاب الزحاف والعروض ومن قاله بالشين المعجمة فمصحّف، وكون المراد القطع قد دل عليه بعض الأخبار. أخرج الطبراني في الأوسط والاسماعيلي في معجمه وابن مردويه بسند حسن عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قوله تعالى: فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ قطع سوقها وأعناقها بالسيف، وقد جعلها عليه السلام بذلك قربانا لله تعالى وكان تقريب الخيل مشروعا في دينه، ولعل كسف العراقيب ليتأتى ذبحها بسهولة، وقيل: إنه عليه السلام حبسها في سبيل الله تعالى وكان ذلك المسح الصادر منه وسما لها لتعرف أنها خيل محبوسة في سبيل الله تعالى وهو نظير ما يفعل اليوم من الوسم بالنار ولا بأس به في شرعنا ما لم يكن في الوجه، ولعله عليه السلام رأى الوسم بالسيف أهون من الوسم بالنار فاختاره أو كان هو المعروف في تلك الأعصار بينهم، ويروى أنه عليه السلام لما فعل ذلك سخر له الريح كرامة له، وقيل: إنه عليه السلام أراد بذلك إتلافها حيث شغلته عن عبادة ربه عز وجل وصار تعلق قلبه بها سببا لغفلته، واستدل بذلك الشبلي قدس سره على حل تحريق ثيابه بالنار حين شغلته عن ربه جل جلاله وهذا قول باطل لا ينبغي أن يلتفت إليه وحاشا نبي الله أن يتلف مالا محترما لمجرد أنه شغل به عن عبادة وله سبيل لأن يخرجه عن ملكه مع نفع هو من أجل القرب إليه عزّ وجلّ على أن تلك الخيل لم يكن عليه السلام اقتناها واستعرضها بطرا وافتخارا معاذ الله تعالى من ذلك وإنما اقتناها للانتفاع بها في طاعة الله سبحانه واستعرضها للتطلع على أحوالها ليصلح من شأنها ما يحتاج إلى إصلاح وكل ذلك عبادة فغاية ما يلزم أنه عليه السلام نسي عبادة لشغله بعبادة أخرى فاستدلال الشبلي قدس سره غير صحيح، وقد نبه أيضا على عدم صحته عبد الوهاب الشعراني من السادة الصوفية في كتابه اليواقيت والجواهر في عقائد الأكابر ولكن يحمل الآية على محمل آخر، وما ذكرناه في محملها وتفسيرها هو المشهور بين الجمهور ولهم فيها كلام غير ذلك فقيل ضمير رُدُّوها للشمس والخطاب للملائكة عليهم السلام الموكلين بها، قالوا: طلب ردها لما فاته صلاة العصر لشغله بالخيل فردت له حتى صلى العصر، وروي هذا القول عن علي كرم الله تعالى وجهه كما قال الخفاجي والطبرسي. وتعقب ذلك الرازي بأن القادر على تحريك الأفلاك والكواكب هو الله تعالى فكان يجب أن يقول ردها عليّ دون رُدُّوها بضمير الجمع. فإن قالوا: هو للتعظيم كما في رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون: 99] قلنا: لفظ ردوها مشعر بأعظم أنواع الإهانة فكيف يليق بهذا اللفظ رعاية الجزء: 12 ¦ الصفحة: 185 التعظيم وأيضا إن الشمس لو رجعت بعد الغروب لكان مشاهدا لكل أهل الدنيا ولو كان كذلك لتوفرت الدواعي على نقله وحيث لم ينقله أحد علم فساده. والذي يقول برد الشمس لسليمان يقول هو كردها ليوشع وردها لنبينا صلى الله عليه وسلم في حديث العير ويوم الخندق حين شغل عن صلاة العصر وردها لعلي كرم الله تعالى وجهه ورضي عنه بدعائه عليه الصلاة والسلام، فقد روي عن أسماء بنت عميس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوحى إليه ورأسه في حجر علي كرم الله تعالى وجهه فلم يصل العصر حتى غربت الشمس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صليت يا علي؟ قال: لا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس قالت أسماء: فرأيتها غربت ثم رأيتها طلعت بعد ما غربت ووقعت على الأرض وذلك بالصهباء في خيبر ، وهذا الخبر في صحته خلاف فقد ذكره ابن الجوزي في الموضوعات، وقال: إنه موضوع بلا شك وفي سنده أحمد بن داود وهو متروك الحديث كذاب كما قاله الدارقطني، وقال ابن حبان: كان يضع الحديث، وقال ابن الجوزي: قد روى هذا الحديث ابن شاهين فذكره ثم قال: وهذا حديث باطل ومن تغفل واضعه أنه نظر إلى صورة فضيلة ولم يلمح عدم الفائدة فيها وأن صلاة العصر بغيبوبة الشمس وتصير قضاء ورجوع الشمس لا يعيدها أداء انتهى. وقد أفرد ابن تيمية تصنيفا في الرد على الروافض ذكر فيه الحديث بطرقه ورجاله وأنه موضوع، وقال الإمام أحمد: لا أصل له، وصححه الطحاوي والقاضي عياض، ورواه الطبراني في معجمه الكبير بإسناد حسن كما حكاه شيخ الإسلام ابن العراقي في شرح التقريب عن أسماء أيضا لكن بلفظ آخر ورواه ابن مردويه عن أبي هريرة وكان أحمد بن صالح يقول: لا ينبغي لمن سبيله العلم التخلف عن حفظ حديث أسماء لأنه من علامات النبوة، وكذا اختلف في حديث الرد يوم الخندق فقيل ضعيف، وقيل: موضوع، وادعى العلامة ابن حجر الهيثمي صحته، وما في حديث العير وأظن أنهم اختلفوا في صحته أيضا ليس صريحا في الرد فإن لفظ الخبر أنه لما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وأخبر قومه بالرفقة والعلامة التي في العير قالوا: متى يجيء؟ قال: يوم الأربعاء فلما كان ذلك اليوم أشرفت قريش ينظرون وقد ولى النهار ولم يجىء فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزيد له في النهار ساعة وحبست عليه الشمس والحبس غير الرد ولو كان هناك رد لأدركه قريش ولقالوا فيه ما قالوا في انشقاق القمر ولم ينقل، وقيل: كأن ذلك كان بركة في الزمان نحو ما يذكره الصوفية مما يعبرون عنه بنشر الزمان وإن لم يتعقله الكثير وكذا ما كان ليوشع عليه السلام فقد جاء في الحديث الصحيح لم تحبس الشمس على أحد إلا ليوشع بن نون والقصة مشهورة وهذا الحديث الصحيح عند الكل يعارض جميع ما تقدم، وتأويله بأن المراد لم تحبس على أحد من الأنبياء غيري إلا ليوشع أو بالتزام أن المتكلم غير داخل في عموم كلامه بعد تسليم قبوله لا ينفي معارضته خبر الرد لسليمان عليه السلام فإنه بظاهره يستدعي نفي الرد الذي هو أعظم من الحبس له عليه السلام. وبالجملة القول برد الشمس لسليمان عليه السلام غير مسلم، وعدم قولي بذلك ليس لامتناع الرد في نفسه كما يزعمه الفلاسفة بل لعدم ثبوته عندي، والذوق السليم يأبى حمل الآية على ذلك لنحو ما قال الرازي ولغيره من تعقيب طلب الرد بقوله تعالى: فَطَفِقَ إلخ ثم ما قدمنا نقله من وقوع الصلاة بعد الرد قضاء هو ما ذهب إليه البعض. وفي تحفة العلامة ابن حجر الهيثمي لو عادت الشمس بعد الغروب عاد الوقت كما ذكره ابن العماد، وقضية كلام الزركشي خلافه وأنه لو تأخر غروبها عن وقته المعتاد قدر غروبها عنده وخرج الوقت وإن كانت موجودة انتهى كلام الزركشي، وما ذكره آخرا بعيد وكذا أولا فالأوجه كلام ابن العماد ولا يضركون عودها معجزة له صلى الله عليه وسلم لأن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 186 المعجزة نفس العود وأما بقاء الوقت بعودها فحكم الشرع ومن ثم لما عادت صلى علي كرم الله تعالى وجهه العصر أداء بل عودها لم يكن إلا لذلك انتهى. ولا يحضرني الآن ما لأصحابنا الحنفية في ذلك بيد أني رأيت في حواشي تفسير البيضاوي لشهاب الدين الخفاجي وهو من أجلة الأصحاب ادعاء أن الظاهر أن الصلاة بعد الرد أداء ثم قال: وقد بحث الفقهاء فيه بحثا طويلا ليس هذا محله، وقيل ضمير تَوارَتْ للخيل كضمير رُدُّوها واختاره جمع فقيل الحجاب اصطبلاتها أي حتى دخلت اصطبلاتها، وقيل حتى توارت في المسابقة بما يحجبها عن النظر، وبعض من قال بإرجاع الضمير للخيل جعل عن للتعليل ولم يجعل المسح بالسوق والأعناق بالمعنى السابق فقالت طائفة: عرض على سليمان الخيل وهو في الصلاة فأشار إليهم إني في صلاة فأزالوها عنه حتى دخلت في الاصطبلات فقال لما فرغ من صلاته: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ أي الذي لي عند الله تعالى في الآخرة بسبب ذكر ربي كأنه يقول فشغلني ذلك عن رؤية الخيل حتى دخلت اصطبلاتها ردوها علي فطفق يمسح أعرافها وسوقها محبة لها وتكريما. وروي أن المسح كان لذلك عن ابن عباس والزهري وابن كيسان ورجحه الطبري، وقيل كان غسلا بالماء ولا يخفى أن تطبيق هذه الطائفة الآية على ما يقولون ركيك جدا. وقال الرازي: قال الأكثرون إنه عليه السلام فاته صلاة العصر بسبب اشتغاله بالنظر إلى الخيل فاستردها وعقر سوقها وأعناقها تقربا إلى الله تعالى، وعندي أنه بعيد ويدل عليه وجوه، الأول أنه لو كان مسح السوق والأعناق قطعها لكان معنى قوله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [المائدة: 6] اقطعوها وهذا لا يقوله عاقل بل لو قيل مسح رأسه بالسيف فربما فهم منه ضرب العنق أما إذا لم يذكر لفظ السيف لم يفهم منه ذلك البتة، الثاني أن القائلين بهذا القول جمعوا على سليمان أنواعا من الأفعال المذمومة، فأولها ترك الصلاة، وثانيها أنه استولى عليه الاشتغال بحب الدنيا إلى حيث نسي الصلاة، وقد قال عليه الصلاة والسلام «حب الدنيا رأس كل خطيئة» وثالثها أنه بعد الإتيان بهذا الذنب العظيم لم يشتغل بالتوبة والإنابة، ورابعها على القول برجوع ضمير رُدُّوها إلى الشمس أنه خاطب رب العالمين بكلمة لا يذكرها الرجل الحصيف إلا مع الخادم الخسيس، وخامسها أنه اتبع هذه المعاصي بعقر الخيل سوقها وأعناقها وقد ورد النهي عن ذبح الحيوان إلا لأكله. فهذه أنواع من الكبائر نسبوها إلى سليمان عليه السلام مع أن لفظ القرآن لا يدل على شيء منها، وسادسها أن ذكر هذه القصة وكذا التي قبلها بعد أمره بالصبر على سفاهة الكفار يقتضي أن تكون مشتملة على الأعمال الفاضلة والأخلاق الحميدة والصبر على طاعة الله تعالى والإعراض عن الشهوات واللذات وأما اشتمالها على الإقدام على الكبائر العظيمة والذنوب الجسيمة فبمراحل عن مقتضى التعقيب فثبت أن كتاب الله تعالى ينادي على القول المذكور بالفساد. والصواب أن يقال: إن رباط الخيل كان مندوبا إليه في دينهم كما أنه كذلك في دين نبينا صلى الله عليه وسلم ثم إن سليمان احتاج إلى الغزو فجلس وأمر بإحضار الخيل وأمر باجرائها وذكر إني لا أحبها لأجل الدنيا ونصيب النفس وإنما أحبها لأمر الله تعالى وتقوية دينه وهو المراد من قوله: عَنْ ذِكْرِ رَبِّي ثم أنه عليه السلام أمر بإعدائها وتسييرها حتى توارت بالحجاب أي غابت عن بصره ثم أمر الرائضين بأن يردوا تلك الخيل إليه فلما عادت إليه طفق يمسح سوقها وأعناقها والغرض من ذلك المسح أمور. الأول تشريف لها وإبانة لعزتها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو، والثاني أنه أراد أن يظهر أنه في ضبط السياسة والملك يتضع إلى حيث يباشر أكثر الأمور بنفسه، والثالث أنه كان أعلم بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها فكان يمتحنها ويمسح سوقها وأعناقها حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض، فهذا التفسير الذي ينطبق عليه لفظ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 187 القرآن انطباقا موافقا، ولا يلزمنا نسبة شيء من تلك المنكرات والمحذورات إلى نبي من الأنبياء عليهم السلام، ثم قال: وأقول أنا شديد التعجب من الناس كيف قبلوا ما شاع من الوجوه السخيفة مع أن العقل والنقل يردانها وليس لهم في إثباتها شبهة فضلا عن حجة ولفظ الآية لا يدل على شيء من تلك الوجوه التي يذكرها الجمهور كما قد ظهر ظهورا لا يرتاب العاقل فيه، وبفرض الدلالة يقال إن الدلائل الكثيرة قامت على عصمة الأنبياء عليهم السلام ولم يدل دليل على صحة تلك الحكايات ورواية الآحاد لا تصلح معارضة للدلائل القوية فكيف الحكايات عن أقوام لا يبالى بهم ولا يلتفت إلى أقوالهم انتهى كلامه. وكان عليه الرحمة قد اعترض القول برجوع ضمير تَوارَتْ إلى الشمس دون الصافنات بأن الصافنات مذكورة بصريحها والشمس ليس كذلك وعود الضمير إلى المذكور أولى من عوده إلى المقدر، وأيضا أنه قال إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ وظاهره يدل على أنه كان يعيد ويكرر قوله إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي إلى أن توارت بالحجاب فإذا كانت المتوارية الشمس يلزم القول بأنه كرر ذلك من العصر إلى المغرب وهو بعيد، وإذا كانت الصافنات كان المعنى أنه حين وقع بصره عليها حال عرضها كان يقول ذلك إلى أن غابت عن عينه وذلك مناسب، وأيضا القائلون بالعود إلى الشمس قائلون بتركه عليه السلام صلاة العصر ويأباه أني أحببت إلخ لأن تلك المحبة لو كانت عن ذكر الله تعالى لما نسي الصلاة ولما ترك ذكر الله عزّ وجلّ، وأقول: ما عند الجمهور أولى بالقبول وما ذكره عليهم من الوجوه لا يلتفت إليه ولا يعول عليه. أما ما قاله من أنه لو كان مسح السوق والأعناق بمعنى القطع لكان امسحوا برؤوسكم أمرا بقطعها ففيه أن هذا إنما يتم لو قيل إن المسح كلما ذكر بمعنى القطع ولم يقل ولا يقال وإنما قالوا: إن المسح في الآية بمعنى القطع وقد قال بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في خبر حسن وقد قدمناه لك عن الطبراني والاسماعيلي وابن مردويه وليس بعد قوله عليه الصلاة والسلام قول القائل، ويكفي مثل ذلك الخبر في مثل هذا المطلب إذ ليس فيه ما يخالف العقل أو نقلا أقوى كما ستعرفه إن شاء الله تعالى. وقد ذكر هذا المعنى للمسح الزمخشري أيضا وهو من أجلة علماء هذا الشأن، وصح نقله عن جماعة من السلف، وقال الخفاجي: استعمال المسح بمعنى ضرب العنق استعارة وقعت في كلامهم قديما، نعم احتياج ذلك للقرينة مما لا شبهة فيه، والقرينة عند من يدعيه هاهنا السياق وعود ضمير تَوارَتْ على الشمس وهو كالمتعين كما سيتضح لك إن شاء الله تعالى. وأما قوله: إنهم جمعوا على سليمان عليه السلام أنواعا من الأفعال المذمومة ففرية من غير مرية. وقوله: أولها ترك الصلاة فيه أن الترك المذموم ما كان عن عمد وهم لا يقولون به وما يقولون به الترك نسيانا وهو ليس بمذموم إذ النسيان لا يدخل تحت التكليف على أن كون ما ترك فرضا مما لم يجزم به الجميع، وقوله: ثانيها أنه استولى عليه الاشتغال بحب الدنيا إلى حيث ترك الصلاة، فيه أن ذلك اشتغال بخيل الجهاد وهو عبادة. وقوله: ثالثها أنه بعد الإتيان بهذا الذنب العظيم لم يشتغل بالتوبة والإنابة، فيه أنا لا نسلم أنه عليه السلام ارتكب ذنبا حقيقة فضلا عن كونه عظيما، نعم ربما يقال: إنه عليه السلام لم يستحسن ذلك بمقامه فاتبعه التقرب بالخيل التي شغل بسببها وذلك يدل على التوبة دلالة قوية ولم يكن ليتعطل أمر الجهاد به فقد أوتي عليه السلام غير ذلك على أن كون ما ذكر كالاستشهاد على قوله تعالى: إِنَّهُ أَوَّابٌ مشعر بتضمنه الأوبة وإن ذهبنا إلى تعلق إِذْ عُرِضَ بأواب يكاد لا يرد هذا الكلام رأسا. وقوله: رابعها أنه خاطب ربه عزّ وجلّ بلفظ غير مناسب، فيه أنه إن ورد فإنما يرد على القول برجوع ضمير الجزء: 12 ¦ الصفحة: 188 رُدُّوها إلى الشمس ونحن لا نقول به فلا يلزمنا الجواب عنه، والذي نقوله: إن الضمير للخيل والخطاب لخدمته ومع هذا لم يقل تلك الكلمة تهورا وتجبرا كما يتوهم، وقوله: خامسها أنه اتبع هذه المعاصي بعقر الخيل وقد ورد النهي إلخ، فيه أنه عليه السلام لم يفعل معصية ليقال اتبع هذه المعاصي وأن الخيل عقرت قربانا وكان تقريبها مشروعا في دينه فهو طاعة، ومن مجموع ما ذكرنا يعلم ما في قوله سادسها إلخ على أنه قد تقدم لك وجه ربط هذه القصص بما قبلها وهو لا يتوقف على التزام ما قاله في هذه القصة وما زعمه من أنه الصواب ففيه إرجاع ضمير توارت إلى الخيل، ولا يخفى على ذي ذوق سليم وطبع مستقيم إن تواري الخيل بالحجاب عبارة ركيكة يجل عنها الكتاب المتين، وفيه أيضا أنه لا يكاد ينساق إلى الذهن متعلق حَتَّى تَوارَتْ الذي أشار إليه في تقرير ما زعم صوابيته وتعلقه على ما يشير إليه كلامه المنقول آخرا مما يستبعد جدا فإن الظاهر أن قوله: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ من المحكي كالذي قبله والذي بعده لا من الحكاية، وأيضا كون الرد للمسح الذي ذكره خلاف ما جاء في الخبر الحسن وهو في نفسه بعيد، والأغراض التي ذكرها فيه لا يخفى حالها، ودعواه أن هذا التفسير هو الذي ينطبق عليه القرآن مما لا يتم لها دليل ولعل الدليل على عدم الانطباق ظاهر. وقوله: أنا شديد التعجب من الناس إلخ أقول فيه: أنا تعجبي منه أشد من تعجبه من الناس حيث خفي عليه حسن الوجه الذي استحسنه الجمهور ولم يطلع على ما ورد فيه من الأخبار الحسان وظن أن القول به مناف للقول بعصمة الأنبياء عليهم السلام حتى قال ما قال ورشق على الجمهور النبال، وقوله في ترجيح رجوع ضمير تَوارَتْ إلى الصَّافِناتُ على رجوعه إلى الشمس أنها مذكورة بصريحها دون الشمس ليس بشيء فإن رجوعه إلى الشمس يجعل الكلام ركيكا فلا ينبغي ارتكابه لمجرد أن فيه رجوع الضمير إلى مذكور صريحا على أن في كونه راجعا إلى الصافنات المذكورة صريحا بحثا، ولا يرد على الجمهور لزوم تخالف الضمائر في المرجع وهو تفكيك لأن التخالف مع القرينة لا ضير فيه، وأعجب مما ذكر زعمه أنه يلزم على ما قال الجمهور أن سليمان عليه السلام كرر قوله: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي من العصر إلى المغرب فإن الجمهور ما حاموا حول ما يلزم منه ذلك أصلا إذ لم يقل أحد منهم بأن حتى متعلقة بقال كما زعم هو بل هي عندهم متعلقة بأحببت على المعنى الذي أسلفناه، ومن أنصف لا يرتضي أيضا القول بأنه عليه السلام كرر ذلك القول إلى أن غابت الخيل عن عينه كما قال به هذا الإمام، ويرد على قوله القائلون بالعود إلى الشمس قائلون بتركه عليه السلام صلاة العصر ويأباه إِنِّي أَحْبَبْتُ إلخ. لأن تلك المحبة لو كانت عن ذكر الله تعالى لما نسي الصلاة أن الجمهور لا يقولون بأن على للتعليل والإباء المذكور على تقدير تسليمه لا يتسنى إلا على ذلك وما يقولونه وقد أسلفناه لك بمراحل عنه. وبالجملة قد اختلت أقوال هذا الإمام في هذا المقام ولم ينصف مع الجمهور وهم أعرف منه بالمأثور، نعم ما ذكره في الآية وجه ممكن فيها على بعد إذا قطع النظر عن الاخبار وما جاء عن السلف من الآثار، وقد ذكر نحوه عبد الوهاب الشعراني في كتابه اليواقيت والجواهر وهو في الحقيقة والله تعالى أعلم من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين قدس سره وقد خالف الجمهور كالإمام، قال في الباب المائة والعشرين من الفتوحات ليس للمفسرين الذين جعلوا التواري للشمس دليل فإن الشمس ليس لها هنا ذكر ولا للصلاة التي يزعمون ومساق الآية لا يدل على ما قالوه بوجه ظاهر البتة، وأما استرواحهم فيما فسروه بقوله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ فالمراد بتلك الفتنة إنما هو الاختبار بالخيل هل يحبها عن ذكر ربه تعالى لها أو يحبها لعينها فأخبر عليه السلام عن نفسه أنه أحبها عن ذكر ربه سبحانه إياها لا لحسنها وكمالها وحاجته إليها إلى آخر ما قال، وقد كان قدس سره معاصرا للإمام وكتب إليه رسالة يرغبه فيها بسلوك الجزء: 12 ¦ الصفحة: 189 طريقة القوم ولم يجتمعا، وغالب الظن أنه لم يأخذ أحدهما من الآخر ما قال في الآية بل لم يسمعه وعلم كل منهما لا ينكر والشيخ بحر لا يدرك قعره، وما ذكره في الاسترواح مما لم أقف عليه لأحد من المفسرين والله تعالى أعلم. وقرأ ابن كثير «بالسؤق» بهمزة ساكنة قال أبو علي: وهي ضعيفة لكن وجهها في القياس أن الضمة لما كانت تلي الواو قدر أنها عليها كما يفعلون بالواو المضمومة حيث يبدلونها همزة، ووجهها من القياس أن إباحية النميري كان يهمز كل واو ساكنة قبلها ضمة وكان ينشد: أحب الوافدين إليّ موسى وقال أبو حيان: ليست ضعيفة لأن الساق فيه الهمزة فوزنه فعل بسكون العين فجاءت هذه القراءة على هذه اللغة. وتعقب بأن همز الساق إبدال على غير القياس إذ لا شبهة في كونه أجوف فلا بد من التوجيه بما تقدم. وقرأ ابن محيصن «بالسؤوق» بهمزة مضمومة بعدها واو ساكنة بوزن الفسوق، ورواها بكار عن قنبل وهو جمع ساق أيضا. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «بالساق» مفردا اكتفى به عن الجمع لأمن اللبس وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ أظهر ما قيل في فتنته عليه السلام أنه قال: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تأتي كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل الله تعالى ولم يقل إن شاء الله فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة وجاءت بشق رجل وقد روى ذلك الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة مرفوعا وفيه «فو الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا فرسانا» لكن الذي في صحيح البخاري أربعين بدل سبعين وأن الملك قال له: قل إن شاء الله فلم يقل وغايته ترك الأولى فليس بذنب وإن عده هو عليه السلام ذنبا، فالمراد بالجسد ذلك الشق الذي ولد له، ومعنى إلقائه على كرسيه وضع القابلة له عليه ليراه. وروى الإمامية عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أنه ولد لسليمان ابن فقالت الجن والشياطين: إن عاش له ولد لنلقين منه ما لقينا من أبيه من البلاء فأشفق عليه السلام منهم فجعله وظئره في السحاب من حيث لا يعلمون فلم يشعر إلا وقد ألقي على كرسيه ميتا تنبيها على أن الحذر لا ينجي من القدر وعوتب على تركه التوكل اللائق بالخواص من ترك مباشرة الأسباب، وروي ذلك عن الشعبي أيضا، ورواه بعضهم عن أبي هريرة على وجه لا يشك في وضعه إلا من يشك في عصمة الأنبياء عليهم السلام، وأنا في صحة هذا الخبر لست على يقين بل ظاهر الآية أن تسخير الريح بعد الفتنة وهو ظاهر في عدم صحة الخبر لأن الوضع في السحاب يقتضي ذلك. وأخرج عبد بن حميد والحكيم الترمذي من طريق علي بن زيد عن سعيد بن المسيب أن سليمان عليه السلام احتجب عن الناس ثلاثة أيام فأوحى الله تعالى إليه أن يا سليمان احتجبت عن الناس ثلاثة أيام فلم تنظر في أمور عبادي ولم تنصف مظلوما من ظالم وكان ملكه في خاتمه وكان إذا دخل الحمام وضع خاتمه تحت فراشه فجاء الشيطان فأخذه فأقبل الناس على الشيطان فقال سليمان: يا أيها الناس أنا سليمان نبي الله تعالى فدفعوه فساح أربعين يوما فأتى أهل سفينة فأعطوه حوتا فشقها فإذا هو بالخاتم فيها فتختم به ثم جاء فأخذ بناصيته فقال عند ذلك: رَبِّ ... هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي. وأخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم قال ابن حجر والسيوطي بسند قوي عن ابن عباس أراد سليمان عليه السلام أن يدخل الخلاء فأعطى لجرادة خاتمه وكانت امرأته وكانت أحب نسائه إليه فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي فأعطته فلما لبسه دانت الإنس والجن والشياطين فلما خرج سليمان قال لها: هاتي خاتمي قالت: قد أعطيته سليمان قال أنا سليمان قالت كذبت لست سليمان فجعل لا يأتي أحدا فيقول له أنا سليمان إلا كذبه حتى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 190 جعل الصبيان يرمونه بالحجارة فلما رأى ذلك عرف أنه من أمر الله تعالى وقام الشيطان يحكم بين الناس فلما أراد الله تعالى أن يرد عليه سلطانه ألقى في قلوب الناس إنكار ذلك الشيطان فأرسلوا إلى نساء سليمان فقالوا: أتنكرن من سليمان شيئا؟ قلن: نعم إنه يأتينا ونحن حيض وما كان يأتينا قبل ذلك فلما رأى الشيطان أنه قد فطن له ظن أن أمره قد انقطع فأمر الشياطين فكتبوا كتبا فيها سحر ومكر فدفنوها تحت كرسي سليمان ثم أثاروها وقرؤوها على الناس وقالوا: بهذا كان يظهر سليمان على الناس ويغلبهم فاكفر الناس سليمان وبعث ذلك الشيطان بالخاتم فطرحه في البحر فتلقته سمكة فأخذته وكان عليه السلام يعمل على شط البحر بالأجر فجاء رجل فاشترى سمكا فيه تلك السمكة، فدعا سليمان فحمل معه السمك إلى باب داره فأعطاه تلك السمكة فشق بطنها فإذا الخاتم فيه فأخذه فلبسه فدانت له الإنس والجن والشياطين وعاد إلى حاله وهرب الشيطان إلى جزيرة في البحر فأرسل في طلبه وكان مريدا فلم يقدروا عليه حتى وجدوه نائما فبنوا عليه بنيانا من رصاص فاستيقظ فأوثقوه وجاؤوا به إلى سليمان فأمر فنقر له صندوق من رخام فأدخل في جوفه ثم سد بالنحاس ثم أمر به فطرح في البحر. وذكر في سبب ذلك أنه عليه السلام كان قد غزا صيدون في الجزائر فقتل ملكها وأصاب ابنته وهي جرادة المذكورة فأحبها وكان لا يرقأ دمعها جزعا على أبيها فأمر الشياطين فمثلوا لها صورته وكان ذلك جائزا في شريعته وكانت تغدو إليها وتروح مع ولائدها يسجدن لها كعادتهن في ملكه فأخبره آصف فكسر الصورة وضرب المرأة فعوتب بذلك حيث تغافل عن حال أهله . واختلف في اسم ذلك الشيطان فعن السدي أنه حبقيق وعن الأكثرين أنه صخر وهو المشهور، وإنما قال سبحانه: جَسَداً لأنه إنما تمثل بصورة غيره وهو سليمان عليه السلام وتلك الصورة المتمثلة ليس فيها روح صاحبها الحقيقي وإنما حل في قالبها ذلك الشيطان فلذا سميت جسدا وعبارة القاموس صريحة في أن الجسد يطلق على الجني. وقال أبو حيان وغيره: إن هذه المقالة من أوضاع اليهود وزنادقة السوفسطائية ولا ينبغي لعاقل أن يعتقد صحة ما فيها، وكيف يجوز تمثل الشيطان بصورة نبي حتى يلتبس أمره عند الناس ويعتقدوا أن ذلك المتصور هو النبي، ولو أمكن وجود هذا لم يوثق بإرسال نبي نسأل الله تعالى سلامة ديننا وعقولنا ومن أقبح ما فيها زعم تسلط الشيطان على نساء نبيه حتى ووطئهن وهن حيض الله أكبر هذا بهتان عظيم وخطب جسيم ونسبة الخبر إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا تسلم صحتها، وكذا لا تسلم دعوى قوة سنده إليه وإن قال بها من سمعت. وجاء عن ابن عباس برواية عبد الرزاق وابن المنذر ما هو ظاهر في أن ذلك من أخبار كعب ومعلوم أن كعبا يرويه عن كتب اليهود وهي لا يوثق بها على أن اشعار ما يأتي بأن تسخير الشياطين بعد الفتنة يأبى صحة هذه المقالة كما لا يخفى، ثم إن أمر خاتم سليمان عليه السلام في غاية الشهرة بين الخواص والعوام ويستبعد جدا أن يكون الله تعالى قد ربط ما أعطى نبيه عليه السلام من الملك بذلك الخاتم وعندي أنه لو كان في ذلك الخاتم السر الذي يقولون لذكره الله عزّ وجلّ في كتابه والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. وقال قوم: مرض سليمان عليه السلام مرضا كالإغماء حتى صار على كرسيه كأنه جسد بلا روح وقد شاع قولهم في الضعيف: لحم على وضم وجسد بلا روح فالجسد الملقى على الكرسي هو عليه السلام نفسه. وروي ذلك عن أبي مسلم وقال في قوله تعالى: ثُمَّ أَنابَ أي رجع إلى الصحة وجعل جَسَداً حالا من مفعول ألقينا المحذوف كأنه قيل ولقد فتنا سليمان أي ابتليناه وأمرضناه وألقيناه على كرسيه ضعيفا كأنه جسد بلا روح ثم رجع إلى صحته، ولا يخفى سقمه، والحق ما ذكر أولا في الحديث المرفوع، وعطف أَنابَ بثم وكان الظاهر الفاء كما في قوله تعالى: فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ قيل إشارة إلى استمرار إنابته وامتدادها فإن الممتد يعطف بها نظرا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 191 لأواخره بخلاف الاستغفار فإنه ينبغي المسارعة إليه ولا امتداد في وقته، وقيل: إن العطف بثم هنا لما أنه عليه السلام لم يعلم الداعي إلى الإنابة عقيب وقوعه وهذا بخلاف ما كان في قصة داود عليه السلام فإن العطف هناك على ظن الفتنة واللائق به أن لا يؤخر الاستغفار عنه، وقيل: العطف بها هنا لما أن بين زمان الإنابة وأول زمان ما وقع منه عليه السلام من ترك الاستثناء مدة طويلة وهي مدة الحمل وليس بين زمان استغفار داود عليه السلام وأول زمان ما وقع منه كذلك قالَ بدل من أَنابَ وتفسير له على ما في إرشاد العقل السليم وهو الظاهر. ويمكن أن يكون استئنافا بيانيا نشأ من حكاية ما تقدم كأنه قيل فهل كان له حال لا يضر معه مسح الخيل سوقها وأعناقها وهل كان بحيث تقتضي الحكمة فتنته؟ فأجيب بما أجيب وحاصله نعم كان له حال لا يضر معه المسح وكان بحيث تقتضي الحكمة فتنته فقد دعا بملك عظيم فوهب له، ويمكن أن يقرر الاستئناف على وجه آخر، وكذا يمكن أن يكون استئنافا نحويا لحكاية شيء من أحواله عليه السلام فتأمل رَبِّ اغْفِرْ لِي ما لم أستحسن صدوره عني. وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي أي لا يصح لأحد غيري لعظمته فبعد هنا نظير ما في قوله تعالى: فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ [الجاثية: 23] أي غير الله تعالى، وهو أعم من أن يكون الغير في عصره، والمراد وصف الملك بالعظمة على سبيل الكناية كقولك لفلان ما ليس لأحد من الفضل والمال وربما كان في الناس أمثاله تريد أن له من ذلك شيئا عظيما لا أن لا يعطى أحد مثله ليكون منافسة، وما أخرج عبد بن حميد والبخاري ومسلم والنسائي والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن عفريتا جعل يتفلت علي البارحة ليقطع على صلاتي وإن الله تعالى أمكنني منه فلقد هممت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا فتنظروا إليه كلكم فذكرت قول أخي سليمان رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فرده الله تعالى خاسئا» لا ينافي ذلك لأنه عليه الصلاة والسلام أراد كمال رعاية دعوة أخيه سليمان عليه السلام بترك شيء تضمنه ذلك الملك العظيم وإلا فالملك العظيم ليس مجرد ربط عفريت إلى سارية بل هو سائر ما تضمنه قوله تعالى الآتي فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ إلخ، وقيل: إن عدم المنافاة لأن الكناية تجامع إرادة الحقيقة كما تجامع إرادة عدمها، ولعله إنما طلب عليه السلام ذلك ليكون علامة على قبول سؤاله المغفرة وجبر قلب عما فاته بترك الاستثناء أو ليتوصل به إلى تكثير طاعته لله عزّ وجلّ ونعمة الدنيا الصالحة للعبد الصالح فلا إشكال في طلب الملك في هذا المقام إذا قلنا بما يقتضيه ظاهر النظم الجليل من صدور الطلبين معا. وقال الزمخشري: كان سليمان عليه السلام ناشئا في بيت الملك والنبوة ووارثا لهما فأراد أن يطلب من ربه عزّ وجلّ معجزة فطلب على حسب إلفه ملكا زائدا على الممالك زيادة خارقة للعادة بالغة حد الإعجاز ليكون ذلك دليلا على نبوته قاهرا للمبعوث إليهم ولن تكون معجزة حتى تخرق العادات فذلك معنى لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فقوله من بعدي بمعنى من دوني وغيري كما في الوجه السابق، وحسن طلب ذلك معجزة مع قطع النظر عن الإلف أنه عليه السلام كان زمن الجبارين وتفاخرهم بالملك ومعجزة كل نبي من جنس ما اشتهر في عصره، ألا ترى أنه لما اشتهر السحر وغلب في عهد الكليم عليه السلام جاءهم بما يتلقف ما أتوا به. ولما اشتهر الطلب في عهد المسيح عليه السلام جاءهم بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، ولما اشتهر في عهد خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم الفصاحة أتاهم بكلام لم يقدروا على أقصر فصل من فصوله. واعترض بأن اللائق بطلب المعجزة أن يكون في ابتداء النبوة وظاهر النظم الجليل أن هذا الطلب كان بعد الفتنة والإنابة كيف لا وقوله تعالى: قالَ إلخ بدل من أَنابَ وتفسير له والفتنة لم تكن في الابتداء كما يشعر به النظم. وأجيب بأنا لا نسلم أن اللائق بطلب المعجزة كونها في ابتداء النبوة وإن سلم فليس الجزء: 12 ¦ الصفحة: 192 في الآية ما ينافي وقوعه، وكذا وقوع الفتنة في ابتدائها لا سيما إن قلنا: إن قوله تعالى قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي إلخ ليس تفسيرا لأناب. وأجيب على القول بأن الفتنة كانت سلب الملك بأن رجوعه بعد كالابتداء. وذكر بعض الذاهبين إلى ذلك أنه عليه السلام أقام في ملكه قبل هذه الفتنة عشرين سنة وأقام بعدها عشرين سنة أيضا وقالوا في هذه الآية: إن مصب الدعاء الوصف فمعنى الآية هب لي ملكا لا ينبغي لأحد غيري ممن هو في عصري بأن يسلبه مني كهذه السلبة. وروي هذا المعنى عن عطاء بن أبي رباح وقتادة، وحاصله الدعاء بعدم سلب ملكه عنه في حياته، ويفهم مما في سياق التفريع إجابة سؤاله عليه السلام وأن ما وهب له لا يسلب عنه بعد. وجوز أن يكون هذا دعاء بعدم السلب وإن لم يتقدم سلب ودوام نعمة الله عزّ وجلّ مما يحسن الدعاء به والآثار ملأى من ذلك فهذا الوجه لا يتعين بناؤه على تفسير الفتنة بسلب الملك على ما حكي سابقا. وقال الجبائي: إنه عليه السلام طلب ملكا لا يكون لغيره أبدا ولم يطلب ذلك إلا بعد الإذن فإن الأنبياء عليهم السلام لا يطلبون إلا ما يؤذن لهم في طلبه وجائز أن يكون الله تعالى قد أعلمه أنه إن سأل ذلك كان أصلح له في الدين وأعلمه أن لا صلاح لغيره فيه وهو نظير قول القائل: اللهم اجعلني أكثر أهل زماني مالا إذا علمت أن ذلك أصلح لي فإنه حسن لا ينسب قائله إلى شح اه. قيل ويجوز أن يكون معنى الآية عليه هب لي ملكا ينبغي لي حكمة ولا ينبغي حكمة لأحد غيري وأراد بذلك طلب أن يكون عليه السلام متأهلا لنعم الله عزّ وجلّ وهو كما ترى. وقيل غير ذلك، ومن أعجب ما رأيت ما قاله السيد المرتضى: إنه يجوز أن يكون إنما سأل ملك الآخرة وثواب الجنة ويكون معنى قوله: لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي لا يستحقه بعد وصوله إليه من حيث لا يصح أن يعمل ما يستحق به ذلك لانقطاع التكليف، ولا يخفى أنه مما لا يرتضيه الذوق والتفريع الآتي آب عنه كل الإباء، واستدل بعضهم بالآية على بعض الأقوال المذكورة فيها على تكفير من ادعى استخدام الجن وطاعتهم له وأيد ذلك بالحديث السابق، والحق أن استخدام الجن الثابت لسليمان عليه السلام لم يكن بواسطة أسماء ورياضات بل هو تسخير إلهي من غير واسطة شيء وكان أيضا على وجه أتم وهو مع ذلك بعض الملك الذي استوهبه فالمختص على تقدير إفادة الآية الاختصاص مجموع ما تضمنه قوله تعالى: فَسَخَّرْنا إلخ فالظاهر عدم اكفاء من يدعي استخدام شيء من الجن، ونحن قد شاهدنا مرارا من يدعي ذلك وشاهدنا آثار صدق دعواه على وجه لا ينكره إلا سوفسطائي أو مكابر. ومن الاتفاقيات الغريبة أني اجتمعت يوم تفسيري لهذه الآية برجل موصلي يدعي ذلك وامتحنته بما يصدق دعواه في محفل عظيم ففعل وأتى بالعجب العجاب، وكانت الأدلة على نفي احتمال الشعبذة ونحوها ظاهرة لذوي الألباب إلا أن لي إشكالا في هذا المقام وهو أن الخادم الجني قد يحضر الشيء الكثيف من نحو صندوق مقفل بين جمع في حجرة أغلقت أبوابها وسدت منافذها ولم يشعر به أحد، ووجه الإشكال أن الجني لطيف فكيف ستر الكثيف فلم ير في الطريق وكيف أخرجه من الصندوق وأدخله الحجرة وقد سددت المنافذ، وتلطف الكثيف ثم تكثفه بعد مما لا يقبله إلا كثيف أو سخيف، ومثل ذلك كون الإحضار المذكور على نحو إحضار عرش بلقيس بالإعدام والإيجاد كما يقوله الشيخ الأكبر أو بوجه آخر كما يقول غيره، ولعل الشرع أيضا يأبى هذا، وسرعة المرور إن نفعت ففي عدم الرؤية في الطريق، وقصارى ما يقال لعل للجني سحرا أو نحوه سلب به الإحساس فتصرف بالصندوق ومنافذ الحجرة حسبما أراد وأتى بالكثيف يحمله ولم يشعر به أحد من الناس فإن تم هذا فبها وإلا فالأمر مشكل، وظاهر جعل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 193 جملة قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي تفسيرا للإنابة يقتضي أن الاستغفار مقصود لذاته لا وسيلة للاستيهاب، وفي كون الاستيهاب مقصودا لذاته أيضا احتمالان. وتقديم الاستغفار على تقدير كونهما مقصودين بالذات لمزيد اهتمامه بأمر الدين وقد يجعل مع هذا وسيلة للاستيهاب المقصود أيضا فإن افتتاح الدعاء بنحو ذلك أرجى للإجابة، وجوز على بعد بعد التزام الاستئناف في الجملة كون الاستيهاب هو المقصود لذاته والاستغفار وسيلة له، وسيجيء إن شاء الله تعالى ما قيل في الاستئناس له. وقرىء «من بعدي» بفتح الياء وحكى القراءة به في لي، وقوله تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ تعليل للدعاء بالمغفرة والهبة معا لا للدعاء بالأخيرة فقط فإن المغفرة أيضا من أحكام وصف الوهابية قطعا، ومن جوز كون الاستيهاب هو المقصود استأنس له بهذا التعليل ظنا منه أنه للدعاء بالأخيرة فقط وكذا بعدم التعرض لإجابة الدعاء بالأولى فإن الظاهر أن قوله تعالى: فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ إلى آخره تفريع على طلبه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ولو كان الاستغفار مقصودا أيضا لقيل فغفرنا له وسخرنا له الريح إلخ. وأجيب بأنه يجوز أن يقال: إن المغفرة لمن استغفر لا سيما الأنبياء عليهم السلام لما كانت أمرا معلوما بخلاف هبة ملك لمن استوهب لم يصرح بها واكتفى بدلالة ما ذكر في حيز الفاء مع ما في الآية بعد على ذلك، وتقوى هذه الدلالة على تقدير أن يكون طلب الملك علامة على قبول استغفاره وإجابة دعائه فتأمل، والتسخير التذليل أي فذللناها لطاعته إجابة لدعوته، وقيل أدمنا تذليلها كما كان وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة وأبو جعفر «الرياح» بالجمع قيل: وهو أوفق لما شاع من أن الريح تستعمل في الشر والرياح في الخير، وقد علمت أن ذلك ليس بمطرد، وقوله تعالى: تَجْرِي بِأَمْرِهِ بيان لتسخيرها له عليه السلام أو حال أي جارية بأمره رُخاءً أي لينة من الرخاوة لا تحرك لشدتها. واستشكل هذا بأنه ينافي قوله تعالى: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً [الأنبياء: 81] لوصفها ثمت بالشدة وهنا باللين. وأجيب بأنها كانت في أصل الخلقة شديدة لكنها صارت لسليمان لينة سهلة أو أنها تشتد عند الحمل وتلين عند السير فوصفت باعتبار حالين أو أنها شديدة في نفسها فإذا أراد سليمان عليه السلام لينها لانت على ما يشير إليه قوله تعالى: بِأَمْرِهِ أو أنها تلين وتعصف باقتضاء الحال، وقال ابن عباس والحسن والضحاك: رخاء مطيعة لا تخالف إرادته كالمأمور المنقاد، فالمراد بلينها انقيادها له وهو لا ينافي عصفها، واللين يكون بمعنى الإطاعة وكذا الصلابة تكون بمعنى العصيان حَيْثُ أَصابَ أي قصد وأراد كما روي عن ابن عباس والضحاك وقتادة، وحكي الزجاج عن العرب أصاب الصواب فأخطأ الجواب، وعن رؤبة أن رجلين من أهل اللغة قصداه ليسألاه عن هذه الكلمة فخرج إليهما فقال: أي تصيبان؟ فقالا: هذه طلبتنا ورجعا ويقال أصاب الله تعالى بك خيرا، وأنشد الثعلبي: أصاب الكلام فلم يستطع ... فأخطا الجواب لدى المعضل وعن قتادة أن أصاب بمعنى أراد لغة هجر وقيل لغة حمير، وجوز أن يكون أصاب من صاب يصوب بمعنى نزل، والهمزة للتعدية أي حيث أنزل جنوده. وحيث متعلقة بسخرنا أو بتجري وَالشَّياطِينَ عطف على الريح كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ بدل من الشَّياطِينَ وهو بدل كل من كل أن أريد المعهودون المسخرون أو أريد من له قوة البناء والغوص والتمكن منهما أو بدل بعض إن لم يرد ذلك فيقدر ضمير أي منهم والغوص لاستخراج الحلية وهو عليه السلام على ما قيل أول من استخرج الدر وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ عطف على كُلَّ لا على الشَّياطِينَ لأنهم منهم إلا أن يراد العهد ولا على ما أضيف إليه كُلَّ لأنه لا يحسن فيه إلا الإضافة إلى مفرد منكر أو جمع معرف، والأصفاد جمع صفد وهو القيد في المشهور، وقيل الجامعة أعني الغل الذي يجمع اليدين إلى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 194 العنق قيل وهو الأنسب بمقرنين لأن التقرين بها غالبا ويسمى به العطاء لأنه ارتباط للمنعم عليه ومنه قول علي كرم الله تعالى وجهه: من برّك فقد أسرك ومن جفاك فقد أطلقك وقول القائل: غل يدا مطلقها وفك رقبة معتقها، وقال أبو تمام: هممي معلقة عليك رقابها ... مغلولة إن العطاء إسار وتبعه المتنبي في قوله: وقيدت نفسي في ذراك محبة ... ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا وفرقوا بين فعليهما فقالوا: صفده قيده وأصفده أعطاه عكس وعده وأوعده. ولهم في ذلك كلام طويل قال فيه الخفاجي ما قال ثم قال: والتحقيق عندي أن هاهنا مادتين في كل منهما ضار ونافع وقليل اللفظ وكثيرة وقد ورد في إحداهما الضار بلفظ مقدم والنافع بلفظ كثير مؤخر وفي الأخرى عكسه ووجهه في الأول أنه أمر واقع لأنه وضع للقيد ثم أطلق على العطاء لأنه يقيد صاحبه وعبر بالأقل في القيد لضيقه المناسب لقلة حروفه وبالأكثر في العطاء لأنه من شأن الكرم. وقدم الأول لأنه أصل أخف وعكس ذلك في وعد وأوعد فعبر في النافع بالأقل وقدم وأخر الضار وكثر حروفه لأنه مستقبل غير واقع والخير الموعود به يحمد سرعة إنجازه وقلة مدة وقوعه فإن أهنا البر عاجله وهذا يناسب قلة حروفه وفي الوعيد يحمد تأخيره لحسن الخلف والعفو عنه فناسب كثرة حروفه ثم قال: وهذا تحقيق في غاية الحسن وما عداه وهم فارغ فأعرفه والمراد بهؤلاء المقرنين المردة فتفيد الآية تفصيل الشياطين إلى عملة استعملهم عليه السلام في الأعمال الشاقة كالبناء والغوص ومردة قرن بعضهم ببعض بالجوامع ليكفوا عن الشر، وظاهره أن هناك تقييدا وهو مشكل لأن الشياطين إما أجسام نارية لطيفة قابلة للتشكل، وإما أرواح خبيثة مجردة، وأيا ما كان لا يمكن تقييدها ولا إمساك القيد لها. وأجيب باختيار الأول وهو الصحيح. والأصفاد غير ما هو المعروف بل هي أصفاد يتأتى بها تقييد اللطيف على وجه يمنعه عن التصرف، والأمر من أوله خارق للعادة، وقيل: إن لطافة أجسامهم بمعنى شفافتها لا تأبى الصلابة كما في الزجاج والفلك عند الفلاسفة فيمكن أن تكون أجسامهم شفافة وصلبة فلا ترى لشفافتها ويتأتى تقييدها لصلابتها، وأنكر بعضهم الصلابة لتحقق نفوذ الشياطين فيما لا يمكن نفوذ الصلب فيه وأنهم لا يدركون باللمس والصلب يدرك به. وقيل: لا مانع من أنه عليه السلام يقيدهم بشكل صلب فيقيدهم حينئذ بالأصفاد والشيطان إذا ظهر متشكلا بشكل قد يتقيد به ولا يمكنه التشكل بغيره ولا العود إلى ما كان، وقد نص الشيخ الأكبر محيي الدين قدس سره أن نظر الإنسان يقيد الشيطان بالشكل الذي يراه فيه فمتى رأى الإنسان شيطانا بشكل ولم يصرف نظره عنه بالكلية لم يستطع الشيطان الخفاء عنه ولا التشكل بشكل آخر إلى أن يجد فرصة صرف النظر عنه ولو برمشة عين. وزعم الجبائي أن الشيطان كان كثيف الجسم في زمن سليمان عليه السلام ويشاهده الناس ثم لما توفي عليه السلام أمات الله عزّ وجلّ ذلك الجن وخلق نوعا آخر لطيف الجسم بحيث لا يرى ولا يقوى على الأعمال الشاقة، وهذا لا يقبل أصلا إلا برواية صحيحة وأنى هي، وقيل: الأقرب أن المراد تمثيل كفهم عن الشرور بالإقران في الصفد وليس هناك قيد ولا تقييد حقيقة هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ إما حكاية لما خوطب به سليمان عليه السلام مبينة لعظم شأن ما أوتي من الملك وأنه مفوض إليه تفويضا كليا، وإما مقول لقول مقدر هو معطوف على (سخرنا) أو حال من فاعله أي وقلنا أو قائلين له هذا إلخ والإشارة إلى ما أعطاه مما تقدم أي هذا الذي أعطيناكه من الملك العظيم والبسطة والتسليط على ما لم يسلط عليه غيرك عطاؤنا الخاص بك فأعط من شئت وامنع من شئت غير محاسب على شيء من الأمرين ولا مسؤول عنه في الآخرة لتفويض التصرف فيه إليك على الإطلاق، فبغير حساب الجزء: 12 ¦ الصفحة: 195 حال من المستكن في الأمر والفاء جزائية وهذا عَطاؤُنا مبتدأ وخبر، والإخبار مفيد لما أشرنا إليه من اعتبار الخصوص أي عطاؤنا الخاص بك أو يقال: إن ذكره ليس للإخبار به بل ليترتب عليه ما بعده كقوله: هذه دارهم وأنت مشوق ... ما بقاء الدموع في الآماق وجوز أن يكون بِغَيْرِ حِسابٍ حالا من العطاء نحو هذا بَعْلِي شَيْخاً [هود: 72] أي هذا عطاؤنا متلبسا بغير حساب عليه في الآخرة أو هذا عطاؤنا كثيرا جدا لا يعد ولا يحسب لغاية كثرته، وأن يكون صلة العطاء واعتبره بعضهم قيدا له لتتم الفائدة ولا يحتاج لاعتبار ما تقدم، وعلى التقديرين ما في البين اعتراض فلا يضر الفصل به، والفاء اعتراضية وجاء اقتران الاعتراض بها كما جاء بالواو كقوله: واعلم فعلم المرء ينفعه ... أن سوف يأتي كل ما قدرا وقيل: الإشارة إلى تسخير الشياطين، والمراد بالمن والإمساك إطلاقهم وإبقاؤهم في الأصفاد، والمن قد يكون بمعنى الإطلاق كما في قوله تعالى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً [محمد: 4] والأولى في قوله تعالى: بِغَيْرِ حِسابٍ حينئذ كونه حالا من المستكن في الأمر، وهذا القول رواه ابن جرير. وابن أبي حاتم عن ابن عباس، وما روي عنه من أنه إشارة إلى ما وهب له عليه السلام من النساء والقدرة على جماعهن لا يكاد يصح إذ لم يجر لذلك ذكر في الآية، وإلى الأول ذهب الجمهور وهو الأظهر، وقرأ ابن مسعود «هذا فامنن أو امسك عطاؤنا بغير حساب» وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى لقربه وكرامة مع ما له من الملك العظيم فهو إشارة إلى أن ملكه لا يضره ولا ينقصه شيئا من مقامه. وَحُسْنَ مَآبٍ حسن مرجع في الجنة وهو عطف على (زلفى) وقرأ الحسن وابن أبي عبلة «وحسن» بالرفع هي أنه مبتدأ خبره محذوف أي له، والوقف عندهما على لَزُلْفى هذا وأمر سليمان عليه السلام من أعظم الأمور وكان مع ما آتاه الله تعالى من الملك العظيم يعمل الخوص بيده ويأكل خبز الشعير ويطعم بني إسرائيل الحواري أخرجه أحمد في الزهد عن عطاء، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رفع سليمان عليه السلام طرفه إلى السماء تخشعا» حيث أعطاه الله تعالى ما أعطاه وكان في عصره من ملوك الفرس كيخسرو فقد ذكر الفقيه أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري في تاريخه أنه عليه السلام ورث ملك أبيه في عصر كيخسرو بن سباوش وسار من الشام إلى العراق فبلغ خبره كيخسرو فهرب إلى خراسان فلم يلبث حتى هلك ثم سار سليمان إلى مرو ثم إلى بلاد الترك فوغل فيها ثم جاوز بلاد الصين ثم عطف إلى أن وافى بلاد فارس فنزلها أياما ثم عاد إلى الشام ثم أمر ببناء بيت المقدس فلما فرغ سار إلى تهامة ثم إلى صنعاء وكان من حديثه مع صاحبتها ما ذكره الله تعالى وغزا بلاد المغرب الأندلس وطنجة وغيرهما ثم انطوى البساط وضرب له بين عساكر الموتى الفسطاط فسبحان الملك الدائم الذي لا يزول ملكه ولا ينقضي سلطانه. وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ قال ابن إسحاق: الصحيح أنه كان من بني إسرائيل ولم يصح في نسبه شيء غير أن اسم أبيه أموص، وقال ابن جرير: هو أيوب بن أموص بن روم بن عيص بن إسحاق عليه السلام، وحكى ابن عساكر أن أمه بنت لوط وأن أباه ممن آمن بإبراهيم فعلى هذا كان عليه السلام قبل موسى، وقال ابن جرير: كان بعد شعيب، وقال ابن أبي خيثمة: كان بعد سليمان، وقوله تعالى: وَاذْكُرْ إلخ عطف على اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ [ص: 17] وعدم تصدير قصة سليمان عليه السلام بهذا العنوان لكمال الاتصال بينه وبين داود عليهما السلام، وأَيُّوبَ عطف بيان لعبدنا أو بدل منه بدل كل من كل، وقوله تعالى: إِذْ نادى رَبَّهُ بدل اشتمال منه أو من أَيُّوبَ أَنِّي أي بأني. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 196 وقرأ عيسى بكسر همزة «إني» مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ وقرىء بإسكان ياء «مسني» وبإسقاطها بِنُصْبٍ بضم النون وسكون الصاد التعب كالنصب بفتحتين، وقيل: هو جمع نصب كوثن ووثن، وقرأ أبو جعفر وشيبة وأبو عمارة عن حفص والجعفي عن أبي بكر وأبو معاذ عن نافع بضمتين وهي لغة، ولا مانع من كون الضمة الثانية عارضة للاتباع، وربما يقال: إن في ذلك رمزا إلى ثقل تعبه وشدته، وقرأ زيد بن علي والحسن والسدي وابن أبي عبلة ويعقوب والجحدري بفتحتين وهي لغة أيضا كالرشد والرشد، وقرأ أبو حيوة ويعقوب في رواية وهبيرة عن حفص بفتح النون وسكون الصاد، قال الزمخشري: على أصل المصدر، ونص ابن عطية على أن ذلك لغة أيضا قال بعد ذكر القراءات: وذلك كله بمعنى واحد وهو المشقة وكثيرا ما يستعمل النصب في مشقة الإعياء. وفرق بعض الناس بين هذه الألفاظ والصواب أنها لغات بمعنى من قولهم أنصبني الأمر إذا شق علي انتهى. والتنوين للتفخيم وكذا في قوله تعالى: وعَذابٍ وأراد به الألم وهو المراد بالضر في قوله: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ [الأنبياء: 83] . وقيل: النصب والضر في الجسد والعذاب في الأهل والمال، وهذا حكاية لكلامه عليه السلام الذي نادى به ربه عزّ وجلّ بعبارته وإلا لقيل إنه مسه إلخ بالغيبة، وإسناد المس إلى الشيطان قيل على ظاهره وذلك أنه عليه اللعنة سمع ثناء الملائكة عليهم السلام على أيوب عليه السلام فحسده وسأل الله تعالى أن يسلطه على جسده وماله وولده ففعل عزّ وجلّ ابتلاء له، والقصة مشهورة. وفي بعض الآثار أن الماس له شيطان يقال له مسوط، وأنكر الزمخشري ذلك فقال: لا يجوز أن يسلط الله تعالى الشيطان على أنبياء عليهم السلام ليقضي من اتعابهم وتعذيبهم وطره، ولو قدر على ذلك لم يدع صالحا إلا وقد نكبه وأهلكه، وقد تكرر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة فحسب، وجعل إسناد المس إليه هنا مجازا فقال لما كانت وسوسته إليه وطاعته له فيما وسوس سببا فيما مسه الله تعالى من النصب والعذاب نسبه إليه، وقد راعى عليه السلام الأدب في ذلك حيث لم ينسبه إلى الله سبحانه في دعائه مع أنه جل وعلا فاعله ولا يقدر عليه إلا هو، وهذه الوسوسة قيل وسوسته إليه عليه السلام أن يسأل الله تعالى البلاء ليمتحن ويجرب صبره على ما يصيبه كما قال شرف الدين عمر ابن الفارض. وبما شئت في هواك اختبرني ... فاختياري ما كان فيه رضاكا وسؤاله البلاء دون العافية ذنب بالنسبة لمقامه عليه لا حقيقة، والمقصود من ندائه بذلك الاعتراف بالذنب. وقيل إن رجلا استغاثه على ظالم فوسوس إليه الشيطان بترك إغاثته فلم يغثه فمسه الله تعالى بسبب ذلك بما مسه. وقيل: كانت مواشيه في ناحية ملك كافر فداهنه ولم يغزه وسوسة من الشيطان فعاتبه الله تعالى بالبلاء، وقيل وسوس إليه فأعجب بكثرة ماله وولده فابتلاه الله تعالى لذلك وكل هذه الأقوال عندي متضمنة ما لا يليق بمنصب الأنبياء عليهم السلام. وذهب جمع إلى أن النصب والعذاب ليسا ما كانا له من المرض والألم أو المرض وذهاب الأهل والمال بل أمر أن عرضا له وهو مريض فاقد الأهل والمال فقيل هما ما كانا له من وسوسة الشيطان إليه في مرضه من عظم البلاء والقنوط من الرحمة والإغراء على الجزع كان الشيطان يوسوس إليه بذلك هو يجاهده في دفع ذلك حتى تعب وتألم على ما هو فيه من البلاء فنادى ربه يستصرفه عنه ويستعينه عليه أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ وقيل كانا من وسوسة الشيطان إلى غيره فقيل: إن الشيطان تعرض لامرأته بصورة طبيب فقالت له: إن هاهنا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 197 مبتلى فهل ذلك أن تداويه فقال: نعم بشرط أن يقول: إذا شفيته أنت شفيتني فمالت لذلك وعرضت كلامه لأيوب عليه السلام فعرف أنه الشيطان وكان عليه ذلك أشد مما هو فيه نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ إلخ، وقيل: إن الشيطان طلب منها أن تذبح لغير الله تعالى إذا عالجه وبرأ فمالت لذلك فعظم عليه عليه السلام الأمر فنادى، وقيل: إنه كان يعوده ثلاثة من المؤمنين فارتد أحدهم فسأل عنه فقيل له: ألقى إليه الشيطان أن الله تعالى لا يبتلي الأنبياء والصالحين فتألم من ذلك جدا فقال ما قال وفي رواية مر به نفر من بني إسرائيل فقال بعضهم لبعض: ما أصابه هذا إلا بذنب أصابه وهذا نوع من وسوسة الشيطان فعظم عليه ذلك فقال ما قال، والإسناد على جميع ما ذكر باعتبار الوسوسة، وقيل غير ذلك والله تعالى أعلم. وقوله سبحانه: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ إما حكاية لما قبل له أو مقول لقول مقدر معطوف على نادى أي فقلنا له اركض برجلك أي اضرب بها وكذا قوله تعالى: هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ فإنه أيضا إما حكاية لما قيل له بعد امتثاله بالأمر ونبوع الماء أو مقول لقول مقدر معطوف على مقدر ينساق إليه الكلام كأنه قيل: فضربها فنبعت عين فقلنا له هذا مغتسل تغتسل به وتشرب منه فيبرأ ظاهرك وباطنك، فالمغتسل اسم مفعول على الحذف والإيصال وكذا الشراب، وعن مقاتل أن المغتسل اسم مكان أي هذا مكان تغتسل فيه وليس بشيء، وظاهر الآية اتحاد المخبر عنه بمغتسل وشراب، وقيل: إنه عليه السلام ضرب برجله اليمنى فنبعت عين حارة فاغتسل منها وبرجله اليسرى فنبعت باردة فسرب منها، وقال الحسن: ركض برجله فنبعت عين فاغتسل منها ثم مشى نحوا من أربعين ذراعا ثم ركض برجله فنبعت أخرى فشرب منها، ولعله عنى بالأولى عينا حارة، وظاهر النظم عدم التعدد. وبارِدٌ على ذلك صفة شَرابٌ مع أنه مقدم عليه صفة مُغْتَسَلٌ وكون هذا إشارة إلى جنس النابع أو يقدر وهذا بارد إلخ تكلف لا يخرج ذلك عن الضعف، وقيل أمر بالركض بالرجل ليتناثر عنه كل داء بجسده. وكان ذلك على ما روي عن قتادة والحسن ومقاتل بأرض الجابية من الشام، وفي الكلام حذف أيضا أي فاغتسل وشرب فكشفنا بذلك ما به من ضر وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ بإحيائهم بعد هلاكهم على ما روي عن الحسن. وروى الطبرسي عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أن الله تعالى أحيا له أهله الذين كانوا ماتوا قبل البلية وأهله الذين ماتوا وهو في البلية، وفي البحر الجمهور على أنه تعالى أحيا له من مات من أهله وعافى المرضى وجمع عليه من تشتت منهم، وقيل وإليه أميل وهبه من كان حيا منهم وعافاه من الأسقام وأرغد لهم العيش فتناسلوا حتى بلغ عددهم من مضى وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ فكان له ضعف ما كان، والظاهر أن هذه الهبة كانت في الدنيا، وزعم بعض أن هذا وعد وتكون تلك الهبة في الآخرة رَحْمَةً مِنَّا أي لرحمة عظيمة عليه من قبلنا. وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ وتذكيرا لهم بذلك ليصبروا على الشدائد كما صبر ويلجؤوا إلى الله تعالى فيما يصيبهم كما لجأ ليفعل سبحانه بهم فافعل به من حسن العاقبة. روي عن قتادة أنه عليه السلام ابتلي سبع سنين وأشهرا وألقي على كناسة بني إسرائيل تختلف الدواب في جسده فصبر ففرج الله تعالى عنه وأعظم له الأجر وأحسن، وعن ابن عباس أنه صار ما بين قدميه إلى قرنه قرحة واحدة وألقي على الرماد حتى بدا حجاب قلبه فكانت امرأته تسعى إليه فقالت له يوما: أما ترى يا أيوب قد نزل بي والله من الجهد والفاقة ما إن بعت قروني برغيف فأطعمتك فادع الله تعالى أن يشفيك ويريحك فقال: ويحك كنا في النعيم سبعين عاما فاصبري حتى نكون في الضر سبعين عاما فكان في البلاء سبع سنين ودعا فجاء جبريل عليه السلام فأخذ بيده ثم قال: قم فقام عن مكانه وقال: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ فاغتسل وشرب فبرأ وألبسه الله تعالى حلة من الجنة فتنحى فجلس في ناحية وجاءت امرأته فلم تعرفه فقالت: يا عبد الله أين المبتلى الذي كان هاهنا؟ لعل الكلاب ذهبت به أو الذئاب وجعلت تكلمه ساعة فقال: ويحك الجزء: 12 ¦ الصفحة: 198 أنا أيوب قد رد الله تعالى علي جسدي ورد الله تعالى عليه ماله وولده ومثلهم معهم وأمطر عليه جرادا من ذهب فجعل يأخذ الجراد بيده ويجعله في ثوب وينشر كساءه فيجعل فيه فأوحى الله تعالى إليه يا أيوب أما شبعت؟ قال: يا رب من الذي يشبع من فضلك ورحمتك، وفي البحر روى أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلم «أن أيوب بقي في محنته ثماني عشرة سنة يتساقط لحمه حتى مله العالم ولم يصبر عليه إلا امرأته» وعظم بلائه عليه السلام مما شاع وذاع ولم يختلف فيه اثنان لكن في بلوغ أمره إلى أن ألقي على كناسة ونحو ذلك فيه خلاف قال الطبرسي: قال أهل التحقيق أنه لا يجوز أن يكون بصفة يستقذره الناس عليها لأن في ذلك تنفيرا فأما الفقر والمرض وذهاب الأهل فيجوز أن يمتحنه الله تعالى بذلك. وفي هداية المريد للفاني أنه يجوز على الأنبياء عليهم السلام كل عرض بشري ليس محرما ولا مكروها ولا مباحا مزريا ولا مزمنا ولا مما تعافه الأنفس ولا مما يؤدي إلى النفرة ثم قال بعد ورقتين، واحترزنا بقولنا ولا مزمنا ولا مما تعافه الأنفس عما كان كذلك كالإقعاد والبرص والجذام والعمى والجنون، وأما الإغماء فقال النووي لا شك في جوازه عليهم لأنه مرض بخلاف الجنون فإنه نقص، وقيد أبو حامد الإغماء بغير الطويل وجزم به البلقيني، قال السبكي: وليس كإغماء غيرهم لأنه إنما يستر حواسهم الظاهرة دون قلوبهم لأنها معصومة من النوم الأخف، قال: ويمتنع عليهم الجنون وإن قل لأنه نقص ويلحق به العمى ولم يعم نبي قط، وما ذكر عن شعيب من كونه كان ضريرا لم يثبت، وأما يعقوب فحصلت له غشاوة وزالت اه. وفرق بعضهم في عروض ذلك بين أن يكون بعد التبليغ وحصول الغرض من النبوة فيجوز وبين أن يكون قبل فلا يجوز، ولعلك تختار القول بحفظهم بما تعافه النفوس ويؤدي إلى الاستقدار والنفرة مطلقا وحينئذ فلا بد من القول بأن ما ابتلي به أيوب عليه السلام لم يصل إلى حد الاستقذار والنفرة كما يشعر به ما روي عن قتادة ونقله القصاص في كتبهم، وذكر بعضهم أن داءه كان الجدري ولا أعتقد صحة ذلك والله تعالى أعلم. وقوله تعالى: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً عطف على ارْكُضْ أو على وَهَبْنا بتقدير قلنا خذ بيدك إلخ، والأول أقرب لفظا وهذا أنسب معنى فإن الحاجة إلى هذا الأمر لا تمس إلا بعد الصحة واعتدال الوقت فإن امرأته رحمته بنت إفرائيم أو مشيا بن يوسف أو ليا بنت يعقوب أو ما خير بنت ميشا بن يوسف على اختلاف الروايات. ولا يخفى لطف رَحْمَةً مِنَّا على الرواية الأولى ذهبت لحاجة فأبطأت أو بلغت أيوب عن الشيطان أن يقول كلمة محذورة فيبرأ وأشارت عليه بذلك فقالت له إلى متى هذا البلاء كلمة واحدة ثم استغفر ربك فيغفر لك أو جاءته بزيادة على ما كانت تأتي به من الخبز فظن أنها ارتكبت في ذلك محرما فحلف ليضربنها إن برىء مائة ضربة فأمره الله تعالى بأخذ الضغث وهو الحزمة الصغيرة من حشيش أو ريحان أو قضبان، وقيل: القبضة الكبيرة من القضبان، ومنه ضغث على إبالة والإبالة الحزمة من الحطب والضغث القبضة من الحطب أيضا عليها، ومنه قول الشاعر: وأسفل مني نهدة قد ربطتها ... وألقيت ضغثا من خلى متطيب وقال ابن عباس هنا: الضغث عثكال النخل، وقال مجاهد: الأثل وهو نبت له شوك، وقال الضحاك: حزمة من الحشيش مختلفة، وقال الأخفش: الشجر الرطب، وعن سعيد بن المسيب أنه عليه السلام لما أمر أخذ ضغثا من ثمام فيه مائة عود، وقال قتادة هو عود فيه تسعة وتسعون عودا والأصل تمام المائة فإن كان هذا معتبرا في مفهوم الضغث ولا أظن فذاك وإلا فالكلام على إرادة المائة فكأنه قيل: خذ بيدك ضغثا فيه مائة عود فَاضْرِبْ بِهِ أي بذلك الضغث وَلا تَحْنَثْ بيمينك فإن البر يتحقق به ولقد شرع الله تعالى ذلك رحمة عليه وعليها لحسن خدمتها إياه ورضاه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 199 عنها وهي رخصة باقية في الحدود في شريعتنا وفي غيرها أيضا لكن غير الحدود يعلم منها بالطريق الأولى فقد أخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال حملت وليدة في بني ساعدة من زنا فقيل لها: ممن حملك؟ قالت: من فلان المقعد فسئل المقعد فقال: صدقت فرفع ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: خذوا عثكولا فيه مائة شمراخ فاضربوه به ضربة واحدة ففعلوا ، وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن محمد بن عبد الرحمن عن ثوبان أن رجلا أصاب فاحشة على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو مريض على شفا موت فأخبر أهله بما صنع فأمر النبي صلّى الله عليه وسلم بقنو فيه مائة شمراخ فضرب به ضربة واحدة ، وأخرج الطبراني عن سهل بن سعد أن النبي عليه الصلاة والسلام أتى بشيخ قد ظهرت عروقه قد زنى بامرأة فضربه بضغث فيه مائة شمراخ ضربة واحدة ، ولا دلالة في هذه الأخبار على عموم الحكم من يطيق الجلد المتعارف لكن القائل ببقاء حكم الآية قائل بالعموم لكن شرطوا في ذلك أن يصيب المضروب كل واحدة من المائة إما بأطرافها قائمة أو بأعراضها مبسوطة على هيئة الضرب. وقال الخفاجي: إنهم شرطوا فيه الإيلام أما مع عدمه بالكلية فلا فلو ضرب بسوط واحد له شعبتان خمسين مرة من حلف على ضربه مائة بر إذا تألم فإن لم يتألم لا يبر ولو ضربه مائة لأن الضرب وضع لفعل مؤلم بالبدن بآلة التأديب، وقيل: يحنث بكل حال كما فصل في شروح الهداية وغيرها انتهى. وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس لا يجوز ذلك لأحد بعد أيوب إلا الأنبياء عليهم السلام، وفي أحكام القرآن العظيم للجلال السيوطي عن مجاهد قال: كانت هذه لأيوب خاصة، وقال الكيا: ذهب الشافعي وأبو حنيفة وزفر إلى أن من فعل ذلك فقد بر في يمينه، وخالف مالك ورأه خاصا بأيوب عليه السلام، وقال بعضهم: إن الحكم كان عاما ثم نسخ والصحيح بقاء الحكم، واستدل بالآية على أن للزوج ضرب زوجته وأن يحلف ولا يستثني وعلى أن الاستثناء شرطه الاتصال إذ لو لم يشترط لأمره سبحانه وتعالى بالاستثناء ولم يحتج إلى الضرب بالضغث. واستدل عطار بها على مسألة أخرج فأخرج سعيد بن منصور بسند صحيح عنه أن رجلا قال له: إني حلفت أن لا أكسو امرأتي درعا حتى تقف بعرفة فقال: احملها على حمار ثم اذهب فقف بها بعرفة فقال: إنما عنيت يوم عرفة فقال عطاء: أيوب حين حلف ليجلدن امرأته مائة جلدة أنوى أن يضربها بالضغث إنما أمره الله تعالى أن يأخذ ضغثا فيضربها به ثم قال: إنما القرآن عبر إنما القرآن عبر. وللبحث في ذلك مجال، وكثير من الناس استدل بها على جواز الحيل وجعلها أصلا لصحتها، وعندي أن كل حيلة أوجبت إبطال حكمة شرعية لا تقبل كحيلة سقوط الزكاة وحيلة سقوط الاستبراء وهذا كالتوسط في المسألة فإن من العلماء من يجوز الحيلة مطلقا ومنهم من لا يجوزها مطلقا، وقد أطال الكلام في ذلك العلامة ابن تيمية إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً فيما أصابه في النفس والأهل والمال. وقد كان عليه السلام يقول كلما أصابته مصيبة: اللهم أنت أخذت وأنت أعطيت ويحمد الله عزّ وجلّ، ولا يخل بذلك شكواه إلى الله تعالى من الشيطان لأن الصبر عدم الجزع ولا جزع فيما ذكر كتمني العافية وطلب الشفاء مع أنه قال ذلك على ما قيل خيفة الفتنة في الدين كما سمعت فيما تقدم، ويروى أنه قال في مناجاته: الهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي ولم يتبع قلبي بصري ولم يلهني ما ملكت يميني ولم آكل إلا ومعي يتيم ولم أبت شبعان ولا كاسيا ومعي جائع أو عريان فكشف الله تعالى عنه نِعْمَ الْعَبْدُ أي أيوب إِنَّهُ أَوَّابٌ تعليل لمدحه وتقدم معنى الأواب وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ الثلاثة عطف بيان لعبادنا أو بدل منه. وقيل: نصب بإضمار أعني، وقرأ ابن عباس وابن كثير وأهل مكة «عبدنا» بالإفراد فإبراهيم وحده بدل أو عطف بيان أو مفعول أعني، وخص بعنوان العبودية لمزيد شرفه، وما بعده عطف على «عبدنا» وجوز أن يكون المراد بعبدنا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 200 عبادنا وضعا للجنس موضع الجمع فتتحد القراءتان أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ أولي القوة في الطاعة والبصيرة في الدين على أن الأيدي مجاز مرسل عن القوة، والأبصار جمع بصر بمعنى بصيرة وهو مجاز أيضا لكنه مشهور فيه أو أولي الأعمال الجليلة والعلوم الشريفة على أن ذكر الأيدي من ذكر السبب وإرادة المسبب، والأبصار بمعنى البصائر مجاز عما يتفرع عليها من العلوم كالأول أيضا، وفي ذلك على الوجهين تعريض بالجهلة البطالين أنهم كفاقدي الأيدي والأبصار وتوبيخ على تركهم المجاهدة والتأمل مع تمكنهم منهما، وقيل: الأيدي النعم أي أولى التي أسداها الله تعالى إليهم من النبوة والمكانة أو أولى النعم والإحسانات على الناس بإرشادهم وتعليمهم إياهم، وفيه ما فيه. وقرىء «الأيادي» على جمع الجمع كاوطف واواطف، وقرأ عبد الله والحسن وعيسى والأعمش «الأيد» بغير ياء فقيل يراد الأيدي بالياء وحذفت اجتزاء بالكسرة عنها، ولما كانت أل تعاقب التنوين حذفت الياء معها كما حذفت مع التنوين حكاه أبو حيان ثم قال: وهذا تخريج لا يسوغ لأن حذف هذه الياء مع وجود أل ذكره سيبويه في الضرائر، وقيل: الأيد القوة في طاعة الله تعالى نظير ما تقدم، وقال الزمخشري بعد تعليل الحذف بالاكتفاء بالكسرة وتفسيره بالأيد من التأييد قلق غير متمكن وعلل بأن فيه فوات المقابلة وفوات النكتة البيانية فلا تغفل إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ تعليل لما وصفوا به، والباء للسببية وخالصة اسم فاعل وتنوينها للتفخيم، وقوله تعالى: ذِكْرَى الدَّارِ بيان لها بعد ابهامها للتفخيم، وجوز أن يكون خبرا عن ضميرها المقدر أي هي ذكرى الدار، وأيا ما كان فذكرى مصدر مضاف لمفعوله وتعريف الدار للعهد أي الدار الآخرة، وفيه إشعار بأنها الدار في الحقيقة وإنما الدنيا مجاز أي جعلناهم خالصين لنا سبب خصلة خالصة جليلة الشأن لا شوب فيها هي تذكرهم دائما الدار الآخرة فإن خلوصهم في الطاعة بسبب تذكرهم إياها وذلك لأن مطمح أنظارهم ومطرح أفكارهم في كل ما يأتون ويذرون جوار الله عزّ وجلّ والفوز بلقائه ولا يتسنى ذلك إلا في الآخرة. وقيل أخلصناهم بتوفيقهم لها واللطف بهم في اختيارها والباء كما في الوجه الأول للسببية والكلام نحو قولك: أكرمته بالعلم أي بسبب أنه عالم أكرمته أو أكرمته بسبب أنك جعلته عالما، وقد يتخيل في الثاني أنه صلة، ويعضد الوجه الأول قراءة الأعمش وطلحة «بخالصتهم» . وأخرج ابن المنذر عن الضحاك أن ذكرى الدار تذكيرهم الناس الآخرة وترغيبهم إياهم فيها وتزهيدهم (1) إياهم فيها على وجه خالص من الحظوظ النفسانية كما هو شأن الأنبياء عليهم السلام، وقيل المراد بالدار الدار الدنيا وبذكراها الثناء الجميل ولسان الصدق الذي ليس لغيرهم. وحكي ذلك عن الجبائي. وأبي مسلم وذكره ابن عطية احتمالا، وحاصل الآية عليه كما قال الطبرسي إنا خصصناهم بالذكر الجميل في الأعقاب. وقرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج ونافع وهشام بإضافة «خالصة» إلى «ذكرى» للبيان أي بما خلص من ذكرى الدار على معنى أنهم لا يشوبون ذكراها بهم آخر أصلا أو على غير ذلك من المعاني، وجوز على هذه القراءة أن تكون «خالصة» مصدرا كالعاقبة والكاذبة مضافا إلى الفاعل أي أخلصناهم بأن خلصت لهم ذكرى الدار. وظاهر كلام أبي حيان أن احتمال المصدرية ممكن في القراءة الأولى أيضا لكنه قال: الأظهر أن تكون اسم فاعل وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ أي المختارين من بين أبناء جنسهم، وفيه إعلال معروف. وعندنا يجوز فيه أن يكون من صلة الخبر وأن يكون من صلة محذوف دل عليه لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ أي   (1) وتزهيدهم إياهم فيها كذا في خط المؤلف رحمه الله وعبارة الكشاف تذكيرهم الناس الآخرة وترغيبهم فيها وتزهيدهم في الدنيا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 201 وأنهم مصطفون عندنا، ولم يجوزوا أن يكون من صلة الْمُصْطَفَيْنَ المذكور لأن أل فيه موصولة ومصطفين صلة وما في حيز الصلة لا يتقدم معموله على الموصول لئلا يلزم تقدم الصلة على الموصول، واعترض بأنا لا نسلم أن أل فيه موصولة إذ لم يرد منه الحدوث ولو سلم فالمتقدم ظرف وهو يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره، والظاهر أن الجملة عطف على ما قبلها، وتأكيدها لمزيد الاعتناء بكونهم عندهم تعالى من المصطفين من الناس الْأَخْيارِ الفاضلين عليهم في الخير وهو جمع خير مقابل شر الذي هو أفعل تفضيل في الأصل، وكان قياس أفعل التفضيل أن لا يجمع على أفعال لكنه للزوم تخفيفه حتى أنه لا يقال أخير إلا شذوذا أو في ضرورة جعل كأنه بنية أصلية وقيل جمع خير المشدد أو خير المخف منه كأموات في جمع ميت بالتشديد أو ميت بالتخفيف. وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ فصل ذكره عن ذكر أبيه وأخيه اعتناء بشأنه من حيث إنه لا يشرك العرب فيه غيرهم أو للإشعار بعراقته في الصبر الذي هو المقصود بالذكر وَالْيَسَعَ قال ابن جرير هو ابن أخطوب بن العجوز، وذكر أنه استخلفه إلياس على بني إسرائيل ثم استنبىء، واللام فيه زائدة لازمة لمقارنتها للوضع، ولا ينافي كونه غير عربي فإنها قد لزمت في بعض الأعلام الأعجمية كالإسكندر فقد لحن التبريزي من قال إسكندر مجردا له منها، والأولى عندي أنه إذا كان اسما أعجميا وأل فيه مقارنة للوضع أن لا يقال بزيادتها فيها، وقيل هو اسم عربي منقول من يسع مضارع وسع حكاه الجلال السيوطي في الإتقان. وفي القاموس يسع كيضع اسم أعجمي أدخل عليه أل ولا تدخل على نظائره كيزيد. وقرأ حمزة والكسائي «والليسع» بلامين والتشديد كان أصله ليسع بوزن فيعل من اللسع دخل عليه أل تشبيها بالمنقول الذي تدخله للمح أصله، وجزم بعضهم بأنه على هذه القراءة أيضا علم أعجمي دخل عليه اللام. وَذَا الْكِفْلِ قيل هو ابن أيوب، وعن وهب أن الله تعالى بعث بعد أيوب شرف ابن أيوب نبيا وسماه ذا الكفل وأمره بالدعاء إلى توحيده وكان مقيما بالشام عمره حتى مات وعمره خمس وسبعون سنة. وفي العجائب للكرماني قيل هو إلياس، وقيل هو يوشع بن نون، وقيل هو نبي اسمه ذو الكفل، وقيل كان رجلا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 202 صالحا تكفل بأمور فوفى بها، وقيل هو زكريا من قوله تعالى: وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا [آل عمران: 37] اه، وقال ابن عساكر: هو نبي تكفل الله تعالى له في عمله بضعف عمل غيره من الأنبياء، وقيل لم يكن نبيا وأن اليسع استخلفه فتكفل له أن يصوم النهار ويقوم الليل، وقيل أن يصلي كل يوم مائة ركعة، وقيل: كان رجلا من الصالحين كان في زمانه أربعمائة نبي من بني إسرائيل فقتلهم ملك جبار إلا مائة منهم فروا من القتل فآواهم وأخفاهم وقام بمؤونتهم فسماه الله تعالى ذا الكفل، وقيل هو اليسع وأن له اسمين ويأباه ظاهر النظم وَكُلٌّ أي وكلهم مِنَ الْأَخْيارِ المشهورين بالخيرية هذا إشارة إلى ما تقدم من الآيات الناطقة بمحاسنهم ذِكْرٌ أي شرف لهم وشاع الذكر بهذا المعنى لأن الشرف يلزمه الشهرة والذكر بين الناس فتجوز به عنه بعلاقة اللزوم، والمراد في ذكر قصصهم وتنويه الله تعالى بهم شرف عظيم لهم أو المعنى هذا المذكور من الآيات نوع من الذكر الذي هو القرآن، وذكر ذلك للانتقال من نوع من الكلام إلى آخر كما يقول الجاحظ في كتبه: فهذا باب ثم شرع في باب آخر ويقول الكاتب إذا فرغ من فصل من كتابه وأراد الشروع في آخر: هذا وكان كيت وكيت، ويحذف على ما قيل الخبر في مثل ذلك كثيرا وعليه هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ [ص: 55] وستسمع إن شاء الله تعالى الكلام فيه فلا يقال: إنه لا فائدة فيه لأنه معلوم أنه من القرآن، وقال ابن عباس: هذا ذكر من مضى من الأنبياء عليهم السلام، وقوله تعالى: وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ أي مرجع شروع في بيان أجرهم الجزيل في الآجل بعد بيان ذكرهم الجميل في العاجل، والمراد بالمتقين إما الجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا وإما نفس المذكورين عبر عنهم بذلك مدحا لهم بالتقوى التي هي الغاية القصوى في الكمال، والجملة فيما أرى عطف على الجملة قبلها كأنه قيل: هذا شرف لهم في الدنيا وأن لهم ولأضرابهم أو إن لهم في الآخرة لحسن مآب أو هي من قبيل عطف القصة على القصة، وقال الشهاب الخفاجي عليه الرحمة: هي حالية ولم يبين صاحب الحال، ويبعد أن يكون (ذكرا) لأنه نكرة متقدمة وأن يكون هذا لأنه مبتدأ ومع ذلك في المعنى على تقدير الحالية خفاء، وقال بعض أجلة المعاصرين: إنه أراد أن الكلام على معنى والحال كذا أي الأمر والشأن كذا ولم يرد أن الجملة حال بالمعنى المعروف الذي يقتضي ذا حال وعاملا في الحال إلى غير ذلك وادعى أن الأمر كذلك في كل جملة يقال إنها حال وليس فيها ضمير يعود على ما قبلها نحو جاء زيد والشمس طالعة وقال: إنه الذي ينبغي أن يعول عليه وإن لم يذكره النحويون اه، والحال لا يخفى على ذي تمييز، وإضافة (حسن) إلى مَآبٍ من إضافة الصفة إلى الموصوف إما بتأويل مآب ذي حسن أو حسن وإما بدونه قصدا للمبالغة. وقوله تعالى: جَنَّاتِ عَدْنٍ بدل اشتمال، وجوز أن يكون نصبا على المدح، وجعله الزمخشري عطف بيان لحسن مآب، وعدن قيل من الأعلام الغالبة غلبة تقديرية ولزوم الإضافة فيها أو تعريفها باللام أغلبي كما صرح به ابن مالك في التسهيل، وجنات عدن كمدينة طيبة لا كإنسان زيد فإنه قبيح، وقيل العلم مجموع جَنَّاتِ عَدْنٍ وهو أيضا من غير الغالب لأن المراد من الإضافة التي تعوضها العلم بالغلبة إضافة تفيده تعريفا، وعلى القولين هو معين فيصلح للبيان لكن تعقب ذلك أبو حيان بأن للنحويين في عطف البيان مذهبين، أحدهما أن ذلك لا يكون إلا في المعارف فلا يكون عطف البيان إلا تابعا لمعرفة وهو مذهب البصريين، والثاني أنه يجوز أن يكون في النكرات فيكون عطف البيان تابعا لنكرة كما تكون المعرفة فيه تابعة لمعرفة وهذا مذهب الكوفيين وتبعهم الفارسي وأما تخالفهما في التنكير والتعريف فلم يذهب إليه أحد سوى الزمخشري كما قد صرح به ابن مالك في التسهيل فهو بناء للأمر على مذهبه. وذهب آخرون أن عدنا مصدر عدن بمكان كذا استقر، ومنه المعدن لمستقر الجواهر ولا علمية ولا نقل هناك الجزء: 12 ¦ الصفحة: 203 ومعنى جَنَّاتِ عَدْنٍ جنات استقرار وثبات فإن كان عطف بيان فهو على مذهب الكوفيين والفارسي. ومن الغريب ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس قال: سألت كعبا عن قوله تعالى: جَنَّاتِ عَدْنٍ فقال: جنات كروم وأعناب بالسريانية، وفي تفسير ابن جرير أنه بالرومية، وقوله تعالى: مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ إما صفة لجنات عدن وإليه ذهب ابن إسحاق وتبعه ابن عطية أو حال من ضميرها المستتر في خبر إن والعامل فيه الاستقرار المقدر أو نفس الظرف لتضمنه معناه ونيابته عنه وإليه ذهب الزمخشري ومختصر وكلامه أو حال من ضميرها المحذوف مع العامل لدلالة المعنى عليه والتقدير يريد خلوها مفتحة وإليه ذهب الحوفي، والْأَبْوابُ نائب فاعل مُفَتَّحَةً عند الجمهور والرابط العائد على الجنات محذوف تقديره الأبواب منها، واكتفى الكوفيون عن ذلك بأل لقيامها مقام الضمير فكأنه قيل: مفتحة لهم أبوابها، وذهب أبو علي إلى أن نائب فاعل مُفَتَّحَةً ضمير الجنات والأبواب بدل منه بدل اشتمال كما هو ظاهر كلام الزمخشري، ولا يصح أن يكون بدل بعض من كل لأن أبواب الجنات ليست بعضا من الجنات على ما قال أبو حيان. وقرأ زيد بن علي وعبد الله بن رفيع وأبو حيوة «جنات عدن مفتحة» برفعهما على أنهما خبران لمحذوف أي هو أي المآب جنات عدن مفتحة لهم أبوابه أو هو جنات عدن هي مفتحة لهم أبوابها أو على أنهما مبتدأ وخبر. ووجه ارتباط الجملة بما قبلها أنها مفسرة لحسن المآب لأن محصلها جنات أبوابها فتحت إكراما لها أو هي معترضة. وقوله تعالى: مُتَّكِئِينَ فِيها وقوله سبحانه: يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ قيل حالان من ضمير لَهُمُ وهما حالان مقدران لأن الاتكاء وما بعده ليس في حال تفتيح الأبواب بل بعده، وقيل: الأول حال مقدرة من الضمير المذكور والثاني حال من ضمير متكئين، وجوز جعلهما حالين من المتقين، ولا يصح إلا أن قلنا بأن الفاصل ليس بأجنبي والظاهر أنه أجنبي، وقال بعض الأجلة: الأظهر أن مُتَّكِئِينَ حال من ضمير يَدْعُونَ قدم رعاية للفاصلة ويدعون استئناف لبيان حالهم كأنه قيل ما حالهم بعد دخولها؟ فقيل: يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب متكئين فيها، والاقتصار على الفاكهة للإيذان بأن مطاعمهم لمحض التفكه والتلذذ دون التغذي فإنه لتحصيل بدل ولا تحلل ثمت ولما كانت الفاكهة تتنوع وصفها سبحانه بالكثرة وكثرتها باختلاف أنواعها وكثرة كل نوع منها، ولما كان الشراب نوعا واحدا وهو الخمر أفرد، وقيل: وصفت الفاكهة بالكثرة ولم يوصف الشراب للإيذان بأنه يكون على الشراب نقل كثير سواء تعددت أنواعه أم اتحدت، ويمكن أن يقال والله تعالى أعلم: التقدير وشراب كثير لكن حذف كثير لدلالة ما قبل ورعاية للفاصلة. وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أي على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم أو قاصرات طرف أزواجهن عليهن فلا ينظرون إلى غيرهن لشدة حسنهن، وتمام الكلام قد مر وحلا أَتْرابٌ أي لدات على سن واحدة تشبيها في التساوي والتماثل بالترائب التي هي ضلوع الصدر أو لسقوطهن معا على الأرض حين الولادة ومسهن ترابها فكأن الترب بمعنى المتارب كالمثل بمعنى المماثل، والظاهر أن هذا الوصف بينهن فيكون في ذلك إشارة إلى محبة بعضهن لبعض وتصادقهن فيما بينهن فإن النساء الأتراب يتحاببن ويتصادقن وفي ذلك راحة عظيمة لأزواجهن كما أن في تباغض الضرائر نصبا عظيما وخطبا جسيما لهم، وقد جرب ذلك وصح نسأل الله تعالى العفو والعافية. وقيل: إن ذلك بينهن وبين أزواجهن أي إن أسنانهن كأسنانهم ليحصل كمال التحاب، ورجح بأن اهتمام الرجل بحصول المحبة بينه وبين زوجته أشد من اهتمامه بحصولها بين زوجاته، وفيه توقف، ثم إن الوصف الأول على الجزء: 12 ¦ الصفحة: 204 المعنى الأول متكفل بالدلالة على محبتهن لأزواجهن وعلى المعنى الثاني متكفل بالدلالة على محبة أزواجهن لهن وإذا حصلت المحبة من طرف فالغالب حصولها من الطرف الآخر، وقد قيل: من القلب إلى القلب سبيل والأمر في الشاهد أن كون الزوجات أصغر من الأزواج أحب لهم لا التساوي، واختار بعضهم كون ذلك بينهن وبين أزواجهن، ويلزم منه مساواة بعضهن لبعض وهذا إذا كان المراد بقوله تعالى: وَعِنْدَهُمْ إلخ وعند كل واحد منهم ولو كان المراد وعند مجموعهم وكان الجمع موزعا بأن يكون لكل واحد واحد من أهل الجنة واحدة واحدة من قاصرات الطرف الأتراب كان اعتبار كون الوصف بينهن وبين الأزواج كالمتعين لكن هذا الفرض خلاف ما نطقت به الأخبار سواء قلنا بما روي عن ابن عباس من أن الآية في الآدميات أو قلنا بما قاله صاحب الفينان من أنها في الحور، وقيل بناء على ما هو الظاهر في الوصف أن التساوي في الأعمار بين الحور وبين نساء الجنة فالآية فيهما هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ أي لأجل يوم الحساب فإن ما وعدوه لأجل طاعتهم وأعمالهم الصالحة وهي تظهر بالحساب فجعل كأنه علة لتوقف إنجاز الوعد فالنسبة لليوم والحساب مجازية، وجوز أن تكون اللام بمعنى بعد كما في كتب لخمس خلون من جمادى الآخرة مثلا وهو أقل مؤونة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «يوعدون» بياء الغيبة وعلى قراءة الجمهور بتاء الخطاب فيه التفات إِنَّ هذا أي ما ذكر من ألوان النعم والكرامات لَرِزْقُنا أعطينا كموه ما لَهُ مِنْ نَفادٍ انقطاع أبدا هذا قال الزجاج: أي الأمر هذا على أنه خبر مبتدأ محذوف، وقال أبو علي: أي هذا للمؤمنين على أنه مبتدأ خبره محذوف وقدره بعضهم كما ذكر. وجوز أبو البقاء احتمال كونه مبتدأ محذوف الخبر واحتمال كونه خبرا محذوف المبتدأ، وجوز بعضهم كونه فاعل فعل محذوف أي مضى هذا وكونه مفعولا لفعل محذوف أي خذ هذا، وجوز أيضا كونها اسم فعل بمعنى خذ وذا مفعوله من غير تقدير ورسمه متصلا يبعده والتقدير أسهل منه، وقوله تعالى: وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ عطف على ما قبله، ولزوم عطف الخبر على الإنشاء على بعض الاحتمالات جوابه سهل، وأشار الخفاجي إلى الحالية هنا أيضا ولعل أمرها على بعض الأقوال المذكورة هين، والطاغون هنا الكفار كما يدل عليه كلام ابن عباس حيث قال: أي الذين طغوا عليّ وكذبوا رسلي، وقال الجبائي: أصحاب الكبائر كفارا كانوا أو لم يكونوا، وإضافة (شر) إلى مَآبٍ كإضافة (حسن) إليه فيما تقدم، وظاهر المقابلة يقتضي أن يقال: لقبح مآب هنا أو لخير مآب فيما مضى لكنه مثله لا يلتفت إليه إذا تقابلت المعاني لأنه من تكلف الصنعة البديعية كما صرح به المرزوقي في شرح الحماسة كذا قيل، وقيل إنه من الاحتباك وأصله إن للمتقين لخير مآب وحسن مآب وإن للطاغين لقبح مآب وشر مآب واستحسنه الخفاجي وفيه نوع بعد، وقوله تعالى: جَهَنَّمَ يعلم إعرابه مما سلف وقوله سبحانه: يَصْلَوْنَها أي يدخلونها ويقاسون حرها حال من جهنم نفسها أو من الضمير المستتر في خبر أن الراجع لشر مآب المراد به هي والحال مقدرة فَبِئْسَ الْمِهادُ أي هي يعني جهنم فالمخصوص بالذم محذوف، والمهاد كالفراش لفظا ومعنى وقد استعير مما يفترشه النائم، والمهد كالمهاد وقد يخص بمقر الطفل هذا خبر مبتدأ محذوف أي العذاب هذا، وقوله تعالى: فَلْيَذُوقُوهُ جملة مرتبة على الجملة قبلها فهي بمنزلة جزاء شرط محذوف، وقوله تعالى: حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ خبر مبتدأ محذوف أي هو حميم وغساق وذا قد يشاربه للمتعدد أو مبتدأ محذوف الخبر أي منه حميم ومنه غساق كما في قوله: حتى إذا ما أضاء الصبح في غلس ... وغودر البقل ملوىّ ومحصود أي منه ملويّ ومنه محصود أو هذا مبتدأ خبره حَمِيمٌ وجملة فَلْيَذُوقُوهُ معترضة كقولك زيد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 205 فافهم رجل صالح أو هذا مبتدأ أخبره فَلْيَذُوقُوهُ على مذهب الأخفش في إجازته زيد فاضربه مستدلا بقوله: وقائلة خولان فانكح فتاتهم أو هذا في محل نصب بفعل مضمر يفسره فَلْيَذُوقُوهُ أي ليذوقوا هذا فليذوقوه، ولعلك تختار القول بأن هذا مبتدأ وحميم خبره وما في البين اعتراض وقد قدمه في الكشاف والفاء تفسيرية تعقيبية وتشعر بأن لهم إذاقة بعد إذاقة، وفي حميم وغساق على هذين الوجهين الاحتمالان المذكوران أولا والحميم الماء الشديد الحرارة. والغساق بالتشديد كما قرأ به ابن أبي إسحاق وقتادة وابن وثاب وطلحة وحمزة والكسائي وحفص والفضل وابن سعدان وهارون عن أبي عمرو، وبالتخفيف كما قرأ به باقي السبعة اسم لما يجري من صديد أهل النار كما روي عن عطاء وقتادة وابن زيد، وعن السدي ما يسيل من دموعهم. وأخرج ابن جرير عن كعب أنه عين في جهنم تسيل إليها حمة كل ذي حمة من حية وعقرب وغيرهما يغمس فيها الكافر فيتساقط جلده ولحمه وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس أنه الزمهرير، وقيل: هو مشددا ومخففا وصف من غسق كضرب وسمع بمعنى سال يقال غسقت العين إذا سال دمعها فيكون على ما في البحر صفة حذف موصوفها أي ومذوق غساق ويراد به سائل من جلود أهل النار مثلا، والوصفية في المشدد أظهر لأن فعالا بالتشديد قليل في الأسماء، ومنه الغياد ذكر البوم والخطار دهن يتخذ من الزيت والعقار ما يتداوى به من النبات، ومن الغريب ما قاله الجواليقي والواسطي أن الغساق هو البارد المنتن بلسان الترك والحق أنه عربي نعم النتونة وصف له في الواقع وليست مأخوذة في المفهوم، فقد أخرج أحمد والترمذي وابن حبان وجماعة وصححه الحاكم عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «لو أن دلوا من غساق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا» وقيل الغساق عذاب لا يعلمه إلا الله عزّ وجلّ ويبعده هذا الخبر وَآخَرُ أي ومذوق آخر وفسره ابن مسعود كما رواه عنه جمع بالزمهرير أو وعذاب آخر. وقرأ الحسن ومجاهد والجحدري وابن جبير وعيسى وأبو عمرو و «أخر» على الجمع أي ومذوقات أو أنواع عذاب أخر مِنْ شَكْلِهِ أي من مثل هذا المذوق أو العذاب في الشدة والفظاعة، وتوحيد الضمير دون تثنيته نظرا للحميم والغساق على أنه لما ذكر أو للشراب الشامل للحميم والغساق أو للغساق. وقرأ مجاهد «شكله» بكسر الشين وهي لغة فيه كمثل وإذا كان بمعنى الغنج فهو بالكسر لا غير أَزْواجٌ أي أجناس وآخَرُ على القراءتين يحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي وهذا مذوق أو عذاب آخر أو هذه مذوقات أو أنواع عذاب أخر، والجملة معطوفة على هذا حميم، وإن شئت فقدر هو أو هي واعطف الجملة على هو حميم، وأن يكون مبتدأ خبره محذوف أي ومنه مذوق أو عذاب آخر أو ومنه مذوقات أو أنواع عذاب أخر والعطف على منه حميم وجوز أن يقدر الخبر لهم أي ولهم مذوق أو عذاب آخر أو ولهم مذوقات أو أنواع عذاب أخر والعطف على هذا فَلْيَذُوقُوهُ ومن شكله وأزواج في جميع ذلك صفتان لآخر أواخر وآخَرُ وإن كان مفردا في اللفظ فهو جمع وصادق على متعدد في المعنى. ويحتمل أن يكون آخر أو أخر مبتدأ ومِنْ شَكْلِهِ صفته وأَزْواجٌ خبر والجواب عن عدم المطابقة على قراءة الافراد ما سمعت، وأن يكون ذلك عطفا على حميم عطف المفرد على المفرد ومن شكله صفته وأزواج صفة للثلاثة المتعاطفة، وجوز أن يكون آخر مبتدأ ومن شكله خبره وأزواج فاعل الظرف، وأن يكون الأول مبتدأ ومن شكله خبر مقدم وأزواج مبتدأ والجملة خبر المبتدأ الأول أعني آخر، وصح الابتداء به لأنه من باب ضعيف عاذ بقرملة فالمبتدأ في الحقيقة الموصوف المحذوف أي نوع آخر أو مذوق آخر، وقيل لأنه جيء به للتفصيل، ومما ذكروا من المسوغات أن تكون النكرة للتفصيل نحو الناس رجلان رجل أكرمته ورجل أهنته وبحث فيه ابن هشام في المغني، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 206 وجعلوا ضمير شكله على الوجهين عائدا على آخر وهما لا يكادان يتسنيان على القراءة بالجمع فتدبر ولا تغفل، هذا فَوْجٌ جمع كثير من أتباعكم في الضلال. مُقْتَحِمٌ راكب الشدة داخل فيها أو متوسط شدة مخفية مَعَكُمْ والمراد هذا فوج داخل معكم النار مقاس فيها ما تقاسونه، وهذا حكاية ما تقوله ملائكة العذاب لرؤساء الضلال عند دخول النار تقريعا لهم فهو بتقدير فيقال لهم عند الدخول هذا إلخ. وفي الكشاف واستظهره أبو حيان أنه حكاية كلام الطاغين بعضهم مع بعض يخاطب بعضهم بعضا في شأن أتباعهم يقول هذا فوج مقتحم معكم، والظرف متعلق بمقتحم، وجوز فيه أن يكون نعتا ثانيا لفوج أو حالا منه لأنه قد وصف أو من الضمير المستتر فيه، ومنع أبو البقاء جواز كونه ظرفا قائلا: إنه يلزم عليه فساد المعنى وتبعه الكواشي وصاحب الأنوار. وتعقبه صاحب الكشف بأنه إن كان الفساد لإنبائه عن تزاحمهم في الدخول وليس المعنى على المزاحمة بين الفريقين الأتباع والمتبوعين لأنهم بعد الدخول يقولون ذلك لا عند المزاحمة فغير لازم لأن الاقتحام لا ينبىء عن التزاحم ولا هو لازم له وإنما مثل ضربت معه زيدا ينبىء عن المشاركة في الضرب والمقارنة فكذلك اقتحام المتبوعين النار مع الأتباع ينبىء عن المشاركة في ركوب كل من الطائفتين قحمة النار ومقاساة شدتها في زمان متقارب عرفا، ولو قيل هذا فوج معكم مقتحمون لم يفد أن المخاطبين أيضا كذلك وفسد المعنى المقصود، والعجب ممن جوز أن يكون حالا من ضمير مُقْتَحِمٌ ولم يجوز أن يكون ظرفا وإن كان بغير ذلك فليفد أولا ثم ليعترض انتهى، وقال بعضهم: إن وجه فساد الظرفية دون الحالية أنه ليس المراد أنهم اقتحموا في الصحبة ودخلوا فيها بل اقتحموا في النار مصاحبين لكم ومقارنين إياكم، وهو كلام فاسد لا محصل له لأن مدلول مع المعبر عنه بالصحبة معناه الاجتماع في التلبس بمدلول متعلقها فيفيد اشتراك الطائفتين في الاقتحام لا في الصبحة كما توهمه ولا يدل على اتحاد زمانيهما كما صرح به في المغني، ولو سلم فهو لتقاربه عد متحدا كما أشير في عبارة الكشف إليه فالحق أنه لا فساد، وقوله تعالى: لا مَرْحَباً بِهِمْ دعاء من المتبوعين على أتباعهم سواء كان قائل ما تقدم الملائكة عليهم السلام أو بعض الرؤساء لبعض أو صفة لفوج أو حال منه لوصفه أو من ضميره، وأيا ما كان يؤول بمقول لهم لا مرحبا لأنه دعاء فهو إنشاء لا يوصف به، وكذا لا يكون حالا بدون تأويل، والمعنى على استحقاقهم أن يقال لهم ذلك لا أنهم قيل لهم ذلك بالفعل، وهو على الوصفية والحالية من كلام الملائكة عليهم السلام إن كانوا هم القائلين أو من كلام بعض الرؤساء، وجوز كونه ابتداء كلام منهم ومَرْحَباً من الرحب بضم الراء وهو السعة ومنه الرحبة للفضاء الواسع وهو مفعول به لفعل واجب الإضمار وبِهِمْ بيان للمدعو عليهم، وتكون الباء للبيان كاللام في نحو سقيا له، وكون اللام دون الباء كذلك دعوى من غير دليل أي ما أتوا بهم رحبا وسعة، وقيل: الباء للتعدية فمجرورها مفعول ثان لأتوا وهو مبني على زعم أن اللام لا تكون للبيان، وكفى بكلام الزمخشري وأبي حيان دليلا على خلافه، ويقال: مرحبا بك على معنى رحبت بلادك رحبا كما يقال على معنى أتيت رحبا من البلاد لا ضيقا ويفهم من كلام بعضهم جواز أن يكون مَرْحَباً مفعولا مطلقا لمحذوف أي لا رحبت بهم الدار مرحبا، والجمهور على الأول، وأيا ما كان فالمراد بذلك مثبتا الدعاء بالخير ومنفيا الدعاء بالسوء. إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ تعليل من جهة الملائكة لاستحقاقهم الدعاء عليهم أو وصفهم بما ذكر أو تعليل من الرؤساء لذلك، والكلام عليه يتضمن الإشارة إلى عدم انتفاعهم بهم كأنه قيل: إنهم داخلون النار بأعمالهم مثلنا فأي نفع لنا منهم فلا مرحبا بهم قالُوا أي الأتباع وهم الفوج المقتحم للرؤساء. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 207 بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أي بل أنتم أحق بما قيل لنا أو بما قلتم لنا، ولعلهم إنما خاطبوهم بذلك على تقدير كون القائل الملائكة الخزنة عليهم السلام مع أن الظاهر أن يقولوا بطريق الاعتذار إلى أولئك القائلين بل هم لا مرحبا بهم قصدا منهم إلى إظهار صدقهم بالمخاصمة مع الرؤساء والتحاكم إلى الخزنة طمعا في قضائهم بتخفيف عذابهم أو تضعيف عذاب خصمائهم. وفي البحر خاطبوهم لتكون المواجهة لمن كانوا لا يقدرون على مواجهتهم في الدنيا بقبيح أشفى لصدورهم حيث تسببوا في كفرهم وأنكى للرؤساء، وهذا أيضا بتأويل القول بناء على أن الإنشاء لا يكون خبرا أي بل أنتم مقول فيكم أي أحق أن يقال فيكم لا مرحبا بكم أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا تعليل لأحقيتهم بذلك، وضمير الغيبة في قَدَّمْتُمُوهُ للعذاب لفهمه مما قبله أو للمصدر الذي تضمنه قالُوا وهو الصلى أي أنتم قدمتم العذاب أو الصلى ودخول النار لنا باغوائنا وإغرائنا على ما قدمنا من العقائد الزائغة والأعمال السيئة لا أنا باشرناها من تلقاء أنفسنا. وفي الكلام مجازان عقليان، الأول إسناد التقديم إلى الرؤساء لأنهم السبب فيه بإغوائهم، والثاني إيقاعه على العذاب أو الصلى مع أنه ليس المقدم بل المقدم عمل السوء الذي هو سبب له، وقيل: أطلق الضمير الذي هو عبارة عن العذاب أو الصلى المسبب عن العمل على العمل مجازا لغويا، وقيل: لا حاجة إلى ارتكاب المجاز فيه فتقديم العذاب أو الصلى بتأخير الرحمة منهم فَبِئْسَ الْقَرارُ أي فبئس المقر جهنم، وهو من كلام الأتباع وكأنهم قصدوا بذلك التشفي والإنكاء وإن ذلك المقر مشترك، وقيل: قصدوا بالذم المذكور تغليظ جناية الرؤساء عليهم قالُوا أي الأتباع أيضا، وقول ابن السائب: القائل جميع أهل النار خلاف الظاهر جدا فلا يصار إليه، وتوسيط الفعل بين كلاميهم لما بينهما من التباين ذاتا وخطابا أي قالوا معرضين عن خصومة رؤسائهم متضرعين إلى الله عزّ وجلّ رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ أي مضاعفا ومعناه ذا ضعف أي مثل وهو أن يزيد على عذابه مثله فيصير بتلك الزيادة مثلين لعذاب غيره، ويطلق الضعف على الزيادة المطلقة. وقال ابن مسعود هنا: الضعف حيات وعقارب، والظاهر من بعض عباراتهم أن مَنْ موصولة، ونص الخفاجي على أنها شرطية. وفي البحر مَنْ قَدَّمَ هم الرؤساء، وقال الضحاك: هو إبليس وقابيل، وهو أنسب بخلاف الظاهر المحكي عن ابن السائب وَقالُوا الضمير للطاغين عند جمع أي قال الطاغون بعضهم لبعض على سبيل التعجب والتحسر ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا في الدنيا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ أي الأراذل الذين لا خير فيهم ولا جدوى يعنون بذلك فقراء المؤمنين وكانوا يسترذلونهم ويسخرون منهم لفقرهم ومخالفتهم إياهم في الدين، وقيل: الضمير لصناديد قريش كأبي جهل وأمية بن خلف وأصحاب القليب، والرجال عمار وصهيب وسلمان وخباب وبلال وأضرابهم رضي الله تعالى عنهم بناء على ما روي عن مجاهد من أن الآية نزلت فيهم، واستضعفه صاحب الكشف وسبب النزول لا يكون دليلا على الخصوص، واستظهر بعضهم أن الضمير للاتباع لأنه فيما قبل يعني قوله تعالى: قالُوا بَلْ أَنْتُمْ إلخ لهم أيضا، وكانوا أيضا يسخرون من فقراء المؤمنين تبعا لرؤسائهم، وأيا ما كان فجملة كُنَّا إلخ صفة رِجالًا. وقوله تعالى: أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا بهمزة استفهام سقطت لأجلها همزة الوصل كما قرأ بذلك الحجازيان وابن عامر وعاصم وأبو جعفر والأعرج والحسن وقتادة استئناف لا محل له من الإعراب قالوه حيث لم يروهم معهم إنكارا على أنفسهم وتأنيبا لها في الاستسخار منهم، وقوله تعالى: أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ متصل بقوله تعالى: ما لَنا لا نَرى إلخ، وأم فيه متصلة وتقدم ما فيه معنى الهمزة يغني عن تقدمها على ما يقتضيه كلام الزمخشري، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 208 والمعنى ما لنا لا نراهم في النار أليسوا فيها فلذلك لا نراهم بل أزاغت عنهم أبصارنا فلا نراهم وهم فيها أو بقوله تعالى: أَتَّخَذْناهُمْ إلخ، وأم فيه إما متصلة أيضا، والمقابلة باعتبار اللازم، والمعنى أن الأمرين فعلنا بهم الاستسخار منهم أم الازدراء بهم وتحقيرهم وإن أبصارنا تعلو عنهم وتقتحمهم على معنى إنكار الأمرين جميعا على أنفسهم، وعن الحسن كل ذلك قد فعلوا اتخذوهم سخريا وزاغت عنهم أبصارهم محقرة لهم، وإما منقطعة كأنهم أضربوا عن إنكار الاستسخار وأنكروا على أنفسهم أشد منه وهو أنهم جعلوهم محقرين لا ينظر إليهم بوجه، وفي زاغَتْ دون أزغنا مبالغة عظيمة كأن العين بنفسها تمجهم لقبح منظرهم وأين هذا من السخر فقد يكون المسخور منه محبوبا مكرما. وجوز أن يكون معنى أم زاغت على الانقطاع بل زاغت أبصارنا وكلت أفهامنا حتى خفي عنا مكانهم وأنهم على الحق المبين. وقرأ النحويان وحمزة «اتخذناهم» بغير همزة فجوز أن تكون مقدرة لدلالة أم عليها فتتحد القراءتان، وأن لا تكون كذلك ويكون الكلام أخبارا فقال ابن الأنباري: الجملة حال أي وقد اتخذناهم، وجوز كونها مستأنفة لبيان ما قبلها. وقال الزمخشري وجماعة: صفة ثانية لرجالا وأَمْ زاغَتْ متصل بقوله تعالى: ما لَنا لا نَرى إلخ كما سمعت أولا. وجوز أن تكون أم فيه منقطعة كأنهم أضربوا عما قبل وأنكروا على أنفسهم ما هو أشد منه أو أضربوا عن ذلك إلى بيان أن ما وقع منهم في حقهم كان لزيغ أبصارهم وكلال أفهامهم عن إدراك أنهم على الحق بسبب رثاثة حالهم، وقرأ عبد الله وأصحابه ومجاهد والضحاك وأبو جعفر وشيبة والأعرج ونافع وحمزة والكسائي «سخريا» بضم السين ومعناه على ما في البحر من السخرة والاستخدام، ومعنى سخريا بالكسر على المشهور من السخر وهو الهزء وهو معنى ما حكي عن أبي عمرو قال: ما كان من مثل العبودية فسخري بالضم وما كان من مثل الهزء فسخري بالكسر، وقيل: هو بالكسر من التسخير إِنَّ ذلِكَ أي الذي حكي عنهم لَحَقٌّ لا بد أن يتكلموا به فالمراد من حقيته تحققه في المستقبل. وقوله تعالى: تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ خبر مبتدأ محذوف أي هو تخاصم، والجملة بيان لذلك، وفي الإبهام أولا والتبيين ثانيا مزيد تقرير له، وقال ابن عطية: بدل من حق والمبدل منه ليس في حكم السقوط حقيقة، وقيل بدل من محل اسم إن، والمراد بالتخاصم التقاول، وجوز إرادة ظاهرة فإن قول الرؤساء لا مَرْحَباً بِهِمْ وقول الأتباع بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ من باب الخصومة فسمي التفاوض كله تخاصما لاشتماله عليه، قيل وهذا ظاهر أن التقاول بين المتبوعين والأتباع أما لو جعل الكل من كلام الخزنة فلا، ولو جعل لا مَرْحَباً من كلام الرؤساء وهذا فَوْجٌ من كلام الخزنة فيصح أن يجعل تخاصما مجازا. وقرأ ابن أبي عبلة «تخاصم» بالنصب فهو بدل من ذلك. وقال الزمخشري: صفة له، وتعقب بأن وصف اسم الإشارة وإن جاز أن يكون بغير المشتق إلا أنه يلزم أن يكون معرفا بأل كما ذكره في المفصل من غير نقل خلاف فيه فبينه وبين ما يستدعيه القول بالوصفية تناقض مع ما في ذلك من الفصل الممتنع أو القبيح. وأجاب صاحب الكشف بأن القياس يقتضي التجويز لأن اسم الإشارة يحتاج إلى رافع لإبهامه دال على ذات معينة سواء كان فيه اختصاص بحقيقة أخرى أو بحقائق أولا، وهذا القدر لا يخرج الاسم عن الدلالة على حقيقة الذات المعينة التي يصح بها أن يكون وصفا لاسم الإشارة، وأما الاستعمال فمعارض بأصل الاستعمال في الصفة فكما أن الجمهور حملوا على الصفة في نحو هذا الرجل مع احتمال البدل والبيان كذلك الزمخشري حمل على الوصف مع احتمال البدل لأنه التفت لفت المعنى، ولا يناقض ما في المفصل لأنه ذكر ذلك في باب النداء خاصة على تقدير عدم استقلال اسم الإشارة ولأن حال الاستقلال أقل لم يتعرض له، وقد بين في الجزء: 12 ¦ الصفحة: 209 موضعه أنه في النداء خاصة يمتنع وصف اسم الإشارة إذا لم يستقل بالمضاف إلى المعرف باللام على أنه كثيرا ما يخالف في أحد الكتابين الكشاف والمفصل الآخر، والاشكال بأنه يلزم الفصل غير قادح فإنه يجوز لا سيما على تقدير استقلال اسم الإشارة اه. ولا يخلو عن شيء. وقرأ ابن السميفع «تخاصم» فعلا ماضيا «أهل» بالرفع على أنه فاعل له قُلْ يا محمد لمشركي مكة إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ أنذرتكم عذاب الله تعالى للمشركين، والكلام رد لقولهم هذا ساحر كذاب فإن الإنذار ينافي السحر والكذب. وقد يقال: المراد إنما أنا رسول منذر لا ساحر كذاب، وفيه من الحسن ما فيه فإن كل واحد من وصفي الرسالة والإنذار ينافي كل واحد من وصفي السحر والكذب لكن منافاة الرسالة للسحر أظهر وبينهما طباق فكذلك الإنذار للكذب، وضم إلى ذلك قوله تعالى: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ لإفادة أن له صلى الله عليه وسلم صفة الدعوة إلى توحيده عزّ وجلّ أيضا فالأمران مستقلان بالإفادة. ومِنْ زائدة للتأكيد أي ما إله أصلا إلا الله الْواحِدُ أي الذي لا يحتمل الكثرة في ذاته بحسب الجزئيات بأن يكون له سبحانه ماهية كلية ولا بحسب الأجزاء الْقَهَّارُ لكل شيء. رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا من الموجودات منه سبحانه خلقها وإليه تدبير جميع أمورها الْعَزِيزُ الذي يغلب ولا يغلب في أمر من أموره جل شأنه فتندرج في ذلك المعاقبة الْغَفَّارُ المبالغ في المغفرة يغفر ما يشاء لمن يشاء تقرير للتوحيد، أما الوصف الأول فظاهر في ذلك غير محتاج للبيان، وأما القهار لكل شيء فلأنه لو كان إله غيره سبحانه لم يكن قهارا له ضرورة أنه لا يكون حينئذ لها بل ربما يلزم أن يكون مقهورا وذلك مناف للألوهية تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وأما رَبُّ السَّماواتِ إلخ فلأنه لو أمكن غيره معه تعالى شأنه جاء دليل التمانع المشار إليه بقوله سبحانه: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] فلم تتكون السماوات والأرض وما بينهما، وقيل: لأن معنى رَبُّ السَّماواتِ إلخ رب كل موجود فيدخل فيه كل ما سواه فلا يكون إلها، وأما العزيز فلأنه يقتضي أن يغلب غيره ولا يغلب ومع الشركة لا يتم ذلك. وأما الغفار فلأنه يقتضي أن يغفر ما يشاء لمن يشاء فربما شاء مغفرة لأحد وشاء لآخر منه العقاب فإن حصل مراده فالآخر ليس بإله وإن حصل مراد الآخر ولم يحصل مراده لم يكن هو إلها تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وما قيل في برهان التمانع سؤالا وجوابا يقال هنا، وفي هذه الأوصاف من الدلالة على الوعد والوعيد ما لا يخفى، وللاقتصار على وصف الانذار صريحا فيما تقدم قدم وصف القهار على وصف الغفار هنا، وجوز أن يكون المقصود هو تحقيق الإنذار وجيء بالثاني تتميما له وإيضاحا لما فيه من الإجمال أي قل لهم ما أنا إلا منذر لكم بما أعلم وإنما أنذرتكم عقوبة من هذه صفته فإن مثله حقيق بأن يخاف عقابه كما هو حقيق بأن يرجى ثوابه، والوجه الأول أوفق لمقتضى المقام لأن التعقيب بتلك الصفات في الدلالة على أن الدعوة إلى التوحيد مقصودة بالذات بمكان لا ينكر ولأن هذا بالنسبة إلى ما مر من صدر السورة إلى هنا بمنزلة أن يقول المستدل بعد تمام تقريره فالحاصل فالأولى أن يكون على وزان المبسوط وفيه قوله تعالى: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً [ص: 5] فافهم. قُلْ تكرير الأمر للإيذان بأن المقول أمر جليل له شأن خطير لا بد من الاعتناء به أمرا وائتمارا هُوَ أي ما أنبأتكم به من كوني رسولا منذرا وأن الله تعالى واحدا لا شريك له نَبَأٌ عَظِيمٌ خبر ذو فائدة عظيمة جدا لا ريب فيه أصلا أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ متمادون في الإعراض عنه لتمادي غفلتكم، وهذه الجملة صفة ثانية لنبأ والكلام بجملته تحسير لهم وتنبيه على مكان الخطأ وإظهار لغاية الرأفة والعطف الذي يقتضيه مقام الدعوة. واستظهر بعض الأجلة أن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 210 هُوَ للقرآن كما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة، واستشهد بآخر السورة وقال: إنه يدخل ما ذكر دخولا أوليا، واختار كون هذه الجملة استئنافا ناعيا عليهم سوء حالهم بالنسبة إليه وأنهم لا يقدرون قدره الجليل مع غاية عظمته الموجبة للإقبال عليه وتلقيه بحسن القبول وكأن الكلام عليه ناظر إلى ما فيه أول السورة من قوله تعالى: وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ [ص: 1، 2] جيء به ليستدل على أنه وارد من جهته تعالى بما يشير إليه قوله تعالى: ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ إلخ حيث تضمن ذكر نبأ من أنبائه على التفصيل من غير سابقة معرفة به ولا مباشرة سبب من أسبابها المعتادة كالنظر في الكتب الإلهية والسماع من الكتابين وهو حجة بينة دالة على أنه بطريق الوحي من عند الله تعالى وأن سائر أنبائه أيضا كذلك وهو على ما قلنا تذكير لإثبات النبوة بذكر مختصر منه تمهيدا لإرشاد الطريق وتذكيرا للباقي وتسلقا منه إلى استماع ما ذكره لطف للمدعوين وتنويه للداعي، وعدم التعرض لنحو ذلك في أمر التوحيد لظهور أدلته مع كونه ذكر شيء منها غضا طريا وهو ما أشارت إليه الصفات المذكورة آنفا، فلا يقال: إن التعرض لإثبات النبوة دون التوحيد دليل على أن المقصود بالإفادة هو النبوة وأن الثاني جيء به تتميما لذلك. وأنت تعلم أن النبوة وكون القرآن وحيا من عند الله تعالى مثلا زمان متى ثبت أحدهما ثبت الآخر، لكن يرجح جعل الآية في النبوة وإثباتها القرب وتصدير هذه الآية بنحو ما صدرت به الآية المتضمنة دعوى النبوة قبلها من قوله تعالى (قل) فإن سلم لك هذا المرجح فذاك وإلا فلا تعدل عما روي عن ابن عباس ومن معه، وعن الحسن أن ذلك يوم القيامة كما في قوله تعالى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ [النبأ: 1، 2] وقيل: ما تقدم من أنباء الأنبياء عليهم السلام، وقيل: تخاصم أهل النار، وعدي العلم بالباء نظرا إلى معنى الإحاطة، والملأ الجماعة الأشراف لأنهم يملؤون العيون رواء والنفوس جلالة وبهاء وهو اسم جمع ولذا وصف بالمفرد أعني الْأَعْلى والمراد به عند ملأ الملائكة وآدم عليهم السلام وإبليس عليه اللعنة وكانوا في السماء فالعلو حسي وكان التقاول بينهم على ما ستعلمه إن شاء الله، وإذ متعلقة بمحذوف يقتضيه المقام إذ المراد نفي علمه عليه الصلاة والسلام بحالهم لا بذواتهم، والتقدير ما كان لي فيما سبق علم ما بوجه من الوجوه بحال الملأ إلا على وقت اختصامهم، وهو أولى من تقدير الكلام كما ذهب إليه الجمهور أي ما كان لي علم بكلام الملأ إلا على وقت اختصامهم لأن علمه صلى الله عليه وسلم غير مقصور على ما جرى بينهم من الجزء: 12 ¦ الصفحة: 211 الأقوال فقط بل عام لها وللأفعال أيضا من سجود الملائكة عليهم السلام وإباء إبليس واستكباره حسبما ينطق به الوحي فالأولى اعتبار العموم في نفيه أيضا، وقيل: إذ بدل اشتمال من (الملأ) أو ظرف لعلم وفيه بحث والاختصام فيما يشير إليه سبحانه بقوله عزّ وجلّ إِذْ قالَ رَبُّكَ إلخ، والتعبير بيختصمون المضارع لأنه أمر غريب فأتى به لاستحضاره حكاية للحال، وضمير الجمع للملأ. وحكى أبو حيان كونه لقريش واستبعده وكأن في يَخْتَصِمُونَ حينئذ التفاتا من الخطاب في أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ إلى الغيبة والاختصام في شأن رسالته صلى الله عليه وسلم أو في شأن القرآن أو شأن المعاد وفيه عدول عن المأثور وارتكاب لما لا يكاد يفهم من الآية من غير داع إلى ذلك ومع هذا لا يقبله الذوق السليم، وقوله تعالى: إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ اعتراض وسط بين إجمال اختصامهم وتفصيله تقريرا لثبوت علمه عليه الصلاة والسلام وتعيينا لسببه إلا أن بيان انتفائه فيما سبق لما كان منبئا عن ثبوته الآن، ومن البين عدم ملابسته صلى الله عليه وسلم بشيء من مبادئه المعهودة تعين أنه ليس إلا بطريق الوحي حتما فجعل ذلك أمرا مسلم الثبوت غنيا عن الإخبار به قصدا وجعل مصب الفائدة إخباره بما هو داع إلى الوحي ومصحح له، فالقائم مقام الفاعل ليوحى إما ضمير عائد إلى الحال المقدر كما أشير إليه سابقا أو ما يعمه وغيره، فالمعنى ما يوحى إلي حال الملأ الأعلى أو ما يوحى إلى الذي يوحى من الأمور الغيبية التي من جملتها حالهم لأمر من الأمور إلا لأني نذير مبين من جهته تعالى فإن كونه عليه الصلاة والسلام كذلك من دواعي الوحي إليه ومصححاته، وجوز كون الضمير القائم مقام الفاعل عائدا إلى المصدر المفهوم من يُوحى أي ما يفعل الإيحاء إلى بحال الملأ الأعلى أو بشيء من الأمور الغيبية التي من جملتها حالهم لأمر من الأمور إلا لأني إلخ. وجوز أيضا كون الجار والمجرور نائب الفاعل وأَنَّما على تقدير اللام، قال في الكشف: ومعنى الحصر أنه صلى الله عليه وسلم لم يوح إليه لأمر إلا لأنه نذير مبين وأي مبين كقولك: لم تستقض يا فلان إلا لأنك عالم عامل مرشد. وجوز الزمخشري أن يكون بعد حذف اللام مقاما مقام الفاعل، ومعنى الحصر أني لم أومر إلا بهذا الأمر وحده وليس إلى غير ذلك لأنه الأمر الذي يشتمل على كل الأوامر إما تضمنا وإما التزاما أو لم أومر إلا بإنذاركم لا بهدايتكم وصدكم عن العناد فإن ذلك ليس إليّ، وما ذكر أولا أوفق بحال الاعتراض كما لا يخفى على من ليس أجنبيا عن إدراك اللطائف. وقرأ أبو جعفر إنما بالكسر على الحكاية أي ما يوحى إلي إلا هذه الجملة وإيحاؤها إليه أمره عليه الصلاة والسلام أن يقولها وحاصل معنى الحصر قريب مما ذكر آنفا، وجوز أن يراد لم أومر إلا بأن أقول لكم هذا القول دون أن أقول أعلم الغيب بدون وحي مثلا فتدبر ولا تغفل. وقوله تعالى: إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إلخ شروع في تفصيل ما أجمل من الاختصام الذي هو ما جرى بينهم من التقاول فهو بدل من إِذْ يَخْتَصِمُونَ بدل كل من كل، وجوز كونه بدل بعض، وصح إسناد الاختصام إلى الملائكة مع أن التقاول كان بينهم وبين الله تعالى كما يدل عليه إِذْ قالَ رَبُّكَ إلخ لأن تكليمه تعالى إياهم كل بواسطة الملك فمعنى المقاولة بين الملأ الأعلى مقاولة ملك من الملائكة مع سائر الملائكة عليهم السلام في شأن الاستخلاف ومع إبليس في شأن السجود ومع آدم في قوله: أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ [البقرة: 33] ومعنى كون المقاولة بين الملائكة وآدم وإبليس وجودها فيما بينهم في الجملة ولا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز في الإسناد فالكل حقيقة لأن الملأ الأعلى شامل للملك المتوسط وهو المقاول بالحقيقة وهو عزّ وجلّ مقاول بالمجاز، ولا تقل المخاصم ليكون الأمر بالعكس، وما يقال: إن قوله تعالى: إِذْ قالَ رَبُّكَ يقتضي بأن يكون مقاولته تعالى إياهم بلا واسطة فهو ممنوع لأنه إبدال زمان قصة عن زمان التفاوض فيها، والغرض أن تعلم القصة لا مطابقة كل جزء جزء لكل جزء جزء فذلك غير لازم ولا مراد، ثم فيه فائدة جليلة وهي أن مقاولة الملك إياهم أو إياهما عن الله تعالى فهم مقاولوه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 212 تعالى أيضا، وأريد هذا المعنى من هذا إلا يراد لا من اللفظ ليلزم الجمع المذكور آنفا، وجعل الله عزّ وجلّ من الملأ الأعلى بأن يراد به ما عدا البشر ليكون الاختصام قائما به تعالى وبهم على معنى أنه سبحانه في مقابلتهم يخاصمونه ويخاصمهم مع ما فيه من إيهام الجهة له عزّ وجلّ ينبو المقام عنه نبوا ظاهرا، ولم يذكر سبحانه جواب الملائكة عليهم السلام لتتم المقاولة اختصارا بما كرر مرارا ولهذا لم يقل جل شأنه إني خالق خلقا من صفته كيت وكيت جاعل إياه خليفة. وروعي هذا النسق هاهنا لنكتة سرية وهي أن يجعل مصب الغرض من القصة حديث إبليس ليلائم ما كان فيه أهل مكة وأنه بامتناعه عن امتثال أمر واحد جرى عليه ما جرى فكيف يكون حالهم وهم مغمورون في المعاصي وفيه أنه أول من سن العصيان فهو إمامهم وقائدهم إلى النار، وذكر حديث سجود الملائكة وطي مقاولتهم في شأن الاستخلاف ليفرق بين المقاولتين وأن السؤال قبل الأمر ليس مثله بعده فإن الثاني يلزمه التواني، ثم فيه حديث تكريم آدم عليه السلام ضمنا دلالة على أن المعلم والناصح يعظم وأنه شرع منه تعالى قديم، وكان على أهل مكة أن يعاملوا النبي صلّى الله عليه وسلم معاملة الملائكة لآدم لا معاملة إبليس له قاله صاحب الكشف وهو حسن بيد أن ما علل به الاختصار من تكرار ذلك مرارا لا يتم إلا إذا كان ذلك في سورة مكية نزلت قبل هذه السورة، وقد علل بعضهم ترك الذكر بالاكتفاء بما في البقرة، وفيه أن نزولها متأخر عن نزول هذه السورة لأنها مدنية وهذه مكية فلا يصح الاكتفاء إحالة عليها قبل نزولها، وكون المراد اكتفاء السامعين للقرآن بعد ذلك لا يخفى حاله، ولعل القصة كانت معلومة سماعا منه صلّى الله عليه وسلم وكان عالمها بها بواسطة الوحي وإن لم تكن إذ ذاك نازلة قرآنا فاختصرت هاهنا لما ذكر في الكشف اكتفاء بذلك، وقال فيه أيضا: وذلك أن تقول التقاول بين الملائكة وآدم عليهم السلام حيث قال: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ [البقرة: 31] تبكيتا لهم بما نسبوا إليه من قولهم أَتَجْعَلُ [البقرة: 30] فيها وبينه وبين إبليس إما لأنه داخل في الإنكار والتبكيت بل هو أشدهم في ذلك لكن غلب الله تعالى الملائكة لأنه أخس من أن يقرن مع هؤلاء مفردا في الذكر أو لأنه أمر بالسجود لمعلمه فامتنع وأسمعه ما اسمع. وقوله تعالى: إِذْ قالَ رَبُّكَ إلخ للإتيان بطرف مشتمل على قصة المقاولة وتصوير أصلها فلم يلزم منه أن يكون الرب جل شأنه من المقاولين وإن كان بينه سبحانه وبينهم تقاول قد حكاه الله تعالى، وهذا أقل تكلفا مما فيه دعوى أن تكليمه تعالى كان بواسطة الملك إذ للمانع أن يمنع التوسط على أصلنا وعلى أصل المعتزلة أيضا لا سيما إذا جعل المبكتون الملائكة كلهم، وعلى الوجهين ظهر فائدة إبدال إِذْ قالَ رَبُّكَ من إِذْ يَخْتَصِمُونَ على وجه بين، والاعتراض بأنه لو كان بدلا لكان الظاهر إذ قال ربي لقوله: ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ فليس المقام مما يقتضي الالتفات غير قادح فإنه على أسلوب قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ [الزخرف: 9، 10] فالخطاب بلكم نظرا إلى أنه من قول الله تعالى تمم قولهم وذنبه كذلك هاهنا هو من قول الله تعالى لتتميم قول النبي صلّى الله عليه وسلم وهذا على نحو ما يقول مخاطبك: جاءني الأمير فتقول الذي أكرمك وحباك أو يقول رأيت الأمير يوم الجمعة فتقول: يوم خلع عليك الخلعة الفلانية، ومنه علم أنه ليس من الالتفات في شيء وأن هذا الإبدال على هذا الأسلوب لمزيد الحسن انتهى، وجوز أن يقول: إن إِذْ قوله تعالى: إِذْ قالَ رَبُّكَ ظرف ليختصمون، والمراد بالملأ الأعلى الملائكة وباختصامهم قولهم لله تعالى أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [البقرة: 30] في مقابلة قوله تعالى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ [البقرة: 30] إلى غير ذلك، ولا يتوقف صحة إرادة ذلك على جعل الله تعالى من الملأ ولا على أنه سبحانه كلمهم بواسطة ملك ولا تقدم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 213 تفصيل الاختصام مطلقا بل يكفي ذكره بعد النزول سواء ذكر قرآنا أم لا، ويرجح تفسير الملأ بما ذكر على تفسيره بما يعم آدم عليه السلام أن ذاك على ما سمعت يستدعي القول بأن آدم كان في السماء وهو ظاهر في أنه عليه السلام خلق في السماء أو رفع إليها بعد خلقه في الأرض وكلا الأمرين لا يسلمهما كثير من الناس، وقد نقل ابن القيم في كتابه مفتاح دار السعادة عن جمع أن آدم عليه السلام إنما خلق في الأرض وأن الجنة التي أسكنها بعد أن جرى ما جرى كانت فيها أيضا وأتى بأدلة كثيرة قوية على ذلك ولم يجب عن شيء منها فتدبر. وذهب بعضهم إلى أن الملأ الأعلى الملائكة وأن اختصامهم كان في الدرجات والكفارات، فقد أخرج الترمذي وصححه والطبراني وغيرهما من معاد بن جبل قال: «احتبس عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة من صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى عين الشمس فخرج سريعا فثوب بالصلاة فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما سلم دعا بصوته فقال: على مصافكم ثم التفت إلينا ثم قال: أما إني أحدثكم بما حبسني عنكم الغداة إني قمت الليلة فقمت وصليت ما قدر لي ونعست في صلاتي حتى استثقلت فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة فقال: يا محمد قلت: لبيك ربي قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت لا أدري فوضع كفه بين كتفي فوجدت برد أنامله بين ثديي فتجلى لي كل شيء وعرفته فقال: يا محمد قلت: لبيك قال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الدرجات والكفارات فقال: ما الدرجات؟ فقلت: إطعام الطعام وإفشاء السلام والصلاة بالليل والناس نيام قال: صدقت فما الكفارات؟ قلت إسباغ الوضوء في المكاره وانتظار الصلاة بعد الصلاة ونقل الاقدام إلى الجماعات قال: صدقت سل يا محمد فقلت: اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لي وترحمني وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون اللهم إني أسألك حبك وحب من أحبك وحب عمل يقربني إلى حبك قال النبي صلى الله عليه وسلم: تعلموهن وادرسوهن فإنهن حق» ومعنى اختصامهم في ذلك على ما في البحر اختلافهم في قدر ثوابه، ولا يخفى أن حمل الاختصام في الآية على ما ذكر بمراحل عن السياق فإنه مما لم يعرفه أهل الكتاب فلا يسلمه المشركون له عليه الصلاة والسلام أصلا، نعم هو اختصام آخر لا تعلق له بالمقام، وجعل هؤلاء- إذ- في إِذْ قالَ منصوبا باذكر مقدرا، وكذا كل من قال: إن الاختصام ليس في شأن آدم عليه السلام يجعله كذلك. والشهاب الخفاجي قال: الأظهر أي مطلقا تعلق إذ باذكر المقدر على ما عهد في مثله ليبقى إِذْ يَخْتَصِمُونَ على عمومه ولئلا يفصل بين البدل والمبدل منه وليشمل ما في الحديث الصحيح من اختصامهم في الكفارات والدرجات ولئلا يحتاج إلى توجيه العدول عن ربي إلى رَبُّكَ انتهى، وفيه شيء لا يخفى. ومن غريب ما قيل في اختصامهم ما حكاه الكرماني في عجائبه أنه عبارة عن مناظرتهم بينهم في استنباط العلوم كمناظرة أهل العلم في الأرض، ويرد به على من يزعم أن جميع علومهم بالفعل، والمعروف عن السلف أنه المقاولة في شأن عليه السلام والرد به حاصل أيضا، والمراد بالملائكة في إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ ما يعم إبليس لأنه إذا ذاك كان مغمورا فيهم، ولعل التعبير بهم دون الضمير الراجع إلى الملأ الأعلى على القول بالاتحاد لشيوع تعلق القول بهم بين أهل الكتاب بهذا العنوان أو لشهرة المقابلة بين الملك والبشر فيلطف جدا قوله سبحانه إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ وقيل: عبر بذلك إظهار للاستغراق في المقول له، والمراد إني خالق فيما سيأتي، وفي التعبير بما ذكر ما ليس في التعبير بصيغة المضارع من الدلالة على أنه تعالى فاعل البتة من غير صارف، والبشر الجسم الكثيف يلاقي ويباشر أو بادي البشرة ظاهر الجلد غير مستور بشعر أو وبر أو صوف، والمراد به آدم عليه السلام وذكر هنا خلقه من طين وفي آل عمران خلقه من تراب وفي الحجر من صلصال من حمأ مسنون وفي الأنبياء من عجل ولا منافاة غاية ما في الباب أنه ذكر في بعض المادة القريبة وفي بعض المادة البعيدة، ثم إن ما جرى عند الجزء: 12 ¦ الصفحة: 214 وقوع المحكي ليس اسم البشر الذي لم يخلق مسماه حينئذ فضلا عن تسميته به بل عبارة كاشفة عن حاله وإنما عبر عنه بهذا الاسم عند الحكاية. فَإِذا سَوَّيْتُهُ أي صورته بالصورة الإنسانية والخلقة البشرية أو سويت أجزاء بدنه بتعديل طبائعه وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي تمثيل لإفاضة ما به الحياة بالفعل على المادة القابلة لها فليس ثمت نفخ ولا منفوخ أي فإذا أكملت استعداده وأفضت عليه ما يحيا به من الروح الطاهرة التي هي أمري فَقَعُوا لَهُ أمر من وقع، وفيه دليل على أن المأمور به ليس مجرد الانحناء كما قيل: أي فاسقطوا له ساجِدِينَ تحية له وتكريما فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ أي فخلقه فسواه فنفخ فيه الروح فسجد له الملائكة كُلُّهُمْ بحيث لم يبق أحد منهم إلا سجد أَجْمَعُونَ أي بطريق المعية بحيث لم يتأخر أحد منهم عن أحد فكل للإحاطة وأجمع للاجتماع، ولا اختصاص لإفادته ذلك بالحالية خلافا لبعضهم، وتحقيقه على ما في الكشف أن الاشتقاق الواضح يرشد إلى أن فيه معنى الجمع والضم والأصل في الإطلاق الخطابي التنزيل على أكمل أحوال الشيء ولا خفاء في أن الجمع في وقت واحد أكمل أصنافه لكن لما شاع استعماله تأكيدا أقيم مقام كل في إفادة الإحاطة من غير نظر إلى الكمال فإذا فهمت الإحاطة بلفظ آخر لم يكن بد من ملاحظة الأصل صونا للكلام عن الإلغاء ولو سلم فكل تأكيد الشمول بإخراجه عن الظهور إلى النصوص، وأَجْمَعُونَ تأكيد ذلك التأكيد فيفيد أتم أنواع الإحاطة وهو الإحاطة في وقت واحد، واستخراج هذه الفائدة من جعله كإقامة المظهر مقام المضمر لا يلوح وجهه، والنقض بقوله سبحانه: لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: 39، ص: 82] منشؤه عدم تصور وجه الدلالة، وظاهر هذه الآية وآية الحجر أن سجودهم مترتب على ما حكي من الأمر التعليقي وكثير من الآيات الكريمة كالتي في البقرة والأعراف وغيرهما ظاهرة في أنه مترتب على الأمر التنجيزي وقد مر تحقيق ذلك فليراجع. وقوله تعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ استثناء متصل لما أنه وإن كان جنيا معدود في زمرة الملائكة موصوف بصفاتهم لا يقوم ولا يقعد إلا معهم فشملته الملائكة تغليبا ثم استثني استثناء واحد منهم أو لأن من الملائكة جنسا يتوالدون وهو منهم أو هو استثناء منقطع، وقوله تعالى: اسْتَكْبَرَ على الأول استئناف مبين لكيفية ترك السجود المفهوم من الاستثناء فإن تركه يحتمل أن يكون للتأمل والتروي وبه يتحقق أنه للإباء والاستكبار وعلى الثاني يجوز اتصاله بما قبله أي لكن إبليس استكبر وتعظم وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ أي وصار منهم باستكباره وتعاظمه على أمر الله تعالى، وترك الفاء المؤذنة بالسببية إحالة على فطنة السامع أو لظهور المراد. وكون التعاظم على أمره عزّ وجلّ لا سيما الشفاهي موجبا للكفر مما لا ينبغي أن يشك فيه على أن هذا الاستكبار كان متضمنا استقباح الأمر وعده جورا، ويجوز أن يكون المعنى وكان من الكافرين في علم الله تعالى لعلمه عزّ وجلّ أنه سيعصيه ويصدر عنه ما يصدر باختياره وخبث طويته واستعداده قالَ عزّ وجلّ على سبيل الإنكار والتوبيخ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ أي من السجود لِما خَلَقْتُ أي للذي خلقته على أن ما موصولة والعائد محذوف، واستدل به على جواز إطلاق ما على آحاد من يعقل ومن لم يجز قال: إن ما مصدرية ويراد بالمصدر المفعول أي أن تسجد لمخلوق بِيَدَيَّ وهذا عند بعض أهل التأويل من الخلف تمثيل لكونه عليه السلام معتنى بخلقه فإن من شأن المعتنى به أن يعمل باليدين، ومن آثار ذلك خلقه من غير توسط أب وأم وكونه جسما صغيرا انطوى فيه العالم الأكبر وكونه أهلا لأن يفاض عليه ما لا يفاض على غيره إلى غير ذلك من مزايا الآدمية. وعند بعض آخر منهم اليد بمعنى القدرة والتثنية للتأكيد الدال على مزيد قدرته تعالى لأنها ترد لمجرد التكرير نحو ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الملك: 4] فأريد به لازمة وهو التأكيد وذلك لأن الله تعالى في خلقه أفعالا مختلفة من جعله طينا مخمرا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 215 ثم جسما ذا لحم وعظم ثم نفخ الروح فيه وإعطائه قوة العلم والعمل ونحو ذلك مما هو دال على مزيد قدرة خالق القوى والقدر، وجوز أن يكون ذلك لاختلاف فعل آدم فقد يصدر منه أفعال ملكية كأنها من آثار اليمين وقد يصدر منه أفعال حيوانية كأنها من آثار الشمال وكلتا يديه سبحانه يمين. وعند بعض اليد بمعنى النعمة والتثنية إما لنحو ما مر وإما على إرادة نعمة الدنيا ونعمة الآخرة. والسلف يقولون: اليد مفردة وغير مفردة ثابتة لله عزّ وجلّ على المعنى اللائق به سبحانه ولا يقولون في مثل هذا الموضع إنها بمعنى القدرة أو النعمة، وظاهر الأخبار أن للمخلوق بها مزية على غيره، فقد ثبت في الصحيح أنه سبحانه قال في جواب الملائكة: اجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة وعزتي وجلالي لا أجعل من خلقته بيدي كمن قلت له كن فكان. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: خلق الله تعالى أربعا بيده: العرش وجنات عدن والقلم وآدم ثم قال لكل شيء كن فكان ، وجاء في غير ما خبر أنه تعالى كتب التوراة بيده، وفي حديث محاجة آدم وموسى عليهما السلام ما يدل على أن المخلوقية بها وصف تعظيم حيث قال له موسى: أنت آدم الذي خلقك الله تعالى بيده، وكذلك في حديث الشفاعة أن أهل الموقف يأتون آدم ويقولون له: أنت آدم أبو الناس خلقك الله تعالى بيده، ويعلم من ذلك أن ترتيب الإنكار في ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ على خلق الله تعالى إياه بيديه لتأكيد الإنكار وتشديد التوبيخ كأنه قيل: ما منعك أن تعظم بالسجود من هو أهل للتعظيم للعناية الربانية التي حفت إيجاده. وزعم الزمخشري أن خَلَقْتُ بِيَدَيَّ من باب رأيته بعيني فبيدي لتأكيد أنه مخلوق لا شك فيه وحيث إنّ إبليس ترك السجود لآدم عليه السلام لشبهة أنه سجود لمخلوق وانضم إلى ذلك أنه مخلوق من طين وأنه هو مخلوق من نار وزل عنه أن الله سبحانه حين أمر من هو أجل منه وأقرب عباده إليه زلفى وهم الملائكة امتثلوا ولم يلتفتوا إلى التفاوت بين الساجد والمسجود له تعظيما لأمر ربهم وإجلالا لخطابه ذكر له ما يتشبث به من الشبهة وأخرج له الكلام مخرج القول بالموجب مع التنبيه على مزلة القدم فكأنه قيل له ما منعك من السجود لشيء هو كما تقول مخلوق خلقته بيدي لا شك في كونه مخلوقا امتثالا لأمري وإعظاما لخطابي كما فعلت الملائكة ولا يخفى أن المقام ناب عما ذكره أشد النبو، وجعل ذلك من باب رأيت بعيني لا يفيد إلا تأكيد المخلوقية، وإخراج الكلام مخرج القول بالموجب مما لا يكاد يقبل فإن سياق القول بالموجب أن يسلم له ثم ينكر عليه لا أن يقدم الإنكار أصلا ويؤتى به كالرمز بل كالألغاز، وأيضا الأخبار الصحيحة ظاهرة في أن ذاك وصف تعظيم لا كما زعمه، وأيضا جعل سجود الملائكة لآدم راجعا إلى محض الامتثال من غير نظر إلى تكريم آدم عليه السلام مردود بما سلم في عدة مواضع أنه سجود تكريم كيف وهو يقابل أَتَجْعَلُ فِيها وكذلك تعليمه إياهم فليلحظ فيه جانب الآمر تعالى شأنه وجانب المسجود له عليه الصلاة والسلام توفية للحقين وكأنه قال ما قال وأخرج الآية على وجه لم يخطر ببال إبليس حذرا من خرم مذهبه ولا عليه أن يسلم دلالة الآية على التكريم ويخصه بوجه وحينئذ لا تدل على الأفضلية مطلقا حتى يلزم خرم مذهبه، ولعمري إنّ هذا الرجل عق أباه آدم عليه السلام في هذا المبحث من كشافه حيث أورد فيه مثالا لما قرره في الآية جعل فيه سقاط الحشم مثالا لآدم عليه السلام وبر عدو الله تعالى إبليس حيث أقام له عذره وصوب اعتقاده أنه أفضل من آدم لكونه من نار وآدم من طين وإنما غلطه من جهة أخرى وهو أنه لم يقس نفسه على الملائكة إذ سجدوا له على علمهم أنه بالنسبة إليهم محطوط الرتبة ساقط المنزلة وكم له من عثرة لا يقال لصاحبها لعا مع الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم في هذا المقام، نسأل الله تعالى أن يعصمنا من مهاوي الهوى ويثبت لنا الأقدام، وقرىء «بيدي» الجزء: 12 ¦ الصفحة: 216 بكسر الدال كمصرخي و «بيدي» على التوحيد أَسْتَكْبَرْتَ بهمزة الإنكار وطرح همزة الوصل أي أتكبرت من غير استحقاق أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ أو كنت مستحقا للعلو فائقا فيه، وقيل المعنى أحدث لك الاستكبار أم لم تزل منذ كنت من المستكبرين فالتقابل على الأول باعتبار الاستحقاق وعدمه وعلى الثاني باعتبار الحدوث والقدم ولذا قيل كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ دون أنت من العالين، وقيل إن العالين صنف من الملائكة يقال لهم المهيمون مستغرقون بملاحظة جمال الله تعالى وجلاله لا يعلم أحدهم أن الله تعالى خلق غيره لم يؤمروا بالسجود لآدم عليه السلام أو هم ملائكة السماء ولم يؤمروا بالسجود وإنما المأمور ملائكة الأرض فالمعنى أتركت السجود استكبارا أم تركته لكونك ممن لم يؤمر به ولا يخفى ما فيه، وأم في كل ذلك متصلة ونقل ابن عطية عن كثير من النحويين أنها لا تكون كذلك إذا اختلف الفعلان نحو أضربت زيدا أم قتلته. وتعقبه أبو حيان بأنه مذهب غير صحيح وأن سيبويه صرح بخلافه. وقرأت فرقة منهم ابن كثير فيما قيل أَسْتَكْبَرْتَ بصلة الألف وهي قراءة أهل مكة وليست في مشهور ابن كثير فاحتمل أن تكون همزة الاستفهام قد حذفت لدلالة أم عليها كقوله: بسبع رمينا الجمر أم بثمان واحتمل أن يكون الكلام إخبارا وأم منقطعة والمعنى بل أنت من العالين والمراد استخفافه سبحانه به قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ قيل هو جواب عن الاستفهام الأخير يؤدي مؤدى أنه كذلك أي هو من العالين على الوجه الأول وأنه ليس من الاستكبار سابقا ولا حقا في شيء على الوجه الثاني ويجري مجرى التعليل كونه فائقا إلا أنه لما لم يكن وافيا بالمقصود لأنه مجرد دعوى أوثر بيانه بما يفيد ذلك وزيادة وهو قوله: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ أما الأول فظاهر وأما الثاني فلأنه ذكر النوعين تنبيها على أن المماثلة كافية فضلا عن الأفضلية ولهذا أبهم وفصل وقابل وآثر خَلَقْتَنِي وخَلَقْتَهُ دون أنا من نار وهو من طين ليدل على أن المماثلة في المخلوقية مانعة فكيف إذا انضم إليها خيرية المادة، وفيه تنبيه على أن الآمر كان أولى أن يستنكف فإنه أعني السجود حق الآمر، واستلطفه صاحب الكشف ثم قال: ومنه يعلم أن جواب إبليس من الأسلوب الأحمق. وجعل غير واحد قوله أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ جوابا أولا وبالذات عن الاستفهام بقوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ بادعاء شيء مستلزم للمانع من السجود على زعمه، وقوله: خَلَقْتَنِي إلخ تعليلا لدعوى الخيرية. وأيا ما كان فقد أخطأ اللعين إذ لا مماثلة في المخلوقية فمخلوقية آدم عليه السلام باليدين ولا كذلك مخلوقيته وأمر خيرية المادة على العكس في النظر الدقيق ومع هذا الفضل غير منحصر بما كان من جهتها بل يكون من جهة الصورة والغاية أيضا وفضل آدم عليه السلام في ذلك لا يخفى، وكأن خطاه لظهوره لم يتعرض لبيانه بل جعل جوابه طرده وذلك قوله تعالى: قالَ فَاخْرُجْ مِنْها والفاء لترتيب الأمر على ما ظهر من اللعين من المخالفة للأمر الجليل وتعليلها بأظهر الأباطيل أي فاخرج من الجنة، والإضمار قبل ذكرها لشهرة كونه من سكانها. وعن ابن عباس أنه كان في عدن لا في جنة الخلد ثم إنه يكفي في صحة الأمر كونه ممن اتخذ الجنة وطنا ومسكنا ولا تتوقف على كونه فيها بالفعل وقت الخطاب كما هو شائع في المحاورات يقول من يخاصم صاحبه في السوق أو غيره في دار: اخرج من الدار مع أنه وقت المخاصمة ليس فيها بالفعل وهذا إن قيل: إن المحاورة لم تكن في الجنة، وقيل: منها أي من زمرة الملائكة المعززين وهو المراد بالهبوط لا الهبوط من السماء كما قيل فإن وسوسته لآدم عليه السلام كانت بعد هذا الطرد وكانت على ما روي عن الحس بطريق النداء من باب الجنة على أن كثيرا من الجزء: 12 ¦ الصفحة: 217 العلماء أنكروا الهبوط من السماء بالكلية، بناء على أن الجنة التي أسكنها آدم عليه السلام كانت في الأرض، وقيل: اخرج من الخلقة التي أنت فيها وانسلخ منها والأمر للتكوين، وكان عليه اللعنة يفتخر بخلقته فغير الله تعالى خلقته فاسود بعد ما كان أبيض وقبح بعد ما كان حسنا وأظلم بعد ما كان نورانيا. وقوله تعالى: فَإِنَّكَ رَجِيمٌ تعليل للأمر بالخروج أي مطرود من كل خير وكرامة فالرجم كناية عن الطرد لأن المطرود يرجم بالحجارة أو شيطان يرجم بالشهب كذا قالوا، وقد يقال: المراد برجيم ذليل فإن الرجم يستدعي الذلة، وهو أبعد من توهم التكرار مع الجملة بعد من الوجه الأول وأوفق لما في [الأعراف: 13] من قوله تعالى: فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي أي إبعادي عن الرحمة، وفي [الحجر: 35] اللَّعْنَةَ فإن كانت أل فيه للعهد أو عوضا عن الضمير المضاف إليه فعدم الفرق بين ما هناك وما هنا ظاهر وإن أريد كل لعنة فذاك لما أن لعنة اللاعنين من الملائكة والثقلين أيضا من جهته تعالى فهم يدعون عليه بلعنة الله تعالى وإبعاده من رحمته إِلى يَوْمِ الدِّينِ يوم الجزاء والعقوبة، وفيه إيذان بأن اللعنة مع كمال فظاعتها ليست كافية في جزاء جنايته بل هي أنموذج مما سيلقاه مستمرة إلى ذلك اليوم، لكن لا على أنها تنقطع يومئذ كما يوهمه ظاهر التوقيت ونسب القول به إلى بعض الصوفية بل على أنه سيلقى يومئذ من ألوان العذاب وأفانين العقاب ما تنسى عنده اللعنة وتصير كالزائل ألا يرى إلى قوله تعالى: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [الأعراف: 44] وقوله تعالى: وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [العنكبوت: 25] قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي أي أمهلني وأخرني، والفاء متعلقة بمحذوف ينحسب عليه الكلام كأنه قال: إذا جعلتني رجيما فأمهلني ولا تمتني إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي آدم وذريته للجزاء بعد الموت وهو وقت النفخة الثانية، وأراد اللعين بذلك أن يجد فسحة من إغوائهم ويأخذ منهم ثأره وينجو من الموت لأنه لا يكون بعد البعث وكان أمر البعث معروفا بين الملائكة فسمعه منهم فقال ما قال، ويمكن أن يكون قد عرفه عقلا حيث عرف ببعض الأمارات أو بطريق آخر من طرق المعرفة أن أفراد هذا الجنس لا تخلو من وقوع ظلم بينها وأن الدار ليست دار قرار بل لا بد من الموت فيها وأن الحكمة تقتضي الجزاء. قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ورود الجواب بالجملة الاسمية مع التعرض لشمول ما سأله الآخرين على وجه يشعر بأن السائل تبع لهم في ذلك صريح في أنه إخبار بالإنظار المقدر لهم أزلا لا إنشاء لإنظار خاص به قد وقع إجابة لدعائه وأن استنظاره كان طلبا لتأخير الموت إذ به يتحقق كونه منهم لا لتأخير العقوبة كما قيل فإن ذلك معلوم من إضافة اليوم إلى الدين أي إنك من جملة الذين أخرت آجالهم أزلا حسبما تقتضيه حكمة التكوين إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ الذي قدرته وعينته لفناء الخلائق وهو وقت النفخة الأولى لا إلى وقت البعث الذي هو المسئول فالفاء ليست لربط نفس الأنظار بالاستنظار بل لربط الإخبار المؤكد به كما في قوله تعالى: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ [يوسف: 77] وقول الشافعي: فإن ترحم فأنت لذلك أهل قالَ فَبِعِزَّتِكَ قسم بسلطان الله عزّ وجلّ وقهره وهو كما يكون بالذات يكون بالصفة فالباء للقسم على ما عليه الأكثرون والفاء لترتيب مضمون الجملة على الأنظار أي فاقسم بعزتك لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ أي أفراد هذا النوع بتزيين المعاصي لهم إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ وهم الذين أخلصهم الله تعالى لطاعته وعصمهم عن الغواية. وقرىء «المخلصين» على صيغة الفاعل أي الذين أخلصوا قلوبهم أو أعمالهم لله تعالى. قالَ أي الله عزّ وجلّ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ برفع الأول على أنه مبتدأ محذوف الخبر أو خبر محذوف الجزء: 12 ¦ الصفحة: 218 المبتدأ ونصب الثاني على أنه مفعول لما بعده قدم عليه للقصر أي لا أقول إلا الحق، والفاء لترتيب مضمون ما بعدها على ما قبلها أي فالحق قسمي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ على أن الحق إما اسمه تعالى أو نقيض الباطل عظمه الله تعالى بإقسامه به، ورجح بحديث إعادة الاسم معرفة أو فأنا الحق أو فقولي الحق، وقوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ إلخ حينئذ جواب لقسم محذوف أي والله لأملان إلخ، وقوله تعالى: وَالْحَقَّ أَقُولُ على تقدير اعتراض مقرر على الوجهين الأولين لمضمون الجملة القسمية وعلى الوجه الثالث لمضمون الجملة المتقدمة أعني فقولي الحق. وقول فَالْحَقُّ مبتدأ خبره لَأَمْلَأَنَّ لأن المعنى أن املأ ليس بشيء أصلا. وقرأ الجمهور «فالحقّ والحقّ» بنصبهما وخرج على أن الثاني مفعول مقدم كما تقدم والأول مقسم به حذف منه حرف القسم فانتصب كما في بيت الكتاب: إن عليك الله أن تبايعا ... تؤخذ كرها أو تجيء طائعا وقولك: الله لأفعلن وجوابه لَأَمْلَأَنَّ وما بينهما اعتراض وقيل هو منصوب على الإغراء أي فالزموا الحق ولَأَمْلَأَنَّ جواب قسم محذوف، وقال الفراء: هو على معنى قولك حقا لآتينك ووجود أل وطرحها سواء أي لأملأن جهنم حقا فهو عنده نصب على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة، ولا يخفى أن هذا المصدر لا يجوز تقديمه عند جمهور النحاة وأنه مخصوص بالجملة التي جزآها معرفتان جامدان جمودا محضا. وقال صاحب البسيط: وقد يجوز أن يكون الخبر نكرة والمبتدأ يكون ضميرا نحو هو زيد معروفا وهو الحق بينا وأنا الأمير مفتخرا ويكون ظاهرا نحو زيد أبوك عطوفا وأخوك زيد معروفا اه فكأن الفراء لا يشترط في ذلك ما يشترطون. وقرأ ابن عباس ومجاهد والأعمش بالرفع فيهما، وخرج رفع الأول على ما مر ورفع الثاني على أنه مبتدأ والجملة بعده خبر والرابط محذوف أي أقوله كقراءة ابن عامر وكل وعد الله الحسنى [النساء: 95] وقول أبي النجم: قد أصبحت أم الخيار تدعي ... عليّ ذنبا كله لم أصنع برفع كل ليتأتى السلب الكلي المقصود للشاعر، وقرأ الحسن وعيسى وعبد الرحمن بن أبي حماد عن أبي بكر بجرهما، وخرج على أن الأول مجرور بواو القسم محذوفة أي فوالحق، والثاني مجرور بالعطف عليه كما تقول: والله والله لأقومن، وأَقُولُ اعتراض بين القسم وجوابه، وجعله الزمخشري مفعولا مقدما لأقول والجر على حكاية لفظ المقسم به قال: ومعناه التوكيد والتشديد وإفادته ذلك زيادة على ما يفيده أصل الاعتراض لأن العدول عما يقتضيه من الإعراب إلى الحكاية لما كان لاستبقاء الصورة الأولى دل على أنها من العناية في شأنها بمكان وهذا جار في كل حكاية من دون فعل قول وما يقوم مقامه فيدل فيما نحن فيه على فضل عناية بشأن القسم ويفيد التشديد والتوكيد. وقرىء بجر الأول على إضمار حرف القسم ونصب الثاني على المفعولية مِنْكَ أي من جنسك من الشياطين وَمِمَّنْ تَبِعَكَ في الغواية والضلالة مِنْهُمْ من ذرية آدم عليه السلام أَجْمَعِينَ توكيد للضمير في مِنْكَ والضمير المجرور بمن الثانية، والمعنى لأملأن جهنم من المتبوعين والتابعين أجمعين لا أترك منهم أحدا أو توكيد للتابعين فحسب والمعنى لأملأنها من الشياطين وممن تبعهم من جميع الناس لا تفاوت في ذلك بين ناس وناس بعد وجود الأتباع منهم من أولاد الأنبياء وغيرهم، وتأكيد التابعين دون المتبوعين لما أن حال التابعين إذا بلغ إلى أن اتصل إلى أولاد الأنبياء فما بال المتبوعين. وقال صاحب الكشف: صاحب هذا القول اعتبر القرب وأن الكلام بين الحق تعالى شأنه وبين الملعون في شأن التابعين فأكد ما هو المقصود وترك توكيد الآخر للاكتفاء. هذا واعلم أن هذه القصة قد ذكرت في عدة سور وقد ترك في بعضها بعض ما ذكر في البعض الآخر للإيجاز ثقة ما ذكر في ذلك وقد يكون الجزء: 12 ¦ الصفحة: 219 فيها في موضعين مثلا لفظان متحدان مآلا مختلفان لفظا رعاية للتفنن، وقد يحمل الاختلاف على تعدد الصدور فيقال مثلا: إن اللعين أقسم مرة بالعزة فحكى ذلك في سورة ص بقوله تعالى: قالَ فَبِعِزَّتِكَ وأخرى بإغواء الله تعالى الذي هو أثر من آثار قدرته وعزته عزّ وجلّ وحكم من أحكام سلطانه فحكى ذلك في سورة [الأعراف: 16] بقوله تعالى: قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي وقد يحمل الاختلاف على اختلاف المقامات كترك الفاء من قوله أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ومن قوله تعالى: إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ في [الأعراف: 14، 15] مع ذكرها فيهما في ص والذي يجب اعتباره في نقل الكلام إنما هو أصل معناه ونفس مدلوله الذي يفيده وأما كيفية إفادته له فليس مما يجب مراعاته عند النقل البتة بل قد تراعى وقد لا تراعى حسب اقتضاء المقام، ولا يقدح في أصل الكلام تجريده عنها بل قد تراعى عند نقله كيفيات وخصوصيات لم يراعها المتكلم أصلا حيث إنّ مقام الحكاية اقتضتها وهي ملاك الأمر ولا يخل ذلك بكون المنقول أصل المعنى كما قد حققه صدر المفتين أبو السعود وأطال الكلام فيه فليراجع قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على القرآن كما روي عن ابن عباس أو على تبليغ ما يوحى إلي أو على الدعاء إلى الله تعالى على ما قيل مِنْ أَجْرٍ أي أجرا دنيويا جل أو قل وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ من الذين يتصنعون ويتحلون بما ليسوا من أهله وما عرفتموني قط متصنعا ولا مدعيا ما ليس عندي حتى انتحل النبوة وأتقول القرآن فأمره صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم عن نفسه هذه المقالة ليس لإعلامهم بالمضمون بل للاستشهاد بما عرفوه منه عليه الصلاة والسلام وللتذكير بما علموه وفي ذلك ذم التكلف. وأخرج ابن عدي عن أبي برزة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أنبئكم بأهل الجنة؟ قلنا: بلى يا رسول الله قال: هم الرحماء بينهم قال: ألا أنبئكم بأهل النار؟ قلنا: بلى قال: هم الآيسون القانطون الكذابون المتكلفون» وعلامة المتكلف كما أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن ابن المنذر ثلاث أن ينازل من فوقه ويتعاطى ما لا ينال ويقول ما لا يعلم، وفي الصحيحين أن ابن مسعود قال: أيها الناس من علم منكم علما فليقل به ومن لم يعلم فليقل الله تعالى أعلم قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ أي ما هو أي القرآن إِلَّا ذِكْرٌ جليل الشأن من الله تعالى. لِلْعالَمِينَ للثقلين كافة وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ أي ما أنبأ به من الوعد والوعيد وغيرهما أو خبره الذي يقال فيه في نفس الأمر وهو أنه الحق والصدق بَعْدَ حِينٍ قال ابن عباس وعكرمة وابن زيد: يعني يوم القيامة، وقال قتادة: والفراء والزجاج: بعد الموت، وكان الحسن يقول: يا ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين، وفسر نبؤه بالوعد والوعيد الكائنين في الدنيا، والمراد لتعلمن ذلك بتحققه إذا أخذتكم سيوف المسلمين وذلك يوم بدر وأشار إلى هذا السدي، وأيا ما كان ففي الآية من التهديد ما لا يخفى. هذا وممّا قاله بعض السّادة الصّوفيّة في بعض الآيات قالوا في قوله تعالى: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ أنه ظاهر في أن الجماد والحيوان الذي هو عند أهل الحجاب غير ناطق حي دراك له علم بالله عزّ وجلّ، ونقل الشعراني عن شيخه على الخواص قدس سره القول بتكليف البهائم من حيث لا يشعر المحجوبون، وجوز أن يكون نذيرها من ذواتها وأن يكون خارجا عنها من جنسها، وقال: ما سميت بهائم إلا لكون أمر كلامها وأحوالها قد أبهم على غالب الخلق لا لأن الأمر مبهم عليها نفسها. وحكي عنه أنه كان يعامل كل جماد في الوجود معاملة الحي ويقول: إنه يفهم الخطاب ويتألم كما يتألم الحيوان. وقيل: في قوله تعالى: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إشارة إلى أن النفوس مجبولة على الظلم وسائر الصفات الذميمة وإلى أن الذين تزكت أنفسهم قليل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 220 جدا بالنسبة إلى الآخرين يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ نقل الشعراني أن خلافته عليه السلام وكذا خلافة آدم كانت في عالم الصور وعالم الأنفس المدبرة لها دون العالم النوراني فإن لكل شخص من أهله مقاما معلوما عينه له ربه سبحانه، وللشيخ الأكبر قدس سره كلام طويل في الخلافة، ويحكى عن بعض الزنادقة أن الخليفة لا يكتب عليه خطيئة ولا هو داخل في ربقة التكليف لأن مرتبته مرتبة مستخلفة وهو كفر صراح، وفرق العلماء بين الخليفة والملك. أخرج الثعلبي من طريق العوام بن حوشب قال: حدثني رجل من قومي شهد عمر رضي الله تعالى عنه أنه سأل طلحة والزبير وكعبا وسلمان رضي الله تعالى عنهم ما الخليفة من الملك؟ فقال طلحة والزبير: ما ندري فقال سلمان: الخليفة الذي يعدل في الرعية ويقسم بينهم بالسوية ويشفق عليهم شفقة الرجل على أهله ويقضي بكتاب الله تعالى فقال كعب: ما كنت أحسب أحدا يعرف الخليفة من الملك غيري فقوله تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى كالتفسير لهذه الخلافة وفيه إشارة إلى ذم الهوى، وفي بعض الآثار ما عبد إله في الأرض أبغض على الله تعالى من الهوى فهو أعظم الأصنام. وقوله تعالى: فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ فيه إشارة بناء على المشهور في القصة إلى أن كل محبوب سوى الله تعالى إذا حجبك عن الله تعالى لحظة يلزمك أن تعالجه بسيف نفى لا إله إلا الله وقد سمعت استدلال الشبلي بذلك على تخريق ثيابه وما قيل فيه قال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي لم يقصد بذلك السؤال إلا ما يوجب مزيد القرب إليه عزّ وجلّ وليس فيه ما يخل بكماله عليه السلام وإلا لعوتب عليه، وقد تقدم الكلام في ذلك ومنه يعلم كذب ما في الجواهر والدرر نقلا عن الخواص قال: بلغنا أن النملة التي كلمت سليمان عليه السلام قالت: يا نبي الله أعطني الأمان وأنا أنصحك بشيء ما أظنك تعلمه فأعطاها الأمان فأسرت إليه في أذنه وقالت: إني أشم من قولك هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي رائحة الحسد فتغير سليمان وأغير لونه ثم قالت له: قد تركت الأدب مع الله تعالى من وجوه، منها عدم خروجك من شح النفس الذي نهاك الله تعالى عنه إلى حضرة الكرم الذي أمرك الله تعالى به، ومنها مبالغتك في السؤال بأن لا يكون ذلك العطاء لأحد من عبيد سيدك من بعدك فحجرت على الحق تعالى بأن لا يعطي أحدا بعد موتك ما أعطاه كل ذلك لمبالغتك في شدة الحرص، ومنها طلبك أن يكون ملك سيدك لك وحدك تقول هب لي وغاب عنك أنك عبد له لا يصح أن تملك معه شيئا مع أن فرحك بالعطاء لا يكون إلا مع شهود ملكك له وكفى بذلك جهلا ثم قالت له: يا سليمان وماذا ملكك الذي سألته أن يعطيكه فقال: خاتمي قالت: أف لملك يحويه خاتم انتهى، ويدل على كذب ما بلغه وجوه أيضا لا تخفى على الخواص والعجب من أنها خفيت على الخواص، وقوله تعالى: يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ يشير إلى فضل آدم عليه السلام وأنه أكمل المظاهر، واليد أن عندهم إشارة إلى صفتي اللطف والقهر وكل الصفات ترجع إليهما، ولا شك عندنا في أنه أفضل من الملائكة عليهم السلام. وذكر الشعراني أنه سأل الخواص عن مسألة التفضيل الذي أشرنا إليه فقال: الذي ذهب إليه جماعة من الصوفية أن التفاضل إنما يصح بين الأجناس المشتركة كما يقال أفضل الجواهر الياقوت وأفضل الثياب الحلة وأما إذا اختلفت الأجناس فلا تفاضل فلا يفال أيما أفضل الياقوت أم الحلة؟ ثم قال: والذي نذهب إليه أن الأرواح جميعها لا يصح فيها تفاضل إلا بطريق الأخبار عن الله تعالى فمن أخبره الحق تعالى بذلك فهو الذي حصل له العلم التام وقد تنوعت الأرواح إلى ثلاثة أنواع. أرواح تدبر أجسادا نورية وهم الملأ الأعلى. وأرواح تدبر أجسادا نارية وهم الجن وأرواح تدبر أجسادا ترابية وهم البشر، فالأرواح جميعها ملائكة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 221 حقيقة واحدة وجنس واحد فمن فاضل من غير علم إلهي فليس عنده تحقيق فإنّا لو نظرنا التفاضل من حيث النشأة مطلقا قال العقل بتفضيل الملائكة ولو نظرنا إلى كمال النشأة وجمعيتها حكمنا بتفضيل البشر، ومن أين لنا ركون إلى ترجيح جانب على آخر مع أن الملك جزء من الإنسان من حيث روحه لأن الأرواح ملائكة فالكل من الجزء والجزء من الكل، ولا يقال أيما أفضل جزء الإنسان أو كله فافهم انتهى، والكلام في أمر التفضيل طويل محله كتب الكلام ثم أن حظ العارف من القصص المذكورة في هذه السورة الجليلة لا يخفى إلا على ذوي الأبصار الكليلة نسأل الله تعالى أن يوفقنا لفهم كتابه بحرمة سيد أنبيائه وأحبابه صلى الله عليه وسلم وشرف وعظم وكرم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 222 سورة الزّمر وتسمى سورة الغرف كما في الإتقان والكشاف لقوله تعالى: لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ [الزمر: 20] أخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أنها أنزلت بمكة ولم يستثن، وأخرج النحاس عنه أنه قال: نزلت سورة الزمر بمكة سوى ثلاث آيات نزلت بالمدينة في وحشي قاتل حمزة قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزمر: 53] إلى ثلاث آيات، وزاد بعضهم قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ [الزمر: 10] الآية ذكره السخاوي في جمال القراء وحكاه أبو حيان عن مقاتل، وزاد بعض اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [الزمر: 23] حكاه ابن الجوزي، والمذكور في البحر عن ابن عباس استثناء اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ وقوله تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا إلخ، وعن بعضهم إلا سبع آيات من قوله سبحانه قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا إلى آخر السبع وأيها خمس وسبعون في الكوفي وثلاث في الشامي واثنتان في الباقي وتفصيل الاختلاف في مجمع البيان وغيره، ووجه اتصال أولها بأخر صاد انه قال سبحانه هناك: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ [ص: 87] وقال جل شأنه هنا تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ [الزمر: 1] وفي ذلك كمال الالتئام بحيث لو أسقطت البسملة لم يتنافر الكلام ثم إنه تعالى ذكر آخر ص قصة خلق آدم وذكر في صدر هذه قصة خلق زوجه منه وخلق الناس كلهم منه وذكر خلقهم في بطون أمهاتهم خلقا من بعد خلق ثم ذكر أنهم ميتون ثم ذكر سبحانه القيامة والحساب والجنة والنار وختم بقوله سبحانه: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الزمر: 75] فذكر جل شأنه أحوال الخلق من المبدأ إلى آخر المعاد متصلا بخلق آدم عليه السلام المذكور في السورة قبلها وبين السورتين أوجه أخر من الربط تظهر بالتأمل فتأمل. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 223 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَنْزِيلُ الْكِتابِ قال الفراء والزجاج: هو مبتدأ وقوله تعالى: مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ خبره أو خبر مبتدأ محذوف أي هذا المذكور تنزيل، ومِنَ اللَّهِ متعلق بتنزيل والوجه الأول أوجه كما في الكشف، والكتاب القرآن كله وكأن الجملة عليه تعليل لكونه ذكرا للعالمين أو لقوله تعالى: لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص: 88] والظاهر أن المراد بالكتاب على الوجه الثاني السورة لكونها على شرف الذكر فهي أقرب لاعتبار الحضور الذي يقتضيه اسم الإشارة فيها، وتَنْزِيلُ بمعنى منزل أو قصد به المبالغة، وقدر أبو حيان المبتدأ هو عائدا على الذكر في إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وجعل الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه قيل هذا الذكر ما هو فقيل هو تنزيل الكتاب والكتاب عليه القرآن وفي تَنْزِيلُ الاحتمالان، وجوز على احتمال كونه خبر مبتدأ محذوف كون مِنَ اللَّهِ خبرا ثانيا وكونه خبر مبتدأ محذوف أيضا أي هذا أو هو تنزيل الكتاب هذا أو هو من الله وكونه حالا من الْكِتابِ وجاز الحال من المضاف إليه لأن المضاف مما يعمل عمل الفعل وكونه حالا من الضمير المستتر في تَنْزِيلُ على تقدير كونه بمعنى منزل وكونه حالا من تَنْزِيلُ نفسه والعامل فيه معنى الإشارة. وتعقب بأن معاني الأفعال لا تعمل إذا كان ما هي فيه محذوفا ولذلك ردوا على المبرد قوله في بيت الفرزدق: وإذ ما مثلهم بشر أن مثلهم منصوب على الحالية وعامله الظرف المقدر أي ما في الوجود بشر مماثلا لهم بأن الظرف عامل معنوي لا يعمل محذوفا، وقرأ ابن أبي عبلة وزيد بن علي وعيسى «تنزيل» بالنصب على إضمار فعل نحو اقرأ والزم. والتعرض لوصفي العزة والحكمة للإيذان بظهور أثريهما في الكتاب بجريان أحكامه ونفاذ أوامره ونواهيه من غير مدافع ولا ممانع وبابتناء جميع ما فيه على أساس الحكم الباهرة، وقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ بيان لكونه نازلا بالحق وتوطئة لما يذكر بعد. وفي إرشاد العقل السليم أنه شروع في بيان المنزل إليه وما يجب عليه أثر بيان شأن المنزل وكونه من عند الله تعالى، وأيا ما كان لا يتكرر مع ما تقدم، نعم كان الظاهر على تقدير كون المراد بالكتاب هناك القرآن الإتيان بضميره هاهنا إلا أنه أظهر قصدا إلى تعظيمه ومزيد الاعتناء بشأنه. وقال ابن عطية: الذي يظهر لي أن الكتاب الأول عام لجميع ما تنزل من عند الله تعالى والكتاب الثاني خاص بالقرآن فكأنه أخبر أخبارا مجردا أن الكتب الهادية الشارعة تنزيلها من الله عزّ وجلّ وجعله توطئة لقوله سبحانه: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ اه وهو كما ترى، والباء متعلقة بالإنزال وهي للسببية أي أنزلناه بسبب الحق أي إثباته وإظهاره أو بمحذوف وقع حالا من المفعول وهي للملابسة أي أنزلناه ملتبسا بالحق والصواب، والمراد أن كل ما فيه موجب للعمل والقبول حتما، وجوز كون المحذوف حالا من الفاعل أي أنزلناه ملتبسين بالحق أي محقين في ذلك، والفاء في قوله تعالى: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ لترتيب الأمر بالعبادة على إنزال الكتاب إليه عليه الصلاة والسلام بالحق أي فاعبده تعالى ممحضا له الدين من شوائب الشرك والرياء حسبما بين في تضاعيف ما أنزل إليك، والعدول إلى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 224 الاسم الجليل مما ملاءمة هذا الأمر أتم ملاءمة. وقرأ ابن أبي عبلة «الدين» بالرفع كما رواه الثقات فلا عبرة بإنكار الزجاج، وخرج ذلك الفراء على أنه مبتدأ خبره الظرف المقدم للاختصاص أو لتأكيده. واعترض بأنه يتكرر مع قوله تعالى: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وأجيب بأن الجملة الأولى استئناف وقع تعليلا للأمر بإخلاص العبادة وهذه الجملة تأكيد لاختصاص الدين به تعالى أي ألا هو سبحانه الذي يجب أن يخص بإخلاص الدين له تعالى لأن المتفرد بصفات الألوهية التي من جملتها الاطلاع على السرائر والضمائر، وهي على قراءة الجمهور استئناف مقرر لما قبله من الأمر بإخلاص الدين له عزّ وجلّ ووجوب الامتثال به، وفي الإتيان بألا واسمية الجملة وإظهار الجلالة والدين ووصفه بالخالص والتقديم المفيد للاختصاص مع اللام الموضوعة له عند بعض ما لا يخفى من الدلالة على الاعتناء بالدين الذي هو أساس كل خير، قيل ومن هنا يعلم أنه لا بأس بجعل الجملة تأكيدا للجملة قبلها على القراءة الأخيرة وإليه ذهب صاحب التقريب وقال: بتغاير دلالتي الجملتين إجمالا وتفصيلا. ورد بذلك زعم إباء هذه الجملة صحة تخريج الفراء. والحق أنه تخريج لا يعول عليه، ففي الكشف لما كان قوله تعالى: لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ بمنزلة التعليل لقوله سبحانه: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً كان الأصل أن يقال فتنة الدين الخالص ثم ترك إلى أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ مبالغة لما عرفت من أنه أقوى الوصلين ثم صدر بحرف التنبيه زيادة على زيادة وتحقيقا بأن غير الخالص كالعدم فلو قدر الاستئناف التعليلي أولا من دون الوصف المطلوب الذي هو الأصل في العلة ومن دون حرف التنبيه للفائدة المذكورة كان كلاما متنافرا ويلزم زيادة التنافر من وصف الدين بالخلوص ثانيا لدلالته على العي في الأول إذ ليس فيه ما يرشد إلى هذا الوصف حتى يجعل من باب الإجمال والتفصيل وأما جعله تأكيدا فلا وجه له للوصف المذكور ولأن حرف التنبيه لا يحسن موقعها حينئذ فإنها يؤتى بها في ابتداء الاستئناف المضاد لقصد التأكيد اه. ونص العلامة الثاني أيضا على أن كون الجملة الثانية تأكيدا للأولى فاسد عند من له معرفة بأساليب الكلام وصياغات المعاني ففيها ما ينبو عنه مقام التأكيد ولا يكاد يقترن به المؤكد لكن في قول صاحب الكشف: ليس في الأول ما يرشد إلى وصف الخلوص حتى يجعل من باب الإجمال والتفصيل بحثا إذ لقائل أن يقول: إن لَهُ الدِّينَ على معنى الدين الكامل ومن المعلوم أن كمال الدين بكونه خالصا فيكون في الأول ما يرشد إلى هذا الوصف نعم وهن ذلك التخريج على حاله قبل هذا البحث أم لم يقبل. وقال أبو حيان: الدين مرفوع على أنه فاعل بمخلصا الواقع حالا والراجع لذي الحال محذوف على رأي البصريين أي الدين منك أو تكون أل عوضا من الضمير أي دينك وعليه يكون وصف الدين بالإخلاص وهو وصف صاحبه من باب الإسناد المجازي كقولهم شعر شاعر، وفي الآية دلالة على شرف الإخلاص بالعبادة وكم من آية تدل على ذلك. وأخرج ابن مردويه عن يزيد الرقاشي أن رجلا قال: يا رسول الله إنا نعطي أموالنا التماس الأجر والذكر فهل لنا من أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا قال: يا رسول الله إنا نعطي التماس الذكر فهل لنا أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى لا يقبل إلا من أخلص له» ثم تلا رسول الله عليه الصلاة والسلام هذه الآية أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ ويؤيد هذا أن المراد بالدين في الآية الطاعة لا كما روي عن قتادة من أنه شهادة أن لا إله إلا الله وعن الحسن من أنه الإسلام، وقوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ إلخ تحقيق لحقية التوحيد ببطلان الشرك ليعلم منه حقية الإخلاص وبطلان تركه وفيه من ترغيب المخلصين وترهيب غيرهم ما لا يخفى، والموصول عبارة عن المشركين من الجزء: 12 ¦ الصفحة: 225 قريش وغيرهم كما روي عن مجاهد، وأخرج جويبر عن ابن عباس أن الآية نزلت في ثلاثة أحياء عامر وكنانة وبني سلمة كانوا يعبدون الأوثان ويقولون: الملائكة بنات الله فالموصول إما عبارة عنهم أو عبارة عما يعمهم وأضرابهم من عبدة غير الله سبحانه وهو الظاهر فيكون الأولياء عبارة عن كل معبود باطل كالملائكة وعيسى عليهم السلام والأصنام، ومحل الموصول رفع على الابتداء خبره الجملة الآتية المصدرة بأن، وقوله تعالى: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى حال بتقدير القول من واو اتَّخَذُوا مبينة لكيفية اشراكهم وعدم خلوص دينهم أي اتخذوا قائلين ذلك، وجوز أن يكون القول المقدر قالوا ويكون (1) بدلا من اتَّخَذُوا وأن يكون المقدر ذلك ويكون هو الخبر للموصول والجملة الآتية استئناف بياني كأنه قيل بعد حكاية ما ذكر: فماذا يفعل الله تعالى بهم؟ فقيل إن الله يحكم بينهم إلخ، والوجه الأول هو المنساق إلى الذهن، نعم قرأ عبد الله وابن عباس ومجاهد وابن جبير قالوا: ما نَعْبُدُهُمْ الآية لكن لا يتعين فيه البدلية أو الخبرية، وقد اعترض البدلية صاحب الكشف بأن المقام ليس مقام الإبدال إذ ليس فيه إعادة الحكم لكون الأول غير واف بالغرض اعتناء بشأنه لا سيما وحذف البدل ضعيف بل ينافي في الغرض من الإتيان به، والاستثناء مفرغ من أعم العلل وزُلْفى مصدر مؤكد على غير لفظ المصدر أي والذين لم يخلصوا العبادة لله تعالى بل شابوها بعبادة غيره سبحانه قائلين ما نعبدهم لشيء من الأشياء إلا ليقربونا إلى الله تعالى تقريبا. وقرىء «نعبدهم» بضم النون اتباعا لحركة الباء إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ أي وبين خصمائهم الذين هم المخلصون للدين وقد حذف لدلالة الحال عليه كما في قوله تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة: 285] على أحد الوجهين أي بين أحد منهم وبين غيره، وعليه قول النابغة: فما كان بين الخير لو جاء سالما ... أبو حجر إلا ليال قلائل أي بين الخير وبيني، وقيل الضمير للفريقين المتخذين والمتخذين وكذا الكلام في ضميري الجمع في قوله تعالى: فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ والمعنى على الأول أنه تعالى يفصل الخصومة بين المشركين والمخلصين فيما اختلفوا فيه من التوحيد والإشراك وادعى كل صحة ما اتصف به بإدخال المخلصين الموحدين الجنة وإدخال المشركين النار أو يميزهم سبحانه تمييزا يعلم منه حال ما تنازعوا فيه بذلك، والمعنى على الثاني أنه تعالى يحكم بين العابدين والمعبودين فيما يختلفون حيث يرجو العابدون شفاعتهم وهم يتبرؤون منهم ويلعنونهم قالا أو حالا بإدخال من له أهلية دخول الجنة من المعبودين الجنة وإدخال العابدين ومن ليس له أهلية دخول الجنة ممن عبد كالأصنام النار، وإدخال الأصنام النار ليس لتعذيبها بل لتعذيب عبدتها بها، وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى ما يضعفه. وأجاز الزمخشري كون الموصول السابق عبارة عن المعبودين على حذف العائد إليه وإضمار المشركين من غير ذكر تعويلا على دلالة السياق عليهم ويكون التقدير والذين اتخذهم المشركون أولياء قائلين ما نعبدهم إلا ليقربونا عند الله زلفى إن الله يحكم بينهم وبين عبدتهم فيما الفريقان فيه يختلفون حيث يرجو العبدة شفاعتهم وهم يلعنوهم بإدخال ما هو منهم أهل للجنة الجنة وإدخال العبدة مع أصنامهم النار. وتعقب بأنه بعد الإغضاء عما فيه من التعسفات بمعزل من السداد كيف لا وليس فما ذكر من طلب الشفاعة واللعن مادة يختلف فيها الفريقان اختلافا محوجا إلى الحكم والفصل فإنما ذاك ما بين فريقي الموحدين والمشركين في الدنيا من الاختلاف في الدين الباقي إلى يوم القيامة فتدبر ولا تغفل.   (1) قوله «بدلا» من اتخذوا قال في البحر: كأنه بدل اشتمال اه مؤلف. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 226 وقرىء «ما نعبدكم إلا لتقربونا» حكاية لما خاطبوا به آلهتهم إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي أي لا يوفق للاهتداء الذي هو طريق النجاة عن المكروه والفوز بالمطلوب مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ في حد ذاته وموجب سيء استعداده لأنه غير قابل للاهتداء والله عزّ وجلّ لا يفيض على القوابل إلا حسب القابليات كما يشير إليه قوله سبحانه: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: 50] وقوله تعالى: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ [الإسراء: 84] وقوله عزّ وجلّ: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [النحل: 118] وهذا هو الذي حتم عليه جل شأنه لسيء استعداده بالموافاة على الضلال قاله بعض الأجلة، وقال الطبرسي: لا يهدي إلى الجنة أي يوم القيامة من هو كاذب كفار في الدنيا. وقال ابن عطية: المراد لا يهدي الكاذب الكافر في حال كذبه وكفره وهذا ليس بشيء أصلا، والمراد ممن هو كاذب كفار قيل من يعم أولئك المحدث عنهم وغيرهم، وقيل: أولئك المحدث عنهم وكذبهم في دعواهم استحقاق غير الله تعالى للعبادة أو قولهم في بعض من اتخذوهم أولياء من دون الله إنهم بنات الله سبحانه أو أن المتخذ ابن الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا، فمن هو كاذب من الظاهر الذي أقيم مقام المضمر على معنى أن الله تعالى لا يهديهم أي المتخذين تسجيلا عليهم بالكذب والكفر وجعل تمهيدا والكفر وجعل تمهيد لما بعده، وقال بعضهم: الجملة تعليل للحكم. وقرأ أنس بن مالك والجحدري والحسن والأعرج وابن يعمر «كذاب كفار» وقرأ زيد بن علي «كذوب كفور» وحملوا الكاذب هنا على الراسخ في الكذب لهاتين القراءتين وكذا حملوا الكفر على كفر النعم دون الكفر في الاعتقاد لقراءة زيد، وذكر الإمام فيه احتمالين. لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ استئناف مسوق لتحقيق الحق وإبطال القول بأن الملائكة بنات الله وعيسى ابنه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ببيان استحالة اتخاذ الولد في حقه سبحانه على الإطلاق ليندرج فيه استحالة ما قيل اندراجا أوليا، وحاصل المعنى لو أراد الله سبحانه اتخاذ الولد لا متنعت تلك الإرادة لتعلقها بالممتنع أعني الاتخاذ لكن لا يجوز للباري إرادة ممتنعة لأنها ترجح بعض الممكنات على بعض. وأصل الكلام لو اتخذ الولد لامتنع لاستلزامه ما ينافي الألوهية فعدل إلى لو أراد الاتخاذ لامتنع أن يريده ليكون أبلغ وأبلغ ثم حذف هذا الجواب وجيء بدله لاصطفى تنبيها على أن الممكن هذا لا الأول وإنه لو كان هذا من اتخاذ اتخاذ الولد في شيء لجاز الولد عليه سبحانه وتعالى شأنه عن ذلك فقد تحقق التلازم وحق نفي اللازم وإثبات الملزوم دون صعوبة ويجوز أن يكون المراد لو أراد الله أن يتخذ لامتنع ولم يصح لكن على إرادة نفي الصحة على كل تقدير من تقديري الإرادة وعدمها من باب- لو لم يخف الله لم يعصه- فلا ينفي الثاني إذ ذاك ولا يحتاج إلى بيان الملازمة وإذا امتنع ذلك فالممكن الاصطفاء وقد اصطفى سبحانه من مخلوقاته من شاء كالملائكة وعيسى وذهب عليكم أن الاصطفاء ليس باتخاذ، والجواب على هذا الوجه أيضا محذوف أقيم مقامه ما يفيد زيادة مبالغة، وإنما لم يجعل لاصطفى هو الجواب عليه لصيرورة المعنى حينئذ لو أراد اتخاذ الولد لاصطفى ولو لم يرد لاصطفى من طريق الأولى وحينئذ يكون إثبات الاصطفاء هو المطلوب من الإيراد كما أن التمدح بنفي العصيان في مثال الباب هو المطلوب وليس الكلام فيه، وعلى الوجهين هو من أسلوب: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب وجوز أن يكون المعنى في الآية لو أراد الله تعالى أن يتخذ ولدا لجعل المخلوق ولدا إذ لا موجود سواه إلا وهو الجزء: 12 ¦ الصفحة: 227 مخلوق له تعالى والتالي محال للمباينة التامة بين المخلوق والخالق والولدية تأبى تلك المباينة فالمقدم مثله ويكون قوله تعالى: لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ على معنى لاتخذه ابنا على سبيل الكناية وما تقدم أولى لما فيه من المبالغة التي نبهت عليها، وقوله تعالى: سُبْحانَهُ تقرير لما ذكر من استحالة اتخاذ الولد في حقه تعالى وتأكيد له ببيان تنزهه سبحانه عنه أي تنزهه الخاص به تعالى على أن سبحانه مصدر من سبح إذا بعد أو أسبحه تسبيحا لائقا به لأنه علم التسبيح مقول على ألسنة العباد أو سبحوه تسبيحا لائقا بشأنه جل شأنه، وقوله تعالى: هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ استئناف مقرر لتنزهه عن ذلك أيضا فإن اتخاذ الولد يقتضي تبعضا وانفصال شيء من شيء وكذا يقتضي المماثلة بين الولد والوالد والوحدة الذاتية الحقيقية التي هي في أعلى مراتب الوحدة الواجبة له تعالى بالبراهين القطعية العقلية تأبى التبعض والانفصال إباء ظاهرا لأنهما من خواص الكم وقد اعتبر في مفهوم الوحدة الذاتية سلبه فتأبى الاتخاذ المذكور وكذا تأبى المماثلة سواء فسرت بما ذهب إليه قدماء المعتزلة كالجبائي وابنه أبي هاشم وهي المشاركة في أخص صفات الذات كمشاركة زيد لعمرو في الناطقية أم فسرت بما ذهب إليه المحققون من الماتريدية وهي المشاركة في جميع الصفات الذاتية كمشاركته له في الحيوانية والناطقية أم فسرت بما نسب إلى الأشعري وهو التساوي بين الشيئين من كل وجه، ولعل مراده نحو ما مر عن الماتريدي وإلا فمع التساوي من كل وجه ينتفي التعدد فينتفي التماثل بناء على ما قرروا من أن الوحدة الذاتية كما تقتضي نفي الأبعاض المقدارية تقتضي نفي الكثرة العقلية وأن التماثل يقتضي التعدد وهو يقتضي ثبوت الأجزاء المذكورة كذا قيل، وفيه بحث طويل وكلام غير قليل وسنذكر بعضا منه إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الإخلاص فالأولى أن يقتصر على منافاة الوحدة الذاتية للتبعض والانفصال لاستلزامهما التركب الخارجي والحكماء والمتكلمون مجمعون على استحالته في حقه تعالى ودليلها أظهر من أن يذكر، وكذا وصف القهارية يأبى اتخاذ الولد وقرر ذلك على أوجه، فقيل وجه إبائها ذلك أن القهارية تقتضي الغنى الذاتي الذي هو أعلى مراتب الغنى وهو يقتضي التجرد عن المادة وتولد الولد عن الشيء يقتضيها، وقيل إن القهارية تقتضي كمال الغنى وهو يقتضي كمال التجرد الذي هو البساطة من كل الوجوه فلا يكون هناك جنس وفصل ومادة وصورة واعراض وأبعاض إلى غير ذلك مما يخل بالبساطة الكاملة الحقيقية واتخاذ الولد لما فيه من الانفصال والمثلية مخل بتلك البساطة فيخل بالغنى فيخل بالقهارية، وقد أشار سبحانه إلى أن الغنى ينافي أن يكون له سبحانه ولد بقوله تعالى: قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ [يونس: 68] وقيل: إن اتخاذ الولد يقتضي انفصال شيء عنه تعالى وذلك يقتضي أن يكون متأثرا مقهورا لا مؤثرا قهارا تعالى عن ذلك علوا كبيرا، فحيث كان جل وعلا قهارا كما هو مقتضى الألوهية استحال أن يكون له عزّ وجلّ ولد، وقيل: إن القهارية منافية للزوال لأن القهار لو قبله كان مقهورا إذ المزيل قاهر له ولذا قيل سبحان من قهر العباد بالموت. والولد من أعظم فوائده عندهم قيامه مقام الأب بعد زواله فإذا لم يكن الزوال لم يكن حاجة إلى الولد وهذا مع كونه إلزاميا لا يخلو عن بحث كما لا يخفى. والزمخشري جعل قوله تعالى: سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ إلخ متصلا بقوله عزّ وجلّ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ إلخ على أنه مقرر نفي أن يكون له تعالى ولي ونفى أن يكون له ولد، ولعل بيان ذلك لا يخفى فتدبر. وقوله سبحانه: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إثبات لما ذكر أولا من الوحدة والقهر، وفيه أيضا ما ستعلمه إن شاء الله تعالى أي خلق هذا العالم المشاهد ملتبسا بالحق والصواب مشتملا على الحكم والمصالح. وقوله تعالى: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ بيان لكيفية تصرفه فيما ذكر بعد بيان الجزء: 12 ¦ الصفحة: 228 الخلق فإن حدوث الليل والنهار منوط بتحريك أجرام سماوية، والتكوير في الأصل هو اللف واللّي من كار العمامة على رأسه وكورها، والمراد على ما روي عن قتادة يغشى أحدهما الآخر، وهو على ما قيل معنى يذهب أحدهما ويغشى مكانه الآخر أي يلبسه مكانه فيصير أسود مظلما بعد ما كان أبيض منيرا وبالعكس فالمغشى حقيقة المكان، ويجوز أن يكون المغشى الليل والنهار على الاستعارة ويكون المكان ظرفا، والمقصود أنه لما كان أحدهما غاشيا للآخر أشبه اللباس الملفوف على لابسه في ستره إياه واشتماله عليه وتغطيه به. وتحقيقه أن أحدهما لما كان محيطا على جميع ما أحاط به الآخر من غير أن يكون ثم شيء زائد غير الظهور والخفاء جعل إحاطته على محاط الآخر إحاطة عليه مجاز ملابسته وعبر عنها بالغشيان والتكوير للشبه المذكور. وجوز أن يكون المراد أن كل واحد من الليل والنهار يغيب الآخر إذا طرأ عليه فشبه في تغييبه إياه بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه عن مطامح الأبصار ورجح الأول بأن فيه مع اعتبار الستر اعتبار اللّي وإحاطة الأطراف ثم إن هذا لظهوره تشبيه مبذول وأن يكون المراد أن هذا يكر على هذا كرورا متتابعا فشبه ذلك بتتابع أكوار العمامة بعضها على أثر بعض قيل وهو الأرجح لأنه اعتبر فيه ما اعتبر مع الأول مع النظر إلى المطرد فيه لفظ الكور فإنه لف بعد لف وهو أيضا كذلك إلا أن أكوار العمامة متظاهرة وفيما نحن فيه متعاورة وهذا مما لا بأس به فإن كل لية تسمى كورا حقيقة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أن المعنى يحمل أحدهما على الآخر، وفسر هذا الحمل بالضم والزيادة أي يزيد الليل على النهار ويضمه إليه بأن يجعل بعض أجزاء الليل نهارا فيطول النهار ويقصر الليل ويزيد النهار على الليل ويضمه إليه بأن يجعل سبحانه بعض أجزاء النهار ليلا فيطول الليل ويقصر النهار. وإلى هذا ذهب الراغب وهو معنى واضح والآية عليه كقوله تعالى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ [الحج: 61، لقمان: 29، فاطر: 13، الحديد: 6] في قوله، وذكر بعض الفضلاء أنها على المعنى الأول فيها شيء من قوله تعالى: جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ [الفرقان: 62] وعلى المعنى الثاني فيها شيء من قوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى [الليل: 1، 2] وعلى الثالث شيء من قوله سبحانه: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً [الأعراف: 54] وأنها يحتمل أن يكون فيها الاستعارة التبعية والمكنية والتخييلية والتمثيلية والتمثيل أولى بالاعتبار وأيا ما كان فصيغة المضارع للدلالة على التجدد. وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ جعلهما منقادين لأمره عزّ وجلّ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى بيان لكيفية تسخيرهما أي كل منهما يجري لمنتهى دورته أو منقطع حركته، وقد مر تمام الكلام عليه، وفيه دليل على أن الشمس متحركة، وزعم بعض الكفرة أنها ساكنة وأنها مركز العالم وسمعت في هذه الأيام أنه ظهر في الإفرنج منذ سنتين تقريبا من يزعم أنها تتحرك على مركز آخر كما تتحرك الأرض عليها نفسها بزعمهم وزعم بعض المتقدمين، ولهم في الهيئة كلام غير هذا وفيه الغث والسمين إلا أن نفيهم السماوات الناطقة بها الشرائع بالكلية من العجب العجاب وأنظارهم السخيفة تفضي بهم إلى ما هو أعجب من ذلك عند ذوي العقول السليمة نسأل الله تعالى السلامة والتوفيق، ولي عزم على تأليف كتاب أبين فيه إن شاء الله تعالى ما هو الأقرب إلى الحق من الهيئتين القديمة والجديدة متحركا على محور الإنصاف ساكتا عن سلوك مسالك الاعتساف والله تعالى الموفق لذلك. أَلا هُوَ الْعَزِيزُ القادر على عقاب المصرين الْغَفَّارُ لذنوب التائبين أو الغالب الذي يقدر أن يعاجلهم بالعقوبة وهو سبحانه يحمل عليهم ويؤخرهم إلى أجل مسمى فيكون قد سمي الحلم عنهم وقد ترك تعجيل العقوبة بالمغفرة التي هي ترك العقاب على طريق الاستعارة للمناسبة بينهما في الترك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 229 وجوز كون ذلك من باب المجاز المرسل، والأول أبلغ وأحسن، وهذان الوجهان في الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ قد ذكرهما الزمخشري، وظن بعضهم أن الداعي للأول ورعاية مذهب الاعتزال حيث خص فيه المغفرة بذنوب التائبين فتركه وقال: العزيز القادر على كل ممكن الغالب على كل شيء الغفار حيث لم يعاجل بالعقوبة وسلب ما في هذه الصنائع من الرحمة وعموم المنفعة وما علينا أن نفسر كما فسر ونقول بأن مغفرته تعالى لا تخص التائبين بل قد يغفر جل شأنه لغيرهم إلا أن التقييد ليلائم ما تقدم أتم ملاءمة، ففي الكشف أن الوجه الأول من ذينك الوجهين المذكورين يناسب قوله تعالى: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ من وجهين أحدهما ما فيه من الدلالة على كمال القدرة وكمال الرحمة المقتضي لعقاب المصرّ وغفران ذنوب التائب، وثانيهما أن قوله تعالى: خَلَقَ السَّماواتِ إلخ مسوق لأمرين إثبات الوحدة والقهر المذكورين فيما قبل نفيا للولد بل حسبما للشرك من أصله والتسلق إلى ما مهد أولا من العبادة والإخلاص لئلا يزول عن الخاطر فقيل بِالْحَقِّ كما قيل هنالك إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ [النساء: 105، المائدة: 48، الزمر: 2] وادمج فيه أن إنزال الكتاب كما يدل على استحقاقه تعالى للعبادة فكذلك خلق السماوات والأرض بالحق والحكمة التي منها الجزاء على ما سلف فالتذييل بالا هو العزيز الغفار للترغيب في طلب المغفرة بالعبادة والإخلاص والتحذير عن خلاف ذلك سواء خالف أصل الدين كالكفر أو خالف الإخلاص فيه كسائر المعاصي في غاية الملاءمة، وإنما أفرد مخالفة الدين بالذكر صريحا في قوله تعالى: «والذين اتخذوا» إلخ تحذيرا من حالهم لأنها هاتكة لعصمة النجاة فكانت أحق بالتحذير، ورمز إلى هذا الثاني بالتذييل المذكور تكميلا للمعنى المراد ومدار هذه السورة الكريمة على الأمر بالعبادة والإخلاص والتحذير من الكفر والمعاصي، والوجه الثاني من ذينك الوجهين يناسب حديث الشرك والتذييل به لتوكيد تفظيع ما نسبوا إليه، ولما ذكر تنزيل الكتاب وعقب بالأوصاف المقتضية للعبادة والإخلاص ذيله بقوله سبحانه: «ألا لله الدين الخالص» على ما تحقق وجهه وقد نقلناه نحن عنه فيما مر، ثم لما ذكر بعده عظيم ما نسبوا إليه سبحانه: من الشرك والأولاد وما دل على تنزهه تعالى بالألوهية ناسب أن يذيله بقوله تعالى: «ألا هو العزيز الغفار» للتوكيد المذكور، وقد آثر هذا العلامة الطيبي ويعلم مما ذكرنا وجه رجحان الأول اه، والوجه الثاني من وجهي المناسبة على الوجه الأول أولى الوجهين، والآية على ما ذكره البعض يجوز ارتباطها بما عندها من الخلق والتكوير والتسخير، وقوله تعالى: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ إلخ دليل آخر على الوحدة والقهر. وترك عطفه على خَلَقَ السَّماواتِ للإيذان باستقلاله في الدلالة ولتعلقه بالعالم السفلي، والبداءة بخلق الإنسان لأنه أقرب وأعجب بالنسبة إلى غيره باعتبار ما فيه من العقل وقبول الأمانة الإلهية وغير ذلك حتى قيل: وتزعم أنك جرم صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبر والمراد بالنفس آدم عليه السلام، وقوله تعالى: ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها أي حواء فإنها خلقت من قصيري ضلعه عليه السلام اليسرى وهي أسفل الأضلاع على معنى أنها خلقت من بعضها أو خلقت منها كلها وخلق الله تعالى لآدم مكانها عطف على محذوف هو صفة ثانية لنفس أي من نفس واحدة خلقها ثم جعل منها زوجها، أو على واحِدَةٍ لأنه في الأصل اسم مشتق فيجوز عطف الفعل عليه كقوله تعالى: «فالق الإصباح وجعل الليل سكنا» ويعتبر ماضيا لأن اسم الفاعل قد يكون للمضي إذا لم يعمل أي من نفس وحدت من جعل منها زوجها ورجح بسلامته من التقدير الذي هو خلاف الأصل أو على خَلَقَكُمْ لتفاوت ما بينهما في الدلالة فإنهما وإن كانتا آيتين دالتين على ما مر من الصفات الجليلة لكن خلق حواء من الضلع أعظم وأجلب للتعجب ولذا عبر بالجعل دون الخلق فثم للتراخي الرتبي، ويجوز فيه كون الثاني أعلى مرتبة من الأول وعكسه، وقيل: إنه تعالى أخرج ذرية آدم عليه السلام من الجزء: 12 ¦ الصفحة: 230 ظهره كالذر ثم خلق منه حواء فالمراد بخلقهم منه إخراجهم من ظهره كالذر فالعطف على خَلَقَكُمْ وثم على ظاهرها، وهذا لا يقبل إلا إذا صح مرفوعا أو في حكمه، وقد تضمنت الآية ثلاث آيات خلق آدم عليه السلام بلا أب وأم وخلق حواء من قصيراه وخلق ذريته التي لا يحصي عددها إلا الله عزّ وجلّ، وقوله تعالى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ استدلال بنوع آخر من العالم السفلي، والإنزال مجاز عن القضاء والقسمة فإنه تعالى إذا قضى وقسم أثبت ذلك في اللوح المحفوظ ونزلت به الملائكة الموكلة بإظهاره، ووصفه بالنزول مع أنه معنى شائع متعارف كالحقيقة والعلاقة بين الإنزال والقضاء الظهور بعد الخفاء ففي الكلام استعارة تبعية، وجوز أن يكون فيه مجاز مرسل، ويجوز أن يكون التجوز في نسبة الإنزال إلى الأنعام والمنزل حقيقة أسباب حياتها كالأمطار ووجه ذلك الملابسة بينهما، وقيل يراد بالأزواج أسباب تعيشها أو يجعل الإنزال مجازا عن إحداث ذلك بأسباب سماوية وهو كما ترى، وقيل الكلام على ظاهره والله تعالى خلق الأنعام في الجنة ثم أنزلها منها ولا أرى لهذا الخبر صحة، والأنعام الإبل والبقر والضأن والمعز وكانت ثمانية أزواج لأن كلا منها ذكر وأنثى، وتقديم الظرفين على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاعتناء بما قدم والتشويق إلى ما أخر، وقوله تعالى: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ بيان لكيفية خلق من ذكر من الاناسي والانعام إظهارا لما فيه من عجائب القدرة، وفيه تغليبان تغليب أولي العقل على غيرهم وتغليب الخطاب على الغيبة كذا قيل، والأظهر أن الخطاب خاص وصيغة المضارع للدلالة على التدرج والتجدد، وقوله تعالى: خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ مصدر مؤكد أن تعلق من بعد بالفعل وإلا فغير مؤكد أي يخلقكم فيها خلقا مدرجا حيوانا سويا من بعدم عظام مكسوة لحما من بعد عظام عارية من بعد مضغ غير مخلقة من بعد علقة من بعد نطفة فقوله سبحانه: «خلقا من بعد خلق» لمجرد التكرير كما يقال مرة بعد مرة لا أنه مخصوص بخلقين. وقرأ عيسى وطلحة «يخلقكم» بإدغام القاف في الكاف فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ظلمة البطن والرحم والمشيمة، وقيل ظلمة الصلب والبطن والرحم، والجار والمجرور متعلق بيخلقكم، وجوز الشهاب تعلقه بخلقا بناء على أنه غير مؤكد وكونه بدلا من قوله تعالى: فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ إشارة إليه تعالى باعتبار أفعاله المذكورة على وجه يدل على بعد منزلته تعالى في العظمة والكبرياء، واسم الإشارة مبتدأ والاسم الجليل خبره ورَبُّكُمْ خبر بعد خبر أو الاسم الجليل نعت أو بدل وهو الخبر أي ذلكم العظيم الشأن الذي عددت أفعاله الله مربيكم فيما ذكر من الأطوار وفيما بعدها ومالككم المستحق لتخصيص العبادة به سبحانه لَهُ الْمُلْكُ على الإطلاق في الدنيا والآخرة ليس لغيره تعالى شركة ما في ذلك بوجه من الوجوه والجملة خبر آخر، وقوله تعالى: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ جملة متفرعة على ما قبلها ولم يصرح معها بالفاء التفريعية اعتمادا على فهم السامع. وفي إرشاد العقل السليم أنه خبر آخر، والفاء في قوله تعالى: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ لترتيب ما بعدها على ما ذكر من شؤونه عزّ وجلّ أي فكيف تصرفون عن عبادته تعالى مع وفور موجباتها ودواعيها وانتفاء الصارف عنها بالكلية إلى عبادة غيره سبحانه من غير داع إليها مع كثرة الصوارف عنها. إِنْ تَكْفُرُوا به تعالى مع مشاهدة ما ذكر من موجبات الإيمان والشكر فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ أي فأخبركم أنه عزّ وجلّ غني عن إيمانكم وشكركم غير متأثر من انتفائهما وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ لما فيه من الضرر عليهم وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ أي الشكر لَكُمْ لما فيه من نفعكم، ومن قال بالحسن والقبح العقليين قال: عدم الرضا بالكفر لقبحه العقلي والرضا بالشكر لحسنه العقلي، والرضا إما بمعنى المحبة أو بمعنى الإرادة مع ترك الاعتراض ويقابله السخط كما في شرح المسايرة فعباده على ظاهره من العموم، ومنهم من فسره بالإرادة من غير قيد ويقابله الكره وهؤلاء يقولونه قد يرضى بالكفر أي يريده لبعض الناس كالكفرة ونقله السخاوي عن النووي في كتابه الأصول والضوابط. وابن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 231 الهمام عن الأشعري. وإمام الحرمين كذا قاله الخفاجي في حواشيه على تفسير البيضاوي. والذي رأيته في الضوابط وهي نسخة صغيرة جدا ما نصه مسألة مذهب أهل الحق الإيمان بالقدر وإثباته وأن جميع الكائنات خيرها وشرها بقضاء الله تعالى وقدره وهو مريد لها كلها ويكره المعاصي مع أنه سبحانه مريد لها لحكمة يعلمها جل وعلا، وهل يقال إنه تعالى يرضى المعاصي ويحبها فيه مذهبان لأصحابنا المتكلمين حكاهما إمام الحرمين وغيره، قال إمام الحرمين في الإرشاد: مما اختلف فيه أهل الحق إطلاق المحبة والرضاء، فقال بعض أصحابنا لا يطلق القول بأن الله تعالى يحب المعاصي ويرضاها لقوله تعالى: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ ومن حقق من أئمتنا لم يلتفت إلى تهويل المعتزلة بل قال الله تعالى يريد الكفر ويحبه ويرضاه والإرادة والمحبة والرضا بمعنى واحد قال: والمراد بعباده في الآية الموفقون للإيمان وأضيفوا إلى الله تعالى تشريفا لهم كل في قوله تعالى: يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ [الإنسان: 6] أي خواصهم لاكلهم اه فلا تغفل عن الفرق بينه وبين ما ذكره الخفاجي، وحكي تخصيص العباد في البحر عن ابن عباس. وقيل يجوز مع ذلك حمل العباد على العموم ويكون المعنى ولا يرضى لجميع عباده الكفر بل يرضاه ويريده لبعضه نظير قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام: 103] على قول، ولعلامة الأعصار صاحب الكشف تحقيق نفيس في هذا المقام لم أره لغيره من العلماء الأعلام وهو أن الرضا يقابل السخط وقد يستعمل بعن والباء ويعدى بنفسه فإذا قلت: رضيت عن فلان فإنما يدخل على العين لا المعنى ولكن باعتبار صدور معنى منه يوجب الرضا وفي مقابلة سخطت عليه وبينهما فرقان أنك إذا قلت: رضيت عن فلان بإحسانه لم يتعين الباء للسببية بل جاز أن يكون صلة مثله في رضيت بقضاء الله تعالى وإذا قلت: سخطت عليه بإساءته تعين السببية فكان الأصل هاهنا ذكر الصلة لكنه كثر الحذف في الاستعمال بخلافه ثمت إذ لا حذف، وإذا قيل: رضيت به فهذا يجب دخوله على المعنى إلا إذا دخل على الذات تمهيدا للمعنى ليكون أبلغ تقول: رضيت بقضاء الله تعالى ورضيت بالله عزّ وجلّ ربا وقاضيا، وقريب منه سمعت حديث فلان وسمعته يتحدث وإذا عدي بنفسه جاز دخوله على الذات كقولك: رضيت زيدا وإن كان باعتبار المعنى تنبيها على أن كله مرضي بتلك الخصلة وفيه مبالغة وجاز دخوله على المعنى كقولك: رضيت إمارة فلان، والأول أكثر استعمالا وهو على نحو قولهم: حمدت زيدا وحمدت علمه، وأما إذا استعمل باللام تعدى بنفسه كقولك رضيت لك هذا فمعناه ما سيجيء إن شاء الله تعالى قريبا، وإذا تمهد هذا لاح لك أن الرضا في الأصل متعلقة المعنى وقد يكون الذات باعتبار تعلقه بالمعنى أو باعتبار التمهيد فهذه ثلاثة أقسام حققت بأمثلتها وأنه في الحقيقة حالة نفسانية تعقب حصول ملائم مع ابتهاج به واكتفاء فهو غير الإرادة بالضرورة لأنها تسبق الفعل وهذا يعقبه، وهذا المعنى في غير المستعمل باللام من الوضوح بمكان لا يخفى على ذي عينين، وأما فيه فإنما اشتبه الأمر لأنك إذا قلت: رضيت لك التجارة فالراضي بالتجارة هو مخاطبك وإنما أنت بينت له أن التجارة مما يحق أن يرضى به وليس المعنى رضيت بتجارتك بل المعنى استحمادك التجارة له فالملاءمة هاهنا بين الواقع عليه الفعل والداخل عليه اللام ثم إنه قد يرضى بما ترضاه له إذا عرف وجه الملاءمة وقد لا يرضى، وفيه تجوز إما لجعل الرضا مجازا على الاستحماد لأن كل مرضي محمود أو لأنك جعلت كونه مرضيا له بمنزلة كونه مرضيا لك فاعلم أن الرضا في حق الله تعالى شأنه محال لأنه سبحانه لا يحدث له صفة عقيب أمر البتة فهو مجاز كما أن الغضب كذلك إما من أسماء الصفات إذا فسر بإرادة أن يثيبهم إثابة من رضي عمن تحت يده وإما من أسماء الأفعال إذا أريد الاستحماد وأن مثل قوله تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [المائدة: 119] إما من باب المشاكلة وإما من باب المجاز المذكور، وأن مثل قوله سبحانه: رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة: 3] متعين أن يكون من ذلك الباب بالنسبة إلى من يصح اتصافه بالرضا حقيقة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 232 أيضا فإذن قوله تعالى: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ كلام وارد على نهجه من غير تأويل دال على أنه جل شأنه لا يستحمد الكفر لعباده كما يستحمد الإسلام لهم ويرتضيه، وأما أنه لا يريد الكفر أن يوجد فليس من هذا الباب في شيء ولا هو من مقتضيات هذا التركيب وأن الخروج إلى تخصيص العباد من ضيق العطن وأن قول المحققين رضي الله تعالى عنهم: إن الطاعات برضى الله تعالى والمعاصي ليست كذلك ليس لهذه الآية بل لأن الرضا بالمعنى الأصلي يستحيل عليه تعالى وقد أخبر أنه رضي عن المؤمنين بسبب طاعتهم في مواضع عديدة من كتابه الكريم. والزمخشري عامله الله تعالى بعدله فسر الرضا في نحوه بالاختيار وهو لا ينفك عن الإرادة، وأنت تعلم سقوطه مما حقق هذا ثم إنا نقول: لما أرشد سبحانه إلى الحق وهدد على الباطل إكمالا للرحمة على عباده كلهم الفريقين بقوله تعالى: إِنْ تَكْفُرُوا إلى قوله سبحانه: يَرْضَهُ لَكُمْ تنبيها على الغنى الذاتي وأنه سبحانه تعالى أن يكون أمره بالخير لانتفاعه به ونهيه عن الشر لتضرره منه، ثم في العدول عن مقتضى الظاهر من الخطاب إلى قوله تعالى: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ ما ينبه على أن عبوديتهم وربوبيته جل شأنه يقتضي أن لا يرضى لهم ذلك، وفيه أنهم إذا اتصفوا بالكفر فكأنهم قد خرجوا عن رتبة عبوديته تعالى وبقوا في الذل الدائم ثم قيل يَرْضَهُ لَكُمْ للتنبيه على مزيد الاختصاص فهذا هو النظم السري الذي يحار دون إدراك لطائفة من لطائفة الفكر البشري والله أعلم اه. وهو كلام رصين وبالقبول قمين إلا أنه ربما يقال إنه: لا يتمشى على مذهب السلف حيث إنهم لا يؤولون الرضا في حقه تعالى وكونه عبارة عن حالة نفسانية إلى آخر ما ذكر في تفسيره إنما هو فينا وحيث أن ذاته تعالى مباينة لسائر الذوات فصفاته سبحانه كذلك فحقيقة الرضا في حقه تعالى مباينة لحقيقته فينا وأين التراب من رب الأرباب، وقد تقدم الكلام في هذا المقام على وجه يروي الأوام ويبرىء السقام فنقول عدم التأويل لا يضر فيما نحن بصدده فالرضا أن أول أو لم يؤول غير الإرادة لحديث السبق والتأخر السابق، وممن صرح بذلك ابن عطية قال: تأمل الإرادة فإن حقيقتها إنما هي فيما لم يقع بعد والرضا حقيقته إنما هي فيما وقع واعتبر هذا في آيات القرآن تجده وإن كانت العرب قد تستعمل في أشعارها على جهة التجوز هذا بدل هذا. وقد ذهب إلى المغايرة بينهما بما ذكر هنا ابن المنير أيضا إلا أنه أول الرضا وذكر أنه لا يتأتى حمله في الآية على الإرادة وشنع على الزمخشري في ذلك جزاء ما تكلم على بعض أهل السنة المخالفين للمعتزلة في زعمهم اتحاد الرضا والإرادة وأنه تعالى قد يريد ما لا يفعله العبد وقد يفعل العبد ما لا يريده عزّ وجلّ فقال: هب أن المصر على هذا المعتقد على قلبه رين أو في ميزان عقله غين أليس يدعي أو يدعى له أنه الخريت في معابر العبارات فكيف هام عن جادة الإجادة في بهماء وأعار منادي الحذاقة أذنا صماء اللهم إلا أن يكون الهوى إذا تمكن أرى الباطل حقا وغطى على مكشوف العبارة فسحقا سحقا أليس مقتضى العربية فضلا عن القوانين العقلية أن المشروط مرتب على الشرط فلا يتصور وجود المشروط قبل الشرط عقلا ولا مضيه واستقبال الشرط لغة ونقلا واستقر باتفاق الفريقين أهل السنة وأهل البدعة أن إرادة الله تعالى لشكر العباد مثلا مقدمة على وجود الشكر منهم فحينئذ كيف ينساغ حمل الرضا على الإرادة وقد جعل في الآية مشروطا وجزاء وجعل وقوع الشكر شرطا ومجزيا واللازم من ذلك عقلا تقدم المراد وهو الشكر على الإرادة وهي الرضا ولغة تقدم المشروط على الشرط فإذا ثبت بطلان حمل الرضا على الإرادة عقلا ونقلا تعين المحمل الصحيح له، وهو المجازاة على الشكر بما عهد أن يجازي به المرضي عنه من الثواب والكرامة فيكون معنى الآية والله تعالى أعلم وأن تشكروا يجازكم على شكركم جزاء المرضي عنه، ولا شك أن المجازاة مستقبلة بالنسبة إلى الشكر فجرى الشرط والجزاء على مقتضاها لغة وانتظم ذلك بمقتضى الأدلة العقلية على بطلان تقدم المراد على الإرادة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 233 عقلا، ومثل هذا يقال في قوله تعالى: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ أي لا يجازى الكافر مجازاة المرضي عنه بل مجازاة المغضوب عليه من النكار والعقوبة انتهى. لا يقال: حيث كان قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ جزاء باعتبار الأخبار كما أشير إليه فيما سلف فليكن قوله تعالى: يَرْضَهُ لَكُمْ جزاء بذلك الاعتبار فحينئذ لا يلزم أن يكون نفس الرضا مؤخرا لأنا نقول: مثل هذا الاعتبار شائع في الجملة الاسمية المتحقق مضمونها قبل الشرط نحو وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام: 17] وفي الفعل الماضي إذا وقع جزاء نحو إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ [يوسف: 77] وأما في الفعل المضارع فليس كذلك والذوق السليم يأبى هذا الاعتبار فيه ومع هذا أي حاجة تدعو إلى ذلك هنا ولا أراها إلا نصرة الباطل والعياذ بالله تعالى، ثم إنه يعلم من مجموع ما قدمنا حقية ما قالوا من أنه لا تلازم بين الإرادة والرضا كما أن الرضا ليس عبارة عن حقيقة الإرادة لكن ابن تيمية وتلميذه ابن القيم قسما الإرادة إلى قسمين تكوينية وشرعية، وذكرا أن المعاصي كالكفر وغيره واقعة بإرادة الله تعالى التكوينية دون إرادته سبحانه الشرعية وعلى هذا فالرضا لا ينفك عن الإرادة الشرعية فكل مراد لله تعالى بالإرادة الشرعية مرضي له سبحانه وهذا التقسيم لا أتعقله إلا أن تكون الإرادة الشرعية هي الإرادة التي يرتضي المراد بها فتدبر هذا، وقرأ ابن كثير ونافع في رواية وأبو عمرو والكسائي «يرضه» بإشباع ضمة الهاء، والقاعدة في إشباع الهاء وعدمه أنها إن سكن ما قبلها لم تشبع نحو عليه وإليه وإن تحرك أشبعت نحو به وغلامه وهاهنا قبلها ساكن تقديرا وهو الألف المحذوفة للجازم فإن جعلت موجودة حكما لم تشبع كما في قراءة ابن عامر وحفص وإن قطع النظر عنها أشبعت كما في قراءة من سمعت وهذا هو الفصيح وقد تشبع وتختلس في غير ذلك وقد يحسن اشباعها مع فقد الشرط لنكتة، وقرأ أبو بكر «يرضه» بسكون الهاء ولم يرضه أبو حاتم وقال: هو غلط لا يجوز، وفيه أنه لغة لبني كلاب وبني عقيل اجراء للوصل مجرى الوقف. وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى بيان لعدم سراية كفر الكافر إلى غيره، وقد تقدم الكلام في هذه الجملة وكذا في قوله تعالى: ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فتذكر. وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ من مرض وغيره من المكاره دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ راجعا ممن كان يدعوه في حالة الرخاء من دون الله عزّ وجلّ لعلمه بأنه بمعزل من القدرة على كشف ضره وهذا وصف للجنس بحال بعض أفراده الجزء: 12 ¦ الصفحة: 234 كقوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34] ، واستظهر أبو حيان أن المراد بالإنسان جنس الكافر، وقيل: هو معين كعتبة بن ربيعة ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ أي أعطاه نعمة عظيمة من جنابه من الخول بفتحتين وهو تعهد الشيء أي الرجوع إليه مرة بعد أخرى وأطلق على العطاء لما أن المعطي الكريم يتعهد من هو ربيب إحسانه ونشو امتنانه بتكرير العطاء عليه مرة بعد أخرى، وقال بعضهم: معنى خَوَّلَهُ في الأصل أعطاه خولا بفتحتين أي عبيدا وخدما أو أعطاه ما يحتاج إلى تعهده والقيام عليه ثم عمم لمطلق العطاء، وجوز الزمخشري كونه من خال يخول خولا بسكون الواو إذا افتخر، واعترض بأنه صرح في الصحاح أن خال بمعنى افتخر يائي والخيلاء بمعنى التكبر يدل عليه دلالة بينة، وأيضا خول متعد إلى مفعولين وأخذه منه لا يقتضي أن يتعدى للمفعول الثاني. وأجيب عن الأول بأن الزمخشري من أئمة النقل وقد ثبت عنده وأصله من الخال الذي هو العلامة، وقد نقل فيه الواو والياء ثم قيل لسيما الجمل والخير خال من ذلك وأخذ منه الخيال وأما الاختيال بمعنى التكبر فهو مأخوذ من الخيال لأنه خال نفسه فوق قدره أو جعل لنفسه خال الخير كما يقال: أعجب الرجل فقد وضح أن الاشتقاق يناسبهما ولا ينكر ثبوت الياء بدليل الخيلاء لكن لا مانع من ثبوت الياء أيضا وليس الاختيال مأخوذا من الخيلاء بل الخيلاء هو الاسم منه فلا يصلح مانعا لكن يصلح مثبتا للياء، وعن الثاني بأنه ليس المراد أن خول مضعف خال بمعنى افتخر حتى يشكل تعديته للمفعول الثاني بل أنه موضوع في اللغة لمعنى أعطى وما ذكر بيان لمأخذ اشتقاقه وأصل معناه الملاحظ في وضعه له ومثله كثير فأصل خوله جعله مفتخرا بما أنعم عليه ثم قطع النظر عنه وصار بمعنى أعطاه مطلقا نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ أي نسي الضر الذي كان يدعو الله إزالته وكشفه مِنْ قَبْلُ التخويل فما واقعة على الضر ودعا من الدعوة وهو يتعدى بإلى يقال دعا المؤذن الناس إلى الصلاة ودعا فلان الناس إلى مأدبته والدعوة مجاز عن الدعاء، والمعنى على اعتبار المضاف كما أشير إليه، ويجوز أن يراد بما معنى من للدلالة على الوصفية والتفخيم واقعا عليه تعالى كما في قوله تعالى: وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [الليل: 3] وقوله سبحانه: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ [الكافرون: 5] والدعاء على ظاهره وتعديته بإلى لتضمينه معنى الإنابة أو التضرع والابتهال، والمعنى نسي ربه الذي كان يدعو منيبا أو متضرعا إليه وهو وجه لا بأس به، وما قيل من أنه تكلف إذ لا يقال دعا إليه بمعنى دعاه ولا حاجة إلى جعل ما بمعنى من مردود لحسن موقع التضمين واستعمال ما في مقام التفخيم. وفي الإرشاد أن في ذلك الجعل إيذانا بأن نسيانه بلغ إلى حيث لا يعرف مدعوه ما هو فضلا من أن يعرفه من هو، وقيل: ما مصدرية أي نسي كونه يدعو، وقيل: هي نافية وتم الكلام عند قوله تعالى: نَسِيَ أي نسي ما كان فيه من الضر ثم نفي أن يكون دعاء هذا الكافر خالصا لله تعالى من قبل أي من قبل الضر ولا يخفى ما فيه وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً شركاء في العبادة، والظاهر من استعمالاتهم إطلاق الأنداد على الشركاء مطلقا، وفي البحر أندادا أي أمثالا يضاد بعضها بعضا ويعارض، قال قتادة: أي الرجال يطيعهم في المعصية، وقال غيره أوثانا لِيُضِلَّ الناس بذلك عَنْ سَبِيلِهِ عزّ وجلّ الذي هو التوحيد. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعيسى «ليضلّ» بفتح الياء أي ليزداد ضلالا أو ليثبت عليه وإلا فاصل الضلال غير متأخر عن الجعل المذكور، واللام لام العاقبة كما في قوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص: 8] بيد أن هذا أقرب إلى الحقيقة لأن الجاعل هاهنا قاصد بجعله المذكور حقيقة الإضلال والضلال وأن لم يعرف بجهله أنهما إضلال وضلال وأما آل فرعون فهم غير قاصدين بالتقاطهم العداوة أصلا. قُلْ تهديدا لذلك الجاعل وبيانا لحاله ومآله تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا أي تمتعا قليلا أو زمانا قليلا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ أي ملازميها والمعذبين فيها على الدوام، وهو تعليل لقلة التمتع وفيه من الاقناط من النجاة وذم الكفر الجزء: 12 ¦ الصفحة: 235 ما لا يخفى كأنه قيل: إذ قد أبيت ما أمرت به من الإيمان والطاعة فمن حقك أن تؤمر بتركه لتذوق عقوبته أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ إلخ من تمام الكلام المأمور به في قول، وأم إما متصلة قد حذف معادلها ثقة بدلالة مساق الكلام عليه كأنه قيل له تأكيدا للتهديد وتهكما به أأنت أحسن حالا ومآلا أم من هو قائم بمواجب الطاعات ودائم على وظائف العبادات في ساعات الليل التي فيها العبادة أقرب إلى القبول وأبعد عن الرياء حالتي السراء والضراء لا عند مساس الضر فقط كدأبك حال كونه ساجِداً وَقائِماً وإلى كون المحذوف المعادل الأول ذهب الأخفش ووافقه غير واحد ولا بأس به عند ظهور المعنى لكن قال أبو حيان: إن مثل ذلك يحتاج إلى سماع من العرب، ونصب ساجِداً وَقائِماً على الحالية كما أشير إليه أي جامعا بين الوصفين المحمودين وصاحب الحال الضمير المستتر في قانِتٌ. وجوز كون الحال من ضمير يَحْذَرُ الآتي قدم عليه ولا داعي لذلك. وقرأ الضحاك «ساجد وقائم» برفع كل على أنه خبر بعد خبر، وجوز أبو حيان كونه نعتا لقانت وليس بذاك، والواو كما أشير إليه للجمع بين الصفتين، وترك العطف على قانِتٌ قيل لأن القنوت مطلق العبادة فلم يكن مغايرا للسجود والقيام فلم يعطفا عليه بخلاف السجود والقيام فإنهما وصفان متغايران فلذا عطف أحدهما على الآخر، وتقديم السجود على القيام لكونه أدخل في معنى العبادة، وذهب المعظم إلى أنه أفضل من القيام لحديث «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» وقوله تعالى: يَحْذَرُ الْآخِرَةَ حال أخرى على التداخل أو الترادف أو استئناف وقع جوابا عما نشأ من حكاية حاله كأنه قيل ما باله يفعل ذلك؟ فقيل: يحذر الآخرة أي عذاب الآخرة كما قرأ به ابن جبير. وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ فينجو بذلك مما يحذره ويفوز بما يرجوه كما ينبىء عنه التعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضمير الراجي لا أنه يحذر ضر الدنيا ويرجو خيرها فقط، وأما منقطعة وما فيها من الاضراب للانتقال من التبكيت بتكليف الجواب الملجئ إلى الاعتراف بما بينهما من التباين البين كأنه قيل: بل أمن هو قانت إلخ، وقدر الزمخشري كغيره مثلك أيها الكافر. وقال النحاس: بمعنى بل ومن بمعنى الذي والتقدير بل الذي هو قانت إلخ أفضل مما قبله، وتعقبه في البحر بأنه لا فضل لمن قبله حتى يجعل هذا أفضل بل يقدر الخبر من أصحاب الجنة لدلالة مقابلة أعني إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ عليه ولا يبعد أن يقدر أفضل منك ويكون ذلك من باب التهكم. وقرأ ابن كثير ونافع وحمزة والأعمش وعيسى وشيبة والحسن في رواية «أمن» بتخفيف الميم وضعفها الأخفش وأبو حاتم ولا التفات إلى ذلك، وخرجت على إدخال همزة الاستفهام التقرير على من والمقابل محذوف أي الذي هو قانت إلخ خير أم أنت أيها الكافر، ومثله في حذف المعادلة قوله: دعاني إليها القلب إني لأمره ... سميع فما أدري أرشد طلابها فإنه أراد أم غي، وقال الفراء: الهمزة للنداء كأنه قيل يا من هو قانت وجعل قوله تعالى: قُلْ خطابا له، وضعف هذا القول أبو علي الفارسي وهو كذلك، وقوله تعالى: قُلْ على معنى قل له أيضا بيانا للحق وتصريحا به وتنبيها على شرف العلم والعمل هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ فيعملون بمقتضى علمهم ويقنتون الليل سجدا وركعا يحذرون الآخرة ويرجون رحمة ربهم وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ فيعملون بمقتضى جهلهم وضلالهم كدأبك أيها الكافر الجاعل لله تعالى أندادا، والاستفهام للتنبيه على أن كون الأولين في أعلى معارج الخير وكون الآخرين في أقصى مدارج الشر من الظهور بحيث لا يكاد يخفى على أحد من منصف ومكابر، ويعلم مما ذكرنا أن المراد بالذين يعلمون العاملون من علماء الديانة وصرح بإرادة ذلك بعض الأجلة على تقديري الاتصال والانقطاع وأن الكلام تصريح بنفي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 236 المساواة بين القانت وغيره المضمنة من حرفي الاستفهام أعني الهمزة وأم على الاتصال أو من التشبيه على الانقطاع وعلى قراءة التخفيف أيضا قال: وإنما عدل إلى هذه العبارة دلالة على أن ذلك مقتضى العلم وأن العلم الذي لا يترتب عليه العمل ليس بعلم عند الله تعالى سواء جعل من باب إقامة الظاهر مقام المضمر للإشعار المذكور أو استئناف سؤال تبكيتي توضيحا للأول من حيث التصريح ومن حيث إنهم وصفوا بوصف آخر يقتضي اتصافهم بتلك الأوصاف ومباينتهم لطبقة من لا يتصف. وهذا أبلغ وأظهر لفظا لقوله تعالى: قُلْ وجوز أن يكون الكلام واردا على سبيل التشبيه فيكون مقررا لنفي المساواة لا تصريحا بمقتضى الأول أي كما لا استواء بين العالم وغيره عندكم من غير ريبة فكذلك ينبغي أن لا يكون لكم ارتياب في نفي المساواة بين القانت المذكور وغيره، وكونه للتصريح بنفي المساواة وحمل الذين يعلمون على العاملين من علماء الديانة على ما سمعت مما لا ينبغي أن يختار غيره لتكثير الفائدة، وأما من ارتاب في ذلك الواضح فلا يبعد منه الارتياب في هذا الواضح أيضا بجوابه أن الاستنكاف عن الجهل مركوز في الطباع بخلاف الأول، ويشعر كلام كثير أن قوله تعالى: أَمَّنْ هُوَ إلخ غير داخل في حيز القول والمعنى عليه كما في الأول بتغيير يسير لا يخفى، وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه تلا أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ الآية فقال: نزلت في عثمان بن عفان، وأخرج ابن سعد في طبقاته وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس أنها نزلت في عمار بن ياسر، وأخرج جويبر عنه أنها نزلت في عمار وابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة، وعن عكرمة الاقتصار على عمار، وعن مقاتل المراد بمن هو قانت عمار وصهيب وابن مسعود وأبو ذر، وفي رواية الضحاك عن ابن عباس وأبو بكر وعمر، وقال يحيى بن سلام: رسول الله صلى الله عليه وسلم، والظاهر أن المراد المتصف بذلك من غير تعيين ولا يمنع من ذلك نزولها فيمن علمت وفيها دلالة على فضل الخوف والرجاء، وقد أخرج الترمذي والنسائي وابن ماجة عن أنس قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل وهو في الموت فقال: كيف تجدك؟ قال: أرجو وأخاف فقال عليه الصلاة والسلام: لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الذي يرجو وآمنه الذي يخاف ، وفيها رد على من ذم العبادة خوفا من النار ورجاء الجنة وهو الإمام الرازي كما قال الجلال السيوطي، نعم العبادة لذلك ليس إلا مذمومة بل قال بعضهم بكفر من قال: لولا الجنة والنار ما عبدت الله تعالى على معنى نفي الاستحقاق الذاتي، وفيها دلالة أيضا على فضل صلاة الليل وأنها أفضل من صلاة النهار، ودل قوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِي إلخ على فضل العلم ورفعة قدره وكون الجهل بالعكس. واستدل به بعضهم على أن الجاهل لا يكافىء العالمة كما أنه لا يكافىء بنت العالم، وقوله تعالى: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ كلام مستقل غير داخل عند الكافة في الكلام المأمور وارد من جهته تعالى بعد الأمر بما تضمن القوارع الزاجرة عن الكفر والمعاصي لبيان عدم تأثيرها في قلوب الكفرة لاختلال عقولهم كما في قوله: عوجوا فحيوا لنعمى دمنة الدار ... ماذا تحيون من نؤي وأحجار وهو أيضا كالتوطئة لأفراد المؤمنين بعد بالخطاب والإعراض عن غيرهم أي إنما يتعظ بهذه البيانات الواضحة أصحاب العقول الخالصة عن شوائب الخلل وأما هؤلاء فبمعزل عن ذلك. وقرىء «يذّكر» بالإدغام. قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذكر المؤمنين ويحملهم على التقوى والطاعة إثر تخصيص التذكر بأولي الألباب وفيه إيذان بأنهم هم أي قل لهم قولي هذا بعينه وفيه تشريف لهم بإضافتهم إلى ضمير الجلالة ومزيد اعتناء بشأن المأمور به فإن نقل عين أمر الله تعالى أدخل في إيجاب الامتثال به، وقوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا إلى آخره تعليل للأمر أو لوجوب الامتثال به، والجار والمجرور متعلق بمحذوف هو خبر مقدم وقوله سبحانه: فِي هذِهِ الدُّنْيا متعلق بأحسنوا واسم الإشارة للإحضار، وقوله تبارك وتعالى: حَسَنَةٌ مبتدأ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 237 وتنوينه للتفخيم أي للمحسنين في الدنيا حسنة في الآخرة أي حسنة والمراد بها الجنة، وقوله عزّ وجلّ: وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ جملة معترضة إزاحة لما عسى أن يتوهم من التعلل في التفريط بعدم التمكن في الوطن من رعاية الأوامر والنواهي على ما هي عليه، وقوله تعالى: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ من تتمة الاعتراض فكأنه قيل: اتقوا ربكم فإن للمحسنين في هذه الدنيا الجنة في الأخرى ولا عذر للمفرطين في الإحسان بعدم التمكن في الأوطان فإن أرض الله تعالى واسعة وبلاده كثيرة فليتحولوا إن لم يتمكنوا عنها وليهاجروا إلى ربهم لنيل الرضوان فإن لهم في جنب ذلك ما يتقاصر عنه الجنة ويستلذ له كل محنة وكأنه لما أزاح سبحانه علتهم بأن في أرض الله تعالى سعة وقع في خلدهم هل نكون نحن ومن يتمكن من الإحسان في بلدته فارغ البال رافع الحال سواء بسواء فأجيبوا إنما يوفى الصابرون الذين صبروا على الهجرة ومفارقة المحاب والاقتداء بالأنبياء والصالحين أجرهم بغير حساب، وأصله إنما توفون أجوركم بغير حساب على الخطاب وعدل عنه إلى المنزل تنبيها على أن المقتضي لذلك صبرهم فيفيد أنكم توفون أجوركم بصبركم كما وفي أجر من قبلكم بصبرهم وهو محمول على العموم شامل للصبر على كل بلاء غير مخصوص بالصبر على المهاجرة لكنه إنما جيء به في الآية لذلك وليشمل الصابرين على ألم المهاجرة شمولا أوليا، والجار والمجرور في موضع الحال إما من الأجر أي إنما يوفون أجرهم كائنا بغير حساب وذلك بأن يغرف لهم غرفا ويصب عليهم صبا، وأما من الصابرين أي إنما يوفون ذلك كائنين بغير حساب عليه، والمراد على الوجهين المبالغة في الكثرة وهو المراد بقول ابن عباس لا يهتدي إليه حساب الحساب ولا يعرف، وجوز جعل الحال من الصابرين على من لا يحاسبون أصلا، والمتبادر ما يفيد المبالغة في كثرة الأجر، ومعنى القصر ما يوفي الصابرون أجرهم إلا بغير حساب جعل الجار والمجرور حالا من المنصوب أو المرفوع لأن القصر في الجزء الأخير، وفيه من الاعتناء بأمر الأجر ما فيه، وأما اختصاصه بالصابرين دون غيرهم فمن ترتب الحكم على المشتق، وهذا ونقل عن السدي أن قوله تعالى: فِي هذِهِ الدُّنْيا متعلق بحسنة من حيث المعنى فقيل: هو حينئذ حال من حَسَنَةٌ ورد بأنها مبتدأ ولا يجوز الحال منه على الصحيح، فإن قيل: يلتزم جعلها فاعل الظرف قيل: لا يتسنى إلا على مذهب الأخفش وهو ضعيف. وقيل حال من الضمير المستتر في الخبر الراجع إلى حَسَنَةٌ وقال الزمخشري: هو بيان لحسنة والتقدير هي في الدنيا، والمراد بها الصحة والعافية أي للمحسنين صحة وعافية في الدنيا، قال في الكشف: وإنما آثر كونه بيانا مع جواز كونه حالا عن الضمير الراجع إلى حَسَنَةٌ في الخبر لأن المعنى على البيان لا على التقييد بالحال وذلك لأن المعنى على هذا الوجه أن للمحسنين جزاء يسيرا في الدنيا هو الصحة والعافية وإنما توفية أجورهم في الآخرة ولو قيد بالحال لم يلائم على ما لا يخفى، وحق قوله تعالى: وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ على هذا أن يكون اعتراضا ازاحة لما قد يختلج في بعض النفوس من خلاف ذلك الجزاء بواسطة اختلاف الهواء والتربة وغير ذلك مما يؤدي إلى آفات في البدن فقيل وأرض الله تعالى واسعة فلا يعدم أحد محلا يناسب حاله فليتحول عنه إليه إن لم يلائمه ثم يكون فيه تنبيه على أن من جعل الأرض ذات الطول والعرض قطعا متجاورات تكميلا لانتعاشهم وارتياشهم يجب أن تقابل نعمه بالشكر ليعدوا من المحسنين ثم قيل: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أي توفية الأجر لهؤلاء المحسنين إنما يكون في الآخرة والذي نالوه في الدنيا عاجل حظهم وأما الأجر الموفى بغير حساب فذلك للصابرين، ومن سلبناه تلك العاجلة تمحيصا له وتقريبا وفي ذلك تسلية لأهل البلاء وتنشيط للعباد على مكابدة العبادات وتحريض على ملازمة الطاعات ثم قال: وهذا أيضا وجه حسن دقيق والرجحان للأول من وجوه: أحدها أن الاعتراض لإزاحة العلة في التفريط أظهر لأنه المقصود من السياق على ما يظهر من قوله تعالى: اتَّقُوا رَبَّكُمْ. الثاني أنه المطابق لما ورد في التنزيل من نحو أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها [النساء: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 238 97] إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ [العنكبوت: 56] . الثالث أن تعلق الظرف بالمذكور المتقدم هو الوجه ما لم يصرف صارف. الرابع أنه على ذلك التقدير ليس بمطرد ولا أكثري فإن الحسنة بذلك المعنى في شأن المخالفين أتم والقول بأنها استدراج في شأنهم لا حسنة ليس بالظاهر فقد قال سبحانه: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ انتهى، ولعمري إن ما رجحه بالترجيح حقيق وما استحسنه واستدقه ليس بالحسن ولا الدقيق، والذي نقله الطبرسي عن السدي تفسير الحسنة في الدنيا بالثناء الحسن والذكر الجميل والصحة والسلامة، وفسرها بعضهم بولاية الله تعالى وعليه فليس للمخالفين منها نصيب، وفي الآية أقوال أخر فعن عطاء أرض الله تعالى المدينة قال أبو حيان: فعلى هذا يكون أَحْسَنُوا هاجروا وحَسَنَةٌ راحة من الأعداء، وقال قوم: أرض الله تعالى الجنة، وتعقبه ابن عطية بأنه تحكم لا دليل عليه. وقال أبو مسلم: لا يمتنع ذلك لأنه تعالى أمر المؤمنين بالتقوى ثم بين سبحانه أنه من اتقى له في الآخرة الحسنة وهي الخلود في الجنة ثم بين جل شأنه أن أرض الله واسعة لقوله تعالى: وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ [الزمر: 74] وقوله تعالى: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133] والرجحان لما سمعت أولا، واختير فيه شمول الحسنة لحسنات الدنيا والآخرة، والمراد بالإحسان الإتيان بالأعمال الحسنة القلبية والقالبية، قال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسيره في حديث جبريل عليه السلام «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» والآية على ما في بعض الآثار نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حين عزموا على الهجرة إلى أرض الحبشة وفيها من الدلالة على فضل الصابرين ما فيها قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أي من كل ما يخل به من الشرك والرياء وغير ذلك أمر عليه الصلاة والسلام ببيان ما أمر به نفسه من الإخلاص في عبادة الله عزّ وجلّ الذي هو عبارة عما أمر به المؤمنون من التقوى مبالغة في حثهم على الإتيان بما كلفوه وتمهيدا لما يعقبه مما خوطب به المشركون. وعدم التصريح بالآمر لتعين أنه الله عزّ وجلّ، وقيل: للإشارة إلى أن هذا الأمر مما ينبغي امتثاله سواء صدر منه تعالى أم صدر من غيره سبحانه وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ أي وأمرت بذلك لأجل أن أكون مقدم المسلمين في الدنيا والآخرة لأن إحراز قصب السبق في الدين بالإخلاص فيه وإخلاصه عليه الصلاة والسلام أتم من اخلاص كل مخلص فالمراد بالأولية الأولية في الشرف والرتبة، والعطف لمغايرة الثاني الأول بتقييده بالعلة والإشعار بأن العبادة المذكورة كما تقتضي الأمر بها لذاتها تقتضيه لما يلزمها من السبق في الدين، وإلى حذف متعلق الأمر وكون اللام تعليلية ذهب البصريون في هذه الآية ونحوها وذهب غيرهم إلى أنها زائدة، واستدل له بتركها في قوله تعالى: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس: 72] وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [يونس: 104] وأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ [الأنعام: 14] وكل ذلك محتمل لتقدير اللام فلا تغفل ولا تزاد إلا مع أن لفظا أو تقديرا دون الاسم الصريح وذلك لأن الأصل في المفعول به أن يكون اسما صريحا فكأنها زيدت عوضا من ترك الأصل إلى ما يقوم مقامه كما يعوض السين في اسطاع عوضا من ترك الأصل الذي هو أطوع، وهذه الزيادة وإن كانت شاذة قياسا إلا أنها لما كثرت استعمالا جاز استعمالها في القرآن والكلام الفصيح، ومثل هذا يقال في زيادتها مع فعل الإرادة نحو أردت لأن أفعل. وجعل الزمخشري وجه زيادتها معه أنها لما كان فيها معنى الإرادة زيدت تأكيدا لها وجعل وجها في زيادتها مع فعل الأمر أيضا لا سيما والطلب والإرادة عندهم من باب واحدة، وفي المعنى أوجه أن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 239 أكون أول من أسلم في زماني ومن قومي أي إسلاما على وفق الأمر، وأن أكون أول الذين دعوتهم إلى الإسلام إسلاما، وأن أكون أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره لأكون مقتدى بي قولي وفعلي جميعا ولا تكون صفتي صفة الملوك الذين يأمرون بما لا يفعلون، وأن أفعل ما أستحق به الأولية والشرف من أعمال السابقين دلالة على السبب وهي الأعمال التي يستحق بها الشرف بالمسبب وهو الأولية والشرف المذكور في النظم الجليل ذكر ذلك الزمخشري. وفي الكشف المختار من الأوجه الأربعة الوجه الثاني فإنه المكرر الشائع في القرآن الكريم وفيه سائر المعاني الآخر من موافقة القول الفعل ولزوم أولية الشرف من أولية التأسيس مع أنه ليس فيه أنه أمر بأن يكون أشرف وأسبق فافهم قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بترك الإخلاص والميل إلى ما أنتم عليه من الشرك، وجوز العموم أي أخاف إن عصيته بشيء من المعاصي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ هو يوم القيامة، ووصفه بالعظمة لعظمة ما فيه من الدواهي والأهوال، وهو مجاز في الظرف أو الإسناد وهو أبلغ ولذا عدل عن توصيف العذاب بذاك والمقصود من قول ذلك لهم تهديدهم والتعريض لهم بأنه عليه الصلاة والسلام مع عظمته لو عصى الله تعالى ما أمن من العذاب فكيف بهم قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ لا غيره سبحانه لا استقلالا ولا اشتراكا مُخْلِصاً لَهُ دِينِي حال من فاعل أَعْبُدُ فقيل مؤكدة لما أن تقديم المفعول قد أفاد الحصر وهو يدل على إخلاصه عن الشرك الظاهر والخفي، وقيل: مؤسسة وفسر اخلاص الدين له تعالى بعبادته سبحانه لذاته من غير طلب شيء كقول رابعة: سبحانك ما عبدتك خوفا من عقابك ولا رجاء ثوابك أو يفسر بتجريده عن الشرك بقسميه وأن يكون معه ما يشينه من غير ذلك كما أشير إليه آنفا، والفرق بين هذا وقوله سبحانه: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ إلخ أن ذاك أمر ببيان كونه عليه الصلاة والسلام مأمورا بعبادته تعالى مخلصا له الدين وهذا أمر بالإخبار بامتثاله بالأمر على أبلغ وجه وآكده إظهارا لتصلبه صلى الله عليه وسلم في الدين وحسبما لأطماعهم الفارغة حيث أن كفار قريش دعوه صلى الله عليه وسلم إلى دينهم فنزلت لذلك وتمهيدا لتهديدهم بقوله عزّ وجلّ: فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ أن تعبدوه مِنْ دُونِهِ عزّ وجلّ، وفيه من الدلالة على شدة الغضب عليهم ما لا يخفى كأنهم لما لم ينتهوا عما نهوا عنه أمروا به كي يحل بهم العقاب قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ أي الكاملين في الخسران وهو إضاعة ما بهم وإتلاف ما لا بد منه لجمعهم أعاظم أنواع الخسران الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ باختيارهم الكفر لهما فالمراد بالأهل أتباعهم الذين أضلوهم أي أضاعوا أنفسهم وأضاعوا أهليهم وأتلفوهما يَوْمَ الْقِيامَةِ حين يدخلون النار حيث عرضوهما للعذاب السرمدي وأوقعوهما في هلكة ما وراءها هلكة ولو أبقى يوم القيامة على ظاهره لأن يتبين فيه أمرهم ويتحقق مبدأ خسرانهم صح على ما قيل، وقيل: المراد بالأهل الاتباع مطلقا وخسرانهم إياهم لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروا هم كما خسروا أنفسهم وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهابا لا إياب بعده، وتعقب بأن المحذور ذهاب من لو آب لانتفع به الخاسر وذلك غير متصور في الشق الأخير، وقيل: المراد بالأهل ما أعده الله تعالى لمن يدخل الجنة من الخاصة أي وخسروا أهليهم الذين كانوا يكونون لهم في الجنة لو آمنوا، أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال: ليس أحد إلا قد أعد الله تعالى له أهلا في الجنة أن أطاعه، وأخرج نحوه عن مجاهد، وروي أيضا عن ميمون بن مهران وكلهم ذكروا ذلك في الآية، وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس أنه قال فيها أيضا: خسروا أهليهم من أهل الجنة كانوا أعدوا لهم لو عملوا بطاعة الله تعالى فغبنوهم، وهو الذي يقتضيه كلام الحسن فقد روي عنه أنه فسر الأهل بالحور العين، ولا يخفى أن حمل الآية على ذلك لا يخلو عن بعد. وأيا ما كان فليس المراد مجرد تعريف الكاملين في الخسران بما ذكر بل بيان أنهم المخاطبون بما تقدم إما بجعل الموصول عبارة عنهم أو بجعله عبارة عما هم مندرجون فيه اندراجا أوليا، وما في قوله تعالى: أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ من استئناف الجملة، وتصديرها بحرف التنبيه والإشارة بذلك إلى بعد منزلة المشار إليه في الشر الجزء: 12 ¦ الصفحة: 240 وأنه لعظمه بمنزلة المحسوس وتوسيط ضمير الفصل وتعريف الخسران والإتيان به على فعلان الأبلغ من فعل ووصفه بالمبين من الدلالة على كمال هو له وفظاعته وأنه لا نوع من الخسر وراءه ما لا يخفى. وقوله تعالى: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ إلى آخره نوع بيان لخسرانهم بعد تهويله بطريق الإبهام على أن لَهُمْ خبر لظلل ومِنْ فوقهم متعلق بمحذوف حال من ضميرها في الظرف المقدم لا منها نفسها لضعف الحال من المبتدأ، وجعلها فاعل الظرف حينئذ اتباع لنظر الأخفش وهو ضعيف، ومِنَ النَّارِ صفة لظلل. والكلام جار مجرى التهكم بهم ولذا قيل لهم وعبر عما علاهم من النار بالظلل أي لهم كائنة من فوقهم ظلل كثيرة متراكمة بعضها فوق بعض كائنة من النار وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ كائنة من النار أيضا، والمراد أطباق كثيرة منها وتسميتها ظللا من باب المشاكلة. وقيل هي ظلل لمن تحتهم في طبقة أخرى من طبقات النار ولا يطرد في أهل الطبقة الأخيرة من هؤلاء الخاسرين إلا أن يقال: إنها للشياطين ونحوهم مما لا ذكر لهم هنا، وقيل: إن ما تحتهم يلتهب ويتصاعد منه شيء حتى يكون ظلة فسمي ظلة باعتبار ما آل إليه أخيرا وليس بذاك، والمراد أن النار محيطة بهم ذلِكَ العذاب الفظيع يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يذكره سبحانه لهم بآيات الوعيد ليخافوا فيجتنبوا ما يوقعهم فيه، وخص بعضهم العباد بالمؤمنين لأنهم المنتفعون بالتخويف وعمم آخرون. وكذا في قوله سبحانه: يا عِبادِ فَاتَّقُونِ ولا تتعرضوا لما يوجب سخطي، ويختلف المراد بالأمر على الوجهين كما لا يخفى، وهذه عظة من الله جل جلاله وعم نواله منطوية على غاية اللطف والرحمة. وقرىء «يا عبادي» بالياء. وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ إلخ قال ابن زيد: نزلت في ثلاثة نفر كانوا في الجاهلية يقولون لا إله إلا الله زيد ابن عمرو بن نفيل وسلمان وأبي ذر، وقال ابن إسحاق: أشير بها إلى عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد والزبير وذلك أنه لما أسلم أبو بكر سمعوا ذلك فجاؤوه وقالوا: أسلمت قال نعم وذكرهم بالله تعالى فآمنوا بأجمعهم فنزلت فيهم وهي محكمة في الناس إلى يوم القيامة، والطاغوت فعلوت من الطغيان كما قالوا لا فاعول كما قيل بتقديم اللام على العين نحو صاعقة وصاقعة، ويدل على ذلك الاشتقاق وأن طوغ وطيغ مهملان. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 241 وأصله طغيوت أو طغووت من الياء أو الواو لأن طغى يطغى ويطغو كلاهما ثابتان في العربية نقله الجوهري، ونقل أن الطغيان والطغوان بمعنى وكذا الراغب، وجمعه على الطواغيت يدل على أن الجمع بني على الواو، وقولهم: من الطغيان لا يريدون به خصوص الياء بل أرادوا المعنى وهو على ما في الصحاح الكاهن والشيطان وكل رأس في الضلال، وقال الراغب: هو عبارة عن كل متعد وكل معبود من دون الله تعالى وسمي به الساحر والكاهن والمارد من الجن والصارف عن الخير ويستعمل في الواحد والجمع. وقال الزمخشري في هذه السورة: لا يطلق على غير الشيطان، وذكر أن فيه مبالغات من حيث البناء فإن صيغة فعلوت للمبالغة ولذا قالوا الرحموت الرحمة الواسعة، ومن حيث التسمية بالمصدر، ومن حيث القلب فإنه للاختصاص كما في الجاه، وقد أطلقه في النساء على كعب بن الأشرف وقال سمي طاغوتا لافراطه في الطغيان وعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو على التشبيه بالشيطان فلعله أراد لا يطلق على غير الشيطان على الحقيقة، وكأنه جعل كعبا على الأول من الوجهين من شياطين الإنس، وفي الكشف كأنه لما رآه مصدرا في الأصل منقولا إلى العين كثير الاستعمال في الشيطان حكم بأنه حقيقة فيه بعد النقل مجاز في الباقي لظهور العلاقة إما استعارة وإما نظر إلى تناسب المعنى، والذي يغلب على الظن أن الطاغوت في الأصل مصدر نقل إلى البالغ الغاية في الطغيان وتجاوز الحد، واستعماله في فرد من هذا المفهوم العام شيطانا كان أو غيره يكون حقيقة ويكون مجازا على ما قرروا في استعمال العام في فرد من أفراده كاستعمال الإنسان في زيد، وشيوعه في الشيطان ليس إلا لكونه رأس الطاغين، وفسره هنا بالشيطان مجاهد، ويجوز تفسيرها بالشياطين جمعا على ما سمعت عن الراغب ويؤيده قراءة الحسن «اجتنبوا الطواغيت» أَنْ يَعْبُدُوها بدل اشتمال من الطاغوت وعبادة غير الله تعالى عبادة للشيطان إذ هو الآمر بها والمزين لها، وإذا فسر الطاغوت بالأصنام فالأمر ظاهر وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ وأقبلوا إليه سبحانه معرضين عما سواه إقبالا كليا لَهُمُ الْبُشْرى بالثواب من الله تعالى على ألسنة الرسل عليهم السلام أو الملائكة عند حضور الموت وحين يحشرون وبعد ذلك. فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ مدح لهم بأنهم نقاد في الدين يميزون بين الحسن والأحسن والفاضل والأفضل فإذا اعترضهم أمران واجب وندب اختاروا الواجب وكذلك المباح والندب. وقيل يستمعون أوامر الله تعالى فيتبعون أحسنها نحو القصاص والعفو والانتصار والإغضاء والإبداء والإخفاء لقوله تعالى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [البقرة: 237] وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة: 271] والفرق بين الوجهين أن هذا أخص لأنه مخصوص بأوامر فيها تخيير بين راجح وأرجح كالعفو والقصاص مثلا كأنه قيل يتبعون أحسن القولين الواردين في معين وفي الأول يتبعون الأحسن من القولين مطلقا كالإيجاب بالنسبة إلى الندب مثلا. وعن الزجاج يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن. وقيل يستمعون القول ممن كان فيتبعون أولاه بالقبول وأرشده إلى الحق ويلزم من وصفهم بذلك أنهم يميزون القبيح من الحسن ويجتنبون القبيح، وأريد بهؤلاء العباد الذين اجتنبوا وأنابوا لا غيرهم لئلا ينفك النظم فإن قوله تعالى: فَبَشِّرْ مرتب على قوله سبحانه لَهُمُ الْبُشْرى ووضع الظاهر موضع الضمير ليشرفهم تعالى بالإضافة إليه ولتكرير بيان الاستحقاق وليدل على أنهم نقادون حرصا على إيثار الطاعة ومزيد القرب عند الله تعالى وفيه تحقيق للإنابة وتتميم حسن، وقيل الوقف على «عبادي» فيكون الذين مبتدأ خبره جملة قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ أي لدينه، والكلام استئناف بإعادة صفة من استؤنف عنه الحديث وما تقدم أرجح لما سلف من الفوائد من إقامة الظاهر مقام المضمر والتتميم فإن ذلك دون الوصف لا يتم، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 242 ولأن محرك السؤال المجاب بالجملة بعد قوله تعالى: فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أقوى وذلك الأصل في حسن الاستئناف وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ أي هم أصحاب العقول السليمة عن معارضة الوهم ومنازعة الهوى المستحقون للهداية لا غيرهم، وفي الآية دلالة على حط قدر التقليد المحض ولذا قيل: شمّر وكن في أمور الدين مجتهدا ... ولا تكن مثل عير قيد فانقادا واستدل بها على أن الهداية تحصل بفعل الله تعالى وقبول النفس لها كما ذهب إليه الأشاعرة، وقوله تعالى: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ بيان لأضداد المذكورين على طريقة الإجمال وتسجيل عليهم بحرمان الهداية وهم عبدة الطاغوت ومتبعو خطواتها كما يلوح به التعبير عنهم بمن حق عليه كلمة العذاب فإن المراد بتلك الكلمة قوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 85] والآية على ما قيل نزلت في أبي جهل وأضرابه، والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر ومن شرطية على ما ذهب إليه الحوفي وغيره وجواب الشرط فَأَنْتَ تُنْقِذُ إلخ والهمزة قبله لاستطالة الكلام على نحو قوله: لقد علم الحزب اليمانون أنني ... إذا قلت أما بعد أني خطيبها لأن دخول الهمزة في الجواب أو الشرط كاف تقول: أإن أكرمك تكرمه كما تقول إن أكرمك أتكرمه ولا تكررها فيهما إلا للتأكيد لأن الجملتين أعني الشرط والجزاء بعد دخول الأداة مفردان والاستفهام إنما يتوجه على مضامين الجمل إذا كان المطلوب تصديقا والإنكار المفاد بالهمزة متعلق بمضمون المعطوف والمعطوف عليه إلا أن المقصود في المعطوف إنكار الجزاء والتقدير أأنت مالك أمر الناس قادر على التصرف فيه فمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه على معنى لست أنت مالك أمر الناس ولا أنت تقدر على الإنقاذ بل المالك والقادر على الإنقاذ هو الله عزّ وجلّ، وعدل عن فأنت تنقذه إلى ما في النظم الكريم لمزيد تشديد الإنكار والاستبعاد مع ما فيه من الإشارة إلى أنه نزل استحقاقهم للعذاب وهم في الدنيا المشعر به الشرط منزلة دخولهم النار وأنه مثل حاله عليه الصلاة والسلام في المبالغة في تحصيل هدايتهم والاجتهاد في دعائهم إلى الإيمان بحال من يريد أن ينقذ من في النار منها. وفي الحواشي الخفاجية نقلا عن السعد أن في هذه الآية استعارة لا يعرفها إلا فرسان البيان وهي الاستعارة التمثيلية المكنية لأنه نزل ما يدل عليه قوله تعالى: أَفَمَنْ إلخ من استحقاقهم العذاب وهم في الدنيا منزلة دخولهم النار في الآخرة حتى يترتب عليه تنزيلا بذله عليه الصلاة والسلام جهده في دعائهم إلى الإيمان منزلة إنقاذهم من النار الذي هو من ملائمات دخول النار ثم قال: وقد عرفت من مذهبه أن قرينة المكنية قد تكون تحقيقية كما في نقض العهد انتهى فتأمل. وقيل: إن النار مجاز عن الضلال من باب إطلاق اسم المسبب على السبب والإنقاذ بدل الهداية من ترشيح المجاز أو مجاز عن الدعاء للإيمان والطاعة وليس بذاك، وجوز أن يكون الجزاء محذوفا وجملة فَأَنْتَ تُنْقِذُ إلخ مستأنفة مقررة للجملة الأولى والتقدير أفمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تخلصه أفأنت تنقذ من في النار. ولا فرق بين الوجهين في أن الفاء في الأولى للعطف على محذوف ولا في كون المعنى على تنزيل استحقاق العذاب وهم في الدنيا منزلة دخولهم النار وتمثيل حاله عليه الصلاة والسلام في المبالغة في تحصيل هدايتهم بحال من يريد أن ينقذ من في النار منها، نعم الكلام على الأول جملة وعلى الثاني جملتان، واستظهر أبو حيان أن مَنْ موصولة مبتدأ والخبر محذوف، وحكي أن منهم من يقدره يتأسف عليه ومنهم من يقدره يتخلص منه ومنهم من يقدره فأنت تخلصه، ولا يخفى أن التقدير الأخير أولى، وذكر أن النحاة على أن الفاء في مثل هذا التركيب للعطف الجزء: 12 ¦ الصفحة: 243 وموضعها قبل الهمزة لكن قدمت الهمزة لأن لها صدر الكلام وقال: إن القول بأن كلا منهما في مكانه قول انفرد به الزمخشري فيما علمنا وفي المغني ترجيح القول بأن الهمزة مقدمة من تأخير وعليه يقدر المعطوف عليه ما أنت مالك أمرهم أو ما أخبر الله تعالى به واقع لا محالة أو كل كافر مستحق للعذاب أو نحو ذلك مما يناسب المعنى المراد. لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ استدراك بين ما يشبه النقيضين والضدين وهما المؤمنين والكافرون وأحوالهما، والمراد بالذين اتقوا الموصوفون بما عدد من الصفات الفاضلة، والغرف جمع غرفة وهي العلية أي لهم علالي كثيرة جليلة بعضها فوق بعض مَبْنِيَّةٌ قيل: هو كالتمهيد لقوله تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي من تحت تلك الغرف الفوقانيات والتحتانيات الْأَنْهارُ أي مبنية بناء يتأتى معه جري الأنهار من تحتها وذلك على خلاف علالي الدنيا فيفيد الوصف بذلك أنها سويت تسوية البناء على الأرض وجعلت سطحا واحدا يتأتى معه جري الأنهار عليه على أن مياه الجنة لما كانت منحدرة من بطنان العرش على ما في الحديث فهي أعلى من الغرف فلا عجب من جري الماء عليها فوقا وتحتا لكن لا بد من وضع يتأتى معه الجري فالوصف المذكور لإفادة ذلك. وقال بعض الأجلة: الظاهر أن هذا الوصف تحقيق للحقيقة وبيان أن الغرف ليست كالظلل حيث أريد بها المعنى المجازي على الاستعارة التهكمية، وقال بعض فضلاء إخواننا المعاصرين: فائدة التوصيف بما ذكر الإشارة إلى رفعة شأن الغرف حيث آذن أن الله تعالى بانيها وماذا عسى يقال في بناء بناه الله جل وعلا. وأقول والله تعالى أعلم: وصفت الغرف بذلك للإشارة إلى أنها مهيأة معدة لهم قد فرغ من أمرها كما هو ظاهر الوصف لا أنها تبنى يوم القيامة لهم، وفي ذلك من تعظيم شأن المتقين ما فيه، وفي الآية على هذا رد على المعتزلة وكأن الزمخشري لذلك لم يحم حول هذا الوجه واقتصر على ما حكيناه أولا مع أن ما قلناه أقرب منه فليحفظ. وَعْدَ اللَّهِ مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله فإنه وعد أي وعد لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ لما في خلفه من النقص المستحيل عليه عزّ وجلّ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً استئناف وارد إما لتمثيل الحياة الدنيا في سرعة الزوال وقرب الاضمحلال بما ذكر من أحوال الزرع تحذيرا من الاغترار بزهرتها أو للاستشهاد على تحقق الموعود من الأنهار الجارية من تحت الغرف بما يشاهد من إنزال الماء من السماء وما يترتب عليه من آثار قدرته سبحانه وأحكام حكمته ورحمته، والمراد بالماء المطر وبالسماء جهة العلو، وقيل: الأجرام العلوية وكون إنزال المطر منها باعتبار أنه بأسباب ناشئة منها فإن تصاعد الأبخرة وتكون الغيوم بسبب جذب الشمس واختلاف أوضاعها ونحو ذلك من الأسباب التي يعلمها الله تعالى، وأما كون إنزال المطر نفسه من جرم السماء المعروفة نفسها فكثير ما يرتفع سحاب ويمطر مطرا غزيرا وهناك من هو على ذروة جبل لا سحاب عنده ولا مطر والتزام أن المطر في ذلك نازل من جرم السماء أيضا على السحاب لكن لا يشاهده من هو مشرف على السحاب وواقف فوق الجبل لا يخفى حاله، وقيل: المراد بالماء كل ماء في الأرض، والمراد بالإنزال المذكور الإنزال في مبدأ الخليقة وذلك أنه عزّ وجلّ لما خلق الأرض خلقها خالية من الماء فأنزل من بحر تحت العرش ماء فَسَلَكَهُ فأدخله يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ أي في ينابيع أي عيون ومجاري كائنة في الأرض كالعروق في الأجساد فعلى الأول يقتضي ظاهر الآية أن ماء العيون والقنوات من ماء المطر وعلى الثاني ليس منه، وشاع عن الفلاسفة أن ماء العيون وما يجري مجراها من الأبخرة قالوا: إن البخار إذا احتبس في الأرض يميل إلى جهة وتبرد بها فتنقلب مياه مختلطة بأجزاء بخارية فإذا كثر بحيث لا تسعه الأرض أوجب انشقاقها فانفجر منها العيون، ورده أبو البركات البغدادي فقال في المعتبر: السبب في العيون وما يجري مجراها هو ما يسيل من الثلوج ومياه الأمطار لأنا نجدها تزيد بزيادتها وتنقص بنقصانها وأن استحالة الأهوية والأبخرة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 244 المنحصرة في الأرض لا مدخل لها في ذلك فإن باطن الأرض في الصيف أشد بردا منه في الشتاء فلو كان سبب هذه استحالتها لوجب أن تكون العيون والقنوات ومياه الآبار في الصيف أزيد وفي الشتاء أنقص مع أن الأمر بخلاف ذلك على ما دلت عليه التجربة، وقال الميبدي: الحق أن السبب الذي ذكره صاحب المعتبر معتبر لا محالة إلا أنه غير مانع من اعتبار السبب الذي ذكر يعني ما شاع، واحتجاجه في المنع إنما يدل على أنه لا يجوز أن يكون ذلك هو السبب التام لا على أنه لا يجوز أن يكون ذلك سببا في الجملة اه. وفي شرح المواقف اختلفوا في أن المياه متولدة من أجزاء مائية متفرقة في عمق الأرض إذا اجتمعت أو من الهواء البخاري الذي ينقلب ماء. وهذا الثاني وإن كان ممكنا إلا أن الأول أولى لأن مياه العيون والقنوات والآبار تزيد بزيادة الثلوج والأمطار، والأولى عندي أن يحمل الماء في الآية على المطر ونحوه من الثلج، والآية تدل على أن ذلك الماء يسلكه الله تعالى في ينابيع في الأرض ولا تدل على أن ما في الينابيع ليس إلا ذلك الماء فيجوز أن يكون بعض ما فيها هو الماء المنزل من السماء والبعض الآخر حادثا من الهواء البخاري بانقلابه ماء بأسباب يعلمها الله عزّ وجلّ، وحمل الإنزال على الإنزال في مبدأ الخليقة على ما سمعت مع كونه مما لم أقف على خبر صحيح يقتضيه خلاف الظاهر في الآية جدا لأن الخطاب في أَلَمْ تَرَ عام ولا يتأتى العموم في رؤية ذلك، وكأنه يتعين عليه جعل الخطاب خاصا بسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم والمراد ألم تعلم ذلك بالوحي ومع ذلك لا يخفى حال حمل الآية على ما ذكر، وقريب مما قيل ما حكاه الزمخشري في الآية عن بعض من أن كل ماء في الأرض فهو من السماء ينزل منها إلى الصخرة ثم يقسمه الله تعالى بين البقاع، هذا لكن يعكر على ما اخترناه ظاهر ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية: ليس في الأرض ماء إلا ما أنزل الله تعالى من السماء ولكن عروق في الأرض تغيره فمن سره أن يعود الملح عذبا فليصعد. وأخرج نحوه عن سعيد بن جبير والشعبي، فإن صح هذا الخبر وقلنا إنه في حكم المرفوع فما علينا إذا قلنا بظاهره فالعقل لا يأباه والله تعالى على كل شيء قدير، هذا وجوز أن تكون الينابيع جمع ينبوع بمعنى النابع فإنه كما يطلق على المنبع يطلق على ما ذكر وحينئذ تكون منصوبة على الحال، والمعنى فسلكه مياها نابعة في الأرض، ولا يخلو من الكدر لأنه لو قصد هذا كان الظاهر أن يقال من الأرض وعلى ما هو المشهور يكون يَنابِيعَ منصوبا بنزع الخافض كما أشرنا إليه. واحتمال كونه منصوبا على المصدرية في إطلاقيه بأن يكون الأصل فسلكه سلوكا في ينابيع أي مجاري فحذف المصدر وأقيم ما هو في موضع الصفة مقامه أو يكون الأصل فسلكه سلوك ينابيع أي مياه نابعة فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه بعيد كما لا يخفى. ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ أي بواسطته مراعاة للحكمة لا لتوقف الإخراج عليه في نفس الأمر، وقالت الأشاعرة: أي يخرج عنده بلا مدخلية له بوجه من الوجوه سوى المقارنة زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ أي أنواعه وأصنافه من بر وشعير وغيرهما أو كيفياته المدركة بالبصر من خضرة وحمرة وغيرهما أو كيفياته مطلقا من الألوان والطعوم وغيرهما على ما قيل، وشمل الزرع المقتات وغيره، وثم للتراخي في الرتبة أو الزمان، وصيغة المضارع لاستحضاره الصورة ثُمَّ يَهِيجُ ييبس، وظاهر كلام أهل اللغة أن هذا معنى حقيقي للهيجان، ويفهم من كلام بعض المفسرين أن يهيج بمعنى يثوب واستعماله بمعنى ييبس من مجاز المشارفة لأن الزرع إذا يبس وتم جفافه يشرف على أن يثور ويذهب من منابته فَتَراهُ مُصْفَرًّا من بعد خضرته ونضارته. وقرىء «مصفارا» ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً فتاتا متكسرا كأن لم يغن بالأمس، ولكون هذه الحالة من الآثار القوية علقت بجعل الله تعالى كالإخراج. وقرأ أبو بشر «ثم يجعله» بالنصب قال صاحب الكامل وهو ضعيف ولم يبين وجه النصب، وكأنه إضمار أن كما في قوله: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 245 إني وقتلي سليكا ثم أعقله ولا يخفى وجه ضعفه هنا إِنَّ فِي ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر تفصيلا، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته في الغرابة والدلالة على ما قصد بيانه لَذِكْرى لتذكيرا عظيما لِأُولِي الْأَلْبابِ لأصحاب العقول الخالصة عن شوائب الخلل وتنبيها لهم على حقيقة الحال يتذكرون بذلك حال الحياة الدنيا وسرعة تقضيها فلا يغترون ببهجتها ولا يفتنون بفتنتها أو يجزمون بأن من قدر على إنزال الماء من السماء والتصرف به على أتم وجه قادر على إجراء الأنهار من تحت تلك الغرف، وكأن الأول أولى ليكون ما تقدم ترغيبا في الآخرة وهذا تنفيرا عن الدنيا، وقيل المعنى إن في ذلك لتذكيرا وتنبيها على أنه لا بد لذلك من صانع حكيم وأنه كائن على تقدير وتدبير لا عن تعطيل وإهمال وهو بمعزل عما يقتضيه السياق على أن الأنسب بإرادة ذلك ذكر الآثار غير مسندة إليه عزّ وجلّ فحيث ذكرت مسندة إليه سبحانه فالظاهر أن يكون متعلق التذكير والتنبيه شؤونه تعالى أو شؤون آثاره حسبما أشير إليه لا وجوده جل وعلا. وقوله تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ إلخ استئناف جار مجرى التعليل لما قبله من تخصيص الذكرى بأولي الألباب، والشرح في الأصل البسط والمد للحم ونحوه ويكنى به عن التوسيع، وتجوز به هنا عن خلق النفس الناطقة مستعدة استعدادا تاما للقبول بجامع عدم التأبي عن القبول وسهولة الحصول وذلك بعد التجوز في الصدر، وإرادة النفس الناطقة منه من حيث إنه محل للقلب وفي تجويفه بخار لطيف يتكون من صفوة الأغذية وبه تتعلق النفس أولا وبواسطته تتعلق بسائر البدن تعلق التدبير والتصريف، وتلك النفس هي التي تتصف بالإسلام والإيمان، وجعل بعض الأجلة شرح الله صدره استعارة تمثيلية، والهمزة للإنكار داخلة على محذوف على أحد القولين المارين آنفا، والفاء للعطف على ذلك المحذوف، وخبر من محذوف لدلالة ما بعده عليه والتقدير أكل الناس سواء فمن شرح الله تعالى صدره وخلقه مستعدا للإسلام فبقي على الفطرة الأصلية ولم تتغير بالعوارض المكتسبة القادحة فيها فَهُوَ بموجب ذلك مستقر عَلى نُورٍ عظيم مِنْ رَبِّهِ وهو اللطف الإلهي المشرق عليه من بروج الرحمة عند مشاهدة الآيات التكوينية والتنزيلية والتوفيق للاهتداء بها إلى الحق كمن قسا قلبه وحرج صدره بتبديل فطرة الله تعالى بسوء اختياره واستولى عليه ظلمات الغي والضلال فأعرض عن تلك الآيات بالكلية حتى لا يتذكر بها ولا يغتنمها، وعدل عن فعنده أو فله نور إلى ما في النظم الجليل للدلالة على استمرار ذلك واستقراره في النور وهو مستعار للطف والتوفيق للاهتداء، وقد يقال: هو أمر إلهي غير اللطف والتوفيق يدرك به الحق وجاء برواية الثعلبي في تفسيره والحاكم في مستدركه والبيهقي في شعب الإيمان وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ إلخ فقلنا: يا رسول الله كيف انشراح الصدر؟ قال: إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح قلنا: فما علامة ذلك يا رسول الله؟ فقال: الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزوله. واستشكل ذلك بأن ظاهر الآية ترتب دخول النور على الانشراح، لأنه الاستعداد لقبوله وما في الحديث الشريف عكسه والظاهر أن السؤال عما في الآية وأن الجواب بيان لكيفيته. وأجيب بأن الاهتداء له مراتب بعضها مقدم وبعضها مؤخر وانشراح الصدر بحسب الفطرة والخلق وبحسب ما يطرأ عليه بعد فيض الألطاف عليه وبينهما تلازم، والمراد بانشراح الصدر في الحديث ما يكون بعد التمكن فيه، وفي الآية ما تقدم وقس عليه النور، والجواب من قبيل الأسلوب الحكيم فتأمل. فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أي من أجل ذكره سبحانه الذي حقه أن تلين منه القلوب أي إذا ذكر الله تعالى عندهم أو آياته عزّ وجلّ اشمأزوا من ذلك وزادت قلوبهم قساوة. وقرىء «عن ذكر الله» والمتواترة أبلغ لأن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 246 القاسي من أجل الشيء أشد تأبيا من قبوله من القاسي عنه بسبب آخر، وللمبالغة في وصف أولئك بالقبول وهؤلاء بالامتناع ذكر شرح الصدر لأن توسعته وجعله محلا للإسلام دون القلب الذي فيه يدل على شدته وافراط كثرته التي فاضت حتى ملأت الصدر فضلا عن القلب، وإسناده إلى الله تعالى الظاهر في أنه على أتم الوجوه لأنه فعل قادر حكيم وقابله بالقساوة مع أن مقتضى المقابلة أن يعبر بالضيق لأن القساوة كما في الصخرة الصماء تقتضي عدم قبول شيء بخلاف الضيق فإنه مشعر بقبول شيء قليل، وعدل عن التعبير بما يفيد مجعولية القساوة له تعالى وخلقه إياها للإشارة إلى غاية لزومها لهم حتى كأنها لو لم تجعل لتحققت فيهم بمقتضى ذواتهم، وأما إسنادها إلى القلوب دون الصدور فللتنصيص على فساد هذا العضو الذي إذا فسد فسد الجسد كله، واعتبر الجمع في هؤلاء الكفرة والإفراد في أولئك المؤمنين حيث قال سبحانه: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ دون أفمن شرح الله صدورهم للإشارة إلى أن المؤمنين وأن تعددوا كرجل واحد ولا كذلك الكفار. أُولئِكَ البعداء المتصفون بما ذكر من قساوة القلوب فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ظاهر كونه ضلالا لكل أحد. والآية نزلت في علي وحمزة رضي الله تعالى عنهما وأبي لهب وابنه فعلي كرم الله تعالى وجهه وحمزة رضي الله تعالى عنه ممن شرح الله تعالى صدره للإسلام وأبو لهب وابنه من القاسية قلوبهم اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ هو القرآن الكريم، وكونه حديثا بمعنى كونه كلاما محدثا به لا بمعنى كونه مقابلا للقديم، ومن قال بالتلازم من الأشاعرة القائلين بحدوث الكلام اللفظي جعل الأوصاف الدالة على الحدوث لذلك الكلام، وجوز أن يكون إطلاق الحديث هنا على القرآن من باب المشاكلة. عن ابن عباس أن قوما من الصحابة قالوا: يا رسول الله حدثنا بأحاديث حسان وبأخبار الدهر فنزلت ، وعن ابن مسعود أن الصحابة ملوا ملة فقالوا عليه الصلاة والسلام حدثنا فنزلت أي إرشادا لهم إلى ما يزيل مللهم وهو تلاوة القرآن واستماعه منه صلى الله عليه وسلم غضا طريا. وفي إيقاع اسم الله تعالى مبتدأ وبناء نَزَّلَ عليه تفخيم لأحسن الحديث واستشهاد على أحسنيته وتأكيد لاستناده إلى الله عزّ وجلّ وأن مثله لا يمكن أن يتكلم به غيره سبحانه، أما التفخيم فلأنه من باب الخليفة عند فلان، وأما الاستشهاد على أحسنيته فلكونه ممن لا يتصور أكمل منه بل لا كمال لشيء ما في جنبه بوجه، وأما توكيد الاستناد إليه تعالى فمن التقوى، وأما أن مثله لا يمكن أن يتكلم به غيره سبحانه فلمكان التناسب لأن أكمل الحديث إنما يكون من أكمل متكلم ضرورة، ومذهب الزمخشري أن مثل هذا التركيب يفيد الحصر وأنه لا تنافي بينه وبين التقوى جمعا فافهم. كِتاباً بدل من أَحْسَنَ الْحَدِيثِ أو حال منه كما قال الزمخشري، وليس مبنيا على القول بأن إضافة أفعل التفضيل تفيده تعريفا كما ظن أبو حيان فإن مطلق الإضافة كافية في صحة الحالية كما لا يخفى على من له أدنى إلمام بالعربية، ووقوعه حالا مع كونه اسما لا صفة إما لوصفه بقوله تعالى: مُتَشابِهاً أو لكونه في قوة مكتوبا. والمراد بكونه متشابها هنا تشابه معانيه في الصحة والأحكام والابتناء على الحق والصدق واستتباع منافع الخلق في المعاد والمعاش وتناسب ألفاظه في الفصاحة وتجاوب نظمه في الإعجاز، وما أشبه هذا بقول العرب في الوجه الكامل حسنا وجه متناصف كأن بعضه أنصف بعضا في القسط من الجمال، وقوله تعالى: مَثانِيَ صفة أخرى لكتابا أو حال أخرى منه، وهو جمع مثنّى بضم الميم وفتح النون المشدد على خلاف القياس إذ قياسه مثنيات بمعنى مردد ومكرر لما مكرر وثني من أحكامه ومواعظه وقصصه، وقيل: لأنه يثنى في التلاوة. وجوز أن يكون جمع مثنى بالفتح مخففا من التثنية بمعنى التكرير والإعادة كما كان قوله تعالى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الملك: 4] بمعنى كرة بعد كرة وكذلك لبيك وسعديك، والمراد أنه جمع لمعنى التكرير والإعادة كما ثنى ما ذكر لذلك لكن استعمال المثنى في هذا المعنى أكثر لأنه أول مراتب التكرار، ويحتمل أن يراد أن مثنى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 247 بمعنى التكرير والإعادة كما أن صريح المثنى كذلك في نحو كرتين ثم جمع للمبالغة، وقيل: جمع مثنية لاشتمال آياته على الثناء على الله تعالى أو لأنها تثنى ببلاغتها واعجازها على المتكلم بها، ولا يخفى أن رعاية المناسبة مع مُتَشابِهاً تجعل ذلك مرجوحا وأنه حسن إذا حمل على الثناء باعتبار الإعجاز، وفي الكشف الأقيس بحسب اللفظ أن مَثانِيَ اشتقت من الثناء أو الثني جمع مثنى مفعل منهما إما بمعنى المصدر جمع لما صير صفة أو بمعنى المكان في الأصل نقل إلى الوصف مبالغة نحو أرض مأسدة لأن محل الثناء يقع على سبيل المجاز على الثاني والمثنى عليه وكذلك محل الثني انتهى، ووقوعه صفة لكتاب باعتبار تفاصيله وتفاصيل الشيء هي جملته لا غير ألا تراك تقول: القرآن أسباع وأخماس وسور وآيات فكذلك تقول: هو أحكام ومواعظ وأقاصيص مثاني ونظيره قولك الإنسان عروق وعظام وأعصاب إلا أنك تركت الموصوف إلى الصفة والأصل كتابا متشابها فصولا مثاني، ويجوز أن يكون تمييزا محولا عن الفاعل والأصل متشابها مثانية فحول ونكر لأن الأكثر فيه التنكير وهذا كقولك: رأيت رجلا حسنا شمائل، وقرأ هشام وأبو بشر «مثاني» بسكون الياء فاحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف وإن يكون منصوبا وسكن الياء على لغة من يسكنها في كل الأحوال لانكسار ما قبلها استثقالا للحركة عليها، وقوله تعالى: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ قيل صفة لكتابا أو حال منه لتخصصه بالصفة، وقال بعض: الأظهر أنه استئناف مسوق لبيان آثاره الظاهرة في سامعيه بعد بيان أوصافه في نفسه ولتقرير كونه أحسن الحديث. والاقشعرار التقبض يقال اقشعر الجلد إذا تقبض تقبضا شديدا وتركيبه من القشع وهو الأديم اليابس قد ضم إليه الراء ليكون رباعيا ودالا على معنى زائد يقال: اقشعر جلده وقف شعره إذا عرض له خوف شديد من أمر هائل دهمه بغتة، والمراد تصوير خوفهم بذكر لوازمه المحسوسة ويطلق عليه التمثيل وإن كان من باب الكناية. وقيل: هو تصوير للخوف بذكر آثاره وتشبيه حالة بحالة فيكون تمثيلا حقيقة، والأول أحسن لأن تشبيه القصة بالقصة على سبيل الاستعارة هاهنا لا يخلو عن تكلف، واستظهر كون المراد بيان حصول تلك الحالة وعروضها لهم بطريق التحقيق، والمعنى أنهم إذا سمعوا القرآن وقوارع آيات وعبده أصابتهم رهبة وخشية تقشعر منها جلودهم وإذا ذكروا رحمة الله تعالى عند سماع آيات وعده تعالى وألطافه تبدلت خشيتهم رجاء ورهبتهم رغبة وذلك قوله تعالى: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ أي ساكنة مطمئنة إلى ذكر رحمته تعالى، وإنما لم يصرح بالرحمة إيذانا بأنها أول ما يخطر بالبال عند ذكره تعالى لأصالتها كما يرشد إليه خبر: سبقت رحمتي غضبي، وذكر القلوب لتقدم الخشية التي هي من عوارضها ولعله إنما لم تذكر هناك على طرز ذكرها هنا لأنها لا توصف بالاقشعرار وتوصف باللين، وليس في الآية أكثر من نعت أوليائه باقشعرار الجلود من القرآن ثم سكونهم إلى رحمته عزّ وجلّ، وليس فيها نعتهم بالصعق والتواجد والصفق كما يفعله بعض الناس، أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن مردويه وابن أبي حاتم وابن عساكر عن عبد الله بن عروة بن الزبير قال: قلت لجدتي أسماء كيف كان يصنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرؤوا القرآن؟ قالت: كانوا كما نعتهم الله تعالى تدفع أعينهم وتقشعر جلودهم قلت: فإن ناسا هاهنا إذا سمعوا ذلك تأخذهم غشية قالت: أعوذ بالله تعالى من الشيطان، وأخرج الزبير بن بكار في الموفقيات عن عامر عن عبد الله بن الزبير قال: جئت أمي فقلت وجدت قوما ما رأيت خيرا منهم قط يذكرون الله تعالى فيرعد أحدهم حتى يغشى عليه من خشية الله تعالى فقالت: لا تقعد معهم ثم قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن ورأيت أبا بكر وعمر يتلوان القرآن فلا يصيبهم هذا أفتراهم أخشى من أبي بكر وعمر، وقال ابن عمر وقد رأى ساقطا من سماع القرآن فقال إنا لنخشى الله تعالى وما نسقط: هؤلاء يدخل الشيطان في جوف أحدهم، وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة أنه قال في الآية هذا نعت أولياء الله تعالى قال: تقشعر جلودهم وتبكي أعينهم وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله تعالى ولم ينعتهم الله الجزء: 12 ¦ الصفحة: 248 سبحانه بذهاب عقولهم والغشيان عليهم إنما هذا في أهل البدع وإنما هو من الشيطان، وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن جبير: قال الصعقة من الشيطان، وقال ابن سيرين: بيننا وبين هؤلاء الذين يصرعون عند قراءة أن يجعل أحدهم على حائط باسطا رجليه ثم يقرأ عليهم القرآن كله فإن رمى بنفسه فهو صادق، فهذه أخبار ناعية على بعض المتصوفة صعقهم وتواجدهم وضرب رؤوسهم الأرض عند سماع القرآن ويقول مشايخهم: إن ذلك لضعف القلوب عن تحمل الوارد وليس فاعلو ذلك في الكمال كالصحابة أهل الصدر الأول في قوة التحمل فما هو إلا دليل النقص بدليل أن السالك إذا كمل رسخ وقوي قلبه ولم يصدر منه شيء من ذلك ويقولون: ليس في الآية أكثر من إثبات الاقشعرار واللين وليس فيها نفي أن يعتريهم حال آخر بل في الآية إشعار بأن المذكور حال الراسخين الكاملين حيث قال سبحانه: الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ فعبر بالموصول ومقتضى معلومية الصلة أن لهم رسوخا في الخشية حتى يعلموا بها فلا يلزم من كون حالهم ما ذكر ليس إلا على فرض دلالتها على الحصر كون حال غيرهم كذلك ثم إنه متى كان الأمر ضروريا كالعطاس لا اعتراض على من يتصف به، وفي كلام ابن سيرين ما يؤيد ذلك، وهذا غاية ما يقال في هذا المجال ونحن نسأل الله تعالى أن يتفضل علينا بما تفضل به على أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم ذلِكَ هُدَى اللَّهِ الإشارة إلى الكتاب الذي شرح أحواله يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ أي من يشاء الله تعالى هدايته بأن يوفقه سبحانه للتأمل فيما في تضاعيفه من شواهد الحقية ودلائل كونه من عنده عزّ وجلّ، وجوز أن يكون ضمير يَشاءُ لمن والمعنى يهدي به الله تعالى من يشاء هداية الله تعالى وليس بذاك. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ أي يخلق سبحانه فيه الضلال لإعراضه عما يرشده إلى الحق بسوء استعداده فَما لَهُ مِنْ هادٍ يخلصه من ورطة الضلال، وقيل: الإشارة بذلك إلى المذكور من الاقشعرار واللين والمعنى ذلك الذي ذكر من الخشية والرجاء أثر هداه تعالى يهدي بذلك الأثر من يشاء من عباده ومن يضلله أي ومن لم يؤثر فيه لقسوة قلبه وإصراره على فجوره فما له من هاد أي من مؤثر فيه بشيء قط وهو كما ترى. أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ استئناف جار مجرى التعليل لما قبله من تباين حال المهتدي والضال، والكلام في الهمزة والفاء والخبر كالذي مر في نظائره، ويقال هنا على أحد القولين: التقدير أكلّ الناس سواء فمن شأنه أن يتقي بوجهه الذي هو أشرف أعضائه يوم القيامة العذاب السيء الشديد لكون يده التي بها كان يتقي المكاره مغلولة إلى عنقه كمن هو آمن لا يعتريه مكروه ولا يحتاج إلى الاتقاء بوجه من الوجوه فالوجه على حقيقته وقد يحمل على ذلك من غير حاجة إلى حديث كون اليد مغلولة تصويرا لكمال اتقائه وجده فيه وهو أبلغ، وفي هذا المضمار يجري قول الشاعر: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 249 يلقى السيوف بوجهه وبنحره ... ويقيم هامته مقام المغفر وجوز أن يكون الوجه بمعنى الجملة والمبالغة عليه دون المبالغة فيما قبله. وقيل الاتقاء بالوجه كناية عن عدم ما يتقى به الاتقاء بالوجه لا وجه له لأنه مما لا يتقى به، ولا يخلو عن خدش، وإضافة سوء إلى العذاب من إضافة الصفة إلى الموصوف ويَوْمَ الْقِيامَةِ معمول يتقي كما أشرنا إلى ذلك. وجوز أن يكون من تتمة سوء العذاب، والمعنى أفمن يتقي عذاب يوم القيامة كالمصر على كفره، وهو وجه حسن والوجه حينئذ كما في الوجه السابق إما الجملة مبالغة في تقواه وإما على الحقيقة تصويرا لكمال تقواه وجده فيها وهو أبلغ. والمتبادر إلى الذهن المعنى السابق، والآية قيل نزلت في أبي جهل وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ عطف على يتقي أي ويقال لهم من جهة خزنة النار، وصيغة الماضي للدلالة على التحقق والتقرر وقيل الواو للحال والجملة حال من ضمير يَتَّقِي بإضمار قد أو بدونه، ووضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالظلم والإشعار بعلة الأمر في قوله تعالى: ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ أي وبال ما كنتم تكسبون في الدنيا على الدوام من الكفر والمعاصي. كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ استئناف مسوق لبيان ما أصاب بعض الكفرة من العذاب الدنيوي إثر بيان ما يصيب الكل من العذاب الأخروي أي كذب الذين من قبلهم من الأمم السالفة فَأَتاهُمُ الْعَذابُ المقدر لكل أمة منهم مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ من الجهة التي لا يحتسبون ولا يخطر ببالهم إتيانه منها لأن ذلك أشد على النفس فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ أي الذل والصغار فِي الْحَياةِ الدُّنْيا كالمسخ والخسف والقتل والسبي والإجلاء وغير ذلك من فنون النكال، والفاء تفسيرية مثلها في قوله تعالى: فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ [الأنبياء: 76] وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ المعد لهم أَكْبَرُ لشدته وسرمديته لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أي لو كانوا من شأنهم أن يعلموا شيئا لعلموا ذلك واعتبروا به وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ العظيم الشأن مِنْ كُلِّ مَثَلٍ يحتاج إليه الناظر أمور دينه لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي كي يتذكروا ويتعظوا أو مرجوا تذكرهم واتعاظهم، والرجاء بالنسبة إلى غيره تعالى والتعليل أظهر قُرْآناً عَرَبِيًّا حال من هذا والاعتماد فيها على الصفة أعني عربيا وإلا فقرآنا جامدا لا يصلح للحالية وهو أيضا عين ذي الحال فلا يظهر حاله فالحال في الحقيقة عَرَبِيًّا وقرآنا للتمهيد ونظيره جاء زيد رجلا صالحا، قيل وذلك بمنزلة عربيا محققا. وجوز أن يكون منصوبا بمقدر تقديره أعني أو أخص أو أمدح ونحوه، وأن يكون مفعول يَتَذَكَّرُونَ وهو كما ترى غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لا اختلال فيه بوجه من الوجوه وهو أبلغ من مستقيم لأن عوجا نكرة وقعت في سياق النفي لما في غير من معناه، والاستقامة يجوز أن تكون من وجه دون وجه ونفي مصاحبة العوج عنه يقتضي نفي اتصافه به بالطريق الأولى فهو أبلغ من غير معوج، والعوج بالكسر يقال فيما يدرك بفكر وبصيرة والعوج بالفتح يقال فيما يدرك بالحس، وعبر بالأول ليدل على أنه بلغ إلى حد لا يدرك العقل فيه عوجا فضلا عن الحس، وتمام الكلام مر في الكهف. وقيل المراد بالعوج الشك واللبس، وروي ذلك عن مجاهد وأنشدوا قول الشاعر: وقد أتاك يقين غير ذي عوج ... من الإله وقول غير مكذوب ولا استدلال به على أن العوج بمعنى الشك لأن عوج اليقين هو الشك لا محالة، والقول في وجه الاستدلال أن الشاعر فهم هذا المعنى من الآية لأنه اقتباس وإذا فهمه الفصيح مع صحة التجوز كان محملا تعسف ظاهر لأنه لم يتبين أنه اقتبسه منها ولو سلم يكون محتملا لما يحتمله العوج في النظم الذي لا عوج فيه، وقد يقال: مراد من قال أي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 250 لا لبس فيه ولا شك نفي بعض أنواع الاختلال، وعلى ذلك ما روي عن عثمان بن عفان من أنه قال: أي غير مضطرب ولا متناقض وما قيل أي غير ذي لحن. وأخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: غير ذي عوج غير مخلوق ولعله إن صح الخبر تفسير باللازم فتأمل. لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ علة أخرى مترتبة على الأولى. ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ إيراد لمثل من الأمثال القرآنية بعد بيان أن الحكمة في ضربها هو التذكر والاتعاظ بها وتحصيل التقوى، والمراد بضرب المثل هاهنا تطبيق حالة عجيبة بأخرى مثلها وجعلها مثلها، ومَثَلًا مفعول ثان لضرب ورَجُلًا مفعوله الأول أخر عن الثاني للتشويق إليه وليتصل به ما هو من تتمته التي هي العمدة في التمثيل أو مَثَلًا مفعول ضرب ورَجُلًا إلخ بدل منه بدل كل من كل. وقال الكسائي: انتصب رَجُلًا على إسقاط الخافض أي مثلا في رجل وقيل غير ذلك وقد تقدم الكلام في نظيره. وفِيهِ خبر مقدم وشُرَكاءُ مبتدأ ومُتَشاكِسُونَ صفته والنكرة وإن وصفت يحسن تقديم خبرها. والجملة صفة رَجُلًا والرابط الهاء أو الجار والمجرور في موضع الصفة له وشُرَكاءُ مرتفع به على الفاعلية لاعتماده على الموصوف، وقيل فِيهِ صلة شركاء وهو مبتدأ خبره متشاكسون، وفيه أنه ليس لتقديمه نكتة ظاهرة. والمعنى ضرب الله تعالى مثلا للمشرك حسبما يقود إليه مذهبه من ادعاء كل من معبودية عبوديته عبدا يتشارك فيه جماعة متشاجرون لشكاسة أخلاقهم وسوء طبائعهم يتجاذبونه ويتعاورونه في مهماتهم المتباينة في تحيره وتوزع قلبه وَرَجُلًا أي وضرب للموحد مثلا رجلا سَلَماً أي خالصا لِرَجُلٍ فرد ليس لغيره سبيل إليه أصلا فهو في راحة عن التحير وتوزع القلب وضرب الرجل مثلا لأنه أفطن لما شقي به أو سعد فإن الصبي والمرأة قد يغفلان عن ذلك. وقرأ عبد الله وابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة والزهري والحسن بخلاف عنه والجحدري وابن كثير وأبو عمرو «سالما» اسم فاعل من سلم أي خالصا له من الشركة. وقرأ ابن جبير «سلما» بكسر السين وسكون اللام، وقرىء «سلما» بفتح فسكون وهما مصدران وصف بهما مبالغة في الخلوص من الشركة. وقرىء «ورجل سالم» برفعهما أي وهناك رجل سالم، وجوز أن لا يقدر شيء ويكون رجل مبتدأ وسالم خبره لأنه موضع تفصيل إذ قد تقدم ما يدل عليه فيكون كقول امرئ القيس: إذا ما بكى من خلفها انحرفت له ... بشق وشق عندنا لم يحول وقوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا انكار واستبعاد لاستوائهما ونفي له على أبلغ وجه وآكده وإيذان بأن ذلك من الجلاء والظهور بحيث لا يقدر أحد أن يتفوه باستوائهما أو يتلعثم في الحكم بتباينهما ضرورة أن أحدهما في لوم وعناء والآخر في راحة بال ورضاء، وقيل ضرورة أن أحدهما في أعلى عليين والآخر في أسفل سافلين، وأيا ما كان فالسر في إبهام الفاضل والمفضول الإشارة إلى كمال الظهور عند من له أدنى شعور. وانتصاب مَثَلًا على التمييز المحول عن الفاعل إذ التقدير هل يستوي مثلهما وحالهما، والاقتصار في التمييز على الواحد لبيان الجنس والاقتصار عليه أولا في قوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا وقرىء «مثلين» أي هل يستوي مثلاهما وحالاهما، وثني مع أن المقصود من التمييز حاصل بالإفراد من غير لبس لقصد الإشعار بمعنى زائد وهو اختلاف النوع، وجوز أن يكون ضمير يستويان للمثلين لأن التقدير فيما سبق مثل رجل ومثل رجل أي هل يستوي المثلان مثلين وهو على نحو كفى بهما رجلين وهو من باب- لله تعالى دره فارسا- ويرجع ذلك إلى هل يستويان الجزء: 12 ¦ الصفحة: 251 رجلين فيما ضرب من المثال ولما كان المثل بمعنى الصفة العجيبة التي هي كالمثل كان المعنى هل يستويان فيما يرجع إلى الوصفية، وقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ تقرير لما قبله من نفي الاستواء بطريق الاعتراض وتنبيه للموحدين على أن ما لهم من المزية بتوفيق الله تعالى وأنها نعمة جليلة تقتضي الدوام على حمده تعالى وعبادته أو على أن بيانه تعالى بضرب المثل أن لهم المثل الأعلى وللمشركين مثل السوء صنع جميل ولطف تام منه عزّ وجلّ مستوجب لحمده تعالى وعبادته، وقوله تعالى: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ إضراب وانتقال من بيان عدم الاستواء على الوجه المذكور إلى بيان أن أكثر الناس وهم المشركون لا يعلمون ذلك مع كمال ظهوره أو ليسوا من ذوي العلم فلا يعلمون ذلك فيبقون في ورطة الشرك والضلال، وقيل المراد أنهم لا يعلمون أن الكل منه تعالى وأن المحامد إنما هي له عزّ وجلّ فيشركون به غيره سبحانه فالكلام من تتمة الْحَمْدُ لِلَّهِ ولا اعتراض، ولا يخفى أن بناء الكلام على الاعتراض كما سمعت أولى، وقوله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ تمهيد لما يعقبه من الاختصام يوم القيامة. وفي البحر أنه لما لم يلتفتوا إلى الحق ولم ينتفعوا بضرب المثل أخبر سبحانه بأن مصير الجميع بالموت إلى الله تعالى وأنهم يختصمون يوم القيامة بين يديه وهو عزّ وجلّ الحكم العدل فيتميز هناك المحق والمبطل. وقال بعض الأجلة: إنه لما ذكرت من أول السورة إلى هنا البراهين القاطعة لعرق الشركة المسجلة لفرط جهل المشركين وعدم رجوعهم مع جهده صلى الله عليه وسلم في ردهم إلى الحق وحرصه على هدايتهم اتجه السؤال منه عليه الصلاة والسلام بعد ما قاساه منهم بأن يقول ما حالي وحالهم؟ فأجيب بأنك ميت وأنهم ميتون الآية. وقرأ ابن الزبير وابن أبي إسحاق وابن محيصن وعيسى واليماني وابن أبي غوث وابن أبي عبلة «إنك مائت وإنهم مائتون» والفرق بين ميت ومائت أن الأول صفة مشبهة وهي تدل على الثبوت ففيها إشعار بأن حياتهم عين الموت وأن الموت طوق في العنق لازم والثاني اسم فاعل وهو يدل على الحدوث فلا يفيد هنا مع القرينة أكثر من أنهم سيحدث لهم الموت، وضمير الخطاب على ما سمعت للرسول صلى الله عليه وسلم قال أبو حيان: ويدخل معه عليه الصلاة والسلام مؤمنو أمته، وضمير الجمع الغائب للكفار وتأكيد الجملة في إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ للإشعار بأنهم في غفلة عظيمة كأنهم ينكرون الموت وتأكيد الأولى دفعا لاستبعاد موته عليه الصلاة والسلام، وقيل للمشاكلة، وقيل إن الموت مما تكرهه النفوس وتكره سماع خبره طبعا فكان مظنة أن لا يلتفت إلى الإخبار به أو أن ينكر وقوعه ولو مكابرة فأكد الحكم بوقوعه لذلك ولا يضر في ذلك عدم الكراهة في بعض لخصوصية فيه كسيد العالمين صلى الله عليه وسلم ثُمَّ إِنَّكُمْ على تغليب المخاطب على الغيب. يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أي مالك أموركم تَخْتَصِمُونَ فتحتج أنت عليهم بأنك بلغتهم ما أرسلت به من الأحكام والمواعظ التي من جملتها ما في تضاعيف هذه الآيات واجتهدت في دعوتهم إلى الحق حق الاجتهاد وهم قد لجوا في المكابرة والعناد ويعتذرون بالأباطيل مثل أَطَعْنا سادَتَنا [الأحزاب: 67] ووَجَدْنا آباءَنا [الأنبياء: 53، الشعراء: 74] وغَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا [المؤمنون: 106] والجمع بين يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ لزيادة التهويل ببيان أن اختصامهم ذلك في يوم عظيم عند مالك لأمورهم نافذ حكمه فيهم ولو اكتفى بالأول لاحتمل وقوع الاختصام فيما بينهم بدون مرافعة وبمرافعة لكن ليست لدى مالك لأمورهم، والاكتفاء بالثاني على تسليم فهم كون ذلك يوم القيامة معه بدون احتمال لا يقوم مقام ذكرهما لما في التصريح بما هو كالعلم من التهويل ما فيه، وقال جمع: المراد بذلك الاختصام العام فيما جرى في الدنيا بين الأنام لا خصوص الاختصام بينه عليه الصلاة والسلام وبين الكفرة الطغام، وفي الآثار ما يأبى الخصوص المذكور. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 252 أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن عساكر عن إبراهيم النخعي قال: نزلت هذه الآية إِنَّكَ مَيِّتٌ إلخ فقالوا: وما خصومتنا ونحن إخوان فلما قتل عثمان بن عفان قالوا هذه خصومة ما بيننا وأخرج سعيد بن منصور عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ كنا نقول: ربنا واحد وديننا واحد فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا: نعم هو هذا. وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن أبي حاتم والطبراني وابن مروديه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: لقد لبثنا برهة من دهرنا ونحن نرى أن هذه الآية نزلت فينا وفي أهل الكتابين من قبل إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون قلنا: كيف نختصم ونبينا واحد وكتابنا واحد حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف فعرفت أنها نزلت فينا، وفي رواية أخرى عنه بلفظ نزلت علينا الآية ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ وما ندري فيم نزلت قلنا: ليس بيننا خصومة فما التخاصم حتى وقعت الفتنة فقلت: هذا الذي وعدنا ربنا أن نختصم فيه. وأخرج أحمد وعبد الرزاق وعبد بن حميد والترمذي وصححه. وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في البعث والنشور عن الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه قال: لما نزلت إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ قلت: يا رسول الله أينكر علينا ما يكون بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب قال: نعم ينكر ذلك عليكم حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه قال الزبير: فو الله إن الأمر لشديد. وزعم الزمخشري أن الوجه الذي يدل عليه كلام الله تعالى هو ما ذكر أولا واستشهد بقوله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ إلخ وبقوله سبحانه: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ إلخ لدلالتهما على أنهما اللذان تكون الخصومة بينهما، وكذلك ما سبق من قوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا إلخ. وتعقب ذلك في الكشف فقال: أقول قد نقل عن جلة الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم ما يدل على أنهم فهموا الوجه الثاني أي العموم بل ظاهر قول النخعي قالت الصحابة: ما خصومتنا ونحن إخوان يدل على أنه قول الكل فالوجه إيثار ذلك. وتحقيقه أن قوله تعالى: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ كلام مع الأمة كلهم موحدهم ومشركهم وكذلك قوله تعالى ضرب الله مثلا رجلا ورجلا بل أكثرهم دون بل هم كالنص على ذلك فإذا قيل: إنك ميت وجب أن يكون على نحو يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ [الطلاق: 1] أي إنكم أيها النبي والمؤمنون وأبهم ليعم القبيلين ولا يتنافر النظم فقد روعي من مفتتح السورة إلى هذا المقام التقابل بين الفريقين لا بينه عليه الصلاة والسلام وحده وبين الكفار ثم إذا قيل: ثُمَّ إِنَّكُمْ على التغليب يكون تغليبا للمخاطبين على جميع الناس فهذا من حيث اللفظ والمساق الظاهر ثم إذا كان الموت أمرا عمه والناس جميعا كان المعنى عليه أيضا، وأما حديث الاختصام والطباق الذي ذكره فليس بشيء لأنه لعمومه يشمله شمولا أوليا كما حقق هذا المعنى مرارا. والتعقيب بقوله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ التنبيه على أنه مصب الغرض وأن المقصود التسلق إلى تلك الخصومة، ولا أنكر أن قوله تعالى: عِنْدَ رَبِّكُمْ يدل على أن الاختصام يوم القيامة ولكن أنكر أن يختص باختصام النبي صلى الله عليه وسلم وحده والمشركين بل يتناوله أولا وكذلك اختصام المؤمنين والمشركين واختصام المؤمنين بعضهم مع بعض كاختصام عثمان رضي الله تعالى عنه يوم القيامة وقاتليه، وهذا ما ذهب إليه هؤلاء وهم هم رضي الله تعالى عنهم انتهى، وكأنه عنى بقوله ولا أنكر إلخ رد ما يقال إن عِنْدَ رَبِّكُمْ يدل على أن الاختصام يوم القيامة، وقد صرح في النظم الجليل بذلك فيكون تأكيدا مشعرا بالاهتمام بأمر ذلك الاختصام فليس هو إلا اختصام حبيبه صلى الله عليه وسلم مع أعدائه الطغام، ووجه الرد أنه ان سلم أن فائدة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 253 الجمع ما ذكر فلا نسلم استدعاء ذلك لاعتبار الخصوص بل يكفي للاهتمام دخول اختصام الحبيب مع أعدائه عليه الصلاة والسلام فتأمله، ثم أنت تعلم أنه لو لم يكن في هذا المقام سوى الحديث الصحيح المرفوع لكفى في كون المراد عموم الاختصام فالحق القول بعمومه وهو أنواع شتى، فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال في الآية: يخاصم الصادق الكاذب والمظلوم الظالم والمهتدي الضال والضعيف المستكبر، وأخرج الطبراني وابن مردويه بسند لا بأس به عن أبي أيوب رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أول من يختصم يوم القيامة الرجل وامرأته والله ما يتكلم لسانها ولكن يداها ورجلاها يشهدان عليها بما كان لزوجها وتشهد يداه ورجلاه بما كان لها ثم يدعي الرجل وخادمه بمثل ذلك ثم يدعي أهل الأسواق وما يوجد ثم دانق ولا قراريط ولكن حسنات هذا تدفع إلى هذا الذي ظلمه وسيئات هذا الذي ظلمه توضع عليه ثم يؤتى بالجبارين في مقامع من حديد فيقال أوردوهم إلى النار فو الله ما أدري يدخلونها أو كما قال الله وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها وأخرج البزار عن أنس قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاء بالأمير الجائر فتخاصمه الرعية» وأخرج أحمد والطبراني بسند حسن عن عقبة بن عامر قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أوّل خصمين يوم القيامة جاران» ولعل الأولية إضافية لحديث أبي أيوب السابق. وجاء عن ابن عباس اختصام الروح مع الجسد أيضا بل أخرج أحمد بسند حسن عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليختصمن يوم القيامة كل شيء حتى الشاتان فيما انتطحا» . «تم الجزء الثالث والعشرون ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الرابع والعشرون وأوله فَمَنْ أَظْلَمُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 254 الجزء الرابع والعشرون الجزء: 12 ¦ الصفحة: 255 فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ بأن أضاف إليه سبحانه وتعالى الشريك أو الولد وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ أي بالأمر الذي هو عين الحق ونفس الصدق وهو ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم إِذْ جاءَهُ أي في أول مجيئه من غير تدبر فيه ولا تأمل- فإذا- فجائية كما صرح به الزمخشري لكن اشترط فيها في المغني أن تقع بعد بينا أو بينما ونقله عن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 257 سيبوبه فلعله أغلبي، وقد يقال: هذا المعنى يقتضيه السياق من غير توقف على كون إذ فجائية، ثم المراد أن هذا الكاذب المكذب أظلم من كل ظالم أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ أي لهؤلاء الذين افتروا على الله سبحانه وتعالى وسارعوا إلى التكذيب بالصدق، ووضع الظاهر موضع الضمير للتسجيل عليهم بالكفر، والجمع باعتبار معنى (من) كما أن الإفراد في الضمائر السابقة باعتبار لفظها أو لجنس الكفرة فيشمل أهل الكتاب ويدخل هؤلاء في الحكم دخولا أوليا، وأيا ما كان فالمعنى على كفاية جهنم مجازاة لهم كأنه قيل: أليست جهنم كافية للكافرين مثوى كقوله تعالى: حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها [المجادلة: 8] أي هي تكفي عقوبة لكفرهم وتكذيبهم، والكفاية مفهومة من السياق كما تقول لمن سألك شيئا: ألم أنعم عليك تريد كفاك سابق إنعامي عليك، واستدل بالآية على تكفير أهل البدع لأنهم مكذبون بما علم صدقه. وتعقب بأن «من كذب» مخصوص بمن كذب الأنبياء شفاها في وقت تبليغهم لا مطلقا لقوله تعالى: إِذْ جاءَهُ ولو سلم إطلاقه فهم لكونهم يتأولون ليسوا مكذبين وما نفوه وكذبوه ليس معلوما صدقه بالضرورة إذ لو علم من الدين ضرورة كان جاحده كافرا كمنكر فرضية الصلاة ونحوها. وقال الخفاجي: الأظهر أن المراد تكذيب الأنبياء عليهم السلام بعد ظهور المعجزات في أن ما جاؤوا به من عند تعالى لا مطلق التكذيب، وكأني بك تختار أن المتأول غير مكذب لكن لا عذر في تأويل ينفي ما علم من الدين ضرورة وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ الموصول عبارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس، وفسر الصدق بلا إله إلا الله، والمؤمنون داخلون بدلالة السياق وحكم التبعية دخول الجند في قولك: نزل الأمير موضع كذا، وليس هذا من الجمع بين الحقيقة والمجاز في شيء لأن الثاني لم يقصد من حاق اللفظ، ولا يضر في ذلك أن المجيء بالصدق ليس وصفا للمؤمنين الأتباع كما لا يخفى، والموصول على هذا مفرد لفظا ومعنى، والجمع في قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ باعتبار دخول الأتباع تبعا، ومراتب التقوى متفاوتة ولرسول الله صلى الله عليه وسلم أعلاها، وجوز أن يكون الموصول صفة لمحذوف أي الفوج الذي أو الفريق الذي إلخ فيكون مفرد اللفظ مجموع المعنى فقيل: الكلام حينئذ على التوزيع لأن المجيء بالصدق على الحقيقة له عليه الصلاة والسلام والتصديق بما جاء به وأن عمه وأتباعه صلى الله عليه وسلم لكنه فيهم أظهر فليحمل عليه للتقابل، وفي الكشف الأوجه أن لا يحمل على التوزيع غاية ما في الباب أن أحد الوصفين في أحد الموصوفين أظهر، وعليه يحمل كلام الزمخشري الموهم للتوزيع، وحمل بعضهم الموصول على الجنس فإن تعريفه كتعريف ذي اللام يكون للجنس والعهد، والمراد حينئذ به الرسل والمؤمنون. وأيد إرادة ما ذكر بقراءة ابن مسعود والذين جاؤا بالصدق وصدقوا به وزعم بعضهم أنه أريد والذين فخذفت النون كما في قوله: إن الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كل القوم يا أم مالك وتعقبه أبو حيان بأنه ليس بصحيح لوجوب جمع الضمير في الصلة حينئذ كما في البيت ألا ترى أنه إذا حذفت النون من اللذان كان الضمير مثنى كقوله: ابني كليب إنّ عميّ اللذا ... قتلا الملوك وفككا الاغلالا وقال علية وأبو العالية والكلبي. وجماعة الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ هو الرسول صلى الله عليه وسلم والذي صدق به هو أبو بكر رضي الله تعالى عنه. وأخرج ذلك ابن جرير والباوردي في معرفة الصحابة وابن عساكر من طريق أسيد بن صفوان وله الجزء: 12 ¦ الصفحة: 258 صحبة عن علي كرم الله تعالى وجهه، وقال أبو الأسود ومجاهد في رواية وجماعة من أهل البيت وغيرهم: الذي صدق به هو علي كرم الله تعالى وجهه وأخرجه ابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي أنه قال: الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ جبريل عليه السلام وَصَدَّقَ بِهِ هو النبي صلى الله عليه وسلم، قيل: وعلى الأقوال الثلاثة يقتضي إضمار الذي وهو غير جائز على الأصح عند النحاة من أنه لا يجوز حذف الموصول وإبقاء صلته مطلقا أي سواء عطف على موصول آخر أم لا. ويضعفه أيضا الإخبار عنه بالجمع. وأجيب بأنه لا ضرورة إلى الإضمار ويراد بالذي الرسول صلى الله عليه وسلم والصديق أو علي كرم الله تعالى وجههما معا على أن الصلة للتوزيع، أو يراد بالذي جبريل عليه السلام والرسول صلى الله عليه وسلم معا كذلك، وضمير الجمع قد يرجع إلى الاثنين وقد أريدا بالذي، ولا يخفى ما ذلك من التكلف والله تعالى أعلم بحال الإخبار، ولعل ذكر أبي بكر مثلا على تقدير الصحة من باب الاقتصار على بعض أفراد العام لنكتة وهي في أبي بكر رضي الله تعالى عنه كونه أول من آمن وصدق من الرجال، وفي علي كرم الله تعالى وجهه كونه أول من آمن وصدق من الصبيان، ويقال نحو ذلك على تقدير صحة خبر السدي ولا يكاد يصح لقوله تعالى: فيما بعد لِيُكَفِّرَ إلخ، وبما ذكر يجمع بين الأخبار إن صحت ولا يعتبر في شيء منها الحصر فتدبر. وقرأ أبو صالح وعكرمة بن سليمان «وصدق به» مخففا أي وصدق به الناس ولم يكذبهم به يعني. أداه إليهم كما نزل عليه من غير تحريف فالمفعول محذوف لأن الكلام في القائم به الصادق وفي الحديث الصدق، والكلام على العموم دون خصوصه عليه الصلاة والسلام فإن جملة القرآن حفظه الصحابة عنه عليه الصلاة والسلام وأدوه كما أنزل، وقيل: المعنى وصار صادقا به أي بسببه لأن القرآن معجز والمعجز يدل على صدق النبي عليه الصلاة والسلام، وعلى هذا فالوصف خاص، وقد تجوز في ذلك باستعمال (صدق) بمعنى صار صادقا به ولا كناية فيه كما قيل، وقال أو صالح: أي وعمل به وهو كما ترى. وقرىء «وصدّق به» مبنيا للمفعول مشددا لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ بيان لما لأولئك الموصوفين بالمجيء بالصدق. والتصديق به في الآخرة من حسن المآب بعد بيان ما لهم في الدنيا من حسن الأعمال أي لهم كل ما يشاؤونه من جلب المنافع ودفع المضار في الآخرة لا في الجنة فقط لما أن بعض ما يشاؤونه من تكفير السيئات والأمن من الفزع الأكبر وسائر أهوال القيامة إنما يقع قبل دخول الجنة ذلِكَ الذي ذكر من حصول كل ما يشاؤونه جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ أي الذين أحسنوا أعمالهم، والمراد بهم أولئك المحدث عنهم لكن أقيم الظاهر مقام الضمير تنبيها على العلة لحصول الجزاء، وقيل: المراد ما يعمهم وغيرهم ويدخلون دخولا أوليا، وقوله تعالى: لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا إلخ متعلق بمحذوف أي ليكفر الله عنهم ويجزيهم خصهم سبحانه بما خص أو بما قبله باعتبار فحواه على ما قيل أي وعدهم الله جميع ما يشاؤونه من زوال المضار وحصول المسار ليكفر عنهم بموجب ذلك الوعد أسوأ الذي عملوا إلخ، وليس ببعيد معنى عن الأول، وجوز أن يكون متعلقا بقوله سبحانه: وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ أي بما يدل عليه من الثبوت أو بالمحسنين كما قال أبو حيان فكأنه قيل: وذلك جزاء الذين أحسنوا أعمالهم ليكفر الله تعالى عنهم أسوأ الذي عملوه وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ ويعطيهم ثوابهم بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ وتقديم التكفير على إعطاء الثواب لأن درء المضار أهم من جلب المسار. وأقيم الاسم الجليل مقام الضمير الراجع إلى رَبِّهِمْ لإبراز كمال الاعتناء بمضمون الكلام، وإضافة أَسْوَأَ و (أحسن) إلى ما بعدهما من إضافة افعل التفضيل إلى غير المفضل عليه للبيان والتوضيح كما في الأشج أعدل بني مروان ويوسف أحسن أخوته، والتفضيل على ما قال الزمخشري للدلالة على أن الزلة المكفرة عندهم هي الأسوأ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 259 لاستعظامهم المعصية مطلقا لشدة خوفهم، والحسن الذي يعملونه عند الله تعالى هو الأحسن لحسن إخلاصهم فيه. وذلك على ما قرر في الكشف لأن التفضيل هنا من باب الزيادة المطلقة من غير نظر إلى مفضل عليه نظرا إلى وصوله إلى أقصى الغاية الكمالية، ثم لما كانوا متقين كاملي التقى لم يكن في عملهم أسوأ إلا فرضا وتقديرا. وقوله سبحانه: بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ دون أحسن الذي كانوا يعملون يدل على أن حسنهم عند الله تعالى من الأحسن لدلالته على أن جميع أجرهم يجري على ذلك الوجه فلو لم يعملوا إلا الأحسن كان التفضيل بحسب الأمر نفسه ولو كان في العمل الأحسن والحسن وكان الجزاء بالأحسن بأن ينظر إلى أحسن الأعمال فيجري الباقي في الجزاء على قياسه دل أن الحسن عند المجازي كالأحسن، فصح على التقديرين أن حسنهم عند الله تعالى هو الأحسن، ويعلم من هذا أن لا اعتزال فيما ذكره الزمخشري كما توهمه أبو حيان، وأما قوله في الاعتراض عليه: إنه قد استعمل أَسْوَأَ في التفضيل على معتقدهم و (أحسن) في التفضيل على ما هو عند الله عزّ وجلّ وذلك توزيع في أفعل التفضيل وهو خلاف الظاهر. فقد يسلم إذا لم يكن في الكلام ما يؤذن بالمغايرة فحيث كان فيه هاهنا ذلك على ما قرر لا يسلم أن التوزيع خلاف الظاهر، وقيل: إن أَسْوَأَ على ما هو الشائع في أفعل التفضيل، وليس المراد أن لهم عملا سيئا وعملا أسوأ والمكفر هو الأسوأ فإنهم المتقون الذين وإن كانت لهم سيئات لا تكون سيئاتهم من الكبائر العظيمة، ولا يناسب التعرض لها في مقام مدحهم بل الكلام كناية عن تكفير جميع سيئاتهم بطريق برهاني، فإن الأسوأ إذا كفر كان غيره أولى بالتكفير لا أن ذلك صدر منهم، ولا نسلم وجوب تحقق المعنى الحقيقي في الكناية وهو كما ترى، وقال غير واحد: أفعل على ما هو الشائع والأسوأ الكفر السابق على التقوى والإحسان، والمراد تكفير جميع ما سلف منهم قبل الإيمان من المعاصي بطريق برهاني. وعلى هذا لا يتسنى تفسير وَصَدَّقَ بِهِ بعلي كرم الله تعالى وجهه إذ لم يسبق له كفر أصلي ولا يكاد يعبر عن الكفر التبعي بأسوأ العمل، وقيل: افعل ليس للتفضيل أصلا فأسوأ بمعنى السيّء صغيرا كان أو كبيرا كما هو وجه أيضا في الأشج أعدل بني مروان، وأيد بقراءة ابن مقسم وحامد بن يحيى عن ابن كثير رواية عن البزي عنه «أسواء» بوزن أفعال جمع سوء وأحسن عند أكثر أهل هذه الأقوال على بابه على معنى أنه تعالى ينظر إلى أحسن طاعاتهم فيجزي سبحانه الباقي في الجزاء على قياسه لطفا وكرما، وزعم الطبرسي أن الأحسن الواجب والمندوب والحسن المباح والجزاء إنما هو على الأولين دون المباح، وقيل: المراد يجزيهم بأحسن من عملهم وهو الجنة، وفيه ما فيه، والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل في صلة الموصول الثاني دون الأول للإيذان باستمرارهم على الأعمال الصالحة بخلاف السيئة. أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ إنكار ونفي لعدم كفايته تعالى على أبلغ وجه كأن الكفاية من التحقق والظهور بحيث لا يقدر أحد على أن يتفوه بعدمها أو يتلعثم في الجواب بوجودها، والمراد- بعبده- إما رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما روي عن السدي وأيد بقوله تعالى: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أي الأوثان التي اتخذوها آلهة فإن الخطاب سواء كانت الجملة استئنافا أو حالا له صلى الله عليه وسلم: وقد روي أن قريشا قالت له عليه الصلاة والسلام: إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا وتصيبك معرتها لعيبك إياها فنزلت، وفي رواية قالوا: لتكفن عن شتم آلهتنا أو ليصيبنك منها خبل فنزلت، أو الجنس المنتظم له عليه الصلاة والسلام انتظاما أوليا، وأيد بقراءة أبي جعفر ومجاهد وابن وثاب وطلحة والأعمش وحمزة والكسائي «عباده» بالجمع وفسر بالأنبياء عليهم السلام والمؤمنين، وعلى الأول يراد أيضا الاتباع كما سمعت في قوله تعالى: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ، وَيُخَوِّفُونَكَ شامل لهم أيضا على ما سلف والتئام الكلام بقوله الجزء: 12 ¦ الصفحة: 260 تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ إلى هذا المقام لدلالته على أنه تعالى يكفي نبيه صلّى الله عليه وسلم مهم دينه ودنياه ويكفي أتباعه المؤمنين أيضا المهمين وفيه أنه سبحانه يكفيهم شر الكافرين من وجهين من طريق المقابلة ومن أنه داخل في كفاية مهمي الرسول عليه الصلاة والسلام واتباعه، وهذا ما تقتضيه البلاغة القرآنية ويلائم ما بني عليه السورة الكريمة من ذكر الفريقين وأحوالهما توكيدا لما أمر به أولا من العبادة والإخلاص وقرىء «بكافي عباده» بالإضافة و «يكافي عباده» مضارع كافي ونصب «عباده» فاحتمل أن يكون مفاعلة من الكفاية كقولك: يجاري في يجري وهو أبلغ من كفى لبنائه على لفظ المبالغة وهو الظاهر لكثرة تردد هذا المعنى في القرآن نحو فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [البقرة: 137] ويحتمل أن يكون مهموزا من المكافأة وهي المجازاة، ووجه الارتباط أنه تعالى لما ذكر حال من كذب على الله وكذب بالصدق وجزاءه وحال مقابله أعني الذي جاء بالصدق وصدق به وجزاءه وعرض بقوله سبحانه: ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ بأن ما سلف جزاء الكافرين المسيئين لما هو معروف من فائدة البناء على اسم الإشارة ثم عقبه تعالى بقوله عزّ وجلّ: لِيُكَفِّرَ إلخ على معنى ليكفر عنهم ويجزيهم خصهم بما خص فنبه على المقابل أيضا من ضرورة الاختصاص والتعليل، وفيه أيضا ما يدل على حكم المقابل على اعتبار المتعلق غير ما ذكر كما يظهر بأدنى التفات أردف بقوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وحيث إن مطمح النظر من العباد السيد الحبيب صلّى الله عليه وسلم كان المعنى الله تعالى يجازي عبده ونبيه عليه الصلاة والسلام هذا الجزاء المذكور وفيه أنه الذي يجزيه البتة ويلائمه قوله تعالى: وَيُخَوِّفُونَكَ فإنه لما كان في مقابلة ذم آلهتهم كما سمعت في سبب النزول كان تحذيرا من جزاء الآلهة فلا مغمز بعدم الملاءمة. نعم لا ننكر أن معنى الكفاية أبلغ كما هو مقتضى القراءة المشهورة فاعلم ذاك والله تعالى يتولى هداك. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ حتى غفل عن كفايته تعالى عبده وخوف بما لا ينفع ولا يضر أصلا فَما لَهُ مِنْ هادٍ يهديه إلى خير ما وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فيجعل كونه تعالى كافيا نصب عينه عاملا بمقتضاه فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ يصرفه عن مقصده أو يصيبه بسوء يخل بسلوكه إذ لا راد لفعله ولا معارض لإرادته عزّ وجلّ كما ينطق به قوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ غالب لا يغالب منيع لا يمانع ولا ينازع ذِي انْتِقامٍ ينتقم من أعدائه لأوليائه، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتحقيق مضمون الكلام وتربية المهابة. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لظهور الدليل ووضوح السبيل فقد تقرر في العقول وجوب انتهاء الممكنات إلى واجب الوجود، والاسم الجليل فاعل لفعل محذوف أي خلقهن الله قُلْ تبكيتا لهم أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أي إذا كان خالق العالم العلوي والسفلي هو الله عزّ وجلّ كما أقررتم فأخبروني أن آلهتكم إن أرادني الله سبحانه بضر هل هن يكشفن عني ذلك الضر، فالفاء واقعة في جواب شرط مقدر وقال بعضهم: التقدير إذا لم يكن خالق سواه تعالى فهل يمكن غيره كشف ما أراد من الضر، وجوز أن تكون عاطفة على مقدر أي أتفكرتم بعد ما أقررتم فرأيتم ما تدعون إلخ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ أي أو إن أرادني بنفع هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ فيمنعها سبحانه عني. وقرأ الأعرج وشيبة وعمرو بن عبيد وعيسى بخلاف عنه. وأبو عمرو وأبو بكر «كاشفات» و «ممسكات» بالتنوين فيهما ونصب ما بعدهما وتعليق إرادة الضر والرحمة بنفسه النفيسة عليه الصلاة والسلام للرد في نحورهم حيث كانوا خوفوه معرة الأوثان ولما فيه من الإيذان بإمحاض النصيحة، وقدم الضر لأن دفعه أهم، وقيل: «كاشفات» و «ممسكات» على ما يصفونها به من الأنوثة تنبيها على كمال ضعفها قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ كافي جل شأنه في جميع أموري من إصابة الخير ودفع الشر. روي عن مقاتل أنه صلّى الله عليه وسلم لما سألهم سكتوا فنزل ذلك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 261 عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ لا على غيره في كل شيء الْمُتَوَكِّلُونَ لعلمهم أن كل ما سواه تحت ملكوته تعالى. قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ على حالتكم التي أنتم عليها من العداوة التي تمكنتهم فيها فإن المكانة نقلت من المكان المحسوس إلى الحالة التي عليها الشخص واستعيرت لها استعارة محسوس لمعقول، وهذا كما ستعار حيث وهنا للزمان بجامع الشمول والإحاطة، وجوز أن يكون المعنى اعملوا على حسب تمكنكم واستطاعتكم. وروي عن عاصم «مكاناتكم» بالجمع والأمر للتهديد، وقوله تعالى: إِنِّي عامِلٌ وعيد لهم وإطلاقه لزيادة الوعيد لأنه لو قيل: على مكانتي لتراءى أنه عليه الصلاة والسلام على حالة واحدة لا تتغير ولا تزداد فلما أطلق أشعر بأن له صلّى الله عليه وسلم كل زمان مكانة أخرى وأنه لا يزال يزداد قوة بنصر الله تعالى وتأييده ويؤيد ذلك قوله تعالى: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ فإنه دال على أنه صلّى الله عليه وسلم منصور عليهم في الدنيا والآخرة بدليل قوله تعالى: مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ فإن الأول إشارة إلى العذاب الدنيوي وقد نالهم يوم بدر والثاني إشارة إلى العذاب الأخروي فإن العذاب المقيم عذاب النار فلو قيل إني عامل على مكانتي وكان إذ ذاك غير غالب بل الأمر بالعكس لم يلائم المقصود، ومَنْ تحتمل الاستفهامية والموصولية وجملة يُخْزِيهِ صفة عَذابٌ والمراد بمقيم دائم وفي الكلام مجاز في الظرف أو الإسناد وأصله مقيم فيه صاحبه إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ لأجلهم فإنه مناط مصالحهم في المعاش والمعاد بِالْحَقِّ حال من مفعول أَنْزَلْنا أو من فاعله أي أنزلنا الكتاب ملتبسا أو ملتبسين بالحق فَمَنِ اهْتَدى بأن عمل بما فيه فَلِنَفْسِهِ إذ نفع به نفسه وَمَنْ ضَلَّ بأن لم يعمل بموجبه فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها لما أن وبال ضلاله مقصور عليها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ لتجبرهم على الهدى وما وظيفتك إلا البلاغ وقد بلغت أي بلاغ. اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ أي يقبضها عن الأبدان بأن يقطع تعلقها تعلق التصرف فيها عنها حِينَ مَوْتِها أي في وقت موتها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ أي ويتوفى الأنفس التي لم تمت فِي مَنامِها متعلق- بيتوفى- أي يتوفاها في وقت نومها على أن مناما اسم زمان، وجوز فيه كونه مصدرا ميميا بأن يقطع سبحانه تعلقها بالأبدان تعلق التصرف فيها عنها أيضا فتوفي الأنفس حين الموت وتوفيها في وقت النوم بمعنى قبضها عن الأبدان وقطع تعلقها بها تعلق التصرف إلا أن توفيها حين الموت قطع لتعلقها بها تعلق التصرف ظاهرا أو باطنا وتوفيها في وقت النوم قطع لذلك ظاهرا فقط، وكأن التوفي الذي يكون عند الموت لكونه شيئا واحدا في أول زمان الموت وبعد مضي أيام منه قيل: حِينَ مَوْتِها والتوفي الذي يكون في وقت النوم لكونه يتفاوت في أول وقت النوم وبعد مضي زمان منه قوة وضعفا قيل: فِي مَنامِها أي في وقت نومها كذا قيل فتدبره ولمسلك الذهن السليم اتساع، وإسناد الموت والنوم إلى الأنفس قيل: مجاز عقلي لأنهما حالا أبدانها لا حالاها، وزعم الطبرسي أن الكلام على حذف مضاف أعني الأبدان، وجعل الزمخشري الأنفس عبارة عن الجملة دون ما يقابل الأبدان، وحمل توفيها على إماتتها وسلب صحة أجزائها بالكلية فلا تبقى حية حساسة دراكة حتى كأن ذاتها قد سلبت، وحيث لم يتحقق هذا المعنى في التوفي حين النوم لأنه ليس إلا سلب كمال الصحة وما يترتب عليه من الحركات الاختيارية وغيرها قال في قوله تعالى: وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها أي يتوفاها حين تنام تشبيها للنائمين بالموتى، ومنه قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الأنعام: 60] حيث لا تميزون ولا تتصرفون كما أن الموتى كذلك، وما يتخايل فيه من الجمع بين الحقيقة والمجاز يدفع بالتأمل وتقديم الاسم الجليل وبناء يَتَوَفَّى عليه للحصر أو للتقوى أو لهما، واعتبار الحصر أوفق بالمقام من اعتبار التقوى وحده أي الله يتوفى الأنفس حقيقة لا غيره عزّ وجلّ فَيُمْسِكُ الَّتِي أي الأنفس التي قَضى في الأزل عَلَيْهَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 262 الْمَوْتَ ولا يردها إلى أبدانها بل يبقيها على ما كانت عليه وينضم إلى ذلك قطع تعلق التصرف باطنا، وعبر عن ذلك بالإمساك ليناسب التوفي. وقرأ حمزة والكسائي وعيسى وطلحة والأعمش وابن وثاب «قضي» على البناء للمفعول ورفع «الموت» وَيُرْسِلُ الْأُخْرى أي الأنفس الأخرى وهي النائمة إلى أبدانها فتكون كما كانت حال اليقظة متعلقة بها تعلق التصرف ظاهرا وباطنا، وعبر بالإرسال رعاية للتقابل إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو الوقت المضروب للموت حقيقة وهو غاية لجنس الإرسال الواقع بعد الإمساك لا لفرد منه فإنه آني لا امتداد له فلا يغيا، واعتبر بعضهم كون الغاية للجنس لئلا يرد لزوم أن لا يقع نوم بعد اليقظة الأولى أصلا وهو حسن، وقيل: يُرْسِلُ مضمن معنى الحفظ والمراد يرسل الأخرى حافظا إياها عن الموت الحقيقي إلى أجل مسمى، وروي عن ابن عباس أن في ابن آدم نفسا وروحا بينهما مثل شعاع الشمس فالنفس هي التي بها العقل والتمييز والروح هي التي بها النفس والتحرك فيتوفيان عند الموت وتتوفى النفس وحدها عند النوم، وهو قول بالفرق بين النفس والروح، ونسبه بعضهم إلى الأكثرين ويعبر عن النفس بالنفس الناطقة وبالروح الأمرية وبالروح الإلهية، وعن الروح بالروح الحيوانية وكذا بالنفس الحيوانية، والثانية كالعرش للأولى، قال بعض الحكماء المتألهين إن القلب الصنوبري فيه بخار لطيف هو عرش للروح الحيوانية وحافظ لها وآلة يتوقف عليها آثارها، والروح الحيوانية عرش ومرآة للروح الإلهية التي هي النفس الناطقة وواسطة بينها وبين البدن بها يصل حكم تدبير النفس إليه، وإلى عدم التغاير ذهب جماعة، وهو قول ابن جبير واحد قولين لابن عباس، وما روي عنه أولا في الآية يوافق ما ذكرناه من حيث إنّ النفس عليه ليست بمعنى الجملة كما قال الزمخشري وادعى أن الصحيح ما ذكره دون هذا المروي بدليل موتها ومنامها، والضمير للأنفس وما أريد منها غير متصف بالموت والنوم وإنما الجملة هي التي تتصف بهما. وقال في الكشف ولأن الفرق بين النفسين رأي يدفعه البرهان، وإيقاع الاستيفاء أيضا لا بد له من تأويل أيضا فلا ينبغي أن يعدل عن المشهور الملائم يعني حمل التوفي على الأمانة فإن أصله أخذ الشيء من المستوفى منه وافيا كملا وسلبه منه بالكلية ثم نقل عن ذلك إلى الإماتة لما أنه موجود فيها حتى صارت المتبادرة إلى الفهم منه، وفيه دغدغة، والذي يشهد له كثير من الآثار الصحيحة أن المتوفى في الأنفس التي تقابل الأبدان دون الجملة. أخرج الشيخان في صحيحيهما عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفضه بداخلة إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه ثم ليقل اللهم باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه إن أمسكت نفسي فإرحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به الصالحين من عبادك» وأخرج أحمد البخاري وأبو داود والنسائي وابن أبي شيبة عن أبي قتادة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لهم ليلة الوادي: «إن الله تعالى قبض أرواحكم حين شاء وردها عليكم حين شاء» وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: «كنت مع النبي صلّى الله عليه وسلم في سفر فقال: من يكلؤنا الليلة؟ فقلت: أنا فنام ونام الناس ونمت فلم نستيقظ إلا بحرّ الشمس فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: أيها الناس إن هذه الأرواح عارية في أجساد العباد فيقبضها الله إذا شاء ويرسلها إذا شاء» . وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن سليم بن عامر أن عمر بن الخطاب قال: العجب من رؤيا الرجل أنه يبيت فيرى الشيء لم يخطر له على بال فتكون رؤياه كأخذ باليد ويرى الرجل الرؤيا فلا تكون رؤياه شيئا فقال علي كرم تعالى وجهه: أفلا أخبرك بذلك يا أمير المؤمنين؟ يقول الله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فالله تعالى يتوفى الأنفس كلها فما الجزء: 12 ¦ الصفحة: 263 رأت وهي عنده سبحانه في السماء. فهي الرؤيا الصادقة وما رأت إذا أرسلت إلى أجسادها فهي الكاذبة لأنها إذا أرسلت إلى أجسادها تلقتها الشياطين في الهواء فكذبتها وأخبرتها بالأباطيل فكذبت فيها فعجب عمر من قوله رضي الله تعالى عنهما وظاهر هذا الأثر أن النفس النائمة المقبوضة تكون في السماء حتى ترسل، ومثل ذلك مما يجب تأويله على القول بتجرد النفس ولا يجب على القول الآخر. نعم لعلك تختاره وكأنك تقول: إن النفس شريفة علوية هبطت من المحل الأرفع وأرسلت من حمى ممنع وشغلت بتدبير منزلها في نهارها وليلها ولم تزل تنتظر فرصة العود إلى ذياك الحمى والمحل الرفيع الأسمى وعند النوم تنتهز تلك الفرصة وتهون عليها في الجملة هاتيك الغصة فيحصل لها نوع توجه إلى عالم النور ومعلم السرور الخالي من الشرور بحيث تستعد استعدادا ما لقبول بعض آثاره والاستضاءة بشيء من أنواره وجعلها كذلك هو قبضها وبه لعمري بسطها وقبضها، فمتى رأت وهي راجعة في تلك الحال مستفيضة من ذلك العالم الموصوف بالكمال رؤيا كانت صادقة ومتى رأت وهي القهقرى إلى ما ابتليت به من تدبير منزل تحوم فيه شياطين الأوهام وتزدحم فيه أي ازدحام كانت رؤياها كاذبة ثم إنها في كلا الحالين متفاوتة الإفراد فيما يكون من الاستعداد، والوقوف على حقيقة الحال لا يتم إلا بالكشف دون القيل والقال إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ الإشارة إلى ما ذكر من التوفي والإمساك والإرسال، والإفراد لتأويله بالمذكور أو نحوه، وصيغة البعيد باعتبار مبدئه أو تقضي ذكره أو بعد منزلته، والتنوين في (آيات) للتكثير والتعظيم أي أن فيما ذكر الآيات كثيرة عظيمة دالة على كمال قدرته تعالى وحكمته وشمول رحمته سبحانه لقوم يتفكرون في كيفية تعلق الأنفس بالأبدان وتوفيها عنها تارة بالكلية عند الموت وإمساكها باقية لا تفنى بفنائها إلى أن يعيد الله تعالى الخلق وما يعتريها من السعادة والشقاوة وأخرى عن ظواهرها فقط كما عند النوم وإرسالها حينا بعد حين إلى انقضاء آجالها. أَمِ اتَّخَذُوا أي بل اتخذ قريش- فأم- منقطعة والاستفهام المقدر لإنكار اتخاذهم مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ تشفع لهم عند الله تعالى في رفع العذاب، وقيل: في أمورهم الدنيوية والأخروية، وجوز كونها متصلة بتقدير معادل كما ذكره ابن الشيخ في حواشي البيضاوي وهو تكلف لا حاجة إليه، ومعنى مِنْ دُونِ اللَّهِ من دون رضاه أو إذنه لأنه سبحانه لا يشفع عنده إلا من إذن له ممن أرضاه ومثل هذه الجمادات الخسيسة ليست مرضية ولا مأذونة ولو لم يلاحظ هذا اقتضى أن الله تعالى شفيع ولا يطلق ذلك عليه سبحانه أو التقدير أم اتخذوا آلهة سواه تعالى لتشفع لهم وهو يؤول لما ذكر قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ أي أيشفعون حال تقدير عدم ملكهم شيئا من الأشياء وعدم عقلهم إياه، وحاصله أيشفعون وهم جمادات لا تقدر ولا تعلم فالهمزة داخلة على محذوف والواو للحال والجملة حال من فاعل الفعل المحذوف. وذهب بعضهم إلى أنها للعطف على شرطية قد حذفت لدلالة لَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ إلخ عليها أي أيشفعون لو كانوا يملكون شيئا ويعقلون ولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون، والمعنى على الحالية أيضا كأنه قيل: أيشفعون على كل حال، وقال بعض المحققين من النحاة: إنها اعتراضية ويعني بالجملة الاعتراضية ما يتوسط بين أجزاء الكلام متعلقا به معنى مستأنفا لفظا على طريق الالتفات كقوله: فأنت طلاق والطلاق ألية وقوله: ترى كل من فيها وحاشاك فانيا وقد تجيء بعد تمام الكلام كقوله صلّى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» وفي احتياج أداة الشرط في مثل هذا التركيب إلى الجواب خلاف وعلى القول بالاحتياج هو محذوف لدلالة ما قبل عليه وتحقيق الأقوال في كتب العربية. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 264 وجوز أن يكون مدخول الهمزة المحذوف هنا الاتخاذ أي قل لهم أتتخذونهم شفعاء ولو كانوا لا يملكون شيئا من الأشياء فضلا عن أن يملكوا الشفاعة عند الله تعالى ولا يعقلون قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لعله كما قال الإمام رد لما يجيبون به وهو أن الشفعاء ليست الأصنام أنفسها بل أشخاص مقربون هي تماثيلهم، والمعنى أنه تعالى مالك الشفاعة كلها لا يستطيع أحد شفاعة ما إلا أن يكون المشفوع مرتضى والشفيع مأذونا له وكلاهما مفقودان هاهنا، وقد يستدل بهذه الآية على وجود الشفاعة في الجملة يوم القيامة لأن الملك أن الاختصاص الذي هو مفاد اللام هنا يقتضي الوجود فالاستدلال بها على نفي الشفاعة مطلقا في غاية الضعف. وقوله تعالى: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ استئناف تعليلي لكون الشفاعة جميعا له عزّ وجلّ كأنه قيل: له ذلك لأنه جل وعلا مالك الملك كله فلا يتصرف أحد بشيء منه بدون إذنه ورضاه فالسماوات والأرض كناية عن كل ما سواه سبحانه، وقوله تعالى: ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ عطف على قوله تعالى: لَهُ مُلْكُ إلخ وكأنه تنصيص على مالكية الآخرة التي فيها معظم نفع الشفاعة وإيماء إلى انقطاع الملك الصوري عما سواه عزّ وجلّ. وجوز أن يكون عطفا على قوله تعالى: لِلَّهِ الشَّفاعَةُ وجعله في البحر تهديدا لهم كأنه قيل: ثم إليه ترجعون فتعلمون أنهم لا يشفعون لكم ويخيب سعيكم في عبادتهم، وتقديم إِلَيْهِ للفاصلة وللدلالة على الحصر إذ المعنى إليه تعالى لا إلى أحد غيره سبحانه لا استقلالا ولا اشتراكا ترجعون وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ أي مفردا بالذكر ولم تذكر معه آلهتهم، وقيل: أي إذا قيل لا إله إلا الله اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي انقبضت ونفرت كما في قوله تعالى: وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً [الإسراء: 76] وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ فرادى أو مع ذكر الله عزّ وجلّ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ لفرط افتتانهم بهم ونسيانهم حق الله تعالى، وقد بولغ في بيان حالهم القبيحة حيث بين الغاية فيهما فإن الاستبشار أن يمتلىء القلب سرورا حتى ينبسط له بشرة الوجه، والاشمئزاز أن يمتلىء غيظا وغما ينقبض عنه أديم الوجه كما يشاهد في وجه العابس المحزون، وإِذا الأولى شرطية محلها النصب على الظرفية وعاملها الجواب عند الأكثرين وهو اشْمَأَزَّتْ أو الفعل الذي يليها وهو ذُكِرَ عند أبي حيان وجماعة، وليست مضافة إلى الجملة التي تليها عندهم، وكذا إِذا الثانية فالعامل فيها إما ذُكِرَ بعدها وإما يَسْتَبْشِرُونَ وإِذا الثالثة فجائية رابطة لجملة الجزاء بجملة الشرط كالفاء، فعلى القول بحرفيتها لا يعمل فيها شيء وعلى القول باسميتها وأنها ظرف زمان أو مكان عاملها هنا خبر المبتدأ بعدها، وقال الزمخشري: عاملها فعل مقدر مشتق من لفظ المفاجأة تقديره فاجاؤوا وقت الاستبشار فهي مفعول به، وجوز أن تكون فاعلا على معنى فاجأهم وقت الاستبشار، وهذا الفعل المقدر هو جواب إذا الثانية فتتعلق به بناء على قول الأكثرين من أن العامل في إذا جوابها، ولا يلزم تعلق ظرفين بعامل واحد لأن الثاني منهما ليس منصوبا على الظرفية. نعم قيل على الزمخشري: إنه لا سلف له فيما ذهب إليه، وأنت تعلم أن الرجل في العربية لا يقلد غيره، ومن العجيب قول الحوفي إن إِذا الثالثة ظرفية جيء بها تكرارا لإذا قبلها وتوكيدا وقد حذف شرطها والتقدير إذا كان ذلك هم يستبشرون، ولا ينبغي أن يلتفت إليه أصلا، والآية في شأن المشركين مطلقا. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه فسر الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ بأبي جهل بن هشام والوليد بن عقبة وصفوان وأبيّ بن خلف، وفسر الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ باللات والعزى وكأن ذلك تنصيص على بعض أفراد العام. وأخرج ابن المنذر وغيره عن مجاهد أن الآية حكت ما كان من المشركين يوم قرأ النبي صلّى الله عليه وسلم وَالنَّجْمِ [النجم: 1] عند باب الكعبة: وهذا أيضا لا ينافي العموم كما لا يخفى، وقد رأينا كثيرا من الناس على نحو هذه الصفة التي وصف الله تعالى بها المشركين يهشون الجزء: 12 ¦ الصفحة: 265 لذكر أموات يستغيثون بهم ويطلبون منهم ويطربون من سماع حكايات كاذبة عنهم توافق هواهم واعتقادهم فيهم ويعظمون من يحكي لهم ذلك وينقبضون من ذكر الله تعالى وحده ونسبة الاستقلال بالتصرف إليه عزّ وجلّ وسرد ما يدل على مزيد عظمته وجلاله وينفرون ممن يفعل ذلك كل النفرة وينسبونه إلى ما يكره، وقد قلت يوما لرجل يستغيث في شدة ببعض الأموات وينادي يا فلان أغثني فقلت له: قل يا الله فقد قال سبحانه: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [البقرة: 186] فغضب وبلغني أنه قال: فلان منكر على الأولياء، وسمعت عن بعضهم أنه قال: الولي أسرع إجابة من الله عزّ وجلّ وهذا من الكفر بمكان نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الزيغ والطغيان. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 266 قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أمر بالدعاء والالتجاء إلى الله تعالى لما قاساه في أمر دعوتهم وناله من شدة شكيمتهم في المكابرة والعناد فإنه تعالى القادر على الأشياء بجملتها والعالم بالأحوال برمتها، والمقصود من الأمر بذلك بيان حالهم ووعيدهم وتسلية حبيبه الأكرم صلّى الله عليه وسلم وأن جده وسعيه معلوم مشكور عنده عزّ وجلّ وتعليم العباد الالتجاء إلى الله تعالى والدعاء بأسمائه العظمى، ولله تعالى در الربيع بن خيثم فإنه لما سئل عن قتل الحسين رضي الله تعالى عنه تأوه وتلا هذه الآية، فإذا ذكر لك شيء مما جرى بين الصحابة قل: اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ إلخ فإنه من الآداب التي ينبغي أن تحفظ، وتقديم المسند إليه في أَنْتَ تَحْكُمُ للحصر أي أنت تحكم وحدك بين العباد فيما استمر اختلافهم فيه حكما يسلمه كل مكابر معاند ويخضع له كل عات مارد وهو العذاب الدنيوي أو الأخروي، والمقصود من الحكم بين العباد الحكم بينه عليه الصلاة والسلام وبين هؤلاء الكفرة. وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً إلخ قيل مستأنف مسوق لبيان آثار الحكم الذي استدعاه النبي صلّى الله عليه وسلم وغاية شدته وفظاعته أي لو أن لهم جميع ما في الدنيا من الأموال والذخائر وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي لجعلوا كل ذلك فدية لأنفسهم من العذاب السيء الشديد وقيل الجملة معطوفة على مقدر والتقدير فأنا أحكم بينهم وأعذبهم ولو علموا ذلك ما فعلوا ما فعلوا، والأول أظهر، وليس المراد إثبات الشرطية بل التمثيل لحالهم بحال من يحاول التخلص والفداء مما هو فيه بما ذكر فلا يتقبل منه، وحاصله أن العذاب لازم لا يخلصون منه ولو فرض هذا المحال ففيه من الوعيد والإقناط ما لا يخفى. وقوله تعالى: وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ أي ظهر لهم من فنون العقوبات ما لم يكن في حسابهم زيادة مبالغة في الوعيد، ونظير ذلك في الوعد قوله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة: 17] والجملة قيل: الظاهر أنها حال من فاعل (افتدوا) . وَبَدا لَهُمْ حين تعرض عليهم صحائفهم سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا أي الذي كسبوه وعملوه على أن ما موصولة أو كسبهم وعملهم على أنها مصدرية، وإضافة سَيِّئاتُ على معنى من أو اللام وَحاقَ أي أحاط بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي جزاء ذلك على أن الكلام على تقدير المضاف أو على أن هناك مجازا بذكر السبب وإرادة مسببه، وما محتملة للموصولية والمصدرية أيضا فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا إخبار عن الجنس بما يغلب فيه، وقيل: المراد بالإنسان حذيفة بن المغيرة، وقيل: الكفرة ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا أي أعطيناه إياها تفضلا فإن التخويل على ما قيل مختص به لا يطلق على ما أعطي جزاء قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ أي على علم مني بوجوه كسبه أو بأني سأعطاه لما لي من الاستحقاق أو على علم من الله تعالى بي وباستيجابي، وإنما للحصر أي ما أوتيته لشيء من الأشياء إلا لأجل علم، والهاء للنعمة، والتذكير لتأويلها بشيء من النعم، والقرينة على ذلك التنكير، وقيل: لأنها بمعنى الإنعام، وقيل: لأن المراد بها المال، وقيل: لأنها تشتمل على مذكر ومؤنث فغلب المذكر، وجوز أن يكون لما في إِنَّما على أنها موصولة أي إن الذي أوتيته كائن على علم ويبعد موصوليتها كتابتها متصلة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 267 في المصاحف بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ رد لقوله ذلك، والضمير للنعمة باعتبار لفظها كما أن الأول لها باعتبار معناها، واعتبار اللفظ بعد اعتبار المعنى جائز وإن كان الأكثر العكس، وجوز أن يكون التأنيث باعتبار الخبر، وقيل: هو ضمير الإتيان وقرىء بالتذكير فهو للنعمة أيضا كالذي مر أو للإتيان أي ليس الأمر كما يقول بل ما أوتيه امتحان له أيشكر أم يكفر، وأخبر عنه بالفتنة مع أنه آلة لها لقصد المبالغة، ونحو هذا يقال على تقدير عود الضمير للإتيانة أو الإتيان وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ إن الأمر كذلك وهذا ظاهر في أن المراد بالإنسان الجنس إذ لو أريد العهد لقيل لكنه لا يعلم أو لكنهم لا يعلمون وإرادة العهد هناك وإرجاع الضمير للمطلق هنا على أنه استخدام نظير عندي درهم ونصفه تكلف. والفاء للعطف وما بعدها عاطف على قوله تعالى: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ إلخ وهي لترتيبه عليه والغرض منه التهكم والتحميق، وفيه ذمهم بالمناقضة والتعكيس حيث إنهم يشمئزون عن ذكر الله تعالى وحده ويستبشرون بذكر الآلهة فإذا مسهم ضر دعوا من اشمأزوا من ذكره دون من استبشروا بذكره، وهذا كما تقول: فلان يسيء إلى فلان فإذا احتاج سأله فأحسن إليه، ففي الفاء استعارة تبعية تهكمية، وقيل: يجوز أن تكون للسببية داخلة على السبب لأن ذكر المسبب يقتضي ذكر سببه لأن ظهور ما لم يكونوا يحتسبون إلخ مسبب عما بعد الفاء إلا أنه يتكرر مع قوله تعالى الآتي: والَّذِينَ ظَلَمُوا منهم إلى آخره إن لم يتغايرا بكون أحدهما في الدنيا والآخرة في الأخرى، وإلى ما قدمنا ذهب الزمخشري، والجمل الواقعة في البين عليه أعني قوله سبحانه: قُلِ اللَّهُمَّ- إلى- يَسْتَهْزِؤُنَ اعتراض مؤكد للإنكار عليهم، وزعم أبو حيان أن في ذلك تكلفا واعتراضا بأكثر من جملتين وأبو علي الفارسي لا يجيز الاعتراض بجملتين فكيف يجيزه بالأكثر، وأنا أقول: لا بأس بذلك لا سيما وقد تضمن معنى دقيقا لطيفا، والفارسي محجوج بما ورد في كلام العرب من ذلك قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ضمير قالَهَا لقوله تعالى: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ [القصص: 78] لأنها كلمة أو جملة. وقرىء بالتذكير أي القول أو الكلام المذكور، والذين من قبلهم قارون وقومه فإنه قال ورضوا به فالإسناد من باب إسناد ما للبعض إلى الكل وهو مجاز عقلي. وجوز أن يكون التجوز في الظرف فقالها الذين من قبلهم بمعنى شاعت فيهم، والشائع الأول، والمراد قالوا مثل هذه المقالة أو قالوها بعينها ولاتحاد صورة اللفظ تعد شيئا واحدا في العرف فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ من متاع الدنيا ويجمعونه منه. فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا أي أصابهم جزاء سيئات كسبهم أو الذي كسبوه على أن الكلام بتقدير مضاف أو أنه تجوز بالسيئات عما تسبب عنها وقد يقال لجزاء السيئة سيئة مشاكلة نحو قوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فيكون ما هنا من المشاكلة التقديرية، وإذا كان المعنى على جعل جزاء جميع ما كسبوا سيئا دل الكلام على أن جميع ما كسبوا سيء إذ لو كان فيه حسن جوزي عليه جزاء حسنا، وفيه من ذمهم ما فيه. وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ المشركين، ومِنْ للبيان فإنهم كلهم كانوا ظالمين إذا الشرك ظلم عظيم أو للتبعيض فالمراد بالذين ظلموا من أصر على الظلم حتى تصيبهم قارعة وهم بعض منهم سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا كما أصاب الذين من قبلهم، والمراد به العذاب الدنيوي وقد قحطوا سبع سنين، وقتل ببدر صناديدهم وقيل العذاب الأخروي، وقيل: الأعم، ورجح الأول بأنه الأوفق للسياق، وأشير بقوله تعالى: وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أي بفائتين على ما قيل إلى العذاب الأخروي. أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ أن يبسطه له وَيَقْدِرُ لمن يشاء أن يقدر له من غير أن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 268 يكون لأحد ما مدخل في ذلك حيث حبس عنهم الرزق سبعا ثم بسطه لهم سبعا إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكر لَآياتٍ دالة على أن الحوادث كافة من الله تعالى شأنه والأسباب في الحقيقة ملغاة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إذ هم المستدلون بها على مدلولاتها قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أي أفرطوا في المعاصي جائين عليها، وأصل الإسراف الإفراط في صرف المال ثم استعمل فيما ذكر مجازا بمرتبتين على ما قيل، وقال الراغب: هو تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر وهذا ظاهر في أنه حقيقة فيما ذكرنا وهو حسن. وضمن معنى الجناية ليصح تعديه بعلى والمضمن لا يلزم فيه أن يكون معناه حقيقيا، وقيل: هو مضمن معنى الحمل، وحمل غير واحد الإضافة في عِبادِيَ على العهد أو على التشريف، وذهبوا إلى أن المراد بالعباد المؤمنون وقد غلب استعماله فيهم مضافا إليه عزّ وجلّ في القرآن العظيم فكأنه قيل: أيها المؤمنون المذنبون لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ أي لا تيأسوا من مغفرته سبحانه وتفضله عزّ وجلّ على أن المغفرة مدرجة في الرحمة أو أن الرحمة مستلزمة لها لأنه لا يتصور الرحمة لمن لم يغفر له، وتعليل النهي بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً يقتضي دخولها في المعلل، والتذييل بقوله سبحانه: إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ كالصريح في ذلك، وجوز أن يكون في الكلام صنعة الاحتباك كأنه قيل: لا تقنطوا من رحمة الله ومغفرته إن الله يغفر الذنوب جميعا ويرحم، وفيه بعد، وقالوا: المراد بمغفرة الذنوب التجافي عنها وعدم المؤاخذة بها في الظاهر والباطن وهو المراد بسترها، وقيل: المراد بها محوها من الصحائف بالكلية مع التجافي عنها وأن الظاهر إطلاق الحكم وتقييده بالتوبة خلاف الظاهر كيف لا وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48] ظاهر في الإطلاق فيما عدا الشرك، ويشهد للإطلاق أيضا أمور، الأول نداؤهم بعنوان العبودية فإنها تقتضي المذلة وهي أنسب بحال العاصي إذا لم يتب واقتضاؤها للترحم ظاهر. الثاني الاختصار الذي تشعر به الإضافة إلى ضميره تعالى فإن السيد من شأنه أن يرحم عبده ويشفق عليه. الثالث تخصيص ضرر الإسراف المشعرة به «على» بأنفسهم فكأنه قيل: ضرر الذنوب عائد عليهم لا علي فيكفي ذلك من غير ضرر آخر كما في المثل أحسن إلى من أساء كفى المسيء إساءته، فالعبد إذا أساء ووقف بين يدي سيده ذليلا خائفا عالما بسخط سيده عليه ناظرا لإكرام غيره ممن أطاع لحقه ضرر إذ استحقاق العقاب عقاب عند ذوي الألباب. الرابع النهي عن القنوط مطلقا عن الرحمة فضلا عن المغفرة وإطلاقها. الخامس إضافة الرحمة إلى الاسم الجليل المحتوي على جميع معاني الأسماء على طريق الالتفات فإن ذلك ظاهر في سعتها وهو ظاهر في شمولها التائب وغيره. السادس التعليل بقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ إلخ فإن التعليل يحسن مع الاستبعاد وترك القنوط من الرحمة مع عدم التوبة أكثر استبعادا من تركه مع التوبة. السابع وضع الاسم الجليل فيه موضع الضمير لإشعاره بأن المغفرة من مقتضيات ذاته لا لشيء آخر من توبة أو غيرها. الثامن تعريف الذنوب فإنه في مقام التمدح ظاهر في الاستغراق فتشمل الذنب الذي يعقبه التوبة والذي لا تعقبه. التاسع التأكيد بالجميع. العاشر التعليل- بأنه هو- إلخ. الحادي عشر التعبير بالغفور فإنه صيغة مبالغة وهي إن كانت باعتبار الكم شملت المغفرة جميع الذنوب أو باعتبار الكيف شملت الكبائر بدون توبة. الثاني عشر حذف معمول الْغَفُورُ فإن حذف المعمول يفيد العموم. الثالث عشر إفادة الجملة الحصر فإن من المعلوم أن الغفران قد يوصف به غيره تعالى فالمحصور فيه سبحانه إنما هو الكامل العظيم وهو ما يكون بلا توبة الرابع عشر المبالغة في ذلك الحصر. الخامس عشر الوعد بالرحمة بعد المغفرة فإنه مشعر بأن العبد غير مستحق للمغفرة لولا رحمته وهو ظاهر فيما الجزء: 12 ¦ الصفحة: 269 إذا لم يتب. السادس عشر التعبير بصيغة المبالغة فيها. السابع عشر إطلاقها، ومنع المعتزلة مغفرة الكبائر والعفو عنها من غير توبة وقالوا: إنها وردت في غير موضع من القرآن الكريم مقيدة بالتوبة فإطلاقها هنا يحمل على التقييد لاتحاد الواقعة وعدم احتمال النسخ، وكون القرآن في حكم كلام واحد، وأيدوا ذلك بقوله تعالى: وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ فإنه عطف على ألا تقنطوا والتعليل معترض، وبعد تسليم حديث حمل الإطلاق على التقييد يكون عطفا لتتميم الإيضاح كأنه قيل: لا تقنطوا من رحمة الله تعالى فتظنوا أنه لا يقبل توبتكم وأنيبوا إليه تعالى وأخلصوا له عزّ وجلّ. وأجاب بعض الجماعة بمنع وجوب حمل الإطلاق على التقييد في كلام واحد نحو أكرم الفضلاء أكرم الكاملين فضلا عن كلام لا يسلم كونه في حكم كلام واحد وحينئذ لا يكون المعطوف شرطا للمعطوف عليه إذ ليس من تتمته، وقيل: إن الأمر بالتوبة والإخلاص لا يحل بالإطلاق إذ ليس المدعي أن الآية تدل على حصول المغفرة لكل أحد من غير توبة وسبق تعذيب لتغني عن الأمر بهما وتنافي الوعيد بالعذاب. وقال بعض أجلة المدققين: إن قوله تعالى: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا خطاب للكافرين والعاصين وإن كان المقصود الأولى الكفار لمكان القرب وسبب النزول، فقد أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال: إن أهل مكة قالوا: يزعم محمد صلّى الله عليه وسلم أنه من عبد الأوثان ودعا مع الله تعالى إلها آخر وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له فكيف تهاجر وتسلم وقد عبدنا الآلهة وقتلنا النفس ونحن أهل شرك فأنزل الله تعالى قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ إلخ. وأخرج ابن جرير عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: نزلت هذه الآيات في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين كانوا أسلموا ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا فكنا نقول: لا يقبل الله تعالى من هؤلاء صرفا ولا عدلا أبدا أقوام أسلموا ثم تركوا دينهم بعذاب عذبوه فنزلت هؤلاء الآيات وكان عمر رضي الله تعالى عنه كاتبا فكتبها بيده ثم كتب بها إلى عياش وإلى الوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا وهاجروا. وأخرج ابن جرير عن عطاء بن يسار قال: نزلت هذه الآيات الثلاث قُلْ يا عِبادِيَ- إلى- وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ بالمدينة في وحشي وأصحابه ونحلل قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً بين المعطوفين تعليلا للجزء الأول قبل الوصول إلى الثاني للدلالة على سعة رحمته تعالى وأن مثله حقيق بأن يرجى وإن عظم الذنب لا سيما وقد عقب بقوله تعالى: إِنَّهُ هُوَ الآية الدال على انحصار الغفران والرحمة على الوجه الأبلغ فالوجه أن يجري على عمومه ليناسب عموم الصدر ولا يقيد بالتوبة لئلا ينافي غرض التخلل مع أنه جمع محلى باللام، وقد أكد بما صار نصا في الاستغراق، ولا يغني المعتزلي أن القرآن العظيم كالكلام الواحد وأنه سليم من التناقض بل يضره، وكذلك ما ذكر من أسباب النزول انتهى، وقد تضمن الإشارة إلى بعض مؤكدات الإطلاق التي حكيناها آنفا والذي يترجح فى نظري ما اختاره من عموم الخطاب في يا عِبادِيَ للعاصين والكافرين، وأمر الإضافة سهل، وإن قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً مقيد بلمن يشاء بقرينة التصريح به في قراءة عبد الله هنا، وكون الأمور كلها معلقة بالمشيئة ولا نسلم أن متعلق المشيئة التائب وحده، وكونها تابعة للحكمة على تقدير صحته لا ينفع إذ دون إثبات كون المغفرة لغير التائب منافية للحكمة خرط القتاد. نعم لا تتعلق بالمشرك ما لم يؤمن لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: 48] فمغفرة الشرك مشروطة بالإيمان داخل فيمن يشاء لكن بالشرط المعروف، واعتبار الشرط فيه لا يضر في عدم اعتبار شرط التوبة في العاصي بما دونه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 270 ويشهد لذلك ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده. وابن جرير وابن أبي حاتم. وابن مردويه. والبيهقي في شعب الإيمان عن ثوبان قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم إلى آخر الآية فقال رجل: يا رسول الله ومن أشرك؟ فسكت النبي صلّى الله عليه وسلم ساعة ثم قال: إلا ومن أشرك ثلاث مرات» لا يقال المغفرة لمن أشرك بشرط الإسلام أمر واضح فلا يجوز أن تخفى على السائل وعليه عليه الصلاة والسلام حتى يسكت لانتظار الوحي أو الاجتهاد لأنا نقول: السؤال للاستبعاد من حيث العادة والسكوت لتعليم سلوك طريق التأني والتدبر وإن كان الأمر واضحا. وقيل: الظاهر أنه لانتظار الإذن أو الاجتهاد في التصريح بعموم المغفرة فإنهم ربما اتكلوا على ذلك فيخشى التفريط في العمل وهو لا ينافي التعليم فإنه عليه الصلاة والسلام إنما يعلمهم التدبر بعد أن يتدبر هو في نفسه صلّى الله عليه وسلم. وزعم أن الحديث دال على اشتراط التوبة ليس بشيء، ويؤيد إطلاق المغفرة عن قيد التوبة ما أخرجه الإمام أحمد وعبد ابن حميد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف والحاكم وابن مردويه عن أسماء بنت يزيد قالت: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ولا يبالي إنه هو الغفور الرحيم» فإنه ليس للا يبالي كثير حسن إن كانت المغفرة مشروطة بالتوبة كما لا يخفى، وكذا ما أخرجه ابن جرير عن ابن سيرين قال: قال علي كرم الله تعالى وجهه أي آية أوسع؟ فجعلوا يذكرون آيات من القرآن مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ [النساء: 110] الآية ونحوها فقال علي كرم الله تعالى وجهه: ما في القرآن أوسع آية من يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ الآية. والمؤكدات السابقة أعني السبعة عشر لا يخلو بعضها عن بحث، والظاهر أن مغفرة ذنب لا تجامع العذاب عليه أصلا، وذهب بعضهم إلى أنها تجامعه إذا كان أنقص من الذنب لا إذا كان بمقداره فمن عذب بمقدار ذنبه في النار، وأخرج منها لا يقال إنه غفر له إذ السيئات إنما تجزى بأمثالها، وقيل: تجامعه مطلقا وكون السيئات لا تجزى إلا بأمثالها بلطفه تعالى أيضا فهو نوع من عفوه عزّ وجلّ وفيه ما فيه فتأمل، وأصل الإنابة الرجوع. ومعنى وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ إلخ أي ارجعوا إليه سبحانه بالإعراض عن معاصيه والندم عليها، وقيل: بالانقطاع إليه تعالى بالعبادة وذكر الرب كالتنبيه على العلة، وقال القشيري: الإنابة الرجوع بالكلية، والفرق بين الإنابة والتوبة أن التائب يرجع من خوف العقوبة والمنيب يرجع استحياء لكرمه تعالى، والإسلام له سبحانه الإخلاص في طاعاته عزّ وجلّ، وذكر أن الإخلاص بعد الإنابة أن يعلم العبد أن نجاته بفضل الله تعالى لا بإنابته فبفضله سبحانه وصل إلى إنابته لا بإنابته وصل إلى فضله جل فضله. وعن ابن عباس من حديث أخرجه ابن جرير وابن المنذر عنه «من آيس العباد من التوبة فقد جحد كتاب الله تعالى ولكن لا يقدر العبد أن يتوب حتى يتوب الله تعالى عليه» وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ الظاهر أنه خطاب للعباد المخاطبين فيما تقدم سواء أريد بهم المؤمنون أو ما يعمهم والكافرين، والمراد بما أنزل القرآن وهو كما أنزل إلى المؤمنين أنزل إلى الكافرين ضرورة أنه أنزل عليه صلّى الله عليه وسلم لدعوة الناس كافة، والمراد بأحسنه ما تضمن الإرشاد إلى خير الدارين دون القصص ونحوها أو المأمور به أو العزائم أو الناسخ، وأفعل على الأول والثالث على ظاهره وعلى الثاني والرابع فيه احتمالان وقيل: لعل الأحسن ما هو أنجى وأسلم كالإنابة والمواظبة على الطاعة وأفعل فيه على ظاهره أيضا، وجوز أن يكون الخطاب للجنس، والمراد بما أنزل الكتب السماوية وبأحسنه القرآن، وفيه ارتكاب خلاف الظاهر، وفي ذكر الرب ترغيب في الاتباع مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً الجزء: 12 ¦ الصفحة: 271 أي فجأة وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ لا تعلمون أصلا بمجيئة فتتدار كون ما يدفعه أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ في موضع المفعول له بتقدير مضاف، وقدره الزمخشري كراهة وهو منصوب بفعل محذوف يدل عليه ما قبل أي أنذركم وأمركم بأحسن ما أنزل إليكم كراهة أن تقول، ومن لا يشترط للنصب اتحاد الفاعل يجوز كون الناصب أَنِيبُوا أو اتَّبِعُوا وأيا ما كان فهذه الكراهة مقابل الرضا دون الإرادة فلا اعتزال في تقديرها، وهو أولى من تقدير مخافة كما فعل الحوفي حيث قال: أي أنذرناكم مخافة أن تقول، وابن عطية جعل العامل أَنِيبُوا ولم يقدر شيئا من الكراهة والمخافة حيث قال: أي أنيبوا من أجل أن تقول، وذهب بعض النحاة إلى أن التقدير لئلا تقول وتنكير نَفْسٌ للتكثير بقرينة المقام كما في قول الأعشى: ورب بقيع لو هتفت بجوه ... أتاني كريم ينفض الرأس مغضبا فإنه أراد أفواجا من الكرام ينصرونه لا كريما واحدا، وجوز أن يكون للتبعيض لأن القائل بعض الأنفس واستظهره أبو حيان، قيل: ويكفي ذلك في الوعيد لأن كل نفس يحتمل أن تكون تلك، وجوز أيضا أن يكون للتعظيم أي نفس متميزة من الأنفس اما بلجاج في الكفر شديد أو بعذاب عظيم، وليس بذاك يا حَسْرَتى بالألف بدل ياء الإضافة، والمعنى كما قال سيبويه يا حسرتي احضري فهذا وقتك. وقرأ ابن كثير في الوقف «يا حسرتاه» بهاء السكت. وقرأ أبو جعفر «يا حسرتي» بياء الإضافة، وعنه «يا حسرتاي» بالألف والياء التحتية مفتوحة أو ساكنة جمعا بين العوض والمعوض كذا قيل، ولا يخفى أن مثل هذا غير جائز اللهم إلا شاذا استعمالا وقياسا، فالأوجه أن يكون ثنى الحسرة مبالغة على نحو لبيك وسعديك وأقام بين ظهريهم وظهرانيهم على لغة بلحارث بن كعب من إبقاء المثنى على الألف في الأحوال كلها، واختار ذلك صاحب الكشف، وجوز أبو الفضل الرازي أيضا في كتابه اللوامح أن تكون التثنية على ظاهرها على تلك اللغة والمراد حسرة فوت الجنة وحسرة دخول النار، واعتبار التكثير أولى لكثرة حسراتهم يوم القيامة عَلى ما فَرَّطْتُ أي بسبب تفريطي- فعلى- تعليلية وما مصدرية كما في قوله تعالى: وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ [البقرة: 185] والتفريط التقصير فِي جَنْبِ اللَّهِ أي جانبه، قال الراغب: أصل الجنب الجارحة ثم يستعار للناحية والجهة التي تليها كعادتهم في استعارة سائر الجوارح لذلك نحو اليمين والشمال، والمراد هنا الجهة مجازا، والكلام على حذف مضاف أي في جنب طاعة الله أو في حقه تعالى أي ما يحق له سبحانه ويلزم وهو طاعته عزّ وجلّ وعلى ذلك قول سابق البربري من شعراء الحماسة: أما تتقين الله في جنب عاشق ... له كبد حرى عليك تقطع والتفريط في جهة الطاعة كناية عن التفريط في الطاعة نفسها لأن من ضيع جهة ضيع ما فيها بطريق الأولى الأبلغ لكونه بطريق برهاني، ونظير ذلك قول زياد الأعجم: إن السماحة والمروءة والندى ... في قبة ضربت على ابن الحشرج ولا مانع من أن يكون للطاعة وكذا حق الله تعالى بمعنى طاعته سبحانه جهة بالتبعية للمطيع كمكان السماحة وما معها في البيت، ومما ذكرنا يعلم أنه لا مانع من الكناية كما توهم، وقال الإمام: سمي الجنب جنبا لأنه جانب من جوانب الشيء، والشيء الذي يكون من لوازم الشيء وتوابعه يكون كأنه جند من جنوده وجانب من جوانبه فلما حصلت المشابهة بين الجنب الذي هو العضو وبين ما يكون لازما للشيء وتابعا له لا جرم حسن إطلاق لفظ الجنب على الحق والأمر والطاعة انتهى. وجعلوا في الكلام عليه استعارة تصريحية وليس هناك مضاف مقدر، وليس بذاك. وقول ابن عباس: يريد على ما ضيعت من ثواب الله، ومقاتل: على ما ضيعت من ذكر الله ومجاهد والسدي: على ما الجزء: 12 ¦ الصفحة: 272 فرطت في أمر الله، والحسن: في طاعة الله، وسعيد بن جبير: في حق الله بيان لحاصل المعنى، وقيل: الجنب مجاز عن الذات كالجانب أو المجلس يستعمل مجازا لربه، فيكون المعنى على ما فرطت في ذات الله. وضعف بأن الجنب لا يليق إطلاقه عليه تعالى ولو مجازا، وركاكته ظاهرة أيضا، وقيل: هو مجاز عن القرب أي على ما فرطت في قرب الله. وضعف بأنه محتاج إلى تجوز آخر، ويرجع الأمر في الآخرة إلى طاعة الله تعالى ونحوها. وبالجملة لا يمكن إبقاء الكلام على حقيقته لتنزهه عزّ وجلّ من الجنب بالمعنى الحقيقي. ولم أقف على عد أحد من السلف إياه من الصفات السمعية، ولا أعول على ما في المواقف، وعلى فرض العد كلامهم فيها شهير وكلهم مجمعون على التنزيه وسبحان من ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وفي حرف عبد الله وحفصة «في ذكر الله» وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أي المستهزئين بدين الله تعالى وأهله، وأَنْ هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة والجملة في محل النصب على الحال عند الزمخشري أي فرطت في حال سخريتي. وقال في البحر: ويظهر أنها استئناف إخبار عن نفسه بما كان عليه في الدنيا لا حال، والمقصود من ذلك الإخبار التحسر والتحزن أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أي من الشرك والمعاصي. وفسر غير واحد الهداية هنا بالإرشاد والدلالة الموصولة بناء على أنه الأنسب بالشرطية والمطابق للرد بقوله سبحانه: بَلى إلخ، وفسرها أبو حيان بخلق الاهتداء. وأيا ما كان فالظاهر أن هذه المقالة في الآخرة. أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً أي رجوعا إلى الحياة الدنيا فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ في العقيدة والعمل، ولَوْ للتمني فَأَكُونَ منصوب في جوابها، وجوز في البحر أن يكون منتصبا بالعطف على كَرَّةً إذ هو مصدر فيكون مثل قوله: فما لك عنها غير ذكرى وحسرة ... وتسأل عن ركبانها أين يمموا وقول الآخر: ولبس عباءة وتقر عيني ... أحب لي من لبس الشفوف ثم قال: والفرق بينهما أن الفاء إذا كانت في جواب التمني كانت أن واجبة الإضمار وكان الكون مترتبا على حصول المتمني لا متمنى، وإذا كانت للعطف على كَرَّةً جاز إظهار أن وإضمارها وكان الكون متمنى. وقوله تعالى: بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ جواب من الله عزّ وجلّ لما تضمنه قول القائل لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي من نفي أن يكون الله تعالى هداه ورد عليه، ولا يشترط في الجواب ببلى تقدم النفي صريحا وقد وقع في موقعه اللائق به لأنه لو قدم على القرينة الأخيرة أعني أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ إلخ وأوقع بعده غير مفصول بينهما بها لم يحسن لتبتير النظم الجليل. فإن القرائن الثلاثة متناسبة متناسقة متلاصقة، والتناسب بينهن أتم من التناسب بين القرينة الثانية وجوابها، ولو أخرت القرينة الثانية وجعلت الثالثة ثانية لم يحسن أيضا لأن رعاية الترتيب المعنوي وهي أهم تفوت إذ ذاك، وذلك لأن التحسر على التفريط عند تطاير الصحف على ما يدل عليه مواضع من القرآن العظيم، والتعلل بعدم الهداية إنما يكون بعد مشاهدة حال المتقين واغتباطهم، ولأنه للتسلي عن بعض التحسر أو من باب تمسك الغريق فهو لاحق وتمنى الرجوع بعد ذوق النار، ألا ترى إلى قوله تعالى: إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ [الأنعام: 27] وكذلك لو حمل الوقوف على الحبس على شفيرها أو مشاهدتها، وكل بعد مشاهدة حال المتقين وما لقوا من خفة الحساب والتكريم في الموقف، ولأن اللجأ إلى التمني بعد تحقق أن لا جدوى للتعليل. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 273 وقال الطيبي: إن النفس عند رؤية أهوال يوم القيامة يرى الناس مجزيين بأعمالهم فيتحسر على تفويت الأعمال عليها ثم قد يتعلل بأن التقصير لم يكن مني فإذا نظر وعلم أن التقصير كان منه تمنى الرجوع، ثم الظاهر من السياق أن النفوس جمعت بين الأقوال الثلاثة- فاو- لمنع الخلو، وجيء بها تنبيها على أن كل واحد يكفي صارفا عن إيثار الكفر وداعيا إلى الإنابة واتباع أحسن ما أنزل وتذكير الخطاب في جاءَتْكَ إلخ على المعنى لأن المراد بالنفس الشخص وإن كان لفظها مؤنثا سماعيا. وقرأ ابن يعمر والجحدري وأبو حيوة والزعفراني وابن مقسم ومسعود بن صالح والشافعي عن ابن كثير ومحمد ابن عيسى في اختياره. والعبسي «جاءتك» إلخ بكسر الكاف والتاء، وهي قراءة أبي بكر الصديق وابنته عائشة رضي الله تعالى عنهما، وروتها أم سلمة عن النبي صلّى الله عليه وسلم. وقرأ الحسن والأعمش والأعرج «جاءتك» بالهمز من غير مد بوزن فعتك، وهو على ما قال أبو حيان: مقلوب من جاءتك قدمت لام الكلمة وأخرت العين فسقطت الألف واستدل المعتزلة بالآية على أن العبد خالق لأفعاله. وأجاب الأشاعرة بأن إسناد الأفعال إلى العبد باعتبار قدرته الكاسبة. وحقق الكوراني أنه باعتبار قدرته المؤثرة بإذن الله عزّ وجلّ لا كما ذهب إليه المعتزلة من أنه باعتبار قدرته المؤثرة أذن الله تعالى أم لم يأذن. وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ بما ينالهم من الشدة التي تغير ألوانهم حقيقة، ولا مانع من أن يجعل سواد الوجوه حقيقة علامة لهم غير مترتب على ما ينالهم، وجوز أن يكون ذلك من باب المجاز لا أنها تكون مسودة حقيقة بأن يقال: إنهم لما يلحقهم من الكآبة ويظهر عليهم من آثار الجهل بالله عزّ وجلّ يتوهم فيهم ذلك. والظاهر أن الرؤية بصرية والخطاب إما لسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام، وإما لكل من تتأتى منه الرؤية، وجملة وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ في موضع الحال على ما استظهره أبو حيان، وكون المقصود رؤية سواد وجوههم لا ينافي الحالية كما توهم لأن القيد مصب الفائدة، ولا بأس بترك الواو والاكتفاء بالضمير فيها لا سيما وفي ذكرها هاهنا اجتماع واوين وهو مستثقل. وزعم الفراء شذوذ ذلك، ومن سلمه جعل الجملة هنا بدلا من الَّذِينَ كما ذهب إليه الزجاج، وهم جوزوا إبدال الجملة من المفرد، أو مستأنفة كالبيان لما أشعرت به الجملة قبلها وأدركه الذوق السليم منها من سوء حالهم، أو جعل الرؤية علمية والجملة في موضع الثاني، وأيد بأنه قرىء «وجوههم مسودة» بنصبهما على أن وُجُوهُهُمْ مفعول ثان ومُسْوَدَّةٌ حال منه. وأنت تعلم أن اعتبار الرؤية بصرية أبلغ في تفضيحهم وتشعير فظاعة حالهم لا سيما مع عموم الخطاب، والنصب في القراءة الشاذة يجوز أن يكون على الإبدال، والمراد بالذين ظلموا أولئك القائلون المتحسرون فهو من باب إقامة الظاهر مقام المضمر، وينطبق على ذلك أشد الانطباق قوله تعالى: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً أي مقام لِلْمُتَكَبِّرِينَ الذين جاءتهم آيات الله فكذبوا بها واستكبروا عن قبولها والانقياد لها، وهو تقرير لرؤيتهم كذلك، وينطبق عليه أيضا قوله الآتي: وَيُنَجِّي إلخ. وكذبهم على الله تعالى لوصفهم له سبحانه بأن له شريكا ونحو ذلك تعالى عما يصفون علوا كبيرا، وقيل: لوصفهم له تعالى بما لا يليق في الدنيا وقولهم في الأخرى: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي المتضمن دعوى أن الله سبحانه لم يهدهم ولم يرشدهم، وقيل: هم أهل الكتابين، وعن الحسن أنهم القدرية القائلون إن شئنا فعلنا وإن لم يشأ الله تعالى وإن شئنا لم نفعل وإن شاء الله سبحانه وقيل: المراد كل من كذب على الله تعالى ووصفه بما لا يليق به سبحانه نفيا وإثباتا فأضاف إليه ما يجب تنزيهه تعالى عنه أو نزهه سبحانه عما يجب أن يضاف إليه، وحكي ذلك عن القاضي وظاهره يقتضي تكفير كثير من أهل القبلة، وفيه ما فيه، والأوفق لنظم الآية الكريمة ما قدمنا، ولا يبعد أن يكون حكم كل من كذب على الله تعالى عالما بأنه كذب عليه سبحانه أو غير عالم لكنه مستند إلى شبهة واهية كذلك وكلام الجزء: 12 ¦ الصفحة: 274 الحسن إن صح لا أظنه إلا من باب التمثيل، وتعريض الزمخشري بأهل الحق بما عرض خارج عن دائرة العدل فما ذهبوا إليه ليس من الكذب على الله تعالى في شيء، والكذب فيه وفي أصحابه ظاهر جدا. وقرأ أبي «أجوههم» بإبدال الواو همزة وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا ما اتصف به أولئك المتكبرون من جهنم. وقرىء «ينجي» بالتخفيف من الإنجاء بِمَفازَتِهِمْ اسم مصدر كالفلاح على ما في الكشف أو مصدر ميمي على ما في غيره من فاز بكذا إذا أفلح به وظفر بمراده منه، وقال الراغب: هي مصدر فاز أو اسم الفوز ويراد بها الظفر بالبغية على أتم وجه كالفلاح وبه فسرها السدي، والباء للملابسة متعلقة بمحذوف هو حال من الموصول مفيدة لمقارنة تنجيتهم من العذاب لنيل الثواب أي ينجيهم الله تعالى من جهنم مثوى المتكبرين لتقواهم مما اتصف المتكبرون به ملتبسين بفلاحهم وظفرهم بالبغية وهي الجنة، ومآله ينجيهم من النار ويدخلهم الجنة، وكون الجنة بغية المتقي كائنا من كان مما لا شبهة فيه. نعم هي بغية لبعض المتقين من حيث إنها محل رؤية محبوبهم التي هي غاية مطلوبهم ولك أن تعمم البغية، وقوله تعالى: لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ في موضع الحال أيضا إما من الموصول أو من ضمير بِمَفازَتِهِمْ مفيدة لكونهم مع التنجية أو الفوز منفيا عنهم على الدوام مساس جنس السوء والحزن، والظاهر أن هذه الحال مقدرة، وقيل: إنها مقارنة مفيدة لكون تنجيتهم أو مفازتهم بالجنة غير مسبوقة بمساس العذاب والحزن، ولا يخفى أنه لا يتسنى بالنسبة إلى جميع المتقين إذ منهم من يمسه العذاب ويحزن لا محالة، وعد وجود ذلك لقلته وانقطاعه كلا وجود تكلف بعيد، وجوز أن يراد بالمفازة الفلاح ويجعل قوله تعالى: لا يَمَسُّهُمُ إلخ استئنافا لبيانها كأنه قيل: ما مفازتهم؟ فقيل: لا يمسهم إلخ. والباء حينئذ على ما في الكشف سببية متعلقة بينجي أي ينجيهم بنفي السوء والحزن عنهم. وتعقب بأن في جعل عدم الحزن وعدم السوء سبب النجاة تكلفا فهما من النجاة، والظاهر أنه لو جعلت الباء على هذا الوجه أيضا للملابسة لا يرد ذلك، وجوز كون المفازة اسم مكان أي محل الفوز، وفسرت بالمنجاة مكان النجاة، وصح ذلك لأن النجاة فوز وفلاح، وجعلت الباء عليه للسببية وهناك مضاف محذوف بقرينة باء السببية وإن المنجاة لا تصلح سببا أي ينجيهم بسبب منجاتهم وهو الإيمان، وهو كالتصريح بما اقتضاه تعليق الفعل بالموصول السابق، وفسره الزمخشري بالأعمال الصالحة، وقواه بما حكاه عن ابن عباس ليتم مذهبه أو لا مضاف بل هناك مجاز بتلك القرينة من إطلاق اسم المسبب على السبب، والجملة بعد على الاحتمالين في هذا الوجه حال ولا يخفى أن المفازة بمعنى المنجاة مكان النجاة هي الجنة والإيمان أو العمل الصالح ليس سببا لها نفسها وإنما هو سبب دخولها فلا بد من اعتباره فلا تغفل، وجوز أن تكون المفازة مصدرا ميميا من فاز منه أي نجا منه يقال: طوبى لمن فاز بالثواب وفاز من العقاب أي ظفر به ونجا، والباء إما للملابسة والجملة بيان للمفازة أي ينجيهم الله تعالى ملتبسين بنجاتهم الخاصة لهم أي بنفي السوء والحزن عنهم، ولا يخفى ركاكة هذا المعنى، وإما للسببية إما على حذف المضاف أو التجوز نظير ما مر آنفا، ولا يحتاج هنا إلى اعتبار الدخول كما لا يخفى، والجملة في موضع الحال أيضا. وجوز على بعض الأوجه تعلق بِمَفازَتِهِمْ بما بعده ولا يخفى أنه خلاف الظاهر وبالجملة الاحتمالات العقلية في الآية كثيرة لأن المفازة إما اسم مصدر أو مصدر ميمي أو اسم مكان من فاز به ظفر أو من فاز منه نجا والباء إما للملابسة أو للسببية أو للاستعانة، وهي إما متعلقة بما قبلها أو بما بعدها وهذه ستة وثلاثون احتمالا وإذا ضممت إليها احتمال حذف المضاف في بمفازتهم بمعنى منجاتهم أو نجاتهم واحتمال التجوز فيه كذلك وكذا احتمال كون جملة لا يَمَسُّهُمُ إلخ حالا من الموصول واحتمال كونها حالا من ضمير- مفازتهم- واحتمال كون الحال مقدرة وكونها مقارنة زادت كثيرا، ولا يخفى أن فيها المقبول ودونه بل فيها ما لا يتسنى أصلا فأمعن النظر ولا تجمد. وقرأ السلمي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 275 والحسن والأعرج والأعمش وحمزة والكسائي وأبو بكر «بمفازاتهم» جمعا لتكون على طبق المضاف إليه في الدلالة على التعدد صريحا اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ من خير وشر وإيمان وكفر لكن لا بالجبر بل بمباشرة المتصف بهما لأسبابهما فالآية رادة على المعتزلة ردا ظاهر وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ يتولى التصرف فيه كيفما يشاء حسبما تقتضيه الحكمة، وكأن ذكر ذلك للدلالة على أنه سبحانه الغني المطلق وأن المنافع والمضار راجعة إلى العباد، ولك أن تقول: المعنى أنه تعالى حفيظ على كل شيء كما قيل نحو ذلك في قوله تعالى: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [الأنعام: 107، الزمر: 41، الشورى: 6] وحاصله أنه تعالى يتولى حفظ كل شيء بعد خلقه فيكون إشارة إلى احتياج الأشياء إليه تعالى في بقائها كما أنها محتاجة إليه عزّ وجلّ في وجودها. لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي مفاتيحها كما قال ابن عباس والحسن وقتادة وغيرهم فقيل هو جمع لا واحد له من لفظه، وقيل: جمع مقليد وقيل: جمع مقلاد من التقليد بمعنى الإلزام ومنه تقليد القضاء وهو إلزامه النظر في أموره، وكذا القلادة للزومها للعنق، وجعل اسما للآلة المعروفة للإلزام بمعنى الحفظ وهو على جميع هذه الأقوال عربي والأشهر الأظهر كونه معربا فهو جمع إقليد معرب إكليد وهو جمع شاذ لأن جمع أفعيل على مفاعيل مخالف للقياس وجاء أقاليد على القياس ويقال: في اكليد كليد بلا همزة، وذكر الشهاب أنه بلغة الروم أقليدس وكليد واكليد منه، والمشهور أن كليد فارسي ولم يشتهر في الفارسية إكليد بالهمز، وله مقاليد كذا قيل: مجاز عن كونه مالك أمره ومتصرفا فيه بعلاقة اللزوم، ويكنى به عن معنى القدرة والحفظ، وجوز كون المعنى الأول كنائيا لكن قد اشتهر فنزل منزلة المدلول الحقيقي فكني به عن المعنى الآخر فيكون هناك كناية على كناية وقد يقتصر على المعنى الأول في الإرادة وعليه قيل هنا المعنى لا يملك أمر السماوات والأرض ولا يتمكن من التصرف فيها غيره عزّ وجلّ. والبيضاوي بعد ذكر ذلك قال: هو كناية عن قدرته تعالى وحفظه لها وفيه مزيد دلالة على الاستقلال والاستبداد لمكان اللام والتقديم، وقال الراغب: مقاليد السماوات والأرض ما يحيط بها، وقيل: خزائنها، وقيل: مفاتيحها، والإشارة بكلها إلى المعنى واحد وهو قدرته تعالى عليها وحفظه لها انتهى. وجوز أن يكون المعنى لا يملك التصرف في خزائن السماوات والأرض أي ما أودع فيها واستعدت له من المنافع غيره تعالى، ولا يخفى أن هذه الجملة إن كانت في موضع التعليل لقوله سبحانه: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ على المعنى الأول فالأظهر الاقتصار في معناها على أنه لا يملك أمر السماوات والأرض أي العالم بأسره غيره تعالى فكأنه قيل: هو تعالى يتولى التصرف في كل شيء لأنه لا يملك أمره سواه عزّ وجلّ، وإن كانت تعليلا له على المعنى الثاني فالأظهر الاقتصار في معناها على أنه لا قدرة عليها لأحد غيره جل شأنه فكأنه قيل: هو تعالى يتولى حفظ كل شيء لأنه لا قدرة لأحد عليه غيره تعالى، وجوز أن تكون عطف بيان للجملة قبلها وأن تكون صفة وَكِيلٌ وأن تكون خبرا بعد خبر فأمعن النظر في ذلك وتدبر. وأخرج أبو يعلى ويوسف القاضي في سننه، وأبو الحسن القطان في المطولات، وابن السني في عمل اليوم والليلة، وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه قال: «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى: له مقاليد السماوات والأرض فقال: لا إله إلا الله والله أكبر سبحانه الله والحمد لله استغفر الله الذي لا إله إلا هو الأول والآخر والظاهر والباطن يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير» الحديث. وفي رواية ابن مردويه عن ابن عباس أن عثمان جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال له: أخبرني عن مقاليد السماوات والأرض فقال: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم الأول والآخر الجزء: 12 ¦ الصفحة: 276 والظاهر والباطن بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير يا عثمان من قالها إذا أصبح عشر مرات وإذا أمسى أعطاه الله ست خصال. أما أولهن فيحرس من إبليس وجنوده. وأما الثانية فيعطى قنطارا من الأجر وأما الثالثة فيتزوج من الحور العين. وأما الرابعة فيغفر له ذنوبه. وأما الخامسة فيكون مع إبراهيم عليه السلام. أما السادسة فيحضره اثنا عشر ملكا عند موته يبشرونه بالجنة ويزفونه من قبره إلى الموقف فإن أصابه شيء من أهاويل يوم القيامة قالوا له لا تخف إنك من الآمنين ثم يحاسبه الله حسابا يسيا ثم يؤمر به إلى الجنة فيزفونه إلى الجنة من موقفه كما تزف العروس حتى يدخلوه الجنة بإذن الله تعالى والناس في شدة الحساب . وفي رواية العقيلي والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عمر أن عثمان سأل النبي صلّى الله عليه وسلم عن تفسير (له مقاليد السماوات والأرض) فقال عليه الصلاة والسلام: ما سألني عنها أحد تفسيرها لا إله إلا الله والله أكبر وسبحانه الله وبحمده واستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله هو الأول والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير . وفي رواية الحارث بن أبي أسامة. وابن مردويه عن أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال: «وهي سبحانه الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله» وبالجملة اختلفت الروايات في الجواب، وقيل في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: إنه ضعيف في سنده من لا تصلح روايته، وابن الجوزي قال: إنه موضوع ولم يسلم له وحال الأخبار الأخر الله تعالى أعلم به والظن الضعف. والمعنى عليها أن لله تعالى هذه الكلمات يوحد بها سبحانه ويمجد وهي مفاتيح خير السماوات والأرض من تكلم بها من المؤمنين أصابه، فوجه إطلاق المقاليد عليها أنها موصلة إلى الخير كما توصل المفاتيح إلى ما في الخزائن، وقد ذكر صلّى الله عليه وسلم شيئا من الخير في حديث ابن عباس وعد في الحديث قبله عشر خصال لمن قالها كل يوم مائة مرة وهو بتمامه في الدر المنثور. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ معطوف على قوله تعالى: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ إلخ أي إنه عز شأنه متصف بهذه الصفات الجليلة الشأن والذين كفروا وجحدوا ذلك أولئك هم الكاملون في الخسران، وقيل: على قوله تعالى: لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ولا يظهر ذلك على بعض الأوجه السابقة فيه. وقيل: على مقدر تقديره فالذين اتقوا أو فالذين آمنوا بآيات الله هم الفائزون والذين كفروا إلخ، وفيه تكلف. وجوز أن يكون معطوفا على قوله تعالى: وَيُنَجِّي اللَّهُ إلخ فيكون التقدير وينجي الله المتقين والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون وما بينهما اعتراض للدلالة على أنه تعالى مهيمن على العباد مطّلع على أفعالهم مجاز عليها، وفيه تأكيد لثواب المؤمنين وفلاحهم وعقاب الكفرة وخسرانهم ولم يقل ويهلك الذين كفروا بخسرانهم كما قال سبحانه: وَيُنَجِّي إلخ للإشعار بأن العمدة في فوز المؤمنين فضله تعالى فلذا جعل نجاتهم مسندة له تعالى حادثة له يوم القيامة غير ثابتة قبل ذلك بالاستحقاق والأعمال بخلاف هلاك الكفرة فإنهم قدموه لأنفسهم بما اتصفوا به من الكفر والضلال ولم يسند له تعالى ولم يعبر عنه بالمضارع أيضا، وفي ذلك تصريح بالوعد وتعريض بالوعيد حيث قيل: الْخاسِرُونَ ولم يقل الهالكون أو المعذبون أو نحوه وهو قضية الكرم. وعطف الجملة الاسمية على الفعلية مما لا شبهة في جوازه عند النحويين، ومما ذكرنا يعلم رد قول الإمام الرازي: إن هذا الوجه ضعيف من وجهين: الأول وقوع الفضل الكثير بين المعطوف عليه. الثاني وقوع الاختلاف بينهما في الفعلية والاسمية وهو لا يجوز، والإمام أبو حيان منع كون الفاصل كثيرا. وقال في الوجه الثاني: إنه كلام من لم يتأمل كلام العرب ولا نظر في أبواب الاشتغال. نعم قال في الكشف الجزء: 12 ¦ الصفحة: 277 يؤيد الاتصال بما يليه دون قوله تعالى: وَيُنَجِّي أن قوله سبحانه: وَيُنَجِّي اللَّهُ متصل بقوله تعالى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا فلو قيل بعده: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ لم يحسن لأن الأحسن على هذا المساق أن يقدم على قوله تعالى: وَيُنَجِّي اللَّهُ على ما لا يخفى ولأنه كالتخلص إلى ما بعده من حديث الأمر بالعبادة والإخلاص إذ ذاك، وهو كلام حسن، ثم الحصر الذي يقتضيه تعريف الطرفين وضمير الفصل باعتبار الكمال كما أشرنا إليه لا باعتبار مطلق الخسران فانه لا يختص بهم وجوز أن يكون قصر قلب فإنهم يزعمون المؤمنين خاسرين. قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ أي أبعد الآيات المقتضية لعبادته تعالى وحده غير الله أعبد، فغير مفعول مقدم لأعبد وتَأْمُرُونِّي اعتراض للدلالة على أنهم أمروه به عقيب ذلك وقالوا له صلّى الله عليه وسلم: استلم بعض آلهتنا ونؤمن بإلهك لفرط غباوتهم ولذا نودوا بعنوان الجهل، وجوز أن يكون أَعْبُدُ في موضع المفعول- لتأمروني- على أن الأصل تأمروني أن أعبد فحذفت أن وارتفع الفعل كما قيل في قوله: ألا أيهذا الزاجري احضر الوغى ويؤيد قراءة من قرأ «أعبد» بالنصب، و «غير» منصوب بما دل عليه تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أي تعبدونني غير الله أي أتصيرونني عابدا غيره تعالى، ولا يصح نصبه بأعبد لأن الصلة لا تعمل فيما قبلها والمقدر كالموجود، وقال بعضهم: هو منصوب به وأن بعد الحذف يبطل حكمها المانع عن العمل، وقرأ ابن كثير تَأْمُرُونِّي بالإدغام وفتح الياء. وقرأ ابن عامر «تأمرونني» بإظهار النونين على الأصل، ونافع «تأمروني» بنون واحدة مكسورة وفتح الياء، وفي تعيين المحذوف من النونين خلاف فقيل: الثانية لأنها التي حصل بها التكرار، وقيل: الأولى لأنها حرف إعراب عرضة للتغيير وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ أي من الرسل عليهم السلام لَئِنْ أَشْرَكْتَ أي بالله تعالى شيئا ما لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ الظاهر أن جملة لَئِنْ إلخ نائب فاعل أُوحِيَ لكن قيل في الكلام حذف والأصل أوحى إليك لئن أشركت ليحبطن عملك إلخ، وإلى الذين من قبلك مثل ذلك، وقيل: لا حذف، وإفراد الخطاب باعتبار كل واحد منه صلّى الله عليه وسلم والمرسلين الموحى إليهم فإنه أوحى لكل لَئِنْ أَشْرَكْتَ إلخ بالإفراد، وذهب البصريون إلى أن الجمل لا تكون فاعلة فلا تقوم مقام الفاعل، ففي البحر أن إِلَيْكَ حينئذ نائب الفاعل، والمعنى كما قال مقاتل أوحى إليك وإلى الذين من قبلك بالتوحيد، وقوله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ إلخ استئناف خوطب به النبي صلّى الله عليه وسلم خاصة وهو كما ترى، وأيا ما كان فهو كلام على سبيل الفرض لتهييج المخاطب المعصوم وإقناط الكفرة والإيذان بغاية شناعة الإشراك وقبحه وكونه بحيث ينهى عنه من لا يكاد يباشره فكيف بمن عداه، فالاستدلال بالآية على جواز صدور الكبائر من الأنبياء عليهم السلام كما في المواقف ليس بشيء، فاحتمال الوقوع فرضا كاف في الشرطية لكن ينبغي أن يعلم أن استحالة الوقوع شرعية، ولا ما لَقَدْ ولَئِنْ. موطئتان للقسم واللامان بعد للجواب، وفي عدم تقييد الإحباط بالاستمرار على الإشراك إلى الموت دليل للحنفية الذاهبين إلى أن الردة تحبط الأعمال التي قبلها مطلقا. نعم قالوا: لا يقضي منها بعد الرجوع إلى الإسلام إلا الحج، ومذهب الشافعي أن الردة لا تحبط العمل السابق عليها ما لم يستمر المرتد على الكفر إلى الموت، وترك التقييد هنا اعتمادا على التصريح به في قوله تعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [البقرة: 217] ويكون ذلك من حمل المطلق على المقيد. وأجاب بعض الحنفية بأن في الآية المذكورة توزيعا فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ ناظر إلى الارتداد عن الدين الجزء: 12 ¦ الصفحة: 278 وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ إلخ ناظر إلى الموت على الكفر فلا مقيد ليحمل المطلق عليه، ومن هذا الخلاف نشأ الخلاف في الصحابي إذا ارتد ثم عاد إلى الإسلام بعد وفاته صلّى الله عليه وسلم أو قبلها ولم يره هل يقال له: صحابي أم لا، فمن ذهب إلى الإطلاق قال لا ومن ذهب إلى التقييد قال: نعم، وقيل: يجوز أن يكون الإحباط مطلقا من خصائص النبي عليه الصلاة والسلام إذ شركه وحاشاه أقبح، وفيه ضعف لأن الغرض تحذير أمته وتصوير فظاعة الكفر فتقدير أمر يختص به لا يتعدى من النبي إلى الأمة لا اتجاه له مع أنه لا مستند له من نقل أو عقل، والمراد بالخسران على مذهب الحنفية ما لزم من حبط العمل فكان الظاهر- فتكون- إلا أنه عدل إلى ما في النظم الجليل للإشعار بأن كلا من الإحباط والخسران يستقل في الزجر عن الإشراك، وقيل: الخلود في النار فيلزم التقييد بالموت كما هو عند الشافعي عليه الرحمة. وقرىء «ليحبطن» من أحبط «عملك» بالنصب أي ليحبطن الله تعالى أو الإشراك عملك، وقرىء بالنون ونصب «عملك» أيضا بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ رد لما أمروه به من استلام بعض آلهتهم، والفاء جزائية في جواب شرط مقدر كأنه قيل: إن كنت عابدا أو عاقلا فاعبد الله فحذف الشرط وجعل تقديم المفعول عوضا عنه، وإلى هذا ذهب الزمخشري وسلفه في كونها جزائية الزجاج، وأنكر أبو حيان كون التقديم عوضا عن الشرط، ومذهب الفراء والكسائي أن الفاء زائدة بين المؤكد والمؤكد والاسم الجليل منصوب بفعل محذوف والتقدير الله أعبد فاعبده وقدر مؤخرا ليفيد الحصر. وفي الانتصاف مقتضى كلام سيبويه أن الأصل تنبه فاعبد الله فخذفوا الفعل الأول اختصارا واستنكروا الابتداء بالفاء ومن شأنها التوسط بين المعطوف والمعطوف عليه فقدموا المفعول فصارت الفاء متوسطة لفظا ودالة على المحذوف وانضاف إليها فائدة الحصر لإشعار التقديم بالاختصاص، واعتبار الاختصاص قيل: مما لا بد منه لأنه لم يكن الكلام ردا عليهم فيما أمروه به لولاه فإنهم لم يطلبوا منه عليه الصلاة والسلام ترك عبادة الله سبحانه بل استلام آلهتهم والشرك به عزّ وجلّ اللهم إلا أن يقال: عبادة الله سبحانه مع الشرك كلا عبادة، والله جل وعلا أغنى الشركاء فمن أشرك في عمله أحدا معه عزّ وجلّ فعمله لمن أشرك كما يدل عليه كثير من الأخبار، وقرأ عيسى «بل الله» بالرفع وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ إنعامه تعالى عليك الذي يضيق عنه نطاق الحصر، وفيه إشارة إلى موجب الاختصاص وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي ما عظموه جل جلاله حق عظمته إذ عبدوا غيره تعالى وطلبوا من نبيه صلّى الله عليه وسلم عبادة غيره سبحانه قاله الحسن. والسدي، وقال المبرد: أصله من قولهم: فلان عظيم القدر يريدون بذلك جلالته، وأصل القدر اختصاص الشيء بعظم أو صغر أو مساواة، وقال الراغب: أي ما عرفوا كنهه عزّ وجلّ. وتعقب بأن معرفة كنهه تعالى أي حقيقته سبحانه لا يخص هؤلاء لتعذر الوقوف على الحقيقة، ومن هنا: العجز عن درك الإدراك إدراك ... والبحث عن كنه ذات الله إشراك ولا يخفى أن المسألة خلافية، وما ذكر على تقدير التسليم يمكن دفعه بالعناية. نعم أولى منه ما قيل: أي ما عرفوه كما يليق به سبحانه حيث جعلوا له سبحانه شريكا، وظاهر كلام بعضهم أن الكلام على تقدير مضاف أي ما قدروا في أنفسهم وما تصوروا عظمة الله حق التصور فلم يعظموه كما هو حقه عزّ وجلّ حيث وصفوه بما لا يليق بشؤونه الجليلة من الشركة ونحوها، وأيا ما كان فهو متعلق بما قبله من حيث إنّ فيه تجهيلهم في الإشراك ودعائهم رسوله صلّى الله عليه وسلم إليه، وقيل: المعنى ما وصفوا الله تعالى حق صفته إذ جحدوا البعث ووصفوه سبحانه بأنه خالق الخلق عبثا وأنه سبحانه عاجز عن الإعادة والبعث وهو خلاف الظاهر، وعليه يكون للتمهيد لأمر النفخ في الصور، وضمير الجمع الجزء: 12 ¦ الصفحة: 279 على جميع ما ذكر لكفار قريش كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل: الضمير لليهود تكلموا في صفات الله تعالى وجلاله فألحدوا وجسموا وجاؤوا بكل تخليط فنزلت. وقرأ الأعمش حق «قدره» بفتح الدال، وقرأ الحسن وعيسى وأبو نوفل وأبو حيوة وَما قَدَرُوا بتشديد الدال «حقّ قدره» بفتح الدال وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ الجملة في موضع الحال من الاسم الجليل وجَمِيعاً حال من المبتدأ عند من يجوزه أو من مقدر كأثبتها جميعا كما قيل، وهو جار مجرى الحال المؤكدة في أن العامل منتزع من مضمون الجملة، وفي التقريب هو حال من الضمير في قَبْضَتُهُ لأنه بمعنى مقبوضة وكان الظاهر أن يؤخر عنه وإنما قدم عليه ليعلم أول الأمر أن الخبر الذي يرد لا يقع عن أرض واحدة أو بعض دون بعض ولكن عن الأرضين كلها أو عن جميع أبعاضها. وجاز هذا التقديم لأن المصدر لم يعمل من حيث كونه مصدرا بل لكونه بمعنى اسم المفعول، وقال الحوفي: العامل في الحال ما دل عليه قبضته لا هي، وهو كما ترى، ويَوْمَ الْقِيامَةِ معمول قَبْضَتُهُ وهي في الأصل المرة الواحدة من القبض وتطلق على المقدار المقبوض كالقبضة بضم القاف وجعلت صفة مشبهة حينئذ، وجوز كل من إرادة المقبوضة والمعنى المصدري هنا، والكلام على الثاني على تقدير مضاف أي ذوات قبضته أي يقبضهن سبحانه قبضة واحدة، وقرأ الحسن «قبضته» بالنصب على أنه ظرف مختص مشبه بالمبهم ولذا لم يصرح بفي معه وهو مذهب الكوفيين، والبصريون يقولون: إن النصب في مثل خطأ غير جائز وأنه لا بد من التصريح بفي. وقرأ عيسى والجحدري «مطويات» بالنصب على أن «السماوات» عطف على «الأرض» مشاركة لها في الحكم أي والسماوات قبضته، و «مطويات» حال من «السماوات» عند من يجوز مجيء الحال من مثل ذلك أو من ضميرها المستتر في (قبضته) على أنها بمعنى مقبوضته أو من ضميرها محذوفا أي أثبتها مطويات، وبِيَمِينِهِ متعلق بمطويات أو على أن السَّماواتُ مبتدأ وبِيَمِينِهِ الخبر و «مطويات» حال أيضا إما من المبتدأ أو من الضمير المحذوف أو من الضمير المستتر في الخبر بناء على مذهب الأخفش من جواز تقديم الحال في مثل ذلك. والكلام عند كثير من الخلف تمثيل لحال عظمته تعالى ونفاذ قدرته عزّ وجلّ وحقارة الأفعال العظام التي تتحير فيها الأوهام بالإضافة إليها بحال من يكون له قبضة فيها الأرض جميعا ويمين بها يطوي السماوات أو بحال من يكون قبضة فيها الأرض والسماوات ويمين بها يطوي السماوات من غير ذهاب القبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو مجاز بالنسبة إلى المجرى عليه وهو الله عزّ شأنه، وقال بعضهم: المراد التنبيه على مزيد جلالته عزّ وجلّ وعظمته سبحانه بإفادة أن الأرض جميعا تحت ملكه تعالى يوم القيامة فلا يتصرف فيها غيره تعالى شأنه بالكلية كما قال سبحانه: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الحج: 56] والسماوات مطويات طي السجل للكتب بقدرته التي لا يتعاصاها شيء. وفيه رمز إلى أن ما يشركونه معه عزّ وجلّ أرضيا كان أم سماويا مقهور تحت سلطانه جل شأنه وعز سلطانه فالقبضة مجاز عن الملك أو التصرف كما يقال: بلد كذا في قبضة فلان، واليمين مجاز عن القدرة التامة، وقيل: القبضة مجاز عما ذكر ونحوه والمراد باليمين القسم أي والسماوات مفنيات بسبب قسمه تعالى لأنه عزّ وجلّ أقسم أن يفنيها، وهو مما يهزأ منه لا مما يهتز استحسانا له، والسلف يقولون أيضا: إن الكلام تنبيه على مزيد جلالته تعالى وعظمته سبحانه ورمز إلى أن آلهتهم أرضية أم سماوية مقهورة تحت سلطانه عزّ وجلّ إلا أنهم لا يقولون: إن القبضة مجاز عن الملك أو التصرف ولا اليمين مجاز عن القدرة بل ينزهون الله تعالى عن الأعضاء والجوارح ويؤمنون بما نسبه إلى ذاته بالمعنى الذي أراده سبحانه وكذا يفعلون في الأخبار الواردة في هذا المقام. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 280 فقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي. والنسائي وغيرهم عن ابن مسعود قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إنا نجد الله يحمل السماوات يوم القيامة على أصبع والأرضين على أصبع والشجر على أصبع والماء والثرى على أصبع وسائر الخلق على أصبع فيقول: أنا الملك فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر ثم قرأ رسول الله عليه الصلاة والسلام وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ الآية ، والمتأولون يتأولون الأصابع على الاقتدار وعدم الكلفة كما في قول القائل: أقتل زيدا بأصبعي، ويبعد ذلك ظاهر ما أخرجه الإمام أحمد والترمذي وصححه والبيهقي وغيرهم عن ابن عباد قال: مر يهودي على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو جالس قال: كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السماوات على ذه وأشار بالسبابة والأرضين على ذه والجبال على ذه وسائر الخلق على ذه؟ كل ذلك يشير بأصابعه فأنزل الله تعالى وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وجعل بعض المتأولين الإشارة إعانة على التمثيل والتخييل. وزعم بعضهم أن الآية نزلت ردا لليهودي حيث شبه وذهب إلى التجسيم وإن ضحكه عليه الصلاة والسلام المحكي في الخبر السابق كان للرد أيضا وأن «تصديقا له» في الخبر من كلام الراوي على ما فهم، ولا يخفى أن ذلك خلاف الظاهر جدا، وجعلوا أيضا من باب الإعانة على التمثيل وتخييل العظمة فعله عليه الصلاة والسلام حين قرأ هذه الآية، فقد أخرج الشيخان والنسائي وابن ماجة وجماعة عن ابن عمر «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ورسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول هكذا بيده ويحركها يقبل بها ويدبر يمجد الرب نفسه أنا الجبار أنا المتكبر أنا الملك أنا العزيز أنا الكريم فرجف برسول الله صلّى الله عليه وسلم المنبر حتى قلنا ليخرّن به» وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مقسم أنه نظر إلى ابن عمر كيف يحكي رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: يأخذ الله تعالى سماواته وأرضيه بيديه ويقول: أنا الله ويقبض أصابعه ويبسطها أنا الملك» . وفي شرح الصحيح للإمام النووي نقلا عن المازري أن قبض النبي صلّى الله عليه وسلم أصابعه وبسطها تمثيل لقبض هذه المخلوقات وجمعها بعد بسطها وحكاية للمبسوط المقبوض وهو السماوات والأرضون لا إشارة إلى القبض والبسط الذي هو صفة للقابض والباسط سبحانه وتعالى ولا تمثيل لصفة الله تعالى السمعية المسماة باليد التي ليست بجارحة انتهى، ثم إنّ ظاهر بعض الأخبار يقتضي أن قبض الأرض بعد طي السماوات وأنه بيد أخرى. أخرج مسلم عن ابن عمر قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: يطوي الله تعالى السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ثم يطوي الأرضين بشماله ثم يقول: أين الجبارون أين المتكبرون؟» وفي الشرح نقلا عن المازري أيضا أن إطلاق اليدين لله تعالى متأول على القدرة، وكني عن ذلك باليدين لأن أفعالنا تقع باليدين فخوطبنا بما نفهمه ليكون أوضح وأؤكد في النفوس، وذكر اليمين والشمال حتى يتم التأول لأنا نتناول باليمين ما نكرمه وبالشمال ما دونه ولأن اليمين في حقنا تقوى لما لا تقوى له الشمال، ومعلوم أن السماوات أعظم من الأرض فأضافها إلى اليمين وأضاف الأرضين إلى الشمال ليظهر التقريب في الاستعارة وإن كان الله سبحانه وتعالى لا يوصف بأن شيئا أخف عليه من شيء ولا أثقل من شيء انتهى. والصوفية يقولون بالتجلي الصوري مع بقاء الإطلاق والتنزيه المدلول عليه بليس كمثله شيء، والأمر عليه سهل جدا. ثم إنّ التصرف في الأرض والسماوات يكون والناس على الصراط كما جاء في خبر رواه مسلم عن عائشة مرفوعا، وروي أيضا عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يكفؤها الجبار بيده كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة» والكلام في هذا الخبر كالكلام في نظائره، وإياك من التشبيه والتجسيم، وكذا من نسبة ذلك إلى السلف ولا تك كالمعتزلة في التحامل عليهم والوقيعة فيهم، ويكفي دليلا على جهل المعتزلة بربهم زعمهم أنه عزّ وجلّ فوض العباد فهم يفعلون ما لا يشاء الجزء: 12 ¦ الصفحة: 281 ويشاء ما لا يفعلون سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي أبعد من هذه قدرته وعظمته عن إشراكهم أو عما يشركونه من الشركاء- فسبحان- للتعجب وتتعلق به (عن) بالتأويل بما ذكر وما تحتمل المصدرية والموصولية وَنُفِخَ فِي الصُّورِ المشهور أن النافخ فيه ملك واحد وأنه إسرافيل عليه السلام بل حكى القرطبي الإجماع عليه. وفي حديث أخرجه ابن ماجة والبزار وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري مرفوعا أن النافخ اثنان، ويدل عليه أيضا أخبار أخر، منها ما أخرجه أحمد. والحاكم عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «النافخان في السماء الثانية رأس أحدهما بالمشرق ورجلاه بالمغرب ينتظران متى يؤمران أن ينفخا في الصور فينفخا» وفي بعض الآثار ما يدل على أنه واحد وأنه شاخص ببصره أي إسرافيل عليه السلام ما طرف منذ خلقه الله تعالى ينتظر حتى يشير إليه فينفخ في الصور. والصور قرن عظيم فيه ثقب بعدد كل روح مخلوقة ونفس منفوسة. وأخرج أبو الشيخ عن وهب أنه من لؤلؤة بيضاء في صفاء الزجاجة به ثقب دقيقة بعدد الأرواح وفي وسطه كوة كاستدارة السماء والأرض ونحن نؤمن به ونفوض كيفيته إلى علام الغيوب جل شأنه. وأنكر بعضهم ذلك وقال: هو جمع صورة كما في قراءة قتادة وزيد بن علي «في الصور» بفتح الواو وقد مر الكلام في ذلك، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع، وبني الفعل للمفعول لعدم تعلق الغرض بالفاعل بل الغرض إفادة هذا الفعل من أي فاعل كان فكأنه قيل: ووقع النفخ في الصور فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ أي ماتوا بسبب ذلك، ويحتمل أنهم يغشى عليهم أولا ثم يموتون، ففي الأساس صعق الرجل إذا غشي عليه من هدة أو صوت شديد يسمعه وصعق إذا مات. وفي صحيح مسلم من حديث طويل فيه ذكر الدجال «ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا فأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله فيصعق ويصعق الناس» وقرىء «فصعق» بضم الصاد إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ قال السدي: جبريل وإسرافيل وميكائيل وملك الموت عليهم السلام، وقيل: هم وحملة العرش فإنهم يموتون بعد، وفي ترتيب موتهم اضطراب مذكور في الدر المنثور، وقيل: رضوان والحور ومالك والزبانية وروي ذلك عن الضحاك، وقيل: من مات قبل ذلك أي يموت من في السماوات والأرض إلا من سبق موته لأنهم كانوا قد ماتوا قال في البحر: وهذا نظير لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدخان: 56] ومن الغريب ما حكي فيه أن المستثنى هو الله عزّ وجلّ، ولا يخفى عليك حاله متصلا كان الاستثناء أم منقطعا، وقيل: هو موسى عليه السلام وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى في تحقيق ذلك، وقيل غير ذلك. ويراد بالسماوات على أكثر الأقوال جهة العلو وإلا لم يتصل الاستثناء فإن حملة العرش مثلا ليسوا في السماوات بالمعنى المعروف، وقيل: إنه لم يرد في التعيين خبر صحيح ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أي في الصور وهو ظاهر في أنه ليس بجمع وإلا لقيل فيها أُخْرى أي نفخة أخرى، وهو يدل على أن المراد بالأول ونفخ في الصور نفخة واحدة كما صرح به في مواضع لأن العطف يقتضي المغايرة فلو أريد المطلق الشامل للأخرى لم يكن لذكرها هاهنا وجه، وأُخْرى تحتمل النصب على أنها صفة مصدر مقدر أي نفخة أخرى، والرفع على أنها صفة لنائب الفاعل، وعلى الأول كان النائب عنه الظرف. وصح في صحيحي البخاري ومسلم أن الله تعالى ينزل بين النفختين ماء من السماء. جاء في بعض الروايات أنه كالطل بالمهملة وفي بعضها كمني الرجال فتلبث منه أجساد الناس وإن بين النفختين أربعين وهذا عن أبي هريرة مرفوعا ولم يبين فيه ما هذه الأربعون. وفي حديث أخرجه أبو داود أنها أربعون عاما، وأخرج عبد بن حميد عن عبد الله بن العاص (1) قال: ينفخ في   (1) قوله عبد الله بن العاص هكذا في خط المؤلف وفي الدر المنثور «عبد الله بن العاصي» ولعله عبد الله بن عمرو بن العاص. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 282 الصور النفخة الأولى من باب إيلياء الشرقي أو قال الغربي والنفخة الثانية من باب آخر فَإِذا هُمْ قِيامٌ قائمون من قبورهم يَنْظُرُونَ أي ينتظرون ما يؤمرون أو ينتظرون ماذا يفعل بهم، وقيل: يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب عظيم. وتعقب بأن قولهم عند قيامهم مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا يأباه ظاهرا نوع إباء. وجوز أن يكون قيام من القيام مقابل الحركة أي فإذا هم متوقفون جامدون في أمكنتهم لتحيرهم. واعترض بأن قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [يس: 51] ظاهر في خلافه لأن النسل الإسراع في المشي، وكذا قوله تعالى: يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [المعارج: 43] وقرأ زيد بن علي «قياما» بالنصب على أن جملة يَنْظُرُونَ خبرهم «وقياما» حال من ضمير يَنْظُرُونَ قدم للفاصلة، أو من المبتدأ عند من يجوز ذلك. وفي البحر النصب على الحال وخبر المبتدأ الظرف الذي هو (إذا) الفجائية وهي حال لا بد منها إذ هي محط الفائدة إلا أن يقدر الخبر محذوفا أي فإذا هم مبعوثون أو موجودون قياما، وإذا نصب «قياما» على الحال فالعامل فيها ذلك الخبر المحذوف إن قلنا به وإلا فالعامل هو العامل في الظرف فإن كان (إذا) ظرف مكان على ما يقتضيه ظاهر كلام سيبويه فتقديره فبالحضرة هم قياما، وإن كان ظرف زمان كما ذهب إليه الرياشي فتقديره ففي ذلك الزمان الذي نفخ فيه هم أي وجودهم، واحتيج إلى تقديره هذا المضاف لأن ظرف الزمان لا يكون خبرا عن الجثة، وإن كانت (إذا) حرفا كما زعم الكوفيون فلا بد من تقدير الخبر إلا أن اعتقدنا أن يَنْظُرُونَ هو الخبر ويكون عاملا في الحال انتهى. ولعمري إنّ مذهب الكوفيين أقل تكلفا، هذا وهاهنا إشكال بناء على أنهم فسروا نفخة الصعق بالنفخة الأولى التي يموت بها من بقي على وجه الأرض. فانه قد أخرج البخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه والإمام أحمد وغيرهم عن أبي هريرة قال: «قال رجل من اليهود بسوق المدينة: والذي اصطفى موسى على البشر فرفع رجل من الأنصار يده فلطمه قال: أتقول هذا وفينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ فذكرت ذلك لرسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: قال الله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ فأكون أول من يرفع رأسه فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أرفع رأسه قبلي أو كان ممن استثنى الله تعالى» وهو يأبى تفسير النفخة بذلك ضرورة أن موسى عليه السلام قد مات قبل تلك النفخة بألوف سنين، واحتمال أنه عليه السلام لم يمت كما قيل في الخضر وإلياس مما لا ينبغي أن يتفوه به حي، ويدل كما قال بعض الأجلة: على أنها نفخة البعث. وقال القاضي عياض: يحتمل أن تكون هذه صعقة فزع بعد النشر حين تنشق السماوات فتتوافق الآيات والأحاديث وتكون النفخات ثلاثا وهو اختيار ابن العربي. ورده القرطبي بأن أخذ موسى عليه السلام بقائمة العرش إنما هو عند نفخة البعث وادعى أن الصحيح أن ليس إلا نفختان لا ثلاث ولا أربع كما قيل. ثم قال: والذي يزيح الإشكال ما قال بعض مشايخنا: إن الموت ليس بعدم محض بالنسبة للأنبياء عليهم السلام والشهداء فإنهم موجودون أحياء وإن لم نرهم فإذا نفخت نفخة الصعق صعق كل من في السماء والأرض وصعقة غير الأنبياء موت وصعقتهم غشي فإذا كانت نفخة البعث عاش من مات وأفاق من غشى عليه، ولذا وقع في الصحيحين فأكون أول من يفيق انتهى، ولا يخفى أنه يحتاج إلى القول بجواز استعمال المشترك في معنييه معا أو إلى ارتكاب عموم المجاز أو التزام إرادة غشي عليهم وأن موت من يموت بعد الغشي مفاد من أمر آخر فتدبر. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 283 وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ أي أرض المحشر وهي الأرض المبدلة من الأرض المعروفة. وفي الصحيح يحشر الناس على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس فيها علم لأحد وهي أوسع بكثير من الأرض المعروفة. وفي بعض الروايات أنها يومئذ من فضة ولا يصح، أي أضاءت بِنُورِ رَبِّها هو على ما روي عن ابن عباس نور يخلقه الله تعالى بلا واسطة أجسام مضيئة كشمس وقمر، واختاره الإمام وجعل الإضافة من باب ناقَةُ اللَّهِ [الأعراف: 73، هود: 64، الشمس: 13] وعن محيي السنة تفسيره بتجلي الرب لفصل القضاء، وعن الحسن والسدي تفسيره بالعدل وهو من باب الاستعارة وقد استعير لذلك وللقرآن والبرهان في مواضع من التنزيل أي وأشرقت الأرض بما يقيمه فيها من الحق والعدل ويبسطه سبحانه من القسط في الحساب ووزن الحسنات والسيئات، واختار هذا الزمخشري وصحح أولا تلك الاستعارة بتكررها في القرآن العظيم، وحققها ثانيا بقوله: وينادي على ذلك إضافته إلى اسمه تعالى لأنه عزّ وجلّ هو الحق العدل إشارة إلى الصارف إلى التأويل، وعينها ثالثها بإضافة اسمه تعالى الرب إلى الأرض لأن العدل هو الذي يتزين به الأرض لا البرهان مثلا، ورابعا بما عطف على إشراق الأرض من وضع الكتاب والمجيء بالنبيين والشهداء والقضاء بالحق لأنه كله تفصيل العدل بالحقيقة، وأيدها خامسا بالعرف العام فإن الناس يقولون للملك العادل: أشرقت الآفاق بعد لك وأضاءت الدنيا بقسطك، وسادسا بقوله صلّى الله عليه وسلم: «الظلم ظلمات يوم القيامة» فإنه يقتضي أن يكون العدل نورا فيه، وسابعا بأن فتح الآية وختمها بنفي الظلم يدل عليه ليكون من باب رد العجز على الصدر على طريقة الطرد والعكس. ورجح ما اختاره الإمام بأن الأصل الحقيقة ولا صارف لأن الإضافة تصح بأدنى ملابسة، وأيد ما حكي عن محيي السنة ببعض الأحاديث. وتعقب ذلك صاحب الكشف فقال: إن إضافة الملابسة مجاز (1) والترجيح لما اختاره جار الله لما ذكر من الفوائد ولأنه الشائع في استعمال القرآن، ألا ترى إلى قوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النور: 35] وأما تجلي الرب سبحانه فسواء حمل على تجلي الجلال أو تجلي الجمال لا يقتضي إشراق الأرض بنور إلا بأحد المعنيين أعني العدل أو عرضا يخلقه الله تعالى عند التجلي في الأرض فلو توهم من تجليه تعالى أنه ينعكس نور منه على الأرض لاستحال إلا بالتفسير المذكور فليس قولا ثالثا لينصر ويؤيد بالحديث الذي لا يدل على أنه تفسير الآية   (1) هو اختيار لأحد قولين في المسألة اه منه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 284 المشتمل على حديث الرؤية وإلقاء ستره تعالى على العبد يذكر ما فعل به وما جنى انتهى، ولعل الأوفق بما يشعر به كثير من الأخبار أن قوله سبحانه: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها إشارة إلى تجليه عزّ وجلّ لفصل القضاء وقد يعبر عنه بالإتيان، وقد صرح به في قوله تعالى: يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة: 210] ولم يتأول ذلك السلف بل أثبتوه له سبحانه كالنزول على الوجه الذي أثبته عزّ وجلّ لنفسه. ولا يبعد أن يكون هذا النور هو النور الوارد في الحديث الصحيح «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور» ويقال فيه كالحجاب نحو ما قال السلف في سائر المتشابهات أو هو نور آخر يظهر عند ذلك التجلي، ولا أقول: هو نور منعكس من الذات المقدس انعكاس نور الشمس مثلا من الشمس بل الأمر فوق ما تنتهي إليه العقول، وأنى وهيهات وكيف ومتى يتصور إلى حقيقة ذلك الوصول، ويومىء إلى أن ذلك التجلي مقرون بالعدل التعبير بعنوان الربوبية مضافا إلى ضمير الأرض والله تعالى أعلم بمراده. وقرأ ابن عباس وعبيد بن عمير وأبو الجوزاء أَشْرَقَتِ بالبناء للمفعول قال الزمخشري: من شرقت بالضوء تشرق إذا امتلأت به واغتصت وأشرقها الله تعالى كما تقول: ملأ الأرض عدلا وطبقها عدلا، وقال ابن عطية: هذا إنما يترتب من فعل يتعدى فهذا على أن يقال: أشرق البيت وأشرقه السراج فيكون الفعل مجاوزا وغير مجاوز، وقال صاحب اللوامح وجب أن يكون الإشراق على هذه القراءة منقولا من شرقت الشمس إذا طلعت فيصير متعديا والمعنى أذهبت ظلمة الأرض، ولا يجوز أن يكون من أشرقت إذا أضاءت فإن ذلك لازم وهذا قد يتعدى إلى المفعول وَوُضِعَ الْكِتابُ قال السدي الحساب، فالكتاب مجاز عن الحساب ووضعه ترشيح له، والمراد به الشروع فيه ويجوز جعل الكلام تمثيلا. وقال بعضهم: صحائف الأعمال وضعت بأيدي العمال فالتعريف للجنس أو الاستغراق، وقيل: اللوح المحفوظ وضع ليقابل به الصحائف فالتعريف للعهد، وروي هذا القول عن ابن عباس، واستبعده أبو حيان وقال: لعله لا يصح عن ابن عباس وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ قيل ليسألوا هل بلغوا أممهم؟ وقيل: ليحضروا حسابهم وَالشُّهَداءِ قال عطاء ومقاتل وابن زيد: الحفظة، وكأنهم أرادوا أنهم يشهدون على كل من الأمم أنهم بلغوا أو يشهدون على كل بعمله كما قال سبحانه: وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق: 21] وفي بعض الآثار أنه يؤتى باللوح المحفوظ وهو يرتعد فيقال له: هل بلغت إسرافيل؟ فيقول: نعم يا رب بلغته فيؤتى بإسرافيل وهو يرتعد فيقال له: هل بلغك اللوح؟ فيقول: نعم يا رب فعند ذلك يسكن روع اللوح ثم يقال لإسرافيل فأنت هل بلغت جبرائيل؟ فيقول: نعم يا رب فيؤتى بجبرائيل وهو يرتعد فيقال له: هل بلغك إسرافيل؟ فيقول: نعم يا رب فعند ذلك يسكن روع إسرافيل ثم يقال لجبرائيل: فأنت هل بلغت؟ فيقول: نعم يا رب فيؤتى بالمرسلين وهم يرتعدون فيقال لهم: هل بلغكم جبرائيل؟ فيقولون: نعم فيسكن عند ذلك روع جبرائيل ثم يقال لهم: فأنتم هل بلغتم؟ فيقولون: نعم فيقال للأمم: هل بلغكم الرسل؟ فيقول كفرتهم: ما جاءنا من بشير ولا نذير فيعظم على الرسل الحال ويشتد البلبال فيقال لهم: من يشهد لكم؟ فيقولون: النبي الأمي وأمته فيؤتى بالأمة المحمدية فيشهدون لهم أنهم بلغوا فيقال لهم: من أين علمتم ذلك؟ فيقولون: من كتاب أنزله الله تعالى علينا ذكر سبحانه فيه أن الرسل بلغوا أممهم ويزكيهم النبي عليه الصلاة والسلام وذلك قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة: 143] ومن هنا قيل: المراد بالشهداء في الآية أمة نبينا صلّى الله عليه وسلم، وقال الجبائي وأبو مسلم هم عدول الآخرة يشهدون للأمم وعليهم، وقيل: جميع الشهداء من الملائكة وأمة محمد عليه الصلاة والسلام والجوارح والمكان، وأيا ما كان فالشهداء جمع الجزء: 12 ¦ الصفحة: 285 شاهد، وقال قتادة والسدي: المراد بهم المستشهدون في سبيل الله تعالى فهو جمع شهيد وليس بذاك وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي بين العباد المفهوم من السياق بِالْحَقِّ بالعدل وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ بنقص ثواب أو زيادة عقاب على ما جرى به الوعد بناء على أن الظلم حقيقة لا يتصور في حقه تعالى فإن الأمر كله له عزّ وجلّ. وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ أي أعطيت جزاء ذلك كاملا وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ فلا يفوته سبحانه شيء من أعمالهم، وقوله تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً إلخ تفصيل للتوفية وبيان لكيفيتها، والفاء ليس بلازم، والسوق يقتضي الحث على المسير بعنف وإزعاج وهو الغالب ويشعر بالإهانة وهو المراد هنا أي سيقوا إليها بالعنف والإهانة أفواجا متفرقة بعضها في أثر بعض مترتبة حسب ترتب طبقاتهم في الضلالة والشرارة، والزمر جمع زمرة قال الراغب: هي الجماعة القليلة: ومنه قيل شاة زمرة قليلة الشعر ورجل زمر قليل المروءة، ومنه اشتق الزمر، والزمارة كناية عن الفاجرة، وقال بعضهم: اشتقاق الزمرة من الزمر وهو الصوت إذ الجماعة لا تخلو عنه حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها ليدخلوها وكانت قبل مجيئهم غير مفتوحة فهي كسائر أبواب السجون لا تزال مغلقة حتى يأتي أصحاب الجرائم الذين يسجنون فيها فتفتح ليدخلوها فإذا دخلوها أغلقت عليهم، وحَتَّى هي التي تحكى بعدها الجملة، والكلام على إذا الواقعة بعدها قد مر في الأنعام. وقرأ غير واحد «فتحت» بالتشديد وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها على سبيل التقريع والتوبيخ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ أي من جنسكم تفهمون ما ينبؤونكم به ويسهل عليكم مراجعتهم. وقرأ ابن هرمز «تأتكم» بتاء التأنيث، وقرىء «نذر منكم» يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ المنزلة لمصلحتكم وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا أي وقتكم هذا وهو وقت دخولكم النار لأن المنذر به في الحقيقة العذاب ووقته، وجوز أن يراد به يوم القيامة والآخرة لاشتماله على هذا الوقت أو على ما يختص بهم من عذابه وأهواله، ولا ينافيه كونه في ذاته غير مختص بهم والإضافة لامية تفيد الاختصاص لأنه يكفي للاختصاص ما ذكر، نعم الأول أظهر فيه. واستدل بالآية على أنه لا تكليف قبل الشرع لأنهم وبخوهم بكفرهم بعد تبليغ الرسل للشرائع وإنذارهم ولو كان قبح الكفر معلوما بالعقل دون الشرع لقيل. ألم تعلموا بما أودع الله تعالى فيكم من العقل قبح كفركم، ولا وجه لتفسير الرسل بالعقول لإباء الأفعال المستندة إليها عن ذلك، نعم هو دليل إقناعي لأنه إنما يتم على اعتبار المفهوم وعموم الذين كفروا وكلاهما محل نزاع، وقيل في وجه الاستدلال: إن الخطاب للداخلين عموما يقتضي أنهم جميعا أنذرهم الرسل ولو تحقق تكليف قبل الشرع لم يكن الأمر كذلك. وتعقب بأن للخصم أن لا يسلم العموم، ولمن قال بوجوب الإيمان عقلا أن يقول: إنما وبخوهم بالكفر بعد التبليغ لأنه أبعد عن الاعتذار وأحق بالتوبيخ والإنكار قالُوا بَلى قد أتانا رسل منا تلوا علينا آيات ربنا وأنذرونا لقاء يومنا هذا وَلكِنْ حَقَّتْ أي وجبت كَلِمَةُ الْعَذابِ أي كلمة الله تعالى المقتضية له عَلَى الْكافِرِينَ والمراد بها الحكم عليهم بالشقاوة وأنهم من أهل النار لسوء اختيارهم أو قوله تعالى لإبليس: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 85] ووضعوا الكافرين موضع ضميرهم للإيماء إلى عليّة الكفر، والكلام اعتراف لا اعتذار قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أي مقدرا خلودكم فيها، والقائل يحتمل أن يكون الخزنة وترك ذكرهم للعلم به مما قبل، ويحتمل أن يكون غيرهم ولم يذكر لأن المقصود ذكر هذا المقول المهول من غير نظر إلى قائله وقال بعض الأجلة: أبهم القائم لتهويل المقول. فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ أل فيه سواء كانت حرف تعريف أم اسم موصول للجنس وفاء بحق فاعل باب نعم وبئس والمخصوص بالذم محذوف ثقة بذكره آنفا أي فبئس مثواهم جهنم والتعبير بالمثوى لمكان خالِدِينَ وفي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 286 التعبير بالمتكبرين إيماء إلى أن دخولهم النار لتكبرهم عن قبول الحق والانقياد للرسل المنذرين عليهم الصلاة والسلام وهو في معنى التعليل بالكفر، ولا ينافي تعليل ذلك بسبق كلمة العذاب عليهم لأن حكمه تعالى وقضاءه سبحانه عليهم بدخول النار ليس إلا بسبب تكبرهم وكفرهم لسوء اختيارهم المعلوم له سبحانه في الأزل، وكذا قوله عزّ وجلّ لأملأن فهناك سببان قريب وبعيد والتعليل بأحدهما لا ينافي التعليل بآخر فتذكر وتدبر. وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً جماعات مرتبة حسب ترتب طبقاتهم في الفضل، وفي صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أول زمرة تدخل الجنة من أمتي على صورة القمر ليلة البدر ثم الذين يلونهم على أشد نجم في السماء إضاءة ثم هم بعد ذلك منازل» والمراد بالسوق هنا الحث على المسير للإسراع إلى الإكرام بخلافه فيما تقدم فإنه لإهانة الكفرة وتعجيلهم إلى العقاب والآلام واختير للمشاكلة، وقوله سبحانه: إِلَى الْجَنَّةِ يدفع إيهام الإهانة مع أنه قد يقال: إنهم لما أحبوا لقاء الله تعالى أحب الله تعالى لقاءهم فلذا حثوا على دخول دار كرامته جل شأنه قاله بعض الأجلة، واختار الزمخشري أن المراد هنا بسوقهم سوق مراكبهم لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين، وهذا السوق والحث أيضا للإسراع بهم إلى دار الكرامة. وتعقب بأنه لا قرينة على إرادة ذلك وكون جميع المتقين لا يذهب بهم إلا راكبين يحتاج إلى دليل، والاستدلال بقوله تعالى: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً [مريم: 85] لا يتم إلا على القول بأن الوفد لا يكونون إلا ركبانا وأن الركوب يستمر لهم إلى أن يدخلوا الجنة، وفي الكشف أنه تفسير ظاهر يؤيده الأحاديث الكثيرة ويناسب المقام لأن السوقين بعد فصل القضاء واللطف الخالص في شأن البعض والقهر الخالص في شأن البعض ولا ينافي مقام عظمة مالك الملوك على ما توهم انتهى، وأقول: إن حمل الذين اتقوا على المخلصين فالقول بركوبهم قول قوي وإن حمل على المحترز عن الشرك خاصة ليشمل المخلصين فالقول بذلك قول ضعيف إذ منهم من لا يدخل الجنة إلا بعد أن يدخل النار ويعذب فيها، وظاهر كثير من الأخبار أن من هذا الصنف من يذهب إلى الجنة مشيا. ففي صحيح مسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «آخر من يدخل الجنة رجل فهو يمشي مرة ويكبو أخرى وتسفعه النار مرة فإذا ما جاوزها التفت إليها فقال تبارك الذي نجاني منك لقد أعطاني الله تعالى شيئا ما أعطاه أحدا من الأولين والآخرين فترفع له شجرة فيقول: أي رب أدنني من هذه الشجرة فلأستظل بظلها فأشرب من مائها فيقول الله تعالى: يا ابن آدم لعلي أن أعطيتكها سألتني غيرها فيقول: لا يا رب ويعاهده أن لا يسأله غيرها وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه فيدنيه» الحديث ، وقال بعض العارفين: إن المتقين يساقون إلى الجنة لأنهم قد رأوا الله تعالى في المحشر فلرغبتهم في رؤيته عزّ وجلّ ثانيا لا يحبون فراق ذلك الموطن الذي رأوه فيه ولشدة حبهم وشغفهم لا يكاد يخطر لهم أنهم سيرونه سبحانه إذا دخلوا الجنة، والمحبة إذا عظمت فعلت بصاحبها أعظم من ذلك وأعظم فكأنها غلبتهم حتى خيلت إليهم أن ذلك الموطن هو الموطن الذي يرى فيه عزّ وجلّ وهو محل تجليه على محبيه جل جلاله وعظم نواله فأحجموا عن المسير ووقفوا منتظرين رؤية اللطيف الخبير وغدا لسان حال كل منهم يقول: وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم ويدل على رؤيتهم إياه عزّ وجلّ هناك ما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: «إن أناسا قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تضارون في القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا يا رسول الله قال: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا قال: فإنكم ترونه كذلك يجمع الله الناس يوم القيامة فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبعه فيتبع من يعبد الشمس الشمس ويتبع من يعبد القمر القمر ويتبع من يعبد الطواغيت الجزء: 12 ¦ الصفحة: 287 الطواغيت وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله تبارك وتعالى في صورة غير الصورة التي يعرفون فيقول: أنا ربكم فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فيقول: أنا ربكم فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم فأكون أنا وأمتي أول من يجيز ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ودعوى الرسل يومئذ اللهم سلم سلم» الحديث ، ومع هذا فسوقهم ليس كسوق الذين كفروا كما لا يخفى. وقيل: السائق للكفرة ملائكة الغضب والسائق للمتقين شوقهم إلى مولاهم فهو سبحانه لهم غاية الإرب، وليست الجنة عندهم هي المقصودة بالذات ولا مجرد الحلول بها أقصى اللذات وإنما هي وسيلة للقاء محبوبهم الذي هو نهاية مطلوبهم حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وقرىء بالتشديد، والواو وللحال والجملة حالية بتقدير قد على المشهور أي جاؤوها وقد فتحت لهم أبوابها كقوله تعالى: جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ [ص: 50] ويشعر ذلك بتقدم الفتح كأن خزنة الجنات فتحوا أبوابها ووقفوا منتظرين لهم، وهذا كما تفتح الخدم باب المنزل للمدعو للضيافة قبل قدومه وتقف منتظرة له، وفي ذلك من الاحترام والإكرام ما فيه، والظاهر أن قوله تعالى: وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها إلخ عطف على فُتِحَتْ أَبْوابُها وجواب إِذا محذوف مقدر بعد خالِدِينَ للإيذان بأن لهم حينئذ من فنون الكرامات ما لا يحيط به نطاق العبارات كأنه قيل: إذا جاؤوها مفتحة لهم أبوابها وقال لهم خزنتها سَلامٌ عَلَيْكُمْ أي من جميع المكاره والآلام وهو يحتمل الإخبار والإنشاء. طِبْتُمْ أي من دنس المعاصي، وقيل: طبتم نفسا بما أتيح لكم من النعيم المقيم، والأول مروي عن مجاهد وهو الأظهر، والجملة في موضع التعليل فَادْخُلُوها خالِدِينَ أي مقدرين الخلود كان ما كان مما يقصر عنه البيان أو فازوا بما لا يعد ولا يحصى من التكريم والتعظيم، وقدره المبرد سعدوا بعد خالِدِينَ أيضا، ومنهم من قدره قبل وَفُتِحَتْ أي حتى إذا جاؤوها جاؤوها وقد فتحت وليس بشيء، ومنهم من قدره نحو ما قلنا قبل وَقالَ وجعل جملة «قال» إلخ معطوفة عليه، وما تقدم أقوى معنى وأظهر. وقال الكوفيون: واو وَفُتِحَتْ زائدة والجواب جملة فُتِحَتْ وقيل: الجواب قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها والواو زائدة، والمعول عليه ما ذكرنا أولا وبه يعلم وجه اختلاف الجملتين أعني قوله تعالى في أهل النار: حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وقوله جل شأنه في أهل الجنة: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها حيث جيء بواو في الجملة الثانية وحذف الجواب ولم يفعل كذلك في الجملة الأولى، فما قيل: إن الواو في الثانية واو الثمانية لأن المفتح ثمانية أبواب ولما كانت أبواب النار سبعة لا ثمانية لم يؤت بها وجه ضعيف لا يعول عليه. واستدل المعتزلة بقوله: طِبْتُمْ فَادْخُلُوها حيث رتب فيه الأمر بالدخول على الطيب والطهارة من دنس المعاصي على أن أحدا لا يدخل الجنة إلا وهو طيب طاهر من المعاصي إما لأنه لم يفعل شيئا منها أو لأنه تاب عما فعل توبة مقبولة في الدنيا. ورد بأنه وإن دل على أن أحدا لا يدخلها إلا وهو طيب لكن قد يحصل ذلك بالتوبة المقبولة وقد يكون بالعفو عنه أو الشفاعة له أو بعد تمحيصه بالعذاب فلا متمسك فيها للمعتزلة. وقيل: المراد بالذين اتقوا المحترزون عن الشرك خاصة فطبتم على معنى طبتم عن دنس الشرك ولا خلاف في أن دخول الجنة مسبب عن الطيب والطهارة عنه. وتعقب بأن ذاك خلاف الظاهر لأن التقوى في العرف الغالب تقع على أخص من ذلك لا سيما في معرض الإطلاق والمدح بما عقبه من قوله تعالى: فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ فتدبر وَقالُوا عطف على قالَ أو على الجواب المقدر بعد خالِدِينَ أو على مقدر غيره أي فدخلوها وقالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ بالبعث والثواب وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ يريدون المكان الذي استقروا فيه فإن كانت الجزء: 12 ¦ الصفحة: 288 أرض الآخرة التي يمشي عليها تسمى أرضا حقيقة فذاك وإلا فإطلاقهم الأرض على ذلك من باب الاستعارة تشبيها له بأرض الدنيا، والظاهر الأول، وحكي عن قتادة وابن زيد والسدي أن المراد أرض الدنيا وليس بشيء، وإيراثها تمليكها مخلفة عليهم من أعمالهم أو تمكينهم من التصرف فيها تمكين الوارث فيما يرثه بناء على أنه لا ملك في الآخرة لغيره عزّ وجلّ وإنما هو إباحة التصرف والتمكين مما هو ملكه جل شأنه، وقيل: ورثوها من أهل النار فإن لكل منهم مكانا في الجنة كتب له بشرط الإيمان. نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ أي يتبوأ كل منا في أي مكان أراده من جنته الواسعة لا أن كلا منهم يتبوأ في أي مكان من مطلق الجنة أو من جنات غيره المعينة لذلك الغير، فلا يقال: إنه يلزم جواز تبوء الجميع في مكان واحد وحدة حقيقة وهو محال أو أن يأخذ أحدهم جنة غيره وهو غير مراد، وقيل: الكلام على ظاهره ولكل منهم أن يتبوأ في أي مكان شاء من مطلق الجنة ومن جنات غيره إلا أنه لا يشاء غير مكانه لسلامة نفسه وعصمة الله تعالى له عن تلك المشيئة، وقال الإمام: قالت حكماء الإسلام: إن لكلّ جنتين جسمانية وروحانية ومقامات الثانية لا تمانع فيها فيجوز أن يكون في مقام واحد منها ما لا يتناهى من أربابها، وهذه الجملة حالية فالمعنى أورثنا مقامات الجنة حالة كوننا نسرح في منازل الأرواح كما نشاء. وقد قال بعض متألهي الحكماء: الدار الضيقة تسع ألف ألف من الأرواح والصور المثالية التي هي أبدان المتجردين عن الأبدان العنصرية لعدم تمانعها كما قيل: سم الخياط مع الأحباب ميدان وفسر المقام الروحاني بما تدركه الروح من المعارف الإلهية وتشاهده من رضوان الله تعالى وعنايته القدسية مما لا عين رأت ولا أذن سمعت. وتعقب بأن هذا إن عد من بطون القرآن العظيم فلا كلام وإلا فحمل الجنة على مثل ذلك مما لا تعرفه العرب ولا ينبغي أن يفسر به، على أنه ربما يقال: يرد عليه أنه يقتضي أن لكل أحد أن يصل إلى مقام روحاني من مقاماتها مع أن منها ما يخص الأنبياء المكرمين والملائكة المقربين، والظاهر أنه لا يصل إلى مقاماتهم كل أحد من العارفين فافهم ولا تغفل فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ من كلام الداخلين عند الأكثر والمخصوص بالمدح محذوف أي هذا الأجر أو الجنة، ولعل التعبير- بأجر العاملين- دون أجرنا للتعريض بأهل النار أنهم غير عاملين، وقال مقاتل: هو من كلام الله تعالى وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ أي محدقين من الحفاف بمعنى الجانب جمع حاف كما قال الأخفش، وقال الفراء: لا يفرد فقيل: أراد أن المفرد لا يكون حافا إذ الإحداق والإحاطة لا يتصور بفرد وإنما يتحقق بالجمع، وقيل: أراد أنه لم يرد استعمال مفرده. وأورد على الأول أن الإحاطة بالشيء بمعنى محاذاة جميع جوانبه فتصور في الواحد بدورانه حول الشيء فإنه حينئذ يحاذي جميع جوانبه تدريجا فيكون الحفوف بمعنى الدوران حوله أو يراد بكونه حافا أنه جزء من الحاف وله مدخل في الحفوف، ولو صح ما ذكر لم يصح أن يقال: طائف أو محدق أو محيط أو نحوه مما يدل على الإحاطة. وأورد على الثاني أنا لم نجد ورود جمع سالم لم يرد استعمال مفرده فبعد ورود حافين الظاهر ورود حاف كما لا يخفى، والخطاب لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم، وجوز أن يكون لكل من تصح منه الرؤية كأنه قيل: وترى أيها الرائي الملائكة حافين مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ أي حول العرش على أن مِنَ مزيدة على رأي الأخفش وهو الأظهر، وقيل: هي للابتداء- فحول العرش- مبتدأ الحفوف وكأن الحفوف حينئذ للخلق، وفي بعض الآثار ما هو ناطق بذلك، وفيها ما يدل على أن العرش يوم فصل القضاء يكون في الأرض حيث يشاء الله تعالى والأرض يومئذ غير هذه الأرض، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 289 على أن أحوال يوم القيامة وشؤون الله تعالى وراء عقولنا وسبحان من لا يعجزه شيء، والظاهر أن الرؤية بصرية- فحافين- حال أولى وقوله تعالى: يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ حال ثانية، ويجوز أن يكون حالا من ضمير حَافِّينَ المستتر، وجوز كون الرؤية علمية- فحافين- مفعول ثاني وجملة يُسَبِّحُونَ حال من الْمَلائِكَةَ أو من ضميرهم في حَافِّينَ والباء في بِحَمْدِ للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال أي ينزهونه تعالى عما لا يليق به ملتبسين بحمده، وحاصله يذكرون الله تعالى بوصفي جلاله وإكرامه تبارك وتعالى، وهذا الذكر إما من باب التلذذ فإن ذكر المحبوب من أعظم لذائذ المحب كما قيل: أجد الملامة في هواك لذيذة ... حبا لذكرك فليلمني اللوّم أو من باب الامتثال ويدعي أنهم مكلفون، ولا يسلم أنهم خارجون عن خطة التكليف أو يخرجون عنها يوم القيامة، نعم لا يرون ذلك كلفة وإن أمروا به. وفي حديث طويل جدا أخرجه عبد بن حميد وعلي بن سعيد في كتاب الطاعة والعصيان. وأبو يعلى وأبو الحسن القطان في المطولات. وأبو الشيخ في العظمة. والبيهقي في البعث والنشور عن أبي هريرة «فبينما نحن وقوف- أي في المحشر- إذ سمعنا حسا من السماء شديدا فينزل أهل سماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الجن والإنس حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم وأخذوا مصافهم ثم تنزل أهل السماء الثالثة بمثلي من نزل من الملائكة ومثلي من فيها من الجن والإنس حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم وأخذوا مصافهم ثم ينزلون على قدر ذلك من التضعيف إلى السماوات السبع ثم ينزل الجبار في ظلل من الغمام والملائكة تحمل عرشه يومئذ ثمانية وهم اليوم أربعة أقدامهم على تخوم الأرض السفلى والأرضون والسماوات إلى حجزهم والعرش على مناكبهم لهم زجل بالتسبيح فيقولون: سبحان ذي العزة والجبروت سبحان ذي الملك والملكوت سبحان الحي الذي لا يموت سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت سبوح قدوس رب الملائكة والروح سبحان ربنا الأعلى الذي يميت الخلائق ولا يموت فيضع عرشه حيث يشاء من الأرض ثم يهتف سبحانه بصوته فيقول عزّ وجلّ: «يا معشر الجن والإنس إني قد أنصتّ لكم منذ يوم خلقتكم إلى يومكم هذا أسمع قولكم وأبصر أعمالكم فانصتوا إلي فإنما هي أعمالكم وصحفكم تقرأ عليكم فمن وجد خيرا فليحمد الله تعالى ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» الحديث . وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ أي بين العباد كلهم بإدخال بعضهم الجنة وبعضهم النار فإن القضاء المعروف يكون بينهم، ولوضوح ذلك لا يضر كون الضمير لغير الملائكة مع أن ضمير يُسَبِّحُونَ لهم إذ التفكيك لا يمتنع مطلقا كما توهم، وقيل: ضمير بَيْنَهُمْ للملائكة واستظهره أبو حيان، وثوابهم وإن كانوا كلهم معصومين يكون على حسب تفاضل أعمالهم فيختلف تفاضل مراتبهم فإقامة كل في منزلته حسب عمله هو القضاء بينهم بالحق. وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي على ما قضى بيننا بالحق، والقائل قيل: هم المؤمنون المقضي لهم لا ما يعمهم والمقضي عليهم، وحمدهم الأول على إنجاز وعده سبحانه وإيراثهم الأرض يتبوؤن من الجنة ما شاؤوا، وحمدهم هذا على القضاء بالحق بينهم فلا تكرار. وقال الطيبي: إن الأول للتفصلة بين الفريقين بحسب الوعد والوعيد والسخط والرضوان، والثاني للتفرقة بينهما بحسب الأبدان ففريق في الجنة وفريق في السعير والأول أحسن، وقيل: هم الملائكة يحمدونه تعالى على قضائه سبحانه بينهم بالحق وإنزال كل منهم منزلته، وعليه ليس في الحمدين شائبة تكرار لتغاير الحامدين. وقيل: قِيلَ دون قالوا لتعينهم وتعظيمهم، وجوز كون القائل جميع العباد منعمهم ومعذبهم وكأنه أريد أن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 290 الحمد من عموم الخلق المقضي بينهم هنا إشارة إلى التمام وفصل الخصام كما يقوله المنصرفون من مجلس حكومة ونحوها، فيحمده المؤمنون لظهور حقهم وغيرهم لعدله واستراحتهم من انتظار الفصل، ففي بعض الآثار أنه يطول الوقوف في المحشر على العباد حتى إن أحدهم ليقول: رب أرحني ولو إلى النار، وقيل: إنهم يحمدونه إظهارا للرضا والتسليم. وقال ابن عطية: هذا الحمد ختم للأمر يقال عند انتهاء فصل القضاء أي إن هذا الحاكم العدل ينبغي أن يحمد عند نفوذ حكمه وإكمال قضائه، ومن هذه الآية جعلت الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ خاتمة المجالس في العلم، هذا والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على رسوله محمد خاتم النبيين وعلى آل وصحبه أجمعين. «ومن باب الإشارة في بعض الآيات» فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أي اعبده تعالى بنفسك وقلبك وروحك مخلصا، وإخلاص العبادة بالنفس التباعد عن الانتقاص، وإخلاص العبادة بالقلب العمى عن رؤية الأشخاص، وإخلاص العبادة بالروح نفي طلب الاختصاص. وذكر أن المخلص من خلص بالجود عن حبس الوجود إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ فيه إشارة إلى تهديد من يدعي رتبة من الولاية ليس بصادق فيها وعقوبته حرمان تلك الرتبة يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ فيه إشارة إلى أحوال السائرين إلى الله سبحانه من القبض والبسط والصحو والسكر والجمع والفرق والستر والتجلي وغير ذلك فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ قيل: يشير إلى ظلمة الإمكان وظلمة الهيولى وظلمة الصورة أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يشير إلى القيام بآداب العبودية ظاهرا وباطنا من غير فتور ولا تقصير يَحْذَرُ الْآخِرَةَ ونعيمها كما يحذر الدنيا وزينتها وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ رضاه سبحانه عنه وقربه عزّ وجلّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ قدر معبودهم جل شأنه فيطلبونه وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ذلك فيطلبون ما سواه إِنَّما يَتَذَكَّرُ حقيقة الأمر أُولُوا الْأَلْبابِ وهم الذين انسلخوا من جلد وجودهم وصفوا عن شوائب أنانيتهم قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا بي شوقا إلى اتَّقُوا رَبَّكُمْ فلا تطلبوا غيره سبحانه لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا في طلب في هذه الدنيا بأن لم يطلبوا مني غيري حَسَنَةٌ عظيمة وهي حسنة وجداني وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ وهي حضرة جلاله وجماله فإنها لا نهاية لها فليسر فيها ليرى ما يرى ولا يظن بما فتح عليه انتهاء السير وانقطاع الفيض إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ على صدق الطلب أَجْرَهُمْ من التجليات بغير حساب إذ لا نهاية لتجلياته تعالى وكُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن: 29] قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بطلب ما سواه عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وهو عذاب القطيعة والحرمان قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فلا أطلب دنيا ولا أخرى كما قيل: وكل له سؤل ودين ومذهب ... ولي أنتم سؤل وديني هواكم قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أي الذين تبين خسران أنفسهم بإفساد استعدادها للوصول والوصال وَأَهْلِيهِمْ من القلوب والأسرار والأرواح بالإعراض عن طلب المولى يَوْمَ الْقِيامَةِ الذي تتبين فيه الحقائق ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ الذي لا خفاء فيه لفوات رأس المال وعدم إمكان التلافي، وقال بعض الأجلة: إن للإنسان قوتين يستكمل بإحداهما علما وبالأخرى عملا، والآلة الواسطة في القسم الأول هي العلوم المسماة بالمقدمات وترتيبها على الوجه المؤدي إلى النتائج التي هي بمنزلة الربح يشبه تصرف التاجر في رأس المال بالبيع والشراء، والآلة في القسم العملي هو القوى البدنية وغيرها من الأسباب الخارجية المعينة عليها، واستعمال تلك القوى في وجوه أعمال البر التي هي بمنزلة الربح يشبه التجارة، فكل من أعطاه الله تعالى العقل والصحة والتمكين ثم إنه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 291 لم يستفد منها معرفة الحق ولا عمل الخير فإذا مات ربحه وضاع رأس ماله ووقع في عذاب الجهل وألم البعد عن عالمه والقرب مما يضاده أبد الآباد، فلا خسران فوق هذا ولا حرمان أبين منه، وقد أشار سبحانه إلى هذا بقوله تعالى: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ وهذا على الأول إشارة إلى إحاطة نار الحسرة بهم لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ قيل الغرف المبنية بعضها فوق بعض إشارة إلى العلوم المكتسبة المبنية على النظريات وأنها تكون في المتانة واليقين كالعلوم الغريزية البديهية أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ من سماء حضرته سبحانه أو من سماء القلب ماءً ماء المعارف والعلوم فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ مدارك وقوى فِي الْأَرْضِ أرض البشرية ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً من الأعمال البدنية والأقوال اللسانية ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إشارة إلى أفعال المرائين وأقوالهم ترى مخضرة وفق الشرع ثم تصفر من آفة الرياء ثم تكون حطاما لا حاصل لها إلا الحسرة أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ للانقياد إليه سبحانه فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ يستضيء به في طلبه سبحانه، ومن علامات هذا النور محو ظلمات الصفات الذميمة النفسانية والتحلية بالأخلاق الكريمة القدسية. اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ إذا قرعت صفات الجلال أبواب قلوبهم ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ بالشوق والطلب ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ يتجاذبونه وهم شغل الدنيا وشغل العيال وغير ذلك من الأشغال وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ إشارة إلى المؤمن الخالص الذي لم يشغله شيء عن مولاه عزّ شأنه فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ يشير إلى حال الكاذبين في دعوى الولاية وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ يشير إلى حال أقوام نبذوا الشريعة وراء ظهورهم وقالوا: هي قشر والعياذ بالله تعالى وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ قيل: هو سواد قلوبهم ينعكس على وجوههم وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً قيل المتقون قد عبدوا الله تعالى لله جل شأنه لا للجنة فتصير شدة استغراقهم في مشاهدة مطالع الجمال والجلال مانعة لهم عن الرغبة في الجنة فلا جرم يفتقرون إلى السوق، وقيل: كل خصلة ذميمة أو شريفة في الإنسان فإنها تجره من غير اختيار شاء أم أبى إلى ما يضاهي حاله فذاك معنى السوق في الفريقين، وقيل: القوم أهل وفاء فهم يقولون: لا ندخل الجنة حتى يدخلها أحبابنا فلذا يساقون إليها ولكن لا كسوق الكفرة وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم في مقعد صدق عند مليك مقتدر بناء على أن العرش لا يتحول يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ إشارة إلى نعيمهم وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ أعطى كل ما يستحقه وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ على انقضاء الأمر وفصل القضاء بالعدل الذي لا شبهة فيه ولا امتراء، هذا والحمد لله تعالى على أفضاله والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 292 سورة غافر وتسمى سورة غافر وسورة الطول، وهي كما روي عن ابن عباس وابن الزبير ومسروق وسمرة بن جندب مكية، وحكى أبو حيان الإجماع على ذلك، وعن الحسن أنها مكية إلا قوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [غافر: 55] لأن الصلوات نزلت بالمدينة وكانت الصلاة بمكة ركعتين من غير توقيت. وأنت تعلم أن الحق قول الأكثرين: إن الخمس نزلت بمكة على أنه لا يتعين إرادة الصلاة بالتسبيح في الآية، وقيل: هي مكية إلا قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ [غافر: 35] الآية فإنها مدنية، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية وغيره أنها نزلت في اليهود لما ذكروا الدجال، وهذا ليس بنص على أنها نزلت بالمدينة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: قولهم نزلت الآية في كذا يراد به تارة سبب النزول ويراد به تارة أن ذلك داخل في الآية وإن لم يكن السبب كما تقول: عني بهذه الآية كذا، وقال الزركشي في البرهان: قد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال: نزلت الآية في كذا فإنه يريد بذلك أنها تتضمن هذا الحكم لا أن هذا كان السبب في نزولها فهو من جنس الاستدلال على الحكم بالآية لا من جنس النقل لما وقع. نعم سيأتي إن شاء الله تعالى عن أبي العالية ما هو كالنص على ذلك. وآيها خمس وثمانون في الكوفي والشامي، وأربع في الحجازي، واثنتان في البصري، وقيل: ست وثمانون، وقيل: ثمان وثمانون، ووجه مناسبة أولها لآخر الزمر أنه تعالى لما ذكر سبحانه هناك ما يؤول إليه حال الكافر وحال المؤمن ذكر جل وعلا هنا أنه تعالى غافر الذنب وقابل التوب ليكون ذلك استدعاء للكافر إلى الإيمان والإقلاع عما هو فيه، وبين السورتين أنفسهما أوجه من المناسبة، ويكفي فيها أنه ذكر في كل من أحوال يوم القيامة وأحوال الكفرة فيه وهم في المحشر وفي النار ما ذكر، وقد فصل في هذه من ذلك ما لم يفصل منه في تلك. وفي تناسق الدرر وجه إيلاء الحواميم السبع لسورة الزمر تواخي المطالع في الافتتاح بتنزيل الكتاب. وفي مصحف ابن مسعود أول الزمر حم وتلك مناسبة جليلة، ثم إن الحواميم ترتبت لاشتراكها في الافتتاح- بحم- وبذكر الكتاب وأنها مكية بل ورد عن ابن عباس وجابر بن زيد أنها نزلت عقب الزمر متتاليات كترتيبها في المصحف، وورد في فضلها أخبار كثيرة، أخرج أبو عبيد في فضائله عن ابن عباس قال: إن لكل شيء لبابا وإن لباب القرآن الحواميم. وأخرج هو وابن الضريس وابن المنذر والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال: الحواميم ديباج القرآن. وأخرجه أبو الشيخ وأبو نعيم والديلمي عن أنس رضي الله تعالى عنه مرفوعا، وأخرج الديلمي وابن مردويه عن سمرة بن جندب مرفوعا «الحواميم روضة من رياض الجنة» . وأخرج محمد بن نصر والدارمي عن سعد بن إبراهيم قال: كن الحواميم يسمين العرائس. وأخرج ابن نصر وابن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 293 مردويه عن أنس بن مالك قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله تعالى أعطاني السبع الطوال مكان التوراة وأعطاني الراءات إلى الطواسين مكان الإنجيل وأعطاني ما بين الطواسين إلى الحواميم مكان الزبور وفضلني بالحواميم والمفصل ما قرأهن نبي قبلي» . وأخرج البيهقي في الشعب عن الخليل بن مرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الحواميم سبع وأبواب جهنم سبع تجيء كل حم منها فتقف على باب من هذه الأبواب تقول: اللهم لا تدخل من هذا الباب من كان يؤمن بي ويقرؤني» وجاء في خصوص بعض آيات هذه السورة ما يدل على فضله. أخرج الترمذي والبزار ومحمد بن نصر وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله من قرأ حم إلى إِلَيْهِ الْمَصِيرُ وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 294 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم بتفخيم الألف وتسكين الميم، وقرأ ابن عامر برواية ذكوان، وحمزة والكسائي وأبو بكر بالإمالة الصريحة، ونافع برواية ورش. وأبو عمرو بالإمالة بين بين، وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بفتح الميم على التحريم لالتقاء الساكنين بالفتحة للخفة كما في أين وكيف، وجوز أن يكون ذلك نصبا بإضمار اقرأ ومنع من الصرف للعلمية والتأنيث لأنه بمعنى السورة أو للعلمية وشبه العجمة لأن فاعيل ليس من أوزان أبنية العرب وإنما وجد ذلك في لغة العجم كقابيل وهابيل، ونقل هذا عن سيبويه. وفي الكشف أن الأولى أن يعلل بالتعريف والتركيب. وقرأ أبو السمال بكسر الميم على أصل التقاء الساكنين كما في جير: والزهري برفعها والظاهر أنه إعراب فهو إما مبتدأ أو خبر مبتدأ محذوف، والكلام في المراد به كالكلام في نظائره، ويجمع على حواميم وحاميمات أما الثاني فقد أنشد فيه ابن عساكر في تاريخه: هذا رسول الله في الخيرات ... جاء بياسين وحاميمات وأما الأول فقد تقدم عدة أخبار فيه ولا أظن أن أحدا ينكر صحة جميعها أو يزعم أن لفظ حواميم فيها من تحريف الرواة الأعاجم وأيضا أنشد أبو عبيدة: حلفت بالسبع الألى تطولت ... وبمئين بعدها قد أمئيت وبثمان ثنيت وكررت ... وبالطواسين اللواتي تليت وبالحواميم اللواتي سبعت ... وبالمفصل التي قد فصلت وذهب الجواليقي والحريري وابن الجوزي إلى أنه لا يقال حواميم، وفي الصحاح عن الفراء أن قول العامة الحواميم ليس من كلام العرب، وحكى صاحب زاد المسير عن شيخه أبي منصور اللغوي أن من الخطأ أن تقول: قرأت الحواميم والصواب أن تقول قرأت آل حم، وفي حديث ابن مسعود إذا وقعت في آل حم فقد وقعت في روضات دمثات أتأنق فيهن، وعلى هذا قول الكميت بن زيد في الهاشميات: وجدنا لكم في آل حم آية ... تأولها منا تقي ومعرب والطواسين والطواسيم بالميم بدل النون كذلك عندهم، وما سمعت يكفي في ردهم. نعم ما قالوه مسموع مقبول كالذي قلناه لكن ينبغي أن يعلم أن آل في قولهم آل حم كما قال الخفاجي ليس بمعنى الآل المشهور وهو الأهل بل هو لفظ يذكر قبل ما لا يصح تثنيته وجمعه من الأسماء المركبة ونحوها كتأبط شرا فإذا أرادوا تثنيته أو جمعه وهو جملة لا يتأتى فيها ذلك إذ لم يعهد مثله في كلام العرب زادوا قبله لفظة آل أو ذوا فيقال: جاءني آل تأبط شرا أو ذوا تأبط شراف أي الرجلان أو الرجال المسمون بهذا الاسم، فآل حم بمعنى الحواميم وآل بمعنى ذو، والمراد به ما يطلق عليه ويستعمل فيه هذا اللفظ وهو مجاز عن الصحبة المعنوية، وفي كلام الرضي وغيره إشارة إلى هذا إلا أنهم لم يصرحوا بتفسيره فعليك بحفظه، وحكي في الكشف أن الأولى أن يجمع بذوات حم أي دون حواميم أو حاميمات ومعناه السور المصحوبات بهذا اللفظ أعني حم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ الكلام فيه أعرابا كالكلام في مطلع سورة الزمر بيد أنه يجوز هنا أن يكون تَنْزِيلُ خبرا عن حم ولعل تخصيص الوصفين لما في القرآن الجليل من الإعجاز وأنواع العلوم التي يضيق عن الإحاطة بها نطاق الإفهام أو هو على نحو تخصيص الوصفين فيما سبق فإن شاء البليغ علمه بالأشياء أن يكون حكيما إلا أنه قيل الْعَلِيمِ دون الحكيم تفننا، وقوله تعالى: غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 295 صفات للاسم الجليل كالعزيز العليم، وذكر غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ وذِي الطَّوْلِ للترغيب وذكر شَدِيدِ الْعِقابِ للترهيب والمجموع للحث على المقصود من تَنْزِيلُ الْكِتابِ وهو المذكور بعد من التوحيد والإيمان بالبعث المستلزم للإيمان بما سواهما والإقبال على الله تعالى، والأولان منها وإن كانا اسمي فاعل إلا أنهما لم يرد بهما التجدد ولا التقييد بزمان بل أريد بهما الثبوت والاستمرار فإضافتهما للمعرفة بعدهما محضة اكسبتهما تعريفا فصح أن يوصف بهما أعرف المعارف، والأمر في ذِي الطَّوْلِ ظاهر جدا. نعم الأمر في شَدِيدِ الْعِقابِ مشكل فإن شديدا صفة مشبهة وقد نص سيبويه على أن كل ما أضافته غير محضة إذا أضيف إلى معرفة جاز أن ينوي بإضافته التمحض فيتعرف وينعت به المعرفة إلا ما كان من باب الصفة المشبهة فإنه لا يتعرف ومن هنا ذهب الزجاج إلى أن شَدِيدِ الْعِقابِ بدل، ويرد عليه أن في توسيط البدل بين الصفات تنافرا بينا لأن الوصف يؤذن بأن الموصوف مقصود والبدل بخلافه فيكون بمنزلة استئناف القصد بعد ما جعل غير مقصود، والجواب أنه إنما يشكل ظاهرا على مذهب سيبويه وسائر البصريين القائلين بأن الصفة المشبهة لا تتعرف أصلا بالإضافة إلى المعرفة، وأما على مذهب الكوفيين القائلين بأنها كغيرها من الصفات قد تتعرف بالإضافة ويجوز وصف المعرفة بها نحو مررت بزيد حسن الوجه فلا، ويقال فيما ذكر على المذهب الأول: إن «شديدا» مؤول بمشدد اسم فاعل من أشده جعله شديدا كأذين بمعنى مؤذن فيعطي حكمه، أو يقال: إنه معرف بأل والأصل الشديد عقابه لكن حذفت لأمن اللبس بغير الصفة لوقوعه بين الصفات واحتمال كونه بدلا وحده لا يلتفت على ما سمعت إليه ورعاية لمشاكلة ما معه من الأوصاف المجردة منها والمقدر في حكم الموجود، وقد غيروا كثيرا من كلامهم عن قوانينه لأجل المشاكلة حتى قالوا: ما يعرف سحادليه من عنادليه أرادوا ما يعرف ذكره من أنثييه فثنوا ما هو وتر لأجل ما هو شفع، وجوز كون جميع التوابع المذكورات أبدالا وتعمد تنكير شَدِيدِ الْعِقابِ وإبهامه للدلالة على فرط الشدة وعلى ما لا شيء أدهى منه وأمر لزيادة الإنذار. وفي الكشف جعل كلها إبدالا فيه تنافر عظيم لا سيما في إبدال الْعَزِيزِ من اللَّهِ الاسم الجامع لسائر الصفات العلم النص وأين هذا من براعة الاستهلال؟ وذهب مكي إلى جواز كون غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ دون ما قبلهما بدلين وأنهما حينئذ نكرتان، وقد علمت ما فيه مما تقدم، وقال أبو حيان: إن بدل البداء عند من أثبته قد يتكرر وأما بدل كل من كل وبدل بعض من كل وبدل اشتمال فلا نص عن أحد من النحويين أعرفه في جواز التكرار فيها أو منعه إلا أن في كلام بعض أصحابنا ما يدل على أن البدل من البدل جائز دون تعدد البدل واتحاد المبدل منه، وظاهر كلام الخفاجي أن النحاة صرحوا بجواز تعدده حيث قال: لا يرد على القول بالإبدال قلة البدل في المشتقات، ولا أن النكرة لا تبدل من المعرفة ما لم توصف، ولا أن تعدد البدل لم يذكره النحاة كما قيل لأن النحاة صرحوا بخلافه في الجميع، وللدماميني فيه كلام طويل الذيل في أول شرح الخزرجية لا يسعه هذا المقام فإن أردته فانظر فيه انتهى. وعندي أن الإبدال هنا ليس بشيء كلا أو بعضا، والتَّوْبِ يحتمل أن يكون مصدرا كالأوب بمعنى الرجوع ويحتمل أن يكون اسم جمع لتوبة كتمر وتمرة، والطَّوْلِ الفضل بالثواب والإنعام أو بذلك وبترك العقاب المستحق كما قيل وهو أولى من تخصيصه بترك العقاب وإن وقع بعد شَدِيدِ الْعِقابِ وكون الثواب موعودا فصار كالواجب فلا يكون فضلا ليس بشيء فإن الوعد به ليس بواجب، وفسره ابن عباس بالسعة والغنى، وقتادة بالنعم، وابن زيد بالقدرة، وتوسيط الواو بين غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ لإفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين بين أن يقبل سبحانه توبته فيكتبها له طاعة من الطاعات وأن يجعلها محاءة للذنب كأنه لم يذنب كأنه قيل: جامع المغفرة والقبول الجزء: 12 ¦ الصفحة: 296 قاله الزمخشري، ووجهه كما في الكشف أنها صفات متعاقبة بدون الواو دالة على معنى الجمع المطلق من مجرد الإجراء فإذا خصت بالواو إحدى القرائن دل على أن المراد المعتبر فيها وفيما تقدمها خاصة صونا لكلام البليغ عن الإلغاء، ففي الواو هنا الدلالة على أنه سبحانه جامع بين الغفران وقبول التوب للتائب خاصة، ولا ينافي ذلك أنه عزّ وجلّ قد يغفر لمن لم يتب، وما قيل: إن التوسيط يدل على أن المعنى كما أخرج أبو الشيخ في العظمة عن الحسن غافر الذنب لمن لم يتب وقابل التوب لمن تاب فغير مسلم، والتغاير الذي يذكرونه بين موقع الفعلين وهما غفران الذنب وقبول التوبة عنه المقتضي لكون الغفران بالنسبة إلى قوم والقبول بالنسبة إلى آخرين إذ جعلوا موقع الأول الذنب الباقي في الصحائف من غير مؤاخذة وموقع الثاني الذنب الزائل الممحو عنها حاصل مع الإجراء فلا مدخل للواو، ثم ما ذكر من الوجه السابق حار على أصلي أهل السنة والمعتزلة فلا وجه لرده بما ليس بقادح وإيثار ما هو مرجوح، وتقديم الغافر على القابل من باب تقديم التخلية على التحلية فافهم. وفي القطع بقبول توبة العاصي قولان لأهل السنة. وفي البحر الظاهر من الآية أن توبة العاصي بغير الكفر كتوبة العاصي به مقطوع بقبولها، وفي توحيد صفة العذاب مغمورة بصفاته تعالى الدالة على الرحمة دليل على زيادة الرحمة وسبقها فسبحانه من إله ما أرحمه وأكرمه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فيجب الإقبال الكلي على طاعته في أوامره ونواهيه إِلَيْهِ الْمَصِيرُ فحسب لا إلى غيره تعالى لا استقلالا ولا اشتراكا فيجازي كلا من المطيع والعاصي، وجملة لا إِلهَ إِلَّا هُوَ مستأنفة أو حالية، وقيل: صفة لله تعالى أو لشديد العقاب، وفي الآيات مما يقتضي الاتعاظ ما فيها. أخرج عبد بن حميد عن يزيد بن الأصم أن رجلا كان ذا بأس وكان من أهل الشام وأن عمر رضي الله تعالى عنه فقده فسأل عنه فقيل له: تتابع في الشراب فدعا عمر كاتبه فقال له: اكتب من عمر ابن الخطاب إلى فلان بن فلان سلام عليكم فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم- إلى قوله تعالى- إِلَيْهِ الْمَصِيرُ وختم الكتاب، وقال لرسوله: لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيا ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة فلما أتته الصحيفة جعل يقرؤها ويقول: قد وعدني ربي أن يغفر لي وحذرني عقابه فلم يبرح يرددها على نفسه حتى بكى ثم نزع فأحسن النزوع فلما بلغ عمر توبته قال: هكذا فافعلوا إذا رأيتم أخاكم قد زل زلة فسددوه ووقفوه وادعوا الله تعالى أن يتوب عليه ولا تكونوا أعوانا للشياطين عليه. ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا نزلت على ما قال أبو العالية في الحارث بن قيس السلمي أحد المستهزئين، والمراد بالجدال الجدال بالباطل من الطعن في الآيات والقصد إلى إدحاض الحق وإطفاء نور الله عزّ وجلّ لقوله تعالى بعد، وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فإنه مذكور تشبيها لحال كفار مكة بكفار الأحزاب من قبل وإلا فالجدال فيها لإيضاح ملتبسها وحل مشكلها ومقادحة أهل العلم في استنباط معانيها ورد أهل الزيغ عنها أعظم جهاد في سبيل الله تعالى وفي قوله صلى الله عليه وسلم وقد أخرجه عبد بن حميد عن أبي هريرة مرفوعا: «إن جدالا في القرآن كفر» إيماء إلى ذلك حيث ذكر فيه جدالا منكرا للتنويع فأشعر أن نوعا منه كفر وضلال ونوعا آخر ليس كذلك. والتحقيق كما في الكشف أن المجادلة في الشيء تقتضي أن يكون ذلك الشيء إما مشكوكا عند المجادلين أو أحدهما أو منكرا كذلك، وأيا ما كان فهو مذموم اللهم إلا إذا كان من موحد لخارج عن الملة أو من محقق لزائغ إلى البدعة فهو محمود بالنسبة إلى أحد الطرفين، وأما ما قيل: إن البحث فيها لإيضاح الملتبس ونحوه جدال عنها لا فيها فإن الجدال يتعدى بعن إذا كان للمنع والذب عن الشيء وبفي لخلافه كما ذكره الإمام وبالباء أيضا كما في قوله تعالى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125] ففيه بحث، وفي قوله تعالى: فِي آياتِ اللَّهِ دون- فيه- بالضمير العائد إلى الكتاب دلالة على أن كل آية منه يكفي كفر المجادلة فكيف بمن ينكره كله ويقول فيه ما يقول، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 297 وفيه أن كل آية منه آية أنه من الله تعالى الموصوف بتلك الصفات فيدل على شدة شكيمة المجادل في الكفر وأنه جادل في الواضح الذي لا خفاء به، ومما ذكر يظهر اتصال هذه الآية بما قبلها وارتباط قوله تعالى: فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ بها أي إذا علمت أن هؤلاء شديد والشكائم في الكفر قد خسروا الدنيا والآخرة حيث جادلوا في آيات الله العزيز العليم وأصروا على ذلك فلا تلتفت لاستدراجهم بتوسعة الرزق عليهم وإمهالهم فإن عاقبتهم الهلاك كما فعل بمن قبلهم من أمثالهم مما أشير إليه بقوله سبحانه: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ إلخ، والتقلب الخروج من أرض إلى أخرى. والمراد بالبلاد بلاد الشام واليمن فإن الآية في كفار قريش وهم كانوا يتقلبون بالتجارة في هاتيك البلاد ولهم رحلة الشتاء لليمن ورحلة الصيف للشام، ولا بأس في إرادة ما يعم ذلك وغيره. وقرأ زيد بن علي وعبيد بن عمير «فلا يغرك» بالإدغام مفتوح الراء وهي لغة تميم والفلك لغة الحجازيين، وبدأ بقوم نوح لأنه عليه الصلاة والسلام على ما في البحر أول رسول في الأرض أو لأنهم أول قوم كذبوا رسولهم وعتوا عتوا شديدا وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ أي والذين تحزبوا واجتمعوا على معاداة الرسل عليهم السلام من قوم نوح كعاد وثمود وقوم فرعون وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ من تلك الأمم بِرَسُولِهِمْ وقرأ عبد الله «برسولها» رعاية اللفظ الأمة لِيَأْخُذُوهُ ليتمكنوا من إيقاع ما يريدون به من حبس وتعذيب وقتل وغيره، فالأخذ كناية عن التمكن المذكور، وبعضهم فسره بالأسر وهو قريب مما ذكر، وقال قتادة: أي ليقتلوه وَجادَلُوا بِالْباطِلِ بما لا حقيقة له قيل هو قولهم: ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا [إبراهيم: 10] والأولى أن يقال هو كل ما يذكرونه لنفي الرسالة وتحسين ما هم عليه، وتفسيره بالشيطان ليس بشيء لِيُدْحِضُوا ليزيلوا بِهِ أي بالباطل، وقيل: أي بجدالهم بالباطل الْحَقَّ الأمر الثابت الذي لا محيد عنه فَأَخَذْتُهُمْ بالإهلاك المستأصل لهم فَكَيْفَ كانَ عِقابِ فإنكم تمرون على ديارهم وترون أثره، وهذا تقرير فيه تعجيب للسامعين مما وقع بهم، وجوز أن يكون من عدم اعتبار هؤلاء، واكتفى بالكسرة عن ياء الإضافة في عقاب لأنه فاصلة، واختلف في المسبب عنه الأخذ المذكور فقيل: مجموع التكذيب والهم بالأخذ والجدال بالباطل، واختار الزمخشري كونه الهم بالأخذ، قال في الكشف: وذلك لأن قوله تعالى: وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا هو التكذيب بعينه والأخذ يشاكل الأخذ وإنما التكذيب موجب استحقاق العذاب الأخروي المشار إليه بعد، ولا ينكر أن كليهما يقتضي كليهما لكن لما كان ملاءمة الأخذ للأخذ أتم والتكذيب للعذاب الأخروي أظهر أنه متعلق بالأخذ تنبيها على كمال الملاءمة، ثم المجادلة العنادية ليس الغرض منها إلا الإيذاء فهي تؤكد الهم من هذا الوجه بل التكذيب أيضا يؤكده، والغرض من تمهيد قوله تعالى: ما يُجادِلُ وذكر الأحزاب الإلمام بهذا المعنى، ثم التصريح بقوله سبحانه-: وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ يدل على ما اختاره دلالة بينة فلا حاجة إلى أن يعتذر بأنه إنما اعتبر هذا لا ما سيق له الكلام من المجادلة الباطلة للتسلي انتهى، والإنصاف إن فيما صنعه جار الله رعاية جانب المعنى ومناسبة لفظية إلا أن الظاهر هو التفريع على المجموع كما لا يخفى وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أي كما وجب حكمه تعالى بالإهلاك على هؤلاء المتحزبين على الأنبياء وجب حكمه سبحانه بالإهلاك على هؤلاء المتحزبين عليك أيضا وهم كفار قريش أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ أي لأنهم أصحاب النار أي لأن العلة متحدة وهي أنهم كفار معاندون مهتمون بقتل النبي مثلهم، فوضع أَصْحابُ النَّارِ موضع ما ذكر لأنه آخر أوصافهم وشرها والدال على الباقي، وأَنَّهُمْ إلخ في حيز النصب بحذف لام التعليل كما أشرنا إليه، وجوز أن يكون في محل رفع على أنه بدل من كَلِمَةُ رَبِّكَ بدل كل من كل أن أريد بالكلمة قوله تعالى أو حكمه سبحانه بأنهم من أصحاب النار، وبدل اشتمال أن أريد بها الأعم، ويراد بالذين كفروا أولئك المتحزبون، والمعنى كما وجب إهلاكهم بالعذاب المستأصل في الدنيا وجب إهلاكهم بعذاب النار في الآخرة أيضا لكفرهم، والوجه الأول أظهر بالمساق. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 298 والتعبير بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم، وفسرت كَلِمَةُ رَبِّكَ عليه بقوله سبحانه: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم: 47] ونحوه. وفي مصحف عبد الله «وكذلك سبقت» وهو على ما قيل تفسير معنى لا قراءة. وقرأ ابن هرمز وشيبة وابن القعقاع ونافع وابن عامر «كلمات» على الجمع. الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وهو جسم عظيم له قوائم الكرسي وما تحته بالنسبة إليه كحلقة في فلاة. وفي بعض الآثار خلق الله تعالى العرش من جوهرة خضراء وبين القائمتين من قوائمه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام. وذكر بعضهم في سعته أنه لو مسح مقعره بجميع مياه الدنيا مسحا خفيفا لقصرت عن استيعابه ويزعم أهل الهيئة ومن وافقهم أنه كري وأنه المحدد وفلك الأفلاك وأنه كسائر الأفلاك لا يوصف بثقل ولا خفة وليس لهم في ذلك خبر يعول عليه بل الأخبار ظاهرة في خلافه. والظاهر أن الحمل على حقيقته وحملته ملائكة عظام. أخرج أبو يعلى وابن مردويه بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أذن لي أن أحدث عن ملك قد مرقت رجلاه الأرض السابعة السفلى والعرش على منكبيه وهو يقول: سبحانك أين كنت وأين تكون. وأخرج أبو داود وجماعة بسند صحيح عن جابر بلفظ «أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى من حملة العرش ما بين شحمة إذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام» وهم على ما في بعض الآثار ثمانية. أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ والبيهقي في شعب الإيمان عن هارون بن رباب قال: حملة العرش ثمانية يتجاوبون بصوت رخيم يقول أربعة منهم سبحانك وبحمدك على حلمك بعد عفوك وأربعة منهم سبحانك وبحمدك على عفوك بعد قدرتك . وأخرج أبو الشيخ وابن أبي حاتم من طريق أبي قبيل أنه سمع ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول: حملة العرش ثمانية ما بين موق أحدهم إلى مؤخر عينيه مسيرة خمسمائة عام ، وفي بعض الآثار أنهم اليوم أربعة ويوم القيامة ثمانية. أخرج أبو الشيخ عن وهب قال: حملة العرش أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدوا بأربعة آخرين، ملك منهم في صورة إنسان يشفع لبني آدم في أرزاقهم، وملك منهم في صورة نسر يشفع للطير في أرزاقهم، وملك منهم في صورة ثور يشفع للبهائم في أرزاقهم، وملك منهم في صورة أسد يشفع للسباع في أرزاقهم فلما حملوا العرش وقعوا على ركبهم من عظمة الله تعالى فلقنوا لا حول ولا قوة إلا بالله فاستووا قياما على أرجلهم. وجاء رواية عن وهب أيضا أنهم يحملون العرش على أكتافهم وهو الذي يشعر به ظاهر خبر أبي هريرة السابق. وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن حبان بن عطية قال: حملة العرش ثمانية أقدامهم مثبتة في الأرض السابعة ورؤوسهم قد جاوزت السماء السابعة وقرونهم مثل طولهم عليها العرش. وفي بعض الآثار أنهم خشوع لا يرفعون طرفهم، وفي بعضها لا يستطيعون أن يرفعوا أبصارهم من شعاع النور، وهم على ما أخرج ابن أبي شيبة عن أبي أمامة يتكلمون بالفارسية أي إذا تكلموا بغير التسبيح وإلا فالظاهر أنهم يسبحون بالعربية، على أن الخبر الله تعالى أعلم بصحته. وفي بعض الآثار عن وهب أنهم ليس لهم كلام إلا أن يقولوا قدوس الله القوي ملأت عظمته السماوات والأرض، وما سيأتي إن شاء الله تعالى بعيد هذا في الآية يأبى ظاهره الحصر وَمَنْ حَوْلَهُ أي والذين من حول العرش وهم ملائكة في غاية الكثرة لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى. وقيل: حول العرش سبعون ألف صف من الملائكة يطوفون به مهللين مكبرين ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام قد وضعوا أيديهم على عواتقهم رافعين أصواتهم بالتهليل والتكبير ومن ورائهم مائة ألف صف قد وضعوا الأيمان الجزء: 12 ¦ الصفحة: 299 على الشمائل ما منهم أحد إلا وهو يسبح بما لا يسبح به الآخر. وذكر في كثرتهم أن مخلوقات البر عشر مخلوقات البحر والمجموع عشر مخلوقات الجو والمجموع عشر ملائكة السماء الدنيا والمجموع عشر ملائكة السماء الثانية وهكذا إلى السماء السابعة والمجموع عشر ملائكة الكرسي والمجموع عشر الملائكة الحافين بالعرش، ولا نسبة بين مجموع المذكور وما يعلمه الله تعالى من جنوده سبحانه وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر: 31] ويقال لحملة العرش والحافين به الكروبيون جمع كروبي بفتح الكاف وضم الراء المهملة المخففة وتشديدها خطأ ثم واو بعدها ياء موحدة ثم ياء مشددة من كرب بمعنى قرب، وقد توقف بعضهم في سماعه من العرب وأثبته أبو علي الفارسي واستشهد له بقوله: كروبية منهم ركوع وسجد وفيه دلالة على المبالغة في القرب لصيغة فعول والياء التي تزاد للمبالغة، وقيل: من الكرب بمعنى الشدة والحزن وكأن وصفهم بذلك لأنهم أشد الملائكة خوفا. وزعم بعضهم أن الكروبيين حملة العرش وأنهم أول الملائكة وجودا ومثله لا يعرف إلا بسماع. وعن البيهقي أنهم ملائكة العذاب وكأن ذلك إطلاق آخر من الكرب بمعنى الشدة والحزن، وقال ابن سينا في رسالة الملائكة: الكروبيون هم العامرون لعرصات التيه الأعلى الواقفون في الموقف الأكرم زمرا الناظرون إلى المنظر الأبهى نظرا وهم الملائكة المقربون والأرواح المبرءون، وأما الملائكة العاملون فهم حملة العرش والكرسي وعمار السماوات انتهى. وذهب بعضهم إلى أن حمل العرش مجاز عن تدبيره وحفظه من أن يعرض له ما يخل به أو بشيء من أحواله التي لا يعلمها إلا الله عزّ وجلّ، وجعلوا القرينة عقلية لأن العرش كريّ في حيزه الطبيعي فلا يحتاج إلى حمل ونسب ذلك إلى الحكماء وأكثر المتكلمين، وكذا ذهبوا إلى أن الخفيف والطواف بالعرش كناية أو مجاز عن القرب من ذي العرش سبحانه ومكانتهم عنده تعالى وتوسطهم في نفاذ أمره عزّ وجلّ، والحق الحقيقة في الموضعين وما ذكر من القرينة العقلية في حيز المنع. وقرأ ابن عباس وفرقة «العرش» بضم العين فقيل: هو جمع عرش كسقف وسقف أو لغة في العرش، والموصول الأول مبتدأ والثاني عطف عليه والخبر قوله تعالى: يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ والجملة استئناف مسوق لتسلية رسول الله صلّى الله عليه وسلم ببيان أن الملائكة الذين هم في المحل الأعلى مثابرون على ولاية من معه من المؤمنين ونصرتهم واستدعاء ما يسعدهم في الدارين أي ينزهونه تعالى عن كل ما لا يليق بشأنه الجليل كالجسمية وكون العرش حاملا له عزّ وجلّ ملتبسين بحمده جل شأنه على نعمائه التي لا تتناهى. وَيُؤْمِنُونَ بِهِ إيمانا حقيقيا كاملا، والتصريح بذلك مع الغنى عن ذكره رأسا لإظهار فضيلة الإيمان وإبراز شرف أهله والإشعار بعلة دعائهم للمؤمنين حسبما ينطق به قوله تعالى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فإن المشاركة في الإيمان أقوى المناسبات وأتمها وادعى الدواعي إلى النصح والشفقة وإن تخالفت الأجناس وتباعدت الأماكن، وفيه على ما قيل: إشعار بأن حملة العرش وسكان الفرش سواء في الإيمان بالغيب إذ لو كان هناك مشاهدة للزومها من الحمل بناء على العادة الغالبة أو على أن العرش جسم شفاف لا يمنع الأبصار البتة لم يقل يؤمنون لأن الإيمان هو التصديق القلبي أعني العلم أو ما يقوم مقامه مع اعتراف وإنما يكون يكون في الخبر ومضمونه من معتقد علمي أو ظني ناشىء من البرهان أو قول الصادق كأنه اعترف بصدق المخبر أو البرهان وأما العيان فيغني عن البيان، ففي ذلك رمز إلى الرد على المجسمة، ونظيره في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «لا تفضلوني على ابن متى» كذا قيل، وينبغي أن يعلم أن كون الجزء: 12 ¦ الصفحة: 300 حملة العرش لا يرونه عزّ وجلّ بالحاسة لا يلزم منه عدم رؤية المؤمنين إياه تعالى في الدار الآخرة رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً على إرادة القول أي يقولون ربنا إلخ، والجملة لا محل لها محل لها من الإعراب على أنها تفسير- ليستغفرون- أو في محل رفع على أنها عطف بيان على تلك الجملة بناء على جوازه في الجمل أو في محل نصب على الحالية من الضمير في يَسْتَغْفِرُونَ. وفسر استغفارهم على هذا الوجه بشفاعتهم للمؤمنين وحملهم على التوبة بما يفيضون على سرائرهم، وجوز أن يكون الاستغفار في قوله تعالى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ المفسر بترك معاجلة العقاب وإدرار الرزق والارتفاق بما خلق من المنافع الجمة ونحو ذلك وهو وإن لم يخص المؤمنين لكنهم أصل فيه فتخصيصهم هنا بالذكر للإشارة إلى ذلك، والأظهر كون الجملة تفسيرا، ونصب رُحْماً وعِلْماً على التمييز وهو محول عن الفاعل والأصل وسعت رحمتك وعلمك كل شيء وحول إلى ما في النظم الجليل للمبالغة في وصفه عزّ وجلّ بالرحمة والعلم حيث جعلت ذاته سبحانه كأنها عين الرحمة والعلم مع التلويح إلى عمومها لأن نسبة جميع الأشياء إليه تعالى مستوية فتقتضي استواءها في شمولهما، ووصفه تعالى بكمال الرحمة والعلم كالتمهيد لقوله سبحانه: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ إلخ، وتسبب المغفرة عن الرحمة ظاهر، وأما تسببها عن العلم فلأن المعنى فاغفر للذين علمت منهم التوبة أي من الذنوب مطلقا بناء على أنه المتبادر من الإطلاق واتباع سبيلك وهو سبيل الحق التي نهجها الله تعالى لعباده ودعا إليها الإسلام أي علمك الشامل المحيط بما خفي وما علن يقتضي ذلك، وفيه تنبيه على طهارتهم من كدورات الرياء والهوى فإن ذلك لا يعلمه إلا الله تعالى وحده. ويتضمن التمهيد المذكور الإشارة إلا أن الرحمة الواسعة والعلم الشامل يقتضيان أن ينال هؤلاء الفوز العظيم والقسط الأعلى من الرضوان وفيه إيماء إلى معنى: إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما فإن العبد وإن بالغ حق المبالغة في أداء حقوقه تعالى فهو مقصر، وإليه الإشارة بقوله صلّى الله عليه وسلم: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى برحمته» وتقديم الرحمة لأنها المقصودة بالذات هاهنا، وفي تصدير الدعاء بربنا من الاستعطاف ما لا يخفى ولذا كثر تصدير الدعاء به، وقوله تعالى: وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ أي واحفظهم عنه تصريح بعد تلويح للتأكيد فإن الدعاء بالمغفرة يستلزم ذلك، وفيه دلالة على شدة العذاب. رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ أي وعدتهم إياها فالمفعول الآخر مقدر والمراد وعدتهم دخولها، وتكرير النداء لزيادة الاستعطاف، وقرأ زيد بن علي والأعمش «جنّة عدن» بالإفراد وكذا في مصحف عبد الله وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ عطف على الضمير المنصوب في أَدْخِلْهُمْ أي وأدخل معهم هؤلاء ليتم سرورهم ويتضاعف ابتهاجهم، وجوز الفراء والزجاج العطف على الضمير في وَعَدْتَهُمْ أي وعدتهم ووعدت من صلح إلخ فقيل: المراد بذلك الوعد العام. وتعقب بأنه لا يبقى على هذا للعطف وجه فالمراد الوعد الخاص بهم بقوله تعالى: أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور: 21] ، والظاهر العطف على الأول والدعاء بالإدخال فيه صريح، وفي الثاني ضمني والظاهر أن المراد بالصلاح الصلاح المصحح لدخول الجنة وإن كان دون صلاح المتبوعين، وقرأ ابن عبلة «صلح» بضم اللام يقال: صلح فهو صليح وصلح فهو صالح، وقرأ عيسى «ذريتهم» بالإفراد إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ أي الغالب الذي لا يمتنع عليه مقدور الْحَكِيمُ الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة الباهرة من الأمور التي من جملتها إدخال من طلب ادخالهم الجنات فالجملة تعليل لما قبلها. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 301 وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ أي العقوبات على ما روي عن قتادة، وإطلاق السيئة على العقوبة لأنها سيئة في نفسها، وجوز أن يراد بها المعنى المشهور وهو المعاصي والكلام على تقدير مضاف أي وقهم جزاء السيئات أو تجوز بالسبب عن المسبب، وأيا ما كان فلا يتكرر هذا مع وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ بل هو تعميم بعد تخصيص لشموله العقوبة الدنيوية والأخروية مطلقا أو الدعاء الأول للمتبوعين وهذا للتابعين، وجوز أن يراد بالسيئات المعنى المشهور بدون تقدير مضاف ولا تجوز أي المعاصي أي وقهم المعاصي في الدنيا ووقايتهم منها حفظهم عن ارتكابها وهو دعاء بالحفظ عن سبب العذاب بعد الدعاء بالحفظ عن المسبب وهو العذاب، وتعقب بأن الأنسب على هذا تقديم هذا الدعاء على ذاك وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ أي يوم المؤاخذة فَقَدْ رَحِمْتَهُ ويقال على الوجه الأخير ومن تق السيئات يوم العمل أي في الدنيا فقد رحمته في الآخرة وأيد هذا الوجه بأن المتبادر من يومئذ الدنيا لأن (إذ) تدل على المضي، وفيه منع ظاهر وَذلِكَ إشارة إلى الرحمة المفهومة من رحمته أو إلى الوقاية المفهومة من فعلها أو إلى مجموعهما، وأمر التذكير على الاحتمالين الأولين وكذا أمر الإفراد على الاحتمال الأخبر ظاهر هُوَ الْفَوْزُ أي الظفر الْعَظِيمُ الذي لا مطمع وراءه لطامع، هذا وإلى كون المراد بالذين تابوا الذين تابوا من الذنوب مطلقا ذهب الزمخشري، وقال في السيئات على تقدير حذف المضاف هي الصغائر أو الكبائر المتوب عنها، وذكر أن الوقاية منها التكفير أو قبول التوبة وأن هؤلاء المستغفر لهم تائبون صالحون مثل الملائكة في الطهارة وأن الاستغفار لهم بمنزلة الشفاعة وفائدته زيادة الكرامة والثواب فلا يضر كونهم موعودين المغفرة والله تعالى لا يخلف الميعاد، وتعقب بأنه لا فائدة في ذكر الرحمة والمبالغة فيها إذا كان المغفور له مثل الملائكة عليهم السلام في الطهارة وأي حاجة إلى الاستغفار فضلا عن المبالغة، وأن ما قاله في السيئات لا يجوز فإن إسقاط عقوبة الكبيرة بعد التوبة واجب في مذهبه وما كان فعله واجبا كان طلبه بالدعاء عبثا قبيحا عند المعتزلة، وكذا إسقاط عقوبة الصغيرة فلا يحسن طلبه بالدعاء ولا يجوز أن يكون ذلك لزيادة منفعة لأن ذلك لا يسمى مغفرة، حكي هذا الطيبي عن الإمام ثم قال: فحينئذ يجب القول بأن المراد بالتوبة التوبة عن الشرك كما قال الواحدي فاغفر للذين تابوا عن الشرك واتبعوا سبيلك أي دينك الإسلام، فإن قلت: لو لم يكن التوبة من المعاصي مرادا لكان يكفي أن يقولوا: فاغفر للذين آمنوا ليطابق السابق، قلت: والله تعالى أعلم هو قريب من وضع المظهر موضع المضمر من غير اللفظ السابق وبيانه أن قوله تعالى: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا الآية جاء مفصولا عن قوله تعالى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فالآية بيان لكيفية الاستغفار لا لحال المستغفر لهم، ووصفهم المميز يعرف بالذوق، وأما فائدة العدول عن المضمر وأنه لم يقل: فاغفر لهم بل قيل: للذين تابوا فهي أن الملائكة كما عللوا الغفران في حق مفيض الخيرات جل شأنه بالعلم الشامل والرحمة الواسعة عللوا قابل الفيض أيضا بالتوبة عن الشرك واتباع سبيل الإسلام، فإن قلت: هذه التوبة إنما تصح في حق من سبق شركه على إسلامه دون من ولد مسلما ودام عليه، قلت: الآية نازلة في زمن الصحابة وجلهم انتقلوا من الشرك إلى الإسلام ولو قيل: فاغفر لمن لم يشرك لخرجوا فغلب الصحابة رضي الله تعالى عنهم على سنن جميع الأحكام انتهى، ولعمري إن للبحث فيه مجالا أي مجال. وفي الكشف إنما اختار الزمخشري ما اختاره على ما قال الواحدي من أن التوبة عن الشرك لأن التوبة عند الإطلاق تنصرف إلى التوبة من الذنوب مطلقا على أن فيه تكرارا إذ ذاك لأن التائب عن الشرك هو المسلم، وقد فسر متبع السبيل في هذا القول به وإذا شرط حملة العرش ومن حوله عليهم السلام صلاح التابع وهو الذرية مع ما ورد من قوله تعالى: بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور: 21] فما بال المتبوع، وأنت تعلم أن الصلاح من أخص أوصاف المؤمن وكفاك دعاء إبراهيم ويوسف عليهما السلام في الإلحاق بالصالحين شاهدا، وأما أنهم غير محتاجين إلى الدعاء فجوابه أنه لا يجب أن يكون للحاجة، ألا ترى إلى قولنا: اللهم صل على سيدنا محمد وما ورد فيه من الفضائل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 302 والمعلوم حصوله منه تعالى يحسن طلبه فإن الدعاء في نفسه عبادة ويوجب للداعي والمدعو له من الشرف ما لا يتقاعد عن حصول أصل الثواب، ثم إن الوقاية عن السيئات إن كانت بمعنى التكفير وقع الكلام في أن السيئات المكفرة ما هي ولا خفاء أن النصوص دالة على تكفير التوبة للسيئات كلها وأن الصغائر مكفرات ما اجتنبت الكبائر فلا بد من تخصيصها به كما ذكر وإن كان معناها أن يعفي عنها ولا يؤاخذ بها كما هو قول الواحدي ومختار الإمام ومن ائتم به فينبغي أن ينظر أن الوقاية في أي المعنيين أظهر وأن قوله تعالى: وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وما يفيده من المبالغة على نحو من أدرك مرعى الصمان فقد أدرك. وتعقيبه بقوله سبحانه: وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ في شأن المقصرين أظهر أو شأن المكفرين، ومن هذا التقرير قد لاح أن هذا الوجه ظاهر هذا السياق وأنه يوافق أصل الفريقين وليس فيه أنه سبحانه يعفو عن الكبائر بلا توبة أو لا يعفو فلا ينافي جوازه من أدلة أخرى إلى آخر ما قال وهو كلام حسن وإن كان في بعضه كحديث التكرار وكون الصلاح في الآية ما هو من أخص أوصاف المؤمن نوع مناقشة، وقد يرجح كون المراد بالتوبة التوبة من الذنوب مطلقا دون التوبة عن الشرك فقط بأن المتبادر من وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ وق كل واحد منهم ذلك، ومن المعلوم أنه لا بد من نفوذ الوعيد في طائفة من المؤمنين العاصين وتعذيبهم في النار فيكون الدعاء بحفظ كل من المؤمنين من العذاب محرما. وقد نصوا على حرمة أن يقال: اللهم اغفر لجميع المؤمنين جميع ذنوبهم لذلك، ولا يلزم ذلك على كون الدعاء للتائبين الصالحين، وحمل الإضافة على العهد بأن يراد بعذاب الجحيم ما كان على سبيل الخلود لا يخفى حاله والاعتراض بلزوم الدعاء بمعلوم الحصول على كون المراد بالتوبة ذلك بخلاف ما إذا أريد بها التوبة عن الشرك فإنه لا يلزم ذلك إذ المعنى عليه فاغفر للذين تابوا عن الشرك ذنوبهم التي لم يتوبوا عنها وغفران تلك الذنوب غير معلوم الحصول قد علم جوابه مما في الكشف، على أن في كون الغفران للتائب معلوم الحصول خلافا أشرنا إليه أول السورة. نعم هذا اللزوم ظاهر في قولهم: وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ ونظير ذلك ما ورد في الدعاء أثر الأذان وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، وقد أجيب عن ذلك بغير ما أشير إليه وهو أن سبق الوعد لا يستدعي حصول الموعود بلا توسط دعاء. وبالجملة لا بأس بحمل التوبة على التوبة من الذنوب مطلقا ولا يلزم من القول به القول بشيء من أصول المعتزلة فتأمل وأنصف، وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا شروع في بيان أحوال الكفار بعد دخول النار يُنادَوْنَ وهم في النار وقد مقتوا أنفسهم الأمّارة بالسوء التي وقعوا فيما وقعوا باتباع هواها حتى أكلوا أناملهم من المقت كما أخرج ذلك عبد بن حميد عن الحسن. وفي بعض الآثار أنهم يمقتون أنفسهم حين يقول لهم الشيطان: فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [إبراهيم: 22] وقيل: يمقتونها حين يعلمون أنهم من أصحاب النار، والمنادى الخزنة أو المؤمنون يقولون لهم إعظاما لحسرتهم: لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ وهذا معمول للنداء لتضمنه معنى القول كأنه قيل ينادون مقولا لهم لمقت إلخ أو معمول لقول مقدر بفاء التفسير أي ينادون فيقال لهم: لمقت إلخ، وجعله معمولا للنداء على حذف الجار وإيصال الفعل بالجملة ليس بشيء، و (مقت) مصدر مضاف إلى الاسم الجليل إضافة المصدر لفاعله، وكذا إضافة المقت الثاني إلى ضمير الخطاب. وفي الكلام تنازع أو حذف معمول الأول من غير تنازع أي لمقت الله إياكم أو أنفسكم أكبر من مقتكم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 303 أنفسكم، واللام للابتداء أو للقسم، والمقت أشد البغض والخلف يؤولونه مسندا إليه تعالى بأشد الإنكار. إِذْ تُدْعَوْنَ أي إذ يدعوكم الأنبياء ونوابهم إِلَى الْإِيمانِ فتأبون قبوله فَتَكْفُرُونَ وهذا تعليل للحكم أو للمحكوم به- فإذ- متعلقة- بأكبر- وكان التعبير بالمضارع للإشارة إلى الاستمرار التجددي كأنه قيل: لمقت الله تعالى أنفسكم أكبر من مقتكم إياها لأنكم دعيتم مرة بعد مرة إلى الإيمان فتكرر منكم الكفر، وزمان المقتين واحد على ما هو المتبادر وهو زمان مقتهم أنفسهم الذي حكيناه آنفا» . ويجوز أن يكون تعليلا لمقتهم أنفسهم وإذ متعلقة- بمقت- الثاني فهم مقتوا أنفسهم لأنهم دعوا مرارا إلى الإيمان فكفروا، والتعبير بالمضارع كما في الوجه السابق، وزمان المقتين كذلك، والعلة في الحقيقة إصرارهم على الكفر مع تكرر دعائهم إلى الإيمان، وجوز أن يكون تعليلا لمقت الله وإِذْ متعلقة به، ويعلم مما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى ما عليه وما له، وظاهر صنيع جماعة من الأجلة اختيار كون إِذْ ظرفية لا تعليلية فقيل: هي ظرف- لمقت- الأول، والمعنى لمقت الله تعالى أنفسكم في الدنيا إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون أشد من مقتكم إياها اليوم وأنتم في النار أو وأنتم متحققون أنكم من أصحابها فزمان المقتين مختلف، وكون زمان الأول الدنيا وزمان الثاني الآخرة مروي عن الحسن، وأخرجه عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد، واعترض عليه غير واحد بلزوم الفصل بين المصدر وما في صلته بأجنبي هو الخبر، وفي أمالي ابن الحاجب لا بأس بذلك لأن الظروف متسع فيها، وقيل: هي ظرف لمصدر آخر يدل عليه الأول أو لفعل يدل عليه ذلك كما في البحر. وفي الكشف فيه أن المقدر لا بد له من جزاءات إن استقل ويتسع الخرق وإن جعل بدلا فحذفه وأعمال المصدر المحذوف لا يتقاعد عن الفصل بالخبر وليس أجنبيا من كل وجه، وتقدير الفعل أي مقتكم الله إذ تدعون أبعد وأبعد، وقيل: هي ظرف لمقت الثاني. واعترض بأنهم لم يمقتوا أنفسهم وقت الدعوة بل في القيامة. وأجيب بأن الكلام على هذا الوجه من قبيل قول الأمير كرم الله تعالى وجهه: إنما أكلت يوم أكل الثور الأحمر وقول عمرو بن عدس التميمي لمطلقته دختنوس بنت لقيط وقد سألته لبنا وكانت مقفرة من الزاد: الصيف ضيعت اللبن وذلك بأن يكون مجازا بتنزيل وقوع السبب وهو كفرهم وقت الدعوة منزلة وقوع المسبب وهو مقتهم لأنفسهم حين معاينتهم ما حل بهم بسببه، وقيل: إن المراد عليه إذ تبين أنكم دعيتم إلى الإيمان المنحى والحق الحقيق بالقبول فأبيتم أو أن المراد بأنفسهم جنسهم من المؤمنين فإنهم كانوا يمقتون المؤمنين في الدنيا إذ يدعون إلى الإيمان وهو أبعد التأويلات وقال مكي: إِذْ معمولة لا ذكروا مضمرا والمراد التحير والتنديم واستحسنه بعضهم وأراه خلاف المتبادر. وادعى صاحب الكشف أن فيه تنافرا بينا وعلله بما لم يظهر لي وجهه فتأمل. وتفسير مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ بمقت كل واحد نفسه هو الظاهر، وجوز أن يراد به مقت بعضهم بعضا فقيل: إن الأتباع يمقتون الرؤساء لما ورطوهم فيه من الكفر والرؤساء يمقتون الاتباع لما أنهم اتبعوهم فحملوا أوزارا مثل أوزارهم فلا تغفل قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ صفتان لمصدري الفعلين، والتقدير أمتنا إماتتين اثنتين وأحييتنا إحياءتين اثنتين. وجوز كون المصدرين موتتين وحياتين وهما إما مصدران للفعلين المذكورين أيضا بحذف الزوائد أو مصدران لفعلين آخرين يدل عليهما المذكوران فإن الإماتة والإحياء ينبئان عن الموت والحياة حتما فكأنه أمتنا فمتنا موتتين اثنتين وأحييتنا فحيينا حياتين اثنتين على طرز قوله: وعض زمان يا ابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحت أو مجلف الجزء: 12 ¦ الصفحة: 304 أي لم يدع فلم يبق إلا مسحت إلخ، واختلف في المراد بذلك فقيل: أرادوا بالإماتة الأولى خلقهم أمواتا وبالثانية إماتتهم عند انقضاء آجالهم وبالإحياءة الأولى إحياؤهم بنفخ الروح فيهم وهم في الأرحام وبالثانية إحياؤهم بإعادة أرواحهم إلى أبدانهم للبعث. وأخرج هذا ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس وجماعة منهم الحاكم وصححه عن ابن مسعود، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن قتادة، وروي أيضا عن الضحاك وأبي مالك وجعلوا ذلك نظير آية [البقرة: 28] كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ والإماتة إن كانت حقيقة في جعل الشيء عادم الحياة سبق بحياة أم لا فالأمر ظاهر وإن كانت حقيقة في تصيير الحياة معدومة بعد أن كانت موجودة كما هو ظاهر كلامهم حيث قالوا: إن صيغة الأفعال وصيغة التفعيل موضوعتان للتصيير أي النقل من حال إلى حال ففي إطلاقها على ما عد اماتة أولى خفاء لاقتضاء ذلك سبق الحياة ولا سبق فيما ذكر، ووجه بأن ذلك من باب المجاز كما قرروه في ضيق فم الركية ووسع أسفلها قالوا: إن الصانع إذا اختار أحد الجائزين وهو متمكن منهما على السواء فقد صرف المصنوع الجائز عن الآخر فجعل صرفه عنه كنقله منه يعني أنه تجوز بالأفعال أو التفعيل الدال على التصيير وهو النقل من حال إلى حال أخرى عن لازمه وهو الصرف عما في حيز الإمكان، ويتبعه جعل الممكن الذي تجوز إرادته بمنزلة الواقع، وكذا جعل الأمر في ضيق فم الركية مثلا بإنشائه على الحال الثانية بمنزلة أمره بنقله عن غيرها، ولذا جعله بعض الأجلة بمنزلة الاستعارة بالكناية فيكون مجازا مرسلا مستتبعا للاستعارة بالكناية، فالمراد بالإماتة هناك الصرف لا النقل، وذكر بعضهم أنه لا بد من القول بعموم المجاز لئلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز في الآية أو استعمال المشترك في معنييه بناء على زعم أن الصيغة مشتركة بين الصرف والنقل، ومن أجاز ما ذكر لم يحتج للقول بذلك. وفي الكشف آثر جار الله أن إحدى الإماتتين ما ذكر في قوله تعالى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ وإطلاقها عليه من باب المجاز وهو مجاز مستعمل في القرآن، وقد ذكر وجه التجوز، وتحقيق ذلك يبتني على حرف واحد وهو أن الإحياء معناه جعل الشيء حيا فالمادة الترابية أو النطفية إذا أفيضت عليها الحياة صدق أنها صارت ذات حياة على الحقيقة إذ لا يحتاج إلى سبق موت على الحقيقة بل إلى سبق عدم الحياة فهناك إحياء حقيقة، وأما الإماتة فإن جعل بين الموت والحياة التقابل المشهوري استدعى المسبوقية بالحياة فلا تصح الإماتة قبلها حقيقة، وإن جعل التقابل الحقيقي صحت، لكن الظاهر في الاستعمال بحسب عرفي العرب والعجم أنه مشهوري انتهى، وأراد بالمشهوري والحقيقي ما ذكروه في التقابل بالعدم والملكة فإنهم قالوا: المتقابلان بالعدم والملكة وهما أمران يكون أحدهما وجوديا والآخر عدم ذلك الوجودي في موضوع قابل له إن اعتبر قبوله بحسب شخصه في وقت اتصافه بالأمر العدمي فهو العدم والملكة المشهوران كالكوسجية فإنها عدم اللحية عما من شأنه في ذلك الوقت أن يكون ملتحيا فإن الصبي لا يقال له كوسج، وإن اعتبر قبوله أعم من ذلك بأن لا يقيد بذلك الوقت كعدم اللحية عن الطفل أو يعتبر قبوله بحسب نوعه كالعمى للأكمه أو جنسه القريب كالعمى للعقرب أو البعيد كعدم الحركة الإرادية عن الجبل فإن جنسه البعيد أعني الجسم الذي هو فوق الجماد قابل للحركة الإرادية فهو العدم والملكة الحقيقيان لكن في بناء اقتضاء المسبوقية بالحياة وعدمه على ذلك خفاء، وإن ضم إليه التعبير بصيغة الماضي كما لا يخفى على المتدبر. ثم وجه تسبب الإماتة مرتين والإحياء كذلك لقوله تعالى: فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا أنهم قد أنكروا البعث فكفروا وتبع ذلك من الذنوب ما لا يحصى لأن من لم يخش العاقبة تخرق في المعاصي فلما رأوا الإماتة والإحياء قد تكرر عليهم علموا بأن الله تعالى قادر على الإعادة قدرته على الإنشاء فاعترفوا بذنوبهم التي اقترفوها من إنكار البعث وما تبعه من معاصيهم. وقال السدي: أرادوا بالإماتة الأولى إماتتهم عند انقضاء آجالهم وبالإحياءة الأولى إحياؤهم في القبر للسؤال الجزء: 12 ¦ الصفحة: 305 وبالإماتة الثانية إماتتهم بعد هذه الإحياءة إلى قيام الساعة وبالإحياءة الثانية إحياؤهم للبعث، واعترض عليه بأنه يلزم هذا القائل ثلاث إحياءات فكان ينبغي أن يكون المنزل أحييتنا ثلاثا فإن ادعى عدم الاعتداد بالإحياءة المعروفة وهي التي كانت في الدنيا لسرعة انصرامها وانقطاع آثارها وأحكامها لزمه أن لا يعتد بالإماتة بعدها. وقال بعض المحققين في الانتصار له: إن مراد الكفار من هذا القول اعترافهم بما كانوا ينكرونه في الدنيا ويكذبون الأنبياء حين كانوا يدعونهم إلى الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر لأن قولهم هذا كالجواب عن النداء في قوله تعالى: يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ كأنهم أجابوا أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام دعونا وكنا نعتقد أن لا حياة بعد الموت فالآن نعترف بالموتين والحياتين لما قاسينا من شدائدهما وأحوالهما فالذنب المعترف به تكذيب البعث، ولهذا جعل مرتبا على القول وإنما ذكروا الإماتتين ليذكروا الإحياءين إذ كلتا الحياتين كانتا منكرتين عندهم دون الحياة المعروفة ومقام هذه الآية غير مقام قوله تعالى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ فإن هذه كما سمعت لبيان الإقرار والاعتراف منهم في الآخرة بما أنكروه في الدنيا وتلك لبيان الامتنان الذي يستدعي شكر المنعم أو لبيان الدلائل لتصرفهم عن الكفر. ويرجح هذا القول إن أمر إطلاق الإماتة على كلتا الإماتتين ظاهر. وتعقبه في الكشف بأنه لا قرينة في اللفظ تدل على خروج الإحياء الأول مع أن الإطلاق عليه أظهر والمقابلة تنادي على دخوله. ويكفي في الاعتراف إثبات احياء واحد منهما غير الأول، وقيل: إنما قالوا: أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ لأنهما نوعان إحياء البعث وإحياء قبله، ثم إحياء البعث قسمان إحياء في القبر وإحياء عند القيام ولم يذكر تقسيمه لأنهم كانوا منكرين لقسميه. وتعذب أن ذكر الإماتة الثانية التي في القبر دليل على أن التقسيم ملحوظ، والمراد التعدد الشخصي لا النوعي نعم هذا يصلح تأييدا لما اختاره جار الله، وروي عن جمع من السلف من أن الإحياءات وإن كانت ثلاثا إنما سكت عن الثانية لأنها داخلة في إحياءة البعث قاله صاحب الكشف ثم قال: وعلى هذا فالإماتة على مختار جار الله إماتة قبل الحياة وإماتة بعدها وطويت إماتة القبر كما طويت إحياءته ولك أن تقول إن الإماتة نوع واحد بخلاف الإحياء فروعي التعدد فيها شخصا بخلافه، وذكر الإماتة الثانية لأنها منكرة عندهم كالحياتين، ويجب الاعتراف بها لا للدلالة على أن التعدد في الإحياء شخصي والحق أن ذلك وجه لكن قوله تعالى: اثْنَتَيْنِ ظاهر في المرة فلذا آثر من آثر الوجه الأول وإن كانت الإماتة فيه غير ظاهرة ذهابا إلى أن ذلك مجاز مستعمل في القرآن فتأمل. وقال الإمام: إن أكثر العلماء احتجوا بهذه الآية في إثبات عذاب القبر وذلك أنهم أثبتوا لأنفسهم موتتين فإحدى الموتتين مشاهد في الدنيا فلا بد من إثبات حياة أخرى في القبر حتى يصير الموت الذي عقيبها موتا ثانيا، وذلك يدل على حصول حياة في القبر، وأطال الكلام في تحقيق ذلك والانتصار له، والمنصف يرى أن عذاب القبر ثابت بالأحاديث الصحيحة دون هذه الآية لقيام الوجه المروي عمن سمعت أولا فيها، وقد قيل: إنه الوجه لكني أظن أن اختيار الزمخشري له لدسيسة اعتزالية، وقال ابن زيد في الآية أريد إحياؤهم نسما عند أخذ العهد عليهم من صلب آدم ثم إماتتهم بعد ثم إحياؤهم في الدنيا ثم إماتتهم ثم إحياؤهم وهذا صريح في أن الإحياءات ثلاث، وقد أطلق فيه الإحياء الثالث والأغلب على الظن أنه عنى به إحياء البعث، وقيل: التثنية في كلامهم مثلها في قوله تعالى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الملك: 4] مراد بها التكرير والتكثير فكأنهم قالوا: أمتنا مرة بعد مرة وأحييتنا مرة بعد مرة فعلمنا عظيم قدرتك وأنه لا يتعاصاها الإعادة كما لا يتعاصاها غيرها فاعترفنا بذنوبنا التي اقترفناها من إنكار ذلك، وحينئذ فلا عليك أن تعتبر الموت في صلب آدم ثم الإحياء لأخذ العهد ثم الإماتة ثم الإحياء بنفخ الروح في الأرحام ثم الإماتة عند انقضاء الأجل في الدنيا ثم الإحياء في القبر للسؤال أو لغيره ثم الإماتة فيه ثم الإحياء للبعث ولا يخفى أنه على ما فيه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 306 إنما يتم لو كان المقول أمتنا إماتتين أو كرتين وأحييتنا احياءتين أو كرتين مثلا دون ما في المنزل، فإن اثْنَتَيْنِ فيه وصف لإماتتين ولإحياءتين وهو دافع لاحتمال إرادة التكثير كما قيل في إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ [النحل: 51] وبناء الأمر على أن العدد لا مفهوم له لا يخلو عن بحث، ومن غرائب ما قيل في ذلك ما روي عن محمد بن كعب أن الكافر في الدنيا حي الجسد ميت القلب فاعتبرت الحالتان فهناك إماتة وإحياء للقلب والجسد في الدنيا ثم إماتتهم عند انقضاء الآجال ثم إحياؤهم للبعث، ومثل هذا يحكى ليطلع على حاله فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ أي إلى نوع خروج من النار أي فهل إلى خروج سريع أو بطيء أو من مكان منها إلى آخر أو إلى الدنيا أو غيرها مِنْ سَبِيلٍ طريق من الطرق فنسلكه مثل هذا التركيب يستعمل عند اليأس، وليس المقصود به الاستفهام وإنما قالوه من فرط قنوطهم تعللا أو تحيرا ولذلك أجيبوا بذكر ما أوقعهم في الهلاك وهو قوله تعالى: ذلِكُمْ إلخ من غير جواب عن الخروج نفيا أو إثباتا وإن كان الاستفهام على ظاهره، والمراد طلب الخروج نظير فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً [السجدة: 12] ونحوه لقيل: اخْسَؤُا فِيها [المؤمنون: 108] أو نحو ذلك كذا قيل، وجوز أن يكونوا طلبوا الرجعة ليعملوا بموجب ذلك الاعتراف لكن مع استبعاد لها واستشعار يأس منها والجواب إقناط لهم ببيان أنهم كانوا مستمرين على الشرك فجوزوا باستمرار العقاب والخلود في النار كما يقتضيه حكمه تعالى وذلك جواب بنفي السبيل إلى الخروج على أبلغ وجه، ولا أرى في هذا الوجه بأسا ويوشك أن يكون المتبادر، والمعنى ذلكم الذي أنتم فيه من العذاب بِأَنَّهُ أي بسبب أن الشأن إِذا دُعِيَ اللَّهُ أي عبد سبحانه في الدنيا وَحْدَهُ أي متحدا منفردا فهو نصب على الحال مؤول بمشتق منكر أو يوحد وحده على أنه مفعول مطلق لفعل مقدر على حد أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17] والجملة بتمامها حال أيضا حذفت وأقيم المصدر مقامها، وفيه كلام آخر مفصل في الوفدة وقد تقدم بعضه. كَفَرْتُمْ بتوحيده تعالى أي جحدتم وأنكرتم ذلك وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا بالإشراك أي تذعنوا وتقروا به، وفي إيراد إِذا وصيغة الماضي في الشرطية الأولى وإِنْ وصيغة المضارع في الثانية ما لا يخفى من الدلالة على سوء حالهم وحيث كان كذلك فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الذي لا يحكم إلا بالحق ولا يقضي إلا بما تقتضيه الحكمة الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ المتصف بغاية العلوم نهاية الكبرياء فليس كمثله شيء في ذاته وصفاته وأفعاله، ولذا اشتدت سطوته بمن أشرك به واقتضت حكمته خلوده في النار فلا سبيل لخروجكم منها أبدا إذ كنتم مشركين. واستدلال الحرورية بهذه الآية على زعمهم الفاسد في غاية السقوط، ويكفي في الرد عليهم قوله تعالى: فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها [النساء: 35] الآية وقوله تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ [المائدة: 95] هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ الدالة على شؤونه العظيمة الموجبة لتفرده بالألوهية لتستدلوا بها على ذلك وتعملوا بموجبها فإذا دعى سبحانه وحده تؤمنوا وإن يشرك به تكفروا، وهذه الآيات ما يشاهد من آثار قدرته عزّ وجلّ: وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد وَيُنَزِّلُ بالتشديد وقرىء بالتخفيف من الإنزال لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً أي سبب رزق وهو المطر، وإفراده بالذكر مع كونه من جملة تلك الآيات لتفرده بعنوان كونه من آثار رحمته وجلائل نعمته الموجبة للشكر، وصيغة المضارع في الفعلين للدلالة على تجدد الإراءة والتنزيل واستمرارهما، وتقديم الجار والمجرور على المفعول لما مر غير مرة وَما يَتَذَكَّرُ بتلك الآيات التي هي كالمر كوزة في العقول لظهورها المغفول عنها للانهماك في التقليد واتباع الهوى إِلَّا مَنْ يُنِيبُ يرجع عن الإنكار بالإقبال عليها والتفكر فيها، فإن الجازم بشيء لا ينظر فيما ينافيه فمن لا ينيب بمعزل عن التذكر فَادْعُوا اللَّهَ اعبدوه عزّ وجلّ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ من الشرك وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ إخلاصكم وشق عليهم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 307 وظاهر كلام الكشاف أن (ادعوا) إلخ مسبب عن الإنابة وأن فيه التفاتا حيث قال: ثم قال للمنيبين والأصل فليدع ذلك المنيب، على معنى إن صحت الإنابة على نحو فقد جئنا خراسانا، وقد وافق على كونه خطابا لمن ذكر غير واحد. وفي الكشف التحقيق أن قوله تعالى: وَما يَتَذَكَّرُ إلخ اعتراض وقوله سبحانه: فَادْعُوا اللَّهَ مسبب عن قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ على أنه خطاب يعم المؤمن والكافر لسبق ذكرهما لا للكفار وحدهم على نحو مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إذ ليس مما نودوا به يوم القيامة، والمعنى فادعوه فوضع الظاهر موضع المضمر ليتمكن فضل تمكن وليشعر بأن كونه تعالى هو المعبود بحق هو الذي يقتضي أن يعبد وحده. وفائدة الاعتراض أن هذه الآيات ودلالتها على اختصاصه سبحانه وحده بالعبادة بالنسبة إلى من ينيب لا المعاند. وقوله في الكشاف: ثم قال للمنيبين إشارة أن فائدة تقديم الاعتراض أن الانتفاع بالآيات على هذا التقدير فكأنه مسبب عن الإنابة معنى لما كان تسبب السابق للاحق الإنابة، فهذا هو الوجه ولا يأباه تفسير وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ بقوله: وإن غاظ ذلك أعداءكم فإنه للتنبيه على أن امتثال ذلك الأمر إنما يكون بعد إنابتهم وكأن قد حصل ذلك وحصل التضاد بينهم وبين الكافرين، وهو تحقيق حقيق بالقبول لكن في توجيه كلام الكشاف تكلف ظاهر رَفِيعُ الدَّرَجاتِ صفة مشبهة أضيفت إلى فاعلها من رفع الشيء بالضم إذا علا، وجوز أن يكون صيغة مبالغة من باب أسماء الفاعلين وأضيف إلى المفعول وفيه بعد، والدَّرَجاتِ مصاعد الملائكة عليهم السلام إلى أن يبلغوا العرش أي رفيع درجات ملائكته ومعارجهم إلى عرشه. وفسرها ابن جبير بالسماوات ولا بأس بذلك فإن الملائكة يعرجون من سماء إلى سماء حتى يبلغوا العرش إلا أنه جعل «رفيعا» اسم فاعل مضافا إلى المفعول فقال: أي رفع سماء فوق سماء والعرش فوقهن، وقد سمعت آنفا أن فيه بعدا، ووصفه عزّ وجلّ بذلك للدلالة على سبيل الإدماج على عزته سبحانه وملكوته جل شأنه. ويجوز أن يكون كناية عن رفعة شأنة وسلطانه عز شأنه وسلطانه كما أن قوله تعالى: ذُو الْعَرْشِ كناية عن ملكه جل جلاله، ولا نظر في ذلك إلى أن له سبحانه عرشا أو لا، فالكناية وإن لم تناف إرادة الحقيقة لكن لا تقتضي وجوب إرادتها فقد وقد وعن ابن زيد أنه قال: أي عظيم الصفات وكأنه بيان لحاصل المعنى الكنائي، وقيل: هي درجات ثوابه التي ينزلها أولياءه تعالى يوم القيامة، وروي ذلك عن ابن عباس وابن سلام، وهذا أنسب بقوله تعالى: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ والمعنى الأول أنسب بقوله تعالى: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ لتضمنه ذكر الملائكة عليهم السلام وهم المنزلون بالروح كما قال سبحانه: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ [النحل: 2] وأيا ما كان- فرفيع الدرجات- وذُو الْعَرْشِ وجملة يُلْقِي أخبار ثلاثة قيل:- لهو- السابق في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ إلخ واستبعده أبو حيان بطول الفصل، وقيل: لهو محذوفا، والجملة كالتعليل لتخصيص العبادة وإخلاص الدين له تعالى، وهي متضمنة بيان إنزال الرزق الروحاني بعد بيان إنزال الرزق الجسماني في يُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً فإن المراد بالروح على ما روي عن قتادة الوحي وعلى ما روي عن ابن عباس القرآن وذلك جار من القلوب مجرى الروح من الأجساد، وفسره الضحاك بجبريل عليه السلام وهو عليه السلام حياة القلوب باعتبار ما ينزل به من العلم. وجوز ابن عطية أن يراد به كل ما ينعم الله تعالى به على عباده المهتدين في تفهيم الإيمان والمعقولات الشريفة وهو كما ترى، وقوله تعالى: مِنْ أَمْرِهِ قيل: بيان للروح، وفسر بما يتناول الأمر والنهي، وأوثر على لفظ الوحي للإشارة إلى أن اختصاص حياة القلوب بالوحي من جهتي التخلي والتحلي الحاصلين بالامتثال والانتهاء. وعن ابن عباس تفسير الأمر بالقضاء فجعلت مِنْ ابتدائية متعلقة بمحذوف وقع حالا من الرُّوحَ أي ناشئا من أمره أو الجزء: 12 ¦ الصفحة: 308 صفة له على رأي من يجوز حذف الموصول مع بعض صلته أي الكائن من أمره، وفسره بعضهم بالملك وجعل مِنْ ابتدائية متعلقة بمحذوف وقع حالا أو صفة على ما ذكر آنفا، وكون الملك مبدأ للوحي لتلقيه عنه، ومن فسر الروح بجبريل عليه الصلاة والسلام قال: مِنْ سببية متعلقة- بيلقي- والمعنى ينزل الروح من أجل تبليغ أمره عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وهو الذي اصطفاه سبحانه لرسالته وتبليغ أحكامه إليهم، والاستمرار التجددي المفهوم من يُلْقِي ظاهر فإن الإلقاء لم يزل من لدن آدم عليه السلام إلى انتهاء زمان نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو في حكم المتصل إلى قيام الساعة بإقامة من يقوم بالدعوة على ما روى أبو داود عن أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: «إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» أي بإحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة والأمر بمقتضاهما، وأمر ذلك التجدد على ما جوزه ابن عطية لا يحتاج إلى ما ذكر. وقرىء «رفيع» بالنصب على المدح لِيُنْذِرَ علة للإلقاء، وضميره المستتر لله تعالى أو لمن وهو الملقى إليه أو للروح أو للأمر، وعوده على الملقى إليه وهو الرسول أقرب لفظا ومعنى لقرب المرجع وقوة الإسناد فإنه الذي ينذر الناس حقيقة بلا واسطة، واستظهر أبو حيان رجوعه إليه تعالى لأنه سبحانه المحدث عنه، وقوله تعالى: يَوْمَ التَّلاقِ مفعول- لينذر- أو ظرف والمنذر به محذوف أي لينذر العذاب أو نحوه يوم التلاق، وقوله سبحانه: يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ بدل من يَوْمَ التَّلاقِ وهُمْ مبتدأ وبارِزُونَ خبر والجملة في محل جر بإضافة يَوْمَ إليها، قيل: وهذا تخريج على مذهب أبي الحسن من جواز إضافة الظرف المستقبل كإذا إلى الجملة الاسمية نحو أجيئك إذا زيد ذاهب، وسيبويه لا يجوز ذلك ويوجب تقدير فعل بعد الظرف يكون الاسم مرتفعا به، وجوز أن يكون يَوْمَ ظرفا لقوله تعالى: لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ والظاهر البدلية، وهذه الجملة استئناف لبيان بروزهم وتقرير له وإزاحة لما كان يتوهمه بعض المتوهمين في الدنيا من الاستتار توهما باطلا، وجوز أن تكون خبرا ثانيا- لهم.. وقيل: هي حال من ضمير بارِزُونَ ويَوْمَ التَّلاقِ يوم القيامة سمي بذلك قال ابن عباس: لالتقاء الخلائق فيه، وقال مقاتل: لالتقاء الخالق والمخلوق فيه. وحكاه الطبرسي عن ابن عباس، وقال السدي: لالتقاء أهل السماء وأهل الأرض وقال ميمون بن مهران: لالتقاء الظالم والمظلوم، وحكى الثعلبي أن ذلك لالتقاء كل امرئ وعمله، واختار بعض الآجلة ما قال مقاتل وقال: هو أولى الوجوه لما فيه من حمل المطلق على ما ورد في كثير من المواضع نحو فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ. إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا. وقال صاحب الكشف: القول الأول وهو ما نقل عن ابن عباس أولا أشبه لجريان الكلام فيه على الحقيقة ونفي ما يتوهم من المساواة بين الخالق والمخلوق واستقلال كل من البدلين بفائدة في التهويل لما في الأول من تصوير تلاقي الخلائق على اختلاف أنواعها، وفي الثاني من البروز لمالك أمرها بروزا لا يبقى لأحد فيه شبهة. وأما نحو قوله تعالى: لِقاءَ رَبِّهِ [الكهف: 110] فمسوق بمعنى آخر، وبارِزُونَ من برز وأصله حصل في براز أي فضاء، والمراد ظاهرون لا يسترهم شيء من جبل أو أكمة أو بناء لأن الأرض يومئذ قاع صفصف وليس عليهم ثياب إنما هم عراة مكشوفون كما جاء في الصحيحين عن ابن عباس «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنكم ملاقو الله حفاة عراة غرلا» وقيل: المراد خارجون من قبورهم أو ظاهرة أعمالهم وسرائرهم، وقيل: ظاهرة نفوسهم لا تحجب بغواشي الأبدان مع تعلقها بها، ولا يقبل هذا بدون ثبت من المعصوم، والمراد بقوله تعالى: مِنْهُمْ على ما قيل: من أحوالهم وأعمالهم. وقيل: من أعيانهم، واختير التعميم أي لا يخفى عليه عز شأنه شيء ما من أعيانهم وأعمالهم وأحوالهم الجلية والخفية السابقة واللاحقة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 309 وقرأ أبي «لينذر يوم» ببناء ينذر للفاعل ورفع يوم على الفاعلية مجازا. وقرأ اليماني فيما ذكر صاحب اللوامح «لينذر» مبنيا للمفعول «يوم» بالرفع على النيابة عن الفاعل. وقرأ الحسن واليماني فيما ذكر ابن خالويه «لتنذر» بالتاء الفوقية فقيل: الفاعل فيه ضمير الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، وقيل: ضمير الروح لأنها تؤنث وقوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ حكاية لما يسأل عنه في ذلك اليوم ولما يجاب به بتقدير قول معطوف على ما قبله من الجملة المنفية المستأنفة أو مستأنف يقع جوابا عن سؤال نشأ من حكاية بروزهم وظهور أحوالهم كأنه قيل: فما يكون حينئذ؟ فقيل: يقال: لِمَنِ الْمُلْكُ إلخ، وقوله تعالى: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 310 الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ أي من النفوس البرة والفاجرة بِما كَسَبَتْ أي من خير أو شر لا ظُلْمَ الْيَوْمَ بنقص الثواب وزيادة العقاب إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ أي سريع حسابه إذ لا يشغله سبحانه شأن عن شأن فيصل إلى المحاسب من النفوس ما يستحقه سريعا. روي عن ابن عباس أنه تعالى إذا أخذ في حسابهم لم يقل أهل الجنة إلا فيها ولا أهل النار إلا فيها من تتمة الجواب جيء به لبيان إجمال فيه، والتذييل لتعليل ما قبله. والمنادي بذلك سؤالا وجوابا واحد. أخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود قال: «يجمع الله تعالى الخلق يوم القيامة بصعيد واحد بأرض بيضاء كأنها سبيكة فضة لم يعص الله تعالى فيها قط ولم يخطأ فيها فأول ما يتكلم أن ينادي مناد لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ فأول ما يبدؤون به من الخصومات الدماء» الحديث ، وهو عند الحسن الله نفسه عزّ وجلّ، وقيل: ملك، وقيل: السائل هو الله تعالى أو ملك والمجيب الناس. وذكر الطيبي تقريرا لعبارة الكشاف أن قوله تعالى: الْيَوْمَ تُجْزى إلخ تعليل فيجب أن يكون السائل والمجيب هو الله عزّ وجلّ، فإنه سبحانه لما سأل لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ وأجاب هو سبحانه بنفسه لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ كان المقام موقع السؤال وطلب التعليل فأوقع الْيَوْمَ تُجْزى جوابا عنه يعني إنما اختص الملك به تعالى لأنه وحده يقدر على مجازاة كل نفس بما كسبت وله العدل التام فلا يظلم أحدا وله التصرف فلا يشغله شأن عن شأن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 311 فيسرع الحساب، ولو أوقع لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ جوابا عن أهل المحشر لم يحسن هذا الاستئناف انتهى، وفيه ما فيه. والحق أن قوله تعالى: الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ إلخ إن كان من كلام المجيب كما هو ظاهر حديث ابن مسعود بعد أن يكون من الناس، وجوز فيه أن لا يكون من تتمة الجواب بل هو حكاية لما سيقوله تعالى في ذلك اليوم عقيب السؤال والجواب. وأيا ما كان فتخصيص الملك به تعالى في ذلك اليوم إنما هو بالنظر إلى ظاهر الحال من زوال الأسباب وارتفاع الوسائط وظهور ذلك للكفرة والجهلة. وأما حقيقة الحال فناطقة بذلك دائما. وذهب محمد بن كعب القرظي إلى أن السؤال والجواب منه تعالى ويكونان بين النفختين حين يفني عزّ وجلّ الخلائق. وروي نحوه عن ابن عباس. أخرج عبد بن حميد في زوائد الزهد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وأبو نعيم في الحلية عنه رضي الله تعالى عنه قال: «ينادي مناد بين يدي الساعة يا أيها الناس أتتكم الساعة فيسمعها الأحياء والأموات وينزل الله سبحانه إلى السماء الدنيا فيقول: لمن الملك اليوم لله الواحد القهار» والسياق ظاهر في أن ذلك يوم القيامة فلعله على تقدير صحة الحديث يكون مرتين. ومعنى جزاء النفوس بما كسبت أنها تجزى خيرا إن كسبت خيرا وشرا إن كسبت شرا. وقيل: إن النفوس تكتسب بالعقائد والأعمال هيئات توجب لذتها وألمها لكنها لا تشعر بها في الدنيا فإذا قامت قيامتها وزالت العوائق أدركت ألمها ولذتها. والظاهر أن هذا قول باللذة والألم الروحانيين ونحن لا ننكر حصولهما يومئذ لكن نقول: إن الجزاء لا ينحصر بهما بل يكون أيضا بلذة وألم جسمانيين. فالاقتصار في تفسير الآية على ذلك قصور. وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ يوم القيامة كما قال مجاهد وقتادة وابن زيد، ومعنى الْآزِفَةِ القريبة يقال: أزف الشخوص إذا قرب وضاق وقته، فهي في الأصل اسم فاعل ثم نقلت منه وجعلت اسما للقيامة لقربها بالإضافة لما مضى من مدة الدنيا أو لما بقي فإن كل آت قريب، ويجوز أن تكون باقية على الأصل فتكون صفة لمحذوف أي الساعة الآزفة، وقدر بعضهم الموصوفة الخطة بضم الخاء المعجمة وتشديد الطاء المهملة وهي القصة والأمر العظيم الذي يستحق أن يخط ويكتب لغرابته، ويراد بذلك ما يقع يوم القيامة من الأمور الصعبة وقربها لأن كل آت قريب، والمراد باليوم الوقت مطلقا أو هو يوم القيامة، وقال أبو مسلم: يَوْمَ الْآزِفَةِ يوم المنية وحضور الأجل. ورجح بأنه أبعد عن التكرار وأنسب بما بعده ووصف القرب منه أظهر إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ بدل من يَوْمَ الْآزِفَةِ والْحَناجِرِ جمع حنجرة أو حنجور كحلقوم لفظا ومعنى وهي كما قال الراغب: رأس الغلصمة من خارج وهي لحمة بين الرأس والعنق، والكلام كناية عن شدة الخوف أو فرط التألم، وجوز أن يكون على حقيقته وتبلغ قلوب الكفار حناجرهم يوم القيامة ولا يموتون كما لو كان ذلك في الدنيا. كاظِمِينَ حال من أصحاب القلوب على المعنى فإن ذكر القلوب يدل على ذكر أصحابها فهو من باب وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً [الحجر: 47] فكأنه قيل: إذ قلوبهم لدى الحناجر كاظمين عليها، وهو من كظم القربة إذا ملأها وسد فاها، فالمعنى ممسكين أنفسهم على قلوبهم لئلا تخرج مع النفس فإن كاظم القربة كاظم على الماء ممسكها عليه لئلا يخرج امتلاء. وفيه مبالغة عظيمة، وجوز كونه حالا من ضمير الْقُلُوبُ المستتر في الخبر أعني لَدَى الْحَناجِرِ وعلى رأي من يجوز مجيء الحال من المبتدأ كونه حالا من الْقُلُوبُ نفسها. وجمع جمع العقلاء لتنزيلها منزلتهم لوصفها بصفتهم كما في قوله تعالى: فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 312 [الشعراء: 4] والمعنى حال كون القلوب كاظمة على الغم والكرب، ومنه يعلم أنه لا يجوز أن يكون لَدَى الْحَناجِرِ ظرف كاظِمِينَ لفساد المعنى والحاجة إلى تقدير محذوف مع الغنى عنه، وكذلك على قراءة كاظمون للأول فقط فيتعين كون لَدَى الْحَناجِرِ خبرا وكاظمون خبرا آخر وبذلك يترجح كون الحال من القلوب، وقدر الكواشي هم كاظمون ليوافق وجه الحالية من الأصحاب، وجوز كونه حالا من مفعول أَنْذِرْهُمْ أي أنذرهم مقدرا كظمهم أو مشارفين الكظم. ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ أي قريب مشفق من احتم فلان لفلان احتد فكأنه الذي يحتد حماية لذويه ويقال لخاصة الرجل حامته ومن هنا فسر الحميم بالصديق وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ أي ولا شفيع يشفع فالجملة في محل جر أو رفع صفة شَفِيعٍ والمراد نفي الصفة والموصوف لا الصفة فقط ليدل على أن ثم شفيعا لكن لا يطاع فالكلام من باب: لا ترى الضب بها ينجحر ولم يقتصر على نفع الشفيع بل ضم إليه ما ضم ليقام انتفاء الموصوف مقام الشاهد على انتفاء الصفة فيكون ذلك الضم إزالة لتوهم وجود الموصوف حيث جعل انتفاؤه أمرا مسلما مشهورا لا نزاع فيه لأن الدليل ينبغي أن يكون أوضح من المدلول، وهذا كما تقول لمن عاتبك على القعود عن الغزو ما لي فرس أركبه وما معي سلاح أحارب به فليفهم، والضمائر المذكورة من قوله تعالى: وَأَنْذِرْهُمْ إلى هنا إن كانت للكفار كما هو الظاهر فوضع الظالمين موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بالظلم وتعليل الحكم، وإن كانت عامة لهم ولغيرهم فليس هذا من باب وضع الظاهر موضع الضمير وإنما هو بيان حكم للظالمين بخصوصهم، والمراد بهم الكاملون في الظلم وهم الكافرون لقوله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ أي النظرة الخائنة كالنظرة إلى غير المحرم واستراق النظر إليه وغير ذلك- فخائنة- صفة لموصوف مقدر، وجعل النظرة خائنة إسناد مجازي أو استعارة مصرحة أو مكنية وتخييلية بجعل النظر بمنزلة شيء يسرق من المنظور إليه ولذا عبر فيه بالاستراق، ويجوز أن يكون خائنة مصدرا كالكاذبة والعاقبة والعافية أي يعلم سبحانه خيانة الأعين، وقيل: هو وصف مضاف إلى موصوفه كما في قوله: وإن سقيت كرام الناس فاسقينا أي يعلم سبحانه الأعين الخائنة ولا يحسن ذلك لقوله تعالى: وَما تُخْفِي الصُّدُورُ أي والذي تخفيه الصدور من الضمائر أو إخفاء الصدور لما تخفيه من ذلك لأن الملاءمة واجبة الرعاية في علم البيان وملائم الأعين الخائنة الصدور المخفية، وما قيل في عدم حسن ذلك من أن مقام المبالغة يقتضي أن يراد استراق العين ضم إليه هذه القرينة أولا فغير قادح في التعليل المذكور إذ لا مانع من أن يكون على مطلوب دلائل ثم لولا القرينة لجاز أن تجعل الأعين تمهيدا للوصف فالقرينة هي المانعة وهذه الجملة على ما في الكشاف متصلة بأول الكلام خبر من أخبار هو في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ على معنى هو الذي يريكم إلخ وهو يعلم خائنة الأعين ولم يجعله تعليلا لنفي الشفاعة على معنى ما لهم من شفيع لأن الله تعالى يعلم منهم الخيانة سرا وعلانية قيل: لأنه لا يصلح تعليلا لنفيها بل لنفي قبولها فإن الله تعالى هو العالم لا الشفيع والمقصود نفي الشفاعة، ووجه تقرير هذا الخبر في هذا الموضع ما فيه من التخلص إلى ذم آلهتهم مع أن تقديمه على الَّذِي يُرِيكُمْ لا وجه له لتعلقه بما قبله أشد التعلق كما أشير إليه وكذلك على رَفِيعُ الدَّرَجاتِ لاتصاله بالسابق وأمر المنيبين بالإخلاص ولما فيه من النبو من توسيط المنكر الفعلي بين المبتدأ وخبره المعرف الأسمى، وأما توسيطه بين القرائن الثلاث فبين العصا ولحائها فلا موضع له أحق من الجزء: 12 ¦ الصفحة: 313 هذا ولا يضر البعد اللفظي في مثل ذلك كما لا يخفى، وظن بعضهم ضرره فمنهم من قال: الجملة متصلة بمجموع قوله عزّ وجل: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إلى آخره، وذلك أنه سبحانه لما أمر بإنذار ذلك اليوم وما يعرض فيه من شدة الكرب والغم وذكر تعالى أن الظالم لا يجد من يحميه من ذلك ولا من يشفع له ذكر جل وعلا اطلاعه على جميع ما يصدر من العبد وأنه مجازي بما عمل ليكون على حذر من ذلك اليوم إذا علم أن الله تعالى مطلع على أعماله وإلى هذا ذهب أبو حيان. وقال ابن عطية: هي متصلة بقوله تعالى: سَرِيعُ الْحِسابِ لأن سرعة حسابه تعالى للخلق إنما هي لعلمه تعالى الذي لا يحتاج معه إلى روية وفكر ولا لشيء مما يحتاجه المحاسبون، وحكى رحمه الله تعالى عن فرقة أنها متصلة بقوله تعالى: لا يخفى على الله منهم شيء ثم قال: وهذا قول حسن يقويه تناسب المعنيين ويضعفه البعد وكثرة الحائل، وجعلها بعض متصلة بنفي قبول الشفاعة الذي تضمنه قوله تعالى: وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ فإن يُطاعُ المنفي بمعنى تقبل شفاعته على أنها تعليل لذلك أي لا تقبل شفاعة شفيع لهم لأن الله تعالى يعلم منه الخيانة سرا وعلانية وليست تعليلا لنفي الشفاعة ليرد ما قيل، ولا يخفى ما فيه، ولعمري إن جار الله في مثل هذا المقام لا يجارى. وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ أي والذي هذه صفاته يقضي قضاء ملتبسا بالحق لا بالباطل لاستغنائه سبحانه عن الظلم، وتقديم المسند إليه للتقوى، وجوز أن يكون للحصر وفائدة العدول عن المضمر إلى المظهر والإتيان بالاسم الجامع عقيب ذكر الأوصاف ما أشير إليه من إرادة الموصوف بتلك الصفات. وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ تهكم بآلهتهم لأن الجماد لا يقال فيه يقضي أو لا يقضي، وجعله بعضهم من باب المشاكلة وأصله لا يقدرون على شيء، واختير الأول قيل لأن التهكم أبلغ لأنه ليس المقصود الاستدلال على عدم صلاحيتهم للإلهية. وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع بخلاف عنه. وهشام «تدعون» بتاء الخطاب على الالتفات، وجوز أن يكون على إضمار قل فلا يكون التفاتا وإن عبر عنه بالغيبة قبله لأنه ليس على خلاف مقتضى الظاهر إذ هو ابتداء كلام مبني على خطابهم إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ تقرير لعلمه تعالى بخائنة الأعين وما تخفي الصدور وقضاؤه سبحانه بالحق ووعيد لهم على ما يقولون ويفعلون وتعريض بحال ما يدعون من دونه عزّ وجلّ، وفيه إشارة إلى أن القاضي ينبغي أن يكون سميعا بصيرا أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ أي ما حال الذين كذبوا الرسل عليهم السلام قبلهم كعاد. وثمود، و (ينظروا) مجزوم على أنه معطوف على يَسِيرُوا، وجوز أبو حيان كونه منصوبا في جواب النفي كما في قوله: ألم تسأل فتخبرك الرسوم وتعقب بأنه لا يصح تقديره بأن لم يسيروا ينظروا. وأجيب بأن الاستفهام إنكاري وهو في معنى النفي فيكون جواب نفي النفي كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً قدرة وتمكنا من التصرفات، والضمير المنفصل تأكيد للضمير المتصل قبله، وجوز كونه ضمير فصل ولا يتعين وقوعه بين معرفتين فقد أجاز الجرجاني وقوع المضارع بعده كما في قوله تعالى: إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ [البروج: 13] نعم الأصل الأكثر فيه ذلك، على أن أفعل التفضيل الواقع بعده من الداخلة على المفضل عليه مضارع للمعرفة لفظا في عدم دخول أل عليه ومعنى لأن المراد به الأفضل باعتبار أفضلية معينة. وجملة كانُوا إلخ مستأنفة في جواب كيف صارت أمورهم. وقرأ ابن عامر «منكم» بضمير الخطاب على الجزء: 12 ¦ الصفحة: 314 الالتفات. وَآثاراً فِي الْأَرْضِ عطف على قوة أي وأشد آثارا في الأرض مثل القلاع المحكمة والمدائن الحصينة، وقد حكى الله تعالى عن قوم منهم أنهم كانوا ينحتون من الجبال بيوتا. وجوز كونه عطفا على أَشَدَّ بتقدير محذوف أي وأكثر آثارا فتشمل الآثار القوية وغيرها، وهو ارتكاب خلاف المتبادر من غير حاجة يعتد بها، وقيل: المراد بهذه الآثار آثار أقدامهم في الأرض لعظم أجرامهم وليس بشيء أصلا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ أي وليس لهم واق من الله تعالى يقيهم ويمنع عنهم عذابه تعالى أبدا، فكان للاستمرار والمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار، ومن الثانية زائدة ومن الأولى متعلقة بواق، وقدم الجار والمجرور للاهتمام والفاصلة لأن اسم الله تعالى قيل: لم يقع مقطعا للفواصل. وجوز أن تكون من الأولى للبدلية أي ما كان لهم بدلا من المتصف بصفات الكمال واق وأريد بذلك شركاؤهم، وأن تكون ابتدائية تنبيها على أن الأخذ في غاية العنف لأنه إذا لم يبتدىء من جهته سبحانه واقية لم يكن لهم باقية ذلِكَ الأخذ بِأَنَّهُمْ أي بسبب أنهم كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات والأحكام الواضحة فَكَفَرُوا ريثما أتتهم رسلهم بذلك فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ متمكن مما يريده عزّ وجلّ غاية التمكن شَدِيدُ الْعِقابِ لا يعتد بعقاب عند عقابه سبحانه، وهذا بيان للإجمال في قوله تعالى: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إن كانت الباء هناك سببية وبيان لسبب الأخذ إن كانت للملابسة أي أخذهم ملابسين لذنوبهم غير تائبين عنها فتأمل وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وهي معجزاته عليه السلام وَسُلْطانٍ مُبِينٍ حجة قاهرة ظاهرة، والمراد بذلك قيل ما أريد بالآيات ونزل تغاير الوصفين منزلة تغاير الذاتين فعطف الثاني على الأول، وقيل: المراد به بعض من آياته له شأن كالعصا، وعطف عليها تفخيما لشأنه كما عطف جبريل وميكال عليهما السلام على الملائكة. وتعقب بأن مثله إنما يكون إذا غير الثاني بعلم أو نحوه أما مع إبهامه ففيه نظر، وحكى الطبرسي أن المراد بالآيات حجج التوحيد وبالسلطان المعجزات الدالة على نبوته عليه السلام، وقيل الآيات المعجزات والسلطان ما أوتيه عليه السلام من القوة القدسية وظهورها باعتبار ظهور آثارها من الإقدام على الدعوة من غير اكتراث. وقرأ عيسى «سلطان» بضم اللام إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وزير فرعون، وزعم اليهود أنه لم يكن لفرعون وزير يدعى هامان وإنما هامان ظالم جاء بعد فرعون بزمان مديد ودهر داهر نفي جاءهم من اختلال أمر كتبهم وتواريخ فرعون لطول العهد وكثرة المحن التي ابتلوا بها فاضمحلت منها أنفسهم وكتبهم. وَقارُونَ قيل هو الذي كان من قوم موسى عليه السلام، وقيل: هو غيره وكان مقدم جنود فرعون، وذكرهما من بين أتباع فرعون لمكانتهما في الكفر وكونهما أشهر الأتباع. وفي ذكر قصة الإرسال إلى فرعون ومن معه وتفصيل ما جرى تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان لعاقبة من هو أشد الذين كانوا من قبل وأقربهم زمانا ولذا خص ذلك بالذكر، ولا بعد في كون فرعون وجنوده أشد من عاد فَقالُوا ساحِرٌ أي هو يعنون موسى عليه السلام ساحر فيما أظهر من المعجزات كَذَّابٌ في دعواه أنه رسول من رب العالمين فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا وبلغهم أمر الله تعالى غير مكترث بقولهم ساحر كذاب قالُوا غيظا وحنقا وعجزا عن المعارضة اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ أي أعيدوا عليهم ما كنتم تفعلونه بهم أولا كي تصدوهم عن مظاهرة موسى عليه السلام، فالأمر بالقتل والاستحياء وقع مرتين. المرة الأولى حين أخبرت الكهنة والمنجمون في قول فرعون بمولود من بني إسرائيل يسلبه ملكه، والمرة الثانية هذه، وضمير قالُوا لفرعون ومن معه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 315 وقيل: إن قارون لم يصدر منه هذه المقالة لكنهم غلبوا عليه وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ في ضياع من ضلت الدابة إذا ضاعت، والمراد أنه لا يفيدهم شيئا فالعاقبة للمتقين، واللام إما للعهد والإظهار في موقع الإضمار لذمهم بالكفر والإشعار بعلة الحكم أو للجنس والمذكورون داخلون فيه دخولا أوليا، والجملة اعتراض جيء به في تضاعيف ما حكي عنهم من الأباطيل للمسارعة إلى بيان بطلان ما أظهروه من الإبراق والإرعاد واضمحلاله بالمرة. وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى كان إذا هم بقتله كفّوه بقولهم: ليس بالذي تخافه وهو أقل من ذلك وأضعف وما هو إلا ساحر يقاومه ساحر مثله وأنك إذا قتلته أدخلت الشبهة على الناس واعتقدوا أنك عجزت عن مظاهرته بالحجة، والظاهر أنه لعنه الله تعالى استيقن أنه عليه السلام نبي ولكن كان فيه خب وجربزة وكان قتالا سفاكا للدماء في أهون شيء فكيف لا يقتل من أحسن منه بأنه الذي يثل عرشه ويهدم ملكه ولكنه يخاف إن هم بقتله أن يعاجل بالهلاك فقوله: ذَرُونِي إلخ كان تمويها على قومه وإيهاما أنهم هم الذين يكفونه وما كان يكفه إلا ما في نفسه من هو الفزع ويرشد إلى ذلك قوله: وَلْيَدْعُ رَبَّهُ لأن ظاهره الاستهانة بموسى عليه السلام بدعائه ربه سبحانه كما يقال: ادع ناصرك فإني منتقم منك، وباطنه أنه كان يرعد فرائصه من دعاء ربه فلهذا تكلم به أول ما تكلم وأظهر أنه لا يبالي بدعاء ربه وما هو إلا كمن قال: ذروني أفعل كذا وما كان فليكن وإلا فما لمن يدعى أنه ربهم إلا على أن يجعل لما يدعيه موسى عليه السلام وزنا فيتفوه به تهكما أو حقيقة إِنِّي أَخافُ إن لم أقتله أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أن يغير حالكم الذي أنتم عليه من عبادتي وعبادة الأصنام وكان عليه اللعنة قد أمرهم بنحتها وأن تجعل شفعاء لهم عنده كما كان كفار مكة يقولون: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: 18] ولهذا المعنى أضافوا الآلهة إليه في قولهم: وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [الأعراف: 127] فهي إضافة تشريف واختصاص وهذا ما ذهب إليه بعض المفسرين، وقال ابن عطية: الدين السلطان ومنه قول زهير: لئن حللت بحي من بني أسد ... في دين عمرو وحالت بيننا فدك أي إني أخاف أن يغير سلطانكم ويستذلكم أَوْ أَنْ يُظْهِرَ إن لم يقدر على تغيير دينكم بالكلية فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ وذلك بالتهارج الذي يذهب معه الأمن وتتعطل المزارع والمكاسب ويهلك الناس قتلا وضياعا فالفساد الذي عناه فساد دنياهم، فيكون حاصل المعنى على ما قرر أولا أني أخاف أن يفسد عليكم أمر دينكم بالتبديل أو يفسد عليكم أمر دنياكم بالتعطيل وهما أمران كل منهما مر، ونحو هذا يقال على المعنى الثاني للدين، وعن قتادة أن اللعين عنى بالفساد طاعة الله تعالى: وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو و «وأن» الواو الواصلة. وقرأ الأعرج والأعمش وابن وثاب وعيسى وابن كثير وابن عامر والكوفيون غير حفص يُظْهِرَ بفتح الياء والهاء «الفساد» بالرفع. وقرأ مجاهد «يظّهّر» بتشديد الظاء والهاء «الفساد» بالرفع. وقرأ زيد بن علي «يظهر» بضم الياء وفتح الهاء مبنيا للمفعول «الفساد» بالرفع. وَقالَ مُوسى لما سمع بما أجراه اللعين من حديث قتله إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ قاله عليه السلام مخاطبا به قومه على ما ذهب إليه غير واحد، وذلك أنه لما كان القول السابق من فرعون خطابا لقومه على سبيل الاستشارة وإجالة الرأي لا بمحضر منه عليه السلام كان الظاهر أن موسى عليه السلام أيضا خاطب قومه لا فرعون وحاضريه بذلك، ويؤيده قوله تعالى: وفي [الأعراف: 128] قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا في هذه القصة بعينها، وقوله تعالى هنا: وَرَبِّكُمْ فإن فرعون ومن معه لا يعتقدون ربوبيته تعالى واردة أنه تعالى كذلك في نفس الأمر لا يضر في كونه مؤيدا لأن التأييد مداره الظاهر، وصدر الكلام بأن تأكيدا وتنبيها على أن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 316 السبب المؤكد في دفع الشر هو العياذ بالله تعالى، وخص اسم الرب لأن المطلوب هو الحفظ، والتربية وأضافه إليه وإليهم حثا لهم على موافقته في العياذ به سبحانه والتوجه التام بالروح إليه جل شأنه لما في تظاهر الأرواح من استجلاب الإجابة، وهذا هو الحكمة في مشروعية الجماعة في العبادات، ومِنْ كُلِّ على معنى من شر كل واردا بالتكبير الاستكبار عن الإذعان للحق وهو أقبح استكبار وأدله على دناءة ومهانة نفسه وعلى فرط ظلمه وعسفه، وضم إليه عدم الإيمان بيوم الجزاء ليكون أدل وأدل، فمن اجتمع فيه التكبر والتكذيب بالجزاء وقلة المبالاة بالعاقبة فقد استكمل أسباب القسوة والجراءة على الله تعالى وعباده ولم يترك عظيمة إلا ارتكبها، واختير المنزل دون منه سلوكا لطريق التعريض لأنه كلام وارد في عرضهم فلا يلبسون جلد النمر إذا عرض عليهم مع ما في ذلك من الدلالة على علة الاستعاذة ورعاية حتى تربية اللعين له عليه السلام في الجملة. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي «عت» بإدغام الذال المعجمة في التاء بعد قلبها تاء وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ قيل كان قبطيا ابن عم فرعون وكان يجري مجرى ولي العهد ومجرى صاحب الشرطة، وقيل: كان إسرائيليا، وقيل: كان غريبا ليس من الفئتين، ووصفه على هذين القولين بكونه من آل فرعون باعتبار دخوله في زمرتهم وإظهار أنه على دينهم وملتهم تقية وخوفا، ويقال نحو هذا في الإضافة في مؤمن آل فرعون الواقع في عدة أخبار، وقيل: مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ على القولين متعلق بقوله تعالى: يَكْتُمُ إِيمانَهُ والتقديم للتخصيص أي رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون دون موسى عليه السلام ومن اتبعه، ولا بأس على هذا في الوقت على مؤمن. واعترض بأن كتم يتعدى بنفسه دون من فيقال: كتمت فلانا كذا دون كتمت من فلان قال الله تعالى: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النساء: 42] وقال الشاعر: كتمتك ليلا بالجمومين ساهرا ... وهمين هما مستكنا وظاهرا أحاديث نفس تشتكي ما يريبها ... وورد هموم لن يجدن مصادرا وأراد على ما في البحر كتمتك أحاديث نفس وهمين، وفيه أنه صرح بعض اللغويين بتعديه بمن أيضا قال في المصباح كتم من باب قتل يتعدى إلى مفعولين ويجوز زيادة من في المفعول الأول فيقال: كتمت من زيد الحديث كما يقال: بعته الدار وبعتها منه. نعم تعلقه بذلك خلاف الظاهر بل الظاهر تعلقه بمحذوف وقع صفة ثانية لرجل، والظاهر على هذا كونه من آل فرعون حقيقة وفي كلامه المحكي عنه بعد ما هو ظاهر في ذلك واسمه قيل: شمعان بشين معجمة، وقيل: خربيل بخاء معجمة مكسورة وراء مهملة ساكنة، وقيل: حزبيل بحاء مهملة وزاي معجمة، وقيل: حبيب. وقرأ عيسى وعبد الوارث وعبيد بن عقيل وحمزة بن القاسم عن أبي عمروة «رجل» بسكون الجيم وهي لغة تميم ونجد أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أي أتقصدون قتله فهو مجاز ذكر فيه المسبب وأريد السبب، وكون الإنكار لا يقتضي الوقوع لا يصححه من غير تجوز أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ أي لأن يقول ذلك وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ الشاهدة على صدقه من المعجزات، والاستدلالات الكثيرة وجمع المؤنث السالم وإن شاع أنه للقلة لكنه إذا دخلت عليه أل يفيد الكثرة بمعونة المقام. والجملة حالية من الفاعل أو المفعول، وهذا إنكار من ذلك الرجل عظيم وتبكيت لهم شديد كأنه قال: أترتكبون الفعلة الشنعاء التي هي قتل نفس محرمة وما لكم عليه في ارتكابها إلا كلمة الحق التي نطق بها وهي قوله: رَبِّيَ اللَّهُ مع أنه قد جاءكم بالبينات مِنْ رَبِّكُمْ أي من عند من نسب إليه الربوبية وهو ربكم لا ربه وحده، وهذا استدراج إلى الاعتراف وفي أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ- إلى- مِنْ رَبِّكُمْ نكتة جليلة وهي أن من يقول ربي الله أو فلان لا يقتضي أن يقابل بالقتل كما لا تقابلون بالقتل إذا قلتم: ربنا فرعون كيف وقد جعل ربه من هو ربكم فكان عليكم بأن تعزروه وتوقروه لا أن تخذلوه وتقتلوه، وجوز الزمخشري كون أَنْ يَقُولَ على تقدير مضاف أي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 317 وقت أن يقول فحذف الظرف فانتصب المضاف إليه على الظرفية لقيامه مقامه، والمعنى أتقتلونه ساعة سمعتم منه هذا القول من غير روية ولا فكر في أمره، ورده أبو حيان بأن القائم مقام الظرف لا يكون إلا المصدر الصريح كجئت صياح الديك أو ما كان بما الدوامية دون الغير الصريح كجئت أن صاح أو أن يصيح الديك، وفيه إن ابن جني كالزمخشري صرح بالجواز وكل إمام. ثم إن الرجل احتاط لنفسه خشية أن يعرف اللعين حقيقة أمره فيبطش به فتلطف به الاحتجاج فقال: وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ لا يتخطاه وبال كذبه فيحتاج في دفعه إلى قتله وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ فلا أقل من أن يصيبكم بعض الذي يعدكم به أو يعدكموه، وفيه مبالغة في التحذير فإنه إذا حذرهم من إصابة البعض أفاد أنه مهلك مخوف فما بال الكل وإظهار للإنصاف وعدم التعصب ولذا قدم احتمال كونه كاذبا، وقيل: المراد يصبكم ما يعدكم من عذاب الدنيا وهو بعض مواعيده كأنه خوفهم بما هو أظهر احتمالا عندهم، وقيل: بعض بمعنى كل وانشدوا لذلك قول عمرو القطامي: قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل وذهب الزجاج إلى أن بَعْضُ فيه على ظاهره، والمراد إلزام الحجة وإبانة فضل المتأني على المستعجل بما لا يقدر الخصم أن يدفعه فالبيت كالآية على الوجه الأول، وأنشدوا لمجيء بعض بمعنى كل قول الشاعر: إن الأمور إذا الأحداث دبرها ... دون الشيوخ قرى في بعضها خللا ولا يتعين فيه ذلك كما لا يخفى، وعن أبي عبيدة أنه فسر البعض بالكل أيضا وأنشد قول لبيد: تراك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حمامها حمل البيت على معنى لا أزال أنتقل في البلاد إلى أن لا يبقى أحد أقصده من العباد، والمحققون على أن البعض فيه على ظاهره والمراد به نفسه، والمعنى لا أزال أترك ما لم أرضه من الأمكنة إلا أن أموت، وقال الزمخشري: إن صحت الرواية عن أبي عبيدة في ذلك فقد حق فيه قول المازني في مسألة العلقي كان أجفى من أن يفقه ما أقول له، وفيه مبالغة في الرد إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ احتجاج آخر ذو وجهين. أحدهما أنه لو كان مسرفا كذابا لما هداه الله تعالى إلى البينات ولما عضده بتلك المعجزات. وثانيهما إن كان كذلك خذله الله تعالى وأهلكه فلا حاجة لكم إلى قتله، ولعله أراد به المعنى الأول وأوهمهم أنه أراد الثاني لتلين شكيمتهم وعرض لفرعون بأنه مسرف أي في القتل والفساد كذاب في ادعاء الربوبية لا يهديه الله تعالى سبيل الصواب ومنهاج النجاة، فالجملة مستأنفة متعلقة معنى بالشرطية الأولى أو بالثانية أو بهما يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ غالبين عالين على بني إسرائيل فِي الْأَرْضِ أي في أرض مصر لا يقاومكم أحد في هذا الوقت فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ من أخذه وعذابه سبحانه إِنْ جاءَنا أي فلا تفسدوا أمركم ولا تتعرضوا لبأس الله تعالى بقتله فإنه إن جاءنا لم يمنعنا منه أحد، فالفاء في- فمن- إلخ فصيحة والاستفهام إنكاري، وإنما نسب ما يسرهم من الملك والظهور في الأرض إليهم خاصة ونظم نفسه في سلكهم فيما يسؤهم من مجيء بأس الله تعالى تطييبا لقلوبهم وإيذانا بأنه مناصح لهم ساع في تحصيل ما يجديهم ودفع ما يرديهم سعيه في حق نفسه ليتأثروا بنصحه. قالَ فِرْعَوْنُ بعد ما سمع ذلك ما أُرِيكُمْ أي ما أشير عليكم إِلَّا ما أَرى إلا الذي أراه وأستصوبه من قتله يعني لا أستصوب إلا قتله وهو الذي تقولونه غير صواب وَما أَهْدِيكُمْ بهذا الرأي إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ طريق الصواب والصلاح أو ما أعلمكم إلا ما أعلم من الصواب ولا أدخر منه شيئا ولا أسر عنكم خلاف ما أظهر يعني الجزء: 12 ¦ الصفحة: 318 أن لسانه وقلبه متواطئان على ما يقول، وقد كذب عدو الله فقد كان مستشعرا للخوف الشديد من جهة موسى عليه السلام لكنه كان يتجلد ولولا استشعاره لم يستشر أحدا، وعن معاذ بن جبل والحسن أنهما قرءا «الرشّاد» بشد الشين على أنه فعال للمبالغة من رشد بالكسر كعلام من علم أو من رشد بالفتح كعباد من عبد. وقيل: هو من أرشد المزيد كجبار من أجبر، وتعقب بأن فعالا لم يجىء من المزيد إلا في عدة أحرف نحو جبار ودراك وقصار وسار ولا يحسن القياس على القليل مع أنه ثبت في بعضه كجبار سماع الثلاثي فلا يتعين كونه من المزيد فقد جاء جبره على كذا كأجبره وقصار كجبار عند بعض لا يتعين كونه من أقصر لمجيء قصر عن الشيء كأقصر عنه، وحكي عن الجوهري أن الإقصار كف مع قدرة والقصر كف مع عجز فلا يتم هذا عليه، وأما دراك وسآر فقد خرجا على حذف الزيادة تقديرا لا استعمالا كما قالوا: أبقل المكان فهو باقل وأورس الرمث فهو وارس، قال ابن جني: وعلى هذا خرج الرشاد فيكون من رشد بمعنى أرشد تقديرا لا استعمالا فإن المعنى على ذلك، ثم قال: فإن قيل إذا كان المعنى على أرشد فكيف أجزت أن يكون من رشد المكسور أو من رشد المفتوح؟ قيل: المعنى راجع إلى أنه مرشد لأنه إذا رشد أرشد لأن الإرشاد من الرشد فهو من باب الاكتفاء بذكر السبب عن المسبب انتهى، وقيل: أجيز ذلك لأن المبالغة في الرشد تكون بالإرشاد كما قرروا في قيوم وطهور. وقال بعض المحققين: إن رشد بمعنى اهتدى فالمعنى ما أهديكم إلا سبيل من اهتدى وعظم رشده فلا حاجة إلى ما سمعت، وإنما يحتاج إليه لو وجب كون المعنى ما أهديكم إلا سبيل من كثر إرشاده ومن أين وجب ذلك؟ وجوز كون فعال في هذه القراءة للنسبة كما قالوا: عواج لبياع العاج وبتات لبياع البت وهو كساء غليظ، وقيل: طيلسان من خز أو صوف، وأنكر بعضهم كون القراءة على صيغة فعال في كلام فرعون وإنما هي في قول الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد، فإن معاذ بن جبل كان كما قال أبو الفضل الرازي وأبو حاتم يفسر سَبِيلَ الرَّشادِ على قراءته بسبيل الله تعالى وهو لا يتسنى في كلام فرعون كما لا يخفى، وستعلم إن شاء الله تعالى أن معاذا قرأ كذلك في قول المؤمن فلعل التفسير بسبيل الله عزّ وجلّ كان فيه دون كلام فرعون والله تعالى أعلم. وَقالَ الَّذِي آمَنَ الجمهور على أنه الرجل المؤمن الكاتم إيمانه القائل: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ قوى الله تعالى نفسه وثبت قلبه فلم يهب فرعون ولم يعبأ به فأتى بنوع آخر من التهديد والتخويف فقال: يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ إلى آخره، وقالت فرقة: كلام ذلك المؤمن قد تم، والمراد بالذي آمن هنا هو موسى نفسه عليه السلام، واحتجت بقوة كلامه، وعلى الأول المعول أي قال ناصحا لقومه: يا قوم إني أخاف عليكم في تكذيب موسى عليه السلام والتعرض له بالسوء أن يحل بكم مثل ما حل بالذين تحزبوا على أنبيائهم من الأمم الماضية، واليوم واحد الأيام بمعنى الوقائع وقد كثر استعمالها بذلك حتى صار حقيقة عرفية أو بمعناها المعروف لغة، والكلام عليه على حذف مضاف أي مثل حادث يوم الأحزاب. وأيا ما كان فالظاهر جمع اليوم لكن جمع الأحزاب المضاف هو إليه مع التفسير بما بعد أغنى عن جمعه، والمعنى عليه ورجح الأفراد بالخفة والاختصار، وقال الزجاج: المراد يوم حزب حزب بمعنى أن جمع حزب مراد به شمول أفراده على طريق البدل وهو تأويل في الثاني وما تقدم أظهر. مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ أي مثل جزاء دأبهم أي عادتهم الدائمة من الكفر وإيذاء الرسل، وقدر المضاف لأن المخوف في الحقيقة جزاء العمل لا هو، وجاء هذا من نصب مِثْلَ الثاني على أنه عطف بيان لمثل الأول لأن آخر ما تناولته الإضافة قوم نوح، ولو قلت: أهلك الله الأحزاب قوم نوح وعاد وثمود لم يكن إلا عطف بيان الجزء: 12 ¦ الصفحة: 319 لإضافة قوم إلى أعلام فسرى ذلك الحكم إلى أول ما تناولته الإضافة. وقال ابن عطية: هو بدل من مِثْلَ الأول، والاحتياج إلى تقدير المضاف على حاله وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ كقوم لوط وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ أي فما فعل سبحانه بهؤلاء الأحزاب لم يكن ظلما بل كان عدلا وقسطا لأنه عزّ وجلّ أرسل إليهم رسلهم بالبينات فكذبوهم وتحزبوا عليهم فاقتضى ذلك إهلاكهم، وهذا أبلغ من قوله تعالى: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] من حيث جعل المنفي فيه إرادة الظلم لأن من كان عن إرادة الظلم بعيدا كان عن الظلم نفسه أبعد، وحيث نكر الظلم كأنه نفي أن يريد ظلما ما لعباده، ويجوز الزمخشري أن يكون معناه كمعنى قوله تعالى: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ [الزمر: 7] أي لا يريد سبحانه لهم أن يظلموا يعني أنه عزّ وجلّ دمرهم لأنهم كانوا ظالمين، ولا يخفى أن هذا المعنى مرجوح لفظا ومعنى، ثم لا حجة فيه للمعتزلة لثبوت الفرق بين أراده منه وأراده له فلو سلم أنه سبحانه لا يريد لهم أن يظلموا لم يلزم أن لا يريده منهم والممتنع عند أهل السنة هو هذا فلا احتياج إلى صرف الآية عن الظاهر عندهم أيضا. وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ خوفهم بالعذاب الأخروي بعد تخويفهم بالعذاب الدنيوي، والتناد مصدر تنادى القوم أي نادى بعضهم بعضا، ويوم التناد يوم القيامة سمي بذلك لأنه ينادي فيه بعضهم بعضا للاستغاثة أو يتصايحون فيه بالويل والثبور أو لتنادي أهل الجنة وأهل النار كما حكي في سورة الأعراف أو لأن الخلق ينادون إلى المحشر أو لنداء المؤمن هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ [الحاقة: 19] والكافر لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ [الحاقة: 25] . وعن ابن عباس أن هذا التنادي هو التنادي الذي يكون بين الناس عند النفخ في الصور ونفخة الفزع في الدنيا وأنهم يفرون على وجوههم للفزع الذي نالهم وينادي بعضهم بعضا، وروي هذا عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم ، وقال ابن عطية: يحتمل أن يراد التذكير بكل نداء في القيامة فيه مشقة على الكفار والعصاة. وقرأت فرقة «التناد» بسكون الدال في الوصل اجراء له مجرى الوقف. وقرأ ابن عباس والضحاك وأبو صالح والكلبي والزعفراني وابن مقسم «التنادّ» بتشديد الدال من ند البعير إذا هرب أي يوم الهرب والفرار لقوله تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ [عبس: 34] الآية، وفي الحديث أن الناس جولة يوم القيامة يندون يظنون أنهم يجدون مهربا. وقيل: المراد به يوم الاجتماع من ندا إذا اجتمع ومنه النادي يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ بدل من يوم التناد أي يوم تولون عن الموقف منصرفين عنه إلى النار، وقيل: فارين من النار، فقد روي أنهم إذا سمعوا زفير النار هربوا فلا يأتون قطرا من الأقطار إلا وجدوا ملائكة صفوفا فلا ينفعهم الهرب، ورجح هذا القول بأنه أتم فائدة وأظهر ارتباطا بقوله تعالى: ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ أي يعصمكم في فراركم حتى لا تعذبوا في النار قاله السدي، وقال قتادة: أي ما لكم في الانطلاق إلى النار من مانع يمنعكم منها أو ناصر، وهذا ما يقال على المعنى الأول- ليوم تولون مدبرين- وأيا ما كان فالجملة حال أخرى من ضمير تُوَلُّونَ. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ يهديه إلى طريق النجاة أصلا، وكأن الرجل يئس من قبولهم نصحه فقال ذلك ثم وبخهم على تكذيب الرسل السالفين فقال: وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ بن يعقوب عليهما السلام مِنْ قَبْلُ أي من قبل موسى بِالْبَيِّناتِ الأمور الظاهرة الدالة على صدقه فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ من الدين حَتَّى إِذا هَلَكَ بالموت قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا غاية لقوله. فَما زِلْتُمْ وأرادوا بقولهم لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا تكذيب رسالته ورسالة غيره أي لا رسول فيبعث فهم بعد الشك بتوا بهذا التكذيب فيكون ذلك ترقيا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 320 ويجوز أن يكون الشك في رسالته على حاله وبتهم إنما هو بتكذيب رسالة غيره من بعده، وقيل: يحتمل أن يكونوا أظهروا الشك في حياته حسدا وعنادا فلما مات عليه السلام أقروا بها وأنكروا أن يبعث الله تعالى من بعده رسولا وهو خلاف الظاهر، ومجيء يوسف بن يعقوب عليهما السلام المخاطبين بالبينات قيل: من باب نسبة أحوال الآباء إلى الأولاد وكذلك نسبة الأفعال الباقية إليهم، وجوز كون بعض الذين جاءهم يوسف عليه السلام حقيقة حيا ففي بعض التواريخ أن وفاة يوسف عليه السلام قبل مولد موسى عليه السلام بأربع وستين سنة فيكون من نسبة حال البعض إلى الكل، واستظهر في البحر أن فرعون يوسف عليه السلام هو فرعون موسى عليه السلام، وذكر عن أشهب عن مالك أنه بلغه أنه عمر أربعمائة وأربعين سنة، والذي ذكره أغلب المؤرخين أن فرعون موسى اسمه الريان وفرعون يوسف اسمه الوليد. وذكر القرطبي أن فرعون الأول من العمالقة وهذا قبطي، وفرعون يوسف عليه السلام مات في زمنه، واختار القول بتغايرهما، وأمر المجيء وما معه من الأفعال على ما سمعت، وقيل: المراد بيوسف المذكور هو يوسف بن إبراهيم بن يوسف الصديق أرسله الله تعالى نبيا فأقام فيهم عشرين سنة وكان من أمرهم ما قص الله عزّ وجلّ. ومن الغريب جدا ما حكاه النقاش والماوردي أن يوسف المذكور في هذه السورة من الجن بعثه الله تعالى رسولا إليهم، نقله الجلال السيوطي في الإتقان ولا يقبله من له أدنى إتقان. نعم القول بأن للجن نبيا منهم اسمه يوسف أيضا مما عسى أن يقبل كما لا يخفى. وقرىء «ألن يبعث» بإدخال همزة الاستفهام على حرف النفي كأن بعضهم يقرر بعضا على نفي البعثة. كَذلِكَ أي مثل ذلك الإضلال الفظيع يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ في العصيان مُرْتابٌ في دينه شاك فيما تشهد به البينات لغلبة الوهم والانهماك في التقليد الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ من الموصول الأول- أعني من- أو بيان أو صفة له باعتبار معناه كأنه قيل: كل مسرف مرتاب أو المسرفين المرتابين، وجوز نصبه بأعني مقدرا، وقوله تعالى شأنه: بِغَيْرِ سُلْطانٍ على الأوجه المذكورة متعلق- بيجادلون- وقوله سبحانه: أَتاهُمْ صفة سُلْطانٍ والمراد بإتيانه إتيانه من جهته سبحانه وتعالى إما على أيدي الرسل عليهم السلام فيكون ذاك إشارة إلى الدليل النقلي، وإما بطريق الإفاضة على عقولهم فيكون ذاك إشارة إلى الدليل العقلي، وقد يعمم فيكون المعنى يجادلون بغير حجة صالحة للتمسك بها أصلا لا عقلية ولا نقلية. وقوله سبحانه: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا تقرير لما أشعر به الكلام من ذمهم وفيه ضرب من التعجب والاستعظام، وفاعل كَبُرَ ضمير راجع إلى الجدال الدال عليه يُجادِلُونَ على نحو من كذب كان شرا له أي كبر الجدال في آيات الله بغير حجة مقتا عند الله إلخ، أو إلى الموصول الأول وأفرد رعاية للفظه، واعترض عليه بأنه حمل على اللفظ من بعد الحمل على المعنى، وأهل العربية يجتنبونه. وقال صاحب الكشف: هذا شيء نقله ابن الحاجب ولم يساعده غيره وهو غير مسلم أي كبر المسرف المرتاب المجادل في آيات الله بغير حجة مقتا أي كبر مقته وعظم عند الله تعالى وعند المؤمنين كَذلِكَ أي مثل ذلك الطبع الفظيع يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ فيصدر عنه أمثال ما ذكر من الإسراف والارتياب والمجادلة بغير حق وجوز أن يكون الَّذِينَ مبتدأ وجملة كَبُرَ خبره لكن على حذف مضاف هو المخبر عنه حقيقة أي جدال الذين يجادلون كبر مقتا، وأن يكون الَّذِينَ مبتدأ على حذف المضاف وبِغَيْرِ سُلْطانٍ خبر المضاف المقدر أي جدال الذين يجادلون في آيات الله تعالى كائن بغير سلطان، وظاهر كلام البعض أن الَّذِينَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 321 مبتدأ من غير حذف مضاف وبِغَيْرِ سُلْطانٍ خبره، وفيه الأخبار عن الذات والجثة بالظرف وفاعل كَبُرَ كذلك على مذهب من يرى اسمية الكاف كالأخفش أي كبر مقتا مثل ذلك الجدال فيكون قوله تعالى: يَطْبَعُ إلخ استئنافا للدلالة على الموجب لجدالهم، ولا يخفى ما في ذلك من العدول عن الظاهر، وفي البحر الأولى في إعراب هذا الكلام أن يكون الَّذِينَ مبتدأ وخبره كَبُرَ والفاعل ضمير المصدر المفهوم من يُجادِلُونَ أي الذين يجادلون كبر جدالهم مقتا فتأمل. وقرأ أبو عمرو وابن ذكوان والأعرج بخلاف عنه «قلب» بالتنوين فما بعده صفته، ووصفه بالكبر والتجبر لأنه منبعهما كقولهم: رأت عيني وسمعت أذني، وجوز أن يكون ذاك على حذف مضاف أي كل ذي قلب متكبر جبار، وجعل الصفتين لصاحب القلب لتتوافق القراءتان هذه وقراءة باقي السبعة بلا تنوين، وعن مقاتل المتكبر المعاند في تعظيم أمر الله تعالى، والجبار المتسلط على خلق الله تعالى، والظاهر أن عموم كل منسحب على المتكبر والجبار أيضا فكأنه اعتبر أولا إضافة «قلب» إلى ما بعده ثم اعتبرت إضافته إلى المجموع. وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً بناء مكشوفا عاليا من صرح الشيء إذا ظهر لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أي الطرق كما روي عن السدي، وقال قتادة: الأبواب وهي جمع سبب ويطلق على كل ما يتوصل به إلى شيء أَسْبابَ السَّماواتِ بيان لها، وفي إبهامها ثم إيضاحها تفخيم لشأنها وتشويق للسامع إلى معرفتها. فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى بالنصب على جواب الترجي عند الكوفيين فإنهم يجوزون النصب بعد الفاء في جواب الترجي كالتمني، ومنع ذلك البصريون وخرجوا النصب هنا على أنه في جواب الأمر وهو ابْنِ كما في قوله: يا ناق سيري عنقا فسيحا ... إلى سليمان فنستريحا وجوز أن يكون بالعطف على خبر لعلى بتوهم أن فيه لأنه كثيرا ما جاءنا مقرورنا بها أو على الْأَسْبابَ على حد: ولبس عباءة وتقر عيني وقال بعض: إن هذا الترجي تمن في الحقيقة لكن أخرجه اللعين هذا المخرج تمويها على سامعيه فكان النصب في جواب التمني، والظاهر أن البصريين لا يفرقون بين ترج وترج. وقرأ الجمهور بالرفع عطفا على أَبْلُغُ قيل: ولعله أراد أن يبني له رصدا في موضع عال يرصد منه أحوال الكواكب التي هي أسباب سماوية تدل على الحوادث الأرضية فيرى هل فيها ما يدل على إرسال الله تعالى إياه، وهذا يدل على أنه مقر بالله عزّ وجلّ وإنما طلب ما يزيل شكه في الرسالة، وكان للعين وأهل عصره اعتناء بالنجوم وأحكامها على ما قيل. وهذا الاحتمال في غاية البعد عندي، وقيل: أراد أن يعلم الناس بفساد قول موسى عليه السلام: إني رسول من رب السماوات بأنه إن كان رسولا منه فهو ممن يصل إليه وذلك بالصعود للسماء وهو محال فما بنى عليه مثله، ومنشأ ذلك جهله بالله تعالى وظنه أنه سبحانه مستقر في السماء وأن رسله كرسل الملوك يلاقونه ويصلون إلى مقره، وهو عزّ وجلّ منزه عن صفات المحدثات والأجسام ولا تحتاج إلى ما تحتاج إليه رسل الملوك رسله الكرام عليهم الصلاة والسلام، وهذا نفي لرسالته من الله تعالى ولا تعرض فيه لنفي الصانع المرسل له، وقال الإمام: الذي عندي في تفسير الآية أن فرعون كان من الدهرية وغرضه من هذا الكلام إيراد شبهة في نفي الصانع وتقريره أنه قال: إنّا لا نرى شيئا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 322 نحكم عليه بأنه إله العالم فلا يجز إثبات هذا الإله، أما أنا لا نراه فلأنه لو كان موجودا لكان في السماء ونحن لا سبيل لنا إلى صعود السماوات فكيف يمكننا أن نراه، وللمبالغة في بيان عدم الإمكان قال: يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً فما هو إلا لإظهار عدم إمكان ما ذكر لكل أحد، ولعل لا تأبى ذلك لأنها للتهكم على هذا وهي شبهة في غاية الفساد إذ لا يلزم من انتفاء أحد طرق العلم بالشيء انتفاء ذلك الشيء، ورأيت لبعض السلفيين أن اللعين ما قال ذلك إلا لأنه سمع من موسى عليه السلام أو من أحد من المؤمنين وصف الله تعالى بالعلو أو بأنه سبحانه في السماء فحمله على معنى مستحيل في حقه تعالى لم يرده موسى عليه السلام ولا أحد من المؤمنين فقال ما قال تهكما وتمويها على قومه، وللإمام في هذا المقام كلام رد به على القائلين بأن الله تعالى في السماء ورد احتجاجهم بما أشعرت به الآية على ذلك وسماهم المشبهة، والبحث في ذلك طويل المجال والحق مع السلف عليهم رحمة الملك المتعال وحاشاهم ثم حاشاهم من التشبيه، وقوله: وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً يحتمل أن يكون عني به كاذبا في دعوى الرسالة وأن يكون عني به كاذبا في دعوى أن له الها غيري لقوله: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص: 38] . وَكَذلِكَ أي ومثل ذلك التزيين البليغ المفرط زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ فانهمك فيه انهماكا الا يرعوي عنه بحال وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ أي عن سبيل الرشاد، فالتعريف للعهد والفعلان مبنيان للمفعول والفاعل في الحقيقة هو الله تعالى، ولم يفعل سبحانه كلا من التزيين والصدر إلا لأن فرعون طلبه بلسان استعداده واقتضى ذلك سوء اختياره ويدل على هذا أنه قرئ «زيّن» مبنيا للفاعل ولم يسبق سوى ذكره تعالى دون الشيطان. وجوز أن يكون الفاعل الشيطان ونسبة الفعل إليه بواسطة الوسوسة، وقرأ الحجازيان والشامي وأبو عمرو «وصدّ» بالبناء للفاعل وهو ضمير فرعون على أن المعنى وصد فرعون الناس عن سبيل الرشاد بأمثال هذه التمويهات والشبهات، ويؤيده وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ أي في خسار لأنه يشعر بتقدم ذكر للكيد وهو في هذه القراءة أظهر، وقرأ ابن وثاب «وصدّ» بكسر الصاد أصله صدد نقلت الحركة إلى الصاد بعد توهم حذفها، وابن أبي إسحاق وعبد الرحمن ابن أبي بكرة «وصدّ» بفتح الصاد وضم الدال منونة عطفا على سُوءُ عَمَلِهِ، وقرىء «وصدوا» بواو الجمع أي هو وقومه وَقالَ الَّذِي آمَنَ هو مؤمن آل فرعون، وقيل: فيه نظير ما قيل في سابقه أنه موسى عليه السلام وهو ضعيف كما لا يخفى يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ فيما دللتكم عليه أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ سبيلا يصل به سالكه إلى المقصود، وفيه تعريض بأن ما عليه فرعون وقومه سبيل الغي. وقرأ معاذ بن جبل كما في البحر الرَّشادِ بتشديد الشين وتقدم الكلام في ذلك فلا تغفل يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ أي تمتع أو متمتع به يسير لسرعة زواله وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ لخلودها ودوام ما فيها مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً في الدنيا فَلا يُجْزى في الآخرة إِلَّا مِثْلَها عدلا من الله عزّ وجلّ، واستدل به على أن الجنايات تغرم بمثلها أي بوزانها من غير مضاعفة وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ الذين عملوا ذلك يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ بغير تقدير وموازنة بالعمل بل أضعافا مضاعفة فضلا منه تعالى ورحمة، وقسم العمال إلى ذكر وأنثى للاهتمام والاحتياط في الشمول لاحتمال نقص الإناث، وجعل الجزاء في جزاء أعمالهم جملة اسمية مصدرة باسم الإشارة مع تفضيل الثواب وتفصيله تغليبا للرحمة وترغيبا فما عند الله عزّ وجلّ، وجعل العمل عمدة وركنا من القضية الشرطية والإيمان حالا للدلالة على أن الإيمان شرط في اعتبار العمل والاعتداد به والثواب عليه لأن الأحوال قيود وشروط للحكم التي وقعت فيه، ويتضمن ذلك الإشارة إلى عظيم شرفه ومزيد ثوابه، وقرأ الأعرج. والحسن. وأبو جعفر. وعيسى. وغير واحد من السبعة «يدخلون» مبنيا للمفعول وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ كرر نداءهم ايقاظا لهم عن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 323 سنة الغفلة واهتماما بالمنادي له ومبالغة في توبيخهم على ما يقابلون به دعوته، وترك العطف في النداء الثاني وهو يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إلخ لأنه تفسير لما أجمل في النداء قبله من الهداية إلى سبيل الرشاد فإنها التحذير من الإخلاد إلى الدنيا والترغيب في إيثار الآخرة على الأولى وقد أدى ذلك فيه على أتم وجه وأحسنه ولم يترك في هذا النداء لأنه ليس بتلك المثابة وذلك لأنه للموازنة بين الدعوتين دعوته إلى دين الله الذي ثمرته النجاة ودعوتهم إلى اتخاذ الأنداد الذي عاقبته النار، وليس ذلك من تفسير الهداية في شيء بل ذلك لتحقيق أنه هادوا أنهم مضلون وأن ما عليه هو الهدى وما هم عليه هو الضلال فهو عطف على النداء الأول أو المجموع، وقيل: هو عطف على النداء الثاني داخل معه في التفسير لما أجمل في النداء الأول تصريحا وتعريضا، ولكل وجه وفي الترجيح كلام. تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ بدل من تدعونني إلى النار أو عطف بيان له بناء على أنه يجري في الجمل كالمفردات أو جملة مستأنفة مفسرة لذلك، والدعاء كالهداية في التعدية بإلى واللام وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ أي بكونه شريكا له تعالى في المعبود أو بربوبيته وألوهيته عِلْمٌ ونفي العلم هنا كناية عن نفي المعلوم، وفي إنكاره للدعوة إلى ما لا يعلمه إشعار بأن الألوهية لا بد لها من برهان موجب للعلم بها. وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ المستجمع لصفات الألوهية من كمال القدرة والغلبة وما يتوقف عليه من العلم والإرادة والتمكن من المجازاة والقدرة على التعذيب والغفران وخص هذان الوصفان بالذكر وإن كانا كناية عن جميع الصفات لاستلزامهما ذلك كما أشير إليه لما فيهما من الدلالة على الخوف والرجاء المناسب لحاله وحالهم لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ سياقه على مذهب البصريين أن لا رد لكلام سابق وهو ما يدعونه إليه هاهنا من الكفر بالله سبحانه وشرك الآلهة الباطلة عزّ وجلّ به وجَرَمَ فعل ماضي بمعنى ثبت وحق كما في قوله: ولقد طعنت أبا عبيدة طعنة ... جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا وأن مع ما في حيزها فاعلة أي ثبت وحق عدم دعوة للذي تدعونني إليه من الأصنام إلى نفسه أصلا يعني أن من حق المعبود بالحق أن يدعو العباد المكرمين كالأنبياء والملائكة إلى نفسه ويأمرهم بعبادته ثم يدعو العباد بعضهم بعضا إليه تعالى وإلى طاعته سبحانه إظهارا لدعوة ربهم عزّ وجلّ وما تدعون إليه وإلى عبادته من الأصنام لا يدعو هو إلى ذلك ولا يدعي الربوبية أصلا لا في الدنيا لأنه جماد فيها لا يستطيع شيئا من دعاء وغيره ولا في الآخرة لأنه إذا أنشأه الله تعالى فيها حيوانا تبرأ من الدعاة إليه ومن عبدته وحاصله حق أن ليس لآلهتكم دعوة أصلا فليست بآلهة حقة أو بمعنى كسب وفاعله ضمير الدعاء السابق الذي دعاه قومه وإن مع ما في حيزها مفعوله أي كسب دعاؤكم إياي إلى آلهتكم أن لا دعوة لها أي ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوتها وذهابها ضياعا، وقيل: جَرَمَ اسم لا وهو مصدر مبني على الفتح بمعنى القطع والخبر أن مع ما في حيزها على معنى لا قطع لبطلان دعوة ألوهية الأصنام أي لا ينقطع ذلك البطلان في وقت من الأوقات فينقلب حقا، وهذا البطلان هو معنى النفي الذي يفهم من قوله تعالى: لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ إلخ، ولا جَرَمَ على هذا مثل لا بد فإنه من التبديد وهو التفريق وانقطاع بعض الشيء من بعض، ومن ثم قيل: المعنى لا بد من بطلان دعوة الأصنام أي بطلانها أمر ظاهر مقرر، ونقل هذا القول عن الفراء، وعنه أن ذلك هو أصل لا جَرَمَ لكنه كثر استعماله حتى صار بمعنى حقا فلهذا يجاب بما يجاب به القسم في مثل لا جرم لآتينك. وفي الكشاف وروي عن العرب لا جرم أنه يفعل بضم الجيم وسكون الراء أي لا بد وفعل وفعل إخوان كرشد ورشد وعدم وعدم، وهذه اللغة تؤيد القول بالاسمية في اللغة الأخرى ولا تعينها كما لا يخفى، وقد تقدم شيء من الكلام في لا جرم أيضا فليتذكر. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 324 ولام له في جميع هذه الأوجه لنسبة الدعوة إلى الفاعل على ما سمعت من المعنى، وجوز أن يكون لنسبتها إلى المفعول فإن الكفار كانوا يدعون آلهتهم في الآية دعاءهم إياها في معنى نفي الاستجابة منها لدعائهم إياها، فالمعنى أن ما تدعونني إليه من الأصنام ليس له استجابة دعوة لمن يدعوه أصلا أو ليس له دعوة مستجابة أي لا يدعي دعاء يستجيبه لداعيه. فالكلام إما على حذف المضاف أو على حذف الموصوف، وجوز التجوز فيه بالدعوة فعن استجابتها التي تترتب عليها، وهذا كما سمي الفعل المجازي عليه باسم الجزاء في قولهم: كما تدين تدان وهو من باب المشاكلة عند بعض وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ أي مرجعنا إليه تعالى بالموت، وهذا عطف على أن ما تدعونني داخل في حكمه، وكذا قوله تعالى: وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ وفسر ابن مسعود ومجاهد الْمُسْرِفِينَ هنا بالسفاكين للدماء بغير حلها فيكون المؤمن قد ختم تعريضا بما افتتح به تصريحا في قوله: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا. وعن قتادة أنهم المشركون فإن الإشراك إسراف في الضلالة، وعن عكرمة أنهم الجبارون المتكبرون، وقيل: كل من غلب شره خيره فهو مسرف والمراد بأصحاب النار ملازموها، فإن أريد بالمسرفين ما يدخل فيه المؤمن العاصي أريد بالملازمة العرفية الشاملة للمكث الطويل، وإن أريد بهم ما يخص الكفرة فهي بمعنى الخلود. فَسَتَذْكُرُونَ وقرئ فَسَتَذْكُرُونَ بالتشديد أي فسيذكر بعضكم بعضا عند معاينة العذاب ما أَقُولُ لَكُمْ من النصائح وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ليعصمني من كل سوء إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ فيحرس من يلوذ به سبحانه منهم من المكاره، وهذا يحتمل أن يكون جواب توعدهم المفهوم من قوله تعالى: وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ [غافر: 37] أو من قوله سبحانه: فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا ويحتمل أن يكون متاركة والتفريع في فَسَتَذْكُرُونَ على قوله الأخير: يا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إلخ، وجعله من جعل ذلك معطوفا على يا قَوْمِ الثاني تفريعا على جملة الكلام، وما في ما مَكَرُوا مصدرية و (السيئات) الشدائد أي فوقاه الله تعالى شدائد مكرهم وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ أي بفرعون وقومه، فاستغنى بذكرهم عن ذكره ضرورة أنه أولى منهم بذلك، ويجوز أن يكون آل فرعون شاملا له عليه اللعنة بأن يراد بهم مطلق كفرة القبط كما قيل في قوله تعالى: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً [سبأ: 13] أنه شامل لداود عليه السلام، وكانوا على ما حكى الأوزاعي ولا أعتقد صحته ألفي ألف وستمائة ألف. وعن ابن عباس أن هذا المؤمن لما أظهر إيمانه قصد فرعون قتله فهرب إلى جبل فبعث في طلبه ألف رجل فمنهم من أدركه يصلي والسباع حوله فلما هموا ليأخذوه ذبت عنه فأكلتهم، ومنهم من مات في الجبل عطشا، ومنهم من رجع إلى فرعون خائبا فاتهمه وقتله وصلبه، فالمراد بآل فرعون هؤلاء الألف الذين بعثهم إلى قتله أي فنزل بهم وأصابهم سُوءُ الْعَذابِ الغرق على الأول وأكل السباع والموت عطشا والقتل والصلب على ما روي عن ابن عباس والنار عليهما ولعله الأولى، وإضافة سُوءُ إلى الْعَذابِ لأمية أو من إضافة الصفة للموصوف، وقوله تعالى: النَّارُ مبتدأ وجملة قوله تعالى: يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا خبره والجملة تفسير لقوله تعالى: وَحاقَ إلخ. وجوز أن تكون النَّارُ بدلا من سُوءُ الْعَذابِ ويُعْرَضُونَ في موضع الحال منها أو من الآل، وأن تكون النار خبر مبتدأ محذوف هو ضمير سُوءُ الْعَذابِ كأنه قيل: ما سوء العذاب؟ فقيل: هو النار، وجملة يُعْرَضُونَ تفسير على ما مر، وفي الوجه الأول من تعظيم أمر النار وتهويل عذابها ما ليس في هذا الوجه كما ذكره صاحب الكشاف، ومنشأ التعظيم على ما في الكشف الإجمال والتفسير في كيفية تعذيبهم وإفادة كل من الجملتين نوعا من التهويل. الأولى الإحاطة بعذاب يستحق أن يسمى سوء العذاب. والثانية النار المعروض عليها غدوا وعشيا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 325 والسر في إفادة تعظيم النار في هذا الوجه دون ما تضمن تفسير سُوءُ الْعَذابِ وبيان كيفية التعذيب أنك إذا فسرت سُوءُ الْعَذابِ بالنار فقد بالغت في تعظيم سوء العذاب. ثم استأنفت بيعرضون عليها تتميما لقوله تعالى: وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ من غير مدخل للنار فيما سيق له الكلام، وإذا جئت بالجملتين من غير نظر إلى المفردين وإن أحدهما تفسير للآخر فقد قصدت بالنار قصد الاستقلال حيث جعلتها معتمد الكلام وجئت بالجملة بيانا وإيضاحا للأولى كأنك قد آذنت بأنها أوضح لاشتمالها على ما لا أسوأ منه أعني النار على أن من موجبات تقديم المسند إليه إنباؤه عن التعظيم مع اقتضاء المقام له وهاهنا كذلك على ما لا يخفى، والتركيب أيضا يفيد التقوى على نحو زيد ضربته. ومن هنا قال صاحب الكشف: هذا هو الوجه، وأيد بقراءة من نصب النَّارُ بناء على أنها ليست منصوبة بأخص أو أعني بل بإضمار فعل يفسره يُعْرَضُونَ مثل يصلون فإن عرضهم على النار إحراقهم بها من قولهم: عرض الأسارى على السيف قتلوا به، وهو من باب الاستعارة التمثيلية بتشبيه حالهم بحال متاع يبرز لمن يريد أخذه، وفي ذلك جعل النار كالطالب الراغب فيهم لشدة استحقاقهم الهلاك، وهذا العرض لأرواحهم. أخرج ابن أبي شيبة وهناد وعبد بن حميد عن هزيل بن شرحبيل أن أرواح آل فرعون في أجواف طير سود تغدو وتروح على النار فذلك عرضها. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن ابن مسعود نحو ذلك، وهذه الطير صور تخلق لهم من صور أعمالهم، وقيل: ذاك من باب التمثيل وليس بذاك، وذكر الوقتين ظاهر في التخصيص بمعنى أنهم يعرضون على النار صباحا مرة ومساء مرة أي فيما هو صباح ومساء بالنسبة إلينا، ويشهد له ما أخرجه ابن المنذر والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهما عن أبي هريرة أنه كان له صرختان في كل يوم غدوة وعشية كان يقول أول النهار: ذهب الليل وجاء النهار وعرض آل فرعون على النار، ويقول أول الليل: ذهب النهار وجاء الليل وعرض آل فرعون على النار فلا يسمع أحد صوته إلا استعاذ بالله تعالى من النار، والفصل بين الوقتين إما بترك العذاب أو بتعذيبهم بنوع آخر غير النار. وجوز أن يكون المراد التأبيد اكتفاء بالطرفين المحيطين عن الجميع، وأيا ما كان ففي الآية دليل ظاهر على بقاء النفس وعذاب البرزخ لأنه تعالى بعد أن ذكر ذلك العرض قال جل شأنه: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ وهو ظاهر في المغايرة فيتعين كون ذلك في البرزخ، ولا قائل بالفرق بينهم وبين غيرهم فيتم الاستدلال على العموم، وفي الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله تعالى» ويَوْمَ على ما استظهره أبو حيان معمول لقول مضمر، والجملة عطف على ما قبلها أي ويوم تقوم الساعة يقال للملائكة: أدخلوا آل فرعون أشد العذاب أي عذاب جهنم فإنه أشد مما كانوا فيه أو أشد عذاب جهنم فإن عذابها ألوان بعضها أشدّ من بعض، وعن بعض أشد العذاب هو عذاب الهاوية، وقيل: هو معمول أَدْخِلُوا. وقيل: هو عطف على عَشِيًّا فالعامل فيه يُعْرَضُونَ وأَدْخِلُوا على إضمار القول وهو كما ترى، وقرأ علي كرم الله وجهه والحسن وقتادة وابن كثير، والعربيان وأبو بكر «أدخلوا» على أنه أمر لآل فرعون بالدخول أي ادخلوا يا آل فرعون، وقوله تعالى: وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ معمول لا ذكر محذوفا أي واذكر وقت تخاصمهم في النار، والجملة معطوفة على ما قبلها عطف القصة على القصة لا على مقدر تقديره اذكر ما تلى عليك من قصة موسى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 326 عليه السلام وفرعون ومؤمن آل فرعون ولا على قوله تعالى: فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ [غافر: 4] أو على قوله سبحانه: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ [غافر: 18] لعدم الحاجة إلى التقدير في الأول وبعد المعطوف عليه في الأخيرين. وزعم الطبري أن إِذْ معطوفة على إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ [غافر: 18] وهو مع بعده فيه ما فيه، وجوز أن تكون معطوفة على غُدُوًّا وجملة يَوْمَ تَقُومُ اعتراض بينهما وهو مع كونه خلاف الظاهر قليل الفائدة، وضمير يتحاجون على ما اختاره ابن عطية وغيره لجميع كفار الأمم، ويتراءى من كلام بعضهم أنه لكفار قريش، وقيل: هو لآل فرعون، وقوله تعالى: فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا تفصيل للمحاجّة والتخاصم في النار أي يقول المرءوسون لرؤسائهم: إِنَّا كُنَّا في الدنيا لَكُمْ تَبَعاً تباعا فهو كخدم في جمع خادم. وذهب جمع لقلة هذا الجمع إلى أن تَبَعاً مصدر إما بتقدير مضاف أي إنا كنا لكم ذوي أي أتباعا أو على التجوز في الظرف أو الإسناد للمبالغة بجعلهم لشدة تبعيتهم كأنهم عين التبعية فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ بدفع بعض عذابها أو بتحمله عنا، ومُغْنُونَ من الغناء بالفتح بمعنى الفائدة، ونَصِيباً بمعنى حصة مفعول لما دل عليه من الدفع أو الحمل أوله بتضمين أحدهما أي دافعين أو حاملين عنا نصيبا، ويجوز أن يكون نصيبا قائما مقام المصدر كشيئا في قوله تعالى: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [آل عمران: 116] . ومِنَ النَّارِ على هذا متعلق- بمغنون- وعلى ما قبله ظرف مستقر بيان- لنصيبا.. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 327 قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا للضعفاء إِنَّا كُلٌّ فِيها نحن وأنتم فكيف نغني عنكم ولو قدرنا لدفعنا عن أنفسنا شيئا من العذاب ورفع كُلٌّ على الابتداء وهو مضاف تقديرا لأن المراد كلنا وفِيها خبره والجملة خبر إن. وقرأ ابن السميفع وعيسى بن عمر «كلا» بالنصب، وأخرجه ابن عطية والزمخشري على أنه توكيد لاسم إن، وكون كل المقطوع عن الإضافة يقع تأكيدا اكتفاء بأن المعنى عليها مذهب الفراء ونقله أبو حيان عن الكوفيين ورده ابن مالك في شرحه للتسهيل، وقيل: هو حال من المستكن في الظرف. وتعقب بأنه في معنى المضاف ولذا جاز الابتداء به فكيف يكون حالا، وإذا سلم كفاية هذا المقدار من التنكير في الحالية فالظرف لا يعمل في الحال المتقدمة كما يعمل في الظرف المتقدم نحو كل يوم لك ثوب. وأجيب عن أمر العمل بأن الأخفش أجاز عمل الظرف في الحال إذا توسطت بينه وبين المبتدأ نحو زيد قائما في الدار عندك وما في الآية الكريمة كذلك، على أن بعضهم أجاز ذلك ولو تقدمت الحال على المبتدأ والظرف نعم منعه بعضهم مطلقا لكن المخرج لم يقلده، وابن الحاجب جوزه في بعض كتبه ومنعه في بعض، قيل: وقد يوفق بينهما بأن المنع على تقدير عمل الظرف لنيابته عن متعلقه، والجواز على جعل العامل متعلقه المقدر فيكون لفظيا لا معنويا، وإلى هذا التخريج ذهب ابن مالك وأنشد له قول بعض الطائيين: دعا فأجبنا وهو بادي ذلة ... لديكم فكان النصر غير قريب وحمل قوله تعالى: وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67] في قراءة النصب على ذلك، وقال أبو حيان: الذي أختاره في تخريج هذه القراءة أن كلا بدل من اسم إن لأن كلا يتصرف فيها بالابتداء ونواسخه وغير ذلك فكأنه قيل: إن كلا فيها. وإذا كانوا قد تأولوا حولا أكتعا ويوما أجمعا على البدل مع أنهما لا يليان العوامل فإن يدعي في كل البدل أولى، وأيضا فتنكير كُلٌّ ونصبه حالا في غاية الشذوذ نحو مررت بهم كلا أي جميعا. ثم قال: فإن قلت: كيف تجعله بدلا وهو بدل كل من كل من ضمير المتكلم وهو لا يجوز على مذهب جمهور النحويين؟ قلت: مذهب الجزء: 12 ¦ الصفحة: 328 الأخفش. والكوفيين جوازه وهو الصحيح، على أن هذا ليس مما وقع فيه الخلاف بل إذا كان البدل يفيد الإحاطة جاز أن يبدل من ضمير المتكلم وضمير المخاطب لا نعلم خلافا في ذلك كقوله تعالى: تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا [المائدة: 114] وكقولك: مررت بكم صفيركم وكبيركم معناه مررت بكم كلكم وتكون لنا عيدا كلنا، فإذا جاز ذلك فيما هو بمعنى الإحاطة فجوازه فيما دل على الإحاطة وهو كُلٌّ أولى ولا التفات لمنع المبرد البدل فيه لأنه بدل من ضمير المتكلم لأنه لم يحقق مناط الخلاف انتهى، ولعل القول بالتوكيد أحسن من هذا وأقرب، ورد ابن مالك له لا يعول عليه إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ فأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، وقدر لكل منا ومنكم عذابا لا يدفع عنه ولا يتحمله عنه غيره وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ من الضعفاء والمستكبرين جميعا لما ضاقت بهم الحيل وعيت بهم العلل لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ أي للقوام بتعذيب أهل النار، وكان الظاهر- لخزنتها- بضمير النار لكن وضع الظاهر موضعه للتهويل، فإن جهنم أخص من النار بحسب الظاهر لإطلاقها على ما في الدنيا أو لأنها محل لأشد العذاب الشامل للنار وغيرها، وجوز أن يكون ذلك لبيان محل الكفرة في النار بأن تكون جهنم أبعد دركاتها من قولهم: بئر جهنام بعيدة القعر وفيها أعتى الكفرة وأطغاهم، فلعل الملائكة الموكلين بعذاب أولئك أجوب دعوة لزيادة قربهم من الله عزّ وجلّ فلهذا تعمدهم أهل النار بطلب الدعوة منهم وقالوا لهم: ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً أي مقدار يوم من أيام الدنيا مِنَ الْعَذابِ أي شيئا من العذاب، فمفعول يُخَفِّفْ محذوف، ومِنَ تحتمل البيان والتبعيض، ويجوز أن يكون المفعول يَوْماً بحذف المضاف نحو ألم يوم ومِنَ الْعَذابِ بيانه، والمراد يدفع عنا يوما من أيام العذاب: قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ أي لم تنبهوا على هذا ولم تك تأتيكم رسلكم في الدنيا على الاستمرار بالحجج الواضحة الدالة على سوء مغبة ما كنتم عليه من الكفر والمعاصي كما في قوله تعالى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وأرادوا بذلك إلزامهم وتوبيخهم على إضاعة أوقات الدعاء وتعطيل أسباب الإجابة قالُوا بَلى أي أتونا بها فكذبناهم كما نطق به قوله تعالى: بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ [الملك: 9] والفاء في قوله تعالى: قالُوا فَادْعُوا فصيحة أي إذا كان الأمر كذلك فادعوا أنتم فإن الدعاء لمن يفعل فعلكم ذلك مستحيل صدوره عنا، وقيل: في تعليل امتناع الخزنة عن الدعاء: لأنا لم نؤذن في الدعاء لأمثالكم، وتعقب بأنه مع عرائه عن بيان أن سببه من قبل الكفرة كما يفصح عنه الفاء ربما يوهم أن الإذن في حيز الإمكان وأنهم لو أذن لهم لفعلوا فالتعليل الأول أولى، ولم يريدوا بأمرهم بالدعاء إطماعهم في الإجابة بل إقناطهم منها وإظهار خيبتهم حيثما صرحوا به في قولهم: وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ أي في ضياع وبطلان أي لا يجاب، فهذه الجملة من كلام الخزنة، وقيل: هي من كلامه تعالى اخبارا منه سبحانه لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم. واستدل بها مطلقا من قال: إن دعاء الكافر لا يستجاب وإنه لا يمكن من الخروج في الاستسقاء، والحق أن الآية في دعاء الكفار يوم القيامة وأن الكافر قد يقع في الدنيا ما يدعو به ويطلبه من الله تعالى إثر دعائه كما يشهد بذلك آيات كثيرة، وأما أنه هل يقال لذلك إجابة أم لا فبحث لا جدوى له، وقوله تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا إلخ كلام مستأنف مسوق من جهته تعالى لبيان أن ما أصاب الكفرة من العذاب المحكي من فروع حكم كلي تقتضيه الحكمة هو أن شأننا المستمر أننا ننصر رسلنا وأتباعهم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بالحجة والظفر والانتقام لهم من الكفرة بالاستئصال والقتل والسبي وغير ذلك من العقوبات، ولا يقدح في ذلك ما قد يتفق للكفرة من صورة الغلبة امتحانا إذا العبرة إنما هي بالعواقب وغالب الأمر، وقد تقدم تمام الكلام في ذلك فتذكر وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ أي ويوم القيامة عبر عنه بذلك للإشعار بكيفية النصرة وأنها تكون عند جمع الأولين والآخرين وشهادة الإشهاد للرسل بالتبليغ وعلى الكفرة بالتكذيب، فالإشهاد جمع شهيد بمعنى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 329 شاهد كأشراف جمع شريف، وقيل: جمع شاهد بناء على أن فاعلا قد يجمع على أفعال، وبعض من لم يجوز يقول: هو جمع شهد بالسكون اسم جمع لشاهد كما قالوا في صحب بالسكون اسم جمع لصاحب، وفسر بعضهم الْأَشْهادُ بالجوارح وليس بذاك، وهو عليهما من الشهادة، وقيل: هو من المشاهدة بمعنى الحضور. وفي الحواشي الخفاجية أن النصرة في الآخرة لا تتخلف أصلا بخلافها في الدنيا فإن الحرب فيها سجال وإن كانت العاقبة للمتقين ولذا دخلت فِي على الْحَياةِ الدُّنْيا دون قرينه لأن الظرف المجرور بفي لا يستوعب كالمنصوب على الظرفية كما ذكره الأصوليون انتهى، وفيه بحث. وقرأ ابن هرمز وإسماعيل وهي رواية عن أبي عمرو «تقوم» بتاء التأنيث على معنى جماعة الإشهاد. يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ بدل من يَوْمَ يَقُومُ ولا قيل: تحتمل أن تكون لنفي النفع فقط على معنى أنهم يعتذرون ولا ينفعهم معذرتهم لبطلانها وتحتمل أن تكون لنفي النفع والمعذرة على معنى لا تقع معذرة لتنفع، وفي الكشاف يحتمل أنهم يعتذرون بمعذرة ولكنها لا تنفع لأنها باطلة وأنهم لو جاؤوا بمعذرة لم تكن مقبولة لقوله تعالى: وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات: 36] وأراد على ما في الكشف أن عدم النفع إما لأمر راجع إلى المعذرة الكائنة وهو بطلانها، وإما لأمر راجع إلى من يقبل العذر ولا نظر فيه إلى وقوع العذر والحاصل أن المقصود بالنفي الصفة ولا نظر فيه إلى الموصوف نفيا أو إثباتا، وليس في كلامه إشارة إلى إرادة نفيهما جميعا فتدبر، وقرأ غير الكوفيين ونافع «لا تنفع» بالتاء الفوقية، ووجهها ظاهر، وأما قراءة الياء فلأن المعذرة مصدر وتأنيثه غير حقيقي مع أنه فصل عن الفعل بالمفعول وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ أي البعد من الرحمة. وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ هي جهنم وسوءها ما يسوء فيها من العذاب فإضافته لأمية أو هي من إضافة الصفة للموصوف أي الدار السوأى، ولا يخفى ما في الجملتين من إهانتهم والتهكم بهم وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى ما يهتدى به من المعجزات والصحف والشرائع فهو مصدر تجوز به عما ذكر أو جعل عين الهدى مبالغة فيه. وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ تركنا عليهم بعد وفاته عليه السلام من ذلك التوراة فالإيراث مجاز مرسل عن الترك أو هو استعارة تبعية له، ويجوز أن يكون المعنى جعلنا بني إسرائيل آخذين الكتاب عنه عليه السلام بلا كسب فيشمل من في حياته عليه السلام كما يقال: العلماء ورثة الأنبياء، وهو وجه إلا أن اعتبار بعد الموت أوفق في الإيراث والعلاقة عليه أتم، وإرادة التوراة من الكتاب هو الظاهر، وجوز أن يكون المراد به جنس ما أنزل على أنبيائهم فيشمل التوراة والزبور والإنجيل هُدىً وَذِكْرى هداية وتذكرة أي لأجلهما أو هاديا ومذكرا فهما مصدران في موضع الحال لِأُولِي الْأَلْبابِ لذوي العقول السليمة الخالصة من شوائب الوهم، وخصوا لأنهم المنتفعون به فَاصْبِرْ أي إذا عرفت ما قصصناه عليك للتأسي فاصبر على ما نالك من أذية المشركين إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ إياك والمؤمنين بالنصر المشار إليه بقوله سبحانه: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا أو جميع مواعيده تعالى ويدخل فيه وعده سبحانه بالنصر دخولا أوليا حَقٌّ لا يخلفه سبحانه أصلا فلا بد من وقوع نصره جل شأنه لك وللمؤمنين، واستشهد بحال موسى ومن معه وفرعون ومن تبعه وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ أقبل على أمر الدين وتلاف ما ربما يفرط مما يعد بالنسبة إليك ذنبا وإن لم يكنه، ولعل ذلك هو الاهتمام بأمر العدا بالاستغفار فإن الله تعالى كافيك في النصر وإظهار الأمر، وقيل: لِذَنْبِكَ لذنب أمتك في حقك، قيل: فإضافة المصدر للمفعول وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ أي ودم على التسبيح والتحميد لربك على أنه عبر بالطرفين وأريد جميع الأوقات، وجوز أن يراد خصوص الوقتين، والمراد بالتسبيح معناه الحقيقي كما في الوجه الأول أو الصلاة، قال قتادة: أريد صلاة الغداة وصلاة العصر، وعن الحسن أريد ركعتان بكرة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 330 وركعتان عشيا، قيل: لأن الواجب بمكة كان ذلك، وقد قدمنا أن الحس لا يقول بفرضية الصلوات الخمس بمكة فقيل: كان يقول بفرضية ركعتين بكرة وركعتين عشيا. وقيل: إنه يقول كان الواجب ركعتين في أي وقت اتفق، والكل مخالف للصريح المشهور، وجوز على إرادة الدوام أن يراد بالتسبيح الصلاة ويراد بذلك الصلوات الخمس، وحكي ذلك في البحر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ دلائله سبحانه التي نصبها على توحيده وكتبه المنزلة وما أظهر على أيدي رسله من المعجزات بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ أي بغير حجة في ذلك أتتهم من جهته تعالى، والجار متعلق- بيجادلون- وتقييد المجادلة بذلك مع استحالة إتيان الحجة للإيذان بأن المتكلم في أمر الدين لا بدّ من استناده إلى حجة واضحة وبرهان مبين، وهذا عام في كل مجادل مبطل وإن نزل في قوم مخصوصين وهم على الأصح مشركو مكة. وقوله تعالى: إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ خبر لأن وإِنَّ نافية، والمراد بالصدور القلوب أطلقت عليها للمجاورة والملابسة، والكبر التكبر والتعاظم أي ما في قلوبهم إلا تكبر عن الحق وتعاظم عن التفكر والتعلم أو هو مجاز عن إرادة الرياسة والتقدم على الإطلاق أو إرادة أن تكون النبوة لهم أي ما في قلوبهم إلا إرادة الرياسة أو أن تكون النبوة لهم دونك حسدا وبغيا حسبما قالوا: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] وقالوا: لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ [الأحقاف: 11] ولذلك يجادلون في آياته تعالى لا أن فيها موقع جدال ما أو أن لهم شيئا يتوهم صلاحيته لأن يكون مدار لمجادلتهم في الجملة، وقوله تعالى: ما هُمْ بِبالِغِيهِ صفة- لكبر- أي ما هم ببالغي موجب الكبر ومقتضيه وهو متعلق إرادتهم من دفع الآيات أو من الرياسة أو النبوة، وقال الزجاج: المعنى ما يحملهم على تكذيبك إلا ما في صدورهم من الكبر عليك وما هم ببالغي مقتضى ذلك الكبر لأن الله تعالى أذلهم، وقيل: الجملة مستأنفة وضمير بِبالِغِيهِ لدفع الآيات المفهوم من المجادلة، وما تقدم أظهر، وقال مقاتل: المجادلون الذين نزلت فيهم الآية اليهود عظموا أمر الدجال فنزلت، وإلى هذا ذهب أبو العالية أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم بسند صحيح عنه قال: إن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الدجال يكون منا في آخر الزمان ويكون من أمره ما يكون فعظموا أمره وقالوا: يصنع كذا وكذا فأنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ إلخ، وهذا كالنص في أن أمر اليهود كان السبب في نزولها، وعليه تكون الآية مدنية وقد مر الكلام في ذلك فتذكر. وفي رواية أن اليهود كانوا يقولون: يخرج صاحبنا المسيح بن داود يريدون الدجال ويبلغ سلطانه البر والبحر وتسير معه الأنهار وهو آية من آيات الله فيرجع إلينا الملك، حكاها في الكشاف ثم قال: فسمى الله تعالى تمنيهم ذلك كبرا ونفى سبحانه أن يبلغوا متمناهم، ويخطر لي على هذا القول إن اليهود لم يريدوا من تعظيم أمر الدجال سوى نفي أن يكون نبينا صلى الله عليه وسلم النبي المبعوث في آخر الزمان الذي بشر به أنبياؤهم وزعم أن المبشر به هو ذلك اللعين، ففي بعض الروايات أنهم قالوا للنبي عليه الصلاة والسلام: لست صاحبنا- يعنون النبي المبشر به أنبياؤهم، فالإضافة لأدنى ملابسة بل هو المسيح بن داود يبلغ سلطانه البر والبحر ويسير معه الأنهار، وفي ذلك بزعمهم دفع الآيات الدالة على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم والداعي لهم إلى ذلك الكبر والحسد وحب أن لا تخرج النبوة من بني إسرائيل، فمعنى الآية عليه نحو معناها على القول بكون المجادلين مشركي مكة. ثم إن اليهود عليهم اللعنة كذبوا أولا بقولهم للنبي عليه الصلاة والسلام: لست صاحبنا، وثانيا بقولهم: بل هو المسيح بن داود يعنون الدجال، أما الكذب الأول فظاهر، وأما الثاني فلأنه لم يبعث نبي إلا وقد حذر أمته الدجال وأنذرهم إياه كما نطقت بذلك الأخبار، وهم قالوا: هو صاحبنا يعنون المبشر ببعثته آخر الزمان، وكل ذلك من الجدال في آيات الله تعالى بغير سلطان فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أي فالتجىء إليه تعالى من كيد من يحسدك ويبغي عليك، وفيه رمز إلى أنه من الجزء: 12 ¦ الصفحة: 331 همزات الشياطين، وقال أبو العالية: هذا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ من فتنة الدجال بالله عزّ وجلّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أي لأقوالكم وأفعالكم، والجملة لتعليل الأمر قبلها. وقوله تعالى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ تحقيق للحق وتبيين لأشهر ما يجادلون فيه من أمر البعث الذي هو كالتوحيد في وجوب الإيمان به على منهاج قوله تعالى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس: 81] وإضافة (خلق) إلى ما بعده من إضافة المصدر إلى مفعوله أي لخلق الله تعالى السماوات والأرض أعظم من خلقه سبحانه الناس لأن الناس بالنسبة إلى تلك الأجرام العظيمة كلا شيء، والمراد أن من قدر على خلق ذلك فهو سبحانه على خلق ما لا يعد شيئا بالنسبة إليه بدأ وإعادة أقدر وأقدر. وقال أبو العالية: الناس الدجال وهو بناء على ما روي عنه في المجادلين، ولعمري إن تطبيق هذا ونحوه على ذلك في غاية البعد وأنا لا أقول به وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ وهم الكفرة، ولما كان ما قبل لإثبات البعث الذي يشهد له العقل وتقتضيه الحكمة اقتضاء ظاهرا ناسب نفي العلم عمن كفر به لأنهم لو كانوا من العقلاء الذين من شأنهم التدبر والتفكر فيما يدل عليه لم يصدر عنهم إنكاره، ولم يذكر للعلم مفعولا لأن المناسب للمقام تنزيله منزلة اللازم، وقيل: المراد لا يعلمون أن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس أي لا يجرون على موجب العلم بذلك من الإقرار بالبعث ومن لا يجري على موجب علمه هو والجاهل سواء. وفي البحر أنه تعالى نبه على أنه لا ينبغي أن يجادل في آيات الله ولا يتكبر الإنسان بقوله سبحانه: لَخَلْقُ إلخ أي إن مخلوقاته تعالى أكبر وأجل من خلق البشر فما لأحدهم يجادل ويتكبر على خالقه سبحانه وتعالى ولكن أكثر الناس لا يعلمون لا يتأملون لغلبة الغفلة عليهم ولذلك جادلوا وتكبروا، ولا يخفى أنه تفسير قليل الجدوى. وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أي الغافل عن معرفة الحق في مبدئه ومعاده ومن كانت له بصيرة في معرفتهما، وتفسير الْبَصِيرُ بالله تعالى والْأَعْمى بالصنم غير مناسب هنا وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي المحسن ولذا قوبل بقوله تعالى: وَلَا الْمُسِيءُ وعدل عن التقابل الظاهر كما في الأعمى والبصير إلى ما في النظم الجليل إشارة إلى أن المؤمنين علم في الإحسان، وقدم الْأَعْمى لمناسبة العمى ما قبله من نفي العلم، وقدم الذين آمنوا بعد لمجاورة البصير ولشرفهم، وفي مثله طرق أن يجاور كل ما يناسبه كما هنا، وأن يقدم ما يقابل الأول ويؤخر ما يقابل الآخر كقوله تعالى: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ [فاطر: 19- 22] وأن يؤخر المتقابلان كالأعمى والأصم والسميع والبصير وكل ذلك من باب التفنن في البلاغة وأساليب الكلام، والمقصود من نفي استواء من ذكر بيان أن هذا التفاوت مما يرشد إلى البعث كأنه قيل: ما يستوي الغافل والمستبصر والمحسن والمسيء فلا بد أن يكون لهم حال أخرى يظهر فيها ما بين الفريقين من التفاوت وهي فيما بعد البعث. وأعيدت لَا في المسيء تذكيرا للنفي السابق لما بينهما من الفصل بطول الصلة، ولأن المقصود بالنفي أن الكافر المسيء لا يساوي المؤمن المحسن، وذكر عدم مساواة الأعمى للبصير توطئة له، ولو لم يعد النفي فيه فربما ذهل عنه وظن أنه ابتداء كلام، ولو قيل: ولا الذين آمنوا والمسيء لم يكن نصا فيه أيضا لاحتمال أنه مبتدأ وقَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ خبره وجمع على المعنى قاله الخفاجي، وهو أن تم فعلي القراءة بياء الغيبة، وقيل: لم يقل ولا الذين آمنوا والمسيء لأن المقصود نفي مساواة المسيء للمحسن لا نفي مساواة المحسن له إذا المراد بيان خسارته ولا يصفو عن كدر فتدبر، والموصول مع ما عطف عليه معطوف على الْأَعْمى مع ما عطف عليه عطف المجموع على الجزء: 12 ¦ الصفحة: 332 المجموع كما في قوله تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ [الحديد: 3] ولم يترك العطف بينهما بناء على أن الأول مشبه به والثاني مشبه وهما متحدان مآلا لأن كلا من الوصفين الأولين مغاير لكل من الوصفين الأخيرين وتغاير الصفات كتغاير الذوات في صحة التعاطف، ووجه التغاير أن الغافل والمستبصر والمحسن والمسيء صفات متغايرة المفهوم بقطع النظر عن اتحاد ما صدقهما وعدمه، وقيل: التغاير بين الوصفين الأولين والوصفين الأخيرين من جهة أن القصد في الأولين إلى العلم، وفي الأخيرين إلى العمل، وهو وجه لا بأس به، وقيل: هما وإن اتحدا ذاتا متغايران اعتبارا من حيث إن الثاني صريح والأول مذكور على طريق التمثيل، ونظر فيه بأنه لو اكتفى بمجرد هذه المغايرة لزم جواز عطف المشبه على المشبه به وعكسه. قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ أي تذكرا قليلا تتذكرون. وقرأ الجمهور والأعرج والحسن وأبو جعفر وشيبة بياء الغيبة والضمير للناس أو الكفار، قال الزمخشري: والتاء أعم، وعلله صاحب التقريب بأن فيه تغليب الخطاب على الغيبة، وقال القاضي: إن التاء للتغيب أو الالتفات أو أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالمخاطبة أي بتقدير قل قبله، وآثر العلامة الطيبي الالتفات لأن العدول من الغية إلى الخطاب في مقام التوبيخ يدل على العنف الشديد والإنكار البليغ، فهذه الآية متصلة بخلق السماوات وهو كلام مع المجادلين. وتعقبه صاحب الكشف بأنه يجوز أن يجعل ما ذكر نكتة التغليب فيكون أولى لفائدة التعميم أيضا فليفهم، والظاهر أن التغليب جار على احتمال كون الضمير للناس واحتمال كونه للكفار لأن بعض الناس أو الكفار مخاطب هنا والتقليل أيضا يصح اجراؤه على ظاهره لأن منهم من يتذكر ويهتدي، وقال الجلبي: الضمير إذا كان للناس فالتقليل على معناه الحقيقي والمستثنى هم المؤمنون وإذا كان للكفار فهو بمعنى النفي، ثم الظاهر أن المخاطب من خاطبه صلى الله عليه وسلم من قريش فمن قال: المخاطب هو النبي عليه الصلاة والسلام لقوله تعالى: فَاصْبِرْ ولا يناسب إدخاله فيمن لم يتذكر فقدسها ولم يتذكر. إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها أي في مجيئها أي لا بد من مجيئها ولا محالة لوضوح الدلالة على جوازها وإجماع الأنبياء على الوعد الصادق بوقوعها. ويجوز أن يكون المعنى أنها آتية وأنها ليست محلا للريب أي لوضوح الدلالة إلى آخر ما مر، والفرق أن متعلق الريب على الأول المجيء وعلى هذا الساعة والحمل عليه أولى. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ لا يصدقون بها لقصور نظرهم على ما يدركونه بالحواس الظاهرة واستيلاء الأوهام على عقولهم وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ أي اعبدوني أثبكم على ما روي عن ابن عباس والضحاك ومجاهد وجماعة. وعن الثوري أنه قيل له: ادع الله تعالى فقال: إن ترك الذنوب هو الدعاء يعني أن الدعاء باللسان ترجمة عن طلب الباطن وأنه إنما يصح لصحة التوجه وترك المخالفة فمن ترك الذنوب فقد سأل الحق بلسان الاستعداد وهو الدعاء الذي يلزمه الإجابة ومن لا يتركها فليس بسائل وإن دعاه سبحانه ألف مرة وما ذكر مؤيد لتفسير الدعاء بالعبادة ومحقق له فإن ترك الذنوب من أجل العبادات وينطبق على ذلك كمال الانطباق قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ أي صاغرين أذلاء. وجوز أن يكون المعنى اسألوني أعطكم وهو المروي عن السدي فمعنى قوله تعالى: يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي يستكبرون عن دعائي لأن الدعاء نوع من العبادة ومن أفضل أنواعها، بل روى ابن المنذر والحاكم وصححه عن ابن عباس أنه قال: أفضل العبادة الدعاء وقرأ الآية، والتوعد على الاستكبار عنه لأن ذلك عادة المترفين المسرفين وإنما المؤمن يتضرع إلى الله تعالى في كل تقلباته، وفي إيقاع العبادة صلة الاستكبار ما يؤذن بأن الدعاء باب من أبواب الخضوع لأن العبادة خضوع ولأن المراد بالعبادة الدعاء والاستكبار إنما يكون عن شيء إذا أتى به لم يكن مستكبرا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 333 قال في الكشف: وهذا الوجه أظهر بحسب اللفظ وأنسب إلى السياق لأنه لما جعل المجادلة في آيات الله تعالى من الكبر جعل الدعاء وتسليم آياته من الخضوع لأن الداعي له تعالى الملتجئ إليه عزّ وجلّ لا يجادل في آياته بغير سلطان منه البتة، والعطف في قوله تعالى: وَقالَ من عطف مجموع قصة على مجموع أخرى لاستوائهما في الغرض، ولهذا لما تمم هذه القصة أعني قوله سبحانه: وَقالَ رَبُّكُمُ إلى قوله عزّ وجلّ: كُنْ فَيَكُونُ [البقرة: 117 وغيرها] صرح بالغرض في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ كما بنى القصة أولا على ذلك في قوله تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ [غافر: 35] ولو تؤمل في هذه السورة الكريمة حق التأمل وجد جل الكلام فيها مبنيا على رد المجادلين في آيات الله المشتملة على التوحيد والبعث وتبيين وجه الرد في ذلك بفنون مختلفة، ثم انظر إلى ما ختم به السورة كيف يطابق ما بدئت من قوله سبحانه: فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ [غافر: 4] وكيف صرح آخرا بما رمز إليه أولا لتقضي منه العجب فهذا وجه العطف انتهى. وما ذكره من أظهرية هذا الوجه بحسب اللفظ ظاهر جدا لما في الأولى من ارتكاب خلاف الظاهر قبل الحاجة إليه في موضعين في الدعاء حيث تجوز به عن العبادة لتضمنها له أو لأنه عبادة خاصة أريد به المطلق، وفي الاستجابة حيث جعلت الإثابة على العبادة لترتبها عليها استجابة مجازا أو مشاكلة بخلاف الثاني فإن فيه ارتكاب خلاف الظاهر وهو التجوز في موضع واحد وهو عَنْ عِبادَتِي ومع هذا هو بعد الحاجة فلم يكن كنزع الخف قبل الوصول إلى الماء بل قيل: لا حاجة إلى التجوز فيه لأن الإضافة مراد بها العهد هنا فتفيد ما تقدم، لكن كونه أنسب بالسياق أيضا مما لا يتم في نظري، وأيا ما كان ف أَسْتَجِبْ جزم في جواب الأمر أي إن تدعوني أستجب لكم والاستجابة على الوجهين مشروطة بالمشيئة حسبما تقتضيه أصولنا، وقد صرح بذلك في استجابة الدعاء قال سبحانه: فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ [الأنعام: 41] والاستكبار عن عبادة الله تعالى دعاء كانت أو غيره كفر يترتب عليه ما ذكر في الآية الكريمة. وأما ترك ذلك لا عن استكبار فتفصيل الكلام فيه لا يخفى، والمقامات في ترك الدعاء فقيل: متفاوتة فقد لا يحسن كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع الله تعالى يغضب عليه» أخرجه أحمد وابن أبي شيبة والحاكم عن أبي هريرة مرفوعا ، وقد يحسن كما يدل عليه ما روي من ترك الخليل عليه السلام الدعاء يوم ألقي في النار وقوله علمه بحالي يغني عن سؤالي، وربما يقال: ترك الدعاء اكتفاء بعلم الله عزّ وجلّ دعاء والله تعالى أعلم. وقرأ ابن كثير وأبو بكر وزيد بن علي وأبو جعفر «سيدخلون» مبنيا للمفعول من الإدخال واختلفت الرواية عن عاصم وأبي عمرو اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ لتستريحوا فيه بأن أغاب سبحانه فيه الشمس فجعله جل شأنه باردا مظلما وجعل عزّ وجلّ برده سببا لضعف القوى المحركة وظلمته سببا لهدو الحواس الظاهرة إلى أشياء أخرى جعلها أسبابا للسكون والراحة وَالنَّهارَ مُبْصِراً يبصر فيه أو به فالنهار إما ظرف زمان للإبصار أو سبب له. وأيا ما كان فإسناد الإبصار له بجعله مبصرا إسناد مجازي لما بينهما من الملابسة، وفيه مبالغة وأنه بلغ الإبصار إلى حد سرى في نهار المبصر، ولذا لم يقل: لتبصروا فيه على طرز ما وقع في قرينه، فإن قيل: لم لم يقل جعل لكم الليل ساكنا ليكون فيه المبالغة المذكورة وتخرج القرينتان مخرجا واحدا في المبالغة، قلت: أجيب عن ذلك بأن نعمة النهار أتم وأعظم من نعمة الليل فسلك مسلك المبالغة فيها، وتركت الأخرى على الظاهر تنبيها على ذلك، وقيل: إن النعمتين فرسا رهان فدل على فضل الأولى بالتقديم وعلى فضل الأخرى بالمبالغة وهو كما ترى، وقيل: لم يقل ذلك الجزء: 12 ¦ الصفحة: 334 لأن الليل يوصف على الحقيقة بالسكون فيقال: ليل ساكن أي لا ريح فيه ولا يبعد أن يكون السكون بهذا المعنى حقيقة عرفية. فلو قيل: ساكنا لم يتميز المراد نظرا إلى الإطلاق وإن تميز نظرا إلى قرينة التقابل. وكان رجحان هذا الأسلوب لأن الكلام المحكم الواضح بنفسه من أول الأمر هو الأصل لا سيما في خطاب ورد في معرض الامتنان للخاصة والعامة، وهم متفاوتون في الفهم والدراية الناقصة والتامة، وفي الكشف لما لم يكن الأبصار علة غائية في نفسه بل العلة ابتغاء الفضل كما ورد مصرحا به في سورة القصص بخلاف السكون والدعة في الليل صرح بذلك في الأول ورمز في الثاني مع إفادة نكتة سرية في الإسناد المجازي. وقال الجلبي: إذا حملت الآية على الاحتباك، وقيل: المراد جعل لكم الليل مظلما لتسكنوا فيه والنهار مبصرا لتنتشروا فيه ولتبتغوا من فضل الله تعالى فحذف من الأول بقرينة الثانية ومن الثاني بقرينة الأول لم يحتج إلى ما ذكر في تعليل ترك المبالغة في القرينة الأولى، وهذا هو المشهور في الآية والله سبحانه وتعالى أعلم. إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ لا يوازيه فضل ولقصد الإشعار به لم يقل المفضل عَلَى النَّاسِ برهم وفاجرهم وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ لجهلهم بالمنعم وإغفالهم مواقع النعم، وتكرير الناس لتخصيص الكفران بهم، وذلك من إيقاعه على صريح اسمهم الظاهر الموضوع موضع الضمير الدال على أنه من شأنهم وخاصتهم في الغالب. ذلِكُمُ المتصف بالصفات المذكورة المقتضية للألوهية والربوبية اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أخبار مترادفة تخصص اللاحقة السابقة وتقلل اشتراكها في المفهوم نظرا إلى أصل الوضع وتقررها، وجوز في بعضها الوصفية والبدلية، وأخر خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ عن لا إِلهَ إِلَّا هُوَ في آية [106 من سورة الأنعام] ، وقدم هنا لما أن المقصود هاهنا على ما قيل الرد على منكري البعث فناسب تقديم ما يدل عليه، وهو أنه منه سبحانه وتعالى مبدأ كل شيء فكذا إعادته. وقرأ زيد بن علي «خالق» بالنصب على الاختصاص أي أعني أو أخص خالق كل شيء فيكون لا إِلهَ إِلَّا هُوَ استئنافا مما هو كالنتيجة للأوصاف المذكورة فكأنه قيل: الله تعالى متصف بما ذكر من الصفات ولا إله إلا من اتصف بها فلا إله إلا هو فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فكيف ومن أي جهة تصرفون من عبادته سبحانه إلى عبادة غيره عزّ وجلّ. وقرأ طلحة في رواية «يؤفكون» بياء الغيبة. كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أي مثل ذلك الإفك العجيب الذي لا وجه له ولا مصحح أصلا يؤفك كل من جحد بآياته تعالى أي آية كانت لا إفكا آخر له وجه ومصحح في الجملة. اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً أي مستقرا وَالسَّماءَ بِناءً أي قبة ومنه أبنية العرب لقبابهم التي تضرب وإطلاق ذلك على السماء على سبيل التشبيه، وهو تشبيه بليغ وفيه إشارة لكريتها. وهذا بيان لفضله تعالى المتعلق بالمكان بعد بيان فضله المتعلق بالزمان، وقوله سبحانه: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ بيان لفضله تعالى المتعلق بأنفسهم، والفاء في فَأَحْسَنَ تفسيرية فالمراد صوركم أحسن تصوير حيث خلق كلا منكم منتصب القامة بادي البشرة متناسب الأعضاء والتخطيطات متهيء لمزاولة الصنائع واكتساب الكمالات. وقرأ الأعمش وأبو رزين «صوركم» بكسر الصاد فرارا من الضمة قبل الواو، وجمع فعلة بضم الفاء على فعل بكسرها شاذ ومنه قوة وقوى بكسر القاف في الجمع. وقرأت فرقة «صوركم» بضم الصاد وإسكان الواو على نحو بسرة وبسر وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي المستلذات طعما ولباسا وغيرهما وقيل الحلال ذلِكُمُ الذي نعت بما ذكر من النعوت الجليلة اللَّهُ رَبُّكُمْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 335 خبران لذلكم فَتَبارَكَ اللَّهُ تعالى بذاته رَبُّ الْعالَمِينَ أي مالكهم ومربيهم والكل تحت ملكوته مفتقر إليه تعالى في ذاته ووجوده وسائر أحواله جميعها بحيث لو انقطع فيضه جل شأنه عنه آنا لعدم بالكلية هُوَ الْحَيُّ المنفرد بالحياة الذاتية الحقيقية لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إذ لا موجود يدانيه في ذاته وصفاته وأفعاله عزّ وجلّ فَادْعُوهُ فاعبدوه خاصة لاختصاص ما يوجب ذلك به تعالى. وتفسير الدعاء بالعبادة هو الذي يقتضيه قوله تعالى: مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي الطاعة من الشرك الخفي والجلي وأنه الأليق بالترتب على ما ذكر من أوصاف الربوبية والألوهية، وإنما ذكرت بعنوان الدعاء لأن اللائق هو العبادة على وجه التضرع والانكسار والخضوع الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي قائلين ذلك. أخرج ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال: من قال لا إله إلا الله فليقل على أثرها الحمد لله رب العالمين وذلك قوله تعالى: فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ إلخ. وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير نحو ذلك، وعلى هذا ف الْحَمْدُ لِلَّهِ إلخ من كلام المأمورين بالعبادة قبله، وجوز كونه من كلام الله تعالى على أنه إنشاء حمد ذاته سبحانه بذاته جل شأنه. قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي من الحجج والآيات أو من الآيات لكونها مؤيدة لأدلة العقل منبهة عليها فإن الآيات التنزيلية مفسرات للآيات التكوينية الآفاقية والأنفسية وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أي بأن أنقاد له تعالى وأخلص له عزّ وجلّ ديني. هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ في ضمن خلق آدم عليه السلام منه حسبما مر تحقيقه ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ أي ثم خلقكم خلقا تفصيليا من نطفة أي من مني ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ قطعة دم جامد ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا أي أطفالا وهو اسم جنس صادق على القليل والكثير. وفي المصباح، قال ابن الأنباري: يكون الطفل بلفظ واحد للمذكر والمؤنث والجمع ويجوز فيه المطابقة أيضا، وقيل: إنه أفراد بتأويل خلق كل فرد من هذا النوع ثم يخرج كل فرد منه طفلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ للام فيه متعلقة بمحذوف تقديره ثم يبقيكم لتبلغوا وذلك المحذوف عطف على يُخْرِجُكُمْ وجوز أن يكون لِتَبْلُغُوا عطفا على علة مقدرة ليخرجكم كأنه قيل: ثم يخرجكم لتكبروا شيئا فشيئا ثم لتبلغوا أشدكم وكمالكم في القوة والعقل، وكذا الكلام في قوله تعالى: ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً ويجوز عطفه على لِتَبْلُغُوا. وقرأ ابن كثير وابن ذكوان وأبو بكر وحمزة والكسائي «شيوخا» بكسر الشين. وقرئ «شيخا» كقوله تعالى: طِفْلًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ أي من قبل الشيخوخة بعد بلوغ الأشد أو قبله أيضا وَلِتَبْلُغُوا متعلق بفعل مقدر بعده أي ولتبلغوا أَجَلًا مُسَمًّى هو يوم القيامة بفعل ذلك الخلق من تراب وما بعده من الأطوار، وهو عطف على خَلَقَكُمْ والمراد من يوم القيامة ما فيه من الجزاء فإن الخلق ما خلقوا إلا ليعبدوا ثم يبلغوا الجزاء، وتفسير الأجل المسمى بذلك مروي عن الحسن، وقال بعض: هو يوم الموت. وتعقب بأن وقت الموت فهم من ذكر التوفي قبله فالأولى تفسيره بما تقدم، وظاهر صنيع الزمخشري ترجيح هذا على ما بين في الكشف وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ولكي تعقلوا ما في ذلك التنقل في الأطوار من فنون الحكم والعبر. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال: أي ولعلكم تعقلون عن ربكم أنه يحييكم كما أماتكم هُوَ الَّذِي يُحْيِي الأموات وَيُمِيتُ الأحياء أو الذي يفعل الإحياء والإماتة فَإِذا قَضى أَمْراً أراد بروز أمر من الأمور إلى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 336 الوجود الخارجي فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ من غير توقف على شيء من الأشياء أصلا. وهذا عند الخلف تمثيل لتأثير قدرته تعالى في المقدورات عند تعلق إرادته سبحانه بها وتصوير لسرعة ترتب المكونات على تكوينه من غير أن يكون هناك آمر ومأمور وقد تقدم الكلام في ذلك، والفاء الأولى للدلالة على أن ما بعدها من نتائج ما قبلها من حيث إنه يقتضي قدرة ذاتية غير متوقفة على العدد والمواد، وجوز فيها كونها تفصيلية وتعليلية أيضا فتدبر أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ تعجيب من أحوالهم الشنيعة وآرائهم الركيكة وتمهيد لما يعقبه من بيان تكذيبهم بكل القرآن وبسائر الكتب والشرائع وترتيب الوعيد على ذلك، كما أن ما سبق من قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ إلخ بيان لابتناء جدالهم على مبنى فاسد لا يكاد يدخل تحت الوجود فلا تكرير فيه كذا في إرشاد العقل السليم. وقال القاضي: تكرير ذكر المجادلة لتعدد المجادل بأن يكون هناك قوما وهنا قوما آخرين أو المجادلة فيه بأن يحمل في كل على معنى مناسب ففيما مر في البعث وهنا في التوحيد أو هو للتأكيد اهتماما بشأن ذلك. واختار ما في الإرشاد، أي انظر إلى هؤلاء المكابرين المجادلين في آياته تعالى الواضحة الموجبة للإيمان بها الزاجرة عن الجدال فيها كيف يصرفون عنها مع تعاضد الدواعي إلى الإقبال عليها وانتفاء الصوارف عنها بالكلية. وقوله تعالى: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ أي بكل القرآن أو بجنس الكتب السماوية فإن تكذيبه تكذيب لها في محل الجر على أنه بدل من الموصول الأول أو بيان أو صفة له أو في محل النصب على الذم أو في محل الرفع على أنه خبر محذوف أو مبتدأ خبره فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وإنما وصل الموصول الثاني بالتكذيب دون المجادلة لأن المعتاد وقوع المجادلة في بعض المواد لا في الكل. وصيغة الماضي للدلالة على التحقيق كما أن صيغة المضارع في الصلة الأولى للدلالة على تجدد المجادلة وتكررها وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا من سائر الكتب على الوجه الأول في تفسير الكتاب أو مطلق الوحي والشرائع على الوجه الثاني فيه. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ كنه ما فعلوا من الجدال والتكذيب عند مشاهدتهم لعقوباته إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ ظرف ليعلمون، والمعنى على الاستقبال، والتعبير بلفظ المضي للدلالة على تحققه حتى كأنه ماض حقيقة فلا تنافر بين سوف وإذ وَالسَّلاسِلُ عطف على الْأَغْلالُ والجار والمجرور في نية التأخير كأنه قيل: إذ الأغلال والسلاسل في أعناقهم، وقوله تعالى: يُسْحَبُونَ أي يجرون فِي الْحَمِيمِ حال من ضمير يَعْلَمُونَ أو ضمير فِي أَعْناقِهِمْ أو جملة مستأنفة لبيان حالهم بعد ذلك، وجوز كون السَّلاسِلُ مبتدأ أو جملة يُسْحَبُونَ خبره والعائد محذوف أي يسحبون بها. وجوز كون الْأَغْلالُ مبتدأ وَالسَّلاسِلُ عطف عليه والجملة خبر المبتدأ وفِي أَعْناقِهِمْ في موضع الحال، ولا يخفى حاله، وقرأ ابن مسعود وابن عباس وزيد بن علي وابن وثاب «والسلاسل يسحبون» بنصب السلاسل وبناء يسحبون للفاعل فيكون السلاسل مفعولا مقدما ليسحبون، والجملة معطوفة على ما قبلها، ولا بأس بالتفاوت اسمية وفعلية. وقرأت فرقة منهم ابن عباس في رواية «والسلاسل» بالجر، وخرج ذلك الزجاج على الجر بخافض محذوف كما في قوله: أشارت كليب بالأكف الأصابع الجزء: 12 ¦ الصفحة: 337 أي وبالسلاسل كما قرئ به أو في السلاسل كما في مصحف أبي، والفراء على العطف بحسب المعنى إذ الأغلال في أعناقهم بمعنى أعناقهم في الأغلال، ونظيره قوله: مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ... ولا ناعب إلا ببين غرابها ويسمى في غير القرآن عطف التوهم، وذهب إلى هذا التخريج الزمخشري وابن عطية، وابن الأنباري بعد أن ضعف تخريج الزجاج خرج القراءة على ما قال الفراء قال: وهذا كما تقول: خاصم عبد الله زيد العاقلين بنصب العاقلين ورفعه لأن أحدهما إذا خاصم صاحبه فقد خاصم الآخر، وهذه المسألة لا تجوز عند البصريين ونقل جوازها عن محمد ابن سعدان الكوفي قال: لأن كل واحد منهما فاعل مفعول ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ يحرقون ظاهرا وباطنا من سجر التنور إذا ملأه إيقادا ويكون بمعنى ملأه بالحطب ليحميه، ومنه السجير للصديق الخليل كأنه سجر بالحب أي ملئ، ويفهم من القاموس أن السجر من الأضداد، وكلا الاشتقاقين مناسب في السجير أي ملئ من حبك أو فرغ من غيرك إليك والأول أظهر. والمراد بهذا وما قبله أنهم معذبوهم بأنواع العذاب سحبهم على وجوههم في النار الموقدة ثم تسليط النار على باطنهم وأنهم يعذبون ظاهرا وباطنا فلا استدراك في ذكر هذا بعد ما تقدم. ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا أي يقال لهم ويقولون، وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع، والسؤال للتوبيخ، وضلالهم عنهم بمعنى غيبتهم من ضلت دابته إذا لم يعرف مكانها، وهذا لا ينافي ما يشعر بآن آلهتهم مقرونون بهم في النار لأن للنار طبقات ولهم فيها مواقف فيجوز غيبتهم عنهم في بعضها الجزء: 12 ¦ الصفحة: 338 واقترانهم بهم في بعض آخر، ويجوز أن يكون ضلالهم استعارة لعدم النفع فحضورهم كالعدم فذكر على حقيقته في موضع وعلى مجازه في آخر بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً أي بل تبين لنا اليوم أنّا لم نكن نعبد في الدنيا شيئا يعتد به، وهو إضراب عن كون الآلهة الباطلة ليست بموجودة عندهم أو ليست بنافعة إلى أنها ليست شيئا يعتد به. وفي ذلك اعتراف بخطئهم وندم على قبيح فعلهم حيث لا ينفع ذلك، وجعل الجلبي هذه الآية كقوله تعالى: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] يفزعون إلى الكذب لحيرتهم واضطرابهم، ومعنى قوله تعالى: كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ أنه تعالى يحيرهم في أمرهم حتى يفزعون إلى الكذب مع علمهم بأنه لا ينفعهم، ولعل ما تقدم هو المناسب للسياق. ومعنى هذا مثل ذلك الإضلال يضل الله تعالى في الدنيا الكافرين حتى أنهم يدعون فيها ما يتبين لهم أنه ليس بشيء أو مثل ضلال آلهتهم عنهم في الآخرة نضلهم عن آلهتهم فيها حتى لو طلبوا الآلهة وطلبتهم لم يلق بعضهم بعضا أو مثل ذلك الضلال وعدم النفع يضل الله تعالى الكافرين حتى لا يهتدوا في الدنيا إلى ما ينفعهم في الآخرة، وفي المجمع كما أضل الله تعالى أعمال هؤلاء وأبطل ما كانوا يؤملونه كذلك يفعل بأعمال جميع من يتدين بالكفر فلا ينتفعون بشيء منها، فإضلال الكافرين على معنى إضلال أعمالهم أي إبطالها، ونقل ذلك عن الحسن، وقيل في معناه غير ذلك. وقوله تعالى: ذلِكُمْ إشارة إلى المذكور من سحبهم في السلاسل والأغلال وتسجيرهم في النار وتوبيخهم بالسؤال، وجوز على بعض الأوجه أن يكون إشارة إلى إضلال الله تعالى الكافرين، وإلى الأول ذهب ابن عطية أي ذلكم العذاب الذي أنتم فيه بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ تبطرون وتأشرون كما قال مجاهد بِغَيْرِ الْحَقِّ وهو الشرك والمعاصي أو بغير استحقاق لذلك، وفي ذلك الْأَرْضِ زيادة تفظيع للبطر وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ تتوسعون في الفرح، وقيل: المعنى بما كنتم تفرحون بما يصيب أنبياء الله تعالى أولياءه من المكاره وبما كنتم تتوسعون في الفرح بما أوتيتم حتى نسيتم لذلك الآخرة واشتغلتم بالنعمة عن المنعم، وفي الحديث «الله تعالى يبغض البذخين الفرحين ويحب كل قلب حزين» وبين الفرح والمرح تجنيس حسن، والعدول إلى الخطاب للمبالغة في التوبيخ لأن ذم المرء في وجهه تشهير له، ولذا قيل: النصح بين الملأ تقريع ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ أي الأبواب المقسومة لكم خالِدِينَ فِيها مقدرين الخلود فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ عن الحق جهنم، وكان مقتضى النظم الجليل حيث صدر بادخلوا أن يقال: فبئس مدخل المتكبرين ليتجاوب الصدر والعجز لكن لما كان الدخول المقيد بالخلود سبب الثواء عبر بالمثوى وصح التجاوب معنى، وهذا الأمر على ما استظهره في البحر مقول لهم بعد المحاورة السابقة وهم في النار، ومطمح النظر فيه الخلود فهو أمر بقيد الخلود لا بمطلق الدخول، ويجوز أن يقال: هم بعد الدخول فيها أمروا أن يدخلوا الأبواب المقسومة لهم فكان أمرا بالدخول بقيد التجزئة لكل باب، وقال ابن عطية: يقال لهم قبل هذه المحاورة في أول الأمر ادخلوا. فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بتعذيب أعدائك الكفرة حَقٌّ كائن لا محالة فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ أصله فإن نرك فزيدت (ما) لتوكيد (إن) الشرطية ولذلك جاز أن يلحق الفعل نون التوكيد على ما قيل: وإلى التلازم بين ما ونون التوكيد بعد أن الشرطية ذهب المبرد. والزجاج فلا يجوز عندهما زيادة ما بدون إلحاق نون ولا إلحاق نون بدون زيادة ما ورد بقوله: فأما تريني ولي لمة ... فإن الحوادث أودى بها الجزء: 12 ¦ الصفحة: 339 ونسب أبو حيان على كلام فيه جواز الأمرين إلى سيبويه والغالب أن إن إذا أكدت- بما- يلحق الفعل بعدها نون التوكيد على ما نص عليه غير واحد بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ وهو القتل والأسر أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل ذلك فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ يوم القيامة فنجازيهم بأعمالهم، وهو جواب نَتَوَفَّيَنَّكَ وجواب نُرِيَنَّكَ محذوف مثل فذاك، وجوز أن يكون جوابا لهما على معنى أن نعذبهم في حياتك أو لم نعذبهم فإنا نعذبهم في الآخرة أشد العذاب ويدل على شدته الاقتصار على ذكر الرجوع في هذا المعرض. والزمخشري آثر في الآية هنا ما ذكر أولا وذكر في [الرعد: 40] في نظيرها أعني قوله تعالى: وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ ما يدل على أن الجملة المقرونة بالفاء جواب على التقديرين، قال في الكشف: والفرق أن قوله تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [الروم: 60، غافر: 55، 77] عدة للإنجاز والنصر وهو الذي همه عليه الصلاة والسلام وهم المؤمنين معقود به لمقتضى هذا السياق فينبغي أن يقدر فذاك هناك ثم جيء بالتقدير الثاني ردا لشماتتهم وأنه منصور على كل حال وإتماما للتسلي، وأما مساق التي في الرعد فلا يجاب التبليغ وأنه ليس عليه غير ذلك كيفما دارت القضية، فمن ذهب إلى إلحاق ما هنا بما في الرعد ذهب عنه مغزى الزمخشري انتهى فتأمل ولا تغفل. وقرأ أبو عبد الرحمن ويعقوب «يرجعون» بفتح الياء، وطلحة بن مصرف ويعقوب في رواية الوليد بن حسان بفتح تاء الخطاب وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا ذوي خطر وكثرة مِنْ قَبْلِكَ من قبل إرسالك. مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا أوردنا أخبارهم وآثارهم عَلَيْكَ كنوح وإبراهيم وموسى عليهم السلام. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وهم أكثر الرسل عليهم الصلاة والسلام، أخرج الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: «قلت يا رسول الله كم عدة الأنبياء؟ قال مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جما غفيرا» والظاهر أن المراد بالرسول في الآية ما هو أخص من النبي، وربما يوهم صنيع القاضي أن المراد به ما هو مساو للنبي. وأيا ما كان لا دلالة في الآية على عدم علمه صلى الله عليه وسلم بعدد الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام كما توهم بعض الناس، ورد لذلك خبر الإمام أحمد وجرى بيننا وبينه من النزاع ما جرى، وذلك لأن المنفي القص وقد علمت معناه فلا يلزم من نفي ذلك نفي ذكر أسمائهم، ولو سلم فلا يلزم من نفى ذكر الأسماء نفي ذكر أن عدتهم كذا من غير تعرض لذكر أسمائهم، على أن النفي بلم وهي على الصحيح تقلب المضارع ما ضيافا لمنفي القص في الماضي ولا يلزم من ذلك استمرار النفي فيجوز أن يكون قد قصوا عليه عليه الصلاة والسلام جميعا بعد ذلك ولم ينزل ذلك قرآنا، وأظهر من ذلك في الدلالة على عدم استمرار النفي قوله تعالى: رُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [النساء: 164] لتبادر الذهن فيه إلى أن المراد لم نقصصهم عليك من قبل لمكان قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وبالجملة الاستدلال بالآية على أنه صلى الله عليه وسلم لم يعلم عدة الأنبياء والمرسلين عليهم السلام ولا علمها بعد جهل عظيم بل خذلان جسيم نعوذ بالله تعالى من ذلك، وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه في قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ قال: بعث الله تعالى عبدا حبشيا نبيا فهو ممن لم يقصص على محمد صلى الله عليه وسلم، وعن ابن عباس بلفظ «إن الله تعالى بعث نبيا أسود في الحبش فهو ممن لم يقصص عليه عليه الصلاة والسلام» والمراد بذلك على نحو ما مر أنه لم تذكر له صلى الله عليه وسلم قصصه وآثاره ولا أوردت عليه أحواله وأخباره كما كان في شأن موسى وعيسى وغيرهما من المرسلين عليهم الصلاة والسلام، ولا يمكن أن يقال: المراد أنه لم يذكر له صلى الله عليه وسلم بعثة شخص موصوف بذلك إذ لا يساعد عليه اللفظ، وأيضا لو أريد ما ذكر فمن أين علم علي كرم الله تعالى وجهه أو ابن عباس ذلك الجزء: 12 ¦ الصفحة: 340 وهل يقول باب مدينة العلم على علم لم يفض عليك من تلك المدينة حاشاه ثم حاشاه وكذا ابن عمه العباس عبد الله. واستشكل هذا الخبر بأن فيه رسالة العبد وقد قالوا العبد لا يكون رسولا، وأجيب بأن العبد فيه ليس بمعنى المملوك وهو الذي لا يكون رسولا لنقصان تصرفه ونفرة النفوس عن اتباعه بل هو أحد العبيد بمعنى السودان عرفا ولو قيل: إن العبد بهذا المعنى لا يكون رسولا أيضا لنفرة النفوس عن اتباعه كنفرتها عن اتباع المملوك قلنا: على تقدير تسليم النفرة إنما هي فيما إذا كان الإرسال لغير السودان وأما إذا كان الإرسال للسودان فليست هناك نفرة أصلا، وظاهر لفظ ابن عباس أن ذلك الأسود إنما بعث في الحبش والتزام أنه لا يكون رسول من السودان أولاد حام مما لا يساعد عليه الدليل لأنه إن كانت النفرة مانعة من الإرسال فهي لا تتحقق فيما إذا كان الإرسال إلى بني صنفه وإن كان المانع أنه لا يوجد متأهل للإرسال في بني حام لنقصان عقولهم وقلة كمالهم فدعوى ذلك جهل والله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته وكم رأينا في أبناء حام من هو أعقل وأكمل من كثير من أبناء سام ويافث، وإن كان قد ورد قاطع من نبينا صلى الله عليه وسلم أنه لا يكون من أولئك رسول فليذكر وأني به ثم إن أمر النبوة فيمن ذكر أهون من أمر الرسالة كما لا يخفى، وكأنه لمجموع ما ذكرنا قال الخفاجي عليه الرحمة: في صحة الخبر نظر وَما كانَ لِرَسُولٍ أي وما صح وما استقام لرسول من أولئك الرسل أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ بمعجزة إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فالمعجزات على تشعب فنونها عطايا من الله تعالى قسمها بينهم حسبما اقتضته مشيئته المبنية على الحكم البالغة كسائر القسم ليس لهم اختيار في إيثار بعضها والاستبداد بإتيان المقترح بها فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ بالعذاب في الدنيا والآخرة قُضِيَ بِالْحَقِّ بإنجاء المحق وإثابته وإهلاك المبطل وتعذيبه وَخَسِرَ هُنالِكَ أي وقت مجيء أمر الله تعالى اسم مكان استعير للزمان الْمُبْطِلُونَ المتمسكون بالباطل على الإطلاق فيدخل فيهم المعاندون المقترحون دخولا أوليا ومن المفسرين من فسر المبطلين بهم وفسر أمر الله بالقيامة، ومنهم من فسره بالقتل يوم بدر وما ذكرنا أولى. وأبعد ما رأينا في الآية أن المعنى فإذا أراد الله تعالى إرسال رسول وبعثة نبي قضى ذلك وأنفذه بالحق وخسر كل مبطل وحصل على فساد آخرته. اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ المراد بها الإبل خاصة كما حكي عن الزجاج واختاره صاحب الكشاف، واللام للتعليل لا للاختصاص فإن ذلك هو المعروف في نظير الآية أي خلقها لأجلكم ولمصلحتكم، وقوله تعالى: لِتَرْكَبُوا مِنْها إلخ تفصيل لما دل عليه الكلام إجمالا، ومن هنا جعل ذلك بعضهم بدلا مما قبله بدل مفصل من مجمل بإعادة حرف الجر، و (من) لابتداء الغاية أي ابتداء تعلق الركوب بها أو تبعيضية وكذا (من) في قوله تعالى: وَمِنْها تَأْكُلُونَ وليس المراد على إرادة التبعيض إن كلا من الركوب والأكل مختص ببعض معين منها بحيث لا يجوز تعلقه بما تعلق به الآخر بل على أن كل بعض منها صالح لكل منهما. نعم كثيرا ما يعدون النجائب من الإبل للركوب، والجملة على ما ذهب إليه الجلبي عطف على المعنى فإن قوله تعالى: لِتَرْكَبُوا مِنْها في معنى منها تركبون أو إن منها تأكلون في معنى لتأكلوا منها لكن لم يؤت به كذلك لنكتة. وقال العلامة التفتازاني: إن هذه الجملة حالية لكن يرد على ظاهره أن فيه عطف الحال على المفعول له ولا محيص عنه سوى تقدير معطوف أي خلق لكم الأنعام منها تأكلون ليكون من عطف جملة على جملة. وتعقبه الخفاجي بقوله: لم يلح لي وجه جعل هذه الواو عاطفة محتاجة إلى التقدير المذكور مع أن الظاهر أنها واو حالية سواء قلنا إنها حال من الفاعل أو المفعول والمنساق إلى ذهني العطف بحسب المعنى، ولعل اعتباره في جانب المعطوف أيسر فيعتبر أيضا في قوله تعالى: وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ أي غير الركوب والأكل كالألبان والأوبار الجزء: 12 ¦ الصفحة: 341 والجلود ويقال: إنه في معنى ولتنتفعوا بمنافع فيها أو نحو ذلك وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ أي أمرا ذا بال تهتمون به وذلك كحمل الأثقال من بلد إلى بلد، وهذا عطف على لتركبوا منها جاء على نمطه، وكان الظاهر المزاوجة بين الفوائد المحصلة من الأنعام بأن يؤتى باللام في الجميع أو تترك فيه لكن عدل إلى ما في النظم الجليل لنكتة. قال صاحب الكشف: إن الأنعام هاهنا لما أريد بها الإبل خاصة جعل الركوب وبلوغ الحاجة من أتم الغرض منها لأن من منافعها الركوب والحمل عليها، وأما الأكل منها والانتفاع بأوبارها وألبانها بالنسبة إلى ذينك الأمرين فنزر قليل، فأدخل اللام عليهما وجعلا مكتنفين لما بينهما تنبيها على أنه أيضا مما يصلح للتعليل ولكن قاصرا عنهما، وأما الاختصاص المستفاد من قوله تعالى: وَمِنْها تَأْكُلُونَ فلأنها من بين ما يقصد للركوب ويعد للأكل فلا ينتقض بالخيل على مذهب من أباح لحمها ولا بالبقر، وقال صاحب الفرائد: إنما قيل وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ ولم يقل: لتأكلوا منها ولتصلوا إلى المنافع لأنهم في الحال آكلون وآخذون المنافع وأما الركوب وبلوغ الحاجة فأمران منتظران فجيء فيهما بما يدل على الاستقبال. وتعقب بأن الكل مستقبل بالنسبة إلى زمن الخلق. وقال القاضي: تغيير النظم في الأكل لأنه في حيز الضرورة، وقيل في توجيهه: يعني أن مدخول الغرض لا يلزم أن يترتب على الفعل، فالتغيير إلى صورة الجملة الحالية مع الإتيان بصيغة الاستمرار لتنبيه على امتيازه عن الركوب في كونه من ضروريات الإنسان. ويطرد هذا الوجه في قوله تعالى: وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ لأن المراد منفعة الشرب واللبس وهذا مما يلحق بالضروريات وهو لا يضر نعم فيه دغدغة لا تخفى. وقال الزمخشري: إن الركوب وبلوغ الحاجة يصح أن يكونا غرض الحكيم جل شأنه لما فيهما من المنافع الدينية كإقامة دين وطلب علم واجب أو مندوب فلذا جيء فيهما باللام بخلاف الأكل وإصابة المنافع فإنهما من جنس المباحات التي لا تكون غرض الحكيم. وهو مبني على مذهبه من الربط بين الأمر والإرادة ولا يصح أيضا لأن المباحات التي هي نعمة تصح أن تكون غرض الحكيم جل جلاله عندهم، ويا ليت شعري ماذا يقول في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ [يونس: 67] نعم لو ذكر أنه لاشتماله على الغرض الديني كان أنسب بدخول اللام لكان وجها إن تم. وقيل: تغيير النظم الجليل في الأكل لمراعاة الفواصل كما أن تقديم الجار والمجرور لذلك. وأما قوله تعالى: وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ فكالتابع للأكل فأجري مجراه وهو كما ترى، وقوله تعالى: وَعَلَيْها توطئة لقوله سبحانه: وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ليجمع بين سفائن البر وسفائن البحر فكأنه قيل: وعليها في البر وعلى الفلك في البحر تحملون فلا تكرار. وفي إرشاد العقل السليم لعل المراد بهذا الحمل حمل النساء والولدان عليها بالهودج وهو السر في فصله عن الركوب، وتقديم الجار قيل: لمراعاة الفواصل كتقديمه قبل. وقيل التقديم هنا وفيما تقدم للاهتمام وقيل: عَلَى الْفُلْكِ دون في الفلك كما في قوله تعالى: احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [هود: 40] لأن معنى الظرفية والاستعلاء موجود فيها فيصح كل من العبارتين، والمرجح لعلى هنا المشاكلة. وذهب غير واحد إلى أن المراد بالأنعام الأزواج الثمانية فمعنى الركوب والأكل منها تعلقهما بالكل لكي لا على أن كلا منهما مختص ببعض معين منها بحيث لا يجوز تعلقه بما تعلق به الآخر بل على أن بعضها يتعلق به الأكل فقط كالغنم وبعضها يتعلق به كلاهما كالإبل ومنهم من عد البقر أيضا وركوبه معتاد عند بعض أهل الأخبية، وأدرج بعضهم الخيل والبغال وسائر ما ينتفع به من البهائم في الأنعام وهو ضعيف. ورجح القول بأن المراد الأزواج الثمانية على القول المحكي عن الزجاج من أن المراد الإبل خاصة بأن المقام الجزء: 12 ¦ الصفحة: 342 مقام امتنان وهو مقتض للتعميم، والظاهر ذاك، وكون المقام مقام امتنان غير مسلم بل هو مقام استدلال كقوله تعالى: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية: 17] كما يشعر به السياق، ولا يأباه ذكر المنافع فإنه استطرادي يُرِيكُمْ آياتِهِ أي دلائله الدالة على كمال شؤونه جل جلاله أَيَّ آياتِ اللَّهِ أي فأي آية من تلك الآيات الباهرةنْكِرُونَ فإن كلا منها من الظهور بحيث لا يكاد يجترئ على إنكارها من له عقل في الجملة. فأين للاستفهام التوبيخي وهي منصوبة بتنكرون، وإضافة الآيات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة وتهويل إنكارها وتنكير أي في مثل ما ذكر هو الشائع المستفيض والتأنيث قليل ومنه قوله: بأي كتاب أم بأية سنة ... ترى حبهم عارا علي وتحسب قال الزمخشري: لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو حمار وحمارة غريب وهي في أي أغرب لإبهامه لأنه اسم استفهام عما هو مبهم مجهول عند السائل والتفرقة مخالفة لما ذكر لأنها تقتضي التمييز بين ما هو مؤنث ومذكر فيكون معلوما له أَفَلَمْ يَسِيرُوا أي أقعدوا فلم يسيروا على أحد الرؤيين: فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم المهلكة، وقوله تعالى: كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ إلخ استئناف نظير ما مر في نظيره أول السورة بل أكثر الكلام هناك جار هاهنا فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ما الأولى نافية أو استفهامية في معنى النفي في محل نصب بأغنى، والثانية موصولة في موضع رفع به أو مصدرية والمصدر الحاصل بالتأويل مرفوع به أيضا أي لم يغن عنهم أو أي شيء أغنى عنهم الذي كسبوه أو كسبهم فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ المعجزات أو الآيات الواضحات الشاملة لذلك فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ذكر فيه ستة أوجه. الأول أن المراد بالعلم عقائدهم الزائغة وشبههم الداحضة فيما يتعلق بالمبدأ والمعاد وغيرهما أو عقائدهم المتعلقة بأحوال الآخرة كما هو ظاهر كلام الكشاف، والتعبير عن ذلك بالعلم على زعمهم للتهكم كما في قوله تعالى: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ [النمل: 66] . والمعنى أنهم كانوا يفرحون بذلك ويستحقرون له علم الرسل عليهم السلام ويدفعون به البينات. الثاني أن المراد به علم الفلاسفة والدهريين من بني يونان على اختلاف أنواعه فكانوا إذا سمعوا بوحي الله تعالى دفعوه وصغروا علم الأنبياء عليهم السلام إلى ما عندهم من ذلك. وعن سقراط أنه سمع بموسى عليه الصلاة والسلام، وقيل له: لو هاجرت إليه فقال: نحن قوم مهذبون فلا حاجة لنا إلى من يهذبنا. والزمان متشابه فقد رأينا من ترك متابعة خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم واستنكف عن الانتساب إلى شريعة أحد منهم فرحا بما لحس من فضلات الفلاسفة وقال: إن العلم هو ذاك دون ما جاء به الرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين. الثالث أن أصل المعنى فلما جاءتهم رسلهم بالبينات لم يفرحوا بما جاءهم من العلم فوضعوا موضعه فرحوا بما عندهم من الجهل ثم سمي ذلك الجهل علما لاغتباطهم به ووضعهم إياه مكان ما ينبغي لهم من الاغتباط بما جاءهم من العلم، وفيه التهكم بفرط جهلهم والمبالغة في خلوهم من العلم، وضمير فَرِحُوا وعِنْدَهُمْ على هذه الأوجه للكفرة المحدث عنهم. الرابع أن يجعل ضمير فَرِحُوا للكفرة وضمير عِنْدَهُمْ للرسل عليهم السلام، والمراد بالعلم الحق الذي جاء المرسلون به أي فرحوا بما عند الرسل من العلم فرح ضحك منه واستهزاء به، وخلاصته أنهم استهزؤوا بالبينات وبما جاء به الرسل من علم الوحي، ويؤيد هذا قوله تعالى: وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. الخامس أن يجعل الضمير أن للرسل عليهم السلام، والمعنى أن الرسل لما رأوا جهل الكفرة المتمادي واستهزاءهم بالحق وعلموا سوء عاقبتهم وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم واستهزائهم فرحوا بما أوتوا من العلم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 343 وشكروا الله تعالى وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم، وحكي هذا عن الجبائي. السادس أن يجعل الضمير أن للكفار، والمراد بما عندهم من العلم علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها كما قال تعالى: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ [الروم: 7] ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [النجم: 30] فلما جاءهم الرسل بعلم الديانات وهي أبعد شيء من علمهم لبعثها على رفض الدنيا والظلف عن الملاذ والشهوات لم يلتفتوا إليها وصغروها واستهزؤوا بها واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم ففرحوا به، قال صاحب الكشف: والأرجح من بين هذه الأوجه الستة الثالث ففيه التهكم والمبالغة في خلوهم من العلم ومشتمل على ما يشتمل عليه الأول وزيادة سالم عن عدم الطباق للواقع كما في الثاني وعن قصور العبارة عن الأداء كالرابع وعن فك الضمائر كما في الخامس، والسادس قريب لكنه قاصر عن فوائد الثالث انتهى فتأمله جدا. وأبو حيان استحسن الوجه السادس وتعقب الوجه الثالث بأنه لا يعبر بالجملة الظاهر كونها مثبتة عن الجملة المنفية إلا في قليل من الكلام نحو شر أهر ذا ناب على خلاف فيه، ولما آل أمره إلى الإثبات المحصور جاز، وأما الآية فينبغي أن لا تحمل على القليل لأن في ذلك تخليطا لمعاني الجمل المتباينة فلا يوثق بشيء منها، وأنت تعلم أنه لا تباين معنى بين لم يفرحوا بما جاءهم من العلم وفَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ على ما قرر. نعم هذا الوجه عندي مع ما فيه من حسن لا يخلو عن بعد، وكلام صاحب الكشف لا يخلو عن دغدغة فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا شدة عذابنا ومنه قوله تعالى: بِعَذابٍ بَئِيسٍ [الأعراف: 165] قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ يعنون الأصنام أو سائر آلهتهم الباطلة: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا أي عند رؤية عذابنا لأن الحكمة الإلهية قضت أن لا يقبل مثل ذلك الإيمان، وإِيمانُهُمْ رفع بيك اسما لها أو فاعل يَنْفَعُهُمْ وفي يَكُ ضمير الشأن على الخلاف الذي في كان يقوم زيد، ودخل حرف النفي على الكون لا على النفع لإفادة معنى نفي الصحة فكأنه لم يصح ولم يستقم حكمة نفع إيمانهم إياهم عند رؤية العذاب، وهاهنا أربعة فاءات فاء فَما أَغْنى وفاء فَلَمَّا جاءَتْهُمْ وفاء فَلَمَّا رَأَوْا وفاء فَلَمْ يَكُ فالفاء الأولى مثلها في نحو قولك: رزق المال فمنع المعروف فما بعدها نتيجة مالية لما كانوا فيه من التكاثر بالأموال والأولاد والتمتع بالحصون ونحوها، والثانية تفسيرية مثلها في قولك: فلم يحسن إلى الفقراء بعد فمنع المعروف في المثال فما بعدها إلى قوله تعالى: وَحاقَ بِهِمْ إيضاح لذلك المجمل وأنه كيف انتهى بهم الأمر إلى عكس ما أملوه وأنهم كيف جمعوا واحتشدوا وأوسعوا في إطفاء نور الله وكيف حاق المكر السيء بأهله إذ كان في قوله سبحانه: فَما أَغْنى عَنْهُمْ إيماء بأنهم زاولوا أن يجعلوها مغنية، والثالث للتعقيب، وجعل ما بعدها تابعا لما قبلها واقعا عقيبه فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا مترتب على قوله تعالى: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ إلخ تابع له لأنه بمنزلة فكفروا إلا أن فَلَمَّا جاءَتْهُمْ الآية بيان كفر مفصل مشتمل على سوء معاملتهم وكفرانهم بنعمة الله تعالى العظمى من الكتاب والرسول فكأنه قيل: فكفروا فلما رأوا بأسنا آمنوا، ومثلها الفاء الرابعة فما بعدها عطف على آمنوا دلالة على أن عدم نفع إيمانهم ورده عليهم تابع للإيمان عند رؤية العذاب كأنه قيل: فلما رأوا بأسنا آمنوا فلم ينفعهم إيمانهم إذ النافع إيمان الاختيار سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ أي سن الله تعالى ذلك أعني عدم نفع الإيمان عند رؤية البأس سنة ماضية في البعاد، وهي من المصادر المؤكدة كوعد الله وصبغة الله، وجوز انتصابها على التحذير أي احذروا يا أهل مكة سنة الله تعالى في أعداء الرسل. وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ أي وقت رؤيتهم البأس على أنه اسم مكان قد استعير للزمان كما سلف آنفا، وهذا الحكم خاص بإيمان البأس وأما توبة البأس فهي مقبولة نافعة بفضل الله تعالى وكرمه، والفرق ظاهر. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 344 وعنه بعض الأكابر أن إيمان البأس مقبول أيضا ومعنى فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا أن نمس إيمانهم لم ينفعهم وإنما نفعهم الله تعالى حقيقة به، ولا يخفى عليك حال هذا التأويل وما كان من ذلك القبيل والله تعالى أعلم. «ومن باب الإشارة في بعض الآيات» على ما أشار إليه بعض السادات حم إشارة إلى ما أفيض على قلب محمد صلى الله عليه وسلم من الرحمن فإن الحاء والميم من وسط الاسمين الكريمين، وفي ذلك أيضا سر لا يجوز كشفه ولما صدرت السورة بما أشار إلى الرحمة وأنها وصف المدعو إليه والداعي ذكر بعد من صفات المدعو إليه وهو الله عزّ وجلّ ما يدل على عظيم الرحمة وسبقها، وفي ذلك من بشارة المدعو ما فيه. الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا إلخ فيه إشارة إلى شرف الإيمان وجلالة قدر المؤمنين وإلى أنه ينبغي للمؤمنين من بني آدم أن يستغفر بعضهم لبعض وفي ذلك أيضا من تأكيد الدلالة على عظم رحمة الله عزّ وجلّ ما لا يخفى فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ بأن يكون غير مشوب بشيء من مقاصد الدنيا والآخرة يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ قيل: في إطلاق الروح إشارة إلى روح النبوة وهو يلقى على الأنبياء، وروح الولاية ويلقى على العارفين، وروح الدراية ويلقى على المؤمنين الناسكين لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ قيل التلاقي مع الله تعالى ولا وجود لغيره تعالى وهو مقام الفناء المشار إليه بقوله سبحانه: يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ من قبول وجودهم لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ إذ ليس في الدار غيره ديار الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ من التجلي بِما كَسَبَتْ في بذل الوجود للمعبود لا ظُلْمَ الْيَوْمَ فتنال كل نفس من التجلي بقدر بذلها من الوجود لا أقل من ذلك. وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ هذه قيامة العوام المؤجلة ويشير إلى قيامة الخواص المعجلة لهم، فقد قيل: إن لهم في كل نفس قيامة من العتاب والعقاب والثواب والبعاد والاقتراب وما لم يكن لهم في حساب، وخفقان القلب ينطق والنحول يخبر واللون يفصح والمشوق يستر ولكن البلاء يظهر، وإذا أزف فناء الصفات بلغت القلوب الحناجر وشهدت العيون بما تخفي الضمائر يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ خائنة أعين المحبين استحسانهم تعمد النظر إلى غير المحبوب باستحسان واستلذاذ وما تخفيه الصدور من متمنيات النفوس ومستحسنات القلوب ومرغوبات الأرواح وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ قيل أي اطلبوني مني أجبكم فتجدوني ومن وجدني وجد كل شيء فالدعاء الذي لا يرد هو هذا الدعاء، ففي بعض الأخبار من طلبني وجدني إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي دعائي وطلبي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ الحرمان والبعد مني داخِرِينَ ذليلين مهينين اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً فيه إشارة إلى ليل البشرية ونهار الروحانية، وذكر أن سكون الناس في الليل المعروف على أقسام فأهل الغفلة يسكنون إلى استراحة النفوس والأبدان، وأهل الشهوة يسكنون إلى أمثالهم وأشكالهم من الرجال والنسوان، وأهل الطاعة يسكنون إلى حلاوة أعمالهم وقوة آمالهم. وأهل المحبة يسكنون إلى أنين النفوس وحنين القلوب وضراعة الأسرار واشتعال الأرواح بالأشواق التي هي أحر من النار اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً يشير إلى أنه تعالى جعل أرض البشرية مقرا للروح وَالسَّماءَ بناء أي سماء الروحانية مبنية عليها وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ بأن جعلكم مرايا جماله وجلاله، وفي الخبر «خلق الله تعالى آدم على صورته» وفي ذلك إشارة إلى رد أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [البقرة: 30] ولله تعالى من قال: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 345 ما حطك الواشون عن رتبة ... عندي ولا ضرك مغتاب كأنهم أثنوا ولم يعلموا ... عليك عندي بالذي عابوا والكافر لسوء اختياره التحق بالشياطين وصار مظهرا لصفات القهر من رب العالمين وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين، تم الكلام على سورة المؤمن والحمد لله أولا وآخرا وباطنا وظاهرا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 346 سورة فصّلت وتسمى سورة السجدة وسورة حم السجدة وسورة المصابيح وسورة الأقوات، وهي مكية بلا خلاف ولم أقف فيها على استثناء، وعدد آياتها كما قال الداني خمسون وآيتان بصري وشامي وثلاث مكي ومدني وأربع كوفي، ومناسبتها لما قبلها أنه سبحانه ذكر قبل أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ [غافر: 82] إلخ وكان ذلك متضمنا تهديدا وتقريعا لقريش وذكر جل شأنه هنا نوعا آخر من التهديد والتقريع لهم وخصهم بالخطاب في قوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فصلت: 13] ثم بين سبحانه كيفية إهلاكهم وفيه نوع بيان لما في قوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا الآية، وبينهما أوجه من المناسبة غير ما ذكر. وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن الخليل بن مرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ تبارك وحم السجدة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 347 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم أن جعل اسما للسورة أو القرآن فهو إما خبر لمحذوف أو مبتدأ خبره تَنْزِيلٌ على المبالغة أو التأويل المشهور، وهو على الأول خبر بعد خبر، وخبر مبتدأ محذوف أن جعل حم مسرودا على نمط التعديد عند الفراء، وقوله تعالى: مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ من تتمته مؤكد لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أو خبر آخر للمبتدأ المحذوف أو تنزيل مبتدأ لتخصصه بما بعده خبره كِتابٌ وحكي ذلك عن الزجاج والحوفي، وهو على الأوجه الأول بدل منه أو خبر آخر أو خبر لمحذوف، وجملة فُصِّلَتْ آياتُهُ على جميع الأوجه في موضع الصفة لكتاب، وإضافة التنزيل إلى الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ من بين أسمائه تعالى للإيذان بأنه مدار للمصالح الدينية والدنيوية واقع بمقتضى الرحمة الربانية حسبما ينبىء عنه قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] وتفصيل آياته تمييزها لفظا بفواصلها ومقاطعها ومبادئ السور وخواتمها، ومعنى بكونها وعدا ووعيدا وقصصا وأحكاما إلى غير ذلك بل من أنصف علم أنه ليس في بدء الخلق كتاب اجتمع فيه من العلوم والمباحث المتباينة عبارة وإشارة مثل ما في القرآن. وعن السدي فُصِّلَتْ آياتُهُ أي بينت ففصل بين حرامه وحلاله وزجره وأمره ووعده ووعيده، وقال الحسن: فصلت بالوعد والوعيد، وقال سفيان: بالثواب والعقاب، وما ذكرنا أولا أعم ولعل ما ذكروه من باب التمثيل لا الحصر، وقيل: المراد فصلت آياته في التنزيل أي لم تنزل جملة واحدة وليس بذاك. وقرىء «فصلّت» بفتح الفاء والصاد مخففة أي فرقت بين الحق والباطل، وقال ابن زيد: بين النبي صلى الله عليه وسلم ومن خالفه على أن فصل متعد أو فصل متعد أو فصل بعضها من بعض باختلاف الفواصل والمعاني على أن فصل لازم بمعنى انفصل كما في قوله تعالى: فَصَلَتِ الْعِيرُ [يوسف: 94] . وقرىء «فصلت» بضم الفاء وكسر الصاد مخففة على أنه مبني للمفعول والمعنى على ما مر قُرْآناً عَرَبِيًّا نصب على المدح بتقدير أعني أو أمدح أو نحوه أو على الحال فقيل: من كِتابٌ لتخصصه بالصفة، وقيل: من آياتُهُ وجوز في هذه الحال أن تكون مؤكدة لنفسها وأن تكون موطئة للحال بعدها، وقيل: نصب على المصدر أي يقرؤوه قرآنا، وقال الأخفش: هو مفعول ثان لفصلت، وهو كما ترى إن لم تكن أخفش، وأيا ما كان ففي قُرْآناً عَرَبِيًّا امتنان بسهولة قراءته وفهمه لنزوله بلسان من نزل بين أظهرهم لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي معانيه لكونه على لسانهم على أن المفعول محذوف أو لأهل العلم والنظر على أن الفعل منزل منزلة اللازم ولام لِقَوْمٍ تعليلية أو اختصاصية وخصهم بذلك لأنهم هم المنتفعون به والجار والمجرور إما في موضع صفة أخرى- لقرآنا- أو صلة- لتنزيل- أو- لفصلت- قال الزمخشري: ولا يجوز أن يكون صفة مثل ما قبله وما بعده أي قرآنا عربيا كائنا لقوم عرب لئلا يفرق بين الصلات والصفات، ولعله أراد لئلا يلزم التفريق بين الصفة وهي قوله تعالى: بَشِيراً وَنَذِيراً وموصوفها وهو قُرْآناً بناء على أنه صفة له بالصلة وهي لِقَوْمٍ على تقدير تعلقه- بتنزيل- أو- بفصلت- وبين الصلة- وموصولها بالصفة أي تَنْزِيلٌ أو فُصِّلَتْ ولِقَوْمٍ والجمع للمبالغة على حد قولك لمن يفرق بين آخرين: لا تفعل فإن التفريق بين الأخوان مذموم أو أراد لئلا يفرق بين الصلتين في الحكم مع عدم الموجب للتفريق وهو أن يتصل مِنَ الرَّحْمنِ بموصوله ولا يتصل لِقَوْمٍ وكذلك بين الصفتين وهو عَرَبِيًّا بموصوفه ولا يتصل بَشِيراً والجمع لذلك أيضا. واختار أبو حيان كون الجار والمجرور صلة فُصِّلَتْ وقال: يبعد تعلقه- بتنزيل- لكونه وصف قبل أخذ متعلقه إن كان مِنَ الرَّحْمنِ في موضع الصفة أو أبدل منه كِتابٌ أو كان خبرا- لتنزيل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 348 - فيكون في ذلك البدل من الموصول أو الإخبار عنه قبل أخذه متعلقه وهو لا يجوز ولعل ذلك غير مجمع عليه، وكون بَشِيراً صفة قُرْآناً هو المشهور، وجوز أن يكون مع ما عطف عليه حال من كِتابٌ أو من آياتُهُ وقرأ زيد بن علي «بشير» و «نذير» برفعهما وهي رواية شاذة عن نافع على الوصفية لكتاب أو الخبرية لمحذوف أي هو بشير لأهل الطاعة ونذير لأهل المعصية فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ عن تدبره وقبوله، والضمير للقوم على المعنى الأول ليعلمون وللكفار المذكورين حكما على المعنى الثاني، ويجوز أن يكون للقوم عليه أيضا بأن يراد به ما من شأنهم العلم والنظر فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ أي لا يقبلون ولا يطيعون من قولك: تشفعت إلى فلان فلم يسمع قولي ولقد سمعه ولكنه لما لم يقبله ولم يعمل بمقتضاه فكأنه لم يسمعه وهو مجاز مشهور. وفي الكشف أن قوله تعالى: فَأَعْرَضَ مقابل قوله تعالى: لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وقوله سبحانه: فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ مقابل قوله جل شأنه: بَشِيراً وَنَذِيراً أي أنكروا إعجازه والإذعان له مع العلم ولم يقبلوا بشائره ونذره لعدم التدبر. وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ أي أغطية متكاثفة مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ من الإيمان بالله تعالى وحده وترك ما ألفينا عليه آباءنا ومِنْ على ما في البحر لابتداء الغاية وَفِي آذانِنا وَقْرٌ أي صمم وأصله الثقل. وقرأ طلحة بكسر الواو وقرىء بفتح القاف وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ غليط يمنعنا عن التواصل ومن للدلالة على أن الحجاب مبتدأ من الجانبين بحيث استوعب ما بينهما من المسافة المتوسطة ولم يبق ثمت فراغ أصلا. وتوضيحه أن البين بمعنى الوسط بالسكون وإذا قيل: بيننا وبينك حجاب صدق على حجاب كائن بينهما استوعب أولا، وأما إذا قيل: من بيننا فيدل على أن مبتدأ الحجاب من الوسط أعني طرفه الذي يلي المتكلم فسواء أعيد مِنْ أو لم يعد يكون الطرف الآخر منتهي باعتبار ومبتدأ باعتبار فيكون الظاهر الاستيعاب لأن جميع الجهة أعني البين جعل مبتدأ الحجاب فالمنتهي غيره البتة، وهذا كاف في الفرق بين الصورتين كيف وقد أعيد البين لاستئناف الابتداء من تلك الجهة أيضا إذ لو قيل: ومن بيننا بتغليب المتكلم لكفى، ثم ضرورة العطف على نحو بيني وبينك إن سلمت لا تنافي إرادة الإعادة له فتدبر، وما ذكروه من الجمل الثلاث تمثيلات لنبو قلوبهم عن إدراك الحق وقبوله ومج أسماعهم له وامتناع مواصلتهم وموافقتهم للرسول صلى الله عليه وسلم وأرادوا بذلك إقناطه عليه الصلاة والسلام عن اتباعهم إياه عليه الصلاة والسلام حتى لا يدعوهم إلى الصراط المستقيم. وذكر أبو حيان أنه لما كان القلب محل المعرفة والسمع والبصر معينان على تحصيل المعارف ذكروا أن هذه الثلاثة محجوبة عن أن يصل إليها مما يلقيه الرسول صلى الله عليه وسلم شيء ولم يقولوا على قلوبنا أكنة كما قالوا: وفي آذاننا وقر ليكون الكلام على نمط واحد في جعل القلوب والآذان مستقر الأكنة والوقر وإن كان أحدهما استقرار استعلاء والثاني استقرار احتواء إذ لا فرق في المعنى بين قلوبنا في أكنة وعلى قلوبنا أكنة والدليل عليه قوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ [الكهف: 57] ولو قيل إنا جعلنا قلوبهم في أكنة لم يختلف المعنى فالمطابقة حاصلة من حيث المعنى والمطابيع من العرب لا يراعون الطباق والملاحظة إلا في المعاني، واختصاص كل من العبارتين بموضعه للتفنن على أنه لما كان منسوبا إلى الله تعالى في سورة بني إسرائيل والكهف كان معنى الاستعلاء والقهر أنسب، وهاهنا لما كان حكاية عن مقالهم كان معنى الاحتواء أقرب، كذا حققه بعض الأجلة ودغدغ فيه، وتفسير الأكنة بالأغطية هو الذي عليه جمهور المفسرين فهي جمع كنان كغطاء لفظا ومعنى، وقيل: هي ما يجعل فيها السهام. أخرج عبد بن حميد. وابن المنذر عن مجاهد أنه قال في قوله تعالى: وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ قالوا كالجعبة للنبل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 349 فَاعْمَلْ على دينك وقيل في إبطال أمرنا إِنَّنا عامِلُونَ على ديننا وقيل: في ابطال أمرك والكلام على الأول متاركة وتقنيط عن اتباعه عليه الصلاة والسلام، ومقصودهم أننا عاملون، والأول توطئة له، وحاصل المعنى أنا لا نترك ديننا بل نثبت عليه كما نثبت على دينك، وعلى الثاني هو مبارزة بالخلاف والجدال، وقائل ما ذكر أبو جهل ومعه جماعة من قريش. ففي خبر أخرجه أبو سهل السري من طريق عبد القدوس عن نافع بن الأزرق عن ابن عمر عن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية: أقبلت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: ما يمنعكم من الإسلام فتسودوا العرب؟ فقالوا: يا محمد ما نفقة ما تقول ولا نسمعه وأن على قلوبنا لغلفا وأخذ أبو جهل ثوبا فمده فما بينه وبين رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال: يا محمد قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب، وفيه فلما كان من الغد أقبل منهم سبعون رجلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد اعرض علينا الإسلام فلما عرض عليهم السلام أسلموا عن آخرهم فتبسم النبي عليه الصلاة والسلام وقال: الحمد لله بالأمس تزعمون أن على قلوبكم غلفا وقلوبكم في أكنة مما أدعوكم إليه وفي آذانكم وقرا وأصبحتم اليوم مسلمين فقالوا: يا رسول الله كذبنا والله بالأمس لو كذلك ما اهتدينا أبدا ولكن الله تعالى الصادق والعباد الكاذبون عليه وهو الغني ونحن الفقراء إليه قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ لست ملكا ولا جنيا لا يمكنكم التلقي منه ض. وهو رد لقولهم: بيننا وبينك حجاب يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ أي ولا أدعوكم إلى ما تنبو عنه العقول وإنما أدعوكم إلى التوحيد الذي دلت عليه دلائل العقل وشهدت له شواهد السمع، وهذا جواب عن قولهم: قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ فاستتووا إليه تعالى بالتوحيد وإخلاص العبادة ولا تتمسكوا بعرا الشرك وتقولوا لمن يدعوكم إلى التوحيد: قلوبنا في أكنة إلخ وَاسْتَغْفِرُوهُ مما سلف منكم من القول والعمل وهذا وجه لا يخلو عن حسن في ربط الأمر بما قبله، وفي ارشاد العقل السليم أي لست من جنس مغاير لكم حتى يكون بيني وبينكم حجاب وتباين مصحح لتباين الأعمال والأديان كما ينبىء عنه قولكم: فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ بل إنما أنا بشر مثلكم مأمور بما آمركم به حيث أخبرنا جميعا بالتوحيد بخطاب جامع بيني وبينكم، فإن الخطاب في إِلهُكُمْ محكي منتظم للكل لا أنه خطاب منه عليه الصلاة والسلام للكفرة كما في مثلكم وهو مبني على اختيار الوجه الأول في فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ ولا بأس به من هذه الجهة نعم فيه قصور من جهة أخرى، وقال صاحب الفرائد: ليس هذا جوابا لقولهم إذ لا يقتضي أن يكون له جواب، وحاصله لا تتركهم وما يدينون لقولهم ذلك المقصود منه أن تتركهم، سلمنا أنه جواب لكن المراد منه أني بشر فلا أقدر أن أخرج قلوبكم من الأكنة وأرفع الحجاب من البين والوقر من الآذان ولكني أوحى إلي وأمرت بتبليغ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ وللإمام كلام قريب مما ذكر في حيز التسليم، وكلا الكلامين غير واف بجزالة النظم الكريم، وجعله الزمخشري جوابا من أن المشركين طالما يتمسكون في رد النبوة بأن مدعيها بشر ويجب أن يكون ملكا ولا يجوز أن يكون بشرا ولذا لا يصغون إلى قول الرسول ولا يتفكرون فيه فقوله عليه الصلاة والسلام: إني لست بملك وإنما أنا بشر من باب القلب عليهم لا القول بالموجب ولا من الأسلوب الحكيم في شيء كما قيل كأنه صلى الله عليه وسلم قال: ما تمسكتم به في رد نبوتي من أني بشر هو الذي يصحح نبوتي إذ لا يحسن في الحكمة أن يرسل إليكم الملك فهذا يوجب قبولكم لا الرد والغلو في الإعراض. وقوله: يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ تمهيد للمقصود من البعثة بعد إثبات النبوة أولا مفصلا بقوله تعالى: حم الآيات ومجملا ثانيا بقوله: يُوحى إِلَيَّ ثم قيل: أَنَّما إِلهُكُمْ بيانا للمقصود فقوله يُوحى إِلَيَّ مسوق الجزء: 12 ¦ الصفحة: 350 للتمهيد، وفيه رمز إلى إثبات النبوة، وهذا المعنى على القول بأن المراد من فَاعْمَلْ إلخ فاعمل في ابطال أمرنا إننا عاملون في إبطال أمرك ظاهر، وأما على القول الأول فوجهه أن الدين هو جملة ما يلتزمه المبعوث إليه من طاعة الباعث تعالى بوساطة تبليغ المبعوث فهو مسبب عن نبوته المسببة عن دليلها فأظهروا بذلك أنهم منقادون لما قرر لديهم آباؤهم من منافاة النبوة للبشرية وأنه دينهم فقيل لهم ما قيل، وهو على هذا الوجه أكثر طباقا وأبلغ، وهذا حسن دقيق وما ذكر أولا أسرع تبادرا، وفي الكشف أن قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ في مقابلة إنكارهم الإعجاز والنبوة وقوله: فَاسْتَقِيمُوا يقابل عدم القبول وفيه رمز إلى شيء مما سمعت فتأمل، وقرأ ابن وثاب والأعمش قال إنما فعلا ماضيا، وقرأ النخعي والأعمش «يوحي» بكسر الحاء على أنه مبني للفاعل أي يوحي الله إلي أنما إلهكم إله واحد. وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ من شركهم بربهم عزّ وجلّ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ لبخلهم وعدم إشفاقهم على الخلق وذلك من أعظم الرذائل وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ مبتدأ وخبر- وهم- الثاني ضمير فصل وبِالْآخِرَةِ متعلق بكافرون، والتقديم للاهتمام ورعاية الفاصلة، والجملة حال مشعرة بأن امتناعهم عن الزكاة لاستغراقهم في الدنيا وإنكارهم للآخرة، وحمل الزكاة على معناها الشرعي مما قاله ابن السائب، وروي عن قتادة والحسن والضحاك ومقاتل، وقيل: الزكاة بالمعنى اللغوي أي لا يفعلون ما يزكي أنفسهم وهو الإيمان والطاعة. وعن مجاهد والربيع لا يزكون أعمالهم، وأخرج ابن جرير وجماعة عن ابن عباس أنه قال: في ذلك أي لا يقولون لا إله إلا الله، وكذا الحكيم الترمذي. وغيره عن عكرمة فالمعنى حينئذ لا يطهرون أنفسهم من الشرك، واختار ذلك الطيبي قال: والمعنى عليه فاستقيموا إليه بالتوحيد وإخلاص العبادة له تعالى وتوبوا إليه سبحانه مما سبق لكم من الشرك وويل لكم إن لم تفعلوا ذلك كله فوضع موضعه منع إيتاء الزكاة ليؤذن بأن الاستقامة على التوحيد وإخلاص العمل لله تعالى والتبري عن الشرك هو تزكية النفس، وهو أوفق لتأليف النظم، وما ذهب إليه حبر الأمة إلا لمراعاة النظم، وجعل قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أي غير مقطوع مذكورا على جهة الاستطراد تعريضا بالمشركين وأن نصيبهم مقطوع حيث لم يزكّوا أنفسهم كما زكوا، واستدل على الاستطراد بالآية بعد، وفي الكشف القول الأول أظهر والمشركون باق على عمومه لا من باب إقامة الظاهر مقام المضمر كهذا القول وأن الجملة معترضة كالتعليل لما أمرهم به وكذلك إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا الآية لأنه بمنزلة وويل للمشركين وطوبى للمؤمنين، وفيهما من التحذير والترغيب ما يؤكد أن الأمر بالإيمان والاستقامة تأكيد لا يخفى حاله على ذي لب، وكذلك الزكاة فيه على الظاهر، وخص من بين أوصاف الكفرة منعها لما أنها معيار على الإيمان المستكن في القلب كيف، وقد قيل: المال شقيق الروح بل قال بعض الأدباء: وقالوا شقيق الروح مالك فاحتفظ ... به فأجبت المال خير من الروح أرى حفظه يقضي بتحسين حالتي ... وتضييعه يفضي لتسآل مقبوح والصرف عن الحقيقة الشرعية الشائعة من غير موجب لا يجوز كيف ومعنى الإيتاء لا يقر قراره، نعم لو كان بدله يأتون كما في قوله تعالى: وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى [التوبة: 54] لحسن لا يقال: إن الزكاة فرضت بالمدينة والسورة مكية لأنا نقول: إطلاق الاسم على طائفة مخرجة من المال على وجه من القربة مخصوص كان شائعا قبل فرضيتها بدليل شعر أمية بن أبي الصلت الفاعلون للزكوات، على أن هذا الحق على هذا الوجه المعروف فرض بالمدينة، وقد كان في مكة فرض شيء من المال يخرج إلى المستحق لا على هذا الوجه وكان يسمى زكاة أيضا ثم نسخ انتهى. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 351 ومنه يعلم سقوط ما قاله الطيبي. بقي مخالفة الحبر وهي لا تتحقق إلا إذا تحققت الرواية عنه وبعده الأمر أيضا سهل، ولعله رضي الله تعالى عنه كان يقرأ لا يأتون من الإتيان إذ القراءة المشهورة تأبى ذلك إلا بتأويل بعيد، والعجب نسبة ما ذكر عن الحبر في البحر إلى الجمهور أيضا، وحمل الآية على ذلك مخلص بعض ممن لا يقول بتكليف الكفار بالفروع لكن لا يخفى حال الحمل وهي على المعنى المتبادر دليل عليه وممن لا يقول به قال: هم مكلفون باعتقاد حقيتها دون إيقاعها والتكليف به بعد الإيمان فمعنى الآية لا يؤتون الزكاة بعد الإيمان، وقيل: المعنى لا يقرون بفرضيتها، والقول بتكليف المجنون أقرب من هذا التأويل، وقيل كلمة وَيْلٌ تدل على الذم لا التكليف وهو مذموم عقلا، وفيه بحث لا يخفى، هذا وقيل: في مَمْنُونٍ لا يمن به عليهم من المن بمعنى تعداد النعم، وأصل معناه الثقل فأطلق على ذلك لثقله على الممنون عليه، وعن ابن عباس تفسيره بالمنقوص، وأنشدوا لذي الأصبع العدواني: إني لعمرك ما بابي بذي غلق ... عن الصديق ولا زادي بممنون والآية على ما روي عن السدي نزلت في المرضى والهرمى إذا عجزوا عن كمال الطاعات كتب لهم من الأجر في المرض والهرم مثل الذي كان يكتب لهم وهم أصحاء وشبان ولا تنقص أجورهم وذلك من عظيم كرم الله تعالى ورحمته عزّ وجلّ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ إلى آخر الآيات والكلام فيها كثير ومنه ما ليس بالمشهور ولنبدأ بما هو المشهور وبعد التمام نذكر الآخر فنقول: هذا إنكار وتشنيع لكفرهم، وأن اللام إما لتأكيد الإنكار وتقديم الهمزة لاقتضائها الصدارة لا لإنكار التأكيد وإما للإشعار بأن كفرهم من البعد بحيث ينكر العقلاء وقوعه فيحتاج إلى التأكيد، وعلق سبحانه كفرهم بالموصول لتفخيم شأنه تعالى واستعظام كفرهم به عزّ وجلّ، والظاهر أن المراد بالأرض الجسم المعروف، وقيل: لعل المراد منها ما في جهة السفل من الأجرام الكثيفة واللطيفة من التراب والماء والهواء تجوزا باستعمالها في لازم المعنى على ما قيل بقرينة المقابلة وحملت على ذلك لئلا يخلو الكلام عن التعرض لمدة خلق ما عدا التراب، ومن خلقها في يومين أنه سبحانه خلق لها أصلا مشتركا ثم خلق لها صورا بها تنوعت إلى أنواع، واليوم في المشهور عبارة عن زمان كون الشمس فوق الأفق وأريد منه هاهنا الوقت مطلقا لأنه لا يتصور ذلك قبل خلق السماء والكواكب والأرض نفسها ثم إن ذلك الوقت يحتمل أن يكون بمقدار اليوم المعروف ويحتمل أن يكون أقل منه أو أكثر والأقل أنسب بالمقام، وأيا ما كان فالظاهر أن اليومين ظرفان لخلق الأرض مطلقا من غير توزيع. وقال بعض الأجلة: إنه تعالى خلق أصلها ومادتها في يوم وصورها وطبقاتها في آخر، وقال في إرشاد العقل السليم المراد بخلق الأرض تقدير وجودها أي حكم بأنها ستوجد في يومين مثله في قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 59] والمراد بكفرهم به تعالى إلحادهم في ذاته سبحانه وصفاته عزّ وجلّ وخروجهم عن الحق اللازم له جل شأنه على عباده من توحيده واعتقاد ما يليق بذاته وصفاته جل جلاله فلا ينزهونه تعالى عن صفات الأجسام ولا يثبتون له القدرة التامة والنعوت اللائقة به سبحانه وتعالى ولا يعترفون بإرساله تعالى الرسل وبعثه سبحانه الأموات حتى كأنهم يزعمون أنه سبحانه خلق العباد عبثا وتركهم سدى، وقوله تعالى: وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً عطف على تكفرون داخل معه في حكم الإنكار والتوبيخ، وجعله حالا من الضمير في خَلَقَ لا يخفى حاله، وجمع الأنداد باعتبار ما هو الواقع لا بأن يكون مدار الإنكار هو التعدد أي وتجعلون له أندادا وأكفاء من الملائكة والجن وغيرهم والحال أنه لا يمكن أن يكون له سبحانه ند واحد ذلِكَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 352 إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان ببعد منزلته في العظمة، وإفراد الكاف لما أن المراد ليس تعيين المخاطبين، وهو مبتدأ خبره ما بعده أي ذلك العظيم الشأن الذي فعل ما ذكر في مدة يسيرة رَبُّ الْعالَمِينَ أي خالق جميع الموجودات ومربيها دون الأرض خاصة فكيف يتصور أن يكون شيء من مخلوقاته ندا له عزّ وجلّ، وقوله تعالى: وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ على ما اختاره غير واحد عطف على خَلَقَ الْأَرْضَ داخل في حكم الصلة، ولا ضير في الفصل بينهما بالجملتين المذكورتين لأن الأولى متحدة بقوله تعالى:- تكفرون- بمنزلة إعادتها والثانية معترضة مؤكدة لمضمون الكلام فالفصل بهما كلا فصل، وفيه بلاغة من حيث المعنى لدلالته على أن المعطوف عليه أن خَلَقَ الْأَرْضَ كاف في كونه تعالى رب العالمين وأن لا يجعل له ند فكيف إذا انضمت إليه هذه المعطوفات. وتعقب بأن الاتحاد لا يخرجه عن كونه فاصلا مشوشا للذهن مورثا للتعقيد فالحق والأقرب أن تجعل الواو اعتراضية وكل من الجملتين معترض ليندفع بالاعتراض الاعتراض أو يجعل ابتداء كلام بناء على أنه يصدر بالواو أو يقال: هو معطوف على مقدر كخلق، واختار هذا الأخير صاحب الكشف فقال: أوجه ما ذكر فيه أنه عطف على مقدر بعد رَبُّ الْعالَمِينَ أي خلقها وجعل فيها رواسي فكأنه ساق قوله تعالى: خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ أولا ردا عليهم في كفرهم ثم ذكره ثانيا تتميما للقصة وتأكيدا للإنكار، وليس سبيل قوله سبحانه: ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ سبيل الاعتراض حتى تجعل الجملة عطفا على الصلة ويعتذر عن تخلل تَجْعَلُونَ عطفا على (تكفرون) باتحاده بما قبله على أسلوب وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ [البقرة: 217] وذلك لأنه مقصود لذاته في هذا المساق وهو ركن للإنكار مثل قوله تعالى: بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ وأكد على ما لا يخفى على ذي بصيرة. والرواسي الجبال من رسا إذا ثبت، والمراد بجعلها إبداعها بالفعل، وفي الإرشاد المراد تقدير الجعل لا الجعل بالفعل، وقوله تعالى: مِنْ فَوْقِها متعلق بجعل أو بمحذوف صفة لراوسي أي كائنة من فوقها والضمير للأرض وفي ذلك استخدام على ما قيل في المراد منها لأن الجبال فوق الأرض المعروفة لا فوق جميع الأجسام السفلية والبسائط العنصرية، وفائدة مِنْ فَوْقِها الإشارة إلى أنها جعلت مرتفعة عليها لا تحتها كالأساطين ولا مغروزة فيها كالمسامير لتكون منافعها معرضة لأهلها ويظهر للنظار ما فيها من مراصد الاعتبار ومطارح الأفكار ولعمري إنّ في ارتفاعها من الحكم التكوينية ما تدهش منه العقول، والآية لا تأبى أن يكون في المغمور من الأرض في الماء جبالا كما لا يخفى والله تعالى أعلم. وَبارَكَ فِيها أي كثر خيرها، وفي الإرشاد قدر سبحانه أن يكثر خيرها بأن يكثر فيها أنواع النباتات وأنواع الحيوانات التي من جملتها الإنسان وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها أي بين كميتها وأقدارها، وقال في الإرشاد: أي حكم بالفعل بأن يوجد فيما سيأتي لأهلها من الأنواع المختلفة أقواتها المناسبة لها على مقدار معين تقتضيه الحكمة والكلام على تقدير مضاف، وقيل: لا يحتاج إلى ذلك والإضافة لأدنى ملابسة، وإليه يشير كلام السدي حيث قال: أضاف الأقوات إليها من حيث هي فيها وعنها برزت، وفسر مجاهد الأقوات بالمطر والمياه. وفي رواية أخرى عنه وإليه ذهب عكرمة والضحاك أنها ما خص به كل إقليم من الملابس والمطاعم والنباتات ليكون الناس محتاجين بعضهم لبعض وهو مقتض لعمارة الأرض وانتظام أمور العالم، ويؤيد هذا قراءة بعضهم «وقسم فيها أقواتها» فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ متعلق بحصول الأمور المذكورة لا بتقديرها على ما في إرشاد العقل السليم، والكلام على تقدير مضاف أي قدر حصولها في تتمة أربعة أيام وكان الزجاج يعلقه- بقدر- كما هو رأي الإمام أبي حنيفة في الجزء: 12 ¦ الصفحة: 353 القيد إذا وقع بعد متعاطفات نحو أكرمت زيدا وضربت عمرا ورأيت خالدا في الدار، والشافعي يقول: المتعقب للجمل يعود إليها جميعا لأن الأصل اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في المتعلقات فيكون القيد هنا عائدا إلى جعل الرواسي وما بعده وهو الذي يتبادر إلى فهمي ولا بد من تقدير المضاف الذي سمعت وقد صرح الزجاج بتقديره ولم يقدره الزمخشري وجعل الجار متعلقا بمحذوف وقع خبرا لمبتدأ محذوف أي كل ذلك من خلق الأرض وما بعده كائن في أربعة أيام على أنه فذلكة أي كلام منقطع أتى به لمجمل ما ذكر مفصلا مأخوذة من فذلكة الحساب وقولهم: فذلك كذا بعد استقرار الجمع فما نحن فيه ألحق فيه أيضا جملة من العدد بجملة أخرى وجعله كذلك لا يمنع عطف جَعَلَ فِيها رَواسِيَ على مقدر لأن الربط المعنوي كاف. والقول بأن الفذلكة تقتضي التصريح بذكر الجملتين مثل أن يقال: سرت من البصرة إلى واسط في يومين ومن واسط إلى الكوفة في يومين فذلك أربعة أيام وهاهنا لم ينص إلا على أحد المبلغين غير سديد لأن العلم بالمبلغين في تحقيق الفذلكة كاف على أن المراد أنه جار مجراها وإنما لم يجز الحمل على أن جعل الرواسي وما ذكر عقيبه أو تقدير الأقوات في أربعة أيام لأنه يلزم أن يكون خلق الأرض وما فيها في ستة أيام وقد ذكر بعده أن خلق السماوات في يومين فيكون المجموع ثمانية أيام. وقد تكرر في كتاب الله تعالى أن خلقهما أعني السماوات والأرض في ستة أيام، وقيدت الأيام الأربعة بقوله تعالى: سَواءً فإنه مصدر مؤكد لمضمر هو صفة لأيام أي استوت سواء أي استواء كما يدل عليه قراءة زيد بن علي، والحسن وابن أبي إسحاق وعمرو بن عبيد وعيسى ويعقوب «سواء» بالجر فإنه صريح في الوصفية وبذلك يضعف القول بكونه حالا من الضمير في أَقْواتَها مع قلة الحال من المضاف إليه في غير الصور الثلاث ولزوم تخالف القراءتين في المعنى. ويعلم من ذلك أنه على قراءة أبي جعفر بالرفع يجعل خبر المبتدأ محذوف أي هو سواء وتجعل الجملة صفة لأيام أيضا لا حالا من الضمير لدفع التجوز فإنه شائع في مثل ذلك مطرد في عرفي العرب والعجم فتراهم يقولون: فعلته في يومين ويريدون في يوم ونصف مثلا وسرت أربعة أيام ويريدون ثلاثة ونصفا مثلا، ومنه قوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ [البقرة: 197] فإن المراد بالأشهر فيه شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة وليلة النحر وذلك لأن الزائد جعل فردا مجازا. ثم أطلق على المجموع اسم العدد الكامل فالمعنى هاهنا في أربعة أيام لا نقصان فيها ولا زيادة وكأنه لذلك أوثر ما في التنزيل على أن يقال: وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في يومين كما قيل أولا خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وحاصله أنه لو قيل ذلك لكان يجوز أن يراد باليومين الأولين والأخيرين أكثرهما وإنما لم يقل خلق الأرض في يومين كاملين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في يومين كاملين أو خلق الأرض في يومين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في يومين تلك أربعة سواء لأن ما أورده سبحانه أخصر وأفصح وأحسن طباقا لما عليه التنزيل من مغاصات القرائح ومصاك الركب ليتميز الفاضل من الناقص والمتقدم من الناكص وترتفع الدرجات وتتضاعف المثوبات. وقال بعض الأجلة: إن في النظم الجليل دلالة أي مع الاختصار على أن اليومين الأخيرين متصلان باليومين الأولين لتبادره من جعلهما جملة واحدة واتصالهما في الذكر، وقوله تعالى: لِلسَّائِلِينَ متعلق بمحذوف وقع خبرا لمبتدأ محذوف أي هذا الحصر في أربعة كائن للسائلين عن مدة خلق الأرض وما فيها، ولا ضير في توالي حذف مبتدأين بناء على ما آثره الزمخشري في الجار والمجرور قبل، وقيل هو متعلق- بقدر- السابق أي وقدر فيها أقواتها الجزء: 12 ¦ الصفحة: 354 لأجل الطالبين لها المحتاجين إليها من المقتاتين، وقيل: متعلق بمقدر هو حال من الأقوات، والكل لا يستقيم إلا على ما آثره الزجاج دون ما آثره الزمخشري لأن الفذلكة كما يعلم مما سبق لا تكون إلا بعد تمام الجملتين فلا يجوز أن تتوسط بين الجملة الثانية وبعض متعلقاتها وقيل متعلق بسواء على أنه حال من الضمير والمعنى مستوية مهيأة للمحتاجين أو به على قراءة الرفع وجعله خبر مبتدأ محذوف أي هو أي أمر هذه المخلوقات ونفعها مستو مهيأ للمحتاجين إليه من البشر وهو كما ترى ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ أي قصد إليها وتوجه دون إرادة تأثير في غيرها من قولهم: استوى إلى مكان كذا إذا توجه إليه لا يلوي على غيره. وذكر الراغب أن الاستواء متى عدي بعلى فبمعنى الاستيلاء كقوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] وإذا عدي بإلى فبمعنى الانتهاء إلى الشيء إما بالذات أو بالتدبير، وعلى الثاني قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ الآية، وكلام السلف في الاستواء مشهور. وقد ذكرنا فيما سلف طرفا منه ويشعر ظاهر كلام البعض أن في الكلام مضافا محذوفا أي ثم استوى إلى خلق السماء وَهِيَ دُخانٌ أمر ظلماني ولعله أريد به مادتها التي منها تركبت وأنا لا أقول بالجواهر الفردة لقوة الأدلة على نفيها ولا يلزم من ذلك محذور أصلا كما لا يخفى على الذكي المنصف، وقيل: إن عرشه تعالى كان قبل خلق السماوات والأرض على الماء فأحدث الله تعالى في الماء سخونة فارتفع زبد ودخان فأما الزبد فبقي على وجه الماء فخلق الله تعالى فيه اليبوسة وأحدث سبحانه منه الأرض وأما الدخان فارتفع وعلا فخلق الله تعالى منه السماوات. وقيل: كان هناك ياقوتة حمراء فنظر سبحانه إليها بعين الجلال فذابت وصارت ماء فأزبد وارتفع منه دخان فكان ما كان، وأيا ما كان فليس الدخان كائنا من النار التي هي إحدى العناصر لأنها من توابع الأرض ولم تكن موجودة إذ ذاك على قول كما ستعرف إن شاء الله تعالى، وعلى القول بالوجود لم يذهب أحد إلى تكون ذلك من تلك النار والحق الذي ينبغي أن لا يلتفت إلى ما سواه أن كره النار التي يزعمها الفلاسفة المتقدمون ووافقهم كثير من الناس عليها ليست بموجودة ولا توقف لحدوث الشهب على وجودها كما يظهر لذي ذهن ثاقب. فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا بما خلقت فيكما من المنافع فليس المعنى على إتيان ذاتهما وإيجادهما بل إتيان ما فيهما مما ذكر بمعنى إظهاره والأمر للتسخير قيل ولا بد على هذا أن يكون المترتب بعد جعل السماوات سبعا أو مضمون مجموع الجمل المذكورة بعد الفاء وإلا فالأمر بالإتيان بهذا المعنى مترتب على خلق الأرض والسماء. وقال بعض: الكلام على التقديم والتأخير والأصل ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقضاهن سبع سماوات إلخ فقال لها وللأرض ائتيا إلخ وهو أبعد عن القيل والقال إلا أنه خلاف الظاهر أو كونا وأحدثا على وجه معين وفي وقت مقدر لكل منكما فالمراد إتيان ذاتهما وإيجادهما فالأمر للتكوين على أن خلق وجعل وبارك وقدر بالمعنى الذي حكيناه عن إرشاد العقل السليم ويكون هذا شروعا في بيان كيفية التكوين أثر بيان كيفية التقدير، ولعل تخصيص البيان بما يتعلق بالأرض وما فيها لما أن بيان اعتنائه تعالى بأمر المخاطبين وترتيب مبادئ معايشهم قبل خلقهم مما يحملهم على الإيمان ويزجرهم عن الكفر والطغيان، وخص الاستواء بالسماء مع أن الخطاب المترتب عليه متوجه إليهما معا اكتفاء بذكر تقدير الأرض وتقدير ما فيها كأنه قيل: فقيل لها وللأرض التي قدر وجودها ووجود ما فيها كونا وأحدثا وهذا الوجه هو الذي قدمه صاحب الإرشاد وذكره غيره احتمالا وجعل الأمر عبارة عن تعلق إرادته تعالى بوجودهما تعلقا فعليا بطريق التمثيل من غير أن يكون هناك آمر ومأمور كما قيل في قوله تعالى: كُنْ وقوله تعالى: طَوْعاً أَوْ كَرْهاً تمثيلا لتحتم تأثير قدرته تعالى فيهما واستحالة امتناعهما من ذلك لا إثبات الطوع والكره لهما، وهما مصدران الجزء: 12 ¦ الصفحة: 355 وقعا موقع الحال أي طائعتين أو كارهتين، وقوله تعالى: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ أي منقادين تمثيلا لكمال تأثرهما عن القدرة الربانية وحصولهما كما أمرا به وتصوير لكون وجودهما كما هما عليه جاريا على مقتضى الحكمة البالغة فإن الطوع منبىء عن ذلك والكره موهم لخلافه، وقيل: طائِعِينَ بجمع المذكر السالم مع اختصاصه بالعقلاء باعتبار كونهما في معرض الخطاب والجواب ولا وجه للتأنيث عند أخبارهم عن أنفسهم لكون التأنيث بحسب اللفظ فقط، وقوله تعالى: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ تفسيرا وتفصيلا لتكوين السماء المجمل المعبر عنه بالأمر وجوابه لا أنه فعل مترتب على تكوينهما أي خلقهن خلقا إبداعيا وأتقن أمرهن حسبما تقتضيه الحكمة في وقتين وضمير (هن) إما للسماء على المعنى لأنه بمعنى السماوات ولذا قيل: هو اسم جمع- فسبع- حال من الضمير وإما مبهم يفسره ما بعده على أنه تمييز فهو له وإن تأخر لفظا ورتبة لجوازه في التمييز نحو ربه رجلا وهو وجه عربي. وقال أبو حيان: انتصب سَبْعَ على الحال وهو حال مقدرة، وقال بعضهم: بدل من الضمير، وقيل: مفعول به والتقدير قضى منهن سبع سماوات، وقال الحوفي: على أنه مفعول ثان على تضمين القضاء معنى التصيير ولم يذكر مقدار زمن خلق الأرض وخلق ما فيها اكتفاء بذكره في بيان تقديرهما، وقوله تعالى: وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها عطفا على (قضاهن) أي خلق في كل منها ما استعدت له واقتضت الحكمة أن يكون فيها من الملائكة والنيرات وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله تعالى كما يقتضيه كلام السدي. وقتادة فالوحي عبارة عن التكوين كالأمر مقيد بما قيد به المعطوف عليه من الوقت أو أوحى إلى أهل كل منها أو امره وكلفهم ما يليق بهم من التكاليف كمل قيل: فالوحي بمعناه المشهور من بين معانيه ومطلق عن القيد المذكور أو مقيد به فيما أرى، واحتمال التقييد والإطلاق جار في قوله تعالى: وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ أي من الكواكب وهي فيها وإن تفاوتت في الارتفاع والانخفاض على ما يقتضيه الظاهر أو بعضها فيها وبعضها فيما فوقها لكنها لكونها كلها ترى متلألئة عليها صح كون تزيينها بها، والالتفات إلى نون العظمة لإبراز مزيد العناية، وأما قوله تعالى: وَحِفْظاً فهو مفعول مطلق لفعل مقدر معطوف على قوله تعالى: زَيَّنَّا أي وحفظناها حفظا، والضمير للسماء وحفظها إما من الآفات أو من الشياطين المسترقة للسمع وتقدم الكلام في ذلك وقيل الضمير للمصابيح وهو خلاف الظاهر، وجوز كونه مفعولا لأجله على المعنى أي معطوفا على مفعول له يتضمنه الكلام السابق أي زينة وحفظا، ولا يخفى أنه تكلف بعيد لا ينبغي القول به مع ظهور الأول وسهولته كما أشار إليه في البحر. وجعل قوله تعالى: ذلِكَ إشارة إلى جميع الذي ذكر بتفاصيله أي ذلك المذكور تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ أي البالغ في القدرة والبالغ في العلم، ثم قال صاحب الإرشاد بعد ما سمعت مما حكي عنه: فعلى هذا لا دلالة في الآية الكريمة على الترتيب بين إيجاد الأرض وإيجاد السماء وإنما الترتيب بين التقدير أي تقدير إيجاد الأرض وما فيها وإيجاد السماء وأما على تقدير كون الخلق وما عطف عليه من الأفعال الثلاثة على معانيها الظاهرة فهي تدل على تقدم خلق الأرض وما فيها وعليه إطباق أكثر أهل التفسير، ولا يخفى عليك أن حمل تلك الأفعال على ما حملها عليه خلاف الظاهر كما هو مقربه، وعدم التعرض لخلق الأرض وما فيها بالفعل كما تعرض لخلق السماوات كذلك لا يلائم دعوى الاعتناء التي أشار إليها في بيان وجه تخصيص البيان بما يتعلق بالأرض وما فيها على أن خلق ما فيها بالفعل غير ظاهر من قوله تعالى: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ لا سيما وقد ذكرت الأرض قبل مستقلة وذكر ما فيها مستقلا فلا يتبادر من الأرض هنا إلا تلك الأرض المستقلة لا هي مع ما فيها، وأمر تقدم خلق الأرض وتأخره سيأتي إن شاء الله تعالى الكلام فيه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 356 وقيل: إن إتيان السماء حدوثها وإتيان الأرض أن تصير مدحوة وفيه جمع بين معنيين مجازيين حيث شبه البروز من العدم وبسط الأرض وتمهيدها بالإتيان من مكان آخر وفي صحة الجمع بينهما كلام على أن في كون الدحو مؤخرا عن جعل الرواسي كلاما أيضا ستعرفه إن شاء الله تعالى، وقيل: المراد لتأت كل منكما الأخرى في حدوث ما أريد توليده منكما وأيد بقراءة ابن عباس وابن جبير ومجاهد «آتيا» و «قالتا أتينا» على أن ذلك من المواتاة بمعنى الموافقة، قال الجوهري: تقول آتيته على ذلك الأمر مواتاة إذا وافقته وطاوعته لأن المتوافقين يأتي كل منهما صاحبه وجعل ذلك من المجاز المرسل وعلاقته اللزوم، وقال ابن جني: هي المسارعة وهو حسن أيضا ولم يجعله أكثر الأجلة من الإيتاء لأنه غير لائح وجعله ابن عطية منه وقدر المفعول أي أعطيا من أنفسكما من الطاعة ما أردته منكما وما تقدم أحسن وما أسلفناه في أول الأوجه من الكلام يأتي نحوه هنا كما لا يخفى. واختلف الناس في أمر التقدم والتأخر في خلق كل من السماوات وما فيها والأرض وما فيها وذلك للآيات والأحاديث التي ظاهرها التعارض فذهب بعض إلى تقدم خلق الأرض لظاهر هذه الآية حيث ذكر فيها أولا خلق الأرض وجعل الرواسي فيها وتقدير الأقوات ثم قال سبحانه: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ إلخ وأبى أن يكون الأمر بالإتيان للأرض أمر تكوين، ولظاهر قوله تعالى: في آية [البقرة: 29] خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وأول آية النازعات أعني قوله تعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها وَالْجِبالَ أَرْساها مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ [النازعات: 27- 33] لما أن ظاهره يدل على تأخر خلق الأرض وما فيها من الماء والمرعى والجبال لأن ذلك إشارة إلى السابق وهو رفع السمك والتسوية، والأرض منصوب بمضمر على شريطة التفسير أي ودحا الأرض بعد رفع السماء وتسويتها دحاها إلخ بأن الأرض منصوب بمضمر نحو تذكر وتدبر أو اذكر الأرض بعد ذلك لا بمضمر على شريطة التفسير أو به وبعد ذلك إشارة إلى المذكور سابقا من ذكر خلق السماء لا خلق السماء نفسه ليدل على أنه متأخر في الذكر عن خلق السماء تنبيها على أنه قاصر في الأول لكنه تتميم كما تقول جملا ثم تقول بعد ذلك كيت وكيت وهذا كثير في استعمال العرب والعجم، وكأن بعد ذلك بهذا المعنى عكسه إذا استعمل لتراخي الرتبة والتعظيم وقد تستعمل ثم أيضا بهذا المعنى وكذا الفاء، وبعضهم يذهب في الجواب إلى ما قاله ابن عباس. فقد روى الحاكم والبيهقي بإسناد صحيح عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقال: رأيت أشياء تختلف علي في القرآن قال: هات ما اختلف عليك من ذلك فقال: اسمع الله تعالى يقول: أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ- حتى بلغ- طائِعِينَ فبدأ بخلق الأرض في هذه الآية قبل خلق السماء ثم قال سبحانه في الآية الأخرى أَمِ السَّماءُ بَناها- ثم قال- وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها فبدأ جل شأنه بخلق السماء قبل خلق الأرض. فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أما خلق الأرض في يومين فإن الأرض خلقت قبل السماء وكانت السماء دخانا فسواهن سبع سماوات في يومين بعد خلق الأرض، وأما قوله تعالى: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها يقول جعل فيها جبلا وجعل فيها نهرا وجعل فيها شجرا وجعل فيها بحورا انتهى، قال الخفاجي: يعني أن قوله تعالى: أَخْرَجَ مِنْها ماءَها بدل أو عطف بيان لدحاها بمعنى بسطها مبين للمراد منه فيكون تأخرها في هذه الآية ليس بمعنى تأخر ذاتها بل بمعنى تأخر خلق ما فيها وتكميله وترتيبه بل خلق التمتع والانتفاع به فإن البعيدة كما تكون باعتبار نفس الشيء تكون باعتبار جزئه الأخير وقيده المذكور كما لو قلت: بعثت إليك رسولا ثم كنت بعثت فلانا لينظر ما يبلغه فبعث الثاني وإن تقدم لكن ما بعث لأجله متأخر عنه فجعل نفسه متأخرا. فإن قلت: كيف هذا مع الجزء: 12 ¦ الصفحة: 357 ما رواه ابن جرير وغيره وصححوه عن ابن عباس أيضا أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن خلق السماوات والأرض فقال عليه الصلاة والسلام: «خلق الله تعالى الأرض يوم الأحد والاثنين وخلق الجبال وما فيهن من المنافع يوم الثلاثاء وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب فهذه أربعة فقال تعالى: أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ وخلق يوم الخميس السماء وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة» فإنه يخالف الأول لاقتضائه خلق ما في الأرض من الأشجار والأنهار ونحوها قبل خلق السماء قلت: الظاهر حمله على أنه خلق فيما ذكر مادة ذلك وأصوله إذ لا يتصور العمران والخراب قبل خلق السماء فعطفه عليه قرينة لذلك فلا تعارض بين الحديثين كما أنه ليس بين الآيات اختلاف انتهى كلام الخفاجي، ولا يخفى أن قول ابن عباس السابق نص في أن جعل الجبال في الأرض بعد خلق السماء وهو ظاهر آية النازعات إذا كان بعد ذلك معتبرا في قوله تعالى: وَالْجِبالَ أَرْساها [النازعات: 32] وآية حم السجدة ظاهرة في أن جعل الجبال قبل خلق السماوات، ثم إن رواية ابن جرير المذكورة عنه مخالفة لخبر مسلم عن أبي هريرة قال: «أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: خلق الله تعالى التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من النهار فيما بين العصر إلى الليل» واستدل في شرح المهذب بهذا الخبر على أن السبت أول أيام الأسبوع دون الأحد ونقله عن أصحابه الشافعية وصححه الأسنوي وابن عساكر، وقال العلامة ابن حجر: هو الذي عليه الأكثرون وهو مذهبنا يعني الشافعية كما في الروضة وأصلها بل قال السهيلي في روضه لم يقل بأن أوله الأحد إلا ابن جرير، وجرى النووي في موضع على ما يقتضي أن أوله الأحد فقال: في يوم الاثنين سمي به لأنه ثاني الأيام. وأجيب بأنه جرى في توجيه التسمية المكتفي فيه بأدنى مناسبة على القول الضعيف. وانتصر القفال من الشافعية لكون أوله الأحد بأن الخبر المذكور تفرد به مسلم وقد تكلم عليه الحفاظ على ابن المدائني والبخاري وغيرهما وجعلوه من كلام كعب وأن أبا هريرة إنما سمعه منه ولكن اشتبه على بعض الرواة فجعله مرفوعا. وأجيب بأن من حفظ الرفع حجة على من لم يحفظه والثقة لا يرد حديثه بمجرد الظن ولأجل ذلك أعرض مسلم عما قاله أولئك واعتمد الرفع وخرج طريقه في صحيحه فوجب قبولها. وذكر أحمد بن أحمد المقرئ المالكي أن الإمام أحمد رواه أيضا في مسنده عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ شبك بيدي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم وقال: «خلق الله تعالى الأرض يوم السبت» الحديث ، وفي الدر المنثور عدة أخبار عن ابن عباس ناطقة بأن مبدأ خلق الأرض كان يوم الأحد، وفيه أيضا أخرج ابن جرير عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه قال: «جاء اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد أخبرنا ما خلق الله تعالى من الخلق في هذه الأيام الستة فقال: خلق الله تعالى الأرض يوم الأحد والاثنين وخلق الجبال يوم الثلاثاء وخلق المدائن والأقوات والأنهار وعمرانها وخرابها يوم الأربعاء وخلق السماوات والملائكة يوم الخميس إلى ثلاث ساعات يعني من يوم الجمعة وخلق في أول ساعة الآجال وفي الثانية الآفة وفي الثالثة آدم قالوا: صدقت إن تممت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما يريدون فغضب فأنزل الله تعالى وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ . واليهود قاطبة على أن أول الأسبوع يوم الأحد احتجاجا بما يسمونه التوراة وظاهره الاشتقاق يقتضي ذلك. ومن ذهب إلى أن الأول السبت قال: لا حجة في ذلك لأن التسمية لم تثبت بأمر من الله تعالى ولا من رسوله صلى الله عليه وسلم فلعل اليهود وضعوا أسماء الأسبوع على ما يعتقدون فأخذتها العرب عنهم ولم يرد في القرآن إلا الجمعة والسبت الجزء: 12 ¦ الصفحة: 358 وليسا من أسماء العدد على أن هذه التسمية لو ثبتت عن العرب لم يكن فيها دليل لأن العرب تسمي خامس الورد ربعا وتاسعه عشرا وهذا هو الذي أخذ منه ابن عباس قوله الذي كاد ينفرد به أن يوم عاشوراء هو يوم تاسع المحرم وتاسوعاء هو يوم ثامنه، ولا يخفى أن الجواب الأول خارج عن الإنصاف فلأيام الأسبوع عند العرب أسماء أخر فيها ما يدل على ذلك أيضا، وهي أول وأهون وجبار ودبار ومؤنس وعروبة وشيار، ولا يسوغ لمنصف أن يظن أن العرب تبعوا في ذلك اليهود وجاء الإسلام وأقرهم على ذلك، وليت شعري إذا كانت تلك الأسماء وقعت متابعة لليهود فما الأسماء الصحيحة التي وضعها واضع لغة العرب غير تابع فيها لليهود، والجواب الثاني خلاف الظاهر جدا. ونقل الواحدي في البسيط عن مقاتل أن خلق السماء مقدم على إيجاد الأرض فضلا عن دحوها واختاره الإمام ونسبه بعضهم إلى المحققين من المفسرين وأوّلوا الآية بأن الخلق ليس عبارة عن التكوين والإيجاد بل هو عبارة عن التقدير، والمراد به في حقه تعالى حكمه تعالى أن سيوجد وقضاؤه عزّ وجلّ بذلك مثله في قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 59] ولا بد على هذا من تأويل جَعَلَ وبارَكَ بنحو ما سمعت عن الإرشاد، وجوز أن يبقى خلق وكذا ما بعده على ما يتبادر منه ويكون الكلام على إرادة الإرادة كما في قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة: 6] أي بالذي أراد خلق الأرض في يومين وأراد أن يجعل فيها رواسي وقالوا: إن ثم للتفاوت في الرتبة المنزلة منزلة التراخي الزماني كما في قوله تعالى: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [البلد: 17] فإن اسم كان ضمير يرجع إلى فاعل فَلَا اقْتَحَمَ [البلد: 11] وهو الإنسان الكافر وقوله سبحانه: فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ [البلد: 13- 16] تفسير للعقبة، والترتيب الظاهري يوجب تقديم الإيمان عليه لكن ثم هنا للتراخي في الرتبة مجازا، وفي الكشف أن ما نقله الواحدي لا إشكال فيه ويتعين ثُمَّ في هذه السورة والسجدة على تراخي الرتبة وهو أوفق لمشهور قواعد الحكماء لكن لا يوافق ما جاء من أن الابتداء من يوم الأحد كان، وخلق السماوات وما فيها من يوم الخميس والجمعة وفي آخر يوم الجمعة تم خلق آدم عليه السلام، وفي البخر الذي نقوله: إن الكفار وبخوا وقرعوا بكفرهم بمن صدرت عنه هذه الأشياء جميعها من غير ترتيب زماني وإن ثُمَّ لترتيب الأخبار لا لترتيب الزمان والمهلة كأنه قال سبحانه بالذي أخبركم أنه خلق الأرض وجعل فيها رواسي وبارك فيها وقدر فيها أقواتها ثم أخبركم أنه استوى إلى السماء فلا تعرض في الآية لترتيب الوقوع الترتيب الزماني، ولما كان خلق السماء أبدع في القدرة من خلق الأرض استؤنف الإخبار فيه بثم فهي لترتيب الأخبار كما في قوله تعالى: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا بعد قوله سبحانه: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وقوله تعالى: ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ [الأنعام: 154] بعد قوله عزّ وجلّ: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ [الأنعام: 151] ويكون قوله جل شأنه فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ بعد إخباره تعالى أخبر به تصويرا لخلقهما على وفق إرادته تعالى كقولك أرأيت الذي أثنيت عليه فقلت له إنك عالم صالح فهذا تصوير لما أثنيت به وتفسير له فكذلك أخبر سبحانه بأنه خلق كيت وكيت فأوجد ذلك إيجادا لم يتخلف عن إرادته انتهى، وظاهر ما ذكره في قوله تعالى: فَقالَ لَها إلخ أن القول بعد الإيجاد، وقال بعض الأجلة يجوز أن يكون ذلك للتمثيل أو التخييل للدلالة على أن السماء والأرض محلا قدرته تعالى يتصرف فيهما كيف يشاء إيجادا وإكمالا ذاتا وصفة ويكون تمهيدا لقوله سبحانه: فَقَضاهُنَّ أي لما كان الخلق بهذه السهولة قضى السماوات وأحكم خلقها في يومين فيصح هذا القول قبل كونهما وبعده، وفي أثنائه إذ ليس الغرض دلالة على وقوع. وذكر في نكتة تقديم خلق الأرض وما فيها في الذكر هاهنا وفي سورة البقرة على خلق السماوات والعكس في الجزء: 12 ¦ الصفحة: 359 سورة النازعات أنها يجوز أن يكون أن المقام في الأوليين مقام الامتنان وتعداد النعم فمقتضاه تقديم ما هو أقرب النعم إلى المخاطبين والمقام في الثالثة مقام بيان كمال القدرة فمقتضاه تقديم ما هو أدل على كمالها، وروي عن الحسن أنه تعالى خلق الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليها دخان ملتزق بها ثم أصعد الدخان وخلق منه السماوات وأمسك الفهر في موضعها وبسط منها الأرض، وذلك قوله تعالى: كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما [الأنبياء: 30] الآية. وجعله بعضهم دليلا على تأخر دحو الأرض عن خلق السماء، وفي الإرشاد أنه ليس نصا في ذلك فإن بسط الأرض معطوف على إصعاد الدخان وخلق السماء بالواو فلا دلالة في ذلك على الترتيب قطعا، وفي الكشف أنه يدل على أن كون السماء دخانا سابق على دحو الأرض وتسويتها بل ظاهر قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ يدل على ذلك، وإيجاد الجوهرة النورية والنظر إليها بعين الجلال المبطن بالرحمة والجمال ذويها وامتياز لطيفها عن كثيفها وصعود المادة الدخانية اللطيفة وبقاء الكثيف هذا كله سابق على الأيام الستة وثبت في الخبر الصحيح ولا ينافي الآيات. واختار بعضهم أن خلق المادة البعيدة للسماء والأرض كان في زمان واحد وهي الجوهرة النورية أو غيرها وكذا فصل مادة كل عن الأخرى وتمييزها عنها أعني الفتق وإخراج الأجزاء اللطيفة وهي المادة القريبة للسماوات وإبقاء الكثيفة وهي المادة القريبة للأرض فإن فصل اللطيف عن الكثيف يستلزم فصل الكثيف عنه وبالعكس، وأما خلق كل على الهيئة التي يشاهد بها فليس في زمان واحد بل خلق السماوات سابق في الزمان على خلق الأرض، ولا ينبغي لأحد أن يرتاب في تأخر خلق الأرض بجميع ما فيها عن خلق السماوات كذلك، ومتى ساغ حمل ثُمَّ للترتيب في الأخبار هان أمر ما يظن من التعارض في الآيات والأخبار هذا والله تعالى أعلم. ولبعض المتأخرين في الآية كلام غريب دفع به ما يظن من المنافاة بين الآيات الدالة على أن خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام كقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ [الفرقان: 59، السجدة: 4] وقوله سبحانه: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ [ق: 38] وهذه الآية التي يخيل منها أن خلق ذلك في ثمانية أيام وهو أن للشيء حكما من حيث ذاته ونفسه وحكما من حيث صفاته وإضافاته ونسبه وروابطه واقتضاءاته ومتمماته وسائر ما يضاف إليه ولكل من ذلك أجل معدود وحد محدود يظهره سبحانه في ذلك بالأزمان الخاصة به والأوقات المؤجلة له وهي متفاوتة مختلفة، والله تعالى خلق السماوات والأرض وما بينهما في حد ذاتها في ستة أيام، وذلك عند نشئها في ذاتها من خلقه سبحانه إياها من البحر الحاصل من ذوبان الياقوتة الحمراء لما نظر إليها جل شأنه بنظر الهيبة فتموج إلى أن حصل منه الزبد وثار الدخان فخلق السماء من الدخان والأرض والزبد والنجوم من الشعلات المستجنة في زبد البحر والنار والهواء والماء من جسم أكثف من الدخان وألطف من الزبد، والسماء حقيقة وحدانية في ذاتها ولها صلاحية التعدد والكثرة على حسب بدو شأنها في علم الغيب فتعينها بالسبعة على الجهة الخاصة ووقوع كل سماء في محلها الخاص مترتبا عليها حكم خاص يحتاج إلى جعل غير جعلها في نفسها وهو المسمى بالقدر وتعيين الحدود التي هي الهندسة الإيجادية، وهذا الجعل متفرع على الخلق ونحوه غير نحوه قطعا كما يشعر به قوله تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الفرقان: 2] وقد يسمى بالتسوية وبالقضاء أيضا كما في قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [البقرة: 29] وقوله تعالى هنا ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ- إلى قوله سبحانه- فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وأما تقدير أقوات الأرض وإعطاء البركة وتوليد المتولدات فلها أيام معدودات وحدود محدودات لا تدخل في أيام خلق السماوات والأرض لأنها لإيجاد أنفسها، فالأيام الأربعة المذكورة في الآية إنما هي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 360 لجعل الرواسي وتقدير الأقوات وإحداث البركة وليست من تلك الستة وكذلك اليومان اللذان لتسوية السماء وقضائها سبع سماوات خارجان عنها فليس في الآية التي الكلام فيها سوى أن خلق الأرض كان في يومين وأما خلق السماوات وما بينها وبين الأرض فلم يذكر في الآية مدة له وإنما ذكر مدة قضاء السماوات وهو غير خلقها ومدة جعل الرواسي وتقدير الأقوات وإحداث البركة وذلك غير خلق الأرض وما بينها وبين السماء فلا تنافي بينها وبين الآيات الدالة على أن خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ولا يعكر على ذلك ما روي عن الصادق أن الله سبحانه خلق في يوم الأحد والاثنين الأرضين وخلق أقواتها في يوم الثلاثاء وخلق السماوات في يوم الأربعاء ويوم الخميس وخلق أقواتها يوم الجمعة وذلك قول الله سبحانه: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ لأنه بعد تسليم صحته المذكور فيه أن الأقوات قد خلقت في يومين لا أنها قدرت وبين الخلق والتقدير بون بعيد، فخلق الأقوات عبارة عن إيجاد ذاتياتها وموادها وعللها وأسبابها فإذا وجدت قدرت وفصلت على الأطوار المعلومة فلا إشكال. والعجب ممن استشكل هذا المقام كيف لم ينظر في مدلولات الألفاظ الإلهية بحسب القواعد القرآنية واللغوية فاحتاج في حله إلى تكلفات أمور خفيّة وارتكاب توجيهات غير مرضية، ثم إن هذا البعض ذكر لليوم ما يزيد على ستين إطلاقا منها المرتبة ونقل هذا عن شيخه ورأيته في بعض الكتب لغيره، وجوز إرادته في الآية وكذا جوز إرادة غيره من الإطلاقات، وذكر سر كون خلق السماوات والأرض في ستة أيام وأطال الكلام في هذا المقام، وكان ذلك ضمن رسالة ألفها حين طلبت منه جوابا عما يظن من المنافاة غير ما ذكروه من الجواب عن ذلك، ومن وقف على تلك الرسالة سمع منها قعقعة بلا سلاح وأحس بطيران في جو ما يزعمه تحقيقا بلا جناح فكم فيها من قول لا سند له ومدعي لم يورد دليله، فعليك بالتأمل التام فيما ذكره المفسرون وما ذكره هذا الرجل من الكلام ولا تك للإنصاف مجانبا وللتعصب مصاحبا والله تعالى الموفق. وما تقدم من حمل قوله تعالى: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ على التمثيل هو ما ذهب إليه جماعة من المفسرين، وقالت طائفة: إنهما نطقتا نطقا حقيقيا وجعل الله تعالى لهما حياة وإدراكا، قال ابن عطية: وهذا أحسن لأنه لا شيء يدفعه وأن العبرة فيه أتم والقدرة فيه أظهر، ولا يخفى أن المعنى الأول أبلغ، ومن ذهب إلى أن للجمادات إدراكا لائقا بها قال بظاهر الآية ولعلها إحدى أدلته على ذلك. وذكر بعضهم في قوله سبحانه: وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها أنه سبحانه خص كل سماء بما ميزها عن السماء الأخرى من الذاتيات وجعل ذلك وجها في جمع السماوات وإفراد الأرض. وقرأ الأعمش «أو كرها» بضم الكاف، قال أبو حيان: والأصح أنها لغة في الإكراه على الشيء، والأكثر على أن الكره بالضم معناه المشقة فَإِنْ أَعْرَضُوا متصل بقوله تعالى: قُلْ أَإِنَّكُمْ إلخ أي فإن أعرضوا عن التدبر فيما ذكر من عظائم الأمور الداعية إلى الإيمان أو عن الإيمان بعد هذا البيان فَقُلْ لهم: أَنْذَرْتُكُمْ أي أنذركم، وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الإنذار المنبئ عن تحقق المنذر صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ أي عذابا مثل عذابهم قاله قتادة، وهو ظاهر على القول بأن الصاعقة تأتي في اللغة بمعنى العذاب، ومنع ذلك بعضهم وجعل ما ذكر مجازا، والمراد عذابا شديد الوقع كأنه صاعقة مثل صاعقتهم، وأيا ما كان فالمراد أعلمتكم حلول صاعقة. وقرأ ابن الزبير والسلمي وابن محيصن «صعقة مثل صعقة» بغير ألف فيهما وسكون العين وهي المرة من الصعق أو الصعق ويقال: صعقته الصاعقة صعقا فصعق صعقا بالفتح أي هلك بالصاعقة المصيبة به إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ أي جاءت عادا وثمود ففيه إطلاق الجمع على الاثنين وهو شائع وكذا الرُّسُلُ وقيل: يحتمل أن يراد ما يعم رسول الجزء: 12 ¦ الصفحة: 361 الرسول، وجوز في الأول أن يكون باعتبار أفراد القبيلتين، وذكروا في إِذْ أوجها من الإعراب. الأول أنه ظرف لأنذرتكم. الثاني أنه صفة لصاعقة الأولى، وأورد عليهما لزوم كون إنذاره عليه الصلاة والسلام والصاعقة التي أنذر بها واقعين في وقت مجيء الرسل عادا وثمود وليس كذلك. الثالث أنه صفة لصاعقة الثانية، وتعقب بأنه يلزم عليه حذف الموصول مع بعض صلته وهو غير جائز عند البصريين أو وصف المعرفة بالنكرة. الرابع واختاره أبو حيان أنه معمول لصاعقة عاد وثمود بناء على أن المراد بها العذاب وإلا فهي بالمعنى المعروف جثة لا يتعلق بها الظرف وفيه شيء لا يخفى. الخامس واختاره غير واحد أنه حال منها لأنها معرفة بالإضافة، وبعضهم يجوز كونه حالا من الأولى أيضا لتخصصها بالوصف بالمتخصص بالإضافة فتكون الأوجه ستة، وقوله تعالى: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ متعلق بجاءتهم، والضمير المضاف إليه لعاد وثمود، والجهتان كناية عن جميع الجهات على ما عرف في مثله أي أتتهم الرسل من جميع جهاتهم، والمراد بإتيانهم من جميع الجهات بذل الوسع في دعوتهم على طريق الكناية ويجوز أن يراد بما بين أيديهم الزمن الماضي وبما خلفهم المستقبل وبالعكس واستعير فيه ظرف المكان للزمان والمراد جاؤوهم بالإنذار عما جرى على أمثالهم الكفرة في الماضي وبالتحذير عما سيحيق بهم في الآخرة. وروي هذا عن الحسن، وجوز كون الضمير المضاف إليه للرسل والمراد جاءتهم الرسل المتقدمون والمتأخرون على تنزيل مجيء كلامهم ودعوتهم إلى الحق منزلة مجيء أنفسهم فإن هودا وصالحا كانا داعيين لهم إلى الإيمان بهما وبجميع الرسل ممن جاء من بين أيديهم وممن يجيء من خلفهم فكأن الرسل قد جاؤوهم وخاطبوهم بقوله تعالى: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ وروي هذا الوجه عن ابن عباس والضحاك، وإليه ذهب الفراء. ونص بعض الأجلة على أن مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ عليه حال من الرسل لا متعلق بجاءتهم، وجمع الرسل عليه ظاهر، وقيل: يحتمل أن يكون كون الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم كناية عن الكثرة كقوله تعالى: يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ [النحل: 112] وقال الطبري: الضمير في قوله تعالى: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ لعاد وثمود وفي قوله تعالى: وَمِنْ خَلْفِهِمْ للرسل وتعقبه في البحر بأن فيه خروجا عن الظاهر في تفريق الضمائر وتعمية المعنى إذ يصير التقدير جاءتهم الرسل من بين أيديهم وجاءتهم من خلف الرسل أي من خلف أنفسهم، وهذا معنى لا يتعقل إلا أن كان الضمير عائدا في مِنْ خَلْفِهِمْ على الرسل لفظا وهو عائد على رسل آخرين معنى فكأنه قيل: جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلف رسل آخرين فيكون كقولهم: عندي درهم ونصفه أي ونصف درهم آخر، وبعده لا يخفى. وخص بالذكر من الأمم المهلكة عاد وثمود لعلم قريش بحالهما ولوقوفهم على بلادهم في اليمن والحجر، و (أن) يصح أن تكون مفسرة لمجيء الرسل لأنه بالوحي وبالشرائع فيتضمن معنى القول و (لا) ناهية وأن تكون مصدرية ولا ناهية أيضا، والمصدرية قد توصل بالنهي كما توصل بالأمر على كلام فيه، وجعل الحوفي (لا) نافية و (أن) ناصبة للفعل، وقيل: إنها المخففة من الثقيلة ومعها ضمير شأن محذوف، وأورد عليه أنها إنما تقع بعد أفعال اليقين وأن خبر باب أن لا يكون طلبا إلا بتأويل، وقد يدفع بأنه بتقدير القول وأن مجيء الرسل كالوحي معنى فيكون مثله في وقوع أن بعده لتضمنه ما يفيد اليقين كما أشار إليه الرضى وغيره، ولا يخفى ما فيه من التكلف المستغنى عنه وعلى احتمال كونها مصدرية وكونها مخففة يكون الكلام بتقدير حرف الجر أي بأن لا تعبدوا إلا الله قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا مفعول المشيئة محذوف وقدره الزمخشري إرسال الرسل أي لو شاء ربنا إرسال الرسل لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً أي لأرسلهم لكن لما كان إرسالهم بطريق الإنذار قيل: لأنزل، قيل: ولم يقدر إنزال الملائكة بناء على أن الشائع تقدير مفعول المشيئة بعد لو الشرطية من مضمون الشرط لأنه عار عن إفادة ما أرادوه من نفي إرساله تعالى البشر والشائع غير الجزء: 12 ¦ الصفحة: 362 مطرد، وقال أبو حيان: إنما التقدير لو شاء ربنا إنزال ملائكة بالرسالة منه إلى الإنس لأنزلهم بها إليهم، وهذا أبلغ في الامتناع من إرسال البشر إذ علقوا ذلك بإنزال الملائكة وهو سبحانه لم يشأ ذلك فكيف يشاؤوه في البشر وهو وجه حسن. فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ أي بالذي أرسلتم به على زعمكم، وفيه ضرب تهكم بهم كافِرُونَ لما أنكم بشر مثلنا لا فضل لكم علينا، والفاء فاء النتيجة السببية فيكون في الكلام إيماء إلى قياس استثنائي أي لكنه لم ينزل، ويجوز أن تكون تعليلية لشرطيتهم أي إنما قلنا ذلك لأنا منكرون لما أرسلتم به كما ننكر رسالتكم، و (ما) كما أشرنا إليه موصولة، وكونها مصدرية وضمير بِهِ لقولهم: أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ خلاف الظاهر، أخرج البيهقي في الدلائل. وابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال: قال أبو جهل والملأ من قريش قد التبس علينا أمر محمد صلى الله عليه وسلم فلو التمستم رجلا عالما بالسحر والكهانة والشعر فكلمه ثم أتانا ببيان من أمره، فقال عتبة بن ربيعة: والله لقد سمعت الشعر والكهانة والسحر وعلمت من ذلك علما وما يخفى عليّ إن كان كذلك فأتاه فقال له يا محمد أنت خير أم هاشم أنت خير أم عبد المطلب؟ فلم يجبه قال: فبم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا فإن كنت إنما بك الرياسة عقدنا ألويتنا لك، وإن كان المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك، وإن كان بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختار من أي بنات قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلم فلما فرغ قال عليه الصلاة والسلام: «بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا- فقرأ حتى بلغ- فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود» فأمسك عتبة علي فيه عليه الصلاة والسلام فأنشده الرحم أن يكف عنه ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش فلما احتبس عنهم قال أبو جهل: يا معشر قريش ما أرى عقبة إلا قد صبا إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأعجبه طعامه وما ذاك إلا من حاجة أصابته انتقلوا بنا إليه فأتوه فقال أبو جهل: والله يا عتبة ما حسبنا إلا أنك صبوت إلى محمد وأعجبك أمره فإن كنت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن محمد صلى الله عليه وسلم فغضب وأقسم بالله تعالى لا يكلم محمدا عليه الصلاة والسلام أبدا وقال: لقد علمتم أني أكثر قريش مالا ولكني أتيته فقص عليهم القصة فأجابني بشيء والله ما هو بسحر ولا شعر ولا كهانة قرأ بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا حتى أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود فأمسكت بفيه وناشدته الرحم فكف وقد علمتم أن محمدا صلى الله عليه وسلم إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب» فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ شروع في تفصيل ما لكل واحدة من الطائفتين من الجناية والعذاب، ولتفرع التفصيل على الإجمال قرن بفاء السببية، وبدىء بقصة عاد لأنها أقدم زمانا أي فأما عاد فتعظموا في الأرض التي لا ينبغي التعظم فيها على أهلها بِغَيْرِ الْحَقِّ أي بغير استحقاق للتعظم. وقيل: تعظموا عن امتثال أمر الله عزّ وجلّ وقبول ما جاءتهم به الرسل وَقالُوا اغترارا بقوتهم: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أي لا أشد منا قوة فالاستفهام إنكاري، وهذا بيان لاستحقاقهم العظمة وجواب الرسل عما خوفوهم به من العذاب، وكانوا ذوي أجسام طوال وخلق عظيم وقد بلغ من قوتهم أن الرجل كان ينزع الصخرة من الجبل ويرفعها بيده أَوَلَمْ يَرَوْا أي أغفلوا ولم ينظروا أو ولم يعلموا علما جليا شبيها بالمشاهدة والعيان أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً قدرة فإنه تعالى قادر بالذات مقتدر على ما لا يتناهى قوي على ما لا يقدر عليه غيره عزّ وجلّ مفيض للقوة والقدر على كل قوي وقادر، وفي هذا إيماء إلى أن ما خوفهم به الرسل ليس من عند أنفسهم بناء على قوة منهم وإنما هو من الله تعالى خالق القوى والقدر وهم يعلمون أنه عزّ وجلّ أشد قوة منهم، وتفسير القوة بالقدرة لأنه أحد معانيها كما يشير إليه كلام الراغب. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 363 وزعم بعضهم أن القوة عرض ينزه الله تعالى عنه لكنها مستلزمة للقدرة فلذا عبر عنها بها مشاكلة. وأورد في حيز الصلة خَلَقَهُمْ دون خلق السماوات والأرض لادعائهم الشدة في القوة، وفيه ضرب من التهكم بهم وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ أي ينكرونها وهم يعرفون حقيتها وهو عطف على فَاسْتَكْبَرُوا أو قالُوا فجملة أَوَلَمْ يَرَوْا إلخ مع ما عطف هو عليه اعتراض، وجوز أن يكون هو وحده اعتراضا والواو اعتراضية لا عاطفة. فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً قال مجاهد: شديدة السموم فهو من الصر بفتح الصاد بمعنى الحر، وقال ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي: باردة تهلك بشدة بردها من الصر بكسر الصاد وهو البرد الذي يصر أي يجمع ظاهر الجزء: 12 ¦ الصفحة: 364 جلد الإنسان ويقبضه والأول أنسب لديار العرب، وقال السدي أيضا وأبو عبيدة وابن قتيبة والطبري وجماعة: مصوتة من صريصر إذا صوت، وقال ابن السكيت: صرصر يجوز أن يكون من الصرة وهي الصيحة ومنه فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ [الذاريات: 29] وفي الحديث أنه تعالى أمر خزنة الريح ففتحوا عليهم قدر حلقة الخاتم ولو فتحوا قدر منخر الثور لهلكت الدنيا، وروي أنها كانت تحمل العير بأوقارها فترميهم في البحر فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ جمع نحسة بكسر الحاء صفة مشبهة من نحس نحسا كعلم علما نقيض سعد سعدا. وقرأ الحرميان وأبو عمرو والنخعي وعيسى والأعرج «نحسات» بسكون الحاء فاحتمل أن يكون مصدرا وصف به مبالغة، واحتمل أن يكون صفة مخففا من فعل كصعب. وفي البحر تتبعت ما ذكره التصريفيون مما جاء صفة من فعل اللازم فلم يذكروا فيه فعلا بسكون العين وإنما ذكروا فعلا بالكسر كفرح وأفعل كأحور وفعلان كشبعان وفاعلا كسالم، وهو صفة أَيَّامٍ وجمع بالألف والتاء لأنه صفة لما لا يعقل، والمراد بها مشائيم عليهم لما أنهم عذبوا فيها، فاليوم الواحد يوصف بالنحس والسعد بالنسبة إلى شخصين فيقال له سعد بالنسبة إلى من ينعم فيه، ويقال له نحس بالنسبة إلى من يعذب، وليس هذا مما يزعمه الناس من خصوصيات الأوقات، لكن ذكر الكرماني في مناسكه عن ابن عباس أنه قال: الأيام كلها لله تعالى لكنه سبحانه خلق بعضها نحوسا وبعضها سعودا، وتفسير نَحِساتٍ بمشائيم مروي عن مجاهد وقتادة والسدي، وقال الضحاك: أي شديدة البرد حتى كأن البرد عذاب لهم، وأنشد الأصمعي في النحس بمعنى البرد: كأن سلافه مزجت بنحس وقيل: نحسات ذوات غبار، وإليه ذهب الجبائي ومنه قول الراجز: قد اغتدي قبل طلوع الشمس ... للصيد في يوم قليل النحس يريد قليل الغبار، وكانت هذه الأيام من آخر شباط وتسمى أيام العجوز، وكانت فيما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة آخر شوال من الأربعاء إلى الأربعاء، وروي ما عذب قوم إلا في يوم الأربعاء، وقال السدي: أولها غداة يوم الأحد، وقال الربيع بن أنس: يوم الجمعة لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أضيف العذاب إلى الخزي وهو الذل على قصد وصفه به لقوله تعالى: وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وهو في الأصل صفة المعذب وإنما وصف به العذاب على الإسناد المجازي للمبالغة، فإنه يدل على أن ذل الكافر زاد حتى اتصف به عذابه كما قرر في قولهم: شعر شاعر، وهذا في مقابلة استكبارهم وتعظمهم. وقرىء «لتذيقهم» بالتاء على أن الفاعل ضمير الريح أو الأيام النحسات وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ بدفع العذاب عنهم بوجه من الوجوه. وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ قال ابن عباس وقتادة والسدي: أي بينا لهم، وأرادوا بذلك على ما قيل بيان طريقي الضلالة والرشد كما في قوله تعالى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: 10] وهو أنسب بقوله تعالى: فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى أي فاختاروا الضلالة على الهدى فالظاهر في أنه بين لهم الطريقان فاختاروا أحدهما، وصرح ابن زيد بذلك فقد حكي عنه أنه قال: أي أعلمناهم الهدى من الضلال، وفسر غير واحد الهداية هنا بالدلالة أي فدللناهم على الحق بنصب الحجج وإرسال الرسل فاختاروا الضلال ولم يفسروها بالدلالة الموصلة لإباء ظاهر فَاسْتَحَبُّوا إلخ عنه. واستدل المعتزلة بهذه الآية على أن الإيمان باختيار العبد على الاستقلال بناء على أن قوله تعالى: (هديناهم) دل على نصب الأدلة وإزاحة العلة، وقوله تعالى: فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى إلخ دل على أنهم بأنفسهم آثروا العمى. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 365 والجواب كما في الكشف أن في لفظ الاستحباب ما يشعر بأن قدرة الله تعالى هي المؤثرة وأن لقدرة العبد مدخلا ما فإن المحبة ليست اختيارية بالاتفاق وإيثار العمى حبا وهو الاستحباب من الاختيارية، فانظر إلى هذه الدقيقة تر العجب العجاب، وإلى نحوه أشار الإمام الداعي إلى الله تعالى قدس سره، ومعنى كون المحبة ليست اختيارية إنها بعد حصول ما تتوقف عليه من أمور اختيارية تكون بجذب الطبيعة من غير اختيار للشخص في ميل قلبه وارتباط هواه بمن يحبه، فهي نفسها غير اختيارية لكنها باعتبار مقدماتها اختيارية، ولذلك كلفنا بمحبة الله تعالى ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي طوق الحمامة لابن سعيد أن المحبة ميل روحاني طبيعي، وإليه يشير قوله عزّ وجلّ: وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها [الأعراف: 189] أي يميل فجعل علة ميلها كونها منها، وهو المراد بقوله عليه الصلاة والسلام: «الأرواح جنود مجندة» وتكون المحبة لأمور أخر كالحسن والإحسان والكمال، ولها آثار يطلق عليها محبة كالطاعة والتعظيم، وهذه هي التي يكلف بها لأنها اختيارية فاعرفه. وقرأ ابن وثاب والأعمش وبكر بن حبيب «وأما ثمود» بالرفع مصروفا. وقد قرأ الأعمش وابن وثاب بصرفه في جميع القرآن إلا في قوله تعالى: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ [الإسراء: 59] لأنه في المصحف بغير ألف. وقرأ ابن أبي إسحاق وابن هرمز بخلاف عنه والمفضل، قال ابن عطية: والأعمش وعاصم وروي عن ابن عباس «ثمودا» بالنصب والتنوين، وروى المفضل عن عاصم الوجهين والمنع عن الصرف للعلمية والتأنيث على إرادة القبيلة، ومن صرفه جعله اسم رجل، والنصب على جعله من باب الإضمار على شريطة التفسير، ويقدر الفعل الناصب بعده لأن أما لا يليها في الغالب إلا اسم. وقرىء بضم الثاء على أنه جمع ثمد وهو قلة الماء فكأنهم سموا بذلك لأنهم كانوا يسكنون في الرمال بين حضرموت وصنعاء وكانوا قليلي الماء فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ أي الذل وهو صفة للعذاب أو بدل منه، ووصفه به مصدرا للمبالغة وكذا إضافة صاعقة إلى العذاب فيفيد ذلك أن عذابهم عين الهون وأن له صاعقة، والمراد بالصاعقة النار الخارجة من السحاب كما هو المعروف، وسبب حدوثها العادي مشهور في كتب الفلسفة القديمة وقد تكلم في ذلك أهل الفلسفة الجديدة المتداولة اليوم في بلاد الروم وما قرب منها فقالوا في كيفية انفجار الصاعقة: من المعلوم أن انطلاق الكهربائية التي في السحاب وهي قوة مخصوصة في الأجسام نحو قوة الكهرباء التي بها تجذب التبنة ونحوها إليها إنما يحصل باتحاد كهربائية الأجسام مع بعضها فإذا قرب السحاب من الأجسام الأرضية طلبت الكهربائية السحابية أن تتحد بالكهربائية الأرضية فتتبجس بينهما شرارة كهربائية فتصعق الأجسام الأرضية، وتتفاوت قوة الصاعقة باختلاف الاستحالة البخارية فليست في جميع البلاد والفصول واحدة، وأوضحوا ذلك بكلام طويل من أراده فليرجع إليه في كتبهم، وقيل: المراد بالصاعقة هنا الصيحة كما وردت في آيات أخر، ولا مانع من الجمع بينهما. وقرأ ابن مقسم «الهوان» بفتح الهاء وألف بعد الواو بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من اختيار الضلالة على الهدى، وهذا تصريح بما تشعر به الفاء وَنَجَّيْنَا من تلك الصاعقة الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ بسبب إيمانهم واستمرارهم على التقوى، والمراد بها تقوى الله عز وجل، وقيل: تقوى الصاعقة والمتقي عذاب الله تعالى متق لله سبحانه وليس بذاك وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ شروع في بيان عقوباتهم الآجلة بعد ذكر عقوباتهم العاجلة، والتعبير عنهم بأعداء الله تعالى لذمهم والإيذان بعلة ما يحيق بهم من ألوان العذاب وقيل: المراد بهم الكفار من الأولين والآخرين. وتعقب بأن قوله تعالى الآتي: فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ [فصلت: 25] كالصريح في إرادة الكفرة المعهودين، والمراد من قوله تعالى: إِلَى النَّارِ قيل: إلى موقف الحساب، والتعبير عنه بالنار للإيذان بأن النار عاقبة حشرهم وأنهم على شرف دخولها، ولا مانع من إبقائه على ظاهره والقول بتعدد الشهادة فتشهد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 366 عليهم جوارحهم في الموقف مرة وعلى شفير جهنم أخرى، ويَوْمَ إما منصوب باذكر مقدر معطوف على قوله تعالى: فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً [فصلت: 12] أو ظرف لمضمر مؤخر قد حذف إيهاما لقصور العبارة عن تفصيله، وقيل: ظرف لما يدل عليه قوله تعالى: فَهُمْ يُوزَعُونَ أي يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا وهو كناية عن كثرتهم، وقيل: يساقون ويدفعون إلى النار، والفاء تفصيلية. وقرأ زيد بن علي ونافع والأعرج وأهل المدينة «نحشر» بالنون «أعداء» بالنصب وكسر الأعرج الشين. وقرىء «يحشر» على البناء للفاعل وهو الله تعالى ونصب «أعداء الله» وقوله تعالى: حَتَّى إِذا ما جاؤُها أي النار جميعا غاية ليحشر أو ليوزعون أي حتى إذا حضروها، وما مزيدة لتأكيد اتصال الشهادة بالحضور لأنها تؤكد ما زيدت بعده فهي تؤكد معنى إذا، وإِذا دالة على اتصال الجواب بالشرط لوقوعهما فى زمان واحد، وهذا مما لا تعلق له بالنحو حتى يضر فيه أن النحاة لم يذكروه كما شنع به أبو حيان وأكد لأنهم ينكرونه، وفي الكلام حذف والتقدير حتى إذا ما جاؤوها وسألوا عما أجرموا فأنكروا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ واكتفى عن المحذوف بذكر الشهادة لاستلزامها إياه، ولا يأبى التقدير تأكيد الاتصال إذ يكفي للاتصال وقوع ذلك في مجلس واحد، والظاهر أن الجلود هي المعروفة، وقيل: هي الجوارح كني بها عنها، وقيل: كني بها عن الفروج، قيل: وعليه أكثر المفسرين منهم ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وفي الإرشاد أنه الأنسب بتخصيص السؤال في قوله تعالى: وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا فإن ما تشهد به من الزنا أعظم جناية وقبحا واجلب للخزي والعقوبة مما يشهد به السمع والأبصار من الجنايات المكتسبة بتوسطهما وفيه نظر ولعل إرادة الظاهر أولى، ولعل تخصيص السؤال بالجلود لأنها بمرأى منهم بخلاف السمع والبصر أو لأنها هي مدركة العذاب بالقوة المودعة فيها كما يشعر به قوله تعالى: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ [النساء: 56] قال الجلبي، ثم نقل عن العلامة الثاني في ذلك أن الشهادة من الجلود أعجب وأبعد إذ ليس شأنها الإدراك بخلاف السمع والبصر، وتعقبه بقوله: فيه نظر فإن الجلد محل القوة اللامسة التي هي أهم الحواس للحيوان كما أن السمع والبصر محل السامعة والباصرة والذي ينطق الأعيان دون الأعراض ثم إن اللامسة تشتمل على الذائقة التي هي الأهم بعد اللامسة، ثم قال: ويلوح بما قررناه وجه آخر للتخصيص فإن الأهمية للإنسان والاشتمال على أهم من غيرها يصلح أن يكون مخصصا، فانقلاب ما يرجون منه أكمل النفع أعجب ومثله أحق بالتوبيخ من غيره. واعترض عليه بأن رده على العلامة لم يصادف محزه إذ ليس المراد مما ذكره من أنها ليس من شأنها الإدراك إلا إدراك أنواع المعاصي التي يشهد عليها كالكفر والكذب والقتل والزنا مثلا وإدراك مثلها منحصر في السمع والبصر. وأنت تعلم بعد طي كشح البحث في هذا الجواب أن ما ذكره العلامة لا يناسب ظاهر السؤال أعني لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا وأولى ما قيل من أوجه التخصيص: إن المدافعة عن الجلود أزيد من المدافعة عن السمع والبصر فإن جلد الإنسان الواحد لو جزىء لزاد على ألف سمع وبصر وهو يدافع عن كل جزء ويحذر أن يصيبه ما يشينه فكانت الشهادة من الجلود عليهم أعجب وأبعد عن الوقوع. وفي الحديث- إن أول ما ينطق من الإنسان فخذه اليسرى ثم تنطق الجوارح فيقول: تبا لك فعنك كنت أدافع، ووجه إفراد السمع قد مر أول التفسير، ووجه الاقتصار على السمع والبصر والجلد أشار إليه أبو حيان قال: لما كانت الحواس خمسة السمع والبصر والشم والذوق واللمس وكان الذوق مندرجا في اللمس إذ بمماسة جلد اللسان الرطب للمذوق يحصل إدراك طعم المذوق وكان حس الشم ليس فيه تكليف لا أمر ولا نهي وهو ضعيف اقتصر من الحواس الجزء: 12 ¦ الصفحة: 367 على السمع والبصر واللمس، وللبحث فيه مجال. وكأني بك تختار أن المراد بالجلود ما سوى السمع والأبصار وأن ذكر السمع لما أنه وسيلة إدراك أكثر الآيات التنزيلية وذكر الأبصار لما أنها وسيلة إدراك أكثر الآيات التكوينية. وقد أشير إلى كل في قوله تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ على وجه، وأن شهادتهما فيما يتعلق بالكفر، فيشهد السمع عليهم أنهم كذبوا بالآيات التنزيلية التي جاء بها الرسل وسمعوها منهم، والأبصار أنهم لم يعبئوا بالآيات التكوينية التي أبصروها وكفروا بما تدل عليه، ولعل شهادة الجلود فيما يتعلق بما سوى الكفر من المعاصي التي نهى عنها الرسل عليهم السلام كالزنا مثلا، وجوز أن تكون شهادة السمع بإدراك الآيات التنزيلية والأبصار بإدراك الآيات التكوينية والجلود بالكفر بما يقتضيه كل وبالمعاصي الآخر، ولا بعد في شمول ما كانُوا يَعْمَلُونَ لإدراك الآيات والاحساس بها بقسميها فتدبر. ولعل قوله تعالى: لِمَ شَهِدْتُمْ سؤال عن العلة الموجبة، وصيغة جمع العقلاء في شَهِدْتُمْ وما بعد مع أن المراد منه ليس من ذوي العقول لوقوع ذلك في موقع السؤال والجواب المختصين بالعقلاء. وقرأ زيد بن عليّ «لم شهدتن» بضمير المؤنثات قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ أي أنطقنا الله تعالى وأقدرنا على بيان الواقع فشهدنا عليكم بما عملتم من القبائح وما كتمنا، وحيث كان معنى السؤال لأي علة موجبة شهدتم؟ صلح ما ذكر جوابا له، وقيل: لا قصد هنا للسؤال أصلا وإنما القصد إلى التعجب ابتداء لأن التعجب يكون فيما لا يعلم سببه وعلته فالسؤال عن العلة المستلزم لعدم معرفتها جعل مجازا أو كناية عن التعجب، فقد قيل: إذا ظهر السبب بطل العجب فكأنه قيل: ليس نطقنا بعجب من قدرة الله تعالى الذي أنطق كل شيء وأيا ما كان فالنطق على معناه الحقيقي كما هو الظاهر وكذا الشهادة، ولا يقال: الشاهد أنفسهم والسمع والأبصار والجلود آلات كاللسان فما معنى شَهِدْتُمْ عَلَيْنا لأنه يقال: ليس المراد هذا النوع من النطق الذي يسند حقيقة إلى جملة الشخص ويكون غيره آلة بلا قدرة وإرادة له في نفسه حتى لو أسند إليه كان مجازا كإسناد الكتابة إلى القلم بل هو نطق يسند إلى العضو حقيقة فيكون نفسه ناطقا بقدرة وإرادة خلقهما الله تعالى فيه كما ينطق الشخص بالآلة، وكيف لا وأنفسهم كارهة لذلك منكرة له، وقيل: الناطق هم بتلك الأعضاء إلا أنهم لا يقدرون على دفع كونها آلات ولذا نسبت الشهادة عليهم إليها وليس بشيء، وجوز بعضهم أن يكون النطق مجازا عن الدلالة فالمراد بالشهادة ظهور علامات على الأعضاء دالة على ما كانت ملتبسة به في الدنيا بتغيير أشكالها ونحوه مما يلهم الله تعالى من رآه أنها تلبست به في الدنيا لارتفاع الغطاء في الآخرة، وهو خلاف ظاهر الآيات والأحاديث ولا داعي إليه، وعلى الظاهر لا بد من تخصيص كُلَّ شَيْءٍ بكل حي نطق إذ ليس كل شيء ولا كل حي ينطق بالنطق الحقيقي ومثل هذا التخصيص شائع، ومنه ما قيل في وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 284، آل عمران: 29، المائدة: 19، 40، التوبة: 39] وتُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ [الأحقاف: 25] ، وجوز أن يكون النطق في أَنْطَقَنَا بمعناه الحقيقي ويحمل النطق في أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ على الدلالة فيبقى العام على عمومه ولا يحتاج إلى التخصيص المذكور ويكون التعبير بالنطق للمشاكلة وهو خلاف الظاهر، والموصول المشعر بالعلية يأباه إباء ظاهرا، وقوله تعالى: وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يحتمل أن يكون من تمام كلام الجلود ومقول القول ويحتمل أن يكون مستأنفا من كلامه عزّ وجلّ والأول أظهر، والمراد على كل حال تقرير ما قبله بأن القادر على الخلق أول مرة قادر على الانطاق، وصيغة المضارع إذا كان الخطاب يوم القيامة مع أن الرجع فيه متحقق لا مستقبل لما أن المراد بالرجع ليس مجرد الرد إلى الحياة بالبعث بل ما يعمه وما يترتب عليه من العذاب الخالد المرتقب عند التخاطب على تغليب المتوقع على الواقع، وجوز أن تكون لاستحضار الصورة مع ما في ذلك الجزء: 12 ¦ الصفحة: 368 من مراعاة الفواصل، وقوله تعالى: وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ حكاية لما سيقال لهم يومئذ من جهته تعالى بطريق التوبيخ والتقريع تقريرا لجواب الجلود، واستظهر أبو حيان أنه من كلام الجوارح وأَنْ يَشْهَدَ مفعول له بتقدير مضاف أي ما كنتم تستترون في الدنيا عند مباشرتكم الفواحش مخافة أو كراهة أن تشهد عليكم جوارحكم بذلك أي ليس استتاركم للخوف مما ذكر أو لكراهته وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ أي ولكن لأجل ظنكم أن الله تعالى لا يعلم كثيرا مما تعملون وهو ما عملتم خفية فلا يظهره سبحانه يوم القيامة وينطق الجوارح به فلذا سعيتم في الاستتار عن الخلق دون الخالق عزّ وجلّ أو هو بتقدير حرف جر متعلق بتستترون فقيل: هو الباء والمستتر عنه الجوارح، والمعنى ما استترتم عنها بملابسة أن تشهد عليكم أي تتحمل الشهادة إذ ما ظننتم أنها تشهد عليكم بل ظننتم أن الله سبحانه لا يعلم فلذا لم يكن استتاركم بهذا السبب، وقيل: هو عن والمعنى لم يمكنكم الاستتار عن الجوارح لئلا تتحمل الشهادة عليكم حين ترتكبون ما ترتكبون لكن ظننتم ما ظننتم. وقيل: أَنْ تَشْهَدَ مفعول له والمستتر عنه الجوارح أي ما تستترون عن جوارحكم مخافة أن تشهد عليكم لكن ظننتم إلخ، وقيل: إن تَسْتَتِرُونَ ضمن معنى الظن فعدي تعديته أي ما كنتم تستترون ظانين شهادة الجوارح عليكم، ويؤيده قول قتادة: أي ما كنتم تظنون أن تشهد عليكم إلخ، والحق أن هذا بيان لحاصل المعنى. أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وجماعة عن ابن مسعود قال: كنت مستترا بأستار الكعبة فجاء ثلاثة نفر قرشي وثقفيان أو ثقفي وقرشيان كثير لحم بطونهم قليل عفة قلوبهم فتكلموا بكلام لم أسمعه فقال أحدهم: أترون الله يسمع كلامنا هذا؟ فقال الآخر: إنا إذا رفعنا أصواتنا يسمعه وإذا لم نرفع لم يسمع فقال الآخر: إن سمع منه شيئا سمعه كله قال: فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ- إلى قوله سبحانه- مِنَ الْخاسِرِينَ فالحكم المحكي حينئذ يكون خاصا بمن كان على ذلك الاعتقاد من الكفر لكنه قليل في الكفرة. وفي الإرشاد لعل الأنسب أن يراد بالظن معنى مجازي يعم معناه الحقيقي وما يجري مجراه من الأعمال المنبئة عنه كما في قوله تعالى: يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ [الهمزة: 3] ليعم ما حكي من الحال جميع أصناف الكفرة فتدبر. وفي الآية تنبيه على أن المؤمن ينبغي أن لا يمر عليه حال إلا بملاحظة أن عليه رقيبا كما قال أبو نواس: إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل ... خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبنّ الله يغفل ساعة ... ولا أن ما يخفى عليه يغيب وَذلِكُمْ إشارة إلى ظنهم المذكور في ضمن قوله سبحانه: ظَنَنْتُمْ وما فيه من معنى البعد للإيذان بغاية بعد منزلته في الشر والسوء، وهو مبتدأ وقوله تعالى: ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ بدل منه، وقوله سبحانه: أَرْداكُمْ أي أهلككم خبره، وجوز أن يكون ظَنُّكُمُ خبر أو أَرْداكُمْ خبرا بعد خبر. ورده أبو حيان بأن ذلِكُمْ إشارة إلى ظنهم السابق فيصير التقدير وظنكم بربكم أنه لا يعلم ظنكم بربكم فما استفيد من الخبر هو ما استفيد من المبتدأ وهو لا يجوز كقولهم: سيد الجارية مالكها وقد منعه النحاة. وأجيب بأنه لا يلزم ما ذكر لجواز جعل الإشارة إلى الأمر العظيم في القباحة فيختلف المفهوم باختلاف العنوان ويصح الحمل كما في هذا زيد، ولو سلم فالاتحاد مثله في قوله: أنا أبو النجم وشعري شعري مما يدل على الكمال في الحسن كما في هذا المثال أو في القبح كما في الجملة المذكورة، وقيل: المراد منه التعجب والتهكم، وقد يراد من الخبر غير فائدة الخبر ولازمها. واختار الجزء: 12 ¦ الصفحة: 369 بعضهم في الجواب ما أشار إليه ابن هشام في شرح- بانت سعاد- وبسط الكلام فيه من أن الفائدة كما تحصل من الخبر تحصل من صفته وقيده كالحال، وجوز في جملة أَرْداكُمْ أن تكون حالا بتقدير قد أو بدونه، والموصول في جميع الأوجه صفة ظَنُّكُمُ وقيل: الثلاثة أخبار فلا تغفل فَأَصْبَحْتُمْ بسبب ذلك الظن السوء الذي أهلككم مِنَ الْخاسِرِينَ إذ صار ما أعطوا من الجوارح لنيل السعادة في الدنيا والآخرة لأن بها تعيشهم في الدنيا وإدراكهم ما يهتدون به إلى اليقين ومعرفة رب العالمين الموصل للسعادة الأخروية سببا للشقاء في الدارين حيث أداهم إلى كفران نعم الرازق والكفر بالخالق والانهماك في الغفلات وارتكاب المعاصي واتباع الشهوات فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ أي محل ثواء وإقامة أبدية لهم بحيث لا براح لهم منها، وترتيب الجزاء على الشرط لأن التقدير أن يصبروا والظن أن الصبر ينفعهم لأنه مفتاح الفرج لا ينفعهم صبرهم إذا لم يصادف محله فإن النار محلهم لا محالة، وقيل: في الكلام حذف والتقدير أو لا يصبروا كقوله تعالى: فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ [الطور: 16] وقيل: المراد فإن يصبروا على ترك دينك واتباع هواهم فالنار مثوى لهم وليس بذاك، والالتفات للإيذان باقتضاء حالهم أن يعرض عنهم ويحكي سوء حالهم للغير أو للإشعار بإبعادهم عن حيز الخطاب والقائهم في غيابة دركات النار وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا أي يسألوا العتبى وهي الرجوع إلى ما يحبونه جزعا مما هم فيه فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ أي المجابين إليها. وقال الضحاك: المراد إن يعتذروا فما هم من المعذورين: وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وموسى الأسواري «وإن يستعتبوا» مبنيا للمفعول «فما هم من المعتبين» اسم فاعل أي إن طلب منهم أن يرضوا ربهم فما هم فاعلون ولا يكون ذلك لأنهم قد فارقوا الدنيا دار الأعمال كما قال صلى الله عليه وسلم: «ليس بعد الموت مستعتب» ويحتمل أن تكون هذه القراءة بمعنى قوله عزّ وجلّ: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الأنعام: 28] . وَقَيَّضْنا لَهُمْ أي قدرنا، وفي البحر أي سببنا لهم من حيث لم يحتسبوا وقيل: سلطنا وكلنا عليهم قُرَناءَ جمع قرين أي أخدانا وأصحابا من غواة الجن، وقيل: منهم ومن الإنس يستولون عليهم استيلاء القيض وهو القشر على البيض، وقيل: أصل القيض البدل ومنه المقايضة للمعاوضة فتقييض القرين للشخص إما لاستيلائه عليه أو لأخذه بدلا عن غيره من قرنائه فَزَيَّنُوا لَهُمْ حسنوا وقرروا في أنفسهم ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ قال ابن عباس: من أمر الآخرة حيث ألقوا إليهم أنه لا جنة ولا نار ولا بعث وَما خَلْفَهُمْ من أمر الدنيا من الضلالة والكفر واتباع الشهوات، وقال الحسن: ما بين أيديهم من أمر الدنيا وما خلفهم من أمر الآخرة، وقال الكلبي: ما بين أيديهم أعمالهم التي يشاهدونها وما خلفهم ما هم عاملوه في المستقبل ولكل وجهة، ولعل الأحسن ما حكي عن الحسن وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي ثبت وتقرر عليهم كلمة العذاب وتحقق موجبها ومصداقها وهي قوله تعالى لإبليس فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 85] . فِي أُمَمٍ حال من الضمير المجرور أي كائنين في جملة أمم، وقيل: فِي بمعنى مع ويحتمل المعنيين قوله: إن تك عن أحسن الصنيعة مأ ... فوكا ففي آخرين قد أفكوا وفي البحر لا حاجة للتضمين مع صحة معنى في، وتنكير أُمَمٍ للتكثير أي في أمم كثيرة قَدْ خَلَتْ أي مضت مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ على الكفر والعصيان كدأب هؤلاء إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ تعليل لاستحقاقهم العذاب والضمير لهم وللأمم، وجوز كونه لهم بقرينة السياق وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا من رؤساء المشركين لأعقابهم أو قال بعضهم لبعض: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ أي لا تنصتوا له. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 370 أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة إذا قرأ القرآن يرفع صوته فكان المشركون يطردون الناس عنه ويقولون: لا تسمعوا لهذا القرآن وَالْغَوْا فِيهِ وأتوا باللغو عند قراءته ليتشوش على القارئ، والمراد باللغو ما لا أصل له وما لا معنى له، وكان المشركون عند قراءته عليه الصلاة والسلام يأتون بالمكاء والصفير والصياح وإنشاد الشعر والأراجيز، وقال أبو العالية أي قعوا فيه وعيبوه، وفي كتاب ابن خالويه قرأ عبد الله بن بكر السهمي وقتادة وأبو حيوة وأبو السمال والزعفراني وابن أبي إسحاق وعيسى بخلاف عنهما «وألغوا» بضم الغين مضارع لغا بفتحها وهما لغتان يقال لغى يلغي كرضى يرضي ولغا يلغو كعدا يعدو إذا هذى، وقال صاحب اللوامح: يجوز أن يكون الفتح من لغى بالشيء يلغي به إذا رمى به فيكون فِيهِ بمعنى به أي ارموا به وانبذوه لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ أي تغلبونه على قراءته أو تطمون أمره وتميتون ذكره فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي فو الله لنذيقن هؤلاء القائلين، والإظهار في مقام الإضمار للإشعار بالعلية أو جميع الكفار وهم يدخلون فيه دخولا أوليا. عَذاباً شَدِيداً لا يقادر قدره وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أي جزاء سيئات أعمالهم التي هي في أنفسها أسوأ- فأفعل- للزيادة المطلقة، وقيل: إنه سبحانه لا يجازيهم بمحاسن أعمالهم كإغاثة الملهوفين وصلة الأرحام وقرى الأضياف لأنها محبطة بالكفر، والعذاب إما في الدارين أو في إحداهما، وعن ابن عباس عذابا شديدا يوم بدر وأسوأ الذي كانوا يعملون في الآخرة. ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من الجزاء وهو مبتدأ وقوله تعالى: جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ خبره أي ما ذكر من الجزاء جزاء معد لأعدائه تعالى، وقوله سبحانه: النَّارُ عطف بيان لجزاء أو بدل أو خبر لمبتدأ محذوف. وجوز أن يكون ذلك خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك وجَزاءُ مبتدأ والنَّارُ خبره، والإشارة حينئذ إلى مضمون الجملة السابقة، وقوله تعالى: لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جملة مستقلة مقررة لما قبلها، وجوز أن يكون النَّارُ مبتدأ وهذه الجملة خبره أي هي بعينها دار إقامتهم على أن في للتجريد كما قيل: في قوله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21] وقول الشاعر: وفي الله إن لم ينصفوا حكم عدل وهو أن ينتزع من أمر ذي صفة آخر مثله مبالغة فيها، وجوز أن يقال: المقصود ذكر الصفة والدار إنما ذكرت توطئة فكأنه قيل: لهم فيها الخلود، وقيل: الكلام على ظاهره والظرفية حقيقية، والمراد أن لهم في النار المشتملة على الدركات دار مخصوصة هم فيها خالدون والأول أبلغ. جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ منصوب بفعل مقدر أي يجزون جزاء أو بالمصدر السابق فإن المصدر ينتصب بمثله كما في قوله تعالى: فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً [الإسراء: 63] والباء الأولى متعلقة بجزاء والثانية بيجحدون قدمت عليه لقصد الحصر الإضافي مع ما فيه من مراعاة الفواصل أي بسبب ما كانوا يجحدون بآياتنا الحقة دون الأمور التي ينبغي جحودها، وجعل بعضهم الجحود مجازا عن اللغو المسبب عنه أي جزاء بما كانوا بآياتنا يلغون وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا وهم متقلبون فيما ذكر من العذاب. رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يعنون فريقي شياطين النوعين المقيضين لهم الحاملين لهم على الكفر والمعاصي بالتسويل والتزيين، وعن علي كرم الله وجهه وقتادة أنهما إبليس وقابيل فإنهما سببا الكفر والقتل بغير حق. وتعقب بأنه لا يصح عن علي كرم الله تعالى وجهه فإن قابيل مؤمن عاص، والظاهر أن الكفار إنما طلبوا إراءة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 371 المضلين بالكفر المؤدي إلى الخلود وكونهم رئيس الكفرة ورئيس أهل الكبائر خلاف الظاهر، وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب وأبو بكر «أرنا» بالتخفيف كفخذ بالسكون في فخذ، وفي الكشاف «أرنا» بالكسر للاستبصار وبالسكون للاستعطاء ونقله عن الخليل، فمعنى القراءة عليه أعطنا اللذين أضلانا نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا ندوسهما بها انتقاما منهما، وقيل: نجعلهما في الدرك الأسفل من النار ليشتد عذابهما فالمراد نجعلهما في الجهة التي تحت أقدامنا، وقرىء في السبعة «اللذين» بتشديد النون وهي حجة على البصريين الذين لا يجوزون التشديد فيها في حال كونها بالياء وكذا في اللتين وهذين وهاتين لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ ذلا ومهانة أو مكانا. إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ شروع في بيان حسن أحوال المؤمنين في الدنيا والآخرة بعد بيان سوء حال الكفرة فيهما أي قالوه اعترافا بربوبيته تعالى وإقرارا بوحدانيته كما يشعر به الحصر الذي يفيده تعريف الطرفين كما في صديقي زيد ثُمَّ اسْتَقامُوا ثم ثبتوا على الإقرار ولم يرجعوا إلى الشرك، فقد روي عن الصديق رضي الله تعالى عنه أنه تلا الآية وهي قد نزلت على ما روي عن ابن عباس ثم قال: ما تقولون فيها؟ قالوا: لم يذنبوا قال: قد حملتم الأمر على أشده قالوا: فما تقول؟ قال: لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان. وعن عمر رضي الله تعالى عنه استقاموا الله تعالى بطاعته لم يروغوا روغان الثعالب، وعن عثمان رضي الله تعالى عنه أخلصوا العمل، وعن الأمير علي كرم الله وجهه أدوا الفرائض ، وقال الثوري: عملوا على وفاق ما قالوا، وقال الفضيل: زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية، وقال الربيع: أعرضوا عما سوى الله تعالى، وفي الكشاف أي ثم ثبتوا على الإقرار ومقتضياته وأراد أن من قال: ربي الله تعالى فقد اعترف أنه عزّ وجلّ مالكه ومدبر أمره ومربيه وأنه عبد مربوب بين يدي مولاه فالثبات على مقتضاه أن لا تزل قدمه عن طريق العبودية قلبا وقالبا ولا يتخطاه وفيه يندرج كل العبادات والاعتقادات ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لمن طلب أمرا يعتصم به: «قل ربي الله تعالى ثم استقم» وذكر أن ما ورد عن الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم جزئيات لهذا المعنى ذكر كل منها على سبيل التمثيل ولا يخفى أن كلام الصديق رضي الله تعالى عنه يبعد كون ما ذكره على سبيل التمثيل، ولعل ثُمَّ على هذا للتراخي الرتبي فإن الاستقامة عليه أعظم وأصعب من الإقرار وكذا يقال على أغلب التفاسير السابقة وجوز أن تكون للتراخي الزماني لأنها تحصل بعد مدة من وقت الإقرار، وجعلت على تفسير الاستقامة بأداء الفرائض أو بالعمل للتراخي الرتبي أيضا بناء على أن الإقرار مبدأ الاستقامة على ذلك ومنشؤها، وهذا على عكس التراخي الرتبي الذي سمعته أولا لأن المعطوف عليه فيه أعلى مرتبة من المعطوف إذ هو العمدة والأساس، وعلى ما تقدم المعطوف أعلى مرتبة من المعطوف عليه كما لا يخفى تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ من الله ربهم عزّ وجلّ الْمَلائِكَةُ قال مجاهد والسدي: عند الموت، وقال مقاتل: عند البعث، وعن زيد بن أسلم عند الموت وفي القبر وعند البعث، وقيل: تتنزل عليهم يمدونهم فيما يعن ويطرأ لهم من الأمور الدينية والدنيوية بما يشرح صدورهم ويدفع عنهم الخوف والحزن بطريق الإلهام كما أن الكفرة يغويهم ما قيض لهم من قرناء السوء بتزيين القبائح، قيل: وهذا هو الأظهر لما فيه من الإطلاق والعموم الشامل لتنزلهم في المواطن الثلاث السابقة وغيرها، وقد قمنا لك أن جميعا من الناس يقولون: بتنزل الملائكة على المتقين في كثير من الأحايين وأنهم يأخذون منهم ما يأخذون فتذكر. أَلَّا تَخافُوا ما تقدمون عليه فإن الخوف غم يلحق لتوقع المكروه وَلا تَحْزَنُوا على ما خلفتم فإنه غم يلحق لوقوعه من فوات نافع أو حصول ضار وروي هذا عن مجاهد، وقال عطاء بن أبي رباح: لا تخافوا رد حسناتكم فإنها مقبولة ولا تحزنوا على ذنوبكم فإنها مغفورة، وقيل: المراد نهيهم عن الغموم على الإطلاق. والمعنى أن الله تعالى كتب لكم الأمن من كل غم فلن تذوقوه أبدا و (أن) إما مصدرية و (لا) ناهية أو الجزء: 12 ¦ الصفحة: 372 نافية وسقوط النون للنصب والخبر في موضع الإنشاء مبالغة، وإما مخففة من الثقيلة وتَتَنَزَّلُ مضمن معنى العلم ولا ناهية وأن في الوجهين مقدرة بالباء أي بأن لا تخافوا أو بأنه لا تخافوا والهاء ضمير الشأن. وإما مفسرة وتَتَنَزَّلُ مضمن معنى القول ولا ناهية أيضا. وفي قراءة عبد الله «لا تخافوا» بدون (أن) أي يقولون لا تخافوا على أنه حال من الملائكة أو استئناف. وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ أي التي كنتم توعدونها في الدنيا على ألسنة الرسل عليهم السلام، هذا من بشاراتهم في أحد المواطن الثلاثة، وقوله تعالى: نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا إلى آخره من بشاراتهم في الدنيا أي أعوانكم في أموركم نلهمكم الحق ونرشدكم إلى ما فيه خيركم وصلاحكم، ولعل ذلك عبارة عما يخطر ببال المؤمنين المستمرين على الطاعات من أن ذلك بتوفيق الله تعالى وتأييده لهم بواسطة الملائكة عليهم السلام، ويجوز على قول بعض الناس أن تقول الملائكة لبعض المتقين شفاها في غير تلك المواطن: نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ نمدكم بالشفاعة ونتلقاكم بالكرامة حين يقع بين الكفرة وقرنائهم ما يقع من الدعاوى والخصام. وذهب بعض المفسرين على أن هذا من بشاراتهم في أحد المواطن الثلاثة أيضا على معنى كنا نحن أولياؤكم في الدنيا ونحن أولياؤكم في الآخرة، وقيل: هذا من كلام الله تعالى دون الملائكة أي نحن أولياؤكم بالهداية والكفاية في الدنيا والآخرة وَلَكُمْ فِيها أي في الآخرة ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ من فنون الملاذ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ ما تتمنون وهو افتعال من الدعاء بمعنى الطلب أي تدعون لأنفسكم وهو عند بعض أعم من الأول لأنه قد يقع الطلب في أمور معنوية وفضائل عقلية روحانية، وقيل: بينهما عموم وخصوص من وجه إذ قد يشتهي المرء ما لا يطلبه كالمريض يشتهي ما يضره ولا يريده، وكون التمني أعم من الإرادة غير مسلم، نعم قيل: إذا أريد بالمتمنى ما يصح تمنيه لا ما يتمنى بالفعل فذاك. وقال ابن عيسى: المراد ما تدعون أنه لكم فهو لكم بحكم ربكم وَلَكُمْ في الموضعين خبر وما مبتدأ وفِيها حال من ضميره في الخبر وعدم الاكتفاء بعطف ما تَدَّعُونَ على ما تَشْتَهِي للإيذان باستقلال كل منهما نُزُلًا قال الحسن: منّا وقال بعضهم: ثوابا، وتنوينه للتعظيم وكذا وصفه بقوله تعالى: مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ والمشهور أن النزل ما يهيأ للنزيل أي الضيف ليأكله حين نزوله وتحسن إرادته هنا على التشبيه لما في ذلك من الإشارة إلى عظم ما بعد من الكرامة، وانتصابه على الحال من الضمير في الظرف الراجع إلى ما تَدَّعُونَ لا من الضمير المحذوف الراجع إلى ما لفساد المعنى لأن التمني والادعاء ليس في حال كونه نزلا بل ثبت لهم ذلك المدعي واستقر حال كونه نزلا، وجعله حالا من المبدأ نفسه لا يخفى حاله على ذي تمييز. وقال ابن عطية: نُزُلًا نصب على المصدر، والمحفوظ أن مصدر نزل نزول لا نزل، وجعله بعضهم مصدرا لأنزل، وقيل: هو جمع نازل كشارف وشرف فينتصب على الحال أيضا أي نازلين، وذو الحال على ما قال أبو حيان: الضمير المرفوع في تَدَّعُونَ ولا يحسن تعلق مِنْ غَفُورٍ به على هذا القول فقيل: هو في موضع الحال من الضمير في الظرف فلا تغفل. وقرأ أبو حيوة «نزلا» بإسكان الزاي وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ أي إلى توحيده تعالى وطاعته والظاهر العموم في كل داع إليه تعالى، وإلى ذلك ذهب الحسن ومقاتل وجماعة، وقيل: بالخصوص فقال ابن عباس: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنه أيضا هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وقالت عائشة وقيس بن أبي حازم وعكرمة ومجاهد: نزلت الجزء: 12 ¦ الصفحة: 373 في المؤذنين، وينبغي أن يتأول قولهم على أنهم داخلون في الآية وإلا فالسورة بكمالها مكية بلا خلاف ولم يكن الأذان بمكة إنما شرع بالمدينة، والتزام القول بتأخر حكمها عن نزولها كما ترى، والظاهر أن المراد الدعاء باللسان، وقيل: به وباليد كأن يدعو إلى الإسلام ويجاهد، وقال زيد بن علي: دعا إلى الله بالسيف، ولعل هذا والله تعالى أعلم هو الذي حمله على الخروج بالسيف على بعض الظلمة من ملوك بني أمية، وكان زيد هذا رضي الله تعالى عنه عالما بكتاب الله تعالى وله تفسير ألقاه على بعض النقلة عنه وهو في حبس هشام بن عبد الملك وفيه من العلم والاستشهاد بكلام العرب حظ وافر. ويقال: إنه كان إذا تناظر هو وأخوه محمد الباقر اجتمع الناس بالمحابر يكتبون ما يصدر عنهما من العلم رحمهما الله تعالى ورضي عنهما، والاستفهام في معنى النفي أي لا أحد أحسن قولا ممن دعا إلى الله وَعَمِلَ صالِحاً أي عملا صالحا أي عمل صالح كان. وقال أبو أمامة: صلى بين الأذان والإقامة، ولا يخفى ما فيه، وقال عكرمة: صلى وصام، وقال الكلبي: أدى العرائض والحق العموم وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي تلفظ بذلك ابتهاجا بأنه منهم وتفاخرا به مع قصد الثواب إذ هو لا ينافيه أو جعل واتخذ الإسلام دينا له من قولهم: هذا قول فلان أي مذهبه ومعتقده، وبعضهم يرجع الوجهين إلى وجه واحد، والمعنى على القول بكون الآية خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم اختار النسبة إلى الإسلام دون عز الدنيا وشرفها وهو قولهم رد لا تسمعوا لهذا القرآن وتعجب منه، وقرأ ابن أبي عبلة وإبراهيم بن نوح عن قتيبة الميال «وقال إنّي» بنون مشددة دون نون الوقاية. واستدل أبو بكر بن العربي بالآية على عدم اشتراط الاستثناء في قول القائل: أنا مسلم أو أنا مؤمن. وفي الآية إشارة إلى أنه ينبغي للداعي إلى الله تعالى أن يكون عاملا عملا صالحا ليكون الناس إلى قبول دعائه أقرب وإليه أسكن. وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ جملة مستأنفة سيقت لبيان محاسن الأعمال الجارية بين العباد إثر بيان محاسن الأعمال الجارية بين العبد والرب عزّ وجلّ ترغيبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الصبر على أذية المشركين ومقابلة إساءتهم بالإحسان، والحكم عام أي لا تستوي الخصلة الحسنة والسيئة في الآثار والأحكام، ولا الثانية مزيدة لتأكيد النفي مثلها في قوله تعالى: وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ [فاطر: 21] لأن استوى لا يكتفي بمفرد وقوله تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ استئناف مبين لحسن عاقبة الحسنة أي ادفع السيئة حيث اعترضتك من بعض أعاديك بالتي هي أحسن منها وهي الحسنة على أن المراد بالأحسن الزائد مطلقا أو بأحسن ما يمكن دفعها به من الحسنات كالإحسان إلى من أساء فإنه أحسن من مجرد العفو فأحسن على ظاهره والمفضل عليه عام ولذا حذف كما في الله تعالى أكبر، وإخراجه مخرج الجواب عن سؤال من قال: كيف أصنع؟ للمبالغة والإشارة إلى أنه مهم ينبغي الاعتناء به والسؤال عنه، وللمبالغة أيضا وضع أَحْسَنُ موضع الحسنة لأن من دفع بالأحسن هان عليه الدفع بما دونه، ومما ذكرنا يعلم أن ليس المراد بالحسنة والسيئة أمرين معينين. وعن علي كرم الله تعالى وجهه الحسنة حب الرسول وآله عليهم الصلاة والسلام والسيئة بغضهم ، وعن ابن عباس الحسنة لا إله إلا الله والسيئة الشرك، وقال الكلبي: الدعوتان إليهما، وقال الضحاك: الحلم والفحش، وقيل: الصبر، وقيل: المدارة والغلظة، وقيل غير ذلك، ولا يخفى أن بعض المروي يكاد لا تصح إرادته هنا فلعله لم يثبت عمن روي عنه، وجوز أن يكون المراد بيان تفاوت الحسنات والسيئات في أنفسهما بمعنى أن الحسنات تتفاوت إلى حسن وأحسن والسيئات كذلك فتعريف الحسنة والسيئة للجنس ولا الثانية ليست مزيدة وأفعل على ظاهره، والكلام في ادْفَعْ إلخ على معنى الفاء أي إذا كان كل من الجنسين الجزء: 12 ¦ الصفحة: 374 متفاوت الإفراد في نفسه فادفع بأحسن الحسنتين السيء والأسوأ، وترك الفاء للاستئناف الذي ذكرنا وهو أقوى الوصلين ولعل الأول أقرب فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ بيان لنتيجة الدفع المأمور به أي فإذا فعلت ذلك صار عدوك المشاق مثل الولي الشفيق. قال ابن عطية: دخلت (كأن) المفيدة للتشبيه لأن العدو لا يعود وليا حميما بالدفع بالتي هي أحسن وإنما يحسن ظاهره فيشبه بذلك الولي الحميم ولعل ذلك من باب الاكتفاء بأقل اللازم وهذا بالنظر إلى الغالب وإلا فقد تزول العداوة بالكلية بذلك كما قيل: إن العداوة تستحيل مودة ... بتدارك الهفوات بالحسنات والَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ أبلغ من عدوك ولذا اختير عليه مع اختصاره، والآية قيل: نزلت في أبي سفيان ابن حرب كان عدوا مبينا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فصار عند أهل السنة وليا مصافيا وكأن ما عنده انتقل إلى ولد ولده يزيد عليه من الله عزّ وجلّ ما يستحق وَما يُلَقَّاها أي ما يلقى ويؤتى هذه الفعلة والخصلة الشريفة التي هي الدفع بالتي هي أحسن فالضمير راجع لما يفهم من السياق، وجوز رجوعه للتي هي أحسن، وحكى مكي أن الضمير لشهادة أن لا إله إلا الله فكأنه أرجع للتي هي أحسن وفسرت بالشهادة المذكورة ومع هذا هو كما ترى، وقيل: الضمير للجنة وليس بشيء. وقرأ طلحة وابن كثير في رواية «وما يلاقاها» من الملاقاة إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا أي الذين فيهم طبيعة الصبر وشأنهم ذلك وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ذو نصيب عظيم من خصال الخير وكمال النفس كما روي عن ابن عباس، وقال قتادة: ذو حظ عظيم من الثواب، وقيل: الحظ العظيم الجنة، وعليهما فهو وعد وعلى الأول هو مدح، وكرر وَما يُلَقَّاها تأكيدا لمدح تلك الفعلة الجميلة الجليلة ولأوحد أهل عصره الذي بخل الزمان أن يأتي بمثله صالح أفندي كاتب ديوان الإنشاء في الحدباء في هذه الآية عبارة مختصرة التزم الدقة فيها رحمة الله تعالى عليه وهي قوله تعالى: وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا الآية يمكن أن يؤخذ من الأول ما هو من أول الأول لا الثاني للاتفاق فيتحقق الأشرف بعد إعطاء المقام حقه فيتحقق الحابس أنه مجدود فيقف عند الحد المحدود انتهت. وأراد والله تعالى أعلم أنه يمكن أن يؤخذ من الأول أي قوله تعالى: وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا ومن الثاني وهو قوله سبحانه: وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ما أي شكل هو من أول ضروب الشكل الأول الأربعة وهو قياس منه مركب من موجبتين كليتين ينتج موجبة كلية بأن يقال: كل صابر هو الذي يلقاها وكل من يلقاها فهو ذو حظ عظيم ينتج كل صابر هو ذو حظ عظيم، ولا يمكن أن يؤخذ قياس من الشكل الثاني للاتفاق في الكيف وشرط الشكل الثاني اختلاف المقدمتين فيه كما هو مقرر في محله فيتحقق بعد الأخذ وتركيب المقدمتين الأمر الأشرف أي النتيجة التي هي موجبة كلية وهي أشرف المحصورات الأربع لاشتمالها على الإيجاب الأشرف من السلب والكلية الأشرف من الجزئية بعد إعطاء المقام حقه من جعل الموصول للاستغراق كما أشير إليه ليفيد الكلية فعند ذلك يتحقق ويعلم الحابس أي الصابر أنه مجدود أي ذو جد وحظ فيقف عند الحد المحدود ولا يتجاوز من الصبر إلى غيره فافهم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 375 وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ النزع النخس وهو المس بطرف قضيب أو أصبع بعنف مؤلم استعير هنا للوسوسة الباعثة على الشر وجعل نازغا للمبالغة على طريقة جد جده- فمن- على هذا ابتدائية، ويجوز أن يراد به نازغ على أن المصدر بمعنى اسم الفاعل وصفا للشيطان- فمن- بيانية والجار والمجرور في موضع الحال أو هي ابتدائية أيضا لكن على سبيل التجريد، وجوز أن يكون المراد بالنازغ وسوسة الشيطان و «إن» شرطية و «ما» مزيدة أي وإن ينزغنك ويصرفنك الشيطان عما وصيت به من الدفع بالتي هي أحسن فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ من شره ولا تطعه إِنَّهُ عزّ وجلّ هُوَ السَّمِيعُ فيسمع سبحانه استعاذتك الْعَلِيمُ فيعلم جل شأنه نيتك وصلاحك، وقيل: السميع لقول من أذاك العليم بفعله فينتقم منه مغنيا عن انتقامك، وقيل: العليم بنزغ الشيطان، وفي جعل ترك الدفع من آثار نزغات الشيطان مزيد تحذير وتنفير عنه، ولعل الخطاب من باب إياك أعني واسمعي يا جارة. وجوز أن يراد بالشيطان ما يعم شيطان الإنس فإن منهم من يصرف عن الدفع بالتي هي أحسن ويقول: إنه عدوك الذي فعل بك كيت وكيت فانتهز الفرصة فيه وخذ ثأرك منه لتعظم في عينه وأعين الناس ولا يظن فيك العجز وقلة الهمة وعدم المبالاة إلى غير ذلك من الكلمات التي ربما لا تخطر أبدا ببال شيطان الجن نعوذ بالله تعالى السميع العليم من كل شيطان، وفسر عبد الرحمن بن زيد النزغ بالغضب واستدل بالآية على استحباب الاستعاذة عنده. وقد روى الحاكم عن سليمان بن صرد قال: استبّ رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فاشتد غضب أحدهما فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الغضب. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فقال الرجل: أمجنونا تراني؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله» . ولعل الغضب من آثار الوسوسة وَمِنْ آياتِهِ الدالة على شؤونه الجليلة جل شأنه: اللَّيْلُ وَالنَّهارُ في حدوثهما وتعاقبهما وإيلاج كل منهما في الآخر وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ في استنارتهما واختلافهما في قوة النور والعظم والآثار والحركات مثلا، وقدم ذكر الليل قيل: تنبيها على تقدمه مع كون الظلمة عدما، وناسب ذكر الشمس بعد النهار لأنها آيته وسبب تنويره ولأنها أصل لنور القمر بناء على ما قالوا من أنه مستفاد من ضياء الشمس، وأما ضياؤها فالمشهور أنه غير طارئ عليها من جرم آخر، وقيل: هو من العرش، والفلاسفة اليوم يظنون أنه من جرم آخر وادعوا أنهم يرون في طرف من جرم الشمس ظلمة قليلة لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ لأنها من جملة مخلوقاته سبحانه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 376 وتعالى المسخّرة على وفق إرادته تعالى مثلكم وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ الضمير قيل للأربعة المذكورة والمقصود تعليق الفعل بالشمس والقمر لكن نظم معهما الليل والنهار إشعارا بأنهما من عداد ما لا يعلم ولا يختار ضرورة أن الليل والنهار كذلك ولو ثني الضمير لم يكن فيه إشعار بذلك. وحكم جماعة ما لا يعقل- على ما قال الزمخشري- حكم الأنثى فيقال: الأقلام بريتها وبريتهن فلا يتوهم أن الضمير لما كان لليل والنهار والشمس والقمر كان المناسب تغليب الذكور، والجواب بأنه لما كن من الآيات عدت كالإناث تكلف عنه غنى بالقاعدة المذكورة. نعم قال أبو حيان: ينبغي أن يفرق بين جمع القلة من ذلك وجمع الكثرة فإن الأفصح والأفصح في الأول أن يكون بضمير الواحد تقول الأجذاع انكسرت على الأفصح في الثاني أن يكون بضمير الإناث تقول الجذوع انكسرن وما في الآية ليس بجمع قلة بلفظ واحد لكنه منزل منزلة المعبر عنه به، وقيل: الضمير للشمس والقمر والاثنان جمع وجمع ما لا يعقل يؤنث، ومن حيث يقال شموس وأقمار لاختلافهما بالأيام والليالي ساغ أن يعود الضمير إليهما جمعا، وقيل: الضمير للآيات المتقدم ذكرها في قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ فإن السجود أقصى مراتب العبادة فلا بد من تخصيصه به عزّ وجلّ، وكان علي كرم الله تعالى وجهه. وابن مسعود يسجدان عند تَعْبُدُونَ ونسب القول بأنه موضع السجدة للشافعي، وسجد عند لا يَسْأَمُونَ ابن عباس وابن عمر وأبو وائل وبكر بن عبد الله، وكذلك روي عن ابن وهب ومسروق والسلمي والنخعي وأبي صالح وابن وثاب والحسن وابن سيرين وأبي حنيفة رضي الله تعالى عنهم، ونقله في التحرير عن الشافعي رضي الله تعالى عنه وفي الكشف أصح الوجهين عند أصحابنا- يعني الشافعية- أن موضع السجدة لا يَسْأَمُونَ كما هو مذهب الإمام أبي حنيفة، ووجهه أنها تمام المعنى على أسلوب اسجد فإن الاستكبار عند مذموم، وعلله بعضهم بالاحتياط لأنها إن كانت عند تَعْبُدُونَ جاز التأخير لقصر الفصل، وإن كانت عند يَسْأَمُونَ لم يجز تعجيلها فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا تعاظموا عن اجتناب ما نهوا عنه من السجود لتلك المخلوقات وامتثال ما أمروا به من السجود لخالقهن فلا يعبأ بهم أو فلا يخل ذلك بعظمة ربك فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ أي في حضرة قدسه عزّ وجلّ من الملائكة عليهم السلام الذين هم خير منهم يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي دائما وإن لم يكن عندهم ليل ونهار وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ لا يملون ذلك، وجواب الشرط في الحقيقة ما أشرنا إليه أو نحوه وما ذكر قائم مقامه، ويجوز أن يكون الكلام على معنى الإخبار كما قيل في نحو إن أكرمتني اليوم فقد أكرمتك أمس أنه على معنى فأخبرك إني قد أكرمتك أمس. وقرئ «لا يسأمون» بكسر الياء، والظاهر أن الآية في أناس من الكفرة كانوا يسجدون للشمس والقمر كالصابئين في عبادتهم الكواكب ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لهما السجود لله تعالى فنهوا عن هذه الواسطة وأمروا أن يقصدوا بسجودهم وجه الله تعالى خالصا. واستدل الشيخ أبو إسحاق في المهذب بالآية على صلاتي الكسوف والخسوف قال: لأنه لا صلاة تتعلق بالشمس والقمر غيرهما وأخذ من ذلك تفضيلهما على صلاة الاستسقاء لكونهما في القرآن بخلافها وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى يا من تصح منه الرؤية: الْأَرْضَ خاشِعَةً يابسة متطامنة مستعار من الخشوع بمعنى التذلل فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ أي المطر اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ أي تحركت بالنبات وانتفخت لأن النبت إذا دنا أن يظهر ارتفعت له الأرض وانتفخت ثم تصدعت عن النبات، ويجوز أن يكون في الكلام استعارة تمثيلية شبه حال جدوبة الأرض وخلوها عن النبات ثم إحياء الله تعالى إياها بالمطر وانقلابها من الجدوبة إلى الخصب وإنبات كل زوج بهيج بحال شخص كئيب كاسف البال رث الهيئة لا يؤبه به ثم إذا أصابه شيء من متاع الدنيا وزينتها تكلف بأنواع الزينة والزخارف فيختال في مشيه زهوا فيهتز بالأعطاف خيلاء وكبرا فحذف المشبه واستعمل الخشوع الجزء: 12 ¦ الصفحة: 377 والاهتزاز دلالة على مكانه ورجح اعتبار التمثيل. وقرئ «ربأت» أي زادت، وقال الزجاج: معنى ربت عظمت وربأت بالهمز ارتفعت ومنه الربيئة وهي طليعة على الموضع المرتفع إِنَّ الَّذِي أَحْياها بما ذكر بعد موتها لَمُحْيِ الْمَوْتى بالبعث إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الأشياء التي من جملتها الأحياء قَدِيرٌ مبالغة في القدرة. إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا ينحرفون في تأويل آيات القرآن عن جهة الصحة والاستقامة فيحملونها على المحامل الباطلة، وهو مراد ابن عباس بقوله: يضعون الكلام في غير موضعه، وأصله من ألحد إذا مال عن الاستقامة فحفر في شق ويقال لحد. وقرئ «يلحدون» و «يلحدون» باللغتين، وقال قتادة: هنا الإلحاد التكذيب، وقال مجاهد: المكاء والصفير واللغو فالمعنى يميلون عما ينبغي ويليق في شأن آياتنا فيكذبون القرآن أو فيلغون ويصفرون عند قراءته، وجوز أن يراد بالآيات ما يشمل جميع الكتب المنزلة وبالإلحاد ما يشمل تغيير اللفظ وتبديله لكن ذلك بالنسبة إلى غير القرآن لأنه لم يقع فيه كما وقع في غيره من الكتب على ما هو الشائع. وعن أبي مالك تفسير الآيات بالأدلة فالإلحاد في شأنها الطعن في دلالتها والاعراض عنها، وهذا أوفق بقوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً إلخ، وما تقدم أوفق بقوله سبحانه: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت: 26] وبما بعد، والآية على تفسير مجاهد أوفق وأوفق. والمراد بقوله تعالى: لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا مجازاتهم على الإلحاد فالآية وعيد لهم وتهديد، وقوله تعالى: أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ تنبيه على كيفية الجزاء، وكان الظاهر أن يقابل الإلقاء في النار بدخول الجنة لكنه عدل عنه إلى ما في النظم الجليل اعتناء بشأن المؤمنين لأن الأمن من العذاب أعم وأهم ولذا عبر في الأول بالإلقاء الدال على القسر والقهر وفيه بالإتيان الدال على أنه بالاختيار والرضا مع الأمن ودخول الجنة لا ينفي أن يبدل حالهم من بعد خوفهم أمنا، وجوز أن تكون الآية من الاحتباك بتقدير من يأتي خائفا ويلقى في النار ومن يأتي آمنا ويدخل الجنة فحذف من الأول مقابل الثاني ومن الثاني مقابل الأول وفيه بعد. والآية كما قال ابن بحر عامة في كل كافر ومؤمن. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ أبو جهل أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وأخرج عبد الرزاق وغيره عن بشير بن تميم من يلقى في النار أبو جهل ومن يأتي آمنا عمار، والآية نزلت فيهما، وقال مقاتل: نزلت في أبي جهل وعثمان بن عفان، وقيل: فيه وفي عمر، وقيل: فيه وفي حمزة، وقال الكلبي: فيه وفي الرسول صلى الله عليه وسلم اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ تهديد شديد للكفرة الملحدين الذين يلقون في النار وليس المقصود حقيقة الأمر إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيكم بحسب أعمالكم. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ وهو القرآن لَمَّا جاءَهُمْ من غير أن يمضي عليهم زمان يتأملون فيه ويتكفرون وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يوجد نظيره أو منيع لا تتأتى معارضته، وأصل العز حالة مانعة للإنسان عن أن يغلب، وإطلاقه على عدم النظير مجاز مشهور وكذا كونه منيعا، وقيل: غالب للكتب لنسخه إياها. وعن ابن عباس أي كريم على الله تعالى والجملة حالية مفيدة لغاية شناعة الكفر به، وقوله تعالى: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ صفة أخرى لكتاب، وما بين يديه وما خلفه كناية عن جميع الجهات كالصباح والمساء كناية عن الزمان كله أي لا يتطرق إليه الباطل من جميع جهاته، وفيه تمثيل لتشبيهه بشخص حمي من جميع جهاته فلا يمكن أعداءه الوصول إليه لأنه في حصن حصين من حماية الحق المبين، وجوز أن يكون المعنى لا يأتيه الباطل من جهة ما أخبر به من الأخبار الماضية والأمور الآتية. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 378 وقيل: الباطل بمعنى المبطل كوارس بمعنى مورس أو هو مصدر كالعافية بمعنى مبطل أيضا وقوله تعالى: تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ أي محمود على ما أسدى من النعم التي منها تنزيل الكتاب، وحمده سبحانه: بلسان الحال متحقق من كل منعم عليه وبلسان القال متحقق ممن وفق لذلك خبر مبتدأ محذوف أو صفة أخرى لكتاب مفيدة لفخامته الإضافية كما أن الصفتين السابقتين مفيدتان لفخامته الذاتية. وقوله تعالى: لا يَأْتِيهِ إلخ اعتراض عند من لا يجوز تقديم غير الصريح من الصفات على الصريح كل ذلك لتأكيد بطلان الكفر بالقرآن، واختلفوا في خبر إِنَّ أمذكور هو أو محذوف فقيل: مذكور وهو قوله تعالى: أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ وهو قول أبي عمرو بن العلاء في حكاية جرت بينه وبين بلال بن أبي بردة سئل بلال في مجلسه عن هذا فقال: لم أجد لها نفاذا فقال له أبو عمرو: إنه منك لقريب أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ وذهب إليه الحوفي وهو في مكان بعيد، وذهب أبو حيان إلى أنه قوله تعالى: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ بحذف العائد أي الكافرون وحاله أنه كتاب عزيز لا يأتيه الباطل منهم أي متى راموا إبطالا له لم يصلوا إليه أو بجعل أل في الباطل عوضا من الضمير به على قول الكوفين أي لا يأتيه باطلهم أو قوله سبحانه: ما يُقالُ لَكَ إلخ والعائد أيضا محذوف أي ما يقال لك في شأنهم أو فيهم إلا ما قد قيل للرسل من قبلك أي أوحى إليك في شأن هؤلاء المكذبين لك ولما جئت به مثل ما أوحى إلي من قبلك من الرسل وهو أنهم عاقبتهم سيئة في الدنيا بالهلاك وفي الآخرة بالعذاب الدائم ثم قال: وغاية ما في هذين التوجيهين حذف الضمير العائد وهو موجود نحن السمن منوان بدرهم والبر كر بدرهم أي منه. ونقل عن بعض نحاة الكوفة أن الخبر في قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ وتعقبه بأنه لا يتعقل، وقيل: هو محذوف وخبر إِنَّ يحذف لفهم المعنى، وسأل عيسى بن عمر عمرو بن عبيد عن ذلك فقال عمرو: معناه في التفسير أن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم كفروا به وأنه لكتاب عزيز فقال عيسى: أجدت يا أبا عثمان. وقال قوم: تقديره معاندون أو هالكون، وقال الكسائي: قد سد مسده ما تقدم من الكلام قبل وهو قوله تعالى: أَفَمَنْ يُلْقى وكأنه يريد أنه محذوف دل عليه ما قبله فيمكن أن يقدر يخلدون في النار، ويقدر الخبر على ما استحسنه ابن عطية بعد حَمِيدٍ وفي الكشاف أنه قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ بدل من قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا قال في البحر: ولم يتعرض بصريح الكلام إلى خبر إِنَّ أمذكور هو أو محذوف لكنه قد يدعي أنه أشار إلى ذلك فإن المحكوم به على المبدل منه هو المحكوم به على البدل فيكون التقدير إن الذين يلحدون في آياتنا إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم لا يخفون علينا. وفي الكشف فائدة هذا الإبدال التنبيه على أنه ما يحملهم على الإلحاد إلا مجرد الكفر، وفيه إمداد التحذير من وجوه ما ذكر من التنبيه ووضع الذكر موضع الضمير الراجع إلى الآيات زيادة تحسير لهم، وما في لَمَّا من معنى مفاجأتهم بالكفر أول ما جاء، وما فيه من التعظيم لشأن الآيات والتمهيد للحديث عن كمال الكتاب الدال على سوء مغبة الملحد فيه، ثم الأشبه أن يحمل كلام الكشاف على أن الخبر محذوف لدلالة السابق عليه ولزيادة التهويل لذهاب الوهم كل مذهب وتكون الجملة بدلا عن الجملة لأن البدل بتكرير العامل إنما جوز في المجرور لشدة الاتصال انتهى فتأمل والله تعالى الموفق ما يُقالُ لَكَ إلى آخره تسلية له صلى الله عليه وسلم عما يصيبه من أذية الكفار من طعنهم في كتابه وغير ذلك فالقائل الكفار أي ما يقول كفار قومك في شأنك وشأن ما أنزل إليك من القرآن إِلَّا ما قَدْ قِيلَ أي مثل ما قد قال الكفرة السابقون لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ من الكلام المؤذي المتضمن للطعن فيما أنزل إليهم، وهذا نظير قوله تعالى: كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [الذاريات: 52] . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 379 وقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ قيل: تعليل لما يستفاد من السياق من الأمر بالصبر كأنه قيل: ما يقال لك إلا نحو ما قيل لأمثالك من الرسل فاصبر كما صبروا إن ربك لذو مغفرة عظيمة لأوليائه وذو عقاب أليم لأعدائهم فينصر أولياءه وينتقم من أعدائهم، أو جواب سؤال مقدر كأنه قيل: ثم ماذا؟ فقيل: إن ربك لذو مغفرة لأوليائه وذو عقاب أليم لأعدائهم وقد نصر لذلك من قبلك من الرسل عليهم السلام وانتقم من أعدائهم وسيفعل ذلك بك وبأعدائك أيضا، وجوز أن يكون القائل هو الله تعالى والمعنى على ما سمعت عن أبي حيان وقد جعل هذه الجملة خبر إِنَّ أي ما يوحي الله تعالى إليك في شأن الكفار المؤذين لك إلا مثل ما أوحى للرسل من قبلك في شأن الكفار المؤذين لهم من أن عاقبتم سيئة في الدنيا بالهلاك وفي الآخرة بالعذاب الأليم فاصبر إن ربك إلخ، وقد يجعل إِنَّ رَبَّكَ إلخ باعتبار مضمونه تفسيرا للمقول فحاصل المعنى ما أوحى إليك وإلى الرسل إلا وعد المؤمنين بالمغفرة والكافرين بالعقوبة دون العكس الذي يزعمه الكفرة بلسان حالهم فاصبر فسينجز الله تعالى وعده، وقيل: المقول هو الشرائع أي ما يوحى إليك إلا مثل ما أوحى إلى الرسل من الشرائع دون أمور الدنيا وقد جرت عادة الكفار بتكذيب ذلك فما عليك إذا كذب كفار قومك واصبر على ذلك، وجعل إِنَّ رَبَّكَ إلخ تعليلا لما يستفاد من السياق أيضا، وجعله بعضهم تفسيرا لذلك المقول أعني الشرائع لأنها الأوامر والنواهي الإلهية وهي مجملة فيه، وفيه من البعد ما فيه، وإلى نحو ما ذكرناه أولا ذهب قتادة. أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال في الآية: ما يُقالُ لَكَ من التكذيب إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ فكما كذبوا كذبت وكما صبروا على أذى قومهم لهم فاصبر على أذى قومك لك، واختيار أَلِيمٍ على شديد مع أنه أنسب بالفواصل للإيماء إلى أن نظم القرآن ليس كالأسجاع والخطب وأن حسنه ذاتي والنظر فيه إلى المعاني دون الألفاظ، ويحسن وصف العقاب به هنا كون العقاب جزاء التكذيب المؤلم وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا جواب لقولهم: هلا أنزل القرآن بلغة العجم، والضمير الذكر لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ أي بينت لنا وأوضحت بلسان نفقهه، وقوله تعالى: ءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ بهمزتين الأولى للاستفهام والثاني همزة أعجمي والجمهور يقرؤون بهمزة استفهام بعدها مدة هي همزة أعجمي إنكار مقرر للتحضيض أي كلام أعجمي ورسول أو مرسل إليه عربي، وحاصله أنه لو نزل كما يريدون لأنكروا أيضا وقالوا ما لك وللعجمة أو ما لنا وللعجمة، والأعجمي أصله أعجم بلا ياء ومعناه من لا يفهم كلامه للكنته أو لغرابة لغته وزيدت الياء للمبالغة كما في أحمري ودواري وأطلق على كلامه مجازا لكنه اشتهر حتى التحق بالحقيقة، وزعم صاحب اللوامح أن الياء فيه بمنزلة ياء كرسي وهو وهم، وقيل: عَرَبِيٌّ على احتمال أن يكون المراد ومرسل إليه عربي مع أن المرسل إليهم جمع فحقه أن يقال: عربية أو عربيون لأن المراد بيان التنافي والتنافر بين الكلام وبين المخاطب به لا بيان كون المخاطب به واحدا أو جمعا، ومن حق البليغ أن يجرد الكلام للدلالة على ما ساقه له ولا يأتي بزائد عليه إلا ما يشد من عضده فإذا رأى لباسا طويلا على امرأة قصيرة قال: اللباس طويل واللابس قصير دون واللابسة قصيرة لأن الكلام لم يقع في ذكورة اللابس وأنوثته فلو قال لخيل إن لذلك مدخلا فيما سيق له الكلام، وهذا أصل من الأصول يجب أن يكون على ذكر، ويبنى عليه الحذف والإثبات والتقييد والإطلاق إلى غير ذلك في كلام الله تعالى وكل كلام بليغ. وقرأ عمرو بن ميمون «أعجميّ» بهمزة استفهام بفتح العين أي أكلام منسوب إلى العجم وهم من عدا العرب وقد يخص بأهل فارس ولغتهم العجمية أيضا فبين الأعجمي والعجمي عموم وخصوص من وجه، والظاهر أن المراد بالعربي مقابل الأعجمي في القراءة المشهورة ومقابله العجمي في القراءة الأخرى. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 380 وقرأ الحسن وأبو الأسود والجحدري وسلام والضحاك وابن عباس وابن عامر بخلاف عنهما «أعجميّ» بلا استفهام وبسكون العين على أن الكلام اخبار بأن القرآن أعجمي والمتكلم به أو المخاطب عربي. وجوز أن يكون المراد هلا فصلت آياته فجعل بعضها أعجميا لإفهام العجم وبعضها عربيا لإفهام العرب وروي هذا عن ابن جبير فالكلام بتقدير مبتدأ هو بعض أي بعضها أعجمي وبعضها عربي، والمقصود من الجملة الشرطية إبطال مقترحهم وهو كونه بلغة العجم باستلزامه المحذور وهو فوات الغرض منه إذ لا معنى لإنزاله أعجميا على من لا يفهمه أو الدلالة على أنهم لا ينفكون عن التعنت فإذا وجدت الأعجمية طلبوا أمرا آخر وهكذا. قُلْ ردا عليهم هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً يهدي إلى الحق وَشِفاءٌ لما في الصدور من شك وشبهة وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ مبتدأ خبره فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ على أن فِي آذانِهِمْ خبر مقدم ووَقْرٌ مبتدأ أي مستقر في آذانهم وقر أي صمم منه فلا يسمعونه، وقيل: خبر الموصول فِي آذانِهِمْ ووَقْرٌ فاعل الظرف، وقيل: وَقْرٌ خبر مبتدأ محذوف تقديره هو أي القرآن وفِي آذانِهِمْ متعلق بمحذوف وقع حالا من وَقْرٌ. ورجح بأنه أوفق بقوله تعالى: وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ومن جوز العطف على معمولي عاملين عطف الموصول على الموصول الأول ووَقْرٌ على هُدىً على معنى هو للذين آمنوا هدى وللذين لا يؤمنون وقر، وقوله تعالى: فِي آذانِهِمْ ذكر بيانا لمحل الوقر أو حال من الضمير في الظرف الراجع إلى وَقْرٌ والأول أبلغ ويرد عليه بعد الإغماض عما في جواز العطف المذكور من الخلاف أن فيه تنافرا بجعل القرآن نفس الوقر لا سيما وقد ذكر محله وليس كجعله نفس العمى لأنه يقابل جعله نفس الهدى فروعي الطباق ولذا لم يبين محله، وأما الوقر إذا جعل نفس الكتاب فهو كالدخيل ولم يطابق ما ورد في سائر المواضع من التنزيل، وهذا يرد على الوجه الذي قبله أيضا، وجوز ابن الحاجب في الأمالي أن يكون وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى مرتبطا بقوله سبحانه: هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ والتقدير هو للذين آمنوا هدى وعلى الذين لا يؤمنون عمى، وقوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ جملة معترضة على الدعاء، وتعقب بأن هذا وإن جاز من جهة الإعراب لكنه من جهة المعاني مردود لفك النظم، وزعم بعضهم أو ضمير هُوَ عائد على الوقر وهو من العمى كما ترى. وأولى الأوجه ما تقدم وجيء بعلى في عَلَيْهِمْ عَمًى للدلالة على استيلاء العمى عليهم، ولم يذكر حال القلب لما علم من التعريض في قوله سبحانه: لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ بأنه لغيرهم مرض فظيع أُولئِكَ إشارة إلى الموصول الثاني باعتبار اتصافه بما في حيز صلته وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته في الشر مع ما فيه من كمال المناسبة للنداء من مكان بعيد أي أولئك البعداء الموصوفون بما ذكر من التصامّ عن الحق الذي يسمعونه والتعامي عن الآيات التي يشاهدونها يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ تمثيل لهم في عدم فهمهم وانتفاعهم بما دعوا له بمن ينادى من مسافة نائية فهو يسمع الصوت ولا يفهم تفاصيله ولا معانيه أو لا يسمع ولا يفهم، فقد حكى أهل اللغة أنه يقال للذي لا يفهم: أنت تنادي من بعيد، وإرادة هذا المعنى مروية عن علي كرم الله تعالى وجهه . ومجاهد، وعن الضحاك أن الكلام على حقيقته وأنهم يوم القيامة ينادون بكفرهم وقبيح أعمالهم بأقبح أسمائهم من بعد حتى يسمع ذلك أهل الموقف فتعظم السمعة عليهم وتحل المصائب بهم، وحاصل الرد أنه هاد للمؤمنين شاف لما في صدورهم كاف في دفع الشبه فلذا ورد بلسانهم معجزا بيّنا في نفسه مبينا لغيره والذين لا يؤمنون بمعزل عن الانتفاع به على أي حال جاءهم، وقرأ ابن عمر وابن عباس وابن الزبير ومعاوية وعمرو بن العاص وابن هرمز «عم» بكسر الميم وتنوينه، وقال يعقوب القاري وأبو حاتم: لا ندري نوّنوا أم فتحوا الياء على أنه فعل ماض، وبغير تنوين رواها عمرو بن دينار وسليمان الجزء: 12 ¦ الصفحة: 381 بن قتيبة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ كلام مستأنف مسوق لبيان أن الاختلاف في شأن الكتب عادة قديمة للأمم غير مختص بقومك على منهاج قوله تعالى: ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ على ما سمعت أولا أي وبالله لقد آتينا موسى التوراة فاختلف فيها فمن مصدق لها ومكذب وهكذا حال قومك في شأن ما آتيناك من القرآن فمن مؤمن به وكافر وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ في حق أمتك المكذبة وهي العدة بتأخير عذابهم وفصل ما بينهم وبين المؤمنين من الخصومة إلى يوم القيامة بنحو قوله تعالى: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ [القمر: 46] وقوله سبحانه: وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [فاطر: 45] لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ باستئصال المكذبين كما فعل بمكذبي الأمم السالفة وَإِنَّهُمْ أي كفار قومك لَفِي شَكٍّ مِنْهُ أي من القرآن مُرِيبٍ موجب للقلق والاضطراب، وقيل: الضمير الثاني للتوراة والأول لليهود بقرينة السياق لأنهم الذين اختلفوا في كتاب موسى عليه السلام وليس بشيء مَنْ عَمِلَ صالِحاً بأن آمن بالكتب وعمل بموجبها فَلِنَفْسِهِ أي فلنفسه يعمله أو فلنفسه نفعه لا لغيره، ومَنْ يصح فيها الشرطية والموصولية وكذا في قوله تعالى: وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ضره لا على الغير وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله مبني على تنزيل ترك إثابة المحسن بعمله أو إثابة الغير بعمله وتنزيل التعذيب بغير إساءة أو بإساءة غيره منزلة الظلم الذي يستحيل صدوره عنه تعالى ولم يحتج بعضهم إلى التنزيل، وقد مر الكلام في ذلك وفي توجيه النفي والمبالغة فتذكر. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 382 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ أي إذا سئل عنها قيل الله تعالى يعلم أو لا يعلمها إلا الله عزّ وجلّ فالمقصود من هذا الكلام إرشاد المؤمنين في التفصي عن هذا السؤال وكلا الجوابين يلزمه اختصاص علمها به تعالى. أما الثاني فظاهر، وأما فلأنك إذا سئلت عن مسألة وقلت. فلان يعلمه كان فيه نفي عنك كناية وتنبيه على أن فلانا أهل أن يسأل عنه دونك وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها أي من أوعيتها جمع كم بالكسر وهو وعاء كجف الطلعة من كمه إذا ستره وقد يضم وكم القميص بالضم وقرأ الحسن في رواية والأعمش وطلحة وغير واحد من السبعة «من ثمرة» على إرادة الجنس والجمع لاختلاف الأنواع. وقرىء «من ثمرات من أكمامهن» بجميع الضمير أيضا وما نافية ومن الأولى مزيدة لتأكيد الاستغراق والنص عليه ومن الثانية ابتدائية وكذا ما في قوله تعالى: وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ أي حملها، وقوله تعالى: إِلَّا بِعِلْمِهِ في موضع الحال والباء للملابسة أو المصاحبة والاستثناء من أعم الأحوال أي ما يحدث شيء من خروج ثمرة ولا حمل حامل ولا وضع واضع ملابسا أو مصاحبا بشيء من الجزء: 13 ¦ الصفحة: 3 الأشياء إلا مصاحبا أو ملابسا بعلمه المحيط سبحانه واقعا حسب تعلقه به، وجوز في الأولى أن تكون موصولة معطوفة على الساعة أي إليه يرد علم الساعة وعلم ما يخرج ومن الأولى بيانية والجار والمجرور في موضع الحال ومن الثانية على حالها، وتأنيث تَخْرُجُ باعتبار المعنى لأن ما بمعنى ثمرة قيل: ولا يجوز في الثانية ذلك لمكان الاستثناء المفرغ وأجازه بعضهم، ويكفي لصحة التفريغ النفي في قوله تعالى: وَلا تَضَعُ وجملة لا تضع إما حال أو معطوفة على جملة إِلَيْهِ يُرَدُّ إلخ، ولا يخفى عليك أن المتبادر في الموضعين النفي ثم إن الاستثناء متعلق بالكل وتبيين القدر المشترك بين الأفعال الثلاثة وجعله الأصل في تعلق المفرغ كما سمعت لإظهار المعنى والإيماء إلى أنه لا يحتاج في مثله إلى حذف من الأولين أعني ما تخرج وما تحمل وهو قريب من أسلوب. وقد حيل بين العير والنزوان. لأن خرج زيد معناه حدث خروجه كما أن معنى ذلك فعل الحيلولة وليس ذاك من باب الاستثناء المتعقب لجمل والخلاف في متعلقه في شيء لأن ذلك في غير المفرغ فقد ذكر النحويون في باب التنازع وإن كان منفيا بإلا فالحذف ليس إلا ولو كان منه لم يكن من المختلف فيه لاتحاد الجمل في المقصود وظهور قرينة الرجوع إلى الكل، والكلام على ما في شرح التأويلات متصل بأمر الساعة والبعث فإنه لا يعلم هذا كله إلا الله تعالى فذكر هذه الأمور لمناسبتها لعلم الساعة وإن الكل إيجاد بعد العدم بقدرته عزّ وجلّ فيكون كالبرهان على الحشر، وجوز أن يكون متصلا بقوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ [فصلت: 37] إلخ وبقوله سبحانه: وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً [فصلت: 39] إلخ فالمعنى من آيات ألوهيته تعالى وقدرته أن تخرج الثمرات وتحمل الحوامل وتضع حسب علمه جل وعلا، والأول وأقرب. وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي أي بزعمكم كما نص عليه بقوله سبحانه: أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [القصص: 62، 74] وفيه تهكم بهم وتقريع لهم. ويَوْمَ منصوب باذكر أو ظرف بمضمر مؤخر قد ترك إيذانا بقصور البيان عنه كما في قوله تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ [المائدة: 109] وضمير يُنادِيهِمْ عام في كل من عبد غير الله تعالى فيندرج فيه عبدة الأوثان. قالُوا أي أولئك المنادون آذَنَّاكَ أي أعلمناك والمراد بالإعلام هنا الإخبار لأنه تعالى عالم فلا يصح إعلامه بما هو سبحانه عالم به بخلاف الأخبار فإنه يكون للعالم فكأنه قيل أخبرناك ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ أي بأنه ليس منا أحد يشهد لهم بالشركة فالجملة في محل نصب مفعول آذَنَّاكَ وقد علق عنها وفي تعليق باب أعلم وأنبأ خلاف والصحيح أنه مسموع في الفصيح، وشَهِيدٍ فعيل من الشهادة ونفي الشهادة كناية عن التبرؤ منهم لأن الكفرة يوم القيامة أنكروا عبادة غيره تعالى مرة وأقروا بها وتبرءوا عنها مرة أخرى وفسره السمرقندي بالإنكار لعبادتهم غير الله تعالى وشركهم كذبا منهم وافتراء كقوله تعالى حكاية عنهم: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] وظاهر «آذناك» يقتضي سبق الإيذان في جواب أين شركائي وإنما سئلوا ثانيا حتى أجابوا بأنه قد سبق الجواب لأنه توبيخ وفي إعادة التوبيخ من تأكيد أمر الجناية وتقبيح حال من يرتكبها ما لا يخفى، واستظهر أبو حيان أن المراد إحداث إيذان لا إخبار عن إيذان سابق على نحو طلقت وأمثاله، وجوز أن يقال: إنه إخبار بإعلام سابق وذلك الاعلام السابق ما علمه تعالى من بواطنهم يوم القيامة إنهم لم يبقوا على الشرك وعلى تلك الشهادة وكأنه اعلام منهم بلسان الحال وهذا لا يقتضي سبق سؤال ولا جواب وفيه حسن أدب كأنهم يقولون أنت أعلم به ثم يأخذون في الجواب. قال في الكشف: وهذا الوجه هو المختار لاشتماله على النكتة المذكورة وما في الآخرين من سوء الأدب، ويحتمل أن يكون المعنى آذناك بأنه ليس منا أحد يشاهدهم فشهيد من الشهود بمعنى الحضور والمشاهدة ونفي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 4 مشاهدتهم الظاهر أنه على الحقيقة وذلك في موقف وجعل بعض العبدة مقرين بمعبوداتهم في آخر فلا تنافي بينهما، وقيل: هو كناية عن نفي أن يكون له تعالى شريك نحو قولك: لا نرى لك مثلا تريد لا مثل لك لنراه، والكلام في آذَنَّاكَ على ما آذناك، وقيل: ضمير قالُوا للشركاء أي قال الشركاء: ليس منا أحد يشهد لهم بأنهم كانوا محقين فشهيد من الشهادة لا غير، والمراد التبرؤ منهم وفيه تفكيك الضمائر، ومعنى قوله تعالى: وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ على ما قيل: إن شركاءهم الذين كانوا يدعونهم من قبل ويرجون نفعهم غابوا عنهم على أن الضلال على معناه الحقيقي وهو الذي يقابل الوجدان أو أن شركاءهم لم ينفعوهم بشيء على أن الضلال مجاز عن عدم النفع وما اسم موصول عبارة عن الشركاء، ويحسن جمع من يعقل ومن لا يعقل في التعبير بما في مثل هذا المقام، وجوز أن تكون ما عبارة عن القول الذي كانوا يقولونه في شأن الشركاء من أنهم آلهة وشركاء لله سبحانه وتعالى، والمعنى نسوا ما كانوا يقولونه في شأن شركائهم من نسبة الألوهية إليهم. ولك أن تجعلها مصدرية والجملة يحتمل أن تكون حالا وأن تكون اعتراضا، وذكر بعض الأجلة أنه يتعين الأخير على القول بأن ضمير قالُوا للشركاء وكون الضلال مجازا عن عدم النفع فتدبر وَظَنُّوا أي أيقنوا كما قال السدي وغيره لأنه لا احتمال لغيره هنا والظن يكون بمعنى العالم كثيرا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ أي مهرب، والظاهر أن الجملة في محل نصب سادة مسد مفعولي ظن وهي معلقة عنها بحرف النفي، وقيل: تم الكلام عند قوله تعالى: وَظَنُّوا والظن على ظاهره أي وترجح عندهم أن قولهم: ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ منجاة لهم أو أمر يموهون به، والجملة بعد مستأنفة أي لا يكون لهم منجى أو موضع روغان لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ لا يمل ولا يفتر مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ من طلب السعة في النعمة وأسباب المعيشة، ودُعاءِ مصدر مضاف للمفعول وفاعله محذوف أي من دعاء الخير هو. وقرأ عبد الله «من دعاء بالخير» بباء داخلة على الخير وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ الضيقة والعسر فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ أي فهو يؤوس قنوط من فضل الله تعالى ورحمته، وهذا صفة الكافر، والآية نزلت في الوليد بن المغيرة، وقيل: في عتبة بن ربيعة وقد بولغ في يأسه من جهة الصيغة لأن فعولا من صيغ المبالغة ومن جهة التكرار المعنوي فإن القنوط أن يظهر عليه أثر اليأس فيتضاءل وينكسر، ولما كان أثره الدال عليه لا يفارقه كان في ذكره ذكره ثانيا بطريق أبلغ، وقدم اليأس لأنه صفة القلب وهو أن يقطع رجاءه من الخير وهي المؤثرة فيما يظهر على الصورة من التضاؤل والانكسار وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ أي لئن فرجنا عنه بصحة بعد مرض أو سعة بعد ضيق أو غير ذلك لَيَقُولَنَّ هذا لِي أي حقي أستحقه لما لي من الفضل والعمل لا تفضل من الله عن وجل فاللام للاستحقاق أو هو لي دائما لا يزول فاللام للملك وهو يشعر بالدوام ولعل الأول أقرب. وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً أي تقوم فيما سيأتي وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي على تقدير قيامها إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى أي للحالة الحسنى من الكرامة، والتأكيد بالقسم هنا ليس لقيام الساعة بل لكونه مجزيا بالحسنى باستحقاقه للكرامة لاعتقاده أن ما أصابه من نعم الدنيا لاستحقاقه له وإن نعم الآخرة كذلك فلا تنافي بين إن التي الأصل فيها أن تستعمل لغير المتقين وبين التأكيد بالقسم وإن واللام وتقديم الظرفين وصيغة التفضيل فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا لنعلمنهم بحقيقة أعمالهم ولنبصرنهم بعكس ما اعتقدوا فيها فيظهر لهم أنهم مستحقون للإهانة لا الكرامة كما توهموا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ لا يمكنهم التفصي عنه لشدته فهو كوثاق غليظ لا يمكن قطعه وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ عن الشكر وَنَأى بِجانِبِهِ تكبر واختال على أن الجانب بمعنى الناحية والمكان ثم نزل مكان الشيء وجهته كناية منزلة الشيء نفسه، ومنه قوله تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ [الرحمن: 46] وقول الشاعر: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 5 ذعرت به القطا ونفيت عنه ... مقام الذئب كالرجل اللعين وقول الكتاب حضرة فلان ومجلسه العالي وكتبت إلى جهته وإلى جانبه العزيز يريدون نفسه وذاته فكأنه قيل: نأى بنفسه ثم كنى بنفسه عن التكبر والخيلاء، وجوز أن يراد بِجانِبِهِ عطفه ويكون عبارة عن الانحراف والازورار كما قالوا: ثنى عطفه وتولى بركنه والأول مشتمل على كنايتين، وضع الجانب موضع النفس والتعبير عن التكبير البالغ بنحو ذهب بنفسه وهذا على واحدة على ما في الكشف، وجعل بعضهم الجانب والجنب حقيقة كالعطف في الجارحة وأحد شقي البدن مجازا في الجهة فلا تغفل، وعن أبي عبيدة نأى بجانبه إن نهض به وهو عبارة عن التكبر كشمخ بأنفه، والباء للتعدية ثم إن التعبير عن ذات الشخص بنحو المقام والمجلس كثيرا ما يكون لقصد التعظيم والاحتشام عن الصريح بالاسم وهو يتركون التصريح به عند إرادة تعظيمه قال زهير: فعرض إذا ما جئت بالبان والحمى ... وإياك أن تنسى فتذكر زينبا سيكفيك من ذاك المسمى إشارة ... فدعه مصونا بالجلال محجبا ومن هنا قال الطيبي: إن ما هنا وارد على التهكم. وقرىء «ونآ» بإمالة الألف وكسر النون للاتباع «وناء» على القلب كما قالوا راء في رأى وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ أي كثير مستمر مستعار مما له عرض متسع وأصله مما يوصف به الأجسام وهو أقصر الامتدادين وأطولهما هو الطول، ويفهم في العرف من العريض الاتساع وصيغة المبالغة وتنوين التكثير يقويان ذلك، ووصف الدعاء بما ذكر يستلزم عظم الطول أيضا لأنه لا بد أن يكون أزيد من العرض وإلا لم يكن طولا، والاستعارة في كل من الدعاء والعريض جائزة ولا يخفى كيفية إجرائها. وذكر بعض الأجلة أن الآيات قد تضمنت ضربين من طغيان جنس الإنسان فالأول في بيان شدة حرصه على الجمع وشدة جزعه على الفقد والتعريض بتظليم ربه سبحانه في قوله هذا لِي مدمجا فيه سوء اعتقاده في المعاد المستجلب لتلك المساوي كلها، والثاني في بيان طيشه المتولد عنه إعجابه واستكباره عند وجود النعمة واستكانته عند فقدها وقد ضمن في ذلك ذمه بشغله عن المنعم في الحالتين، أما في الأول فظاهر، وأما في الثاني فلأن التضرع جزعا على الفقد ليس رجوعا إلى المنعم بل تأسف على الفقد المشغل عن المنعم كل الأشغال، وذكر أن في ذكر الوصفين ما يدل على أنه عديم النهية أي العقل ضعيف المنة أن القوة فإن اليأس والقنوط ينافيان الدعاء العريض وأنه عند ذلك كالغريق المتمسك بكل شيء انتهى، ومنه يعلم جواب ما قيل: كونه يدعو دعاء عريضا متكررا ينافي وصفه بأنه يؤوس قنوط لأن الدعاء فرع الطعم والرجاء وقد اعتبر في القنوط ظهور أثر اليأس فظهور ما يدل على الرجاء يأباه، وأجاب آخرون بأنه يجوز أن يقال: الحال الثاني شأن بعض غير البعض الذي حكى عنه اليأس والقنوط أو شأن الكل في بعض الأوقات، واستدل بعضهم بقوله تعالى: فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ على أن الإيجاز غير الاختصار وفسره لهذه الآية بحذف تكرير الكلام مع اتحاد المعنى والإيجاز بحذف طوله وهو الإطناب وهو استدلال بما لا يدل إذ ليس فيها حذف ذلك العرض فضلا عن تسميته قُلْ أَرَأَيْتُمْ إلخ رجوع لإلزام الطاعنين والملحدين وختم للسورة بما يلتفت لفت بدنها وهو من الكلام المنصف وفيه حث على التأمل واستدراج للاقرار مع ما فيه من سحر البيان وحديث الساعة وقع في البين تتميما للوعيد وتنبيها على ما هم فيه من الضلال البعيد كذا قيل، وسيأتي إن شاء الله تعالى بسط الكلام في ذلك، ومعنى أَرَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ كانَ أي القرآن مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مع تعاضد موجبات الإيمان به، وثُمَّ كما قال النيسابوري للتراخي الرتبي مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ أي خلاف بَعِيدٍ غاية البعد عن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 6 الحق، والمراد ممن هو في شقاق المخاطبون، ووضع الظاهر موضع ضميرهم شرحا لحالهم بالصلة وتعليلا لمزيد ضلالهم، وجملة مَنْ أَضَلُّ على ما قال ابن الشيخ سادّة مسد مفعولي رَأَيْتُمْ وفي البحر المفعول الأول محذوف تقديره أرأيتم أنفسكم والثاني هو جملة الاستفهام، وأيا ما كان فجواب الشرط محذوف، قال النيسابوري: تقديره مثلا فمن أضل منكم، وقيل: إن كان من عند الله ثم كفرتم به فأخبروني من أضل منكم، ولعله الأظهر. وقوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ إلخ مرتبط على ما اختاره صاحب الكشاف بقوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إلخ على وجه التتميم والإرشاد إلى ما ضمن من الحث على النظر ليؤدي إلى المقصود فيهدوا إلى إعجازه ويؤمنوا بما جاء به ويعملوا بمقتضاه ويفوزوا كل الفوز، وفسر الآيات بما أجرى الله تعالى على يدي نبيه صلّى الله عليه وسلّم وعلى أيدي خلفائه وأصحابهم رضي الله تعالى عنهم من الفتوحات الدالة على قوة الإسلام وأهله ووهن الباطل وحزبه، والآفاق النواحي أفق بضمتين وأفق بفتحتين أي سنريهم آياتنا في النواحي عموما من مشارق الأرض ومغاربها وشمالها وجنوبها، وفيه أن هذه الإرادة كائنة لا محالة حق لا يحوم حولها ريبة وَفِي أَنْفُسِهِمْ في بلاد العرب خصوصا وهو من عطف جبريل على ملائكته، وفي العدول عنها إلى المنزل ما لا يخفى من تمكين ذلك النصر وتحقيق دلالته على حقية المطلوب إثباته وإظهار أن كونه آية بالنسبة إلى الأنفس وإن كان كونه فتحا بالنسبة إلى الأرض والبلدة حَتَّى يَتَبَيَّنَ يظهر لَهُمْ أَنَّهُ أي القرآن هو الْحَقُّ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فهو الحق كله من عند الله تعالى المطلع على كل غيب وشهادة فلهذا نصر حاملوه وكانوا محقين، وفي التعريف من الفخامة ما لا يخفى جلالة وقدرا، وفيما ذكر إشارة إلى أنه تعالى لا يزال ينشىء فتحا بعد فتح وآية غب آية إلى أن يظهره على الدين كله ولو كره المشركون فانظر إلى هذه الآية الجامعة كيف دلت على حقية القرآن على وجه تضمن حقية أهله ونصرتهم على المخالفين وأعظم بذاك تسليا عما أشعرت به الآية السابقة من انهماكهم في الباطل إلى حد يقرب من اليأس، وقيل: الضمير للرسول عليه الصلاة والسلام أو الدين أو التوحيد ولعل الأول أولى أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ استئناف وارد لتوبيخهم على إنكارهم تحقق الإرادة. والهمزة للإنكار والواو على أحد الرأيين للعطف على مقدر دخلت عليه الهمزة يقتضيه المقام والباء مزيدة للتأكيد و (ربك) فاعل كفى وزيادة الباء في فاعلها هو القول المشهور المرضي للنحاة وتزاد في فاعل فعل التعجب أيضا نحو أحسن بزيد فإن أحسن فعل ماض جيء به على صيغة الأمر والباء زائدة وزيد فاعل عند جماعة من النحويين ولا تكاد تزاد في غيرهما، وقوله: ألم يأتيك والأنباء تنمى ... بما لاقت لبون بني زياد شاذ قبيح على ما قال الشهاب، وقوله تعالى: أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ بدل من الفاعل بدل اشتمال، وقيل: هو بتقدير حرف الجر أي أو لم يكفهم ربك بأنه إلخ، وما للنحويين في مثل هذا التركيب من الكلام شهير، أي أنكروا إراءة ذلك الدالة على حقيقة القرآن ولم يكفهم دليلا أنه عزّ وجلّ مطلع على كل شيء عالم به ومن ذلك حالهم وحالك الموجبان حكمة نصرك عليهم وخذلانهم، وكأن ذلك لظهوره نزل منزلة المعلوم لهم. وفي الكشف أي أو لم يكفهم أن ربك سبحانه مطلع على كل شيء يستوي عنده غيب الأشياء وشهادتها على معنى أو لم يكفهم هذه الإراءة دليلا قاطعا ولما كان ما وعده غيبا عنهم كيف وقد نزل وهم في حال ضعف وقلة يقاسون ما يقاسون من مشركي مكة قيل: أو لم يكفهم اطلاع من هذا الكتاب الحق من عنده على كل غيب وشهادة دليلا على كينونة الإراءة وإحضار ذلك الغيب عندهم إذ لا غيب بالنسبة إليه تعالى، وفي العدول إلى هذه العبارة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 7 فائدتان: إحداهما تحقيق إنجاز ذلك الموعد كأنه مشاهد بذكر الدليل القاطع على الوقوع. والثانية الدلالة على أن هذه الإراءة الآن وهم في ضعف وقلة قد تمت بالنسبة إلى إثبات حقية القرآن لأن من علم أنه تعالى على كل شيء شهيد وعلم أن القرآن معجز من عنده علم أن جميع ما فيه حق وصدق فعلم أن تلك النصرة كائنة. والحاصل أنه كما يستدل من تلك الآيات على حقية القرآن وحقية أهله تارة يستدل من إعجاز القرآن على حقية تلك الآيات وقوعا وحقية أهل الإسلام أخرى فأدى المعنيان في عبارة جامعة تؤدي الغرضين على وجه لا يمكن أتم منه انتهى. ولا يخفى أن في الآية عليه نوعا من الالغاز، وقيل: أي ألم يغنهم عن إراءة الآيات الموعودة المبينة لحقية القرآن ولم يكفهم في ذلك أنه تعالى شهيد على جميع الأشياء وقد أخبر بأنه من عنده عزّ وجلّ، وهو كما ترى، وقيل: المعنى ولم يكفك أنه تعالى على كل شيء محقق له فيحقق أمرك بإظهار الآيات الموعودة كما حقق سائر الأشياء الموعودة. وتعقب بأنه مع إيهامه ما لا يليق بجلالة منصبه صلّى الله عليه وسلّم من التردد فيما ذكر من تحقق الموعود لا يلائم قوله تعالى: أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أي في شك عظيم من ذلك بالبعث لاستبعادهم إعادة الموتى بعد تبدد أجزائهم وتفرق أعضائهم فلا يلتفتون إلى أدلة ما ينفعهم عند لقائه تعالى كحقية القرآن لأنه صريح في أن عدم الكفاية معتبر بالنسبة إليهم. وقوله تعالى أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ لبيان ما يترتب على تلك المرية بناء على أن المعنى أنه تعالى عالم بجميع الأشياء على أكمل وجه فلا يخفى عليه جلّ وعلا خافية منهم فيجازيهم جل جلاله على كفرهم ومريتهم لا محالة. وقيل: دفع لمريتهم وشكهم في البعث وإعادة ما تفرق واختلط مما يتوهمون عدم إمكان تمييزه أي إنه تعالى عالم بجمل الأشياء وتفاصيلها مقتدر عليها لا يفوته شيء منها فهو سبحانه يعلم الأجزاء ويقدر على البعث. هذا وما ذكر في تفسير سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ في معنى ما روي عن الحسن ومجاهد والسدي وأبي المنهال وجماعة قالوا: إن قوله سبحانه: سَنُرِيهِمْ إلخ وعيد للكفار بما يفتحه الله تعالى على رسوله صلّى الله عليه وسلّم من الأقطار حول مكة وفي غير ذلك من الأرض كخيبر وأراد بقوله تعالى: فِي أَنْفُسِهِمْ فتح مكة، وقال الضحاك وقتادة: في الآفاق ما أصاب الأمم المكذبة في أقطار الأرض قديما وفي أنفسهم ما كان يوم بدر فإن في ذلك دلالة على نصرة من جاء بالحق وكذب من الأنبياء عليهم السلام فيدل على حقية النبي صلّى الله عليه وسلّم وما جاء به من القرآن. وأورد عليه أن سَنُرِيهِمْ يأبى كون ما في الآفاق ما أصاب الأمم المكذبة لكونه مرئيا لهم قبل. وقال عطاء وابن زيد: إن معنى سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ أي أقطار السماء والأرض من الشمس والقمر وسائر الكواكب والرياح والجبال الشامخة وغير ذلك وفي أنفسهم من لطيف الصنعة وبديع الحكمة، وضعف ذلك الإمام بنحو ما سمعت آنفا. وأجيب بأن القوم وإن كانوا قد رأوا تلك الآيات إلا أن العجائب التي أودعها الله تعالى فيها مما لا نهاية لها فهو سبحانه يطلعهم عليها زمانا قريبا حالا فحالا فإن كل أحد يشاهد بنية الإنسان إلا أن العجائب المودعة في تركيبها لا تحصى وأكثر الناس غافلون عنها فمن حمل على التفكير فيها بالقوارع التنزيلية والتنبيهات الإلهية كلما ازداد تفكرا ازداد وقوفا فصح معنى الاستقبال. واختار ذلك صاحب الكشف تبعا لغيره وبين وجه مناسبة الآيات لما قبلها عليه، وجعل ضمير أَنَّهُ الْحَقُّ لله عزّ وجلّ فقال: إن قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إشعارا بأن كونه من عنده سبحانه ينافي الكفر به وإنهم مسلمون ذلك لكن يطعنون في كونه من عنده عزّ وجلّ ولذا جعل نحو أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [النحل: 24] في جواب قولهم ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ [النحل: 24] أنه إعراض عن كونه منزلا وجواب بأنه أساطير لا منزل فأريد أن يبين الجزء: 13 ¦ الصفحة: 8 إثبات كونه حقا من عنده تعالى على سبيل الكناية ليكون أوصل إلى الغرض ويناسب ما بني عليه الكلام من سلوك طريق الإنصاف فقيل: سَنُرِيهِمْ أي سيرى الله تعالى، والالتفات للدلالة على زيادة الاختصاص وتحقيق ثبوت الإراءة ثم قيل: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أي إن الله جلّ جلاله هو الحق من كل وجه ذاتا وصفة وقولا وفعلا وما سواه باطل من كل وجه لا حق إلا هو سبحانه وإذا تبين لهم حقيته عز شأنه من كل وجه يلزم ثبوت القرآن وكونه من عنده تعالى بالضرورة، ثم قيل: أو لم يكف بربك أي أو لم يكفك شهوده تعالى على كل شيء فمنه سبحانه تشهد كل شيء لا من آيات الآفاق والأنفس تشهده تعالى فالأول استدلال بالأثر على المؤثر والثاني من المؤثر على الأثر وهذا هو اللمي العيني، وفي قوله تعالى: بِرَبِّكَ مضافا إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم وإيثاره على أولم يكف به إشعار بأنه عليه الصلاة والسلام وأتباعه من كل العارفين هم الذين يكفيهم شهوده على كل شيء دليلا وأن ذلك لهم نفس عنايته تعالى وتربيته من دون مدخل لتعلمهم فيه بخلاف الأول، ثم قيل: أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ فلهذا لا يكفيهم أنه تعالى على كل شيء شهيد لأنه لا شهود لهم ليشهدوا شهوده تعالى فهو شامل لفريقي الأبرار والكفار، أما الكفار فلأنهم في شك في الأصل، وأما الأبرار فلأنهم في شك من الشهود أي لا علم لهم به إلا إيمانا متمحضا عن التقليد. وإطلاق المرية للتغلب ولا يخفى حسن موقعه، ثم قيل: أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ تتميما لقوله تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ لأن من أحاط بكل شيء علما وقدرة لم يتخلف شيء عن شهوده فمن شهده شهد كل شيء فهذا هو الوجه في تعميم الآيات من غير تخصيص لها بالفتوح وهو أنسب من قول الحسن ومجاهد وأجري على قواعد الصوفية وعلماء الأصول رحمة الله تعالى عليهم أجمعين انتهى، وقد أبعد عليه الرحمة المغزى وتكلف ما تكلف، ونقل العارف الجامي قدس سره في نفحاته عن القاشاني أن قوله تعالى: سَنُرِيهِمْ إلخ يدل على وحدة الوجود، وقد رأيت في بعض كتب القوم الاستدلال به على ذلك وجعل ضمير أَنَّهُ الْحَقُّ إلى المرئي وتفسير الْحَقُّ بالله عزّ وجلّ، ومن هذا ونحوه قال الشيخ الأكبر قدس سره: سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها وهذه الوحدة هي التي حارت فيها الأفهام وخرجت لعدم تحقيق أمرها رقاب من ربقة الإسلام، وللشيخ إبراهيم الكوراني قدس سره النوراني عدة رسائل في تحقيق الحق فيها وتشييد مبانيها نسأل الله تعالى أن يمن علينا بصحيح الشهود ويحفظنا بجوده عما علق بأذهان الملاحدة من وحدة الوجود، وقرىء «إنه على كل شيء شهيد» بكسر همزة إن على إضمار القول، وقرأ السلمي. والحسن «في مرية» بضم الميم وهي لغة فيها كالكسر ونحوها خفية يضم الخاء وكسرها والكسر أشهر لمناسبة الياء. ومن كلمات القوم في الآيات: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ فيه إشارة إلى أن أجر المؤمن الغير العامل ممنون أي منقوص بالنسبة إلى أجر المؤمن العامل وأجر هذا العامل على الأعمال البدنية كالصلاة والحج الجنة، وعلى الأعمال القلبية كالرضا والتوكل الشوق والمحبة وصدق الطلب، وعلى الأعمال الروحانية كالتوجه إلى الله تعالى كشف الأسرار وشهود المعاني والاستئناس بالله تعالى والاستيحاش من الخلق والكرامات، وعلى أعمال الأسرار كالإعراض عن السوي بالكلية دوام التجلي قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ أي أرض البشرية فِي يَوْمَيْنِ يومي الهوى والطبيعة وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً من الهوى والطبيعة وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ العقول الإنسانية وَبارَكَ فِيها بالحواس الخمس وَقَدَّرَ فِيها أقواتها من القوى البشرية ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ سماء القلب وَهِيَ دُخانٌ هيولى إلهية فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ هي الأطوار السبعة للقلب فالأول محل الوسوسة والثاني مظهر الهواجس والثالث معدن الرؤية ويسمى الفؤاد والرابع منبع الحكمة ويسمى القلب الجزء: 13 ¦ الصفحة: 9 والخامس مرآة الغيب ويسمى السويداء والسادس مثوى المحبة ويسمى الشغاف والسابع مورد التجلي ومركز الأسرار ومهبط الأنوار ويسمى الحبة فِي يَوْمَيْنِ يومي الروح الإنساني والإلهام وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وهي أنوار الاذكار والطاعات إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ يوم خوطبوا بأ لست بربكم؟ ثُمَّ اسْتَقامُوا على إقرارهم لما خرجوا إلى عالم الصور ولم ينحرفوا عن ذلك كالمنافقين والكافرين، وذلك أن الاستقامة متفاوتة فاستقامة العوام في الظاهر بالأوامر والنواهي وفي الباطن بالإيمان واستقامة الخواص في الظاهر بالرغبة عن الدنيا وفي الباطن بالرغبة عن الجنان شوقا إلى الرحمن واستقامة خواص الخواص في الظاهر برعاية حقوق المبايعة بتسليم النفس والمال وفي الباطن بالفناء والبقاء تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ تنزلا متفاوتا حسب تفاوت مراتبهم، وعن بعض أئمة أهل البيت أن الملائكة لتزاحمنا بالركب أو ما هذا معناه وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ هي أيضا متفاوتة فمنهم من يبشر بالجنة المعروفة ومنهم من يبشر بجنة الوصال ورؤية الملك المتعال وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ بترك ما سواه وَعَمِلَ صالِحاً لئلا يخالف حاله قاله وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ المنقادين لحكمه تعالى الراضين بقضائه وقدره، وفيه إشارة إلى صفات الشيخ المرشد وما ينبغي أن يكون عليه ويحق أن يقال في كثير من المتصدين للإرشاد في هذا الزمان المتلاطمة أمواجه بالفساد: خلت الرقاع من الرخاخ ... وتفرزنت فيها البيادق وتصاهلت عرج الحمير ... وذاك من عدم السوابق وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وهي التوجه إلى الله تعالى بصدق الطلب وخلوص المحبة وَلَا السَّيِّئَةُ وهي طلب السوي والرضا بالدون ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وهي طلب الله تعالى ما سواه سبحانه فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ وهو النفس الأمارة بالسوء كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ لتزكي النفس عن صفاتها الذميمة وانفطامها عن المخالفات القبيحة وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ لتميل إلى ما يهوى فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ وارجع إليه سبحانه لئلا يؤثر فيك نزغه، وفيه إشارة إلى أنه لا ينبغي الأمن من المكر والغفلة عن الله عزّ وجلّ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا فيه إشارة إلى سوء المنكرين على الأولياء فإنهم من آيات الله تعالى والإنكار من الإلحاد نسأل الله تعالى العفو والعافية قُلْ هُوَ أي القرآن لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ على حسب مراتبهم فمنهم من يهديه إلى شهود الملك العلام فعن الصادق على آبائه وعليه السلام لقد تجلى الله تعالى في كتابه لعباده ولكن لا يبصرون سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ فيه إشارة إلى أن الخلق لا يرون الآيات إلا بإراءته عزّ وجلّ وهي كشف الحجب ليظهر أن الإيمان ما شمت رائحة الوجود ولا تشمه أبدا وأنه عزّ وجلّ هو الأول والآخر والظاهر والباطن كان الله ولا شيء معه وهو سبحانه الآن على ما عليه كان وإليه الإشارة عندهم بقوله تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ومن هنا قال الشيخ الأكبر قدس سره: ما آدم في الكون ما إبليس ... ما ملك سليمان وما بلقيس الكل إشارة وأنت المعنى ... يا من هو للقلوب مغناطيس وأكثر كلامه قدس سره من هذا القبيل بل هو أم وحدة الوجود وأبوها وابنها وأخوها، وإياك أن تقول كما قال ذلك الأجل حتى تصل بتوفيق الله تعالى إلى ما إليه وصل والله عزّ وجلّ الهادي إلى سواء السبيل، تم الكلام على السورة والحمد لله على جزيل نعمائه والصلاة والسلام على رسوله محمد مظهر أسمائه وعلى آله وأصحابه وسائر أتباعه وأحبائه وصلاة وسلاما باقيين إلى يوم لقائه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 10 سورة الشّورى وتسمى سورة حم عسق وعسق نزلت على ما روي عن ابن عباس وابن الزبير بمكة وأطلق غير واحد القول بمكيتها من غير استثناء، وفي البحر هي مكية إلا أربع آيات من قوله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: 23] إلى آخر أربع آيات وقال مقاتل: فيها مدني قوله تعالى: ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ إلى الصُّدُورِ [الشورى: 23. 24] واستثنى بعضهم قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى [الشورى: 24] إلخ، قال الجلال السيوطي: ويدل له ما أخرجه الطبراني والحاكم في سبب نزولها فإنها نزلت في الأنصار، وقوله سبحانه: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ [الشورى: 27] إلخ فإنها نزلت في أصحاب الصفة رضي الله تعالى عنهم، واستثنى أيضا الَّذِينَ إِذا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 11 أَصابَهُمُ الْبَغْيُ إلى قوله تعالى: مِنْ سَبِيلٍ [الشورى: 39. 41] حكاه ابن الفرس، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يدل على استثناء غير ذلك على بعض الروايات، وجوز أن يكون الإطلاق باعتبار الأغلب وعدد آياتها ثلاث وخمسون في الكوفي وخمسون فيما عداه والخلاف في حم عسق وقوله تعالى: كَالْأَعْلامِ [الشورى: 32] كما فصله الداني وغيره، ومناسبة أولها لآخر السورة قبلها اشتمال كل على ذكر القرآن وذب طعن الكفرة فيه وتسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم عسق لعلهما اسمان للسورة وأيد بعدهما آيتين والفصل بينهما في الخط وبورود تسميتها عسق من غير ذكر حم، وقيل: هما اسم واحد وآية واحدة وحقه أن يرسم متصلا كما في كهيعص [مريم: 1] لكنه فصل ليكون مفتتح السورة على طرز مفتتح أخواتها حيث رسم في كل مستقلا وعلى الأول هما خبران لمبتدأ محذوف. وقيل: حم مبتدأ وعسق خبره وعلى الثاني الكل خبر واحد، وقيل: إن حم عسق إشارة إلى هلاك مدينتين تبنيان على نهر من أنهار المشرق يشق النهر بينهما يجتمع فيهما كل جبار عنيد يبعث الله تعالى على إحداهما نارا ليلا فتصبح سوداء مظلمة قد احترقت كأنها لم تكن مكانها ويخسف بالأخرى في الليلة الأخرى، وروي ذلك عن حذيفة، وقيل: إن حم اسم من أسماء الله تعالى و «عين» إشارة إلى عذاب يوم بدر و «سنين» إشارة إلى قوله تعالى: سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ [الشعراء: 227] و «قاف» إلى قارعة من السماء تصيب الناس، وروي ذلك بسند ضعيف عن أبي ذر، والذي يغلب على الظن عدم ثبوت شيء من الروايتين. وفي البحر ذكر المفسرون في حم عسق أقوالا مضطربة لا يصلح منها شيء ضربنا عن ذكرها صفحا، وما ذكرناه أولا قد اختاره غير واحد، ومنهم من اختار أنها مقطعات جيء بها للايقاظ، وقرأ ابن عباس وابن مسعود «حم سق» بلا عين. وقوله تعالى: كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ كلام مستأنف وارد لتحقيق أن مضمون السورة موافق لما في تضاعف الكتب المنزلة على سائر الرسل المتقدمين في الدعوة إلى التوحيد والإرشاد إلى الحق أو أن إيحاءها بعد تنويهها بذكر اسمها والتنبيه على فخامة شأنها، والكاف مفعول «يوحي» على الأول أن يوحي مثل ما في هذه السورة من المعاني أو نعت لمصدر مؤكد على الثاني أي يوحي إيحاء مثل إيحائها إليك وإلى الرسل أي بواسطة الملك، وهي في الوجهين اسم كما هو مذهب الأخفش وإن شئت فاعتبرها حرفا واعتبر الجار والمجرور مفعولا أو متعلقا بمحذوف وقع نعتا، وقول العلامة الثاني في التلويح إن جار الله لا يجوز الابتداء بالفعل ويقدر المبتدأ في جميع ما يقع فيه الفعل ابتداء كلام غير مسلم وقد ترددوا فيه حتى قيل: إنه لم يظهر له وجه. وجوز أبو البقاء كون كَذلِكَ مبتدأ ويُوحِي الخبر والعائد محذوف أي مثل ذلك يوحيه إليك إلخ وحذف مثله شائع في الفصيح، نعم هذا الوجه خلاف الظاهر، والإشارة كما أشرنا إليه إلى ما في السورة أو إلى إيحائها، والدلالة على البعد لبعد منزلة المشار إليه في الفضل، وصيغة المضارع على حكاية الحال الماضية للدلالة على استمراره في الأزمنة الماضية وإن إيحاء مثله عادته عزّ وجلّ، وقيل: إنها على التغلب فإن الوحي إلى من مضى مضى إليه عليه الصلاة والسلام بعضه ماض وبعضه مستقبل، وجوز أن تكون على ظاهرها ويضمر عامل يتعلق به إِلَى الَّذِينَ أي وأوحى إلى الذين وهو كما ترى، وفي جعل مضمون السورة أو إيحائها مشبها به من تفخيمها ما لا يخفى. وقرأ مجاهد وابن كثير وعياش ومحبوب كلاهما عن أبي عمرو «يوحى» مبنيا للمفعول على أن كَذلِكَ مبتدأ ويُوحِي خبره المسند إلى ضميره أو مصدر ويُوحِي مسند إلى إِلَيْكَ واللَّهُ مرتفع عند السكاكي على الفاعلية ليوحي الواقع في جواب من يوحي؟ نحو ما قرروه في قوله تعالى: يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 12 وَالْآصالِ رِجالٌ [النور: 36. 37] على قراءة «يسبّح» بالبناء للمفعول، وقوله: ليبك يزيد ضارع لخصومة ... ومختبط مما تطيح الطوائح وقال الزمخشري: رافعه ما دل عليه يُوحِي كأن قائلا قال: من الموحي؟ فقيل: الله وإنما قدر كذلك على ما قاله صاحب الكشف ليدل على أن الإيحاء مسلم معلوم وإنما الغرض من الإخبار إثبات اتصافه بأنه تعالى من شأنه الوحي لا إثبات أنه موح، ولم يرتض القول بعدم الفرق بين هذا وقوله تعالى: يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ بل أوجب الفرق لأن الفعل المضارع هنالك على ظاهره لم يؤت به للدلالة على الاستمرار ولهم فيه مقال. والْعَزِيزُ الْحَكِيمُ صفتان له تعالى عند الشيخين، وجوز أبو حيان كون الاسم الجليل مبتدأ وما بعده خبر له وقيل: اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إلى آخر السورة قائم مقام فاعل يُوحِي أي هذه الكلمات. وقرأ أبو حيوة والأعشى عن أبي بكر وأبان «نوحي» بنون العظمة فالله مبتدأ وما بعده خبر أو الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ صفتان، وقوله تعالى: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ خبر له، وعلى الأوجه السابقة استئناف مقرر لعزته تعالى وحكمته عزّ وجلّ تَكادُ السَّماواتُ وقرىء «يكاد» بالياء يَتَفَطَّرْنَ يتشققن من عظمة الله تعالى وجلاله جل شأنه وروي ذلك عن قتادة: وأخرج جماعة منهم الحاكم وصححه عن ابن عباس أنه قال: تكاد السموات يتفطرن من الثقل، وقيل: من دعاء الشريك والولد له سبحانه كما في سورة مريم، وأيد هذا بقوله تعالى بعد: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فإيراد الغفور الرحيم بعد لأنهم استوجبوا بهذه المقالة صب العذاب عليهم لكنه صرف عنهم لسبق رحمته عزّ وجلّ، والآية عليه واردة للتنزيه بعد إثبات المالكية والعظمة، والأول أولى في هذا المقام لأن الكلام مسوق لبيان عظمته تعالى وعلوه جل جلاله ويؤيده ترك العاطف، ويليه ما روي عن الحبر فإن الآية وإن تضمنت عليه الغرض المسوق له الكلام لكن دلالتها عليه بناء على القول الأول أظهر. وقرأ البصريان وأبو بكر «ينفطرن» بالنون، والأول أبلغ لأن المطاوع والمطاوع من التفعيل والتفعل الموضوع للمبالغة بخلاف الثاني فإنه انفعال مطاوع للثلاثي، وروى يونس عن أبي عمرو أنه قرأ «تتفطرن» بتاءين ونون في آخره على ما في الكشاف، و «تنفطرن» بتاء واحدة ونون على ما في البحر عن ابن خالويه وهو على الروايتين شاذ عن القياس والاستعمال لأن العرب لا تجمع بين علامتي التأنيث فلا تقول النساء تقمن ولا الوالدات ترضعن، والوجه فيه تأكيد التأنيث كتأكيد الخطاب في أرأيتك ومثله ما رواه أبو عمر الزاهد في نوادر ابن الأعرابي الإبل تتشممن. مِنْ فَوْقِهِنَّ أي يبتدأ التفطر من جهتهن الفوقانية، وتخصيصها على الأول في سبب التفطر لما أن أعظم الآيات وأدلها على العظمة والجلال كالعرش والكرسي والملائكة من تلك الجهة ولذا كانت قبلة الدعاء، وعلى الثالث للدلالة على التفطر من تحتهن بالطريق الأولى لأن تلك الكلمة الشنعاء الواقعة في الأرض حين أثرت من جهة الفوق فلأن تؤثر من جهة التحت أولى، وكذا على الثاني لأن العادة تفطر سطح البيت مثلا من جهة التحتانية بحصول ثقل عليه، وقيل: الضمير للأرض أي لجنسها فيشمل السبع ولذا جمع الضمير وهو خلاف الظاهر، وقال علي بن سليمان الأخفش: الضمير للكفار والمراد من فوق الفرق والجماعات الملحدة، وبهذا الاعتبار أنث الضمير، وفي ذلك إشارة إلى أن التفطر من أجل أقوال هاتيك الجماعات، وفيه ما فيه. وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ينزهونه سبحانه عما لا يليق به جلّ جلاله ملتبسين بحمده عزّ وجلّ، وقيل: يصلون والظاهر العموم في الملائكة، وقال مقاتل المراد بهم حملة العرش وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 13 بالسعي فيما يستدعي مغفرتهم من الشفاعة والإلهام وترتيب الأمور المقربة إلى الطاعة كالمعاونة في بعض أمور المعاش ودفع العوائق واستدعاء تأخير العقوبة طمعا في إيمان الكافر وتوبة الفاسق وهذا يعم المؤمن والكافر بل لو فسر الاستغفار بالسعي فيما يدفع الخلل المتوقع عم الحيوان بل الجماد، وهو فيما ذكر مجاز مرسل واستعارة. وقال السدي وقتادة: المراد بمن في الأرض المؤمنون لقوله تعالى في آية أخرى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر: 7] والمراد بالاستغفار عليه حقيقته، وقيل: الشفاعة. أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ إذ ما من مخلوق إلا وله حظ عظيم من رحمته تعالى وإنه سبحانه لذو مغفرة للناس على ظلمهم، وفيه إشارة إلى قبول استغفار الملائكة عليهم السلام وأنه سبحانه يزيدهم على ما طلبوه من المغفرة رحمة، والآية على كون قوله تعالى: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ لبيان عظمته جلّ شأنه مقررة لما دل عليه ذلك ومؤكدة لأن تسبيح الملائكة وتنزيههم له تعالى لمزيد عظمته تبارك وتعالى وعظيم جلاله جل وعلا والاستغفار لغيرهم للخوف عليهم من سطوة جبروته عزّ وجلّ والتذييل بقوله تعالى: أَلا إِنَّ اللَّهَ إلخ على هذا ظاهر، وعلى كون تفطر السموات لنسبة الولد والشريك بيان لكمال قدسه تعالى عما نسب إليه عزّ وجلّ فيكون تسبيحهم عما يقوله الكفرة واستغفارهم للمؤمنين الذين تبرأوا عما صدر من هؤلاء والتذييل للإشارة إلى سبب ترك معاجلة العذاب مع استحقاقهم له وعمم بعض المستغفر لهم وأدخل استغفار الملائكة في سبب ترك المعاجلة وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ شركاء وأندادا اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ رقيب على أحوالهم وأعمالهم فيجازيهم بها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ أي بموكل بهم أو بموكول إليك أمرهم وإنما وظيفتك البلاغ والإنذار فوكيل فعيل بمعنى مفعول من المزيد أو الثلاثي، وما في هذه الآية من الموادعة على ما في البحر منسوخ بآية السيف وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا ذلك إشارة إلى مصدر أَوْحَيْنا ومحل الكاف على ما ذهب إليه الأخفش من ورودها اسما النصب على المصدرية وقُرْآناً مفعول لأوحينا أي ومثل ذلك الإيحاء البديع البين المفهم أوحينا إليك قرآنا عربيا لا لبس فيه عليك ولا على قومك، وقيل: إشارة إلى ما تقدم من اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ فالكاف مفعول لأوحينا وقُرْآناً عَرَبِيًّا حال من المفعول به أي أوحيناه إليك وهو قرآن عربي، وجوز نصبه على المدح أو البدلية من كذلك، وقيل: أولى من هذا أن يكون إشارة إلى معنى الآية المتقدمة من أنه تعالى هو الحفيظ عليهم وأنه عليه الصلاة والسلام نذير فحسب لأنه أتم فائدة وأشمل عائدة ولا بد عليه من التجوز في قرآنا عربيا إذ لا يصح أن يقال أوحينا ذلك المعنى وهو قرآن عربي لأن القرآنية والعربية صفة اللفظ لا المعنى لكن أمره سهل لقربه من الحقيقة لما بين اللفظ والمعنى من الملابسة القوية حتى يوصف أحدهما بما يوصف به الآخر مع ما في المجاز في البلاغة لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى أي أهل أم القرى على التجوز في النسبة أو بتقدير المضاف والمراد بأم القرى مكة، وسميت بذلك على ما قال الراغب لما روي أنه دحيت الدنيا من تحتها فهي كالأصل لها والأم تقال لكل ما كان أصلا لشيء، وقد يقال هي أم لما حولها من القرى لأنها حدثت قبلها لا كل قرى الدنيا، وقد يقال لبلد: هي أم البلاد باعتبار احتياج أهالي البلاد إليها وَمَنْ حَوْلَها من العرب على ما ذهب إليه كثير وخص المذكورون بالذكر لأن السورة مكية وهم أقرب إليه عليه الصلاة والسلام وأول من أنذر أو لدفع ما يتوهم من أن أهل مكة ومن حولها لهم طمع في شفاعته صلّى الله عليه وسلّم وإن لم يؤمنوا لحق القرابة والمساكنة والجوار فخصهم بالإنذار لإزالة ذلك الطمع الفارغ، وقيل: مَنْ حَوْلَها جميع أهل الأرض واختاره البغوي وكذا القشيري وقال: لأن الكعبة سرة الأرض والدنيا محدقة بما هي فيه أعني مكة. وهذا عندي لا يكاد يصح مع قولهم: إن عرضها كام وطولها عز وإن المعمور في جانب الشمال أكثر منه في جانب الجنوب وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ أي يوم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 14 القيامة لأنه يجمع فيه الخلائق قال الله تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ [التغابن: 9] وقيل: تجمع فيه الأرواح والأشباح، وقيل: الأعمال والعمال، والإنذار يتعدى إلى مفعولين وقد يستعمل ثانيهما بالباء وقد حذف هاهنا ثاني مفعول الأول وهو يَوْمَ الْجَمْعِ والمراد به عذابه وأول مفعول الثاني وهو أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها فقد حذف من الأول ما أثبت في الثاني ومن الثاني ما أثبت في الأول وذلك من الاحتباك. وقال جار الله: الأول عام في الإنذار بأمور الدنيا والآخرة ثم خص بقوله تعالى: وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ يوم القيامة زيادة في الإنذار وبيانا لعظمة أهواله لأن الإفراد بالذكر يدل عليه وكذلك إيقاع الإنذار عليه ثانيا والظاهر عليه أن حذف المفعول الثاني من الأول لإفادة العموم وإن كان حذف الأول من الثاني لذلك أيضا وتنذر كل أحد يوم الجمع، وقيل: يوم الجمع ظرف فيكون المفعولان محذوفين وقرىء «لينذر» بياء الغيبة على أن الفاعل ضمير القرآن لعدم حسن الالتفات هاهنا لا رَيْبَ فِيهِ اعتراض في آخر الكلام مقرر لما قبله ويحتمل الحالية من يَوْمَ الْجَمْعِ أو الاستئناف فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ أي بعد جمعهم في الموقف فإنهم يجمعون فيه أولا ثم يفرقون بعد الحساب، وَفَرِيقٌ مبتدأ وفِي الْجَنَّةِ صفته والخبر محذوف وكذا فَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ أي منهم فريق كائن في الجنة ومنهم فريق كائن في النار، وضمير منهم للمجموعين لدلالة الجمع عليه، وجملة المبتدأ والخبر استئناف في جواب سؤال تقديره ثم كيف يكون حالهم؟ أو حال ولا ركاكة فيه واشتراط الواو فيه غير مسلم، وجوز كون فَرِيقٌ فاعلا للظرف المقدر، وفيه ضعف، وكونه مبتدأ والظرف المقدر في موضع الصفة له وفي الجنة خبره أي فَرِيقٌ كائن منهم مستقر في الجنة، وكونه مبتدأ خبره ما بعده من غير أن يكون هناك ظرف مقدر واقع صفة، وساغ الابتداء بالنكرة لأنها في سياق التفصيل والتقسيم كما في قوله: فثوب لبست وثوب أجر. وكونه خبره مبتدأ محذوف أي المجموعون فريق إلخ. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «فريقا وفريقا» بنصبهما فقيل: هو على الحال من مقدر أي افترقوا أي المجموعون فريقا وفريقا أو من ضمير جمعهم المقدر لأن أل قامت مقامه أي وتنذر يوم جمعهم متفرقين وهو من مجاز المشارفة أي مشارفين للتفرق أو الحال مقدرة فلا يلزم كون افتراقهم في حال اجتماعهم أو يقال إن اجتماعهم في زمان واحد لا ينافي افتراق أمكنتهم كما تقول: صلوا في وقت واحد في مساجد متفرقة فالمراد متفرقين في داري الثواب والعقاب، وإذا أريد بالجمع جمع الأرواح بالأشباح أو الأعمال بالعمال لا يحتاج إلى توفيق أصلا، وجوز كون النصب بتنذر المقدر أو المذكور والمعنى تنذر فريقا من أهل الجنة وفريقا من أهل السعير لأن الإنذار ليس في الجنة والسعير ولا يخفى تكلفه وَلَوْ شاءَ اللَّهُ جعلهم أمة واحدة لَجَعَلَهُمْ أي في الدنيا أُمَّةً واحِدَةً مهتدين أو ضالين وهو تفصيل لما أجمله ابن عباس في قوله: على دين واحد، فمعنى قوله تعالى: وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ أنه تعالى يدخل في رحمته من يشاء أن يدخله فيها ويدخل من يشاء في عذابه أن يدخله فيه ولا ريب في أن مشيئته تعالى لكل من الإدخالين تابعة لاستحقاق كل من الفريقين لدخول ما أدخله ومن ضرورة اختلاف الرحمة والعذاب اختلاف حال الداخلين فيهما قطعا فلم يشأ جعل الكل أمة واحدة بل جعلهم فريقين وإنما قيل وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ وكان الظاهر أن يقال ويدخل من يشاء في عذابه ونقمته للإيذان بأن الإدخال في العذاب من جهة الداخلين بموجب سوء اختيارهم لا من جهته عزّ وجلّ كما في الإدخال في الرحمة، واختار الزمخشري كون المراد أمة واحدة مؤمنين وهو ما قاله مقاتل على دين الإسلام كما في قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى [الأنعام: 35] وقوله سبحانه: وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها [السجدة: 13] والمعنى ولو شاء الله تعالى مشيئة قدرة لقسرهم على الإيمان ولكنه سبحانه شاء مشيئة حكمة وكلفهم وبنى أمرهم على ما يختارون ليدخل المؤمنين في الجزء: 13 ¦ الصفحة: 15 رحمته وهم المرادون بقوله تعالى مَنْ يَشاءُ وترك الظالمين بغير ولي ولا نصير، والكلام متعلق بقوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ كالتعليل للنهي عن شدة حرصه صلّى الله عليه وسلّم على إيمانهم، فالظالمون مظهر أقيم مقام ضمير المتخذين ليفيد أن ظلمهم علة لما بعده أو هو للجنس ويتناولهم تناولا أوليا، وعدل عن الظاهر إلى ما في النظم الجليل إذ الكلام في الإنذار وهو أبلغ في تخويفهم لإشعاره بأن كونهم في العذاب أمر مفروغ منه وإنما الكلام في أنه بعد تحتمه هل لهم من يخلصهم بالدفع أو الرفع فإذا نفي ذلك علم أنهم في عذاب لا خلاص منه. وتعقب بأن فرض جعل الكل مؤمنين يأباه تصدير الاستدراك بإدخال بعضهم في رحمته تعالى إذ الكل حينئذ داخلون فيها فكان المناسب حينئذ تصديره بإخراج بعضهم من بينهم وإدخالهم في عذابه، وربما يقال: حيث إن الآية متعلقة بما سمعت كان المراد ولو شاء الله تعالى لجعل الجميع مؤمنين كما تريد وتحرص عليه ولكنه سبحانه لم يشأ ذلك بل جعل بعضهم مؤمنا كما أردت وجعل بعضهم الآخر وهم أولئك المتخذون من دونه أولياء كفارا لا خلاص لهم من العذاب حسبما تقتضيه الحكمة وكان التصدير بما صدر به مناسبا كما لا يخفى على من له ذوق بأساليب الكلام إلا أن الظاهر على هذا أدخل من شاء دون يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ لكن عدل عنه إليه حكاية للحال الماضية، وقال شيخ الإسلام: الذي يقتضيه سياق النظم الكريم وسياقه أن يراد الاتحاد في الكفر كما في قوله تعالى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ [البقرة: 213] الآية على أحد الوجهين، فالمعنى ولو شاء الله تعالى لجعلهم أمة واحدة متفقة على الكفر بأن لا يرسل إليه رسولا لينذرهم ما ذكر من يوم الجمع وما فيه من ألوان الأهوال فيبقوا على ما هم عليه من الكفر ولكن يدخل من يشاء في رحمته سبحانه أي شأنه عز شأنه ذلك فيرسل إلى الكل من ينذرهم ما ذكر فيتأثر بعضهم بالإنذار فيصرفون اختيارهم إلى الحق فيوفقهم الله تعالى للإيمان والطاعات ويدخلهم في رحمته عزّ وجلّ ولا يتأثر به الآخرون ويتمادون في غيبهم وهم الظالمون فيبقون في الدنيا على ما هم عليه من الكفر ويصيرون في الآخرة إلى السعير من غير ولي يلي أمرهم ولا نصير يخلصهم من العذاب انتهى. ولا يخفى أن بين قوله تعالى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً الآية، وقوله سبحانه: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً بالمعنى الذي اختاره هنا فيهما نوع تناف فتدبر جميع ذلك والله تعالى الموفق أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ جملة مستأنفة مقررة لما قبلها من انتفاء أن يكون للظالمين ولي أو نصير وكلام الكشاف يومي إلى أنه متصل بقوله تعالى: «والذين اتخذوا» إلخ على معنى دع الاهتمام بشأنهم واقطع الطعم في إيمانهم وكيت وكيت أليسوا الذين اتخذوا من دون الله تعالى أولياء وهو سبحانه الولي الحقيقي القادر على كل شيء وعدلوا عنه عزّ وجلّ إلا ما لا نسبة بينه تعالى وبينه أصلا وإن قوله سبحانه وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا الآية اعتراض مؤكد لمضمون الآيتين، وأَمِ على القولين منقطعة وهي تقدر في الأغلب ببل والهمزة، وقدرها جماعة هاهنا بهما إلا أن بل على القول الثاني للإضراب وعلى القول الأول للانتقال من بيان ما قبلها إلى بيان ما بعدها، والهمزة قيل: لإنكار الواقع واستقباحه، وقيل: لا بل لإنكار الوقوع ونفيه على أبلغ وجه وآكده إذ المراد بيان أن ما فعلوا ليس اتخاذ الأولياء في شيء لأن ذلك فرع كون الأصنام أولياء وهو أظهر الممتنعات أي بل اتخذوا متجاوزين الله تعالى أولياء من الأصنام وغيرها فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ قيل: هو جواب شرط مقدر أي إن أرادوا وليا بحق فالله تعالى هو الولي بحق لا ولي بحق سواه عزّ وجلّ، وكونه جواب الشرط على معنى الإخبار ونحوه. وقال في البحر: لا حاجة إلى اعتبار شرط محذوف والكلام يتم بدونه، ولعله يريد ما قيل: إنه عطف على ما الجزء: 13 ¦ الصفحة: 16 قبله وأنه تعليل للإنكار المأخوذ من الاستفهام كقولك أتضرب زيدا فهو أخوك أي لا ينبغي لك ضربه فإنه أخوك. وتعقب بأن المعروف في مثله استعماله بالواو وإنما يحسن التعليل في صريح الإنكار، ولا يناسب معنى المضي أيضا وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى أي شأنه ذلك نحو فلان يقري الضيف ويحمي الحريم وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فهو سبحانه الحقيق بأن يتخذ وليا فليخصوه بالاتخاذ دون من لا يقدر على شيء ما أصلا. وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ إلى آخره حكاية لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للمؤمنين أي ما خالفكم الكفار فيه من أمور الدين كاتخاذ الله تعالى وحده وليا فاختلفتم أنتم وهو فَحُكْمُهُ راجع إِلَى اللَّهِ وهو إثابة المحقين وعقاب المبطلين، ويجوز أن يكون كلاما من جهته تعالى متضمنا التسلية ويكون قوله تعالى: ذلِكُمُ إلخ بتقدير قل، والإمام اعتبره من أول الكلام، وأيّا ما كان فالإشارة إليه تعالى من حيث اتصافه بما تقدم من الصفات على ما قاله الطيبي من كونه تعالى هو يحيي الموتى وكونه سبحانه على كل شيء قدير وكونه عزّ وجلّ ما اختلفوا فيه فحكمه إليه، وقال في الإرشاد: أي ذلكم الحاكم العظيم الشأن اللَّهُ رَبِّي مالكي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في مجامع أموري خاصة لا على غيره وَإِلَيْهِ أُنِيبُ أرجع في كل ما يعن لي من معضلات الأمور لا إلى أحد سواه وحيث كان التوكل أمرا واحدا مستمرا والإنابة متعددة متجددة حسب تحدد موادها أوثر في الأول صيغة الماضي وفي الثاني صيغة المضارع، وقيل: وما اختلفتم فيه وتنازعتم من شيء من الخصومات فتحاكموا فيه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا تؤثروا على حكومته حكومة غيره كقوله تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء: 59] . وقيل: وما اختلفتم فيه من شيء من تأويل آيه واشتبه عليكم فارجعوا في بيانه إلى المحكم من كتاب الله تعالى والظاهر من سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: وما وقع بينكم الخلاف فيه من العلوم التي لا تتعلق بتكليفكم ولا طريق لكم إلى علمه فقولوا الله تعالى أعلم كمعرفة الروح وأورد على الكل أنه مخالف للسياق لأن الكلام مسوق للمشركين وهو على ذلك مخصوص بالمؤمنين، وظاهر كلام الإمام اختيار الاختصاص فإنه قال في وجه النظم الكريم: إنه تعالى كما منع رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يحمل الكفار على الإيمان كذلك منع المؤمنين أن يشرعوا معه في الخصومات والمنازعات، وذكر أنه احتج نفاة القياس به فقالوا إما أن يكون المراد منه وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه مستفاد من نص الله تعالى أو من القياس على ما نص سبحانه عليه والثاني باطل لأنه يقتضي أن تكون كل الأحكام مبنية على القياس فتعين الأول، ولقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون المراد فحكمه معروف من بيان الله تعالى سواء كان ذلك البيان بالنص أو بالقياس، وأجيب عنه بأن المقصود من التحاكم إلى الله تعالى قطع الاختلاف لقوله تعالى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ والرجوع إلى القياس مما يقوي الاختلاف فوجب الرجوع إلى النصوص اهـ وأنت تعلم أن النصوص غير كافية في جميع الأحكام وأن الآية على ما سمعت أولا ما لا يكاد يصح الاستدلال بها على هذا المطلب من أول الأمر. وفي الكشاف لا يجوز حمل الاختلاف فيها على اختلاف المجتهدين في أحكام الشريعة لأن الاجتهاد لا يجوز بحضرة الرسول الله ولا يخفى عليك أن هذه المسألة مختلف فيها فقال الأكثرون بجواز الاجتهاد المذكور عقلا ومنهم من أحاله، ثم المجوزون منه من منع وقوع التعبد به وهو مذهب أبي علي. وابنه أبي هاشم، وإليه صاحب الكشاف وذكر ما يخالفه نقل لمذهب الغير وإن لم يعقبه برد كما هو عادته في الأكثر ومنهم من ادعى الوقوع ظنا ومنهم من جزم بالوقوع، وقيل: إنه الأصح عند الأصوليين ومنهم من توقف، والبحث فيها مستوفى في أصول الفقه، والذي نقوله هنا: إن الاستدلال بالآية على منعه لا يكاد يتم وأقل ما يقال فيه: إنه استدلال بما فيه احتمال، وقوله تعالى: فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خبر آخر لذلكم أو خبر لمبتدأ محذوف أي هو فاطر أو صفة لربي أو بدل منه أو مبتدأ خبره جَعَلَ لَكُمْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 17 وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما بالجر على أنه بدل من ضمير إِلَيْهِ أو عَلَيْهِ أو وصف للاسم الجليل في قوله تعالى: إِلَى اللَّهِ وما بينهما جملة معترضة بين الصفة والموصوف وقد تقدم معنى فاطِرُ وجعل أي خلق مِنْ أَنْفُسِكُمْ من جنسكم أَزْواجاً نساء. وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مر غير مرة وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً أي وخلق للأنعام من جنسها أزواجا كما خلق لكم من أنفسكم أزواجا ففيه جملة مقدرة لدلالة القرينة أو وخلق لكم من الأنعام أصنافا أو ذكورا وإناثا يَذْرَؤُكُمْ يكثركم يقال ذرأ الله تعالى الخلق بثهم وكثرهم والذر والذر اخوان فِيهِ أي فيما ذكر من التدبير وهو أن جعل سبحانه للناس والأنعام أزواجا يكون بينهم توالد وجعل التكثر في هذا الجعل لوقوعه في خلاله وأثنائه فهو كالمنبع له، ويجوز أن تكون في للسببية وغلب في يَذْرَؤُكُمْ المخاطبون العقلاء على الغيب مما لا يعقل فهناك تغليب واحد اشتمل على جهتي تغليب وذلك لأن الأنعام غائب غير عاقل فإذا أدخلت في خطاب العقلاء كان فيه تغليب العقل والخطاب معا، وهذا التغليب. أعني التغليب لأجل الخطاب والعقل. من الأحكام ذات العلتين وهما هنا الخطاب والعقل وهذا هو الذي عناه جار الله وهو مما لا بأس فيه لأن العلة ليست حقيقة، وزعم ابن المنير أن الصحيح أنهما حكمان متباينان غير متداخلين أحدهما. مجيئه على نعت ضمير العقلاء أعم من كونه مخاطبا أو غائبا. والثاني مجيئه بعد ذلك على نعت الخطاب فالأول لتغليب العقل والثاني لتغليب العقل والثاني لتغليب الخطاب ليس بشيء ولا يحتاج إليه، وكلام صاحب المفتح يحتمل اعتبار تغليبين. أحدهما تغليب المخاطبين على الغيب. وثانيهما تغليب العقلاء على ما لا يعقل، وقال الطيبي. إن المقام يأبى ذلك لأنه يؤدي إلى أن الأصل يذرؤكم ويذرؤها ويذرؤكن ويذرؤها لكن الأصل يذرؤكم ويذرؤها لا غير لأن- كم- في يَذْرَؤُكُمْ هو كم في جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً بعينه لكن غلب هاهنا على الغيب فليس في يذرؤكم إلا تغليب واحد انتهى، ثم إنه لا ينبغي أن يقال: إن التذرئة حكم علل في الآية بعلتين. إحداهما جعل الناس أزواجا. والثانية جعل الأنعام أزواجا ويجوز أن يكون هو الذي عناه جار الله لأن الحكم هو البث المطلق وعلته المجموع وإن جعل كل جزء منه علة فكل بث حكم أيضا فأين الحكم الواحد المتعدد علته فافهم، وعن ابن عباس أن معنى يَذْرَؤُكُمْ فيه يجعل لكم فيه معيشة تعيشون بها، وقريب منه قول ابن زيد يرزقكم فيه، والظاهر عليه أن الضمير لجعل الأزواج من الأنعام. وقال مجاهد أي يخلقكم نسلا بعد نسل وقرنا بعد قرن، ويتبادر منه أن الضمير للجعل المفهوم من جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً ويجوز أن يكون كما في الوجه الأول ويفهم منه أن الذرء أخص من الخلق وبه صرح ابن عطية قال: ولفظة ذرأ على تزيد على لفظة خلق معنى آخر ليس في خلق وهو توالي الطبقات على مر الزمان، وقال العتبي: ضمير فِيهِ للبطن لأنه في حكم المذكور والمراد يخلقكم في بطون الإناث، وفي رواية عن ابن زيد أنه لما خلق من السموات والأرض، وهو كما ترى ما قبله والله تعالى أعلم لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ نفي للمشابهة من كل وجه ويدخل في ذلك نفي أن يكون مثله سبحانه شيء يزاوجه عزّ وجلّ وهو وجه ارتباط هذه الآية بما قبلها أو المراد ليس مثله تعالى شيء في الشؤون التي من جملتها التدبير البديع السابق فترتبط بما قبلها أيضا، والمراد من مثله ذاته تعالى فلا فرق بين ليس كذاته شيء وليس كمثله شيء في المعنى إلا أن الثاني كناية مشتملة على مبالغة وهي أن المماثلة منفية عمن يكون مثله وعلى صفته فكيف عن نفسه وهذا لا يستلزم وجود المثل إذ الفرض كاف في المبالغة ومثل هذا شائع في كلام العرب نحو قول أوس بن حجر: ليس كمثل الفتى زهير ... خلق يوازيه في الفضائل الجزء: 13 ¦ الصفحة: 18 وقول الآخر: وقتلى كمثل جذوع النخيل ... تغشاهم مسبل منهمر وقول الآخر: سعد بن زيد إذا أبصرت فضلهم ... ما أن كمثلهم في الناس من أحد وقد ذكر ابن قتيبة وغيره أن العرب تقيم المثل مقام النفس فتقول مثلك لا يبخل وهي تريد أنت لا تبخل أي على سبيل الكناية وقد سمعت فائدتها. وفي الكشف أنها الدلالة على فضل إثبات لذلك الحكم المطلوب وتمكينه وذلك لوجهين: أحدهما أنه فرض جامع يقتضي ذلك فإذا قلت مثلك لا يبخل دل على أن موجب عدم البخل موجود بخلافه إذا قلت أنت لا تبخل. والثاني أنه إذا جعل من جماعة لا يبخلون يكون أدل على عدم البخل لأنه جعل معدودا من جملتهم، ومن ذلك قولهم قد أيفعت لداته أي أترابه وأمثاله في السن، وقول رقيقة بنت أبي صيفي بن هشام في سقيا عبد المطلب: ألا وفيهم الطيب الطاهر لذاته تعني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى غير ذلك، وقيل: إن مثلا بمعنى الصفة وشيئا عبارة عنها أيضا حكاه الراغب ثم قال: والمعنى كصفته تعالى صفة تنبيها على أنه تعالى وإن وصف بكثير مما يوصف البشر فليس تلك الصفات له عزّ وجلّ حسب ما يستعمل في البشر. وذهب الطبري وغيره إلى أن مثلا زائدة للتأكيد كالكاف في قوله: بالأمس كانوا في رخاء مأمول ... فأصبحت مثل كعصف مأكول وقول الآخر: أهل عرفت الدار بالغريين ... وصاليات ككما يؤثفين وتعقبه أبو حيان بأنه ليس يجيد لأن مثلا اسم والأسماء لا تزاد بخلاف الكاف فإنها حرف فتصلح للزيادة، ونسب الزجاج وابن جني والأكثرين القول بأن الكاف زائدة للتأكيد، ورده ابن المنير بأن الكاف تفيد تأكيد التشبيه لا تأكيد النفي ونفي الماثلة المهملة أبلغ من نفي المماثلة المؤكدة فليس الآية نظير شطري البيتين، ويقال نحوه فيما نقل عن الطبري ومن معه، وأجيب بأنه يفيد تأكيد التشبيه إن سلبا فسلب وإن إثباتا فإثبات فيندفع ما أورد، نعم الأول هو الوجه، والمثل قال الراغب: أعم الألفاظ الموضوعة للمشابهة وذاك أن الند يقال لما يشارك في الجوهر فقط والشبه لما يشارك في الكيفية فقط والمساوي لما يشارك في الكيفية فقط والشكل لما يشارك في القدر والمساحة فقط والمثل عام في جميع ذلك، ولهذا لما أراد الله تعالى نفي الشبه من كل وجه خصه سبحانه بالذكر، وذكر الإمام الرازي أن المثلين عند المتكلمين هما اللذان يقوم كل منهما مقام الآخر في حقيته وماهيته وحمل المثل في الآية على ذلك أن لا يساوي الله تعالى في حقيقة الذات شيء، وقال لا يصح أن يكون المعنى ليس كمثله تعالى في الصفات شيء لأن العباد يوصفون بكونهم عالمين قادرين كما أن الله تعالى يوصف بذلك وكذا يوصفون بكونهم معلومين مذكورين مع أن الله تعالى يوصف بذلك، وأطال الكلام في هذا المقام وفي القلب منه شيء. وفي شرح جوهره التوحيد أعلم أن قدماء المعتزلة كالجبائي وابنه أبي هاشم ذهبوا إلى أن المماثلة هي المشاركة في أخص صفات النفس فمماثلة زيد لعمر ومثلا عندهم مشاركته إياه في الناطقية فقط، وذهب المحققون من الماتريدية إلى أن المماثلة هي الاشتراك في الصفات النفسية كالحيوانية والناطقية لزيد وعمرو. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 19 ومن لازم الاشتراك في الصفة النفسية أمران: أحدهما الاشتراك فيما يجب ويجوز ويمتنع. وثانيهما أن يسد كل منهما مسد الآخر والمتماثلان وإن اشتركا في الصفات النفسية لكن لا بد من اختلافهما بجهة أخرى ليتحقق التعدد والتمايز فيصح التماثل، ونسب إلى الأشعري أنه يشترط في التماثل التساوي من كل وجه. واعترض. بأنه لا تعدد حينئذ فلا تماثل، وبأن أهل اللغة مطبقون على صحة قولنا: زيد مثل عمرو في الفقه إذا كان يساويه فيه ويسد مسده وإن اختلف في كثير من الأوصاف، وفي الحديث «الحنطة بالحنطة مثلا بمثل» وأريد به الاستواء في الكيل دون الوزن وعدد الحبات وأوصافها، ويمكن أن يجلب بأن مراده التساوي في الوجه الذي به التماثل حتى أن زيدا وعمرا لو اشتركا في الفقه وكان بينهما مساواة فيه بحيث ينوب أحدهما مناب الآخر صح القول بأنهما مثلان فيه وإلا فلا يخالف مذهب الماتريدية، وفيه أيضا أنه عزّ وجلّ ليس له سبحانه مماثل في ذاته وصفاته فلا يسد مسد ذاته تعالى ذات ولا مسد صفته جلت صفته صفة، والمراد بالصفة الصفة الحقيقية الوجودية، ومن هنا تعلم ما في قول الإمام لا يصح أن يكون المعنى ليس كمثله تعالى في الصفات شيء لأن العباد يوصفون بكونهم عالمين قادرين كما أن الله سبحانه يوصف بذلك فإن معنى ذلك أنه تعالى ليس مثل صفته سبحانه صفة، ومن المعلوم البين أن علم العباد وقدرتهم ليسا مثل علم الله عزّ وجلّ وقدرته جل وعلا أي ليسا سادّين مسدهما. وأما كونه تعالى مذكورا ونحوه فهو ليس من الصفات المعتبرة القائمة بذاته تعالى كما لا يخفى، وزعم جهم بن صفوان أن المقصود من هذه الآية بيان أنه تعالى ليس مسمى باسم الشيء لأن كل شيء فإنه يكون مثلا لمثل نفسه فقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ معناه ليس مثل مثله شيء وذلك يقتضي أن لا يكون هو سبحانه مسمى باسم الشيء فلم يجعل المثل كناية عن الذات على ما سمعت ولا حكم بزيادته ولا بزيادة الكاف ومع هذا وإغماض العين عما في كلامه لا يتم له مقصود إذ لنا أن نجعل ليس مثل مثله شيء نفيا للمثل على سبيل الكناية أيضا لكن بوجه آخر وهو أنه نفي للشيء بنفي لازمه لأن نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم كما يقال: ليس لأخي زيد أخ فأخو زيد ملزوم والأخ لازمه لا بد لأخي زيد من أخ هو زيد فنفيت هذا اللازم والمراد نفي ملزومه أي ليس لزيد أخ إذ لو كان له أخ لكان لذلك الأخ أخ هو زيد فكذا نفيت أن يكون لمثل الله تعالى مثل، والمراد نفي مثله سبحانه وتعالى إذ لو كان له مثل لكان هو مثل إذ التقدير أنه موجود، ومغايرته لما تقدم أن مبناه إثبات اللزوم بين وجود المثل ووجود مثل ليكون نفي اللازم كناية عن نفي الملزوم من غير ملاحظة والتفات إلى أن حكم الأمثال واحد وأنه يجري في النفي دون الإثبات فإن نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم دون العكس بخلاف ما تقدم فإن مبناه ابن حكم المتماثلين واحد وإلا لم يكونا متماثلين ولا يحتاج إلى إثبات اللزوم بين وجود المثل ومثل المثل وإنه يجري في النفي والإثبات كما سمعت من الأمثلة وليس ذاك من المذهب الكلامي في شيء، أما أولا فلأنه إيراد الحجة وليس في الآية اشعار بها فضلا عن الإيراد، وأما ثانيا فلأنه حينئذ تكون الحجة قياسا استثنائيا استثني فيه نقيض التالي هكذا لو كان له سبحانه مثل لكان هو جل شأنه مثل مثله لكنه ليس مثلا لمثله فلا بد من بيان بطلان التالي حتى تتم الحجة إذ ليس بينا بنفسه بل وجود المثل ووجود مثل المثل في مرتبة واحدة في العلم والجهل لا يجوز جعل أحدهما دليلا على الآخر، لكن قيل: إن المفهوم من ليس مثل مثله شيء على ذلك التقدير نفي أن يكون مثل لمثله سواه تعالى بقرينة الإضافة كما أن المفهوم من قول المتكلم: إن دخل داري أحد فكذا غير المتكلم، وأيضا لا نسلم أنه لو وجد له سبحانه مثل لكان هو جلّ وعلا مثل مثله لأن وجود مثله سبحانه محال والمحال جاز أن يستلزم المحال. وأجيب عن الأول أن اسم ليس شَيْءٌ وهو نكرة في سياق النفي فتعم الآية نفي شيء يكون مثلا لمثله، ولا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 20 شك أنه على تقدير وجود المثل يصدق عليه أنه شيء مثل لمثله، والإضافة لا تقتضي خروجه عن عموم شيء بخلاف المثال المذكور فإن القرينة العقلية دلت على تخصيص أحد بغير المتكلم لأن مقصوده المنع عن دخول الغير، وعن الثاني أن وجود المثل لشيء مطلقا يستلزم المثل مع قطع النظر عن خصوصية ذلك الشيء وذلك بين فالمنع بتجويز أن يكون لذاته تعالى مثل ولا يكون هو سبحانه مثلا لمثله مكابرة، ثم إن هذا الوجه لكثرة ما فيه من القيل والقال بالنسبة إلى غيره من الأوجه السابقة لم نذكره عند ذكرها وهو على علاته أحسن من القول بالزيادة كما لا يخفى على من وفقه الله عزّ وجلّ وَهُوَ السَّمِيعُ المدرك إدراكا تاما لا على طريق التخيل والتوهم لجميع المسموعات ولا على طريق تأثر حاسة ولا وصول هواء الْبَصِيرُ المدرك إدراكا تاما لجميع المبصرات أو الموجودات لا على سبيل التخيل والتوهم ولا على طريق تأثر حاسة ولا وصول شعاع فالسمع والبصر صفتان غير العلم على ما هو الظاهر وأرجعهما بعضهم إلى صفة العلم، وتمام الكلام على ذلك في الكلام، وقدم سبحانه نفي المثل على إثبات السمع والبصر لأنه أهم في نفسه وبالنظر إلى المقام. لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تقدم تفسيره في سورة الزمر وكذا قوله تعالى: يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ. وقرىء «يقدّر» بالتشديد إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ مبالغ في الإحاطة به فيفعل كل ما يفعل جلّ شأنه على ما ينبغي أن يفعل عليه، والجملة تعليل لما قبلها وتمهيد لما بعدها من قوله تعالى: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 21 شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى وإيذان بأن ما شرع سبحانه لهم صادر عن كمال العلم والحكمة كما أن بيان نسبته إلى المذكورين عليهم الصلاة والسلام تنبيه على كونه دينا قديما أجمع عليه الرسل، والخطاب لأمته عليه الصلاة والسلام أي شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ومن بعده من أرباب الشرائع وأولي العزم من مشاهير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأمرهم به أمرا مؤكدا، وتخصيص المذكورين بالذكر لما أشير إليه من علو شأنهم وعظم شهرتهم ولاستمالة قلوب الكفرة إلى الاتباع لاتفاق كل على نبوة بعضهم واختصاص اليهود بموسى عليه السلام والنصارى بعيسى عليه السلام وإلا فما من نبي إلا وهو مأمور بما أمروا به من إقامة دين الإسلام وهو التوحيد وما لا يختلف باختلاف الأمم وتبدل الأعصار من أصول الشرائع والأحكام كما ينبىء عنه التوصية فإنها معربة عن تأكيد الأمر والاعتناء بشأن المأمور به، والمراد بايحائه إليه صلّى الله عليه وسلّم إما ما ذكر في صدر السورة الكريمة وفي قوله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [الشورى: 7] الآية وإما ما يعمهما وغيرهما ما وقع في سائر المواقع التي من جملتها قوله تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [النحل: 123] وقوله سبحانه: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [الكهف: 110] وغير ذلك، وإيثار الإيحاء على ما قبله وما بعده من التوصية لمراعاة ما وقع في الآية المذكورة ولما في الإيحاء من التصريح برسالته عليه الصلاة والسلام القامع لإنكار الكفرة، والالتفات إلى نون العظمة لإظهار كمال الاعتناء بايحائه، وفي ذلك إشعار بأن شريعته صلّى الله عليه وسلّم هي الشريعة المعتنى بها غاية الاعتناء ولذا عبر فيها بالذي التي هي أصل الموصولات وذلك هو السر في تقديم الذي أوحى إليه عليه الصلاة والسلام على ما بعده مع تقدمه عليه زمانا، وتقديم توصية نوع عليه السلام للمسارعة إلى بيان كون المشروع لهم دينا قديما، وقد قيل إنه عليه الصلاة والسلام أول الرسل، وتوجيه الخطاب إليه عليه الصلاة والسلام بطريق التلوين للتشريف والتنبيه على أنه تعالى شرعه لهم على لسانه صلّى الله عليه وسلّم أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ أي دين الإسلام الذي هو توحيد الله تعالى وطاعته والإيمان بكتبه ورسله وبيوم الجزاء وسائر ما يكون العبد به مؤمنا، والمراد بإقامته تعديل أركانه وحفظه من أن يقع فيه زيغ والمواظبة عليه، وأَنْ مصدرية وتقدم الكلام في وصلها بالأمر والنهي أو مخففة من الثقيلة لما في شَرَعَ من معنى العلم، والمصدر إما منصوب على أنه بدل من مفعول شَرَعَ والمعطوفين عليه أو مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف والحملة جواب عن سؤال نشأ من إبهام المشروع كأنه قيل: وما ذاك؟ فقيل: هو أن أقيموا الدين، وقيل: هو مجرور على أنه بدل من ضمير بِهِ ولا يلزمه بقاء الموصول بلا عائد لأن المبدل منه ليس في نية الطرح حقيقة، نعم قال شيخ الإسلام: إنه ليس بذاك لما أنه مع إفضائه إلى خروجه عن حيز الإيحاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم مستلزم لكون الخطاب في النهي الآتي عن التفرق للأنبياء المذكورين عليهم السلام وتوجيه النهي إلى أممهم تمحل ظاهر مع أن الأظهر أنه متوجه إلى أمته صلّى الله عليه وسلّم وأنهم المتفرقون، ثم بين ما استظهره وسنشير إليه إن شاء الله تعالى. وجوز كونه بدلا من الدِّينِ ويجوز كون أَنْ مفسرة فقد تقدمها ما يتضمن معنى القول دون حروفه والخطاب في أَقِيمُوا وقوله تعالى: وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ على ما اختاره غير واحد من الأجلة شامل للنبي صلّى الله عليه وسلّم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 22 وأتباعه وللأنبياء والأمم قبلهم وضمير فِيهِ للدين أن ولا تتفرقوا في الدين الذي هو عبارة عما تقدم من الأصول بأن يأتي به بعض ولا يأتي بعض ويأتي بعض ببعض منه دون بعض وهو مراد مقاتل أي لا تختلفوا فيه، ولا يشمل هذا النهي عن الاختلاف في الفروع فإنها ليست من الأصول المرادة هنا ولم يتحد بها النبيون كما يؤذن بذلك قوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة: 48] وبعضهم أدخل بعض الفروع في أصول الدين المرادة هنا من الدين. قال مجاهد: لم يبعث نبي إلا أمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإقرار بالله تعالى وطاعته سبحانه وذلك إقامة الدين، وقال الحافظ أبو بكر بن العربي: لم يكن مع آدم عليه السلام إلا بنوه ولم يفرض له الفرائض ولا شرعت له المحارم وإنما كان منبها على بعض الأمور مقتصرا على بعض ضروريات المعاش واستمر الأمر إلى نوح عليه السلام فبعثه الله تعالى بتحريم الأمهات والبنات ووظف عليه الواجبات وأوضح له الأدب في الديانات ولم يزل ذلك يتأكد بالرسل ويتناصر بالأنبياء واحدا بعد واحد شريعة إثر شريعة حتى ختمه سبحانه بخير الملل على لسان أكرم الرسل، فمعنى الآية شرعنا لكم مما شرعنا للأنبياء دينا واحدا في الأصول وهي التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج والتقرب بصالح الأعمال والصدق والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وصلة الرحم وتحريم الكبر والزنا والإيذاء للخلق والاعتداء على الحيوان واقتحام الدناءات وما يعود بخرم المروءات فهذا كله مشروع دينا واحدا وملة متحدة لم يختلف على ألسنة الأنبياء وإن اختلفت أعدادهم، ومعنى أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ اجعلوه قائما أي دائما مستمرا من غير خلاف فيه ولا اضطراب انتهى، ولعله أراد بالصلاة والزكاة والصيام والحج مطلقها لا ما نعرفه في شرعنا منها فإن الصلوات الخمس والزكاة المخصوصة وصيام شهر رمضان من خواص هذه الأمة على الصحيح، والظاهر أن حج البيت لم يشرع لأمة موسى وأمة عيسى عليهما السلام ولا لأكثر الأمم قبلهما على أن الآية مكية ولم تشرع الزكاة المعروفة وصيام رمضان إلا في المدينة، وبالجملة لا شك في اختلاف الأديان في الفروع، نعم لا يبعد اتفاقها فيما هو من مكارم الأخلاق واجتناب الرذائل كَبُرَ أي عظم وشق عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ على سبيل الاستمرار التجددي من التوحيد ورفض عبادة الأصنام ويشعر بإرادته التعبير بالمشركين وهو أصل الأصول وأعظم ما شق عليهم كما تنبىء بذلك الآيات أو ما تدعوهم إليه من إقامة الدين وعدم التفرق فيه اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ تسلية له صلّى الله عليه وسلّم بأن منهم من يجيب، ويَجْتَبِي من الاجتباء بمعنى الاصطفاء والضمير في إِلَيْهِ لله تعالى كما ذكر محيي السنة وغيره وكذا الضمير في قوله تعالى: وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ أي يصطفي إليه سبحانه من يشاء اصطفاءه ويخصصه سبحانه بفيض إلهي يتحصل له منه أنواع النعم ويهدي عزّ وجلّ بالإرشاد والتوفيق من يقبل إليه تعالى شأنه، وعدي الاجتباء بإلى لما فيه من الجمع على ما يفهم من كلام الراغب، وجعله جمع من الجباية بمعنى الجمع يقال: جبيت الماء في الحوض جمعته فيه فمنهم من اختار جعل ضمير إِلَيْهِ في الموضعين- لما- لما فيه من اتساق الضمائر أي يجتلب ويجمع من يشاء اجتلابه وجمعه إلى ما تدعوهم إليه، ومنهم من اختار جعله للدين لمناسبة معنوية هي اتحاد المتفرق فيه والمجتمع عليه والزمخشري اختار كونه من الجباية بمعنى الجمع وعود الضمير على الدين، وما ذكره محيي السنة وغيره. قال في الكشف: أظهر وأملأ بالفائدة، أما الثاني فللدلالة على أنه أهل الاجتباء غير أهل الاهتداء وكلتا الطائفتين هم أهل الدين والتوحيد الذين لم يتفرقوا فيه وعلى مختار طائفة واحدة. وأما الأول فلأن الاجتباء بمعنى الاصطفاء أكثر استعمالا ولأنه يدل على أن أهل الدين هم صفوة الله تعالى اجتباهم إليه واصطفاهم لنفسه سبحانه، وأما الذي آثره الزمخشري فكلام ظاهري بناه على أن الكلام في عدم التفرق الجزء: 13 ¦ الصفحة: 23 في الدين فناسب الجمع والانتهاء إليه، وقيل: ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ على معنى ما تدعوهم إلى الإيمان به والمراد به الرسالة أي ثقلت عليهم رسالتك وعظم لديهم تخصيصنا إياك بالرسالة والوحي دونهم وقوله تعالى: اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ رد عليهم على نحو اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: 124] وما قدمنا أظهر وَما تَفَرَّقُوا أي أمم الأنبياء بعد وفاة أنبيائهم كما في الكشف منذ بعث نوح عليه السلام في الدين الذي دعوا إليه واختلفوا فيه في وقت من الأوقات إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ من أنبيائهم بأن الفرقة ضلال وفساد وأمر متوعد عليه وهذا يؤيد ما دل عليه سابقا من أن الأمم القديمة والحديثة أمروا باتفاق الكلمة وإقامة الدين، والمراد بالعلم سببه مجازا مرسلا، ويجوز أن يكون التجوز في الإسناد، وأن يكون يكون الكلام بتقدير مضاف أي جاءهم سبب العلم، وقد يقال جاء مجاز عن حصل، والاستثناء على ما أشرنا إليه مفرغ من أعم الأوقات، وجوز أن يكون من أعم الأحوال أي ما تفرقوا في حال من الأحوال إلا حال من الأحوال إلا حال مجيء العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ أي عداوة على أن البغي الظلم والتجاوز والعداوة سبب له وهي الداعي للتفرق أو طلبا للدنيا والرياسة على أن البغي مصدر بغي بمعنى طلب وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ هي عدته تعالى بترك معاجلتهم بالعذاب إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى معلوم له سبحانه وهو يوم القيامة أو آخر أعمارهم القدرة لهم لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ باستئصال المبطلين حين افترقوا لعظم ما اقترفوا وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ هم أهل الكتاب الذين كانوا في عهده صلّى الله عليه وسلّم وقرأ زيد بن علي «ورّثوا» مبنيا للمفعول مشدد الواو لَفِي شَكٍّ مِنْهُ أي من كتابهم فلم يؤمنوا به حق الإيمان مُرِيبٍ مقلق أو مدخل في الريبة، والجملة اعتراض يؤكد أن تفرقهم ذلك باق في أعقابهم منضما إليه الشك في كتابهم مع انتسابهم إليه فهم تفرقوا بعد العلم الحاصل لهم من النبي المبعوث إليهم المصدق لكتابهم وتفرقوا قبله شكا في كتابهم فلم يؤمنوا به ولم يصدقوا حقه. فَلِذلِكَ أي إذا كان الأمر كما ذكر فلأجل ذلك التفرق ولما حدث بسببه من تشعب الكفر في الأمم السالفة شعبا فَادْعُ إلى الائتلاف والاتفاق على الملة الحنيفية القديمة وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ أي اثبت على الدعاء كما أوحي إليك، وقيل: الإشارة إلى قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ وما يتصل به ونقل عن الواحدي أي ولأجل ذلك من التوصية التي شوركت فيها مع نوح ومن بعده ولأجل ذلك الأمر بالإقامة والنهي عن التفرق فادع، وما ذكر أولا أولى لأن قوله تعالى: أَنْ أَقِيمُوا شمل النبي عليه الصلاة والسلام وأتباعه كما سمعت، ويدل عليه كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ فقوله تعالى: فَلِذلِكَ فَادْعُ إلخ لا يتسبب عنه لما يظهر من التكرار وهو تفرع الأمر عن الأمر، وأما تسببه عن تفرقهم فظاهر على معنى فلما أحدثوا من التفرق وأبدعوا فاثبت أنت على الدعاء الذي أمرت به واستقم وهذا ظاهر للمتأمل. ومن الناس من جعل المشار إليه الشرع السابق ولم يدخل فيه الأمر بالإقامة لئلا يلزم التكرار أي فلأجل أنه شرع لهم الدين القويم القديم الحقيق بأن يتنافس فيه المتنافسون فادع، وقيل: هو الكتاب، وقيل: هو العلم المذكور في قوله تعالى: جاءَهُمُ الْعِلْمُ وقيل: هو الشك ورجح بالقرب وليس بذاك، واللام على جميع الأقوال المذكورة للتعليل، وقيل: على بعضها هي بمعنى إلى صلة الدعاء فما بعدها هو المدعو إليه، وأنت تعلم أنه لا حاجة في إرادة ذلك إلى جعلها بمعنى إلى فإن الدعاء يتعدى بها أيضا كما في قوله: دعوت لما نابني مسورا ونقل ذلك عن الفراء والزجاج، وأيا ما كان فالفاء الأولى واقعة في جواب شرط مقدر كما أشرنا إليه والفاء الثانية مؤكدة للأولى، وقيل: كان الناس بعد الطوفان أمة واحدة موحدين فاختلف أبناؤهم بعد موتهم حين بعث الله تعالى النبيين مبشرين الجزء: 13 ¦ الصفحة: 24 ومنذرين، وجعل ضمير «تفرقوا» لإخلاف أولئك الموحدين والذين أورثوا الكتاب باق على ما تقدم والأول أظهر. وقيل: ضمير تفرقوا لأهل الكتاب تفرقوا من بعد ما جاءهم العلم بمبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم فهذا كقوله تعالى: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة: 4] وإنما تفرقوا حسدا له عليه الصلاة والسلام لا لشبهة، والمراد بالذين أورثوا الكتاب من بعدهم مشركو مكة وأحزابهم لأنهم أورثوا القرآن فالكتاب القرآن وضمير منه له وقيل للرسول وهو خلاف الظاهر، واختار كون المتفرقين أهل الكتاب اليهود والنصارى والمورثين الشاكين مشركي مكة وأحزابهم شيخ الإسلام واستظهر الخطاب في أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ لأمته صلّى الله عليه وسلّم. وتعقب القول بكون المتفرق كل أمة بعد نبيها والقول بكونه اخلاف الموحدين الذين كانوا بعد الطوفان فقال: يرد ذلك قوله تعالى: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فإن مشاهير الأمم المذكورة قد أصابهم عذاب الاستئصال من غير إنظار وإمهال على أن مساق النظم الكريم لبيان أحوال هذه الأمة وإنما ذكر من ذكر من الأنبياء عليهم السلام لتحقيق أن ما شرع لهؤلاء دين قديم أجمع عليه أولئك الأعلام عليهم الصلاة والسلام تأكيد الوجوب إقامته وتشديدا للزجر عن التفرق والاختلاف فيه فالتعرض لبيان تفرق أممهم عنه ربما يوهم الإخلال بذلك المرام انتهى. وأجيب عن الأول بأن ضمير بَيْنَهُمْ لأولئك الذين تفرقوا وقد علمت أن المراد بهم المتفرقون بعد وفاة أنبيائهم وهم لم يصبهم عذاب الاستئصال وإنما أصاب الذين لم يؤمنوا غي عهد أنبيائهم وإطلاق المتفرقين ليس بذاك الظهور، وقيل: المراد لقضي بينهم ريثما افترقوا ولم يمهلوا أعواما، وقيل: المراد لقضي بينهم بإهلاك المبطلين وإثابة المحقين إثابتهم في العقبى وهو كما ترى، وعن الثاني بأنا لا نسلم إيهام التعرض لبيان تفرق الأمم الإخلال بالمرام بعد بيان أنه لم يكن إلا بعد أن جاءهم العلم بأنه ضلال وفساد وأمر متوعد عليه وأنه كان بغيا بينهم ولم يكن لشبهة في صحة الدين، وقيل: ضمير تَفَرَّقُوا للمشركين في قوله تعالى: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. حكي في البحر عن ابن عباس أنه قال: وما تفرقوا يعني قريشا والعلم محمد صلّى الله عليه وسلّم وكانوا يتمنون أن يبعث إليهم نبي قال سبحانه: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ [الأنعام: 109، النحل: 38، النور: 53، فاطر: 42] لئن جاءهم نذير الآية، وقد يقال عليه: المراد بالذين أورثوا الكتاب أهل الكتاب الذين عاصروا النبي صلّى الله عليه وسلّم. ومعنى من بعدهم على ما قال أبو حيان من بعد أسلافهم. ونقل الطبرسي عن السدي ما يدل على أن المراد من بعد أحبارهم وفسر الموصول بعوام أهل الكتاب، وقيل: ضمير بعدهم للمشركين أيضا والبعدية رتبية كما قيل في قوله تعالى: «والأرض بعد ذلك دحاها» ولا يخفى عليك أنه لا بأس بعود ضمير تَفَرَّقُوا للمشركين لو وجد للذين أورثوا الكتاب توجيه يقع في حيز القبول والله تعالى الموفق، وجعل متعلق اسْتَقِمْ الدعاء لا تخفى مناسبته. وجوز جعله عاما فيكون استقم أمرا بالاستقامة في جميع أموره عليه الصلاة والسلام، والاستقامة أن يكون على خط مستقيم، وفسرها الراغب بلزوم المنهج المستقيم فلا حاجة إلى التأويل بالدوام على الاستقامة أي دم على الاستقامة وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ أي شيئا من أهوائهم الباطلة على أن الإضافة للجنس وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ أي بجميع الكتب المنزلة لأن ما من أدوات العموم، وتنكير كِتابٍ المبين مؤيد لذلك، وفي هذا القول تحقيق للحق وبيان لاتفاق الكتب في الأصول وتأليف لقلوب أهل الكتابين وتعريض بهم حيث لم يؤمنوا بجميعها وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ أي أمرني الله تعالى بما أمرني به لأعدل بينكم في تبليغ الشرائع والأحكام فلا أخص بشيء منها شخصا دون شخص وقيل: لأعدل بينكم في الحكم إذا تخاصمتم، وقيل: بتبليغ الشرائع وفصل الخصومة واختاره غير واحد، وقيل: لأسوّي بيني وبينكم ولا آمركم بما لا أعمله ولا أخالفكم إلى ما الجزء: 13 ¦ الصفحة: 25 أنهاكم عنه ولا أفرق بين أصاغركم وأكابركم في إجراء حكم الله عزّ وجلّ، فاللام للتعليل والمأمور به محذوف، وقيل: اللام مزيدة أي أمرت أن أعدل ويحتاج لتقدير الباء أي بأن أعدل، ولا يخلو عن بعد اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ أي خالق الكل ومتولي أمره فليس المراد خصوص المتكلم والمخاطب لَنا أَعْمالُنا لا يتخطانا جزاؤها ثوابا كان أو عقابا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا يجاوزكم آثارها لننتفع بحسناتكم ونتضرر بسيئاتكم لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ أي لا احتجاج ولا خصومة لأن الحق قد ظهر فلم يبق للاحتجاج حاجة ولا للمخالفة محمل سوى المكابرة والعناد، وجاءت الحجة هنا على أصلها فإنها في الأصل مصدر بمعنى الاحتجاج كما ذكره الراغب وشاعت بمعنى الدليل وليس بمراد اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا يوم القيامة وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ فيفصل سبحانه بيننا وبينكم، وليس في الآية ما يدل على متاركة الكفار رأسا حتى تكون منسوخة بآية السيف، وادعى أبو حيان أن ما يظهر منها الموادعة المنسوخة بتلك الآية. وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ أي يخاصمون في دينه، قال ابن عباس ومجاهد نزلت في طائفة من بني إسرائيل همت برد الناس عن الإسلام وإضلالهم فقالوا: كتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم فديننا أفضل من دينكم، وفي رواية بدل فديننا إلخ فنحن أولى بالله تعالى منكم، وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال: لما نزلت إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [الفتح: 1] قال المشركون بمكة لمن بين أظهرهم من المؤمنين: قد دخل الناس في دين الله أفواجا فاخرجوا من بين أظهرنا أو اتركوا الإسلام، والمحاجة فيه غير ظاهرة ولعلهم مع هذا يذكرون ما فيه ذلك مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ أي من بعد ما استجاب الناس الله عزّ وجلّ أو لدينه ودخلوا فيه وأذعنوا له لظهور الحجة ووضوح المحجة، والتعبير عن ذلك بالاستجابة باعتبار دعوتهم إليه حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ زائلة باطلة لا تقبل عنده عزّ وجلّ بل لا حجة لهم أصلا، وإنما عبر عن أباطيلهم بالحجة وهي الدليل هاهنا مجاراة معهم على زعمهم الباطل. وجوز كون ضمير لَهُ للرسول عليه الصلاة والسلام لكونه في حكم المذكور والمستجيب أهل الكتب واستجابتهم له صلّى الله عليه وسلّم إقرارهم بنعوته واستفتاهم به قبل مبعثه عليه الصلاة والسلام فإذا كانوا هم المحاجين كان الكلام في قوة والذين يحاجون في دين الله من بعد ما استجابوا لرسوله وأقروا بنعوته حجتهم في تكذيبه باطلة لما فيها من نفي ما أقروا به قبل وصدقة العيان، وقيل: المستجيب هو الله عزّ وجلّ وضمير لَهُ لرسوله عليه الصلاة والسلام، واستجابته تعالى له صلّى الله عليه وسلّم بإظهار المعجزات الدالة على صدقة، وإلى نحوه ذهب الجبائي حيث قال: أي من بعد ما استجاب الله تعالى دعاءه في كفار بدر حتى قتلهم بأيدي المؤمنين ودعائه على أهل مكة حتى قحطوا ودعاءه للمستضعفين حتى خلصهم الله تعالى من أيدي قريش وغير ذلك مما يطول تعداده، وبطلان حجتهم لظهور خلاف ما تقتضيه بزعمهم بذلك، وهذا ظاهر في أن هذه الآية مدنية لأن وقعة بدر بعد الهجرة وحمل اسْتُجِيبَ على الوعد خلاف الظاهر جدا، وكذا ما روي عن عكرمة، وقيل: إن حمل الاستجابة على استجابة أهل الكتاب يقتضي ذلك أيضا إذ لم يكن بمكة أحد منهم، وقيل: لا يقتضيه لأن خبر استجابتهم وإقرارهم بنعوته صلّى الله عليه وسلّم وهو عليه الصلاة والسلام بمكة بلغ أهل مكة والمجادلون محمول عليهم فلا مانع من كونها مكية وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ عظيم لمكابرتهم الحق بعد ظهوره وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ لا يقادر قدره. اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ جنس الكتاب أو الكتاب المعهود أو جميع الكتب بِالْحَقِّ ملتبسا بالحق بعيدا من الباطل في أحكامه وأخباره أو ملتبسا بما يحق ويجب من العقائد والأحكام وَالْمِيزانَ أي العدل كما قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم أو الشرع الذي يوزن به الحقوق ويسوي بين الناس، وعلى الوجهين فيه استعارة ونسبة الإنزال إليه مجز لأنه من صفات الأجسام والمنزل حقيقة من بلغه، واعتبر بعضهم الأمر أي أنزل الأمر بالميزان، وتعقب الجزء: 13 ¦ الصفحة: 26 بأنه أيضا محتاج إلى التأويل، وقد يقال: نسبة الإنزال وكذا النزول إلى الأمر مشهورة جدا فالتحقت بالحقيقة، ويجوز أن يتجوز في الإنزال ويقال نحو ذلك في أَنْزَلَ الْكِتابَ وعن مجاهد أن الميزان الآلة المعروفة فعلى هذا إنزاله على حقيقته، وجوز أن يكون على سبيل الأمر به، واستظهر الأول لما نقل الزمخشري في الحديد أنه نزل إلى نوح وأمر أن يوزن به، وكون المراد به ميزان الأعمال بعيد هنا. وَما يُدْرِيكَ أي: أي شيء يجعلك داريا أي عالما لَعَلَّ السَّاعَةَ أي إتيان الساعة الذي أخبر به الكتاب الناطق بالحق فالكلام بتقدير مضاف مذكر، وقوله تعالى: قَرِيبٌ خبر عنه في الحقيقة لأن المحذوف بقرينة كالملفوظ وهو وجه في تذكيره وجوز أن يكون لتأويل الساعة بالبعث وأن يكون قَرِيبٌ من باب تامر ولابن أي ذات قرب إلى أوجه أخر تقدمت في الكلام على قوله تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ [الأعراف: 56] وأيا ما كان فالمعنى إن الساعة على جناح الإتيان فاتبع الكتاب وواظب على العدل واعمل بالشرع قبل أن يفاجئك اليوم الذي توزن فيه الأعمال ويوفى جزاؤها يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها استعجال إنكار واستهزاء كانوا يقولون: متى هي ليتها قامت حتى يظهر لنا أهو الذي نحن عليه أم كالذي عليه محمد عليه الصلاة والسلام وأصحابه. وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها أي خائفون منها مع اعتناء بها فإن الإشفاق عناية مختلطة بخوف فإذا عدي بمن كما هنا فمعنى الخوف فيه أظهر وإذا عدي بعلى فمعني العناية أظهر، وعنايتهم بها لتوقع الثواب، وزعم الجلبي أن الآية من الاحتباك والأصل يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها فلا يشفقون منها والذين آمنوا مشفقون منها فلا يستعجلون بها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ الأمر المتحقق الكائن لا محالة أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ أي يجادلون فيها، وأصله من مريت الناقة إذا مسحت ضرعها للحلب، وإطلاق المماراة على المجادلة لأن كلا من المتجادلين يستخرج ما عند صاحبه، ويجوز أن يكون من المرية التردد في الأمر وهو أخص من الشك ومعنى المفاعلة غير مقصود فالمعنى أن الذين يترددون في أمر الساعة ويشكون فيه لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ عن الحق فإن البعث أقرب الغائبات بالمحسوسات لأنه يعلم من تجويزه من إحياء الأرض بعد موتها وغير ذلك فمن لم يهتد إليه فهو عن الاهتداء إلى ما وراءه أبعد وأبعد. اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ بر بليغ البر بهم يفيض جل شأنه على جميعهم من صنوفه ما لا يبلغه الأفهام ويؤذن بذلك مادة اللطف وصيغة المبالغة فيها وتنكيرها الدال على المبالغة بحسب الكمية الكيفية، قال حجة الإسلام عليه الرحمة: إنما يستحق هذا الاسم من يعلم دقائق المصالح وغوامضها وما دق منها ولطف ثم يسلك في إيصالها إلى المستصلح سبيل الرفق دون العنف فإذا اجتمع الرفق في الفعل واللطف في الإدراك تم معنى اللطيف ولا يتصور كمال ذلك إلا في الله تعالى شأنه، فصنوف البر من المبالغة في الكم، وكونها لا تبلغها الأفهام من المادة والمبالغة في الكيفية لأنه إذا دق جدا كان أخفى وأخفى، وإرادة الجميع من إضافة العباد وهو جمع إلى ضميره تعالى فيفيد الشمول والاستغراق، وبالعموم قال مقاتل إلا أنه قال: لطيف بالبر والفاجر حيث لم يقتلهم جوعا. وقال أبو حيان: لطيف بعباده أي بر بعباده المؤمنين ومن سبق له الخلود في الجنة وما يرى من النعم على الكافر فليس بلطف إنما هو إملاء إلا ما آل إلى رحمة ووفاة على الإسلام، وحكى الطيبي هذا التخصيص عن الواحدي ومال إلى ترجيحه وذلك أنه ادعى أن الإضافة في (عباده) إضافة تشريف إذ أكثر استعمال التنزيل الجليل في مثل ذلك فيختص العباد بأوليائه تعالى المؤمنين، وحمل اللطف على منح الهداية وتوفيق الطاعة وعلى الكمالات الأخروية والكرامات السنية، وحمل الرزق في قوله تعالى: يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ عليه أيضا وقال: إن استعماله فيما ذكر كاستعماله في قوله تعالى: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ [النور: 38] . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 27 وجعل قوله سبحانه: وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ مؤذنا بالتعليل كأنه قيل: إنما تلطف جل شأنه في حق عباده المؤمنين دون من غضب عليهم بمحض مشيئته سبحانه لأنه تعالى قوي قادر على أن يختص برحمته وكرامته من يشاء من عباده عزيز غالب لا يمنعه سبحانه عما يريده أحد، وادعى أنه يكون وزان الآية على هذا مع قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ الآية وزان قوله عزّ وجلّ وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشمس: 7، 10] وينتظم الكلام أتم انتظام وتلتئم أطرافه أشد التئام، ولا يقال حينئذ: إن قوله تعالى: يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ حكم مترتب على السابق فكان ينبغي أن يعم عمومه والعموم أظهر، وحديث التخصيص في يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ فقد أجاب عنه صاحب التقريب فقال: إنما خصص الرزق بمن يشاء مع أنهم كلهم بر سبحانه بهم لأنه تعالى قد يخص أحدا بنعمة وغيره بأخرى فالعموم لجنس البر والخصوص لنوعه. وأشار جار الله إلى أنه لا تخصيص بالحقيق فإن الله تعالى بليغ البر بجميع عباده يرزق من يشاء ما يشاء سبحانه منه. فيرزق من يشاء. بيان لتوزيعه على جميعهم فليس الرزق إلا النصيب الخاص لكل واحد، ولما شمل الدارين لاءم قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ إلخ كل الملاءمة، ولا يتوقف هذا على ما قاله الطيبي، ولعل أمر التذييل بالاسمين الجليلين على القول بالعموم أظهر والتعليل أنسب فكأنه قيل: لطيف بعباده عام الإحسان بهم لأنه تعالى القوي الباهر القدرة الذي غلب وغلبت قدرته سبحانه جميع القدر يرزق من يشاء لأنه العزيز الذي لا يغلب على ما يريد فكل من الاسمين الجليلين ناظر إلى حكم فافهم وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: 114] . فكم لله من لطف خفي ... يدق خفاه عن فهم الذكي والحرث في الأصل إلقاء البذر في الأرض يطلق على الزرع الحاصل منه، ويستعمل في ثمرات الأعمال ونتائجها بطريق الاستعارة المبنية على تشبيهها بالغلال الحاصلة من البذور المتضمن لتشبيه الأعمال بالبذور أي من كان يريد بأعماله ثواب الآخرة نضاعف له ثوابه بالواحد عشرة إلى سبعمائة فما فوقها وَمَنْ كانَ يُرِيدُ بأعماله حَرْثَ الدُّنْيا وهو متاعها وطيباتها نُؤْتِهِ مِنْها أي شيئا منها حسبما قدرناه له بطلبه وإرادته وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ إذ كانت همته مقصورة على الدنيا وقرأ ابن مقسم والزعفراني ومحبوب والمنقري كلاهما عن أبي عمرو «يزد» و «يؤته» بالياء فيهما، وقرأ سلام «نؤته» بضم الهاء وهي لغة أهل الحجاز وقد جاء في الآية فعل الشرط ماضيا والجواب مضارعا مجزوما قال أبو حيان: ولا نعلم خلافا في جواز الجزم في مثل ذلك وانه فصيح مختار مطلقا إلا ما ذكره صاحب كتاب الاعراب أبو الحكم بن عذرة عن بعض النحويين أنه لا يجيء في الفصيح إلا إذا كان فعل الشرط كان، وإنما يجيء معها لأنها أصل الأفعال ونص كلام سيبويه والجماعة أنه لا يختص بكان بل سائر الأفعال مثلها في ذلك وأنشد سيبويه للفرزدق: دست رسولا بأن القوم إن قدروا ... عليك يشفوا صدورا ذات توغير وقال أيضا: تعش فإن عاهدتني لا تخونني ... نكن مثل من يا ذئب يصطحبان أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ في الكفر وهم الشياطين شَرَعُوا لَهُمْ أي لهؤلاء الكفرة المعاصرين لك بالتسويل والتزيين مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ كالشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا. وأَمْ منقطعة فيها معنى بل الاضرابية والهمزة التي للتقرير والتقريع والاضراب عما سبق من قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ إلخ فالعطف عليه وما اعترض به بين الآيتين من تتمة الأولى، وتأخير الاضراب ليدل على أنهم في شرع يخالف ما شرعه الله تعالى من كل الجزء: 13 ¦ الصفحة: 28 وجه فالشرك في مقابلة إقامة الدين والاستقامة عليه وإنكار البعث في مقابلة قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ والعمل للدنيا لقوله سبحانه: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ وهذا أظهر من جعل الاضراب عما تقدم من قوله تعالى: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ كما لا يخفى، وقيل: شركاؤهم أصنامهم، وإضافتها إليهم لأنهم الذين جعلوها شركاء لله سبحانه، وإسناد الشرع إليها لأنها سبب ضلالتهم وافتتانهم كقوله تعالى: إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً [إبراهيم: 46] وجوز أن يكون الاستفهام المقدر على هذا للإنكار أي ليس لهم شرع ولا شارع كما في قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا [الأنبياء: 43] وأيا ما كان فضمير شَرَعُوا للشركاء وضمير لَهُمْ للكفار. وجوز على تفسير الشركاء بالأصنام أن يكون الأول للكفار والثاني للشركاء أي شرع الكفار لأصنامهم ورسموا من المعتقدات والأحكام ما لم يأذن به الله تعالى كاعتقاد أنهم آلهة وأن عبادتهم تقربهم إلى الله سبحانه، وكجعل البحيرة والسائبة والوصيلة وغير ذلك، وهو كما ترى وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ أي القضاء والحكم السابق منه تعالى بتأخير العذاب إلى يوم القيامة أو إلى آخر أعمارهم لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي بين الكافرين والمؤمنين في الدنيا أو حين افترقوا بالعقاب والثواب، وجوز أن يكون المعنى لولا ما وعدهم الله تعالى به من الفصل في الآخرة لقضي بينهم فالفصل بمعنى البيان كما في قوله تعالى: هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ [المرسلات: 38] وقيل: ضمير بينهم للكفار وشركائهم بأي معنى كان وَإِنَّ الظَّالِمِينَ وهم المحدث عنهم أو الأعم منهم ويدخلون دخولا أوليا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة. وفي البحر أي في الدنيا بالقتل والأسر والنهب وفي الآخرة بالنار. وقرأ الأعرج ومسلم بن جندب «وأن» بفتح الهمزة عطفا على كَلِمَةُ الْفَصْلِ أي لولا القضاء السابق بتأخير العذاب وتقدير أن الظالمين لهم عذاب أليم في الآخرة أو لولا العدة بأن الفصل يكون يوم القيامة وتقدير أن الظالمين لهم إلخ لقضي بينهم، والعطف على التقديرين تتميم للإيضاح لا تفسيري محض تَرَى الظَّالِمِينَ جملة مستأنفة لبيان ما قبل، والخطاب لكل أحد يصلح له للقصد إلى المبالغة في سوء حالهم أن ترى يا من يصح منه الرؤيا الظالمين يوم القيامة مُشْفِقِينَ خائفين الخوف الشديد مِمَّا كَسَبُوا في الدنيا من السيئات، والكلام قيل على تقدير مضاف. و (من) صلة الإشفاق أي مشفقين من وبال ما كسبوا وَهُوَ أي الوبال واقِعٌ بِهِمْ أي حاصل لهم لا حق بهم، واختار بعضهم أن لا تقدير ومن تعليلية لأنه أدخل في الوعيد، والجملة اعتراض للإشارة إلى أن إشفاقهم لا ينفعهم، وإيثار واقِعٌ على يقع من أن المعنى على الاستقبال لأن الخوف إنما يكون من التوقع بخلاف الحزن للدلالة على تحققه وأنه لا بد منه، وجوز أن تكون حالا من ضمير مُشْفِقِينَ وظاهر ما سمعت أنه حال مقدرة. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ أي مستقرون في أطيب بقاعها وأنزهها. وقال الراغب: هي محاسنها وملاذها، وأصل الروضة مستنقع الماء والخضرة واللغة الكثيرة في واوها جمعا التسكين كما في المنزل ولغة هذيل بن مدركة فتحها فيقولون روضات إجراء للمعتل مجرى الصحيح نحو جفنات ولم يقرأ فيما علمنا بغتهم لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي ما يشتهونه من فنون المستلذات حاصل لهم عند ربهم فالظرف متعلق بمتعلق الجار والمجرور الواقع خبرا لما أو به واختاره جار الله ونفى أن يكون متعلقا بيشاؤون مع أنه الظاهر نحوا، وبين صاحب الكشف ذلك بأنه كلام في معرض المبالغة في وصف ما يكون أهل الجنة فيه من النعيم الدائم فأفيد أنهم في أنزه موضع من الجنة وأطيب مقعد منها بقوله تعالى: فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لأن روضة الجنة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 29 أنزه موضع منها لا سيما والإضافة في هذا المقام تنبىء عن تميزها بالشرف والطيب، والتعقيب بقوله تعالى: لَهُمْ ما يَشاؤُنَ أيضا ثم أفيد أن لهم ما يشتهون من ربهم ولا خفاء أنك إذا قلت: لي عند فلان ما شئت كان أبلغ في حصول كل مطالبك منه مما إذا قلت: لي ما شئت عند فلان بالنسبة إلى الطالب والمطلوب منه. أما الأول فلأنه يفيد أن جميع ما تشاؤوه موجود مبذول لك منه، والثاني يفيد أن ما شئت عنده مبذول لا جميع ما تشاؤوه، وأما الثاني فلأنك وصفته بأنه يبذل جميع المرادات، وفي الثاني وصفته بأن ما شئت عنده مبذول لك إما منه وإما من غيره ثم في الأول مبالغة في تحقيق ذلك وثبوته كما تقول: لي عندك وقبلك كذا، فالله تعالى شأنه أخبر بأن ذلك حق لهم ثابت حق لهم ثابت مقتضى في ذمة فضله سبحانه ولا كذلك في الثاني، ثم قال: ولعل الأوجه أن يجعل عِنْدَ رَبِّهِمْ خبرا آخر أي الذين آمنوا وعملوا الصالحات عند ربهم في روضات الجنات لهم فيها ما يشاؤون، وإنما أخر توخيا لسلوك طريق المبالغة في الترقي من الترقي من الأدنى إلى الأعلى ومراعاة لترتيب الوجود أيضا فإن الوافد والضيف ينزل في أنزه موضع ثم يحضر بين يديه الذي يشتهيه وملاك ذلك كله أن يختص رب المنزل بالقرب والكرامة، وأن جعله حالا من فاعل يشاؤون أو من المجرور في لَهُمْ أفاد هذا المعنى أيضا لكنه يقصر عما آثرناه لأنه قد أتى به إتيان الفضلة وهو مقصود بذاته عمدة، ولعمري إن ما آثره حسن معنى إلا أنه أبعد لفظا مما أثره جار الله، ولا يخفى عليك ما هو الأنسب بالتنزيل. وفي الخبر عن أبي ظبية قال: إن السرب من أهل الجنة لتظلهم السحابة فتقول: ما أمطركم؟ فما يدعو داع من القوم إلا امطرته حتى أن القائل منهم ليقول: أمطرينا كواعب أترابا ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من حال المؤمنين، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلة المشار إليه هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ الذي لا يقدر قدره ولا تبلغ غايته ويصغر دونه ما لغيرهم في الدنيا ذلِكَ الفضل الكبير أو الثواب المفهوم من السياق هو الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي يبشر به فحذف الجار ثم العائد إلى الموصول كما هو عادتهم في التدريج في الحذف، ولا مانع كما قال الشهاب من حذفهما دفعة، وجوز كون ذلك إشارة إلى التبشير المفهوم من يُبَشِّرُ بعد والإشارة قد تكون لما يفهم بعد كما قرروه في قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143] ونحوه، والعائد إلى الموصول ضمير منصوب بيبشر على أنه مفعول مطلق له لأنه ضمير المصدر أي ذلك التبشير يبشره الله عباده وزعم أبو حيان أنه لا يظهر جعل الإشارة إلى التبشير لعدم تقدم لفظ البشرى ولا ما يدل عليها وهو ناشىء عن الغفلة عما سمعت فلا حاجة في الجواب عنه أن كون ما تقدم تبشيرا للمؤمنين كاف في صحة ذلك، ثم قال: ومن النحويين من جعل الذي مصدرية حكاه ابن مالك عن يونس وتأول عليه هذه الآية أي ذلك تبشير الله تعالى عباده، وليس بشيء لأنه إثبات للاشتراك بين مختلفي الحد بغير دليل وقد ثبتت اسمية الذي فلا يعدل عن ذلك بشيء لا يقوم به دليل ولا شبهة. وقرأ عبد الله بن يعمر وابن أبي إسحاق والجحدري والأعمش وطلحة في رواية والكسائي وحمزة «يبشر» ثلاثيا ومجاهد وحميد بن قيس بضم الياء وتخفيف الشين من أبشر وهو معدى بالهمزة من بشر اللازم المكسور الشين وإما بشر بفتحها فمتعد وبشر بالتشديد للتكثير لا للتعدية لأن المعدى إلى واحد وهو مخفف لا يعدى بالتضعيف إليه فالتضعيف فيه للتكثير لا للتعدية قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على ما أتعاطاه لكم من التبليغ والبشارة وغيرهما أَجْراً أي نفعا ما، ويختص في العرف بالمال إِلَّا الْمَوَدَّةَ أي إلا مودتكم إياي فِي الْقُرْبى أي لقرابتي منكم ففي للسببية مثلها في «إن امرأة دخلت النار في هرة» فهي بمعنى اللام لتقارب السبب والعلة، وإلى هذا المعنى مجاهد وقتادة وجماعة والخطاب إما لقريش على ما قيل: إنهم جمعوا له مالا وأرادوا أن يرشوه على أن يمسك عن سب آلهتهم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 30 فلم يفعل ونزلت. وله عليه الصلاة والسلام في جميعهم قرابة. أخرج أحمد والشيخان. والترمذي. وغيرهم عن ابن عباس أنه سئل عن قوله تعالى: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى فقال سعيد بن جبير: قربى آل محمد صلّى الله عليه وسلّم فقال ابن عباس: عجلت أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة أو للأنصار بناء على ما قيل: إنهم أتوه بمال ليستعين به على ما ينوبه فنزلت فرده، وله عليه الصلاة والسلام قرابة منهم لأنهم أخواله فإن أم عبد المطلب وهي سلمى بنت زيد النجارية منهم وكذا أخوال آمنة أمه عليه الصلاة والسلام كانوا على ما في بعض التواريخ من الأنصار أيضا أو لجميع العرب لقرابته عليه الصلاة والسلام منهم جميعا في الجملة كيف لا وهم إما عدنانيون وقريش منهم وإما قحطانيون والأنصار منهم، وقرابته عليه الصلاة والسلام من كل قد علمت وذلك يستلزم قرابته من جميع العرب، وقضاعة من قحطان لا قسم برأسه على ما عليه معظم النسابين، والمعنى إن لم تعرفوا حقي لنبوتي وكوني رحمة عامة ونعمة تامة فلا أقل من مودتي لأجل حق القرابة وصلة الرحم التي تعتنون بحفظها ورعايتها. وحاصله لا أطلب منكم إلا مودتي ورعاية حقوقي لقرابتي منكم وذلك أمر لازم عليكم، وروي نحو هذا في الصحيحين عن ابن عباس بل جاء ذلك عنه رضي الله تعالى عنه في روايات كثيرة وظاهرها أن الخطاب لقريش منها ما أخرجه سعيد بن منصور وابن مسعود وعبد بن حميد والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن الشعبي قال: أكثر الناس علينا في هذه الآية قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ إلخ فكتبنا إلى ابن عباس نسأله فكتب رضي الله تعالى عنه إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان وسط النسب في قريش ليس بطن من بطونهم إلا وقد ولدوه قال الله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً على ما أدعوكم عليه إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى تودوني لقرابتي منكم وتحفظوني بها ومنها ما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. والطبراني عنه قال: كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرابة من جميع قريش فلما كذبوه وأبوا أن يتابعوه قال: يا قوم إذا أبيتم أن تتابعوني فاحفظوا قرابتي فيكم ولا يكون غيركم من العرب أولى بحفظي ونصرتي منكم ، والظاهر من هذه الأخبار أن الآية مكية والقول بأنها في الأنصار يقتضي كونها مدنية، والاستثناء متصل بناء على ما سمعت من تعميم الأجر. وقيل: لا حاجة إلى التعميم وكون المودة المذكورة من أفراد الأجر ادعاء كاف لاتصال الاستثناء، وقيل: هو منقطع إما بناء على أن المودة له عليه الصلاة والسلام ليست أجرا أصلا بالنسبة إليه صلّى الله عليه وسلّم أو لأنها لازمة لهم ليمدحوا بصلة الرحم فنفعها عائد عليهم والانقطاع اقطع لتوهم المنافاة بين هذه الآية والآيات المتضمنة لنفي سؤال الأجر مطلقا وذهب جماعة إلى أن المعنى لا أطلب منكم أجرا إلا محبتكم أهل بيتي وقرابتي. وفي البحر أنه قول ابن جبير والسدي وعمرو بن شعيب، وفِي عليه للظرفية المجازية. والْقُرْبى بمعنى الأقرباء، والجار والمجرور في موضع الحال أي إلا المودة ثابتة في أقربائي متمكنة فيهم، ولمكانة هذا المعنى لم يقل: إلا مودة القربى، وذكر أنه على الأول كذلك وأمر اتصال الاستثناء وانقطاعه على ما سبق، والمراد بقرابته عليه الصلاة والسلام في هذا القول قيل: ولد عبد المطلب، وقيل علي وفاطمة وولدها رضي الله تعالى عنهم وروي ذلك مرفوعا ، أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من طريق ابن جبير عن ابن عباس قال: «لما نزلت هذه الآية قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ إلخ قالوا: يا رسول الله من قرابتك الذين وجبت مودتهم؟ قال علي وفاطمة وولدها صلّى الله عليه وسلّم على النبي وعليهم» . وسند هذا الخبر على ما قال السيوطي في الدر المنثور ضعيف، ونص على ضعفه في تخريج أحاديث الكشاف ابن حجر، وأيضا لو صح لم يقل ابن عباس ما حكي عنه في الصحيحين وغيرهما وقد تقدم إلا أنه روي عن جماعة من الجزء: 13 ¦ الصفحة: 31 أهل البيت ما يؤيد ذلك، أخرج ابن جرير عن أبي الديلم قال: لما جيء بعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما أسيرا فأقيم على درج دمشق قام رجل من أهل الشام فقال: الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم فقال له علي رضي الله تعالى عنه: أقرأت القرآن؟ قال: نعم قال: أقرأت آل حم؟ قال: نعم قال: ما قرأت: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى قال: فإنكم لأنتم هم؟ قال: نعم . وروى ذاذان عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: فينا في آل حم آية لا يحفظ مودتنا إلا مؤمن ثم قرأ هذه الآية ، وإلى هذا أشار الكميت في قوله: وجدنا لكم في آل حم آية ... تأولها منا تقيّ ومعرب ولله تعالى در السيد عمر الهيتي أحد الأقارب المعاصرين حيث يقول: بأية آية يأتي يزيد ... غداة صحائف الأعمال تتلى وقام رسول رب العرش يتلو ... وقد صمت جميع الخلق قل لا والخطاب على هذا القول لجميع الأمة لا للأنصار فقط وإن ورد ما يوهم ذلك فإنهم كلهم مكلفون بمودة أهل البيت، فقد أخرج مسلم والترمذي والنسائي عن زيد بن أرقم «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: أذكركم الله تعالى في أهل بيتي. وأخرج الترمذي وحسنه والطبراني والحاكم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال: قال عليه الصلاة والسلام «أحبوا الله تعالى لما يغذوكم به من نعمة وأحبوني لحب الله تعالى وأحبوا أهل بيتي لحبي» وأخرج ابن حبان والحاكم عن أبي سعيد قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والذي نفسي بيده لا يبغضنا أهل البيت رجل إلا أدخله الله تعالى النار» إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة من الأخبار، وفي بعضها ما يدل على عموم القربى وشمولها لبني عبد المطلب. أخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي عن المطلب بن ربيعة قال: دخل العباس على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إنا لنخرج فنرى قريشا تحدث فإذا رأونا سكتوا فغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودر عرق بين عينيه ثم قال: والله لا يدخل قلب امرئ مسلم إيمان حتى يحبكم لله تعالى ولقرابتي ، وهذا ظاهر إن خص القربى بالمؤمنين منهم وإلا فقيل: إن الحكم منسوخ، وفيه نظر، والحق وجوب محبة قرابته عليه الصلاة والسلام من حيث إنهم قرابته صلّى الله عليه وسلّم كيف كانوا، وما أحسن ما قيل: داريت أهلك في هواك وهم عدا ... ولأجل عين ألف عين تكرم وكلما كانت جهة القرابة أقوى كان طلب المودة أشد، فمودة العلويين الفاطميين ألزم من محبة العباسيين على القول بعموم الْقُرْبى وهي على القول بالخصوص قد تتفاوت أيضا باعتبار تفاوت الجهات والاعتبارات وآثار تلك المودة التعظيم والاحترام والقيام بأداء الحقوق أتم قيام، وقد تهاون كثير من الناس بذلك حتى عدوا من الرفض السلوك في هاتيك المسالك. وأنا أقول قول الشافعي الشافي العي: يا راكبا قف بالمحصب من منى ... واهتف بساكن خيفها والناهض سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى ... فيضا كملتطم الفرات الفائض إن كان رفضا حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي ومع هذا لا أعد الخروج عما يعتقده أكابر أهل السنة في الصحابة رضي الله تعالى عنهم دينا وأرى حبهم فرضا علي مبينا فقد أوجبه أيضا الشارع وقامت على ذلك البراهين السواطع. ومن الظرائف ما حكاه الإمام عن بعض المذكرين قال: إنه عليه الصلاة والسلام قال: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم» ونحن الآن في بحر التكليف وتضربنا أمواج الشبهات والشهوات وراكب البحر يحتاج إلى أمرين: أحدهما السفينة الخالية عن العيوب، والثاني الكواكب الطالعة النيرة، فإذا ركب تلك السفينة ووضع بصره على تلك الكواكب كان رجاء السلامة غالبا، فلذلك الجزء: 13 ¦ الصفحة: 32 ركب أصحابنا أهل السنة سفينة حب آل محمد صلّى الله عليه وسلّم ووضعوا أبصارهم على نجوم الصحابة يرجون أن يفوزوا بالسلامة والسعادة في الدنيا والآخرة انتهى، والكثير من الناس في حق كل من الآل والأصحاب في طرفي التفريط والإفراط وما بينهما هو الصراط المستقيم، ثبتنا الله تعالى على ذلك الصراط. وقال عبد الله بن القاسم: المعنى لا أسألكم عليه أجرا إلا أن يود بعضكم بعضا وتصلوا قراباتكم، وأمر فِي والاستثناء لا يخفى. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن أن المعنى لا أسألكم عليه أجرا إلا التقرب إلى الله تعالى بالعمل الصالح فالقربى بمعنى القرابة وليس المراد قرابة النسب قيل: ويجري في الاستثناء الاتصال والانقطاع، واستظهر الخفاجي أنه منقطع وأنه على نهج قوله: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم البيت، وأراه على القول قبله كذلك. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «إلا مودة في القربى» هذا ومن الشيعة من أورد الآية في مقام الاستدلال على إمامة علي كرم الله تعالى وجهه قال علي كرم الله تعالى وجهه: واجب المحبة وكل واجب المحبة واجب الطاعة وكل واجب الطاعة صاحب الإمامة ينتج علي رضي الله تعالى عنه صاحب الإمامة وجعلوا الآية دليل الصغرى، ولا يخفى ما في كلامهم هذا من البحث، أما أولا فلأن الاستدلال بالآية على الصغرى لا يتم إلا على القول بأن معناها لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوا قرابتي وتحبوا أهل بيتي وقد ذهب الجمهور إلى المعنى الأول، وقيل في هذا المعنى: إنه لا يناسب شأن النبوة لما فيه من التهمة فإن أكثر طلبة الدنيا يفعلون شيئا ويسألون عليه ما يكون فيه نفع لأولادهم وقراباتهم، وأيضا فيه منافاة ما لقوله تعالى: وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [يوسف: 104] وأما ثانيا فلأنا لا نسلم أن كل واجب المحبة واجب الطاعة فقد ذكر ابن بابويه في كتاب الاعتقادات أن الإمامية أجمعوا على وجوب محبة العلوية مع أنه لا يجب طاعة كل منهم، وأما ثالثا فلأنا لا نسلم أن كل واجب الطاعة صاحب الإمامة أي الزعامة الكبرى وإلا لكان كل نبي في زمنه صاحب ذلك ونص إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً [البقرة: 247] يأبى ذلك، وأما رابعا فلأن الآية تقتضي أن تكون الصغرى أهل البيت واجبو الطاعة ومتى كانت هذه صغرى قياسهم لا ينتج النتيجة التي ذكروها ولو سلمت جميع مقدماته بل ينتج أهل البيت صاحبو الإمامة وهم لا يقولون بعمومه إلى غير ذلك من الأبحاث فتأمل ولا تغفل. وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً أي يكتسب أي حسنة كانت، والكلام تذييل، وقيل المراد بالحسنة المودة في قربى الرسول صلّى الله عليه وسلّم وروي ذلك عن ابن والسدي، وأن الآية نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه لشدة محبته لأهل البيت، وقصة فدك. والعوالي لا تأبى ذلك عند من له قلب سليم، والكلام عليه تتميم، ولعل الأول أولى، وحب آل الرسول عليه الصلاة والسلام من أعظم الحسنات وتدخل في الحسنة هنا دخولا أوليا نَزِدْ لَهُ فِيها أي في الحسنة حُسْناً بمضاعفة الثواب عليها فإنها يزاد بها حسن الحسنة، ففي للظرفية وحُسْناً مفعول به أو تمييز، وقرأ زيد بن علي وعبد الوارث عن أبي عمرو وأحمد بن جبير عن الكسائي «يزد» بالياء أي يزد الله تعالى. وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو «حسنى» بغير تنوين وهو مصدر كبشرى أو صفة لموصوف مقدر أي صفة أو خصلة حسنى إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ ساتر ذنوب عباده شَكُورٌ مجاز من أطاع منهم بتوفية الثواب والتفضل عليه بالزيادة، وقال السدي: غفور لذنوب آل محمد صلّى الله عليه وسلّم شكور لحسناتهم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 33 أَمْ يَقُولُونَ بل أيقولون افْتَرى محمد عليه الصلاة والسلام عَلَى اللَّهِ كَذِباً بدعوى النبوة أو القرآن، والهمزة للإنكار التوبيخي وبل للإضراب من غير إبطال وهو إضراب أطم من الأول فأطم فإن إثبات ما هم عليه من الشرع وإن كان شرا وشركا أقرب من جعل الحق الأبلج المعتضد بالبرهان النير من أوسطهم فضلا ودعة وعقلا افتراء ثم افتراء على الله عز وجل فكأنه قيل: أيتمالكون التفوه بنسبة مثله عليه الصلاة والسلام إلى الافتراء ثم إلى الافتراء على الله عز وجل الذي هو أعظم الفري وأفحشها ولا تحترق ألسنتهم. وفي ذلك أتم دلالة على بعده صلّى الله عليه وسلّم من الافتراء كيف وقد أردف بقوله تعالى: فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ فإن هذا الأسلوب مؤداه استبعاد الافتراء من مثله عليه الصلاة والسلام وأنه في البعد مثل الشرك بالله سبحانه والدخول في جملة المختوم على قلوبهم فكأنه قيل: فإن يشأ الله سبحانه يجعلك من المختوم على قلوبهم حتى تفتري عليه الكذب فإنه لا يجترىء على افتراء الكذب على الله تعالى إلا من كان في مثل حالهم وهو في معنى فإن يشأ يجعلك منهم لأنهم هم المفترون الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله تعالى، وما أحسن هذا التعريض بأنهم المفترون وأنهم في نفس هذه المقالة عن افترائهم مفترون، ونظير الآية فيما ذكر قول أمين نسب إلى الخيانة: لعل الله تعالى خذلني لعل الله تعالى أعمى قلبي وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمى القلب وإنما يريد استبعاد أن يخون مثله والتنبيه على أنه ركب من تخوينه أمر عظيم، فالكلام تعليل لإنكار قولهم، وأتى بإن مع أن عدم مشيئته تعالى مقطوع به قيل إرخاء للعنان، وقيل: إشعار بعظمته تعالى وأنه سبحانه غني عن العالمين، ثم ذيل بقوله تعالى: وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ تأكيدا للمفهوم من السابق من أنه ليس من الافتراء في شيء أي كيف يكون افتراء ومن عادته تعالى محو الباطل ومحقه وإثبات الحق بوحيه أو بقضائه وما أتى به عليه الصلاة والسلام يزداد كل يوم قوة ودحوا فلو كان مفتريا كما يزعمون لكشف الله تعالى افتراءه ومحقه وقذف بالحق على باطله فدمغه. والفعل المضارع للاستمرار. والكلام ابتدائي فيمح مرفوع لا مجزوم بالعطف على يَخْتِمْ وأسقطت الواو في الرسم في أغلب المصاحف تبعا لإسقاطها في اللفظ لالتقاء الساكنين كما في سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ [العلق: 18] . ويَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ [الإسراء: 11] وكان القياس إثباتها رسما لكن رسم المصحف لا يلزم جريه على القياس، ويؤيد الاستئناف دون العطف على يَخْتِمْ إعادة الاسم الجليل ورفع يُحِقُّ وهذا ما ذكره جار الله في الجملتين الجزء: 13 ¦ الصفحة: 34 وبيان ارتباطهما بما قبلهما، وقد دقق النظر في ذلك وأتى بما استحسنه النظار حتى قال العلامة الطيبي: لو لم يكن في كتابه إلا هذا لكفاه مزية وفضلا، وجوز هو أيضا في قوله تعالى: وَيَمْحُ إلخ أن يكون عدة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالنصر أي يمحو الله تعالى باطلهم وما بهتوك به ويثبت الحق الذي أنت عليه بالقرآن وبقضائه الذي لا مرد له، وحينئذ يكون اعتراضا يؤكد ما سبق له الكلام من كونهم مبطلين في هذه النسبة إلى من هو أصدق الناس لهجة بأصدق حديث من أصدق متكلم، وقال في إرشاد العقل السليم في الجملة الأولى: إنها استشهاد على بطلان ما قالوه ببيان أنه عليه الصلاة والسلام لو افترى على الله تعالى كذبا لمنعه من ذلك قطعا، وتحقيقه أن دعوى كون القرآن افتراء عليه تعالى قول منهم أنه سبحانه لا يشاء صدوره عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بل يشاء عدم صدوره عنه ومن ضرورياته منعه عنه قطعا فكأنه قيل: لو كان افتراء عليه تعالى لشاء عدم صدوره عنك وإن يشأ ذلك يختم على قلبك بحيث لم يخطر ببالك معنى من معانيه ولم تنطق بحرف من حروفه وحيث لم يكن الأمر كذلك بل تواتر الوحي حينا فحينا تبين أنه من عند الله عز وجل، وذكر في الجملة الثانية ما ذكره جار الله من الوجهين، ولا يخفى عليك ما يرد على كلامه من المنع مع أن فيه جعل مفعول المشيئة غير ما يدل عليه الجواب وهو ذلك المشار به إلى عدم الصدور، والمتبادر كون المفعول الختم على ما هو المعروف في نظائر هذا التركيب أي فإن يشأ الله تعالى الختم على قلبك يختم، وإيهام كون القرآن ناشئا منه صلّى الله عليه وسلّم لا منزلا عليه عليه الصلاة والسلام، وقال السمرقندي: المعنى إن يشأ يختم على قلبك كما فعل بهم فهو تسلية له عليه الصلاة والسلام وتذكير لإحسانه إليه وإكرامه له صلّى الله عليه وسلّم ليشكر ربه سبحانه ويترحم على من ختم على قلبه فاستحق غضب ربه ولولا ذلك ما اجترأ على نسبته لما ذكر، فالتفريع بالنظر إلى المعنى المكنى عنه، وحاصله أنهم اجترءوا على هذا لأنهم مطبوعون على الضلال انتهى، وفيه شمة مما ذكره الزمخشري. وعن قتادة وجماعة يختم على قلبك ينسك القرآن، والمراد على ما قال ابن عطية الرد على مقالة الكفار وبيان بطلانها كأنه قيل: وكيف يصح أن تكون مفتريا وأنت من الله تعالى بمرأى ومسمع وهو سبحانه قادر ولو شاء لختم على قلبك فلا تعقل ولا تنطق ولا يستمر افتراؤك، وفيه أن اللفظ ضيق عن أداء هذا المعنى، وذكر القشيري أن المعنى فإن يشأ الله تعالى يختم على قلوب الكفار وعلى ألسنتهم ويعاجلهم بالعذاب، وعدل عن الغيبة إلى الخطاب ومن الجمع إلى الإفراد، وحاصله يختم على قلبك أيها القائل إنه عليه الصلاة والسلام افترى على الله تعالى كذبا، وفيه من البعد ما فيه مع أن الكفار مختوم على قلوبهم، وقال مجاهد ومقاتل: المعنى فإن يشأ يربط على قلبك بالصبر على أذاهم حتى لا يشق عليك قولهم إنك مفتر، ولا مانع عليه من عطف يَمْحُ على جواب الشرط بل هو الظاهر فيكون سقوط الواو للجازم، ويُحِقُّ حينئذ مستأنف أي وإن يشأ يمح باطلهم عاجلا لكنه سبحانه لم يفعل لحكمة أو مطلقا وقد فعل جل وعلا بالآخرة وأظهر دينه، وقيل: لا مانع من العطف على بعض الأقوال السابقة أيضا أي إن يشأ يمح افتراءك لو افتريت وهو كما ترى، وكذا جوز كون الجملة حالية وإن أحوج ذلك إلى تقدير المبتدأ وفيه تكلف مستغنى عنه وربما يقال: إن جملة فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ من تتمة قولهم مفرعا على افْتَرى كأنه قيل: افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبه بسبب افترائه فلا يعقل شيئا أو كأنه قيل: افتريت على الله فإن يشأ يختم على قلبك جزاء ذلك إلا أن نكتة اختيار الغيبة في إحدى الجملتين والخطاب في الأخرى غير ظاهرة، وكونها الإشارة إلى أن من افترى يحق أن يواجه بالجزاء ليس مما يهش له السامع فيما أرى، ولعل الأولى أن يكون فَإِنْ يَشَإِ إلخ مفرعا على كلامهم خارجا مخرج التهكم بهم، ولا بأس حينئذ بعطف يمح على جواب الشرط ويراد بالباطل ما هو باطل بزعمهم كأنه قيل: أم يقولون افترى على الله فإذن إن يشأ الله يختم على قلبك ويمح ما يزعمون أنه باطل، وهذا كما تقول لمن أخبرك أن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 35 زيدا افترى عليك وأنت تعلم أنه لم يفتر وإنما أدى عنك ما أمرته به فإذن نؤدبه وننتقم منه ونمحو افتراءه تقصد بذلك التهكم بالقائل فتأمل، فهذه الآية كما قال الخفاجي من أصعب ما مر في كلامه تعالى العظيم وفقنا الله تعالى وإياكم لفهم معانيه والوقوف على سره وخافيه إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فيعلم سبحانه ما في صدرك وصدورهم فيجري جلّ وعلا الأمر على حسب ذلك. وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ بالتجاوز عما تابوا عنه والقبول يعدى بعن لتضمنه معنى الإبانة وبمن لتضمنه معنى الأخذ كما في قوله تعالى: وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ [التوبة: 54] أي تؤخذ، وقيل: القبول مضمن هنا معنى التجاوز والكلام على تقدير مضاف أي يقبل التوبة متجاوزا عن ذنوب عباده وهو تكلف. والتوبة أن يرجع عن القبيح والإخلال بالواجب في الحال ويندم على ما مضى ويعزم على تركه في المستقبل وزادوا التقصي منه بأي وجه أمكن إن كان الذنب لعبد فيه حق وذلك بالرد إليه أو إلى وكيله أو الاستحلال منه إن كان حيا وبالرد إلى ورثته إن كان ميتا ووجدوا ثم القاضي لو كان أمينا وهو كالإكسير ومن رأى الإكسير؟ فإن لم يقدر على شيء من ذلك يتصدق عنه والا يدع له ويستغفر. وفي الكشف التقصي داخل في الرجوع إذ لا يصح الرجوع عنه وهو ملتبس به بعد، واختير أن حقيقتها الرجوع وإنما الندم والعزم ليكون الرجوع إقلاعا ويتحقق أنه التوبة التي ندبنا إليها وهو موافق لما في الاحياء من أنها اسم لتلك الحالة بالحقيقة والباقي شروط التحقق ويشترط أيضا أن يكون الباعث على الرجوع مع الندم والعزم دينيا فلو رجع لمانع آخر من ضعف بدن أو غرم لذلك لم يكن من التوبة في شيء، وأشار الزمخشري إلى ذلك بكون الرجوع لأن المرجوع عنه قبيح وإخلال بالواجب وخرج عنه ما لو رجع طلبا للثناء أو رياء أو سمعة لأن قبح القبيح معناه كونه مقتضيا للعقاب آجلا وللذم عاجلا فلو رجع لما سبق لم يكن رجوعا لذلك. وروى جابر أن أعرابيا دخل مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك وكبر فلما فرغ من صلاته قال له علي كرم الله وجهه: إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين وتوبتك تحتاج إلى التوبة فقال يا أمير المؤمنين: ما التوبة؟ قال: اسم يقع على ستة معان على الماضي من الذنوب الندامة ولتضيع الفرائض الإعادة ورد المظالم وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية والبكاء بدل كل ضحك ضحكته ، وهذا يحتمل أن تكون التوبة مجموع هذه الأمور فالمراد أكمل أفرادها، ويحتمل أنها اسم لكل واحد منها والأول أظهر. واختلف في التوبة عن بعض المعاصي مع الإصرار على البعض هل هي صحيحة أم لا والذي عليه الأصحاب أنها صحيحة لظواهر الآيات والأحاديث وصدق التعريف عليها، وأكثر المعتزلة على أنها غير صحيحة قال أبو هاشم منهم: لو تاب عن القبيح لكونه قبيحا وجب أن يتوب عن كل القبائح وإن تاب عنه لا لمجرد قبحه بل لغرض آخر لم تصح توبته. وتعقب بأنه يجوز أن يكون الباعث شدة القبح أو أمرا دينيا آخر وأيضا يجري نظير هذا في فعل الحسن بل يقال: لو فعل الحسن لكونه حسنا وجب عليه أن يفعل كل حسن وإن فعله لغرض آخر لم يقبل وفيه بحث. واستدل المعتزلة بالآية على أنه يجب عليه تعالى قبول التوبة واستدل أهل السنة بها على عدم الوجوب لمكان التمدح ولا تمدح بالواجب، وفيه أيضا بحث والأنفع في هذا المقام أدلة نفي الوجوب مطلقا عليه عز وجل. وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ صغائرها وكبائرها لمن يشاء من غير اشتراط شيء كالتوبة للكبائر واجتنابها للصغائر. وقال الطيبي: المعنى من شأنه تعالى شأنه قبول التوبة عن عباده إذا تابوا والعفو عن سيئاتهم بمحض رحمته أو الجزء: 13 ¦ الصفحة: 36 بشفاعة شافع، وقال المعتزلة: أي يعفو عن الكبائر إذا تيب عنها وعن الصغائر إذا اجتنبت الكبائر فالعفو عن السيئات عليه أعم من قبول التوبة لشموله الصغائر إذا اجتنبت الكبائر وهو تعميم بعد تخصيص، والظاهر مع أهل السنة إذ لا دلالة في النظم الجليل على تخصيص السيئات نعم المراد بها غير الشرك بالإجماع. وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ بتاء الخطاب عند حفص والأخوين وعلقمة وعبد الله وبياء الغيبة عند الجمهور وعلى الأول ففيه التفات وما موصولة والعائد محذوف أي يعلم الذي تفعلونه كائنا ما كان من خير وشر فيجازى بالثواب والعقاب أو يتجاوز سبحانه بالعفو حسبما تقتضيه مشيئته جل وعلا المبنية على الحكم والمصالح. وقيل: يعلم ذلك فيجازي التائب ويتجاوز عن غيره إذا شاء سبحانه والأول أظهر. وفي الكشاف يعلم سبحانه ذلك فيثيب على الحسنات ويعاقب على السيئات. وفي الكشف بعد نقله هو أي قوله تعالى. وَيَعْلَمُ إلخ تذييل للكلام السابق يؤكد ما ذكره من القبول والعفو لأنه تعالى إذا علم العملين والعاملين جازى كلا بما فعل فأولى أن يجازي هؤلاء المحسنين بأفعالهم، ثم فيه لطف وحث على لزوم الحذر منه تعالى والإخلاص له سبحانه في إمحاض التوبة، ونحن أيضا لا ننكر أنه تذييل فيه تأكيد كما لا يخفى وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ عطف على يَقْبَلُ التَّوْبَةَ فالفاعل ضميره تعالى والَّذِينَ مفعول بدون تقدير شيء بناء على أن يَسْتَجِيبُ يتعدى بنفسه كما يتعدى باللام نحو شكرته وشكرت له أو بتقدير اللام على أنه من باب الحذف والإيصال والأصل يستجيب للذين آمنوا بناء على أنه يتعدى للداعي باللام وللدعاء بنفسه ونحو هذا قوله: وداع دعا يا من يجيب إلى الندى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب وأجاب واستجاب بمعنى أي ويجيب الله تعالى الذين آمنوا إذا دعوا وحاصله يجيب دعاءهم، وجوز بعضهم أن يكون الكلام بتقدير هذا المضاف قيل: وهو أولى من القول بإيصال الفعل بحذف الصلة لأن حذف المضاف إذا لم يلبس منقاس وذاك مسموع، ويجوز أن يكون المراد يثيبهم على طاعتهم فإن الطاعة لكونها طلب ما يترتب عليها من الثواب شابهت الدعاء وشابهت الإثابة عليها الإجابة، ومن هذا يسمى الثناء دعاء لأنه يترتب عليه ما يترتب عليه، وسئل سفيان عن قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث: «أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير» فقال: هذا كقوله تعالى في الحديث القدسي: «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» ألا ترى قول أمية بن الصلت لابن جدعان حين أتاه يبغي نائلة: أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... ثناؤك إن شيمتك الحياء إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه عن تعرضك الثناء وجعلوا من ذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم «أفضل الدعاء الحمد لله» على معنى أن الحمد يدل على الدعاء والسؤال بطريق الكناية والتعريض، وقيل: هو على إطلاق الدعاء على الحمد لشبهه به في طلب ما يترتب عليه، وجوز أن يراد بالإجابة معناها الحقيقي والإثابة بناء على القول بصحة الجمع بين الحقيقة والمجاز أي يجيب دعاءهم ويثيبهم على الطاعة وَيَزِيدُهُمْ على ما سألوا واستحقوا مِنْ فَضْلِهِ الواسع جل شأنه، وقيل: إن فاعل وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا واستظهره أبو حيان، والجملة عطف على مجموع قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ إلخ أي ينقادون لله تعالى ويجيبونه سبحانه إذا دعاهم، وهو المروي عن ابن جبير، وعن إبراهيم بن أدهم أنه قيل له: ما لنا ندعو فلا نجاب؟ فقال: لأنه سبحانه دعاكم فلم تجيبوه ثم قرأ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ [يونس: 25] وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وهذا يؤكد هذا الوجه لأنه قدس سره ذكر أن الله تعالى دعاكم بقوله عز وجل: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وذكر الجزء: 13 ¦ الصفحة: 37 أن المؤمن من استجاب دعوة ربه تعالى بقوله: وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا فمن لا يجيب دعاءه تعالى لا يجيب تعالى أيضا دعاءه، وكون الفاعل ضميره تعالى قد روى ما يقتضيه عن ابن عباس. ومعاذ بن جبل وَيَزِيدُهُمْ عليه عطف على ما قبله وعلى الوجه الآخر عطف على مقدر أي فيوفيهم أجورهم ويزيدهم عليها على أسلوب وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا [النمل: 15] وقوله سبحانه: مِنْ فَضْلِهِ متعلق بيزيدهم مطلقا، وجوز تعليقه بالفعلين على التنازع فإن الإجابة والثواب فضل منه تعالى كالزيادة. وأيا ما كان فالظاهر عموم الذين آمنوا وروي عن سعيد بن جبير أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين قدم المدينة واستحكم الإسلام قالت الأنصار فيما بينها: نأتي رسول الله عليه الصلاة والسلام ونقول له: إن تعرك أمور فهذه أموالنا تحكم فيها فنزلت قل لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى فقرأها عليهم، وقال تودون قرابتي من بعدي فخرجوا مسلمين فقال المنافقون: إن هذا لشيء افتراه في مجلسه أراد بذل عز قرابته من بعده فنزلت أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [سبأ: 8] فأرسل إليهم فتلاها عليهم فبكوا وندموا فأنزل الله تعالى وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ فأرسل صلّى الله عليه وسلّم إليهم فبشرهم وقال: وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وهم الذين سلموا لقوله ذكر ذلك الطبرسي، وذكر قريبا منه في الدر المنثور لكن قال: أخرجه الطبراني في الأوسط. وابن مردويه عن ابن جبير بسند ضعيف، والذي يغلب على الظن الوضع وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بدل ما للمؤمنين من الإجابة والتفضل. وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ أي لتكبروا فيها بطرا وتجاوزوا الحد الذي يليق بالعبيد أو لظلم بعضهم بعضا فإن الغني مبطرة مأشرة، وكفى بحال قارون عبرة، وفي الحديث «أخوف ما أخاف على أمتي زهرة الدنيا وكثرتها» ولبعض العرب: وقد جعل الوسمي ينبت بيننا ... وبين بني رومان نبعا وشوحطا وأصل البغي طلب أكثر مما يجب بأن يتجاوز في القدر والكمية أو في الوصف والكيفية وَلكِنْ يُنَزِّلُ بالتشديد، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف من الإنزال بِقَدَرٍ بتقدير ما يَشاءُ وهو ما اقتضته حكمته جل شأنه إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ محيط بخفيات أمورهم وجلاياها فيقدر لكل واحد منهم في كل وقت من أوقاتهم ما يليق بشأنه فيفقر ويغني ويمنع ويعطي ويقبض ويبسط حسبما تقتضيه الحكمة الربانية ولو أغناهم جميعا لبغوا ولو أفقرهم لهلكوا. واستشكلت الآية بأن الغنى كما يكون سبب البغي فكذلك الفقر قد يكون فلا يظهر الشرطية، وأجاب جار الله بأنه لا شبهة أن البغي مع الفقر أقل ومع البسط أكثر وأغلب وكلاهما سبب ظاهر للإقدام على البغي والإحجام عنه فلو عم البسط لغلب البغي حتى ينقلب الأمر إلى عكس ما عليه الآن وأراد والله تعالى أعلم أن نظام العالم على ما هو عليه يستمر وإن كان قد يصدر من الغنى في بعض الأحيان بغي ومن الفقير كذلك لكن في أحدهما ما يدفع الآخر أما لو أفقرهم كلهم لكان الضعف والهلك لازما ولو بسط عليهم كلهم مع أن الحاجة طبيعية لكان من البغي ما لا يقادر قدره لأن نظام العالم بالفقر أكثر منه بالغنى، وهذا أمر ظاهر مكشوف ثم إن الفقر الكلي لا يتصور معه البغي للضعف العام ولأنه لا يجد حاجته عند غيره ليظلمه، وأما الغنى الكلي فعنده البغي التام، وأما الذي عليه سنة الله عز وجل فهو الذي جمع الأمرين مشتملا على خوف للغني من الفقراء يزعه عن الظلم وخوف للفقير من الأغنياء أكثر منه يدعوه إلى التعاون ليفوز بمبتغاه ويزعه عن البغي، ثم قد يتفق بغي من هذا أو ذاك كذا قرره صاحب الكشف ثم قال: وهذا جواب حسن لا تكلف فيه وهو إشارة إلى رد العلامة الطيبي فإنه زعم أنه جواب متكلف وإن السؤال قوي، وذهب هو إلى أن المراد بِعِبادِهِ من خصهم الله تعالى بالكرامة وجعلهم من أوليائه ثم قال: وينصره التذييل بقوله تعالى: إِنَّهُ بِعِبادِهِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 38 خَبِيرٌ بَصِيرٌ ووضع المظهر موضع المضمر أي إنه تعالى خبير بأحوال عباده المكرمين بصير بما يصلحهم وما يرديهم، وإليه ينظر ما ورد عنه صلّى الله عليه وسلّم إذا أحب الله تعالى عبدا حماه الدنيا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء ، ويشد من عضده قول خباب بن الأرت نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير وبني قينقاع فتمنيناها فنزلت وَلَوْ بَسَطَ الآية وقول عمرو بن حريث طلب قوم من أهل الصفة من الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يغنيهم الله تعالى ويبسط لهم الأموال والأرزاق فنزلت وعليه تفسير محيي السنة انتهى. ولا يخفى أن الأنسب بحال المكرمين المصطفين من عباده تعالى أن لا يبطرهم الغنى لصفاء بواطنهم وقوة توجههم إلى حظائر القدس ومزيد تعلق قلوبهم بمحبوبهم ووقوفهم على حقائق الأشياء وكمال علمهم بمنتهى زخارف الحياة الدنيا، وأبناء الدنيا لو فكروا في ذلك حق التفكر لهان أمرهم وقل شغفهم كما قيل: لو فكر العاشق في منتهى ... حسن الذي يسبيه لم يسبه فلعل الأولى ما تقدم أو يقال إن هذا في بعض العباد المؤمنين فتأمل وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ أي المطر الذي يغيثهم من الجدب ولذلك خص بالنافع منه فلا يقال غيث لكل مطر، وقرأ الجمهور «ينزل» مخففا. مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا بكسر النون وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ أي منافع الغيث وآثاره في كل شيء من السهل والجبل والنبات والحيوان أو رحمته الواسعة المنتظمة لما ذكر انتظاما أوليا، وقيل: الرحمة هنا ظهور الشمس لأنه إذا دام المطر سئم فتجيء الشمس بعده عظيمة الموقع ذكره المهدوي وليس بشيء، ومن البعيد جدا ما قاله السدي من أن الرحمة هنا الغيث نفسه عدد النعمة نفسها بلفظين، وأيا ما كان فضمير رَحْمَتَهُ لله عز وجل، وجوز على الأول كونه للغيث. وَهُوَ الْوَلِيُّ الذي يتولى عباده بالإحسان ونشر الرحمة الْحَمِيدُ المستحق للحمد على ذلك لا غيره سبحانه. وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ على ما هما عليه من تعاجيب الصنائع فإنها بذاتها وصفاتها تدل على شؤونه تعالى العظيمة، ومن له أدنى إنصاف وشعور يجزم باستحالة صدورها من الطبيعة العديمة الشعور. وَما بَثَّ فِيهِما عطف على السَّماواتِ أي ومن آياته خلق ما بث أو عطف على خَلْقُ أي ومن آياته ما بث. وما تحتمل الموصولية والمصدرية والموصولية أظهر ولا حاجة عليه إلى تقدير مضاف أي خلق الذي بث خلافا لأبي حيان مِنْ دابَّةٍ أي حيوان له دبيب وحركة، وظاهر الآية وجود ذلك في السموات وفي الأرض وبه قال مجاهد وفسر الدابة بالناس والملائكة، ويجوز أن يكون للملائكة مشي مع الطيران، واعترض ذلك ابن المنير بأن إطلاق الدابة على الاناسي بعيد في عرف اللغة فكيف بالملائكة وادعى أن الأصح كون الدواب في الأرض لا غير وما في أحد الشيئين يصدق أنه فيهما في الجملة، فالآية على أسلوب يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرحمن: 22] وذلك لقوله تعالى في [البقرة: 164] وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ فإنه يدل على اختصاص الدواب بالأرض لأن مقام الإطناب يقتضي ذكره لو كان لا للعمل بمفهوم اللقب الذي لا يقول به الجمهور والجواب أن التي في البقرة لما كانت كلاما مع الغبي والفهم والمسترشد والمعاند جيء فيه بما هو معروف عند الكل وهو بث الدواب في الأرض وأما هاهنا فجيء به مدمجا مختصرا لما تكرر في القرآن ولا سيما في هذه السورة من كمال قدرته على كل ممكن فقيل: وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مؤثرا على لفظ الخلق ليدل على التكثير الدال على كمال القدرة وبين بقوله تعالى: مِنْ دابَّةٍ تعميما وتغليبا لغير ذوي العلم في السماوي والأرضي تحقيقا للمخلوقية فقد ثبت في صحاح الأحاديث ما يدل على وجود الدواب في السماء من مراكب أهل الجنة وغيرها، وكذلك ما يدل على وجود ملائكة كالأوعال بل لا يبعد أن يكون في كل سماء حيوانات ومخلوقات على صور شتى وأحوال مختلفة لا نعلمها الجزء: 13 ¦ الصفحة: 39 ولم يذكر في الأخبار شيء منها فقد قال تعالى: وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ [النحل: 8] وأهل الأرصاد اليوم يتراءى لهم بواسطة نظاراتهم مخلوقات في جرم القمر لكنهم لم يحققوا أمرها لنقص ما في الآلات على ما يدعون، ويحتمل أن يكون فيما عدا القمر ونفي ذلك ليس من المعلوم من الدين بالضرورة ليضر القول به، وقيل: المراد بالسماوات جهات العلو المسامتة للأقاليم مثلا وفي جو كل قليم بل كل بلدة بل كل قطعة من الأرض حيوانات لا يحصي كثرتها إلا الله تعالى بعضها يحس بها بلا واسطة آلة وبعضها بواسطتها، وقيل: المراد بها السحب وفيها من الحيوانات ما فيها وكل ذلك على ما فيه لا يحتاج إليه، وكذا لا يحتاج إلى ما ذهب إليه كثير من أن المراد بالدابة الحي مجازا إما من استعمال المقيد في المطلق أو إطلاق الشيء على لازمه أو المسبب على سببه لأن الحياة سبب للدبيب وإن لم تكن الدابة سببا للحي فيكون مجازا مرسلا تبعيا لأن الاحتياج إلى ذلك عدول عن الظاهر ولا يعدل عنه إلا إذا دل دليل على خلافه وأين ذلك الدليل؟ بل هو قائم على وجود الدواب في السماء كما هي موجودة في الأرض. وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ أي حشرهم بعد البعث للمحاسبة إِذا يَشاءُ ذلك قَدِيرٌ تام القدرة كاملها، وإِذا متعلقة بما قبلها لا بقدر لأن المقيد بالمشيئة جمعه تعالى لا قدرته سبحانه وهي كما تدخل على الماضي تدخل على المضارع، ومنه قوله: وإذا ما أشاء أبعث منها ... آخر الليل ناشطا مذعورا وقول صاحب الكشف: لقائل أن يفرق بين إذا وإذا ما الظاهر أنه ليس في محله وقد نص الخفاجي على عدم الفرق وجعل القول به توهما، وكذا نص على أنها تدخل على الفعلين ظرفية كانت أو شرطية، وقيد ذلك الطيبي بما إذا كانت بمعنى الوقت كما هنا، وضمير جَمْعِهِمْ قيل للسموات والأرض وما فيهما على التغليب وهو كما ترى، وقيل: للدواب المفهوم مما تقدم وضمير العقلاء للتغليب المناسب لكون الجمع للمحاسبة، وقيل: للناس المعلوم من ذلك ولعله الأولى وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ أي مصيبة كانت من مصائب الدنيا كالمرض وسائر النكبات فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ أي فبسبب معاصيكم التي اكتسبتموها، وما اسم موصوف مبتدأ والمبتدأ إذا كان موصولا صلته جملة فعلية تدخل على خبره الفاء كثيرا لما فيه من معنى الشرط لإشعاره بابتناء الخبر عليه فلذا جيء بالفاء هنا. وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر في رواية وشيبة «بما» بغير فاء لأنها ليست بلازمة وإيقاع المبتدأ موصولا يكفي في الإشعار المذكور، وحكي عن ابن مالك أنه قال: اختلاف القراءتين دل على أن ما موصولة فجيء تارة بالفاء في خبرها وأخرى لم يؤت بها حطا للمشبه عن المشبه به، وجوز كون ما شرطية واستظهره أبو حيان في القراءة بالفاء وجعلها موصولة في القراءة الأخرى بناء على أن حذف الفاء من جواب الشرط مخصوص بالشعر عند سيبويه نحو: من يفعل الحسنات الله يشكرها والأخفش وبعض نحاة بغداد أجازوا ذلك مطلقا، ومنه قوله تعالى: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام: 121] . وقال أبو البقاء: حذف الفاء من الجواب حسن إذا كان الشرط بلفظ الماضي ويعلم منه مزيد حسن حذفها هنا على جعل ما موصولة وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ أي من الذنوب فلا يعاقب عليها بمصيبة عاجلا قيل وآجلا. وجوز كون المراد بالكثير الكثير من الناس والظاهر الأول وهو الذي تشهد له الأخبار. روى الترمذي عن أبي موسى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يصيب عبدا نكبة فما فوقها أو دونها إلا بذنب وما يعفو الله تعالى عنه أكثر وقرأ وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ» . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 40 وأخرج ابن المنذر وجماعة عن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية وَما أَصابَكُمْ إلخ، قال عليه الصلاة والسلام والذي نفسي بيده ما من خدش عود ولا اختلاج عرق ولا نكبة حجر ولا عثرة قدم إلا بذنب وما يعفو الله عزّ وجلّ عنه أكثر ، وأخرج ابن سعد عن أبي مليكة أن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما كانت تصدع فتضع يدها على رأسها وتقول بذنبي وما يغفره الله تعالى أكثر، ورؤي على كف شريح قرحة فقيل: بم هذا؟ فقال: بما كسبت يدي، وسئل عمران بن حصين عن مرضه فقال: إن أحبه إلى الله تعالى وهذا بما كسبت يدي، والآية مخصوصة بأصحاب الذنوب من المسلمين وغيرهم فإن من لا ذنب له كالأنبياء عليهم السلام قد تصيبهم مصائب، ففي الحديث «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل» ويكون ذلك لرفع درجاتهم أو لحكم أخرى خفيت علينا، وأما الأطفال والمجانين فقيل غير داخلين في الخطاب لأنه للمكلفين وبفرض دخولهم أخرجهم التخصيص بأصحاب الذنوب فما يصيبهم من المصائب فهو لحكم خفية، وقيل: في مصائب الطفل رفع درجته ودرجة أبويه أو من يشفق عليه بحسن الصبر ثم إن المصائب قد تكون عقوبة على الذنب وجزاء عليه بحيث لا يعاقب عليه يوم القيامة، ويدل على ذلك ما رواه أحمد في مسنده والحكيم الترمذي وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله تعالى حدثنا بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ وسأفسرها لك يا علي ما أصابك من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم والله تعالى أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة وما عفا الله تعالى عنه في الدنيا فالله سبحانه أكرم من أن يعود بعد عفوه ، وزعم بعضهم أنها لا تكون جزاء لأن الدنيا دار تكليف فلو حصل الجزاء فيها لكانت دار جزاء وتكليف معا وهو محال فما هي إلا امتحانات، وخبر علي كرم الله وجهه يرده وكذا ما صح من أن الحدود أي غير حد قاطع الطريق مكفرات وأي محالية في كون الدنيا دار تكليف ويقع فيها لبعض الأشخاص ما يكون جزاء له على ذنبه أي مكفرا له. وعن الحسن تفسير المصيبة بالحد قال: المعنى ما أصابكم من حد من حدود الله تعالى فإنما هو بكسب أيديكم وارتكابكم ما يوجبه ويعفو الله تعالى عن كثير فيستره على العبد حتى لا يحد عليه، وهو مما تأباه الأخبار ومع هذا ليس بشيء ولعله لم يصح عن الحسن. وفي الانتصاف أن هذه الآية تبلس عندها القدرية ولا يمكنهم ترويج حيلة في صرفها عن مقتضى نصها فإنها حملوا قوله تعالى: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48، 116] على التائب وهو غير ممكن لهم هاهنا فإنه قد أثبت التبعيض في العفو ومحال عندهم أن يكون العفو هنا مقيدا بالتوبة فإنه يلزم تبعيضا أيضا وهي عندهم لا تتبعض كما نقل الإمام عن أبي هاشم وهو رأس الاعتزال والذي تولى كبره منهم فلا محل لها إلا الحق الذي لا مرية فيه وهو رد العفو إلى مشيئة الله تعالى غير موقوف على التوبة. وأجيب عنهم بأن لهم أن يقولوا: المراد ويعفو عن كثير فلا يعاقب عليه في الدنيا بل يؤخر عقوبته في الآخرة لمن لم يتب. وأنت تعلم ما دل خبر على كلام الله تعالى وجهه. وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي بجاعلين الله سبحانه وتعالى عاجزا عن أن يصيبكم بالمصائب بما كسبت أيديكم وإن هربتم في أقطار الأرض كل مهرب، وقيل: المراد أنكم لا تعجزون من في الأرض من جنوده تعالى فكيف من في السماء وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ من متول بالرحمة يرحمكم إذا أصابتكم المصائب وقيل يحميكم عنها وَلا نَصِيرٍ يدفعها عنكم، والجملة كالتقرير لقوله تعالى: وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ أي إن الله تعالى يعفو عن كثير من المصائب إذ لا قدرة لكم أن تعجزوه سبحانه فتفوتوا ما قضى عليكم منها ولا لكم أيضا من متول بالرحمة غيره عزّ وجلّ ليرحمكم إذا أصابتكم ولا ناصر سواه لينصركم منها ولهذا جاء عن علي كرم الله تعالى وجهه أن هذه أرجى آية الجزء: 13 ¦ الصفحة: 41 في القرآن للمؤمنين، ويقوي أمر الرجاء على ما قيل: أن معنى ما أَنْتُمْ إلخ ما أنتم بمعجزين الله في دفع مصائبكم أي إنه سبحانه قادر على ذلك وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ أي السفن الجواري أي الجارية فهي صفة لموصوف محذوف لقرينة قوله تعالى: فِي الْبَحْرِ وبذلك حسن الحذف وإلا فهي صفة غير مختصة والقياس فيها أن لا يحذف الموصوف وتقوم مقامه، وجوز أبو حيان أن يقال: إنها صفة غالبة كالأبطح وهي يجوز فيها أن تلي العوامل بغير ذكر الموصوف، وفِي الْبَحْرِ متعلق بالجواري وقوله تعالى: كَالْأَعْلامِ في موضع الحال. وجوز أن يكون الأول أيضا كذلك، والأعلام جمع علم وهو الجبل وأصله الأثر الذي يعلم به الشيء كعلم الطريق وعلم الجيش وسمي الجبل علما لذلك ولا اختصاص له بالجبل الذي عليه النار للاهتداء بل إذا أريد ذلك قيد كما في قول الخنساء: وإن صخرا لتأتّم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار وفيه مبالغة لطيفة، وحكي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لما سمعه: قاتلها الله تعالى ما رضيت بتشبيهه بالجبل حتى جعلت على رأسه نارا وقرأ نافع وأبو عمرو «الجواري» بياء في الوصل دون الوقف. وقرأ ابن كثير بها فيهما والباقون بالحذف فيهما والإثبات على الأصل والحذف للتخفيف، وعلى كل فالإعراب تقديري وسمع من بعض العرب الاعراب على الراء إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ التي تجري بها ويعدم سبب تموجها وهو تكاثف الهواء الذي كان في المحل الذي جرت إليه وتراكم بعضه على بعض وسبب ذلك التكاثف إما انخفاض درجة حرارة الهواء فيقل تمدده ويتكاثف ويترك أكثر المحل الذي كان مشغولا به خليا وإما تجمع فجائي يحصل في الأبخرة المنتشرة في الهواء فيخلو محلها، وهذا على ما قيل أقوى الأسباب فإذا وجد الهواء أمامه فراغا بسبب ذلك جرى بقوة ليشغله فتحدث الريح وتستمر حتى تملأ المحل وما ذكر في سبب التموج هو الذي ذكره فلاسفة العصر. وأما المتقدمون فذكروا أشياء أخرى، ولعل هناك أسبابا غير ذلك كله لا يعلمها إلا الله عزّ وجلّ، والقول بالأسباب تحريكا وإسكانا لا ينافي إسناد الحوادث إلى الفاعل المختار جلّ جلاله وعم نواله. وقرأ نافع «الرياح» جمعا فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ فيصرن ثوابت على ظهر البحر أي غير جاريات لا غير متحركات أصلا، وفسر بعضهم (يظللن) بيبقين فيكون رَواكِدَ حالا والأول أولى. وقرأ قتادة «فيظللن» بكسر اللام والقياس الفتح لأن الماضي مكسور العين فالكسر في المضارع شاذ، وقال الزمخشري: هو من ظل يظل ويظل بالفتح والكسر نحو ضل بالضاد يضل ويضل، وتعقبه أبو حيان بأنه ليس كما ذكر لأن يضل بالفتح من ضللت بالكسر ويضل بالكسر من ضللت بالفتح وكلاهما مقيس إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكر من السفن المسخرة في البحر تحت أمره سبحانه وحسب مشيئته تعالى: لَآياتٍ عظيمة كثيرة على عظمة شؤونه عزّ وجلّ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ لكل من حبس نفسه عن التوجه إلى ما لا ينبغي ووكل همته بالنظر في آيات الله تعالى والتفكر في آلائه سبحانه فالصبر هنا حبس مخصوص والتفكر في نعمه تعالى شكر. ويجوز أن يكون قد كنى بهذين الوصفين عن المؤمن الكامل لأن الإيمان نصفه صبر ونصفه شكر. وذكر الإمام أن المؤمن لا يخلو من أن يكون في السراء والضراء فإن كان في الضراء كان من الصابرين وإن كان في السراء كان من الشاكرين أَوْ يُوبِقْهُنَّ عطف على يُسْكِنِ أي أو يهلكهن بإرسال الريح العاصفة المغرقة، والمراد على ما قال غير واحد إهلاك أهلها إما بتقدير مضاف أو بالتجوز بإطلاق المحل على حاله أو بطريق الجزء: 13 ¦ الصفحة: 42 الكناية لأنه يلزم من إهلاكها إهلاك من فيها والقرينة على إرادة ذلك قوله تعالى: بِما كَسَبُوا وأصله أو يرسلها أي الريح فيوبقهن لأنه قسيم يسكن فاقتصر فيه على المقصود من إرسالها عاصفة وهو إما إهلاكهم أو إنجاؤهم المراد من قوله تعالى: وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ إذ المعنى أو يرسلها فيوبق ناسا بذنوبهم وينج ناسا على طريق العفو عنهم وبهذا ظهر وجه جزم يَعْفُ لأنه بمعنى ينج معطوف على يوبق، ويعلم وجه عطفه بالواو لأنه مندرج في القسيم وهو إرسالها عاصفة، وعلى هذا التفسير تكون الآية متضمنة لإسكانها ولإرسالها عاصفة مع الإهلاك والإنجاء وإرسالها باعتدال معلوم من قوله سبحانه الجواري فإنها المطلوب الأصلي منها. وقال بعض الأجلة: التحقيق أن يَعْفُ عطف على قوله تعالى: يُسْكِنِ الرِّيحَ إلى قوله سبحانه: بِما كَسَبُوا ولذا عطف بالواو لا بأو والمعنى إن يشأ يعاقبهم بالإسكان أو الإعصاف وإن يشأ يعف عن كثير. وجوز بعضهم حمل يُوبِقْهُنَّ على ظاهره لأن السفن من جملة أموالهم التي هلاكها والخسارة فيها بذنوبهم أيضا وجعل الآية مثل قوله تعالى وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ. إلخ. وقرأ الأعمش «يعفو» بالواو الساكنة آخره على عطفه على مجموع الشرط والجواب دون الجواب وحده كما في قراءة الجزم، وعن أهل المدينة أنهم قرؤوا «يعفو» بالواو المفتوحة على أنه منصوب بأن مضمرة وجوبا بعد الواو والعطف على هذه القراءة على مصدر متصيد من الكلام السابق كأنه قيل: يقع وهو من العطف على المعنى وهذا مذهب البصريين في مثل ذلك وتسمى هذه الواو واو الصرف لصرفها عن عطف الفعل المجزوم قبلها إلى عطف مصدر على مصدر، ومذهب الكوفيين أن الواو بمعنى أن المصدرية ناصبة للمضارع بنفسها. واختار الرضي أن الواو إما واو الحال والمصدر بعدها مبتدأ خبره مقدر والجملة حالية أو واو المعية وينصب بعدها الفعل لقصد الدلالة على معية الأفعال كما أن الواو في المفعول معه دالة على مصاحبة الأسماء فعدل به عن الظاهر ليكون نصا في معنى الجمعية، والمشهور اليوم على ألسنة المعربين مذهب البصريين وعليه خرج أبو حيان النصب في هذه القراءة وكذا خرج غير واحد ومنهم الزجاج النصب في قوله تعالى: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 43 وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ أي من مهرب ومخلص من العذاب على ذلك، وجعلوا الجزاء بمنزلة الإنشاء كالاستفهام فكأنه تقدم أحد الأمور الستة ولم يرتض ذلك الزمخشري وقال: فيه نظر لما أورده سيبويه في الكتاب قال: واعلم أن النصب بالفاء والواو في قوله: إن تأتني آتك وأعطيك ضعيف وهو نحو من قوله: وألحق بالحجاز فأستريحا فهذا تجوز ولا بحد الكلام ولا وجهه إلا أنه في الجزاء صار أقوى قليلا لأنه ليس بواجب أنه يفعل إلا أن يكون من الأول فعل فلما ضارع الذي لا يوجبه كالاستفهام ونحوه أجازوا فيه هذا على ضعف، ولا يجوز أن تحمل القراءة المستفيضة على وجه ضعيف ليس بحد الكلام ولا وجهه ولو كانت من هذا الباب لما أخلى سيبويه منها كتابه وقد ذكر نظائرها من الآيات المشكلة انتهى، وخرج هو النصب في يَعْلَمَ على العطف على علة مقدرة قال: أي لينتقم منهم ويعلم الذين إلخ، وكم من نظير له في القرآن العظيم إلا أن ذلك من وجود حرف التعليل كقوله تعالى: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ [مريم: 21] وقوله سبحانه: خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [الجاثية: 22] . وقال أبو حيان: يبعد هذا التقدير أنه ترتب على الشرط إهلاك قوم ونجاة قوم فلا يحسن لينتقم منهم. وأجيب بأن الآية مخصوصة بالمجرمين فالمقصود الهلاك ويجوز أن يقدر ليظهر عظيم قدرته تعالى ويعلم الذين يجادلون فلا يرد عليه ما ذكر ويحسن ذلك التقدير في توجيه النصب في «يعفو» على ما روي عن أهل المدينة إذا خدش التوجيه السابق بما نقل عن سيبويه فيقال: إنه عطف على تعليل مقدر أي لينتقم منهم ويعفو عن كثير، وقراءة النصب في يَعْلَمَ هي التي قرأ بها أكثر السبعة. وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر والأعرج وشيبة وزيد بن علي بالرفع، وقرر في الكشف وجهه بأنه على عطف يعلم على مجموع الجملة الشرطية على معنى ومن آياته الدالة على كمال القدرة السفن في البحر ثم ذكر وجه الدلالة وأنها مسخرة تحت أمره سبحانه تارة بتضمن نفع من فيها وتارة بالعكس ثم قال جل وعلا ويعلم الذين يعاندون ولا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 44 يعترفون بآيات الله تعالى الباهرة بدل قوله سبحانه فيها بالضمير الراجع إلى الآية المبحوث عنها شهادة بأنها من آيات الله تعالى وزيادة للتحذير وذم الجدال فيها وليكون على أسلوب الكناية على نحو العرب لا تخفر الذمم فكأنه لما قيل: إن يشأ يسكن الريح وذكر سبب الدلالة صار في معنى يعلمها ويعترف بها المتدبرون في آياتنا المسترشدون ويعلم المجادلون فيها المنكرون ما لهم من محيص، وجاز أن يجعل عطفا على قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ وتجعل هذه وحدها آيات لتضمنها وجودها من الدلالة أقيمت مقام المضمر، والمعنى ومن آياته الجوار ويعلم المجادلون فيها، واعترض بين المعطوف والمعطوف عليه ببيان وجه الدلالة ليدل على موجب وعيد المجادل وعلى كونها آية بل آيات، ونقل عن أن الحاجب أنه يجوز أن يكون الرفع بالعطف على موضع الجزاء المتقدم باعتبار كونه جملة لا باعتبار عطف مجرد الفعل ليجب الجزم فتكون الجملتان مشتركتين في المسببية، وفيه بحث يعلم مما سيأتي إن شاء الله تعالى، وقرىء «ويعلم» بالجزم. وخرج على العطف علي يَعْفُ وتسببه عن الشرط باعتبار تضمن الأخبار عن علم المجادلين بما يحل بهم في المستقبل الوعيد والتحذير كما قيل: سوف ترى إذا انجلى الغبار ... أفرس تحتك أم حمار ومرجع المعنى علي ذلك أنه تعالى إن يشأ يعصف الريح فيغرق بعضا وينج آخرين عفوا ويجذر جماعة أخرى. واعترض بأن التخصيص بالمجادلين في هذا التحذير غير لائح، وأيضا علمهم بأن لا محيص من عذاب الله تعالى على تقدير عصف الريح بأهل السفن على سبيل العبرة ولا اختصاص لها بهم ولا بهذا المقدور خاصة. وأجيب عن الأول بأن التخصيص بالمجادلين لأنهم أولى بالتحذير، وعن الأخير بأنه أريد أن البر والبحر لا ينجيان من بأسه عزّ وجلّ فهو تعميم، واختار في الكشف كون التخريج على أن الآية في الكافرين بمعنى إن يعصف الريح فيغرق بعضهم وينج آخرين منهم عفوا ويعلموا ما لهم من محيص فلا يغتروا بالنجاة والعفو في هذه المرة، فالمجادلون هم الكثير الناجون أو بعضهم وهو على منوال قوله تعالى أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى [الإسراء: 69] ، ومن مجموع ما سمعت يلوح لك ضعف هذه القراءة ولهذا لم يقرأ بها في السبعة، والظاهر على القراءات الثلاث أن فاعل يَعْلَمَ الَّذِينَ وجملة ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ سادة مسد المفعولين. وفي الدر المصون أن الجملة في قراءة الرفع تحتمل الفعلية وتحتمل الاسمية أي وهو يعلم الذين، ولا يخفى أن الظاهر على الاحتمال الثاني كون الَّذِينَ مفعولا أولا والجملة مفعولا ثانيا والفاعل ضميره تعالى المستتر، وأوجب بعضهم هذا على قراءة الجزم وعطف يَعْلَمَ على يَعْفُ لئلا يخرج الكلام عن الانتظام ويظهر قصد التحذير لشيوع أن علم الله تعالى يكون كناية عن المجازاة وهو كما ترى فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ أي شيء كان من أسباب الدنيا، والظاهر أن الخطاب للناس مطلقا، وقيل: للمشركين، وما موصوله مبتدأ والعائد محذوف أي أوتيتموه والخبر ما بعد، ودخلت الفاء لتضمنها معنى الشرط، وقال أبو حيان: هي شرطية مفعول ثان لأوتيتم ومِنْ شَيْءٍ بيان لها وقوله تعالى: فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي فهو متاعها تتمتعون به مدة حياتكم فيها جواب الشرط، والأول أوفق بقوله تعالى: وَما عِنْدَ اللَّهِ من ثواب الآخرة خَيْرٌ ذاتا لخلوص نفعه وَأَبْقى زمانا حيث لا يزول ولا يفنى لأن الظاهر أن ما فيه موصولة وإنما لم يؤت بالفاء في خبرها مع أن الموصول المبتدأ إذا وصل بالطرف يتضمن معنى الشرط أيضا لأن مسببية كون الشيء عند الله تعالى لخيريته أمر معلوم مقرر غني عن الدلالة عليه بحرف موضوع له بخلاف ما عند غيره سبحانه الجزء: 13 ¦ الصفحة: 45 والتعبير عنه بأنه عند الله تعالى دون ما ادخر لذلك، وقوله تعالى: لِلَّذِينَ آمَنُوا إما متعلق بأبقى أو اللام لبيان من له هذه النعمة فهو خبر مبتدأ محذوف أي ذلك للذين آمنوا. وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ لا على غيره تعالى أصلا، وعن علي كرم الله تعالى وجهه اجتمع لأبي بكر رضي الله تعالى عنه مال فتصدق به كله في سبيل الله تعالى فلامه المسلمون وخطأه الكافرون فنزلت والموصول في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ مع ما بعد إما عطف على الموصول الأول أو هو مدح مرفوع على الخبرية لمبتدأ محذوف أو منصوب بمقدر كأعني أو أمدح، والواو اعتراضية كما ذكره الرضي، وغفل أبو البقاء عن الواو فلم يذكر العطف وذكر بدله البدل، وكبائر الإثم ما رتب عليه الوعيد أو ما يوجب الحد أو كل ما نهى الله تعالى عنه والفواحش ما فحش وعظم قبحه منها، وقيل: المراد بالكبائر ما يتعلق بالبدع واستخرج الشبهات وبالفواحش ما يتعلق بالقوة الشهوانية وبقوله تعالى: وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ما يتعلق بالقوة الغضبية وهو كما ترى، والمراد بالإثم الجنس وإلا لقيل الآثام، وإِذا ظرف ليغفرون وهُمْ مبتدأ لا تأكيد لضمير غضبوا وجوزه في البحر وجملة يغفرون خبره وتقديمه لافادة الاختصاص لأنه فاعل معنوي، واختصاصهم باعتبار أنهم أحقاء بذلك دون غيرهم فإن المغفرة حال الغضب عزيزة المثال، وفي الآية إيماء إلى أنهم يغفرون قبل الاستغفار، وقيل هُمْ مرفوع بفعل يفسره يَغْفِرُونَ ولما حذف انفصل الضمير وليس بشيء، وجعل أبو البقاء إِذا شرطية وجملة هُمْ يَغْفِرُونَ جوابا لها، وتعقبه أبو حيان بأنه يلزم الفاء حينئذ ولا يجوز حذفها إلا في الشعر، وتقدم لك آنفا ما ينفعك تذكره فتذكر، وقرأ حمزة والكسائي «كبير الإثم» بالإفراد لإرادة الجنس أو الفرد الكامل منه وهو الشرك، وروي تفسيره به عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ولا يلزم التكرار لأن المراد الاستمرار والدوام وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ قيل: نزلت في الأنصار دعاهم الله تعالى على لسان رسوله صلّى الله عليه وسلّم للإيمان به وطاعته سبحانه فاستجابوا له فأثنى عليهم جلّ وعلا بما أثنى، وعليه فهو من ذكر الخاص بعد العام لبيان شرفه لايمانهم دون تردد وتلعثم، والآية إن كانت مدنية فالأمر ظاهر وإذا كانت مكية فالمراد بالأنصار من آمن بالمدينة قبل الهجرة أو المراد بهم أصحاب العقبة وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ أي ذو شورى ومراجعة في الآراء بينهم بناء على أن الشورى مصدر كالبشرى فلا يصح الإخبار لأن الأمر متشاور فيه لا مشاورة إلا إذا قصد المبالغة، وأورد أنه يقال من غير تأويل شأني الكرم والأمر هنا بمعنى الشأن. نعم إذا حمل على القضايا المتشاور فيها احتاج إلى التأويل أو قصد المبالغة، وقيل: إن إضافة المصدر للعموم فلا يصح الإخبار إلا بالتأويل ورد بأن المراد أمرهم فيما يتشاور فيه لا جميع أمورهم وفيه نظر، وقال الراغب: المشورة استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض من قولهم: شرت العسل وأشرته استخرجته والشورى الأمر الذي يتشاور فيه انتهى، والمشهور كونه مصدرا، وجيء بالجملة اسمية مع أن المعطوف عليه جملة فعلية للدلالة على أن التشاور كان حالهم المستمرة قبل الإسلام وبعده، وفي الآية مدح للتشاور لا سيما على القول بأن فيها الإخبار بالمصدر، وقد أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: من أراد أمرا فشاور فيه وقضى هدي لأرشد الأمور ، وأخرج عبد بن حميد. والبخاري في الأدب. وابن المنذر عن الحسن قال: ما تشاور قوم قط إلا هدوا وأرشد أمرهم ثم تلا وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ، وقد كانت الشورى بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه فيما يتعلق بمصالح الحروب، وكذا بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم بعده عليه الصلاة والسلام، وكانت بينهم أيضا في الأحكام كقتال أهل الردة وميراث الجد وعدد حد الخمر وغير ذلك، والمراد ما لم يكن لهم فيه نص شرعي وإلا فالشورى لا معنى لها وكيف يليق بالمسلم العدول عن حكم الله عزّ وجلّ إلى آراء الجزء: 13 ¦ الصفحة: 46 الرجال والله سبحانه هو الحكيم الخبير، ويؤيد ما قلنا ما أخرجه الخطيب عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: قلت يا رسول الله الأمر ينزل بنا بعدك لم ينزل فيه قرآن ولم يسمع منك فيه شيء قال: اجمعوا له العابد من أمتي واجعلوه بينكم شورى ولا تقضوه برأي واحد ، وينبغي أن يكون المستشار عاقلا كما ينبغي أن يكون عابدا، فقد أخرج الخطيب أيضا عن أبي هريرة مرفوعا «استرشدوا العاقل ترشدوا ولا تعصوه فتندموا» والشورى على الوجه الذي ذكرناه من جملة أسباب صلاح الأرض ففي الحديث «إذا كان أمراؤكم خياركم وأمركم شورى فظهر الأرض خير لكم من بطنها وإذا كان أمراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاء كم وأمركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها» وإذا لم تكن على ذلك الوجه كان إفسادها للدين والدنيا أكثر من إصلاحها وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أي في سبيل الخير لأنه مسوق للمدح بمجرد الإنفاق، ولعل فصله عن قرينه بذكر المشاورة لأن الاستجابة لله تعالى وإقام الصلاة كانا من آثارها، وقيل: لوقوعها عند اجتماعهم للصلوات. وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ أي ينتقمون ممن بغى عليهم على ما جعله الله تعالى لهم ولا يعتدون، ومعنى الاختصاص أنهم الأخصاء بالانتصار وغيرهم يعدو ويتجاوز، ولا يراد أنهم ينتصرون ولا يغفرون ليتناقض هو والسابق، فكأنه وصفهم سبحانه بأنهم الأخصاء بالغفران لا يغول الغضب أحلامهم كما يغول في غيرهم وإنهم الأخصاء بالانتصار على ما جوز لهم إن كافؤوا ولا يعتدون كغيرهم فهم محمودون في الحالتين بين حسن وأحسن مخصوصون بذلك من بين الناس، وقال غير واحد: إن كلّا من الوصفين في محل وهو فيه محمود فالعفو عن العاجز المعترف بجرمه محمود ولفظ المغفرة مشعر به والانتصار من المخاصم المصر محمود، ولفظ الانتصار مشعر به ولو أوقعا على عكس ذلك كانا مذمومين وعلى هذا جاء قوله: إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا فوضع الندى في موضع السيف بالعلا ... مضرّ كوضع السيف في موضع الندى وقد يحمد كل ويذم باعتبارات أخر فلا تناقض أيضا سواء اتحد الموصوفان في الجملتين أولا، وقال بعض المحققين: الأوجه أن لا يحمل الكلام على التخصيص بل على التقوى أي يفعلون المغفرة تارة والانتصار أخرى لا دائما للتناقض وليس بذاك، وعن النخعي أنه كان إذا قرأ هذه الآية قال: كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترىء عليهم الفساق، وفيه إيماء إلى أن الانتصار من المخاصم المصرّ وإلا فلا إذلال للنفس بالعفو عن العاجز المعترف، ثم إن جملة هُمْ يَنْتَصِرُونَ من المبتدأ والخبر صلة الموصول وإِذا ظرف يَنْتَصِرُونَ وجوز كونها شرطية والجملة جواب الشرط وجملة الجواب والشرط هي الصلة. وتعقبه أبو حيان بما مر آنفا، وجوز أيضا كون هُمْ فاعلا لمحذوف وهو كما سمعت في وَإِذا ما غَضِبُوا إلخ. وقال الحوفي: يجوز جعل هُمْ توكيدا لضمير أَصابَهُمُ وفيه الفصل بين المؤكد والمؤكد بالفاعل ولعله لا يمتنع، ومع هذا فالوجه في الإعراب ما أشرنا إليه أولا وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها بيان لما جعل للمنتصر وتسمية الفعلة الثانية وهي الجزاء سيئة قيل للمشاكلة، وقال جار الله: تسمية كلتا الفعلتين سيئة لأنها تسوء من تنزل به، وفيه رعاية لحقيقة اللفظ وإشارة إلى أن الانتصار مع كونه محمودا إنما يحمد بشرط رعاية المماثلة وهي عسرة ففي مساقها حث على العفو من طريق الاحتياط، وقوله تعالى: فَمَنْ عَفا أي عن المسيء إليه وَأَصْلَحَ ما بينه وبين من يعاد به بالعفو والإغضاء عما صدر منه فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ فيجزيه جلّ وعلا أعظم الجزاء، تصريح بما لوح إليه ذلك من الحث وتنبيه على أنه وإن كان سلوكا لطريق الاحتياط يتضمن مع ذلك إصلاح ذات البين المحمود حالا ومالا ليكون زيادة تحريض عليه، وإبهام الأجر وجعله حقا على العظيم الكريم جل شأنه الدال الجزء: 13 ¦ الصفحة: 47 على عظمه زيادة في الترغيب، وجيء بالفاء ليرفعه عن السابق أي إذا كان سلوك الانتصار غير مأمون العثار فمن عفا وأصلح فهو سالك الطريق المأمون العثار المحمود في الدارين، وقوله تعالى: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ المتجاوزين الحد في الانتقام، تتميم لذلك المعنى وتصريح بما ضمن من عسر رعاية طريق المماثلة وأنه قلما تخلو عن الاعتداء والتجاوز لا سيما في حال الحرد والتهاب الحمية فيكون دخولا في زمرة من لا يحبه الله تعالى، ولا حاجة على هذا المعنى إلى جعل فَمَنْ عَفا إلخ اعتراضا، ثم لو كان كذلك بأن يكون هذا متعلقا بجزاء سيئة سيئة مثلها على أنه تعليل لما يفهم منه فالفاء غير مانعة عنه كما توهم، وأدخل غير واحد المبتدئين بالسيئة في الظالمين وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ بعد ما ظلم بالبناء للمجهول، وقرىء به فالمصدر مضاف لمفعوله أو هو مصدر المبني للمفعول واللام للقسم، وجوز أن تكون لام الابتداء جيء بها للتوكيد و (من) شرطية أو موصولة وحمل انتصر على لفظها وحمل فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ أي للمعاقب ولا للعاتب والعائب على معناها، والجملة عطف على فَمَنْ عَفا وجيء بها للتصريح بأن ما حض عليه إنما حض عليه إرشاد إلى الأصلح في الأغلب لا أن المنتصر عليه سبيل بوجه حالا أو مالا، ولإيهام الحض خلاف ما تضمنته من نفس السبيل على العموم صدرت باللام، وقوله تعالى: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ تعيين لمن عليه السبيل بعد نفي ذلك عن المنتصرين، والمراد بالذين يظلمون الناس من يبتدؤونهم بالظلم أو يزيدون في الانتقام ويتجاوزون ما حد لهم، وفسر ذلك بعضهم بالذين يفعلون بهم ما لا يستحقونه وهو أعم. وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي يتكبرون فيها تجبرا وفسادا أُولئِكَ الموصوفون بالظلم والبغي بغير الحق لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بسبب ظلمهم وبغيهم، والمراد بهؤلاء الظالمين الباغين الكفرة. وقيل: من يعمهم وغيرهم، وقوله تعالى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ تحذير عن الظلم والبغي وما يؤدي إلى العذاب الأليم بوجه، وفيه حض على ما حض عليه أولا اهتماما به وزيادة ترغيب فيه، فالصبر هنا هو الإصلاح المؤخر فيما تقدم قدم هاهنا، وعبر عنه بالصبر لأنه من شأن أولي العزم وإشارة إلى أن الإصلاح بالعفو والإغضاء إنما يحمد إذا كان عن قدرة لا عن عجز، وذلِكَ إشارة إلى المذكور من الصبر والمغفرة، وعَزْمِ الْأُمُورِ الأمور المعزومة المقطوعة أو العازمة الصادقة، وجوز في (من) أن تكون موصولة وأن تكون شرطية، وفي اللام أن تكون ابتدائية وأن تكون قسمية واكتفى بجواب القسم عن جواب الشرط، وإذا جعلت اللام للابتداء و (من) شرطية فجملة إِنَّ ذلِكَ جواب الشرط وحذفت الفاء منها، ومن يخص الحذف بالشعر لا يجوز هذا الوجه، وذكر جماعة أن في الكلام حذفا أي إن ذلك منه لمن عزم الأمور، وعلل ذلك بأن الجملة خبر فلا بد فيها من رابط وذلِكَ لا يصلح له لأنه إشارة إلى الصبر والمغفرة، وكونه مغنيا عنه لأن المراد صبره أو «ذلك» رابط والإشارة لمن بتقدير من ذوي عزم الأمور تكلف. هذا واختار العلامة الطيبي أن تسمية الفعلة الثانية التي هي الجزاء سيئة من باب التهجين دون المشاكلة. وزعم أن المجازى مسيء وبني على ذلك ربط جملة إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ بما قبل فقال: يمكن أن يقال لما نسب المجازي إلى المساءة في قوله سبحانه: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها والمسيء في هذا المقام مفسدا لما في البين بدليل فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ علل مفهوم ذلك بقوله سبحانه: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ كأنه قيل: من أخرج نفسه بالعفو والإصلاح من الانتساب إلى السيئة والإفساد كان مقسطا إن الله يحب المقسطين فوضع موضعه فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ومن اشتغل بالمجازاة وانتسب إلى السيئة وأفسد ما في البين وحرم نفسه ذلك الأجر الجزيل كان ظالما الجزء: 13 ¦ الصفحة: 48 نفسه إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ فالآية واردة إرشادا للمظلوم إلى مكارم الأخلاق وإيثار طريق المرسلين. وقال: إن قوله تعالى: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ إلخ خطاب للولاة والحكام وتعليم فعل ما ينبغي فعله بدليل قوله سبحانه: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ حيث أعاد السبيل المنكر بالتعريف وعلق به يَظْلِمُونَ النَّاسَ وفسره بقوله تعالى: عَذابٌ أَلِيمٌ وكذا قوله سبحانه: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إلخ تعليم لهم أيضا طريق الحكم يعني أن صاحب الحق إذا عدل من الأولى وانتصر من الظالم فلا سبيل لكم عليه لما قد رخص له ذلك وإذا اختار الأفضل فلا سبيل لكم على الظالم لأن عفو المظلوم من عزم الأمور فتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان انتهى، ولا يخفى ما فيه. وفي الكشف أن جعل ما ذكر خطابا للولاة والحاكم يوجب التعقيد في الكلام فالمعول عليه ما قدمناه، وقد جاءت أخبار كثيرة في فضل العافين عمن ظلمهم، أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قال موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام يا رب من أعز عبادك عندك؟ قال: من إذا قدر غفر» وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا وقف العباد للحساب نادى مناد ليقم من أجره على الله تعالى فليدخل الجنة ثم نادى الثانية ليقم من أجره على الله تعالى قالوا: ومن ذا الذي أجره على الله تعالى؟ قال: العافون عن الناس فقام كذا وكذا ألفا فدخلوا الجنة بغير حساب» . وأخرج أحمد وأبو داود عن أبي هريرة أن رجلا شتم أبا بكر رضي الله تعالى عنه والنبي صلّى الله عليه وسلّم جالس فجعل عليه الصلاة والسلام يعجب ويتبسم فلما أكثر رد عليه بعض قوله: فغضب النبي صلّى الله عليه وسلّم وقام فلحقه أبو بكر رضي الله تعالى عنه فقال: يا رسول الله كان يشتمني وأنت جالس فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت قال: إنه كان معك ملك يرد عنك فلما رددت عليه بعض قوله: وقع الشيطان فلم أكن لأقعد مع الشيطان ثم قال عليه الصلاة والسلام: «ثلاث من الحق ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضي عنها لله تعالى ألا أعز الله عز وجل بها نصره وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده الله تعالى بها كثرة وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله تعالى بها قلة» واستشكل هذا الخبر بأنه يشعر بعتب أبي بكر رضي الله تعالى عنه وهو نوع من السبيل المنفي في قوله تعالى: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ وأجيب بأنا لا نسلم ذلك وليس فيه أكثر من تنبيهه رضي الله تعالى عنه على ترك الأولى وهو شيء والعتب شيء آخر، وكذا لا يعد لو ما كما لا يخفى. ومن الناس من خص السبيل في الآية بالإثم والعقاب فلا إشكال عليه أصلا، وقيل: هو باق على العموم إلا أن الآية في عوام المؤمنين ومن لم يبلغ مبلغ أبي بكر رضي الله تعالى عنه فإن مثله يلام بالشتم وإن كان بحق بحضرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يأذن له به قالا أو حالا بل لاح عليه صلّى الله عليه وسلّم ما يشعر باستحسان السكوت عنه وحسنات الأبرار سيئات المقربين. وقد أمر صلّى الله عليه وسلّم بعض الأشخاص برد الشتم على الشاتم، أخرج النسائي، وابن ماجه وابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: دخلت علي زينب رضي الله تعالى عنها وعندي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأقبلت علي تسبني فوزعها النبي عليه الصلاة والسلام فلم تنته فقال لي: سبيها فسببتها حتى جف ريقها في فمها ووجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتهلل سرورا ، ولعله كان هذا منه عليه الصلاة والسلام تعزيرا لزينب رضي الله تعالى عنها بلسان عائشة رضي الله تعالى عنها لما أن لها حقا في الردود أي المصلحة في ذلك وقد ذكر فقهاؤنا أن للقاضي أن يعزر من استحق التعزير بشتم غير القذف وكذا للزوج أن يعزر زوجته على شتمها غير محرم إلى أمور أخر فتأمل. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 49 وظاهر قوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها يقتضي رعاية المماثلة مطلقا، وفي تفسير الإمام أن الآية تقتضي وجوب رعاية المماثلة في كل الأمور إلا فيما خصه الدليل لأنه لو حملت المماثلة في أمر معين فهو غير مذكور فيها فيلزم الإجمال وعلى ما قلنا يلزم تحمل التخصيص ومعلوم أن دفع الإجمال أولى من دفع التخصيص. والفقهاء أدخلوا التخصيص فيها في صور كثيرة تارة بناء على نص آخر أخص وأخرى بناء على القياس، ولا شك أن من ادعى التخصيص فعليه البيان والمكلف يكفيه أن يتمسك بها في جميع المطالب. وعن مجاهد والسدي إذا قال له: أخزاه الله تعالى فليقل أخزاه الله تعالى وإذا قذفه قذفا يوجب الحد فليس له ذلك بل الحد الذي أمر الله تعالى به، ونقل أبو حيان عن الجمهور أنهم قالوا إذا بغى مؤمن على مؤمن فلا يجوز له أن ينتصر منه بنفسه بل يرفع ذلك إلى الإمام أو نائبه، وفي مجمع الفتاوى جاز المجازاة بمثله في غير موجب حد للإذن به وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ والعفو أفضل فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وقال ابن الهمام: الأولى أن الإنسان إذا قيل له ما يوجب التعزير أن لا يجيبه قالوا: لو قال له: يا خبيث الأحسن أن يكف عنه ويرفعه إلى القاضي ليؤدبه بحضوره ولو أجاب مع هذا فقال: بل أنت لا بأس. وفي التنوير وشرحه ضرب غيره بغير حق وضربه المضروب أيضا يعزران كما لو تشاتما بين يدي القاضي ولم يتكافآ، وأنت تعلم ما يقتضيه ظاهر الآية ولا يعدل عنه إلا لنص، وظاهر كلام العلامة الطيبي أن المظلوم إذا عفا لا يلزم الظالم التعزير بضرب أو حبس أو نحوه، وذكر فقهاؤنا أن التعزير يغلب فيه حق العبد فيجوز فيه الإبراء العفو واليمين والشهادة على الشهادة وشهادة رجل وامرأتين ويكون أيضا حقا لله تعالى فلا عفو فيه إلا إذا علم الإمام انزجار الفاعل إلى آخر ما قالوا، ويترجح عندي إن الإمام متى رأى بعد التأمل والتجرد عن حظوظ النفس ترك التعزير للعفو سببا للفساد والتجاسر على التعدي وتجاوز الحدود عزر بما تقتضيه المصلحة العامة وليبذل وسعه فيما فيه إصلاح الدين وانتظام أمور المسلمين وإياه أن يتبع الهوى فيضل عن الصراط المستقيم. وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ أي ما له من ناصر يتولاه من بعد خذلان الله تعالى إياه فضمير بَعْدِهِ لله تعالى بتقدير مضاف فيه، وقيل للخذلان المفهوم من يُضْلِلِ والجملة عطف على قوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وكني بمن عن الظالم الباغي تسجيلا بأنه ضال مخذول أو أتي به مبهما ليشمله شمولا أوليا فقوله سبحانه: وَلَمَنْ صَبَرَ إلخ اعتراض لما أشرنا إليه وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ أي حين يرونه، وصيغة الماضي للدلالة على التحقق يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ أي رجعة إلى الدنيا مِنْ سَبِيلٍ حتى نؤمن ونعمل صالحا، وجوز أن يكون المعنى هل إلى رد للعذاب ومنع من سبيل، وتنكير مَرَدٍّ وكذا سَبِيلٍ للمبالغة والجملة حال وقيل مفعول ثان لترى. وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها أي على النار المدلول عليها بالعذاب، والجملة كالسابقة خاشِعِينَ متضائلين متقاصرين مِنَ الذُّلِّ أي بسبب الذل لعظم ما لحقهم فمن سببية متعلقة بخاشعين وهو وكذا ما بعده حال. وجوز أن يعلق الجار بقوله تعالى: يَنْظُرُونَ ويوقف على خاشِعِينَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ والأول أظهر، والطرف مصدر طرف إذا حرك عينه ومنه طرفة العين، والمراد بالخفي الضعيف، ومن ابتدائية أي يبتدىء نظرهم من تحريك لأجفانهم ضعيف بمسارقة كما ترى المصبور ينظر إلى السيف وهكذا نظر الناظر إلى المكاره لا يقدر أن يفتح أجفانه عليها ويملأ عينيه منها كما يفعل في نظره إلى المحاب، ويجوز أن تكون من بمعنى الباء. وعن ابن عباس خَفِيٍّ ذليل فالطرف عليه جفن العين، وقيل: يحشرون عميا فلا ينظرون إلا بقلوبهم وذاك الجزء: 13 ¦ الصفحة: 50 نظر من طرف خفي، وهو تأويل متكلف، والجملتان السابقتان أعني تَرَى الظَّالِمِينَ وتَراهُمْ يُعْرَضُونَ معطوفان على وَمَنْ يُضْلِلِ وأصل الكلام والظالمون لما رأوا العذاب يقولون وهم يعرضون عليها خاشعين، ثم قيل وَتَرَى وَتَراهُمْ خطابا لكل من يتأتّى منه الرؤية ويعتبر بحالهم زيادة للتهويل كأنه يعجبهم مما هم فيه ليعتبروا ويبتهجوا، ومنه يظهر أنه خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأتباعه وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ أي إنهم الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ بالتعريض للعذاب الخالد أو على ما مر في الزمر، وعدل عن أنهم إلى الذين تسجيلا عليهم بأكمل الخسران إذ المراد أن الكاملين في صفة الخسران المتصفين بحقيقته يَوْمَ الْقِيامَةِ متعلق بخسروا والقول في الدنيا، وجوز أن يكون متعلقا بقال، والماضي لتحقق الوقوع أي ويقولون إذا رأوهم على تلك الصفة. وفي الكشف الظاهر أنه قول يوم القيامة كالخسران من باب التنازع بين الفعلين، وآثر صاحب الكشاف على ما يؤذن به صنيعه أن يتعلق بالخسران وحده لأن الأصل في قالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ إلخ هم الخاسرون كما أن الأصل في وَتَرَى الظَّالِمِينَ والظالمون لما رأوا ثم قيل وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا على نحو ما قيل وَتَرَى إلخ وكما أن الرؤية رؤية الدنيا استحضارا لعذابهم الكائن في الآخرة تهويلا كذلك القول كأنهم جعلهم حضورا يعاين عذابهم ويسمع ما يقول المؤمنون فيهم ورد على الخطاب في الرؤية والغيبة في القول لأن معاينة العذاب لما كانت أدخل في التهويل جعل العذاب قريبا مشاهدا وخصوا بالخطاب على سبيل استحضار الحال لمزيد الابتهاج ولم يكن في الخسران ذلك المعنى لأنه أمر معقول والمحسوسات أقوى لا سيما إذا كن موجبات الخسران فجيء به على الأصل من الغيبة، وعدله من المضارع إلى الماضي لأنه قول صادر عن مقتضى الحال قد حق ووقع تفوهوا به أو لا وأسند إلى المؤمنين دلالة على الابتهاج المذكور واعتباطهم بنجاتهم عما هم فيه وإلا فالقول والرؤية لكل من يتأتى منه القول والرؤية، وجعله حالا كما فعل الطيبي على معنى وتراهم وقد صدق فيهم قول المؤمنين في الدنيا إن الخاسرين إلخ من أسلوب قوله: إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة وفيه أنه إنما يرتكب عند تعذر الحقيقة وقد أمكن الحمل على التنازع فلا تعذر. ثم إنه على التقدير لا يظهر أنه قول فيها إلا بدليل خارج، وهذا بخلاف ما ذكره جار الله في قوله تعالى: وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ [ق: 28] من تقدير وقد صح عندكم أني قدمت لأن في اللفظ إشعارا به بينا انتهى، ولعمري لقد أبعد قدس سره المغزى في هذه الآيات العظام وأتى بما تستحسنه النظار من ذي الإفهام فليفهم، وقوله تعالى: أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ إما من تمام كلام المؤمنين ويجري فيه ما سمعت من الأصل ونكتة العدول أو استئناف إخبار منه تعالى تصديقا لذلك وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ برفع العذاب عنهم مِنْ دُونِ اللَّهِ حسبما يزعمون وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ إلى الهدى أو النجاة، وقيل: المراد ما له من حجة اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ إذا دعاكم لما به النجاة على لسان رسوله صلّى الله عليه وسلّم مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ الجار والمجرور إما متعلق بمرد ويعامل اسم لا الشبيه بالمضاف معاملته فيترك تنوينه كما نص عليه ابن مالك في التسهيل ومنه قوله عليه الصلاة والسلام «لا مانع لما أعطيت» وقوله تعالى: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ [يوسف: 92] أي لا يرده الله تعالى بعد ما حكم به. ومن لم يرض بذلك قال: هو خبر لمبتدأ محذوف أي ذلك من الله تعالى، والجملة استئناف في جواب سؤال مقدر تقديره ممن ذلك؟ أو حال من الضمير المستتر في الظرف الواقع خبر لا أو متعلق بالنفي أو بما دل عليه كما قيل في قوله تعالى: ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [القلم: 2] وقيل: هو متعلق بيأتي، وتعقب بأنه خلاف المتبادر من الجزء: 13 ¦ الصفحة: 51 اللفظ والمعنى، وقيل: هو مع ذلك قليل الفائدة، وجوز كونه صفة ليوم، وتعقب بأنه ركيك معنى، والظاهر أن المراد بذلك اليوم يوم القيامة لا يوم ورود الموت كما قيل ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ أي ملاذ تلتجئون إليه فتخلصون من العذاب على أن مَلْجَإٍ اسم مكان، ويجوز أن يكون مصدرا ميميا وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ إنكار على أنه مصدر أنكر على غير القياس ونفي ذلك مع قوله تعالى حكاية عنهم: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] تنزيلا لما يقع من إنكارهم منزلة العدم لعدم نفعه وقيام الحجة وشهادة الجوارح عليهم أو يقال إن الأمرين باعتبار تعدد الأحوال والمواقف، وجوز أن يكون نَكِيرٍ اسم فاعل للمبالغة أي ما لكم منكر لأحوالكم غير مميز لها ليرحمكم وهو كما ترى فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً تلوين للكلام وصرف له عن خطاب الناس بعد أمرهم بالاستجابة وتوجيه له إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم أي فإن لم يستجيبوا وأعرضوا عما تدعوهم إليه فلا تهتم بهم فما أرسلناك رقيبا ومحاسبا عليهم إِنْ عَلَيْكَ أي ما عليك إِلَّا الْبَلاغُ لا الحفظ وقد فعلت. وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً أي نعمة من الصحة والغنى والأمن ونحوها فَرِحَ بِها أريد بالإنسان الجنس الشامل للجميع وهو حينئذ بمعنى الأناسي أو الناس ولذا جمع ضميره في قوله سبحانه: وَإِنْ تُصِبْهُمْ وليست للاستغراق والجمعية لا تتوقف عليه فكأنه قيل: وإن تصب الناس أو الأناسي سَيِّئَةٌ بلاء من مرض وفقر وخوف وغيرها بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ بسبب ما صدر منهم من السيئات فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ بليغ الكفر ينسى النعمة رأسا ويذكر البلية ويستعظمها ولا يتأمل سببها بل يزعم أنها أصابته من غير استحقاق لها. وأل فيه أيضا للجنس، وقيل: هي فيهما للعهد على أن المراد المجرمون، وقيل: هي في الأول للجنس وفي الثاني للعهد، وقال الزمخشري: أراد بالإنسان الجمع لا الواحد لمكان ضمير الجمع ولم يرد إلا المجرمين لأن إصابة السيئة بما قدمت أيديهم إنما يستقيم فيهم، ثم قال: ولم يقل فإنه لكفور ليسجل على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعم كما قال سبحانه: إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34] . إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات: 6] ففهم منه العلامة الطيبي أنها في الأول للعهد وأن المراد الكفار المخاطبون في قوله تعالى: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ لترتيب فَإِنْ أَعْرَضُوا عليه، ووضع المظهر موضع المضمر للإشعار بتصميمهم على الكفران والإيذان بأنهم لا يرعوون مما هم فيه وأنها في الثاني للجنس ليكون المعنى ليس ببدع من هذا الإنسان المعهود الإصرار لأن هذا الجنس موسوم بكفران النعم فيكون ذم المطلق دليلا على ذم المقيد، وفي الكشف أنه أراد أن الإنسان أي الأول للجنس الصالح للكل وللبعض وإذا قام دليل على إرادة البعض تعين وقد قام لما سلف أن الإصابة في غير المجرمين للعوض الموفى ولم يذهب إلى أن اللام للعهد وجعل قوله تعالى: فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ للجنس ليكون تعليلا للمقيد بطريق الأولى ومطابقا لما جاء في مواضع عديدة من الكتاب العزيز ولا بأس بأن يجعل إشارة إلى السالف فإنه للجنس أيضا، ويكون في وضع المظهر موضع المضمر الفائدة المذكورة مرارا بل هو أدل على القانون الممهد في الأصول وبكون كليهما للجنس أقول وإسناد الكفران مع أنه صفة الكفرة إلى الجنس لغلبتهم فهو مجاز عقلي حيث أسند إلى الجنس حال أغلب أفراده لملابسته الأغلبية، ويجوز أن يعتبر أغلب الأفراد عين الجنس لغلبتهم على غيرهم فيكون المجاز لغويا، وكذا يقال في إسناد الفرح إذا كان بمعنى البطر فإنه أيضا من صفات الكفرة بل إن كان أيضا بمعناه المعروف وهو انشراح الصدر بلذة عاجلة وأكثر ما يكون ذلك في اللذات البدنية الدنيوية فإنه وإن لم يكن من خواص الكفار بل يكون في المؤمنين أيضا اضطرارا أو شكرا إلا أنه لا يعم جميع أفراد الجنس وإن قلت بعمومه لم تحتج إلى ذلك كما إذا فسرته بالبطر على إرادة العهد في الإنسان، وإصابة السيئة بالذنوب غير عامة للأفراد أيضا فحال إسنادها يعلم مما الجزء: 13 ¦ الصفحة: 52 ذكرنا وتصدير الشرطية الأولى بإذا مع إسناد الإذاقة بلفظ الماضي إلى نون العظمة للتنبيه على أن إيصال النعمة محقق الوجود كثير الوقوع وأنه مراد بالذات من الجواد المطلق سبحانه وتعالى كما أن تصدير الثانية بإن وإسناد الإصابة بلفظ المضارع إلى السيئة وتعليلها بأعمالهم للإيذان بندرة وقوعها وأنها بمعزل عن الانتظام في سلك الإرادة بالذات والقصد الأولى، وإقامة علة الجزاء مقام الجزاء مبالغة في ذمهم. لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا لغيره سبحانه اشتراكا أو استقلالا يَخْلُقُ ما يَشاءُ من غير وجوب عليه سبحانه يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً استئناف بياني أو بيان ليخلق أو بدل منه بدل البعض على ما اختاره القاضي، ولما ذكر سبحانه إذاقة الإنسان الرحمة وإصابته بضدّها أتبع جل وعلا ذلك أن له سبحانه الملك وأنه تعالى يقسم النعمة والبلاء كما شاء بحكمته تعالى البالغة لا كما شاء الإنسان بهواه، وفيه إشارة إلى أن إذاقة الرحمة ليست للفرح والبطر بل للشكر لموليها وإصابة المحنة ليست للكفران والجزع بل للرجوع إلى مبليها وتأكيد لإنكار كفرانهم من وجهين: الأول أن الملك ملكه سبحانه من غير منازع ومشارك يتصرف فيه كيف يشاء فليس على من هو أحقر جزء من ملكه تعالى أن يعترض ويريد أن يجري التدبير حسب هواه الفاسد. الثاني أن هذا الملك الواسع لذلك العزيز الحكيم جلّ جلاله الذي من شأنه أن يخلق ما يشاء فأنى يجوز أن يكون تصرفه إلا على وجه لا يتصور أكمل منه ولا أوفق لمقتضى الحكمة والصواب، وعند ذلك لا يبقى إلا التسليم والشغل بتعظيم المنعم المبلي عن الكفران والإعجاب، وناسب هذا المساق أن يدل في البيان من أول الأمر على أنه تعالى فعل لمحض مشيئته سبحانه لا مدخل لمشيئة العبد فيه فلذا قدمت الإناث وأخرت الذكور كأنه قيل: يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء من الأناسي ما لا يهواه ويهب لمن يشاء منهم ما يهواه فقد كانت العرب تعد الإناث بلاء وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ [النحل: 58] ولو قدم المؤخر لا ختل النظم، وليس التقديم لمجرد رعاية مناسبة القرب من البلاء ليعارض بأن الآية السابقة ذكرت الرحمة فيها مقدمة عليه فناسب ذلك تقديم الذكور على الإناث، وفي تعريف الذكور مع ما فيه من الاستدراك لقضية التأخير التنبيه على أنه المعروف الحاضر في قلوبهم أول كل خاطر وأنه الذي عقدوا عليه مناهم، ولما قضى الوطر من هذا الأسلوب قيل: أَوْ يُزَوِّجُهُمْ أي الأولاد ذُكْراناً وَإِناثاً أي يخلق ما يهبهم زوجا لأن التزويج جعل الشيء زوجا فذكرانا وإناثا حال من الضمير، والواو قيل للمعية لأن حقه التأخير عن القسمين سياقا ووجودا فلا تتأتى المقارنة إلا بذلك، وقيل ذلك لأن المراد يهب لمن يشاء ما لا يهواه ويهب لمن يشاء ما يهواه أو يهب الأمرين معا لا أنه سبحانه يجعل من كل من الجنسين الذكور والإناث على حياله زوجا ولولا ذلك لتوهم ما ذكر فتأمله، ولتركبه منهما لم يكرر فيه حديث المشيئة، وقدم المقدم على ما هو عليه في الأصل ولم يعرف إذ لا وجه له، ثم قيل: وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً أي لا يولد له فقيد بالمشيئة لأنه قسم آخر، وكأنه جيء بأو في أَوْ يُزَوِّجُهُمْ دون الواو كما في سابقه من حيث إنه قسيم الانفراد المشترك بين الأولين ولم يؤت في الأخير لاتضاحه بأنه قسيم الهبة المشتركة بين الأقسام المتقدمة فتأمل، وقيل: قدم الإناث توصية برعايتهن لضعفهن لا سيما وكانوا قريبي العهد بالوأد، وفي الحديث «من ابتلي بشيء من هذه البنات فأحسن إليهن كن له سترا من النار» وقيل: قدمت لأنها أكثر لتكثير النسل فهي من هذا الوجه أنسب بالخلق المراد بيانه، وقيل: لتطييب قلوب آبائهن لما في تقديمن من التشريف لأنهن سبب لتكثير مخلوقاته تعالى، وقال الثعالبي: إنه إشارة إلى ما في تقدم ولادتهن من اليمن حتى أن أول مولود ذكر يكون مشؤوما فيقولون له بكر بكرين وعن قتادة من يمن المرأة تبكيرها بأنثى، وقيل: قدمت وأخر الذكور معرفا للمحافظة على الفواصل، والمناسب الجزء: 13 ¦ الصفحة: 53 للسياق ما علمت سابقا، وقال مجاهد في أَوْ يُزَوِّجُهُمْ التزويج أن تلد المرأة غلاما ثم تلد جارية، وقال محمد بن الحنفية رضي الله تعالى عنهما: هو أن تلد توأما غلاما وجارية. وزعم بعضهم أن الآية نزلت في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حيث وهب سبحانه لشعيب ولوط عليهم السلام إناثا ولإبراهيم عليه السلام ذكورا ولرسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم ذكورا وإناثا وجعل عيسى ويحيى عليهما السلام عقيمين اهـ إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ مبالغ جل شأنه في العلم والقدرة فيفعل ما يفعل بحكمة واختيار وَما كانَ لِبَشَرٍ أي ما صح لفرد من أفراد البشر. أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ ظاهره حصر التكليم في ثلاثة أقسام: الأول الوحي وهو المراد بقوله تعالى: إِلَّا وَحْياً وفسره بعضهم بالإلقاء في القلب سواء كان في اليقظة أو في المنام والإلقاء أعم من الإلهام فإن إيحاء أم موسى إلهام وإيحاء إبراهيم عليه السلام إلقاء في المنام وليس إلهاما وإيحاء الزبور إلقاء في اليقظة كما روي عن مجاهد وليس بإلهام والفرق أن الإلهام لا يستدعي صورة كلام نفساني فقد وقد وأما اللفظي فلا، وأما نحو إيحاء الزبور فيستدعيه، وقد جاء إطلاق الوحي على الإلقاء في القلب في قول عبيد بن الأبرص: وأوحى إليّ الله أن قد تأمروا ... بإبل أبي أوفى فقمت على رجلي فإنه أراد قذف في قلبي. والثاني إسماع الكلام من غير أن يبصر السامع من يكلمه كما كان لموسى وكذا الملائكة الذين كلمهم الله تعالى في قضية خلق آدم عليه السلام ونحوهم وهو المراد بقوله سبحانه أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ فإنه تمثيل له سبحانه بحال الملك المتحجب الذي يكلم بعض خواصه من وراء حجاب يسمع صوته ولا يرى شخصه. والثالث إرسال الملك كالغالب من حال نبينا صلّى الله عليه وسلّم وهو حال كثير من الأنبياء عليهم السلام، وزعم أنه من خصوصيات أولي العزم من المرسلين غير صحيح وهو المراد بقوله عز وجل: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا أي ملكا فَيُوحِيَ ذلك الرسول إلى المرسل إليه الذي هو الرسول البشري بِإِذْنِهِ أي بأمره تعالى وتيسيره سبحانه ما يَشاءُ أن يوحيه، وهذا يدل على أن المراد من الأول الوحي من الله تعالى بلا واسطة لأن إرسال الرسول جعل فيه إيحاء ذلك الرسول، وبنى المعتزلي على هذا الحصر أن الرؤية غير جائزة لأنها لو صحت لصح التكليم مشافهة فلم يصح الحصر، وقال بعض: المراد حصر التكليم في الوحي بالمعنى المشهور والتكليم من وراء حجاب وتكليم الرسل البشريين مع أممهم، واستبعد بأن العرف لم يطرد في تسمية ذلك إيحاء، وقال القاضي إن قوله تعالى إِلَّا وَحْياً معناه إلا كلاما خفيا يدرك بسرعة وليس في ذاته مركبا من حروف مقطعة وهو ما يعم المشافهة كما روي في حديث المعراج وما وعد به في حديث الرؤية والمهتف به كما اتفق لموسى عليه السلام في الطور لكن عطف قوله تعالى: أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ عليه يخصه بالأول فالآية دليل على جواز الرؤية لا على امتناعها، وإلى الأول ذهب الزمخشري وانتصر له صاحب الكشف عفا الله تعالى عنه فقال: وأما نحن فنقول والله تعالى أعلم: إن قوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ على التعميم يقتضي الحصر بوجه لا يخص التكلم بالأنبياء عليهم السلام ويدخل فيه خطاب مريم وما كان لأم موسى وما يقع للمحدثين من هذه الأمة وغيرهم فحمل الوحي على ما ذهب إليه الزمخشري أولى. ثم إنه يلزم القاضي أن لا يكون ما وقع من وراء حجاب وحيا لا أنه يخصصه لأنه نظير قولك: ما كان لك أن تنعم إلا على المساكين وزيد، نعم يحتمل أن يكون زيد داخلا فيهم على نحو مَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ [البقرة: 98] وهذا يضر القاضي لاقتضائه أن يكون هذا القسم أعني ما وقع من وراء حجاب أعلى المراتب فلا يكون الثاني هو المشافهة، وتقدير إلا وحيا من غير حجاب أو من وراء حجاب خلاف الظاهر وفيه فك للنظم لقوله سبحانه: أَوْ يُرْسِلَ وهو الجزء: 13 ¦ الصفحة: 54 عطف على قوله تعالى: إِلَّا وَحْياً مع كونه خلاف الظاهر. وعلى هذا يفسد ما بني عليه من حديث التنزل من القسم الأعلى إلى ما دونه، ومع ذلك لا يدل على عدم وقوع الرؤية فضلا عن جوازه بل دل على أنها لو وقعت لم يكن معها المكالمة وذلك هو الصحيح لأن الرؤية تستدعي الفناء والبقاء به عز وجل وهو يقتضي رفع حجاب المخاطب المستدعي كونا وجوديا ثم الكامل لتوفيته حق المقامات الكبرى يكون المحتظى منه بالشهود في مقام البقاء المذكور ومع ذلك لا يمنعه عن حظه من سماع الخطاب لأنه حظ القلب المحجوب عن مقام الشهود، والمقصود أن الذي يصح ذوقا ونقلا وعقلا كون الخطاب من وراء حجاب البتة وهو صحيح لكن لا ينفع منكر الرؤية ولا مثبتها، وأما سؤال الترقي في الأقسام فالجواب عنه أن الترقي حاصل بين الأول والثاني الذي له سمي الكليم كليما، وأما الثالث فلما كان تكليما مجازيا أخر عن القسمين ولم ينظر إلى أنه أشرف من القسم الأول فإن ذلك الأمر غير راجع إلى التكليم بل لأنه مخصوص بالأنبياء عليهم السلام انتهى. وتعقب ما اعترض به على القاضي بأنه لا يرد لأن الوحي بذلك المعنى بالتخصيص المذكور والتقييد المأخوذ من التقابل صار مغايرا لما بعده وليس من شيء من القبيلين حتى يذهب إلى الترقي أو التدلي لأنه لا يعطف بأو بل بالواو كما لا يخفى، ولزوم أن لا يكون الواقع من وراء حجاب وحيا غير مسلم لأنه إن أراد أن لا يكون وحيا مطلقا فغير صحيح لأن قوله تعالى بعده: فيوحي بإذنه قرينة على أن المراد بالوحي السابق وحي مخصوص كالذي بعده وإن أراد أنه لا يكون من الوحي المخصوص السابق فلا يضره لأنه عين ما عناه، نعم الحصر على ما ذهب إليه القاضي غير ظاهر إلا بعد ملاحظة أنه مخصوص بما كان بالكلام فتدبر، والظاهر أن عائشة رضي الله تعالى عنها حملت الآية على نحو ما حملها المعتزلة، أخرج البخاري ومسلم والترمذي عنها أنها قالت: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد كذب ثم قرأت لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام: 103] وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ وأنت تعلم أن أكثر العلماء على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رأى ربه سبحانه ليلة الإسراء لكثرة الروايات المصرحة بالرؤية نعم ليس فيها التصريح بأنها بالعين لكن الظاهر من الرؤية كونها بها، والمروي عن الأشعري وجمع من المتكلمين أنه جل شأنه كلمه عليه الصلاة والسلام تلك الليلة بغير واسطة ويعزى ذلك إلى جعفر بن محمد الباقر وابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم وهو الظاهر للأحاديث الصحاح في مرادة الصلاة واستقرار الخمسين على الخمس وغير ذلك، وعائشة رضي الله تعالى عنها لم تنف الرؤية إلا اعتمادا على الاستنباط من الآيات ولو كان معها خبر لذكرته، واحتجاجها بما ذكر من الآيات غير تام، أما عدم تمامية احتجاجها بآية لا تدركه الأبصار فمشهور، وأما عدم تمامية الاحتجاج بالآية الثانية فلما سمعت عن صاحب الكشف قدس سره، وقال الخفاجي بعد تقرير الاحتجاج بأنه تعالى حصر تكليمه سبحانه للبشر في الثلاثة: فإذا لم يره جلّ وعلا من يكلمه سبحانه في وقت الكلام لم يره عز وجل في غيره بالطريق الأولى وإذا لم يره تعالى هو أصلا لم يره سبحانه غيره إذ لا قائل بالفصل، وقد أجيب عنه في الأصول بأنه يحتمل أن يكون المراد حصر التكليم في الدنيا في هذه الثلاثة أو نقول يجوز أن تقع الرؤية حال التكليم وحيا إذ الوحي كلام بسرعة وهو لا ينافي الرؤية انتهى، ولا يخفى عليك أن الجواب الأول لا ينفع فيما نحن بصدده إلا بالتزام أن ما وقع لنبينا عليه الصلاة والسلام تلك الليلة لا يعد تكليما في الدنيا على ما ذكره الشرنبلالي في إكرام أولي الألباب لأنه كان في الملكوت الأعلى وأنه يستفاد من كلام صاحب الكشف منع ظاهر للشرطية في وجه الاستدلال الذي قرره، وبعضهم أجاب بأن العالم مخصص بغير ما دليل وفي البحر قيل «قالت قريش: ألا تكلم الله تعالى وتنظر إليه إن كنت نبيا صادقا كما كلم جل وعلا موسى ونظر إليه تعالى فقال لهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «لم ينظر الجزء: 13 ¦ الصفحة: 55 موسى عليه السلام إلى الله عز وجل فنزلت وَما كانَ لِبَشَرٍ الآية» وهذا ظاهر في أن الآية لم تتضمن التكليم الشفاهي مع الرؤية وكذا ما فيه أيضا كان من الكفار خوض في تكليم الله تعالى موسى عليه السلام فذهبت قريش واليهود في ذلك إلى التجسيم فنزلت فإن عدم تضمنها ذلك أدفع لتوهم التجسيم، وبالجملة الذي يترجح عندي ما قاله صاحب الكشف قدس سره أن الآية لا تنفع منكر الرؤية ولا مثبتها وما ذكر من سبب النزول ليس بمتيقن الثبوت، ويفهم من كلام بعضهم أن الوحي كما يكون بالإلقاء في الروع يكون بالخط فقد قال النخعي كان في الأنبياء عليهم السلام من يخط له في الأرض، ومعناه اللغوي يشمل ذلك، فقد قال الإمام أبو عبد الله التيمي الأصبهاني: الوحي أصله التفهيم وكل ما فهم به شيء من الإلهام والإشارة والكتب فهو وحي، وقال الراغب: أصل الوحي الإشارة السريعة ولتضمن السرعة قيل أمر وحي وذلك يكون بالكلام على الزمر والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب وبإشارة ببعض الجوارح وبالكتابة، وقد حمل على ذلك قوله تعالى: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً [مريم: 11] فقد قيل رمز وقيل اعتبار وقيل كتب وجعل التسخير من الوحي أيضا وحمل عليه قوله تعالى: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل: 68] وسيأتي إن شاء الله تعالى ما للصوفية قدست أسرارهم من الكلام في هذه الآية، ووَحْياً على ما قال الزمخشري مصدر واقع موقع الحال وكذا أن يرسل لأنه بتأويل إرسالا، ومِنْ وَراءِ حِجابٍ ظرف واقع موقع الحال أيضا كقوله تعالى: وَعَلى جُنُوبِهِمْ [آل عمران: 191] والتقدير وما صح أن يكلم أحدا في حال من الأحوال إلا موحيا أو مسمعا من وراء حجاب أو مرسلا. وتعقبه أبو حيان فقال: وقوع المصدر حالا لا ينقاس فلا يجوز جاء زيد بكاء تريد باكيا، وقاس منه المبرد ما كان نوعا للفعل نحو جاء زيد مشيا أو سرعة ومنع سيبويه من وقوع أن مع الفعل موقع الحال فلا يجوز جاء زيد أن يضحك في معنى ضحكا الواقع موقع ضاحكا. وأجيب عن الأول بأن القرآن يقاس عليه ولا يلزم أن يقاس على غيره مع أنه قد يقال: يكتفى بقياس المبرد، وعن الثاني بأنه علل المنع بكون الحاصل بالسبك معرفة وهي لا تقع حالا، وفي ذلك نظر لأنه غير مطرد ففي شرح التسهيل أنه قد يكون نكرة أيضا ألا تراهم فسروا أَنْ يُفْتَرى بمفترى، وقد عرض ابن جني ذلك على أبي علي فاستحسنه، وعلى تسليم الاطراد فالمعرفة قد تكون حالا لكونها في معنى النكرة كوحده، والاقتصار على المنع أولى لمكان التعسف في هذا، واختار غير واحد أن وحيا بما عطف عليه منتصب بالمصدر لأنه نوع من الكلام أو بتقدير إلّا كلام وحي ومِنْ وَراءِ حِجابٍ صفة كلام أو سماع محذوف وصفة المصدر تسد مسده والإرسال نوع من الكلام أيضا بحسب المآل والاستثناء عليه مفرغ من أعم المصادر، وقال الزجاج: قال سيبويه سألت الخليل عن قوله تعالى: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا بالنصب فقال: هو محمول على أن سوى هذه التي في قوله تعالى: أن يكلمه الله لما يلزم منه أن يقال: ما كان لبشر أن يرسل الله رسولا وذلك غير جائز، والمعنى ما كان لبشر أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلا بأن يوحى أو أن يرسل، وعليه أن يقدر في قوله تعالى: أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ نحو أو أن يسمع من وراء حجاب وأي داع إلى ذلك مع ما سمعت؟ واختلف في الاستثناء هل هو متصل أو منقطع وأبو البقاء على الانقطاع. وتعقبه بعضهم بأن المفرغ لا يتصف بذلك والبحث شهير. وقرأ ابن أبي عبلة «أو من وراء حجب» بالجمع. وقرأ نافع وأهل المدينة «أو يرسل رسولا فيوحي» برفع الفعلين ووجهوا ذلك بأنه على إضمار مبتدأ أي هو يرسل أو هو معطوف على وَحْياً أو على ما يتعلق به مِنْ وَراءِ بناء على أن تقديره أو يسمع من وراء حجاب، وقال العلامة الثاني: إن التوجيه الثاني وما بعده ظاهر وهو عطف الجملة الفعلية الحالية على الحال المفردة، وأما إضمار المبتدأ فإن حمل على هذا فتقدير المبتدأ لغو، وإن أريد أنها مستأنفة فلا يظهر ما يعطف عليه سوى ما كانَ لِبَشَرٍ إلخ وليس بحسن الانتظام. وتعقب بأنه يجوز أن يكون تقدير المبتدأ مع اعتبار الحالية بناء على أن الجملة الاسمية التي الخبر فيها جملة فعلية تفيد ما لا تفيده الفعلية الصرفة مما الجزء: 13 ¦ الصفحة: 56 يناسب حال إرسال الرسول، أو يقال: لا نسلم أن العطف على ما كانَ لِبَشَرٍ ليس بحسن الانتظام، وفيه دغدغة لا تخفى، وفي الآية على ما قال ابن عطية دليل على أن من حلف أن لا يكلم فلانا فراسله حنث لاستثنائه تعالى الإرسال من الكلام، ونقله الجلال السيوطي في أحكام القرآن عن مالك وفيه بحث والله تعالى الهادي. إِنَّهُ عَلِيٌّ متعال عن صفات المخلوقين حَكِيمٌ يجري سبحانه أفعاله على سنن الحكمة فيكلم تارة بواسطة وأخرى بدونها إما إلهاما وإما خطابا أو إما عيانا وإما خطابا من وراء حجاب على ما يقتضيه الاختلاف السابق في تفسير الآية وَكَذلِكَ أي ومثل هذا الإيحاء البديع على أن الإشارة لما بعد أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا وهو ما أوحي إليه عليه الصلاة والسلام أو القرآن الذي هو للقلوب بمنزلة الروح للأبدان حيث يحييها حياة أبدية، وقيل: أي ومثل الإيحاء المشهور لغيرك أوحينا إليك، وقيل: أي ومثل ذلك الإيحاء المفصل أوحينا إليك إذ كان عليه الصلاة والسلام اجتمعت له الطرق الثلاث سواء فسر الوحي بالإلقاء أم فسر بالكلام الشفاهي، وقد ذكر أنه عليه الصلاة والسلام قد ألقي إليه في المنام كما ألقي إلى إبراهيم عليه السلام وألقي إليه عليه الصلاة والسلام في اليقظة على نحو إلقاء الزبور إلى داود عليه السلام. ففي الكبريت الأحمر للشعراني نقلا عن الباب الثاني من الفتوحات المكية أنه صلّى الله عليه وسلّم أعطي القرآن مجملا قبل جبريل عليه السلام من غير تفصيل الآيات والسور. وعن ابن عباس تفسير الروح بالنبوة. وقال الربيع: هو جبريل عليه السلام، وعليه فأوحينا مضمن معنى أرسلنا، والمعنى أرسلناه بالوحي إليك لأنه لا يقال: أوحى الملك بل أرسله. ونقل الطبرسي عن أبي جعفر وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن المراد بهذا الروح ملك أعظم من جبرائيل وميكائيل كان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يصعد إلى السماء ، وهذا القول في غاية الغرابة ولعله لا يصح عن هذين الإمامين، وتنوين رُوحاً للتعظيم أي روحا عظيما ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ الظاهر أن ما الأولى نافية والثانية استفهامية في محل رفع على الابتداء والْكِتابُ خبر، والجملة في موضع نصب بتدري وجملة ما كُنْتَ إلخ حالية من ضمير أَوْحَيْنا أو هي مستأنفة والمضي بالنسبة إلى زمان الوحي. واستشكلت الآية بأن ظاهرها يستدعي عدم الاتصاف بالإيمان قبل الوحي ولا يصح ذلك لأن الأنبياء عليهم السلام جميعا قبل البعثة مؤمنون لعصمتهم عن الكفر بإجماع من يعتد به، وأجيب بعدة أجوبة، الأول أن الإيمان هنا ليس المراد به التصديق المجرد بل مجموع التصديق والإقرار والإعمال فإنه كما يطلق على ذلك يطلق على هذا شرعا، ومنه قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة: 143] والأعمال لا سبيل إلى درايتها من غير سمع فهو مركب والمركب ينتفي بانتفاء بعض أجزائه فلا يلزم من انتفاء الإيمان المركب بانتفاء الأعمال انتفاء الإيمان بالمعنى الآخر أعني التصديق وهو الذي أجمع العلماء على اتصاف الأنبياء عليهم السلام به قبل البعثة، ولذا عبر بتدري دون أن يقال: لم تكن مؤمنا وهو جواب حسن ولا يلزمه نفي الإيمان عمن لا يعمل الطاعات ليكون القول به اعتزالا كما لا يخفى. الثاني أن الإيمان إنما يعني به التصديق بالله تعالى وبرسوله عليه الصلاة والسلام دون التصديق بالله عز وجل ودون ما يدخل فيه الأعمال والنبي صلّى الله عليه وسلّم مخاطب بالإيمان برسالة نفسه كما أن أمته صلّى الله عليه وسلّم مخاطبون بذلك، ولا شك أنه قبل الوحي لم يكن عليه الصلاة والسلام يعلم أنه رسول الله وما علم ذلك إلا بالوحي فإذا كان الإيمان هو التصديق بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم ولم يكن هذا المجموع ثابتا قبل الوحي بل كان الثابت هو التصديق بالله تعالى خاصة المجمع الجزء: 13 ¦ الصفحة: 57 على اتصاف الأنبياء عليهم السلام به قبل البعثة استقام نفي الإيمان قبل الوحي وإلى هذا ذهب ابن المنير. الثالث أن المراد شرائع الإيمان ومعالمه مما لا طريق إليه إلا السمع وإليه ذهب محيي السنة البغوي وقال: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان قبل الوحي على دين إبراهيم عليه السلام ولم تتبين له عليه الصلاة والسلام شرائع دينه، ولا يخفى أنه إذا لم يعتبر كون الكلام على حذف مضاف يلزمه إطلاق الإيمان على الأعمال وحدها وهو خلاف المعروف. الرابع أن الكلام على تقدير مضاف فقيل التقدير دعوة الإيمان أي ما كنت تدري كيف تدعو الخلق إلى الإيمان وإليه يشير كلام أبي العالية. وقال الحسين بن الفضل: أي أهل الإيمان أي لا تدري من الذي يؤمن، وأنت تدري أنه لا يرتضي هذا إلا من لا يدري. الخامس المراد نفي دراية المجموع أي ما كنت تدري قبل الوحي مجموع الكتاب والإيمان فلا ينافي كونه صلّى الله عليه وسلّم كان يدري الإيمان وحده ويأباه إعادة لَا السادس أن المراد ما كنت تدري ذلك إذ كنت في المهد وإليه ذهب علي بن عيسى وهو خلاف الظاهر، والظاهر أن المراد استمرار النفي إلى زمن الوحي، وظاهر كلام الكشف يميل إلى اعتبار نحو ذلك القيد قال: لعل الأشبه أن الإيمان على ظاهره والآية واردة في معرض الامتنان والإيحاء يشمل الإلقاء في الروع وإرسال الرسول فالإيمان عرفه بالأول والكتاب بالثاني على أن الآية تدل على أنه صلّى الله عليه وسلّم عرفهما بعد أن لم يكن عارفا وهو كذلك أما أنه عليه الصلاة والسلام عرفهما بعد الوحي فلا فجاز أن يعرفهما به وجاز أن يعرف واحدا منهما معينا به. وقد دل الدليل على أن المعرف به هو الكتاب والإيمان بعد العقل وقبل الوحي، والتمسك به على أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يكن متعبدا بشرع من قبله ضعيف لأن عدم الدراية لا يلزمه عدم التعبد بل يلزمه سقوط الإثم إن لم يكن تقصيرا انتهى. وأنت تعلم أن المتبادر أنه عليه الصلاة والسلام عرفهما بعد الوحي، وأما قوله قدس سره في تضعيف التمسك بذلك على أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يكن متعبدا بشرع من قبله إن عدم الدراية لا يلزمه عدم التعبد فقد قيل عليه: إنه ساقط لأنه عليه الصلاة والسلام إذا لم يدر شرعا فكيف يتعبد به، وقد يجاب بأن مراد المدقق أن الدراية المنفية الدراية بمعنى العلم الجازم الثابت المطابق للواقع وعدمها لا يلزمه، عدم التعبد إذ يكفي في التعبد بشرع من قبله عليه الصلاة والسلام الظن الراجح ثبوته فلعله كان حاصلا له صلّى الله عليه وسلّم. ومثل هذا الظن يكفي للمتعبدين اليوم بشرع نبينا عليه الصلاة والسلام فإن أكثر الفروع ظنية، ومن يتتبع الأخبار يعلم أن العرب لم يزالوا على بقايا من دين إبراهيم عليه السلام من الحج والختان وإيقاع الطلاق والغسل من الجنابة وتحريم ذوات المحارم بالقرابة والصهر وغير ذلك وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان أحرص الناس على اتباع دين إبراهيم عليه السلام. وفي الصحيح أنه صلّى الله عليه وسلّم كان أي قبل البعثة يتحنث بغار حراء، وفسر التحنث بالتحنف أي اتباع الحنيفية وهي دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، والفاء تبدل ثاء في كثير من كلامهم وفي رواية ابن هشام في السير يتحنف بالفاء بدل الثاء، نعم فسر أيضا بالتعبد كما في صحيح البخاري وباتقاء الحنث أي الإثم كالتحرج والتأثم وكل ذلك مما ذكره الحافظ القسطلاني في شرح الصحيح. ثم إن الظاهر أن من قال: إنه صلّى الله عليه وسلّم كان متعبدا بشرع من قبله ليس مراده أنه عليه الصلاة والسلام كان متعبدا بجميع شرع من قبله بل بما ترجح عنده صلّى الله عليه وسلّم ثبوته. والذي ينبغي أن يرجح كون ذلك من شرع إبراهيم عليه السلام لأنه من ذريته عليهما الصلاة والسلام وقد كلفت العرب بدينه. وقال بعضهم: إن عبادته صلّى الله عليه وسلّم التفكر والاعتبار، ولعله أيضا مما ترجح عنده عليه الصلاة والسلام كونه من شريعته عليه السلام وربما يقال: بما علمه صلّى الله عليه وسلّم لا على ذلك الوجه من شرع من قبله أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يزل موحى إليه وأنه الجزء: 13 ¦ الصفحة: 58 عليه الصلاة والسلام متعبد بما يوحى إليه إلا أن الوحي السابق على البعثة كان إلقاء ونفثا في الروع وما عمل بما كان من شرائع أبيه إبراهيم عليهما الصلاة والسلام إلا بواسطة ذلك الإلقاء وإذا كان بعض إخوانه من الأنبياء عليهم السلام قد أوتي الحكم صبيا ابن سنتين أو ثلاث فهو عليه الصلاة والسلام أولى بأن يوحى إليه ذلك النوع من الإيحاء صبيا أيضا. ومن علم مقامه صلّى الله عليه وسلّم وصدق بأنه الحبيب الذي كان نبيا وآدم بين الماء والطين لم يستبعد ذلك فتأمل. وَلكِنْ جَعَلْناهُ أي الروح الذي أوحيناه إليك، وقال ابن عطية: الضمير للكتاب، وقيل: للإيمان ورجح بالقرب، وقيل: للكتاب والإيمان ووحد لأن مقصدهما واحد فهو نظير وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة: 62] . نُوراً عظيما نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ هدايته مِنْ عِبادِنا وهو الذي يصرف اختياره نحو الاهتداء به والجملة إما مستأنفة أو صفة «نورا» وقوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي تقرير لهدايته، وبيان لكيفيتها، ومفعول لَتَهْدِي محذوف ثقة بغاية الظهور أي وإنك لتهدي بذلك النور من تشاء هدايته إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ هو الإسلام وسائر الشرائع والأحكام وقرأ ابن السميفع «لتهدي» بضم التاء وكسر الدال من أهدى، وقرأ حوشب «لتهدى» مبنيا للمفعول أي ليهديك الله وقرىء لتدعو صِراطِ اللَّهِ بدل من الأول وإضافته إلى الاسم الجليل ثم وصفه بقوله تعالى: الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لتفخيم شأنه وتقرير استقامته وتأكيد وجوب سلوكه فإن كون جميع ما فيهما من الموجودات له تعالى خلقا وملكا وتصرفا مما يوجب ذلك أتم إيجاب. أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ أي أمور من فيهما قاطبة لا إلى غيره تعالى وذلك بارتفاع الوسائط يوم القيامة ففيه من الوعد للمهتدين إلى الصراط المستقيم والوعيد للضالين عنه ما لا يخفى، وصيغة المضارع على ما قررنا على ظاهرها من الاستقبال، وقال في البحر: المراد بها الاستمرار كما في زيد يعطي أي من شأنه ذلك، والأول أظهر والله تعالى أعلم. ومما قاله أرباب الإشارات في بعض الآيات قال سبحانه: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها قيل يشير ذلك إلى إنذار نفسه الشريفة لأنها أم قرى نفوس آدم وأولاده لأنه صلّى الله عليه وسلّم أول العالمين خلقا ومنه عليه الصلاة والسلام نشأت الأرواح والنفوس ومن هذا كان آدم ومن دونه تحت لوائه صلّى الله عليه وسلّم، وقد أشار إلى ذلك سلطان العاشقين عمر بن الفارض بقوله على لسان الحقيقة المحمدية: وإني وإن كنت ابن آدم صورة ... فلي منه معنى شاهد بأبوتي وقوله سبحانه: وَمَنْ حَوْلَهُ يشير إلى نفوس أهل العالم وقد أنذر صلّى الله عليه وسلّم كلا حسب استعداده، وقيل: في قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ إنه يشير إلى التنزيه والتشبيه، وقرر ذلك الشيخ الأكبر قدس سره بما يطول لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي مفاتيح سموات القلوب وفيها خزائن لطفه تعالى ورحمته عز وجل وأرض النفوس وفيها خزائن قهره سبحانه وعزته جل جلاله فكل قلب مخزن لنوع من ألطافه كالمعرفة والمحبة والشوق والتوحيد والهيبة والانس والرضا إلى غير ذلك، وقد يجتمع في القلب خزائن وكل نفس مخزن لنوع من آثار قهره كالنكرة والجحود والإنكار والشرك والنفاق والحرص والكبر والبخل والشره وغير ذلك، وقد يجتمع في النفس خزائن، وفائدة الإخبار بأن له سبحانه مقاليد ذلك قطع أفكار العباد عمن سواه سبحانه في جلب ما يريدونه ودفع ما يكرهونه اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ يشير إلى مقامي المجذوب والسالك فالمجذوب من الخواص اجتباه ربه سبحانه في الأزل وسلكه في مسلك من يحبهم واصطنعه سبحانه لنفسه جل شأنه وجذبه تعالى عن الدارين بجذبة توازي عمل الثقلين فهو في مقعد صدق عند مليك مقتدر، والسالك من العوام سلكه في سلك من يحبونه بالتوفيق للهداية والقيام على قدمي الجهد والإنابة إلى سبيل الرشاد من طريق العناد وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 59 ما اسْتُجِيبَ لَهُ يشير إلى الذين يجادلون في معرفة الله تعالى بشبه العقل الذي استجاب له تعالى حين دعاه فوصل إلى الحضرة فهو في كشف وعيان وأولئك من وراء ما يزعمون أنه برهان أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ يشير إلى كفار النفوس فإنهم شرعوا عند استيلائهم للأرواح والقلوب ما لم يرض به الله تعالى من مخالفات الشريعة وموافقات الطبيعة اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يشير إلى عموم لطفه تعالى وهو أنواع لا تحصى ومراتب لا تستقصى. وروى السلمي عن سيد الطائفة قدس سره اللطيف من نور قلبك بالهدى وربى جسمك بالغذاء ويخرجك من الدنيا بالإيمان ويحرسك من نار لظى ويمكنك حتى تنظر وترى هذا لطف اللطيف بالعبد الضعيف وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ استعملوا تكاليف الشرع لقمع الطبع وكسر الهوى وتزكية النفس وتصفية القلب وجلاء الروح فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ في الدنيا جنات الوصلة والمعارف وطيب الأنس في الخلوة والآخرة في روضات الجنة لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ حسب مراتبهم في القربات والوصلات والمكاشفات ونيل الدرجات وعلى قدر هممهم قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وهم أقاربه صلّى الله عليه وسلّم الذين خلقوا من عنصره الشريف وتحلوا بحلاه المنيف كأئمة أهل البيت ومودتهم يعود نفعها إلى من يودهم لأنها سبب للفيض وهم رضي الله تعالى عنهم أبوابه وفي قوله صلّى الله عليه وسلّم «أنا مدينة العلم وعلي بابها» رمز إلى ذلك فافهم الإشارة وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ لمزيد كرمه جل شأنه فمتى وفق عبدا للتوبة قبلها جودا وكرما وعن بعضهم أنه قال لبعض المشايخ: إن تبت فهل يقبلني الله تعالى؟ فقال: إن يقبلك الله تعالى تتب إليه سبحانه فقبول الله تعالى سابق على التوبة وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إشارة إلى الرؤية فإن الجنان ونعيمها مخلوقة تقع في مقابلة مخلوق وهو عمل العمال والرؤية مما تتعلق بالقديم فلا تقع إلا فضلا ربانيا، وفي بعض الأخبار أن هذه الزيادة أن يشفعهم في إخوان إخوانهم اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ الاستجابة للعوام بالوفاء بعده تعالى والقيام بحقه سبحانه والرجوع عن مخالفته جل شأنه إلى موافقته عزّ وجلّ وللخواص بالاستسلام للأحكام الأزلية والإعراض عن الدنيا وزينتها وشهواتها، ولأخص الخواص من أهل المحبة بصدق الطلب بالإعراض عن الدارين والتوجه لحضرة الجلال ببذل الوجود في نيل الوصول الوصال يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً قيل فيه إشارة إلى أحوال المشايخ من حيث المريدين فمنهم من يهب الله تعالى له ومنهم من لا تصرف له في غيره بالتخريج والتسليك وهو أشبه شيء بالأنثى من حيث عدم التصرف ومنهم من يهب سبحانه له من له قدرة التصرف بالتخريج والتسليك وهو أشبه شيء بالذكر ومنهم من يهب له تعالى هذا وهذا ومنهم من يجعله جل وعلا عقيما لأمر يدله أصلا وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ قال سيدي الشيخ عبد الوهاب الشعراني في تفسيره الآية المذكورة اعلم أن المانع من سماع كلام الحق إنما هو البشرية فإذا ارتفع العبد عنها كلمه الله تعالى من حيث كلم سبحانه الأرواح المجردة عن المواد، والبشر ما سمي بشرا إلا لمباشرته الأمور التي تعوقه عن اللحوق بدرجة فلما لم يلحق كلمه الله تعالى في الأشياء وتجلى سبحانه له فيها بخلاف من لحق كالأنبياء عليهم السلام فلا يتجلى الحق سبحانه لغيرهم إلا في حجاب الصور ولولا هدايته تعالى للعبد ما عرف أنه سبحانه ربه، واعلم أن الحقيقة تأبى أن يكلم الله تعالى غير نفسه أو يسمع غير نفسه فلا بد إذا خاطب عبدا على قصد إسماعه أن يكون جميع قواه لأنه محال أن يطيق الحادث سماع كلام القديم ولم يكن الحق سبحانه قواه عند النجوى ولذلك خر موسى عليه السلام صعقا إذ لم يكن له استعداد يقبل له التجلي اللائق بمقامه وثبت نبينا صلّى الله عليه وسلّم ولما لم يكن للجبل درجة المحبة التي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 60 يكون بها الحق سمع عبده وبصره وجميع قواه لم يقدر على سماع الخطاب فدك، واعلم أن حديث الحق سبحانه للخلق لا يزال أبدا غير أن من الناس من يفهم أنه حديث كعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ومن ورثه من الأولياء ومنهم من لا يعرف ذلك ويقول: ظهر لي كذا وكذا ولا يعرف أن ذلك من حديث الحق سبحانه معه وكان شيخنا يقول: كان عمر من أهل السماع المطلق الذي يحدثهم الله تعالى في كل شيء ولكن له ألقاب وهو أنه إن أجابوه به تعالى فهو حديث وإن أجابوه بهم فهي محادثة وان سمعوا حديثه سبحانه فليس بحديث في حقهم وإنما هو خطاب أو كلام، وقد ورد في المتهجدين انهم أهل المسامرة فقد علمت أن الوحي ما يلقيه الله تعالى في قلوب خواص عباده على جهة الحديث فيحصل لهم من ذلك علم بأمر ما فإن لم يكن كذلك فليس بوحي ولا خطاب فإن بعض الناس يجدون في قلوبهم علما بأمر ما مثل العلوم الضرورية عند الناس فهو علم صحيح لكن ليس صادرا عن خطاب وكلامنا إنما هو في الخطاب الإلهي والمسمى وحيا فإن الله تعالى جعل هذا الصنف من الوحي كلاما يستفيد به العلم من جاء له. واعلم أنه لا ينزل على قلوب الأولياء من وحي الإلهام إلا دقائق ممتدة من الأرواح الملكية لا نفس الملائكة لأن الملك لا ينزل بوحي على غير نبي أصلا ولا يأمر بأمر إلهي قطعا لأن الشريعة قد استقرت فلم يبق إلا وحي المبشرات وهو الوحي الأعم ويكون من الحق إلا العبد من غير واسطة ويكون أيضا بواسطة والنبوة من شأنها الواسطة فلا بد من واسطة الملك فيها لكن الملك لا يكون حال إلقائه ظاهرا بخلاف الأنبياء عليهم السلام فإنهم يرون الملك حال الكلام والولي لا يشهد الملك إلا في غير حال الإلقاء فإن سمع كلامه لم يره وإن رآه لا يكلمه فالعارفون لا ينالون ما فاتهم من النبوة مع بقاء المبشرات عليهم إلا أن الناس يتفاضلون فمنهم من لا يبرح في بشارة الواسطة ومنهم من يرتفع عنها كالأفراد فإن لهم المبشرات بارتفاع الوسائط وما لهم النبوات ولهذا ينكر عليهم الأحكام لأنهم ضاهوا الأنبياء من حيث كونهم يعلمون بما يرونه من تعريفات الحق لهم كأنه شريعة مستقلة في الظاهر وليس ذلك بشريعة إنما هو بيان لها فالمنقطع إنما هو وحي التشريع لا غير أما التعريف لأمور مجملة في السنة فهو باق لهذه الأمة ليكونوا على بصيرة فيما يدعون الناس إليه لأنه خبر إلهي وأخبار من الله تعالى للعبد على يد ملك مغيب على هذا الملهم، ولا يكون الإلهام إلا في الخير وفَأَلْهَمَها فُجُورَها [الشمس: 8] على معنى إلهامها إياه لتجتنبه كما إلهامها تقواها لتعمل بها، وأكمل الإلهام أن يلهم اتباع الشرع والنظر في الكتب الإلهية ويقف عند حدودها وأوامرها حتى يزول صدى طبيعته وتنتقش فيها صور العالم، وأما قوله تعالى: أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ فهو خطاب إلهي يلقيه على السمع لا على القلب فيدركه من ألقي إليه فيفهم منه ما قصده من يسمعه ذلك وقد يحصل له ذلك في صورة التجلي فتخاطبه تلك الصورة وهي عين الحجاب فيفهم من ذلك الخطاب علم ما يدل عليه ويعلم أن ذلك حجاب وأن المتكلم من وراء ذلك الحجاب وكل من أدرك صورة التجلي الإلهي يعلم أن ذلك هو الله تعالى فما يزيد صاحب هذا الحال على غيره إلا بمعرفته أن المخاطب له من وراء الحجاب. وأما قوله تعالى: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فهو ما ينزل به الملك أو ما يجيء به الرسول البشري إلينا إذا نقلا كلام الله تعالى خاصة كالتالين فإن نقلا علما وجداه في أنفسهما وأفصحا عنه فذلك ليس بكلام إلهي، ومن الأولياء من يعطي الترجمة عن الله سبحانه في حال الإلقاء والوحي الخاص بكل إنسان فيكون المترجم موجدا لصور الحروف اللفظية أو المرقومة ويكون روح تلك الصور كلام الله عزّ وجلّ لا غير، وقد يقول الولي: حدثني قلبي عن ربي يعني به من الوجه الخاص فاعلم ذلك وتأمل ما قررته لك فإنه نفيس والله تعالى يتولى هداك، وله قدس سره كلام كثير في هذا المقام تركناه خوف الإطالة، ولعل فيما ذكرناه كفاية لذوي الأفهام وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا وهو ما الجزء: 13 ¦ الصفحة: 61 به الحياة الطيبة الأبدية ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ قبل الإيحاء. قيل: أشير هذا الإيحاء في هذه النشأة وكان له صلّى الله عليه وسلّم في كل حال من أحواله فيها نوع من الوحي والدراية المنفية إذ كان عليه الصلاة والسلام في كينونته وقبل إخراجه منها بتجلي كينونته عزّ وجلّ وإلا فهو صلّى الله عليه وسلّم نبي ولا آدم ولا ماء ولا طين ولا يعقل نبي بدون إيحاء وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو التوحيد السليم من زوايا الأغيار ويشير إلى ذلك قوله تعالى: أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ تمت السورة بتوفيق الله عزّ وجلّ والصلاة والسلام على أول نور أشرق من شمس الأزل وبها والحمد لله تعالى. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 62 سورة الزخرف مكية كما روي عن ابن عباس وحكى ابن عطية إجماع أهل العلم على ذلك ولم ينقل استثناء، وقال مقاتل: إلا قوله تعالى: وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا [الزخرف: 45] فإنها نزلت ببيت المقدس كذا في مجمع البيان، وفي الإتقان نزلت بالسماء، وقيل: بالمدينة، وعدد آيها ثمان وثمانون في الشامي وتسع وثمانون في غيره، ووجه مناسبة مفتتحها لمختتم ما قبلها ظاهر. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 63 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم الكلام فيه على نحو ما مر في مفتتح يس وَالْكِتابِ أي القرآن والمراد به جميعه، وجوز إرادة جنسه الصادق ببعضه وكله، وقيل: يجوز أن يراد به جنس الكتب المنزلة أو المكتوب في اللوح أو المعنى المصدري وهو الكتابة والخط، وأقسم سبحانه بها لما فيها من عظيم المنافع ولا يخفى ما في ذلك، والأولى على تقدير اسمية حم كونه اسما للقرآن وإن يراد ذلك أيضا بالكتاب وهو مقسم به إما ابتداء أو عطفا على حم على تقدير كونه مجرورا بإضمار باء القسم على أن مدار العطف المغايرة في العنوان لكن يلزم على هذا حذف حرف الجر وإبقاء عمله كما في: أشارت كليب بالأكف الأصابع ومنع أن يقسم بشيئين بحرف واحد لا يلتفت إليه ومناط تكرير القسم المبالغة في تأكيد الجملة القسمية الْمُبِينِ أي المبين لمن أنزل عليهم لكونه بلغتهم وعلى أساليب كلامهم على أنه من أبان اللازم أو المبين لطريق الهدى من طريق الضلالة الموضح لأصول ما يحتاج إليه في أبواب الديانة على أنه من أبان المتعدي. إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا جواب للقسم، والجعل بمعنى التصيير المعدى لمفعولين لا بمعنى الخلق المعدى لواحد لا لأنه ينافي تعظيم القرآن بل لأنه يأباه ذوق المقام المتكلم فيه لأن الكلام لم يسبق لتأكيد كونه مخلوقا وما كان إنكارهم متوجها عليه بل هو مسوق لإثبات كونه قرآنا عربيا مفصلا واردا على أساليبهم لا يعسر عليهم فهم ما فيه ودرك كونه معجزا كما يؤذن به قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي لكي تفهموه وتحيطوا بما فيه من النظر الرائق والمعنى الفائق وتقفوا على ما يتضمنه من الشواهد الناطقة بخروجه عن طوق البشر وتعرفوا حق النعمة في ذلك وتنقطع أعذاركم بالكلية او لقسم بالقرآن على ذلك من الإيمان الحسنة البديعة لما فيه من رعاية المناسبة والتنبيه على أنه لا شيء أعلى منه فيقسم به ولا أهم من وصفه فيقسم عليه كما قال أبو تمام: وثناياك إنها اغريض ... ولآل قوم وبرق وميض بناء على أن جواب القسم قوله: إنها اغريض، واستدل بالآية على أن القرآن مخلوق وأطالوا الكلام في ذلك، وأجيب بأنه إن دل على المخلوقية فلا يدل على أكثر من مخلوقية الكلام اللفظي ولا نزاع فيها. وأنت تعلم أن الحنابلة ينازعون في ذلك ولهم عن الاستدلال أجوبة مذكورة في كتبهم، وأخرج ابن مردويه عن طاوس قال: جاء رجل إلى ابن عباس من حضرموت فقال له: يا ابن عباس أخبرني عن القرآن أكلام من كلام الله تعالى أم خلق من خلق الله سبحانه قال: بل كلام من كلام الله تعالى أو ما سمعت الله سبحانه يقول: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة: 6] فقال له الرجل أفرأيت قوله تعالى: إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا قال: كتبه الله تعالى في اللوح المحفوظ بالعربية أما سمعت الله تعالى يقول: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ فتأمل فيه وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ أي في اللوح المحفوظ على ما ذهب إليه جمع فإنه أم الكتب السماوية أي أصلها لأنها كلها منقولة منه، وقيل: أُمِّ الْكِتابِ العلم الأزلي، وقيل: الآيات المحكمات والضمير. لحم. أو للكتاب بمعنى السورة أي إنها واقعة في الآيات المحكمات التي هي الأم وهو كما ترى. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 64 وقرأ الأخوان «إم» بكسر الهمزة لاتباع الميم أو الْكِتابِ فلا تكسر في عدم الوصل لَدَيْنا أي عندنا لَعَلِيٌّ رفيع الشان بين الكتب لإعجازه واشتماله على عظيم الأسرار حَكِيمٌ ذو حكمة بالغة أو محكم لا ينتسخه غيره أو حاكم على غيره من الكتب وهما خبران لإن، وفي أُمِّ الْكِتابِ قيل متعلق بعلي واللام لما فارقت محلها وتغيرت عن أصلها بطلت صدارتها فجاز تقديم ما في حيزها عليها أو حال منه لأنه صفة نكرة تقدمتها أو من ضميره المستتر ولَدَيْنا بدل من أُمِّ الْكِتابِ وهما وإن كانا متغايرين بالنظر إلى المعنى متوافقان بالنظر إلى الحاصل أو حال منه أو من الكتاب فإن المضاف في حكم الجزء لصحة سقوطه، ولعل المختار كون الظرفين في موضع الخبر لمبتدأ محذوف والجملة مستأنفة لبيان محل الحكم كأنه قيل بعد بيان اتصافه بما ذكر من الوصفين الجليلين هذا في أم الكتاب ولدينا، ولم يجوزوا كونهما في موضع الخبر لإن لدخول اللام في غيرهما. وأيا ما كان فالجملة المؤكدة إما عطف على الجملة المقسم عليها داخلة في حكمها وإما مستأنفة مقررة لعلو شأن القرآن الذي أنبأ الإقسام به على منهاج الاعتراض في قوله تعالى: «وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ» وبعد ما بين سبحانه علو شأن القرآن العظيم وحقق جل وعلا أن إنزاله على لغتهم ليعقلوه ويؤمنوا به ويعملوا بموجبه عقب سبحانه ذلك بإنكار أن يكون الأمر بخلافه فقال جل شأنه: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ أي أفننحيه ونبعده عنكم على سبيل الاستعارة التمثيلية من قولهم: ضرب الغرائب عن الحوض شبه حال الذكر وتنحيته بحال غرائب الإبل وذودها عن الحوض إذا دخلت مع غيرها عند الورد ثم استعمل ما كان في تلك القصة هاهنا، وفيه إشعار باقتضاء الحكمة توجه الذكر إليهم وملازمته لهم كأنه يتهافت عليهم، ولو جعل استعارة في المفرد بجعل التنحية ضربا جاز ومن ذلك قول طرفة: اضرب عنك الهموم طارقها ... ضربك بالسيف قونس الفرس وقول الحجاج في خطبته يهدد أهل العراق: لأضربنكم ضرب غرائب الإبل. والذِّكْرَ قيل المراد به القرآن ويروي ذلك عن الضحاك وأبي صالح والكلام على تقدير مضاف أي إنزال الذكر وفيه إقامة الظاهر مقام المضمر تفخيما، وقيل: بل هو ذكر العباد بما فيه صلاحهم فهو بمعنى المصدر حقيقة، وعن ابن عباس. ومجاهد ما يقتضيه، والهمزة للإنكار والفاء للعطف على محذوف يقتضيه على أحد الرأيين في مثل هذا التركيب أي أنهملكم فننحي الذكر عنكم، وقال ابن الحاجب: الفاء لبيان ما قبلها وهو جعل القرآن عربيا سبب لما بعدها وهو إنكار أن يضرب سبحانه الذكر عنهم صَفْحاً أي إعراضا، وهو مصدر لنضرب من غير لفظه فإن تنحية الذكر إعراض فنصبه على أنه مفعول مطلق على نهج قعدت جلوسا كأنه قيل: أفنصفح عنكم صفحا أو هو منصوب على أنه مفعول له أو حال مؤول بصافحين بمعنى معرضين، وأصل الصفح أن تولي الشيء صفحة عنقك، وقيل: إنه بمعنى الجانب فينتصب على الظرفية أن أفننحيه عنكم جانبا، ويؤيده قراءة حسان بن عبد الرحمن الضبعي والسميط بن عمير وشبيل بن عذره «صفحا» بضم الصاد وحينئذ يحتمل أن يكون تخفيف صفح كرسل جمع صفوح بمعنى صافحين، وأبو حيان اختيار أن يكون مفردا بمعنى المفتوح كالسد والسد. وحكي عن ابن عطية أن انتصاب صفحا على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة فيكون العامل فيه محذوفا، ولا يخفى أنه لا يظهر ذلك، وأيا ما كان فالمراد إنكار أن يكون الأمر خلاف ما ذكر من إنزال كتاب على لغتهم ليفهموه أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ أي لأن كنتم منهمكين في الإسراف مصرين عليه على معنى أن الحكمة تقتضي ذكركم وإنزال القرآن عليكم فلا نترك ذلك لأجل أنكم مسرفون لا تلتفتون إليه بل نفعل التفتّم أم لا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 65 وقيل: هو على معنى أن حالكم وإن اقتضى تخليتكم وشأنكم حتى تموتوا على الكفر والضلالة وتبقوا في العذاب الخالد لكننا لسعة رحمتنا لا نفعل ذلك بل نهديكم إلى الحق بإرسال الرسول الأمين وإنزال الكتاب المبين. وقرأ نافع والاخوان «إن كنتم» بكسر الهمزة على أن الجملة شرطية، وإن وإن كانت تستعمل للمشكوك وإسرافهم أمر محقق لكن جيء بها هنا بناء على جعل المخاطب كأنه متردد في ثبوت الشرط شاك فيه قصدا إلى نسبته إلى الجهل بارتكابه الإسراف لتصويره بصورة ما يفرض لوجوب انتفائه وعدم صدوره ممن يعقل، وقيل: لا حاجة إلى هذا لأن الشرط الإسراف في المستقبل وهو ليس بمتحقق، ورد بأن إن الداخلة على كان لا تقلبه للاستقبال عند الأكثر، ولذا قيل: أَنْ هنا بمعنى إذ. وأيد بأن علي بن زيد قرأ به وأنه يدل على التعليل فتوافق قراءة الفتح معنى، ولو سلم فالظاهر من حال المسرف المصرّ على إسرافه بقاؤه على ما هو عليه فيكون محققا في المستقبل أيضا على القول بأنها تقلب كان كغيرها من الأفعال وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة ما قبل عليه، وجوز أن يكون الشرط في موقع الحال أي مفروضا اسرافكم على أنه من الكلام المنصف فلا يحتاج إلى تقدير جواب. وتعقب بأنه إنما يتأتى على القول بأن إن الوصلية ترد في كلامهم بدون الواو والمعروف في العربية خلافه. وقوله عزّ وجلّ وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ تقرير لما قبله ببيان أن إسراف الأمم السالفة لم يمنعه تعالى من إرسال الأنبياء إليهم وتسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن استهزاء قومه به عليه الصلاة والسلام، فقد قيل: البلية إذا عمت طابت، وكَمْ مفعول أَرْسَلْنا وفِي الْأَوَّلِينَ متعلق به أو صفة نَبِيٍّ وما يأتيهم إلخ للاستمرار وضميره للأولين، وقوله تعالى: فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً نوع آخر من التسلية له صلّى الله عليه وسلّم، وضمير مِنْهُمْ يرجع إلى المسرفين المخاطبين لا إلى ما يرجع إليه ضمير ما يَأْتِيهِمْ لقوله تعالى: وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ أي سلف في القرآن غير مرة ذكر قصتهم التي حقها أن تسير مسير المثل، ونصب بَطْشاً على التمييز وجوز كونه على الحال من فاعل فَأَهْلَكْنا أي باطشين، والأول أحسن، ووصف أولئك بالأشدية لإثبات حكمهم لهؤلاء بطريق الأولوية، وقوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ عطف على الخطاب السابق والآيتان أعني قوله تعالى: وَكَمْ أَرْسَلْنا اعتراض لإفادة التقرير والتسلية كما سمعت، والمراد ولئن سألتهم من خلق العالم ليسندن خلقه إلى من هو متصف بهذه الصفات في نفس الأمر لا أنهم يقولون هذه الألفاظ ويصفونه تعالى بما ذكر من الصفات ذكره الزمخشري فيما نسب إليه. وهذا حسن وله نظير عرفا وهو أن واحدا لو أخبرك أن الشيخ قال كذا وعنى بالشيخ شمس الأئمة ثم لقيت شمس الأئمة فقلت: إن فلانا أخبرني أن شمس الأئمة قال: كذا مع أن فلانا لم يجر على لسانه إلا الشيخ ولكنك تذكر ألقابه وأوصافه فكذا هاهنا الكفار يقولون: خلقهن الله لا ينكرون ثم إن الله عزّ وجلّ ذكر صفاته أي إن الله تعالى الذي يحيلون عليه خلق السموات والأرض من صفته سبحانه كيت وكيت، وقال ابن المنير: إن الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ من كلام المسئولين وما بعد من كلامه سبحانه. وفي الكشف لا فرق بين ذلك الوجه وهذا في الحاصل فإنه حكاية كلام عنهم متصل به كلامه تعالى على أنه من تتمته وإن لم يكن قد تفوهوا به، وهذا كما يقول مخاطبك: أكرمني زيد فنقول: الذي أكرمك وحياك أو لجماعة آخرين حاضرين الذي أكرمكم وحياكم فإنك تصل كلامه على أنه من تتمته ولكن لا تجعله من مقوله، والأظهر من حيث اللفظ ما ذكره ابن المنير وحينئذ يقع الالتفات في فَأَنْشَرْنا بعد موقعه، ونظير ذلك قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى [طه: 52] إلى قوله تعالى: فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى [طه: 53] وفي إعادة الفعل في الجواب اعتناء بشأنه ومطابقته للسؤال الجزء: 13 ¦ الصفحة: 66 من حيث المعنى على ما زعم أبو حيان لا من حيث اللفظ قال: لأن من مبتدأ فلو طابق في اللفظ لكان بالاسم مبتدأ دون الفعل بأن يقال: العزيز العليم خلقهن الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً مكانا ممهدا أي موطأ ومآله بسطها لكم تستقرون فيها ولا ينافي ذلك كريتها لمكان العظم، وعن عاصم أنه قرأ «مهدا» بدون ألف وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا طرقا تسلكونها في أسفاركم لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي لكي تهتدوا بسلوكها إلى مقاصدكم أو بالتفكر فيها إلى التوحيد الذي هو المقصد الأصلي وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ أي بمقدار تقتضيه المشيئة المبنية على الحكم والمصالح ولا يعلم مقدار ما ينزل من ذلك في كل سنة على التحقيق إلا الله عزّ وجلّ، والآلة التي صنعها الفلاسفة في هذه الأعصار المسماة بالأودوميتر يزعمون أنه يعرف بها مقدار المطر النازل في كل بلد من البلاد في جميع السنة لا تفيد تحقيقا في البقعة الواحدة الصغيرة فضلا عن غيرها كما لا يخفى على المنصف. وفي البحر بقدر أي بقضاء وحتم في الأزل، والأول أولى فَأَنْشَرْنا بِهِ أي أحيينا بذلك الماء بَلْدَةً مَيْتاً خالية عن النماء والنبات بالكلية. وقرأ أبو جعفر وعيسى «ميّتا» بالتشديد، وتذكيره لأن البلدة في معنى البلد والمكان، قال الجلبي: لا يبعد والله تعالى أعلم أن يكون تأنيث البلد وتذكير مَيْتاً إشارة إلى بلوغ ضعف حاله الغاية، وفي الكلام استعارة مكنية أو تصريحية. والالتفات في (أنشرنا) إلى نون العظمة لإظهار كمال العناية بأمر الإحياء والإشعار بعظم خطره كَذلِكَ أي مثل ذلك الانشار الذي هو في الحقيقة إخراج من الأرض وهو صفة مصدر محذوف أي انشارا كذلك تُخْرَجُونَ أي تبعثون من قبوركم أحياء، وفي التعبير عن إخراج النبات بالإنشار الذي هو إحياء الموتى وعن إحيائهم بالإخراج تفخيم لشأن الإنبات وتهوين لأمر البعث، وفي ذلك من الرد على منكريه ما فيه. وقرأ ابن وثاب وعبد الله بن جبير وعيسى وابن عامر والأخوان «تخرجون» مبينا للفاعل. وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها أي أصناف المخلوقات فالزوج هنا بمعنى الصنف لا بمعناه المشهور، وعن ابن عباس الأزواج الضروب والأنواع كالحلو والحامض والأبيض والأسود والذكر والأنثى، وقيل: كل ما سوى الله سبحانه زوج لأنه لا يخلو من المقابل كفوق وتحت ويمين وشمال وماض ومستقبل إلى غير ذلك والفرد المنزع عن المقابل هو الله عزّ وجلّ، وتعقب بأن دعوى اطراده في الموجودات بأسرها لا تخلو عن النظر. ولعل من قال: كل ما سوى الله سبحانه زوج لم يبن الأمر على ما ذكر وإنما بناه على أن الواجب جلّ شأنه واحد من جميع الجهات لا تركيب فيه سبحانه بوجه من الوجوه لا عقلا ولا خارجا ولا كذلك شيء من الممكنات مادية كانت أو مجردة وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ أي ما تركبونه، فما موصولة والعائد محذوف، والركوب بالنظر إلى الفلك يتعدى بواسطة الحرف وهو في كما قال تعالى: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ [العنكبوت: 65] بخلافه لا بالنظر إليه فإنه يتعدى بنفسه كما قال سبحانه: لِتَرْكَبُوها [النحل: 8] إلا أنه غلب المتعدي بغير واسطة لقوته على المتعدي بواسطة فالتجوز الذي يقتضيه التغليب بالنسبة إلى المتعلق أو غلب المخلوق للركوب على المصنوع له لكونه مصنوع الخالق القدير أو الغالب على النادر فالتجوز في ما وضميره الذي تعدى الركوب إليه بنفسه دون النسبة إلى المفعول ولتغليب ما ركب من الحيوان على الفلك لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ حيث عبر عن القرار على الجميع بالاستواء على الظهور المخصوص بالدواب والضمير. لما تركبون. وأفرد رعاية للفظ، وجمع ظهور مع إضافته إليه رعاية لمعناه، والظاهر أن لام لِتَسْتَوُوا لام كي، وقال الحوفي: من أثبت لا بالصيرورة جاز له أن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 67 يقول به هنا، وقال ابن عطية: هي لام الأمر، وفيه بعد من حيث استعماله أمر المخاطب بتاء الخطاب، وقد اختلف في أمره فقيل: إنه لغة رديئة قليلة لا تكاد تحفظ إلا في قراءة شاذة نحو «فبذلك فلتفرحوا» (1) أو شعر نحو قوله: لتقم أنت يا بن خير قريش وما ذكره المحدثون من قوله عليه الصلاة والسلام: لتأخذوا مصافكم يحتمل أنه من المروي بالمعنى، وقال الزجاج: إنها لغة جيدة، وأبو حيان على الأول وحكاه عن جمهور النحويين. ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ أي تذكروها بقلوبكم معترفين بها مستعظمين لها ثم تحمدوا عليها بألسنتكم وهذا هو معنى ذكر نعمة الله تعالى عليهم على ما قال الزمخشري، وحاصله أن الذكر يتضمن شعور القلب والمرور على اللسان فنزل على أكمل أحواله وهو أن يكون ذكرا باللسان مع شعور من القلب، وأما الاعتراف والاستعظام فمن نعمة ربكم لاقتضائه الإحضار في القلب لذلك وهذا عين الحمد الذي هو شكر في هذا المقام لا أنه يوجبه وإن كان ذلك التقرير سديدا أيضا، ومنه يظهر إيثاره على ثم تحمدوا إذا استويتم، ومن جوز استعمال المشترك في معنييه جوز هنا أن يراد بالذكر الذكر القلبي والذكر اللساني وهو كما ترى. ولما كانت تلك النعمة متضمنة لأمر عجيب قال سبحانه: وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا أي وتقولوا سبحان الذي ذلله وجعله منقادا لنا متعجبين من ذلك، وليس الإشارة للتحقير بل تصوير الحال وفيها مزيد تقرير لمعنى التعجب، والكلام وإن كان إخبارا على ما سمعت أولا يشعر بالطلب. أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن أبي مجلز قال: رأى الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما وكرم وجههما رجلا ركب دابة فقال: سبحان الذي سخر لنا هذا فقال: أو بذلك أمرت؟ فقال: فكيف أقول؟ قال: الحمد لله الذي هدانا للإسلام الحمد لله الذي منّ علينا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم الحمد لله الذي جعلني في خير أمة أخرجت للناس ثم تقول: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا- إلى- مُقْرِنِينَ وهذا يومىء إلى أن ليس المراد من النعمة نعمة التسخير، وأخرج ابن المنذر عن شهر بن حوشب أنه فسرها بنعمة الإسلام. وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه أتى بدابة فلما وضع رجله في الركاب قال: بسم الله فلما استوى على ظهرها قال: الحمد لله ثلاثا والله أكبر ثلاثا سبحان الذي سخر لنا هذا إلى لمنقلبون سبحانك لا إله إلا أنت قد ظلمت نفسي فاغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ثم ضحك فقيل له: مم ضحكت يا أمير المؤمنين؟ قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعل كما فعلت ثم ضحك فقلت: يا رسول الله مم ضحكت؟ فقال: يتعجب الرب من عبده إذا قال: رب اغفر لي ويقول: علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري ، وفي حديث أخرجه مسلم والترمذي وأبو داود والدارمي عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر حمد الله تعالى وسبح وكبر ثلاثا ثم قال: سبحان الذي سخر لنا هذا إلى لمنقلبون ، وفي حديث أخرجه أحمد. وغيره عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ما من بعير إلا في ذروته شيطان فاذكروا اسم الله تعالى إذا ركبتموه كما أمركم، وظاهر النظم الجليل أن تذكر النعمة والقول المذكور لا يخصان ركوب الأنعام بل يعمانها والفلك، وذكر بعضهم أنه يقال: إذا ركبت السفينة بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها- إلى- رَحِيمٌ [هود: 41] ويقال: عند النزول منها «اللهم أنزلنا   (1) في سورة يونس، الآية: 58 «فبذلك فليفرحوا» . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 68 منزلا مباركا وأنت خير المنزلين» وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ أي مطيقين، وأنشد قطرب لعمرو بن معديكرب: لقد علم القبائل ما عقيل ... لنا في النائبات بمقرنينا وهو من أقرن الشيء إذا أطاقه، قال ابن هرمة: وأقرنت ما حملتني ولقلما ... يطاق احتمال الصد يا دعد والهجر وحقيقة أقرنه وجده قرينته وما يقرن به لأن الصعب لا يكون قرينة للضعيف ألا ترى إلى قولهم في الضعيف لا تقرن به الصعبة، والقرن الحبل الذي يقرن به، قال الشاعر: وابن اللبون إذا ما لز في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس وحاصل المعنى أنه ليس لنا من القوة ما يضبط به الدابة والفلك وإنما الله تعالى هو الذي سخر ذلك وضبطه لنا. أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن سليمان بن يسار أن قوما كانوا في سفر فكانوا إذا ركبوا قالوا: سبحانه الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وكان فيهم رجل له ناقة رزام فقال: أما أنا فلهذه مقرن فقمصت به فصرعته فاندقت عنقه، وقرىء «مقرّنين» بتشديد الراء مع فتحها وكسرها وهما بمعنى المخفف. وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ أي راجعون، وفيه إيذان بأن حق الراكب أن يتأمل فيما يلابسه من السير ويتذكر منه المسافرة العظمى التي هي الانقلاب إلى الله تعالى فيبني أموره في مسيره ذلك على تلك الملاحظة ولا يأتي بما ينافيها، ومن ضرورة ذلك أن يكون ركوبه لأمر مشروع، وفيه إشارة إلى أن الركوب مخطرة فلا ينبغي أن يغفل فيه عن تذكر الآخرة. وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً متصل بقوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ إلى آخره فهو حال من فاعل لَيَقُولُنَّ بتقدير قد أو بدونه، والمراد بيان أنهم مناقضون مكابرون حيث اعترفوا بأنه عزّ وجلّ خالق السموات والأرض ثم وصفوه سبحانه بصفات المخلوقين وما يناقض كونه تعالى خالقا لهما فجعلوا له سبحانه جزءا وقالوا: الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، وعبر عن الولد بالجزء لأنه بضعة ممن هو ولد له كما قيل: أولادنا أكبادنا، وفيه دلالة على مزيد استحالته على الحق الواحد الذي لا يضاف إليه انقسام حقيقة ولا فرضا ولا خارجا ولا ذهنا جلّ شأنه وعلا، ولتأكيد أمر المناقضة لم يكتف بقوله تعالى: جُزْءاً وقيل مِنْ عِبادِهِ لأنه يلزمهم على موجب اعترافهم أن يكون ما فيهما مخلوقه تعالى وعبده سبحانه إذ هو حادث بعدهما محتاج إليهما ضرورة. وقيل: الجزء اسم للإناث يقال: أجزأت المرأة إذ ولدت أنثى، وأنشد قول الشاعر: إن أجزأت حرة يوما فلا عجب ... قد تجزىء الحرة المذكار أحيانا وقوله: زوجتها من بنات الأوس مجزئة ... للعوسج اللدن في أنيابها زجل وجعل ذلك الزمخشري من بدع التفاسير وذكر أن ادعاء أن الجزء في لغة العرب اسم للإناث كذب عليهم ووضع مستحدث منخول وأن البيتين مصنوعان، وقال الزجاج: في البيت الأول لا أدري قديم أم مصنوع. ووجه بعضهم ذلك بأن حواء خلقت من جزء آدم عليه السلام فاستعير لكل الإناث. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 69 وقرأ أبو بكر عاصم «جزأ» بضمتين، ثم للكلام وإن سيق للفرض المذكور يفهم منه كفرهم لتجسيم الخالق تعالى والاستخفاف به جلّ وعلا حيث جعلوا له سبحانه أخس النوعين بل إثبات ذلك يستدعي الأماكن المؤذن بحدوثه تعالى فلا يكون إلها ولا بارئا ولا خالقا تعالى عما يقولون وسبحانه عما يصفون، وليس الكلام مساقا لتعديد الكفران كما قيل. وقوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ لا يقتضيه فإن المراد المبالغة في كفران النعمة وهي في إنكار الصانع أشد من المبالغة في كفرهم به كما أشير إليه، ومُبِينٌ من أبان اللازم أي ظاهر الكفران، وجوز أن يكون من المتعدي أي مظهر كفرانه أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ أَمِ مقطعة وما فيها من معنى بل للانتقال والهمزة للإنكار والتعجيب من شأنهم، وقوله تعالى: وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ إما عطف على «اتخذ» داخل في حكم الإنكار والتعجب أو حال من فاعله بإضمار قد أو بدونه، والالتفات إلى خطابهم لتشديد الإنكار أي بل اتخذ سبحانه من خلقه أخس الصنفين واختار لكم أفضلهما على معنى هبوا أن إضافة اتخاذ الولد إليه سبحانه جائزة فرضا أما تفطنتم لما ارتكبتم من الشطط في القسمة وقبح ما ادعيتم من أنه سبحانه آثركم على نفسه بخير الجزئين وأعلاهما وترك له جلّ شأنه شرهما وأدناهما فما أنتم إلا في غاية الجهل والحماقة، وتنكير بنات وتعريف البنين لقرينة ما اعتبر فيهما من الحقارة والفخامة، وقوله تعالى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ قيل: حال وارتضاه العلامة الثاني على معنى أنهم نسبوا إليه تعالى ما ذكروا من حالهم أن أحدهم إذا بشر به اغتم، وقيل: استئناف مقرر لما قبله، وجوز عطفه على ما قبله وليس بذاك. والالتفات للإيذان باقتضاء ذكر قبائحهم أن يعرض عنه وتحكي لغيرهم تعجيبا، والجملة الاسمية في موضع الحال أي إذا أخبر أحدهم بجنس ما جعله مثلا للرحمن جل شأنه وهو جنس الإناث لأن الولد لا بد أن يجانس الولد ويماثله صار وجهه أسود في الغاية لسوء ما بشر به عنده والحال هو مملوء من الكرب والكآبة، وعن بعض العرب أن امرأته وضعت أنثى فهجر البيت الذي فيه المرأة فقالت: ما لأبي حمزة لا يأتينا ... يظل في البيت الذي يلينا غضبان أن لا نلد البنينا ... وليس لنا من أمرنا ما شينا وإنما نأخذ ما أعطينا وقرىء «مسودّ» بالرفع و «مسواد» بصيغة المبالغة من اسواد كاحمار مع الرفع أيضا على أن في ظَلَّ ضمير المبشر ووجهه مسود أو مسواد جملة واقعة موقع الخبر، والمعنى صار المبشر مسود الوجه وقيل: الضمير المستتر في ظَلَّ ضمير الشأن والجملة خبرها، وقيل: الفعل تام والجملة حالية والوجه ما تقدم، وقوله تعالى: أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ تكرير للإنكار ومَنْ منصوبة المحل بمضمر معطوف على جَعَلُوا وهناك مفعول محذوف أيضا أي أو جعلوا له تعالى من شأنه أن يتربى في الزينة وهن البنات كما قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي: ولذا فالهمزة لإنكار الواقع واستقباحه. وجوز انتصاب مَنْ بمضمر معطوف على اتَّخَذَ فالهمزة حينئذ لإنكار الوقوع واستبعاده، واقحامها بين المعطوفين لتذكير ما في أم المنقطعة من الإنكار، والعطف للتغاير العنواني أي أو اتخذ سبحانه من هذه الصفة الذميمة ولدا وَهُوَ مع ما ذكر من القصور فِي الْخِصامِ أي الجدال الذي لا يكاد يخلو عنه إنسان في العادة غَيْرُ مُبِينٍ غير قادر على تقرير دعواه وإقامته حجته لنقصان عقله وضعف رأيه، والجار متعلق بمبين، وإضافة غَيْرُ لا تمنع عمل ما بعدها فيه لأنه بمعنى النفي فلا حاجة لجعله متعلقا بمقدر، وجوز كون من مبتدأ محذوف الخبر أي أو من حاله كيت وكيت ولده عزّ وجلّ، وجعل بعضهم خبره جعلوه ولدا لله سبحانه وتعالى أو اتخذه جلّ وعلا ولدا، وعن ابن زيد الجزء: 13 ¦ الصفحة: 70 أن المراد بمن ينشأ في الحلية الأصنام قال: وكانوا يتخذون كثيرا منها من الذهب والفضة ويجعلون الحلي على كثير منها، وتعقب بأنه يبعد هذا القول قوله تعالى: وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ إلا إن أريد بنفي الإبانة نفي الخصام أي لا يكون منها خصام فإبانة كقوله: على لا حب لا يهتدى بمناره وعندي أن هذا القول بعيد في نفسه وأن الكلام أعني قوله سبحانه: أَمِ اتَّخَذَ إلى هنا وارد لمزيد الإنكار في أنهم قوم من عادتهم المناقضة ورمي القول من غير علم، وفي المجيء بأم المنقطعة وما في ضمنها من الإضراب دليل على أن معتمد الكلام إثبات جهلهم ومناقضتهم لا إثبات كفرهم لكنه يفهم منه كما سمعت وتسمع إن شاء الله تعالى، وقرأ الجحدري في رواية «ينشأ» مبنيا للمفعول مخففا، وقرأ الحسن في رواية أيضا «يناشأ» على وزن يفاعل مبنيا للمفعول. والمناشاة بمعنى الإنشاء كالمغالاة بمعنى الإغلاء، وقرأ الجمهور «ينشأ» مبنيا للفاعل، والآية ظاهرة في أن النشوء في الزينة والنعومة من المعايب والمذام وأنه من صفات ربات الحجال فعلى الرجل أن يجتنب ذلك ويأنف منه ويربأ بنفسه عنه ويعيش كما قال عمر رضي الله تعالى عنه: اخشوشنوا في اللباس واخشوشنوا في الطعام وتمعددوا وإن أراد أن يزين نفسه زينها من باطن بلباس التقوى، وقوله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أي سموا وقالوا: إنهم إناث، قال الزجاج: الجعل في مثله بمعنى القول والحكم على الشيء تقول: جعلت زيدا أعلم الناس أي وصفته بذلك وحكمت به، واختار أبو حيان أن المعنى صيروهم في اعتقادهم إناثا اعتراض وارد لإثبات مناقضتهم أيضا وادعاء ما لا علم لهم به المؤيد لجعله معتمد الكلام على ما سبق آنفا فإنهم أنثوهم في هذا المعتقد من غير استناد إلى علم فارشد إلى أن ما هم عليه من إثبات الولد مثل ما هم عليه من تأنيث الملائكة عليهم السلام في أنهما سخف وجهل كانا كفرين أولا، نعم هما في نفس الأمر كفران، أما الأول فظاهر. وأما الثاني فللاستخفاف برسله سبحانه أعني الملائكة وجعلهم أنقص العباد رأيا وأخسهم صنفا وهم العباد المكرمون المبرءون من الذكورة والأنوثة فإنهما من عوارض الحيوان المتغذي المحتاج إلى بقاء نوعه لعدم جريان حكمة الله تعالى ببقاء شخصه وليس ذلك عطفا على قوله سبحانه: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً لما علمت من أن الجملة في موضع الحال من فاعل لَيَقُولُنَّ ولا يحسن بحسب الظاهر أن يقال. لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ وقد جعلوا الملائكة إناثا، وقرىء «عبيد» جمع عبد وكذا «عباد» وقيل: عباد جمع عابد كصائم وصيام وقائم وقيام، وقرأ عمر بن الخطاب والحسن وأبو رجاء وقتادة وأبو جعفر وشيبة والأعرج والابنان ونافع «عند الرحمن» ظرفا وهو أدل على رفع المنزلة وقرب المكانة، والكلام على الاستعارة في المشهور لاستحالة العندية المكانية في حقه سبحانه، وقرأ أبي عبد الرحمن بالباء مفرد عباد، والمعنى على الجمع بإرادة الجنس. وقرأ الأعمش «عباد» بالجمع والنصب حكاها ابن خالويه وقال: هي في مصحف ابن مسعود كذلك، وخرج أبو حيان النصب على إضمار فعل أي الذين هم خلقوا عباد الرحمن، وقرأ زيد بن علي «أنثا» بضمتين ككتب جمع إناثا فهو جمع الجمع، وعلى جميع القراءات الحصر إذا سلّم إضافي فلا يتم الاستدلال به على أفضلية الملك على البشر. أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ أي أحضروا خلق الله تعالى إياهم فشاهدوهم إناثا حتى يحكموه بأنوثتهم فإن ذلك مما يعلم بالمشاهدة، وهذا كقوله تعالى: أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ [الصافات: 150] وفيه تجهيل لهم وتهكم بهم، وإنما لم يتعرض لنفي الدلائل النقلية لأنها في مثل هذا المطلب مفرعة على القول بالنبوة وهم الكفرة الذين لا يقولون بها ولنفي الدلائل العقلية لظهور انتفائها والنفي المذكور أظهر في التهكم فافهم، وقرأ نافع «أأشهدوا» بهمزة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 71 داخلة على أشهد الرباعي المبني للمفعول، وفي رواية أنه سهل هذه الهمزة فجعلها بين الهمزة والواو وهي رواية عن أبي عمرو، وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس ومجاهد، وفي أخرى أنه سهلها وأدخل بينها وبين الأولى ألفا كراهة اجتماع همزتين ونسبت إلى جماعة، والاكتفاء بالتسهيل أوجه، وقرأ الزهري وناس «أشهدوا» بغير استفهام مبنيا للمفعول رباعيا فقيل المعنى على الاستفهام نحو قوله: قالوا تحبها قلت بهرا وهو الظاهر، وقيل: على الاخبار، والجملة صفة إِناثاً وهم وإن لم يشهدوا خلقهم لكن نزلوا لجراءتهم على ذلك منزلة من أشهد أو المراد أنهم أطلقوا عليهم الإناث المعروفات لهم اللاتي أشهدوا خلقهن لا صنفا آخر من الإناث ولا يخفى ما في كلا التأويلين من التكلف سَتُكْتَبُ في ديوان أعمالهم شَهادَتُهُمْ التي شهدوا بها على الملائكة عليهم السلام، وقيل: سألهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم ما يدريكم أنهم إناث فقالوا: سمعنا ذلك من آبائنا ونحن نشهد أنهم لم يكذبوا فقال الله تعالى: سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ عنها يوم القيامة، والكلام وعيد لهم بالعقاب والمجازاة على ذلك والسين للتأكيد، وقيل: يجوز أن تحمل على ظاهرها من الاستقبال ويكون ذلك إشارة إلى تأخير كتابة السيئات لرجاء التوبة والرجوع كما ورد في الحديث إن كاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا أراد أن يكتبها قال له: توقف فيتوقف سبع ساعات فإن استغفر وتاب لم يكتب فلما كان ذلك من شأن الكتابة قرنت بالسين، وكونهم كفارا مصرين على الكفر لا يأباه. وقرأ الزهري «سيكتب» بالياء التحتية مبنيا للمفعول، وقرأ الحسن كالجمهور إلا أنه قرأ «شهاداتهم» بالجمع وهي قولهم: إن لله سبحانه جزء وإن له بنات وإنها الملائكة، وقيل: المراد ما أريد بالمفرد والجمع باعتبار التكرار، وقرأ ابن عباس وزيد بن علي وأبو جعفر وأبو حيوة وابن أبي عبلة والجحدري والأعرج «سنكتب» بالنون مبنيا للفاعل «شهادتهم» بالنصب والإفراد. وقرأت فرقة «سيكتب» بالياء التحتية مبنيا للفاعل وبإفراد «شهادتهم» ونصبها أي سيكتب الله تعالى شهادتهم. وقرىء «يسّاءلون» من المفاعلة للمبالغة وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ عطف على قوله سبحانه: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ إلخ إشارة إلى أنه من جنس ادعائهم أنوثة الملائكة في أنهم قالوه من غير علم، ومرادهم بهذا القول على ما قاله بعض الأجلة الاستدلال بنفي مشيئة الله تعالى ترك عبادة الملائكة عليهم السلام على امتناع النهي عنها أو على حسنها فكأنهم قالوا: إن الله تعالى لم يشأ ترك عبادتها الملائكة ولو شاء سبحانه ذلك لتحقق بل شاء جل شأنه العبادة لأنها المتحققة فتكون مأمورا بها أو حسنة ويمتنع كونها منهيا عنها أو قبيحة، وهو استدلال باطل لأن المشيئة لا تستلزم الأمر أو الحسن لأنها ترجيح بعض الممكنات على بعض حسنا كان أو قبيحا فلذلك جهلوا بقوله سبحانه: ما لَهُمْ بِذلِكَ القول على الوجه الذي قصدوه منه، وحاصله يرجع إلى الإشارة إلى زعمهم أن المشيئة تقتضي طباق الأمر لها أو حسن ما تعلقت به مِنْ عِلْمٍ يستند إلى سند ما. إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ أي يكذبون كما فسره به غير واحد، ويطلق الخرص على الحزر وهو شائع بل قيل: إنه الأصل وعلى كل هو قول عن ظن وتخمين، وقوله تعالى: أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ إضراب عن نفي أن يكون لهم بذلك علم من طريق العقل إلى إبطال أن يكون لهم سند من جهة النقل فأم منقطعة لا متصلة معادلة لقوله تعالى: أَشَهِدُوا كما قيل لعبده الجزء: 13 ¦ الصفحة: 72 وضمير قَبْلِهِ للقرآن لعلمه من السياق أو الرسول عليه الصلاة والسلام، وسين مستمسكون للتأكيد لا للطلب أي بل آتيناهم كتابا من قبل القرآن أو من قبل الرسول صلّى الله عليه وسلّم ينطق بصحة ما يدعونه فهم بذلك الكتاب متمسكون وعليه معولون، وقوله جلّ وعلا: بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ إبطال لأن يكون لهم حجة أصلا أي لا حجة لهم على ذلك عقلية ولا نقلية وإنما جنحوا فيه إلى تقليد آبائهم الجهلة مثلهم، والأمة الدين والطريقة التي تؤم أي كالرحلة للرجل العظيم الذي يقصد في المهمات يقال: فلان لا أمة له أي لا دين ولا نحلة، قال الشاعر: وهل يستوي ذو أمة وكفور. وقال قيس بن الحطيم: كنا على أمة آبائنا ... ويقتدي بالأول الآخر وقال الجبائي: الأمة الجماعة والمراد وجدنا آباءنا متوافقين على ذلك، والجمهور على الأول وعليه المعول، ويقال فيها إمة بكسر الهمزة أيضا وبها قرأ عمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة والجحدري. وقرأ ابن عياش «أمّة» بفتح الهمزة، قال في البحر: أي على قصد وحال، وعَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ قيل خبران لأن، وقيل: عَلى آثارِهِمْ صلة مُهْتَدُونَ ومُهْتَدُونَ هو الخبر، هذا وجعل الزمخشري الآية دليلا على أنه تعالى لم يشأ الكفر من الكافر وإنما شاء سبحانه الإيمان، وكفر أهل السنة القائلين بأن المقدورات كلها بمشيئة الله تعالى، ووجه ذلك بأن الكفار لما ادعوا أنه تعالى شاء منهم الكفر حيث قالوا: لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ إلخ أي لو شاء جل جلاله منا أن نترك عبادة الأصنام تركناها رد الله تعالى ذلك عليهم وأبطل اعتقادهم بقوله سبحانه: ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إلخ فلزم حقيقة خلافه وهو عين ما ذهب إليه، والجملة عطف على قوله تعالى: وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً أو على جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ إلخ فيكون ما تضمنته كفرا آخر ويلزمه كفر القائلين بأن الكل بمشيئته عز وجل، ومما سمعت يعلم رده، وقيل: في رده أيضا: يجوز أن يكون ذلك إشارة إلى أصل الدعوى وهو جعل الملائكة عليهم السلام بنات الله سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا دون ما قصدوه من قولهم: لَوْ شاءَ إلخ وما ذكر بعد أصل الدعوى من تتمتها فإنه حكاية شبهتهم المزيفة لأن العبادة للملائكة وإن كانت بمشيئته تعالى لكن ذلك لا ينافي كونها من أقبح القبائح المنهي عنها وهذا خلاف الظاهر. وقال بعض الأجلة: إن كفرهم بذلك لأنهم قالوه على جهة الاستهزاء، ورده الزمخشري بأن السياق لا يدل على أنهم قالوه مستهزئين على الله تعالى قد حكى عنهم على سبيل الذم والشهادة بالكفر أنهم جعلوا له سبحانه جزءا وأنه جلّ وعلا اتخذ بنات واصطفاهم بالبنين وأنهم جعلوا الملائكة المكرمين إناثا وأنهم عبدوهم وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم فلو كانوا ناطقين بها على طريق الهزء لكان النطق بالمحكيات قبل هذا المحكي الذي هو إيمان عنده لوجدوا بالنطق به مدحا لهم من قبل أنها كلمات كفر نطقوا بها على طريق الهزء فبقي أن يكونوا جادين ويشترك كلها في أنها كلمات كفر، فإن جعلوا الأخير وحده مقولا على وجه الهزء دون ما قبله فما بهم إلا تعويج كتاب الله تعالى ولو كانت هذه كلمة حق نطقوا بها هزأ لم يكن لقوله سبحانه: ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إلخ معنى لأن الواجب فيمن تكلم بالحق استهزاء أن ينكر عليه استهزاؤه ولا يكذب، ولا يخفى أن رده بأنه لا يدل عليه السياق صحيح، وأما ما ذكر من حكاية الله سبحانه والتعويج فلا لأنه تعالى ما حكى عنهم قولا أولا بل أثبت لهم اعتقادا يتضمن قولا أو فعلا وقد بين أنهم مستخفون في ذلك العقد كما أنهم مستخفون في هذا القول فقوله: لو نطقوا إلخ لا مدخل له في السابق وليس الجزء: 13 ¦ الصفحة: 73 فيه تعويج البتة من هذا الوجه وكذلك قوله: لم يكن لقوله تعالى: ما لَهُمْ إلخ معنى مردود لأن الاستهزاء باب من الجهل كما يدل عليه قول موسى عليه السلام أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ وقد تقدم في [البقرة: 67] ، وأما الكذب فراجع إلى مضمونه والمراد منه كما سمعت فمن قال لا إله إلا الله استهزاء مكذب فيما يلزم من أنه إخبار عن إثبات التعدد لأنه إخبار عن التوحيد فافهم كذا في الكشف. وفيه أيضا أن قولهم: لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ إلخ فهم منه كونه كفرا من أوجه. أحدها أنه اعتذار عن عبادتهم الملائكة عليهم السلام التي هي كفر وإلزام أنه إذا كان بمشيئته تعالى لم يكن منكرا. والثاني أن الكفر والإيمان بتصديق ما هو مضطر إلى العلم بثبوته بديهة أو استدلالا متعلقا بالمبدأ والمعاد وتكذيبه لا بإيقاع الفعل على وفق المشيئة وعدمه. والثالث أنهم دفعوا قول الرسول بدعوتهم إلى عبادته تعالى ونهيهم عن عبادة غيره سبحانه بهذه المقالة ثم إنهم ملزمون على مساق هذا القول لأنه إذا استند الكل إلى مشيئته تعالى شأنه فقد شاء إرسال الرسل وشاء دعوتهم للعباد وشاء سبحانه جحودهم وشاء جلّ وعلا دخولهم النار فالإنكار والدفع بعد هذا القول دليل على أنهم قالوه لا عن اعتقاد بل مجازفة، وإليه الإشارة بقوله تعالى في مثله: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام: 149] وفيه أنهم يعجزون الخالق بإثبات التمانع بين المشيئة وضد المأمور به فيلزم أن لا يريد إلا ما أمر سبحانه وبه ولا ينهى جل شأنه إلا وهو سبحانه لا يريده وهذا تعجيز من وجهين. إخراج بعض المقدورات عن أن يصير محلها وتضييق محل أمره ونهيه وهذا بعينه مذهب إخوانهم من القدرية ولهذه النكتة جعل قولهم: وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ معتمد الكلام ولم يقل: وعبدوا الملائكة وقالوا: لو شاء ونظير قولهم في أنه إنما أتى به لدفع ما علم ضرورة قوله تعالى عنهم: لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [المؤمنون: 24] فالدفع كفر والتعجيز كفر في كفر، وقوله تعالى: ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ يحتمل أن يرجع إلى جميع ما سبق من قوله تعالى وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ إلى هذا المقام ويحتمل أن يرجع إلى الأخير فقد ثبت أنهم قالوه من غير علم وهو الأظهر للقرب وتعقيب كل بإنكار مستقل وطباقه لما في الأنعام، وقوله سبحانه: إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ على هذا التكذيب المفهوم منه راجع إلى استنتاج المقصود من هذه اللزومية فقد سبق أنها عليهم لا لهم ولوح إلى طرف منه في سورة الأنعام أو إلى الحكم بامتناع الانفكاك مع تجويز الحاكم الانفكاك حال حكمه فإن ذلك يدل على كذبه وإن كان ذلك الحكم في نفسه حقا صحيحا يحق أن يعلم كما تقول زيد قائم قطعا أو البتة وعندك احتمال نقيضه. وليس هذا رجوعا إلى مذهب من جعل الصدق بطباقه للمعتقد فافهم، على أنه لما كان اعتذارا على ما مر صح أن يرجع التكذيب إلى أنه لا يصلح اعتذارا أي إنهم كاذبون في أن المشيئة تقتضي طباق الأمر لها، وهذا ما آثره الإمام. والعلامة. والقاضي، والظاهر ما قدمناه. وتعقيب الخرص على وجه البيان أو الاستئناف عن قوله تعالى: ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ وقوله تعالى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ في سورة الأنعام دليل على ما أشرنا فقد لاح للمسترشد أن الآية تصلح حجة لأهل السنة لا للمعتزلة وقال في آية سورة الأنعام: إن قولهم هذا إما لدعوى المشروعية ردا للرسل أو لتسليم أنهم على الباطل اعتذارا بأنهم مجبورون، والأول باطل لأن المشيئة تتعلق بفعلهم المشروع وغيره فما شاء الله تعالى أن يقع منهم مشروعا وقع كذلك وما شاء الله تعالى أن يقع لا كذلك وقع لا كذلك. ولا شك أن من توهم أن كون الفعل بمشيئته تعالى ينافي مجيء الرسل عليهم السلام بخلاف ما عليه المباشر من الكفر والضلال فقد كذب التكذيب كله وهو كاذب في استنتاج المقصود من هذه اللزومية، وظاهر الآية مسوق الجزء: 13 ¦ الصفحة: 74 لهذا المعنى، والثاني على ما فيه من حصول المقصود وهو الاعتراف بالبطلان باطل أيضا إذ لا جبر لأن المشيئة تعلقت بأن يشركوا اختيارا منهم والعلم تعلق كذلك فهو يؤكد دفع القدر لا أنه يحققه وإليه الإشارة بقوله تعالى: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ [الأنعام: 149] ثم إنهم كاذبون في هذا القول لجزمهم حيث لا ظن مطلقا فضلا عن العلم وذلك لأن من المعلوم أن العلم بصفات الله سبحانه فرع العلم بذاته جل وعلا والإيمان بها كذلك والمحتجون به كفرة مشركون مجسمون، ونقل العلامة الطيبي نحوا من الكلام الأخير عن إمام الحرمين عليه الرحمة في الإرشاد اهـ. وقد أطال العلماء الأعلام الكلام في هذا المقام وأرى الرجل سقى الله تعالى مرقده صيب الرضوان قد مخض كل ذلك وأتى بزبده بل لم يترك من التحقيق شيئا لمن أتى من بعده فتأمل والله عز وجل هو الموفق. وَكَذلِكَ أي والأمر كما ذكر من عجزهم عن الحجة مطلقا وتشبثهم بذيل التقليد، وقوله سبحانه: ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ استئناف مبين لذلك دال على أن التقليد فيما بينهم ضلال قديم لأسلافهم وأن متقدميهم أيضا لم يكن لهم سند منظور إليه وتخصيص المترفين بتلك المقالة للإيذان بأن التنعم وحب البطالة صرفهم عن النظر إلى التقليد قالَ حكاية لما الجزء: 13 ¦ الصفحة: 75 جرى بين المنذرين وبين أممهم عند تعللهم بتقليد آبائهم أي قال: كل نذير من أولئك المنذرين لأمته أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ أي أتقتدون بآبائكم ولو جئتكم بِأَهْدى بدين أهدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ من الضلالة التي ليست من الهداية في شيء، وإنما عبر عنها بذلك مجاراة معهم على مسلك الإنصاف. وقرأ الأكثرون «قل» على أنه حكاية أمر ماض أوحي إلى كل نذير أي فقيل أو قلنا للنذير قل إلخ، واستظهر في البحر كونه خطابا لنبينا صلّى الله عليه وسلّم، والظاهر هو ما تقدم لقوله تعالى: قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ فإنه ظاهر جدا في أنه حكاية عن الأمم السالفة أي قال كل أمة لنذيرها إنا بما أرسلتم به إلخ وقد أجمل عند الحكاية للإيجاز كما قرر في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ [المؤمنون: 51] . وجعله حكاية عن قومه عليه الصلاة والسلام بحمل صيغة الجمع على تغليبه صلّى الله عليه وسلّم على سائر المنذرين وتوجيه كفرهم إلى ما أرسل به الكل من التوحيد لإجماعهم عليهم السلام عليه كما في نحو قوله تعالى: كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 123] تمحل بعيد، وأيضا يأباه ظاهر قوله سبحانه: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ فإن ظاهره كون الانتقام بعذاب الاستئصال وصاحب البحر يحمله على الانتقام بالقحط والقتل والسبي والجلاء. وقرأ أبي وأبو جعفر وشيبة وابن مقسم والزعفراني وغيرهم «أو لو جئناكم» بنون المتكلمين وهي تؤيد ما ذهبنا إليه والأمر بالنظر فيما انتهى إليه حال المكذبين تسلية له صلّى الله عليه وسلّم وإرشاد إلى عدم الاكتراث بتكذيب قومه إياه عليه الصلاة والسلام وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ أي واذكر لهم وقت قوله عليه الصلاة والسلام لِأَبِيهِ آزر وَقَوْمِهِ المكبين على التقليد كيف تبرأ مما هم فيه بقوله: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ وتمسك بالبرهان، والكلام تمهيد لما أهل مكة فيه من العناد والحسد والإباء عن تدبر الآيات وأنهم لو قلدوا آباءهم لكان الأولى أن يقلدوا أباهم الأفضل الأعلم الذي هم يفتخرون بالانتماء إليه وهو إبراهيم عليه السلام فكأنه بعد تعييرهم على التقليد يعيرهم على أنهم مسيئون في ترك اختياره أيضا. وبراء مصدر كالطلاق نعت به مبالغة ولذلك يستوي فيه الواحد والمتعدد والمذكر والمؤنث. وقرأ الزعفراني والقورصي عن أبي جعفر وابن المناذري عن نافع «براء» بضم الباء هو اسم مفرد كطوال وكرام بضم الكاف، وقرأ الأعمش «بري» وهو وصف كطويل وكريم وقراءة العامة لغة العالية وهذه لغة نجد. وقرأ الأعمش أيضا «إنّي» بنون مشددة دون نون الوقاية إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي استثناء متصل إن قلنا إن ما عامة لذوي العلم وغيرهم وأنهم كانوا يعبدون الله تعالى والأصنام وليس هذا من الجمع بين الله تعالى وغيره سبحانه الذي يجب اجتنابه لما فيه من إيهام التسوية بينه سبحانه وبين غيره جل وعلا لظهور ما يدل على خلاف ذلك في الكلام أو منقطع بناء على أن ما مختصة بغير ذوي العلم وأنه لا يناسب التغليب أصلا وأنهم لم يكونوا يعبدونه تعالى أو أنهم كانوا يعبدونه عز وجل إلا أن عبادته سبحانه مع الشرك في حكم العدم، وعلى الوجهين محل الموصول النصب، وأجاز الزمخشري أن يكون في محل جر على أنه بدل من ما المجرور بمن، وفيه بحث لأنه يصير استثناء من الموجب ولم يجوزوا فيه البدل، ووجهه أنه في معنى النفي لأنه معنى إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ لا أعبد ما تعبدون فهو نظير قوله تعالى: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ [التوبة: 32] إلا أن ذلك في المفرغ وهذا فيما ذكر فيه المستثنى منه وهم لا يخصونه بالمفرغ ولا بألفاظ مخصوصة أيضا كأبى وقلما، نعم إن أبا حيان يأبى إلا أنه موجب ولا يعتبر النفي معنى، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 76 وأجاز أيضا أن تكون إِلَّا صفة بمعنى غير على أن (ما) في ما تَعْبُدُونَ نكرة موصوفة والتقدير إنني براء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني فهو نظير قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] واعتبار ما نكرة موصوفة بناء على أن إلا لا تكون صفة إلا لنكرة وكذا اعتبارها بمعنى الجمع بناء على اشتراط كون النكرة الموصوفة بها كذلك، والمسألة خلافية، فمن النحويين من قال إن ألا يوصف بها المعرفة والنكرة مطلقا وعليه لا يحتاج إلى اعتبار كون ما نكرة بمعنى آلهة، وفي جعل الصلة فَطَرَنِي تنبيه على أنه لا يستحق العبادة إلا الخالق للعابد فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ يثبتني على الهداية فالسين للتأكيد لا للاستقبال لأنه جاء في الشعراء يهدين بدونها والقصة واحدة، والمضارع في الموضعين للاستمرار، وقيل: المراد سَيَهْدِينِ إلى وراء ما هداني إليه أولا فالسين على ظاهرها والتغاير في الحكاية والمحكي بناء على تكرر القصة وَجَعَلَها الضمير المرفوع المستتر لإبراهيم عليه السلام أو لله عز وجل والضمير المنصوب لكلمة التوحيد أعني لا إله إلا الله كما روي عن قتادة ومجاهد والسدي ويشعر بها قوله: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إلخ، وجوز أن يعود على هذا القول نفسه وهو أيضا كلمة لغة كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ في ذريته عليه السلام فلا يزال فيهم من يوحد الله تعالى ويدعو إلى توحيده عز وجل. وقرأ حميد بن قيس «كلمة» بكسر الكاف وسكون اللام وهي لغة فيها، وقرىء «في عقبه» بسكون القاف تخفيفا وعَقِبِهِ أي من عقبه أي خلفه ومنه تسمية النبي صلّى الله عليه وسلّم بالعاقب لأنه آخر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ تعليل للجعل أي جعلها باقية في عقبه كي يرجع من أشرك منهم بدعاء من وحد أو بسبب بقائها فيهم، والضميران للعقب وهو بمعنى الجمع، والأكثرون على أن الكلام بتقدير مضاف أي لعل مشركيهم أو الإسناد من إسناد ما للبعض إلى الكل وأولوا لعل بناء على أن الترجي من الله سبحانه وهو لا يصح في حقه تعالى أو منه عليه السلام لكنه من الأنبياء في حكم المتحقق ويجوز ترك التأويل كما لا يخفى بل هو الأظهر إذا كان ذاك من إبراهيم عليه السلام. بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ أي أهل مكة المعاصرين للرسول صلّى الله عليه وسلّم وَآباءَهُمْ بالمد في العمر والنعمة حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ دعوة التوحيد أو القرآن وَرَسُولٌ مُبِينٌ ظاهر الرسالة بما له من المعجزات الباهرات أو مبين للتوحيد بالآيات البينات والحجج القاطعات، والمراد بالتمتيع ما هو سبب له من استمتاعهم بما متعوا واشتغالهم بذلك عن شكر المنعم وطاعته والغاية لذلك فكأنه قيل: اشتغلوا حتى جاء الحق وهي غاية له في نفس الأمر لأن مجيء الرسول مما ينبه عن سنة الغفلة ويزجر عن الاشتغال بالملاذ لكنهم عكسوا فجعلوا ما هو سبب للتنصل سببا للتوغل فهو على أسلوب قوله تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى قوله سبحانه: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة: 1- 4] ، وبَلْ مَتَّعْتُ إضراب عن قوله جل شأنه لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ كأنه قيل بل متعت مشركي مكة وأشغلتهم بالملاهي والملاذ فاشتغلوا فلم يرجعوا أو فلم يحصل ما رجاه من رجوعهم عن الشرك، وهو في الحقيقة إضراب عن التمهيد الذي سمعت وشروع في المقصود لكن روعي فيه المناسبة بما قرب من جملة الإضراب أعني لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وفي الحواشي الشهابية أنه إضراب عن قوله تعالى: وَجَعَلَها إلخ أي لم يرجعوا فلم أعاجلهم بالعقوبة بل أعطيتهم نعما أخر غير الكلمة الباقية لأجل أن يشكروا منعمها ويوحدوه فلم يفعلوا بل زاد طغيانهم لاغترارهم أو التقدير ما اكتفيت في هدايتهم بجعل الكلمة باقية فيهم بل متعتهم وأرسلت رسولا. وقرأ قتادة والأعمش بَلْ مَتَّعْتُ بتاء الخطاب ورواها يعقوب عن نافع وهو من كلامه تعالى على سبيل التجريد لا الالتفات وإن قيل به في مثله أيضا كأنه تعالى اعترض بذلك على نفسه جل شأنه في قوله سبحانه: وَجَعَلَها إلخ لا لتقبيح فعله سبحانه بل لقصد زيادة توبيخ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 77 المشركين كما إذا قال المحسن على من أساء مخاطبا لنفسه: أنت الداعي لإساءته بالإحسان إليه ورعايته فيبرز كلامه في صورة من يعترض على نفسه ويوبخها حتى كأنه مستحق لذلك وفي ذلك من توبيخ المسيء ما فيه، وقال صاحب اللوامح: هو من كلام إبراهيم عليه السلام ومناجاته ربه عز وجل، وقال في البحر: الظاهر أنه من مناجاة الرسول صلّى الله عليه وسلّم على معنى قل يا رب متعت، والأول أولى وهو الموافق للأصل المشهور، وقرأ الأعمش «متّعنا» بنون العظمة. وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ لينبههم عما هم فيه من الغفلة ويرشدهم إلى التوحيد قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ زادوا شرارة فضموا إلى شركهم معاندة الحق والاستخفاف به فسموا القرآن سحرا وكفروا به واستحقروا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ أي من إحدى القريتين مكة والطائف أو من رجالهما فمن ابتدائية أو تبعيضية، وقرىء «رجل» بسكون الجيم عَظِيمٍ بالجاه والمال قال ابن عباس: الذي من مكة الوليد بن المغيرة المخزومي والذي من الطائف حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي، وقال مجاهد: عتبة بن ربيعة وكنانة ابن عبد ياليل، وقال قتادة: الوليد بن المغيرة وعروة بن مسعود الثقفي وكان الوليد بن المغيرة يسمى ريحانة قريش وكان يقول: لو كان ما يقول محمد صلّى الله عليه وسلّم حقا لنزل علي أو على أبي مسعود يعني عروة بن مسعود وكان يكنى بذلك، وهذا باب آخر من إنكارهم للنبوة وذلك أنهم أنكروا أولا أن يكون النبي بشرا ثم لما بكتوا بتكرير الحجج ولم يبق عندهم تصور رواج لذلك جاؤوا بالإنكار من وجه آخر فتحكموا على الله سبحانه أن يكون الرسول أحد هذين وقولهم هذا القرآن ذكر له على وجه الاستهانة لأنهم لم يقولوا هذه المقالة تسليما بل إنكارا كأنه قيل: هذا الكذب الذي يدعيه لو كان حقا لكان الحقيق به رجل من القريتين عظيم وهذا منهم لجهلهم بأن رتبة الرسالة إنما تستدعي عظيم النفس بالتخلي عن الرذائل الدنية والتحلي بالكمالات والفضائل القدسية دون التزخرف بالزخارف الدنيوية، وقوله تعالى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ إنكار فيه تجهيل وتعجيب من تحكمهم بنزول القرآن العظيم على من أرادوا، والرحمة يجوز أن يكون المراد بها ظاهرها وهو ظاهر كلام البحر ونزل تعيينهم لمن ينزل عليه الوحي منزلة التقسيم لها وتدخل النبوة فيها، ويجوز أن يكون المراد بها النبوة وهو الأنسب لما قبل وعليه أكثر المفسرين، وفي إضافة الرب إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم من تشريفه عليه الصلاة والسلام ما فيه، وفي إضافة الرحمة إلى الرب إشارة إلى أنها من صفات الربوبية نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ أسباب معيشتهم. وقرأ عبد الله وابن عباس والأعمش وسفيان «معايشهم» على الجمع فِي الْحَياةِ الدُّنْيا قسمة تقتضيها مشيئتنا المبنية على الحكم والمصالح ولم نفوض أمرها إليهم علما منا بعجزهم عن تدبيرها بالكلية وإطلاق المعيشة يقتضي أن يكون حلالها وحرامها من الله تعالى: وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ في الرزق وسائر مبادئ المعاش دَرَجاتٍ متفاوتة بحسب القرب والبعد حسبما تقتضيه الحكمة فمن ضعيف وقوي وغني وفقير وخادم ومخدوم وحاكم ومحكوم لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا ليستعمل بعضهم بعضا في مصالحهم ويستخدموهم في مهنهم ويسخروهم في أشغالهم حتى يتعايشوا ويترافدوا ويصلوا إلى مرافقهم لا لكمال في الموسع عليه ولا لنقص في المقتر عليه ولو فوضنا ذلك إلى تدبيرهم لضاعوا وهلكوا فإذا كانوا في تدبير خويصة أمرهم وما يصلحهم من متاع الدنيا الدنية وهو على طرف التمام بهذه الحالة فما ظنهم بأنفسهم في تدبير أمر الدين وهو أبعد من مناط العيوق ومن أين لهم البحث عن أمر النبوة والتخير لها من يصلح لها ويقوم بأمرها، والسخري على ما سمعت نسبة إلى السخرة وهي التذليل والتكليف، وقال الراغب: السخري هو الذي يقهر أن يتسخر بإرادته، وزعم بعضهم أنه هنا من السخر بمعنى الهزء أي ليهزأ الغني بالفقير واستبعده أبو حيان. وقال السمين: إنه غير مناسب للمقام. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 78 وقرأ عمرو بن ميمون وابن محيصن وابن أبي ليلى وأبو رجاء والوليد بن مسلم «سخريا» بكسر السين والمراد به ما ذكرنا أيضا، وفي قوله تعالى: نَحْنُ قَسَمْنا إلخ ما يزهد في الانكباب على طلب الدنيا ويعين على التوكل على الله عز وجل والانقطاع إليه جل جلاله: فاعتبر نحن قسمنا بينهم ... تلقه حقا وبالحق نزل وَرَحْمَتُ رَبِّكَ أي النبوة وما يتبعها من سعادة الدارين، وقيل: الهداية والإيمان، وقال قتادة، والسدي: الجنة خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من حطام الدنيا الدنية فالعظيم من رزق تلك الرحمة دون ذلك الحطام الدنيء الفاني. وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ استئناف مبين لحقارة متاع الدنيا ودناءة قدره عند الله عز وجل، والمعنى أن حقارة شأنه بحيث لولا كراهة أن يجتمع الناس على الكفر ويطبقوا عليه لأعطيناه على أتم وجه من هو شر الخلائق وأدناهم منزلة، فكراهة الاجتماع على الكفر هي المانعة من تمتيع كل كافر والبسط عليه لا أن المانع كون متاع الدنيا له قدر عندنا، والكراهة المذكورة هي وجه الحكمة في ترك تنعيم كل كافر وبسط الرزق عليه فلا محذوف في تقديرها وليس ذلك مبنيا على وجوب رعاية المصلحة وإرادة الإيمان من الخلق ليكون اعتزالا كما ظن، وكأن وجه كون البسط على الكفار سببا للاجتماع على الكفر مزيد حب الناس للدنيا فإذا رأوا ذلك كفروا لينالوها، وهذا على معنى أن الله تعالى شأنه علم أنه لو فعل ذلك لدعا الناس إذ ذاك حبهم للدنيا إلى الكفر، فلا يقال: إن كثيرا من الناس اليوم يتحقق الغنى التام لو كفر ولا يكفر ولو أكره عليه بالقتل، وكون المراد بالأمر الواحد الذي يقتضيه كونهم أمة واحدة فإنه بمعنى اجتماعهم على أمر واحد الكفر بقرينة الجواب، ولِبُيُوتِهِمْ بدل اشتمال من قوله تعالى: لِمَنْ يَكْفُرُ واللام فيهما للاختصاص أو هما متعلقان بالفعل لا على البدلية ولام لمن صلة الفعل لتعديه باللام فهو بمنزلة المفعول به ولام لِبُيُوتِهِمْ للتعليل فهو بمنزلة المفعول له، ويجوز أن تكون الأولى للملك والثانية للاختصاص كما في قولك: وهبت الحبل لزيد لدابته وإليه ذهب ابن عطية، ولا يجوز على تقدير اختلاف اللامين معنى البدلية إذ مقتضى إعادة العامل في البدل الاتحاد في المعنى وإلى هذا ذهب أبو حيان، وقال الخفاجي: لا مانع من أن يبدل المجموع من المجموع بدون اعتبار إعادة، والسقف جمع سقف كرهن جمع رهن، وعن الفراء أنه جمع سقيفة كسفن جمع سفينة، والمعارج جمع معرج وهو عطف على سُقُفاً أي ولجعلنا لهم مصاعد عليها يعلون السطوح والعلالي وكأن المراد معارج من فضة بناء على أن العطف ظاهر في التشريك في القيد وإن تقدم، وقال أبو حيان: لا يتعين ذلك، وقرأ أبو رجاء «سقفا» بضم السين وسكون القاف تخفيفا وفي البحر هي لغة تميم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح السين والسكون على الإفراد لأنه اسم جنس يطلق على الواحد وما فوقه وهو المراد بقرينة البيوت وقرىء بفتح السين والقاف وهي لغة في سقف وليس ذلك تحريك ساكن لأنه لا وجه له. وقرىء «سقوفا» وهو جمع سقف كفلوس جمع فلس، وقرأ طلحة «معاريج» جمع معراج وَلِبُيُوتِهِمْ أي ولجعلنا لبيوتهم، وتكرير ذكر بيوتهم لزيادة التقرير ولأنه ابتداء أية أَبْواباً وَسُرُراً أي من فضة على ما سمعت، وقرىء «سررا» بفتح السين والراء وهي لغة لبني تميم وبعض كلب وذلك في جمع فعيل المضعف إذا كان اسما باتفاق وصفه نحو ثوب جديد وثياب جدد باختلاف بين النحاة عَلَيْها أي على السرر يَتَّكِؤُنَ كما هو شأن الملوك لا يهمهم شيء وَزُخْرُفاً قال الحسن: أي نقوشا وتزاويق، وقال ابن زيد: الزخرف أثاث البيت وتحملاته وهو الجزء: 13 ¦ الصفحة: 79 عليهما عطف على سُقُفاً. وقال ابن عباس وقتادة والشعبي والسدي والحسن أيضا في رواية الزخرف الذهب، وأكثر اللغويين ذكروا له معنيين هذا والزينة فقيل الظاهر أنه حقيقة فيهما، وقيل: إنه حقيقة في الزينة ولكون كمالها بالذهب استعمل فيه أيضا، ويشير إليه كلام الراغب قال: الزخرف الزينة المزوقة ومنه قيل للذهب زخرف، وفي البحر جاء في الحديث إياكم والحمرة فإنها من أحب الزينة إلى الشيطان، وقال ابن عطية: الحسن أحمر والشهوات تتبعه ولبعض شعراء المغرب: وصبغت درعك من دماء كماتهم ... لما رأيت الحسن يلبس أحمرا وهو على هذا عطف على محل مِنْ فِضَّةٍ كأن الأصل سقفا من فضة وزخرف يعني بعضها من فضة وبعضها من ذهب فنصب عطفا على المحل، وجوز عطفه على سُقُفاً أيضا وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي وما كل ما ذكر من البيوت الموصوفة بالصفات المفصلة الا شيء يتمتع به في الحياة الدنيا وفي معناه ما قرىء «وما كل ذلك إلا متاع لدنيا» وقرأ الجمهور «لما» بفتح اللام والتخفيف على أن إِنْ هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة بين المخففة وغيرها وما زائدة أو موصولة بتقدير لما هو متاع كما في قوله تعالى: «تماما على الذي أحسن» في قراءة من رفع النون، وقرأ رجاء وفي التحرير أبو حيوة «لما» بكسر اللام والتخفيف على أن إِنْ هي المخففة واللام حرف جر وما موصولة في محل جر بها والجار والمجرور في موضع الخبر لكل وصدر الصلة محذوف كما سمعت آنفا. وحق التركيب في مثله الإتيان باللام الفارقة فيقال للما: متاع لكنها حذفت لظهور إرادة الإثبات كما في قوله: أنا ابن أباة الضيم من آل مالك ... وإن مالك كانت كرام المعادن بل لا يجوز في البيت إدخال اللام كما لا يخفى على النحوي وَالْآخِرَةُ أي بما فيها من فنون النعيم التي لا يحيط بها نطاق البيان عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ خاصة لهم، والمراد بهم من اتقى الشرك، وقال غير واحد: من اتقى ذلك والمعاصي، وفي الآية من الدلالة على التزهيد في الدنيا وزينتها والتحريض على التقوى ما فيها، وقد أخرج الترمذي وصححه وابن ماجه عن سهل بن سعدة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لو كانت الدنيا تعدل عند الله تعالى جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء» وعن علي كرم الله تعالى وجهه: الدنيا أحقر من ذراع خنزير ميت بال عليه كلب في يد مجذوم ، هذا واستدل بعضهم بقوله تعالى: لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً على أن السقف لرب البيت الأسفل لا لصاحب العلو لأنه منسوب إلى البيت وَمَنْ يَعْشُ أي يتعام ويعرض عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ وهو القرآن، وإضافته إلى الرحمن للإيذان بنزوله رحمة للعالمين، وجوز أن يكون مصدرا أضيف إلى المفعول أي من يعش عن أن يذكر الرحمن. وأن يكون مصدرا أضيف إلى الفاعل أي عن تذكير الرحمن عباده سبحانه، وقرأ يحيى بن سلام البصري «يعش» بفتح الشين كيرض أي يعم يقال: عشى كرضي إذا حصلت الآفة في بصره وعشا كغزا إذا نظر نظر العشى لعارض قال الحطيئة: متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد أي تنظر إليها نظر العشى لما يضعف بصرك من عظم الوقود واتساع الضوء ولو لم يكن كذلك لم يكن لكلمة الغاية موقع وأظهر منه في المقصود قول حاتم: أعشو إذا ما جارتي برزت ... حتى يواري جارتي الخدر الجزء: 13 ¦ الصفحة: 80 لأنه قيد بالوقت وأتى بالغاية وما هو خلقي لا يزول، وقال بعضهم: لم أر أحدا يجيز عشوت عنه إذا أعرضت وإنما يقال تعاشيت وتعاميت عن الشيء إذا تغافلت عنه كأنك لم تره ويقال: عشوت إلى النار إذا استدللت عليها ببصر ضعيف، وهو مما لا يلتفت إليه ومثله عشى وعشا عرج بكسر الراء لمن به الآفة وعرج بفتحها لمن استدللت عليها ببصر ضعيف، وهو مما لا يلتفت إليه ومثله عشى وعشا عرج بكسر الراء لمن به الآفة وعرج بفتحها لمن مشى مشية العرجان من غير عرج على ما في الكشاف، وفيه خلاف لأهل اللغة ففي القاموس يقال: عرج أي بالفتح إذا أصابه شيء في رجله وليس بخلقة فإذا كان خلقة فعرج كفرح أو يثلث في غير الخلقة، وقرأ زيد بن علي «يعشو» بإثبات الواو وخرج ذلك الزمخشري على أن من موصولة لا شرطية جازمة، وجوز أن تكون شرطية والمدة إما للإشباع أو على لغة من يجزم المعتل الآخر بحذف الحركة على ما حكاه الأخفش، وجوز كون الفعل مجزوما بحذف النون والواو ضمير الجمع، وقد روعي فيه معنى من، وتخريج الزمخشري مبني على الفصيح المطرد المتبادر. نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً أي نتح له شيطانا ليستولي عليه استيلاء القيض على البيض وهو القشر الأعلى. فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ دائما لا يفارقه ولا يزال يوسوسه ويغويه وهذا عقاب على الكفر بالختم وعدم الفلاح كما يقال: إن الله تعالى يعاقب على المعصية بمزيد اكتساب السيئات، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه: والسلمي والأعمش ويعقوب وأبو عمرو بخلاف عنه. وحماد عن عاصم وعصمة عن الأعمش وعن عاصم والعليمي عن أبي بكر «يقيض» بالياء على إسناده إلى ضمير الرَّحْمنِ، وقرأ ابن عباس «يقيض» بالياء والبناء للمفعول «شيطان» بالرفع والفعل في جميع القراءات مجزوم ولم نسمع أنه قرىء بالرفع، وفي الكشاف حق من قرأ «من يعشو» بالواو أن يرفعه أي بناء على تخريجه ذلك على أن من موصولة، وجوز على ذلك أيضا أن يكون «يقيّض» مرفوعا لكنه سكن تخفيفا. وفي البحر يجوز أن تكون مَنْ موصولة وجزم نُقَيِّضْ تشبيها للموصول باسم الشرط وإذا كان ذلك مسموعا في الذي وهو لم يكن اسم شرط قط فالأولى أن يكون فيما استعمل موصولا وشرطا، قال الشاعر: لا تحفرن بئرا تريد أخا بها ... فإنك فيها أنت من دونه تقع كذاك الذي يبغي على الناس ظالما ... تصبه على رغم عواقب ما صنع أنشدهما ابن الاعرابي وهو مذهب للكوفيين، وله وجه من القياس وهو أنه كما شبه الموصول باسم الشرط فدخلت الفاء في خبره فكذلك يشبه به فينجزم الخبر إلا أن دخول الفاء منقاس إذا كان الخبر مسببا عن الصلة بشروطه المذكورة في النحو وهذا لا يقيسه البصريون وَإِنَّهُمْ أي الشياطين الذين قيض وقدر كل واحد منهم لكل واحد ممن يعشو لَيَصُدُّونَهُمْ أي ليصدون قرناءهم وهم الكفار المعبر عنهم بمن يعش، وجمع ضمير الشيطان لأن المراد به الجنس. وجمع ضمير من رعاية للمعنى كما أفرد أولا رعاية للفظ. وفي الانتصاف أن في هذه الآية نكتتين بديعتين الأولى الدلالة على أن النكرة الواقعة في سياق الشرط تفيد العموم وهي مسألة أضرب فيها الأصوليون وإمام الحرمين من القائلين بإفادتها العموم حتى استدرك على الأئمة إطلاقهم القول بأن النكرة في سياق الإثبات تخص، وقال إن الشرط يعم والنكرة في سياقه تعم وقد رد عليه الفقيه أبو الحسن علي الأبياري شارح كتابه ردا عنيفا، وفي هذه الآية للإمام ومن قال بقوله كفاية، وذلك أن الشيطان ذكر فيها منكرا في سياق شرط ونحن نعلم أنه إنما أريد عموم الشياطين لا واحد لوجهين. أحدهما أنه قد ثبت أن لكل أحد شيطانا فكيف بالعاشي عن ذكر الله تعالى والآخر من الآية وهو أنه أعيد عليه الضمير مجموعا في قوله تعالى: «وإنهم» فإنه عائد إلى الشيطان قولا واحدا ولولا إفادته عموم الشمول لما الجزء: 13 ¦ الصفحة: 81 جاز عود ضمير الجمع عليه بلا إشكال، فهذه نكتة تجد سماعها لمخالفي هذا الرأي سكتة. النكتة الثانية أن فمها ردا على من زعم أن العود على معنى من يمنع من العود على لفظها بعد ذلك واحتج لذلك بأنه إجمال بعد تفسير، وهو خلاف المعهود من الفصاحة وقد نقض ذلك الكندي وغيره بآيات، واستخرج جدي من هذه الآية نقض ذلك أيضا لأنه أعيد الضمير على اللفظ في يَعْشُ ولَهُ وعلى المعنى في لَيَصُدُّونَهُمْ ثم على اللفظ في حَتَّى إِذا جاءَنا وقد قدمت أن الذي منع قد يكون اقتصر بمنعه على مجيء ذلك في جملة واحدة وأما إذا تعددت الجمل واستقلت كل بنفسها فقد لا يمنع ذلك انتهى. وفي كون ضمير إِنَّهُمْ عائدا على الشيطان قولا واحدا نظر، فقد قال أبو حيان: الظاهر أن ضمير النصب في إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عائد على من على المعنى وهو أولى من عود ضمير إِنَّهُمْ على الشيطان كما ذهب إليه ابن عطية لتناسق الضمائر في إِنَّهُمْ وما بعده فلا تغفل عَنِ السَّبِيلِ المستبين الذي يدعو إليه ذكر الرحمن وَيَحْسَبُونَ أي العاشون إِنَّهُمْ أي الشياطين مُهْتَدُونَ أي إلى ذلك السبيل الحق وإلا لما اتبعوهم أو ويحسب العاشون أن أنفسهم مهتدون فإن اعتقاد كون الشياطين مهتدين مستلزم لاعتقاد كونهم كذلك لاتحاد مسلكهما. والظاهر أن أبا حيان يختار هذا الوجه للتناسق أيضا، والجملة حال من مفعول «يصدون» بتقدير المبتدأ أو من فاعله أو منهما لاشتمالها على ضميريهما أي وإنهم ليصدونهم عن الطريق الحق وهم يحسبون أنهم مهتدون إليه. وصيغة المضارع في الأفعال الأربعة للدلالة على الاستمرار التجددي لقوله تعالى: حَتَّى إِذا جاءَنا فإن حَتَّى وإن كانت ابتدائية داخلة على الجملة الشرطية لكنها تقتضي حتما أن تكون غاية لأمر ممتد وأفرد الضمير في جاء وما بعده لما أن المراد حكاية مقالة كل واحد من العاشين لقرينه لتهويل الأمر وتفظيع الحال والمعنى يستمر أمر العاشين على ما ذكر حتى إذا جاءنا كل واحد منهم مع قرينه يوم القيامة قالَ مخاطبا له: يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أي في الدنيا، وقيل: في الآخرة بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ أي بعد كل منهما من الآخر، والمراد بهما المشرق والمغرب كما اختاره الزجاج او الفراء وغيرهما لكن غلب المشرق على المغرب وثنيا كالموصلين للموصل والجزيرة وأضيف البعد إليهما، والأصل بعد المشرق من المغرب والمغرب من المشرق وإنما اختصر هذا المبسوط لعدم الإلباس إذ لا خفاء أنه لا يراد بعدهما من شيء واحد لأن البعد من أحدهما قرب من الآخر ولأنهما متقابلان فبعد أحدهما من الآخر مثل في غاية البعد لا بعدهما عن شيء آخر، وإشعار السياق بالمبالغة لا ينكر فلا لبس من هذا الوجه أيضا، وقال ابن السائب: لا تغليب، والمراد مشرق الشمس في أقصر يوم من السنة ومشرقها في أطول يوم منها فَبِئْسَ الْقَرِينُ أي أنت، وقيل: أي هو على أنه من كلامه تعالى وهو كما ترى. وقرأ أبو جعفر وشيبة وأبو بكر والحرميان وقتادة والزهري والجحدري «جاءانا» على التثنية أي العاشي والقرين وقوله تعالى: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ إلخ حكاية لما سيقال لهم حينئذ من جهة الله عزّ وجلّ توبيخا وتقريعا، وفاعل يَنْفَعَكُمُ ضمير مستتر يعود على ما يفهم مما قبل أي لن ينفعكم هو أي تمنيكم لمباعدتهم أو الندم أو القول المذكور الْيَوْمَ أي يوم القيامة إِذْ ظَلَمْتُمْ بدل من الْيَوْمَ أي إذ تبين أنكم ظلمتم في الدنيا قاله غير واحد، وفسر ذلك بالتبين قيل لئلا يشكل جعله وهو ماض بدلا من الْيَوْمَ وهو مستقبل لأن تبين كونهم ظالمين عند أنفسهم إنما يكون يوم القيامة فاليوم وزمان التبين متحدان وهذا كقوله: إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة وأورد عليه أن السؤال عائد لأن إِذْ ظرف لما مضى من الزمان ولا يخرج عن ذلك باعتبار التبين وتفصي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 82 بعضهم عن الإشكال بأن إذ قد تخرج من المضي إلى الاستقبال على ما ذهب إليه جماعة منهم ابن مالك محتجا بقوله تعالى: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلالُ [غافر: 70، 71] وإلى الحال كما ذهب إليه بعضهم محتجا بقوله سبحانه: وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ [يونس: 61] فلتكن هنا للاستقبال، وأهل العربية يضعفون دعوى خروجها من المضي. وقال الجلبي: لعل الأظهر حملها على التعليل فيتعلق بالنفي، فقد قال سيبويه: إنها بمعنى التعليل حرف بمنزلة لام العلة، نعم أنكر الجمهور هذا القسم لكن إثبات سيبويه إياه يكفي حجة. فإن القول ما قالت حذام. وتعقب بأنه لا يكفي في تخريج كلام الله سبحانه إثبات سيبويه وحده مع إطباق جميع أئمة العربية على خلافه، وأيضا تعليل النفي بعد يبعده وقال أبو حيان: لا يجوز البدل على بقاء إذ على موضوعها من كونها ظرفا لما مضى من الزمان فإن جعلت لمطلق الوقت جاز، ولا يخفى أن ذلك مجاز فهل تكفي البدلية قرينة له فإن كفت فذاك، وقال ابن جني: راجعت أبا علي في هذه المسألة يعني الإبدال المذكور مرارا وآخر ما تحصل منه أن الدنيا والآخرة متصلتان وهما سواء في حكم الله سبحانه وعلمه جل شأنه لا يجري عليه عزّ وجلّ زمان فكأن إِذْ مستقبل أو الْيَوْمَ ماض فصح ذلك، ورد بأن المعتبر حال الحكاية والكلام فيها وارد على ما تعارفه العرب ولولاه لسد باب النكات ولغت الاعتبارات في العبارات ومثله غني عن البيان، وقال أبو البقاء: التقدير بعد إذ ظلمتم فحذف المضاف للعلم به، وقال الحوفي: إِذْ متعلقة بما دل عليه المعنى كأنه قيل ولن ينفعكم اليوم اجتماعكم إذ ظلمتم مثلا. ومن الناس من استشكل الآية من حيث إن فيها إعمال يَنْفَعَكُمُ الدال على الاستقبال لاقترانه بلن في اليوم وهو الزمان الحاضر وإذ وهو للزمان الماضي، وأجيب بأنه يدفع الثاني بما قدروه من التبين لأن تبين الحال يكون في الاستقبال والأول بأن الْيَوْمَ تعريفه للعهد وهو يوم القيامة لا للحضور كتعريف الآن وإن كان نوعا منه. وقيل: يدفع بأن الاستقبال بالنسبة إلى وقت الخطاب وهو بعض أوقات اليوم وهو كما ترى فتأمل ولا تغفل. وقوله تعالى: أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ تعليل لنفي النفع أي لأن حقكم أن تشتركوا أنتم وقرناؤكم في العذاب كما كنتم مشتركين في سببه في الدنيا. وجوز أن يكون الفعل مسندا إليه أي لن ينفعكم كونكم مشتركين في العذاب كما ينفع الواقعين في الأمر الصعب اشتراكهم فيه لتعاونهم في تحمل أعبائه وتقسمهم لشدته وعنائه وذلك أن كل واحد منكم به من العذاب ما لا تبلغه طاقته أو لن ينفعكم ذلك من حيث التأسي فإن المكروب يتأسى ويتروح بوجدان المشارك وهو الذي عنته الخنساء بقولها: يذكرني طلوع الشمس صخرا ... وأذكره بكل مغيب شمس ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزي النفس عنه بالتأسي فهؤلاء يؤسيهم اشتراكهم ولا يروحهم لعظم ما هم فيه أو لن ينفعكم ذلك من حيث التشفي أي لن يحصل لكم التشفي بكون قرنائكم معذبين مثلكم حيث كنتم تدعون عليهم بقولكم: رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً [الأحزاب: 68] وقولكم: فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ [الأعراف: 38] لتتشفوا بذلك، واعترض على الوجه الأول من هذه الأوجه الثلاثة بأن الانتفاع بالتعاون في تحمل أعباء العذاب ليس ما يخطر ببالهم حتى يرد عليهم بنفيه، وأجيب بأنه غير بعيد أن يخطر ذلك ببالهم لمكان المقارنة والصحبة والغريق يتشبث بالحشيش والظمآن يحسب السراب شرابا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 83 وقرأ ابن عامر «إنكم» بكسر الهمزة وهو تقوى ما ذكر أولا من إضمار الفاعل وتقدير اللام في أنكم معنى ولفظا لأنه لا يمكن أن يكون فاعلا فيتعين الإضمار، ولأن الجملة عليها تكون استئنافا تعليليا فيناسب تقدير اللام لتتوافق القراءتان، وقوله تعالى: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ إنكار تعجيب من أن يكون صلّى الله عليه وسلّم هو الذي يقدر على هدايتهم وهو قد تمرنوا في الكفر واعتادوه واستغرقوا في الضلال بحيث صار ما بهم من العشى عمى مقرونا بالصمم وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ عطف على العمى باعتبار تغاير الوصفين أعني العمى والضلال بحسب المفهوم وإن اتحدا مآلا، ومدار الإنكار هو التمكن والاستقرار في الضلال المفرط الذي لا يخفى لا توهم القصور منه عليه الصلاة والسلام ففيه رمز إلى أنه لا يقدر على ذلك إلا الله وحده بالقسر والإلجاء وقد كان صلّى الله عليه وسلّم يبالغ في المجاهدة في دعاء قومه وهم لا يزيدون إلا غيا وتعاميا عما يشاهدونه من شواهد النبوة وتصاما عما يسمعونه من بينات القرآن فنزلت أَفَأَنْتَ إلخ فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فإن قبضناك قبل أن نبصرك عذابهم ونشفي بذلك صدرك وصدور المؤمنين فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ لا محالة في الدنيا والآخرة واقتصر بعضهم على عذاب الآخرة لقوله تعالى في آية أخرى: أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ [غافر: 77] والقرآن يفسر بعضه بعضا، وما ذكرنا أتم فائدة وأوفق بإطلاق الانتقام، وأما تلك الآية فليس فيها ذكره، وما مزيدة للتأكيد وهي بمنزلة لام القسم في استجلاب النون المؤكدة. أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ أي أو أردنا أن نريك العذاب الذي وعدناهم فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ بحيث لا مناص لهم من تحت ملكنا وقهرنا واعتبار الإرادة لأنها أنسب بذكر الاقتدار بعد، وفي التعبير بالوعد وهو سبحانه لا يخلف الميعاد إشارة إلى أنه هو الواقع، وهكذا كان إذ لم يفلت أحد من صناديدهم في بدر وغيرها إلا من تحصين بالإيمان، وقرىء «نرينك» بالنون الخفيفة فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تسلية له صلّى الله عليه وسلّم وأمر له عليه الصلاة والسلام أو لأمته بالدوام على التمسك بالآيات والعمل بها، والفاء في جواب شرط مقدر أي إذا كان أحد هذين الأمرين واقعا لا محالة فاستمسك بالذي أوحيناه إليك، وقوله تعالى: إِنَّكَ إلخ تعليل للاستمساك أو للأمر به. وقرأ بعض قراء الشام «أوحي» بإسكان اللام، وقرأ الضحاك «أوحى» مبنيا للفاعل وَإِنَّهُ أي ما أوحى إليك والمراد به القرآن لَذِكْرٌ لشرف عظيم لَكَ وَلِقَوْمِكَ هم قريش على ما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي وابن زيد. وأخرج ابن عدي وابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما قالا: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعرض نفسه على القبائل بمكة ويعدهم الظهور فإذا قالوا: لمن الملك بعدك أمسك فلم يجبهم بشيء لأنه عليه الصلاة والسلام لم يؤمر في ذلك بشيء حتى نزلت وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ فكان صلّى الله عليه وسلّم بعد إذا سئل قال لقريش: فلا يجيبونه حتى قبلته الأنصار على ذلك. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن عدي بن حاتم قال: «كنت قاعدا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ألا إن الله تعالى علم ما في قلبي من حبي لقومي فبشرني فيهم فقال سبحانه: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ الآية فجعل الذكر والشرف لقومي في كتابه» الحديث ، وفيه «فالحمد لله الذي جعل الصديق من قومي والشهيد من قومي إن الله تعالى قلب العباد ظهرا وبطنا فكان خير العرب قريش وهي الشجرة المباركة إلى أن قال عدي: ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكر عنده قريش بخير قط إلا سره حتى يتبين ذلك السرور في وجهه للناس كلهم وكان عليه الصلاة والسلام كثيرا ما يتلو هذه الآية وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ إلخ ، وقيل هم العرب مطلقا لما أن القرآن نزل بلغتهم ثم يختص بذلك الشرف الأخص الجزء: 13 ¦ الصفحة: 84 فالأخص منهم حتى يكون الشرف لقريش أكثر من غيرهم ثم لبني هاشم أكثر مما يكون لسائر قريش، وفي رواية عن قتادة هم من اتبعه صلّى الله عليه وسلّم من أمته. وقال الحسن: هم الأمة والمعنى وإنه لتذكرة وموعظة لك ولأمتك، والأرجح عندي القول الأول. وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ يوم القيامة عنه وعن قيامكم بحقوقه، وقال الحسن والكلبي والزجاج: تسألون عن شكر ما جعله الله تعالى لكم من الشرف، قيل إن هذه الآية تدل على إن الإنسان يرغب في الثناء الحسن والذكر الجميل إذ لو لم يكن مرغوبا فيه ما امتن الله تعالى به على رسوله صلّى الله عليه وسلّم والذكر الجميل قائم مقام الحياة ولذا قيل ذكر الفتى عمره الثاني، وقال ابن دريد: وإنما المرء حديث بعده ... فكن حديثا حسنا لمن وعى وقال آخر: إنما الدنيا محاسنها ... طيب ما يبقى من الخبر ويحكى أن الطاغية هلاكو سأل أصحابه: من الملك؟ فقالوا له: أنت الذي دوخت البلاد وملكت الأرض وطاعتك الملوك وكان المؤذن إذ ذاك يؤذن فقال لا الملك هذا له أزيد من ستمائة سنة قد مات وهو يذكر على المآذن في كل يوم وليلة خمس مرات يريد محمدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 85 وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ أي هل حكمنا بعبادة غير الله سبحانه وهل جاءت في ملة من ملل المرسلين عليهم السلام والمراد الاستشهاد بإجماع المرسلين على التوحيد والتنبيه على أنه ليس ببدع ابتدعه صلّى الله عليه وسلّم حتى يكذب ويعادى له، والكلام بتقدير مضاف أي واسأل أمم من أرسلنا أو على جعل سؤال الأمم بمنزلة سؤال المرسلين إليهم. قال الفراء: هم إنما يخبرون عن كتب الرسل فإذا سألهم عليه الصلاة والسلام فكأنه سأل المرسلين عليهم السلام، وعلى الوجهين المسئول الأمم، وروي ذلك عن الحسن ومجاهد وقتادة والسدي وعطاء وهو رواية عن ابن عباس أيضا. وأخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة أنه قال في بعض القراءات واسأل من أرسلنا إليهم رسلنا قبلك. وأخرج هو وسعيد بن منصور عن مجاهد قال: كان عبد الله يقرأ واسأل الذين أرسلنا إليهم قبلك من رسلنا، وعن ابن مسعود أنه قرأ واسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبل مؤمني أهل الكتاب، وجعل بعضهم السؤال مجازا عن النظر والفحص عن مللهم في سؤال الديار والاطلال ونحوها من قولهم: سل الأرض من شق أنهارك وغرس أشجارك وجنى ثمارك. وروي عن ابن عباس أيضا وابن جبير والزهري وابن زيد أن الكلام على ظاهره وأنه عليه الصلاة والسلام قيل له ذلك ليلة الإسراء حين جمع له الأنبياء في البيت المقدس فافهم ولم يسأل عليه الصلاة والسلام إذ لم يكن في شك. وفي بعض الآثار أن ميكال قال لجبريل عليهما السلام: هل سأل محمد صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك؟ فقال: هو أعظم يقينا وأوثق إيمانا من أن يسأل. وتعقب هذا القول بأن المراد بهذا السؤال الزام المشركين وهم منكرون الإسراء، وللبحث فيه مجال. والخطاب على جميع ما سمعت لنبينا عليه الصلاة والسلام. وفي البحر الذي يظهر أنه خطاب للسامع الذي يريد أن يفحص عن الديانات قيل له اسأل أيها الناظر أتباع الرسل أجاءت رسلهم بعبادة غير الله عزّ وجلّ فإنهم يخبرونك أن ذلك لم يقع ولا يمكن أن يأتوا به ولعمري إنه خلاف الظاهر جدا، ومما يقضي منه العجب ما قيل: إن المعنى واسألني أو واسألنا عمن أرسلنا وعلق اسأل فارتفع من وهو اسم استفهام على الابتداء وأرسلنا خبره والجملة في موضع نصب باسأل بعد إسقاط الخافض كأن سؤاله من أرسلت يا رب قبلي من رسلك أجعلت في رسالته آلهة تعبد ثم السؤال فحكى المعنى فرد الخطاب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله تعالى مِنْ قَبْلِكَ انتهى، واسأل من قرأ أبا جاد أيرضى بهذا الكلام ويستحسن تفسير كلام الله تعالى المجيد بذلك وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا ملتبسا بها إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ أشراف قومه وخصوا بالذكر لأن غيرهم تبع فَقالَ لهم إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ إليكم وأريد باقتصاص ذلك تسلية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإبطال قولهم: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] لأن موسى عليه السلام مع عدم زخارف الدنيا لديه كان له مع فرعون وهو ملك جبار ما كان وقد أيده الله سبحانه بوحيه وما أنزل عليه، والاستشهاد بدعوته عليه السلام إلى التوحيد أثر ما أشير إليه من إجماع جميع الرسل عليهم السلام عليه ويعلم من ذلك وجه مناسبة الآيات لما قبلها، وقال أبو حيان: مناسبتها من وجهين الأول أنه ذكر فيما قبل قول المشركين: لَوْلا نُزِّلَ إلخ وفيه زعم أن العظم بالجاه والمال وأشير في هذه الآيات إلى أن مثل ذلك سبق إليه فرعون في قوله: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ [الزخرف: 51] إلخ فهو قدوتهم في ذلك وقد انتقم منه فكذلك ينتقم منهم، الثاني أنه سبحانه لما قال: وَسْئَلْ إلخ ذكر جلّ وعلا قصة موسى وعيسى عليهما السلام وهما أكثر أتباعا ممن سبق من الأنبياء وكل جاء بالتوحيد فلم يكن فيما جاءا به إباحة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 86 اتخاذ آلهة من دون الله تعالى كما اتخذت قريش فناسب ذكر قصتهما الآية التي قبلها. فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ أي فاجأهم الضحك منها أي استهزؤوا بها أول ما رأوها ولم يتأملوا فيها، وفي الكشاف جاز أن تجاب لما بإذا المفاجاة لأن فعل المفاجأة مقدر معها وهو عامل النصب في محلها كأنه قيل: فلما جاءهم بآياتنا فاجؤوا وقت ضحكهم. فالجواب عنده ذلك الفعل وهو العامل في لما، وقدر ماضيا لأنه المعروف في جوابها، وإذا مفعول به لا ظرف، وقال أبو حيان: لا نعلم نحويا ذهب إلى ما ذهب إليه هذا الرجل من أن إذا الفجائية تكون منصوبة بفعل مقدر تقديره فاجأ بل المذاهب فيها ثلاثة. الأول أنها حرف فلا تحتاج إلى عامل. الثاني أنها ظرف مكان فإن صرح بعد الاسم بعدها بخبر له كان ذلك الخبر عاملا فيها نحو خرجت فإذا زيد قائم فقائم هو الناصب لها والتقدير خرجت ففي المكان الذي خرجت فيه زيد قائم. الثالث أنها ظرف زمان والعامل فيها الخبر أيضا كأنه قيل: ففي الزمان الذي خرجت فيه زيد قائم: وإذا لم يذكر بعد الاسم خبر أو ذكر اسم منصوب على الحال كانت إذا خبرا للمبتدأ: فإن كان جثة وقلنا: إذا ظرف مكان الأمر واضحا وإن قلنا ظرف زمان كان الكلام على حذف مضاف أي ففي الزمان حضور زيد ثم إن المفاجأة التي ادعاها لا يدل المعنى على أنها تكون من الكلام السابق بل يدل على أنها تكون من الكلام التي هي فيه تقول خرجت فإذا الأسد فالمعنى ففاجأني الأسد انتهى، وقال الخفاجي ما قيل إن نصبها بفعل المفاجأة المقدر هكذا لم يقله أحد من النحاة لا يلتفت إليه وتفصيله في شروح المغني وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ من الآيات: إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها أي من آية مثلها في كونها آية دالة على النبوة واستشكل بأنه يلزم كون كل واحدة من الآيات فاضلة ومفضولة معا وهو يؤدي إلى التناقض وتفضيل الشيء على نفسه لعموم آية في النفي، وأجيب بأن الغرض من هذا الكلام انهن موصوفات بالكبر لا يكدن يتفاوتن فيه على معنى أن كل واحدة لكمالها في نفسها إذا نظر إليها قيل هي أكبر من البواقي لاستقلالها بإفادة المقصود على التمام كما قال الحماسي: من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يسري بها الساري وإذا لوحظ الكل توقف عن التفضيل بينهن، ولقد فاضلت فاطمة بنت خرشب الأنمارية بين أولادها الكملة ربيعة الحفاظ. وعمارة الوهاب. وأنس الفوارس ثم قال: أبصرت مراتبهم متدانية قليلة التفاوت ثكلتهم إن كنت أعلم أيهم أفضل هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها، وقال بعض الأجلة: المراد بأفعل الزيادة من وجه أي ما نريهم من آية الا هي مختصة بنوع من الإعجاز مفضلة على غيرها بذلك الاعتبار، ولا ضمير في كون الشيء الواحد فاضلا ومفضولا باعتبارين، وقد أطال الكلام في ذلك جلال الدين الدواني في حواشيه على الشرح الجديد للتجريد فليراجع ذلك من أراده، وفي البحر قيل: كانت آياته عليه السلام من كبار الآيات وكانت كل واحدة أكبر من التي قبلها فعلى هذا يكون ثم صفة محذوفة أي من أختها السابقة عليها ولا يبقى في الكلام تعارض، ولا يكون ذلك الحكم في الآية الأولى لأنه لم يسبقها شيء فتكون أكبر منه، وذكر بعضهم في الأكبرية أن الأولى تقتضي علما والثانية تقتضي علما منضما إلى علم الأولى فيزداد الرجوع انتهى، والأولى ما تقدم لشيوع إرادة ذلك المعنى من مثل هذا التركيب وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ كالسنين والجراد والقمل وغيرها: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ لكي يرجعوا ويتوبوا عما هم عليه من الكفر وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ قال الجمهور: وهو خطاب تعظيم فقد كانوا يقولون للعالم الماهر ساحر لاستعظامهم علم السحر، وحكاه في مجمع البيان عن الكلبي والجبائي، وقيل: المعنى يا غالب السحرة من ساحره فسحره كخاصمه فخصمه فهو خطاب تعظيم أيضا، وقيل: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 87 الساحر على المعنى المعروف فيه وقد تعودوا عليه السلام بذلك قبل، ومقتضى مقام طلب الدعاء منه عليه السلام أن لا يدعوه به إلا أنهم لفرط حسرتهم سبق لسانهم إلى ما تعودوا به، وقيل: هو خطاب استهزاء وانتقاص دعاهم إليه شدة شكيمتهم ومزيد حماقتهم وروي ذلك عن الحسن. ودفع الزمخشري المنافاة بين هذا الخطاب وقولهم الآتي: إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ بأن ذلك القول وعد منوي إخلافه وعهد معزوم على نكثه معلق بشرط أن يدعو لهم وينكشف عنهم العذاب وفيه أن الوعد وإن كان منوي الأخلاف لكن إظهار الأخلاف حال التضرع إليه عليه السلام ينافيه لأنهم في استلانة قلبه عليه السلام. وقيل الأظهر أنهم قالوا يا موسى كما في الأعراف لكن حكي الله تعالى كلامهم هنا على حسب حالهم ووفق ما في قلوبهم تقبيحا لذلك وتسلية لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم ويكون ذلك على عكس قوله سبحانه إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ [النساء: 157] وجعل على هذا قولهم الآتي مجمل ما فصل هنالك من الإيمان وإرسال بني إسرائيل فلا يحتاج إلى التزام كون القولين في مجلسين للجمع بين ما هنا وما هناك، ولا يخلو عن بعد والالتزام المذكور لا أرى ضررا فيه. وقرىء «يا أيه» بضم الهاء ادْعُ لَنا رَبَّكَ ليكشف عنا العذاب بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أي بعهده عندك، والمراد به النبوة وسميت عهدا إما لأن الله تعالى عاهد نبيه عليه السلام أن يكرمه بها وعاهد النبي ربه سبحانه على أن يستقل بأعبائها أو لما فيها من الكلفة بالقيام بأعبائها ومن الاختصاص كما بين المتواثقين أو لأن لها حقوقا تحفظ كما يحفظ العهد أو من العهد الذي يكتب للولاة كأن النبوة منشور من الله تعالى بتولية من أكرمه بها والباء إما صلة لادع. أو متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير فيه أي متوسلا إليه تعالى بما عهد أو بمحذوف دل عليه التماسهم مثل أسعفنا إلى ما نطلب، وإما أن تكون للقسم والجواب ما يأتي، وهي على هذا للقسم حقيقة وعلى ما قبله للقسم الاستعطافي وعلى الوجه الأول للسببية، وإدخال ذلك في الاستعطاف خروج عن الاصطلاح، وجوز أن يراد بالعهد عهد استجابة الدعوة كأنه قيل: بما عاهدك الله تعالى مكرما لك من استجابة دعوتك أو عهد كشف العذاب عمن اهتدى، وأمر الباء في الوجهين على ما مر وأن يراد بالعهد الإيمان والطاعة أي بما عهد عندك فوفيت به على أنه من عهد إليه أن يفعل كذا أي أخذ منه العهد على فعله ومنه العهد الذي يكتب للولاة، وعِنْدَكَ يغني عن ذكر الصلة مع إفادة أنه محفوظ مخزون عند المخاطب، والأولى على هذا أن تكون ما موصولة، وهذا الوجه فيه كما في الكشف نبو لفظا ومعنى وسياقا ما لا يخفى على الفطن. إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ لمؤمنون ثابتون على الإيمان وهو إما معلق بشرط كشف العذاب كما في قولهم المحكي في سورة الأعراف لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك أو غير معلق ويجب حينئذ أن يكون هذا منهم في مجلس آخر، وإن قلنا: لم يصدر منهم طلب الدعاء إلا مرة أو أكثر منها لكن على طرز واحد قيل هنا: أرادوا من الاهتداء الإيمان وإرسال بني إسرائيل كما سمعت آنفا فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ أي بدعوته ففي الكلام حذف أي فدعانا بكشف العذاب فكشفناه فلما كشفناه عنهم إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ فاجأهم نكث عهدهم بالاهتداء أو فاجؤوا وقت نكث عهدهم. وقرأ أبو حيوة «ينكثون» بكسر الكاف. وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أي رفع صوته بنفسه فيما بين قومه بذلك القول، ولعله جمع عظماء القبط في محله الذي هو فيه به أن كشف العذاب فنادى فيما بينهم بذلك لتنتشر مقالته في جميع القبط ويعظم في نفوسهم مخافة أن يؤمنوا بموسى عليه السلام ويتركوه. ويجوز أن يكون إسناد النداء إليه مجازا والمراد أمر بالنداء بذلك في الأسواق والأزقة ومجامع الناس وهذا كما الجزء: 13 ¦ الصفحة: 88 يقال بنى الأمير المدينة، وَنادى قيل معطوف على فاجأ المقدر ونزل منزلة اللازم وعدي بفي كقوله: يجرح في عراقيبها نصلي. للدلالة على تمكين النداء فيهم، وعنى بملك مصر ضبطها والتصرف فيها بالحكم ولم يرد مصر نفسها بل هي وما يتبعها وذلك من اسكندرية إلى أسوان كما في البحر، والأنهار الخلجان التي تخرج من النيل المبارك كنهر الملك. ونهر دمياط. ونهر تنيس ولعل نهر طوطون كان منها إذ ذاك لكنه اندرس فجدده أحمد بن طولون ملك مصر في الإسلام وأراد بقوله مِنْ تَحْتِي من تحت أمري. وقال غير واحد كانت أنهار تخرج من النيل وتجري من تحت قصره وهو مشرف عليها، وقيل: كان له سرير عظيم مرتفع تجري من تحته أنهار أخرجها من النيل، وقال قتادة: كانت له جنان وبساتين بين يديه تجري فيها الأنهار، وفسر الضحاك الأنهار بالقواد والرؤساء الجبابرة، ومعنى كونهم يجرون من تحته أنهم يسيرون تحت لوائه ويأتمرون بأمره، وقد أبعد جدا وكذا من فسرها بالأموال ومن فسرها بالخيل وقال: كما يسمى الفرس بحرا يسمى نهرا بل التفاسير الثلاثة تقرب من تفاسير الباطنية فلا ينبغي أن يلتفت إليها، والواو في وَهذِهِ إلخ إما عاطفة لهذه الأنهار على الملك فجملة تجري حال منها أو للحال فهذه مبتدأ والْأَنْهارُ صفة أو عطف بيان وجملة تَجْرِي خبر للمبتدأ وجملة هذه إلخ حال من ضمير التكلم، وجوز أن تكون للعطف وهذِهِ تَجْرِي مبتدأ وخبر والجملة عطف على اسم وخبرها، وقوله: أَفَلا تُبْصِرُونَ على تقدير المفعول أي أفلا تبصرون ذلك أي ما ذكر، ويجوز أن ينزل منزلة اللازم والمعنى أليس لكم بصر أو بصيرة، وقرأ عيسى «تبصرون» بكسر النون فتكون الياء الواقعة مفعولا محذوفة، وقرأ فهد بن الصقر «يبصرون» بياء الغيبة ذكره في الكامل للهزلي والساجي عن يعقوب ذكره ابن خالويه، ولا يخفى ما بين افتخار اللعين بملك مصر ودعواه الربوبية من البعد البعيد، وعن الرشيد أنه لما قرأ هذه الآية قال لأولينها- يعني مصر- أخس عبيدي فولاها الخطيب وكان على وضوئه، وعن عبد الله بن طاهر أنه وليها فخرج إليها فلما شارفها ووقع عليها بصره قال: هي القرية التي افتخر بها فرعون حتى قال: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ والله لهي أقل عندي من أن أدخلها فثنى عنانه أَمْ أَنَا خَيْرٌ مع هذه البسطة والسعة في الملك والمال مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ أي ضعيف حقير أو مبتذل ذليل فهو من المهانة وهي القلة أو الذلة وَلا يَكادُ يُبِينُ أي الكلام، والجمهور أنه عليه السلام كان بلسانه بعض شيء من أثر الجمرة لكن اللعين بالغ. ومن ذهب إلى أن الله تعالى كان أجاب سؤاله حل عقدة من لسانه فلم يبق فيه منها أثر قال: المعنى ولا يكاد يبين حجته الدالة على صدقه فيما يدعى لا أنه لا قدرة له على الإفصاح باللفظ وهو افتراء عليه السلام ألا ترى إلى مناظرته له ورده عليه وإفحامه إياه، وقيل: عابه بما كان به عليه السلام من الحبسة أيام كان عنده وأراد اللعين أنه عليه السلام ليس معه من العدد وآلات الملك والسياسة ما يعتضد به وهو في نفسه مخل بما ينعت به الرجال من اللسان وإبانة الكلام، وأَمْ على ما نقل عن سيبويه والخليل متصلة، وقد نزل السبب بعدها منزلة المسبب على ما ذهب إليه الزمخشري، والمعنى أفلا تبصرون أم تبصرون إلا أنه وضع أَمْ أَنَا خَيْرٌ موضع أم تبصرون. وإيضاح ذلك أن فرعون عليه اللعنة لما قدم أسباب البسطة والرياسة بقوله أَلَيْسَ لِي إلخ وعقبه بقوله أفلا تبصرون استقصارا لهم وتنبيها على أنه من الوضوح بمكان لا يخفى على ذي عينين قال في مقابله: أَمْ أَنَا خَيْرٌ بمعنى أم تبصرون أني أنا المقدم المتبوع، وفي العدول تنبيه على أن هذا الشق هو المسلم لا محالة عندكم فكأنه يحكيه عن لسانهم بعد ما أبصروا وهو أسلوب عجيب وفن غريب، وجعله الزمخشري من إنزال السبب مكان المسبب لأن كونه خيرا في نفسه أن محصلا له أسباب التقدم والملك سبب لأن يقال فيه أنت خير منه وقولهم: أنت خير سبب الجزء: 13 ¦ الصفحة: 89 لكونهم بصراء وسبب السبب قد يقال له سبب فلا يرد ما يقال إن السبب قولهم: أنت خير لا قوله: أنا خير، وقال القاضي البيضاوي: إنه من إنزال المسبب منزلة السبب لأن علمهم بأنه خبر مستفاد من الابصار. وفيه أن المذكور أنا خير لا أم تعلمون أني خير، وله أن يقول: ذلك يغني غناه لأنه جعله مسلما معلوما ما عندهم فقال: أَمْ أَنَا خَيْرٌ لا أم تعلمون كما سلف، ولا يخفى أن ما ذكره الزمخشري أظهر كذا في الكشف، وقال العلامة الثاني في تقرير ذلك: إن قوله: أنا خير سبب لقولهم من جهة بعثه على النظر في أحواله واستعداده لما ادعاه وقولهم: أنت خير سبب لكونهم بصراء عنده فأنا خير سبب له بالواسطة لكن لا يخفى أنه سبب للعلم بذلك والحكم به، وأما بحسب الوجود فالأمر بالعكس لأن إبصارهم سبب لقوله أنت خير فتأمل، وبالجملة إن ما بعد أَمْ مؤول بجملة فعلية معلولة لفظا ومعنى هي ما سمعت ونحو ذلك من حيث التأويل أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ [الأعراف: 123] أي أم صمتم، وقوله: أمخدج اليدين أم أتمت أي أم متما، وقيل: حذف المعادل لدلالة المعنى عليه، والتقدير أفلا تبصرون أم تبصرون أنا خير إلخ، وتعقب بأن هذا لا يجوز إلا إذا كان بعد أم لا نحو أيقوم زيد أم لا أي أم لا يقوم فأما حذفه دون لا فليس من كلامهم، وجوز أن يكون في الكلام طي على نهج الاحتباك والمعنى أهو خير مني فلا تبصرون ما ذكرتكم به أم أنا خير منه لأنكم تبصرونه، ولا ينبغي الالتفات إليه، وجوز غير واحد كون أَمْ منقطعة مقدرة بيل والهمزة التي للتقرير كأن اللعين قال أثر ما عدد أسباب فضله ومبادي خيريته: أثبت عندكم واستقر لديكم أني خير وهذه حالي من هذا إلخ، ورجحه بعضهم لما فيه من عدم التكلف في أمر المعادل اللازم أولا لحسن في المتصلة، وقال السدي. وأبو عبيدة: أم بمعنى بل فيكون قد انتقل من ذلك الكلام إلى إخباره بأنه خير كقول الشاعر: بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى ... وصورتها أم أنت في العين أملح وقال أبو البقاء: إنها منقطعة لفظا متصلة وأراد ما تقدم من التأويل، وليس فيه مخالفة لما أجمع عليه النحاة كما توهم، وجملة «لا يكاد يبين» معطوفة على الصلة أو مستأنفة أو حالية. وقرىء «أما أنا خير» بإدخال الهمزة على ما النافية، وقرأ الباقر رضي الله تعالى عنه «يبين» بفتح الياء من بان إذا ظهر فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ كناية عن تمليكه، قال مجاهد: كانوا إذا سودوا رجلا سوروه بسوارين وطوقوه بطوق ذهب علامة لسؤدده، فقال فرعون هلا ألقى رب موسى عليه أساور من ذهب إن كان صادقا، وهذا من اللعين لزعمه أن الرياسة من لوازم الرسالة كما قال كفار قريش في عظيم القريتين، والأسورة جمع سوار نحو خمار وأخمرة، وقرأ الأعمش «أساور» ورويت عن أبي، وعن أبي عمرو جمع اسورة فهو جمع الجمع، وقرأ الجمهور «أساورة» جمع أسوار بمعنى السوار والهاء عوض من ياء أساوير فإنها تكون في الجمع المحذوف مدته للعوض عنها كما في زنادقة جمع زنديق. وقد قرأ «أساوير» عبد الله وأبي في الرواية المشهورة، وقرأ الضحاك ألقى مبنيا للفاعل أي الله تعالى أساورة بالنصب أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ من قرنته به فاقترن، وفسر بمقرونين أي به لأنه لازم معناه بناء على هذا، وفسر أيضا بمتقارنين من اقترن بمعنى تقارن والاقتران مجاز أو كناية عن الإعانة. ولذا قال ابن عباس: يعينونه على من خالفه، وقيل: عن التصديق ولولا ذلك لم يكن لذكره بعد قوله معه فائدة، وهو الأول حسي وعلى الثاني معنوي، وقيل: متقارنين بمعنى مجتمعين كثيرين، وعن قتادة متتابعين. فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فطلب منهم الخفة في مطاوعته على أن السين للطلب على حقيقتها، ومعنى الخفة السرعة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 90 لإجابته ومتابعته كما يقال هم خفوف إذا دعوا وهو مجاز مشهور وقال ابن الأعرابي استخف أحلامهم أي وجدهم خفيفة أحلامهم أي قليلة عقولهم فصيغة الاستفعال للوجدان كالأفعال كما يقال أحمدته وجدته محمودا وفي نسبته ذلك للقوم تجوز. فَأَطاعُوهُ فيما أمرهم به إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ فلذلك سارعوا إلى طاعة ذلك الفاسق الغوي فَلَمَّا آسَفُونا أي أسخطونا كما قال علي كرم الله تعالى وجهه. وفي معناه ما قيل أي أغضبونا أشد الغضب أي بأعمالهم. والغضب عند الخلف مجاز عن إرادة العقوبة فيكون صفة ذات أو عن العقوبة فيكون صفة فعل. وقال أبو عبد الله الرضا رضي الله تعالى عنه: إن الله سبحانه لا يأسف كأسفنا ولكن له جل شأنه أولياء يأسفون ويرضون فجعل سبحانه رضاهم رضاه وغضبهم غضبه تعالى، وعلى ذلك قال عز وجل: «من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة» وقال سبحانه: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء: 80] وعليه قيل: المعنى فلما أسفوا موسى عليه السلام ومن معه، والسلف لا يؤولون ويقولون: الغضب فينا انفعال نفساني وصفاته سبحانه ليست كصفاتنا بوجه من الوجوه، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير الأسف بالحزن وأنه قال هنا: أي أحزنوا أولياءنا المؤمنين نحو السحرة وبني إسرائيل. وذكر الراغب أن الأسف الحزن والغضب معا وقد يقال لكل منهما على الانفراد، وحقيقته ثوران دم القلب شهوة الانتقام فمتى كان ذلك على من دونه انتشر فصار غضبا ومتى كان على من فوقه انقبض فصار حزنا، ولذلك سئل ابن عباس عنهما فقال: مخرجهما واحد واللفظ مختلف فمن نازع من يقوى عليه أظهره غيظا وغضبا ومن نازع من لا يقوى عليه أظهره حزنا وجزعا، وبهذا النظر قال الشاعر: فحزن كل أخي حزن أخو الغضب انتهى، وعلى جميع الأقوال آسف منقول بالهمزة من أسف. انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ في اليم فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً قال ابن عباس وزيد بن أسلم. وقتادة أي متقدمين إلى النار. وقال غير واحد: قدوة للكفار الذين بعدهم يقتدون بهم في استيجاب مثل عقابهم ونزوله بهم، والكلام على الاستعارة لأن الخلف يقتدي بالسلف فلما اقتدوا بهم في الكفر جعلوا كأنهم اقتدوا بهم في معلول الغضب وهو مصدر نعت به ولذا يصح إطلاقه على القليل والكثير، وقيل: جمع سالف كحارس وحرس وخادم وخدم وهذا يحتمل أن يراد بالجمع فيه ظاهره ويحتمل أن يراد به اسم الجمع فإن فعلا ليس من أبنية الجموع لغلبته في المفردات، والمشهور في جمعه أسلاف وجاء سلاف أيضا. وقرأ أبو عبد الله وأصحابه وسعيد بن عياض والأعمش والأعرج وطلحة وحمزة والكسائي «سلفا» بضمتين جمع سليف كفريق لفظا ومعنى، سمع القاسم بن معن العرب تقول: مضى سليف من الناس يعنون فريقا، منهم وقيل: جمع سلف كصبر جمع صابر أو جمع سلف كجنب. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه ومجاهد والأعرج أيضا «سلفا» بضم ففتح إما على أنه أبدلت فيه ضمة اللام فتحة تخفيفا كما يقال في جدد بضم الدال جدد بفتحها أو على أنه جمع سلفة بمعنى الأمة والجماعة من الناس أي فجعلناهم أمة سلفت، والسلف بالضم فالفتح في غير هذا ولد القبج والجمع سلفان كصردان ويضم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 91 وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ أي عظة لهم، والمراد بهم الكفار بعدهم، والجار متعلق على التنازع بسلفا ومثلا، ويجوز أن يراد بالمثل القصة العجيبة التي تسير مسير الأمثال ومعنى كونهم مثلا للكفار أن يقال لهم: مثلكم مثل قوم فرعون، ويجوز تعلق الجار بالثاني وتعميم الآخرين بحيث يشمل المؤمنين، وكونهم قصة عجيبة للجميع ظاهر وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إلخ بيان لعناد قريش بالباطل والرد عليهم، فقد روي أن عبد الله بن الزبعري قبل إسلامه، قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم وقد سمعه يقول: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98] أليست النصارى يعبدون المسيح وأنت تقول كان نبيا وعبدا من عباد الله تعالى صالحا فإن كان في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معه ففرح قريش وضحكوا وارتفعت أصواتهم وذلك قوله تعالى: إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ فالمعنى ولما ضرب ابن الزبعرى عيسى ابن مريم مثلا وحاجك بعبادة النصارى إياه إذا قومك من ذلك ولأجله يرتفع لهم جلبة وضجيج فرحا وجدلا، والحجة لما كانت تسير مسير الأمثال شهرة قيل لها مثل أو المثل بمعنى المثال أي جعله مقياسا وشاهدا على إبطال قوله عليه الصلاة والسلام: إن آلهتهم من حصب جهنم، وجعل عيسى عليه السلام نفسه مثلا من باب «الحج عرفة» . وقرأ أبو جعفر والأعرج والنخعي وأبو رجاء وابن وثاب وابن عامر ونافع والكسائي «يصدّون» بضم الصاد من الصدود، وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه ، وأنكر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هذه القراءة وهو قبل بلوغه تواترها، والمعنى عليها إذا قومك من أجل ذلك يعرضون عن الحق بالجدل بحجة داحضة واهية، وقيل: المراد يثبتون على ما كانوا عليه من الإعراض. وقال الكسائي والفراء: يصدون بالكسر ويصدون بالضم لغتان بمعنى واحد مثل يعرشون ويعرشون ومعناهما يضجون، وجوز أن يكون يعرضون وَقالُوا تمهيدا لما بنوا عليه من الباطل المموه بما يغتر به السفهاء أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ أي ظاهر عندك أن عيسى عليه السلام خير من آلهتنا فحيث كان هو في النار فلا بأس بكونها وإيانا فيها، وحقق الكوفيون الهمزتين همزة الاستفهام والهمزة الأصلية وسهل باقي السبعة الثانية بين بين، وقرأ ورش في رواية أبي الأزهر بهمزة واحدة على مثال الخبر، والظاهر أنه على حذف همزة الاستفهام، وقوله تعالى: ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ إبطال لباطلهم إجمالا اكتفاء بما فصل في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ [الأنبياء: 101] وتنبيها على أنه مما لا يذهب على ذي مسكة بطلانه فكيف على غيره ولكن العناد يعمي ويصم أي ما ضربوا لك ذلك إلا لأجل الجدال والخصام لا لطلب الحق فإنه في غاية البطلان بل هم قوم لد شداد الخصومة مجبولون على المحك أي سؤال الخلق واللجاج، فجدلا منتصب على أنه مفعول لأجله، وقيل: هو مصدر في موضع الحال أي مجادلين، وقرأ ابن مقسم «جدالا» بكسر الجيم وألف بعد الدال، وقوله تعالى: إِنْ هُوَ أي ما عيسى ابن مريم إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ بالنبوة وروادفها فهو مرفوع المنزلة على القدر لكن ليس له من استحقاق المعبودية من نصيب، كلام حكيم مشتمل على ما اشتمل عليه قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ ولكن على سبيل الرمز وعلى فساد رأي النصارى في إيثارهم عبادته عليه السلام تعريضا بمكان عبادة قريش غيره سبحانه وتعالى، وقوله تعالى: وَجَعَلْناهُ مَثَلًا أي أمرا عجيبا حقيقا بأن يسير ذكره كالأمثال السائرة لِبَنِي إِسْرائِيلَ حيث خلقناه من غير أب وجعلنا له من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ونحو ذلك ما لم نجعل لغيره في زمانه، كلام أجمل فيه وجه الافتتان به وعليه، ووجه دلالته على قدرة خالقه تعالى شأنه وبعد استحقاقه عليه السلام عما قرف به إفراطا وتفريطا، وقوله سبحانه: وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا إلخ تذييل لوجه دلالته على القدرة وأن الافتتان من عدم التأمل وتضمين للإنكار على من اتخذ الملائكة آلهة كما اتخذ عيسى عليهم السلام أي ولو نشاء لقدرتنا على عجائب الأمور وبدائع الفطر لجعلنا بطريق التوليد ومآله لولدنا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 92 مِنْكُمْ يا رجال مَلائِكَةً كما ولدنا عيسى من غير أب فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ أي يخلفونكم في الأرض كما يخلفكم أولادكم أو يكونون خلفا ونسلا لكم ليعرف تميزنا بالقدرة الباهرة وليعلم أن الملائكة ذوات ممكنة تخلق توليدا كما تخلق إبداعا فمن أين لهم استحقاق الألوهية والانتساب إليه سبحانه وتعالى بالبنوة، وجوز أن يكون معنى لجعلنا إلخ لحولنا بعضكم ملائكة فمن ابتدائية أو تبعيضية ومَلائِكَةً مفعول ثان أو حال، وقيل: من للبدل كما في قوله تعالى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ [التوبة: 38] وقوله: ولم تذق من البقول الفستقا أي ولو نشاء لجعلنا بدلكم ملائكة يكونون مكانكم بعد إذهابكم، وإليه يشير كلام قتادة ومجاهد، والمراد بيان كمال قدرته تعالى لا التوعد بالاستئصال وإن تضمنه فإنه غير ملائم للمقام، وقيل: لا مانع من قصدهما معا نعم كثير من النحويين لا يثبتون لمن معنى البدلية ويتأولون ما ورد مما يوهم ذلك والأظهر ما قرر أولا. وذكر العلامة الطيبي عليه الرحمة أن قوله تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ إلخ جواب عن جدل الكفرة في قوله سبحانه: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ إلخ وإن تقريره ان جدلكم هذا باطل لأنه عليه السلام ما دخل في ذلك النص الصريح لأن الكلام معكم أيها المشركون وأنتم المخاطبون به وإنما المراد بما تعبدون الأصنام التي تنحتونها بأيديكم وأما عيسى عليه السلام فما هو إلا عبد مكرم منعم عليه بالنبوة مرفوع المنزلة والذكر مشهور في بني إسرائيل كالمثل السائر فمن أين تدخل في قولنا: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ثم لا اعتراض علينا أن نجعل قوما أهلا للنار وآخرين أهلا للجنة إذ لو نشاء لجعلنا منكم ومن أنفسكم أيها الكفرة ملائكة أي عبيدا مكرمون مهتدون وإلى الجنة صائرون كقوله تعالى: وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها [السجدة: 13] اهـ. وعلى ما ذكرنا أن الكلام في إبطال قد تم عند قوله تعالى: خَصِمُونَ وما بعد لما سمعت قبل وهو أدق وأولى مما ذكره بل ما أشار إليه من أن قوله تعالى: وَلَوْ نَشاءُ إلخ لنفي الاعتراض ليس بشيء. وروي أن ابن الزبعرى قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم حين سمع قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98] أهذا لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم فقال: خصمتك ورب الكعبة أليست النصارى يعبدون المسيح، واليهود عزيرا، وبنو مليح الملائكة؟ فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم ففرحوا وضحكوا وسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ [الأنبياء: 101] الآية أو نزلت هذه الآية ، وأنكر بعضهم السكوت، وذكر أن ابن الزبعرى حين قال للنبي عليه الصلاة والسلام: خصمتك رد عليه صلّى الله عليه وسلّم بقوله ما أجهلك بلغة قومك أما فهمت أن ما لما يعقل ، وروى محيي السنة في المعالم أن ابن الزبعرى قال له عليه الصلاة والسلام: أنت قلت: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ؟ قال: نعم قال: أليست اليهود تعبد عزيرا والنصارى تعبد المسيح وبنو مليح يعبدون الملائكة؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: بل هم يعبدون الشيطان فأنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى وهذا أثبت من الخبر الذي قبله. وتعقب ما تقدم في الخبر السابق من سؤال ابن الزبعرى أهذا لنا إلخ، وقوله عليه الصلاة والسلام: هو لكم إلخ بأنه ليس بثبت. وذكر من أثبته أنه صلّى الله عليه وسلّم إنما لم يجب حين سئل عن الخصوص والعموم بالخصوص عملا بما تقتضيه كلمة ما لأن إخراج المعهودين عن الحكم عند المحاجة وهم للرخصة في عبادتهم في الجملة فعممه عليه الصلاة والسلام للكل لكن لا بطريق عبارة النص بل بطريق الدلالة بجامع الاشتراك في المعبودية من دون الله تعالى ثم بين أنهم بمعزل من أن يكونوا معبوديهم بما جاء في خبر محيي السنة من قوله عليه الصلاة والسلام: بل هم يعبدون الشيطان كما الجزء: 13 ¦ الصفحة: 93 نطق به قوله تعالى: سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ [سبأ: 41] الآية، وقد تقدم ما ينفعك تذكره فتذكر. وفي الدر المنثور أخرج الإمام أحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لقريش: إنه ليس أحد يعبد من دون الله تعالى فيه خير فقالوا: ألست تزعم أن عيسى كان نبيا وعبدا من عبد الله تعالى صالحا فإن كنت صادقا فإنه كآلهتنا فأنزل الله سبحانه: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إلخ، والكلام في الآيات على هذه الرواية يعلم مما تقدم بأدنى التفات، وقيل: إن المشركين لما سمعوا قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ [آل عمران: 59] قالوا: نحن أهدى من النصارى لأنهم عبدوا آدميا ونحن نعبد الملائكة فنزلت، فالمثل ما في قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى الآية والضارب هو تعالى شأنه أي ولما بين الله سبحانه حاله العجيبة اتخذه قومك ذريعة إلى ترويج ما هم فيه من الباطل بأنه مع كونه مخلوقا بشرا قد عبد فنحن أهدى حيث عبدنا ملائكة مطهرين مكرمين عليه وهو الذي عنوه بقولهم: أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ فأبطل الله تعالى ذلك بأنه مقايسة باطل بباطل وأنهم في اتخاذهم العبد المنعم عليه إلها مبطلون مثلكم في اتخاذ الملائكة وهم عباد مكرمون، ثم قال سبحانه: وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ دلالة على أن الملائكة عليهم السلام مخلوقون مثله وأنه سبحانه قادر على أعجب من خلق عيسى عليه السلام وأنه لا فرق في ذلك بين المخلوق توالدا وإبداعا فلا يصلح القسمان للإلهية. وفي رواية عن ابن عباس وقتادة أنه لما نزل قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى الآية قالت قريش: ما أراد محمد صلّى الله عليه وسلّم من ذكر عيسى عليه السلام إلا أن نعبده كما عبدت النصارى عيسى. ومعنى يصدون يضجون ويضجرون، والضمير في أَمْ هُوَ لنبينا عليه الصلاة والسلام، وغرضهم بالموازنة بينه صلّى الله عليه وسلّم وبين آلهتهم الاستهزاء به عليه الصلاة والسلام، وقوله تعالى: وَلَوْ نَشاءُ إلخ رد وتكذيب لهم في افترائهم عليه صلّى الله عليه وسلّم ببيان أن عيسى عليه السلام في الحقيقة وفيما أوحى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ليس إلا أنه عبد منعم عليه كما ذكر فكيف يرضى صلّى الله عليه وسلّم بمعبوديته أو كيف يتوهم الرضا بمعبودية نفسه ثم بين جل شأنه أن مثل عيسى ليس ببدع من قدرة الله تعالى وأنه قادر على أبدع منه وأبدع مع التنبيه على سقوط الملائكة عليهم السلام أيضا عن درجة المعبودية بقوله سبحانه: وَلَوْ نَشاءُ إلخ وفيه أن الدلالة على ذلك المعنى غير واضحة، وكذلك رجوع الضمير إلى نبينا عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى: أَمْ هُوَ مع رجوعه إلى عيسى في قوله سبحانه: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ وفيه من فك النظم ما يجب أن يصان الكتاب المعجز عنه، ولا يكاد يقبل القول برجوع الضمير الثاني إليه صلّى الله عليه وسلّم، ولعل الرواية عن الخبر غير ثابتة، وجوز أن يكون مرادهم التنصل عما أنكر عليهم من قولهم: الملائكة عليهم السلام بنات الله سبحانه ومن عبادتهم إياهم كأنهم قالوا: ما قلنا بدعا من القول ولا فعلنا منكرا من الفعل فإن النصارى جعلوا المسيح ابن الله عز وجل فنحن أشف منهم قولا وفعلا حيث نسبنا إليه تعالى الملائكة عليهم السلام وهم نسبوا إليه الأناسي، وقوله تعالى: وَلَوْ نَشاءُ إلخ عليه كما في الوجه الثاني وَإِنَّهُ أي عيسى عليه السلام لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ أي إنه بنزوله شرط من أشراطها أو بحدوثه بغير أب أو بإحيائه الموتى دليل على صحة البعث الذي هو معظم ما ينكره الكفرة من الأمور الواقعة في الساعة، وأيا ما كان فعلم الساعة مجاز عما تعلم به والتعبير به للمبالغة. وقرأ أبي «لذكر» وهو مجاز كذلك. وقرأ ابن عباس وأبو هريرة وأبو مالك الغفاري وزيد بن علي وقتادة ومجاهد والضحاك ومالك بن دينار والأعمش والكلبي قال ابن عطية وأبو نصرة «لعلم» بفتح العين واللام أي لعلامة. وقرأ عكرمة قال ابن خالويه وأبو نصرة «لا لعلم» معرفا بفتحتين والحصر إضافي، وقيل: باعتبار أنه أعظم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 94 العلامات، وقد نطقت الأخبار بنزوله عليه السلام فقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينزلن ابن مريم حكما عدلا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية وليتركن القلاص فلا يسقى عليها وليذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد» ، وفي رواية «وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ينزل بين ممصرتين كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل فليقاتل الناس على الإسلام» وفيه «ويهلك المسيح الدجال» وفي أخرى قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم» وفي رواية «فأمكم منكم» قال ابن أبي ذئب: تدري ما أمكم منكم؟ قال: تخبرني قال: فأمكم بكتاب ربكم عز وجل وسنة نبيكم صلّى الله عليه وسلّم، والمشهور نزوله عليه السلام بدمشق والناس في صلاة الصبح فيتأخر الإمام وهو المهدي فيقدمه عيسى عليه السلام ويصلي خلفه ويقول: إنما أقيمت لك. وقيل بل يتقدم هو ويؤم الناس والأكثرون على اقتدائه بالمهدي في تلك الصلاة دفعا لتوهم نزوله ناسخا وأما في غيرها فيؤم هو الناس لأنه الأفضل والشيعة تأبى ذلك. وفي بعض الروايات أنه عليه السلام ينزل على ثنية يقال لها أفيق بفاء وقاف بوزن أمير وهي هنا مكان بالقدس الشريف نفسه ويمكث في الأرض على ما جاء في رواية عن ابن عباس أربعين سنة وفي رواية سبع سنين قيل والأربعون إنما هي مدة مكثه قبل الرفع وبعده ثم يموت ويدفن في الحجرة الشريفة النبوية، وتمام الكلام في البحور الزاخرة للسفاريني، وعن الحسن وقتادة وابن جبير أن ضمير إِنَّهُ للقرآن لما أن فيه الإعلام بالساعة فجعله عين العلم مبالغة أيضا، وضعف بأنه لم يجر للقرآن ذكر هنا مع عدم مناسبة ذلك للسياق، وقالت فرقة: يعود على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقد قال عليه الصلاة والسلام: «بعثت أنا والساعة كهاتين» وفيه من البعد ما فيه. وكأن هؤلاء يجعلون ضمير أَمْ هُوَ وضمير إِنْ هُوَ له صلّى الله عليه وسلّم أيضا وهو كما ترى فَلا تَمْتَرُنَّ بِها فلا تشكن في وقوعها وَاتَّبِعُونِ أي واتبعوا هداي أو شرعي أو رسولي، وقيل: هو قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم مأمورا من جهته عز وجل فهو بتقدير القول أي وقل اتبعوني هذا أي الذي أدعوكم إليه أو القرآن على أن الضمير في «إنه» له صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ موصل إلى الحق وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ عن اتباعي إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ أي بين العداوة أو مظهرها حيث أخرج أباكم من الجنة وعرضكم للبلية وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ بالأمور الواضحات وهي المعجزات أو آيات الإنجيل أو الشرائع ولا مانع من إرادة الجميع قالَ لبني إسرائيل قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ أي الإنجيل كما قال القشيري: والماوردي، وقال السدي. بالنبوة، وفي رواية أخرى عنه هي قضايا يحكم بها العقل، وقال أبو حيان. أي بما تقتضيه الحكمة الإلهية من الشرائع، وقال الضحاك: أي بالموعظة وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ متعلق بمقدر أي وجئتكم لأبين لكم، ولم يترك العاطف ليتعلق بما قبله ليؤذن بالاهتمام بالعلة حيث جعلت كأنها كلام برأسه. وفي الإرشاد هو عطف على مقدر ينبىء عنه المجيء بالحكمة كأنه قيل قد جئتكم بالحكمة لأعلمكم إياها ولأبين لكم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ وهو أمر الديانات وما يتعلق بالتكليف دون الأمور التي لم يتعبدوا بمعرفتها ككيفية نضد الأفلاك وأسباب اختلاف تشكلات القمر مثلا فإن الأنبياء عليهم السلام لم يبعثوا لبيان ما يختلف فيه من ذلك ومثلها ما يتعلق بأمر الدنيا ككيفية الزراعة وما يصلح الزرع وما يفسده مثلا فإن الأنبياء عليهم السلام لم يبعثوا لبيانه أيضا كما يشير إليه قوله صلّى الله عليه وسلّم في قصة تأبير النخل «أنتم أعلم بأمور دنياكم» . وجوز أن يراد بهذا البعض بعض أمور الدين المكلف بها وأريد بالبيان البيان على سبيل التفصيل وهي لا يمكن بيان جميعها تفصيلا وبعضها مفوض للاجتهاد، وقال أبو عبيدة: المراد بعض الذي حرم عليهم وقد أحل عليهم السلام الجزء: 13 ¦ الصفحة: 95 لهم لحوم الإبل والشحم من كل حيوان وصيد السمك يوم السبت، وقال مجاهد: بعض الذي يختلفون فيه من تبديل التوراة، وقال قتادة: لأبين لكم اختلاف الذين تحزبوا في أمره عليه السلام فَاتَّقُوا اللَّهَ من مخالفتي وَأَطِيعُونِ فيما أبلغه عنه تعالى إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ بيان لما أمرهم بالطاعة فيه وهو اعتقاد التوحيد والتعبد بالشرائع هذا أي هذا التوحيد والتعبد بالشرائع صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ لا يضل سالكه، وهو إما من تتمة كلام عيسى عليه السلام أو استئناف من الله تعالى مقرر لمقالة عيسى عليه السلام. فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ الفرق المتحزبة مِنْ بَيْنِهِمْ من بين من بعث إليهم وخاطبهم بما خاطبهم من اليهود والنصارى وهم أمة دعوته عليه السلام، وقيل: المراد النصارى وهم أمة إجابته عليه السلام، وقد اختلفوا فرقا ملكانية ونسطورية ويعقوبية فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا من المختلفين وهم الذين لم يقولوا: إنه عبد الله ورسوله مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ هو يوم القيامة وأليم صفة عذاب أو يوم على الإسناد المجازي. هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ الضمير لقريش، وأن تأتيهم بدل من الساعة، والاستثناء مفرغ، وجوز جعل إلا بمعنى غير والاستفهام للإنكار وينظرون بمعنى ينتظرون أي ما ينتظرون شيئا إلا إتيان الساعة فجأة وهم غافلون عنها، وفي ذلك تهكم بهم حيث جعل إتيان الساعة كالمنتظر الذي لا بد من وقوعه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 96 ولما جاز اجتماع الفجأة والشعور وجب أن يقيد ذلك بقوله سبحانه: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ لعدم إغناء الأول عنه فلا استدراك، وقيل: يجوز أن يراد بلا يشعرون الإثبات لأن الكلام وارد على الإنكار كأنه قيل: هل يزعمون أنها تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون أي لا يكون ذلك بل تأتيهم وهم فطنون، وفيه ما فيه، وقيل: ضمير يَنْظُرُونَ للذين ظلموا، وقيل: للناس مطلقا وأيد بما أخرجه ابن مردويه عن أبي سعيد قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: تقوم الساعة والرجلان يحلبان النعجة والرجلان يطويان الثوب ثم قرأ عليه الصلاة والسلام هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ الظرف متعلق بعدو والفصل لا يضره، والمراد أن المحبات تنقطع يوم إذ تأتيهم الساعة ولا يبقى إلا محبة المتقين وهم المتصادقون في الله عن وجل لما أنهم يرون ثواب التحاب في الله عن وجل لما أنهم يرون ثواب التحاب في الله تعالى، واعتبار الانقطاع لأن الخل حال كونه خلّا محال أن يصير عدوا. وقيل: المعنى الأخلاء تنقطع خلتهم ذلك اليوم إلا المجتنبين أخلاء السوء، والفرق بين الوجهين أن المتقي في الأول هو المحب لصاحبه في الله تعالى فاتقى الحب أن يشوبه غرض غير إلهي، وفي الثاني هو من اتقى صحبة الأشرار. والاستثناء فيهما متصل، وجوز أن يكون يومئذ متعلقا بالأخلاء والمراد به في الدنيا ومتعلق عدو مقدر أي في الآخرة والآية قيل نزلت في أبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ حكاية لما ينادى به المتقون المتحابون في الله تعالى يومئذ فهو بتقدير قول أي فيقال لهم يا عبادي إلخ أو فأقول: لهم بناء على أن المنادي هو الله عز وجل تشريفا لهم، وعن المعتمر بن سليمان أن الناس حين يبعثون ليس منهم أحدا لا يفزع فينادي مناد يا عباد إلخ فيرجوها الناس كلهم فيتبعها قوله تعالى الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ فييأس منها الكفار، فيا عباد عام مخصوص إما بالآية السابقة وإما باللاحقة، والأول أوفق من أوجه عديدة. والموصول إما صفة للمنادى أو بدل أو مفعول لمقدر أي أمدح ونحوه، وجملة وَكانُوا مُسْلِمِينَ حال من ضمير آمَنُوا بتقدير قد أو بدونه، وجوز عطفها على الصلة، ورجحت الحالية بأن الكلام عليها أبلغ لأن المراد بالإسلام هنا الانقياد والإخلاص ليفيد ذكره بعد الإيمان فإذا جعل حالا أفاد بعد تلبسهم به في الماضي اتصاله بزمان الإيمان، وكان تدل على الاستمرار أيضا ومن هنا جاء التأكيد والأبلغية بخلاف العطف، وكذا الحال المفردة بأن يقال: الذين آمنوا بآياتنا مخلصين، وقرأ غير واحد من السبعة «يا عبادي» بالياء على الأصل، والحذف كثير شائع وبه قرأ حفص وحمزة والكسائي، وقرأ ابن محيصن «لا خوف» بالرفع من غير تنوين، والحسن والزهري وابن أبي إسحاق وعيسى وابن يعمر ويعقوب بفتحها من غير تنوين ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ نساؤكم المؤمنات فالإضافة للاختصاص التام فيخرج من لم يؤمن منهن تُحْبَرُونَ تسرون سرورا يظهر حباره أي أثره من النضرة والحسن على وجوهكم كقوله تعالى: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين: 24] أو تزينون من الحبر بفتح الحاء وكسرها وهو الزينة وحسن الهيئة وهذا متحد بما قبله معنى والفرق في المشتق منه، وقال الزجاج: أي تكرمون إكراما يبالغ فيه، والحبرة بالفتح المبالغة في الفعل الموصوف بأنه جميل ومنه الإكرام فهو في الأصل عام أريد به بعض أفراده هنا يُطافُ عَلَيْهِمْ بعد دخولهم الجنة حيثما أمروا به بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ كذلك، والصحاف جمع صحفة قيل هي كالقصعة، وقيل: أعظم أواني الأكل الجفنة ثم القصعة ثم الصحفة ثم الكيلة. والأكواب جمع كوب وهو كوز لا عروة له، وهذا معنى قول مجاهد لا أذن له، وهو على ما روي عن قتادة دون الإبريق، وقال: بلغنا أنه مدور الرأس ولما كانت أواني المأكول أكثر بالنسبة لأواني المشروب عادة جمع الأول جمع الجزء: 13 ¦ الصفحة: 97 كثرة والثاني جمع قلة، وقد تظافرت الأخبار بكثرة الصحاف، أخرج ابن المبارك وابن أبي الدنيا في صفة الجنة والطبراني في الأوسط بسند رجاله ثقات عن أنس قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إن أسفل أهل الجنة أجمعين درجة لمن يقوم على رأسه عشرة آلاف خادم بيد كل واحد صحفتان واحدة من ذهب والأخرى من فضة في كل واحدة لون ليس في الأخرى مثله يأكل من آخرها مثل ما يأكل من أولها يجد لآخرها من الطيب واللذة مثل الذي يجد لأولها ثم يكون ذلك كرشح المسك الأذفر لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون إخوانا على سرر متقابلين» وفي حديث رواه عكرمة «إن أدنى أهل الجنة منزلة وأسفلهم درجة لرجل لا يدخل بعده أحد يفسح له في بصره مسيرة عام في قصور من ذهب وخيام من لؤلؤ ليس فيها موضع شبر إلا معمور يغدي عليه كل يوم ويراح بسبعين ألف صحفة في كل صحفة لون ليس في الأخرى مثله شهوته في آخرها كشهوته في أولها لو نزل عليه جميع أهل الأرض لوسع عليهم مما أعطى لا ينقص ذلك مما أوتي شيئا» وروى ابن أبي شيبة هذا العدد عن كعب أيضا، وإذا كان ذلك للأدنى فما ظنك بالأعلى، رزقنا الله تعالى ما يليق بجوده وكرمه. وأمال أبو الحرث عن الكسائي كما ذكر ابن خالويه بصحاف وَفِيها أي في الجنة ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ من فنون الملاذ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ أي تستلذ وتقر بمشاهدته، وذكر ذلك الشامل لكل لذة ونعيم بعد ذكر الطواف عليهم بأواني الذهب الذي هو بعض من التنعم والترفه تعميم بعد تخصيص كما أن ذكر لذة العين التي هي جاسوس النفس بعد اشتهاء النفس تخصيص بعد تعميم، وقال بعض الأجلة: إن قوله تعالى: يُطافُ عَلَيْهِمْ بصحاف دل على الأطعمة وَأَكْوابٍ على الأشربة، ولا يبعد أن يحمل قوله سبحانه: وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ على المنكح والملبس وما يتصل بهما ليتكامل جميع المشتهيات النفسانية فبقيت اللذة الكبرى وهي النظر إلى وجه الله تعالى الكريم فكني عنه بقوله عز وجل وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ولهذا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه النسائي عن أنس: «حبب إليّ الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة» وقال قيس بن ملوح: ولقد هممت بقتلها من حبها ... كيما تكون خصيمتي في المحشر حتى يطول على الصراط وقوفنا ... وتلذ عيني من لذيذ المنظر ويوافق هذا قول الإمام جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: شتان بين ما تشتهي الأنفس وبين ما تلذ الأعين لأن جميع ما في الجنة من النعيم والشهوات في جنب ما تلذ الأعين كأصبع تغمس في البحر لأن شهوات الجنة لها حد ونهاية لأنها مخلوقة ولا تلذ عين في الدار الباقية إلا بالنظر إلى الباقي جل وعز ولا حد لذلك ولا صفة ولا نهاية انتهى، ويعلم مما ذكر أن المعنى على اعتبار وفيها ما تلذ الأعين وعلى ذلك بنى الزمخشري قوله: هذا حصر لأنواع النعم لأنها إما مشتهاة في القلوب أو مستلذة في الأعين، وتعقبه في الكشف فقال: فيه نظر لانتقاضه بمستلذات سائر المشاعر الخمس، فإن قيل: إنها من القسم الأول قلنا: مستلذ العين كذلك فالوجه أنه ذكر تعظيما لنعيمها بأنه مما يتوافق فيه القلب والعين وهو الغاية عندهم في المحبوب لأن العين مقدمة القلب وهذا قول بأنه ليس في الجملة الثانية اعتبار موصول آخر بل هي والجملة قبلها صلتان لموصول واحد وهو المذكور، وما تقدم هو الذي يقتضيه كلام الأكثرين، وحذف الموصول في مثل ذلك شائع، ولا مانع من إدخال النظر إلى وجهه تعالى الكريم فيما تلذ الأعين على ما ذكرناه أولا، و «أل» في الأنفس والأعين للاستغراق على ما قيل، ولا فرق بين جمع القلة والكثرة. ولعل من يقول: بأن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع ويفرق بين الجمعين في المبدأ والمنتهى يقول: بأن استغراق جمع القلة أشمل من استغراق جمع الكثرة، وقيل: هي للعهد، وقيل: عوض عن المضاف إليه أي ما الجزء: 13 ¦ الصفحة: 98 تشتهيه أنفسهم وتلذ أعينهم، وجمع النفس والعين الباصرة على أفعل في كلامهم أكثر من جمعهما على غيره بل ليس في القرآن الكريم جمع الباصرة إلا على ذلك، وما أنسب هذا الجمع هنا لمكان الْأَخِلَّاءُ وحمل ما تشتهيه النفس على المنكح والملبس وما يتصل بهما خلاف الظاهر. وفي الأخبار أيضا ما هو ظاهر في العموم، أخرج ابن أبي شيبة والترمذي وابن مردويه عن بريدة قال: «جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: هل في الجنة خيل فإنها تعجبني؟ قال: إن أحببت ذلك أتيت بفرس من ياقوتة حمراء فتطير بك في الجنة حيث شئت، فقال له رجل: إن الإبل تعجبني فهل في الجنة من إبل؟ فقال: يا عبد الله إن أدخلت الجنة فلك فيها ما تشتهي نفسك ولذت عينك» . وأخرج أيضا نحوه عن عبد الرحمن بن سابط وقال: هو أصح من الأول، وجاء نحوه أيضا في روايات أخر فلا يضره ما قيل من ضعف إسناده، ولا يشكل على العموم أن اللواطة (1) مثلا لا تكون في الجنة لأن ما لا يليق أن يكون فيها لا يشتهى بل قيل في خصوص اللواطة أنه لا يشتهيها في الدنيا الأنفس السليمة. واختلف الناس هل يكون في الجنة حمل أم لا فذهب بعض إلى الأول، فقد أخرج الإمام أحمد وهناد والدارمي وعبد بن حميد وابن ماجه وابن حبان والترمذي وحسنه وابن المنذر والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري قال: «قلنا يا رسول الله إن الولد من قرة العين وتمام السرور فهل يولد لأهل الجنة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إن المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة كما يشتهي» وذهب طاوس وإبراهيم النخعي ومجاهد وعطاء وإسحاق بن إبراهيم إلى الثاني. فقد روي عن أبي رزين العقيلي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن أهل الجنة لا يكون لهم ولد» وفي حديث لقيط الطويل الذي رواه عبد الله ابن الإمام أحمد وأبو بكر بن عمرو وأبو أحمد محمد بن أحمد بن إبراهيم والطبراني وابن حبان ومحمد بن إسحاق ابن منده وابن مردويه وأبو نعيم وجماعة من الحفاظ وتلقاه الأئمة بالقبول وقال فيه ابن منده: لا ينكر هذا الحديث إلا جاحد أو جاهل أو مخالف للكتاب والسنة قلت: «يا رسول الله أو لنا فيها- يعني الجنة- أزواج أو منهن مصلحات؟ قال: المصلحات للمصلحين تلذذونهن ويلذذنكم مثل لذاتكم في الدنيا غير أن لا توالد» . وقال مجاهد وعطاء قوله تعالى: وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ [البقرة: 25، النساء: 57] أي مطهرة من الولد والحيض والغائط والبول ونحوها، وقال إسحاق بن إبراهيم في حديث أبي سعيد السابق: إنه على معنى إذا اشتهى المؤمن الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة كما يشتهي ولكن لا يشتهي، وتعقب بأن (إذا) لمتحقق الوقوع ولو أريد ما ذكر لقيل: لو اشتهى، وفي حادي الأرواح إسناد حديث أبي سعيد على شرط الصحيح فرجاله يحتج بهم فيه ولكنه غريب جدا. وقال السفاريني في البحور الزاخرة: حديث أبي سعيد أجود أسانيده إسناد الترمذي وقد حكم عليه بالغرابة وأنه لا يعرف إلا من حديث أبي الصديق التاجي وقد اضطرب لفظه فتارة يروى عنه إذا اشتهى الولد وتارة أنه يشتهي الولد وتارة أن الرجل ليولد له، وإذا قد تستعمل لمجرد التعليق الأعم من المحقق وغيره، ورجح القول بعدم الولادة بعشرة وجوه مذكورة فيها، وأنا أختار القول بالولادة كما نطق بها حديث أبي سعيد وقد قال فيه الأستاذ أبو   (1) وقيل: إن أهل الجنة لا أدبار لهم اهـ منه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 99 سهل فيما نقله الحاكم: إنه لا ينكره إلا أهل الزيغ، وفيه غير إسناد، وليس تكون الولد على الوجه المعهود في الدنيا بل يكون كما نطق به الحديث ومتى كان كذلك فلا يستبعد تكونه من نسيم يخرج وقت الجماع، وزعم أن الولد إنما يخلق من المني فحيث لا مني في الجنة كما جاء في الأخبار لا خلق فيه تعجيز للقدرة، ولا ينافي ذلك ما في حديث لقيط لأن المراد هناك نفي التوالد المعهود في الدنيا كما يشير إليه وقوع غير أن لا توالد بعد قوله عليه الصلاة والسلام: مثل لذاتكم في الدنيا، ويقال نحو ذلك في حديث أبي رزين جمعا بين الأخبار، ثم إن التوالد ليس على سبيل الاستمرار بل هو تابع للاشتهاء ولا يلزم استمراره فالقول بأنه إن استمر لزم وجود أشخاص لا نهاية لها وإن انقطع لزم انقطاع نوع من لذة أهل الجنة ليس بشيء، وما قيل: إنه قد ثبت في الصحيح أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «يبقى في الجنة فضل فينشىء الله تعالى لها خلقا يسكنهم إياها» ولو كان في الجنة إيلاد لكان الفضل لأولادهم الملازمة فيه ممنوعة لجواز أن يقال من يشتهي الولد يشتهي أن يكون معه في منزله، والقول بأن التوالد في الدنيا لحكمة بقاء النوع وهو باق في الجنة بدون توالد فيكون عبثا يرد عليه أنه ما المانع من أن يكون هناك للذة ونحوها كالأكل والشرب فإنهما في الدنيا لشيء وفي الجنة لشيء آخر، وبالجملة ما ذكر لترجيح عدم الولادة من الوجوه مما لا يخفى حاله على من له ذهن وجيه. وقرأ غير واحد من السبعة وغيرهم «ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين» بحذف الضمير العائد على ما من الجملتين المتعاطفتين، وفي مصحف عبد الله «ما تشتهيه الأنفس وتلذه الأعين» بالضمير فيهما، والقراءة به في الأول دون الثانية لأبي جعفر وشيبة ونافع وابن عامر وحفص وَأَنْتُمْ فِيها أي في الجنة، وقيل: في الملاذ المفهومة مما تقدم وهو كما ترى خالِدُونَ دائمون أبد الآبدين، والجملة داخلة في حيز النداء وهي كالتأكيد لقوله تعالى: لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ ونودوا بذلك إتماما للنعمة وإكمالا للسرور فإن كل نعيم زائل موجب لكلفة الحفظ وخوف الزوال ومستعقب للتحسر في ثاني الأحوال، ولله تعالى در القائل: وإذا نظرت فإن بؤسا زائلا ... للمرء خير من نعيم زائل وعن النصرآباذي أنه إن كان خلودهم لشهوة الأنفس ولذة الأعين فالفناء خير من ذلك وإن كان لفناء الأوصاف والاتصاف بصفات الحق والمقام فيها على سرر الرضا والمشاهدة فانتم إذا أنتم، وأنت تعلم أن ما ذكره يدخل في عموم ما تقدم دخولا أوليا، وذكر بعضهم هنا أن الخطاب هنا من باب الالتفات وأنه للتشريف. وقال الطيبي: ذق مع طبعك المستقيم معنى الخطاب والالتفات وتقديم الظرف في وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ لتقف على ما لا يكتنهه الوصف وَتِلْكَ الْجَنَّةُ مبتدأ وخبر وقوله تعالى: الَّتِي أُورِثْتُمُوها صفة الجنة وقوله سبحانه بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ متعلق بأورثتموها، وقيل: تِلْكَ الْجَنَّةُ مبتدأ وصفة والَّتِي أُورِثْتُمُوها الخبر والجار بعده متعلق به، وقيل: تلك مبتدأ والجنة صفتها والتي أورثتموها صفة الجنة وبما كنتم متعلق بمحذوف هو الخبر. والإشارة على الوجه الأول إلى الجنة المذكورة في قوله تعالى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ وعلى الأخيرين إلى الجنة الواقعة صفة على ما قيل، والباء للسببية أو للمقابلة، وقد شبه ما استحقوه بأعمالهم الحسنة من الجنة ونعيمها الباقي لهم بما يخلفه المرء لوارثه من الأملاك والأرزاق ويلزمه تشبيه العمل نفسه بالمورث اسم فاعل فاستعير الميراث لما استحقوه ثم اشتق أورثتموها فيكون هناك استعارة تبعية، وقال بعض: الاستعارة تمثيلية. وجوز أن تكون مكنية، وقيل: الإرث مجاز مرسل للنيل والأخذ، وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار فالكافر يرث المؤمن منزله في النار والمؤمن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 100 يرث الكافر منزله في الجنة وذلك قوله تعالى: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ولا يخلو الكلام عن مجاز عليه أيضا، وأيّا ما كان فسببية العمل لإيراث الجنة ونيلها ليس إلا بفضل الله تعالى ورحمته عزّ وجلّ، والمراد بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لن يدخل أحدكم الجنة عمله» ففي إدخال العمل الجنة على سبيل الاستقلال والسببية التامة فلا تعارض. وأخرج هناد. وعبد بن حميد في الزهد عن ابن مسعود قال: تجوزون الصراط بعفو الله تعالى وتدخلون الجنة برحمة الله تعالى وتقتسمون المنازل بأعمالكم فتأمل. وقرىء «ورثتموها» لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ بحسب الأنواع والأصناف لا بحسب الأفراد فقط مِنْها تَأْكُلُونَ أي لا تأكلون إلا بعضها وأعقابها باقية في أشجارها فهي مزينة بالثمار أبدا موقرة بها لا ترى شجرة عريانة من ثمرها كما في الدنيا، وفي الحديث «لا ينزع رجل في الجنة من ثمرها إلا نبت مكانها مثلاها» فمن تبعيضية وجوز كونها ابتدائية، والتقديم للحصر الإضافي وقيل لرعاية الفاصلة. ولعل تكرير ذكر المطاعم في القرآن العظيم مع أنها كلا شيء بالنسبة إلى سائر أنواع نعيم الجنة لما كان بأكثرهم في الدنيا من الشدة والفاقة فهو تسلية لهم، وقيل: إن ذلك لكون أكثر المخاطبين عواما نظرهم مقصور على الأكل والشرب. وتعقب بأنه غير تام للصوفية، كلام سيأتي في مواضع إن شاء الله عزّ وجلّ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ أي الراسخين في الإجرام الكاملين فيه وهم الكفار فكأنه قيل: إن الكفار فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ وأيد إرادة ذلك بجعلهم قسيم المؤمنين بالآيات في قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا [الزخرف: 69] فلا تدل الآية على خلود عصاة المؤمنين كما ذهب إليه المعتزلة والخوارج، ولا يضر عدم التعرض لبيان حكمهم بناء على أن المراد بالذين آمنوا المتقون لقوله تعالى: يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ [الزخرف: 68] والقول بأن الذين آمنوا شامل لهم لأن العلة إيمانهم وإسلامهم لا يخفى ما فيه. والظرف متعلق بخالدون وخالدون خبر إن، وجوز أن يكون الظرف هو الخبر وخالدون فاعله لاعتماده لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ أي لا يخفف عنهم من فترت عنه الحمى إذا سكنت قليلا، والمادة بأي صيغة كانت تدل على الضعف مطلقا وَهُمْ فِيهِ أي في العذاب، وقرأ عبد الله «فيها» أي في جهنم مُبْلِسُونَ حزينون من شدة البأس، قال الراغب: الإبلاس الحزن المعترض من شدة البأس ومنه اشتق إبليس فيما قيل. ولما كان المبلس كثيرا ما يلزم السكوت وينسى ما يعنيه قيل أبلس فلان إذا سكت وانقطعت حجته انتهى، وقد فسر الإبلاس هنا بالسكوت وانقطاع الحجة وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ لسوء اختيارهم، وهُمُ ضمير فصل فيفيد التخصيص، وقرأ عبد الله. وأبو زيد «الظالمون» بالرفع على أن هم مبتدأ وهو خبره، وذكر أبو عمر الجرمي أن لغة تميم جعل ما هو فصل عند غيرهم مبتدأ ويرفعون ما بعده على الخبر، وقال أبو زيد: سمعتهم يقرؤون «تجدوه عند الله هو خير وأعظم» (1) برفع خير وأعظم، وقال قيس بن ذريح: تحن إلى ليلى وأنت تركتها ... وكنت عليها بالملا أنت أقدر وقال سيبويه: بلغنا أن رؤبة كان يقول أظن زيدا هو خير منك يعني بالرفع وَنادَوْا أي من شدة العذاب. وفي بعض الآثار يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه العذاب فيقولون: ادعوا مالكا فيدعون يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ أي ليمتنا من قضى عليه إذا أماته، ومرادهم سل ربك أن يقضي علينا حتى نستريح، واضافتهم الرب إلى ضميره لحثه لا للإنكار، وهذا لا ينافي الإبلاس على التفسير الأول لأنه صراخ وتمني للموت من فرط الشدة، وأما على التفسير الثاني أنه وإن نفاه لكن زمان كل غير زمان الآخر فإن أزمنة العذاب متطاولة وأحقابه   (1) سورة المزمل، الآية: 20. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 101 ممتدة فتختلف بهم الأحوال فيسكتون أوقاتا لغلبة اليأس عليهم وعلمهم أنه لا خلاص لهم ولو بالموت ويغوثون أوقاتا لشدة ما بهم. وتعقب بأنه لا يناسب دوام الجملة الاسمية أعني وهم مبلسون وقيل إن نادوا معطوف بالواو وهي لا تقتضي ترتيبا، ولا يخفى أن تلك الجملة حالية لا تنفك عن الخلود. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن مسعود وابن وثاب والأعمش «يا مال» بالترخيم على لغة من ينتظر وقرأ أبو السوار «يا مال» بالترخيم أيضا لكن على لغة من لم ينتظر. قال ابن جني: وللترخيم في هذا الموضع سر وذلك أنهم لعظم ما هم فيه ضعفت قواهم وذلت أنفسهم فكان هذا من موضع الاختصار ضرورة وبهذا يجاب عن قول ابن عباس وقد حكيت له القراءة به على اللغة الأولى: ما أشغل أهل النار عن الترخيم مشيرا بذلك إلى إنكارها فإن ما للتعجب وفيها معنى الصد يعني أنهم في حالة تشغلهم عن الالتفات إلى الترخيم وترك النداء على الوجه الأكثر في الاستعمال، وحاصل الجواب أن هذا الترخيم لم يصدر عنهم لقصد التصرف في الكلام والتفنن فيه كما في قوله: يحيي رفات العظام بالية ... والحق يا مال غير ما تصف بل للعجز وضيق المجال عن الإتمام كما يشاهد في بعض المكروبين قالَ أي مالك إِنَّكُمْ ماكِثُونَ مقيمون في العذاب أبدا لا خلاص لكم منه بموت ولا غيره، وهذا تقنيط ونكاية لهم فوق ما هم فيه ولا يضر في ذلك علمه بيأسهم إن قلنا به. وذكر بعض الأجلة أن فيه استهزاء لأنه أقام المكث مقام الخلود والمكث يشعر بالانقطاع لأنه كما قال الراغب ثبات مع انتظار، ويمكن أن يكون وجه الاستهزاء التعبير بما كثون من حيث إنه يشعر بالاختيار وإجابتهم بذلك بعد مدة. قال ابن عباس يجيبهم بعد مضي ألف سنة، وقال نوف: بعد مائة، وقيل ثمانين، وقيل أربعين. لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ خطاب توبيخ وتقريع من جهته تعالى مقرر لجواب مالك ومبين لسبب مكثهم، ولا مانع من خطاب سبحانه الكفرة تقريعا لهم، وقيل: هو من كلام بعض الملائكة عليهم السلام وهو كما يقول أحد خدم الملك للرعية أعلمناكم وفعلنا بكم قيل لا يجوز أن يكون من قول مالك لا لأن ضمير الجمع ينافيه بل لأن مالكا لا يصح منه أن يقوله لأنه لا خدمة له غير خزنه للنار. وفيه بحث، وقيل: في قالَ ضميره تعالى فالكل مقوله عزّ وجلّ، وقيل: إن قوله تعالى إِنَّكُمْ ماكِثُونَ خاتمة حال الفريقين، وقوله سبحانه لقد إلخ كلام آخر مع قريش والمراد عليه جئناكم في هذه السورة أو القرآن بالحق، وعلى ما تقدم لقد جئناكم في الدنيا بالحق وهو التوحيد وسائر ما يجب الإيمان به وذلك بإرسال الرسل وإنزال الكتب ولكن أكثركم للحق أي حق كان كارهون لا يقبلونه وينفرون منه وفسر الحق بذلك دون الحق المعهود سواء كان الخطاب لأهل النار أو لقريش لمكان أَكْثَرَكُمْ فإن الحق المعهود كلهم كارهون له مشمئزون منه، وقد يقال: الظاهر العهد وعبر بالأكثر لأن من الأتباع من يكفر تقليدا. وقرىء «لقد جئتكم» وقوله تعالى: أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً كلام مبتدأ ناع على المشركين ما فعلوا من الكيد برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأَمْ منقطعة وما فيها معنى بل للانتقال من توبيخ أهل النار إلى حكاية جناية هؤلاء والهمزة للانكار فإن أريد بالإبرام الأحكام حقيقة فهي لإنكار الوقوع واستبعاده، وإن أريد الأحكام صورة فهي لإنكار الواقع واستقباحه أي بل أبرم مشركو مكة أمرا من كيدهم ومكرهم برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فَإِنَّا مُبْرِمُونَ كيدنا حقيقة لا هم أو فانا مبرمون كيدنا بهم حقيقة كما أبرموا كيدهم صورة كقوله تعالى أَمْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 102 يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ [الطور: 42] والآية إشارة إلى ما كان منهم من تدبير قتله عليه الصلاة والسلام في دار الندوة وإلى ما كان منه عزّ وجلّ من تدميرهم، وقيل: هو من تتمة الكلام السابق، والمعنى أم أبرموا في تكذيب الحق ورده ولم يقتصروا على كراهته فإنّا مبرمون أمرا في مجازاتهم، فإن كان ذاك خطابا لأهل النار فإبرام الأمر في مجازاتهم هو تخليدهم في النار معذبين، وإن كان خطابا لقريش فهو خذلانهم ونصر النبي صلّى الله عليه وسلّم عليهم فكأنه قيل: فإنا مبرمون أمرا في مجازاتهم وإظهار أمرك، وفيه إشارة إلى أن إبرامهم لا يفيدهم، ولا يغني عنهم شيئا والعدول عن الخطاب في أكثركم إلى الغيبة في أبرموا على هذا القيل للإشعار بأن ذلك أسوأ من كراهتهم ويؤيده ما ذكر أولا على ما قيل قوله تعالى: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ لأنه يدل على أن ما أبرموه كان أمرا قد أخفوه فيناسب الكيد دون تكذيب الحق لأن الكفرة مجاهرون فيه والمراد بالسر هنا حديث النفس أي بل أيحسبون أنا لا نسمع حديث أنفسهم بذلك الكيد وَنَجْواهُمْ أي تناجيهم وتحادثهم سرا. وقال غير واحد: السر ما حدثوا به أنفسهم أو غيرهم في مكان خال والنجوى ما تكلموا به فيما بينهم بطريق التناجي بَلى نسمعهما ونطلع عليهما وَرُسُلُنا الذي يحفظون عليهم أعمالهم لَدَيْهِمْ ملازمون لهم يَكْتُبُونَ أي يكتبونهما أو يكتبون كل ما صدر عنهم من الأفعال والأقوال التي من جملتها ما ذكر. والمضارع للاستمرار التجددي، وهو مع فاعله خبر ولَدَيْهِمْ حال قدم للفاصلة أو خبر أيضا وجملة المبتدأ والخبر إما عطف على ما يترجم عنه بل أو حال أي نسمع ذلك والحال أن رسلنا يكتبونه، وإذا كان المراد بالسر حديث النفس فالآية ظاهرة في أن السر والكلام المخيل مسموع له تعالى، وكذا هي ظاهرة في أن الحفظة تكتبه كغيره من أقوالهم وأفعالهم الظاهرة، ولا يبعد ذلك بأن يطلعهم الله تعالى عليه بطريق من طرق الاطلاع فيكتبوه. ومن خص كتابهم بالأمور الغير القلبية خص السر بما حدث به الغير في مكان خال والظاهر أن حسبانهم ذلك حقيقة ولا يستبعد من الكفرة الجهلة، فقد أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال: بينا ثلاثة عند الكعبة وأستارها قرشيان وثقفي أو ثقفيان وقرشي فقال واحد منهم ترون الله تعالى يسمع كلامنا فقال واحد: إذا جهرتم وإذا أسررتم لم يسمع فنزلت أَمْ يَحْسَبُونَ الآية. وقيل: إنهم نزلوا في إقدامهم على الباطل وعدم خوفهم من الله عزّ وجلّ منزلة من يحسب أن الله سبحانه لا يسمع سره ونجواه قُلْ أي للكفرة تحقيقا للحق وتنبيها لهم على أن مخالفتك لهم بعدم عبادتك ما يعبدون من الملائكة عليهم السلام ليس لبغضك وعداوتك لهم أو لمعبوديهم بل إنما هو لجزمك باستحالة ما نسبوا إليهم وبنوا عليه عبادتهم من كونهم بنات الله سبحانه وتعالى إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ أي لذلك الولد وكان بمعنى صح كما يقال ما كان لك أن تفعل كذا وهو أحد استعمالاتها، و «أول» أفعل تفضيل والمفضل عليه المقول لهم، وجوز اعتبار ذلك مطلقا، والمراد إظهار الرغبة والمسارعة، والمنساق إلى الذهن الأول. ووجه الملازمة أنه عليه الصلاة والسلام أعلم الناس بشؤونه تعالى وبما يجوز عليه وبما لا يجوز أحرصهم على مراعاة حقوقه وما توجيه من تعظيم ولده سبحانه فإن حق الوالد على شخص يوجب عليه تعظيم ولده لما أن تعظيم الولد تعظيم الوالد. فالمعنى إن كان للرحمن ولد وصح ذلك وثبت ببرهان صحيح توردونه وحجة واضحة تدلون بها فأنا أول من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له كما يعظم الرجل ولد الملك لعظم أبيه، وهذرا نفي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 103 لكينونة ولد له سبحانه على أبلغ وجه وهو الطريق البرهاني والمذهب الكلامي، فإنه في الحقيقة قياس استثنائي استدل فيه بنفي اللازم البين انتفاؤه وهو عبادته صلّى الله عليه وسلّم للولد على نفي الملزوم وهو كينونة الولد له سبحانه، وذلك نظير قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] لكنه جيء بأن دون لو لجعل ما في حيزها بمنزلة ما لا قطع بعدمه على طريق المساهلة وإرخاء العنان للتبكيت والإفحام. وفي الكشف أن في الآية مبالغة من حيث إنه جعل الممكن في نفسه أعني عبادته عليه الصلاة والسلام لما يدعونه ولدا محالا فهو نفي لعبادة الولد على أبلغ وجه حيث جعل مسببا عن محال ثم نفى للولد كذلك من طريق آخر وهو أنه لما لم يعبد صلّى الله عليه وسلّم الولد مع كونه أولى بعبادته لو كان دل على نفيه، ونحوها ذكر في الآية مرويا عن قتادة والسدي والطبري. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد أن المعنى قل إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول من عبد الله تعالى وحده وكذبكم بما تقولون فالمراد من كونه عليه الصلاة والسلام أول العابدين كونه صلّى الله عليه وسلّم أول من ينكر ذلك عليهم، والملازمة في الشرطية باعتبار أن نسبتهم الولد له تعالى تقتضي أن يكذبهم النبي صلّى الله عليه وسلّم وأن يكون أول من ينكره لأنه صاحب الدعوة إلى التوحيد، وقد خفي ذلك على الإمام فنفى صحة هذا الوجه، وتكلف بعضهم فقال: إن تسبب الجزاء عن الشرط عليه باعتبار الأولية في العبادة والتوحيد من بينهم فإنهم إذا أطبقوا على ذلك الزعم يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم أولهم في عبادة الله تعالى وحده لا محالة، وقيل: إن السببية باعتبار الأخبار والذكر نحو إن تضربني فأنا لا أضربك وهو أولى مما قبله، والإنصاف أن الارتباط خفي لا يظهر إلا لمجاهد، وحكى أبو حاتم عن جماعة ولم يسم أحدا منهم أن الْعابِدِينَ من عبد يعبد كفرح يفرح إذا أنف من الشيء، ومنه قوله: وأعبد أن أهجو كليبا بدارم وقول الآخر: متى ما يشأ ذو الود يصرم خليله ... ويعبد عليه لا محالة ظالما أي إن كان للرحمن ولد فأنا أول الآنفين من الولد أو من كونه لله سبحانه ونسبته له عزّ وجلّ. وروي نحو هذا عن ابن عباس أخرج الطستي عنه أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله تعالى: فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ فقال: أنا أول من ينفر عن أن يكون لله تعالى ولد، وأيد ذلك بقراءة السلمي واليماني «العبدين» جمع عبد كحذر وحذرين وهو للمعروف في معنى أنف وقلما يقال فيه عابد، ومن هنا ضعف ابن عرفة هذا الوجه لما فيه من استعمال ما قل استعماله في كلامهم، وذكر الخليل في كتاب العين أنه قرىء «العبدين» بسكون الباء تخفيفي العبدين بكسرها، وقال أبو حاتم: العبد بكسر الباء الشديد الغضب، وقال أبو عبيدة: العرب تقول عبدني حقي أي جحدني، وروي عن الحسن وابن زيد وزهير بن محمد وهو رواية عن ابن عباس وقتادة والسدي أيضا أن إِنْ نافية أي ما كان للرحمن ولد فانا أول من قال ذلك وعبد ووحد، وكانَ عليه للاستمرار والمقصود استمرار النفي لا نفي الاستمرار والفاء للسببية. وتعقب بأنه خلاف الظاهر مع خفاء وجه السببية أو حسنها، وزعم مكي أنه لا يجوز لإيهامه نفي الولد فيما مضى وهو كما ترى. وقرأ عبد الله وابن وثاب وطلحة والأعمش وحمزة والكسائي كما قال القاضي «ولد» بضم الواو وسكون اللام جمع ولد بفتحهما. سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ أي عن وصفهم أو الذي يصفونه به من كونه سبحانه له ولد، وفي إضافة اسم الرب إلى أعظم الأجرام وأقواها تنبيه على أنها وما فيها من المخلوقات حيث كانت الجزء: 13 ¦ الصفحة: 104 تحت ملكوته تعالى وربوبيته عزّ وجلّ كيف يتوهم أن يكون شيء منها جزءا منه سبحانه وهو ينافي وجوب الوجود، وفي تكرير ذلك الاسم الجليل تفخيم لشأن العرش فَذَرْهُمْ فدعهم غير ملتفت إليهم حيث لم يذعنوا للحق بعد ما سمعوا هذا البرهان الجلي يَخُوضُوا في أباطيلهم وَيَلْعَبُوا في دنياهم فإن ما هم فيه من الأقوال والأفعال ليس إلا من باب الجهل، والجزم لجواب الأمر حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ وهو يوم القيامة عند الأكثرين، وعن عكرمة. وجماعة أنه يوم بدر وقد وعدوا الهلاك فيه، وقريب منه تفسيره بيوم الموت، وقيل: ينبغي تفسيره به دون يوم القيامة لأن الغاية للخوض واللعب إنما هو يوم الموت لانقطاعهما بالموت، وانتصر للأكثرين بأن يوم القيامة هو اليوم الموعود وبه سمي في لسان الشرع وتفسيره بذاك مخالف لمعروف ولما بعد من ذكر الساعة، وما ذكر من أمر الانقطاع مدفوع بأن الموت وما بعده في حكم القيامة ولذا ورد من مات فقد قامت قيامته ومثله قد يراد به الدلالة على طول المدة مع قطع النظر عن الانتهاء فيقال: لا يزال في ضلالة إلى أن تقوم القيامة. وقرأ أبو جعفر وابن محيصن وعبيد بن عقيل عن أبي عمرو «يلقوا» مضارع لقي، والآية قيل منسوخة بآية السيف وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ الظرفان متعلقان بإله لأنه صفة بمعنى معبود من أله بمعنى عبد وهو خبر مبتدأ محذوف أي هو إله وذلك عائد الموصول وحذف لطول الصلة بمتعلق الخبر والعطف عليه. وقال غير واحد: الجار متعلق بإله باعتبار ما ينبىء عنه من معنى المعبودية بالحق بناء على اختصاصه بالمعبود بالحق وهذا كتعلق الجار بالعلم المشتهر بصفة نحو قولك: هو حاتم في طيء حاتم في تغلب، وعلى هذا تخرج قراءة عمر وعلي وعبد الله وأبي والحكم بن أبي العالي وبلال بن أبي بردة وابن يعمر وجابر وابن زيد وعمر بن عبد العزيز وأبو شيخ الهنائي وحميد وابن مقسم وابن السميفع «وهو الذي في السماء الله وفي الأرض الله» فيعلق الجار بالاسم الجليل باعتبار الوصف المشتهر به، واعتبر بعضهم معنى الاستحقاق للعبادة وعلل ذلك بأن العبادة بالفعل لا تلزم، وجوز كون الجار والمجرور صلة الموصول، و «إله» خبر مبتدأ محذوف أيضا على أن الجملة بيان للصلة وأن كونه سبحانه في السماء على سبيل الإلهية لا على معنى الاستقرار. واختير كون إِلهٌ في هذا الوجه خبر مبتدأ محذوف على كونه خبرا آخر للمبتدأ المذكور أو بدلا من الموصول أو من ضميره بناء على تجويزه لأن إبدال النكرة الغير الموصوفة من المعرفة إذا أفادت ما لم يستفد أولا كما هنا جائز حسن على ما قال أبو علي في الحجة لأن البيان هاهنا أتم وأهم فلذا رجح مع ما فيه من التقدير وحينئذ فلا فاصل أجنبي بين المتعاطفين، ولا يجوز كون الجار والمجرور خبر مقدما وإله مبتدأ مؤخرا للزوم خلو الجملة عن العائد مع فساد المعنى، وفي الآية نفي الآلهة السماوية والأرضية واختصاص الإلهية به عزّ وجلّ لما فيها من تعريف طرفي الإسناد. والموصول في مثل ذلك كالمعرف بالأداة وللاعتناء بكل من إلهيته تعالى في السماء وإلهيته عزّ وجلّ في الأرض قيل وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ ولم يقل: وهو الذي في السماء وفي الأرض إله أو هو الذي في السماء والأرض إله، وحديث الإعادة قيل مما لا يجري هاهنا لأن القاعدة أغلبية كأكثر قواعد العربية. وقال بعض الأفاضل: يجوز إجراء القاعدة فيه والمغايرة بين الشيئين أعم من أن تكون بالذات أو بالوصف والاعتبار والمراد هنا الثاني ولا شك أن طريق عبادة أهل السماء له تعالى غير طريق عبادة أهل الأرض على ما يشهد به تتبع الآثار فإذا كان إله بمعنى معبود كان معنى الآية أنه تعالى معبود في السماء على وجه ومعبود في الأرض على وجه آخر، وإن كان بمعنى التحير فيه فالتحير في أهل السماء غير التحير في أهل الأرض فلا جرم تكون أطوارهم مخالفة لأطوار أهل الأرض، ومن ذلك اختلاف علومهم فإن علوم أهل الأرض إن كانت ضرورية فأكثرها مستندة إلى الحس وإن كانت نظرية كانت مكتسبة من النظر فإذا انسد طريق النظر والحسن عجزوا وتحيروا ولا كذلك أهل السماء الجزء: 13 ¦ الصفحة: 105 لتنزههم عن الكسب والحسن فتحيرهم على نحو آخر، أو نقول التحير في إدراك ذاته تعالى وصفاته إنما ينشأ من مشاهدة آثار عظمته وكمال قدرته سبحانه ولا شك أن تلك الآثار في السماء أعظم من الآثار في الأرض وعليه فيجوز أن يكون الإله بمعنى المتحير فيه ويكون مجازا عن عظيم الشأن من باب ذكر اللازم وإرادة الملزوم فيكون المعنى أنه تعالى عظيم الشأن في السماء على نحو وعظيم الشأن في الأرض على نحو آخر اهـ، ولا يخلو عن شيء كما لا يخفى وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ كالدليل على النفي والاختصاص المشار إليهما فإن من لا يتصف بكمال الحكمة والعلم لا يستحق الإلهية. وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما كالهواء ومخلوقات الجو المشاهدة وغيرها وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أي العلم بالساعة أي الزمان الذي تقوم القيامة فيه فالمصدر مضاف لمفعوله، والساعة بمعناها اللغوي وهو مقدار قليل من الزمان، ويجوز أن يراد بها معناها الشرعي وهو يوم القيامة، والمحذور مندفع بأدنى تأمل، وفي تقديم الخبر إشارة إلى استئثاره تعالى بعلم ذلك وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ للجزاء، والالتفات إلى الخطاب للتهديد، وقرأ الأكثر بياء الغيبة والفعل في القراءتين مبني للمفعول وقرىء بفتح تاء الخطاب والبناء للفاعل، وقرىء «تحشرون» بتاء الخطاب أيضا والبناء للمفعول وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ أي ولا يملك آلهتهم الذين يدعونهم مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله عزّ وجلّ، وقرىء «تدعون» بتاء الخطاب والتخفيف والسلمي وابن وثاب بها وشد الدال إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ الذي هو التوحيد وَهُمْ يَعْلَمُونَ أي يعلمونه، والجملة في موضع الحال، وقيد بها لأن الشهادة عن غير علم بالمشهود به لا يعول عليها، وجمع الضمير باعتبار معنى من كما أن الأفراد أولا باعتبار لفظه، والمراد به الملائكة وعيسى وعزير وأضرابهم صلاة الله تعالى وسلامه عليهم، والاستثناء قيل: متصل إن أريد بالذين يدعون من دونه كل ما يعبد من دون الله عزّ وجلّ ومنفصل إن أريد بذلك الأصنام فقط، وقيل: هو منفصل مطلقا وعلل بأن المراد نفي ملك الآلهة الباطلة الشفاعة للكفرة ومن شهد بالحق منها لا يملك الشفاعة للمؤمنين فكأنه قيل على تقدير التعميم: ولا يملك الذين يدعونهم من دون الله تعالى كائنين ما كانوا الشفاعة لهم لكن من شهد بالحق يملك الشفاعة لمن شاء الله سبحانه من المؤمنين فالكلام نظير قولك: ما جاء القوم إلي إلا زيدا جاء إلى عمرو فتأمل. وقال مجاهد وغيره: المراد بمن شهد بالحق المشفوع فيهم، وجعل الاستثناء عليه متصلا والمستثنى منه محذوفا كأنه قيل: ولا يملك هؤلاء الملائكة واضرابهم الشفاعة في أحد إلا فيمن وحد عن إيقان وإخلاص ومثله في حذف المستثنى منه قوله: نجا سالم والنفس منه بشرقة ... ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا أي واستدل بالآية على أن العلم مما لا بد منه في الشهادة دون المشاهدة. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ أي سألت العابدين أو المعبودين لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لتعذر المكابرة في ذلك من فرط ظهوره ووجه قول المعبودين ذلك أظهر من أن يخفى فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ فكيف يصرفون عن عبادته تعالى إلى عبادة غيره سبحانه ويشركونه معه عزّ وجلّ مع إقرارهم بأنه تعالى خالقهم أو مع علمهم بإقرار آلهتهم بذلك، والفاء جزائية أي إذا كان الأمر كذلك فإني إلخ، والمراد التعجب من إشراكهم مع ذلك، وقيل: المعنى فكيف يكذبون بعد علمهم بذلك فهو تعجب من عبادة غيره تعالى وإنكارهم للتوحيد مع أنه مركوز في فطرتهم، وأيّاما كان فهو متعلق بما قبله من التوحيد والإقرار بأنه تعالى هو الخالق، وأما كون المعنى فكيف أو أين يصرفون عن التصديق بالبعث مع أن الإعادة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 106 أهون من الإبداء وجعله متعلقا بأمر الساعة كما قيل فيأباه السياق. وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو «تؤفكون» بتاء الخطاب وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ بحر «قيلة» وهي قراءة عاصم وحمزة والسلمي وابن وثاب. والأعمش. وقرأ الأعرج وأبو قلابة ومجاهد والحسن وقتادة ومسلم بن جندب برفعه وهي قراءة شاذة. وقرأ الجمهور بنصبه، واختلف في التخريج فقيل الجر على عطفه لفظ الساعة في قوله تعالى وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أي عنده علم قيله، والنصب على عطفه على محلها لأنها في محل نصب بعلم المضاف إليها فإنه كما قدمنا مصدر مضاف لمفعوله فكأنه قيل: يعلم الساعة ويعلم قيله، والرفع على عطفه على عِلْمُ السَّاعَةِ على حذف مضاف والأصل وعلم قيله فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ونسب الوجه الأول لأبي علي والثالث لابن جني وجميع الأوجه للزجاج وضمير قِيلِهِ عليها للرسول صلّى الله عليه وسلّم المفهوم من قوله تعالى وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ والقيل والقال والقول مصادر جاءت بمعنى واحد، والمنادى وما في حيزه مقول القول، والكلام خارج مخرج التحسر والتحزن والتشكي من عدم إيمان أولئك القوم، وفي الإشارة إليهم بهؤلاء دون قوله قومي ونحوه تحقير لهم وتبرّ منهم لسوء حالهم، والمراد من أخباره تعالى بعلمه ذلك وعيده سبحانه إياهم، وقيل: الجر على إضمار حرف القسم والنصب على حذفه وإيصال فعله إليه محذوفا والرفع على نحو لعمرك لأفعلن وإليه ذهب الزمخشري وجعل المقول يا رب وقوله سبحانه إِنَّ هؤُلاءِ إلخ جواب القسم على الأوجه الثلاثة وضمير قِيلِهِ كما سبق، والكلام إخبار منه تعالى أنهم لا يؤمنون وإقسامه سبحانه عليه بقوله صلّى الله عليه وسلّم: يا رب لرفع شأنه عليه الصلاة والسلام وتعظيم دعائه والتجائه إليه تعالى، والواو عنده للعطف أعني عطف الجملة القسمية على الجملة الشرطية لكن لما كان القسم بمنزلة الجملة الاعتراضية صارت الواو كالمضمحل عنها معنى العطف، وفيه أن الحذف الذي تضمنه تخريجه من ألفاظ شاع استعمالها في القسم كعمرك وايمن الله واضح الوجه على الأوجه الثلاثة، وأما في غيرها كالقيل هنا فلا يخلو عن ضعف، وقيل: الجر على أن الواو واو القسم والجواب محذوف أي لننصرنه أو لنفعلن بهم ما نشاء حكاه في البحر وهو كما ترى، وقيل: النصب على العطف على مفعول يكتبون المحذوف أي يكتبون أقوالهم وأفعالهم وقيله يا رب إلخ وليس بشيء، وقيل: بشيء، هو على العطف على مفعول يعلمون أعني الحق أي يعلمون الحق وقيل إلخ، وهو قول لا يكاد يعقل، وعن الأخفش أنه على العطف على سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ ورد بأنه ليس بقوي في المعنى مع وقوع الفصل بما لا يحسن اعتراضا ومع تنافر النظم. وتعقب أن ما ذكر من الفصل ظاهر وأما ضعف المعنى وتنافر النظم فغير مسلم لأن تقديره أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم وأنا لا نسمع قيله إلخ وهو منتظم أتم انتظام، وعنه أيضا أنه على إضمار فعل من القيل ناصب له على المصدرية والتقدير قال قيله ويؤيده قراءة ابن مسعود «وقال الرسول» والجملة معطوفة على ما قبلها. ورد بأنه لا يظهر فيه ما يحسن عطفه على الجملة قبله وليس التأكيد بالمصدر في موقعه ولا ارتباط لقوله تعالى فَاصْفَحْ به، وقال العلامة الطيبي في توجيهه: إن قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ تقديره وقلنا لك: ولئن سألتهم إلخ وقلت: يا رب يأسا من إيمانهم وإنما جعل غائبا على طريق الالتفات لأنه كأنه صلّى الله عليه وسلّم فاقد نفسه لتحزن عليهم حيث لم ينفع فيهم سعيه واحتشاده، وقيل: الواو على هذا الوجه للحال وقال بتقدير قد والجملة حالية أي فأنّى يؤفكون وقد قال الرسول يا رب إلخ، وحاصله فأنّى يؤفكون وقد شكا الرسول عليه الصلاة والإسلام إصرارهم على الكفر وهو خلاف الظاهر، وقيل: الرفع على الابتداء والخبر يا رب إلى لا يؤمنون أو هو محذوف أي مسموع أو متقبل فجملة النداء وما بعده في موضع نصب بقيله والجملة حال أو معطوفة، ولا يخفى ما في ذلك، والأوجه عندي ما نسب إلى الزجاج، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 107 والاعتراض عليه بالفصل هين، وبضعف المعنى والتنافر غير مسلم، ففي الكشف بعد ذكر تخريج الزجاج الجر أن الفاصل أعني من قوله تعالى: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ- إلى- يُؤْفَكُونَ يصلح اعتراضا لأن قوله سبحانه وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ مرتبط بقوله تعالى: حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ على ما لا يخفى، والكلام مسوق للوعيد البالغ بقوله تعالى: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ إلى قوله عزّ وجلّ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ متصل بقوله تعالى: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ اتصال العصا بلحاها، وقوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ خطاب لمن يتأتى منه السؤال تتميم لذلك الكلام باستحقاقهم ما أوعدوه لعنادهم البالغ، ومنه يظهر وقوع التعجب في قوله سبحانه فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ وعلى هذا ظهر ارتباط وعلم قيله بقوله تعالى: وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وأن الفاضل متصل بهما اتصالا يجل موقعه، ومن هذا التقرير يلوح أن ما ذهب إليه الزجاج في الأوجه الثلاثة حسن، ولك أن ترجحه على ما ذهب إليه الأخفش بتوافق القراءتين، وأن حمل وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ على الخطاب المتروك إلى غير معين أوفق بالمقام من حمله على خطابه عليه الصلاة والسلام وسلامته من إضمار القول قبل قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مع أن السياق غير ظاهر الدلالة عليه اهـ، وهو أحسن ما رأيته للمفسرين في هذا المقام. وقرأ أبو قلابة «يا رب» بفتح الباء ووجه ظاهر فَاصْفَحْ فأعرض عَنْهُمْ ولا تطمع في إيمانهم، وأصل الصفح ليّ صفحة العنق فكني به عن الإعراض. وَقُلْ لهم سَلامٌ أي امري سلام تسلم منكم ومتاركة فليس ذلك أمرا بالسلام عليهم والتحية وإنما هو أمر بالمتاركة، وحاصله إذا أبيتم القبول فأمري التسلم منكم، واستدل بعضهم بذلك على جواز السلام على الكفار وابتدائهم بالتحية، أخرج ابن أبي شيبة. عن شعيب بن الحبحاب قال: كنت مع علي بن عبد الله البارقي فمر علينا يهودي أو نصراني فسلم عليه قال شعيب: فقلت: إنه يهودي أو نصراني فقرأ علي آخر سورة الزخرف وَقِيلِهِ يا رَبِّ إلى الآخر، وأخرج ابن أبي شيبة أيضا عن عون بن عبد الله أنه قال قلت لعمر بن عبد العزيز كيف تقول أنت في ابتداء أهل الذمة بالسلام؟ فقال: ما أرى بأسا أن نبتدئهم قلت لم؟ قال: لقوله تعالى: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ ومما ذكرنا يعلم ضعفه، وقال السدي المعنى قل خيرا بدلا من شرهم، وقال مقاتل: اردد عليهم معروفا، وحكى الماوردي أي قل ما تسلم به من شرهم والكل كما ترى والحق ما قدمنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حالهم السيئة وإن تأخر ذلك وهو وعيد من الله سبحانه لهم وتسلية لرسوله صلّى الله عليه وسلّم، وقرأ أبو جعفر والحسن والأعرج ونافع وهشام «تعلمون» بتاء الخطاب على أنه داخل في حيز قُلْ وإن أريد من الآية الكف عن القتال فهي منسوخة وإن أريد الكف عن مقابلتهم بالكلام فليست بمنسوخة والله تعالى أعلم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 108 سورة الدّخان مكية كما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم واستثنى بعض قوله تعالى: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ [الدخان: 15] وآيها كما قال الداني تسع وخمسون في الكوفي وسبع في البصري وست في عدد الباقين. واختلافها على ما في مجمع البيان أربع آيات حم [الدخان: 1] وإِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ [الدخان: 34] كوفي شَجَرَةَ الزَّقُّومِ [الدخان: 43] عراقي شامي والمدني الأول في الْبُطُونِ [الدخان: 45] عراقي مكي والمدني الأخير. ووجه مناسبتها لما قبلها أنه عزّ وجلّ ختم ما قبل بالوعيد والتهديد وافتتح هذه بشيء من الإنذار الشديد وذكر سبحانه هناك قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ [الزخرف: 88] وهنا نظيره فيما حكي عن أخيه موسى عليهما الصلاة والسلام بقوله تعالى فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ [الدخان: 22] وأيضا ذكر فيما تقدم فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ [الزخرف: 89] وحكى سبحانه عن موسى عليه السلام إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ [الدخان: 20، 21] وهو قريب من قريب إلى غير ذلك، وهي إحدى النظائر التي كان يصلي بهن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما أخرج الطبراني عن ابن مسعود الذاريات والطور والنجم واقتربت والرحمن والواقعة ونون والحاقة والمزمل ولا أقسم بيوم القيامة وهل أتى على الإنسان والمرسلات وعم يتساءلون والنازعات وعبس وويل للمطففين وإذا الشمس كورت والدخان، وورد بفضلها أخبار. أخرج الترمذي ومحمد بن نصر وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك» وأخرج المذكورون عنه أيضا يرفعه من قرأ حم الدخان في ليلة جمعة أصبح مغفورا له» وفي رواية للبيهقي وابن الضريس عنه مرفوعا «من قرأ ليلة الجمعة حم الدخان ويس أصبح مغفورا له» وأخرج ابن الضريس عن الحسن أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال «من قرأ سورة الدخان في ليلة غفر له ما تقدم من ذنبه» وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من قرأ حم الدخان في ليلة جمعة أو يوم جمعة بنى الله تعالى له بيتا في الجنة» . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 109 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ الكلام فيه كالذي سلف في السورة السابقة. إِنَّا أَنْزَلْناهُ أي الكتاب المبين الذي هو القرآن على القول المعول عليه فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ هي ليلة القدر على ما روي عن ابن عباس وقتادة وابن جبير ومجاهد، وابن زيد والحسن وعليه أكثر المفسرين والظواهر معهم، وقال عكرمة. وجماعة: هي ليلة النصف من شعبان. وتسمى ليلة الرحمة والليلة المباركة وليلة الصك وليلة البراءة، ووجه تسميتها بالأخيرين أن البندار إذا استوفى الخراج من أهله كتب لهم البراءة والصك كذلك أن الله عزّ وجلّ يكتب لعباده المؤمنين البراءة والصك في هذه الليلة. وظاهر كلامهم هنا أن البراءة وهي مصدر برىء براءة إذا تخلص تطلق على صك الأعمال والديون وما ضاهاها وأنه ورد في الآثار ذلك وهو مجاز مشهور وصار بذلك كالمشترك، وفي المغرب بريء من الدين والعيب براءة، ومنه البراءة لخط الإبراء والجمع براءات وبروات عامية اهـ. وأكثر أهل اللغة على أنه لم يسمع من العرب وأنه عامي صرف وإن كان من باب المجاز الواسع. قال ابن السيد في المقتضب البراءة في الأصل مصدر برىء براءة، وأما البراءة المستعملة في صناعة الكتاب فتسميتها بذلك إما على أنها من بريء من دينه إذا أداه وبرئت من الأمر إذا تخليت منه فكأن المطلوب منه أمر تبرأ إلى الطالب أو تخلى، وقيل: أصله أن الجاني كان إذا جنى وعفا عنه الملك كتب له كتاب أمان مما خافه فكان يقال: كتب السلطان لفلان براءة ثم عمم ذلك فيما كتب من أولي الأمر وأمثالهم اهـ. وذكروا في فضل هذه الليل أخبارا كثيرة، منها ما أخرجه ابن ماجه والبيهقي في شعب الإيمان عن علي كرم الله وجهه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها فإن الله تعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى السماء الدنيا فيقول: ألا مستغفر فأغفر له ألا مسترزق فأرزقه ألا مبتلى فأعافيه ألا كذا ألا كذا حتى يطلع الفجر» وما أخرجه الترمذي وابن أبي شيبة والبيهقي وابن ماجه عن عائشة قالت: «فقدت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة فخرجت أطلبه فإذا هو بالبقيع رافعا رأسه إلى السماء فقال يا عائشة: أكنت تخافين أن يحيف الله تعالى عليك ورسوله؟ قلت: ما بي من ذلك ولكني ظننت أنك أتيت بعض نسائك، فقال: إن الله عز وجل ينزل ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب» . وما أخرجه أحمد بن حنبل في المسند عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يطلع الله تعالى إلى خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لعباده إلا اثنين مشاحن وقاتل نفس» وذكر بعضهم فيها صلاة مخصوصة وأنها تعدل عشرين حجة مبرورة وصيام عشرين سنة مقبولا، وروي في ذلك حديثا طويلا عن علي كرم الله تعالى وجهه، وقد أخرجه البيهقي ثم قال: يشبه أن يكون هذا الحديث موضوعا وهو منكر وفي رواته مجهولون وأطال الوعاظ الكلام في هذه الليلة وذكر فضائلها وخواصها، وذكروا عدة أخبار في أن الآجال تنسخ فيها. وفي الدر المنثور طرف غير يسير من ذلك وسنذكر بعضا منه إن شاء الله تعالى. وفي البحر قال الحافظ أبو بكر بن العربي: لا يصح فيها شيء ولا نسخ الآجال فيها ولا يخلو من مجازفة والله تعالى أعلم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 110 والمراد بإنزاله في تلك الليلة إنزاله فيها جملة إلى السماء الدنيا من اللوح فالإنزال المنجم في ثلاث وعشرين سنة أو أقل كان من السماء الدنيا وروي هذا عن ابن جرير وغيره، وذكر أن المحل الذي أنزل فيه من تلك السماء البيت المعمور وهو مسامت للكعبة بحيث لو نزل لنزل عليها. وأخرج سعيد بن منصور عن إبراهيم النخعي أنه قال: نزل القرآن جملة على جبريل عليه السلام وكان جبريل عليه السلام يجيء به بعد إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقال غير واحد: المراد ابتداء إنزاله في تلك الليلة على التجوز في الطرف أو النسبة واستشكل ذلك بأن ابتداء السنة المحرم أو شهر ربيع الأول لأنه ولد فيه صلّى الله عليه وسلّم ومنه اعتبر التاريخ في حياته عليه الصلاة والسلام إلى خلافة عمر رضي الله تعالى عنه وهو الأصح، وقد كان الوحي إليه صلّى الله عليه وسلّم على رأس الأربعين سنة من مدة عمره عليه الصلاة والسلام على المشهور من عدة أقوال فكيف يكون ابتداء الإنزال في ليلة القدر من شهر رمضان أو في ليلة البراءة من شعبان. وأجيب بأن ابتداء الوحي كان مناما في شهر ربيع الأول ولم يكن بإنزال شيء من القرآن والوحي يقظة مع الإنزال كان في يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من شهر رمضان، وقيل لسبع منه، وقيل لأربع وعشرين ليلة منه، وأنت تعلم كثرة اختلاف الأقوال في هذا المقام فمن يقول بابتداء إنزاله في شهر يلتزم منها ما لا يأباه. واختلف في أول ما نزل منه، ففي صحيح مسلم أنه يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر: 1] وتعقبه النووي في شرحه فقال: إنه ضعيف بل باطل والصواب أن أول ما نزل على الإطلاق اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1] كما صرح به في حديث عائشة، وأما يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ فكان نزولها بعد فترة الوحي كما صرح به في رواية الزهري عن أبي سلمة، عن جابر. وأما قول من قال من المفسرين أول ما نزل الفاتحة فبطلانه أظهر من أن يذكر اهـ والكلام في ذلك مستوفى في الإتقان فليرجع إليه من أراده. ووصف الليلة بالبركة لما أن إنزال القرآن مستتبع للمنافع الدينية والدنيوية بأجمعها أو لما فيها من تنزل الملائكة والرحمة وإجابة الدعوة وفضيلة العبادة أو لما فيها من ذلك وتقدير الأرزاق وفصل الأقضية كالآجال وغيرها وإعطاء تمام الشفاعة له عليه الصلاة والسلام، وهذا بناء على أنها ليلة البراءة، فقد روي أنه صلّى الله عليه وسلّم سأل ليلة الثالث عشر من شعبان في أمته فأعطى الثلث منها ثم سأل ليلة الرابع عشر فأعطى الثلثين ثم سأل ليلة الخامس عشر فأعطى الجميع إلا من شرد على الله تعالى شراد البعير، وأياما كان فقد قيل: إن التعليل إنما يحتاج إليه بناء على القول بما اختاره العز بن عبد السلام من أن الأمكنة والأزمنة كلها متساوية في حد ذاتها لا يفضل بعضها بعضا إلا بما يقع فيها من الأعمال ونحوها، وزاد بعضهم أو يحل لتدخل البقعة التي ضمته صلّى الله عليه وسلّم فإنها أفضل البقاع الأرضية والسماوية حتى قيل وبه أقول إنها أفضل من العرش. والحق أنه لا يبعد أن يخص الله سبحانه بعضها بمزيد تشريف حتى يصير ذلك داعيا إلى إقدام المكلف على الأعمال فيها أو لحكمة أخرى، وجملة إِنَّا أَنْزَلْناهُ جواب القسم، وفي ذلك مبالغة نحو ما في قوله: وثناياك إنها إغريض. وقوله تعالى: إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ استئناف يبين المقتضي للإنزال، وقوله تعالى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ استئناف أيضا لبيان التخصيص بالليلة المباركة فكأنه قيل: أنزلناه لأن من شأننا الإنذار والتحذير من العقاب وكان إنزاله الجزء: 13 ¦ الصفحة: 111 في تلك الليلة المباركة لأنه من الأمور الدالة على الحكم البالغة وهي ليلة يفرق فيها كل أمر حكيم ففي الكلام لف ونشر، واشتراط أن يكون كل منهما بجملتين مستقلتين مما لا داعي إليه، وقيل: إن جملة فِيها يُفْرَقُ إلخ صفة أخرى لليلة وما بينهما اعتراض لا يضر الفصل به بل لا يعد الفصل به فصلا، وقيل إن قوله تعالى إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ هو جواب القسم وما بينهما اعتراض وإليه ذهب ابن عطية زاعما أنه لا يجوز جعل إِنَّا أَنْزَلْناهُ جوابا له فيه من القسم بالشيء على نفسه. واعترض بأن قوله تعالى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ يكون حينئذ من تتمة الاعتراض فلا يحسن تأخره عن المقسم عليه ولا يدفعه أن هذه الجملة مستأنفة لا صفة أخرى لأنه استئناف بياني متعلق بما قبل كما سمعت آنفا فلا يليق الفصل أيضا كما لا يخفى على من له ذوق سليم، وما ذكر من حديث القسم بالشيء على نفسه فقد أشرنا إلى جوابه، وقيل إنّ قوله سبحانه: إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ جواب آخر للقسم وفيه تعدد المقسم عليه من غير عطف ولم نر من تعرض له، ومعنى يفرق يفصل ويلخص، والحكيم بمعنى المحكم لأنه لا يبدل ولا يغير بعد إبرازه للملائكة عليهم السلام بخلافه قبله وهو في اللوح فإن الله تعالى يمحو منه ما يشاء ويثبت. وجوز أن يكون بمعنى المحكوم به ونسبته إلى الأمر عليها حقيقة، ويجوز أن يكون المعنى كل أمر ملتبس بالحكمة والأصل حكيم صاحبه فتجوز في النسبة، وقيل: إن حكيم للنسبة كتامرو لابن وقد أبهم سبحانه هذا الأمر. وأخرج محمد بن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في ذلك: يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق أو موت أو حياة أو مطر حتى يكتب الحاج يحج فلان ويحج فلان. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن ربيعة بن كلثوم قال: كنت عند الحسن فقال له رجل: يا أبا سعيد ليلة القدر في كل رمضان هي؟ قال: إي والله إنها لفي كل رمضان وإنها لليلة يفرق فيها كل أمر حكيم فيها يقضي الله تعالى كل أجل وعمل ورزق إلى مثلها، وروي هذا التعميم عن غير واحد من السلف. وأخرج البيهقي عن أبي الجوزاء فيها يفرق كل أمر حكيم هي ليلة القدر يجاء بالديوان الأعظم السنة إلى السنة فيغفر الله تعالى شأنه لمن يشاء ألا ترى أنه عز وجل قال رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وفيه بحث، وإلى مثل ذلك التعميم ذهب بعض من قال: إن الليلة المباركة هي ليلة البراءة، أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق محمد بن سوقة عن عكرمة أنه قال في الآية: في ليلة النصف من شعبان يبرم أمر السنة وينسخ الأحياء من الأموات ويكتب الحاج فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أحد، وفي كثير من الأخبار الاقتصار على قطع الآجال، أخرج ابن جرير والبيهقي في شعب الإيمان عن الزهري عن عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخفش قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى أن الرجل لينكح ويولد له وقد خرج اسمه في الموتى» وأخرج الدينوري في المجالسة عن راشد بن سعد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «في ليلة النصف من شعبان يوحي الله تعالى إلى ملك الموت بقبض كل نفس يريد قبضها في تلك السنة» ونحوه كثير، وقيل: يبدآن في استنساخ كل أمر حكيم من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة ويقع الفراغ في ليلة القدر فتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل عليه السلام ونسخة الحروب إلى جبرائيل عليه السلام وكذلك الزلازل والصواعق والخسف ونسخة الأعمال إلى إسماعيل عليه السلام صاحب سماء الدنيا وهو ملك عظيم ونسخة المصائب إلى ملك الموت. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تقضى الأقضية كلها ليلة النصف من شعبان وتسلم إلى أربابها ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان. واعترض بما ذكر على الاستدلال بالظواهر على أن الليلة المذكورة هي ليلة القدر لا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 112 ليلة النصف من شعبان ومن تدبر علم أنه لا يخدش الظواهر، نعم حكي عن عكرمة أن ليلة النصف من شعبان هي ليلة القدر ويلزمه تأويل ما يأبى ظاهره ذلك فتدبر، وسيأتي إن شاء الله عز وجل الكلام في هذا المقام مستوفى على أتم وجه في تفسير سورة القدر وهو سبحانه الموفق. وقرأ الحسن والأعرج والأعمش «يفرق» بفتح الياء وضم الراء «كلّ» بالنصب أي يفرق الله تعالى، وقرأ زيد بن علي فيما ذكر الزمخشري عنه «نفرّق» بالنون «كلّ» بالنصب وفيما ذكر أبو علي الأهوازي عنه بفتح الياء وكسر الراء ونصب «كلّ» ورفع «حكيم» على أنه الفاعل بيفرق، وقرأ الحسن. وزائدة عن الأعمش «يفرّق» بالتشديد وصيغة المفعول وهو للتكثير وفيه رد على قول بعض اللغويين كالحريري أن الفرق مختص بالمعاني والتفريق بالأجسام. أَمْراً مِنْ عِنْدِنا نصب على الاختصاص وتنكيره للتفخيم، والجار والمجرور في موضع الصفة له وتعلقه بيفرق ليس بشيء، والمراد بالعندية أنه على وفق الحكمة والتدبير أي أعني بهذا الأمر أمرا فخيما حاصلا على مقتضى حكمتنا وتدبيرنا وهو بيان لزيادة فخامته ومدحه، وجوز كونه حالا من ضمير أمر السابق المستتر في حكيم الواقع صفة له أو من «أمر» نفسه، وصح مجيء الحال منه مع أنه نكرة لتخصصه بالوصف على أن عموم النكرة المضاف إليها كل مسوغ للحالية من غير احتياج الوصف، وقول السمين: إن فيه القول بالحال من المضاف إليه في غير المواضع المذكورة في النحو صادر عن نظر ضعيف لأنه كالجزء في جواز الاستغناء عنه بأن يقال: يفرق أمر حكيم على إرادة عموم النكرة في الإثبات كما في قوله تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ [التكوير: 14] وقيل: حال من كُلُّ وأيا ما كان فهو مغاير لذي الحال لوصفه بقوله تعالى: مِنْ عِنْدِنا فيصح وقوعه حالا من غير لغوية فيه. وكونها مؤكدة غير متأت مع الوصفية كما لا يخفى على ذي الذهن السليم، وهو على هذه الأوجه واحد الأمور وجوز أن يراد به الأمر الذي هو ضد النهي على أنه واحد الأوامر فحينئذ يكون منصوبا على المصدرية لفعل مضمر من لفظه أي أمرنا أمرا من عندنا، والجملة بيان لقوله سبحانه: يُفْرَقُ إلخ، وقيل: إما أن يكون نصبا على المصدرية ليفرق لأن كتب الله تعالى للشيء إيجابه وكذلك أمره عز وجل به كأنه قيل: يؤمر بكل شأن مطلوب على وجه الحكمة أمرا فالأمر وضع موضع الفرقان المستعمل بمعنى الأمر، وإما أن يكون على الحالة من فاعل أَنْزَلْناهُ أو مفعوله أي إنا أنزلناه آمرين أمرا أو حال كون الكتاب أمرا يجب أن يفعل وفي جعل الكتاب نفس الأمر لاشتماله عليه أيضا تجوز فيه فخامة، وتعقب ذلك في الكشف فقال: فيه ضعف للفصل بالجملتين بين الحال وصاحبها على الثاني ولعدم اختصاص الأوامر الصادرة منه تعالى بتلك الليلة على الأول. ووجهه أن تخص بالقرآن ولا يجعل قوله تعالى: فِيها يُفْرَقُ علة للإنزال في الليلة بل هو تفصيل لما أجمل في قوله سبحانه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ على معنى فيها أنزل الكتاب المبين الذي هو المشتمل على كل مأمور به حكيم كأنه جعل الكتاب كله أمرا أو ما أمر به كل المأمورات وفيه مبالغة حسنة، ولا يخفى أن في فهمه من الآية تكلفا. وقال الخفاجي في أمر الفصل: إنه لا يضر ذلك الفاصل على الاعتراض وكذا على التعليل لأنه غير أجنبي. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «أمر» بالرفع وهي تنصر كون انتصابه في قراءة الجمهور على الاختصاص لأن الرفع عليه فيها، وقوله تعالى: إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ تعليل ليفرق أو لقوله تعالى: أَمْراً مِنْ عِنْدِنا ورحمة مفعول به لمرسلين وتنوينها للتفخيم، والجار والمجرور في موضع الصفة لها، وإيقاع الإرسال عليها هنا كإيقاعه عليها في قوله سبحانه: ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر: 2] والمعنى على ما في الكشاف يفصل في هذه الليلة كل أمر لأن من عادتنا أن نرسل رحمتنا وفصل الجزء: 13 ¦ الصفحة: 113 كل أمر من قسمة الأرزاق وغيرها من باب الرحمة أي إن المقصود الأصلي بالذات من ذلك الرحمة أو تصدر الأوامر من عندنا لأن من عادتنا ذلك والأوامر الصادرة من جهته تعالى من باب الرحمة أيضا لأن الغاية لتكليف العباد تعريضهم للمنافع، وفيه كما قيل إشارة إلى أن جعله تعليلا لقوله سبحانه: أمرا من عندنا إنما هو على تقدير أن يراد بالأمر مقابل النهي وهو يجري على تقديري المصدرية والحالية. وفي الكشف أن قوله: يفصل إلخ أو تصدر الأوامر إلخ تبيين لمعنى التعليل على التفسيرين في يُفْرَقُ لأنه أما بمعنى الفصل على الحقيقة من قسمة الأرزاق وغيرها أو بمعنى يؤمر والشأن المطلوب يكون مأمورا به لا محالة فحاصله يرجع إلى قوله: أو تصدر الأوامر من عندنا لا لوجهي التعليل من تعلقه بيفرق أو بأمرا فإن تعلقه بأمرا إنما يصح إذا نصب على الاختصاص وإذ ذاك ليس الأمر ما يقابل النهي لأن الأمر إذا كان المقابل فهو إما مصدر وإنما يعلل فعله وإما حال مؤكدة فيكون راجعا إلى تعليل الإنزال المخصوص وليس المقصود وإنما لم يذكر المعنى على تقدير تعلقه بأمرا لأن المعنى الأول يصلح تفسيرا له أيضا انتهى. والظاهر كون ذلك تبيينا لوجهي التعليل، وما ذكر في نفيه لا يخلو عن بحث كما يعرف بالتأمل، واعتبار العادة في بيان المعنى جاء من كنا فإنه يقال: كان يفعل كذا لما تكرر وقوعه وصار عادة كما صرحوا به في الكتب الحديثية وغيرها ولإفادة ذلك عدل عن إنا مرسلون الاخصر وقوله سبحانه: مِنْ رَبِّكَ وضع فيه الظاهر موضع الضمير والأصل منا فجيء بلفظ الرب مضافا إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم على وجه تخصيص الخطاب به صلّى الله عليه وسلّم تشريفا له عليه الصلاة والسلام ودلالة على أن كونه سبحانه ربك وأنت مبعوث رحمة للعالمين مما يقتضي أن يرسل الرحمة. وقال الطيبي: خص الخطاب برسوله عليه الصلاة والسلام والمراد العموم، والأصل من ربكم وجيء بلفظ الرب ليؤذن بأن المربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين وليكون تمهيده يبتنى عليه التعليل الآتي المتضمن للتعريض بواسطة الحصر بأن آلهتهم لا تسمع ولا تبصر ولا تغني شيئا وتعقب بأنه لو أريد العموم لفاتت النكتة المذكورة ولزم أن يدخل المؤمنون في قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ وما بعده وليس المعنى عليه وفي القلب منه شيء وفسر بعضهم الرحمة المرسلة بنبينا صلّى الله عليه وسلّم ولا يخفى أن صحة التعليل تأبى ذلك. وجوز أن يكون قوله تعالى: إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ بدلا من قوله سبحانه: إنا كنا منذرين الواقع تعليلا لإنزال الكتاب بدل كل أو اشتمال باعتبار الإرسال والإنذار، ويكون رَحْمَةً حينئذ مفعولا له أي أنزلنا القرآن لأن عادتنا إرسال الرسل والكتب إلى العباد لأجل الرحمة عليهم واختيار كون الرحمة مفعولا له ليتطابق البدل والمبدل منه إذ معنى المبدل منه فاعلين الإنذار ويطابقه فاعلين الإرسال ولم يجوز كونها كذلك على وجه التعليل بل أوجب كونها مفعولا به ليصح إذ لو قيل فيها تفصيل كل شأن حكيم لأنا فاعلون الإرسال لأجل الرحمة لم يفد أن الفصل رحمة ولا أنه سبحانه مرسل فلا يستقيم التعليل قيل وينصر نصب رحمة على المفعول قراءة الحسن وزيد بن علي برفعها لأن الكلام عليه جملة مستأنفة أي هي رَحْمَةً تعليلا للإرسال فيلائم القول بأنها في قراءة النصب مفعول له وليطابق قراءتهما في كون معنى إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ إنا كنا فاعلين الإرسال، وقال بعض أجلة المحققين: إن القول بأنه تعليل أظهر من القول بأنه بدل ليكون الكلام على نسق في التعليل غب التعليل، ولما ذكر في الحالة المقتضية للإبدال ولوقوع الفصل، وأشار على ما قيل بما ذكر في الحالة المقتضية للإبدال بأن المبدل منه غير مقصود وأنه في حكم السقوط وهاهنا ليس كذلك، وتعقب هذا بأنه أغلبي لا مطرد وقوله: لوقوع الفصل أي بين البدل والمبدل منه بأن الفاصل غير أجنبي فلا يضر الفصل به فتدبر، وجوز كون رحمة مصدرا لرحمنا مقدر وكونها حالا من ضمير الجزء: 13 ¦ الصفحة: 114 مُرْسِلِينَ وكونها بدلا من أَمْراً فلا تغفل إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لكل مسموع فيسمع أقوال العباد الْعَلِيمُ لكل معلوم فيعلم أحوالهم، وتوسيط الضمير مع تعريف الطرفين لإفادة الحصر، والجملة تحقيق لربوبيته عز وجل وأنها لا تحق إلا لمن هذه نعوته، وفي تخصيص السَّمِيعُ الْعَلِيمُ على ما قال الطيبي إدماج لوعيد الكفار ووعد المؤمنين الذين تلقوا الرحمة بأنواع الشكر رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما بدل من رَبِّكَ أو بيان أو نعت. وقرأ غير واحد من السبعة والأعرج وابن أبي إسحاق وأبو جعفر وشيبة بالرفع على أنه خبر آخر لإن أو خبر مبتدأ محذوف أي هو رب، والجملة مستأنفة لإثبات ما قبلها وتعليله إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي إن كنتم ممن عنده شيء من الإيقان وطرف من العلوم اليقينية على أن الوصف المتعدي منزل منزلة اللازم لعدم القصد إلى ما يتعلق به، وجواب الشرط محذوف أي إن كنتم من أهل الإيقان علمتم كونه سبحانه رب السموات والأرض لأنه من أظهر اليقينيات دليلا وحينئذ يلزمكم القول بما يقتضيه مما ذكر أولا، ويجوز أن يكون مفعوله مقدرا أي إن كنتم موقنين في إقراركم إذا سئلتم عمن خلق السموات والأرض فقلتم الله تعالى خلقهن، والجواب أيضا محذوف أي إن كنتم موقنين في إقراركم بذلك علمتم ما يقتضيه مما تقدم لظهور اقتضائه إياه، وجعل غير واحد الجواب على الوجهين تحقق عندكم ما قلناه، ولم يجوزوا جعله مضمون رَبِّ السَّماواتِ إلخ لأنه سبحانه كذلك أيقنوا أم لم يوقنوا فلا معنى لجعله دالا عليه، وكذا جعله مضمون ما بعد بل هذا مما لا يحسن باعتبار العلم أيضا. وفي هذا الشرط تنزيل إيقانهم منزلة عدمه لظهور خلافه عليهم، وهو مراد من قال: إنه من باب تنزيل العالم منزلة الجاهل لعدم جريه على موجب العلم، قيل: ولا يصح أن يقال: إنهم نزلوا منزلة الشاكرين لمكان قوله سبحانه بعد: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ ولا أرى بأسا في أن يقال: إنهم نزلوا أولا كذلك ثم سجل عليهم بالشك لأنهم وإن أقروا بأنه عز وجل رب السموات والأرض لم ينفكوا عن الشك لإلحادهم في صفاته سبحانه وإشراكهم به تعالى شأنه. وجوز أن يكون مُوقِنِينَ مجازا عن مريدين الإيقان والجواب محذوف أيضا أي إن كنتم مريدين الإيقان فاعلموا ذلك، وفيه بعد، وأما جعل إِنْ نافية كما حكاه النيسابوري فليس بشيء كما لا يخفى لا إِلهَ إِلَّا هُوَ جملة مستأنفة مقررة لما قبلها، وقيل: خبر لمبتدأ محذوف أي هو سبحانه لا إله إلا هو وجملة المبتدأ وخبره مستأنفة مقررة لذلك، وقيل: خبر آخر لإن على قراءة «رب السموات» بالرفع وجعله خبرا، وقيل: خبر له على تلك القراءة وما بينهما اعتراض يُحْيِي وَيُمِيتُ مستأنفة كما قبلها، وكذا قوله تعالى: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ بإضمار مبتدأ أو بدل من رَبِّ السَّماواتِ على تلك القراءة أو بيان أو نعت له، وقيل: فاعل ليميت، وفي يُحْيِي ضمير راجع إليه والكلام من باب التنازع أو إلى رَبِّ السَّماواتِ، وقيل: يُحْيِي وَيُمِيتُ خبر آخر لرب السموات وكذا رَبُّكُمْ وقيل: هما خبران آخران لإن، وقرأ ابن أبي إسحق وابن محيصن وأبو حيوة والزعفراني وابن مقسم والحسن وأبو موسى وعيسى بن سليمان وصالح كلاهما عن الكسائي بالجر بدلا من «رب السموات» على قراءة الجر، وقرأ أحمد بن جبير الانطاكي بالنصب على المدح. بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ إضراب ابطالي أبطل به إيقانهم لعدم جريهم على موجبه، وتنوين «شكّ» للتعظيم أي في شك عظيم يَلْعَبُونَ لا يقولون ما يقولون مما هو مطابق لنفي الأمر عن جد وإذعان بل يقولونه مخلوطا بهزء ولعب وهذه الجملة خبر بعد خبر لهم. وجوز أن تكون هي الخبر والظرف متعلق بالفعل قدم للفاصلة، والالتفات عن خطابهم لفرط عنادهم وعدم التفاتهم، والفاء في قوله تعالى: فَارْتَقِبْ لترتيب الارتقاب أو الأمر به على ما قبلها فإن كونهم في شك يلعبون مما الجزء: 13 ¦ الصفحة: 115 يوجب ذلك حتما أي فانتظر لهم يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ أي يوم تأتي بجدب ومجاعة فإن الجائع جدا يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان وهي ظلمة تعرض للبصر لضعفه فيتوهم ذلك فإطلاق الدخان على ذلك المرئي باعتبار أن الرائي يتوهمه دخانا، ولا يأباه وصفه بمبين وإرادة الجدب والمجاعة منه مجاز من باب ذكر المسبب وإرادة السبب أو لأن الهواء يتكدر سنة الجدب بكثرة الغبار لقلة الأمطار المسكنة له فهو كناية عن الجدب وقد فسر أبو عبيدة الدخان به، وقال القتبي: يسمى دخانا ليبس الأرض حتى يرتفع منها ما هو كالدخان، وقال بعض العرب: نسمي الشر الغالب دخانا، ووجه ذلك بأن الدخان مما يتأذى به فأطلق على كل مؤذ يشبهه، وأريد به هنا الجدب ومعناه الحقيقي معروف، وقياس جمعه في القلة أدخنة وفي الكثرة دخنان نحو غراب وأغربة وغربان، وشذوا في جمعه على فواعل فقالوا: دواخن كأنه جمع داخنة تقديرا، وقرينة التجوز فيه هنا حالية كما ستعلمه إن شاء الله تعالى من الخبر، والمراد باليوم مطلق الزمان وهو مفعول به لارتقب أو ظرف له والمفعول محذوف أي ارتقب وعد الله تعالى في ذلك اليوم وبالسماء جهة العلو، وإسناد الإتيان بذلك إليهما من قبيل الإسناد إلى السبب لأنه يحصل بعدم إمطارها ولم يسند إليه عز وجل مع أنه سبحانه الفاعل حقيقة ليكون الكلام مع سابقه المتضمن إسناد ما هو رحمة إليه تعالى شأنه على وزان قوله تعالى أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7] وتفسير الدخان بما فسرناه به مروي عن قتادة وأبي العالية والنخعي والضحاك ومجاهد ومقاتل وهو اختيار الفراء والزجاج. وقد روي بطرق كثيرة عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، أخرج أحمد والبخاري وجماعة عن مسروق قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: إني تركت رجلا في المسجد يقول في هذه الآية يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ إلخ: يغشى الناس قبل يوم القيامة دخان، فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم ويأخذ المؤمن منه كهيئة الزكام فغضب وكان متكئا فجلس ثم قال: من علم منكم علما فليقل به، ومن لم يكن يعلم فليقل الله تعالى أعلم. فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم الله تعالى أعلم، وسأحدثكم عن الدخان إن قريشا لما استصعبت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأبطؤوا عن الإسلام قال: اللهم أعنّي عليهم بسبع كسبع يوسف فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينه كهيئة الدخان من الجوع، فأنزل الله تعالى فَارْتَقِبْ- إلى- أَلِيمٌ فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقيل: يا رسول الله استسق الله تعالى لمضر فاستسقى لهم عليه الصلاة والسلام، فسقوا فأنزل الله تعالى إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ [الدخان: 15] الخبر . وفي رواية أخرى صحيحة أنه قال: لما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الناس إدبارا قال: اللهم سبعا كسبع يوسف فأخذتهم سنة حتى أكلوا الميتة والجلود والعظام، فجاءه أبو سفيان وناس من أهل مكة فقالوا: يا محمد إنك تزعم أنك قد بعثت رحمة وإن قومك قد هلكوا، فادع الله تعالى فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسقوا الغيث فأطبقت عليهم سبعا فشكا الناس كثرة المطر فقال: اللهم حوالينا ولا علينا فانحدرت السحابة عن رأسه فسقي الناس حولهم قال: فقد مضت آية الدخان وهو الجوع الذي أصابهم الحديث ، وظاهره يدل كما في تاريخ ابن كثير على أن القصة كانت بمكة فالآية مكية. وفي بعض الروايات أن قصة أبي سفيان كانت بعد الهجرة فلعلها وقعت مرتين، وقد تقدم ما يتعلق بذلك في سورة المؤمنين. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق أبي لهيعة عن عبد الرحمن الأعرج أنه قال في هذا الدخان: كان في يوم فتح مكة وفي البحر عنه أنه قال يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ وهو يوم فتح مكة لما حجبت السماء الغبرة، وفي رواية ابن سعيد أن الأعرج يروي عن أبي هريرة أنه قال: كان يوم فتح مكة دخان، وهو قول الله تعالى فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 116 مُبِينٍ ويحسن على هذا القول أن يكون كناية عما حل بأهل مكة في ذلك اليوم من الخوف والذل ونحوهما، وقال علي كرم الله تعالى وجهه وابن عمر وابن عباس وأبو سعيد الخدري وزيد بن علي والحسن: إنه دخان يأتي من السماء قبل يوم القيامة يدخل في أسماع الكفرة حتى يكون رأس الواحد كالرأس الحنيذ ويعتري المؤمن كهيئة الزكام وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه ليس فيه خصاص. وأخرج ابن جرير عن حذيفة بن اليمان مرفوعا أول الآيات الدجال ونزول عيسى ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر تقيل معهم إذا قالوا والدخان، قال حذيفة: يا رسول الله وما الدخان؟ فتلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ وقال: يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة، أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكمة، وأما الكافر فيكون بمنزلة السكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره، فالدخان على ظاهره والمعنى فارتقب يوم ظهور الدخان. وحكى السفاريني في البحور الزاخرة عن ابن مسعود أنه كان يقول: هما دخانان مضى واحد والذي بقي يملأ ما بين السماء والأرض ولا يصيب المؤمن إلا بالزكمة وأما الكافر فيشق مسامعه فيبعث الله تعالى عند ذلك الريح الجنوب من اليمن فتقبض روح كل مؤمن ويبقى شرار الناس، ولا أظن صحة هذه الرواية عنه. وحمل ما في الآية على ما يعم الدخانين لا يخفى حاله، وقيل: المراد بيوم تأتي السماء إلخ يوم القيامة فالدخان يحتمل أن يراد به الشدة والشر مجازا وأن يراد به حقيقته. وقال الخفاجي: الظاهر عليه أن يكون قوله تعالى: تَأْتِي السَّماءُ إلى آخره استعارة تمثيلية إذ لا سماء لأنه يوم تشقق فيه السماء فمفرداته على حقيقتها، وأنت تعلم أنه لا مانع من القول بأن السماء كما سمعت أولا بمعنى جهة العلو سلمنا أنها بمعنى الجرم المعروف لكن لا مانع من كون الدخان قبل تشققها بأن يكون حين يخرج الناس من القبور مثلا بل لا مانع من القول بأن المراد من إتيان السماء بدخان استحالتها إليه بعد تشققها وعودها إلى ما كانت عليه أولا كما قال سبحانه: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ [فصلت: 11] ويكون فناؤها بعد صيرورتها دخانا. هذا والأظهر حمل الدخان على ما روي عن ابن مسعود أولا لأنه أنسب بالسياق لما أنه في كفار قريش وبيان سوء حالهم مع أن في الآيات بعد ما هو أوفق به، فوجه الربط أنه سبحانه لما ذكر من حالهم مقابلتهم الرحمة بالكفران وأنهم لم ينفعوا بالمنزل والمنزل عليه عقب بقوله تعالى شأنه فَارْتَقِبْ يَوْمَ إلخ، للدلالة على أنهم أهل العذاب والخذلان لا أهل الإكرام والغفران يَغْشَى النَّاسَ أي يحيط أنهم والمراد بهم كفار قريش ومن جعل الدخان ما هو من أشراط الساعة حمل الناس على من أدركه ذلك الوقت، ومن جعل ذلك يوم القيامة حمل الناس على العموم، والجملة صفة أخرى للدخان. وقوله تعالى: هذا عَذابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ في موضع نصب بقول مقدر وقع حالا أي قائلين أو يقولون هذا إلخ. والإشارة للتفخيم، وقيل: يجوز أن يكون هذا عذاب أليم إخبارا منه عز وجل تهويلا للأمر كما قال سبحانه وتعالى في قصة الذبيح إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ [الصافات: 106] فهو استئناف أو اعتراض والإشارة بهذا للدلالة على قرب وقوعه وتحققه، وما تقدم أولى، وقوله سبحانه: رَبَّنَا إلى آخره كما صرح به غير واحد من المفسرين وعد منهم بالإيمان إن كشف جلّ وعلا عنهم العذاب، فكأنهم قالوا: ربنا إن كشفت عنا العذاب آمنا لكن عدلوا عنه إلى ما في المنزل إظهارا لمزيد الرغبة وحملوه على ذلك لما في بعض الروايات أنه لما اشتد القحط بقريش مشى أبو سفيان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وناشده الرحم وواعده إن دعا لهم وزال ما بهم آمنوا والمراد بقوله سبحانه وتعالى: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 117 أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى نفي صدقهم في الوعد وأن غرضهم إنما هو كشف العذاب والخلاص أي كيف يتذكرون أو من أين يتذكرون بذلك ويفون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب عنهم. وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ أي والحال أنهم شاهدوا من دواعي التذكر وموجبات الاتعاظ ما هو أعظم من ذلك في إيجابهما حيث جاءهم رسول عظيم الشأن ظاهر أمر رسالته بالآيات والمعجزات التي تخر لها صم الجبال أو مظهر لهم مناهج الحق بذلك ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ أي عن ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام وهو هو والجملة عطف على قوله تعالى وقَدْ جاءَهُمْ إلى آخره، وعطفها على قوله سبحانه: رَبَّنَا إلخ لأنه على معنى قالوا: رَبَّنَا إلخ ليس بذاك، وثم للاستبعاد والتراخي الرتبي وإلا فهم قد تولوا ريثما جاءهم وشاهدوا منه ما شاهدوا مما يوجب الإقبال إليه صلّى الله عليه وسلّم وَقالُوا مع ذلك في حقه عليه الصلاة والسلام. مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ أي قالوا تارة: يعلمه عداس غلام رومي لبعض ثقيف وأخرى مجنون أو يقول بعضهم كذا وآخرون كذا ولم يقل ومجنون بالعطف لأن المقصود تعديد قبائحهم وقرأ زر بن حبيش معلم بكسر اللام فمجنون صفة له وكأنهم أرادوا رسول مجنون وحاشاه ثم حاشاه صلّى الله عليه وسلّم. إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ جواب من جهته تعالى عن قولهم وإخبار بالعود على تقدير الكشف أي إن كشفنا عنكم العذاب كشفا قليلا أو زمانا قليلا عدتم، والمراد على ما قيل عائدون إلى الكفر وأنت تعلم أن عودهم إليه يقتضي إيمانهم وقد مر أنهم لم يؤمنوا وإنما وعدوا الإيمان فإما أن يكون وعدهم منزلا منزلة إيمانهم أو المراد عائدون إلى الثبات على الكفر أو على الإقرار والتصريح به وقال قتادة: هذا توعد بمعاد الآخرة وهو خلاف الظاهر جدا ومن قال: إن الدخان يوم القيامة قال إن قوله سبحانه: إِنَّا كاشِفُوا إلى آخره وعد بالكشف على نحو قوله عز وجل: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الأنعام: 28] ومن قال المراد به ما هو من أشراط الساعة قال بإمكان الكشف وعدم انقطاع التكليف عند ظهوره وإن كان من الأشراط بل جاء في بعض الآثار أنه يمكث أربعين يوما وليلة فيكشف عنهم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 118 فيعودون إلى ما كانوا عليه من الضلال، وحمله على ما روي عن ابن مسعود ظاهر الاستقامة لا قيل فيه ولا قال، وقوله سبحانه: وَقَدْ جاءَهُمْ إلخ قوي الملاءمة له وهو بعيد الملاءمة للقول المروي عن الأمير كرم الله تعالى وجهه ومن معه فقد احتيج في تحصيلها إلى جعل الإسناد من باب إسناد حال البعض إلى الكل أو حمل الناس على الكفار الموجودين في ذلك الوقت والأمر على القول بأنه ما كان في فتح مكة أهون إلا أنه مع ذلك ليس كقول ابن مسعود فتأمل يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى هو يوم بدر عند ابن مسعود وأخرجه عبد بن حميد وابن جرير عن أبي بن كعب ومجاهد والحسن وأبي العالية وسعيد بن جبير ومحمد بن سيرين وقتادة وعطية، وأخرجه ابن مردويه عن ابن عباس. وأخرج ابن جرير وعبد بن حميد بسند صحيح عن عكرمة. قال: قال ابن عباس قال ابن مسعود البطشة الكبرى يوم بدر، وأنا أقول: هي يوم القيامة ونقل في البحر حكاية أنه يوم القيامة عن الحسن وقتادة أيضا. والظرف معمول لما دل عليه قوله تعالى: إِنَّا مُنْتَقِمُونَ أي إنا ننتقم يوم إذ إنا منتقمون، وقيل لمنتقمون ورده الزجاج وغيره بأن ما بعد أن لا يجوز أن يعمل فيما قبلها، وقيل لعائدون على معنى إنكم لعائدون إلى العذاب يوم نبطش. وقيل بكاشفوا العذاب وليس بشيء وقيل لذكرهم أو اذكر مقدرا، وقيل هو بدل من يَوْمَ تَأْتِي إلخ. وقرىء «نبطش» بضم الطاء وقرأ الحسن وأبو رجاء وطلحة بخلاف عنه نَبْطِشُ بضم النون من باب الأفعال على معنى نحمل الملائكة عليهم السلام على أن يبطشوا بهم أو نمكنهم من ذلك فالمفعول به محذوف للعلم وزيادة التهويل، وجعل البطشة على هذا مفعولا مطلقا على طريقة أنبتكم نباتا، وقال ابن جني، وأبو حيان: هي منصوبة بفعل مضمر يدل عليه الظاهر أي يوم نبطش من نبطشه فيبطش البطشة الكبرى، وقال ابن جني: ولك أن تنصبها على أنها مفعول كأنه به قيل: يوم نقوي البطشة الكبرى عليهم ونمكنها منهم كقولك: يوم نسلط القتل عليهم ونوسع الأخذ منهم، وفي القاموس بطش به ويبطش ويبطش أخذ بالعنف والسطوة كابطشه والبطش الأخذ الشديد في كل شيء والبأس اهـ فلا تغفل وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أي امتحناهم بإرسال موسى عليه السلام إليهم على أنه من فتن الفضة عرضها على النار فيكون بمعنى الامتحان وهو استعارة والمراد عاملناهم معاملة الممتحن ليظهر حالهم لغيرهم أو أوقعناهم في الفتنة على أنه بمعناه المعروف والمراد بالفتنة حينئذ ما يفتن به الشخص أي يغتر ويغفل عما فيه صلاحه كما في قوله تعالى: أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [الأنفال: 28] وفسرت هنا بالإمهال وتوسيع الرزق. وفسر بعضهم الفتنة بالعذاب ثم تجوز به عن المعاصي التي هي سبب وهو تكلف ما لا داعي له. وقرىء «فتّنّا» بتشديد التاء إما لتأكيد معناه المصدري أو لتكثير المفعول أو الفعل. وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ أي مكرم معظم عند الله عز وجل أو عند المؤمنين أو عنده تعالى وعندهم أو كريم في نفسه متصف بالخصال الحميدة والصفات الجليلة حسبا ونسبا، وقال الراغب: الكرم إذا وصف به الإنسان فهو اسم للأخلاق والأفعال المحمودة التي تظهر منه ولا يقال هو كريم حتى يظهر ذلك منه، ونقل عن بعض العلماء أن الكرم كالحرية إلا أن الحرية قد تقال في المحاسن الصغيرة والكبيرة والكرم لا يقال إلا في المحاسن الكبيرة. وقال الخفاجي: أصل معنى الكريم جامع المحامد والمنافع وادعى لذلك أن تفسيره به أحسن من تفسيره بالتفسيرين السابقين أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ أطلقوهم وسلموهم إلي، والمراد بهم بنو إسرائيل الذين كان فرعون مستعبدهم، والتعبير عنهم بعباد الله تعالى للإشارة إلى أن استعباده إياهم ظلم منه، والأداء مجاز عما ذكر، وهذا كقوله عليه السلام فأرسل معنى بنا إسرائيل ولا تعذبهم وروي ذلك عن ابن زيد ومجاهد وقتادة أو أدوا إلى حق الله تعالى من الإيمان وقبول الجزء: 13 ¦ الصفحة: 119 الدعوى يا عباد الله على أن مفعول أَدُّوا محذوف وعباد منادى وهو عام لبني إسرائيل والقبط، والأداء بمعنى الفعل للطاعة وقبول الدعوى وروي هذا عن ابن عباس، وأن عليهما قيل مصدرية قبلها حرف جر مقدر متعلق بجاءهم أي بأن أدوا، وتعقب بأنه لا معنى لقولك: جاءهم بالتأدية إلى، وحمله على طلب التأدية إلى لا يخلو عن تعسف ورد بأنه بتقدير القول وهو شائع مطرد فتقديره بأن قال أدوا إلي ولا يخلو عن تكلف ما ومع هذا الأمر مبني على جواز وصل المصدرية بالأمر والنهي وهو غير متفق عليه، نعم الأصح الجواز. وقيل: هي مخففة من الثقيلة، وتعقب بأنها حينئذ يقدر معها ضمير الشأن ومفسره لا يكون إلا جملة خبرية وأيضا لا بد أن يقع بعدها النفي أو قد أو السين أو سوف أو لو وأن يتقدمها فعل قلبي ونحوه وأجيب بأن مجيء الرسول يتضمن معنى فعل التحقيق كالإعلام والفصل المذكور غير متفق عليه، فقد ذهب المبرد تبعا للبغاددة إلى عدم اشتراطه، والقول بأنه شاذ يصان القرآن عن مثله غير مسلم واشتراط كون مفسر ضمير الشأن جملة خبرية فيه خلاف على ما يفهم من كلام بعضهم، ولم يذكر في المغني في الباب الرابع في الكلام على ضمير الشأن إلا اشتراط كون مفسره جملة ولم يشترط فيها الخبرية ولم يتعرض لخلاف، نعم قال في الباب الخامس: النوع الثامن اشتراطهم في بعض الجملة الخبرية وفي بعضها الإنشائية وعد من الأول خبران وضمير الشأن لكنه قال بعد: وينبغي أن يستثنى من ذلك في خبري أن وضمير الشأن خبر أن المفتوحة إذا خففت فإنه يجوز أن يكون جملة دعائية كقوله تعالى وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها [النور: 9] في قراءة من قرأ أن وغضب بالفعل والاسم الجليل فاعل. وحقق بعض الأجلة أن الإخبار عن ضمير الشأن بجملة إنشائية جائز عند الزمخشري أو هي مفسرة وقد تقدم ما يدل على القول دون حروفه لأن مجيء الرسول يكون برسالة ودعوة وكأن التفسير لمتعلقه المقدر أي جاءهم بالدعوة وهي أن أدوا إلى عباد الله إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ ولا تستكبروا عليه سبحانه بالاستهانة بوحيه جلّ شأنه ورسوله عليه السلام وَأَنْ كالتي قبلها، والمعنى على المصدرية بكفكم عن العلو على الله تعالى إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ تعليل للنهي أي آتيكم بحجة واضحة لا سبيل إلى إنكارها أو موضحة صدق دعواي وآتِيكُمْ على صيغة الفاعل أو المضارع، ولا يخفى حسن ذكر الأمين مع الأداء والسلطان مع العلاء، وذكر أن في الأول ترشيحا للاستعارة المصرحة أو المكنية بجعلهم كأنهم مال للغير في يده أمره بدفعه لمن يؤتمن عليه وفي الثاني تورية عن معنى الملك مرشحة بقوله لا تَعْلُوا وقرأت فرقة «أنّي» بفتح الهمزة فقيل هو أيضا على تعليل النهي بتقدير اللام، وقيل: هو متعلق بما دخله النهي نظير قولك لمن غضب من قول الحق له لا تغضب لأن قيل لك الحق وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أي التجأت إليه تعالى وتوكلت عليه جل شأنه أَنْ تَرْجُمُونِ من أن ترجموني أي تؤذوني ضربا أو شتما أو أن تقتلوني، وروي هذا عن قتادة وجماعة قيل: لما قال: أن لا تعلوا على الله توعدوه بالقتل فقال ذلك، وفي البحر أن هذا كان قبل أن يخبره عز وجل بعجزهم عن رجمه بقوله سبحانه: فلا يصلون إليكما والجملة عطف على الجملة المستأنفة، وقرأ أبو عمرو والأخوان عت بإدغام الذال في التاء وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ فكونوا بمعزل مني لا علي ولا لي ولا تتعرضوا لي بسوء فليس ذلك جزاء من يدعوكم إلى ما فيه فلاحكم، وقيل: المعنى وإن لم تؤمنوا لي فلا موالاة بيني وبين من لا يؤمن فتنحوا واقطعوا أسباب الوصلة عني، ففي الكلام حذف الجواب وإقامة المسبب عنه مقامه والأول أوفق بالمقام، والاعتزال عليه عبارة عن الترك وإن لم تكن مفارقة بالأبدان فَدَعا رَبَّهُ بعد أن أصروا على تكذيبه عليه السلام أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ أي بأن هؤلاء إلخ فهو بتقدير الباء صلة الدعاء كما يقال دعا بهذا الدعاء، وفيه اختصار كأنه قيل: إن هؤلاء قوم مجرمون تناهى أمرهم في الكفر وأنت الجزء: 13 ¦ الصفحة: 120 أعلم بهم فافعل بهم ما يستحقونه قيل كان دعاؤه عليه السلام اللهم عجل لهم ما يستحقون بإجرامهم، وقيل: قوله رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ إلى قوله فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس: 85- 88] وإنما ذكر الله سبحانه السبب الذي استوجبوا به الهلاك ليعلم منه دعاؤه والإجابة معا وإن دعاءه كان على يأس من إيمانهم وهذا من بليغ اختصارات الكتاب المعجز. وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى والحسن في رواية وزيد بن علي بكسر همزة إن وخرج على إضمار القول أي قائلا إن هؤلاء إلخ فَأَسْرِ بِعِبادِي وهم بنو إسرائيل ومن آمن به من القبط لَيْلًا بقطع من الليل، والكلام بإضمار القول أما بعد الفاء أي فقال أسر إلخ فالفاء للتعقيب والترتيب والقول معطوف على ما قبله أو قبلها كأنه قيل قال: أو فقال إن كان الأمر كما تقول: فاسر إلخ، فالفاء واقعة في جواب شرط مقدر وهو وجوابه مقول القول المقدر مع الفاء أو بدونها على أنه استئناف والإضمار الأول أولى لقلة التقدير مع أن تقدير أن لا يناسب إذ لا شك فيه تحقيقا ولا تنزيلا وجعلها بمعنى إذا تكلف على تكلف وأبو حيان لا يجيز حذف الشرط وإبقاء جوابه في مثل هذا الموضع وقد شنع على الزمخشري في تجويزه، وقرأ نافع وابن كثير «فاسر» بوصل الهمزة من سرى. إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ يتبعكم فرعون وجنوده إذا علموا بخروجكم فالجملة مستأنفة لتعليل الأمر بالسرى ليلا ليتأخر العلم به فلا يدركون والتأكيد لتقدم ما يلوح بالخبر وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً أي ساكنا كما قال ابن عباس يقال رها البحر يرهو رهوا سكن ويقال: جاءت الخيل رهوا أي ساكنة، قال الشاعر: والخيل تمزع رهوا في أعنتها ... كالطير ينجو من الشؤبوب ذي البرد ويقال افعل ذلك رهوا أي ساكنا على هينة وأنشد غير واحد للقطامي في نعت الركاب: يمشين رهوا فلا الأعجاز خاذلة ... ولا الصدور على الأعجاز تتكل والظاهر أنه مصدر في الأصل يؤول باسم الفاعل، وجوز أن يكون بمعنى الساكن حقيقة وعن مجاهد رهوا أي منفرجا مفتوحا قال أبو عبيدة رها الرجل يرهو رهوا فتح بين رجليه، وعن بعض العرب أنه رأى جملا فالجا أي ذا سنامين فقال: سبحان الله تعالى رهو بين سنامين قالوا: أراد فرجة واسعة، والظاهر أيضا أنه مصدر مؤول أو فيه مضاف مقدر أي ذا فرجة قال قتادة: أراد موسى عليه السلام بعد أن جاوز البحر هو ومن معه أن يضربه بعصاه حتى يلتئم كما ضربه أولا فانفلق لئلا يتبعه فرعون وجنوده فأمر بأن يتركه رهوا أي مفتوحا منفرجا أو ساكنا على هيئته قارا على حاله من انتصاب الماء وكون الطريق يبسا ولا يضربه بعصاه ولا يغير منه شيئا ليدخله القبط فإذا حصلوا فيه أطبقه الله تعالى عليهم، وذلك قوله تعالى: إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ فهو تعليل للأمر بتركه رهوا، وقيل: رهوا سهلا، وقيل: يابسا، وقيل: جددا، وقيل: غير ذلك والكل بيان لحاصل المعنى، وزعم الراغب أن الصحيح أن الرهو السعة من الطريق ثم قال: ومنه الرهاء المفازة المستوية ويقال لكل جوبة مستوية يجتمع فيها الماء رهو ومنه قيل: لا شفعة في رهو. والحق أن ما ذكره من جملة إطلاقاته وأما أنه الصحيح فلا وقرىء «أنهم» بالفتح أي لأنهم كَمْ تَرَكُوا أي كثيرا تركوا بمصر مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ حسن شريف في بابه، وأريد بذلك كما روي عن قتادة المواضع الحسان من المجالس والمساكن وغيرها. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس وابن مردويه عن جابر أنه أريد به المنابر، وروي ذلك عن مجاهد وابن جبير أيضا، وقيل: السرر في الحجال والأول أولى، وقرأ ابن هرمز. وقتادة. وابن السميفع. ونافع في رواية خارجة «مقام» الجزء: 13 ¦ الصفحة: 121 بضم الميم وَنَعْمَةٍ أي تنعم، قال الراغب: النعمة بالفتح التنعم وبناؤها بناء المرة من الفعل كالضربة والشتمة والنعمة بالكسر الحالة الحسنة وبناؤها بناء التي يكون عليها الإنسان كالجلسة والركبة وتقال للجنس الصادق بالقليل والكثير واختير هاهنا تفسير النعمة بالشيء المنعم به لأنه أنسب للترك وهي كثيرا ما تكون بهذا المعنى. وقرأ أبو رجاء «ونعمة» بالنصب وخرج بالعطف على كَمْ، وقيل: هي معطوفة على محل ما قبلها كأنه قيل: كم تركوا جنات وعيونا وزروعا ومقاما كريما ونعما كانُوا فِيها فاكِهِينَ طيبي الأنفس وأصحاب فاكهة ففاكه كلابن وتامر، وقال القشيري: لاهين، وقرأ الحسن. وأبو رجاء «فكهين» بغير ألف والفكه يستعمل كثيرا في المستخف المستهزئ فالمعنى مستخفين بشكر النعمة التي كانوا فيها. وقال الجوهري: فكه الرجل بالكسر فهو فكه إذا كان مزاحا والفكه أيضا الأشر كَذلِكَ قال الزجاج: المعنى الأمر كذلك، والمراد التأكيد والتقرير فيوقف على ذلك فالكاف في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف أو الجار والمجرور كذلك، وقيل: الكاف في موضع نصب أي نفعل فعلا كذلك لمن نريد إهلاكه، وقول الكلبي: أي كذلك أفعل بمن عصاني ظاهر فيما ذكر، وقال الزمخشري: الكاف منصوبة على معنى مثل ذلك الإخراج أي المفهوم مما تقدم أخرجناهم منها وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ عطف على تركوا والجملة معترضة فيما عدا القول الأخير وعلى أخرجناهم فيه، وقيل: الكاف منصوبة على معنى تركوا تركا مثل ذلك فالعطف على تَرَكُوا بدون اعتراض وهو كما ترى، والمراد بالقوم الآخرين بنو إسرائيل وهم مغايرون للقبط جنسا ودينا. ويفسر ذلك قوله تعالى في سورة [الشعراء: 59] كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ وهو ظاهر في أن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون وملكوها وبه قال الحسن. وقيل: المراد بهم غير بني إسرائيل رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون وملكوها وبه قال الحسن. وقيل: المراد بهم غير بني إسرائيل ممن ملك مصر بعد هلاك القبط وإليه ذهب قتادة قال: لم يرد في مشهور التواريخ أن بني إسرائيل رجعوا إلى مصر ولا أنهم ملكوها قط وأول ما في سورة الشعراء بأنه من باب وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ [فاطر: 11] وقولك: عندي درهم ونصفه فليس المراد خصوص ما تركوه بل نوعه وما يشبهه، والإيراث: الإعطاء وقيل: المراد من إيراثها إياهم تمكينهم من التصرف فيها ولا يتوقف ذلك على رجوعهم إلى مصر كما كانوا فيها أولا، وأخذ جمع بقول الحسن وقالوا لا اعتبار بالتواريخ وكذا الكتب التي بيد اليهود اليوم لما أن الكذب فيها كثير وحسبنا كتاب الله تعالى وهو سبحانه أصدق القائلين وكتابه جلّ وعلا مأمون من تحريف المحرفين فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ مجاز عن عدم الاكتراث بهلاكهم والاعتداد بوجودهم، وهو استعارة تمثيلية تخييلية شبه حال موتهم لشدته وعظمته بحال من تبكي عليه السماء والأجرام العظام وأثبت له ذلك والنفي تابع للإثبات في التجوز كما حقق في موضعه، وقيل: هي استعارة مكنية تخييلية بأن شبه السماء والأرض بالإنسان وأسند إليهما البكاء أو تمثيلية بأن شبه حالهما في عدم تغير حالهما وبقائهما على ما كانا عليه بحال من لم يبك، وليس بشيء كما لا يخفى على من راجع كلامهم، وقد كثر في التعظيم لمهلك الشخص بكت عليه السماء والأرض وبكته الريح ونحو ذلك، قال يزيد بن مفرغ: الريح يبكي شجوه ... والبرق يلمع في غمامه وقال النابغة: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 122 بكى حارث الجولان من فقد ربه ... وحوران منه خاشع متضائل أراد بهما مكانين معروفين، وقال جرير: لما أتى خبر الزبير تواضعت ... سور المدينة والجبال الخشع وقال الفرزدق يرثي أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز: الشمس طالعة ليست بكاسفة ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا يتعجب من طلوع الشمس وكان من حقها أن لا تطلع أو تطلع كاسفة، والنجوم تروى منصوبة ومرفوعة فالنصب على المغالبة أي تغلب الشمس النجوم في البكاء نحو باكيته فبكيته، قال جار الله: كان رضي الله تعالى عنه يتهجد بالليل فتبكيه النجوم ويعدل بالنهار فتبكيه الشمس والشمس غالبة في البكاء لأن العدل أفضل من صلاة الليل، والجوهري جعلها منصوبة بكاسفة أي لا تكسف ضوء النجوم لكثرة بكائها وكأنه جعل خفاء النجوم تحت ضوء الشمس كسفا لها مجازا، وفيه أن الكسف بالمعنى المذكور غير واضح وتخلل تبكي غير مستفصح وفي حواشي الصحاح الشمس كاسفة ليست بطالعة. وفيها أن نجوم الليل ظرف أي طول الدهر كأنه من باب آتيك الشمس والقمر أي وقتهما كأنه قيل: تبكي ما يطلع النجوم والقمر، وفيه أن مثل هذا الظرف مسموع لا يثبت إلا بثبت فكيف يعدل إليه مع المعنى الواضح، وقيل: التقدير تبكي بكاء النجوم فحذف المضاف، وفيه أنه مما لا يكاد يفهم، والرفع واضح والقمر منصوب على أنه مفعول معه وهذا استطراد دعانا إليه شهرة البيت مع كثرة الخبط فيه. وأخرج الترمذي وجماعة عن أنس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ما من عبد إلا وله في السماء بابان باب يصعد منه عمله وباب ينزل منه رزقه فالمؤمن إذا مات فقداه وبكيا عليه وتلا هذه الآية فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ» وذكر أنهم لم يكونوا يعملون على وجه الأرض عملا صالحا فتفقدهم فتبكي عليهم، ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم ولا من عملهم كلام طيب ولا عمل صالح فتفقدهم فتبكي عليهم. وأخرج البيهقي في شعب الإيمان والحاكم وصححه وغيرهما عن ابن عباس قال: «إن الأرض لتبكي على المؤمن أربعين صباحا ثم قرأ الآية» وأخرج ابن المنذر وغيره عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: إن المؤمن إذا مات بكى عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء ثم تلا فَما بَكَتْ إلخ وجعلوا كل ذلك من باب التمثيل. ومن أثبت كالصوفية للأجرام السماوية والأرضية وسائر الجمادات شعورا لائقا بحالها لم يحتج إلى اعتبار التمثيل وأثبت بكاء حقيقيا لها حسبما تقتضيه ذاتها ويليق بها أو أوله بالحزن أو نحوه وأثبته لها حسب ذلك أيضا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عطاء بكاء السماء حمرة أطرافها. وأخرج ابن أبي الدنيا عن الحسن نحوه، وأخرج عن سفيان الثوري قال: كان يقال هذه الحمرة التي تكون في السماء بكاء السماء على المؤمن ولعمري ينبغي لمن لم يضحك من ذلك أن يبكي على عقله، وأنا لا أعتقد أن من ذكر من الأجلة كانوا يعتقدونه، وقيل: إن الآية على تقدير مضاف أي فما بكت عليهم سكان السماء وهم الملائكة وسكان الأرض وهم المؤمنون بل كانوا بهلاكهم مسرورين. وروي هذا عن الحسن والأحسن ما تقدم وَما كانُوا لما جاء وقت هلاكهم مُنْظَرِينَ ممهلين إلى وقت آخر أو إلى يوم القيامة بل عجل لهم في الدنيا وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ بما فعلنا بفرعون وقومه ما فعلنا مِنَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 123 الْعَذابِ الْمُهِينِ من استعباد فرعون وقتله أبناءهم واستحيائه نساءهم على الخسف والضيم مِنْ فِرْعَوْنَ بدل من العذاب على حذف المضاف والتقدير من عذاب فرعون أو جعله عليه اللعنة عين العذاب مبالغة، وجوز أن يتعلق بمحذوف يقع حالا أي كائنا من جهة فرعون، وقيل: متعلق بمحذوف واقع صفة أي كائنا أو الكائن من فرعون ولا بأس بهذا إذا لم يعد ذلك من حذف الموصول مع بعض صلته. وقرأ عبد الله «من عذاب المهين» على إضافة الموصوف إلى صفته كبقلة الحمقاء. وقرأ ابن عباس من «فرعون» على الاستفهام لتهويل العذاب أي هل تعرفون من فرعون في عتوه وشيطنته فما ظنكم بعذابه، وقيل: لتحقير فرعون بجعله غير معلوم يستفهم عنه كالنكرة لما فيه في القبائح التي لم يعهد مثلها وما بعد يناسب ما قبل كما لا يخفى. وأيا ما كان فالظاهر أن الجملة استئناف، وقيل: إنها مقول قول مقدر هو صفة للعذاب، وقدر المقول عنده إن كان تعريف العذاب للعهد ومقول إن كان للجنس فلا تغفل إِنَّهُ كانَ عالِياً متكبرا مِنَ الْمُسْرِفِينَ في الشر والفساد، والجار والمجرور إما خبر ثاني لكان أي كان متكبرا مغرقا في الإسراف، وإما حال من الضمير المستتر في عاليا أي كان متكبرا في حال إغراقه في الإسراف وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ أي اصطفينا بني إسرائيل وشرفناهم عَلى عِلْمٍ أي عالمين باستحقاقهم ذلك أو مع علم منا بما يفرط منهم في بعض الأحوال، وقيل: عالمين بما يصدر منهم من العدل والإحسان والعلم والإيمان، ويرجع هذا إلى ما قيل أولا فإن العدل وما معه من أسباب الاستحقاق، وقيل: لأجل علم فيهم، وتعقب بأنه ركيك لأن تنكير العلم لا يصادق محزه. وأجيب بأنه للتعظيم ويحسن اعتباره علة للاختيار عَلَى الْعالَمِينَ أي عالمي زمانهم كما قال مجاهد وقتادة فالتعريف للعهد أو الاستغراق العرفي فلا يلزم تفضيلهم على أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم الذين هم خير أمة أخرجت للناس على الإطلاق، وجوز أن يكون للاستغراق الحقيقي والتفضيل باعتبار كثرة الأنبياء عليهم السلام فيهم لا من كل الوجوه حتى يلزم تفضيلهم على هذه الأمة المحمدية، وقيل: المراد اخترناهم للإيحاء على الوجه الذي وقع وخصصناهم به دون العالمين، وليس بشيء، ومما ذكرنا يعلم أنه ليس في الآية تعلق حرفي جر بمعنى بمتعلق واحد لأن الأول متعلق بمحذوف وقع حالا والثاني متعلق بالفعل كقوله: ويوما على ظهر الكثيب تعذرت ... عليّ وآلت حلفة لم تحلل وقيل: لأن كل حرف بمعنى وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ كفلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وغيرها من عظائم الآيات التي لم يعهد مثلها في غيرهم، وبعضها وإن أوتيها موسى عليه السلام يصدق عليهم أنهم أوتوه لأن ما للنبي لأمته ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ أي نعمة ظاهرة أو اختبار ظاهر لننظر كيف يعملون، وفي فِيهِ إشارة إلى أن هناك أمورا أخرى ككونه معجزة إِنَّ هؤُلاءِ كفار قريش لأن الكلام فيهم، وذكر قصة فرعون وقومه استطرادي للدلالة على أنهم مثلهم في الإصرار على الضلالة والإنذار عن مثل ما حل بهم، وفي اسم الإشارة تحقير لهم لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى أي ما العاقبة ونهاية الأمر إلا الموتة الأولى المزيلة للحياة الدنيوية وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ أي بمبعوثين بعدها، وتوصيفها بالأولى ليس لقصد مقابلة الثانية كما في قولك: حج زيد الحجة الأولى، ومات. قال الاسنوي في التمهيد: الأول في اللغة ابتداء الشيء ثم قد يكون له ثان وقد لا يكون، كما تقول: هذا أول ما اكتسبته فقد تكتسب بعده شيئا وقد لا تكتسب كذا ذكره جماعة منهم الواحدي في تفسيره والزجاج. ومن فروع المسألة ما لو قال: إن كان أول ولد تلدينه ذكرا فأنت طالق تطلق إذا ولدته، وإن لم تلد غيره الجزء: 13 ¦ الصفحة: 124 بالاتفاق، قال أبو علي: اتفقوا على أنه ليس من شرط كونه أولا أن يكون بعده آخر، وإنما الشرط أن لا يتقدم عليه غيره اهـ، ومنه يعلم ما في قول بعضهم: إن الأول يضايف الآخر والثاني ويقتضي وجوده بلا شبهة، والمثال إن صح فإنما هو فيمن نوى تعدد الحج فاخترمته المنية فلحجه ثان باعتبار العزم من قصور الاطلاع وأنه لا حاجة إلى أن يقال: إنها أولى بالنسبة إلى ما بعدها من حياة الآخرة بل هو في حد ذاته غير مقبول لما قال ابن المنير من أن الأولى إنما يقابلها أخرى تشاركها في أخص معانيها، فكما لا يصح أو لا يحسن أن يقول: جاءني رجل وامرأة أخرى لا يقال الموتة الأولى بالنسبة لحياة الآخرة، وقيل: إنه قيل لهم إنكم تموتون موتة تتعقبها حياة كما تقدمتكم موتة قد تعقبتها حياة، وذلك قوله عز وجل وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ [البقرة: 28] فقالوا إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى يريدون ما الموتة التي من شأنها أن تتعقبها حياة، إلا الموتة الأولى دون الثانية وما هذه الصفة التي تصفون بها الموتة من تعقب الحياة لها إلا للموتة الأولى خاصة، وهذا ما ارتضاه جار الله وأراد أن النفي والإثبات لما كان لرد المنكر المصر إلى الصواب كان منزلا على إنكارهم، لا سيما والتعريف في الأولى تعريف عهد، وقوله تعالى: الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدخان: 56] تفسير للمبهم وهي على نحو هي العرب تقول كذا فيتطابقان والمعهود الموتة التي تعقبتها الحياة الدنيوية، ولذلك استشهد بقوله تعالى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً إلخ فليس اعتبار الوصف عدولا عن الظاهر من غير حاجة كما قال ابن المنير. وقوله في الاعتراض أيضا: إن الموت السابق على الحياة الدنيوية لا يعبر عنه بالموتة لأن فِيهَا لمكان بناء المرة إشعارا بالتجدد والموت السابق مستصحب لم تتقدمه حياة مدفوع كما قال صاحب الكشف، ثم إنه لا يلزم من تفسير الموتة الأولى بما بعد الحياة في قوله تعالى: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى تفسيرها بذلك هنا لأن إيقاع الذوق عليها هناك قرينة أنها التي بعد الحياة الدنيا لأن ما قبل الحياة غير مذوق، ومع هذا كله الإنصاف أن حمل الموتة الأولى هنا أيضا على التي بعد الحياة الدنيا أظهر من حملها على ما قبل الحياة من العدم بل هي المتبادرة إلى الفهم عند الإطلاق المعروفة بينهم، وأمر الوصف بالأولى على ما سمعت أولا. وقيل: إنهم وعدوا بعد هذه الموتة موتة القبر وحياة البعث فقوله تعالى عنهم إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى رد للموتة الثانية وفي قوله سبحانه وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ نفي لحياة القبر ضمنا إذ لو كانت بدون الموتة الثانية لثبت النشر ضرورة فَأْتُوا بِآبائِنا خطاب لمن وعدهم بالنشور من الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين أي فأتوا لنا بمن مات من آبائنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في وعدكم ليدل ذلك على صدقكم ودلالة الإيقان إما لمجرد الإحياء بعد الموت وإما بأن يسألوا عنه، قيل: طلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يدعو الله تعالى فيحيي لهم قصي بن كلاب ليشاوروه في صحة النبوة والبعث إذ كان كبيرهم ومستشارهم في النوازل أَهُمْ خَيْرٌ في القوة والمنعة أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ هو تبع الأكبر الحميري واسمه أسعد بهمزة، وفي بعض الكتب سعد بدونها وكنيته أبو كرب وكان رجلا صالحا. أخرج الحاكم وصححه عن عائشة قالت: كان تبع رجلا صالحا ألا ترى أن الله تعالى ذم قومه ولم يذمه، وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس لا يشتبهن عليكم أمر تبع فإنه كان مسلما، وأخرج أحمد والطبراني وابن أبي حاتم وابن مردويه عن سهل بن سعد الساعدي قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم» وأخرج ابن عساكر وابن المنذر عن ابن عباس قال: سألت كعبا عن تبع فإني أسمع الله تعالى يذكر في القرآن قوم تبع ولا يذكر تبعا فقال: إن تبعا كان رجلا من أهل اليمن ملكا منصورا فسار بالجيوش حتى انتهى إلى سمرقند فرجع فأخذ طريق الشام فأسر بها أحبارا فانطلق بهم نحو اليمن حتى إذا دنا من ملكه طار في الناس أنه هادم الكعبة فقال له: الأحبار: ما هذا الذي تحدث به نفسك فإن هذا البيت لله تعالى وإنك لن تسلط عليه فقال: إن هذا لله تعالى وأنا أحق من حرمه فأسلم من مكانه وأحرم فدخلها محرما فقضى نسكه ثم انصرف نحو اليمن راجعا حتى قدم على قومه فدخل عليه أشرافهم فقالوا: يا تبع أنت الجزء: 13 ¦ الصفحة: 125 سيدنا وابن سيدنا خرجت من عندنا على دين وجئت على غيره فاختر منا أحد أمرين إما أن تخلينا وملكنا وتعبد ما شئت وإما أن تذر دينك الذي أحدثت وبينهم يومئذ نار تنزل من السماء فقال الأحبار عند ذلك: اجعل بينك وبينهم النار فتواعد القوم جميعا على أن يجعلوها بينهم فجيء بالأحبار وكتبهم وجيء بالأصنام وعمارها وقدموا جميعا إلى النار وقامت الرجال خلفهم بالسيوف فهدرت النار هدير الرعد ورمت شعاعا لها فنكص أصحاب الأصنام وأقبلت النار وأحرقت الأصنام وعمارها وسلّم الآخرون فأسلم قوم واستسلم قوم فلبثوا بعد ذلك عمر تبع حتى إذا نزل بتبع الموت استخلف أخاه وهلك فقتلوا أخاه وكفروا صفقة واحدة، وفي رواية عن ابن عباس أن تبعا لما أقبل من الشرق بعد أن حبر الحيرة أي بناها ونظم أمرها. وهي بكسر الحاء المهملة وياء ساكنة مدينة بقرب الكوفة. وبنى سمرقند وهي مدينة بالعجم معروفة، وقيل: إنه هدمها وقصد المدينة وكان قد خلف بها حين سافر ابنا له فقتل غيلة فأجمع على خرابها واستئصال أهلها فجمع له الأنصار وخرجوا لقتاله وكانوا يقاتلوه بالنهار ويقرونه بالليل فأعجبه ذلك وقال: إن هؤلاء لكرام فبينما هو على ذلك إذ جاءه كعب، وأسد ابنا عم من قريظة حبران وأخبراه أنه يحال بينك وبين ما تريد فإنها مهاجر نبي من قريش اسمه محمد صلّى الله عليه وسلّم ومولده بمكة فثناه قولهما عما يريد ثم دعواه إلى دينهما فاتبعهما وأكرمهما فانصرفوا عن المدينة ومعهم نفر من اليهود فقال له في الطريق نفر من هذيل: ندلك على بيت فيه كنز من لؤلؤ وزبرجد وذهب وفضة بمكة وأرادت هذيل هلاكه لأنهم عرفوا أنه ما أراده أحد بسوء إلا هلك فذكر ذلك للحبرين فقالا: ما نعلم لله عز وجلّ بيتا في الأرض اتخذه لنفسه غير هذا فاتخذه مسجدا وانسك عنده واحلق رأسك وما أراد القوم إلا هلاكك فأكرمه وكساه وهو أول من كسى البيت وقطع أيدي أولئك النفر من هذيل وأرجلهم وسمل أعينهم وصلبهم. وفي رواية أنه قال للحبرين حين قالا له ما قالا: وأنتما ما يمنعكما من ذلك؟ فقالا: أما والله إنه لبيت أبينا إبراهيم عليه السلام وإنه لكما أخبرناك ولكن أهله حالوا بيننا وبينه بالأوثان التي نصبوها حوله وبالدماء التي يريقونها عنده وهم نجس أهل شرك فعرف صدقهما ونصحهما فطاف بالبيت ونحر وحلق رأسه وأقام بمكة ستة أيام فيما يذكرون ينحر للناس ويطعم أهلها ويسقيهم العسل، وقيل: إنه أراد تخريب البيت فرمي بداء عظيم فكف عنه وكساه. وأخرج ابن عساكر عن ابن إسحاق أن تبعا أري في منامه أن يكسو البيت فكساه الخصف ثم أري أن يكسوه أحسن من ذلك فكساه المعافر ثم أري أن يكسوه أحسن من ذلك فكساه الوصائل وصائل اليمن فكان فيما ذكر لي أول من كساه وأوصى بها ولاته من جرهم وأمر بتطهيره وجعل له بابا ومفتاحا. وفي رواية أنه قال أيضا: ولا تقربوه دما ولا ميتا ولا تقربه حائض، وفي نهاية ابن الأثير في الحديث أن تبعا كسى البيت المسوح فانتفض البيت منه ومزقه عن نفسه ثم كساه الخصف فلم يقبله ثم كساه الانطاع، وفي موضع آخر منها أن أول من كسى الكعبة كسوة كاملة تبع كساها الانطاع ثم كساها الوصائل والخصف فعل بمعنى مفعول من الخصف وهو ضم الشيء إلى الشيء والمراد شيء منسوج من الخوص على ما هو الظاهر، وقيل: أريد به هاهنا الثياب الغلاظ جدا تشبيها بالخصف المذكور، والمعافر برود من اليمن منسوبة إلى معافر قبيلة بها، والميم زائدة، والوصائل ثياب حمر مخططة يمانية، والمسوح جمع مسح بكسر الميم وسكون المهملة أثواب من شعر غليظة، والانطاع جمع نطع بالكسر وبالفتح وبالتحريك بسط من أديم. وأخرج ابن سعد وابن عساكر عن أبي بن كعب قال: لما قدم تبع المدينة ونزل بفنائها بعث إلى أحبار يهود فقال: إني مخرب هذا البلد حتى لا تقوم به يهودية ويرجع الأمر إلى دين العرب فقال له: شامول اليهودي وهو يومئذ أعلمهم: أيها الملك إن هذا بلد يكون إليه مهاجر نبي من بني إسماعيل مولده بمكة اسمه أحمد وهذه دار هجرته إلى أن قال: قال وما صفته؟ قال: رجل ليس بالقصير ولا بالطويل في عينيه حمرة يركب البعير ويلبس الشملة سيفه على عاتقه لا يبالي من لاقى حتى يظهر أمره فقال تبع: ما إلى هذا البلد من سبيل وما كان ليكون الجزء: 13 ¦ الصفحة: 126 خرابها على يدي. وذكر أبو حاتم الرياشي أنه آمن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم قبل أن يبعث بسبعمائة سنة، وقيل: بينه وبين مولده عليه الصلاة والسلام ألف سنة، والقولان يدلان على أنه قبل مبعث عيسى عليه السلام. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: لا تقولوا في تبع إلا خيرا فإنه قد حج البيت وآمن بما جاء به عيسى ابن مريم، وهو يدل على أنه بعد مبعث عيسى عليه السلام، والأول أشهر. ومن حديث عباد بن زياد المري أنه لما أخبره اليهود أنه سيخرج نبي بمكة يكون قراره بهذا البلد. يعني المدينة اسمه أحمد وأخبروه أنه لا يدركه قال للأوس والخزرج: حدثت أن رسول الملي ... ك يخرج حقا بأرض الحرم ولو مد دهري إلى دهره ... لكنت وزيرا له وابن عم وفي البحر بدل البيت الأول: شهدت على أحمد أنه ... رسول من الله باري النسم وفيه أيضا رواية عن ابن إسحاق وغيره أنه كتب أيضا كتابا وكان فيه: أما بعد فإني آمنت بك وبكتابك الذي أنزل عليك وأنا على دينك وسنتك وآمنت بربك ورب كل شيء وآمنت بكل ما جاء من ربك من شرائع الإسلام فإن أدركتك فبها ونعمت وإن لم أدركك فاشفع لي ولا تنسني يوم القيامة فإني من أمتك الأولين وتابعيك قبل مجيئك وأنا على ملتك وملة أبيك إبراهيم عليه السلام، ثم ختم الكتاب ونقش عليه لله الأمر من قبل ومن بعد، وكتب عنوانه إلى محمد بن عبد الله نبي الله ورسوله خاتم النبيين ورسول رب العالمين صلّى الله عليه وسلّم من تبع الأول ودفعه إلى عظيم من الأوس والخزرج وأمره أن يدفعه للنبي عليه الصلاة والسلام أن أدركه. ويقال: إنه بنى له دارا في المدينة يسكنها إذا أدركه صلّى الله عليه وسلّم وقدم إليها وأن تلك الدار دار أبي أيوب خالد بن زيد وأن الشعر والكتاب وصلا إليه وأنه من ولد ذلك الرجل الذي دفعا إليه أولا، ولما ظهر النبي عليه الصلاة والسلام دفعوا الكتاب إليه فلما قرىء عليه قال: مرحبا بتبع الأخ الصالح ثلاث مرات. وجاء أنه صلّى الله عليه وسلّم صلّى عليه صلاة الجنازة وكذا على البراء بن معرور بعد وفاته بشهر يوم قدومه عليه الصلاة والسلام المدينة كما قال النجم الغيطي وكانت صلاة الجنازة قد فرضت تلك السنة، وكون هذا هو تبع الأول ويقال له الأكبر هو المذكور في غير ما كتاب، وذكر عبد الملك بن عبد الله بن بدرون في شرحه لقصيدة ابن عبدون أن أسعد هذا هو تبع الأوسط وذكر أيضا أن ملكه ثلاثمائة وعشرين سنة وملك بعده عمرو أربعا وستين سنة، وقال ابن قتيبة حسان وهو الذي قتل زرقاء اليمامة وأباد جديسا وكان ملكه خمسا وعشرين سنة والتواريخ ناطقة بتقدم تبابعة عليه فإن تبعا يقال لمن ملك اليمن مطلقا كما يقال لملك الترك خاقان، والروم قيصر، والفرس كسرى أو لا يسمى به إلا إذا كانت له حمير وحضرموت كما في القاموس أو إلا إذا كانت له حمير وسبأ وحضرموت كما ذكره الطيبي، والمتصف بذلك غير واحد كما لا يخفى على من أحاط خبرا بالتواريخ. وما تقدم من حكاية أنه هدم سمرقند ذكر عبد الملك خلافه ونسب هدمها إلى شمر بن افريقيس بن أبرهة أحد التبابعة أيضا كان قبل تبع المذكور بكثير قال: إن شمر خرج نحو العراق ثم توجه يريد الصين ودخل مدينة الصغد فهدمها وسميت شمر كند أي شمر خربها وعربت بعد فقيل سمرقند اهـ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 127 وحكاية البناء يمكن نسبتها إلى شمر هذا فإن كند في لغة أهل أذر بيجان ونواحيها على ما قيل بمعنى القرية فسمرقند بمعنى قرية شمر وهو أوفق بالبناء، وذكر علامة عصره الملا أمين أفندي العمري الموصلي تغمده الله تعالى برحمته في كتابه شرح ذات الشفاء أن تبعا الذي ذكر سابقا هو ابن حسان وأنه ملك الدنيا كلها وأنه يقال له الرائش لأنه راش الناس بالعطاء، ولعل ما قاله قول لبعضهم وإلا فقد قال ابن قتيبة: إنه ابن كليكرب. وفي شرح قصيدة ابن عبدون أن الرائش لقب الحارث بن بدر أحد التبابعة، وهو قبل أسعد المتقدم ذكره بزمان طويل جدا، وهو أيضا ممن ذكر نبينا صلّى الله عليه وسلّم في شعره فقال: ويملك بعدهم رجل عظيم ... نبي لا يرخص في الحرام يسمى أحمدا يا ليت أني ... أعمر بعد مخرجه بعام ثم إن ملكه الدنيا كلها غير مسلم، وبالجملة الأخبار مضطربة في أمر التبابعة وأحوالهم وترتيب ملوكهم بل قال صاحب تواريخ الأمم: ليس في التواريخ أسقم من تاريخ ملوك حمير لما يذكر من كثرة عدد سنينهم مع قلة عدد ملوكهم فإن ملوكهم ستة وعشرون ومدتهم ألفان وعشرون سنة. وقال بعض: إن مدتهم ثلاثة آلاف واثنان وثمانون سنة ثم ملك من بعدهم اليمن الحبشة والله تعالى أعلم بحقيقة الحال، والقدر المعول عليه هاهنا أن تبعا المذكور هو أسعد أبو كرب وأنه كان مؤمنا بنبينا صلّى الله عليه وسلّم وكان على دين إبراهيم عليه السلام ولم يكن نبيا، وحكاية نبوته عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا تصح، وأخباره بمبعثه صلّى الله عليه وسلّم لا يقتضيها لأنه علم ذلك من أحبار اليهود وهم عرفوه من الكتب السماوية. وما روي من أنه عليه الصلاة والسلام قال: ما أدري أكان تبع نبيا أو غير نبي لم يثبت، نعم روى أبو داود والحاكم أنه عليه الصلاة والسلام قال: «ما أدري أذو القرنين هو أم لا» وليس فيه ما يدل على التردد في نبوته وعدمها فإن ذا القرنين ليس بنبي على الصحيح، ثم إن الظاهر أنه عليه الصلاة والسلام درى بعد أنه ليس ذا القرنين. وقال قوم: ليس المراد بتبع هاهنا رجلا واحدا إنما المراد ملوك اليمن، وهو خلاف الظاهر والأخبار تكذبه، ومعنى تبع متبوع فهو فعل بمعنى مفعول وقد يجيء هذا اللفظ بمعنى فاعل كما قيل للظل تبع لأنه يتبع الشمس، ويقال لملوك اليمن إقيال من يقيل فلان أباه إذا اقتدى به لأنهم يقتدى بهم، وقيل: سمي ملكهم قيلا لنفوذ أقواله وهو مخفف قيل كميت. وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي قبل قوم تبع كعاد وثمود أو قبل قريش فهو تعميم بعد تخصيص أَهْلَكْناهُمْ استئناف لبيان عاقبة أمرهم هدد به كفار قريش أو حال بإضمار قد أو بدونه من الضمير المستتر في الصلة أو خبر عن الموصول إن جعل مبتدأ ولم يعطف على ما قبله إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ تعليل لإهلاكهم أي أهلكناهم بسبب كونهم مجرمين فليحذر كفار قريش الإهلاك لإجرامهم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 128 وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما أي ما بين الجنسين وهو شامل لما بين الطبقات. وقرأ عبيد بن عمير «وما بينهن» فالضمير لمجموع السموات والأرض لاعِبِينَ أي عابثين وهو دليل على وقوع الحشر كما مر في الأنبياء وغيرها ما خَلَقْناهُما أي وما بينهما إِلَّا بِالْحَقِّ استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي ما خلقناهما ملتبسين بشيء من الأشياء إلا ملتبسين بالحق فالجار والمجرور في موضع الحال من الفاعل، وجوز أن يكون في موضع الحال من المفعول، والباء للملابسة فيهما، وجوز أن تكون للسببية، والاستثناء مفرغ من أعم الأسباب أي ما خلقناهما بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق الذي هو الإيمان والطاعة والبعث والجزاء والملابسة أظهر وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ تذييل وتجهيل فخيم لمنكري الحشر وتوكيد لأن إنكارهم يؤدي إلى إبطال الكائنات بأسرها وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور: 15] ولهذا قال المؤمنون: رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ [آل عمران: 191] إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ أي فصل الحق عن الباطل والمحق عن المبطل بالجزاء أو فصل الشخص عن أحبابه وذوي قرابته مِيقاتُهُمْ وقت وعدهم أَجْمَعِينَ وقرىء «ميقاتهم» بالنصب على أنه اسم إن والخبر يَوْمَ الْفَصْلِ أي إن ميعاد حسابهم وجزائهم في يوم الفصل وليس مثل إن حراسنا أسدا يَوْمَ لا يُغْنِي بدل من يَوْمَ الْفَصْلِ أو عطف بيان عند من لا يشترط المطابقة تعريفا وتنكيرا، وجوز نصبه أعني مقدرا وأن يكون ظرفا لما دل عليه الفصل لا له للفصل بينه وبينه بأجنبي، وهو مصدر لا يعمل إذا فصل لضعفه أو له على قول من اغتفر الفصل إذا كان المعمول ظرفا كابن الحاجب، والرضي، وجوز أبو البقاء كونه صفة لميقاتهم. وتعقب بأنه جامد نكرة لاضافته للجملة فكيف يكون صفة للمعرفة مع أنه لا يصح بناؤه عند البصريين إذا أضيف إلى جملة صدرها معرب وهو المضارع أي يوم لا يجزي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً من الأغنياء أي الإجزاء، فشيئا منصوب على المصدرية يجوز كونه مفعولا به، ويغني بمعنى يدفع وينفع. وتنكير شَيْئاً للتقليل، والمولى الصاحب الذي من شأنه أن يتولى معونة صاحبه على أموره فيدخل في ذلك ابن العم والحلف والعتيق والمعتق وغيره، وذكر الخفاجي أنه من الولاية وهي التصرف فيشمل كل من يتصرف في آخر لأمر ما كقرابة وصداقة وهو قريب مما ذكرنا. وأيّا ما كان فليس ذلك من استعمال المشترك في أكثر من معنى واحد، ولو سلم أن هناك مشتركا استعمل في أكثر من معنى كانت الآية دليلا لابن الهمام عليه الرحمة في جواز ذلك في النفي فيقال عنده: ما رأيت عينا ويراد العين الباصرة وعين الذهب وغيرها ويعلم من نفي إغناء المولى نفي إغناء غيره من باب أولى. وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ الضمير عند جمع المولى الأول والجمع باعتبار المعنى لأنه نكرة في سياق النفي وهي تعم دون الثاني لأنه أفيد وأبلغ لأن حال المولى الثاني نصرته معلوم من نفي الإغناء السابق، ولأنه إذا لم ينصر من الجزء: 13 ¦ الصفحة: 129 استند إليه فكيف هو، وأيضا وجه جمع الضمير فيه أظهر، وجوز عوده على الثاني للدلالة على أنه لا ينصره غير مولاه وهو في سياق النفي أيضا وإن لم يكن في ذلك بمرتبة الأول. نعم قيل في وجه الجمع عليهما: إن النكرة في سياق النفي تدل على كل فرد فرد فلا يرجع الضمير لها جمعا. وأجيب بأنه لا يطرد لأنها قد تحمل على المجموع بقرينة عود ضمير الجمع عليها، ولعل الأولى عود الضمير على المولى المفهوم من النكرة المنفية، وقال بعض: لو جعل الضمير للكفار كضمير مِيقاتُهُمْ كثرت الفائدة وقلت المئونة فتأمل إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ في محل رفع على أنه بدل من ضمير يُنْصَرُونَ أو في محل نصب على الاستثناء منه أي لا يمنع من العذاب إلا من رحمة الله تعالى وذلك بالعفو عنه وقبول الشفاعة فيه. وجوز كونه بدلا أو استثناء من مَوْلًى وفيه كما في الأول دليل على ثبوت الشفاعة لكن الرجحان للأول لفظا ومعنى والاستثناء من أي كان متصل، وقال الكسائي: إنه منقطع أي لكن من رحمه الله تعالى فإنه لا يحتاج إلى قريب ينفعه ولا إلى ناصر ينصره، ولا وجه له مع ظهور الاتصال، نعم إنه لا يتأتى على كون الاستثناء من الضمير وكونه راجعا للكفار فلا تغفل. إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الغالب الذي لا ينصر من أراد سبحانه تعذيبه الرَّحِيمُ لمن أراد أن يرحمه عزّ وجلّ. إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ مر معنى الزقوم في الصافات وقرىء «شجرة» بكسر الشين طَعامُ الْأَثِيمِ أي الكثير الآثام والمراد به الكافر لدلالة ما قبله وما بعده عليه دون ما يعمه والعاصي المكثر من المعاصي ثم إن المراد به جنس الكافر لا واحد بعينه، وقال ابن زيد وسعيد بن جبير: إنه هنا أبو جهل، وليس بشيء ولا دليل على ذلك بما أخرجه سعيد ابن منصور عن أبي مالك من أن أبا جهل كان يأتي بالتمر والزبد فيقول: تزقموا فهذا الزقوم الذي يعدكم به محمد صلّى الله عليه وسلّم فنزلت إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ لما لا يخفى، ومثله ما قيل: إنه الوليد وأخرج أبو عبيد في فضائله وابن الأنباري وابن المنذر عن عوف بن عبد الله أن ابن مسعود أقرأ رجلا إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ فقال الرجل طعام اليثيم (1) فرددها عليه فلم يستقم بها لسانه فقال أتستطيع أن تقول طعام الفاجر؟ قال: نعم قال: فافعل، وأخرج الحاكم وصححه وجماعة عن أبي الدرداء أنه وقع له مثل ذلك فلما رأى الرجل أنه لا يفهم قال: إن شجرة الزقوم طعام الفاجر. واستدل بذلك على أن إبدال كلمة مكان كلمة جائز إذا كانت مؤدية معناها. وتعقبه القاضي أبو بكر في الانتصار بأنه أراد أن ينبهه على أنه لا يريد اليتيم (2) بل الفاجر فينبغي أن يقرأ الْأَثِيمِ وأنت تعلم أن هذا التأويل لا يكاد يتأتى فيما روي عن ابن مسعود فإنه كالنص تجويز الإبدال لذلك الرجل وأبعد منه عن التأويل ما أخرج ابن مردويه عن أبي أنه كان يقرىء رجلا فارسيا فكان إذا قرأ عليه إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ قال: طعام اليتيم فمر به النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «قل طعام الظلام» فقالها ففصح بها لسانه ، وفي الباب أخبار كثيرة جياد الأسانيد كخبر أحمد من حديث أبي هريرة «أنزل القرآن على سبعة أحرف عليما حكيما غفورا رحيما» . وكخبره من حديث أبي بكرة كله أي القرآن شاف كاف ما لم تختم آية عذاب برحمة أو رحمة بعذاب نحو   (1) بخط المؤلف بالثاء المثلثة. (2) بالتاء المثناة اهـ منه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 130 قولك تعالى وأقبل وأسرع وعجل إلى غير ذلك، لكن قال الطحاوي: إنما كان ذلك رخصة لما كان يتعسر على كثير منهم التلاوة بلفظ واحد لعدم علمهم بالكتابة والضبط وإتقان الحفاظ ثم نسخ بزوال العذر وتيسر الكتابة والحفظ، وكذا قال ابن عبد البر والباقلاني وآخرون، ولعله أن تحقق إبدال من أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم بعده عليه الصلاة والسلام يقال: إنه كان منه قبل الاطلاع على النسخ ومتى لم يجز إبدال كلمة مكان كلمة مؤدية معناها مع الاتحاد عربية فعدم جواز ذلك مع الاختلاف عربية وفارسية مثلا أظهر، وما روي عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه من أنه يرى جواز قراءة القرآن بالفارسية بشرط أداء المعاني على كمالها فقد صح عنه خلافه، وقد حقق الشرنبلالي عليه الرحمة هذه المسألة في رسالة مفردة بما لا مزيد عليه، وقد تقدم في هذا الكتاب شيء من ذلك فتذكر، والطعام ما يتناول منه من الغذاء وأصله مصدر فلذا وقع خبرا عن المؤنث ولم يطابق، وجوز أن يكون ذلك من باب قوله: إنارة العقل مكسوف بطوع هوى ... وعقل عاصي الهوى يزداد تنويرا فكأنه قيل: إن الزقوم طعام الأثيم كَالْمُهْلِ عكر الزيت كما روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما وجاء في حديث رواه الحاكم وغيره عن أبي سعيد مرفوعا وفيه «فإذا قرب إلى وجهه- يعني الجهنمي- سقطت فروة وجهه» وربما يؤيد بقوله تعالى: يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ [المعارج: 8] مع قوله سبحانه: فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ [الرحمن: 37] وقال بعض: عكر القطران، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الصدد، ومنه ما في حديث أبي بكر رضي الله تعالى عنه ادفنوني في ثوبي هذين فإنما هما للمهل والتراب. وفي رواية أخرى عنه رضي الله تعالى عنه أنه ما أذيب من ذهب أو فضة أو حديد أو رصاص، وروي ذلك عن ابن مسعود، قيل: وسمي ذلك مهلا لأنه في النار حتى يذوب فهو من المهل بمعنى السكون، وادعى بعضهم الاشتراك وقد جاء استعماله في كل ما سمعت، وقرأ الحسن «كالمهل» بفتح الميم وهو لغة فيه، والجار والمجرور أو الكاف في محل رفع خبر مبتدأ محذوف والجملة استئناف لبيان حال الطعام أي هو كالمهل أو مثل المهل، وقوله عزّ وجلّ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ خبر ثان لذلك المبتدأ، وقيل: حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور فيكون وصفا للطعام أيضا وقال أبو عبيد: هو حال من المهل، وقيل: صفة له لأن أل فيه للجنس نحو: أمرّ على اللئيم يسبني ويعتبر داخلا في التشبيه وأنت تعلم أن غليان الطعام في البطن فيه مبالغة أما التشبيه بمهل يغلي في البطن فلا، وقيل كالمهل أو الكاف خبر ثان لإن وجملة «يغلي في البطون» حال من الزقوم أو الطعام. وتعقب بأنه منع مجيء الحال من المضاف إليه في غير صور مخصوصة ليس هذا منها ومنع مجيئه من الخبر ومن المبتدأ. وأجيب بأن هذا بناء على جواز مجيء الحال من الخبر ومن المبتدأ والمضاف إليه المبتدأ في حكمه وأن ما ذكر من الصور التي يجيء الحال فيها من المضاف إليه لأن المضاف كالجزء في جوز إسقاطه، ولا يخفى أنه بناء على ضعيف، وقيل: كالمهل خبر ثان والجملة حال من ضمير الشجرة المستتر فيه، والتذكير باعتبار كونها طعام الأثيم أو لاكتسابها إياه مما أضيفت إليه نظير ما سمعت في البيت آنفا وهو تكلف مستغنى عنه، وقيل: الجملة على ذلك خبر مبتدأ محذوف هو ضمير الطعام أو الزقوم فإن كانت الجملة حينئذ مستأنفة فالبحث هين وإن كانت حالية عاد ما مر آنفا ولا أراك تظنه هينا، وقيل: كالمهل حال من طعام وحاله معلوم، وبالجملة الوجوه في إعراب الآية كثيرة وأنا أختار منها ما ذكرته أولا. وقرأ عمرو بن ميمون وأبو رزين والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن وطلحة والحسن في رواية وأكثر السبعة «تغلي» بالتاء الفوقية فكالمهل خبر ثان لأن وجملة «تغلي» خبر ثالث واتحاد المبتدأ والخبر متكفل باتحاد القراءتين معنى فافهم ولا تغفل. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 131 كَغَلْيِ الْحَمِيمِ صفة مصدر محذوف أي غليا كغلي الحميم، وجوز أن يكون حالا، والحميم ما هو في غاية الحرارة خُذُوهُ على إرادة القول والمقول له الزبانية أي ويقال لهم خذوه فَاعْتِلُوهُ فجروه بقهر. قال الراغب: العتل الأخذ بجامع الشيء وجره بقهر، وبعضهم يعبر بالثوب بدل الشيء وليس ذاك بلازم والمدار على الجر مع الإمساك بعنف. وقال الأعمش ومجاهد: معنى (اعتلوه) اقصفوه كما يقصف الحطب، والظاهر عليه التضمين أو تعلق الجار بخذوه، والمعنى الأول هو المشهور. وقرأ زيد بن علي والحجازيان وابن عامر ويعقوب «فاعتلوه» بضم التاء وروي ذلك عن الحسن وقتادة والأعرج على أنه من باب قعد، وعلى قراءة الجمهور من باب نصر وهما لغتان إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ أي وسطه، وسمي سواء لاستواء بعد جميع أطرافه بالنسبة إليه. ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ كأن أصله صبوا فوق رأسه الحميم، ثم قيل: صبوا فوق رأسه الحميم، ثم قيل: صبوا فوق رأسه عذابا هو الحميم للمبالغة بجعل العذاب عين الحميم، وهو مترتب عليه ولجعله مصبوبا كالمحسوس ثم أضيف العذاب إلى الحميم للتخفيف، وزيد مِنْ للدلالة على أن المصبوب بعض هذا النوع فهناك إما تمثيل أو استعارة تصريحية أو مكنية أو تخييلية ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ أي ويقال: أو قولوا له ذلك استهزاء وتقريعا على ما كان يزعمه. أخرج عبد الرزاق وغيره عن قتادة قال: لما نزلت خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ قال أبو جهل: ما بين جبليها رجل أعز ولا أكرم مني، فقال الله تعالى: ذُقْ إلخ. وأخرج الأموي في مغازيه عن عكرمة أن أبا جهل قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ما تستطيع لي أنت ولا صاحبك من شيء لقد علمت أنني أمنع أهل بطحاء وأنا العزيز الكريم فقتله الله تعالى يوم بدر وأذله وعيره بكلمته ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ وروي أن اللعين قال يوما: يا معشر قريش أخبروني ما اسمي فذكرت له ثلاث أسماء عمر والجلاس وأبو الحكم فقال: ما أصبتم اسمي ألا أخبركم به؟ قالوا: بلى قال: اسمي العزيز الكريم فنزلت إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ الآيات، وهذا ونحوه لا يدل أيضا على تخصيص حكم الآية به فكل أثيم يدعي دعواه كذلك يوم القيامة، وقيل: المعنى ذق إنك أنت العزيز في قومك الكريم عليهم فما أغنى ذلك عنك ولم يفدك شيئا، والذوق مستعار للإدراك. وقرأ الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما على المنبر والكسائي «أنك» بفتح الهمزة على معنى لأنك. إِنَّ هذا أي العذاب أو الأمر الذي أنتم فيه ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ تشكون وتمارون فيه، وهذا ابتداء كلام منه عزّ وجلّ أو من مقول القول والجمع باعتبار المعنى لما سمعت أن المراد جنس الأثيم. إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ في موضع قيام، والمراد بالقيام الثبات والملازمة كما في قوله تعالى: ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً [آل عمران: 75] ويكنى به عن الإقامة لأن المقيم ملازم لمكانه، وهو مراد من قال: في مقام أي موضع إقامة. وقرأ عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما وزيد بن علي وأبو جعفر وشيبة والأعرج والحسن وقتادة ونافع وابن عامر «مقام» بضم الميم ومعناه موضع إقامة، وعلى ما قررنا ترجع القراءتان إلى معنى واحد. أَمِينٍ يأمن صاحبه مما يكره فهو صفة من الأمن وهو عدم الخوف عما هو من شأنه، ووصف المقام به باعتبار أمن من آمن به فهو إسناد مجازي كما في نهر جار، وظاهر كلام الزمخشري أن ذلك استعارة من الأمانة كأن المكان مؤتمن وضع عنده ما يحفظه من المكاره ففيه استعارة مكنية وتخييلية، وقال ابن عطية: فعيل بمعنى مفعول أي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 132 مأمون فيه وليس بذاك، وجوز أن يكون للنسبة أي ذي أمن ي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ بدل من «مقام» بإعادة الجار أو الجار والمجرور بدل من الجار والمجرور، وظرفية العيون للمجاورة، والظاهر أنه بدل اشتمال لا كل وبعض، وفي ذلك دلالة على نزاهة مكانهم واشتماله على ما يستلذ من المآكل والمشارب. يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ خبر ثان أو حال من الضمير في الجار والمجرور أو استئناف، والسندس قال ثعلب: الرقيق من الديباج والواحدة سندسة، والإستبرق غليظه، وقال الليث: هو ضرب من البزيون يتخذ من المرعز، ولم يختلف أهل اللغة في أنهما معربان كذا ذكره بعضهم. وفي الكشاف الإستبرق ما غلظ من الديباج وهو تعريب استبر، قال الخفاجي: ومعنى استبر في لغة الفرس الغليظ مطلقا ثم خص بغليظ الديباج وعرب، وقيل: إنه عربي من البراقة، وأيد بقراءته بوصل الهمزة وهو كما ترى. وذكر بعضهم أن السندس أصله سندي ومعناه منسوب إلى السند المكان المعروف لأن السندس كان يجلب منه فأبدلت ياء النسبة سينا، وقد مر الكلام في ذلك فتذكر، ثم إن وقوع المعرب في القرآن العظيم لا ينافي كونه عربيا مبينا. ونقل صاحب الكشف عن جار الله أنه قال: الكلام المنظوم مركب من الحروف المبسوطة في أي لسان كان تركي أو فارسي أو عربي ثم لا يدل على أن العربي أعجمي فكذا هاهنا، ثم قال صاحب الكشف: يريد أن كون استبر أعجميا لا يلزمه أن يكون إستبرق كذلك. وقرأ ابن محيصن «وإستبرق» فعلا ماضيا كما في البحر، والجملة حينئذ قيل معترضة، وقيل: حال من سُندُسٍ والمعنى يلبسون من سندس وقد برق لصقالته ومزيد حسنه مُتَقابِلِينَ في مجالسهم ليستأنس بعضهم ببعض كَذلِكَ أي الأمر كذلك فالكاف في محل رفع على الخبرية لمبتدأ محذوف، والمراد تقرير ما مر وتحقيقه. ونقل عن جار الله أنه قال: والمعنى فيه أنه لم يستوف الوصف وأنه بمثابة ما لا يحيط به الوصف فكأنه قيل: الأمر نحو ذلك وما أشبهه. وأراد على ما قال المدقق أن الكاف مقحم للمبالغة وذلك مطرد في عرفي العرب والعجم، وجوز أن يكون في محل نصب على معنى أثبناهم مثل ذلك، وقوله تعالى: وَزَوَّجْناهُمْ على هذا عطف على الفعل المقدر وعلى ما قبل على يَلْبَسُونَ والمراد على ما قال غير واحد وقرناهم بِحُورٍ عِينٍ وفسر بذلك قيل لأن الجنة ليس فيها تكليف فلا عقد ولا تزويج بالمعنى المشهور، وقيل: لمكان الباء، وزوجه المرأة بمعنى أنكحه إياها متعد بنفسه، وفيه بحث فإن الأخفش جوز الباء فيه فيقال: زوجته بامرأة فتزوج بها، وأزد شنوءة يعدونه بالباء أيضا، وفي القاموس زوجته امرأة وتزوجت امرأة وبها أو هي قليلة، ويعلم مما ذكر أن قول بعض الفقهاء زوجته بها خطأ لا وجه له، ويجوز أن يقال: إن ذلك التفسير لأن الحور العين في الجنة ملك يمين كالسراري في الدنيا فلا يحتاج الأمر إلى العقد عليهن، على أنه يمكن أن يكون في الجنة عقد وإن لم يكن فيها تكليف. وقد أخرج ابن جرير وغيره عن مجاهد أنه قال: زوجناهم أنكحناهم. ومن الناس من قال بالتكليف فيها بمعنى الأمر والنهي لكن لا يجدون في الفعل والترك كلفة، نعم المشهور أن لا تكليف فيها، وبعض ما حرم في الدنيا كنكاح امرأة الغير ونكاح المحارم لا يفعلونه لعدم خطوره لهم ببال أصلا، والحور جمع حوراء وهي البيضاء كما روي عن ابن عباس والضحاك وغيرهما، وقيل: الشديدة سواد العين وبياضها، وقيل: الحوراء ذات الحور وهو سواد المقلة كلها كما في الظباء فلا يكون في الإنسان إلا مجازا. وأخرج ابن المنذر. وغيره عن مجاهد أن الحوراء التي يحار فيها الطرف. والعين جمع عيناء وهي عظيمة العينين وأكثر الأخبار تدل على أنهن لسن نساء الدنيا، أخرج ابن أبي حاتم والطبراني عن أبي أمامة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خلق الحور العين من زعفران» وأخرج ابن مردويه والخطيب عن أنس بن مالك الجزء: 13 ¦ الصفحة: 133 مرفوعا نحوه ، وأخرج ابن المبارك عن زيد بن أسلم قال: إن الله تعالى لم يخلق الحور العين من تراب إنما خلقهن من مسك وكافور وزعفران. وأخرج ابن مردويه والديلمي عن عائشة قالت: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حور العين خلقهن من تسبيح الملائكة عليهم السلام» وهذا إن صح لا يعارض ما قبله إذ لا بد عليه من أن يقال بتجسد المعاني فيجوز تجسد التسبيح وجعله جزءا مما خلقن منه، وقيل: المراد بهن هنا نساء الدنيا وهن في الجنة حور عين بالمعنى الذي سمعت بل هن أجمل من الحور العين أعني النساء المخلوقات في الجنة من زعفران أو غيره ويعطى الرجل هناك ما كان له في الدنيا من الزوجات، وقد يضم إلى ذلك ما شاء الله تعالى من نساء متن ولم يتزوجن، ومن تزوجت بأكثر من واحد فهي لآخر أزواجها أو لأولهم إن لم يكن طلقها في الدنيا أو تخير فتختار من كان أحسنهم خلقا معها أقوال صحح جمع منها الأول، وتعطى زوجة كافر دخلت الجنة لمن شاء الله تعالى. وقد ورد أن آسية امرأة فرعون تكون زوجة نبينا صلّى الله عليه وسلّم. وقرأ عكرمة «بحور عين» بالإضافة وهي على معنى من أي بالحور من العين، وفي قراءة عبد الله «بعيس عين» والعيساء البيضاء تعلوها حمرة يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ يطلبون ويأمرون بإحضار ما يشتهون من الفواكه ولا يتخصص شيء منها بمكان ولا زمان آمِنِينَ من الضرر أي ضرر كان، وهو حال من ضمير يَدْعُونَ وكونه حالا من الضمير في قوله سبحانه: ي جَنَّاتٍ بعيد، وأبعد منه جعل يَدْعُونَ حينئذ صفة الحور والنون فيه ضمير النسوة وزنه يفعلن لما فيه من ارتكاب خلاف الظاهر مع عدم المناسبة للسياق. وقوله تعالى: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى جملة مستأنفة أو حالية وكأنه أريد أن يقال: لا يذوقون فيها الموت البتة فوضع الموتة الأولى موضع ذلك لأن الموتة الماضية محال ذوقها في المستقبل فهو من باب التعليق بالمحال كأنه قيل: إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذوقها في المستقبل فإنهم يذوقونها، ونظيره قول القائل لمن يستسقيه: لا أسقيك إلا الجمر وقد علم أن الجمر لا يسقى، ومثله قوله عزّ وجلّ: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [النساء: 22] فالاستثناء متصل والدخول فرضي للمبالغة، وضمير فِيهَا للجنات، وقيل: هو متصل والمؤمن عند موته لمعاينة ما يعطاه في الجنة كأنه فيها فكأنه ذاق الموتة الأولى في الجنة، وقيل متصل وضمير «فيها» للآخرة والموت أول أحوالها، ولا يخفى ما فيه من التفكيك مع ارتكاب التجوز، وقيل: الاستثناء منقطع والضمير للجنات أي لكن الموتة الأولى قد ذاقوها في الدنيا، والأصل اتصال الاستثناء، وقال الطبراني: إلا بمعنى بعد، والجمهور لم يثبتوا هذا المعنى لها، وقال ابن عطية: ذهب قوم إلى أن إلا بمعنى سوى وضعفه الطبري. وقال أبو حيان: ليس تضعيفه بصحيح بل يصح المعنى بسوى ويتسق. وفائدة الوصف تذكير حال الدنيا. والداعي لما سمعت من الأوجه دفع سؤال يورد هاهنا من أن الموتة الأولى مما مضى لهم في الدنيا وما هو كذلك لا يمكن أن يذوقوه في الجنة فكيف استثنيت؟ وقيل: إن السؤال مبني على أن الاستثناء من النفي إثبات فيثبت للمستثنى الحكم المنفي عن المستثنى منه ومحال أن يثبت للموتة الأولى الماضية الذوق في الجنة، وأما على قول من جعله تكلما بالباقي بعد الثنيا، والمعنى لا يذوقون سوى الموتة الأول من الموت فلا إشكال فتأمل. وقرأ عبيد بن عمير «لا يذاقون» مبنيا للمفعول، وقرأ عبد الله «لا يذوقون فيها طعم الموت» وجاء في الحديث النوم لأنه أخو الموت ، أخرج البزار والطبراني في الأوسط وابن مردويه والبيهقي في البعث بسند صحيح عن جابر بن عبد الله قال: «قيل يا رسول الله أينام أهل الجنة؟ قال: لا النوم أخو الموت وأهل الجنة لا يموتون ولا ينامون» . وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ وقرأ أبو حيوة «ووقّاهم» مشدد القاف على المبالغة في التكثير في الوقاية لأن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 134 التفعيل لزيادة المعنى لا للتعدية لأن الفعل متعد قبله فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ أي أعطوا كل ذلك عطاء وتفضلا منه تعالى فهو نصب على المصدرية، وجوز فيه أن يكون حالا ومفعولا له، وأيا ما كان ففيه إشارة إلى نفي إيجاب أعمالهم الإثابة عليه سبحانه وتعالى. وقرىء «فصل» بالرفع أي ذلك فضل ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لأنه فوز بالمطالب وخلاص من المكاره فَإِنَّما يَسَّرْناهُ أي فإنما سهلنا القرآن بِلِسانِكَ أي بلغتك، وقيل: المعنى أنزلناه على لسانك بلا كتابة لكونه أميا، وهذا فذلكة وإجمال لما في السورة بعد تفصيل تذكيرا لما سلف مشروحا فيها، فالمعنى ذكرهم بالكتاب المبين فإنما يسرناه بلسانك لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي كي يفهموه ويتذكروا به ويعملوا بموجبه فَارْتَقِبْ أي وإن لم يتذكروا فانتظر ما يحل بهم وهو تعميم بعد تخصيص بقوله تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ [الدخان: 10] إلخ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ منتظرون ما يحل بك كما قالوا: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور: 30] وقيل: معناه مرتقبون ما يحل بهم تهكما، وقيل: هو مشاكلة، والمعنى أنهم صائرون للعذاب، وفي الآية من الوعد له صلّى الله عليه وسلّم ما لا يخفى، وقيل: فيها الأمر بالمتاركة وهو منسوخ بآية السيف فلا تغفل. ومن باب الإشارة في الآيات: ما ذكروه في قوله تعالى: وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ إلى آخر القصة من تطبيق ذلك على ما في الأنفس، وهو مما يعلم مما ذكرناه في باب الإشارة من هذا الكتاب غير مرة فلا نطيل به، وقالوا في قوله تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ إنه إشارة إلى الوحدة كقوله عزّ وجلّ: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت: 53] وأفصح بعضهم فقال: الحق هو عزّ وجلّ والباء للسببية أي ما خلقناهما إلا بسبب أن تكون مرايا لظهور الحق جلّ وعلا، ومن جعل منهم الباء للملابسة أنشد: رق الزجاج وراقت الخمر ... فتشاكلا وتشابه الأمر فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر والعبارة ضيقة والأمر طور ما وراء العقل والسكوت أسلم، وقالوا في شجرة الزقوم: هي شجرة الحرص وحب الدنيا تظهر يوم القيامة على أسوأ حال وأخبث طعم، وقالوا الْمَوْتَةَ الْأُولى ما كان في الدنيا بقتل النفس بسيف الصدق في الجهاد الأكبر وهو المشار إليه بموتوا قبل أن تموتوا فمن مات ذلك الموت حيي أبدا الحياة الطيبة التي لا يمازجها شيء من ماء الألم الجسماني والروحاني وذلك هو الفوز العظيم، والله تعالى يقول الحق وهو سبحانه يهدي السبيل. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 135 سورة الجاثية وتسمى سورة الشريعة وسورة الدهر كما حكاه الكرماني في العجائب لذكرهما فيها، وهي مكية قال ابن عطية: بلا خلاف، وذكر الماوردي إلا قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا [الجاثية: 14] الآية فمدنية، وحكى هذا الاستثناء في جمال القراء عن قتادة، وسيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى. وهي سبع وثلاثون آية في الكوفي وست وثلاثون في الباقية لاختلافهم في «حم» هل هي آية مستقلة أو لا، ومناسبة أولها لآخر ما قبلها في غاية الوضوح. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إن جعل اسما للسورة فمحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هذا مسمى بحم، وقوله تعالى: تَنْزِيلُ الْكِتابِ خبر بعد خبر على أنه مصدر أطلق على المفعول مبالغة، وقوله سبحانه: مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ صلته أو خبر ثالث أو حال من تَنْزِيلُ عاملها معنى الإشارة أو من الْكِتابِ الذي هو مفعول معنى عاملها المضاف، وقيل: حم مبتدأ وهذا خبره والكلام على المبالغة أيضا أو تأويل تَنْزِيلُ بمنزل، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 136 والإضافة من إضافة الصفة لموصوفها، واعتبار المبالغة أولى أي المسمى به تنزيل إلخ. وتعقب بأن الذي يجعل عنوانا للموضوع حقه أن يكون قبل ذلك معلوم الانتساب إليه وإذ لا عهد بالتسمية بعد فحقها الإخبار بها، وجوز جار الله جعل «حم» مبتدأ بتقدير مضاف أي تنزيل حم وتَنْزِيلُ المذكور خبره ومِنَ اللَّهِ صلته، وفيه إقامة الظاهر مقام المضمر إيذانا بأنه الكتاب الكامل إن أريد بالكتاب السورة، وفيه تفخيم ليس في تنزيل حم تنزيل من الله، ولهذا لما لم يزاع في حم السجدة هذه النكتة عقب بقوله تعالى: كِتابٌ فُصِّلَتْ [فصلت: 3] ليفيد هذه الفائدة مع التفنن في العبارة، وإن أريد الكتاب كله فللإشعار بأن تنزيله كإنزال الكل في حصول الغرض من التحدي والتهدي، فدعوى عراء هذا الوجه عن فائدة يعتد بها عراء عن إنصاف يعتد به، وإن جعل تعديدا للحروف فلا حظ له من الإعراب وكان تَنْزِيلُ خبر مبتدأ مضمر يلوح به ما قبله أي المؤلف من جنس ما ذكر تنزيل الكتاب أو مبتدأ خبره الظرف بعده على ما قاله جار الله، وقيل: حم مقسم به ففيه حرف جر مقدر وهو في محل جر أو نصب على الخلاف المعروف فيه وتَنْزِيلُ نعت مقطوع فهو خبر مبتدأ مقدر والجملة مستأنفة وجواب القسم قوله تعالى: إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وهو على ما تقدم استئناف للتنبيه على الآيات التكوينية، وجوز أن يكون تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ مبتدأ وخبرا والجملة جواب القسم، وهو خلاف الظاهر، وقيل: يقدر حم على كونه مقسما به مبتدأ محذوف الخبر أي حم قسمي ويكون «تنزيل» نعتا له غير مقطوع، وعلى سائر الأوجه قوله سبحانه: الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ نعت للاسم الجليل. وجوز الإمام كونه صفة للكتاب إلا أنه رجح الأول بعد احتياجه إلى ارتكاب المجاز مع زيادة قرب الصفة من الموصوف فيه، وأوجبه أبو حيان لما في الثاني من الفصل بين الصفة والموصوف الغير الجائز. وقوله عزّ وجلّ: «إن في السموات» إلخ يجوز أن يكون بتقدير مضاف أي إن في خلق السموات كما رواه الواحدي عن الزجاج لما أنه قد صرح به في آية أخرى والقرآن يفسر بعضه بعضا، ويناسبه قوله عزّ وجلّ: وَفِي خَلْقِكُمْ إلى آخره، ويجوز أن يكون على ظاهره وحينئذ يكون على أحد وجهين. أحدهما إن فيهما لآيات أي ما فيهما من المخلوقات كالجبال والمعادن والكواكب والنيرين وعلى هذا يكون قوله سبحانه وَفِي خَلْقِكُمْ من عطف الخاص على العام. والثاني أن أنفسهما لآيات لما فيها من فنون الدلالة على القادر الحكيم جل شأنه، وهذا أظهر وهو أبلغ من أن يقال: إن في خلقهما لآيات وإن كان المعنى آئلا إليه، وفِي خَلْقِكُمْ خبر مقدم وقوله سبحانه: وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ عطف على خلق، وجوز في ما كونها مصدرية وكونها موصولة إما بتقدير مضاف أي وفي خلق ما ينشره ويفرقه من دابة أو بدونه. وجوز عطفه على الضمير المتصل المجرور بالإضافة وما موصولة لا غير على الظاهر، وهو مبني على جواز العطف على الضمير المتصل المجرور من غير إعادة الجار وذلك مذهب الكوفيين ويونس والأخفش قال أبو حيان: وهو الصحيح، واختاره الأستاذ أبو علي الشلوبين، ومذهب سيبويه وجمهور البصريين منع العطف المذكور سواء كان الضمير مجرورا بالحرف أو بالإضافة لشدة الاتصال فأشبه العطف على بعض الكلمة. وذكر ابن الحاجب في شرح المفصل في باب الوقف منه أن بعض النحويين يجوزون العطف في المجرور بالإضافة دون المجرور بالحرف لأن اتصال المجرور بالمضاف ليس كاتصاله بالجار لاستقلال كل واحد منهما بمعناه فلم يشتد اتصال فيه اشتداده مع الحرف وأجاز الجرمي والزيادي العطف إذ أكد الضمير المتصل بمنفصل نحو مررت بك أنت وزيد وقوله تعالى آياتٌ مبتدأ مؤخر والجملة معطوفة على جملة إِنَّ فِي السَّماواتِ إلخ. وقرأ أبي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 137 وعبد الله «لآيات» باللام كذا في البحر ولم يبين أن آيات مرفوع أو منصوب، فإن كان منصوبا فاللام زائدة في اسم إن المتقدم عليه خبرها وهو أحد مواضع زيادته المطردة الكثيرة، وإن كان مرفوعا فهي زائدة في المبتدأ ويقل زيادتها فيه، وحسن زيادتها هنا تقدم أن في الجملة المعطوف عليها فهو كقوله: إن الخلافة بعدهم لذميمة ... وخلائف ظرف لمما أحقر وقرأ زيد بن علي «آية» بالإفراد. وقرأ الأعمش والجحدري وحمزة والكسائي ويعقوب «آيات» بالجمع والنصب على أنها عطف على «آيات» السابق الواقع اسما لأن وفِي خَلْقِكُمْ معطوف على فِي السَّماواتِ فكأنه قيل: وإن في خلقكم وما يبث من دابة آيات لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أي من شأنهم أن يوقنوا بالأشياء على ما هي عليه وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ بالجر على إضمار في، وقد قرأ عبد الله بذكره. وجاء حذف الجار مع إبقاء عمله كما في قوله: إذا قيل أي الناس شر قبيلة ... أشارت كليب بالأكف الأصابع وحسن ما هنا ذكر الجار في الآيتين قبل. وقرىء بالرفع على أنه مبتدأ خبره آياتٌ بعد والمراد باختلافهما تعاقبهما أو تفاوتهما طولا وقصرا، وقيل: اختلافهما في أن أحدهما نور والآخرة ظلمة وَما أَنْزَلَ اللَّهُ عطف على اخْتِلافِ مِنَ السَّماءِ جهة العلو، وقيل: السحاب، وقيل: الجرم المعروف بضرب من التأويل. مِنْ رِزْقٍ من مطر، وسمي رزقا لأنه سببه فهو مجاز، ولو لم يؤول صح لأنه في نفسه رزق أيضا. فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بأن أخرج منها أصناف الزرع والثمرات والنبات، والسببية عادية اقتضتها الحكمة بَعْدَ مَوْتِها يبسها وعرائها عن آثار الحياة وانتفاء قوة التنمية عنها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ من جهة إلى أخرى ومن حال إلى حال، وتأخيره عن إنزال المطر مع تقدمه عليه في الوجود إما للإيذان بأنه آية مستقلة حيث لو روعي الترتيب الوجودي لربما توهم أن مجموع تصريف الرياح وإنزال المطر آية واحدة، وإما لأن كون التصريف آية ليس بمجرد كونه مبدأ لإنشاء المطر بل له ولسائر المنافع التي من جملتها سوق السفن في البحار. وقرأ زيد بن علي وطلحة وعيسى «وتصريف الريح» بالإفراد آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ بالرفع على أنه مبتدأ خبره ما تقدم من الجار والمجرور أعني «في اختلاف» على ما سمعت، والجملة معطوفة على ما قبلها. وقيل: إن اخْتِلافِ بالجر عطف على خَلْقِكُمْ المجرور بفي قبله وآياتٌ عطف على آيات السابق المرفوع بالابتداء، وفيه العطف على معمولي عاملين مختلفين، ومن الناس من يمنعة وهم أكثر البصريين، ومنهم من يجيزه وهم أكثر الكوفيين، ومنهم من يفصل فيقول: وهو جائز في نحو قولك: في الدار زيد والحجرة عمرو وغير جائز في نحو قولك: زيد في الدار وعمرو الحجرة لأن الأول يلي المجرور فيه العاطف فقام العاطف مقام الجار، والثاني لم يل فيه المجرور العاطف فكان فيه إضمار الجار من غير عوض، وتمام الكلام في هذه المسألة في محله وقيل: إن اخْتِلافِ عطف على المجرور قبله وآياتٌ خبر مبتدأ محذوف أي هي آيات واختاره من لم يجوز العطف على معمولي عاملين ويقول بضعف حذف الجار مع بقاء عمله وإن تقدمه ذكر جار. وقال أبو البقاء: آياتٌ مرفوع على التأكيد لآيات السابق وهم يعيدون الشيء إذا طال الكلام في الجملة للتأكيد والتذكير. وتعقب بأن ذلك إنما يكون بعين ما تقدم واختلاف الصفات يدل على تغاير الموصوفات فلا وجه للتأكيد، وأيضا فيه الفصل بين المعطوف المجرور والمعطوف عليه وبين المؤكد والمؤكد وهو إن جاز يورث تعقيدا ينافى فصاحة القرآن العظيم. وقرأ آيات هنا بالنصب من قرأها هناك به فهي مفعول لفعل محذوف أي أعني آيات، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 138 وقيل: العاطف في قوله تعالى وَاخْتِلافِ عطف اختلاف على المجرور بفي قبل وعطفها على اسم إن وهو مبني على جواز العطف على معمولي عاملين، وقال أبو البقاء: هي منصوبة على التأكيد والتكرير لاسم إن نحو بثوبك دما وبثوب زيد دما، ومر آنفا ما فيه. وقال بعضهم: إنها اسم إن مضمرة وهي قد تضمر ويبقى عملها، ذكر أبو حيان في الارتشاف في الكلام على أن من خير الناس أو خيرهم زيد أن محمد بن يحيى بن المبارك اليزيدي ذهب إلى نصب خيرهم ورفع زيد فاسم إن محذوف وأو خيرهم منصوب بإضمار إن لدلالة إن المذكورة تقديره إن من خير الناس زيدا وإن خيرهم زيد. وقد أقر الشاطبي تخريج النصب في الآية على ذلك لكن نقله السفاقسي عن أبي البقاء ورده بأن إن لا تضمر. وقال ابن هشام في آخر الباب الرابع من المغني: إنه بعيد، والظاهر أنه لا بد عليه من إضمار الجار في اخْتِلافِ وحينئذ لا يخفى حاله، وسائر القراءات مروية هنا عمن رويت عنه فيما تقدم، وتنكير آياتٌ في الآيات للتفخيم كما وكيفا، والمعنى إن المنصفين من العباد إذا نظروا في السموات والأرض النظر الصحيح علموا أنها مصنوعة وأنها لا بد لها من صانع فآمنوا بالله تعالى وأقروا، وإذا نظروا في خلق أنفسهم وتنقلها من حال إلى حال وهيئة إلى أخرى وفي خلق ما على ظهر الأرض من صنوف الحيوان ازدادوا إيمانا وأيقنوا وانتفى عنهم اللبس فإذا نظروا في سائر الحوادث التي تتجدد في كل وقت كاختلاف الليل والنهار ونزول الأمطار وحياة الأرض بعد موتها وتصريف الرياح جنوبا وشمالا وقبولا ودبورا وشدة وضعفا وحرارة وبرودة عقلوا واستحكم علمهم وخلص يقينهم كذا في الكشاف ومنه يعلم نكتة اختلاف الفواصل. وفي الكشف أنه ذكر ما حاصله أنه على سبيل الترقي وهو يوافق ما عليه الصوفية وغيرهم من أن الإيقان مرتبة خاصة في الإيمان، ثم العقل لما كان مدارهما أي الإيمان والإيقان ونعني به العقل المؤيد بنور البصيرة جعله لخلوص الإيقان من اعتراء الشكوك من كل وجه ففي استحكامه كل خير، وروعي في ترتيب الآيات ما روعي في ترتيب المراتب الثلاث من تقديم ما هو أقدم وجودا، ولا يلزم أن تكون الآية الثانية أعظم من الأولى ولا الثالثة من الثانية لما ذكره من أن الجامع بين النظرين موقن وبين الثلاثة عاقل على أنها كذلك في تحصيل هذا الغرض فإن كانت أعظم من وجه آخر فلا بأس فإن النظر إلى حال نفسه وما هو من نوعه ثم جنسه من سائر الأناسي والحيوان للقرب والتكرر وكثرة العدد أدخل في انتفاء الشك وحصول اليقين وإن كان النظر في السماء والأرض أتم دلالة على كمال القدرة والعلم فذلك لا يضر ولا هو المطلوب هاهنا ثم النظر إلى الاختلاف المذكور أدل على استحكام ذلك اليقين من حيث إنه يتجدد حينا فحينا ويبعث على النظر والاعتبار كلما تجدد هذا، والتحقيق أن تمام النظر في الثاني يضطر إلى النظر في الأول لأن السموات والأرض من أسباب تكون الحيوان بوجه، وكذلك النظر في الثالث يضطر إلى النظر في الأولين، أما على الأول فظاهر وأما على الثاني فلأنه العلة الغائية فلا بد من أن يكون جامعا انتهى، وهو كلام نفيس جدا. وقال الإمام في ترتيب هذه الفواصل: أظن أن سببه أنه قيل إن كنتم مؤمنين فافهموا هذه الدلائل وإن كنتم لستم من المؤمنين بل كنتم من طلاب الجزم واليقين فافهموا هذه الدلائل وإن كنتم لستم من المؤمنين ولا من الموقنين فلا أقل من أن تكونوا من زمرة العاقلين فاجتهدوا في معرفة هذه الدلائل، ولا يخفى أنه فاته ذلك التحقيق ولم يختر الترقي وهو بالاختيار حقيق، والمغايرة بين ما هنا وما في سورة [البقرة: 164] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ الآية للتفنن والكلام المعجز مملوء منه، وذكر الإمام في ذلك ما لا يهش له السامع فتأمل تِلْكَ آياتُ اللَّهِ مبتدأ وخبر، وقوله تعالى: نَتْلُوها عَلَيْكَ حال عاملها معنى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 139 الإشارة نحو هذا بَعْلِي شَيْخاً [هود: 72] على المشهور، وقيل: هو الخبر وآياتُ اللَّهِ بدل أو عطف بيان وقوله سبحانه: بِالْحَقِّ حال من فاعل نَتْلُوها أو من مفعوله أي نتلوها محقين أو ملتبسة بالحق فالباء للملابسة ويجوز أن تكون للسببية الغائية، والمراد بالآيات المشار إليها إما آيات القرآن أو السورة أو ما ذكر قبل من السموات والأرض وغيرهم فتلاوتها بتلاوة ما يدل عليها، وفسرت بالسرد أي نسردها عليك. وقال ابن عطية: الكلام بتقدير مضاف أي نتلو شأنها وشأن العبرة بها. وقرىء «يتلوها» بالياء على أن الفاعل ضميره تعالى والمراد على القراءتين تلاوتها عليه صلّى الله عليه وسلّم بواسطة الملك عليه السلام فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ هو من باب قولهم: أعجبني زيد وكرمه يريدون أعجبني كرم زيد إلا أنهم عدلوا عنه للمبالغة في الإعجاب أي فبأي حديث بعد هذه الآيات المتلوة بالحق يؤمنون، وفيه دلالة على أنه لا بيان أزيد من هذا البيان ولا آية أدل من هذه الآية، وتفخيم شأن الآيات من اسم الإشارة وإضافتها إلى الله عز وجلّ، وجعل «نتلوها» حالا مع ضمير التعظيم ثم تكرير الاسم الجليل للنكتة المذكورة وإضافتها إليه بواسطة الضمير مرة أخرى، وقد ذكر ذلك الزمخشري وتعقبه أبو حيان بأنه ليس بشيء لأن فيه من حيث المعنى إقحام الأسماء من غير ضرورة والعطف، والمراد غير العطف من إخراجه إلى باب البدل لأن تقدير كرم زيد إنما يكون في أعجبني زيد كرمه بغير واو على البدل وهذا قلب لحقائق النحو، وإنما المعنى في المثال إن ذات زيد أعجبته وأعجبه كرمه فهما إعجابان لا إعجاب واحد وهو مبني على عدم التعمق في فهم كلام جار الله. ومن تعمق فيه لا يرى أنه قائل بالإقحام وإنما بيان حاصل المعنى يوهمه، وبين هذه الطريقة وطريقة البدل مغايرة تامة، فقد ذكر أن فائدة هذه الطريقة وهي طريقة إسناد الفعل إلى شيء والمقصود إسناده إلى ما عطف عليه قوة اختصاص المعطوف بالمعطوف عليه من جهة الدلالة على أنه صار من التلبس بحيث يصح أن يسند أوصافه وأفعاله وأحواله إلى الأول قصدا لأنه بمنزلته ولا كذلك البدل لأن المقصود فيه بالنسبة هو الثاني فقط وهنا هما مقصودان، فإن قلت: إذا لم يكن ذلك الوصف منسوبا للمعطوف عليه لزم إقحامه كما قال أبو حيان، وما يذكر من المبالغة لا يدفع المحذور، وعلى فرض تسليمه فدلالته على ما ذكر بأي طريق من طرق الدلالة المشهورة. أجيب بأنه غير منسوب إليه في الواقع لكن لما كان بينهما ملابسة تامة من جهة ما ككون الآيات هاهنا بإذنه تعالى أو مرضية له عز وجل جعل كأنه المقصود بالنسبة وكني بها عن ذلك الاختصاص كناية إيمائية ثم عطف عليه المنسوب إليه وجعل تابعا فيها وبهذا غاير البدل مغايرة تامة غفل عنها المعترض فالنسبة بتمامها مجازية كذا قرره بعض المحققين. وقال الواحدي: أي فبأي حديث بعد حديث الله أي القرآن وقد جاء إطلاقه عليه في قوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [الزمر: 23] وحسن الإضمار لقرينة تقدم الحديث، وقوله سبحانه: وَآياتِهِ عطف عليه لتغايرهما إجمالا وتفصيلا لأن الآيات هي ذلك الحديث ملحوظ الأجزاء، وإن أريد ما بين فيه من الآيات والدلائل فليس من عطف الخاص على العام لأن الآيات ليست من القرآن وإنما وجه دلالتها وإيرادها منه فيكون في هذا الوجه الدلالة أيضا على حال البيان والمبين كما في الوجه الأول، وقال الضحاك: أي فبأي حديث بعد توحيد الله ولا يخفى أنه بظاهره مما لا معنى له فلعله أراد بعد حديث توحيده تعالى أي الحديث المتضمن ذلك أو هو بعد تقدير المضاف من باب أعجبني زيد وكرمه، وأيا ما كان فالفاء في جواب شرط مقدر والظرف صفة «حديث» وجوز أن يكون متعلقا بيؤمنون قدم للفاصلة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 140 وقرأ ابن عامر وأبو بكر وحمزة والكسائي «تؤمنون» بالتاء الفوقانية وهو موافق لقوله تعالى: وَفِي خَلْقِكُمْ بحسب الظاهر والصورة وإلا فالمراد هنا الكفار بخلاف ذلك. وقرأ طلحة «توقنون» بالتاء الفوقانية والقاف من الإيقان وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ كثير الإفك أي الكذب أَثِيمٍ كثير الإثم، والآية نزلت في أبي جهل، وقيل: في النضر بن الحارث وكان يشتري حديث الأعاجم ويشغل به الناس عن استماع القرآن لكنها عامة كما هو مقتضى كل ويدخل من نزلت فيه دخولا أوليا، وأَثِيمٍ صفة أَفَّاكٍ وقوله تعالى: يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ صفة أخرى له، وقيل استئناف، وقيل حال من الضمير في أَثِيمٍ وقوله سبحانه تُتْلى عَلَيْهِ حال من آياتِ اللَّهِ ولم يجوز جعله مفعولا ثانيا ليسمع لأن شرطه أن يكون ما بعده مما لا يسمع كسمعت زيدا يقرأ، والظاهر أن المراد بتتلى الاستمرار لأنه المناسب للاستبعاد المدلول عليه بقوله عز وجل ثُمَّ يُصِرُّ فإن ثم لاستبعاد الإصرار بعد سماع الآيات وهي للتراخي الرتبي ويمكن إبقاؤه على حقيقته إلا أن الأول أبلغ وأنسب بالمقام، ونظير ذلك في الاستبعاد قول جعفر بن علية: لا يكشف الغماء إلا ابن حرة ... يرى غمرات الموت ثم يزورها والإصرار على الشيء ملازمته وعدم الانفكاك عنه من الصر وهو الشد ومنه صرة الدراهم، ويقال: صر الحمار أذنيه ضمهما صرا وأصر الحمار ولا يقال أذنيه على ما في الصحاح وكأن معناه حينئذ صار صارّا أذنيه. والمراد هنا ثم يقيم على كفره وضلاله مُسْتَكْبِراً عن الإيمان بالآيات وهو حال من ضمير يُصِرُّ وقوله سبحانه كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها حال بعد حال أو حال من ضمير مُسْتَكْبِراً وجوز الاستئناف، وكَأَنْ مخففة من كأن بحذف إحدى النونين واسمها ضمير الشأن، وقيل: لا حاجة إلى تقديره كما في أن المفتوحة، والمعنى يصر مستكبرا مثل غير السامع لها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ على إصراره ذلك، والبشارة في الأصل الخبر المغير للبشرة خيرا كان أو شرا، وخصها العرف بالخبر السار فإن أريد المعنى العرفي فهو استعارة تهكمية أو هو من قبيل: تحية بينهم ضرب وجيع وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً وإذا بلغه شيء من آياتنا وعلم أنه منها. اتَّخَذَها هُزُواً بادر إلى الاستهزاء بالآيات كلها ولم يقتصر على الاستهزاء بما بلغه، وجوز أن يكون المعنى وإذا علم من آياتنا شيئا يمكن أن يتشبث به المعاند ويجد له محملا يتسلق به على الطعن والغميزة افترصه واتخذ آيات الله تعالى هزوا وذلك نحو اعتراض ابن الزبعري في قوله تعالى إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98] ومغالطته رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقوله على ما بعض الروايات: خصمتك فضمير اتَّخَذَها على الوجهين للآيات، والفرق بينهما أن شَيْئاً على الثاني فيه تخصيص لقرينة اتَّخَذَها هُزُواً إذ لا يحتمل إلا ما يحسن أن يخيل فيه ذلك ثم يجعله دستورا للباقي فيقول: الكل من هذا القبيل، وفرق بين الوجهين أيضا بأن في الأول الاتخاذ قبل التأمل وفي الثاني بعده وبعد تمييز آية عن أخرى، وقيل: الاستهزاء بما علمه من الآيات إلا أنه أرجع الضمير إلى الآيات لأن الاستهزاء بواحدة منها استهزاء بكلها لما بينها من التماثل، وجوز أن يرجع الضمير إلى شيء والتأنيث لأنه بمعنى الآية كقول أبي العتاهية: نفسي بشيء من الدنيا معلقة ... الله والقائم المهدي يكفيها يعني الشيء وأراد به عتبة جارية للمهدي من حظاياه وكان أبو العتاهية يهواها فقال ما قال. وقرأ قتادة ومطر الوراق «علّم» بضم العين وشد اللام مبنيا للمفعول أُولئِكَ إشارة إلى كل أفاك من حيث الاتصاف بما ذكر من الجزء: 13 ¦ الصفحة: 141 القبائح، والجمع باعتبار الشمول للكل كما في قوله تعالى: كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم: 32] كما أن الإفراد فيما سبق من الضمائر باعتبار كل واحد واحد، وأداة البعد للإشارة إلى بعد منزلتهم في الشر. لَهُمْ بسبب جناياتهم المذكورة عَذابٌ مُهِينٌ وصف العذاب بالإهانة توفية لحق استكبارهم واستهزائهم بآيات الله عز وجلّ مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ أي من قدامهم لأنهم متوجهون إليها أو من خلفهم لأنهم معرضون عن الالتفات إليها والاشتغال عما ينجيهم منها مقبلون على الدنيا والانهماك في شهواتها، والوراء تستعمل في هذين المعنيين لأنها اسم للجهة التي يواريها الشخص فتعم الخلف والقدام، وقيل في توجيه الخلفية: إن جهنم لما كانت تتحقق لهم بعد الأجل جعلت كأنها خلفهم وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ولا يدفع ما كَسَبُوا أي الذي كسبوه من الأموال والأولاد شَيْئاً من عذاب الله تعالى أو شيئا من الإغناء على أن شَيْئاً مفعول به أو مفعول مطلق وَلا مَا اتَّخَذُوا أي الذي اتخذوه مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ أي الأصنام. وجوز أن تفسر ما بما تعمها وسائر المعبودات الباطلة، والأول أظهر، وجوز في ما في الموضعين أن تكون مصدرية، وتوسيط حرفي النفي بين المعطوفين مع أن عدم إغناء الأصنام أظهر وأجلى من عدم إغناء الأموال والأولاد قطعا مبني على زعمهم الفاسد حيث كانوا يطمعون في شفاعتهم، وفيه تهكم وَلَهُمْ فيما وراءهم من جهنم عَذابٌ عَظِيمٌ لا يقادر قدره هذا أي القرآن كما يدل عليه ما بعد وكذا ما قبل ك يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا وتِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها هُدىً في غاية الكمال من الهداية كأنه نفسها وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ يعني القرآن أيضا على أن الإضافة للعهد، وكان الظاهر الإضمار لكن عدل عنه إلى ما في النظم الجليل لزيادة تشنيع كفرهم به وتفظيع حالهم وجوز أن يراد بالآيات ما يشمله وغيره. لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ من أشد العذاب أَلِيمٌ بالرفع صفة عَذابٌ أخر للفاصلة. وقرأ غير واحد من السبعة أليم بالجر على أنه صفة رِجْزٍ، وجعله صفة عَذابٌ أيضا والجر للمجاورة مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، وقيل: على قراءة الرفع إن الرجز بمعنى الرجس الذي هو النجاسة، والمعنى لهم عذاب أليم من تجرع رجس أو شرب رجس والمراد به الصديد الذي يتجرعه الكافر ولا يكاد يسيغه ولا داعي لذلك كما لا يخفى، وتنوين عَذابٌ في المواقع الثلاثة للتفخيم، ورفعه إما على الابتداء وإما على الفاعلية للظرف اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ بأن جعله أملس السطح يطفو عليه ما يتخلخل كالأخشاب ولا يمنع الغوص فيه لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ بتسخيره تعالى إياه وتسهيل استعمالها فيما يراد بها، وقيل: بتكوينه تعالى أو بإذنه عز وجلّ، وسياق الامتنان يقتضي أن يكون المعنى لتجري الفلك فيه وأنتم راكبوها. وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ بالتجارة والغوص والصيد وغيرها وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ولكي تشكروا النعم المترتبة على ذلك، وهذا أعني اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ إلخ ذكر تتميما للتقريع ولهذا رتب عليه الأغراض العاجلة فإنه مما يستوجب الشكر غالبا للكافر أيضا فكأنه قيل: تلك الآيات أولى بالشكر ولهذا عقب بما يعم القسمين أعني قوله سبحانه: وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي من الموجودات بأن جعل فيها منافع لكم منها ظاهرة ومنها خفية، وعقب بالتفكر لينبه على أن التفكر هو الذي يؤدي إلى ما ذكر من الأولوية ويدل به على أن التفكر ملاك الأمر في ترتيب الغرض على ما جعل آية من الإيمان والإيقان والشكر جَمِيعاً حال من ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أو توكيد له وقوله تعالى: مِنْهُ حال من ذلك أيضا، والمعنى سخر هذه الأشياء جميعا كائنة منه وحاصلة من عنده يعني أنه سبحانه مكونها وموجدها بقدرته وحكمته ثم مسخرها لخلقه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 142 وجوز فيه أوجه أخر. الأول أن يكون خبر مبتدأ محذوف فقيل جَمِيعاً حينئذ حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور بناء على جواز تقدم الحال على مثل هذا العامل أو من المبتدأ بناء على تجويز الحال منه أي هي جميعا منه تعالى وقيل: جميعا على ما كان ويلاحظ في تصوير المعنى فالضمير المبتدأ يقدر بعده ويعتبر رجوعه إلى ما تقدم بقيد جميعا، والجملة على القولين استئناف جيء به تأكيدا لقوله تعالى: سَخَّرَ أي إنه عز وجل أوجدها ثم سخرها لا أنها حصلت له سبحانه من غيره كالملوك، الثاني أن يجعل ما فِي السَّماواتِ مبتدأ ويكون هو خبره وجَمِيعاً حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور الواقع صلة ويكون وَسَخَّرَ لَكُمْ تأكيدا للأول أي سخر وسخر، وفي العطف إيماء إلى أن التسخير الثاني كأنه غير الأول دلالة على أن المتفكر كلما فكر يزداد إيمانا بكمال التسخير والمنة عليه، وجملة ما فِي السَّماواتِ إلخ مستأنفة لمزيد بيان القدرة والحكمة. واعترض بأنه إن أريد التأكيد اللغوي فهو لا يخلو من الضعف لأن عطف مثله في الجمل غير معهود، وإن أريد التأكيد الاصطلاحي كما قيل به في قوله تعالى: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ [التكوير: 3- 4] فهو مخالف لما ذكره ابن مالك في التسهيل من أن عطف التأكيد يختص بثم، وقال الرضي: يكون بالفاء أيضا وهو هاهنا بالواو ولم يجوزه أحد منهم وإن لم يذكروا وجه الفرق على أنه قد تقرر في المعاني أنه لا يجري في التأكيد العطف مطلقا لشدة الاتصال، واعترض أيضا بأن فيه حذف مفعول «سخر» من غير قرينة وهذا كما ترى، الثالث أن يكون ما فِي الْأَرْضِ مبتدأ ومِنْهُ خبره ولا يخفى أنه ضعيف بحسب المساق. وأخرج ابن المنذر من طريق عكرمة أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لم يكن يفسر هذه الآية، ولعله إن صح محمول على أنه لم يبسط الكلام فيها، فقد أخرج ابن جرير عنه أنه قال فيها كل شيء هو من الله تعالى. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن طاوس قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله مم خلق الخلق؟ قال: من الماء والنور والظلمة والريح والتراب قال: فمم خلق هؤلاء؟ قال: لا أدري ثم أتى الرجل عبد الله بن الزبير فسأله فقال مثل قول عبد الله بن عمرو فأتى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فسأله مم خلق الخلق؟ قال: من الماء والنور والظلمة والريح والتراب قال: فمم خلق هؤلاء؟ فقرأ ابن عباس وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ فقال الرجل: ما كان ليأتي بهذا إلا رجل من أهل بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم. واختلف أهل العلم فيما أراد ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بذلك فقال البيهقي: أراد أن مصدر الجميع منه تعالى أي من خلقه وإبداعه واختراعه خلق الماء أولا أو الماء وما شاء عز وجل من خلقه لا عن أصل ولا عن مثال سبق ثم جعله تعالى أصلا لما خلق بعده فهو جل شأنه المبدع وهو سبحانه البارئ لا إله غيره ولا خالق سواه اهـ، وعليه جميع المحدثين والمفسرين ومن حذا حذوهم، وقال الشيخ إبراهيم الكوراني من الصوفية: إن المخلوقات تعينات الوجود المفاض الذي هو صورة النفس الرحماني المسمى بالعماء وذلك أن العماء قد انبسط على الحقائق التي هي أمور عدمية متميزة في نفس الأمر والانبساط حادث والعماء من حيث اقترانه بالماهيات غير ذات الحق تعالى فإنه سبحانه الوجود المحض الغير المقترن بها فالموجودات صور حادثة في العماء قائمة به والله تعالى قيومها لأنه جلّ وعلا الأول الباطن الممد لتلك الصور بالبقاء ولا يلزم من ذلك قيام الحوادث بذات الحق تعالى ولا كونه سبحانه مادة لها لأن وجوده تعالى مجرد عن الماهيات غير مقترن بها والمتعين بحسبها هو العماء الذي هو الوجود المفاض منه تعالى بإيجاده جلّ شأنه، وبهذا ينطبق الجواب على السؤال من غير تكلف ولا محذور، ولو كان مراد ابن عباس مجرد ما ذكره البيهقي من أن مصدر الجميع من خلقه تعالى كان يكفي في ذلك قوله تعالى: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد: 16، الزمر: 62] لكن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 143 السؤال إنما وقع بمم ووقع الجواب بمنه في تلاوته الآية فالظاهر أن ما فهمه السائل من تلاوته رضي الله تعالى عنه ليس مجرد ما ذكره بقرينة مدحه بقوله: ما كان ليأتي بهذا إلخ فإن ما ذكره البيهقي يعرفه كل من آمن بقوله تعالى: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فلا يظهر حينئذ وجه لقول كل من ابن عمرو وابن الزبير لا أدري فإنهما من أفضل المؤمنين بأن الله تعالى خالق كل شيء بل ما فهمه هو ما أشرنا إليه اهـ، وعليه عامة أهل الوحدة «وأجاب الأولون» بأن مراد ابن عباس قطع التسلسل في السؤال بعد ذكر مادة لبعضها بأن مرجع الأمر أن الأشياء كلها خلقت بقدرته تعالى لا من شيء وهو كلام حكيم يمدح قائله لم يهتد إليه ابن الزبير. وابن عمرو، ولا يعكر على هذا قوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ [الطور: 35] لما قاله المفسرون فيه وسيأتي إن شاء الله تعالى في محله فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك، وقد أورد الحسين بن علي بن واقد في مجلس الرشيد هذه الآية ردا على بعض النصارى في زعمه أن قوله تعالى في عيسى عليه السلام: وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء: 171] يدل على ما يزعمه فيه عليه السلام من أنه ابن الله سبحانه وتعالى عما يصفون. وحكى أبو الفتح. وصاحب اللوامح عن ابن عباس وعبد الله بن عمرو والجحدري. وعبد الله بن عبيد بن عمير أنهم قرؤوا «منّة» بكسر الميم وشد النون ونصب التاء على أنه مفعول له أي سخر لكم ذلك نعمة عليكم، وحكاها عن ابن عباس أيضا ابن خالويه. لكن قال أبو حاتم: إن سند هذه القراءة إليه مظلم فإذا صح السند يمكن أن يقال فيما تقدم من حديث طاوس: إنه ذكر الآية على قراءة الجمهور ويحتمل أن له قراءتين فيها. وقرأ مسلمة بن محارب كذلك إلا أنه ضم التاء على تقدير هو أو هي منة، وعنه أيضا فتح الميم وشد النون وهاء الكتابة عائدة على الله تعالى أي انعامه وهو فاعل سَخَّرَ على الإسناد المجازي كما تقول: كرم الملك العشي أو هو خبر مبتدأ محذوف أي هذا أو هو منه تعالى، وجوزت الفاعلية في قراءته الأولى، وتذكير الفعل لأن الفاعل ليس مؤنثا حقيقيا مع وجود الفاصل، والوجه الأول أولى وإن كان فيه تقدير إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر لَآياتٍ عظيمة الشأن كثيرة العدد لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في بدائع صنعه تعالى وعظائم شأنه جلّ شأنه فإن ذلك يجرهم إلى الإيمان والإيقان والشكر. قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا حذف المقول لدلالة يَغْفِرُوا عليه فإنه جواب للأمر باعتبار تعلقه به لا باعتبار نفسه فقط أي قل لهم اغفروا يغفروا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ أي يعفوا ويصفحوا عن الذين لا يتوقعون وقائعه تعالى بأعدائه ونقمته فيهم فالرجاء مجاز عن التوقع وكذا الأيام مجاز عن الوقائع من قولهم: أيام العرب لوقائعها وهو مجاز مشهور وروي ذلك عن مجاهد أولا يأملون الأوقات التي وقتها الله تعالى لثواب المؤمنين ووعدهم الفوز فيها، والآية قيل نزلت قبل آية القتال ثم نسخت بها. وقال بعضهم: لا نسخ لأن المراد هنا ترك النزاع في المحقرات والتجاوز عن بعض ما يؤذي ويوحش، وحكى النحاس. والمهدوي عن ابن عباس أنها نزلت في عمر رضي الله تعالى عنه شتمه مشرك (1) بمكة قبل الهجرة فهمّ أن يبطش به فنزلت وروي ذلك عن مقاتل وهذا ظاهر في كونها مكية كأخواتها. وإرادة فهم أن يبطش به بعد الهجرة لأن المسلمين بمكة قبلها عاجزون مقهورون لا يمكنهم الانتصار من المشركين والعاجز لا يؤمر بالعفو والصفح غير ظاهر محتاج إلى نقل، ودوام عجز كل من المسلمين غير معلوم بل من وقف على أحوال أبي حفص رضي الله تعالى عنه لا يتوقف في أنه قادر على ما هم به لا يبالي بما يترتب عليه.   (1) قيل هو من غفار اهـ منه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 144 وهذا أولى في الجواب من أن يقال: إن الأمر بفعل ذلك بينه وبين الله تعالى بقلبه ليثاب عليه، نعم قيل: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه نزلوا في غزوة بني المصطلق على بئر يقال له المريسيع فأرسل ابن أبيّ غلامه ليستقي فأبطأ عليه فلما أتاه قال له: ما حسبك؟ قال: غلام عمر قعد على طرف البئر فما ترك أحدا يستقي حتى ملأ قرب النبي صلّى الله عليه وسلّم وقرب أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال ابن أبيّ: ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل سمّن كلبك يأكلك فبلغ ذلك عمر رضي الله تعالى عنه فاشتمل سيفه يريد التوجه إليه فأنزل الله تعالى الآية وحكاه الإمام عن ابن عباس وهو يدل على أنها مدنية، وكذا ما روي عن ميمون بن مهران قال: إن فنحاصا اليهودي قال: لما أنزل الله تعالى مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [البقرة: 245، الحديد: 11] احتاج رب محمد فسمع بذلك عمر رضي الله تعالى عنه فاشتمل سيفه وخرج فبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم في طلبه حتى رده ونزلت الآية لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ تعليل للأمر بالمغفرة، وجوز أن يكون تعليلا للأمر بالقول لأنه سبب لامتثالهم المجازي عليه، والمراد بالقوم المؤمنون الغافرون والتنكير للتعظيم، ولفظ القوم في نفسه اسم مدح على ما يرشد إليه الاشتقاق والاستعمال في نحو يا ابن القوم. وفي هذا التنكير كمال التعريف والتنبيه على أنهم لا يخفون نكروا أو عرفوا مع العلم بأن المجزي لا يكون إلا العامل وهو الغافر هنا أي أمروا بذلك ليجزي الله تعالى يوم القيامة قوما أيما قوم وقوما مخصوصين بما كسبوا في الدنيا من الأعمال الحسنة التي من جملتها الصبر على أذية الكفار والإغضاء عنهم بكظم الغيظ واحتمال المكروه. ما لا يحيط به نطاق البيان من الثواب العظيم، ومنهم من خص ما كسبوه بالمغفرة والصبر على الأذية، وما في الوجهين موصولة وجوز أن تكون مصدرية، والباء للسببية أو للمقابلة أو صلة يجزي، وجوز أن يراد بالقوم الكفرة وبما كسبوا سيئاتهم التي من جملتها إيذاؤهم المؤمنين والتنكير للتحقير: وتعقب بأن مطلق الجزاء لا يصلح تعليلا للأمر بالمغفرة لتحققه على تقديري المغفرة وعدمها فلا بد من تخصيصه بالكل بأن لا يتحقق بعض منه في الدنيا أو بما يصدر عنه تعالى بالذات، وفي ذلك من التكلف ما لا يخفى، وأن يراد كلا الفريقين والتنكير للشيوع، وتعقب بأنه أكثر تكلفا وأشد تمحلا، والذي يشهد للوجه السابق ما روي عن سعيد بن المسيب قال: كنا بين يدي عمر رضي الله تعالى عنه فقرأ قارئ هذه الآية فقال: ليجزي عمر بما صنع، وقرأ زيد بن علي وأبو عبد الرحمن والأعمش وأبو خليد وابن عامر وحمزة والكسائي «لنجزي» بنون العظمة، وقرىء «ليجزي» بالياء والبناء للمفعول «قوم» بالرفع على أنه نائب الفاعل، وقرأ شيبة، وأبو جعفر بخلاف عنه كذلك إلا أنهما نصبا «قوما» وروي ذلك عن عاصم، واحتج به من يجوز نيابة الجار والمجرور عن الفاعل مع وجود المفعول الصريح فيقول: ضرب بسوط زيدا فبما كسبوا نائب الفاعل هاهنا ولا يجيز ذلك الجمهور، وخرجت هذه القراءة على أن القائم مقام الفاعل ضمير المصدر أي ليجزى هو أي الجزاء، ورد بأنه لا يقام مقامه عند وجود المفعول به أيضا على الصحيح، وأجازه الكوفيون على خلاف في الإطلاق والاستحسان أو على أنه ضمير المفعول الثاني وهو الجزاء بمعنى المجزي به كما في قوله تعالى جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ [البينة: 8] وأضمر لدلالة السياق كما في قوله سبحانه: وَلِأَبَوَيْهِ [النساء: 11] والمفعول الثاني في باب أعطى يقوم مقام الفاعل بلا خلاف وهذا من ذاك، وأبو البقاء اعتبر الخير بدل الجزاء المذكور أو على أن «قوما» منصوب بأعني أو جزى مضمرا لدلالة المجهول على أن ثم جازيا واختاره أبو حيان ولِيَجْزِيَ حينئذ من باب يعطي ويمنع وحيل بين العير والنزوان فمعناه ليفعل الجزاء ويكون هناك جملتان. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 145 مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها لا يكاد يسري عمل إلى غير عامله ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مالك أموركم تُرْجَعُونَ فيجازيكم على أعمالكم حسبما تقتضيه الحكمة خيرا على الخير وشرا على الشر، والجملة مستأنفة لبيان كيفية الجزاء وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وهو التوراة على أن التعريف للعهد، وجوز جعله للجنس ليشمل الزبور والإنجيل ولا يضر في ذلك كون الزبور أدعية ومناجاة والإنجيل أحكامه قليلة جدا ومعظم أحكام عيسى عليه السلام من التوراة لأن إيتاء الكتاب مطلقا منة وَالْحُكْمَ القضاء وفصل الأمور بين الناس لأن الملك كان فيهم واختاره أبو حيان، أو الفقه في الدين ويقال: لم يتسع فقه الأحكام على نبي ما اتسع على لسان موسى عليه السلام، أو الحكم النظرية الأصلية والعملية الفرعية وَالنُّبُوَّةَ حيث كثر فيهم الأنبياء عليهم السلام ما لم يكثر في غيرهم وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ المستلذات الحلال وبذلك تتم النعمة وذلك كالمن والسلوى وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ حيث آتيناهم ما لم نؤت غيرهم من فلق البحر وإظلال الغمام ونظائرهما فالمراد تفضيلهم على العالمين مطلقا من بعض الوجوه لا من كلها ولا من جهة المرتبة والثواب فلا ينافي ذلك تفضيل أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم عليهم من وجه آخر ومن جهة المرتبة والثواب، وقيل: المراد بالعالمين عالمو زمانهم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 146 آتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ دلائل ظاهرة في أمر الدين فمن بمعنى في والبينات الدلائل ويندرج فيها معجزات موسى عليه السلام وبعضهم فسرها بها، وعن ابن عباس آيات من أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلامات مبينة لصدقه عليه الصلاة والسلام ككونه يهاجر من مكة إلى يثرب ويكون أنصاره أهلها إلى غير ذلك مما ذكر في كتبهم فَمَا اخْتَلَفُوا في ذلك الأمر إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بحقيقة الحال فجعلوا ما يوجب زوال الخلاف موجبا لرسوخه بَغْياً بَيْنَهُمْ عداوة وحسدا لا شكا فيه إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ بالمؤاخذة والجزاء فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من أمر الدين ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ أي سنة وطريقة من شرعه إذا سنه ليسلك، وفي البحر الشريعة في كلام العرب الموضع الذي يرد منه الناس في الأنهار ونحوها فشريعة الدين من ذلك من حيث يرد الناس منها أمر الله تعالى ورحمته والقرب منه عز وجل، وقال الراغب: الشرع مصدر ثم جعل اسما للطريق النهج فقيل له شرع وشرعة وشريعة واستعير ذلك للطريقة الإلهية من الدين ثم قال: قال بعضهم سميت الشريعة شريعة تشبيها بشريعة الماء من حيث إن من شرع فيها على الحقيقة والصدق روي وتطهر، وأعني بالري ما قال بعض الحكماء: كنت أشرب فلا أروى فلما عرفت الله تعالى رويت بلا شرب، وبالتطهر ما قال عز وجل: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب: 33] والظاهر هنا المعنى اللغوي، والتنوين للتعظيم أي شريعة عظيمة الشأن مِنَ الْأَمْرِ أي أمر الدين، وجوز أبو حيان كونه مصدر أمر، والمراد من الأمر والنهي وهو كما ترى فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أي آراء الجهال التابعة للشهوات، والمراد بهم ما يعم كل ضال، وقيل: وقيل: هم جهال قريظة. والنضير، وقيل: رؤساء قريش كانوا يقولون له صلّى الله عليه وسلّم: ارجع إلى دين آبائك. إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً من الأشياء أو شيئا من الإغناء أن اتبعتهم والجملة مستأنفة مبينة لعلة النهي وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ لا يواليهم ولا يتبع أهواءهم إلا من كان ظالما مثلهم. وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ الذين أنت قدوتهم فدم على ما أنت عليه من توليه سبحانه خاصة والإعراض عما سواه عز وجلّ بالكلية هذا أي القرآن بَصائِرُ لِلنَّاسِ فإن ما فيه من معالم الدين وشعائر الشرائع بمنزلة البصائر في القلوب، وقيل: الإشارة إلى اتباع الشريعة والكلام من باب التشبيه البليغ، وجمع الخبر على الوجهين باعتبار تعدد ما تضمنه المبتدأ واتباع مصدر مضاف فيعم ويخبر عنه بمتعدد أيضا، وقرىء «هذه» أي الآيات وَهُدىً جليل من ورطة الضلالة وَرَحْمَةٌ عظيمة لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ من شأنهم الإيقان بالأمور أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ إلى آخره استئناف مسوق لبيان حال المسيئين والمحسنين إثر بيان حال الظالمين والمتقين، وأَمْ منقطعة وما فيها من معنى بل للانتقال من البيان الأول إلى الثاني، والهمزة لإنكار الحسبان على معنى أنه لا يليق ولا ينبغي لظهور خلافه، والاجتراح الاكتساب ومنه الجارحة للأعضاء التي يكتسب بها كالأيدي، وجاء هو جارحة أهله أي كاسبهم، وقال الراغب: الاجتراح اكتساب الإثم وأصله من الجراحة كما أن الاقتراف من قرف القرحة، والظاهر تفسيره هاهنا بالاكتساب لمكان السَّيِّئاتِ والمراد بها على ما في البحر سيئات الكفر، وقوله تعالى: أَنْ نَجْعَلَهُمْ ساد مسد مفعولي الحسبان، والجعل بمعنى التصيير وهم مفعوله الأول، وقوله سبحانه: كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مفعوله الثاني، وقوله عز وجل: سَواءً بدل من الكاف بناء على أنها اسم بمعنى مثل، وقوله تعالى: مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ فاعل سواء أجري مجرى مستو كما قالوا: مررت برجل سواء هو والعدم، وضمير الجمع للمجترحين، والمعنى على إنكار حسبان جعل محيا المجترحين ومماتهم مستويين مثلهما للمؤمنين، ومصب الإنكار استواء ذلك فإن المؤمنين تتوافق حالاهم لأنهم مرحومون في المحيا والممات وأولئك تتضاد حالاتهم فإنهم مرحومون حياة لا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 147 موتا وجوز أن يكون سَواءً حالا من الضمير في الكاف بناء على ما سمعت من معناها. وتعقب بأنها اسم جامد على صورة الحرف فلا يصح استتار الضمير فيها وقد صرح الفارسي بمنع ذلك، نعم يجوز أن يكون كَالَّذِينَ جارا ومجرورا في موضع المفعول الثاني وسَواءً حالا من الضمير المستتر فيه، وقيل: يجوز أيضا كونه حالا من ضمير نجعلهم وكذا يجوز كونه المفعول الثاني، وكون الكاف أو الجار والمجرور حالا من هذا الضمير، وما ذكر أولا أظهر وأولى، وجوز كون ضمير الجمع في مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ للمؤمنين فسواء حال من الموصول الثاني ولا يجوز أن يكون حالا من الضمير في كَالَّذِينَ لفساد المعنى وكون الضمير للفريقين فسواء حال من مجموع الموصول الثاني وضمير الأول، والمعنى على إنكار حسبان أن يستوي الفريقان بعد الممات في الكرامة أو ترك المؤاخذة كما استويا ظاهرا في الرزق والصحة في الحياة، وجوز أن يكون المعنى على إنكار حسبان جعل الحياتين مستويتين لأن المؤمنين على الطاعة وأولئك على المعاصي وكذلك الموتان لأنهم ملقون بالبشرى والرضوان وأولئك بالسوء والخذلان، وقيل: به على تقدير كون الضمير للمجترحين أيضا. ولم يجوز المدقق الإبدال من الكاف على تقدير اشتراك الضمير إذ المثل هو المشبه وسَواءً جار على المشبه والمشبه به. وقرأ جمهور القراء سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ برفع سواء وما بعده على أن سواء خبر مقدم وما بعده مبتدأ لا العكس لأن سواء نكرة ولا مسوغ للابتداء بها والضمير للمجترحين، والجملة قيل: بدل من المفعول الثاني لنجعل بدل كل من كل أو بدل اشتمال أو بدل بعض، وأيا ما كان ففيه إبدال الجملة من المفرد وقد أجازه أبو الفتح واختاره ابن مالك، وأورد عليه شواهد، قال أبو حيان: لا يتعين فيها البدل، وقال محمد بن عبد الله الاشبيلي المعروف بابن العلج في كتابه البسيط في النحو: لا يصح أن تكون جملة معمولة للأول في موضع البدل فإن كانت غير معمولة فهل تكون جملة بدلا من جملة لا يبعد عندي جواز ذلك كالعطف والتأكيد اللفظي. وظاهره أنه لا يجوز الإبدال هاهنا، وفي البحر يظهر لي أنه لا يجوز إبدال هذه الجملة من ذلك المفعول لأن الجعل بمعنى التصيير ولا يجوز صيرت زيدا أبوه قائم ولا صيرت زيدا غلامه منطلق لأن في ذلك انتقالا من ذات إلى ذات أو من وصف في الذات إلى وصف آخر فيها وليس في تلك الجملة المقدرة مفعولا ثانيا انتقال مما ذكرنا وفيه بحث لا يخفى، والزمخشري قد نص على جعل الجملة بدلا من الكاف وهو إمام في العربية، لكن أفاد صاحب الكشف أنه أراد أنه بدل من حيث المعنى لا أنه بدل من ذاك لفظا قال: لأنه مفرد دال على الذات باعتبار المعنى وهذا دال على المعنى وإن كان الذات يلزم من طريق الضرورة إلا أن يقدر له موصوف محذوف بأن يقدر رجالا سواء محياهم ومماتهم مثلا، والمعنى على البدلية كما سمعت في قراءة النصب، وجوز كون الجملة مفعولا ثانيا وكَالَّذِينَ حال من ضمير نَجْعَلَهُمْ ولا يخفى عليك ما علي وما له، وإذا كان الضمير للمؤمنين فالجملة قيل: حال من الموصول الثاني لا من الضمير في المفعول الثاني للفساد، وتعقب بأن فيه اكتفاء الاسمية الحالية بالضمير وهو غير فصيح على ما قيل: وقيل: استئناف يبين المقتضي للإنكار على حسبان التماثل وهو أن المؤمنين سواء حالهم عند الله تعالى في الدارين بهجة وكرامة فكيف يماثلهم المجترحون، وجوز أن تكون بيانا لوجه الشبه المجمل، وإذا كان الضمير للفريقين فالظاهر أن الجملة كلام مستأنف غير داخل في حكم الإنكار والتساوي حينئذ بين حال المؤمنين بالنسبة إليهم خاصة وحال المجترحين كذلك وتكون الجملة تعليلا للإنكار في المعنى دالا على عدم المماثلة لا في الدنيا ولا في الآخرة لأن المؤمنين متساوو المحيا والممات في الرحمة وأولئك متساوو المحيا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 148 والممات في النقمة إذ المعنى كما يعيشون يموتون فلما افترق حال هؤلاء وحال هؤلاء حياة فكذلك موتا، وأما الإبدال فقد علم حاله فتأمل. وقرأ الأعمش «سواء» بالنصب «محياهم ومماتهم» به أيضا، وخرج الأول على ما سمعت ونصب محياهم ومماتهم على الظرفية لأنهما اسما زمان أو مصدران أقيما مقام الزمان والعامل إما سَواءً أو نَجْعَلَهُمْ ، هذا والآية وإن كانت في الكفار على ما نقل عن البحر وهو ظاهر ما روي عن الكلبي من أن عتبة. وشيبة. والوليد بن عتبة قالوا لعلي كرم الله تعالى وجهه. وحمزة رضي الله تعالى عنه. والمؤمنين: والله ما أنتم على شيء ولئن كان ما تقولون حقا لحالنا أفضل من حالكم في الآخرة كما هو أفضل في الدنيا فنزلت الآية أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ إلخ. وهي متضمنة للرد عليهم على جميع أوجهها كما يعرف بأدنى تدبر يستنبط منها تباين حاليّ المؤمن العاصي والمؤمن الطائع ولهذا كان كثير من العباد يبكون عند تلاوتها حتى أنها تسمى مبكاة العابدين لذلك، فقد أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد والطبراني وجماعة عن أبي الضحى قال: قرأ تميم الداري سورة الجاثية فلما أتى على قوله تعالى أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ الآية لم يزل يكررها ويبكي حتى أصبح وهو عند المقام. وأخرج ابن أبي شيبة عن بشير مولى الربيع بن خيثم أن الربيع كان يصلي فمر بهذه الآية أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ إلخ فلم يزل يرددها حتى أصبح، وكان الفضيل بن عياض يقول لنفسه إذا قرأها: ليت شعري من أي الفريقين أنت. وقال ابن عطية: إن لفظها يعطي أن اجتراح السيئات هو اجتراح الكفر لمعادلته بالإيمان، ويحتمل أن تكون المعادلة بالاجتراح وعمل الصالحات ويكون الإيمان في الفريقين ولهذا بكى الخائفون عند تلاوتها. ورأيت كثيرا من المغرورين المستغرقين ليلهم ونهارهم بالفسق والفجور يقولون بلسان القال والحال: نحن يوم القيامة أفضل حالا من كثير من العابدين وهذا منهم والعياذ بالله تعالى ضلال بعيد وغرور ما عليه مزيد ساءَ ما يَحْكُمُونَ أي ساء حكمهم هذا وهو الحكم بالتساوي فما مصدرية والكلام إخبار عن قبح حكمهم المعهود. ويجوز أن يكون لإنشاء ذمهم على أن ساءَ بمعنى بئس فما فيه نكرة موصوفة وقعت تمييزا مفسرا لضمير الفاعل المبهم والمخصوص بالذم محذوف أي بئس شيئا حكموا به ذلك وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ كأنه دليل على إنكار حسباتهم السابق أو دليل على تساوي محيا كل فريق ومماته وبيان لحكمته على تقدير كون قوله تعالى: سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ استئنافا وذلك من حيث إن خلق العالم بالحق المقتضي للعدل يستدعي انتصاف المظلوم من الظالم والتفاوت بين المسيء والمحسن وإذا لم يكن في المحيا كان بعد الممات حتما وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ عطف على بِالْحَقِّ لأنه في معنى العلة سواء كانت الباء للسببية الغائية أو الملابسة، أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فلأن المعنى خلقها ملتبسة ومقرونة بالحكمة والصواب دون العبث والباطل وحاصله خلقها لأجل ذلك أو عطف على علة محذوفة مثل ليدل سبحانه بها على قدرته أو ليعدل، وما موصولة أو مصدرية أي ليجزى كل نفس بالذي كسبته أو بكسبها وَهُمْ أي النفوس المدلول عليها بكل نفس لا يُظْلَمُونَ بنقص ثواب وتضعيف عذاب، والجملة في موضع الحال، وتسمية ذلك ظلما مع أنه ليس كذلك لأنه منه سبحانه تصرف في ملكه والظلم صرف في ملك الغير بغير إذنه لأنه لو فعله غيره عز وجل كان ظلما فالكلام على الاستعارة التمثيلية أو أنه لما كان مخالفا لوعده سبحانه الحق سماه تعالى ظلما. أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ تعجيب من حال من ترك متابعة الهدى إلى مطاوعة الهوى فكأنه يعبده فالكلام على التشبيه البليغ أو الاستعارة، والفاء للعطف على مقدر دخلت عليه الهمزة أي أنظرت من هذه حاله فرأيته فإن ذلك الجزء: 13 ¦ الصفحة: 149 مما يقضي منه العجب، وأبو حيان جعل أرأيت بمعنى أخبرني وقال: المفعول الأول من اتَّخَذَ والثاني محذوف يقدر بعد الصلات أي أيهتدي بدليل «فمن يهديه» والآية نزلت على ما روي عن مقاتل في الحارث بن قيس السهمي كان لا يهوى شيئا إلا ركبه، وحكمها عام وفيها من ذم اتباع هوى النفس ما فيها، وعن ابن عباس ما ذكر الله تعالى هوى إلا ذمه. وقال وهب: إذا شككت في خير أمرين فانظر أبعدهما من هواك فأته، وقال سهل التستري: هواك داؤك فإن خالفته فدواؤك، وفي الحديث «العاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله تعالى» . وقال أبو عمران موسى بن عمران الاشبيلي الزاهد: فخالف هواها واعصها إن من يطع ... هوى نفسه ينزع به شر منزع ومن يطع النفس اللجوجة ترده ... وترم به في مصرع أي مصرع وقد ذم ذلك جاهلية أيضا، ومنه قول عنترة: إني امرؤ سمح الخليقة ماجد ... لا أتبع النفس اللجوج هواها ولعل الأمر غني عن تكثير النقل. وقرأ الأعرج وأبو جعفر «إلهة» بتاء التأنيث بدل هاء الضمير، وعن الأعرج أنه قرأ «آلهة» بصيغة الجمع. قال ابن خالويه: كان أحدهم يستحسن حجرا فيعبده فإذا رأى أحسن منه رفضه مائلا إليه، فالظاهر أن آلهة بمعناها من غير تجوز أو تشبيه والهوى بمعنى المهوى مثله في قوله: هواي مع الركب اليمانين مصعد. وَأَضَلَّهُ اللَّهُ أي خلقه ضالا أو خلق فيه الضلال أو خذله وصرفه عن اللطف على ما قيل عَلى عِلْمٍ حال من الفاعل أي أضله الله تعالى عالما سبحانه بأنه أهل لذلك لفساد جوهر روحه. ويجوز أن يكون حالا من المفعول أي أضله عالما بطريق الهدى فهو كقوله تعالى: فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ بحيث لا يتأثر بالمواعظ ولا يتفكر في الآيات. وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً مانعة عن الاستبصار والاعتبار والكلام على التمثيل، وقرأ عبد الله. والأعمش غِشاوَةً بفتح الغين وهي لغة ربيعة، والحسن وعكرمة وعبد الله أيضا بضمها وهي لغة عكلية، وأبو حنيفة وحمزة والكسائي وطلحة ومسعود بن صالح والأعمش أيضا «غشوة» بفتح الغين وسكون الشين، وابن مصرف. والأعمش أيضا كذلك إلا أنهما كسرا الغين فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أي من بعد إضلاله تعالى إياه، وقيل: المعنى فمن يهديه غير الله سبحانه أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي ألا تلاحظون فلا تذكرون، وقرأ الجحدري «تذكرون» بالتخفيف، والأعمش «تتذكرون» بتاءين على الأصل وَقالُوا بيان لأحكام إضلالهم والختم على سمعهم وقلوبهم وجعل غشاوة على أبصارهم فالضمير لمن باعتبار معناه أو للكفرة ما هِيَ أي ما الحياة إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا التي نحن فيها، ويجوز أن يكون الضمير للحال والحياة الدنيا من جملة الأحوال فيكون المستثنى من جنس المستثنى منه أيضا لاستثناء حال الحياة الدنيا من أعم الأحوال ولا حاجة إلى تقدير حال مضافا بعد أداة الاستثناء أي ما الحال إلا حال الحياة الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيا حكم على النوع بجملته من غير اعتبار تقديم وتأخير إلا أن تأخير نحيي الله في النظم الجليل للفاصلة أي تموت طائفة وتحيا طائفة ولا حشر أصلا، وقيل: في الكلام تقديم وتأخير أي نحيا ونموت وليس بذاك، وقيل: أرادوا بالموت عدم الحياة السابق على نفخ الروح فيهم أي نكون نطفا وما قبلها وما بعدها ونحيا بعد ذلك، وقيل: أرادوا بالحياة بقاء النسل والذرية الجزء: 13 ¦ الصفحة: 150 مجازا كأنهم قالوا: نموت بأنفسنا ونحيا ببقاء أولادنا وذرارينا، وقيل: أرادوا يموت بعضنا ويحيا بعض على أن التجوز في الإسناد، وجوز أن يريدوا بالحياة على سبيل المجاز إعادة الروح لبدن آخر بطريق التناسخ وهو اعتقاد كثير من عبدة الأصنام ولا يخفى بعد ذلك، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «ونحيا» بضم النون وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ أي طول الزمان فالدهر أخص من الزمان وهو الذي ارتضاه السعد، ولهم في ذلك كلام طويل، وقال الراغب: الدهر في الأصل اسم لمدة العالم من مبدأ وجوده إلى انقضائه ثم يعبر به عن كل مدة كثيرة، وهو خلاف الزمان فإنه يقع على المدة العالم من مبدأ وجوده إلى انقضائه ثم يعبر به عن كل مدة كثيرة، وهو خلاف الزمان فإنه يقع على المدة القليلة والكثيرة ودهر فلان مدة حياته، ويقال: دهر فلانا نائبة دهرا أي نزلت به حكاه الخليل فالدهر هاهنا مصدر. وذكر بعض الأجلة أن الدهر بالمعنى السابق منقول من المصدر وأنه يقال: دهره دهرا أي غلبه وإسنادهم الإهلاك إلى الدهر إنكار منهم لملك الموت وقبضه الأرواح بأمر الله عز وجل وكانوا يسندون الحوادث مطلقا إليه لجهلهم أنها مقدرة من عند الله تعالى، وإشعارهم لذلك مملوءة من شكوى الدهر وهؤلاء معترفون بوجود الله تعالى فهم غير الدهرية فإنهم مع إسنادهم الحوادث إلى الدهر لا يقولون بوجوده سبحانه وتعالى «عما يقولون علوا كبيرا» والكل يقول باستقلال الدهر بالتأثير، ولا يبعد أن يكون الزمان عندهم مقدار حركة الفلك كما ذهب إليه معظم الفلاسفة. وقد جاء النهي عن سب الدهر. أخرج مسلم «لا يسب أحدكم الدهر فإن الله هو الدهر» وأبو داود. والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم قال الله عز وجل: «يؤذيني ابن آدم يقول يا خيبة الدهر فلا يقل أحدكم يا خيبة الدهر أنا الدهر أقلب ليله ونهاره» والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم أيضا يقول الله عز وجل: «استقرضت عبدي فلم يقرضني وشتمني عبدي وهو لا يدري يقول وا دهراه وأنا الدهر» والبيهقي «لا تسبوا الدهر قال الله عز وجل: أنا الأيام والليالي أجددها وأبليها وآتي بملوك بعد ملوك» ومعنى ذلك أن الله تعالى هو الآتي بالحوادث فإذا سببتم الدهر على أنه فاعل وقع السب على الله عز وجلّ. وعد بعضهم سبه كبيرة لأنه يؤدي إلى سبه تعالى وهو كفر، وما أدى إليه فأدنى مراتبه أن يكون كفرا (1) . وكلام الشافعية صريح بأن ذلك مكروه لا حرام فضلا عن كونه كبيرة، والذي ينجه في ذلك تفصيل وهو أن من سبه فإن أراد به الزمن فلا كلام في الكراهة، أو الله عز وجل فلا كلام في الكفر، ومثله إذا أراد المؤثر الحقيقي فإنه ليس إلا الله سبحانه وإن أطلق فهذا محل التردد لاحتمال الكفر وغيره وظاهر كلامهم هنا أيضا الكراهة لأن المتبادر منه الزمن وإطلاقه على الله تعالى كما قال بعض الأجلة إنما هو بطريق التجوز. ومن الناس من قال: إن سبه كبيرة إن اعتقد أن له تأثيرا فيما نزل به كما كان يعتقد جهلة العرب، وفيه نظر لأن اعتقاد ذلك كفر ولي الكلام فيه، وأنكر بعضهم كون ما في حديث أبي داود. والحاكم «فإني أنا الدهر» بضم الراء وقال: لو كان كذلك كان الدهر من أسمائه تعالى وكان يرويه «فإني أنا الدهر» بفتح الراء ظرفا لأقلب أي فإني أنا أقلب الليل والنهار الدهر أي على طول الزمان وممره، وفيه أن رواية مسلم فإن الله هو الدهر تبطل ما زعمه، ومن ثم كان الجمهور على ضم الراء. ولا يلزم عليه أن يكون من أسمائه تعالى لما سبق أن ذلك على التجوز، وحكى الراغب عن بعضهم أن الدهر الثاني في حديث مسلم غير الأول وأنه مصدر بمعنى الفاعل، والمعنى أن الله تعالى هو الدهر أي   (1) قوله فأدنى مراتبه أن يكون كفرا كذا بالأصل ولعل الأولى أن يكون كبيرة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 151 المصرّف المدبر المفيض لما يحدث، وفيه بعد. وقرأ عبد الله «إلّا دهر» وتأويله إلا دهر يمر وَما لَهُمْ بِذلِكَ أي بما ذكر من قصر الحياة على ما في الدنيا ونسبة الإهلاك إلى الدهر مِنْ عِلْمٍ مستند إلى عقل أو نقل إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ما هم إلا قوم قصارى أمرهم الظن والتقليد من غير أن يكون لهم ما يصح أن يتمسك به في الجملة، هذا معتقدهم الفاسد في أنفسهم وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا الناطقة بالحق الذي من جملته البعث بَيِّناتٍ واضحات الدلالة على ما نطقت به مما يخالف معتقدهم أو مبينات له ما كانَ حُجَّتَهُمْ بالنصب على أنه خبر كان واسمها قوله تعالى: إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في أنا نبعث بعد الموت أي ما كان متمسكا لهم شيء من الأشياء إلا هذا القول الباطل الذي يستحيل أن يكون حجة، وتسميته حجة لسوقهم إياه مساق الحجة على سبيل التهكم بهم أو أنه من قبيل: تحية بينهم ضرب وجيع. أي ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة، والمراد نفي أن يكون لهم حجة فإنه لا يلزم من عدم حصول الشيء حالا كإعادة آبائهم التي طلبوها في الدنيا امتناعه بتعد لتمتنع الإعادة إذا قامت القيامة، والخطاب في ائْتُوا وكُنْتُمْ للرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين إذ هم قائلون بمقالته صلّى الله عليه وسلّم من البعث طالبون من الكفرة الإقرار به، وجوز أن يكون له عليه الصلاة والسلام وللأنبياء عليهم السلام الجائين بالبعث وغلب الخطاب على الغيبة. وقال ابن عطية: ائْتُوا وكُنْتُمْ من حيث المخاطبة له صلّى الله عليه وسلّم والمراد هو وإلهه والملك الذي يذكر عليه الصلاة والسلام نزوله عليه بذلك وهو جبريل عليه السلام، وهو كما ترى. وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وابن عامر فيما روى عنه عبد الحميد وعاصم فيما روى هارون وحسين عن أبي بكر عنه «حجّتهم» بالرفع على أنه اسم كان وما بعد خبر أي ما كان حجتهم شيئا من الأشياء إلا هذا القول الباطل، وجواب إِذا ما كان إلخ، ولم تقترن بالفاء وإن كانت لازمة في المنفي بما إذا وقعت جواب الشرط لأنها غير جازمة ولا أصلية في الشرطية، وهو سر قول أبي حيان: إن إذا خالفت أدوات الشرط بأن جوابها إذا كان منفيا بما لم تدخل الفاء بخلاف أدوات الشرط فلا بد معها من الفاء نحو إن تزرنا فما جفوتنا فلا حاجة إلى تقدير جواب لها كعمدوا إلى الحجج الباطلة خلافا لابن هشام. واستدل بوقوع ما ذكر جوابا على أن العمل في إذا ليس للجواب لصدارة ما المانعة منه ولا قائل بالفرق، ولعل من قال بالعمل يقول يتوسع في الظرف ما لم يتوسع في غيره، ثم إن المعنى على الاستقبال لمكان إِذا أي ما تكون حجتهم إلا أن يقولوا ذلك. قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ابتداء ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انقضاء آجالكم على ما دل عليه الحجج لا الدهر كما تزعمون ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي فيه وجوز كون الفعل مضمنا معنى مبعوثين أو منتهين ونحوه ومعنى في أظهر أي يجمعكم في يوم القيامة لا رَيْبَ فِيهِ أي في جمعكم فإن من قدر على البدء وقدر على الإعادة والحكمة اقتضت الجمع للجزاء لا محالة في ذلك اليوم والوعد الصدق بالآيات دل على قرعها، وحاصله أن البعث أمر ممكن أخبر به الصادق وتقتضيه الحكمة وكل ما هو كذلك لا محالة واقع والإتيان بالآباء حيث كان منافيا للحكمة التشريعية امتنع إيقاعه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ استدراك من قوله تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ وهو من تمام الكلام المأمور به أو كلام مسوق من جهته تعالى تحقيقا للحق وتنبيها على أن ارتيابهم لجهلهم وقصورهم في النظر والتفكر لا لأن فيه شائبة ريب ما وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بيان للاختصاص المطلق والتصرف الكلي فيهما وفيما بينهما بالله عز الجزء: 13 ¦ الصفحة: 152 وجلّ إثر بيان تصرفه تعالى بالإحياء والإماتة والبعث والجمع للمجازاة فهو تعميم للقدرة بعد تخصيص. وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ قال الزمخشري: العامل في يَوْمَ تَقُومُ يخسر ويومئذ بدل من يوم تقول وحكاه ابن عطية عن جماعة، وتقديم الظرف على الفعل للحصر لأن كل خسران عند الخسران في ذلك اليوم كلا خسران، وفيه أيضا رعاية الفواصل على ما قيل، وتعقب حديث الإبدال بأن التنوين في يَوْمَئِذٍ عوض عن الجملة المضاف إليها، والظاهر أنها تقدر بقرينة ما قبل تَقُومُ السَّاعَةُ فيقال ويوم تقوم الساعة يوم إذ تقوم الساعة يخسر المبطلون فيكون تأكيدا لا بدلا إذ لا وجه له. ولذا قيل: إنه بالتأكيد أشبه، وقول أبي حيان: إن كان بدلا توكيديا وهو قليل جاز وإلا فلا لا يسمن ولا يغني وتكلف بعضهم فزعم أن اليوم الثاني بمعنى الوقت الذي هو جزء من يوم قيام الساعة فهو بدل بعض معه عائد مقدر ولما كان فيه ظهور خسرانهم كان هو المقصود بالنسبة، وقالت فرقة: العامل في يَوْمَ تَقُومُ ما يدل عليه الملك قالوا: وذلك أن يوم القيامة أمر ثالث ليس بالسماء ولا بالأرض لتبدلهما فكأنه قيل. ولله ملك السموات والأرض والملك يوم تقوم الساعة، ويَوْمَئِذٍ منصوب بيخسر والجملة استئناف وإن كان لها تعلق بما قبلها من جهة تنوين العوض، وقيل: يجوز أن يكون عطفا على ظرف معمول لملك المذكور كأنه قيل: لله ملك السموات والأرض اليوم ويوم تقوم الساعة وهو كما ترى، والْمُبْطِلُونَ الداخلون في الباطل، ولعل المراد به أعظم أنواعه وهو الكفر وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ من الأمم المجموعة جاثِيَةً باركة على الركب مستوفزة وهي هيئة المذنب الخائف المنتظر لما يكره، وعن ابن عباس جاثية مجتمعة، وعن قتادة جماعات من الجثوة مثلثة الجيم وهي الجماعة تجتمع على جثى أي تراب مجتمع، وعن مؤرج السدوسي جاثية خاضعة بلغة قريش، والخطاب في تَرى لمن يصح منه الرؤية أو لسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام وهي بصرية، وجاثِيَةً حال وجوز أن تكون صفة ولو كانت علمية كانت مفعولا ثانيا، وقرىء «جاذية» بالذال والجذو أشد استيفازا من الجثو لأن الجاذي هو الذي يجلس على أطراف أصابعه، وجوز أن يكون الجاذي بمعنى الجاثي أبدلت ثاؤه ذالا فإن الثاء والذال متقارضان كما قيل شحاث وشحاذ كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا إلى صحيفة أعمالها التي كتبتها الحفظة لتحاسب، وأفرد على إرادة الجنس وإلا فلكل واحد من كل أمة صحيفة فيها أعماله، وقيل: المراد كتاب نبيها تدعى إليه لينظر هل عملت به أو لا وحكي ذلك عن يحيى بن سلام إلا أنه حمل كل أمة على كل أمة كافرة والظالم العموم، وقيل: المراد بذلك اللوح المحفوظ أي تدعى إلى ما سبق لها فيه، وقرأ يعقوب «كلّ» بالنصب وخرج على أنه بدل من كل الأول، وجملة تُدْعى صفة، وإبدال الأمة المدعوة إلى كتابها من الأمة الجاثية حسن وجاء ذلك من الوصف، ويقال مثل ذلك فيما إذا كانت الجملة حالا، وإذا كانت الرؤية علمية وجملة تُدْعى مفعولا ثانيا فالظاهر أنه تأكيد، وجعله تأكيدا مع كون الجملة صفة فيه تخلل التأكيد بين الوصفين وهو كما في الكشف غير مستحسن الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مقول قول مقدر وهو حال أو خبر بعد خبر. وفي الكلام مضاف مقدر أي جزاء ما كنتم إلخ أو هو من المجاز، وقوله تعالى: هذا كِتابُنا إلى آخره من تمام ما يقال حينئذ، والإشارة إلى الكتاب الذي تدعى إليه الأمة المقول لها ذلك، وهو إذا كان صحيفة الأعمال فإضافته إلى ضميره جلّ شأنه لأدنى ملابسة على التجوز في النسبة الإضافية فإنه تعالى الذي أمر الكتبة أن يكتبوا فيه أعمالهم، وإن كان الكتاب المنزل على نبي تلك الأمة أو اللوح المحفوظ فأمر الإضافة ظاهر، وضمير العظمة على سائر الأوجه لتفخيم شأن الكتاب، وجوز أن يكون الضمير للكتبة والإضافة فيه حقيقية قيل: ويأباه نَسْتَنْسِخُ إلا أن يجعل بمعنى ننسخ ونكتب وستعلم إن شاء الله تعالى ما فيه، والأظهر عندي حمل الكتاب في الموضعين على صحيفة الأعمال الجزء: 13 ¦ الصفحة: 153 واسم الإشارة مبتدأ وما بعده خبر، وقوله سبحانه يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ أي يشهد عليكم بِالْحَقِّ من غير زيادة ولا نقص خبر آخر أو حال أو مستأنف، وبِالْحَقِّ حال من فاعل يَنْطِقُ وقوله تعالى: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ إلى آخره تعليل لنطقه عليهم بأعمالهم من غير إخلال بشيء منها أي إنا كنا فيما قبل نستنسخ الملائكة أي نجعلها تنسخ وتكتب ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا من الأعمال حسنة كانت أو سيئة، وحقيقة النسخ كتابة من أصل ينظر فيه فكان أفعال العباد هي الأصل على ما في البحر، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: إن الله تعالى خلق النون وهي الدواة وخلق القلم فقال: اكتب قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل معمول بر أو فاجر ورزق مقسوم حلال أو حرام ثم ألزم كل شيء من ذلك بيانه دخوله في الدنيا متى ومقامه فيها كم وخروجه منها كيف ثم جعل على العباد حفظة وعلى الكتاب خزّانا فالحفظة يستنسخون كل يوم من الخزان عمل ذلك اليوم فإذا فني الرزق وانقطع الأمر وانقضى الأجل أتت الحفظة الخزنة يطلبون عمل ذلك اليوم فتقول الخزنة ما نجد لصاحبكم عندنا شيئا فترجع فيجدونه قد مات ثم قال ابن عباس ألستم قوما عربا تسمعون الحفظة يقولون إن كنا نستنسخ ما كنتم تعملون وهل يكون الاستنساخ إلا من أصل؟ وفي رواية ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن الآية فذكر نحو ما سمعت ثم قال: هل يستنسخ الشيء إلا من كتاب، وكون الاستنساخ من اللوح قد رواه جماعة عنه، وما ذكرناه يصحح أن يكون هذا القول من الملائكة بدون تأويل نَسْتَنْسِخُ بننسخ كما لا يخفى، وقوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ إلى آخره تفصيل للمجمل المفهوم من قوله تعالى: يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ أو يجزون من الوعد والوعيد، والمراد بالرحمة الجنة مجازا والظرفية على ظاهرها، وقيل: المراد بالرحمة ما يشمل الجنة وغيرها والأول أظهر ذلِكَ الذي ذكر من الإدخال في رحمته تعالى: هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ الظاهر كونه فوزا لا فوز وراءه. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ أي فيقال لهم بطريق التقريع والتوبيخ: ألم تكن تأتيكم رسلي فلم تكن آياتي تتلى عليكم فجواب أما القول المقدر، وحذف اكتفاء بالمقصود وهو المقول وحذفه كثير مقيس حتى قيل هو البحر حدث عنه، وحذف المعطوف عليه لقرينة الفاء العاطفة وأن تلاوة الآيات تستلزم إتيان الرسل معنى، وهذا على ما ذهب إليه الزمخشري والجمهور على أن الهمزة مقدمة من تأخير لصدارتها والفاء على نية التقدير، والتقدير فيقال لهم: ألم تكن إلخ فليس هناك سوى حذف القول، وفي الكشف لو حمل على أن المحذوف فيوبخون لدلالة ما بعده عليه، وفائدة هذا الأسلوب مع أن الأصل فيدخلهم في عذابه الدلالة على أن المؤمنين يدخلون الجنة والكافرون بعد في الموقف معذبون بالتوبيخ لكان وجها فَاسْتَكْبَرْتُمْ عن الإيمان بها وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ قوما عادتهم الإجرام وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ أي وما وعده سبحانه من الأمور الآتية أو وعده تعالى بذلك حَقٌّ أي كائن هو أو متعلقه لا محالة ففي الكلام تجوز إما في الطرف أو في النسبة. وقرأ الأعرج وعمرو بن قائد «وإذا قيل أنّ» بفتح الهمزة على لغة سليم وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها برفع «الساعة» في قراءة الجمهور على العطف على محل إن واسمها على ما ذهب إليه أبو علي وتبعه الزمخشري، ومن زعم أن لاسم إن موضعا جوز العطف عليه هنا، وزعم أبو حيان أن الصحيح أنه لا يجوز كلا الوجهين وعليه فجملة السَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها عطف على الجملة السابقة، وقرأ حمزة وَالسَّاعَةُ بالنصب عطفا على اسم أن وروي ذلك عن الأعمش وأبي عمرو وأبي حيوة وعيسى والعبسي والمفضل، وذكر أمر الساعة وإنها لا ريب في وقوعها مع أنها من جملة ما وعد الله تعالى اعتناء بأمر البعث المقصود بالمقام قُلْتُمْ لغاية عتوكم: ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ أي أي شيء هي استغرابا لها جدا كما يؤذن به جمع ما نَدْرِي مع الاستفهام. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 154 إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا استشكل ذلك لما أنه استثناء مفرغ وقد قالوا: لا يجوز تفريغ العامل إلى المفعول المطلق المؤكد فلا يقال: ما ضربت إلا ضربا لأنه بمنزلة ما ضربت إلا ضربت، وقال الرضي: إن الاستثناء المفرغ يجب أن يستثنى من متعدد مقدر معرب بإعراب المستثنى مستغرق لذلك الجنس حتى يدخل فيه المستثنى بيقين ثم يخرج بالاستثناء وليس مصدر نظن محتملا مع الظن غيره حتى يخرج الظن منه، وكذا يقال في ما ضربت إلّا ضربا ونحوه وهذا مراد من قال: إنه من قبيل استثناء الشيء من نفسه. واختلفوا في حله فقيل: إن معنى ما نظن ما نفعل الظن كما في نحو قيم وقعد وحينئذ يصح الاستثناء ويتغاير مورد النفي والإيجاب من حيث التقدير والتجوز في الاستثناء من العام المقدر وجعل نَظُنُّ في معنى نفعل الفعل لا نفعل الظن كأنه قيل: ما نفعل فعلا إلا الظن، وكذا يقال في أمثاله ومنها قول الأعشى: وحل به الشيب أثقاله ... وما اغتره الشيب إلا اغترارا وارتضاه صاحب الكشف، وقيل: ما نظن بتأويل ما نعتقد ويكون ظَنًّا مفعولا به أي ما نعتقد شيئا إلا ظنا، وارتضاه أبو حيان. وتعقب بأن ظاهر حالهم أنهم مترددون لا معتقدون. وأجيب بأن الاعتقاد المنفي لا ينافي ظاهر حالهم بل يقررها على أتم وجه، وقيل المستثنى ظن أمر الساعة والمستثنى منه مطلق الظن كأنه قيل لا ظن ولا تردد لنا إلا ظن أمر الساعة والتردد فيه فالكلام لنفي ظنهم فيما سوى ذلك مبالغة، وقال الرضي: إن ما ضربت إلا ضربا يحتمل التعدد من حيث توهم المخاطب إذ ربما تقول ضربت وقد فعلت غير الضرب مما يجري مجراه من مقدماته كالتهديد فتدفع ذلك وتقول ضربت ضربا فهو نظير جاء زيد زيد فلما كان ضربت محتملا للضرب وغيره من حيث التوهم صار كالمتعدد الشامل للضرب وغيره، وحاصله أن الضرب لما احتمل قبل التأكيد والاستثناء فعلا آخر حمل على العموم بقرينة الاستثناء فيكون المعنى ما فعلت شيئا إلا ضربا، وهكذا إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وهذا كالمتحد مع ما ذكرناه أولا، ورد بأن الاستثناء يقتضي الشمول المحقق ولا يكفي فيه الاحتمال المحقق فضلا عن المتوهم. وتعقب بأنه ليس بشيء لأنه إذا تجرد الفعل لمعنى عام صار الشمول محققا على أن عدم كفاية الشمول الفرضي غير مسلم كما يعرفه من يتتبع موارده، وذهب ابن يعيش. وأبو البقاء إلى أنه على القلب والتقديم والتأخير الأصل إن نحن إلا نظن ظنا وحكي ذلك عن المبرد، وقد حمل عليه ما حكاه أبو عمرو بن العلاء وسيبويه من قول العرب: ليس الطيب إلا المسك بالرفع فقال: الأصل ليس إلا الطيب المسك ليكون اسم ليس ضمير الشأن وما بعد إلا مبتدأ وخبرا في موضع الخبر لها، ورده الرضي وقال: إنه تكلف لما فيه من التعقيد المخلّ بالفصاحة. والمثال المحكي وارد على لغة بني تميم فإنهم عاملوا ليس معاملة ما فأهملوها لانتقاض النفي بإلا، وقيل ظَنًّا مفعول مطلق لفعل محذوف والمستثنى محذوف والتقدير إن نظن إلا أنكم تظنون ظنا. وحكي عن المبرد أيضا وفيه حذف إن واسمها وخبرها وإبقاء المصدر وذلك لا يجوز، وفيه أيضا من التعقيد المخل بالفصاحة ما فيه، ولا أظن صحة حكايته عن المبرد لغاية برودته، وجوز صاحب التقريب أن يكون المراد إن نظن إلا ظنا ضعيفا فهو مصدر مبين للنوع حذفت صفته كما صرح به في البحر لا مؤكد، وهذا يوافق ما ذكره الإمام السكاكي في بحث أن التنكير قد يكون للتحقير. وتعقب بأن قوله تعالى: وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ يأباه فإن مقابل الاستيقان مطلق الظن لا الضعيف منه، وقد صرح غير واحد بأن هذه الجملة كالتأكيد لما قبلها والمراد بها استمرار النفي وتأكيده، قيل: والمعنى وما نحن بمستيقنين إمكان الساعة أي لا نتيقن إمكانها أصلا فضلا عن تحقق وقوعها المدلول عليه بقوله تعالى: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها فقولهم ذلك رد لهذا، ولعل المثبتين لأنفسهم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 155 الظن من غير إيقان بأمر الساعة غير القائلين إن هي إلا حياتنا الدنيا فإن ذلك ظاهر في أنهم منكرون للبعث جازمون بنفي الساعة فيكون الكفرة صنفين صنف جازمون بنفيها كأئمتهم وصنف مترددون متحيرون فيها فإذا سمعوا ما يؤثر عن آبائهم أنكروها وإذا سمعوا الآيات المتلوة تقهقر إنكارهم فترددوا. ويحتمل اتحاد قائل ذاك وقائل هذا إلا أن كل قول في وقت وحال فهو مضطرب مختلف الحالات تارة يجزم بالنفي فيقول: إن هي إلا حياتنا الدنيا وأخرى يظن فيقول إن نظن إلا ظنا، وقيل: الجزم هناك بنفي وقوعها والظن من غير إيقان هنا بمجرد إمكانها فهم مترددون بإمكانها الذاتي جازمون بعدم وقوعها بالفعل فتأمل «تم الجزء الخامس والعشرون ويليه إن شاء الله تعالى الجزء السادس والعشرون وأوله (وبدا لهم) » . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 156 الجزء السادس والعشرون الجزء: 13 ¦ الصفحة: 157 وَبَدا لَهُمْ أي ظهر لهم حينئذ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا أي قبائح أعمالهم أي عقوباتها فإن العقوبة تسوء صاحبها وتقبح عنده أو سيئات أعمالهم أي أعمالهم السيئات على أن تكون الإضافة من إضافة الصفة إلى الموصوف والكلام على تقدير مضاف أي ظهر لهم جزاء ذلك أو أن يراد بالسيئات جزاؤها من باب إطلاق السبب على المسبب، وقيل: المراد ظهر لهم الجهات السيئة الغير الحسنة عقلا لأعمالهم أي جهات قبحها العقلي التي خفيت عليهم في الدنيا بتزيين الشيطان وهو قول بالحسن والقبح العقليين في الأفعال، وما موصولة، وجوز أن تكون مصدرية فلا تغفل وَحاقَ أي حل بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من الجزاء والعقاب. وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ نترككم في العذاب من باب إطلاق السبب على المسبب لأن من نسي شيئا تركه أو نجعلكم بمنزلة الشيء المنسي غير المبالى به على أن ثم استعارة تمثيلية، وجوز أن يكون استعارة مكنية في ضمير الخطاب. كَما نَسِيتُمْ في الدنيا لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا أي كما تركتم عدته وهي التقوى والإيمان به أو كما لم تبالوا أنتم بلقائه ولم تخطروه ببال كالشيء الذي يطرح نسيا منسيا، وجوز أن يكون التعبير بنسيانه لأن علمه مركوز في فطرتهم أو لتمكنهم منه بظهور دلائله ففي النسيان الأول مشاكلة، وإضافة لِقاءَ إلى- يوم- من إضافة المصدر إلى ظرفه فهي على معنى في والمفعول مقدر أي لقاءكم الله تعالى وجزاءه سبحانه في يومكم هذا، وقال العلامة التفتازاني: لِقاءَ يَوْمِكُمْ ك مَكْرُ اللَّيْلِ [سبأ: 33] من باب المجاز الحكمي فلذا أجري المضاف إليه مجرى المفعول به، وإنما لم يجعل من إضافة المصدر إلى المفعول به حقيقة لأن التوبيخ ليس على نسيان لقاء اليوم نفسه بل نسيان ما فيه من الجزاء. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 159 وقال بعض الأجلة: لا يخفى أن لقاء اليوم يجوز أن يكون كناية عن لقاء جميع ما فيه وهو أنسب بالمقام لأن السياق لإنكار البعث وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ ما لأحد منكم ناصر واحد يخلصكم منها. ذلِكُمْ العذاب بِأَنَّكُمُ بسبب أنكم اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً أي مهزوءا بها ولم ترفعوا لها رأسا وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فحسبتم أن لا حياة سواها فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها أي النار. وقرأ الحسن وابن وثاب وحمزة والكسائي «لا يخرجون» مبنيا للفاعل، والالتفات إلى الغيبة للإيذان بإسقاطهم عن رتبة الخطاب استهانة بهم أو بنقلهم من مقام الخطابة إلى غيابه النار، وجوز أن يكون هذا ابتداء كلام فلا التفات. وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي يطلب منهم أن يعتبوا ربهم سبحانه أي يزيلوا عتبه جلّ وعلا، وهو كناية عن إرضائه تعالى أي لا يطلب منهم إرضاؤه عز وجل لفوات أوانه، وقد تقدم في الروم. والسجدة أوجه أخر في ذلك فتذكر فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ تفريع على ما احتوت عليه السورة الكريمة، وقد احتوت على آلاء الله تعالى وأفضاله عز وجل واشتملت على الدلائل الآفاقية والأنفسية وانطوت على البراهين الساطعة والنصوص اللامعة في المبدأ والمعاد، واللام للاختصاص، وتقديم الخبر لتأكيده، وتعريف الحمد للاستغراق أو الجنس، والجملة إخبار عن استحقاقه تعالى لما تدل عليه، وجوز أن يراد الإنشاء، وتمام الكلام قد تقدم في الفاتحة، وفي التفريع المذكور على ما قال بعض الأجلة إشارة إلى أن كفرهم لا يؤثر شيئا في ربوبيته تعالى ولا يسد طريق إحسانه ورحمته عز وجلّ. ومن يسد طريق العارض الهطل. وإنما هم ظلموا أنفسهم، وإجراء ما جرى من الصفات الدالة على إنعامه تعالى عليه عز وجلّ كالدليل على استحقاقه تعالى الحمد واختصاصه به جلّ وعلا وقوله تعالى: رَبِّ الْعالَمِينَ بدل مما قبل وفي تكرير لفظ الرب تأكيد وإيذان بأن ربوبيته تعالى لكل بطريق الأصالة. وقرأ ابن محيصن برفعه على المدح بإضمار هو وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فيه من الاختصاص ما في فَلِلَّهِ الْحَمْدُ والكبرياء قال ابن الأثير: العظمة والملك، وقال الراغب: الترفع عن الانقياد، وقيل: هي عبارة عن كمال الذات وكمال الوجود، وقوله تعالى: فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ في موضع الحال أو متعلق- بالكبرياء- والتقييد بذلك لظهور آثار الكبرياء وأحكامها فيه، والإظهار في مقام الإضمار لتفخيم شأن الكبرياء، وفي الحديث القدسي «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدا منهما قذفته في النار» أخرجه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه وابن أبي شيبة والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة ، وهو ظاهر في عدم اتحاد الكبرياء والعظمة فلا تغفل وَهُوَ الْعَزِيزُ الذي لا يغلب الْحَكِيمُ في كل ما قضى وقدر، وفي هذه الجمل إرشاد- على ما قيل- إلى أوامر جليلة كأنه قيل: له الحمد فاحمدوه تعالى وله الكبرياء فكبروه سبحانه وهو العزيز الحكيم فأطيعوه عز وجل، وجعلها بعضهم مجازا أو كناية عن الأوامر المذكورة والله تعالى أعلم، هذا ولم أظفر من باب الإشارة بما يتعلق بشيء من آيات هذه السورة الكريمة يفي بمؤنة نقله غير ما يتعلق بقوله تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ [الجاثية: 13] من جعله إشارة إلى وحدة الوجود، وقد مر ما يغني عن نقله، والله عز وجلّ ولي التوفيق. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 160 سورة الأحقاف أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير أنها نزلت بمكة فأطلق غير واحد القول بمكيتها من غير استثناء، واستثنى بعضهم قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [الأحقاف: 10] الآية، فقد أخرج الطبراني بسند صحيح عن عوف بن مالك الأشجعي أنها نزلت بالمدينة في قصة إسلام عبد الله بن سلام، وروي ذلك عن محمد بن سيرين. وفي الدر المنثور أخرج البخاري ومسلم والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: ما سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض: إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام وفيه نزلت وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ [الأحقاف: 10] وفي نزولها فيه رضي الله تعالى عنه أخبار كثيرة، وظاهر ذلك أنها مدنية لأن إسلامه فيها بل في الأخبار ما يدل على مدنيتها من وجه آخر، وعكرمة ينكر نزولها فيه ويقول: هي مكية كما أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه وكذا مسروق، فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أنه قال في الآية: والله ما نزلت في عبد الله بن سلام ما نزلت إلا بمكة وإنما كان إسلام ابن سلام بالمدينة وإنما كانت خصومة خاصم بها محمد صلّى الله عليه وسلّم، واستثنى بعضهم وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ [الأحقاف: 17] الآيتين، وزعم مروان من لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أباه وهو في صلبه أنهما نزلتا في عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله تعالى عنهما فكذبته عائشة وقالت: كذب مروان مرتين والله ما هو به ولو شئت أن أسمي الذي أنزلت فيه لسميته ولكن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعن أبا مروان ومروان في صلبه فمروان فضض أي قطعة من لعنة الله تعالى، وفي رواية أنها قالت: إنما نزلت في فلان بن فلان وسمت رجلا آخر، واستثنى آخر وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ [الأحقاف: 15] الآيات الأربع كما حكاه في جمال القراء، وحكى أيضا استثناء فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ [الأحقاف: 35] الآية ونقله في البحر عن ابن عباس. وقتادة، وكذا نقل فيه عنهما استثناء قُلْ أَرَأَيْتُمْ إلخ، وتمام الكلام في ذلك سيأتي إن شاء الله تعالى. وآيها خمس وثلاثون في الكوفي وأربع وثلاثون في غيره والاختلاف في «حم» وتسمى لمجاوزتها الثلاثين ثلاثين. أخرج أحمد بسند جيد عن ابن عباس قال: أقرأني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سورة من آل حم وهي الأحقاف وكانت السورة إذا كانت أكثر من ثلاثين آية سميت ثلاثين، وروي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأها على وجهين. أخرج ابن الضريس والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: أقرأني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سورة الأحقاف فسمعت رجلا يقرؤها خلاف ذلك فقلت: من أقرأكها؟ قال: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: والله لقد أقرأني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غير ذا فأتينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله ألم تقرئني كذا وكذا؟ قال: بلى فقال الآخر: ألم تقرئني كذا وكذا؟ قال: بلى فتمعّر وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ليقرأ كل واحد منكما ما سمع فإنما هلك من كان قبلكم بالاختلاف» . وأنت تعلم أن ما تواتر هو القرآن. ووجه اتصالها أنه تعالى لما ختم السورة التي قبلها بذكر التوحيد وذم أهل الجزء: 13 ¦ الصفحة: 161 الشرك والوعيد افتتح هذه بالتوحيد ثم بالتوبيخ لأهل الكفر من العبيد فقال عز وجلّ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ الكلام فيه كالذي تقدم في مطلع السورة السابقة ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بما فيهما من حيث الجزئية منهما ومن حيث الاستقرار فيهما وَما بَيْنَهُما من المخلوقات إِلَّا بِالْحَقِّ استثناء مفرع من أعم المفاعيل أي لا خلقا ملتبسا بالحق الذي تقتضيه الحكمة التكوينية والتشريعية، وفيه من الدلالة على وجود الصانع وصفات كماله وابتناء أفعاله على حكم بالغة وانتهائها إلى غايات جليلة ما لا يخفى، وجوز كونه مفرغا من أعم الأحوال من فاعل خَلَقْنَا أو من مفعوله أي ما خلقناها في حال من الأحوال إلا حال ملابستنا بالحق أو حال ملابستها به وَأَجَلٍ مُسَمًّى عطف على (الحق) بتقدير مضاف أي وبتقدير أجل مسمى، وقدر لأن الخلق إنما يلتبس به لا بالأجل نفسه والمراد بهذا الأجل. كما قال ابن عباس. يوم القيامة فإنه ينتهي إليه أمور الكل وتبدل فيه الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار، وقتل: مدة البقاء المقدر لكل واحد، ويؤيد الأول قوله تعالى: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 162 وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ فإن ما أنذروه يوم القيامة وما فيه من الطامة التامة والأهوال العامة لا آخر أعمارهم. وجوز كون ما مصدرية أي عن إنذارهم بذلك الوقت على إضافة المصدر إلى مفعوله الأول القائم مقام الفاعل، والجملة حالية أي ما خلقنا الخلق إلا بالحق وتقدير الأجل الذي يجازون عنده والحال أنهم غير مؤمنين به معرضون عنه غير مستعدين لحلوله قُلْ توبيخا لهم وتبكيتا أَرَأَيْتُمْ أخبروني وقرىء «أرأيتكم» ما تَدْعُونَ ما تعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام أو جميع المعبودات الباطلة ولعله الأظهر، والموصول مفعول أول- لأرأيتم- وقوله تعالى: أَرُونِي تأكيد له فإنه بمعنى أخبروني أيضا، وقوله تعالى: ماذا خَلَقُوا جوز فيه أن تكون ما اسم استفهام مفعولا مقدما- لخلقوا- وذا زائدة وأن تكون ماذا اسما واحدا مفعولا مقدما أي أي شيء خلقوا وأن تكون اسم استفهام مبتدأ أو خبرا مقدما وذا اسم موصول خبرا أو مبتدأ مؤخرا وجملة خَلَقُوا صلة الموصول أي ما الذي خلقوه، وعلى الأولين جملة خَلَقُوا مفعول ثان- لأرأيتم- وعلى ما بعدهما جملة ماذا خَلَقُوا وجوز أن يكون الكلام من باب الأعمال وقد أعمل الثاني وحذف المفعول الأول وأختاره أبو حيان، وقيل: يحتمل أن يكون أَرُونِي بدل اشتمال من أَرَأَيْتُمْ وقال ابن عطية: يحتمل أَرَأَيْتُمْ وجهين: كونها متعدية وما مفعولا لها. وكونها منبهة لا تتعدى وما استفهامية على معنى التوبيخ، وهذا الثاني قاله الأخفش في أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ [الكهف: 63] . وقوله تعالى: مِنَ الْأَرْضِ تفسير للمبهم في ماذا خَلَقُوا قيل: والظاهر أن المراد من أجزاء الأرض وبقعها، وجوز أن يكون المراد ما على وجهها من حيوان وغيره بتقدير مضاف يؤدي ذلك، ويجوز أن يراد بالأرض السفليات مطلقا ولعله أولى أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ أي شركة مع الله سبحانه فِي السَّماواتِ أي في خلقها، ولعل الأولى فيها أيضا أن تفسر بالعلويات. وأَمْ جوز أن تكون منقطعة وأن تكون متصلة، والمراد نفي استحقاق آلهتهم للمعبودية على أتم وجه، فقد نفى أولا مدخليتها في خلق شيء من أجزاء العالم السفلي حقيقة واستقلالا، وثانيا مدخليتها على سبيل الشركة في خلق شيء من أجزاء العالم العلوي، ومن المعلوم أن نفي ذلك يستلزم نفي استحقاق المعبودية وتخصيص الشركة في النظم الجليل بقوله سبحانه: فِي السَّماواتِ مع أنه لا شركة فيها وفي الأرض أيضا لأن القصد إلزامهم بما هو مسلم لهم ظاهر لكل أحد والشركة في الحوادث السفلين ليست كذلك لتملكهم وإيجادهم لبعضها بحسب الصورة الظاهرة. وقيل: الأظهر أن تجعل الآية من حذف معادل أَمْ المتصلة لوجود دليله والتقدير ألهم شرك في الأرض أم لهم شرك في السموات وهو كما ترى، وقوله تعالى: ائْتُونِي بِكِتابٍ إلى آخره تبكيت لهم بتعجيزهم عن الإتيان بسند نقلي بعد تبكيتهم بالتعجيز عن الإتيان بسند عقلي فهو من جملة القول أي ائتوني بكتاب إلهي كائن مِنْ قَبْلِ هذا الكتاب أي القرآن الناطق بالتوحيد وإبطال الشرك دال على صحة دينكم أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ أي بقية من علم بقيت عليكم من علوم الأولين شاهدة باستحقاقهم العبادة، فالاثارة مصدر كالضلالة بمعنى البقية من قولهم: سمنت الناقة على أثارة من لحم أي بقية منه. وقال القرطبي: هي بمعنى الإسناد والرواية، ومنه قول الأعشى: إن الذي فيه تماريتما ... بيّن للسامع والآثر وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن، وقتادة: المعنى أو خاصة من علم فاشتقاقها من الأثرة فكأنها قد آثر الله تعالى بها من هي عنده، وقيل: هي العلامة. وأخرج أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ قال: الخط، وروي ذلك أيضا موقوفا على الجزء: 13 ¦ الصفحة: 163 ابن عباس، وفسر بعلم الرمل كما في حديث أبي هريرة مرفوعا «كان نبي من الأنبياء يخط فمن صادف مثل خطه علم» . وفي رواية عن الحبر أنه قال أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ خط كان يخطه العرب في الأرض، وهذا ظاهر في تقوية أمر علم الرمل وأنه شيء له وجه ويرشد إلى بعض الأمور، وفي ذلك كلام يطلب من محله. وفي البحر قيل: إن صح تفسير ابن عباس الأثارة بالخط على التراب كان ذلك من باب التهكم بهم وبأقوالهم ودلائلهم، والتنوين للتقليل ومِنْ عِلْمٍ صفة أي أو ائتوني بأثارة قليلة كائنة من علم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم فإنها لا تكاد تصح ما لم يقم عليها برهان عقلي أو دليل نقلي وحيث لم يقم عليها شيء منهما وقد قاما على خلافها تبين بطلانها، وقرىء «إثارة» بكسر الهمز وفسرت بالمناظرة فإنها تثير المعاني، قيل: وذلك من باب الاستعارة على تشبيه ما يبرز ويتحقق بالمناظرة بما يثور من الغبار الثائر من حركات الفرسان. وقرأ علي وابن عباس رضي الله تعالى عنهم بخلاف عنهما. وزيد بن علي وعكرمة وقتادة والحسن والسلمي والأعمش وعمرو بن ميمون «أثرة» بغير ألف وهي واحدة جمعها أثر كقترة وقتر، وعلي كرم الله تعالى وجهه والسلمي وقتادة أيضا بإسكان الثاء وهي الفعلة الواحدة مما يؤثر أي قد قنعت منكم بخبر واحد أو أثر واحد يشهد بصحة قولكم وعن الكسائي ضم الهمزة وإسكان الثاء فهي اسم للمقدار كالغرفة لما يغرف باليد أي ائتوني بشيء ما يؤثر من علم، وروي عنه أيضا أنه قرأ «إثرة» بكسر الهمزة وسكون الثاء وهي بمعنى الأثرة بفتحتين وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إنكار لأن يكون أضل من المشركين، وذكر بعض الفضلاء أن المراد نفي أن يكون أحد يساويهم في الضلالة وإن كان سبك التركيب لنفي الأضل، وقد مر ما يتعلق بذلك فتذكر أي هو أضل من كل ضال حيث ترك دعاء المجيب القادر المستجمع لجميع صفات الكمال كما يشعر بذلك الاسم الجليل ودعا من ليس شأنه الاستجابة له وإسعافه بمطلوبه إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي ما دامت الدنيا، وظاهره أنه بعدها تقع الاستجابة وليس بمراد لتحقق ما يدل على خلافه، فهذه الغاية على ما في الانتصاف من الغايات المشعرة بأن ما بعدها وإن وافق ما قبلها إلا أنه أزيد منه زيادة بينة تلحقه بالمباين حتى كأن الحالتين وإن كانتا نوعا واحدا لتفاوت ما بينهما كالشيء وضده، وذلك أن الحالة الأولى التي جعلت غايتها القيامة لا تزيد على عدم الاستجابة، والحالة الثانية التي في القيامة زادت على عدم الاستجابة بالعداوة وبالكفر بعبادتهم إياهم كما ينطق به ما بعد فهو من وادي قول تعالى: في سورة [الزخرف: 29] بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ الآية، ونحوه قوله سبحانه في إبليس: إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ [ص: 78] وقد يقال: المراد بهذه الغاية التأبيد كما قيل في قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ [هود: 107] وقولهم: ما دام ثبير، وقال بعضهم: لا إشكال في الآية لأن الغاية مفهوم فلا تعارض المنطوق، وفيه بحث، ففي الدرر والينبوع عن البديع أن الغاية عندنا من قبيل إشارة النص لا المفهوم. وقال الزركشي في شرح جمع الجوامع: ذهب القاضي أبو بكر إلى أن الحكم في الغاية منطوق وادعى أن أهل اللغة صرحوا بأن تعليق الحكم بالغاية موضوع على أن ما بعدها خلاف ما قبلها لأنهم اتفقوا على أنها ليست كلاما مستقلا فإن قوله تعالى: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة: 230] وقوله سبحانه: حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة: 222] لا بد فيه من إضمار لضرورة تتميم الكلام وذلك أن المضمر إما ضد ما قبله أو لا والثاني لأنه ليس في الكلام ما يدل عليه فيقدر حتى يطهرن فاقربوهن، حتى تنكح زوجا غيره فتحل، قال: والمضمر بمنزلة الملفوظ فإنه إنما يضمر لسبقه إلى ذهن العارف باللسان، وعليه جرى صاحب البديع من الحنفية فقال: هو عندنا من دلالة الإشارة لا من المفهوم، لكن الجمهور على أنه مفهوم ومنعوا وضع اللغة لذلك انتهى، ويعلم من هذا أن قوله في التلويح: إن مفهوم الغاية متفق عليه لا يخلو من الخلل وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ الضمير الأول لمفعول يَدْعُوا أعني مَنْ لا يَسْتَجِيبُ والثاني الجزء: 13 ¦ الصفحة: 164 لفاعله، والجمع فيهما باعتبار معنى مَنْ كما أن الأفراد فيما سبق باعتبار لفظها أي والذين يدعون من لا يستجيبون لهم عن دعائهم إياهم غافِلُونَ لا يسمعون ولا يدرون، أما إن كان المدعو جمادا فظاهر، وأما إن كان من ذوي العقول فإن كان من المقبولين المقربين عند الله تعالى فلاشتغاله عن ذلك بما هو فيه من الخير أو كونه في محل ليس من شأن الذي فيه أن يسمع دعاء الداعي للبعد كعيسى عليه الصلاة والسلام اليوم أو لأن الله تعالى يصون سمعه عن سماع ذلك لأنه لكونه مما لا يرضي الله تعالى يؤلمه لو سمعه، وإن كان من أعداء الله تعالى كشياطين الجن والإنس الذين عبدوا من دون الله تعالى فإن كان ميتا فلاشتغاله بما هو فيه من الشر، وقيل: لأن الميت ليس من شأنه السماع ولا يتحقق منه سماع إلا معجزة كسماع أهل القليب، وفي هذا كلام تقدم بعضه وإن كان حيا فإن كان بعيدا مثلا فالأمر ظاهر، وإن كان قريبا سليم الحاسة فقيل: الكلام بالنسبة إليه بعد تأويل الغفلة بعدم السماع وعلى التغليب لندرة هذا الصنف. ومن الناس من أوّل الغفلة بعدم الفائدة وتعقب بأنه حينئذ لا يكون لوصفهم بالغفلة بعد وصفهم بعدم الاستجابة كثير فائدة، واعتبر بعضهم التغليب من غير تأويل بمعنى أنه غلب من يتصور منه الغفلة حقيقة على غيره، وهذا كالتغليب في التعبير عن تلك الآلهة بما هو موضوع لأن يستعمل في العقلاء، وإن كانت الآية في عبدة الأصنام ونحوها مما لا يعقل تجوز في الغفلة وكان التعبير بما هو للعاقل لإجراء العبدة إياها مجرى العقلاء. وقال بعضهم: على جعلها في عبدة الأصنام. إن وصفها بما ذكر من ترك الاستجابة والغفلة مع ظهور حالها للتهكم بها فتدبر ولا تغفل وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ عند قيام القيامة كانُوا أي المعبودون لَهُمْ أي العابدين أَعْداءً شديدي العداوة وَكانُوا أي المعبودون أيضا بِعِبادَتِهِمْ أي بعبادة الكفرة إياهم كافِرِينَ مكذبين، والأمر ظاهر في ذوي العقول. وأما في الأصنام فقد روي أن الله تعالى يخلق لها إدراكا وينطقها فتتبرأ عن عبادتهم وكذا تكون أعداء لهم، وجوز كون تكذيب الأصنام بلسان الحال لظهور أنهم لا يصلحون للعبادة وأنهم لا نفع لهم كما توهموه أولا حيث قالوا: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ [الزمر: 3] ورجوا الشفاعة منهم. وفسرت العداوة بالضر على أنها مجاز مرسل عنه فمعنى كانُوا لَهُمْ أَعْداءً كانوا لهم ضارين، وما ذكرناه في بيان الضمائر هو الظاهر، وقيل: ضمير (هم) المرفوع البارز والمستتر في قوله تعالى: وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ للكفرة الداعين وضمير دُعائِهِمْ لهم أو للمعبودين، والمعنى أن الكفار عن ضلالهم بأنهم يدعون من لا يستجيب لهم غافلون لا يتأملون ما عليهم في ذلك، وفيه من ارتكاب خلاف الظاهر ما فيه، وفي الضمائر بعد نحو ذلك، والمعنى إذا حشر الناس كان الكفار أعداء لآلهتهم الباطلة لما يرون من ترتب العذاب على عبادتهم إياها وكانوا لذلك منكرين أنهم عبدوا غير الله تعالى كما حكى الله تعالى عنهم أنهم يقولون: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] وتعقب بأن السياق لبيان حال الآلهة معهم لا عكسه، ولأن كفرهم حينئذ إنكار لعبادتهم وتسميته كفرا خلاف الظاهر وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ أي واضحات أو مبينات ما يلزم بيانه قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ أي الآيات المتلوة، ووضع موضع ضميرها تنصيصا على حقيتها ووجوب الإيمان بها كما وضع الموصوف موضع ضمير المتلو عليهم تسجيلا عليهم بكمال الكفر والضلالة. وجوز كون المراد- بالحق- النبوة أو الإسلام فليس فيه موضوعا موضع الضمير، والأول أظهر، واللام متعلقة. بقال على أنها لام العلة أي قالوا لأجل الحق وفي شأنه وما يقال في شأن شيء مسوق لأجله، وجوز تعلقه- بكفروا- على أنه بمعنى الباء أو حمل الكفر على نقيضه وهو الإيمان فإنه يتعدى باللام نحو أَنُؤْمِنُ لَكَ [الشعراء: 111] وهو الجزء: 13 ¦ الصفحة: 165 خلاف الظاهر كما لا يخفى لَمَّا جاءَهُمْ أي في وقت مجيئه إياهم، ويفهم منه في العرف المبادرة وتستلزم عدم التأمل والتدبر فكأنه قيل: بادروا أول سماع الحق من غير تأمل إلى أن قالوا: هذا سِحْرٌ مُبِينٌ أي ظاهر كونه سحرا، وحكمهم بذلك على الآيات لعجزهم عن الإتيان بمثلها، وعلى النبوة لما معها من الخارق للعادة، وعلى الإسلام لتفريقه بين المرء وزوجه وولده أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ إضراب وانتقال من حكاية شناعتهم السابقة إلى حكاية ما هو أشنع منها وهو الكذب عمدا على الله تعالى فإن الكذب خصوصا عليه عز وجل متفق على قبحه حتى ترى كل أحد يشمئز من نسبته إليه بخلاف السحر فإنه وإن قبح فليس بهذه المرتبة حتى تكاد تعد معرفته من الأمور المرغوبة، وما في أَمْ المنقطعة من الهمزة معنى للإنكار التوبيخي المتضمن للتعجب من نسبته إلى الافتراء مع قولهم: هو سحر لعجزهم عنه، والضمير المنصوب في افْتَراهُ كما قال أبو حيان لِلْحَقِّ الذي هو الآيات المتلوة، وقال بعضهم: للقرآن الدال عليه ما تقدم أي بل أيقولون افتراه. قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ على الفرض فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي عاجلني الله تعالى بعقوبة الافتراء عليه سبحانه فلا تقدرون على كفه عز وجلّ من معالجتي ولا تطيقون دفع شيء من عقابه سبحانه عني فكيف أفتريه وأتعرض لعقابه، فجواب إِنِ في الحقيقة محذوف وهو عاجلني وما ذكر مسبب عنه أقيم مقامه أو تجوز به عنه هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ بالذي تأخذون فيه من القدح في وحي الله تعالى والطعن في آياته وتسميته سحرا تارة وافتراء أخرى، واستعمال الإفاضة في الأخذ في الشيء والشروع فيه قولا كان أو فعلا مجاز مشهور، وأصلها إسالة الماء يقال: أفاض الماء إذا أساله، وما أشرنا إليه من كون (ما) موصولة وضمير فيه عائد عليه هو الظاهر وجوز كون (ما) مصدرية وضمير فِيهِ للحق أو للقرآن كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ حيث يشهد لي سبحانه بالصدق والبلاغ وعليكم بالكذب والجحود، وهو وعيد بجزاء إفاضتهم في الطعن في الآيات، واستؤنف لأنه في جواب سؤال مقدر، وبِهِ في موضع الفاعل- بكفى- على أصح الأقوال، وشَهِيداً حال وبَيْنِي وَبَيْنَكُمْ متعلق به أو بكفى وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وعد بالغفران والرحمة لمن تاب وآمن وإشعار بحلم الله تعالى عليهم إذ لم يعاجلهم سبحانه بالعقوبة وأمهلهم جل شأنه ليتداركوا أمورهم قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ أي بديعا منهم يعني لست مبتدعا لأمر يخالف أمورهم بل جئت بما جاؤوا به من الدعوة إلى التوحيد أو فعلت نحو ما فعلوا من إظهار ما آتاني الله تعالى من المعجزات دون الإتيان بالمقترحات كلها، فقد قيل: إنهم كانوا يقترحون عليه عليه الصلاة والسلام آيات عجيبة ويسألونه عن المغيبات عنادا ومكابرة فأمر صلّى الله عليه وسلّم أن يقول لهم ذلك، ونظير بدع الخف بمعنى الخفيف والخل بمعنى الخليل فهو صفة مشبهة أو مصدر مؤول بها، وجوز إبقاؤه على أصله. وقرأ عكرمة وأبو حيوة وابن أبي عبلة «بدعا» بفتح الدال، وخرج علي أنه جمع بدعة كسدرة وسدر، والكلام بتقدير مضاف أي ذا بدع أو مصدر والإخبار به مبالغة أو بتقدير المضاف أيضا. وقال الزمخشري: يجوز أن يكون صفة على فعل كقولهم: دين قيم ولحم زيم أي متفرق. قال في البحر: ولم يثبت سيبويه صفة على هذا الوزن إلا عدي حيث قال: ولا نعلمه جاء صفة إلا في حرف معتل يوصف به الجمع وهو قوم عدي، واستدرك عليه زيم وهو استدراك صحيح، وأما قيم فمقصور من قيام ولولا ذلك لصحت عينه كما صحت في حول وعوض، وأما قول العرب: مكان سوي وماء روي ورجل رضا وماء صرى فمتأولة عند التصريفيين إما بالمصدر أو بالقصر، وعن مجاهد وأبي حيوة «بدعا» بفتح الباء وكسر الدال وهو صفة كحذر. وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ أي في الدارين على التفصيل كما قيل. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 166 وأخرج ابن جرير عن الحسن أنه قال في الآية: أما في الآخرة فمعاذ الله تعالى قد علم صلّى الله عليه وسلّم أنه في الجنة حين أخذ ميثاقه في الرسل ولكن ما أدري ما يفعل بي في الدنيا أأخرج كما أخرجت الأنبياء عليهم السلام من قبلي أم أقتل كما قتلت الأنبياء عليهم السلام من قبلي ولا بكم أأمتي المكذبة أم أمتي المصدقة أم أمتي المرمية بالحجارة من اسماء قذفا أم المخسوف بها خسفا ثم أوحى إليه وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ [الإسراء: 60] يقول سبحانه: أحطت لك بالعرب أن لا يقتلوك فعرف عليه الصلاة والسلام أنه لا يقتل ثم أنزل الله تعالى هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً [الفتح: 28] يقول: أشهد لك على نفسه أنه سيظهر دينك على الأديان ثم قال سبحانه له عليه الصلاة والسلام في أمته: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال: 33] فأخبره الله تعالى بما صنع به وما يصنع بأمته، وعن الكلبي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال له أصحابه وقد ضجروا من أذى المشركين: حتى متى نكون على هذا؟ فقال: وما أدري ما يفعل بي. ولا بكم أأترك بمكة أم أؤمر بالخروج إلى أرض قد رفعت لي ورأيتها يعني في منامه ذات نخل وشجر. وحكى في البحر عن مالك بن أنس وقتادة وعكرمة والحسن أيضا. وابن عباس أن المعنى ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة، وأخرج أبو داود في ناسخه من طريق عكرمة عن ابن عباس أنه قال في الآية: نسختها الآية التي في [الفتح: 2] لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ فخرج صلّى الله عليه وسلّم إلى الناس فبشرهم بأنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فقال رجل من المؤمنين: هنيئا لك يا نبي الله قد علمنا الآن ما يفعل بك فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله تعالى في سورة [الأحزاب: 47] وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً وقال سبحانه: لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ [الفتح: 5] فبين الله تعالى ما يفعل به وبهم. واستشكل على تقدير صحته بأن النسخ لا يجري في الخبر فلعل المنسوخ الأمر بقوله تعالى: قُلْ إن قلنا: إنه هنا للتكرار أو المراد بالنسخ مطلق التغيير. وقال أبو حيان: هذا القول ليس بظاهر بل قد أعلم الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام من أول الرسالة بحاله وحال المؤمن وحال الكافر في الآخرة، وقال الإمام: أكثر المحققين استبعدوا هذا القول واحتجوا بأن النبي لا بد أن يعلم من نفسه كونه نبيا ومتى علم ذلك علم أنه لا يصدر عنه الكبائر وأنه مغفور وإذا كان كذلك امتنع كونه شاكا في أنه هل هو مغفور له أم لا، وبأنه لا شك أن الأنبياء أرفع حالا من الأولياء، وقد قال الله تعالى فيهم: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس: 62] فكيف يعتقد بقاء الرسول وهو رئيس الأنبياء وقدوة الأولياء شاكا في أنه هل هو من المغفورين أم لا، وقد يقال: المراد أيضا أنه عليه الصلاة والسلام ما يدري ذلك على التفصيل، وما ذكر لا يتعين فيه حصول العلم التفصيلي لجواز أن يكون عليه الصلاة والسلام قد أعلم بذلك في مبدأ الأمر إجمالا بل في إعلامه صلّى الله عليه وسلّم بعد بحال كل شخص شخص على سبيل التفصيل بأن يكون قد أعلم عليه الصلاة والسلام بأحوال زيد مثلا في الآخرة على التفصيل وبأحوال عمرو كذلك وهكذا توقف. وفي صحيح البخاري وأخرجه الإمام أحمد والنسائي وابن مردويه عن أم العلاء، وكانت بايعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنها قالت لما مات عثمان بن مظعون: رحمة الله تعالى عليك يا أبا السائب شهادتي عليك لقد أكرمك الله تعالى فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: «وما يدريك أن الله تعالى أكرمه؟ أما هو فقد جاءه اليقين من ربه وإني لأرجو له الخير والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم، قالت أم العلاء: فو الله ما أزكي بعده أحدا ، وفي رواية ابن حبان والطبراني عن زيد بن ثابت أنها قالت لما قبض: طب أبا السائب نفسا إنك في الجنة فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: وما يدريك؟ قالت: يا رسول الله عثمان بن مظعون قال: أجل وما رأينا إلا خيرا والله ما أدري ما يصنع بي ، وفي رواية الطبراني. وابن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 167 مردويه عن ابن عباس أنه لما مات قالت امرأته أو امرأة: هنيئا لك ابن مظعون الجنة فنظر إليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نظر مغضب وقال: وما يدريك؟ والله إني لرسول الله وما أدري ما يفعل الله بي فقالت: يا رسول الله صاحبك وفارسك وأنت أعلم فقال: أرجو له رحمة ربه تعالى وأخاف عليه ذنبه ، لكن في هذه الرواية أن ابن عباس قال: وذلك قبل أن ينزل لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 2] وعن الضحاك المراد لا أدري ما أومر به ولا ما تؤمرون به في باب التكاليف والشرائع والجهاد ولا في الابتلاء والامتحان، والذي أختاره أن المعنى على نفي الدراية من غير جهة الوحي سواء كان الدراية تفصيلية أو إجمالية وسواء كان ذلك في الأمور الدنيوية أو الأخروية وأعتقد أنه صلّى الله عليه وسلّم لم ينتقل من الدنيا حتى أوتي من العلم بالله تعالى وصفاته وشؤونه والعلم بأشياء يعد العلم بها كمالا ما لم يؤته أحد غيره من العالمين، ولا أعتقد فوات كمال بعدم العلم بحوادث دنيوية جزئية كعدم العلم بما يصنع زيد مثلا في بيته وما يجري عليه في يومه أو غده، ولا أرى حسنا قول القائل: إنه عليه الصلاة والسلام يعلم الغيب وأستحسن أن يقال بدله: إنه صلّى الله عليه وسلّم أطلعه الله تعالى على الغيب أو علمه سبحانه إياه أو نحو ذلك، وفي الآية رد على من ينسب لبعض الأولياء علم كل شيء من الكليات والجزئيات، وقد سمعت خطيبا على منبر المسجد الجامع المنسوب للشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره يوم الجمعة قال بأعلى صوت: يا باز أنت أعلم بي من نفسي، وقال لي بعض: إني لأعتقد أن الشيخ قدس سره يعلم كل شيء مني حتى منابت شعري، ومثل ذلك مما لا ينبغي أن ينسب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكيف ينسب إلى من سواه؟ فليتق العبد مولاه، وفيما تقدم من الأخبار في شأن عثمان بن مظعون رد أيضا على من يقول فيمن دونه في الفضل أو من لم يبشره الصادق بالجنة والكرامة نحو ما قيل فيه. نعم ينبغي الظن الحسن في المؤمنين أحياء وأمواتا ورجاء الخير لكل منهم فالله تعالى أرحم الراحمين، هذا والظاهر أن ما استفهامية مرفوعة المحل بالابتداء والجملة بعدها خبر وجملة المبتدأ والخبر معلق عنها الفعل القلبي وهو إما متعد لواحد أو اثنين، وجوز أن تكون ما موصولة في محل نصب على المفعولية لفعل الدراية وهو حينئذ متعد لواحد والجملة بعدها صلة، وأن تكون حرفا مصدريا فالمصدر مفعول أَدْرِي والاستفهامية أقضى لحق مقام التبري عن الدراية، ولا لتذكير النفي المنسحب على ما يُفْعَلُ إلخ وتأكيده، ولولا اعتبار الانسحاب لكان التركيب ما يفعل بي وبكم دون لا لأنه ليس محلا للنفي ولا لزيادة لا ونظير ذلك زيادة مِنَ في قوله تعالى: ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ [البقرة: 105] لانسحاب النفس فإنه إذا انتفت ودادة التنزيل انتفى التنزيل، وزيادة الباء في قوله سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ [الأحقاف: 33] لانسحاب النفي، على أن مع ما في حيزها ولولاه ما زيدت الباء في الخبر، وقيل: الأصل ولا ما يفعل بكم فاختصر، وقيل: ولا بكم، وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة «يفعل» بالبناء للفاعل وهو ضمير الله عز وجل إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ أي ما أفعل إلا اتباع ما يوحى إلي على معنى قصر أفعاله صلّى الله عليه وسلّم على اتباع الوحي، والمراد بالفعل ما يشمل القول وغيره، وهذا جواب عن اقتراحهم الإخبار عما لم يوح إليه عليه الصلاة والسلام من الغيوب، والخطاب السابق للمشركين. وقيل: عن استعجال المسلمين أن يتخلصوا عن أذية المشركين والخطاب السابق لهم، والأول أوفق لقوله تعالى: وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ أنذركم عقاب الله تعالى حسبما يوحى إليّ مُبِينٌ بين الإنذار بالمعجزات الباهرة، والحصر إضافي. وقرأ ابن عمير «يوحي» على البناء للفاعل قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ أي ما يوحى إلي من القرآن، وقيل: الضمير للرسول، وفيه أن الظاهر لو كان المعنى عليه كنت مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لا سحرا ولا مفترى كما تزعمون وَكَفَرْتُمْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 168 بِهِ الواو للحال والجملة حال بتقدير قد على المشهور من الضمير في الخبر وسطت بين أجزاء الشرق اهتماما بالتسجيل عليهم بالكفر أو للعطف على كانَ كما في قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ [فصلت: 52] وكذا الواو في قوله تعالى: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ إلا أنها تعطفه بما عطف عليه على جملة ما قبله، فالجمل المذكورات بعد الواوات ليست متعاطفة على نسق واحد بل مجموع شَهِدَ فَآمَنَ واسْتَكْبَرْتُمْ معطوف على مجموع كانَ وما معه، مثله في المفردات هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ [الحديد: 3] والمعنى إن اجتمع كونه من عند الله تعالى مع كفركم واجتمع شهادة الشاهد فإيمانه مع استكباركم عن الإيمان، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في جواب الشرط وفي مفعولي أَرَأَيْتُمْ وضمير «به» عائد على ما عاد عليه اسم كان وهو ما يوحى من القرآن أو الرسول، وعن الشعبي أنه للرسول، ولعله يقول في ضمير كانَ أيضا كذلك وكنا في ضمير عَلى مِثْلِهِ لئلا يلزم التفكيك. وأنت تعلم أن الظاهر رجوع الضمائر كلها للقرآن، وتنوين شاهِدٌ للتفخيم، وكذا وصفه بالجار والمجرور أي وشهد شاهد عظيم الشأن من بني إسرائيل الواقفين على شؤون الله تعالى وأسرار الوحي بما أوتوا من التوراة على مثل القرآن من المعاني المنطوية في التوراة من التوحيد والوعد والوعيد وغير ذلك فإنها في الحقيقة عين ما فيه كما يعرب عنه قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [الشعراء: 196] على وجه، وكذا قوله سبحانه: إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى [الأعلى: 18] والمثلية باعتبار تأديتها بعبارات أخرى أو على مثل ما ذكر من كونه من عند الله تعالى والمثلية لما ذكر، وقيل: على مثل شهادته أي لنفسه بأنه من عند الله تعالى كأنه لإعجازه يشهد لنفسه بذلك، وقيل مثل كناية عن القرآن نفسه للمبالغة، وعلى تقدير كون الضمير للرسول صلّى الله عليه وسلّم فسر المثل بموسى عليه السلام. والفاء في قوله تعالى: فَآمَنَ أي بالقرآن للسببية فيكون إيمانه مترتبا على شهادة له بمطابقته للوحي، ويجوز أن تكون تفصيلية فيكون إيمانه به هو الشهادة له، والمعنى على تقدير أن يراد فآمن بالرسول صلّى الله عليه وسلّم ظاهر بأدنى التفات، وقوله تعالى: وَاسْتَكْبَرْتُمْ أي عن الإيمان معطوف على ما أشرنا إليه على شَهِدَ شاهِدٌ وجوز كونه معطوفا على «آمن» لأنه قسيمه ويجعل الكل معطوفا على الشرط، ولا تكرار في اسْتَكْبَرْتُمْ لأن الاستكبار بعد الشهادة والكفر قبلها، وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي الموسومين بهذا الوصف، استئناف بياني في مقام التعليل للاستكبار عن الإيمان، ووصفهم بالظلم للإشعار بعلة الحكم فتشعر هذه الجملة بأن كفرهم به لضلالهم المسبب عن ظلمهم وهو دليل جواب الشرط ولذا حذف ومفعولا أَرَأَيْتُمْ محذوفان أيضا لدلالة المعنى عليهما، والتقدير أرأيتم حالكم إن كان كذا فقد ظلمتم ألستم ظالمين، فالمفعول الأول حالكم والثاني ألستم ظالمين، والجواب فقد ظلمتم، وقال ابن عطية: في أَرَأَيْتُمْ يحتمل أن تكون منبهة فهي لفظ موضوع للسؤال لا تقتضي مفعولا، ويحتمل أن تكون جملة إِنْ كانَ إلخ سادة مسد مفعوليها، وهو خلاف ما قرره محققو النحاة في ذلك. وقدر الزمخشري الجواب ألستم ظالمين بغير فاء. ورده أبو حيان بأن الجملة الاستفهامية إذا وقعت جوابا للشرط لزمها الفاء فإن كانت الأداة الهمزة تقدم على الفاء وإلا تأخرت، ولعله تقدير معنى لا تقدير إعراب، وقدره بعضهم أفتؤمنون لدلالة فَآمَنَ وقدره الحسن فمن أضل منكم لقوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ [فصلت: 52] وقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الأنعام: 144، القصص: 50، الأحقاف: 10] وقيل: التقدير فمن المحقق منا ومنكم ومن المبطل؟ وقيل: تهلكون، وقيل: هو فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ أي فقد آمن محمد صلّى الله عليه وسلّم به أو الشاهد واستكبرتم أنتم عن الإيمان، وأكثرها كما ترى. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 169 والشاهد عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه عند الجمهور وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وابن سيرين والضحاك وعكرمة في رواية ابن سعد. وابن عساكر عنه. وفي الكشف في جعله شاهدا والسورة مكية بحث ولهذا استثنيت هذه الآية، وتحقيقه أنه نزل ما سيكون منزلة الواقع ولهذا عطف شَهِدَ وما بعده على قوله تعالى: كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ ليعلم أنه مثله في التحقيق فيكون على أسلوب قوله سبحانه: كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ [الحجر: 90] أي أنذر قريشا مثل ما أنزلناه على يهود بني قريظة وقد أنزل عليهم بعد سبع سنين من نزول الآية، ومصب الإلزام في قوله تعالى: فَآمَنَ كأنه قيل: أخبروني إن يؤمن به عالم من بني إسرائيل أي عالم لما تحقق عنده أنه مثل التوراة ألستم تكونون أضل الناس، ففيه الدلالة على أنه مثل التوراة يجب الإيمان به شهد ذلك الشاهد أو لم يشهد لأن تلك الشهادة يعقبها الإيمان من غير مهلة فلو لم يؤمن لم يكن عالما بما في التوراة وهذا يصلح جوابا مستقلا من غير نظر إلى الأول فافهم، وقول من قال: الشاهد عبد الله على هذا بيان للواقع وأنه كان ممن شهد وآمن لا أن المراد بلفظ الآية عبد الله خصوصا، وعلى الوجهين لا بد من تأويل قول سعد، وقد تقدم في حديث الشيخين وغيرهما وفيه نزل وَشَهِدَ شاهِدٌ بأن المراد في شأنه الذي سيحدث على الأول أو فيه وفيمن هو على حاله كأنه قيل: هو من النازلين فيه لأنه كان من الشاهدين انتهى. وتعقب قوله: إنه نزل ما سيكون منزلة الواقع بأنه لا حاجة إلى ذلك التنزيل على تقدير مكيتها، وكون الشاهد ابن سلام لمكان العطف على الشرط الذي يصير به الماضي مستقبلا وحينئذ لا ضير في شهادة الشاهد بعد نزولها، ومع هذا فالظاهر من الأخبار أن النزول كان في المدينة وأنه بعد شهادة ابن سلام. أخرج أبو يعلى والطبراني والحاكم بسند صحيح عن عوف بن مالك الأشجعي قال: انطلق النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود يوم عيدهم فكرهوا دخولنا عليهم فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أروني اثني عشر رجلا منكم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله يحبط الله تعالى عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي عليه فسكتوا فما أجابه منهم أحد ثم رد عليهم عليه الصلاة والسلام فلم يجبه أحد فثلث فلم يجبه أحد فقال: أبيتم فو الله لأنا الحاشر وأنا العاقب وأنا المقفى آمنتم أو كذبتم ثم انصرف صلّى الله عليه وسلّم وأنا معه حتى كدنا أن نخرج فإذا رجل من خلفه فقال: كما أنت يا محمد فأقبل فقال ذلك الرجل: أي رجل تعلموني فيكم يا معشر اليهود؟ قالوا: والله ما نعلم فينا رجلا أعلم بكتاب الله تعالى ولا أفقه منك ولا من أبيك ولا من جدك قال: فإني أشهد بالله أنه النبي الذي تجدونه في التوراة والإنجيل فقالوا: كذبت ثم ردوا عليه وقالوا شرا فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا وابن سلام فأنزل الله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ الآية ، وروي حديث شهادته وإيمانه على وجه آخر، ولا يظهر لي الجمع بينه وبين ما ذكر، وهو أيضا ظاهر في كون النزول بعد الشهادة. وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير قال: جاء ميمون بن يامين إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وكان رأس اليهود بالمدينة فأسلم وقال: يا رسول الله ابعث إليهم- يعني اليهود- فاجعل بينك وبينهم حكما من أنفسهم فإنهم سيرضوني فبعث عليه الصلاة والسلام إليهم وأدخله الداخل فأتوه فخاطبوه مليا فقال لهم: اختاروا رجلا من أنفسكم يكون حكما بيني وبينكم قالوا: فإنا قد رضينا بميمون بن يامين فأخرجه إليهم فقال لهم ميمون: لنشهد أنه رسول الله وأنه على الحق فأبوا أن يصدقوه فأنزل الله تعالى فيه قُلْ أَرَأَيْتُمْ الآية ، وهو ظاهر في مدنية الآية وأن نزولها قبل شهادة الشاهد لكنه ظاهر في أن الشاهد غير عبد الله بن سلام، وكونه كان يسمى بذلك قبل لم أره، ولا يظهر لي وجه التعبير به دون المشهود إن كان، والذي رأيته في الاستيعاب في ترجمة عبد الله أنه ابن سلام بن الحرث الإسرائيلي الأنصاري يكنى أبا يوسف وكان اسمه في الجاهلية الحصين فلما أسلم سماه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الله والله تعالى أعلم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 170 ومن كذب اليهود وجهلهم بالتاريخ ما يعتقدونه في عبد الله بن سلام أنه صلّى الله عليه وسلّم حين سافر إلى الشام في تجارة لخديجة رضي الله تعالى عنها اجتمع بأحبار اليهود وقص عليهم أحلامه فعلموا أنه صاحب دولة فأصحبوه عبد الله بن سلام وبقي معه مدة فتعلم منه علم الشرائع والأمم السالفة وأفرطوا في الكذب إلى أن نسبوا القرآن المعجز إلى تأليف عبد الله بن سلام وعبد الله هذا مما ليس له إقامة بمكة ولا تردد إليها، ولم ير النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا في المدينة وأسلم إذ قدمها عليه الصلاة والسلام أو قبل وفاته صلّى الله عليه وسلّم بعامين على ما حكاه في البحر عن الشعبي، فما أكذب اليهود وأبهتهم لعنهم الله تعالى، وناهيك من طائفة ما ذم في القرآن طائفة مثلها. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر عن مسروق أن الشاهد هو موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، وقد تقدم أنه كان يدّعي مكية الآية وينكر نزولها في ابن سلام ويقول: إنما كانت خصومة خاصم بها محمد صلّى الله عليه وسلّم، وكأنه على هذا لا يحتاج إلى القول بأنها نزلت بخصوص شاهد، وأيد عدم إرادة الخصوص بأن شاهِدٌ في الآية نكرة والنكرة في سياق الشرط تعم، وأنا أقول: بكون التنوين في شاهِدٌ للتعظيم وبمدنية الآية ونزولها في ابن سلام، والخطابات فيها مطلقا لكفار مكة، وربما يظن على بعض الروايات أنها لليهود وليس كذلك، وهم المعنيون أيضا بالذين كفروا في قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى آخره، وهو حكاية لبعض آخر من أقاويلهم الباطلة في حق القرآن العظيم والمؤمنين به. وفيه تحقيق لاستكبارهم أي وقال كفار مكة: لِلَّذِينَ آمَنُوا أي لأجلهم وفي شأنهم فاللام للتعليل كما سمعت في قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ [سبأ: 43] . وقيل: هي لام المشافهة والتبليغ والتفتوا في قولهم: لَوْ كانَ أي ما جاء به صلّى الله عليه وسلّم من القرآن، وقيل: الإيمان خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ ولولاه لقالوا: سبقتمونا بالخطاب أو لما سمعوا أن جماعة آمنوا خاطبوا جماعة أخرى من المؤمنين أي قالوا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقنا إليه أولئك الذين بلغنا إيمانهم. وتعقب بأن هذا ليس من مواطن الالتفات، وكونهم قصدوا تحقير المؤمنين بالغيبة لا وجه له، وكون المشافهين طائفة من المؤمنين والمخبر عنهم طائفة أخرى خلاف الظاهر، فالأولى كونها للتعليل وقالوا ذلك لما رأوا أن أكثر المؤمنين كانوا فقراء ضعفاء كعمار وصهيب وبلال وكانوا يزعمون أن الخير الديني يتبع الخير الدنيوي وأنه لا يتأهل للأول إلا من كان له القدح المعلى من الثاني، ولذا قالوا: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] وخطؤهم في ذلك مما لا يخفى. وأخرج ابن المنذر عن عون بن أبي شداد قال: كانت لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أمة أسلمت قبله يقال لها زنيرة (1) فكان رضي الله تعالى عنه يضربها على إسلامها وكان كفار قريش يقولون: لو كان خيرا ما سبقتنا إليه زنيرة فأنزل الله تعالى في شأنها وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية، ولعلهم لم يريدوا زنيرة بخصوصها بل من شابهها أيضا. وفي الآية تغليب المذكر على المؤنث، وقال أبو المتوكل: أسلم أبو ذر ثم أسلمت غفار فقالت قريش ذلك، وقال الكلبي والزجاج. قال ذلك بنو عامر بن صعصعة وغطفان وأسد وأشجع لما أسلم أسلم وجهينة ومزينة وغفار وقال الثعلبي: هي مقالة اليهود حين أسلم ابن سلام، وأصحابه منهم، ويلزم عليه القول بأن الآية مدنية وعدها في المستثنيات أو كون قالَ فيها كنادى في قوله تعالى: وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ [الأعراف: 48] وهذا كما ترى والمعول عليه ما تقدم وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ أي بالقرآن، وقيل: بالرسول صلّى الله عليه وسلّم، و «إذ» على ما اختاره جار الله ظرف لمقدر دل   (1) بالنون ووقع في أصل المؤلف «زبيرة» بالباء الموحدة وهو غلط صححناه من الإصابة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 171 عليه السابق واللاحق أي وإذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم واستكبارهم، وقوله تعالى: فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ أي يتحقق منهم هذا القول والطعن حينا فحينا كما يؤذن بذلك صيغة المضارع مسبب عن العناد والاستكبار، وإذا جاز مثل حينئذ الآن أي كان ذلك حينئذ واسمع الآن بدليل قرينة الحال فهذا أجوز، والإشارة إلى القرآن العظيم، وقولهم: ذلك فيه كقولهم: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الأنعام: 25 وغيرها] ولم يجوز أن يكون فَسَيَقُولُونَ عاملا في الظرف لتدافع دلالتي المضي والاستقبال، وإنما لم يجعله من قبيل فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلالُ [غافر: 70- 71] نظما للمستقبل في سلك المقطوع كما اختاره ابن الحاجب في الأمالي لأن المعنى هاهنا- كما في الكشف- على أن عدم الهداية محقق واقع لا أنه سيقع البتة، ألا ترى إلى قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا بعد ما بين استكبارهم وعنادهم كيف ينص على أنهم مجادلون معرضون عن القرآن وتدبره غير مهتدين ببشائره ونذره. وقال بعضهم: الظرف معمول- لسيقولون- والفاء لا تمنع عن عمل ما بعدها فيما قبلها كما ذكره الرضي، والتسبب المشعرة به عن كفرهم، و (سيقولون) بمعنى قالوا، والعدول إليه للإشعار بالاستمرار وتعقب بأن ذلك مع السين بعيد، وقيل: إذ تعليلية للقول. وتعقب بأنه معلل بكفرهم كما آذنت به الفاء، وقدر بعضهم العامل المحذوف قالوا ما قالوا، ورجحه على التقدير السابق وليس براجح عليه كما لا يخفى على راجح وَمِنْ قَبْلِهِ أي من قبل القرآن وهو خبر مقدم لقوله تعالى: كِتابُ مُوسى قدم للاهتمام، وجوز الطبرسي كون كِتابُ معطوفا على شاهِدٌ والظرف فاصل بين العاطف والمعطوف، والمعنى وشهد كتاب موسى من قبله، وجعل ضمير قَبْلِهِ للقرآن أيضا وليس بشيء أصلا، وقوله سبحانه: إِماماً وَرَحْمَةً حال من الضمير في الخبر أو من كِتابُ عند من جوز الحال من المبتدأ، وقيل: حال من محذوف والعامل كذلك أي أنزلناه إماما وهو كما ترى. والمعنى وكائن من قبله كتاب موسى يقتدى به في دين الله تعالى وشرائعه كما يقتدى بالإمام ورحمة من الله سبحانه لمن آمن به وعمل بموجبه، وقوله تعالى: وَهذا أي القرآن الذي يقولون في شأنه ما يقولون كِتابُ مبتدأ خبر، وقوله عز وجل: مُصَدِّقٌ نعت كِتابُ وهو مصب الفائدة أي مصدق لكتاب موسى الذي هو إمام ورحمة أو لما بين يديه من جميع الكتب الإلهية، وقد قرىء «مصدق لما بين يديه» والجملة عطف على الجملة قبلها وهي حالية أو مستأنفة، وأيا ما كان فالكلام رد لقولهم: هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ وإبطال له، والمعنى كيف يصح كونه إفكا قديما وقد سلموا كتاب موسى والقرآن مصدق له متحد معه في المعنى أو لجميع الكتب الإلهية، وقوله تعالى: لِساناً عَرَبِيًّا حال من ضمير كِتابُ المستتر في مُصَدِّقٌ أو منه نفسه لتخصيصه بالصفة، وعامله على الأول مُصَدِّقٌ وعلى الثاني ما في هذا من معنى الفعل، وفائدة هذه الحال مع أن عربيته أمر معلوم لكل أحد الاشعار بالدلالة على أن كونه مصدقا كما دل على أنه حق دل على أنه وحي وتوقيف من الله تعالى. هذا على القول بأن الكلام مع اليهود ظاهر، وأما على القول بأنه مع كفار مكة فلأنهم قد يسلمون التوراة ونحوها من الكتب الإلهية السابقة وإن كانوا أحيانا ينكرون إنزال الكتب وإرسال الرسل عليهم السلام مطلقا. وفي الكشف وجه تقديم الخبر في قوله تعالى: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى أن إرسال الرسل وإنزال الكتب أمر مستمر كائن من عند الله تعالى فمن قبل إنزال القرآن إماما ورحمة كان إنزال التوراة كذلك، وليس من تقديم الاختصاص بل لأن العناية والاهتمام بذكره، ولما ألزم الكفار بنزول مثله وشهادة أعلم بني إسرائيل ذكر على سبيل الاعتراض من حال كتاب موسى عليه السلام ما يؤكد كونه من عند الله تعالى وأن ما يطابقه يكون من عنده سبحانه لا محالة وتوصل منه إلى أن القرآن لما كان مصدقه بل مصدق سائر الكتب السماوية وجب أن يؤمن به ويتلقى بالقبول وهو بالحقيقة إعادة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 172 للدعوى الأولى على وجه أخصر وأشمل إذ دلّ فيه على أن كونه مصدقا كاف شهد شاهد بني إسرائيل أو لا، وإن قيل: نزلوا لعنادهم منزلة من لا يعرف أن كتاب موسى قبله إذ لو عرفوا وقد تبين أنه مثله لأذعنوا فقيل: وَمِنْ قَبْلِهِ لا من بعده لكان وجها موفى فيه حق الاختصاص كما آثره السكاكي من أنه لازم التقديم انتهى. وهو ظاهر في أن الجملة ليست حالية. وجوز كون لِساناً مفعولا لمصدق. والكلام بتقدير مضاف أي ذا لسان عربي وهو النبي عليه الصلاة والسلام وتصديقه إياه بموافقته كتاب موسى أو الكتب السماوية مطلقا وإعجازه، وجوز على المفعولية كون «هذا» إشارة إلى كتاب موسى فلا يحتاج إلى تقدير مضاف، ويراد بلسانا عربيا: القرآن، ووضعت الإشارة موضع الضمير للتعظيم، والأصل وهو مصدق لسانا عربيا، وقيل: هو منصوب بنزع الخافض أي مصدق بلسان عربي والكل كما ترى. وقرأ الكلبي «ومن قبله» بفتح الميم «كتاب موسى» بالنصب، وخرجت على أن من موصولة معمولة لفعل مقدر وكذا كِتابُ أي وآتينا الذين كانوا قبل نزول القرآن من بني إسرائيل كتاب موسى. لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا متعلق بمصدق. وفيه ضمير للكتاب أو لله تعالى أو للرسول عليه الصلاة والسلام، ويؤيد الأخير قراءة أبي رجاء وشيبة والأعرج وأبي جعفر وابن عامر ونافع وابن كثير في رواية «لتنذر» بتاء الخطاب فإنه لا يصلح بدون تكلف لغير الرسول، والتعليل صحيح على الكل، ولا يتوهم لزوم حذف اللام على أن الضمير للكتاب لوجود شرط النصب لأنه شرط الجواز وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ عطف على المصدر الحاصل من أن والفعل، وقال الزمخشري: وتبعه أبو البقاء هو في محل النصب معطوف على محل لِيُنْذِرَ لأنه مفعول له، وزعم أبو حيان أن ذلك لا يجوز على الصحيح من مذهب النحويين لأن المحل ليس بحق الأصالة وهم يشترطون في الحمل عليه ذلك إذ الأصل في المفعول له الجر، والنصب ناشىء من نزع الخافض لكنه كثر بشرطه، وحكى في إعرابه أوجها فقال: قيل معطوف على مُصَدِّقٌ وقيل: خبر مبتدأ محذوف أي هو بشرى، وقيل: منصوب بفعل محذوف معطوف على (ينذر) أي ويبشر بشرى، وقيل: منصوب بنزع الخافض أي ولبشرى، والظاهر أن (المحسنين) في مقابلة الَّذِينَ ظَلَمُوا والمراد بالأول الكفرة وبالثاني المؤمنون. وفي شرح الطيبي إنما عدل عن العادلين إلى (المحسنين) ليكون ذريعة إلى البشارة بنفي الخوف والحزن لمن قالوا: ربنا الله ثم استقاموا، وقيل: (المحسنين) دون الذين أحسنوا بعد قوله تعالى: الَّذِينَ ظَلَمُوا ليكون المعنى لينذر الذين وجد منهم الظلم ويبشر الذين ثبتوا واستقاموا على الصراط السوي فيناسب تعليل البشارة بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا إلى آخره أي إن الذين جمعوا بين التوحيد الذي هو خلاصة العلم والاستقامة في الدين التي هي منتهى العمل، وثُمَّ للتراخي الرتبي فالعمل متراخي الرتبة عن التوحيد، وقد نصوا على أنه لا يعتد به بدونه فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من لحوق مكروه وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ من فوات محبوب، والمراد استمرار النفي، والفاء لتضمن الاسم معنى الشرط مع بقاء معنى الابتداء فلا تدخل في خبر ليت ولعل وكان وإن كانت أسماؤها موصولات، وتقدم في سورة السجدة نظير هذه الآية وذكرنا في تفسير ما ذكرنا فليراجع أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر من الوصفين الجليلين أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها حال من المستكن في أَصْحابُ وقوله تعالى: جَزاءً منصوب إما بعامل مقدر أي يجزون جزاء، والجملة استئناف أو حال وإما بمعنى ما تقدم على ما قيل فإن قوله تعالى: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ في معنى جازيناهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من الحسنات القلبية والقالبية. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 173 وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً نزلت كما أخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه إلى قوله تعالى: وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ. وإِحْساناً قيل: مفعول ثان لوصينا على تضمينه معنى ألزمنا، وقيل: منصوب على المصدر على تضمين وَصَّيْنَا معنى أحسنا أي أحسنا بالوصية للإنسان بوالديه إحسانا، وقيل: صفة لمصدر محذوف بتقدير مضاف أي إيصاء ذا إحسان، وقيل: مفعول له أي وصيناه بهما لإحساننا إليهما، وقال ابن عطية: إنه منصوب على المصدر الصريح وبِوالِدَيْهِ متعلق بوصينا، أو به وكأنه عنى يحسن إحسانا وهو حسن، لكن تعقب أبو حيان تجويزه تعلق الجار بإحسانا بأنه لا يصح لأنه مصدر مقدر بحرف مصدري والفعل فلا يتقدم معموله عليه ولأن أحسن لا يتعدى بالباء وإنما يتعدى باللام تقول: أحسنت لزيد ولا تقول: أحسنت بزيد على معنى أن الإحسان يصل إليه، وفيه أنا لا نسلم أن المقدر بشيء يشارك ما قدر به في جميع الأحكام لجواز أن يكون بعض أحكامه مختصا بصريح لفظه مع أن الظرف يكفيه رائحة الفعل ولذا يعمل الاسم الجامد فيه باعتبار لمح المعنى المصدري، وقال قالوا: إنه يتصرف فيه ما لا يتصرف في غيره لاحتياج معظم الأشياء إليه. والجار والمجرور محمول عليه، وقد كثر ما ظاهره التعلق بالمصدر المتأخر نكرة كلا تأخذكم بهما رأفة. ومعرفة نحو فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ [الصافات: 102] وتأويل كل ذلك تكلف، وأيضا قوله: لأن أحسن لا يتعدى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 174 بالباء إلخ فيه منع ظاهر، وقدر بعضهم الفعل قبل الجار فقال: وصينا الإنسان بأن يحسن بوالديه إحسانا، ولعل التنوين للتفخيم أي إحسانا عظيما، والإيصاء والوصية التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترنا بوعظ من قولهم: أرض واصية متصلة النبات، ففي الآية إشعار بأن الإحسان بهما أمر معتنى به، وقد عد في الحديث ثاني أفضل الأعمال وهو الصلاة لأول وقتها، وعد عقوقهما ثاني أكبر الكبائر وهو الإشراك بالله عز وجل، والأحاديث في الترغيب في الأول والترهيب عن الثاني كثيرة جدا، وفي الآيات ما فيه كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد. وقرأ الجمهور «حسنا» بضم الحاء وإسكان السين أي فعلا ذا حسن أو كأنه في ذاته نفس الحسن لفرط حسنه، وجوز أبو حيان فيه أن يكون بمعنى إِحْساناً فالأقوال السابقة تجري فيه. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه. والسلمي. وعيسى «حسنا» بفتح الحاء والسين ، وعن عيسى «حسنا» بضمهما. حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً أي ذات كره أو حملا ذا كره وهو المشقة كما قال مجاهد والحسن وقتادة، وليس الكره في أول علوقها بل بعد ذلك حين تجد له ثقلا. وقرأ شيبة وأبو جعفر والحرميان «كرها» بفتح الكاف وهما لغتان بمعنى واحد كالفقر والفقر والضعف والضعف، وقيل: المضموم اسم والمفتوح مصدر. وقال الراغب: قيل الكره أي بالفتح المشقة التي تنال الإنسان من خارج مما يحمل عليه بإكراه والكره ما يناله من ذاته وهو ما يعافه من حيث الطبع أو من حيث العقل أو الشرع. وطعن أبو حاتم في هذه القراءة فقال: لا تحسن هذه القراءة لأن الكره بالفتح الغصب والغلبة. وأنت تعلم أنها في السبعة المتواترة فلا معنى للطعن فيها، وقد كان هذا الرجل يطعن في بعض القراءات بما لا علم له به جسارة منه عفا الله تعالى عنه وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ أي مدة حمله وفصاله، وبتقدير هذا المضاف يصح حمل قوله تعالى: ثَلاثُونَ شَهْراً على المبتدأ من غير كره. والفصال الفطام وهو مصدر فاصل فكأن الولد فاصل أمه وأمه فاصلته. وقرأ أبو رجاء والحسن وقتادة ويعقوب والجحدري «وفصله» أي فطمه فالفصل والفصال كالفطم والفطام بناء ومعنى وقيل: الفصال بمعنى وقت الفصل أي الفطم فهو معطوف على مدة الحمل، والمراد بالفصال الرضاع التام المنتهي بالفطام ولذلك عبر بالفصال عنه أو عن وقته دون الرضاع المطلق فإنه لا يفيد ذلك، وفي الوصف تطويل، والآية بيان لما تكابده الأم وتقاسيه في تربية الولد مبالغة في التوصية لها، ولذا اعتنى الشارع ببرها فوق الاعتناء ببر الأب، فقد روي «أن رجلا قال: يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أباك» وقد أشير في الآية إلى ما يقتضي البر بها على الخصوص في ثلاث مراتب فتكون الأوامر في الخبر كالمأخوذة من ذلك. واستدل بها علي كرم الله تعالى وجهه. وابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وجماعة من العلماء على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر لما أنه إذا حط عن الثلاثين للفصال حولان لقوله تعالى: حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [البقرة: 233] يبقى للحمل ذلك وبه قال الأطباء، قال جالينوس: كنت شديد الفحص عن مقدار زمن الحمل فرأيت امرأة ولدت لمائة وأربع وثمانين ليلة. وادعى ابن سينا أنه شاهد ذلك. وأما أكثر مدة الحمل فليس في القرآن العظيم ما يدل عليه وقال ابن سينا في الشفاء: بلغني من جهة من أثق به كل الثقة أن امرأة وضعت بعد الرابع من سني الحمل ولدا نبتت أسنانه، وحكي عن أرسطو أنه قال: أزمنة الحمل لكل حيوان مضبوطة سوى الإنسان فربما وضعت المرأة لسبعة أشهر وربما وضعت لثمانية وقلما يعيش الولد في الثامن إلا في بلاد معينة مثل مصر، ولعل تخصيص أقل الحمل وأكثر الرضاع بالبيان في القرآن الكريم بطريق الصراحة والدلالة دون أكثر الحمل وأقل الرضاع وأوسطهما لانضباطهما بعدم النقص والزيادة بخلاف ما ذكر، وتحقق ارتباط حكم النسب الجزء: 13 ¦ الصفحة: 175 بأقل مدة الحمل حتى لو وضعته فيما دونه لم يثبت نسبه منه وبعده يثبت وتبرأ من الزنا، ولو أرضعت مرضعة بعد حولين لم يثبت به أحكام الرضاع في التناكح وغيره وفي هذا خلاف لا يعبأ به حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ غاية لمقدر أي فعاش أو استمرت حياته حتى إذا اكتهل واستحكم قوته وعقله وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً الظاهر أنه غير بلوغ الأشد، وقال بعضهم: إنه بلوغ الأشد والعطف للتأكيد. وقد ذكر غير واحد أن الإنسان إذا بلغ هذا القدر يتقوى جدا خلقه الذي هو عليه فلا يكاد يزايله بعد، وفي الحديث «إن الشيطان يجر يده على وجه من زاد على الأربعين ولم يتب ويقول بأبي وجه لا يفلح» وأخرج أبو الفتح الأزدي من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعا «من أتى عليه الأربعون سنة فلم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار» وعلى ذلك قول الشاعر: إذا المرء وافى الأربعين ولم يكن ... له دون ما يهوى حياء ولا ستر فدعه ولا تنفس عليه الذي مضى ... وإن جر أسباب الحياة له العمر وقيل: لم يبعث نبي إلا بعد الأربعين، وذهب الفخر إلى خلافه مستدلا بأن عيسى ويحيى عليهما السلام أرسلا صبيين لظواهر ما حكي في الكتاب الجليل عنهما، وهو ظاهر كلام السعد حيث قال: من شروط النبوة الذكورة وكمال العقل والذكاء والفطنة وقوة الرأي ولو في الصبا كعيسى ويحيى عليهما السلام إلى آخر ما قال. وذهب ابن العربي في آخرين إلى أنه يجوز على الله سبحانه بعث الصبي إلا أنه لم يقع وتأولوا آيتي عيسى ويحيى قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا [مريم: 30] . وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مريم: 12] بأنهما اخبار عما سيحصل لهما لا عما حصل بالفعل، ومثله كثير في الآيات وغيرها، والواقع عند هؤلاء البعث بعد البلوغ. وحكى اللقاني عن بعض اشتراطه فيه ويترجح عندي اشتراطه فيه دون أصل النبوة لما أن النفوس في الأغلب تأنف عن اتباع الصغير وإن كبر فضلا كالرقيق والأنثى، وصرح جمع بأن الأعم الأغلب كون البعثة على رأس الأربعين كما وقع لنبينا صلّى الله عليه وسلّم قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أي رغبني ووفقني من أوزعته بكذا أي جعلته مولعا به راغبا في تحصيله. وقرأ البزي «أوزعني» بفتح الياء أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ أي نعمة الدين أو ما يعمها وغيرها، وذلك يؤيد ما روي أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لأنه لم يكن أحد أسلم هو وأبواه من المهاجرين والأنصار سواه كذا قيل، وإسلام أبيه بعد الفتح وحينئذ يلزم أن تكون الآية مدنية وإليه ذهب بعضهم، وقيل: إن هذا الدعاء بالنسبة إلى أبويه دعاء بتوفيقهما للإيمان وهو كما ترى. واعترض على التعليل بابن عمر. وأسامة بن زيد. وغيرهما، ونقل عن الواحدي أنه قد صحب النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو ابن ثمان عشرة سنة ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم ابن عشرين سنة في سفر للشام في التجارة فنزل تحت شجرة سمرة وقال له الراهب: إنه لم يستظل بها أحد بعد عيسى غيره صلّى الله عليه وسلّم فوقع في قلبه تصديقه فلم يكن يفارقه في سفر ولا حضر فلما نبىء وهو ابن أربعين آمن به وهو ابن ثمانية وثلاثين فلما بلغ الأربعين قال: رَبِّ أَوْزِعْنِي إلخ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ التنوين للتفخيم والتكثير، والمراد بكونه مرضيا له تعالى مع أن الرضا على ما عليه جمهور أهل الحق الإرادة مع ترك الاعتراض وكل عمل صالح كذلك أن يكون سالما من غوائل عدم القبول كالرياء والعجب وغيرهما، فحاصله اجعل عملي على وفق رضاك: وقيل المراد بالرضا هنا ثمرته على طريق الكناية وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي أي اجعل الصلاح ساريا في ذريتي راسخا فيهم كما في قوله: فإن تعتذر في المحل من ذي ضروعها ... لدى المحل يجرح في عراقيبها نصلي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 176 على أن أَصْلِحْ نزل منزلة اللازم ثم عدي بفي ليفيد ما أشرنا إليه من سريان الصلاح فيهم وكونهم كالظرف له لتمكنه فيهم وإلا فكان الظاهر وأصلح لي ذريتي، وقيل: عدي بفي لتضمنه معنى اللطف أي الطف بي في ذريتي، والأول أحسن، قال ابن عباس: أجاب الله تعالى دعاء أبي بكر فأعتق تسعة من المؤمنين منهم بلال. وعامر بن فهيرة ولم يرد شيئا من الخير إلا أعانه الله تعالى عليه، ودعا أيضا فقال أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي فأجابه الله تعالى فلم يكن له ولد إلا آمنوا جميعا فاجتمع له إسلام أبويه وأولاده جميعا، وقد أدرك أبوه وولده عبد الرحمن وولده أبو عتيق النبي صلّى الله عليه وسلّم وآمنوا به ولم يكن ذلك لأحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ عما لا ترضاه أو يشغل عنك وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ الذين أخلصوا أنفسهم لك أُولئِكَ إشارة إلى الإنسان، والجمع لأن المراد به الجنس المتصف بالمعنى المحكي عنه، وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد منزلته وعلو درجته أي أولئك المنعوتون بما ذكر من النعوت الجليلة. الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا من الطاعات فإن المباح حسن لا يثاب عليه وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ لتوبتهم المشار إليها بأني تبت وإلا فعند أهل الحق أن مغفرة الذنب مطلقا لا تتوقف على توبة فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ كائنين في عدادهم منتظمين في سلكهم، وقيل: فِي بمعنى مع وليس بذاك وَعْدَ الصِّدْقِ مصدر لفعل مقدر وهو مؤكد لمضمون الجملة قبله، فإن قوله سبحانه: نَتَقَبَّلُ ونَتَجاوَزُ وعد منه عز وجل بالتقبل والتجاوز. الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ على ألسنة الرسل عليهم السلام. وقرىء «يتقبّل» بالياء والبناء للمفعول و «أحسن» بالرفع على النيابة مناب الفاعل وكذا «يتجاوز عن سيّئاتهم» . وقرأ الحسن والأعمش وعيسى بالياء فيهما مبنيين للفاعل وهو ضميره تعالى شأنه و «أحسن» بالنصب على المفعولية وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ عند دعوتهما إياه للإيمان أُفٍّ لَكُما صوت يصدر عن المرء عند تضجره وفيه قراءات ولغات نحو الأربعين، وقد نبهنا على ذلك في سورة الإسراء، واللام لبيان المؤفف له كما في هَيْتَ لَكَ [يوسف: 23] والموصول مبتدأ خبره أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ والمراد به الجنس فهو في معنى الجمع، ولذا قيل: «أولئك» وإلى ذلك أشار الحسن بقول: هو الكافر العاق لوالديه المنكر للبعث، ونزول الآية في شخص لا ينافي العموم كما قرر غير مرة، وزعم مروان عليه ما يستحق أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما وردت عليه عائشة رضي الله تعالى عنها. أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن عبد الله قال: إني لفي المسجد حين خطب مروان فقال: إن الله تعالى قد أرى لأمير المؤمنين- يعني معاوية- في يزيد رأيا حسنا أن يستخلفه فقد استخلف أبو بكر وعمر فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: أهر قلية إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه والله ما جعلها في أحد من ولده ولا أحد من أهل بيته ولا جعلها معاوية إلا رحمة وكرامة لولده، فقال مروان: ألست الذي قال لوالديه أف لكما فقال عبد الرحمن: ألست ابن اللعين الذي لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أباك فسمعت عائشة فقالت: مروان أنت القائل لعبد الرحمن كذا وكذا كذبت والله ما فيه نزلت نزلت في فلان بن فلان. وفي رواية تقدمت رواها جماعة وصححها الحاكم عن محمد بن زياد أنها كذبته ثلاثا ثم قالت: والله ما هو به. تعني أخاها. ولو شئت أن أسمي الذي أنزلت فيه لسميته إلى آخر ما مر، وكان ذلك من فضض اللعنة إغاظة لعبد الرحمن وتنفيرا للناس عنه لئلا يلتفتوا إلى ما قاله وما قال إلا حقا فأين يزيد الذي تجل اللعنة عنه وأين الخلافة. ووافق بعضهم كالسهيلي في الإعلام مروان في زعم نزولها في عبد الرحمن، وعلى تسليم ذلك لا معنى للتعيير الجزء: 13 ¦ الصفحة: 177 لا سيما من مروان فإن الرجل أسلم وكان من أفاضل الصحابة وأبطالهم وكان له في الإسلام غناء يوم اليمامة وغيره والإسلام يجب ما قبله فالكافر إذا أسلم لا ينبغي أن يعير بما كان يقول أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ أبعث من القبر بعد الموت وقرأ الحسن وعاصم وأبو عمرو في رواية وهشام «أتعداني» بإدغام نون الرفع في نون الوقاية، وقرأ نافع في رواية. وجماعة بنون واحدة، وقرأ الحسن وشيبة وأبو جعفر بخلاف عنه، وعبد الوارث عن أبي عمرو وهارون بن موسى عن الجحدري، وبسام عن هشام «أتعدانني» بنونين من غير إدغام ومع فتح الأولى كأنهم فروا من اجتماع الكسرتين والياء ففتحوا للتخفيف، وقال أبو حاتم: فتح النون باطل غلط، وقال بعضهم: فتح نون التثنية لغة رديئة وهو الأمر هنا الاجتماع، وقرأ الحسن وابن يعمر والأعمش وابن مصرف والضحاك «أخرج» مبنيا للفاعل من الخروج وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي أي مضت ولم يخرج منها أحد ولا بعث فالمراد إنكار البعث كما قيل: ما جاءنا أحد يخبر أنه ... في جنة لما مضى أو نار وقال أبو سليمان الدمشقي: أراد: وقد خلت القرون من قبلي مكذبة بالبعث، فالكلام كالاستدلال على نفي البعث. وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ أي يقولان: الغياث بالله تعالى منك، والمراد إنكار قوله واستعظامه كأنهما لجآ إلى الله سبحانه في دفعه كما يقال: العياذ بالله تعالى من كذا أو يطلبان من الله عزّ وجلّ أن يغيثه بالتوفيق حتى يرجع عما هو عليه من إنكار البعث وَيْلَكَ آمِنْ أي قائلين أو يقولون له ذلك، وأصل «ويل» دعاء بالثبور يقام مقام الحث على الفعل أو تركه إشعارا بأن ما هو متركب له حقيق بأن يهلك مرتكبه وأن يطلب له الهلاك فإذا أسمع ذلك كان باعثا على ترك ما هو فيه والأخذ بما ينجيه، وقيل: إن ذلك لأن فيه إشعارا بأن الفعل الذي أمر به مما يحسد عليه فيدعى عليه بالثبور فإذا سمع ذلك رغب فيه، وأيا ما كان فالمراد هنا الحث والتحريض على الإيمان لا حقيقة الدعاء بالهلاك إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي البعث، وأضاف الوعد إليه تعالى تحقيقا للحق وتنبها على خطئه في إسناد الوعد إليهما. وقرأ الأعرج. وعمرو بن فائد «أن» بفتح الهمزة على تقدير لأن أو آمن بأن وعد الله حق، ورجح الأول بأن فيه توافق القراءتين فَيَقُولُ مكذبا لهما ما هذا الذي تسميانه وعد الله تعالى إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أباطيلهم التي سطروها في الكتب من غير أن يكون لها حقيقة أُولئِكَ القائلون ذلك، وقيل: أي صنف هذا المذكور بناء على زعم خصوص الَّذِي وليس بشيء. الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ وهو قوله تعالى لإبليس: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: 85] وقد مر تمام الكلام في ذلك. ورد بهذا على من زعم أن الآية في عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أسلم وجب عنه ما قبل وكان من أفاضل الصحابة، ومن حق عليه القول هو من علم الله تعالى أنه لا يسلم أبدا. وقيل: الحكم هنا على الجنس فلا ينافي خروج البعض من أحكامه الأخروية، وقيل غير ذلك مما لا يلتفت إليه. فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ في مقابلة فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ فهو مثله إعرابا ومبالغة ومعنى، وقوله تعالى مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ بيان للأمم إِنَّهُمْ جميعا كانُوا خاسِرِينَ قد ضيعوا فطرتهم الأصلية الجارية مجرى رؤوس أموالهم باتباع الشيطان، والجملة تعليل للحكم بطريق الاستئناف. وقرأ العباس عن أبي عمرو «أنهم» بفتح الهمزة على تقدير لأنهم. واستدل بقوله عزّ وجلّ: فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ إلخ على أن الجن يموتون قرنا بعد قرن كالأنس. وفي البحر قال الحسن في بعض مجالسه: الجن لا يموتون فاعترضه قتادة بهذه الآية فسكت وَلِكُلٍّ من الجزء: 13 ¦ الصفحة: 178 الفريقين المذكورين في قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ وفي قوله سبحانه: «أولئك الذين حق عليهم القول» وإن شئت فقل في الذين قالوا ربنا الله والذي قال لوالديه أف دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا أي من جزاء ما عملوا، فالكلام بتقدير مضاف، والجار والمجرور صفة دَرَجاتٌ و (من) بيانية أو ابتدائية و (ما) موصولة أي من الذي عملوه من الخير والشر أو مصدرية أي من عملهم الخير والشر، ويجوز أن تكون (من) تعليلية بدون تقدير مضاف والجار والمجرور كما تقدم. والدرجات جمع درجة وهي نحو المنزلة لكن يقال للمنزلة درجة إذا اعتبرت بالصعود ودركا إذا اعتبرت بالحدور، ولهذا قيل: درجات الجنة ودركات النار. والتعبير بالدرجات كما قال غير واحد على وجه التغليب لاشتمال (كل) على الفريقين أي لكل منازل ومراتب سواء كانت درجات أو دركات، وإنما غلب أصحاب الدرجات لأنهم الأحقاء به لا سيما، وقد ذكر جزاؤهم مرارا وجزاء المقابل مرة وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ أي جزاء أعمالهم والفاعل ضميره تعالى. وقرأ الأعمش والأعرج وشيبة وأبو جعفر والأخوان وابن ذكوان ونافع بخلاف عنه «لنوفيهم» بنون العظمة، وقرأ السلمي بتاء فوقية على الإسناد للدرجات مجازا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ بنقص ثواب وزيادة عقاب، وقد مر الكلام في مثله غير مرة. والجملة حال مؤكدة للتوفية أو استئناف مقرر لها، واللام متعلقة بمحذوف مؤخر كأنه قيل: وليوفيهم أعمالهم ولا يظلمهم فعل ما فعل من تقدير الأجزية على مقادير أعمالهم فجعل الثواب درجات والعقاب دركات. وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أي يعذبون بها من قولهم: عرض بنو فلان على السيف إذا قتلوا به وهو مجاز شائع، وذهب غير واحد إلى أنه من باب القلب المعنوي والمعنى يوم تعرض النار على الذين كفروا نحو عرض الناقة على الحوض فإن معناه أيضا كما قالوا: عرض الحوض على الناقة لأن المعروض عليه يجب أن يكون له إدراك ليميل به إلى المعروض أو يرغب عنه لكن لما كان المناسب هو أن يؤتى بالمعروض عند المعروض عليه ويحرك نحوه وهاهنا الأمر بالعكس لأن الحوض لم يؤت به وكذا النار قلب الكلام رعاية لهذا الاعتبار، وفي الانتصاف إن كان قولهم: عرضت الناقة على الحوض مقلوبا فليس قوله تعالى: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ كذلك لأن الملجئ ثم إلى اعتقاد القلب أن الحوض جماد لا إدراك له والناقة هي المدركة فهي التي يعرض عليها الخوض حقيقة، وأما النار فقد وردت النصوص بأنها حينئذ مدركة إدراك الحيوانات بل إدراك أولي العلم فالأمر في الآية على ظاهره كقولك عرضت الأسرى على الأمير، وربما يقال: لا مانع من تنزيلها منزلة المدركة إن لم تكن حينئذ مدركة وكذا تنزيل الحوض منزلته حتى كأنه يستعرض الناقة كما قال أبو العلاء المعري: إذا اشتاقت الخيل المناهل أعرضت ... عن الماء فاشتاقت إليها المناهل وبعد ذلك قد لا يحتاج إلى اعتبار القلب، وقال أبو حيان: لا ينبغي حمل القرآن على القلب إن الصحيح فيه أنه مما يضطر إليه في الشعر، وإذا كان المعنى صحيحا واضحا بدونه فأي ضرورة تدعو إليه؟ والمثال المذكور لا قلب فيه أيضا، فإن عرض الناقة على الحوض وعرض الحوض على الناقة كل منهما صحيح إذ العرض أمر نسبي يصح إسناده لكل واحد من الناقة والحوض. وابن السكيت في كتاب التوسعة ذهب إلى أن عرضت الحوض على الناقة مقلوب والأصل إنما هو عرض الناقة على الحوض وهو مخالف للمشهور. وأنت تعلم مما ذكرنا أولا أن سبب اعتبارهم القلب في المثال كون المناسب في العرض أن يؤتى بالمعروض عند المعروض عليه وإن الأمر في عرضت الحوض على الناقة بالعكس، وتفصيل الكلام في ذلك على وجه يعرف منه منشأ الخلاف إن العرض مطلقا لا يقتضي ذلك وإنما الجزء: 13 ¦ الصفحة: 179 المقتضي له المعنى المقصود من العرض في المثال وهو الميل إلى المعروض، ومن لم ينظر إلى هذا المعنى ونظر إلى أن المعرض يتحرك إلى المعروض عليه قال إنه الأصل، ومن لم ينظر إلى الاعتبارين وقال العرض إظهار شيء لشيء قال إن كلّا من القولين على الأصل، وهو كما قال العلامة السالكوتي الحق لأن كلا الاعتبارين خارج عن مفهوم العرض فاحفظه فإنه نفيس. والظرف منصوب بقول محذوف مقوله قوله تعالى: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ إلى آخره أي فيقال لهم يوم يعرضون أذهبتم لذاتكم فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا باستيفائها وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فلم يبق لكم بعد شيء منها، وهو عطف تفسير لأذهبتم، وقرأ قتادة ومجاهد وابن وثاب وأبو جعفر والحسن والأعرج وابن كثير «آذهبتم» بهمزة بعدها مدة مطولة، وابن عامر بهمزتين حققهما ابن ذكوان ولين الثانية ابن هشام. وابن كثير في رواية، وعن هشام الفصل بين المحققة والملينة بألف، والاستفهام على معنى التوبيخ فهو خبر في المعنى ولو كان استفهاما محضا لم تدخل الفاء في قوله سبحانه: فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ أي الهوان وكذلك قرىء بِما كُنْتُمْ في الدنيا تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ بغير استحقاق لذلك، وقد مر بيان سر فِي الْأَرْضِ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ أي تخرجون من طاعة الله عزّ وجلّ أي بسبب استكباركم وفسقكم المستمرين، وفي البحر أريد بالاستكبار الترفع عن الإيمان وبالفسق معاصي الجوارح وقدم ذنب القلب على ذنب الجوارح إذ أعمال الجوارح ناشئة عن مراد القلب، وقرىء «تفسقون» بكسر السين وهذه الآية محرضة على التقلل من الدنيا وترك التنعم فيها والأخذ بالتقشف، أخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر أن عمر رضي الله تعالى عنه رأى في يد جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه درهما فقال ما هذا الدرهم؟ قال: أريد أن أشتري به لأهلي لحما قرموا إليه فقال أكلما اشتهيتم شيئا اشتريتموه أين تذهب عنكم هذه الآية أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها. وأخرج ابن المبارك وابن سعد وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وأبو نعيم في الحلية عن الحسن قال قدم وفد أهل البصرة على عمر رضي الله تعالى عنه مع أبي موسى الأشعري فكان له في كل يوم خبز يلت فربما وافقناه مأدوما بزيت وربما وافقناه مأدوما بسمن وربما وافقناه مأدوما بلبن وربما وافقنا القدائد اليابسة قد دقت ثم أغلي عليها وربما وافقنا اللحم الغريض- أي الطري- وهو قليل قال وقال لنا عمر رضي الله تعالى عنه: إني والله ما أجهل عن كراكر والأسنمة وعن صلاء وصناب وسلائق ولكن وجدت الله تعالى عير قوما بأمر فعلوه فقال عزّ وجلّ: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها، والكراكر جمع كركرة بالكسرة زور البعير الذي إذا برك أصاب الأرض وهو من أطيب ما يؤكل منه والأسنمة جمع سنام معروف. والصلاء بالكسر والمد الشواء، والصناب ككتاب صباغ يتخذ من الخردل والزبيب، والسلائق جمع سليقة كسفينة ما سلق من البقول وغيرها ويروى بالصاد الخبز الرقاق واحدتها صليقة كسفينة أيضا، وقيل: هي الحملان المشوية، وقيل: اللحم المشوي المنضج وأنشدوا لجرير: يكلفني معيشة آل زيد ... ومن لي بالصلائق والصناب وأخرج أحمد، والبيهقي في شعب الإيمان عن ثوبان رضي الله تعالى عنه قال «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا سافر آخر عهده من أهله بفاطمة وأول من يدخل عليه منهم فاطمة رضي الله تعالى عنها فقدم من غزاة له فأتاها فإذا بمسح على بابها ورأى على الحسن والحسين قلبين من فضة فرجع ولم يدخل عليها فلما رأت ذلك ظنت أنه لم يدخل من أجل ما رأى فهتكت الستر ونزعت القلبين من الصبيين فقطعتهما فبكيا فقسمت ذلك بينهما فانطلقا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهما يبكيان فأخذه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منهما فقال يا ثوبان اذهب بهذا إلى بني فلان أهل بيت بالمدينة واشتر لفاطمة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 180 قلادة من عصب وسوارين من عاج فإن هؤلاء أهل بيتي ولا أحب أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا» والمسح بكسر فسكون ثوب من شعر غليظ، والقلبين تثنية قلب بضم فسكون السوار، والعصب بفتح فسكون قال الخطابي إن لم يكن الثياب اليمانية فما أدري ما هو وما أدري أن القلائد تكون منها، ويحتمل أن الرواية بفتح الصاد وهو اطناب مفاصل الحيوان فلعلهم كانوا يتخذون من طاهره مثل الخرز. قال ثم ذكر بعض أهل اليمن أن العصب سن دابة بحرية تسمى فرس فرعون يتخذ منها الخرز البيض وغيرها، وأحاديث الزهد في طيبات الحياة الدنيا كثيرة وحال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك معروفة بين الأمة. وفي البحر بعد حكاية حال عمر رضي الله تعالى عنه على نحو مما ذكرنا، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: وهذا من باب الزهد وإلا فالآية نزلت في كفار قريش، والمعنى أنه كانت لكم طيبات الآخرة لو آمنتم لكنكم لم تؤمنوا فاستعجلتم طيباتكم في الحياة الدنيا. فهذه كناية عن عدم الإيمان ولذلك ترتب عليه فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ ولو أريد الظاهر ولم يكن كناية عما ذكرنا لم يترتب عليه الجزاء بالعذاب، هذا ولما كان أهل مكة مستغرقين في لذات الدنيا معرضين عن الإيمان وما جاء به الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلّم ناسب تذكيرهم بما جرى للعرب الأولى ممن كانوا أكثر أموالا وأشد قوة وأعظم جاها منهم فسلط عليهم العذاب بسبب كفرهم وبضرب الأمثال وقصص من تقدم يعرف قبح الشيء وحسنه فقال سبحانه لرسوله صلّى الله عليه وسلّم: وَاذْكُرْ لكفار مكة أَخا عادٍ هودا عليه السلام إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بدل اشتمال منه أي وقت إنذاره إياهم بِالْأَحْقافِ جمع حقف رمل مستطيل فيه اعوجاج وانحناء ويقال احقوقف الشيء اعوج وكانوا بدويين أصحاب خباء وعمد يسكنون بين رمال مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشجر من بلاد اليمن قاله ابن زيد، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بين عمان ومهرة، وفي رواية أخرى عنه الأحقاف جبل بالشام، وقال ابن إسحق: مساكنهم من عمان إلى حضرموت وقال ابن عطية الصحيح أن بلاد عاد كانت باليمن ولهم كانت إرم ذات العماد وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ارم وبيان الحق فيها. وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ أي الرسل كما هو المشهور، وقيل من يعمهم والنواب عنهم جمع نذير بمعنى منذر. وجوز كون النُّذُرُ جمع نذير بمعنى الأنذار فيكون مصدرا وجمع لأنه يختلف باختلاف المنذر به. وتعقب بأن جمعه على خلاف القياس ولا حاجة تدعو إليه مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ أي من قبله عليه السلام وَمِنْ خَلْفِهِ أي من بعده وقرىء به ولولا ذلك لجاز العكس، والظاهر أن المراد النذر المتقدمون عليه والمتأخرون عنه. وعن ابن عباس يعني الرسل الذين بعثوا قبله والذين بعثوا في زمانه، فمعنى مِنْ خَلْفِهِ من بعد إنذاره، وعطف مِنْ خَلْفِهِ أي من بعده على ما قبله إما من باب علفتها تبنا وماء باردا وفيه أقوال فقيل عامل الثاني مقدر أي وسقيتها ماء ويقال في الآية أي خلت النذر من بين يديه وتأتي من خلفه وقيل إنه مشاكلة، وقيل: إنه من قبيل الاستعارة بالكناية، وإما لادخال الآتي في سلك الماضي قطعا بالوقوع وفيه شائبة الجمع بين الحقيقة والمجاز، وجوز أن يقال: المضي باعتبار الثبوت في علم الله تعالى أي وقد خلت النذر في علم الله تعالى يعني ثبت في علمه سبحانه خلو الماضين منهم والآتين، والجملة إما حال من فاعل أَنْذَرَ أي إذ أنذر معلما إياهم بخلو النذر أو مفعوله أي وهم عالمون بإعلامه إياهم، وهو قريب من أسلوب قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً [البقرة: 28] الآية، ويجوز أن يكون المعنى أنذرهم على فترة من الرسل، وهي حال أيضا على تفسير ابن عباس، وعلم القوم يجوز أن يكون من إعلامه ومن مشاهدتهم أحوال من كانوا في زمانه وسماعهم أحوال من قبله، وإما اعتراض بين المفسر أعني أَنْذَرَ قَوْمَهُ وبين المفسر أعني قوله تعالى: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ فإن النهي عن الشيء إنذار عن مضرته كأنه قيل: واذكر زمان إنذار هود قومه بما أنذر به الرسل قبله الجزء: 13 ¦ الصفحة: 181 وبعده وهو أن لا تعبدوا إلا الله تنبيها على أنه إنذار ثابت قديما وحديثا اتفقت عليه الرسل عليهم السلام عن آخرهم فهو يؤكد قوله تعالى: وَاذْكُرْ ويؤكد قوله سبحانه: أَنْذَرَ قَوْمَهُ ولذلك توسط، وهو أيضا مقصود بالذكر بخلاف ما إذا جعل حالا فإنه حينئذ قيد تابع، وهذا الوجه أولى مما قبله على ما قرره في الكشف، وجوز بعضهم العطف على أَنْذَرَ أي وأعلمهم بذلك وهو كما ترى، وجعلت (أن) مفسرة لتقدم معنى القول دون حروفه وهو الإنذار والمفسر معموله المقدر، وجوز كونها مصدرية وكونها مخففة من الثقيلة فقبلها حرف جر مقدر متعلق بأنذر أي أنذرهم بأن لا تعبدوا إلا الله. إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ صفة يَوْمٍ وعظمه مجاز عن كونه مهولا لأنه لازم له، وكون اليوم مهولا باعتبار هول ما فيه من العذاب فالإسناد فيه مجازي، ولا حاجة إلى جعله صفة للعذاب والجر للجوار والجملة استئناف تعليل للنهي، ويفهم إني أخاف عليكم ذلك بسبب شرككم قالُوا أَجِئْتَنا استفهام توبيخي لِتَأْفِكَنا أي لتصرفنا- كما قال الضحاك- من الإفك بمعنى الصرف، وقيل: أي لتنزيلنا بالإفك وهو الكذب عَنْ آلِهَتِنا أي عن عبادتها فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من معاجلة العذاب على الشرك في الدنيا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في وعدك بنزوله بنا قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ أي بوقت نزوله أو العلم بجميع الأشياء التي من جملتها ذلك عِنْدَ اللَّهِ وحده لا علم لي بوقت نزوله، والكلام كناية عن أنه لا يقدر عليه ولا على تعجيله لأنه لو قدر عليه وأراده كان له علم به في الجملة فنفي علمه به المدلول عليه بالحصر نفي لمدخليته فيه حتى يطلب تعجيله من الله عزّ وجلّ ويدعو به. وبهذا التقرير علم مطابقة جوابه عليه السلام لقولهم: (ائتنا) فيأتيكم به في وقته المقدر له وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ من مواجب الرسالة التي من جملتها بيان نزول العذاب إذ لم تنتهوا عن الشرك، وقرأ أبو عمرو «أبلغكم» من الإبلاغ. وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ شأنكم الجهل ومن آثار ذلك أنكم تقترحون على ما ليس من وظائف الرسل من الإتيان بالعذاب، والفاء في قوله تعالى: فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً فصيحة أي فأتاهم فلما رأوه، وضمير النصب قيل راجع إلى (ما) في بِما تَعِدُنا وكون المرئي هو الموعود باعتبار المآل والسببية له وإلا فليس هو المرئي حقيقة، وجوز الزمخشري أن يكون مبهما يفسره عارِضاً وهو إما تمييز وإما حال، ثم قال: وهذا الوجه أعرب أي أبين واظهر لما أشرنا إليه في الوجه الأول من الخفاء وأفصح لما فيه من البيان بعد الإبهام والإيضاح غب التعمية. وتعقبه أبو حيان بأن المبهم الذي يفسره ويوضحه التمييز لا يكون إلا في باب رب نحو ربه رجلا لقيته وفي باب نعم وبئس على مذهب البصريين نحو نعم رجلا زيد وبئس غلاما عمرو، وأما أن الحال توضح المبهم وتفسره فلا نعلم أحدا ذهب إليه، وقد حصر النحاة المضمر الذي يفسره ما بعده فلم يذكروا فيه مفعول رأى إذا كان ضميرا ولا إن الحال يفسر الضمير ويوضحه، وأنت تعلم جلالة جار الله وإمامته في العربية، والعارض السحاب الذي يعرض في أفق السماء، ومنه قول الشاعر: يا من رأى عارضا أرقت له ... بين ذراعي وجبهة الأسد وقول الأعشى: يا من رأى عارضا قد بت أرمقه ... كأنما البرق في حافاته الشعل مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ أي متوجه أوديتهم وفي مقابلتها وهي جمع واحد وأفعلة في جمع فاعل الاسم شاذ نحو ناد الجزء: 13 ¦ الصفحة: 182 وأندية وجائز للخشبة الممتدة في أعلى السقف وأجوزة والإضافة لفظية كما في قوله تعالى: قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا ولذلك وقعا صفتين للنكرة وأطلق عليها الزمخشري مجازية ووجه التجوز أن هذه الإضافة للتوسع والتخفيف حيث لم تفد فائدة زائدة على ما كان قبل فكما أن إجراء الظرف مجرى المفعول به مجاز كذلك إجراء المفعول أو الفاعل مجرى المضاف إليه في الاختصاص ولم يرد أنها من باب الإضافة لأدنى ملابسة. بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ أي من العذاب والكلام على إضمار القول قبله أي قال هود بل هو إلخ لأن الخطاب بينه وبينهم فيما سبق ويؤيده أنه قرىء كذلك وقدره بعضهم قل بل هو إلخ للقراءة به أيضا والاحتياج إلى ذلك لأنه إضراب ولا يصلح أن يكون من مقول من قال هذا عارض ممطرنا وقدر البغوي قال الله بل هو إلخ وينفك النظم الجليل عليه كما لا يخفى. وقرىء «بل ما استعجلتم» أي بل هو، وقرأ قوم «ما استعجلتم» بضم التاء وكسر الجيم رِيحٌ بدل من مَا أو من هُوَ أو خبر لمبتدأ محذوف أي هي أو هو ريح فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ صفة رِيحٌ لكونه جملة بعد نكرة وكذا قوله تعالى تُدَمِّرُ أي تهلك كُلَّ شَيْءٍ من نفوسهم وأموالهم أو مما أمرت بتدميره بِأَمْرِ رَبِّها ويجوز أن يكون مستأنفا، وقرأ زيد بن علي «تدمر» بفتح التاء وسكون الدال وضم الميم، وقرىء كذلك أيضا إلا أنه بالياء ورفع كلّ على أنه فاعل «يدمر» وهو من دمر دمارا أي هلك، والجملة صفة أيضا والعائد محذوف أي بها أو الضمير من رَبِّها ويجوز أن يكون استئنافا كما في قراءة الجمهور وأراد البيان أن لكل ممكن وقتا مقيضا منوطا بأمر بارئه لا يتقدم ولا يتأخر ويكون الضمير من رَبِّها لكل شيء فإنه بمعنى الأشياء وفي ذكر الأمر والرب والإضافة إلى الريح من الدلالة على عظمة شأنه عزّ وجلّ ما لا يخفى والفاء في قوله تعالى: فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ فصيحة أي فجأتهم الريح فدمرتهم فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم وجعلها بعضهم فاء التعقيب على القول بإضمار القول مسندا إليه تعالى وادعى أنه ليس هناك قول حقيقة بل هو عبارة عن سرعة استئصالهم وحصول دمارهم من غير ريث وهو كما ترى، وقرأ الجمهور «لا ترى» بتاء الخطاب «إلّا مساكنهم» بالنصب، والخطاب لكل أحد تتأتى منه الرؤية تنبيها على أن حالهم بحيث لو حضر كل أحد بلادهم لا يرى إلا مساكنهم أو لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم، وقرأ أبو رجاء ومالك بن دينار بخلاف عنهما والجحدري والأعمش وابن أبي إسحق والسلمي «لا ترى» بالتاء من فوق مضمومة إِلَّا مَساكِنُهُمْ بالرفع وجمهور النحاة على أنه لا يجوز التأنيث مع الفصل بإلا إلا في الشعر كقول ذي الرمة: كأنه جمل هم وما بقيت ... إلا النحيزة والألواح والعصب وقول الآخر وعزاه ابن جني لذي الرمة أيضا: برى النحز والاجرال ما في غروضها ... وما بقيت إلا الضلوع الجراشع وبعضهم يجيزه مطلقا وتمام الكلام فيه في محله، وقرأ عيسى الهمداني «لا يرى» بضم التحتية «إلّا مسكنهم» بالتوحيد والرفع وروي هذا عن الأعمش. ونصر بن عاصم، وقرىء «لا ترى» بتاء فوقية مفتوحة «إلّا مسكنهم» مفردا منصوبا وهو الواحد الذي أريد به الجمع أو مصدر حذف مضافه أي آثار سكونهم كَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء الفظيع نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب السحاب. وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في قوله تعالى فَلَمَّا رَأَوْهُ الآية أول ما عرفوا أنه عذاب ما رأوا ما كان خراجا من رحالهم ومواشيهم يطير بين السماء والأرض مثل الريش فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم فجاءت الريح ففتحت أبوابهم ومالت عليهم بالرمل فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام حسوما لهم أنين فأمر الله تعالى الريح فكشفت عنهم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 183 الرمل وطرحتهم في البحر فهو قوله تعالى: فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ. وروي أن أول من أبصر العذاب امرأة منهم رأت ريحا فيها كشهب النار، وروي أن هودا عليه السلام لما أحس بالريح خط على نفسه وعلى المؤمنين خطا إلى جنب عين تنبع ، وعن ابن عباس أنه عليه السلام اعتزل ومن معه في حظيرة ما يصيبهم من الريح إلا ما يلين به الجلود وتلذه الأنفس، وأنها لتمر من عاد بالظعن بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة، وكانت كما أخرج ابن أبي شيبة. وابن جرير عن عمرو بن ميمون تجيء بالرجل الغائب، ومر في سورة الأعراف مما يتعلق بهم ما مر فارجع إليهم إن أردته، ولما أصابهم من الريح ما أصابهم كان صلّى الله عليه وسلّم يدعو إذا عصفت الريح. أخرج مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وعبد بن حميد عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا عصفت الريح قال: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به وأعوذ من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به فإذا أخيلت السماء تغير لونه صلّى الله عليه وسلّم وخرج ودخل وأقبل وأدبر فإذا مطرت سري عنه فسألته فقال عليه الصلاة والسلام: لا أدري لعله كما قال قوم عاد هذا عارض ممطرنا» وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ أي قررنا عادا وأقدرناهم، و (ما) في قوله تعالى: فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ موصولة أو موصولة وإِنْ نافية أي في الذي أو في شيء ما مكناكم فيه من السعة والبسطة وطول الأعمار وسائر مبادي التصرفات كما في قوله تعالى: كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ [الأنعام: 6] ولم يكن النفي بلفظ «ما» كراهة لتكرير اللفظ وإن اختلف المعنى، ولذا قال من ذهب إلى أن أصل مهما ما ما على أن ما الشرطية مكررة للتأكيد قلبت الألف الأولى هاء فرارا من كراهة التكرار، وعابوا على المتنبي قوله: لعمرك ما ما بأن منك لضارب ... بأقتل مما بان منك لعائب أي ما الذي بأن إلخ، يريد لسانه لا يتقاعد عن سنانه هذا للعائب وذلك للضارب، وكان يسعه أن يقول: إن ما بان، وإدخال الباء للنفي لا للعمل على أن إعمال إن قد جاء عن المبرد، وقيل: إِنْ شرطية محذوفة الجواب والتقدير إن مكناكم فيه طغيتم، وقيل: إنها صلة بعد ما الموصولة تشبيها بما النافية وما التوقيتية، فهي في الآية مثلها في قوله: يرجّي المرء ما أن لا يراه ... وتعرض دون أدناه الخطوب أي مكناهم في مثل الذي مكناكم فيه، وكونها نافية هو الوجه لأن القرآن العظيم يدل عليه في ما وضع وهو أبلغ في التوبيخ وأدخل في الحث على الاعتبار وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً ليستعملوها فيما خلقت له ويعرفوا بكل منها ما نيطت به معرفته من فنون النعم ويستدلوا بها على شؤون منعمها عزّ وجلّ ويداوموا على شكره جلّ شأنه فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ حيث لم يستعملوه في استماع الوحي ومواعظ الرسل وَلا أَبْصارُهُمْ حيث لم يجتلوا بها الآيات التكوينية المرسومة في صحائف العالم وَلا أَفْئِدَتُهُمْ حيث لم يستعملوها في معرفة الله تعالى مِنْ شَيْءٍ أي شيئا من الإغناء، ومِنْ مزيدة للتوكيد والتنوين للتقليل. وجوز أن تكون تبعيضية أي ما أغنى بعض الإغناء وهو القليل، و (ما) في فَما أَغْنى نافية وجوز كونها استفهامية. وتعقبه أبو حيان بأنه يلزم عليه زيادة مِنْ في الواجب وهو لا يجوز على الصحيح. ورد بأنهم قالوا: تزاد في غير الموجب وفسروه بالنفي والنهي والاستفهام، وإفراد السمع في النظم الجليل وجمع غيره لاتحاد المدرك به وهو الأصوات وتعدد مدركات غيره أو لأنه في الأصل مصدر، وأيضا مسموعهم من الرسل متحد. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 184 إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ ظرف متعلق بالنفي الصريح أو الضمني في قوله تعالى: فَما أَغْنى وهو ظرف أريد به التعليل كناية أو مجازا لاستواء مؤدى الظرف والتعليل في قولك: ضربته لإساءته وضربته إذ أساء لأنك إنما ضربته في ذلك الوقت لوجود الإساءة فيه، وهذا مما غلب في إذ وحيث من بين سائر الظروف حتى كاد يلحق بمعانيهما الوضعية وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من العذاب الذي كانوا يستعجلونه بطريق الاستهزاء ويقولون: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الأعراف: 70، هود: 32] . وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ يا أهل مكة مِنَ الْقُرى كحجر ثمود وقرى قوم صالح، والكلام بتقدير مضاف أو تجوز بالقرى عن أهلها بقوله تعالى: وَصَرَّفْنَا الْآياتِ أي كررناها لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وأمر ما سهل، والترجي مصروف لغيره تعالى أو (لعل) للتعليل أي لكي يرجعوا عما هم فيه من الكفر والمعاصي إلى الإيمان والطاعة فَلَوْلا نَصَرَهُمُ فهلا منعهم من الهلاك الذي وقعوا فيه الَّذِينَ اتَّخَذُوا أي آلهتهم الذين اتخذوهم. مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً والضمير الذي قدرناه عائدا هو المفعول الأول لاتخذوا. وآلِهَةً هو المفعول الثاني وقُرْباناً بمعنى متقربا بها حال أي اتخذوهم آلهة من دون الله حال كونها متقربا بها إلى الله عزّ وجلّ حيث كانوا يقولون: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: 3] وهؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: 18] وفي الكلام تهكم بهم. وأجار الحوفي كون قُرْباناً مفعولا من أجله، وأجاز هو أيضا وابن عطية ومكي وأبو البقاء كونه المفعول الثاني لا تخذوا. وجعل آلِهَةً بدلا منه، وقال في الكشاف: لا يصح ذلك لفساد المعنى، ونقل عنه في بيانه أنه لا يصح أن يقال: تقربوا بها من دون الله لأن الله تعالى لا يتقرب به، وأراد كما في الكشف أنه إذا جعل مفعولا ثانيا يكون المعنى فلولا نصرهم الذين اتخذوهم قربانا بدل الله تعالى أو متجاوزين عن أخذه تعالى قربانا إليهم وهو معنى فاسد. واعترض عليه بجعل دُونِ بمعنى قدام كما قيل به في قوله تعالى: وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ [البقرة: 231] الجزء: 13 ¦ الصفحة: 185 وبأنه قد قيل: إن قربانا مفعول له فهو غير مختص بالمتقرب به، وجاز أن يطلق على المتقرب إليه وحينئذ يلتئم الكلام. وأجيب عن الأول بأنه غير قادح لأنه مع نزارة استعمال دون بمعنى قدام لا يصلح ظرف الاتخاذ لأنه ليس بين يدي الله تعالى وإنما التقرب بين يديه تعالى ولأجله سبحانه، واتخاذهم قربانا ليس التقرب به لأن معناه تعظيمهم بالعبادة ليشفعوا بين يدي الله عزّ وجلّ ويقربوهم إليه سبحانه، فزمان الاتخاذ ليس زمان التقرب البتة، وحينئذ ان كان مستقرا حالا لزم ما لزم في الأول. ولا يجوز أن يكون معمول قُرْباناً لأنه اسم جامد بمعنى ما يتقرب به فلا يصلح عاملا كالقارورة وإن كان فيها معنى القرار، وفيه نظر. وأجيب عن الثاني بأن الزمخشري بعد أن فسر القربان بما يتقرب به ذكر هذا الامتناع على أن قوله تعالى بعد. بَلْ ضَلُّوا إلخ ينادي على فساد ذلك أرفع النداء، وقال بعضهم في امتناع كون قُرْباناً مفعولا ثانيا وآلِهَةً بدلا منه: إن البدل وإن كان هو المقصود لكن لا بد في غير بدل الغلط من صحة المعنى بدونه ولا صحة لقولهم: اتخذوهم من دون الله قربانا أي ما يتقرب به لأن الله تعالى لا يتقرب به بل يتقرب إليه فلا يصح أنهم اتخذوهم قربانا متجاوزين الله تعالى في ذلك، وجنح بعضهم إلى أنه يصح أن يقال: الله تعالى يتقرب به أي برضاه تعالى والتوسل به جل وعلا. وقال الطيبي: إن الزمخشري لم يرد بفساد المعنى إلا خلاف المعنى المقصود إذ لم يكن قصدهم في اتخاذهم الأصنام آلهة على زعمهم إلا أن يتقربوا بها إلى الله تعالى كما نطقت به الآيات فتأمل. وقرىء «قربانا» بضم الراء بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ أي غابوا عنهم، وفيه تهكم بهم أيضا كأن عدم نصرهم لغيبتهم أو ضاعوا عنهم أي ظهر ضياعهم عنهم بالكلية وقد امتنع نصرهم الذي كانوا يؤملونه امتناع نصر الغائب عن المنصور وَذلِكَ أي ضلال آلهتهم عنهم إِفْكُهُمْ أي أثر إفكهم أي صرفهم عن الحق واتخاذهم إياها آلهة ونتيجة شركهم وَما كانُوا يَفْتَرُونَ أي وأثر افترائهم وكذبهم على الله تعالى أو أثر ما كانوا يفترونه على الله عزّ وجلّ، وقيل: ذلك إشارة إلى اتخاذ الأصنام آلهة أي ذلك الاتخاذ الذي أثره ضلال آلهتهم عنهم كذبهم وافتراؤهم أو والذي كانوا يفترونه وليس بذاك وإن لم يحوج إلى تقدير مضاف. وقرأ ابن عباس في رواية «أفكهم» بفتح الهمزة والافك والأفك مصدران كالحذر والحذر وقرأ ابن الزبير. والصباح بن العلاء الأنصاري وأبو عياض وعكرمة وحنطلة بن النعمان بن مرة ومجاهد وهي رواية عن ابن عباس أيضا «أفكهم» بثلاث فتحات على أن افك فعل ماض وحينئذ الإشارة إلى الاتخاذ أي ذلك الاتخاذ صرفهم عن الحق، وَما كانُوا قيل عطف على ذلك أو على الضمير المستتر وحسن للفصل أو هو مبتدأ والخبر محذوف أي كذلك، والجملة حينئذ معطوفة على الجملة قبلها. وأبو عياض وعكرمة أيضا كذلك إلا أنهما شددا الفاء للتكثير، وابن الزبير أيضا. وابن عباس فيما ذكر ابن خالويه «آفكهم» بالمد فاحتمل أن يكون فاعل فالهمزة أصلية وأن يكون أفعل والهمزة للتعدية أي جعلهم يأفكون، وجوز أن تكون للوجدان كأحمدته وأن يكون أفعل بمعنى فعل، وحكى في البحر أنه قرىء «أفكهم» بفتح الهمزة والفاء وضم الكاف وهي لغة في الإفك. وقرأ ابن عباس فيما روى قطرب. وأبو الفضل الرازي «آفكهم» اسم فاعل من إفك أي وذلك الاتخاذ صارفهم عن الحق. وقرىء «وذلك إفك مما كانوا يفترون» والمعنى ذلك بعض ما يفترون من الإفك أي بعض أكاذيبهم المفتريات فالافك بمعنى الاختلاف فلا تغفل. وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ أي أملناهم إليك ووجهناهم لك، والنفر على المشهور ما بين الثلاثة والعشرة من الرجال لأنه من النفير والرجال هم الذين إذا حزبهم أمر نفروا لكفايته، والحق أن هذا باعتبار الأغلب فإنه يطلق على ما فوق العشرة في الفصيح، وقد ذكر ذلك جمع من أهل اللغة، وفي المجمل الرهط والنفر يستعمل إلى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 186 الأربعين، وفي كلام الشعبي حدثني بضعة عشر نفرا، وسيأتي إن شاء الله تعالى تفسيره هنا بما زاد على العشرة ولا يختص بالرجال، والأخذ من النفير لا يدل على الاختصاص بهم بل ولا بالناس لإطلاقه على الجن هنا. والجار والمجرور صفة نَفَراً وقوله تعالى: يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ حال مقدرة منه لتخصصه بالصفة أو صفة له أخرى وضمير الجمع لأنه اسم جمع فهو في المعنى جمع، ولذا قرىء «صرّفنا» بالتشديد للتكثير، وإِذْ معمولة لمقدر لا عطف على أَخا عادٍ أي واذكر لقومك وقت صرفنا إليك نفرا من الجن مقدرا استماعهم القرآن لعلهم يتنبهون لجهلهم وغلطهم وقبح ما هم عليه من الكفر بالقرآن والإعراض عنه حيث إنهم كفروا به وجهلوا أنه من عند الله تعالى وهم أهل اللسان الذي نزل به ومن جنس الرسول الذي جاء به وأولئك استمعوه وعلموا أنه من عنده تعالى وأمنوا به وليسوا من أهل لسانه ولا من جنس رسوله ففي ذكر هذه القصة توبيخ لكفار قريش والعرب، ووقوعها أثر قصة هود وقومه وإهلاك من أهلك من أهل القرى لأن أولئك كانوا ذوي شدة وقوة كما حكي عنهم في غير آية والجن توصف بذلك أيضا كما قال تعالى: قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ [النمل: 39] ووصفهم بذلك معروف بين العرب فناسبت ما قبلها لذلك مع ما قيل أن قصة عاد متضمنة ذكر الريح وهذه متضمنة ذكر الجن وكلاهما من العالم الذي لا يشاهد، وسيأتي الكلام في حقيقتهم. فَلَمَّا حَضَرُوهُ أي القرآن عند تلاوته، وهو الظاهر وإن كان فيه تجوز، وقيل: الرسول الله عند تلاوته له ففيه التفات قالُوا أي قال بعضهم لبعض أَنْصِتُوا اسكتوا لنسمعه، وفيه تأدب مع العلم وكيف يتعلم فَلَمَّا قُضِيَ أتم وفرغ عن تلاوته. وقرأ أبو مجلز وحبيب بن عبد الله «قضى» بالبناء للفاعل وهو ضمير الرسول الله، وأيد بذلك عود ضمير حَضَرُوهُ إليه عليه الصلاة والسلام. وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ مقدرين إنذارهم عند وصولهم إليهم، قيل: إنهم تفرقوا في البلاد فأنذروا من رأوه من الجن، وكان هؤلاء كما جاء في عدة روايات من جن نصيبين وهي من ديار بكر قريبة من الشام، وقيل: من نينوى وهي أيضا من ديار بكر لكنها قريبة من الموصل، وذكر أنهم كانوا من الشيصبان وهم أكثر الجن عددا وعامة جنود إبليس منهم، وكان الحضور بوادي نخلة على نحو ليلة من مكة المكرمة. فقد أخرج أحمد وعبد بن حميد والشيخان والترمذي والنسائي وجماعة عن ابن عباس قال: انطلق النبي صلّى الله عليه وسلّم في طائفة من أصحابه إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب قالوا ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو وأصحابه بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ وهو عليه الصلاة والسلام يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء فهناك حين رجعوا إلى قومهم. وفي رواية ابن المنذر عن عبد الملك أنهم لما حضروه قالوا: أنصتوا فلما قضى وفرغ صلّى الله عليه وسلّم من صلاة الصبح ولوا إلى قومهم منذرين مؤمنين لم يشعر بهم حتى نزل قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ [الجن: 1] . وفي الصحيحين عن مسروق عن ابن مسعود أنه آذنته صلّى الله عليه وسلّم بهم شجرة وكانوا على ما روي عن ابن عباس سبعة وكذا قال زر وذكر منهم زوبعة، وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد أنهم كانوا سبعة. ثلاثة من أهل حران، وأربعة من نصيبين وكانت أسماؤهم حسى. ومسى. وشاصر. وماصر. والاردوانيان. وسرق. والأحقم. بميم آخره، وفي رواية عن كعب الأحقب بالباء، وذكر صاحب الروض بدل حسى. ومسى. منشىء. وناشىء. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 187 وأخرج ابن جرير والطبراني. وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في هؤلاء النفر: كانوا تسعة عشر من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رسلا إلى قومهم، والخبر السابق يدل على أنه صلّى الله عليه وسلّم كان حين حضر الجن مع طائفة من أصحابه، وأخرج عبد بن حميد وأحمد ومسلم والترمذي وأبو داود عن علقمة قال قلت لابن مسعود: هل صحب النبي صلّى الله عليه وسلّم ليلة الجن منكم أحد؟ قال: ما صحبه منا أحد ولكنا كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب فقلنا: استطير أو اغتيل فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء فأخبرناه فقال أتاني داعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم القرآن فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم فهذا يدل على أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن معه أحد من أصحابه ولم يشعر به أحد منهم. وأخرج أحمد عن ابن مسعود أنه قال: قمت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة الجن وأخذت إداوة ولا أحسبها إلا ماء حتى إذا كنا بأعلى مكة رأيت أسودة مجتمعة قال: فخط لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: قم هاهنا حتى آتيك ومضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم فرأيتهم يتثورون إليه فسمر معهم ليلا طويلا حتى جاءني مع الفجر فقال لي: هل معك من وضوء قلت: نعم ففتحت الإداوة فإذا هو نبيذ فقلت: ما كنت أحسبها إلا ماء فإذا هو نبيذ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ثمرة طيبة وماء طهور فتوضأ منها ثم قام يصلي فأدركه شخصان منهم فصفهما خلفه ثم صلى بنا فقلت: من هؤلاء يا رسول الله؟ قال: جن نصيبين فهذا يدل على خلاف ما تقدم والجمع بتعدد واقعة الجن، وقد أخرج الطبراني في الأوسط. وابن مردويه عن الحبر أنه قال: صرفت الجن إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرتين، وذكر الخفاجي أنه قد دلت الأحاديث على أن وفادة الجن كانت ست مرات ويجمع بذلك اختلاف الروايات في عددهم وفي غير ذلك، فقد أخرج أبو نعيم. والواقدي عن كعب الأحبار قال: انصرف النفر التسعة من أهل نصيبين من بطن نخلة وهم فلان وفلان وفلان والاردوانيان. والأحقب جاؤوا قومهم منذرين فخرجوا بعد وافدين إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهم ثلاثمائة فانتهوا إلى الحجون فجاء الأحقب فسلم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن قومنا قد حضروا الحجون يلقونك فواعده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لساعة من الليل بالحجون. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة أنه قال في الآية: هم اثنا عشر ألفا من جزيرة الموصل، وفي الكشاف حكاية هذا العدد أيضا وأن السورة التي قرأها صلّى الله عليه وسلّم عليهم اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1] ، ونقل في البحر عن ابن عمر. وجابر ابن عبد الله رضي الله تعالى عنهم أنه عليه الصلاة والسلام قرأ عليهم سورة الرحمن فكان إذا قال: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرحمن] قالوا: لا بشيء من آيات ربنا نكذب ربنا لك الحمد، وأخرج أبو نعيم في الدلائل. والواقدي عن أبي جعفر قال: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الجن في ربيع الأول سنة إحدى عشر من النبوة وفي معناه ما قيل: كانت القصة قبل الهجرة بثلاث سنين بناء على ما صح عن ابن عباس أنه صلّى الله عليه وسلّم مكث بمكة يوحى إليه ثلاث عشرة سنة وفي المسألة خلاف والمشهور ما ذكر. وقيل: كان استماع الجن في ابتداء الإيحاء قالُوا أي عند رجوعهم إلى قومهم يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً جليل الشأن أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى ذكروه دون عيسى عليهما السلام لأنه متفق عليه عند أهل الكتابين ولأن الكتاب المنزل عليه أجل الكتب قبل القرآن وكان عيسى عليه السلام مأمورا بالعمل بمعظم ما فيه أو بكله، وقال عطاء: لأنهم كانوا على اليهودية ويحتاج إلى نقل صحيح، وعن ابن عباس أن الجن لم تكن سمعت بأمر عيسى عليه السلام فلذا قالوا ذلك، وفيه بعد فإن اشتهار أمر عيسى عليه السلام وانتشار أمر دينه أظهر من أن يخفى لا سيما على الجن، ومن هنا قال أبو حيان: إن هذا لا يصح عن ابن عباس مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ من التوراة أو جميع الكتب الإلهية السابقة يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ من العقائد الصحيحة وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ من الأحكام الفرعية أو ما يعمها وغيرها من العقائد على أنه من ذكر العام بعد الخاص. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 188 يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ أرادوا به ما سمعوه من الكتاب ووصفوه بالدعوة إلى الله تعالى بعد ما وصفوه بالهداية إلى الحق والطريق المستقيم لتلازمهما، وفي الجمع بينهما ترغيب لهم في الإجابة أي ترغيب، وجوز أن يكون أرادوا به الرسول صلّى الله عليه وسلّم وَآمِنُوا بِهِ أي بداعي الله تعالى أو بالله عز وجل يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ أي بعض ذنوبكم قيل: وهو ما كان خالص حقه عز وجل فإن حقوق العباد لا تغفر بالإيمان. وتعقبه ابن المنير بأن الحربي إذا نهب الأموال وسفك الدماء ثم حسن إسلامه جب إسلامه إثم ما تقدم بلا إشكال ثم قال ويقال: إنه لم يرد وعد المغفرة للكافرين على تقدير الإيمان في كتاب الله تعالى إلا مبعضة وهذا منه فإن لم يكن لاطراده كذلك سر فما هو إلا أن مقام الكافرين قبض لا بسط فلذلك لم يبسط رجاؤه في مغفرة جملة الذنوب، وقد ورد في حق المؤمنين كثيرا، ورده صاحب الإنصاف بأن مقام ترغيب الكافر في الإسلام بسط لا قبض وقد أمر الله تعالى أن يقول لفرعون: قَوْلًا لَيِّناً [طه: 44] وقد قال تعالى: إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ [الأنفال: 38] وهي غير مبعضة و «ما» للعموم لا سيما وقد وقعت في الشرط. وقال بعض أجلة المحققين: إن الحربي وإن كان إذا أسلم لا تبقى عليه تبعة أصلا لكن الذمي إذا أسلم تبقى عليه حقوق الآدميين، والقوم- كما نقل عن عطاء- كانوا يهودا فتبقى عليهم تبعاتهم فيما بينهم إذا أسلموا جميعا من غير حرب فلما كان الخطاب معهم جيء بما يدل على التبعيض، وقيل: جيء به لعدم علم الجن بعد بأن الإسلام يجب إثم ما قبله مطلقا وفيه توقف، وقد يقال: أرادوا بالبعض الذنوب السالفة ولو لم يقولوا ذلك لتوهم المخاطبون أنهم إن أجابوا داعي الله تعالى وآمنوا به يغفر لهم ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر، وقيل: من زائدة أي يغفر لكم ذنوبكم وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ معد للكفرة، وهذا ونحوه يدل على أن الجن مكلفون، ولم ينص هاهنا على ثوابهم إذا أطاعوا وعمومات الآيات تدل على الثواب، وعن ابن عباس لهم ثواب وعليهم عقاب يلتقون في الجنة ويزدحمون على أبوابها، ولعل الاقتصار هنا على ما ذكر لما فيه من التذكير بالذنوب والمقام مقام الإنذار فلذا لم يذكر فيه شيء من الثواب، وقيل: لا ثواب لمطيعيهم إلا النجاة من النار فيقال لهم: كونوا ترابا فيكونون ترابا، وهذا مذهب ليث بن أبي سليم. وجماعة ونسب إلى الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، وقال النسفي في التيسير: توقف أبو حنيفة في ثواب الجن في الجنة ونعيمهم لأنه لا استحقاق للعبد على الله تعالى ولم يقل بطريق الوعد في حقهم إلا المغفرة والإجارة من العذاب، وأما نعيم الجنة فموقوف على الدليل. وقال عمر بن عبد العزيز إن مؤمني الجن حول الجنة في ربض وليسوا فيها، وقيل: يدخلون الجنة ويلهمون التسبيح والذكر فيصيبون من لذة ذلك ما يصيبه بنو آدم من لذائذهم، قال النووي في شرح صحيح مسلم: والصحيح أنهم يدخلونها ويتنعمون فيها بالأكل والشرب وغيرهما، وهذا مذهب الحسن البصري. ومالك بن أنس والضحاك وابن أبي ليلى وغيرهم وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ إيجاب للإجابة بطريق الترهيب إثر إيجابها بطريق الترغيب وتحقيق لكونهم منذرين وإظهار داعي الله من غير اكتفاء بأحد الضميرين بأن يقال: يجبه أو يجب داعيه للمبالغة في الإيجاب بزيادة التقرير وتربية المهابة وإدخال الروعة. وتقييد الإعجاز بكونه في الأرض لتوسيع الدائرة أي فليس بمعجز له تعالى بالهرب وإن هرب كل مهرب من أقطارها أو دخل في أعماقها، وقوله تعالى: وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ بيان لاستحالة نجاته بواسطة الغير إثر بيان استحالة نجاته بنفسه وجمع الأولياء باعتبار معنى مَنْ فيكون من باب مقابلة الجمع بالجمع لانقسام الآحاد على الآحاد، ويؤيد ذلك ما روي عن ابن عامر أنه قرأ وليس لهم بضمير الجمع فإنه لمن باعتبار معناها، وكذا الجمع الجزء: 13 ¦ الصفحة: 189 في قوله سبحانه: أُولئِكَ بذلك الاعتبار أي أولئك الموصوفون بعدم إجابة داعي الله فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي ظاهر كونه ضلالا بحيث لا يخفى على أحد حيث أعرضوا عن إجابة من هذا شأنه أَوَلَمْ يَرَوْا الهمزة للإنكار والواو على أحد القولين عطف على مقدر دخله الاستفهام يستدعيه المقام، والرؤية قلبية أي ألم يتفكروا ولم يعلموا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ أي لم يتعب بذلك أصلا من عيي كفعل بكسر العين، ويجوز فيه الإدغام بمعنى تعب كأعيا، وقال الكسائي: أعييت من التعب وعييت من انقطاع الحيلة والعجز والتحير في الأمر وأنشدوا: عيوا بأمرهم كما ... عيت ببيضتها الحمامة أي لم يعجز عن خلقهن ولم يتحير فيه، واختار بعضهم عدم الفرق، وقرأ الحسن «ولم يعي» بكسر العين وسكون الياء، ووجهه أنه في الماضي فتح عين الكلمة كما قالوا في بقي بقي بفتح القاف وألف بعدها وهي لغة طيء، ولما بني الماضي على فعل مفتوح العين بني مضارعه على يفعل مسكورها فجاء يعي فلما دخل الجازم حذف الياء فبقي يعي بنقل حركة الياء إلى العين فسكنت الياء، وقوله تعالى: بِقادِرٍ في حيز الرفع لأنه خبر أن والباء زائدة فيه، وحسن زيادتها كون ما قبلها في حيز النفي، وقد أجاز الزجاج ما ظننت أن أحدا بقائم قياسا على هذا، قال أبو حيان: والصحيح قصر ذلك على السماع فكأنه قيل هنا: أو ليس الله بقادر عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى ولذلك أجيب عنه بقوله تعالى: بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تقريرا للقدرة على وجه عام يكون كالبرهان على المقصود، ولذا قيل: إن هذا مشير إلى كبرى لصغرى سهلة الحصول فكأنه قيل: إحياء الموتى شيء وكل شيء مقدور له فينتج أن إحياء الموتى مقدور له، ويلزمه أنه تعالى «قادر على أن يحيي الموتى» . وقرأ الجحدري وزيد بن علي وعمرو بن عبيد وعيسى والأعرج بخلاف عنه ويعقوب «يقدر» بدل بِقادِرٍ بصيغة المضارع الدال على الاستمرار وهذه القراءة على ما قيل موافقة أيضا للرسم العثماني. وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ ظرف عامله قول مضمر مقوله تعالى: أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ أي ويقال: يَوْمَ يُعْرَضُ إلخ، والظاهر أن الجملة معترضة، وقيل: هي حال، والتقدير وقد قيل، وفيه نظر، وقد مر آنفا الكلام في العرض بطوله، والإشارة إلى ما يشاهدونه حين العرض من حيث هو من غير أن يخطر بالبال لفظ يدل عليه فضلا عن تذكيره وتأنيثه إذ هو اللائق بتهويله وتفخيمه، وقيل: هي إلى العذاب بقرينة التصريح به بعد، وفيه تهكم بهم وتوبيخ لهم على استهزائهم بوعد الله تعالى ووعيده، وقولهم: وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [الشعراء: 138، سبأ: 35، الصافات: 59] . قالُوا بَلى وَرَبِّنا تصديق بحقيته وأكدوا بالقسم كأنهم يطمعون في الخلاص بالاعتراف بحقية ذلك كما في الدنيا وأنى لهم. وعن الحسن أنهم ليعذبون في النار وهم راضون بذلك لأنفسهم يعترفون أنه العدل. قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ بسبب استمراركم على الكفر في الدنيا، ومعنى الأمر الإهانة بهم فهو تهكم وتوبيخ وإلا لكان تحصيلا للحاصل، وقيل: هو أمر تكويني والمراد إيجاب عذاب غير ما هم فيه وليس بذاك، والفاء في قوله تعالى: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ واقعة في جواب شرط مقدر أي إذا كان عاقبة أمر الكفرة ما ذكر فاصبر على ما يصيبك من جهتهم أو إذا كان الأمر على ما تحققته من قدرته تعالى الباهرة فَاصْبِرْ وجوز غير واحد كونها عاطفة لهذه الجملة على ما تقدم، والسببية فيها ظاهرة واقتصر في البحر على كونها لعطف الجزء: 13 ¦ الصفحة: 190 هذه الجملة على إخبار الكفار في الآخرة وقال: المعنى بينهما مرتبط كأنه قيل: هذه حالهم فلا تستعجل أنت واصبر ولا تخف إلا الله عز وجل، والعزم يطلق على الجد والاجتهاد في الشيء وعلى الصبر عليه، ومِنَ بيانية كما في فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج: 30] والجار والمجرور في موضع الحال من الرُّسُلِ فيكون أولو العزم صفة جميعهم، وإليه ذهب ابن زيد والجبائي وجماعة أي فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ الرسل المجدون المجتهدون في تبليغ الوحي الذين لا يصرفهم عنه صارف ولا يعطفهم عنه عاطف والصابرون على أمر الله تعالى فيما عهده سبحانه إليهم أو قضاه وقدره عز وجل عليهم بواسطة أو بدونها. وعن عطاء الخراساني والحسن بن الفضل والكلبي ومقاتل وقتادة وأبي العالية وابن جريج، وإليه ذهب أكثر المفسرين أن مِنَ للتبعيض فأولو العزم بعض الرسل عليهم السلام، واختلف في عدتهم وتعيينهم على أقوال، فقال الحسن بن الفضل: ثمانية عشر وهم المذكورون في سورة الأنعام لأنه سبحانه قال بعد ذكرهم: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] وقيل: تسعة نوح عليه السلام صبر على أذى قومه طويلا. وإبراهيم عليه السلام صبر على الإلقاء في النار. والذبيح عليه السلام صبر على ما أريد به من الذبح. ويعقوب عليه السلام صبر على فقد ولده. ويوسف عليه السلام صبر على البئر والسجن وأيوب عليه السلام صبر على البلاء. وموسى عليه السلام قال له قومه: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء: 61] فقال إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: 62] وداود عليه السلام بكى على خطيئته أربعين سنة وعيسى عليه السلام لم يضع لبنة على لبنة وقال: إنها يعني الدنيا معبرة فاعبروها ولا تعمروها، وقيل: سبعة آدم ونوح وإبراهيم وموسى وداود وسليمان وعيسى عليهم السلام، وقيل: ستة وهم الذين أمروا بالقتال وهم نوح وهود وصالح وموسى وداود وسليمان، وأخرجه ابن مردويه عن ابن عباس، وعن مقاتل أنهم ستة ولم يذكر حديث الأمر بالقتال وقال: هم نوح وإبراهيم وإسحق ويعقوب ويوسف وأيوب وأخرج ابن عساكر عن قتادة أنهم نوح وهود وإبراهيم وشعيب وموسى عليهم السلام وظاهره القول بأنهم خمسة وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عنه أنهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وظاهره القول بأنهم أربعة وهذا أصح الأقوال. وقول الجلال السيوطي: إن أصحها القول بأنهم خمسة هؤلاء الأربعة ونبينا صلّى الله عليه وسلّم وعليهم أجمعين وأخرج ذلك ابن أبي حاتم. وابن مردويه عن ابن عباس وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله من أئمة أهل البيت رضي الله تعالى عنهم ونظمهم بعض الأجلة فقال: أولو العزم نوح والخليل الممجد ... وموسى وعيسى والحبيب محمد مبني على أنهم كذلك بعد نزول الآية وتأسي نبينا عليه الصلاة والسلام بمن أمر بالتأسي به ولم يرد أن أصح الأقوال أن المراد بهم في الآية أولئك الخمسة صلّى الله عليه وسلّم إذ يلزم عليه أمره عليه الصلاة والسلام أن يصبر كصبره نفسه ولا يكاد يصح ذلك، وعلى هذا قول أبي العالية فيما أخرجه عبد بن حميد وأبو الشيخ، والبيهقي في شعب الإيمان وابن عساكر عنه أنهم ثلاثة نوح وإبراهيم وهود ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم رابع لهم، ولعل الأولى في الآية القول الأول وإن صار أولو العزم بعد مختصا بأولئك الخمسة عليهم الصلاة والسلام عند الإطلاق لاشتهارهم بذلك كما في الأعلام الغالبة فكأنه قيل: فاصبر على الدعوة إلى الحق ومكابدة الشدائد مطلقا كما صبر إخوانك الرسل قبلك وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ أي لكفار مكة بالعذاب أي لا تدع بتعجيله فإنه على شرف النزول بهم كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ من العذاب لَمْ يَلْبَثُوا في الدنيا إِلَّا ساعَةً يسيرة مِنْ نَهارٍ لما يشاهدون من شدة العذاب وطول مدته. وقرأ أبي «من النهار» وقوله تعالى: بَلاغٌ خبر مبتدأ محذوف أي هذا الذي وعظتم به كفاية في الموعظة أو تبليغ من الرسول، وجعل بعضهم الإشارة إلى القرآن أو ما ذكر من السورة. وأيد تفسير بَلاغٌ بتبليغ بقراءة أبي مجلز. وأبي سراج الهذلي «بلغ» بصيغة الأمر له صلّى الله عليه وسلّم، وبقراءة أبي مجلز أيضا في رواية «بلغ» بصيغة الماضي من التفعيل، واستظهر أبو حيان كون الجزء: 13 ¦ الصفحة: 191 الإشارة إلى ما ذكر من المدة التي لبثوا فيها كأنه قيل: تلك الساعة بلاغهم كما قال تعالى: مَتاعٌ قَلِيلٌ [آل عمران: 197، النحل: 117] وقال أبو مجلز: بَلاغٌ مبتدأ خبره قوله تعالى: لَهُمْ السابق فيوقف على وَلا تَسْتَعْجِلْ ويبتدأ بقوله تعالى: لَهُمْ وتكون الجملة التشبيهية معترضة بين المبتدأ والخبر والمعنى لهم انتهاء وبلوغ إلى وقت فينزل بهم العذاب وهو ضعيف جدا لما فيه من الفصل ومخالفة الظاهر إذ الظاهر تعلق لَهُمْ بتستعجل. وقرأ الحسن وزيد بن علي وعيسى «بلاغا» بالنصب بتقدير بلغ بلاغا أو بلغنا بلاغا أو نحو ذلك. وقرأ الحسن أيضا «بلاغ» بالجر على أنه نعت لنهار. فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن الاتعاظ أو عن الطاعة، وفي الآية من الوعيد والإنذار ما فيها. وقرأ ابن محيصن فيما حكى عنه ابن خالويه «يهلك» بفتح الياء وكسر اللام. وعنه أيضا «يهلك» بفتح الياء واللام وماضيه هلك بكسر اللام وهي لغة، وقال أبو الفتح: هي مرغوب عنها. وقرأ زيد بن ثابت «نهلك» بنون العظمة من الإهلاك «القوم الفاسقين» بالنصب، وهذه الآية أعني قوله تعالى: كَأَنَّهُمْ إلى الآخر جاء في بعض الآثار ما يعشر بأن لها خاصية من بين آي هذه السورة. أخرج الطبراني في الدعاء عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا طلبت حاجة وأحببت أن تنجح فقل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي العظيم لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحليم الكريم بسم الله الذي لا إله إلا هو الحي الحليم سبحان الله رب العرش العظيم الحمد لله رب العالمين كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها. كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون اللهم إني اسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والسلامة من كل إثم والغنيمة من كل بر والفوز بالجنة والنجاة من النار اللهم لا تدع لي ذنبا إلا غفرته ولا هما إلا فرجته ولا دينا إلا قضيته ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا قضيتها برحمتك يا أرحم الراحمين» . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 192 سورة محمّد وتسمى سورة القتال، وهي مدنية عند الأكثرين ولم يذكروا استثناء، وعن ابن عباس وقتادة أنها مدنية إلا قوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ [محمد: 13] إلى آخره فإنه صلّى الله عليه وسلّم لما خرج من مكة إلى الغار التفت إليها وقال: «أنت أحب بلاد الله تعالى إلى الله وأنت أحب بلاد الله تعالى إليّ ولولا أن أهلك أخرجوني منك لم أخرج منك» فأنزل الله تعالى ذلك فيكون مكيا بناء على أن ما نزل في طريق المدينة قبل أن يبلغها النبي صلّى الله عليه وسلّم. أعني ما نزل في سفر الهجرة. من المكي اصطلاحا كما يؤخذ من أثر أخرجه عثمان بن سعيد الدارمي بسنده إلى يحيى بن سلام، وعدة آيها أربعون في البصري وثمان وثلاثون في الكوفي وتسع بالتاء الفوقية وثلاثون فيما عداهما، والخلاف في قوله تعالى: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها [محمد: 4] وقوله تعالى: لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [محمد: 15] ولا يخفى قوة ارتباط أولها بآخر السورة قبلها واتصاله وتلاحمه بحيث لو سقطت من البين البسملة لكانا متصلا واحدا لا تنافر فيه كالآية الواحدة آخذا بعضه بعنق بعض، وكان صلّى الله عليه وسلّم على ما أخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقرؤها في صلاة المغرب. وأخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: نزلت سورة محمد آية فينا وآية في بني أمية ، ولا أظن صحة الخبر. نعم لكفار بني أمية الحظ الأوفر من عمومات الآيات التي في الكفار كما أن لأهل البيت رضي الله تعالى عنهم المعلى والرقيب من عمومات الآيات التي في المؤمنين، وأكثر من هذا لا يقال سوى أني أقول: لعن الله تعالى من قطع الأرحام وآذى الآل. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 193 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي أعرضوا عن الإسلام وسلوك طريقه أو منعوا غيرهم عن ذلك على أن صد لازم أو متعد، قال في الكشف: والأول أظهر لأن الصد عن سبيل الله هو الإعراض عما أتى به محمد صلّى الله عليه وسلّم لقوله تعالى: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ [يوسف: 108] فيطابق قوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وكثير من الآثار تؤيد الثاني، وفسر الضحاك سَبِيلِ اللَّهِ ببيت الله عز وجل، وقال: صدهم عنه منعهم قاصديه وليس بذلك. والآية عامة لكل من اتصف بعنوان الصلة، وقال ابن عباس: هم أي الذين كفروا وصدوا على الوجه الثاني في صَدُّوا المطعمون يوم بدر الكبرى، وكأنه عنى من يدخل في العموم دخولا أوليا، فإن أولئك كانوا صادين بأموالهم وأنفسهم فصدهم أعظم من صد غيرهم ممن كفر وصد عن السبيل، وأول من أطعم منهم. على ما نقل عن سيرة ابن سيد الناس. أبو جهل عليه اللعنة نحر لكفار قريش حين خرجوا من مكة عشرا من الإبل، ثم صفوان بن أمية نحر تسعا بعسفان، ثم سهل بن عمرو نحر بقديد عشرا ثم شيبة بن ربيعة وقد ضلوا الطريق نحر تسعا ثم عتبة بن ربيعة نحر عشرا، ثم مقيس الجمحي بالأبواء نحر تسعا، ثم العباس نحر عشرا، والحرث بن عامر نحر تسعا، وأبو البختري على ماء بدر نحر عشرا، ومقيس تسعا ثم شغلتهم الحرب فأكلوا من أزوادهم، وقيل: كانوا ستة نفر نبيه ومنبه ابنا الحجاج وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل والحارث ابنا هشام، وضم مقاتل إليهم ستة أخرى وهم عامر بن نوفل. وحكيم بن حزام. وزمعة بن الأسود. والعباس بن عبد المطلب. وصفوان بن أمية. وأبو سفيان بن حرب أطعم كل واحد منهم يوما الأحابيش والجنود يستظهرون بهم على حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا ينافي عد أبي سفيان إن صحت الرواية من أولئك كونه مع العير لأن المراد بيوم بدر زمن وقعتها فيشمل من أطعم في الطريق وفي مدتها حتى انقضت، وقال مقاتل: هم اثنا عشر رجلا من أهل الشرك كانوا يصدون الناس عن الإسلام ويأمرونهم بالكفر، وقيل: هم شياطين من أهل الكتاب صدوا من أراد منهم أو من غيرهم عن الدخول في الإسلام. والموصول مبتدأ خبره قوله تعالى: أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ أي أبطلها وأحبطها وجعلها ضائعة لا أثر لها ولا نفع أصلا لا بمعنى أنه سبحانه أبطلها وأحبطها بعد أن لم تكن كذلك بل بمعنى أنه عز وجل حكم ببطلانها وضياعها وأريد بها ما كانوا يعملونه من أعمال البر كصلة الأرحام وقرى الأضياف وفك الأسارى وغيرها من المكارم. وجوز أن يكون المعنى جعلها ضلالا أي غير هدى حيث لم يوفقهم سبحانه لأن يقصدوا بها وجهه سبحانه أو الجزء: 13 ¦ الصفحة: 194 جعلها ضالة أي غير مهتدية على الإسناد المجازي، ومن قال الآية في المطعمين وأضرابهم قال: المعنى أبطل جلّ وعلا ما عملوه من الكيد لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم كالإنفاق الذي أنفقوه في سفرهم إلى محاربته عليه الصلاة والسلام وغيره بنصر رسوله صلّى الله عليه وسلّم وإظهار دينه على الدين كله، ولعله أوفق بما بعده، وكذا بما قيل إن الآية نزلت ببدر. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قال ابن عباس فيما أخرجه عنه جماعة منهم الحاكم وصححه هم أهل المدينة الأنصار، وفسر رضي الله تعالى عنه الَّذِينَ كَفَرُوا بأهل مكة قريش، وقال مقاتل: هم ناس من قريش، وقيل: مؤمنو أهل الكتاب، وقيل: أعم من المذكورين وغيرهم فإن الموصول من صيغ العموم ولا داعي للتخصيص وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ من القرآن، وخص بالذكر الإيمان بذلك مع اندراجه فيما قبله تنويها بشأنه وتنبيها على سمو مكانه من بين سائر ما يجب الإيمان به وانه الأصل في الكل ولذلك أكد بقوله تعالى: وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وهو جملة معترضة بين المبتدأ والخبر مفيدة لحصر الحقية فيه على طريقة الحصر في قوله تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ وقولك: حاتم الجواد فيراد بالحق ضد الباطل، وجوز أن يكون الحصر على ظاهره والحق الثابت، وحقية ما نزل عليه عليه الصلاة والسلام لكونه ناسخا لا ينسخ وهذا يقتضي الاعتناء به ومنه جاء التأكيد، وأيا ما كان فقوله تعالى مِنْ رَبِّهِمْ حال من ضمير الْحَقُّ وقرأ زيد بن علي. وابن مقسم «نزل» مبنيا للفاعل. والأعمش «أنزل» معدى بالهمزة مبنيا للمفعول، وقرىء «أنزل» بالهمز مبنيا للفاعل «ونزل» بالتخفيف كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي سترها بالإيمان والعمل الصالح، والمراد إزالها ولم يؤاخذهم بها وَأَصْلَحَ بالَهُمْ أي حالهم في الدين والدنيا بالتوفيق والتأييد، وتفسير البال بالحال مروي عن قتادة وعنه تفسيره بالشأن وهو الحال أيضا أو ما له خطر، وعليه قول الراغب: البال الحال التي يكترث بها، ولذلك يقال: ما باليت بكذا بالة أي ما اكترثت به، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «كل أمر ذي بال» الحديث ويكون بمعنى الخاطر القلبي ويتجوز به عن القلب كما قال الشهاب. وفي البحر حقيقة البال الفكر والموضع الذي فيه نظر الإنسان وهو القلب ومن صلح قلبه صلحت حاله، فكأن اللفظ مشير إلى صلاح عقيدتهم وغير ذلك من الحال تابع له، وحكى عن السفاقسي تفسيره هنا بالفكر وكأنه لنحو ما أشير إليه، وهو كما في البحر أيضا مما لا يثنى ولا يجمع وشذ قولهم في جمعه بآلات ذلِكَ إشارة إلى ما مر من الإضلال والتكفير والإصلاح وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ أي ذلك كائن بسبب اتباع الأولين الباطل واتباع الآخرين الحق والمراد بالحق والباطل معناهما المشهور. وأخرج ابن المنذر. وغيره عن مجاهد تفسير الْباطِلَ بالشيطان. وفي البحر قال مجاهد: الباطل الشيطان وكل ما يأمر به والْحَقَّ هو الرسول والشرع، وقيل: الباطل ما لا ينتفع به، وجوز الزمخشري كون ذلك خبر مبتدأ محذوف وبِأَنَّ إلخ في محل نصب على الحال، والتقدير الأمر ذلك أي كما ذكر ملتبسا بهذا السبب. والعامل في الحال إما معنى الإشارة وإما نحو أثبته وأحقه فإن الجملة تدل على ذلك لأنه مضمون كل خبر وتعقبه أبو حيان بأن فيه ارتكابا للحذف من غير داع له، والجار والمجرور أعني مِنْ رَبِّهِمْ في موضع الحال على كل حال، والكلام أعني قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ إلى قوله سبحانه: مِنْ رَبِّهِمْ تصريح بما أشعر به الكلام السابق من السببية لما فيه من البناء على الموصول، ويسميه علماء البيان التفسير، ونظيره ما أنشده الزمخشري لنفسه: به فجع الفرسان فوق خيولهم ... كما فجعت تحت الستور العواتق تساقط من أيديهم البيض حيرة ... وزعزع عن أجيادهن المخانق فإن فيه تفسيرا على طريق اللف والنشر كما في الآية وهو من محاسن الكلام كَذلِكَ أي مثل ذلك الضرب الجزء: 13 ¦ الصفحة: 195 البديع يَضْرِبُ اللَّهُ أي يبين لِلنَّاسِ أي لأجلهم أَمْثالَهُمْ أي أحوال الفريقين المؤمنين والكافرين وأوصافهما الجارية في الغرابة مجرى الأمثال، وهي اتباع المؤمنين الحق وفوزهم وفلاحهم، واتباع الكافرين الباطل وخيبتهم وخسرانهم، وجوز أن يراد بضرب الأمثال التمثيل والتشبيه بأن جعل سبحانه اتباع الباطل مثلا لعمل الكفار والإضلال مثلا لخيبتهم واتباع الحق مثلا لعمل المؤمنين وتكفير السيئات مثلا لفوزهم والإشارة بذلك لما تضمنه الكلام السابق، وجوز كون ضمير أَمْثالَهُمْ للناس والفاء في قوله تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لترتيب ما في حيزها من الأمر على ما قبلها فإن ضلال أعمال الكفرة وخيبتهم وصلاح أحوال المؤمنين وفلاحهم مما يوجب أن يترتب على كل من الجانبين ما يليق به من الأحكام أي إذا كان الأمر كذلك فإذا لقيتموهم في المحارب فَضَرْبَ الرِّقابِ وقال الزمخشري: لَقِيتُمُ من اللقاء وهو الحرب و (ضرب) نصب على المصدرية لفعل محذوف والأصل اضربوا الرقاب ضربا فحذف الفعل وقدم المصدرية وأنيب منابه مضافا إلى المفعول، وحذف الفعل الناصب في مثل ذلك بما أضيف إلى معموله واجب، وهو أحد مواضع يجب فيها الحذف ذكرت في مطولات كتب النحو، وليس منها نحو ضربا زيدا على ما نص عليه ابن عصفور. وذكر غير واحد أن فيما ذكر اختصارا وتأكيدا ولا كلام في الاختصار، وأما التأكيد فظاهر القول به أن المصدر بعد حذف عامله مؤكد، وقال الحمصي في حواشي التصريح: إن المصدر في ذلك مؤكد في الأصل وأما الآن فلا لأنه صار بمنزلة الفعل الذي سد هو مسده فلا يكون مؤكدا بل كل مصدر صار بدلا من اللفظ بالفعل لا يكون مؤكدا ولا مبينا لنوع ولا عدد، وضرب الرِّقابِ مجاز مرسل عن القتل، وعبر به عنه إشعارا بأنه ينبغي أن يكون بضرب الرقبة حيث أمكن وتصويرا له بأشنع صورة لأن ضرب الرقبة فيه إطارة الرأس الذي هو أشرف أعضاء البدن ومجمع حواسه وبقاء البدن ملقى على هيئة منكرة والعياذ بالله تعالى، وذكر أن في التعبير المذكور تشجيع المؤمنين وأنهم منهم بحيث يتمكنون من القتل بضرب أعناقهم في الحرب حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ أي أوقعتم القتل بهم بشدة وكثرة على أن ذلك مستعار من ثخن المائعات لمنعه عن الحركة، والمراد حتى إذا أكثرتم قتلهم وتمكنتم من أخذ من لم يقتل فَشُدُّوا الْوَثاقَ أي فأسروهم واحفظوهم، فالشد وكذا ما بعد في حق من أسر منهم بعد اثخانهم لا للمثخن إذ هو بالمعنى السابق لا يشد ولا يمن عليه ولا يفدى لأنه قد قتل أو المعنى حتى إذا أثقلتموهم بالجراح ونحوه بحيث لا يستطيعون النهوض فأسروهم واحفظوهم فالشد وكذا ما بعد في حق المثخن لأنه بهذا المعنى هو الذي لم يصل إلى حد القتل لكن ثقل عن الحركة فصار كالشيء الثخين الذي لم يسل ولم يستمر في ذهابه، والإثخان عليه مجاز أيضا، والْوَثاقَ في الأصل مصدر كالخلاص وأريد به هنا ما يوثق به. وقرىء «الوثاق» بالكسر وهو اسم لذلك، ومجيء فعال اسم آلة كالحزام والركاب نادر على خلاف القياس، وظاهر كلام البعض أن كلا من المفتوح والمكسور اسم لما يوثق به، ولعل المراد بيان المراد هنا. فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً أي فإما تمنون منا وإما تفدون فداء، والكلام تفصيل لعاقبة مضمون ما قبله من شد الوثاق، وحذف الفعل الناصب للمصدر في مثل ذلك واجب أيضا، ومنه قوله: لأجهدن فإما درء واقعة ... تخشى وإما بلوغ السؤل والأمل وجوز أبو البقاء كون كل من مَنًّا وفِداءً مفعولا به لمحذوف أي أولوهم منّا أو اقبلوا منهم فداء، وليس كما قال أبو حيان إعراب نحوي. وقرأ ابن كثير في رواية شبل «وإمّا فدى» بالفتح والقصر كعصا. وزعم أبو حاتم أنه لا يجوز قصره لأنه مصدر فأديته، قال الشهاب: ولا عبرة به فإن فيه أربع لغات الفتح والكسر مع المد والقصر ولغة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 196 خامسة البناء مع الكسر كما حكاه الثقات انتهى، وفي الكشف نقلا عن الصحاح الفداء إذا كسر أوله يمد ويقصر وإذا فتح فهو مقصور. ومن العرب من يكسر الهمزة أي يبنيه على الكسر إذا جاوز لام الجر خاصة لأنه اسم فعل بمعنى الدعاء، وأنشد الأصمعي بيت النابغة مهلا فداء لك. وهذا الكسر مع التنوين كما صرح به في البحر، وظاهر الآية. على ما ذكره السيوطي في أحكام القرآن العظيم. امتناع القتل بعد الأسر وبه قال الحسن. وأخرج ابن جرير. وابن مردويه عنه أنه قال: أتى الحجاج بأسارى فدفع إلى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما رجلا يقتله فقال ابن عمر: ليس بهذا أمرنا إنما قال الله تعالى: حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً وفي حكم الأسارى خلاف فذهب الأكثرون إلى أن الإمام بالخيار إن شاء قتلهم إن لم يسلموا لأنه صلّى الله عليه وسلّم قتل صبرا عقبة بن أبي معيط وطعيمة بن عدي والنضر بن الحرث التي قالت فيه أخته أبياتا منها تخاطب النبي صلّى الله عليه وسلّم: ما كان ضرك لو مننت وربما ... منّ الفتى وهو المغيظ المحنق ولأن في قتلهم حسم مادة فسادهم بالكلية، وليس لواحد من الغزاة أن يقتل أسيرا بنفسه فإن فعل بلا ملجىء كخوف شر الأسير كان للإمام أن يعزره إذا وقع على خلاف مقصوده ولكن لا يضمن شيئا، وإن شاء استرقهم لأن فيه دفع شرهم مع وفور المصلحة لأهل الإسلام، وإن شاء تركهم ذمة أحرارا للمسلمين كما فعل عمر رضي الله تعالى عنه ذلك في أهل السواد إلا أسارى مشركي العرب والمرتدين فإنهم لا تقبل منهم جزية ولا يجوز استرقاقهم بل الحكم فيهم إما الإسلام أو السيف، وإن أسلم الأسارى بعد الأسر لا يقتلهم لاندفاع شرهم بالإسلام، ولكن يجوز استرقاقهم فإن الإسلام لا ينافي الرق جزاء على الكفر الأصلي وقد وجد بعد انعقاد سبب الملك وهو الاستيلاء على الحربي غير المشرك من العرب، بخلاف ما لو أسلموا من قبل الأخذ فإنهم يكونون أحرارا لأنه إسلام قبل انعقاد سبب الملك فيهم، ولا يفادى بالأسارى في إحدى الروايتين عن الإمام أبي جنيفة رضي الله تعالى عنه لما في ذلك من معونة الكفر لأنه يعود الأسير الكافر حربا علينا، ودفع شر حرابته خير من استنقاذ المسلم لأنه إذا بقي في أيديهم كان ابتلاء في حقه فقط، والضرر بدفع أسيرهم إليهم يعود على جماعة المسلمين. والرواية الأخرى عنه أنه يفادى وهو قول محمد وأبي يوسف والإمام الشافعي ومالك وأحمد إلا بالنساء فإنه لا يجوز المفاداة بهن عندهم، ومنع أحمد المفاداة بصبيانهم، وهذه رواية السير الكبير، قيل: وهو أظهر الروايتين عن الإمام أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: تجوز المفاداة بالأسارى قبل القسمة لا بعدها، وعند محمد تجوز بكل حال. ووجه ما ذكره الأئمة من جواز المفاداة أن تخليص المسلم أولى من قتل الكافر للانتفاع به ولأن حرمته عظيمة وما ذكر من الضرر الذي يعود إلينا بدفعه إليهم يدفعه ظاهرا المسلم الذي يتخلص منهم لأنه ضرر شخص واحد فيقوم بدفعه واحد مثله ظاهرا فيتكافئان وتبقى فضيلة تخليص المسلم وتمكينه من عبادة الله تعالى فإن فيها زيادة ترجيح. ثم إنه قد ثبت ذلك عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخرج مسلم وأبو داود والترمذي وعبد بن حميد وابن جرير عن عمران ابن حصين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين ويحتج لمحمد بما أخرجه مسلم أيضا عن إياس بن سلمة عن أبيه سلمة قال: خرجنا مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه أمره علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أن قال فلقيني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الغد في السوق فقال: يا سلمة هب لي المرأة يعني التي نفله أبو بكر إياها. فقلت: يا رسول الله لقد أعجبتني وما كشفت لها ثوبا، ثم لقيني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الغد في السوق فقال: «يا سلمة هب لي المرأة لله أبوك» فقلت: هي لك يا رسول الله فو الله ما كشفت لها ثوبا فبعث بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ففدى بها ناسا من المسلمين أسروا بمكة ، ولا يفادى بالأسير إذا أسلم وهو بأيدينا لأنه لا يفيد إلا إذا طابت نفسه وهو مأمون على إسلامه فيجوز لأنه الجزء: 13 ¦ الصفحة: 197 يفيد تخليص مسلم من غير إضرار بمسلم آخر، وأما المفاداة بمال فلا تجوز في المشهور من مذهب الحنفية لما بين في المفاداة بالمسلمين من ردهم حربا علينا. وفي السير الكبير أنه لا بأس به إذا كان بالمسلمين حاجة. قيل: استدلالا بأسارى بدر فإنه لا شك في احتياج المسلمين بل في شدة حاجتهم إذ ذاك فليكن محمل المفاداة الكائنة في بدر بالمال. وأما المن على الأسارى وهو أن يطلقهم إلى دار الحرب من غير شيء فلا يجوز عند أبي حنيفة ومالك وأحمد، وأجازه الإمام الشافعي لأنه صلّى الله عليه وسلّم من على جماعة من أسرى بدر منهم أبو العاص بن أبي الربيع على ما ذكره ابن اسحق بسنده. وأبو دواد من طريقه إلى عائشة لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في فداء أبي العاص بمال وبعثت فيه بقلادة كانت خديجة أدخلته بها على أبي العاص حين بنائه عليها فلما رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم ذلك رق لها رقة شديدة وقال لأصحابه: «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا لها الذي لها» ففعلوا ذلك مغتبطين به، ورواه الحاكم وصححه وزاد «وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم قد أخذ عليه أن يخلي زينب إليه ففعل» ومنّ صلّى الله عليه وسلّم على ثمامة بن أثال ابن النعمان الحنفي سيد أهل اليمامة ثم أسلم وحسن إسلامه، وحديثه في صحيح مسلم عن أبي هريرة، ويكفي ما ثبت في صحيح البخاري من قوله عليه الصلاة والسلام: «لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى- يعني أسارى بدر- لتركتهم له» فإنه صلّى الله عليه وسلّم أخبر وهو الصادق المصدوق بأنه يطلقهم لو سأله المطعم، والإطلاق على ذلك التقدير لا يثبت إلا وهو جائز شرعا لمكان العصمة، وكونه لم يقع لعدم وقوع ما علق عليه لا ينفي جوازه شرعا. واستدل أيضا بالآية التي تحت فيها فإن الله تعالى خير فيها بين المن والفداء، والظاهر إن المراد بالمن الإطلاق مجانا وكون المراد المن عليهم بترك القتل وإبقاءهم مسترقين أو تخليتهم لقبول الجزية وكونهم من أهل الذمة خلاف الظاهر، وبعض النفوس يجد طعم الالاء أحلى من هذا المن. وأجاب بعض الحنفية بأن الآية منسوحة بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] من سورة براءة فإنه يقتضي عدم جواز المن وكذا عدم جواز الفداء وهي آخر سورة نزلت في هذا الشأن، وزعم أن ما وقع من المن والفداء إنما كان في قضية بدر وهي سابقة عليها وإن كان شيء من ذلك بعد بدر فهو أيضا قبل السورة. والقول بالنسخ جاء عن ابن عباس وقتادة والضحاك ومجاهد في روايات ذكرها الجلال السيوطي في الدر المنثور، وقال العلامة ابن الهمام: قد يقال إن ذلك- يعني ما في سورة براءة- في حق غير الأسارى بدليل جواز الاسترقاق فيهم فيعلم أن القتل المأمور به في حق غيرهم، وما ذكره في جواز الاسترقاق ليس على إطلاقه إذ لا يجوز كما علمت استرقاق مشركي العرب حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها أي آلاتها وأثقالها من السلاح وغيره، قال الأعشى: وأعددت للحرب أوزارها ... رماحا طوالا وخيلا ذكورا ومن نسج داود موضونة ... تساق إلى الحرب عيرا فعيرا وهي في الأصل الأحمال فاستعيرت لما ذكر استعارة تصريحية، ويجوز أن يكون في الْحَرْبُ استعارة مكنية بأن تشبه بإنسان يحمل حملا على رأسه أو ظهره ويثبت لها ما أثبت تخييلا، وكلام الكشاف أميل إليه، وقيل: هي أحمال المحارب أضيفت للحرب تجوزا في النسبة الإضافية وتغليبا لها على الكراع، وإسناد الوضع للحرب مجاري أيضا وليس بذاك. وعد بعض الأماثل الكلام تمثيلا، والمراد حتى تنقضي الحرب وقال: يجوز أن يكون إرادة ذلك من باب المجاز المتفرع على الكناية كما في قوله: فألقت عصاها واستقر بها النوى. فإنه كنى به عن انقضاء السفر والإقامة، قيل: الأوزار جمع وز بمعنى إثم وهو هنا الشرك والمعاصي، و «تضع» بمعنى تترك مجازا، وإسناده الجزء: 13 ¦ الصفحة: 198 للحرب مجاز أو بتقدير مضاف، والمعنى حتى يضع أهل الحرب شركهم ومعاصيهم، وفيه أنه لا يستحسن إضافة الأوزار بمعنى الآثام إلى الحرب، وحَتَّى عند الشافعي عليه الرحمة ومن قال نحو قوله: غاية للضرب، والمعنى اضربوا أعناقهم حتى تنقضي الحرب، وليس هذا بدلا من الأول ولا تأكيدا له بناء على ما قرروه من أن حتى الداخلة على إذا الشرطية ابتدائية أو غاية للشد أو للمن والفداء معا أو للمجموع من قوله تعالى: فَضَرْبَ الرِّقابِ إلخ بمعنى أن هذه الأحكام جارية فيهم حتى لا يكون حرب مع المشركين بزوال شوكتهم، وقيل: بنزول عيسى عليه السلام، وروي ذلك عن سعيد بن جبير. والحسن، وفي الحديث ما يؤيده أخرج أحمد والنسائي وغيرهما عن سلمة بن نفيل قال: بينما أنا جالس عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ جاء رجل فقال: يا رسول الله إن الخيل قد سيبت ووضع السلاح وزعم أقوام أن لا قتال وإن قد وضعت الحرب أوزارها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كذبوا فالآن جاء القتال ولا تزال طائفة من أمتي يقاتلون في سبيل الله لا يضرهم من خالفهم يزيغ الله تعالى قلوب قوم ليرزقهم منهم وتقاتلون حتى تقوم الساعة ولا تزال الخيل معقودا في نواصيها الخير حتى تقوم الساعة ولا تضع الحرب أوزارها حتى يخرج يأجوج ومأجوج» وهي عند من يقول: لا منّ ولا فداء اليوم غاية للمن والفداء إن حمل على الحرب على حرب بدر بجعل تعريفه للعهد، والمعنى المن عليهم ويفادون حتى تضع حرب بدر أوزارها، وغاية للضرب والشد إن حملت على الجنس، والمعنى أنهم يقتلون ويؤسرون حتى تضع جنس الحرب أوزارها بأن لا يبقى للمشركين شوكة، ولا تجعل غاية للمن والفداء مع إرادة الجنس. وفي زعم جوازه والتزام النسخ كلام فتأمل ذلِكَ أي الأمر ذلك أو افعلوا ذلك فهو في محل رفع خبر مبتدأ محذوف أو في محل نصب مفعول لفعل كذلك، والإشارة إلى ما دل عليه قوله تعالى: فَضَرْبَ الرِّقابِ إلخ لا إلى ما تقدم من أول السورة إلى هاهنا لأن افعلوا لا يقع على جميع السالف وعلى الرفع ينفك النظم الجليل إن لم يحمل عليه لأن ما بعد كلام فيهم وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ لانتقم منهم ببعض أسباب الهلاك من خسف أو رجفة أو غرق أو موت جارف وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ولكن أمركم سبحانه بالقتال ليبلو المؤمنين بالكافرين بأن يجاهدوهم فينالوا الثواب ويخلد في صحف الدهر ما لهم من الفضل الجسيم والكافرين بالمؤمنين بأن يعاجلهم عزّ وجلّ ببعض انتقامه سبحانه فيتعظ به بعض منهم ويكون سببا لإسلامه واللام متعلقة بالفعل المقدر الذي ذكرناه وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي استشهدوا. وقرأ الجمهور «قاتلوا» أي جاهدوا، والجحدري بخلاف عنه «قتلوا» بفتح القاف والتاء بلا ألف، وزيد بن ثابت والحسن وأبو رجاء وعيسى والجحدري أيضا «قتّلوا» بالبناء للمفعول وشد التاء. فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ فلن يضيعها سبحانه، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه «يضلّ» مبنيا للمفعول «أعمالهم» بالرفع على النيابة عن الفاعل. وقرىء «يضلّ» بفتح الياء من ضل «أعمالهم» بالرفع على الفاعلية. والآية قال قتادة: كما أخرجه عنه ابن جرير. وابن أبي حاتم ذكر لنا أنها نزلت في يوم أحد ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الشعب وقد فشت فيهم الجراحات والقتل وقد نادى المشركون يومئذ أعل هبل ونادى المسلمون الله أعلى وأجل فنادى المشركون يوم بيوم بدر وان الحرب سجال لنا عزى ولا عزى لكم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الله مولانا ولا مولى لكم إن القتلى مختلفة أما قتلانا فأحياء مرزوقون وأما قتلاكم ففي النار يعذبون» ومنه يعلم وجه قراءة «قتلوا» بصيغة التفعيل سَيَهْدِيهِمْ سيوصلهم إلى ثواب تلك الأعمال من النعيم المقيم والفضل العظيم، وهذا كالبيان لقوله سبحانه: فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ أو سيثبت جلّ شأنه في الدنيا هدايتهم، والمراد الوعد بأن يحفظهم سبحانه ويصونهم عما يورث الضلال وحبط الأعمال، وهو كالتعليل لذلك، ويجوز أن يكون كالبيان له أيضا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 199 وَيُصْلِحُ بالَهُمْ أي شأنهم، قال الطبرسي: المراد إصلاح ذلك في العقبى فلا يتكرر مع ما تقدم لأن المراد به إصلاح شأنهم في الدين والدنيا فلا تغفل وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ في موضع الحال بتقدير قد أو بدونه أو استئناف كما قال أبو البقاء، والتعريف في الآخرة. أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد أنه قال: يهدي أهل الجنة إلى بيوتهم ومساكنهم وحيث قسم الله تعالى لهم منها لا يخطئون كأنهم ساكنوها منذ خلقوا لا يستدلون عليها أحدا، وفي الحديث «لأحدكم بمنزله في الجنة أعرف منه بمنزله في الدنيا» وذلك بإلهام منه عزّ وجلّ، وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل أنه قال: بلغنا أن الملك الذي كان وكل بحفظ عمل الشخص في الدنيا يمشي بين يديه في الجنة ويتبعه الشخص حتى يأتي أقصى منزل هو له فيعرفه كل شيء أعطاه الله تعالى في الجنة فإذا انتهى إلى أقصى منزله في الجنة دخل إلى منزله وأزواجه وانصرف الملك عنه. وورد في بعض الآثار أن حسناته تكون دليلا إلى منزله فيها، وقيل: إنه تعالى رسم على كل منزل اسم صاحبه وهو نوع من التعريف، وقيل: تعريفها تحديدها يقال: عرف الدار وأرفها أي حددها أي حددها لهم بحيث يكون لكل جنة مفرزة، وقيل: أي شرفها لهم ورفعها وعلاها على أن عرفها من الأعراف التي هي الجبال وما أشبهها، وعن ابن عباس في رواية عطاء. وروي عن مؤرج أي طيبها لهم على أنه من العرف وهو الريح الطيبة هاهنا، ومنه طعام معرف أي مطيب، وعرفت القدر طيبتها بالملح والتابل، وعن الجبائي أن التعريف في الدنيا وهو بذكر أوصافها، والمراد أنه تعالى لم يزل يمدحها لهم حتى عشقوها فاجتهدوا فيما يوصلهم إليها: والأذن تعشق قبل العين أحيانا وعلى هذا المراد قيل: اشتقاقه من قبل رؤيته كما ... تهوى الجنان بطيّب الأخبار يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ أي دينه ورسوله صلّى الله عليه وسلّم لا على أن الكلام على تقدير مضاف بل على أن نصرة الله فيه تجوز في النسبة فنصرته سبحانه نصرة رسوله ودينه إذ هو جل شأنه وعلا المعين الناصر وغيره سبحانه المعان المنصور يَنْصُرْكُمْ على أعدائكم ويفتح لكم وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ في مواطن الحرب ومواقفها أو على محجة الإسلام، والمراد يقويكم أو يوفقكم للدوام على الطاعة. وقرأ المفضل عن عاصم «ويثبت» مخففا وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ من تعس الرجل بفتح العين تعسا أي سقط على وجهه، وضده انتعش أي قام من سقوطه. وقال شمر وابن شميل وأبو الهيثم وغيرهم: تعس بكسر العين، ويقال: تعسا له ونكسا على أن الأول. كما قال ابن السكيت. بمعنى السقوط على الوجه والثاني بمعنى السقوط على الرأس، وقال الحمصي في حواشيه على التصريح: تعس تعسا أي لا انتعش من عثرته ونكسا بضم النون وقد تفتح إما في لغة قليلة وإما اتباعا لتعسا، والنكس بالضم عود المرض بعد النقه، ويراد بذلك الدعاء، وكثر في الدعاء على العاثر تعسا له، وفي الدعاء له لعا له أي انتعاشا وإقامة، وأنشدوا قول الأعشى يصف ناقة: كلفت مجهولة نفسي وشايعني ... همي عليها إذا ما آلها لمعا بذات لوث عفرناة إذا عثرت ... فالتعس أولى لها من أن أقول لعا وقال ثعلب وابن السكيت أيضا: التعس الهلاك، ومنه قول مجمع بن هلال: تقول وقد أفردتها من حليلها ... تعست كما أتعستني يا مجمع الجزء: 13 ¦ الصفحة: 200 وفي القاموس التعس الهلاك والعثار والسقوط والشر والبعد والانحطاط والفعل كمنع وسمع أو إذا خاطبت قلت: تعست كمنع وإذا حكيت قلت: تعس كسمع، ويقال: تعسه الله تعالى وأتعسه ورجل تاعس وتعس، وانتصابه على المصدر بفعل من لفظه يجب إضماره لأنه للدعاء كسقيا ورعيا فيجري مجرى الأمثال إذا قصد به ذلك، والجار والمجرور بعده متعلق بمقدر للتبيين عند كثير أي أعني له مثلا فنحو تعسا له جملتان. وذهب الكوفيون إلى أنه كلام واحد، ولابن هشام كلام في هذا الجار مذكور في بحث لام التبيين فلينظر هناك. واختلفت العبارات في تفسير ما في الآية الكريمة، فقال ابن عباس: أي بعدا لهم. وابن جريج. والسدي أي حزنا لهم، والحسن أي شتما لهم، وابن زيد أي شقاء لهم، والضحاك أي رغما لهم، وحكى النقاش تفسيره بقبحا لهم، وقال غير واحد: أي عثورا وانحطاطا لهم، وما ألطف ذكر ذلك في حقهم بعد ذكر تثبيت الأقدام في حق المؤمنين، وفي رواية عن ابن عباس يريد في الدنيا القتل وفي الآخرة التردي في النار، وأكثر الأقوال ترجع إلى الدعاء عليهم بالهلاك. وجوز الزمخشري في إعرابه وجهين: الأول كونه مفعولا مطلقا لفعل محذوف كما تقدم. والثاني مفعولا به لمحذوف أي فقضى تعسا لهم، وقدر على الأول القول أي فقال: تعسا لهم، والذي دعاه لذلك على ما قيل جعل الَّذِينَ مبتدأ والجملة المقرونة بالفاء خبرا له وهي لا نشاء الدعاء. والإنشاء لا يقع خبرا بدون تأويل، فإما أن يقدر معها قول أو تجعل خبرا بتقدير قضى، وجعل قوله تعالى: وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ عطفا على ما قدر. وفي الكشف المراد من قال: تعسا لهم أهلكهم الله لا أن ثم دعاء وقولا، وذلك لأنه لا يدعي على شخص إلا وهو مستحق له فإذا أخبر تعالى أنه يدعو عليه دل على تحقق الهلاك لا سيما وظاهر اللفظ أن الدعاء منه عزّ وجلّ، وهذا مجاز على مجاز أعني أن القول مجاز وكذلك الدعاء بالتعس، ولم يجعل العطف على (تعسا) لأنه دعاء، وأَضَلَّ إخبار، ولو جعل دعاء أيضا عطفا على (تعسا) على التجوز المذكور لكان له وجه انتهى. وأنت تعلم أن اعتبار ما اعتبره الزمخشري ليس لأجل أمر العطف فقط بل لأجل أمر الخبرية أيضا، فإن قيل بصحة الأخبار بالجملة الإنشائية من غير تأويل استغنى عما قاله بالكلية، ودخلت الفاء في خبر الموصول لتضمنه معنى الشرط. وجوز أن يكون الموصول في محل نصب على المفعولية لفعل مقدر يفسره الناصب- لتعسا- أي أتعس الله الذين كفروا أو تعس الله الذين كفروا تعسا لما سمعت عن القاموس وقد حكي عن أبي عبيدة، والفاء زائدة في الكلام كما في قوله تعالى: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر: 3] ويزيدها العرب في مثل ذلك على توهم الشرط، وقيل: يقدر الفعل مضارعا معطوفا على قوله تعالى: يُثَبِّتْ أي ويتعس الذين إلخ. والفاء للعطف فالمراد اتعاس بعد اتعاس، ونظيره قوله تعالى: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة: 40] أو لأن حق المفسر أن يذكر عقب المفسر كالتفصيل بعد الإجمال، وفيه مقال. ذلِكَ أي ما ذكر من التعس والإضلال بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ من القرآن لما فيه من التوحيد وسائر الأحكام المخالفة لما ألفوه واشتهته أنفسهم الأمارة بالسوء، وهذا تخصيص وتصريح بسببية الكفر بالقرآن للتعس والإضلال إذ قد علم من قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلخ سببية مطلق الكفر الداخل فيه الكفر بالقرآن دخولا أوليا لذلك فَأَحْبَطَ لأجل ذلك أَعْمالَهُمْ التي لو كانوا عملوها التي لو كانوا عملوها مع الإيمان لأثيبوا عليها، وذكر الإحباط مع ذكر الإضلال المراد هو منه إشعارا بأنه يلزم الكفر بالقرآن ولا ينفك عنه بحال أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي أقعدوا في أماكنهم فلم يسيروا فيها فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم المكذبة فإن آثار ديارهم تنبىء عن أخبارهم، وقوله تعالى: دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ استئناف بياني كأنه قيل: كيف كانت الجزء: 13 ¦ الصفحة: 201 عاقبتهم؟ فقيل: أهلك ما يختص بهم من النفس والأهل والمال يقال: دمره أهلكه دمر عليه أهلك ما يختص به فدمر عليه أبلغ من دمره، وجاءت المبالغة من حذف المفعول وجعله نسيا منسيا والإتيان بكلمة الاستعلاء وهي لتضمن التدمير معنى الإيقاع أو الهجوم أو نحوه وَلِلْكافِرِينَ أي لهؤلاء الكافرين السائرين سيرتهم أَمْثالُها أمثال عاقبتهم أو عقوبتهم لدلالة ما سبق عليها لكن لا على أن لهؤلاء أمثال ما لأولئك وأضعافه بل مثله، وإنما جمع باعتبار مماثلته لعواقب متعددة حسب تعدد الأمم المعذبة، وقيل: يجوز أن يكون عذابهم أشد من عذاب الأولين وقد قتلوا وأسروا بأيدي من كانوا يستخفونهم ويستضعفونهم، والقتل بيد المثل أشد من الهلاك بسبب عام، وقيل: المراد بالكافرين المتقدمون بطريق وضع الظاهر موضع الضمير كأنه قيل: دمر الله تعالى عليهم في الدنيا ولهم الآخرة أمثالها ذلِكَ إشارة إلى ثبوت أمثال عاقبة أو عقوبة الأمم السالفة لهؤلاء، وقيل: إشارة إلى النصر وهو كما ترى بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا أي ناصرهم على أعدائهم، وقرىء «ولي الذين آمنوا» وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ فيدفع ما حل بهم من العقوبة والعذاب، ولا يناقض هذا قوله تعالى: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ [يونس: 30] لأن المولى هناك بمعنى المالك فلم يتوارد النفي والإثبات على معنى واحد. إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ بيان لحكم ولايته تعالى لهم وثمرتها الأخروية وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ أي ينتفعون بمتاع الدنيا أياما قلائل وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ الكاف في موضع نصب إما على الحال من ضمير المصدر كما يقول سيبويه أي يأكلونه أي الأكل مشبها أكل الأنعام، وإما على أنه نعت لمصدر محذوف كما يقول أكثر المعربين أي أكلا مثل أكل الأنعام، والمعنى أن أكلهم مجرد من الفكر والنظر كما تقول للجاهل تعيش كما تعيش البهيمة لا تريد التشبيه في مطلق العيش ولكن في خواصه ولوازمه، وحاصله أنهم يأكلون غافلين عن عواقبهم ومنتهى أمورهم، وقوله تعالى: وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ أي موضع إقامة لهم، حال مقدر من واو يَأْكُلُونَ. وجوز أن يكون استئنافا وكان قوله تعالى: يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ في مقابلة قوله سبحانه: وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لما فيه من الإيماء إلى أنهم عرفوا أن نعيم الدنيا خيال باطل وظل زائل، فتركوا الشهوات وتفرغوا للصالحات، فكان عاقبتهم النعيم المقيم في مقام كريم وهؤلاء غفلوا عن ذلك فرتعوا في دمنهم كالبهائم حتى ساقهم الخذلان إلى مقرهم من درك النيران، وهذا ما ذكره العلامة الطيبي في بيان التقابل بين الآيتين، وقال بعض الأجلة: في الكلام احتباك وذلك أنه ذكر الأعمال الصالحة ودخول الجنة أولا دليلا على حذف الأعمال الفاسدة ودخول النار ثانيا وذكر التمتع والمثوى ثانيا دليلا على حذف التقلل والمأوى أولا والأول أحسن وأدق، وأسند إدخال الجنة إلى الله تعالى ولم يسلك نحو هذا المسلك في قوله تعالى: وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وخولف بين الجملتين فعلية واسمية للإيذان بسبق الرحمة والإعلام بمصير المؤمنين والوعد بأن عاقبتهم أن الله سبحانه يدخلهم جنات وأن الكافرين مثواهم النار وهم الآن حاضرون فيها ولا يدرون وكالبهائم يأكلون. وَكَأَيِّنْ بمعنى كم الخبرية وهي مبتدأ، وقوله تعالى: مِنْ قَرْيَةٍ تمييز لها، وقوله سبحانه: هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ صفة لقرية كما أن قوله عزّ وجلّ: الَّتِي أَخْرَجَتْكَ صفة لقريتك، وقد حذف عنهما المضاف وأجري أحكامه عليهما كما يفصح عنه الخبر الذي هو قوله تعالى: أَهْلَكْناهُمْ أي وكم من أهل قرية هم أشد قوة من أهل قريتك الذين أخرجوك أهلكناهم بأنواع العذاب، وجوز أن لا يكون هناك حذف وإنما أطلق المحل وأريد الحال مجازا، وإسناد الإخراج إلى أهل قريته صلّى الله عليه وسلّم وهي مكة المكرمة مجاز من باب الإسناد إلى السبب لأنهم عاملوه صلّى الله عليه وسلّم بما عاملوه الجزء: 13 ¦ الصفحة: 202 فكانوا بذلك سببا لإخراجه حين أذن الله تعالى عليه الصلاة والسلام بالهجرة منها، ونظير ذلك أقدمني بلدك حق لي عليك. وأنت تعلم أنه على ما حققه الأجلة يحتمل أوجها ثلاثة، مجازا في الإسناد إذا كان الإقدام مستعملا في معناه الذي وضع له وإن كان موهوما. ومجازا في الطرف إذا كان مستعملا في معنى الحمل على القدوم. واستعارة بالكناية إن كان الحق مستعملا في المقدم، والشيخ يقول في مثل ذلك: إن الفعل المتعدي موهوم لا فاعل له ليصير الإسناد إليه حقيقة فلا إقدام مثلا في قصد المتكلم وإنما هو تصوير القدوم بصورة الإقدام، وإسناده إلى الحق المصور بصورة المقدم مبالغة في كونه داعيا للقدوم، وارتضاه السالكوتي في حواشي شرح مختصر التلخيص وذب عنه القال والقيل، وتمام الكلام هناك، والكلام في الآية على طرز ذاك، ووصف القرية الأولى بشدة القوة للإيذان بأولوية الثانية منها بالإهلاك لضعف قوتها كما أن وصف الثانية بإخراجه عليه الصلاة والسلام للإيذان بأولويتها به لقوة جنايتها، وعلى طريقته قول النابغة: كليب لعمري كان أكثر ناصرا ... وأيسر جرما منك ضرج بالدم وقوله تعالى: فَلا ناصِرَ لَهُمْ بيان لعدم خلاصهم بواسطة الأعوان والأنصار إثر بيان عدم خلاصهم منه بأنفسهم، والفاء لترتيب ذكر ما بالغير على ذكر ما بالذات وهو حكاية حال ماضية كما في قوله تعالى: فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ولا نسلم أن اسم الفاعل إذا لم يعمل حقيقة في الماضية، والآية تسلية له صلّى الله عليه وسلّم، فقد أخرج عبد بن حميد وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما خرج من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال: «أنت أحب بلاد الله تعالى إلى الله وأنت أحب بلاد الله تعالى إلي ولولا أن أهلك أخرجوني منك لم أخرج منك» فأعدى الأعداء من عدا على الله تعالى في حرمه أو قتل غير قاتله أو قتل بدخول أهل الجاهلية فأنزل الله سبحانه وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ إلخ، وقد تقدم ما يتعلق بذلك أول السورة فتذكر. أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ تقرير لتباين حال الفريقين المؤمنين والكافرين وكون الأولين في أعلى عليين والآخرين في أسفل سافلين وبيان لعلة ما لكل منهما من الحال، والهمزة لإنكار استوائهما أو لإنكار كون الأمر ليس كما ذكر، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام وقد قرىء بدونها، و (من) عبارة عن المؤمنين المتمسكين بأدلة الدين كما أنها في قوله تعالى: كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ عبارة عن أضدادهم من المشركين. وأخرج جماعة عن ابن عباس أن من كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ هم المشركون، وروي عن قتادة نحوه وإليه ذهب الزمخشري. وتعقب بأن التخصيص لا يساعده النظم الكريم ولا داعي إليه، قيل: ومثله كون (من) الأول عبارة عنه صلّى الله عليه وسلّم وعن المؤمنين، والمعنى أيستوي الفريقان أو أليس الأمر كما ذكر فمن كان ثابتا على حجة ظاهرة وبرهان نير من مالك أمره ومربيه وهو القرآن العظيم وسائر المعجزات والحجج العقلية كمن زين له الشيطان عمله السيء من الشرك وسائر المعاصي كإخراجك من قريتك مع كون ذلك في نفسه أقبح القبائح وَاتَّبَعُوا في ذلك العمل السيء، وقيل: بسبب ذلك التزيين أَهْواءَهُمْ الزائغة من غير أن يكون لهم شبهة توهم صحة ما هم عليه فضلا عن حجة تدلك عليها. وجمع الضميرين الأخيرين باعتبار معنى (من) كما أن افراد الأولين باعتبار لفظها. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 203 مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ إلى آخره استئناف مسوق لشرح إيذانا بأن الإيمان والعمل الصالح من باب التقوى الذي هو عبارة عن فعل الواجبات وترك السيئات، والمثل الوصف العجيب الشأن وهو مبتدأ باتفاق المعربين، واختلف في خبره فقيل محذوف فقال النضر بن شميل: تقديره ما تسمعون، وقوله عزّ وجلّ: فِيها أَنْهارٌ إلى آخره مفسر له، وقال سيبويه: تقديره فيما يتلى عليكم أو فيما قصصنا عليك ويقدر مقدما وفِيها أَنْهارٌ إلخ بيان لذلك المثل، وقدره ابن عطية ظاهر في نفس من وعى هذه الأوصاف وليس بذاك، ولعل الأنسب بصدر النظم الكريم تقدير النضر، وقيل: هو مذكور فقيل هو قوله تعالى: فِيها أَنْهارٌ إلخ على معنى مثل الجنة وصفتها مضمون هذا الكلام ولا يحتاج مثل هذا الخير إلى رابط. وقيل هذه الجملة هي الخبر إلا أن لفظ مَثَلُ زائد زيادة اسم في قول من قال: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما فالمبتدأ في الحقيقة هو المضاف إليه فكأنه قيل: الجنة فيها أنهار إلخ وليس بشيء، وقيل: الخبر قوله تعالى الآتي: كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وسيأتي إن شاء الله تعالى بسط الكلام فيه. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وعبد الله والسلمي «أمثال الجنة» أي صفاتها، قال ابن جني: وهذا دليل على أن قراءة العامة بالتوحيد معناها الكثرة لما في مثل من معنى المصدرية ولذا جاز مررت برجل مثل رجلين وبرجلين مثل رجال وبامرأة مثل رجل، وعن علي كرم الله تعالى وجهه أيضا أنه قرىء «مثال الجنة» ومثال الشيء في الأصل نظيره الذي يقابل به. مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ أي غير متغير الطعم والريح لطول مكث ونحوه، وماضيه أسن بالفتح من باب ضرب ونصر وبالكسر من باب علم حكى ذلك الخفاجي عن أهل اللغة. وفي البحر أسن الماء تغير ريحه يأسن ويأسن ذكره ثعلب في الفصيح، والمصدر أسون، وأسن بكسر السين يأسن بفتحها لغة أسنا قاله اليزيدي، وأسن الرجل بالكسر لا غير إذا دخل البئر فأصابته ريح منتنة منها فغشي عليه أو دار رأسه ومنه قول الشاعر: قد أترك القرن مصفرا أنامله ... يميد في الريح ميد المائح الأسن وقرأ ابن كثير. وأهل مكة «أسن» على وزن حذر فهو صفة مشبهة أو صيغة مبالغة، وقرأ «يسن» بالياء قال أبو علي: وذلك على تخفيف الهمزة وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ لم يحمض ولم يصر قارصا ولا حاذرا كألبان الدنيا وتغير الريح لا يفارق تغير الطعم وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ أي لذيذة لهم ليس فيها كراهة طعم وريح ولا غائلة سكر وخمار كخمور الدنيا فإنها لا لذة في نفس شربها وفيها من المكاره والغوائل ما فيها وهي صفة مشبهة مؤنث لذ وصفت بها الخمر لأنها مؤنثة وقد تذكر أو مصدر نعت به بتقدير مضاف أو بجعلها عين اللذة مبالغة على ما هو المعروف في أمثال ذلك وقرئت بالرفع على أنها صفة أَنْهارٌ وبالنصب على أنها مفعول له أي كائنة لأجل اللذة لا لشيء آخر من الصداع وسائر آفات خمور الدنيا وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى مما يخالفه فلا يخالطه الشمع الجزء: 13 ¦ الصفحة: 204 وفضلات النحل وغيرها، ووصفه بمصفى لأنه الغالب على العسل التذكير وهو مما يذكر ويؤنث كما نص عليه أبو حيان. وغيره، وهذا على ما قيل تمثيل لما يجري مجرى الأشربة في الجنة بأنواع ما يستطاب منها أو يستلذ في الدنيا بالتخلية عما ينقصها وينغصها والتحلية بما يوجب غزارتها ودوامها. وبدىء بالماء لأنه في الدنيا مما لا يستغنى عنه ثم باللبن إذ كان يجري مجرى المطعم لكثير من العرب في كثير من أوقاتهم ثم بالخمر لأنه إذا حصل الري والمطعوم تشوفت النفس إلى ما يلتذ به ثم بالعسل لأن فيه الشفاء في الدنيا مما يعرض من المشروب والمطعوم فهو متأخر بالرتبة، وجاء عن ابن عباس أن لبن تلك الأنهار لم يحلب، وقال سعيد بن جبير: إنه لم يخرج من بين فرث ودم وإن خمرها لم تدسها الرجال بأرجلها وإن عسلها لم يخرج من بطون النحل. وأخرج ابن جرير عن سعد قال: سألت أبا إسحق عن قوله تعالى: مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ فقال: سألت عنه الحارث فحدثني أن ذلك الماء تسنيم وقال: بلغني أنه لا تمسه يد وأنه يجيء الماء هكذا حتى يدخل الفم. وفي حديث أخرجه ابن مردويه عن الكلبي أن نهر دجلة نهر الخمر في الجنة وأن عليه إبراهيم عليه السلام ونهر جيحون نهر الماء فيها ويقال له نهر الرب ونهر الفرات نهر اللبن وأنه لذرية المؤمنين ونهر النيل نهر العسل. وأخرج الحرث بن أبي أسامة في مسنده. والبيهقي عن كعب قال: نهر النيل نهر العسل ونهر دجلة نهر اللبن ونهر الفرات نهر الخمر ونهر سيحان نهر الماء في الجنة. وأنت تعلم أن المذكور في الآية لكل أنهار بالجمع والله تعالى أعلم بصحة هذه الأخبار ونحوها، ثم إنها إن صحت لا يبعد تأويلها وإن كانت القدرة الإلهية لا يتعاصاها شيء وَلَهُمْ فِيها مع ما ذكر من فنون الأنهار مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي أنواع من كل الثمرات فالجار والمجرور صفة مبتدأ مقدر وقدره بعضهم زوجان وكأنه انتزعه من قوله تعالى: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ [الرحمن: 52] وقيل: مِنْ زائدة أي ولهم فيها كل الثمرات وَمَغْفِرَةٌ مبتدأ خبره محذوف والجملة عطف على الجملة السابقة أي ولهم مغفرة، وجوز أن يكون عطفا على المبتدأ قبل بدون قيد فيها لأن المغفرة قبل دخول الجنة أو بالقيد والكلام على حذف مضاف أي ونعيم مغفرة أو جعل المغفرة عبارة عن أثرها وهو النعيم أو مجازا عن رضوان الله عزّ وجلّ، وقد يقال: المراد بالمغفرة هنا ستر ذنوبهم وعدم ذكرها لهم لئلا يستحيوا فتتنغص لذتهم والمغفرة السابقة ستر الذنوب وعدم المؤاخذة بها وحينئذ العطف على المبتدأ من غير ارتكاب شيء مما ذكر، وقد رأيت نحو هذا بعد كتابته للطبرسي مقتصرا عليه ولعله أولى مما قالوه، وتنوين مَغْفِرَةٌ للتعظيم أي مغفرة عظيمة لا يقادر قدرها، وقوله تعالى: مِنْ رَبِّهِمْ متعلق بمحذوف صفة لها مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أي كائنة من ربهم، وقوله عزّ وجلّ: كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ خبر لمبتدأ محذوف تقديره أمن هو خالد في هذه الجنة حسبما جرى به الوعد كمن هو خالد في النار كما نطق به قوله تعالى: وَالنَّارُ مَثْوىً لهم، وجوز أن يكون بدلا من قوله سبحانه: كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وما بينهما اعتراض لبيان ما يمتاز به من على بينة في الآخرة تقرير الإنكار المساواة وفيه بعد. وذهب جار الله إلى أنه خبر مَثَلُ الْجَنَّةِ وأن ذاك مرتب على الإنكار السابق أعني قوله تعالى: أَفَمَنْ كانَ إلخ، والمعنى أمثل الجنة كمثل جزاء من هو خالد في النار فالمضافان محذوفان الجزاء بقرينة مقابلة الجنة ولفظ المثل بقرينة تقدمه ومثله كثير، وفائدة التعرية عن حرف الإنكار أن من اشتبه عليه الأول أعني حال المتمسك بالبينة وحال التابع لهواه فالثاني مثله عنده وإذ ذاك لا يستحق الخطاب، ونظير ذلك قول حضرمي بن عامر: أفرح أن أرزأ الكرام وأن ... أورث ذودا شصائصا نبلا فإنه كلام منكر للفرح برزية الكرام ووراثة الذود مع تعريه من حرف الإنكار لانطوائه تحت حكم من قال له: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 205 أتفرح بموت أخيك وبوراثة إبله وذلك من التسليم الذي يقل تحته كل إنكار، وجعل قوله تعالى: فِيها أَنْهارٌ كالتكرير للصلة أي صلة بعد صلة يتضمن تفصيلها لأنه كالتفصيل للموعود، ولهذا لم يتخلل العاطفة بينهما، وجوز أن يكون في موضع الحال على أن الظرف في موضع ذلك وأَنْهارٌ فاعله لا على أنه مبتدأ والظرف خبر مقدم والجملة الاسمية حال لعدم الواو فيها، وقد صرحوا بأن الاكتفاء فيها بالضمير غير فصيح، واعتبارها فعلية بتقدير متعلق الظرف استقر لا يخفى حاله، وقيل: في الحال ضعف من حيث المعنى لمجيئه مجيء الفضلات وهي أم الإنكار، وأيضا هو حال من الجنة لا من ضميرها في الصلة وفي العامل تكلف، ثم الحال غير مقيدة وجعلها مؤكدة وقد علم كونها كذلك من إخباره تعالى فيه أيضا تكلف، وأن يكون خبر مبتدأ محذوف والجملة استئناف بياني، قال في الكشف: وهو الوجه، والتقدير هي فيها أنهار وكأنه قيل: أنى يكون صفة الجنة وهي كذا وكذا كصفة النار الاستئناف هاهنا بمنزلة قولك: وهي كذا وكذا اعتراضا لما في لفظ المثل من الأشعار بالوصف العجيب، وليس خبر الجملة السابقة وهو كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ مورد السؤال ليعترض بوقوع الاستئناف قبل مضيه. وأورد أنه لا حاجة إلى تقدير المبتدأ لأن فِيها أَنْهارٌ جملة برأسها، والجواب أن تقدير مثلها فيها أنهار فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فصار مرفوعا ثم حذف ولهذا قال في السؤال: كأن قائلا قال: وما مثلها؟ ويجري ما قرر في قراءة الأمير كرم الله تعالى وجهه ومن معه أمثال بالجمع فيقال: التقدير أمثال الجنة كأمثال جزاء من هو خالد في النار، ويقدر المضاف الأول جمعا للمطابقة، ولعمري لقد أبعد جار الله المغزى، وقد استحسن ما ذكره كثير من المحققين قال صاحب الكشف بعد تقرير جعل كَمَنْ هُوَ خالِدٌ خبر لمثل الجنة: هذا هو الوجه اللائح المناسب المساق. وقال ابن المنير: في الانتصاف بعد نقله كم ذكر الناس في تأويل هذه الآية فلم أر أطلى ولا أحلى من هذه النكت التي ذكرها لا يعوزها إلا التنبيه على أن في الكلام محذوفا ليتعادل. والتقدير مثل ساكن الجنة كمن هو خالد في النار، ومن هذا النمط قوله تعالى: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [التوبة: 19] إلخ، وما قدرناه لتحصيل التعادل أولى وإن كان فيه كثرة حذف فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك، والضمير المفرد. أعني «هو» . راجع إلى «من» لفظها كما إن ضمير الجمع في قوله سبحانه: وَسُقُوا ماءً حَمِيماً راجع إليها باعتبار معناها، والمراد وسقوا ماء حارا مكان تلك الأشربة وفيه تهكم بهم فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ من فرط الحرارة. روي أنه إذا أدني منهم شوى وجوههم وامتازت فروة رؤوسهم فإذا شربوه قطع أمعاءهم، وهي جمع معى بالفتح والكسر ما ينتقل الطعام إليه بعد المعدة ويقال له عفاج وهو مذكر وقد يؤنث وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ هم المنافقون، وإفراد الضمير باعتبار اللفظ كما أن جمعه بعد باعتبار المعنى، قال ابن جريج: كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيسمعون كلامه ولا يعونه ولا يراعونه حق رعايته تهاونا منهم حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي لأولي العلم من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وقيل: الواعون لكلامه عليه الصلاة والسلام الراعون له حق رعايته من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ماذا قالَ آنِفاً أي ما الذي قال قبيل هذا الوقت ومقصودهم من ذلك الاستهزاء وإن كان بصورة الاستعلام، وجوز أن يكون مرادهم حقيقة الاستعلام إذا لم يلقوا له آذانهم تهاونا به ولذلك ذموا والأول أولى، قيل: ذلك لابن مسعود، وعن ابن عباس أنا منهم وقد سميت فيمن سئل وأراد رضي الله تعالى عنه أنه من الذين أوتوا العلم بنص القرآن. وما أحسن ما عبر عن ذلك، وآنِفاً اسم فاعل على غير القياس أو بتجريد فعله من الزوائد لأنه لم يسمع له فعل ثلاثي بل استأنف وأتنف، وذكر الزجاج أنه من استأنفت الشيء إذا ابتدأته وكان أصل معنى هذا أخذت أنفه أي مبدأه، وأصل الأنف الجارحة المعروفة ثم يسمى به طرف الجزء: 13 ¦ الصفحة: 206 الشيء ومقدمه وأشرفه، وذكر غير واحد أن آنفا من ذلك قالوا: إنه اسم للساعة التي قبل ساعتك التي أنت فيها من الأنف بمعنى المتقدم وقد استعير من الجارحة لتقدمها على الوقت الحاضر، وقيل: هو بمعنى زمان الحال، وهو على ما ذهب إليه الزمخشري نصب على الظرفية ولا ينافي كونه اسم فاعل كما في بادىء فإنه اسم فاعل غلب على معنى الظرفية في الاستعمال، وقال أبو حيان: الصحيح أنه ليس بظرف ولا نعلم أحدا من النحاة عده في الظروف وأوجب نصبه على الحال من فاعل قالَ أي ماذا قال مبتدئا أي ما القول الذي ائتنفه الآن قبل انفصالنا عنه، وإلى ذلك يشير كلام الراغب. وقرأ ابن كثير «أنفا» على وزن فعل أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فعدم توجههم نحو الخير وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ فتوجهوا نحو كل ما لا خير فيه فلذلك كان منهم ما كان. وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا إلى طريق الحق زادَهُمْ أي الله عز وجل هُدىً بالتوفيق والإلهام، والموصول يحتمل الرفع على الابتداء والنصب بفعل محذوف يفسره المذكور وهُدىً مفعول ثاني لأن زاد قد يتعدى لمفعولين، ويحتمل أن يكون تمييزا والأول هو الظاهر، وتنوينه للتعظيم أي هدى عظيما وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ أي أعطاهم تقواهم إياه جل شأنه بأن خلقها فيهم بناء على ما يقوله الأشاعرة في أفعال العباد أو بأن خلق فيهم قدرة عليها مؤثرة في فعلها بإذنه سبحانه على ما نسبه الكوراني إلى الأشعري وسائر المحققين في أفعال العباد من أنها بقدرة خلقها الله تعالى فيهم مؤثرة بإذنه تعالى، وقول بعضهم: بأن جعلهم جل شأنه متقين له سبحانه يمكن تطبيقه على كل من القولين، وقال البيضاوي: أي بين لهم ما يتقون أو أعانهم على تقواهم أو أعطاهم جزاءها فالإيتاء عنده مجاز عن البيان أو الإعانة أو هو على حقيقته والتقوى مجاز عن جزائها لأنها سببه أو فيه مضاف مقدر وليس في شيء من ذلك ما يأباه مذهب أهل الحق، وذكر الزمخشري الثاني والثالث من ذلك، واختار الطيبي الأول من هذين الاثنين وقال: هو أوفق لتأليف النظم الكريم لأن أغلب آيات هذه السورة الكريمة روعي فيها التقابل فقوبل أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ بقوله سبحانه: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً لأن الطبع يحصل من تزايد الرين وترادف ما يزيد في الكفر، وقوله تعالى وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ بقوله جل وعلا: وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ فيحمل على كمال التقوى وهو أن يتنزه العارف عما يشغل سره عن الحق ويتبتل إليه سبحانه بشر أشره وهو التقوى الحقيقية المعنية بقوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: 102] فإن المزيد على مزيد الهدى مزيد لا مزيد عليه، وفي الترفع عن متابعة الهوى النزوع إلى المولى والعزوب عن شهوات الحياة الدنيا، ثم في إسناد إيتاء التقوى إليه تعالى وإسناد متابعة الهوى إليهم إيماء إلى معنى قوله تعالى حكاية: وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء: 80] وتلويح إلى أن متابعة الهوى مرض روحاني وملازمة التقوى دواء إلهي انتهى. وما ذكره من التقابل جار فيما ذكرناه أيضا، وكذا يجري التقابل على تفسير إيتاء التقوى ببيان ما يتقون لإشعار الكلام عليه بأن ما هم فيه ليس من ارتكاب الهوى والتشهي بل هو أمر حق مبني على أساس قوي، وتفسير ذلك بإعطاء جزاء التقوى مروي عن سعيد بن جبير وذهب إليه الجبائي، والكلام عليه أفيد وأبعد عن التأكيد من غير حاجة إلى حمل التقوى على أعلى مراتبها، وأمر التقابل هين فإنه قد يقال إن قوله تعالى: اهْتَدَوْا في مقابلة اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وقوله سبحانه: زادَهُمْ هُدىً في مقابلة طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فليتدبر، وقيل: فاعل زادَهُمْ ضمير قوله صلّى الله عليه وسلّم المفهوم من قوله تعالى وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وقوله سبحانه: ماذا قالَ آنِفاً وكذا فاعل آتاهُمْ أي أعانهم أو بيّن لهم، والإسناد مجازي، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر، وأيضا إذا كان قوله تعالى: زادَهُمْ هُدىً في مقابلة قوله سبحانه: طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فالأولى أن يتحد فاعله مع فاعله ويجري نحو ذلك على ما قاله الطيبي لئلا يلزم التفكيك، وجوز أن يكون ضميرا عائدا على قول المنافقين فإن ذلك مما يعجب منه الجزء: 13 ¦ الصفحة: 207 المؤمن فيحمد الله تعالى على إيمانه ويزيد بصيرة في دينه، وهو بعيد جدا بل لا يكاد يلتفت إليه. فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أي القيامة، وقوله تعالى: أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً أي تباغتهم بغتة وهي المفاجأة بدل اشتمال من الساعة أي لا يتذكرون بأحوال الأمم الخالية ولا بالأخبار بإتيان الساعة وما فيها من عظائم الأحوال فما ينتظرون للتذكر إلا إتيان الساعة نفسها، وقوله تعالى: فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها أي علاماتها وأماراتها كما في قوله أبي الأسود الدؤلي: فإن كنت قد أزمعت بالصرم بيننا ... فقد جعلت أشراط أوله تبدو وهي جمع شرط بالتحريك تعليل لمفاجأتها على معنى أنه لم يبق من الأمور الموجبة للتذكر أمر مترقب ينتظرونه سوى إتيان نفس الساعة إذ قد جاء أشراطها فلم يرفعوا لها رأسا ولم يعدوها من مبادئ إتيانها فيكون إتيانها بطريق المفاجأة لا محالة كذا في إرشاد العقل السليم، وظاهر كلام الكشاف أنه تعليل للإتيان مطلقا أي ما ينتظرون إلا إتيان الساعة لأنه قد جاء أشراطها وبعد مجيئها لا بد من وقوع الساعة، وتعليل المقيد دون قيده لا يخلو عن بعد، قيل: ويقربه هنا أن انتظارهم ليس إلا لإتيان الساعة وتقييده ببغتة ليس إلا لبيان الواقع، وقال بعض المحققين: هو تعليل لانتظار الساعة لأن ظهور إمارات الشيء سبب لانتظاره، وفي جعله تعليلا للمفاجأة خفاء لأنها لا تناسب مجيء الأشراط إلا بتأويل، وأنت تعلم أن البدل هو المقصود فالانتظار لاتيان الساعة بغتة فالتعليل المذكور تعليل للمقيد دون قيده أيضا فكان ما في الإرشاد متعين وإن كان فيه نوع تأويل، وقوله تعالى: فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ على ما أفاده بعض الأجلة تعجيب من نفع الذكرى عند مجيء الساعة وإنكار لعدم تشمرهم لها ولانتظارهم إياها هزؤا وجحودا، وفي الإرشاد وقوله تعالى: فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ حكم بخطئهم وفساد رأيهم في تأخير التذكر إلى إتيانها ببيان استحالة نفع التذكر حينئذ كقوله سبحانه: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى [الفجر: 23] أي فكيف لهم ذكراهم على أن (أنى) خبر مقدم وذِكْراهُمْ مبتدأ وإِذا جاءَتْهُمْ اعتراض وسط بينهما رمزا إلى غاية سرعة مجيئها، وإطلاق المجيء عن قيد البغتة لما أن مدار استحالة نفع التذكر كونه عند مجيئها مطلقا لا مقيدا بقيد البغتة، وقيل: (أنى) خبر مقدم لمبتدأ محذوف أي فأنى لهم الخلاص إذا جاءتهم الذكرى بما يخبرون به فينكرونه منوطة بالعذاب ولا يخفى حاله، وقرأ أبو جعفر الرؤاسي عن أهل مكة «إن تأتهم» على أنه شرط مستأنف جزاؤه فَأَنَّى لَهُمْ إلخ أي إن تأتهم الساعة بغتة إذ قد جاء أشراطها فأنى تنفعهم الذكرى وقت مجيئها، و (إن) هنا بمعنى إذا لأن إتيان الساعة متيقن، ولعل الإتيان بها للتعريض بهم وأنهم في ريب منها أو لأنها لعدم تعيين زمانها أشبهت المشكوك فيه وإذا جاءتهم باعتبار الواقع فلا تعارض بينهما كما يتوهم في النظرة الحمقاء. وفي الكشف «إذا» على هذه القراءة لمجرد الظرفية لئلا يلزم التمانع بين إِذا جاءَتْهُمْ و «إن تأتهم» وفي الإتيان بأن مع الجزم بالوقوع تقوية أمر التوبيخ والإنكار كما لا يخفى انتهى، وعلى ما ذكرنا لا يحتاج إلى جعل إذا لمجرد الظرفية. وقرأ الجعفي. وهارون عن أبي عمرو «بغتّة» بفتح الغين وشد التاء، قال صاحب اللوامح: وهي صفة وانتصابها على الحال ولا نظير لها في المصادر ولا في الصفات بل في الأسماء نحو الجربة وهي القطيع من حمر الوحش، وقد يسمى الأقوياء من الناس إذا كانوا جماعة متساوين جربة، والشربة وهي اسم موضع وكذا قال أبو العباس بن الحاج من أصحاب أبي علي الشلوبين في كتابه المصادر، وقال الزمخشري: وما أخوفني أن تكون غلطة من الراوي عن أبي عمرو وان يكون الصواب بغتة بفتح الغين من غير تشديد كقراءة الحسن فيما تقدم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 208 وتعقبه أبو حيان بأن هذا على عادته في تغليط الرواة، والظاهر أن المراد بأشراط الساعة هنا علاماتها التي كانت واقعة إذ ذاك وأخبروا أنها علامات لها كبعثة نبينا صلّى الله عليه وسلّم، فقد أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن أنس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بالسبابة والوسطى» وأراد عليه الصلاة والسلام مزيد القرب بين مبعثه والساعة فإن السبابة تقرب من الوسطى طولا فينا وهكذا فيه صلّى الله عليه وسلّم. وزعم بعضهم أن أمر الطول والقصر في وسطاه وسبابته عليه الصلاة والسلام على عكس ما فينا خطأ لا يلتفت إليه إلا أن يكون أراد ذلك في أصابع رجليه الشريفة صلّى الله عليه وسلّم. وأخرج أحمد عن بريدة رضي الله تعالى عنه قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول بعثت أنا والساعة جميعا وإن كادت لتسبقني» وهذا أبلغ في إفادة القرب وعدوا منها انشقاق القمر الذي وقع له صلّى الله عليه وسلّم والدخان الذي وقع لأهل مكة وأما أشراطها مطلقا فكثيرة الفت فيها كتب مختصرة ومطولة وهي تنقسم إلى مضيقة لا تبقى الدنيا بعد وقوعها إلا أيسر يسير كخروج المهدي رضي الله تعالى عنه على ما يقول أهل السنة دون ما يقوله الشيعة القائلون بالرجعة فإن الدنيا عندهم بعد ظهوره تبقى مدة معتدا بها وكنزول عيسى عليه السلام وخروج الدجال وطلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة وغير ذلك، وغير مضيقة وهي أكثر الأشراط ككون الحفاة الرعاة رؤوس الناس وتطاولهم في البنيان وفشو الغيبة وأكل الربا وشرب الخمر وتعظيم رب المال وقلة الكرام وكثرة اللئام وتباهي الناس في المساجد واتخاذها طرقا وسوء الجوار وقطيعة الأرحام وقلة العلم وأن يوسد الأمر إلى غير أهله وأن يكون أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع إلى ما يطول ذكره. ومن وقف على الكتب المؤلفة في هذا الشأن واطلع على أحوال الأزمان رأى أن أكثر هذه العلامات قد برزت للعيان وامتلأت منها البلدان، ومع هذا كله أمر الساعة مجهول ورداء الخفاء عليه مسدول. وقصارى ما ينبغي أن يقال: إن ما بقي من عمر الدنيا أقل قليل بالنسبة إلى ما مضى، وفي بعض الآثار أنه عليه الصلاة والسلام خطب أصحابه بعد العصر حين كادت الشمس تغرب ولم يبق منها إلا أسف. أي شيء. فقال «والذي نفس محمد بيده ما مثل ما مضى من الدنيا فيما بقي منها إلا مثل ما مضى من يومكم هذا فيما بقي منه وما بقي منه إلا اليسير» ولا ينبغي أن يقال: إن الألف الثانية بعد الهجرة وهي الألف التي نحن فيها هي ألف مخضرمة أي نصفها من الدنيا ونصفها الآخر من الآخرة، وقال الجلال السيوطي في رسالة سماها الكشف عن مجاوزة هذه الأمة الألف: الذي دلت عليه الآثار أن مدة هذه الأمة تزيد على ألف سنة ولا تبلغ الزيادة عليها ألف سنة وبني الأمر على ما ورد من أن مدة الدنيا سبعة آلاف سنة وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعث في آخر الألف السادسة وأن الدجال يخرج على رأس مائة وينزل عيسى عليه السلام فيقتله ثم يمكث في الأرض أربعين سنة وأن الناس يمكثون بعد طلوع الشمس من مغربها مائة وعشرين سنة وأن بين النفختين أربعين سنة، وذكر الأحاديث والأخبار في ذلك. وفي بهجة الناظرين وآيات المستدلين قد احتج كثير من العلماء على تعيين قرب زمانها بأحاديث لا تخلو عن نظر فمنهم من قال: بقي منها كذا، ومنهم من قال: يخرج الدجال على رأس كذا وتطلع الشمس على رأس كذا، وأفرد الحافظ السيوطي رسالة لذلك كله وقال: تقوم الساعة في نحو الألف والخمسمائة، وكل ذلك مردود وليس للمتكلمين في ذلك إلا ظن وحسبان لا يقوم عليه من الوحي برهان انتهى، ونقله السفاريني في البحور الزاخرة في علوم الآخرة، وذكر السيوطي عدة أخبار في كون مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، أولها ما أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول بسنده عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنما الشفاعة يوم القيامة لمن عمل الكبائر من أمتي ثم ماتوا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 209 عليها فهم في الباب الأول من جهنم» وساق بقية الحديث، وفيه «وأطولهم مكثا فيه من يمكث فيها مثل الدنيا منذ خلقت إلى يوم أفنيت وذلك سبعة آلاف سنة» الحديث وتعقبه السفاريني بقوله: ذكر الحافظ ابن رجب في كتابه صفة النار أن هذا الحديث خرجه ابن أبي حاتم. وغيره، وخرجه الاسماعيلي مطولا، وقال الدارقطني في كتاب المختلف: هو حديث منكر وذكر علله، ومما ذكره السيوطي في ذلك ما نقل هو ضعف إسناد رفعه، وقد يرد عليه بأنه قد مضى من زمن البعثة إلى يومنا هذا ألف ومئتان وثماني وستون سنة وإذا ضم إليها ما ذكره من سني مكث عيسى عليه السلام وبقاء الدنيا بعد طلوع الشمس من مغربها وما بين النفختين وهي مائتا سنة تصير ألفا وأربعمائة وثماني وسبعين فيبقى من المدة التي ذكرها اثنتان وعشرون سنة وإلى الآن لم تطلع الشمس من مغربها ولا خرج الدجال الذي خروجه قبل طلوعها من مغربها بعدة سنين ولا ظهر المهدي الذي ظهوره قبل الدجال بسبع سنين ولا وقعت الأشراط التي قبل ظهور المهدي، ولا يكاد يقال: إنه يظهر بعد خمس عشرة سنة ويظهر الدجال بعدها بسبع سنين على رأس المائة الثالثة من الألف الثانية لأن قبل ذلك مقدمات تكون في سنين كثيرة، فالحق أنه لا يعلم ما بقي من مدة الدنيا إلا الله عز وجل وأنه وإن طال أقصر قصير وما متاع الحياة الدنيا إلا قليل، وكذا فيما أرى مبدأ خلقها لا يعلمه إلا الله تعالى وما يذكرونه في المبدأ لو صح فإنما هو في مبدأ خلق الخليفة آدم عليه السلام لا مبدأ خلق السماء والأرض والجبال ونحوها. وحكى الشيخ محيي الدين قدس سره عن إدريس عليه السلام وقد اجتمع معه اجتماعا روحانيا وسأله عن العالم أنه قال: نحن معاشر الأنبياء نعلم أن العالم حادث ولا نعلم متى حدث. والفلاسفة على المشهور يزعمون أن من العالم ما هو قديم بالشخص وما هو قديم بالنوع مع قولهم بالحدوث الذاتي ولا يدثر عندهم. وذهب الملا صدر الشيرازي أنهم لا يقولون إلا بقدم العقول المجردة دون عالم الأجسام مطلقا بل هم قائلون بحدوثها ودثورها وأطال الكلام على ذلك في الأسفار وأتى بنصوص أجلتهم كأرسطو وغيره. وحكى البعض عنهم أنه خلق هذا العالم الذي نحن فيه وهو عالم الكون والفساد والطالع السنبلة ويدثر عند مضي ثمانية وسبعين ألف سنة وذلك عند مضي مدة سلطان كل من البروج الاثني عشر ووصول الأمر إلى برج الميزان وزعموا أن مدة سلطان الحمل اثنا عشر ألف سنة ومدة سلطان الثور أقل بألف وهكذا إلى الحوت. ونقل البكري عن هرمس أنه زعم أنه لم يكن في سلطان الحمل والثور والجوزاء على الأرض حيوان فلما كان سلطان الأسد تكونت دواب الماء وهوام الأرض فلما كان سلطان الأسد تكونت الدواب ذوات الأربع فلما كان سلطان السنبلة تولد الإنسانان الأولان ادمانوس وحوانوس، وزعم بعضهم أن مدة العالم مقدار قطع الكواكب الثابتة لدرج الفلك التي هي ثلاثمائة وستون درجة وقطعها لكل درجة على قول كثير منهم في مائة سنة فتكون مدته ستا وثلاثين ألف سنة وكل ذلك خبط لا دليل عليه. ومن أعجب ما رأيت ما زعمه بعض الإسلاميين من أن الساعة تقوم بعد ألف وأربعمائة وسبع سنين أخذا من قوله تعالى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وقوله سبحانه لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [الأعراف: 187] بناء على أن عدة حروف بَغْتَةً بالجمل الكبير ألف وأربعمائة وسبع ويوشك أن يقول قائل: هي ألف وثمانمائة واثنان وبحسب تاء التأنيث أربعمائة لا خمسة فإنه رأى بعض أهل الحساب كما في فتاوى خير الدين الرملي ويجيء آخر ويقول: هي أكثر من ذلك أيضا ويعتبر بسط الحروف على نحو ما قالوا في اسم محمد صلّى الله عليه وسلّم إنه متضمن عدة المرسلين عليه السلام، وأنت تعلم أن مثل ذلك مما لا ينبغي لعاقل أن يعول عليه أو يلتفت إليه، والحزم الجزم بأنه لا يعلم ذلك إلا اللطيف الخبير فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ مسبب عن مجموع القصة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 210 من مفتتح السورة لا عن قوله تعالى: هل يَنْظُرُونَ كأنه قيل: إذا علمت أن الأمر كما ذكر من سعادة هؤلاء وشقاوة هؤلاء فاثبت على ما أنت عليه من العلم بالوحدانية فهو من موجبات السعادة، وفسر الأمر بالعلم بالثبات عليه لأن علمه صلّى الله عليه وسلّم بالتوحيد لا يجوز أن يترتب على ما ذكره سبحانه من الأحوال فإنه عليه الصلاة والسلام موحد عن علم حال ما يوحى إليه ولأن المعنى فتمسك بما أنت فيه من موجبات السعادة لا بطلب السعادة، وقال بعض الأفاضل: إن الثبات أيضا حاصل له عليه الصلاة والسلام فأمره بذلك صلّى الله عليه وسلّم تذكير له بما أنعم الله تعالى عليه توطئة لما بعده، وتعقب بأن المراد بالثبات الاستمرار وهو بالنظر إلى الأزمنة الآتية وذلك وإن كان مما لا بد من حصوله له عليه الصلاة والسلام لمكان العصمة لكن المعصوم يؤمر وينهى فيأتي بالمأمور ويترك المنهي ولا بد للعصمة والأمر في قوله تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ قيل على معنى الثبات أيضا، وجعل الاستغفار كناية عما يلزمه من التواضع وهضم النفس والاعتراف بالتقصير لأنه صلّى الله عليه وسلّم معصوم أو مغفور لا مصرّ ذاهل عن الاستغفار، وقيل: التحقيق أنه توطئة لما بعده من الاستغفار للمؤمنين والمؤمنات ولعل الأولى إبقاؤه على الحقيقة من دون جعله توطئة، والنبي صلّى الله عليه وسلّم كان يكثر الاستغفار، أخرج أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن حبان عن الأغر المزني رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة» وأخرج النسائي وابن ماجه وغيرهما عن أبي موسى قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما أصبحت غداة قط إلا استغفرت الله فيها مائة مرة» وأخرج أبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه وجماعة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «إنا كنا لنعد لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المجلس يقول: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم مائة مرة» وفي لفظ «التواب الغفور» إلى غير ذلك من الأخبار الصحيحة. والذنب بالنسبة إليه عليه الصلاة والسلام ترك ما هو الأولى بمنصبه الجليل ورب شيء حسنة من شخص سيئة من آخر كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين وقد ذكروا أن لنبينا صلّى الله عليه وسلّم في كل لحظة عروجا إلى مقام أعلى مما كان فيه فيكون ما عرج منه في نظره الشريف ذنبا بالنسبة إلى ما عرج إليه فيستغفر منه، وحملوا على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «إنه ليغان على قلبي» الحديث وفيه أقوال أخر، وقوله تعالى: وَلِلْمُؤْمِنِينَ على حذف مضاف بقرينة ما قبل أي ولذنوب المؤمنين. وأعيد الجار لأن ذنوبهم جنس آخر غير ذنبه عليه الصلاة والسلام فإنها معاص كبائر وصغائر وذنبه صلّى الله عليه وسلّم ترك الأولى بالنسبة إلى منصبه الجليل، ولا يبعد أن يكون بالنسبة إليهم من أجل حسناتهم، قيل: وفي حذف المضاف وتعليق الاستغفار بذواتهم إشعار بفرط احتياجهم إليه فكأن ذواتهم عين الذنوب وكذا فيه إشعار بكثرتها، وجوز بعضهم كون الاستغفار للمؤمنين بمعنى طلب المغفرة لهم وطلب سببها كأمرهم بالتقوى، وفيه الجمع بين الحقيقة والمجاز مع أن في صحته كلاما، فالظاهر إبقاء اللفظ على حقيقته. وفي تقديم الأمر بالتوحيد إيذان بمزيد شرف التوحيد فإنه أساس الطاعات ونبراس العبادات، وفي الكلمة الطيبة أبحاث شريفة ولطائف منيفة لا بأس بذكر بعضها وإن تقدم شيء من ذلك فنقول: المشهور أن إلا للاستثناء والاسم الجليل بدل من محل اسم لا النافية للجنس وخبر لا محذوف، واستشكل الإبدال من جهتين أولاهما أنه بدل بعض وليس معه ضمير يعود على المبدل منه وهو شرط فيه وأجيب بمنع كونه شرطا مطلقا بل هو شرط حيث لا تفهم البعضية بقرينة وهاهنا قد فهمت بقرينة الاستثناء ثانيتهما أن بين المبدل منه والبدل مخالفة فإن الأول منفي والثاني موجب. وأجاب السيرافي بأنه بدل عن الأول في عمل العامل والتخالف نفيا وإيجابا لا يمنع البدلية لأن مذهب البدل أن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 211 يجعل الأول كأنه لم يذكر والثاني في موضعه وقد تتخالف الصفة والموصوف في ذلك نحو مررت برجل لا كريم ولا لبيب على أنه لو قيل: إن البدل في الاستثناء قسم على حياله مغاير لغيره من الإبدال لكان له وجه. واستشكل أمر الخبر بأنه ان قدر ممكن يلزم عدم إثبات الوجود بالفعل للواحد الحقيقي تعالى شأنه أو موجود يلزم عدم تنزيهه تعالى عن إمكان الشركة وتقدير خاص مناسب لا قرينة عليه قيل: ولصعوبة هذا الاشكال ذهب صاحب الكشاف وأتباعه إلى أن الكلمة لا غير محتاجة إلى خبر وجعل إِلَّا اللَّهُ مبتدأ ولا إِلهَ خبره والأصل الله إله أي معبود بحق لكن لما أريد قصر الصفة على الموصوف قدم الخبر وقرن المبتدأ بإلا إذ المقصور عليه هو الذي يلي إلا والمقصود هو الواقع في سياق النفي والمبتدأ إذا اقترن بإلا وجب تقديم خبره. وتعقب بأنه مع ما فيه من التمحل يلزم منه بناء الخبر مع لا وهي لا يبني معها إلا المبتدأ، وأيضا لو كان الأمر كذلك لم يكن لنصب الاسم الواقع بعدها وجه وقد جوزه جماعة. وقال بعض الأفاضل: إن لا إله إلا الله على هذا المذهب قضية معدولة الطرفين بمنزلة غير الحي لا عالم بمعنى الحي عالم ولا يدفع الاعتراض كما لا يخفى، وقال بعضهم: إن الخبر هو إِلَّا اللَّهُ أعني إلا مع الاسم الجليل وأورد عليه أن الجنس مغاير لكل من أفراده فكيف يصدق حينئذ سلب مغايرة فرد عنه اللهم إلا أن يقال: إن ذلك بناء على تضمين معنى من وإن المفهوم منه أنه انتفى من هذا الجنس غير هذا الفرد، والوجه كما قيل أن يقال: إن المغايرة المنفية هي المغايرة في الوجود لا المغايرة في المفهوم حتى لا يصدق، ولا شك أن المراد من الجنس المنفي بلا هذه هو المفهوم من غير اعتبار حصوله في الأفراد كلها أو بعضها فيكون محمولا لا بمعنى اعتبار عدم حصوله فيها أصلا حتى لا يصح حمله إذ لا يلزم من عدم اعتبار شيء اعتبار عدمه ومتى تحقق الحمل تحقق عدم المغايرة في الوجود فتدبره. وقال بعضهم: لا خبر للا هذه أصلا على ما قاله بنو تميم فيها، وأورد عليه أنه يلزم حينئذ انتفاء الحكم والعقد وهو باطل قطعا ضرورة اقتضاء التوحيد ذلك ولا يبعد أن يقال: إن القول بعدم احتياج لا إلى الخبر لا يخرج المركب منها ومن اسمها عن العقد وذلك لأن معنى المركب نحو لا رجل على هذا التقدير انتفى هذا الجنس فإذا قلنا: لا رجل إلا حاتم كان معناه انتفى هذا الجنس في غير هذا الفرد ويخدشه ان تركب الكلام من الحرف والاسم مما ليس إليه سبيل، وربما يدفع بما قيل في النداء مثل يا زيد من أنه قائم مقام ادعوه، والشريف العلامة قدس سره صرح في بيان ما نقل عن بني تميم من عدم إثبات خبر لا هذه بأنه يحتمل أن يكون بناء على أن المفهوم من التركيب كما ذكر آنفا انتفاء هذا الجنس ثم إن كلمة الا على هذا التقدير بمعنى غير ولا مجال لكونها للاستثناء لا لما يتوهم من التناقض بناء على أن سلب الجنس عن كل فرد فرد ينافي إثباته لواحد من أفراده فإنه مدفوع بنحو ما اختاره نجم الأئمة في دفع التناقض المتوهم في مثل ما قام القوم إلا زيدا لوجوب شمول القوم المنفي عنهم الفعل لزيد المثبت هو له فيما يتبادر بأن يقال: إن الجنس الخارج عنه هذا الفرد منتف في ضمن كل ما عداه ولا لما قد يتوهم من عدم تناول الجنس المنفي لما هو بعد إلا وهو شرط الاستثناء لما عرفت من الفرق بين الجنس بدون اعتبار حصوله في الأفراد وبينه مع اعتبار عدم حصوله فيها بل لأنها لو كانت للاستثناء لما أفاد الكلام التوحيد لأنه يكون حاصله حينئذ أن هذا الجنس على تقدير عدم دخول هذا الفرد فيه منتف فيفهم منه عدم انتفائه في افراد غير خارج عنها ذلك الفرد فأين التوحيد، فالواجب حملها على معنى غير وجعلها تابعة لمحل اسم لا بدلا عنه أو صفة كما في قوله: وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان الجزء: 13 ¦ الصفحة: 212 كذا رأيته في بعض نسخ قديمة وذكره بعض شيوخ مشايخنا العلامة الطبقجلي في رسالته شرح الكلمة الطيبة ولم يتعقبه بشيء، وعندي أن ما ذكر في نفي الكون إلا للاستثناء على ذلك التقدير لا يخلو عن نظر. ثم إنه قيل: إذا كان مضمون المركب على ذلك التقدير إن هذا الجنس منتف فيما عدا هذا الفرد كانت القضية شخصية ولها لازم هو قضية كلية. أعني قولنا كل ما يعتبر فردا له سوى هذا الفرد فهو منتف. ولا استبعاد في شيء من ذلك. وذهب الكثير إلى تقدير الخبر موجود وأجاب عن الإشكال بأنه يلزم نفي الإمكان العام من جانب الوجود عن الآلهة غير الله تعالى وذلك مبني على مقدمة قطعية معلومة للعقلاء هي أن المعبود بالحق لا يكون إلا واجب الوجود فيصير المعنى لا معبود بحق موجود إلا الله وإذا ليس موجودا ليس ممكنا لأنه لو كان ممكنا لكان واجبا بناء على المقدمة القطعية فيكون موجودا، وقد أفادت الكلمة الطيبة أنه ليس بموجود فليس بممكن لأن نفي اللازم يدل على نفي الملزوم. واعترض بأن المقدمة القطعية وإن كانت صحيحة في نفس الأمر لكنها غير مسلمة عند المشركين لأنهم يعبدون الأصنام ويعتقدونها آلهة مع اعترافهم بأنها ممكنة محتاجة إلى الصانع وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25، الزمر: 38] فيمكن أن يعترف المكلف بالكلمة الطيبة ويعتقد أن نفي الوجود لا يستلزم نفي الإمكان فيمكن عنده وجود آلهة غير الله تعالى فلا يكون التلفظ بالكلمة نصا على إيمانه ولو كانت المقدمة المذكورة مسلمة عند الكل لأمكن أن يقدر الخبر من أول الأمر موجود بالذات أي لا إله موجود بالذات إلا الله وإذا لم يكن غيره تعالى موجودا بالذات لم يكن مستحقا للعبادة لأن المستحق لها لا يكون إلا واجبا لذاته. وقد قرر الجواب بوجهين آخرين: الأول أن لا إله موجود قضية سالبة حملية لا بد لها من جهة وهي الإمكان العام فيكون المعنى أن الجانب المخالف للسلب وهو إثبات الوجود ليس ضروريا للآلهة إلا الله تعالى فإنه موجود بالإمكان العام أي جانب السلب ليس ضروريا له تعالى فيكون الوجود ضروريا له سبحانه تحقيقا للتناقض بين المستثنى والمستثنى منه. الثاني أن لا إله موجود بالإمكان العام سالبة كلية ممكنة عامة فيكون المتحصل بالاستثناء الذي هو نقيض موجبة جزئية ضرورية أي الله موجود بالضرورة. وأورد على التقريرين أنهما إنما يتمان إذا كان كل من طرفي المستثنى والمستثنى منه قضية مستقلة وهو ممنوع، والصحيح عند أهل العربية أنهما كلام واحد مقيد بالاستثناء فلا يجري فيهما أحكام الناقض إلا أن يؤول بالمعنى اللغوي، وأيضا جعل الله موجود بالضرورة قضية جزئية فيه تساهل، وقيل: يمكن أن يقال الخبر المقدر هو الموجود مطلقا سواء كان بالفعل أو بالإمكان على استعمال المشترك في كلا معنييه أو على تأويله بما يطلق عليه اسم الموجود وهو كما ترى، وقيل: يجوز تقديره ممكن ونفي الإمكان يستلزم نفي الوجود لأن الإله واجب الوجود وإمكان اتصاف شيء بوجوب الوجود يستلزم اتصافه بالفعل بالضرورة فإذا استفيد من الكلمة الطيبة إمكانه يستفاد منه وجوده أيضا إذ كل ما لم يوجد يستحيل أن يكون واجب الوجود، ويعلم ما فيه مما مر فلا تغفل، وقال بعضهم: الخبر المقدر مستحق للعبادة، فالمعنى لا إله مستحق للعبادة إلا الله، ولا محذور فيه. واعترض بأن هذا كون خاص ولا بد في حذفه من قرينة ولا قرينة فلا يصح الحذف. وأجيب بأنها كنار على علم لأن الإله بمعنى المعبود فدل على العبادة واستحقاقها، يؤيده ملاحظة المقام واعتبار حال المخاطبين لأن هذه الكلمة الطيبة واردة لرد اعتقاد المشركين الزاعمين أن الأصنام تستحق العبادة. واعترض أيضا بأنه لا يدل على نفي التعدد مطلقا أي لا بالإمكان ولا بالفعل لجواز وجود إله غيره سبحانه لا يستحق العبادة، وأيضا يمكن أن يقال: المراد إما نفي إله مستحق للعبادة غيره تعالى بالفعل أو بالإمكان فعلى الأول لا ينفي إمكان إله مستحق للعبادة أيضا غيره عز وجل وعلى الثاني لا يدل على استحقاقه قال للعبادة بالفعل. ورد بأن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 213 وجوب الوجود مبدأ جميع الكمالات ولذا فرعوا عليه كثيرا منها فلا ريب أنه يوجب استحقاق التعظيم التبجيل، ولا معنى لاستحقاق العبادة إلا ذلك فإذا لم يستحق غيره تعالى العبادة لم يوجد واجب وجود غيره سبحانه وإلا لاستحق العبادة قطعا، وإذا لم يوجد لم يكن ممكنا أيضا فثبت أن نفي استحقاق العبادة يستلزم نفي التعدد جزما. وتعقب بأن فيه البناء على أن الإله لا يكون إلا واجب الوجود، وقد سمعت أنها وإن كانت قطعية الصدق في نفس الأمر إلا أنها غير مسلمة عند المشركين. ومن المحققين من قال: إنه لا يلتفت إلى عدم تسليمهم لمكابرتهم ما عسى أن يكون بديهيا. نعم ربما يقال: إن الكلمة الطيبة على ذلك التقدير إنما تدل على نفي المعبود بالفعل بناء على ما قرر في المنطق أن ذات الموضوع يجب اتصافه بالعنوان بالفعل، ويجاب بمنع وجوب ذلك بل يكفي الاتصاف بالإمكان كما صرح به الفارابي، وأما ما نقل عن الشيخ فمعناه كونه بالفعل بحسب الفرض العقلي لا بحسب نفس الأمر كما تدل عليه عبارته في الشفاء والإشارات فيرجع إلى معنى الإمكان. والفرق بين المذهبين أن في مذهب الشيخ زيادة اعتبار ليست في مذهب الفارابي وهي أن الشيخ اعتبر مع الإمكان بحسب نفس الأمر فرض الاتصاف بالفعل ولم يعتبره الفارابي، وبالجملة إن الاتصاف بالفعل غير لازم فكل ما يمكن اتصافه بالمعبودية داخل في الحكم بأنه لا يستحق العبادة، ولما كانت القضية سالبة صدقت وإن لم يوجد الموضوع، ولعل التحقيق في هذا المقام أن الكلمة الطيبة جارية بين الناس على متفاهم اللغة والعرف لا على الاصطلاحات المنطقية والتدقيقات الفلسفية، وهي كلام ورد في رد اعتقاد المشرك الذي اعتقد أن آلهة غير الله سبحانه تستحق العبادة فإذا اعترف المشرك بمضمونه من أنه لا معبود مستحق للعبادة إلا الله تعالى علم من ظاهر حاله الإيمان، ولهذا اكتفى به الشارع عليه الصلاة والسلام، وأما الكافر الذي يعتقد إمكان وجود ذات تستحق العبادة بعد فلا تكفي هذه الكلمة الطيبة في إيمانه كما لا تكفي في إيمان من أنكر النبوة أو المعاد أو نحو ذلك مما يجب الإيمان به بل لا بد من الاعتراف بالحكم الذي أنكره ولا محذور في ذلك، ولما كان الكفرة الذين يعتقدون أن آلهة غير الله تعالى تستحق العبادة هم المشهورون دون من يعتقد إمكان وجودها بعد اعتبرت الكلمة علما للتوحيد بالنسبة إليهم. ويعلم من هذا أنه لو قدر الخبر المحذوف من أول الأمر موجود أمكن دفع الإشكال بهذا الطريق أعني متفاهم اللغة وعرف الناس من الأوساط، وأما أن نفي الوجود لا يستلزم نفي الإمكان فلا يلزم من الكلمة الطيبة حينئذ نفى إمكان آلهة غير الله تعالى فمما لا يسبق إلى الأفهام ولا يكاد يوجد كافر يعتقد نفي وجود إله غيره تعالى مع اعتقاده إمكان وجود إله غيره سبحانه بعد ذلك، ومن الناس من أيد تقدير الخبر كذلك بأن الظاهر أن لا نافية للجنس ونفي الماهية نفسها بدون اعتبار الوجود واتصافها به كنفي السواد نفسه لا نفي وجوده عنه بعيد، فكما أن جعل الشيء باعتبار الوجود إذ لا معنى لجعل الشيء وتصييره نفسه فكذلك نفيه ورفعه أيضا باعتبار رفع الوجود عنه. وتعقب بأن هذا هو الذي يقتضيه النظر الجليل، وأما النظر الدقيق فقد يحكم بخلافه لأن نفي الماهية باعتبار الوجود ينتهي بالآخرة إلى نفي ماهية ما باعتبار نفسها، وذلك لأن نفي اتصافها بالوجود لا يكون باعتبار اتصاف ذلك الاتصاف به إلى ما لا يتناهى، فلا بد من الانتهاء إلى اتصاف منتف بنفسه لا باعتبار اتصافه بالوجود دفعا للتسلسل، وقيل: الظاهر أن نفي الأعيان كما في الكلمة الطيبة إنما هو باعتبار ذلك، وأما غيرها فتارة وتارة فتدبر، وإِلَّا على التقدير المذكور للاستثناء ورفع الاسم الجليل على ما سمعت من المشهور، وقيل: هي فيه بمعنى غير صفة الاسم لا باعتبار المحل أي لا إله غير الله تعالى موجود. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 214 واعترض بأن المقصود من الكلام أمران: نفي الألوهية عن غيره تعالى وإثباتها له سبحانه، وهو إنما يتم إذا كانت لا فيه للاستثناء إذ يستفاد النفي والإثبات حينئذ بالمنطوق أما إن كانت بمعنى غير فلا يفيد بمنطوقه إلا نفي الألوهية عن غيره تعالى سبحانه وفي كون إثباتها له تعالى بالمفهوم ويكتفي به بحث لأن ذلك إن كان مفهوم لقب فلا عبرة عند القائلين بالمفهوم على الصحيح خلافا للدقاق. والصيرفي من الشافعية، وابن خويز منداد من المالكية، ومنصور بن أحمد من الحنابلة، وإن كان مفهوم صفة فمن البين أنه غير مجمع عليه بل أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه لم يقل بشيء من مفاهيم المخالفة أصلا، وأنت تعلم أن ما ذكره من إفادة الكلمة الطيبة إثبات الإلهية لله تعالى ونفيها عما سواه عز وجل على تقدير كون إلا للاستثناء غير مجمع عليه أيضا فإن الاستثناء من النفي ليس بإثبات عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، وجعل الإثبات في كلمة التوحيد بعرف الشرع، وفي المفرغ نحو ما قام إلا زيد بالعرف العام، وما له وما عليه في كتب الأصول فلا تغفل، وتمام الكلام فيما يتعلق بإعراب هذه الكلمة الطيبة في كتب العربية، وقد ذكرنا ذلك في تعليقاتنا على شرح السيوطي للألفية، وهي عند السادة الصوفية قدست أسرارهم جامعة لجميع مراتب التوحيد ودالة عليها إما منطوقا أو بالاستلزام، ومراتبه أربع: الأولى توحيد الألوهية. الثانية توحيد الأفعال. الثالثة توحيد الصفات، وإن شئت قلت: توحيد الوجوب الذاتي فإنه يستلزم سائر الصفات الكمالية كما فرعها عليه بعض المحققين. الرابعة توحيد الذات وإن شئت قلت: توحيد الوجود الحقيقي فإن المآل واحد عندهم، وبيان ذلك أن لا إله إلا الله منطوقه. على ما يتبادر إلى الأذهان وذهب إليه المعظم. قصر الألوهية على الله تعالى قصرا حقيقيا أي إثباتها له تعالى بالضرورة ونفيها عن كل ما سواه سبحانه كذلك وهو يستلزم توحيد الأفعال. وتوحيد الصفات. وتوحيد الذات. أما الأول الذي هو قصر الخالقية فيه تعالى فلأن مقتضى قصر الألوهية عليه تعالى قصرا حقيقيا هو أن الله عز وجل هو الذي يستحق أن يعبده كل مخلوق فهو النافع الضار على الإطلاق فهو سبحانه وتعالى الخالق لكل شيء فإن كل من لا يكون خالقا لكل شيء لا يكون نافعا ضارا على الإطلاق وكل من لا يكون كذلك لا يستحق أن يعبده كل مخلوق لأن العبادة هي الطاعة والانقياد والخضوع ومن لا يملك نفعا ولا ضرا بالنسبة إلى بعض المخلوقين لا يستحق أن يعبده ذلك البعض ويطيعه وينقاد له، فإن من لا يقدر على إيصال نفع إلى شخص أو دفع ضر عنه لا يرجوه، ومن لا يقدر على إيصال ضر إليه لا يخافه، وكل من لا يخاف ولا يرجى أصلا لا يستحق أن يعبد وهو ظاهر لكن الذي يقتضيه قصر الألوهية عليه تعالى قصرا حقيقيا هو أن الله تعالى هو الذي يستحق أن يعبده كل مخلوق فهو النافع الضار على الإطلاق فهو الخالق لكل شيء وهو المطلوب، وأما الثاني فلأن الكلمة الطيبة تدل على أن الألوهية ثابتة له تعالى ثبوتا مستمرا ممتنع الانفكاك ومنتفية عن غيره انتفاء كذلك، وكل ما كان كذلك فهي دالة على أنه عز وجل واجب الوجود، وأن كل موجود سواه تعالى ممكن الوجود وكل ما كان كذلك كان وجوب الوجود مقصورا عليه تعالى وهو مستلزم لسائر صفات الكمال وهو المطلوب، أما دلالتها على أنه عز وجل واجب الوجود فلأن الألوهية لا تكون إلا لموجود حقيقة اتفاقا، وكل ما لا يكون صفة إلا لموجود إذا دل كلام على أنه ثابت لشيء ثبوتا ممتنع الانفكاك سرمدا فقد دل على أن الوجود ثابت لذلك الشيء ثبوتا ممتنع الانفكاك سرمدا، ولا يكون كذلك إلا إذا كان موجودا لذاته وهو المعني بواجب الوجود لذاته، وحيث دلت على ثبوت الألوهية ثبوتا مستمرا ممتنع الانفكاك فقد دلت على وجوب وجوده تعالى وهو مستلزم لسائر صفات الكمال وهو المطلوب. وأما دلالتها على أن كل موجود سواه فهو ممكن الوجود فلأن موجودا ما سواه لو كان واجب الوجود لذاته لكان مستحقا أن يعبد لكنها قد دلت على أنه لا يستحق أن يعبد إلا الله فقد دلت على أنه لا واجبا وجوده الجزء: 13 ¦ الصفحة: 215 لذاته إلا الله تعالى فكل ما سواه فهو ممكن وهو المطلوب، أو يقال: إنها قد دلت على أنه تعالى هو النافع الضار على الإطلاق فهو الجامع لصفات الجلال والإكرام فهو سبحانه المتصف بصفات الكمال كلها وهو المطلوب. وأما الثالث فقد قال حجة الإسلام الغزالي في باب الصدق من الاحياء: كل ما تقيد العبد به فهو عبد له كما قال عيسى عليه السلام: يا عبيد الدنيا ، وقال نبينا صلّى الله عليه وسلّم: «تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم وعبد الحلة وعبد الخميصة» سمي كل من تقيد قلبه بشيء عبدا له، وقال في باب الزهد منه: من طلب غير الله تعالى فقد عبده وكل مطلوب معبود، وكل طالب عبد بالإضافة إلى مطلبه، وقال في الباب الثالث من كتاب العلم منه. كل متبع هواه فقد اتخذ هواه معبودا قال تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الجاثية: 23] وقال صلّى الله عليه وسلّم: «أبغض إله عبد في الأرض عند الله تعالى هو الهوى» انتهى. ومن المعلوم أنه ما في الوجود شيء إلا وهو مطلوب لطالب ما وقد صح بما مر إطلاق الإله عليه ولا إله إلا الله فما في الوجود حقيقة إلا الله ومنهم من قرر دلالة الكلمة الطيبة على توحيد الذات ونفي وجود أحد سواه عزّ وجلّ بوجه آخر، وهو أن إِلَّا بمعنى غير بدل من الإله المنفي فيكون النفي في الحقيقة متوجها إلى الغير ونفي الغير توحيد حقيقي عندهم. وإذا تبين لك دلالتها على جميع مراتل التوحيد لاح لك أن الشارع لأمر ما جعلها مفتاح الإسلام وأساس الدين ومهداة الأنام: وفي حديث أخرجه أبو نعيم عن عياض الأشعري أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا إله إلا الله كلمة كريمة ولها عند الله مكان جمعت وسولت (1) من قالها صادقا من قلبه دخل الجنة» وفي حديث أخرجه ابن النجار عن دينار عن أنس أنه عليه الصلاة والسلام قال: «لا إله إلا الله كلمة عظيمة كريمة على الله تعالى من قالها مخلصا استوجب الجنة» وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اذهب بنعليّ هاتين فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستقينا بها قلبه فبشره بالجنة» وحديث البطاقة أشهر من أن يذكر، وكذا الحديث القدسي المروي عن علي الرضا عن آبائه عليهم السلام، وجاء «من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة» أي بلا حساب وإلا فما الفرق بين ذلك ومن قالها ولم تكن آخر كلامه من الدنيا، وبالجملة إن فضلها لا يحصى وإنها لتوصل قائلها إلى المقام الأقصى، وقد ألفت كتب في فضلها وكيفية النطق بها وآداب استعمالها فلا نطيل الكلام في ذلك. بقي هاهنا بحث وهو أن المسلمين أجمعوا على وجوب معرفة الله تعالى وإن اختلفوا في كونه شرعيا أو عقليا، وأما النظر في معرفته تعالى لأجل حصولها بقدر الطاقة البشرية فقد قال العلامة التفتازاني في شرح المقاصد: لا خلاف بين أهل الإسلام في وجوبه لأنه أمر مقدور يتوقف عليه الواجب المطلق الذي هو المعرفة، وكل مقدور يتوقف عليه الواجب المطلق فهو واجب شرعا أن كان وجوب الواجب المطلق شرعيا كما هو رأي الأصحاب وعقلا إن كان عقليا كما هو رأي المعتزلة لئلا يلزم تكليف المحال، أما كون النظر مقدورا فظاهر، وأما توقف المعرفة عليه فلأنها ليست بضرورية بل نظرية، ولا معنى للنظري إلا ما يتوقف على النظر ويتحصل به، وظاهر كلام السند في شرح المواقف إجماع المسلمين كافة على ذلك أيضا. والحق وقوع الخلاف في وجوب النظر كما يدل عليه كلام ابن الحاجب في مختصره، والعضد في شرحه، وكلام التاج السبكي في جمع الجوامع، والجلال المحلي في شرحه، وقول شيخ الإسلام في حاشيته عليه: محل الخلاف في وجوب النظر في أصول الدين وعدم وجوبه في غير معرفة الله تعالى منها أما النظر فيها فواجب إجماعا كما ذكره السعد التفتازاني كغيره اعترضه المحقق ابن قاسم العبادي في حاشيته الآيات   (1) قوله وسولت كذا في غير نسخة بسين مهملة ولام وليراجع مستخرج أبي نعيم. [ ..... ] الجزء: 13 ¦ الصفحة: 216 البينات بقوله: إن الظاهر أن ما نقله السعد من الإجماع على وجوب النظر في معرفة الله تعالى غير مسلم عند الشارح وغيره، ألا ترى إلى تمثيل الشارح لمحل الخلاف بقول: كحدوث العالم ووجود الباري تعالى وما يجب له جل شأنه وما يمتنع عليه سبحانه من الصفات فإن قوله: ووجود الباري تعالى إلخ يتعلق بمعرفته عزّ وجلّ إلى آخر ما قال. نعم قال كثير ورجحه الإمام الرازي. والآمدي: إنه يجب النظر في مسائل الاعتقاد ومعرفة الله تعالى أسها فيجب فيها بالأولى، وقالوا في ذلك. لأن المطلوب اليقين لقوله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وقد علم ذلك، وقال تعالى للناس: وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الأعراف: 158] ويقاس غير الوحدانية عليها، ولا يتم الاستدلال إلا بضم توقف حصول اليقين على النظر. وهؤلاء لم يجوزوا التقليد في الأصول وهو أحد أقوال في المسألة. ثانيها قول العنبري. إنه يجوز التقليد فيها بالعقد الجازم ولا يجب النظر لها لأنه عليه الصلاة والسلام كان يكتفي في الإيمان بالعقد الجازم ويقاس غير الإيمان عليه. والمراد أنه عليه الصلاة والسلام كان يكتفي بذلك نظرا إلى ظاهر الحال فإن الخبر كما صرح به المحقق عيسى الصفوي في شرحه للفوائد الغياثية على ما نقله عنه تلميذه ابن قاسم العبادي في الآيات البينات دال وضعا على صورة ذهنية على وجه الإذعان تحكي الحال الواقعية، ولا شك أن لا إلا الله محمد رسول الله من قسم الخبر فهما دالان وضعا على أن قائلهما ولو تحت ظلال السيف معتقد لمضمونهما على وجه الإذعان، وعدم كونه معتقدا في نفس الأمر احتمال عقلي، والمطلع على ما في القلوب علام الغيوب. وثالث الأقوال إنه يجب التقليد بالعقد الجازم ويحرك النظر لأنه مظنة الوقوع في الشبه والضلال لاختلاف الأذهان بخلاف التقليد وهذا ليس بشيء أصلا. والذي أوجب النظر من المحققين لم يرد به النظر على طريق المتكلمين بل صرح كما في الجواب العتيد للكوراني بأن المعتبر هو النظر على طريق العامة، والظاهر أنه ليس مظنة الوقوع فيما ذكر، وهل القائل بوجوبه من أولئك جاعل له شرطا لصحة الإيمان أم لا ففيه خلاف. فيفهم من بعض عبارات شرح الأربعين لابن حجر أنه جاعل له كذلك فلا يصح إيمان المقلد عنده، بل يفهم منها أن النظر المعتبر عند ذلك هو النظر على طريق المتكلمين، وكلام الجلال المحلي في شرح جمع الجوامع صريح في أن القائلين بوجوب النظر غير أبي هاشم ليسوا جاعلين النظر شرطا لصحة الإيمان ولا زاعمين بطلان إيمان المقلد بل هو صحيح عندهم مع الإثم بترك النظر الواجب. نعم سيأتي إن شاء الله تعالى نقل الإمام حجة الإسلام في كتابه فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة نقل الاشتراط عن طائفة من المتكلمين من رده. وأما ما نقل عن الشيخ الأشعري من الاشتراط وأنه لا يصح إيمان المقلد فكذب عليه كما قاله الأستاذ أبو القاسم القشيري، وقال التاج السبكي: التحقيق أنه إن كان التقليد أخذا بقول الغير بغير حجة مع احتمال شك أو وهم فلا يكفي، وإن كان جزما فيكفي خلافا لأبي هاشم. والظاهر أن القائل بكفاية التقليد مع الجزم يمنع القول بأن المعرفة لا تحصل إلا بالنظر ويقول: إنها قد تحصل بالإلهام أو التعليم أو التصفية فمن حصل له العقد الجازم بما يجب عليه اعتقاده فقد صح إيمانه من غير إثم لحصول المقصود، ومن لم يحصل له ذلك ابتداء أو تقليدا أو ضرورة فالنظر عليه متعين وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها [الكهف 57] . ويكفي دليلا للصحة اكتفاء النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم من عوام العجم كأجلاف العرب وإن أسلم أحدهم تحت ظل السيف بمجرد الإقرار بلا إله إلا الله محمد رسول الله الدال بحسب ظاهر حالهم على أنهم يعتقدون مضمون ذلك ويذعنون له، ولو كان الاستدلال فرضا لأمروا به بعد النطق بالكلمتين أو علموا الدليل ولقنوه كما لقنوهما وكما علموا سائر الواجبات، ولو وقع ذلك لنقل إلينا فإنه من أهم مهمات الدين، ولم ينقل أنهم أمروا أحدا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 217 منهم أسلم بترديد نظر ولا سألوه عن دليل تصديقه ولا أرجؤوا أمره حتى ينظر فلو كان النظر واجبا على الأعيان ولو إجماليا على طريق العامة لما اكتفى النبي صلّى الله عليه وسلّم من أولئك العوام والأجلاف بمجرد الإقرار لأن النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه لا يقرون أحدا على ترك فرض العين من غير عذر، فلا يكون تاركه آثما فضلا عن أن يكون بتركه غير صحيح الإيمان، ويشهد لذلك ما قاله صلّى الله عليه وسلّم لأسامة بن زيد عند اعتذاره عن قتل مرداس بن نهيك من أهل فدك وغيره من الأخبار الكثيرة. وما في المواقف والمقاصد وشرح المختصر العضدي وغيرها من كتب الكلام والأصول من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه كانوا يعلمون أنهم- أي العوام- واجلاف العرب يعلمون الأدلة إجمالا كما قال الأعرابي: البعرة تدل على البعير وأثر الأقدام على المسير أفسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج لا تدل على اللطيف الخبير أي فلذلك لم يلزموهم النظر ولا سألوهم عنه ولا أرجؤوا أمرهم وكل ما كان كذلك لم يكن اكتفاؤهم بمجرد الإقرار دليلا على أن النظر ليس واجبا على الأعيان ولا على أن تاركه غير آثم دعوى لا دليل عليها، وحكاية الأعرابي إن كانت مسوقة للاستدلال لا تدل غاية ما في الباب أن ذلك الأعرابي كان عالما بدليل إجمالي، ولا يلزم منه أن جميع الأجلاف والعوام كانوا عالمين بالأدلة الإجمالية في عهد النبوة وغيره وإلا لكانت حجة على أنه لا مقلد في الوجود، على أن بعضهم أسند ذلك القول إلى قس بن ساعدة وكان في الفترة. والجلال المحلي ذكره لأعرابي قاله في جواب الأصمعي وكان في زمن الرشيد بل قد يقال: إن ظاهر كثير من الآيات والأخبار يدل على أن كثيرا من المشركين في عهده عليه الصلاة والسلام لم يكونوا عالمين بأدلة التوحيد مطلقا، وذلك كقوله تعالى حكاية عنهم: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص: 5] . إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ [الصافات: 36] وقول بعضهم في بعض الحروب: أعل هبل أعل هبل وما ذكره المحقق العضد في شرح المختصر من الدليل على عدم جواز التقليد حيث قال: إن الأمة أجمعوا على وجوب معرفة الله تعالى وأنها لا تحصل بالتقليد لثلاثة أوجه: أحدها أنه يجوز الكذب على المخبر فلا يحصل بقوله العلم ثانيها أنه لو أفاد العلم لأفاده بنحو حدوث العالم من المسائل المختلف فيها فإذا قلد واحد في الحدوث والآخر في القدم كانا عالمين بهما فيلزم حقيقتهما وأنه محال. ثالثها أن التقليد لو حصل العلم فالعلم بأنه صدق فيما أخبر به إما أن يكون ضروريا أو نظريا لا سبيل إلا الأول بالضرورة فلا بد له من دليل والمفروض إنه لا دليل إذ لو علم صدقه بدليله لم يبق تقليدا تعقبه العلامة الكوراني فقال: فيه بحث، أما في الوجه الأول فلأن من جوز التقليد مثل المقلد بمن نشأ على شاهق جبل ولم ينظر في ملكوت السموات والأرض وأخبره غيره بما يلزمه اعتقاده وصدقه بمجرد إخباره من غير تفكر وتدبر وهو صريح في أن الكلام في مقلد أخبره غيره بما يلزمه اعتقاده وما يلزمه اعتقاده لا يكون إلا صدقا فإن الكذب لا يلزم أحدا اعتقاده، وأما من أخبر بالأكاذيب فاعتقدها فهو لم يعتقد إلا أكاذيب والأكاذيب ليس من معرفة الله تعالى في شيء فكيف يحكم عليه أحد من العقلاء بأنه مؤمن بالله تعالى عارف به مع أنه لم يعتقد إلا الأكاذيب وهو ظاهر، وأما في الوجه الثاني فلمثل ما مر لأنا لا نقول: إن كل تقليد مفيد للعلم ولا أن كل مقلد عالم كيف وليس كل نظر مفيدا للعلم ولا كل ناظر مصيبا، فإذا لم يكن النظر موجبا للعلم مطلقا وإنما الموجب النظر الصحيح فكذلك نقول: ليس كل تقليد مفيدا للعلم وإنما المفيد التقليد الصحيح، وهو أن يقلد عالما بمسائل معرفة الله تعالى صادقا فيما يخبره به فإن الكلام إنما هو في صحة إيمان مثل هذا المقلد لا مطلقا، وأما في الثالث فلأنا نختار أن علمه بأنه صدق فيما أخبر به ضروري قولكم لا سبيل إليه بالضرورة قلنا: ممنوع لقوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الأنعام: 125] وقد روي مرفوعا أنه صلّى الله عليه وسلّم سئل عن شرح الصدر فقال عليه الصلاة والسلام: «نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينفسح» فصرح صلّى الله عليه وسلّم بأنه نور لا يحصل من دليل وإنما يقذفه الله تعالى في قلبه فلا يقدر على دفعه من غير فكر ولا روية ولا نظر ولا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 218 استدلال، وقد صرح بعض أكابر المحققين بأن توحيد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن علم ضروري وجدوه في نفوسهم لم يقدروا على دفعه وبأن من أهل الفترة من وجد كذلك بل قد صرح بأن الإيمان علم ضروري يجده المؤمن في قلبه لا يقدر على دفعه فكم من آمن بلا دليل ومن لم يؤمن مع الدليل، وقلما يوثق بإيمان من آمن عن دليل فإنه معرض للشبه القادحة فيه. وفي الباب المائة والاثنين والسبعين والمائة والسابع والسبعين والمائتين والسابع والسبعين من الفتوحات المكية ما يؤيد ذلك، وقال الإمام حجة الإسلام في فيصل التفرقة: من أشد الناس غلوا وانحرافا طائفة من المتكلمين كفروا عوام المسلمين وزعموا أن من لا يعرف الكلام معرفتنا ولم يعرف الأدلة الشرعية بأدلتنا التي حررناها فهو كافر فهؤلاء ضيقوا رحمة الله تعالى الواسعة على عباده أولا، وجعلوا الجنة وقفا على شرذمة يسيرة من المتكلمين، ثم جهلوا ما تواترت به السنة ثانيا إذ ظهر من عصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعصر الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين حكمهم بإسلام طوائف من أجلاف العرب كانوا مشغولين بعبادة الوثن ولم يشتغلوا بتعليم الدلائل ولو اشتغلوا بها لم يفهموها، ومن ظن أن مدرك الإيمان الكلام والأدلة المحررة والتقسيمات المرتبة فقد أبعد، لا بل الإيمان نور يقذفه الله تعالى في قلب عبده عطية وهداية من عنده، تارة بتنبه في الباطل لا يمكن التعبير عنه، وتارة بسبب رؤيا في المنام، وتارة بمشاهدة حال رجل متدين وسراية نوره إليه عند صحبته ومجالسته، وتارة بقرينة حال، فقد جاء أعرابي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاحدا له منكرا فلما وقع بصره على طلعته البهية وغرته الغريرة السنية فرآها يتلألأ منها نور النبوة قال: والله ما هذا وجه كذاب، وسأله أن يعرض عليه الإسلام فأسلم، وجاء آخر فقال: أنشدك الله بعثك الله نبيا؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: بلى إني والله الله بعثني نبيا فصدقه بيمينه وأسلم ، فهذا وأمثاله من أن يحصى ولم يشتغل واحد منهم قط بالكلام وتعلم الأدلة بل كان تبدو أنوار الإيمان أولا بمثل هذه القرائن في قلوبهم لمعة بيضاء ثم لا تزال تزداد وضوحا وإشراقا بمشاهدة تلك الأحوال العظيمة وبتلاوة القرآن وتصفية القلوب، وليت شعري من نقل عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعن الصحابة إحضاره أعرابيا أسلم وقوّله الدليل على أن العالم حادث لأنه لا يخلو عن الأعراض وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، وإن الله تعالى عالم بعلم وقادر بقدرة كلاهما زائد على الذات لا هو ولا غيره إلى غير ذلك من رسوم المتكلمين، ولست أقول: لم تجر هذه الألفاظ بل لم يجر أيضا ما معناه معنى هذه الألفاظ بل كان لا تنكشف ملحمة إلا عن جماعة من الأجلاف يسلمون تحت ظلال السيوف وجماعة من الأسارى يسلمون واحدا واحدا بعد طول الزمان أو على القرب وكانوا إذا نطقوا بكلمة الشهادة علموا الصلاة والزكاة وردوا إلى صناعتهم من رعاية الغنم أو غيرها. نعم لست أنكر أنه يجوز أن يكون ذكر أدلة المتكلمين أحد أسباب الإيمان في حق بعض الناس ولكن ذلك ليس بمقصور عليه وهو نادر أيضا وساق الكلام إلى أن قال: والحق الصريح أن كل من اعتقد أن ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم واشتمل عليه القرآن حق اعتقادا جزما فهو مؤمن وإن لم يعرف أدلته، فالإيمان المستعار من الدلائل الكلامية ضعيف جدا مشرف على التزلزل بكل شبهة بل الإيمان الراسخ إيمان العوام الحاصل في قلوبهم في الصبا بتواتر السماع والحاصل بعد البلوغ بقرائن لا يمكن العبارة عنها اهـ. وفيه فوائد شتى ولذا نقلناه بطوله، ومتى جاز أن يقذف الله تعالى في قلوب العبد نور الإيمان فيؤمن بلا نظر واستدلال جاز أن يقذف سبحانه في قلبه صدق المخبر بحيث لا يقدر على دفعه ولا يدري أنه من أين جاء لا سيما إذا كان المخبر هو النبي صلّى الله عليه وسلّم، فإن من لازم قذف نور الإيمان في قلب المؤمن به عليه الصلاة والسلام أن يقذف في قلبه صدقه صلّى الله عليه وسلّم لأن الإيمان لا يتم إلا بذلك، فقد ظهر أن دعوى الضرورة في أنه لا سبيل إلى العلم بصدق المخبر فيما الجزء: 13 ¦ الصفحة: 219 أخبر به علما ضروريا إن لم تكن مكابرة فمنعها ليس مكابرة أيضا، فإن الدليل قد قام على جواز حصول العلم الضروري بصدقه بل على وقوعه فليست تلك الدعوى من المقدمات الضرورية التي يكون منعها مكابرة غير مسموعة، وقد اتضح من جميع ما ذكر أن ما قاله السعد في شرح المقاصد من أن الحق أن المعرفة بدليل إجمالي يرفع الناظر من حضيض التقليد فرض عين لا مخرج عنه لأحد من المكلفين وبدليل تفصيلي يتمكن معه من إزاحة الشبه وإلزام المنكرين وإرشاد المسترشدين فرض كفاية لا بد من أن يقوم به البعض لا يخلو عن نظر على ما قيل، لكن الظاهر عندي أن الحق مع السعد من جهة أن الإيمان بمعنى التصديق مكلف به وشرط المكلف به كونه اختياريا، وقد صرحوا أن التكليف بما ليس باختياري تكليف في الحقيقة بما يتوقف عليه من الأمور الاختيارية وإن التصديق نفسه لكونه غير اختياري كان التكليف به في الحقيقة تكليفا بما يتوقف هو عليه من النظر الاختياري، فالإيمان الذي يحصل بقذفه تعالى النور في القلب من غير فكر ولا روية ولا نظر ولا استدلال ليس اختياريا بنفسه ولا باعتبار ما يحصل هو منه فكيف يكون مكلفا به، وما مراد السعد ومن وافقه بالمعرفة إلا المعرفة من حيث إنها مكلف بها كما يشير إليه قوله: لا مخرج عنه لأحد من المكلفين، وكون ذلك مكلفا به باعتبار أمر اختياري غير النظر كتحصيل الاستعداد لإفاضة النور وخلق العلم الضروري في قلب العبد غير ظاهر. نعم لست أنكر أن من المعرفة ما لا يتوقف على نظر في دليل إجمالي أو غيره كمعرفة الأنبياء عليهم السلام على ما سمعت عن بعضهم، وكمعرفة من شاء الله تعالى من عباده سبحانه غيرهم ولا أسمى نحو هذه المعرفة تقليدية، وكذا لا أنكر أن المعرفة الحاصلة من قذف النور فوق المعرفة الحاصلة من النظر في الدليل فإنها يخشى عليها من عواصف الشبه، وأذهب إلى النظر في الدليل مطلقا واجب على من لم يحصل له العقد الجازم إلا به، وأما من حصل له ذلك بأي طريق كان دونه فلا يجب عليه وكذا لا يأثم بتركه، وحكاية الإجماع على إثمه به لا يخفى ما فيها، وتوجيه ذلك بأن جزم المؤمن حينئذ لا ثقة به إذ لو عرضت له شبهة فات وبقي مترددا بخلاف الجزم الناشئ عن الاستدلال فإنه لا يفوت بذلك غير ظاهر لأنه إذا سلّم أن من تم جزمه من غير نظر فقد أتى بواجب الإيمان فلا وجه لتأثيمه بترك النظر بناء على مجرد احتمال عروض شبهة مشوشة لجزمه لأنه إذا سلّم أن الواجب عليه ليس إلا أن يجزم وقد جزم فقد أدى واجب الوقت وما ترك منه شيئا، وكل من لم يترك واجبا معينا في وقت معين لا معنى لتأثيمه في ذلك الوقت من جهة ذلك الواجب، وكما يحتمل عقلا إن تعرض له شبهة تشوش عليه الجزم لعدم الدليل كذلك يحتمل عقلا أن يحصل له الدليل على ما جزم قبل عروض شبهة ولعل هذا الاحتمال أقوى وأقرب إلى الوقوع. وإذا أحطت خبرا بجميع ما ذكرنا علمت أن الاستدلال بقوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ على وجوب النظر فيه نظر لتوقفه على صحة قولهم: إن العلم لا يحصل إلا بالنظر وقد سمعت ما فيه. ويقوي ذلك إذا قلنا: إن علمه صلّى الله عليه وسلّم بالوحدانية ضروري إذ يكون المراد الأمر بالثبات والاستمرار على ما هو صلّى الله عليه وسلّم فيه من اجتناب ما يخل بالعلم، وقد يقال: يجوز أن يكون الاستدلال نظرا إلى ظاهر اللفظ من حيث إنه أمر بالعلم بالوحدانية فلا بد أن يكون مقدورا بنفسه أو باعتبار ما يحصل هو منه، وحيث انتفى كونه مقدورا بنفسه تعين كونه مقدورا باعتبار ما يحصل هو منه، والظاهر أنه النظر. وأنت تعلم أنه إن كان التقليد سببا من أسباب العلم أيضا لم يتم هذا وإن لم يكن سببا تم فتأمل، ثم اعلم أن النظر الذي قالوا به في الأصول الاعتقادية أعم من النظر في الأدلة العقلية والنظر في الأدلة السمعية، فإن منها ما ثبت بالسمع كالأمور الأخروية ومدخل العقل فيها ليس إلا بأنها أمور ممكنة أخبر الصادق بوقوعها وكل ممكن أخبر الجزء: 13 ¦ الصفحة: 220 الصادق بوقوعه واقع فتلك الأمور واقعة، وأما النظر في معرفة الله تعالى. أعني التصديق بوجوده تعالى وصفاته العلا. فقيل: يتعين أن يكون المراد به النظر في الأدلة العقلية فقط، ولا يجوز أن يكون النظر في الأدلة السمعية طريقها إليه لاستلزامه الدور. وفي الجواب العتيد الدور لازم لكن لا مطلقا بل بالنسبة إلى كل مطلوب يتوقف العلم بصدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم على العلم به، وذلك لأن النظر في الأدلة السمعية إنما يكون طريقا إلى المعرفة إذا كانت صادقة عند الناظر فيها وصدقها في علم الناظر موقوف على علمه بأن هذا الذي يدعي أنه رسول الله الذي جاء بها (1) صادقا في دعواه الرسالة. وعلمه بذلك موقوف على العلم بأن الله تعالى قد أظهر المعجزات على يده تصديقا له في دعواه وعلمه بذلك موقوف على العلم بأن ثمت إلها على صفة يمكن بها أن يبعث رسولا ككونه حيا عالما مريدا قادرا وهو من معرفة الإله سبحانه فلو استفدنا العلم بوجود الله تعالى وبتلك الصفات من الدلائل السمعية الموقوفة على صدق الرسول عليه الصلاة والسلام لزم الدور كما ترى. نعم إذا قيل: إن المكلف بعد ما آمن بالرسول صلّى الله عليه وسلّم واعتقد اعتقادا جازما بصدقه في جميع ما جاء به من عند الله تعالى بأي وجه كان ذلك الجزم بالضرورة أو بالنظر أو بالتقليد فله أن يأخذ عقيدته من القرآن من غير تأويل ولا ميل من غير أن ينظر في دليل عقلي كان ذلك كلاما صحيحا لا غبار عليه، ولا يلزم منه تحصيل للحاصل بالنسبة إلى ما حصله أولا من المسائل التي يتوقف عليها صدق الرسول عليه الصلاة والسلام لأن التحصيل الثاني من حيث إن الجائي بدلائلها صادق فيها والتحصيل الأول كان بالنظر العقلي من غير اعتبار صدق الرسول عليه الصلاة والسلام فاختلفت الحيثية فليفهم والله تعالى أعلم. وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ في الدنيا وَمَثْواكُمْ في الآخرة، وخص المتقلب بالدنيا والمثوى بالآخرة لأن كل أحد متحرك في الدنيا دائما نحو معاده غير قار وفي الآخرة مقيم لا حركة له نحو دار وراءها، والمراد من علمه تعالى بذلك تحذيرهم من جزائه وعقابه سبحانه أو الترغيب في امتثال ما يأمرهم جلّ شأنه به والترهيب عما ينهاهم عزّ وجلّ عنه على طريق الكناية. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: متقلبكم تصرفكم في حياتكم الدنيا ومثواكم في قبوركم وآخرتكم، وقال عكرمة: متقلبكم في أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات ومثواكم إقامتكم في الأرض وقال الطبري: وغيره: متقلبكم تصرفكم في يقظتكم ومثواكم منامكم، وقيل: متقلبكم في معايشكم ومتاجركم ومثواكم حيث تستقرون من منازلكم، وقيل: متقلبكم في أعمالكم ومثواكم من الجنة والنار. واختار أبو حيان عمومهما في كل متقلب وفي كل إقامة، ونحوه ما قيل: المراد يعلم جميع أحوالكم فلا يخفى عليه سبحانه شيء منها. وقرأ ابن عباس «منقلبكم» بالنون.   (1) قوله: الذي جاء بها صادقا كذا في النسخ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 221 وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا حرصا على الجهاد لما فيه من الثواب الجزيل فالمراد بهم المؤمنون الصادقون لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ أي هلا أنزلت سورة يؤمر فيها بالجهاد. فلولا: تحضيضية، وعن ابن مالك أن لا زائدة والتقدير لو أنزلت سورة وليس بشيء. فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ أي بطريق الأمر به، والمراد. بمحكمة. مبينة لا تشابه ولا احتمال فيها لوجه آخر سوى وجوب القتال، وفسرها الزمخشري بغير منسوخة الأحكام. وعن قتادة كل سورة فيها القتال فهي محكمة وهو أشد القرآن على المنافقين وهذا أمر استقرأه قتادة من القرآن لا بخصوصية هذه الآية والمتحقق أن آيات القتال غير منسوخة وحكمها باق إلى يوم القيامة. وقيل: محكمة بالحلال والحرام. وقرىء «نزلت» سورة بالبناء للفاعل من نزل الثلاثي المجرد ورفع «سورة» على الفاعل. وقرأ زيد بن علي «نزلت» كذلك إلا أنه نصب «سورة محكمة» ، وخرج ذلك على كون الفاعل ضمير السورة، و «سورة محكمة» نصب على الحال. وقرأ هو وابن عمير «وذكر» مبنيّا للفاعل وهو ضمير تعالى «القتال» بالنصب على أنه مفعول به رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي نفاق، وقيل: ضعف في الدين يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ أي نظر المحتضر الذي لا يطرف بصره، والمراد تشخص أبصارهم جبنا وهلعا، وقيل: يفعلون ذلك من شدة العداوة له عليه الصلاة والسلام، وقيل: من خشية الفضيحة فإنهم إن تخلفوا عن القتال افتضحوا وبان نفاقهم، وقال الزمخشري: كانوا يدعون الحرص على الجهاد ويتمنونه بألسنتهم ويقولون: لولا أنزلت سورة في معنى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 222 الجهاد فإذا أنزلت وأمروا فيها بما تمنوا وحرصوا عليه كاعوا وشق عليهم وسقط في أيديهم كقوله تعالى: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ [النساء: 77] والظاهر ما ذكرناه أولا من أن القائلين هم الذين أخلصوا في إيمانهم وإنما عرا المنافقين ما عرا عند نزول أمير المؤمنين بالجهاد لدخولهم فيهم بحسب ظاهر حالهم، وقد جوز هو أيضا إرادة الخلص من الذين آمنوا لكن كلامه ظاهر في ترجح ما ذكره أولا عنده والظاهر أن في الكلام عليه إقامة الظاهر مقام المضمر، وجوز أن يكون المطلوب في قوله تعالى: لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ إنزال سورة مطلقا حيث كانوا يستأنسون بالوحي ويستوحشون إذا أبطأ، وروي نحوه عن ابن جريج. أخرج ابن المنذر عنه أنه قال في الآية: كان المؤمنون يشتاقون إلى كتاب الله تعالى وإلى بيان ما ينزل عليهم فيه فإذا نزلت السورة يذكر فيها القتال رأيت يا محمد المنافقين ينظرون إليك إلخ. فَأَوْلى لَهُمْ تهديد ووعيد على ما روي عن غير واحد، وعن أبي علي أن (أولى) فيه علم لعين الويل مبني على زنة أفعل من لفظ الويل على القلب وأصله أويل وهو غير منصرف للعلمية والوزن. فالكلام مبتدأ وخبر. واعترض بأن الويل غير متصرف فيه، ومثل يوم أيوم مع أنه غير منقاس لا يفرد عن الموصوف البتة، وإن القلب خلاف الأصل لا يرتكب إلا بدليل، وإن علم الجنس شيء خارج عن القياس مشكل التعقل خاصة فيما نحن فيه، ثم قيل: إن الاشتقاق الواضح من الولي بمعنى القرب كما في قوله: تكلفني ليلى وقد شط وليها ... وعادت عواد بيننا وخطوب يرشد إلى أنه للتفضيل في الأصل غلب في قرب الهلاك ودعاء السوء كأنه قيل: هلاكا أولى لهم بمعنى أهلكهم الله تعالى هلاكا أقرب لهم من كل شر وهلاك، وهذا كما غلب بعدا وسحقا في الهلاك، وهو على هذا منصوب على أنه صفة في الأصل لمصدر محذوف وقد أقيم مقامه والجار متعلق به. وفي الصحاح عن الأصمعي أولى له قاربه ما يهلكه أي نزل به وأنشد: فعادى بين هاديتين منها ... وأولى أن يزيد على الثلاث أي قارب أن يزيد، قال ثعلب: ولم يقل أحد في (أولى) أحسن مما قاله الأصمعي، وعلى هذا هو فعل مستتر فيه ضمير الهلاك بقرينة السياق، وقريب منه ما قيل: إنه فعل ماض وفاعله ضميره عزّ وجلّ واللام مزيدة أي أولاهم الله تعالى ما يكرهون أو غير مزيدة أي أدنى الله عزّ وجلّ الهلاك لهم، والظاهر زيادة اللام على ما سمعت عن الأصمعي، ومن فسره بقرب جوز الأمرين، وقيل: هو اسم فعل والمعنى وليهم شر بعد شر. وقيل: هو فعلى من آل بمعنى رجع لا أفعل من الولي فهو في الأصل دعاء عليهم بأن يرجع أمرهم إلى الهلاك، والمراد أهلكهم الله تعالى إلا أن التركيب مبتدأ وخبر، وقال الرضي: هو علم للوعيد من وليه الشر أي قربه، والتركيب مبتدأ وخبر أيضا. واستدل بما حكي أبو زيد من قولهم: أولاة بتاء التأنيث على أنه ليس بأفعل تفضيل ولا أفعل فعلى وإنه علم وليس بفعل ثم قال: بل هو مثل أرمل وأرملة إذا سمي بهما ولذا لم ينصرف، وليس اسم فعل أيضا بدليل أولاة في تأنيثه بالرفع يعني أنه معرب ولو كان اسم فعل كان مبنيا مثله. وتعقب بأنه لا مانع من كون أولاة لفظا آخر بمعناه يرد من ذلك على قائلي ما تقدم أصلا، وجاء أول أفعل تفضيل وظرفا كقبل وسمع فيه أولة كما نقله أبو حيان، وقيل: الأحسن كونه أفعل تفضيل بمعنى أحق وأحرى وهو خبر لمبتدأ محذوف يقدر في كل مقام بما يليق به والتقدير هاهنا العقاب أولى لهم، وروي ذلك عن قتادة ومال إلى هذا القول ابن عطية، وعلى جميع هذه الأقوال قوله تعالى: طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ كلام مستقل محذوف منه أحد الجزء: 13 ¦ الصفحة: 223 الجزأين أما الخبر وتقديره خير لهم أو أمثل، وهو قول مجاهد ومذهب سيبويه والخليل. وأما المبتدأ وتقديره الأمر أو أمرنا طاعة أي الأمر المرضي لله تعالى طاعة، وقيل: أي أمرهم طاعة معروفة وقول معروف أي معلوم حاله أنه خديعة، وقيل: هو حكاية قولهم قبل الأمر بالجهاد أي قالوا أمرنا طاعة ويشهد له قراءة أبي «يقولون طاعة وقول معروف» وذهب بعض إلى أن (أولى) أفعل تفضيل مبتدأ ولَهُمْ صلته واللام بمعنى الباء وطاعَةٌ خبر كأنه قيل فأولى بهم من النظر إليك نظر المغشيّ عليه من الموت طاعة وقول معروف، وعليه لا يكون كلاما مستقلا ولا يوقف على لَهُمْ ومما لا ينبغي أن يلتفت إليه ما قيل: إن طاعَةٌ صفة لسورة في قوله تعالى فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ والمراد ذات طاعة أو مطاعة. وتعقبه أبو حيان بأنه ليس بشيء لحيلولة الفصل الكثير بين الصفة والموصوف فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ أي جد والجد أي الاجتهاد لأصحاب الأمر إلا أنه أسند إليه مجازا كما في قوله تعالى: إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان: 17] ومنه قول الشاعر: قد جدت الحرب بكم فجدوا والظاهر أن جواب «إذا» قوله تعالى: فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ وهو العامل فيها ولا يضر اقترانه بالفاء ولا تمنع من عمل ما بعدها فيما قبلها في مثله كما صرحوا به، وهذا نحو إذا جاء الشتاء فلو جئتني لكسوتك، وقيل: الجواب محذوف تقديره فإذا عزم الأمر كرهوا أو نحو ذلك قاله قتادة. وفي البحر من حمل طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ على أنهم يقولون ذلك خديعة قدر فإذا عزم الأمر ناقضوا وتعاصوا، ولعل من يجعل القول السابق للمؤمنين في ظاهر الحال وهم المنافقون جوز هذا التقدير أيضا، وقدر بعضهم الجواب فاصدق وهو كما ترى، وأيا ما كان فالمراد فلو صدقوا الله فيما زعموا من الحرص على الجهاد ولعلهم أظهروا الحرص عليه كالمؤمنين الصادقين، وقيل: في قوله: طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ، وقيل: في إيمانهم لَكانَ أي الصدق خَيْراً لَهُمْ مما ارتكبوه وهذا مبني على ما في زعمهم من أن فيه خيرا وإلا فهو في نفس الأمر لا خير فيه. فَهَلْ عَسَيْتُمْ خطاب لأولئك الذين في قلوبهم مرض بطريق الالتفات لتأكيد التوبيخ وتشديد التقريع، وهل للاستفهام والأصل فيه أن يدخل الخبر للسؤال عن مضمونه والإنشاء الموضوع له عسى ما دل عليه بالخبر أي فهل يتوقع منكم وينتظر إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أمور الناس وتأمرتم عليهم فهو من الولاية والمفعول به محذوف وروي ذلك عن محمد بن كعب وأبي العالية والكلبي أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ تناحرا على الولاية وتكالبا على جيفة الدنيا والمتوقع كل من يقف على حالهم إلا الله عزّ وجلّ إذ لا يصح منه سبحانه ذلك والاستفهام أيضا بالنسبة إلى غيره جلّ وعلا فالمعنى إنكم لما عهد منكم من الأحوال الدالة على الحرص على الدنيا حيث أمرتم بالجهاد الذي هو وسيلة إلى ثواب الله تعالى العظيم فكرهتموه وظهر عليكم ما ظهر أحقاء بأن يقول لكم كل من ذاقكم وعرف حالكم يا هؤلاء ما ترون هل يتوقع منكم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض إلخ. وفسر بعضهم التولي بالإعراض عن الإسلام فالفعل لازم أي فهل عسيتم إن ارضتم عن الإسلام أن ترجعوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من الإفساد في الأرض بالتغاور والتناهب وقطع الأرحام بمقاتلة بعض الأقارب بعضا ووأد البنات، وتعقب بأن الواقع في حيز الشرط في مثل هذا المقام لا بد أن تكون محذوريته باعتبار ما يتبعه من المفاسد لا باعتبار ذاته ولا ريب في أن الأعراض عن الإسلام رأس كل شر وفساد فحقه أن يجعل عمدة في التوبيخ لا وسيلة للتوبيخ بما دونه من المفاسد، ويؤيد الأول قراءة بعض «ولّيتم» مبنيا المفعول وكذا قراءته عليه الصلاة والسلام على ما ذكر في الحبر ورويت عن علي كرم الله تعالى وجهه. ورويس. ويعقوب «تولّيتم» بالبناء للمفعول أيضا بناء على أن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 224 المعنى تولاكم الناس واجتمعوا على موالاتكم، والمراد كنتم فيهم حكاما، وقيل: المعنى تولاكم ولاة غشمة خرجتم معهم ومشيتم تحت لوائهم وأفسدتم بإفسادهم واستظهر أبو حيان تفسيره بالإعراض إلا أنه قال: المعنى إن أعرضتم عن امتثال أمر الله تعالى في القتال أن تفسدوا في الأرض بعدم معونة أهل الإسلام على أعدائهم وتقطعوا أرحامكم لأن من أرحامكم كثيرا من المسلمين فإذا لم تعينوهم قطعتم ما يبينكم وبينهم من الرحم. وتعقب بأن حمل الإفساد على الإفساد بعدم المعونة فيه خفاء، وكذا الإتيان بأن عليه دون إذا من حيث إن الإعراض عن امتثال أمر الله تعالى في القتال كالمحقق من أولئك المنافقين فتأمل، وأَنْ تُفْسِدُوا خبر عسى. وإِنْ تَوَلَّيْتُمْ اعتراض، وجواب أن محذوف يدل عليه ما قبله، وزعم بعضهم أن الأظهر جعل إِنْ تَوَلَّيْتُمْ حالا مقدرة، وفيه أن الشرط بدون الجواب لم يعهد وقوعه حالا في غير أن الوصلية وهي لا تفارق الواو، والحاق الضمائر بعسى كما في سائر الأفعال المتصرفة لغة أهل الحجاز، وبنو تميم لا يلحقونها به ويلتزمون دخوله على أن والفعل فيقولون الزيدان عسى أن يقوما والزيدون عسى أن يقوموا، وذكر الإمام هاتين اللغتين ثم قال: وأما قول من قال: عسى أنت تقوم وعسى أنا أقوم فدون ما ذكرنا للتطويل الذي فيه فإن كان مقصوده حكاية لغة ثالثة هي انفصال الضمير فنحن لا نعلم أحدا من نقلة اللسان العربي ذكرها وإن كان غير ذلك فليس فيه كثير جدوى. وقرأ نافع «عسيتم» بكسر السين المهملة، وهو غريب. وقرأ عمرو في رواية. وسلام ويعقوب وأبان وعصمة «تقطعوا» بالتخفيف مضارع قطع، والحسن «تقطّعوا» بفتح التاء والقاف وشد الطاء وأصله تتقطعوا بتاءين حذفت أحدهما ونصبوا «أرحامكم» على إسقاط الحرف أي في أرحامكم لأن تقطع لازم أُولئِكَ إشارة إلى المخاطبين بطريق الالتفات إيذان بأن ذكر هناتهم أوجب إسقاطهم عن درجة الخطاب ولو على جهة التوبيخ وحكاية أقوالهم الفظيعة لغيرهم، وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أي أبعدهم من رحمته عزّ وجلّ فَأَصَمَّهُمْ عن استماع الحق لتصامهم عنه لسوء اختيارهم وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ لتعاميهم عما يشاهدونه من الآيات المنصوبة في الأنفس والآفاق وجاء التركيب فَأَصَمَّهُمْ ولم يأت فأصم آذانهم كما جاء وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ أو وأعماهم كما جاء فأصمهم، قيل: لأن الأذن لو أصيبت بقطع أو قلع لسمع الكلام فلم يحتج إلى ذكر الأذن والبصر وهو العين لو أصيب لامتنع الإبصار فالعين لها مدخل في الرؤية والأذن لا مدخل لها في السمع انتهى وهو كما ترى. وقال الخفاجي: لأنه إذا ذكر الصمم لم يبق حاجة إلى ذكر الآذان، وأما العمى فلشيوعه في البصر والبصيرة حتى قيل: إنه حقيقة فيهما وهو ظاهر ما في القاموس فإذا كان المراد أحدهما حسن تقييده. وقيل في وجه ذلك بناء على كون العمى حقيقة فيما كان في البصر إن نحو أعمى الله أبصارهم بحسب الظاهر من باب أبصرته بعيني وهو يقال في مقام يحتاج إلى التأكيد، ولما كان أولئك الذين حكى حالهم في أمر الجهاد غير ظاهر إعماؤهم ظهور إصمامهم كيف وفي الآيات السابقة ما يؤذن بعدم انتفاعهم بالمسموع من القرآن وهو من آثار إصمامهم وليس فيها ما يؤذن بعدم انتفاعهم بالآيات المرئية المنصوبة في الأنفس والآفاق الذي هو من آثار إعمائهم ناسب أن يسلك في كل من الجملتين ما سلك مع ما في سلوكه في الأخير من رعاية الفواصل وهو أدق مما قبل، هذا والأرحام جمع رحم بفتح الراء وكسر الحاء وهي على ما في القاموس القرابة أو أصلها وأسبابها، وقال الراغب: الرحم رحم المرأة أي بيت منبت ولدها ووعاؤه ومنه استعير الرحم للقرابة لكونهم خارجين من رحم واحدة، ويقال للأقارب ذوو رحم كما يقال لهم أرحام، وقد صرح ابن الأثير بأن ذا الرحم يقع على كل من يجمع بينك وبينه نسب ويطلق في الفرائض على الأقارب من جهة النساء والمذكور في كتبها تفسيره بكل قريب ليس بذي سهم ولا عصبة وعدوا من الجزء: 13 ¦ الصفحة: 225 ذلك أولاد الأخوات لأبوين أو لأب وعمات الآباء وظاهر كلام الأئمة في قوله عليه الصلاة والسلام من ملك ذا رحم محرم فهو حر دخول الأبوين والولد في ذي الرحم لغة حيث أجمعوا على أنهم يعتقون على من ملكهم لهذا الخبر وإن اختلفوا في عتق غيرهم، وصرح ابن حجر الهيثمي في الزواجر بأن الأولاد من الأرحام وظاهر عطف الأقربين على الوالدين في الآية يقتضي عدم دخولهما في الأقارب فلا يدخلون في الأرحام لأنهم كما قالوا الأقارب، وكلام فقهائنا نص في عدم دخول الوالدين والولد في ذلك حيث قالوا: إذا أوصى لأقاربه أو لذوي قرابته أو لأرحامه فهي للأقرب فالأقرب من كل ذي رحم محرم ولا يدخل الوالدان والولد، وأما الجد وولد الولد فنقل أبو السعود عن العلامة قاسم عن البدائع أن الصحيح عدم دخولهما، واختاره في الاختيار وعلله بأن القريب من يتقرب إلى غيره بواسطة غيره وتكون الجزئية بينهما منعدمة، وفي شرح الحموي أن دخولهما هو الأصح. وفي متن المواهب وأدخل أي محمد الجد والحفدة وهو الظاهر عنهما، وذكر أن مثل الجد والجدة وقد يقال: إن عدم دخول الوالدين والولد في ذلك وكذا الجد والحفدة عند من يقول بعدم دخولهم ليس لأن اللفظ لا يصدق عليهم لغة بل لأنه لا يصدق عليهم عرفا وهم اعتبروا العرف كما قال الطحطاوي في أكثر مسائل الوصية. وفي جامع الفصولين أن مطلق الكلام فيما بين الناس ينصرف إلى المتعارف، وما ذكره في المعراج من خبر من سمى والده قريبا عقه لا يدل على أنه ليس قريبا لغة بل هو بيان حكم شرعي مبناه أن في ذلك إيذاء للوالد وحطا من قدره عرفا، وهذا كما لو ناداه باسمه وكان يكره ذلك، وأمر العطف في الآية الكريمة سهل لجواز عطف العام على الخاص كعطف الخاص على العام، فالذي يترجح عندي أن الأرحام كما صرحوا به الأقارب بالقرابة الغير السببية والمراد ما يقابل الأجانب ويدخل فيهم الأصول والفروع والحواشي من قبل الأب أو من قبل الأم وحرمة قطع كل لا شك فيها لأنه على ما قلنا رحم، والآية ظاهرة في حرمة قطع الرحم. وحكى القرطبي في تفسيره اتفاق الأمة على حرمة قطعها ووجوب صلتها، ولا ينبغي التوقف في كون القطع كبيرة، والعجب من الرافعي عليه الرحمة كيف توقف في قول صاحب الشامل: إنه من الكبائر، وكذا تقرير النووي قدس سره له على توقفه، واختلف في المراد بالقطيعة فقال أبو زرعة: ينبغي أن تختص بالإساءة، وقال غيره: هي ترك الإحسان ولو بدون إساءة لأن الأحاديث آمرة بالصلة ناهية عن القطيعة ولا واسطة بينهما، والصلة إيصال نوع من أنواع الإحسان كما فسرها بذلك غير واحد فالقطيعة ضدها فهي ترك الإحسان. ونظر فيه الهيثمي بناء على تفسير العقوق بأن يفعل مع أحد أبويه ما لو فعله مع أجنبي كان محرما صغيرة فينتقل بالنسبة إلى أحدهما كبيرة وان الأبوين أعظم من بقية الأقارب ثم قال: فالذي يتجه ليوافق كلامهم وفرقهم بين العقوق وقطع الرحم أن المراد بالأول أن يفعل مع أحد الأبوين ما يتأذى به فإن كان التأذي ليس بالهين عرفا كان كبيرة وإن لم يكن محرما لو فعله مع الغير وبالثاني قطع ما ألف القريب منه من سابق الوصلة والإحسان بغير عذر شرعي لأن قطع ذلك يؤدي إلى إيحاش القلوب وتأذيها، فلو فرض أن قريبه لم يصل إليه إحسان ولا إساءة قط لم يفسق بذلك لأن الأبوين إذا فرض ذلك في حقهما من غير أن يفعل معهما ما يقتضي التأذي العظيم لغناهما مثلا لم يكن كبيرة فأولى بقية الأقارب ولو فرض أن الإنسان لم يقطع عن قريبه ما ألفه منه من الإحسان لكنه فعل معه محرما صغيرة أو قطب في وجهه أو لم يقم له في ملأ ولا عبأ به لم يكن ذلك فسقا بخلافه مع أحد الأبوين لأن تأكد حقهما اقتضى أن يتميزا على بقية الأقارب بما لا يوجد نظيره فيهم وعلى ضبط الثاني بما ذكرته فلا فرق بين أن يكون الإحسان الذي ألفه منه قريبه مالا أو مكاتبة أو مراسلة أو زيارة أو غير ذلك فقطع ذلك كله بعد فعله لغير عذر كبيرة، وينبغي أن يراد بالعذر في المال فقد ما كان يصله به أو تجدد احتياجه إليه أو أن يندبه الشارع إلى تقديم غير القريب عليه لكونه أحوج أو أصلح، فعدم الإحسان إلى القريب أو تقديم الأجنبي عليه لهذا العذر يرفع عنه وإن انقطع بسبب ذلك ما ألفه منه القريب لأنه إنما راعى أمر الشارع بتقديم الأجنبي عليه، وواضح أن القريب لو ألف الجزء: 13 ¦ الصفحة: 226 منه قدرا معينا من المال يعطيه إياه كل سنة مثلا فنقصه لا يفسق بذلك بخلاف ما لو قطعه من أصله لغير عذر، وأما عذر الزيارة فينبغي ضبطه بعذر الجمعة لجامع أن كلّا فرض عين وتركه كبيرة وأما عذر ترك المكاتبة والمراسلة فهو أن لا يجد من يثق به في أداء ما يرسله معه، والظاهر أنه إذا ترك الزيارة التي ألفت منه في وقت مخصوص لعذر لا يلزمه قضاؤها في غير ذلك الوقت، والأولاد والأعمام من الأرحام وكذا الخالة فيأتي فيهم وفيها ما تقرر من الفرق بين قطعهم وعقوق الوالدين، وأما قول الزركشي: صح في الحديث أن الخالة بمنزلة الأم وأن عم الرجل صنو أبيه وقضيتهما أنهما مثل الأب والأم حتى في العقوق فبعيد جدا ويكفي مشابهتهما في أمر ما كالحضانة تثبت للخالة كما تثبت للأم وكذا المحرمية وكالإكرام في العم والمحرمية وغيرهما مما ذكر انتهى المراد منه، ولو قيل: إن الصغيرة تعد كبيرة لو فعلت مع القريب لكنها دون ما لو فعلت مع أحد الأبوين لم يبعد عندي لتفاوت قبح السيئات بحسب الإضافات بل لا يبعد على هذا أن يكون قبح قطع الرحم متفاوتا باعتبار الشخص القاطع وباعتبار الشخص المقطوع ومتى سلم التفاوت فليقل به في العقوق ويكون عقوق الأم أقبح من عقوق الأب وكذا عقوق الولد الذي يعبأ به أقبح من عقوق الولد الذي لا يعبأ به ويتفرع من ذلك ما يتفرع مما لا يخفى على فقيه. واستدل بالآية عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه على منع بيع أم الولد. روى الحاكم في المستدرك وصححه. وابن المنذر عن بريدة قال: كنت جالسا عند عمر إذ سمع صائحا فسأل فقيل: جارية من قريش تباع أمها فأرسل يدعو المهاجرين والأنصار فلم تمض ساعة حتى امتلأت الدار والحجرة فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فهل تعلمونه كان مما جاء به محمد صلّى الله عليه وسلّم القطيعة قالوا: لا قال: فإنها قد أصبحت فيكم فاشية ثم قرأ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ ثم قال: وأي قطيعة أقطع من أن تباع أم امرئ فيكم قالوا فاصنع ما بدا لك فكتب في الآفاق أن لا تباع أم حر فإنها قطيعة رحم وأنه لا يحل واستدل بها أيضا على جواز لعن يزيد عليه من الله تعالى ما يستحق نقل البرزنجي في الإشاعة والهيثمي في الصواعق أن الإمام أحمد لما سأله ولده عبد الله عن لعن يزيد قال كيف لا يلعن من لعنه الله تعالى في كتابه فقال عبد الله قد قرأت كتاب الله عز وجل فلم أجد فيه لعن يزيد فقال الإمام إن الله تعالى يقول: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ الآية وأي فساد وقطيعة أشد مما فعله يزيد انتهى. وهو مبني على جواز لعن العاصي المعين من جماعة لعنوا بالوصف، وفي ذلك خلاف فالجمهور، على أنه لا يجوز لعن المعين فاسقا كان أو ذميا حيا كان أو ميتا ولم يعلم موته على الكفر لاحتمال أن يختم له أو ختم له بالإسلام بخلاف من علم موته على الكفر كأبي جهل. وذهب شيخ الإسلام السراج البلقيني إلى جواز لعن العاصي المعين لحديث الصحيحين «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح» وفي رواية «إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح» واحتمال أن يكون لعن الملائكة عليهم السلام إياها ليس بالخصوص بل بالعموم بأن يقولوا: لعن الله من باتت مهاجرة فراش زوجها بعيد وإن بحث به معه ولده الجلال البلقيني. وفي الزواجر لو استدل لذلك بخبر مسلم «أنه صلّى الله عليه وسلّم مر بحمار وسم في وجهه فقال: لعن الله من فعل هذا» لكان أظهر إذ الإشارة بهذا صريحة في لعن معين إلا أن يؤول بأن المراد الجنس وفيه ما فيه انتهى. وعلى هذا القول لا توقف في لعن يزيد لكثرة أوصافه الخبيثة وارتكابه الكبائر في جميع أيام تكليفه ويكفي ما فعله أيام استيلائه بأهل المدينة ومكة فقد روى الطبراني بسند حسن «اللهم من ظلم أهل المدينة وأخافهم فأخفه وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل» والطامة الكبرى ما فعله بأهل البيت ورضاه بقتل الجزء: 13 ¦ الصفحة: 227 الحسين على جده وعليه الصلاة والسلام واستبشاره بذلك وإهانته لأهل بيته مما تواتر معناه وإن كانت تفاصيله آحادا، وفي الحديث «ستة لعنتهم (1) وفي رواية: لعنهم الله وكل نبي مجاب الدعوة المحرف لكتاب الله- وفي رواية-: الزائد في كتاب الله والمكذب بقدر الله والمتسلط بالجبروت ليعز من أذل الله ويذل من أعز الله والمستحل من عترتي والتارك لسنتي» وقد جزم بكفره وصرح بلعنه جماعة من العلماء منهم الحافظ ناصر السنة ابن الجوزي وسبقه القاضي أبو يعلى، وقال العلامة التفتازاني: لا نتوقف في شأنه بل في إيمانه لعنة الله تعالى عليه وعلى أنصاره وأعوانه، وممن صرح بلعنه الجلال السيوطي عليه الرحمة وفي تاريخ ابن الوردي. وكتاب الوافي بالوفيات أن السبي لما ورد من العراق على يزيد خرج فلقي الأطفال والنساء من ذرية علي. والحسين رضي الله تعالى عنهما والرؤوس على أطراف الرماح وقد أشرفوا على ثنية جيرون فلما رآهم نعب غراب فأنشأ يقول: لما بدت تلك الحمول وأشرفت ... تلك الرؤوس على شفا جيرون نعب الغراب فقلت قل أو لا تقل ... فقد اقتضيت من الرسول ديوني يعني أنه قتل بمن قتله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر كجده عتبة وخاله ولد عتبة وغيرهما وهذا كفر صريح فإذا صح عنه فقد كفر به ومثله تمثله بقول عبد الله بن الزبعري قبل إسلامه: ليت أشياخي الأبيات، وأفتى الغزالي عفا الله عنه بحرمة لعنه وتعقب السفاريني من الحنابلة نقل البرزنجي والهيثمي السابق عن أحمد رحمه الله تعالى فقال: المحفوظ عن الإمام أحمد خلاف ما نقلا، ففي الفروع ما نصه ومن أصحابنا من أخرج الحجاج عن الإسلام فيتوجه عليه يزيد ونحوه ونص أحمد خلاف ذلك وعليه الأصحاب، ولا يجوز التخصيص باللعنة خلافا لأبي الحسين وابن الجوزي وغيرهما، وقال شيخ الإسلام: يعني والله تعالى أعلم ابن تيمية ظاهر كلام أحمد الكراهة، قلت: والمختار ما ذهب إليه ابن الجوزي. وأبو حسين القاضي. ومن وافقهما انتهى كلام السفاريني. وأبو بكر بن العربي المالكي عليه من الله تعالى ما يستحق أعظم الفرية فزعم أن الحسين قتل بسيف جده صلّى الله عليه وسلّم وله من الجهلة موافقون على ذلك كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً [الكهف: 5] . قال ابن الجوزي عليه الرحمة في كتابه السر المصون: من الاعتقادات العامة التي غلبت على جماعة منتسبين إلى السنة أن يقولوا: إن يزيد كان على الصواب وإن الحسين رضي الله تعالى عنه أخطأ في الخروج عليه ولو نظروا في السير لعلموا كيف عقدت له البيعة وألزم الناس بها ولقد فعل في ذلك كل قبيح ثم لو قدرنا صحة عقد البيعة فقد بدت منه بواد كلها توجب فسخ العقد ولا يميل إلى ذلك إلا كل جاهل عامي المذهب يظن أنه يغيظ بذلك الرافضة. هذا ويعلم من جميع ما ذكره اختلاف الناس في أمره فمنهم من يقول: هو مسلم عاص بما صدر منه مع العترة الطاهرة لكن لا يجوز لعنه، ومنهم من يقول: هو كذلك ويجوز لعنه مع الكراهة أو بدونها ومنهم من يقول: هو كافر ملعون، ومنهم من يقول: إنه لم يعص بذلك ولا يجوز لعنه وقائل هذا ينبغي أن ينظم في سلسلة أنصار يزيد وأنا أقول: الذي يغلب على ظني أن الخبيث لم يكن مصدقا برسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأن مجموع ما فعل مع أهل حرم الله تعالى وأهل حرم نبيه عليه الصلاة والسلام وعترته الطيبين الطاهرين في الحياة وبعد الممات وما صدر منه من المخازي ليس بأضعف دلالة على   (1) قوله «ستة لعنتهم» كذا في النسخ والمعدود فيها خمس سقط منها «والمستحل لحرم الله» . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 228 عدم تصديقه من إلقاء ورقة من المصحف الشريف في قذر، ولا أظن أن أمره كان خافيا على أجلة المسلمين إذا ذاك ولكن كانوا مغلوبين مقهورين لم يسعهم إلا الصبر ليقضي الله أمرا كان مفعولا، ولو سلّم أن الخبيث كان مسلما فهو مسلم جمع من الكبائر ما لا يحيط به نطاق البيان، وأنا أذهب إلى جواز لعن مثله على التعيين ولو لم يتصور أن يكون له مثل من الفاسقين، والظاهر أنه لم يتب، واحتمال توبته أضعف من إيمانه، ويلحق به ابن زياد وابن سعد وجماعة فلعنة الله عز وجل عليهم أجمعين، وعلى أنصارهم وأعوانهم وشيعتهم ومن مال إليهم إلى يوم الدين ما دمعت عين على أبي عبد الله الحسين، ويعجبني قول شاعر العصر ذو الفضل الجلي عبد الباقي أفندي العمري الموصل وقد سئل عن لعن يزيد اللعين: يزيد على لعني عريض جنابه ... فأغدو به طول المدى ألعن اللعنا ومن كان يخشى القال والقيل من التصريح بلعن ذلك الضليل فليقل: لعن الله عز وجل من رضي بقتل الحسين ومن آذى عترة النبي صلّى الله عليه وسلّم بغير حق ومن غصبهم حقهم فإنه يكون لاعنا له لدخوله تحت العموم دخولا أوليا في نفس الأمر، ولا يخالف أحد في جواز اللعن بهذه الألفاظ ونحوها سوى ابن العربي المار ذكره وموافقيه فإنهم على ظاهر ما نقل عنهم لا يجوزون لعن من رضي بقتل الحسين رضي الله تعالى عنه، وذلك لعمري هو الضلال البعيد الذي يكاد يزيد على ضلال يزيد أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أي لا يلاحظونه ولا يتصفحونه وما فيه من المواعظ والزواجر حتى لا يقعوا فيما وقعوا فيه من الموبقات أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها تمثيل لعدم وصول الذكر إليها وانكشاف الأمر لها فكأنه قيل: أفلا يتدبرون القرآن إذ وصل إلى قلوبهم أم لم يصل إليها فتكون أم متصلة على مذهب سيبويه، وظاهر كلام بعض اختياره. وذهب أبو حيان وجماعة إلى أنها منقطعة وما فيها من معنى بل للانتقال من التوبيخ بترك التدبر إلى التوبيخ بكون قلوبهم مقفلة لا تقبل التدبر والتفكر، والهمزة للتقرير، وتنكير القلوب لتهويل حالها وتفظيع شأنها وأمرها في القساوة والجهالة كأنه قيل: على قلوب منكرة لا يعرف حالها ولا يقادر قدرها في القساوة وقيل: لأن المراد قلوب بعض منهم وهم المنافقون فتنكيرها للتبعيض أو للتنويع كما قيل، وإضافة الأقفال إليها للدلالة على أنها أقفال مخصوصة بها مناسبة لها غير مجانسة لسائر الأقفال المعهودة، وقرى «إقفالها» بكسر الهمزة، وهو مصدر من الأفعال و «أقفلها» بالجمع على أفعل. إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ أي رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر، قال ابن عباس، وغيره: نزلت في منافقين كانوا أسلموا ثم نافقت قلوبهم، وفي إرشاد العقل السليم هم المنافقون الذين وصفوا فيما سلف بمرض القلوب وغيره من قبائح الأحوال فإنهم قد كفروا به عليه الصلاة والسلام مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى بالدلائل الظاهرة والمعجزات الباهرة القاهرة. وأخرج عبد الرزاق، وجماعة عن قتادة أنه قال: هم أعداء الله تعالى أهل الكتاب يعرفون بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم ويجدونه مكتوبا في التوراة والإنجيل ثم يكفرون به عليه الصلاة والسلام. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا إلخ اليهود ارتدوا عن الهدى بعد أن عرفوا أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم نبي، والمختار ما تقدم، وأيّا ما كان فالموصول اسم ان وجملة قوله تعالى: الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ خبرها كقولك: إن زيدا عمرو مر به أي سهل لهم ركوب العظائم من السول بفتحتين وهو الاسترخاء استعير للتسهيل أي لعده سهلا هينا حتى لا يبالى به كأنه شبه بإرخاء ما كان مشدودا، وقيل: أي حملهم على الشهوات من السول وهو التمني، وأصله حملهم على سؤلهم أي ما يشتهونه الجزء: 13 ¦ الصفحة: 229 ويتمنونه فالتفعيل للحمل على المصدر كغربه إذا حمله على الغربة إلا أنهم جعلوا المصدر بمعنى اسم المفعول، ونقل ذلك عن ابن السكيت. واعترض بأن السول بمعنى التمني من السؤال فهو مهموز والتسويل واوي ومعناه التزيين فلا مناسبة لا لفظا ولا معنى فالقول باشتقاق سول منه خطأ، ورد بأن السول من السؤال وله استعمالان فيكون مهموزا وهو المعروف ومعتلا يقال سأل يسأل كخاف يخاف وقالوا منه: يتساولان بالواو فيجوز كون التسويل من السول على هذه اللغة أو هو على المشهورة خفف بقلب الهمزة ثم التزم، ونظيره تدير من الدار لاستمرار هذا الذي أظهره سبحانه لتفضيحهم، وقال الإمام: الأظهر أن يقال المراد يعلم سبحانه ما في قلوبهم من العلم بصدق رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وفيه ما لا يخفى، والجملة اعتراض مقرر لما قبله متضمن للوعيد، والفاء في قوله سبحانه: فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها، «وكيف» منصوب بفعل محذوف هو العامل في الظرف كأنه قيل: يفعلون في حياتهم ما يفعلون من الحيل فكيف يفعلون إذا توفتهم الملائكة، وقيل: مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي فكيف حالهم أو حيلتهم إذا توفتهم إلخ، وزعم الطبري أن التقدير فكيف علمه تعالى بأسرارهم إذا توفتهم إلخ، وليس بشيء، ووقت التوفي هو وقت الموت، والملائكة عليهم السلام ملك الموت وأعوانه. وقرأ الأعمش «توفاهم» بالألف بدل التاء فاحتمل أن يكون ماضيا وأن يكون مضارعا حذف منه أحد تاءيه والأصل تتوفاهم يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ حال من الملائكة، وجوز كونه حالا من ضمير تَوَفَّتْهُمُ وضعفه أبو حيان، وهو على ما قيل تصوير لتوفيهم على أهول الوجوه وأفظعها وإبراز لما يخافون منه ويجبنون عن القتال لأجله فإن ضرب الوجوه والأدبار في القتال والجهاد مما يتقى، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه لا يتوفى أحد على معصية إلا تضرب الملائكة في وجهه وفي دبره، والكلام على الحقيقة عنده ولا مانع من ذلك وإن لم يحس بالضرب من حضر وما ذلك إلا كسؤال الملكين وسائر أحوال البرزخ. والمراد بالوجه والدبر قيل العضوان المعروفان. أخرج ابن المنذر عن مجاهد أنه قال: يضربون وجوههم وأستاههم ولكن الله سبحانه كريم يكني، وقال الراغب وغيره: المراد القدام والخلف، وقيل: وقت التوفي وقت سوقهم في القيامة إلى النار والملائكة ملائكة العذاب يومئذ، وقيل: هو وقت القتال والملائكة ملائكة النصر تضرب وجوههم إن ثبتوا وأدبارهم إن هربوا نصرة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكلا القولين كما ترى ذلِكَ التوفي الهائل بِأَنَّهُمُ أي بسبب أنهم اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ من الكفر والمعاصي وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ ما يرضاه عز وجل من الإيمان والطاعات حيث كفروا بعد الإيمان وخرجوا عن الطاعة بما صنعوا من المعاملة مع إخوانهم اليهود، وقيل: ما أسخط الله كتمان نعت الرسول صلّى الله عليه وسلّم ورضوانه ما يرضيه سبحانه من إظهار ذلك، وهو مبني على أن ما تقدم إخبار عن اليهود وقد سمعت ما فيه، ولما كان اتباع ما أسخط الله تعالى مقتضيا للتوجه ناسب ضرب الوجه وكراهة رضوانه سبحانه مقتضيا للاعراض ناسب ضرب الدبر ففي الكلام مقابلة بما يشبه اللف والنشر فَأَحْبَطَ لذلك أَعْمالَهُمْ التي عملوها حال إيمانهم من الطاعات، وجوز أن يراد ما كان بعد من أعمال البر التي لو عملوها حال الإيمان لانتفعوا بها. أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ هم المنافقون الذين فصلت أحوالهم الشنيعة وصفوا بوصفهم السابق لكونه مدارا لما نعى عليهم بقوله تعالى: أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ فأم منقطعة وأن مخففة من أن واسمها ضمير الشأن والجملة بعدها خبرها، والأضغان جمع ضغن وهو الحقد وقيده الراغب بالشديد وقد ضغن بالكسر وتضاغن القوم واضطغنوا أبطنوا الأحقاد، ويقال: اضطغنت الصبي إذا أخذته تحت حضنك وأنشد الأحمر: كأنه مضطغن صبيا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 230 وفرس ضاغن لا يعطي ما عنده من الجري إلا الضرب، وأصل الكلمة من الضغن وهو الالتواء والاعوجاج في قوائم الدابة والقناة وكل شيء، قال بشر: كذات الضغن تمشي في الرقاق. وأنشد الليث: القلب في ديار وكذلك تحيز لاستمرار القلب في حيز ويكون مآل المعنى على هذا حملهم على الشهوات. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «سوّل لهم» مبنيا للمفعول وخرج ذلك على تقدير مضاف أي كيد الشيطان سول لهم، وجوز تقديره سول كيده لهم فحذف وقام الضمير المجرور مقامه فارتفع واستتر، قيل: وهو أولى لأنه تقدير في وقت الحاجة ولا يخفى أن الأول أقل تكلفا. وَأَمْلى لَهُمْ أي ومد لهم الشيطان في الأماني والآمال، ومعنى المد فيها توسيعها وجعلها ممدودة بنفسها أو بزمانها بأن يوسوس لهم بأنكم تنالون في الدنيا كذا وكذا مما لا أصل له حتى يعوقهم عن العمل، وأصل الإملاء الإبقاء ملاوة من الدهر أي برهة، ومنه قيل: المعنى وعدهم بالبقاء الطويل، وجعل بعضهم فاعل «أملى» ضميره تعالى، والمعنى أمهلهم ولم يعاجلهم بالعقوبة وفيه تفكيك لكن أيد بقراءة مجاهد وابن هرمز والأعمش وسلام ويعقوب «وأملي» بهمزة المتكلم مضارع أملى فإن الفاعل حينئذ ضميره تعالى على الظاهر والأصل توافق القراءتين، وجوز أن يكون ماضيا مجهولا من المزيد سكن آخره للتخفيف كما قالوا في بقي بقي بسكون الياء. وعلى الظاهر جوز أن تكون الواو للاستئناف وأن تكون للحال ويقدر مبتدأ بعدها أي وأنا أملي لئلا يكون شاذا كقمت وأصك وجهه، وجوزت الحالية في قراءة الجمهور أيضا على جعل الفاعل ضميره تعالى فحينئذ تقدر قد على المشهور. وقرأ ابن سيرين والجحدري وشيبة وأبو عمرو وعيسى «وأملي» بالبناء للمفعول. فلهم: نائب الفاعل أي أمهلوا ومد في أعمارهم، وجوز أن يكون ضمير الشيطان والمعنى أمهل الشيطان لهم أي جعل من المنظرين إلى يوم القيامة لأجلهم ففيه بيان لاستمرار ضلالهم وتقبيح حالهم ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من ارتدادهم لا إلى الإملاء كما نقل عن الواحدي ولا إلى التسويل كما قيل لأن شيئا منهما ليس مسببا من القول الآتي، وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: بِأَنَّهُمْ أي بسبب أنهم قالُوا يعني المنافقين لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ هم بنو قريظة. والنضير من اليهود الكارهين لنزول القرآن على النبي عليه الصلاة والسلام مع علمهم بأنه من عند الله تعالى حسدا وطمعا في نزوله على أحد منهم سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ أي في بعض أموركم وأحوالكم وهو ما حكي عنهم في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ [الحشر: 11] وقيل: في بعض ما تأمرون به كالتناصر على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: القائلون اليهود الكافرون به صلّى الله عليه وسلّم بعد ما وجدوا نعته الشريف في كتابهم والمقول لهم المنافقون كان اليهود يعدونهم النصرة إذا أعلنوا بعداوة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقيل: القائلون أولئك اليهود والمقول لهم المشركون كانوا يعدونهم النصرة أيضا إذا حاربوا. وتعقب كلا القولين بأن كفر اليهود به عليه الصلاة والسلام ليس بسبب هذا القول ولو فرض صدوره عنهم على رأي القائل بل من حيث إنكارهم بعثه عليه الصلاة والسلام وقد عرفوه كما عرفوا أبناءهم وآباءهم، ومنه يعلم ما في قول بعضهم: إن القائلين هم المنافقون واليهود والمقول لهم المشركون، وما فسرنا به الآية الكريمة مروي عن الحبر رضي الله تعالى عنه وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ أي إخفاءهم ما يقولونه لليهود أو كل قبيح ويدخل ذلك دخولا أوليا. وقرأ الجمهور «أسرارهم» بفتح الهمزة أي يعلم الأشياء التي يسرونها ومنها قولهم: إن قناتي من صليبات القنا ... ما زادها التثقيف إلا ضغنا والحقد في القلب يشبه به: وقال الليث، وقطرب: الضغن العداوة قال الشاعر: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 231 قل لابن هند ما أردت بمنطق ... ساء الصديق وشيد الأضغانا وهذا لا ينافي الأول لأن الحقد العداوة لأمر يخفيه المرء في قلبه، والإخراج مختص بالأجسام، والمراد به هنا الإبراز أي بل أحسب الذين في قلوبهم حقد وعداوة للمؤمنين انه لن يبرز الله تعالى أحقادهم ويظهرها للرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين فتبقى مستورة، والمعنى أن ذلك مما لا يكاد يدخل تحت الاحتمال. وَلَوْ نَشاءُ إراءتك إياهم لَأَرَيْناكَهُمْ أي لعرفناكهم على أن الرؤية علمية فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ تفريع لمعرفته صلّى الله عليه وسلّم على تعريف الله عز وجل، ويجوز أن تكون الرؤية بصرية على أن المعنى أنه صلّى الله عليه وسلّم يعرفهم معرفة متفرعة على إراءته إياهم، والالتفات إلى نون العظمة للإيماء إلى العناية بالإراءة، والسيما العلامة، والمعنى هنا على الجمع لعمومها بالإضافة لكنها أفردت للإشارة إلى أن علاماتهم متحدة الجنس فكأنها شيء واحد أي فلعرفتهم بعلامات نسمهم بها ولام فَلَعَرَفْتَهُمْ كلام لأريناكهم الواقعة في جواب لو لأن المعطوف على الجواب جواب، وكررت في المعطوف للتأكيد، وأما التي في قوله، تعالى: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ فواقعة في جواب قسم محذوف والجملة معطوفة على الجملة الشرطية ولَحْنِ الْقَوْلِ أسلوب من أساليبه مطلقا، أو المائلة عن الطريق المعروفة كان يعدل عن ظاهره من التصريح إلى التعريض والإبهام، ولذا سمي خطأ الإعراب به لعدوله عن الصواب، وقال الراغب: اللحن صرف الكلام عن سننه الجاري عليه إما بإزالة الإعراب أو التصحيف وهو المذموم وذلك أكثر استعمالا، وإما بإزالته عن التصريح وصرفه بمعناه إلى تعريض وفحوى وهو محمود من حيث البلاغة، وإليه أشار بقوله الشاعر عند أكثر الأدباء: منطق صائب وتلحن أحيا ... نا وخير الحديث ما كان لحنا وإياه قصد بقوله تعالى: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وفي البحر يقال: لحنت له بفتح الحاء ألحن لحنا قلت له قولا يفهمه عنك ويخفى على غيره، ولحنه هو بالكسر فهمه والحنته أنا إياه ولاحنت الناس فاطنتهم، وقيل: لحن القول الذهاب عن الصواب، وعن ابن عباس لَحْنِ الْقَوْلِ هنا قولهم ما لنا إن أطعنا من الثواب ولا يقولون ما علينا إن عصينا من العقاب وكان هذا الذي ينبغي منهم، وقال بعض من فسره بالأسلوب المائل عن الطريق المعروفة: إنهم كانوا يصطلحون فيما بينهم على ألفاظ يخاطبون بها الرسول صلّى الله عليه وسلّم مما ظاهره حسن ويعنون به القبيح وكانوا أيضا يتكلمون بما يشعر بالاتباع وهم بخلاف ذلك كقولهم إذا دعاهم المؤمنون إلى نصرهم: انا معكم، وبالجملة أنهم كانوا يتكلمون بكلام ذي دسائس وكان صلّى الله عليه وسلّم يعرفهم بذلك، وعن أنس رضي الله تعالى عنه ما خفي بعد هذه الآية على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيء من المنافقين كان عليه الصلاة والسلام يعرفهم بسيماهم ولقد كنا في بعض الغزوات وفيها تسعة من المنافقين يشكوهم الناس فناموا ذات ليلة وأصبحوا وعلى جبهة كل واحد منهم مكتوب هذا منافق. وفي دعواه أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يعرفهم بسيماهم أشكال فإن لَوْ ظاهرها عدم الوقوع بل المناسب معرفتهم من لحن القول، وكأنه حمله على أنه وعد بالوقوع دال على الامتناع فيما سلف، ولقد صدق وعده واستشهد عليه بما اتفق في بعض الغزوات، ولا تنحصر السيما بالكتابة بل تكون بغيرها أيضا مما يعرفهم به النبي صلّى الله عليه وسلّم كما يعرف القائف حال الشخص بعلامات تدل عليه، وكثيرا ما يعرف الإنسان محبه ومبغضه من النظر ويكاد النظر ينطق بما في القلب، وقد شاهدنا غير واحد يعرف السني والشيعي بسمات في الوجه، وإن صح أن بعض الأولياء قدست أسرارهم كان يعرف البر والفاجر والمؤمن والكافر ويقول أشم من فلان رائحة الطاعة ومن فلان رائحة المعصية ومن فلان رائحة الإيمان ومن فلان رائحة الكفر ويظهر الأمر حسبما أشار فرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتلك المعرفة أولى وأولى ولعلها بعلامات وراء طور عقولنا، والنور المذكور في خبر «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى» متفاوت الظهور بحسب القابليات وللنبي صلّى الله عليه وسلّم أتمه، وذكروا من علامات النفاق بغض علي كرم الله تعالى وجهه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 232 فقد أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا ببغضهم علي ابن أبي طالب. وأخرج هو وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري ما يؤيده، وعندي أن بغضه رضي الله تعالى عنه من أقوى علامات النفاق فإن آمنت بذلك فيا ليت شعري ماذا تقول في يزيد الطريد أكان يحب عليا كرم الله تعالى وجهه أم كان يبغضه، ولا أظنك في مرية من أنه عليه اللعنة كان يبغضه رضي الله تعالى عنه أشد البغض وكذا يبغض ولديه الحسن والحسين على جدهما وأبويهما وعليهما الصلاة والسلام كما تدل على ذلك الآثار المتواترة معنى، وحينئذ لا مجال لك من القول بأن اللعين كان منافقا، وقد جاء في الأحاديث الصحيحة علامات النفاق غير ما ذكر كقوله عليه الصلاة والسلام: «علامات المنافق ثلاث» الحديث لكن قال العلماء هي علامات للنفاق العملي لا الإيماني، وقيل: الحديث خارج مخرج التنفير عن اتصاف المؤمن المخلص بشيء منها لما أنها كانت إذ ذاك من علامات المنافقين. واستدل بقوله تعالى: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ من جعل التعريض بالقذف موجبا الحد، ولا يخفى حاله وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ فيجازيكم عليها بحسب قصدكم وهذا على ما قيل وعد للمؤمنين وإيذان بأن حالهم بخلاف حال المنافقين وقيل: وعيد للمنافقين وإيذان لهم بأن المجزى عليه ما يقصدونه لا ما يعرضون أو يورون به، واستظهر أنه خطاب عام فهو وعد ووعيد، وحمل على العموم قوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بالأمر بالجهاد ونحوه من التكاليف الشاقة حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ على مشاق التكاليف علما فعليا يتعلق به الجزاء، وفي معناه ما قيل: أي حتى يظهر علمنا، وقال ابن الحاجب في ذلك: العلم يطلق باعتبار الرؤية والشيء لا يرى حتى يقع يعني على المشهور وهو هنا بمعنى ذلك أو بمعنى المجازاة، والمعنى حتى نجازي المجاهدين منكم والصابرين وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ فيظهر حسنها وقبيحها، والكلام كناية عن بلاء أعمالهم فإن الخبر حسنه وقبيحه على حسب المخبر عنه فإذا تميز الحسن عن الخبر القبيح فقد تميز المخبر عنه وهو العمل كذلك، وهذا أبلغ من نبلو أعمالكم، والظاهر عموم الأخبار، وجوز كون المراد بها اخبارهم عن إيمانهم وموالاتهم للمؤمنين على أن إضافتها للعهد أي ونبلو أخبار إيمانكم وموالاتكم فيظهر صدقها وكذبها. وقرأ أبو بكر الأفعال الثلاثة المسندة إلى ضمير العظمة بالياء، وقرأ رويس «ونبلو» بالنون وسكون الواو، والأعمش بسكونها وبالياء فالفعل مرفوع بضمة مقدرة بتقدير ونحن نبلو والجملة حالية، وجوز أن يكون منصوبا كما في قراءة الجمهور سكن للتخفيف كما في قوله: أبى الله أن أسمو بأم ولا أب إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ صاروا في شق غير شقه، والمراد عادوه مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لما شاهدوا من نعته عليه الصلاة والسلام في التوراة أو بما ظهر على يديه صلّى الله عليه وسلّم من المعجزات ونزل عليه عليه الصلاة والسلام من الآيات وهم بنو قريظة والنضير أو المطعمون يوم بدر وقد تقدم ذكرهم، وقيل: أناس نافقوا بعد أن آمنوا لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ بكفرهم وصدهم شَيْئاً من الأشياء أو شيئا من الضرر أو لن يضروا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمشاقته شيئا وقد حذف المضاف لتعظيمه عليه الصلاة والسلام بجعل مضرته وما يلحقه كالمنسوب إلى الله تعالى وفيه تفظيع مشاقته صلّى الله عليه وسلّم. وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ في مكايدهم التي نصبوها في إبطال دينه تعالى ومشاقة رسوله عليه الصلاة والسلام فلا يصلون بها إلى ما كانوا يبغون من الغوائل ولا تثمر لهم إلا القتل والجلاء عن أوطانهم ونحو ذلك، وجوز أن يراد أعمالهم التي عملوها في دينهم يرجون بها الثواب. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ قيل: إن بني أسد أسلموا وقالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قد آثرناك وجئناك بنفوسنا وأهلنا كأنهم منوا بذلك فنزلت فيهم هذه وقوله تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 233 [الحجرات: 17] ومن هنا قيل المعنى لا تبطلوا أعمالكم بالمن بالإسلام، وعن ابن عباس بالرياء والسمعة وعنه أيضا بالشك والنفاق، وقيل: بالعجب فإنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، وقيل: المراد بالأعمال الصدقات أي تبطلوها بالمن والأذى، وقيل: لا تبطلوا طاعاتكم بمعاصيكم، أخرج عبد بن حميد وابن جرير. عن قتادة أنه قال في الآية: من استطاع منكم أن لا يبطل عملا صالحا بعمل سوء فليفعل ولا قوة إلا بالله تعالى، وأخرج عبد بن حميد ومحمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة. وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرون أنه لا يضر مع لا إله إلا الله ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل حتى نزلت أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ فخافوا أن يبطل الذنب العمل، ولفظ عبد بن حميد فخافوا الكبائر أن تحبط أعمالهم، وأخرج ابن نصر وابن جرير وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال كنا معاشر أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم نرى أنه ليس شيء من الحسنات إلا مقبولا حتى نزلت أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ فلما نزلت هذه الآية قلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا: الكبائر الموجبات والفواحش فكنا إذا رأينا من أصاب شيئا منها قلنا: قد هلك حتى نزلت هذه الآية إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48] فلما نزلت كففنا عن القول في ذلك وكنا إذا رأينا أحدا أصاب منها شيئا خفنا عليه وإن لم يصب منها شيئا رجونا له، واستدل المعتزلة بالآية على أن الكبائر تحبط الطاعات بل الكبيرة الواحدة تبطل مع الإصرار الأعمال ولو كانت بعدد نجوم السماء، وذكروا في ذلك من الأخبار ما ذكروا. وفي الكشف لا بد في هذا المقام من تحرير البحث بأن يقال: إن أراد المعتزلة أن نحو الزنا إذا عقب الصلاة يبطل ثوابها مثلا فهذا لا دليل عليه نقلا وعقلا بل هما متعادلان على ما دل عليه صحاح الأحاديث، وكفى بقوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 7- 8] حجة بالغة، وإن أرادوا أن عقابه قد يكبر حتى لا يعادله صغار الحسنات فهذا صحيح والكلام حينئذ في تسميته إحباطا، ولا بأس به لكن عندنا أن هذا الإحباط غير لازم وعندهم لازم، وهو مبني على جواز العفو وهي مسألة أخرى، وأما الكبيرة التي تختص بذلك العمل كالعجب ونحو المن والأذى بعد التصدق فهي محبطة لا محالة اتفاقا، وعليه يحمل ما نقل من الآثار، ومن لا يسميه إحباطا لأنه يجعله شرطا للقبول والإحباط أن يصير الثواب زائلا وهذا لا يتأتى إذا لم يثبت له ثواب فله ذلك، وهو أمر يرجع إلى الاصطلاح انتهى وهو من الحسن بمكان وإعادة الفعل في «وأطيعوا الرسول» للاهتمام بشأن إطاعته عليه الصلاة والسلام إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ امتنعوا عن الدخول في الإسلام وسلوك طريقه أوصدوا الناس عنه ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ نزلت في أهل القليب كما قيل، وحكمها عام كما قال غير واحد في كل من مات على كفره، وهو ظاهر على التفسير الأول لصدوا عن سبيل الله، وأما على التفسير الثاني له فقيل عليه: إن العموم مع تخصيص الكفر بصد الناس عن الإسلام محل نظر ويفهم من كلام بعض الأجلة أن العموم لأن مدار عدم المغفرة هو الاستمرار على الكفر حسبما يشعر اعتباره قيدا في الكلام فتدبر. واستدل بمفهوم الآية بعض القائلين بالمفهوم على أنه تعالى قد يغفر لمن لم يمت على كفره سائر ذنوبه فَلا تَهِنُوا أي إذا علمتم أن الله تعالى مبطل أعمالهم ومعاقبهم فهو خاذلهم في الدنيا والآخرة فلا تبالوا بهم ولا تظهروا ضعفا، فالهاء فصيحة في جواب شرط مفهوم مما قبله، وقيل: هي لترتيب النهي على ما سبق من الأمر بالطاعة وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ عطف على تَهِنُوا داخل في حيز النهي أي ولا تدعوا الكفار إلى الصلح خورا وإظهارا للعجز فإن ذلك إعطاء الدنية، وجوز أن يكون منصوبا بإضمار أن فيعطف المصدر المسبوك على مصدر متصيد مما قبله كقوله: لا تنه عن خلق وتأتي مثله. واستدل الكيا بهذا النهي على منع مهادنة الكفار إلا عند الضرورة. وعلى تحريم ترك الجهاد إلا عند العجز، وقرأ السلمي «وتدّعوا» بتشديد الدال من ادعى بمعنى دعا، وفي الكشاف ذكر لا في هذه القراءة، ولعلي ذلك رواية أخرى، وقرأ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 234 الحسن وأبو رجاء والأعمش: وعيسى وطلحة وحمزة وأبو بكر «السلم» بكسر السين وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ أي الأغلبون، والعلو بمعنى الغلبة مجاز مشهور، والجملة حالية مقررة لمعنى النهي مؤكدة لوجوب الانتهاء وكذا قوله تعالى: وَاللَّهُ مَعَكُمْ أي ناصركم فإن كونهم الأغلبين وكونه عز وجل ناصرهم من أقوى موجبات الاجتناب عما يوهم الذل والضراعة. وقال أبو حيان: يجوز أن يكونا جملتين مستأنفتين أخبروا أولا أنهم الأعلون وهو إخبار بمغيب أبرزه الوجود ثم ارتقى إلى رتبة أعلى من التي قبلها وهي كون الله تعالى معهم وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ قال: ولن يظلمكم، وقيل: ولن ينقصكم، وقيل: ولن يضيعها، وهو كما قال أبو عبيد. والمبرد من وترت الرجل إذا قتلت له قتيلا من ولد أو أخ أو حميم أو سلبته ماله وذهبت به، قال الزمخشري: وحقيقته أفردته من قريبه أو ماله من الوتر وهو الفرد، فشبه إضاعة عمل العامل وتعطيل ثوابه بوتر الواتر وهو من فصيح الكلام، وفيه هنا من الدلالة على مزيد لطف الله تعالى ما فيه، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله» والظاهر على ما ذكره أنه لا بد من تضمين وترته معنى السلب ونحوه ليتعدى إلى المفعول الثاني بنفسه، وفي الصحاح أنه من الترة وحمله على نزع الخافض أي جعلته موتورا لم يدرك ثاره في ذلك كأنه نقصه فيه وجعله نظير دخلت البيت أي فيه وهو سديد أيضا. وجوز بعضهم (يتر) هاهنا متعديا لواحد وأَعْمالَكُمْ بدل من ضمير الخطاب أي لن يتر أعمالكم من ثوابها والجملة قيل معطوفة على قوله تعالى: مَعَكُمْ وهي وإن لم تقع حالا استقلالا لتصديرها بحرف الاستقبال المنافي للحال على ما صرح به العلامة التفتازاني وغيره لكنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في غيره، وقيل: المانع من وقوع المصدرة بحرف الاستقبال حالا مخالفته للسماع وإلا فلا مانع من كونها حالا مقدرة مع أنه يجوز أن تكون لَنْ لمجرد تأكيد النفي، والظاهر أن المانعين بنوا المنع على المنافاة وإنها إذا زالت باعتبار أحد الأمرين فلا منع لكن قيل: إن الحال المقصود منها بيان الهيئة غير الحال الذي هو أحد الأزمنة والمنافاة إنما هي بين هذا الحال والاستقبال. وهذا نظير ما قال مجوزو مجيء الجملة الماضية حالا بدون قد، وما لذلك وما عليه في كتب النحو، وإذا جعلت الجملة قبل مستأنفة لم يكن إشكال في العطف أصلا. إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ لا ثبات لها ولا اعتداد بها وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ أي ثواب إيمانكم وتقواكم من الباقيات الصالحات التي يتنافس فيها المتنافسون وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ عطف على الجزاء والإضافة للاستغراق، والمعنى إن تؤمنوا لا يسألكم جميع أموالكم كما يأخذ من الكافر جميع ماله، وفيه مقابلة حسنة لقوله تعالى: يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ كأنه قيل: يعطكم كل الأجور ويسألكم بعض المال وهو ما شرعه سبحانه من الزكاة، وقول سفيان بن عيينة أي لا يسألكم كثيرا من أموالكم إنما يسألكم ربع العشر فطيبوا أنفسكم بيان لحاصل المعنى، وقيل: أي لا يسألكم ما هو ما لكم حقيقة وإنما يسألكم ماله عزّ وجلّ وهو المالك لها حقيقة وهو جل شأنه المنعم عليكم بالانتفاع بها، وقيل: أي لا يسألكم أموالكم لحاجته سبحانه إليها بل ليرجع إنفاقكم إليكم، وقيل: أي لا يسألكم الرسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا من أموالكم أجرا على تبليغ الرسالة كما قال تعالى: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص: 86] ووجه التعليق عليها غير ظاهر وفي بعضها أيضا ما لا يخفى إِنْ يَسْئَلْكُمُوها أي أموالكم فَيُحْفِكُمْ فيجهدكم بطلب الكل فإن الإحفاء والإلحاف المبالغة وبلوغ الغاية في كل شيء يقال: أحفاه في المسألة إذا لم يترك شيئا من الإلحاح وأحفى شاربه استأصله وأخذه أخذا متناهيا، وأصل ذلك على ما قال الراغب من أحفيت الدابة جعلته حافيا أي منسحج الحافر والبعير جعلته منسحج الفرسن من المشي حتى يرق تَبْخَلُوا جواب الجزء: 13 ¦ الصفحة: 235 الشرط، والمراد بالبخل هنا ترك الإعطاء إذ هو على المعنى المشهور أمر طبيعي لا يترتب على السؤال وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ أي أحقادكم لمزيد حبكم للمال وضمير يُخْرِجْ لله تعالى ويعضده قراءة يعقوب. ورويت أيضا عن ابن عباس «ونخرج» بالنون مضمومة، وجوز أن يكون للسؤال أو للبخل فإنه سبب إخراج الأضغان والإسناد على ذلك مجازي. وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو «ويخرج» بالرفع على الاستئناف، وجوز جعل الجملة حالا بتقدير وهو يخرج وحكاها أبو حاتم عن عيسى، وفي اللوامح عن عبد الوارث عن أبي عمرو وَيُخْرِجْ بالياء التحتية وفتحها وضم الراء والجيم «أضغانكم» بالرفع على الفاعلية. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن سيرين وابن محيصن وأيوب بن المتوكل واليماني «وتخرج» بتاء التأنيث ورفع «أضغانكم» ، وقرىء «ويخرج» بضم الياء التحتية وفتح الراء «أضغانكم» رفعا على النيابة عن الفاعل وهي كروية عن عيسى إلا أنه فتح الجيم بإضمار أن فالواو عاطفة على مصدر متصيد أي يكن بخلكم وإخراج أضغانكم. ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ أي أنتم أيها المخاطبون هؤلاء الموصوفون بما تضمنه قوله تعالى: إِنْ يَسْئَلْكُمُوها إلخ، والجملة مبتدأ وخبر وكررت ها التنبيهية للتأكيد، وقوله سبحانه: تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلخ استئناف مقرر ومؤكد لذلك لاتحاد محصل معناهما فإن دعوتهم للإنفاق هو سؤل الأموال منهم وبخل ناس منهم هو معنى عدم الإعطاء المذكور مجملا أولا أو صلة لهؤلاء على أنه بمعنى الذين فإن اسم الإشارة يكون موصولا مطلقا عند الكوفيين وأما البصريون فلم يثبتوا اسم الإشارة موصولا إلا إذا تقدمه ما الاستفهامية باتفاق أو من الاستفهامية باختلاف، والإنفاق في سبيل الله تعالى هو الإنفاق المرضي له تعالى شأنه مطلقا فيشمل النفقة للعيال والأقارب والغزو وإطعام الضيوف والزكاة وغير ذلك وليس مخصوصا بالإنفاق للغزو أو بالزكاة كما قيل. فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ أي ناس يبخلون وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ فلا يتعدى ضرر بخله إلى غيرها يقال: بخلت عليه وبخلت عنه لأن البخل فيه معنى المنع ومعنى التضييق على من منع عنه المعروف والأضرار فناسب أن يعدى بعن للأول وبعلى للثاني، وظاهر أن من منع المعروف عن نفسه فأضراره عليها فلا فرق بين اللفظين في الحاصل، وقال الطيبي: يمكن أن يقال يبخل عن نفسه على معنى يصدر البخل عن نفسه لأنها مكان البخل ومنبعه كقوله تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ [الحشر: 9، التغابن: 16] وهو كما ترى وَاللَّهُ الْغَنِيُّ لا غيره عزّ وجلّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ الكاملون في الفقر فما يأمركم به سبحانه فهو لاحتياجكم إلى ما فيه من المنافع التي لا تقتضي الحكمة إيصالها بدون ذلك فإن امتثلتم فلكم وإن توليتم فعليكم، وقوله تعالى وَإِنْ تَتَوَلَّوْا عطف على قوله سبحانه: إِنْ تُؤْمِنُوا أي وإن تعرضوا عن الإيمان والتقوى يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ يخلق مكانكم قوما آخرين وهو كقوله تعالى: يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ [إبراهيم: 19] ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ في التولي عن الإيمان والتقوى بل يكونون راغبين فيهما. وثم للتراخي حقيقة أو لبعد المرتبة عما قبل، والمراد بهؤلاء القوم أهل فارس، فقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط. والبيهقي في الدلائل والترمذي وهو حديث صحيح على شرط مسلم عن أبي هريرة قال: «تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية وَإِنْ تَتَوَلَّوْا إلخ فقالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونون أمثالنا؟ فضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على منكب سلمان ثم قال: هذا وقومه والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس» . وجاء في رواية ابن مردويه عن جابر الدين بدل الإيمان، وقيل: هم الأنصار، وقيل: أهل اليمن، وقيل: كندة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 236 والنخع، وقيل: العجم، وقيل: الروم، وقيل: الملائكة وحمل القوم عليهم بعيد في الاستعمال، وحيث صح الحديث فهو مذهبي. والخطاب لقريش أو لأهل المدينة قولان والظاهر أنه للمخاطبين قبل والشرطية غير واقعة، فعن الكلبي شرط في الاستبدال توليهم لكنهم لم يتولوا فلم يستبدل سبحانه قوما غيرهم والله تعالى أعلم. ومما قاله بعض أرباب الإشارة في بعض الآيات: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ نصرة الله تعالى من العبد على وجهين صورة ومعنى، أما نصرته تعالى في الصورة فنصرة دينه جل شأنه بإيضاح الدليل وتبيينه وشرح فرائضه وسننه وإظهار معانيه وأسراره وحقائقه ثم بالجهاد عليه وإعلاء كلمته وقمع أعدائه وأما نصرته في المعنى فبافناء الناسوت في اللاهوت، ونصرة الله سبحانه للعبد على وجهين أيضا صورة ومعنى، أما نصرته تعالى للعبد في الصورة فبإرسال الرسل وإنزال الكتب وإظهار المعجزات والآيات وتبيين السبل إلى النعيم والجحيم، ثم بالأمر بالجهاد الأصغر والأكبر وتوفيق السعي فيهما طلبا لرضاه عزّ وجلّ، وأما نصرته تعالى له في المعنى فبافناء وجوده في وجوده سبحانه بتجلي صفات جماله وجلاله مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ يشير إلى جنة قلوب أرباب الحقائق الذين اتقوا عما سواه جل وعلا فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ هو ماء الحياة الروحانية لم يتغير بطول المكث وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ وهو العلم الحقاني الذي هو غذاء الأرواح أو لبن الفطرة التي فطر الناس عليها لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ بحموضة الشكوك والأوهام أو الأهواء والبدع وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وهي خمر الشوق والمحبة: يقولون لي صفها فأنت بوصفها ... خبير أجل عندي بأوصافها علم صفاء ولا ماء ولطف ولا هوى ... ونور ولا نار وروح ولا جسم وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ وهو عسل الوصال مُصَفًّى عن كدر الملال وخوف الزوال وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ اللذائذ الروحانية وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ ستر لذنب وجودهم كما قيل: وجودك ذنب لا يقاس به ذنب كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ نار الجفاء وَسُقُوا ماءً حَمِيماً وهو ماء الخذلان فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ من الحرمان وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وهي ظلمة في وجوههم تدرك بالنظر الإلهي قيل: المؤمن ينظر بنور الفراسة والعارف بنور التحقيق والنبي عليه الصلاة والسلام ينظر بالله عزّ وجلّ، وقيل: كل من رزق قرب النوافل ينظر به تعالى لحديث «لا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به» الحديث وحينئذ يبصر كل شيء، ومن هنا كان بعض الأولياء الكاملين يرى على ما حكي عنه أعمال العباد حين يعرج بها وسبحان السميع البصير اللطيف الخبير. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 237 سورة الفتح نزلت بالمدينة على ما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم، والأخبار تدل على أنها نزلت في السفر لا في المدينة نفسها وهو الصحيح. أخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري في تاريخه وأبو داود والنسائي وجماعة عن ابن مسعود قال: «أقبلنا من الحديبية مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أي عام ست بعد الهجرة وكان قد خرج إليها عليه الصلاة والسلام يوم الاثنين هلال ذي القعدة فأقام بها بضعة عشر يوما، وقيل: عشرين يوما ثم قفل عليه الصلاة والسلام فبينما نحن نسير إذ أتاه الوحي وكان إذا أتاه اشتد عليه فسري عنه وبه من السرور ما شاء الله تعالى فأخبرنا أنه أنزل عليه إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الفتح: 1] وأخرج أحمد والبخار والترمذي والنسائي وابن حبان وابن مردويه عن عمر بن الخطاب قال: «كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفر فسألته عن شيء ثلاث مرات فلم يرد علي فحركت بعيري ثم تقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل في القرآن فما نشبت إذ سمعت صارخا يصرخ بي فوجفت وأنا أظن أنه نزل في شيء فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لقد أنزلت علي الليلة سورة أحب إلي من الدنيا وما فيها إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 1، 2] وفي حديث صحيح أخرجه أحمد وأبو داود. وغيرهما عن مجمع بن جارية الأنصاري ما يدل على أنها نزلت بعد منصرفه صلّى الله عليه وسلّم من الحديبية أيضا وأن ذلك عند كراع الغميم فقرأها عليه الصلاة والسلام على الناس وهو على راحلته، وفي رواية ابن سعد عنه ما يدل على أنها بضجنان، ونقل ذلك عن البقاعي، وضجنان بضاد معجمة وجيم ونونين بينهما ألف بزنة سكران كما في القاموس جبل قرب مكة، وهذا ونحوه قول بنزولها بين مكة والمدينة، ومثل ذلك يعد مدنيا على المشهور وهو أن المدني ما نزل بعد الهجرة سواء نزل بالمدينة أم بمكة أم بسفر من الأسفار، والمكي ما نزل قبل الهجرة، وأما على القول بأن المكي ما نزل ولو بعد الهجرة بمكة ويدخل فيها كما قال الجلال السيوطي نواحيها كمنى وعرفات والحديبية بل بعضها على ما في الهداية وأكثرها على ما قال المحب الطبري من حرم مكة والمدني ما نزل بالمدينة ويدخل فيها كما قال أيضا نواحيها كأحد. وبدر. وسلع فلا بل يعد على القول بأنه نزل قرب مكة مكيا، فالقول بأن السورة مدنية بلا خلاف فيه نظر ظاهر، وهي تسع وعشرون آية بالإجماع، ولا يخفى حسن وضعها هنا لأن الفتح بمعنى النصر مرتب على القتال، وفي كل من ذكر المؤمنين المخلصين والمنافقين والمشركين ما فيه، وقد ذكر أيضا في الأول الأمر بالاستغفار وذكر هنا وقوع المغفرة، وذكرت الكلمة الطيبة هناك بلفظها الشريف وكني عنها بكلمة التقوى بناء على أشهر الأقوال فيها، وستعرفها إن شاء الله تعالى إلى غير ذلك. وفي البحر وجه مناسبتها لما قبلها أنه لما تقدم وَإِنْ تَتَوَلَّوْا [محمد: 38] الآية وهو خطاب لكفار قريش أخبر سبحانه رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالفتح العظيم وأنه بهذا الفتح حصل الاستبدال وأمن كل من كان بمكة وصارت دار إيمان وفيه ما لا يخفى. وفي الأخبار السابقة ما يدل على جلالة قدرها. وفي حديث مجمع بن جارية الذي أخرجه الجزء: 13 ¦ الصفحة: 238 عنه ابن سعد لما نزل بها جبريل عليه السلام قال: نهنيك يا رسول الله فلما هناه جبريل عليه السلام هناه المسلمون، ويحكى أنه من قرأها أول ليلة من رمضان حفظ ذلك العام ولم يثبت ذلك في خبر صحيح والله تعالى أعلم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ إخبار عن صلح الحديبية عند الجمهور وروي ذلك عن ابن عباس وانس والشعبي والزهري قال ابن عطية: وهو الصحيح، وأصل الفتح إزالة الاغلاق، وفتح البلد كما في الكشاف الظفر به عنوة أو صلحا بحرب أو بغيره لأنه منغلق ما لم يظفر به فإذا ظفر به وحصل في اليد فقد فتح، وسمي ذلك الصلح فتحا لاشتراكهما في الظهور والغلبة على المشركين فإنهم كما قال الكلبي ما سألوا الصلح إلا بعد أن ظهر المسلمون عليهم، وعن ابن عباس أن المسلمين رموهم أي بسهام وحجارة كما قيل حتى أدخلوهم ديارهم أو لأن ذلك الصلح صار سببا لفتح مكة، قال الزهري: لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية اختلط المشركون بالمسلمين وسمعوا كلامهم وتمكن الإسلام من قلوبهم وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير وكثر بهم سواد الإسلام، قال القرطبي: فما مضت تلك السنون إلا والمسلمون قد جاؤوا إلى مكة في عشرة آلاف ففتحوها، والتسمية على الأول من باب الاستعارة التبعية كيفما قررت، وعلى الثاني من باب المجاز المرسل سواء قلنا إنه في مثل ما ذكر تبعي أم لا حيث سمي السبب باسم المسبب، ولا مانع من أن يكون بين شيئين نوعان من العلاقة فيكون استعمال أحدهما في الآخر باعتبار كل نوعا من المجاز كما في المشفر والشفة الغليظة لإنسان، وإسناد الفتح المراد به الصلح الذي هو فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه عزّ وجلّ مجاز من إسناد ما للقابل للفاعل الموجود، وفي ذلك من تعظيم شأن الصلح والرسول عليه الصلاة والسلام ما فيه لا يقال: قد تقرر في الكلام أن الأفعال كلها مخلوقة له تعالى فنسبة الصلح إليه سبحانه إسناد إلى ما هو له فلا مجاز لأنا نقول: ما هو له عبارة عما كان الفعل حقه أن يسند إليه في العرف سواء كان مخلوقا له تعالى أو لغيره عزّ وجلّ كما صرح به السعد في المطول وكيف لا ولو كان كذلك لكان إسناد جميع الأفعال إلى غيره تعالى مجازا وإليه تعالى حقيقة كالصلاة والصيام وغيرهما. وقال المحقق ميرزا جان: يمكن توجيه ما في الآية الكريمة على أنه استعارة مكنية أو على أن يراد خلق الصلح الجزء: 13 ¦ الصفحة: 239 وإيجاده أو على أن يكون المجاز في الهيئة التركيبية الموضوعة للإسناد إلى ما هو له فاستعملت في الإسناد إلى غيره أو على أن يكون من قبيل الاستعارة التمثيلية، والأوجه الأربعة جارية في كل ما كان من قبيل المجاز العقلي كأنبت الربيع البقل، وقد صرح القوم بالثلاثة الأول منها، وزعم بعض أن الصلح مما يسند إليه تعالى حقيقة فلا يحتاج إلى شيء من ذلك وفيه ما فيه، ويجوز أن يكون ذلك إخبارا عن جعل المشركين في الحديبية مغلوبين خائفين طالبين للصلح ويكون الفتح مجازا عن ذلك وإسناده إليه تعالى حقيقة، وقد خفي كون ما كان في الحديبية فتحا على بعض الصحابة حتى بينه عليه الصلاة والسلام. أخرج البيهقي عن عروة قال: «أقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الحديبية راجعا فقال رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: والله ما هذا بفتح لقد صددنا عن البيت وصدّ هدينا وعكف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالحديبية ورد رجلين من المسلمين خرجا فبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك فقال: بئس الكلام هذا بل هو أعظم الفتح لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألونكم القضية ويرغبون إليكم في الأمان وقد كرهوا منكم ما كرهوا، وقد أظفركم الله عليهم وردكم سالمين غانمين مأجورين فهذا أعظم الفتح، أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم؟ أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون؟ قال المسلمون: صدق الله ورسوله هو أعظم الفتوح والله يا نبي الله ما فكرنا فيما ذكرت ولأنت أعلم بالله وبالأمور منا ، وفائدة الخبر بالفتح على الوجهين بالنسبة إلى غيره عليه الصلاة والسلام لأنه صلّى الله عليه وسلّم يعلم ذلك وكذا يعلم لازم الفائدة كذا قيل. وحمل الغير على من لم يحضر الفتح من الصحابة وغيرهم لأن الحاضرين علموا ذلك قبل النزول، وقيل: الحاضر إنما علم وقوع الصلح أو كون المشركين بحيث طلبوه ولم يعلم كونه فتحا كما يشعر به الخبر، وإن سلم أنه علم ذلك لكنه لم يعلم عظم شأنه على ما يشعر به إسناده إلى نون العظمة والإخبار به بذلك الاعتبار. وقال بعض المحققين: لعل المقصود بالإفادة كون ذلك للمغفرة وما عطف عليها فيجوز أن تكون الفائدة بالنسبة إليه صلّى الله عليه وسلّم أيضا، وأقول: قد صرحوا بأنه كثيرا ما تورد الجملة الخبرية لأغراض أخر سوى إفادة الحكم أو لازمه نحو رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى [آل عمران: 36] رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [مريم: 4] لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء: 59] الآية إلى غير ذلك مما لا يحصى فيجوز أن يكون الغرض من إيرادها هاهنا الامتنان دون إفادة الحكم أو لازمه ولا مجاز في ذلك ونحوه على ما أشار إليه العلامة عبد الحكيم السالكوتي في حواشيه على المطول. وصرح في الرسالة الجندية بأن الهيئة التركيبية الخبرية في نحو ذلك منقولة إلى الإنشائية وان المجاز في الهيئة فقط لا في الأطراف ولا في المجموع وهو مجاز مفرد عند صاحب الرسالة والكلمة أعظم من اللفظ الحقيقي والحكمي، وبعضهم يقول: هو مجاز مركب ولا ينحصر في التمثيلية، وتحقيقه في موضعه. والتأكيد بأن للاعتناء لا لرد الإنكار وقيل لأن الحكم لعظم شأنه مظنة للإنكار. وقيل: لأن بعض السامعين منكر كون ما وقع فتحا، ويقال في تكرير الحكم نحو ذلك، وقال مجاهد: المراد بالفتح فتح خيبر وهي مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع على ثمانية برد من المدينة إلى جهة الشام، وكان خروج النبي صلّى الله عليه وسلّم كما قال ابن إسحق ورجحه الحافظ ابن حجر في بقية المحرم سنة سبع وأقام يحاصرها بضع عشرة ليلة إلى أن فتحها ونقل عن مالك وجزم به ابن حزم أنه كان في آخر سنة ست، وجمع بأن من أطلق سنة ست بناه على أن ابتداء السنة من شهر الهجرة الحقيقي وهو شهر ربيع الأول، وقول الشيخ أبي حامد في التعليقة: إن غزوة خيبر كانت سنة خمس وهم، وقول ابن سعد. وابن أبي شيبة رواية عن أبي سعيد الخدري، انها كانت لثمان عشرة من رمضان خطأ، ولعل الأصل كانت حنين فحرف ومع الجزء: 13 ¦ الصفحة: 240 هذا يحتاج إلى توجيه وقد فتحت على أيدي أهل الحديبية لم يشركهم أحد من المتخلفين عنها فالفتح على حقيقة وإسناده إليه تعالى على حد ما سمعت فيما تقدم، والتأكيد بأن وتكرير الحكم للاعتناء، والتعبير عن ذلك بالماضي مع أنه لم يكن واقعا يوم النزول بناء على ما روي عن المسور بن مخرمة من أن السورة نزلت من أولها إلى آخرها بين مكة والمدينة من باب مجاز المشارفة نحو من قتل قتيلا على المشهور أو الأول نحو إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً [يوسف: 36] ولا يضر اختلافهما في الفعلية والاسمية وفيه وجه آخر يعلم مما سيأتي إن شاء الله تعالى. وذهب جماعة إلى أنه فتح مكة وهو كما في زاد المعاد الفتح الأعظم الذي أعز الله تعالى به دينه واستنقذ به بلده وطهر حرمه واستبشر به أهل السماء وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء ودخل الناس بعده في دين الله عز وجل أفواجا وأشرق وجه الدهر ضياء وابتهاجا، وكان سنة ثمان وفي رواية ونصف، وقد خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ما أخرجه أحمد بإسناد صحيح عن أبي سعيد لليلتين خلتا من شهر رمضان، وفتح مكة لثلاث عشرة خلت منه على ما روي عن الزهري، وروي عن جماعة أنه كان الفتح في عشر بقيت من شهر رمضان وقيل غير ذلك، وكان معه صلّى الله عليه وسلّم من المسلمين عشرة آلاف وقيل: إثنا عشر ألفا، والجمع ممكن، وكان الفتح عند الشافعي صلحا وهي رواية عن أحمد للتأمين في ممر الظهران بمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن، ولعدم قسمة الدور بين الغانمين، وذهب الأكثرون إلى أنه عنوة للتصريح بالأمر بالقتال ووقوعه من خالد بن الوليد وقوله، عليه الصلاة والسلام: «أحلت لي ساعة من نهار» ولا يسمى ذلك التأمين صلحا إلا إذا التزم من أشير إليه به الكف عن القتال، والأخبار الصحيحة ظاهرة في أن قريشا لم يلتزموا، وترك القسمة لا يستلزم عدة العنوة فقد تفتح البلدة عنوة ويمن على أهلها وتترك لهم دورهم. وأقام عليه الصلاة والسلام بعد الفتح خمس عشرة ليلة في رواية البخاري وسبع عشرة في رواية أبي داود وثمان عشرة في رواية الترمذي، وتسع عشرة في رواية بعض، وتمام الكلام في كتب السير، واستظهر هذا القول أبو حيان وذكر أنه المناسب لآخر السورة التي قبل لما قال سبحانه: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ [محمد: 38] الآية فبين جل وعلا أنه فتح لهم مكة وغنموا وحصل لهم أضعاف ما أنفقوا ولو بخلوا لضاع عليهم ذلك فلا يكون بخلهم إلا على أنفسهم، وأيضا لما قال سبحانه: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ [محمد: 35] بين تعالى برهانه بفتح مكة فإنهم كانوا هم الأعلين، وأيضا لما قال تعالى: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ [محمد: 35] كان ذلك في فتح مكة ظاهرا حيث لم يلحقهم وهن ولا دعوا إلى الصلح بل أتى صناديد قريش مستأمنين مستسلمين وهذا ظاهر بالنسبة إلى القول بأن المراد به فتح الحديبية، وأما على القول بأن المراد به فتح خيبر فليس كذلك، ورجح بعضهم القول بأنه صلح الحديبية على القول بأنه فتح مكة بأن وعدم فتح مكة يجيء صريحا في هذه السورة الكريمة وذلك قوله تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح: 27] الآية فلو حمل هذا الفتح عليه لكان تأكيدا بخلاف ما إذا حمل على صلح الحديبية فإنه يكون تأسيسا والتأسيس خير من التأكيد، ورجحه بعض على القول بأنه فتح خيبر بمثل هذا لأن فتح خيبر مذكور فيما بعد أيضا، وللبحث في ذلك مجال، وان التكرير لما تقدم، وكذا الإسناد إلى ضمير العظمة بل هذا الفتح أولى بالاعتناء وتعظيم الشأن حتى قيل: إن اسناده إليه تعالى لكونه من الأمور الغريبة العجيبة التي يخلقها الله تعالى على يد أنبيائه عليهم السلام كالرمي بالحصى المشار إليه بقوله تعالى: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الأنفال: 17] وهذا خلاف ظاهر، والمشهور أن في الكلام مجازا عقليا وفيه الاحتمالات السابقة. وقال بعض المحققين: يمكن أن يقال: لعل الإرادة هاهنا معتبرة إما على سبيل الحذف أو على المجاز المرسل الجزء: 13 ¦ الصفحة: 241 كما في قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة: 6] الآية، وقوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النحل: 98] عند أكثر الأئمة، ومثل هذا التأويل قيل: مطرد في الأفعال الاختيارية، وزعم بعضهم أن الفتح مجاز عن تيسيره، وذكر بعض الصدور في توجيه التأكيد بأن هاهنا أنه قد يجعل غير السائل بمنزلة السائل إذا قدم إليه ما يلوح له بالخبر، وصرحوا بأن الملوح لا يلزم أن يكون كلاما، وقد ذكر غير واحد من المفسرين وغيرهم أن عليه الصلاة والسلام رأى في المنام أنه وأصحابه رضي الله تعالى عنهم دخلوا مكة آمنين فصار المقام مقام أن يتردد في الفتح فألقي إليه عليه الصلاة والسلام الكلام مؤكدا كما يلقى إلى السائل كذلك، وجوز أن يكون لرد الإنكار بناء على تحققه من المشركين فإنهم كانوا يزعمون أنه صلّى الله عليه وسلّم لا يستولي على مكة كما لم يستول عليها من أراد الاستيلاء عليها قبله عليه الصلاة والسلام وهو كما ترى، وذكر بعض أجلة القائلين بأن المراد به فتح مكة أن الكلام وعد بفتحها فقيل إن الجملة حينئذ إخبار، وقيل: إنها إنشاء، واستشكل بما صرح به الرضي من أن الجمل الإنشائية منحصرة بالاستقراء في الطلبية والإيقاعية والوعد ليس شيئا منهما أما الأول فظاهر، وأما الثاني فلأن مجرد قولك لأكرمنك مثلا لا يقع به الإكرام، وقال بعض الصدور إن كلامهم مضطرب في كون الوعد إنشاء أو إخبارا، ويمكن التوفيق بأن يقال: أصل الوعد إنشاء لأنه إظهار أمر في النفس يوجب سرورة المخاطب وما يتعلق به الوعد وهو الموعود إخبار نظيره قول النحاة كأن لإنشاء التشبيه مع أن مدخولها جملة خبرية. وقال الخفاجي: هذا ناشىء من عدم فهم المراد منه. فإن قيل: المراد من لأكرمنك مثلا إكرام في المستقبل فهو خبر بلا مرية، وإن قيل: معناه العزم على إكرامه وتعجيل المسرة له بإعلامه فهو إنشاء، وأقول لا يخفى أن الإخبار أصل للإنشاء، وقد صرح بذلك العلامة التفتازاني في المطول وليست هيئة المركب دالة على أنه إنشاء وليس فيه ما يدل بمادته على ذلك فيمكن أن يقال: إنه إخبار قصد به تعجيل المسرة وإن ذلك لا يخرجه عن الإخبار نظير ما قيل في قوله تعالى: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى [آل عمران: 36] ونحوه فتدبر، والتعبير عن ذلك بالماضي لتحققه، وفيه من تسلية قلوب الأصحاب وتسليتهم حيث صاروا محزونين غاية الحزن من تأخير الفتح ما فيه، وهذا التعبير من قبيل الاستعارة التبعية على ما حققه السيد السند في حواشي المطول حيث قال: اعلم أن التعبير عن المضارع بالماضي وعكسه يعد من باب الاستعارة بأن يشبه غير الحاصل بالحاصل في تحقق الوقوع ويشبه الماضي بالحاضر في كونه نصب العين واجب المشاهدة ثم يستعار لفظ أحدهما للآخر فعلى هذا تكون استعارة الفعل على قسمين: أحدهما أن يشبه الضرب الشديد مثلا بالقتل ويستعار له اسمه ثم يشتق منه قتل بمعنى ضرب ضربا شديدا. والثاني أن يشبه الضرب المستقبل بالضرب في الماضي مثلا في تحقق الوقوع فيستعمل فيه ضرب فيكون المعنى المصدري أعني الضرب موجودا في كل واحد من المشبه والمشبه به لكنه قيد في كل منهما بقيد يغار الآخر فصح التشبيه لذلك. وقال المحقق ميرزا جان يمكن توجيه الاستعارة هاهنا بوجه آخر وهو أن يشبه الزمان المستقبل بالزمان الماضي ووجه الشبه أنه كما أن الثاني ظرف أمر محقق الوقوع كذلك الزمان الأول واللفظ الدال على الزمان الثاني وهو لفظ الفعل الماضي من جهة الصيغة جعل دالا على الزمان المستقبل مستعملا فيه، ومن البيّن أن المصدر على حاله لم يتغير معناه فكانت الاستعارة في الصيغة والهيئة أولى لأنها الدالة على الزمان الماضي وبواسطتها كانت الاستعارة في الفعل كما كانت الاستعارة في الفعل بواسطة المصدر، والفرق أن هذه الاستعارة في الفعل بواسطة جوهره ومادته وفيما نحن فيه بواسطة صورته، لا يقال: الدال على الزمان هو نفس اللفظ المشتق لا جزؤه لأنا نقول: يجري هذا الاحتمال في الاستعارة التبعية المشهورة بأن يقال: الدال على المعنى الحدثي هو نفس اللفظ المشتق لا جزؤه لأن المصدر بصيغته غير متحقق في المشتق فإن الضرب غير موجود في ضارب وضرب. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 242 فإن قلت: المصدر لفظ مستقل يمكن التعبير به عن معناه بخلاف الهيئة قلت: لفظ الزمان الماضي أيضا، كذلك فلا فرق في كل منهما: نستعير المعنى المطابقي للفظ الفعل بواسطة المعنى التضمني له، ولا يبعد أن يسمى مثل هذا استعارة تبعية، والأمر في التسمية هين لا اعتداد بشأنه، ولعلهم إنما جعلوا الاستعارة في مثل ذلك بواسطة المصدر واعتبروا التغاير الاعتباري ولم يعتبروا ما اعتبرنا من تشبيه نفس الزمان بالزمان حتى تصير الاستعارة في الفعل تبعية بلا تكلف رعاية لطي النشر بقدر الإمكان وأيضا في كون الصيغة والهيئة جزءا للفظ تأمل، وأيضا الهيئة ليست جزءا مستقلا كالمصدر، وأيضا الهيئة ليست لفظا والاستعارة قسم للفظ، ولعل القوم لهذه كلها أو بعضها لم يلتفتوا إليه انتهى، وفيه بحث، وللفاضل مير صدر الدين رسالة في هذه الآية الكريمة تعرض فيها للمحقق في هذا المقام، وتعقبها الفاضل يوسف القرباغي برسالة أطال الكلام فيها وجرح وعدل وذكر عدة احتمالات في الاستعارة التبعية، ومال إلى أن الهيئة لفظ محتجا بما نقله من شرح المختصر العضدي ومن شرح الشرح للعلامة التفتازاني وأيده بنقول أخر فليراجع ذلك فإنه وإن كان في بعضه نظر لا يخلو عن فائدة. والذي يترجح عندي أن الهيئة ليست بلفظ ولكنها في حكمه وأنه قد يتصرف فيها بالتجوز كما في الخبر إذا استعمل في الإنشاء وإن المجاز المرسل يكون تبعيا بناء على ما ذكروه في وجه التبعية في الاستعارة، وقول الصدر في الفرق: إن العلاقة في الاستعارة ملحوظة حين الإطلاق فإنهم صرحوا بأن اسم المشبه به لا يطلق على المشبه إلا بعد دخوله في جنس المشبه به بخلاف المرسل فإن العلاقة باعثة للانتقال وليست ملحوظة حين الاستعمال فلا ضرورة في القول بالتبعية فيه إن تم لا يجدي نفعا فافهم، وزعم بعضهم أن التعبير بالماضي هاهنا على حقيقته بناء على أن الفتح مجاز عن تيسيره وتسهيله وهو مما لا يتوقف على حصول الفتح ووقوعه ليكون مستقبلا بالنسبة إلى زمن النزول مثله ألا ترى أن موسى عليه الصلاة والسلام سأل ربه تعالى بقوله: يَسِّرْ لِي أَمْرِي [طه: 26] أن يسهل أمره وهو خلافته في أرضه وما يصحبها، وأجيب إليه في موقف السؤال بقوله تعالى: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى [طه: 36] ولم يباشر بعد شيئا، وحمله على الوعد بإيتاء السؤال خلاف الظاهر، وأنت تعلم أن ما ذهب إليه الجمهور أظهر وأبلغ، وفي مجيء المستقبل بصيغة الماضي لتنزيله منزلة المحقق من الفخامة والدلالة على علو شأن المخبر ما لا يخفى كما في الكشاف، وذلك على ما قيل لأنه يدل على أن الأزمنة كلها عنده تعالى على السواء وان منتظره كمحقق غيره وأنه سبحانه إذا أراد أمرا تحقق لا محالة وأنه لجلالة شأنه إذا أخبر عن حادث فهو كالكائن لما عنده من أسبابه القريبة والبعيدة، وقيل غير ذلك. واستشكل أمر المضي في كلامه تعالى بناء على ثبوت الكلام النفسي الأزلي للزوم الكذب لأن صدق الكلام يستدعي سبق وقوع النسبة ولا يتصور السبق على الأزل، وأجيب بأن كلامه تعالى النفسي الأزلي لا يتصف بالماضي وغيره لعدم الزمان. وتعقب بأن تحقق هذا مع القول بأن الأزلي مدلول اللفظي عسير جدا، وكذا القول بأن المتصف بالمضي وغيره إنما هو اللفظ الحادث دون المعنى القديم. وأجاب بعضهم بأن العسر لو كان دلالة اللفظي عليه دلالة الموضوع على الموضوع له وليس كذلك عندهم بل هي دلالة الأثر على المؤثر، ولا يلزم من اعتبار شيء في الأثر اعتباره في المؤثر، ولا يخفى أن كون الدلالة دلالة الأثر على المؤثر خلاف الظاهر، وقال ابن الصدر في ذلك: إن اشتمال الكلام اللفظي على المضي والحضور والاستقبال إنما هو بالنظر إلى زمان المخاطب لا إلى زمان المتكلم كما إذا أرسلت زيدا إلى عمرو تكتب في مكتوبك إليه إني أرسلت إليك زيدا مع أنه حين ما تكتبه لم يتحقق الإرسال فتلاحظ حال المخاطب، وكما تقدر في نفسك مخاطبا وتقول: لم تفعل الآن كذا وكان قبل ذلك كذا، ولا شك أن هذا المضي والحضور والاستقبال بالنسبة إلى زمان الوجود المقدر لهذا المخاطب لا بالنسبة إلى زمان الجزء: 13 ¦ الصفحة: 243 المتكلم بالكلام النفسي لكونه متوجها لمخاطب مقدر لا يلاحظ فيه إلا أزمنة المخاطبين المقدرين، وما اعتبره أئمة العربية من حكاية الحال الماضية واعتبار المضي والحضور والاستقبال في الجملة الحالية بالقياس إلى زمان الفعل لا زمان التكلم قريب منه جدا انتهى، وللمحقق ميرزا جان كلام في هذا المقام يطلب من حواشيه على الشرح العضدي. وقيل: المراد بالفتح فتح الروم على إضافة المصدر إلى الفعل فإنهم غلبوا على الفرس في عام النزول، وكونه فتحا له عليه الصلاة والسلام لأنه أخبر عن الغيب فتحقق ما أخبر به في ذلك العام ولأنه تفاءل به لغلبة أهل الكتاب المؤمنين وفي ذلك من ظهور أمره صلّى الله عليه وسلّم ما هو بمنزلة الفتح، قيل: ففي الفتح استعارة لتشبيه ظهوره صلّى الله عليه وسلّم بالفتح، وقيل: لا تجوز فيه وإنما التجوز في تعلقه به عليه الصلاة والسلام، وقيل: لا تجوز أصلا والمعنى فتحنا على الروم لأجلك. وأنت تعلم أن حمل الفتح على ما ذكره في نفسه بعيد جدا. وأورد عليه أن فتح الروم لم يكن مسببا على الجهاد ونحوه فلا يصح ما ذكروه في توجيه التعليل الآتي، وعن قتادة أن فَتَحْنا من الفتاحة بالضم وهي الحكومة أي إنا قضينا لك على أهل مكة أن تدخلها أنت وأصحابك من قابل لتطوفوا بالبيت وهو بعيد أيضا، وقيل: المراد به فتح الله تعالى له صلّى الله عليه وسلّم بالإسلام والنبوة والدعوة بالحجة والسيف وقريب منه ما نقله الرغب من أنه فتحه عز وجل له عليه الصلاة والسلام بالعلوم والهدايات التي هي ذريعة إلى الثواب والمقامات المحمودة، وأمره في البعد كما سبق، وأيا ما كان فحذف المفعول للقصد إلى نفس الفعل والإيذان بأن مناط التبشير نفس الفتح الصادر عنه سبحانه لا خصوصية المفتوح، وتقديم لَكَ على المفعول المطلق أعني قوله تعالى: فَتْحاً مُبِيناً مع أن الأصل تقديمه على سائر المفاعيل كما صرح به العلامة التفتازاني للاهتمام بكون ذلك لنفعه عليه الصلاة والسلام، وقيل: لأنه مدار الفائدة، و «مبين» من أبان بمعنى بان اللازم أن فتحا بينا ظاهر الأمر مكشوف الحال أو فارقا بين الحق والباطل. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مذهب الأشاعرة القائلين بأن أفعاله تعالى لا تعلل بالأغراض أن مثل هذه اللام للعاقبة أو لتشبيه مدخولها بالعلة الغائية في ترتبه على متعلقها وترتب المغفر على الفتح من حيث إن فيه سعيا منه صلّى الله عليه وسلّم في إعلاء كلمة الله تعالى بمكابدة مشاق الحروب واقتحام موارد الخطوب والسلف كما قال ابن القيم وغيره يقولون بتعليل أفعاله عز وجل، وفي شرح المقاصد للعلامة التفتازاني أن من بعض أدلتهم- أي الأشاعرة- ومن وافقهم على هذا المطلب يفهم أنهم أرادوا عموم السلب ومن بعضها أنهم أرادوا سلب العموم، ثم قال: الحق أن بعض أفعاله تعالى معلل بالحكم والمصالح وذلك ظاهر والنصوص شاهدة به، وأما تعميم ذلك بأنه لا يخلو فعل من أفعاله سبحانه من غرض فمحل بحث، وذكر الأصفهاني في شرح الطوالع في هذه المسألة خلافا للمعتزلة وأكثر الفقهاء، وأنا أقول: بما ذهب إليه السلف لوجود التعليل فيما يزيد على عشرة آلاف آية وحديث والتزام تأويل جميعها خروج عن الإنصاف، وما يذكره الحاضرون من الأدلة يدفع بأدنى تأمل كما لا يخفى على من طالع كتب السلفيين عليهم الرحمة. وفي الكشاف لم يجعل الفتح علة للمغفرة لكن لاجتماع ما عدد من الأمور الأربعة وهي المغفرة وإتمام النعمة وهداية الصراط المستقيم والنصر العزيز كأنه قيل: يسرنا لك فتح مكة ونصرناك على عدوك لنجمع لك بين عز الدارين واغراض العاجل والآجل، وحاصله كما قال العلامة أن الفتح لم يجعل علة لكل من المتعاطفات بعد اللام أعني المغفرة وإتمام النعمة والهداية والنصر بل لاجتماعها، ويكفي في ذلك أن يكون له دخل في حصول البعض كإتمام النعمة والنصر العزيز، وتحقيقه كما قال إن العطف على المجرور باللام قد يكون للاشتراك في متعلق اللام مثل جئتك لأفوز بلقياك وأحوز عطاياك ويكون بمنزلة تكرير اللام وعطف جار ومجرور على جار ومجرور، وقد يكون للاشتراك في معنى اللام الجزء: 13 ¦ الصفحة: 244 كجئتك لتستقر في مقامك وتفيض علي من إنعامك أي لاجتماع الأمرين، ويكون من قبيل جاءني غلام زيد وعمرو أي الغلام الذي لهما. واستظهر دفعا لتوهم أنه إذا كان المقصود البعض فذكر الباقي لغو أن يقال: لا يخلو كل منهما أن يكون مقصودا بالذات وهو ظاهر أو المقصود البعض وحينئذ فذكر غيره إما لتوقفه عليه أو لشدة ارتباطه به أو ترتبه عليه فيذكر للإشعار بأنهما كشيء واحد كقوله تعالى: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى [البقرة: 282] وقولك: أعددت الخشب ليميل الحائط فأدعمه ولازمت غريمي لأستوفي حقي وأخليه. وظاهر كلام الزمخشري أن المقصود فيما نحن فيه تعليل الهيئة الاجتماعية فحسب فتأمل لتعرف أنه من أي الأقسام هو. واعلم أن المشهور كون العلة ما دخلته اللام لا ما تعلقت به كما هو ظاهر عبارة الكشاف لكن حقق أنها إذا دخلت على الغاية صح أن يقال: إن ما بعدها علة ويراد بحسب التعقل وأن يقال: ما تعلقت به علة ويراد بحسب الوجود فلا تغفل. وزعم صاحب الغنيان أن اللام هاهنا هي لام القسم وكسرت وحذف النون من الفعل تشبيها بلام كي. ورد بأن لام القسم لا تكسر ولا ينصب بها فإنه لم يسمع والله ليقوم زيد على معنى ليقومن زيد، وانتصر له بأن الكسر قد علل بتشبيهها بلام كي. وأما النصف فله أن يقول فيه: بأنه ليس نصبا وإنما هو الحركة التي تكون مع وجود النون بقيت بعد حذفها دلالة على الحذف. وأنت تعلم أنه لا يجدي نفعا مع عدم السماع، هذا والالتفات إلى اسم الذات المستتبع لجميع الصفات قيل: للإشعار بأن كل واحد مما انتظم في سلك الغاية من أفعاله تعالى صادر عنه عز وجل من حيثية غير حيثية الآخر مترتبة على صفة من صفاته جل شأنه. وقال الصدر لا يبعد أن يقال: إن التعبير عنه تعالى في مقام المغفرة بالاسم الجليل المشعر بصفات الجمال والجلال يشعر بسبق مغفرته تعالى على عذابه. وفي البحر لما كان الغفران وما بعده يشترك في إطلاقه الرسول عليه الصلاة والسلام وغيره لقوله تعالى: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48] وقوله سبحانه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة: 3] وقوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة: 40، 47، 122] وقوله عز وجل: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [البقرة: 142 وغيرها] وقوله تبارك وتعالى: إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ [الصافات: 172] وكان الفتح مختصا بالرسول صلّى الله عليه وسلّم أسنده الله تعالى إلى نون العظمة تفخيما لشأنه وأسند تلك الأشياء إلى الاسم الظاهر وضميره وهو كما ترى وإن قاله الإمام أيضا، وأقول: يمكن أن يكون في إسناد المغفرة إليه تعالى بالاسم الأعظم بعد إسناد الفتح إليه تعالى بنون العظمة إيماء إلى أن المغفرة مما يتولاها سبحانه بذاته وأن الفتح مما يتولاه جل شأنه بالوسائط، وقد صرح بعضهم بأن عادة العظماء أن يعبروا عن أنفسهم بصيغة المتكلم مع الغير لأن ما يصدر عنهم في الأكثر باستخدام توابعهم، ولا يعترض بأن النصر كالفتح وقد أسند إلى الاسم الجليل لما لا يخفى عليك، وتقديم لَكَ على المفعول الصريح أعني قوله تعالى: ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ لما مر غير مرة، وما للعموم والمتقدم والمتأخر للإحاطة كناية عن الكل، والمراد بالذنب ما فرط من خلاف الأولى بالنسبة إلى مقامه عليه الصلاة والسلام فهو من قبيل حسنات الأبرار سيئات المقربين، وقد يقال: المراد ما هو ذنب في نظره العالي صلّى الله عليه وسلّم وإن لم يكن ذنبا ولا خلاف الأولى عنده تعالى كما يرمز إلى ذلك الإضافة. وقال الصدر: يمكن أن يكون قوله تعالى: لِيَغْفِرَ إلخ كناية عن عدم المؤاخذة أو من باب الاستعارة التمثيلية من غير تحقق معاني المفردات. وأخرج ابن المنذر عن عامر. وأبي جعفر أنهما قالا: ما تقدم في الجاهلية وما تأخر في الإسلام، وقيل ما تقدم من حديث مارية وما تأخر من امرأة زيد وليس بشيء مع أن العكس أولى لأن حديث امرأة زيد متقدم. وفي الآية مع ما عهد من حاله صلّى الله عليه وسلّم من كثرة العبادة ما يدل على شرف مقامه إلى حيث لا تحيط به عبارة، وقد الجزء: 13 ¦ الصفحة: 245 صح أنه صلّى الله عليه وسلّم لما نزلت صام وصلّى حتى انتفخت قدماه وتعبد حتى صار كالشن البالي فقيل له: أتفعل هذا بنفسك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك أو ما تأخر؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أفلا أكون عبدا شكورا وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بإعلاء الدين وانتشاره في البلاد وغير ذلك مما أفاضه تعالى عليه صلّى الله عليه وسلّم من النعم الدينية والدنيوية «ويهديك صراطا مستقيما» في تبليغ الرسالة وإقامة الحدود، قيل: إن أصل الاستقامة وإن كان حاصلا قبل الفتح لكن حصل بعد ذلك من اتضاح سبل الحق واستقامة مناهجه ما لم يكن حاصلا قبل وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ إظهار الاسم الجليل مع النصر قيل: لكونه خاتمة العلل أو الغايات ولإظهار كمال العناية بشأنه كما يعرب عنه إردافه بقوله تعالى: نَصْراً عَزِيزاً وقال الصدر: أظهر الاسم في الصدر وهنا لأن المغفرة تتعلق بالآخرة والنصر يتعلق بالدنيا فكأنه أشير بإسناد المغفرة والنصر إلى صريح اسمه تعالى إلى أن الله عز وجل هو الذي يتولى أمرك في الدنيا والآخرة، وقال الإمام: أظهرت الجلالة هنا إشارة إلى أن النصر لا يكون إلا من عند الله تعالى كما قال تعالى: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران: 126، الأنفال: 10] وذلك لأن النصر بالصبر والصبر بالله قال تعالى: وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [النحل: 127] لأنه سكون القلب واطمئنانه وذلك بذكر الله أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28] والعزيز بحسب الظاهر هو المنصور، وحيث وصف به النصر فهو إما للنسبة وإن كان المعروف فيها فاعلا كلابن وفعالا كبزاز أي نصرا فيه عز ومنعة، أو فيه تجوز في الإسناد من باب وصف المصدر بصيغة المفعول وهو المنصور هنا نحو عَذابٌ أَلِيمٌ [البقرة: 10] في قول لا الفاعل وهو الناصر لما قيل من عدم مناسبته للمقام وقلة فائدته إذ الكلام في شأن المخاطب المنصور، لا المتكلم الناصر وفيه شيء، وقيل: الكلام بتقدير مضاف أي عزيز صاحبه وهو المنصور وفيه تكلف الحذف والإيصال. وقد يقال: يحتاج إلى شيء مما ذكر إذ لا مانع من وصف النصر بالعزيز على ما هو الظاهر بناء على أحد معاني العزة وهو قلة الوجود وصعوبة المنال، والمعنى ينصرك الله نصرا يقل وجود مثله ويصعب مناله، وقد قال الراغب بهذا في قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ [فصلت: 41] ورأيت ذلك للصدر بعد أن كتبته من الصدر فتأمل ولا تكن ذا عجز. هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ بيان لما أفاض سبحانه عليهم من مبادئ الفتح، والمراد بالسكينة الطمأنينة والثبات من السكون أي أنزلها في قلوبهم بسبب الصلح والأمن إظهارا لفضله تعالى عليهم بتيسير الأمن بعد الخوف، والمراد بإنزالها خلقها وإيجادها، وفي التعبير عن ذلك بالإنزال إيماء إلى علو شأنها. وقال الراغب: إنزال الله تعالى نعمته على عبد إعطاؤه تعالى إياها وذلك إما بإنزال الشيء نفسه كإنزال القرآن أو بإنزال أسبابه والهداية إليه كإنزال الحديد ونحوه، وقيل: أَنْزَلَ من نزل في مكان كذا حط رحله فيه وأنزله غيره، فالمعنى حط السكينة في قلوبهم فكان قلوبهم منزلا لها ومأوى، وقيل: السكينة ملك يسكن قلب المؤمن ويؤمنه كما روي أن عليا رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه قال: إن السكينة لتنطق على لسان عمر، وأمر الإنزال عليه ظاهر جدا. وأخرج ابن جرير والبيهقي في الدلائل. وغيرهما عن ابن عباس أنه قال: السكينة هي الرحمة، وقيل: هي العقل ويقال له سكينة إذا سكن عن الميل إلى الشهوات وعن الرعب، وقيل: هي الوقار والعظمة لله تعالى ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: هي من سكن إلى كذا مال إليه أي أنزل في قلوبهم السكون والميل إلى ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم من الشرائع، وأرجح التفاسير هنا على ما قال الخفاجي: الأول، وما ذكره بعضهم من أن السكينة شيء له رأس كرأس الهرة فما أراه الجزء: 13 ¦ الصفحة: 246 قولا يصح لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ أي يقينا مع يقينهم برسوخ العقيدة واطمئنان النفوس عليها على أن الإيمان لما ثبت في الأزمنة نزل تجدد أزمانه منزلة تجدده وازدياده فاستعير له ذلك ورشح بكلمة مع، وقيل: ازدياد الإيمان بازدياد ما يؤمن به، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن أول ما أتاهم به النبي صلّى الله عليه وسلّم التوحيد ثم الصلاة والزكاة ثم الحج والجهاد فازدادوا إيمانا مع إيمانهم، ومن قال: الأعمال من الإيمان قال بأنه نفسه أي الإيمان المركب من ذلك وغيره يزيد وينقص ولم يحتج في الآية إلى تأويل بل جعلها دليلا له، وتفصيل الكلام في هذا المقام أنه ذهب جمهور الأشاعرة والقلانسي والفقهاء والمحدثون والمعتزلة إلى أن الإيمان يزيد وينقص ونقل ذلك عن الشافعي ومالك، وقال البخاري: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحدا منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص، واحتجوا على ذلك بالعقل والنقل، أما الأول فلأنه لو لم تتفاوت حقيقة الإيمان لكان إيمان آحاد الأمة المنهمكين في الفسق والمعاصي مساويا لإيمان الأنبياء عليهم السلام مثلا واللازم باطل فكذا الملزوم، وأما الثاني فلكثرة النصوص في هذا المعنى، منها الآية المذكورة، ومنها ما روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قلنا: يا رسول الله ان الإيمان يزيد وينقص قال: نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار ، ومنها ما روي عن عمر وجابر رضي الله تعالى عنهما مرفوعا «لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان هذه الأمة لرجح به» واعترض بأن عدم قبول الإيمان الزيادة والنقص على تقدير كون الطاعات داخلة في مسماه أولى وأحق من عدم قبوله ذلك إذا كان مسماه التصديق وحده. أما أولا فلأنه لا مرتبة فوق كل الأعمال لتكون زيادة ولا إيمان دونه ليكون نقصا، وأما ثانيا فلأن أحدا لا يستكمل من مقولة الكم وإنما قيل هو كيف أو انفعال أو إضافة وتعلق بين العالم والمعلوم أو صفة ذات إضافة والأشهر أنه كيف فمتى صح ذلك وقلنا بمغايرة الشدة والضعف للزيادة والنقص فلا بأس بحملهما في النصوص وغيرها على الشدة والضعف وذلك مجاز مشهور، وإنكار اتصاف الإيمان بهما يكاد يلحق بالمكابرة فتأمل، وذكر بعضهم هنا أن الإيمان الذي هو مدخول مع هو الإيمان الفطري والإيمان المذكور قبله الإيمان الاستدلالي فكأنه قيل: ليزدادوا إيمانا استدلاليا مع إيمانهم الفطري، وفيه من الخفاء ما فيه وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يدبر أمرها كيفما يريد فيسلط بعضها على بعض تارة ويوقع سبحانه بينها السلم أخرى حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح، ومن قضية ذلك ما وقع في الحديبية وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً مبالغا في العلم بجميع الأمور حَكِيماً في تقديره وتدبيره عز وجل. وقوله سبحانه لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها متعلق بما يدل عليه ما ذكر من كون جنود السموات والأرض له جل شأنه من معنى التصرف والتدبير، وقد صرح بعض الأفاضل بأنه كناية عنه أي دبر سبحانه ما دبر من تسليط المؤمنين ليعرفوا نعمة الله تعالى في ذلك ويشكروها فيدخلهم الجنة فالعلة في الحقيقة معرفة النعمة وشكرها لكنها لما كانت سببا لدخول الجنة أقيم المسبب مقام السبب. وقيل: متعلق بفتحنا، وقيل: بأنزل، وتعلقه بذلك مع تعلق اللام الأخرى به مبني على تعلق الأول به مطلقا والثاني مقيدا وتنزيل تغاير الوصفين منزلة تغاير الذاتين وإلا فلا يتعلق بعامل واحد حرفا جر بمعنى واحد من غير اتباع، وقيل: متعلق بينصرك، وقيل: بيزداد، وقيل: بجميع ما ذكر إما على التنازع والتقدير أو بتقدير ما يشمل ذلك كفعل سبحانه ما ذكر ليدخل إلخ، وقيل: هو بدل من ليزداد بدل اشتمال فإن إدخال المؤمنين والمؤمنات الجنة وكذا ما عطف عليه مستلزم لزيادة الإيمان وبدل الاشتمال يعتمد على ملابسة ما بين المبدل والمبدل منه بحيث يشعر أحدهما بالآخر غير الكلية والبعضية، ولعل الجزء: 13 ¦ الصفحة: 247 الأظهر الوجه الأول، وضم المؤمنات هاهنا إلى المؤمنين دفعا لتوهم اختصاص الحكم بالذكور لأجل الجهاد والفتح على أيديهم، وكذا في كل موضع يوهم الاختصاص يصرح بذكر النساء، ويقال نحو ذلك فيما بعد كذا قيل. وأخرج ابن جرير وجماعة عن أنس قال: «أنزلت على النبي صلّى الله عليه وسلّم ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر في مرجعه من الحديبية فقال: لقد أنزلت علي آية هي أحبّ إليّ مما على الأرض ثم قرأها عليهم فقالوا: هنيئا مريئا يا رسول الله قد بين الله تعالى لك ماذا يفعل بك فماذا يفعل بنا فنزلت ليدخل المؤمنين والمؤمنات حتى بلغ فوزا عظيما» . وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي يغطيها ولا يظهرها، والمراد يمحوها سبحانه ولا يؤاخذهم بها، وتقديم الإدخال في الذكر على التكفير مع أن الترتيب في الوجود على العكس للمسارعة إلى بيان ما هو المطلوب إلا على كذا قال غير واحد، ويجوز عندي أن يكون التفكير في الجنة على أن المعنى يدخلهم الجنة ويغطي سيئاتهم ويسترها عنهم فلا تمر لهم ببال ولا يذكرونها أصلا لئلا يخجلوا فيتكدر صفو عيشهم، وقد مر مثل ذلك. وَكانَ ذلِكَ أي ما ذكر من الإدخال والتكفير عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً لا يقادر قدره لأنه منتهى ما تمتد إليه أعناق الهمم من جلب نفع ودفع ضر، وعِنْدَ اللَّهِ حال من فَوْزاً لأن صفة النكرة إذا قدمت عليها الإيمان حينئذ والزيادة على ما لم يكمل بعد محال. وأجيب بأن هذا إنما يتوجه على المعتزلة والخوارج القائلين بانتفاء الإيمان بانتفاء شيء من الأعمال، والجماعة إنما يقولون: إنها شرط كمال في الإيمان فلا يلزم عند الانتفاء إلا انتفاء الكمال وهو غير قادح في أصل الإيمان. وقال النووي وجماعة محققون من علماء الكلام: إن الإيمان بمعنى التصديق القلبي يزيد وينقص أيضا بكثرة النظر ووضوح الأدلة وعدم ذلك، ولهذا كان إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا تعتريه الشبه، ويؤيده أن كل واحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى يكون في بعض الأحيان أعظم يقينا وإخلاصا منه في بعضها فكذلك التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها. واعترض بأنه متى قبل ذلك كان شكا. ودفع بأن مراتب اليقين متفاوتة إلى علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين مع أنها لا شك معها وممن وافق النووي على ما جزم به السعد في القسم الثاني من تهذيبه، وقال جماعة من العلماء أعظمهم الإمام أبو حنيفة وتبعه أصحابه وكثير من المتكلمين الإيمان لا يزيد ولا ينقص، واختاره إمام الحرمين، واحتجوا بأنه اسم للتصديق البالغ حد الجزم والإذعان وهذا لا يتصور فيه زيادة ولا نقصان، فالمصدق إذا ضم إليه الطاعات أو ارتكب المعاصي فتصديقه بحاله لم يتغير أصلا وإنما يتفاوت إذا كان اسما للطاعات المتفاوتة قلة وكثرة. وأجابوا عما تمسك به الأولون بوجوه، منها ما أشرنا إليه أولا من أن الزيادة بحسب الدوام والثبات وكثرة الزمان والأوقات. وإيضاحه ما قاله إمام الحرمين: النبي صلّى الله عليه وسلّم يفضل من عداه باستمرار تصديقه وعصمة الله تعالى إياه من مخامرة الشكوك والتصديق عرض لا يبقى بشخصه بل بتجدد أمثاله فتقع للنبي عليه الصلاة والسلام متوالية ولغيره على الفترات فثبتت للنبي صلّى الله عليه وسلّم أعداد من الإيمان لا يثبت لغيره إلا بعضها فيكون إيمانه صلّى الله عليه وسلّم أكثر، والزيادة بهذا المعنى قيل مما لا نزاع فيها. واعترض بأن حصول المثل بعد انعدام الشيء لا يكون زيادة فيه كسواد الجسم، ودفع بأن المراد زيادة أعداد حصلت وعدم البقاء لا ينافي ذلك، ومنها ما أشرنا إليه ثانيا من أن المراد الزيادة بحسب زيادة ما يؤمن به، والصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين آمنوا أولا بما آمنوا به وكانت الشريعة لم تتم وكانت الأحكام تنزل شيئا فشيئا فكانوا يؤمنون بكل ما يتجدد منها ولا شك في تفاوت إيمان الناس بملاحظة التفاصيل كثرة وقلة ولا يختص ذلك بعصره صلّى الله عليه وسلّم لإمكان الاطلاع على التفاصيل في غيره من العصور أيضا، ومنها أن المراد زيادة ثمرته وإشراق نوره في القلب فإن نور الجزء: 13 ¦ الصفحة: 248 الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، قيل: وهذا إنما يحتاج إليه بعد إقامة قاطع على امتناع قبول التصديق الزيادة والنقص ومتى لم يقم قاطع على ذلك كان الأولى إبقاء الظواهر على حالها، وقال الخطابي: الإيمان قول وهو لا يزيد ولا ينقص وعمل وهو يزيد وينقص واعتقاد وهو يزيد ولا ينقص فإذا نقص ذهب واعترض أنه إذا زاد ثم عاد إلى ما كان فقد نقص ولم يذهب. ودفع بأن مراده أن الاعتقاد باعتبار أول مراتبه يزيد ولا ينقص لا أن الاعتقاد مطلقا كذلك، وذهب جماعة منهم الإمام الرازي. وإمام الحرمين إلى أن الخلاف لفظي وذلك بحمل قول النفي على أصل الإيمان وهو التصديق فلا يزيد ولا ينقص وحمل قول الإثبات على ما به كماله وهو الأعمال فيكون الخلاف في هذه المسألة فرع الخلاف في تفسير الإيمان، والحق أنه حقيقي لما سمعت عن الإمام النووي ومن معه من أن التصديق نفسه يزيد وينقص. وقال بعض المحققين: إن الزيادة والنقص من خواص الحكم والتصديق قسم من العلم ولم يقل أحد بأنه أعربت حالا، وكونه يجوز فيه الحالية إذا تأخر عن عَظِيماً لا ضير فيه كما توهم أي كائنا عند الله تعالى أي في علمه سبحانه وقضائه جل شأنه، والجملة اعتراض مقرر لما قبله، وقوله تعالى: وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ عطف على يدخل أي وليعذب المنافقين إلخ ليغيظهم من ذلك، وهو ظاهر على جميع الأوجه السابقة في لِيُدْخِلَ حتى وجه البدلية فإن بدل الاشتمال تصححه الملابسة كما مر، وازدياد الإيمان على ما ذكرنا في تفسيره مما يغيظهم بلا ريب، وقيل: إنه على هذا الوجه يكون عطفا على المبدل منه، وتقديم المنافقين على المشركين لأنهم أكثر ضررا على المسلمين فكان في تقديم تعذيبهم تعجيل المسرة. الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ أي ظن الأمر الفاسد المذموم وهو أنه عز وجل لا ينصر رسوله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين، وقيل: المراد به ما يعم ذلك وسائر ظنونهم الفاسدة من الشرك أو غيره عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ أي ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين فهو حائق بهم ودائر عليهم، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «دائرة السّوء» بالضم، والفرق بينه وبين السَّوْءِ بالفتح على ما في الصحاح أن المفتوح مصدر والمضموم اسم مصدر بمعنى المساءة. وقال غير واحد: هما لغتان بمعنى كالكره والكره عند الكسائي وكلاهما في الأصل مصدر غير أن المفتوح غلب في أن يضاف إليه ما يراد ذمه والمضموم جرى مجرى الشر، ولما كانت الدائرة هنا محمودة وأضيفت إلى المفتوح في قراءة الأكثر تعين على هذا أن يقال: إن ذاك على تأويل أنها مذمومة بالنسبة إلى من دارت عليه من المنافقين والمشركين واستعمالها في المكروه أكثر وهي مصدر بزنة اسم الفاعل أو اسم فاعل، وإضافتها على ما قال الطيبي من إضافة الموصوف إلى الصفة للبيان على المبالغة، وفي الكشف الإضافة بمعنى من على نحو دائرة ذهب فتدبر. والكلام إما إخبار عن وقوع السوء بهم أو دعاء عليهم، وقوله تعالى: وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ عطف على ذلك، وكان الظاهر فلعنهم فأعد بالفاء في الموضعين لكنه عدل عنه للإشارة إلى أن كلا من الأمرين مستقل في الوعيد به من غير اعتبار للسببية فيه وَساءَتْ مَصِيراً جهنم وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ذكر سابقا على أن المراد أنه عز وجل المدبر لأمر المخلوقات بمقتضى حكمته فلذلك ذيل بقوله تعالى: عَلِيماً حَكِيماً وهاهنا أريد به التهديد بأنهم في قبضة قدرة المنتقم ولذا ذيل بقوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً فلا تكرار كما قال الشهاب، وقيل: إن الجنود جنود رحمة وجنود عذاب، والمراد به هنا الثاني كما ينبىء عنه التعرض لوصف العزة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 249 إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً أي على أمتك لقوله تعالى: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة: 143] وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة شاهدا على أمتك وشاهدا على الأنبياء عليهم السلام أنهم قد بلغوا وَمُبَشِّراً بالثواب على الطاعة وَنَذِيراً بالعذاب على المعصية لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأمته كقوله سبحانه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطلاق: 1] وهو من باب التغليب غلب فيه المخاطب على الغيب فيفيد أن النبي عليه الصلاة والسلام مخاطب بالإيمان برسالته كالأمة وهو كذلك، وقال الواحدي: الخطاب في أَرْسَلْناكَ للنبي صلّى الله عليه وسلّم وفي لِتُؤْمِنُوا لأمته فعلى هذا إن كان اللام للتعليل يكون المعلل محذوفا أي لتؤمنوا بالله وكيت وكيت فعل ذلك الإرسال أو للأمر على طريقة فبذلك فلتفرحوا [يونس: 58] على قراءة التاء الفوقانية فقيل هو على معنى قل لهم: لتؤمنوا إلخ، وقيل: هو للأمة على أن خطابه صلّى الله عليه وسلّم منزل منزلة خطابهم فهو عينه ادعاء، واللام متعلقة بأرسلنا، ولا يعترض عليه بما قرره الرضي وغيره من أنه يمتنع أن يخاطب في كلام واحد اثنان من غير عطف أو تثنية أو جمع لأنه بعد التنزيل لا تعدد، وجوز أن يكون ذلك لأنهم حينئذ غير مخاطبين في الحقيقة فخطابهم في حكم الغيبة، وقيل: الامتناع المذكور مشروط بأن يكون كل من المخاطبين مستقلا أما إذا كان أحدهما داخلا في خطاب الآخر برسالته فلا امتناع كما يعلم من تتبع كلامهم، وحينئذ يجوز أن يراد خطاب الأمة أيضا من غير تغليب، والكلام في ذلك طويل وما ذكر سابقا سالم عن القال والقيل وَتُعَزِّرُوهُ أي تنصروه كما روي عن جابر بن عبد الله مرفوعا وأخرجه جماعة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 250 عن قتادة، والضمير لله عز وجل، ونصرته سبحانه بنصرة دينه ورسوله صلّى الله عليه وسلّم وَتُوَقِّرُوهُ أي تعظموه كما قال قتادة وغيره، والضمير له تعالى أيضا، وقيل: كلا الضميرين للرسول صلّى الله عليه وسلّم وروي عن ابن عباس، وزعم بعضهم أنه يتعين كون الضمير في تُعَزِّرُوهُ للرسول عليه الصلاة والسلام لتوهم أن التعزير لا يكون له سبحانه وتعالى كما يتعين عند الكل كون الضمير في قوله تعالى: وَتُسَبِّحُوهُ لله سبحانه وتعالى، ولا يخفى أن الأولى كون الضميرين فيما تقدم لله تعالى أيضا لئلا يلزم فك الضمائر من غير ضرورة أي وتنزهوا الله تعالى أو تصلوا له سبحانه من السبحة بُكْرَةً وَأَصِيلًا غدوة وعشيا، والمراد ظاهرهما أو جميع النهار ويكنى عن جميع الشيء بطرفيه كما يقال شرقا وغربا لجميع الدنيا، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما صلاة الفجر وصلاة الظهر وصلاة العصر، وقرأ أبو جعفر وأبو حيوة وابن كثير وأبو عمرو الأفعال الأربعة. أعني لتؤمنوا وما بعده. بياء الغيبة، وعن ابن مسعود. وابن جبير كذلك إلا أنهما قرءا «ويسبحوا الله» بالاسم الجليل مكان الضمير، وقرأ الجحدري «تعزروه» بفتح التاء الفوقية وضم الزاي مخففا، وفي رواية عنه فتح التاء وكسر الزاي مخففا وروي هذا عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه ، وقرىء بضم التاء وكسر الزاي مخففا، وقرأ ابن عباس ومحمد بن اليماني «تعزّروه» بزاءين من العزة أي تجعلوه عزيزا وذلك بالنسبة إليه سبحانه بجعل دينه ورسوله صلّى الله عليه وسلّم كذلك. وقرىء «وتوقروه» من أوقره بمعنى وقره إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ يوم الحديبية على الموت في نصرتك كما روي عن سلمة بن الأكوع وغيره أو على أن لا يفروا من قريش كما روي عن ابن عمر وجابر رضي الله تعالى عنهم، وسيأتي الكلام في تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى، والمبايعة وقعت قبل نزول الآية فالتعبير بالمضارع لاستحضار الحال الماضية، وهي مفاعلة من البيع يقال: بايع السلطان مبايعة إذا ضمن بذلك الطاعة له بما رضخ له، وكثيرا ما تقال على البيعة المعروفة للسلاطين ونحوهم وإن لم يكن رضخ، وما وقع للمؤمنين قيل يشير إلى ما في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ [التوبة: 111] الآية إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ لأن المقصود من بيعة الرسول عليه الصلاة والسلام وإطاعته إطاعة الله تعالى وامتثال أوامره سبحانه لقوله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء: 80] فمبايعة الله تعالى بمعنى طاعته سبحانه مشاكلة أو هو صرف مجاز، وقرىء «إنما يبايعون لله» أي لأجل الله تعالى ولوجهه، والمفعول محذوف أي إنما يبايعونك لله يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ استئناف مؤكد لما قبله لأنه عبارة عن المبايعة. قال في الكشاف لما قال سبحانه: إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ أكده على طريقة التخييل فقال تعالى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ وأنه سبحانه منزه عن الجوارح وصفات الأجسام وإنما المعنى تقرير أن عقد الميثاق مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم كعقده مع الله تعالى من غير تفاوت بينهما. وفي المفتاح أما حسن الاستعارة التخييلية فبحسب حسن الاستعارة بالكناية متى كانت تابعة لها كما في قولك: فلان بين أنياب المنية ومخالبها تم إذا انضم إليها المشاكلة كما في يَدُ اللَّهِ إلخ كانت أحسن وأحسن، يعني أن في اسم الله تعالى استعارة بالكناية تشبيها له سبحانه وتعالى بالمبايع واليد استعارة تخييلية مع أن فيها أيضا مشاكلة لذكرها مع أيدي الناس، وامتناع الاستعارة في اسم الله تعالى إنما هو في الاستعارة التصريحية دون المكنية لأنه لا يلزم إطلاق اسمه تعالى على غيره سبحانه، وروى الواحدي عن ابن كيسان اليد القوة أي قوة الله تعالى ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم أي ثق بنصرة الله تعالى لك لا بنصرتهم وإن بايعوك. وقال الزجاج: المعنى يد الله في الوفاء فوق أيديهم أو في الثواب فوق أيديهم في الطاعة أو يد الله سبحانه في المنة عليهم في الهداية فوق أيديهم في الطاعة، وقيل: المعنى نعمة الله تعالى عليهم بتوفيقهم لمبايعتك فوق نعمتهم وهي مبايعتهم إياك وأعظم منها، وفيه شيء من قوله تعالى: قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ [الحجرات: 17] وكل ذلك تأويلات ارتكبها الخلف وأحسنها ما ذكر أولا، والسلف يمرون الآية كما جاءت الجزء: 13 ¦ الصفحة: 251 مع تنزيه الله عز وجل عن الجوارح وصفات الأجسام وكذلك يفعلون في جميع المتشابهات ويقولون: إن معرفة حقيقة ذلك فرع معرفة حقيقة الذات وأنى ذلك وهيهات هيهات، وجوز أن تكون الجملة خبرا بعد خبر لإن، وكذا جوز أن تكون حالا من ضمير الفاعل في يُبايِعُونَكَ وفي جواز ذلك مع كونها اسمية غير مقترنة بالواو كلام فَمَنْ نَكَثَ نقض العهد فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ فلا يعود ضرر نكثه إلا عليه، وروى الزمخشري عن جابر بن عبد الله أنه ما نكث أحد البيعة إلا جد بن قيس وكان منافقا، والذي نقله الطيبي عن مسلم يدل على أن الرجل لم يبايع لا أنه بايع ونكث قال: سئل جابر كم كانوا يوم الحديبية؟ قال: كنا أربع عشر مائة فبايعناه وعمر رضي الله تعالى عنه آخذ بيده صلوات الله تعالى وسلامه عليه تحت الشجرة وهي سمرة فبايعناه غير جد بن قيس الأنصاري اختفى تحت بطن بعيره ولم يسر مع القوم، ولعل هذا هو الأوفق لظاهر قوله تعالى لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ [الفتح: 18] . وقرأ زيد بن علي «ينكث» بكسر الكاف وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً هو الجنة وما يكون فيها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ويقال: وفى بالعهد وأوفى به إذا تممه وأوفى لغة تهامة، ومنه قوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] . وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ [البقرة: 177] وقرىء «بما عهد» ثلاثيا. وقرأ الجمهور «عليه» بكسر الهاء كما هو الشائع وضمها حفص هنا، قيل: وجه الضم أنها هاء هو وهي مضمومة فاستصحب ذلك كما في له وضربه، ووجه الكسر رعاية الياء وكذا في إليه وفيه وكذا فيما إذا كان قبلها كسرة نحو به ومررت بغلامه لثقل الانتقال من الكسر إلى الضم، وحسن الضم في الآية التوصل به إلى تفخيم لفظ الجلالة الملائم لتفخيم أمر العهد المشعر به الكلام، وأيضا إبقاء ما كان على ما كان ملائم للوفاء بالعهد وإبقائه وعدم نقضه، وقد سألت كثيرا من الأجلة وأنا قريب عهد بفتح فمي للتكلم عن وجه هذا الضم هنا فلم أجب بما يسكن إليه قلبي ثم ظفرت بما سمعت والله تعالى الهادي إلى ما هو خير منه، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وروح وزيد بن علي «فسنؤتيه» بالنون. سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ قال مجاهد وغيره ودخل كلام بعضهم في بعض المخلفون من الاعراب هم جهينة ومزينة وغفار وأشجع والديل وأسلم استنفرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمرا ليخرجوا معه حذرا من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت وأحرم هو صلّى الله عليه وسلّم وساق معه الهدي ليعلم أنه لا يريد حربا ورأى أولئك الأعراب أنه عليه الصلاة والسلام يستقبل عددا عظيما من قريش. وثقيف. وكنانة. والقبائل المجاورين مكة وهم الأحابيش ولم يكن الإيمان تمكن من قلوبهم فقعدوا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وتخلفوا وقالوا: نذهب إلى قوم قد غزوه في عقر داره بالمدينة وقتلوا أصحابه فنقاتلهم وقالوا: لن يرجع محمد عليه الصلاة والسلام ولا أصحابه من هذه السفرة ففضحهم الله تعالى في هذه الآية وأعلم رسوله صلّى الله عليه وسلّم بقولهم اعتذارهم قبل أن يصل إليهم فكان كذلك، والْمُخَلَّفُونَ جمع مخلف، قال الطبرسي: هو المتروك في المكان خلف الخارجين من البلد مأخوذ من الخلف وضده المقدم، والْأَعْرابِ في المشهور سكان البادية من العرب لا واحد له أي سيقول لك المتروكون الغير الخارجين معك معتذرين إليك شَغَلَتْنا عن الذهاب معك أَمْوالُنا وَأَهْلُونا إذ لم يكن لنا من يقوم بحفظ ذلك ويحميه عن الضياع، ولعل ذكر الأهل بعد الأموال من باب الترقي لأن حفظ الأهل عند ذوي الغيرة أهم من حفظ الأموال. وقرأ إبراهيم بن نوح بن بازان «شغّلتنا» بتشديد الغين المعجمة للتكثير فَاسْتَغْفِرْ لَنا الله تعالى ليغفر لنا تخلفنا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 252 عنك حيث لم يكن عن تكاسل في طاعتك بل لذلك الداعي يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ أي إن كلامهم من طرف اللسان غير مطابق لما في الجنان، وهو كناية عن كذبهم، فالجملة استئناف لتكذيبهم وكونها بدلا من سَيَقُولُ غير ظاهر، والكذب راجع لما تضمنه الكلام من الخبر عن تخلفهم بأنه لضرورة داعية له وهو القيام بمصالحهم التي لا بد منها وعدم من يقوم بها لو ذهبوا معه عليه الصلاة والسلام، وكذا راجع لما تضمنه (استغفر) الإنشاء من اعترافهم بأنهم مذنبون وأن دعاءه صلّى الله عليه وسلّم لهم يفيدهم فائدة لازمة لهم، أو تسمية ذلك كذبا ليس لعدم مطابقة نسبة الاعتقاد على ما ذهب إليه النظام بل لعدم مطابقته الواقع بحسب الاعتقاد وفرق بين الأمرين قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً أمر له صلّى الله عليه وسلّم أن يرد عليهم بذلك عند اعتذارهم بتلك الأباطيل، والملك إمساك بقوة لأنه بمعنى الضبط وهو حفظ عن حزم، ومنه لا أملك رأس البعير وملكت العجين إذا شددت عجنته، وملكت الشيء إذا دخل تحت ضبطك دخولا تاما، وإذا قلت: لا أملك كان نفيا للاستطاعة والطاقة إمساكا ومنعا، فأصل المعنى هنا فمن يستطيع لكم إمساك شيء من قدرة الله تعالى إن أراد بكم إلخ، واللام من لَكُمْ إما للبيان أو من صلة الفعل لأن هذه الاستطاعة مختصة بهم ولأجلهم، ومِنَ اللَّهِ حال من النكرة. أعني شيئا. مقدمة، وتفسير الملك بالمنع بيان لحاصل المعنى لأنه إذا لم يستطع أحد الإمساك والدفع فلا يمكنه المنع وليس ذلك لجعله مجازا عنه أو مضمنا إياه واللام زائدة كما في رَدِفَ لَكُمْ [النمل: 72] ومِنَ متعلقة بيملك كما قيل، والمراد بالضر والنفع ما يضر وما ينفع فهما مصدران مراد بهما الحاصل بالمصدر أو مؤولان بالوصف. وقرأ حمزة والكسائي «ضرّا» بضم الضاد وهو لغة فيه، وحاصل معنى الآية قل لهم إذ لا أحد يدفع ضره ولا نفعه تعالى فليس الشغل بالأهل والمال عذرا فلا ذاك يدفع الضر ان أراده عز وجل ولا مغافصة العدو تمنع النفع إن أراد بكم نفعا، وهذا كلام جامع في الجواب فيه تعريض بغيرهم من المبطلين وبجلالة محل المحقين ثم ترقى سبحانه منه إلى ما يتضمن تهديدا بقوله تعالى: بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ أي بكل ما تعملونه خَبِيراً فيعلم سبحانه تخلفكم وقصدكم فيه ويجازيكم على ذلك، ثم ختم جل وعلا بمكنون ضمائرهم ومخزون ما أعد لهم عنده تعالى بقوله سبحانه: بَلْ ظَنَنْتُمْ إلى قوله تعالى: بُوراً وفي الانتصاف ان في قوله تعالى: فَمَنْ يَمْلِكُ إلخ لفا ونشرا والأصل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو من يحرمكم النفع إن أراد بكم نفعا لأن من يملك يستعمل في الضر كقوله تعالى: فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ [المائدة: 16] وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [المائدة: 41] فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ [الأحقاف: 8] . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام في بعض الحديث: «إني لا أملك لكم شيئا» يخاطب عشيرته وأمثاله كثير، وسر اختصاصه بدفع المضرة أن الملك مضاف في هذه المواضع باللام ودفع المضرة نفع يضاف للمدفوع عنه وليس كذلك حرمان المنفعة فإنه ضرر عائد عليه لا له فإذا ظهر ذلك فإنما انتظمت الآية على هذا الوجه كذلك لأن القسمين يشتركان في أن كل واحد منهما نفي لدفع المقدور من خير وشر فلما تقاربا أدرجا في عبارة واحدة، وخص عبارة دفع الضر لأنه هو المتوقع لهؤلاء إذ الآية في سياق التهديد والوعيد الشديد وهي نظير قوله تعالى: قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً [الأحزاب: 17] فإن العصمة إنما تكون من السوء لا من الرحمة، فهاتان الآيتان توأمتان في التقرير المذكور انتهى، والوجه ما ذكرناه أولا في الآية، وفي تسمية مثل هذا لفا ونشرا نظر، ثم إن الظاهر عموم الضر والنفع، وقال شيخ الإسلام أبو السعود: المراد بالضر ما يضر من هلاك الأهل والمال وضياعهما وبالنفع ما ينفع من حفظ المال والأهل وتعميمهما يرده قوله تعالى بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فإنه إضراب عما قالوه وبيان الجزء: 13 ¦ الصفحة: 253 لكذبه بعد بيان فساده على تقدير صدقه انتهى، وهو كلام أوهى من بيت العنكبوت لأن في التعميم إفادة لما ذكر وزيادة تفيد قوة وبلاغة، والظاهر أن كلا من الإضرابات الثلاثة مقصود، وقال شيخ الإسلام: إن قوله تعالى: بَلْ ظَنَنْتُمْ إلخ بدل من كانَ اللَّهُ إلخ مفسر لما فيه من الإبهام. وفي البحر أنه بيان للعلة في تخلفهم أي بل ظننتم أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ أي لن يرجع من ذلك السفر الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أي عشائرهم وذوي قرباهم أَبَداً بأن يستأصلهم المشركون بالمرة فحسبتم إن كنتم معهم أن يصيبكم ما يصيبهم فلأجل ذلك تحلفتم لا لما ذكرتم من المعاذير الباطلة. والأهلون جمع أهل وجمعه جمع السلامة على خلاف القياس لأنه ليس بعلم ولا صفة من صفات من يعقل ويجمع على اهلات بملاحظة تاء التأنيث في مفرده تقديرا فيجمع كتمرة وتمرات ونحوه أرض وأرضات، وقد جاء على ما في الكشاف أهلة بالتاء ويجوز تحريك عينه أيضا فيقال: اهلات بفتح الهاء، وكذا يجمع على أهال كليال، وأطلق عليه الزمخشري اسم الجمع وقيل: وهو إطلاق منه في الجمع الوارد على خلاف القياس وإلا فاسم الجمع شرطه عند النحاة أن يكون على وزن المفردات سواء كان له مفرد أم لا. وقرأ عبد الله «إلى أهلهم» بغير ياء، والآية ظاهرة في أن لَنْ ليست للتأبيد ومن زعم إفادتها إياه جعل أَبَداً للتأكيد وَزُيِّنَ أي حسن ذلِكَ أي الظن المفهوم من ظننتم فِي قُلُوبِكُمْ فلم تسعوا في إزالته فتمكن فيكم فاشتغلتم بشأن أنفسكم غير مبالين بالرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين وقيل: الإشارة إلى المظنون وهو عدم انقلاب الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين إلى أهليهم أبدا أي حسن ذلك في قلوبكم فاحببتموه والمراد من ذلك تقريعهم ببغضهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين والمناسب للسياق ما تقدم. وقرىء «زيّن» بالبناء للفاعل بإسناده إلى الله تعالى أو إلى الشيطان وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وهو ظنهم السابق فتعريفه للعهد الذكرى وأعيد لتشديد التوبيخ والتسجيل عليه بالسوء أو هو عام فيشمل ذلك الظن وسائر ظنونهم الفاسدة التي من جملتها الظن بعدم رسالته عليه الصلاة والسلام فإن الجازم بصحتها لا يحوم فكره حول ما ذكر من الاستئصال فذكر ذلك للتعميم بعد التخصيص. وَكُنْتُمْ في علم الله تعالى الأزلي قَوْماً بُوراً أي هالكين لفساد عقيدتكم وسوء نيتكم مستوجبين سخطه تعالى وعقابه جل شأنه، وقيل: أي فاسدين في أنفسكم وقلوبكم ونياتكم لا خير فيكم، والظاهر على ما في البحر أن بورا في الأصل مصدر كالهلك ولذا وصف به المفرد المذكر في قول ابن الزبعرى: يا رسول الله المليك إن لساني ... راتق ما فتقت إذ أنا بور والمؤنث حكى أبو عبيدة امرأة بور والمثنى والمجموع، وجوز أن يكون جمع بائر كحائل وحول وعائذ وعوذ وبازل وبزل، وعلى المصدرية هو مؤول باسم الفاعل، وجوز أن تكون كان بمعنى صار أي وصرتم بذلك الظن قوما هالكين مستوجبين السخط والعقاب والظاهر إبقاؤها على بابها والمضي باعتبار العلم كما أشرنا إليه، وقيل: أي كنتم قبل الظن فاسدين، وقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ إلخ كلام مبتدأ من جهته عز وجل غير داخل في الكلام الملقن مقرر لبوارهم ومبين لكيفيته أي ومن لم يصدق بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم كدأب هؤلاء المخلفين فَإِنَّا أَعْتَدْنا هيأنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً نارا مسعورة موقدة ملتهبة وكان الظاهر. لهم. فعدل عنه إلى ما ذكر إيذانا من لم يجمع بين الإيمان بالله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام فهو كافر وأنه مستوجب للسعير بكفره لمكان التعليق بالمشتق. وتنكير سعير للتهويل لما فيه من الإشارة إلى أنها لا يمكن معرفتها واكتناه كنهها، وقيل: لأنها نار مخصوصة فالتنكير للتنويع ومَنْ يحتمل أن تكون موصولة وأن تكون شرطية والعائد من الخبر أو من جواب الشرط هو الظاهر القائم مقام المضمر وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فهو عز وجل المتصرف في الكل كما يشاء يَغْفِرُ لِمَنْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 254 يَشاءُ أن يغفر له وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ أن يعذبه من غير دخل لأحد في شيء من غفرانه تعالى وتعذيبه جل وعلا وجودا وعدما وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً مبالغا في المغفرة لمن يشاء ولا يشاء سبحانه إلا لمن تقتضي الحكمة المغفرة له ممن يؤمن به سبحانه ورسوله صلّى الله عليه وسلّم وأما من عداه من الكافرين المجاهرين والمنافقين فهم بمعزل من ذلك قطعا وفي تقديم المغفرة والتذييل بكونه تعالى غفورا بصيغة المبالغة وضم رحيما إليه الدال على المبالغة أيضا دون التذيل بما يفيد كونه سبحانه معذبا مما يدل على سبق الرحمة ما فيه. وفي الحديث كتب ربكم على نفسه بيده قبل أن يخلق الخلق رحمتي سبقت غضبي وهذا السبق على ما أشار إليه في أنوار التنزيل ذاتي وذلك لأن الغفران والرحمة بحسب الذات والتعذيب بالعرض وتبعيته للقضاء والعصيان المقتضي لذلك وقد صرح غير واحد بأن الخير هو المقضي بالذات والشر بالعرض إذ لا يوجد شر جزئي الا وهو متضمن لخير كلي، وفصل ذلك في شرح الهياكل، وقال بعض الأجلة: المراد بالسبق في الحديث كثرة الرحمة وشمولها وكذا المراد بالغلبة الواقعة في بعض الروايات، وذلك نظير ما يقال: غلب على فلان الكرم ومن جعل الرحمة والغضب من صفات الأفعال لم يشكل عليه أمر السبق ولم يحتج إلى جعلن ذاتيا كما لا يخفى والآية على ما قال أبو حيان لترجية أولئك المنافقين بعض الترجية إذا آمنوا حقيقة، وقيل: لحسم أطماعهم الفارغة في استغفاره عليه الصلاة والسلام لهم، وفسر الزمخشري مَنْ يَشاءُ الأول بالتائب والثاني بالمصرّ ثم قال: يكفر سبحانه السيئات باجتناب الكبائر ويغفر الكبائر بالتوبة وهو اعتزال منه مخالف لظاهر الآية، وقال الطيبي يمكن أن يقال: ان قوله تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ إلخ موقعه موقع التذييل لقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ الآية على أن يقدر له ما يقابله من قوله ومن آمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للمؤمنين الجنان مثلا فلا يقيد شيء مما قيده ليؤذن بالتصرف التام والمشيئة النافذة والغفران الكامل والرحمة الشاملة فتأمل ولا تغفل سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ المذكورون من الاعراب فاللام للعهد وقوله تعالى: إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ظرف لما قبله لا شرط لما بعده والمراد بالمغانم مغانم خيبر كما عليه عامة المفسرين ولم نقف على خلاف في ذلك وأيد بأن السين تدل على القرب وخيبر أقرب المغانم التي انطلقوا إليها من الحديبية كما علمت فإرادتها كالمتعينة، وقد جاء في الأخبار الصحيحة أن الله تعالى وعد أهل الحديبية أن يعوضهم من مغانم مكة خيبر إذا قفلوا موادعين لا يصيبون شيئا وخص سبحانه ذلك بهم أي سيقولون عند إطلاقكم إلى مغانم خيبر لتأخذوها حسبما وعدكم الله تعالى إياها وخصكم بها طمعا في عرض الدنيا لما أنهم يرون ضعف العدو ويتحققون النصرة ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ إلى خيبر ونشهد معكم قتال أهلها يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ بأن يشاركوا في الغنائم التي خصها سبحانه بأهل الحديبية وحاصله يريدون الشركة التي لا تحصل لهم دون نصرة الدين وإعلاء كلمة الله تعالى، والجملة استئناف لبيان مرادهم بذلك القول، وقيل: يجوز أن تكون حالا من المخلفين وهو خلاف الظاهر ولا ينافي خبر التخصيص إعطاؤه عليه الصلاة والسلام بعض مهاجري الحبشة القادمين مع جعفر وبعض الدوسيين والأشعريين من ذلك وهم أصحاب السفينة كما في البخاري فإنه كان استنزالا للمسلمين عن بعض حقوقهم لهم أو أن بعضها فتح صلحا وما أعطاه عليه الصلاة والسلام فهو بعض مما صالح عليه وكل هذا مذكور في السير لكن الذي صححه المحدثون أنه لا صلح فيها. وقال الكرماني: إنما أعطاهم صلّى الله عليه وسلّم برضا أصحاب الوقعة أو أعطاهم من الخمس الذي هو حقه عليه الصلاة والسلام، وميل البخاري إلى الثاني وحمل كلام الله تعالى على وعده بتلك الغنائم لهم خاصة هو الذي عليه مجاهد وقتادة وعامة المفسرين، وقال ابن زيد: كلام الله قوله سبحانه وتعالى: فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً [التوبة: 83] الجزء: 13 ¦ الصفحة: 255 ووافقه الجبائي على ذلك وشنع عليهما غير واحد بأن ذلك نازل في المخلفين في غزوة تبوك من المنافقين وكانت تلك الغزوة يوم الخميس في رجب سنة تسع بلا خلاف كما قال القسطلاني والحديبية في سنة ست كما قاله ابن الجوزي. وغيره وهذه إنما نزلت بعيد الانصراف من الحديبية كما علمت وأيضا قال في البحر: قد غزت مزينة وجهينة من هؤلاء المخلفين بعد هذه المدة معه عليه الصلاة والسلام وفضلهم صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك على تميم وغطفان وغيرهم من العرب، وفي الكشف لعل القائل بذلك أراد أن هؤلاء المحلفين لما كانوا منافقين مثل المخلفين عن تبوك كان حكم الله تعالى فيهم واحدا، ألا ترى أن المعنى الموجب مشترك وهو رضاهم بالقعود أول مرة، فكلام الله تعالى أريد به حكمه السابق وهو أن المنافق لا يستصحب في الغزو، ولم يرد أن هذا الحكم منقاس على ذلك الأصل أو الآية نازلة فيهم أيضا فهذا ما يمكن في تصحيحه انتهى، ويقال عما في البحر: إن الذين غزوا بعد لم يغزوا حتى أخلصوا ولم يبقوا منافقين والله تعالى أعلم. وقرأ حمزة. والكسائي «كلم الله» وهو اسم جنس جمعي واحده كلمة قُلْ إقناطا لهم لَنْ تَتَّبِعُونا أي لا تتبعونا فإنه نفي في معنى النهي للمبالغة، والمراد نهيهم عن الاتباع فيما أرادوا الاتباع فيه في قولهم: ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ وهو الانطلاق إلى خيبر كما نقل عن محيي السنة عليه الرحمة، وقيل: المراد ولا تتبعونا ما دمتم مرضى القلوب، وعن مجاهد كان الموعد أي الموعد الذي تغييره تبديل كلام الله تعالى وهو موعده سبحانه لأهل الحديبية أنهم لا يتبعون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا متطوعين لا نصيب لهم في المغنم فكأنه قيل: لن تتبعونا إلا متطوعين، وقيل: المراد التأبيد، وظاهر السياق الأول كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ أي من قبل أن تهيأتم للخروج معنا وذلك عند الانصراف من الحديبية فَسَيَقُولُونَ للمؤمنين عند سماع هذا النهي بَلْ تَحْسُدُونَنا أن نشارككم في الغنائم، وهو إضراب عن كونه بحكم الله تعالى أي بل إنما ذلك من عند أنفسكم حسدا. وقرأ أبو حيوة «تحسدوننا» بكسر السين بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ لا يفهمون إِلَّا قَلِيلًا أي إلا فهما قليلا وهو فهمهم لأمور الدنيا، وهو رد لقولهم الباطل في المؤمنين ووصف لهم بما هو أعظم من الحسد وأطم وهو الجهل المفرط وسوء الفهم في أمور الدين، وفيه إشارة إلى ردهم حكم الله تعالى وإثباتهم الحسد لأولئك السادة من الجهل وقلة التفكر قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ كرر ذكرهم بهذا العنوان مبالغة في الذم وإشعارا بشناعة التخلف سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ذوي نجدة وشدة قوية في الحرب، وهم على ما أخرج ابن المنذر والطبراني عن الزهري بنو حنيفة مسيلمة وقومه أهل اليمامة، وعليه جماعة، وفي رواية عنه زيادة أهل الردة وروي ذلك عن الكلبي، وعن رافع بن خديج إنا كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم أريدوا بها، وعن عطاء بن أبي رباح. ومجاهد في رواية. وعطاء الخراساني. وابن أبي ليلى هم الفرس، وأخرجه ابن جرير والبيهقي في الدلائل. وغيرهما عن ابن عباس، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال في الآية: دعا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لقتال فارس أعراب المدينة جهينة ومزينة الذين كان النبي صلّى الله عليه وسلّم دعاهم للخروج إلى مكة، وقال عكرمة وابن جبير وقتادة: هم هوازن ومن حارب الرسول صلّى الله عليه وسلّم في حنين، وفي رواية ابن جرير وعبد بن حميد عن قتادة التصريح بثقيف مع هوازن، وفي رواية الفريابي. وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال: هم هوازن وبنو حنيفة، وقال كعب: هم الروم الذي خرج إليهم صلّى الله عليه وسلّم عام تبوك والذين بعث إليهم في غزوة مؤتة، وأخرج سعيد بن منصور. وابن جرير. وابن المنذر عن الحسن قال: هم فارس والروم، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: البارز يعني الأكراد كما في الدر المنثور، وأخرج ابن المنذر والطبراني في الكبير عن مجاهد قال: اعراب فارس وأكراد العجم، وظاهر العطف أن أكراد العجم ليسوا من اعراب فارس، وظاهر إضافة أكراد إلى العجم يشعر بأن من الأكراد ما يقال لهم أكراد العرب، ولا نعرف هذا التقسيم وإنما نعرف جيلا من الناس يقال لهم أكراد من غير إضافة إلى عرب أو عجم، وللعلماء اختلاف الجزء: 13 ¦ الصفحة: 256 في كونهم في الأصل عربا أو غيرهم فقيل: ليسوا من العرب، وقيل منهم، قال القاضي شمس الدين أحمد بن محمد ابن خلكان في ترجمة المهلب بن أبي صفرة ما نصه: حكى أبو عمر بن عبد البر صاحب كتاب الاستيعاب في كتابه القصد والأمم في انساب العرب والعجم أن الأكراد من نسل عمرو مزيقيا بن عامر بن ماء السماء (1) وأنهم وقعوا إلى أرض العجم فتناسلوا بها وكثر ولدهم فسموا الأكراد، وقال بعض الشعراء في ذلك وهو يعضد ما قاله ابن عبد البر: لعمرك ما الأكراد أبناء فارس ... ولكنه كرد بن عمرو بن عامر انتهى، وفي القاموس الكرد بالضم جيل من الناس معروف والجمع أكراد وجدهم كرد بن عمرو مزيقيا بن عامر ماء السماء انتهى، وعامر هذا من العرب بلا شبهة فإنه ابن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق بن ثعلبة بن مازن بن الأزد ويقال له الأسد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان ويسمى عامرا وهو عند الأكثر ابن شالخ بن ارفخشذ بن سام بن نوح، وقيل: من ولد هود، وقيل: هو هود نفسه، وقيل: ابن أخيه، وذهب الزبير بن بكار إلى أن قحطان من ذرية إسماعيل عليه السلام وأنه قحطان بن الهميسع بن تيم بن نبت بن إسماعيل، والذي رجحه ابن حجر أن قبائل اليمن كلها ومنها قبيلة عمرو مزيقيا من ولد إسماعيل عليه السلام، ويدل له تبويب البخاري باب نسبة اليمن إلى إسماعيل عليه السلام ذكر ذلك السيد نور الدين على السمهودي في تاريخ المدينة، وفيه أن الأنصار الأوس. والخزرج من أولاد ثعلبة العنقاء بن عمرو مزيقيا المذكور وكان له ثلاثة عشر ولدا ذكورا منهم ثعلبة المذكور. وحارثة والد خزاعة. وجفنة والد غسان. ووداعة وأبو حارثة وعوف وكعب ومالك وعمران وكرد كما في القاموس انتهى. وفائدة الخلاف تظهر في أمور منها الكفاءة في النكاح والعامة لا يعدونهم من العرب فلا تغفل، والذي يغلب على ظني أن هؤلاء الجيل الذين يقال لهم اليوم أكراد لا يبعد أن يكون فيهم من هو من أولاد عمرو مزيقيا وكذا لا يبعد أن يكون فيهم من هو من العرب وليس من أولاد عمرو المذكور إلا أن الكثير منهم ليسوا من العرب أصلا، وقد انتظم في سلك هذا الجيل أناس يقال: إنهم من ذرية خالد بن الوليد، وآخرون يقال: إنهم من ذرية معاذ بن جبل وآخرون يقال: إنهم من ذرية العباس بن عبد المطلب، وآخرون يقال: إنهم من بني أمية ولا يصح عندي من ذلك شيء بيد أنه سكن مع الأكراد طائفة من السادة أبناء الحسين رضي الله تعالى عنهم يقال لهم البرزنجية لا شك في صحة نسبهم وكذا في جلالة حسبهم، وبالجملة الأكراد مشهورون باليأس وقد كان منهم كثير من أهل الفضل بل ثبت لبعضهم الصحبة، قال الحافظ ابن حجر في الإصابة في تمييز الصحابة في حرف الجيم: جابان والد ميمون روى ابن منده من طريق أبي سعيد مولى بني هاشم عن أبي خلدة سمعت ميمون بن جابان الكردي عن أبيه أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلّم غير مرة حتى بلغ عشرا وذكر الحديث، وقد أخرج نحوه الطبراني في المعجم الصغير عن ميمون الكردي عن أبيه أيضا وهو أتم منه ولفظه «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: أيما رجل تزوج امرأة على ما قل من المهر أو كثر ليس في نفسه أن يؤدي إليها حقها خدعها فمات ولم يؤد إليها حقها لقي الله يوم القيامة وهوز ان وأيما رجل استدان دينا لا يريد أن يؤدي إلى صاحبه حقه خدعه حتى أخذ ماله فمات ولم يؤد إليه دينه لقي الله وهو سارق» ويكنى ميمون هذا بأبي بصير بفتح الموحدة، وقيل: بالنون، وهو كما في التقريب مقبول، هذا وأشهر الأقوال في تعيين هؤلاء القوم أنهم بنو حنيفة.   (1) قوله ابن ماء السماء قالوا الصواب إسقاط ابن لأن عامرا هو الملقب بماء السماء لا أن ماء السماء اب لعامر. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 257 وقال أبو حيان: الذي أقوله إن هذه الأقوال تمثيلات من قائلها لا تعيين القوم، وهذا وإن حصل به الجمع بين تلك الأقوال خلاف الظاهر، وقوله تعالى: تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ على معنى يكون أحد الأمرين إما المقاتلة أو الإسلام لا ثالث لهما، فأو للتنويع والحصر لا للشك وهو كثير، ويدل لذلك قراءة أبي وزيد بن علي «أو يسلموا» بحذف النون لأن ذلك للناصب وهو يقتضي أن أو بمعنى إلا أي إلا أن يسلموا فيفيد الحصر أو بمعنى إلى أي إلى أن يسلموا، والغاية تقتضي أنه لا ينقطع القتال بغير الإسلام فيفيده أيضا كما قيل: والجملة مستأنفة للتعليل كما في قولك: سيدعوك الأمير يكرمك أو يكبت عدوك، قال في الكشف: ولا يجوز أن تكون صفة لقوم لأنهم دعوا إلى قتال القوم لا أنهم دعوا إلى قوم موصوف بالمقاتلة أو الإسلام. وجوز بعضهم كونها حالية وحاله كحال الوصفية، وأصل الكلام ستدعون إلى قوم أولي بأس لتقاتلوهم أو يسلموا فعدل إلى الاستئناف لأنه أعظم الوصلين، ثم فيه أنهم فعلوا ذلك وحصلوا الغرض فهو يخبر عنه واقعا. والاعتراض بأنه يلزم أن لا ينفك الوجود عن أحدهما لصدق إخباره تعالى ونحن نرى الانفكاك بأن يتركوا سدى أو بالهدنة فينبغي أن يؤول بأنه في معنى الأمر على ما في أمالي ابن الحاجب غير سديد لأن القوم مخصوصون لا عموم فيهم، وكان الواقع أنهم قوتلوا إلى أن أسلموا سواء فسر القوم ببني حنيفة أو بثقيف وهوازن أو فارس والروم على أن الإسلام الانقياد فما انفك الوجود عن أحدهما وقعا، وأما امتناع الانفكاك فليس من مقتضى الوضع ولا الاستعمال بل ذلك في الكلام الاستدلالي قد يتفق. وأطال الطيبي الكلام في هذا المقام ثم قال: الذي يقتضيه المقام ما ذهب إليه صاحب التحبير من أن يُسْلِمُونَ عطف على تُقاتِلُونَهُمْ إما على الظاهر أو بتقديرهم يسلمون ليكون من عطف الاسمية على الفعلية وحينئذ تكون المناسبة أكثر إذ تخرج الجملة إلى باب الكناية، والمعنى تقاتلونهم أو لا تقاتلونهم لأنهم يسلمون، وقد وضع فيه أَوْ يُسْلِمُونَ موضع أولا تقاتلونهم لأنهم إذا أسلموا سقط عنهم قتالهم ضرورة، والاستدعاء عليه ليس إلا للاختبار، وأَوْ للترديد على سبيل الاستعارة وفيه ما فيه، وشاع الاستدلال بالآية على صحة إمامة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ووجه ذلك الإمام فقال: الداعي في قوله تعالى: سَتُدْعَوْنَ لا يخلو من أن يكون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو الأئمة الأربعة أو من بعدهم لا يجوز الأول لقوله سبحانه قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا إلخ ولا أن يكون عليا رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه لأنه إنما قاتل البغاة والخوارج وتلك المقاتلة للإسلام لقوله عز وجل: «أو يسلمون» ولا من ملك بعدهم لأنهم عندنا على الخطأ وعند الشيعة على الكفر ولما بطلت الأقسام تعين أن يكون المراد بالداعي أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهم، ثم إنه تعالى أوجب طاعته وأوعد على مخالفته وذلك يقتضي إمامته وأي الثلاثة كان ثبت المطلوب، أما إذا كان أبا بكر فظاهر، وأما إذا كان عمر أو عثمان فلأن إمامته فرع إمامته رضي الله تعالى عنه. وتعقب بأن الداعي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويشعر بذلك السين قوله: لا يجوز لقوله سبحانه: لن تَتَّبِعُونا إلخ فيه أن لَنْ لا تفيد التأبيد على الصحيح وظاهر السياق يدل على أن المراد به لن تتبعونا في الانطلاق إلى خيبر كما سمعت عن محيي السنة أو هو مقيد بما روي عن مجاهد أو بما حكي عن بعض، وقال أبو حيان: القول بأنهم لم يدعوا إلى حرب في أيام الرسول صلّى الله عليه وسلّم ليس بصحيح فقد حضر كثير منهم مع جعفر في مؤتة وحضروا حرب هوازن معه عليه الصلاة والسلام وحضروا معه صلّى الله عليه وسلّم أيضا في سفرة تبوك انتهى، ولا يخفى أن هذا إذا صح ينفي حمل النفي على التأييد. ومن الشيعة من اقتصر في رد الاستدلال على الدعوة في تبوك. وتعقب بأنه لم يقع فيها ما أخبر الله تعالى به في قوله سبحانه: تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ومنهم من زعم أن الداعي علي كرم الله تعالى وجهه وزعم كفر البغاة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 258 والخوارج عليه رضي الله تعالى عنه وأنه لو سلّم إسلامهم يراد بالإسلام في الآية الانقياد إلى الطاعة وموالاة الأمير، وفيه ما لا يخفى، والإنصاف أن الآية لا تكاد تصح دليلا على إمامة الصديق رضي الله تعالى عنه إلا إن صح غير مرفوع في كون المراد بالقوم بني حنيفة ونحوهم ودون ذلك خرط القتاد، ونفى بعضهم صحة كون المراد بالقوم فارسا والروم لأن المراد في قوله تعالى: تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ على ما سمعت وفارس مجوس والروم نصارى فلا يتعين فيهم أحد الأمرين من المقاتلة والإسلام إذ يقبل منهم الجزية، وكذا اليوم ومشركو العجم والصابئة عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وقال: يتعين كونهم مرتدين أو مشركي العرب لأنهم الذين لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، ومثل مشركي العرب مشركو العجم عند الشافعي رضي الله تعالى عنه فعنده لا تقبل إلا من أهل الكتاب والمجوس، وأنت تعلم ان من فسر القوم بذلك يفسر الإسلام بالانقياد وهو يكون بقبول الجزية فلا يتم له أمر النفي فلا تغفل فَإِنْ تُطِيعُوا الداعي فيما دعاكم إليه يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً هو على ما قيل الغنيمة في الدنيا والجنة في الأخرى وَإِنْ تَتَوَلَّوْا عن الدعوة كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ في الحديبية يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً لتضاعف جرمكم، وهذا التعذيب قال في البحر: يحتمل أن يكون في الدنيا وأن يكون في الآخرة، ويحتمل عندي وهو الأوفق بما قبله على ما قيل كونه فيهما ولا بأس بكون كل من الإيتاء والتعذيب في الآخرة بل لعله المتبادر لكثرة استعمالهما في ذلك، ولا يحسن كون الأمرين في الدنيا ولا كون الأول في الآخرة أو فيها وفي الدنيا والثاني في الدنيا فقط لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ أي إثم وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ أي في التخلف عن الغزو لما بهم من العذر والعاهة، وفي نفي الحرج عن كل من الطوائف المعدودة مزيد اعتناء بأمرهم وتوسيع لدائرة الرخصة، وليس في نفي ذلك عنهم نهي لهم عن الغزو بل قالوا: إن أجرهم مضاعف في الغزو، وقد غزا ابن أم مكتوم وكان أعمى رضي الله تعالى عنه وحضر في بعض حروب القادسية وكان يمسك الراية. وفي البحر لو حصر المسلمون فالفرض متوجه بحسب الوسع في الجهاد وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فيما ذكر من الأوامر والنواهي. يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ عن الطاعة يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً لا يقادر قدره والمعنى بالوعد والوعيد هنا أعم من المعنى بهما فيما سبق كما ينبىء عن ذلك التعبير بمن هنا وبضمير الخطاب هناك، وقيل في الوعيد يُعَذِّبْهُ إلخ دون يدخله نارا ونحوه مما هو أظهر في المقابلة لقوله تعالى: يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ إلخ اعتناء بأمره من حيث إن التعذيب يوم القيامة عذابا أليما يستلزم إدخال النار وإدخالها لا يستلزم ذلك، واعتنى به لأن المقام يقتضيه ولذا جيء به كالمكرر مع الوعيد السابق، ويكفي في الإشارة إلى سبق الرحمة إخراج الوعد هاهنا كالتفصيل لما تقدم والتعبير هناك بإيتاء الأجر الحسن الظاهر في الاستحقاق مع إسناد الإيتاء إلى الاسم الجليل نفسه فتأمل فلمسلك الذهن اتساع. وقرأ الحسن وقتادة وأبو جعفر والأعرج وشيبة وابن عامر ونافع «ندخله» و «نعذبه» بالنون فيهما، ولما ذكر سبحانه حال من تخلف عن السفر مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكر عز وجل حال المؤمنين الخلص الذين سافروا معه عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ وهم أهل الحديبية إلا جد بن قيس فإنه كان منافقا ولم يبايع. وأصل هذه البيعة وتسمى بيعة الرضوان لقول الله تعالى فيها: لَقَدْ رَضِيَ إلخ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما نزل الحديبية بعث خراشا بكسر الخاء المعجمة وفتح الراء المهملة وألف بعدها شين معجمة ابن أمية الخزاعي رسولا إلى أهل مكة وحمله على جمل له يقال له: الثعلب يعلمهم أنه جاء معتمرا لا يريد قتالا فلما أتاهم وكلمهم عقروا جمله وأرادوا قتله فمنعه الأحابيش فخلوا سبيله حتى أتى الرسول صلّى الله عليه وسلّم فدعا عمر رضي الله تعالى عنه ليبعثه فقال: يا رسول الله إن القوم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 259 قد عرفوا عداوتي لهم وغلظي عليهم وإني لا آمن وليس بمكة أحد من بني عدي يغضب لي إن أوذيت فأرسل عثمان ابن عفان فإن عشيرته بها وهم يحبونه وأنه يبلغ ما أردت فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عثمان فأرسله إلى قريش وقال: أخبرهم أنّا لم نأت بقتال وإنما جئنا عمارا وادعهم إلى الإسلام وأمره عليه الصلاة والسلام أن يأتي رجالا بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات فيبشرهم بالفتح ويخبرهم أن الله تعالى قريبا يظهر دينه بمكة فذهب عثمان رضي الله تعالى عنه إلى قريش وكان قد لقيه أبان بن سعيد بن العاص فنزل عن دابته وحمله عليها وأجاره فأتى قريشا فأخبرهم فقالوا له إن شئت فطف بالبيت وأما دخولكم علينا فلا سبيل إليه فقد رضي الله تعالى عنه: ما كنت لأطوف به حتى يطوف به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاحتبسوه فبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين أن عثمان قد قتل فقال عليه الصلاة والسلام: لا نبرح حتى نناجز القوم ونادى مناديه عليه الصلاة والسلام إلا أن روح القدس قد نزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمره بالبيعة فاخرجوا على اسم الله تعالى فبايعوه فثار المسلمون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبايعوه، قال جابر كما في صحيح مسلم وغيره: بايعناه صلّى الله عليه وسلّم على أن لا نفرّ ولم نبايعه على الموت. وأخرج البخاري عن سلمة بن الأكوع قال: بايعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تحت الشجرة، قيل: على أي شيء تبايعون يومئذ؟ قال: على الموت وأخرج مسلم عن معقل بن يسار أنه كان آخذا بأغصان الشجرة عن وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يبايع الناس وكان أول من بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ أبا سنان وهو وهب بن محصن أخو عكاشة بن محصن، وقيل: سنان بن أبي سنان، وروى الأول البيهقي في الدلائل عن الشعبي وأنه قال للنبي عليه الصلاة والسلام: ابسط يدك أبايعك فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: علام تبايعني؟ قال: على ما في نفسك . وفي حديث جابر الذي أخرجه مسلم أنه قال: بايعناه عليه الصلاة والسلام وعمر رضي الله تعالى عنه آخذ بيده، ولعل ذلك ليس في مبدأ البيعة وإلا ففي صحيح البخاري عن نافع أن عمر رضي الله تعالى عنه يوم الحديبية أرسل ابنه عبد الله إلى فرس له عند رجل من الأنصار أن يأتي به ليقاتل عليه ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبايع عند الشجرة وعمر لا يدري بذلك فبايعه عبد الله ثم ذهب إلى الفرس فجاء به إلى عمر وعمر رضي الله تعالى عنه يستلئم للقتال فأخبره أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يبايع تحت الشجرة فانطلق فذهب معه حتى بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وصح أنه صلّى الله عليه وسلّم ضرب بيده اليمنى على يده الأخرى وقال: هذه بيعة عثمان ولما سمع المشركون بالبيعة خافوا وبعثوا عثمان رضي الله تعالى عنه وجماعة من المسلمين وكانت عدة المؤمنين ألفا وأربعمائة على الأصح عند أكثر المحدثين ورواه البخاري عن جابر، وروي عن سعيد بن قتادة قال: قلت لسعيد بن المسيب بلغني أن جابر بن عبد الله كان يقول: كانوا أربع عشرة مائة فقال لي سعيد: حدثني جابر كانوا خمس عشرة مائة الذين بايعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتابعه أبو داود. وروي أيضا عن عبد الله بن أوفى قال: كان أصحاب الشجرة ألفا وثلاثمائة، وعند أبي شيبة من حديث سلمة بن الأكوع أنهم كانوا ألفا وسبعمائة، وجزم موسى بن عقبة بأنهم كانوا ألفا وستمائة، وحكى ابن سعد أنهم ألف وخمسمائة وخمسة وعشرون، وجمع بين الروايات بأنها بناء على عد الجميع أو ترك الأصاغر والأتباع والأوساط أو نحو ذلك وأما قول ابن إسحاق: إنهم كانوا سبعمائة فلم يوافقه أحد عليه لأنه قاله استنباطا من قول جابر: تنحر البدنة عن عشرة وكانوا نحروا سبعين بدنة، وهذا لا يدل على أنهم ما كانوا نحروا غير البدن مع أن بعضهم كأبي قتادة لم يكن أحرم أصلا، والشجرة كانت سمرة، والمشهور أن الناس كانوا يأتونها فيصلون عندها فبلغ ذلك عمر رضي الله تعالى عنه فأمر بقطعها خشية الفتنة بها لقرب الجاهلية وعبادة غير الله تعالى فيهم. وفي الصحيحين من حديث طارق بن عبد الرحمن قال: انطلقت حاجا فمررت بقوم يصلون قلت: ما هذا المسجد؟ قالوا: هذه الشجرة حيث بايع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيعة الرضوان فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته فقال: حدثني أبي أنه كان ممن بايع رسول الله عليه الصلاة والسلام تحت الشجرة قال: فلما كان من العام المقبل نسيناها فلم نقدر الجزء: 13 ¦ الصفحة: 260 عليها ثم قال سعيد: إن أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم لم يعلموها وعلمتموها أنتم فأيكم أعلم، والرضا يقابل السخط وقد يستعمل بعن والباء ويعدى بنفسه وهو مع عن إنما يدخل على العين لا المعنى ولكن باعتبار صدور معنى منه يوجب الرضا وما في الآية من هذا القسم، والمعنى الموجب للرضا فيها هو المبايعة، وإذا ذكر مع العين معنى بالباء فقيل رضيت عن زيد بإحسانه كانت الباء للسببية وجاز أن تكون صلة وتتعين للسببية مع مقابلة نحو سخطت عليه بإساءته وهو مع الباء نحو رضيت به يجب دخوله على المعنى إلا إذا دخل على الذات تمهيدا للمعنى ليكون أبلغ فتقول رضيت بقضاء الله تعالى ورضيت بالله تعالى ربا وقاضيا، وإذا عدي بنفسه جاز دخوله على الذات نحو رضيت زيدا وإن كان باعتبار المعنى تنبيها على أن كله مرضي بتلك الخصلة، وفيه مبالغة، وجاز دخوله على المعنى كرضيت إمارة فلان، والأول أكثر استعمالا، وإذا استعمل مع اللام تعدى بنفسه كقولك: رضيت لك التجارة، وفيه تجوز إما لجعل الرضا مجازا عن الاستحماد وإما لأنك جعلت كونه مرضيا له بمنزلة كونه مرضيا لك مبالغة في أنه في نفسه مرضي محمود وانك تختار له ما تختار لنفسك وهذا أبلغ، ثم هو في حق الحق تعالى شأنه محال عند الخلف قالوا: لأن سبحانه لا تحدث له صفة عقيب أمر البتة، فهو عندهم مجاز إما من أسماء الصفات إذا فسر بإرادة أن يثيبهم إثابة من رضي عمن تحت يده، وأما من أسماء الأفعال إذا فسر بالإثابة وكذا إذا أريد الاستحماد وفي البحر أن العامل بإذ في الآية هو رضي وهو هنا بمعنى إظهار عليهم فهو صفة فعل لا صفة ذات ليتقيد بالزمان، وأنت تعلم أن السلف لا يؤولون مثل ذلك ويثبتونه له تعالى على الوجه اللائق به سبحانه ويصرفون الحدوث الذي يستدعيه التقييد بالزمان إلى التعلق، ثم إن تقييد الرضا بزمان المبايعة يشعر بعلّيتها له فلا حاجة إلى جعل إذ للتعليل، والتعبير بالمضارع لاستحضار صورة المبايعة، وقوله سبحانه: تَحْتَ الشَّجَرَةِ إما متعلق بيبايعونك أو بمحذوف هو حال من مفعوله، وفي التقييد بذلك إشارة إلى مزيد وقع تلك المبايعة وأنها لم تكن عن خوف منه عليه الصلاة والسلام ولذا استوجبت رضا الله تعالى الذي لا يعادله شيء ويستتبع ما لا يكاد يخطر على بال ويكفي فيما ترتب على ذلك ما أخرج أحمد عن جابر. ومسلم عن أم بشر عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة» وقد قال عليه الصلاة والسلام ذلك عند حفصة فقالت: بلى يا رسول الله فانتهرها فقالت: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم: 71] فقال عليه الصلاة والسلام قد قال الله تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا [مريم: 72] . وصح برواية الشيخين وغيرهما في أولئك المؤمنين من حديث جابر أنه صلّى الله عليه وسلّم قال لهم: أنتم خير أهل الأرض فينبغي لكل من يدعي الإسلام حبهم وتعظيمهم والرضا عنهم وإن كان غير ذلك لا يضرهم بعد رضا الله تعالى عنهم، وعثمان منهم بل كانت يد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم له رضي الله تعالى عنه. كما قال أنس. خيرا من أيديهم لأنفسهم فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ أي من الصدق والإخلاص في مبايعتهم، وروي نحو ذلك عن قتادة وابن جريج وعن الفراء، وقال الطبري. ومنذر بن سعيد: من الإيمان وصحته وحب الدين والحرص عليه، وقيل: من الهم والأنفة من لين الجانب للمشركين وصلحهم، واستحسنه أبو حيان والأول عندي أحسن. وهو عطف على يُبايِعُونَكَ لما عرفت من أنه بمعنى بايعوك، وجوز عطفه على رَضِيَ بتأويله بظهر علمه فيصير مسببا عن الرضا مترتبا عليه فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ أي الطمأنينة والأمن وسكون النفس والربط على قلوبهم بالتشجيع، وقيل: بالصلح وليس بذاك، والظاهر أنه عطف على فَعَلِمَ. وفي الإرشاد أنه عطف على رَضِيَ وظاهر كلام أبي حيان الأول وحيث استحسن تفسير ما في القلوب بما سمعت آنفا قال: إن السكينة هنا تقرير قلوبهم وتذليلها لقبول أمر الله تعالى، وقال مقاتل: فعلم الله ما في قلوبهم من الجزء: 13 ¦ الصفحة: 261 كراهة البيعة على أن يقاتلوا معه صلّى الله عليه وسلّم على الموت فأنزل السكينة عليهم حتى بايعوا وتفسر السَّكِينَةَ بتذليل قلوبهم ورفع كراهة البيعة عنها، ولعمري إن الرجل لم يعرف للصحابة رضي الله تعالى عنهم حقهم وحمل كلام الله تعالى على خلاف ظاهره وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً قال ابن عباس وعكرمة وقتادة وابن أبي ليلى وغيرهم: هو فتح خيبر وكان غب انصرافهم من الحديبية، وقال الحسن: فتح هجر، والمراد هجر البحرين وكان فتح في زمانه صلّى الله عليه وسلّم بدليل كتابه إلى عمرو بن حزم في الصدقات والديات. وفي صحيح البخاري أنه صلّى الله عليه وسلّم صالح أهل البحرين وأخذ الجزية من مجوس هجر والفتح لا يستدعي سابقة الغزو كما علمت مما سبق في تفسيره فسقط قول الطيبي معترضا على الحسن: إنه لم يذكر أحد من الأئمة أنه صلّى الله عليه وسلّم غزا هجرا. نعم إطلاق الفتح على مثل ذلك قليل غير شائع بل قيل هو معنى مجازي له، وقيل: هو فتح مكة والقرب أمر نسي، وقرأ الحسن. ونوح القاري «وآتاهم» أي أعطاهم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 262 وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها هي مغانم خيبر كما قال غير واحد وقسمها عليه الصلاة والسلام كما في حديث أحمد وأبي داود والحاكم وصححه عن مجمع بن جارية الأنصاري فأعطى للفارس سهمين وكان منهم ثلاثمائة فارس وللراجل سهما، وقيل: مغانم هجر، وقرأ الأعمش وطلحة ورويس عن يعقوب، ودلبة عن يونس عن ورش وأبو دحية وسقلاب عن نافع والانطاكي عن أبي جعفر «تأخذونها» بالتاء الفوقية والالتفات إلى الخطاب لتشريفهم في الامتنان وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً غالبا حَكِيماً مراعيا لمقتضى الحكمة في أحكامه تعالى وقضاياه جل شأنه وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً هي على ما قال ابن عباس ومجاهد وجمهور المفسرين ما وعد الله تعالى المؤمنين من المغانم إلى يوم القيامة تَأْخُذُونَها في أوقاتها المقدرة لكل واحدة منها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ أي مغانم خيبر وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ أيدي أهل خيبر وحلفائهم من بني أسد وغطفان حين جاؤوا لنصرتهم فقذف الله تعالى في قلوبهم الرعب فنكصوا، وقال مجاهد: كف أيدي أهل مكة بالصلح، وقال الطبري: كف اليهود عن المدينة بعد خروج الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى الحديبية وإلى خيبر، وقال زيد بن أسلم وابنه: المغانم الكثيرة الموعودة مغانم خيبر والمعجلة البيعة والتخلص من أمر قريش بالصلح، والجمهور على ما قدمناه، والمناسبة لما مر من ذكر النبي صلّى الله عليه وسلّم بطريق الخطاب وغيره بطريق الغيبة كقوله تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تقتضي على ما نقل عن بعض الأفاضل أن هذا جار على نهج التغليب وإن احتمل تلوين الخطاب فيه، وذكر الجلبي في قوله تعالى: فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ إلخ إنه إن كان نزولها بعد فتح خيبر كما هو الظاهر لا تكون السورة بتمامها نازلة في مرجعه صلّى الله عليه وسلّم من الحديبية وإن كان قبله على أنها من الإخبار عن الغيب فالإشارة بهذه لتنزيل المغانم منزلة الحاضرة المشاهدة والتعبير بالمضي للتحقق انتهى، واختير الشق الأول، وقولهم: نزلت في مرجعه عليه الصلاة والسلام من الحديبية باعتبار الأكثر أو على ظاهره لكن يجعل المرجع اسم زمان ممتد. وتعقب بأن ظاهر الأخبار يقتضي عدم الامتداد وأنها نزلت من أولها إلى آخرها بين مكة والمدينة فلعل الأولى اختيار الشق الثاني، والإشارة بهذه إلى المغانم التي أثابهم إياها المذكورة في قوله تعالى: وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وهي مغانم خيبر، وإذا جعلت الإشارة إلى البيعة كما سمعت عن زيد وابنه وروي ذلك عن ابن عباس لم يحتج إلى تأويل نزولها في مرجعه عليه الصلاة والسلام من الحديبية وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ الضمير المستتر، قيل: للكف المفهوم من كَفَّ والتأنيث باعتبار الخبر، وقيل: للكفة فأمر التأنيث ظاهر. وجوز أن يكون لمغانم خيبر المشار إليها بهذه والآية الامارة أي ولتكون إمارة للمؤمنين يعرفون بها أنهم من الله تعالى بمكان أو يعرفون بها صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم في وعده إياهم فتح خيبر وما ذكر من المغانم وفتح مكة ودخول المسجد الحرام، واللام متعلقة إما بمحذوف مؤخر أي ولتكون آية لهم فعل ما فعل أو بما تعلق به علة أخرى محذوفة من أحد الفعلين السابقين أي فعجل لكم هذه أو كف أيدي الناس عنكم لتنتفعوا بذلك ولتكون آية، فالواو. كما في الإرشاد على الأول اعتراضية وعلى الثاني عاطفة، وعند الكوفيين الواو زائدة واللام متعلقة بكف أو بعجل وَيَهْدِيَكُمْ بتلك الآية صِراطاً مُسْتَقِيماً هو الثقة بفضل الله تعالى والتوكل عليه في ما تأتون وتذرون. وَأُخْرى عطف على هذِهِ في فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ فكأنه قيل فعجل لكم هذه المغانم وعجل لكم مغانم أخرى وهي مغانم هوازن في غزوة حنين، والتعجيل بالنسبة إلى ما بعد فيجوز تعدد المعجل كالابتداء بشيئين، وقوله تعالى: لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها في موضع الصفة ووصفها بعدم القدرة عليها لما كان فيها من الجولة قبل ذلك لزيادة ترغيبهم فيها، وقوله تعالى: قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها في موضع صفة أخرى. لأخرى. مفيدة لسهولة تأتيها بالنسبة إلى قدرته عز وجل بعد بيان صعوبة منالها بالنظر إلى قدرتهم، والإحاطة مجاز عن الاستيلاء التام أي قد قدر الله تعالى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 263 عليها واستولى فهي في قبض قدرته تعالى يظهر عليها من أراد، وقد أظهر كم جل شأنه عليها وأظفركم بها، وقيل: مجاز عن الحفظ أي قد حفظها لكم ومنعها من غيركم، والتذييل بقوله سبحانه: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً أوفق بالأول، وعموم قدرته تعالى لكونها مقتضى الذات فلا يمكن أن تتغير ولا أن تتخلف وتزول عن الذات بسبب ما كما تقرر في موضعه، فتكون نسبتها إلى جميع المقدورات على سواء من غير اختصاص ببعض منها دون بعض وإلا كانت متغايرة بل مختلفة، وجوز كون أُخْرى منصوبة بفعل يفسره قد أحاط الله بها مثل قضى. وتعقب بأن الإخبار بقضاء الله تعالى بعد اندراجها في جملة الغنائم الموعود بها بقوله تعالى: وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها ليس فيه مزيد فائدة وإنما الفائدة في بيان تعجيلها، وأورد عليه أن المغانم الكثيرة الموعودة ليست معينة ليدخل فيها الأخرى، ولو سلم فليس المقصود بالإفادة كونها مقضية بل ما بعده فتدبر، وجوز كونها مرفوعة بالابتداء والجملة بعدها صفة وجملة قد أحاط إلخ خبرها، واستظهر هذا الوجه أبو حيان، وقال بعض: الخبر محذوف تقديره ثمت أو نحوه، وجوز الزمخشري كونها مجرورة بإضمار رب كما في قوله: وليل كموج البحر أرخى سدوله. وتعقبه أبو حيان بأن فيه غرابة لأن رب لم تأت في القرآن العظيم جارة مع كثرة ورود ذلك في كلام العرب فكيف تضمر هنا، وأنت تعلم أن مثل هذه الغرابة لا تضر، هذا وتفسير الأخرى بمغانم هوازن قد أخرجه عبد بن حميد عن عكرمة عن ابن عباس واختاره غير واحد، وقال قتادة. والحسن: هي مكة وقد حاولوها عام الحديبية ولم يدركوها فأخبروا بأن الله تعالى سيظفرهم بها ويظهرهم عليها، وفي رواية أخرى عن ابن عباس والحسن، ورويت عن مقاتل أنها بلاد فارس والروم وما فتحه المسلمون، وهو غير ظاهر على تفسير المغانم الكثيرة الموعودة فيما سبق بما وعد الله تعالى به المسلمين من المغانم إلى يوم القيامة، وأيضا تعقبه بعضهم بأن لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها يشعر بتقدم محاولة لتلك البلاد وفوات دركها المطلوب مع أنه لم تتقدم محاولة. وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال: هي خيبر، وروي ذلك عن الضحاك وإسحق وابن زيد أيضا، وفيه خفاء فلا تغفل وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي من أهل مكة ولم يصالحوكم كما روي عن قتادة، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنهم حليفا أهل خيبر أسد: وغطفان، وقيل: اليهود وليس بذاك لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ أي لانهزموا فتولية الدبر كناية عن الهزيمة ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا يحرسهم، وذكر الخفاجي أن الحارس أحد معاني الولي، وتفسيره هنا بذلك لمناسبته للمنهزم، وقال الراغب: كل من ولي أمر آخر فهو وليه، وعليه فالحارس ولي لأنه يلي أمر المحروس، والتنكير للتعميم أي لا يجدون فردا ما من الأولياء وَلا نَصِيراً ولا فردا ما من الناصرين ينصرهم، وقال الإمام: أريد بالولي: من ينفع باللطف وبالنصير من ينفع بالعنف سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ نصب على المصدرية بفعل محذوف أي سن سبحانه غلبة أنبيائه عليهم السلام سنة قديمة فيمن مضى من الأمم كما قال سبحانه: لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة: 21] على ما هو المتبادر من معناه، ولعل المراد أن سنته تعالى أن تكون العاقبة لأنبيائه عليهم السلام لا أنهم كلما قاتلوا الكفار غلبوهم وهزموهم وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا تغييرا وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ أي أيدي كفار مكة، وفي التعبير- بكف- دون منع ونحوه لطف لا يخفى وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ يعني الحديبية كما أخرج ذلك عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة. وقد تقدم أن بعضها من حرم مكة، وان لم يسلم فالقرب التام كاف ويكون إطلاق بطن مَكَّةَ عليها مبالغة مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ مظهرا لكم عَلَيْهِمْ فتعدية الفعل بعلى لتضمنه ما يتعدى به وهو الإظهار والاعلاء أي جعلكم ذوي غلبة تامة. أخرج الإمام أحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي في آخرين عن أنس قال: لما كان يوم الحديبية هبط على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه الجزء: 13 ¦ الصفحة: 264 ثمانون رجلا من أهل مكة في السلاح من قبل جبل التنعيم يريدون غرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدعا عليهم فأخذوا فعفا عنهم فنزلت هذه الآية وَهُوَ الَّذِي كَفَّ إلخ، وأخرج أحمد والنسائي والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن عبد الله بن معقل قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أصل الشجرة التي قال الله تعالى في القرآن إلى أن قال: فبينا نحن كذلك إذ خرج علينا ثلاثون شابا عليهم السلاح فثاروا إلى وجوهنا فدعا عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخذ الله تعالى بأسماعهم ولفظ الحاكم بأبصارهم، فقمنا إليهم فأخذناهم فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هل جئتم في عهد أحد أو هل جعل لكم أحد أمانا؟ فقالوا: لا فخلى سبيلهم فأنزل الله تعالى وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ إلخ. وأخرج أحمد وغيره عن سلمة بن الأكوع قال: قدمنا الحديبية مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحن أربع عشرة مائة ثم إن المشركين من أهل مكة راسلونا إلى الصلح فلما اصطلحنا واختلط بعضنا ببعض أتيت شجرة فاضطجعت في ظلها فأتاني أربعة من مشركي أهل مكة فجعلوا يقعون في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأبغضتهم وتحولت إلى شجرة أخرى فعلقوا سلاحهم واضطجعوا فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من أسفل ما للمهاجرين قتل بن زنيم فاخترطت سيفي فاشتدت على أولئك الأربعة وهم رقود فأخذت سلاحهم وجعلته في يدي ثم قلت: والذي كرم وجه محمد لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه ثم جئت بهم أسوقهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجاء عمي عامر برجل يقال له مكرز من المشركين يقوده حتى وقفنا بهم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سبعين من المشركين فنظر إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: دعوهم يكون لهم بدء الفجور وثناه فعفا عنهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنزل الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَ إلخ، وهذا كله يؤيد ما قلناه، وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن أبزى قال: لما خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم بالهدى وانتهى إلى ذي الحليفة قال له عمي: يا نبي الله تدخل على قوم لك حرب بغير سلاح ولا كراع فبعث إلى المدينة فلم يدع فيها كراعا ولا سلاحا إلا حمله فلما دنا من مكة منعوه أن يدخل فسار حتى أتى منى فنزل بها فأتاه عينه أن عكرمة ابن أبي جهل قد جمع عليك في خمسمائة فقال لخالد بن الوليد: يا خالد هذا ابن عمك قد أتاك في الخيل فقال خالد: أنا سيف الله وسيف رسوله فيومئذ سمى سيف الله يا رسول الله ارم بي إن شئت فبعثه على خيل فلقيه عكرمة في الشعب فهزمه حتى أدخله حيطان مكة فأنزل الله تعالى وَهُوَ الَّذِي الآية . وفي البحر أن خالدا هزمهم حتى دخلوا بيوت مكة وأسر منهم جملة فسيقوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فمنّ عليهم وأطلقهم، والخبر غير صحيح لأن إسلام خالد رضي الله تعالى عنه بعد الحديبية قبل عمرة القضاء، وقيل بعدها وهي في السنة السابعة. وروى ابن إسحاق وغيره أن خالدا كان يوم الحديبية على خيل قريش في مائتي فارس قدم بهم إلى كراع الغميم فدنا حتى نظر إلى أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عباد بن بشر فتقدم بخيله فقام بإزائه وصف أصحابه وحانت صلاة الظهر فصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأصحابه صلاة الخوف، وعن ابن عباس أن أهل مكة أرسلوا جملة من الفوارس في الحديبية يريدون الوقيعة بالمسلمين فأظهرهم الله تعالى عليهم بالحجارة حتى أدخلوهم البيوت، وأنكر بعضهم ذلك والله تعالى أعلم بصحة الخبر. وقيل: كان هذا الكف يوم فتح مكة، واستشهد الإمام أبو حنيفة بما في الآية من قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ بناء على هذا القول لفتح مكة عنوة. واعترض القول المذكور والاستشهاد بالآية بناء عليه، أما الأول فلأن الآية نزلت قبل فتح مكة. وتعقب بأنه إن أريد أنها نزلت بتمامها قبله فليس بثابت بل بعض الآثار يشعر بخلافه وإلا فلا يفيد مع أنه يجوز أن يكون هذا إخبارا عن الغيب كما قيل ذلك في غيره من بعض آيات السورة، وأما الثاني فلأن دلالتها على العنوة ممنوعة، فقد قال الزمخشري: الفتح هو الظفر بالشيء سواء كان عنوة أو صلحا، والفرق بين الظفر الجزء: 13 ¦ الصفحة: 265 على الشيء والظفر به من حيث الاستعلاء وهو كائن لأنهم اصطلحوا وهم مضطرون ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن معه مختارون، وفيه دغدغة لا تخفى وكذا فيما تعقب به الأول. وبالجملة هذا القول وكذا الاستشهاد بما في الآية بناء غير بعيد إلا أن أكثر الاخبار الصحيحة وكذا ما بعد يؤيد ما قلناه أولا في تفسير الآية وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بعملكم أو بجميع ما تعملونه ومنه العفو بعد الظفر بَصِيراً فيجازيكم عليه. وقرأ أبو عمرو «يعملون» بياء الغيبة فالكلام عليه تهديد للكفار. هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أن تصلوا إليه وتطوفوا به وَالْهَدْيَ بالنصب عطف على الضمير المنصوب في صَدُّوكُمْ أي وصدوا الهدى وهو ما يهدى إلى البيت، قال الأخفش: الواحدة هدية ويقال للأنثى هدى كأنه مصدر وصف به. وفي البحر إسكان داله لغة قريش وبها قرأ الجمهور، وقرأ ابن هرمز والحسن وعصمة عن عاصم واللؤلؤي وخارجة عن أبي عمرو بكسر الدال وتشديد الياء وذلك لغة، وهو فعيل بمعنى مفعول على ما صرح به غير واحد، وكان هذا الهدي سبعين بدنة على ما هو المشهور، وقال مقاتل: كان مائة بدنة. وقرأ الجعفي عن أبي عمرو «الهدي» بالجر على أنه عطف على المسجد الحرام بحذف المضاف أي ونحر الهدي. وقرىء بالرفع على إضمار وصد الهدي، وقوله سبحانه: مَعْكُوفاً حال من الْهَدْيَ على جميع القراءات، وقيل: على قراءة الرفع يجوز أن يكون الْهَدْيَ مبتدأ والكلام نحو حكمك مسمطا، وقوله تعالى: وَنَحْنُ عُصْبَةٌ [يوسف: 8، 14] علي قراءة النصب وهو كما ترى، والمعكوف المحبوس يقال: عكفت الرجل عن حاجته حبسته عنها، وأنكر أبو علي تعدية عكف وحكاها ابن سيده. والأزهري. وغيرهما، وظاهر ما في الآية معهم، وقوله تعالى: أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ بدل اشتمال من الْهَدْيَ كأنه قيل: وصدوا بلوغ الهدي محله أو صدوا عن بلوغ الهدي أو وصد بلوغ الهدي حسب اختلاف القراءات، وجوز أن يكون مفعولا من أجله للصد أي كراهة أن يبلغ محله، وأن يكون مفعولا من أجله مجرورا بلام مقدرة. لمعكوفا. أي محبوسا لأجل أن يبلغ محله ويكون الحبس من المسلمين، وأن يكون منصوبا بنزع الخافض وهو من أو عن أي محبوسا من أو عن أن يبلغ محله فيكون الحبس من المشركين على ما هو الظاهر، ومحل الهدي مكان يحل فيه نحره أي يسوغ أو مكان حلوله أي وجوبه ووقوعه كما نقل عن الزمخشري، والمراد مكانه المعهود وهو منى، أما على رأي الشافعي رضي الله تعالى عنه فلأن مكانه لمن منع حيث منع فيكون قد بلغ محله بالنسبة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن معه ولذا نحروا هناك أعني في الحديبية، وأما على رأي أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه فلأن مكانه الحرم مطلقا وبعض الحديبية حرم عنده وقد رووا أن مضارب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانت في الحل منها ومصلاه في الحرم والنحر قد وقع فيما هو حرم فيكون الهدي بالغا محله غير معكوف عن بلوغه فلا بد من إرادة المعهود ليتسنى ذلك، وزعم الزمخشري أن الآية دليل لأبي حنيفة على أن الممنوع محل هديه الحرم ثم تكلم بما لا يخفى حاله على من راجعه. ومن الناس من قرر الاستدلال بأن المسجد الحرام يكون بمعنى الحرم وهم لما صدوهم عنه ومنعوا هديهم أن يدخله فيصل إلى محله دل بحسب الظاهر على أنه محله، ثم قال: ولا ينافيه أنه عليه الصلاة والسلام نحر في طرف منه كما لا ينافى الصد عنه كون مصلاه عليه الصلاة والسلام فيه لأنهم منعوهم فلم يمتنعوا بالكلية وهو كما ترى. والإنصاف أنه لا يتم الاستدلال بالآية على هذا المطلب أصلا. وطعن بعض أجلة الشافعية في كون شيء من الحديبية من الحرم فقال: إنه خلاف ما عليه الجمهور وحدود الحرم مشهورة من زمن إبراهيم عليه السلام، ولا يعتد برواية شذبها الواقدي كيف وقد صرح بخلافها البخاري في صحيحه عن الثقات، والرواية عن الزهري ليست بثبت انتهى، ولعل من قال: بأن بعضها من الحرم استند في ذلك إلى خبر صحيح. ومن قواعدهم أن المثبت مقدم على الجزء: 13 ¦ الصفحة: 266 النافي والله تعالى أعلم وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ صفة رِجالٌ ونِساءٌ على تغليب المذكر على المؤنث. وكانوا على ما أخرج أبو نعيم بسند جيد. وغيره عن أبي جمعة جنبذ بن سبع تسعة نفر سبعة رجال وهو منهم وامرأتين، وقوله تعالى: أَنْ تَطَؤُهُمْ بدل اشتمال منهم وجوز كونه بدلا من الضمير المنصوب في تَعْلَمُوهُمْ واستبعده أبو حيان، والوطء الدوس واستعير هنا للإهلاك وهي استعارة حسنة واردة في كلامهم قديما وحديثا، ومن ذلك قول الحارث بن وعلة الذهلي: ووطئتنا وطأ على حنق ... وطء المقيد نابت الهرم وقوله صلّى الله عليه وسلّم من حديث: «وإن آخر وطأة وطئها الله تعالى بوج» وقوله عليه الصلاة والسلام: «اللهم اشدد وطأتك على مضر» فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ أي من جهتهم مَعَرَّةٌ أي مكروه ومشقة مأخوذ من العر والعرة وهو الجرب الصعب اللازم، وقال غير واحد: هي مفعلة من عره إذا عراه ودهاه ما يكره، والمراد بها هنا على ما روي عن منذر بن سعيد تعيير الكفار وقولهم في المؤمنين: إنهم قتلوا أهل دينهم، وقيل: التأسف عليهم وتألم النفس مما أصابهم. وقال ابن زيد: المأثم بقتلهم. وقال ابن إسحق: الدية، قال ابن عطية: وكلا القولين ضعيف لأنه لا إثم ولا دية في قتل مؤمن مستور الإيمان بين أهل الحرب: وقال الطبري، هي الكفارة. وتعقب بعضهم هذا أيضا بأن في وجوب الكفارة خلافا بين الأئمة. وفي الفصول العمادية ذكر في تأسيس النظائر في الفقه قال أصحابنا: دار الحرب تمنع وجوب ما يندرىء بالشبهات لأن أحكامنا لا تجري في دارهم وحكم دارهم لا يجري في دارنا. وعند الشافعي دار الحرب لا تمنع وجوب ما يندرىء بالشبهات، بيان ذلك حربي أسلم في دار الحرب وقتل مسلما دخل دارهم بأمان لا قصاص عليه عندنا ولا دية وعند الشافعي عليه القصاص وعلى هذا لو أن مسلمين متسامنين دخلا دار الحرب وقتل أحدهما صاحبه لا قصاص عليه عندنا وعند الشافعي عليه ذلك، ثم ذكر مسألة مختلفا فيها بين أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد فقال: إذا قتل أحد الأسيرين صاحبه في دار الحرب لا شيء عليه عند أبي حنيفة وأبي يوسف إلا الكفارة لأنه تبع لهم فصار كواحد من أهل الحرب، وعند محمد تجب الدية لأن له حكم نفسه فاعتبر حكم نفسه على حدة انتهى. ونقل عن الكافي أن من أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا وقتله مسلم عمدا أو خطأ وله ورثة مسلمون ثم لا يضمن شيئا إن كان عمدا وإن كان خطأ ضمن الكفارة دون الدية انتهى وتمام الكلام في هذا المقام يطلب في محله، والزمخشري فسر المعرة بوجوب الدية والكفارة وسوء قالة المشركين والمأثم إذا جرى منهم بعض التقصير وهو كما نرى. بِغَيْرِ عِلْمٍ في موضع الحال من ضمير المخاطبين في تَطَؤُهُمْ قيل ولا تكرار مع قوله تعالى لَمْ تَعْلَمُوهُمْ سواء كان أَنْ تَطَؤُهُمْ بدل اشتمال من رِجالٌ ونِساءٌ أو بدلا من المنصوب في لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أما على الثاني فلأن حاصل المعنى ولولا مؤمنون لم تعلموا وطأتهم وإهلاكهم وأنتم غير عالمين بإيمانهم لأن احتمال أنهم يهلكون من غير شعور مع إيمانهم سبب الكف فيعتبر فيه العلماء فمتعلق العلم في الأول الوطأة وفي الثاني أنفسهم باعتبار الإيمان، وأما على الأول فلأن قوله تعالى: بِغَيْرِ عِلْمٍ لما كان حالا من فاعل تَطَؤُهُمْ كان العلم بهم راجعا إلى العلم باعتبار الإهلاك كما تقول أهلكته من غير علم فلا الإهلاك من غير شعور ولا العلم بإيمانهم حاصل والأمران لكونهما مقصودين بالذات صرح بهما وإن تقاربا أو تلازما في الجملة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 267 وجوز أن يجعل لَمْ تَعْلَمُوهُمْ كناية عن الاختلاط كما يلوح إليه كلام الكشاف، وفيه ما يدفع التكرار أيضا، وفي ذلك بحث يدفع بالتأمل وجوز أن يكون حالا من ضمير مِنْهُمْ وأن يكون متعلقا بتصيبكم. أو صفة لمعرة قيل: وهو على معنى فتصيبكم منهم معرة بغير علم من الذي يعركم ويعيب عليكم، يعني إن وطئتموهم غير عالمين لزمكم سبة من الكفار بغير علم أي لا يعلمون أنكم معزورون فيه أو على معنى لم تعلموا أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرفة بغير علم منكم أي فتقتلوهم بغير علم منكم أو تؤذوهم بغير علم فافهم ولا تغفل. وجواب لَوْلا محذوف لدلالة الكلام عليه، والمعنى على ما سمعت أولا لولا كراهة أن تهلكوا أناسا مؤمنين بين ظهراني الكفار جاهلين بهم فيصيبكم بإهلاكهم مكروه لما كف أيديكم عنهم، وحاصله أنه تعالى ولو لم يكف أيديكم عنهم لا نجر الأمر إلى إهلاك مؤمنين بين ظهرانيهم فيصيبكم من ذلك مكروه وهو عز وجل يكره ذلك. وقال ابن جريج: دفع الله تعالى عن المشركين يوم الحديبية بأناس من المسلمين بين أظهرهم، وظاهر الأول على ما قيل أن علة الكف صون المخاطبين عن إصابة المعرة، وظاهر هذا أن علته صون أولئك المؤمنين عن الوطء والأمر فيه سهل، وقوله تعالى: لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ علة لما يدل عليه الجواب المحذوف على ما اختاره في الإرشاد كأنه قيل: لكنه سبحانه كفها عنهم ليدخل بذلك الكف المؤدي إلى الفتح بلا محذور في رحمته الواسعة مَنْ يَشاءُ وهم أولئك المؤمنون وذلك بأمنهم وإزالة استضعافهم تحت أيدي المشركين وبتوفيقهم لإقامة مراسم العبادة على الوجه الأتم، والتعبير عنهم بمن يشاء دون الضمير بأن يقال: ليدخلهم الله رحمته للإشارة إلى أن علة الإدخال المشيئة المبنية على الحكم الجمة والمصالح، وجعله بعضهم علة لما يفهم من صون من بمكة من المؤمنين والرحمة توفيقهم لزيادة الخير والطاعة بإبقائهم على عملهم وطاعتهم، وجوز أن يراد بمن يشاء، بعض المشركين ويراد بالرحمة الإسلام فإن أولئك المؤمنين إذا صانهم الكف المذكور أظهروا إيمانهم لمعاينة قوة الدين فيقتدي بهم الصائرون للإسلام، واستحسن بعضهم كونه علة للكف المعلل بالصون. وجوز أن يراد بمن يشاء، المؤمنون فيراد بالرحمة التوفيق لزيادة الخير، والمشركون فيراد بها الإسلام، وبين وجه التعليل بأنهم إذا شاهدوا منع تعذيبهم بعد الظفر عليهم لاختلاط المؤمنين بهم اعتناء بشأنهم رغبوا في الإسلام والانخراط في سلك المرحومين وان المؤمنين إذا علموا منع تعذيب المشركين بعد الظفر عليهم لاختلاطهم بهم أظهروا إيمانهم فيقتدى بهم، وقال: لا وجه لجعل اللام مستعارة من معنى التعليل لما يترتب على الشيء لأنه عدول عن الحقيقة المتبادرة من غير داع، وما يظن من أن تعليل الكف بما ذكر مع أنه معلل بالصون فاسد لما فيه من اجتماع علتين على معلول واحد شخصي فاسد لأن العلل إذا لم تكن تامة حقيقة لا يضر تعددها وما هنا كذلك. هذا وجعل ذلك علة لما دل عليه الجواب على ما سمعت أولا أولى عندي لما فيه من شدة التحام النظم الجليل، وحمل مَنْ يَشاءُ على المؤمنين المستضعفين دون بعض المشركين أوفق بقوله تعالى: لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً والتزيل التفرق والتميز، وجوز في ضمير تَزَيَّلُوا كونه للمؤمنين المذكورين فيما سبق أي لو تفرق أولئك المؤمنون والمؤمنات وتميزوا عن الكفار وخرجوا من مكة ولم يبقوا بينهم لعذبنا إلخ، وكونه للمؤمنين والكفار أي لو افترق بعضهم من بعض ولم يبقوا مختلطين لعذبنا إلخ. واختار غير واحد الأول فمنهم للبيان، والمراد تعذيبهم في الدنيا بالقتل والسبي كما قال مجاهد وغيره والألم يكن- للو- موقع. والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها، وجوز الزمخشري أن يكون قوله تعالى: لَوْ تَزَيَّلُوا كالتكرار لقوله تعالى: لَوْلا رِجالٌ لأن مرجعهما في المعنى شيء واحد ويكون لعذبنا هو الجواب. للولا. السابقة. واعترضه الجزء: 13 ¦ الصفحة: 268 أبو حيان بأن التغاير ظاهر فلا يكون تكرارا ولا مشابها. وأجيب بأن كراهة وطئهم لعدم تميزهم عن الكفار الذي هو مدلول الثاني فيكون كبدل الاشتمال ويكفي ذلك في كونه كالتكرار، وقال ابن المنير: إنما كان مرجعهما واحدا وإن كانت لَوْلا تدل على امتناع لوجود ولَوْ تدل على امتناع لامتناع وبين هذين تناف ظاهر لأن «لولا» هاهنا دخلت على وجود ولو دخلت على تَزَيَّلُوا وهو راجع إلى عدم وجودهم وامتناع عدم الوجود ثبوت فآلا إلى أمر واحد من هذا الوجه قال: وكان جدي يختار هذا الوجه ويسميه تطرية وأكثر ما يكون إذا تطاول الكلام وبعد عهد أوله واحتيج إلى بناء الآخر على الأول فمرة يطري بلفظه ومرة بلفظ آخر يؤدي مؤداه انتهى. وأنت تعلم أن في حذف الجواب دليلا على شدة غضب الله تعالى وأنه لولا حق المؤمنين لفعل بهم ما لا يدخل تحت الوصف ولا يقاس، ومنه يعلم أن ذلك الوجه أرجح من جعل لَوْ تَزَيَّلُوا بمنزلة التكرار للتطرية فتطرية الجواب وتقويته أولى وأوفق لمقتضى المقام، واختار الطيبي الأول أيضا معللا له بأنه حينئذ يقرب من باب الطرد والعكس لأن التقدير لولا وجود مؤمنين مختلطين بالمشركين غير متميزين منهم لوقع ما كان جزاء لكفرهم وصدهم ولو حصل التمييز وارتفع الاختلاط لحصل التعذيب، ثم إن تقدير الجواب ما تقدم عند القائلين بالحذف هو الذي ذهب إليه كثير، وجوز بعضهم تقديره لعجل لهم ما يستحقون وجعل قوله تعالى (1) : هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إلخ فكأنه قيل: هم الذين كفروا واستحقوا التعجيل في إهلاكهم ولولا رجال مؤمنون إلخ لعجل لهم ذلك وهو أيضا أولى من حديث التكرار، وقرأ ابن أبي عبلة وابن مقسم وأبو حيوة وابن عون «لو تزايلوا» على وزن تفاعلوا. وفي الآية على ما قال الكيا دليل على أنه لا يجوز خرق سفينة الكفار إذا كان فيها أسرى من المسلمين وكذلك رمي الحصون إذا كانوا بها والكفار إذا تترسوا بهم، وفيه كلام في كتب الفروع إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا منصوب باذكر على المفعولية أو- بعذبنا- على الظرفية أو- بصدوكم- كذلك، وقيل: بمضمر هو أحسن الله تعالى إليكم. وأيا ما كان. فالذين. فاعل جَعَلَ ووضع الموصول موضع ضميرهم لذمهم بما في حيز الصلة وتعليل الحكم به، والجعل إما بمعنى الإلقاء فقوله تعالى: فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ متعلق به أو بمعنى التصيير فهو متعلق بمحذوف هو مفعول ثان له أي جعلوا الحمية راسخة في قلوبهم ولكونها مكتسبة لهم من وجه نسب جعلها إليهم، وقال النيسابوري: يجوز أن يكون فاعل جَعَلَ ضمير الله تعالى وفِي قُلُوبِهِمُ بيان لمكان الجعل ومآل المعنى إذ جعل الله في قلوب الذين كفروا الحمية وهو كما ترى، والحمية الآنفة يقال: حميت عن كذا حمية إذا أنفت منه وداخلك عار منه. وقال الراغب: عبر عن القوة الغضبية إذا ثارت وكثرت بالحمية فقيل: حميت على فلان أي غضبت عليه، وقوله تعالى: حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ بدل من الحمية أي حمية الملة الجاهلية أو الحمية الناشئة من الجاهلية لأنها بغير حجة وفي غير موضعها، وقوله تعالى: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ عطف على جَعَلَ على تقدير جعل إِذْ معمولا لأذكر، والمراد تذكير حسن صنيع الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين بتوفيق الله تعالى وسوء صنيع المشركين وعلى ما يدل عليه الجملة الامتناعية على تقدير جعلها ظرفا لعذبنا. كأنه قيل: فلم يتزيلوا فلم نعذب فأنزل إلخ، وعلى مضمر عامل فيها على الوجه الأخير المحكي ويكون هذا كالتفسير لذاك، وأما على جعلها ظرفا. لصدوكم. فقيل: العطف على جَعَلَ وقيل: على صَدُّوكُمْ وهو نظير الطائر فيغضب زيد الذباب والأولى من هذه الأوجه لا يخفى، والسكينة الاطمئنان والوقار، روى غير واحد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خرج بمن معه إلى الحديبية حتى إذا   (1) قوله وجعل قوله إلخ كذا في أصل المؤلف ولا يخفى ما فيه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 269 كان بذي الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم بالعمرة وبعث بين يديه عينا من خزاعة يخبره عن قريش وسار عليه الصلاة والسلام حتى كان بغدير الأشطاط قريبا من عسفان أتاه عينه فقال: إن قريشا جمعوا لك جموعا وقد جمعوا لك الأحابيش وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت فاستشار الناس في الإغارة على ذراري من أعانهم فقال أبو بكر: الله تعالى ورسوله أعلم يا نبي الله إنما جئنا معتمرين ولم نجىء لقتال أحد ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه فقال صلّى الله عليه وسلّم: امضوا على اسم الله فسار حتى نزل بأقصى الحديبية فجاءه بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه فقال له إني قد تركت كعب بن لؤي، وعامر بن لؤي نزلوا قريبا معهم كالعوذ المطافيل وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت فقال عليه الصلاة والسلام: إنا لم نجىء لقتال أحد ولكن معتمرين وإن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم فماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا وإن أظهرني الله تعالى عليهم دخلوا في الإسلام وافرين وإن لم يفعلوا قاتلتهم وبهم قوة فما تظن قريش فو الله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله تعالى به حتى يظهره الله تعالى أو تنفرد هذه السالفة فقال بديل: سأبلغهم ما تقول فبلغهم فقال عروة بن مسعود الثقفي لهم: دعوني آته فأتاه عليه الصلاة والسلام فقال له نحو ما قال لبديل وجرى من الكلام ما جرى ورأى من احترام الصحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتعظيمهم إياه ما رأى فرجع إلى أصحابه فأخبرهم بذلك وقال لهم: إنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته فلما أشرف على النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه قال عليه الصلاة والسلام: هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له فبعثت واستقبله القوم يلبون فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت فرجع وأخبر أصحابه فقال رجل يقال له مكرز بن حفص: دعوني آته فلما أشرف قال عليه الصلاة والسلام: هذا مكرز وهو رجل فاجر فجعل يكلم النبي صلّى الله عليه وسلّم فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو أخو بني عامر بن لؤي فقال صلّى الله عليه وسلّم: قد سهل لكم من أمركم وكان قد بعثه قريش وقالوا له: ائت محمدا فصالحه ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا فو الله لا تتحدث العرب أنه دخلها علينا عنوة أبدا فلما انتهى إليه عليه الصلاة والسلام تكلم فأطال وانتهى الأمر إلى الصلح وكتابة كتاب في ذلك فدعا النبي صلّى الله عليه وسلّم عليا كرم الله تعالى وجهه فقال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل: لا أعرف هذا ولكن اكتب باسمك اللهم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اكتب باسمك اللهم فكتبها ثم قال: اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو فقال سهيل: لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب اسمك واسم أبيك فقال عليه الصلاة والسلام: والله إني لرسول الله وإن كذبتموني اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو صلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه وإن بيننا عيبة مكفوفة وأنه لا إسلال ولا أغلال وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه وان محمدا يرجع عن مكة عامه هذا فلا يدخلها وانه إذا كان عام قابل خرج أهل مكة فدخلها بأصحابه فأقام بها ثلاثا معه سلاح الراكب السيوف في القرب لا يدخلها بغيرها. وظاهر هذا الخبر أن سهيلا لم يرض أن يكتب محمد رسول الله قبل أن يكتب وجاء في رواية أنه كتب فلم يرض فقال النبي عليه الصلاة والسلام لعلي كرم الله تعالى وجهه: امحه فقال: ما أنا بالذي أمحاه ، وجاء هذا في رواية للبخاري، ولمسلم وفي رواية للبخاري في المغازي فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الكتاب وليس يحسن يكتب فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله ، وكذا أخرجه النسائي وأحمد ولفظه فأخذ الكتاب وليس يحسن أن يكتب فكتب مكان الجزء: 13 ¦ الصفحة: 270 رسول الله هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله ، وتمسك بظاهر هذه الرواية كما في فتح الباري أبو الوليد الباجي على أن النبي عليه الصلاة والسلام كتب بعد أن لم يكن يحسن أن يكتب ووافقه على ذلك شيخه أبو ذر الهروي. وأبو الفتح النيسابوري وآخرون من علماء افريقية، والجمهور على أنه عليه الصلاة والسلام لم يكتب، وان قوله: وأخذ الكتاب وليس يحسن أن يكتب لبيان أنه عليه الصلاة والسلام احتاج لأن يريه علي كرم الله تعالى وجهه موضع الكلمة التي امتنع من محوها لكونه كان لا يحسن الكتابة، وقوله: فكتب بتقدير فمحاها فأعاد الكتاب لعلي فكتب أو أطلق فيه كتب علي أمر بالكتابة، وتمام الكلام في محلة فكانت حميتهم على ما في الدر المنثور عن جماعة أنهم لم يقروا أنه صلّى الله عليه وسلّم رسول ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم وحالوا بين المسلمين والبيت وقد هم المؤمنون لذلك أن يبطشوا بهم فأنزل الله تعالى سكينته عليهم فتوقروا وحلموا. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال في حمية الجاهلية: حمت قريش أن يدخل عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: لا يدخلها علينا أبدا، وقال ابن بحر- كما في البحر- حميتهم عصبيتهم لآلهتهم والانفة أن يعبدوا غيرها، وفي توسيط علي بين الرسول والمؤمنين إيماء إلى أنه سبحانه أنزل على كل سكينة لائقة به. ووجه تقديم الإنزال على الرسول عليه الصلاة والسلام لا يخفى وقال الإمام: في هذه الآية لطائف معنوية وهو أنه تعالى أبان غاية البون بين المؤمنين والكافرين حيث باين بين الفاعلين إذ فاعل جَعَلَ هو الكفار وفاعل (انزل) هو الله تعالى، وبين المفعولين إذ تلك حمية وهذه سكينة. وبين الإضافتين إضافة الحمية إلى الجاهلية وإضافة السكينة إليه تعالى، وبين الفعلين جَعَلَ و (أنزل) فالحمية مجعولة في الحال كالعرض الذي لا يبقى والسكينة كالمحفوظة في خزانة الرحمة فأنزلها والحمية قبيحة مذمومة في نفسها وازدادت قبحا بالإضافة إلى الجاهلية والسكينة حسنة في نفسها وازدادت حسنا بإضافتها إلى الله عز وجل، والعطف في فأنزل بالفاء لا بالواو يدل على المقابلة والمجازاة تقول: أكرمني زيد فأكرمته فيدل على أن إنزال السكينة لجعلهم الحمية في قلوبهم حتى أن المؤمنين لم يغضبوا ولم ينهزموا بل صبروا، وهو بعيد في العادة فهو من فضل الله تعالى انتهى وهو مما لا بأس به وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى هي لا إله إلا الله كما أخرج ذلك الترمذي. وعبد الله بن أحمد. والدارقطني. وغيرهم عن أبي بن كعب مرفوعا وكما أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة وسلمة بن الأكوع كذلك وأخرج أحمد وابن حبان والحاكم عن حرمان أن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد حقا من شيئا قلبه الا حرم على النار فقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: أنا أحدثكم ما هي كلمة الإخلاص التي ألزمها الله سبحانه محمدا وأصحابه وهي كلمة التقوى التي ألاص (1) عليها نبي الله صلّى الله عليه وسلّم عمه أبا طالب عند الموت شهادة أن لا إله إلا الله» وروي ذلك أيضا عن علي كرم الله تعالى وجهه على ما نقل أبو حيان وابن عمر وابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن وقتادة وسعيد بن جبير في آخرين، وأخرج ذلك عبد بن حميد وابن جرير عن عطاء الخراساني بزيادة محمد رسول الله ، وأضيفت إلى التقوى لأنها بها يتقى الشرك ومن هنا قال ابن عباس فيما أخرجه ابن المنذر وغيره: هي رأس كل تقوى، وظاهر كلام عمر رضي الله تعالى عنه أن ضمير- هم- في أَلْزَمَهُمْ للرسول عليه الصلاة والسلام ومن معه وإلزامهم إياها بالحكم والأمر بها، وأخرج عبد الرزاق. والحاكم وصححه. والبيهقي في الأسماء والصفات وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: هي لا إله إلا الله والله أكبر ، وروي عن ابن عمر أيضا نحوه وأخرج ابن أبي حاتم والدارقطني في الأفراد عن المسور بن مخرمة قال: هي لا إله إلا الله وحده لا   (1) يقال الاصه على الشيء أراده عليه وأراده منه اهـ منه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 271 شريك له وأخرج ابن أبي رباح. ومجاهد أيضا أنها لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وغيرهما عن الزهري قال: هي بسم الله الرحمن الرحيم، وضم بعضهم إلى هذا محمد رسول الله، والمراد بإلزامهم إياها اختيارها لهم دون من عدل عنها إلى باسمك اللهم ومحمد بن عبد الله، وقيل: هي الثبات والوفاء بالعهد، ونسبه الخفاجي إلى الحسن، وإلزامهم إياه آمرهم به، وإطلاق الكلمة على الثبات على العهد والوفاء به قيل: لما أن كلا يتوصل به إلى الغرض وهو نظير ما قيل في إطلاق الكلمة على عيسى عليه السلام من أن ذلك لأن كلا منهما يهتدى به، وجعلت الإضافة على كونها بمعنى الثبات من باب إضافة السبب إلى المسبب فهي إضافة لأدنى ملابسة، وجوز أن تكون اختصاصية حقيقية بتقدير مضاف أي كلمة أهل التقوى، وأريد بالعهد على ما يقتضيه ظاهر سبب النزول عهد الصلح الذي وقع بينه صلّى الله عليه وسلّم وبين أهل مكة وقيل: ما يعم ذلك وسائر عهودهم معه عز وجل. وأنت تعلم أن الوجه المذكور في نفسه غير ظاهر، ومثله ما قيل: المراد بالكلمة قولهم في الأصلاب: بلى مقرين بوحدانيته جل شأنه، وبالإلزام الأمر بالثبات والوفاء بها، وقيل: هي قول المؤمنين سمعا وطاعة حين يؤمرون أو ينهون، والظاهر عليه كون الضمير للمؤمنين، وأرجح الأقوال في هذه الكلمة ما روي مرفوعا وذهب إليه الجم الغفير، ولعل ما ذكر في الأخبار السابقة من باب الاكتفاء، والمراد لا إله إلا الله محمد رسول الله. وَكانُوا عطف على ما تقدم أو حال من المنصوب في أَلْزَمَهُمْ بتقدير قد أو بدونه والظاهر في الضمير عوده كسابقه كما اقتضاه كلام عمر رضي الله تعالى عنه على الرسول والمؤمنين، واستظهر بعضهم عوده على المؤمنين وكأنه اعتبر الأول عائدا عليهم أيضا وهو مما لا بأس فيه، ولعله اعتبر الأقربية. فالمعنى وكان المؤمنون في علم الله تعالى أَحَقَّ بِها أي بكلمة التقوى، وأفعل لزيادة الحقية في نفسها أي متصفين بمزيد استحقاق لها أو على ما هو المشهور فيه والمفضل عليه محذوف أي أحق بها من كفار مكة لأن الله تعالى اختارهم لدينه وصحبة نبيه صلّى الله عليه وسلّم وقيل: من اليهود والنصارى، وقيل من جميع الأمم لأنهم خير أمة أخرجت للناس. وحكى المبرد أن الذين كانوا قبلنا لم يكن لأحد منهم أن يقول: لا إله إلا الله في اليوم والليلة إلا مرة واحدة لا يستطيع أن يقولها أكثر من ذلك، وكان قائلها يمد بها صوته إلى أن ينقطع نفسه تبركا بذكر الله تعالى، وقد جعل الله عز وجل لهذه الأمة أن يقولوها متى شاؤوا وهو قوله تعالى: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى أي ندبهم إلى ذكرها ما استطاعوا وكانوا أحق بها، وهذا مما لم يثبت، وجوز الإمام كون التفضيل بالنسبة إلى غير كلمة التقوى أي أحق بها من كلمة غير كلمة تقوى وقال: وهذا كما تقول زيد أحق بالإكرام منه بالإهانة، وقولك إذا سئل شخص عن زيد بالطب أعلم أو بالفقه: زيد أعلم بالفقه أي من الطب، وفيه غفلة لا تخفى وَأَهْلَها أي المستأهل لها وهو أبلغ من الأحق حتى قيل بينه وبين الأحق كما بين الأحق والحق، وقيل: إن أحقيتهم بها من الكفار تفهم رجحانهم رجحانا ما عليهم ولا تثبت الأهلية كما إذا اختار الملك اثنين لشغل وكل واحد منهما غير صالح له لكن أحدهما أبعد عن الاستحقاق فيقال للأقرب إليه إذا كان ولا بد فهذا أحق كما يقال: الحبس أهون من القتل، ولدفع توهم مثل هذا فيما نحن فيه قال سبحانه: وَأَهْلَها وقيل: أريد أنهم أحق بها في الدنيا وأهلها بالثواب في الآخرة، وقيل: في الآية تقديم وتأخير والأصل وكانوا أهلها وأحق بها، وكذلك هي في مصحف الحارث بن سويد صاحب ابن مسعود وهو الذي دفن مصحفه لمخالفته الإمام أيام الحجاج وكان من كبار تابعي الكوفة وثقاتهم، وقيل: ضمير كانُوا عائد على كفار مكة أي وكان أولئك لكفار الذين جعلوا في قلوبهم الحمية أحق بكلمة التقوى لأنهم أهل حرم الله تعالى ومنهم رسوله الجزء: 13 ¦ الصفحة: 272 صلّى الله عليه وسلّم وقد تقدم إنذارهم لولا ما سلبوا من التوفيق، وفيه ما فيه سواء رجح ضمير أَلْزَمَهُمْ إلى كفار مكة أيضا أم لا، وأظن في قائله نزغة رافضية دعته إلى ذلك لكنه لا يتم به غرضه، وقيل: ضمير كانُوا للمؤمنين إلا أن ضميري بِها وَأَهْلَها للسكينة، وفيه ارتكاب خلاف الظاهر من غير داع، وقيل: هما لمكة أي وكانوا أحق بمكة أن يدخلوها وأهلها، وأشعر بذكر مكة ذكر المسجد الحرام في قوله تعالى: وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وكذا محل الهدي في قوله سبحانه: وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وفيه ما لا يخفى وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً فيعلم سبحانه حق كل شيء واستئهاله لما يستأهله فيسوق عز وجل الحق إلى مستحقه والمستأهل إلى مستأهله أو فيعلم هذا ويعلم ما تقتضيه الحكمة والمصلحة من إنزال السكينة والرضا بالصلح فيكون تذييلا للجميع ما تقدم. لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المنام قبل خروجه إلى الحديبية، وأخرج ابن المنذر وغيره عن مجاهد أنه عليه الصلاة والسلام رأى وهو في الحديبية، والأول أصح، أنه هو وأصحابه دخلوا مكة آمنين وقد حلقوا وقصروا فقص الرؤيا على أصحابه ففرحوا واستبشروا وحسبوا أنهم داخلوها في عامهم وقالوا: إن رؤيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حق فلما تأخر ذلك قال على طريق الاعتراض عبد الله بن أبي وعبد الله بن نفيل ورفاعة بن الحرث: والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام فنزلت. وقد روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال نحوه على طريق الاستكشاف ليزداد يقينه، وفي رواية أن رؤياه صلّى الله عليه وسلّم إنما كانت أن ملكا جاءه فقال له: لَتَدْخُلُنَّ إلخ، والمعنى لقد صدقه سبحانه في رؤياه على أنه من باب الحذف والإيصال كما في قولهم: صدقني سن بكره، وتحقيقه أنه تعالى أراه الرؤيا الصادقة. وقال الراغب: الصدق يكون بالقول ويكون بالفعل وما في الآية صدق بالفعل وهو التحقيق أي حقق سبحانه رؤيته. وفي شرح الكرماني كذب يعتدي إلى مفعولين يقال: كذبني الحديث وكذا صدق كما في الآية، وهو غريب لتعدي المثقل لواحد والمخفف لمفعولين انتهى. وفي البحر صدق يتعدى إلى اثنين الثاني منهما بنفسه وبحرف الجر تقول صدقت زيدا الحديث وصدقته في الحديث، وقد عدها بعضهم في أخوات استغفر وأمر والمشهور ما أشرنا إليه أولا بِالْحَقِّ صفة لمصدر محذوف أي صدقا ملتبسا بالحق أي بالفرض الصحيح والحكمة البالغة وهو ظهور حال المتزلزل في الإيمان والراسخ فيه، ولأجل ذلك أخر وقوع الرؤيا إلى العام القابل أو حال من الرؤيا أي ملتبسة بالحق ليست من قبيل أضغاث الأحلام، وجوز كونه حالا من الاسم الجليل وكونه حالا من رَسُولَهُ وكونه ظرفا لغوا. لصدق. وكونه قسما بالحق الذي هو من أسمائه عز وجل أو بنقيض الباطل، وقوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ عليه جواب القسم والوقف على الرُّؤْيا وهو على جميع ما تقدم جواب قسم مقدر والوقف على بِالْحَقِّ أي والله لتدخلن إلخ، وقوله سبحانه: إِنْ شاءَ اللَّهُ تعليق للعدة بالمشيئة لتعليم العباد، وبه ينحل ما يقال: إنه تعالى خالق للأشياء كلها وعالم بها قبل وقوعها فكيف وقع التعليق منه سبحانه بالمشيئة، وفي معنى ما ذكر قول ثعلب: استثنى سبحانه وتعالى فيما يعلم ليستثنى الخلق فيما لا يعلمون. وفيه تعريض بأن وقوع الدخول من مشيئته تعالى لا من جلادتهم وتدبيرهم، وذكر الخفاجي أنه قد وضع فيه الظاهر موضع الضمير وأصله لتدخلنه لا محالة إلا إن شاء عدم الدخول فهو وعد لهم عدل به عن ظاهره لأجل التعريض بهم والإنكار على المعترضين على الرؤيا فيكون من باب الكناية انتهى. وقد أجيب عن السؤال بغير ذلك فقيل: الشك راجع إلى المخاطبين، وفيه شيء ستعلمه قريبا إن شاء الله تعالى وقال الحسين بن الفضل: إن التعليق راجع إلى دخولهم جميعا وحكي ذلك عن الجبائي، وقيل: إنه ناظر إلى الأمن فهو مقدم من تأخير أي لتدخلنه حال كونكم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 273 آمِنِينَ من العدو إن شاء الله. وردهما في الكشف فقال: أما جعله قيد دخولهم بالأسر أو الأمن ففيه أن السؤال بعد باق لأن الدخول المخصوص أيضا خبر من الله تعالى وهو ينافي الشك، وليس نظير قول يوسف عليه السلام: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [يوسف: 99] إذ لا يبعد أن لا يعرف عليه السلام مستقر الأمر من الأمن أو الخوف فإما أن يؤول بأن الشك راجع إلى المخاطبين أو بأنه تعليم، والثاني أولى لأن تغليب الشاكين لا يناسب هذا المساق بل الأمر بالعكس. ودفع وروده على الحسين بأن المراد أنه في معنى ليدخلنه من شاء الله دخوله منكم فيكون كناية عن أن منهم من لا يدخله لأن أجله يمنعه منه فلا يلزم الرجوع لما ذكر. وقيل: هو حكاية لما قاله ملك الرؤيا له صلّى الله عليه وسلّم وإليه ذهب ابن كيسان أو لما قاله هو عليه الصلاة والسلام لأصحابه. ورده صاحب التقريب بأنه كيف يدخل في كلامه تعالى ما ليس منه بدون حكاية. ودفع بأن المراد أن جواب القسم بيان للرؤيا وقائلها في المنام الملك وفي اليقظة الرسول صلّى الله عليه وسلّم فهي في حكم المحكي في دقيق النظر كأنه قيل: وهي قول الملك أو الرسول لتدخلن إلخ، وأنت تعلم أن هذا وإن صحح النظم الكريم لا يدفع البعد، وقد اعترض به على ذلك صاحب الكشف لكنه ادعى أن كونه حكاية ما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام أقل بعدا من جعله من قول الملك، وقال أبو عبيدة. وقوم من النحاة: إِنْ بمعنى إذ وجعلوا من ذلك قوله تعالى: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 139] وقوله صلّى الله عليه وسلّم في زيارة القبور: «أنتم السابقون وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون» والبصريون لا يرتضون ذلك، وقوله تعالى: مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ حال كآمنين من الواو المحذوفة لالتقاء الساكنين من قوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ إلا أن آمنين حال مقارنة وهذا حال مقدرة لأن الدخول في حال الإحرام لا في حال الحلق والتقصير، وجوز أن يكون حالا من ضمير آمِنِينَ والمراد محلقا بعضكم رأس بعض ومقصرا آخرون ففي الكلام تقدير أو فيه نسبة ما للجزء إلى الكل، والقرينة عليه أنه لا يجتمع الحلق وهو معروف والتقصير وهو أخذ بعض الشعر فلا بد من نسبة كل منهما لبعض منهم، وقوله تعالى: لا تَخافُونَ حال من فاعل لَتَدْخُلُنَّ أيضا لبيان الأمن بعد تمام الحج وآمِنِينَ فيما تقدم لبيان الأمن وقت الدخول فلا تكرار أو حال من الضمير المستتر في آمِنِينَ فإن أريد به معنى آمنين كان حالا مؤكدة، وإن أريد لا تخافون تبعة في الحلق أو التقصير ولا نقص ثواب فهو حال مؤسسة، ولا يخفى الحال إذا جعل حالا من الضمير في مُحَلِّقِينَ أو مُقَصِّرِينَ، وجوز أن يكون استئنافا بيانيا في جواب سؤال مقدر كأنه قيل: فكيف الحال بعد الدخول؟ فقيل: لا تخافون أي بعد الدخول. واستدل بالآية على أن الحلق غير متعين في النسك بل يجزىء عنه التقصير، وظاهر تقديمه عليه أنه أفضل منه وهو الذي دلت عليه الأخبار في غير النساء. أخرج الشيخان وأحمد وابن ماجه عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اللهم اغفر للمحلقين قالوا: يا رسول الله والمقصرين قال: اللهم اغفر للمحلقين ثلاثا قالوا: يا رسول الله والمقصرين قال: والمقصرين» وأما في النساء فقد أخرج أبو داود والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس على النساء حلق وإنما على النساء التقصير» والسنة في الحلق أن يبدأ بالجانب الأيمن، فقد أخرج ابن أبي شيبة عن أنس أنه رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم قال للحلاق هكذا وأشار بيده إلى جانب الأيمن وإن يبلغ به إلى العظمين كما قال عطاء. وأخرج ابن أبي شيبة أيضا عن ابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم أنهما كانا يقولان للحلاق ابدأ بالأيمن وابلغ بالحلق العظمين، واستدل بالآية أيضا على أن التقصير بالرأس دون اللحية وسائر شعر البدن إذ الظاهر أن المراد ومقصرين رؤوسكم أي شعرها لظهور أن الرؤوس أنفسها لا تقصر فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا الظاهر عطفه على لَقَدْ صَدَقَ فالترتيب باعتبار التعلق الفعلي بالمعلوم أي فعلم عقيب ما أراه الرؤيا الصادقة ما لم تعلموا من الحكمة الداعية الجزء: 13 ¦ الصفحة: 274 لتقديم ما يشهد للصدق علما فعليا، وقيل: الفاء للترتيب الذكري فَجَعَلَ لأجل هذا العلم مِنْ دُونِ ذلِكَ أي من دون تحقق مصداق ما أراه من دخول المسجد الحرام آمنين إلخ، وقيل: أي من دون فتح مكة، والأول أظهر، وهذا أنسب بقوله تعالى: فَتْحاً قَرِيباً وهو فتح خيبر كما قال ابن زيد وغيره، والمراد بجعله وعده تعالى وإنجازه من غير تسويف ليستدل به على صدق الرؤيا وتستروح قلوب المؤمنين إلى تيسر وقوعها. وقال في الكشاف: ما لَمْ تَعْلَمُوا أي من الحكمة في تأخير فتح مكة إلى العام القابل، وفيه أمران: الأول أن فتح مكة لم يقع في العام الذي قاله بل في السنة الثامنة، والتجوز في العام القابل أو تأويل الفتح بدخول المؤمنين مكة معتمرين لا يخفى حاله. الثاني إباء الفاء عما ذكر لأن علمه تعالى بذلك متقدم على إراءة الرؤيا قطعا. وأجيب عن هذا بالتزام كون الفاء للترتيب الذكري أو كون المراد فأظهر معلومه لكم وهو الحكمة فتدبر. ونقل عن كثير من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن الفتح القريب في الآية هو بيعة الرضوان، وقال مجاهد، وابن إسحق: هو فتح الحديبية، ومن الغريب ما قيل: إن المراد به فتح مكة مع أنه لم يكن دخول الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه دون مكة على أنه مناف للسياق كما لا يخفى. هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى أي ملتبسا به على أن الباء للملابسة، والجار والمجرور في موضع الحال من المفعول، والتباسه بالهدى بمعنى أنه هاد، وقيل: أي مصاحبا للهدى، والمراد به الدليل الواضح والحجة الساطعة أو القرآن، وجوز أن تكون الباء للسببية أو للتعليل وهما متقاربان، والجار والمجرور متعلق بأرسل أي أرسله بسبب الهدى أو لأجله وَدِينِ الْحَقِّ وبدين الإسلام، والظاهر أن المراد به ما يعم الأصول والفروع، وجوز أن يراد بالهدى الأصول وبدين الحق الفروع فإن من الرسل عليهم السلام من لم يرسل بالفروع وإنما أرسل بالأصول وتبيانها، والظاهر أن المراد بالحق نقيض الباطل، وجوز أن يراد به ما هو من أسمائه تعالى أي ودين الله الحق، وجوز الإمام غير ذلك أيضا لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ليعليه على جنس الدين بجميع أفراده أي ما يدان به من الشرائع والملل فيشمل الحق والباطل، وأصل الإظهار جعل الشيء على الظهر فلذا كني به عن الإعلاء وعن جعله باديا للرائي ثم شاع في ذلك حتى صار حقيقة عرفية، وإظهاره على الحق بنسخ بعض أحكامه المتبدلة بتبدل الاعصار، وعلى الباطل ببيان بطلانه، وجوز غير واحد، ولعله الأظهر بحسب المقام، أن يكون إظهاره على الدين بتسليط المسلمين على جميع أهل الأديان وقالوا: ما من أهل دين حاربوا المسلمين إلا وقد قهرهم المسلمون، ويكفي في ذلك استمرار ما ذكر زمانا معتدا به كما لا يخفى على الواقفين على كتب التواريخ والوقائع، وقيل: إن تمام هذا الاعلاء عند نزول عيسى عليه السلام وخروج المهدي رضي الله تعالى عنه حيث لا يبقى حينئذ دين سوى الإسلام، ووقوع خلاف ذلك بعد لا يضر اما لنحو ما سمعت وإما لأن الباقي من الدنيا إذ ذاك كلا شيء، وفي الجملة فضل تأكيد لما وعد الله تعالى به من الفتح وتوطين لنفوس المؤمنين على أنه تعالى سيفتح لهم من البلاد ويتيح لهم من الغلبة على الأقاليم ما يستقلون بالنسبة إليه فتح مكة وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على أن ما عده عز وجل من إظهار دينه على جميع الأديان أو الفتح كائن لا محالة أو كفى بالله شهيدا على رسالته صلّى الله عليه وسلّم لأنه عليه الصلاة والسلام ادعاها وأظهر الله تعالى المعجزة على يده وذلك شهادة منه تعالى عليها، واقتصر على هذا الوجه الرازي وجعل ذلك تسلية عما وقع من سهيل بن عمرو إذ لم يرض بكتابة محمد رسول الله وقال ما قال. وجعل بعض الأفاضل إظهار المعجزة شهادة منه تعالى على تحقق وعده عز وجل أيضا ولا يظهر إلا بضم إخباره عليه الصلاة والسلام به. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 275 مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ أي هو أو ذلك الرسول المرسل بالهدى ودين الحق محمد على أن الاسم الشريف خبر مبتدأ محذوف ورَسُولُ اللَّهِ عطف بيان أو نعت أو بدل، والجملة استئناف مبين لقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ وهذا هو الوجه الأرجح الأنسب بالمساق كما في الكشف ويؤيده نظرا إلى بعض ما يأتي من الأوجه إن شاء الله تعالى قراءة ابن عامر في رواية رَسُولُ بالنصب على المدح، وقوله تعالى: وَالَّذِينَ مَعَهُ مبتدأ خبره قوله سبحانه: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ وقال أبو حيان: الظاهر أن مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ مبتدأ وخبر والجملة عليه مبينة للمشهود به، أما على كونه الرسالة فظاهر، وأما على كونه محقق الوعد فقيل: لأن كينونة ما وعده لازمة لكونه عليه الصلاة والسلام رسول الله إذ هو لا يوعد إلا بما هو محقق ولا يخبر إلا عن كل صدق. وجوز كون مُحَمَّدٌ مبتدأ ورَسُولُ تابعا له وَالَّذِينَ مَعَهُ عطفا عليه والخبر عنه وعنهم قوله تعالى: أَشِدَّاءُ إلخ. وقرأ الحسن «أشدّاء» . «رحماء» بنصبهما فقيل على المدح وقيل على الحال، والعامل فيهما العامل في مَعَهُ فيكون الخبر على هذا الوجه جملة تَراهُمْ الآتي وكذا خبر الَّذِينَ على الوجه الأول، والمراد بالذين معه عند ابن عباس من شهد الحديبية، وقال الجمهور: جميع أصحابه صلّى الله عليه وسلّم ورضي الله تعالى عنهم، وأَشِدَّاءُ جمع شديد ورُحَماءُ جمع رحيم، والمعنى أن فيهم غلظة وشدة على أعداء الدين ورحمة ورقة على إخوانهم المؤمنين، وفي وصفهم بالرحمة بعد وصفهم بالرحمة بعد وصفهم بالشدة تكميل واحتراس فإنه لو اكتفى بالوصف الأول لربما توهم أن مفهوم القيد غير معتبر فيتوهم الفظاظة والغلظة مطلقا فدفع بإرداف الوصف الثاني، ومآل ذلك أنهم مع كونهم أشداء على الأعداء رحماء على الاخوان، ونحوه قوله تعالى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ [المائدة: 54] وعلى هذا قوله: حليم إذا ما الحلم زين أهله ... على أنه عند العدو مهيب وقد بلغ كما روي عن الحسن من تشددهم على الكفار أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم وبلغ من ترحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلا صافحه وعانقه. والمصافحة لم يختلف فيها الفقهاء. أخرج أبو داود عن البراء قال «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إذا التقى المسلمان فتصافحا وحمدا الله واستغفراه غفر لهما» وفي رواية الترمذي «ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا» وفي الاذكار النووية أنها مستحبة عند كل لقاء وأما ما اعتاده الناس بعد صلاتي الصبح والعصر فلا أصل له ولكن لا بأس به، فإن أصل المصافحة سنة وكونهم محافظين عليها في بعض الأحوال ومفرطين في كثير منها لا يخرج ذلك البعض عن كونه من المصافحة التي ورد الشرع بأصلها، وجعل ذلك العز بن عبد السلام في قواعده من البدع المباحة، وأطال الشيخ إبراهيم الكوراني قدس سره الكلام في ذلك، وأما المعانقة فقال الزمخشري: كرهها أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وكذلك التقبيل قال: لا أحب أن يقبل الرجل من الرجل وجهه ولا يده ولا شيئا من جسده، ورخص أبو يوسف عليه الرحمة المعانقة ويؤيد ما روي عن الإمام ما أخرجه الترمذي عن أنس قال: «سمعت رجلا يقول لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا رسول الله الرجل منا يلقى أخاه أينحني له؟ قال: لا قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: لا قال: أيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: نعم» وفي الاذكار التقبيل وكذا المعانقة لا بأس به عند القدوم من سفر ونحوه، ومكروه كراهة تنزيه في غيره، وللأمرد الحسن حرام بكل حال. أخرج الترمذي وحسنه عن عائشة قالت: قدم زيد بن خالد بن حارثة المدينة ورسول الله في بيتي فقرع الباب فقام إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يجر ثوبه فاعتنقه وقبله، وزاد رزين في حديث أنس السابق بعد قوله: ويقبله قال: «لا إلا أن يأتي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 276 من سفره» وروى أبو داود سئل أبو ذر هل كان صلّى الله عليه وسلّم يصافحكم إذا لقيتموه؟ قال: ما لقيته قط إلا صافحني وبعث إلي ذات يوم ولم أكن في أهلي فجئت فأخبرت أنه صلّى الله عليه وسلّم أرسل إلي فأتيته وهو على سريره فالتزمني فكانت أجود أجود ، وهذا يؤيد الإطلاق المحكي عن أبي يوسف وينبغي التأسي بهم رضي الله تعالى عنهم في التشدد على أعداء الدين والرحمة على المؤمنين. وقد أخرج ابن أبي شيبة وأبو داود عن عبد الله بن عمر مرفوعا «من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا» وأخرجاهما. وأحمد وابن حبان والترمذي وحسنه عن أبي هريرة قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: لا تنزع الرحمة إلا من شقي» ولا بأس بالبر والإحسان على عدو الدين إذا تضمن مصلحة شرعية كما أفاد ذلك ابن حجر في فتاويه الحديثية فليراجع. وقرأ يحيى بن يعمر «أشدا» بالقصر وهي قراءة شاذة لأن قصر الممدود في الشعر نحو قوله: لا بد من صنعا وإن طال السفر وقوله تعالى: تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً خبر آخر- للذين- أو استئناف ويجوز فيه غير ذلك على ما لا يخفى، والرؤية بصرية، والخطاب لكل من تتأتى منه، ورُكَّعاً سُجَّداً حال من المفعول، والمراد تراهم مصلين، والتعبير بالركوع والسجود عن الصلاة مجاز مرسل، والتعبير بالمضارع للاستمرار وهو استمرار عرفي، ومن هنا قال في البحر: هذا دليل على كثرة الصلاة منهم يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً أي ثوابا ورضا، والجملة إما خبر آخر أو حال من مفعول تَراهُمْ أو من المستتر في رُكَّعاً سُجَّداً أو استئناف مبني على سؤال نشأ من بيان مواظبتهم على الركوع والسجود كأنه قيل: ماذا يريدون بذلك؟ فقيل: يبتغون فضلا إلخ. وقرأ عمرو بن عبيد «ورضوانا» بضم الراء سِيماهُمْ أي علامتهم وقرىء «سيمياؤهم» بزيادة ياء بعد الميم والمد وهي لغة فصيحة كثيرة في الشعر قال الشاعر: غلام رماه الله بالحسن يافعا ... له سيمياء لا تشق على البصر وجاء سيماء بالمد واشتقاقها من السومة بالضم العلامة تجعل على الشاة والياء مبدلة من الواو، وهي مبتدأ خبره قوله تعالى: فِي وُجُوهِهِمْ أي في جباههم أو هي على ظاهرها، وقوله سبحانه: مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ حال من المستكن في الجار والمجرور الواقع خبرا لسيماهم أو بيان لها أي سيماهم التي هي أثر السجود، ووجه إضافة الأثر إلى السجود أنه حادث من التأثير الذي يؤثره السجود، وشاع تفسير ذلك بما يحدث في جبهة السجاد مما يشبه أثر الكي وثفنة البعير وكان كل من العليين علي بن الحسين زين العابدين وعلي بن عبد الله بن عباس أبي الاملاك رضي الله تعالى عنهما يقال له ذو الثفنات لأن كثرة سجودهما أحدث في مواقعه منهما أشباه ثفنات البعير وهي ما يقع على الأرض من أعضائه إذا غلظ، وما روي من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تعلبوا صوركم» أي لا تسموها من العلب بفتح العين المهملة وسكون اللام الأثر، وقول ابن عمر وقد رأى رجلا بأنفه أثر السجود: إن صورة وجهك أنفك فلا تعلب وجهك ولا تشن صورتك فذلك إنما هو إذا اعتمد بجبهته وأنفه على الأرض لتحدث تلك السمة وذاك محض رياء ونفاق يستعاذ بالله تعالى منه، والكلام فيما حدث في وجه السجاد الذي لا يسجد إلا خالصا لوجه الله عز وجل، وأنكر بعضهم كون المراد بالسيما ذلك. أخرج الطبراني والبيهقي في سننه عن حميد بن عبد الرحمن قال: كنت عند السائب بن يزيد إذ جاء رجل وفي وجهه أثر السجود فقال: لقد أفسد هذا وجهه أما والله ما هي السيما التي سمى الله تعالى ولقد صليت على وجهي منذ ثمانين سنة ما أثر السجود بين عينيّ، وربما يحمل على أنه استشعر من الرجل تعمدا لذلك فنفى أن يكون ما حصل به هو السيما التي سمى الله تعالى، ونظيره ما حكي عن بعض المتقدمين قال: كنا نصلي فلا يرى بين أعيننا شيء ونرى أحدنا الآن يصلي فترى بين عينيه ركبة البعير فما ندري أثقلت الأرؤس أم خشنت الأرض. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 277 وأخرج ابن جرير وجماعة عن سعيد بن جبير أنه قال: هذه السيما ندى الطهور وتراب الأرض، وروي نحوه عن سعيد بن المسيب وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد أنه قال: ليس له أثر في الوجه ولكنه الخشوع، وفي رواية هي الخشوع والتواضع، وقال منصور: سألت مجاهدا أهذه السيما هي الأثر يكون بين عيني الرجل قال: لا وقد يكون مثل ركبة البعير وهو أقسى قلبا من الحجارة، وقيل: هي صفرة الوجه من سهر الليل وروي ذلك عن عكرمة والضحاك، وروى السلمي عن عبد العزيز المكي ليس ذاك هو النحول والصفرة ولكنه نور يظهر على وجوه العابدين يبدو من باطنهم على ظاهرهم يتبين ذلك للمؤمنين ولو كان في زنجي أو حبشي، وقال عطاء: والربيع ابن أنس: هو حسن يعتري وجوه المصلين، وأخرج ابن المنذر وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: السمت الحسن، وعن بعضهم ترى على وجوههم هيبة لقرب عهدهم بمناجاة سيدهم، والذاهبون إلى هذه الأقوال قائلون: إن المراد علامتهم في وجوههم وهم في الدنيا، وقال غير واحد: هذه السيما في الآخرة، أخرج البخاري في تاريخه. وابن نصر عن ابن عباس أنه قال في الآية: بياض يغشى وجوههم يوم القيامة. وأخرج ابن نصر وعبد بن حميد وابن جرير عن الحسن مثله، وأخرجوا عن عطية العوفي قال: موضع السجود أشد وجوههم بياضا، وأخرج الطبراني في الأوسط والصغير وابن مردويه بسند حسن عن أبي بن كعب قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قوله تعالى: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ النور يوم القيامة» النور يوم القيامة» ولا يبعد أن يكون النور علامة في وجوههم في الدنيا والآخرة لكنه لما كان في الآخرة أظهر وأتم خصه النبي صلّى الله عليه وسلّم بالذكر، وإذا صح الحديث فهو مذهبي. وقرأ ابن هرمز «إثر» بكسر الهمزة وسكون الثاء وهو لغة في أثر. وقرأ قتادة من «آثار» بالجمع ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من نعوتهم الجليلة وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان بعلو شأنه وبعد منزلته في الفضل، وقيل: البعد باعتبار المبتدأ أعني أَشِدَّاءُ ولو قيل هذا لتوهم أن المشار إليه هو النعت الأخير. أعني سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ. وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: مَثَلُهُمْ أي وصفهم العجيب الشأن الجاري في الغرابة مجرى الأمثال، وقوله سبحانه وتعالى: فِي التَّوْراةِ حال من مَثَلُهُمْ والعامل معنى الإشارة وقوله تعالى: وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ عطف على مَثَلُهُمْ الأول كأنه قيل: ذلك مثلهم في التوراة والإنجيل، وتكرير مَثَلُهُمْ لتأكيد غرابته وزيادة تقريرها، وقرىء «الإنجيل» بفتح الهمزة، وقوله عز وجل: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ إلخ تمثيل مستأنف أي هم أو مثلهم كزرع إلخ فالوقف على الْإِنْجِيلِ وهذا مروي عن مجاهد، وقيل: مَثَلُهُمْ الثاني مبتدأ وقوله تعالى: كَزَرْعٍ إلخ خبره فالوقف على التَّوْراةِ وهذا مروي عن الضحاك وأبي حاتم وقتادة، وجوز أن يكون ذلك إشارة مبهمة أوضحت بقوله تعالى: كَزَرْعٍ إلخ كقوله تعالى: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ [الحجر: 66] فعلى الأول والثالث «مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل» شيء واحد إلا أنه على الأول أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ إلخ، وعلى الثالث كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ إلخ وعلى الثاني مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ شيء وهو أَشِدَّاءُ إلخ ومثلهم في الإنجيل شيء آخر وهو كَزَرْعٍ إلخ. واعترض الوجه الثالث بأن الأصل في الإشارة أن تكون لمتقدم وإنما يشار إلى المتأخر إذا كان نعتا لاسم الإشارة نحو ذلِكَ الْكِتابُ، وفيه أن الحصر ممنوع، والشطء فروخ الزرع كما قال غير واحد وهو ما خرج منه وتفرع في شاطئيه أي في جانبيه وجمعه كما قال الراغب اشطاء، وقال قطرب: شوك السنبل يخرج من الحبة عشر سنبلات وتسع وثمان، وقال الكسائي. والأخفش: طرفه، وأنشدوا: اخرج الشطء على وجه الثرى ... ومن الأشجار أفنان الثمر الجزء: 13 ¦ الصفحة: 278 وزعم أبو الفتح أن الشطء لا يكون إلا في البر والشعير، وقال صاحب اللوامح: شطأ الزرع وأشطأ إذا أخرج فراخه وهو في الحنطة والشعير وغيرهما، وفي البحر أشطأ الزرع افرخ والشجرة أخرجت غصونها. وفي القاموس الشطء فراخ النخل والزرع أو ورقه جمعه شطوء، وشطأ كمنع شطأ وشطوأ أخرجها، ومن الشجر ما خرج حول أصله وجمعه اشطاء، وأشطأ أخرجها اهـ، وفيه ما يرد به على أبي الفتح مع زيادة لا تخفى فائدتها فلا تغفل. وقرأ ابن كثير وابن ذكوان «شطأه» بفتح الطاء وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وعيسى الكوفي كذلك وبالمد. وقرأ زيد بن علي كذلك أيضا وبألف بدل الهمزة فاحتمل أن يكون مقصورا وإن يكون أصله الهمز فنقل الحركة وأبدل الهمزة ألفا كما قالوا في المرأة والكمأة المراة والكماة، وهو تخفيف مقيس عند الكوفيين وعند البصريين شاذ لا يقاس عليه، وقرأ أبو جعفر «شطه» بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على الطاء، ورويت عن شيبة ونافع والجحدري، وعن الجحدري أيضا «شطوه» بإسكان الطاء وواو بعدها، قال أبو الفتح: هي لغة أو بدل من الهمزة فَآزَرَهُ أي أعانه وقواه قاله الحسن وغيره، قال الراغب: وأصله من شد الإزار كون الكفار مستيقنين بالآخرة ومتحققين كون الوعد منه عز وجل بعيد، وضمير مِنْهُمْ لمن عاد عليه الضمائر السابقة، و (من) للبيان مثلها في قوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج: 30] وليس مجيئها كذلك مخصوصا بما إذا كانت داخلة على ظاهر كما توهم صاحب التحفة الاثني عشرية في الكلام على قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النور: 55] فقال: حمل «من» للبيان إذا كان داخلا على الضمير مخالف لاستعمال العرب، وأنكر ذلك عليه صاحب الترجمة لكن قال: لو ادعى هذا الخلاف في ضميري الخطاب والتكلم لم يبعد. ومن مجيئها للبيان داخلة على ضمير الغائب قوله تعالى: لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عند القائلين بأن ضمير تَزَيَّلُوا للمؤمنين لا للتبعيض كما يقوله الشيعة الزاعمون ارتداد أكثر الصحابة رضي الله تعالى عنهم من أهل بيعة الرضوان وغيرهم، فإن مدحهم السابق بما يدل على الاستمرار كقوله تعالى: تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً ووصفهم بما يدل على الدوام والثبات كقوله سبحانه: وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ يأبى التبعيض والارتداد الذين زعموه عند من له أدنى إنصاف وشمة من دين، ويزيد زعمهم هذا سقوطا عن درجة الاعتبار أن مدحهم ذاك قد كتبه الله تعالى في التوراة قبل أن يخلق السموات والأرض، ولا يكاد عاقل يقبل أنه تعالى أطلق المدح وكتبه لأناس لم يثبت على تلك الصفة إلا قليل منهم، وإذا قلنا: إن هؤلاء الممدوحين هم أهل بيعة الرضوان الذين بايعوه عليه الصلاة والسلام في الحديبية كما يشعر به وَالَّذِينَ مَعَهُ لا سيما على القول بأن السورة بتمامها نزلت عند منصرفه عليه الصلاة والسلام من الحديبية قبل أن يتفرقوا عنه صلّى الله عليه وسلّم كان سقوط ذلك الزعم أبين وأبين لأن الارتداد الذي يزعمونه كان لترك مبايعة علي كرم الله تعالى وجهه بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع العلم بالنص على خلافته بزعمهم ومبايعة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وكيف يكون ذاك ارتدادا والله عز وجل حين رضي عنهم على أنهم يفعلونه، والقول بأنه سبحانه إنما رضي عن مبايعتهم أو عنهم من حيث المبايعة ولم يرض سبحانه عنهم مطلقا لأجلها خلاف ظاهر الآية، والظاهر ما نفي، ولا يعكر عليه صدور بعض المعاصي من بعضهم بعد وإنما يعكر صدور ما لا يجامع الرضا أصلا كالارتداد والعياذ بالله تعالى، وبالجملة جعل (من) للتبعيض ليتم للشيعة ما زعموه مما يأباه الكتاب والسنة وكلام العترة. وفي التحفة الاثني عشرية من ذلك ما تنشرح له الصدور وتزداد به قلوب المؤمنين نورا على نور، ويا سبحان الله أين جعل (من) للتبعيض من دعوى الارتداد، ولكن من يضلل الله فما له من هاد، وتأخير مِنْهُمْ هنا عن عَمِلُوا الصَّالِحاتِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 279 وتقديم مِنْكُمْ عليه في آية النور التي ذكرناها آنفا لأن عمل الصالحات لا ينفك عنهم، وذلك ثمت لبيان الخلفاء والعمل الصالح ليس موقوفا عليه لاستمرار صحة خلافتهم حتى لا ينعزلوا بالفسق، وقال ابن جرير: مِنْهُمْ يعني من الشطء الذي أخرجه الزرع وهم الداخلون في الإسلام إلى يوم القيامة فأعاد الضمير على معنى الشطء وكذلك فعل البغوي ولا يخفى بعده. وهذا وفي المواهب أن الإمام مالكا قد استنبط من هذه الآية تكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فإنهم يغيظونهم ومن غاظه الصحابة فهو كافر، ووافقه كثير من العلماء انتهى. وفي البحر ذكر عند مالك رجل ينتقص الصحابة فقرأ مالك هذه الآية فقال: من أصبح من الناس في قلبه غيظ. من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقد أصابته هذه الآية، ويعلم تكفير الرافضة بخصوصهم، وفي كلام عائشة يقال: أزرته أي شددت إزاره ويقال: آزرت البناء وأزرته قويت أسافله، وتأزر النبات طال وقوي. وذكر غير واحد أنه إما من المؤازرة بمعنى المعاونة أو من الإيزار وهي الإعانة. وفي البحر «آزر» أفعل كما حكي عن الأخفش، وقول مجاهد وغيره فاعل خطأ لأنه لم يسمع في مضارعه ألا يؤزر على وزن يكرم دون يوازر. وتعقب بأن هذه الشهادة نفي غير مسموعة على أنه يجوز أن يكون ورد من بابين واستغنى بأحدهما عن الآخر ومثله كثير، مع أن السرقسطي نقله عن المازني لكنه قال: يقال آزر الشيء غيره أي ساواه وحاذاه، وأنشد لامرىء القيس: بمحنية قد آزر الضال نبتها ... بجر جيوش غانمين وخيب وجعل ما في الآية من ذلك، وهو مروي أيضا عن السدي قال: آزره صار مثل الأصل في الطول، والجمهور على ما نقل أولا، والضمير المرفوع في (آزره) للشطء والمنصوب للزرع أي فقوي ذلك الشطء الزرع، والظاهر أن الإسناد في أَخْرَجَ و «آزر» مجازي وكون ذلك من الاسناد إلى الموجب، وهو حقيقة على ما ذهب إليه السالكوتي في حواشيه على المطول حيث قال في قولهم: سرتني رؤيتك. هذا القول مجاز إذا أريد منه حصول السرور عند الرؤية أما إذا أريد منه أن الرؤية موجبة للسرور فهو حقيقة لا يخفى حاله. وقرأ ابن ذكوان «فآزره» ثلاثيا. وقرىء «فأزّره» بشد الزاي أي فشد أزره وقواه فَاسْتَغْلَظَ فصار من الدقة إلى الغلظ وهو من باب استنوق الجمل، ويحتمل أن يراد المبالغة في الغلظ كما في استعصم ونحوه، وأوثر الأول لأن المساق ينبىء عن التدرج فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ فاستقام على قصبه وأصوله جمع ساق نحو لابة ولوب وقارة وقور. وقرأ ابن كثير «سوقه» بإبدال الواو المضموم ما قبلها همزة، قيل: وهي لغة ضعيفة، ومن ذلك قوله: أحب المؤقدين إلي موسى يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ بقوته وكثافته وغلظه وحسن منظره، والجملة في موضع الحال أي معجبا لهم، وخصهم تعالى بالذكر لأنه إذا أعجب الزراع وهم يعرفون عيوب الزرع فهو أحرى أن يعجب غيرهم، وهنا تم المثل وهو مثل ضربه الله تعالى للصحابة رضي الله تعالى عنهم قلوا في بدء الإسلام ثم كثروا واستحكموا فترقى أمرهم يوما فيوما بحيث أعجب الناس، وهذا ما اختاره بعضهم وقد أخرجه ابن جرير وابن المنذر، عن الضحاك وابن جرير وعبد بن حميد عن قتادة، وذكرا عنه أنه قال أيضا: مكتوب في الإنجيل سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يخرج منهم قوم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. وفي الكشاف هو مثل ضربه الله تعالى لبدء ملة الإسلام وترقيه في الزيادة إلى أن قوي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 280 واستحكم لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قام وحده ثم قواه الله تعالى بمن معه كما يقوي الطاقة الأولى ما يحتف بها مما يتولد منها، وظاهره أن الزرع هو النبي صلّى الله عليه وسلّم والشطء أصحابه رضي الله تعالى عنهم فيكون مثلا له عليه الصلاة والسلام وأصحابه لا لأصحابه فقط كما في الأول ولكل وجهة، وروي الثاني عن الواقدي، وفي خبر أخرجه ابن جرير. وابن مردويه عن ابن عباس ما يقتضيه. وقوله تعالى: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ علة لما يعرب عنه الكلام من إيجاده تعالى لهم على الوجه الذي تضمنه التمثيل، وظاهر كلام بعضهم أنه علة للتمثيل وليس بذاك، وقيل: علة لما بعده من قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً فإن الكفار إذا سمعوا بما أعد الله تعالى للمؤمنين في الآخرة مع ما لهم في الدنيا من العزة غاظهم ذلك، وهو مع توقف تماميته بحسب الظاهر علي رضي الله تعالى عنه ما يشير إليه أيضا، فقد أخرج الحاكم وصححه عنها في قوله تعالى: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ قالت: أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم، وعن بعض السلف جعل جمل الآية كل جملة مشيرة إلى معين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فعن عكرمة أنه قال: أَخْرَجَ شَطْأَهُ بأبي بكر فَآزَرَهُ بعمر فَاسْتَغْلَظَ بعثمان فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ بعلي رضي الله تعالى عنهم أجمعين. وأخرج ابن مردويه والقاضي أحمد بن محمد الزهري في فضائل الخلفاء الأربعة. والشيرازي في الألقاب عن ابن عباس مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أبو بكر أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ عمر رُحَماءُ بَيْنَهُمْ عثمان تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً علي كرم الله تعالى وجهه يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً طلحة والزبير سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأبو عبيدة بن الجراح وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ بأبي بكر فَاسْتَغْلَظَ بعمر فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ بعثمان يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ بعلي كرم الله تعالى وجهه وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جميع أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم. وأخرج ابن مردويه والخطيب وابن عساكر عنه رضي الله تعالى عنه أيضا في قوله تعالى: كَزَرْعٍ قال: أصل الزرع عبد المطلب أَخْرَجَ شَطْأَهُ محمد صلّى الله عليه وسلّم فَآزَرَهُ بأبي بكر فَاسْتَغْلَظَ بعمر فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ بعثمان لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ بعلي رضي الله تعالى عنه، وكل هذه الأخبار لم تصح فيما أرى ولا ينبغي تخريج ما في الآية عليها، وأعتقد أن لكل من الخلفاء رضي الله تعالى عنهم الحظ الأوفى مما تضمنته، ومتى أريد بالزرع النبي عليه الصلاة والسلام كان حظ علي كرم الله تعالى وجهه من شطأه أوفى من حظ سائر الخلفاء رضي الله تعالى عنه، ولعل مؤازرته ومعاونته البدنية بقتل كثير من الكفرة أعدائه عليه الصلاة والسلام أكثر من مؤازرة غيره من الخلفاء أيضا، ومع هذا لا ينخدش ما ذهب إليه محققو أهل السنة والجماعة في مسألة التفضيل كما لا يخفى على النبيه النبيل، فتأمل والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. ومن باب الإشارة في بعض الآيات: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً يشير عندهم إلى فتح مكة العماء بإدخال الأعيان الثابتة ظاهرة بنور الوجود فيها أي إظهارها للعيان لأجله عليه الصلاة والسلام على أن لام لَكَ للتعليل، وحاصله أظهرنا العالم لأجلك وهو في معنى ما يروونه من قوله سبحانه: «لولاك لولاك ما خلقت الأفلاك» وقيل: يشير إلى فتح باب قلبه عليه الصلاة والسلام إلى حضرة ربوبيته عز وجل بتجلي صفات جماله وجلاله وفتح ما انغلق على جميع القلوب من الأسرار وتفصيل شرائع الإسلام وغير ذلك من فتوحات قلبه صلّى الله عليه وسلّم لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ ليستر وجودك في جميع الأزمنة بوجوده جل وعلا وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بإثبات جميع حسنات العالم في الجزء: 13 ¦ الصفحة: 281 صحيفتك إذ كنت العلة في إظهاره وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً بدعوة الخلق على وجه الجمع والفرق وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ على النفوس الأمّارة ممن تدعوهم إلى الحق نَصْراً عَزِيزاً قلما يشبهه نصر، ومن هنا كان صلّى الله عليه وسلّم أكثر الأنبياء عليهم السلام تبعا، وكان علماء أمته كأنبياء بني إسرائيل إلى غير ذلك مما حصل لأمته بواسطة تربيته عليه الصلاة والسلام لهم وإفاضة الأنوار والأسرار على نفوسهم وأرواحهم، والمراد ليجمع لك هذه الأمور فلا تغفل هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ فسروها بشيء يجمع نورا وقوة وروحا بحيث يسكن إليه ويتسلى به الحزين والضجر ويحدث عنده القيام بالخدمة ومحاسبة النفس وملاطفة الخلق ومراقبة الحق والرضا بالقسم والمنع من الشطح الفاحش، وقالوا: لا تنزل السكينة إلا في قلب نبي أو ولي لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ فيحصل لهم الإيمان العياني والإيمان الاستدلالي البرهاني إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً على جميع المخلوقات إذ كنت أول مخلوق، ومن هنا أحاط صلّى الله عليه وسلّم علما بما لم يحط به غيره من المخلوقات لأنه عليه الصلاة والسلام شاهد خلق جميعها، ومن هذا المقام قال عليه الصلاة والسلام: «كنت نبيا وآدم بين الروح والجسد» وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً إذ كنت أعلم الخلق بصفات الجمال والجلال إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يشير عندهم إلى كمال فناء وجوده صلّى الله عليه وسلّم وبقائه بالله عز وجل، وأيد ذلك بقوله سبحانه: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ المتخلفون عن السير إلى قتال الأنفس الأمارة مِنَ الْأَعْرابِ من سكان بوادي الطبيعة شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا العوائق والعلائق فَاسْتَغْفِرْ لَنا اطلب من الله عز وجل ستر ذلك عن ليتأتى لنا السير يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ لتمكن حب ذلك في قلوبهم وعدم استعدادهم لدخول غيره فيها: رضوا بالأماني وابتلوا بحظوظهم ... وخاضوا بحار الحب دعوى فما ابتلوا قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً أي إن هاتيك العوائق والعلائق لا تجديكم شيئا بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فيجازيكم عليها حسبما تقتضي الحكمة بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ بل حسبتم أن لا يرجع العقل والقوى الروحانية من السالكين السائرين إلى جهاد النفس وطلب مغانم التجليات والانس إلى ما كانوا عليه من إدراك المصالح وتدبير حال المعاش وما تقتضيه هذه النشأة وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ بالله تعالى وشؤونه عز وجل وَكُنْتُمْ في نفس الأمر قَوْماً بُوراً هالكين في مهالك الطبيعة وسوء الاستعداد سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها وهي مغانم التجليات ومواهب الحق لأرباب الحضرات ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ دعونا نسلك مسلككم لننال منالكم يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ في حقهم من حرمانهم المغانم لسوء استعدادهم قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ حكم وقضى مِنْ قَبْلُ إذ كنتم في عالم الأعيان الثابتة فَسَيَقُولُونَ منكرين لذلك بَلْ تَحْسُدُونَنا ولهذا تمنعوننا عن الاتباع بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا ولذلك نسبوا الحسد وهو من أقبح الصفات إلى ذوي النفوس القدسية المطهرة عن جميع الصفات الردية قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ ولا تتركون سدى إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ وهم النفس وقواها تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ ينقادون لحكم رسول العقل المنزه عن شوائب الوهم فَإِنْ تُطِيعُوا الداعي يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً من أنواع المعارف والتجليات وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وهو عذاب الحرمان والحجاب لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى وهو من لم ير في الدار غيره ديارا حَرَجٌ في ترك السلوك والجهاد المطلوب منكم لأنه وراء ذلك وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ وهو من فقد شيخا كاملا سالما عن عيب في كيفية التسليك والإيصال حَرَجٌ في ترك السلوك أيضا، وهو إشارة إلى ما قالوا من أن ترك السلوك خير من السلوك على يد الجزء: 13 ¦ الصفحة: 282 ناقص وَلا عَلَى الْمَرِيضِ بمرض العشق والهيام حَرَجٌ في ذاك أيضا لأنه مجذوب والجذبة خير من السلوك لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ يشير إلى المعاهدين على القتل بسيف المجاهدة تحت سمرة الانفراد عن الأهل والمال، ويقال في أكثر الآيات الآتية نحو هذا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ أعداء الله عز وجل في مقام الفرق رُحَماءُ فيما بَيْنَهُمْ لقوة مناسبة بعضهم بعضا فهم جامعون لصفتي الجلال والجمال سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ له عز وجل وعدم السجود لشيء من الدنيا والأخرى وتلك السيما خلع الأنوار الإلهية، قال عامر بن عبد قيس: كاد وجه المؤمن يخبر عن مكنون عمله وكذلك وجه الكافر وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً سترا لصفاتهم بصفاته عز وجل وَأَجْراً عَظِيماً وهو أن يتجلى سبحانه لهم بأعظم تجلياته وإلا فكل شيء دونه جل جلاله ليس بعظيم، وسبحانه من إله رحيم وملك كريم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 283 سورة الحجرات مدنية كما قال الحسن وقتادة، وعكرمة وغيرهم وفي مجمع البيان عن ابن عباس إلا آية وهي قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى [الحجرات: 13] ولعل من يعتبر ما أخرجه الحاكم في مستدركه. والبيهقي في الدلائل. والبزار في مسنده من طريق الأعمش عن علقمة عن عبد الله قال: ما كان يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الحجرات: 1، 2، 6، 11، 12، 15] أنزل بالمدينة وما كان يا أَيُّهَا النَّاسُ فبمكة يقول بمكية ما استثنى، والحق أن هذا ليس بمطرد. وذكر الخفاجي أنها في قول شاذ مكية، وهي ثماني عشرة آية بالإجماع، ولا يخفى تواخيها مع ما قبلها لكونهما مدنيتين ومشتملتين على أحكام وتلك فيها قتال الكفار وهذه فيها قتال البغاة، وتلك ختمت بالذين آمنوا وهذه افتتحت بالذين آمنوا، وتلك تضمنت تشريفات له صلّى الله عليه وسلّم خصوصا مطلعها وهذه أيضا في مطلعها أنواع من التشريف له عليه الصلاة والسلام، وفي البحر مناسبتها لآخر ما قبلها ظاهر لأنه عز وجل ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه ثم قال سبحانه وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الفتح: 29] إلخ فربما صدر من المؤمن عامل الصالحات بعض شيء مما ينبغي أن ينهى عنه فقال جل وعلا تعليما للمؤمنين وتهذيبا لهم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وتصدير الخطاب بالنداء لتنبيه المخاطبين على أن ما في حيزه أمر خطير يستدعي مزيد اعتنائهم وفرط اهتمامهم بتلقيه ومراعاته، ووصفهم بالإيمان لتنشيطهم والإيذان بأنه داع للمحافظة عليه ورادع عن الإخلال به. وتُقَدِّمُوا من قدم المتعدي، ومعناه جعل الشيء قادما أي متقدما على غيره، وكان مقتضاه أن يتعدى إلى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 284 مفعولين لكن الأكثر في الاستعمال تعديته إلى الثاني بعلى تقول: قدمت فلانا على فلان، وهو هنا محتمل احتمالين: الأول أن يكون مفعوله نسيا والقصد فيه إلى نفس الفعل وهو التقديم من غير اعتبار تعلقه بأمر من الأمور ولا نظر إلى أن المقدم ماذا هو على طريقة قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [المؤمنون: 80، غافر: 68] وقولهم: يعطي ويمنع، فالمعنى لا تفعلوا التقديم ولا تتلبسوا به ولا تجعلوه منكم بسبيل. والثاني أن يكون قد حذف مفعوله قصدا إلى تعميمه لأنه لاحتماله لأمور لو قدر أحدها كان ترجيحا بلا مرجح يقدر أمرا عاما لأنه أفيد مع الاختصار، فالمعنى لا تقدموا أمرا من الأمور، والأول قيل أوفى بحق المقام لإفادته النهي عن التلبس بنفس الفعل الموجب لانتفائه بالكلية المستلزم لانتفاء تعلقه بمفعوله بالطريق البرهاني، ورجح الثاني بأنه أكثر استعمالا، وبأن في الأول تنزيل المتعدي منزلة اللازم وهو خلاف الأصل والثاني سالم منه، والحذف وإن كان خلاف الأصل أيضا أهون من التنزيل المذكور لكثرته بالنسبة إليه، وبغضهم لم يفرق بينهما لتعارض الترجيح عنده وكون مآل المعنى عليهما العموم المناسب للمقام، وذكر أن في الكلام تجوزين، أحدهما في «بين» إلخ فإن حقيقة قولهم بين يدي فلان ما بين العضوين فتجوز بذلك عن الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله قريبا منه بإطلاق اليدين على ما يجاورهما ويحاذيهما فهو من المجاز المرسل. ثانيهما استعارة الجملة وهي التقدم بين اليدين استعارة تمثيلية للقطع بالحكم بلا اقتداء ومتابعة لمن يلزم متابعته تصويرا لهجنته وشناعته بصورة المحسوس فيما نهوا عنه كتقدم الخادم بين يدي سيده في سيره حيث لا مصلحة، فالمراد من لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لا تقطعوا أمرا وتجزموا به وتجترؤوا على ارتكابه قبل أن يحكم الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم ويأذنا فيه، وحاصله النهي عن الإقدام على أمر من الأمور دون الاحتذاء على أمثلة الكتاب والسنة. وجوز أن يكون تُقَدِّمُوا من قدم اللازم بمعنى تقدم كوجه وبين، ومنه مقدمة الجيش خلاف ساقته وهي الجماعة المتقدمة منه، ويعضده قراءة ابن عباس وأبي حيوة والضحاك ويعقوب وابن مقسم «لا تقدموا» بفتح التاء والقاف والدال، وأصله تتقدموا فحذفت إحدى التاءين تخفيفا لأنه من التفعل وهو المطاوع اللازم، ورجح ما تقدم بما سمعت وبأن فيه استعمال اعرف اللغتين وأشهرهما، لا يقال: الظرف إذا تعلق به العامل قد ينزل منزلة المفعول فيفيد العموم كما قرروه في «مالك يوم الدين» فليكن الظرف هاهنا بمنزلة مفعول التقدم مغنيا غناءه، والتقدم بين يدي المرء خروج عن صفة المتابعة حسا فهو أوفق للاستعارة التمثيلية المقصود منها تصوير هجنة الحكم بلا اقتداء ومتابعة لمن يلزم متابعته بصورة المحسوس، فتخريج لا تُقَدِّمُوا على اللزوم أبلغ ولا يضره عدم الشهرة فإنه لا يقاوم الأبلغية المطابقة للمقام لما أشار إليه في الكشف من أن المراد النهي عن مخالفة الكتاب والسنة، والتعدية تفيد أن ذلك بجعل وقصد منه للمخالفة لأن التقديم بين يدي المرء أن تجعل أحدا إما نفسك أو غيرك متقدما بين يديه وذلك أقوى في الذم وأكثر استهجانا للدلالة على تعمد عدم المتابعة لا صدورها عنه كيفما اتفق فافهم ولا تغفل. وجوز أن يكون بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ من باب أعجبني زيد وكرمه فالنهي عن التقدم بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام فكأنه قيل: لا تقدموا بين يدي رسول الله، وذكر الله تعالى لتعظيمه عليه الصلاة والسلام والإيذان بجلالة محله عنده عز وجل ومزيد اختصاصه به سبحانه، وأمر التجوز عليه على حاله، وهو كما قال في الكشف أوفق لما يجيء بعده، فإن الكلام مسوق لإجلاله عليه الصلاة والسلام، وإذا كان استحقاق هذا الإجلال لاختصاصه بالله جل وعلا ومنزلته منه سبحانه فالتقدم بين يدي الله عز شأنه أدخل في النهي وأدخل، وإن جعل مقصودا بنفسه على ما مر فالنهي عن الاستبداد بالعمل في أمر ديني لا مطلقا من غير مراجعة إلى الكتاب والسنة، وعليه تفسير ابن عباس على ما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية عنه أنه قال: أي لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة، وكذا ما أخرجه الجزء: 13 ¦ الصفحة: 285 ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه قال: نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه بل عليهم أن يصغوا ولا يتكلموا. ووجه الدلالة على هذا أن كلامه عليه الصلاة والسلام أريد به ما ينقله عنه تعالى ولفظه أيضا، وما اللفظ من الرسول صلّى الله عليه وسلّم وإن كان المعنى من الوحي أو أراد كلام كل واحد من الله تعالى والرسول عليه الصلاة والسلام، وما أخرج عبد بن حميد. والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهما عن مجاهد أنه قال في ذلك: لا تفتأتوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بشيء حتى يقضي الله تعالى على لسانه يخرج على نحو التخريج الأول لكلام ابن عباس ويكون مؤيدا له، وبعضهم يروى أنه قال: لا تفتاتوا على الله تعالى شيئا حتى يقصه على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجعل مؤيدا لكلام ابن عباس أيضا، وفسر التقدم بين يدي الله تعالى لأن التقدم بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام مكشوف المعنى، ثم إن كل ذلك من باب بيان حاصل المعنى في الجملة. وفي الدر المنثور بعد ذكر المروي عن مجاهد حسبما ذكرنا قال الحفاظ: هذا التفسير على قراءة «تقدموا» بفتح التاء والدال وهي قراءة لبعضهم حكاها الزمخشري وأبو حيان وغيرهما، وكأن ذلك مبني على أن تُقَدِّمُوا على هذه القراءة من قدم كعلم إذا مضى في الحرب ويأتي من باب نصر أيضا إذ الافتيات وهو السبق دون ائتمار من يؤتمر أنسب بذلك. واختار بعض الأجلة جعله من قدم من سفره من باب علم لا غير كما يقتضيه عبارة القاموس، وعليه يكون قد شبه تعجيلهم في قطع الحكم في أمر من أمور الدين بقدوم المسافر من سفره إيذانا بشدة رغبتهم فيه نحو وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان: 23] واختلف في سبب النزول، فأخرج البخاري وابن المنذر وابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قال: «قدم ركب من بني تميم على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: أمّر القعقاع بن معبد، وقال عمر رضي الله تعالى عنه: بل أمر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: ما أردت إلا خلافي، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: ما أردت خلافك فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ حتى انقضت الآية» وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن الحسن أن أناسا ذبحوا قبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم النحر فأمرهم عليه الصلاة والسلام أن يعيدوا ذبحا فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ، وفي الكشاف عنه أن أناسا ذبحوا يوم الأضحى قبل الصلاة فنزلت وأمرهم صلّى الله عليه وسلّم أن يعيدوا ذبحا آخر، والأول ظاهر في أن النزول بعد الأمر والذبح قبل الصلاة يستلزم الذبح قبل رسول الله عليه الصلاة والسلام لأنه صلّى الله عليه وسلّم كان ينحر بعدها كما نطقت به الأخبار، وإلى عدم الاجزاء قبل ذهب الإمام أبو حنيفة والأخبار تؤيده، أخرج الشيخان والترمذي وأبو داود والنسائي عن البراء قال: «ذبح أبو بردة بن نيار قبل الصلاة فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أبدلها فقال: يا رسول الله ليس عندي إلا جذعة فقال صلّى الله عليه وسلّم: اجعلها مكانها ولن تجزي عن أحد بعدك» وفي رواية أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أول ما نبدأ به في يومنا هذا نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء» وكان أبو بردة بن نيار قد ذبح قبل الصلاة الحديث، وفي المسألة كلام طويل محله كتب الفروع فراجعه إن أردته، وعن الحسن أيضا لما استقر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة أتته الوفود من الآفاق فأكثروا عليه بالمسائل فنهوا أن يبتدئوه بالمسألة حتى يكون عليه الصلاة والسلام هو المبتدئ، وأخرج ابن جرير وغيره عن قتادة قال: ذكر لنا أن ناسا كانوا يقولون: لو أنزل في كذا وكذا لكان كذا وكذا فكره الله تعالى ذلك وقدم فيه. وقيل: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى تهامة سرية سبعة وعشرين رجلا عليهم المنذر بن عمرو الساعدي فقتلهم بنو عامر وعليهم عامر بن الطفيل إلا ثلاثة نفر نجوا فلقوا رجلين من بني سليم قرب المدينة فاعتزيا لهم إلى بني عامر لأنهم أعز الجزء: 13 ¦ الصفحة: 286 من سليم فقتلوهما وسلبوهما ثم أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: بئسما صنعتم كانا من سليم أي كانا من أهل العهد لأنهم كانوا معاهدين والسلب ما كسوتهما فوداهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ونزلت أي لا تعملوا شيئا من ذات أنفسكم حتى تستأمروا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم . وأخرج الطبراني في الأوسط، وابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: إن ناسا كانوا يتقدمون الشهر فيصومون قبل النبي صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وفي رواية عن مسروق بن الأجدع بن مالك الهمداني الكوفي دخلت على عائشة رضي الله تعالى عنها وكانت قد تبنته في اليوم الذي يشك فيه فقالت للجارية: اسقيه عسلا فقلت: إني صائم فقالت: قد نهى الله تعالى عن صوم هذا اليوم وفيه نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا إلخ، فالمعنى كما في المعالم لا تصوموا قبل صوم نبيكم، وأول هذا صاحب الكشف فقال: الظاهر عندي أنها استدلت بالآية على أنه ينبغي أن يمتثل أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم ونهيه، وقد نهى عليه الصلاة والسلام وفيه نزلت أي في مثل هذا لدلالتها على وجوب الاتباع والنهي عن الاستبداد إذ لا يلوح ذلك التفسير على وجه ينطبق على يوم الشك وحده إلا بتكلف، وهذا نظير ما نقل عن ابن مسعود في جواب المرأة التي اعترضت عليه أنها قرأت كتاب الله وما وجدت اللعن على الواشمة كما ادعاه رضي الله تعالى عنه من قوله: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه أما رأيت وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] قالت: بلى قال: فإنه نهى عنه. وأنت تعلم بعد الرواية الأولى عن هذا التأويل، ويعلم من هذه الروايات وغيرها أنهم اختلفوا أيضا في تفسير التقدم، وفي كثير منها تفسيره بخاص، وقال بعضهم: إن الآية عامة في كل قول وفعل ويدخل فيها أنه إذا جرت مسألة في مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يسبقوه في الجواب، وأن لا يمشي بين يديه إلا للحاجة، وأن يستأتي في الافتتاح بالطعام، ورجح بأنه الموافق للسياق ولما عرف في الأصول من أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وفي الكلام عليه بناء على ما قاله الطيبي مجاز باعتبار القدر المشترك الصادق على الحقيقة أيضا دون التمثيل وتشبيه المعقول بالمحسوس ويسمى في الأصول بعموم المجاز وفي الصناعة بالكناية لأنها لا تنافي إرادة الحقيقة أيضا ومن هنا يجوز إرادة لا تمشوا بين يديه صلّى الله عليه وسلّم وذكر عليه الرحمة أنه لا يقدر على هذا القول مفعول بل يتوجه النهي إلى نفس الفعل فتأمل، ويحتج بالآية على اتباع الشرع في كل شيء وهو ظاهر مما تقدم، وربما احتج بها نفاة القياس وهو كما قال الكيا باطل منهم. نعم قال الجلال السيوطي: يحتج بها على تقديم النص على القياس، ولعله مبني على أن العمل بالنص أبعد من التقدم بين يدي الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم وَاتَّقُوا اللَّهَ أي في كل ما تأتون وتذرون من الأقوال والأفعال التي من جملتها ما نحن فيه إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لكل مسموع ومنه أقوالكم عَلِيمٌ بكل المعلومات ومنها أفعالكم فمن حقه أن يتقي ويراقب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ شروع في النهي عن التجاوز في كيفية القول عند النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد النهي عن التجاوز في نفس القول والفعل، وإعادة النداء مع قرب العهد به للمبالغة في الإيقاظ والتنبيه والإشعار باستقلال كل من الكلامين باستدعاء الاعتناء بشأنه أي لا تبلغوا بأصواتكم وراء حد يبلغه عليه الصلاة والسلام بصوته. وقرأ ابن مسعود لا ترفعوا بأصواتكم بتشديد «ترفّعوا» وزيادة الباء وقد شدد الأعلم الهذلي في قوله: رفعت عيني بالحجا ... ز إلى أناس بالمناقب والتشديد فيه للمبالغة كزيادة الباء في القراءة إلا أن ليس المعنى فيها أنهم نهوا عن الرفع الشديد تخيلا أن يكون ما دون الشديد مسوغا لهم، ولكن المعنى نهيهم عما كانوا عليه من الجلبة واستجفاؤهم فيما كانوا يفعلون، وهو نظير قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً [آل عمران: 130] . وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أي جهرا كائنا كالجهر الجاري فيما بينكم، فالأول نهى عن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 287 رفع الصوت فوق صوته صلّى الله عليه وسلّم وهذا نهي عن مساواة جهرهم لجهره عليه الصلاة والسلام فإنه المعتاد في مخاطبة الأقران والنظراء بعضهم لبعض، ويفهم من ذلك وجوب الغض حتى تكون أصواتهم دون صوته صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: الأول مخصوص بمكالمته صلّى الله عليه وسلّم لهم وهذا بصمته عليه الصلاة والسلام كأنه قيل: لا ترفعوا أصواتكم فوق صوته إذا نطق ونطقتم ولا تجهروا له بالقول إذا سكت وتكلمتم، ويفهم أيضا وجوب كون أصواتهم دون صوته عليه الصلاة والسلام، فأيا ما كان يكون المآل اجعلوا أصواتكم أخفض من صوته صلّى الله عليه وسلّم وتعهدوا في مخاطبته اللين القريب من الهمس كما هو الدأب عند مخاطبة المهيب المعظم وحافظوا على مراعاة أبهة النبوة وجلالة مقدارها، ومن هنا قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه بعد نزول الآية كما أخرج عبد بن حميد والحاكم وصححه من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة: «والذي أنزل عليك الكتاب يا رسول الله لا أكلمك إلا كأخي السرار حتى ألقى الله تعالى» . وفي رواية أنه قال: يا رسول الله والله لا أكلمك إلا السرار أو أخا السرار حتى ألقى الله تعالى، وكان إذا قدم على رسول الله عليه الصلاة والسلام الوفود أرسل إليهم من يعلمهم كيف يسلمون ويأمرهم بالسكينة والوقار عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان عمر رضي الله تعالى عنه كما في صحيح البخاري. وغيره عن ابن الزبير إذا تكلم عند النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يسمع كلامه حتى يستفهمه، وقيل: معنى وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ إلخ ولا تخاطبوه باسمه وكنيته كما يخاطب بعضكم بعضا وخاطبوه بالنبي والرسول، والكلام عليه أبعد عن توهم التكرار لكنه خلاف الظاهر لأن ذكر الجهر عليه لا يظهر له وجه، وكان الظاهر أن يقال مثلا: ولا تجعلوا خطابه كخطاب بعضكم بعضا. أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ تعليل لما قبله من النهيين على طريق التنازع بتقدير مضاف أي كراهة أن تحبط أعمالكم، والمعنى إني أنهاكم عما ذكر لكراهة حبوط أعمالكم بارتكابه أو تعليل للمنهي عنه، وهو الرفع والجهر بتقدير اللام أي لأن تحبط، والمعنى فعلكم ما ذكر لأجل الحبوط منهي عنه، ولام التعليل المقدرة مستعارة للعاقبة التي يؤدي إليها الفعل لأن الرفع والجهر ليس لأجل الحبوط لكنهما يؤديان إليه على ما تعلمه إن شاء الله تعالى، وفرق بينهما بما حاصله أن الفعل المنهي معلل في الأول والفعل المعلل منهي في الثاني وأيهما كان فمرجع المعنى إلى أن الرفع والجهر كلاهما منصوص الأداء إلى حبوط العمل، وقراءة ابن مسعود. وزيد بن علي «فتحبط» بالفاء أظهر في التنصيص على أدائه إلى الإحباط لأن ما بعد الفاء لا يكون إلا مسببا عما قبلها، وقوله تعالى: وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ حال من فاعل تَحْبَطَ ومفعول تَشْعُرُونَ محذوف بقرينة ما قبله أي والحال أنتم لا تشعرون أنها محبطة، وظاهر الآية مشعر بأن الذنوب مطلقا قد تحبط الأعمال الصالحة، ومذهب أهل السنة أن المحبط منها الكفر لا غير، والأول مذهب المعتزلة ولذا قال الزمخشري: قد دلت الآية على أمرين هائلين: أحدهما أن فيما يرتكب من الآثام يحبط عمل المؤمن، والثاني أن في أعماله ما لا يدرى أنه محبط ولعله عند الله تعالى محبط. وأجاب عن ذلك ابن المنير عليه الرحمة بأن المراد في الآية النهي عن رفع الصوت على الإطلاق، ومعلوم أن حكم النهي الحذر مما يتوقع في ذلك من إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم، والقاعدة المختارة أن إيذاءه عليه الصلاة والسلام يبلغ مبلغ الكفر المحبط للعمل باتفاق فورد النهي عما هو مظنة لأذى النبي صلّى الله عليه وسلّم سواء وجد هذا المعنى أو لا حماية للذريعة وحسما للمادة، ثم لما كان هذا النهي عنه منقسما إلى ما يبلغ مبلغ الكفر وهو المؤذي له عليه الصلاة والسلام وإلى ما لا يبلغ ذلك المبلغ ولا دليل يميز أحد القسمين عن الآخر لزم المكلف أن يكف عن ذلك مطلقا خوف أن يقع فيما هو محبط للعمل وهو البالغ حد الأذى إذ لا دليل ظاهرا يميزه، وإن كان فلا يتفق تمييزه في كثير من الأحيان، وإلى التباس أحد القسمين بالآخر وقعت الإشارة بقوله سبحانه: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ وإلا فلو كان الأمر على الجزء: 13 ¦ الصفحة: 288 ما يعتقده الزمخشري لم يكن لقوله سبحانه: وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ موقع إذ الأمر منحصر بين أن يكون رفع الصوت مؤذيا فيكون كفرا محبطا قطعا وبين أن يكون غير مؤذ فيكون كبيرة محبطة على رأيه قطعا، فعلى كلا حاليه الإحباط به محقق إذن فلا موقع لإدعام الكلام بعدم الشعور مع أن الشعور ثابت مطلقا، ثم قال عليه الرحمة: وهذا التقدير يدور على مقدمتين كلتاهما صحيحة: إحداهما أن رفع الصوت من جنس ما يحصل به الأذى وهذا أمر يشهد به النقل والمشاهدة حتى أن الشيخ ليتأذى برفع التلميذ صوته بين يديه فكيف برتبة النبوة وما تستحقه من الإجلال والإعظام. ثانيتهما أن إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم كفر وهذا ثابت قد نص عليه أئمتنا وأفتوا بقتل من تعرض لذلك كفرا ولا تقبل توبته فما أتاه أعظم عند الله تعالى وأكبر انتهى. وحاصل الجواب أنه لا دليل في الآية على ما ذهب إليه الزمخشري لأنه قد يؤدي إلى الإحباط إذا كان على وجه الإيذاء أو الاستهانة فنهاهم عز وجل عنه وعلله بأنه قد يحبط وهم لا يشعرون، وقيل: يمكن نظرا للمقام أن ينزل إذا همّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم برفع الصوت منزلة الكفر تغليظا إجلالا لمجلسه صلوات الله تعالى عليه وسلامه ثم يرتب عليه ما يرتب على الكفر الحقيقي من الإحباط كقوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ إلى قوله سبحانه: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ [آل عمران: 97] ومعنى وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ عليه وأنتم لا تشعرون أن ذلك بمنزلة الكفر المحبط وليس كسائر المعاصي، ولا يتم بدون الأول، وجاز كما في الكشف أن يكون المراد ما فيه استهانة ويكون من باب فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ [القصص: 86] مما الغرض منه التعريض كيف وهو قول منقول عن الحسن كما حكاه في الكشاف، وقال أبو حيان: إن كانت الآية بمن يفعل ذلك استخفافا فذلك كفر يحبط معه العمل حقيقة، وإن كانت للمؤمن الذي يفعله غلبة وجريا على عادته فإنما يحبط عمله البر في توقير النبي صلّى الله عليه وسلّم وغض الصوت عنده ان لو فعل ذلك كأنه قيل: مخافة أن تحبط الأعمال التي هي معدة أن تعملوها فتؤجروا عليها، ولا يخفى ما في الشق الثاني من التكلف البارد، ثم إن من الجهر ما لم يتناوله النهي بالاتفاق وهو ما كان منهم في حرب أو مجادلة معاندا أو إرهاب عدو أو ما أشبه ذلك مما لا يتخيل منه تأذ أو استهانة، ففي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال للعباس بن عبد المطلب لما ولى المسلمون يوم حنين: ناد أصحاب السمرة فنادى بأعلى صوته أين أصحاب السمرة، وكان رجلا صيتا. يروى أن غارة أتتهم يوما فصاح العباس يا صباحاه فأسقطت الحوامل لشدة صوته، وفيه يقول نابغة بني جعدة: زجر أبي عروة السباع إذا ... اشفق أن يختلطن بالغنم زعمت الرواة أنه كان يزجر السباع عن الغنم فيفتق مرارة السبع في جوفه، وذكروا أنه سئل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فكيف لا تفتق مرارة الغنم؟ فقال: لأنها ألفت صوته، وروى البخاري ومسلم عن أنس لما نزلت هذه الآية جلس ثابت بن قيس في بيته وقال: أنا من أهل النار واحتبس فسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمرو ما شأن ثابت اشتكى؟ قال سعد: إنه جاري وما علمت له بشكوى فأتاه سعد فقال: أنزلت هذه الآية ولقد علمتم إني أرفعكم صوتا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنا من أهل النار فذكر ذلك سعد للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: بل هو من أهل الجنة، وفي رواية أنه لما نزلت دخل بيته وأغلق عليه بابه وطفق يبكي فافتقده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ما شأن ثابت؟ قالوا: يا رسول الله ما ندري ما شأنه غير أنه أغلق باب بيته فهو يبكي فيه فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليه فسأله ما شأنك؟ قال: يا رسول الله أنزل الله عليك هذه الآية وأنا شديد الصوت فأخاف أن أكون قد حبط عملي فقال صلّى الله عليه وسلّم: لست منهم بل تعيش بخير وتموت بخير ، والظاهر أن ذلك منه رضي الله تعالى عنه كان من غلبة الخوف عليه وإلا فلا حرمة قبل النهي، وهو أيضا أجل من أن يكون ممن كان يقصد الاستهانة والإيذاء لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم برفع الصوت وهم المنافقون الذين الجزء: 13 ¦ الصفحة: 289 نزلت فيهم الآية على ما روي عن الحسن وإنما كان الرفع منه طبيعة لما أنه كان في أذنه صمم وعادة كثير ممن به ذلك رفع الصوت، والظاهر أنه بعد نزولها ترك هذه العادة، فقد أخرج الطبراني والحاكم وصححه أن عاصم بن عدي ابن العجلان أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم بحاله فأرسله إليه فلما جاء قال: ما يبكيك يا ثابت؟ فقال: أنا صيت وأتخوف أن تكون هذه الآية نزلت في فقال له عليه الصلاة والسلام: أما ترضى أن تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة؟ قال: رضيت ولا أرفع صوتي أبدا على صوت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. واستدل العلماء بالآية على المنع من رفع الصوت عند قبره الشريف صلّى الله عليه وسلّم، وعند قراءة حديثه عليه الصلاة والسلام لأن حرمته ميتا كحرمته حيا. وذكر أبو حيان كراهة الرفع أيضا بحضرة العالم، وغير بعيد حرمته بقصد الإيذاء والاستهانة لمن يحرم إيذاؤه والاستهانة به مطلقا لكن للحرمة مراتب متفاوتة كما لا يخفى. وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ إلخ ترغيب في الانتهاء عما نهوا عنه بعد الترهيب عن الإخلال به أي يحفظونها مراعاة للأدب أو خشية من مخالفة النهي أُولئِكَ إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة، وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه لما مر مرارا من تفخيم شأنه وهو مبتدأ خبره الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى والجملة خبر إن، وأصل معنى الامتحان التجربة والاختبار، والمراد به هنا لاستحالة نسبته إليه تعالى التمرين بعلاقة اللزوم أي إنهم مرن الله تعالى قلوبهم للتقوى. وفي الكشف الامتحان كناية تلويحية عن صبرهم على التقوى وثباتهم عليها وعلى احتمال مشاقها لأن الممتحن جرب وعود منه الفعل مرة بعد أخرى فهو دال على التمرن الموجب للاضطلاع، والإسناد إليه تعالى للدلالة على التمكين، ففيه على ما قيل مع الكناية تجوز في الإسناد والأصل امتحنوا قلوبهم للتقوى بتمكين الله تعالى لهم، وكأنه إنما اعتبر ذلك لأنه لا يجوز إرادة المعنى الموضوع له هنا فلا يصح كونه كناية عند من يشترط فيها إرادة الحقيقة، ومن اكتفى فيها بجواز الإرادة وإن امتنعت في محل الاستعمال لم يحتج إلى ذلك الاعتبار. واختار الشهاب كون الامتحان مجازا عن الصبر بعلاقة اللزوم، وحاصل المعنى عليه كحاصله على الكناية أي إنهم صبر على التقوى أقوياء على مشاقها أو المراد بالامتحان المعرفة كما حكي عن الجبائي مجازا من باب إطلاق السبب وإرادة المسبب، والمعنى عرف الله قلوبهم للتقوى، وإسناد المعرفة إليه عز وجل بغير لفظها غير ممتنع وهو في القرآن الكريم شائع، على أن الصحيح جواز الإسناد مطلقا لما في نهج البلاغة من إطلاق العارف عليه تعالى، وقد ورد في الحديث أيضا على ما ادعاه بعض الأجلة، واللام صلة لمحذوف وقع حالا من قُلُوبَهُمْ أي كائنة للتقوى مختصة بها، فهو نحو اللام في قوله: وقصيدة رائقة ضوعتها ... أنت لها أحمد من بين البشر وقوله: أعداء من لليعملات على الوجى ... وأضياف ليل بيتوا للنزول أو هي صلة لامتحن، باعتبار معنى الاعتياد أو المراد ضرب الله تعالى قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف الشاقة لأجل التقوى أي لتظهر ويعلم أنهم متقون إذ لا تعلم حقيقة التقوى إلا عند المحن والاصطبار عليها، وعلى هذا فالامتحان هو الضرب بالمحن، واللام للتعليل على معنى أن ظهور التقوى هو الغرض والعلة وإلا فالصبر على المحنة مستفاد من التقوى لا العكس، أو المراد أخلصها للتقوى أي جعلها خالصة لأجل التقوى أو أخلصها لها فلم يبق لغير التقوى فيها حق كأن القلوب خلصت ملكا للتقوى، وهذا أبلغ وهو استعارة من امتحان الذهب وإذابته ليخلص ابريزه من خبثه وينقى أو تمثيل، وتفسير امْتَحَنَ بأخلص رواه ابن جرير وجماعة عن مجاهد، وروي ذلك أيضا عن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 290 الكعبي وأبي مسلم، وقال الواحدي: تقدير الكلام امتحن الله قلوبهم فأخلصها للتقوى فحذف الإخلاص لدلالة الامتحان عليه وليس بذاك. واختار صاحب الكشف ما نقل عنه أولا فقال: الأول أرجح الوجوه لكثرة فائدته من الكناية والإسناد والدلالة على أن مثل هذا الغض لا يتأتى إلا ممن هو مدرب للتقوى صبور عليها فتأمل لَهُمْ في الآخرة مَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَأَجْرٌ عَظِيمٌ لغضهم أصواتهم عند النبي عليه الصلاة والسلام ولسائر طاعاتهم، وتنكير مَغْفِرَةٌ وأَجْرٌ للتعظيم، ففي وصف أجر بعظيم مبالغة في عظمه فإنه مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وجملة لَهُمْ إلخ مستأنفة لبيان جزاء الغاضين احمادا لحالهم كما أخبر عنهم بجملة مؤلفة من معرفتين، والمبتدأ اسم الإشارة المتضمن لما جعل عنوانا لهم، والخبر الموصول بصلة دلت على بلوغهم أقصى الكمال مبالغة في الاعتداد بعضهم والارتضاء له وتعريضا بشناعة الرفع والجهر وإن حال المرتكب لهما على خلاف ذلك، وقيل الجملة خبر ثان لإن وليس بذاك، والآية قيل: أنزلت في الشيخين رضي الله تعالى عنهما لما كان منهما من غض الصوت والبلوغ به أخا السرار بعد نزول الآية السابقة وفي حديث الحاكم. وغيره عن محمد بن ثابت بن قيس أنه قال بعد حكاية قصة أبيه وقوله: لا أرفع صوتي أبدا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ الآية. وأنت تعلم أن حكمها عام ويدخل الشيخان في عمومها وكذا ثابت بن قيس. وقد أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: لما أنزل الله تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: منهم ثابت بن قيس ابن شماس إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ من خارجها خلفها أو قدامها على أن وَراءِ من المواراة والاستتار فما استتر عنك فهو وراء خلفا كان أو قداما إذا لم تره فإذا رأيته لا يكون وراءك، فالوراء بالنسبة إلى من في الحجرات ما كان خارجها لتواريه عمن فيها، وقال بعض أهل اللغة إن وراء من الأضداد فهو مشترك لفظي عليه ومشترك معنوي على الأول وهو الذي ذهب إليه الآمدي وجماعة. والْحُجُراتِ جمع حجرة على وزن فعلة بضم الفاء وسكون العين وهي القطعة من الأرض المحجورة أي الممنوعة عن الدخول فيها بحائط، وتسمى حظيرة الإبل وهي ما تجمع فيه وتكون محجورة بحطب ونحوه حجرة أيضا فهي بمعنى اسم المفعول كالغرفة لما يغرف باليد من الماء، وفي جمعها هنا ثلاثة أوجه، ضم العين اتباعا للفاء كقراءة الجمهور، وفتحها وبه قرأ أبو جعفر. وشيبة. وتسكينها للتخفيف وبه قرأ ابن أبي عبلة. وهذه الأوجه جائزة في جمع كل اسم جامد جاء على هذا الوزن، والمراد حجرات نسائه عليه الصلاة والسلام وكانت تسعة لكل منهن حجرة، وكانت كما أخرج ابن سعد عن عطاء الخراساني من جريد النخل على أبوابها المسوح من شعر أسود. وأخرج البخاري في الأدب. وابن أبي الدنيا والبيهقي عن داود بن قيس قال: رأيت الحجرات من جريد النخل مغشى من خارج بمسوح الشعر، وأظن عرض البيت من باب الحجرة إلى باب البيت ست أو سبع أذرع، وأحزر البيت الداخل عشرة أذرع، وأظن السمك بين الثمان والسبع. وأخرجوا عن الحسن أنه قال: كنت أدخل بيوت أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم في خلافة عثمان بن عفان فأتناول سقفها بيدي، وقد أدخلت في عهد الوليد بن عبد الملك بأمره في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام وبكى الناس لذلك، وقال سعيد بن المسيب يومئذ: والله لوددت أنهم تركوها على حالها لينشو أناس من أهل المدينة ويقدم القادم من أهل الآفاق فيرى ما اكتفى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حياته فيكون ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والتفاخر فيها، وقال نحو ذلك أبو أمامة بن سهل بن حنيف، وفي ذكر الْحُجُراتِ كناية عن خلوته عليه الصلاة والسلام بنسائه لأنها معدة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 291 لها، ولم يقل: حجرات نسائك ولا حجراتك توقيرا له صلّى الله عليه وسلّم وتحاشيا عما يوحشه عليه الصلاة والسلام، ومناداتهم من ورائها إما بأنهم أتوها حجرة حجرة فنادوه من ورائها فيكون القصد إلى الاستغراق العرفي أي جميع حجرات نسائه صلّى الله عليه وسلّم أو بأنهم تفرقوا على الحجرات متطلبين له عليه الصلاة والسلام على أن الاستغراق إفرادي لا شمولي مجموعي ولا أنه من مقابلة الجمع بالجمع المقتضية لانقسام الآحاد على الآحاد لأن من ناداه صلّى الله عليه وسلّم من وراء حجرة منها فقد ناداه من وراء الجميع على ما قيل، وعلى هذا يكون إسناد النداء من إسناد فعل الأبعاض إلى الكل، وقيل: إن الذي نادى رجل واحد كما هو ظاهر خبر أخرجه الترمذي وحسنه. وجماعة عن البراء بن عازب، وما أخرجه أحمد وابن جرير وأبو القاسم البغوي والطبراني وابن مردويه بسند صحيح من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن الأقرع بن حابس أنه أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا محمد اخرج إلينا فلم يجبه عليه الصلاة والسلام فقال: يا محمد إن حمدي زين وإن ذمي شين فقال: ذاك الله فأنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ إلخ، وعليه يكون الإسناد إلى الكل لأنهم رضوا بذلك وأمروا به أو لأنه وجد فيما بينهم، وظاهر الآية أن المنادى جمع وكذا جمع من الأخبار، وسنذكر إن شاء الله تعالى بعضا منها، وحمل الْحُجُراتِ على الجمع الحقيقي هو الظاهر الذي عليه غير واحد من المفسرين، وجوز كون الحجرة واحدة وهي التي كان فيها الرسول عليه الصلاة والسلام وجمعت إجلالا له صلّى الله عليه وسلّم على أسلوب حرمت النساء سواكم، وأيضا لأن حجرته عليه الصلاة والسلام لأنها أم الحجرات وأشرفها بمنزلة الكل على نحو أحد الوجهين في قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ [البقرة: 114] . وفرق الزمخشري بين مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ بإثبات مِنْ وراء الحجرات بإسقاطها بأنه على الثاني يجوز أن يجمع المنادي والمنادى الوراء، وعلى الأول لا يجوز ذلك، وعلله بأن الوراء يصير بدخول من مبتدأ الغاية ولا يجتمع على الجهة الواحدة أن تكون مبتدأ ومنتهى لفعل واحد. واعترضه في البحر بأنه قد صرح الأصحاب في معاني مِنْ أنها تكون لابتداء الغاية وانتهائها في فعل واحد وأن الشيء الواحد يكون محلا لهما ونسبوا ذلك إلى سيبويه وقالوا: إن منه قولهم: أخذت الدرهم من زيد فزيد محل لابتداء الأخذ منه وانتهائه معا قالوا: فمن، تكون في أكثر المواضع لابتداء الغاية فقط، وفي بعض المواضع لابتداء الغاية وانتهائها معا. وصاحب التقريب بقوله فيه نظر، لأن المبدأ والمنتهى إما المنادي والمنادى على ما هو التحقيق أو الجهة، فإن كان الأول جاز أن يجمعها الوراء في إثبات مِنْ وفي إسقاطها لتغاير المبدأ والمنتهى، وإن كان الثاني فالجهة إما ذات أجزاء أو عديمتها، فإن كان الأول جاز أن يجمعهما في إثبات من أيضا باعتبار أجزاء الجهة، وإن كان الثاني لم يجز أن يجمعهما لا في إثبات من ولا في إسقاطها لاتحاد المورد. ورد الأول بأن محل الانتهاء هو المتكلم ليس إلا كما ذكره ابن هشام في المغني، وذكر أن ابن مالك قال: إن مِنْ في المثال للمجاوزة، والثاني غير قادح في الفرق على ما ذكره صاحب الكشف قال: الحاصل أن المبدأ الجهة باعتبار تلبسها بالفاعل لأن حرف الابتداء دخل على الجهة والفعل مما ليست المسافة داخلة في مفهومه فيعتبر الأمر أن تحقيقا لمقتضى الفعل والحرف، ولما أوقع جميع الجهة مبدأ لم يجز أن يكون منتهى سواء كان منقسما أو لا، ثم لما كان الوراء مبهما لم يكن مثل سرت من البصرة إلى جامعها إذ لا يتعين بعضها مبدأ وبعضها منتهى، على أن ذلك أيضا إذا أطلق يجب أن يحمل على أن المنتهى غير البصرة، أما إذا عينت فيجوز مع تجوز والأصل عدم إلا بدليل، ثم هذا الجواز فيما كانت النهاية مكانا أيضا أما إذا اعتبرت باعتبار التلبس بالمفعول فلا، وإذا لم يذكر حرف الابتداء لم يؤد هذا المعنى. فهذا فرق محقق ومنه يظهر أن المذكور في التقريب من النظر غير قادح، وما ذكر من أن التحقيق أن الفعل الجزء: 13 ¦ الصفحة: 292 يبتدىء من الفاعل وينتهي إلى المفعول ويقع في الظرف وأن مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ ووراءها كلاهما ظرف كصلّيت من خلف الإمام وخلفه ومن قبل اليوم وقبله ومعنى الابتداء غير محقق والفرق تعسف ظاهر في أن من زائدة لا فرق بين دخولها وخروجها وهو خلاف الظاهر وإلا لما اختلفوا في زيادتها في الإثبات لشيوع نحو هذا الكلام فيما بينهم، ومتى لم تكن زائدة فلا بد من الفرق بين الكلامين لا سيما إذا كانا من كلامه عز وجل فتدبر. والتعبير عن النداء بصيغة المضارع مع تقدمه على النزول لاستحضار الصورة الماضية لغرابتها. والموصول اسم إن، وجملة قوله تعالى: أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ خبرها وتكرار الإسناد للمبالغة، والمراد أنهم لا يجرون على مقتضى العقل من مراعاة الأدب لا سيما مع أجل خلق الله تعالى وأعظمهم عنده سبحانه صلّى الله عليه وسلّم وكثيرا ما ينزل وجود الشيء منزلة عدمه لمقتض، والحكم على الأكثر دون الكل بذلك لأن منهم من لم يقصد ترك الأدب بل نادى لأمر ما على ما قيل، وجوز أن يكون المراد بالقلة التي يدل عليها نفي الكثرة للعدم فإنه يكنى بها عنه، وتعقبه أبو حيان بأن ذلك في صريح القلة لا في المفهوم من نفي الكثرة، وكان هؤلاء من بني تميم كما صرح به أكثر أهل السير. أخرج ابن إسحاق وابن مردويه عن ابن عباس قال قدم وفد بني تميم وهم سبعون رجلا أو ثمانون رجلا منهم الزبرقان بن بدر: وعطارد بن حاجب بن زرارة وقيس بن عاصم وقيس بن الحارث وعمرو بن الأهتم المدينة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فانطلق معهم عينية بن حصن بن بدر الفزاري وكان يكون في كل سوأة حتى أتوا منزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنادوه من وراء الحجرات بصوت جاف يا محمد اخرج إلينا ثلاثا فخرج إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا محمد إن مدحنا زين وإن شتمنا شين نحن أكرم العرب فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كذبتم بل مدح الله تعالى الزين وشتمه الشين وأكرم منكم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم فقالوا: إنا أتيناك لنفاخرك فذكره بطوله وقال في آخره: فقال التميميون والله إن هذا الرجل لمصنوع له لقد قام خطيبه فكان أخطب من خطيبنا وفاه شاعره فكان أشعر من شاعرنا وفيهم أنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ من بني تميم أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ هذا في القراءة الأولى. وذكر ابن هشام في سيرته عن ابن إسحاق الخبر بطوله وعد منهم الأقرع بن حابس وذكر أنه وعيينة شهدا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتح مكة وحنينا والطائف، وأن عمرو بن الأهتم خلفه القوم في ظهرهم وان خطيبهم عطارد بن حاجب وخطيبه صلّى الله عليه وسلّم ثابت بن قيس بن شماس وشاعرهم الزبرقان بن بدر وشاعره عليه الصلاة والسلام حسان بن ثابت وذكر الخطبتين وما قيل من الشعر وأنه لما فرغ حسان قال الأقرع: وأبي ان هذا الرجل لمؤتى له لخطيبه أخطب من خطيبنا ولشاعره أشعر من شاعرنا ولأصواتهم أعلى من أصواتنا، وأنه لما فرغوا أسلموا وجوزهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأحسن جوائزهم وأرسل لعمرو جائزته كالقوم، وتعقب ابن هشام الشعر بعض التعقب. وفي البحر أيضا ذكر الخبر بطوله مع مخالفة كلية لما ذكره ابن إسحاق، وفيه أن الأقرع قام بعد أن أنشد الزبرقان ما أنشد وأجابه حسان بما أجاب فقال: إني والله لقد جئت لأمر وقد قلت شعرا فاسمعه فقال: أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا إذا خالفونا عند ذكر المكارم وأنا رؤوس الناس من كل معشر وأن ليس في أرض الحجاز كدارم وأن لنا المرباع في كل غارة تكون بنجد أو بأرض التهائم فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لحسان: قم فأجبه فقال: بني دارم لا تفخرون إن فخركم يصير وبالا عند ذكر المكارم هبلتم علينا تفخرون وأنتم لنا خول من بين ظئر وخادم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 293 فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لقد كنت يا أخا دارم غنيا أن يذكر منك ما ظننت أن الناس قد نسوه فكان قوله عليه الصلاة والسلام: أشد عليهم من جميع ما قال حسان ثم رجع حسان إلى شعره فقال: فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم وأموالكم أن يقسموا في المقاسم فلا تجعلوا لله ندا وأسلموا ولا تفخروا عند النبي بدارم وإلا ورب البيت قد مالت القنا على هامكم بالمرهفات الصوارم فقال الأقرع بن حابس: والله ما أدري ما هذا الأمر تكلم خطيبنا فكان خطيبهم أحسن قولا وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أشعر وأحسن قولا، ثم دنا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ما يضرك ما كان قبل هذا انتهى، وهذا ظاهر في أن إسلام الأقرع يومئذ، ومعلوم أن سنة الوفود سنة تسع والطائف وحنين كانتا قبل ذلك، وتقدم عن ابن إسحق أن الأقرع شهدهما مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويتوهم منه أنه كان مسلما إذ ذاك فيتناقض مع هذا بل في أول كلام ابن إسحق وآخره ما يوهم التناقض، والمذكور في الصحاح أنه وكذا عيينة كان إذ ذاك من المؤلفة قلوبهم. وقد روى ابن إسحاق نفسه عن محمد بن إبراهيم أن قائلا قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أصحابه يوم قسمة ما أفاء الله تعالى عليه يوم حنين: يا رسول الله أعطيت عيينة والأقرع مائة وتركت جعيل بن سراقة الضمري فقال: أما والذي نفس محمد بيده لجعيل خير من طلاع الأرض كلهم مثل عيينة والأقرع ولكن تألفتهما ليسلما ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه ، وجاء ما يدل على أنهم من بني تميم مرفوعا. أخرج ابن مردويه من طريق يعلى بن الأشدق عن سعد بن عبد الله أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سئل عن قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ إلخ فقال: هم الجفاة من بني تميم لولا أنهم من أشد الناس قتالا للأعور الدجال لدعوت الله تعالى عليهم أن يهلكهم ، وفي الصحيحين ما يشهد بأنهم من أشد الأمة على الدجال وجعله أبو هريرة أحد أسباب حبهم، وظاهر كثير من الأخبار أن سبب وفودهم المفاخرة، وقال الواقدي. وهو حاطب ليل: إن سببه هو أنهم كانوا قد جهروا السلاح على خزاعة فبعث إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عيينة بن بدر في خمسين ليس فيهم أنصاري ولا مهاجري فأسر منهم أحد عشر رجلا وإحدى عشرة امرأة وثلاثين صبيا فقد رؤساؤهم بسبب أسرائهم ويقال: قدم منهم سبعون أو ثمانون رجلا في ذلك منهم عطارد والزبرقان وقيس بن عاصم وقيس بن الحارث ونعيم بن سعد والأقرع بن حابس ورياح بن الحارث وعمرو بن الأهتم فدخلوا المسجد وقد أذّن بلال الظهر والناس ينتظرون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليخرج إليهم فعجل هؤلاء فنادوه من وراء الحجرات فنزل فيهم ما نزل، ثم ذكر أنه صلّى الله عليه وسلّم أجازهم كل رجل اثنتي عشرة أوقية وكساء ولعمرو بن الأهتم خمس أواق لحداثة سنه انتهى، ولعل زيادة جائزته لما نيل منه أيضا فقد ذكر ابن إسحاق أن عاصم بن قيس كان يبغض عمرا فقال: يا رسول الله إنه قد كان رجل منا في رحالنا وهو غلام حدث وأزرى به فقال لما بلغه ذلك يخاطب قيسا: ظللت مفترش الهلباء تشتمني ... عند الرسول فلم تصدق ولم تصب سدناكم سؤددا رهوا وسؤددكم ... باد نواجذه مقع على الذنب وروي عن عكرمة عن ابن عباس أنهم ناس من بني العنبر أصاب النبي صلّى الله عليه وسلّم من ذراريهم فأقبلوا في فدائهم فقدموا المدينة ودخلوا المسجد وعجلوا أن يخرج إليهم النبي عليه الصلاة والسلام فجعلوا يقولون: يا محمد اخرج إلينا، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 294 وذكر الخفاجي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعث إلى قوم من العرب هم بنو العنبر سرية أميرها عيينة بن حصن فهربوا وتركوا النساء والذراري فسباهم وقدم بهم عليه عليه الصلاة والسلام فجاء رجالهم راجين إطلاق الأسارى فنادوا من وراء الحجرات فخرج صلّى الله عليه وسلّم فأطلق النصف وفادى الباقي، وظاهر كلامه أنهم ليسوا من بني تميم وإن كانت هذه السرية متحدة مع السرية التي أشار إليها الواقدي فيما تقدم، ويقال: إن عيينة في الكلامين هو عيينة بن حصن بن بدر إلا أنه نسب هناك إلى جده وهنا إلى أبيه كان ذلك الكلام ظاهرا في أن القوم كانوا من بني تميم لا أناسا آخرين، وفي القاموس العنبر أبو حي من تميم فبنو العنبر عليه منهم فلم يخرج الأمر عنهم. وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ أي ولو ثبت صبرهم وانتظارهم حتى تخرج لكان الصبر خيرا له من الاستعجال لما فيه من حفظ الأدب وتعظيم النبي صلّى الله عليه وسلّم الموجبين للثناء والثواب أو لذلك والإسعاف بالمسئول على أوفق وجه وأوقعه عندهم بناء على حديث الأسارى بأن يطلق عليه الصلاة والسلام الجميع من غير فداء، فأن المفتوحة المؤولة بالمصدر هنا فاعل فعل مقدر وهو ثبت كما اختاره المبرد والقرينة عليه معنى الكلام، فإن أن تدل على الثبوت وهو إنما يكون في الماضي حقيقة ولذا يقدر الفعل ماضيا. وضمير (كان) للمصدر الدال عليه صَبَرُوا كما في قولك: من كذب كان شرا له أي الكذب ومذهب سيبويه أن المصدر في موضع المبتدأ فقيل: خبره مقدر أي لو صبرهم ثابت وقيل: لا خبر له وأنت تعلم أن في تقدير الفعل إبقاء لَوْ على ظاهرها من دخولها على الفعل فإنها في الأصل شرطية مختصة به، وجوز كون ضمير (كان) لمصدر الفعل المقدر أي لكان ثبوت صبرهم، وصنيع الزمخشري يقتضي أولويته. وأوثرت حَتَّى هنا على- إلى- لأنها موضوعة لما هو غاية في نفس الأمر ويقال له الغاية المضروبة أي المعينة وإلى لما هو غاية في نفس الأمر أو بجعل الجاعل، وإليه يرجع قول المغاربة وغيرهم: إن مجرور حتى دون مجرور إلى لا بد من كونه آخر جزء نحو أكلت السمكة حتى رأسها أو ملاقيا له نحو سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [القدر: 5] ولا يجوز سهرت البارحة حتى ثلثيها أو نصفها فيفيد الكلام معها أن انتظارهم إلى أن يخرج صلّى الله عليه وسلّم أمر لازم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 295 ليس لهم أن يقطعوا أمرا دون الانتهاء إليه، فإن الخروج لما جعله الله تعالى غاية كان كذلك في الواقع، وإلى هذا ذهب الزمخشري، وتوهم ابن مالك أنه لم يقل به أحد غيره، واعترض عليه بقوله: عينت ليلة فما زلت حتى ... نصفها راجيا فعدت يؤوسا وأجيب بأنه على تسليم أنه من كلام من يعتد به مع أنه نادر شاذ لا يرد مثله نقضا مدفوع بأن معنى عينت ليلة عينت وقتا للزيارة وزيارة الأحباب يتعارف فيها أن تقع في أول الليل فقوله: حتى نصفها بيان لغاية الوقت المتعارف للزيارة الذي هو أول الليل والنصف ملاق له، وهو أولى من قول ابن هشام في المغني: إن هذا ليس محل الاشتراط إذ لم يقل: فما زلت في تلك الليلة حتى نصفها وإن كان المعنى عليه، وحاصله أن الاشتراط مخصوص فيما إذا صرح بذي الغاية إذ لا دليل على هذا التخصيص، وخفاء عدم الاكتفاء بتقديم ليلة في صدر البيت. نعم ما ذكر من أصله لا يخلو عن كلام كما يشير إليه كلام صاحب الكشف، ولذا قال الأظهر: إنه أوثر حتى تخرج اختصارا لوجوب حذف أن ووجوب الإظهار في إلى مع أن حتى أظهر دلالة على الغاية المناسبة للحكم وتخالف ما بعدها وما قبلها ولهذا جاءت للتعليل دون إلى، وفي قوله تعالى: إِلَيْهِمْ إشعار بأنه عليه الصلاة والسلام لو خرج لا لأجلهم ينبغي أن يصبروا حتى يفاتحهم بالكلام أو يتوجه إليهم فليس زائدا بل قيد لا بد منه وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ بليغ المغفرة والرحمة فلذا اقتصر سبحانه على النصح والتقريع لهؤلاء المسيئين الأدب التاركين تعظيم رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وقد كان مقتضى ذلك أن يعذبهم أو يهلكهم أو فلم تضق ساحة مغفرته ورحمته عز وجل عن هؤلاء ان تابوا وأصلحوا، ويشير إلى هذا قوله صلّى الله عليه وسلّم للأقرع بعد أن دنا منه عليه الصلاة والسلام وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله: ما يضرك ما كان قبل هذا، وفي الآيات من الدلالة على قبح سوء الأدب مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم ما لا يخفى، ومن هذا وأمثاله تقتطف ثمر الألباب وتقتبس محاسن الآداب كما يحكى عن أبي عبيد وهو في الفضل هو أنه قال: ما دققت بابا على عالم حتى يخرج في وقت خروجه، ونقله بعضهم عن القاسم بن سلام الكوفي، ورأيت في بعض الكتب أن الحبر ابن عباس كان يذهب إلى أبي في بيته لأخذ القرآن العظيم عنه فيقف عند الباب ولا يدق الباب عليه حتى يخرج فاستعظم ذلك أبي منه فقال له يوما: هلا دققت الباب يا ابن عباس؟ فقال: العالم في قومه كالنبي في أمته وقد قال الله تعالى في حق نبيه عليه الصلاة والسلام: وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وقد رأيت هذه القصة صغيرا فعملت بموجبها مع مشايخي والحمد لله تعالى على ذلك. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أخرج أحمد وابن أبي الدنيا والطبراني وابن منده وابن مردويه بسند جيد عن الحارث بن أبي ضرار الخزاعي قال: قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدعاني إلى الإسلام فدخلت فيه وأقررت به ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها وقلت: يا رسول الله أرجع إلى قومي فادعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة فمن استجاب لي جمعت زكاته وترسل إلي يا رسول الله رسولا لإبان كذا وكذا ليأتيك بما جمعت من الزكاة فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يبعث إليه احتبس الرسول فلم يأت فظن الحارث أن قد حدث فيه سخطة من الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام فدعا سروات قومه فقال لهم: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان وقت لي وقتا يرسل إلى رسوله ليقبض ما كان عندنا من الزكاة وليس من رسول الله عليه الصلاة والسلام الخلف ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة فانطلقوا بنا نأتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الوليد بن عقبة بن أبي معيط وهو أخو عثمان رضي الله تعالى عنه لأمه إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة فلما أن سار الوليد إلى أن بلغ بعض الطريق فرق فرجع فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي فضرب الجزء: 13 ¦ الصفحة: 296 رسول الله صلّى الله عليه وسلّم البعث إلى الحارث فأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقبله الحارث وقد فصل عن المدينة قالوا: هذا الحارث فلما غشيهم قال لهم: إلى من بعثتم؟ قالوا: إليك قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله قال: لا والذي بعث محمدا بالحق ما رأيته بتة ولا أتاني فلما دخل الحارث على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟ قال: لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا رآني ولا أقبلت إلا حين احتبس على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خشية أن يكون سخطة من الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فنزل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ إلى قوله سبحانه: حَكِيمٌ وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال: أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا نبي الله إن بني فلان حيا من أحياء العرب وكان في نفسه عليهم شيء وكان حديث عهد بالإسلام قد تركوا الصلاة وارتدوا وكفروا بالله تعالى فلم يعجل رسول الله عليه الصلاة والسلام ودعا خالد بن الوليد فبعثه إليهم ثم قال: ارمقهم عند الصلوات فإن كان القوم قد تركوا الصلاة فشأنك بهم وإلا فلا تعجل عليهم فدنا منهم عند غروب الشمس فكمن حتى يسمع الصلاة فرمقهم فإذا هو بالمؤذن قد قام عند غروب الشمس فإذن ثم أقام الصلاة فصلوا صلاة المغرب فقال خالد: ما أراهم إلا يصلون فلعلهم تركوا صلاة غير هذه ثم كمن حتى إذا جنح الليل وغاب الشفق أذن مؤذنهم فصلوا فقال: لعلهم تركوا صلاة أخرى فكمن حتى إذا كان في جوف الليل تقدم حتى أطل الخيل بدورهم فإذا القوم تعلموا شيئا من القرآن فهم يتهجدون به من الليل ويقرؤونه ثم أتاهم عند الصبح فإذا المؤذن حين طلع الفجر قد أذن وأقام فقاموا وصلوا فلما انصرفوا وأضاء لهم النهار إذا هم بنواصي الخيل في ديارهم فقالوا: ما هذا؟ قالوا: خالد بن الوليد قالوا: يا خالد ما شأنك؟ قال: أنتم والله شأني أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقيل له: إنكم تركتم الصلاة وكفرتم بالله تعالى فجثوا يبكون فقالوا: نعوذ بالله تعالى أن نكفر أبدا فصرف الخيل وردها عنهم حتى أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الآية قال الحسن: فو الله لئن كانت نزلت في هؤلاء القوم خاصة إنها لمرسلة إلى يوم القيامة ما نسخها شيء، والرواية السابقة أصح وأشهر، وكلام صاحب الكشف مصرح بأن بعث خالد بن الوليد كان في قضية الوليد بن عقبة، وأن النبي عليه الصلاة والسلام بعثه إلى أولئك الحي من خزاعة بعد رجوع الوليد وقوله ما قال، والقائل بذلك قال: إنهم سلموا إليه الصدقات فرجع، والخطاب بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شامل للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين من أمته الكاملين منهم محاسن آداب وغيرهم، وتخصيص الخطاب بحسب ما يقع من الأمر بعده إذ يليق بحال بعضهم لا يخرجه عن العموم لوجوده فيما بينهم فلا تغفل، والفاسق الخارج عن حجر الشرع من قولهم: فسق الرطب إذا خرج عن قشرة، قال الراغب: والفسق أعم من الكفر ويقع بالقليل من الذنوب والكثير لكن تعورف فيما كانت كثيرة، وأكثر ما يقال الفاسق لمن التزم حكم الشرع وأقر به ثم أخل بجميع أحكامه أو ببعضها، وإذا قيل للكافر الأصلي فاسق فلأنه أخل بحكم ما ألزمه العقل واقتضته الفطرة. ووصف الإنسان به- على ما قال ابن الأعرابي- لم يسمع في كلام العرب، والظاهر أن المراد به هنا المسلم المخل بشيء من أحكام الشرع أو المروة بناء على مقابلته بالعدل وقد اعتبر في العدالة عدم الإخلال بالمروءة، والمشهور الاقتصار في تعريفه على الإخلال بشيء من أحكام الشرع فلا تغفل، والتبين طلب البيان والتعرف وقريب منه التثبت كما في قراءة ابن مسعود وحمزة، والكسائي «فتثبتوا» وهو طلب الثبات والتأني حتى يتضح الحال وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال يوم نزلت الآية: التثبت من الله تعالى والعجلة من الشيطان» وتنكير فاسِقٌ للتعميم لأنه نكرة في سياق الشرط وهي كالنكرة في سياق النفي تفيد العموم كما قرر في الأصول وكذا نبأ، وهو- كما في القاموس- الخبر، وقال الراغب: لا يقال للخبر في الأصل نبأ حتى يكون ذا فائدة عظيمة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 297 يحصل به علم أو غلبة ظن، وقوله تعالى: إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا تنبيه على أنه إذا كان الخبر شيئا عظيما وما له قدر فحقه أن يتوقف فيه وإن علم أو غلب صحته على الظن حتى يعاد النظر فيه ويتبين فضل تبين، ولما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والذين معن بالمنزلة التي لا يجسر أحد أن يخبرهم بكذب وما كان يقع مثل ما فرط من الوليد إلا في الندرة قيل: إِنْ جاءَكُمْ بحرف الشك، وفي النداء ب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا دلالة على أن الإيمان إذا اقتضى التثبت في نبأ الفاسق فأولى أن يقتضي عدم الفسق، وفي إخراج الفاسق عن الخطاب ما يدل على تشديد الأمر عليه من باب «لا يزني الزاني وهو مؤمن» والمؤمن لا يكذب، واستدل بالآية على أن الفاسق أهل للشهادة وإلا لم يكن للأمر بالتبين فائدة، ألا ترى أن العبد إذا شهد ترد شهادته ولا يتثبت فيها خلافا للشافعي. وعلى جواز قبول خبر العدل الواحد، وقرره الأصوليون بوجهين: أحدهما أنه لو لم يقبل خبره لما كان عدم قبوله معللا بالفسق، وذلك لأن خبر الواحد على هذا التقدير يقتضي عدم القبول لذاته وهو كونه خبر واحد فيمتنع تعليل عدم قبوله بغيره لأن الحكم المعلل بالذات لا يكون معللا بالغير إذ لو كان معللا به اقتضى حصوله به مع أنه حاصل قبله لكونه معللا بالذات وهو باطل لأنه تحصيل للحاصل أو يلزم توارد علتين على معلول واحد في خبر الفاسق، وامتناع تعليله بالفسق باطل للآية فإن ترتب الحكم على الوصف المناسب يغلب على الظن أنه علة له والظن كاف هنا لأن المقصود هو العمل فثبت أن خبر الواحد ليس مردودا وإذا ثبت ذلك ثبت أنه مقبول يعمل به. ثانيهما أن الأمر بالتبين مشروط بمجيء الفاسق ومفهوم الشرط معتبر على الصحيح فيجب العمل به إذا لم يكن فاسقا لأن الظن يعمل به هنا، والقول بالواسطة منتف والقول بأنه يجوز اشتراك أمور في لازم واحد فيعلق بكل منهما بكلمة إن مع أنه لا يلزم من انتفاء ذلك الملزوم انتفاء اللازم غير متوجه لأن الشرط مجموع تلك الأمور وكل واحد منها لا يعد شرطا على ما قرر في الأصول. نعم قال ابن الحاجب وعضد الدين: قد استدل من قبلنا على وجوب العمل بخبر الواحد بظواهر لا تفيد إلا الظن ولا يكفي في المسائل العلمية وذكرا من ذلك الآية المذكورة، ثم إن للقائلين بوجوب العمل به اختلافا كثيرا مذكورا في محله. واستدل الحنفية بها على قبول خبر المجهول الذي لا تعلم عدالته وعدم وجوب التثبت لأنها دلت على أن الفسق شرط وجوب التثبت فإذا انتفى الفسق انتفى وجوبه وهاهنا قد انتفى الفسق ظاهرا ونحن نحكم به فلا يجب التثبت. وتعقب بأنا لا نسلم أنه هاهنا انتفى الفسق بل انتفى العلم به ولا يلزم من عدم العلم بالشيء عدمه والمطلوب العلم بانتفائه ولا يحصل إلا بالخبرة به أو بتزكية خبير به له، قال العضد: إن هذا مبني على أن الأصل الفسق أو العدالة والظاهر أنه الفسق لأن العدالة طارئة ولأنه أكثر. واستدل بها على أن من الصحابة رضي الله تعالى عنهم من ليس بعدل لأن الله تعالى أطلق الفاسق على الوليد بن عقبة فيها، فإن سبب النزول قطعي الدخول وهو صحابي بالاتفاق فيرد بها على من قال: إنهم كلهم عدول ولا يبحث عن عدالتهم في رواية ولا شهادة، وهذا أحد أقوال في المسألة وقد ذهب إليه الأكثر من العلماء السلف والخلف. وثانيها أنهم كغيرهم فيبحث عن العدالة فيهم في الرواية والشهادة إلا من يكون ظاهرها أو مقطوعها كالشيخين. وثالثها أنهم عدول إلى قتل عثمان رضي الله تعالى عنه ويبحث عن عدالتهم من حيث قتله لوقوع الفتن من حينئذ وفيهم الممسك عن خوضها. ورابعها أنهم عدول إلا من قاتل عليا كرم الله تعالى وجهه لفسقه بالخروج على الإمام الحق وإلى هذا ذهبت المعتزلة. والحق ما ذهب إليه الأكثرون وهم يقولون: إن من طرأ له منهم قادح ككذب أو سرقة أو زنا عما بمقتضاه في حقه إلا أنه لا يصر على ما يخل بالعدالة بناء على ما جاء في مدحهم من الآيات والأخبار وتواتر من محاسن الآثار، فلا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 298 يسوغ لنا الحكم على من ارتكب منهم مفسقا بأنه مات على الفسق. ولا ننكر أن منهم من ارتكب في حياته مفسقا لعدم القول بعصمتهم وأنه كان يقال له قبل توبته فاسق لكن لا يقال باستمرار هذا الوصف فيه ثقة ببركة صحبة النبي صلّى الله عليه وسلّم ومزيد ثناء الله عز وجل عليهم كقوله سبحانه وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143] أي عدولا وقوله سبحانه: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110] إلى غير ذلك، وحينئذ إن أريد بقوله: إن من الصحابة من ليس بعدل ان منهم من ارتكب في وقت ما ما ينافي العدالة فدلالة الآية عليه مسلمة لكن ذلك ليس محل النزاع، وإن أريد به أن منهم من استمر على ما ينافي العدالة فدلالة الآية عليه غير مسلمة كما لا يخفى فتدبر فالمسألة بعد تتحمل الكلام وربما تقبل زيادة قول خامس فيها. هذا ثم اعلم أن الفاسق قسمان: فاسق غير متأول وهو ظاهر ولا خلاف في أنه لا يقبل خبره وفاسق متأول كالجبري والقدري ويقال له المبتدع بدعة واضحة، فمن الأصوليين من رد شهادته وروايته للآية ومنهم الشافعي والقاضي، ومنهم من قبلهما، أما الشهادة فلأن ردها لتهمة الكذب والفسق من حيث الاعتقاد لا يدل عليه بل هو إمارة الصدق لأن موقعه فيه تعمقه في الدين، والكذب حرام في كل الأديان لا سيما عند من يقول بكفر الكاذب أو خروجه من الإيمان وذلك يصده عنه إلا من يدين بتصديق المدعي المتحلي بحليته كالخطابية، وكذا من اعتقد بحجية الإلهام، وقد قال عليه الصلاة والسلام: نحن نحكم بالظاهر وأما الرواية فلأن من احترز عن الكذاب على غير الرسول صلّى الله عليه وسلّم فاحترازه من الكذب عليه صلّى الله عليه وسلّم أولى إلا من يعتقد حل وضع الأحاديث ترغيبا أو ترهيبا كالكرامية أو ترويجا لمذهبه كابن الراوندي، وأصحابنا الحنفية قبلوا شهادتهم لما مر دون روايتهم إذا دعوا الناس إلى هواهم، وعلى هذا جمهور أئمة الفقه والحديث لأن الدعوة إلى ذلك داعية إلى النقول فلا يؤتمنون على الرواية ولا كذلك الشهادة. ورجح ما ذهب إليه الشافعي والقاضي بأن الآية تقتضيه والعمل بها أولى من العمل بالحديث لتواترها وخصوصها، والعام يحتمل التخصيص ولأنها لم تخصص إذ كل فاسق مردود، والحديث خص منه خبر الكافر. وأجيب بأن مفهومها أن الفسق هو المقتضي للتثبت فيراد به ما هو إمارة الكذب لا ما هو إمارة الصدق فافهم، وليس من الفسق نحو اللعب بالشطرنج من مجتهد يحله أو مقلد له صوبنا أو خطأنا لوجوب العمل بموجب الظن ولا تفسيق بالواجب. وحد الشافعي عليه الرحمة شارب النبيذ ليس لأنه فاسق بل لزجره لظهور التحريم عنده، ولذا قال: أحده وأقبل شهادته، وكذا الحد في شهادة الزنا لعدم تمام النصاب لا يدل على الفسق بخلافه في مقام القذف فليحفظ. أَنْ تُصِيبُوا تعليل للأمر بالتبين أن فتبينوا كراهة أن تصيبوا أو لئلا تصيبوا قَوْماً أي قوم كانوا بِجَهالَةٍ ملتبسين بجهالة لحالهم، ومآله جاهلين حالهم، فَتُصْبِحُوا فتصيروا بعد ظهور براءتهم عما رموا به عَلى ما فَعَلْتُمْ في حقهم نادِمِينَ مغتمين غما لازما متمنين أنه لم يقع، فإن الندم الغم على وقوع شيء مع تمني عدم وقوعه، ويشعر باللزوم وكذا سائر تصاريف حروفه وتقاليبها كمدن بمعنى لزم الإقامة ومنه المدينة وأدمن الشيء أدام فعله، وزعم بعضهم أن في الآية إشارة إلى أنه يجب على الإنسان تجديد الندم كلما ذكر الذنب ونسب إلى الزمخشري وليس بشيء، وفي الكشف التحقيق أن الندم غم خاص ولزومه قد يقع لقوته في أول الأمر وقد يكون لعدم غيبة موجبه عن الخاطر، وقد يكون لكثرة تذكره ولغير ذلك من الأسباب، وان تجديد الندم لا يجب في التوبة لكن التائب الصادق لا بد له من ذلك. وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ عطف على ما قبله، وأَنَّ بما في حيزها ساد مسد مفعولي اعْلَمُوا باعتبار ما قيد به من الحال وهو قوله عز وجل: لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ أي لوقعتم في الجهد والهلاك فإنه حال من أحد الضميرين في فِيكُمْ الضمير المستتر المرفوع وهو ضمير الرسول أو البارز المجرور وهو ضمير المخاطبين، وتقديم خبر أن للحضر المستتبع زيادة التوبيخ، وصيغة المضارع للاستمرار- فلو- لامتناع استمرار طاعته الجزء: 13 ¦ الصفحة: 299 عليه الصلاة والسلام لهم في كثير مما يعن لهم من الأمور، وكون المراد استمرار الامتناع نظير قيل في قوله تعالى: وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 38 وغيرها] من أن المراد استمرار النفي ليس بذاك، وفي الكلام إشعار بأنهم زينوا بين يدي الرسول صلّى الله عليه وسلّم الإيقاع بالحرث وقومه وقد أريد أن ينعى عليهم ذلك بتنزيلهم منزلة من لا يعلم أنه عليه الصلاة والسلام بين أظهرهم فقيل: واعلموا أنه فيكم لا في غيركم كأنهم حسبوه لعدم تأدبهم وما بدر منهم الفرطة بين أظهر أقوام آخرين كائنا على حال يجب عليكم تغييرها أو وأنتم على كذلك وهو ما تريدون من استتباع رأيه لرأيكم وطاعته لكم مع أن ذلك تعكيس وموجب لوقوعكم في العنت، وفيه مبالغات من أوجه: أحدها إيثار لَوْ ليدل على الفرض والتقدير وأن ما بدر من من التزيين كان من حقه أن يفرض كما يفرض الممتنعات، والثاني ما في العدول إلى المضارع من تصوير ما كانوا عليه وتهجينه من التوبيخ بإرادة استمرار ما حقه أن يكون مفروضا فضلا عن الوقوع، والثالث ما في العنت من الدلالة على أشد المحذور فإنه الكسر بعد الجبر والرمز الخفي على أنه ليس بأول بادرة. والرابع ما في تعميم الخطاب والحري به غير الكمل من التمريض ليكون أردع لمرتكبه وأزجر لغيره كأنه قيل: يا أيها الذين آمنوا تبينوا إن جاءكم فاسق ولا تكونوا أمثال هؤلاء ممن استفزه النبأ قبل تعرف صدقه ثم لا يقنعه ذلك حتى يريد أن يستتبع رأي من هو المتبوع على الإطلاق فيقع هو ويقع غيره في العنت والإرهاق واعلموا جلالة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتفادوا عن أشباه هذه الهنات، وقوله عز وجل: وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ استدراك على ما يقتضيه الكلام فان لَوْ يُطِيعُكُمْ خطاب كما سمعت للبعض الغير الكمل عمم للفوائد المذكورة والمحبب إليهم الإيمان هم الكمل فكأنه قيل: ولكن الله حبب إلى بعضكم الإيمان وعدل عنه لنداء الصفة به، وعليه قول بعض المفسرين هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى، والإشارة بقوله تعالى أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ إليهم، وفيه نوع من الالتفات، والخطاب فيه للرسول صلّى الله عليه وسلّم كأنه تعالى يبصره عليه الصلاة والسلام ما هم فيه من سبق القدم في الرشاد أي إصابة الطريق السوي، فحاصل المعنى أنتم على الحال التي ينبغي لكم تغييرها وقد بدر منكم ما بدر ولكن ثم جمعا عما أنتم عليه من تصديق الكاذب وتزيين الإيقاع بالبريء وإرادة أن يتبع الحق أهواءكم برآء لأن الله تعالى حبب إليهم الإيمان إلخ، وهذا أولى من جعل لَوْ يُطِيعُكُمْ إلخ في معنى ما حبب إليهم الإيمان تغليظا لأن من تصدى للإيقاع بالبريء بين يدي الرسول صلّى الله عليه وسلّم وجسر على ارتكاب تلك العظيمة لم يكن محبوبا إليه الإيمان وإن كان ذلك أيضا سديد الشيوع التصرف في الأواخر في مثله، وجعله بعضهم استدراكا ببيان عذرهم فيما بدر منهم، ومآل المعنى لم يحملكم على ما كان منكم اتباع الهوى ومحبة متابعة النبي صلّى الله عليه وسلّم لآرائكم بل محبة الإيمان وكراهة الكفر هي الداعية لذلك، والمناسب لما بعد ما ذكرناه. وجوز غير واحد من المعربين أن لَوْ يُطِيعُكُمْ استئناف على معنى أنه لما قيل وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ دالا على أنهم جاهلون بمكانه عليه الصلاة والسلام مفرطون فيما يجب من تعظيم شأنه أعلى الله شأنه اتجه لهم أن يسألوا ماذا فعلوا حتى نسبوا إلى التفريط وماذا ينتج من المضرة؟ فأجيبوا بما يصرح بالنتيجة لخفائها ويومىء إلى ما فيها من المعرة من وقوعهم في العنت بسبب استتباع من هو في علو المنصب اقتداء يتخطى أعلى المجرة، وهو حسن لولا أن وَاعْلَمُوا كلام من تتمة الأول كما يؤذن به العطف لا وارد تقريعا على الاستقلال فيأبى التقدير المذكور لتعين موجب التفريط، وأيضا يفوت التعريض وإن ذلك بادرة من بعضهم في قصة ابن عقبة ويتنافر الكلام، هذا وَكَرَّهَ يتعدى بنفسه إلى واحد وإذا شدد زاد له آخر لكنه ضمن في الآية معنى التبغيض فعومل معاملته وحسنه الجزء: 13 ¦ الصفحة: 300 مقابلته لحبب أو نزل إِلَيْكُمُ منزلة مفعول آخر، والْكُفْرَ تغطية نعم الله تعالى بالجحود، والْفُسُوقَ الخروج عن القصد ومأخذه ما تقدم، وَالْعِصْيانَ الامتناع عن الانقياد، وأصله من عصت النواة صلبت واشتدت، والكلام أعني قوله تعالى: وَلكِنَّ اللَّهَ إلخ ثناء عليهم بما يردف التحبيب المذكور والتكريه من فعل الأعمال المرضية والطاعات والتجنب عن الأفعال القبيحة والسيئات على سبيل الكناية ليقع التقابل موقعه على ما سلف آنفا، وقيل: الداعي لذلك ما يلزم على الظاهر من المدح بفعل الغير مع أن الكلام مسوق للثناء عليهم وهو في إيثارهم الإيمان وإعراضهم عن الكفر وأخويه لا في تحبيب الله تعالى الإيمان لهم وتكريهه سبحانه الكفر وما معه إليهم. وأنت تعلم أن الثناء على صفة الكمال اختيارية كانت أولا شائع في عرف العرب والعجم، والمنكر معاند على أن ذلك واقع على الجماد أيضا، والمسلم الضروري أنه لا يمدح الرجل بما لم يفعله على أنه فعله، وإليه الإشارة في قوله تعالى: وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا [آل عمران: 188] أما أنه لا يمدح به على أنه صفة له فليس بمسلم فلا تغفل فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً تعليل للأفعال المستندة إليه عز وجل في قوله سبحانه: وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إلخ وما في البين اعتراض، وجوز كونه تعليلا للراشدين، وصح النصب على القول باشتراط اتحاد الفاعل أي من قام به الفعل وصدر عنه موجدا له أولا لما أن الرشد وقع عبارة عن التحبيب والتزيين والتكريه مسندة إلى اسمه تبارك اسمه فإنه لو قيل مثلا حبب إليكم الإيمان فضلا منه وجعل كناية عن الرشد لصح فيحسن أن يقال: أولئك هم الراشدون فضلا ويكون في قوة أولئك هم المحببون فضلا أو لأن الرشد هاهنا يستلزم كونه تعالى شأنه مرشدا إذ هو مطاوع أرشد، وهذا نظير ما قالوا من أن الإراءة تستلزم رؤية في قوله سبحانه: يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً [الرعد: 12] فيتحد الفاعل ويصح النصب، وجوز كونه مصدرا لغير فعله فهو منصوب إما بحبب أو بالراشدين فإن التحبيب والرشد من فضل الله تعالى وانعامه» وقيل: مفعول به لمحذوف أي يبتغون فضلا وَاللَّهُ عَلِيمٌ مبالغ في العلم فيعلم أحوال المؤمنين وما بينهم من التفاضل حَكِيمٌ يفعل كل ما يفعل من أفضال وإنعام وغيرهما بموجب الحكمة. وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا أي تقاتلوا، وكان الظاهر. اقتتلتا بضمير التثنية كما في قوله تعالى: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما أي بالنصح وإزالة الشبهة إن كانت والدعاء إلى حكم الله عز وجل، والعدول إلى ضمير الجمع لرعاية المعنى فإن كل طائفة من الطائفتين جماعة فقد روعي في الطائفتين معناهما أولا ولفظهما ثانيا على عكس المشهور في الاستعمال، والنكتة في ذلك ما قيل: إنهم أولا في حال القتال مختلطون فلذا جمع أولا ضميرهم وفي حال الصلح متميزون متفارقون فلذا ثني الضمير. وقرأ ابن أبي عبلة «اقتتلتا» بضمير التثنية والتأنيث كما هو الظاهر. وقرأ زيد بن علي، وعبيد بن عمير «اقتتلا» بالتثنية والتذكير باعتبار أن الطائفتين فريقان فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما تعدت وطلبت العلو بغير الحق عَلَى الْأُخْرى ولم تتأثر بالنصيحة فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ أي ترجع إِلى أَمْرِ اللَّهِ أي إلى حكمه أو إلى ما أمر سبحانه به وقرأ الزهري حتى «تفي» بغير همز وفتح الياء وهو شاذ كما قالوا في مضارع جاء يجيء بغير همز فإذا أدخلوا الناصب فتحوا الياء أجروه مجرى بفي مضارع وفي شذوذا، وفي تعليق القتال بالموصول للإشارة إلى علية ما في حيز الصلة أي فقاتلوها لبغيها فَإِنْ فاءَتْ أي رجعت إلى أمره تعالى وأقلعت عن القتال حذرا من قتالكم فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ بفصل ما بينهما على حكم الله تعالى ولا تكتفوا بمجرد متاركتهما عسى أن يكون بينهما قتال في وقت آخر، وتقييد الإصلاح هنا بالعدل لأنه مظنة الحيف لوقوعه بعد المقاتلة وقد أكد ذلك بقوله تعالى: وَأَقْسِطُوا أي اعدلوا في كل ما تأتون وما تذرون إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ فيجازيهم أحسن الجزاء. وفي الكشاف في الإصلاح بالعدل والقسط تفاصيل، إن كانت الباغية من قلة العدد بحيث لا منعة لها ضمنت الجزء: 13 ¦ الصفحة: 301 بعد الفيئة ما جنت، وأن كانت كثيرة ذات منعة وشوكة لم تضمن إلا عند محمد بن الحسن فإنه كان يفتي بأن الضمان يلزمها إذا فاءت، وأما قبل التجمع والتجند أو حين تتفرق عند وضع الحرب أوزارها فما جنته ضمنته عند الجميع فمحمل الإصلاح بالعدل على مذهب محمد واضح منطبق على لفظ التنزيل، وعلى قول غيره وجهه أن يحمل على كون الفئة قليلة العدد، والذي ذكروا من أن الفرض إماتة الضغائن وسل الأحقاد دون ضمان الجنايات ليس بحسن الطباق للمأمور به من أعمال العدل ومراعاة القسط. قال في الكشف، لأن ما ذكروه من إماتة الأضغان داخل في قوله تعالى: فَإِنْ فاءَتْ لأنه من ضرورات التوبة، فاعمال العدل والقسط إنما يكون في تدارك الفرطات ثم قال: والأولى على قول الجمهور أن يقال: الإصلاح بالعدل أنه لا يضمن من الطرفين فإن الباغي معصوم الدم والمال مثل العادل لا سيما وقد تاب فكما لا يضمن العادل المتلف لا يضمنه الباغي الفائي، هذا مقتضى العدل لا تخصيص الضمان بطرف دون آخر. والآية نزلت في قتال وقع بين الأوس والخزرج. أخرج أحمد والبخاري ومسلم وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أنس قال: قيل للنبي صلّى الله عليه وسلّم لو أتيت عبد الله بن أبي فانطلق إليه وركب حمارا وانطلق المسلمون يمشون وهي أرض سبخة فلما انطلق إليه قال: إليك عني فو الله لقد آذاني ريح حمارك فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أطيب ريحا منك فغضب لعبد الله رجال من قومه فغضب لكل منهما أصحابه فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال فأنزل الله تعالى فيهم وَإِنْ طائِفَتانِ الآية ، وفي رواية أن النبي عليه الصلاة والسلام كان متوجها إلى زيارة سعد بن عبادة في مرضه فمر على عبد الله بن أبي بن سلول فقال ما قال فرد عليه عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه نغضب لكل أصحابه فتقاتلوا فنزلت فقرأها صلّى الله عليه وسلّم عليهم فاصطلحوا وكان ابن رواحة خزرجيا وابن أبي أوسيا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال: كان رجل من الأنصار يقال له عمران تحته امرأة يقال لها أم زيد وأنها أرادت أن تزور أهلها فحبسها زوجها وجعلها في علية له لا يدخل عليها أحد من أهلها وأن المرأة بعثت إلى أهلها فجاء قومها فأنزلوها لينطلقوا بها وكان الرجل قد خرج فاستعان أهله فجاء بنو عمه ليحولوا بين المرأة وأهلها فتدافعوا واجتلدوا بالنعال فنزلت فيهم هذه الآية وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فبعث إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأصلح بينهم وقاموا إلى أمر الله عز وجل، والخطاب فيها على ما في البحر لمن له الأمر وروي ذلك عن ابن عباس وهو للوجوب فيجب الإصلاح ويجب قتال الباغية ما قاتلت وإذا كفت وقبضت عن الحرب تركت، وجاء في حديث رواه الحاكم. وغيره حكمها إذا تولت قال عليه الصلاة والسلام: «يا ابن أم عبد هل تدري كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة؟ قال: الله تعالى ورسوله أعلم قال: لا يجهز على جريحها ولا يقتل أسيرها ولا يطلب هاربها ولا يقسم فيؤها» وذكروا أن الفئتين من المسلمين إذا اقتتلا على سبيل البغي منهما جميعا فالواجب أن يمشي بينهما بما يصلح ذات البين ويثمر المكافة والموادعة فإن لم يتحاجزا ولم يصطلحا وأقاما على البغي صيرا إلى مقاتلتهما، وأنهما إذا التحم بينهما القتال لشبهة دخلت عليهما وكلتاهما عند أنفسهما محقة فالواجب إزالة الشبهة بالحجج النيرة والبراهين القاطعة واطلاعهما على مراشد الحق فإن ركبتا متن اللجاج ولم تعملا على شاكلة ما هديتا إليه ونصحتا به من اتباع الحق بعد وضوحه فقد لحقتا باللتين اقتتلا على سبيل البغي منهما جميعا، والتصدي لإزالة الشبهة في الفئة الباغية إن كانت لازم قبل المقاتلة، وقيل: الخطاب لمن يتأتى منه الإصلاح ومقاتلة الباغي فمتى تحقق البغي من طائفة كان حكم إعانة المبغي عليه حكم الجهاد، فقد أخرج الحاكم وصححه. والبيهقي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ما وجدت في نفسي من شيء ما وجدت في نفسي من هذه الآية يعني وَإِنْ طائِفَتانِ إلخ إني لم أقاتل هذه الجزء: 13 ¦ الصفحة: 302 الفئة الباغية كما أمرني الله تعالى- يعني بها معاوية ومن معه الباغين- على علي كرم الله تعالى وجهه، وصرح بعض الحنابلة بأن قتال الباغين أفضل من الجهاد احتجاجا بأن عليا كرم الله تعالى وجهه اشتغل في زمان خلافته بقتالهم دون الجهاد، والحق أن ذلك ليس على إطلاقه بل إذا خشي من ترك قتالهم مفسدة عظيمة دفعها أعظم من مصلحة الجهاد، وظاهر الآية أن الباغي مؤمن لجهل الطائفتين الباغية والمبغي عليها من المؤمنين. نعم الباغي على الإمام ولو جائرا فاسق مرتكب لكبيرة إن كان بغيه بلا تأويل أو بتأويل قطعي البطلان. والمعتزلة يقولون في مثله: إنه فاسق مخلد في النار إن مات بلا توبة، والخوارج يقولون: إنه كافر، والإمامية أكفروا الباغي على علي كرم الله تعالى وجهه المقاتل له واحتجوا بما روي من قوله صلّى الله عليه وسلّم له: «حربك حربي» وفيه بحث. وقرأ ابن مسعود «حتى يفيئوا إلى أمر الله فإن فاؤوا فخذوا بينهم بالقسط» إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ استئناف مقرر لما قبله من الأمر بالإصلاح، وإطلاق الاخوة على المؤمنين من باب التشبيه البليغ وشبهوا بالاخوة من حيث انتسابهم إلى أصل واحد وهو الإيمان الموجب للحياة الأبدية، وجوز أن يكون هناك استعارة وتشبه المشاركة في الإيمان بالمشاركة في أصل التوالد لأن كلا منهما أصل للبقاء إذ التوالد منشأ الحياة والإيمان منشأ البقاء الأبدي في الجنان، والفاء في قوله تعالى: فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ للإيذان بأن الاخوة الدينية موجبة للإصلاح، ووضع الظاهر موضع الضمير مضافا للمأمورين للمبالغة في تأكيد وجوب الإصلاح والتحضيض عليه، وتخصيص الاثنين بالذكر لإثبات وجوب الإصلاح فيما فوق ذلك بطريق الأولوية لتضاعف الفتنة والفساد فيه، وقيل: المراد بالأخوين الأوس والخزرج اللتان نزلت فيهما الآية سمي كلا منهما أخا لاجتماعهم في الجد الأعلى. وقرأ زيد بن ثابت وابن مسعود والحسن بخلاف عنه «إخوانكم» جمعا على وزن غلمان. وقرأ ابن سيرين «إخوتكم» جمعا على وزن غلمة، وروى عبد الوارث عن أبي عمرو القراءات الثلاث، قال أبو الفتح: وقراءة الجمع تدل على أن قراءة الجمهور لفظها لفظ التثنية ومعناها الجماعة أي كل اثنين فصاعدا من المسلمين اقتتلا، والإضافة لمعنى الجنس نحو لبيك وسعديك، ويغلب الاخوان في الصداقة والاخوة في النسب وقد يستعمل كل منهما مكان الآخر وَاتَّقُوا اللَّهَ في كل ما تأتون وما تذرون من الأمور التي من جملتها ما أمرتم به من الإصلاح، والظاهر أن هذا عطف على فَأَصْلِحُوا وقال الطيبي: هو تذييل للكلام كأنه قيل: هذا الإصلاح من جملة التقوى فإذا فعلتم التقوى دخل فيه هذا التواصل، ويجوز أن يكون عطفا على فَأَصْلِحُوا أي واصلوا بين أخويكم بالصلح واحذروا الله تعالى من أن تتهاونوا فيه لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي لأجل أن ترحموا على تقواكم أو راجين أن ترحموا عليها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ أي منكم مِنْ قَوْمٍ آخرين منكم أيضا، فالتنكير في الموضعية للتبعيض، والسخر الهزؤ كما في القاموس، وفي الزواجر النظر إلى المسخور منه بعين النقص، وقال القرطبي: السخرية الاستحقار والاستهانة والتنبيه على العيوب والنقائص بوجه يضحك منه وقد تكون بالمحاكاة بالفعل والقول أو الاشارة أو الإيماء أو الضحك على كلام المسخور منه إذا تخبط فيه أو غلط أو على صنعته أو قبح صورته، وقال بعض: هو ذكر الشخص بما يكره على وجه مضحك بحضرته، واختير أنه احتقاره قولا أو فعلا بحضرته على الوجه المذكور، وعليه ما قيل المعنى: لا يحتقر بعض المؤمنين بعضا. والآية على ما روي عن مقاتل نزلت في قوم من بني تميم سخروا من بلال. وسلمان وعمار وخباب وصهيب وابن نهيرة وسالم مولى أبي حذيفة رضي الله تعالى عنهم، ولا يضر فيه اشتمالها على نهي النساء عن السخرية كما لا يضر اشتمالها على نهي الرجال عنها فيما روي أن عائشة وحفصة رأتا أم سلمة ربطت حقويها بثوب أبيض وسدلت طرفه خلفها فقالت عائشة لحفصة تشير إلى ما تجر خلفها: كأنه لسان كلب فنزلت، وما روي عن عائشة أنها كانت تسخر من زينب بنت خزيمة الهلالية وكانت قصيرة فنزلت، وقيل: نزلت بسبب عكرمة بن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 303 أبي جهل كان يمشي بالمدينة فقال له قوم: هذا ابن فرعون هذه الأمة فعز ذلك عليه وشكاهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت، وقيل غير ذلك وقوله عز وجل: عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ تعليل للنهي أو لموجبه أي عسى أن يكون المسخور منهم خيرا عند الله تعالى من الساخرين فرب اشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله تعالى لأبره، وجوز أن يكون المعنى لا يحتقر بعض بعضا عسى أن يصير المحتقر- اسم مفعول- عزيز أو يصير المحتقر ذليلا فينتقم منه، فهو نظير قوله: لا تهين الفقير علك أن ... تركع يوما والدهر قد رفعه والقوم جماعة الرجال ولذلك قال سبحانه: وَلا نِساءٌ أي ولا يسخر نساء من المؤمنات مِنْ نِساءٍ منهن عَسى أَنْ يَكُنَّ أي المسخورات خَيْراً مِنْهُنَّ أي من الساخرات، وعلى هذا جاء قول زهير: وما أدري وسوف إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء وهو إما مصدر كما في قول بعض العرب: إذا أكلت طعاما أحببت نوما وأبغضت قوما أي قياما نعت به فشاع في جماعة الرجال، وإما اسم جمع لقائم كصوم لصائم وزور لزائر، وأطلق عليه بعضهم الجمع مريدا به المعنى اللغوي وإلا ففعل ليس من أبنية الجموع لغلبته في المفردات، ووجه الاختصاص بالرجال أن القيام بالأمور وظيفتهم كما قال تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ [النساء: 34] وقد يراد به الرجال والنساء تغليبا كما قيل في قوم عاد وقوم فرعون أن المراد بهم الذكور والإناث وقيل: المراد بهم الذكور أيضا ودل عليهن بالالتزام العادي لعدم الانفكاك عادة، والنساء على ما قال الراغب وغيره وكذا النسوان والنسوة جمع المرأة من غير لفظها، وجيء بما يدل على الجمع في الموضعين دون المفرد كأن يقال: لا يسخر رجل من رجل ولا امرأة من امرأة مع أنه الأصل الأشمل الأعم قيل جريا على الأغلب من وقوع السخرية في مجامع الناس فكم من متلذذ بها وكم من متألم منها فجعل ذلك بمنزلة تعدد الساخر والمسخور منه، وقيل: لأن النهي ورد على الحالة الواقعة بين الجماعة كقوله تعالى: لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً [آل عمران: 130] وعموم الحكم لعموم علته، وعَسى في نحو هذا التركيب من كل ما أسندت فيه إلى أن والفعل قيل تامة لا تحتاج إلى خبر وأن وما بعدها في محل رفع على الفاعلية، وقيل: إنها ناقصة وسد ما بعدها مسد الجزأين وله محلان باعتبارين أو محله الرفع، والتحكم مندفع بأنه الأصل في منصوبها بناء على أنها من نواسخ المبتدأ والخبر. وقرأ عبد الله وأبيّ «عسوا أن يكونوا» . «وعسين عن أن يكن» فعسى عليها ذات خبر على المشهور من أقوال النحاة، وفيه الاخبار عن الذات بالمصدر أو يقدر مضاف مع الاسم أو الخبر، وقيل: هو في مثل ذلك بمعنى قارب وأن وما معها مفعول أو قرب وهو منصوب على إسقاط الجار وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ لا يعب بعضكم بعضا بقول أو إشارة لأن المؤمنين كنفس واحدة فمتى عاب المؤمن المؤمن فكأنه عاب نفسه، فضمير تَلْمِزُوا للجميع بتقدير مضاف، وأَنْفُسَكُمْ عبارة عن بعض آخر من جنس المخاطبين وهم المؤمنون جعل ما هو من جنسهم بمنزلة أنفسهم وأطلق الأنفس على الجنس استعارة كما في قوله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة: 128] وقوله سبحانه: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: 29] وهذا غير النهي السابق وإن كان كل منهما مخصوصا بالمؤمنين بناء على أن السخرية احتقار الشخص مطلقا على وجه مضحك بحضرته، واللمز التنبيه على معايبه سواء كان على مضحك أم لا؟ وسواء كان بحضرته أم لا كما قيل في تفسيره، وجعل عطفه عليه من قبيل عطف العام على الخاص الجزء: 13 ¦ الصفحة: 304 لإفادة الشمول كشارب الخمر وكل فاسق مذموم، ولا يتم إلا إذا كان التنبيه المذكور احتقارا، ومنهم من يقول: السخرية الاحتقار واللمز التنبيه على المعايب أو تتبعها والعطف من قبيل عطف العلة على المعلول وقيل: اللمز مخصوص بما كان من السخرية على وجه الخفية كالإشارة فهو من قبيل عطف الخاص على العام لجعل الخاص كجنس آخر مبالغة، واختار الزمخشري أن المعنى وخصوا أنفسكم أيها المؤمنون بالانتهاء عن عيبها والطعن فيها ولا عليكم أن تعيبوا غيركم ممن لا يدين بدينكم ولا يسير بسيرتكم، ففي الحديث «اذكروا الفاجر بما فيه يحذره الناس» وتعقب بأنه لا دليل على الاختصاص. وقال الطيبي: هو من دليل الخطاب لكن ان في هذا الوجه تعسفا والوجه الآخر. يعني ما تقدم. أوجه لموافقته لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ وإِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وفي الكشف أخذ الاختصاص من العدول عن الأصل وهو لا يلمز بعضكم بعضا كأنه قيل: ولا تلمزوا من هو على صفتكم من الإيمان والطاعة فيكون من باب ترتب الحكم على الوصف، وتعقب قول الطيبي بأن الكلام عليه يفيد العلية والاختصاص معا فيوافق ما سبق ويؤذن بالفرق بين السخرية واللمز وهو مطلوب في نفسه وكأنه قيل: لا تلمزوا المؤمنين لأنهم أنفسكم ولا تعسف فيه بوجه إلى آخر ما قال فليتأمل، والإنصاف أن المتبادر ما تقدم، وقيل: المعنى لا تفعلوا ما تلمزون به فإن من فعل ما يستحق به اللمز فقد لمز نفسه فانفسكم على ظاهره والتجوز في تَلْمِزُوا أطلق فيه المسبب على السبب والمراد لا ترتكبوا أمرا تعابون به، وهو بعيد عن السياق وغير مناسب لقوله تعالى: وَلا تَنابَزُوا وكونه من التجوز في الإسناد إذ أسند فيه ما للمسبب إلى السبب تكلف ظاهر، وكذا كونه كالتعليل للنهي السابق لا يدفع كونه مخالفا للظاهر، وكذا كون المراد به لا تتسببوا إلى الطعن فيكم بالطعن على غيركم كما في الحديث «من الكبائر أن يشتم الرجل والديه» وفسر بأنه إن شتم والدي غيره شتم الغير والديه أيضا. وقرأ الحسن والأعرج وعبيد عن أبي عمرو «لا تلمزوا» بضم الميم وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ أي لا يدع بعضكم بعضا باللقب، قال في القاموس: التنابز التعاير والتداعي بالألقاب ويقال نبزه ينبزه نبزا بالفتح والسكون لقبه كنبزه والنبز بالتحريك وكذا النزب اللقب وخص عرفا بما يكرهه الشخص من الألقاب. وعن الرضي أن لفظ اللقب في القديم كان في الذم أشهر منه في المدح، والنبز في الذم خاصة، وظاهر تفسير التنابز بالتداعي بالألقاب اعتبار التجريد في الآية لئلا يستدرك ذكر الألقاب، ومن الغريب ما قيل: التنابز الترامي أي لا تتراموا بالألقاب ويراد به ما تقدم، والمنهي عنه هو التلقيب بما يتداخل المدعو به كراهة لكونه تقصيرا به وذما له وشينا. قال النووي: اتفق العلماء على تحريم تلقيب الإنسان بما يكره سواء كان صفة له أو لأبيه أو لأمه أو غيرهما فقد روي أن الآية نزلت في ثابت بن قيس وكان به وقر فكانوا يوسعون له في مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليسمع فأتى يوما وهو يقول: تفسحوا حتى انتهى إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال لرجل: تنح فلم يفعل فقال: من هذا؟ فقال الرجل: أنا فلان فقال: بل أنت ابن فلانة يريد أما كان يعير بها في الجاهلية فخجل الرجل فنزلت فقال ثابت: لا أفخر على أحد في الحسب بعدها أبدا. وأخرج البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وجماعة عن ابن جبير وابن الضحاك قال: فينا نزلت في بني سلمة وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة فكان إذا دعا أحدا منهم باسم من تلك الأسماء قالوا: يا رسول الله انه يكرهه فنزلت وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال: التنابز بالألقاب أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب منها وراجع الحق فنهى الله تعالى أن يعير بما سلف من عمله، وعن ابن مسعود هو أن يقال اليهودي أو النصراني أو المجوسي إذا أسلم يا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 305 يهودي أو يا نصراني أو يا مجوسي، وعن الحسن نحوه، ولعل مأخذه ما روي أنها نزلت في صفية بنت حيي أتت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: إن النساء يقلن لي يا يهودية بنت يهوديين فقال لها: هلا قلت: إن أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد صلّى الله عليه وسلّم. وأنت تعلم أن النهي عما ذكر داخل في عموم لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ على ما سمعت فلا يختص التنابز بقول يا يهودي ويا فاسق ونحوهما، ومعنى قوله تعالى: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب التنابز أن يذكروا بالفسق بعد اتصافهم بالإيمان، وهو ذم على اجتماع الفسق وهو ارتكاب التنابز والإيمان على معنى لا ينبغي أن يجتمعا فإن الإيمان يأبى الفسق كقولهم: بئس الشأن بعد الكبرة الصبوة يريدون استقباح الجمع بين الصبوة وما يكون في حال الشباب من الميل إلى الجهل وكبر السن. والِاسْمُ هنا بمعنى الذكر من قولهم: طار اسمه في الناس بالكرم أو اللؤم فلا تأبى هذه الآية حمل ما تقدم على النهي عن التنابز مطلقا، وفيها تسميته فسوقا، وقيل: بَعْدَ الْإِيمانِ أي بدله كما في قولك للمتحول عن التجارة إلى الفلاحة: بئست الحرفة الفلاحة بعد التجارة، وفيه تغليظ بجعل التنابز فسقا مخرجا عن الإيمان، وهذا خلاف الظاهر. وذكر الزمخشري له مبني على مذهبه من أن مرتكب الكبيرة فاسق غير مؤمن حقيقة، وقيل: معنى النهي السابق لا ينسبن أحدكم غيره إلى فسق كان فيه بعد اتصافه بضده، ومعنى هذا بئس تشهير الناس وذكرهم بفسق كانوا فيه بعد ما اتصفوا بضده، فيكون الكلام نهيا عن أن يقال ليهودي أسلم يا يهودي أو نحو ذلك، والأول أظهر لفظا وسياقا ومبالغة، والجملة على كل متعلقة بالنهي عن التنابز على ما هو الظاهر، وقيل: هي على الوجه السابق متعلقة بقوله تعالى: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ أو بجميع ما تقدم من النهي، وعلى هذا اقتصر ابن حجر في الزواجر. ويستثنى من النهي الأخير دعاء الرجل الرجل بلقب قبيح في نفسه لا على قصد الاستخفاف به والإيذاء له كما إذا دعت له الضرورة لتوقف معرفته كقول المحدثين: سليمان الأعمش وواصل الأحدب، وما نقل عن ابن مسعود أنه قال لعلقمة: تقول أنت ذلك يا أعور ظاهر في أن الاستثناء لا يتوقف على دعاء الضرورة ضرورة أنه لا ضرورة في حال مخاطبته علقمة لقوله يا أعور، ولعل الشهرة مع عدم التأذي وعدم قصد الاستخفاف كافية في الجواز، ويقال ما كان من ابن مسعود من ذلك، والأولى أن يقال في الرواية عمن اشتهر بذلك كسليمان المتقدم روي عن سليمان الذي يقال له الأعمش، هذا وغوير بين صيغتي تَلْمِزُوا وتَنابَزُوا لأن الملموز قد لا يقدر في الحال على عيب يلمز به لامزه فيحتاج إلى تتبع أحواله حتى يظفر ببعض عيوبه بخلاف النبز فإن من لقب بما يكره قادر على تلقيب الآخر بنظير ذلك حالا فوقع التفاعل كذا في الزواجر، وقيل: قيل تَنابَزُوا لأن النهي ورد على الحالة الواقعة بين القوم، ويعلم من الآية أن التلقيب ليس محرما على الإطلاق بل المحرم ما كان بلقب السوء، وقد صرحوا بأن التلقيب بالألقاب الحسنة مما لا خلاف في جوازه، وقد لقب أبو بكر رضي الله تعالى عنه بالعتيق لقوله عليه الصلاة والسلام له: «أنت عتيق الله من النار» وعمر رضي الله تعالى عنه بالفاروق لظهور الإسلام يوم إسلامه، وحمزة رضي الله تعالى عنه بأسد الله لما أن إسلامه كان حمية فاعتز الإسلام به، وخالد بسيف الله لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «نعم عبد الله خالد بن الوليد سيف من سيوف الله» إلى غير ذلك من الألقاب الحسنة وألقاب علي كرم الله وجهه أشهر من أن تذكر وما زالت الألقاب الحسنة في الأمم كلها من العرب والعجم تجري في مخاطباتهم ومكاتباتهم ويراعى فيها المعنى بخلاف العلم، ولذلك قال الشاعر: وقلما أبصرت عيناك ذا لقب. إلا ومعناه أن فتشت في لقبه بدخوله في مفهومه لكن الشائع غير ذلك، وفي الحديث «كنّوا أولادكم» قال عطاء: مخافة الألقاب وقال عمر رضي الله تعالى عنه: أشيعوا الكنى فإنها سنة، ولنا في الجزء: 13 ¦ الصفحة: 306 الكنى كلام نفيس ذكرناه في الطراز المذهب فمن أراده فليرجع وَمَنْ لَمْ يَتُبْ عما نهى عنه من التنابز أو من الأمور الثلاثة السابقة أو مطلقا ويدخل ما ذكر فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ بوضع العصيان موضع الطاعة وتعريض النفس للعذاب، والإفراد أولا والجمع ثانيا مراعاة للفظ ومراعاة للمعنى. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ أي تباعدوا منه، وأصل اجتنبه كان على جانب منه ثم شاع في التباعد اللازم له، وتنكير كَثِيراً ليحتاط في كل ظن ويتأمل حتى يعلم أنه من أي القبيل، فإن من الظن ما يباح اتباعه كالظن في الأمور المعاشية، ومنه ما يجب كالظن حيث لا قاطع فيه من العمليات كالواجبات الثابتة بغير دليل قطعي وحسن الظن بالله عز وجل، ومنه ما يحرم كالظن في الإلهيات والنبوات وحيث يخالفه قاطع وظن السوء بالمؤمنين، ففي الحديث «أن الله تعالى حرم من المسلم دمه وعرضه وأن يظن به ظن السوء» وعن عائشة مرفوعا من أسماء بأخيه الظن فقد أساء بربه الظن إن الله تعالى يقول: اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ ويشترط في حرمة هذا أن يكون المظنون به ممن شوهد منه التستر والصلاح وأونست منه الأمانة، وأما من يتعاطى الريب والمجاهرة بالخبائث كالدخول والخروج إلى حانات الخمر وصحبة الغواني الفاجرات وإدمان النظر إلى المرد فلا يحرم ظن السوء فيه وإن كان الظان لم يره يشرب الخمر ولا يزني ولا يعبث بالشباب. أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن سعيد بن المسيب قال: كتب إلي بعض اخواني من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن ضع أمر أخيك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلبك، ولا تظنن بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرا وأنت تجد لها في الخير محملا، ومن عرض نفسه للتهم فلا يلومن إلا نفسه، ومن كتم سره كانت الخيرة في يده، وما كافيت من عصى الله تعالى فيك بمثل أن تطيع الله تعالى فيه، وعليك بإخوان الصدق فكن في اكتسابهم فإنهم زينة في الرخاء وعدة عند عظيم البلاء ولا تهاون بالحلف فيهينك الله تعالى، ولا تسألن عما لم يكن حتى يكون ولا تضع حديثك إلا عند من تشتهيه، وعليك بالصدق وإن قتلك، واعتزل عدوك واحذر صديقك إلا الأمين ولا أمين إلا من خشي الله تعالى، وشاور في أمرك الذين يخشون ربهم بالغيب. وعن الحسن كنا في زمان الظن بالناس حرام وأنت اليوم في زمان اعمل واسكت وظن بالناس ما شئت، واعلم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 307 أن ظن السوء إن كان اختياريا فالأمر واضح، وإذا لم يكن اختياريا فالمنهي عنه العمل بموجبه من احتقار المظنون به وتنقيصه وذكره بما ظن فيه، وقد قيل نظير ذلك في الحسد على تقدير كونه غير اختياري، ولا يضر العمل بموجبه بالنسبة إلى الظان نفسه كما إذا ظن بشخص أنه يريد به سوءا فتحفظ من أن يلحقه منه أذى على وجه لا يلحق ذلك الشخص به نقص، وهو محمل خبر «إن من الحزم سوء الظن» وخبر الطبراني «احترسوا من الناس بسوء الظن» ، وقيل: المنهي عنه الاسترسال معه وترك إزالته بنحو تأويل سببه من خبر ونحوه، وإلا فالأمر الغير الاختياري نفسه لا يكون مورد التكليف، وفي الحديث «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ثلاث لازمات أمتي الطيرة والحسد وسوء الظن فقال رجل: ما يذهبهن يا رسول الله ممن هن فيه؟ قال: إذا حسدت فاستغفر الله وإذا ظننت فلا تحقق وإذا تطيرت فامض» أخرجه الطبراني عن حارثة بن النعمان إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ تعليل بالأمر بالاجتناب أو لموجبه بطريق الاستئناف التحقيقي، والإثم الذنب الذي يستحق العقوبة عليه، ومنه قيل لعقوبته الأثام فعال منه كالنكال، قال الشاعر: لقد فعلت هذي النوى بي فعلة ... أصاب النوى قبل الممات أثامها والهمزة فيه على ما قال الزمخشري بدل من الواو كأنه يثم الأعمال أي يكسرها لكونه يضربها في الجملة وإن لم يحبطها قطعا: وتعقب بأن الهمزة ملتزمة في تصاريفه تقول: إثم يأثم فهو آثم وهذا إثم وتلك آثام، وإن أثم من باب علم، ووثم من باب ضرب، وإنه ذكره في باب الهمزة في الأساس، والواوي متعد وهذا لازم. وَلا تَجَسَّسُوا ولا تبحثوا عن عورات المسلمين ومعايبهم وتستكشفوا عما ستروه، تفعل من الجس باعتبار ما فيه من معنى الطلب كاللمس فإن من يطلب الشيء يجسه ويلمسه فأريد به ما يلزمه، واستعمال التفعل للمبالغة وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن سيرين «ولا تحسسوا» بالحاء من الحس الذي هو أثر الجس وغايته، ولهذا يقال لمشاعر الإنسان الحواس والجواس بالحاء والجيم، وقيل التجسس والتحسس متحدان ومعناهما معرفة الأخبار، وقيل: التجسس بالجيم تتبع الظواهر وبالحاء تتبع البواطن، وقيل: الأول أن تفحص بغيرك والثاني أن تفحص بنفسك، وقيل: الأول في الشر والثاني في الخير، وهذا بفرض صحته غير مراد هنا والذي عليه الجمهور أن المراد على القراءتين النهي عن تتبع العورات مطلقا وعدوه من الكبائر. أخرج أبو داود وابن المنذر وابن مردويه عن أبي برزة الأسلمي قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تتبعوا عورات المسلمين فإن من تتبع عورات المسلمين فضحه الله تعالى في قعر بيته» وفي رواية البيهقي عن البراء بن عازب أنه صلّى الله عليه وسلّم نادى بذلك حتى اسمع العواتق في الخدر. وأخرج أبو داود وجماعة عن زيد بن وهب قلنا لابن مسعود: هل لك في الوليد بن عقبة بن معيط تقطر لحيته خمرا؟ فقال ابن مسعود: قد نهينا عن التجسس فإن ظهر لنا شيء أخذنا به. وقد يحمل مزيد حب النهي عن المنكر على التجسس وينسى النهي فيعذر مرتكبه كما وقع ذلك لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. أخرج الخرائطي في مكارم الأخلاق عن ثور الكندي أن عمر رضي الله تعالى عنه كان يعس بالمدينة فسمع صوت رجل في بيت يتغنى فتسور عليه فوجد عنده امرأة وعنده خمر فقال: يا عدو الله أظننت أن الله تعالى يسترك وأنت على معصية؟ فقال: وأنت يا أمير المؤمنين لا تعجل علي إن كنت عصيت الله تعالى واحدة فقد عصيت الله تعالى في ثلاث قال سبحانه: وَلا تَجَسَّسُوا وقد تجسست وقال الله تعالى: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها [البقرة 189:] وقد تسورت وقال جل شأنه: لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها [النور: 27] ودخلت علي بغير إذن قال عمر رضي الله تعالى عنه: فهل عندكم من خير ان عفوت عنك؟ قال: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 308 نعم فعفا عنه وخرج وتركه. وفي رواية سعيد بن منصور عن الحسن أنه قال رجل لعمر رضي الله تعالى عنه: إن فلانا لا يصحو فقال: انظر إلى الساعة التي يضع فيها شرابه فأتني فأتاه فقال: قد وضع شرابه فانطلقا حتى استأذنا عليه فعزل شرابه ثم دخلا فقال عمر: والله إني لأجد ريح شراب يا فلان أنت بهذا فقال: يا ابن الخطاب وأنت بهذا لم ينهك الله تعالى أن تتجسس؟ فعرفها عمر فانطلق وتركه، وذكر بعضهم أن انزجار شربة الخمر ونحوهم إذا توقف على التسور عليهم جاز احتجاجا بفعل عمر رضي الله تعالى عنه السابق وفيه نظر، وقد جاء في بعض الروايات عنه ما يخالف ذلك. أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد والخرائطي أيضا عن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف عن المسور بن مخرمة عن عبد الرحمن بن عوف أنه حرس مع عمر رضي الله تعالى عنه ليلة المدينة فبينما هم يمشون شب لهم سراج في بيت فانطلقوا يؤمونه فلما دنوا منه إذا باب مجاف على قوم لهم فيه أصوات مرتفعة ولغط فقال عمر: وأخذ بيد عبد الرحمن أتدري بيت من هذا؟ هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف الآن شرب قال: أرى أن قد أتينا ما نهى الله تعالى عنه قال الله تعالى: وَلا تَجَسَّسُوا فقد تجسسنا فانصرف عمر رضي الله تعالى عنه عنهم وتركهم، ولعل القصة إن صحت غير واحدة، ومن التجسس على ما قال الأوزاعي الاستماع إلى حديث القوم وهم له كارهون فهو حرام أيضا. وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي لا يذكر بعضكم بعضا بما يكره في غيبته فقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: ذكرك أخاك بما يكره قيل: أفرأيت لو كان في أخي ما أقول قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته» رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم. والمراد بالذكر الذكر صريحا أو كناية ويدخل في الأخير الرمز والإشارة ونحوهما إذا أدت مؤدى النطق فإن علة النهي عن الغيبة الإيذاء بتفهيم الغير نقصان المغتاب وهو موجود حيث أفهمت الغير ما يكرهه المغتاب بأي وجه كان من طرق الإفهام، وهي بالفعل كان تمشي مشية أعظم الأنواع كما قاله الغزالي، والمراد بما يكره أعم من أن يكون في دينه أو دنياه أو خلقه أو ماله أو ولده أو زوجته أو مملوكه أو خادمه أو لباسه أو غير ذلك مما يتعلق به، وخصه القفال بالصفات التي لا تذم شرعا فذكر الشخص بما يكره مما يذم شرعا ليس بغيبة عنده ولا يحرم، واحتج على ذلك بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «اذكروا الفاجر بما فيه يحذره الناس» وما ذكره لا يعول، عليه والحديث ضعيف وقال أحمد منكر، وقال البيهقي: ليس بشيء ولو صح فهو محمول على فاجر معلن بفجوره. والمراد بقولنا: غيبته غيبته عن ذلك الذكر سواء كان حاضرا في مجلس الذكر أو لا، وفي الزواجر لا فرق في الغيبة بين أن تكون في غيبة المغتاب أو بحضرته هو المعتمد، وقد يقال شمول الغيبة للذكر بالحضور على نحو شمول سجود السهو لما كان عن ترك ما يسجد له عمدا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً تمثيل لما يصدر عن المغتاب من حيث صدوره عنه ومن حيث تعلقه بصاحبه على أفحش وجه وأشنعه طبعا وعقلا وشرعا مع مبالغات من فنون شتى، الاستفهام التقريري من حيث إنه لا يقع إلا في كلام هو مسلم عند كل سامع حقيقة أو ادعاء، وإسناد الفعل إلى- أحد- إيذانا بأن أحدا من الأحدين لا يفعل ذلك وتعليق المحبة بما هو في غاية الكراهة، وتمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان، وجعل المأكول أخا للآكل وميتا، وتعقيب ذلك بقوله تعالى: فَكَرِهْتُمُوهُ حملا على الإقرار وتحقيقا لعدم محبة ذلك أو لمحبته التي لا ينبغي مثلها، وفي المثل السائر كني عن الغيبة بأكل الإنسان للحم مثله لأنها ذكر المثالب وتمزيق الاعراض المماثل لأكل اللحم بعد تمزيقه في استكراه العقل والشرع له، وجعله ميتا لأن المغتاب لا يشعر بغيبته، ووصله بالمحبة لما جبلت عليه النفوس من الميل إليها مع العلم بقبحها، وقال أبو زيد السهيلي: ضرب المثل لأخذ العرض بأكل اللحم لأن اللحم ستر على العظم والشاتم لأخيه كأنه يقشر ويكشف ما عليه وكأنه أولى مما في المثل، والفاء في فَكَرِهْتُمُوهُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 309 فصيحة في جواب شرط مقدر ويقدر معه قد أي إن صح ذلك أو عرض عليكم هذا فقد كرهتموه ولا يمكنكم إنكار كراهته، والجزائية باعتبار التبين، والضمير المنصوب للأكل وقيل: للحم، وقيل: للميت وليس بذاك، وجوز كونه للاغتياب المفهوم مما قبل، والمعنى فاكرهوه كراهيتكم لذلك الأكل، وعبر بالماضي للمبالغة، وإذا أول بما ذكر يكون إنشاء غير محتاج لتقدير قد، وانتصاب مَيْتاً على الحال من اللحم أو الأخ لأن المضاف جزء من المضاف إليه والحال في مثل ذلك جائز خلافا لأبي حيان. وقرأ أبو سعيد الخدري والجحدري وأبو حيوة «فكرّهتموه» بضم الكاف وشد الراء، ورواها الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ، وقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ قيل عطف على محذوف كأنه قيل: امتثلوا ما قيل لكم واتقوا الله. وقال الفراء التقدير ان صح ذلك فقد كرهتموه فلا تفعلوه واتقوا الله فهو عطف على النهي المقدر، وقال أبو علي الفارسي. لما قيل لهم أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ إلخ كان الجواب لا متعينا فكأنهم قالوا: لا نحب فقيل لهم فَكَرِهْتُمُوهُ ويقدر فكذلك فاكرهوا الغيبة التي هي نظيره واتقوا الله فيكون عطفا على فاكرهوا المقدر، وقيل: هو عطف على فكرهتموه بناء على أنه خبر لفظا أمر معنى كما أشير إليه سابقا ولا يخفى الأولى من ذلك: وقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ تعليل للأمر أي لأنه تعالى تواب رحيم لمن اتقى واجتنب ما نهي عنه وتاب مما فرط منه، وتواب أي مبالغة في قبول التوبة والمبالغة إما باعتبار الكيف إذ يجعل سبحانه التائب كمن لم يذنب أو باعتبار الكم لكثرة المتوب عليهم أو لكثرة ذنوبهم. أخرج ابن أبي حاتم عن السدي أن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه كان مع رجلين في سفر يخدمهما وينال من طعامهما وأنه نام يوما فطلبه صاحباه فلم يجداه فضربا الخباء وقالا: ما يريد سلمان شيئا غير هذا أن يجيء إلى طعام معدود وخبار مضروب فلما جاء سلمان أرسلاه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يطلب لهما إداما فانطلق فأتاه فقال: يا رسول الله بعثني أصحابي لتؤدمهم إن كان عندك قال: ما يصنع أصحابك بالإدام؟ لقد ائتدموا فرجع رضي الله تعالى عنه فخبرهما فانطلقا فأتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالا: والذي بعثك بالحق ما أصبنا طعاما منذ نزلنا قال: إنكما قد ائتدمتما بسلمان فنزلت. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال: زعموا أنها نزلت في سلمان الفارسي أكل ثم رقد فنفخ فذكر رجلان أكله ورقاده فنزلت. وأخرج الضياء المقدسي في المختارة عن أنس قال: كانت العرب تخدم بعضها بعضا في الأسفار وكان مع أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما رجل يخدمهما فناما فاستيقظا ولم يهيء لهما طعاما فقالا: إن هذا لنؤوم فأيقظاه فقالا: ائت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقل له إن أبا بكر وعمر يقرآنك السلام ويستأدمانك فقال: إنهما ائتدما فجاءا فقالا: يا رسول الله بأي شيء ائتدمنا قال بلحم أخيكما والذي نفسي بيده إني لأرى لحمه بين ثنايا كما فقالا: استغفر لنا يا رسول الله قال: مراه فليستغفر لكما وهذا خبر صحيح ولا طعن فيه على الشيخين سواء كان ما وقع منهما قبل النزول أو بعده حيث لم يظنا بناء على حسن الظن فيهما ان تلك الكلمة مما يكرهها ذلك الرجل: هذا والآية دالة على حرمة الغيبة. وقد نقل القرطبي وغيره الإجماع على أنها من الكبائر، وعن الغزالي وصاحب العدة أنهما صرحا بأنها من الصغائر وهو عجيب منهما لكثرة ما يدل على أنها من الكبائر، وقصارى ما قيل في وجه القول بأنها صغيرة أنه لو لم تكن كذلك يلزم فسق الناس كلهم إلا الفذ النادر منهم وهذا حرج عظيم. وتعقب بأن فشو المعصية وارتكاب جميع الناس لها فضلا عن الأكثر لا يوجب أن تكون صغيرة، وهذا الذي دل عليه الكلام من ارتكاب أكثر الناس لها لم يكن قبل. على أن الإصرار عليها قريب منها في كثرة الفشو في الناس وهو كبيرة بالإجماع ويلزم عليه الحرج العظيم وإن لم يكن في الجزء: 13 ¦ الصفحة: 310 عظم الحرج السابق، مع أن هذا الدليل لا يقاوم تلك الدلائل الكثيرة، ولعل الأولى في الاستدلال على ذلك ما رواه أحمد. وغيره بسند صحيح عن أبي بكرة قال: «بينما أنا أماشي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو آخذ بيدي ورجل عن يساري فإذا نحن بقبرين أمامنا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إنهما ليعذبان وما يعذبان بكبير وبكى إلى أن قال: وما يعذبان إلا في الغيبة والبول» ولا يتم أيضا، فقد قال ابن الأثير: المعنى وما يعذبان في أمر كان يكبر عليهما ويشق فعله لو أراداه لا أنه في نفسه غير كبير، وكيف لا يكون كبيرا وهما يعذبان فيه، فالحق أنها من الكبائر. نعم لا يبعد أن يكون منها ما هو من الصغائر كالغيبة التي لا يتأذى بها كثيرا نحو عيب الملبوس والدابة، ومنها ما لا ينبغي أن يشك في أنه من أكبر الكبائر كغيبة الأولياء والعلماء بألفاظ الفسق والفجور ونحوها من الألفاظ الشديدة الإيذاء، والأشبه أن يكون حكم السكوت عليها مع القدرة على دفعها حكمها، ويجب على المغتاب أن يبادر إلى التوبة بشروطها فيقلع ويندم خوفا من الله تعالى ليخرج من حقه ثم يستحل المغتاب خوفا ليحله فيخرج عن مظلمته، وقال الحسن: يكفيه الاستغفار عن الاستحلال، واحتج بخبر «كفارة من اغتبته أن تستغفر له» ، وأفتى الخياطي بأنها إذا لم تبلغ المغتاب كفاه الندم والاستغفار، وجزم ابن الصباغ بذلك وقال: نعم إذا كان تنقصه عند قوم رجع إليهم وأعلمهم أن ذلك لم يكن حقيقة وتبعهما كثيرون منهم النووي، واختاره ابن الصلاح في فتاويه وغيره، وقال الزركشي: هو المختار وحكاه ابن عبد البر عن ابن المبارك وأنه ناظر سفيان فيه، وما يستدل به على لزوم التحليل محمول على أنه أمر بالأفضل أو بما يمحو أثر الذنب بالكلية على الفور، وما ذكر في غير الغائب والميت أما فيهما فينبغي أن يكثر لهما الاستغفار، ولا اعتبار بتحليل الورثة على ما صرح به الخياطي وغيره، وكذا الصبي والمجنون بناء على الصحيح من القول بحرمة غيبتهما. قال في الخادم: الوجه أن يقال يبقى حق مطالبتهما إلى يوم القيامة أي إن تعذر الاستحلال والتحليل في الدنيا بأن مات الصبي صبيا والمجنون مجنونا ويسقط من حق الله تعالى بالندم، وهل يكفي الاستحلال من الغيبة المجهولة أم لا؟ وجهان، والذي رجحه في الإذكار أنه لا بد من معرفتها لأن الإنسان قد يسمح عن غيبة دون غيبة، وكلام الحليمي. وغيره يقتضي الجزم بالصحة لأن من سمح بالعفو من غير كشف فقد وطن نفسه عليه مهما كانت الغيبة، ويندب لمن سئل التحليل أن يحلل ولا يلزمه لأن ذلك تبرع منه وفضل، وكان جمع من السلف واقتدى بهم والدي عليه الرحمة والرضوان يمتنعون من التحليل مخافة التهاون بأمر الغيبة، ويؤيد الأول خبر «أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان إذا خرج من بيته قال: إني تصدقت بعرضي على الناس» . ومعناه لا أطلب مظلمة منهم ولا أخاصمهم لا أن الغيبة تصير حلالا لأن فيها حقا لله تعالى ولأنه عفو وإباحة للشيء قبل وجوبه، وسئل الغزالي عن غيبة الكافر فقال: هي في حق المسلم محذورة لثلاث علل: الإيذاء، وتنقيص خلق الله تعالى، وتضييع الوقت بما لا يعني. والأولى تقتضي التحريم، والثانية الكراهة، والثالثة خلاف الأولى. وأما الذمي فكالمسلم فيما يرجع إلى المنع عن الإيذاء لأن الشرع عصم عرضه ودمه وماله. وقد روى ابن حبان في صحيحه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من سمع يهوديا أو نصرانيا فله النار» ومعنى سمعه أسمعه ما يؤذيه ولا كلام بعد هذا في الحرمة. وأما الحربي فغيبته ليست بحرام على الأولى وتكره على الثانية وخلاف الأولى على الثالثة، وأما المبتدع فإن كفر فكالحربي وإلا فكالمسلم وأما ذكره ببدعته فليس مكروها. وقال ابن المنذر في قوله صلّى الله عليه وسلّم في تفسير الغيبة: «ذكرك أخاك بما يكره» : فيه دليل على أن من ليس أخا لك من اليهود والنصارى وسائر أهل الملل ومن أخرجته بدعته إلى غير دين الإسلام لا غيبة له ويجري نحوه في الآية، والوجه تحريم غيبة الذمي كما تقرر وهو وإن لم يعلم من الآية ولا من الخبر المذكور معلوم بدليل آخر ولا معارضة بين ما ذكر الجزء: 13 ¦ الصفحة: 311 وذلك الدليل كما لا يخفى، وقد تجب الغيبة لغرض صحيح شرعي لا يتوصل إليه إلا بها وتنحصر في ستة أسباب. الأول التظلم فلمن ظلم أن يشكو لمن يظن له قدرة على إزالة ظلمه لا تخفيفه. الثاني الاستعانة على تغيير المنكر بذكره لمن يظن قدرته على إزالته. الثالث الاستفتاء فيجوز للمستفتي أن يقول للمفتي: ظلمني فلان بكذا فهل يجوز له أو ما طريق تحصيل حقي أو نحو ذلك والأفضل أن يبهمه. الرابع تحذير المسلمين من الشر كجرح الشهود والرواة والمصنفين والمتصدين لإفتاء أو إقراء مع عدم أهلية فتجوز إجماعا بل تحب، وكأن يشير وإن لم يستشر على مريد تزوج أو مخالطة لغيره في أمر ديني أو دنيوي ويقتصر على ما يكفي فإن كفى نحو لا يصلح لك فذاك وإن احتاج إلى ذكر عيب ذكره أو عيبين فكذلك وهكذا ولا يجوز الزيادة على ما يكفي، ومن ذلك أن يعلم من ذي ولاية قادحا فيها كفسق أو تغفل فيجب ذكر ذلك لمن له قدرة على عزله وتولية غيره الخالي من ذلك أو على نصحه وحثه للاستقامة، والخامس أن يتجاهر بفسقه كالمكاسين وشربه الخمر ظاهرا فيجوز ذكره بما تجاهروا فيه دون غيره إلا أن يكون له سبب آخر مما مر. السادس للتعريف بنحو لقب كالأعور، والأعمش فيجوز وإن أمكن تعريفه بغيره. نعم الأولى ذلك إن سهل ويقصد التعريف لا التنقيص، وأكثر هذه الستة مجمع عليه ويدل لها من السنة أحاديث صحيحة مذكورة في محلها كالأحاديث الدالة على قبح الغيبة وعظم آثامها وأكثر الناس بها مولعون ويقولون: هي صابون القلوب وإن لها حلاوة كحلاوة التمر وضراوة كضراوة الخمر وهي في الحقيقة كما قال ابن عباس وعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم: الغيبة إدام كلاب الناس نسأل الله تعالى التوفيق لما يحب ويرضى. وما أحسن ما جاء الترتيب في هذه الآية أعني قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إلخ كما قال أبو حيان وفصله بقوله: جاء الأمر أولا باجتناب الطريق التي لا تؤدي إلى العلم وهو الظن ثم نهى ثانيا عن طلب تحقيق ذلك الظن ليصير علما بقوله سبحانه: وَلا تَجَسَّسُوا ثم نهى ثالثا عن ذكر ذلك إذا علم فهذه أمور ثلاثة مترتبة ظن فعلم بالتجسس فاغتياب، وقال ابن حجر عليه الرحمة: إنه تعالى ختم كلا من الآيتين بذكر التوبة رحمة بعباده وتعطفا عليهم لكن لما بدئت الأولى بالنهي ختمت بالنفي في وَمَنْ لَمْ يَتُبْ لتقاربهما ولما بدئت الثانية بالأمر في اجْتَنِبُوا ختمت به في وَاتَّقُوا اللَّهَ إلى إلخ وكان حكمة ذكر التهديد الشديد في الأولى فقط بقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ إلخ أن ما فيها أفحش لأنه إيذاء في الحضرة بالخسرية أو اللمز أو النبز بخلافه في الآية الثانية فإنه أمر خفي إذ كل من الظن والتجسس والغيبة يقتضي الإخفاء وعدم العلم به غالبا انتهى فلا تغفل. يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى من آدم وحواء عليهما السلام فالكل سواء في ذلك فلا وجه للتفاخر بالنسب ومن هذا قوله: الناس في عالم التمثيل أكفاء ... أبوهم آدم والأم حواء وجوز أن يكون المراد هنا إنا خلقنا كل واحد منكم من أب وأم، ويبعده عدم ظهور ترتب ذم التفاخر بالنسب عليه والكلام مساق له كما ينبي عنه ما بعد، وقيل: هو تقرير للاخوة المانعة عن الاغتياب وعدم ظهور الترتب عليه على حاله مع أن ملاءمة ما بعد له دون ملاءمته للوجه السابق لكن وجه تقريره للأخوة ظاهر. وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ الشعوب جمع شعب بفتح الشين وسكون العين وهم الجمع العظيم المنتسبون إلى أصل واحد، وهو يجمع القبائل، والقبيلة تجمع العمائر، والعمارة بفتح العين وقد تكسر تجمع البطون، والبطن تجمع الجزء: 13 ¦ الصفحة: 312 الأفخاذ، والفخذ تجمع الفصائل، فخزيمة شعب وكنانة قبيلة وقريش عمارة وقصي بطن وهاشم فخذ والعباس فصيلة وسميت الشعوب لأن القبائل تشعبت منها، وهذا هو الذي عليه أكثر أهل النسب واللغة، ونظم ذلك بعض الأدباء فقال: قبيلة فوقها شعب وبعدهما ... عمارة ثم بطن تلوه فخذ وليس يؤوي الفتى إلا فصيلته ... ولا سداد لسهم ما له قذذ وذكر بعضهم العشيرة بعد الفصيلة فقال: اقصد الشعب فهو أكثر حي ... عددا في الحساب ثم القبيلة ثم يتلوهما العمارة ثم البطن ... ثم الفخذ وبعد الفصيلة ثم من بعدها العشيرة لكن ... هي في جنب ما ذكرنا قليله وحكى أبو عبيد عن ابن الكلبي عن أبيه تقديم الشعب ثم القبيلة ثم الفصيلة ثم العمارة ثم الفخذ فأقام الفصيلة مقام العمارة والعمارة مقام الفصيلة في ذكرها قبل الفخذ ولم يذكر ما يخالفه، وقيل: الشعوب في العجم والقبائل في العرب والأسباط في بني إسرائيل، وأيد كون الشعوب في العجم ما في حديث مسروق أن رجلا من الشعوب أسلم فكانت تؤخذ منه الجزية فإن الشعوب فيه فسرت بالعجم لكن قيل: وجهه على ما تقدم أن الشعب ما تشعب منه قبائل العرب والعجم فخص بأحدهما، ويجوز أن يكون جمع الشعوبي وهو الذي يصغر شأن العرب ولا يرى لهم فضلا على غيرهم كيهود ومجوس في جمع المجوسي واليهودي، ومنهم أبو عبيدة وكان خارجيا وقد ألف كتابا في مثالب العرب، وابن غرسية وله رسالة فصيحة في تفضيل العجم على العرب، وقد رد عليه علماء الأندلس برسائل عديدة. وقيل: الشعوب عرب اليمن من قحطان والقبائل ربيعة ومضر وسائر عدنان، وقال قتادة ومجاهد والضحاك: الشعب النسب إلا بعد والقبيلة الأقرب، وقيل: الشعوب الموالي والقبائل العرب، وقال أبو روق: الشعوب الذين ينتسبون إلى المدائن والقرى والقبائل العرب الذين ينتسبون إلى آبائهم لِتَعارَفُوا علة للجعل أي جعلناكم كذلك ليعرف بعضكم بعضا فتصلوا الأرحام وتبينوا الأنساب والتوارث لا لتفاخروا بالآباء والقبائل، والحصر مأخوذ من التخصيص بالذكر والسكوت في معرض البيان. وقرأ الأعمش «لتتعارفوا» بتاءين على الأصل، ومجاهد. وابن كثير في رواية وابن محيصن بإدغام التاء في التاء، وابن عباس وأبان عن عاصم «لتعرفوا» بكسر الراء مضارع عرف، قال ابن جني: والمفعول محذوف أي لتعرفوا ما أنتم محتاجون إليه كقوله: وما علم الإنسان إلا ليعلما أي ليعلم ما علمه وما أعذب هذا الحذف وما أغربه لمن يعرف مذهبه. واختير في المفعول المقدر قرابة بعضكم من بعض، وقوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ تعليل للنهي عن التفاخر بالأنساب المستفاد من الكلام بطريق الاستئناف الحقيقي كأنه قيل: إن أكرمكم عند الله تعالى والأرفع منزلة لديه عز وجل في الآخرة والدنيا هو الأتقى فإن فاخرتم ففاخروا بالتقوى. وقرأ ابن عباس «أن» بفتح الهمزة على حذف لام التعليل كأنه قيل: لم لا تتفاخروا بالأنساب؟ فقيل: لأن أكرمكم عند الله تعالى أتقاكم لا أنسبكم فإن مدار كمال النفوس وتفاوت الأشخاص هو التقوى فمن رام نيل الدرجات العلا فعليه بها. وفي البحر أن ابن عباس قرأ «لتعرفوا وأن أكرمكم» بفتح الهمزة فاحتمل أن يكون «أن أكرمكم» إلخ معمولا لتعرفوا وتكون اللام في لتعرفوا لام الأمر وهو أجود من حيث المعنى، وأما إن كانت لام كي فلا يظهر المعنى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 313 إذ ليس جعلهم شعوبا وقبائل لأن يعرفوا أن أكرمهم عند الله تعالى أتقاهم فإن جعلت مفعولا لتعرفوا محذوفا أي لتعرفوا الحق لأن أكرمكم عند الله أتقاكم ساغ في اللام ان تكون لام كي اهـ وهو كما ترى. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بكم وبأعمالكم خَبِيرٌ بباطن أحوالكم. روي أنه لما كان يوم فتح مكة أذن بلال على الكعبة فغضب الحارث بن هشام. وعتاب بن أسيد وقالا: أهذا العبد الأسود يؤذن على ظهر الكعبة فنزلت. وعن ابن عباس سبب نزولها قول ثابت بن قيس لرجل لم يفسح له عند النبي صلّى الله عليه وسلّم يا ابن فلانة فوبخه النبي عليه الصلاة والسلام وقال: إنك لا تفضل أحدا إلا في الدين والتقوى ونزلت وأخرج أبو داود في مراسيله وابن مردويه وعن البيهقي في سننه عن الزهري قال: أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بني بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم فقالوا: يا رسول الله أنزوج بناتنا موالينا؟ فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى الآية. قال الزهري: نزلت في أبي هند خاصة وكان حجام النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي رواية ابن مردويه من طريق الزهري عن عروة عن عائشة أنه عليه الصلاة والسلام قال: أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه ونزلت يا أَيُّهَا النَّاسُ الآية في ذلك، وعن يزيد بن شجرة مر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سوق المدينة فرأى غلاما أسود يقول: من اشتراني فعلى شرط لا يمنعني عن الصلوات الخمس خلف رسول الله عليه الصلاة والسلام فاشتراه رجل فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يراه عند كل صلاة ففقده فسأل عنه صاحبه فقال: محموم فعاده ثم سأل عنه بعد أيام فقال: هو لما به فجاءه وهو في ذمائه فتولى غسله ودفنه فدخل على المهاجرين والأنصار أمر عظيم فنزلت ، وفي القلب من صحة هذا شيء والله تعالى أعلم. وقد دلت على أنه لا ينبغي التفاخر بالأنساب وبذلك نطقت الأخبار. أخرج ابن مردويه. والبيهقي في شعب الإيمان. وعبد بن حميد. والترمذي. وغيرهم عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم طاف يوم الفتح على راحلته يستلم الأركان بمحجنه فلما خرج لم يجد مناخا فنزل على أيدي الرجال فخطبهم فحمد الله تعالى وأثنى عليه، وقال: الحمد صلّى الله عليه وسلّم الذي أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتكبرها يا أيها الناس الناس رجلان بر تقي كريم على الله وفاجر شقي هين على الله الناس كلهم بنو آدم وخلق الله آدم من تراب قال الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى إلى قوله تعالى: خَبِيرٌ ثم قال: أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ، وأخرج البيهقي وابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في وسط أيام التشريق خطبة الوداع فقال: يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ ألا هل بلغت؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: فليبلغ الشاهد الغائب ، وأخرج البيهقي عن أبي أمامة قال «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن الله أذهب نخوة الجاهلية وتكبرها بآبائها كلكم لآدم وحواء كطف الصاع بالصاع وإن أكرمكم عند الله أتقاكم فمن أتاكم ترضون دينه وأمانته فزوجوه» وأخرج أحمد وجماعة نحوه لكن ليس فيه «فمن أتاكم» إلخ. وأخرج البزار عن حذيفة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان» وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يقول الله يوم القيامة أيها الناس إني جعلت نسبا وجعلتم نسبا فجعلت أكرمكم عند الله أتقاكم فأبيتم إلا أن تقولوا: فلان بن فلان وفلان أكرم من فلان وإني اليوم أرفع نسبي واضع نسبكم ألا إن أوليائي المتقون» وأخرج الخطيب عن علي كرم الله تعالى وجهه نحوه مرفوعا. وأخرج أحمد والبخاري في تاريخه وأبو يعلى والبغوي وابن قانع والطبراني والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي ريحانة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من انتسب إلى تسعة آباء كفار يريد بهم عزا وكبرا فهو عاشرهم في النار» وأخرج الجزء: 13 ¦ الصفحة: 314 البخاري والنسائي عن أبي هريرة قال: «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أي الناس أكرم؟ قال: أكرمهم عند الله أتقاهم قالوا: ليس عن هذا نسألك قال: فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله قالوا: ليس عن هذا نسألك قال: فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا: نعم قال: خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» والأحاديث في هذا الباب أكثر من أن تحصى. وفي الآية إشارة إلى وجه رد التفاخر بالنسب حيث أفادت أن شرف النسب غير مكتسب وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى [النجم: 39] وأنه لا فرق بين النسيب وغيره من جهة المادة لاتحاد ما خلقا منه، ولا من جهة الفاعل لأنه هو الله تعالى الواحد، فليس للنسب شرف يعول عليه ويكون مدارا للثواب عند الله عز وجل، ولا أحد أكرم من أحد عنده سبحانه إلا بالتقوى وبها تكمل النفس وتتفاضل الأشخاص، وهذا لا ينافي كون العرب أشرف من العجم وتفاوت كل من العرب والعجم في الشرف، فقد ذكروا أن الفرس أشرف من النبط، وبنو إسرائيل أفضل من القبط. وأخرج مسلم. وغيره عن واثلة بن الأسقع قال: «قال صلّى الله عليه وسلّم إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم» لأن ذلك ليس إلا باعتبار الخصال الحميدة، فشرف العرب على العجم مثلا ليس إلا باعتبار أن الله تعالى امتازهم على من سواهم بفضائل جمة وخصال حميدة كما صحت به الأحاديث، وقد جمع الكثير منها العلامة ابن حجر الهيتمي في كتابه مبلغ الأرب في فضائل العرب، ولا نعني بذلك أن كل عربي ممتاز على كل عجمي بالخصال الحميدة بل إن المجموع ممتاز على المجموع، ثم إن أشرف العرب نسبا أولاد فاطمة رضي الله تعالى عنها لأنهم ينسبون إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم كما صرح به جمع من الفقهاء. وأخرج الطبراني عن فاطمة رضي الله تعالى عنها قالت: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كل بني آدم ينتمون إلى عصبة إلا ولد فاطمة فأنا وليهم وأنا عصبتهم» وفي رواية له عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه «كل ابن أنثى كان عصبتهم لأبيهم ما خلا ولد فاطمة فأنا عصبتهم وأنا أبوهم» ونوزع في صحة ذلك، ورمز الجلال السيوطي للأول بأنه حسن، وتعقب وليس الأمر موقوفا على ما ذكر لظهور دليله. وقد أخرج أحمد. والحاكم في المستدرك عن المسور بن مخرمة ولا كلام فيه. قال: «قال صلّى الله عليه وسلّم فاطمة بضعة مني يقبضني ما يقبضها ويبسطني ما يبسطها وإن الأنساب كلها تنقطع يوم القيامة غير نسبي وسببي وصهري» وحديث بضعية فاطمة رضي الله تعالى عنها مخرج في صحيح البخاري أيضا، قال الشريف السمهودي: ومعلوم أن أولادها بضعة منها فيكونون بواسطتها بضعة منه صلّى الله عليه وسلّم، وهذا غاية الشرف لأولادها، وعدم انقطاع نسبه صلّى الله عليه وسلّم جاء أيضا في حديث أخرجه ابن عساكر عن عمر رضي الله تعالى عنه مرفوعا بلفظ «كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة الا نسبي وصهري» والذهبي وإن تعقبه بقوله فيه ابن وكيع لا يعتمد لكن استدرك ذلك بأنه ورد فيه مرسل حسن، ويعلم مما ذكر ونحوه. كما قال المناوي. عظيم نفع الانتساب إليه صلّى الله عليه وسلّم، ولا يعارضه ما في أخبار أخر من حثه عليه الصلاة والسلام لأهل بيته على خشية الله تعالى واتقائه سبحانه وأنه عليه الصلاة والسلام لا يغني عنهم من الله تعالى شيئا حرصا على إرشادهم وتحذيرا لهم من أن يتكلوا على النسب فتقصر خطاهم عن اللحوق بالسابقين من المتقين، وليجتمع لهم الشرفان شرف التقوى وشرف النسب، ورعاية لمقام التخويف خاطبهم عليه الصلاة والسلام بقوله: «لا أغني عنكم من الله شيئا» والمراد لا أغني عنكم شيئا بمجرد نفسي من غير ما يكرمني الله تعالى به من نحو شفاعة فيكم ومغفرة منه تعالى لكم، وهو عليه الصلاة والسلام لا يملك لأحد نفعا ولا ضرا إلا بتمليك الله تعالى، والله سبحانه يملكه نفع أمته والأقربون أولى بالمعروف. فعلى هذا لا بأس بقوله الرجل: أنا من ذرية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على وجه التحدث بالنعمة أو نحو ذلك من المقاصد الشرعية. وقد نقل المناوي عن ابن حجر أنه قال نهيه صلّى الله عليه وسلّم عن التفاخر بالأنساب موضعه مفاخرة تقتضي تكبرا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 315 واحتقار مسلم، وعلى ما ذكرناه أولا جاء قوله عليه الصلاة والسلام «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل» الحديث، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب» إلى غير ذلك، ومع شرف الانتساب إليه عليه الصلاة والسلام لا ينبغي لمن رزقه أن يجعله عاطلا عن التقوى ويدنسه بمتابعة الهوى، فالحسنة في نفسها حسنة وهي من بيت النبوة أحسن، والسيئة في نفسها سيئة وهي من أهل بيت النبوة أسوأ، وقد يبلغ اتباع الهوى بذلك النسيب الشريف إلى حيث يستحي أن ينسب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وربما ينكر نسبه. وعليه قيل لشريف سيىء الأفعال: قال النبي مقال صدق لم يزل ... يحلو لدى الاسماع والأفواه إن فاتكم أصل امرئ ففعاله ... تنبيكم عن أصله المتناهي وأراك تسفر عن فعال لم تزل ... بين الأنام عديمة الأشباه وتقول إني من سلالة أحمد ... أفأنت تصدق أم رسول الله ولا يلومن الشريف إلا نفسه إذا عومل حينئذ بما يكره وقدم عليه من هو دونه في النسب بمراحل، كما يحكى أن بعض الشرفاء في بلاد خراسان كان أقرب الناس إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غير أنه كان فاسقا ظاهر الفسق وكان هناك مولى أسود تقدم في العلم والعمل فأكب الناس على تعظيمه فاتفق أن خرج يوما من بيته يقصد المسجد فاتبعه خلق كثير يتبركون به فلقيه الشريف سكران فكان الناس يطردونه عن طريقه فغلبهم وتعلق بأطراف الشيخ وقال: يا أسود الحوافر والمشافر يا كافر ابن كافر أنا ابن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أذل وأنت تجل وأهان وأنت تعان فهم الناس بضربه فقال الشيخ: لا تفعلوا هذا محتمل منه لجده ومعفو عنه وإن خرج عن حده، ولكن أيها الشريف بيضت باطني وسودت باطنك فرؤي بياض قلبي فوق سواد وجهي فحسنت وسواد قلبك فوق بياض وجهك فقبحت وأخذت سيرة أبيك وأخذت سيرة أبي فرآني الخلق في سيرة أبيك ورأوك في سيرة أبي فظنوني ابن أبيك وظنوك ابن أبي فعملوا معك ما يعمل مع أبي وعملوا معي ما يعمل مع أبيك، ولهذا ونحوه قيل: ولا ينفع الأصل من هاشم ... إذا كانت النفس من باهله أي لا ينفع في الامتياز على ذوي الخصال السنية إذا كانت النفس في حد ذاتها باهلية ردية ومن الكمالات عرية، فإن باهلة في الأصل اسم امرأة من همدان كانت تحت معن بن أعصر بن سعد بن قيس عيلان فنسب ولده إليها، وقيل: بنو باهلة وهم قوم معروفون بالخساسة، قيل: كانوا يأكلون بقية الطعام مرة ثانية وكانوا يأخذون عظام الميتة يطبخونها ويأخذون دسوماتها فاستنقصتهم العرب جدا حتى قيل لعربي أترضى أن تكون باهليا وتدخل الجنة فقال: لا إلا بشرط أن لا يعلم أهل الجنة أني باهلي، وقيل: إذا قيل للكلب يا باهلي ... عوى الكلب من شؤم هذا النسب ولم يجعلهم الفقهاء لذلك أكفاء لغيرهم من العرب لكن لا يخلو ذلك من نظر، فإن النص أعني «إن العرب بعضهم أكفاء لبعض» لم يفصل مع أنه صلّى الله عليه وسلّم كان أعلم بقبائل العرب وأخلاقهم وقد أطلق وليس كل باهلي كما يقولون بل فيهم الأجواد، وكون فصيلة منهم أو بطن صعاليك فعلوا ما فعلوا لا يسري في حق الكل اللهم إلا أن يقال: مدار الكفاءة وعدمها على العار وعدمه في المعروف بين الناس. فمتى عدوا الباهلية عارا وشاع استنقاصها فيما بينهم وأبتها نفوسهم اعتبر ذلك وإن لم يكن عن أصل أصيل، وهذا نظير ما ذكروا فيما إذا اشترى الشخص دارا فتبين أن الناس يستشئمونها أنه بالخيار مع قول الجل من العلماء بنفي الشؤم المتعارف بين الناس اعتبارا لكون ذلك مما ينقص الثمن بين الناس وإن لم يكن له أصل فتأمله، وبالجملة شرف النسب مما اعتبر جاهلية وإسلاما، أما جاهلية فأظهر من الجزء: 13 ¦ الصفحة: 316 أن يبرهن عليه، وأما إسلاما فيدل عليه اعتبار الكفاءة في النسب في باب النكاح على الوجه المفصل في كتب الفقه، ولم يخالف في ذلك فيما نعلم إلا الإمام مالك والثوري والكرخي من الحنفية، وبعض ما تقدم من الأخبار يؤيد كلامهم لكن أجيب عنه في محله، وكذا يدل عليه ما ذكروه في بيان شرائط الإمامة العظمى من أنه يشترطها فيها كون الإمام قرشيا، وقد أجمعوا على ذلك كما قال الماوردي، ولا اعتبار بضرار. وأبي بكر الباقلاني حيث شذا فجوزاها في جميع الناس، وقال الشافعية: فإن لم يوجد قرشي أي مستجمع لشروط الإمامة اعتبر كون الإمام كنانيا من ولد كنانة بن خزيمة، فإن تعذر اعتبر كونه من بني إسماعيل عليه السلام، فإن تعذر اعتبر كونه من جرهم لشرفهم بصهارة إسماعيل عليه السلام إلى غير ذلك، ومع هذا كله فالتقوى التقوى فالاتكال على النسب وترك النفس وهواها من ضعف الرأي وقلة العقل، ويكفي في هذا الفصل قوله تعالى لنوح عليه السلام في ابنه كنعان: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ [هود: 46] وقوله عليه الصلاة والسلام: «سلمان منا أهل البيت» فالحزم اللائق بالنسيب أن يتقي الله تعالى ويكتسب من الخصال الحميدة ما لو كانت في غير نسيب لكفته ليكون قد زاد على الزبد شهدا وعلق على جيد الحسناء عقدا ولا يكتفى بمجرد الانتساب إلى جدود سلفوا ليقال له: نعم الجدود ولكن بئس ما خلفوا، وقد ابتلى كثير من الناس بذلك فترى أحدهم يفتخر بعظم بال وهو عري كالإبرة من كل كمال. ويقول: كان أبي كذا وكذا وذاك وصف أبيه فافتخاره به نحو افتخار الكوسج بلحية أخيه، ومن هنا قيل: وأعجب شيء إلى عاقل ... أناس عن الفضل مستأخره إذا سئلوا ما لهم من علا ... أشاروا إلى أعظم ناخره وقال الفاضل السري عبد الباقي أفندي العمري: أقول لمن غدا في كل وقت ... يباهينا بأسلاف عظام أتقنع بالعظام وأنت تدري ... بأن الكلب يقنع بالعظام وما ألطف قوله: لم يجدك الحسب العالي بغير تقى ... مولاك شيئا فحاذر واتق الله وابغ الكرامة في نيل الفخار به ... فأكرم الناس عند الله أتقاها وأكثر ما رأينا ذلك الافتخار البارد عند أولاد مشايخ الزوايا الصوفية فإنهم ارتكبوا كل رذيلة وتعروا عن كل فضيلة ومع ذلك استطالوا بآبائهم على فضلاء البرية واحتقروا أناسا فاقوهم حسبا ونسبا وشرفوهم أما وأبا وهذا هو الضلال البعيد والحمق الذي ليس عليه مزيد، ولولا خشية السأم لأطلقنا في هذا الميدان عنان كميت القلم على أن فيما ذكرنا كفاية لمن أخذت بيده العناية والله تعالى أعلم. قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قال مجاهد: نزلت في بني أسد بن خزيمة قبيلة تجاور المدينة أظهروا الإسلام وقلوبهم دغلة إنما يحبون المغانم وعرض الدنيا، ويروى أنهم قدموا المدينة في سنة جدبة فأظهروا الشهادتين وكانوا يقولون لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: جئناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان يريدون بذكر ذلك الصدقة ويمنون به على النبي عليه الصلاة والسلام، وقيل: هم مزينة وجهينة وأسلم وأشجع وغفار قالوا: آمنا فاستحقينا الكرامة فرد الله تعالى عليهم، وأيا ما كان فليس المراد بالأعراب العموم كما قد صرح به قتادة. وغيره، والحلق الفعل علامة التأنيث لشيوع اعتبار التأنيث في الجموع حتى قيل: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 317 لا تبالي بجمعهم ... كل جمع مؤنث والنكتة في اعتباره هاهنا الإشارة على قلة عقولهم على عكس ما روعي في قوله تعالى: وَقالَ نِسْوَةٌ [يوسف: 30] . قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا إكذاب لهم بدعوى الإيمان إذ هو تصديق مع الثقة وطمأنينة القلب ولم يحصل لهم وإلا لما منوا على الرسول صلّى الله عليه وسلّم بترك المقاتلة كما دل عليه آخر السورة وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا فإن الإسلام انقياد ودخول في السلم وهو ضد الحرب وما كان من هؤلاء مشعر به، وكان الظاهر لم تؤمنوا ولكن أسلمتم أو لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا لتحصل المطابقة لكن عدل عن الظاهر اكتفاء بحصولها من حيث المعنى مع إدماج فوائد زوائد، بيان ذلك أن الغرض المسوق له الكلام توبيخ هؤلاء في منّهم بإيمانهم بأنهم خلوا عنه أولا وبأنهم الممتنون إن صدقوا ثانيا، فالأصل في الإرشاد إلى جوابهم قل كذبتم ولكن أخرج إلى ما هو عليه المنزل ليفيد عدم المكافحة بنسبة الكذب، وفيه حمل له عليه الصلاة والسلام على الأدب في شأن الكل ليصير ملكة لأتباعه وأن لا يلبسوا جلد النمر لمن يخاطبهم به وتلخيص ما كذبوا فيه. ومن الدليل على أنه الأصل قوله تعالى في الآية التالية: أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ تعريضا بأن الكذب منحصر فيهم، وأوثر على لا تقولوا آمنا لاستهجان ذلك لا سيما من النبي صلّى الله عليه وسلّم المبعوث للدعوة إلى الإيمان، على أن إفادة لَمْ تُؤْمِنُوا لمعنى كذبتم أظهر من إفادة لا تقولوا آمنا كما لا يخفى، ثم قوبل بقوله سبحانه: وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا كأنه قيل: قل لم تؤمنوا فلا تكذبوا ولكن قولوا أسلمنا لتفوزوا بالصدق إن فاتكم الإيمان والتصديق ولو قيل: ولكن أسلمتم لم يؤد هذا المعنى، وفيه تلويح بأن إسلامهم وهو خلو عن التصديق غير معتد به ولو قيل ولكن أسلمتم لكان ذلك موهما أن ذلك معتد به والمطلوب كماله بالإيمان ولا يحتاج هذا إلى أن يقال: القول في المنزل مستعمل في معنى الزعم، وقيل: في الآية احتباك. والأصل لم تؤمنوا فلا تقولوا آمنا ولكن أسلمتم فقولوا أسلمنا فحذف من كل من الجملتين ما أثبت في الأخرى والأول أبلغ وألطف وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ حال من ضمير قُولُوا كأنه قيل: قولوا أسلمنا ما دمتم على هذه الصفة، وفيه إشارة إلى توقع دخول الإيمان في قلوبهم بعد فليس هذا النفي مكررا مع قوله تعالى: لَمْ تُؤْمِنُوا وقيل: الجملة مستأنفة ولا تكرار أيضا لأن لما تفيد النفي الماضي المستمر إلى زمن الحال بالإجماع وتفيد أن منفيها متوقع خلافا لأبي حيان ولم- لا تفيد شيئا من ذلك بلا خلاف فلا حاجة في دفع التكرار إلى القول بالحالية وجعل الجملة توقيتا للقول المأمور به وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ بالإخلاص وترك النفاق لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ لا ينقصكم شَيْئاً من أجورها أو شيئا من النقص يقال لاته يليته ليتا إذا نقصه، ومنه ما حكى الأصمعي عن أم هشام السلولية الحمد لله الذي لا يفات ولا يلات ولا تصمه الأصوات وقرأ الحسن والأعرج وأبو عمرو «لا يألتكم» من ألت يألت بضم اللام وكسرها ألتا وهي لغة أسد وغطفان، قال الحطيئة: أبلغ سراة بني سعد مغلغلة ... جهد الرسالة لا ألتا ولا كذبا والأولى لغة الحجاز والفعل عليها أجوف وعلى الثانية مهموز الفاء، وحكى أبو عبيدة ألات يليت إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لما فرط من المطيعين رَحِيمٌ بالتفضل عليهم إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا لم يشكوا من ارتاب مطاوع را به إذا أوقعه في الشك مع التهمة وجعل عدم الارتياب متراخيا عن الإيمان مع أنه لا ينفك عنه لإفادة نفي الشك فيما بعد عند اعتراء شبهة كأنه قيل: آمنوا ثم لم يعترهم ما يعتري الضعفاء بعد حين، وهذا لا يدل على أنهم كانوا مرتابين أولا بل يدل على أنهم كما لم يرتابوا أولا لم يحدث لهم ارتياب ثانيا، والحاصل آمنوا ثم لم يحدث لهم ريبة فالتراخي زماني، وقال بعض الأجلة: عطف عدم الارتياب على الإيمان من باب مَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ [البقرة: 98] تنبيها على أنه الأصل في الإيمان فكأنه شيء آخر أعلى منه كائن فيه، وأوثر ثُمَّ على الواو الجزء: 13 ¦ الصفحة: 318 للدلالة على أن هذا الأصل حديثه وقديمه سواء في القوة والثبات فهو أبدا على طراوته لا أنه شيء واحد مستمر فيكون كالشيء الخلق بل هو متجدد طري حينا بعد حين، ولا بأس بأن يجعل ترشيحا لما دل عليه معنى العطف لما جعل مغايرا نبه على أنه ليس تغاير ما بين الاستمرار والحدوث بل تغاير شيئين مختلفين ليدل على المعنى المذكور وأنهم في زيادة اليقين آنا فآنا، أما عند من يقول فيه بالقوة والضعف فظاهر، وأما من لم يقل به فلانضمام العيان إلى البيان، والفرق بين الاستمرارين أن الاستمرار على الأول استمرار المجموع نحو قوله تعالى: قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا [فصلت: 30، الأحقاف: 13] أي استمر بذلك إيمانهم مع عدم الارتياب، وعلى الثاني الاستمرار معتبر في الجزء الأخير، وهذا الوجه أوجه، وأيا ما كان ففي الكلام تعريض بأولئك الأعراب وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ في طاعته عز وجل على تكثير فنونها من العبادات البدنية المحضة والمالية الصرفة والمشتملة عليهما معا كالحج والجهاد، وتقديم الأموال على الأنفس من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى، ويجوز بأن يقال: قدم الأموال لحرص الكثير عليها حتى أنهم يهلكون أنفسهم بسببها مع أنه أوفق نظرا إلى التعريض بأولئك حيث إنهم لم يكفهم أنهم لم يجاهدوا بأموالهم حتى جاؤوا أو أظهروا الإسلام حبا للمغانم وعرض الدنيا ومعنى جاهَدُوا بذلوا الجهد أو مفعوله مقدر أي العدو أو النفس والهوى أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر من الأوصاف الجميلة هُمُ الصَّادِقُونَ أي الذين صدقوا في دعوى الإيمان لا أولئك الأعراب. روي أنه لما نزلت الآية جاؤوا وحلفوا أنهم مؤمنون صادقون فنزل لتكذيبهم قوله تعالى: قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ أي أتخبرونه سبحانه وتعالى بذلك بقولكم آمنا. فتعلمون. من علمت به فلذا تعدى بالتضعيف لواحد بنفسه وإلى الثاني بحرف الجر، وقيل: إنه تعدى به لتضمين معنى الإحاطة أو الشعور فيفيد مبالغة من حيث إنه جار مجرى المحسوس وقوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ حال من مفعول تُعَلِّمُونَ وفيه من تجهيلهم ما لا يخفى، وقوله سبحانه: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تذييل مقرر لما قبله أي مبالغ في العلم بجميع الأشياء التي من جملتها ما أخفوه من الكفر عند إظهارهم الإيمان يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا أي يعتدون إسلامهم منة عليك وهي النعمة التي لا يطلب موليها ثوابا ممن أنعم بها عليه من المن بمعنى القطع لأن المقصود بها قطع حاجته، وقال الراغب: هي النعمة الثقيلة من المن الذي يوزن به وثقلها عظمها أو المشقة في تحملها، وأَنْ أَسْلَمُوا في موضع المفعول. ليمنون. لتضمينه معنى الاعتداد أو هو بتقدير حرف الجر فيكون المصدر منصوبا بنزع الخافض أو مجرورا بالحرف المقدر أي يمنون عليك بإسلامهم، ويقال نحو ذلك في قوله تعالى: قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ فهو إما على معنى لا تعتدوا إسلامكم منة علي أو لا تمنوا علي بإسلامكم، وجوز أبو حيان أن يكون أَنْ أَسْلَمُوا مفعولا من أجله أي يتفضلون عليك لأجل إسلامهم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ أي ما زعمتم في قولكم آمنا فلا ينافي هذا قوله تعالى: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا أو الهداية مطلق الدلالة فلا يلزم إيمانهم وينافي نفي الإيمان السابق. وقرأ عبد الله. وزيد بن علي «إذ هداكم» بإذ التعليلية، وقرىء «إن هداكم» بإن الشرطية إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في ادعاء الإيمان فهو متعلق الصدق لا الهداية فلا تغفل وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله أي فلله المنة عليكم، ولا يخفى ما في سياق الآية من اللطف والرشاقة، وذلك أن الكائن من أولئك الأعراب قد سماه الله تعالى إسلاما إظهارا لكذبهم في قولهم: آمنا أي أحدثنا الإيمان في معرض الامتنان ونفى سبحانه أن يكون كما زعموا إيمانا فلما منوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما كان منهم قال سبحانه لرسوله عليه الصلاة والسلام: يعتدون عليك بما ليس جديرا بالاعتداد به من حديثهم الذي حق تسميته أن يقال له إسلام فقل لهم: لا تعتدوا علي إسلامكم أي حديثكم المسمى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 319 إسلاما عندي لا إيمانا، ثم قال تعالى: بل الله يعتد عليكم أن أمدكم بتوفيقه حيث هداكم للإيمان على ما زعمتم، وفي قوله تعالى: إِسْلامَكُمْ بالإضافة ما يدل على أن ذلك غير معتد به وأنه شيء يليق بأمثالهم فأنى يخلق بالمنة، وللتنبيه على أن المراد بالإيمان الإيمان المعتد به لم يضفه عز وجل، ونبه سبحانه بقوله جل وعلا: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ على أن ذلك كذب منهم، واللطف في تقديم التكذيب ثم الجواب عن المن مع رعاية النكت في كل من ذلك، وتمام الحسن في التذييل بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ما غاب فيهما وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي في سركم وعلانيتكم فكيف يخفى عليه سبحانه ما في ضمائركم، وذلك ليدل على كذبهم وعلى اطلاعه عز وجل خواص عباده من النبي صلّى الله عليه وسلّم وأتباعه رضي الله تعالى عنهم. وقرأ ابن كثير. وابان، عن عاصم «يعملون» بياء الغيبة والله تعالى أعلم. ومن باب الإشارة في بعض الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلخ إشارة إلى لزوم العمل بالشرع ورعاية الأدب وترك مقتضيات الطبع، وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا يشير إلى أنه إن سولت النفس الأمارة بالسوء وجاءت بنبإ شهوة من شهوات الدنيا ينبغي التثبت للوقوف على ربحها وخسرانها أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً من القلوب وصفاتها بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا صباح يوم القيامة عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ فإن ما فيه شفاء النفوس وحياتها فيه مرض القلوب ومماتها وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ إلخ يشير إلى رسول الإلهام الرباني في الأنفس بلهم فجورها وتقواها، ويشير قوله تعالى: فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ إلى أن النفس إذا ظلمت القلب باستيلاء شهواتها يجب أن تقاتل حتى تثخن بالجراحة بسيوف المجاهدة فإن استجابت بالطاعة عفي عنها لأنها هي المطية إلى باب الله عز وجل إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ إشارة إلى رعاية حق الاخوة الدينية ومنشأ نطفها صلب النبوة وحقيقتها نور الله تعالى فإصلاح ذات بينهم برفع حجب أستار البشرية عن وجوه القلوب ليتصل النور بالنور من روزنة القلب فيصيروا كنفس واحدة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ يشير إلى ترك الإعجاب بالنفس والنظر إلى أحد بعين الاحتقار فإن الظاهر لا يعبأ به والباطن لا يطلع عليه فرب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله تعالى لأبره قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا إلى آخره فيه إشارة إلى أنه ينبغي ترك رؤية الأعمال والعلم بأن المنة في الهداية لله الملك المتعال، وفيه إرشاد إلى كيفية مخاطبة الجاهلين والرد على المحجوبين كما سلفت الإشارة إليه، هذا ونسأل الله تعالى التوفيق لما يرضاه يوم العرض عليه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 320 سورة ق وهي مكية وأطلق الجمهور ذلك، وفي التحرير عن ابن عباس. وقتادة أنها مكية إلا قوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [ق: 38] الآية فهي مدنية نزلت في اليهود، وآيها خمس وأربعون بالإجماع. ولما أشار سبحانه في آخر السورة السابقة إلى أن إيمان أولئك الأعراب لم يكن إيمانا حقا ويتضمن ذلك إنكار النبوة وإنكار البعث افتتح عز وجل هذه السورة بما يتعلق بذلك، وكان صلّى الله عليه وسلّم كثيرا ما يقرؤها في صلاة الفجر كما في حديث مسلم. وغيره عن جابر ابن سمرة، وفي رواية ابن ماجه. وغيره عن قطبة بن مالك أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرؤها في الركعة الأولى من صلاة الفجر. وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه والترمذي والنسائي عن أبي واقد الليثي أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ في العيد بقاف واقتربت، وأخرج أبو داود والبيهقي وابن ماجه وابن أبي شيبة عن أم هشام ابنة حارثة قالت: «ما أخذت ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق: 1] الا من في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ بها في كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس» وفي حديث ابن مردويه عن أبي العلاء رضي الله تعالى عنه مرفوعا «تعلموا ق والقرآن المجيد» وكل ذلك يدل على أنها من أعظم السور. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 321 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ ذي المجد والشرف من باب النسب كلابن وتامر وإلا فالمعروف وصف الذات الشريفة به، وصنيع بعضهم ظاهر في اختيار هذا الوجه، وأورد عليه أن ذلك غير معروف في فعيل كما قاله ابن هشام في إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ [الأعراف: 56] وأنت تعلم أن من حفظ حجة على من لم يحفظ، وشرفه على هذا بالنسبة لسائر الكتب، أما غير الإلهية فظاهر، وأما الإلهية فلإعجازه وكونه غير منسوخ بغيره واشتماله مع إيجازه على أسرار يضيق عنها كل واحد منها، وقال الراغب: المجد السعة في الكرم وأصله مجدت الإبل إذا وقعت في مرعى كثير واسع، ووصف القرآن به لكثرة ما يتضمن من المكارم الدنيوية والأخروية، ويجوز أن يكون وصفه بذلك لأنه كلام المجيد فهو وصف بصفة قائله، فالإسناد مجازي كما في القرآن الحكيم أو لأن من علم معانيه وعمل بما فيه مجد عند الله تعالى وعند الناس، فالكلام بتقدير مضاف حذف فارتفع الضمير المضاف إليه، أو فعيل فيه بمعنى مفعل كبديع بمعنى مبدع لكن في مجيء فعيل وصفا من الإفعال كلام، وأكثر أهل اللغة والعربية لم يثبته، وأكثر ما تقدم في قوله تعالى: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص: 1] يجري هاهنا حتى أنه قيل: يجوز أن يكون ق أمرا من مفاعلة قفا أثره أي تبعه، والمعنى اتبع القرآن واعمل بما فيه، ولم يسمع مأثورا، ومثله ما قيل: إنه أمر بمعنى قف أي قف عند ما شرع لك ولا تجاوزه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر، عن ابن عباس قال: خلق الله تعالى من وراء هذه الأرض بحرا محيطا بها ومن وراء ذلك جبلا يقال له قاف السماء الدنيا مترفرفة عليه ثم خلق من وراء ذلك الجبل أرضا مثل تلك الأرض سبع مرات ثم خلق من وراء ذلك بحرا محيطا بها ثم خلق وراء ذلك جبلا يقال له قاف السماء الثانية مترفرفة عليه حتى عد سبع أرضين وسبعة أبحر وسبعة أجبل ثم قال: وذلك قوله تعالى: وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ [لقمان: 27] وأخرج ابن أبي الدنيا في العقوبات. وأبو الشيخ عنه أيضا أنه قال: خلق الله تعالى جبلا يقال له قاف محيطا بالعالم وعروقه إلى الصخرة التي عليها الأرض فإذا أراد الله تعالى أن يزلزل قرية أمر ذلك الجبل فحرك العرق الذي يلي تلك القرية فيزلزلها ويحركها فمن ثم تحرك القرية دون القرية. وأخرج ابن المنذر. وأبو الشيخ في العظمة. والحاكم. وابن مردويه عن عبد الله بن بريدة أنه قال في الآية: قاف جبل من زمرد محيط بالدنيا عليه كنفا السماء. وأخرج عبد الرزاق عن مجاهد أنه أيضا قال: هو جبل محيط بالأرض، وذهب القرافي إلى أن جبل قاف لا وجود له وبرهن عليه بما برهن ثم قال: ولا يجوز اعتقاد ما لا دليل عليه. وتعقبه ابن حجر الهيتمي فقال: «يرد ذلك ما جاء عن ابن عباس من طرق خرجها الحفاظ وجماعة منهم ممن التزموا تخريج الصحيح، وقول الصحابي ذلك ونحوه مما لا مجال للرأي فيه حكمه حكم المرفوع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ان وراء أرضنا بحرا محيطا ثم جبلا يقال له قاف إلى آخر ما تقدم، ثم قال: وكما يندفع بذلك قوله: لا وجود له يندفع قوله: ولا يجوز اعتقاد إلخ لأنه إن أراد بالدليل مطلق الامارة فهذه عليه أدلة أو الامارة القطعية فهذا مما يكفي فيه الظن كما هو جلي انتهى، والذي أذهب إليه ما ذهب إليه القرافي من أنه لا وجود لهذا الجبل بشهادة الحس فقد قطعوا هذه الأرض برها وبحرها على مدار السرطان مرات فلم يشاهدوا ذلك، والطعن في صحة هذه الأخبار وإن كان جماعة من رواتها ممن التزم تخريج الصحيح أهون من تكذيب الحس، وليس ذلك من باب نفي الوجود لعدم الوجدان كما لا يخفى على ذوي العرفان، وأمر الزلزلة لا يتوقف على الجزء: 13 ¦ الصفحة: 322 ذلك الجبل بل هي من الأبخرة وطلبها الخروج مع صلابة الأرض وإنكار ذلك مكابرة عند من له أدنى عرق من الإنصاف والله تعالى أعلم. واختلف في جواب القسم فقيل: محذوف يشعر به الكلام كأنه قيل: والقرآن المجيد إنا أنزلناه لتنذر به الناس، وقدره أبو حيان إنك جئتهم منذرا بالبعث ونحو ما قيل: هو إنك لمنذر وقيل: ما ردوا أمرك بحجة. وقال الأخفش والمبرد والزجاج: تقديره لتبعثن، وقيل: هو مذكور، فعن الأخفش قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ [ق: 4] وحذفت اللام لطول الكلام، وعنه أيضا. وعن ابن كيسان ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ [ق: 18] وقيل: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى [ق: 37] وهو اختيار محمد بن علي الترمذي، وقيل: ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ [ق: 29] وعن نحاة الكوفة هو قوله تعالى: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وما ذكر أولا هو المعول عليه، وبَلْ للإضراب عما ينبىء عنه جواب القسم المحذوف فكأنه قيل: إنا أنزلناه لتنذر به الناس فلم يؤمنوا به بل جعلوا كلا من المنذر والمنذر به عرضة للتكبر والتعجب مع كونهما أوفق شيء لقضية العقول وأقربه إلى التلقي بالقبول، وقيل: التقدير إنك جئتهم منذرا بالبعث فلم يقبلوا بل عجبوا أو فشكوا فيه بل عجبوا على معنى لم يكتفوا بالشك والرد بل جزموا بالخلاف حتى جعلوا ذلك من الأمور العجيبة، وقيل: هو إضراب عما يفهم من وصف القرآن بالمجيد كأنه قيل: ليس سبب امتناعهم من الإيمان بالقرآن أن لا مجد له ولكن لجهلهم، ونبه بقوله تعالى: بَلْ عَجِبُوا عليه لأن التعجب من الشيء يقتضي الجهل بسببه. قال في الكشف: وهو وجه حسن، وأَنْ جاءَهُمْ بتقدير لأن جاءهم، ومعنى مِنْهُمْ من جنسهم أي من جنس البشر أو من العرب، وضمير الجمع في الآية عائد على الكفار، وقيل: عائد على الناس وليس بذاك. وقوله تعالى: فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ تفسير لتعجبهم وبيان لكونه مقارنا لغاية الإنكار مع زيادة تفصيل لمحل التعجب، وهذا إشارة إلى كونه عليه الصلاة والسلام منذرا بالقرآن وإضمارهم أولا للإشعار بتعينهم بما أسند إليهم، وإظهارهم ثانيا للتسجيل عليهم بالكفر بموجبه أو عطف لتعجبهم من البعث على تعجبهم من البعثة، وعطفه بالفاء لوقوعه بعده وتفرعه عليه لأنه إذا أنكر المبعوث أنكر ما بعث به أيضا، على أن هذا إشارة إلى مبهم وهو البعث يفسره ما بعده من الجملة الإنكارية، ودل عليه السياق أيضا لأنه دل على أن ثم منذرا به، ومعلوم أن إنذار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أول كل شيء بالبعث وما يتبعه. ووضع المظهر موضع المضمر إما لسبق اتصافهم بما يوجب كفرهم وإما للإيذان بأن تعجبهم من البعث لدلالته على استقصارهم لقدرة الله سبحانه عنه مع معاينتهم لقدرته عز وجل على ما هو أشق منه في قياس العقل من مصنوعاته البديعة أشنع من الأول وأعرق في كونه كفرا، وقوله تعالى: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً تقرير للتعجب وتأكيد للإنكار أو بيان لموضع تعجبهم، والعامل في إِذا مضمر غني عن البيان لغاية شهرته مع دلالة ما بعده عليه أي أحين نموت ونصير ترابا نرجع كما ينطق به النذير والمنذر به مع كمال التباين بيننا وبين الحياة حينئذ، وقوله سبحانه: ذلِكَ إشارة إلى محل النزاع وهو الرجع والبعث بعد الموت أي ذلك الرجع رَجْعٌ بَعِيدٌ أي عن الأوهام أو العادة أو الإمكان، وقيل: الرجع بمعنى المرجوع أي الجواب يقال هذا رجع رسالتك ومرجوعها ومرجوعتها أي جوابها، والإشارة عليه إلى أَإِذا مِتْنا إلخ، والجملة من كلام الله تعالى، والمعنى ذلك جواب بعيد منهم لمنذرهم، وناصب إِذا حينئذ ما ينبىء عنه المنذر من المنذر به وهو البعث أي أئذا متنا وكنا ترابا بعثنا، وقد يقال: إنه لما تقرر أن ذلك جواب منهم لمنذرهم فقد علم أنه أنذرهم بالبعث ليصلح ذلك جوابا له فهو دليل أيضا على المقدر، فالقول بأنه إذا كان الجزء: 13 ¦ الصفحة: 323 الرجع بمعنى المرجوع وهو الجواب لا يكون في الكلام دليل على ناصب إِذا مندفع. نعم هذا الوجه في نفسه بعيد بل قال أبو حيان: إنه مفهوم عجيب ينبو عن إدراكه فهم العرب. وقرأ الأعرج وشيبة وأبو جعفر وابن وثاب والأعمش وابن عتبة عن ابن عامر «إذا» بهمزة واحدة على صورة الخبر فجاز أن يكون استفهاما حذفت منه الهمزة وجاز أن يكون خبرا، قال في البحر: وأضمر جواب إِذا أي إذا متنا وكنا ترابا رجعنا، وأجاز صاحب اللوامح أن يكون الجواب ذلك رجع بعيد على تقدير حذف الفاء، وقد أجاز ذلك بعضهم في جواب الشرط مطلقا إذا كان جملة اسمية، وقصره أصحابنا على الشعر في الضرورة. قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ أي ما تأكل من لحوم موتاهم وعظامهم وأشعارهم، وهو رد لاستبعادهم بإزاحة ما هو الأصل فيه وهو أن أجزاءهم تفرقت فلا تعلم حتى تعاد بزعمهم الفاسد، وقيل: ما تنقص الأرض منهم من يموت فيدفن في الأرض منهم، ووجه التعبير بما ظاهر والأول أظهر وهو المأثور عن ابن عباس. وقتادة، وقوله تعالى: وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ تعميم لعلمه تعالى أي وعندنا كتاب حافظ لتفاصيل الأشياء كلها ويدخل فيها أعمالهم أو محفوظ عن التغير، والمراد إما تمثيل علمه تعالى بكليات الأشياء وجزئياتها بعلم من عنده كتاب حفيظ يتلقى منه كل شيء أو تأكيد لعلمه تعالى بثبوتها في اللوح المحفوظ عنده سبحانه. هذا وفي الآية إشارة إلى رد شبهة تمسك بها من يرى استحالة إعادة المعدوم وفي البعث لذلك بناء على أن أجزاء الميت تعدم ولا تتفرق فقط، وحاصلها أن الشيء إذا عدم ولم يستمر وجوده في الزمان الثاني ثم أعيد في الزمان الثالث لزم التحكم الباطل في الحكم بأن هذا الموجود المتأخر هو بعينه الموجود السابق لا موجود آخر مثله مستأنف إذ لما فقد هوية الموجود الأول لم يبق منه شيء من الموضوع والعوارض الشخصية حتى يكون الموجود الثاني مشتملا عليه ويكون مرجحا للحكم المذكور ويندفع التحكم. وحاصل الرد أن الله تعالى عليم بتفاصيل الأشياء كلها يعلم كلياتها وجزئياتها على أتم وجه وأكمله. فللمعدوم صورة جزئية عنده سبحانه فهو محفوظ بعوارضه الشخصية في علمه تعالى البليغ على وجه يتميز به عن المستأنف فلا يلزم التحكم، ويكون ذلك نظير انحفاظ وحدة الصورة الخيالية فينا بعد غيبة المحسوس عن الحس كما إذا رأينا شخصا فغاب عن بصرنا ثم رأيناه ثانيا فإنا نحكم بأن هذا الشخص هو من رأيناه سابقا وهو حكم مطابق للواقع مبني على انحفاظ وحدة الصورة الخيالية قطعا ولا ينكره إلا مكابر، وقال بعض الأشاعرة: إن للمعدوم صورة جزئية حاصلة بتعلق صفة البصر من الموجد وهو الله تعالى، وليست تلك الصورة للمستأنف وجوده فإن صورته وإن كانت جزئية حقيقية أيضا إلا أنها لم تترتب على تعلق صفة البصر ولا شك أن المترتب على تعلق صفة البصر أكمل من غير المترتب عليه فبين الصورتين تمايز واضح، وإذا انحفظ وحدة الموجود الخارجي بالصور الجزئية الخيالية لنا فانحفاظها بالصورة الجزئية الحاصلة له تعالى بواسطة تعلق صفة البصر بالطريق الأولى انتهى، وهو حسن لكن لا تشير الآية إليه. وأيضا لا يتم عند القائلين بعدم رؤية الله سبحانه المعدومات مطلقا إلا أن أولئك قائلون بثبوت هويات المعدومات متمايزة تمايزا ذاتيا حال العدم فلا ترد عليهم الشبهة السابقة، وقد يقال: إن صفة البصر ترجع إلى صفة العلم وتعلقاته مختلفة فيجوز أن يكون لعلمه تعالى تعلقا خاصا بالموجود الذي عدم غير تعلقه بالمستأنف في حال عدمه وبذلك يحصل الامتياز ويندفع التحكم، ويقال على مذهب الحكماء: إن صورة المعدوم السابق مرتسمة في القوى المنطبعة للأفلاك بناء على أن صور جميع الحوادث الجسمانية منطبعة فيها عندهم فله صورة خيالية جزئية محفوظة الوحدة الشخصية بعد فنائه بخلاف المستأنف إذ ليس تلك الصورة قبل وجوده وإنما له الصور الكلية في الأذهان العالية الجزء: 13 ¦ الصفحة: 324 والسافلة فإذا أوجدت تلك الصورة الجزئية كان معادا وإذا أوجدت هذه الصورة الكلية كان مستأنفا وربما يدعي الإسلامي المتفلسف في قوله تعالى: وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ رمزا إلى ذلك، وللجلال الدواني كلام في هذا المقام لا يخلو عن نظر عند ذوي الأفهام، ثم إن البعث لا يتوقف على صحة إعادة المعدوم عند الأكثرين لأنهم لا يقولون إلا بتفرق أجزاء الميت دون انعدامها بالكلية، ولعل في قوله تعالى حكاية عن منكريه: «أئذا متنا وكنا ترابا» إشارة إلى ذلك، وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليس من الإنسان شيء لا يبلى إلا عظم واحد وهو عجب الذنب منه يركب الخلق يوم القيامة» وليس نصا في انعدام ما عدا العجب بالمرة لاحتمال أن يراد ببلا غيره من الأجزاء انحلالها إلى ما تركبت منه من العناصر وأما هو فيبقى على العظيمة وهو جزء صغير في العظم الذي في أسفل الصلب، ومن كلام الزمخشري العجب أمره عجب هو أول ما يخلق وآخر ما يخلق بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إضراب أتبع الإضراب الأول للدلالة على أنهم جاؤوا بما هو أفظع من تعجبهم وهو التكذيب بالحق الذي هو النبوة الثابتة بالمعجزات في أول وهلة من غير تفكر ولا تدبر فكأنه بدل بداء من الأول فلا حاجة إلى تقدير ما أجادوا النظر بل كذبوا أو لم يكذب المنذر بل كذبوا، وكون التكذيب المذكور أفظع قيل: من حيث إن تكذيبهم بالنبوة تكذيب بالمنبأ به أيضا وهو البعث وغيره، وقيل: لأن إنكار النبوة في نفسه أفظع من إنكار البعث، وربما لا يتم عند القائلين بأن العقل مستقل بإثبات أصل الجزاء، على أن من الجائز أن يكونوا قد سمعوا بالبعث من أصحاب ملل أخرى بخلاف نبوته عليه الصلاة والسلام خاصة، وقيل: المراد بالحق الإخبار بالبعث ولا شك أن التكذيب أسوأ من التعجب وأفظع فهو إضراب عن تعجبهم بالمنذر والمنذر به إلى تكذيبهم، وقيل: المراد به القرآن والمضروب عنه عليه على ما قال الطيبي قوله تعالى: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ وجعل كبدل البداء من الإضراب الأول على أنه إضراب عن حديث القرآن ومجده إلى التعجب من مجيء من أنذرهم بالبعث الذي تضمنه وإن هذا إضراب إلى التصريح بالتكذيب به ويتضمن ذلك إنكار جميع ما تضمنه كذا قيل فتأمل. وقرأ الجحدري لَمَّا بكسر اللام وتخفيف الميم فاللام توقيتية بمعنى عند نحوها في قولك: كتبه لخمس خلون مثلا، و (ما) مصدرية أي بل كذبوا بالحق عند مجيئه إياهم فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ مضطرب من مرج الخاتم في إصبعه إذا قلق من الهزال، والإسناد مجازي كما فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة: 21] مبالغة بجعل المضطرب الأمر نفسه وهو في الحقيقة صاحبه، وذلك نفيهم النبوة عن البشر بالكلية تارة وزعمهم أن اللائق بها أهل الجاه والمال كما ينبىء عنه قولهم: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] تارة أخرى وزعمهم أن النبوة سحر مرة وأنها كهانة أخرى حيث قالوا في النبي عليه الصلاة والسلام مرة ساحر ومرة كاهن أو هو اختلاف حالهم ما بين تعجب من البعث واستبعاد له وتكذيب وتردد فيه أو قولهم في القرآن هو شعر تارة وهو سحر أخرى إلى غير ذلك أَفَلَمْ يَنْظُرُوا أي أغفلوا أو عموا فلم ينظروا حين كفروا بالبعث إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ بحيث يشاهدونها كل وقت، قيل: وهذا ظاهر على ما هو المعروف بين الناس من أن المشاهد هو السماء التي هي الجرم المخصوص الذي يطوى يوم القيامة وقد وصف في الآيات والأحاديث بما وصف. وأما على ما ذهب إليه الفلاسفة من أن المشاهد إنما هو كرة البخار أو هواء ظهر بهذا اللون ولا لون له حقيقة ودون ذلك الجرم ففيه خفاء، وقال بعض الأفاضل في هذا المقام: إن ظواهر الآيات والأخبار ناطقة بأن السماء مرئية، وما ذكره الفلاسفة المتقدمون من أن الأفلاك أجرام صلبة شفافة لا ترى غير مسلم أصلا، وكذا كون السموات السبع هي الأفلاك السبعة غير مسلم عند المحققين، وكذا وجود كرة البخار وأن ما بين السماء والأرض هواء مختلف الأجزاء في اللطافة فكلما علا كان ألطف حتى أنه ربما لا يصلح للتعيش ولا يمنع خروج الدم من المسام الدقيقة جدا لمن وصل إليه، وإن رؤية الجو بهذا اللون لا ينافي رؤية السماء حقيقة وإن لم تكن في نفسها الجزء: 13 ¦ الصفحة: 325 ملونة به ويكون ذلك كرؤية قعر البحر أخضر من وراء مائه ونحو ذلك مما يرى بواسطة شيء على لون وهو في نفسه على غير ذلك اللون، بل قيل: إن رؤية السماء مع وجود كرة البخار على نحو رؤية الأجرام المضيئة كالقمر وغيره. وأنت تعلم أن الأصحاب مع الظواهر حتى يظهر دليل على امتناع ما يدل عليه وحينئذ يؤولونها، وأن التزام التطبيق بين ما نطقت به الشريعة وما قاله الفلاسفة مع إكذاب بعضه بعضا أصعب من المشي على الماء أو العروج إلى السماء، وأنا أقول: لا بأس بتأويل ظاهر تأويلا قريبا لشيء من الفلسفة إذا تضمن مصلحة شرعية ولم يستلزم مفسدة دينية، وأرى الإنصاف من الدين، ورد القول احتقارا لقائله غير لائق بالعلماء المحققين، هذا وحمل بعض السَّماءِ هاهنا على جنس الأجرام العلوية وهو كما ترى، والظاهر أنها الجرم المخصوص وأنها السماء الدنيا أي أفلم ينظروا إلى السماء الدنيا كَيْفَ بَنَيْناها أحكمناها ورفعناها بغير عمد وَزَيَّنَّاها للناظرين بالكواكب المرتبة على أبدع نظام وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ أي من فتوق وشقوق، والمراد سلامتها من كل عيب وخلل فلا ينافي القول بأن لها أبوابا. وزعم بعضهم أن المراد متلاصقة الطباق وهو ينافي ما ورد في الحديث من أن بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، ولعل تأخير هذا لمراعاة الفواصل. وقيل هاهنا أَفَلَمْ يَنْظُرُوا بالفاء وفي موضع آخر أَوَلَمْ يَنْظُرُوا [الأعراف: 185] بالواو لسبق إنكار الرجع فناسب التعقيب بما يشعر بالاستدلال عليه، وجيء بالنظر دون الرؤية كما في الأحقاف استبعادا لاستبعادهم فكأنه قيل: النظر كاف في حصول العلم بإمكان الرجع ولا حاجة إلى الرؤية قاله الإمام، واحتج بقوله سبحانه ما لَها مِنْ فُرُوجٍ للفلاسفة على امتناع الخرق، وأنت تعلم أن نفي الشيء لا يدل على امتناعه، على أنك قد سمعت المراد بذلك، ولا يضر كونه ليس معنى حقيقيا لشيوعه وَالْأَرْضَ مَدَدْناها بسطناها وهو لا ينافي كريتها التامة أو الناقصة من جهة القطبين لمكان العظم وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ جبالا ثوابت تمنعها من الميد كما يدل عليه قوله تعالى في آية أخرى: رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [النحل: 15، لقمان: 10] وهو ظاهر في عدم حركة الأرض، وخالف في ذلك بعض الفلاسفة المتقدمين وكل الفلاسفة الموجودين اليوم، ووافقهم بعض المغاربة من المسلمين فزعموا أنها تتحرك بالحركة اليومية بما فيها من العناصر وأبطلوا أدلة المتقدمين العقلية على عدم حركتها، وهل يكفر القائل بذلك الذي يغلب على الظن لا وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ صنف بَهِيجٍ حسن يبهج ويسر من نظر إليه تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ راجع إلى ربه، وهو مجاز عن التفكر في بدائع صنعه سبحانه بتنزيل التفكر في المصنوعات منزلة الرجوع إلى صانعها، وتَبْصِرَةً وَذِكْرى علتان للأفعال السابقة معنى وان انتصبا بالفعل الأخير أو لفعل مقدر بطريق الاستئناف أي فعلنا ما فعلنا تبصيرا وتذكيرا، وقال أبو حيان: منصوبان على المصدرية لفعل مقدر من لفظهما أي بصرنا وذكرنا والأول أولى. وقرأ زيد بن علي «تبصرة وذكرى» بالرفع على معنى خلقهما تبصرة وذكرى، وقوله تعالى: وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً أي كثير المنافع شروع في بيان كيفية ما ذكر من إنبات كل زوج بهيج، وهو عطف على أَنْبَتْنا وما بينهما على الوجهين الأخيرين اعتراض مقرر لما قبله ومنبه على ما بعده فَأَنْبَتْنا بِهِ أي بذلك الماء جَنَّاتٍ كثيرة كما يقتضيه المقام أي أشجارا ذات ثمار وَحَبَّ الْحَصِيدِ أي حب الزرع الذي من شأنه أن يحصد من البر والشعير وأمثالهما، فالإضافة لما بينهما من الملابسة، والْحَصِيدِ بمعنى المحصود صفة لموصوف مقدر كما أشرنا إليه فليس من قبيل مسجد الجامع ولا من مجاز الأول كما توهم، وتخصيص إنبات حبه بالذكر لأنه المقصود بالذات وَالنَّخْلَ عطف على جَنَّاتٍ وهي اسم جنس تؤنث وتذكر وتجميع، وتخصيصها بالذكر مع اندراجها في الجزء: 13 ¦ الصفحة: 326 الجنات لبيان فضلها على سائر الأشجار، وتوسيط الحب بينهما لتأكيد استقلالها وامتيازها عن البقية مع ما فيه من مراعاة الفواصل باسِقاتٍ أي طوالا أو حوامل من أبسقت الشاة إذا حملت فيكون على هذا من أفعل فهو فاعل، والقياس مفعل فهو من النوادر كالطوائح واللواقح في أخوات لها شاذة ويافع من أيفع وباقل من أبقل، ونصبه على أنه حال مقدرة. وروى قطبة بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قرأ «باصقات» بالصاد وهي لغة لبني العنبر يبدلون من السين صادا إذا وليتها أو فصل بحرف أو حرفين خاء معجمة أو عين مهملة أو طاء كذلك أوقاف لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ منضود بعضه فوق بعض، والمراد تراكم الطلع أو كثرة ما فيه من مادة الثمر، والجملة حال من النخل كباسقات بطريق الترادف أو من ضميرها في باسِقاتٍ على التداخل، وجوز أن يكون الحال هو الجار والمجرور وطَلْعٌ مرتفع به على الفاعلية، وقوله تعالى: رِزْقاً لِلْعِبادِ أي ليرزقهم علة لقوله تعالى: فَأَنْبَتْنا وفي تعليله بذلك بعد تعليل أَنْبَتْنا الأول بالتبصير والتذكير تنبيه على أن اللائق بالعبد أن يكون انتفاعه بذلك من حيث التذكر والاستبصار أقدم وأهم من تمتعه به من حيث الرزق، وجوز أن يكون رِزْقاً مصدرا من معنى أَنْبَتْنا لأن الإنبات رزق فهو من قبيل قعدت جلوسا، وأن يكون حالا بمعنى مرزوقا وَأَحْيَيْنا بِهِ أي بذلك الماء بَلْدَةً مَيْتاً أرضا جدبة لا نماء فيها بأن جعلناها بحيث ربت أو أنبتت وتذكير مَيْتاً لأن البلدة بمعنى البلد والمكان، وقرأ أبو جعفر. وخالد «ميّتا» بالتثقيل كَذلِكَ الْخُرُوجُ جملة قدم فيها الخبر للقصد إلى القصر وذلك إشارة إلى الحياة المستفادة من الإحياء، وما فيه من معنى البعد إشعار ببعد الرتبة أي مثل تلك الحياة البديعة حياتكم بالبعث من القبور لا كشيء مخالف لها، وفي التعبير عن إخراج النبات من الأرض بالإحياء وعن إحياء الموتى بالخروج تفخيم لشأن الإنبات وتهوين لأمر البعث وتحقيق للمماثلة بين إخراج النبات وإحياء الموتى لتوضيح منهاج القياس وتقريبه إلى إفهام الناس، وجوز أن يكون الكاف في محل رفع على الابتداء الْخُرُوجُ خبر، ونقل عن الزمخشري أنه قال: كَذلِكَ الخبر وهو الظاهر، ولكونه مبتدأ وجه وهو أن يقال: ذلك الخروج مبتدأ وخبر على نحو أبو يوسف أبو حنيفة، والكاف واقع موقع مثل في قولك: مثل زيد أخوك ولا يخفى أنه تكلف. وقوله تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ إلى آخره استئناف وارد لتقرير حقية البعث ببيان اتفاق كافة الرسل عليهم الصلاة والسلام عليها وتكذيب منكريها، وفي ذلك أيضا تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتهديد للكفرة، وَأَصْحابُ الرَّسِّ هو البئر التي لم تبن، وقيل: هو واد وأصحابه قيل: هم ممن بعث إليهم شعيب عليه السلام، وقيل: قوم حنظلة ابن صفوان وَثَمُودُ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ أريد هو وقومه ليلائم ما قبله وما بعده، وهذا كما تسمى القبيلة تميما مثلا باسم أبيها وَإِخْوانُ لُوطٍ قيل: كانوا من أصهاره عليه السلام. فليس المراد الأخوة الحقيقية من النسب وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ قيل: هم قوم بعث إليهم شعيب عليه السلام غير أهل مدين كانوا يسكنون أيكة وهي الغبطة فسموا بها وَقَوْمُ تُبَّعٍ الحميري وكان مؤمنا وقومه كفرة ولذا لم يذم وهو ذم قومه، وقد سبق في الحجر. والدخان. والفرقان تمام الكلام فيما يتعلق بما في هذه الآية. كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ أي فيما أرسلوا به من الشرائع التي من جملتها البعث الذي أجمعوا عليه قاطبة أي كل قوم من الأقوام المذكورين كذبوا رسولهم أو كذب كل هؤلاء جميع رسلهم، وإفراد الضمير باعتبار لفظ الكل أو كل واحد منهم كذب جميع الرسل لاتفاقهم على الدعوة إلى التوحيد والإنذار بالبعث والحشر فتكذيب واحد منهم تكذيب للكل، والمراد بالكلية التكثير كما في قوله تعالى: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل: 23] وإلا فقد آمن من آمن من قوم نوح وكذا من غيرهم، ثم ما ذكر على تقدير رسالة تبع ظاهر ثم على تقدير عدمها وعليه الأكثر فمعنى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 327 تكذيب وقومه الرسل عليهم السلام تكذيبهم بما قبل من الرسل المجتمعين على التوحيد والبعث، وإلى ذلك كان يدعوهم تبع. فَحَقَّ وَعِيدِ أي فوجب وحل عليهم وعيدي وهي كلمة العذاب أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ استئناف مقرر لصحة البعث الذي حكيت أحوال المنكرين له من الأمم المهلكة، والعي بالأمر العجز عنه لا التعب، قال الكسائي: تقول أعييت من التعب وعييت من انقطاع الحيلة والعجز عن الأمر، وهذا هو المعروف والأفصح وإن لم يفرق بينهما كثير، والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر ينبىء عنه العي من القصد والمباشرة كأنه قيل: أقصدنا الخلق الأول وهو الإبداء فعجزنا عنه حتى يتوهم عجزنا من الإعادة، وجوز الإمام أن يكون المراد بالخلق الأول خلق السماء والأرض ويدل عليه قوله سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ [الأحقاف: 33] ويؤيده قوله تعالى بعد: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ إلخ وهو كما ترى، وعن الحسن «الخلق الأول» آدم عليه السلام وليس بالحسن، وقرأ ابن أبي عبلة. والوليد بن مسلم. والقورصي عن أبي جعفر والسمسار عن شيبة وأبو بحر عن نافع «أفعيّنا» بتشديد الياء وخرجت على لغة من أدغم الياء في الياء في الماضي فقال: عي في عي وحي في حي فلما أدغم ألحقه ضمير المتكلم المعظم نفسه ولم يفك الإدغام فقال: عينا وهي لغة لبعض بكر بن وائل في رددت ورددنا ردت وردنا فلا يفكون، وعلى هذه اللغة تكون الياء المشددة مفتوحة ولو كانت «نا» ضمير نصب فالعرب جميعهم على الإدغام نحو ردنا زيد بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ عطف على مقدر يدل عليه ما قبله كأنه قيل: إنهم معترفون بالأول غير منكرين قدرتنا عليه فلا وجه لإنكارهم الثاني بل هم في خلط وشبهة في خلق مستأنف وإنما نكر الخلق ووصف بجديد ولم يقل: من الخلق الثاني تنبيها على مكان شبهتهم واستبعادهم العادي بقوله سبحانه: جَدِيدٍ وأنه خلق عظيم يجب أن يهتم بشأنه فله نبأ أي نبأ، والتعظيم ليس راجعا إلى الخلق من حيث هو. هو- حتى يقال: إنه أهون من الخلق الأول بل إلى ما يتعلق بشأن المكلف وما يلاقيه بعده وهو- هو- وقال بعض المحققين: نكر لأنه لاستبعاده عندهم كان أمرا عظيما، وجوز أن يكون التنكير للإبهام إشارة إلى أنه خلق على وجه لا يعرفه الناس، وأورد الشيخ الأكبر قدس سره هذه الآية في معرض الاستدلال على تجدد الجواهر كالتجدد الذي يقوله الأشعري في الإعراض فكل منهما عند الشيخ لا يبقى زمانين، ويفهم من كلامه قدس سره أن ذلك مبني على القول بالوحدة وأنه سبحانه كل يوم هو في شأن، ولعمري أن الآية بمعزل عما يقول: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ أي ما تحدثه به وهو ما يخطر بالبال، والوسوسة الصوت الخفي ومنه وسواس الحلي، وضمير بِهِ لما وهي موصولة والباء صلة تُوَسْوِسُ وجوز أن تكون للملابسة أو زائدة وليس بذاك، ويجوز أن تكون ما مصدرية والضمير للإنسان والباء للتعدية على معنى أن النفس تجعل الإنسان قائما به الوسوسة فالمحدث هو الإنسان لأن الوسوسة بمنزلة الحديث فيكون نظير حدث نفسه بكذا وهم يقولون ذلك كما يقولون حدثته نفسه بكذا قال لبيد: وأكذب النفس إذا حدثتها ... إن صدق النفس يزري بالأمل وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ أي نعلم به وبأحواله لا يخفى علينا شيء من خفياته على أنه أطلق السبب وأريد المسبب لأن القرب من الشيء في العادة سبب العلم به وبأحواله أو الكلام من باب التمثيل ولا مجال لحمله على القرب المكاني لتنزهه سبحانه عن ذلك، وكلام أهل الوحدة مما يشق فهمه على غير ذوي الأحوال، وحَبْلِ الْوَرِيدِ مثل في فرط القرب كقولهم: مقعد القابلة ومعقد الإزار قال ذو الرمة على ما في الكشاف: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 328 والموت أدنى لي من حبل الوريد والحبل معروف والمراد به هنا العرق لشبهه به وإضافته إلى الوريد وهو عرق مخصوص كما ستعرفه للبيان كشجر الأراك أو لامية كما في غيره من إضافة العام إلى الخاص فإن أبقى الحبل على حقيقته فإضافته كما في لجين الماء، والْوَرِيدِ عرق كبير في العنق وعن الأثرم أنه نهر الجسد ويقال له في العنق الوريد وفي القلب الوتين وفي الظهر الأبهر وفي الذراع والفخذ الأكحل والنسا وفي الخنصر الأسلم. والمشهور أن في كل صفحة من العنق عرقا يقال له وريد. ففي الكشاف الوريدان عرقان مكتنفان لصفحتي العنق في مقدمها متصلان بالوتين يردان بحسب المشاهدة من الرأس إليه فالوريد فعيل بمعنى فاعل، وقيل: هو بمعنى مفعول لأن الروح الحيواني يرده ويشير إلى هذا قول الراغب: الوريد عرق متصل بالكبد والقلب وفيه مجاري الروح، وقال في الآية: أي نحن أقرب إليه من روحه، وحكي ذلك عن بعضهم أيضا إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ هما الملكان الموكلان بكل إنسان يكتبان أعماله والتلقي التلقن بالحفظ والكتبة، وإِذْ قيل: ظرف. لا قرب. وأفعل التفضيل يعمل في الظروف لأنه يكفيها رائحة الفعل وإن لم يكن عاملا في غيرها فاعلا أو مفعولا به أي هو سبحانه أعلم بحال الإنسان من كل قريب حين يتلقى المتلقيان الحفيظان ما يتلفظ به، وفيه إيذان بأنه عز وجل غني عن استحفاظ الملكين فإنه تعالى شأنه أعلم منهما ومطلع على ما يخفى عليهما لكن الحكمة اقتضته، وهو ما في كتبة الملكين وحفظهما وعرض صحائفهما يوم يقوم الاشهاد، وعلم العبد بذلك مع علمه بإحاطة الله تعالى بعمله من زيادة لطف في الانتهاء عن السيئات والرغبة في الحسنات، وجوز أن تكون إِذْ لتعليل القرب، وفيه أن تعليل قربه عز وجل العلمي باطلاع الحفظة الكتبة بعيد، واختار بعضهم كونها مفعولا به لأذكر مقدرا لبقاء الأقربية على إطلاقها ولأن أفعل التفضيل ضعيف في العمل وإن كان لا مانع من عمله في الظرف والكلام مسوق لتقرير قدرته عز وجل وإحاطة علمه سبحانه وتعالى فتأمل عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ أي عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه، ومنه قوله: رماني بأمر كنت منه ووالدي ... بريئا ومن أجل الطويّ رماني وقال المبرد: إن التقدير عن اليمين قعيد وعن الشمال فأخر قعيد عن موضعه، والقعيد عليهما فعيل بمعنى مفاعل كجليس بمعنى مجالس ونديم بمعنى منادم، وذهب الفراء إلى أن قعيدا يدل على الاثنين والجمع، وقد أريد منه هنا الاثنان فلا حذف ولا تقديم ولا تأخير. واعترض بأن فعيلا يستوي فيه ذلك إذا كان بمعنى مفعول وهذا بمعنى فاعل ولا يصح فيه ذلك إلا بطريق الحمل على فعيل بمعنى مفعول، واختلف في تعيين محل قعودهما فقيل: هما على الناجذين، فقد أخرج أبو نعيم والديلمي عن معاذ بن جبل مرفوعا «إن الله لطف بالملكين الحافظين حتى أجلسهما على الناجذين وجعل لسانه قلمهما وريقه مدادهما» وقيل: على العاتقين، وقيل: على طرفي الحنك عند العنفقة وفي البحر أنهم اختلفوا في ذلك ولا يصح فيه شيء، وأنا أقول أيضا لم يصح عندي أكثر مما أخبر الله تعالى به من أنهما عن اليمين وعن الشمال قعيدان، وكذا لم يصح خبر قلمهما ومدادهما وأقول كما قال اللقاني بعد أن استظهر أن الكتب حقيقي: علم ذلك مفوض إلى الله عز وجل، وأقول الظاهر إنهما في سائر أحوال الإنسان عن يمينه وعن شماله. وأخرج ابن المنذر. وغيره عن ابن عباس أنه قال: إن قعد فاحدهما عن يمينه والآخر عن يساره وإن مشى فاحدهما أمامه والآخر خلفه وإن رقد فأحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ ما يرمي به من فيه خيرا كان أو شرا، وقرأ محمد بن أبي معدان «ما يلفظ» بفتح الفاء إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ ملك يرقب قوله ويكتبه فإن كان الجزء: 13 ¦ الصفحة: 329 خيرا فهو صاحب اليمين وإن كان شرا فهو صاحب الشمال عَتِيدٌ معد مهيأ لكتابة ما أمر به من الخير أو الشر، وتخصيص القول بالذكر لإثبات الحكم في الفعل بدلالة النص واختلف فيما يكتبانه فقال الإمام مالك. وجماعة: يكتبان كل شيء حتى الأنين في المرض، وفي شرح الجوهرة للقاني مما يجب اعتقاده أن لله تعالى ملائكة يكتبون أفعال العباد من خير أو شر أو غيرهما قولا كانت أو عملا أو اعتقادا هما كانت أو عزما أو تقريرا اختارهم سبحانه لذلك فهم لا يهملون من شأنهم شيئا فعلوه قصدا وتعمدا أو ذهولا ونسيانا صدر منهم في الصحة أو في المرض كما رواه علماء النقل والرواية انتهى. وفي بعض الآثار ما يدل على أن الكلام النفسي لا يكتب، أخرج البيهقي في الشعب عن حذيفة بن اليمان أن للكلام سبعة أغلاق إذا خرج منها كتب وإن لم يخرج لم يكتب القلب واللها واللسان والحنكان والشفتان، وذهب بعضهم إلى أن المباح لا يكتبه أحد منهما لأنه لا ثواب فيه ولا عقاب والكتابة للجزاء فيكون مستثنى حكما من عموم الآية وروي ذلك عن عكرمة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه من طريقه عن ابن عباس أنه قال: إنما يكتب الخير والشر لا يكتب يا غلام أسرج الفرس ويا غلام اسقني الماء، وقال بعضهم: يكتب كل ما صدر من العبد حتى المباحات فإذا عرضت أعمال يومه محي منها المباحات وكتب ثانيا ماله ثواب أو عقاب وهو معنى قوله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ [الرعد: 39] وقد أشار السيوطي إلى ذلك في بعض رسائله وجعل وجها للجمع بين القولين القول بكتابة المباح والقول بعدمها وقد روي نحوه عن ابن عباس. أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أنه قال في الآية: يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر حتى أنه ليكتب قوله: أكلت وشربت ذهبت جئت رأيت حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله فأقر منه ما كان من خير أو شر وألقى سائره فذلك قوله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ ثم إن المباح على القول بكتابته يكتبه ملك الشمال على ما يشعر به. ما أخرجه ابن أبي شيبة. والبيهقي في شعب الإيمان من طريق الأوزاعي عن حسان بن عطية أن رجلا كان على حمار فعثر به فقال: تعست فقال صاحب اليمين: ما هي بحسنة فاكتبها وقال صاحب الشمال ما هي بسيئة فاكتبها فنودي صاحب الشمال إن ما تركه صاحب اليمين فاكتبه، وجاء في بعض الأخبار أن صاحب اليمين أمين على صاحب الشمال، وقد أخرج ذلك الطبراني وابن مردويه. والبيهقي في الشعب من حديث أبي أمامة مرفوعا، وفيه «فإذا عمل العبد حسنة كتبت له بعشر أمثالها وإذا عمل سيئة وأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال صاحب اليمين أمسك فيمسك ست ساعات أو سبع ساعات فإن استغفر الله تعالى منها لم يكتب عليه منها شيئا وإن لم يستغفر الله تعالى كتبت عليه سيئة واحدة» ومثل الاستغفار كما نص عليه فعل طاعة مكفرة في حديث آخر أن صاحب اليمين يقول: دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر، وظاهر الآية عموم الحكم للكافر فمعه أيضا ملكان يكتبان ما له وما عليه من أعماله وقد صرح بذلك غير واحد وذكروا أن ما له الطاعات التي لا تتوقف على نية كالصدقة وصلة الرحم وما عليه كثير لا سيما على القول بتكليفه بفروع الشريعة. وفي شرح الجوهرة الصحيح كتب حسنات الصبي وإن كان المجنون لا حفظة عليه لأن حاله ليست متوجهة للتكليف بخلاف الصبي وظاهر الآية شمول الحكم له وتردد الجزولي في الجن والملائكة أعليهم حفظة أم لا ثم جزم بأن على الجن حفظة وأتبعه القول بذلك في الملائكة عليهم السلام، قال اللقاني بعد نقله: ولم أقف عليه في الجن لغيره ويفهم منه أنه وقف عليه في الملائكة لغيره ولعله ما حكي عن بعضهم أن المراد بالروح في قوله تعالى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ [القدر: 4] الحفظة على الملائكة، ويحتاج دعوى ذلك فيهم وفي الجن إلى نقل. وأما اعتراض القول به في الملائكة بلزوم التسلسل فمدفوع بما لا يخفى على المتأمل ثم إن بعضهم استظهر في الجزء: 13 ¦ الصفحة: 330 الملكين اللذين مع الإنسان كونهما ملكين بالشخص لا بالنوع لكل إنسان يلزمانه إلى مماته فيقومان عند قبره يسبحان الله تعالى ويحمدانه ويكبرانه ويكتبان ثواب ذلك لصاحبهما إن كان مؤمنا. أخرج أبو الشيخ في العظمة، والبيهقي في شعب الإيمان عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله تعالى وكل بعبده المؤمن ملكين يكتبان عمله فإذا مات قال الملكان اللذان وكّلا به: قد مات فأذن لنا أن نصعد إلى السماء فيقول الله تعالى: سمائي مملوءة من ملائكتي يسبحوني فيقولان: أنقيم في الأرض؟ فيقول الله تعالى: أرضي مملوءة من خلقي يسبحوني فيقولان فأين؟ فيقول: قوما على قبر عبدي فسبحاني واحمداني وكبراني واكتبا ذلك لعبدي إلى يوم القيامة، وجاء أنهما يلعنانه إلى يوم القيامة إن كان كافرا. وقال الحسن: الحفظة أربعة اثنان بالنهار واثنان بالليل وهو يحتمل التبدل بأن يكون في كل يوم وليلة أربعة غير الأربعة التي في اليوم والليلة قبلهما وعدمه. وقال بعضهم: إن ملك الحسنات يتبدل تنويها بشأن الطائع وملك السيئات لا يتبدل سترا على العاصي في الجملة، والظاهر أنهما لا يفارقان الشخص وقالوا: يفارقانه عند الجماع ودخول الخلاء، ولا يمنع ذلك من كتبهما ما يصدر عنه في تلك الحال، ولهما علامة للحسنة والسيئة بدنيتين كانتا أو قلبيتين، وبعض الأخبار ظاهرة في أن ما في النفس لا يكتب، أخرج ابن المبارك. وابن أبي الدنيا في الإخلاص. وأبو الشيخ في العظمة عن ضمرة بن حبيب قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن الملائكة يصعدون بعمل العبد من عباد الله تعالى فيكثرونه ويزكونه حتى ينتهوا به حيث شاء الله تعالى من سلطانه فيوحي الله تعالى إليهم إنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه إن عبدي هذا لم يخلص لي عمله فاجعلوه في سجين قال: ويصعدون بعمل العبد من عباد الله تعالى فيستقلونه ويحتقرونه حتى ينتهوا به حيث شاء الله تعالى من سلطانه فيوحي الله تعالى إليهم إنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه فضاعفوه له واجعلوه في عليين» وجاء من حديث عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن أبي عمران الجوني أنه ينادي الملك اكتب لفلان بن فلان كذا وكذا أي من العمل الصالح فيقول: يا رب انه لم يعمله فيقول: سبحانه وتعالى إنه نواه، وقد يقال: إنهما يكتبان ما في النفس ما عدا الرياء والطاعات المئوية جمعا بين الأخبار، وجاء أنه يكتب للمريض والمسافر مثل ما كان يعمل في الصحة والإقامة من الحسنات. أخرج ابن أبي شيبة والدارقطني في الافراد والطبراني والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن عمرو قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما من أحد من المسلمين يبتلى ببلاء في جسده إلا أمر الله تعالى الحفظة فقال: اكتبوا لعبدي ما كان يعمل وهو صحيح ما دام مشدودا في وثاقي» وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي موسى قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مرض أو سافر كتب الله تعالى له ما كان يعمل صحيحا مقيما» وفي بعض الآثار ما يدل على أن بعض الطاعات يكتبها غير هذين الملكين، ثم إن الملائكة الذين مع الإنسان ليسوا محصورين بالملكين الكاتبين، فعن عثمان أنه سأل النبي صلّى الله عليه وسلم كم ملك على الإنسان؟ فذكر عشرين ملكا قاله المهدوي في الفيصل، وذكر بعضهم أن المعقبات في قوله تعالى: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد: 11] غير الكاتبين بلا خلاف، وحكى اللقاني عن ابن عطية أن كل آدمي يوكل به من حين وقوعه نطفة في الرحم إلى موته أربعمائة ملك، والله تعالى أعلم بصحة ذلك. وروى ابن المنذر. وأبو الشيخ في العظمة عن ابن المبارك أنه قال: وكل بالعبد خمسة أملاك ملكان بالليل وملكان بالنهار يجيئان ويذهبان وملك خامس لا يفارقه لا ليلا ولا نهارا، وقوله تعالى: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ إلى آخره كلام وارد بعد تتميم العرض من إثبات ما أنكروه من البعث بأبين الجزء: 13 ¦ الصفحة: 331 دليل وأوضحه دال على أن هذا المنكر أنتم لا قوه فخذوا حذركم، والتعبير بالماضي هنا وفيما بعد لتحقق الوقوع، وسَكْرَةُ الْمَوْتِ شدته مستعارة من الحالة التي تعرض بين المرء وعقله بجامع أن كلا منهما يصيب العقل بما يصيب، وجوز أن يشبه الموت بالشراب على طريق الاستعارة المكنية ويجعل إثبات السكرة له تخييلا، وليس بذاك، والباء إما للتعدية كما في قولك: جاء الرسول بالخبر، والمعنى أحضرت سكرة الموت حقيقة الأمر الذي نطقت به كتب الله تعالى ورسله عليهم الصلاة والسلام، وقيل: حقيقة الأمر وجلية الحال من سعادة الميت وشقاوته، وقيل: بالحق الذي ينبغي أن يكون من الموت والجزاء فإن الإنسان خلق له، وإما للملابسة كما في قوله تعالى: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المؤمنون: 20] أي ملتبسة بالحق أي بحقيقة الأمر، وقيل: بالحكمة والغاية الجميلة، وقرىء «سكرة الحق بالموت» والمعنى أنها السكرة التي كتبت على الإنسان بموجب الحكمة وأنها لشدتها توجب زهوق الروح أو تستعقبه، وقيل: الباء بمعنى مع، وقيل: سكرة الحق سكرة الله تعالى على أن (الحق) من أسمائه عز وجل، والإضافة للتهويل لأن ما يجيء من العظيم عظيم. وقرأ ابن مسعود سكرات الموت جمعا، ويوافق ذلك ما أخرج البخاري. والترمذي والنسائي وابن ماجه عن عائشة «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان بين يديه ركوة أو علبة فيها ماء فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول: لا إله إلا الله إن للموت سكرات» وجاء في حديث صححه الحاكم عن القاسم بن محمد عن عائشة أيضا قالت: «لقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بالموت وعنده قدح فيه ماء وهو يدخل يده القدح ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول: اللهم أعني على سكرات الموت» ذلِكَ أي الحق ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ أي تميل وتعدل، فالإشارة إلى الحق والخطاب للفاجر لا للإنسان مطلقا والإشارة إلى الموت لأن الكلام في الكفرة، وإنما جيء بقوله تعالى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ لإثبات العلم بجزئيات أحواله وتضمين شبه وعيد لهؤلاء إدماجا والتخلص منه إلى بيان أحواله في الآخرة ولأن قوله سبحانه وتعالى: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ إلخ يناسب خطاب هؤلاء، وكذلك ما يعقبه على ما لا يخفى. وأما حديث مقابليهم فقد أخذ فيه حيث قال عز وجل: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ [ق: 31] الآيات، وقال بعض الأجلة: الإشارة إلى الموت والخطاب للإنسان الشامل للبر والفاجر والنفرة عن الموت شاملة لكل من أفراده طبعا. وقال الطيبي: إن كان قوله تعالى: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ متصلا بقوله سبحانه: بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ وقوله تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ [القمر: 9] فالمناسب أن يكون المشار إليه الحق والخطاب للفاجر، وإن كان متصلا بقوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فالمناسب أن يكون المشار إليه الموت والخطاب للجنس وفيه البر والفاجر، والالتفات لا يفارق الوجهين، والثاني هو الوجه لقوله تعالى بعد ذلك: وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ إلخ، وتفصيله بقوله تعالى: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ [ق: 24] . وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ وفيه ما يعلم مما قدمنا. وحكى في الكشاف عن بعضهم أنه سأل زيد بن أسلم عن ذلك فقال: الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم فحكاه لصالح بن كيسان فقال: والله ما من عالية ولا لسان فصيح ولا معرفة بكلام العرب هو للكافر، ثم حكاهما للحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس فقال: أخالفهما جميعا هو للبر والفاجر، وكأن هذه المخالفة لنحو ما سمعت عن الطيبي. وفي بعض الآثار ما يؤيد القول بالعموم أخرج ابن سعد عن عروة قال: لما مات الوليد بكت أم سلمة فقالت: يا عين فابكي الوليد بن الوليد بن المغيرة ... كان الوليد بن الوليد أبو الوليد فتى العشيرة فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا تقولي هكذا يا أم سلمة ولكن قولي: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 332 وأخرج أحمد. وابن جرير عن عبد الله مولى الزبير بن العوام قال: لما حضر أبو بكر الوفاة تمثلت عائشة بهذا البيت: أعاذل ما يغني الحذار عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر فقال أبو بكر: ليس كذلك يا بنية ولكن قولي: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ وفي رواية لابن المنذر وأبي عبيد أنها قالت: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل فقال رضي الله تعالى عنه: بل جاءت سكرة الموت إلخ إذ التمثل بالآية على تقدير العموم أوفق بالحال كما لا يخفى. وَنُفِخَ فِي الصُّورِ أي نفخة البعث ذلِكَ إشارة إلى النفخ المفهوم من نُفِخَ والكلام على حذف مضاف أي وقت ذلك النفخ يَوْمُ الْوَعِيدِ أي يوم إنجاز الواقع في الدنيا أو يوم وقوع الوعيد على أنه عبارة عن العذاب الموعود، وجوز أن تكون الإشارة إلى الزمان المفهوم من نُفِخَ فإن الفعل كما يدل على الحدث يدل على الزمان، وعليه لا حاجة إلى تقدير شيء، لكن قيل عليه: إن الإشارة إلى زمان الفعل مما لا نظير له، وتخصيص الوعيد بالذكر على تقدير كون الخطاب للإنسان مطلقا مع أنه يوم الوعد أيضا بالنسبة إليه للتهويل. وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ من النفوس البرة والفاجر كما هو الظاهر مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ وإن اختلفت كيفية السوق الجزء: 13 ¦ الصفحة: 333 والشهادة حسب اختلاف النفوس عملا أي معها ملكان أحدهما يسوقها إلى المحشر والآخر يشهد بعملها، وروي ذلك عن عثمان رضي الله تعالى عنه وغيره، وفي حديث أخرجه أبو نعيم في الحلية عن جابر مرفوعا تصريح بأن ملك الحسنات وملك السيئات أحدهما سائق والآخر شهيد، وعن أبي هريرة السائق ملك الموت والشهيد النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي رواية أخرى عنه السائق ملك والشهيد العمل وكلاهما كما ترى، وقيل: الشهيد الكتاب الذي يلقاه منشورا، وعن ابن عباس. والضحاك السائق ملك والشهيد جوارح الإنسان، وتعقبه ابن عطية بقوله: وهذا بعيد عن ابن عباس لأن الجوارح إنما تشهد بالمعاصي، وقوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ يعم الصالحين، وقيل: السائق والشهيد ملك واحد والعطف لمغايرة الوصفين أي معها ملك يسوقها ويشهد عليها، وقيل: السائق نفس الجائي والشهيد جوارحه. وتعقب بأن المعية تأباه والتجريد بعيد، وفيه أيضا ما تقدم آنفا عن ابن عطية، وقال أبو مسلم: السائق شيطان كان في الدنيا مع الشخص وهو قول ضعيف، وقال أبو حيان: الظاهران سائِقٌ وَشَهِيدٌ اسما جنس فالسائق ملائكة موكلون بذلك والشهيد الحفظة وكل من يشهد، ثم ذكر أنه يشهد بالخير الملائكة والبقاع، وفي الحديث «لا يسمع مدى صوت المؤذن انس ولا جن ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة» ومَعَها صفة نَفْسٍ أو كُلُّ وما بعده فاعل به لاعتماده أو مَعَها خبر مقدم وما بعده مبتدأ. والجملة في موضع الصفة، واختير كونها مستأنفة استئنافا بيانيا لأن الأخبار بعد العلم بها أوصاف ومضمون هذه الجملة غير معلوم فلا تكون صفة إلا أن يدعي العلم به. وأنت تعلم أن ما ذكر غير مسلم. وقال الزمخشري. محل مَعَها سائِقٌ النصب على الحال من كُلُّ لتعرفه بالإضافة إلى ما هو في حكم المعرفة، فإن أصل كل أن يضاف إلى الجمع كأفعل التفضيل فكأنه قيل: كل النفوس يعني أن هذا أصله وقد عدل عنه في الاستعمال للتفرقة بين كل الإفرادي والمجموعي، ولا يخفى أن ما ذكره تكلف لا تساعده قواعد العربية، وقد قال عليه في البحر: إنه كلام ساقط لا يصدر عن مبتدىء في النحو، ثم إنه لا يحتاج إليه فإن الإضافة للنكرة تسوغ مجيء الحال منها، وأيضا كُلُّ تفيد العموم وهو من المسوغات كما في شرح التسهيل. وقرأ طلحة «محا سائق» بالحاء مثقلة أدغم العين في الهاء فانقلبتا حاء كما قالوا: ذهب محم يريدون معهم، وقوله تعالى: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا محكي بإضمار قول، والجملة استئناف مبني على سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل: فماذا يكون بعد النفخ ومجيء كل نفس معها سائق وشهيد؟ فقيل: يقال للكافر الغافل إذا عاين الحقائق التي لم يصدق بها في الدنيا من البعث وغيره لقد كنت في غفلة من هذا الذي تعاينه، فالخطاب للكافر كما قال ابن عباس. وصالح بن كيسان، وتنكير الغفلة وجعله فيها وهي فيه يدل على أنها غفلة تامة، وهكذا غفلة الكفرة عن الآخرة وما فيها، وقيل: الجملة محكية بإضمار قول هو صفة- لنفس- أو حال والخطاب عام أي يقال لكل نفس أو قد قيل لها: لقد كنت، والمراد بالغفلة الذهول مطلقا سواء كان بعد العلم أم لا، وما من أحد إلا وله غفلة ما من الآخرة وما فيها، وجوز الاستئناف على عموم الخطاب أيضا. وقرأ الجحدري «لقد كنت» بكسر التاء على مخاطبة النفس وهي مؤنثة وتذكيرها في قوله: يا نفس إنك باللذات مسرور. على تأويلها بالشخص، ولا يلزم في قراءة الجمهور لأن التعبير بالنفس في الحكاية لا يستدعي اعتباره في المحكي كما لا يخفى. فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ الغطاء الحجاب المغطي لأمور المعاد وهو الغفلة والانهماك في المحسوسات والألف بها وقصر النظر عليها، وجعل ذلك غطاء مجازا، وهو إما غطاء الجسد كله أو العينين، وعلى كليهما يصح قوله تعالى: فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ أي نافذ لزوال المانع للإبصار، أما على الثاني فظاهر، وأما على الأول فلأن غطاء الجسد كله غطاء للعينين أيضا فكشفه عنه يستدعي كشفه عنهما. وزعم بعضهم أن الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والمعنى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 334 كنت في غفلة من هذا الذي ذكرناه من أمر النفخ والبعث ومجيء كل نفس معها سائق وشهيد وغير ذلك فكشفنا عنك غطاء الغفلة بالوحي وتعليم القرآن فبصرك اليوم حديد ترى ما لا يرون وتعلم ما لا يعلمون، ولعمري إنه زعم ساقط لا يوافق السباق ولا السياق. وفي البحر وعن زيد بن أسلم قول في هذه الآية يحرم نقله وهو في كتاب ابن عطية انتهى، ولعله أراد به هذا لكن في دعوى حرمة النقل بحث، وقرأ الجحدري. وطلحة بن مصرف بكسر الكافات الثلاثة أعني كاف عَنْكَ وما بعده على خطاب النفس، ولم ينقل صاحب اللوامح الكسر في الكاف إلا عن طلحة وقال: لم أجد عنه في لَقَدْ كُنْتَ الكسر فإن كسر فيه أيضا فذاك وإن فتح يكون قد حمل ذلك على لفظ كُلُّ وحمل الكسر فيما بعده على معناه لإضافته إلى نَفْسٍ وهو مثل قوله تعالى: فَلَهُ أَجْرُهُ [البقرة: 112] وقوله سبحانه بعده وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ [البقرة: 112] انتهى وَقالَ قَرِينُهُ أي شيطانه المقيض له في الدنيا كما قال مجاهد، وفي الحديث «ما من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن قالوا: ولا أنت يا رسول الله قال: ولا أنا إلا أن الله تعالى أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير» هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ إشارة إلى الشخص الكافر نفسه أي هذا ما عندي وفي ملكتي عتيد لجهنم قد هيأته لها بإغوائي وإضلالي، ولا ينافي هذا ما حكاه سبحانه عن القرين في قوله تعالى الآتي: قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ لأن هذا نظير قول الشيطان: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ [النساء: 119] وقوله: وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ [إبراهيم: 22] وذاك نظير قوله: وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ [إبراهيم: 22] . وقال قتادة وابن زيد: قرينه الملك الموكل بسوقه يقول مشيرا إليه: هذا ما لدي حاضر، وقال الحسن: هو كاتب سيئاته يقول مشيرا إلى ما في صحيفته أي هذا مكتوب عندي عتيد مهيأ للعرض، وقيل: قرينه هنا عمله قلبا وجوارح وليس بشيء، وما نكرة موصوفة بالظرف وبعتيد أو موصولة والظرف صلتها وعَتِيدٌ خبر بعد خبر لاسم الإشارة أو خبر لمبتدأ محذوف، وجوز أن يكون بدلا من ما بناء على أنه يجوز إبدال النكرة من المعرفة وإن لم توصف إذا حصلت الفائدة بإبدالها، وأما تقديره بشيء عتيد على أن البدل هو الموصوف المحذوف الذي قامت صفته مقامه أو إن ما الموصول لإبهامها أشبهت النكرة فجاز إبدالها منها فقيل عليه إنه ضعيف لما يلزم الأول من حذف البدل وقد أباه النحاة، والثاني لا يقول به من يشترط النعت فهو صلح من غير تراضي الخصمين. وقرأ عبد الله «عتيدا» بالنصب على الحال أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ خطاب من الله تعالى للسائق والشهيد بناء على أنهما اثنان لا واحد جامع للوصفين أو للملكين من خزنة النار أو لواحد على أن الألف بدل من نون التوكيد على إجراء الوصل مجرى الوقف، وأيد بقراءة الحسن «ألقينّ» بنون التوكيد الخفيفة، وقيل: إن العرب كثيرا ما يرافق الرجل منهم اثنين فكثر على ألسنتهم أن يقولوا خليلي وصاحبي وقفا واسعدا حتى خاطبوا الواحد خطاب الاثنين، وما في الآية محمول على ذلك كما حكي عن الفراء أو على تنزيل تثنية الفاعل منزلة تثنية الفعل بأن يكون أصله ألق ألق ثم حذف الفعل الثاني وأبقى ضميره مع الفعل الأولى فثنى الضمير للدلالة على ما ذكر كما في قوله: فإن تزجراني يا ابن عفان أنزجر ... وإن تدعاني أحم عرضا ممنعا وحكي ذلك عن المازني والمبرد، ولا يخفى بعده، ولينظر هل هو حقيقة أو مجاز والأظهر أنه خطاب لاثنين وهو المروي عن مجاهد. وجماعة، وأيا ما كان فالكلام على تقدير القول كما مر، والإلقاء طرح الشيء حيث تلقاه أي تراه ثم صار في التعارف اسما لكل طرح أي اطرحا في جهنم كل مبالغ في الكفر للمنعم والنعمة عَنِيدٍ مبالغ في العناد وترك الانقياد للحق، وقريب منه قول الحسن: جاحد متمرد، وقال قتادة: أي منحرف عن الطاعة يقال: عند عن الطريق عدل عنه، وقال السدي: المشاق من العند وهو عظم يعرض في الحلق، وقال ابن بحر: المعجب بما عنده الجزء: 13 ¦ الصفحة: 335 مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مبالغ في المنع للمال عن حقوقه المفروضة، قال قتادة. ومجاهد. وعكرمة: يعني الزكاة، وقيل: المراد بالخير الإسلام فإن الآية نزلت في الوليد بن المغيرة كان يقول لبني أخيه: من دخل منكم في الإسلام لم أنفعه بشيء ما عشت، والمبالغة باعتبار كثرة بني أخيه أو باعتبار تكرر منعه لهم. وضعف بأنه لو كان المراد ذلك كان مقتضى الظاهر مناع عن الخير، وفي البحر الأحسن عموم الخير في المال وغيره مُعْتَدٍ ظالم متخط للحق متجاوز له مُرِيبٍ شاك في الله تعالى ودينه، وقيل: في البعث. الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ مبتدأ متضمن لمعنى الشرط خبره فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ بتأويل فيقال في حقه ألقياه أو لكونه في معنى جواب الشرط لا يحتاج للتأويل أو بدل من كُلَّ كَفَّارٍ أو من كَفَّارٍ وقوله تعالى: فَأَلْقِياهُ تكرير للتوكيد فهو نظير فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ [آل عمران: 188] بعد قوله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ [آل عمران: 188] والفاء هاهنا للإشعار بأن الإلقاء للصفات المذكورة أو من باب وحقك ثم حقك ينزل التغاير بين المؤكد والمفسر والمفسر منزلة التغاير بين الذاتين بوجه خطابي، ولا يدعي التغاير الحقيقي لأن التأكيد يأباه، وقول أهل المعاني: أن بين المؤكد والمؤكد شدة اتصال تمنع من العطف ليس على إطلاقه بسديد، والنحويون على خلافه، فقد قال ابن مالك في التسهيل: فصل الجملتين في التأكيد بثم أن أمن اللبس أجود من وصلهما، وذكر بعض النحاة الفاء والزمخشري في الجاثية الواو أيضا، وجعلوا ذلك من التأكيد الاصطلاحي، ولو جعل الْعَذابِ الشَّدِيدِ نوعا من عذاب جهنم ومن أهواله فكان من باب مَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ [البقرة: 98] دون تكرير لكان كما قال صاحب الكشف حسنا. وجوز أن يكون مفعولا بمضمر يفسره فَأَلْقِياهُ وقال ابن عطية: أن يكون صفة كَفَّارٍ وجاز وصفه بالمعرفة لتخصصه بالأوصاف المذكورة. وتعقبه أبو حيان بأنه لا يجوز وصف النكرة بالمعرفة ولو وصفت بأوصاف كثيرة قالَ قَرِينُهُ أي الشيطان المقيض له، وإنما استؤنفت هذه الجملة استئناف الجمل الواقعة في حكاية المقاولة لما أنها جواب لمحذوف دل عليه قوله تعالى: رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ فإنه مبني على سابقة كلام اعتذر به الكافر كأنه قال: هو أطغاني فأجاب قرينه بتكذيبه وإسناد الطغيان إليه بخلاف الجملة الأولى فإنها واجبة العطف على ما قبلها دلالة على الجمع بين مفهوميهما في الحصول أعني مجيء كل نفس مع الملكين، وقول قرينه: وَلكِنْ كانَ هو بالذات فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ من الحق فأعنته عليه بالإغواء والدعوة إليه من غير قسر ولا الجاء، فهو كما قدمنا نظير وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ [إبراهيم: 22] إلخ قالَ استئناف مبني على سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل: فماذا قال الله تعالى؟ فقيل: قال عز وجل: لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ أي في موقف الحساب والجزاء إذ لا فائدة في ذلك وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ على الطغيان في دار الكسب في كتبي وعلى ألسنة رسلي فلا تطمعوا في الخلاص عنه بما أنتم فيه من التعلل بالمعاذير الباطلة، والجملة حال فيها تعليل للنهي ويلاحظ معنى العلم لتحصل المقارنة التي تقتضيها الحالية أي لا تختصموا لدي عالمين أني قدمت إليكم بالوعيد حيث قلت لإبليس: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ [ص: 85] فاتبعتموه معرضين عن الحق والباء مزيدة أو معدية على أن قدم بمعنى تقدم وهو لازم يعدى بالباء، وجوز أن يكون قَدَّمْتُ واقعا على قوله تعالى: ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ إلخ ويكون بِالْوَعِيدِ متعلقا بمحذوف هو حال من المفعول قدم عليه أو الفاعل أي وقد قدمت إليكم هذا القول ملتبسا بالوعيد مقترنا به أو قدمته إليكم موعدا لكم فلا تطمعوا أن أبدل وعيدي، والأظهر استئناف هذه الجملة. وفي لَدَيَّ على ما قال الإمام وجهان: الأول أن يكون متعلقا بالقول أي ما يبدل القول الذي عنده. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 336 الثاني أن يكون متعلقا بالفعل قبل أي لا يقع التبديل عندي، قال: وعلى الأول في القول الذي لديه تعالى وجوه. أحدها قوله تعالى: أَلْقِيا أرادوا باعتذارهم أن يبدل ويقول سبحانه: لا تلقيا فرد عليهم. ثانيها قوله سبحانه لإبليس: لَأَمْلَأَنَّ إلخ. ثالثها الإيعاد مطلقا. رابعها القول السابق يوم خلق العباد هذا سعيد وهذا شقي. وعلى الثاني في معنى الآية وجوه أيضا. أحدها لا يكذب لدي فإني عالم علمت من طغى ومن أطغى فلا يفيد قولكم أطغاني شيطاني وقول الشيطان: رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ ثانيها لو أردتم أن لا أقول: فَأَلْقِياهُ كنتم أبدلتم الكفر بالإيمان قبل أن تقفوا بين يدي وأما الآن فما يبدل القول لدي. ثالثها لا يبدل القول الكفر بالإيمان لدي فإن الإيمان عند اليأس غير مقبول فقولكم: ربنا وإلهنا لا يفيدكم فمن تكلم بكلمة الكفر لا يفيده قوله: ربنا ما أشركنا وقوله: ربنا آمنا. والمشهور أن لَدَيَّ متعلق بالفعل على أن المراد بالقول ما يشمل الوعد والوعيد. واستدل به بعض من قال بعدم جواز تخلفهما مطلقا. وأجاب من قال بجواز العفو عن بعض المذنبين بأن ذلك العفو ليس بتبديل فإن دلائل العفو تدل على تخصيص الوعيد، وقال بعض المحققين: المراد نفي أن يوقع أحد التبديل لديه تعالى أي في علمه سبحانه أو يبدل القول الذي علمه عز وجل، فإن ما عنده تبارك وتعالى هو ما في نفس الأمر وهو لا يقبل التبديل أصلا، وأكثر الوعيدات معلقة بشرط المشيئة على ما يقتضيه الكرم وإن لم يذكر على ما يقتضيه الترهيب، فمتى حصل العفو لعدم مشيئته التعذيب لم يكن هناك تبديل ما في نفس الأمر فتدبره فإنه دقيق وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ وارد لتحقيق الحق على أبلغ وجه، وفيه إشارة إلى أن تعذيب من يعذب من العبيد إنما هو عن استحقاق في نفس الأمر، وقد تقدم تمام الكلام في هذه الجملة فتذكر. يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ أي اذكر أو أنذر يوم إلخ. فيوم. مفعول به لمقدر، وقيل: هو ظرف. لظلام، وقال الزمخشري: يجوز أن ينتصب. بنفخ. كأنه قيل: ونفخ في الصور يوم، وعليه يشار بذلك إلى يَوْمَ نَقُولُ لأن الإشارة إلى ما بعد جائزة لا سيما إذا كانت رتبته التقديم فكأنه قيل: ذلك اليوم أي يوم القول يوم الوعيد، ولا يحتاج إلى حذف على ما مر في الوجه الذي أشير به إلى النفخ. وهذا الوجه كما قال في الكشف: فيه بعد لبعده عن العامل وتخلل ما لا يصلح اعتراضا على أن زمان النفخ ليس يوم القول إلا على سبيل فرضه ممتدا واقعا ذلك في جزء منه وهذا في جزء وكل خلاف الظاهر فكيف إذا اجتمعت. وقال أبو حيان: هو بعيد جدا قد فصل عليه بين العامل والمعمول بجمل كثيرة فلا يناسب فصاحة القرآن الكريم وبلاغته، والظاهر إبقاء السؤال والجواب على حقيقتهما، وكذا في نظير ذلك من اشتكاء النار والإذن لها بنفسين وتحاج النار والجنة، ونحن متعبدون باعتقاد الظاهر ما لم لا يمنع مانع ولا مانع هاهنا، فإن القدرة صالحة والعقل مجوز والظواهر قاضية بوقوع ما جوزه العقل، وأمور الآخرة لا ينبغي أن تقاس على أمور الدنيا. وقال الرماني: الكلام على حذف مضاف أي نقول لخزنة جهنم، وليس بشيء. وقال غير واحد: هو من باب التمثيل والمعنى أنها مع اتساعها وتباعد أقطارها تطرح فيها من الجنّة والناس فوجا بعد فوج حتى تمتلىء ولا تقبل الزيادة، فالاستفهام للإنكار أي لا مزيد على امتلائها وروي هذا عن ابن عباس ومجاهد والحسن، وجوز في نفي الزيادة أن يكون على ظاهره وأن يكون كناية أو مجازا عن الاستكثار، وقيل: المعنى أنها من السعة بحيث يدخلها من يدخلها وفيها فراغ وخلو، فالاستفهام للتقرير أي فيها موضع للمزيد لسعتها، وجوز أن يكون ذلك كناية عن شدة غيظها على العصاة كأنها طالبة لزيادتهم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 337 واستشكل دعوى أن فيها فراغا بأنه مناف لصريح قوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ الآية. وأجيب بأنه لا منافاة لأن الامتلاء قد يراد به أنه لا يخلو طبقة منها عمن يسكنها وإن كان فيها فراغ كثير كما يقال: إن البلدة ممتلئة بأهلها ليس فيها دار خالية مع ما بينها من الأبنية والأفضية أو أن ذلك باعتبار حالين فالفراغ في أول الدخول فيها ثم يساق إليها الشياطين ونحوهم فتمتلىء، هذا ويدل غير ما حديث أنها تطلب الزيادة حقيقة إلا أنه لا يدري حقيقة ما يوضع فيها حتى تمتلىء إذ الأحاديث في ذلك من المتشابهات التي لا يراد بها ظواهرها عند الأكثرين أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن أنس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فيزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط وعزتك وكرمك ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشىء الله لها خلقا آخر فيسكنهم في فضول الجنة» . وأخرج الشيخان. وغيرهما عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: تحاجت الجنة والنار فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم فقال الله تعالى للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها فأما النار فلا تمتلىء حتى يضع رجله فتقول قط قط فهناك تمتلىء ويزوي بعضها إلى بعض ولا يظلم الله من خلقه أحدا وأما الجنة فإن الله تعالى ينشىء لها خلقا» وأول أهل التأويل ذلك، فقال النضر بن شميل: إن القدم الكفار الذين سبق في علمه تعالى دخولهم النار والقدم تكون بمعنى المتقدم كقوله تعالى: قَدَمَ صِدْقٍ [يونس: 2] وظاهر الحديث عليه يستدعي دخول غير الكفار قبلهم وهو في غاية البعد ولعل في الأخبار ما ينافيه. وقال ابن الأثير: قدمه أي الذين قدمهم لها من شرار خلقه فهم قدم الله تعالى للنار كما أن المسلمين قدمه للجنة والقدم كل ما قدمت من خير أو شر وهو كما ترى، ويبعده ما في حديث أحمد. وعبد بن حميد. وابن مردويه عن أبي سعيد مرفوعا «فيلقى فيها، أي النار، أهلها فتقول: هل من مزيد ويلقى فيها وتقول هل من مزيد حتى يأتيها عز وجل فيضع قدمه عليه فتنزوي وتقول: قدني قدني» وأولوا الرجل بالجماعة ومنه ما جاء في أيوب عليه السلام أنه كان يغتسل عريانا فخر عليه رجل من جراد، والإضافة إلى ضميره تعالى تبعد ذلك، وقيل: وضع القدم أو الرجل على الشيء مثل للردع والقمع فكأنه قيل: يأتيها أمر الله تعالى فيكفها من طلب المزيد. وقريب منه ما ذهب إليه بعض الصوفية ان القدم يكنى بها عن صفة الجلال كما يكنى بها عن صفة الجمال، وقيل: أريد بذلك تسكين فورتها كما يقال للأمر: تريد إبطاله وضعته تحت قدمي أو تحت رجلي، وهذان القولان أولى مما تقدم والله تعالى أعلم. والمزيد إما مصدر ميمي كالمحيد أو اسم مفعول أعلّ إعلال المبيع. وقرأ الأعرج وشيبة ونافع وأبو بكر والحسن وأبو رجاء وأبو جعفر والأعمش «يوم يقول» بياء الغيبة. وقرأ عبد الله. والحسن. والأعمش أيضا «يقال» . مبنيا للمفعول. وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ أخذ في بيان حال المؤمنين بعد بيان حال الكافرين وهو عطف على نفخ أي قربت للمتقين عن الكفر والمعاصي غَيْرَ بَعِيدٍ أي في مكان غير بعيد بمرأى منهم بين يديهم وفيه مبالغة ليست في التخلية عن الظرف- فغير بعيد- صفة لظرف متعلق بأزلفت حذف فقام مقامه وانتصب انتصابه، ولذلك لم يقل غير بعيدة، وجوز أن يكون منصوبا على المصدرية والأصل وأزلفت إزلافا غير بعيد، قال الإمام: أي عن قدرتنا وإن يكون حالا من الجنة قصد به التوكيد كما تقول: عزيز غير ذليل لأن العزة تنافي الذل ونفي مضاد الشيء تأكيد إثباته، وفيه دفع توهم أن ثم تجوزا أو شوبا من الضد ولم يقل: غير بعيدة عليه قيل: لتأويل الجنة بالبستان، وقيل: لأن البعيد على الجزء: 13 ¦ الصفحة: 338 زنة المصدر الذي من شأنه أن يستوي فيه المؤنث والمذكر كالزئير والصليل فعومل معاملته وأجري مجراه، وقيل: لأن فعيلا بمعنى فاعل قد يجري مجرى فعيل بمعنى مفعول فيستوي فيه الأمران، وللإمام في تقريب الجنة أوجه. منها طي المسافة التي بينها وبين المتقين مع بقاء كل في مكانه وعدم انتقاله عنه ولكرامة المتقين قيل: أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ دون وأزلف المتقون للجنة، ومنها أن المراد تقريب حصولها والدخول فيها دون التقريب المكاني، وفيه ما فيه، ومنها أن التقريب على ظاهره والله عز وجل قادر على نقل الجنة من السماء إلى الأرض أي إلى جهة السفل أو الأرض المعروفة بعد مدها، وقول بعض: إن المراد إظهارها قريبة منها على نحو إظهارها للنبي صلّى الله عليه وسلّم في عرض حائط مسجده الشريف على ما فيه منزع صوفي هذا ما تُوعَدُونَ إشارة إلى الجنة، والتذكير لما أن المشار إليه هو المسمى من غير قصد لفظ يدل عليه فضلا عن تذكيره وتأنيثه فإنهما من أحكام اللفظ العربي كما في قوله تعالى: فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي [الأنعام: 78] وقوله سبحانه: وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ [الأحزاب: 22] ويجوز أن يكون ذلك لتذكير الخبر، وقيل: هو إشارة إلى الثواب. وقيل: إلى مصدر أُزْلِفَتِ والجملة بتقدير قول وقع حالا من المتقين أو من الجنة والعامل أزلفت أي مقولا لهم أو مقولا في حقها هذا ما توعدون، أو اعتراض بين المبدل منه أعني لِلْمُتَّقِينَ والبدل أعني الجار والمجرور وفيه بعد. وصيغة المضارع لاستحضار الصورة الماضية، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «يوعدون» بياء الغيبة، والجملة على هذه القراءة قيل: اعتراض أو حال من الجنة وقال أبو حيان: هي اعتراض، والمراد هذا القول هو الذي وقع الوعد به وهو كما ترى، وقوله تعالى: لِكُلِّ أَوَّابٍ أي رجاع إلى الله تعالى بدل من المتقين بإعادة الجار أو من لِلْمُتَّقِينَ على أن يكون الجار والمجرور بدلا من الجار والمجرور حَفِيظٍ حفظ ذنوبه حتى رجع عنها كما روي عن ابن عباس وسعيد بن سنان، وقريب منه ما أخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر عن يونس بن خباب قال: قال لي مجاهد: ألا أنبئك بالأواب الحفيظ؟ هو الرجل يذكر ذنبه إذا خلا فيستغفر الله تعالى منه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال: أي حفيظ لما استودعه الله تعالى من حقه ونعمته. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن عبيد بن عمير كنا نعد الأواب الحفيظ الذي يكون في المجلس فإذا أراد أن يقوم قال: اللهم اغفر لي ما أصبت في مجلسي هذا. وقيل: هو الحافظ لتوبته من النقض ولا ينافيه صيغة أَوَّابٍ كما لا يخفى. وقوله تعالى شأنه: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ بدل من كل المبدل من المتقين أو بدل ثان من المتقين بناء على جواز تعدد البدل والمبدل منه واحد. وقول أبي حيان: تكرر البدل والمبدل منه واحد لا يجوز في غير بدل البداء، وسره أنه في نية الطرح فلا يبدل منه مرة أخرى غير مسلم، وقد جوزه ابن الحاجب في أماليه، ونقله الدماميني في أول شرحه للخزرجية وأطال فيه، وكون المبدل منه في نية الطرح ليس على ظاهره، أو بدل من موصوف أَوَّابٍ أي لكل شخص أواب بناء على جواز حذف المبدل منه، وقد جوزه ابن هشام في المغني لا سيما وقد قامت صفته مقامه حتى كأنه لم يحذف ولم يبدل من أَوَّابٍ نفسه لأن أوابا صفة لمحذوف كما سمعت فلو أبدل منه كان للبدل حكمه فيكون صفة مثله، و «من» اسم موصول والأسماء الموصولة لا يقع منها صفة إلا الذي على الأصح، وجوز بعض الوصف بمن أيضا لكنه قول ضعيف أو مبتدأ خبره ادْخُلُوها بتأويل يقال لهم ادخلوها لمكان الإنشائية والجمع باعتبار معنى من وقوله تعالى بِالْغَيْبِ متعلق بمحذوف هو حال من فاعل خَشِيَ أو من مفعوله أو صفة لمصدره أي خشية ملتبسة بالغيب حيث خشي عقابه سبحانه وهو غائب عنه أو هو غائب عن الأعين لا يراه أحد، وقيل: الياء للآلة، والمراد بالغيب القلب لأنه مستور أي من خشي الرحمن بقلبه دون جوارحه بأن يظهر الخشية ليس في قلبه منها شيء وليس بشيء. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 339 والتعرض لعنوان الرحمانية للإشعار بأنهم مع خشيتهم عقابه عز وجل راجون رحمته سبحانه أو بأن علمهم بسعة رحمته تبارك وتعالى لا يصدهم عن خشيته جل شأنه، وقال الإمام: يجوز أن يكون لفظ الرَّحْمنَ إشارة إلى مقتضى الخشية لأن معنى الرحمن واهب الوجود بالخلق والرحيم واهب البقاء بالرزق وهو سبحانه في الدنيا رحمن حيث أوجدنا ورحيم حيث أبقانا بالرزق فمن يكون منه الوجود ينبغي أن يكون هو المخشي وما تقدم أولى. والباء في قوله تعالى: بِقَلْبٍ للمصاحبة، وجوز أن تكون للتعدية أي أحضر قلبا منيبا. ووصف القلب بالإنابة مع أنها يوصف بها صاحبه لما أن العبرة رجوعه إلى الله تعالى، وأغرب الإمام فجوز كون الباء للسببية فكأنه قيل: ما جاء إلا بسبب آثار العلم في قلبه أن لا مرجع إلا الله تعالى فجاء بسبب قلبه المنيب وهو كما ترى، وقوله تعالى: بِسَلامٍ متعلق بمحذوف هو حال من فاعل ادْخُلُوها والباء للملابسة، والسلام إما من السلام أو من التسليم أي ادخلوها ملتبسين بسلامة من العذاب وزوال النعم أو بتسليم وتحية من الله تعالى وملائكته ذلِكَ إشارة إلى أن الزمان الممتد الذي وقع في بعض منه ما ذكر من الأمور يَوْمُ الْخُلُودِ البقاء الذي لا انتهاء له أبدا أو إشارة إلى وقت الدخول بتقدير مضاف أي ذلك يوم ابتداء الخلود وتحققه أو يوم تقدير الخلود أو إشارة إلى وقت الدخول بتقدير مضاف أي ذلك يوم ابتداء الخلود وتحققه أو يوم تقدير الخلود أو إشارة إلى وقت السلام بتقدير مضاف أيضا أي ذلك يوم إعلام الخلود أي الإعلام به لَهُمْ ما يَشاؤُنَ من فنون المطالب كائنا ما كان فِيها متعلق بيشاؤون، وقيل: بمحذوف هو حال من الموصول أو من عائده المحذوف من صلته وَلَدَيْنا مَزِيدٌ هو ما لا يخطر ببالهم ولا يندرج تحت مشيئتهم من معالي الكرامات التي لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ومنه كما أخرجه ابن أبي حاتم عن كثير بن مرة أن تمر السحابة بهم فتقول: ماذا تريدون فأمطره عليكم فلا يريدون شيئا إلا أمطرته عليهم. وأخرج البيهقي في الرؤية. والديلمي عن علي كرم الله تعالى وجهه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله تعالى: وَلَدَيْنا مَزِيدٌ قال: «يتجلى لهم الرب عز وجل» . وأخرج ابن المنذر وجماعة عن أنس أنه قال في ذلك أيضا: يتجلى لهم الرب تبارك وتعالى في كل جمعة، وجاء في حديث أخرجه الشافعي في الأم وغيره أن يوم الجمعة يدعى يوم المزيد ، وقيل: المزيد أزواج من الحور العين عليهن تيجان أدنى لؤلؤة منها تضيء ما بين المشرق والمغرب وعلى كل سبعون حلة وان الناظر لينفذ بصره حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك، وقيل: هو مضاعفة الحسنة بعشر أمثالها وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ أي كثيرا أهلكنا قبل قومك مِنْ قَرْنٍ قوما مقترنين في زمن واحد هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً أي قوة كما قيل أو أخذا شديدا في كل شيء كعاد وقوم فرعون فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ ساروا في الأرض وطوفوا فيها حذار الموت، فالتنقيب السير وقطع المسافة كما ذكره الراغب. وغيره، وأنشدوا للحارث بن حلزة: نقبوا في البلاد من حذر المو ... ت وجالوا في الأرض كل مجال ولامرىء القيس: وقد نقبت في الآفاق حتى ... رضيت من الغنيمة بالإياب وروي وقد طوفت، وأخرج الطستي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن ذلك فقال: هو هربوا بلغة اليمن، وأنشد له بيت الحرث المذكور لكنه نسبه لهدى بن زيد، وفسر التنقيب في البلاد بالتصرف فيها بملكها ونحوه، وشاع التنقيب في العرف بمعنى التنقير عن الشيء والبحث عن أحواله، ومنه قوله تعالى: وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً التنقيب بالسير ونحوه المروي عن ابن عباس لمجرد التعقيب، وعلى تفسيره بالتصرف للسببية لأن تصرفهم في البلاد الجزء: 13 ¦ الصفحة: 340 مسبب عن اشتداد بطشهم وهي على الوجهين عاطفة على معنى ما قبلها كأنه قيل: اشتد بطشهم فنقبوا وقيل: هي على ما تقدم أيضا للسببية والعطف على أَهْلَكْنا على أن المراد أخذنا في إهلاكهم فنقبوا في البلاد هَلْ مِنْ مَحِيصٍ على إضمار قول هو حال من واو (نقبوا) أي قائلين هل لنا مخلص من الله تعالى أو من الموت؟ أو على إجراء التنقيب لما فيه من معنى التتبع والتفتيش مجرى القول على ما قيل أو هو كلام مستأنف لنفي أن يكون لهم محيص أي هل لهم مخلص من الله عز وجل أو من الموت، وقيل: ضمير (نقبوا) لأهل مكة أي ساروا في مسايرهم وأسفارهم في بلاد القرون المهلكة فهل رأوا لهم محيصا حتى يؤملوا مثله لأنفسهم. وأيد بقراءة ابن عباس وابن يعمر وأبي العالية ونصر بن سيار وأبي حيوة والأصمعي عن أبي عمرو على صيغة الأمر لأن الأمر للحاضر وقت النزول من الكفار وهم أهل مكة لا غير، والأصل توافق القراءتين وفيه على هذه القراءة التفات من الغيبة إلى الخطاب. قرأ ابن عباس أيضا وعبيد عن ابن عمرو «فنقّبوا» بفتح القاف مخففة، والمعنى كما في المشددة، وقرىء بكسر القاف خفيفة من النقب محركا، وهو أن ينتقب خف البعير ويرق من كثرة السير، قال الراجز: أقسم بالله أبو حفص عمر ... ما مسها من نقب ولا دبر والكلام بتقدير مضاف أي نقبت أقدامهم، ونقب الإقدام كناية مشهورة عن كثرة السير فيؤول المعنى إلى أنهم أكثروا السير في البلاد أو نقبت أخفاف مراكبهم والمراد كثرة السير أيضا، وقد يستغنى عن التقدير بجعل الإسناد مجازيا إِنَّ فِي ذلِكَ أي الإهلاك أو ما ذكر في السورة لَذِكْرى لتذكرة وعظة لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أي قلب واع يدرك الحقائق فإن الذي لا يعي ولا يفهم بمنزلة العدم، وفي الكشف لِمَنْ كانَ إلخ تمثيل أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ أي أصغى إلى ما يتلى عليه من الوحي وَهُوَ شَهِيدٌ أي حاضر على أنه من الشهود بمعنى الحضور، والمراد به المتفطن لأن غير المتفطن منزل منزلة الغائب فهو إما استعارة أو مجاز مرسل والأول أولى، وجوز أن يكون من الشهادة وصفا للمؤمن لأنه شاهد على صحة المنزل وكونه وحيا من الله تعالى فيبعثه على حسن الإصغاء أو وصفا له من قوله تعالى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] كأنه قيل: وهو من جملة الشهداء أي المؤمنين من هذه الأمة فهو كناية على الوجهين، وجوز على الأول منهما أن لا يكون كناية على أن المراد وهو شاهد شهادة عن إيقان لا كشهادة أهل الكتاب. وعن قتادة المعنى لمن سمع القرآن من أهل الكتاب وهو شاهد على صدقه لما يجده في كتابه من نعته، والأنسب بالمساق وإلا ملأ بالفائدة الأخذ من الشهود، والوجه جعل وَهُوَ شَهِيدٌ حالا من ضمير الملقى لا عطفا على أَلْقَى كما لا يخفى على من له قلب أو القى السمع وهو شهيد، والمراد أن فيما فعل بسوالف الأمم أو في المذكور إماما من الآيات لذكرى لإحدى طائفتين من له قلب يفقه عن الله عز وجل ومن له سمع مصغ مع ذهن حاضر أي لمن له استعداد القبول عن الفقيه إن لم يكن فقيها في نفسه، وأَوْ لمنع الخلو من حيث إنه يجوز أن يكون الشخص فقيها ومستعدا للقبول من الفقيه، وذكر بعضهم أنها لتقسيم المتذكر إلى تال وسامع أو إلى فقيه ومتعلم أو إلى عالم كامل الاستعداد لا يحتاج لغير التأمل فيما عنده وقاصر محتاج للتعلم فيتذكر إذا أقبل بكليته وأزال الموانع بأسرها فتأمل. وقرأ السلمي وطلحة والسدي وأبو البرهسم «أو ألقي» مبنيا للمفعول «السّمع» بالرفع على النيابة عن الفاعل والفاعل المحذوف أما المعبر عنه بالموصول أولا، وعلى الثاني معناه لمن ألقى غيره السمع وفتح أذنه ولم يحضر الجزء: 13 ¦ الصفحة: 341 ذهنه، وأما هو فقد ألقي وهو شاهد متفطن محضر ذهنه، فالوصف أعني الشهود معتمد الكلام، وإنما أخرج في الآية بهذه العبارة للمبالغة في تفطنه وحضوره، وعلى الأول معناه لمن ألقى سمعه وهو حاضر متفطن، ثم لو قدر موصول آخر بعد أَوْ فذو القلب والملقى غير أن شخصا ولو لم يقدر جاز أن يكونا شخصين وأن يكونا شخصا باعتبار حالين حال تفطنه بنفسه وحال القائه السمع عن حضور إلى متفطن بنفسه لأن (من) عام يتناول كل واحد واحد وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما من أصناف المخلوقات فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ تقدم الكلام فيها وَما مَسَّنا وما أصابنا بذلك مع كونه مما لا تفي به القوى والقدر مِنْ لُغُوبٍ تعب ما فالتنوين للتحقير، وهذا كما قال قتادة. وغيره رد على جهلة اليهود زعموا أنه تعالى شأنه بدأ خلق العالم يوم الأحد وفرغ منه يوم الجمعة واستراح يوم السبت واستلقى على العرش سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا. وعن الضحاك أن الآية نزلت لما قالوا ذلك، ويحكى أنهم يزعمون أنه مذكور في التوراة، وجملة وَما مَسَّنا إلخ تحتمل أن تكون حالية وأن تكون استئنافية، وقرأ السلمي وطلحة ويعقوب «لغوب» بفتح اللام بزنة القبول والولوع وهو مصدر غير مقيس بخلاف مضموم اللام فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي ما يقول المشركون في شأن البعث من الأباطيل المبنية على الاستبعاد والإنكار فإن من قدر على خلق العالم في تلك المدة اليسيرة بلا إعياء قادر على بعثهم والانتقام منهم، أو على ما يقول اليهود من مقالة الكفر والتشبيه. والكلام متعلق بقوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا إلخ على الوجهين، وفي الكشف أنه على الأول متعلق بأول السورة إلى هذا الموضع وأنه أنسب من تعلقه، بلقد خلقنا، الآية لأن الكلام مرتبط بعضه ببعض إلى هاهنا على ما لا يخفى على المسترشد. وأنت تعلم أن الأقرب تعلقه على الوجهين بما ذكرنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي نزهه تعالى عن العجز عما يمكن وعن وقوع الخلف في أخباره التي من جملتها الإخبار بوقوع البعث وعن وصفه عز وجل بما يوجب التشبيه، أو نزهه عن كل نقص ومنه ما ذكر حامدا له تعالى على ما أنعم به عليك من إصابة الحق وغيرها. قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ هما وقتا الفجر والعصر وفضيلتهما مشهورة وَمِنَ اللَّيْلِ مفعول لفعل محذوف يفسره فَسَبِّحْهُ باعتبار الاتحاد النوعي، والعطف للتغاير الشخصي أي وسبحه بعض الليل فسبحه أو مفعول لقوله تعالى: «سبحه» على أن الفاء جزائية والتقدير مهما يكن من شيء فسبحه بعض الليل، وقدم المفعول للاهتمام به وليكون كالعوض عن المحذوف ولتتوسط الفاء الجزائية كما هو حقها، ولعل المراد بهذا البعض السحر فإن فضله مشهور وَأَدْبارَ السُّجُودِ وأعقاب الصلاة جمع دبر بضم فسكون أو دبر بضمتين. وقرأ ابن عباس وأبو جعفر وشيبة وعيسى والأعمش وطلحة وشبل والحرميان «إدبار» بكسر الهمزة وهو مصدر تقول: أدبرت الصلاة إدبارا انقضت وتمت، والمعنى ووقت انقضاء السجود كقولهم: آتيك خفوق النجم. وذهب غير واحد إلى أن المراد بالتسبيح الصلاة على أنه من إطلاق الجزء أو اللازم على الكل أو الملزوم، وعليه فالصلاة قبل الطلوع الصبح وقبل الغروب العصر، قاله قتادة وابن زيد والجمهور، وأخرجه الطبراني في الأوسط. وابن عساكر عن جرير بن عبد الله مرفوعا ، ومن الليل صلاة العتمة وإدبار السجود النوافل بعد المكتوبات أخرجه ابن جرير عن ابن زيد، وقال ابن عباس: الصلاة قبل الطلوع الفجر وقبل الغروب الظهر والعصر ومن الليل العشاءان وإدبار السجود النوافل بعد الفرائض، وفي رواية أخرى عنه الوتر بعد العشاء، وفي أخرى عنه أيضا وعن عمر وعلي وابنه الحسن وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم. والشعبي وإبراهيم ومجاهد والأوزاعي ركعتان بعد المغرب، وأخرجه مسدد في مسنده. وابن المنذر وابن مردويه عن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 342 علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعا، وقال مقاتل: ركعتان بعد العشاء يقرأ في الأولى قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [الكافرون: 1] وفي الثانية قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1] ، وقيل: من الليل صلاة العشاءين والتهجد. وعن مجاهد صلاة الليل، وفيه احتمال العموم لصلاة العشاءين والخصوص بالتهجد وهو الأظهر وَاسْتَمِعْ أمر بالاستماع، والظاهر أنه أريد به حقيقته، والمستمع له محذوف تقديره واستمع لما أخبر به من أهوال يوم القيامة، وبين ذلك بقوله تعالى: يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ إلى آخره، وسلك هذا لما في الإبهام ثم التفسير من التهويل والتعظيم لشأن المخبر به، وانتصب يَوْمَ بما دل عليه ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ أي يوم ينادي المنادي يخرجون من القبور، وقيل: المفعول محذوف تقديره نداء المنادى، وقيل: تقديره نداء الكافرين بالويل والثبور ويَوْمَ ظرف لذلك المحذوف، وقيل: لا يحتاج ذلك إلى مفعول والمعنى كن مستمعا ولا تكن غافلا، وقيل: معنى استمع انتظر، والخطاب لكل سامع، وقيل: للرسول عليه الصلاة والسلام ويَوْمَ منتصب على أنه مفعول به لاستمع أي انتظر يوم ينادي المنادي فإن فيه تبين صحة ما قلته كما تقول لمن تعده بورود فتح: استمع كذا وكذا. والمنادي على ما في بعض الآثار جبريل عليه السلام ينفخ إسرافيل في الصور وينادي جبريل يا أيتها العظام النخرة والجلود المتمزقة والشعور المتقطعة إن الله يأمرك بأن تجتمعي لفصل الحساب. وأخرج ابن عساكر. والواسط في فضائل بيت المقدس عن يزيد بن جابر أن إسرافيل عليه السلام ينفخ في الصور فيقول: يا أيتها العظام النخرة إلى آخره فيكون المراد بالمنادي هو عليه السلام. وفي الحواشي الشهابية الأول هو الأصح مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ هو صخرة بيت المقدس على ما روي عن يزيد بن جابر وكعب وابن عباس وبريدة وقتادة، وهي على ما روي عن كعب أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا. وفي الكشاف أنها أقرب إليها باثني عشر ميلا وهي وسط الأرض، وأنت تعلم أن مثل هذا لا يقبل إلا بوحي، ثم إن كونها وسط الأرض مما تأباه القواعد في معرفة العروض والأطوال، ومن هنا قيل: المراد قريب ممن يناديهم فقيل: ينادي من تحت أقدامهم، وقيل: من منابت شعورهم فيسمع من كل شعرة يا أيتها العظام النخرة إلخ، ومن الناس من قال: المراد بقربه كون النداء منه لا يخفى على أحد بل يستوي في سماعه كل أحد، والنداء في كل ذلك على حقيقته، وجوز أن يكون في الإعادة نظير كن في الابتداء على المشهور فهو تمثيل لإحياء الموتى بمجرد الإرادة ولا نداء ولا صوت حقيقة، ثم إن ما ذكرناه من أن المنادي ملك وأنه ينادي بما سمعت هو المأثور، وجوز أن يكون نداؤه بقوله للنفس: ارجعي إلى ربك لتدخلن مكانك من الجنة أو النار أو هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار، وأن يكون المنادي هو الله تعالى ينادي احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصافات: 22] أو أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ [ق: 24] مع قوله تعالى: ادْخُلُوها بِسَلامٍ [الحجر: 46، ق: 34] أو خُذُوهُ فَغُلُّوهُ [الحاقة: 30] أو أَيْنَ شُرَكائِيَ [النحل: 27، القصص: 62، 74، فصلت: 47] أو غير ذلك، وأن يكون غيره تعالى وغير الملك من المكلفين ينادي يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ [الزخرف: 77] أو أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [الأعراف: 50] أو غير ذلك، والمعول عليه ما تقدم يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ وهي النفخة الثانية، ويَوْمَ بدل من يَوْمَ يُنادِ إلخ، والعامل فيهما ما دل عليه ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ كما تقدم، وجوز أن يكون ظرفا لما دل عليه ذلك ويَوْمَ يُنادِ غير معمول له بل لغيره على ما مر، وأن يكون ظرفا لينادي، وقوله تعالى: بِالْحَقِّ في موضع الحال من الصَّيْحَةَ أي يسمعونها ملتبسة بالحق الذي هو البعث، وجوز أن يكون (الحق) بمعنى اليقين والكلام نظير صاح بيقين أي وجد منه الصياح يقينا لا كالصدى وغيره فكأنه قيل: الصيحة المحققة، وجوز أن يكون الجار متعلقا بيسمعون على أن المعنى يسمعون بيقين، وأن يكون الباء للقسم و (الحق) هو الله تعالى أي يسمعون الصيحة أقسم بالله وهو كما ترى ذلِكَ أي اليوم يَوْمُ الْخُرُوجِ من القبور وهو من أسماء يوم القيامة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 343 وقيل: الإشارة إلى النداء واتسع في الظرف فجعل خبرا عن المصدر، أو الكلام على حذف مضاف أي ذلك النداء نداء يوم الخروج أو وقت ذلك النداء يوم الخروج إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ في الدنيا من غير أن يشاركنا في ذلك أحد وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ الرجوع للجزاء في الآخرة لا إلى غيرنا لا استقلالا ولا اشتراكا. يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ بدل بعد بدل، ويحتمل أن يكون ظرفا للمصير أي إلينا مصيرهم في ذلك اليوم أو لما دل عليه ذلِكَ حَشْرٌ أي يحشرون يوم تشقق. وقرأ نافع وابن عامر «تشّق» بشد الشين وقرىء «تشقّق» بضم التاء مضارع شققت على البناء للمفعول و «تنشّق» مضارع انشقت. وقرأ زيد بن علي «تتشقّق» بتاءين، وقوله تعالى: سِراعاً مصدر وقع حالا من الضمير في «عنهم» بتأويل مسرعين والعامل «تشقق» وقيل: التقدير يخرجون سراعا فتكون حالا من الواو والعامل يخرج، وحكاه أبو حيان عن الحوفي ثم قال: ويجوز أن يكون هذا المقدر عاملا في يَوْمَ تَشَقَّقُ أخرج ابن المنذر عن مجاهد أنه قال في الآية: تمطر السماء عليهم حتى تنشق الأرض عنهم، وجاء إن أول من تنشق عنه الأرض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أخرج الترمذي وحسنه والطبراني والحاكم واللفظ له عن ابن عمر قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أخرج الترمذي وحسنه. والطبراني. والحاكم واللفظ له عن ابن عمر قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنا أول من تنشق عنه الأرض ثم أبو بكر وعمر ثم أهل البقيع فيحشرون معي ثم انتظر أهل مكة وتلا ابن عمر يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً» ذلِكَ حَشْرٌ بعث وجمع عَلَيْنا يَسِيرٌ أي هين، وتقديم الجار والمجرور لتخصيص اليسر به عز وجل فإنه سبحانه العالم القادر لذاته الذي لا يشغله شأن عن شأن نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ من نفي البعث وتكذيب الآيات الناطقة وغير ذلك مما لا خير فيه، وهذا تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلّم وتهديد لهم وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ أي ما أنت مسلط عليهم تقسرهم على الإيمان أو تفعل بهم ما تريد وإنما أنت منذر، فالباء زائدة في الخبر وعَلَيْهِمْ متعلق به. ويفهم من كلام بعض الأجلة جواز كون (جبار) من جبره على الأمر قهره عليه بمعنى أجبره لا من أجبره إذ لم يجىء فعال بمعنى مفعل من أفعل إلا فيما قل كدراك وسراع، وقال علي بن عيسى: لم يسمع ذلك إلا في دراك. وقيل: جبار من جبر بمعنى أجبر لغة كنانة وإن «عليهم» متعلق بمحذوف وقع حال أي ما أنت جبار تجبرهم على الإيمان واليا عليهم، وهو محتمل للتضمين وعدمه فلا تغفل، وقيل: أريد التحلم عنهم وترك الغلظة عليهم، وعليه قيل: الآية منسوخة، وقيل: هي منسوخة على غيره أيضا بآية السيف فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ فإنه لا ينتفع به غيره، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: «قالوا يا رسول الله لو خوفتنا فنزلت فذكر بالقرآن من يخاف وعيد» وما أنسب هذا الاختتام بالافتتاح بقوله سبحانه: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق: 1] هذا وللشيخ الأكبر قدس سره في قوله تعالى: بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق: 15] ولغير واحد من الصوفية في قوله سبحانه: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] كلام أشرنا إليه فيما سبق، ومنهم من يجعل ق إشارة إلى الوجود الحق المحيط بجميع الموجودات والله من ورائهم محيط، وقيل: هو إشارة إلى مقامات القرب، وقيل: غير ذلك، وطبق بعضهم سائر آيات السورة على ما في الأنفس وهو مما يعلم بأدنى التفات ممن له أدنى ممارسة لكلامهم والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 344 سورة الذّاريات «مكية» كما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهما- ولم يحك في ذلك خلاف- وهي ستون آية بالاتفاق كما في كتاب العدد، ومناسبتها لسورة «ق» أنهما لما ختمت بذكر البعث واشتملت على ذكر الجزاء والجنة والنار وغير ذلك افتتحت هذه بالإقسام على أن ما وعدوا من ذلك لصادق، وأن الجزاء لواقع، وأنه قد ذكر هناك إهلاك كثير من القرون على وجه الإجمال، وذكر هنا إهلاك بعضهم على سبيل التفصيل إلى غير ذلك مما يظهر للمتأمل. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالذَّارِياتِ ذَرْواً أي الرياح التي تذرو التراب وغيره من- ذرا- المعتل بمعنى فرق وبدد ما رفعه عن مكانه فَالْحامِلاتِ وِقْراً أي حملا وهي السحب الحاملة للمطر. فَالْجارِياتِ يُسْراً أي جريا سهلا إلى حيث سيرت وهي السفن فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً هي الملائكة الذين يقسمون الأمور بين الخلق على ما أمروا به، وتفسير كل بما فسر به قد صح روايته من طرق عن علي كرم الله تعالى وجهه، وفي بعض الروايات أن ابن الكواء سأله عن ذلك وهو رضي الله تعالى عنه يخطب على المنبر فأجاب بما ذكر، وفي بعض الأخبار ما يدل على أنه تفسير مأثور عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. (1)   (1) (تنبيه) جرينا هنا في تقسيم هذا الجزء هكذا لما هو المشهور من تجزئة الأجزاء الأربعة الأواخر لذلك ليكون أو كل جزء منها أو سورة وإن كانت تجزئة المصاحف في هذا الجزء هي قوله «قال فما خطبكم أيها المرسلون» . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 3 أخرج البزار والدارقطني في الافراد وابن مردويه وابن عساكر عن سعيد بن المسيب قال: «جاء صبيغ التميمي إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال: أخبرني عن الذَّارِياتِ ذَرْواً قال: هي الرياح، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقوله ما قلته، قال: فأخبرني عن «الحاملات وقرا» قال: هي السحاب ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقوله ما قلته، قال: فأخبرني عن «الجاريات يسرا» قال: هي السفن ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقوله ما قلته، قال: فأخبرني عن «المقسمات أمرا» قال: هي الملائكة ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقوله ما قلته ثم أمر به فضرب مائة وجعل في بيت فلما برأ دعاه فضربه مائة أخرى وحمله على قتب وكتب إلى أبي موسى الأشعري امنع الناس من مجالسته فلم يزالوا كذلك حتى أتى أبا موسى فحلف له بالأيمان المغلظة ما يجد في نفسه مما كان يجد شيئا فكتب إلى عمر رضي الله تعالى عنه ما أخاله إلا قد صدق فخلى بينه وبين مجالسة الناس» . ويدل هذا أن الرجل لم يكن سليم القلب وأن سؤاله لم يكن طلبا للعلم وإلا لم يصنع به عمر رضي الله تعالى عنه ما صنع. وفي رواية عن ابن عباس أن- الحاملات- هي السفن الموقرة بالناس وأمتعتهم، وقيل: هي الحوامل من جميع الحيوانات، وقيل: الجاريات السحب تجري وتسير إلى حيث شاء الله عز وجل، وقيل: هي الكواكب التي تجري في منازلها وكلها لها حركة وإن اختلفت سرعة وبطأ كما بين في موضعه، وقيل: هي الكواكب السبعة الشهيرة وتسمى السيارة، وقيل: الذَّارِياتِ النساء الولود فإنهن يذرين الأولاد كأنه شبه تتابع الأولاد بما يتطاير من الرياح، وباقي المتعاطفات على ما سمعت أولا، وقيل: الذَّارِياتِ هي الأسباب التي تذري الخلائق على تشبيه الأسباب المعدة للبروز من العدم بالرياح المفرقة للحبوب ونحوها، وقيل: الحاملات الرياح الحاملة للسحاب، وقيل: هي الأسباب الحاملة لمسبباتها مجازا، وقيل: الجاريات الرياح تجري في مهابها، وقيل: المقسمات السحب يقسم الله تعالى بها أرزاق العباد، وقيل: هي الكواكب السبعة السيارة- وهو قول باطل- لا يقول به إلا من زعم أنها مدبرة لعالم الكون والفساد، وفي صحيح البخاري عن قتادة «خلق الله تعالى هذه النجوم لثلاث جعلها زينة للسماء ورجوما للشياطين. وعلامات يهتدى بها فمن تأوّل فيها بغير ذلك فقد أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف ما لا يعلم» وزاد رزين «وما لا علم له به وما عجز عن علمه الأنبياء والملائكة» وعن الربيع مثله وزاد «والله ما جعل الله تعالى في نجم حياة أحد ولا رزقه ولا موته وإنما يفترون على الله تعالى الكذب ويتعللون بالنجوم» ذكره صاحب جامع الأصول، وقد مر الكلام في إبطال ما قاله المنجمون مفصلا فتذكر، ولعله سيأتي إن شاء الله تعالى شيء من ذلك، وجوز أن يراد بالجميع الرياح فإنها- كما تذر- وما تذروه تثير السحاب وتحمله، وتجري في الجوّ جريا سهلا- وتقسم الأمطار بتصريف السحاب في الأقطار- والمعول عليه ما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه سامعا له من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم- وقاله باب مدينة العلم كرم الله تعالى وجهه على المنبر- وإليه كما نقل عن الزجاج ذهب جميع المفسرين أي المعتبرين، وقول الإمام بعد نقله له عن الأمير: الأقرب أن تحمل هذه الصفات الأربع على الرياح جسارة عظيمة على ما لا يسلم له، وجهل منه بما رواه ابن المسيب من الخبر الدال على أن ذلك تفسير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأين منه الامام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. وقول صاحب الكشف: إنه شديد الطباق للمقام ولذا آثره الإمام لا أسلمه له أيضا إذا صح الحديث ثم إذا حملت هذه الصفات على أمور مختلفة متغايرة بالذات كما في المعول عليه فالفاء للترتيب في الأقسام ذكرا ورتبة باعتبار تفاوت مراتبها في الدلالة على كمال قدرته عز وجل، وهذا التفاوت إما على الترقي أو التنزل لما في كل منها الجزء: 14 ¦ الصفحة: 4 من الصفات التي تجعلها أعلى من وجه وأدنى من آخر إذا نظر لها ذو نظر صحيح، وقيل: الترتيب بالنظر إلى الأقرب فالأقرب منا، وإن حملت على واحد وهو الرياح فهي لترتيب الأفعال والصفات إذ الريح تذر الأبخرة إلى الجو أولا حتى تنعقد سحابا فتحمله ثانيا وتجري به ثالثا ناشرة وسائقة له إلى حيث أمرها الله تعالى ثم تقسم أمطاره، وقيل: إذا حملت الذاريات والحاملات على النساء، فالظاهر أنها للتفاوت في الدلالة على كمال القدرة فتدبر. ونصب ذَرْواً على أنه مفعول مطلق، ووِقْراً على أنه مفعول به، وجوز الإمام أن يكون من باب ضربته سوطا، ويُسْراً على أنه صفة مصدر محذوف بتقدير مضاف أي جريا ذا يسر، أو على أنه حال أي ميسرة كما نقل عن سيبويه، وأَمْراً على أنه مفعول به وهو واحد الأمور، وقد أريد به الجمع ولم يعبر به لأن الفرد أنسب برؤوس الآي مع ظهور الأمر، وقيل على أنه حال أي مأمورة، والمفعول به محذوف أو الوصف منزل منزلة اللازم أي تفعل التقسيم مأمورة، وقرأ أبو عمرو وحمزة وَالذَّارِياتِ ذَرْواً بإدغام التاء في الذال، وقرىء «وقرا» بفتح الواو على أنه مصدر وقره إذا حمله- كما أفاده كلام الزمخشري- وناهيك به إماما في اللغة، وعلى هذا هو منصوب على أنه مفعول به أيضا على تسمية المحمول بالمصدر أو على أنه مفعول مطلق- لحاملات- من معناها كأنه قيل: فالحاملات حملا. وقوله تعالى شأنه: إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ جواب للقسم، و (ما) موصولة والعائد محذوف أي إن الذي توعدونه، أو توعدون به، ويحتمل أن تكون مصدرية أي إن وعدكم، أو وعيدكم إذ توعدون يحتمل أن يكون مضارع وعد، وأن يكون مضارع أوعد، ولعل الثاني أنسب لقوله تعالى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [ق: 45] ولأن المقصود التخويف والتهويل، وعن مجاهد أن الآية في الكفار وهو يؤيد الوعيد ومعنى صدقة تحقق وقوعه، وفي الكشاف وعد صادق- ك عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة: 21]- والدِّينَ الجزاء ووقوعه حصوله، والأكثرون على أن الموعود هو البعث، وفي تخصيص المذكورات بالإقسام بها رمز إلى شهادتها بتحقق الجملة المقسم عليها من حيث إنها أمور بديعة فمن قدر عليها فهو قادر على تحقيق البعث الموعود وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ أي الطرق جمع حبيكة كطريقة، أو حباك كمثال ومثل، ويقال: حبك الماء للتكسر الجاري فيه إذ مرت عليه الريح، وعليه قول زهير يصف غديرا: مكلل بأصول النجم تنسجه ... ريح خريق لضاحي مائه حبك (1) وحبك الشعر لآثار تثنية وتكسره، وتفسيرها بذلك مروي عن مقاتل والكلبي والضحاك، والمراد بها إما الطرق المحسوسة التي تسير فيها الكواكب، أو المعقولة التي تدرك بالبصيرة وهي ما تدل على وحدة الصانع وقدرته وعلمه وحكمته جل شأنه إذا تأملها الناظر، وقال ابن عباس وقتادة وعكرمة ومجاهد والربيع: ذات الخلق المستوي الجيد، وفي رواية أخرى عن مجاهد المتقنة البنيان، وقيل: ذات الصفاقة وهي أقوال متقاربة وكأن الحبك عليها من قولهم: حبكت الشيء أحكمته وأحسنت عمله وحبكت العقدة أوثقتها، وفرس محبوك المعاقم- وهي المفاصل- أي محكمها، وفي الكشف أصل الحباكة الصفاقة وجودة الأثر، وعن الحسن- حبكها- نجومها، والظاهر أن إطلاق الحبك على النجوم مجاز لأنها تزين السماء كما يزين الثوب الموشى حبكه وطرائق وشيه فكأنه قيل: ذات النجوم التي هي كالحبك أي الطرائق في التزيين، واستظهر في السماء أنه جنس أريد به جميع السماوات وكون كل واحدة   (1) قوله: «مكلل» مجرور على الوصف في قوله: قبله ثم استعانت- ماء مكلل- ذلك الماء بأصول النبات وصارت حوله كالإكليل، «والخريق» الريح الباردة الشديدة الهبوب و «الضاحي» الظاهر، و «حبك الماء طرائفة» . اهـ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 5 منها ذات حبك بمعنى مستوية الخلق جيدته، أو متقنة البنيان أو صفيقة، أو ذات طرق معقولة ظاهر، وأما كون كل منها كذلك بمعنى ذات طرق محسوسة فباعتبار أن الكواكب في أي سماء كانت تسير مسامتة لسائر السماوات، فممراتها باعتبار المسامتة طرق، وبمعنى ذات النجوم فباعتبار أن النجوم في أي سماء كانت تشاهد في سائر السماوات بناء على أن السماوات شفافة لا يحجب كل منها إدراك ما وراءه، وأخرج ابن منيع عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: هي السماء السابعة ، وعن عبد الله بن عمرو مثله فتدبر ولا تغفل. وقرأ ابن عباس والحسن بخلاف عنه وأبو ممالك الغفاري وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو السمال ونعيم عن أبي عمرو «الحبك» بإسكان الباء على زنة القفل، وعكرمة بفتحها جمع حبكة مثل طرفة وطرف وبرقة (1) وبرق، وأبو مالك الغفاري والحسن بخلاف عنه أيضا بكسر الحاء والباء- كالإبل- وهو على ما ذكر الخفاجي اسم مفرد ورد على هذا الوزن شذوذا وليس جمعا، وأبو مالك والحسن وأبو حيوة أيضا بكسر الحاء وإسكان الباء- كالسلك- وهو تخفيف فعل مكسور الفاء والعين وهو اسم مفرد لا جمع لأن فعلا ليس من أبنية الجموع- قاله في البحر- وابن عباس وأبو مالك أيضا بفتحهما- كالجبل- قال أبو الفضل الرازي: فهو جمع حبكة مثل عقبة وعقب، والحسن أيضا بكسر الحاء وفتح الباء كالنعم، وأبو مالك أيضا بكسر الحاء وضم الباء وذكرها ابن عطية عن الحسن أيضا ثم قال: هي قراءة شاذة غير متوجهة وكأنه بعد أن كسر الحاء توهم قراءة الجمهور فضم التاء (2) وهذا من تداخل اللغات وليس في كلام العرب هذا البناء أي لأن فيه الانتقال من خفة إلى ثقل على عكس ضرب مبنيا للمفعول، وقال صاحب اللوامح: هو عديم النظير في العربية في أبنيتها وأوزانها ولا أدري ما وراءه انتهى. وعلى التداخل تأول النحاة هذه القراءة، وقال أبو حيان: الأحسن عندي أن يكون ذلك مما أتبع فيه حركة الحياء لحركة تاء ذاتِ في الكسر ولم يعتد باللام الساكنة لأن الساكن حاجز غير حصين. إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ أي متخالف متناقض في أمر الله عز وجل حيث تقولون: إنه جل شأنه خالق السماوات والأرض وتقولون بصحة عبادة الأصنام معه سبحانه، وفي أمر الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فتقولون تارة: إنه مجنون، وأخرى: إنه ساحر ولا يكون الساحر إلا عاقلا، وفي أمر الحشر فتقولون: تارة لا حشر ولا حياة بعد الموت أصلا، وتزعمون أخرى أن أصنامكم شفعاؤكم عند الله تعالى يوم القيامة إلى غير ذلك من الأقوال المتخالفة فيما كلفوا بالإيمان به، واقتصر بعضهم على كون القول المختلف في أمره صلى الله تعالى عليه وسلم، والجملة جواب القسم ولعل النكتة في ذلك القسم تشبيه أقوالهم في اختلافها وتنافي أغراضها بطرائق السماوات في تباعدها واختلاف هيئاتها، أو الإشارة إلى أنها ليست مستوية جيدة، أو ليست قوية محكمة، أو ليس فيها ما يزينها بل فيها ما يشينها من التناقض يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ أي يصرف عن الإيمان بما كلفوا الايمان به لدلالة الكلام السابق عليه، وقال الحسن وقتادة: عن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم، وقال غير واحد: عن القرآن، والكلام السابق مشعر بكل من صرف الصرف الذي لا أشد منه وأعظم، ووجه المبالغة من إسناد الفعل إلى من وصف به فلولا غرض المبالغة لكان من توضيح الواضح فكأنه أثبت للمصروف صرف آخر حيث قيل: يُصْرَفْ عَنْهُ [الأنعام: 16] المصروف فجاءت المبالغة من المضاعفة ثم الإطلاق في المقام الخطابي له مدخل في تقوية أمر المضاعفة وكذلك الإبهام الذي   (1) هي أرض ذات حجارة. (2) هكذا بالتاء الفوقية والظاهر أنها بالباء الموحدة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 6 في الموصول، وهو قريب من قوله تعالى: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ [طه: 78] وقيل: المراد يُصْرَفْ عَنْهُ في الوجود الخارجي من فَصَرَفَ عَنْهُ [يوسف: 34] في علم الله تعالى وقضائه سبحانه، وتعقب بأنه ليس فيه كثير فائدة لأن كل ما هو كائن معلوم أنه ثابت في سابق علمه تعالى الأزلي وليس فيه المبالغة السابقة، وأجيب عن الأول بأن فيه الإشارة إلى أن الحجة البالغة لله عز وجل في صرفه وكفى بذلك فائدة وهو مبني أن العلم تابع للمعلوم فافهمه، وحكى الزهراوي أنه يجوز أن يكون الضمير لما تُوعَدُونَ أو- للدين- أقسم سبحانه- بالذاريات- على أن وقوع أمر القيامة حق ثم أقسم بالسماء على أنهم في قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ في وقوعه، فمنهم شاك، ومنهم جاحد ثم قال جل وعلا: يُؤْفَكُ عن الإقرار بأمر القيامة من هو المأفوك، وذكر ذلك الزمخشري ولم يعزه، وادعى صاحب الكشف أنه أوجه لتلاؤم الكلام، وقيل: يجوز أن يكون الضمير- لقول مختلف- وعن- للتعليل كما في قوله تعالى: وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ [هود: 53] وقوله: ينهون عن أكل وعن شرب ... مثل المها يرتعن في خصب (1) أي يصرف بسبب ذلك القول المختلف من أراد الإسلام، وقال الزمخشري: حقيقة يصدر إفكهم عن القول المختلف، وهذا محتمل لبقاء- عن- على أصلها من المجاوزة واعتبار التضمين، وفيه ارتكاب خلاف الظاهر من غير داع مع ذهاب تلك المبالغة، وجوز ابن عطية رجوع الضمير إلى القول إلا أنه قال: المعنى يصرف عن ذلك القول المختلف بتوفيق الله تعالى للإسلام من غلبت سعادته، وتعقبه بأن فيه مخالفة للعرف فإن عرف الاستعمال في الإفك الصرف من خير إلى شر فلذلك لا تجده إلا في المذمومين، ثم إن ذلك على كون الخطاب في أنكم للكفار- وهو الذي ذهب إليه ابن زيد وغيره- واستظهر أبو حيان كونه عاما للمسلم والكافر، واستظهر العموم فيما سبق أيضا، والقول المختلف حينئذ قول المسلمين بصدق الرسول عليه الصلاة والسلام، وقول الكفار بنقيض ذلك، وقرأ ابن جبير وقتادة «من أفك» مبينا للفاعل أي من أفك الناس عنه وهم قريش، وقرأ زيد بن علي- يأفك عنه من أفك- أي يصرف الناس عنه من هو أفاك كذاب، وقرىء «يؤفن عنه من أفن» بالنون فيهما أي يحرمه من حرم من أفن الضرع إذا أنهكه حلبا قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ أي الكذابون من أصحاب القول المختلف، وأصل الخرص الظن والتخمين ثم تجوز به عن الكذب لأنه في الغالب يكون منشأ له، وقال الراغب: حقيقة ذلك أن كل قول مقول عن ظن وتخمين يقال له: خرص سواء كان مطابقا للشيء أو مخالفا له من حيث إن صاحبه لم يقله عن علم ولا غلبة ظن ولا سماع بل اعتمد فيه على الظن والتخمين كفعل خارص الثمرة في خرصه، وكل من قال قولا على هذا النحو قد يسمى كاذبا وإن كان قوله مطابقا للمقول المخبر به كما في قوله تعالى: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ [المنافقون: 1] الآية انتهى. وفيه بحث وحقيقة- القتل- معروفة، والمراد- بقتل- الدعاء عليهم مع قطع النظر عن المعنى الحقيقي. وعن ابن عباس تفسيره باللعن قال ابن الأنباري: وإنما كان القتل بمعنى اللعن هنا لأن من لعنه الله تعالى بمنزلة المقتول الهالك، وقرىء «قتل الخراصين» أي قتل الله الخراصين الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ في جهل عظيم يغمرهم ويشملهم شمول الماء الغامر لما فيه ساهُونَ غافلون عما أمروا به، فالمراد بالسهو مطلق الغفلة.   (1) يصف الشاعر مضيافا يصدر الأضياف عنه شباعا يتباهون في السمن بسبب الأكل والشرب وقالوا جمل ناه إذا كان عريقا في السمن اهـ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 7 يَسْئَلُونَ أي بطريق الاستعجال استهزاء أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ معمول ليسألون على أنه جار مجرى يقولون لما فيه من معنى القول، أو لقول مقدر- أي فيقولون متى وقوع يوم الجزاء- وقدر الوقوع ليكون السؤال عن الحدث كما هو المعروف في أَيَّانَ ولا ضير في جعل الزمان زمانيا فإن اليوم لما جعل موعودا ومنتظرا في نحو قوله تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ [الدخان: 10] صار ملحقا بالزمانيات وكذلك- كل يوم له شأن مثل يوم العيد. والنيروز- وهذا جار في عرفي العرب والعجم على أنه يجوز عند الأشاعرة أن يكون للزمان زمان على ما فصل في مكانه، وقرىء «إيان» بكسر الهمزة وهي لغة يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ أي يحرقون، وأصل الفتن إذابة الجوهر ليظهر غشه ثم استعمل في الإحراق والتعذيب ونحو ذلك، ويَوْمَ نصب على الظرفية لمحذوف دل عليه وقوع الكلام جوابا للسؤال مضاف للجملة الاسمية بعده- أي يقع يوم الدين يوم هم على النار- إلخ، وقال الزجاج: ظرف لمحذوف وقع خبرا لمبتدأ كذلك أي هو واقع، أو كائن يوم إلخ، وجوز أن يكون هو نفسه خبر مبتدأ محذوف، والفتحة فتحة بناء لإضافته إلى غير، وهي الجملة الاسمية فإن الجمل بحسب الأصل كذلك على كلام فيه بين البصريين والكوفيين مفصل في شرح التسهيل- أي هو يوم هم- إلخ، والضمير قيل: راجع إلى وقت الوقوع فيكون هذا الكلام قائما مقام الجواب على نحو- سيقولون لله- في جواب مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الرعد: 16] لأن تقدير السؤال في أي وقت يقع، وجوابه الأصلي في يوم كذا، وإذا قلت: وقت وقوعه يوم كذا كان قائما مقامه. ويجوز أن يكون الضمير لليوم والكلام جواب بحسب المعنى، فالتقدير يوم الجزاء- يوم تعذيب الكفار- ويؤيد- كونه مرفوع المحل خبرا لمبتدأ محذوف- قراءة ابن أبي عبلة. والزعفراني «يوم هم» بالرفع، وزعم بعض النحاة أن- يوم- بدل من يَوْمُ الدِّينِ وفتحته على قراءة الجمهور فتحة بناء، ويَوْمَ وما في حيزه من جملة كلام السائلين قالوه استهزاء، وحكي على المعنى، ولو حكي على اللفظ لقيل: يوم نحن على النار نفتن، وهو في غاية البعد كما لا يخفى، وقوله تعالى: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ بتقدير قول وقع حالا من ضمير يُفْتَنُونَ أي مقولا لهم ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ أي عذابكم المعدّ لكم، وقد يسمى ما يحصل عنه العذاب- كالكفر- فتنة، وجوز أن يكون منه ما هنا كأنه قيل: ذوقوا كفركم- أي جزاء كفركم- أو بجعل الكفر نفس العذاب مجازا وهو كما ترى هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ جملة من مبتدأ وخبر داخلة تحت القول المضمر- أي هذا العذاب الذي كنتم تستعجلون به بطريق الاستهزاء- وجوز أن يكون هذا بدلا من فِتْنَتَكُمْ بتأويل العذاب، وفيه بعد إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ لا يبلغ كنهها ولا يقادر قدرها آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ أي قابلين لكل ما أعطاهم عز وجل راضين به على معنى إن كل ما آتاهم حسن مرضي يتلقى بحسن القبول، والعموم مأخوذ من شيوع ما وإطلاقه في معرض المدح وإظهار منّه تعالى عليهم، واعتبار الرضا لأن الأخذ قبول عن قصد، ونصب آخِذِينَ على الحال من الضمير في الصرف إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ في الدنيا مُحْسِنِينَ أي لأعمالهم الصالحة آتين بها على ما ينبغي فلذلك استحقوا ما استحقوا من الفوز العظيم، وفسر إحسانهم بقوله تعالى كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ إلخ على أن الجملة في محل رفع بدل من قوله تعالى: كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ حصل بها تفسير، أو أنها جملة لا محل لها من الإعراب مفسرة كسائر الجمل التفسيرية، وأخرج الفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية: آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ من الفرائض إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ أي كانوا قبل تنزل الفرائض يعملون، ولا أظن صحة نسبته لذلك الخبر، ولا يكاد تجعل جملة كانُوا إلخ عليه تفسيرا إذا صح ما نقل عنه في تفسيرها، وسيأتي إن شاء الله تعالى. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 8 و الهجوع- النوم، وقيده الراغب بقوله: ليلا، وغيره بالقليل، وما إما مزيدة- فقليلا- معمول الفعل صفة لمصدر محذوف أي- هجوعا قليلا- ومِنَ اللَّيْلِ صفة، أو لغو متعلق- بيهجعون- ومِنَ للابتداء، وجملة يَهْجَعُونَ خير- كان- أو قَلِيلًا صفة لظرف محذوف- أي زمانا قليلا- ومِنَ اللَّيْلِ صفة على نحو- قليل من المال عندي- وإما موصولة عائدها محذوف فهي فاعل قَلِيلًا وهو خبر- كان- ومِنَ اللَّيْلِ حال من الموصول مقدم كأنه قيل: كانوا قد قل المقدار الذي يهجعون فيه كائنا ذلك المقدار مِنَ اللَّيْلِ وإما مصدرية فالمصدر فاعل قَلِيلًا وهو خبر كان أيضا، ومِنَ اللَّيْلِ بيان لا متعلق بما بعده لأن معمول المصدر لا يتقدم، أو حال من المصدر، ومِنَ الابتداء كذا في الكشف فهما من الكشاف، وذهب بعضهم إلى أن مِنَ على زيادة- ما- بمعنى في كما في قوله تعالى: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الجمعة: 9] واعترض ابن المنير احتمال مصدريتها بأنه لا يجوز في مِنَ اللَّيْلِ كونه صفة، أو بيانا- للقليل- لأنه فيه واقع على الهجوع ولا صلة المصدر لتقدمه، وأجيب بأنه بيان للزمان المبهم وحكى الطيبي أنه إما منصوب على التبيين أو متعلق بفعل يفسره يَهْجَعُونَ وجوز أن يكون ما يَهْجَعُونَ على ذلك الاحتمال بدلا من اسم كان فكأنه قيل: كان هجوعهم قليلا وهو بعيد، وجوز في ما أن تكون نافية، وقَلِيلًا منصوب- بيهجعون- والمعنى- كانوا لا يهجعون من الليل قليلا ويحيونه كله- ورواه ابن أبي شيبة وأبو نصر عن مجاهد، ورده الزمخشري بأن ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها لأن لها صدر الكلام وليس فيها التصرف الذي في أخواتها كلا فإنها قد تكون كجزء مما دخلت عليه نحو- عوتب بلا جرم- ولم ولن- لاختصاصهما بالفعل كالجزء منه، وأنت تعلم أن منع العمل هو مذهب البصريين، وفي شرح الهادي أن بعض النحاة أجازه مطلقا، وبعضهم أجازه في الظرف خاصة للتوسع فيه، واستدل عليه بقوله: ونحن عن فضلك ما استغنينا نعم يرد على ذلك أن فيه كما في الانتصاف خللا من حيث المعنى فإن طلب قيام الليل غير مستثنى منه جزء للهجوع وإن قيل غير ثابت في الشرع ولا معهود اللهم إلا أن يدعي أن من ذهب إلى ذلك يقول: بأنه كان ثابتا في الشرع، فقد أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن عطاء أنه قال في الآية: كان ذلك إذ أمروا بقيام الليل كله فكان أبو ذر يعتمد على العصا فمكثوا شهرين ثم نزلت الرخصة فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ [المزمل: 20] وقال الضحاك: كانُوا قَلِيلًا في عددهم، وتم الكلام عند قَلِيلًا ثم ابتدأ مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ على أن ما نافية وفيه ما تقدم مع زيادة تفكيك الكلام، ولعل أظهر الأوجه زيادة ما ونصب قَلِيلًا على الظرفية، ومِنَ اللَّيْلِ صفة قيل: وفي الكلام مبالغات لفظ الهجوع بناء على أنه القليل من النوم، وقوله تعالى: قَلِيلًا ومِنَ اللَّيْلِ لأن الليل وقت السبات والراحة وزيادة ما لأنها تؤكد مضمون الجملة فتؤكد القلة وتحققها باعتبار كونها قيدا فيها. والغرض من الآية أنهم يكابدون العبادة في أوقات الراحة وسكون النفس ولا يستريحون من مشاق النهار إلا قليلا، قال الحسن: كابدوا قيام الليل لا ينامون منه إلا قليلا، وعن عبد الله بن رواحة هجعوا قليلا ثم قاموا، وفسر أنس ابن مالك الآية- كما رواه جماعة عنه وصححه الحاكم- فقال: كانوا يصلون بين المغرب والعشاء وهي لا تدل على الاقتصار على ذلك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 9 وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أي هم مع قلة هجوعهم وكثرة تهجدهم يداومون على الاستغفار في الأسحار كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم ولم يتفرغوا فيه للعبادة، وفي بناء الفعل على الضمير إشعار بأنهم الاحقاء بأن يوصفوا بالاستغفار كأنهم المختصون به لاستدامتهم له وإطنابهم فيه. وفي الآية من الإشارة إلى مزيد خشيتهم وعدم اغترارهم بعبادتهم ما لا يخفى، وحمل الاستغفار على حقيقته المشهورة هو الظاهر- وبه قال الحسن. أخرج عنه ابن جرير وغيره أنه قال: صلوا فلما كان السحر استغفروا، وقيل: المراد طلبهم المغفرة بالصلاة، وعليه ما أخرج ابن المنذر وجماعة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: يَسْتَغْفِرُونَ يصلون، وأخرج ابن مردويه عنه ذلك مرفوعا ولا أراه يصح، وأخرج أيضا عن أنس قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن آخر الليل في التهجد أحب إلي من أوله لأن الله تعالى يقول: وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ» وهو محتمل لذلك التفسير والظاهر وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ أي نصيب وافر يستوجبونه على أنفسهم تقربا إلى الله عز وجل وإشفاقا على الناس فهو غير الزكاة كما قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما. لِلسَّائِلِ الطالب منهم وَالْمَحْرُومِ وهو المتعفف الذي يحسبه الجاهل غنيا فيحرم الصدقة من أكثر الناس. أخرج ابن جرير وابن حبان وابن مردويه عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان والأكلة والأكلتان قيل: فمن المسكين؟ قال: الذي ليس له ما يغنيه ولا يعلم مكانه فيتصدق عليه فذلك المحروم» وفسره ابن عباس بالمحارف الذي يطلب الدنيا وتدبر عنه ولا يسأل الناس، وقيل: هو الذي يبعد منه ممكنات الرزق بعد قربها منه فيناله الحرمان، وقال زيد بن أسلم: هو الذي اجتيحت ثمرته، وقيل: من ماتت ماشيته، وقيل: من ليس له سهم في الإسلام، وقيل: الذي لا ينمو له مال، وقيل: غير ذلك- قال في البحر: وكل ذلك على سبيل التمثيل ويجمع الأقوال أنه الذي لا مال له لحرمان أصابه- وأنا بقول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أقول- وقال منذر بن سعيد هذا الحق هو الزكاة المفروضة، وتعقب بأن السورة مكية وفرض الزكاة بالمدينة، وقيل: أصل فريضة الزكاة كان بمكة والذي كان بالمدينة القدر المعروف اليوم، وعن ابن عمر أن رجلا سأله عن هذا الحق فقال الزكاة وسوى ذلك حقوق فعمم، والجمهور على الأول. وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ دلائل من أنواع المعادن والنباتات والحيوانات، أو وجوه دلالات من الدحو وارتفاع بعضها عن الماء، واختلاف أجزائها في الكيفيات والخواص، فالدليل على الأول ما في الأرض من الموجودات والظرفية حقيقية والجمع على ظاهره، وعلى الثاني الدليل نفس الأرض، والجمعية باعتبار وجوه الدلالة وأحوالها، والظرفية من ظرفية الصفة في الموصوف والدلالة على وجود الصانع جل شأنه وعلمه وقدرته وإرادته ووحدته وفرط الجزء: 14 ¦ الصفحة: 10 رحمته عز وجل لِلْمُوقِنِينَ للموحدين الذين سلكوا الطريق السوي البرهاني الموصل إلى المعرفة فهم نظارون بعيون باصرة وأفهام نافذة، وقرأ قتادة- آية- بالإفراد وَفِي أَنْفُسِكُمْ أي في ذواتكم آيات إذ ليس في العالم شيء إلا وفي ذات الإنسان له نظير يدل مثل دلالته على ما انفرد به من الهيئات النافعة والمناظر البهية والتركيبات العجيبة والتمكن من الأفعال البديعة واستنباط الصنائع المختلفة واستجماع الكمالات المتنوعة، وآيات الأنفس أكثر من أن تحصى، وقيل: أريد بذلك اختلاف الألسنة والصور والألوان والطبائع، ورواه عطاء عن ابن عباس، وقيل: سبيل الطعام وسبيل الشراب والحق أن لا حصر أَفَلا تُبْصِرُونَ أي ألا تنظرون فلا تبصرون بعين البصيرة، وهو تعنيف على ترك النظر في الآيات الأرضية والنفسية، وقيل: في الأخير وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ أي تقديره وتعيينه، أو أسباب رزقكم من النيرين والكواكب والمطالع والمغارب التي تختلف بها الفصول التي هي مبادئ الرزق إلى غير ذلك، فالكلام على تقدير مضاف أو التجوز بجعل وجود الأسباب فيها كوجود المسبّب، وذهب غير واحد إلى أن السماء السحاب وهو سماء لغة، والمراد بالرزق المطر فإنه سبب الأقوات وروي تفسيره بذلك مرفوعا وقرأ ابن محيصن- أرزاقكم- على الجمع. وَما تُوعَدُونَ عطف على رزقكم أي والذي توعدونه من خير وشر كما روي عن مجاهد، وفي رواية أخرى عنه وعن الضحاك- ما توعدون- الجنة والنار وهو ظاهر في أن النار في السماء وفيه خلاف، وقال بعضهم: هو الجنة وهي على ظهر السماء السابعة تحت العرش، وقيل: أمر الساعة، وقيل: الثواب والعقاب فإنهما مقدران معينان فيها، وقيل: إنه مستأنف خبره. فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ على أن ضمير إِنَّهُ ل ما وعلى ما تقدم، فإما له أو للرزق، أو لله تعالى، أو للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، أو للقرآن، أو للدين في إِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ [الذاريات: 6] أو لليوم المذكور في أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ [الذاريات: 12] أو لجميع المذكور أما ما أقوال، واستظهر أبو حيان الأخير منها وهو مروي عن ابن جرير أي إن جميع ما ذكرناه من أول السورة إلى هنا لحق مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ أي مثل نطقكم كما أنه لا شك لكم في أنكم تنطقون ينبغي أن لا تشكوا في حقية ذلك وهذا كقول الناس: إن هذا لحق كما أنك ترى وتسمع، ونصب مِثْلَ على الحالية من المستكن في لَحَقٌّ وهو لا يتعرف بالإضافة لتوغله في التنكير، أو على الوصف لمصدر محذوف أي إنه حق حقا مثل نطقكم، وقيل: إنه مبني على الفتح فقال المازني: لتركبه مع ما حتى صارا شيئا واحدا نحو- ويحما- وأنشدوا لبناء الاسم معها قول الشاعر: أثور ما أصيدكم أو ثورين ... أم هذه الجماء ذات القرنين وقال غيره: لإضافته إلى غير متمكن وهو ما إن كانت نكرة موصوفة بمعنى شيء، أو موصولة بمعنى الذي وأَنَّكُمْ إلخ خبر مبتدأ محذوف أي هو أَنَّكُمْ إلخ، والجملة صفة، أو صلة، أو هو أن بما في حيزها إن جعلت ما زائدة، وهو نص الخليل ومحله على البناء الرفع على أنه صفة لَحَقٌّ أو خبر ثان ويؤيده قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر والحسن وابن أبي إسحاق والأعمش بخلاف عن ثلاثتهم مِثْلَ بالرفع، وفي البحر أن الكوفيين يجعلون- مثلا- ظرفا فينصبونه على الظرفية ويجيزون زيد مثلك بالنصب، وعليه يجوز أن يكون في قراءة الجمهور منصوبا على الظرفية- واستدلالهم، والرد عليهم مذكور على النحو- وفي الآية من تأكيد حقية المذكور ما لا يخفى، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال فيها: بلغني أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «قاتل الله قوما أقسم لهم ربهم ثم لم يصدقوا» وعن الأصمعي أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي على قعود فقال: ممن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 11 الرجل؟ قلت: من بني أصمع قال: من أين أقبلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن قال: اتل علي فتلوت وَالذَّارِياتِ فلما بلغت وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ قال: حسبك فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق فالتفت فإذا بالأعرابي قد نحل واصفر فسلم علي واستقرأ السورة فلما بلغت الآية صاح وقال: قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ثم قال: وهل غير هذا؟ فقرأت فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ فصاح وقال: يا سبحان الله من ذا أغضب الجليل حتى حلف لم يصدقوه بقوله حتى ألجئوه إلى اليمين قالها ثلاثا وخرجت معها نفسه. هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ فيه تفخيم لشأن الحديث وتنبيه على أنه ليس مما علمه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بغير طريق الوحي قاله غير واحد، وفي الكشف فيه رمز إلى أنه لما فرغ من إثبات الجزاء لفظا للقسم ومعنى بما في المقسم به من التلويح إلى القدرة البالغة مديحا فيه صدق المبلغ، وقضى الوطر من تفصيله مهّد لإثبات النبوة وأن هذا الآتي الصادق حقيق بالإتباع لما معه من المعجزات الباهرة فقال سبحانه: هَلْ أَتاكَ إلخ، وضمن فيه تسليته عليه الصلاة والسلام بتكذيب قومه فله بسائر آبائه وإخوانه من الأنبياء عليهم السلام أسوة حسنة هذا إذا لم يجعل قوله تعالى: وَفِي مُوسى عطفا على قوله سبحانه وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ وأما على ذلك التقدير فوجهه أن يكون قصة الخليل ولوط عليهما السلام معترضة للتسلي بإبعاد مكذبيه وأنه مرحوم منجى مكرم بالاصطفاء مثل أبيه إبراهيم صلوات الله تعالى وسلامه عليه وعليهم- والترجيح مع الأول انتهى- وسيأتي إن شاء الله تعالى ما سيتعلق بقوله سبحانه: وَفِي مُوسى، و (الضيف) في الأصل مصدر بمعنى الميل ولذلك يطلق على الواحد والمتعدد، قيل: كانوا اثني عشر ملكا، وقيل: ثلاثة جبرائيل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام وسموا ضيفا لأنهم كانوا في صورة الضيف ولأن إبراهيم عليه السلام حسبهم كذلك، فالتسمية على مقتضى الظاهر والحسبان، وبدأ بقصة إبراهيم وإن كانت متأخرة عن قصة عاد لأنها أقوى في غرض التسلية الْمُكْرَمِينَ أي عند الله عز وجل كما قال الحسن فهو كقوله تعالى في الملائكة عليهم السلام: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء: 26] أو عند إبراهيم عليه السلام إذ خدمهم بنفسه وزوجته وعجل لهم القرى ورفع مجالسهم كما في بعض الآثار، وقرأ عكرمة «المكرّمين» بالتشديد إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ ظرف للحديث لأنه صفة في الأصل، أو للضيف، أو ل الْمُكْرَمِينَ إن أريد إكرام إبراهيم لأن إكرام الله تعالى إياهم لا يتقيد، أو منصوب بإضمار اذكر فَقالُوا سَلاماً أي نسلم عليك سلاما، وأوجب في البحر حذف الفعل لأن المصدر سادّ مسدّه فهو من المصادر التي يجب حذف أفعالها، وقال ابن عطية: يتجه أن يعمل في سَلاماً قالوا: على أن يجعل في معنى قولا ويكون المعنى حينئذ أنهم قالوا: تحية وقولا معناه «سلام» ونسب إلى مجاهد وليس بذاك. قالَ سَلامٌ أي عليكم سلام عدل به إلى الرفع بالابتداء لقصد الثبات حتى يكون تحيته أحسن من تحيتهم أخذا بمزيد الأدب والإكرام، وقيل: سَلامٌ خبر مبتدأ محذوف أي أمري سَلامٌ وقرئا مرفوعين، وقرىء- سلاما قال سلما- بكسر السين وإسكان اللام والنصب، والسلم السلام، وقرأ ابن وثاب والنخعي وابن جبير وطلحة- سلاما قال سلم- بالكسر والإسكان والرفع، وجعله في البحر على معنى نحن أو أنتم سلم قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أنكرهم عليه السلام للسلام الذي هو علم الإسلام، أو لأنهم عليهم السلام ليسوا ممن عهدهم من الناس، أو لأن أوضاعهم وأشكالهم خلاف ما عليه الناس، وقَوْمٌ خبر مبتدأ محذوف والأكثر على أن التقدير أنتم قوم منكرون وأنه عليه السلام قاله لهم للتعرف كقولك لمن لقيته: أنا لا أعرفك تريد عرف لي نفسك وصفها، وذهب بعض المحققين إلى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 12 أن الذي يظهر أن التقدير هؤلاء قَوْمٌ مُنْكَرُونَ وأنه عليه السلام قاله في نفسه، أو لمن كان معه من أتباعه وغلمانه من غير أن يشعرهم بذلك فإنه الأنسب بحاله عليه السلام لأن في خطاب الضيف بنحو ذلك إيحاشا ما، وطلبه به أن يعرفوه حالهم لعله لا يزيل ذلك. وأيضا لو كان مراده ذلك لكشفوا أحوالهم عند القول المذكور ولم يتصد عليه السلام لمقدمات الضيافة. فَراغَ إِلى أَهْلِهِ أي ذهب إليهم على خفية من ضيفه، نقل أبو عبيدة أنه لا يقال: راغ إلا إذا ذهب على خفية، وقال: يقال روغ اللقمة إذا غمسها في السمن حتى تروى، قال ابن المنير: وهو من هذا المعنى لأنها تذهب مغموسة في السمن حتى تخفى، ومن مقلوب الروغ غور الأرض والجرح لخفائه وسائر مقلوباته قريبة من هذا المعنى، وقال الراغب: الروغ الميل على سبيل الاحتيال، ومنه راغ الثعلب، وراغ فلان إلى فلان مال نحوه لأمر يريده منه بالاحتيال، ويعلم منه أن لاعتبار قيد الخفية وجها وهو أمر يقتضيه المقام أيضا لأن من يذهب إلى أهله لتدارك الطعام يذهب كذلك غالبا، وتشعر الفاء بأنه عليه السلام يبادر بالذهاب ولم يمهل وقد ذكروا أن من أدب المضيف أن يبادر بالقرى من غير أن يشعر به الضيف حذرا من أن يمنعه الضيف، أو يصير منتظرا فَجاءَ بِعِجْلٍ هو ولد البقرة كأنه سمي بذلك لتصور عجلته التي تعدم منه إذا صار ثورا سَمِينٍ ممتلىء الجسد بالشحم واللحم يقال: سمن- كسمع- سمانة بالفتح وسمنا- كعنب- فهو سامن وسمين، وكحسن السمين خلقة كذا في القاموس، وفي البحر يقال: سمن سمنا فهو سمين شذوذا في المصدر، واسم الفاعل والقياس سمن وسمن، وقالوا: سامن إذا حدث له السمن انتهى، والفاء فصيحة أفصحت عن جمل قد حذقت ثقة بدلالة الحال عليها، وإيذانا بكمال سرعة المجيء بالطعام أي فذبح عجلا فحنذه فجاء به، وقال بعضهم إنه كان معدا عنده حنيذا قبل مجيئهم لمن يرد عليه من الضيوف فلا حاجة إلى تقدير ما ذكر، والمشهور اليوم أن الذبح للضيف إذا ورد أبلغ في إكرامه من الإتيان بما هيء من الطعام قبل وروده، وكان كما روي عن قتادة عامة ماله عليه السلام البقر ولو كان عنده أطيب لحما منه لأكرمهم به. فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ بأن وضعه لديهم، وفيه دليل على أن من إكرام الضيف أن يقدم له أكثر مما يأكل وأن لا يوضع الطعام بموضع ويدعى الضيف إليه قالَ أَلا تَأْكُلُونَ، قيل: عرض للأكل فإن في ذلك تأنيسا للضيف، وقيل: إنكار لعدم تعرضهم للأكل، وفي بعض الآثار أنهم قالوا: إنا لا نأكل إلا ما أدينا ثمنه فقال عليه السلام: إني لا أبيحه لكم إلا بثمن قالوا: وما هو؟ قال: أن تسموا الله تعالى عند الابتداء وتحمدوه عز وجل عند الفراغ فقال بعضهم لبعض: بحق اتخذه الله تعالى خليلا فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً فأضمر في نفسه منهم خوفا لما رأى عليه الصلاة والسلام إعراضهم عن طعامه وظن أن ذلك لشر يريدونه فإن أكل الضيف أمنة ودليل على انبساط نفسه وللطعام حرمة وذمام والامتناع منه وحشة موجبة لظن الشر. وعن ابن عباس أنه عليه السلام وقع في نفسه أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب فخاف قالُوا لا تَخَفْ إنا رسل الله تعالى، عن يحيى بن شداد مسح جبريل عليه السلام العجل بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمه فعرفهم وأمن منهم، وعلى ما روي عن الحبر أن هذا لمجرد تأمينه عليه السلام، وقيل: مع تحقيق أنهم ملائكة وعلمهم بما أضمر في نفسه إما بإطلاع الله تعالى إياهم عليه، أو إطلاع ملائكته الكرام الكاتبين عليه وإخبارهم به، أو بظهور أمارته في وجهه الشريف فاستدلوا بذلك على الباطن وَبَشَّرُوهُ وفي سورة [الصافات: 112] وَبَشَّرْناهُ أي بواسطتهم بِغُلامٍ هو عند الجمهور إسحاق بن سارة وهو الحق للتنصيص على أنه المبشر به في سورة هود، والقصة واحدة، وقال مجاهد: إسماعيل بن هاجر كما رواه عنه ابن جرير وغيره ولا يكاد يصح عَلِيمٍ عند بلوغه واستوائه، وفيه تبشير بحياته وكانت البشارة بذكر لأنه أسر للنفس وأبهج، ووصفه بالعلم لأنها الصفة التي الجزء: 14 ¦ الصفحة: 13 يختص بها الإنسان الكامل لا الصورة الجميلة والقوة ونحوهما، وهذا عند غير الأكثرين من أهل هذا الزمان فإن العلم عندهم لا سيما العلم الشرعي رذيلة لا تعادلها رذيلة والجهل فضيلة لا توازنها فضيلة، وفي صيغة المبالغة مع حذف المعمول ما لا يخفى مما يوجب السرور، وعن الحسن عَلِيمٍ نبي ووقعت البشارة بعد التأنيس، وفي ذلك إشارة إلى أن درء المفسدة أهم من جلب المصلحة، وذكر بعضهم أن علمه عليه السلام بأنهم ملائكة من حيث بشروه بغيب. فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ أي سارة لما سمعت بشارتهم إلى بيتها وكانت في زاوية تنظر إليهم، وفي التفسير الكبير إنها كانت في خدمتهم فلما تكلموا مع زوجها بولادتها استحيت وأعرضت عنهم فذكر الله تعالى ذلك بلفظ الإقبال على الأهل دون الإدبار عن الملائكة، وهو إن صح مثله عن نقل وأثر لا يأباه الخطاب الآتي لأنه يقتضي الإقبال دون الإدبار إذ يكفي لصحته أن يكون بمسمع منها وإن كانت مدبرة، نعم في الكلام عليه استعارة ضدية ولا قرينة هاهنا تصححها، وقيل: أقبلت بمعنى أخذت كما تقول أخذ يشتمني فِي صَرَّةٍ في صيحة من الصرير قاله ابن عباس، وقال قتادة وعكرمة: صرتها رنتها، وقيل: قولها أوه، وقيل: يا ويلتي، وقيل: في شدة، وقيل: الصرة الجماعة المنضم بعضهم إلى بعض كأنهم صروا أي جمعوا في وعاء- وإلى هذا ذهب ابن بحر- قال: أي أقبلت في صرة من نسوة تبادرن نظرا إلى الملائكة عليهم السلام، والجار والمجرور في موضع الحال، أو المفعول به إن فسر (أقبلت) بأخذت قيل: إن فِي عليه زائدة كما في قوله: يجرح في عراقيبها نصلي والتقدير أخذت صيحة، وقيل: بل الجار والمجرور في موضع الخبر لأن الفعل حينئذ من أفعال المقاربة فَصَكَّتْ وَجْهَها قال مجاهد: ضربت بيدها على جبهتها وقالت: يا ويلتاه، وقيل: إنها وجدت حرارة الدم فلطمت الجزء: 14 ¦ الصفحة: 14 وجهها من الحياء، وقيل: إنها لطمته تعجبا وهو فعل النساء إذا تعجبن من شيء وَقالَتْ عَجُوزٌ أي أنا عجوز عَقِيمٌ عاقر فكيف ألد، وعقيم فعيل قيل: بمعنى فاعل أو مفعول وأصل معنى العقم اليبس قالُوا كَذلِكَ أي مثل ذلك القول الكريم الذي أخبرنا به قالَ رَبُّكِ وإنما نحن معبرون نخبرك به عنه عز وجل لا أنا نقوله من تلقاء أنفسنا، وروي أن جبريل عليه السلام قال لها: انظري إلى سقف بيتك فنظرت فإذا جذوعه مورقة مثمرة إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ فيكون قوله عز وجل حقا وفعله سبحانه متقنا لا محالة، وهذه المفاوضة لم تكن مع سارة فقط بل كانت مع إبراهيم أيضا حسبما تقدم في سورة الحجر، وإنما لم يذكر هاهنا اكتفاء بما ذكر هناك كما أنه لم يذكر هناك سارة اكتفاء بما ذكر- هاهنا وفي سورة هود.. قالَ أي إبراهيم عليه السلام لما علم أنهم ملائكة أرسلوا لأمر فَما خَطْبُكُمْ أي شأنكم الخطير الذي لأجله أرسلتم سوى البشارة أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ يعنون قوم لوط عليه السلام لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ أي بعد قلب قراهم عاليها سافلها حسبما فصل في سائر السور الكريمة حِجارَةً مِنْ طِينٍ أي طين متحجر وهو السجيل وفي تقييد كونها من طين رفع توهم كونها بردا فان بعض الناس يسمي البرد حجارة مُسَوَّمَةً معلمة من السومة وهي العلامة على كل واحدة منها اسم من يهلك بها وقيل: أعلمت بأنها من حجارة العذاب، وقيل: بعلامة تدل على أنها ليست من حجارة الدنيا، وقيل: مسومة مرسلة من أسمت الإبل في المرعى، ومنه قوله تعالى: وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ [النحل: 10] عِنْدَ رَبِّكَ أي في محل ظهور قدرته سبحانه وعظمته عز وجل، والمراد أنها معلمة في أول خلقها، وقيل: المعنى أنها في علم الله تعالى معدّة لِلْمُسْرِفِينَ المجاوزين الحد في الفجور، وأل- عند الإمام للعهد أي لهؤلاء المسرفين، ووضع الظاهر. موضع الضمير ذمّا لهم بالإسراف بعد ذمّهم بالإجرام، وإشارة إلى علة الحكم، وقوله تعالى: فَأَخْرَجْنا إلى آخره حكاية من جهته تعالى لما جرى على قوم لوط عليه السلام بطريق الإجمال بعد حكاية ما جرى بين الملائكة وبين إبراهيم عليهم السلام من الكلام، والفاء فصيحة مفصحة عن جمل قد حذفت ثقة بذكرها في موضع آخر كأنه قيل: فقاموا منه وجاؤوا لوطا فجرى بينهم وبينه ما جرى فباشروا ما أمروا به فأخرجنا بقولنا فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ [الحجر: 65] إلخ مَنْ كانَ فِيها أي في قرى قوم لوط وإضمارها بغير ذكر لشهرتها. مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ممن آمن بلوط عليه السلام فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ أي غير أهل بيت للبيان بقوله تعالى: مِنَ الْمُسْلِمِينَ فالكلام بتقدير مضاف، وجوز أن يراد بالبيت نفسه الجماعة مجازا، والمراد بهم- كما أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم- عن مجاهد لوط وابنتاه، وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه قال: كانوا ثلاثة عشر، واستدل بالآية على اتحاد الإيمان والإسلام للاستثناء المعنوي فإن المعنى فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فلم يكن المخرج إلا أهل بيت واحد وإلا لم يستقم الكلام، وأنت تعلم أن هذا يدل على أنهما صادقان على الأمر الواحد لا ينفك أحدهما عن الآخر كالناطق والإنسان إما على الاتحاد في المفهوم وهو المختلف فيه عند أهل الأصول والحديث فلا، فالاستدلال بها على اتحادهما فيه ضعيف، نعم تدل على أنهما صفتا مدح من أوجه عديدة استحقاق الإخراج واختلاف الوصفين وجعل كل مستقلا بأن يجعل سبب النجاة وما في قوله تعالى: مَنْ كانَ أولا، وغَيْرَ بَيْتٍ ثانيا من الدلالة على المبالغة فإن صاحبهما محفوظ مَنْ كانَ وأين كان إلى غير ذلك، ومعنى الوجدان منسوبا إليه تعالى العلم على ما قاله الراغب، وذهب بعض الأجلة إلى أنه لا يقال: ما وجدت كذا إلا بعد الفحص والتفتيش، وجعل عليه معنى الآية فأخرج ملائكتنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فما وجد ملائكتنا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 15 فيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أو في الكلام ضرب آخر من المجاز فلا تغفل. وَتَرَكْنا فِيها أي في القرى آيَةً علامة دالة على ما أصابهم من العذاب، قال ابن جريج: هي أحجار كثيرة منضودة، وقيل: تلك الأحجار التي أهلكوا بها، وقيل: ماء منتن قال الشهاب: كأنه بحيرة طبرية، وجوز أبو حيان كون ضمير فِيها عائدا على الاهلاكة التي أهلكوا فإنها من أعاجيب الإهلاك بجعل أعالي القرية أسافل، وإمطار الحجارة، والظاهر هو الأول لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ أي من شأنهم أن يخافوه لسلامة فطرتهم ورقة قلوبهم دون من عداهم من ذوي القلوب القاسية فإنهم لا يعتدون بها ولا يعدونها آية وَفِي مُوسى عطف على وَتَرَكْنا فِيها بتقدير عامل له أي وجعلنا في موسى، والجملة معطوفة على الجملة، أو هو عطف على فِيها بتغليب معنى عامل الآية، أو سلوك طريق المشاكلة في عطفه على الأوجه التي ذكرها النحاة في نحو: علفتها تبنا وماء باردا لا يصح تسليط الترك بمعنى الإبقاء على قوله سبحانه: وَفِي مُوسى فقول أبي حيان: لا حاجة إلى إضمار تَرَكْنا لانه قد أمكن العامل في المجرور تركنا الاول فيه بحث، وقيل: فِي مُوسى خبر لمبتدأ محذوف أي وَفِي مُوسى آية، وجوز ابن عطية. وغيره أن يكون معطوفا على قوله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ وما بينهما اعتراض لتسليته عليه الصلاة والسلام على ما مر، وتعقبه في البحر بأنه بعيد جدا ينزه القرآن الكريم عن مثله إِذْ أَرْسَلْناهُ قيل: بدل من مُوسى، وقيل: هو منصوب بآية، وقيل: بمحذوف أي كائنة وقت إرسالنا، وقيل: بتركنا. إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ هو ما ظهر على يديه من المعجزات الباهرة، والسلطان يطلق على ذلك مع شموله للواحد والمتعدد لأنه في الأصل مصدر فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ فأعرض عن الإيمان بموسى عليه السلام على أن ركنه جانب بدنه وعطفه، والتولي به كناية عن الإعراض، والباء للتعدية لأن معناه ثنى عطفه، أو للملابسة، وقال قتادة: تولى بقومه على أن الركن بمعنى القوم لأنه يركن إليهم ويتقوى بهم، والباء للمصاحبة أو الملابسة وكونها للسببية غير وجيه، وقيل: تولى بقوته وسلطانه، والركن يستعار للقوة- كما قال الراغب- وقرىء بركنه بضم الكاف اتباعا للراء وَقالَ ساحِرٌ أي هو ساحر أَوْ مَجْنُونٌ كان اللعين جعل ما ظهر على يديه عليه السلام من الخوارق العجيبة منسوبة إلى الجن وتردد في أنه حصل باختياره فيكون سحرا، أو بغير اختياره فيكون جنونا، وهذا مبني على زعمه الفاسد وإلا فالسحر ليس من الجن كما بين في محله- فأو- للشك، وقيل: للإبهام، وقال أبو عبيدة: هي بمعنى الواو لأن اللعين قال الأمرين قال: إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ [الأعراف: 109، الشعراء: 34] وقال: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء: 27] وأنت تعلم أن اللعين يتلوّن تلون الحرباء فلا ضرورة تدعو إلى جعلها بمعنى الواوأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ طرحناهم غير معتّدين بهم ي الْيَمِ في البحر، والمراد فأغرقناهم فيه، وفي الكلام من الدلالة على غاية عظم شأن القدرة الربانية ونهاية قمأة فرعون وقومه ما لا يخفى هُوَ مُلِيمٌ أي آت بما يلام عليه من الكفر والطغيان فالافعال هنا للاتيان بما يقتضي معنى ثلاثيه كأغرب إذا أتى أمرا غريبا، وقيل: الصيغة للنسب، أو الإسناد للسبب- وهو كما ترى- وكون الملام عليه هنا الكفر والطغيان هو الذي يقتضيه حال فرعون وهو مما يختلف باعتبار من وصف به فلا يتوهم أنه كيف وصف اللعين بما وصف به ذو النون عليه السلام وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا على طرز ما تقدم عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ الشديد التي لا تلقح شيئا كما أخرجه جماعة عن ابن عباس وصححه الحاكم، وفي لفظ هي ريح لا بركة فيها ولا منفعة ولا ينزل منها غيث ولا يلقح بها شجر كأنه شبه عدم تضمن المنفعة بعقم المرأة ففعيل بمعنى فاعل من اللازم وكون هذا المعنى لا يصح هنا مكابرة، وقال بعضهم وهو الجزء: 14 ¦ الصفحة: 16 حسن: سميت عقيما لأنها أهلكتهم وقطعت دابرهم على أن هناك استعارة تبعية شبه إهلاكهم وقطع دابرهم بعقم النساء وعدم حملهن لما فيه من إذهاب النسل ثم أطلق المشبه به على المشبه واشتق منه العقيم، وفعيل قيل: بمعنى فاعل أو مفعول، وهذه الريح كانت الدبور لما صح من قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «نصرت بالصبا وأهلكت عاد الدبور» وأخرج الفريابي وابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه أنها النكباء ، وأخرج ابن جرير وجماعة عن ابن المسيب أنها الجنوب، وأخرج ابن المنذر عن مجاهد أنها الصبا، والمعول عليه ما ذكرنا أولا، ولعل الخبر عن الأمير كرم الله تعالى وجهه غير صحيح ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ ما تدع شيئا أَتَتْ عَلَيْهِ جرت عليه إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ الشيء البالي من عظم، أو نبات، أو غير ذلك من رمّ الشيء بلي، ويقال للبالي: رمام كغراب، وأرم أيضا لكن قال الراغب يختص الرم بالفتات من الخشب والتبن، والرمة بالكسر تختص بالعظم البالي، والرمة بالضم بالحبل البالي، وفسره السدي هنا بالتراب، وقتادة بالهشيم، وقطرب بالرماد، وفسره ابن عيسى بالمنسحق الذي لا يرم أي لا يصلح كأنه جعل الهمزة في أرم للسلب، والجملة بعد إِلَّا حالية. والشيء هنا عام مخصوص أي من شيء أراد الله تعالى تدميره وإهلاكه من ناس. أو ديار. أو شجر. أو غير ذلك، روي أن الريح كانت تمر بالناس فيهم الرجل من عاد فتنتزعه من بينهم وتهلكه وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ أخرج البيهقي في سنة عن قتادة أنه ثلاثة أيام- وإليه ذهب الفراء وجماعة- قال: تفسيره قوله تعالى: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [هود: 65] واستشكل بأن هذا التمتع مؤخر عن العتو لقوله تعالى: فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا [هود: 65] ، وقوله تعالى: فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ يدل على أن العتو مؤخر، وأجيب بأن هذا مرتب على تمام القصة كأنه قيل: وجعلنا في زمان قولنا ذلك لثمود آية أو وفي زمان قولنا ذلك لثمود آية، ثم أخذ في بيان كونه آية فقيل: فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ أي فاستكبروا عن الامتثال به إلى الآخر، فالفاء للتفصيل قال في الكشف. وهو الظاهر من هذا المساق، وكذلك قوله تعالى: فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ مرتب على القصة زمان إرسال موسى عليه السلام بالسلطان وإن كان هناك لا مانع من الترتب على الإرسال وذلك لأنه جيء بالظرف مجيء الفضلة حيث جعل فيه الآية، والقصة من توليهم إلى هلاكهم انتهى، وقال الحسن: هذا أي- القول لهم تمتعوا حتى حين- كان حين بعث إليهم صالح أمروا بالإيمان بما جاء به، والتمتع إلى أن تأتي آجالهم- ثم عتوا بعد ذلك- قال في البحر: ولذلك جاء العطف بالفاء المقتضية تأخر العتو عما أمروا به فهو مطابق لفظا ووجودا واختاره الإمام فقال: قال بعض المفسرين: المراد بالحين الأيام الثلاثة التي أمهلوها بعد عقر الناقة وهو ضعيف لأن ترتب فعتوا بالفاء دليل على أن العتو كان بعد القول المذكور، فالظاهر أنه ما قدر الله تعالى من الآجال فما من أحد إلا وهو ممهل مدة الأجل كأنه يقول له. تمتع إلى آخر أجلك فإن أحسنت فقد حصل لك التمتع في الدارين وإلا فما لك في الآخرة من نصيب انتهى، وما تقدم أبعد مغزى فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ أي أهلكتهم، روي أن صالحا عليه السلام وعدهم الهلاك بعد ثلاثة أيام، وقال لهم: تصبح وجوهكم غدا مصفرة. وبعد غد محمرة. واليوم الثالث مسودة ثم يصبحكم العذاب. ولما رأوا الآيات التي بينها عليه السلام عمدوا إلى قتله فنجاه الله تعالى فذهب إلى أرض فلسطين ولما كان ضحوة اليوم الرابع تحنطوا وتكفنوا بالأنطاع فأتتهم الصاعقة وهي نار من السماء، وقيل: صيحة منها فهلكوا، وقرأ عمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما والكسائي الصعقة وهي المرة من الصعق بمعنى الصاعقة أيضا، أو الصيحة وَهُمْ يَنْظُرُونَ إليها ويعاينونها ويحتاج إلى تنزيل المسموع منزلة المبصر على القول بأن الصاعقة الصيحة وأن المراد ينظرون إليها، وقال مجاهد: يَنْظُرُونَ بمعنى ينتظرون أي وهم ينتظرون الأخذ والعذاب في تلك الأيام الثلاثة التي رأوا فيها علاماته وانتظار العذاب أشد من العذاب فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ كقوله تعالى: فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ [الأعراف: 78، 91، العنكبوت: 37] وقيل: هو من قولهم: ما يقوم فلان بكذا إذا عجز عن دفعه، وروي الجزء: 14 ¦ الصفحة: 17 ذلك عن قتادة فهو معنى مجازي، أو كناية شاعت حتى التحقت بالحقيقة وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ بغيرهم كما لم يتمنعوا بأنفسهم وَقَوْمَ نُوحٍ أي وأهلكنا قوم، فإن ما قبله يدل عليه، أو واذكر، وقيل: عطف على الضمير في فَأَخَذَتْهُمُ، وقيل: في نَبَذْناهُمْ لأن معنى كل فأهلكناهم- وهو كما ترى- وجوز أن يكون عطفا على محل وَفِي عادٍ أو وَفِي ثَمُودَ وأيد بقراءة عبد الله وأبي عمرو وحمزة والكسائي وقوم بالجر، وقرأ عبد الوارث ومحبوب والأصمعي عن أبي عمرو وأبو السمال وابن مقسم. وقوم بالرفع والظاهر أنه على الابتداء، والخبر محذوف أي أهلكناهم مِنْ قَبْلُ أي من قبل هؤلاء المهلكين إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ خارجين عن الحدود فيما كانوا فيه من الكفر والمعاصي وَالسَّماءَ أي وبنينا السماء بَنَيْناها بِأَيْدٍ أي بقوة قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة، ومثله- الآد- وليس جمع «يد» وجوزه الامام وإن صحت التورية به وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ أي لقادرون من الوسع بمعنى الطاقة، فالجملة تذييل إثباتا لسعة قدرته عز وجل كل شيء فضلا عن السماء، وفيه رمز إلى التعريض الذي في قوله تعالى: وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ [ق: 38] ، وعن الحسن لَمُوسِعُونَ الرزق بالمطر وكأنه أخذه من أن المساق مساق الامتنان بذلك على العباد لا إظهار القدرة فكأنه أشير في قوله تعالى: وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ إلى ما تقدم من قوله سبحانه: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ [الذاريات: 22] على بعض الأقوال فناسب أن يتمم بقوله تعالى: وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ مبالغة في المن ولا يحتاج أن يفسر الأيد بالأنعام على هذا القول لأنه يتم المقصود دونه، واليد بمعنى النعمة لا الإنعام، وقيل: أي لموسعوها بحيث إن الأرض وما يحيط بها من الماء والهواء بالنسبة إليها كحلقة في فلاة، وقيل: أي لجاعلون بينها وبين الأرض سعة، والمراد السعة المكانية، وفيه على القولين تتميم أيضا وَالْأَرْضَ أي وفرشنا الأرض فَرَشْناها أي مهدناها وبسطناها لتستقروا عليها ولا ينافي ذلك شبهها للكرة على ما يزعمه فلاسفة العصر فَنِعْمَ الْماهِدُونَ أي نحن، وقرأ أبو السمال ومجاهد وابن مقسم برفع السماء ورفع الأرض على أنهما مبتدآن وما بعدهما خبر لهما وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ أي من كل جنس من الحيوان خَلَقْنا زَوْجَيْنِ نوعين ذكرا وأنثى- قاله ابن زيد وغيره- وقال مجاهد: هذا إشارة إلى المتضادات والمتقابلات كالليل والنهار والشقوة والسعادة والهدى والضلال والسماء والأرض والسواد والبياض والصحة والمرض إلى غير ذلك، ورجحه الطبري بأنه أدل على القدرة، وقيل: أريد بالجنس المنطقي، وأقل ما يكون تحته نوعان فخلق سبحانه من الجوهر مثلا المادي والمجرد، ومن المادي النامي والجامد، ومن النامي المدرك والنبات، ومن المدرك الصامت والناطق وهو كما ترى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي فعلنا ذلك كله كي تتذكروا فتعرفوا أنه عز وجل الرب القادر الذي لا يعجزه شيء فتعملوا بمقتضاه ولا تعبدوا ما سواه، وقيل: خلقنا ذلك كي تتذكروا فتعلموا أن التعدد من خواص الممكنات وأن الواجب بالذات سبحانه لا يقبل التعدد والانقسام، وقيل: المراد التذكر بجميع ما ذكر لأمر الحشر والنشر لأن من قدر على إيجاد ذلك فهو قادر على إعادة الأموات يوم القيامة وله وجه، وقرأ أبي تتذكرون بتاءين وتخفيف الذال فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ تفريع على قوله سبحانه: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وهو تمثيل للاعتصام به سبحانه وتعالى وبتوحيده عز وجل، والمعنى قل يا محمد: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ لمكان إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ أي من عقابه تعالى المعد لمن لم يفر إليه سبحانه ولم يوحده نَذِيرٌ مُبِينٌ بين كونه منذرا من الله سبحانه بالمعجزات، أو مُبِينٌ ما يجب أن يحذر عنه. وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ عطف على الأمر، وهو نهي عن الإشراك صريحا على نحو وحدوده ولا تشركوا، ومن الأذكار المأثورة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وكرر قوله تعالى: إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ لاتصال الأول بالأمر واتصال هذا بالنهي والغرض من كل ذلك الحث على التوحيد والمبالغة في النصيحة، وقيل: إن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 18 المراد بقوله تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ الأمر بالإيمان وملازمة الطاعة، وذكر وَلا تَجْعَلُوا إلخ، إفرادا لأعظم ما يجب أن يفر منه، وإِنِّي لَكُمْ إلخ، الأول مرتب على ترك الإيمان والطاعة، والثاني على الإشراك فهما متغايران لتغاير ما ترتب كل منهما عليه ووقع تعليلا له ولا يخلو عن كدر، وقال الزمخشري: في الآية: فروا إِلَى طاعته وثوابه من معصيته وعقابه ووحدوا ولا تشركوا به، وكرر إِنِّي لَكُمْ إلخ عند الأمر بالطاعة والنهي عن الشرك ليعلم أن الإيمان لا ينفع إلا مع العمل كما أن العمل لا ينفع إلا مع الايمان وأنه لا يفوز عند الله تعالى إلا الجامع بينهما انتهى، وفيه أنه لا دلالة في الآية على ذلك بوجه ثم تفسير الفرار إلى الله بما فسره أيضا لينطبق على العمل وحده غير مسلم على أنه لو سلم الإنذار بترك العمل فمن أين يلزم عدم النفع، وأهل السنة لا ينازعون في وقوع الإنذار بارتكاب المعصية، فالمنساق إلى الذهن على تقدير كون المراد بالفرار إلى الله تعالى العبادة أنه تعالى أمر بها أولا وتوعد تاركها بالوعيد المعروف له في الشرع وهو العذاب دون خلود، ونهى جل شأنه ثانيا أن يشرك بعبادته سبحانه غيره وتوعد المشرك بالوعيد المعروف له وهو الخلود، وعلى هذا يكون الوعيدان متغايرين وتكون الآية في تقديم الأمر على النهي فيها نظير قوله تعالى: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف: 110] ، وقوله سبحانه: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [النساء: 36] وأين هذا مما ذكره الزمخشري عامله الله تعالى بعدله. كَذلِكَ أي الأمر مثل ذلك تقرير وتوكيد على ما مر غير مرة، ومن فصل الخطاب لأنه لما أراد سبحانه أن يستأنف قصة قولهم المختلف في الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بعد أن تقدمت عموما أو خصوصا في قوله تعالى: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ [الذاريات: 8] وكان قد توسط ما توسط قال سبحانه: الأمر كذلك أي مثل ما يذكر ويأتيك خبره إشارة إلى الكلام الذي يتلوه أعني قوله عز وجل: ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ إلى آخره فهو تفسير ما أجمل وهو مراد من قال: الإشارة إلى تكذيبهم الرسول عليه الصلاة والسلام وتسميتهم إياه وحاشاه ساحرا ومجنونا، ويعلم مما ذكر أن كذلك خبر مبتدأ محذوف ولا يجوز نصبه يأتي على أنه صفة لمصدره، والإشارة إلى الإتيان أي ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من رسول إتيانا مثل إتيانهم إِلَّا قالُوا إلخ لأن ما بعد ما النافية لا يعمل فيما قبلها على المشهور، ولا يأتي مقدرا على شريطة التفسير لأن ما لا يعلم لا يفسر عاملا في مثل ذلك كما صرح به النحاة، وجعله معمولا لقالوا، والإشارة للقول أي إلا قالوا ساحرا أو مجنون قولا مثل ذلك القول لا يجوز أيضا على تعسفه لمكان ما وضمير قبلهم لقريش أي ما أتى الذين من قبل قريش مِنْ رَسُولٍ أي رسول من رسل الله تعالى إِلَّا قالُوا في حقه ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ خبر مبتدأ محذوف أي هو ساحر، وأو- قيل: من الحكاية أي إِلَّا قالُوا ساحِرٌ، أو قالوا مَجْنُونٌ وهي لمنع الخلو وليست من المحكي ليكون مقول كل مجموع ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ وفي البحر هي للتفصيل أي قال بعض: ساحر وقال بعض: مجنون وقال بعض: ساحر ومجنون فجمع القائلون في الضمير ودلت- أو- على التفصيل انتهى فلا تغفل. واستشكلت الآية بأنها تدل على أنه ما من رسول إلا كذب مع أن الرسل المقررين شريعة من قبلهم كيوشع عليه السلام لم يكذبوا وكذا آدم عليه السلام أرسل ولم يكذب. وأجاب الامام بقوله: لا نسلم أن المقرر رسول بل هو نبي على دين رسول ومن كذب رسوله فهو يكذبه أيضا وتعقب بأن الأخبار وكذا الآيات دالة على أن المقررين رسل، وأيضا يبقى الاستشكال بآدم عليه السلام وقد اعترف هو بأنه أرسل ولم يكذب وأجاب بعض عن الاستشكال بالمقررين بأن الآية إنما تدل على أن الرسل الذين أتوا من قبلهم كلهم قد قيل في حقهم ما قيل، ولا يدخل في عموم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 19 ذلك المقررون لأن المتبادر من إتيان الرسول قوما مجيئه إياهم مع عدم تبليغ غيره إياهم ما أتى به من قبله وذلك لم يحصل للمقرر شرع من قبله كما لا يخفى، وعن الاستشكال بآدم عليه السلام بأن المراد- ما أتى الذين من قبلهم من الأمم الذين كانوا موجودين على نحو وجود هؤلاء رسول إلا قالوا- إلخ، وآدم عليه السلام لم يأت أمة كذلك إذ لم يكن في حين أرسل إلا زوجته حواء، ولعله أولى مما قيل: إن المراد من رسول من بني آدم فلا يدخل هو عليه السلام في ذلك، واستشكلت أيضا بأن إِلَّا قالُوا يدل على أنهم كلهم كذبوا مع أنه ما من رسول إلا آمن به قوم، وأجاب الإمام بأن إسناد القول إلى ضمير الجمع على إرادة الكثير بل الأكثر، وذكر المكذب فقط لأنه الأوفق بغرض التسلية، وأخذ منه بعضهم الجواب عن الاستشكال السابق فقال: الحكم باعتبار الغالب لا أن كل أمة من الأمم أتاها رسول فكذبته ليرد آدم والمقررون حيث لم يكذبوا- وفيه ما فيه- وحمل بعضهم الذين من قبلهم على الكفار ودفع به الاستشكالين- وفيه ما لا يخفى- فتأمل جميع ذلك ولا تظن انحصار الجواب فيما سمعت فأمعن النظر والله تعالى الهادي لأحسن المسالك أَتَواصَوْا بِهِ تعجيب من إجماعهم على تلك الكلمة الشنيعة أي كأن الأولين والآخرين منهم أوصى بعضهم بعضا بهذا القول حتى قالوه جميعا، وقيل: إنكار للتواصي أي ما تواصوا به. بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ إضراب عن أن التواصي جامعهم إلى أن الجامع لهم على ذلك القول مشاركتهم في الطغيان الحامل عليه. فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فأعرض عن جدالهم فقد كررت عليهم الدعوة ولم تأل جهدا في البيان فأبوا إلا إباء وعنادا فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ على التولي بعد ما بذلت الجهود وجاوزت في الإبلاغ كل حد معهود. وَذَكِّرْ آدم على فعل التذكير والموعظة ولا تدع ذلك فالأمر بالتذكير للدوام عليه والفعل منزل منزلة اللازم، وجوز أن يكون المفعول محذوفا أي فذكرهم وحذف لظهور الأمر. فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ أي الذين قدر الله تعالى إيمانهم، أو المؤمنين بالفعل فإنها تزيدهم بصيرة وقوة في اليقين، وفي البحر يدل ظاهر الآية على الموادعة وهي منسوخة بآية السيف، وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ إلخ، وقال: أمره الله تعالى أن يتولى عنهم ليعذبهم وعذر محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم ثم قال سبحانه: وَذَكِّرْ إلخ فنسختها. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب. والضياء في المختارة وجماعة من طريق مجاهد عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: لما نزلت فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ لم يبق منا أحد إلا أيقن بالهلكة إذ أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يتولى عنا فنزلت وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ فطابت أنفسنا، وعن قتادة أنهم ظنوا أن الوحي قد انقطع وأن العذاب قد حضر فأنزل الله تعالى وَذَكِّرْ إلخ. وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ استئناف مؤكد للأمر مقرر لمضمون تعليله فإن خلقهم لما ذكر سبحانه وتعالى مما يدعوه صلى الله تعالى عليه وسلم إلى تذكيرهم ويوجب عليهم التذكر والاتعاظ، ولعل تقديم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 20 الجن في الذكر لتقدم خلقهم على خلق الإنس في الوجود، والظاهر أن المراد من يقابلون بهم وبالملائكة عليهم السلام ولم يذكر هؤلاء قيل: لأن الأمر فيهم مسلم، أو لأن الآية سيقت لبيان صنيع المكذبين حيث تركوا عبادة الله تعالى وقد خلقوا لها وهذا الترك مما لا يكون فيهم بل هم عباد مكرمون لا يستكبرون عن عبادته عز وجل، وقيل: لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم ليس مبعوثا إليهم فليس ذكرهم في هذا الحكم مما يدعوه عليه الصلاة والسلام إلى تذكيرهم، وأنت تعلم أن الأصح عموم البعثة فالأولى ما قيل بدله لاستغنائهم عن التذكير والموعظة، وقيل: المراد بالجن ما يتناولهم لأنه من الاستتار وهم مستترون عن الإنس، وقيل: لا يصح ذكرهم في حيز الخلق لأنهم كالأرواح من عالم الأمر المقابل لعالم الخلق، وقد أشير إليهما بقوله تعالى: لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: 54] ورد بقوله سبحانه: خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام: 102، الرعد: 16، الزمر: 62، غافر: 62] ولَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ليس كما ظن والعبادة غاية التذلل، والظاهر أن المراد بها ما كانت بالاختيار دون التي بالتسخير الثابتة لجميع المخلوقات وهي الدلالة المنبهة على كونها مخلوقة وأنها خلق فاعل حكيم، ويعبر عنها بالسجود كما في قوله تعالى: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ [الرحمن: 6] وأل في الجن والإنس على المشهور للاستغراق، واللام قيل: للغاية والعبادة وإن لم تكن غاية مطلوبة من الخلق لقيام الدليل على أنه عز وجل لم يخلق الجن والإنس لأجلها أي لإرادتها منهم إذ لو أرادها سبحانه منهم لم يتخلف ذلك لاستلزام الإرادة الإلهية للمراد كما بين في الأصول مع أن التخلف بالمشاهدة، وأيضا ظاهر قوله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ [الأعراف: 179] يدل على إرادة المعاصي من الكثير ليستحقوا بها جهنم فينافي إرادة العبادة لكن لما كان خلقهم على حالة صالحة للعبادة مستعدة لها حيث ركب سبحانه فيهم عقولا وجعل لهم حواس ظاهرة وباطنة إلى غير ذلك من وجوه الاستعداد جعل خلقهم مغيا بها مبالغة بتشبيه المعدّ له الشيء بالغاية ومثله شائع في العرف، ألا تراهم يقولون للقويّ جسمه: هو مخلوق للمصارعة، وللبقر: هي مخلوقة للحرث. وفي الكشف أن أفعاله تعالى تنساق إلى الغايات الكمالية واللام فيها موضوعها ذلك، وأما الارادة فليست من مقتضى اللام إلا إذا علم أن الباعث مطلوب في نفسه وعلى هذا لا يحتاج إلى تأويل فإنهم خلقوا بحيث يتأتى منهم العبادة وهدوا إليها وجعلت تلك غاية كمالية لخلقهم، وتعوّق بعضهم عن الوصول إليها لا يمنع كون الغاية غاية، وهذا معنى مكشوف انتهى. فتأمل، وقيل: المراد بالعبادة التذلل والخضوع بالتسخير، وظاهر أن الكل عابدون إياه تعالى بذلك المعنى لا فرق بين مؤمن، وكافر، وبر، وفاجر، ونحوه ما قيل: المعنى ما خلقت الجن والإنس إلا ليذلوا لقضائي، وقيل: المعنى ما خلقتهم إلا ليكونوا عبادا لي، ويراد بالعبد العبد بالإيجاد وعموم الوصف عليه ظاهر لقوله تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً [مريم: 93] لكن قيل عليه: إن عبد بمعنى صار عبدا ليس من اللغة في شيء، وقيل: العبادة بمعنى التوحيد بناء على ما روي عن ابن عباس أن كل عبادة في القرآن فهو توحيد فالكل يوحدونه تعالى في الآخرة أما توحيد المؤمن في الدنيا هناك فظاهر، وأما توحيد المشرك فيدل عليه قوله تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] وعليه قول من قال: لا يدخل النار كافر، أو المراد كما قال الكلبي: إن المؤمن يوحده في الشدة والرخاء والكافر يوحده سبحانه في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء، كما قال عز وجل: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت: 65] ولا يخفى بعد ذلك عن الظاهر والسياق، ونقل عن علي كرم الله تعالى وجهه، وابن عباس رضي الله تعالى عنهما ما خلقتهم إلا لآمرهم وأدعوهم للعبادة فهو كقوله تعالى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ [البينة: 5] فذكر العبادة المسببة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 21 شرعا عن الأمر أو اللازمة له، وأريد سببها أو ملزومها فهو مجاز مرسل، وأنت تعلم أن أمر كل من أفراد الجن وكل من أفراد الإنس غير متحقق لا سيما إذا كان غير المكلفين كالأطفال الذي يموتون قبل زمان التكليف داخلين في العموم، وقال مجاهد: إن معنى لِيَعْبُدُونِ ليعرفون وهو مجاز مرسل أيضا من إطلاق اسم السبب على المسبب على ما في الإرشاد، ولعل السر فيه التنبيه على أن المعتبر هي المعرفة الحاصلة بعبادته تعالى لا ما يحصل بغيرها كمعرفة الفلاسفة قيل: وهو حسن لأنهم لو لم يخلقهم عز وجل لم يعرف وجوده وتوحيده سبحانه وتعالى، وقد جاء «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف» وتعقب بأن المعرفة الصحيحة لم تتحقق في كل بل بعض قد أنكر وجوده عز وجل كالطبيعيين اليوم فلا بد من القول السابق في توجيه التعليل ثم الخبر بهذا اللفظ ذكره سعد الدين الفرغاني في منتهى المدارك، وذكر غيره كالشيخ الأكبر في الباب المائة والثمانية والتسعين من الفتوحات بلفظ آخر وتعقبه الحفاظ فقال ابن تيمية: إنه ليس من كلام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولا يعرف له سند صحيح ولا ضعيف، وكذا قال الزركشي والحافظ بن حجر وغيرهما: ومن يرويه من الصوفية معترف بعدم ثبوته نقلا لكن يقول: إنه ثابت كشفا، وقد نص على ذلك الشيخ الأكبر قدس سره في الباب المذكور، والتصحيح الكشفي شنشنة لهم، ومع ذلك فيه إشكال معنى إلا أنه أجيب عنه ثلاث أجوبة ستأتي إن شاء الله تعالى، وقيل: أل في الْجِنَّ وَالْإِنْسَ للعهد، والمراد بهم المؤمنون لقوله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا الآية أي بناء على أن اللام فيها ليست للعاقبة، ونسب هذا القول لزيد بن أسلم وسفيان، وأيد بقوله تعالى قيل: فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ وأيده في البحر برواية ابن عباس عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم «وما خلقت الجن والإنس من المؤمنين» ورواها بعضهم قراءة لابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، ومن الناس من جعلها للجنس، وقال: يكفي في ثبوت الحكم له ثبوته لبعض أفراده وهو هنا المؤمنين الطائعون وهو في المآل متحد مع سابقه، ولا إشكال على ذلك في جعل اللام للغاية المطلوبة حقيقة وكذا في جعلها للغرض عند من يجوز تعليل أفعاله تعالى بالأغراض مع بقاء الغنى الذاتي وعدم الاستكمال بالغير- كما ذهب إليه كثير من السلف، والمحدثين- وقد سمعت أن منهم من يقسم الارادة إلى شرعية تتعلق بالطاعات وتكوينية تتعلق بالمعاصي وغيرها، وعليه يجوز أن يبقى الْجِنَّ وَالْإِنْسَ على شمولهما للعاصين، ويقال: إن العبادة مرادة منهم أيضا لكن بالإرادة الشرعية إلا أنه لا يتم إلا إذا كانت هذا الإرادة لا تستلزم وقوع المراد كالإرادة التفويضية القائل بها المعتزلة. هذا وإذا أحطت خبرا بالأقوال في تفسير هذا الآية هان عليك دفع ما يتراءى من المنافاة بينها وبين قوله تعالى: وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ [هود: 118، 119] على تقدير كون الاشارة إلى الاختلاف بالتزام بعض هاتيك الأقوال فيها، ودفعه بعضهم يكون اللام في تلك الآية للعاقبة والذي ينساق إلى الذهن أن الحصر إضافي أي خلقتهم للعبادة دون ضدها أو دون طلب الرزق والإطعام على ما يشير إليه كلام بعضهم أخذا من تعقيب ذلك بقوله سبحانه: ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ وهو لبيان أن شأنه تعالى شأنه مع عباده ليس كشأن السادة مع عبيدهم لأنهم إنما يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم وأرزاقهم، ومالك ملاك العبيد نفى عز وجل أن يكون ملكه إياهم لذلك فكأنه قال سبحانه: ما أريد أن أستعين بهم كما يستعين ملاك العبيد بعبيدهم فليشتغلوا بما خلقوا له من عبادتي، وذكر الإمام فيه وجهين: الأول أن يكون لدفع توهم الحاجة من خلقهم للعبادة، والثاني أن يكون لتقرير كونهم مخلوقين لها، وبين هذا بأن الفعل في العرف لا بد له من منفعة لكن العبيد على قسمين: قسم يتخذونه لإظهار العظمة بالمثول بين أيادي ساداتهم وتعظيمهم إياهم كعبيد الملوك، وقسم يتخذون للانتفاع بهم في تحصيل الأرزاق أو لإصلاحها، فكأنه قال سبحانه: إني خلقتهم ولا بد فيهم من منفعة فليتفكروا في أنفسهم هل الجزء: 14 ¦ الصفحة: 22 هم من قبيل أن يطلب منهم تحصيل رزق وليسوا كذلك فما أريد منهم من رزق، وهل هم ممن يطلب منهم إصلاح قوت كالطباخ ومن يقرب الطعام؟ وليسوا كذلك وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ فإذا هم عبيد من القسم الأول، فينبغي أن لا يتركوا التعظيم، والظاهر أن المعنى ما أريد منهم من رزق لي لمكان قوله سبحانه: وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ وإليه ذهب الامام، وذكر في الآية لطائف: الاولى أنه سبحانه كرر نفي الإرادتين لأن السيد قد يطلب من العبد التكسب له وهو طلب الرزق وقد لا يطلب حيث كان له مال وافر لكنه يطلب قضاء حوائجه من حفظ المال وإحضار الطعام من ماله بين يديه. فنفي الإرادة الأولى لا يستلزم نفي الارادة الثانية فكرر النهي على معنى لا أريد هذا ولا أريد ذلك، الثانية أن ترتيب النفيين كما تضمنه النظم الجليل من باب الترقي في بيان غناه عز وجل كأنه قال سبحانه: لا أطلب منهم رزقا ولا ما هو دون ذلك وهو تقديم الطعام بين يدي السيد فإن ذلك أمر كثيرا ما يطلب من العبيد إذا كان التكسب لا يطلب منهم، الثالثة أنه سبحانه قال: ما أريد منهم من رزق دون ما أريد منهم أن يرزقون لأن التكسب لطلب العين لا الفعل، وقال سبحانه: ما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ دون ما أريد من طعام لأن ذلك للإشارة إلى الاستغناء عما يفعله العبد الغير المأمور بالتكسب كعبد وافر المال والحاجة اليه للفعل نفسه، الرابعة أنه جل وعلا خص الإطعام بالذكر لأن أدنى درجات الاستعانة أن يستعين السيد بعبده في تهيئة أمر الطعام ونفي الأدنى يتبعه نفي الأعلى بطريق الأولى فكأنه قيل: ما أريد منهم من عين ولا عمل، الخامسة أن ما لنفي الحال إلا أن المراد به الدنيا وتعرض له دون نفي الاستقبال لأن من المعلوم البين أن العبد بعد موته لا يصلح أن يطلب منه رزق أو إطعام انتهى، فتأمله. ويفهم من ظاهر كلام الزمخشري أن المعنى ما أريد منهم من رزق لي ولهم، وفي البحر ما أريد منهم من رزق أي أن يرزقوا أنفسهم ولا غيرهم وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ أي أن يطعموا خلقي فهو على حذف مضاف قاله ابن عباس انتهى، ونحوه ما قيل: المعنى ما أريد أن يرزقوا أحدا من خلقي ولا أريد أن يطعموه، وأسند الإطعام إلى نفسه سبحانه لأن الخلق كلهم عيال الله تعالى. ومن أطعم عيال أحد فكأنما أطعمه، وفي الحديث «يا عبدي مرضت فلم تعدني وجعت فلم تطعمني» فإنه كما يدل عليه آخره على معنى مرض عبدي فلم تعده وجاع فلم تطعمه وقيل: الآية مقدرة بقل فتكون بمعنى قوله سبحانه: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً [الأنعام: 90] والغيبة فيها رعاية للحكاية إذ في مثل ذلك يجوز الأمران الغيبة والخطاب، وقد قرىء بهما في قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ [آل عمران: 12] ، وقيل: المراد قل لهم وفي حقهم فتلائمه الغيبة في مِنْهُمْ ويُطْعِمُونِ ولا ينافي ذلك قراءة- أني أنا الرزاق- فيما بعد لأنه حينئذ تعليل للأمر بالقول، أو الائتمار لا لعدم الإرادة، نعم لا شك في أنه قول بعيد جدا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ الذي يرزق كل مفتقر إلى الرزق لا غيره سبحانه استقلالا، أو اشتراكا ويفهم من ذلك استغناؤه عز وجل عن الرزق ذُو الْقُوَّةِ أي القدرة الْمَتِينُ شديد القوة، والجملة تعليل لعدم الإرادة قال الامام: كونه تعالى هو الرزاق ناظر إلى عدم طلب الرزق لأن من يطلبه يكون فقيرا محتاجا وكونه عز وجل هو ذو القوة المتين ناظر إلى عدم طلب العمل المراد من قوله سبحانه: وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ لأن من يطلبه يكون عاجزا لا قوة له فكأنه قيل: ما أريد منهم من رزق لأني أنا الرزاق وما أريد منهم من عمل لأني قوي متين، وكان الظاهر- أني أنا الرزاق- كما جاء في قراءة له صلّى الله تعالى عليه وسلم لكن التفت إلى الغيبة، والتعبير بالاسم الجليل لاشتهاره بمعنى العبودية فيكون في ذلك إشعار بعلة الحكم ولتخرج الآية مخرج المثل كما قيل ذلك في قوله تعالى: إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [الإسراء: 81] والتعبير به على القول بتقدير قل فيما تقدم هو الظاهر، وتحتاج القراءة الاخرى إلى ما ذكرناه آنفا، وآثر سبحانه ذو القوة على القوى قيل: لأن في ذُو كما قال ابن حجر الهيتمي وغيره تعظيم ما أضيف إليه، والموصوف بها والمقام يقتضيه الجزء: 14 ¦ الصفحة: 23 ولذا جيء بالمتين بعد ولم يكتف به عن الوصف بالقوة: وقال الإمام: لما كان المقصود تقرير ما تقدم من عدم إرادة الرزق وعدم الاستعانة بالغير جيء بوصف الرزق على صيغة المبالغة لأنه بدونها لا يكفي في تقرير عدم إرادة الرزق وبوصف القوة بما لا مبالغة فيه لكفايته في تقرير عدم الاستعانة فإن من له قوة دون الغاية لا يستعين بغيره لكن لما لم يدل ذو القوة على أكثر من أن له تعالى قوة ما زيد الوصف بالمتين وهو الذي له ثبات لا يتزلزل، ثم قال: إن القوي أبلغ من ذي القوة والعزة أكمل من المتانة وقد قرن الأكمل بالأكمل وما دونه بما دونه في قوله تعالى: لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحديد: 25] وفي قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ إلخ لما اقتضى المقام ذلك، وقد أطال الكلام في هذا المقام وما أظنه يصفو عن كدر، وقرأ ابن محيصن- الرازق- بزنة الفاعل، وقرأ الأعمش وابن وثاب- المتين- بالجر، وخرج على أنه صفة القوة، وجاز ذلك مع تذكيره لتأويلها بالاقتدار أو لكونه على زنة المصادر التي يستوي فيها المذكر والمؤنث، أو لإجرائه مجرى فعيل بمعنى مفعول، وأجاز أبو الفتح أن يكون صفة- لذو- وجر على الجوار- كقولهم هذا جحر ضب خرب- وضعف فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أي إذا ثبت أن الله تعالى ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدون وأنه سبحانه ما يريد منهم من رزق إلى آخر ما تقدم فإن للذين ظلموا أنفسهم باشتغالهم بغير ما خلقوا له من العبادة وإشراكهم بالله عز وجل وتكذيبهم رسوله عليه الصلاة والسلام وهم أهل مكة وأضرابهم من كفار العرب ذَنُوباً أي نصيبا من العذاب مِثْلَ ذَنُوبِ أي نصيب أَصْحابِهِمْ أي نظرائهم من الأمم السالفة، وأصل الذنوب الدلو العظيمة الممتلئة ماء، أو القريبة من الامتلاء، قال الجوهري: ولا يقال لها ذنوب وهي فارغة، وهي تذكر وتؤنث وجمعها أذنبة وذنائب فاستعيرت للنصيب مطلقا شرا كان كالنصيب من العذاب في الآية أو خيرا كما في العطاء في قول علقمة بن عبدة التميمي يمدح الحارث بن أبي شمر الغساني وكان أسر أخاه شأسا يوم عين أباغ: وفي كل حي قد خبطت بنعمة ... فحق لشأس من نداك ذنوب يروى أن الحارث لما سمع هذا البيت قال نعم وأذنبة (1) ومن استعمالها في النصيب قول الآخر: لعمرك والمنايا طارقات ... لكل بني أب منها ذنوب وهو استعمال شائع، وفي الكشاف هذا تمثيل أصله في السقاة يقتسمون الماء فيكون لهذا ذنوب ولهذا ذنوب قال الراجز: إنا إذا نازلنا غريب ... له ذنوب ولنا ذنوب وإن أبيتم فلنا القليب فَلا يَسْتَعْجِلُونِ أي لا يطلبوا مني أن أعجل في الإتيان به يقال استعجله أي حثه على العجلة وطلبها منه، ويقال: استعجلت كذا إن طلبت وقوعه بالعجلة، ومنه قوله تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل: 1] وهو على ما في الإرشاد جواب لقولهم: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يونس: 48، الأنبياء: 38، النمل: 71، سبأ: 29، يس: 48، الملك: 25] فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي فويل لهم، ووضع الموصول موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بما في حيز الصلة من الكفر وإشعارا بعلة الحكم، والفاء لترتيب ثبوت الويل لهم على أن لهم عذابا عظيما كما   (1) «شأس» هو جد علقمة بن عبدة مدح بهذه القصيدة الحارث بن أبي شمر الغساني لما كان عنده أسيرا فأمر بإطلاقه وجميع أسرى بني تميم و «الخابط» الطالب، ومعنى البيت أنت الذي أنعمت على كل حي بنعمة واستحق من نداك ذنوبا اهـ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 24 أن الفاء التي قبلها لترتيب النهي عن الاستعجال على ذلك. ومِنْ في قوله سبحانه: مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ للتعليل والعائد على الموصول محذوف أي يوعدونه أو يوعدون به على قول، والمراد بذلك اليوم قيل: يوم بدر، ورجح بأنه الأوفق لما قبله من حيث إنه ذنوب من العذاب الدنيوي، وقيل: يوم القيامة، ورجح بأنه الأنسب لما في صدر السورة الكريمة الآتية، والله تعالى أعلم. ومما قاله بعض أهل الاشارة في بعض الآيات: وَالذَّارِياتِ ذَرْواً إشارة إلى الرياح التي تحمل أنين المشتاقين المعرضين لنفحات الألطاف إلى ساحات العزة، ثم تأتي بنسيم نفحات الحق إلى مشام المحبين فيجدون راحة ما من غلبات اللوعة فَالْحامِلاتِ وِقْراً إشارة إلى سحائب ألطاف الألوهية تحمل أمطار مراحم الربوبية فتمطر على قلوب الصديقين فَالْجارِياتِ يُسْراً إشارة إلى سفن أفئدة المحبين تجري برياح العناية في بحر التوحيد على أيسر حال فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً إشارة إلى الملائكة النازلين من حظائر القدس بالبشائر والمعارف على قلوب أهل الاستقامة، وإن شئت جعلت الكل إشارة إلى أنواع رياح العناية فمنها ما يطير بالقلوب في جو الغيوب، وقد قال العاشق المجازي: خذا من صبا نجد أمانا لقلبه ... نسيم كاد رياها يطير بلبه وإياكما ذاك النسيم فإنه ... متى هب كان الوجد أيسر خطبه ومنها فَالْحامِلاتِ وِقْراً دواء قلوب العاشقين كما قيل: أيا جبلي نعمان بالله خليا ... نسيم الصبا يخلص إلى نسيمها أجد بردها أو تشف مني حرارة ... على كبد لم يبق إلا صميمها إن الصبا ريح إذا ما تنسمت ... على نفس مهموم تجلت همومها ومنها «الجاريات» من مهاب حضرات القدس إلى أفئدة أهل الإنس بسهولة لتنعش قلوبهم، ومنها «المقسمات» ما جاءت به مما عبق بها من آثار الحضرة الإلهية على نفوس المستعدين حسب استعداداتهم وإن شئت قلت غير ذلك فالباب واسع وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ إشارة إلى سماء القلب فإنها ذات طرائق إلى الله عز وجل إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إشارة إلى جنات الوصال وعيون الحكمة وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ يطلبون غفر أي ستر وجودهم بوجود محبوبهم، أو يطلبون غفران ذنب رؤية عبادتهم من أول الليل إلى السحر وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ إشارة إلى أن جميع ما يرى بارزا من الموجودات ليس واحدا وحدة حقيقية بل هو مركب ولا أقل من كونه مركبا من الإمكان، وشيء آخر فليس الواحد الحقيقي إلا الله تعالى الذي حقيقته سبحانه إنيته فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ بترك ما سواه عز وجل وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ أي ليعرفون، وهو عندهم إشارة إلى ما صححوه كشفا من روايته صلى الله تعالى عليه وسلم عن ربه سبحانه أنه قال: «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف» وفي كتاب الأنوار السنية للسيد نور الدين السمهودي بلفظ «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت هذا الخلق ليعرفوني فبي عرفوني» وفي المقاصد الحسنة للسخاوي بلفظ «كنت كنزا لا أعرف فخلقت خلقا فعرفتهم بي فعرفوني» إلى غير ذلك، وهو مشكل لأن الخفاء أمر نسبي فلا بد فيه من مخفي ومخفى عنه فحيث لم يكن خلق لم يكن مخفي عنه فلا يتحقق الخفاء، وأجيب أولا بأن الخفاء عن الأعيان الثابتة لأن الأشياء في ثبوتها لا إدراك لها وجوديا فكان الله سبحانه مخفيا عنها غير معروف لها معرفة وجودية- فأحب أن يعرف معرفة حادثة من موجود حادث- فخلق الخلق لأن معرفتهم الوجودية فرع وجودهم فتعرف سبحانه إليهم بأنواع التجليات على حسب الجزء: 14 ¦ الصفحة: 25 تفاوت الاستعدادات فعرفوا أنفسهم بالتجليات فعرفوا الله تعالى من ذلك فبه سبحانه عرفوه، وثانيا بأن المراد بالخفاء لازمه وهو عدم معرفة أحد به جل وعلا، ويؤيده ما في لفظ السخاوي من قوله: لا أعرف بدل مخفيا، وثالثا بأن مخفيا بمعنى ظاهر من أخفاه أي أظهره على أن الهمزة للإزالة أي أزال خفاءه، وترتيب قوله سبحانه: «فأحببت أن أعرف» إلخ عليه باعتبار أن الظهور متى كان قويا أوجب الجهالة بحال الظاهر فخلق سبحانه الخلق ليكونوا كالحجاب فيتمكن معه من المعرفة، ألا يرى أن الشمس لشدة ظهورها لا تستطيع أكثر الأبصار الوقوف على حالها إلا بواسطة وضع بعض الحجب بينها وبينها وهو كما ترى لا يخلو عن بحث، وأما إطلاق الكنز عليه عز وجل فقد ورد، روى الديلمي في مسنده عن أنس مرفوعا كنز المؤمن ربه أي فإن منه سبحانه كل ما يناله من أمر نفيس في الدارين، والشيخ محيي الدين قدس سره ذكر في معنى- الكنز- غير ذلك فقال في الباب الثلاثمائة والثمانية والخمسين من فتوحاته: لو لم يكن في العالم من هو على صورة الحق ما حصل المقصود من العلم بالحق أعني العلم بالحادث في قوله: «كنت كنزا» إلخ فجعل نفسه كنزا، والكنز لا يكون إلا مكتنزا في شيء فلم يكن كنز الحق نفسه إلا في صورة الإنسان الكامل في شيئية ثبوته هناك كان الحق مكنوزا فلما لبس الحق الإنسان ثوب شيئية الوجود ظهر الكنز بظهوره فعرفه الإنسان الكامل بوجوده وعلم أنه سبحانه كان مكنوزا فيه في شيئية ثبوته وهو لا يشعر به انتهى، وهو منطق الطير الذي لا نعرفه نسأل الله تعالى التوفيق لما يحب ويرضى بمنه وكرمه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 26 سورة الطّور «مكية» كما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم ولم نقف على استثناء شيء منها، وهي تسع وأربعون آية في الكوفي والشامي، وثمان وأربعون في البصري، وسبع وأربعون في الحجازي، ومناسبة أولها لآخر ما قبلها اشتمال كل على الوعيد، وقال الجلال السيوطي: وجه وضعها بعد الذاريات تشابههما في المطلع والمقطع فإن في مطلع كل منهما صفة حال المتقين، وفي مقطع كل منهما صفة حال الكفار، ولا يخفى ما بين السورتين الكريمتين من الاشتراك في غير ذلك. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالطُّورِ الطور اسم لكل جبل على ما قيل: في اللغة العربية عند الجمهور، وفي اللغة السريانية عند بعض، ورواه ابن المنذر وابن جرير عن مجاهد والمراد به هنا طُورِ سِينِينَ [التين: 2] الذي كلم الله تعالى موسى عليه السلام عنده، ويقال له: طور سيناء أيضا، والمعروف اليوم بذلك ما هو بقرب التيه بين مصر والعقبة، وقال أبو حيان في تفسير سورة «التين» : لم يختلف في طور سيناء أنه جبل بالشام وهو الذي كلم الله تعالى عليه موسى عليه السلام، وقال في تفسيره: هذه السورة في الشام جبل يسمى الطور وهو طور سيناء فقال نوف الجزء: 14 ¦ الصفحة: 27 البكالي: إنه الذي أقسم الله سبحانه به لفضله على الجبال، قيل: وهو الذي كلم الله تعالى عليه موسى عليه السلام انتهى فلا تغفل، وحكى الراغب أنه جبل محيط بالأرض ولا يصح عندي، وقيل: جبل من جبال الجنة، وروى فيه ابن مردويه عن أبي هريرة، وعن كثير بن عبد الله حديثا مرفوعا ولا أظن صحته، واستظهر أبو حيان أن المراد الجنس لا جبل معين، وروي ذلك عن مجاهد والكلبي والذي أعول عليه ما قدمته. وَكِتابٍ مَسْطُورٍ مكتوب على وجه الانتظام فإن السطر ترتيب الحروف المكتوبة، والمراد به على ما قال الفراء الكتاب الذي يكتب فيه الأعمال ويعطاه العبد يوم القيامة بيمينه أو بشماله وهو المذكور في قوله تعالى: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً [الإسراء: 13] ، وقال الكلبي: هو التوراة، وقيل: هي. والإنجيل. والزبور وقيل: القرآن، وقيل: اللوح المحفوظ، وفي البحر لا ينبغي أن يحمل شيء من هذه الأقوال على التعيين وإنما تورد على الاحتمال، والتنكير قيل: للإفراد نوعا، وذلك على القول بتعدده، أو للإفراد شخصا، وذلك على القول المقابل، وفائدته الدلالة على اختصاصه من جنس الكتب بأمر يتميز به عن سائرها، والأولى على وجهي التنكير إذا حمل على أحد الكتابين أعني القرآن والتوراة أن يكون من باب لِيَجْزِيَ قَوْماً [الجاثية: 14] ففي التنكير كمال التعريف، والتنبيه على أن ذلك الكتاب لا يخفى نكّر أو عرف، ومن هذا القبيل التنكير في قوله تعالى: فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ والرق بالفتح ويكسر، وبه قرأ أبو السمال جلد رقيق يكتب فيه وجمعه رقوق وأصله على ما في مجمع البيان من اللمعان يقال: ترقرق الشيء إذا لمع. أو من الرقة ضد الصفاقة على ما قيل، وقد تجوز فيه عما يكتب فيه الكتاب من ألواح وغيرها. والمنشور المبسوط والوصف به قيل: للإشارة إلى صحة الكتاب وسلامته من الخطأ حيث جعل معرضا لنظر كل ناظر آمنا عليه من الاعتراض لسلامته عما يوجبه، وقيل: هو لبيان حاله التي تضمنتها الآية المذكورة آنفا بناء على أن المراد به صحائف الأعمال ولبيان أنه ظهر للملائكة عليهم السلام يرجعون إليه بسهولة في أمورهم بناء على أنه اللوح، أو للناس لا يمنعهم مانع عن مطالعته والاهتداء بهديه بناء على الأقوال الأخر، وفي البحر مَنْشُورٍ منسوخ ما بين المشرق والمغرب وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ هو بيت في السماء السابعة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون اليه حتى تقوم الساعة كما أخرج ذلك ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أنس مرفوعا. وأخرج عبد الرزاق وجماعة عن أبي الطفيل أن ابن الكواء سأل عليا كرم الله تعالى وجهه فقال: ذلك الضراح بيت فوق سبع سماوات تحت العرش يدخله كل يوم سبعون ألف ملك إلخ ، وجاء في رواية عنه كرم الله تعالى وجهه، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه حيال الكعبة بحيث لو سقط سقط عليها. وروي عن مجاهد وقتادة وابن زيد أن في كل سماء بحيال الكعبة بيتا حرمته كحرمتها وعمارته بكثرة الواردين عليه من الملائكة عليهم السلام كما سمعت، وقال الحسن: هو الكعبة يعمره الله تعالى كل سنة بستمائة ألف من الناس فإن نقصوا أتم سبحانه العدد من الملائكة، وأنت تعلم أن من المجاز المشهور- مكان معمور- بمعنى مأهول مسكون يحل الناس في محل هو فيه، فعمارة الكعبة بالمجاورين عندها وبحجاجها صح خبر الحسن المذكور أم لا وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ أي السماء كما رواه جماعة، وصححه الحاكم عن الأمير كرم الله تعالى وجهه ، وعن ابن عباس هو العرش وهو سقف الجنة، وأخرجه أبو الشيخ عن الربيع بن أنس، وعليه لا بأس في تفسير البيت المعمور بالسماء كما روي عن مجاهد، وعمارتها بالملائكة أيضا فما فيها موضع إهاب إلا وعليه ملك ساجد أو قائم وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ أي الموقد نارا. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 28 أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم. وأبو الشيخ في العظمة عن سعيد بن المسيب قال: قال علي كرم الله تعالى وجهه لرجل من اليهود: أين موضع النار في كتابكم؟ قال: البحر فقال كرم الله تعالى وجهه: ما أراه إلا صادقا، وقرأ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ [التكوير: 6] وبذلك قال مجاهد وشمر بن عطية والضحاك ومحمد بن كعب والأخفش، وقال قتادة: المسجور المملوء يقال: سجره أي ملأه، والمراد به عند جمع البحر المحيط، وقيل: بحر في السماء تحت العرش، وأخرج ذلك ابن أبي حاتم وغيره عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن جرير عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وفي البحر أنهما قالا فيه ماء غليظ، ويقال له: بحر الحياة يمطر العباد منه بعد النفخة الأولى أربعين صباحا فينبتون في قبورهم، وأخرج أبو الشيخ عن الربيع أنه الملأ الأعلى الذي تحت العرش وكأنه أراد به القضاء الواسع المملوء ملائكة، وعن ابن عباس «المسجور» الذي ذهب ماؤه، وروى ذو الرمة الشاعر، وليس له كما قيل حديث غير هذا عن الحبر قال: خرجت أمة لتستقي فقالت: إن الحوض مسجور أي فارغ فيكون من الاضداد، وحمل كلامه رضي الله تعالى عنه على إرادة البحر المعروف، وأن ذهاب مائه يوم القيامة، وفي رواية عنه أنه فسره بالمحبوس، ومنه ساجور الكلب وهي القلادة التي تمسكه وكأنه عنى المحبوس من أن يفيض فيغرق جميع الأرض، أو يغيض فتبقى الأرض خالية منه، وقيل الْمَسْجُورِ المختلط، وهو نحو قولهم للخليل المخالط: سجير، وجعله الراغب من سجرت التنور لأنه سجير في مودّة صاحبه، والمراد بهذا الاختلاط تلاقي البحار بمياهها واختلاط بعضها ببعض، وعن الربيع اختلاط عذبها بملحها، وقيل: اختلاطها بحيوانات الماء، وقيل: المفجور أخذا من قوله تعالى: وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ [الانفطار: 3] ويحتمله ما أخرجه ابن المنذر عن ابن عباس من تفسيره بالمرسل، وإذا اعتبر هذا مع ما تقدم عنه آنفا من تفسيره بالمحبوس يكون من الاضداد أيضا، وقال منبه بن سعيد، هو جهنم سميت بحرا لسعتها وتموأها، والجمهور على أن المراد به بحر الدنيا- وبه أقول- وبأن المسجور بمعنى الموقد، ووجه التناسب بين القرائن بعد تعين ما سيق له الكلام لائح، وهو هاهنا إثبات تأكيد عذاب الآخرة وتحقيق كينونته ووقوعه، فأقسم سبحانه له بأمور كلها دالة على كمال قدرته عز وجل مع كونها متعلقة بالمبدأ والمعاد، فالطور لأنه محل مكالمة موسى عليه السلام، ومهبط آيات البدء والمعاد يناسب حديث إثبات المعاد وكتاب الأعمال كذلك مع الإيماء إلى أن إيقاع العذاب عدل منه تعالى فقد تحقق، ودون في الكتاب ما يجر إليه قبل، وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ لأنه مطاف الرسل السماوية، ومظهر لعظمته تعالى، ومحل لتقديسهم وتسبيحهم إياه جل وعلا، وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ لأنه مستقرهم ومنه تنزل الآيات، وفيه الجنة: وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ لأنه محل النار، وإذا حمل الكتاب على التوراة كان التناسب مع ما قبله حسب النظر الجليل أظهر ولم يحمله عليها كثير لزعم أن- الرق المنشور- لا يناسبها لأنها كانت في الألواح، ولا يخفى عليك أن شيوع الرق فيما يكتب فيه الكتاب مطلقا يضعف هذا الزعم في الجملة، ثم إن المعروف أن التوراة لا يكتبها اليهود اليوم إلا في- رق- وكأنهم أخذوا ذلك من أسلافهم، وقال الإمام: يحتمل أن تكون الحكمة في القسم- بالطور والبيت المعمور والبحر المسجور- أنها أماكن خلوة لثلاثة أنبياء مع ربهم سبحانه، أما الطور فلموسى عليه السلام وقد خاطب عنده ربه عز وجل بما خاطب، وأما البيت المعمور فلرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقد قال عنده: «سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» وأما البحر فليونس عليه السلام قال فيه: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء: 87] فلشرفها بذلك أقسم الله تعالى بها، وأما ذكر الكتاب فلأن الأنبياء كان لهم في هذه الأماكن كلام والكلام في الكتاب، وأما ذكر السقف المرفوع فلبيان رفعة البيت المعمور ليعلم عظمة شأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم ذكر وجها آخر، ولعمري إنه لم يأت بشيء فيهما، والواو الاولى للقسم وما بعدها على الجزء: 14 ¦ الصفحة: 29 ما قال أبو حيان للعطف، والجملة المقسم عليها قوله تعالى: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ أي لكائن على شدّة كأنه مهيأ في مكان مرتفع فيقع على من يحل به من الكفار وفي إضافته إلى الرب مع إضافة الرب إلى ضميره عليه الصلاة والسلام أمان له صلى الله تعالى عليه وسلم وإشارة إلى أن العذاب واقع بمن كذبه، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما- واقع- بدون لام، وقوله تعالى: ما لَهُ مِنْ دافِعٍ خبر ثان- لأن- أو صفة لَواقِعٌ أو هو جملة معترضة، ومِنْ دافِعٍ إما مبتدأ للظرف أم مرتفع به على الفاعلية، ومِنْ مزيدة للتأكيد ولا يخفى ما في الكلام من تأكيد الحكم وتقريره وقد روي أن عمر رضي الله تعالى عنه قرأ من أول السورة إلى هنا فبكى ثم بكى حتى عيد من وجعه وكان عشرين يوما، وأخرج أحمد وسعيد بن منصور وابن سعد عن جبير بن مطعم قال: قدمت المدينة على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لأكلمه في أسارى بدر فدفعت إليه وهو يصلي بأصحابه صلاة المغرب فسمعته يقرأ وَالطُّورِ إلى إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ فكأنما صدع قلبي، وفي رواية فأسلمت خوفا من نزول العذاب وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب، وهو لا يأتي أن يكون المراد الوقوع يوم القيامة «ومن غريب ما يحكى» أن شخصا رأى مكتوبا في كفه خمس واوات فعبرت له بخير فسأل ابن سيرين فقال: تهيأ لما لا يسر فقال له: من أين أخذت هذا؟ فقال: من قوله عز وجل: وَالطُّورِ إلى إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ فما مضى يومان أو ثلاثة حتى أحيط بذلك الشخص، وقوله سبحانه: يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً منصوب على الظرفية (1) وناصبه (واقع) أو دافِعٍ أو معنى النفي وإبهام أنه لا ينتفي دفعه غير ذلك اليوم بناء على اعتبار المفهوم لا ضير فيه لعدم مخالفته للواقع لأنه تعالى أمهلهم في الدنيا وما أهملهم، ومنع مكي أن يعمل فيه- واقع- ولم يذكر دليل المنع ولا دليل له فيما يظهر، ومعنى تَمُورُ تضطرب كما قال ابن عباس أي ترتج وهي في مكانها، وفي رواية عنه تشقق، وقال مجاهد: تدور، وأصل المور التردد في المجيء والذهاب، وقيل: التحرك في تموج، وقيل: الجريان السريع، ويقال للجري مطلقا وأنشدوا للأعشى: كأن مشيتها من بيت جارتها ... مور السحابة لا ريث ولا عجل وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً عن وجه الأرض فتكون هباء منبثّا، والإتيان بالمصدرين الإيذان بغرابتهما وخروجهما عن الحدود المعهودة أي مورا عجيبا وسيرا بديعا لا يدرك كنههما فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ أي إذا وقع ذلك (2) أو إذا كان الأمر كما ذكر فويل يوم إذ يقع ذلك لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ أي في اندفاع عجيب في الأباطيل والأكاذيب يلهون، وأصل الخوض المشي في الماء ثم تجوز فيه عن الشروع في كل شيء وغلب في الخوض في الباطر كالإحضار عام في كل شيء ثم غلب استعماله في الإحضار للعذاب. يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا أي يدفعون دفعا عنيفا شديدا بأن تغل أيديهم إلى أعناقهم وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم فيدفعون إلى النار ويطرحون فيها، وقرأ زيد بن علي والسيلمي وأبو رجاء «يدعّون» بسكون الدال وفتح العين من الدعاء فيكون دَعًّا حالا أي ينادون إليها مدعوعين (3) ويَوْمَ إما بدل من يوم تَمُورُ أو ظرف لقول مقدر محكي به قوله تعالى: هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أي فيقال لهم ذلك يَوْمَ إلخ،   (1) لأنه مفعول فيه. (2) يشير إلى أن الفاء فصيحة في جواب شرط مقدر. اهـ. [ ..... ] (3) الحال مقدرة لأن الدفع بعد الدعوة، وقيل: إنها مقارنة بإجراء قرب الوقوع مجرى المقارنة وفيه نظر. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 30 ومعنى التكذيب بها تكذيبهم بالوحي الناطق بها، وقوله تعالى: أَفَسِحْرٌ هذا توبيخ وتقريع لهم حيث كانوا يسمونه سحرا كأنه قيل: كنتم تقولون للوحي الذي أنذركم بهذا سحرا أفهذا المصدق له سحر أيضا وتقديم الخبر لأنه المقصود بالإنكار والمدار للتوبيخ. أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ أي أم أنتم عمي عن المخبر به كما كنتم في الدنيا عميا عن الخبر والفاء مؤذنة بما ذكر وذلك لأنها لما كانت تقتضي معطوفا عليه يصح ترتب الجملة أعني سحر هذا عليه وكانت هذا جملة واردة تقريعا مثل هذا النار إلخ لم يكن بد من تقدير ذلك على وجه يصح الترتب ويكون مدلولا عليه من السياق فقدّر كنتم تقولون إلى آخره، ودل عليه قوله تعالى: فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ وقوله سبحانه: هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ وفي الكشف إن هذا نظير ما تستدل بحجة فيقول الخصم: هذا باطل فتأتي بحجة أوضح من الأول مسكتة وتقول: أفباطل هذا؟! تعيره بالإلزام بأن مقالته الأولى كانت باطلة، وفي مثله جاز أن يقدر القول على معنى أفتقول باطل هذا وأن لا يقدر لابتنائه على كلام الخصم وهذا أبلغ، وأَمْ كما هو الظاهر منقطعة، وفي البحر لما قيل لهم: هذه النار وقفوا على الجهتين اللتين يمكن منهما دخول الشك في أنها النار وهي إما أن يكون ثمّ سحر يلبس ذات المرأى، وإما أن يكون في ناظر الناظر اختلال، والظاهر أنه جعل أَمْ معادلة والأول أبعد مغزى. اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا أي ادخلوها وقاسوا شدائدها فافعلوا ما شئتم من الصبر وعدمه. سَواءٌ عَلَيْكُمْ أي الأمران سواء عليكم في عدم النفع إذ كل لا يدفع العذاب ولا يخففه- فسواء- خبر مبتدأ محذوف وصح الإخبار به عن المثنى لأنه مصدر في الأصل، وجوز كونه مبتدأ محذوف الخبر وليس بذاك، وقوله تعالى: إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تعليل للاستواء فإن الجزاء حيث كان متحتم الوقوع لسبق الوعيد به وقضائه سبحانه إياه بمقتضى عدله كان الصبر وعدمه مستويين في عدم النفع. إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ شروع في ذكر حال المؤمنين بعد ذكر حال الكافرين كما هو عادة القرآن الجليل في الترهيب والترغيب، وجوز أن يكون من جملة المقبول للكفار إذ ذاك زيادة في غمهم وتنكيدهم والأول أظهر، والتنوين في الموضعين للتعظيم أي في جنات عظيمة ونعيم عظيم، وجوز أن يكون للنوعية أي نوع من الجنات ونوع من النعيم مخصوصين بهم وكونه عوضا عن المضاف إليه أي جناتهم ونعيمهم ليس بالقوي كما لا يخفى. فاكِهِينَ متلذذين بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ من الإحسان، وقرىء- فكهين- بلا ألف، ونصبه في القراءتين على الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور أعني من جنات الواقع خبرا لأن، وقرأ خالد- فاكهون- بالرفع على أنه الخبر، وفي جنات متعلق به لكنه قدم عليه للاهتمام، ومن أجاز بعدد الخبر أجاز أن يكون خبرا بعد خبر وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ عطف على «في جنات» على تقدير كونه خبرا كأنه قيل: استقروا فِي جَنَّاتٍ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ إلخ، أو على آتاهُمْ إن جعلت (ما) مصدرية أي فاكهين بإيتائهم ربهم ووقايتهم عذاب الجحيم، ولم يجوز كثير عطفه عليه إن جعلت موصولة إذ يكون التقدير فاكهين بالذي وقاهم ربهم فلا يكون راجع إلى الموصول، وجوزه بعض بتقدير الراجع أي وقاهم به على أن الباء للملابسة، وفي الكشف لم يحمل على حذف الراجع لكثرة الحذف ولو درج نصا. والفعل من المتعدي إلى ثلاثة مفاعيل وهو مسموع عند بعضهم، ولا يخفى أنه وجه سديد أيضا، والمعنى عليه أسد لأن الفكاهة تلذذ يشتغل به صاحبه والتلذذ بالإيتاء يحتمل التجدد باعتبار تعدد المؤتى إما بالوقاية أي على تقدير المصدرية فلا، وأقول لعله هو المنساق إلى الذهن، وجوز أن يكون حالا بتقدير قد أو بدونه إما من المستكن في الخبر أو في الحال. وإما من فاعل آتى أو من مفعوله. أو منهما، وإظهار الرب في موقع الجزء: 14 ¦ الصفحة: 31 الإضمار مضافا إلى ضميرهم للتشريف والتعليل. وقرأ أبو حيوة «وقّاهم» بتشديد القاف كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً أي يقال لهم كُلُوا وَاشْرَبُوا أكلا وشربا هنيئا، أو طعاما وشرابا هنيئا، فالكلام بتقدير القول: وهَنِيئاً نصب على المصدرية لأنه صفة مصدر. أو على أنه مفعول به، وأيا ما كان فقد تنازعه الفعلان، والهنيء كل ما لا يلحق فيه مشقة ولا يعقب وخامه بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي بسببه أو بمقابلته والباء عليهما متعلق- بكلوا واشربوا، على التنازع، وجوز الزمخشري كونها زائدة وما بعدها فاعل هنيئا كما في قول كثير: هنيئا مريئا غير داء مخامر ... لعزة من أعراضنا ما استحلت (1) فإن ما فيه فاعل هنيئا على أنه صفة في الأصل بمعنى المصدر المحذوف فعله وجوبا لكثرة الاستعمال كأنه قيل: هنؤ لعزة المستحل من أعراضنا، وحينئذ كما يجوز أن يجعل ما هنا فاعلا على زيادة الباء على معنى هنأكم ما كنتم تعملون يجوز أن يجعل الفاعل مضمرا راجعا إلى الأكل أو الشرب المدلول عليه بفعله، وفيه أن الزيادة في الفاعل لم تثبت سماعا في السعة في غير فاعل كفى على خلاف ولا هي قياسية في مثل هذا ومع ذلك يحتاج الكلام إلى تقدير مضاف أي جزاء ما كنتم إلخ، وفيه نوع تكلف مُتَّكِئِينَ نصب على الحال قال أبو البقاء: من الضمير في كُلُوا أو في وَقاهُمْ أو في آتاهُمْ أو في فاكِهِينَ أو في الظرف يعني في جنات، واستظهر أبو حيان الأخير عَلى سُرُرٍ جمع سرير معروف، ويجمع على أسرّة وهو من السرور إذ كان لأولي النعمة، وتسمية سرير الميت به للتفاؤل بالسرور الذي يلحق الميت برجوعه إلى جوار الله تعالى وخلاصه من سجن الدنيا، وقرأ أبو السمال سرر بفتح الراء وهي لغة لكلب في المضعف فرارا من توالي ضمتين مع التضعيف. مَصْفُوفَةٍ مجعولة على صف وخط مستو وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ أي قرناهم بهن- قاله الراغب- ثم قال: ولم يجىء في القرآن زوجناهم حورا كما يقال زوجته امرأة تنبيها على أن ذلك لا يكون على حسب المتعارف فيما بيننا من المناكحة، وقال الفراء: تزوجت بامرأة لغة أزد شنوءة، والمشهور أن التزوج متعد إلى مفعول واحد بنفسه والتزويج متعد بنفسه إلى مفعولين، وقيل: فيما هنا أن الباء لتضمين الفعل معنى القرآن أو الإلصاق، واعترض بأنه يقتضي معنى التزويج بالعقد وهو لا يناسب المقام إذ العقد لا يكون في الجنة لأنها ليست دار تكليف أو أنها للسببية والتزويج ليس بمعنى الإنكاح بل بمعنى تصييرهم زوجين زوجين أي صيرناهم كذلك بسبب حور عين، وقرأ عكرمة بحور عين على إضافة الموصوف إلى صفته بالتأويل المشهور، وقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا إلخ كلام مستأنف مسوق لبيان حال طائفة من أهل الجنة إثر بيان حال الكل وهم الذين شاركتهم ذريتهم في الإيمان، والموصول مبتدأ خبره ألحقنا بهم، وقوله تعالى: وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ عطف على آمنوا، وقيل اعتراض للتعليل، وقوله تعالى: بِإِيمانٍ متعلق بالاتباع أي أتبعتهم ذريتهم بإيمان في الجملة قاصر عن رتبة إيمان الآباء إما بنفسه بناء على تفاوت مراتب نفس الإيمان، وإما باعتبار عدم انضمام أعمال مثل أعمال الآباء اليه، واعتبار هذا القيد للإيذان بثبوت الحكم في الإيمان الكامل أصالة لا إلحاقا قيل: هو حال من الذرية، وقيل: من الضمير وتنوينه للتعظيم، وقيل: منهما وتنوينه للتنكير   (1) هذا البيت من قصيدة مشهورة لكثير أولها خليلي هذا ربع عزة فاعقلا ... قلوصيكما ثم احللا حيث حلت قيل كان كثير في حلقة البصرة ينشد أشعاره فمرت به عزة مع زوجها فقال لها: أغضبيه فاستحيت من ذلك فقال لتغضبنه أو لأضربنك فدنت من الحلقة فأغضبته، وذلك أن قالت: هذا وهذا بفم الشاعر فقال ذلك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 32 والمعول عليه ما قدمنا أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ في الدرجة. أخرج سعيد بن منصور وهناد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: «إن الله تعالى ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه ثم قرأ الآية» وأخرجه البزار وابن مردويه عنه مرفوعا إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، وفي رواية ابن مردويه والطبرائي عنه أنه قال: «إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال له: إنهم لم يبلغوا درجتك وعملك فيقول: يا رب قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به» وقرأ ابن عباس الآية، وظاهر الاخبار أن المراد بإلحاقهم بهم إسكانهم معهم لا مجرد رفعهم إليهم واتصاله بهم أحيانا ولو للزيارة. وثبوت ذلك على العموم لا يبعد من فضل الله عز وجل، وما قيل: لعله مخصوص ببعض دون بعض تحجير لإحسانه الواسع جل شأنه، وقد يستأنس للتخصيص بما روي عن ابن عباس إن الذين آمنوا المهاجرون والأنصار، والذرية التابعون لكن لا أظن صحته وَما أَلَتْناهُمْ أي وما نقصنا الآباء بهذا الإلحاق مِنْ عَمَلِهِمْ أي من ثواب عملهم مِنْ شَيْءٍ أي شيئا بأن أعطينا بعض مثوباتهم أبناءهم فتنقص مثوباتهم وتنحط درجتهم وإنما رفعناهم إلى منزلتهم بمحض التفضل والإحسان، وقال ابن زيد- الضمير عائد على الأبناء أي وما نقصنا الأبناء الملحقين من جزاء عملهم الحسن والقبيح شيئا بل فعلنا ذلك بهم بعد مجازاتهم بأعمالهم كملا- وليس بشيء وإن قال أبو حيان يحسن هذا الاحتمال قوله تعالى: كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ وإلى الأول ذهب ابن عباس وابن جبير والجمهور والآية على ما ذهب إليه المعظم في الكبار من الذرية، وقال منذر بن سعيد: هي في الصغار. وروي عن الحبر والضحاك أنهما قالا: إن الله تعالى يلحق الأبناء الصغار وإن لم يبلغوا زمن الإيمان بآبائهم المؤمنين، وجعل بإيمان عليه متعلقا بألحقنا أي ألحقنا بسبب إيمان الآباء بهم ذريتهم الصغار الذين ماتوا ولم يبلغوا التكليف فهم في الجنة مع آبائهم قيل: وكأن من يقول بذلك يفسر اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بماتوا ودرجوا على أثرهم قبل أن يبلغوا الحلم، وجوز أن يتعلق بإيمان باتبعتهم على معنى اتبعوهم بهذا الوصف بأن حكم لهم به تبعا لآبائهم فكانوا مؤمنين حكما لصغرهم وإيمان آبائهم، والصغير يحكم بإيمانه تبعا لأحد أبويه المؤمن والكل كما ترى، وقيل: الموصول معطوف على حور، والمعنى قرنّاهم بالحور وبالذين آمنوا أي بالرفقاء والجلساء منهم فيتمتعون تارة بملاعبة الحور وأخرى بمؤانسة الإخوان المؤمنين، وقوله تعالى: وَاتَّبَعَتْهُمْ عطف على زَوَّجْناهُمْ وقوله سبحانه: بِإِيمانٍ متعلق بما بعده أي بسبب إيمان عظيم رفيع المحل، وهو إيمان الآباء ألحقنا بدرجاتهم ذريتهم وإن كانوا لا يستأهلونها تفضلا عليهم وعلى آبائهم ليتم سرورهم ويكمل نعيمهم، أو بسبب إيمان داني المنزلة وهو إيمان الذرية كأنه قيل: بشيء من الإيمان لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقناهم بهم، وصنيع الزمخشري ظاهر في اختيار العطف على حور فقد ذكره وجها أول، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يتخيل ذلك أحد غير هذا الرجل، وهو تخيل أعجمي مخالف لفهم العربي القح كابن عباس وغيره، وقيل عليه: إنه تعصب منه، والإنصاف أن المتبادر الاستئناف، وإن أحسن الأوجه في الآية وأوفقه للمقام ما تقدم. وقرأ أبو عمرو «وأتبعناهم» بقطع الهمزة وفتحها، وإسكان التاء، ونون بعد العين وألف بعدها أي جعلناهم تابعين لهم في الإيمان، وقرأ أيضا ذرياتهم جمعا نصبا، وابن عامر كذلك رفعا، وقرأ «ذرّيّاتهم» بكسر الذال «واتبعتهم ذريتهم» بتاء الفاعل، ونصب ذريتهم على المفعولية، وقرأ الحسن وابن كثير «ألتناهم» بكسر اللام من ألت يألت كعلم يعلم، وعلى قراءة الجمهور من باب ضرب يضرب، وابن هرمز آلتناهم بالمدمن آلت يؤلت، وابن مسعود وأبيّ لتناهم من لات يليت وهي قراءة طلحة والأعمش، ورويت عن شبل وابن كثير، وعن طلحة والأعمش أيضا- لتناهم- بفتح الجزء: 14 ¦ الصفحة: 33 اللام، قال سهل: لا يجوز فتح اللام من غير ألف بحال وأنكر أيضا آلتناهم بالمد، وقال: لا يروى عن أحد ولا يدل عليه تفسير ولا عربية- وليس كما قال- بل نقل أهل اللغة آلت بالمد كما قرأ هرمز، وقرىء وما ولتناهم من ولت يلت، ومعنى الكل واحد، وجاء ألت بمعنى غلظ يروى أن رجلا قام إلى عمر رضي الله تعالى عنه فوعظه فقال: لا تألت على أمير المؤمنين أي لا تغلظ عليه كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ أي بكسبه وعمله رَهِينٌ أي مرهون عند الله كأن الكسب بمنزلة الدين ونفس العبد بمنزلة الرهن ولا ينفك الرهن ما لم يؤد الدين فإن كان العمل صالحا فقد أدى لأن العمل الصالح يقبله ربه سبحانه ويصعد إليه عز وجل وإن كان غير ذلك فلا أداء فلا خلاص إذ لا يصعد إليه سبحانه غير الطيب، ولذا قال جل وعلا: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ [المدثر: 38، 39] فإن المراد كل نفس رهن بكسبها عند الله تعالى غير مفكوك إلا أصحاب اليمين فإنهم فكوا عنه رقابهم بما أطابوه من كسبهم، ووجه الاتصال على هذا أنه سبحانه لما ذكر حال المتقين وأنه عز وجل وفر عليهم ما أعده لهم من الثواب والتفضل عقب بذلك الكلام ليدل على أنهم فكوا رقابهم وخلصوها وغيرهم بقي معذبا لأنه لم يفك رقبته، وكان موضعه من حيث الظاهر أن يكون عقيب قوله تعالى: هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور: 28] ليكون كلاما راجعا إلى حال الفريقين- المدعوعين. والمتقين- وإنما جعل متخللا بين أجزية المتقين عقيب ذكر توفير ما أعدّ لهم، قال في الكشف: ليدل على أن الخلاص من بعض أجزيتهم أيضا ويلزم أن عدم الخلاص جزاء المقابلين من طريق الإيماء وموقعه موقع الاعتراض تحقيقا لتوفير ما عدد لأنه إنما يكون بعد الخلاص، وفيه إيماء إلى أن إلحاق الأبناء إنما كان تفضلا على الآباء لا على الأبناء ابتداء لأن التفضل فرع الفك وهؤلاء هم الذين فكوا فاستحقوا التفضل، وجعله استئنافا بيانيا لهذا المعنى كما فعل الطيبي بعيد، وقيل: رَهِينٌ فعيل بمعنى الفاعل والمعنى كل امرئ بما كسب راهن أي دائم ثابت، وفي الإرشاد أنه أنسب بالمقام فإن الدوام يقتضي عدم المفارقة بين المرء وعمله، ومن ضرورته أن لا ينقص من ثواب الآباء شيء، فالجملة تعليل لما قبلها، وأنت تعلم أن فعيلا بمعنى المفعول أسرع تبادرا إلى الذهن فاعتباره أولى ووجه الاتصال عليه أوفق وألطف كما لا يخفى. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 34 وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ أي وزدناهم على ما كان لهم من مبادي التنعم وقتا فوقتا مما يشتهون من فنون النعماء وألوان الآلاء، وأصل المدّ الجر، ومنه المدّة للوقت الممتد ثم شاعر في الزيادة، وغلب الإمداد في المحبوب، والمدّ في المكروه وكونه وقتا بعد وقت مفهوم المدّ نفسه يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً أي يتجاذبونها في الجنة هم وجلساؤهم تجاذب ملاعبة كما يفعل ذلك الندامى بينهم في الدنيا لشدة سرورهم قال الأخطل: نازعته طيب الراح الشمول وقد ... صاح الدجاج وحانت وقعة الساري وقيل: التنازع مجاز عن التعاطي، والكأس مؤنث سماعي كالخمر، ولا تسمى كأسا على المشهور إلا إذا امتلأت خمرا أو كانت قريبة من الامتلاء، وقد تطلق على الخمر نفسها مجازا لعلاقة المجاورة، وقال الراغب: الكأس الإناء بما فيه من الشراب ويسمى كل واحد منهما بانفراده كأسا، وفسرها بعضهم هنا بالإناء بما فيه من الخمر، وبعضهم بالخمر، والاول أوفق بالتجاذب، والثاني بقوله سبحانه: لا لَغْوٌ فِيها أي في شربها حيث لا يتكلمون في أثناء الشرب بلغو الحديث وسقط الكلام وَلا تَأْثِيمٌ ولا يفعلون ما يؤثم به فاعله أي ينسب إلى الإثم لو فعله في دار التكليف كما هو ديدن الندامى في الدنيا وإنما يتكلمون بالحكم وأحاسن الكلام ويفعلون ما يفعله الكرام، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «لا لغو» «ولا تأثيم» بفتحهما وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ أي بالكأس غِلْمانٌ لَهُمْ أي مماليك مختصون بهم كما يؤذن به اللام ولم يقل غلمانهم بالإضافة لئلا يتوهم أنهم الذين كانوا يخدمونهم في الدنيا فيشفق كل من خدم أحدا في الدنيا أن يكون خادما له في الجنة فيحزن بكونه لا يزال تابعا، وقيل: أولادهم الذين سبقوهم فالاختصاص بالولادة لا بالملك، وفيه أن التعبير عنهم بالغلمان غير مناسب وكذا نسبة الخدمة إلى الأولاد لا تناسب مقام الامتنان كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ مصون في الصدف لم تنله الأيدي- كما قال ابن جبير- ووجه الشبه البياض والصفاء، وجوز أن يراد بمكنون مخزون لأنه لا يخزن إلا الحسن الغالي الثمن، أخرج عبد الرزاق ابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال: «بلغني أنه قيل: يا رسول الله هذا الخادم مثل اللؤلؤ فكيف بالمخدوم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «والذي نفسي بيده إن فضل ما بينهم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» وروي «أن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدامه فيجيء ألف ببابه لبيك لبيك» . وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ أي يسأل كل بعض منهم بعضا آخر عن أحواله وأعماله فيكون كل بعض سائلا ومسؤولا لا أنه يسأل بعض معين منهم بعضا آخر معينا ثم هذا التساؤل في الجنة كما هو الظاهر. وحكى الطبري عن ابن عباس أنه إذا بعثوا في النفخة الثانية ولا أراه يصح عنه لبعده جدا قالُوا أي المسئولون وهم كل واحد منهم في الحقيقة إِنَّا كُنَّا قَبْلُ أي قبل هذا الحال فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ أرقاء القلوب خائفين من عصيان الله عز وجل معتنين بطاعته سبحانه، أو وجلين من العاقبة، وفِي أَهْلِنا قيل: يحتمل أنه كناية عن كون ذلك في الدنيا، ويحتمل أن يكون بيانا لكون إشفاقهم كان فيهم وفي أهلهم لتبعيتهم لهم في العادة ويكون قوله تعالى: فَمَنَّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 35 اللَّهُ عَلَيْنا أي بالرحمة والتوفيق وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ أي عذاب النار النافذة في المسام نفوذ السموم وهو الريح الحارة المعروفة، ووجه الشبه وإن كان في النار أقوى لكنه في ريح السموم لمشاهدته في الدنيا أعرف فلذا جعل مشبها به، وقال الحسن: السَّمُومِ اسم من أسماء جهنم عاما لهم ولأهلهم، فالمراد بيان ما منّ الله تعالى به عليهم من اتباع أهلهم لهم، وقيل: ذكر فِي أَهْلِنا لإثبات خوفهم في سائر الأوقات والأحوال بطريق الأولى فإن كونهم بين أهليهم مظنة الأمن ولا أرى فيه بأسا، نعم كون ذلك لأن السؤال عما اختصوا به من الكرامة دون أهليهم ليست بشيء، وقيل: لعل الاولى أن يجعل ذلك إشارة إلى الشفقة على خلق الله تعالى كما أن قوله عز وجل: إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إلى آخره إشارة إلى التعظيم لأمر الله تعالى وترك العاطف بجعل الثاني بيانا للأول ادعاء للمبالغة في وجوب عدم انفكاك كل منهما للآخر ولا يخفى ما فيه، والذي يظهر أن هذا إشارة إلى الرجاء وترك العطف لقصد تعداد ما كانوا عليه أي إنا كنا من قبل ذلك نعبده تعالى ونسأله الوقاية إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ أي المحسن ما يدل عليه اشتقاقه من البر بسائر مواده لأنها ترجع إلى الإحسان- كبرّ في يمينه- أي صدق لأن الصدق إحسان في ذاته ويلزمه الإحسان للغير، وأبرّ الله تعالى حجه أي قبله لأن القبول إحسان وزيادة، وأبرّ فلان على أصحابه أي علاهم لأنه غالبا ينشأ عن الإحسان لهم فتفسيره باللطيف كما روي عن ابن عباس، أو العالي في صفاته، أو خالق البرّ، أو الصادق فيما وعد أولياءه كما روي عن ابن جريج بعيد إلا أن يراد بعض ما صدقات، أو غايات ذلك البر؟ الرَّحِيمُ الكثير الرحمة الذي إذا عبد أثاب وإذا سئل أجاب، وقرأ أبو حيوة «ووقّانا» بتشديد القاف، والحسن وأبو جعفر ونافع والكسائي «أنّه» بفتح الهمزة لتقدير لام الجر التعليلية قبلها أي لأنه فَذَكِّرْ فاثبت على ما أنت عليه من التذكير بما أنزل عليك من الآيات والذكر الحكيم ولا تكترث بما يقولون مما لا خير فيه من الأباطيل. فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ هو الذي يخبر بالغيب بضرب من الظن، وخص الراغب الكاهن بمن يخبر بالأخبار الماضية الخفية كذلك، والعرّاف بمن يخبر بالأخبار المستقبلة كذلك، والمشهور في الكهانة الاستمداد من الجن في الإخبار عن الغيب، والباء في بِكاهِنٍ مزيدة للتأكيد أي ما أنت كاهن وَلا مَجْنُونٍ واختلف في باء بِنِعْمَةِ فقال أبو البقاء: للملابسة، والجار والمجرور في موضع الحال والعامل فيه كاهن، أو مجنون، والتقدير ما أنت كاهن ولا مجنون ملتبسا بنعمة ربك وهي حال لازمة لأنه عليه الصلاة والسلام ما زال ملتبسا بنعمة ربه عز وجل، وقيل: للقسم فنعمة ربك مقسم به، وجواب القسم ما علم من الكلام وهو- ما أنت بكاهن ولا مجنون- وهذا كما تقول: ما زيد والله بقائم وهو بعيد، والأقرب عندي أن الباء للسببية وهو متعلق بمضمون الكلام، والمعنى انتفى عنك الكهانة والجنون بسبب نعمة الله تعالى عليك، وهذا كما تقول ما أنا معسر بحمد الله تعالى وإغنائه، والمراد الرد على قائل ذلك، وإبطال مقالتهم فيه عليه الصلاة والسلام وإلا فلا امتنان عليه صلى الله تعالى عليه وسلم بانتفاء ما ذكر مع انتفائه عن أكثر الناس، وقيل: الامتنان بانتفاء ذلك بسبب النعمة المراد بها ما أوتيه صلى الله تعالى عليه وسلم من صدق النبوة ورجاحة العقل التي لم يؤتها أحد قبله، والقائلون بذلك هم الكفرة قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون، وممن قال كاهن: شيبة بن ربيعة، وممن قال مجنون: عقبة بن أبي معيط أَمْ يَقُولُونَ أي بل أيقولون شاعِرٌ أي هو شاعر نَتَرَبَّصُ أي ننتظر بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ أي الدهر، وهو فعول من المنّ بمعنى القطع لأنه يقطع الأعمار وغيرها، ومنه حبل منين أي مقطوع، والريب مصدر رابه إذا أقلقه أريد به حوادث الدهر وصروفه لأنها تقلق النفوس وعبر عنها بالمصدر مبالغة، وجوز أن يكون من راب عليه الدهر أي نزل، والمراد بنزوله إهلاكه، وتفسير المنون بالدهر مروي عن مجاهد وعليه قول الشاعر: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 36 تربص بها ريب المنون لعلها ... تطلق يوما أو يموت حليلها وبيت أبي ذؤيب أمن المنون وريبه يتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع قيل: ظاهره ذلك، وكذلك قول الأعشى: أإن رأت رجلا أعشى أضرّ به ... ريب المنون ودهر متبل خبل ولهذا أنشده الجوهري شاهدا له، وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس تفسيره بالموت وهو مشترك بين المعنيين فقد قال المرزوقي في شرح بيت أبي ذؤيب المار آنفا: المنون قد يراد به الدهر فيذكر وتكون الرواية ريبه، وقد يراد به المنية فيؤنث، وقد روي ريبها، وقد يرجع له ضمير الجمع لقصد أنواع المنايا وريبها نزولها انتهى فلا تغفل، وهو أيضا من المنّ بمعنى القطع فإنها قاطعة الأماني واللذات، ولذا قيل: المنية تقطع الأمنية، وريب المنون عليه نزول المنية، وجوز أن يكون معنى حادث الموت على أن الإضافة بيانية، روي أن قريشا اجتمعت في دار الندوة وكثرت آراؤهم فيه عليه الصلاة والسلام حتى قال قائل منهم وهم بنو عبد الدار- كما قال الضحاك- تربصوا به ريب المنون فإنه شاعر سيهلك ما هلك زهير والنابغة والأعشى فافترقوا على هذه المقالة فنزلت، وقرأ زيد بن علي «يتربّص» بالياء مبنيا للمفعول، وقرىء «ريب» بالرفع على النيابة. قُلْ تَرَبَّصُوا تهكم بهم، وتهديد لهم فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أتربص هلاككم كما تتربصون هلاكي، وفيه عدة كريمة بإهلاكهم أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ أي عقولهم وكانت قريش يدعون أهل الأحلام والنهى- وذلك على ما قال الجاحظ- لأن جميع العالم يأتونهم ويخالطونهم وبذلك يكمل العقل وهو يكمل بالمسافرة وزيادة رؤية البلاد المختلفة والأماكن المتباينة ومصاحبة ذوي الأخلاق المتفاوتة وقد حصل لهم الغرض بدون مشقة، وقيل لعمرو بن العاص: ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله تعالى بالعقل؟! فقال: تلك عقول كادها الله عز وجل أي لم يصحبها التوفيق فلذا لم يؤمنوا وكفروا- وأنا لا أرى في الآية دلالة على رجحان عقولهم- ولعلها تدل على ضد ذلك بِهذا التناقص في المقال فإن الكاهن والشاعر يكونان ذا عقل تام وفطنة وقادة والمجنون مغطى عقله مختل فكره وهذا يعرب عن أن القوم لتحيرهم وعصبيتهم وقعوا في حيص بيص حتى اضطربت عقولهم وتناقضت أقوالهم وكذبوا أنفسهم من حيث لا يشعرون، وأمر الأحلام بذلك مجاز عن التأدية إليه بعلاقة السببية كما قيل، وقيل: جعلت الأحلام آمرة على الاستعارة المكنية فتشبه الأحلام بسلطان مطاع تشبيها مضمرا في النفس، وتثبت له الأمر على طريق التخييل أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ مجاوزون الحدود في المكابرة والعناد لا يحومون حول الرشد والسداد ولذلك يقولون ما يقولون من الأكاذيب المحصنة الخارجة عن دائرة العقول، وقرأ مجاهد «بل هم» أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ أي اختلقه من تلقاء نفسه. وقال ابن عطية: معناه قال عن الغير إنه قاله فهو عبارة عن كذب مخصوص، وضمير المفعول للقرآن بَلْ لا يُؤْمِنُونَ فلكفرهم وعنادهم يرمون بهذه الأباطيل كيف لا وما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلا واحد من العرب فكيف أتى بما عجز عنه كافة الأمم من العرب والعجم فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ مماثل القرآن في النعوت التي استقل بها من حيث النظم ومن حيث المعنى إِنْ كانُوا صادِقِينَ فيما زعموا فإن صدقهم في ذلك يستدعي قدرتهم على الإتيان بمثله بقضية مشاركتهم له عليه الصلاة والسلام في البشرية والعربية مع ما بهم من طول الممارسة للخطب والأشعار، وكثرة المزاولة لأساليب النظم والنثر، والمبالغة في حفظ الوقائع والأيام ولا ريب في أن القدرة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 37 على الشيء من موجبات الإتيان به ودواعي الأمر بذلك، فالكلام ردّ للأقوال المذكورة في حقه عليه الصلاة والسلام، والقرآن بالتحدي فإذا تحدوا وعجزوا علم رد ما قالوه وصحة المدّعى، وجوز أن يكون ردّا لزعمهم التقول خاصة فإن غيره مما تقدم حتى الكهانة كما لا يخفى أظهر فسادا منه ومع ذلك إذا ظهر فساد زعم التقول ظهر فساد غيره بطريق اللزوم، وقرأ الجحدري، وأبو السمال بحديث مثله على الاضافة أي بحديث رجل مثل الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في كونه أميا لم يصحب أهل العلم ولا رحل عن بلده، أو مثله في كونه واحدا منهم فلا يعوز أن يكون في العرب مثله في الفصاحة فليأت بمثل ما أتى به ولن يقدر على ذلك أبدا أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أي أم أحدثوا وقدروا هذا التقدير البديع من غير مقدر وخالق، وقال الطبري: المراد أم خلقوا من غير شيء حي فهم لا يؤمرون ولا ينهون كالجمادات، وقيل: المعنى أم خلقوا من غير علة ولا لغاية ثواب وعقاب فهم لذلك لا يسمعون، ومِنْ عليه للسببية، وعلى ما تقدم لابتداء الغاية والمعول عليه من الأقوال ما قدمنا، وسيأتي إن شاء الله تعالى زيادة إيضاح له، ويؤيده قوله سبحانه: أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ أي الذين خلقوا أنفسهم فلذلك لا يعبدون الله عز وجل ولا يلتفتون إلى رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم إذ على القولين لا يظهر حسن المقابلة، وإرادة خلقوا أنفسهم يشعر به قوله تعالى: أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الطور: 36] إذ لو أريد العموم لعدم ذكر المفعول لم يظهر حسن المقابلة أيضا، وقال ابن عطية: المراد أهم الذين خلقوا الأشياء فهم لذلك يتكبرون ثم خص من تلك الأشياء السماوات والأرض لعظمهما وشرفهما في المخلوقات وفيه ما سمعته بَلْ لا يُوقِنُونَ أي إذا سئلوا من خلقكم وخلق السماوات والأرض؟ قالوا: الله وهم غير موقنين بما قالوا إذ لو كانوا موقنين لما أعرضوا عن عبادته تعالى فإن من عرف خالقه وأيقن به امتثل وانقاد له أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أي خزائن رزقه تعالى ورحمته حتى يرزقوا النبوة من شاؤوا، ويمسكوها عمن شاؤوا، وقال الرماني: خزائنه تعالى مقدوراته سبحانه، وقال ابن عطية: المعنى أم عندهم الاستغناء عن الله تعالى في جميع الأمور لأن المال والصحة والعزة وغير ذلك من الأشياء من خزائن الله تعالى، وقال الزهري: يريد بالخزائن العلم واستحسنه أبو حيان، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يعلم حاله منه أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ الأرباب الغالبون حتى يدبروا أمر الربوبية ويبنوا الأمور على إرادتهم ومشيئتهم فالمسيطر الغالب، وفي معناه قول ابن عباس: المسلط القاهر وهو من سيطر على كذا إذا راقبه وأقام عليه وليس مصغرا كما يتوهم ولم يأت على هذه الزنة إلا خمسة ألفاظ أربعة من الصفات، وهي مهيمن ومسيطر ومبيقر ومبيطر، وواحد من الأسماء وهو مجيمر اسم جبل، وقرأ الأكثر الْمُصَيْطِرُونَ بالصاد لمكان حرف الاستعلاء وهو الطاء، وأشم خلف عن حمزة وخلاد عنه بخلاف الزاي أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ هو ما يتوصل به إلى الأمكنة العالية فيرجى به السلامة ثم جعل اسما لكل ما يتوصل به إلى شيء رفيع كالسبب أي أم لهم سلم منصوب إلى السماء يَسْتَمِعُونَ فِيهِ أي صاعدين فيه على أن الجار والمجرور متعلق بكون خاص محذوف وقع حالا والظرفية على حقيقتها، وقيل: هو متعلق- بيستمعون- على تضمينه معنى الصعود. وقال أبو حيان: أي يستمعون عليه أو منه إذ حروف الجر قد يسدّ بعضها مسدّ بعض ومفعول يَسْتَمِعُونَ محذوف أي كلام الله تعالى، قيل: ولو نزل منزلة اللازم جاز فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي بحجة واضحة تصدق استماعه أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ تسفيه لهم وتركيك لعقولهم، وفيه إيذان بأن من هذا رأيه لا يكاد يعدّ من العقلاء فضلا عن الترقي إلى عالم الملكوت وسماع كلام ذي العزة والجبروت والالتفات إلى الخطاب لتشديد الإنكار والتوبيخ أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً أي على تبليغ الرسالة وهو رجوع إلى خطابه صلى الله تعالى عليه وسلم وإعراض عنهم فَهُمْ لأجل ذلك مِنْ مَغْرَمٍ مصدر ميمي الجزء: 14 ¦ الصفحة: 38 من الغرم والغرامة وهو- كما قال الراغب- ما ينوب الإنسان في ماله من ضرر لغير جناية منه، فالكلام بتقدير مضاف أي من التزام مغرم، وفسره الزمخشري بالتزام الإنسان ما ليس عليه فلا حاجة إلى تقدير- لكن الذي تقتضيه اللغة هو الأول- مُثْقَلُونَ أي محملون الثقل فلذلك لا يتبعونك أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ أي اللوح المحفوظ المثبت فيه الغيوب فَهُمْ يَكْتُبُونَ منه ويخبرون به الناس- قاله ابن عباس- وقال ابن عطية: أم عندهم علم الغيب فهم يثبتون ما يزعمون للناس شرعا، وذلك عبادة الأوثان وتسييب السوائب وغير ذلك من سيرهم، وقال قتادة: أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فهم يعلمون متى يموت محمد صلى الله تعالى عليه وسلم الذي يتربصون به، وفسر بعضهم يَكْتُبُونَ بيحكمون أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً بك وبشرعك وهو ما كان منهم في حقه صلّى الله عليه وسلم بدار الندوة مما هو معلوم من السير، وهذا من الإخبار بالغيب فإن قصة دار الندوة وقعت في وقت الهجرة وكان نزول السورة قبلها كما تدل عليه الآثار فَالَّذِينَ كَفَرُوا هم المذكورون المريدون كيده عليه الصلاة والسلام، ووضع الموصول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بما في حيز الصلة من الكفر وتعليل الحكم به، وجوز أن يراد جميع الكفرة وهم داخلون فيه دخولا أوليا هُمُ الْمَكِيدُونَ أي الذين يحيق بهم كيدهم ويعود عليهم وباله لا من أرادوا أن يكيدوه وكان وباله في حق أولئك قتلهم يوم بدر في السنة الخامسة عشر من النبوة قيل: ولذا وقعت كلمة أَمْ مكررة هنا خمس عشرة مرة للإشارة لما ذكر، ومثله على ما قال الشهاب: لا يستبعد من المعجزات القرآنية وإن كان الانتقال لمثله خفي ومناسبته أخفى، وجوز أن يكون المعنى هم المغلوبون في الكيد من كايدته فكدته أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يعينهم ويحرسهم من عذابه عز وجل. سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي عن إشراكهم على أن ما مصدرية، أو عن شركة الذي يشركونه على أنها موصولة وقبلها مضاف مقدر والعائد محذوف وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً قطعة فهو مفرد وقد قرىء في جميع القرآن كسفا وكسفا جمعا وإفرادا إلا هنا فإنه على الإفراد وحده، وتنوينه للتفخيم أي وإن يروا كسفا عظيما مِنَ السَّماءِ ساقِطاً لتعذيبهم يَقُولُوا من فرط طغيانهم وعنادهم سَحابٌ أي هو سحاب مَرْكُومٌ متراكم ملقى بعضه على بعض أي هم في الطغيان بحيث لو أسقطنا عليهم حسبما قالوا، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا لقالوا هو سحاب متراكم يمطرنا ولم يصدقوا أنه كسف ساقط لعذابهم فَذَرْهُمْ فدعهم غير مكترث بهم وهو على ما في البحر أمر موادعة منسوخ بآية السيف حَتَّى يُلاقُوا وقرأ أبو حيوة يلقوا مضارع لقى يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ على البناء للمفعول وهي قراءة عاصم وابن عامر وزيد بن علي وأهل مكة في قول شبل بن عباد: من صعقته الصاعقة، أو من أصعقته، وقرأ الجمهور وأهل مكة في قول إسماعيل: يصعقون بفتح الياء والعين، والسلمي بضم الياء وكسر العين من أصعق رباعيا والمراد بذلك اليوم يوم بدر، وقيل: وقت النفخة الأولى فإنه يصعق فيه من في السماوات ومن في الأرض، وتعقب بأنه لا يصعق فيه إلا من كان حيا حينئذ وهؤلاء ليسوا كذلك وبأن قوله تعالى: يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً أي شيئا من الإغناء بدل من يومهم، ولا يخفى أن التعرّض لبيان عدم نفع كيدهم يستدعي استعمالهم له طمعا بالانتفاع به وليس ذلك إلا ما دبروه في أمره صلى الله تعالى عليه وسلم من الكيد الذي من جملته مناصبتهم يوم بدر، وأما النفخة الأولى فليست مما يجرى في مدافعته الكيد والحيل، وأجيب عن الأول بمنع اختصاص الصعق بالحي فالموتى أيضا يصعقون وهم داخلون في عموم «من» وإن لم يكن صعقهم مثل صعق الأحياء من كل وجه وهو خلاف الظاهر فيحتاج إلى نقل صحيح، عن الثاني بأن الكلام على نهج قوله: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 39 على لا حب لا يهتدى بمناره فالمعنى يوم لا يكون لهم كيد ولا إغناء وهو كثير في القرآن وباب من أبواب البلاغة والإحسان، وقيل: هو يوم القيامة- وعليه الجمهور- وفيه بحث، وقيل: هو يوم موتهم، وتعقب بأن فيه ما فيه مع أنه تأباه الإضافة المنبئة عن اختصاصه بهم فلا تغفل وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ من جهة الغير في دفع العذاب عنهم وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أي لهم ووضع الموصول موضع الضمير لما ذكر قبل وجوز العموم وهم داخلون دخولا أوليا عَذاباً آخر دُونَ ذلِكَ دون ما لا قوه من القتل أي قبله وهو- كما قال مجاهد- القحط الذي أصابهم سبع سنين. وعن ابن عباس هو ما كان عليهم يوم بدر والفتح، وفسر دُونَ ذلِكَ بقبل يوم القيامة بناء على كون يومهم الذي فيه يصعقون ذلك، وعنه أيضا. وعن البراء بن عازب أنه عذاب القبر وهو مبني على نحو ذلك التفسير، وذهب إليه بعضهم بناء على أن دُونَ ذلِكَ بمعنى وراء ذلك كما في قوله: يريك القذى من دونها وهو دونها وإذا فسر اليوم بيوم القيامة ونحوه، ودُونَ ذلِكَ بقبله، وأريد العموم من الموصول فهذا العذاب عذاب القبر، أو المصائب الدنيوية، وفي مصحف عبد الله- دون ذلك تقريبا- وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ إن الأمر كما ذكر، وفيه إشارة إلى أن فيهم من يعلم ذلك وإنما يصر على الكفر عنادا، أو لا يعملون شيئا. وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ بإمهالهم إلى يومهم الموعود وإبقائك فيما بينهم مع مقاساة الأحزان ومعاناة الهموم فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا أي في حفظنا وحراستنا، فالعين مجاز عن الحفظ، ويتجوز بها أيضا عن الحافظ وهو مجاز مشهور، وفي الكشاف هو مثل أي بحيث نراك ونكلؤك، وجمع العين هنا لإضافته إلى ضمير الجمع ووحد في «طه» لإضافته إلى ضمير الواحد، ولوح الزمخشري- في سورة المؤمنين- إلى أن فائدة الجمع الدلالة على المبالغة في الحفظ كأن معه من الله تعالى حفاظا يكلؤونه بأعينهم، وقال العلامة الطيبي: إنه أفرد هنالك لإفراد الفعل وهو كلاءة موسى عليه السلام، وهاهنا لما كان لتصبير الحبيب على المكايد ومشاق التكاليف والطاعات ناسب الجمع لأنها أفعال كثيرة كل منها يحتاج إلى حراسة منه عز وجل انتهى، ومن نظر بعين بصيرته علم من الآيتين الفرق بين الحبيب والكليم عليهما أفضل الصلاة وأكمل التسليم، ثم إن الكلام في نظير هذا على مذهب السلف مشهور، وقرأ أبو السمال «بأعينّا» بنون مشددة وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي قل سبحان الله ملتبسا بحمده تعالى على نعمائه الفائتة الحصر، والمراد سبحه تعالى واحمده حِينَ تَقُومُ من كل مجلس قاله عطاء ومجاهد وابن جبير، وقد صح من رواية أبي داود والنسائي وغيرهما عن أبي برزة الأسلمي «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقول إذا أراد أن يقوم من المجلس: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك فسئل عن ذلك فقال: كفارة لما يكون في المجلس» والآثار في ذلك كثيرة، وقيل: حين تقوم إلى الصلاة، أخرج أبو عبيد وابن المنذر عن سعيد بن المسيب قال: «حق على كل مسلم حين يقوم إلى الصلاة أن يقول: سبحان الله وبحمده لأن الله تعالى يقول لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ» وأخرج سعيد بن منصور وغيره عن الضحاك أنه قال في الآية: حين تقوم إلى صلاة تقول هؤلاء الكلمات «سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك» وحكاه في البحر عن ابن عباس وأخرج عنه ابن مردويه أنه قال: «سبح بحمد ربك حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل في الصلاة» وروي نحوه عن ابن السائب، وقال زيد أسلم: «حين تقوم من القائلة والتسبيح إذ ذاك هو صلاة الظهر» وقوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ إفراد لبعض الليل بالتسبيح لما أن العبادة فيه أشق على النفس وأبعد عن الرياء كما الجزء: 14 ¦ الصفحة: 40 يلوح به تقديمه على الفعل وَإِدْبارَ النُّجُومِ أي وقت إدبارها من آخر الليل أي غيبتها بضوء الصباح، وقيل: التسبيح من الليل صلاة المغرب والعشاء، وَإِدْبارَ النُّجُومِ ركعتا الفجر، وعن عمر رضي الله تعالى عنه وعلي كرم الله تعالى وجهه وأبي هريرة والحسن رضي الله تعالى عنهما التسبيح من الليل النوافل: وإِدْبارَ النُّجُومِ ركعتا الفجر، وقرأ سالم بن أبي الجعد والمنهال بن عمرو ويعقوب- أدبار- بفتح الهمزة جمع دبر بمعنى عقد أي في أعقابها إذا غربت، أو خفيت بشعاع الشمس. هذا ونظم الآيات من قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ [الطور: 30] إلى قوله سبحانه: أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ إلخ فيه غرابة ولم أر أحدا كشف عن لثامه كصاحب الكشف جزاه الله تعالى خيرا، ولغاية حسنه- وكونه مما لا مزيد عليه- أحببت نقله بحذافيره لكن مع اختصار ما، فأقول: قال: أومأ الزمخشري إلى وجهين في ذلك في قوله تعالى: بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ [الأنبياء: 5] : أحدهما أنه حكاية قولهم المضطرب على وجهه، والثاني أنه تدرج منه سبحانه في حكاية ما قالوه من المنكر إلى ما هو أدخل فيه، والأول ضعيف فيما نحن فيه لأن ما سيق له الكلام ليس اضطراب أقوالهم فتحكى على ما هي عليه بل تسليته عليه الصلاة والسلام وأنه لا محالة ينتقم له منهم وأن العذاب المكذب به واقع بهم جزاء لتكذيبهم بالمنبئ والنبأ والمنبأ به، فالمتعين هو الثاني، ووجهه- والله تعالى أعلم- أن قوله: فَذَكِّرْ معناه إذ ثبت كون العذاب واقعا وكون الفريقين المصدقين والمكذبين مجزيين بأعمالهم، وإنك على الحق المبين الذي من كذب به استحق الهوان، ومن صدق استحق الرضوان فدم على التذكير ولا تبال بما تكايد فإنك أنت الغالب حجة وسيفا في هذه الدار، ومنزلة ورفعة في دار القرار، ومن قوله تعالى: فَما أَنْتَ إلى قوله سبحانه: هُمُ الْمَكِيدُونَ تفصيل هذا المجمل مع التعريض بفساد مقالاتهم الحمقاء وأنهم بمرأى من الله تعالى ومسمع فلا محالة ينتقم لنبيه عليه الصلاة والسلام منهم، وفيه أن النبي صلّى الله عليه وسلم من الله تعالى بمكان لا يقادر قدره فهو شدّ من عضد التسلي، وقوله سبحانه: فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ [الطور: 29] إلخ فيه أن من أنعم عليه بالنبوة يستحيل أن يكون أحد هذين، وبدأ بقولهم المتناقض لينبه أولا على فساد آرائهم ويجعله دستورا في إعراضهم عن الحق وإيثار اتباع أهوائهم فما أبعد حال من كان أتقنهم رأيا وأرجحهم عقلا وأبينهم آيا منذ ترعرع الى أن بلغ الأشدّ عن الجنون والكهانة على أنهما متناقضان لأن الكهان كانوا عندهم من كامليهم وكان قولهم إماما متبعا عندهم فأين الكهانة من الجنون، ثم ترقى مضربا إلى قولهم فيه وحاشاه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه شاعر لأنه أدخل في الكذب من الكاهن والمجنون وقديما قيل: أحسن الشعر أكذبه ليبين حال تلجلجهم واضطرابهم، وقوله تعالى: قُلْ تَرَبَّصُوا [الطور: 31] من باب المجازاة بمثل صنيعهم وفيه تتميم للوعيد، فهذا باب من إنكارهم هدمه سبحانه أولا تلويحا بقوله تعالى: بِنِعْمَةِ رَبِّكَ وثانيا تصريحا بقوله جل وعلا. أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ [الطور: 32] كأنه قيل دعهم وتلك المقالة وما فيها من الاضطراب ففيها عبرة، ثم قيل: لا بل ذلك من طغيانهم لأنه أدخل في الذم من نقصان العقل وأبلغ في التسلية لأن من طغى على الله عز وجل فقد باء بغضبه، ثم أخذ في باب أوغل في الإنكار وهو نسبة الافتراء إليه صلى الله تعالى عليه وسلم وذلك لأن الافتراء أبعد شيء من حاله لاشتهاره بالصدق على أن كونه افتراء وعجزهم عن الإتيان بأقصر سورة من هذا المفتري متنافيان لدلالته على الصدق على ما مر- في الأحقاف- ولأن الشاعر لا يتعمد الكذب لذاته، ثم قد يكون شعره حكما ومواعظ وهو لا ينسب فيه إلى عار، والتدرج عن الشعر هاهنا عكس التدرج اليه في الأنبياء لأن بناء الكلام هاهنا على التدرج في المناقضة والتوغل في القدح فيه عليه الصلاة والسلام ونفي رسالته، وهنالك عن القدح في بعض من الذكر متجدد النزول فقيل: إن افتراءه لا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 41 يبعد ممن هو شاعر ذو افتراءات كثيرة، وأين هذا من ذاك؟ وللتنبيه على التوغل جيء بصريح حرف الاضراب في الردّ فقيل: بَلْ لا يُؤْمِنُونَ [الطور: 33] وعقب بقوله تعالى: فَلْيَأْتُوا [الطور: 34] ثم من لا يؤمن أشد إنكارا له من الطاغي كما أن المفتري أدخل في الكذب من الشاعر، ثم أخذ في أسلوب أبلغ في الرد على مقالاتهم الجنون والكهانة لتقاربهما، ثم الشعر، ثم الافتراء حيث نزل القائلين منزلة من يدعي أنه خلق من غير شيء أي مقدر وخالق وإلا لأهمهم البحث عن صفاته وأفعاله فلم ينكروا منك ما أنكروا، ومن حسب أنه مستغن عن الموجد نسب رسوله إلى الجنون والكهانة لا بل كمن يدعي أنه خالق نفسه فلا خالق له ليبحث عن صفاته فهو ينسبه إلى الشعر إذ لا يرسل إليه البتة، والشعر أدخل في الكذب لا بل كمن يدعي أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما فهو ينسبه الى الافتراء حيث لم يرسله، ثم أضرب صريحا عنه بقوله تعالى: بَلْ لا يُوقِنُونَ [الطور: 36] ومن لا إيقان له بمثل هذا البديهي لا يبعد أن يزنك بمازن، فكأنه قيل: مقالتهم تلك تؤدي إلى هذه لا أنهم كانوا قائلين بها إظهارا لتماديهم في العناد، ثم بولغ فيه فجيء بما يدل على أن الرسول لا بد أن يكون مفتريا غير صالح للنبوة في زعمهم، فالأول لما لم يمنع تعدد الآلهة إنما يدل على افترائه من حيث إن أحد الخالقين لا يدعو الآخر إلى عبادته، والثاني يمنعه بالكلية لأنه إذا كان عندهم جميع خزائن ربه وهم ما أرسلوه لزم أن يكون مفتريا البتة، وأدمج فيه إنكارهم للمعاد، ونسبتهم إياه صلى الله تعالى عليه وسلم في ذلك أيضا خاصة إلى الافتراء، والحمل على خزائن القدرة أظهر لأن أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ [الطور: 41] إشارة إلى خزائن العلم ولما كان المقصود هنالك أمر البعث على ما سيحقق إن شاء الله تعالى كان هذا القول أيضا من القبول بمكان ولا يخفى ما في قوله تعالى: أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ [الطور: 37] من الترقي ثم لما فرغ من ذلك وبيّن فساد ما بنوا عليه أمر الإنكار بدليل العقل قيل: لم يبق إلا المشاهدة والسماع منه تعالى وهو أظهر استحالة فتهكم بهم، وقيل: أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ [الطور: 38] وذيل بقوله تعالى: أَمْ لَهُ الْبَناتُ [الطور: 39] إشعارا بأنه من جعل خالقه أدون حالا منه لم يستبعد منه تلك المقالات الخرقاء كأنه سلى صلى الله تعالى عليه وسلم وقيل: ناهيك بتساوي الطعنين في البطلان وبما يلقون من سوء مغبتهما، ثم قيل: أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً [الطور: 40] أي إن القوم أرباب ألباب وليسوا من تلك الأوصاف في شيء بل الذي زهدهم فيك أنك تسألهم أجرا مالا، أو جاها، أو ذكرا، وفيه تهكم بهم وذم لهم بالحسد واللؤم وأنهم مع قصور نظرهم عن أمر الميعاد لا يبنون الأمر على المتعارف المعتاد إذ لا أحد من أهل الدنيا وذوي الأخطار يجبه الناصح المبرأ ساحته عن لوث الطمع بتلك المقالات على أنه حسد لا موقع له عند ذويه فليسوا في أن يحصل لهم نعمة النبوة ولا هو ممن يطمع في نعمهم إحدى الثلاث، ثم قيل أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ على معنى بل أعندهم اللوح فيعلمون كل ما هو كائن ويكتبون فيه تلك المعلومات وقد علموا أن ما تدعيه من المعاد ليس من الكائن المكتوب، والمقصود من هذا نفي المنبأ به أعني البعث على وجه يتضمن دفع النبوة أيضا إدماجا عكس الأول ولهذا أخره عن قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ فقد سلف أن مصب الغرض حديث النبأ والمنبأ والمنبأ به فقضى الوطر من الأولين مع الرمز الى الأخير: ثم أخذ فيه مع الرمز إليهما قضاء لحق الإعجاز، ففي الغيب إشارة إلى الغيب أعني الساعة أول كل شيء وفيه ترق في الدفع من وجه أيضا لأن العلم أشمل موردا من القدرة ولأن الأول إنكار من حيث إنهم لم يرسلوه، وهذا من تلك الحيثية، ومن حيث إنهم ما علموا بإرسال غيره إياه أيضا مع إحاطة علمهم لكنه غير مقصود قصدا أوليا، ثم ختم الكلام بالإضراب عن الإنكار إلى الأخبار عن حالهم بأنهم يريدون بك كيدا فهم ينصبون لك الحبائل قولا وفعلا لا يقفون على هذا المقالة وحدها وهم المكيدون لا أنت قولا وفعلا وحجة وسيفا، وحقق ما ضمنه من الوعيد بقوله سبحانه: أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ فينجيهم من كيده وعذابه لا والله سبحان الله عن أن يكون إله غيره، ومنه يظهر أن حمل الذين كفروا على المريدين به كيدا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 42 أظهر في هذا المساق انتهى، وكأن ما بعد تأكيدا لأمر (1) طغيانهم ومزيد تحقيق للوعيد ومبالغة في التسلية، ويعلم مما ذكره- لا زالت رحمة الله تعالى عليه متصلة- أن أَمْ في كل ذلك منقطعة وهي مقدرة ببل الإضرابية، والإضراب هاهنا واقع على سبيل الترقي وبالهمزة وهي للإنكار وهو ما اختاره أبو البقاء وكثير من المفسرين، وحكى الثعلبي عن الخليل أنها متصلة والمراد بها الاستفهام، وعليك بما أفاده كلام ذلك الهمام والله تعالى أعلم. ومما ذكروه من باب الاشارة في بعض الآيات وَالطُّورِ إشارة إلى قالب الإنسان وَكِتابٍ مَسْطُورٍ إشارة إلى سره فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ إشارة إلى قلبه وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ إشارة إلى روحه وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ إشارة إلى صفته وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ إشارة إلى نفسه المسجورة بنيران الشهوة والغضب والكبر، وقيل:- الطور- إشارة إلى ما طار من الأرواح من عالم القدس والملكوت حتى وقع في شباك عالم الملك- والكتاب المسطور في الرق المنشور- إشارة إلى النقوش الإلهية المدركة بأبصار البصائر القدسية المكتوبة في صحائف الآفاق وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ إشارة إلى قلب المؤمن المعمور بالمعرفة والإخلاص وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ إشارة إلى العالم العلوي المرفوع عن أرض الطبيعة وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ إشارة إلى بحر القدرة المملوء من أنواع المقدورات التي لا تتناهى، وقيل: إشارة إلى الفضاء الذي فيه الملائكة المهيمون، ووصفه- بالمسجور- إما لأنه مملوء منهم، وإما لأنه سجر بنيران الهيام ولذا لا يعلم أحدهم بسوى الله عز وجل، وقيل: غير ذلك فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ أي يخوضون في غمرات البحر اللجى الدنيوي ويلعبون فيها بزبدها الباطل ومتاعها القليل ويكذبون المستخلصين عن الأكدار المتحلين بالأنوار إذ أنذروهم أن المتقين هم أضداد أولئك فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ وهو عذاب الحجاب كُلُوا من ثمرات المعارف المختصة باللطيفة النفسية وَاشْرَبُوا من مياه العيون المختصة باللطيفة القلبية وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ أي مقام العبودية وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ أي عند نزول السكينة عليك وَإِدْبارَ النُّجُومِ أي عند ظهور نور شمس الوجه، وتسبيحة سبحانه عند ذلك بالاحتراز عن إثبات وجود غير وجوده تعالى الحق فإن إثبات ذلك شرك مطلق في ذلك المقام أعاذنا الله تعالى وإياكم من الشرك بحرمة الحبيب عليه الصلاة والسلام.   (1) هكذا الأصل وصوابه «تأكيد لأمر طغيانهم» برفع تأكيد. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 43 سورة النجم وتسمى أيضا سورة- النجم- بدون واو وهي «مكية» على الإطلاق، وفي الإتقان استثنى منها الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ إلى اتَّقى [النجم: 32] ، وقيل: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى [النجم: 33] الآيات التسع، ومن الغريب حكاية الطبرسي عن الحسن أنها مدنية. ولا أرى صحة ذلك عنه أصلا، وآيها اثنتان وستون آية في الكوفي، وإحدى وستون في غيره، وهي كما أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود أول سورة أعلن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بقراءتها فقرأها في الحرم والمشركون يسمعون ، وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عنه قال: «أول سورة أنزلت فيها سجدة «والنجم» فسجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وسجد الناس كلهم إلا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب فسجد عليه فرأيته بعد ذلك قتل كافرا» وهو أمية بن خلف، وفي البحر أنه عليه الصلاة والسلام سجد وسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس غير أبي لهب فإنه رفع حفنة من تراب وقال: يكفي هذا ، فيحتمل أنه وأمية فعلا كذلك، وهي شديدة المناسبة لما قبلها فإن الطور ختمت بقوله تعالى: إِدْبارَ النُّجُومِ [الطور: 49] وافتتحت هذه بقوله سبحانه: «والنجم» وأيضا في مفتتحها ما يؤكد رد الكفرة فيما نسبوه إليه صلى الله تعالى عليه وسلم من التقول والشعر والكهانة والجنون، وذكر أبو حيان أن سبب نزولها قول المشركين: إن محمدا عليه الصلاة والسلام يختلق القرآن، وذكر الجلال السيوطي في وجه مناسبتها أن الطور فيها ذكر ذرية المؤمنين وأنهم تبع لآبائهم وهذه فيها ذكر ذرية اليهود في قوله تعالى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ [النجم: 32] الآية فقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبري وأبو نعيم في المعرفة والواحدي عن ثابت بن الحارث الأنصاري «قال: كانت اليهود إذا هلك لهم صبي صغير قالوا هو صديق فبلغ ذلك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: كذبت يهود ما من نسمة يخلقها الله في بطن أمها إلا أنه شقي أو سعيد فأنزل الله تعالى عند ذلك هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ الآية كلها» وأنه تعالى لما قال هناك في المؤمنين: أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور: 21] إلخ قال سبحانه هنا في الكفار، أو في الكبار: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى [النجم: 39] خلاف ما دخل في المؤمنين الصغار، ثم قال: وهذا وجه بديع في المناسبة من وادي التضاد، وفي صحة كون قوله تعالى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ الآية نزل لما ذكر نظر عندي، وكون قوله تعالى أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ في الصغار لم يتفق عليه المفسرون كما سمعت غير بعيد، نعم من تأمل ظهر له وجوه من المناسبات غير ما ذكر فتأمل. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 44 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّجْمِ إِذا هَوى أقسم سبحانه بجنس النجم المعروف على ما روي عن الحسن ومعمر بن المثنى، ومنه قوله: فباتت تعد النجم في مستحيرة ... سريع بأيدي الآكلين جمودها ومعنى هَوى غرب، وقيل: طلع يقال هوى يهوي كرمى يرمي هويا بالفتح في السقوط والغروب لمشابهته له وهويا بالضم للعلو، والطلوع، وقيل: الهوى بالفتح للإصعاد والهوى بالضم للانحدار وقيل: الهوى بالفتح والضم للسقوط ويقال أهوى بمعنى هوى، وفرق بعض اللغويين بينهما بأن هوى إذا انقض لغير صيد، وأهوى إذا انقض له، وقال الحسن وأبو حمزة الثمالي: أقسم سبحانه بالنجوم إذا انتثرت في القيامة، وعن ابن عباس في رواية أقسم عز وجل بالنجوم إذا انقضت في إثر الشياطين، وقيل: المراد بالنجم معين فقال مجاهد وسفيان: هو الثريا فإن النجم صار علما بالغلبة لها، ومنه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إذا طلع النجم صباحا ارتفعت العاهة» وقول العرب:- طلع النجم عشاء فابتغى الراعي كساء، طلع النجم غدية فابتغى الراعي كسية- وفسر هويها بسقوطها مع الفجر، وقيل: هو الشعرى المرادة بقوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى [النجم: 49] والكهان يتكلمون على المغيبات عند طلوعها، وقيل: الزهرة وكانت تعبد، وقال ابن عباس ومجاهد والفراء ومنذر بن سعيد: النَّجْمِ المقدار النازل من القرآن على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وإِذا هَوى بمعنى إذا نزل عليه مع ملك الوحي جبريل عليه السلام، وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: هو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهويه نزوله من السماء ليلة المعراج ، وجوز على هذا أن يراد بهويه صعوده وعروجه عليه الصلاة والسلام إلى منقطع الأين، وقيل: هو الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وقيل: العلماء على إرادة الجنس، والمراد بهويهم قيل: عروجهم في معارج التوفيق إلى حظائر التحقيق. وقيل: غوصهم في بحار الافكار لاستخراج درر الأسرار. وأظهر الأقوال القول بأن المراد بالنجم جنس النجم المعروف بأن أصله اسم جنس لكل كوكب، وعلى القول بالتعيين فالأظهر القول بأنه الثريا، ووراء هذين القولين القول بأن المراد به المقدار النازل من القرآن، وفي الإقسام بذلك على نزاهته عليه الصلاة والسلام عن شائبه الضلال والغواية من البراعة البديعة وحسن الموقع ما لا غاية وراءه، أما على الأولين فلأن النجم شأنه أن يهتدي به الساري إلى مسالك الدنيا كأنه قيل: وَالنَّجْمِ الذي تهتدي به السابلة إلى سواء السبيل ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ أي ما عدل عن طريق الحق الذي هو مسلك الآخرة فهو استعارة وتمثيل لكونه عليه الصلاة والسلام على الصواب في أقواله وأفعاله وَما غَوى أي وما اعتقد باطلا قط لأن الغي الجهل مع اعتقاد فاسد وهو خلاف الرشد فيكون عطف هذا على ما ضَلَّ من عطف الخاص على العام اعتناء بالاعتقاد، وإشارة إلى أنه المدار. وأما على الثالث فلأنه تنويه بشأن القرآن وتنبيه على مناط اهتدائه عليه الصلاة والسلام ومدار رشاده كأنه قيل: وما أنزل عليك من القرآن الذي هو علم في الهداية إلى مناهج الدين ومسالك الحق واليقين ما ضَلَّ عنها محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وَما غَوى فهو من باب: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 45 وثناياك إنها إغريض والخطاب لقريش وإيراده عليه الصلاة والسلام بعنوان المصاحبة لهم للإيذان بوقوفهم على تفاصيل أحواله الشريفة وإحاطتهم خبرا ببراءته صلى الله تعالى عليه وسلم مما نفي عنه بالكلية وباتصافه عليه الصلاة والسلام بغاية الهدى والرشاد فإن طول صحبتهم له عليه الصلاة والسلام ومشاهدتهم لمحاسن شؤونه العظيمة مقتضية لذلك حتما ففي ذلك تأكيد لإقامة الحجة عليهم، واختلف في متعلق إذا قال بعضهم: فاوضت جار الله في قوله تعالى: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى فقال: العامل فيه ما تعلق به الواو فقلت: كيف يعمل فعل الحال في المستقبل؟! وهذا لأن معناه أقسم الآن لا أقسم بعد هذا، فرجع وقال: العامل فيه مصدر محذوف، والتقدير- وهوى النجم إذا هوى- فعرضته على بعض المشايخ فلم يستحسن قوله الثاني، والوجه تعلقه بأقسم وهو قد انسلخ عنه معنى الاستقبال وصار للوقت المجرد ونحوه آتيك إذا احمر البسر أي وقت احمراره، وقال عبد القاهر: إخبار الله تعالى بالمتوقع يقام مقام الإخبار بالواقع إذا لا خلف فيه فيجري المستقبل مجرى المحقق الماضي، وقيل: إنه متعلق بعامل هو حال من النجم، وأورد عليه أن الزمان لا يكون خبرا ولا حالا عن جثة كما هنا، وأن إِذا للمستقبل فكيف يكون حالا إلا أن تكون حالا مقدرة أو تجرد إِذا لمطلق الوقت كما يقال بصحية الحالية إذا أفادت معنى معتدا به، فمجيء الزمان خبرا أو حالا عن جثة ليس ممنوعا على الإطلاق كما ذكره النحاة، أو النجم لتغيره طلوعا وغروبا أشبه الحدث، والإنصاف أن جعله حالا كتعلقه بمصدر محذوف ليس بالوجه، وإنما الوجه،- على ما قيل- ما سمعت من تعلقه بأقسم منسلخا عنه معنى الاستقبال وهو الذي اختاره في المغني، وتخصيص القسم بوقت الهوي ظاهر على الأخير من الأقوال الثلاثة، وأما على الأولين فقيل: لأن النجم لا يهتدي به الساري عند كونه في وسط السماء ولا يعلم المشرق من المغرب ولا الشمال من الجنوب، وإنما يهتدي به عند هبوطه، أو صعوده مع ما فيه من كمال المناسبة لما سيحكى من التدلي والدنو، وقيل: لدلالته على حدوثه الدال على الصانع وعظيم قدرته عز وجل كما قال الخليل على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأكمل السلام لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الأنعام: 76] وسيأتي إن شاء الله تعالى آخر الكتاب تمام الكلام في تحقيق إعراب مثل هذا التركيب فلا تغفل وَما يَنْطِقُ أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لتقدم ذكره في قوله سبحانه: صاحِبُكُمْ والنطق مضمن معنى الصدور فلذا عدي بعن في قوله تعالى: عَنِ الْهَوى وقيل: هي بمعنى الباء وليس بذاك أي ما يصدر نطقه فيما آتاكم به من جهته عز وجل كالقرآن، أو من القرآن عن هوى نفسه ورأيه أصلا فإن المراد استمرار النفي كما مر مرارا في نظائره إِنْ هُوَ أي ما الذي ينطق به من ذلك أو القرآن وكل ذلك مفهوم من السياق إِلَّا وَحْيٌ من الله عز وجل يُوحى يوحيه سبحانه إليه، والجملة صفة مؤكدة لوحي رافعة لاحتمال المجاز مفيدة للاستمرار التجددي، وقيل: ضمير يَنْطِقُ للقرآن فالآية كقوله تعالى: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ [الجاثية: 29] وهو خلاف الظاهر، وقيل: المراد ما يصدر نطقه عليه الصلاة والسلام مطلقا عن هوى وهو عائد لما ينطق به مطلقا أيضا. واحتج بالآية على هذا التفسير من لم ير الاجتهاد له عليه الصلاة والسلام كأبي علي الجبائي وابنه أبي هاشم، ووجه الاحتجاج أن الله تعالى أخبر بأن جميع ما ينطق به وحي وما كان عن اجتهاد ليس بوحي فليس مما ينطق، وأجيب بأن الله تعالى إذا سوغ له عليه الصلاة والسلام الاجتهاد كان الاجتهاد وما يسند إليه وحيا لا نطقا عن الهوى، وحاصله منع كبر القياس، واعترض عليه بأنه يلزم أن تكون الأحكام التي يستنبطها المجتهدون بالقياس وحيا، وأجيب بأن النبي عليه الصلاة والسلام أوحى إليه أن يجتهد بخلاف غيره من المجتهدين، وقال القاضي البيضاوي: إنه حينئذ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 46 بالوحي لا وحي، وتعقبه صاحب الكشف بأنه غير قادح لأنه بمنزلة أن يقول الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: متى ما ظننت بكذا فهو حكمي أي كل ما ألقيته في قلبك فهو مرادي فيكون وحيا حقيقة، والظاهر أن الآية واردة في أمر التنزيل بخصوصه وإن كان مثله الأحاديث القدسية والاستدلال بها على أنه عليه الصلاة والسلام غير متعبد بالوحي محوج لارتكاب خلاف الظاهر وتكلف في دفع نظر البيضاوي عليه الرحمة كما لا يخفى على المنصف، ولا يبعد عندي أن يحمل قوله تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى على العموم فإن من يرى الاجتهاد له عليه الصلاة والسلام كالإمام أحمد وأبي يوسف عليهما الرحمة لا يقول بأن ما ينطق به صلى الله عليه وسلم مما أدى إليه اجتهاده صادر عن هوى النفس وشهوتها حاشا حضرة الرسالة عن ذلك وإنما يقول هو واسطة بين ذلك وبين الوحي ويجعل الضمير في قوله سبحانه: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ للقرآن على أن الكلام جواب سؤال مقدر كأنه قيل: إذا كان شأنه عليه الصلاة والسلام أنه ما ينطق عن الهوى فما هذا القرآن الذي جاء به وخالف فيه ما عليه قومه استمال به قلوب كثير من الناس وكثرت فيه الأقاويل؟ فقيل: ما هو إلا وحي يوحيه الله عز وجل إليه صلى الله تعالى عليه وسلم فتأمل، وفي الكشف أن في قوله تعالى: ما يَنْطِقُ مضارعا مع قوله سبحانه: ما ضَلَّ وَما غَوى ما يدل على أنه عليه الصلاة والسلام حيث لم يكن له سابقة غواية وضلال منذ تميز وقبل تحنكه واستنبائه لم يكن له نطق عن الهوى كيف وقد تحنك ونبىء، وفيه حث لهم على أن يشاهدوا منطقه الحكيم عَلَّمَهُ الضمير للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم والمفعول الثاني محذوف أي القرآن، أو الوحي، وجوز أبو حيان كون الضمير للقرآن، وأن المفعول الأول محذوف أي علمه الرسول عليه الصلاة والسلام شَدِيدُ الْقُوى هو جبريل عليه السلام كما قال ابن عباس وقتادة والربيع- فإنه الواسطة في إبداء الخوارق وناهيك دليلا على شدة قوته أنه قلع قرى قوم لوط من الماء الأسود الذي تحت الثرى وحملها على جناحه ورفعها إلى السماء ثم قلبها، وصاح بثمود صيحة فأصبحوا جاثمين وكان هبوطه على الأنبياء عليهم السلام وصعوده في أسرع من رجعة الطرف، فهو لعمري أسرع من حركة ضياء الشمس على ما قرروه في الحكمة الجديدة ذُو مِرَّةٍ ذو حصافة واستحكام في العقل كما قال بعضهم، فكأن الأول وصف بقوّة الفعل، وهذا وصف بقوّة النظر والعقل لكن قيل: إن ذاك بيان لما وضع له اللفظ فإن العرب تقول لكل قوي العقل والرأي ذُو مِرَّةٍ من أمررت الحبل إذا أحكمت فتله وإلا فوصف الملك بمثله غير ظاهر فهو كناية عن ظهور الآثار البديعة، وعن سعيد بن المسيب ذو حكمة لأن كلام الحكماء متين، وروي الطستي أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس عنه فقال: ذو شدة في أمر الله عز وجل واستشهد له، وحكى الطيبي عنه أنه قال: ذو منظر حسن واستصوبه الطبري، وفي معناه قول مجاهد ذو خلق حسن: وهو في قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوى» بمعنى ذي قوة، وفي الكشف إن المرّة لأنها في الأصل تدل على المرة بعد المرة تدل على زيادة القوة فلا تغفل فَاسْتَوى أي فاستقام على صورته الحقيقية التي خلقه الله تعالى عليها وذلك عند حراء في مبادئ النبوة وكان له عليه الصلاة والسلام- كما في حديث أخرجه الإمام أحمد وعبد بن حميد وجماعة عن ابن مسعود- ستمائة جناح كل جناح منها يسد الأفق فالاستواء هاهنا بمعنى اعتدال الشيء في ذاته كما قال الراغب، وهو المراد بالاستقامة لا ضد الاعوجاج، ومنه استوى الثمر إذا نضج، وفي كلام على ما قال الخفاجي: طي لأن وصفه عليه السلام بالقوة وبعض صفات البشر يدل على أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رآه في غير هيئته الحقيقية وهذا تفصيل لجواب سؤال مقدر كأنه قيل: فهل رآه على صورته الحقيقية؟ فقيل: نعم رآه فاستوى إلخ، وفي الإرشاد أنه عطف على علمه بطريق التفسير فإنه إلى قوله تعالى: ما أَوْحى بيان لكيفية التعليم، وتعقب بأن الكيفية غير منحصرة فيما ذكر، ومن هنا قيل: إن الفاء للسببية فإن تشكله عليه السلام بشكله يتسبب عن قوته وقدرته على الخوارق أو عاطفة على عَلَّمَهُ على معنى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 47 علمه على غير صورته الأصلية، ثم استوى على صورته الأصلية وتعقب بأنه لا يتم به التئام الكلام ويحسن به النظام، وقيل: استوى بمعنى ارتفع والعطف على علم، والمعنى ارتفع إلى السماء بعد أن علمه وأكثر الآثار تقتضي ما تقدم. وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى أي الجهة العليا من السماء المقابلة للناظر، وأصله الناحية وما ذكره أهل الهيئة معنى اصطلاحي وينقسم عندهم إلى حقيقي وغيره كما فصل في محله، وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس أن المراد به هنا مطلع الشمس وفي معناه قول الحسن: هو أفق المشرق، والجملة في موضع الحال من فاعل استوى، وقال الفراء والطبري: إن هو عطف على الضمير المستتر في استوى وهو عائد إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما أن ذلك عائد لجبرائيل عليه السلام، وجوز العكس، والجار متعلق باستوى وفيه العطف على الضمير المرفوع من غير فصل، وهو مذهب الكوفيين مع أن المعنى ليس عليه عند الأكثرين ثُمَّ دَنا أي ثم قرب جبريل عليه السلام من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فَتَدَلَّى فتعلق جبريل عليه عليه الصلاة والسلام في الهواء، ومنه تدلت الثمرة ودلى رجليه من السرير. والدوالي الثمر المعلق كعناقيد العنب وأنشدوا لأبي ذؤيب يصف مشتار عسل: تدلى عليها بين سب وخيطة ... بجرداء مثل الوكف يكبو غرابها ومن أسجاع ابنة الخس- كن حذرا كالقرلى إن رأى خيرا تدلى، وإن رأى شرا تولى- فالمراد بالتدلي دنو خاص فلا قلب ولا تأويل بإرادة الدنو كما في الإيضاح، نعم إن جعل بمعنى التنزل من علو كما يرشد إليه الاشتقاق كان له وجه فَكانَ أي جبريل عليه السلام من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قابَ قَوْسَيْنِ أي من قسي العرب لأن الإطلاق ينصرف إلى متعارفهم، والقاب، وكذا القيب والقاد والقيد، والقيس المقدار، وقرأ زيد بن علي قاد، وقرىء قيد وقدر، وقد جاء التقدير بالقوس كالرمح والذراع وغيرهما، ويقال على ما بين مقبض القوس وسيتها، وهي ما عطف من طرفيها فلكل قوس قابان، وفسر به هنا قيل: وفي الكلام عليه قلب أي فكان قابي قوس، وفي الكشف لك أن تقول قابا قوس وقاب قوسين واحد دون قلب، وعن مجاهد والحسن أن قاب القوس ما بين وترها ومقبضها ولا حاجة إلى القلب عليه أيضا فإن هذا على ما قال الخفاجي: إشارة إلى ما كانت العرب في الجاهلية تفعله إذا تحالفوا فإنهم كانوا يخرجون قوسين ويلصقون إحداهما بالأخرى فيكون القاب ملاصقا للآخر حتى كأنهما ذا قاب واحد ثم ينزعونهما معا ويرمون بهما سهما واحدا فيكون ذلك إشارة إلى أن رضا أحدهم رضا الآخر وسخطه سخطه لا يمكن خلافه، وعن ابن عباس القوس هنا ذراع يقاس به الأطوال وإليه ذهب أبو رزين، وذكر الثعلبي أنه من لغة الحجاز، وأيا ما كان فالمعنى على حذف مضاف- أي فكان ذا قاب قوسين- ونحوه قوله: فأدرك إبقاء العرادة ظلعها ... وقد جعلتني من خزيمة أصبعا فإنه على معنى ذا مقدار أصبع وهو القرب فكأنه قيل فكان قريبا منه، وجوز أن يكون ضمير كان للمسافة بتأويلها بالبعد ونحوه فلا حاجة الى اعتبار الحذف وليس بذاك أَوْ أَدْنى أي أو أقرب من ذلك، وأَوْ للشك من جهة العباد على معنى إذا رآه الرائي يقول: هو قاب قوسين أو أدنى، والمراد إفادة شدة القرب فَأَوْحى أي جبريل عليه السلام إِلى عَبْدِهِ أي عبد الله وهو النبي صلّى الله عليه وسلم، والإضمار ولم يجر له تعالى ذكر لكونه في غاية الظهور ومثله كثير في الكلام، ومنه وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فاطر: 45] وقوله سبحانه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1] ما أَوْحى أي الذي أوحاه والضمير المستتر لجبريل عليه السلام أيضا، وإبهام الموحى به للتفخيم فهذا نظير قوله تعالى: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ [طه: 78] وقال أبو زيد: الضمير المستتر لله عز وجل أي أوحى جبريل إلى عبد الله ما أوحاه الله إلى جبريل، والأول مروي عن الحسن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 48 وهو الأحسن، وقيل: ضمير (أوحى) الأول والثاني لله تعالى والمراد بالعبد جبريل عليه السلام وهو كما ترى ما كَذَبَ الْفُؤادُ أي فؤاد محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ما رَأى ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السلام أي ما قال فؤاده صلى الله تعالى عليه وسلم لما رآه ببصره لم أعرفك ولو قال ذلك لكان كاذبا لأنه عرفه بقلبه كما رآه ببصره فهو من قولهم كذب إذا قال كذبا فما كذب بمعنى ما قال الكذب، وقيل: أي ما كَذَبَ الْفُؤادُ البصر فيما حكاه له من صورة جبريل عليه السلام وما في عالم الملكوت تدرك أولا بالقلب ثم تنتقل منه إلى البصر. قرأ أبو رجاء وأبو جعفر وقتادة والجحدري وخالد بن الياس وهشام عن ابن عامر ما كَذَبَ مشددا أي صدقه ولم يشك أنه جبريل عليه السلام بصورته، وفي الآيات من تحقيق أمر الوحي ما فيها، وفي الكشف أنه لما قال سبحانه: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ أي من عند الله تعالى يُوحى ذكر جل وعلا ما يصور هذا المعنى ويفصله ليتأكد أنه وحي وأنه ليس من الشعر وحديث الكهان في شيء فقال تعالى علم صاحبكم هذا الوحي من هو على هذه الصفات، وقوله تعالى: فَاسْتَوى وحديث قيامه بصورته الحقيقية ليؤكد أن ما يأتيه في صورة دحية هو هو فقد رآه بصورة نفسه وعرفه حق معرفته فلا يشتبه عليه بوجه، وقوله تعالى: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى تتميم لحديث نزوله إليه عليه الصلاة والسلام وإتيانه بالمنزل، وقوله سبحانه: فَأَوْحى أي جبريل ذلك الوحي الذي مر أنه من عند الله تعالى إلى عبد الله وإنما قال سبحانه:- ما أوحى- ولم يأت بالضمير تفخيما لشأن المنزل وأنه شيء يجل عن الوصف فأنى يستجيز أحد من نفسه أن يقول إنه شعر أو حديث كاهن، وإيثار عبده بدل إليه أي إلى صاحبكم لإضافة الاختصاص وإيثار الضمير على الاسم العلم في هذا المقام لترشيحه وأنه ليس عبدا إلا له عز وجل فلا لبس لشهرته بأنه عبد الله لا غير، وجاز أن يكون التقدير فأوحى الله تعالى بسببه أي بسبب هذا المعلم إلى عبده ففي الفاء دلالة على هذا المعنى وهذا وجه أيضا سديد، ثم قال سبحانه: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى على معنى أنه لما عرفه وحققه لم يكذبه فؤاده بعد ذلك ولو تصور بغير تلك الصورة إنه جبريل، فهذا نظم سري مرعي فيه النكت حق الرعاية مطابق للوجود لم يعدل به عن واجب الوفاق بين البداية والنهاية انتهى. وهو كلام نفيس يرجح به ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنه وسيأتي ذلك إن شاء الله عز وجل بما له وعليه أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى أي أتكذبونه فتجادلونه على ما يراه معاينة فتمارونه عطف على محذوف على ما ذهب إليه الزمخشري من المراء وهو المجادلة واشتقاقه من مرى الناقة إذا مسح ظهرها وضرعها ليخرج لبنها وتدرّ به فشبه به الجدال لأن كلا من المتجادلين يطلب الوقوف على ما عند الآخر ليلزمه الحجة فكأنه يستخرج درّه. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وعبد الله وابن عباس والجحدري ويعقوب وابن سعدان وحمزة والكسائي وخلف «أفتمرونه» بفتح التاء وسكون الميم مضارع مريت أي جحدت يقال: مريته حقه إذا جحدته، وأنشدوا لذلك قول الشاعر: لئن هجرت أخا صدق ومكرمة ... لقد مريت أخا ما كان يمريكا أو مضارع مريته إذا غلبته في المراء على أنه من باب المغالبة، ويجوز حمل ما في البيت عليه وعدي الفعل بعلى وكان حقه أن يعدى بفي لتضمينه معنى المغالبة فإن المجادل والجاحد يقصدان بفعلهما غلبة الخصم، وقرأ عبد الله فيما حكى ابن خالويه والشعبي فيما ذكر شعبة «أفتمرونه» بضم التاء وسكون الميم مضارع أمريت قال أبو حاتم: وهو غلط، والمراد بما يرى ما رآه من صورة جبريل عليه السلام، وعبر بالمضارع استحضارا للصورة الماضية لما فيها من الغرابة، وفي البحر جيء بصيغة المضارع وإن كانت الرؤية قد مضت إشارة إلى ما يمكن حدوثه بعد، وقيل: المراد الجزء: 14 ¦ الصفحة: 49 أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى من الصور التي يظهر بها جبريل عليه السلام بعد ما رآه قبل وحققه بحيث لا يشتبه عليه بأي صورة ظهر فالتعبير بالمضارع على ظاهره وَلَقَدْ رَآهُ أي رأى النبي جبريل صلّى الله عليه وسلم في صورته التي خلقه الله تعالى عليها نَزْلَةً أُخْرى أي مرة أخرى من النزول وهي فعلة من النزول أقيمت مقام المرة ونصب نصبها على الظرفية لأن أصل المرة مصدر مرّ يمر ولشدة اتصال الفعل بالزمان يعبر به عنه ولم يقل مرة بدلها ليفيد أن الرؤية في هذه المرة كانت بنزول ودنو كالرؤية في المرة الأولى الدال عليها ما مر، وقال الحوفي وابن عطية: إن نزلة منصوب على المصدرية للحال المقدرة أي نازلا نزلة، وجوز أبو البقاء كونه منصوبا على المصدرية- لرأى- من معناه أي رؤية أخرى وفيه نظر، والمراد من الجملة القسمية نفي الريبة والشك عن المرة الأخيرة وكانت ليلة الإسراء عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى هي شجرة نبق عن يمين العرش في السماء السابعة على المشهور، وفي حديث أخرجه أحمد ومسلم والترمذي وغيرهم في السماء السادسة نبقها كقلال هجر وأوراقها مثل آذان الفيلة يسير الراكب في ظلها سبعين عاما لا يقطعها، وأخرج الحاكم وصححه عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما مرفوعا «يسير الراكب في الفنن منها مائة سنة» والأحاديث ظاهرة في أنها شجرة نبق حقيقية. والنبات في الشاهد يكون ترابيا ومائيا وهوائيا ولا يبعد من الله تعالى أن يخلقه في أي مكان شاء وقد أخبر سبحانه عن شجرة الزقوم أنها تنبت في أصل الجحيم، ويقيل: إطلاق السدرة عليها مجاز لأنها تجتمع عندها الملائكة عليهم السلام كما يجتمع الناس في ظل السدرة، والْمُنْتَهى اسم مكان وجوز كونه مصدرا ميميا، وقيل: لها سِدْرَةِ الْمُنْتَهى لأنها كما أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس إليها ينتهي علم كل عالم وما وراءها لا يعلمه إلا الله تعالى، أو لأنها ينتهي إليها علم الأنبياء عليهم السلام ويعزب علمهم عما وراءها. أو لأنها تنتهي إليها أعمال الخلائق بأن تعرض على الله تعالى عندها أو لأنها ينتهي إليها ما ينزل من فوقها وما يصعد من تحتها. أو لأنها تنتهي إليها أرواح الشهداء أو أرواح المؤمنين مطلقا. أو لانتهاء من رفع إليها في الكرامة، وفي الكشاف كأنها منتهى الجنة وآخرها، وإضافة سِدْرَةِ إلى الْمُنْتَهى من إضافة الشيء لمحله كما في أشجار البستان، وجوز أن تكون من إضافة المحل إلى الحال كما في قولك كتاب الفقه، وقيل: يجوز أن يكون المراد بالمنتهى الله عز وجل فالإضافة من إضافة الملك إلى المالك أي سِدْرَةِ الله الذي إليه الْمُنْتَهى كما قال سبحانه: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النجم: 42] وعد ذلك من باب الحذف والإيصال ولا يخفى أن هذا القول يكاد يكون المنتهى في البعد عِنْدَها أي عند السدرة، وجوز أن يكون الضمير للنزلة وهو نازل عن رتبة القبول جَنَّةُ الْمَأْوى التي يأوي إليها المتقون يوم القيامة كما روي عن الحسن، واستدل به على أن الجنة في السماء، وقال ابن عباس بخلاف عنه وقتادة: هي جنة تأوي إليها أرواح الشهداء وليست بالتي وعد المتقون، وقيل: هي جنة تأوي إليها الملائكة عليهم السلام والأول أظهر، والمأوى على ما نص عليه الجمهور اسم مكان وإضافة الجنة إليه بيانية، وقيل: من إضافة الموصوف إلى الصفة كما في مسجد الجامع، وتعقب بأن اسم المكان لا يوصف به، والجملة حالية، وقيل: الحال هو الظرف، وجَنَّةُ مرتفع به على الفاعلية، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وأبو الدرداء وأبو هريرة وابن الزبير وأنس وزر ومحمد بن كعب وقتادة: «جنه» بهاء الضمير وهو ضمير النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وجن فعل ماض أي عندها ستره إيواء الله تعالى: وجميل صنعه به، أو ستره المأوى بظلاله ودخل فيه على أن الْمَأْوى مصدر ميمي، أو اسم مكان، وجنه بمعنى ستره، قال أبو البقاء: شاذ والمستعمل أجنه، ولهذا قالت عائشة رضي الله تعالى عنها وكذا جمع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين: من قرأ به فأجنه الله تعالى أي جعله مجنونا أو أدخله الجنن وهو القبر، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 50 وأنت تعلم أنه إذا صح أنه قرأ به الأمير كرم الله تعالى وجهه ومن معه من أكابر الصحابة فليس لأحد رده من حيث الشذوذ في الاستعمال، وعائشة قد حكي عنها الاجازة أيضا. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى متعلق برآه: وقيل: بما بعد من الجملة المنفية ولا يضر التقدم على ما النافية للتوسع في الظرف. والغشيان بمعنى التغطية والستر، ومنه الغواشي أو بمعنى الإتيان يقال فلان يغشى زيدا كل حين أي يأتيه. والأول هو الأليق بالمقام، وفي إبهام ما يَغْشى من التفخيم ما لا يخفى فكأن الغاشي أمر لا يحيط به نطاق البيان ولا تسعه أردان الأذهان، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية استحضارا لصورتها البديعة، وجوز أن يكون للإيذان باستمرار الغشيان بطريق التجدد، وورد في بعض الأخبار تعيين هذا الغاشي، فعن الحسن غشيها نور رب العزة جل شأنه فاستنارت. ونحوه ما روي عن أبي هريرة يغشاها نور الخلاق سبحانه، وعن ابن عباس غشيها رب العزة وجل وهو من المتشابه، وقال ابن مسعود ومجاهد وإبراهيم: يغشاها جراد من ذهب، وروي عن مجاهد أن ذلك تبدل أغصانها لؤلؤا وياقوتا وزبرجدا. وأخرج عبد بن حميد عن سلمة قال: استأذنت الملائكة الرب تبارك وتعالى أن ينظروا إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فأذن له فغشيت الملائكة السدرة لينظروا إليه عليه الصلاة والسلام، وفي حديث «رأت على كل ورقة من ورقها ملكا قائما يسبح الله تعالى» وقيل: يغشاها رفرف من طير خضر، والإبهام على هذا كله على نحو ما تقدم. ما زاغَ الْبَصَرُ أي ما مال بصر رسول الله صلى الله تعالى عليه عما رآه وَما طَغى وما تجاوزه بل أثبته إثباتا صحيحا مستيقنا، وهذا تحقيق للأمر ونفي للريب عنه، أو ما عدل عن رؤية العجائب التي أمر برؤيتها وما جاوزها إلى ما لم يؤمر برؤيته. لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى أي والله رأى الآيات الكبرى من آياته تعالى وعجائبه الملكية والملكوتية ليلة المعراج- فالكبرى- صفة موصوف محذوف مفعول لرأى أقيمت مقامه معد حذفه وقدر مجموعا ليطابق الواقع، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 51 وجوّز أن تكون الْكُبْرى صفة المذكور على معنى، ولَقَدْ رَأى بعضا من الآيات الكبرى، ورجح الأول بأن المقام يقتضي التعظيم والمبالغة فينبغي أن يصرح بأن المرئي الآيات الكبرى وجوزت الوصفية المذكورة مع كون من مزيدة، وأنت تعلم أن زيادة من في الإثبات ليس مجمعا على جوازه، وجاء في بعض الأخبار تعيين ما رأى عليه الصلاة والسلام، أخرج البخاري، وابن جرير وابن المنذر وجماعة عن ابن مسعود أنه قال في الآية رأى رفرفا أخضر من الجنة قد سد الأفق. وعن ابن زيد رأى جبريل عليه السلام في الصورة التي هو بها، والذي ينبغي أن لا يحمل ذلك على الحصر كما لا يخفى فقد رأى عليه الصلاة والسلام آيات كبرى ليلة المعراج لا تحصى ولا تكاد تستقصى «هذا وفي الآيات» أقوال غير ما تقدم، فعن الحسن أن شَدِيدُ الْقُوى هو الله تعالى، وجمع الْقُوى للتعظيم ويفسر ذُو مِرَّةٍ عليه بذي حكمة ونحوه مما يليق أن يكون وصفا له عز وجل، وجعل أبو حيان الضميرين في قوله تعالى: فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى عليه له سبحانه أيضا. وقال: إن ذلك على معنى العظمة والقدرة السلطان، ولعل الحسن يجعل الضمائر في قوله سبحانه: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى له عز وجل أيضا، وكذا الضمير المنصوب في قوله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى فقد كان عليه الرحمة يحلف بالله تعالى، لقد رأى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ربه وفسر دنوه تعالى من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم برفع مكانته صلّى الله عليه وسلم عنده سبحانه وتدليه جل وعلا بجذبه بشراشره إلى جانب القدس، ويقال لهذا الجذب: الفناء في الله تعالى عند المتألهين، وأريد بنزوله سبحانه نوع من دنوه المعنوي جل شأنه. ومذهب السلف في مثل ذلك إرجاع علمه إلى الله تعالى بعد نفي التشبيه، وجوز أن تكون الضمائر في دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى على ما روي عن الحسن للنبي صلّى الله عليه وسلم، والمراد ثم دنا النبي عليه الصلاة والسلام من ربه سبحانه فكان منه عز وجل قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى والضمائر في فَأَوْحى إلخ لله تعالى، وقيل: إِلى عَبْدِهِ ولم يقل إليه للتفخيم، وأمر المتشابه قد علم، وذهب غير واحد في قوله تعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى إلى قوله سبحانه: وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى إلى أنه في أمر الوحي وتلقيه من جبريل عليه السلام على ما سمعت فيما تقدم، وفي قوله تعالى: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى إلخ إلى أنه في أمر العروج إلى الجناب الأقدس ودنوه سبحانه منه صلى الله تعالى عليه وسلم ورؤيته عليه السلام إياه جل وعلا فالضمائر في دَنا و (تدلى) و (كان) وأَوْحى وكذا الضمير المنصوب في رَآهُ لله عز وجل، ويشهد لهذا ما في حديث أنس عند البخاري من طريق شريك بن عبد الله ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله حتى جاء سدرة المنتهى ودنا الجبار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى فأوحى إليه فيما أوحى خمسين صلاة» الحديث ، فإنه ظاهر فيما ذكر. واستدل بذلك مثبتو الرؤية كحبر الأمة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره، وادعت عائشة رضي الله تعالى عنها خلاف ذلك، أخرج مسلم عن مسروق قال: «كنت متكئا عند عائشة فقالت: يا أبا عائشة ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله تعالى الفرية قلت ما هن؟ قالت: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، قال: وكنت متكئا فجلست فقلت: يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني ألم يقل الله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ [التكوير: 23] وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى؟ فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: لا إنما هو جبريل لم أره على صورته الذي خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض، الحديث ، وفي رواية ابن مردويه من طريق أخرى عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق «فقالت: أنا أول من سأل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن هذا فقلت: يا رسول الله هل رأيت ربك؟ فقال: إنما رأيت الجزء: 14 ¦ الصفحة: 52 جبريل منهبطا» ولا يخفى أن جواب رسول الله عليه الصلاة والسلام ظاهر في أن الضمير المنصوب في رَآهُ ليس راجعا إليه تعالى بل إلى جبريل عليه السلام، وشاعر أنها تنفي أن يكون صلى الله تعالى عليه وسلم رأى ربه سبحانه مطلقا، وتستدل لذلك بقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ [الأنعام: 103] وقوله سبحانه وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا [الشورى: 51] وهو ظاهر ما ذكره البخاري في صحيحه في تفسير هذه السورة، وقال بعضهم: إنها إنما تنفي رؤية تدل عليها الآية التي نحن فيها وهي التي احتج بها مسروق. وحاصل ما روي عنها نفي صحة الاحتجاج بالآية المذكورة على رؤيته عليه الصلاة والسلام ربه سبحانه ببيان أن مرجع الضمير فيها إنما هو جبريل عليه السلام على ما يدل عليه جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، وحمل قوله صلى الله تعالى عليه وسلم في جوابها «لا» على أنه نفي للرؤية المخصوصة وهي التي يظن دلالة الآية عليها ويرجع إلى نفي الدلالة ولا يلزم من انتفاء الخاص انتفاء المطلق، والإنصاف أن الاخبار ظاهرة في أنها تنفي الرؤية مطلقا، وتستدل عليه بالآيتين السابقتين، وقد أجاب عنهما مثبتو الرؤية بما هو مذكور في محله، والظاهر أن ابن عباس لم يقل بالرؤية إلا عن سماع، وقد أخرج عنه أحمد أنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: رأيت ربي» ذكره الشيخ محمد الصالحي الشامي تلميذ الحافظ السيوطي في الآيات البينات وصححه، وجمع بعضهم بين قولي ابن عباس وعائشة بأن قول عائشة محمول على نفي رؤيته تعالى في نوره الذي هو نوره المنعوت بأنه لا يقوم له بصر، وقول ابن عباس محمول على ثبوت رؤيته تعالى في نوره الذي لا يذهب بالأبصار بقرينة قوله في جواب عكرمة عن قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ: ويحك ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره، وبه يظهر الجمع بين حديثي أبي ذر، أخرج مسلم من طريق يزيد بن إبراهيم عن قتادة عن عبد الله بن شقيق عن ابن ذر قال: سألت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال: «نوراني أراه» ومن طريق هشام وهمام كلاهما عن قتادة عن عبد الله قال: قلت لأبي ذر لو رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لسألته فقال: عن أي شيء كنت تسأله؟ قال: كنت أسأله هل رأيت ربك؟ فقال أبو ذر: قد سألته فقال: «رأيت نورا» فيحمل النور في الحديث الأول على النور القاهر للأبصار بجعل التنوين للنوعية أو للتعظيم، والنور في الثاني على ما لا يقوم له البصر والتنوين للنوعية، وإن صحت رواية الأول كما حكاه أبو عبد الله المازري بلفظ «نوراني» بفتح الراء وكسر النون وتشديد الياء لم يكن اختلاف بين الحديثين ويكون نوراني بمعنى المنسوب إلى النور على خلاف القياس ويكون المنسوب إليه هو نوره الذي هو نوره، والمنسوب هو النور المحمول على الحجاب حمل مواطأة في حديث السبحات في قوله عليه الصلاة والسلام: «حجابه النور» وهو النور المانع من الإحراق الذي يقوم له البصر. ثم إن القائلين بالرؤية اختلفوا، فمنهم من قال: إنه عليه الصلاة والسلام رأى ربه سبحانه بعينه، وروى ذلك ابن مردويه عن ابن عباس، وهو مروي أيضا عن ابن مسعود وأبي هريرة وأحمد بن حنبل، ومنهم من قال: رآه عز وجل بقلبه، وروي ذلك عن أبي ذر، أخرج النسائي عنه أنه قال: «رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ربه بقلبه ولم يره ببصره» وكذا روي عن محمد بن كعب القرظي بل أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أنه قال قالوا: يا رسول الله رأيت ربك؟ قال: «رأيته بفؤادي مرتين ولم أره بعيني ثم قرأ ما كذب الفؤاد ما رأى» وفي حديث عن ابن عباس يرفعه «فجعل نور بصري في فؤادي فنظرت اليه بفؤادي» وكأن التقدير في الآية على هذا ما كَذَبَ الْفُؤادُ فيما رَأى، ومنهم من ذهب إلى أن إحدى الرؤيتين كانت بالعين والأخرى بالفؤاد وهي رواية عن ابن عباس، أخرج الطبراني وابن مردويه الجزء: 14 ¦ الصفحة: 53 عنه أنه قال: إن محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم رأى ربه عز وجل مرتين مرة ببصره ومرة بفؤاده ونقل القاضي عياض عن بعض مشايخه أنه توقف أي في الرؤية بالعين، وقال: إنه ليس عليه دليل واضح قال في الكشف: لأن الروايات مصرحة بالرؤية أما أنها بالعين فلا، وعن الإمام أحمد أنه كان يقول: إذا سئل عن الرؤية رآه رآه حتى ينقطع نفسه ولا يزيد على ذلك وكأنه لم يثبت عنده ما ذكرناه، واختلف فيما يقتضيه ظاهر النظم الجليل فجزم صاحب الكشف بأنه ما عليه الأكثرون من أن الدنو والتدلي مقسم ما بين النبي وجبريل صلاة الله تعالى وسلامه عليهما أي وأن المرئي هو جبريل عليه السلام، وإذا صح خبر جوابه عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله تعالى عنها لم يكن لأحد محيص عن القول به، وقال العلامة الطيبي: الذي يقتضيه النظم إجراء الكلام إلى قوله تعالى: وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى على أمر الوحي وتلقيه من الملك ورفع شبه الخصوم، ومن قوله سبحانه: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى إلى قوله سبحانه: مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى على أمر العروج إلى الجناب الأقدس، ثم قال: ولا يخفى على كل ذي لب إباء مقام فَأَوْحى الحمل على أن جبريل أوحى إلى عبد الله ما أَوْحى إذ لا يذوق منه أرباب القلوب إلا معنى المناغاة بين المتسارين وما يضيق عنه بساط الوهم ولا يطيقه نطاق الفهم، وكلمة ثُمَّ على هذا للتراخي الرتبي والفرق بين الوحيين أن أحدهما وحي بواسطة وتعليم، والآخر بغير واسطة بجهة التكريم فيحصل عنه عنده الترقي من مقام وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات: 164] إلى مخدع قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى وعن جعفر الصادق عليه الرضا أنه قال: لما قرب الحبيب غاية القرب نالته غاية الهيبة فلاطفه الحق سبحانه بغاية اللطف لأنه لا تتحمل غاية الهيبة إلا بغاية اللطف ، وذلك قوله تعالى: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى أي كان ما كان وجرى ما جرى قال الحبيب للحبيب ما يقول الحبيب لحبيبه وألطف به إلطاف الحبيب بحبيبه وأسر إليه ما يسر الحبيب إلى حبيبه فأخفيا ولم يطلعا على سرهما أحدا وإلى نحو هذا يشير ابن الفارض بقوله: ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا ... سرّ أرق من النسيم إذا سرى ومعظم الصوفية على هذا فيقولون بدنو الله عز وجل من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ودنوه منه سبحانه على الوجه اللائق وكذا يقولون بالرؤية كذلك، وقال بعضهم في قوله تعالى: ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى: ما زاغ بصر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وما التفت إلى الجنة ومزخرفاتها ولا إلى الجحيم وزفراتها بل كان شاخصا إلى الحق وَما طَغى عن الصراط المستقيم، وقال أبو حفص السهروردي: ما زاغ البصر حيث لم يختلف عن البصيرة ولم يتقاصر وَما طَغى لم يسبق البصر البصيرة ويتعدى مقامه، وقال سهل بن عبد الله التستري: لم يرجع رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى شاهد نفسه وإلى مشاهدتها وإنما كان مشاهدا لربه تعالى يشاهد ما يظهر عليه من الصفات التي أوجبت الثبوت في ذلك المحل، وأرجع بعضهم الضمير في قوله تعالى: وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهو منتهى وصول اللطائف، وفسر سِدْرَةِ الْمُنْتَهى بما يكون منتهى سير السالكين إليه ولا يمكن لهم مجاوزته إلا بجذبة من جذبات الحق، وقالوا في قابَ قَوْسَيْنِ ما قالوا وأنا أقول برؤيته صلى الله تعالى عليه وسلم ربه سبحانه وبدنوه منه سبحانه على الوجه اللائق ذهب فيما اقتضاه ظاهر النظم الجليل إلى ما قاله صاحب الكشف أم ذهبت فيه إلى ما قاله الطيبي فتأمل والله تعالى الموفق. أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى هي أصنام كانت لهم فاللات كما قال قتادة: لثقيف بالطائف، وأنشدوا: وفرت ثقيف إلى لاتها ... بمنقلب الخائب الخاسر الجزء: 14 ¦ الصفحة: 54 وقال أبو عبيدة وغيره: كان بالكعبة، وقال ابن زيد: كان بنخلة عند سوق عكاظ يعبده قريش، ورجح ابن عطية قول قتادة، وقال أبو حيان: يمكن الجمع بأن يكون المسمى بذلك أصناما فأخبر عن كل صنم بمكانه، والتاء فيه قيل: أصلية وهي لام الكلمة كالباء في باب، وألفه منقلبة فيما يظهر من ياء لأن مادة «ل ي ت» موجودة فإن وجدت مادة «ل وت» جاز أن تكون منقلبة من واو، وقيل: تاء العوض، والأصل لوية بزنة فعلة من لوى لأنهم كانوا يلوون عليه ويعتكفون للعبادة، أو يلتوون عليه أي يطوفون فخفف بحذف الياء وأبدلت واوه ألفا، وعوض عن الياء تاء فصارت كتاء أخت وبنت، ولذا وقف عليها بالتاء، وقرأ ابن عباس ومجاهد ومنصور بن المعتمر وأبو صالح وطلحة وأبو الجوزاء ويعقوب وابن كثير في رواية بتشديد التاء على أنه اسم فاعل من لت يلت إذا عجن قيل: كان رجل يلت السويق للحاج على حجر فلما مات عبدوا ذلك الحجر إجلالا له وسموه بذلك، وعن مجاهد أنه كان على صخرة في الطائف يصنع حيسا ويطعم من يمرّ من الناس فلما مات عبدوه، وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أنه كان يلت السويق على الحجر فلا يشرب منه أحد إلا سمن فعبدوه، وأخرج الفاكهي عنه أنه لما مات قال لهم عمرو بن لحي: إنه لم يمت ولكنه دخل الصخرة فعبدوها وبنوا عليها بيتا، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال: كان رجل من ثقيف يلت السويق بالزيت فلما توفي جعلوا قبره وثنا، وزعم الناس أنه عامر بن الظرب أحد عدوان، وقيل: غير ذلك وَالْعُزَّى لغطفان وهي على المشهور سمرة بنخلة- كما قال قتادة- وأصلها ثأنيث الأعز، وأخرج النسائي وابن مردويه عن أبي الطفيل قال: «لما فتح رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة وكانت بها العزى فأتاها خالد وكانت ثلاث سمرات فقطع السمرات وهدم البيت الذي كان عليها ثم أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره فقال: ارجع فإنك لم تصنع شيئا فرجع خالد فلما أبصرته السدنة مضوا وهم يقولون يا عزى يا عزى فأتاها فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحثو التراب على رأسها فجعل يضربها بالسيف حتى قتلها ثم رجع إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره فقال عليه الصلاة والسلام: تلك العزى» وفي رواية أنه صلى الله تعالى عليه وسلم بعث إليها خالدا فقطعها فخرجت منه شيطانة ناشرة شعرها داعية ويلها واضعة يدها على رأسها فضربها بالسيف حتى قتلها وهو يقول: يا عز كفرانك لا سبحانك إني رأيت الله قد أهانك ورجع فأخبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: «تلك العزى ولن تعبد أبدا» وقال ابن زيد: كانت العزى بالطائف، وقال أبو عبيدة: كان بالكعبة، وأيده في البحر بقول أبي سفيان في بعض الحروب للمسلمين لنا العزى ولا عزى لكم، وذكر فيه أنه صنم وجمع بمثل ما تقدم، وَمَناةَ قيل: صخرة كانت لهذيل وخزاعة، وعن ابن عباس لثقيف، وعن قتادة للأنصار بقديد، وقال أبو عبيدة: كانت بالكعبة أيضا، واستظهر أبو حيان أنها ثلاثتها كانت فيها قال: لأن المخاطب في قوله تعالى: أفرأيتم قريش؟ وفيه بحث، ومناة مقصورة قيل: وزنها فعلة، وسميت بذلك لأن دماء النسائك كانت تمنى عندها أي تراق، وقرأ ابن كثير على ما في البحر مناءة بالمد والهمزة كما في قوله: ألا هل أتى تيم بن عبد مناءة ... على النأي فيما بيننا ابن تميم ووزنها مفعلة فالألف منقلبة عن واو كما في مقالة، والهمزة أصل وهي مشتقة من النوء كأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركا بها، والظاهر أن الثَّالِثَةَ الْأُخْرى صفتان لمناة وهما على ما قيل: للتأكيد فإن كونها ثالثة وأخرى مغايرة لما تقدمها معلوم غير محتاج للبيان، وقال بعض الأجلة: الثَّالِثَةَ للتأكيد، والْأُخْرى للذم بأنها الجزء: 14 ¦ الصفحة: 55 متأخرة في الرتبة وضيعة المقدار، وتعقبه أبو حيان بأن آخر ومؤنثه أخرى لم يوضعا لذم ولا لمدح وإنما يدلان على معنى غير، والحق أن ذلك باعتبار المفهوم الأصلي وهي تدل على ذم السابقتين أيضا قال في الكشف: هي اسم ذم يدل على وضاعة السابقتين بوجه أيضا لأن «أخرى» تأنيث آخر تستدعي المشاركة مع السابق فإذا أتى بها لقصد التأخر في الرتبة عملا بمفهومها الأصلي إذ لا يمكن العمل بالمفهوم العرفي لأن السابقتين ليستا ثالثة أيضا استدعت المشاركة فضاء لحق التفضيل، وكأنه قيل: الْأُخْرى في التأخر انتهى وهو حسن، وذكر في نكتة ذم مناة بهذا الذم أن الكفرة كانوا يزعمون أنها أعظم الثلاثة فأكذبهم الله تعالى بذلك. وقال الإمام: الْأُخْرى صفة ذم كأنه قال سبحانه: وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الذليلة وذلك لأن اللات كان على صورة آدمي وَالْعُزَّى صورة نبات وَمَناةَ صورة صخرة، فالآدمي أشرف من النبات، والنبات أشرف من الجماد- فالجماد متأخر- ومناة جماد فهي أخريات المراتب، وأنت تعلم أنه لا يتأتى على كل الأقوال، وقيل: الْأُخْرى صفة للعزى لأنها ثانية اللات، والثانية يقال لها الْأُخْرى وأخرت لموافقة رؤوس الآي، وقال الحسن بن المفضل: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير والعزى الأخرى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ ولعمري إنه ليس بشيء، والكلام خطاب لعبدة هذه المذكورات وقد كانوا مع عبادتهم لها يقولون: إن الملائكة عليهم السلام وتلك المعبودات الباطلة بنات الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا فقيل لهم توبيخا وتبكيتا: أَفَرَأَيْتُمُ إلخ والهمزة للإنكار والفاء لتوجيهه إلى ترتيب الرؤية على ما ذكر من شؤون الله تعالى المنافية لها غاية المنافاة وهي علمية عند كثير، ومفعولها الثاني على ما اختاره بعضهم محذوف لدلالة الحال عليه، فالمعنى أعقيب ما سمعتم من آثار كمال عظمة الله عز وجل في ملكه وملكوته وجلاله وجبروته وإحكام قدرته ونفاذ أمره رأيتم هذا الأصنام مع غاية حقارتها بنات الله سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى توبيخ مبني على ذلك التوبيخ ومداره تفضيل جانب أنفسهم على جنابه عز وجل حيث جعلوا له تعالى الإناث واختاروا لأنفسهم الذكور، ومناط الأول نفس تلك النسبة، وقيل: المعنى أَرايتم هذه الأصنام مع حقارتها وذلتها شركاء لله سبحانه مع ما تقدم من عظمته. وقيل: المعنى أخبروني عن آلهتكم هل لها شيء من القدرة والعظمة التي وصف بها رب العزة في الآي السابقة، وقيل: المعنى أظننتم أن هذه الأصنام التي تعبدونها تنفعكم وقيل المعنى أَفَرَأَيْتُمُ هذه الأصنام إن عبدتموها لا تنفعكم وإن تركتموها لا تضركم، ولا يخفى أن قوله تعالى: أَلَكُمُ إلخ لا يلتئم مع ما قبله على جميع هذه الأقوال التئامه على القول السابق، وقيل: إن قوله سبحانه: أَلَكُمُ إلخ في موضع المفعول الثاني للرؤية وخلوها عن العائد إلى المفعول الأول لما أن الأصل أخبروني أن اللات والعزى ومناة ألكم الذكر وله هن أي تلك الأصنام فوضع موضعها الأنثى لمراعاة الفواصل وتحقيق مناط التوبيخ وهو على تكلفه يقتضي اقتصار التوبيخ على ترجيح جانبهم الحقير الذليل على جناب الله تعالى العزيز الجليل من غير تعرض للتوبيخ على نسبة الولد إليه سبحانه، وفي الكشف وجه النظم الجليل أنه بعد ما صور أمر الوحي تصويرا تاما وحققه بأن ما يستمعه وحي لا شبهة فيه لأنه رأى الآتي به وعرفه حق المعرفة قال سبحانه: أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى [النجم: 12] على معنى أتلاحونه بعد هذه البيانات على ما يرى من الآيات المحققة لأنه على بينة من ربه سبحانه هاديا مهديا، وأنى يبقى للمراء مجال- وقد رآه نزلة أخرى.؟! وعرفه حق المعرفة، ثم قيل: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ إلخ تنبيها على أن ما عدّ منها فهو أيضا نفي للضلالة والغواية وتحقيق للدراية والهداية. وقوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ عطف على تمارونه وإدخال الهمزة لزيادة الإنكار والفاء لأن القول بأمثاله مسبب عن الطبع والعناد وعدم الإصغاء لداعي الحق، والمعنى أبعد هذا البيان تستمرون على ما أنتم عليه من المراء فترون اللات الجزء: 14 ¦ الصفحة: 56 والعزى ومناة أولادا له تعالى ثم أخسها وسد مسد المفعول الثاني قوله تعالى: أَلَكُمُ إلخ زيادة الإنكار فعلى هذا ليس أَفَرَأَيْتُمُ في معنى الاستخبار وجاز أن يكون في معناه على معنى أَفَتُمارُونَهُ فأخبروني هل لكم الذكر وله الأنثى، والقول مقدر أي فقل لهم أخبروني والمعنى هو كذا تهكما وتنبيها على أنه نتيجة مرائهم وأن من كان هذا معتقده فهو على الضلال الذي لا ضلال بعده ولا يبعد عن أمثاله نسبة الهادين المهديين إلى ما هو فيه من النقص انتهى، وما ذكره أولا أولى وهو ليس بالبعيد عما ذكرنا تِلْكَ إشارة إلى القسمة المنفهمة من الجملة الاستفهامية إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى أي جائرة حيث جعلتم له سبحانه ما تستنكفون منه وبذلك فسر ضيزى ابن عباس وقتادة، وفي معناه قول سفيان منقوصة، وابن زيد مخالفة، ومجاهد ومقاتل عوجاء، والحسن غير معتدلة، والظاهر أنه صفة، واختلف في يائه فقيل: منقلبة عن واو، وقيل: أصيلة، ووزنه فعلى بضم الفاء كحبلى وأنثى، ثم كسرت لتسلم الياء كما فعل ذلك في بيض جمع أبيض فإن وزنه فعل بضم الفاء كحمر ثم كسرت الفاء لما ذكر ومثله شائع، ولم يجعل وزنه فعلى بالكسر ابتداء لما ذهب إليه سيبويه من أن فعلى بالكسر لم يجىء عن العرب في الصفات وجعله بعضهم كذلك متمسكا بورود ذلك. فقد حكى ثعلب مشية حيكى، ورجل كيصى، وغيره امرأة عزهى وامرأة سعلى، ورد بأنه من النوادر والحمل على الكثير المطرد في بابه أولى، وأيضا يمكن أن يقال في حيكى وكيصى ما قيل في ضيزى ويمنع ورود عزهى وسعلى فإن المعروف عزهاة وسعلاة، وجوز أن يكون ضيزى فعلى بالكسر ابتداء على أنه مصدر كذكرى ووصف به مبالغة، ومجيء هذا الوصف في المصادر كما ذكر، والأسماء الجامدة كدفلى وشعرى، والجموع كحجلى كثير، وقرأ ابن كثير ضئزى بالهمز على أنه مصدر وصف به، وجوز أن يكون وصفا وهو مضموم عومل معاملة المعتل لانه يؤول إليه. وقرأ ابن زيد ضيزي بفتح الضاد وبالياء على أنه كدعوى أو كسكرى، ويقال ضؤزى بالواو والهمز وضم الفاء وقد حكى الكسائي ضأز يضأز ضأزا بالهمز وأنشد الأخفش: فإن تنأ عنها تقتنصك وإن تغب ... فسهمك مضؤوز وأنفك راغم والأكثر ضاز بلا همز في قول امرئ القيس: ضازت بنو أسد بحكمهم ... إذ يجعلون الرأس كالذنب وأنشده ابن عباس على تفسيره السابق إِنْ هِيَ الضمير للأصنام أي ما الأصنام باعتبار الألوهية التي تدعونها إِلَّا أَسْماءٌ محضة ليس فيها شيء ما أصلا من معنى الألوهية وقوله تعالى: سَمَّيْتُمُوها صفة للأسماء وضميرها لها لا للأصنام، والمعنى جعلتموها أسماء فان التسمية نسبة بين الاسم والمسمى فإذا قيست إلى الاسم فمعناها جعله اسما للمسمى وإن قيست إلى المسمى فمعناها جعله مسمى للاسم وإنما اختير هاهنا المعنى الاول من غير تعرض للمسمى لتحقيق أن تلك الأصنام التي يسمونها آلهة أسماء مجردة ليس لها مسميات قطعا كما في قوله سبحانه: ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً [يوسف: 40] الآية لا أن هناك مسميات لكنها لا تستحق التسمية، وقيل: هي للأسماء الثلاثة المذكورة حيث كانوا يطلقونها على تلك الأصنام لاعتقادهم أنها تستحق العكوف على عبادتها والإعزاز والتقرب إليها بالقرابين، وتعقب بأنه لو سلم دلالة الأسماء المذكورة على ثبوت تلك المعاني الخالصة للأصنام فليس في سلبها عنها مزيد فائدة بل إنما هي في سلب الألوهية عنها كما هو زعمهم المشهور في حق جميع الأصنام على وجه برهاني فإن انتفاء الوصف بطريق الأولوية أي ما هي شيء من الأشياء إلا أسماء خالية عن المسميات وضعتموها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ بمقتضى الأهواء الباطلة ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ برهان يتعلقون به إِنْ يَتَّبِعُونَ أي ما يتبعون فيما ذكر من التسمية والعمل بها إِلَّا الظَّنَّ إلا توهم أن ما هم عليه حق توهما باطلا، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 57 فالظن هنا مراد به التوهم وشاع استعماله فيه، ويفهم من كلام الراغب أن التوهم من أفراد الظن وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ أي والذي تشتهيه أنفسهم الأمارة بالسوء على أن ما موصولة وعائدها مقدر- وأل- في الأنفس للعهد، أو عوض عن المضاف إليه، وجوز كون ما مصدرية وكذا جوز كون- أل- للجنس والنفس من حيث هي إنما تهوى غير الأفضل لأنها مجبولة على حب الملاذ وإنما يسوقها إلى حسن العاقبة العقل، والالتفات في يَتَّبِعُونَ إلى الغيبة للإيذان بأن تعداد قبائحهم اقتضى الاعراض عنهم، وحكاية جناياتهم لغيرهم، وقرأ ابن عباس وابن مسعود وابن وثاب وطلحة والأعمش وعيسى بن عمر- تتبعون- بتاء الخطاب وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى حال من ضمير يَتَّبِعُونَ مقررة لبطلان ما هم عليه من اتباع الظن والهوى، والمراد بالهدى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم أو القرآن العظيم على أنه بمعنى الهادي أو جعله هدى مبالغة أي ما يتبعون إلا ذلك، والحال لقد جاءهم من ربهم جل شأنه ما ينبغي لهم معه تركه واتباع سبيل الحق. وحاصله يَتَّبِعُونَ ذلك في حال ينافيه، وجوز أن تكون الجملة معترضة وهي أيضا مؤكدة لبطلان ذلك أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى أَمْ منقطعة مقدرة- ببل- وهي للانتقال من بيان أن ما هم عليه غير مستند إلا إلى توهمهم وهوى أنفسهم إلى بيان أن ذلك مما لا يجدي نفعا أصلا والهمزة وهي للإنكار والنفي أي بل ليس للإنسان كل ما يتمناه وتشتهيه نفسه، ومفاده قيل: رفع الإيجاب الكلي ومرجعه إلى سالبه جزئية، وإليه يشير قول بعضهم: المراد نفي أن يكون للكفرة ما كانوا يطمعون فيه من شفاعة الآلهة والظفر بالحسنى عند الله تعالى يوم القيامة وما كانوا يشتهونه من نزول القرآن على رجل من إحدى القريتين عظيم ونحو ذلك، ويفهم من كلام بعض المحققين أن المراد السلب الكلي، والمعنى لا شيء مما يتمناه الإنسان مملوكا له مختصا به يتصرف فيه حسب إرادته ويتضمن ذلك نفي أن يكون للكفرة ما ذكر وليس الإنسان خاصا بهم كما قيل، وقوله تعالى: فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى تعليل لانتفاء ذلك فإن اختصاص ملك أمور الآخرة والأولى جميعا به تعالى مقتض لانتفاء أن يكون للإنسان أمر من الأمور بل ما شاء الله تعالى له كان وما لم يشأ لم يكن، وقدمت الآخرة اهتماما برد ما هو أهمّ أطماعهم عندهم من الفوز فيها، ولذا أردف ذلك بقوله تعالى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وإقناطهم عما طمعوا به من شفاعة الملائكة عليهم السلام موجب لاقناطهم عن شفاعة الأصنام بطريق الاولوية وَكَمْ خبرية مفيدة للتكثير محلها الرفع على الابتداء، والخبر الجملة المنفية، وجمع الضمير في شفاعتهم مع إفراد الملك باعتبار المعنى أي وكثير من الملائكة لا تغني شفاعتهم عند الله تعالى شيئا من الإغناء في وقت من الأوقات إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لهم في الشفاعة. لِمَنْ يَشاءُ أن يشفعوا له وَيَرْضى ويراه سبحانه أهلا للشفاعة من أهل التوحيد والإيمان، وأما من عداهم من أهل الكفر والطغيان فهم من إذن الله تعالى بمعزل. وعنه بألف ألف منزل، وجوز أن يكون المراد إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء من الملائكة بالشفاعة ويراه عز وجل أهلا لها، وأيا ما كان فالمعنى على أنه إذا كان حال الملائكة في باب الشفاعة كما ذكر فما ظنهم بحال الأصنام، والكلام قيل من باب: على لا حب لا يهتدى بمناره فحاصله لا شفاعة لهم ولا غناء بدون أن يأذن الله سبحانه إلخ، وقيل: هو وارد على سبيل الفرض فلا يخالف قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة: 255] ، وقرأ زيد بن علي شفاعته بإفراد الشفاعة والضمير، وابن مقسم شفاعاتهم بجمعهما وهو اختيار صاحب الكامل أبي القاسم الهذلي، وأفردت الجزء: 14 ¦ الصفحة: 58 الشفاعة في قراءة الجمهور قال أبو حيان: لأنها مصدر ولأنهم لو شفع جميعهم لواحد لم تغن شفاعتهم عنه شيئا إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وبما فيها من العقاب على ما يتعاطونه من الكفر والمعاصي لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ المنزهين عن سمات النقصان على الإطلاق تَسْمِيَةَ الْأُنْثى فإنهم كانوا يقولون الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى عما يقولون، والْمَلائِكَةَ في معنى استغراق المفرد فيكون التقدير ليسمون كل واحد من الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى أي يسمونه بنتا لأنهم إذا قالوا ذلك فقد جعلوا كل واحد منهم بنتا، فالكلام على وزان كسانا الأمير حلة أي كسا كل واحد منا حلة، والإفراد لعدم اللبس، ولذا لم يقل تسمية الإناث فلا حاجة إلى تأويل الأنثى بالإناث ولا إلى كون المراد الطائفة الأنثى، وما ذكر أولا قيل: مبني على أن تسمية الأنثى في النظم الجليل ليس نصبا على التشبيه وإلا فلا حاجة إليه أيضا، وفي تعليق التسمية بعدم الإيمان بالآخرة إشعار بأنها في الشناعة والفظاعة واستتباع العقوبة في الآخرة بحيث لا يجترئ عليها إلا من لا يؤمن بها رأسا، وقوله تعالى: وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ حال من فاعل (يسمون) وضمير به للمذكور من التسمية وبهذا الاعتبار ذكر، أو باعتبار القول أي يسمونهم إناثا، والحال أنهم لا علم لهم بما يقولون أصلا، وقرأ أبيّ بها أي بالتسمية، أو بالملائكة إِنْ يَتَّبِعُونَ أي ما يتبعون في ذلك إِلَّا الظَّنَّ أي التوهم الباطل وَإِنَّ الظَّنَّ أي جنس الظن كما يلوح به الإظهار في موقع الإضمار، وقيل: الإظهار ليستقل الكلام استقلال المثل. لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً من الإغناء فإن الحق الذي هو عبارة عن حقيقة الشيء وما هو عليه إنما يدرك إدراكا معتدا به إذا كان عن يقين لا عن ظن وتوهم فلا يعتدّ بالظن في شأن المعارف الحقيقية أعني المطالب الاعتقادية التي يلزم فيها الجزم ولو لم يكن عن دليل، وإنما يعتدّ به في العمليات وما يؤدي إليها. وفسر بعضهم الحق بالله عز وجل لقوله سبحانه: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ [الحج: 6، 62، لقمان: 30] ، واستدل بالآية من لم يعتبر التقليد في الاعتقاديات- وفيه بحث- والظاهرية على إبطاله مطلقا، وإبطال القياس ورده على أتم وجه في الأصول، وما أخرج ابن أبي حاتم عن أيوب قال: قال عمر بن الخطاب: احذروا هذا الرأي على الدّين فإنما كان الرأي من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مصيبا لأن الله تعالى كان يريه وإنما هو منا تكلف وظن وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً هو أحد أدلتهم على إبطال القياس أيضا، وقد حكى الآمدي في الأحكام نحوه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فقال: قال ابن عمر: اتهموا الرأي عن الدّين فإن الرأي منا تكلف وظن وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً وأجاب عنه بأن غايته الدلالة على احتمال الخطأ فيه وليس فيه ما يدل على إبطاله، وأن المراد بقوله: إِنَّ الظَّنَّ إلخ استعمال الظن في مواضع اليقين وليس المراد به إبطال الظن بدليل صحة العمل بظواهر الكتاب والسنة، ويقال نحو هذا في كلام عمر رضي الله تعالى عنه، وقد ذكر جملة من الآثار استدل بها المبطل على ما زعمه وردها كلها فمن أراد ذلك ليراجعه فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا أي عنهم ووضع الموصول موضع ضميرهم للتوسل به إلى وصفهم بما في حيز صلته من الأوصاف القبيحة، وتعليل الحكم بها أي فأعرض عمن أعرض عن ذكرنا المفيد للعلم الحق وهو القرآن العظيم. المنطوي على بيان الاعتقادات الحقة. المشتمل على علوم الأولين والآخرين. المذكر الآخرة وما فيها من الأمور المرغوب فيها والمرهوب عنها، والمراد بالإعراض عنه ترك الأخذ بما فيه وعدم الاعتناء به، وقيل: المراد بالذكر الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وبالإعراض عنه ترك الأخذ بما جاء به، وقيل: المراد به الإيمان، وقيل: هو على ظاهره والإعراض عنه كناية عن الغفلة عنه عز وجل وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا راضيا بها قاصرا نظره عليها جاهدا فيما يصلحها كالنضر بن الحارث. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 59 والوليد بن المغيرة، والمراد من الأمر المذكور النهي عن المبالغة في الحرص على هداهم كأنه قيل: لا تبالغ في الحرص على هدى من تولى عن ذكرنا وانهمك في الدنيا بحيث كانت منتهى همته وقصارى سعيه، وقوله تعالى: ذلِكَ أي أمر الحياة الدنيا المفهوم من الكلام ولذا ذكر اسم الإشارة، وقيل: أي ما أداهم إلى ما هم فيه من التولي وقصر الإرادة على الحياة الدنيا، وقيل: ذلك إشارة إلى الظن الذي يتبعونه، وقيل: إلى جعلهم الملائكة بنات الله سبحانه وكلا القولين كما ترى مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ أي منتهى علمهم لا علم لهم فوقه اعتراض مقرر لمضمون ما قبلها من قصر الإرادة على الحياة الدنيا. والمراد بالعلم مطلق الإدراك المنتظم للظن الفاسد، وضمير مَبْلَغُهُمْ- لمن- وجمع باعتبار معناه كما أن إفراده قبل باعتبار لفظه، وقوله سبحانه: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى تعليل للأمر بالإعراض، وتكرير قوله تعالى: هُوَ أَعْلَمُ لزيادة التقرير والإيذان بكمال تباين المعلومين، والمراد بِمَنْ ضَلَّ من أصر على الضلال ولم يرجع إلى الهدى أصلا، وبِمَنِ اهْتَدى من شأنه الاهتداء في الجملة، أي هو جل شأنه المبالغ في العلم بمن لا يرعوي عن الضلال أبدا، وبمن يقبل الاهتداء في الجملة لا غيره سبحانه فلا تتعب نفسك في دعوتهم ولا تبالغ في الحرص عليها فإنهم من القبيل الأول: وقوله تعالى: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي له ذلك على الوجه الأتم أي خلقا وملكا لا لغيره عز وجل أصلا لا استقلالا ولا اشتراكا، ويشعر بفعل يتعلق به قوله تعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا أي خلق ما فيهما ليجزي الضالين بعقاب ما عملوا من الضلال الذي عبر عنه بالإساءة بيانا لحاله أو بمثل ما عملوا، أو بسبب ما عملوا على أن الباء صلة الجزاء بتقدير مضاف أو للسببية بلا تقدير وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا أي اهتدوا بِالْحُسْنَى أي بالمثوبة الحسنى التي هي الجنة، أو بأحسن من أعمالهم أو بسبب الأعمال الحسنى تكميل لما قبل لأنه سبحانه لما أمره عليه الصلاة والسلام بالإعراض نفي توهم أن ذلك لأنهم يتركون سدى، وفي العدول عن ضمير ربك إلى الاسم الجامع ما ينبىء عن زيادة القدرة وأن الكلام مسوق لوعيد المعرضين وأن تسوية هذا الملك العظيم لهذه الحكمة فلا بدّ من ضال ومهتد، ومن أن يلقى كلّ ما يستحقه، وفيه أنه صلى الله تعالى عليه وسلم يلقى الحسنى جزاء لتبليغه وهم يلقون السوء أي جزاء لتكذيبهم، وكرر فعل الجزاء لإبراز كمال الاعتناء به والتنبيه على تباين الجزاءين. وجوز أن يكون معنى فَأَعْرِضْ إلخ لا تقابلهم بصنيعهم وكلهم إلى ربك إنه أعلم بك وبهم فيجزي كلا ما يستحقه، ولا يخفى ما في العدول عن الضميرين في «بمن ضل» «وبمن اهتدى» وجعل قوله تعالى: لِيَجْزِيَ على هذا متعلقا بما يدل عليه قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ إلخ أي ميز الضال عن المهتدي وحفظ أحوالهم لِيَجْزِيَ إلخ، وقوله سبحانه: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ جملة معترضة تؤكد حدث أنهم يجزون البتة ولا يهملون كأنه قيل: هو سبحانه أعلم بهم وهم تحت ملكه وقدرته، وجوز على ذلك المعنى أن يتعلق لِيَجْزِيَ بقوله تعالى: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ كما تقدم على تأكيد أمر الوعيد، أي- هو أعلم بهم- وإنما سوي هذا الملك للجزاء، ورجح بعضهم ذلك المعنى بالوجهين المذكورين على ما مرّ، وجوز في جملة لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ كونها حالا من فاعل أعلم سواء كان بمعنى عالم أو لا، وفي لِيَجْزِيَ تعلقه- بضل. واهتدى- على أن اللام للعاقبة أي هو تعالى أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ ليؤول أمره إلى أن يجزيه الله تعالى بعمله، وبِمَنِ اهْتَدى ليؤول أمره إلى أن يجزيه بالحسنى، ولا يخفى بعده، وأبعد منه بمراحل تعلقه بقوله سبحانه: لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ كما ذكره مكي، وقرأ زيد ابن علي- لنجزي- ونجزي بالنون فيهما الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ بدل من الموصول الثاني وصيغة الاستقبال الجزء: 14 ¦ الصفحة: 60 في صلته للدلالة على تجدد الاجتناب واستمراره أو بيان أو نعت أو منصوب على المدح أو مرفوع على أنه خبر محذوف والْإِثْمِ الفعل المبطئ عن الثواب وهو الذنب. وكبائره ما يكبر عقابه، وقرأ حمزة والكسائي وخلف- كبير الإثم- على إرادة الجنس، أو الشرك وَالْفَواحِشَ ما عظم قبحه من الكبائر فعطفه على ما تقدم من عطف الخاص على العام، وقيل: الفواحش والكبائر مترادفان إِلَّا اللَّمَمَ ما صغر من الذنوب وأصله ما قل قدره، ومنه لمة الشعر لأنها دون الوفرة، وفسره أبو سعيد الخدري بالنظرة والغمزة والقبلة وهو من باب التمثيل، وقيل: معناه الدنو من الشيء دون ارتكاب له من ألممت بكذا أي نزلت به وقاربته من غير مواقعة- وعليه قول الرماني- هو الهمّ بالذنب وحديث النفس دون أن يواقع، وقول ابن المسيب: ما خطر على القلب، وعن ابن عباس وابن زيد هو ما ألموا به من الشرك والمعاصي في الجاهلية قبل الإسلام، والآية نزلت لقول الكفار للمسلمين قد كنتم بالأمس تعملون أعمالنا فهي مثل قوله تعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [النساء: 23] على ما في البحر، وقيل: هو مطلق الذنب. وفي رواية عن ابن عباس أنه ما يلم به المرء في الحين من الذنوب ثم يتوب، والمعظم على تفسيره بالصغائر والاستثناء منقطع، وقيل: إنه لا استثناء فيه أصلا، وإِلَّا صفة بمعنى غير إما لجعل المضاف إلى المعرف باللام الجنسية أعني كبائر الإثم في حكم النكرة، أو لأن غير وإِلَّا التي بمعناها قد يتعرفان بالإضافة كما في غَيْرِ الْمَغْضُوبِ [الفاتحة: 7] وتعقبه بعضهم بأن شرط جواز وقوع إِلَّا صفة كونها تابعة لجمع منكر غير محصور ولم يوجد هنا، ورد بأن هذا ما ذهب إليه ابن الحاجب، وسيبويه يرى جواز وقوعها صفة مع جواز الاستثناء فهو لا يشترط ذلك، وتبعه أكثر المتأخرين، نعم كونها هنا صفة خلاف الظاهر ولا داعي إلى ارتكابه، والآية عند الأكثرين دليل على أن المعاصي منها كبائر ومنها صغائر وأنكر جماعة من الأئمة هذا الانقسام وقالوا: سائر المعاصي كبائر، منهم الأستاذ أبو إسحاق الأسفرايني، والقاضي أبو بكر الباقلاني، وإمام الحرمين في الإرشاد، وتقي الدين السبكي وابن القشيري في المرشد بل حكاه ابن فورك عن الاشاعرة. واختاره في تفسيره فقال معاصي الله تعالى كلها عندنا كبائر وإنما يقال لبعضها صغيرة وكبيرة بالإضافة، وحكي الانقسام عند المعتزلة، وقال: إنه ليس بصحيح، وقال القاضي عبد الوهاب: لا يمكن أن يقال في معصية إنها صغيرة إلا على معنى أنها تصغر باجتناب الكبائر ويوافق ذلك ما رواه الطبراني عن ابن عباس لكنه منقطع أنه ذكر عنده الكبائر فقال: كل ما نهى الله تعالى عنه فهو كبيرة، وفي رواية كل شيء عصى الله تعالى فيه فهو كبيرة، والجمهور على الانقسام قيل: ولا خلاف في المعنى، وإنما الخلاف في التسمية، والإطلاق لإجماع الكل على أن من المعاصي ما يقدح في العدالة ومنها ما لا يقدح فيها وإنما الأولون فروا من التسمية فكرهوا تسمية معصية صغيرة لأنها بالنظر إلى باهر عظمته كبيرة أي كبيرة ولم ينظر الجمهور إلى ذلك لأنه معلوم وقسموها إلى ما ذكر لظواهر الآيات والأحاديث ولذلك قال الغزالي: لا يليق إنكار الفرق بين الكبائر والصغائر وقد عرفنا من مدارك الشرع، ثم القائلون بالفرق اختلفوا في حدّ الكبيرة فقيل: هي ما لحق صاحبها عليها بخصوصها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة وهي عبارة كثير من الفقهاء، وقيل: كل معصية أوجبت الحدّ- وبه قال البغوي وغيره- والأول أوفق لما ذكروه في تفصيل الكبائر إذ عدوا الغيبة والنميمة والعقوق وغير ذلك منها ولا حدّ فيه فهو أصح من الثاني وإن قال الرافعي: إنهم إلى ترجيحه أميل، وقد يقال: يرد على الأول أيضا أنهم عدوا من الكبائر ما لم يرد فيه بخصوصه وعيد شديد. وقيل: هي كل ما نص الكتاب على تحريمه أو وجب في جنسه حدّ وترك فريضة تجب فورا والكذب في الجزء: 14 ¦ الصفحة: 61 الشهادة والرواية واليمين، زاد الهروي وشريح وكل قول خالف الإجماع العام، وقيل: كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة وهو المحكي عن إمام الحرمين، ورجحه جمع لما فيه من حسن الضبط، وتعقب بأنه بظاهره يتناول صغيرة الخسة، والإمام- كما قال الاذرعي- إنما ضبط به ما يبطل العدالة من المعاصي الشاملة لذلك لا الكبيرة فقط، نعم هو أشمل من التعريفين الأولين، وقيل: هي ما أوجب الحدّ أو توجه إليه الوعيد ذكره الماوردي في فتاويه، وقيل: كل محرم لعينه منهي عنه لمعنى في نفسه فإن فعله على وجه يجمع وجهين أو وجوها من التحريم كان فاحشة، فالزنا كبيرة وبحليلة الجار فاحشة والصغيرة تعاطي ما تنقص عن رتبته عن رتبته المنصوص عليه. أو تعاطيه على وجه دون المنصوص عليه فإن تعاطاه على وجه يجمع وجهين أو أكثر من التحريم كان كبيرة فالقبلة واللمس والمفاخذة صغيرة، ومع حليلة الجار كبيرة كذا نقله ابن الرفعة وغيره عن القاضي حسين عن الحليمي، وقيل: هي كل فعل نص الكتاب على تحريمه أي بلفظ التحريم وهو أربعة أشياء: أكل الميتة، ولحم الخنزير، ومال اليتيم، والفرار من الزحف ورد بمنع الحصر، وقيل: إنها كل ذنب قرن به حدّ، أو وعيد أو لعن بنص كتاب أو سنة أو علم أن مفسدته كمفسدة ما قرن به ذلك أو أكثر أو أشعر بتهاون مرتكبه في دينه إشعارا صغر الكبائر المنصوص عليها بذلك كما لو قتل من يعتقده معصوما فظهر أنه مستحق لدمه أو وطئ امرأة ظانا أنه زان بها فإذا هي زوجته أو أمته، وإليه ذهب شيخ الإسلام البارزي وقال: هو التحقيق وقيل: غير ذلك، واعتمد الواحدي أنها لا حدّ لها يحصرها فقال الصحيح أن الكبيرة ليس لها حدّ يعرفها العباد به وإلا لاقتحم الناس الصغائر واستباحوها ولكن الله تعالى أخفى ذلك عنهم ليجتهدوا في اجتناب المنهي عنه رجاء أن تجتنب الكبائر. ونظير ذلك إخفاء الاسم الأعظم والصلاة الوسطى وليلة القدر وساعة الإجابة، وقال العلامة ابن حجر الهيتمي: كل ما ذكر من الحدود إنما قصد به التقريب فقط وإلا فهي ليست بحدود جامعة، وكيف يمكن ضبط ما لا مطمع في ضبطه؟ وذهب جمع إلى تعريفها بالعدّ، فعن ابن عباس أنها ما ذكره الله تعالى في أول سورة النساء إلى قوله سبحانه: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ [النساء: 31] . وقيل: هي سبع وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه وعطاء وعبيد بن عمير، واستدل له بما في الصحيحين «اجتنبوا السبع الموبقات: الإشراك بالله تعالى والسحر وقتل النفس التي حرم الله تعالى إلا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» وقيل: خمس عشرة، وقيل: أربع عشرة، وقيل: أربع، وعن ابن مسعود ثلاث، وفي رواية أخرى عشرة، وقال شيخ الإسلام العلائي: المنصوص عليه في الأحاديث أنه كبيرة خمس وعشرون، وتعقبه ابن حجر بزيادة على ذلك، وقال أبو طالب المكي: هي سبع عشرة أربع في القلب الشرك والإصرار على المعصية والقنوط والأمن من المكر، وأربع في اللسان القذف وشهادة الزور والسحر، وهو كل كلام يغير الإنسان أو شيئا من أعضائه. واليمين الغموس وهي التي تبطل بها حقا أو تثبت بها باطلا، وثلاث في البطن أكل مال اليتيم ظلما وأكل الربا وشرب كل مسكر، واثنان في الفرج: الزنا واللواط، واثنتان في اليد القتلة والسرقة، وواحدة في الرجل الفرار من الزحف، وواحدة في جميع الجسد عقوق الوالدين، وفيه ما فيه، وروى الطبراني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رجلا قال له: كم الكبائر سبع هي؟ فقال هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار، وقد ألف فيها غير واحد من العلماء، وفي كتاب الزواجر تأليف العلامة ابن حجر ما فيه كفاية فليراجع، والله تعالى الموفق وإنا لنستغفره ونتوب إليه إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ حيث يغفر الصغائر باجتناب الجزء: 14 ¦ الصفحة: 62 الكبائر، فالجملة تعليل لاستثناء اللمم، وتنبيه على أن إخراجه عن حكم المؤاخذة ليس لخلوه عن الذنب في نفسه بل لسعة المغفرة الربانية، وجوز أن يكون المعنى له سبحانه أن يغفر لمن يشاء من المؤمنين ما يشاء من الذنوب صغيرها وكبيرها، ولعل تعقيب وعيد المسيئين ووعد المحسنين بذلك حينئذ لئلا ييأس صاحب الكبيرة من رحمته تعالى ولا يتوهم وجوب العقاب عليه عز وجل، وزعم بعض جواز كون الموصول مبتدأ وهذه الجملة خبره والرابط محذوف أي واسِعُ الْمَغْفِرَةِ لهم ليس بشيء كما لا يخفى. هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ أي بأحوالكم من كل أحد إِذْ أَنْشَأَكُمْ في ضمن إنشاء أبيكم آدم عليه السلام. مِنَ الْأَرْضِ إنشاء إجماليا حسبما مر تحقيقه، وقيل: إنشاؤهم من الأرض باعتبار أن المني الذي يتكونون منه في الأغذية التي منشؤها الأرض، وأيا ما كان- فإذا- ظرف- لأعلم- وهو على بابه من التفصيل. وقال مكي: هو بمعنى عالم إذ تعلق علمه تعالى بأحوالهم في ذلك الوقت لا مشارك له تعالى فيه، وتعقب بأنه قد يتعلق علم من أطلعه الله تعالى من الملائكة عليه، وقيل: إِذْ منصوب بمحذوف، والتقدير اذكروا إِذْ أَنْشَأَكُمْ وهو كما ترى وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ ووقت كونكم أجنة فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ على أطوار مختلفة مترتبة لا يخفى عليه سبحانه حال من أحوالكم وعمل من أعمالكم التي من جملتها اللمم الذي لولا المغفرة الواسعة لأصابكم وباله. فالجملة استئناف مقرر لما قبلها وذكر فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ مع أن الجنين ما كان في البطن للإشارة إلى الأطوار كما أشرنا إليه، وقيل: لتأكيد شأن العلم لما أن بطن الأم في غاية الظلمة، والفاء في قوله تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ لترتيب النهي عن تزكية النفس على ما سبق من أن عدم المؤاخذة باللمم ليس لعدم كونه من قبيل الذنوب بل لمحض مغفرته تعالى مع علمه سبحانه بصدوره عنكم أي إذا كان الأمر كذلك فلا تثنوا على أنفسكم بالطهارة عن المعاصي بالكلية أو بزكاء العمل وزيادة الخير بل اشكروا الله تعالى على فضله ومغفرته جل شأنه هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى المعاصي جميعا وهو استئناف مقرر للنهي ومشعر بأن فيهم من يتقيها بأسرها كذا في الإرشاد، وقيل: اتقى الشرك، وقيل: اتقى شيئا من المعاصي، والآية نزلت على ما قيل: في قوم من المؤمنين كانوا يعملون أعمالا حسنة ثم يقولون صلاتنا وصيامنا وحجنا وهذا مذموم منهي عنه إذا كان بطريق الإعجاب، أو الرياء أما إذا لم يكن كذلك فلا بأس به ولا يعد فاعله من المزكين أنفسهم، ولذا قيل: المسرة بالطاعة طاعة وذكرها شكر، ولا فرق في التزكية بين أن تكون عبارة وأن تكون إشارة وعدّ منها التسمية بنحو برّة، أخرج أحمد ومسلم وأبو داود وابن مردويه وابن سعد عن زينب بنت أبي سلمة أنها سميت برّة فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم سموها زينب» وكذا غير عليه الصلاة والسلام إلى ذلك اسم برة بنت جحش، وتغيير مثل ذلك مستحب وكذا ما يوقع نفيه بعض الناس في شيء من الطيرة كبركة ويسار، والنهي عن التسمية به للتنزيه وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم كما روى جابر: «إن عشت إن شاء الله أنهى أمتي أن يسمعوا نافعا وأفلح وبركة» محمول كما قال النووي على إرادة أنهى نهي تحريم، والظاهر أن كراهة ما يشعر بالتزكية مخصوصة بما إذا كان الاشعار قويا كما إذا كان الاسم قبل النقل ظاهر الدلالة على التسمية مستعملا فيها فلا كراهة في التسمية بما يشعر بالمدح إذا لم يكن كذلك كسعيد وحسن، وقد كان لعمر رضي الله تعالى عنه ابنة يقال لها: عاصية فسماها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جميلة كذا قيل، والمقام بعد لا يخلو عن بحث الجزء: 14 ¦ الصفحة: 63 فليراجع، وقيل: معنى- لا تزكوا أنفسكم- لا يزكي بعضكم بعضا، والمراد النهي عن تزكية السمعة أو المدح للدنيا، أو تزكية على سبيل القطع، وأما التزكية لإثبات الحقوق ونحوه فهي جائزة، وذهب بعضهم إلى أن الآية نزلت في اليهود. أخرج الواحدي وابن المنذر وغيرهما عن ثابت بن الحارث الأنصاري قال: «كانت اليهود إذا هلك لهم صبي صغير قالوا: هو صديق فبلغ ذلك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: كذبت يهود ما من نسمة يخلقها الله تعالى في بطن أمها إلا يعلم سعادتها أو شقاوتها» فأنزل الله سبحانه عند ذلك هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ الآية. أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى أي عن اتباع الحق والثبات عليه وَأَعْطى قَلِيلًا أي شيئا قليلا، أو إعطاء قليلا وَأَكْدى أي قطع العطاء من قولهم حفر فأكدى إذا بلغ إلى كدية أي صلابة في الأرض فلم يمكنه الحفر، قال مجاهد وابن زيد: نزلت في الوليد بن المغيرة كان قد سمع قراءة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وجلس إليه ووعظه فقرب من الإسلام وطمع فيه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثم إنه عاتبه رجل من المشركين، وقال له: أتترك ملة آبائك؟! ارجع إلى دينك واثبت عليه وأنا أتحمل عنك كل شيء تخافه في الآخرة لكن على أن تعطيني كذا وكذا من المال فوافقه الوليد على ذلك ورجع عما همّ به من الإسلام وضل ضلالا بعيدا، وأعطى بعض المال لذلك الرجل ثم أمسك عنه وشح، وقال الضحاك: هو النضر بن الحارث أعطى خمس قلائص لفقير من المهاجرين حتى ارتد عن دينه وضمن له أن يحمل عنه مأثم رجوعه، وقال السدي: نزلت في العاص بن وائل السهمي كان يوافق النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في بعض الأمور، وقال محمد بن كعب: في أبي جهل قال: والله ما يأمر محمد إلا بمكارم الأخلاق، والأول هو الأشهر الأنسب لما بعده من قوله سبحانه: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ إلى آخره، وأما ما في الكشاف من أنها نزلت في عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه كان يعطي ماله في الخير فقال له عبد الله بن سعيد بن أبي سرح: يوشك أن لا يبقى لك شيء فقال عثمان: إن لي ذنوبا وخطايا وإني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى وأرجو عفوه فقال عبد الله: أعطني ناقتك برحلها وأنا أحمل عنك ذنوبك كلها فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن العطاء فباطل- كما قال ابن عطية- ولا أصل له، وعثمان رضي الله تعالى عنه منزه عن مثل ذلك، وأَ فَرَأَيْتَ هنا على ما في البحر بمعنى أخبرني ومفعولها الأول الموصول، والثاني الجملة الاستفهامية، والفاء في قوله تعالى: فَهُوَ يَرى للتسبب الجزء: 14 ¦ الصفحة: 64 عما قبله أي عنده علم بالأمور الغيبية فهو بسبب ذلك يعلم أن صاحبه يتحمل عنه يوم القيامة ما يخافه، وقيل: يرى أن ما سمعه من القرآن باطل: وقال الكلبي: المعنى أأنزل عليه قرآن فرأى أن ما صنعه حق، وأيا ما كان- فيرى- من الرؤية القلبية، وجوز أن تكون من الرؤية البصرية أي فهو يبصر ما خفي عن غيره مما هو غيب أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ أي بل ألم يخبر. بِما فِي صُحُفِ مُوسى وهي التوراة وَإِبْراهِيمَ وبما في صحف إبراهيم التي نزلت عليه الَّذِي وَفَّى أي وفر وأتم ما أمر به، أو بالغ في الوفاء بما عاهد عليه الله تعالى، وقال ابن عباس: وفى بسهام الإسلام كلها ولم يوفها أحد غيره وهي ثلاثون سهما منها عشرة في براءة إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ [التوبة: 111] الآيات، وعشرة في الأحزاب إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ [الأحزاب: 35] الآيات، وست في- قد أفلح المؤمنون- الآيات التي في أولها، وأربع في سأل سائل وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ [المعارج: 26] الآيات، وفي حديث ضعيف عن أبي أمامة يرفعه، وفّى بأربع ركعات كان يصليهن في كل يوم، وفي رواية يصليهن أول النهار. وأخرج أحمد من حديث معاذ بن أنس مرفوعا أيضا «ألا أخبركم لم سمى الله تعالى إبراهيم خليله الذي وفى لأنه كان يقول كلما أصبح وأمسى سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون الآية» وقال عكرمة: وَفَّى بتبليغ هذه العشرة أن لا تزر إلى آخره «وقيل، وقيل:» والأولى العموم وهو مروي عن الحسن قال: ما أمره الله تعالى بشيء إلا وفى به وتخصيصه عليه السلام بهذا الوصف لاحتماله ما لا يحتمله غيره، وفي قصة الذبح ما فيه كفاية وخص هذان النبيان عليهما السلام بالذكر قيل: لأنه فيما بين نوح وإبراهيم كانوا يأخذون الرجل بابنه وبأبيه وعمه وخاله، والزوج بامرأته، والعبد بسيده فأول من خالفهم إبراهيم وقرر ذلك موسى ولم يأت قبله مقرر مثله عليه السلام، وتقديمه لما أن صحفه أشهر عندهم وأكثر، وقرأ أبو أمامة الباهلي وسعيد بن جبير وأبو مالك الغفاري وابن السميفع وزيد بن علي «وفى» بتخفيف الفاء أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي إنه لا تحمل نفس من شأنها الحمل حمل نفس أخرى على أن (أن) هي المخففة من الثقيلة وضمير الشأن الذي هو اسمها محذوف، والجملة المنفية خبرها ومحل الجملة الجر على أنها بدل مما في صحف موسى، أو الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف والاستئناف بياني كأنه قيل: ما في صحفهما؟ فقيل: هو أَلَّا تَزِرُ إلخ، والمعنى أنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره ليتخلص الثاني عن عقابه، ولا يقدح في ذلك قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من علم بها إلى يوم القيامة» فإن ذلك وزر الإضلال الذي هو وزره لا وزر غيره، وقوله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى بيان لعدم إثابة الإنسان بعمل غيره إثر بيان عدم مؤاخذته بذنب غيره وَأَنْ كأختها السابقة، وما مصدرية وجوز كونها موصولة أي ليس له إلا سعيه، أو إلا الذي سعى به وفعله، واستشكل بأنه وردت أخبار صحيحة بنفع الصدقة عن الميت، منها ما أخرجه مسلم والبخاري وأبو داود والنسائي عن عائشة «أن رجلا قال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن أمي افتلتت نفسها وأظنها لو تكلمت تصدقت فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم» وكذا بنفع الحج. أخرج البخاري ومسلم والنسائي عن ابن عباس قال: «أتى رجل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: إن أختي نذرت لأن تحج وأنها ماتت فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لو كان عليها دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم قال: فحق الله أحق بالقضاء» وأجيب بأن الغير لما نوى ذلك الفعل له صار بمنزلة الوكيل عنه القائم مقامه شرعا فكأنه بسعيه، وهذا لا يتأتى إلا بطريق عموم المجاز، أو الجمع بين الحقيقة والمجاز عند من يجوزه، وأجيب أيضا بأن سعي غيره لما لم ينفعه إلا مبنيا على سعي نفسه من الإيمان فكأنه سعيه، ودل على بنائه على ذلك ما أخرجه أحمد عن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 65 عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن ينحر مائة بدنة وأن هشاما ابنه نحو حصته خمسين وأن عمرا سأل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك فقال: «وأما أبوك فلو كان أقرّ بالتوحيد فصمت وتصدقت عنه نفعه ذلك» وأجيب بهذا عما قيل: إن تضعيف الثواب الوارد في الآيات ينافي أيضا القصر على سعيه وحده، وأنت تعلم ما في الجواب من النظر، وقال بعض أجلة المحققين إنه ورد في الكتاب والسنة ما هو قطعي في حصول الانتفاع بعمل الغير وهو ينافي ظاهر الآية فتقيد بما لا يهبه العامل، وسأل والي خراسان عبد الله بن طاهر الحسين بن الفضل عن هذه الآية مع قوله تعالى: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ [البقرة: 261] فقال: ليس له بالعدل إلا ما سعى وله بالفضل ما شاء الله تعالى فقبل عبد الله رأس الحسين وقال عكرمة: كان هذا الحكم في قوم إبراهيم وموسى عليهما السلام، وأما هذه الأمة فللإنسان منها سعي غيره يدل عليه حديث سعد بن عبادة «هل لأمي إذا تطوعت عنها؟ قال صلى الله تعالى عليه وسلم: نعم» وقال الربيع: الإنسان هنا الكافر، وأما المؤمن فله ما سعى وما سعى له غيره، وعن ابن عباس أن الآية منسوخة بقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الطور: 21] وقد أخرج عنه ما يشعر به أبو داود والنحاس كلاهما في الناسخ، وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه، وتعقب أبو حيان رواية النسخ بأنها لا تصح لأن الآية خبر لم تتضمن تكليفا ولا نسخ في الأخبار. وما يتوهم جوابا من أنه تعالى أخبر في شريعة موسى وإبراهيم عليهما السلام أن لا يجعل الثواب لغير العامل ثم جعله لمن بعدهم من أهل شريعتنا مرجعه إلى تقييد الأخبار لا إلى النسخ إذ حقيقته أن يراد المعنى، ثم من بعد ذلك ترتفع إرادته، وهذا تخصيص الإرادة بالنسبة إلى أهل الشرائع فافهمه، وقيل: اللام بمعنى على أي ليس على الإنسان غير سعيه، وهو بعيد من ظاهرها ومن سياق الآية أيضا فإنها وعظ للذي تولى وأعطى قليلا وأكدا، والذي أميل إليه كلام الحسين، ونحوه كلام ابن عطية قال: والتحرير عندي في هذا الآية أن ملاك المعنى هو اللام من قوله سبحانه: لِلْإِنْسانِ فإذا حققت الشيء الذي حق الإنسان أن يقول فيه لي كذا لم تجده إلا سعيه وما يكون من رحمة بشفاعة، أو رعاية أب صالح، أو أبن صالح، أو تضعيف حسنات، أو نحو ذلك فليس هو للإنسان ولا يسعه أن يقول لي كذا وكذا إلا على تجوّز، وإلحاق بما هو حقيقة انتهى. ويعلم من مجموع ما تقدم أن استدلال المعتزلة بالآية على أن العبد إذا جعل ثواب عمله أي عمل كان لغيره لا ينجعل ويلغو جعله غير تام وكذا استدلال الإمام الشافعي بها على أن ثواب القراءة لا تلحق الأموات- وهو مذهب الإمام مالك- بل قال الامام ابن الهمام: إن مالكا والشافعي لا يقولان بوصول العبادات البدنية المحضة كالصلاة والتلاوة بل غيرها كالصدقة والحج، وفي الإذكار للنووي عليه الرحمة المشهور من مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه وجماعة أنها لا تصل، وذهب أحمد بن حنبل وجماعة من العلماء ومن أصحاب الشافعي إلى أنه تصل، فالاختيار أن يقول القارئ بعد فراغه اللهم أوصل ثواب ما قرأته إلى فلان، والظاهر أنه إذا قال ذلك ونحوه كوهبت ثواب ما قرأته لفلان بقلبه كفى، وعن بعضهم اشتراط نية النيابة أول القراءة وفي القلب منه شيء، ثم الظاهر أن ذلك إذا لم تكن القراءة بأجرة أما إذا كانت بها كما يفعله أكثر الناس اليوم فإنهم يعطون حفظة القرآن أجرة ليقرؤوا لموتاهم فيقرؤون لتلك الأجرة فلا يصل ثوابها إذ لا ثواب لها ليصل لحرمة أخذ الاجرة على قراءة القرآن وإن لم يحرم على تعليمه كما حققه خاتمة الفقهاء المحققين الشيخ محمد الأمين بن عابدين الدمشقي رحمه الله تعالى، وفي الهداية من كتاب الحج عن الغير إطلاق صحة جعل الإنسان عمله لغيره ولو صلاة وصوما عند أهل السنة والجماعة، وفيه ما علمت ما مرّ آنفا. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 66 وقال الخفاجي: هو محتاج إلى التحرير وتحريره أن محل الخلاف العبادة البدنية هل تقبل النيابة فتسقط عمن لزمته فعل غيره سواء كان بإذنه أو لا بعد حياته أم لا فهذا وقع في الحج كما ورد في الأحاديث الصحيحة، أما الصوم فلا، وما ورد في حديث «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» وكذا غيره من العبادات فقال الطحاوي: إنه كان في صدر الإسلام ثم نسخ وليس الكلام في الفدية وإطعام الطعام فإنه بدل وكذا إهداء الثواب سواء كان بعينه أو مثله فإنه دعاء وقبوله بفضله عز وجل كالصدقة عن الغير فأعرفه انتهى فلا تغفل. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى أي يعرض عليه ويكشف له يوم القيامة في صحيفته وميزانه من أريته الشيء، وفي البحر يراه حاضرو القيامة ويطلعون عليه تشريفا للمحسن وتوبيخا للمسيء ثُمَّ يُجْزاهُ أي يجزى الإنسان سعيه، يقال: جزاه الله عز وجل بعمله وجزاه على عمله وجزاه عمله بحذف الجار وإيصال الفعل، وقوله تعالى: الْجَزاءَ الْأَوْفى مصدر مبين للنوع وإذا جاز وصف المجزي به بالأوفى جاز وصف الحدث عن الجزاء لملابسته له، وجوز كونه مفعولا به بمعنى المجزي به وحينئذ يكون الفعل في حكم المتعدي إلى ثلاثة مفاعيل. ولا بأس لأن الثاني بالحذف والإيصال لا التوسع فيجيء فيه الخلاف، وبعضهم يجعل الجزاء منصوبا بنزع الخافض، وجوز أن يكون الضمير المنصوب في يُجْزاهُ للجزاء لا للسعي، والْجَزاءَ الْأَوْفى عليه عطف بيان، أو بدل كما في قوله تعالى: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [الأنبياء: 3] وتعقبه أبو حيان بأن فيه إبدال الظاهر من الضمير وهي مسألة خلافية والصحيح المنع وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى أي إن انتهاء الخلق ورجوعهم إليه تعالى لا إلى غيره سبحانه استقلالا ولا اشتراكا، والمراد بذلك رجوعهم إليه سبحانه يوم القيامة حين يحشرون ولهذا قال غير واحد: أي إلى حساب ربك أو إلى ثوابه تعالى من الجنة وعقابه من النار الانتهاء، وقيل: المعنى أنه عز وجل منتهى الأفكار فلا تزال الأفكار تسير في بيداء حقائق الأشياء وماهياتها والإحاطة بما فيها حتى إذا وجهت إلى حرم ذات الله عز وجل وحقائق صفاته سبحانه وقفت وحرنت وانتهى سيرها، وأيد بما أخرجه البغوي عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال في الآية: «لا فكرة في الرب» وأخرجه أبو الشيخ في العظمة عن سفيان الثوري ، وروي عنه عليه الصلاة والسلام «إذا ذكر الرب فانتهوا» ، وأخرج ابن ماجة عن ابن عباس قال: «مر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على قوم يتفكرون في الله فقال: تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإنكم لن تقدروه» وأخرج أبو الشيخ عن أبي ذر قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله فتهلكوا» . واستدل بذلك من قال باستحالة معرفته عز وجل بالكنه، والبحث في ذلك طويل، وأكثر الأدلة النقلية على عدم الوقوع، وقرأ أبو السمال، وإن بالكسر هنا وفيما بعد على أن الجمل منقطعة عما قبلها فلا تكون مما في الصحف وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى خلق فعلي الضحك والبكاء، وقال الزمخشري: خلق قوتي الضحك والبكاء، وفيه دسيسة اعتزال، وقال الطيبي: المراد خلق السرور والحزن أو ما يسر ويحزن من الأعمال الصالحة والطالحة، ولذا قرن بقوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا وعليه فهو مجاز ولا يخفى أن الحقيقة أيضا تناسب الإماتة والإحياء لا سيما والموت يعقبه البكاء غالبا والإحياء عند الولادة الضحك وما أحسن قوله: ولدتك أمك يا ابن آدم باكيا ... والناس حولك يضحكون سرورا فاجهد لنفسك أن تكون إذا بكوا ... في يوم موتك ضاحكا مسرورا وقال مجاهد الكلبي: أَضْحَكَ أهل الجنة وَأَبْكى أهل النار، وقيل: أَضْحَكَ الأرض بالنبات وَأَبْكى السماء بالمطر، وتقديم الضمير وتكرير الإسناد للحصر أي إنه تعالى فعل ذلك لا غيره سبحانه، وكذا في الجزء: 14 ¦ الصفحة: 67 أنه هُوَ أَماتَ وَأَحْيا فلا يقدر على الإماتة والإحياء غير عز وجل، والقاتل إنما ينقض البنية الإنسانية ويفرق أجزاءها والموت الحاصل بذلك فعل الله تعالى على سبيل العادة في مثله فلا إشكال في الحصر وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى من نوع الإنسان وغيره من أنواع الحيوانات ولم يذكر الضمير على طرز ما تقدم لأنه لا يتوهم نسبة خلق الزوجين إلى غيره عز وجل مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى أي تدفق في الرحم يقال: أمنى الرجل ومنى بمعنى، وقال الأخفش: أي تقدر يقال منى لك الماني أي قدر لك المقدر، ومنه المنا الذي يوزن به فيما قبل، والمنية وهي الأجل المقدر للحيوان وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى أي الإحياء بعد الإماتة وفاء بوعده جل شأنه: وفي البحر لما كانت هذه النشأة ينكرها الكفار بولغ بقوله تعالى عليه كأنه تعالى أوجب ذلك على نفسه، وفي الكشاف قال سبحانه: عَلَيْهِ لأنها واجبة في الحكمة ليجازي على الإحسان والإساءة وفيه مع كونه على طريق الاعتزال نظر، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو- النشاءة- بالمد وهي أيضا مصدر نشأة الثلاثي وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى وأعطى القنية وهو ما يبقى ويدوم من الأموال ببقاء نفسه أو أصله كالرياض والحيوان والبناء، وإفراد ذلك بالذكر مع دخوله في قوله تعالى: أَغْنى لأن القنية أنفس الأموال وأشرفها، وفي البحر يقال: قنيت المال أي كسبته ويعدى أيضا بالهمزة والتضعيف فيقال: أقناه الله تعالى مالا وقناه الله تعالى مالا، وقال الشاعر: كم من غني أصاب الدهر ثروته ... ومن فقير يقني بعد إقلال أي يقني المال، وعن ابن عباس أَغْنى مول، وَأَقْنى أرضى. وهو بهذا المعنى مجاز من القنية قال الراغب: وتحقيق ذلك أنه جعل له قنية من الرضا والطاعة وذلك أعظم القنائن، ولله تعالى در من قال: هل هي إلا مدة وتنقضي ... ما يغلب الأيام إلا من رضي وعن ابن زيد والأخفش أَقْنى أفقر، ووجه بأنهما جعلا الهمزة فيه للسلب والإزالة كما في أشكى، وقيل: إنهما جعلا أَقْنى بمعنى جعل له الرضا والصبر قنية كناية عن ذلك ليظهر فيه الطباق كما في أَماتَ وَأَحْيا وأَضْحَكَ وَأَبْكى وفسره بأفقر أيضا الحضرمي إلا أنه كما أخرج عنه ابن جرير وأبو الشيخ قال أَغْنى نفسه سبحانه و «أفقر» الخلائق إليه عز وجل، والظاهر على تقدير اعتبار المفعول في جميع الأفعال المتقدمة أن يكون من المحدثات الصالحة لتعلق الفعل، وعندي أن أَغْنى سبحانه نفسه كأوجد جل شأنه نفسه لا يخلو عن سماجة وإيهام محذور، وإنما لم يذكر مفعول لأن القصد إلى الفعل نفسه وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى هي الشِّعْرى العبور بفتح العين المهملة والباء الموحدة والراء المهملة بعد الواو، وتقال الشِّعْرى أيضا على الغميصاء بغين معجمة مضمومة وميم مفتوحة بعدها ياء مثناء تحتية وصاد مهملة ومد، والأولى في الجوزاء، وإنما قيل لها العبور لأنها عبرت المجرة فلقيت سهيلا ولأنها تراه إذا طلع كأنها ستعبر وتسمى أيضا كلب الجبار لأنها تتبع الجوزاء المسماة بالجبار كما تتبع الكلب الصائد أو الصيد، والثانية في ذراع الأسد المبسوطة، وإنما قيل لها الغميصاء لانها بكت من فراق سهيل فغمصت عينها، والغمص ما سال من الرمص وهو وسخ أبيض يجتمع في الموق، وذلك من زعم العرب أنهما أختا سهيل، وفي القاموس من أحاديثهم أن الشعرى العبور قطعت المجرة فسميت عبورا وبكت الأخرى على أثرها حتى غمصت ويقال لها الغموص أيضا، وقيل: زعموا أن سهيلا والشِّعْرى كانا زوجين فانحدر سهيل وصار يمانيا فاتبعه الشعرى فعبرت المجرة فسميت العبور وأقامت الغميصاء وسميت بذلك لأنها دون الأولى ضياء، وكل ذلك من تخيلاتهم الكاذبة التي لا حقيقة لها، والمتبادر عند الإطلاق وعدم الوصف العبور لأنها أكبر جرما وأكثر ضياء وهي التي عبدت من دون الله سبحانه في الجاهلية. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 68 قال السدي: عبدتها حمير وخزاعة، وقال غيره: أول من عبدها أبو كبشة رجل من خزاعة، أو هو سيدهم واسمه وخز بن غالب وكان المشركون يقولون للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم: ابن أبي كبشه شبهوه به لمخالفته قومه في عبادة الأصنام، وذكر بعضهم أنه أحد أجداده عليه الصلاة والسلام من قبل أمه وأنهم كانوا يزعمون أن كل صفة في المرء تسري إليه من أحد أصوله فيقولون نزع إليه عرق كذا، وعرق الخال نزاع، وقيل: هو كنية وهب بن عبد مناف جده صلى الله تعالى عليه وسلم من قبل أمه، وقولهم له عليه الصلاة والسلام ذلك على ما يقتضيه ظاهر القاموس لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم في الشبه الخلقي دون المخالفة، وقيل: كنية زوج حليمة السعدية مرضعته عليه الصلاة والسلام، وقيل: كنية عم ولدها ولكونها عبدت من دونه عز وجل خصت بالذكر ليكون ذلك تجهيلا لهم بجعل المربوب ربا، ولمزيد الاعتناء بذلك جيء بالجملة على ما نطق به النظم الجليل. ومن العرب من كان يعظمها ويعتقد تأثيرها في العالم ويزعمون أنها تقطع السماء عرضا وسائر النجوم تقطعها طولا ويتكلمون على المغيبات عند طلوعها ففي قوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى إشارة إلى نفي تأثيرها. وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى أي القدماء لأنهم أولى الأمم هلاكا بعد قوم نوح كما قاله ابن زيد والجمهور، وقال الطبري: وصفت الأولى لأن في القبائل عاداً أخرى وهي قبيلة كانت بمكة مع العماليق وهم بنو لقيم بن هزال، وقال المبرد: عاد الأخرى هي ثمود، وقيل: الجبارون، وقيل: عاد الأولى ولد عاد بن إرم بن عوف بن سام بن نوح، وعاد الأخرى من ولد عاد الأولى، وفي الكشاف الْأُولى قوم هود والأخرى إرم والله تعالى أعلم. وجوز أن يراد بالأولى المتقدمون الأشراف: وقرأ قوم عاد الولي بحذف الهمزة ونقل ضمها إلى اللام قبلها، وقرأ نافع وأبو عمرو عاد الولي بإدغام التنوين في اللام المنقول إليها حركة الهمزة المحذوفة، وعاب هذه القراء المازني والمبرد، وقالت العرب: في الابتداء بعد النقل- الحمر، ولحمر- فهده القراءة جاءت على لحمر فلا عيب فيها، وأتى قالون بعد ضمة اللام بهمزة ساكنة في موضع الواو كما في قوله: أحب الموقدين إليّ مؤسى وكما قرأ بعضهم- على سؤقه- وفيه شذوذ، وفي حرف أبيّ عاد غير مصروف للعلمية والتأنيث ومن صرفه فباعتبار الحي، أو عامله معاملة هند لكونه ثلاثيا ساكن الوسط وَثَمُودَ عطف على عاداً ولا يجوز أن يكون مفعولا- لأبقى- في قوله تعالى: فَما أَبْقى لأن- ما- النافيه لها صدر الكلام والفاء على ما قيل: مانعة أيضا فلا يتقدم معمول ما بعدها، وقيل: هو معمول- لأهلك- مقدر ولا حاجة إليه، وقرأ عاصم وحمزة- ثمود- بلا تنوين ويقفان بغير ألف والباقون بالتنوين ويقفون بالألف، والظاهر أن متعلق أَبْقى يرجع إلى عاد وثمود معا أي فما أبقى عليهم، أي أخذهم بذنوبهم، وقيل: أي ما أبقى منهم أحدا، والمراد ما أبقى من كفارهم وَقَوْمَ نُوحٍ عطف على عاداً أيضا مِنْ قَبْلُ أي من قبل إهلاك عاد وثمود، وصرح بالقبلية لأن نوحا عليه السلام آدم الثاني وقومه أول الطاغين والهالكين إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى أي من الفريقين حيث كانوا يؤذونه ويضربونه حتى لا يكاد يتحرك وكان الرجل منهم يأخذ بيد ابنه يتمشى به إليه يحذره منه ويقول: يا بني إن أبي مشى بي إلى هذا وأنا مثلك يومئذ فإياك أن تصدقه فيموت الكبير على الكفر وينشأ الصغير على وصية أبيه ولم يتأثروا من دعائه وقد دعاهم ألف سنة إلا خمسين عاما، وقيل: ضمير إِنَّهُمْ يعود على جميع من تقدم عاد وثمود وقوم نوح أي كانوا أظلم من قريش وأطغى منهم، وفيه من التسلية للنبي عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى، وهُمْ يجوز أن يكون تأكيدا للضمير المنصوب ويجوز أن يكون فصلا لأنه واقع بين معرفة وأفعل التفضيل، وحذف المفضول مع الواقع خبرا لكان لأنه جار مجرى خبر المبتدأ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 69 وحذفه فصيح فيه فكذلك في خبر كان وَالْمُؤْتَفِكَةَ هي قرى قوم لوط سميت بذلك لأنها ائتفكت بأهلها أي انقلبت بهم، ومنه الإفك لأنه قلب الحق، وجوز أن يراد بالمؤتفكة كل ما انقلبت مساكنه ودثرت أماكنه. وقرأ الحسن «والمؤتفكات» جمعا أَهْوى أي أسقطها إلى الأرض بعد أن رفعها على جناح جبريل عليه السلام إلى السماء، وقال المبرد: جعلها تهوي. والظاهر أن أهوى ناصب للمؤتفكة وأخر العامل لكونه فاصلة، وجوز أن يكون- المؤتفكة- معطوفا على ما قبله وأَهْوى مع فاعله جملة في موضع الحال بتقدير قد، أو بدونه توضح كيفية إهلاكهم. فَغَشَّاها ما غَشَّى فيه تهويل للعذاب وتعميم لما أصابهم منه لأن الموصول من صيغ العموم والتضعيف في غشاها يحتمل أن يكون للتعدية فيكون ما مفعولا ثانيا والفاعل ضميره تعالى: ويحتمل أن يكون للتكثير والمبالغة ف ما هي الفاعل فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى تتشكك والتفاعل هنا مجرد عن التعدد في الفاعل والمفعول للمبالغة في الفعل، وقيل: إن فعل التماري للواحد باعتبار تعدد متعلقه وهو الآلاء المتمارى فيها، والخطاب قيل: لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أنه من باب الإلهاب والتعريض بالغير، وقيل: للإنسان على الإطلاق وهو أظهر والاستفهام للإنكار، والآلاء جمع إلى النعم، والمراد بها ما عد في الآيات قبل وسمي الكل بذلك مع أن منه نقما لما في النقم من العبر والمواعظ للمعتبرين والانتفاع للأنبياء والمؤمنين فهي نعم بذلك الاعتبار أيضا، وقيل: التعبير بالآلاء للتغليب وتعقب بأن المقام غير مناسب له، وقرأ يعقوب وابن محيصن- ربك تمارى- بتاء مشددة هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى الإشارة إلى القرآن. وقال أبو مالك: إلى الأخبار عن الأمم، أو الإشارة إلى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم. والنذير يجيء مصدرا ووصفا، والنذر جمعه مطلقا وكل من الامرين محتمل هنا، ووصف النُّذُرِ جمعا للوصف بالأولى على تأويل الفرقة، أو الجماعة، واختير على غيره رعاية للفاصلة، وأيا ما كان فالمراد هذا نَذِيرٌ مِنَ جنس النُّذُرِ الْأُولى. وفي الكشف أن قوله تعالى: هذا نَذِيرٌ إلخ فذلكة للكلام إما لما عدد من المشتمل عليه الصحف وإما لجميع الكلام من مفتتح السورة فتدبر ولا تغفل أَزِفَتِ الْآزِفَةُ أي قربت الساعة الموصوفة بالقرب في غير آية من القرآن، فأل في الْآزِفَةُ كاللعهد لا للجنس، وقيل: الْآزِفَةُ علم بالغلبة للساعة هنا، وقيل: لا بأس بإرادة الجنس ووصف القريب بالقرب للمبالغة لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غير الله تعالى أو إلا الله عز وجل كاشِفَةٌ نفس قادرة على كشفها إذا وقعت لكنه سبحانه لا يكشفها والمراد بالكشف الإزالة، وقريب من هذا ما روي عن قتادة وعطاء والضحاك أي إذا غشيت الخلق أهوالها وشدائدها لم يكشفها ولم يردها عنهم أحد، أو ليس لها الآن نفس كاشفة أي مزيلة للخوف منها فإنه باق إلى أن يأتي الله سبحانه بها وهو مراد الزمخشري بقوله: أو ليس لها الآن نفس كاشفة بالتأخير، وقيل: معناه لو وقعت الآن لم يردّها إلى وقتها أحد إلا الله تعالى، فالكشف بمعنى التأخير وهو إزالة مخصوصة، وقال الطبري والزجاج: المعنى ليس لها من دون الله تعالى نفس كاشفة تكشف وقت وقوعها وتبينه لأنها من أخفى المغيبات، فالكشف بمعنى التبيين والآية كقوله تعالى: لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ [الأعراف: 187] والتاء في كاشِفَةٌ على جميع الأوجه للتأنيث، وهو لتأنيث الموصوف المحذوف كما سمعت، وبعضهم يقدر الموصوف حالا، والأول أولى وجوز أن تكون للمبالغة مثلها في علامة، وتعقب بأن المقام يأباه لإيهامه ثبوت أصل الكشف لغيره عز وجل وفيه نظر، وقال الرماني وجماعة: يحتمل أن يكون كاشِفَةٌ مصدرا كالعافية، وخائنة الأعين أي ليس لها كشف من دون الله تعالى أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ أي القرآن تَعْجَبُونَ إنكارا وَتَضْحَكُونَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 70 استهزاء مع كونه أبعد شيء من ذلك وَلا تَبْكُونَ حزنا على ما فرطتم في شأنه وخوفا من أن يحيق بكم ما حاق بالأمم المذكورة وَأَنْتُمْ سامِدُونَ أي لاهون كما روي عن ابن عباس جوابا لنافع بن الأزرق، وأنشد عليه قول هزيلة بنت بكر وهي تبكي قوم عاد: ليت عادا قبلوا الحق ... ولم يبدوا جحودا قيل: قم فانظر إليهم ... ثم دع عنك السمودا وفي رواية أنه رضي الله تعالى عنه سئل عن السمود، فقال: البرطمة وهي رفع الرأس تكبرا أي وأنتم رافعون رؤوسكم تكبرا، وروي تفسيره بالبرطمة عن مجاهد أيضا، وقال الراغب: السامد اللاهي الرافع رأسه- من سمد البعير في سيره- إذا رفع رأسه، وقال أبو عبيدة: السمود الغناء بلغة حمير يقولون: يا جارية اسمدي لنا أي غني لنا، وروي نحوه عن عكرمة، وأخرج عبد الرازق. والبزار وابن جرير والبيهقي في سننه. وجماعة عن ابن عباس أنه قال: هو الغناء باليمانية وكانوا إذا سمعوا القرآن غنوا تشاغلا عنه، وقيل: يفعلون ذلك ليشغلوا الناس عن استماعه، والجملة الاسمية على جميع ذلك حال من فاعل- لا تبكون- ومضمونها قيد للنفي والإنكار متوجه إلى نفي البكاء ووجود السمود، وقال المبرد: السمود الجمود والخشوع كما في قوله: رمى الحدثان نسوة آل سعد ... بمقدار سمدن له سمودا فرد شعورهن السود بيضا ... ورد وجوههن البيض سودا والجملة عليه حال من فاعل- تبكون- أيضا إلا أن مضمونها قيد للمنفى، والإنكار وارد على نفي البكاء والسمود معا فلا تغفل، وفي حرف أبيّ وعبد الله- تضحكون- بغير واو، وقرأ الحسن- تعجبون تضحكون- بغير واو وضم التاءين وكسر الجيم والحاء، واستدل بالآية كما في أحكام القرآن على استحباب البكاء عند سماع بكى أصحاب الصفة حتى جرت دموعهم على خدودهم فلما سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم حنينهم بكى معهم فبكينا ببكائه فقال عليه الصلاة والسلام: لا يلج النار من بكى من خشية الله تعالى ولا يدخل الجنة مصرّ على معصيته ولو لم تذنبوا لجاء الله تعالى بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم» وأخرج أحمد في الزهد وابن أبي شيبة وهناد وغيرهم بمن صالح أبي الخليل قال: «لما نزلت هذه الآية أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ ما ضحك النبي صلّى الله عليه وسلم بعد ذلك إلا أن يتبسم» ولفظ عبد بن حميد «فما رئي النبي عليه الصلاة والسلام ضاحكا ولا مبتسما حتى ذهب من الدنيا» وفيه سد باب الضحك عند قراء القرآن ولو لم يكن استهزاء والعياذ بالله عز وجل. فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا الفاء لترتيب الأمر أو موجبه على ما تقرر من بطلان مقابلة القرآن بالتعجب والضحك وحقية مقابلته بما يليق به، ويدل على عظم شأنه أي وإذا كان الأمر كذلك فاسجدوا لله تعالى الذي أنزله واعبدوه جل جلاله، وهذه آية سجدة عند أكثر أهل العلم، وقد سجد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عندها. أخرج الشيخان وأبو داود والنسائي وابن مردويه عن ابن مسعود قال: «أول سورة أنزلت فيها سجدة وَالنَّجْمِ فسجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وسجد الناس كلهم إلا رجلا» الحديث. وأخرج ابن مردويه والبيهقي في السنن عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما «قال: صلى بنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقرأ النجم فسجد بنا فأطال السجود» وكذا عمر رضي الله تعالى عنه، أخرج سعيد بن منصور عن سبرة قال: صلى بنا عمر بن الخطاب الفجر فقرأ في الركعة الأولى سورة يوسف، ثم قرأ في الثانية سورة النجم فسجد، ثم قام فقرأ إذا زلزلت ثم ركع، ولا يرى مالك السجود هنا، واستدل له بما أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي الجزء: 14 ¦ الصفحة: 71 والنسائي والطبراني وغيرهم عن زيد بن ثابت قال: قرأت النجم عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فلم يسجد فيها، وأجيب بأن الترك إنما ينافي وجوب السجود وليس بمجمع عليه وهو عند القائل به على التراخي في مثل ذلك على المختار وليس في الحديث ما يدل على نفيه بالكلية فيحتمل أنه عليه الصلاة والسلام سجد بعد، وكذا زيد رضي الله تعالى عنه، نعم التأخير مكروه تنزيها ولعله فعل لبيان الجواز، أو لعذر لم نطلع عليه، وما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس من قوله: «إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة» ناف وضعيف، وكذا قوله فيما رواه أيضا عنه «كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يسجد في النجم بمكة فلما هاجر إلى المدينة تركها» على أن الترك إنما ينافي- كما سمعت- الوجوب، والله تعالى أعلم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 72 سورة القمر وتسمى أيضا «اقتربت» وعن ابن عباس أنها تدعى في التوراة المبيضة تبيض وجه صاحبها يوم تسود الوجوه، أخرجه عنه البيهقي في شعب الإيمان لكن قال: إنه منكر «وهي مكية» في قول الجمهور، وقيل مما نزل يوم بدر، وقال مقاتل: مكية إلا ثلاث آيات أَمْ يَقُولُونَ إلى وَأَمَرُّ [القمر: 44- 46] واقتصر بعصهم على استثناء سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ [القمر: 45] إلخ، ورد بما أخرجه ابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وابن مردويه عن أبي هريرة قال: أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم بمكة قبل يوم بدر سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ وقال عمر بن الخطاب: قلت: يا رسول الله أي جمع يهزم؟ فلما كان يوم بدر وانهزمت قريش نظرت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم في آثارهم مصلتا بالسيف وهو يقول: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ فكانت ليوم بدر ، وفي الدر المنثور: أخرج البخاري عن عائشة قالت: «نزل على محمد صلى الله تعالى عليه وسلم بمكة وإني لجارية ألعب بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ [القمر: 46] » ويرد به وبما قبله ما حكي عن مقاتل أيضا، وقيل: إلا إِنَّ الْمُتَّقِينَ [القمر: 45] الآيتين وآيها خمس وخمسون بالإجماع، ومناسبة أولها لآخر السورة التي قبلها ظاهرة فقد قال سبحانه: ثم أَزِفَتِ الْآزِفَةُ [النجم: 57] وهنا اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [القمر: 1] وقال الجلال السيوطي: لا يخفى ما في توالي هاتين السورتين من حسن التناسق للتناسب في التسمية لما بين- النجم، والقمر- من الملابسة، وأيضا إن هذه بعد تلك- كالأعراف بعد الأنعام، وكالشعراء بعد الفرقان، وكالصافات بعد يس- في أنها تفصيل لأحوال الأمم المشار إلى إهلاكهم في قوله تعالى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى وَثَمُودَ فَما أَبْقى وَقَوْمَ نُوحٍ [النجم: 50] إلى قوله سبحانه: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى [النجم: 53] . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 73 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ أي قربت جدا وَانْشَقَّ الْقَمَرُ انفصل بعضه عن بعض وصار فرقتين وذلك على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبل الهجرة بنحو خمس سنين فقد صح من رواية الشيخين وابن جرير عن أنس أن أهل مكة سألوه عليه الصلاة والسلام أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما ، وخبر أبي نعيم من طريق الضحاك عن ابن عباس- أن أحبار اليهود سألوا آية فأراهم الله تعالى القمر قد انشق- لا يعوّل عليه، وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن مسعود «انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فرقتين فرقة على الجبل وفرقة دونه فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: اشهدوا» ومن حديثه أيضا «انشق القمر على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام فقالت قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة فقال رجل: انتظروا ما يأتيكم به السفار فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم فجاء السفار فأخبروهم بذلك» رواه أبو داود. والطيالسي ، وفي رواية البيهقي «فسألوا السفار وقد قدموا من كل وجه فقالوا: رأيناه» فأنزل الله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ. وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس من وجه ضعيف قال: «اجتمع المشركون على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم منهم الوليد بن المغيرة وأبو جهل بن هشام والعاص بن وائل والعاص بن هشام والأسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب وربيعة بن الأسود والنضر بن الحارث فقالوا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم: إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين نصفا على أبي قبيس ونصفا على قينقاع فقال لهم النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن فعلت تؤمنوا؟ قالوا: نعم وكانت ليلة بدر فسأل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ربه عز وجل أن يعطيه ما سألوا فأمسى القمر قد مثل نصفا على أبي قبيس ونصفا على قينقاع ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ينادي يا أبا سلمة بن عبد الأسد والأرقم بن الأرقم اشهدوا» . والأحاديث الصحيحة في الانشقاق كثيرة، واختلف في تواتره فقيل: هو غير متواتر، وفي شرح المواقف الشريفي أنه متواتر وهو الذي اختاره العلامة ابن السبكي قال في شرحه لمختصر ابن الحاجب: الصحيح عندي أن انشقاق القمر متواتر منصوص عليه في القرآن مروي في الصحيحين وغيرهما من طرق شتى بحيث لا يمترى في تواتره انتهى باختصار، وقد جاءت أحاديثه في روايات صحيحة عن جماعة من الصحابة منهم علي كرم الله تعالى وجهه وأنس وابن سعود وابن عباس وحذيفة وجبير بن مطعم وابن عمر وغيرهم، نعم إن منهم من لم يحضر ذلك كابن عباس فإنه لم يكن مولودا إذ ذاك وكأنس فإنه كان ابن أربع أو خمس بالمدينة، وهذا لا يطعن في صحة الخبر كما لا يخفى، ووقع في رواية البخاري وغيره عن ابن مسعود «كنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بمنى فانشق القمر» ولا يعارض ما صح عن أنس أن ذلك كان بمكة لأنه لم يصرح بأنه عليه الصلاة والسلام كان ليلتئذ بمكة، فالمراد أن الانشقاق كان والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم إذ ذاك مقيم بمكة قبل أن يهاجر إلى المدينة، ووقع في نظم السيرة للحافظ أبي الفضل العراقي ما هو نص في وقوع الانشقاق عبد بن حميد والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل من طريق مجاهد عن أبي معمر عن ابن مسعود قال: رأيت القمر منشقا شقتين مرتين بمكة قبل مخرج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الحديث، وأما الإجماع فغير مسلم، وفي المواهب قال الحافظ بن حجر: أظن أن قوله: بالإجماع يتعلق- بانشق- لا بمرتين فإني لا أعلم من جزم من علماء الحديث بتعدد الانشقاق في زمنه صلى الله تعالى عليه وسلم، ولعل قائل مرتين أراد فرقتين، وهذا الذي لا يتجه غيره جمعا بين الروايات انتهى، ولا يخفى أن هذا التأويل مع بعده لا يتسنى في خبر ابن مسعود المذكور آنفا لمكان شقتين وهي بمعنى فرقتين ومرتين معا، والذي عندي في تأويل ذلك أن مرتين في كلام ابن مسعود قيد للرؤية وتعددها لا يقتضي تعدد الانشقاق بأن يكون رآه منشقا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 74 فصرف نظره عنه ثم أعاده فرآه كذلك لم يتغير ففيه إشارة إلى أنه رؤية لا شبهة فيها وقد فعل نحو ذلك الكفرة، أخرج أبو نعيم من طريق عطاء عن ابن عباس قال: انتهى أهل مكة إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا: هل من آية نعرف بها أنك رسول الله؟ فهبط جبريل عليه السلام فقال: يا محمد قل لأهل مكة أن يجتمعوا هذه الليلة يروا آية فأخبرهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بمقالة جبريل عليه السلام فخرجوا ليلة أربع عشرة فانشق القمر نصفين نصفا على الصفا ونصفا على المروة فنظروا ثم قالوا بأبصارهم فمسحوها ثم أعادوا النظر فنظروا ثم مسحوا أعينهم ثم نظروا فقالوا ما هذا إلا سحر فأنزل الله تعالى اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ فلو قال أحد هؤلاء رأيت القمر منشقا ثلاث مرات على معنى تعدد الرؤية صح بلا غبار ولم يقتض تعدد الانشقاق فليخرج كلام ابن مسعود على هذا الطرز ليجمع بين الروايات، ثم هذا الحديث إن صح كان دليلا لما أشار إليه البوصيري في قوله: شق عن صدره وشق له البد ... ر ومن شرط كل شرط جزاء من أن الشق كان ليلة أربع عشرة لأن البدر هو القمر ليلة أربع عشرة ويعلم من ذلك ما في قول العلامة ابن حجر الهيتمي في شرحه: ظاهر التعبير بالبدر دون القمر أن الشق كان ليلة أربع عشرة ولم أر له في ذلك سلفا، ولعله أراد بالبدر مطلق القمر، ويؤيد كونه ليلة البدر ما أخرجه الطبراني، وابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: كسف القمر على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا: سحر القمر فنزلت اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ إلى مُسْتَمِرٌّ فإن الكسوف وإن جاز عادة أن يكون ليلة الثالث عشر وليلة الخامس عشر إلا أن الأغلب كونه ليلة الرابع عشر ولا ضرورة إلى حمل الكسوف في هذا الخبر على الانشقاق إذ لا مانع كما في البداية والنهاية أن يكون قد حصل للقمر مع انشقاقه كسوف، نعم ذكر فيها أن سياق الخبر غريب. ثم إن القمر بعد انشقاقه لم تفارق قطعتاه السماء بل بقيتا فيها متباعدتين تباعدا ما لحظة ثم اتصلتا، وما يذكره بعض القصاص من أنه دخل في جيب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وخرج من كمه فباطل لا أصل له كما حكاه الشيخ بدر الدين الزركشي عن شيخه العماد بن كثير ولعنة الله تعالى على من وضعه. وما في خبر أبي نعيم- الذي أخرجه من طريق الضحاك عن ابن عباس من أنه انشق فصار قمرين أحدهما على الصفا والآخر على المروة قدر ما بين العصر إلى الليل ينظرون إليه ثم غاب- لا يعوّل عليه، كيف وقد تضمن ذلك الخبر أن الانشقاق وقع لطلب أحبار اليهود وأن القائل هذا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ هم، وهو مخالف لما نطقت به الأخبار الصحيحة الكثيرة كما لا يخفى على المتتبع، وقد شاع «أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أشار إلى القمر بسبابته الشريفة فانشق» ولم أره في خبر صحيح والله تعالى أعلم. وأنكر الفلاسفة أصل الانشقاق بناء على زعمهم استحالة الخرق والالتئام على الأجرام العلوية ودليلهم على ذلك أوهن من بيت العنكبوت وقد خرق بأدنى نسمة من نسمات أفكار أهل الحق العلويين خرقا لا يقبل الالتئام كما بين في موضعه، وقال بعض الملاحدة: لو وقع لنقل متواترا واشترك أهل الأرض كلهم في معرفته ولم يختص بها أهل مكة لأنه أمر محسوس مشاهد والناس فيه شركاء والطباع حريصة على رواية الغريب ونقل ما لم يعهد، ولا أغرب من انشقاق هذا الجرم العظيم ولم يعهد أصلا في الزمن القديم ولو كان له أصل لخلد أيضا في كتب التسيير والتنجيم ولذكره أهل الإرصاد فقد كانت موجودة قبل البعثة بكثير وإطباقهم على تركه وإغفاله مع جلالة شأنه ووضوح أمره مما لا تجوزه العادة، وأيضا لا يعقل سبب لخرق هذا الجرم العظيم وأيضا خرقه يوجب صوتا هائلا أشد من أصوات الصواعق المهلكة بأضعاف مضاعفة لا يبعد هلاك أكثر أهل الأرض منه، وأيضا متى خرق وصار قطعتين ذهبت منه قوة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 75 التجاذب كالجبل إذا انشق فيلزم بقاؤه منشقا ولا أقل من أن يبقى كذلك سنين كثيرة والجواب عن ذلك أنه وقع في الليل وزمان الغفلة وكان في زمان قليل ورؤية القمر في بلد لا تستلزم ورؤيته في جميع البلاد ضرورة اختلاف المطالع فقد يكون القمر طالعا على قوم غائبا عن آخرين ومكسوفا عند قوم غير مكسوف عند آخرين والاعتناء بأمر الأرصاد لم يكن بمثابته اليوم وغفلة أهلها لحظة غير مستبعد والانشقاق لا تختلف به منازله ولا يتغير به سيره غاية ما في الباب أن يحدث في القطعة الشرقية قوة سير لتلحق أختها الغربية، وأي مانع من أن يخلق الله تعالى فيها من السرعة نحو ما خلق الله سبحانه في ضوء الشمس فقد قال أهل الحكمة الجديدة: إن بين الأرض والشمس ثلاثمائة ألف فرسخ وأربعون ألف فرسخ وأن ضوءها ليصل إلى الأرض في مدة ثمان دقائق وثلاث عشرة ثانية فيقطع الضوء في كل ثانية سبعين ألف فرسخ ولا يلزم أن يعلم سبب كل حادث بل كثير من الحوادث المتكررة المشاهدة لم يوقف على أسبابها كرؤية الكواكب قريبة مع بعدها المفرط فقد ذكروا أنهم لم يقفوا على سببه ويكفي في ذلك عدم وقوفهم على سبب الإبصار بالعين على الحقيقة ولو أخبرهم مخبر بفرض إن لم يكن لهم إبصار بخواص البصر مع كونه قطعة شحم صغيرة معروفة أحوالها عند أهل التشريح لأنكروا عليه غاية الإنكار وكذبوه غاية التكذيب ونسبوه إلى الجنون. ومن سلم تأثير النفوس إلى حدّ أن يصرع الشخص آخر بمجرد النظر إليه وتوجيه نفسه نحوه لم يستبعد أن يكون هناك سبب نحو ذلك، وقد صح في إصابة العين أن بعض الأعراب ممن له عين صائبة يفلق سنام الناقة فلقتين، وربما تصور له من رمل فينظر إليه ويفلقه فينفلق سنامها مع عدم رؤيته لها نفسها وهذا كله من باب المماشاة وإلا فإرادة الله تعالى كافية في الانشقاق وكذا في كل المعجزات وخوارق العادات ولو كان لكل حادث سبب لزم التسلسل وقد قامت الأدلة على بطلانه، وكون الخرق يوجب صوتا هائلا ممنوع فيما نحن فيه ومصله ذهاب التجاذب والأجسام مختلفة من حيث الخواص فلا يلزم اتحاد جرم القمر والأرض فيها ويمكن أن يكون إحدى القطعتين كالجبل العظيم بالنسبة إلى الأرض إذا ارتفع عنها بقاسر مثلا جذبته إليه إذا لم يخرج عن حدّ جذبها على ما زعموه ويلتزم في تلك القطعة عدم الخروج عن حدّ الجذب على أنا في غنى عن كل ذلك أيضا بعد إثبات الإمكان وشمول قدرته عز وجل وأنه سبحانه فعال لما يريد. والحاصل أنه ليس عند المنكر سوى الاستبعاد ولا يستطيع أن يأتي بدليل على الاستحالة الذاتية ولو انشق، والاستبعاد في مثل هذه المقامات قريب من الجنون عند من له عقل سلم، وروي عن الحسن أنه قال: هذا الانشقاق بعد النفخة الثانية، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع، وروي ذلك عن عطاء أيضا، ويؤيد ما تقدم الذي عليه الأكثرون قراءة حذيفة وقد انشق القمر فإن الجملة عليها حالية فتقتضي المقارنة لاقتراب الساعة ووقوع الانشاق قبل يوم القيامة، وكذا قوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا فإنه يقتضي أن الانشقاق آية رأوها وأعرضوا عنها، وزعم بعضهم أن انشقاق القمر عبارة عن انشقاق الظلمة عند طلوعه وهذا كما يسمى الصبح فلقا عند انفلاق الظلمة عنه وقد يعبر عن الانفلاق بالانشقاق كما في قوله النابغة: فلما أدبروا ولهم دوي ... دعانا عند شق الصبح داعي وزعم آخر أن معنى انشق القمر وضح الأمر وظهر وكلا الزعمين مما لا يعول عليه ولا يلتفت إليه لا أظن الداعي إليهما عند من يقرّ بالساعة التي هي أعظم من الانشقاق ويعترف بالعقائد الإسلامية التي وقع عليها الاتفاق سوى عدم ثبوت الاخبار في وقوع ذلك على عهده عليه الصلاة والسلام عنده، ومنشأ ذلك القصور التام والتمسك بشبه هي على طرف الثمام، ومع هذا لا يكفر المنكر بناء على عدم الاتفاق على تواتر ذلك وعدم كون الآية نصا فيه، والإخراج من الجزء: 14 ¦ الصفحة: 76 الدين أمر عظيم فيحتاط فيه ما لا يحتاط في غيره والله تعالى الموفق. والظاهر أن المراد باقتراب الساعة القرب الشديد الزماني، وكل آت قريب، وزمان العالم مديد، والباقي بالنسبة إلى الماضي شيء يسير، ومال الإمام إلى أن المراد به قربها في العقول والأذهان، وحاصله أنها ممكنة إمكانا قريبا لا ينبغي لاحد إنكارها، واستعمال الاقتراب مع أنه أمر مقطوع به كاستعمال لَعَلَّ في قوله تعالى: لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً [الأحزاب: 63] مع أن الأمر معلوم عند الله تعالى وانشقاق القمر آية ظاهرة على هذا القرب، وعلى الاول قيل: هو آية لأصل الإمكان الذي يقتضيه قرب الوقوع، وقيل: هو آية لقرب الوقوع ومعجزة للنبي صلّى الله عليه وسلم باعتبار أن الله تعالى مخبر في كتبه السالفة بأنه إذا قربت الساعة انشق القمر معجزة وكلاهما كما ترى، واختار بعضهم أنه آية لصدق النبي عليه الصلاة والسلام في جميع ما يقول ويبلغ ربه سبحان لأنه معجزة له صلّى الله عليه وسلم ومنه دعوى الرسالة والإخبار باقتراب الساعة وغير ذلك، وآيَةً نكرة في سياق الشرط فتعم، فالمعنى «وإن يروا كل آية يعرضوا» عن التأمل فيها ليقفوا على وجه دلالتها وعلو طبقتها وَيَقُولُوا سِحْرٌ أي هذا أو هو أي ما نراه سحر مُسْتَمِرٌّ أي مطرد دائم يأتي به محمد صلى الله تعالى عليه وسلم على مر الزمان وهو ظاهر في ترادف الآيات وتتابع المعجزات. وقال أبو العالية والضحاك: مُسْتَمِرٌّ محكم موثق من المرة بالفتح أو الكسر بمعنى القوة وهو في الأصل مصدر مررت الحبل مرة إذا فتلته فتلا محكما فأريد به مطلق المحكم مجازا مرسلا، وقال أنس ويمان ومجاهد والكسائي والفراء- واختاره النحاس- مستمر أي مارّ ذاهب زائل عن قريب عللوا بذلك أنفسهم ومنوها بالأماني الفارغة كأنهم قالوا: إن حاله عليه الصلاة والسلام وما ظهر من معجزاته سبحانه سحابة صيف عن قريب تقشع وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ [التوبة: 32] وقيل: مُسْتَمِرٌّ مشتدّ المرارة أي مستبشع عندنا منفور عنه لشدة مرارته يقال: مرّ الشيء وأمرّ إذا صار مرّا وأمرّ غيره ومرّه يكون لازما ومتعديا، وقيل: مُسْتَمِرٌّ يشبه بعضه بعضا أي استمرت أفعاله على هذا الوجه من التخييلات، وقيل: مُسْتَمِرٌّ مار من الأرض إلى السماء أي بلغ من سحره أنه سحر القمر وهذا ليس بشيء، ولعل الأنسب بغلوهم في العناد والمكابرة ما روي عن أنس ومن معه، وقرىء- وأن يروا- بالبناء للمفعول من الاراءة وَكَذَّبُوا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وبما أظهره الله تعالى على يده من الآيات وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ التي زينها الشيطان لهم، وقيل: كَذَّبُوا الآية التي هي انشقاق القمر وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وقالوا سحر القمر أو سحرت أعيننا والقمر بحاله، والعطف على الجزاء السابق وصيغة الماضي للدلالة على التحقق، وقيل: العطف على اقْتَرَبَتِ والجملة الشرطية اعتراض لبيان عادتهم إذا شاهدوا الآيات، وقوله تعالى: وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ استئناف مسوق للرد على الكفار في تكذيبهم ببيان أنه لا فائدة لهم فيه ولا يمنع علو شأنه صلى الله تعالى عليه وسلم، أو لإقناطهم عما علقوا به أمانيهم الفارغة من عدم استقرار أمره عليه الصلاة والسلام حسبما قالوا: سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ببيان ثبوته ورسوخه أي وكل أمر من الأمور منته إلى غاية يستقر عليها لا محالة ومن جملتها أمر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فسيصير إلى غاية يتبين عندها حقيته وعلو شأنه، وللإشارة إلى ظهور هذه الغاية لأمره عليه الصلاة والسلام لم يصرح بالمستقر عليه، وفي الكشاف أي كل أمر لا بدّ أن يصير إلى غاية يستقر عليها وأن أمره صلّى الله عليه وسلم سيصير إلى غاية يتبين عندها أنه حق أو باطل وسيظهر له عاقبتهم أو وكل أمر من أمره عليه الصلاة والسلام وأمرهم مستقر أي سيثبت ويستقر على حالة نصرة أو خذلان في الدنيا أو سعادة وشقاوة في الآخرة، قال في الكشف: والكلام على الأول تذييل جار مجرى المثل وعلى الثاني تذييل غير مستقل، وقرأ شيبة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 77 «مستقر» بفتح القاف ورويت عن نافع، وزعم أبو حاتم أنها لا وجه لها وخرجت على أن مستقرا مصدر بمعنى استقرار، وحمله على كل أمر بتقدير مضاف أي ذو مستقر ولو لم يقدر وقصد المبالغة صح، وجوز كونه اسم زمان أو مكان بتقدير مضاف أيضا أي ذو زمان استقرار، أو ذو موضع استقرار، وتعقب بأن كون كل أمر لا بد له من زمان أو مكان أمر معلوم لا فائدة في الأخبار به، وأجيب بأن فيه إثبات الاستقرار له بطريق الكناية وهي أبلغ من التصريح. وقرأ زيد بن علي «مستقر» بكسر القاف والجر، وخرج على أنه صفة أمر وأن كل معطوف على الساعة أي اقتربت الساعة واقترب كل أمر يستقر ويتبين حاله أي بقربها، قال في الكشف: وفيه شمة من التجريد وتهويل عظيم حيث جعل في اقترابها اقتراب كل أمر يكون له قرار وتبين حال مما له وقع، وقوله تعالى: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ على هذا إما على تقدير قد وينصره القراءة بها، وإما منزل منزلة الإعراض لكونه مؤكدا لقرب الساعة، وقوله سبحانه: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً إلخ مستطرد عند ذكر انشقاق القمر. واعترض ذلك أبو حيان بأنه بعيد لكثرة الفواصل بين المعطوف والمعطوف عليه وجعل الكلام عليه نظير- أكلت خبزا، وضربت خالدا، وإن يجىء زيد أكرمه، ورحل إلى بني فلان، ولحما بعطف- لحما على خبزا- ثم قال بل لا يوجد مثله في كلام العرب، وتعقب بأنه ليس بشيء لأنه إذا دل على العطف الدليل لا يعد ذلك مانعا منه على أن بين الآية والمثال فرقا لا يخفى، وقال صاحب اللوامح إن مُسْتَقِرٌّ خبر كل، والجر للجوار، واعترضه أبو حيان أيضا بأنه ليس بجيد لأن الجر على الجوار في غاية الشذوذ في مثله إذ لم يعهد في خبر المبتدأ، وإنما عهد في الصفة على اختلاف النحاة في وجوده، واستظهر كون كل مبتدأ وخبره مقدر كآت، أو معمول به ونحوه مما يشعر به الكلام أو مذكور بعد وهو قوله تعالى: حِكْمَةٌ بالِغَةٌ وقد اعترض بينهما بقوله سبحانه: وَلَقَدْ جاءَهُمْ في القرآن مِنَ الْأَنْباءِ أي أخبار القرون الخالية أو أخبار الآخرة، والجار والمجرور في موضع الحال من ما في قوله عز وجل: ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ قدم عليه رعاية للفاصلة وتتويقا إليه ومِنَ للتبعيض، أو للتبيين بناء على المختار من جواز تقديمه على المبين، قال الرضى: إنما جاز تقديم مِنَ المبينة على المبهم في نحو- عندي من المال ما يكفي- لأنه في الأصل صفة لمقدر أي شيء من المال، والمذكور عطف بيان للمبين المقدر قبلها ليحصل البيان بعد الإبهام أي بالله لقد جاءهم كائنا من الأنباء ما فيه ازدجار لهم ومنع عما هم فيه من القبائح، أو موضع ازدجار ومنع، وهي أنباء التعذيب، أو أنباء الوعيد، وأصل مُزْدَجَرٌ مزتجر بالتاء موضع الدال وتاء الافتعال تقلب دالا مع الدال والذال والراء للتناسب، وقرىء مزجر بقلبها زايا وإدغام الزاي فيها، وقرأ زيد بن علي مزجر اسم فاعل من أزجر أي صار ذا زجر كأعشب صار ذا عشب حِكْمَةٌ بالِغَةٌ أي واصلة غاية الإحكام لا خلل فيها، ورفع حِكْمَةٌ على أنها بدل كل، أو اشتمال من ما، وقيل: من مُزْدَجَرٌ أو خبر مبتدأ محذوف أي هي، أو هذه على أن الإشارة لما يشعر به الكلام من إرسال الرسل وإيضاح الدليل والإنذار لمن مضى، أو إلى ما في الأنباء، أو إلى الساعة المقتربة، والآية الدالة عليها- كما قاله الإمام وتقدم آنفا- احتمال كونها خبرا عن كل في قراءة زيد، وقرأ اليماني حِكْمَةٌ بالِغَةٌ بالنصب حالا من ما فإنها موصولة أو نكرة موصوفة، ويجوز مجيء الحال منها مع تأخرها أو هو بتقدير أعني. فَما تُغْنِ النُّذُرُ نفى للإغناء أو استفهام إنكاري والفاء لترتيب عدم الإغناء على مجيء الحكمة البالغة مع كونه مظنة الإغناء وصيغة المضارع للدلالة على التجدد والاستمرار، وما على الوجه الثاني في محل نصب على أنها مفعول مطلق أي فأي إغناء تغني النذر، وجوز أن تكون في محل رفع على الابتداء، والجملة بعدها خبر، والعائد مقدر أي فما تغنيه النذر وهو جمع نذير بمعنى المنذر، وجوز أن يكون جمع نذير بمعنى الإنذار، وتعقب بأن حق الجزء: 14 ¦ الصفحة: 78 المصدر أن لا يثنى ولا يجمع وأن يكون مصدرا كالإنذار، وتعقب بأنه يأباه تأنيث الفعل المسند إليه وكونه باعتبار أنه بمعنى النذارة لا يخفى حاله فَتَوَلَّ عَنْهُمْ الفاء للسببية والمسبب التولي أو الأمر به والسبب عدم الاعناء أو العلم به، والمراد بالتولي إما عدم القتال، فالآية منسوخة، وإما ترك الجدال للجلاد فهي محكمة والظاهر الأول يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ ظرف- ليخرجون- أو مفعول به لاذكر مقدرا، وقيل: لا نتظر، وجوز أن يكون ظرفا لتغني، أو لمستقر وما بينهما اعتراض، أو ظرفا- ليقول الكافر- أو- لتول- أي تول عن الشفاعة لهم يوم القيامة، أو هو معمول له بتقدير إلى، وعليه قول الحسن- فتول عنهم إلى يوم.. والمراد استمرار التولي والكل كما ترى، والداعي إسرافيل عليه السلام، وقيل: جبرائيل عليه السلام، وقيل: ملك غيرهما موكل بذلك، وجوز أن يكون الدعاء للإعادة في ذلك اليوم كالأمر في كُنْ فَيَكُونُ [البقرة: 117] وغيرها على القول بأنه تمثيل، فالداعي حينئذ هو الله عز وجل، وحذفت الواو من يَدْعُ لفظا لالتقاء الساكنين ورسما اتباعا للفظ، والياء من الدَّاعِ تخفيفا، وإجراء لال مجرى التنوين لأنها تعاقبه، والشيء يحمل على ضده كما يحمل على نظيره إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ أي فظيع تنكره النفوس لعدم العهد بمثله وهو هول القيامة ويكنى بالنكر عن الفظيع لأنه في الغالب منكر غير معهود، وجوز أن يكون من الإنكار ضد الإقرار وأيما كان فهو وصف على فعل بضمتين وهو قليل في الصفات، ومنه- روضة أنف لم ترع، ورجل شلل خفيف في الحاجة سريع حسن الصحبة طيب النفس، وسجح لين سهل وقرأ الحسن وابن كثير وشبل «نكر» بإسكان الكاف كما قالوا: شغل وشغل، وعسر وعسر وهو إسكان تخفيف، أو السكون هو الأصل والضم للإتباع، وقرأ مجاهد وأبو قلابة والجحدري وزيد بن علي «نكر» فعلا ماضيا مبنيا للمفعول بمعنى أنكر خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ حال من فاعل يَخْرُجُونَ أي يخرجون مِنَ الْأَجْداثِ أي القبور أذلة أبصارهم من شدة الهول أي أذلاء من ذلك، وقدم الحال لتصرف العامل والاهتمام، وفيه دليل على بطلان مذهب الجرمي من عدم تجويز تقدم الحال على الفعل وإن كان متصرفا، ويرده أيضا قولهم: شتى تؤب الحلبة، وقوله: سريعا يهون الصعب عند أولي النهى ... إذا برجاء صادق قابلوا البأسا وجعل حالا من ذلك لقوله تعالى: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً [المعارج: 43] إلى قوله تعالى: خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ [المعارج: 43- 44] وقيل: هو حال من الضمير المفعول المحذوف في يَدْعُ الدَّاعِ أي يدعوهم الداع وتعقب بأنه لا يطابق المنزل وأيضا يصير حالا مقدرة لأن الدعاء ليس حال خشوع البصر وليست في الكثرة كغيرها وكذلك جعله مفعول- يدعو- على معنى يدعو فريقا خاشعا أبصارهم أي سيخشع وإن كان هذا أقرب مما قبل: وقيل: هو حال من الضمير المجرور في قوله تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ وفيه ما لا يخفى، وأبصارهم فاعل خشعا وطابقه الوصف في الجمع لأنه إذا كسر لم يشبه الفعل لفظا فتحسن فيه المطابقة وهذا بخلاف ما إذا جمع جمع مذكر سالم فإنه لم يتغير زنته وشبهه للفعل فينبغي أن لا يجمع إذا رفع الظاهر المجموع على اللغة الفصيحة دون لغة أكلوني البراغيث، لكن الجمع حينئذ في الاسم أخف منه في الفعل كما قال الرضى، ووجهه ظاهر، وفي التسهيل إذا رفعت الصفة اسما ظاهرا مجموعا فان أمكن تكسيرها- كمررت برجل قيام غلمانه- فهو أولى من إفرادها- كمررت برجل قائم غلمانه- وهذا قول المبرد ومن تبعه والسماع شاهد له كقوله: وقوفا بها صحبي عليّ مطيهم ... يقولون لا تهلك أسى وتجمّل الجزء: 14 ¦ الصفحة: 79 وقوله: بمطرد لدن صحاح كعوبه ... وذي رونق عضب يقد القوانسا وقال الجمهور: الإفراد أولى والقياس معهم، وعليه قوله: ورجال حسن أوجههم ... من إياد بن نزار بن معد وقيل: إن تبع مفردا فالإفراد أولى- كرجل قائم غلمانه- وإن تبع جمعا فالجمع أولى- كرجال قيام غلمانهم- وأما التثنية والجمع السالم فعلى لغة أكلونى البراغيث وجوز أن يكون في خُشَّعاً ضمير مستتر، وأَبْصارُهُمْ بدلا منه، وقرأ ابن عباس وابن جبير ومجاهد والجحدري وأبو عمرو وحمزة والكسائي- خاشعا- بالإفراد، وقرأ أبيّ وابن مسعود «خاشعة» وقرىء «خشع» على أنه خبر مقدم، وأَبْصارُهُمْ مبتدأ، والجملة في موضع الحال، وقوله تعالى: كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ حال أيضا وتشبيههم بالجراد المنتشر في الكثرة والتموج والانتشار في الأقطار، وجاء تشبيههم بالفراش المبثوث ولهم يوم الخروج سهم من الشبه لكل، وقيل: يكونون أولا كالفراش حين يموجون فزعين لا يهتدون أين يتوجهون لأن الفراش لا جهة لها تقصدها، ثم كالجراد المنتشر إذا توجهوا إلى المحشر فهما تشبيهان باعتبار وقتين، وحكي ذلك عن مكي بن أبي طالب. مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ مسرعين إليه قال أبو عبيدة: وزاد بعضهم مادّي أعناقهم، وآخر مع هز ورهق ومدّ بصر، وقال عكرمة: فاتحين آذانهم إلى الصوت، وعن ابن عباس ناظرين إليه لا تقلع أبصارهم عنه وأنشد قول تبع: تعبدني نمر بن سعد وقد أرى ... ونمر بن سعد لي مطيع ومهطع وفي رواية أنه فسره بخاضعين وأنشد البيت، وقيل: خافضين ما بين أعينهم، وقال سفيان: شاخصة أبصارهم إلى السماء، وقيل: أصل الهطع مد العنق، أو مد البصر، ثم يكنى به عن الإسراع، أو عن النظر والتأمل فلا تغفل، يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ صعب شديد لما يشاهدون من مخايل هوله وما يرتقبون من سوء منقلبهم فيه، وفي إسناد القول المذكور إلى الكفار تلويح بأنه على المؤمنين ليس كذلك. كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ شروع في تعداد بعض ما ذكر من الأنبياء الموجبة للازدجار ونوع تفصيل لها وبيان لعدم تأثرهم بها تقريرا لفحوى قوله تعالى: فَما تُغْنِ النُّذُرُ والفعل منزل منزلة اللازم أي فعلت التكذيب قبل تكذيب قومك قوم نوح: وقوله تعالى: فَكَذَّبُوا عَبْدَنا تفسير لذلك التكذيب المبهم كما في قوله تعالى: وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ [هود: 45] إلخ، وفيه مزيد تحقيق وتقرير للتكذيب، وجوز أن يكون المعنى كذبوا تكذيبا إثر تكذيب كلما خلا منهم قرن مكذب جاء عقيبه قرن آخر مكذب مثله، أو كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا أي لما كانوا مكذبين للرسل جاحدين للنبوة رأسا كذبوا نوحا لأنه من جملة الرسل، والفاء عليه سببية، وقيل: معنى كذبت قصدت التكذيب وابتدأته، ومعنى فكذبوا أتموه وبلغوا نهايته كما قيل في قوله: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 80 وقد جبر الدين الإله فجبر وفي ذكره عليه السلام بعنوان العبودية مع الإضافة إلى نون العظمة تفخيم له عليه السلام ورفع لمحله وتشنيع لمكذبيه. وَقالُوا مَجْنُونٌ أي لم يقتصروا على مجرد التكذيب بل نسبوه إلى الجنون فقالوا هو مجنون وَازْدُجِرَ عطف على- قالوا- وهو إخبار منه عز وجل أي وزجر عن التبليغ بأنواع الأذية والتخويف قاله ابن زيد، وقرأ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ [الشعراء: 116] وقال مجاهد: هو من تمام قولهم أي هو مجنون، وقد ازدجرته الجن وذهبت بلبّه وتخبطته، والأول أظهر وأبلغ، وجعل مبنيا للمفعول لغرض الفاصلة، وطهر الألسنة عن ذكرهم دلالة على أن فعلهم أسوأ من قولهم فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي أي بأني. وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى والأعمش وزيد بن علي- ورويت عن عاصم- «إني» بكسر الهمزة على إضمار القول عند البصريين، وعلى إجراء الدعاء مجرى القول عند الكوفيين مَغْلُوبٌ من جهة قومي مالي قدرة على الانتقام منهم فَانْتَصِرْ فانتقم لي منهم، وقيل: فانتصر لنفسك إذ كذبوا رسولك، وقيل: المراد- بمغلوب- غلبتني نفسي حتى دعوت عليهم بالهلاك وهو خلاف الظاهر وما دعا عليه السلام عليهم إلا بعد اليأس من إيمانهم، والتأكيد لمزيد الاعتناء بأمر الترحم المقصود من الأخبار. فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ أي منصب، وقيل: كثير قال الشاعر: أعيناي جودا بالدموع الهوامر ... على خير باد من معد وحاضر والباء للآلة مثلها في فتحت الباب بالمفتاح، وجوز أن تكون للملابسة والأول أبلغ، وفي الكلام استعارة تمثيلية بتشبيه تدفق المطر من السحاب بانصباب أنهار انفتحت بها أبواب السماء وانشق أديم الخضراء، وهو الذي ذهب إليه الجمهور، وذهب قوم إلى أنه على حقيقته وهو ظاهر كلام ابن عباس. أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أنه قال: لم تمطر السماء قبل ذلك اليوم ولا بعده إلا من السحاب، وفتحت أبواب السماء بالماء من غير سحاب ذلك اليوم فالتقى الماءان، وفي رواية لم تقلع أربعين يوما، وعن النقاش أنه أريد بالأبواب المجرة وهي شرج السماء كشرج العيبة! والمعروف من الأرصاد أن المجرة كواكب صغار متقاربة جدا، والله تعالى أعلم. ومن العجيب أنهم كانوا يطلبون المطر سنين فأهلكهم الله تعالى بمطلوبهم، وقرأ ابن عامر وأبو جعفر والأعرج ويعقوب «ففتحنا» بالتشديد لكثرة الأبواب، والظاهر أن جمع القلة هنا للكثرة وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون متفجرة وأصله فجرنا عيون الأرض فغير إلى التمييز للمبالغة بجعل الأرض كلها متفجرة مع الإبهام والتفسير، فالتمييز محول عن المفعول، وجعله بعضهم محولا عن الفاعل بناء على أنه الأكثر، الأصل انفجرت عيون الأرض وتحويله كما يكون عن فاعل الفعل المذكور يكون عن فاعل فعل آخر يلاقيه في الاشتقاق- وهذا منه- وهو تكلف لا حاجة إليه، ومنع بعضهم مجيء التمييز من المفعول فأعرب عُيُوناً حالا مقدرة، وجوز عليه أن يكون مفعولا ثانيا لفجرنا على تضمينه ما يتعدى إليه أي صيرنا بالتفجير الأرض عيونا وكان ذلك على ما في بعض الروايات أربعين يوما، وقرأ عبد الله وأصحابه وأبو حيوة والمفضل عن عاصم «فجرنا» بالتخفيف فَالْتَقَى الْماءُ أي ماء السماء وماء الأرض، والإفراد لتحقيق أن التقاء الماءين لم يكن بطريق المجاورة بل بطريق الاختلاط والاتحاد، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والحسن ومحمد بن كعب والجحدري- الماءان- والتثنية لقصد بيان اختلاف النوعين وإلا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 81 فالماء شامل لماء السماء وماء الأرض، ونحوه قوله: لنا إبلان فيهما ما علمتم ... فعن أيها ما شئتم فتنكبوا وقيل: فيها إشارة إلى أن ماء الأرض فار بقوة وارتفع حتى لاقى ماء السماء وفي ذلك مبالغة لا تفهم من الإفراد، وقرأ الحسن أيضا- ماوان- بقلب الهمز واوا كقولهم: علباوان كما قال الزمخشري، ولم يرد أنه نظيره بل أراد كما أن هنالك إبدالا بعلة أنها غير أصلية لانها زائدة للإلحاق كذلك هاهنا لانها مبدلة والبدل وإن كان من الهاء لكنها أجريت مجرى البدل عن الواو قاسه على النسبة كذا في الكشف، وعنه أيضا المايان بقلب الهمزة ياء. عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ أي كائنا على حال قد قدرها الله تعالى في الأزل من غير تفاوت أو على حال قدرت وسويت وهي أن ما نزل على قدر ما خرج. وقيل: إن ماء الأرض علا سبعة عشر ذراعا ونزل ماء السماء مكملا أربعين، وقيل: ما الأرض كان أكثر وله مقدار معين عند الله عز وجل، أو على أمر قدره الله تعالى وكتبه في اللوح المحفوظ وهو هلاك قوم نوح بالطوفان. ورجحه أبو حيان بأن كل قصة ذكرت بعد ذكر الله تعالى فيها هلاك المكذبين فيكون هذا كناية عن هلاك هؤلاء، وعَلى عليه للتعليل، ويحتمل تعلقها بالتقى. وفيه ردّ على أهل الأحكام النجومية حيث زعموا أن الطوفان لاجتماع الكواكب السبعة ما عدا الزهرة في برج مائي، وقرأ أبو حيوة وابن مقسم «قدّر» بتشديد الدال وَحَمَلْناهُ أي نوحا عليه السلام عَلى ذاتِ أَلْواحٍ أخشاب عريضة وَدُسُرٍ أي مسامير كما قاله الجمهور وابن عباس في رواية ابن جرير، وابن المنذر جمع دسار ككتاب وكتب، وقيل: دُسُرٍ كسقف وسقف. وأصل الدسر الدفع الشديد بقهر فسمي به المسمار لأنه يدق فيدفع بشدة. وقيل: حبال من ليف تشد بها السفن. وقال الليث: خيوط تشد بها ألواحها، وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة والحسن أنها مقاديم السفينة وصدرها الذي تضرب به الموج وتدفعه. وروي عن ابن عباس نحوه. وأخرج عن مجاهد أنها عوارض السفينة أي الخشبات التي تعرض في وسطها. وفي رواية عنه هي أضلاع السفينة. وأيا ما كان فقوله تعالى: ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ من الصفات التي تقوم مقام الموصوفات على سبيل الكناية كقولهم: حي مستوي القامة عريض الأظفار في الكناية عن الإنسان وهو من فصيح الكلام وبديعه. ونظير الآية قول الشاعر: مفرشي صهوة الحصان ولكن ... قميصي مسرودة من حديد فإنه أراد قميصي درع وقوله يصف هزال الإبل: تراءى لها في كل عين مقابل ... ولو في عيون النازيات بأكرع فإنه أراد في عيون الجراد لأن النزو بالأكرع يختص بها. وأما كونه على حذف الموصوف لدلالة الصفة عليه على ما في المفصل وغيره فكلام نحوي تَجْرِي بِأَعْيُنِنا بمرأى منا. وكني به عن الحفظ أي تجري في ذلك الماء بحفظنا وكلاءتنا، وقيل: بأوليائنا يعني نوحا عليه السلام ومن آمن معه يقال: مات عين من عيون الله تعالى أو ولي من أوليائه سبحانه، وقيل: بأعين بالماء التي فجرناها، وقيل: بالحفظة من الملائكة عليه السلام سماهم أعينا وأضافهم إليه جل شأنه والأول أظهر، وقرأ زيد بن علي. وأبو السمال- بأعينا- بالإدغام. جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ أي فعلنا ذلك جزاء لنوح عليه السلام فإنه كان نعمة أنعمها الله تعالى على قومه فكفروها وكذا كل نبي نعمة من الله تعالى على أمته، وجوز أن يكون على حذف الجار وإيصال الفعل إلى الضمير الجزء: 14 ¦ الصفحة: 82 واستتاره في الفعل بعد انقلابه مرفوعا أي لمن كفر به وهو نوح عليه السلام أيضا أي جحدت نبوته، فالكفر عليه ضد الإيمان، وعلى الأول كفران النعمة، وعن ابن عباس ومجاهد من يراد به الله تعالى كأنه قيل: غضبا وانتصارا لله عز وجل وهو كما ترى، وقرأ مسلمة بن محارب- كفر- بإسكان الفاء خفف فعل كما في قوله: لو عصر منه البان والمسك انعصر وقرأ يزيد بن رومان وقتادة وعيسى «كفر» مبنيا للفاعل فمن يراد بها قوم نوح عليه السلام لا غير، وفي هذه القراءة دليل على وقوع الماضي بغير قد خبرا لكان وهو مذهب البصريين وغيرهم يقول لا بد من وقوع قد ظاهرة أو مقدرة، وجوز أن تكون كانَ زائدة كأنه قيل: جزاء لمن كُفِرَ ولم يؤمن وَلَقَدْ تَرَكْناها أي أبقينا السفينة آيَةً بناء على ما روي عن قتادة والنقاش أنه بقي خشبها على الجودي حتى رآه بعض أوائل هذه الأمة، أو أبقينا خبرها، أو أبقينا جنسها وذلك بإبقاء السفن، أو- تركنا- بمعنى جعلنا، وجوز كون الضمير للفعلة وهي إنجاء نوح عليه السلام ومن معه وإغراق الكافرين فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أي معتبر بتلك الآية الحرّية بالاعتبار، وقرأ قتادة على ما نقل ابن عطية- مذكر- بالذال المعجمة على قلب تاء الافتعال ذالا وإدغام الذال في الذال، وقال صاحب اللوامح: قرأ قتادة فهل من- مذكر- بتشديد الكاف من التذكير أي من يذكر نفسه أو غيره بها، وقرىء مذتكر بذال معجمة بعدها تاء الافتعال كما هو الأصل فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ استفهام تعظيم وتعجيب أي كانا على كيفية هائلة لا يحيط بها الوصف، والنذر- مصدر كالإنذار، وقيل: جمع نذير بمعنى الإنذار، وجعله بعضهم بمعنى المنذر منه، وليس بشيء، وكذا جعله بمعنى المنذر، وكان يحتمل أن تكون ناقصة فكيف في موضع الخبر؟ وتامة فكيف في موضع الحال؟ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ إلخ جملة قسمية وردت في آخر القصص الأربع تقريرا لمضمون ما سبق من قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَهُمْ إلخ وتنبيها على أن كل قصة منها مستقلة بإيجاب الادكار كافية في الازدجار، ومع ذلك لم يحصل فيها اعتبار، أي وبالله لقد سهلنا القرآن لقومك بأن أنزلناه على لغتهم وشحنّاه بأنواع المواعظ والعبر وصرفنا فيه من الوعيد والوعد لِلذِّكْرِ أي للتذكر والاتعاظ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ إنكار ونفي للمتعظ على أبلغ وجه وآكده يدل على أنه لا يقدر أحد أن يجيب المستفهم بنعم، وقيل: المعنى سهلنا القرآن للحفظ لما اشتمل عليه من حسن النظم وسلاسة اللفظ وشرف المعاني وصحتها وعروّه عن الوحشي ونحوه فله تعلق بالقلوب وحلاوة في السمع فهل من طالب لحفظه ليعان عليه؟ ومن هنا قال ابن جبير: لم يستظهر شيء من الكتب الإلهية غير القرآن، وأخرج ابن المنذر، وجماعة عن مجاهد أنه قال: يسرنا القرآن. هونّا قراءته. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: لولا أن الله تعالى يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن يتكلم بكلام الله تعالى. وأخرج الديلمي عن أنس مرفوعا مثله. وأخرج ابن المنذر عن ابن سيرين أنه مرّ برجل يقول سورة خفيفة فقال: لا تقل ذلك ولكن قل سورة يسيرة لأن الله تعالى يقول: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ والمعنى الذي ذكر أولا أنسب بالمقام، ولعل خبر أنس إن صح ليس تفسيرا للآية، وجوز تفسير يَسَّرْنَا بهيأنا من قولهم: يسر ناقته للسفر إذا رحلها، ويسر فرسه للغزو إذا أسرجه وألجمه قال الشاعر: وقمت إليه باللجام ميسرا ... هنالك يجزيني الذي كنت أصنع كَذَّبَتْ عادٌ شروع في قصة أخرى ولم تعطف وكذا ما بعدها من القصص إشارة إلى أن كل قصة مستقلة في القصد والاتعاظ ولما لم يكن لقوم نوح اسم علم ذكروا بعنوان الإضافة ولما كان لقوم هود علم وهو عادٌ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 83 ذكروا به لأنه أبلغ في التعريف، والمراد كذبت عاد هودا عليه السلام ولم يتعرض لكيفية تكذيبهم له عليه السلام روما للاختصار ومسارعة إلى بيان ما فيه الازدجار من العذاب، وقوله: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ لتوجيه قلوب السامعين نحو الإصغاء إلى ما يلقى إليهم قبل ذكره لا لتهويله وتعظيمه وتعجيبهم من حاله بعد بيانه كما قبله وما بعده كأنه قيل: كَذَّبَتْ عادٌ فهل سمعتم، أو فاسمعوا كيف عذابي وإنذاري لهم، وقيل: هو للتهويل أيضا لغرابة ما عذبوا به من الريح وانفراده بهذا النوع من العذاب، وفيه بحث، وقوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً استئناف لبيان ما أجمل أولا، والصرصر الباردة على ما روي عن ابن عباس وقتادة والضحاك، وقيل: شديد الصوت وتمام الكلام قد مر في «فصلت» . فِي يَوْمِ نَحْسٍ شؤم عليهم مُسْتَمِرٍّ ذلك الشؤم لأنهم بعد أن أهلكوا لم يزالوا معذبين في البرزخ حتى يدخلوا جهنم يوم القيامة، والمراد باليوم مطلق الزمان لقوله تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ [فصلت: 16] ، وقوله سبحانه: سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً [الحاقة: 7] المشهور أنه يوم الأربعاء وكان آخر شوّال على معنى أن ابتداء إرسال الريح كان فيه فلا ينافي آيتي «فصلت» و «الحاقة» . وجوز كون مُسْتَمِرٍّ صفة يوم أي في يوم استمر عليهم حتى أهلكهم، أو شمل كبيرهم وصغيرهم حتى لم تبق منهم نسمة على أن الاستمرار بحسب الزمان أو بحسب الأشخاص والأفراد لكن على الأول لا بد من تجوز بإرادة استمرار نحسه، أو بجعل اليوم بمعنى مطلق الزمان لأن اليوم الواحد لم يستمر فتدبر، وجوز كون مُسْتَمِرٍّ بمعنى محكم وكونه بمعنى شديد المرارة وهو مجاز عن بشاعته وشدة هوله إذ لا طعم له، وجوز كونه بدلا، أو عطف بيان وهو كما ترى، وقرأ الحسن «يوم نحس» بتنوين يوم وكسر حاء نحس، وجعله صفة ليوم فيتعين كون مُسْتَمِرٍّ صفة ثانية له، وأيد بعضهم بالآية ما أخرجه وكيع في الغرر وابن مردويه والخطيب البغدادي عن ابن عباس مرفوعا آخر أربعاء في الشهر يوم نحس مستمر وأخذ بذلك كثير من الناس فتطيروا منه وتركوا السعي لمصالحهم فيه ويقولون له: أربعاء لا تدور، وعليه قوله: لقاؤك للمبكر فأل سوء ... ووجهك- أربعاء لا تدور- وذلك مما لا ينبغي، والحديث المذكور في سنده مسلمة بن الصلت قال أبو حاتم: متروك، وجزم ابن الجوزي بوضعه وقال ابن رجب: حديث لا يصح ورفعه غير متفق عليه فقد رواه الطيوري من طريق آخر موقوفا على ابن عباس، وقال السخاوي: طرقه كلها واهية، وضعفوا أيضا خبر الطبراني يوم الأربعاء يوم نحس مستمر، والآية قد علمت معناها، وجاء في الأخبار والآثار ما يشعر بمدحه ففي منهاج الحليمي، وشعب البيهقي أن الدعاء يستجاب يوم الأربعاء بعيد الزوال، وذكر برهان الإسلام في تعليم المتعلم عن صاحب الهداية أنا ما بدىء شيء يوم الأربعاء إلا وتم وهو يوم خلق الله تعالى فيه النور فلذلك كان جمع من المشايخ يتحرون ابتداء الجلوس للتدريس فيه، واستحب بعضهم غرس الأشجار فيه لخبر ابن حيان والديلمي عن جابر مرفوعا «من غرس الأشجار يوم الأربعاء وقال: سبحان الباعث الوارث أتته أكلها» نعم جاءت أخبار وآثار تشعر بخلاف ذلك، ففي الفردوس عن عائشة مرفوعا «لولا أن تكره أمتي لأمرتها أن لا يسافروا يوم الأربعاء، وأحب الأيام إليّ الشخوص فيها يوم الخميس» وهو غير معلوم الصحة عندي. وأخرج أبو يعلى عن ابن عباس. وابن عدي وتمام في فوائده عن أبي سعيد مرفوعا يوم السبت يوم مكر وخديعة ويوم الأحد يوم غرس وبناء ويوم الاثنين يوم سفر وطلب رزق ويوم الثلاثاء يوم حديد وبأس. ويوم الأربعاء لا أخذ ولا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 84 عطاء. ويوم الخميس يوم طلب الحوائج والدخول على السلطان. والجمعة يوم خطبة ونكاح، وتعقبه السخاوي بأن سنده ضعيف، وروى ابن ماجة عن ابن عمر مرفوعا ، وخرجه الحاكم من طريقين آخرين «لا يبدو جذام ولا برص إلا يوم الأربعاء» وفي بعض الآثار النهي عن قص الأظفار يوم الأربعاء وأنه يورث البرص ، وكره بعضهم عيادة المرضى فيه، وعليه قيل: لم يؤت في الأربعاء مريض ... إلا دفناه في الخميس وحكي عن بعضهم أنه قال لأخيه: اخرج معي في حاجة فقال: هو الأربعاء قال: فيه ولد يونس قال: لا جرم قد بانت له بركته في اتساع موضعه وحسن كسوته حتى خلصه الله تعالى قال: وفيه ولد يوسف عليه السلام قال: فما أحسن ما فعل أخوته حتى طال حبسه وغربته قال: وفيه نصر المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم يوم الأحزاب قال: أجل لكن- بعد أن زاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر- ونقل المناوي عن البحر أن أخباره عليه الصلاة والسلام عن نحوسه آخر أربعاء في الشهر من باب التطير ضرورة أنه ليس من الدين بل فعل الجاهلية ولا مبني على قول المنجمين أنه يوم عطارد وهو نحس مع النحوس سعد مع السعود فإنه قول باطل، ويجوز أن يكون من باب التخويف والتحذير أي احذروا ذلك اليوم لما نزل فيه من العذاب وكان فيه من الهلاك وجددوا فيه لله تعالى توبة خوفا أن يلحقكم فيه بؤس كما وقع لمن قبلهم، وهذا كما قال حين أتى الحجر: لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين إلى غير ذلك، وحكي أيضا عن بعضهم أنه قال: التطير مكروه كراهية شرعية إلا أن الشرع أباح لمن أصابه في آخر أربعاء شيء في مصالحه أن يدع التصرف فيه لا على جهة التطير واعتقاد أنه يضر أو ينفع بغير إذن الله تعالى بل على جهة اعتقاد إباحة الإمساك فيه لما كرهته النفس لا اقتفاءا للتطير ولكن إثباتا للرخصة في التوقي فيه لمن يشاء مع وجوب اعتقاد أن شيئا لا يضر شيئا ونقل عن الحليمي أنه قال: علمنا ببيان الشريعة أن من الأيام نحسا، ويقابل النحس السعد وإذا ثبت الأول ثبت الثاني أيضا، فالأيام منها نحس ومنها سعد كالأشخاص منهم شقي ومنهم سعيد، ولكن زعم أن الأيام والكواكب تنحس أو تسعد باختيارها أوقاتا وأشخاصا باطل، والقول- إن الكواكب قد تكون أسبابا للحسن والقبيح والخير والشر والكل فعل الله تعالى وحده- مما لا بأس به. ثم قال المناوي: والحاصل أن توقي الأربعاء على جهة الطيرة وظن اعتقاد المنجمين حرام شديد التحريم إذ الأيام كلها لله تعالى لا تنفع ولا تضر بذاتها وبدون ذلك لا ضير ولا محذور فيه ومن تطير حاقت به نحوسته، ومن أيقن بأنه لا يضر ولا ينفع إلا الله عز وجل لم يؤثر فيه شيء من ذلك كما قيل: تعلم أنه لا طير إلا ... على متطير وهو الثبور انتهى، وأقول كل الأيام سواء ولا اختصاص لذلك بيوم الأربعاء وما من ساعة من الساعات إلا وهي سعد على شخص نحس على آخر باعتبار ما يحدث الله تعالى فيها من الملائم والمنافر والخير والشر، فكل يوم من الأيام يتصف بالأمرين لاختلاف الاعتبار وإن استنحس يوم الأربعاء لوقوع حادث فيه فليستنحس كل يوم فما أولج الليل في النهار والنهار في الليل إلا لإيلاد الحوادث وقد قيل: ألا إنما الأيام أبناء واحد ... وهذي الليالي كلها أخوات وقد حكي أنه صبح ثمود العذاب يوم الأحد، وورد في الأثر ولا أظنه يصح- نعوذ بالله تعالى من يوم الأحد فإن له حدا أحد من السيف- ولو صح فلعله في أحد مخصوص علم بالوحي ما يحدث فيه، وزعم بعضهم- أن من المجرب الذي يخط قط أنه متى كان اليوم الرابع عشر من الشهر القمري الأحد وفعل فيه شيء لم يتم- غير مسلم، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 85 وورد في الفردوس من حديث ابن مسعود- خلق الله تعالى الأمراض يوم الثلاثاء، وفيه أنزل إبليس إلى الأرض، وفيه خلق جهنم، وفيه سلط الله تعالى ملك الموت على أرواح بني آدم. وفيه قتل قابيل هابيل، وفيه توفي موسى وهارون عليهم السلام، وفيه ابتلي أيوب- الحديث ، وهو إن صح لا يدل على نحوسته غايته أنه وقع فيه ما وقع وقد وقع فيه غير ذلك مما هو خير، ففي رواية مسلم- خلق المنفق أي ما يقوم به المعاش يوم الثلاثاء - وإذا تتبعت التواريخ وقعت على حوادث عظيمة في سائر الأيام، ويكفي في هذا الباب أن حادثة عاد استوعبت أيام الأسبوع فقد قال سبحانه: سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً [الحاقة: 7] فإن كانت النحوسة لذلك فقل لي أي يوم من الأسبوع خلا منها؟! ومثل أمر النحوسة فيما أرى أمر تخصيص كل يوم بعمل كما يزعمه كثير من الناس، ويذكرون في ذلك أبياتا نسبها الحافظ الدمياطي لعليّ كرم الله تعالى وجهه وهي: فنعم اليوم يوم السبت حقا لصيد إن أردت بلا امتراء وفي الأحد البناء لأن فيه تبدى الله في خلق السماء وفي الاثنين إن سافرت فيه سترجع بالنجاح وبالثراء ومن يرد الحجامة فالثلاثا ففي ساعاته هرق الدماء وإن شرب امرؤ يوما دواء فنعم اليوم يوم الأربعاء وفي يوم الخميس قضاء حاج فإن الله يأذن بالقضاء وفي الجمعات تزويج وعرس ولذات الرجال مع النساء وهذا العلم لا يدريه إلا نبيّ أو وصيّ الأنبياء ولا أظنها تصح، وقصارى ما أقول: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن لا دخل في ذلك لوقت ولا لغيره، لبعض الأوقات شرف لا ينكر كيوم الجمعة وشهر رمضان وغير ذلك، ولبعضها عكس ذلك كالأوقات التي تكره فيها الصلاة لكن هذا أمر ومحل النزاع أمر فاحفظ ذلك، والله تعالى يتولى هداك، وقوله تعالى: تَنْزِعُ النَّاسَ يجوز أن يكون صفة الريح وأن يكون حالا منها لأنها وصفت فقربت من المعرفة، وجوز أن يكون مستأنفا، وجيء- بالناس- دون ضمير عاد قيل: ليشمل ذكورهم وإناثهم- والنزاع- القلع، روي أنهم دخلوا الشعاب والحفر وتمسك بعضهم ببعض فقلعتهم الريح وصرعتهم موتى. كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ أي منقلع عن مغارسه ساقط على الأرض، وقيل: شبهوا بأعجاز النخل وهي أصولها بلا فروع لأن الريح كانت تقلع رؤوسهم فتبقى أجسادا وجثثا بلا رؤوس، ويزيد هذا التشبيه حسنا أنهم كانوا ذوي جثث عظام طوال، والنخل اسم جنس يذكر نظرا للفظ كما هنا ويؤنث نظرا للمعنى كما في قوله تعالى: أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ [الحاقة: 7] واعتبار كل في كل من الموضعين للفاصلة، والجملة التشبيهية حال من الناس وهي حال مقدرة، وقال الطبري: في الكلام حذف والتقدير فتركتهم كأنهم إلخ، فالكاف على ما في البحر في موضع نصب بالمحذوف وليس بذاك، وقرأ أبو نهيك أعجز على وزن أفعل نحو ضبع وأضبع، وقوله تعالى: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ تهويل لهما وتعجيب من أمرهما بعد بيانهما فليس فيه شائبة تكرار مع ما تقدم، وقيل: إن الأول لما حاق بهم في الدنيا والثاني لما يحيق بهم في الآخرة، وكانَ للمشاكلة، أو للدلالة على تحققه على عادته سبحانه في إخباره، وتعقب بأنه يأباه ترتيب الثاني على العذاب الدنيوي. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 86 وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ الكلام فيه كالذي مرّ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ بالرسل عليهم الصلاة والسلام فإن تكذيب أحدهم وهو صالح عليه السلام هنا تكذيب للكل لاتفاقهم على أصول الشرائع، وجوز أن يكون مصدرا، أو جمعا له وأن يكون جمع نذير بمعنى المنذر منه فلا تغفل. فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا أي كائنا من جنسنا على أن الجار والمجرور في موضع الصفة- لبشرا- وانتصابه بفعل يفسره- نتبع- بعد أي أنتبع بشرا واحِداً أي منفردا لا تبع له، أو واحدا من آحادهم لا من أشرافهم كما يفهم من التنكير الدال على عدم التعيين وهو صفة أخرى لبشر وتأخيره مع إفراده عن الصفة الأولى مع كونها شبه الجملة للتنبيه على أن كلا من الجنسية والوحدة مما يمنع الاتباع ولو قدم عليها لفات هذا التنبيه، وقرأ أبو السمال فيما ذكر الهذلي في كتابه الكامل وأبو عمرو الداني- أبشر منا واحد- برفعهما على أن- بشر- مبتدأ، وما بعد صفته، وقوله تعالى: نَتَّبِعُهُ خبره. ونقل ابن خالويه وصاحب اللوامح وابن عطية عن أبي السمال رفع- بشر- ونصب واحِداً وخرج ذلك ابن عطية على أن رفع- بشر- إما على إضمار فعل مبني للمفعول والتقدير أينبأ بشر، وإما على الابتداء والخبر جملة نَتَّبِعُهُ، ونصب واحِداً على الحال إما من ضمير النصب في نَتَّبِعُهُ وإما من الضمير المستقر في الجزء: 14 ¦ الصفحة: 87 مِنَّا وخرج صاحب اللوامح نصب واحِداً على هذا أيضا، وأما رفع بشر فخرجه على الابتداء وإضمار الخبر أي أبشر منا يبعث إلينا أو يرسل أو نحوهما، وتقدم الاستفهام يرجع تقدير فعل يرفع به إِنَّا إِذاً أي إذا اتبعنا بشرا منا واحدا لَفِي ضَلالٍ عظيم عن الحق وَسُعُرٍ أي نيران جمع سعير. وروي أن صالحا عليه السلام كان يقول لهم: إن لم تتبعوني كنتم في ضلال عن الحق وسعر فعكسوا عليه لغاية عتوهم فقالوا: إن اتبعناك كنا إذا كما تقول ، فالكلام من باب التعكيس والقول بالموجب، وجمع السعير باعتبار الدركات، أو للمبالغة، وروي عن ابن عباس ما يحتمل ما قلنا فإنه قال: أي لفي بعد عن الحق وعذاب، وفي رواية أخرى عنه تفسير السعر بالجنون على أنه اسم مفرد بمعنى ذلك يقال: ناقة مسعورة إذا كانت تفرط في سيرها كأنها مجنونة قال الشاعر: كأن بها سعرا إذا العيس هزها ... ذميل وإرخاء من السير متعب والأول أوجه وأفصح أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا أي أأنزل عليه الوحي من بيننا وفينا من هو أحق منه بذلك، والتعبير بألقي دون أنزل قل: لأنه يتضمن العجلة في الفعل بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ أي شديد البطر وهو على ما قال الراغب: دهش يعتري من سوء احتمال النعمة وقلة القيام بحقها ووضعها إلى غير وجهها، ويقاربه الطرب وهو خفة أكثر ما تعتري من الفرح، ومرادهم ليس الأمر كذلك بل هو كذا وكذا حمله شدّة بطره وطلبه التعظيم عليها على ادعاء ذلك، وقرأ قتادة. وأبو قلابة- بل هو الكذب الأشر- بلام التعريف فيهما وبفتح الشين وشدّ الراء، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا ما في ذلك، وقوله تعالى: سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ حكاية لما قاله سبحانه وتعالى لصالح عليه السلام وعدا له ووعيدا لقومه، والسين لتقريب مضمون الجملة وتأكيده، والمراد بالغد وقت نزول العذاب الدنيوي بهم، وقيل: يوم القيامة فهو لمطلق الزمان المستقبل وعبر به لتقريبه، وعليه قول الطرماح: ألا عللاني قبل نوح النوائح ... وقبل اضطراب النفس بين الجوانح وقبل غد يا لهف نفسي على غد ... إذا راح أصحابي ولست برائح أي سَيَعْلَمُونَ البتة عن قريب مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ الذي حمله أشره وبطره على ما حمله أصالح أن من كذبه، والمراد سيعلمون أنهم هم الكذابون الأشرون لكن أورد ذلك مورد الإبهام ايماء إلى أنه مما لا يكاد يخفى، ونحوه قول الشاعر: فلئن لقيتك خاليين لتعلمن ... أيّي وأيّك فارس الأحزاب وقرأ ابن عامر وحمزة وطلحة وابن وثاب والأعمش- ستعلمون- بتاء الخطاب على حكاية ما قال لهم صالح مجيبا لهم، وفي الكشاف أو هو كلام على سبيل الالتفات، قال صاحب الكشف: أي هو كلام الله تعالى لقوم ثمود على سبيل الالتفات إليهم إما في خطابه تعالى لرسولنا صلى الله تعالى عليه وسلم وهو نظير ما حكاه سبحانه عن شعيب فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ [الأعراف: 93] بعد ما استؤصلوا هلاكا وهو من بليغ الكلام فيه دلالة على أنهم أحقاء بهذا الوعيد وكأنهم حضور في المجلس حول إليهم الوجه لينعي عليهم جناياتهم. وإما في خطابه عز وجل لصالح عليه السلام والمنزل حكاية ذلك الكلام المشتمل على الالتفات. وعلى التقديرين لا إشكال فيه كما توهم ولفظ الزمخشري على الأول أدل وهو أبلغ انتهى، ومن التفت إلى ما قاله الجمهور في الالتفات لا أظنه تسكن نفسه بما ذكر فتأمل، وقرأ مجاهد فيما ذكره صاحب اللوامح وأبو قيس الأودي «الأشر» بثلاث ضمات وتخفيف الراء. ويقال: أشر وأشر كحذر وحذر فضمة الشين لغة وضم الهمزة تبع لها. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 88 وحكى الكسائي عن مجاهد ضم الشين دون الهمزة فهو كندس، وقرأ أبو حيوة «الأشر» أفعل تفضيل أي الأبلغ في الشرارة وكذا قرأ قتادة وأبو قلابة أيضا وهو قليل الاستعمال وإن كان على الأصل كالأخير في قول رؤبة: بلال خير الناس وابن الأخير وقال أبو حاتم: لا تكاد العرب تتكلم- بالأخير- والْأَشِرُ إلا في ضرورة الشعر وأنشد البيت، وقال الجوهري: لا يقال الْأَشِرُ إلا في لغة رديئة وقوله تعالى: إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ إلخ استئناف مسوق لبيان مبادئ الموعود على ما هو الظاهر، وبه يتعين كون المراد بالغد وقت نزول العذاب الدنيوي بهم دون يوم القيامة، والإرسال حقيقة في البعث وقد جعل هنا كناية عن الإخراج، وأريد المعنى الحقيقي معه كما أومأ إليه بعض الأجلة أي إنا مخرجو الناقة التي سألوها من الهضبة وباعثوها فِتْنَةً لَهُمْ امتحانا، وجوز إبقاؤها على معناها المعروف فَارْتَقِبْهُمْ فانتظرهم وتبصر ما هم فاعلون وَاصْطَبِرْ على أذاهم ولا تعجل حتى يأتي أمر الله تعالى وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ وأخبرهم بأن ماء البئر التي لهم قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ مقسوم لها يوم ولهم يوم، وبَيْنَهُمْ لتغليب العقلاء، وقرأ معاذ عن أبي عمرو «قسمة» بفتح القاف كُلُّ شِرْبٍ نصيب وحصة منه مُحْتَضَرٌ يحضره صاحبه في نوبته فتحضر الناقة تارة ويحضرونه أخرى، وقيل: يتحول عنه غير صاحبه من حضر عن كذا تحول عنه وقيل: يمنع عنه غير صاحبه مجاز عن الحظر بالظاء بمعنى المنع بعلاقة السببية فإنه مسبب عن حضور صاحبه في نوبته وهو كما ترى، وقيل: يحضرون الماء في نوبتهم واللبن في نوبتها، والمعنى كل شرب من الماء واللبن تحضرونه أنتم فَنادَوْا أي فأرسلنا الناقة وكانوا على هذه الوتيرة من القسمة فملوا ذلك وعزموا على عقر الناقة فَنادَوْا لعقرها صاحِبَهُمْ وهو قدار بن سالف أحيمر ثمود وكان أجرأهم فَتَعاطى العقر أي فاجترأ على تعاطيه مع عظمه غير مكترث به. فَعَقَرَ فأحدث العقر بالناقة، وجوز أن يكون المراد فتعاطى الناقة فعقرها، أو فتعاطى السيف فقتلها، وعلى كل فمفعول تعاطى محذوف والتفريع لا غبار عليه، وقيل: تعاطى منزل منزلة اللازم على أن معناه أحدث ماهية التعاطي، وقوله تعالى: فَعَقَرَ تفسير له لا متفرع عليه ولا يخفى ركاكته، والتعاطي التناول مطلقا على ما يفهم من كلام غير واحد، وزاد بعضهم قيد بتكلف ونسبة العقر إليهم في قوله تعالى: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ [الأعراف: 77] لأنهم كانوا راضين به فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ الكلام فيه كالذي تقدم إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً هي صيحة جبريل عليه السلام صاح صباح يوم الأحد كما حكى المناوي عن الزمخشري في طرف منازلهم فَكانُوا أي فصاروا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ أي كالشجر اليابس الذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته في الشتاء. وفي البحر الهشيم ما تفتت وتهشم من الشجر، والْمُحْتَظِرِ الذي يعمل الحظيرة فإنه يتفتت منه حالة العمل ويتساقط أجزاء مما يعمل به، أو يكون الهشيم ما يبس من الحظيرة بطول الزمان تطؤه البهائم فيتهشم، وتعقب هذا بأن الأظهر عليه كهشيم الحظيرة، والحظيرة الزريبة التي تصنعها العرب. وأهل البوادي للمواشي والسكنى من الأغصان والشجر المورق والقصب من الحظر وهو المنع. وقرأ الحسن وأبو حيوة وأبو السمال وأبو رجاء وعمرو بن عبيد «المحتظر» بفتح الظاء على أنه اسم مكان والمراد به الحظيرة نفسها أو هو اسم مفعول قيل: ويقدر له موصوف أي كَهَشِيمِ الحائط الْمُحْتَظِرِ أو لا يقدر على أن الْمُحْتَظِرِ الزريبة نفسها كما سمعت. وجوز أن يكون مصدرا أي كهشيم الاحتظار أي ما تفتت حالة الاحتظار وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ كما مر كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ على قياس النظير السابق إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً ملكا على ما قيل- يحصبهم أي يرميهم بالحصباء والحجارة أو هو اسم للريح الجزء: 14 ¦ الصفحة: 89 التي تحصب ولم يرد بها الحدوث كما في ناقة ضامر وهو وجه التذكير، وقال ابن عباس: هو ما حصبوا به من السماء من الحجارة في الريح، وعليه قول الفرزدق: مستقبلين شمال الشام تضربنا ... بحاصب كنديف القطن منثور إِلَّا آلَ لُوطٍ خاصته المؤمنين به، وقيل: آله ابنتاه نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ أي في سحر وهو آخر الليل، وقيل: السدس الأخير منه، وقال الراغب: السحر والسحرة اختلاط ظلام آخر الليل بصفاء النهار وجعل اسما لذلك الوقت، ويجوز كون الباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال أي ملتبسين بِسَحَرٍ داخلين فيه نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا أي إنعاما منا وهو علة لنجينا، ويجوز نصبه بفعل مقدر من لفظه، أو بنجينا لأن التنجية إنعام فهو كقعدت جلوسا كَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء العجيب نَجْزِي مَنْ شَكَرَ نعمتنا بالإيمان والطاعة وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ لوط عليه السلام بَطْشَتَنا أخذتنا الشديدة بالعذاب. وجوز أن يراد بها نفس العذاب فَتَمارَوْا فكذبوا بِالنُّذُرِ متشاكين، فالفعل مضمن معنى التكذيب ولولاه تعدى بفي وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ صرفوه عن رأيه فيهم وطلبوا الفجور بهم وهذا من إسناد ما للبعض للجميع لرضاهم به فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ أي أزلنا أثرها وذلك بمسحها وتسويتها كسائر الوجه، وهو كما قال عبيدة، وروي أن جبريل عليه السلام استأذن ربه سبحانه في عقوبتهم ليلة جاؤوا وعالجوا الباب ليدخلوا عليهم فصفقتهم بجناحه فتركهم عميانا يترددون لا يهتدون إلى طريق خروجهم حتى أخرجهم لوط عليه السلام وقال ابن عباس والضحاك: إنما حجب إدراكهم فدخلوا المنزل ولم يروا شيئا فجعل ذلك كالطمس فعبر به عنه. وقرأ ابن مقسم «فطمّسنا» بتشديد الميم للتكثير في المفعول فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ أي فقلنا لهم ذلك على ألسنة الملائكة عليهم السلام، فالقول في الحقيقة لهم وأسند إليه تعالى مجازا لأنه سبحانه الآمر أو القائل ظاهر الحال فلا قول وإنما هو تمثيل، والمراد بالعذاب الطمس وهو من جملة ما أنذروه. وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً أو النهار وهي أخص من الصباح فليس في ذكرها بعده زيادة وكان ذلك أول شروق الشمس، وقرأ زيد بن علي «بكرة» غير مصروفة للعلمية والتأنيث على أن المراد بها أول نهار مخصوص. عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ يستقر بهم ويدوم حتى يسلمهم إلى النار، أو لا يدفع عنهم، أو يبلغ غايته. فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ حكاية لما قيل لهم بعد التصحيح من جهته تعالى تشديدا للعذاب، أو هو تمثيل. وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ تقدم ما فيه من الكلام وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ صدرت قصتهم بالتوكيد القسمي الإبراز كمال الاعتناء- بشأنها لغاية عظم ما فيها من الآيات وكثرتها وهول ما لا قوه من العذاب وقوة إيجابها للاتعاظ والاكتفاء بذكر آل فرعون للعلم بأنه نفسه أولى بذلك فإنه رأس الطغيان ومدعي الألوهية، والقول: بأنه إشارة إلى إسلامه مما لا يلتفت إليه، والنُّذُرُ إن كان جمع نذير بمعنى الإنذار فالأمر ظاهر وكذا إن كان مصدرا، وأما إن كان جمع نذير بمعنى المنذر فالمراد به موسى وهارون وغيرهما لأنهما عرضا عليهم ما أنذر به المرسلون أي وبالله تعالى لقد جاءهم المنذرون، أو الإنذرات، أو الإنذار، وقوله تعالى: كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية مجيء النذر كأنه قيل: فماذا فعل آل فرعون حينئذ؟ فقيل: كذبوا بجميع آياتنا وهي آيات الأنبياء كلهم عليهم السلام فإن تكذيب البعض تكذيب للكل، أو هي الآيات التسع، وجوز الواحدي أن يراد بالنذر نفس الآيات فقوله سبحانه: بِآياتِنا من إقامة الظاهر مقام الضمير والأصل كذبوا بها، وزعم بعض غلاة الشيعة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 90 وهم المسلمون بالكشفية في زماننا أن المراد- بالآيات كلها- علي كرم الله تعالى وجهه فإنه الإمام المبين المذكور في قوله تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ [يس: 12] وأنه كرم الله تعالى وجهه ظهر مع موسى عليه السلام لفرعون وقومه فلم يؤمنوا- وهذا من الهذيان بمكان- نسأل الله تعالى العفو والعافية فَأَخَذْناهُمْ أي آل فرعون، وزعم بعض أن ضمير كَذَّبُوا وضمير أخذناهم عائدان على جميع من تقدم ذكره من الأمم وتم الكلام عند قوله تعالى: النُّذُرُ وليس بشيء، والفاء للتفريع أي فَأَخَذْناهُمْ وقهرناهم لأجل تكذيبهم أَخْذَ عَزِيزٍ لا يغالب مُقْتَدِرٍ لا يعجزه شيء، ونصب أخذ على المصدرية لا على قصد التشبيه أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أي الكفار المعدودين قوم نوح وهود وصالح ولوط وآل فرعون، والمراد الخيرية باعتبار الدنيا وزينتها ككثرة القوة والشدة ووفور العدد والعدة، أو باعتبار لين الشكيمة في الكفر بأن يكون الكفار المحدث عنهم بالخيرية أقل عنادا وأقرب طاعة وانقيادا، وظاهر كلام كثير أن الخطاب هنا عام للمسلمين وغيرهم حيث قالوا: أَكُفَّارُكُمْ يا معشر العرب خَيْرٌ إلخ والاستفهام إنكاري في معنى النفي فكأنه قيل: ما كفاركم خير من أولئكم الكفار المعدودين بأن يكونوا أكثر منهم قوة وشدة وأوفر عددا وعدة، أو بأن يكونوا ألين شكيمة في الكفر والعصيان والضلال والطغيان بل هم دونهم في القوة وما أشبهها من زينة الدنيا، أو أسوأ حالا منهم في الكفر، وقد أصاب من هو خير ما أصاب فكيف يطمعون هم في أن لا يصيبهم نحو ذلك، وكذا قيل: في الخطاب في قوله تعالى: أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ وجعل بتقدير أم لكفاركم وهو إضراب وانتقال إلى تنكيت آخر فكأنه قيل: بل ألكفار كم براءة وأمن من تبعات ما يعملون من الكفر والمعاصي وغوائلها في الكتب السماوية فلذلك يصرون على ما هم عليه ولا يخافون، واختار بعضهم في هذا أنه خاص بالكفار، وقالوا في قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ إنه إضراب من التبكيت المذكور إلى تبكيت آخر بطريق الالتفات للإيذان بإفضاء حالهم إلى الإعراض عنهم وإسقاطهم عن رتبة الخطاب وحكاية قبائحهم لغيرهم. أي بل أيقولون واثقين بشوكتهم نحن جماعة أمرنا مجتمع لا يرام ولا يضام، أو مُنْتَصِرٌ من الأعداء لا يغلب، أو متناصر ينصر بعضنا بعضا. والذي يترجح في نظر الفقير أن الخطاب في الموضعين خاص على ما يقتضيه السياق بكفار أهل مكة أو العرب وهو ظهر في الموضع الثاني لا يحتاج إلى شيء، وأما في الموضع الأول فوجهه أن تكون الإضافة مثلها في الدراهم كلها كذا، وطور سيناء، ويوم الأحد ولم يقل أأنتم للتنصيص على كفرهم المقتضي لهلاكهم، ويجوز أن يعتبر في أَكُفَّارُكُمْ ضرب من التجريد الذي ذكروه في نحو لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ [فصلت: 28] فكأنه جرد منهم كفار وأضيفوا إليهم، وفي ذلك من المبالغة ما فيه، ويجوز أن يكون هذا وجها للعدول عن أأنتم، وربما يترجح به كون الخيرية المنفية باعتبار لين الشكيمة في الكفر وكأنه لما خوف سبحانه الكفار الذين كذبوا الآيات وأعرضوا عنها، وقالوا هي سحر مستمر بذكر ما حل بالأمم السالفة مما تبرق وترعد منه أسارير الوعيد قال عز وجل لهم: لم لا تخافون أن يحل بكم مثل ما حل بهم أأنتم أقل كفرا وعنادا منهم ليكون ذلك سببا للأمن من حلول نحو عذابهم بكم أن أعطاكم الله عز وجل براءة من عذابه أم أنتم أعز منهم منتصرون على جنود الله تعالى وعدل سبحانه عن أم أنتم جميع منتصر إلى ما في النظم الجليل للإشارة إلى أن ذلك مما لا تحقق له أصلا إلا باللفظ ومحض الدعوى التي لا يوافق عليها فتأمل، فأسرار كلام الله تعالى لا تتناهى، ثم لا تعجل بالاعتراض على ما قلناه وإن لم يكن لنا سلف فيه حسبما تتبعنا، ثم إن جَمِيعٌ على ما أشير إليه بمعنى الجماعة التي أمرها مجتمع وليس من التأكيد في شيء بل هو خبر نَحْنُ، وجوز أن يكون بمعنى مجتمع خبر مبتدأ محذوف وهو (أمرنا) والجملة خبر نَحْنُ وأن يكون هو الجزء: 14 ¦ الصفحة: 91 الخبر والإسناد مجازي، ومُنْتَصِرٌ على ما سمعت إما بمعنى ممتنع يقال: نصره فانتصر إذا منعه فامتنع. والمراد بالامتناع عدم المغلوبية أو هو بمعنى منتقم من الأعداء أو هو من النصر بمعنى العون والافتعال بمعنى التفاعل كالاختصام والتخاصم وكان الظاهر منتصرون إلا أنه أفرد باعتبار لفظ الجميع فإنه مفرد لفظا جمع معنى ورجح هنا جانب اللفظ عكس بل أنتم قوم تجهلون لخفة الإفراد مع رعاية الفاصلة وليس في الآية رعاية جانب المعنى أولا، ثم رعاية جانب اللفظ ثانيا على عكس المشهور، وإن كان ذلك جائزا على الصحيح كما لا يخفى على الخبير، وقرأ أبو حيوة وموسى الأسواري وأبو البرهسم- أم تقولون- بتاء الخطاب، وقوله تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ رد لقولهم ذلك والسين للتأكيد أي يهزم جمعهم البتة وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ أي الإدبار، وقد قرىء كذلك، والإفراد لإرادة الجنس الصادق على الكثير مع رعاية الفواصل ومشاكلة القرائن، أو لأنه في تأويل يولي كل واحد منهم دبره على حدّ: كسانا الأمير حلة مع الرعاية المذكورة أيضا وقد كان هذا يوم بدر وهو من دلائل النبوة لأن الآية مكية، وقد نزلت حيث لم يفرض جهاد ولا كان قتال ولذا قال عمر رضي الله تعالى عنه: يوم نزلت أي جمع يهزم أي من جموع الكفار؟ ولم يتعرض لقتال أحد منهم، وقد تقدم الخبر. ومما أشرنا إليه يعلم أن قول الطيبي في هذه الرواية نظر لأن همزة الإنكار في أَمْ يَقُولُونَ إلخ دلت على أن المنهزمين من هم ناشىء عن الغفلة عن مراد عمر رضي الله تعالى عنه، وقرأ أبو حيوة وموسى الأسواري وأبو البرهسم- ستهزم الجمع- بفتح التاء وكسر الزاي خطابا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ونصب الجمع على المفعولية، وقرأ أبو حيوة أيضا ويعقوب- سنهزم- بالنون مفتوحة وكسر الزاي على إسناد الفعل إلى ضمير العظمة، وعن أبي حيوة وابن أبي عبلة «سيهزم الجمع» بفتح الياء مبنيا للفاعل ونصب الجمع أي سيهزم الله تعالى الجمع، وقرأ أبو حيوة وداود ابن أبي سالم عن أبي عمرو- وتولون- بتاء الخطاب بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ أي ليس هذا تمام عقوبتهم بل الساعة موعد عذابهم وهذا من طلائعه وَالسَّاعَةُ أَدْهى أي أعظم داهية وهي الأمر المنكر الفظيع الذي لا يهتدى إلى الخلاص عنه وَأَمَرُّ وأشد مرارة في الذوق وهو استعارة لصعوبتها على النفس: وقيل: أقوى وليس بذاك وإظهار الساعة في موضع إضمارها لتربية تهويلها إِنَّ الْمُجْرِمِينَ من الأولين والآخرين فِي ضَلالٍ في هلاك وَسُعُرٍ ونيران مسعرة أو في ضلال عن الحق ونيران في الآخرة، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: في خسران وجنون، وقوله تعالى: يَوْمَ يُسْحَبُونَ أي يجرون فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ متعلق بقول مقدر بعده أي يوم يسحبون يقال لهم ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ وجوز أن يكون متعلقا بمقدار يفهم مما قبل أي يعذبون، أو يهانون، أو نحوه، وجملة القول عليه حال من ضمير يُسْحَبُونَ وجوز كونه متعلقا- بذوقوا- على أن الخطاب للمكذبين المخاطبين في قوله تعالى: أَكُفَّارُكُمْ إلخ أي ذوقوا أيها المكذبون محمدا صلى الله تعالى عليه وسلم يوم يسحب المجرمون المتقدمون، والمراد حشرهم معهم والتسوية بينهم في الآخرة كما ساؤوهم في الدنيا وهو كما ترى، والمراد- بمس سقر- ألمها على أنه مجاز مرسل عنه بعلاقة السببية فإن مسها سبب للتألم بها وتعلق الذوق بمثل ذلك شائع في الاستعمال، وفي الكشاف مَسَّ سَقَرَ كقولك وجد مس الحمى وذاق طعم الضرب لأن النار إذا أصابتهم بحرّها ولحقتهم بإيلامها فكأنها تمسهم مسا بذلك كما يمس الحيوان ويباشر بما يؤذي ويؤلم، وهو مشعر بأن في الكلام استعارة مكنية نحو يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ [الرعد: 25] ويحتمل غير ذلك، وسَقَرَ علم لجهنم- أعاذنا الله تعالى منها ببركة كلامه العظيم وحرمة حبيبه عليه أفضل الصلاة وأكمل التسليم- من سقرته للنار وصقرته بإبدال السين صادا لأجل القاف إذا لوحته وغيرت لونه قال ذو الرمة يصف ثور الوحش: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 92 إذا ذابت الشمس اتقى صقراتها ... بأفنان مربوع الصريمة معبل وعدم الصرف للعلمية والتأنيث، وقرأ عبد الله إلى النار، وقرأ محبوب عن أبي عمرو «مس سّقر» بإدغام السين في السين، وتعقب ذلك ابن مجاهد بأن إدغامه خطأ لأنه مشدد، والظن بأبي عمرو أنه لم يدغم حتى حذف إحدى السينين لاجتماع الأمثال ثم أدغم إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ من الأشياء خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ أي مقدرا مكتوبا في اللوح قبل وقوعه، فالقدر بالمعنى المشهور الذي يقابل القضاء، وحمل الآية على ذلك هو المأثور عن كثير من السلف، وروى الإمام أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة قال: «جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في القدر فنزلت يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ» وأخرج البخاري في تاريخه والترمذي وحسنه وابن ماجة وابن عدي وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب المرجئة والقدرية» أنزلت فيهم آية في كتاب الله إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ إلى آخر الآيات، وكان ابن عباس يكره القدرية جدا، أخرج عبد بن حميد عن أبي يحيى الأعرج قال سمعت ابن عباس- وقد ذكر القدرية- يقول: لو أدركت بعضهم لفعلت به كذا وكذا ثم قال: الزنا بقدر والسرقة بقدر وشرب الخمر بقدر. وأخرج عن مجاهد أنه قال: قلت لابن عباس: ما تقول فيمن يكذب بالقدر؟ قال: اجمع بيني وبينه قال: ما تصنع به؟ قال: أخنقه حتى أقتله، وقد جاء ذمهم في أحاديث كثيرة، منها ما أخرجه أحمد وأبو داود والطبراني عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «لكل أمه مجوس ومجوس أمتي الذين يقولون لا قدر إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم» . وجوز كون المعنى إنا كل شيء خلقناه مقدرا محكما مستوفي فيه مقتضي الحكمة التي يدور عليها أمر التكوين، فالآية من باب وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الفرقان: 2] ونصب كُلَّ بفعل يفسره ما بعده أي إنا خلقنا كل شيء خلقناه، وقرأ أبو السمال قال ابن عطية وقوم من أهل السنة برفع كل وهو على الابتداء، وجملة خَلَقْناهُ هو الخبر، وبِقَدَرٍ متعلق به كما في القراءة المتواترة، فتدل الآية أيضا على أن كل شيء مخلوق بقدر ولا ينبغي أن تجعل جملة خلقناه صفة، ويجعل الخبر بِقَدَرٍ لاختلاف القراءتين معنى حينئذ، والأصل توافق القراءات، وقال الرضي: لا يتفاوت المعنى لأن مراده تعالى بكل شيء كل مخلوق سواء نصبت كُلَّ أو رفعته وسواء جعلت خَلَقْناهُ صفة مع الرفع، أو خبرا عنه، وذلك إن خلقنا كل شيء بقدر لا يريد سبحانه به خلقنا كل ما يقع عليه اسم شيء لأنه تعالى لم يخلق جميع الممكنات غير المتناهية واسم الشيء يقع على كل منها، وحينئذ نقول: إن معنى كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ على أن خلقناه هو الخبر كُلَّ مخلوق مخلوق بِقَدَرٍ وعلى أن خَلَقْناهُ صفة كُلَّ شَيْءٍ مخلوق كائن بِقَدَرٍ والمعنيان واحد إذ لفظ كُلَّ في الآية مختص بالمخلوقات سواء كان خَلَقْناهُ صفة له أو خبرا، وتعقبه السيد السند قدس سره بأنه لقائل أن يقول: إذ جعلنا خَلَقْناهُ صفة كان المعنى كُلَّ مخلوق متصف بأنه مخلوقنا كائن بقدر، وعلى هذا لا يمتنع نظرا إلى هذا المعنى أن يكون هناك مخلوقات غير متصفة بتلك الصفة فلا تندرج تحت الحكم، وأما إذا جعلناه خبرا أو نصبنا كُلَّ شَيْءٍ فلا مجال لهذا الاحتمال نظرا إلى نفس المعنى المفهوم من الكلام فقد اختلف المعنيان قطعا ولا يجديه نفعا أن كل مخلوق متصف بتلك الصفة في الواقع لأنه إنما يفهم من خارج الكلام ولا شك أن المقصود ذلك المعنى الذي لا احتمال فيه، وذكر نحوه الشهاب الخفاجي ولكون النصب نصا في المقصود اتفقت القراءات المتواترة عليه مع احتياجه إلى التقدير وبذلك يترجح على الرفع الموهم لخلافه وإن لم يحتج إليه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 93 وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ أي ما شأننا إلا فعلة واحدة على نهج لا يختلف ووتيرة لا تتعدد وهي الإيجاد بلا معالجة ومشقة، أو ما أمرنا إلا كلمة واحدة، وهي قوله تعالى: كُنْ [البقرة: 117] وغيرها فالأمر مقابل النهي وواحد الأمور، فإذا أراد عز وجل شيئا قال له: كُنْ فَيَكُونُ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ أي في السير والسرعة، وقيل: هذا في قيام الساعة فهو كقوله تعالى: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ [النحل: 77] وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ أي أشباهكم في الكفر من الأمم السالفة، وأصله جمع شيعة وهم من يتقوى بهم المرء من الأتباع ولما كانوا في الغالب من جنس واحد أريد به ما ذكر إما باستعماله في لازمه، أو بطريق الاستعارة، والحال قرينة على ذلك، وقيل: هو باق على حقيقته أي أتباعكم فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ متعظ بذلك وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ من الكفر والمعاصي، والضمير المرفوع للأشياع كما روي عن ابن عباس والضحاك وقتادة وابن زيد، وجملة فَعَلُوهُ صفة شَيْءٍ والرابط ضمير النصب، وقوله تعالى: فِي الزُّبُرِ متعلق بكون خاص خبر المبتدأ أي كل شيء فعلوه في الدنيا مكتوب في كتب الحفظة غير مغفول عنه، وتفسير الزُّبُرِ باللوح المحفوظ كما حكاه الطبرسي ليس بشيء، ولم يختلف القراء في رفع كُلُّ وليست الآية من باب الاشتغال فلا يجوز النصب لعدم بقاء المعنى الحاصل بالرفع لو عمل المشتغل بالضمير في الاسم السابق كما هو اللازم في ذلك الباب إذ يصير المعنى هاهنا حينئذ فعلوا فِي الزُّبُرِ كل شيء إن علقنا الجار- يفعلوا وهم لم يفعلوا شيئا من أفعالهم في الكتب بل فعلوها في أماكنهم والملائكة عليهم السلام كتبوها عليهم في الكتب، أو فعلوا كل شيء مكتوب فِي الزُّبُرِ إن جعلنا الجار نعتا لكل شيء، وهذا وإن كان معنى مستقيما إلا أنه خلاف المعنى المقصود حالة الرفع وهو ما تقدم آنفا وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ من الأعمال كما روي عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما، وقيل: منها ومن كل ما هو كائن إلى يوم القيامة مُسْتَطَرٌ مسطور مكتتب في اللوح بتفاصيله وهو من السطر بمعنى الكتب، ويقال: سطرت واستطرت بمعنى، وقرأ الأعمش وعمران وعصمة عن أبي بكر عن عاصم «مستطرّ» بتشديد الراء، قال صاحب اللوامع: يجوز أن يكون من- طر- النبات والشارب إذا ظهر، والمعنى كل صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ ظاهر في اللوح مثبت فيه ويجوز أن يكون من الاستطار لكن شدد الراء للوقف على لغة من يقول. جعفرّ ويفعلّ- بالتشديد وقفا أي ثم أجرى الوصل مجرى الوقف ووزنه على التوجيه الأول مستفعل وعلى الثاني مفتعل، ولما كان بيان حال سوء الكفرة بقوله تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ إلخ مما يستدعي بيان حسن حال المؤمنين ليتكافأ الترهيب والترغيب بين سبحانه ما لهم من حسن الحال بطريق الإجمال فقال عز قائلا: إِنَّ الْمُتَّقِينَ أي من الكفر والمعاصي، وقيل: من الكفر. فِي جَنَّاتٍ عظيمة الشأن وَنَهَرٍ أي أنهار كذلك، والإفراد للاكتفاء باسم الجنس مراعاة للفواصل، وعن ابن عباس تفسيره بالسعة، وأنشد عليه قول لبيد بن ربيعة- كما في الدر المنثور- أو قيس بن الخطيب- كما في البحر- يصف طعنة: ملكت بها كفي فأنهرت فتقها ... يرى قائم من دونها ما وراءها أي أوسعت فتقها، والمراد بالسعة سعة المنازل على ما هو الظاهر، وقيل: سعة الرزق والمعيشة، وقيل: ما يعمهما وأخرج الحكيم والترمذي في نوادر الأصول عن محمد بن كعب قال: وَنَهَرٍ أي في نور وضياء وهو على الاستعارة بتشبيه الضياء المنتشر بالماء المتدفق من منبعه، وجوز أن يكون بمعنى النهار على الحقيقة، والمراد أنهم لا ظلمة ولا ليل عندهم في الجنات، وقرأ الأعرج ومجاهد وحميد وأبو السمال والفياض بن غزوان «ونهر» بسكون الهاء، وهو بمعنى «نهر» مفتوحها، وقرأ الأعمش وأبو نهيك وأبو مجلز واليماني «ونهر» بضم النون والهاء، وهو جمع نهر الجزء: 14 ¦ الصفحة: 94 المفتوح أو الساكن- كأسد وأسد، ورهن ورهن- وقيل: جمع نهار، والمراد أنهم لا ظلمة ولا ليل عندهم كما حكي فيما، وقيل: قرىء بضم النون وسكون الهاء فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ في مكان مرضي على أن الصدق مجاز مرسل في لازمه أو استعارة، وقيل: المراد صدق المبشر به وهو الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم، أو المراد أنه ناله من ناله بصدقه وتصديقه للرسل عليهم السلام، فالإضافة لأدنى ملابسة وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: مدح المكان بالصدق فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق ، وهو المقعد الذي يصدق الله تعالى فيه مواعيد أوليائه بأنه يبيح عز وجل لهم النظر إلى وجهه الكريم، وإفراد المقعد على إرادة الجنس. وقرأ عثمان البتي- في مقاعد- على الجمع وهي توضح أن المراد بالمقعد المقاعد عِنْدَ مَلِيكٍ أي ملك عظيم الملك، وهو صيغة مبالغة وليست الياء من الإشباع مُقْتَدِرٍ قادر عظيم القدرة، والظرف في موضع الحال من الضمير المستقر في الجار والمجرور، أو خبر بعد خبر، أو صفة لمقعد صدق، أو بدل منه، والعندية للقرب الرتبي، وذكر بعضهم أنه سبحانه أبهم العندية والقرب ونكر- مليكا، ومقتدرا- للإشارة إلى أن ملكه تعالى وقدرته عز وجل لا تدري الأفهام كنههما وأن قربهم منه سبحانه بمنزلة من السعادة والكرامة بحيث لا عين رأت ولا أذن سمعت مما يجل عن البيان وتكلّ دونه الأذهان. وأخرج الحكيم الترمذي عن بريدة- عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في قوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ إلخ قال: إن أهل الجنة يدخلون على الجبار كل يوم مرتين فيقرأ عليهم القرآن وقد جلس كل امرئ منهم مجلسه الذي هو مجلسه على منابر الدر والياقوت والزمرد والذهب والفضة بالأعمال فلا تقرّ أعينهم قط كما تقرّ بذلك ولم يسمعوا شيئا أعظم منه ولا أحسن منه ثم ينصرفون إلى رحالهم قريرة أعينهم ناعمين إلى مثلها من الغد - وإذا صح هذا فهو من المتشابه كالآية فلا تغفل، ولهذين الاسمين الجليلين شأن في استجابة الدعاء على ما في بعض الآثار. أخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن المسيب قال: دخلت المسجد وأنا أرى أني أصبحت فإذا علي ليل طويل وليس فيه أحد غيري فنمت فسمعت حركة خلفي ففزعت فقال: أيها الممتلئ قلبه فرقا لا تفرق أو لا تفزع وقل اللهم إنك مليك مقتدر ما تشاء من أمر يكون ثم سل ما بدا لك قال: فما سألت الله تعالى شيئا إلا استجاب لي وأنا أقول: اللهم إنك مليك مقتدر ما تشاء من أمر يكون فأسعدني في الدارين وكن لي ولا تكن علي وانصرني على من بغى علي وأعذني من هم الدين وقهر الرجال وشماتة الأعداء، وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 95 سورة الرّحمن وسميت في حديث أخرجه البيهقي عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعا «عروس القرآن» ورواه موسى بن جعفر رضي الله تعالى عنهما عن آبائه الأطهار كذلك «وهي مكية» في قول الجمهور، وأخرج ذلك ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير وعائشة رضي الله تعالى عنهم وابن النحاس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عنه أنها نزلت بالمدينة، وحكي ذلك عن مقاتل، وحكاه في البحر عن ابن مسعود أيضا، وحكي أيضا قولا آخر عن ابن عباس وهو أنها مدنية سوى قوله تعالى: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الرحمن: 29] الآية، وحكي الاستثناء المذكور في جمال القراء عن بعضهم ولم يعينه، وعدد آياتها ثمان وسبعون آية في الكوفي والشامي، وسبع وسبعون في الحجازي، وست وسبعون في البصري. ووجه مناسبتها لما قبلها على ما قال الجلال السيوطي: أنه لما قال سبحانه في آخر ما قيل بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ [القمر: 46] ثم وصف عز وجل حال المجرمين فِي سَقَرَ [القمر: 48] وحال المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ [القمر: 54] فصل هذا الإجمال في هذه السورة أتم تفصيل على الترتيب الوارد في الإجمال فبدأ بوصف مرارة الساعة، والإشارة إلى شدّتها، ثم وصف النار وأهلها، ولذا قال سبحانه: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ [الرحمن: 41] ولم يقل الكافرون، أو نحوه لاتصاله معنى بقوله تعالى هناك: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ [القمر: 47] ثم وصف الجنة وأهلها ولذا قال تعالى فيهم: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ وذلك هو عين التقوى ولم يقل ولمن آمن، أو أطاع، أو نحوه لتتوافق الألفاظ في التفصيل والمفصل ويعرف بما ذكر أن هذه السورة كالشرح لآخر السورة قبلها، وقال أبو حيان في ذلك: إنه تعالى لما ذكر هناك مقر المجرمين في سعر، ومقر المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر: 54] ذكر سبحانه هنا شيئا من آيات الملك وآثار القدرة، ثم ذكر جل وعلا مقر الفريقين على جهة الإسهاب إذ كان ذكره هناك على جهة الاختصار، ولما أبرز قوله سبحانه: عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ بصورة التنكير فكأن سائلا يسأل ويقول من المتصف بهاتين الصفتين الجليلتين؟ فقيل: «الرحمن» إلخ، والأولى عندي أن يعتبر في وجه المناسبة أيضا ما في الإرشاد وهو أنه تعالى لما عدد في السورة السابقة ما نزل بالأمم السالفة من ضروب نقم الله عز وجل، وبيّن عقيب كل ضرب منها أن القرآن قد يسر لتذكر الناس واتعاظهم ونعى عليهم إعراضهم عن ذلك عدد في هذه السورة الكريمة ما أفاض على كافة الأنام من فنون نعمه الدينية والدنيوية والأنفسية والآفاقية وأنكر عليهم أثر كل فن منها إخلالهم بمواجب شكرها، وهذا التكرار أحلى من السكر إذ تكرر، وفي الدرر والغرر لعلم الهدى السيد المرتضى التكرار في سورة «الرحمن» إنما حسن للتقرير بالنعم المختلفة المعددة، فكلما ذكر سبحانه نعمة أنعم بها وبخ على التكذيب بها كما يقول الرجل لغيره ألم أحسن إليك بأن خولتك في الأموال؟ ألم أحسن إليك بأن فعلت بك الجزء: 14 ¦ الصفحة: 96 كذا وكذا؟ فيحسن فيه التكرير لاختلاف ما يقرر به وهو كثير في كلام العرب وأشعارهم كقول مهلهل يرثي كليبا: على أن ليس عدلا من كليب ... إذا ما ضيم جيران المجير على أن ليس عدلا من كليب ... إذا رجف العضاه من الدبور على أن ليس عدلا من كليب ... إذا خرجت مخبأة الخدور على أن ليس عدلا من كليب ... إذا ما أعلنت نجوى الأمور على أن ليس عدلا من كليب ... إذا خيف المخوف من الثغور على أن ليس عدلا من كليب ... غداة تأثل الأمر الكبير على أن ليس عدلا من كليب ... إذا ما خار جأش المستجير ثم أنشد قصائد أخرى على هذا النمط ولولا خوف الملل لأوردتها، ولا يرد على ما ذكره أن هذه الآية قد ذكرت بعد ما ليس نعمة لما ستعلمه إن شاء الله تعالى في محله، وقسم في الإتقان التكرار إلى أقسام، وذكر أن منه ما هو لتعدد المتعلق بأن يكون المكرر ثانيا متعلقا بغير ما تعلق به الأول ثم قال: وهذا القسم يسمى بالترديد وجعل منه قوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ من سورة الرحمن فإنها وإن تكررت إحدى وثلاثين مرة فكل واحدة تتعلق بما قبلها ولذلك زادت على ثلاثة ولو كان الجميع عائدا على شيء واحد لما زاد على ثلاثة لأن التأكيد لا يزيد عليها كما قال ابن عبد السلام وغيره، وهو حسن إلا أنه نظر في إطلاق قوله: إن التأكيد إلخ بأن ذلك في التأكيد الذي تابع أما ذكر الشيء في مقامات متعددة أكثر من ثلاثة فلا يمتنع وإن لزم منه التأكيد فافهم، وبدأ سبحانه من النعم بتعليم القرآن فقال عز قائلا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ لأنه أعظم النعم شأنا وأرفعها مكانا كيف لا وهو مدار للسعادة الدينية والدنيوية وعيار على الكتب السماوية ما من مرصد ترنو إليه أحداق الأمم إلا وهو منشؤه الجزء: 14 ¦ الصفحة: 97 ومناطه، ولا مقصد تمتد نحوه أعناق الهمم إلا وهو منهجه وصراطه، ونصبه على أنه مفعول ثان- لعلم- ومفعوله الأول محذوف لدلالة المعنى عليه- أي علم الإنسان القرآن- وهذا المفعول هو الذي كان فاعلا قبل نقل فعل الثلاثي إلى فعل المضعف، وسها الإمام فحسب أن المحذوف المفعول الثاني حيث قال: علم لا بد له من مفعول ثان وترك للإشارة إلى أن النعمة في التعليم لا في تعليم شخص دون شخص، ويمكن أن يقال: أراد أنه لا بد له من مفعول آخر مع هذا المفعول فلا جزم بسهوه، وقيل: المقدر جبريل عليه السلام أو الملائكة المقربين عليهم السلام، وقيل: محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وعلى القولين يتضمن ذلك الاشارة إلى أن القرآن كلام الله عز وجل، والقول الأول أظهر وأنسب بالمقام، ولي في تعليم غير جبريل عليه السلام من الملائكة الكرام تردد ما بناء على ما في الإتقان نقلا عن ابن الصلاح من أن قراءة القرآن كرامة أكرم الله تعالى بها البشر فقد ورد أن الملائكة لم يعطوا ذلك وأنهم حريصون لذلك على استماعه من الإنس وإنما لم أعتبر عمومه للنصوص الدالة على أن جبريل عليه السلام كان يقرأ القرآن وكأني بك لا تسلم صحة ما ذكر وإن استثني منه جبريل عليه السلام، وقيل: عَلَّمَ من العلامة ولا تقدير أي جعل القرآن علامة وآية لمن اعتبر، أو علامة للنبوة ومعجزة، وهذا على ما قيل: يناسب ما ذكر في مفتتح السورة السابقة من قوله تعالى: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر: 1] وتتناسب السورتان في المفتتح حيث افتتحت الأولى بمعجزة من باب الهيبة وهذه بمعجزة من باب الرحمة. وقد أبعد القائل ولو أبدى ألف مناسبة، فالذي ينبغي أن يعلم أنه من التعليم، والمراد بتعليم القرآن قيل: إفادة العلم به لا بمعنى إفادة العلم بألفاظه فقط بل بمعنى إفادة ذلك والعلم بمعانيه على وجه يعتدّ به وهو متفاوت وقد يصل إلى العلم بالحوادث الكونية من إشاراته ورموزه إلى غير ذلك فإن الله تعالى لم يغفل شيئا فيه. أخرج أبو الشيخ في كتاب العظمة عن أبي هريرة مرفوعا «إن الله لو أغفل شيئا لأغفل الذرة والخردلة والبعوضة» . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود أنزل في هذا القرآن علم كل شيء وبين لنا فيه كل شيء ولكن علمنا يقصّر عما بين لنا في القرآن، وقال ابن عباس: لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى: وقال المرسي: جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علما حقيقة إلا المتكلم به، ثم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خلا ما استأثر به سبحانه، ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم كالخلفاء الأربعة، ثم ورث عنهم التابعون لهم بإحسان ثم تقاصرت الهمم وفترت العزائم وتضاءل أهل العلم وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه، وفسر بعضهم التعليم بتنبيه النفس لتصور المعاني، وجوز الإمام أن يراد به هنا جعل الشخص بحيث يعلم القرآن فالآية كقوله تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ [القمر: 17، 22، 32، 40] وهو بهذا المعنى مجاز كما لا يخفى، والرَّحْمنُ مبتدأ والجملة بعده خبره كما هو الظاهر، وإسناد تعليمه إلى اسم الرَّحْمنُ للإيذان بأنه من آثار الرحمة الواسعة وأحكامها، وتقديم المسند إليه إما للتأكيد أو للحصر، وفيه من تعظيم شأن القرآن ما فيه، وقيل: الرَّحْمنُ خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ خبره محذوف أي الله الرحمن، أو الرحمن ربنا وما بعد مستأنف لتعديد نعمه عز وجل وهو خلاف الظاهر، ثم أتبع سبحانه نعمة تعليم القرآن بخلق الإنسان فقال تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ لأن أصل النعم عليه، وإنما قدم ما قدم منها لأنه أعظمها، وقيل: لأنه مشير إلى الغاية من خلق الإنسان وهو كماله الجزء: 14 ¦ الصفحة: 98 في قوة العلم والغاية متقدمة على ذي الغاية ذهنا وإن كان الأمر بالعكس خارجا، والمراد بالإنسان الجنس وبخلقه إنشاؤه على ما هو عليه من القوى الظاهرة والباطنة، ثم أتبع عز وجل ذلك بنعمة تعليم الْبَيانَ فقال سبحانه: عَلَّمَهُ الْبَيانَ لأن البيان هو الذي به يتمكن عادة من تعلم القرآن وتعليمه، والمراد به المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير. والمراد بتعليمه نحو ما مر، وفي الإرشاد أن قوله تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ تعيين للمتعلم، وقوله سبحانه: عَلَّمَهُ الْبَيانَ تبيين لكيفية التعليم، والمراد بتعليم البيان تمكين الإنسان من بيان نفسه، ومن فهم بيان غيره إذ هو الذي يدور عليه تعليم القرآن. وقيل إنه بناء على تقدير المفعول المحذوف الملائكة المقربين: إن تقديم تعليم القرآن لتقدمه وقوعا فهم قد علموه قبل خلق الإنسان وربما يرمز إليه قوله تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة: 77- 79] وفي النظم الجليل عليه حسن زائد حيث إنه تعالى ذكر أمورا علوية وأمورا سفلية وكل علوي قابله بسفلي ويأتي هذا على تقدير المفعول جبريل عليه السلام أيضا وقال الضحاك: الْبَيانَ الخير والشر، وقال ابن جريج: سبيل الهدى وسبيل الضلالة، وقال يمان: الكتابة والكل كما ترى، وجوز أن يراد به القرآن وقد سماه الله تعالى بيانا في قوله سبحانه: هذا بَيانٌ [آل عمران: 138] وأعيد ليكون الكلام تفصيلا لإجمال علم القرآن وهذا في غاية البعد وقال قتادة: الْإِنْسانَ آدم، والْبَيانَ علم الدنيا والآخرة، وقيل: الْبَيانَ أسماء الأشياء كلها. وقيل: التكلم بلغات كثيرة، وقيل: الاسم الأعظم الذي علم به كل شيء، ونسب هذا إلى جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه. وقال ابن كيسان: الْإِنْسانَ محمد صلى الله تعالى عليه وسلم وعليه قيل: المراد بالبيان بيان المنزل. والكشف عن المراد به كما قال تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44] أو الكلام الذي يشرح به المجمل والمبهم في القرآن أو القرآن نفسه على ما سمعت آنفا، أو نحو ذلك مما يناسبه عليه الصلاة والسلام ويليق به من المعاني السابقة، ولعل ابن كيسان يقدر مفعول علم الإنسان مرادا به النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أيضا، وهذه أقوال بين يديك، والمتبادر من الآيات الكريمة لا يخفى عليك ولا أظنك في مرية من تبادر ما ذكرناه فيها أولا. ثم إن كلا من الجملتين الأخيرتين خبر عن المبتدأ كجملة عَلَّمَ الْقُرْآنَ وكذا قوله تعالى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ والجار والمجرور فيه خبر بتقدير مضاف أي جرى الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ كائن أو مستقر بِحُسْبانٍ أو الخبر محذوف والجار متعلق به أي يجريان بحسبان وهو مصدر كالغفران بمعنى الحساب- كما قال قتادة وغيره- أي هما يجريان بِحُسْبانٍ مقدر في بروجهما ومنازلهما بحيث ينتظم بذلك أمور الكائنات السفلية وتختلف الفصول والأوقات ويعلم السنون والحساب، وقال الضحاك وأبو عبيدة: هو جمع حساب كشهاب وشهبان أي هما يجريان بحسابات شتى في بروجهما ومنازلهما، وقال مجاهد: الحسبان الفلك المستدير من حسبان الرحا وهو ما أحاط بها من أطرافها المستديرة، وعليه فالباء للظرفية، والجار والمجرور في موضع الخبر من غير احتياج إلى ما تقدم، والمراد كل من الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ في فلك، والجمهور على الأول وجريان الشمس والقمر مما لا ينبغي أن يشك فيه. وفلاسفة العصر كانوا يزعمون أن الشمس لا تجري أصلا، وأن القمر يجري على الأرض، والأرض تجري على الشمس، وقد سمعنا أنهم عدلوا منذ أعوام عن ذلك، فزعموا أن للشمس حركة على كوكب آخر وهذا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 99 يدل على أنهم لم يكن عندهم برهان على دعواهم الأولى كما كان يقوله من كان ينتصر لهم، والظاهر أن حالهم اليوم بل وغدا مثل حالهم بالأمس، ونحن مع الظواهر حتى يقوم الدليل القطعي على خلافها وحينئذ نميل إلى التأويل وبابه واسع، ومثل هذه الجملة قوله تعالى: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ فإن المعطوف على الخبر خبر، والمراد- بالنجم- النبات الذي ينجم أي يظهر ويطلع من الأرض ولا ساق له، وبالشجر النبات الذي له ساق، وهو المروي عن ابن عباس وابن جبير وأبي رزين والمراد بسجودهما انقيادهما له تعالى فيما يريد بهما طبعا، شبه جريهما على مقتضى طبيعتيهما بانقياد الساجد لخالقه وتعظيمه له. ثم استعمل اسم المشبه به في المشبه فهناك استعارة مصرحة تبعية، وقال مجاهد وقتادة والحسن- النجم- نجم السماء وسجوده بالغروب ونحوه وسجود الشجر بالظل واستدارته عند مجاهد والحسن وفي رواية أخرى عن مجاهد أن سجودهما عبارة عن انقيادهما لما يريد سبحانه بهما طبعا، والجمهور على تفسير النجم بما سمعت أولا قبل لأن اقترانه بالشجر يدل عليه، وإن كان تقدم الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يتوهم منه أنه بمعناه المعروف ففيه تورية ظاهرة، وإخلاء الجمل الثانية والثالثة والرابعة عن العاطف لورودها على نهج التعديد مع الإشارة إلى أن كلا مما تضمنته نعمة مستقلة تقتضي الشكر، وقد قصروا في أدائه ولو عطفت مع شدة اتصالها وتناسبها ربما توهم أن الكل نعمة واحدة. وتوسيط العاطف بين الرابعة والخامسة رعاية لتناسبهما من حيث التقابل لما أن الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ علويان وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ سفليان، ومن حيث إن كلا من حال العلويين وحال السفليين من باب الانقياد لأمر الله عز وجل وخلوهما عن الرابط اللفظي مع كونهما خبرين للتعويل على كمال قوة الارتباط المعنوي إذ لا يتوهم ذهاب الوهم إلى كون حال الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بتسخير غيره تعالى، ولا إلى كون سجود النجم والشجر لسواه سبحانه فكأنه قيل: الشمس والقمر بحسبانه وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ له كذا قالوه، وفي الكشف: تبيينا لما ذكره صاحب الكشاف في هذا المقام أخلى الجمل أي التي قبل الشمس والقمر بحسبان عن العاطف لأن الغرض تعديد النعم وتبكيت المنكر كما يقال: زيد أغناك بعد فقر، أعزك بعد ذل، كثّرك بعد قلة، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد فما تنكر من إحسانه كأنه لما عد نعمة حرك منه حتى يتأمل هل شكرها حق شكرها أم لا، ثم يأخذ في أخرى ولو جيء بالعاطف صارت كواحدة ولم يكن من التحريك في شيء، ولما قضي الوطر من التعديد المحرك والتبكيت بذكر ما هو أصل النعم على نمط رد الكلام على منهاجه الأصلي من تعداد النعم واحدة بعد أخرى على التناسب والتقارب بحرف النسق، وفيه تنبيه على أن النعم لا تحصى فليكتف بتعديد أجلها رتبة للغرض المذكور. وجملة الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ ليست من أخبار المبتدأ، والزمخشري إنما سأل عن وجه الربط، وأجاب بأن الربط حاصل بالوصل المعنوي كأنه بعد ما بكت ونبه أخذ يعد عليه أصول النعم ليثبت على ما طلب منه من الشكر، وهذا كما تقول في المثال السابق بعد قولك: فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد دانت له أقرانك وأطاعته إخوانك وبسط نواله فيمن تحت ملكته ولم يخرج أحد من حياطة عدله ونصفته، فلا يشك ذو أرب أنها جمل منقطعة عن الأولى إعرابا متصلة بها اتصالا معنويا أورثها قطعها لأنها سيقت لغرض وهذه لأخر، وقريب من هذا الاتصال اتصال قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ [البقرة: 6] الآية بقوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: 3] الآية انتهى. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 100 وقد أبعد المغزى فيما أرى إلا أن ظاهر كلام الكشاف يقتضي كونه قوله تعالى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ من الأخبار فتأمل وَالسَّماءَ رَفَعَها أي خلقها مرفوعة ابتداء لا أنها كانت مخفوضة ورفعها، والظاهر أن المراد برفعها الرفع الصوري الحسي، ويجوز أن يكون المراد به ما يشمل الصوري والمعنوي بطريق عموم المجاز أو الجمع بين الحقيقة والمجاز عند من يرى جوازه ورفعها المعنوي الرتبي لأنها منشأ أحكامه تعالى وقضاياه ومنزل أوامره سبحانه ومحل ملائكته عز وجل، وقرأ أبو السمال «والسماء» بالرفع على الابتداء، ولا إشكال فيه لأن الجملة عليه اسمية معطوفة على مثلها، وإنما الإشكال في النصب لأنه بفعل مضمر على شريطة التفسير أي ورفع السماء فتكون الجملة فعلية فإن عطفت على جملة- والنجم والشجر يسجدان- الكبرى لزم تخالف الجملتين لمعطوفة والمعطوف عليها بالاسمية والفعلية وهو خلاف الأولى، وإن عطفت على جملة يَسْجُدانِ الصغرى لزم أن تكون خبرا- للنجم والشجر- مثلها، وذلك لا يصح إذ لا عائد فيها إليهما، وكذا يقال في العطف على كبرى وصغرى الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ وأجاب أبو علي باختيار الثاني، وقال: لا يلزم في المعطوف على الشيء أن يعتبر فيه حال ذلك الشيء، وتلا باب قولهم متقلدا سيفا ورمحا، وبعضهم باختيار الأول ويحسن التخالف إذا تضمن نكتة، وقال الطيبي: الظاهر أن يعطف على جملة الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ ليؤذن بأن الأصل أجرى الشمس والقمر، وأسجد النجم والشجر، فعدل إلى معنى دوام التسخير والانقياد في الجملتين الأوليين، ومعنى التوكيد في الأخيرة والكلام فيما يتعلق بالرفع والنصب فيما إذا ولي العاطف جملة ذات وجهين مفصل في كتب النحو وَوَضَعَ الْمِيزانَ أي شرع العدل وأمر به بأن وفر على كل مستعد مستحقه، ووفى كل ذي حق حقه حتى انتظم أمر العالم واستقام كما قال عليه الصلاة والسلام: «بالعدل قامت السماوات والأرض» أي بقيتا على أبلغ نظام وأتقن إحكام، وقال بعضهم: المراد بقاء من فيهما من الثقلين إذ لولا العدل أهلك أهل الأرض بعضهم بعضا، وأما الملأ الأعلى فلا يقع بينهم ما يحتاج للحكم والعدل، فذكرهم للمبالغة، والذي اختاره أن المراد بالسماوات والأرض العالم جميعه ولا شك أنه لولا العدل لم يكن العالم منتظما. ومنشأ ما ذكره القائل ظن أن المراد بالعدل في الحديث العدل في الحكم لفصل الخصومات ونحوه وليس كما ظن بل المراد به عدل الله عز وجل وإعطاؤه سبحانه كل شيء خلقه. وتفسير الميزان بما ذكر هو المروي عن مجاهد والطبري والأكثرين، وهو مستعار للعدل استعارة تصريحية وعن ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك أن المراد به ما يعرف به مقادير الأشياء من الآلة المعروفة والمكيال المعروف ونحوهما، فالمعنى خلقه موضوعا مخفوضا على الأرض حيث علق به أحكام عباده وقضاياهم المنزلة من السماء وما تعبدهم به من التسوية والتعديل في أخذهم وإعطائهم، والمشهور أنه بهذا المعنى مجاز أيضا من استعمال المقيد في المطلق، وقيل: هو حقيقة فالواضع لم يضعه إلا لما يعرف به المقادير على أي هيئة ومن أي جنس كان، والناس لما ألفوا المعروف لا يكاد يتبادر إلى أذهانهم من لفظ الْمِيزانَ سواه، وقيل: المراد به المعروف واللفظ فيه حقيقة ولا يسلم الوضع للعام. ورجح القولان الأخيران بأن ما بعد أشدّ ملاءمة لهما وبين الوضع والرفع عليهما تقابل، وقد قرأ عبد الله- وخفض الميزان- والأول بأنه أتم فائدة فزن ذلك بميزان ذهنك أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ أي لئلا تطغوا فيه أي حقه وشأنه بأن تعتدوا وتتجاوزوا ما ينبغي فيه على أن (أن) ناصبة و (لا) نافية ولام العلة مقدرة متعلقة بقوله تعالى: وَضَعَ الْمِيزانَ وجوز ابن عطية والزمخشري كون (أن) تفسيرية و (لا) ناهية. واعترضه أبو حيان بأنه لم يتقدم جملة فيها معنى القول وهو شرط في صحة جعل (أن) مفسرة، وأجيب بأن وضع الميزان فيه ذلك لأنه بالوحي وإعلام الرسل عليهم والسلام، وزعم بعضهم أن التفسير متعين لأنه لا معنى لوضع الجزء: 14 ¦ الصفحة: 101 الميزان لئلا تطغوا في الميزان إذ المناسب الموزون ونحوه، وفيه ما لا يخفى وفي البحر قرأ إبراهيم «ووضع الميزان» بإسكان الضاد، وخفض الميزان على أن وَضَعَ مصدر مضاف إلى ما بعده ولم يبين هل وَضَعَ مرفوع أو منصوب، فإن كان مرفوعا فالظاهر أنه مبتدأ وأَلَّا تَطْغَوْا بتقدير الجار في موضع الخبر. وإن كان منصوبا فالظاهر أن عامله مقدر أي وفعل «وضع الميزان» أو ووضع وضع الميزان أَلَّا تَطْغَوْا إلخ، وقرأ عبد الله- لا تطغوا- بغير (أن) على إرادة القول أي قائلا، أو نحوه لا قل- كما قيل- و (لا) ناهية بدليل الجزم. وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ قوموا وزنكم بالعدل، وقال الراغب هذا إشارة إلى مراعاة المعدلة في جميع ما يتحراه الإنسان من الأفعال والأقوال، وعن مجاهد أن المعنى أقيموا لسان الميزان بالعدل إذا أردتم الأخذ والإعطاء، وقال سفيان بن عيينة: الإقامة باليد، والقسط بالقلب، والظاهر أن الجملة عطف على الجملة المنفية قبلها ولا يضر في ذلك كونها إنشائية، وتلك خبرية لأنها لتأويلها بالمفرد تجردت عن معنى الطلب، وجعل بعضهم لا في الاولى مطلقا ناهية حرصا على التوافق وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ أي لا تنقصوه فإن من حقه أن يسوى لأنه المقصود من وضعه وكرر لفظ الْمِيزانَ بدون إضماره كما هو مقتضى الظاهر تشديدا للتوصية وتأكيدا للأمر باستعماله والحث عليه، بل في الجمل الثلاث تكرار ما معنى لذلك، وقرىء «ولا تخسروا» بفتح التاء وضم السين، وقرأ زيد بن علي وبلال بن أبي بردة بفتح التاء وكسر السين. وحكى ابن جني وصاحب اللوامح عن بلال أنه قرأ بفتحهما، وخرّج ذلك الزمخشري على أن الأصل- ولا تخسروا في الميزان- فحذف الجار، وأوصل الفعل بناء على أنه لم يجىء إلا لازما، وتعقبه أبو حيان بأن خسر قد جاء متعديا كقوله تعالى: خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ [الأنعام: 12] وغيرها وخَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ [الحج: 11] فلا حاجة إلى دعوى الحذف والإيصال، وأجيب بأنه على تقدير أن يكون متعديا هنا لا بد من القول بالحذف والإيصال لأن المعنى على حذف المفعول به أي لا تخسروا أنفسكم في الميزان أي لا تكونوا خاسريها يوم القيامة بسبب الميزان بأن لا تراعوا ما ينبغي فيه، والراغب جوز حمل الآية على القراءة المشهورة على نحو هذا فقال: إن قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ يجوز أن يكون إشارة إلى تحري العدالة في الوزن وترك الحيف فيما يعاطاه فيه، ويجوز أن يكون إشارة إلى تعاطي ما لا يكون به في القيامة خاسرا فيكون ممن قال سبحانه فيه: مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ [الأعراف: 9، المؤمنين: 103، القارعة: 8] وكلا المعنيين متلازمان، وقيل: المعنى على التعدي بتقدير مضاف أي موزون الميزان، أو جعل الميزان مجازا عن الموزون فيه فتأمل ولا تغفل وَالْأَرْضَ وَضَعَها خلقها موضوعة مخفوضة عن السماء حسبما يشاهد، وقال الراغب: الوضع هنا الإيجاد والخلق وكأن مراده ما ذكر، وقيل: أي خفضها مدحوّة على الماء، والظاهر على تقدير اعتبار الدحو أنه لا حاجة إلى اعتبار أنه سبحانه خلقها كذلك بل لا يصح لأنها لم تخلق مدحوّة وإنما دحيت بعد على ما روي عن ابن عباس، ثم إن كونها على الماء مبني على ما اشتهر أنه عز وجل خلق الماء قبلها وخلقها سبحانه من زبده لِلْأَنامِ قال ابن عباس وقتادة وابن زيد والشعبي ومجاهد على ما في مجمع البحرين: الحيوان كله، وقال الحسن: الإنس والجن. وفي رواية أخرى عن ابن عباس هم بنو آدم فقط ولم أر هذا التخصيص لغيره رضي الله تعالى عنه، ففي القاموس الأنام الخلق أو الجن والإنس، أو جميع ما على وجه الأرض، ويحتمل أنه أراد أن المراد به هنا ذلك بناء على أن اللام للانتفاع وأنه محمول على الانتفاع التام وهو للإنس أتم منه لغيرهم، والأولى عندي ما حكي عنه أولا، وقرأ أبو السمال «والأرض» بالرفع- وقوله تعالى: فِيها فاكِهَةٌ إلخ استئناف مسوق لتقرير ما أفادته الجملة السابقة من كون الأرض الجزء: 14 ¦ الصفحة: 102 موضوعة لنفع الأنام، وقيل: حال مقدرة من الأرض، أو من ضميرها، فالأحسن حينئذ أن يكون الحال هو الجار والمجرور، وفاكِهَةٌ رفع على الفاعلية والتنوين بمعونة المقام للتكثير أي فيها ضروب كثيرة مما يتفكه به وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ هي أوعية التمر أعني الطلع على ما روي عن ابن عباس جمع- كم- بكسر الكاف وقد تضم، وهذا في- كم- الثمر، وأما- كم- القميص فهو بالضم لا غير، أو كل ما يكم ويغطى من ليف وسعف وطلع فإنه مما ينتفع به كالمكموم من الثمر والجمار مثلا، واختاره من اختاره، ومما ذكر يعلم فائدة التوصيف وَالْحَبُّ هو ما يتغذى به كالحنطة والشعير ذُو الْعَصْفِ قيل: هو ورق الزرع، وقيده بعضهم باليابس، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه التبن، وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن الضحاك أنه القشر الذي يكون على الحب وعن السدي والفراء أنه بقل الزرع وهو أول ما ينبت، وأخرجه غير واحد عن الحبر أيضا، واختار جمع ما روي عنه أولا، وفي توصيف الحب بما ذكر تنبيه على أنه سبحانه كما أنعم عليهم بما يقوتهم من الحب أنعم عليهم بما يقوت بهائمهم من العصف وَالرَّيْحانُ هو كل مشموم طيب الريح من النبات على ما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد، وأخرج عن الحسن أنه قال: هو ريحانكم هذا أي الريحان المعروف: وأخرج عن مجاهد أنه الرزق بل قال ابن عباس: كما أخرج هو أيضا عنه كل ريحان في القرآن فهو رزق، وزعم الطبرسي أنه قول الأكثر، وعليه قول بعض الأعراب، وقد قيل له: إلى أين أطلب من ريحان الله فإنه أراد من رزقه عز وجل، ووجه إطلاقه عليه أنه يرتاح له، وظاهر كلام الكشاف أنه أطلق وأريد منه اللب ليطابق العصف ويوافق المراد منه في قراءة حمزة والكسائي والأصمعي عن أبي عمرو «والريحان» بالجر عطفا على الْعَصْفِ إذ يبعد عليها حمله على المشموم والقريب حمله على اللب فكأنه قيل: والحب ذو العصف الذي هو رزق دوابكم، وذو اللب الذي هو رزق لكم، وجوز أن يكون الريحان في هذه القراءة عطفا على فاكهة كما في قراءة الرفع، والجر للمجاورة وهو كما ترى، والزمخشري بعد أن فسر الْأَكْمامِ بما ذكرناه ثانيا فيها وَالرَّيْحانُ باللب قال: أراد سبحانه فيها ما يتلذذ به من الفواكه: والجامع بين التغذي والتلذذ- وهو ثمر النخل- وما يتغذى به- وهو الحب- وهو على ما في الكشف بيان لإظهار وجه الامتنان وأنه مستوعب لأقسام ما يتناول في حال الرفاهية لأنه إما للتلذذ الخالص وهو الفاكهة، أو له وللتغذي أيضا وهو ثمر النخل، أو للتغذي وحده وهو الحب، ولما كان الأخيران أدخل في الامتنان شفع كلا بعلاوة فيها منة أيضا، وأن تعلم أنه إذا كان المقصود من النخل ثمره المعروف فالعطف على أسلوب ملائكته وجبريل كما قيل في قوله تعالى: فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرحمن: 68] وإذا كان ما يعمه وسائر ما ينتفع به منه كالجمار والكفرى، فالعطف ليس على ذلك، وجعل صاحب الكشف قول الزمخشري بعد تفسير الْأَكْمامِ بالمعنى الأعم وكله منتفع به كالمكموم إشارة إلى هذا، ثم قال: ولا ينافي جعله منه في قوله تعالى: فِيها فاكِهَةٌ إلخ نظرا إلى أن الجنة دار تخلص للتلذذ فالنظر هنالك إلى المقصود وهو الثمر فقط فتأمل. وقرأ ابن عامر وأبو حيوة وابن أبي عبلة- والحب ذا العصف والريحان- بنصب الجميع، وخرج على أنه بتقدير وخلق الحب إلخ، وقيل: يجوز تقدير أخص، وفيه دغدغة، وجوزوا أن يكون الريحان بمعنى اللب حالة الرفع وحالة النصب على حذف مضاف والأصل وذو أو وذا الريحان فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه والرَّيْحانُ فيعلان من الروح. فأصله ريوحان قبلت الواو ياء لاجتماعها مع ياء ساكنة قبلها وأدغمت في الياء فصار ريحان بالتشديد ثم حذفت الياء الثانية التي هي عين الكلمة فقيل: ريحان كما قيل: ميت وهين بسكون الياء. وعن أبي علي الفارسي أنه فعلان وأصله روحان بفتح الراء وسكون الواو قلبت واوه ياء للتخفيف وللفرق بينه الجزء: 14 ¦ الصفحة: 103 وبين الروحان بمعنى ما له روح فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ الخطاب للثقلين لأنهما داخلان في الأنام على ما اخترناه، أو لأن الأنام عبارة عنهما على ما روي عن الحسن، وسينطق بهما في قوله تعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ [الرحمن: 31] وفي الاخبار كما ستعلمه إن شاء الله تعالى قريبا ما يؤيده، وقد أبعد من ذهب إلى أنه خطاب للذكر والأنثى من بني آدم، وأبعد أكثر منه من قال: إنه خطاب على حد أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ [ق: 24] ويا شرطي اضربا عنقه، يعني أنه خطاب للواحد بصورة الاثنين والفاء لترتيب الإنكار، والتوبيخ على ما فصل من فنون النعماء وصنوف الآلاء الموجبة للإيمان والشكر حتما، والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكية الكلية والتربية مع الإضافة إلى ضميرهم لتأكيد النكير وتشديد التوبيخ ومعنى تكذيبهم بشيء من آلائه تعالى كفرهم به إما بإنكار كونه منه عز وجل مع عدم الاعتراف بكونه نعمة في نفسه كتعليم القرآن وما يستند إليه من النعم الدينية، وإما بإنكار كونه منه تعالى مع الاعتراف بكونه نعمة في نفسه كالنعم الدنيوية الواصلة إليهم بإسناده إلى غيره سبحانه استقلالا، أو اشتراكا صريحا، أو دلالة فإن إشراكهم لآلهتهم به تعالى في العبادة من دواعي إشراكهم لها به تعالى فيما يوجبها، والتعبير عن كفرهم المذكور بالتكذيب لما أن دلالة الآلاء المذكورة على وجوب الإيمان والشكر وشهادة منها بذلك فكفرهم بها تكذيب لا محالة أي فإذا كان الأمر كما فصل فَبِأَيِّ فرد من أفراد نعم مالككما ومربيكما بتلك النعم تُكَذِّبانِ مع أن كلا منها ناطق بالحق شاهد بالصدق ويندب أن يقول سامع هذه الآية: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد، فقد أخرج البزار وابن جرير وابن المنذر والدارقطني في الافراد وابن مردويه والخطيب في تاريخه بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قرأ سورة «الرحمن» على أصحابه فسكتوا فقال: ما لي أسمع الجن أحسن جوابا لربها منكم ما أتيت على قول الله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ إلا قالوا: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد» . وأخرج الترمذي وجماعة وصححه الحاكم عن جابر بن عبد الله نحوه ، وقرىء «فبأي» بالتنوين في جميع السورة كأنه حذف منه المضاف إليه وأبدل منه آلاءِ رَبِّكُما بدل معرفة من نكرة. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ تمهيد للتوبيخ على إخلالهم بمواجب شكر النعمة المتعلقة بذاتي كل واحد من الثقلين، والمراد بالإنسان آدم عند الجمهور. وقيل: الجنس وساغ ذلك لأن أباهم مخلوق مما ذكر، والصلصال الطين اليابس الذي له صلصلة، وأصله- كما قال الراغب- تردد الصوت من الشيء اليابس ومنه قيل: صل المسمار، وقيل: هو المنتن من الطين من قولهم: صل اللحم، وكأن أصله صلال فقلبت إحدى اللامين صادا ويبعد ذلك قوله سبحانه: كَالْفَخَّارِ وهو الخزف أعني ما أحرق من الطين حتى تحجر وسمي بذلك لصوته إذا نقر كأنه تصور بصورة من يكثر التفاخر، وقد خلق الله تعالى آدم عليه السلام من تراب جعله طينا ثم حمأ مسنونا ثم صلصالا فلا تنافي بين الآية الناطقة بأحدها وبين ما نطق بأحد الآخرين وَخَلَقَ الْجَانَّ هو أبو الجن وهو إبليس قاله الحسن، وقال مجاهد: هو أبو الجن وليس بإبليس، وقيل: هو اسم جنس شامل للجن كلهم مِنْ مارِجٍ من لهب خالص لا دخان فيه- كما هو رواية عن ابن عباس- وقيل: هو اللهب المختلط بسواد النار، أو بخضرة وصفرة وحمرة- كما روي عن مجاهد- من مرج الشيء إذا اضطرب واختلط، ومِنْ لابتداء الغاية، وقوله تعالى: مِنْ نارٍ بيان لمارج والتنكير للمطابقة ولأن التعريف لكنه عليه فكأنه قيل: خلق من نار خالصة، أو مختلطة على التفسيرين، وجوز جعل مِنْ فيه ابتدائية فالتنكير لأنه أريد نار مخصوصة متميزة من بين النيران لا هذه المعروفة، وأيا ما كان فالمارج بالنسبة إلى الجان كالتراب بالنسبة إلى الإنسان، وفي الآية رد على من يزعم أن الجن نفوس مجردة فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مما أفاض عليكما في تضاعيف الجزء: 14 ¦ الصفحة: 104 خلقكما من سوابغ النعم رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ خبر مبتدأ محذوف أي هو رب إلخ، أو الذي فعل ما ذكر من الأفاعيل البديعة- رب مشرقي الشمس صيفا وشتاء ومغربيها- كذلك على ما أخرجه جماعة عن ابن عباس وروي عن مجاهد وقتادة وعكرمة أن الْمَشْرِقَيْنِ مشرقا الشتاء ومشرق الصيف، والْمَغْرِبَيْنِ مغرب الشتاء ومغرب الصيف بدون ذكر الشمس، وقيل: المشرقان مشرقا الشمس والقمر، والمغربان مغرباهما. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن الْمَشْرِقَيْنِ مشرق الفجر ومشرق الشفق، والْمَغْرِبَيْنِ مغرب الشمس ومغرب الشفق، وحكى أبو حيان في المغربين نحو هذا، وفي المشرقين أنهما مطلع الفجر ومطلع الشمس والمعول ما عليه الأكثرون من مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما، ومن قضية ذلك أن يكون سبحانه رب ما بينهما من الموجودات، وقيل: رَبُّ مبتدأ والخبر قوله تعالى: مَرَجَ إلخ، وليس بذاك. وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة «ربّ» بالجر على أنه بدل من ربكما فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مما في ذلك من فوائد لا تحصى كاعتدال الهواء واختلاف الفصول وحدوث ما يناسب كل فصل في وقته. مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي أرسلهما وأجراهما من- مرجت- الدابة- في المرعى- أرسلتها فيه، والمعنى أرسل البحر الملح والبحر العذب يَلْتَقِيانِ أي يتجاوران وتتماس سطوحهما لا فصل بينهما في مرأى العين، وقيل: أرسل بحري فارس والروم يلتقيان في المحيط لأنهما خليجان ينشعبان منه، وروي هذا عن قتادة لكنه أورد عليه أنه لا يوافق قوله تعالى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ [الفرقان: 53] والقرآن يفسر بعضه بعضا، وعليه قيل: جملة يَلْتَقِيانِ حال مقدرة إن كان المراد- إرسالهما إلى المحيط، أو المعنى اتحاد أصليهما إن كان المراد إرسالهما إليه بَيْنَهُما بَرْزَخٌ أي حاجز من قدرة الله تعالى، أو من أجرام الأرض كما قال قتادة لا يَبْغِيانِ أي لا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة وإبطال الخاصية بالكلية بناء على الوجه الأول فيما سبق، أو لا يتجاوزان حديهما بإغراق ما بينهما بناء على الوجه الثاني، وروي هذا عن قتادة أيضا، وفي معناه ما أخرجه عبد الرزاق وابن المنذر عن الحسن لا يَبْغِيانِ عليكم فيغرقانكم، وقيل: المعنى لا يطلبان حالا غير الحال التي خلقا عليها وسخرا لها فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مما لكما في ذلك من المنافع يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ صغار الدر وَالْمَرْجانُ كباره كما أخرج ذلك عبد بن حميد وابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه ومجاهد، وأخرجه عبد عن الربيع وجماعة منهم المذكوران وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس، وأخرج ابن جرير عنه أنه قال: اللُّؤْلُؤُ ما عظم منه وَالْمَرْجانُ اللؤلؤ الصغار. وأخرج هو وعبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة نحوه، وكذا أخرج ابن الأنباري في الوقف والابتداء عن مجاهد، وأظن أنه إن اعتبر في اللؤلؤ معنى التلألؤ واللمعان وفي المرجان معنى المرج والاختلاط فالأوفق لذلك ما قيل ثانيا فيهما. وأخرج عبد الرزاق الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبري عن ابن مسعود أنه قال:- المرجان- الخرز الأحمر أعني البسذ وهو المشهور المتعارف، واللُّؤْلُؤُ عليه شامل للكبار والصغار. ثم إن اللؤلؤ بناء غريب قيل: لا يحفظ منه في كلام العرب أكثر من خمسة هو، والجؤجؤ الصدر وقرية بالبحرين، والدؤدؤ آخر الشهر أو ليلة خمس وست وسبع وعشرين أو ثمان وتسع وعشرين أو ثلاث ليال من آخره، والبؤبؤ بالباء الموحدة الأصل والسيد الظريف ورأس المكحلة وإنسان العين ووسط الشيء، واليؤيؤ بالياء آخر الحروف طائر كالباشق، ورأيت في كتب اللغة على هذا البناء غيرها وهو الضؤضؤ الأضل للطائر. والنؤنؤ بالنون المكثر تقليب الحدقة والعاجز الجبان، ومن ذلك شؤشؤ دعاء الحمار إلى الماء وزجر الغنم والحمار للمضي. أو هو دعاء للغنم لتأكل، أو تشرب وأما الجزء: 14 ¦ الصفحة: 105 المرجان فقد ذكره صاحب القاموس في مادة- مرج- ولم يذكر ما يفهم منه أنه معرب، وقال أبو حيان في البحر: هو اسم أعجمي معرب. وقال ابن دريد: لم أسمع فيه بفعل متصرف. وقرأ طلحة- اللؤلئ- بكسر اللام الأخيرة. وقرىء اللؤلي بقلب الهمزة المتطرفة ياء ساكنة بعد كسر ما قبلها وكل من ذلك لغة. وقرأ نافع وأبو عمرو «يخرج» مبنيا للمفعول من الإخراج، وقرىء «يخرج» مبنيا للفاعل منه ونصب «اللّؤلؤ والمرجان» أي يخرج الله تعالى. واستشكلت الآية على تفسير البحرين بالعذب والملح دون بحري فارس والروم بأن المشاهد خروج اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ من أحدهما وهو الملح فكيف قال سبحانه: مِنْهُمَا؟ وأجيب بأنهما لما التقيا وصارا كالشيء الواحد جاز أن يقال: يخرجان منهما كما يقال يخرجان من البحر ولا يخرجان من جميعه ولكن من بعضه، وكما تقول خرجت من البلد وإنما خرجت من محلة من محاله بل من دار واحدة من دوره، وقد ينسب إلى الاثنين ما هو لأحدهما كما يسند إلى الجماعة ما صدر من واحد منهم. ومثله ما في الانتصاف عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] وعلى ما نقل عن الزجاج سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً [نوح: 15، 16] ، وقيل: إنهما لا يخرجان إلا من ملتقى العذب والملح ويرده المشاهدة وكأن من ذكره مع ما تقدم لم يذكره لكونه قولا آخر بل ذكره لتقوية الاتحاد فحينئذ تكون علاقة التجوز أقوى. وقال أبو علي الفارسي: هذا من باب حذف المضاف والتقدير يخرج من أحدهما وجعل مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ من ذلك. وهو عندي تقدير معنى لا تقدير إعراب. وقال الرماني: العذب منهما كاللقاح للملح فهو كما يقال الولد يخرج من الذكر والأنثى أي بواسطتهما، وقال ابن عباس، وعكرمة: تكون هذه الأشياء في البحر بنزول المطر لأن الأصداف في شهر نيسان تتلقى ماء المطر بأفواهها فتتكون منه، ولذا تقل في الجدب، وجعل عليه ضمير مِنْهُمَا للبحرين باعتبار الجنس ولا يحتاج إليه بناء على ما أخرجه ابن جرير عنه أن المراد بالبحرين بحر السماء وبحر الأرض. وأخرج هو وابن المنذر عن ابن جبير نحوه إلا أن في تكون المرجان بناء على تفسير بالبسذ من ماء المطر كاللؤلؤ ترددا وإن قالوا: إنه يتكون في نيسان، وقال بعض الأئمة: ظاهر كلام الله تعالى أولى بالاعتبار من كلام الناس، ومن علم أن اللؤلؤ لا يخرج من الماء العذب وهب أن الغواصين ما أخرجوه إلا من الملح، ولكن لم قلتم إن الصدف لا يخرج بأمر الله تعالى من الماء العذب إلى الماء الملح فإن خروجه محتمل تلذذا بالملوحة كما تلتذ المتوحمة بها في أوائل حملها حتى إذا خرج لم يمكنه العود، وكيف يمكن الجزم بما قلتم وكثير من الأمور الأرضية الظاهرة خفيت عن التجار الذين قطعوا المفاوز وداروا البلاد فكيف لا يخفى أمر ما في قعر البحر عليهم، والله تعالى أعلم ومن غريب التفسير ما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس قال: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ علي وفاطمة رضي الله تعالى عنهما بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما. وأخرج عن إياس بن مالك (1) نحوه لكن لم يذكر فيه البرزخ ، وذكر الطبرسي من الإمامية في تفسيره مجمع البيان الأول بعينه عن سلمان الفارسي وسعيد بن جبير وسفيان الثوري، والذي أراه أن هذا إن صح ليس من التفسير في شيء بل هو تأويل كتأويل المتصوفة لكثير من الآيات، وكل من عليّ وفاطمة رضي الله تعالى عنهما عندي أعظم من البحر المحيط علما وفضلا، وكذا كل من الحسنين رضي الله تعالى عنهما أبهى وأبهج من اللؤلؤ والمرجان بمراتب   (1) هكذا بالأصل ولعله انس بن مالك فدخله التصحيف. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 106 جاوزت حدّ الحسبان فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مما في ذلك من الزينة والمنافع الجليلة فقد ذكر الأطباء أن اللُّؤْلُؤُ يمنع الخفقان والبحر وضعف الكبد والكلى والحصى وحرقة البول والسدد واليرقان وأمراض القلب والسموم والوسواس والجنون والتوحش والربو شربا والجذام والبرص والبهق والآثار مطلقا بالطلي إلى غير ذلك، وأن المرجان أعني بالبسذ يفرح ويزيل فساد الشهوة ولو تعليقا ونفث الدم والطحال شربا والدمعة والبياض والسلاق والجرب كحلا إلى غير ذلك مما هو مذكور في كتبهم وَلَهُ الْجَوارِ السفن جمع جارية وخصها سبحانه بأنها له وهو تعالى له ملك السماوات والأرض وما فيهن للإشارة إلى أن كونهم هم منشئيها لا يخرجها من ملكه عز وجل حيث كان تمام منفعتها إنما هو منه عز وجل، وقرأ عبد الله والحسن وعبد الوارث عن أبي عمرو «الجوار» بإظهار الرفع على الراء لأن المحذوف لما تناسوه أعطوا ما قبل الآخر حكمه كما في قوله: لها ثنايا أربع حسان ... وأربع فكلها ثمان الْمُنْشَآتُ أي المرفوعات الشرع- كما قال مجاهد- من أنشأه بمعنى رفعه، وقيل: المرفوعات على الماء وليس بذاك، وكذا ما قيل المصنوعات، وقرأ الأعمش وحمزة وزيد بن علي وطلحة وأبو بكر بخلاف عنه «المنشآت» بكسر الشين أي الرافعات الشرع، أو اللاتي ينشئن الأمواج بجريهن، أو اللاتي ينشئن السير إقبالا وإدبار، وفي الكل مجاز، وشدد الشين ابن أبي عبلة، وقرأ الحسن «المنشآت» وحد الصفة ودل على الجمع الموصوف كقوله تعالى: أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ [البقرة: 25، آل عمران: 15، النساء: 57] وقلب الهمزة ألفا على حد قوله: إن السباع لتهدأ في مرابضها يريد لتهدأ والتاء لتأنيث الصفة كتبت تاء على لفظها في الأصل فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ كالجبال الشاهقة جمع علم وهو الجبل الطويل فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ من خلق مواد السفن والإرشاد إلى أخذها وكيفية تركيبها وإجرائها في البحر بأسباب لا يقدر على خلقها وجمعها وترتيبها غيره سبحانه وتعالى كُلُّ مَنْ عَلَيْها أي على الأرض التي وضعت للأنام من الحيوانات والمركبات ومَنْ للتغليب أو للثقلين فانٍ هالك وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ أي ذاته عز وجل، والمراد هو سبحانه وتعالى، فالإضافة بيانية وحقيقة الوجه في الشاهد الجارحة واستعماله في الذات مجاز مرسل كاستعمال الأيدي في الأنفس، وهو مجاز شائع، وقيل: أصله الجهة واستعماله في الذات من باب الكناية وتفسيره بالذات هنا مبني على مذهب الخلف القائلين بالتأويل، وتعيين المراد في مثل ذلك دون مذهب السلف، وقد قررناه لك غير مرة فتذكره وعض عليه بالنواجذ. والظاهر أن الخطاب في- ربك- للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم وفيه تشريف عظيم له عليه الصلاة والسلام، وقيل: هو للصالح له لعظم الأمر وفخامته، وفي الآية عند المؤولين كلام كثير منه ما سمعت، ومنه ما قيل: الوجه بمعنى القصد ويراد به المقصود، أي ويبقى ما يقصد به ربك عز وجل من الأعمال، وحمل كلام من فسره بالعمل الصالح على ذلك وفيه ما فيه، وأقرب منه ما قيل: وجهه تعالى الجهة التي أمرنا عز وجل بالتوجه إليها والتقرب بها إليه سبحانه، ومرجع ذلك العمل الصالح أيضا والله جل شأنه يبقيه للعبد إلى أن يجازيه عليه ولذا وصف بالبقاء أو لأنه بالقبول صار غير قابل للفناء لما أن الجزاء عليه قام مقامه وهو باق، ولا يخفى أن كلا القولين غير مناسب للتعليم في كُلُّ مَنْ عَلَيْها وقيل: وجهه سبحانه الجهة التي يليها الحق أي يتولاها بفضله ويفيضها على الشيء من عنده أي إن ذلك باق دون الشيء في حدّ ذاته فإنه فان في كل وقت، وقيل: المراد بوجهه سبحانه وجهه الممكن وهي جهة حيثية ارتباطه وانتسابه إليه تعالى، والاضافة لأدنى ملابسة فالممكن في حدّ ذاته أي إذا اعتبر مستقلا غير مرتبط الجزء: 14 ¦ الصفحة: 107 بعلته أعني الوجود الحق كان معدوما لأن ظهوره إنما نشأ من العلة ولولاها لم يك شيئا مذكورا، وقول العلامة البيضاوي: لو استقريت جهات الموجودات وتفحصت وجوهها وجدتها بأسرها فانية في حد ذاتها إلا وجه الله تعالى أي الوجه الذي يلي جهته سبحانه محمول على ذلك عند بعض المحققين وإن كان قد فسر الوجه قبل بالذات، وللعلماء في تقرير كلامه اختلاف، فمنهم من يجعل قوله: لو استقريت إلخ تتمة لتفسيره الأول، ومنهم من يجعله وجها آخر، وهو على الأول أخذ بالحاصل، وعلى الثاني قيل: يحتمل التطبيق على كل من مذاهب في الممكنات الموجودة، وذلك أنها إما موجودة حقيقة بمعنى أنها متصفة بالوجود اتصافا حقيقيا بأن يكون الوجود زائدا عليها قائما بها، وهو مذهب جمهور الحكماء والمتكلمين، وإما موجودة مجازا وليس لها اتصاف حقيقي بالوجود بأن يكون الوجود قائما بها بل إطلاق الموجود عليها كإطلاق الشمس على الماء، وإليه ذهب المتألهون من الحكماء والمحققون من الصوفية إلا أن ذوق المتألهين أن علاقة المجاز أن لها نسبة مخصوصة إلى حضرة الوجود الواجبي على وجوه مختلفة وأنحاء شتى، والطرق إلى الله تعالى بعدد أنفاس الخلائق، فالوجود عندهم جزئي حقيقي قائم بذاته لا يتصور عروضه لشيء ولا قيامه به ومعنى كون الممكن موجودا أنه مظهر له ومجلى ينجلي فيه نوره- فالله نور السماوات والأرض- والممكنات بمنزلة المرايا المختلفة التي تنعكس إليها أشعة الشمس وينصبغ كل منها بصبغ يناسبه، ومذاق المحققين من الصوفية أن علاقة المجاز أنها بمنزلة صفات قائمة بذات الواجب سبحانه إذ ليس في الوجود على مذاقهم ذوات متعددة بعضها واجب وبعضها ممكن بل ذات واحدة لها صفات متكثرة وشؤونات متعددة وتجليات متجددة قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ [الأنعام: 91] والمشهور أنه لا فرق بين المذاقين. ووجه التطبيق على الأول أن يقال: المراد من الوجه الذي يلي جهته تعالى هو الوجوب بالغير إذ الممكن- وإن كان موجودا حقيقة عند الجمهور- لكن وجوده مستفاد من الواجب بالذات، وجهة الاستفادة ليست هي الذات ولا شيئا آخر من الجهات والوجوه كالإمكان والمعلولية والجوهرية والعرضية والبساطة والتركيب وسائر الأمور العامة لأن كلا منها جهته الخسة، ومقتضى الفطرة الإمكانية البعيدة بمراحل عن الوجوب الذاتي المنافية له، وإنما جهة الشرف القريبة المناسبة للوجوب الذاتي جهة الوجوب بالغير فهو وجه يلي جهة الواجب ويناسبه في كونه وجوبا وإن كان بالغير، ولذا يعقبه فيضان الوجود، ولذا تسمعهم يقولون: الممكن ما لم يجب لو يوجد. ووجه التطبيق على الثاني أن يقال: الوجه الذي يلي جهته تعالى هو تلك النسبة المخصوصة المصححة لإطلاق لفظ الموجود عليها ولو مجازا، فالمعنى كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ معدوم لا يصح أن يطلق لفظ الموجود عليه ولو مجازا إلا باعتبار الوجه الذي يلي جهته تعالى أي النسبة المخصوصة إلى حضرته تعالى وهي كونه مظهرا له سبحانه، ووجه التطبيق على الثالث أن يقال: المراد بالوجه الذي يلي جهته تعالى كونها شؤونات واعتبارات له تعالى. فالمعنى كُلُّ مَنْ عَلَيْها معدوم من جميع الوجوه والاعتبارات إلا من الوجه الذي يلي جهته سبحانه والاعتبار الذي يحصل مقيسا إليه عز وجل، وهو كونه شأنا من شؤونه واعتبارا من اعتباراته جل شأنه فتأمل مستعينا بالله عز وجل. ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ أي يجعله الموحدون عن التشبيه بخلقه ويثبتون له ما يليق بشأنه تعالى شأنه فهذا راجع إلى ما له سبحانه من التعظيم في قلوب من عرفه عز وجل أو الذي يقال في شأنه: ما أجلك وما أكرمك أي هو سبحانه من يستحق أن يقال في شأنه ذلك قيل أو لم يقل فهو راجع إلى ما له تعالى من الكمال في نفسه باعتبار قصور الإدراك عن شأوه، أو من عنده الجلال والإكرام للموحدين فهو راجع إلى الفعل أي يجل الموحدين ويكرمهم، وفسر الجزء: 14 ¦ الصفحة: 108 بعض المحققين الْجَلالِ بالاستغناء المطلق وَالْإِكْرامِ بالفضل التام وهذا ظاهر، ووجه الأول بأن الجلال العظمة وهي تقتضي ترفعه تعالى عن الموجودات ويستلزم أنه سبحانه غني عنها، ثم ألحق بالحقيقة، ولذا قال الجوهري: عظمة الشيء الاستغناء عن غيره وكل محتاج حقير، وقال الكرماني: إنه تعالى له صفات عدمية مثل لا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام: 163] وتسمى صفات الجلال لما أنها تؤدي بجلّ عن كذا جل عن كذا وصفات وجوديه- كالحياة والعلم- وتسمى صفات الإكرام، وفيه تأمل. والظاهر أن ذُو صفة للوجه، ويتضمن الوصف بما ذكر على ما ذكره البعض الإشارة إلى أن فناء مَنْ عَلَيْها لا يخل بشأنه عز وجل لأنه الغني المطلق، والاشارة إلى أنه تعالى بعد فنائهم يفيض على الثقلين من آثار كرمه ما يفيض وذلك يوم القيامة، ووصف الوجه بما وصف يبعد كونه عبارة عن العمل الصالح أو الجهة على ما سمعت آنفا وكأن من يقول بذلك يقول: ذُو خبر مبتدأ محذوف هو ضمير راجع إلى الرب وهو في الأصل صفة له، ثم قطعت عن التبعية، ويؤيده قراءة أبيّ وعبد الله- ذي الجلال- بالياء على أنه صفة تابعة للرب، وذكر الراغب أن هذا الوصف قد خص به عز وجل ولم يستعمل في غيره، فهو من أجلّ أوصافه سبحانه، ويشهد له ما رواه الترمذي عن أنس والإمام أحمد عن ربيعة بن عامر مرفوعا «ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام» أي الزموه واثبتوا عليه وأكثروا من قوله والتلفظ به في دعائكم، وروى الترمذي وأبو داود والنسائي عن أنس «أنه كان مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ورجل يصلي ثم دعا فقال: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام يا حي يا قيوم، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم لأصحابه: أتدرون بما دعا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: والذي نفسي بيده لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى» . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مما يتضمنه ما ذكر فإن الفناء باب للبقاء، والحياة الأبدية، والإثابة بالنعمة السرمدية، وقال الطيبي: المراد من الآية السابقة ملزوم معناها لأنها كناية عن مجيء وقت الجزاء وهو من أجلّ النعم، ولذلك خص الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ بالذكر لأنهما يدلان على الإثابة والعقاب المراد منها تخويف العباد وتحذيرهم من ارتكاب ما يترتب عليه العقاب، والتحذير من مثل ذلك نعمة، فلذا رتب عليها بالفاء قوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ إلخ، وليس بذاك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 109 يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قاطبة ما يحتاجون إليه في ذواتهم حدوثا وبقاء وفي سائر أحوالهم سؤالا مستمرا بلسان المقال أو بلسان الحال فإنهم كافة من حيث حقائقهم الممكنة بمعزل من استحقاق الوجود وما يتفرع عليه من الكمالات بالمرة بحيث لو انقطع ما بينهم وبين العناية الإلهية من العلاقة لم يشموا رائحة الوجود أصلا فهم في كل آن سائلون. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن أبي صالح يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ الرحمة، ومن في- الأرض- المغفرة والرزق، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج يَسْئَلُهُ الملائكة عليهم السلام الرزق لأهل الأرض والمغفرة. وأهل الأرض يسألونهما جميعا وما تقدم أولى. ولا دليل على التخصيص. والظاهر أن الجملة استئناف. وقيل: هي حال من- الوجه- والعامل فيها يَبْقى أي هو سبحانه دائم في هذه الحال، ولا يخفى حاله على ذي تمييز كُلَّ يَوْمٍ كل وقت من الأوقات ولحظة من اللحظات. هُوَ فِي شَأْنٍ من الشؤون التي من جملتها إعطاء ما سألوا فإنه تعالى لا يزال ينشىء أشخاصا، ويفني آخرين ويأتي بأحوال ويذهب بأحوال حسبما تقتضيه مشيئته عز وجل المبنية على الحكم البالغة، وأخرج البخاري في تاريخه وابن ماجه ابن حيان وجماعة عن أبي الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية: «من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين» زاد البزار «ويجيب داعيا» ، وقيل: إن لله تعالى في كل يوم ثلاث عساكر: عسكر من الأصلاب إلى الأرحام، وعسكر من الأرحام إلى الدنيا، وعسكر من الدنيا إلى القبور. والظاهر أن المراد بيان كثرة شؤونه تعالى في الدنيا فكل يوم على معنى كل وقت من أوقات الدنيا. وقال ابن عيينة: الدهر عند الله تعالى يومان: أحدهما اليوم الذي هو مدة الدنيا فشأنه فيه الأمر والنهي والإماتة والاحياء. وثانيهما اليوم الذي هو يوم القيامة فشأنه سبحانه فيه الجزاء والحساب، وعن مقاتل إن الآية نزلت في اليهود قالوا: إن الله تعالى لا يقضي يوم السبت شيئا فرد عز وجل عليهم بذلك، وسأل عبد الله بن طاهر الحسين بن الفضل عن الجمع بين هذه الآية وما صح من أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة فقال: شؤون يبديها لا شؤون يبتديها، وانتصب كُلَّ يَوْمٍ على الظرف، والعامل فيه هو العامل في قوله تعالى فِي شَأْنٍ، وهُوَ ثابت المحذوف: فكأنه قيل هو ثابت في شأن كل يوم فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مما يسعف به سؤالكما وما يخرج لكما بيديه من مكمن العدم حينا فحينا سَنَفْرُغُ لَكُمْ الفراغ في اللغة يقتضي سابقة شغل. والفراغ للشيء يقتضي لا حقيقته أيضا، والله سبحانه لا يشغله شأن عن شأن فجعل انتهاء الشؤون المشار إليها بقوله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ يوم القيامة إلى واحد هو جزاء المكلفين فراغا لهم على سبيل التمثيل لأن من ترك أشغاله إلى شغل واحد يقال: فرغ له وإليه فشبه حال هؤلاء- وأخذه تعالى في جزائهم فحسب- بحال من فرغ له، وجازت الاستعارة التصريحية التبعية في سَنَفْرُغُ بأن يكون المراد سنأخذ في جزائكم فقط الاشتراك الأخذ في الجزاء فقط، والفراغ عن جميع المهام إلى واحد في أن المعنى به ذلك الواحد، وقيل: المراد التوفر في الانتقام والنكاية، وذلك أن الفراغ للشيء يستعمل في التهديد كثيرا كأنه فرغ عن كل شيء لأجله فلم يبق له شغل غيره فيدل الجزء: 14 ¦ الصفحة: 110 على التوفر المذكور، وهو كناية فيمن يصح عليه، ومجاز في غيره كالذي نحن فيه، ولعل مراد ابن عباس والضحاك بقولهما- كما أخرج ابن جرير عنهما- هذا وعيد من الله تعالى لعباده ما ذكر، والخطاب عليه قيل: للمجرمين، وتعقب بأن النداء الآتي يأباه، نعم المقصود بالتهديد هم، وقيل: لا مانع من تهديد الجميع، ثم إن هذا التهديد إنما هو بما يكون يوم القيامة، وقول ابن عطية: يحتمل أن يكون ذلك توعدا بعذاب الدنيا مما لا يكاد يلتفت إليه، وقيل: إن فرغ يكون بمعنى قصد، واستدل عليه بما أنشده ابن الأنباري لجرير: ألان وقد فرغت إلى نمير ... فهذا حين كنت لهم عذابا أي قصدت، وأنشد النحاس: فرغت إلى العبد المقيد في الحجل وفي الحديث «لأتفرغن لك يا خبيث» قاله صلى الله تعالى عليه وسلم مخاطبا به أزب العقبة يوم بيعتها أي لأقصدن إبطال أمرك، ونقل هذا عن الخليل والكسائي والفراء، والظاهر أنهم حملوا ما في الآية على ذلك، فالمراد حينئذ تعلق الإرادة تعلقا تنجيزيا بجزائهم، وقرأ حمزة والكسائي وأبو حيوة وزيد بن علي- سيفرغ- بياء الغيبة، وقرأ قتادة والأعرج «سنفرغ» بنون العظمة وفتح الراء مضارع فرغ بكسرها- وهو لغة تميم- كما أن سَنَفْرُغُ في قراءة الجمهور مضارع فرغ بفتحها لغة الحجاز، وقرأ أبو السمال وعيسى «سنفرغ» بكسر النون وفتح الراء وهي- على ما قال أبو حاتم- لغة سفلى مضر، وقرأ الأعمش وأبو حيوة بخلاف عنهما وابن أبي عبلة والزعفراني «سيفرع» بضم الياء وفتح الراء مبنيا للمفعول وقرأ عيسى أيضا «سنفرع» بفتح النون وكسر الراء، والأعرج أيضا- سيفرغ- بفتح الياء والراء وهي لغة، وقرىء سأفرغ بهمزة المتكلم وحده، وقرأ أبيّ «سنفرغ» إليكم عداه بإلى فقيل: للحمل على القصد، أو لتضمينه معناه أي سَنَفْرُغُ قاصدين إليكم أَيُّهَ الثَّقَلانِ هما الإنس والجن من ثقل الدابة وهو ما يحمل عليها جعلت الأرض كالحمولة والإنس والجن ثقلاها، وما سواهما على هذا كالعلاوة، وقال غير واحد: سميا بذلك لثقلهما على الأرض، أو لرزانة رأيهما وقدرهما وعظم شأنهما. ويقال لكل عظيم القدر مما يتنافس فيه: ثقل، ومنه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي» وقيل: سميا بذلك لأنهما مثقلان بالتكليف، وعن الحسن لثقلهما بالذنوب فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ التي من جملتها التنبيه على ما ستلقونه يوم القيامة للتحذير عما يؤدي إلى سوء الحساب يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ هما الثقلان خوطبا باسم جنسهما لزيادة التقرير ولأن الجن مشهورون بالقدرة على الأفاعيل الشاقة فخوطبوا بما ينبىء عن ذلك لبيان أن قدرتهم لا تفي بما كلفوه وكأنه لما ذكر سبحانه أنه مجاز للعباد لا محالة عقب عز وجل ذلك ببيان أنهم لا يقدرون على الخلاص من جزائه وعقابه إذا أراده فقال سبحانه: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ إن قدرتم، وأصل الاستطاعة طلب طواعية الفعل وتأتيه. أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أن تخرجوا من جوانب السماوات والأرض هاربين من الله تعالى فارّين من قضائه سبحانه فَانْفُذُوا فاخرجوا منها وخلصوا أنفسكم من عقابه عز وجل، والأمر للتعجيز لا تَنْفُذُونَ لا تقدرون على النفوذ إِلَّا بِسُلْطانٍ أي بقوة وقهر وأنتم عن ذلك بمعزل وألف ألف منزل، روي أن الملائكة عليهم السلام ينزلون يوم القيامة فيحيطون بجميع الخلائق فإذا رآهم الجن والإنس هربوا فلا يأتون وجها إلا وجدوا الملائكة أحاطت به، وقيل: هذا أمر يكون في الدنيا، قال الضحاك: بينما الناس في أسواقهم انفتحت السماء ونزلت الملائكة فتهرب الجن والإنس فتحدق بهم الملائكة وذلك قبيل قيام الساعة، وقيل: المراد إن استطعتم الفرار من الموت ففروا، وقيل: المعنى إن قدرتم أن تنفذوا لتعلموا بما في السماوات والأرض فنفذوا لتعلموا لكن لا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 111 تَنْفُذُونَ ولا تعلمون إلا ببينة وحجة نصبها الله تعالى فتعرجون عليها بأفكاركم، وروي ما يقاربه عن ابن عباس والأنسب بالمقام لا يخفى. وقرأ زيد بن علي إن استطعتما رعاية للنوعين وإن كان تحت كل أفراد كثيرة والجمع لرعاية تلك الكثرة وقد جاء كل في الفصيح نحو قوله تعالى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما [الحجرات: 9] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي من التنبيه والتحذير والمساهلة والعفو مع كمال القدرة على العقوبة، وقيل: على الوجه الأخير فيما تقدم أي مما نصب سبحانه من المصاعد العقلية والمعارج النقلية فتنفذون بها إلى ما فوق السماوات العلا يُرْسَلُ عَلَيْكُما استئناف في جواب سؤال مقدر عن الداعي للفرار أو عما يصيبهم أي يصب عليكما شُواظٌ هو اللهب الخالص كما روي عن ابن عباس، وأنشد عليه أبو حيان قول حسان: هجوتك فاختضعت لنا بذل ... بقافية تأجج كالشواظ وقيل: اللهب المختلط بالدخان، وقال مجاهد: اللهب الأحمر المنقطع، وقيل: اللهب الأخضر، وقال الضحاك: الدخان الذي يخرج من اللهب، وقيل: هو النار والدخان جميعا، وقرأ عيسى وابن كثير وشبل «شواظ» بكسر الشين مِنْ نارٍ متعلق- بيرسل- أو بمضمر هو صفة- لشواظ- و «من» ابتدائية أي كائن من نار والتنوين للتفخيم وَنُحاسٌ هو الدخان الذي لا لهب فيه كما قاله ابن عباس لنافع بن الأزرق وأنشد له قول الأعشى، أو النابغة الجعدي: تضيء كضوء السراج السلي ... ط لم يجعل الله فيه نحاسا وروي عنه أيضا، وعن مجاهد أنه الصفر المعروف أي يصب على رؤوسكما صفر مذاب، والراغب فسره باللهب بلا دخان ثم قال: وذلك لشبهه في اللون بالنحاس، وقرأ ابن أبي إسحاق والنخعي وابن كثير وأبو عمرو «ونحاس» بالجر على أنه عطف على نار، وقيل: على شُواظٌ وجر للجوار فلا تغفل. وقرأ الكلبي وطلحة ومجاهد بالجر أيضا لكنهم كسروا النون وهو لغة فيه، وقرأ ابن جبير- ونحس- كما تقول يوم نحس، وقرأ عبد الرحمن بن أبي بكرة وابن أبي إسحاق أيضا «ونحس» مضارعا، وماضيه حسه أي قتله أي ونقتل بالعذاب، وعن ابن أبي إسحاق أيضا- ونحس- بالحركات الثلاث في الحاء على التخيير وحنظلة بن عثمان- ونحس- بفتح النون وكسر السين، والحسن وإسماعيل- ونحس- بضمتين والكسر، وهو جمع- نحاس- كلحاف ولحف، وقرأ زيد بن علي- نرسل- بالنون- شواظا- بالنصب- ونحاسا- كذلك عطفا على شواظا فَلا تَنْتَصِرانِ فلا تمتنعان وهذا عند الضحاك في الدنيا أيضا. أخرج ابن أبي شيبة عنه أنه قال في الآية: تخرج نار من قبل المغرب تحشر الناس حتى إنها لتحشر القردة والخنازير تبيت معهم حيث باتوا وتقيل حيث قالوا، وقال في البحر: المراد تعجيز الجن والإنس أي أنتما بحال من يرسل عليه هذا فلا يقدر على الامتناع مما يرسل عليه فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فإن التهديد لطف والتمييز بين المطيع والعاصي بالجزاء والانتقام من الكفار من عداد الآلاء فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ أي انصدعت يوم القيامة، وحديث امتناع الخرق حديث خرافة، ومثله ما يقوله أهل الهيئة اليوم في السماء على أن الانشقاق فيها على زعمهم أيضا متصور فَكانَتْ وَرْدَةً أي كالوردة في الحمرة، والمراد بها النور المعروف قاله الزجاج وقتادة، وقال ابن عباس وأبو صالح: كانت مثل لون الفرس الورد، والظاهر أن مرادهما كانت حمراء. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 112 وقال الفراء: أريد لون الفرس الورد يكون في الربيع إلى الصفرة، وفي الشتاء إلى الحمرة، وفي اشتداد البرد إلى الغبرة فشبه تلون السماء بتلون الورد من الخيل، وروي هذا عن الكلبي أيضا، وقال أبو الجوزاء: وَرْدَةً صفراء والمعول عليه إرادة الحمرة، ونصب وَرْدَةً على أنه خبر- كان- وفي الكلام تشبيه بليغ، وقرأ عبيد بن عمير «وردة» بالرفع على أن- كان- تامة أي فحصلت سماء وردة فيكون من باب التجريد لأنه بمعنى كانت منها، أو فيها سماء وردة مع أن المقصود أنها نفسها كذلك فهو كقول قتادة بن مسلمة: فلئن بقيت لأرحلن بغزوة ... نحو المغانم أو يموت كريم حيث عنى بالكريم نفسه، وقوله تعالى: كَالدِّهانِ خبر ثان لكانت- أو نعت- لوردة- أو حال من اسم- كانت- على رأي من أجازه أي كدهن الزيت كما قال تعالى: كَالْمُهْلِ [الكهف: 29، الدخان: 45، المعارج: 8] وهو دردي الزيت، وهو ما جمع دهن كقرط وقراط، أو اسم لما يدهن به كالحزام والأدام، وعليه قوله في وصف عينين كثيرتي التذارف: كأنهما مزادتا متعجل ... فريان لما تدهنا بدهان وهو الدهن أيضا إلا أنه أخص لأنه الدهن باعتبار إشرابه الشيء، ووجه الشبه الذوبان وهو في السماء على وقيل من حرارة جهنم وكذا الحمرة، وقيل: اللمعان، وقال الحسن: أي كالدهان المختلفة لأنها تتلون ألوانا وقال ابن عباس: الدهان الأديم الأحمر ومنه قول الأعشى: وأجرد من كرام الخيل طرف ... كأن على شواكله دهانا وهو مفرد، أو جمع، واستدل للثاني بقوله: تبعن الدهان الحمر كل عشية ... بموسم بدر أو بسوق عكاظ وإذا شرطية جوابها مقدر أي كان ما كان مما لا تطيقه قوة البيان، أو وجدت أمرا هائلا، أو رأيت ما يذهل الناظرين وهو الناصب لإذا، ولهذا كان مفرعا ومسببا عما قبله لأن في إرسال الشواظ ما هو سبب لحدوث أمر هائل، أو رؤيته في ذلك الوقت فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فإن الإخبار بنحو ما ذكر مما يزجر عن الشر فهو لطف أيّ لطف ونعمة أيّ نعمة فَيَوْمَئِذٍ أي يوم إذ تنشق السماء حسبما ذكر. لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ لأنهم يعرفون بسيماهم وهذا في موقف، وما دل على السؤال من نحو قوله تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: 92] في موقف آخر قاله عكرمة وقتادة، وموقف السؤال على ما قيل: عند الحساب، وترك السؤال عند الخروج من القبور، وقال ابن عباس: حيث ذكر السؤال فهو سؤال توبيخ وتقرير، وحيث نفي فهو استخبار فحض عن الذنب، وقيل: المنفي هو السؤال عن الذنب نفسه والمثبت هو السؤال عن الباعث عليه، وأنت تعلم أن في الآيات ما يدل على السؤال عن نفس الذنب. وحكى الطبرسي عن الرضا رضي الله تعالى عنه أن من اعتقد الحق ثم أذنب ولم يتب عذب في البرزخ ويخرج يوم القيامة وليس له ذنب يسأل عنه، ولعمري إن الرضا لم يقل ذلك، وحمل الآية عليه مما لا يلتفت إليه بعين الرضا كما لا يخفى، وضمير ذنبه للإنس وهو متقدم رتبة لأنه نائب عن الفاعل، وإفراده باعتبار اللفظ، وقيل: لما أن المراد فرد من الإنس كأنه قيل: لا يسأل عن ذنبه إنسي ولا جني، وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد- ولا جأن- بالهمزة فرارا من التقاء الساكنين وإن كان على حدّه فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يقال فيه نحو ما سمعت في سباقه الجزء: 14 ¦ الصفحة: 113 يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ استئناف يجري مجرى التعليل لانتفاء السؤال، والْمُجْرِمُونَ قيل: من وضع الظاهر موضع الضمير للإشارة إلى أن المراد بعض من الإنس وبعض من الجن وهم المجرمون فيكون ذلك كقوله تعالى: لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص: 78] ، وسيماهم- على ما روي عن الحسن سواد الوجوه وزرقة العيون، وقيل: ما يعلوهم من الكآبة والحزن، وجوز أن تكون أمورا أخر- كالعمى. والبكم. والصمم.. وقرأ حماد بن سليمان بسيمائهم فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي جمع ناصية وهي مقدم الرأس وَالْأَقْدامِ جمع قدم وهي قدم الرجل المعروفة والباء للآلة مثلها في أخذت بخطام الدابة، والجار والمجرور نائب الفاعل وقال أبو حيان: إن الباء للتعدية والفعل مضمن معنى ما يعدى بها أي فيسحب بالنواصي إلخ، وفيه بحث وظاهر كلام غير واحد أن- أل- عوض عن المضاف إليه الضمير أي بنواصيهم وأقدامهم، ونص عليه أبو حيان فقال:- أل- فيهما عوض عن الضمير على مذهب الكوفيين، والضمير محذوف على مذهب البصريين أي بالنواصي والأقدام منهم، وأنت تعلم أن الخلاف بين أهل البلدين فيما إذا احتيج إلى الضمير للربط ولا احتياج إليه هنا، نعم المعنى على الضمير وكيفية هذا الأخذ على ما روي عن الضحاك أن يجمع الملك بين ناصية أحدهم وقدميه في سلسلة من وراء ظهره ثم يكسر ظهره ويلقيه في النار، وقيل: تأخذ الملائكة عليهم السلام بعضهم سحبا بالناصية وبعضهم سحبا بالقدم، وقيل: تسحبهم الملائكة عليهم السلام تارة بأخذ النواصي وتارة بأخذ الأقدام، فالواو بمعنى أو التي للتقسيم وهو خلاف الظاهر، وإبهام الفاعل لأنه كالمتعين، وقيل: للرمز إلى عظمته فقد أخرج ابن مردويه والضياء المقدسي في صفة النار عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: «والذي نفسي بيده لقد خلقت ملائكة جهنم قبل أن تخلق جهنم بألف عام فهم كل يوم يزدادون قوة إلى قوتهم حتى يقبضوا على من قبضوا بالنواصي والأقدام» فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ يقال فيه نحو ما تقدم، وقوله تعالى: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ مقول قول مقدر معطوف على قوله تعالى: (يؤخذ) إلخ أي ويقال هذه إلخ أو مستأنف في جواب ماذا يقال لهم لأنه مظنة للتوبيخ والتقريع، أو حال من أصحاب النواصي بناء على أن التقدير نواصيهم أو النواصي منهم، وما في البين اعتراض على الأول والأخير وكان أصل الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ التي كذبتم بها فعدل عنه لما ذكر للدلالة على استمرار ذلك وبيان لوجه توبيخهم وعلته. يَطُوفُونَ بَيْنَها أي يترددون بين نارها وَبَيْنَ حَمِيمٍ ماء حار آنٍ متناه إناه وطبخه بالغ في الحرارة أقصاها، قال قتادة: الحميم يغلي منذ خلق الله تعالى جهنم والمجرم ويعاقب بين تصلية النار وشرب الحميم، وقيل: يحرقون في النار ويصب على رؤوسهم الحميم، وقيل: إذا استغاثوا من النار جعل غياثهم الحميم، وقيل: يغمسون في واد في جهنم يجتمع فيه صديد أهل النار فتنخلع أوصالهم ثم يخرجون منه وقد أحدث الله تعالى لهم خلقا جديدا، وعن الحسن أنه قال: حَمِيمٍ آنٍ النحاس انتهى حره، وقيل: آنٍ حاضر. وقرأ السلمي يطافون، والأعمش وطلحة وابن مقسم يَطُوفُونَ بضم الياء وفتح الطاء وكسر الواو مشددة، وقرىء «يطّوفون» أي يتطوفون فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ هو أيضا كما تقدم وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ إلخ شروع في تعديد الآلاء التي تفاض في الآخرة، ومَقامَ مصدر ميمي بمعنى القيام مضاف إلى الفاعل أي وَلِمَنْ خافَ قيام ربه وكونه مهيمنا عليه مراقبا له حافظا لأحواله، فالقيام هنا مثله في قوله تعالى: أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [الرعد: 33] وهذا مروي عن مجاهد وقتادة، أو هو اسم مكان، والمراد به مكان وقوف الخلق في يوم القيامة للحساب، والإضافة إليه تعالى لامية اختصاصية لأن الملك له عز الجزء: 14 ¦ الصفحة: 114 وجل وحده فيه بحسب نفس الأمر، والظاهر والخلق قائمون له كما قال سبحانه: يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [المطففين: 6] منتظرون ما يحل عليهم من قبله جل شأنه، وزعم بعضهم أن الإضافة على هذا الوجه لأدنى ملابسة وليس بشيء، وقيل: المعنى وَلِمَنْ خافَ مقامه عند ربه على أن المقام مصدر أو اسم مكان وهو للخائف نفسه، وإضافته للرب لأنه عنده تعالى فهي مثلها في قولهم: شاة رقود الحلب، وهي بمعنى- عند- عند الكوفيين أي رقود عند الحلب، وبمعنى اللام عند الجمهور كما صرح به شراح التسهيل وليست لأدنى ملابسة كما زعم أيضا، ثم إن المراد بالعندية هنا مما لا يخفى، وجوز أن يكون مقحما على سبيل الكناية، فالمراد ولمن خاف ربه لكن بطريق برهاني بليغ، ومثله قول الشماخ: ذعرت به القطا ونقيت عنه ... مقام الذئب كالرجل اللعين (1) وهو الأظهر على ما ذكره صاحب الكشف، والظاهر أن المراد ولكل فرد فرد من الخائفين: جَنَّتانِ فقيل: إحداهما منزله ومحل زيارة أحبابه له، والأخرى منزل أزواجه وخدمه، وإليه ذهب الجبائي، وقيل: بستانان بستان داخل قصره وبستان خارجه، وقيل: منزلان ينتقل من أحدهما إلى الآخر لتتوفر دواعي لذته وتظهر ثمار كرامته، وأي هذا ممن يطوف بين النار، وبين حميم آن؟؟. وجوز أن يقال: جنة لعقيدته وجنة لعمله، أو جنة لفعل الطاعات وجنة لترك المعاصي، أو جنة يثاب بها وأخرى يتفضل بها عليه، أو إحداهما روحانية والأخرى جسمانية، ولا يخفى أن الصفات الآتية ظاهرة في الجسمانية. وقال مقاتل: جنة عدن وجنة نعيم، وقيل: المراد لكل خائفين منكما جنتان جنة للخائف الإنسي وجنة للخائف الجني، فإن الخطاب للفريقين، وهذا عندي خلاف الظاهر، وفي الآثار ما يبعده، فقد أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن الحسن أنه كان شاب على عهد عمر رضي الله تعالى عنه ملازم للمسجد والعبادة فعشقته جارية فأتته في خلوة فكلمته فحدثته نفسه بذلك فشهق شهقة فغشي عليه فجاء عم له فحمله إلى بيته فلما أفاق قال: يا عم انطلق إلى عمر فأقرئه مني السلام وقل له ما جزاء من خاف مقام ربه؟ فانطلق فأخبر عمر وقد شهق الفتى شهقة أخرى فمات فوقف عليه عمر رضي الله تعالى عنه فقال: لك جنتان لك جنتان. والخوف في الأصل توقع مكروه عند أمارة مظنونة أو معلومة ويضاده الأمن قال الراغب: والخوف من الله تعالى لا يراد به ما يخطر بالبال من الرعب كاستشعار الخوف من الأسد بل إنما يراد به الكف عن المعاصي وتحري الطاعات، ولذلك قيل: لا يعد خائفا من لم يكن للذنوب تاركا، ويؤيد هذا تفسير ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الخائف هنا كما أخرج ابن جرير عنه بمن ركب طاعة الله تعالى وترك معصيته. وقول مجاهد: هو الرجل يريد الذنب فيذكر الله تعالى فيدع الذنب، والذي يظهر أن ذلك تفسير باللازم، وقد يقال: إن ارتكاب الذنب قد يجامع الخوف من الله تعالى وذلك كما إذا غلبته نفسه ففعله خائفا من عقابه تعالى عليه، وأيد ذلك بما أخرجه أحمد والنسائي والطبراني والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن أبي شيبة وجماعة عن أبي الدرداء «أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قرأ هذه الآية وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فقلت: وإن زنى وإن سرق   (1) ضمير «هـ» و «عنه» راجع الى الماء في البيت قبله وماء قد وردت لوصل أروى عليه الطير كالورق اللجين وهو من قصيدة للشماخ مدح بها عرابة بن أوس الخزرجي والشاهد في قوله: «مقام الذئب» . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 115 يا رسول الله؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: الثانية وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فقلت: وإن زنى وإن سرق؟ فقال الثالثة: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فقلت وإن زنى وإن سرق؟ قال: نعم وإن رغم أنف أبي الدرداء» وأخرج الطبراني وابن مردويه من طريق الجريري عن أخيه قال: سمعت محمد بن سعد يقرأ- ولمن خاف مقام ربه جنتان وإن زنى وإن سرق- فقلت: ليس فيه وإن زنى وإن سرق فقال: سمعت أبا الدرداء رضي الله تعالى عنه يقرؤها كذلك فأنا أقرؤها كذلك حتى أموت، وصرح بعضهم أن المراد بالخوف في الآية أشده فتأمل. وجاء في شأن هاتين الجنتين من حديث عياض بن غنم مرفوعا «إن عرض كل واحدة منهما مسيرة مائة عام» والآية على ما روي عن ابن الزبير وابن شوذب نزلت في أبي بكر. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن عطاء أن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه ذكر ذات يوم وفكر في القيامة والموازين والجنة والنار وصفوف الملائكة وطي السماوات ونسف الجبال وتكوير الشمس وانتثار الكواكب فقال: وددت أني كنت خضرا من هذه الخضر تأتي عليّ بهيمة فتأكلني وأني لم أخلق فنزلت وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ذَواتا أَفْنانٍ صفة لجنتان وما بينهما اعتراض وسط بينهما تنبيها على أن تكذيب كل من الموصوف والصفة موجب للإنكار والتوبيخ، وجوز أن يكون خبر مبتدأ مقدر أي هما ذواتا، وأيا ما كان فهو تثنية- ذات- بمعنى صاحبة فإنه إذا ثنى فيه لغتان ذاتا على لفظه وهو الأقيس كما يثنى مذكره ذوا، والأخرى ذَواتا برده إلى أصله فإن التثنية ترد الأشياء إلى أصولها، وقد قالوا: أصل ذات ذوات لكن حذفت الواو تخفيفا وفرقا بين الواحد والجمع ودلت التثنية ورجوع الواو فيها على أصل الواحد وليس هو تثنية الجمع كما يتوهم وتفصيله في باب التثنية من شرح التسهيل، والأفنان إما جمع فن بمعنى النوع ولذا استعمل في العرف بمعنى العلم أي ذواتا أنواع من الأشجار والثمار، وروي ذلك عن ابن عباس وابن جبير والضحاك وعليه قول الشاعر: ومن كل أفنان اللذاذة والصبا ... لهوت به والعيش أخضر ناضر وإما جمع فنن وهو ما دق ولان من الأغصان كما قال ابن الجوزي، وقد يفسر بالغصن، وحمل على التسامح وتخصيصها بالذكر مع أنها ذواتا قصب وأوراق وثمار أيضا لأنها هي التي تورق وتثمر. فمنها تمتد الظلال ومنها تجنى الثمار ففي الوصف تذكير لهما فكأنه قيل: ذَواتا ثمار وظلال لكن على سبيل الكناية هو أخصر وأبلغ، وتفسيره بالأغصان على أنه جمع فنن مروي عن ابن عباس أيضا، وأخرجه ابن جرير عن مجاهد قال أبو حيان: وهو أولى لأن أفعالا في فعل أكثر منه في فعل بسكون العين كفن، ويجمع هو على فنون. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ صفة أخرى لجنتان أو خبر ثان للمبتدأ المقدر أي في كل منهما عين تجري بالماء الزلال تسمى إحدى العينين بالتسنيم، والأخرى بالسلسبيل، وروي هذا عن الحسن، وقال عطية العوفي: عَيْنانِ إحداهما من ماء غير آسن، والأخرى من خمر لذة للشاربين، وقيل: عَيْنانِ من الماء تَجْرِيانِ حيث شاء صاحبهما من الأعالي والأسافل من جبل من مسك، وعن ابن عباس عَيْنانِ مثل الدنيا أضعافا مضاعفة تَجْرِيانِ بالزيادة والكرامة على أهل الجنة. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ صنفان معروف وغريب لم يعرفوه في الدنيا، أو رطب ويابس ولا يقصر يابسه عن رطبه في الفضل والطيب، وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: قال ابن عباس في هذه الآية: ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل، ونقل هذا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 116 في البحر عن ابن عباس أيضا إلا أنه حلو، والجملة كالجملة التي قبلها. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُتَّكِئِينَ حال من قوله تعالى:- ولمن خاف- وجمع رعاية للمعنى بعد الإفراد رعاية اللفظ، وقيل: العامل محذوف أي يتنعمون متكئين، وقيل: مفعول به بتقدير أعني، والاتكاء من صفات المتنعم الدالة على صحة الجسم وفراغ القلب، والمعنى متكئين في منازلهم عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ من ديباج ثخين قال ابن مسعود- كما رواه عنه جمع وصححه الحاكم- أخبرتم بالبطائن فكيف بالظهائر، وقيل: ظهائرها من سندس، عن ابن جبير من نور جامد، وفي حديث من نور يتلألأ وهو إن صح وقف عنده. وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أنه قيل له: بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ فماذا الظواهر؟ قال: ذلك مما قال الله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة: 17] وقال الحسن: البطائن هي الظهائر وروي عن قتادة، وقال الفراء: قد تكون البطانة الظهارة والظهارة البطانة لأن كلا منهما يكون وجها والعرب تقول: هذا ظهر السماء وهذا بطن السماء، والحق أن البطائن هنا مقابل الظهائر على الوجه المعروف، وقرأ أبو حيوة «فرش» بسكون الراء، وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك قال: قرأ عبد الله على «سرر. وفرش بطائنها من إستبرق» وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ أي ما يجنى ويؤخذ من أشجارهما من الثمار، فجنى اسم أو صفة مشبهة بمعنى المجني دانٍ قريب يناله القائم والقاعد والمضطجع، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: تدنو الشجرة حتى يجتنيها ولي الله تعالى إن شاء قائما وإن شاء قاعدا وإن شاء مضطجعا، وعن مجاهد ثمار الجنتين دانية إلى أفواه أربابها فيتناولونها متكئين فإذا اضطجعوا نزلت بإزاء أفواههم فيتناولونها مضطجعين لا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك، وقرأ عيسى «وجني» بفتح الجيم وكسر النون كأنه أمال النون وإن كانت الألف قد حذفت في اللفظ كما أمال أبو عمرو حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة: 55] وقرىء «وجني» بكسر الجيم وهو لغة فيه. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِنَّ أي الجنان المدلول عليها بقوله تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فإنه يلزم من أنه لكل خائف جنتان تعدد الجنان، وكذا على تقدير أن يكون المراد لكل خائفين من الثقلين جنتان لا سيما وقد تقدر اعتبار الجمعية في قوله تعالى: مُتَّكِئِينَ وقال الفراء: الضمير لجنتان، والعرب توقع ضمير الجمع على المثنى ولا حاجة إليه بعد ما سمعت، وقيل: الضمير للبيوت والقصور المفهومة من الجنتين أو للجنتين باعتبار ما فيهما مما ذكر، وقيل: يعود على الفرش، قال أبو حيان: وهذا قول حسن قريب المأخذ، وتعقب بأن المناسب للفرش- على- وأجيب بأنه شبه تمكنهن على الفرش بتمكن المظروف في الظرف وإيثار للإشعار بأن أكثر حالهن الاستقرار عليها، ويجوز أن يقال: الظرفية للإشارة إلى أن الفرش إذا جلس عليها ينزل مكان الجالس منها ويرتفع ما أحاط به حتى يكاد يغيب فيها كما يشاهد في فرش الملوك المترفهين التي حشوها ريش النعام ونحوه، وقيل: الضمير للآلاء المعدودة من- الجنتين. والعينين. والفاكهة والفرش. والجني والمراد معهن قاصِراتُ الطَّرْفِ أي نساء يقصرن أبصارهم على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم، أو يقصرن طرف الناظر إليهن عن التجاوز إلى غيرهن، قال ابن رشيق في قول امرئ القيس: من القاصرات الطرف لو دب محول ... من الذر فوق الأنف منها لأثرا أراد بالقاصرات الطرف أنها منكسرة الجفن خافضة النظر غير متطلعة لما بعد ولا ناظرة لغير زوجها، ويجوز أن يكون معناه أن طرف الناظر لا يتجاوزها كقول المتنبي: وخصر تثبت الأبصار فيه ... كأن عليه من حدق نطاقا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 117 انتهى فلا تغفل، والأكثرون على أول المعنيين اللذين ذكرناهما بل في بعض الأخبار ما يدل على أنه تفسير نبوي. أخرج ابن مردويه عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال في ذلك «لا ينظرن إلا إلى أزواجهن» ومتى صح هذا ينبغي قصر الطرف عليه، وفي بعض الآثار تقول الواحدة منهن لزوجها: وعزة ربي ما أرى في الجنة أحسن منك فالحمد لله الذي جعلني زوجك وجعلك زوجي، والطَّرْفِ في الأصل مصدر فلذلك وحد لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ قال ابن عباس: لم يفتضهن قبل أزواجهن إنس ولا جان، وفيه إشارة إلى أن ضمير قبلهن للأزواج، ويدل عليه قاصِراتُ الطَّرْفِ وفي البحر هو عائد على من عاد عليه الضمير في مُتَّكِئِينَ، وأصل الطمث خروج الدم ولذلك يقال للحيض طمث، ثم أطلق على جماع الأبكار لما فيه من خروج الدم، وقيل: ثم عمم لكل جماع، وهو المروي هنا عن عكرمة، وإلى الأول ذهب الكثير، وقيل: إن التعبير به للإشارة إلى أنهن يوجدن أبكارا كلما جومعن، ونفي طمثهن عن الإنس ظاهر، وأما عن الجن فقال مجاهد والحسن: قد تجامع الجن نساء البشر مع أزواجهم إذا لم يذكر الزوج اسم الله تعال فنفى هنا جميع المجامعين وقيل: لا حاجة إلى ذلك إذ يكفي في نفي الطمث عن الجن إمكانه منهم، ولا شك في إمكان جماع الجني إنسية بدون أن يكون مع زوجها الغير الذاكر اسم الله تعالى، ويدل على ذلك ما رواه أبو عثمان سعيد بن داود الزبيدي قال: كتب قوم من أهل اليمن إلى مالك يسألونه عن نكاح الجن وقالوا: إن هاهنا رجلا من الجن يزعم أنه يريد الحلال فقال ما أرى بذلك بأسا في الدين ولكن أكره إذا وجدت امرأة حامل قيل: من زوجك؟ قالت: من الجن فيكثر الفساد في الإسلام، ثم إن دعوى أن الجن تجامع نساء البشر جماعا حقيقيا مع أزواجهم إذا لم يذكروا اسم الله تعالى غير مسلمة عند جميع العلماء، وقوله تعالى: وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ [الإسراء: 64] غير نص في المراد كما لا يخفى، وقال ضمرة بن حبيب: الجن في الجنة لهم قاصرات الطرف من الجن نوعهم، فالمعنى لم يطمث الإنسيات أحد من الإنس، ولا الجنيات أحد من الجن قبل أزواجهن، وقد أخرج نحو هذا عنه ابن أبي حاتم، وظاهره أن ما للجن لسن من الحور. ونقل الطبرسي عنه أنهن من الحور وكذا الإنسيات، ولا مانع من أن يخلق الله تعالى في الجنة حورا للإنس يشاكلنهم يقال لهن لذلك إنسيات، وحورا للجن يشاكلنهم يقال لهن لذلك جنيات، ويجوز أن تكون الحور كلهن نوعا واحدا ويعطى الجني منهن لكنه في تلك النشأة غيره في هذه النشأة، ويقال: ما يعطاه الإنسي منهن لم يطمثها إنسي قبله، وما يعطاه الجني لم يطمثها جني قبله وبهذا فسر البلخي الآية، وقال الشعبي والكلبي: تلك القاصرات الطرف من نساء الدنيا لم يمسسهن منذ أنشئن النشأة الآخرة خلق قبل والذي يعطاه الإنسي زوجته المؤمنة التي كانت له في الدنيا ويعطى غيرها من نسائها المؤمنات أيضا، ويبعد أن يعطى الجني من نساء الدنيا الإنسانيات في الآخرة. والذي يغلب على الظن أن الإنسي يعطي من الإنسيات والحور والجني يعطى من الجنيات والحور ولا يعطى إنسي جنية، ولا جني إنسية وما يعطاه المؤمن إنسيا كان أو جنيا من الحور شيء يليق به وتشتهيه نفسه، وحقيقة تلك النشأة وراء ما يخطر بالبال، واستدل بالآية على أن الجن يدخلون الجن ويجامعون فيها كالإنس فهم باقون فيها منعمين كبقاء المعذبين منهم في النار، وهو مقتضى ظاهر ما ذهب إليه أبو يوسف ومحمد وابن أبي ليلى والأوزاعي. وعليه الأكثر- كما ذكره العيني في شرح البخاري- من أنهم يثابون على الطاعة ويعاقبون الجزء: 14 ¦ الصفحة: 118 على المعصية، ويدخلون الجنة فإن ظاهره أنهم كالإنس يوم القيامة، وعن الإمام أبي حنيفة ثلاث روايات الاولى أنهم لا ثواب لهم إلا النجاة من النار ثم يقال لهم كونوا ترابا كسائر الحيوانات، الثانية أنهم من أهل الجنة ولا ثواب لهم أي زائد على دخولها، الثالثة التوقف قال الكردري: وهو في أكثر الروايات، وفي فتاوى أبي إسحاق ابن الصفار أن الإمام يقول: لا يكونون في الجنة ولا في النار ولكن في معلوم الله تعالى. ونقل عن مالك وطائفة أنهم يكونون في ربض الجنة، وقيل: هم أصحاب الأعراف، وعن الضحاك أنهم يلهمون التسبيح والذكر فيصيبون من لذته ما يصيبه بنو آدم من نعيم الجنة وعلى القول بدخولهم الجنة قيل: نراهم ولا يرونا عكس ما كانوا عليه في الدنيا، وإليه ذهب الحارث المحاسبي، وفي اليواقيت الخواص منهم يرونا كما أن الخواص منا يرونهم في الدنيا، وعلى القول بأنهم يتنعمون في الجنة قيل: إن تنعمهم بغير رؤيته عز وجل فإنهم لا يرونه، وكذا الملائكة عليهم السلام ما عدا جبريل عليه السلام فإنه يراه سبحانه مرة ولا يرى بعدها على ما حكاه أبو إسحاق إبراهيم بن الصفار في فتاويه عن أبيه، والأصح ما عليه الأكثر مما قدمناه وأنهم لا فرق بينهم وبين البشر في الرؤية وتمامه في محله، وقرأ طلحة وعيسى وأصحاب عبد الله «يطمثهن» بضم الميم هنا وفيما بعد، وقرأ أناس بضمه في الاول وكسره في الثاني. وناس بالعكس وناس بالتخيير، والجحدري بفتح الميم فيهما، والجملة صفة- لقاصرات الطرف- لأن إضافتها لفظية أو حال منها لتخصيصها بالإضافة فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وقوله تعالى: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ إما صفة لقاصرات الطرف، أو حال منها كالتي قيل أي مشبهات بالياقوت والمرجان، وقول النحاس: إن الكاف في موضع رفع على الابتداء ليس بشيء كما لا يخفى، أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أنه قال في الآية في صفاء الياقوت وبياض اللؤلؤ، وعن الحسن نحوه، وفي البحر عن قتادة في صفاء الياقوت. وحمرة المرجان فحمل المرجان على ما هو المعروف وقيل: مشبهات بالياقوت في حمرة الوجه وبالمرجان أي صغار الدر في بياض البشرة وصفائها وتخصيص الصغار على ما في الكشاف لأنه أنصع بياضا من الكبار، وقيل، يحسن هنا إرادة الكبار كما قيل في معناه لأنه أوفق بقوله تعالى: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصافات: 49] فلا تغفل. وأخرج أحمد وابن حيان والحاكم وصححه والبيهقي في البعث والنشور عن أبي سعيد عن النبي صلّى الله عليه وسلم في قوله تعالى: كَأَنَّهُنَّ إلخ قال: ينظر إلى وجهها في خدرها أصفى من المرآة وإن أدنى لؤلؤة عليها تضيء ما بين المشرق والمغرب وأنه يكون عليها سبعون ثوبا ينفذها بصره حتى يوضح سوقها من وراء ذلك. وأخرج عبد بن حميد والطبراني والبيهقي في البعث عن ابن مسعود قال: إن المرأة من الحور العين يرى مخ ساقها من وراء اللحم والعظم من تحت سبعين حلة كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وقوله تعالى: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ استئناف مقرر لمضمون ما قبله أي ما جزاء الإحسان في العمل إلا الإحسان في الثواب، وقيل: المراد ما جزاء التوحيد إلا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 119 الجنة وأيد بظواهر كثير من الآثار، أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول والبغوي في تفسيره والديلمي في مسند الفروس وابن النجار في تاريخه عن أنس قال: «قرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ فقال: وهل تدرون ما قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: يقول: هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة» وأخرج ابن النجار في تاريخه عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعا بلفظ «قال الله عز وجل هل جزاء من أنعمت عليه» إلخ ووراء ذلك أقوال تقرب من مائة قول، واختير العموم ويدخل التوحيد دخولا أوليا، والصوفية أوردوا الآية في باب الإحسان وفسروه بما في الحديث «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» قالوا: فهو اسم يجمع أبواب الحقائق، وقرأ ابن أبي إسحاق إلا الحسان يعني بالحسان قاصرات الطرف اللاتي تقدم ذكرهن فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وقوله تعالى: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ مبتدأ وخبر أي ومن دون تينك الجنتين في المنزلة والقدر جنتان أخريان، قال ابن زيد والأكثرون الأوليان للسابقين وهاتان لأصحاب اليمين، وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي موسى عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في قوله تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ [الرحمن: 46] وقوله سبحانه: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ قال: «جنتان من ذهب للمقربين وجنتان من ورق لأصحاب اليمين» وقال الحسن: الأوليان للسابقين والأخريان للتابعين، وروي موقوفا وصححه الحاكم عن أبي موسى، وزعم بعضهم أن الأوليين للخائفين والأخريين لذرياتهم الذين ألحقوا بهم ولم أجد له مستندا من الآثار، وحكي في البحر عن ابن عباس أنه قال: وَمِنْ دُونِهِما في القرب للمنعمين والمؤخرتا الذكر أفضل من الأوليين، وادعى أن الصفات الآتية أمدح من الصفات السابقة ووافقه من وافقه، وسيأتي تمام الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وقوله تعالى: مُدْهامَّتانِ صفة لجنتان وسط بينها الاعتراض لما تقدم من التنبيه على أن تكذيب كل من الموصوف والصفة حقيق بالإنكار والتوبيخ أو خبر مبتدأ محذوف أي هما مدهامتان من الدهمة وهي في الأصل على ما قال الراغب سواد الليل ويعبر بها عن سواد الفرس وقد يعبر بها عن الخضرة الكاملة اللون كما يعبر عنها بالخضرة إذا لم تكن كاملة وذلك لتقاربهما في اللون، ويقال: ادهام ادهيماما فهو مدهام على وزن مفعال إذا اسود أو اشتدت خضرته، وفسرها هنا ابن عباس ومجاهد وابن جبير وعكرمة وعطاء ابن أبي رباح وجماعة بخضراوان، بل أخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي أيوب رضي الله تعالى عنه قال: «سألت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن قوله تعالى: مُدْهامَّتانِ فقال عليه الصلاة والسلام: خضراوان» والمراد أنهما شديدتا الخضرة والخضرة إذا اشتدت ضربت إلى السواد وذلك من الري من الماء كما روي عن ابن عباس وابن الزبير وأبي صالح قيل: إن في وصف هاتين الجنتين بما ذكر إشعارا بأن الغالب عليهما النبات والرياحين المنبسطة على وجه الأرض كما أن في وصف السابقتين بذواتا أفنان إشعارا بأن الغالب عليهما الأشجار فإن الأشجار توصف بأنها ذوات أفنان والنبات يوصف بالخضرة الشديدة فالاقتصار في كل منهما على أحد الأمرين مشعر بما ذكر وبني على هذا كون هاتين الجنتين دون الأوليين في المنزلة والقدر كيف لا والجنة الكثيرة الظلال والثمار أعلى وأغلى من الجنة القليلة الظلال والثمار، ومن ذهب إلى تفضيل هاتين الجنتين مع اختصاص الوصف بالخضرة بالنبات وكذا كونه أغلب من وصف الأشجار به فكثيرا ما تسمع الناس يقولون إذا مدحوا بستانا أشجاره خضر يانعة وهو أظهر في مدحه بأنه ذو ثمار من ذي أفنان، وهو يشعر أيضا بكثر مائه والاعتناء بشأنه وبعده عن التصوح والهلاك. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ فوارتان بالماء على ما هو الظاهر، وفي البحر الجزء: 14 ¦ الصفحة: 120 النضخ فوران الماء، وفي الكشاف وغيره النضج أكثر من النضخ بالحاء المهملة لأنه مثل الرش وهو عند من فضل الجنتين الأوليين دون الجري، فالمدح به دون المدح به، وعليه قول البراء بن عازب فيما أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم العينان اللتان تجريان خير من النضاختين، ومن ذهب إلى تفضيل هاتين يقول في الفوران جري مع زيادة حسن فإن الماء إذا فار وارتفع وقع متناثر القطرات كحبات اللؤلؤ المتناثرة كما يشاهد في الفوارات المعروفة، أو يقول بما أخرجه ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن أنس ضَّاخَتانِ بالمسك والعنبر تنضخان على دور الجنة كما ينضخ المطر على دور أهل الدنيا، أو بما أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن مجاهدضَّاخَتانِ بالخير، ولفظ ابن أبي شيبة بكل خير. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ عطف الأخيرين على الفاكهة عطف جبريل وميكال عليهما السلام على الملائكة بيانا لفضلهما، وقيل: إنهما في الدنيا لما لم يخلصا للتفكه فإن النخل ثمره فاكهة وطعام، والرمان فاكهة ودواء عدا جنسا آخر فعطفا على الفاكهة وإن كان كل ما في الجنة للتفكه لأنه تلذذ خالص، ومنه قال الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: إذا حلف لا يأكل فاكهة فأكل رمانا أو رطبا لم يحنث، وخالفه صاحباه ثم إن نخل الجنة ورمانها وراء ما نعرفه. أخرج ابن المبارك وابن أبي شيبة وهناد وابن أبي الدنيا وابن المنذر والحاكم وصححه وآخرون عن ابن عباس نخل الجنة جذوعها زمرد أخضر وكرانيفها ذهب أحمر وسعفها كسوة أهل الجنة منها مقطعاتهم وحللهم وثمرها أمثال القلال أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل وألين من الزبد وليس له عجم وحكمه حكم المرفوع. وفي حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا أصوله فضة وجذوعه فضة وسعفه حلل وحمله الرطب إلخ. وأخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر عن أبي سعيد مرفوعا قال عليه الصلاة والسلام: «نظرت إلى الجنة فإذا الرمانة من رمانها كمثل البعير المقتب» وهذا المدح بحسب الظاهر دون المدح في قوله تعالى في الجنتين السابقتين: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ [الرحمن: 52] ومن ذهب إلى تفضيلهما يقول إن التنوين في فاكهة للتعميم بقرينة المقام نظير ما قيل في قوله تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ [التكوير: 14] فيكون في قوة فيها كل فاكِهَةٌ ويزيد ما في النظم الجليل على ما ذكر بتضمنه الإشارة إلى مدح بعض أنواعها، وقال الإمام الرازي: إن (ما) هنا كقوله تعالى: فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ وذلك لأن الفاكهة أنواع أرضية وشجرية كالبطيخ وغيره من الأرضيات المزروعات والنخل وغيرها من الشجريات فقال تعالى: مُدْهامَّتانِ لأنواع الخضر التي فيها الفواكه الأرضية، وفيها أيضا الفواكه الشجرية وذكر سبحانه منها نوعين: الرطب والرمان لأنهما متقابلان أحدهما حلو والآخر فيه حامض، وأحدهما حار والآخر بارد، وأحدهما فاكهة وغذاء والآخر فاكهة، وأحدهما من فواكه البلاد الحارة والآخر من فواكه البلاد الباردة، وأحدهما أشجاره تكون في غاية الطول والآخر ليس كذلك، وأحدهما ما يؤكل منه بارز وما لا يؤكل كامن والآخر بالعكس فهما كالضدين، والإشارة إلى الطرفين تتناول الاشارة إلى ما بينهما كما في قوله تعالى: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [الرحمن: 17] انتهى، ولعل الأول أولى فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وقوله تعالى: فِيهِنَّ خَيْراتٌ صفة أخرى لجنتان، أو خبر بعد خبر للمبتدأ المحذوف كالجملة التي قبلها، ويجوز أن تكون مستأنفة والكلام في ضمير الجمع هنا كالكلام فيه في قوله تعالى: فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ [الرحمن: 56] وخَيْراتٌ قال أبو حيان: جمع خيرة وصف بني على فعلة من الخير كما بنوا من الشر فقالوا شرة، وقال الزمخشري: أصله «خيّرات» بالتشديد فخفف كقوله عليه الصلاة والسلام: «هينون لينون» وليس جمع خير بمعنى أخير الجزء: 14 ¦ الصفحة: 121 فإنه لا يقال فيه خيرون ولا خيرات، ولعله لأن أصل اسم التفضيل أن لا يجمع خصوصا إذا نكر، وقرأ بكر بن حبيب وأبو عثمان النهدي وابن مقسم «خيّرات» بتشديد الياء وهو يؤيد أن أصله كذلك، وروي عن أبي عمرو «خيرات» بفتح الياء كأنه جمع خائرة جمع على فعلة حِسانٌ قيل: أي حسان الخلق والخلق. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أنه قال في الآية: خَيْراتٌ الأخلاق حِسانٌ الوجوه، وأخرج ذلك ابن جرير والطبراني وابن مردويه عن أم سلمة مرفوعا. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وقوله تعالى: حُورٌ بدل من خَيْراتٌ وهو جمع حوراء وكذا جمع أحور، والمراد بيض كما أخرجه ابن المنذر وغيره عن ابن عباس وروته أم سلمة أيضا عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: وقال ابن الأثير: الحوراء هي الشديدة بياض العين الشديدة سوادها، وفي القاموس الحور بالتحريك أن يشتد بياض بياض العين وسواد سوادها وتستدير حدقتها وترق جفونها ويبيض ما حواليها أو شدة بياضها وسوادها في بياض الجسد، أو اسوداد العين كلها مثل الظباء ولا يكون في بني آدم بل يستعار لها. وإذا صح حديث أم سلمة لم يعدل في القرآن عن تفسير رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ أي مخدرات يقال: امرأة قصيرة ومقصورة أي مخدرة ملازمة لبيتها لا تطوف في الطرق، قال كثير عزة: وأنت التي حبّبت كل قصيرة ... إليّ ولم تشعر بذاك القصائر عنيت قصيرات الحجال ولم أرد ... قصار الخطا شر النساء البحاتر والنساء يمدحن بملازمتهن البيوت لدلالتها على صيانتهن كما قال قيس بن الأسلت: وتكسل عن جاراتها فيزرنها ... وتغفل عن أبياتهن فتعذر وهذا التفسير مأثور عن ابن عباس والحسن والضحاك وهو رواية عن مجاهد، وأخرج ابن أبي شيبة وهناد بن السري وابن جرير عنه أنه قال: مَقْصُوراتٌ قلوبهن وأبصارهن ونفوسهن على أزواجهن، والأول أظهر، وفِي الْخِيامِ عليه متعلق بمقصورات، وعلى الثاني يحتمل ذلك، ويحتمل كونه صفة ثانية لحور فلا تغفل، والخيام جمع خيمة- وهي على ما في البحر- بيت من خشب وثمام وسائر الحشيش، وإذا كان من شعر فهو بيت ولا يقال له خيمة وقال غير واحد: هي كل بيت مستدير أو ثلاثة أعواد أو أربعة يلقى عليها الثمام ويستظل بها في الحر أو كل بيت يبنى من عيدان الشجر وتجمع أيضا على خيمات وخيم بفتح فسكون وخيم بالفتح وكعنب- والخيام هنا بيوت من لؤلؤ- أخرج ابن أبي شيبة وجماعة عن ابن عباس أنه قال: الخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة أربعة فراسخ لها أربعة آلاف مصراع من ذهب، وأخرج جماعة عن أبي الدرداء أنه قال: الخيمة لؤلؤة واحدة لها سبعون بابا من در، وأخرج البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: الخيمة درة مجوفة طولها في السماء ستون ميلا في كل زاوية منها للمؤمن أهل لا يراهم الآخرون يطوف عليهم المؤمن ، إلى ذلك من الاخبار، وقوله سبحانه: فِيهِنَّ إلخ دون ما تقدم في الجنتين السابقتين أعني قوله عز وجل: فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ إلى قوله تعالى: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ [الرحمن: 58] في المدح عند من فضلهما على الأخيرتين قيل لما في مَقْصُوراتٌ على التفسير الثاني من الإشعار بالقسر في القصر، وأما على تفسيره الأول فكونه دونه ظاهر وإن لم يلاحظ كونها مخدرة فيما تقدم، أو يجعل قوله تعالى: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ كناية عنه لأنهما مما يصان كما قيل: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 122 جوهرة أحقاقها الخدور ومن ذهب إلى تفضيل الأخيرتين يقول: هذا أمدح لعموم خَيْراتٌ حِسانٌ الصفات الحسنة خلقا وخلقا ويدخل في ذلك قصر الطرف وغيره مما يدل عليه التشبيه بالياقوت والمرجان، والمراد بالقاصر على التفسير الثاني لمقصورات القاصر الطبيعي بقرينة المقام فيكون فيه إشارة إلى تعذر ترك القصر منهن، وقاصِراتُ الطَّرْفِ ربما يوهم أن القصر باختيارهن فمتى شئن قصرن ومتى لم يشأن لم يقصرن. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وقوله تعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ الكلام فيه كالكلام في نظيره فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وقوله سبحانه: مُتَّكِئِينَ قيل: بتقدير يتنعمون متكئين أو أعني متكئين، والضمير لأهل الجنتين المدلول عليهم بذكرهما عَلى رَفْرَفٍ اسم جنس أو اسم جمع واحده رفرفة، وعلى الوجهين يصح وصفه بقوله تعالى: خُضْرٍ وجعله بعضهم جمعا لهذا الوصف ولا يخفى أن أمر الوصفية لا يتوقف على ذلك الجعل، وفسره في الآية علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس والضحاك بفضول المحابس وهي ما يطرح على ظهر الفراش للنوم عليه ، وقال الجوهري: الرفرف ثياب خضر تتخذ منها المحابس واشتقاقه من رف إذا ارتفع، وقال الحسن- فيما أخرجه ابن المنذر وغيره عنه- هي البسط. وأخرج عن عاصم الجحدري أنها الوسائد، وروي ذلك عن الحسن أيضا وابن كيسان وقال الجبائي: الفرش المرتفعة، وقيل: ما تدلى من الأسرّة من غالي الثياب، وقال الراغب: ضرب من الثياب مشبهة بالرياض، وأخرج ابن جرير وجماعة عن سعيد بن جبير أنه قال: الرفرف رياض الجنة، وأخرج عن عبد بن حميد نحوه عن ابن عباس وهو عليه- كما في البحر- من رف النبت نعم وحسن، ويقال الرفرف لكل ثوب عريض وللرقيق من ثياب الديباج ولأطراف الفسطاط والخباء الواقعة على الأرض دون الأطناب والأوتاد، وظاهر كلام بعضهم أنه قيل بهذا المعنى هنا وفيه شيء وَعَبْقَرِيٍّ هو منسوب إلى عبقر تزعم العرب أنه اسم بلد الجن فينسبون إليه كل عجيب غريب من الفرش وغيرها فمعناه الشيء العجيب النادر، ومنه ما جاء في عمر الفاروق رضي الله تعالى عنه فلم أر عبقريا يفري فريه، ولتناسي تلك النسبة قيل: إنه ليس بمنسوب بل هو مثل كرسي وبختي كما نقل عن قطرب، والمراد الجنس ولذلك وصف بالجمع وهو قوله تعالى: حِسانٍ حملا على المعنى، وقيل: هو اسم جمع أو جمع واحده عبقرية، وفسره الأكثرون بعتاق الزرابي وعن أبي عبيدة هو ما كله وشي من البسط. وروى غير واحد عن مجاهد أنه الديباج الغليظ، وعن الحسن أنها بسط فيها صور وقد سمعت ما نقل عنه في الرفرف فلا تغفل عما يقتضيه العطف. وقرأ عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه ونصر بن عاصم الجحدري ومالك بن دينار وابن محيصن وزهير الفرقبي وغيرهم رفارف جمع لا ينصرف «خضر» بسكون الضاد، «وعباقري» بكسر القاف وفتح الياء مشددة، وعنهم أيضا ضم الضاد، وعنهم أيضا فتح القاف قاله صاحب اللوامح ثم قال أما منع الصرف من عباقري فلمجاورته لرفارف يعني للمشاكلة وإلا فلا وجه لمنع الصرف مع ياءي النسب إلا في ضرورة الشعر انتهى. وقال ابن خالويه قرأ- على رفارف خضر وعباقري- النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، الجحدري وابن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 123 محيصن، وقد روي عمن ذكرنا- على رفارف خضر وعباقري- بالصرف، وكذلك روي عن مالك بن دينار، وقرأ أبو محمد المروزي وكان نحويا- على رفارف خضار- بوزن فعال، وقال صاحب الكامل: قرأ رفارف بالجمع ابن مصرف وابن مقسم وابن محيصن، واختاره شبل وأبو حيوة والجحدري والزعفراني وهو الاختيار لقوله تعالى: خُضْرٍ، و «عباقريّ» بالجمع وبكسر القاف من غير تنوين ابن مقسم وابن محيصن، وروي عنهما التنوين. وقال ابن عطية: قرأ زهير القرقبي (1) رفارف بالجمع وترك الصرف، وأبو طعمة المدني وعاصم فيما روي عنه رفارف بالصرف وعثمان رضي الله تعالى عنه كذلك، وعباقري بالجمع والصرف، وعنه وعباقري بفتح القاف والياء على أن اسم الموضع عباقر بفتح القاف، والصحيح فيه عبقر، وقال الزمخشري: قرىء عباقري كمدائني. وروى أبو حاتم عباقري بفتح القاف ومنع الصرف وهذا لا وجه لصحته، وقال الزجاج: هذه القراءة لا مخرج لها لأن ما جاوز الثلاثة لا يجمع بياء النسب فلو جمعت عبقري قلت: عباقرة نحو مهلبي ومهالبة ولا تقول مهالبي. وقال ابن جني: أما ترك صرف عباقري فشاذ في القياس ولا يستنكر شذوذه مع استعماله، وقال ابن هشام: كونه من النسبة إلى الجمع كمدائني باطل فإن من قرأ بذلك قرأ رفارف خضر بقصد المجانسة ولو كان كما ذكر كان مفردا ولا يصح منع صرفه كمدايني وقد صحت الرواية بمنعه الصرف عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فهو من باب كرسي وكراسي وهو من صيغة منتهى الجموع لكنها خالفت القياس في زيادة ما بعد الألف على المعروف كما ذكره السهيلي، وقال صاحب الكشف فتح القاف لا وجه له بوجه والمذكور في المنتقى عن النبي صلّى الله عليه وسلم الكسر. وأما منع الصرف فليس بمتعين ليرد بل وجهه أنه نصب على محل رفرف على حد: يذهبن في نجد وغورا. وإضافته إلى حِسانٍ مثل إضافة حور إلى عين في قراءة عكرمة كأنه قيل: عباقري مفارش، أو نمارق حسان فهو من باب أخلاق ثياب لأن أحد الوصفين قائم مقام الموصوف، ولعل عبقر وعباقر مثل عرفة وعرفات انتهى، فأحط بجوانب الكلام ولا تغفل، وقرأ ابن هرمز خضر بضم الضاد وهي لغة قليلة ومن ذلك قول طرفة: أيها القينات في مجلسنا ... جرّدوا منها ورادا وشقر وقول الآخر: وما انتميت إلى خود ولا كشف ... ولا لئام غداة الروع أوزاع فشقر جمع أشقر، وكشف جمع أكشف وهو من ينهزم في الحرب، هذا والوصف بقوله تعالى: مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ إلخ دون الوصف بقوله سبحانه: مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ [الرحمن: 54] عند القائل بتفضيل الجنتين السابقتين لما في هذا الوصف من الإشارة إلى أن الظهائر مما يعجز عنها الوصف. ومن ذهب إلى تفضيل الأخيرتين يقول: الرفرف ما يطرح على ظهر الفراش وليست الفرش التي يطرح عليها الرفرف مذكورة فيجوز أن يكون ترك ذكرها للإشارة إلى عدم إحاطة الوصف بها ظهارة وبطانة وهو أبلغ من الأول، ولا يسلم أن تلك الفرش هي العبقري، أو يقول الرفرف الفرش المرتفعة وترك التعرض لسوى لونها وهو الخضرة التي ميل الطباع إليها أشد وهي جامعة لأصول الألوان الثلاثة على ما بينه الإمام يشير إلى أنها مما لا تكاد تحيط بحقيقتها العبارات، وقد يقال غير ذلك فتأمل، وينبغي على القول بتفضيل الأخيرتين وكونهما لطائفة غير الطائفة المشار إليهم بمن خاف أن لا يفسر من   (1) هكذا بقافين وقد مر بالفاء بعد الراء قاف، وفي البحر العرقبي بالعين المهملة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 124 خاف بمن له شدة الخوف بحيث يختص بأفضل المؤمنين وأجلهم. أو يقال: إنهما مع الأوليين لمن خاف مقام ربه ويكون المعنى وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ أيضا جَنَّتانِ صفتهما كيت وكيت من دون تينك الجنتين، وعليه قيل: جَنَّتانِ عطف على جَنَّتانِ قبله وَمِنْ دُونِهِما في موضع الحال، وذهب بعضهم إلى أن هاتين الجنتين سواء كانتا أفضل من الأوليين أم لا لمن خاف مقام ربه عز وجل فله يوم القيامة أربع جنان. قال الطبرسي: والأخيرتان دون الأوليين أي أقرب إلى قصره ومجالسه ليتضاعف له السرور بالتنقل من جنة إلى جنة على ما هو معروف من طبع البشر من شهوة مثل ذلك وهو أبعد عن الملل الذي طبع عليه البشر، وأنت تعلم أن الآية تحتمل ذلك احتمالا ظاهرا لكن ما تقدم من حديث أبي موسى رضي الله تعالى عنه يأباه فإذا صح ولو موقوفا- إذ حكم مثله حكم المرفوع- لم يكن لنا العدول عما يقتضيه، وقد روي عنه أيضا حديث مرفوع ذكره الجلال السيوطي في الدر المنثور يشعر بأن الجنان الأربع هي جنان الفردوس. وأخرج عنه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم أنه قال: إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «جنان الفردوس أربع جنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما وجنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنه عدن» والظاهر على هذا أنه يشترك الألوف في الجنة الواحدة من هذه الجنان، ومعنى قوله تعالى: وَلِمَنْ خافَ إلخ عليه مما لا يخفى، ثم إن قاصرات الطرف إن كنّ من الإنس فهنّ أجل قدرا وأحسن منظرا من الحور المقصورات في الخيام بناء على أنهن النساء المخلوقات في الجنة. فقد جاء من حديث أم سلمة «قلت يا رسول الله: أنساء الدنيا أفضل أم الحور العين؟ قال: نساء الدنيا أفضل من الحور العين كفضل الظهارة على البطانة، قلت: يا رسول الله وبم ذاك؟ قال: بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن ألبس الله وجوههن النور وأجسادهن الحرير بيض الوجوه خضر الثياب صفر الحلي مجامرهن الدر وأمشاطهن الذهب يقلن ألا نحن الخالدات فلا نموت أبدا ألا ونحن الناعمات فلا نيأس أبدا طوبى لمن كنا له وكان لنا» إلى غيره من الأخبار ويكون هذا مؤيدا للقول بتفضيل الجنتين الأوليين على الأخيرتين ولعله إنما قدم سبحانه ذكر الاتكاء أولا على ذكر النساء لأنه عز وجل ذكر في صدر الآية الخوف حيث قال سبحانه: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فناسب التعجيل بذكر ما يشعر بزواله إشعارا ظاهرا وهو الاتكاء فإنه من شأن الآمنين، وأخر سبحانه ذكره ثانيا عن ذكرهن لعدم ما يستدعي التقديم وكونه مما يكون للرجل عادة بعد فراغ ذهنه عما يحتاجه المنزل من طعام وشراب وقينة تكون فيه، وإذا قلنا: إن الحور كالجواري في المنزل كان أمر التقديم والتأخير أوقع، وقال الإمام في ذلك: إن أهل الجنة ليس عليهم تعب وحركة فهم متنعمون دائما لكن الناس في الدنيا على أقسام منهم من يجتمع مع أهله اجتماع مستوفز وعند قضاء وطره يغتسل وينتشر في الأرض للكسب، ومنهم من يكون مترددا في طلب الكسب وعند تحصيله يرجع إلى أهله ويستريح عما لحقه من تعب قبل قضاء الوطر أو بعده فالله عز وجل قال في أهل الجنة: مُتَّكِؤُنَ قيل اجتماعهم بأهاليهم متكئون بعد الاجتماع ليعلم أنهم دائمون على السكون، ولا يخفى أن هذا على ما فيه لا يحسم السؤال إذ لقائل أن يقول لم لم يعكس أمر التقديم والتأخير في الموضعين مع أنه يتضمن الإشارة إلى ذلك أيضا، ثم ذكر في ذلك وجها ثانيا وهو على ما فيه مبني على ما لا مستند له فيه من الآثار فتدبر فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وقوله عز وجل: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ تنزيه وتقديس له تعالى فيه تقرير لما ذكر في هذه السورة الكريمة من آلائه جل شأنه الفائضة على الأيام،- فتبارك- بمعنى تعالى لأنه يكون بمعناه وهو أنسب بالوصف الآتي، وقد ورد في الجزء: 14 ¦ الصفحة: 125 الأحاديث «تعالى اسمه» أي تعالى اسمه الجليل الذي من جملته ما صدرت به السورة من اسم الرَّحْمنُ المنبئ عن إفاضة الآلاء المفصلة، وارتفع مما لا يليق بشأنه من الأمور التي من جملتها جحود نعمائه وتكذيبها، وإذا كان حال اسمه تعالى بملابسة دلالته عليه سبحانه كذلك فما ظنك بذاته الأقدس الأعلى؟؟. وقيل: الاسم بمعنى الصفة لأنها علامة على موصوفها، وقيل: هو مقحم كما في قول من قال: ثم اسم السلام عليكما، وقيل: هو بمعنى المسمى، وزعم بعضهم أن الأنسب بما قصد من هذه السورة الكريمة هو تعدد الآلاء والنعم تفسير تَبارَكَ بكثرت خيراته ثم إنه لا بعد في إسناده بهذا المعنى لاسمه تعالى إذ به يستمطر فيغاث ويستنصر فيعان، وقوله سبحانه: ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ صفة للرب ووصف جل وعلا بذلك تكميلا لما ذكر من التنزيه والتقرير، وقرأ ابن عامر وأهل الشام- ذو- بالرفع على أنه وصف للاسم ووصفه بالجلال والإكرام بمعنى التكريم واضح. هذا «ومن باب الإشارة» في بعض الآيات الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ إشارة إلى ما أودعه سبحانه في الأرواح الطيبة القدسية من العلوم الحقانية الإجمالية عند استوائه عز وجل على عرش الرحمانية خَلَقَ الْإِنْسانَ الكامل الجامع عَلَّمَهُ الْبَيانَ وهو تفصيل تلك العلوم الإجمالية فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ [القيامة: 18، 19] الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ يشير إلى شمس النبوة وقمر الولاية الدائرتين في فلك وجود الإنسان بحساب التجليات ومراتب الاستعدادات، والنَّجْمُ القوى السفلية وَالشَّجَرُ الاستعدادات العلوية يَسْجُدانِ يتذللان بين يديه تعالى عند الرجوع إليه سبحانه وَالسَّماءَ سماء القوى الإلهية القدسية رَفَعَها فوق أرض البشرية وَوَضَعَ الْمِيزانَ القوة المميزة أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ لا تتجاوزوا عند أخذ الحظوظ السفلية وإعطاء الحقوق العلوية. وجوز أن يكون الْمِيزانِ الشريعة المطهرة فإنها ميزان يعرف به الكامل من الناقص وَالْأَرْضَ أرض البشرية وَضَعَها بسطها وفرشها لِلْأَنامِ للقوى الإنسانية فِيها فاكِهَةٌ من فواكه معرفة الصفات الفعلية وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ وهي الشجرة الإنسانية التي هي المظهر الأعظم وذات أطوار كل طور مستور بطور آخر وَالْحَبُّ هو حب الحب المبذور في مزارع القلوب السليمة من الدغل ذُو الْعَصْفِ أوراق المكاشفات وَالرَّيْحانُ ريحان المشاهدة رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ رب مشرق شمس النبوة ومشرق قمر الولاية في العالم الجسماني ورب مغربهما في العالم الروحاني مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ بحر سماء القوى العلوية وبحر أرض القوى السفلية يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ حاجز القلب يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ أنواع أنوار الأسرار ونيران الأشواق وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ سفن الخواطر المسخرة في بحر الإنسان كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ ما شم رائحة الوجود وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ الجهة التي تليه سبحانه وهي شؤوناته عز وجل ذُو الْجَلالِ أي الاستغناء التام عن جميع المظاهر وَالْإِكْرامِ الفيض العام يفيض على القوابل حسبما استعدت له وسألته بلسان حالها، وإليه الاشارة بقوله تعالى: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلخ، واستدل الشيخ الأكبر محيي الدين قدس سره بقوله سبحانه: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ على شرف التلون، وكذا استدل به على عدم بقاء الجوهر آنين، وعلى هذا الطراز ما قيل في الآيات بعد، وذكر بعض أهل العلم أن قوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ قد ذكر إحدى وثلاثين مرة، ثمانية منها عقيب تعداد عجائب خلقه تعالى وذكر المبدأ والمعاد، وسبعة عقيب ذكر ما يشعر بالنار وأهوالها على عدد أبواب جهنم، وثمانية في وصف الجنتين الأوليين ومثلها في وصف الجنتين اللتين دونهما على عدد أبواب الجنة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 126 فكأنه أشير بذلك إلى أن من اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها استحق كلتا الجنتين من الله تعالى ووقاه جهنم ذات الأبواب السبعة والله تعالى أعلم بإشارات كتابه وحقائق خطابه ودقائق كلامه التي لا تحيط بها الأفهام وتبارك اسم ربك ذو الجلال والإكرام. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 127 سورة الواقعة «مكية» كما أخرجه البيهقي في الدلائل وغيره عن ابن عباس وابن مردويه عن ابن الزبير، واستثنى بعضهم قوله تعالى: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ [الواقعة: 39، 40] كما حكاه في الإتقان وكذا استثني قوله سبحانه: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ إلى تُكَذِّبُونَ [الواقعة: 75، 82] لما أخرجه مسلم في سبب نزوله وسيأتي إن شاء الله تعالى، وفي مجمع البيان حكاية استثناء قوله تعالى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الواقعة: 82] عن ابن عباس وقتادة وعدد آيها تسع وتسعون في الحجازي والشامي، وسبع وتسعون في البصري، وست وتسعون في الكوفي، وتفصيل ذلك فيما أعد لمثله، وهي وسورة الرحمن متواخية في أن في كل منهما وصف القيامة والجنة والنار، وقال في البحر: مناسبتها لما قبلها أنه تضمن العذاب للمجرمين والنعيم للمؤمنين، وفاضل سبحانه بين جنتي بعض المؤمنين وجنتي بعض آخر منهم فانقسم المكلفون بذلك إلى كافر ومؤمن فاضل ومؤمن مفضول وعلى هذا جاء ابتداء هذه السورة من كونهم أصحاب ميمنة وأصحاب مشأمة وسابقين، وقال بعض الأجلة انظر إلى اتصال قوله تعالى: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ [الواقعة: 10] بقوله سبحانه: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ [الرحمن: 37] وأنه اقتصر في الرحمن على ذكر انشقاق السماء، وفي الواقعة على ذكر رج الأرض فكأن السورتين لتلازمهما واتحادهما سورة واحدة فذكر في كل شيء، وقد عكس الترتيب فذكر في أول هذه ما في آخر تلك وفي آخر هذه ما في أول تلك فافتتح في سورة الرحمن بذكر القرآن، ثم ذكر الشمس والقمر، ثم ذكر النبات، ثم خلق الإنسان والجان، ثم صفة يوم القيامة، ثم صفة النار، ثم صفة الجنة، وهذه ابتداؤها بذكر القيامة، ثم صفة الجنة، ثم صفة النار ثم خلق الإنسان، ثم النبات، ثم الماء، ثم النار، ثم ذكرت النجوم ولم تذكر في الرحمن كما لم يذكر هنا الشمس والقمر، ثم ذكر الميزان فكانت هذه كالمقابلة لتلك وكالمتضمنة لرد العجز على الصدر، وجاء في فضلها آثار. أخرج أبو عبيد في فضائله وابن الضريس والحارث بن أبي أسامة وأبو يعلى وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال: «سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا» . وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس نحوه مرفوعا، وأخرج ابن مردويه عن أنس عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «سورة الواقعة سورة الغنى فاقرؤوها وعلموها أولادكم» . وأخرج الديلمي عنه مرفوعا «علموا نساءكم سورة الواقعة فإنها سورة الغنى» . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 128 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ أي إذا حدثت القيامة على أن وَقَعَتِ بمعنى حدثت والْواقِعَةُ علم بالغلبة أو منقول للقيامة، وصرح ابن عباس بأنها من أسمائها وسميت بذلك للإيذان بتحقيق وقوعها لا محالة كأنها واقعة في نفسها مع قطع النظر عن الوقوع الواقع في حيز الشرط فليس الإسناد كما في- جاءني جاء- فإنه لغو لدلالة كل فعل على فاعل له غير معين، وقال الضحاك: الْواقِعَةُ الصيحة وهي النفخة في الصور، وقيل: الْواقِعَةُ صخرة بيت المقدس تقع يوم القيامة وليس بشيء، وإِذا ظرف متضمن معنى الشرط على ما هو الظاهر، والعامل فيها عند أبي حيان الفعل بعدها فهي عنده في موضع نصب- بوقعت- كسائر أسماء الشرط وليست مضافة إلى الجملة، والجمهور على إضافتها فقيل: هي هنا قد سلبت الظرفية ووقعت مفعولا به لا ذكر محذوفا، وقيل: لم تسلب ذلك وهي منصوبة بليس، وصنيع الزمخشري يشعر باختياره. وقيل: بمحذوف وهو الجواب أي إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ كان كيت وكيت، قال في الكشف: هذا الوجه العربي الجزل فالنصب بإضمار اذكر إنما كثر في إذ، وبليس إنما يصح إذا جعلت لمجرد الظرفية وإلا لوجب الفاء في ليس، وأبو حيان تعقب النصب بليس بأنه لا يذهب إليه نحوي لأن ليس في النفي ك (ما) وهي لا تعمل. فكذا ليس فإنها مسلوبة الدلالة على الحدث والزمان، والقول: بأنها فعل على سبيل المجاز، والعامل في الظرف إنما هو ما يقع فيه من الحدث فحيث لا حدث فيها لا عمل لها فيه، ثم ذكر نحو ما ذكر صاحب الكشف من وجوب الفاء في ليس إذا لم تجرد عن الشرطية واعترض دعواه أن (ما) لا تعمل بأنهم صرحوا بجواز تعلق الظرف بها لتأويلها بانتفى وأنه يكفي له رائحة الفعل، ويقاس عليها في ذلك ليس، وكذا دعوى وجوب الفاء في ليس إذا لم تجرد إِذا عن الشرطية بأن لزوم الفاء مع الأفعال الجامدة إنما هو في جواب إن الشرطية لعملها كما صرحوا به. وأما إِذا فدخول الفاء في جوابها على خلاف الأصل. وسيأتي إن شاء الله تعالى فيها قولان آخران، وبعد القيل والقال الأولى كون الجزء: 14 ¦ الصفحة: 129 العامل محذوفا وهو الجواب كما سمعت وفي إبهامه تهويل وتفخيم لأمر الواقعة. وقوله تعالى: لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ إما اعتراض يؤكد تحقيق الوقوع أو حال من الواقعة كما قال ابن عطية، وكاذِبَةٌ اسم فاعل وقع صفة لموصوف محذوف أي نفس، وقيل: مقالة والأول أولى لأن وصف الشخص بالكذب أكثر من وصف الخبر به. والْواقِعَةُ السقطة القوية وشاعت في وقوع الأمر العظيم وقد تخص بالحرب ولذا عبر بها هنا واللام للتوقيت مثلها في قولك: كتبته لخمس خلون أي لا يكون حين وقوعها نفس كاذبة على معنى تكذب على الله تعالى وتكذب في تكذيبه سبحانه وتعالى في خبره بها، وإيضاحه أن منكر الساعة الآن مكذب له تعالى في أنها تقع وهو كاذب في تكذيبه سبحانه لأنه خبر على خلاف الواقع وحين تقع لا يبقى كاذبا مكذبا، بل صادقا مصدقا، وقيل: على معنى ليس في وقت وقوعها نفس كاذبة في شيء من الأشياء، ولا يخفى أن صحته مبنية على القول بأنه لا يصدر من أحد كذب يوم القيامة وأن قولهم: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] مجاب عنه بما هو مذكور في محله أو اللام على حقيقتها، وكاذِبَةٌ صفة لذلك المحذوف أيضا أي لَيْسَ لِوَقْعَتِها نفس كاذبة بمعنى لا ينكر وقوعها أحد ولا يقول للساعة لم تكوني لأن الكون قد تحقق كما يقول لها في الدنيا بلسان القول أو الفعل لأن من اغتر بزخارف الدنيا فقد كذب الساعة في وقعتها بلسان الحال لن تكوني، وهذا كما تقول لمخاطبك ليس لنا ملك ولمعروفك كاذب أي لا يكذبك أحد فيقول: إنه غير واقع، وفيه استعارة تمثيلية لأن الساعة لا تصلح مخاطبا إلا على ذلك إما على سبيل التخييل من باب لو قيل للشحم أين تذهب، وهو الأظهر وإما على التحقيق، وجوز كون كاذِبَةٌ من قولهم كذبت نفسي وكذبته إذا منته الأماني وقربت له الأمور البعيدة وشجعته على مباشرة الخطب العظيم، واللام قيل: على حقيقتها أيضا أي ليس لها إذا وقعت نفس تحدث صاحبها بإطاقة شدتها واحتمالها وتغريه عليها. وفي الكشف أن اللام على هذا الوجه للتوقيت كما على الوجه الأول، وجوز أيضا كون كاذِبَةٌ مصدرا بمعنى التكذيب وهو التثبيط وأمر اللام ظاهر أي ليس لوقعتها ارتداد ورجعة كالحملة الصادقة من ذي سطوة قاهرة وروي نحوه عن الحسن وقتادة، وذكر أن حقيقة التكذيب بهذا المعنى راجعة إلى تكذيب النفس في كذبها وإغرائها وتشجيعها وأنشد على ذلك لزهير: ليث بعثّر يصطاد الرجال إذا ... ما الليث كذب عن أقرانه صدقا ويجوز جعل الكاذبة بمعنى الكذب على معنى ليس للوقعة كذب بل هي وقعة صادقة لا تطاق على نحو- حملة صادقة، وحملة لها صادق- أو على معنى ليس هي في وقت وقوعها كذب لأنه حق لا شبهة فيه، ولعل ما ذكر أظهر مما تقدم، وإن روي نحوه عمن سمعت، نعم قيل: عليهما إن مجيء المصدر على زنة الفاعل نادر، وقوله عز وجل: خافِضَةٌ رافِعَةٌ خبر مبتدأ محذوف أي هي خافضة لأقوام رافعة لآخرين كما قال ابن عباس، وأخرجه عنه جماعة، والجملة تقرير لعظمتها وتهويل لأمرها فإن الوقائع العظام شأنها الخفض والرفع كما يشاهد في تبدل الدول وظهور الفتن من ذل الأعزة وعز الأذلة، وتقديم الخفض على الرفع لتشديد التهويل، أو بيان لما يكون يومئذ من حط الأشقياء إلى الدركات ورفع السعداء إلى درجات الجنات، وعلى هذا قول عمر رضي الله تعالى عنه: خفضت أعداء الله تعالى إلى النار ورفعت أولياءه إلى الجنة، أو بيان لما يكون من ذلك ومن إزالة الأجرام عن مقارها ونثر الكواكب وتسيير الجبال في الجو كالسحاب، والضحاك بعد الجزء: 14 ¦ الصفحة: 130 أن فسر الواقعة بالصيحة قال: خافضة تخفض قوتها لتسمع الأدنى رافِعَةٌ ترفعها لتسمع الأقصى، وروي ذلك أيضا عن ابن عباس وعكرمة، وقدر أبو علي المبتدأ مقرونا بالفاء أي فهي خافِضَةٌ وجعل الجملة جواب إذا فكأنه قيل: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ خفضت قوما ورفعت آخرين، وقرأ زيد بن علي والحسن وعيسى وأبو حيوة وابن أبي عبلة وابن مقسم والزعفراني واليزيدي في اختياره «خافضة رافعة» بنصبهما، ووجهه أن يجعلا حالين عن الواقعة على أن لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ اعتراض أو حالين عن وقعتها، وقوله سبحانه: إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا أي زلزلت وحركت تحريكا شديدا بحيث ينهدم ما فوقها من بناء وجبل متعلق- بخافضة- أو- برافعة- على أنه من باب الأعمال، أو بدل من إِذا وَقَعَتِ كما قال به غير واحد، وقال ابن جني وأبو الفضل الرازي: إِذا رُجَّتِ في موضع رفع على أنه خبر للمبتدأ الذي هو إِذا وَقَعَتِ وليست واحدة منهما شرطية بل هي بمعنى وقت أي وقت وقوعها وقت رج الأرض، وادعى ابن مالك أن إِذا تكون مبتدأ، واستدل بهذه الآية، وقال أبو حيان: هو بدل من إِذا وَقَعَتِ وجواب الشرط عندي ملفوظ به وهو قوله تعالى: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ والمعنى إذا كان كذا وكذا، فأصحاب الميمنة ما أسعدهم وما أعظم ما يجازون به أي إن سعادتهم وعظم رتبهم عند الله عز وجل تظهر في ذلك الوقت الشديد الصعب على العالم، وفيه بعد وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا أي فتت كما قال ابن عباس ومجاهد حتى صارت كالسويق الملتوت من بس السويق إذا لتّه، وقيل: سيقت وسيرت من أماكنها من بس الغنم إذا ساقها فهو كقوله تعالى: وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ [النبأ: 20] . وقرأ زيد بن علي «رجّت» و «بسّت» بالبناء للفاعل أي ارتجت وتفتتت، وفي كلام هند بنت الخس تصف ناقة بما يستدل به على حملها:- عينها هاج وصلاها راج، وهي تمشي وتفاج- فَكانَتْ فصارت بسبب ذلك هَباءً غبارا مُنْبَثًّا متفرقا، والمراد مطلق الغبار عند الأكثرين، وقال ابن عباس: هو ما يثور مع شعاع الشمس إذا دخلت من كوة، وفي رواية أخرى عنه أنه الذي يطير من النار إذا اضطرمت. وقرأ النخعي- منبتا- بالتاء المنطوقة بنقطتين من فوق من البت بمعنى القطع، والمراد به ما ذكر من الليث بالمثلثة وَكُنْتُمْ خطاب للأمة الحاضرة والأمم السالفة تغليبا كما ذهب إليه الكثير، وقال بعضهم: خطاب للأمة الحاضرة فقط، والظاهر أن- كان- أيضا بمعنى صار أي وصرتم أَزْواجاً أي أصنافا ثَلاثَةً وكل صنف يكون مع صنف آخر في الوجود أو في الذكر فهو زوج، قال الراغب: الزوج يكون لكل واحد من القرينين من الذكر والأنثى في الحيوانات المتزاوجة ولكل قرينين فيها، وفي غيرها كالخف والنعل، ولكل ما يقترن بآخر مماثلا له أو مضادا، وقوله تعالى: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ تفصيل للأزواج الثلاثة مع الإشارة الإجمالية إلى أحوالهم قبل تفصيلها، والدائر على ألسنتهم أن أصحاب الميمنة مبتدأ، وقوله تعالى: ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما فيه استفهامية مبتدأ ثان وأَصْحابُ خبره، والجملة خبر المبتدأ الأول والرابط الظاهر القائم مقام الضمير، وكذا يقال في قوله تعالى: وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ إلخ، والأصل في الموضعين ما هم؟ أي أيّ شيء هم في حالهم وصفتهم فإن ما وإن شاعت في طلب مفهوم الاسم والحقيقة لكنها قد تطلب بها الصفة والحال كما تقول ما زيد؟ فيقال: عالم، أو طبيب فوضع الظاهر موضع الضمير لكونه أدخل في المقصود وهو التفخيم في الأول والتفظيع في الثاني، والمراد تعجيب السامع من شأن الفريقين في الفخامة والفظاعة كأنه قيل: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ في غاية حسن الحال وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ في نهاية سوء الحال، وقيل: جملة ما أَصْحابُ خبر الجزء: 14 ¦ الصفحة: 131 بتقدير القول على ما عرف في الجملة الانشائية إذا وقعت خبرا أي مقول في حقهم ما أَصْحابُ إلخ فلا حاجة إلى جعله من إقامة الظاهر مقام الضمير وفيه نظر، والْمَيْمَنَةِ ناحية اليمين، أو اليمن والبركة، والْمَشْئَمَةِ ناحية الشمال من اليد الشؤمى وهي الشمال، أو هي من الشؤم مقاب اليمن، ورجح إرادة الناحية فيهما بأنها أوفق بما يأتي في التفصيل، واختلفوا في الفريقين فقيل: أصحاب الميمنة أصحاب المنزلة السنية، وأصحاب المشأمة أصحاب المنزلة الدنية أخذا من تيمنهم بالميامن وتشؤمهم بالشمائل كما تسمع في السانح والبارح، وهو مجاز شائع، وجوز أن يكون كناية، وقيل: الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم والذين يؤتونها بشمائلهم، وقيل: الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة والذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار، وقيل: أصحاب اليمن وأصحاب الشؤم، فإن السعداء ميامين على أنفسهم بطاعتهم والأشقياء مشائيم على أنفسهم بمعاصيهم، وروي هذا عن الحسن والربيع، وقوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ هو الصنف الثالث من الأزواج الثلاثة، ولعل تأخير ذكرهم مع كونهم أسبق الأصناف وأقدمهم في الفضل ليردف ذكرهم ببيان محاسن أحوالهم على أن إيرادهم بعنوان السبق مطلقا معرض عن إحرازهم قصب السبق من جميع الوجوه. واختلف في تعيينهم فقيل: هم الذين سبقوا إلى الإيمان والطاعة عند ظهور الحق من غير تلعثم وتوان، وروي هذا عن عكرمة ومقاتل، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت في حزقيل مؤمن آل فرعون وحبيب النجار الذي ذكر في يس وعليّ بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه وكل رجل منهم سابق أمته وعليّ أفضلهم، وقيل: هم الذين سبقوا في حيازة الكمالات من العلوم اليقينية ومراتب التقوى الواقعة بعد الإيمان، وقيل هم الأنبياء عليهم السلام لأنهم مقدمو أهل الأديان، وقال ابن سيرين: هم الذين صلوا إلى القبلتين كما قال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ [التوبة: 100] وعن ابن عباس هم السابقون إلى الهجرة، وعن عليّ كرم الله تعالى وجهه هم السابقون إلى الصلوات الخمس، وأخرج أبو نعيم والديلمي عن ابن عباس مرفوعا أول من يهجر إلى المسجد وآخر من يخرج منه. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عبادة بن أبي سودة مولى عبادة بن الصامت قال: بلغنا أنهم السابقون إلى المساجد والخروج في سبيل الله عز وجل، وعن الضحاك هم السابقون إلى الجهاد، وعن ابن جبير هم السابقون إلى التوبة وأعمال البر، وقال كعب: هم أهل القرآن، وفي البحر في الحديث «سئل عن السابقين فقال: هم الذين إذا أعطوا الحق قبلوه وإذا سألوه بذلوه وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم» ، وقيل: الناس ثلاثة فرجل ابتكر الخير في حداثة سنه ثم دام عليه حتى خرج من الدنيا فهذا هو السابق، ورجل ابتكر عمره بالذنب وطول الغفلة ثم تراجع بتوبته فهذا صاحب اليمين، ورجل ابتكر الشر في حداثة سنه ثم لم يزل عليه حتى خرج من الدنيا فهذا صاحب الشمال، وعن ابن كيسان أنهم المسارعون إلى كل ما دعا الله تعالى إليه ورجحه بعضهم بالعموم، وجعل ما ذكر في أكثر الأقوال من باب التمثيل، وأيا ما كان فالشائع أن الجملة مبتدأ وخبر والمعنى وَالسَّابِقُونَ هم الذين اشتهرت أحوالهم وعرفت فخامتهم كقوله: أنا أبو النجم وشعري شعري وفيه من تفخيم شأنهم والإيذان بشيوع فضلهم ما لا يخفى، وقيل متعلق السبق مخالف لمتعلق السبق الثاني أي السابقون إلى طاعة الله تعالى «السابقون» إلى رحمته سبحانه، أو السَّابِقُونَ إلى الخير السَّابِقُونَ إلى الجنة، والتقدير الأول محكي عن صاحب المرشد. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 132 وأنت تعلم أن الحمل مفيد بدون ذلك كما سمعت بل هو أبلغ وأنسب بالمقام وأيا ما كان فقوله تعالى: أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ مبتدأ وخبر والجملة استئناف بياني، وقيل: السَّابِقُونَ السابق مبتدأ وَالسَّابِقُونَ اللاحق تأكيد له وما بعد خبر وليس بذاك أيضا لفوات مقابلة ما ذكر لقوله تعالى: فَأَصْحابُ إلخ ولأن القسمة لا تكون مستوفاة حينئذ، ولفوات المبالغة المفهومة من نحو هذا التركيب على ما سمعت مع أنهم أعني السابقين أحق بالمدح والتعجيب من حالهم من السابقين ولفوات ما في الاستئناف بأولئك المقربون من الفخامة وإنما لم يقل- السابقون ما السابقون- على منوال الأولين لأنه جعل أمرا مفروغا مسلما مستقلا في المدح والتعجيب، والاشارة بأولئك إلى السابقين وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان ببعد منزلتهم في الفضل، والْمُقَرَّبُونَ من القربة بمعنى الحظوة أي أولئك الموصوفون بذلك النعت الجليل الذين أنيلوا حظوة ومكانة عند الله تعالى، وقال غير واحد: المراد الذين قربت إلى العرش العظيم درجاتهم. هذا وفي الإرشاد الذي تقتضيه جزالة التنزيل أن قوله تعالى: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ خبر مبتدأ محذوف وكذا قوله سبحانه: وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وقوله جل شأنه: وَالسَّابِقُونَ فإن المترقب عند بيان انقسام الناس إلى الأقسام الثلاثة بيان أنفس الأقسام. وأما أوصافها وأحوالها فحقها أن تبين بعد ذلك بإسنادها إليها، والتقدير فأحدها أصحاب الميمنة والآخر أصحاب المشأمة، والثالث السابقون خلا أنه لما أخر بيان أحوال القسمين الأولين عقب كلا منهما بجملة معترضة بين القسمين منبئة عن ترامي أحوالهما في الخير والشر إنباء إجماليا مشعرا بأن لأحوال كل منهما تفصيلا مترقبا لكن لا على أن ما الاستفهامية مبتدأ وما بعدها خبر على ما رآه سيبويه في أمثاله بل على أنها خبر لما بعدها فإن مناط الإفادة بيان أن أصحاب الميمنة أمر بديع كما يفيده كون ما خبرا لا بيان أن أمرا بديعا أصحاب الميمنة كما يفيده كونها مبتدأ وكذا الحال في ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ، وأما القسم الأخير فحيث قرن به بيان محاسن أحواله لم يحتج فيه إلى تقديم الأنموذج فقوله تعالى: السَّابِقُونَ مبتدأ والإظهار في مقام الإضمار للتفخيم وأُولئِكَ مبتدأ ثان، أو بدل من الاول وما بعده خبر له، أو للثاني، والجملة خبر للأول انتهى، وقيل عليه: إنه ليس في جعل جملتي الاستفهام وقوله سبحانه: السَّابِقُونَ إخبارا لما قبلها بيان لأوصاف الأقسام وأحوالها تفصيلا حتى يقال: حقها أن تبين بعد أنفس الأقسام بل فيه بيان الأقسام مع إشارة إلى ترامي أحوالها في الخير والشر والتعجيب من ذلك. وأيضا مقتضى ما ذكره أن لا يذكر ما أَصْحابُ الْيَمِينِ وما أَصْحابُ الشِّمالِ في التفصيل، وتعقب هذا بأن الذكر محتاج إلى بيان نكتة على الوجه الدائر على ألسنتهم كاحتياجه إليه على هذا الوجه، ولعلها عليه أنه لما عقب الأولين بما يشعر بأن لأحوال كل تفاصيل مترقبة أعيد ذلك للإعلام بأن الأحوال العجيبة هي هذه فلتسمع، والذي يتبادر للنظر الجليل ما في الإرشاد من كون أصحاب الميمنة وكذا كل من الأخيرين خبر مبتدأ محذوف كما سمعت لأن المتبادر بعد بيان الانقسام ذكر نفس الأقسام على أن تكون هي المقصودة أولا وبالذات دون الحكم عليها وبيان أحوالها مطلقا وإن تضمن ذلك ذكرها لكن ما ذكروه أبعد مغزى ومع هذا لا يتعين على ما ذكر كون تينك الجملتين الاستفهاميتين معترضتين بل يجوز أن يكون كل منهما صفة لما قبلها بتقدير القول كأنه قيل: فأحدها أصحاب الميمنة المقول فيهم ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وكذا يقال في وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ إلخ، ويجعل أيضا السَّابِقُونَ صفة- للسابقون- قبله، والتأويل في الوصفية كالتأويل الجزء: 14 ¦ الصفحة: 133 في الخبرية ويكون الوصف بذلك قائما مقام تينك الجملتين في المدح، والجملة بعد مستأنفة استئنافا بيانيا كما في الوجه الشائع، وما يقال: إن في هذا الوجه حذف الموصول مع بعض أجزاء الصلة يجاب عنه بمنع كون- أل- في الوصف حيث لم يرد منه الحدوث موصولة فتأمل ولا تغفل، وقوله تعالى: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ متعلق بالمقربون، أو بمضمر هو حال من ضميره أي كائنين في جنات النعيم، وعلى الوجهين فيه إشارة إلى أن قربهم محض لذة وراحة لا كقرب خواص الملك القائمين بأشغاله عنده بل كقرب جلسائه وندمائه الذين لا شغل لهم ولا يرد عليهم أمر أو نهي ولذا قيل: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ دون جنات الخلود ونحوه، وقيل: خبر ثان لاسم الإشارة وتعقب بأن الإخبار بكونهم فيها بعد الإخبار بكونهم مقربين ليس فيه مزيد مزية، وأجيب بأن الإخبار الأول للإشارة إلى اللذة الروحانية والإخبار الثاني للإشارة إلى اللذة الجسمانية. وقرأ طلحة في جنة النعيم بالإفراد، وقوله تعالى: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ خبر مبتدأ مقدر أي هم ثلة إلخ، وجوز كونه مبتدأ خبره محذوف أي منهم، أو خبرا أولا أو ثانيا- لأولئك- وجوز أبو البقاء كونه مبتدأ والخبر عَلى سُرُرٍ، والثلة في المشهور الجماعة كثرت أو قلّت، وقال الزمخشري: الأمة من الناس الكثيرة وأنشد قوله: وجاءت إليهم ثلة خندفية ... بجيش كتيار من السيل مزبد وقوله تعالى بعد: وَقَلِيلٌ إلخ كفى به دليلا على الكثرة انتهى، والظاهر أنه أنشد البيت شاهدا لمعنى الكثرة في الثلة فإن كانت الباء تجريدية وهو الظاهر فنص وإلا فالاستدلال عليها من أن المقام مقام مبالغة ومدح، وأما استدلاله بما بعد فذلك لأن التقابل مطلوب لأن الثلة لم توضع للقليل بالإجماع حتى يحمل ما بعد على التقنن بل هي إما للكثرة والاشتقاق عليها أدل لأن الثل بمعنى الصب وبمعنى الهدم بالكلية، والثلة بالكسر الضأن الكثيرة وإما لمطلق الجماعة كالفرقة والقطعة من الثل بمعنى الكسر كأنها جماعة كسرت من الناس وقطعت منهم إلا أن لاستعمال غلب على الكثير فيها فالمعنى جماعة كثيرة من الأولين وهم الناس المتقدمون من لدن آدم إلى نبينا عليهما الصلاة والسلام وعلى من بينهما من الأنبياء العظام وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ وهم الناس من لدن نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم إلى قيام الساعة ولا يخالفه قوله عليه الصلاة والسلام: «إن أمتي يكثرون سائر الأمم» أي يغلبونهم في الكثرة لأن أكثرية سابقي المتقدمين من سابقي هذه الأمة لا تمنع أكثرية تابعي هؤلاء من تابعي أولئك. وحاصل ذلك غلبة مجموع هذه الأمة كثرة على من سواها كقرية فيها عشرة من العلماء ومائة من العوام وأخرى فيها خمسة من العلماء وألف من العوام فخواص الأولى أكثر من خواص الثانية وعوام الثانية ومجموع أهلها أضعاف أولئك، لا يقال يأبى أكثرية تابعي هؤلاء قوله تعالى: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ [الواقعة: 39، 40] فإنه في حق أصحاب اليمين وهم التابعون، وقد عبر في كل بالثلة أي الجماعة الكثيرة لأنا نقول لا دلالة في الآية على أكثر من وصف كل من الفريقين بالكثرة وذلك لا ينافي أكثرية أحدهما فتحصل أن سابقي الأمم السوالف أكثر من سابقي أمتنا. وتابعي أمتنا أكثر من تابعي الأمم، والمراد بالأمم ما يدخل فيه الأنبياء وحينئذ لا يبعد أن يقال: إن كثرة سابقي الأولين ليس إلا بأنبيائهم فما على سابقي هذه الأمة بأس إذ أكثرهم سابقو الأمم بضم لأنبياء عليهم السلام، وأخرج الإمام أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة قال: «لما نزلت ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فنزلت ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة بل أنتم نصف أهل الجنة- أو شطر أهل الجنة- وتقاسمونهم النصف الثاني» وظاهره أنه شق عليهم قلة من وصف بها وأن الآية الثانية أزالت ذلك ورفعته وأبدلته الجزء: 14 ¦ الصفحة: 134 بالكثرة، ويدل على ذلك ما أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: لما نزلت ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ حزن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقالوا إذا لا يكون من أمة محمد صلّى الله عليه وسلم إلا قليل فنزلت نصف النهار ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ فنسخت وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ وأبى ذلك الزمخشري فقال: إن الرواية غير صحيحة لأمرين: أحدهما أن الآية الأولى واردة في السابقين، الثانية في أصحاب اليمين، والثاني أن النسخ في الأخبار غير جائز فإذا أخبر تعالى عنهم بالقلة لم يجز أن يخبر عنهم بالكثرة من ذلك الوجه وما ذكر من عدم جواز النسخ في الأخبار أي في مدلولها مطلقا هو المختار. وقيل: يجوز النسخ في المتغير إن كان عن مستقبل لجواز المحو لله تعالى فيما يقدره والإخبار يتبعه، وعلى هذا البيضاوي، وقيل: يجوز عن الماضي أيضا وعليه الإمام الرازي والآمدي، وأما نسخ مدلول الخبر إذا كان مما لا يتغير كوجود الصانع وحدوث العالم فلا يجوز اتفاقا فإن كان ما نحن فيه مما يتغير فنسخه جائز عند البيضاوي ويوافقه ظهر خبر أبي هريرة الثاني، ولا يجوز على المختار الذي عليه الشافعي وغيره فقول صاحب الكشف: لا خلاف في عدم جواز النسخ في مثل ما ذكر من الخبر إذ لا يتضمن حكما شرعيا لا يخلو عن شيء. وأقول: قد يتعقب ما ذكره الزمخشري بأن الحديث قد صح وورود الآية الأولى في السابقين والثانية في أصحاب اليمين لا يرد مقتضاه فإنه يجوز أن يقال: إن الصحابة رضي الله تعالى عنهم لما سمعوا الآية الاولى حسبوا أن الأمر في هذه الأمة يذهب على هذا النهج فيكون أصحاب اليمين ثلة من الأولين وقليلا منهم فيكثرهم الفائزون بالجنة من الأمم السوالف فخزنوا لذلك فنزل قوله تعالى في أصحاب اليمين: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ وقال لهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ما قال مما أذهب به حزنهم وليس في هذا نسخ للخبر كما لا يخفى. وقول أبي هريرة فنسخت وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ إن صح عنه ينبغي تأويله بأن يقال أراد به فأزالت حسبان أن يذكر نحوه في الفائزين بالجنة من هذه الأمة غير السابقين فتدبر، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: الفرقتان أي في قوله تعالى: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ في أمة كل نبي في صدرها ثلة وفي آخرها قليل، وقيل: هما من الأنبياء عليهم السلام كانوا في صدر الدنيا كثيرين وفي آخرها قليلين. وقال أبو حيان: جاء في الحديث- الفرقتان في أمتي فسابق أول الأمة ثلة وسابق سائرها إلى يوم القيامة قليل- انتهى، وجاء في فرقتي أصحاب اليمين نحو ذلك، أخرج مسدد في مسنده وابن المنذر والطبراني وابن مردويه بسند حسن عن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في قوله سبحانه: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ قال: هما جميعا من هذه الأمة ، وأخرج جماعة بسند ضعيف عن ابن عباس مرفوعا ما لفظه هما جميعا من أمتي وعلى هذا يكون الخطاب في قوله عز وجل: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً لهذه الأمة فقط عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ حال من المقربين أو من ضميرهم في قوله تعالى: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ بناء على أنه في موضع الحال كما تقدم، وقيل: هو خبر آخر للضمير المحذوف المخبر عنه أولا- بثلة- وفيه وجه آخر أشرنا إليه فيما مر، ومَوْضُونَةٍ من الوضن وهو نسج الدرع قال الأعشى: ومن نسج داود موضونة ... تسير مع الحي عيرا فعيرا واستعير لمطلق النسج أو لنسج محكم مخصوص، ومن ذلك وضين الناقة وهو حزامها لأنه موضون أي مفتول والمراد هنا على ما أخرجه ابن جرير وغيره عن ابن عباس مرمولة أي منسوجة بالذهب، وفي رواية عنه بقضبان الفضة، وقال عكرمة: مشبكة بالدر والياقوت، وقيل: مَوْضُونَةٍ متصل بعضها ببعض كحلق الدرع، والمراد متقاربة، وقرأ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 135 زيد بن علي وأبو السمال «سرر» بفتح الراء وهي لغة لبعض تميم، وكلب يفتحون عين فعل جمع فعيل المضعف نحو سرير مُتَّكِئِينَ عَلَيْها حال من الضمير المستقر في الجار والمجرور أعني على سرر، وقوله تعالى: مُتَقابِلِينَ حال منه أيضا ولك أن تعتبر الحالين متداخلين. والمراد كما قال مجاهد: لا ينظر أحدهم في قفا صاحبه وهو وصف لهم بحسن العشرة وتهذيب الأخلاق ورعاية الآداب وصفاء البواطن، وقوله تعالى: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ حال أخرى أو استئناف أي يدور حولهم للخدمة وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ أي مبقون أبدا على شكل الولدان وحد الوصافة لا يتحولون عن ذلك، وإلا فكل أهل الجنة مخلد لا يموت، وقال الفراء وابن جبير: مقرطون بخلدة وهي ضرب من الأقراط قيل: هم أولاد أهل الدنيا لم يكن لهم حسنات فيثابوا عليها ولا سيئات فيعاقبوا عليها، وروى هذا أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه ، وعن الحسن البصري- واشتهر أنه عليه الصلاة والسلام- قال: أولاد الكفار خدم أهل الجنة - وذكر الطيبي أنه لم يصح بل صح ما يدفعه: أخرج البخاري وأبو داود والنسائي عن عائشة قالت: توفي صبي فقلت: طوبى له عصفور في الجنة فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: أو لا تدرين أن الله تعالى خلق الجنة وخلق النار فخلق لهذه أهلا ولهذه أهلا، وفي رواية خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم. وأخرج أبو داود عنها أنها قالت: قلت: يا رسول الله ذراري المؤمنين فقال من آبائهم فقلت: يا رسول الله بلا عمل قال: الله أعلم بما كانوا عاملين قلت: يا رسول الله فذراري المشركين قال: من آبائهم فقلت: بلا عمل قال: الله أعلم بما كانوا عاملين ، وقيل: إنهم يمتحنون يوم القيامة فتخرج لهم نار ويؤمرون بالدخول فيها فمن دخلها وجدها بردا وسلاما وأدخل الجنة، ومن أبى أدخل النار مع سائر الكفار ويروون في ذلك أثرا. ومن الغريب ما قيل: إنهم بعد الإعادة يكونون ترابا كالبهائم، وفي الكشف الأحاديث متعارضة في المسألة وكذلك المذاهب، والمسألة ظنية والعلم عند الله تعالى وهو عز وجل أعلم انتهى والأكثر على دخولهم الجنة بفضل الله تعالى ومزيد رحمته تبارك وتعالى، وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام في ذلك بِأَكْوابٍ بآنية لا عرا لها ولا خراطيم، والظاهر أنها الأقداح وبذلك فسرها عكرمة وهي جمع كوب وَأَبارِيقَ جمع إبريق وهو إناء له خرطوم قيل: وعروة، وفي البحر أنه من أواني الخمر، وأنشد قول عدي بن زيد: ودعوا بالصبوح يوما فجاءت ... قينة في يمينها إبريق وفيه أيضا أنه إفعيل من البريق، وذكر غير واحد أنه معرب- آب ريزاي- صاب الماء وهو أنسب مما في بعض نسخ القاموس أنه معرب- آب ري- بلا زاي، وأيا ما كان فهو ليس مأخوذا من البريق، نعم الإبريق بمعنى المرأة الحسنة والبراقة والسيف البراق والقوس فيها تلاميع مأخوذ من ذلك، ولعله يقول بأنه عربي لا معرب، وأن البريق مما فيه من الخمر والشعراء يصفونها بذلك كقوله: مشعشعة كأن الحص فيها ... إذا ما الماء خالطها سخينا أو لأنه غالبا يتخذ مما له نوع بريق كالبلور والفضة وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ أي خمر جارية من العيون كما قال ابن عباس وقتادة أي لم يعصر كخمر الدنيا، وقيل: خمر ظاهرة للعيون مرئية بها لأنها كذلك أهنأ، وأفرد الكأس على ما قيل لأنها لا تسمى كأسا إلا إذا كانت مملوءة لا يُصَدَّعُونَ عَنْها أي بسببها وحقيقته لا يصدر صداعهم عنها، والمراد أنهم لا يلحق رؤوسهم صداع لأجل خمار يحصل منها كما في خمور الدنيا، وقيل: لا يفرقون عنها بمعنى لا تقطع عنهم لذتهم بسبب من الأسباب كما تفرق أهل خمر الدنيا بأنواع التفريق. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 136 وقرأ مجاهد «لا يصّدعون» بفتح الياء وشد الصاد على أن أصله يتصدعون فأدغم التاء في الصاد أي لا يتفرقون كقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الروم: 43] ، وقرىء «لا يصدعون» بفتح الياء والتخفيف أي لا يصدع بعضهم بعضا ولا يفرقونهم أي لا يجلس داخل منهم بين اثنين فيفرق بين المتقاربين فإنه سوء الأدب وليس من حسن العشرة وَلا يُنْزِفُونَ قال مجاهد وقتادة والضحاك: لا تذهب عقولهم بكسرها من نزف الشارب كعنى إذا ذهب عقله، ويقال للسكران نزيف ومنزوف، وقيل: وهو من نزف الماء نزحه من البئر شيئا فشيئا فكان الكلام على تقدير مضاف. وقرأ ابن أبي إسحاق وعبد الله والسلمي والجحدري والأعمش وطلحة وعيسى وعاصم كما أخرج عنه عبد بن حميد «ولا ينزفون» بضم الياء وكسر الزاي من أنزف الشارب إذا ذهب عقله أو شرابه، ومعناه صار ذا نزف ونظيره أقشع السراب وقشعته الريح وحقيقته دخل في القشع، وقرأ ابن أبي إسحاق أيضا «ولا ينزفون» بفتح الياء وكسر الزاي قال: في المجمع وهو محمول على أنه لا يفنى خمرهم، والتناسب بين الجملتين على ما سمعت فيهما أولا على قراءة الجمهور أن الأولى لبيان نفي الضرر عن الأجسام، والثانية لبيان نفي الضرر عن العقول وتأمل لتعرفه إن شاء الله تعالى على ما عدا ذلك وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ أي يأخذون خيره وأفضله والمراد مما يرضونه وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ مما تميل نفوسهم إليه وترغب فيه، والظاهر أن فاكهة ولحم معطوفان على أكواب فتفيد الآية أن الولدان يطوفون بهما عليهم، واستشكل بأنه قد جاء في الآثار أن فاكهة الجنة وثمارها ينالها القائم والقاعد والنائم، وعن مجاهد أنها دانية من أربابها فيتناولونها متكئين فإذا اضطجعوا نزلت بإزاء أفواههم فيتناولونها مضطجعين، وأن الرجل من أهل الجنة يشتهي الطير من طيور الجنة فيقع في يده مقليا نضجا، وقد أخرج هذا ابن أبي الدنيا عن أبي أمامة. وأخرج عن ميمونة مرفوعا أن الرجل ليشتهي الطير في الجنة فيجيء مثل البختي حتى يقع على خوانه لم يصبه دخان ولم تمسه نار فيأكل منه حتى يشبع ثم يطير إلى غير ذلك ، وإذا كان الأمر كما ذكر استغنى عن طوافهم بالفاكهة واللحم، وأجيب بأن ذلك- والله تعالى أعلم- حالة الاجتماع والشرب، ويفعلون ذلك الإكرام ومزيد المحبة والتعظيم والاحترام، وهذا كما يناول أحد الجلساء على خوان الآخر بعض ما عليه من الفواكه ونحوها وإن كان ذلك قريبا منه اعتناء بشأنه وإظهارا لمحبته والاحتفال به، وجوز أن يكون العطف على جنات النعيم وهو من باب- متقلدا سيفا ورمحا- أو من بابه المعروف، وتقديم الفاكهة على اللحم للإشارة إلى أنهم ليسوا بحالة تقتضي تقديم اللحم كما في الجائع فإن حاجته إلى اللحم أشد من حاجته إلى الفاكهة بل هم بحالة تقتضي تقديم الفاكهة واختيارها كما في الشبعان فإنه إلى الفاكهة أميل منه إلى اللحم، وجوز أن يكون ذلك لأن عادة أهل الدنيا لا سيما أهل الشرب منهم تقديم الفاكهة في الأكل وهو طبا مستحسن لأنها ألطف وأسرع انحدارا وأقل احتياجا إلى المكث في المعدة للهضم، وقد ذكروا أن أحد أسباب الهيضة إدخال اللطيف من الطعام على الكثيف منه ولأن الفاكهة تحرك الشهوة للأكل واللحم يدفعها غالبا. ويعلم من الوجه الأول وجه تخصيص التخير بالفاكهة والاشتهاء باللحم، وفيه إشارة إلى أن الفاكهة لم تزل حاضرة عندهم وبمرأى منهم دون اللحم ووجه ذلك أنها مما تلذه الأعين دونه، وقيل: وجه التخصيص كثرة أنواع الفاكهة واختلاف طعومها وألوانها وأشكالها وعدم كون اللحم كذلك، وفي التعبير بيتخيرون دون يختارون وإن تقاربا معنى إشارة لمكان صيغة التفعل إلى أنهم يأخذون ما يكون منها في نهاية الكمال وأنهم في غاية الغنى عنها، والله تعالى أعلم بأسرار كلامه وَحُورٌ عِينٌ عطف على وِلْدانٌ أو على الضمير المستكن في مُتَّكِئِينَ أو على مبتدأ حذف هو وخبره أي لهم هذا كل وَحُورٌ أو مبتدأ حذف خبره أي لهم، أو فيها حور، وتعقب الوجه الأول بأن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 137 الطواف لا يناسب حالهن، وأجيب بأنه لا يبعد أن يكون من الحور ما ليس بمقصورات في الخيام ولا مخدرات هن كالخدم لهن لا يبالي بطوافهن ولا ينكر ذلك عليهن، وأن الطواف في الخيام أنفسها وهو لا ينافي كونهم مقصورات فيها، أو أن العطف على معنى لهم وِلْدانٌ وحُورٌ والثاني بأنه خلاف الظاهر جدا، والثالث بكثرة الحذف، وعِينٌ جمع عيناء وأصله عين على فعل كما تقول حمراء وحمر فكسرت العين لئلا تنقلب الياء واوا، وليس في كلام العرب ياء ساكنة قبلها ضمة كما أنه ليس فيه واو ساكنة قبلها كسرة. وقرأ السلمي والحسن وعمرو بن عبيد وأبو جعفر وشيبة والأعمش وطلحة والمفضل وأبان وعصمة عن عاصم وحمزة والكسائي «وحور عين» بالجر، وقرأ النخعي كذلك إلا أنه قلب الواو ياء والضمة قبلها كسرة في «حور» فقال: وحير على الاتباع- لعين- وخرج على العطف على جَنَّاتِ النَّعِيمِ وفيه مضاف محذوف كأنه قيل: هم في جنات وفاكهة ولحم ومصاحبة حور على تشبيه مصاحبة الحور بالظرف على نهج الاستعارة المكنية، وقرينتها التخييلية إثبات معنى الظرفية بكلمة فِي فهي باقية على معناها الحقيقي ولا جمع بين الحقيقة والمجاز، وذهب إلى العطف المذكور الزمخشري، وتعقبه أبو حيان فقال: فيه بعد وتفكيك كلام مرتبط بعضه ببعض، وهو فهم أعجمي- وليس كما قال كما لا يخفى- أو على (أكواب) ويجعل من باب- متقلدا سيفا ورمحا- كما سمعت آنفا فكأنه قيل: ينعمون بأكواب وبحور، وجوز أن يبقى على ظاهره المعروف، وأن الولدان يطوفون عليهم بالحور أيضا لعرض أنواع اللذات عليهم من المأكول والمشروب والمنكوح كما تأتي الخدام بالسراري للملوك ويعرضوهن عليهم، وإلى هذا ذهب أبو عمر وقطرب، وأبى ذلك صاحب الكشف فقال: أما العطف على الولدان على الظاهر فلا لأن الولدان لا يطوفون بهن طوافهم بالأكواب، والقلب إلى هذا أميل إلا أن يكون هناك أثر يدل على خلافه، وكون الجر للجوار يأباه الفصل أو يضعفه. وقرأ أبيّ وعبد الله- وحورا عينا- بالنصب، وخرج على العطف على محل بِأَكْوابٍ لأن المعنى يعطون أكوابا وحورا على أنه مفعول به لمحذوف أي ويعطون حورا أو على العطف على محذوف وقع مفعولا به لمحذوف أيضا أي يعطون هذا كله وحورا، وقرأ قتادة «وحور» بالرفع مضافا إلى «عين» ، وابن مقسم «وحور» بالنصب مضافا، وعكرمة- وحوراء عيناء- على التوحيد اسم جنس وبفتح الهمزة فيهما فاحتمل الجر والنصب كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ أي في الصفاء، وقيد بالمكنون أي المستور بما يحفظه لأنه أصفى وأبعد من التغير، وفي الحديث صفاؤهن كصفاء الدر الذي لا تمسه الأيدي، ووصف الحسنات بذلك شائع في العرب، ومنه قوله: قامت تراءى بين سجفي كلة ... كالشمس يوم طلوعها بالأسعد أو درة صدفية غواصها ... بهج متى يرها يهل ويسجد والجار والمجرور في موضع الصفة لحور، أو الحال، والإتيان بالكاف للمبالغة في التشبيه، ولعل الأمر عليه نحو زيد قمر جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ مفعول له لفعل محذوف أي يفعل بهم ذلك كله جزاءا بأعمالهم أو بالذي استمروا على عمله أو هو مصدر مؤكد أي يجزون جزاء لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً ما لا يعتد به من الكلام وهو الذي يورد لا عن روية وفكر فيجري مجرى اللغا- وهو صوت العصافير ونحوها من الطير- وقد يسمى كل كلام قبيح لغوا وَلا تَأْثِيماً أي ولا نسبة إلى الإثم أي لا يقال لهم أثمتم، وعن ابن عباس كما أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم تفسيره بالكذب، وأخرجه هناد عن الضحاك- وهو من المجاز كما لا يخفى- والكلام من باب. ولا ترى الضب بها ينجحر الجزء: 14 ¦ الصفحة: 138 إِلَّا قِيلًا أي قولا فهو مصدر مثله سَلاماً سَلاماً بدل من قِيلًا كقوله تعالى: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً [مريم: 62] وقال الزجاج: هو صفة له بتأويله بالمشتق أي سالما من هذه العيوب أو مفعوله، والمراد لفظه فلذا جاز وقوعه مفعولا للقول مع إفراده، والمعنى إلا أن يقول بعضهم لبعض سَلاماً، وقيل: هو مصدر لفعل مقدر من لفظه وهو مقول القول ومفعوله حينئذ أي نسلم سلاما، والتكرير للدلالة على فشو السلام وكثرته فيما بينهم لأن المراد سلاما بعد سلام، والاستثناء منقطع وهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم محتمل لأن يكون من الضرب الأول منه، وهو أن يستثنى من صفة ذم منفية عن الشيء صفة مدح له بتقدير دخولها فيها بأن يقدر السلام هنا داخلا فيما قيل فيفيد التأكيد من وجهين، وأن يكون من الضرب الثاني منه وهو أن يثبت لشيء صفة مدح ويعقب بأداة استثناء يليها صفة مدح أخرى بأن لا يقدر ذلك، ويجعل الاستثناء من أصله منقطعا فيفيد التأكيد من وجه، ولولا ذكر التأثيم- على ما قاله السعد- جاز جعل الاستثناء متصلا حقيقة لأن معنى السلام الدعاء بالسلامة وأهل الجنة أغنياء عن ذلك فكان ظاهره من قبيل اللغو وفضول الكلام لولا ما فيه من فائدة الإكرام، وإنما منع التأثيم الذي هو النسبة إلى الإثم لأنه لا يمكن جعل السلام من قبيله وليس لك في الكلام أن تذكر متعددين ثم تأتي بالاستثناء المتصل من الأول مثل أن تقول: ما جاء من رجل ولا امرأة إلا زيدا ولو قصدت ذلك كان الواجب أن تؤخر ذكر لرجل، وقرىء- سلام سلام- بالرفع على الحكاية، وقوله تعالى: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ إلخ شروع في بيان تفاصيل شؤونهم بعد بيان تفاصيل شؤون السابقين «وأصحاب» مبتدأ وقوله: ما أَصْحابُ الْيَمِينِ جملة استفهامية مشعرة بتفخيمهم والتعجيب من حالهم وهي على ما قالوا: إما خبر للمبتدأ، وقوله سبحانه: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ خبر ثان له، أو خبر لمبتدأ محذوف أي هم في سدر، والجملة استئناف لبيان ما أبهم في قوله عز وجل: ما أَصْحابُ الْيَمِينِ من علو الشأن، وإما معترضة والخبر هو قوله تعالى شأنه: فِي سِدْرٍ وجوز أن تكون تلك الجملة في موضع الصفة والخبر هو هذا الجار والمجرور، والجملة عطف على قوله تبارك وتعالى في شرح أحوال السابقين: أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [الواقعة: 11، 12] أي وَأَصْحابُ الْيَمِينِ المقول فيهم ما أَصْحابُ الْيَمِينِ كائنون فِي سِدْرٍ إلخ، والظاهر أن التعبير بالميمنة فيما مر، وباليمين هنا للتفنن، وكذا يقال في المشأمة والشمال فيما بعد، وقال الإمام: الحكمة في ذلك أن في الميمنة وكذا المشأمة دلالة على الموضع والمكان والأزواج الثلاثة في أول الأمر يتميز بعضهم عن بعض ويتفرقون بالمكان فلذا جيء أولا بلفظ يدل على المكان وفيما بعد يكون التميز والتفرق بأمر فيهم فلذا لم يؤت بذلك اللفظ ثانيا، والسدر شجر النبق، والمخضود الذي خضد أي قطع شوكه، أخرج الحاكم وصححه والبيهقي عن أبي أمامه قال: «كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقولون: إن الله تعالى ينفعنا بالأعراب ومسائلهم أقبل أعرابي يوما فقال: يا رسول الله لقد ذكر الله تعالى في القرآن شجر مؤذية وما كنت أرى أن في الجنة شجرة تؤذي صاحبها قال: وما هي؟ قال: السدر فإن له شوكا فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أليس الله يقول: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ خضد الله شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة وأن الثمرة من ثمره تفتق عن اثنين وسبعين لونا من الطعام ما فيها لون يشبه الآخر» . وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس وقتادة وعكرمة والضحاك أنه الموقر حملا على أنه في خضد الغصن إذا ثناه وهو رطب فمخضود مثنى الأغصان كني به عن كثير الحمل. وقد أخرج ابن المنذر عن يزيد الرقاشي أن النبقة أعظم من القلال والظرفية مجازية للمبالغة في تمكنهم من التنعم والانتفاع بما ذكر وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ قد نضد حمله من أسفله إلى أعلاه ليست له ساق بارزة وهو شجر الموز الجزء: 14 ¦ الصفحة: 139 كما أخرج ذلك عبد الرزاق وهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه ، وأخرجه جماعة من طرق عن ابن عباس ورواه ابن المنذر عن أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري وعبد بن حميد عن الحسن، ومجاهد وقتادة، وعن الحسن أنه قال: ليس بالموز ولكنه شجر ظله بارد رطب، وقال السدي: شجر يشبه طلح الدنيا ولكن له ثمر أحلى من العسل، وقيل: هو شجر من عظام العضاه، وقيل: شجر أم غيلان وله نوار كثير طيب الرائحة وَظِلٍّ مَمْدُودٍ ممتد منبسط لا يتقلص ولا يتفاوت كظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس، وظاهر الآثار يقتضي أنه ظل الأشجار. أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة وغيرهم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها اقرؤوا إن شئتم وَظِلٍّ مَمْدُودٍ» . وأخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن مردويه عن أبي سعيد قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها وذلك الظل الممدود» . وأخرج ابن أبي حاتم ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: الظل الممدود شجرة في الجنة على ساق ظلها قدر ما يسير الراكب في كل نواحيها مائة عام يخرج إليها أهل الجنة وأهل الغرف وغيرهم فيتحدثون في ظلها فيشتهي بعضهم ويذكر لهو الدنيا فيرسل الله تعالى ريحا من الجنة فتحرك تلك الشجرة بكل لهو في الدنيا وعن مجاهد أنه قال: هذا الظل من سدرها وطلحها، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عمرو بن ميمون أنه قال: الظل الممدود مسيرة سبعين ألف سنة وَماءٍ مَسْكُوبٍ قال سفيان وغيره: جار من غير أخاديد، وقيل: منساب حيث شاؤوا لا يحتاجون فيه إلى سانية ولا رشاء وذكر هذه الأشياء لما أن كثيرا من المؤمنين لبداوتهم تمنوها، أخرج عبد بن حميد وابن جرير والبيهقي عن مجاهد قال: كانوا يعجبون بوج وظلاله من طلحه وسدره فأنزل الله تعالى: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ إلخ، وفي رواية عن الضحاك «نظر المسلمون إلى وج فأعجبهم سدره وقالوا: يا ليت لنا مثل هذا فنزلت هذه الآية» . وقيل: كأنه لما شبه حال السابقين بأقصى ما يتصور لأهل المدن من كونهم على سرر تطوف عليهم خدامهم بأنواع الملاذ شبه حال أصحاب اليمين بأكمل ما يتصور لأهل البوادي من نزولهم في أماكن مخصبة فيها مياه وأشجار وظلال إيذانا بأن التفاوت بين الفريقين كالتفاوت بين أهل المدن والبوادي، وذكر الإمام مدعيا أنه مما وفق له أن قوله تعالى: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ من باب قوله سبحانه: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [الشعراء: 28، المزمل: 9] لأن السدر أوراقه في غاية الصغر والطلح يعني الموز أوراقه في غاية الكبر فوقعت الإشارة إلى الطرفين فيراد جميع الأشجار لأنها نظرا إلى أوراقها محصورة بينهما وهو مما لا بأس به، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه، وجعفر بن محمد وعبد الله رضي الله تعالى عنهم «وطلع» بالعين بدل وَطَلْحٍ بالحاء ، وأخرج ابن الأنباري في المصاحف وابن جرير عن قيس بن عباد قال: قرأت على علي كرم الله تعالى وجهه وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ فقال: ما بال الطلح؟ أما تقرأ وطلع، ثم قرأ قوله تعالى: لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ [ق: 10] فقيل له: يا أمير المؤمنين أنحكها من المصحف؟ فقال: لا يهاج القرآن اليوم وهي رواية غير صحيحة كما نبه على ذلك الطيبي، وكيف يقر أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه تحريفا في كتاب الله تعالى المتداول بين الناس، أو كيف يظنّ بأن نقلة القرآن ورواته وكتابه من قبل تعمدوا ذلك أو غفلوا عنه؟ هذا والله تعالى قد تكفل بحفظه سبحانك هذا بهتان عظيم. ثم إن الذي يقتضيه النظم الجليل كما قال الطيبي: حمل فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ إلخ على معنى التظليل، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 140 وتكاثف الأشجار على سبيل الترقي لأن الفواكه مستغنى عنها بما بعد وليقابل قوله تعالى: وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ [الواقعة: 41- 43] قوله سبحانه: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ إلخ فإذن لا مدخل لحديث الطلع في معنى الظل وما يتصل به لكن قال صاحب الكشف: إن وصف الطلح بكونه منضودا لا يظهر له كثير ملاءمة لكون المقصود منفعة التظليل وينبغي أن يحمل الطلح على أنه من عظام العضاه على ما ذكره في الصحاح فشجر أم غيلان والموز لا ظل لهما يعتد به، ثم قال ولو حمل الطلح على المشموم لكان وجها انتهى، وقد قدمنا لك خبر سبب النزول فلا تغفل وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ أي بحسب الأنواع والأجناس على ما يقتضيه المقام. لا مَقْطُوعَةٍ في وقت من الأوقات كفواكه الدنيا وَلا مَمْنُوعَةٍ عمن يريد تناولها بوجه من الوجوه ولا يحظر عليها كما يحظر على بساتين الدنيا، وقرىء وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ بالرفع في الجميع على تقدير وهناك فاكِهَةٍ إلخ وَفُرُشٍ جمع فراش كسراج وسرج، وقرأ أبو حيوة بسكون الراء مَرْفُوعَةٍ منضدة مرتفعة أو مرفوعة على الأسرة فالرفع حسي كما هو الظاهر، وقد أخرج أحمد والترمذي وحسنه والنسائي وجماعة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: ارتفاعها كما بين السماء والأرض ومسيرة ما بينهما خمسمائة عام ولا تستبعد ذلك من حيث العروج والنزول ونحوهما فالعالم عالم آخر وراء طور عقلك. وأخرج هناد عن الحسن أن ارتفاعها مسيرة ثمانين سنة وليس بمثابة الخبر السابق، وقال بعضهم: أي رفيعة القدر على أن رفعها معنوي بمعنى شرفها وأيا ما كان فالمراد بالفرش ما يفرش للجلوس عليه. وقال أبو عبيدة المراد بها النساء لأن المرأة يكنى عنها بالفراش كما يكنى عنها باللباس ورفعهن في الأقدار والمنازل. وقيل: على الأرائك وأيد إرادة النساء بقوله تعالى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً لأن الضمير في الأغلب يعود على مذكور متقدم وليس إلا الفرش ولا يناسب العود إليه إلا بهذا المعنى والاستخدام بعيد هنا، وعلى القول في الفرش الضمير للنساء وإن لم يجر لها ذكر لتقدم ما يدل عليها فهو تتميم بيانا لمقدر يدل عليه السياق كأنه قيل: وفرش مرفوعة ونساء أو وحور عين، ثم استؤنف وصفهن بقوله سبحانه: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ تتميما للبيان زيادة للترغيب لا لتعليل الرفع، وقيل: إن المرجع مضمر وتقدير المنزل وفرش مرفوعة لأزواجهم أو لنسائهم فإنا إلخ استئناف علة للرفع أي وفرش مرفوعة لأزواجهم لأنا أنشأناهن، والأول أوفق لبلاغة القرآن العظيم، والمراد بأنشأناهن أعدنا إنشاءهن من غير ولادة لأن المخبر عنهن بذلك نساءكن في الدنيا. فقد أخرج ابن جرير وعبد بن حميد والترمذي وآخرون عن أنس قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: في الآية إن المنشئات اللاتي كن في الدنيا عجائز عمشا رمصا» وأخرج الطبراني وابن أبي حاتم وجماعة عن سلمة بن مرثد الجعفي قال: «سمعت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول في قوله تعالى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً الثيب والأبكار اللاتي كن في الدنيا» وأخرج الترمذي في الشمائل وابن المنذر وغيرهما عن الحسن قال: «أتت عجوز فقالت: يا رسول الله ادع الله أن يدخلني الجنة فقال: يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها عجوز فولت تبكي قال: أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز إن الله تعالى يقول: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً إلخ، وقال أبو حيان: الظاهر أن الإنشاء هو الاختراع الذي لم يسبق بخلق ويكون ذلك مخصوصا بالحور العين فالمعنى إنا ابتدأناهن ابتداء جديدا من غير ولادة ولا خلق أول فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً تفسير لما تقدم، والجعل إما بمعنى التصيير، وأَبْكاراً مفعول ثان، أو بمعنى الخلق و «أبكارا» حال أو مفعول ثان، والكلام من قبيل ضيق فم الركية، وفي الحديث «إن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عدن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 141 أبكارا» أخرجه الطبراني في الصغير والبزار عن أبي سعيد مرفوعا عُرُباً متحببات إلى أزواجهن جمع عروب كصبور وصبر، وروي هذا عن جماعة من السلف وفسرها جماعة أخرى بغنجات، ولا يخفى أن الغنج ألطف أسباب التحبب، وعن زيد بن أسلم العروب الحسنة الكلام، وفي رواية عن ابن عباس والحسن وابن جبير ومجاهد هن العواشق لأزواجهن، ومنه على ما قيل قول لبيد: وفي الخدور عروب غير فاحشة ... ريا الروادف يعشى دونها البصر وفي رواية أخرى عن مجاهد أنهن الغلمات اللاتي يشتهين أزواجهم، وأخرج ابن عدي بسند ضعيف عن أنس مرفوعا- خير نسائكم العفيفة الغلمة- وقال إسحاق بن عبد الله بن الحارث النوفلي: العروب الخفرة المتبذلة لزوجها، وأنشد: يعرين عند بعولهن إذا خلوا ... وإذا هم خرجوا فهن خفار ويرجع هذا إلى التحبب، وأخرج ابن أبي حاتم عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم في قوله تعالى: عُرُباً كلامهن عربي ، ولا أظن لهذا صحة والتفسير بالمتحببات هو الذي عليه الأكثر. وقرأ حمزة وجماعة- منها عباس والأصمعي- عن أبي عمرو، وأخرى- منها خارجة وكردم- عن نافع، وأخرى منها حماد وأبو بكر وأبان- عن عاصم «عربا» بسكون الراء وهي لغة تميم، وقال غير واحد: هي للتخفيف كما في عنق وعنق أَتْراباً مستويات في سن واحد كما قال أنس وابن عباس ومجاهد والحسن وعكرمة وقتادة وغيرهم كأنهن شبهن في التساوي بالترائب التي هي ضلوع الصدر أو كأنهن وقعن معا على التراب أي الأرض وهن بنات ثلاث وثلاثين سنة وكذا أزواجهن. وأخرج الترمذي عن معاذ مرفوعا «يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا مكحلين أبناء ثلاثين، أو ثلاث وثلاثين» والمراد بذلك كمال الشباب، وقوله تعالى: لِأَصْحابِ الْيَمِينِ متعلق- بأنشانا- أو بجعلنا، وقيل: متعلق- بأترابا- كقولك فلان ترب لفلان أي مساو له فهو محتاج إلى التأويل، وتعقب بأنه مع هذا ليس فيه كثير فائدة وفيه نظر، وقيل: بمحذوف هو صفة- لأبكارا- أي كائنات لأصحاب اليمين، وفيه إقامة الظاهر مقام الضمير لطول العهد أو للتأكيد والتحقيق [الواقعة: 39- 80] وقوله تعالى: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 142 ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ خبر مبتدأ محذوف أي هم ثلة، أو خبر ثان لهم المقدر مبتدأ مع فِي سِدْرٍ أو لِأَصْحابِ الْيَمِينِ في قوله تعالى: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ أو مبتدأ خبره محذوف أي منهم، أو مبتدأ خبره الجار والمجرور قبله احتمالات اعترض الأخير منها بأن المعنى عليه غير ظاهر ولا طلاوة فيه، وجعل اللام بمعنى من كما في قوله: ونحن لكم يوم القيامة أفضل لا يخفى حاله- والأولون والآخرون- المتقدمون والمتأخرون إما من الأمم وهذه الأمة، أو من هذه الأمة فقط على ما سمعت فيما تقدم، هذا ولم يقل سبحانه في حق أصحاب اليمين- جزاء بما كانوا يعملون- كما قاله عز وجل في حق السابقين رمزا إلى أن الفضل في حقهم متمحض كأن عملهم لقصوره عن عمل السابقين لم يعتبر اعتباره. ثم الظاهر أن ما ذكر من حال أصحاب اليمين هو حالهم الذي ينتهون إليه فلا ينافي أن يكون منهم من يعذب لمعاص فعلها ومات غير تائب عنها ثم يدخل الجنة. ولا يمكن أن يقال: إن المؤمن العاصي من أصحاب الشمال لأن صريح أوصافهم الآتية يقتضي أنهم كانوا كافرين ويلزم من جعل هذا قسما على حدة كون القسمة غير مستوفاة فليتأمل، والله تعالى أعلم. والكلام في قوله تعالى: وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ على نمط ما سلف في نظيره، والسموم قال الراغب: الريح الحارة التي تؤثر تأثير السم، وفي الكشاف حرّ نار ينفذ في المسام والتنوين للتعظيم وكذا في قوله تعالى: وَحَمِيمٍ وهو الماء الشديد الحرارة وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ أي دخان أسود كما قال ابن عباس وأبو مالك وابن زيد والجمهور وهي على وزن يفعول، وله نظائر قليلة من الحممة القطعة من الفحم وتسميته ظلّا على التشبيه التهكمي، وعن ابن عباس أيضا أنه سرادق النار المحيط بأهلها يرتفع من كل ناحية حتى يظلهم، وقال ابن كيسان: هو من أسماء جهنم فإنها سوداء وكذا كل ما فيها أسود بهيم نعوذ بالله تعالى منها. وقال ابن بريدة وابن زيد أيضا: هو جبل من النار أسود يفزع أهل النار إلى ذراه فيجدونه أشد شيء، والجار والمجرور في موضع الصفة- لظل- وكذا قوله سبحانه: لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ صفتان له، وتقديم الصفة الجار والمجرور على الصفة المفردة جائز كما صرح به الرضي وغيره أي لا بارد كسائر الظلال، ولا نافع لمن يأوي إليه من أذى الحر- وذلك كرمه- فهناك استعارة، ونفى ذلك ليمحق توهم ما في الظل من الاسترواح إليه وإن وصف أولا بقوله تعالى: مِنْ يَحْمُومٍ والمعنى أنه ظل حار ضار إلا أن للنفي شأنا ليس للإثبات. ومن ذلك جاء التهكم والتعريض بأن الذي يستأهل الظل الذي فيه برد وإكرام غير هؤلاء فيكون أشجى لحلوقهم وأشد لتحسرهم، وقيل: الكرم باعتبار أنه مرضي في بابه، فالظل الكريم هو المرضي في برده وروحه، وفيه أنه لا يلائم ما هنا لقوله تعالى: لا بارِدٍ وجوز أن يكون ذلك نفيا لكرامة من يستروح الجزء: 14 ¦ الصفحة: 143 إليه ونسب إلى الظل مجازا، والمراد أنهم يستظلون به وهم مهانون، وقد يحتمل المجلس الرديء لنيل الكرامة، وفي البحر يجوز أن يكونا صفتين- ليحموم- ويلزم منه وصف الظل بهما، وتعقب بأن وصف اليحموم وهو الدخان بذلك ليس فيه كبير فائدة! وقرأ ابن أبي عبلة «لا بارد ولا كريم» برفعهما أي لا هو بارد ولا كريم على حدّ قوله: فأبيت لا حرج ولا محروم أي لا أنا حرج ولا محروم، وقوله تعالى: إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ تعليل لابتلائهم بما ذكر من العذاب، وسلك هذا المسلك في تعليل الابتداء بالعذاب اهتماما بدفع توهم الظلم في التعذيب، ولما كان إيصال الثواب مما ليس فيه توهم نقص أصلا لم يسلك فيه نحو هذا، والمترف هنا بقرينة المقام هو المتروك يصنع ما يشاء لا يمنع، والمعنى أنهم عذبوا لأنهم كانوا قبل ما ذكر من العذاب في الدنيا متبعين هوى أنفسهم وليس لهم رادع منها يردعهم عن مخالفة أوامره عز وجل وارتكاب نواهيه سبحانه كذا قيل، وقيل: هو العاتي المستكبر عن قبول الحق والإذعان له، والمعنى أنهم عذبوا لأنهم كانوا في الدنيا مستكبرين عن قبول ما جاءتهم به رسلهم من الإيمان بالله عز وجل وما جاء منه سبحانه، وقيل: هو الذي أترفته النعمة أي أبطرته وأطغته، وقريب منه ما قيل: هو المنعم المنهمك في الشهوات، وعليه قول أبي السعود أي إنهم كانوا قبل ما ذكر من سوء العذاب في الدنيا منعمين بأنواع النعم من المآكل والمشارب والمساكن الطيبة والمقامات الكريمة منهمكين في الشهوات فلا جرم عذبوا بنقائضها، وتعقب بأن كثيرا من أهل الشمال ليسوا مترفين بالمعنى الذي اعتبره فكيف يصح تعليل عذاب الكل بذلك ولا يرد هذا على ما قدمناه من القولين كما لا يخفى. ومن الناس من فسر المترف بما ذكر وتفصى عن الاعتراض بأن تعليل عذاب الكل بما ذكر في حيز العلة لا يستدعي أن يكون كل من المذكورات موجودا في كل من أصحاب الشمال بل وجود المجموع في المجموع وهذا لا يضر فيه اختصاص البعض بالبعض فتأمله، وقيل: المترف المجعول ذا ترفة أي نعمة واسعة والكل مترفون بالنسبة إلى الحالة التي يكونون عليها يوم القيامة، وهو على ما فيه لا يظهر أمر التعليل عليه وَكانُوا يُصِرُّونَ يتشددون ويمتنعون من الإقلاع ويداومون عَلَى الْحِنْثِ أي الذنب الْعَظِيمِ وفسر بعضهم الحنث بالذنب العظيم لا بمطلق الذنب وأيد بأنه في الأصل العدل العظيم فوصفه بالعظيم للمبالغة في وصفه بالعظم كما وصف الطود وهو الجبل العظيم به أيضا، والمراد به كما روي عن قتادة والضحاك وابن زيد الشرك وهو الظاهر. وأخرج عبد بن حميد عن الشعبي أن المراد به الكبائر وكأنه جعل المعنى- وكانوا يصرون على كل حنث عظيم- وفي رواية أخرى عنه أنه اليمين الغموس وظاهره الإطلاق، وقال التاج السبكي في طبقاته: سألت الشيخ، يعني والده تقي الدين- ما الحنث العظيم؟ - فقال: هو القسم على إنكار البعث المشار إليه بقوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [النحل: 38] وهو تفسير حسن لأن الحنث وإن فسر بالذنب مطلقا أو العظيم فالمشهور استعماله في عدم البر في القسم، وتعقب بأنه يأباه قوله تعالى: وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً إلى آخره للزوم التكرار، وأجيب بأن المراد بالأول وصفهم بالثبات على القسم الكاذب وبالثاني وصفهم بالاستمرار على الإنكار والرمز إلى استدلال ظاهر الفساد مع أنه لا محذور في تكرار ما يدل على الإنكار وهو توطئة وتمهيد لبيان فساده، والمراد بقولهم:- كنا ترابا وعظاما- كان بعض أجزائنا من اللحم والجلد ونحوهما ترابا وبعضها عظاما نخرة، وتقديم التراب لأنه أبعد عن الحياة التي يقتضيها ما هم بصدد إنكاره من البعث،- وإذا- متمحضة للظرفية والعامل فيها ما دل عليه قوله تعالى: أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لا مبعوثون نفسه لتعدد ما يمنع من عمل ما بعده فيما قبله- وهو الجزء: 14 ¦ الصفحة: 144 نبعث- وهو المرجع للإنكار وتقييده بالوقت المذكور ليس لتخصيص إنكاره به فإنهم منكرون للإحياء بعد الموت وإن كان البدن على حاله لتقوية الإنكار للبعث بتوجيهه إليه في حالة منافية له بالكلية وهذا كالاستدلال على ما يزعمونه، وتكرير الهمزة لتأكيد النكير وتحلية الجملة بأن لتأكيد الإنكار لا لإنكار التأكيد، وقوله سبحانه: أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ عطف على محل- إن- واسمها أو على الضمير المستتر في مبعوثون وحسن للفصل بالهمزة وإن كانت حرفا واحدا- كما قال الزمخشري- ولا يضر عمل ما قبل هذه الهمزة في المعطوف بعدها لأنها مكررة للتأكيد وقد زحلقت عن مكانها، وقولهم: الحرف إذا كرر للتأكيد فلا بد أن يعاد معه ما اتصل به أولا أو ضمير لا يسلم اطراده لورود: «ولا- للما- بهم أبدا دواء» وأمثاله، وجوز أن يكون آباؤُنَا مبتدأ وخبره محذوف دل عليه ما قبل أي مبعوثون، والجملة عطف على الجملة السابقة وهو تكلف يغني عنه العطف المذكور والمعنى- أيبعث أيضا آباؤنا- على زيادة الاستبعاد يعنون أنهم أقدم فبعثهم أبعد وأبطل، وقرأ قالون وابن عامر «أو آباؤنا» بإسكان الواو وعلى هذه القراءة لا يعطف على الضمير إذ لا فاصل. قُلْ ردا لإنكارهم وتحقيقا للحق إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ من الأمم الذين من جملتهم أنتم وآباؤكم، وتقديم الأولين للمبالغة في الرد حيث كان إنكارهم لبعث آبائهم أشد من إنكارهم لبعثهم مع مراعاة الترتيب الوجودي لَمَجْمُوعُونَ بعد البعث، وقرىء «لمجمعون» إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وهو يوم القيامة ومعنى كونه معلوما كونه معينا عند الله عز وجل، والميقات ما وقت به الشيء أي حد، ومنه مواقيت الإحرام وهي الحدود التي لا يتجاوزها من يريد دخول مكة إلا محرما، وإضافته إلى يَوْمٍ بيانية كما في خاتم فضة، وكون يوم القيامة ميقاتا لأنه وقتت به الدنيا، وإِلى للغاية والانتهاء، وقيل: والمعنى لَمَجْمُوعُونَ منتهين إلى ذلك اليوم، وقيل: ضمن معنى السوق فلذا تعدى بها ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ عطف على إِنَّ الْأَوَّلِينَ داخل في حيز القول، وثُمَّ للتراخي الزماني أو الرتبي الْمُكَذِّبُونَ بالبعث، أو بما يعمه وغيره ويدخل هو دخولا أوليا للسياق على ما قيل، والخطاب لأهل مكة وأضرابهم لَآكِلُونَ بعد البعث والجمع ودخول جهنم مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ مِنْ الأولى لابتداء الغاية والثانية لبيان الشجر وتفسيره أي مبتدئون للأكل من شجر هو زقوم، وجوز كون الأولى تبعيضية ومِنْ الثانية على حالها، وجوز كون مِنْ زَقُّومٍ بدلا من قوله تعالى: مِنْ شَجَرٍ فمن تحتمل الوجهين، وقيل: الأولى زائدة، وقرأ عبد الله من شجرة فوجه التأنيث ظاهر في قوله تعالى: فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ أي بطونكم من شدة الجوع فإنه الذي اضطرهم وقسرهم على أكل مثلها مما لا يؤكل، وأما على قراءة الجمهور فوجهه الحمل على المعنى لأنه بمعنى الشجرة، أو الأشجار إذا نظر لصدقه على المتعدد، وأما التذكير على هذه القراءة في قوله سبحانه: فَشارِبُونَ عَلَيْهِ أي عقيب ذلك بلا ريث مِنَ الْحَمِيمِ أي الماء الحار في الغاية لغلبة العطش فظاهر لا يحتاج إلى تأويل، وقال بعضهم: التأنيث أولا باعتبار المعنى والتذكير ثانيا باعتبار اللفظ، فقيل عليه: إن فيه اعتبار اللفظ بعد اعتبار المعنى على خلاف المتعارف فلو أعيد الضمير المذكور على الشجر باعتبار كونه مأكولا ليكون التذكير والتأنيث باعتبار المعنى كان أولى وفيه بحث، ووجهه على القراءة الثانية أن الضمير عائد على الزقوم أو على الشجر باعتبار أنها زقوم أو باعتبار أنها مأكول، وقيل: هو مطلقا عائد على الأكل، وتعقب بأنه بعيد لأن الشرب عليه لا على تناوله مع ما فيه من تفكيك الضمائر وكونه مجازا شائعا وغير ملبس لا يدفع البعد فتأمل. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 145 فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك جمع أهيم وهو الجمل الذي أصابه الهيام بضم الهاء وهو داء يشبه الاستسقاء يصيب الإبل فتشرب حتى تموت، أو تسقم سقما شديدا، ويقال إبل هيماء وناقة هيماء كما يقال: جمل أهيم قال الشاعر: فأصبحت كالهيماء لا الماء مبرد ... صداها ولا يقضي عليها هيامها وجعل بعضهم الْهِيمِ هنا جمع الهيماء، وقيل: هو جمع هائم أو هائمة، وجمع فاعل على فعل كبازل وبزل شاذ، وعن ابن عباس أيضا وسفيان الْهِيمِ الرمال التي لا تروى من الماء لتخلخلها ومفرده هيام بفتح الهاء على المشهور كسحاب وسحب ثم خفف وفعل به ما فعل بجمع أبيض من قلب الضمة كسرة لتسلم بالياء ويخفف اللفظ فكسرت الهاء لأجل الياء وهو قياس مطرد في بابه، وقال ثعلب: هو بالضم كقراد وقرد ثم خفف وفعل به ما فعل مما سمعت والعطف بالفاء قيل: لأن الإفراط بعد الأصلي، وقيل: لأن كلّا من المتعاطفين أخص من الآخر فإن شارب الحميم قد لا يكون به داء الهيام ومن به داء الهيام قد يشرب غير الحميم، والشرب الذي لا يحصل الري ناشىء عن شرب الحميم لأنه لا يبل الغليل، والذي اختاره ما قاله مفتي الديار الرومية: إن ذلك كالتفسير لما قبله أي لا يكون شربكم شربا معتادا بل يكون مثل شرب الهيم، والشرب بالضم مصدر، وقيل: اسم لما يشرب، وقرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم- كما روى جماعة منهم الحاكم وصححه- عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما «شرب» بفتح الشين وهو مصدر شرب المقيس، وبذلك قرأ جمع من السبعة والأعرج وابن المسيب وشعيب ومالك بن دينار وابن جريج، وقرأ مجاهد وأبو عثمان النهدي بكسر الشين وهو اسم بمعنى المشروب لا مصدر كالطحن والرعي هذا الذي ذكر من ألوان العذاب نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ يوم الجزاء فإذا كان ذلك نزلهم وهو ما يقدم للنازل مما حضر فما ظنك بما لهم بعد ما استقر لهم القرار واطمأنت لهم الدار في النار، وفي جعله نزلا مع أنه مما يكرم به النازل من التهكم ما لا يخفى، ونظير ذلك قوله: وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا ... جعلنا القنا والمرهفات له نزلا وقرأ ابن محيصن وخارجة عن نافع ونعيم ومحبوب وأبو زيد وهارون وعصمة وعباس كلهم عن أبي عمرو نزلهم بتسكين الزاي المضمومة للتخفيف كما في البيت، والجملة مسوقة من جهته سبحانه وتعالى بطريق الفذلكة مقررة لمضمون الكلام الملقن غير داخلة تحت القول، وقوله تعالى: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ تلوين للخطاب وتوجيه له إلى الكفرة بطريق الإلزام والتبكيت والفاء لترتيب التحضيض على ما قبلها أي فهلا تصدقون بالخلق بقرينة نَحْنُ خَلَقْناكُمْ ولما لم يحقق تصديقهم المشعر به قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25، الزمر: 38] عملهم حيث لم يقترن بالطاعة والأعمال الصالحة بل اقترن بما ينبىء عن خلافه من الشرك والعصيان نزل منزلة العدم والإنكار فحضوا على التصديق بذلك، وقيل: المراد فهلا تصدقون بالبعث لتقدمه وتقدم إنكاره في قولهم أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الإسراء: 49، 98، المؤمنون: 82، الصافات: 16، الواقعة: 47] فيكون الكلام إشارة إلى الاستدلال بالإبداء على الاعادة فإن من قدر عليه قدر عليها حتما، والأول هو الوجه كما يظهر مما بعد إن شاء الله تعالى أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أي ما تقذفونه في الأرحام من النطف، وقرأ ابن عباس وأبو الثمال «تمنون» بفتح التاء من مني النطفة بمعنى أمناها أي أزالها بدفع الطبيعة أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أي تقدرونه وتصورونه بشرا سويا تام الخلقة، فالمراد خلق ما يحصل منه على أن في الكلام تقديرا أو الجزء: 14 ¦ الصفحة: 146 تجوزا، وجوز إبقاء ذلك على ظاهره أي أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ وتنشئون نفس ذات ما تمنونه أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ له من غير دخل شيء فيه- وأرأيتم- قد مر الكلام غير مرة فيه، ويقال هنا: إن اسم الموصول مفعوله الأول والجملة الاستفهامية مفعوله الثاني، وكذا يقال فيم بعد من نظائره وما يعتبر فيه الرؤية بصرية تكون الجملة الاستفهامية فيه مستأنفة لا محل لها من الإعراب، وجوز في- أنتم- أن يكون مبتدأ، والجملة بعده خبره، وأن يكون فاعلا لفعل محذوف والأصل أتخلقون فلما حذف الفعل انفصل الضمير، واختاره أبو حيان. وأَمْ قيل: منقطعة لأن ما بعدها جملة فالمعنى- بل أنحن الخالقون- على أن الاستفهام للتقرير، وقال قوم من النحاة: متصلة معادلة للهمزة كأنه قيل: أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ ثم جيء- بالخالقون- بعد بطريق التأكيد لا بطريق الخبرية أصالة نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ قسمناه عليكم ووقتنا موت كل أحد بوقت معين حسبما تقتضيه مشيئتنا المبنية على الحكم البالغة، وقرأ ابن كثير «قدرنا» بالتخفيف وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ أي لا يغلبنا أحد عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ أي على أن نذهبكم ونأتي مكانكم أشباهكم من الخلق فالسبق مجاز عن الغلبة استعارة تصريحية أو مجاز مرسل عن لازمه، وظاهر كلام بعض الأجلة أنه حقيقة في ذلك إذا تعدى بعلى، والجملة في موضع الحال من ضمير قَدَّرْنا وكأن المراد قَدَّرْنا ذلك ونحن قادرون على أن نميتكم دفعة واحدة ونخلق أشباهكم. وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ من الخلق والأطوار التي لا تعهدونها، وقال الحسن: من كونكم قردة وخنازير، ولعل اختيار ذلك لأن الآية تنحو إلى الوعيد، والمراد ونحن قادرون على هذا أيضا وجوز أن يكون أمثالكم جمع مثل بفتحتين بمعنى الصفة لا جمع مثل بالسكون بمعنى الشبه كما في الوجه الأول أي ونحن نقدر على أن نغير صفاتكم التي أنتم عليه خلقا وخلقا وننشئكم في صفات لا تعلمونها، وقيل: المعنى وننشئكم في البعث على غير صوركم في الدنيا، وقيل: المعنى وما يسبقنا أحد فيهرب من الموت أو يغير وقته الذي وقتناه، على أن المراد تمثيل حال من سلم من الموت أو تأخر أجله عن الوقت المعين له بحال من طلبه طالب فلم يلحقه وسبقه، وقوله تعالى: عَلى أَنْ نُبَدِّلَ إلخ في موضع الحال من الضمير المستتر في مسبوقين أي حال كوننا قادرين أو عازمين على تبديل أمثالكم، والجملة السابقة على حالها، وقال الطبري: عَلى أَنْ نُبَدِّلَ متعلق- بقدّرنا- وعلة له وجملة وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ اعتراض، والمعنى نحن قدرنا بينكم الموت لأن نبدل أمثالكم أي نميت طائفة ونبدلها بطائفة هكذا قرنا بعد قرن وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى من خلقكم من نطفة، ثم من علقه، ثم من مضغة وقال قتادة: هي فطرة آدم عليه السلام من التراب ولا ينكرها أحد من ولده فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ فهلا تتذكرون أن من قدر عليها فهو على النشأة الأخرى أقدر وأقدر فإنها أقل صنعا لحصول المواد وتخصيص الأجزاء وسبق المثال، وهذا- على ما قالوا- دليل على صحة القياس لكن قيل: لا يدل إلا على قياس الأولى لأنه الذي في الآية، وفي الخبر عجبا كل العجب للمكذب بالنشأة الآخرة وهو يرى النشأة الأولى، وعجبا للمصدق بالنشأة الآخرة وهو يسعى لدار الغرور. وقرأ طلحة تذكرون بالتخفيف وضم الكاف أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ ما تبذرون حبه وتعملون في أرضه أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ تنبتونه وتردونه نباتا يرف وينمى إلى أن يبلغ الغاية أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ أي المنبتون لا أنتم والكلام في- أنتم- وأَمْ كما مر آنفا، وأخرج البزار وابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي في شعب الايمان- وضعفه- وابن حبان- كما قال الخفاجي- عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «لا يقولن أحدكم زرعت ولكن ليقل حرثت ، ثم قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه ألم تسمعوا الله تعالى يقول: أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ» يشير رضي الله تعالى عنه إلى أنه عليه الصلاة والسلام أخذ النهي من الجزء: 14 ¦ الصفحة: 147 هذه الآية فإنه أسند الحرث إلى المخاطبين دون الزرع، وقال القرطبي: إنه يستحب للزارع أن يقول بعد الاستعاذة وتلاوة هذه الآية الله تعالى الزارع والمنبت والمبلغ اللهم صل على محمد وارزقنا ثمره وجنبنا ضرره واجعلنا لأنعمك من الشاكرين، وقيل: وقد جرب هذا الدعاء لدفع آفات الزرع كلها وإنتاجه لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً هشيما متكسرا متفتتا لشدة يبسه بعد ما أنبتناه وصار بحيث طمعتم في حيازة غلاله فَظَلْتُمْ بسبب ذلك تَفَكَّهُونَ تتعجبون من سوء حاله إثر ما شاهدتموه على أحسن ما يكون من الحال على ما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة، وقال الحسن: تندمون أي على ما تعبتم فيه، وأنفقتم عليه من غير حصول نفع، أو على ما اقترفتم لأجله من المعاصي، وقال عكرمة: تلاومون على ما فعلتم، وأصل التفكه التنقل بصنوف الفاكهة واستعير للتنقل بالحديث وهو هنا ما يكون بعد هلاك الزرع وقد كني به في الآية عن التعجب، أو الندم أو التلاوم على اختلاف التفاسير، وفي البحر كل ذلك تفسير باللازم، ومعنى تَفَكَّهُونَ تطرحون الفكاهة عن أنفسكم وهي المسرة، ورجل فكه منبسط النفس غير مكترث بشيء وتفكه من أخوات تحرج وتحوب أي إن التفعل فيه للسلب. وقرأ أبو حيوة وأبو بكر في رواية العتكي عنه «فظلتم» بكسر الظاء كما قالوا: مست بالكسر ومست بالفتح، وحكاها الثوري عن ابن مسعود وجاءت عن الأعمش، وقرأ عبد الله والجحدري- فظللتم- بلامين أولاهما مكسورة، وقرأ الجحدري أيضا كذلك مع فتح اللام والمشهور ظللت بالكسر، وقرأ أبو حزام «تفكنون» بالنون بدل الهاء، قال ابن خالويه: تفكه بالهاء تعجب، وتفكن بالنون تندم إِنَّا لَمُغْرَمُونَ أي معذبون مهلكون من الغرام وهو الهلاك قال الشاعر: إن يعذب يكن غراما وإن يع ... ط جزيلا فإنه لا يبالي والمراد مهلكون بهلاك رزقنا، وقيل: بالمعاصي أو ملزمون غرامة بنقص رزقنا، وقرأ الأعمش والجحدري وأبو بكر- أإنا بالاستفهام والتحقيق، والجملة على القراءتين بتقدير قول هو في حيز النصب على الحالية من فاعل تفكهون أي قائلين، أو تقولون ذلك بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ محدودون لا مجدودون أو محرومون الرزق كأنهم لما قالوا: إنا مهلكون لهلاك رزقنا أضربوا عنه وقالوا: بل هذا أمر قدر علينا لنحوسة طالعنا وعدم بختنا، أو لما قالوا: إنا ملزمون غرامة بنقص أرزاقنا أضربوا فقالوا: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ الرزق بالكلية أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ عذبا فراتا، وتخصيص هذا الوصف بالذكر مع كثرة منافعه لأن الشرب أهم المقاصد المنوطة به أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أي السحاب واحدته مزنة، قال الشاعر: فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل إبقالها وقيل: هو السحاب الأبيض وماؤه أعذب أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ له بقدرتنا. لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً ملحا ذعاقا لا يمكن شربه من الأجيج وهو تلهب النار. وقيل: الأجاج كل ما يلذع الفم ولا يمكن شربه فيشمل الملح والمر والحار، فإما أن يراد ذلك، أو الملح بقرينة المقام وحذفت اللام من جواب لو هاهنا للقرينة اللفظية والحالية ومتى جاز حذف- لم أر- في قول أوس: حتى إذا الكلاب قال لها ... « ... » كاليوم مطلوبا ولا طلبا والقرينة حالية فأولى أن يجوز حذفها وحدها لذلك على ما قرره الزمخشري، وقرر وجها آخر حاصله أن اللام لمجرد التأكيد فتناسب مقام التأكيد فأدخلت في آية المطعوم دون المشروب للدلالة على أن أمره مقدم على أمره، وأن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 148 الوعيد بفقده أشدّ وأصعب من قبل أن المشروب تبع له ألا يرى أن الضيف يسقى بعد أن يطعم، وقد ذكر الأطباء أن الماء مبذرق، ويؤيد ذلك تقديمه على المشروب في النظم الجليل، وللإمام في هذا المقام كلام طويل اعترض به على الزمخشري وبين فيه وجه الذكر أولا والحذف ثانيا، ولم أره أتى بما يشرح الصدر، وخير منه عندي قول ابن الأثير في المثل السائر: إن اللام أدخلت في المطعوم دون المشروب لأن جعل الماء العذب ملحا أسهل إمكانا في العرف والعادة والموجود من الماء الملح أكثر من الماء العذب، وكثيرا ما إذا جرت المياه العذبة على الأراضي المتغيرة التربة أحالتها إلى الملوحة فلم يحتج في جعل الماء العذب ملحا إلى زيادة تأكيد فلذا لم تدخل لام التأكيد المفيدة لزيادة التحقيق، وأما المطعوم فإن جعله حطاما من الأشياء الخارجة عن المعتاد وإذا وقع يكون عن سخط شديد، فلذا قرن باللام لتقرير إيجاده وتحقيق أمره انتهى. فَلَوْلا تَشْكُرُونَ تحضيض على شكر الكل لأنه أفيد دون عذوبة الماء فقط كما ذهب إليه البعض. نعم أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه «أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا شرب الماء قال: الحمد لله الذي سقانا عذبا فراتا برحمته ولم يجعله ملحا أجاجا بذنوبنا» أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أي تقدحونها وتستخرجونها من الزناد أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها التي منها الزناد وهي المرخ والعفار، وقيل: المراد بالشجرة نفس النار كأنه قيل: نوعها أو جنسها فاستعير الشجرة لذلك وهو قول متكلف بلا حاجة. أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ لها بقدرتنا والتعبير عن خلقها بالإنشاء المنبئ عن بديع الصنع المعرب عن كمال القدرة والحكمة لما فيه من الغرابة الفارقة بينها وبين سائر الأشجار التي لا تخلو عن النار حتى قيل- في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار- كما أن التعبير عن نفخ الروح بالإنشاء في قوله تعالى: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [المؤمنون: 14] لذلك نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً استئناف معين لمنافعها أي جعلناها تذكيرا لنار جهنم حيث علقنا بها أسباب المعاش لينظروا إليها ويذكروا بها ما أوعدوا به، أو جعلناها تذكرة وأنموذجا من جهنم لما في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة عنه صلى الله تعالى عليه وسلم «ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم» وعلى الوجهين التذكرة من الذكر المقابل للنسيان ولم ينظر في الأول إلى أنها من جنس نار جهنم أولا وفي الثاني نظر إلى ذلك، وقيل: تبصرة في أمر البعث لأن من أخرج النار من الشجر الأخضر المضاد لها قادر على إعادة ما تفرقت مواده، وقيل: تبصرة في الظلام يبصر بضوئها، وفيه أن التذكرة لا تكون بمعنى التبصرة المأخوذة من البصر وكون المراد تذكرة لنار جهنم هو المأثور عن الكثيرين، ومنهم ابن عباس ومجاهد وقتادة وَمَتاعاً ومنفعة لِلْمُقْوِينَ للذين ينزلون القواء وهي القفر من أقوى دخل القواء كأصحر دخل الصحراء وتخصيص المقوين بذلك لأنهم أحوج إليها فإن المقيمين، أو النازلين بقرب منهم ليسوا بمضطرين إلى الاقتداح بالزناد. وقيل: لِلْمُقْوِينَ أي المسافرين، ورواه جمع عن ابن عباس وعبد بن حميد عن الحسن، وهو وابن جرير وعبد الرزاق عن قتادة بزيادة كم من قوم قد سافروا ثم أرملوا فأججوا نارا فاستدفئوا وانتفعوا بها، وكان إطلاق المقوين على المسافرين لأنهم كثيرا ما يسلكون القفراء والمفاوز، وقيل: لِلْمُقْوِينَ للفقراء يستضيئون بها في الظلمة ويصطلون من البرد كأنه تصور من حال الحاصل في القفر الفقر، فقيل:- أقوى- فلان أي افتقر كقولهم أترب وأرمل، وقال ابن زيد: للجائعين لأنهم أقوت أي خلت بطونهم ومزاودهم من الطعام فهم يحتاجون إليها لطبخ ما يأكلون وخصوا- على ما قيل- لأن غيرهم يتنعم بها لا يجعلها متاعا، وتعقب بأنه بعيد لعدم انحصار ما يهمهم ويسدّ خلتهم فيما لا يؤكل إلا بالطبخ، وقال عكرمة ومجاهد: المقوين المستمتعين بها من الناس أجمعين المسافرين والحاضرين الجزء: 14 ¦ الصفحة: 149 يستضيئون بها ويصطلون من البرد وينتفعون بها في الطبخ والخبز، قال العلامة الطيبي والطبرسي: وعلى هذا القول- المقوي- من الأضداد يقال للفقير: مقو لخلوه من المال، وللغني مقو لقوّته على ما يريد يقال: أقوى الرجل إذا صار إلى حال القوة والمعنى متاعا للأغنياء والفقراء لأنه لا غنى لأحد عنها انتهى. وفيه بحث لا يخفى، ولعل الأقرب عليه أنه أريد بالإقواء الاحتياج والمستمتع بها محتاج إليها فتدبر، وتأخير هذه المنفعة للتنبيه على أن الأهم هو النفع الأخروي وتقديم أمر الماء على أمر النار لأن الاحتياج إليه أشد وأكثر والانتفاع به أعم وأوفر، وقال بعضهم: قدم أمر خلق الإنسان من نطفة لأن النعمة في ذلك قبل النعمة في الثلاثة بعد، ثم ذكر بعده ما به قوام الإنسان من فائدة الحرث وهو الطعام الذي لا يستغني عنه الجسد الحي وذلك الحب الذي يختبز فيحتاج بعد حصوله إلى حصول الماء ليعجن به فلذا ذكر بعده ثم إلى النار لتصيره خبزا فلذا ذكرت بعد الماء وهو كما ترى، واستحسن بعضهم من القارئ أن يقول بعد كل جملة استفهامية من الجمل السابقة: بل أنت يا رب، فقد أخرج عبد الرزاق وابن المنذر والحاكم والبيهقي في سننه عن حجر المروي قال: بت عند عليّ كرم تعالى وجهه فسمعته وهو يصلي بالليل يقرأ فمر بهذه الآية أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ فقال: بل أنت يا رب ثلاثا، ثم قرأ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ فقال: بل أنت يا رب ثلاثا، ثم قرأ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ فقال: بل أنت يا رب ثلاثا، ثم قرأ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ فقال: بل أنت يا رب ثلاثا ، وأنت تعلم أن في استحسان قول مثل ذلك في الصلاة اختلافا بين العلماء فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ مرتب على ما عدد من بدائع صنعه عز وجل وودائع نعمه سبحانه وتعالى، والمراد على ما قيل: أحدث التسبيح تنزيلا للفعل المتعدي منزلة اللازم وأريد من إحداثه استمراره لا إيجاده لأنه عليه الصلاة والسلام غير معرض عنه، وتعقبه الطيبي بأن هذا عكس ما يقتضيه لفظ الإحداث، فالمراد تجديد التسبيح، وفي الكلام إضمار أي سبح بذكر اسم ربك، أو الاسم مجاز عن الذكر فإن إطلاق الاسم للشيء ذكره، والباء للاستعانة أو الملابسة وكونها للتعدية كما هو ظاهر كلام أبي حيان ليس بشيء، والعظيم صفة للاسم، أو للرب، وتعقيب الأمر بالتسبيح لما عدد إما لتنزيهه تعالى عما يقوله الجاحدون لوحدانيته عز وجل الكافرون بنعمه سبحانه مع عظمها وكثرتها، أو للشكر على تلك النعم السابقة لأن تنزيهه تعالى وتعظيمه جل وعلا بعد ذكر نعمه سبحانه مدح عليها فهو شكر للمنعم في الحقيقة، أو للتعجب من أمر الكفرة في غمط تلك النعم الباهرة مع جلالة قدرها وظهور أمرها وسبحان ترد للتعجب مجازا مشهورا فسبح بمعنى تعجب، وأصله فقل سبحان الله للتعجب وفيه بعد وما تقدم أظهر. هذا وجوز أن لا يكون في بِاسْمِ رَبِّكَ إضمار ولا مجاز بل يبقى على ظاهره فقد قالوا في قوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [الأعلى: 1] : كما يجب تنزيه ذاته تعالى وصفاته سبحانه عن النقائص يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها عن سوء الأدب وهو أبلغ لأنه يلزمه تقديس ذاته عز وجل بالطريق الأولى على طريق الكناية الرمزية، وفيه أنه إنما يتأتى لو لم تذكر الباء، وجعلها زائدة خلاف الظاهر، وحال كونها للتعدية قد سمعته، وجعل بعضهم على هذا الخطاب لغير معين فقال: إنه تعالى لما ذكر ما ذكر من الأمور وكان الكل معترفين بأنها من الله تعالى وكان الكفار إذا طولبوا بالوحدانية قالوا: نحن لا نشرك في المعنى وإنما نتخذ أصناما آلهة وذلك إشراك في الاسم، والذي خلقنا وخلق السماوات والأرض هو الله تعالى فنحن ننزهه في الحقيقة قال سبحانه: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ على معنى كما أنك أيها الغافل اعترفت بعدم اشتراكها في الحقيقة اعترف بعدم اشتراكها في الاسم ولا تقل لغيره تعالى إلها فإن الاسم يتبع المعنى والحقيقة، فالخطاب كالخطاب في قول الواعظ يا مسكين أفنيت عمرك وما الجزء: 14 ¦ الصفحة: 150 أصلحت أمرك لا يريد به أحدا بعينه، وإنما يريد أيها المسكين السامع وهو كما ترى، نعم احتمال عموم الخطاب مما لا ينكر لكن لا يتعين عليه هذا التقرير، ثم الظاهر أن المراد بذكر الرب أو ذكر اسمه سبحانه على ما تقرر سابقا ما هو المتبادر المعروف. وفي الكشف إن المراد بذلك تلاوته صلى الله تعالى عليه وسلم للقرآن أو لهذه السورة الكريمة المتضمنة لإثبات البعث والجزاء ومراتب أهله لينطبق عليه قوله تعالى بعد: فَلا أُقْسِمُ وعلى الأول لا بد من إضمار- أي فسبح باسم ربك وامتثل ما أمرت به- فأقسم إنه لقرآن، والغرض تأكيد الأمر بالتسبيح، وأنا أقول يتأتى الانطباق على الظاهر أيضا سوى أنه يعتبر في الكلام إضمار ولا بأس بأن يقال: إنه تعالى لما ذكر ما ذكر من النعم الجليلة الداعية لتوحيده سبحانه ووصفه بما يليق به عز وجل قال سبحانه: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ أي فنزهه تعالى عما يقولون في وصفه سبحانه، وأقبل على إنذارهم بالقرآن والاحتجاج عليه به بعد الاحتجاج بما ذكرنا فأقسم إنه لقرآن كيت وكيت فلا في قوله عز وجل: فَلا أُقْسِمُ مزيدة للتأكيد مثلها في قوله تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ [الحديد: 29] أو هي لام القسم أشبعت فتحتها فتولدت منها ألف نظير ما في قوله: أعوذ بالله من العقراب واختاره أبو حيان ثم قال: وهو وإن كان قليلا فقد جاء نظيره في قوله تعالى: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [إبراهيم: 37] بياء بعد الهمزة وذلك في قراءة هشام. ويؤيد قراءة الحسن وعيسى فلا قسم- وهو مبني على ما ذهب إليه تبعا لبعض النحويين من أن فعل الحال يجوز القسم عليه فيقال: والله تعالى ليخرج زيد وعليه قول الشاعر: ليعلم ربي أن بيتي واسع وحينئذ لا يصح أن يقرن الفعل بالنون المؤكدة لأنها تخلصه للاستقبال وهو خلاف المراد، والذي اختاره ابن عصفور والبصريون أن فعل الحال كما هنا لا يجوز أن يقسم عليه ومتى أريد من الفعل الاستقبال لزمت فيه النون المؤكدة فقيل: لأقسمن وحذفها ضعيف جدا، ومن هنا خرجوا قراءة الحسن وعيسى على أن اللام لام الابتداء والمبتدأ محذوف لأنها لا تدخل على الفعل والتقدير فلأنا أقسم، وقيل: نحوه في قراءة الجمهور على أن الألف قد تولدت من الإشباع، وتعقب بأن المبتدأ إذ دخل عليه لام الابتداء يمتنع أو يقبح حذفه لأن دخولها لتأكيده وهو يقتضي الاعتناء به وحذفه يدل على خلافه، وقال سعيد بن جبير وبعض النحاة:- لا- نفي وردّ لما يقوله الكفار في القرآن من أنه سحر وشعر وكهانة كأنه قيل: فلا صحة لما يقولون فيه ثم استؤنف فقيل: أُقْسِمُ إلخ، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يجوز لما فيه من حذف اسم- لا- وخبرها في غير جواب سؤال نحو- لا- في جواب هل من رجل في الدار، وقيل: الأولى فيما إذا قصد بلا نفي لمحذوف واستئناف لما بعدها في اللفظ الإتيان بالواو نحو- لا- وأطال الله تعالى بقاءك، وقال: بعضهم إن- لا- كثيرا ما يؤتى بها قبل القسم على نحو الاستفتاح كما في قوله: لا وأبيك ابنة العامريّ ... لا يدّعي القوم أني أفرّ وقال أبو مسلم وجمع: إن الكلام على ظاهره المتبادر منه، والمعنى لا أقسم إذ الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم أي لا يحتاج إلى قسم ما فضلا عن أن هذا القسم العظيم، فقول مفتي الديار الرومية أنه يأباه تعيين المقسم به وتفخيمه ناشىء عن الغفلة على ما لا يخفى على فطن بِمَواقِعِ النُّجُومِ أي بمساقط كواكب السماء ومغاربها الجزء: 14 ¦ الصفحة: 151 كما جاء في رواية عن قتادة والحسن على أن الوقوع بمعنى السقوط والغروب وتخصيصها بالقسم لما في غروبها من زوال أثرها، والدلالة على وجود مؤثر دائم لا يتغير، ولذا استدل الخليل عليه السلام بالأفول على وجود الصانع جل وعلا، أو لأن ذلك وقت قيام المتهجدين والمبتهلين إليه تعالى وأوان نزول الرحمة والرضوان عليهم. وقد أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعا «ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له» وعن الحسن أيضا المراد مواقعها عند الانكدار يوم القيامة قيل: وموقع عليه مصدر ميمي أو اسم زمان ولعل وقوعها ذلك اليوم ليس دفعة واحدة والتخصيص لما في ذلك من ظهور عظمته عز وجل وتحقق ما ينكره الكفار من البعث، وعن أبي جعفر وأبي عبد الله على آبائهما وعليهما السلام المراد مواقعها عند الانقضاض إثر المسترقين السمع من الشياطين ، وقد مرّ لك تحقيق أمر هذا الانقضاض فلا تغفل، وقيل: مواقع النجوم هي الأنواء التي يزعم الجاهلية أنهم يمطرون بها، ولعله مأخوذ من بعض الآثار الواردة في سبب النزول وسنذكره إن شاء الله تعالى وليس نصا في إرادة الأنواء بل يجوز عليه أن يراد المغارب مطلقا. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة أنها منازلها ومجاريها على أن الوقوع النزول كما يقال: على الخبير سقطت وهو شائع والتخصيص لأن له تعالى في ذلك من الدليل على عظيم قدرته وكمال حكمته ما لا يحيط به نطاق البيان، وقال جماعة منهم ابن عباس: النجوم نجوم القرآن ومواقعها أوقات نزولها. وأخرج النسائي وابن جرير والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عنه أن قال: «أنزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة ثم فرق في السنين» وفي لفظ «ثم نزل من السماء الدنيا إلى الأرض نجوما ثم قرأ فلا أقسم بمواقع النجوم» وأيد هذا القول بأن الضمير في قوله تعالى بعد: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ يعود حينئذ على ما يفهم من مواقع النجوم حتى يكاد يعدّ كالمذكور صريحا ولا يحتاج إلى أن يقال يفسره السياق كما في سائر الأقوال، ووجه التخصيص أظهر من أن يخفى، ولعل الكلام عليه من باب «وثناياك إنها إغريض» . وقرأ ابن عباس وأهل المدينة وحمزة والكسائي «بموقع» مفردا مرادا به الجمع. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ مشتمل على اعتراض في ضمن آخر فقوله تعالى: إِنَّهُ لَقَسَمٌ عَظِيمٌ معترض بين القسم والمقسم عليه وهو قوله سبحانه: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ وهو تعظيم للقسم مقرر مؤكد له، وقوله عز وجل لَوْ تَعْلَمُونَ معترض بين الصفة والموصوف وهو تأكيد لذلك التعظيم وجواب لَوْ إما متروك أريد به نفي علمهم أو محذوف ثقة بظهوره أي لعظمتموه أو لعملتم بموجبه، ووجه كون ذلك القسم عظيما قد أشير إليه فيما مر، أو هو ظاهر بناء على أن المراد بِمَواقِعِ النُّجُومِ ما روي عن ابن عباس والجماعة، ومعنى كون القرآن كريما أنه حسن مرضي في جنسه من الكتب أو نفاع جم المنافع، وكيف لا وقد اشتمل على أصول العلوم المهمة في إصلاح المعاش، والمعاد، والكرم على هذا مستعار- كما قال الطيبي- من الكرم المعروف. وقيل: الكرم أعم من كثرة البذل والإحسان والاتصاف بما يحمد من الأوصاف ككثرة النفع فإنه وصف محمود فكونه كرما حقيقة، وجوز أن يراد كريم على الله تعالى قيل: هو يرجع لما تقدم، وفيه تقدير من غير حاجة وأيا ما كان فمحط الفائدة الوصف المذكور قيل: إن مرجع الضمير هو القرآن لا من حيث عنوان كونه قرآنا فبمجرد الإخبار عنه بأنه قرآن تحصل الفائدة أي إنه لمقروء على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لا أنه أنشأه كما زعمه الجزء: 14 ¦ الصفحة: 152 الكفار، وقوله تعالى: فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ وصف آخر للقرآن أي كائن في كتاب مصون عن غير المقربين من الملائكة عليهم السلام لا يطلع عليه من سواهم، فالمراد به اللوح المحفوظ كما روي عن الربيع بن أنس وغيره، وقيل: أي في كتاب مصون عن التبديل والتغيير وهو المصحف الذي بأيدي المسلمين ويتضمن ذلك الإخبار بالغيب لأنه لم يكن إذ ذاك مصاحف، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عكرمة أنه قال: في كتاب أي التوراة والإنجيل، وحكي ذلك في البحر ثم قال: كأنه قال: ذكر في كتاب مكنون كرمه وشرفه، فالمعنى على هذا الاستشهاد بالكتب المنزلة انتهى. والظاهر أنه أريد على هذا بالكتاب الجنس لتصح إرادة التوراة والإنجيل، وفي وصف ذلك بالمكنون خفاء ولعله أريد به جليل الشأن عظيم القدر فإن الستر كاللازم للشيء الجليل، وجوز إرادة هذا المعنى المجازي على غير هذا القول من الأقوال، وقيل: الكتاب المكنون قلب المؤمن وهو كما ترى. وقيل: المراد من كونه في كتاب مكنون كونه محفوظا من التغيير والتبديل ليس إلا كما قال تعالى: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [يوسف: 63] والمعول عليه ما تقدم، وجوز تعلق الجار بكريم كما يقال زيد كريم في نفسه، والمعنى إنه كريم في اللوح المحفوظ وإن لم يكن كريما عند الكفار، والوصفية أبلغ كما لا يخفى، وقوله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ إما صفة بعد صفة لكتاب مرادا به اللوح، فالمراد بالمطهرون الملائكة عليهم السلام أي المطهرون المنزهون عن كدر الطبيعة ودنس الحظوظ النفسية، وقيل: عن كدر الأجسام ودنس الهيولى والطهارة عليهما طهارة معنوية، ونفي مسه كناية عن لازمه وهو نفي الاطلاع عليه وعلى ما فيه، وإما صفة أخرى لقرآن. والمراد بالمطهرون المطهرون عن الحدث الأصغر والحدث الأكبر بحمل الطهارة على الشرعية، والمعنى لا ينبغي أن يمس القرآن إلا من هو على طهارة من الناس فالنفي هنا نظير ما في قوله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً [النور: 3] وقوله صلى الله تعالى عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه» الحديث وهو بمعنى النهي بل أبلغ من النهي الصريح، وهذا أحد أوجه ذكروها للعدول عن جعل- لا- ناهية، وثانيها أن المتبادر كون الجملة صفة والأصل فيها أن تكون خبرية ولا داعي لاعتبار الإنشائية وارتكاب التأويل، وثالثها أن المتبادر من الضمة أنها إعراب فالحمل على غيره فيه إلباس، ورابعها أن عبد الله قرأ ما يمسه وهي تؤيد أن لا نافية وكون المراد بالمطهرين الملائكة عليهم السلام مروي من عدة طرق عن ابن عباس، وكذا أخرجه جماعة عن أنس وقتادة وابن جبير ومجاهد وأبي العالية وغيرهم إلا أن في بعض الآثار عن بعض هؤلاء ما هو ظاهر في أن الضمير في لا يَمَسُّهُ مع كون المراد بالمطهرين الملائكة عليهم السلام راجع إلى القرآن. أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أنه قال: في الآية ذاك عند رب العالمين لا يمسه إلا المطهرون من الملائكة فأما عندكم فيمسه المشرك والنجس، والمنافق الرجس، وأخرجاهما وابن المنذر والبيهقي في المعرفة عن الحبر قال: في الآية الكتاب المنزل في السماء لا يمسه إلا الملائكة، ويشير إليه ما أخرج ابن المنذر عن النعيمي قال: قال مالك: أحسن ما سمعت في هذه الآية لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ أنها بمنزلة الآية التي في عبس كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ [عبس: 11- 16] وكون المراد بهم المطهرين من الأحداث مروي عن محمد الباقر على آبائه وعليه السلام وعطاء وطاوس وسالم. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر والحاكم وصححه عن عبد الرحمن بن زيد قال: كنا مع سلمان- يعني الفارسي- رضي الله تعالى عنه فانطلق إلى حاجة فتوارى عنا فخرج إلينا فقلنا لو توضأت الجزء: 14 ¦ الصفحة: 153 فسألناك عن أشياء من القرآن؟ فقال: سلوني فإني لست أمسه إنما يمسه المطهرون ثم تلا لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، وقيل: الجملة صفة لقرآن، والمراد- بالمطهرون- المطهرون من الكفر، والمس مجاز عن الطلب كاللمس في قوله تعالى: أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ [الجن: 8] أي لا يطلبه إلا المطهرون من الكفر، ولم أر هذا مرويا عن أحد من السلف، والنفي عليه على ظاهره، ورجح جمع جعل الجملة وصفا للقرآن لأن الكلام مسوق لحرمته وتعظيمه لا لشأن الكتاب المكنون، وإن كان في تعظيمه تعظيمه. وصحح الإمام جعلها وصفا للكتاب- وفيه نظر- وعلى الوصفية للقرآن ذهب من ذهب إلى اختيار تفسير المطهرين بالمطهرين عن الحدث الأكبر والأصغر. وفي الأحكام للجلال السيوطي استدل الشافعي بالآية على منع المحدث من مس المصحف وهو ظاهر في اختيار ذلك، والاحتمال جعل الجملة صفة للكتاب المكنون أو للقرآن، وكون المراد بالمطهرين الملائكة المقربين عليهم السلام على ما سمعت عن ابن عباس وقتادة عدل الأكثرون عن الاستدلال بها على ذلك إلى الاستدلال بالأخبار، فقد أخرج الامام مالك وعبد الرزاق وابن أبي داود وابن المنذر عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه قال في كتاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لعمرو بن حزم «ولا تمس القرآن إلا على طهور» . وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لا يمس القرآن إلا طاهر» إلى غير ذلك، وقال بعضهم: يجوز أن يؤخذ منع مس غير الطاهر القرآن من الآية على الاحتمالين الآخرين أيضا، وذلك لأنها أفادت تعظيم شأن القرآن وكونه كريما، والمس بغير طهر مخل بتعظيمه فتأباه الآية وهو كما ترى، وأطال الإمام الكلام في هذا المقام بما لا يخفى حاله على من راجعه، نعم لا شك في دلالة الآية على عظم شأن القرآن ومقتضى ذلك الاعتناء بشأنه ولا ينحصر الاعتناء بمنع غير الطاهر عن مسه بل يكون بأشياء كثيرة كالإكثار من تلاوته والوضوء لها وأن لا يقرأه الشخص وهو متنجس الفم فإنه مكروه. وقيل: حرام كالمس باليد المتنجسة، وكون القراءة في مكان نظيف، والقارئ مستقبل القبلة متخشعا بسكينة ووقار مطرقا رأسه، والاستياك لقراءته، والترتيل، والتدبر، والبكاء، أو التباكي، وتحسين الصوت بالقراءة وأن لا يتخذه معيشة، وأن يحافظ على أن لا ينسى آية أوتيها منه، فقد أخرج أبو داود وغيره «عرضت عليّ ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم من سورة القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها ، وأن لا يجامع بحضرته فإن أراد ستره، وأن لا يضع غيره من الكتب السماوية وغيرها فوقه، وأن لا يقلب أوراقه بأصبع عليها بزاق ينفصل منه شيء فقد قيل بكفر من يفعل ذلك إلى أمور أخر مذكورة في محالها، وفي وجوب كون القارئ طاهرا من الأحداث خلاف، فعن ابن عباس في رواية أنه يجوز للجنب قراءة القرآن، وروي ذلك أيضا عن الإمام أبي حنيفة، وعن ابن عمر أحب إلي أن لا يقرأ إلا طاهر وكأنهم اعتبروه كسائر الأذكار والفرق مثل الشمس ظاهر. وقرأ عيسى «المطهرون» اسم مفعول مخففا من أطهر، ورويت عن نافع وأبي عمرو، وقرأ سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه «المطهّرون» بتخفيف الطاء وتشديد الهاء وكسرها اسم فاعل من طهر أي الْمُطَهَّرُونَ أنفسهم، أو غيرهم بالاستغفار لهم والإلهام، وعنه أيضا «المطّهّرون» بتشديدهما وأصله المتطهرون فأدغم التاء بعد إبدالها في الطاء ورويت عن الحسن وعبد الله بن عون، وقرىء المتطهرون على الأصل تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ صفة أخرى للقرآن أي منزل، أو وصف بالمصدر لأنه ينزل نجوما من بين سائر كتب الله تعالى فكأنه في نفسه تنزيل ولذلك أجري مجرى بعض أسمائه فقيل جاء في التنزيل كذا ونطق به التنزيل. وجوز كونه خبر مبتدأ محذوف أي هو تنزيل على الاستئناف، وقرىء تنزيلا بالنصب على نزل تنزيلا. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 154 أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أي أتعرضون فبهذا الحديث الذي ذكرت نعوته الجليلة الموجبة لإعظامه وإجلاله والإيمان بما تضمنه وأرشد إليه وهو القرآن الكريم أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ متهاونون به كمن يدهن في الأمر أي يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاونا به، وأصل الادهان كما قيل: جعل الأديم ونحوه مدهونا بشيء من الدهن ولما كان ذلك ملينا لينا محسوسا يراد به اللين المعنوي على أنه تجوز به عن مطلق اللين أو استعير له، ولذا سميت المداراة مداهنة وهذا مجاز معروف ولشهرته صار حقيقة عرفية، ولذا تجوز به هنا عن التهاون أيضا لأن المتهاون بالأمر لا يتصلب فيه وعن ابن عباس والزجاج مُدْهِنُونَ أي مكذبون وتفسيره بذلك لأن التكذيب من فروع التهاون. وعن مجاهد أي منافقون في التصديق به تقولون للمؤمنين آمنا به وإذا خلوتم إلى إخوانكم قلتم: إنا معكم والخطاب عليه للمنافقين وما قدمناه أولى، والخطاب عليه للكفار كما يقتضيه السياق. وجوز أن يراد بهذا الحديث ما تحدثوا به من قبل في قوله سبحانه: وكانوا يقولون أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ [الواقعة: 47، 48] فالكلام عود إلى ذلك بعد رده كأنه قيل: أفبهذا الحديث الذي تتحدثون به في إنكار البعث أنتم مدهنون أصحابكم أي تعلمون خلافه وتقولونه مداهنة أم أنتم به جازمون وعلى الإصرار عليه عازمون، ولا يخفى بعده، وفيه مخالفة لسبب النزول وستعلمه قريبا إن شاء الله تعالى وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ شكركم أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ تقولون مطرنا بنوء كذا وكذا وبنجم كذا وكذا، أخرج ذلك الإمام أحمد والترمذي وحسنه والضياء في المختارة وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم هو إما إشارة منه عليه الصلاة والسلام إلى أن في الكلام مضافا مقدرا أي شكر رزقكم أو إشارة إلى أن الرزق مجاز عن لازمه وهو الشكر، وحكى الهيثم بن عدي أن من لغة ازدشنوءة ما رزق فلان فلانا بمعنى شكره، ونقل عن الكرماني أنه نقل في شرح البخاري أن الرزق من أسماء الشكر واستبعد ذلك ولعله هو ما حكاه الهيثم، وفي البحر وغيره أن عليا كرم الله تعالى وجهه وابن عباس قرآ- شكركم- بدل رِزْقَكُمْ وحمله بعض شراح البخاري على التفسير من غير قصد للتلاوة وهو خلاف الظاهر، وقد أخرج ابن مردويه عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: قرأ علي كرم الله تعالى وجهه «الواقعة» في الفجر فقال: «وتجعلون- شكركم- أنكم تكذبون» فلما انصرف قال: إني قد عرفت أنه سيقول قائل لم قرأها هكذا إني سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقرأ كذلك كانوا إذا أمطروا قالوا: أمطرنا بنوء كذا وكذا فأنزل الله تعالى- وتجعلون- شكركم أنكم إذا مطرتم تكذبون- ومعنى جعل شكرهم التكذيب جعل التكذيب مكان الشكر فكأنه عينه عندهم فهو من باب. تحية بينهم ضرب وجيع ومنه قول الراجز: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 155 وكان شكر القوم عند المنن ... كي الصحيحات وفقء الأعين وأكثر الروايات أن قوله تعالى: وَتَجْعَلُونَ إلخ نزل في القائلين: مطرنا بنوء كذا من غير تعرض لما قبل. وأخرج مسلم وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال: «مطر الناس على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر قالوا: هذه رحمة وضعها الله وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا فنزلت هذه الآية فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ [الواقعة: 75] حتى بلغ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ. وأخرج نحوه ابن عساكر في تاريخه عن عائشة رضي الله تعالى عنها وكان ذلك على ما أخرج ابن أبي حاتم عن أبي عروة رضي الله تعالى عنه في غزوة تبوك نزلوا الحجر فأمرهم صلّى الله عليه وسلم أن لا يحملوا من مائه شيئا ثم ارتحلوا ونزلوا منزلا آخر وليس معهم ماء فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقام عليه الصلاة والسلام فصلى ركعتين ثم دعا فأمطروا وسقوا فقال رجل من الأنصار يتهم بالنفاق: إنما مطرنا بنوء كذا فنزل ما نزل ، ولعل جمعا من الكفار قالوا نحو ذلك أيضا بل هم لم يزالوا يقولون ذلك، والأخبار متضافرة على أن الآية في القائلين بالأنواء، بل قال ابن عطية: أجمع المفسرون على أنها توبيخ لأولئك، وظاهر مقابلة الشكر بالكفر في الحديث السابق أن المراد بالكفر كفران النعمة إذا أضيفت لغير موجدها جل جلاله وقد صح ذكره مع الإيمان، أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم عن زيد بن خالد الجهني قال: صلى بنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل فلما سلم أقبل علينا فقال: هل تدرون ما قال ربكم في هذه الليلة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم فقال: قال: ما أنعمت على عبادي نعمة إلا أصبح فريق منهم بها كافرين فأما من آمن بي وحمدني على سقياي فذلك الذي آمن بي وكفر بالكواكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك الذي آمن بالكوكب وكفر بي» والآية على القول بنزولها في قائلي ذلك ظاهرة في كفرهم المقابل للإيمان فكأنهم كانوا يقولونه عن اعتقاد أن الكواكب مؤثرة حقيقة موجدة للمطر وهو كفر بلا ريب بخلاف قوله مع اعتقاد أنه من فضل الله تعالى، والنوء ميقات وعلامة له فإنه ليس بكفر، وقيل: تسميته كفرا لأنه يفضي إليه إذا اعتقد أنه مؤثر حقيقة. هذا وقيل: معنى الآية- وتجعلون شكركم- لنعمة القرآن- أنكم تكذبون- به، ويشير إلى ذلك ما رواه قتادة عن الحسن: بئس ما أخذ القوم لأنفسهم لم يرزقوا من كتاب الله تعالى إلا التكذيب. وفي الإرشاد أنه الأوفق لسياق النظم الكريم وسباقه، وأقول ما قدمناه تفسير مأثور نطقت به السنة المقبولة، وذهب إليه الجمهور وليس فيه ما يأبى إرادة معنى مطابق لسبب النزول وموافق لسياق النظم الكريم وسباقه، وذلك بأن يقال: إنه عز وجل بعد أن وصف القرآن بما دل على جلالة شأنه وعزة مكانه وأشعر باشتماله على ما فيه تزكية النفوس وتحليتها بما يوجب كمالها من العقائد الحقة ونحوها حيث قال سبحانه: تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ فعبر جل وعلا عن ذاته سبحانه بلفظ الرب الدال على التربية وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا. وقد يستفاد ذلك من وصفه بكريم بناء على أن المراد به نفاع جم المنافع فإنه لا منفعة أجل مما ذكر وكان قد ذكر عز وجل غير بعيد ما يدل على أنه تعالى هو المنزل لماء المطر لا غيره سبحانه استقلالا ولا اشتراكا قال عز قائلا: أفبهذا القرآن الجليل الشأن المشتمل على العقائد الحقة المرشد إلى ما فيه نفعكم أنتم متهاونون فلا تشكرون الله تعالى عليه وتجعلون بدل شكركم أنكم تكذبون به، ومن ذلك أنكم تقولون إذا مطرتم مطرنا بنوء كذا وكذا فتسندون إنزال المطر إلى الكواكب وقد أرشدكم غير مرة إلى ما يأبى ذلك من العقائد وهداكم إلى أنه تعالى هو المنزل للمطر لا الكواكب ولا غيرها أصلا- فما جاء من تفسير تكذبون بتقولون مطرنا بنوء كذا وكذا ليس المراد منه إلا بيان نوع الجزء: 14 ¦ الصفحة: 156 اقتضاه الحال من التكذيب بالقرآن المنعوت بتلك النعوت الجليلة وكون ذلك على الوجه الذي يزعمه الكفار تكذيبا به مما لا ينتطح فيه كبشان، وهذا لا تمحل فيه، وقد يقال على تقدير أن يراد بالرزق المطر وكون تُكَذِّبُونَ على معنى تكذبون بكونه- أي المطر- من الله تعالى حيث تنسبونه إلى الأنواء وإن لم أقف على التصريح به في أثر يعول عليه، المعنى أفبهذا القرآن الجليل المرشد إلى أن كل نعمة منه تعالى لا غير المصرح عن قريب بأنه المنزل للمطر وحده أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ أي تكذبون على ما سمعت عن ابن عباس والزجاج ومن ذلك أنكم تَجْعَلُونَ موضع شكر ما يرزقكم من المطر وينزله لكم أنكم تكذبون بكونه من الله تعالى وتنسبونه إلى الأنواء، والتبكيت الآتي مبني على تكذيبهم بالقرآن المفهوم من تُكَذِّبُونَ أو من قوله سبحانه: أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ لكن التكذيب به باعتبار التكذيب ببعض ما نطق به بما سبق وتوقف المراد بالآية على الخبر غير بدع في القرآن الكريم، وحال عطف تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ على ما قبله لا يخفى على نبيه، فتأمل والله تعالى الموفق لفهم كتابه الكريم. وقرأ المفضل عن عاصم «تكذبون» بالتخفيف من الكذب وهو قولهم في القرآن إنه- وحاشاه- افتراء ويرجع إلى هذا قولهم في المطر: إنه من الأنواء لأن القرآن ناطق بخلافه، وقوله تعالى: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ إلخ تبكيت كما سمعت وذلك باعتبار تكذيبهم بما نطق به قوله تعالى: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ إلخ أعني الآيات الدالة على كونهم تحت ملكوته تعالى من حيث ذواتهم ومن حيث طعامهم وشرابهم وسائر أسباب معايشهم- ولولا- للتحضيض بإظهار عجزهم، وإِذا ظرفية، والْحُلْقُومَ مجرى الطعام وضمير بَلَغَتِ للنفس لانفهامها من الكلام وإن لم يجر لها ذكر قبل، والمراد بها الروح بمعنى البخار المنبعث عن القلب دون النفس الناطقة فإنها لا توصف بما ذكر وكأنه مبني على القول بتجرد النفس الناطقة وهي المسماة بالروح الأمرية، وأنها لا داخل البدن ولا خارجه ولا تتصف بصفات الأجسام كالصعود والنزول وغيرهما على ما اختاره حجة الإسلام الغزالي وجماعة من المحققين، ومذهب السلف أن النفس الناطقة وهي الروح المشار إليها بقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء: 85] جسم لطيف جدا سار في البدن سريان ماء الورد في الورد وهو حي بنفسه يتصف بالخروج والدخول وغيرهما من صفات الأجسام وقد رد العلامة ابن القيم قول الغزالي ومن وافقه بأدلة كثيرة ذكرها في كتابه الروح، ووصفها ببلوغ الحلقوم عليه ظاهر. وأما على القول بالتجرد وعدم التحيز فقيل: المراد به ضعف التعلق بالبدن وقرب انقطاعه عنه فكأنه قيل: فلولا إذا حان انقطاع تعلق الروح بالبدن وَأَنْتُمْ أيها الخاسرون حول صاحبها حِينَئِذٍ أي حين إذ بلغت الحلقوم ووصلت إليه أو حان انقطاع تعلقها تَنْظُرُونَ إلى ما يقاسيه من الغمرات، وقيل: تَنْظُرُونَ حالكم ووجهه أنهم يعلمون أن ما جرى عليه يجري عليهم فكأنهم شاهدوا حال أنفسهم وليس بذاك. وقرأ عيسى حينئذ بكسر النون اتباعا لحركة الهمزة في إذ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ أي المحتضر المفهوم من الكلام مِنْكُمْ والمراد بالقرب العلم وهو من إطلاق السبب وإرادة المسبب فإن القرب أقوى سبب للاطلاع والعلم، وقال غير واحد: المراد القرب علما وقدرة أي نحن أقرب إليه من كل ذلك منكم حيث لا تعرفون من حاله إلا ما تشاهدونه من آثار الشدّة من غير أن تقفوا على كنهها وكيفيتها وأسبابها الحقيقية ولا أن تقدروا على مباشرة دفعها إلا بما لا ينجع شيئا ونحن المستولون لتفاصيل أحواله بعلمنا وقدرتنا أو بملائكة الموت وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ لا تدركون كوننا أقرب إليه منكم لجهلكم بشؤوننا وقد علمت أن الخطاب الجزء: 14 ¦ الصفحة: 157 للكفار، وقيل: لا تدركون كنه ما يجري عليه على أن الاستدراك من تنظرون والابصار من البصر بالعين تجوّز به عن الإدراك أو هو من البصيرة بالقلب وقيل: أريد بأقربيته تعالى إليه منهم أقربية رسله عز وجل أي ورسلنا الذين يقبضون روحه ويعالجون إخراجها أقرب إليه منهم ولكن لا تبصرونهم فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ أي غير مربوبين من دان السلطان الرعية إذا ساسهم وتعبدهم، ومنه قيل للعبد: مدين وللأمة مدينة قال الأخطل: ربت وربا في حجرها ابن مدينة ... تراه على مسحاته يتركل والكلام ناظر إلى قوله تعالى: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ [الواقعة: 57] ، وقيل: هو من دان بمعنى انقاد وخضع، وتجوز به عن الجزاء كما في قولهم- كما تدين تدان- أي فلولا إن كنتم غير مجزيين وجعل ناظرا لإنكارهم البعث وليس بشيء تَرْجِعُونَها أي الروح إلى مقرها والقائلون بالتجرد يقولون أي ترجعون تعلقها كما كان أولا. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في اعتقادكم عدم خالقيته تعالى فإن عدم تصديقهم بخالقيته سبحانه لهم عبارة عن تصديقهم بعدمها على مذهبهم، وفي البحر وغيره إن كنتم صادقين في تعطيلكم وكفركم بالمحيي المميت المبدئ المعيد ونسبتكم إنزال المطر إلى الأنواء دونه عز وجل، وترجعون المذكور هو العامل- بإذا- الظرفية في إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وهو المحضض عليه- بلولا- الأولى، ولولا الثانية تكرير للتأكيد، ولولا الأولى مع ما في حيزها دليل جواب الشرط الأول أعني إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ والشرط الثاني مؤكد للأول مبين له، وقدم أحد الشرطين على تَرْجِعُونَها للاهتمام والتقدير- فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مربوبين صادقين فيما تزعمونه من الاعتقاد الباطل فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم- وحاصل المعنى أنكم إن كنتم غير مربوبين كما تقتضيه أقوالكم وأفعالكم فما لكم لا ترجعون الروح إلى البدن إذا بلغت الحلقوم وتردونها كما كانت بقدرتكم أو بواسطة علاج للطبيعة، وقوله تعالى: وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ جملة حالية من فاعل بَلَغَتِ والاسمية المقترنة بالواو لا تحتاج في الربط للضمير لكفاية الواو فلا حاجة إلى القول بأن العائد ما تضمنه حينئذ لأن التنوين عوض عن جملة أي فلولا ترجعونها زمان بلوغها الحلقوم حال نظركم إليه وما يقاسيه من هول النزع مع تعطفكم عليه وتوفركم على إنجائه من المهالك، وقوله سبحانه: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إلخ اعتراض يؤكد ما سيق له الكلام من توبيخهم على صدور ما يدل على سوء اعتقادهم بربهم سبحانه منهم، وفي جواز جعله حالا مقال. وقال أبو البقاء: تَرْجِعُونَها جواب لولا الأولى، وأغنى ذلك عن جواب الثانية، وقيل: عكس ذلك. وقيل: إِنْ كُنْتُمْ شرط دخل على شرط فيكون الثاني مقدما في التقدير- أي إن كنتم صادقين إن كنتم غير مربوبين فارجعوا الأرواح إلى الأبدان- وما ذكرناه سابقا اختيار جار الله وأيّا ما كان فقوله تعالى: فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ إلى آخره شروع في بيان حال المتوفى بعد الممات إثر بيان حاله عند الوفاة وضمير كانَ للمتوفى المفهوم مما مر أي فأما إن كان المتوفى الذي بين حاله من السابقين من الأزواج الثلاثة عبر عنهم بأجل أوصافهم فَرَوْحٌ أي فله روح على أنه مبتدأ خبره محذوف مقدم عليه لأنه نكرة، وقيل: خبر مبتدأ محذوف أي فجزاؤه روح أي استراحة، والفاء واقعة في جواب أما، قال بعض الأجلة: تقدير هذا الكلام مهما يكن من شيء فروح إلخ إن كان من المقربين فحذف مهما يكن من شيء، وأقيم أما مقامه ولم يحسن أن يلي الفاء أما، فأوقع الفصل بين أما والفاء بقوله سبحانه: إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ لتحسين اللفظ كما يقع الفصل بينهما بالظرف والمفعول، والفاء في فَرَوْحٌ وأخويه جواب أما دون إِنْ، وقال أبو البقاء: جواب أما فَرَوْحٌ، وأما إِنْ فاستغنى بجواب أما عن جوابها الجزء: 14 ¦ الصفحة: 158 لأنه يحذف كثيرا، وفي البحر أنه إذا اجتمع شرطان فالجواب للسابق منهما، وجواب الثاني محذوف، فالجواب هاهنا لأما، وهذا مذهب سيبويه. وذهب الفارسي إلى أن المذكور جواب إِنْ وجواب أما محذوف، وله قول آخر موافق لمذهب سيبويه. وذهب الأخفش إلى أن المذكور جواب لهما معا، وقد أبطلنا المذهبين في شرح التسهيل انتهى، والمشهور أنه لا بد من لصوق الاسم- لأما- وهو عند الرضي وجماعة أكثري لهذه الآية، والذاهبون إلى الأول قالوا: هي بتقدير فأما المتوفى إِنْ كانَ وتعقب بأنه لا يخفى أن التقدير مستغنى عنه ولا دليل عليه إلا اطراد الحكم، ثم إن كون- أما- قائمة مقام مهما يكن أغلبي إذ لا يطرد في نحو أما قريشا فأنا أفضلها إذ التقدير مهما ذكرت قريشا فأنا أفضلها، وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من كتب العربية. وأخرج الإمام أحمد والبخاري في تاريخه وأبو داود والنسائي والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وآخرون عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقرأ «فروح» بضم الراء ، وبه قرأ ابن عباس وقتادة ونوح القاري والضحاك والأشهب وشعيب وسليمان التيمي والربيع بن خيثم ومحمد بن علي وأبو عمران الجوني والكلبي وفياض وعبيد وعبد الوارث عن أبي عمرو ويعقوب بن حسان وزيد ورويس عنه والحسن وقال: «الروح» الرحمة لأنها كالحياة للمرحوم، أو سبب لحياته الدائمة فإطلاقه عليها من باب الاستعارة أو المجاز المرسل، وروي هذا عن قتادة أيضا. وقال ابن جني: معنى هذه القراءة يرجع إلى معنى الروح فكأنه قيل: فله ممسك روح وممسكها هو الروح كما تقول: الهواء هو الحياة وهذا السماع هو العيش، وفسر بعضهم الروح بالفتح بالرحمة أيضا كما في قوله تعالى: وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ [يوسف: 87] وقيل: هو بالضم البقاء وَرَيْحانٌ أي ورزق كما روي عن ابن عباس ومجاهد والضحاك، وفي رواية أخرى عن الضحاك أنه الاستراحة، وأخرج عبد بن حميد عن الحسن أنه قال: هو هذا الريحان أي المعروف. وأخرج ابن جرير عنه أنه قال: تخرج روح المؤمن من جسده في ريحانة: ثم قرأ فَأَمَّا إِنْ كانَ إلخ. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: لم يكن أحد من المقربين يفارق الدنيا حتى يؤتى بغصنين من ريحان الجنة فيشمهما ثم يقبض وَجَنَّةُ نَعِيمٍ أي ذات تنعم فالإضافة لامية أو لأدنى ملابسة، وهذا إشارة إلى مكان المقربين بحيث يلزم منه أن يكونوا أصحاب نعيم. وأخرج الإمام أحمد في الزهد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن الربيع بن خيثم قال في قوله تعالى: فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ: هذا له عند الموت، وفي قوله تعالى: وَجَنَّةُ نَعِيمٍ تخبأ له الجنة إلى يوم يبعث ولينظر ما المراد بالريحان على هذا، وعن بعض السلف ما يقتضي أن يكون الكل في الآخرة. وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ عبر عنهم بالعنوان السابق إذ لم يذكر لهم فيما سبق وصف ينبىء عن شأنهم سواه كما ذكر للفريقين الأخيرين، وقوله تعالى: فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ قيل: هو على تقدير القول أي فيقال لذلك المتوفى منهم سلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين أي يسلمون عليك كقوله تعالى: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً [الواقعة: 25، 26] فالخطاب لصاحب اليمين ولا التفات فيه مع تقدير القول، ومِنْ للابتداء كما تقول سلام من فلان على فلان وسلام لفلان منه. وقال الطبري: معناه فسلام لك أنت من أصحاب اليمين، فمن أصحاب اليمين خبر مبتدأ محذوف والكلام الجزء: 14 ¦ الصفحة: 159 بتقدير القول أيضا، وكأن هذا التفسير مأخوذ من كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. أخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أنه قال في ذلك: تأتيه الملائكة من قبل الله تعالى تسلم عليه وتخبره أنه من أصحاب اليمين، والظاهر أن هذا على هذا المعنى عند الموت، وأنه على المعنى السابق في الجنة. وجوز أن يكون المعنى فسلامة لك عما يشغل القلب من جهتهم فإنهم في خير أي كن فارغ البال عنهم لا يهمك أمرهم، وهذا كما تقول لمن علق قلبه بولده الغائب وتشوش فكره لا يدري ما حاله كن فارغ البال من ولدك فإنه في راحة ودعة، والخطاب لمن يصلح له أو لسيد المخاطبين صلى الله تعالى عليه وسلم، وعليه قيل: يجوز أن يكون ذلك تسلية له عليه الصلاة والسلام على معنى أنهم غير محتاجين إلى شفاعة وغيرها، ولا يخفى أن كون جميع أصحاب اليمين غير محتاجين إلى ما ذكر غير مسلم فالشفاعة لأهل الكبائر أمر ثابت عند أهل السنة ولا جائز أن يكونوا من أصحاب الشمال فصرائح الآيات أنهم كفار «وما لهم من ولي ولا شفيع يطاع» وكونهم من أصحاب اليمين أقرب من كونهم من السابقين وجعلهم قسما على حدة قد علمت حاله فتذكر فما في العهد من قدم. وذكر بعض الأجلة أن هذه الجملة كلام يفيد عظمة حالهم كما يقال فلان ناهيك به وحسبك أنه فلان إشارة إلى أنه ممدوح فوق حد التفصيل، وكأني بك تختار ذلك فإنه حسن لطيف. وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ وهم أصحاب الشمال عبر عنهم بذلك حسبما وصفوا به عند بيان أحوالهم بقوله تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ [الواقعة: 51] ذمّا لهم بذلك وإشعارا بسبب ما ابتلوا به من العذاب، ولما وقع هذا الكلام بعد تحقق تكذيبهم ورده على أتم وجه ولم يقع الكلام السابق كذلك قدم وصف التكذيب هنا على عكس ما تقدم، ويجوز أن يقال في ذلك على تقدير عموم متعلق التكذيب بحيث يشمل تكذيبه صلّى الله عليه وسلم في دعوى الرسالة إن هذا الكلام إخبار من جهته سبحانه بأحوال الأزواج الثلاثة لم يؤمر عليه الصلاة والسلام بأن يشافه بكل جمله منه من هي فيه فقدم فيه وصف التكذيب الشامل لتكذيبه عليه الصلاة والسلام المشعر بسبب الابتلاء بالعذاب كرامة له صلّى الله عليه وسلم وتنويها بعلو شأنه، ولما كان الكلام السابق داخلا في حيز القول المأمور عليه الصلاة والسلام بأن يشافه به أولئك الكفرة لم يحسن التقديم للكرامة إذ يكون حينئذ من باب مادح نفسه يقرئك السلام، ويجوز أن يقال أيضا إن الكلام في حال الكافر المحتضر والتكذيب لكونه مقابل التصديق لا يكون إلا بالقلب وهو لم يتعطل منه تعطل سائر أعضائه فلذا قدم هنا، ويرشد إلى هذا ما قالوه في دعاء صلاة الجنازة اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان من وجه تخصيص الإسلام بالإحياء والإيمان بالإماتة. وقال الإمام في ذلك: إن المراد من الضلال هناك ما صدر عنهم من الإصرار على الحنث العظيم فضلوا عن سبيل الله تعالى ولم يصلوا إليه ثم كذبوا رسله، وقالُوا أَإِذا مِتْنا [المؤمنون: 82] إلخ فكذبوا بالحشر فقال تعالى: أَيُّهَا الضَّالُّونَ الذين أشركتم المكذبون الذين أنكرتم الحشر لآكلون ما تكرهون، وأما هنا فقال سبحانه لهم: أيها المكذبون الذين كذبتم بالحشر الضالون من طريق الخلاص الذي لا يهتدون إلى النعيم، وفيه وجه آخر وهو أن الخطاب هناك مع الكفار فقال سبحانه: أيها الذين أشركتم أولا وكذبتم ثانيا، والخطاب هنا مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يبين له عليه الصلاة والسلام حال الأرواح الثلاثة كما يدل عليه. فسلام لك فقال سبحانه: المقربون في روح وريحان وجنة ونعيم وأصحاب اليمين في سلامة، وأما المكذبون الذين كذبوك وضلوا فقدم تكذيبهم إشارة إلى كرامته صلى الله تعالى عليه وسلم حيث بين أن أقوى سبب في عقابهم تكذيبهم انتهى. وعليك بالتأمل والإنصاف والنظر لما قال دون النظر لمن قال، وقوله تعالى: فَنُزُلٌ بتقدير فله نزل أو فجزاؤه الجزء: 14 ¦ الصفحة: 160 نزل كائن مِنْ حَمِيمٍ قيل: يشرب بعد أكل الزقوم كما فصل فيما قبل وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ أي إدخال في النار، وقيل: إقامة فيها ومقاساة لألوان عذابها وكل ذلك مبني على أن المراد بيان ما لهم يوم القيامة، وقيل: هذا محمول على ما يجده في القبر من حرارة النار ودخانها لأن الكلام في حال التوفي وعقب قبض الأرواح والأنسب بذلك كون ما ذكر في البرزخ، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية: لا يخرج الكافر حتى يشرب كأسا من حميم، وقرأ أحمد بن موسى والمنقري واللؤلؤي عن أبي عمرو «وتصلية» بالجر عطفا على حَمِيمٍ إِنَّ هذا أي الذي ذكر في السورة الكريمة كما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ اليقين على ما يفهم من كلام الزمخشري في الجاثية اسم للعلم الذي زال عنه اللبس وبذلك صرح صاحب المطلع وذكر أنه تفسير بحسب المعنى وهو مأخوذ من المقام وإلا فهو العلم المتيقن مطلقا والإضافة بمعنى اللام والمعنى- لهو عين اليقين- فهو على نحو عين الشيء ونفسه ولا يخفى أن الإضافة من إضافة العام إلى الخاص وكونها بمعنى اللام قول لبعضهم، وقال بعض آخر: إنها بيانية على معنى من، وقدر بعضهم هنا موصوفا أي لهو حق الخبر اليقين وكونه لا يناسب المقام غير متوجه، وفي البحر قيل: إن الإضافة من إضافة المترادفين على سبيل المبالغة كما تقول هذا يقين اليقين وصواب الصواب بمعنى أنه نهاية في ذلك فهما بمعنى أضيف أحدهما إلى الآخر للمبالغة وفيه نظر، والفاء في قوله تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ لترتيب التسبيح أو الأمر به، فإن حقية ما فصل في تضاعيف السورة الكريمة مما يوجب التسبيح عما لا يليق مما ينسبه الكفرة إليه سبحانه قالا أو حالا تعالى عن ذلك علوا كبيرا وأخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه وغيرهم عن عقبة بن عامر الجهني قال: «لما نزلت على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ قال: اجعلوها في ركوعكم ولما نزلت سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال: اجعلوها في سجودكم» . «ومما قاله السادة أرباب الاشارة» متعلقا ببعض هذه السورة الكريمة أن «الواقعة» اسم لقيامة الروح كما أن «الآزفة» اسم لقيامة الخفي، و «الحاقة» اسم لقيامة السر، و «الساعة» اسم لقيامة القلب، وقالوا: إن الواقعة إذا وقعت ترفع صاحبها طورا وتخفضه طورا وتشعل نيران الغيرة وتفجر أنهار المعرفة وتحصل للسالك إذا اشتغل بالسلوك والتصفية ووصل ذكره إلى الروح وهي في البداية مثل ستر أسود يجيء من فوق الرأس عند غلبة الذكر وكلما زاد في النزول يقع على الذاكر هيبة وسكينة وربما يغمى عليه في البداية ويشاهد إذا وقع على عينيه عوالم الغيب فيرى ما شاء الله تعالى أن يرى وتكشف له العلوم الروحانية ويرى عجائب وغرائب لا تحصى، وإذا أفاق فليعرض ما حصل له لمسلكه ليرشده إلى ما فيه مصلحة وقته ويعبر له ما هو مناسب لحوصلته ويقوى قلبه ويأمره بالذكر والتوجه الكلي حتى يكمل بصفو سر الواقعة فيكون سرا منورا فربما يصير السالك بحيث إذا فتح عينيه بعد نزولها في عالم الشهادة يشاهد ما كان مشاهدا له فيها وهي حالة سنية معتبرة عند أرباب السلوك- فليس لوقعتها كاذبة- بل هي صادقة لأن الشيطان يفر عندها والنفس لا تقدر أن تلبس على صاحبها وهي اليقظة الحقيقية وما يعده الناس يقظة هو النوم كما يشير إليه قول أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه: الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ، ثم إنهم تكلموا على أكثر ما في السورة الجليلة بما يتعلق بالأنفس، وقالوا في مواقع النجوم: إنها إشارة إلى اللطائف المطهرة لأنها مواقع نجوم الواردات القدسية الخفية من السماء الجبروتية اللاهوتية، وقيل: في قوله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ إن فيه إشارة إلى أنه لا ينبغي لمن لم يكن طاهر النفس من حدث الميل إلى صغائر الشهوات- وهو الحدث الأصغر- ومن حدث الميل إلى كبائر الشهوات- وهو الحدث الأكبر- أن يمس بيد نفسه وفكره معاني القرآن الكريم كما لا ينبغي الجزء: 14 ¦ الصفحة: 161 لمن لم يكن طاهر البدن من الحدثين المعروفين في البدن أن يمس بيد بدنه وجسده ألفاظه المكتوبة، وقيل: أيضا يجوز أن يقال المعنى لا يصل إلى أدبي حقائق أسرار القرآن الكريم إلا المطهرون من أرجاس الشهوات وأنجاس المخالفات. وإذا كانت هذه الجملة صفة للكتاب المكنون المراد منه اللوح المحفوظ وأريد بالمطهرين الملائكة عليهم السلام، وكان المعنى لا يطلع عليه إلا الملائكة عليهم السلام كان في ذلك ردّ على من يزعم أن الأولياء يرون اللوح المحفوظ ويطلعون على ما فيه، وحمل المطهرين على ما يعم الملائكة والأولياء الذين طهرت نفوسهم وقدست ذواتهم حتى التحقوا بالملائكة عليهم السلام لا ينفع في البحث مع أهل الشرع فإن مدار استدلالاتهم على الأحكام الشرعية الظواهر على أنه لم يسمع عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو هو أنه نظر يوما وهو بين أصحابه إلى اللوح المحفوظ واطلع على شيء مما فيه. وقال لهم: إني رأيت اللوح المحفوظ واطلعت على كذا وكذا فيه، وكذلك لم يسمع عن أجلة أصحابه الخلفاء الراشدين أنه وقع لهم ذلك، وقد وقعت بينهم مسائل اختلفوا فيها وطال نزاعهم في تحقيقها إلى أن كاد يغم هلال الحق فيها ولم يراجع أحد منهم لكشفها اللوح المحفوظ. وذكر بعض العلماء أن سدرة المنتهى ينتهي علم من تحتها إليها وأن اللوح فوقها بكثير، وبكل من ذلك نطقت الآثار، وهو يشعر بعدم اطلاع الأولياء على اللوح، ومع هذا كله من ادعى وقوع الاطلاع فعليه البيان وأنى به، وهذا الذي سمعت مبني على ما نطقت به الأخبار في صفة اللوح المحفوظ وأنه جسم كتب فيه ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، وأما إذا قيل فيه غير ذلك انجر البحث إلى وراء ما سمعت، واتسعت الدائرة. ومن ذلك قولهم: إن الألواح أربعة، لوح القضاء السابق على المحو والإثبات وهو لوح العقل الأول، ولوح القدر أي لوح النفس الناطقة الكلية التي يفصل فيها كليات اللوح الأول وهو المسمى باللوح المحفوظ، ولوح النفس الجزئية السماوية التي ينتقش فيها كل ما في هذا العالم شكله وهيئته ومقداره- وهو المسمى بالسماء الدنيا- وهو بمثابة خيال العالم كما أن الأول بمثابة روحه والثاني بمثابة قلبه ولوح الهيولى القابل للصورة في عالم الشهادة ويقولون أيضا ما يقولون وينشد المنتصر له قوله: وإذا لم تر الهلال فسلم ... لأناس رأوه بالأبصار هذا ولا تظنن أن نفي رؤيتهم للوح المحفوظ نفي لكراماتهم الكشفية وإلهاماتهم الغيبية معاذ الله تعالى من ذلك، وطرق إطلاع الله تعالى من شاء من أوليائه على من شاء من علمه غير منحصر بإراءته اللوح المحفوظ ثم إن الإمكان مما لا نزاع فيه وليس الكلام إلا في الوقوع، وورود ذلك عن النبي صلّى الله عليه وسلم وأجلة أصحابه كالصديق والفاروق وذي النورين وباب مدينة العلم والنقطة التي تحت الباء رضي الله تعالى عنهم أجمعين، والله تعالى أعلم. وقالوا في قوله تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ ما بنوه على القول بوحدة الوجود والكلام فيها شائع- وقد أشرنا إليه في هذا الكتاب غير مرة- ولهم في اليقين وعين اليقين وحق اليقين عبارات شتى، منها اليقين رؤية العيان بقوة الإيمان لا بالحجة والبرهان وقيل: مشاهدة الغيوب بصفاء القلوب وملاحظة الأسرار بمحافظة الأفكار، وقيل: طمأنينة القلب على حقيقة الشيء من يقن الماء في الحوض إذا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 162 استقر، وحق اليقين فناء العبد في الحق والبقاء به علما وشهودا وحالا لا علما فقط فعلم كل عاقل الموت علم اليقين فإذا عاين الملائكة فهو عين اليقين، وإذا ذاق الموت فهو حق اليقين، وقيل: علم اليقين ظاهر الشريعة، وعين اليقين الإخلاص فيها، وحق اليقين المشاهدة فيها، «وقيل:، وقيل:» ونحن نسأل الله تعالى الهداية إلى أقوم سبيل، وأن يشرح صدورنا بأنوار علوم كتابه الكريم الجليل وهو سبحانه حسبنا في الدارين ونعم الوكيل. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 163 سورة الحديد أخرج جماعة عن ابن عباس أنها نزلت بالمدينة، وقال النقاش وغيره: هي مدنية بإجماع المفسرين ولم يسلم له، فقد قال قوم: إنها مكية، نعم الجمهور- كما قال ابن الفرس- على ذلك. وقال ابن عطية: لا خلاف أن فيها قرآنا مدنيا لكن يشبه أن يكون صدرها مكيا، ويشهد لهذا ما أخرجه البزار في مسنده والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي وابن عساكر عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه دخل على أخته قبل أن يسلم فإذا صحيفة فيها أول سورة الحديد فقرأه حتى بلغ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد: 7] فأسلم، ويشهد لمكية آيات أخر ما أخرج مسلم والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن ابن مسعود ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله تعالى بهذه الآية أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد: 16] إلا أربع سنين، وأخرج الطبراني والحاكم وصححه وغيرهما عن عبد الله بن الزبير أن ابن مسعود أخبره أنه لم يكن بين إسلامهم وبين أن نزلت هذه الآية يعاتبهم الله تعالى بها إلا أربع سنين وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ [الحديد: 16] الآية لكن سيأتي إن شاء الله تعالى آثار تدل على مدنية ما ذكر ولعلها لا تصلح للمعارضة. ونزلت يوم الثلاثاء على ما أخرج الديلمي عن جابر مرفوعا لا تحتجموا يوم الثلاثاء فإن سورة الحديد أنزلت عليّ يوم الثلاثاء، وفيه أيضا خبر رواه الطبراني وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما بسند ضعيف، وهي تسع وعشرون آية في العراقي، وثمان وعشرون في غيره، ووجه اتصالها- بالواقعة- أنها بدئت بذكر التسبيح وتلك ختمت بالأمر به، وكان أولها واقعا موقع العلة للأمر به فكأنه قيل: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة: 74، 96، الحاقة: 52] لأنه سبح له ما في السماوات والأرض، وجاء في فضلها مع أخواتها ما أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن عرباض بن سارية «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد، وقال: إن فيهن آية أفضل من ألف آية» وأخرج ابن الضريس نحوه عن يحيى بن أبي كثير ثم قال: قال يحيى: نراها الآية التي في آخر الحشر. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 164 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ التسبيح على المشهور تنزيه الله تعالى اعتقادا وقولا وعملا عما لا يليق بجنابه سبحانه من سبح في الأرض والماء إذا ذهب وأبعد فيهما، وحيث أسندها هنا إلى غير العقلاء أيضا فإن ما في السماوات والأرض يعم جميع ما فيهما سواء كان مستقرا فيهما أو جزءا منهما بل المراد بما فيهما الموجودات فيكون أظهر في تناول السماوات والأرض ويتناول أيضا الموجودات المجردة عند القائل بها، قال الجمهور: المراد به معنى عام مجازي شامل لما نطق به لسان المقال كتسبيح الملائكة والمؤمنين من الثقلين، ولسان الحال كتسبيح غيرهم فإن كل فرد من أفراد الموجودات يدل بإمكانه وحدوثه على الصانع القديم الواجب الوجود المتصف بكل كمال المنزه عن كل نقص، وذهب بعض إلى أن التسبيح على حقيقته المعروفة في الجميع وهو مبني على ثبوت النفوس الناطقة والإدراك لسائر الحيوانات والجمادات على ما يليق بكل، وقد صرح به جمع من الصوفية فتسبيح كل شيء عندهم قالي وإن تفاوت الأمر، وقيل: معنى سبح حمل رائيه العاقل على قول سبحان الله تعالى ونبهه عليه وهو كما ترى، ومن يجوز استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه معا لا يحتاج إلى عموم المجاز، وجوز الطبرسي كون ما للعالم فقط مثلها في قول أهل الحجاز كما حكى أبو زيد عند سماع الرعد- سبحان ما سبحت له ولا يخفى أن عمومها العالم وغيره أولى، والظاهر أنها في الوجهين موصولة، وقال بعضهم: إنها نكرة موصوفة وإن أصل الكلام ما في السماوات وما في الأرض ثم حذفت ما الثانية وأقيمت صفتها مقامها، ولا يحسن أن تكون موصولة لأن الصلة لا تقوم مقام الموصول عند البصريين وتقوم الصفة مقام الموصوف عند الجميع، والحمل على المتفق عليه أولى من الحمل على المختلف فيه وكون المذكورة موصولة والمحذوفة نكرة موصوفة مما لا وجه له انتهى. وأنت تعلم أن حذف الموصول الصريح في مثل ذلك أكثر من أن يحصى وجيء باللام مع أن التسبيح متعد بنفسه كما في قوله تعالى: وَتُسَبِّحُوهُ [الفتح: 9] للتأكيد فهي مزيدة لذلك كما في نصحت له وشكرت له، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 165 وقيل: للتعليل والفعل منزل منزلة اللازم أي فعل التسبيح وأوقعه لأجل الله تعالى وخالصا لوجهه سبحانه، وفيه شيء لا يخفى، وعبر بالماضي هنا وفي بعض الأخوات وبالمضارع في البعض الآخر إيذانا بتحقق التسبيح في جميع الأوقات، وفي كل دلالة على أن من شأن ما أسند إليه التسبيح أن يسبحه وذلك هجيراه وديدنه، أما دلالة المضارع عليه فللدلالة على الاستمرار إلى زمان الإخبار وكذلك فيما يأتي من الزمان لعموم المعنى المقتضي للتسبيح وصلوح اللفظ لذلك حيث جرد عن الدلالة على الزمان وأوثر على الاسم دلالة على تجدد تسبيح غبّ تسبيح، وأما دلالة الماضي فللتجرد عن الزمان أيضا مع التحقيق الذي هو مقتضاه فيشمل الماضي من الزمان ومستقبله كذلك، وقيل: الإيذان والدلالة على الاستمرار مستفادان من مجموعي الماضي والمضارع حيث دل الماضي على الاستمرار إلى زمان الإخبار والمضارع على الاستمرار في الحال والاستقبال فشملا معا جميع الأزمنة، وقال الطيبي: افتتحت بعض السور بلفظ المصدر وبعض بالماضي وبعض بالمضارع وبعض بالأمر فاستوعب جميع جهات هذه الكلمة إعلاما بأن المكونات من لدن إخراجها من العدم إلى الوجود إلى الأبد مسبحة مقدسة لذاته سبحانه وتعالى قولا وفعلا طوعا وكرها وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء: 44] وَهُوَ الْعَزِيزُ القادر الغالب الذي لا ينازعه ولا يمانعه شيء الْحَكِيمُ الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله مشعر بعلة الحكم، وكذا قوله تعالى: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي التصرف الكلي فيهما وفيما فيهما من الموجودات من حيث الإيجاد والإعدام وسائر التصرفات، وقوله سبحانه: يُحْيِي وَيُمِيتُ أي يفعل الإحياء والإماتة استئناف مبين لبعض أحكام الملك وإذا جعل خبر مبتدأ محذوف أي هو يحيي ويميت كانت تلك الجملة كذلك وجعله حالا من ضمير له يوهم تقييد اختصاص الملك بهذه الحال، وقوله تعالى: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الأشياء التي من جملتها ما ذكر من الإحياء والإماتة قَدِيرٌ مبالغ في القدرة تذييل وتكميل لما قبله هُوَ الْأَوَّلُ السابق على جميع الموجودات فهو سبحانه موجود قبل كل شيء حتى الزمان لأنه جل وعلا الموجد والمحدث للموجودات وَالْآخِرُ الباقي بعد فنائها حقيقة أو نظرا إلى ذاتها مع قطع النظر عن مبقيها فإن جميع الموجودات الممكنة إذا قطع النظر عن علتها فهي فانية. ومن هنا قال ابن سينا: الممكن في حدّ ذاته ليس وهو عن علته أيس فلا ينافي هذا كون بعض الموجودات الممكنة لا تفنى كالجنة والنار ومن فيهما كما هو مقرر مبين بالآيات والأحاديث لأن فناءها في حدّ ذاتها أمر لا ينفك عنها، وقد يقال: فناء كل ممكن بالفعل ليس بمشاهد، والذي يدل عليه الدليل إنما هو إمكانه فالبعدية في مثله بحسب التصور والتقدير، وقيل: هو الأول الذي تبتدئ منه الأسباب إذ هو سبحانه مسببها وَالْآخِرُ الذي تنتهي إليه المسببات فالأولية ذاتية والآخرية بمعنى أنه تعالى المرجع والمصير بقطع النظر عن البقاء الثابت بالأدلة، وقيل: الأول خارجا لأنه تعالى أوجد الأشياء فهو سبحانه متقدم عليها في نفس الأمر الخارجي والآخر ذهنا وبحسب التعلق لأنه عز شأنه يستدل عليه بالموجودات الدالة على الصانع القديم كما قيل: ما رأيت شيئا إلا رأيت الله تعالى بعده، وقال حجة الإسلام الغزالي: إن الأول يكون أولا بالإضافة إلى شيء، والآخر يكون آخرا بالإضافة إلى شيء، وهما متناقضان فلا يتصور أن يكون الشيء الواحد من وجه واحد بالإضافة إليها أول إذ كلها استفادت الوجود منه سبحانه وأما هو عز وجل فموجود بذاته وما استفاد الوجود من غيره سبحانه وتعالى عن ذلك، ومهما نظرت إلى ترتيب السلوك ولاحظت منازل السالكين فهو تعالى آخر إذ هو آخر ما ترتقي إليه درجات العارفين وكل معرفة تحصل قبل معرفته تعالى فهي مرقاة إلى معرفته جل وعلا، والمنزل الأقصى هو معرفة الله جل جلاله فهو سبحانه بالإضافة إلى السلوك آخر الجزء: 14 ¦ الصفحة: 166 وبالإضافة إلى الوجود أول فمنه عز شأنه المبدأ أولا وإليه سبحانه والمرجع والمصير آخر انتهى. والظاهر أن كونه تعالى أولا وآخرا بالنسبة إلى الموجودات أولى ولعل ما ذكره أوفق بمشرب القوم. وَالظَّاهِرُ أي بوجوده لأن كل الموجودات بظهوره تعالى ظاهر وَالْباطِنُ بكنهه سبحانه فلا تحوم حوله العقول، وقال حجة الإسلام: هذان الوصفان من المضافات فلا يكون الشيء ظاهرا لشيء وباطنا له من وجه واحد بل يكون ظاهرا من وجه بالإضافة إلى إدراك وباطنا من وجه آخر فإن الظهور والبطون إنما يكون بالإضافة إلى الإدراكات والله تعالى باطن إن طلب من إدراك الحواس وخزانة الخيال ظاهر إن طلب من خزانة العقل بالاستدلال والريب من شدة الظهور وكل ما جاوز الحد انعكس إلى الضد، وإلى تفسير الباطن بغير المدرك بالحواس ذهب الزمخشري، ثم قال: إن الواو الأولى لعطف المفرد على المفرد فتفيد أنه تعالى الجامع بين الصفتين الأولية والآخرية والأخيرة أيضا كذلك فتفيد أنه تعالى الجامع بين الظهور والخفاء، وأما الوسطى فلعطف المركب على المركب فتفيد أنه جل وعلا الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين ومجموع الصفتين الأخريين فهو تعالى المستمر الوجود في جميع الأوقات الماضية والآتية وهو تعالى في جميعها ظاهر وباطن جامع للظهور بالأدلة والخفاء فلا يدرك بالحواس، وفي هذا حجة على من جوز إدراكه سبحانه في الآخرة بالحاسة أي وذلك لأنه تعالى ما من وقت يصح اتصافه بالأولية والآخرية إلا ويصح اتصافه بالظاهرية والباطنية معا، فإذا جوز إدراكه سبحانه بالحاسة في الآخرة فقد نفى كونه سبحانه باطنا وهو خلاف ما تدل عليه الآية، وأجاب عن ذلك صاحب الكشف فقال: إن تفسير الباطن بأنه غير مدرك بالحواس تفسير بحسب التشهي فإن بطونه تعالى عن إدراك العقول كبطونه عن إدراك الحواس لأن حقيقة الذات غير مدركة لا عقلا ولا حسا باتفاق بين المحققين من الطائفتين، والزمخشري ممن سلم فهو الظاهر بوجوده والباطن بكنهه وهو سبحانه الجامع بين الوصفين أزلا وأبدا، وهذا لا ينافي الرؤية لأنها لا تفيد ذلك عند مثبتها انتهى، وهو حسن فلا تغفل. وعليه فالتذليل بقوله تعالى: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لئلا يتوهم أن بطونه تعالى عن الأشياء يستلزم بطونها عنه عز وجل كما في الشاهد، وقال الأزهري: قد يكون الظاهر والباطن بمعنى العلم لما ظهر وبطن وذلك أن من كان ظاهرا احتجب عنه الباطن ومن كان باطنا احتجب عنه الظاهر فإن أردت أن تصفه بالعلم قلت هو ظاهر باطن مثله قوله تعالى: لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ [النور: 35] أي لا شرقية فقط ولا غربية فقط ولكنها شرقية غربية، وفي التذييل المذكور حينئذ خفاء، وقريب منه من وجه ما نقل أن الظاهر بمعنى العالي على كل شيء الغالب له من قوله ظهر عليهم إذا علاهم وغلبهم، والباطن الذي بطن كل شيء أي علم باطنه، وتعقب بفوات المطابقة بين الظاهر والباطن عليه وأن بطنه بمعنى علم باطنه غير ثابت في اللغة، لكن قيل في الآثار: ما ينصر تفسير الظاهر بما فسر. أخرج مسلم والترمذي وابن أبي شيبة والبيهقي عن أبي هريرة قال: «جاءت فاطمة رضي الله تعالى عنها إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تسأله خادما فقال لها: قولي اللهم رب السماوات السبع ورب العرش الكريم العظيم ربنا ورب كل شيء منزل التوراة والإنجيل والفرقان فالق الحب والنوى أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عنا الدين وأغننا من الفقر» وقال الطيبي: المعنى بالظاهر في التفسير النبوي الغالب الذي يغلب ولا يغلب فيتصرف في المكونات على سبيل الغلبة والاستيلاء إذ ليس فوقه أحد يمنعه، وبالباطن من لا ملجأ ولا منجي دونه يلتجىء إليه ملتجىء، وبحث فيه بجواز أن يكون المراد أنت الظاهر فليس فوقك شيء في الظهور أي أنت أظهر الجزء: 14 ¦ الصفحة: 167 من كل شيء إذ ظهور كل شيء بك وأنت الباطن فليس دونك في البطون شيء أي أنت أبطن من كل شيء إذ كل شيء يعلم حقيقته غيره وهو أنت وأنت لا يعلم حقيقتك غيرك، أو لأن كل شيء يمكن معرفة حقيقته وأنت لا يمكن أصلا معرفة حقيقتك، وأيضا في دلالة الباطن على ما قال: خفاء جدا على أنه لو كان الأمر كما ذكر ما عدل عنه أجلة العلماء فان الخير صحيح، وقد جاء نحوه من رواية الإمام أحمد وأبي داود وابن ماجة ويبعد عدم وقوف أولئك الأجلة عليه، وأبعد من ذلك أن يكون ما ذكره صلّى الله عليه وسلم من أسمائه تعالى غير ما في الآية، ويحتمل أنه عليه الصلاة والسلام أراد بقوله: «فليس دونك شيء» ليس أقرب منك شيء، ويؤيده ما أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات عن مقاتل قال: بلغنا في قوله تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ إلخ هو الأول قبل كل شيء والآخر بعد كل شيء والظاهر فوق كل شيء والباطن أقرب من كل شيء، وإنما يعني القرب بعلمه وقدرته وهو فوق عرشه والذي يترجح عندي ما ذكر أولا، وعن بعض المتصوفة أهل وحدة الوجود أن المراد بقوله سبحانه: هُوَ الْأَوَّلُ إلخ أنه لا موجود غيره تعالى إذ كل ما يتصور موجودا فهو إما أول أو آخر هو سبحانه لا غيره، وأيدوه بما في حديث مرفوع أخرجه الإمام أحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن المنذر وجماعة عن أبي هريرة «والذي نفسي بيده لو أنكم دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله» قال أبو هريرة، ثم قرأ النبي صلّى الله عليه وسلم هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وحال القول بوحدة الوجود مشهور وأما الخبر فمن المتشابه، وقد قال فيه الترمذي: فسر أهل العلم الحديث فقالوا: أي لهبط على علم الله تعالى وقدرته وسلطانه، ويؤيد هذا ذكر التذييل وعدم اقتصاره عليه الصلاة والسلام على ما قبله، وهذه الآية ينبغي لمن وجد في نفسه وسوسة فيما يتعلق بالله تعالى أن يقرأها، فقد أخرج أبو داود عن أبي زميل أن ابن عباس قال له وقد أعلمه أن عنده وسوسة في ذلك: «إذا وجدت في نفسك شيئا فقل هو الأول» الآية. وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن ابن عمر وأبي سعيد رضي الله تعالى عنهم عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «لا يزال الناس يسألون عن كل شيء حتى يقولوا هذا الله كان قبل كل شيء فماذا كان قبل الله فإن قالوا لكم ذلك فقالوا هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم» . هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ بيان بعض أحكام ملكهما وقد مر تفسيره مرارا يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها مر بيانه في سورة سبأ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تمثيل لإحاطة علمه تعالى بهم وتصوير لعدم خروجهم عنه أينما كانوا، وقيل: المعية مجاز مرسل عن العلم بعلاقة السببية والقرينة السباق واللحاق مع استحالة الحقيقة، وقد أول السلف هذه الآية بذلك، أخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس أنه قال فيها: عالم بكم أينما كنتم. وأخرج أيضا عن سفيان الثوري أنه سئل عنها فقال: علمه معكم، وفي البحر أنه اجتمعت الأمة على هذا التأويل فيها وأنها لا تحمل على ظاهرها من المعية بالذات وهي حجة على منع التأويل في غيرها مما يجري مجراها في استحالة الحمل على الظاهر، وقد تأول هذه الآية وتأول الحجر الأسود يمين الله في الأرض، ولو اتسع عقله لتأول غير ذلك مما هو في معناه انتهى. وأنت تعلم أن الأسلم ترك التأويل فإنه قول على الله تعالى من غير علم ولا نؤوّل إلا ما أوّله السلف ونتبعهم فيما كانوا عليه فإن أوّلوا أوّلنا وإن فوضوا فوضنا ولا نأخذ تأويلهم لشيء سلما لتأويل غيره، وقد رأيت بعض الزنادقة الخارجين من ربقة الإسلام يضحكون من هذه الآية مع قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ويسخرون من القرآن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 168 الكريم لذلك وهو جهل فظيع وكفر شنيع نسأل الله تعالى العصمة والتوفيق. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ عبارة عن إحاطته بأعمالهم وتأخير صفة العلم الذي هو من صفات الذات عن الخلق الذي هو من صفات الأفعال مع أن صفات الذات متقدمة على صفات الأفعال لما أن المراد الإشارة إلى ما يدور عليه الجزاء من العلم التابع للمعلوم، وقيل: إن الخلق دليل العلم إذ يستدل بخلقه تعالى وإيجاده سبحانه لمصنوعاته المتقنة على أنه عز وجل عالم ومن شأن المدلول التأخر عن الدليل لتوقفه عليه، وقوله تعالى: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تكرير للتأكيد وتمهيد لقوله سبحانه المشعر بالإعادة: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي إليه تعالى وحده لا إلى غيره سبحانه استقلالا أو اشتراكا ترجع جميع الأمور أعراضها وجواهرها، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق والأعرج «ترجع» مبنيا للفاعل من رجع رجوعا، وعلى البناء للمفعول كما في قراءة الجمهور هو من رجع رجعا يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ مر تفسيره مرارا وقوله تعالى: وَهُوَ عَلِيمٌ أي مبالغ في العلم بِذاتِ الصُّدُورِ أي بمكنوناتها اللازمة لها بيان لإحاطة علمه تعالى بما يضمرونه من نياتهم بعد بيان إحاطته بأعمالهم التي يظهرونها، وجوز أن يراد بِذاتِ الصُّدُورِ نفسها وحقيقتها على أن الإحاطة بما فيها تعلم بالأولى. آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ أي جعلكم سبحانه خلفاء عنه عز وجل في التصرف فيه من غير أن تملكوه حقيقة، عبر جل شأنه عما بأيديهم من الأموال بذلك تحقيقا للحق وترغيبا في الإنفاق فإن من علم أنها لله تعالى وإنما هو بمنزلة الوكيل يصرفها إلى ما عينه الله تعالى من المصاريف هان عليه الإنفاق، أو جعلكم خلفاء عمن كان قبلكم فيما كان بأيديهم فانتقل لكم، وفيه أيضا ترغيب في الإنفاق وتسهيل له لأن من علم أنه لم يبق لمن قبله وانتقل إليه علم أنه لا يدوم له وينتقل لغيره فيسهل عليه إخراجه ويرغب في كسب الأجر بإنفاقه ويكفيك قول الناس فيما ملكته لقد كان هذا مرة لفلان، وفي الحديث «يقول ابن آدم: مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت» والمعنى الأول هو المناسب لقوله تعالى: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وعليه ما حكي أنه قيل لأعرابي: لمن هذه الإبل؟ فقال: هي لله تعالى عندي، ويميل إليه قول القائل: وما المال والأهلون إلا ودائع ... ولا بد يوما أن ترد الودائع والآية على ما روي عن الضحاك نزلت في تبوك فلا تغفل فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا حسبما أمروا به لَهُمْ بسبب ذلك أَجْرٌ كَبِيرٌ وعد فيه من المبالغات ما لا يخفى حيث جعل الجملة اسمية وكان الظاهر أن تكون فعلية في جواب الأمر بأن يقال مثلا آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا تعطوا أجرا كبيرا، وأعيد ذكر الإيمان والإنفاق دون أن يقال فمن يفعل ذلك فله أجر كبير وعدل عن فللذين آمنوا منكم وأنفقوا أجر إلى ما في النظم الكريم وفخم الأجر بالتنكير، ووصف بالكبير، وقوله عز وجل: وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ استئناف قيل: مسوق لتوبيخهم على ترك الإيمان حسبما أمروا به بإنكار أن يكون لهم في ذلك عذر ما في الجملة على أن لا تؤمنون حال من ضمير لكم والعامل ما فيه من معنى الاستقرار أي أيّ شيء حصل لكم غير مؤمنين على توجيه الإنكار والنفي إلى السبب فقط مع تحقيق المسبب وهو مضمون الجملة الحالية أعني عدم الإيمان فأي لإنكار سبب الواقع ونفيه فقط، ونظيره قوله تعالى: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً [نوح: 13] وقد يتوجه الإنكار والنفي في مثل هذا التركيب لسبب الوقوع فيسريان إلى المسبب أيضا كما في قوله تعالى: وَما لِيَ لا أَعْبُدُ [يس: 22] إلخ ولا يمكن إجراء ذلك هنا لتحقق عدم الإيمان وهذا المعنى مما لا غبار عليه، وقوله تعالى: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ حال من الجزء: 14 ¦ الصفحة: 169 ضمير لا تُؤْمِنُونَ مفيدة على ما قيل: لتوبيخهم على الكفر مع تحقق ما يوجب عدمه بعد توبيخهم عليه مع عدم ما يوجبه، ولام لِتُؤْمِنُوا صلة- يدعو- وهو يتعدى بها وبإلى أي وأيّ عذر في ترك الايمان وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ إليه وينبهكم عليه، وجوّز أن تكون اللام تعليلية وقوله سبحانه: وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ حال من فاعل يدعوكم أو من مفعوله أي وقد أخذ الله ميثاقكم بالإيمان من قبل كما يشعر به تخالف الفعلين مضارعا وماضيا، وجوز كونه حالا معطوفة على الحال قبلها فالجملة حال بعد حال من ضمير تُؤْمِنُونَ والتخالف بالاسمية والفعلية يبعد ذلك في الجملة، وأيا ما كان فأخذ الميثاق إشارة إلى ما كان منه تعالى من نصب الأدلة الآفاقية والأنفسية والتمكين من النظر فقوله تعالى: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ إشارة إلى الدليل السمعي وهذا إشارة إلى الدليل العقلي وفي التقديم والتأخير ما يؤيد القول بشرف السمعي على العقلي. وقال البغوي: هو ما كان حين أخرجهم من ظهر آدم وأشهدهم بأنه سبحانه ربهم فشهدوا- وعليه لا مجاز- والأول اختيار الزمخشري، وتعقبه ابن المنير فقال: لا عليه أن يحمل العهد على حقيقته وهو المأخوذ يوم الذر وكل ما أجازه العقل وورد به الشرع وجب الإيمان به، وروي ذلك عن مجاهد وعطاء والكلبي ومقاتل، وضعفه الإمام بأن المراد إلزام المخاطبين الإيمان ونفى أن يكون لهم عذر في تركه وهم لا يعلمون هذا العهد إلا من جهة الرسول فقبل التصديق بالرسول لا يكون سببا لإلزامهم الايمان به، وقال الطيبي: يمكن أن يقال إن الضمير في أَخَذَ إن كان لله تعالى فالمناسب أن يراد بالميثاق ما دلّ عليه قوله تعالى: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ [البقرة: 38] إلخ لأن المعنى فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً برسول أبعثه إليكم وكتاب أنزله عليكم، ويدل على الأول قوله سبحانه: وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا وعلى الثاني هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ إلخ، وإن كان للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فالظاهر أن يراد به ما في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ [آل عمران: 81] على أن يضاف الميثاق إلى النبيين إضافته إلى الموثق لا الموثق عليه أي الميثاق الذي وثقه الأنبياء على أممهم، وهو الوجه لأن الخطاب مع الصحابة رضي الله تعالى عنهم كما يدل عليه ما بعد، ولعل الميثاق نحو ما روينا عن الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت بايعنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على السمع والطاعة في النشاط والكسل وعلى النفقة في العسر واليسر وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وعلى أن نقول في الله تعالى ولا نخاف لومة لائم انتهى. ويضيف الأول بنحو ما ضعف به الإمام حمل العهد على ما كان يوم الذر، وضعف الثاني أظهر من أن ينبه عليه. والخطاب قال صاحب الكشف: عام يوبخ من لم يؤمن منهم بعدم الإيمان ثم من آمن بعدم الإنفاق في سبيله. وكلام أبي حيان ظاهر في أنه للمؤمنين، وجعل آمنوا أمرا بالثبات على الإيمان ودوامه وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ إلخ على معنى كيف لا تثبتون على الإيمان ودواعي ذلك موجودة. وظاهر كلام بعضهم كونه للكفرة وهو الذي أشرنا إليه من قبل، ولعل ما ذكره صاحب الكشف أولى إلا أنه قيل عليه: إن آمنوا إذا كان خطابا للمتصفين بالإيمان ولغير المتصفين به يلزم استعمال الأمر في طلب أصل الفعل نظرا لغير المتصفين وفي طلب الثبات نظرا للمتصفين وفيه ما فيه، ويحتاج في التفصي عن ذلك إلى إرادة معنى عام للأمرين، وقد يقال أراد أنه عمد إلى جماعة مختلفين في الأحوال فأمروا بأوامر شتى وخوطبوا بخطابات متعددة فتوجه كل أمر الجزء: 14 ¦ الصفحة: 170 وكل خطاب إلى من يليق به وهذا كما يقول الوالي لأهل بلده: أذنوا وصلوا ودرسوا وأنفقوا على الفقراء وأوفوا الكيل والميزان إلى غير ذلك فإن كل أمر ينصرف إلى من يليق به منهم فتأمل، وقرىء وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بالله ورسوله، وقرأ أبو عمرو وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ بالبناء للمفعول ورفع مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ شرط جوابه محذوف دل عليه ما قبل، والمعنى إن كنتم مؤمنين لموجب ما فهذا موجب لا موجب وراءه، وجوز أن يكون المراد إن كنتم ممن يؤمن فما لكم لا تؤمنون والحالة هذه، وقال الواحدي: أي إن كنتم مؤمنين بدليل عقلي أو نقلي فقد بان وظهر لكم على يدي محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ببعثته وإنزال القرآن عليه وأيا ما كان فلا تناقض بين هذا وقوله تعالى: وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ وقال الطبري في ذلك: المراد إن كنتم مؤمنين في حال من الأحوال فآمنوا الآن وقيل: المراد إن كنتم مؤمنين بموسى وعيسى عليهما السلام فآمنوا بمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم فإن شريعتهما تقتضي الإيمان به عليه الصلاة والسلام أو إن كنتم مؤمنين بالميثاق المأخوذ عليكم في عالم الذر فآمنوا الآن، وقيل المراد إن دمتم على الإيمان فأنتم في رتب شريفة وأقدار رفيعة، والكل كما ترى. وظاهر الأخير أن الخطاب مع المؤمنين وهو الذي اختاره الطيبي، وقال في هذا الشرط: يمكن أن يجري على التعليل كما في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة: 278] لأن الكلام مع المؤمنين على سبيل التوبيخ والتقريع يدل عليه ما بعد هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ حسبما يعن لكم من المصالح آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات، والظاهر أن المراد بها آيات القرآن، وقيل: المعجزات لِيُخْرِجَكُمْ أي الله تعالى إذ هو سبحانه المخبر عنه، أو العبد لقرب الذكر والمراد ليخرجكم بها مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ من ظلمات الكفر إلى نور الايمان، وقرىء في السبعة ينزل مضارعا فبعض ثقل وبعض خفف. وقرأ الحسن بالوجهين، وقرأ زيد بن علي والأعمش أنزل ماضيا وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ مبالغ في الرأفة والرحمة حيث أزال عنكم موانع سعادة الدارين وهداكم إليها على أتم وجه، وقرىء في السبعة لَرَؤُفٌ بواوين، وقوله عز وجل: وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا توبيخ على ترك الإنفاق إما للمؤمنين الغير المنفقين أو لأولئك الموبخين أولا على ترك الإيمان، وبخهم سبحانه على ذلك بعد توبيخهم على ترك الإيمان بإنكار أن يكون لهم في ذلك أيضا عذر من الأعذار، و (أن) مصدرية لا زائدة كما قيل، واقتضاه كلام الأخفش والكلام على تقدير حرف الجر، فالمصدر المؤول في محل نصب أو جر على القولين وحذف مفعول الإنفاق للعلم به مما تقدم وقوله تعالى: فِي سَبِيلِ اللَّهِ لتشديد التوبيخ، والمراد به كل خير يقربهم إليه تعالى على سبيل الاستعارة التصريحية أي أيّ شيء لكم في أن لا تنفقوا فيما هو قربة إلى الله تعالى ما هو له في الحقيقة وإنما أنتم خلفاؤه سبحانه في صرفه إلى ما عينه عز وجل من المصارف، أو ما انتقل إليكم من غيركم وسينتقل منكم إلى الغير. وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي يرث كل شيء فيهما ولا يبقى لأحد مال على أن ميراثهما مجاز أو كناية عن ميراث ما فيهما لأن أخذ الظرف يلزمه أخذ المظروف. وجوز أن يراد يرثهما وما فيهما، واختير الأول أنه يكفي لتوبيخهم إذ لا علاقة لأخذ السماوات والأرض هنا، والجملة حال من فاعل لا تنفقوا أو مفعوله مؤكدة للتوبيخ فإن ترك الإنفاق بغير سبب قبيح منكر ومع تحقق ما يوجب الإنفاق أشد في القبح وأدخل في الإنكار فإن بيان بقاء جميع ما في السماوات والأرض من الأموال بالآخرة لله عز وجل من غير أن يبقى لأحد من أصحابها شيء أقوى في إيجاب الانفاق عليهم من بيان أنها لله تعالى في الحقيقة، أو أنها انتقلت إليهم من غيرهم كأنه قيل: ومالكم في ترك إنفاقها في سبيل الله تعالى، والحال أنه لا يبقى لكم ولا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 171 لغيركم منها شيء بل تبقى كلها لله عز وجل، وإظهار الاسم الجليل في موقع الإضمار لزيادة التقرير وتربية المهابة، وقوله تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ بيان لتفاوت درجات المنفقين حسب تفاوت أحوالهم في الإنفاق بعد بيان أن لهم أجرا كبيرا على الإطلاق حثا لهم على تحري الأفضل، وعطف القتال على الإنفاق للإيذان بأنه من أهم مواد الإنفاق مع كونه في نفسه من أفضل العبادات وأنه لا يخلو من الانفاق أصلا وقسيم مَنْ أَنْفَقَ محذوف أي لا يستوي ذلك وغيره، وحذف لظهوره ودلالة ما بعد عليه، والفتح فتح مكة على ما روي عن قتادة، وزيد بن أسلم ومجاهد- وهو المشهور- فتعريفه للعهد أو للجنس ادعاء وقال الشعبي: هو فتح الحديبية وقد مر وجه تسميته فتحا في سورة الفتح، وفي بعض الآثار ما يدل عليه. أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عام الحديبية حتى إذا كان بعسفان قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: يوشك أن يأتي قوم يحتقرون أعمالكم مع أعمالهم قلنا: من هم يا رسول الله أقريش؟ قال: لا ولكن هم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا، فقلنا: أهم خير منا يا رسول الله؟ قال: لو كان لأحدهم جبل من ذهب فأنفقه ما أدرك مدّ أحدكم ولا نصيفه ألا إن هذا فصل ما بيننا وبين الناس لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ الآية. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما قَبْلِ بغير مَنْ أُولئِكَ إشارة إلى من أنفق، والجمع بالنظر إلى معنى مَنْ كما أن إفراد الضميرين السابقين بالنظر إلى لفظها، ووضع اسم الإشارة البعيد موضع الضمير للتعظيم والإشعار بأن مدار الحكم هو إنفاقهم قبل الفتح وقتالهم، ومحله الرفع على الابتداء والخبر قوله تعالى: أَعْظَمُ دَرَجَةً أي أولئك المنعوتون بذينك النعتين الجليلين أرفع منزلة وأجل قدرا. مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ بعد الفتح وَقاتَلُوا وذهب بعضهم إلى أن فاعل لا يَسْتَوِي ضمير يعود على الانفاق أي لا يستوي هو أي الإنفاق أي جنسه إذ منه ما هو قبل الفتح ومنه ما هو بعده، ومَنْ أَنْفَقَ مبتدأ، وجملة أُولئِكَ أَعْظَمُ خبره وفيه تفكيك الكلام وخروج عن الظاهر لغير موجب فالوجه ما تقدم، ويعلم منه التزاما التفاوت بين الإنفاق قبل الفتح والانفاق بعده، وإنما كان أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا بعد لأنهم إنما فعلوا ما فعلوا عند كمال الحاجة إلى النصرة بالنفس والمال لقلة المسلمين وكثرة أعدائهم وعدم ما ترغب فيه النفوس طبعا من كثرة الغنائم فكان ذلك أنفع وأشد على النفس وفاعله أقوى يقينا بما عند الله تعالى وأعظم رغبة فيه، ولا كذلك الذين أنفقوا بعد وَكُلًّا أي كل واحد من الفريقين لا الأولين فقط وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أي المثوبة الحسنى وهي الجنة على ما روي عن مجاهد وقتادة، وقيل: أعم من ذلك والنصر والغنيمة في الدنيا، وقرأ ابن عامر وعبد الوارث- وكل- بالرفع، والظاهر أنه مبتدأ والجملة بعده خبر والعائد محذوف أي وعده كما في قوله: وخالد يحمد ساداتنا ... بالحق لا يحمد بالباطل يريد يحمده والجملة عطف على أولئك أعظم درجة وبينهما من التطابق ما ليس على قراءة الجمهور، ومنع البصريون حذف العائد من خبر المبتدأ، وقالوا: لا يجوز إلا في الشعر بخلاف حذفه من جملة الصفة وهم محجوجون بهذه القراءة، وقول بعضهم فيها: إن كل خبر مبتدأ تقديره، وأولئك كل، وجملة وَعَدَ اللَّهُ صفة- كل- تأويل ركيك، وفيه زيادة حذف، على أن بعض النحاة منع وصف- كل- بالجملة لأنه معرفة بتقدير الجزء: 14 ¦ الصفحة: 172 وكلهم، وقال الشهاب: الصحيح ما ذهب إليه ابن مالك من أن عدم جواز حذف العائد من جملة الخبر في غير- كل- وما ضاهاها في الافتقار والعموم فإنه في ذلك مطرد لكن ادعى فيه الإجماع وهو محل نزاع. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ عالم بظاهره وباطنه ويجازيكم على حسبه فالكلام وعد ووعيد، وفي الآيات من الدلالة على فضل السابقين المهاجرين والأنصار ما لا يخفى، والمراد بهم المؤمنون المنفقون المقاتلون قبل فتح مكة أو قبل الحديبية بناء على الخلاف السابق، والآية على ما ذكره الواحدي عن الكلبي نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أي بسببه، وأنت تعلم أن خصوص السبب لا يدل على تخصيص الحكم، فلذلك قال: أُولئِكَ ليشمل غيره رضي الله تعالى عنه ممن اتصف بذلك، نعم هو أكمل الأفراد فإنه أنفق قبل الفتح وقبل الهجرة جميع ماله وبذل نفسه معه عليه الصلاة والسلام ولذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «ليس أحد أمّن علي بصحبته من أبي بكر» وذلك يكفي لنزولها فيه، وفي الكشاف إن أولئك هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فيهم: «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» قال الطيبي: الحديث من رواية البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: «قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدا أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» ، وتعقبه في الكشف بأنه على هذا لا يختص بالسابقين الأولين كما أشار في الكشاف إليه وهو مبني على أن الخطاب في لا تسبوا ليس للحاضرين ولا للموجودين في عصره صلى الله تعالى عليه وسلم بل لكل من يصلح للخطاب كما في قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا [الأنعام: 27، 30] الآية وإلا فقد قيل: إن الخطاب يقتضي الحضور والوجود ولا بد من مغايرة المخاطبين بالنهي عن سبهم فهم السابقون الكاملون في الصحبة. وأقول شاع الاستدلال بهذا الحديث على فضل الصحابة مطلقا بناء على ما قالوا: إن إضافة الجمع تفيد الاستغراق وعليه صاحب الكشف، واستشكل أمر الخطاب، وأجيب عنه بما سمعت وبأنه على حدّ خطاب الله تعالى الأزلي لكن من بعض الأخبار ما يؤيد أن المخاطبين بعض من الصحابة والممدوحين بعض آخر منهم فتكون الإضافة للعهد أو بحمل الأصحاب على الكاملين في الصحبة. أخرج أحمد عن أنس قال: «كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام فقال لعبد الرحمن ابن عوف: تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها فبلغ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: دعوا لي أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد- أو مثل الجبال- ذهبا ما بلغتم أعمالهم» ثم في هذا الحديث تأييد ما لكون أولئك هم الذين أنفقوا قبل الحديبية لأن إسلامه رضي الله تعالى عنه كان بين الحديبية وفتح مكة كما في التقريب وغيره، والزمخشري فسر الفتح بفتح مكة فلا تغفل، قال الجلال المحلي: كون الخطاب في «لا تسبوا» للصحابة السابين، وقال: نزلهم صلى الله تعالى عليه وسلم بسبهم الذي لا يليق بهم منزلة غيرهم حيث علل بما ذكره وهو وجه حسن فتدبر وقوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ندب بليغ من الله تعالى إلى الانفاق في سبيله مؤكد للأمر السابق به وللتوبيخ على تركه فالاستفهام ليس على حقيقته بل للحث، والقرض الحسن الانفاق بالإخلاص وتحري أكرم المال وأفضل الجهات، وذكر بعضهم أن القرض الحسن ما يجمع عشر صفات. أن يكون من الحلال فإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا. وأن يكون من أكرم ما يملكه المرء. وأن يكون والمرء صحيح شحيح يأمل العيش ويخشى الفقر وأن يضعه في الأحوج الأولى. وأن يكتم ذلك، وأن لا يتبعه بالمنّ والأذى، وأن يقصد به وجه الله تعالى وأن يستحقر ما يعطي وإن كثر، وأن يكون من أحب أمواله إليه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 173 وأن يتوخى في إيصاله للفقير ما هو أسر لديه من الوجوه كحمله إلى بيته. ولا يخفى أنه يمكن الزيادة والنقص فيما ذكر. وأيما كان فالكلام إما على التجوز في الفعل فيكون استعارة تبعية تصريحية أو التجوز في مجموع الجملة فيكون استعارة تمثيلية وهو الأبلغ أي من ذا الذي ينفق ماله في سبيل الله تعالى مخلصا متحريا أكرمه وأفضل الجهات رجاء أن يعوضه سبحانه بدله كمن يقرضه فَيُضاعِفَهُ لَهُ فيعطيه أجره على إنفاقه مضاعفا أضعافا كثيرة من فضله. وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ أي وذلك الأجر المضموم اليه الإضعاف كريم مرضي في نفسه حقيق بأن يتنافس فيه المتنافسون، ففيه إشارة إلى أن الأجر كما أنه زائد في الكم بالغ في الكيف فالجملة حاليه لا عطف على فَيُضاعِفَهُ، وجوز العطف والمغايرة ثابتة بين الضعف والأجر نفسه فإن الإضعاف من محض الفضل والمثل فضل هو أجر، ونصب يضاعفه على جواب الاستفهام بحسب المعنى كأنه قيل: أيقرض الله تعالى أحد فيضاعفه له فإن المسئول عنه بحسب اللفظ وإن كان هو الفاعل لكنه في المعنى هو الفعل إذ ليس المراد أن الفعل قد وقع السؤال عن تعيين فاعله كقولك: من جاءك اليوم؟ إذا علمت أنه جاءه جاء لم تعرفه بعينه وإنما أورد على هذا الأسلوب للمبالغة في الطلب حتى كأن الفعل لكثرة دواعيه قد وقع وإنما يسأل عن فاعله ليجازي ولم يعتبر الظاهر لأنه يشترط بلا خلاف في النصب بعد الفاء أن لا يتضمن ما قبل وقوع الفعل نحو لم ضربت زيدا فيجازيك فإنه حينئذ لا يتضمن سبق مصدر مستقبل وعلى هذا يؤول كل ما فيه نصب وما قبل متضمن للوقوع، وقرأ غير واحد «فيضاعفه» بالرفع على القياس نظرا للظاهر المتضمن للوقع وهو إما عطف على يقرض أو على فهو (يضاعفه) وقرىء فيضعفه بالرفع والنصب يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ظرف لما تعلق به له أو له أو لقوله تعالى: فَيُضاعِفَهُ أو منصوب بإضمار اذكر تفخيما لذلك اليوم، والرؤية بصرية والخطاب لكل من تتأتى منه أو لسيد المخاطبين صلى الله تعالى عليه وسلم، وقوله عز وجل: يَسْعى نُورُهُمْ حال من مفعول ترى والمراد بالنور حقيقته على ما ظهر من شموس الأخبار- وإليه ذهب الجمهور- والمعنى يسعى نورهم إذا سعوا. بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قال: «يؤتون نورهم على قدر أعمالهم يمرون على الصراط منهم من نوره مثل الجبل ومنهم من نوره مثل النخلة وأدناهم نورا من نوره على إبهامه يطفأ مرة ويقد أخرى» وظاهره أن هذا النور يكون عند المرور على الصراط، وقال بعضهم: يكون قبل ذلك ويستمر معهم إذا مروا على الصراط، وفي الأخبار ما يقتضيه كما ستسمعه قريبا إن شاء الله تعالى، والمراد أنه يكون لهم في جهتين جهة الإمام وجهة اليمين وخصا لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم، وفي البحر الظاهر أن النور قسمان: نور بين أيديهم يضيء الجهة التي يؤمونها. ونور بأيمانهم يضيء ما حواليهم من الجهات، وقال الجمهور: إن النور أصله بأيمانهم والذي بين أيديهم هو الضوء المنبسط من ذلك، وقيل: الباء بمعنى عن أي وعن أيمانهم والمعنى في جميع جهاتهم، وذكر الأيمان لشرفها انتهى، ويشهد لهذا المعنى ما أخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن عبد الرحمن بن جبير بن نضير أنه سمع أبا ذر وأبا الدرداء قالا: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أنا أول من يؤذن له في السجود يوم القيامة وأول من يؤذن له فيرفع رأسه فأرفع رأسي فأنظر بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي فأعرف أمتي بين الأمم فقيل: يا رسول الله وكيف تعرفهم من بين الأمم ما بين نوح عليه السلام إلى أمتك؟ قال: غرّ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 174 محجلون من أثر الوضوء ولا يكون لأحد غيرهم وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم وأعرفهم بسيماهم في وجوههم من أثر السجود وأعرفهم بنورهم الذي يسعى بين أيديهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم» وظاهر هذا الخبر اختصاص النور بمؤمني هذه الأمة وكذا إيتاء الكتب بالأيمان وبعض الأخبار يقتضي كونه لكل مؤمن، أخرج ابن أبي حاتم عن أبي أمامة قال: «تبعث ظلمة يوم القيامة فما من مؤمن ولا كافر يرى كفه حتى يبعث الله تعالى بالنور للمؤمنين بقدر أعمالهم» الخبر ، وأخرج عنه الحاكم وصححه وابن أبي حاتم من وجه آخر وابن المبارك والبيهقي في الأسماء والصفات خبرا طويلا فيه أيضا ما هو ظاهر في العموم، وكذا ما أخرج ابن جرير والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال: بينما الناس في ظلمة إذ بعث الله تعالى نورا فلما رأى المؤمنين النور توجهوا نحوه وكان النور دليلا لهم من الله عز وجل إلى الجنة ، ولا ينافي هذا الخبر كونهم يمرون بنورهم على الصراط كما لا يخفى، وكذا إيتاء الكتب بالأيمان، ففي هداية المريد لجوهرة التوحيد ظاهر الآيات والأحاديث عدم اختصاصه يعني أخذ الصحف بهذه الأمة وإن تردد فيه بعض العلماء انتهى. ويمكن أن يقال: إن ما يكون من النور هذه الأمة أجلى من النور الذي يكون لغيرها أو هو ممتاز بنوع آخر من الامتياز، وأما إيتاء الكتب بالأيمان فلعله لكثرته فيها بالنسبة إلى سائر الأمم تعرف به، وفي هذا المطلب أبحاث أخر تذكر إن شاء الله تعالى في محلها، وقيل: أريد بالنور القرآن، وقال الضحاك: النور استعارة عن الهدى والرضوان الذي هم فيه، وقرأ سهل بن شعيب السهمي وأبو حيوة «وبإيمانهم» بكسر الهمزة، وخرّج ذلك أبو حيان على أن الظرف يعني أيديهم متعلق بمحذوف والعطف عليه بذلك الاعتبار أي كائنا بين أيديهم وكائنا بسبب إيمانهم وهو كما ترى، ولعله متعلق بالقول المقدر في قوله تعالى: بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ أي وبسبب إيمانهم يقال لهم ذلك، وجملة القول، إما معطوفة على ما قبل أو استئناف أو حال ويجوز على الحالية تقدير الوصف منه أي مقولا لهم، والقائل الملائكة الذين يتلقونهم. والمراد بالبشرى ما يبشر به دون التبشير والكلام على حذف مضاف أي ما تبشرون به دخول جنات يصح بدونه أي ما تبشرون به جنات، ويصح بدونه أي ما تبشرون به جنات، وما قيل: البشارة لا تكون بالأعيان فيه نظر، وتقدير المضاف لا يغني عن تأويل البشرى لأن التبشير ليس عين الدخول، وجملة قوله تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ في موضع الصفة لجنات: وقوله سبحانه: خالِدِينَ فِيها حال من جنات، قال أبو حيان: وفي الكلام التفات من ضمير الخطاب في بُشْراكُمُ إلى ضمير الغائب في خالِدِينَ ولو أجرى على الخطاب لكان التركيب خالدا أنتم فيها: ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يحتمل أن يكون من كلامه تعالى فالإشارة إلى ما ذكر من النور والبشرى بالجنات، ويحتمل أن يكون من كلام الملائكة عليهم السلام المتلقين لهم، فالإشارة إلى ما هم فيه من النور وغيره أو إلى الجنات بتأويل ما ذكر أو لكونها فوزا على ما قيل، وقرىء ذلك الفوز بدون هُوَ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 175 يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بدل من يَوْمَ تَرَى، وجوز أن يكون معمولا لا ذكر. وقال ابن عطية: يظهر لي أن العامل فيه ذلك هو الفوز العظيم، ويكون معنى الفوز عليه أعظم كأنه قيل: إن المؤمنين يفوزون يوم يعتري المنافقين والمنافقات كذا وكذا لأن ظهور المرء يوم خمول عدوه مضاده أبدع وأفخم. وتعقبه في البحر بأن ظاهر تقريره أن يوم منصوب بالفوز وهو لا يجوز لأنه مصدر قد وصف قبل أخذ متعلقاته فلا يجوز إعماله ولو أعمل وصفه وهو العظيم لجاز- أي الفوز الذي عظم- أي قدره يوم انتهى، وفي عدم جواز إعمال مثل هذا المصدر في مثل هذا المعمول خلاف، ثم إن تعلق هذا الظرف بشيء من تلك الجملة خلاف الظاهر لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا أي انتظرونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ نصب منه وذلك أن يلحقوا بهم فيستنيروا به. وقيل: فيأخذوا شيئا منه يكون معهم تخيلوا تأتّي ذلك فقالوه، وأصل الاقتباس طلب القبس أي الجذوة من النار، وجوز أن يكون المعنى انظروا إلينا نقتبس إلخ لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم والنور بين أيديهم فيستضيئون به فانظرونا على الحذف والإيصال لأن النظر بمعنى مجرد الرؤية يتعدى بإلى فإن أريد التأمل تعدى بفي لكن حمل الآية على ذلك خلاف الظاهر وقولهم: للمؤمنين ذلك لأنهم في ظلمة لا يذرون كيف يمشون فيها، وروي أنه يكون ذلك على الصراط. وفي الآثار دلالة على أنهم يكون لهم نور فيطفأ فيقولون ذلك، أخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله يدعو الناس يوم القيامة بأمهاتهم سترا منه على عباده وأما عند الصراط قال الله يعطي كل مؤمن نورا وكل منافق نورا فإذا استووا على الصراط أطفأ الله نور المنافقين والمنافقات فقال المنافقون: انظرونا نقتبس من نوركم، وقال المؤمنون: أتمم لنا نورنا فلا يذكر عند ذلك أحد أحدا» . وفي حديث آخر مرفوع عنه أيضا إن نور المنافق يطفأ قبل أن يأتي الصراط ، وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن أبي فاختة يجمع الله تعالى الخلائق يوم القيامة ويرسل الله سبحانه على الناس ظلمة فيستغيثون ربهم فيؤتي الله تعالى كل مؤمن منهم نورا ويؤتي المنافقين نورا فينطلقون جميعا متوجهين إلى الجنة معهم نورهم فبينما هم كذلك إذ أطفأ الله نور المنافقين فيترددون في الظلمة ويسبقهم المؤمنون بنورهم بين أيديهم فيقولون انظرونا نقتبس من نوركم الخبر ، والاخبار في إيتاء المنافق نورا ثم إطفائه كثيرة وليس في الآية ما يأباه. وقرأ زيد بن علي وابن وثاب والأعمش وطلحة وحمزة «أنظرونا» بقطع الهمزة وفتحها وكسر الظاء من النظرة وهي الامهال يقال أنظر المديون أي أمهله، وضع انْظُرُونا بمعنى المهلة وإنظار الدائن المديون موضع اتئاد الرفيق ومشيه الهوينا ليلحقه رفيقه على سبيل الاستعارة بعد سبق تشبيه الحالة بالحالة مبالغة في العجز وإظهار الافتقار، وقيل: هو من أنظر أي أخر، والمراد اجعلونا في آخركم ولا تسبقونا بحيث تفوتونا ولا نلحق بكم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 176 وقال المهدوي: «أنظرونا» «وانظرونا» بمعنى وهما من الانتظار تقول العرب: أنظرته بكذا وانتظرته بمعنى واحد والمعنى أمهلونا قِيلَ القائلون على ما روي عن ابن عباس المؤمنون، وعلى ما روي عن مقاتل الملائكة عليهم السلام. ارْجِعُوا وَراءَكُمْ قال ابن عباس: أي من حيث جئتم من الظلمة أو إلى المكان الذي قسم فيه النور على ما صح عن أبي أمامة فَالْتَمِسُوا نُوراً هناك، قال مقاتل: هذا من الاستهزاء بهم كما استهزؤوا بالمؤمنين في الدنيا حين قالوا آمنا وليسوا بمؤمنين، وذلك قوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة: 15] أي حين يقال لهم ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا، وقال أبو أمامة: يرجعون حين يقال لهم ذلك إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئا فينصرفون إليهم وقد ضرب بينهم بسور وهي خدعة الله تعالى التي خدع بها المنافقين حيث قال سبحانه: يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ [النساء: 142] ، وقيل: المراد ارجعوا إلى الدنيا والتمسوا نورا أي بتحصيل سببه وهو الإيمان أو تنحوا عنا والتمسوا نورا غير هذا فلا سبيل لكم إلى الاقتباس منه، والغرض التهكم والاستهزاء أيضا. وقيل: أرادوا بالنور ما وراءهم من الظلمة الكثيفة تهكما بهم وهو خلاف الظاهر، وأيا ما كان فالظاهر أن وراءكم معمول لارجعوا. وقيل: لا محل له من الإعراب لأنه بمعنى ارجعوا فكأنه قيل: ارجعوا ارجعوا كقولهم وراءك أوسع لك أي ارجع تجد مكانا أوسع لك فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ أي بين الفريقين، وقرأ زيد بن علي وعبيد بن عمير «فضرب» مبنيا للفاعل أي فضرب هو أي الله عز وجل بِسُورٍ أي بحاجز، قال ابن زيد: هو الأعراف، وقال غير واحد: حاجز غيره والباء مزيدة لَهُ بابٌ باطِنُهُ أي الباب كما روي عن مقاتل أو السور وهو الجانب الذي يلي مكان المؤمنين أعني الجنة فِيهِ الرَّحْمَةُ الثواب والنعيم الذي لا يكتنه وَظاهِرُهُ الجانب الذي يلي مكان المنافقين أعني النار مِنْ قِبَلِهِ أي من جهته الْعَذابُ وهذا السور قيل: يكون في تلك النشأة وتبدل هذا العالم واختلاف أوضاعه في موضع الجدار الشرقي من مسجد بيت المقدس. أخرج عبد بن حميد عن أبي سنان قال: كنت مع علي بن عبد الله بن عباس عند وادي جهنم يعني المكان المعروف عند بيت المقدس فحدث عن أبيه أنه قال، وقد تلا قوله تعالى: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ هذا موضع السور عند وادي جهنم، وأخرج هو وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وغيرهم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: إن السور الذي ذكره الله تعالى في القرآن فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ هو سور بيت المقدس الشرقي باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ المسجد وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ يعني وادي جهنم وما يليه. وأخرج عن عبادة بن الصامت أنه كان على سور بيت المقدس الشرقي فبكى فقيل: ما يبكيك؟ فقال: هاهنا أخبرنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه رأى جهنم ولا يخفى أن هذا ونظائره أمور مبنية على اختلاف العالمين وتغاير النشأتين على وجه لا تصل العقول إلى إدراك كيفيته والوقوف على تفاصيله، فإن صح الخبر لم يسعنا إلا الايمان لعدم خروج الأمر عن دائرة الإمكان، وأبو حيان حكى عمن سمعت وعن كعب الأحبار أنه الجدار الشرقي من مسجد بيت المقدس واستبعده ثم قال: ولعله لا يصح عنهم يُنادُونَهُمْ استئناف مبني على السؤال كأنه قيل: فماذا يفعلون بعد ضرب السور ومشاهدة العذاب؟ فقيل: ينادي المنافقون والمنافقات المؤمنين والمؤمنات أَلَمْ نَكُنْ في الدنيا مَعَكُمْ يريدون به موافقتهم لهم في الظاهر قالُوا بَلى كنتم معنا كما تقولون وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ محنتموها بالنفاق وأهلكتموها وَتَرَبَّصْتُمْ بالمؤمنين الدوائر وَارْتَبْتُمْ وشككتم في أمور الدين الجزء: 14 ¦ الصفحة: 177 وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ الفارغة التي من جملتها الطمع في انتكاس الإسلام وقال ابن عباس: فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بالشهوات واللذات وَتَرَبَّصْتُمْ بالتوبة وَارْتَبْتُمْ قال محبوب الليثي: شككتم في الله وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ طول الآمال، وقال أبو سنان: قلتم سيغفر لنا حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ أي الموت وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ الشيطان قال لكم: إن الله عفو كريم لا يعذبكم. وعن قتادة كانوا على خدعة من الشيطان والله ما زالوا عليها حتى قذفهم الله تعالى في النار. وقرأ سماك بن حرب الغرور بالضم، قال ابن جني: وهو كقوله: وغركم بالله تعالى الاغترار، وتقديره على حذف المضاف أي وغركم بالله تعالى سلامة الاغترار (1) ومعناه سلامتكم منه اغتراركم. فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ أيها المنافقون فِدْيَةٌ فداء وهو ما يبذل لحفظ النفس عن النائبة والناصب ليوم الفعل المنفي بلا، وفيه حجة على من منع ذلك، وقرأ أبو جعفر والحسن وابن أبي إسحاق والأعرج وابن عامر وهارون عن أبي عمرو لا تؤخذ التاء الفوقية وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي ظاهرا وباطنا فيغاير المخاطبين المنافقين، ثم الظاهر أن المراد بالفدية ما هو من جنس المال ونحوه، وجوز أن يراد بها ما يعم الإيمان والتوبة فتدل الآية على أنه لا يقبل إيمانهم وتوبتهم يوم القيامة وفيه بعد، وفي الحديث: إن الله تعالى يقول للكافر: أرأيتك لو كان لك أضعاف الدنيا أكنت تفتدي بجميع ذلك من عذاب النار؟ فيقول: نعم يا رب فيقول الله تبارك وتعالى: قد سألتك ما هو أيسر من ذلك وأنت في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي فأبيت إلا الشرك مَأْواكُمُ النَّارُ محل أويكم هِيَ مَوْلاكُمْ أي ناصركم من باب- تحية بينهم ضرب وجيع- والمراد نفي الناصر على البتات بعد نفي أخذ الفدية وخلاصهم بها عن العذاب، ونحوه قولهم: أصيب بكذا فاستنصر الجزع، ومنه قوله تعالى: يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ [الكهف: 29] وقال الكلبي والزجاج والفراء وأبو عبيدة: أي أولى بكم كما في قول لبيد يصف بقرة وحشية نفرت من صوت الصائد: فغدت كلا الفرجين تحسب أنه ... مولى المخافة خلفها وأمامها أي فغدت كلا جانبيها الخلف والإمام تحسب أنه أولى بأن يكون فيه الخوف، قال الزمخشري: وحقيقة مولاكم هي على هذا محراكم ومقمنكم أي المكان الذي يقال فيه هو أولى بكم كما قيل: هو مئنة للكرم أي مكان لقول القائل: إنه لكريم فأولى نوع من اسم المكان لوحظ فيه معنى أولى إلا أنه مشتق منه كما أن المئنة ليست مشتقة من إن التحقيقية، وفي التفسير الكبير إن قولهم ذلك بيان لحاصل المعنى وليس بتفسير اللفظ لأنه لو كان مولى وأولى بمعنى واحد في اللغة لصح استعمال كل منهما في مكان الآخر وكان يجب أن يصح هذا أولى فلان كما يقال: هذا مولى فلان ولما بطل ذلك علمنا أن الذي قالوه معنى وليس بتفسير، ثم صرح بأنه أراد بذلك رد استدلال الشريف المرتضى بحديث الغدير من كنت مولاه فعليّ مولاه على إمامة الأمير كرم الله تعالى وجهه حيث قال: أحد معاني المولى الاولى. وحمله في الخبر عليه متعين لأن إرادة غيره يجعل الاخبار عبثا كإرادة الناصر والصاحب وابن العم، أو يجعله كذبا كالمعتق والمعتق ولا يخفى على المنصف أنه إن أراد بكونه معنى لا تفسير ما أشار إليه الزمخشري من التحقيق فهو لا يرد الاستدلال إذ يكفي للمرتضى أن يقول: المولى في الخبر بمعنى المكان الذي يقال فيه أولى إذ يلزم على   (1) هكذا في الأصل فليتنبه. ادارة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 178 غيره العبث أو الكذب وإن أراد أن ذلك معنى لازم لما هو تفسير له كأن يكون تفسيره القائم بمصالحكم ونحوه مما يكون ذلك لازما له ففي رده الاستدلال أيضا تردد، وإن أراد شيئا آخر فنحن لا ندري ما هو- وهو لم يبينه- والحق أنه ولو جعل المولى بمعنى الأولى أو المكان الذي يقال فيه الأولى لا يتم الاستدلال بالخبر على الإمامة التي تدعيها الإمامية للأمير كرم الله تعالى وجهه لما بين في موضعه، وفي التحفة الاثني عشرية ما فيه كفاية لطالب الحق. وقال ابن عباس أي مصيركم وتحقيقه على ما قال الإمام: إن المولى بمعنى موضع الولي وهو القرب والمعنى هي موضعكم الذي تقربون منه وتصلون إليه، وأنت تعلم أن الاخبار بذلك بعد الاخبار بأنها مأواهم ليس فيه كثير جدوى على أن وضع اسم المكان للموضع الذي يتصف صاحبه بالمأخذ حال كونه فيه والقرب من النار وصف لأولئك قبل الدخول فيها ولا يحسن وصفهم به بعد الدخول ولو اعتبر مجاز الكون كما لا يخفى، وجوز بعضهم اعتبار كونه اسم مكان من الولي بمعنى القرب لكن على أن المعنى هي مكان قربكم من الله سبحانه ورضوانه على التهكم بهم وقيل: أي متوليكم أن المتصرفة فيكم كتصرفكم فيما أوجبها واقتضاها في الدنيا من المعاصي والتصرف استعارة للإحراق والتعذيب، وقيل: مشاكلة تقديرية وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي النار وهي المخصوص بالذم المحذوف لدلالة السياق أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ استئناف لعتاب المؤمنين على الفتور والتكاسل فيما ندبوا اليه والمعاتب على ما قاله الزجاج طائفة من المؤمنين وإلا فمنهم من لم يزل خاشعا منذ أسلم إلى أن ذهب إلى ربه، وما نقل عن الكلبي ومقاتل أن الآية نزلت في المنافقين فهم المراد بالذين آمنوا مما لا يكاد يصح، وقد سمعت صدر السورة الكريمة ما روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه. وأخرج ابن المبارك وعبد الرزاق وابن المنذر والأعمش قال: لما قدم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة فأصابوا من لين العيش ما أصابوا بعد ما كان لهم من الجهد فكأنهم فتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوتبوا فنزلت أَلَمْ يَأْنِ الآية. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: إن الله تعالى استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن فقال سبحانه: أَلَمْ يَأْنِ الآية، وفي خبر ابن مردويه عن أنس بعد سبع عشرة سنة من نزول القرآن. وأخرج عن عائشة قالت: خرج رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم على نفر من أصحابه في المسجد وهم يضحكون فسحب رداءه محمرا وجهه فقال: أتضحكون ولم يأتكم من ربكم بأنه قد غفر لكم وقد نزل علي في ضحككم آية أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ إلخ؟ قالوا: يا رسول الله فما كفارة ذلك؟ قال: تبكون بقدر ما ضحكتم ، وفي الخبر أن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام قد ظهر فيهم المزاح والضحك فنزلت، وحديث مسلم ومن معه السابق مقدم على هذه الآثار على ما يقتضيه كلام أهل الحديث، ويَأْنِ مضارع أنى الأمر أنيا وأناء وإناء بالكسر إذا جاء أناه أي وقته، أي ألم يجىء وقت أن تخشع قلوبهم لذكره عز وجل. وقرأ الحسن وأبو السمال- ألما- بالهمزة، ولما النافية الجازمة كلم إلا أن فيه أن المنفي متوقع. وقرأ الحسن يئن مضارع آن أينا بمعنى أني السابق، وقال أبو العباس: قال قوم: إن يئين أينا الهمزة مقلوبة فيه عن الحاء وأصله حان يحين حينا وأصل الكلمة من الحين وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ أي القرآن وهو عطف على ذكر الله فإن كان هو المراد به أيضا فالعطف لتغاير العنوانين نحو: هو الملك القرم وابن الهمام فإنه ذكر وموعظة كما أنه حق نازل من السماء وإلا بأن كان المراد به تذكير الله تعالى إياهم فالعطف لتغاير الجزء: 14 ¦ الصفحة: 179 الذاتين على ما هو الشائع في العطف وكذا إذا أريد به ذكرهم الله تعالى بالمعنى المعروف، وجوز العطف على الاسم الجليل إذا أريد بالذكر التذكير وهو كما ترى، وقال الطيبي: يمكن أن يحمل الذكر على القرآن وما نزل من الحق على نزول السكينة معه أي الواردات الإلهية ويعضده ما روينا عن البخاري ومسلم والترمذي عن البراء كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط بشطنين فغشيته سحابة فجعلت تدنو وجعل فرسه ينفر منها فلما أصبح أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فذكر له ذلك فقال: تلك السكينة تنزل للقرآن. وفي رواية اقرأ فلان فإنها السكينة تنزل عند القرآن وللقرآن انتهى، ولا يخفى بعد ذلك جدّا ولعلك تختار حمل الذكر وما نزل على القرآن لما يحس مما بعد من نوع تأييد له، وفسر الخشوع للقرآن بالانقياد التام لأوامره ونواهيه والعكوف على العمل بما فيه من الأحكام من غير توان ولا فتور، والظاهر أنه اعتبر كون اللام صلة الخشوع، وجوز كونها للتعليل على أوجه الذكر فالمعنى ألم يأن لهم أن ترق قلوبهم لأجل ذكر الله تعالى وكتابه الحق النازل فيسارعوا إلى الطاعة على أكمل وجوهها، وفي الآية حض على الخشوع، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كما أخرج عنه ابن المنذر إذا تلاها بكى ثم قال: بلى يا رب بلى يا رب، وعن الحسن أما والله لقد استبطأهم وهم يقرؤون من القرآن أقل مما تقرءون فانظروا في طول ما قرأتم وما ظهر فيكم من الفسق، وروى السلمي عن أحمد بن أبي الحواري قال بينا أنا في بعض طرقات البصرة إذ سمعت صعقة فأقبلت نحوها فرأيت رجلا قد خر مغشيا عليه فقلت: ما هذا؟ فقالوا: كان رجلا حاضر القلب فسمع آية من كتاب الله فخر مغشيا عليه فقلت: ما هي؟ فقيل: قوله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ فأفاق الرجل عند سماع كلامنا فأنشأ يقول: أما آن للهجران أن يتصرما ... وللغصن غصن البان أن يتبسما وللعاشق الصب الذي ذاب وانحنى ... ألم يأن أن يبكى عليه ويرحما كتبت بماء الشوق بين جوانحي ... كتابا حكى نقش الوشي المنمنما ثم قال: إشكال إشكال إشكال فخر مغشيا عليه فحركناه فإذا هو ميت، وعن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أن هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة فبكوا بكاء شديدا فنظر إليهم فقال: هكذا كنا حتى قست القلوب، ولعله أراد رضي الله تعالى عنه أن الطراز الأول كان كذلك حتى قست قلوب كثير من الناس ولم يتأسوا بالسابقين وغرضه مدح أولئك القوم بما كان هو ونظراؤه عليه رضي الله تعالى عنهم، ويحتمل أن يكون قد أراد ما هو الظاهر، والكلام من باب هضم النفس كقوله رضي الله تعالى عنه: أقيلوني فلست بخيركم، وقال شيخ الإسلام أبو حفص السهروردي قدس سره: معناه تصلبت وأدمنت سماع القرآن وألفت أنواره فما تستغربه حتى تتغير كما تغير هؤلاء السامعون انتهى وهو خلاف الظاهر، وفيه نوع انتقاص للقوم ورمز إلى أن البكاء عند سماع القرآن لا يكون من كامل كما يزعمه بعض جهلة الصوفية القائلين: إن ذلك لا يكون إلا لضعف القلب عن تحمل الواردات الإلهية النورانية ويجل عن ذلك كلام الصديق رضي الله تعالى عنه، وقرأ غير واحد من السبعة «وما نزّل» بالتشديد، والجحدري وأبو جعفر والأعمش وأبو عمرو في رواية يونس وعباس عنه «نزّل» مبنيا للمفعول مشددا، وعبد الله- أنزل- بهمزة النقل مبنيا للفاعل. وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ لا نافية وما بعدها منصوب معطوف على تخشع. وجوز أن تكون ناهية وما بعدها مجزوم بها ويكون ذلك انتقالا إلى نهي أولئك المؤمنين عن مماثلة أهل الكتاب بعد أن عوتبوا بما سمعت وعلى النفي هو في المعنى نهي أيضا، وقرأ أبو بحرية وأبو حيوة وابن أبي عبلة وإسماعيل عن أبي جعفر، وعن شيبة ويعقوب وحمزة في رواية عن سليم عنه «ولا تكونوا» بالتاء الفوقية على سبيل الالتفات للاعتناء الجزء: 14 ¦ الصفحة: 180 بالتحذير، وفي لا ما تقدم، والنهي مع الخطاب أظهر منه مع الغيبة. فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ أي الأجل بطول أعمارهم وآمالهم، أو طال أمد ما بينهم وبين أنبيائهم عليهم السلام وبعد العهد بهم، وقيل: أمد انتظار القيامة والجزاء، وقيل: أمد انتظار الفتح، وفرقوا بين الأمد والزمان بأن الأمد يقال الغاية والزمان عام من المبدأ والغاية، وقرأ ابن كثير في رواية الأمدّ بتشديد الدال أي الوقت الأطول فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ صلبت فهي كالحجارة، أو أشد قسوة وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن حدود دينهم رافضون لما في كتابهم بالكلية، قيل: من فرط القسوة وذكر أنه مأخوذ من كون الجملة حال، وفيه خفاء والأظهر أنه من السياق، والمراد بالكتاب الجنس فالموصول يعم اليهود والنصارى وكانوا كلهم في أوائل أمرهم يحول الحق بينهم وبين كثير من شهواتهم وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا لله تعالى ورقت قلوبهم فلما طال عليهم الزمان غلبهم الجفاء والقسوة وزالت عنهم الروعة التي كانوا يجدونها عند سماع الكتابين وأحدثوا ما أحدثوا واتبعوا الأهواء وتفرقت بهم السبل، والقسوة مبدأ الشرور وتنشأ من طول الغفلة عن الله تعالى، وعن عيسى عليه السلام: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله تعالى فتقسو قلوبكم فإن القلب القاسي بعيد من الله عز وجل ولا تنظروا إلى ذنوب العباد كأنكم أرباب وانظروا في ذنوبكم كأنكم عباد والناس رجلان مبتلى ومعافى فارحموا أهل البلاء واحمدوا على العافية ومن أحس بقسوة في قلبه فليهرع إلى ذكر الله تعالى وتلاوة كتابه يرجع إليه حاله كما أشار إليه قوله عز وجل: اعلموا أنّ الله يحيي الأرض بعد موتها فهو تمثيل ذكر استطرادا لإحياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة بإحياء الأرض الميتة بالغيث للترغيب في الخشوع والتحذير عن القساوة قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ التي من جملتها هذه الآيات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ كي تعقلوا ما فيها وتعملوا بموجبها فتفوزوا بسعادة الدارين. إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ أي المتصدقين والمتصدقات، وقد قرأ أبيّ كذلك، وقرأ ابن كثير وأبو بكر والمفضل وأبان وأبو عمرو في رواية هارون بتخفيف الصاد من التصديق لا من الصدقة كما في قراءة الجمهور أي الذين صدقوا واللاتي صدقن الله عز وجل ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم، والقراءة الأولى أنسب بقوله تعالى: وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وقيل: الثانية أرجح لأن الإقراض يغني عن ذكر التصديق، وأنت ستعلم إن شاء الله تعالى فائدته، وعطف أَقْرَضُوا على معنى الفعل من المصدقين على ما اختاره أبو علي والزمخشري لأن أل بمعنى الذين، واسم الفاعل بمعنى الفعل فكأنه قيل: إن الذين اصدقوا أو صدقوا على القراءتين وَأَقْرَضُوا وتعقبه أبو حيان وغيره بأن فيه الفصل بين أجزاء الصلة إذ المعطوف على الصلة بأجنبي وهو المصدقات، وذلك لا يجوز، وقال صاحب التقريب: هو محمول على المعنى كأنه قيل: إن الناس الذين تصدقوا وتصدقن أأقرضوا فهو عطف على الصلة من حيث المعنى بلا فصل، وتعقب بأنه لا محصل له إلا إذا قيل: إن أل الثانية زائدة لئلا يعطف على صورة جزء الكلمة، وفيه بعد، ولا يخفى أن حديث اعتبار المعنى يدفع ما ذكر، ومن هنا قيل: إنه قريب ولا يبعد تأنيثا وتذكيرا لا يضر لأن أل تصلح للجميع فيراد بها معنى اللاتي عند عود ضمير جمع الإناث عليها ومعنى الذي عند عود ضمير جمع الذكور عليها وهو كما ترى، ومثله ما قيل: هو من باب كل رجل وضيعته أي إن المصدقين مقرونون مع المصدقات في الثواب والمنزلة، أو يقدر خبر أي- إن المصدقين والمصدقات يفلحون- وَأَقْرَضُوا في الوجهين ليس عطفا على الصلة بل مستأنف ويضاف بعد صفة قرضا أو استئناف ومن أنصف لم ير ذلك مما ينبغي أن يخرج عليه كلام أدنى الفصحاء فضلا عن كلام رب العالمين، واختار أبو حيان تخريج ذلك على حذف الموصول لدلالة ما قبله عليه كأنه قيل: والذين أقرضوا فيكون مثل قوله الجزء: 14 ¦ الصفحة: 181 فمن يهجر رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء وهو مقبول على رأي الكوفيين دون رأي البصريين فإنهم لا يجوزون حذف الموصول في مثله، وبعض أئمة المحققين بعد أن استقرب توجيه التقريب ولم يستبعد تنزيل ما سمعت عن الزمخشري وأبي علي عليه قال: وأقرب منه أن يقال: إن الْمُصَّدِّقاتِ منصوب على التخصيص كأنه قيل: «إن المصدقين» عاما على التغليب وأخص المتصدقات منهم كما تقول: إن الذين آمنوا ولا سيما العلماء منهم وعملوا الصالحات لهم كذا. ووجه التخصيص ما ورد في قوله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار» يحضهن على الصدقة بأنهن إذا فعلن ذلك كان له تعالى أقبل وجزاؤه عنه سبحانه أوفر وأفضل، ثم قال: ولما لم يكن الإقراض غير ذلك التصدق قيل: وأقرضوا أي بذلك التصدق تحقيقا لكينونته وأنهم مثل ذلك ممثلون عند الله تعالى بمن يعامل مع أجود الأجودين معاملة برضاه، ولو قيل: والمقرضين لفاتت هذه النكتة انتهى. ولا يخفى أن نصب المصدقات على التخصيص خلاف الظاهر، وأما ما ذكره في نكتة العدول عن المفروضين فحسن وهو متأت على تخريج أبي علي والزمخشري، وعلى تخريج أبي حيان، وقال الخفاجي: القول- أي قول أبي البقاء- بأن أقرضوا إلخ معترض بين اسم إن وخبرها أظهر وأسهل، وكأن النكتة فيه تأكيد الحكم بالمضاعفة، وزعم أن الجملة حال بتقدير قد أو بدونها من ضميري المصدقين والمصدقات لا يخفى معنى وعربية فتدبر يُضاعَفُ لَهُمْ الضمير لجميع المتقدمين الذكور والإناث على التغليب كضمير أقرضوا، والجار والمجرور نائب الفاعل، وقيل: هو ضمير التصدق أو ضمير القرض على حذف مضاف أي يضاعف ثواب التصدق أو ثواب القرض لهم، وقرأ ابن كثير وابن عامر «يضعّف» بتشديد العين، وقرىء «يضاعف» بالبناء للفاعل أي يضاعف الله عز وجل لهم ثواب ذلك وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ قد مر الكلام فيه. وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ قد بين كيفية إيمانهم في خاتمة سورة البقرة، والموصول مبتدأ أول، وقوله تعالى: أُولئِكَ مبتدأ ثان، وهو إشارة إلى الموصول وما فيه من معنى البعد لما مر مرارا، وقوله سبحانه: هُمُ مبتدأ ثالث، وقوله عز وجل: الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ خبر الثالث، والجملة خبر الثاني وهو مع خبره خبر الأول أو هم ضمير فصل وما بعده خبر الثاني، وقوله تعالى: عِنْدَ رَبِّهِمْ متعلق على ما قيل: بالثبوت الذي تقتضيه الجملة أي أولئك عند ربهم عز وجل وفي حكمه وعلمه سبحانه هم الصديقون والشهداء. والمراد أولئك في حكم الله تعالى بمنزلة الصديقين والشهداء المشهورين بعلو الرتبة ورفعة المحل وهم الذين سبقوا إلى التصديق ورسخوا فيه واستشهدوا في سبيل الله جل جلاله وسمي من قتل مجاهدا في سبيله شهيدا لأن الله سبحانه وملائكته عليهم السلام شهود له بالجنة، وقيل: لأنه حي لم يمت كأنه شاهد أي حاضر، وقيل: لأن ملائكة الرحمة تشهده، وقيل: لأنه شهد ما أعد الله تعالى له من الكرامة، وقيل: غير ذلك فهو إما فعيل بمعنى فاعل أو بمعنى مفعول على اختلاف التأويل، وقوله تعالى لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ خبر ثان للموصول على أنه جملة من مبتدأ وخبر. أو لَهُمْ الخبر وما بعده مرتفع به على الفاعلية وضمير لَهُمْ للموصول، والضميران الأخيران للصديقين والشهداء، والغرض بيان ثمرات ما وصفوا به من نعوت الكمال أي أولئك لهم مثل أجر الصديقين والشهداء ونورهم المعروفين بغاية الكمال وعزة المنال، وقد حذف أداة التشبيه تنبيها على قوة المماثلة وبلوغها حد الاتحاد كما فعل ذلك أولا حيث قيل: أولئك هم الصديقون والشهداء وليست المماثلة بين ما للفريق الأول من الأجر والنور. وبين تمام ما للفريقين الأخيرين بل بين تمام ما للأول من الأصل والإضعاف وبين ما للأخيرين من الأصل بدون الإضعاف، فالإضعاف هو الذي امتاز به الجزء: 14 ¦ الصفحة: 182 الفريقان الأخيران على الفريق الأول وقد لا يعتبر تشبيه بليغ في الكلام أصلا ويبقى على ظاهره والضمائر كلها للموصول أي أولئك هم المبالغون في الصدق حيث آمنوا وصدقوا جميع أخبار الله تعالى وأخبار رسله عليهم الصلاة والسلام والقائمون بالشهادة لله سبحانه بالوحدانية وسائر صفات الكمال ولهم بما يليق بهم من ذلك لهم الأجر والنور الموعودان لهم، وقال بعضهم: وصفهم بالشهادة لكونهم شهداء على الناس كما نطق به قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] فعند ربهم متعلق بالشهداء، والمراد والشهداء على الناس يوم القيامة، وجوز تعلقه بالشهداء أيضا على الوجه الأول على معنى الذين شهدوا مزيد الكرامة بالقتل في سبيل الله تعالى يوم القيامة أو في حظيرة رحمته عز وجل أو نحو ذلك، ويشهد لكون الشهداء معطوفا على الصديقين آثار كثيرة. أخرج ابن جرير عن البراء بن عازب قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: إن مؤمني أمتي شهداء، ثم تلا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أنه قال يوما لقوم عنده: كلكم صديق وشهيد قيل له: ما تقول يا أبا هريرة؟ قال: اقرؤوا وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ الآية، وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن مجاهد قال: كل مؤمن صديق وشهيد ثم تلا الآية، وأخرج عبد بن حميد نحوه عن عمرو بن ميمون، وأخرج ابن حبان عن عمرو بن مرة الجهني قال: «جاء رجل إلى النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصليت الصلوات الخمس وأديت الزكاة وصمت رمضان وقمته فممن أنا؟ قال: من الصديقين والشهداء» وينبغي أن يحمل الذين آمنوا على من لهم كما في ذلك يعتدّ به ولا يتحقق إلا بفعل طاعات يعتدّ بها وإلا فيبعد أن يكون المؤمن المنهمك في الشهوات الغافل عن الطاعات صديقا شهيدا، ويستأنس لذلك بما جاء من حديث عمر رضي الله تعالى عنه ما لكم إذا رأيتم الرجل يخترق أعراض الناس أن لا تعيبوا عليه؟ قالوا: نخاف لسانه قال: ذلك أحرى أن لا تكونوا شهداء، قال ابن الأثير: أي إذا لم تفعلوا ذلك لم تكونوا في جملة الشهداء الذين يستشهدون يوم القيامة على الأمم التي كذبت أنبياءها، وكذا بقوله عليه الصلاة والسلام: اللعانون لا يكونون شهداء بناء على أحد قولين فيه. وفي بعض الأخبار ما ظاهره إرادة طائفة من خواص المؤمنين، أخرج ابن مردويه عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض مخافة الفتنة على نفسه ودينه كتب عند الله صديقا فإذا مات قبضه الله شهيدا وتلا هذه الآية وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ ثم قال هذه فيهم ثم قال: الفرّارون بدينهم من أرض إلى أرض يوم القيامة مع عيسى ابن مريم في درجته في الجنة» ويجوز أن يراد من قوله: «هذه فيهم» أنها صادقة عليهم وهم داخلون فيها دخولا أوليا، ويقال: في قوله عليه الصلاة والسلام: «مع عيسى في درجته» المراد معه في مثل درجته وتوجه المماثلة بما مر والخبر إذا صح يؤيد الوجه الأول في الآية. وروي عن الضحاك أنها نزلت في ثمانية نفر سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وحمزة وطلحة والزبير وسعد وزيد رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وهذا لا يضر في العموم كما لا يخفى، وقيل: الشهداء مبتدأ وعِنْدَ رَبِّهِمْ خبره، وقيل: الخبر لَهُمْ أَجْرُهُمْ والكلام عليهما قد تم عند قوله تعالى: الصِّدِّيقُونَ، وأخرج هذا ابن جرير عن ابن عباس والضحاك قالا: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ هذه مفصولة سماهم صديقين، ثم قال: والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم. وروى جماعة عن مسروق ما يوافقه، واختلفوا في المراد بالشهداء على هذا فقيل: الشهداء في سبيل الله تعالى. وحكي ذلك عن مقاتل بن سليمان، وقيل: الأنبياء عليهم السلام الذين يشهدون للأمم عليهم، وحكي ذلك الجزء: 14 ¦ الصفحة: 183 عن مسروق ومقاتل بن حيان واختاره الفراء والزجاج، وزعم أبو حيان أن الظاهر كون الشهداء مبتدأ وما بعده خبر، ومن أنصف يعلم أنه ليس كما قال، وأن الذي تقتضيه جزالة النظم الكريم هو ما تقدم، ثم النور على جميع الأوجه على حقيقته وعن مجاهد وغيره أنه عبارة عن الهدى والكرامة والبشرى. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أي بجميعها على اختلاف أنواعها وهو إشارة إلى كفرهم بالرسل عليهم السلام جميعهم أُولئِكَ الموصوفون بتلك الصفة القبيحة أَصْحابُ الْجَحِيمِ بحيث لا يفارقونها أبدا [الحديد: 20- 29] اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ بعد ما بين حال الفريقين في الآخرة شرح حال الحياة التي اطمأن بها الفريق الثاني، وأشير إلى من محقرات الأمور التي لا يركن إليها العقلاء فضلا عن الاطمئنان بها بأنها لعب لا ثمرة فيها سوى التعب وَلَهْوٌ تشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه وَزِينَةٌ لا يحصل منها شرف ذاتي كالملابس الحسنة والمراكب البهية والمنازل الرفيعة وَتَفاخُرٌ بالأنساب والعظام البالية وَتَكاثُرٌ بالعدد والعدد، وقرأ السلمي «وتفاخر بينكم» بالإضافة ثم أشير إلى أنها مع ذلك الجزء: 14 ¦ الصفحة: 184 سريعة الزوال وشيكة الاضمحلال بقوله سبحانه: كَمَثَلِ غَيْثٍ مطر أَعْجَبَ الْكُفَّارَ أي راقهم نَباتُهُ أي النبات الحاصل به، والمراد بالكفار إما الحراث على ما روي عن ابن مسعود لأنهم يكفرون أي يسترون البذر في الأرض ووجه تخصيصهم بالذكر ظاهر، وأما الكافرون بالله سبحانه ووجه تخصيصهم أنهم أشد إعجابا بزينة الدنيا فإن المؤمن إذا رأى معجبا انتقل فكره إلى قدرة موجده عز وجل فأعجب بها، ولذا قال أبو نواس في النرجس: عيون من لجين شاخصات ... على أطرافها ذهب سبيك على قضب الزبرجد شاهدات ... بأن الله ليس له شريك والكافر لا يتخطى فكره عما أحس به فيستغرق إعجابا ثُمَّ يَهِيجُ يتحرك إلى أقصى ما يتأتى له، وقيل: أي يجف بعد خضرته ونضارته فَتَراهُ يا من تصح منه الرؤية مُصْفَرًّا بعد ما رأيته ناضرا مونقا، وقرىء مصفارا وإنما لم يقل فيصفر قيل: إيذانا بأن اصفراره غير مقارن لهيجانه وإنما المترتب عليه رؤيته كذلك، وقيل: للإشارة إلى ظهور ذلك لكل أحد ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً هشيما متكسرا من اليبس، ومحل الكاف قيل: النصب على الحالية من الضمير في لَعِبٌ لأنه في معنى الوصف، وقيل: الرفع على أنه خبر بعد خبر للحياة الدنيا بتقدير المضاف إليه أي مثل الحياة كمثل إلخ، ولتضمن ذلك تشبيه جميع ما فيها من السنين الكثيرة بمدة نبات غيث واحد يفنى ويضمحل في أقل من سنة جاءت الإشارة إلى سرعة زوالها وقرب اضمحلالها، وبعد ما بيّن حقارة أمر الدنيا تزهيدا فيها وتنفيرا عن العكوف عليها أشير إلى فخامة شأن الآخرة وعظم ما فيها من اللذات والآلام ترغيبا في تحصيل نعيمها المقيم وتحذيرا من عذابها الأليم، وقدم سبحانه ذكر العذاب فقال جل وعلا: وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ لأنه من نتائج الانهماك فيما فصل من أحوال الحياة الدنيا وَمَغْفِرَةٌ عظيمة مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ عظيم لا يقادر قدره، وفي مقابلة العذاب الشديد بشيئين إشارة إلى غلبة الرحمة وأنه من باب «لن يغلب عسر يسرين» . وفي ترك وصف العذاب بكونه من الله تعالى مع وصف ما بعده بذلك إشارة إلى غلبتها أيضا ورمز إلى أن الخير هو المقصود بالقصد الأولى وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ لمن اطمأن بها ولم يجعلها ذريعة للآخرة ومطية لنعيمها، روي عن سعيد بن جبير الدنيا متاع الغرور إن ألهتك عن طلب الآخرة. فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله تعالى وطلب الآخرة فنعم المتاع ونعم الوسيلة سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ أي سارعوا مسارعة السابقين لأقرانهم في المضمار إلى أسباب مغفرة عظيمة كائنة مِنْ رَبِّكُمْ والكلام على الاستعارة أو المجاز المرسل واستعمال اللفظ في لازم معناه وإنما لزم ذلك لأن اللازم أن يبادر من يعمل ما يكون سببا للمغفرة ودخول الجنة لا أن يعمله أو يتصف بذلك سابقا على آخر وقيل: المراد سابقوا ملك الموت قبل أن يقطعكم بالموت عن الأعمال الموصلة لما ذكر وقيل: سابقوا إبليس قبل أن يصدقكم بغروره وخداعه عن ذلك وهو كما ترى. والمراد بتلك الأسباب الأعمال الصالحة على اختلاف أنواعها، وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في الآية: كن أوّل داخل المسجد وآخر خارج، وقال عبد الله: كونوا في أول صف القتال، وقال أنس: اشهدوا تكبيرة الإحرام مع الإمام وكل ذلك من باب التمثيل، واستدل بهذا الأمر على أن الصلاة بأول وقتها أفضل من التأخير وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي كعرضهما جميعا لو ألصق أحدهما بالآخر وإذا كان العرض وهو أقصر الامتدادين موصوفا بالسعة دل على سعة الطول بالطريق الأولى فالاقتصار عليه أبلغ من ذكر الطول معه، وقيل: المراد بالعرض البسطة ولذا وصف به الدعاء ونحوه مما ليس من ذوي الابعاد وتقدم قول آخر في تفسير نظير الآية من سورة آل عمران وتقديم المغفرة على الجنة لتقدم التخلية على التحلية. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 185 أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أي هيئت لهم، واستدل بذلك عن أن الجنة موجودة الآن لقوله تعالى: أُعِدَّتْ بصيغة الماضي والتأويل خلاف الظاهر، وقد صرح بخلافه في الأحاديث الصحيحة وتمام الكلام في علم الكلام، وعلى أن الإيمان وحده كاف في استحقاق الجنة لذكره وحده فيما في حيز ما يشعر بعلة الإعداد وإدخال العمل في الإيمان المعدّى بالباء غير مسلم كذا قالوا، ومتى أريد بالذين آمنوا المذكورين من لهم درجة في الايمان يعتد بها، وقيل: بأنها لا تحصل بدون الأعمال الصالحة على ما سمعته منا قريبا انخدش الاستدلال الثاني في الجملة كما لا يخفى، وذكر النيسابوري في وجه التعبير هنا- بسابقوا- وفي آية آل عمران- بسارعوا- وبالسماء هنا، والسماوات هناك- وبكعرض- هنا- وبعرض- بدون أداة تشبيه ثمّ كلاما مبنيا على أن المراد بالمتقين هناك السابقون المقربون، وبالذين آمنوا هنا من هم دون أولئك حالا فتأمل ذلِكَ أي الذي وعد من المغفرة والجنة فَضْلُ اللَّهِ عطاؤه الغير الواجب عليه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ إيتاءه وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ فلا يبعد منه عز وجل التفضل بذلك على من يشاء وإن عظم قدره، فالجملة تذييل لإثبات ما ذيل بها. ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ أي نائبة أيّ نائبة وأصلها في الرمية وهي من أصاب السهم إذا وصل إلى المرمى بالصواب ثم خصت بها. وزعم بعضهم أنها لغة عامة في الشر والخير وعرفا خاصة بالشر، ومِنْ مزيدة للتأكيد، وأصاب جاء في الشر كما هنا، وفي الخير كقوله تعالى: وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ [النساء: 73] وذكر بعضهم أنه يستعمل في الخير اعتبارا بالصوب أي بالمطر وفي الشر اعتبارا بإصابة السهم، وكلاهما يرجعان إلى أصل وتذكير الفعل في مثل ذلك جائز كتأنيثه، وعليه قوله تعالى: ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها [الحجر: 5، المؤمنون: 43] والكلام على العموم لجميع الشرور أي مصيبة أيّ مصيبة فِي الْأَرْضِ كجدب وعاهة في الزرع والثمار وزلزلة وغيرها وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ كمرض وآفة كالجرح والكسر إِلَّا فِي كِتابٍ أي إلا مكتوبة مثبتة في اللوح المحفوظ، وقيل: في علم الله عز وجل. مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها أي نخلقها، والضمير على ما روي عن ابن عباس وقتادة والحسن وجماعة: للأنفس، وقيل: للأرض، واستظهر أبو حيان كونه للمصيبة لأنها هي المحدث عنها، وذكر الأرض والأنفس إنما هو على سبيل ذكر محلها، وذكر المهدوي جواز عوده على جميع ما ذكر، وقال جماعة: يعود على المخلوقات وإن لم يجر لها ذكر، وقيل: المراد بالمصيبة هنا الحوادث من خير وشر وهو خلاف الظاهر من استعمال المصيبة إلا أن فيما بعد نوع تأييد له وأيا ما كان ففي الأرض متعلق بمحذوف مرفوع أو مجرور صفة لمصيبة على الموضع أو على اللفظ، وجوز أن يكون ظرفا لأصاب أو للمصيبة، قيل: وإنما قيدت المصيبة بكونها في الأرض والأنفس لأن الحوادث المطلقة كلها ليست مكتوبة في اللوح لأنها غير متناهية، واللوح متناه وهو لا يكون ظرفا لغير المتناهي ولذا جاء «جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» وفي الآية تخصيص آخر وهو أنه سبحانه لم يذكر أحوال أهل السماوات لعدم تعلق الغرض بذلك مع قلة المصائب في أهلها لا يكاد يصيبهم سوى مصيبة الموت، وما ذكره في وجه التخصيص الأول لا يتم إذا أريد بالكتاب علمه سبحانه، وقيل: بأن كتابة الحوادث فيه على نحو كتابتها في القرآن العظيم بناء على ما يقولون: إنه ما من شيء إلا ويمكن استخراجه منه حتى أسماء الملوك ومددهم وما يقع منهم ولو قيل في وجهه- إن الأوفق بما تقدم من شرح حال الحياة الدنيا إنما هو ذكر المصائب الدنيوية فلذا خصت بالذكر- لكان تاما مطلقا إِنَّ ذلِكَ أي إثباتها في كتاب عَلَى اللَّهِ لا غيره سبحانه يَسِيرٌ لاستغنائه تعالى فيه عن العدة والمدة، وإن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 186 أريد بذلك تحققها في علمه جل شأنه فيسره لأنه من مقتضيات ذاته عز وجل، وفي الآية رد على هشام بن الحكم الزاعم أنه سبحانه لا يعلم الحوادث قبل وقوعها، وفي الإكليل إن فيها ردا على القدرية، وجاء ذلك في خبر مرفوع، أخرج الديلمي عن سليم بن جابر الجهيمي قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «سيفتح على أمتي باب من القدر في آخر الزمان لا يسدّه شيء يكفيكم منه أن تلقوه بهذه الآية ما أصاب من مصيبة» الآية. وأخرج الإمام أحمد والحاكم وصححه عن أبي حسان أن رجلين دخلا على عائشة رضي الله تعالى عنها فقالا: «إن أبا هريرة يحدث أن نبي الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقول إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار فقالت: والذي أنزل القرآن على أبي القاسم صلى الله تعالى عليه وسلم ما هكذا كان يقول، ولكن كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: كان أهل الجاهلية يقولون: إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار ، ثم قرأت ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ الآية لِكَيْلا تَأْسَوْا أي أخرناكم بذلك لئلا تحزنوا عَلى ما فاتَكُمْ من نعم الدنيا وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ أي أعطاكموه الله تعالى منها فإن من علم أن الكل مقدر يفوت ما قدر فواته ويأتس ما قدّر إتيانه لا محالة لا يعظم جزعه على ما فات ولا فرحه بما هو آت، وعلم كون الكل مقدرا مع أن المذكور سابقا المصائب دون النعم وغيرها لأنه لا قائل بالفرق وليس في النظم الكريم اكتفاء كما توهم، نعم إن حملت المصيبة على الحوادث من خير وشر كان أمر العلم أوضح كما لا يخفى وترك التعادل بين الفعلين في الصلتين حيث لم يسندا إلى شيء واحد بل أسند الأول إلى ضمير الموصول والثاني إلى ضميره تعالى لأن الفوات والعدم ذاتي للأشياء فلو خليت ونفسها لم تبق بخلاف حصولها وبقائها فإنه لا بد من استنادهما إليه عز وجل كما حقق في موضعه. وعليه قول الشاعر: فلا تتبع الماضي سؤالك لم مضى ... وعرج على الباقي وسائله لم بقي ومثل هذه القراءة قراءة عبد الله- أوتيتم- مبنيا للمفعول أي أعطيتم وقرأ أبو عمرو- أتاكم- من الإتيان أي جاءكم وعليها بين الفعلين تعادل، والمراد نفي الحزن المخرج إلى ما يذهل صاحبه عن الصبر والتسليم لأمر الله تعالى ورجاء ثواب الصابرين ونفي الفرح المطغى الملهى عن الشكر، وأما الحزن الذي لا يكاد الإنسان يخلو منه مع الاستسلام والسرور بنعمة الله تعالى والاعتداد بها مع الشكر فلا بأس بهما. أخرج جماعة منهم الحاكم وصححه عن ابن عباس أنه قال في الآية: ليس أحد إلا هو يحزن ويفرح ولكن من أصابته مصيبة جعلها صبرا ومن أصابه خير جعله شكرا، وقوله تعالى: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ تذييل يفيد أن الفرح المذموم هو الموجب للبطر والاختيال والمختال المتكبر عن تخيل فضيلة تراءت له من نفسه، والفخور المباهي في الأشياء الخارجة عن المرء كالمال والجاه. وذكر بعضهم أن الاختيال في الفعل والفخر فيه وفي غيره، والمراد من لا يحب يبغض إذ لا واسطة بين الحب والبغض في حقه عز وجل وأولا بالإثابة والتعذيب، ومذهب السلف ترك التأويل مع التنزيه، ومن لا يحب كل مختال لا يحب كل فرد فرد من ذلك لا أنه لا يحب البعض دون البعض ويرد بذلك على الشيخ عبد القاهر في قوله: إذا تأملنا وجدنا إدخال كل في حيز النفي لا يصلح إلا حيث يراد أن بعضا كان وبعضا لم يكن، نعم إن هذا الحكم أكثري لا كلي، وقوله تعالى: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ يدل من كُلَّ مُخْتالٍ بدل لك من كل فإن المختال بالمال يضن به غالبا ويأمر غيره بذلك، والظاهر أن المراد أنهم يأمرون حقيقة، وقيل: كانوا قدوة فكأنهم يأمرون أو هو خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين إلخ، أو مبتدأ خبره محذوف تقديره يعرضون عن الإنفاق الغني عنه الله عز وجل، ويدل عليه قوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ فإن معناه ومن يعرض عن الإنفاق فإن الله الجزء: 14 ¦ الصفحة: 187 سبحانه غني عنه وعن إنفاقه محمود في ذاته لا يضره الإعراض عن شكره بالتقرب إليه بشيء من نعمه جل جلاله، وقيل: تقديره مستغنى عنهم، أو موعودون بالعذاب أو مذمومون. وجوز أن يكون في موضع نصب على إضمار أعني أو على أنه نعت- لكل مختال- فإنه مخصص نوعا ما من التخصيص فساغ وصفه بالمعرفة وهذا ليس بشيء، وقال ابن عطية: جواز مثل ذلك مذهب الأخفش ولا يخفى ما في الجملة من الإشعار بالتهديد لمن تولى، وقرأ نافع وابن عامر- فإن الله الغني- بإسقاط- هو- وكذا في مصاحف المدينة والشام وهو في القراءة الأخرى ضمير فصل، قال أبو علي: ولا يحسن أن يكون مبتدأ وإلا لم لم يجز حذفه في القراءة الثانية لأن ما بعده صالح لأن يكون خبرا فلا يكون هناك دليل على الحذف وهذا مبني على وجوب توافق القراءتين إعرابا وليس بلازم لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا أي من بني آدم كما هو الظاهر بِالْبَيِّناتِ أي الحجج والمعجزات وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ أي جنس الكتاب الشامل للكل، والظرف حال مقدرة منه على ما قال أبو حيان، وقيل: مقارنة بتنزيل الاتصال منزلة المقارنة وَالْمِيزانَ الآلة المعروفة بين الناس كما قال ابن زيد وغيره، وإنزاله إنزال أسبابه، ولو بعيدة، وأمر الناس باتخاذه مع تعليم كيفيته. لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ علة لا نزال الكتاب والميزان والقيام بالقسط أي بالعدل يشمل التسوية في أمور التعامل باستعمال الميزان، وفي أمور المعاد باحتذاء الكتاب وهو لفظ جامع مشتمل على جميع ما ينبغي الاتصاف به معاشا ومعادا. وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ قال الحسن: أي خلقناه كقوله تعالى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [الزمر: 6] وهو تفسير يلازم الشيء فإن كل مخلوق منزل باعتبار ثبوته في اللوح وتقديره موجودا حيث ما ثبت فيه. وقال قطرب: هيأناه لكم وأنعمنا به عليكم من نزل الضيف فِيهِ بَأْسٌ أي عذاب شَدِيدٌ لأن آلات الحرب تتخذ منه، وهذا إشارة إلى احتياج الكتاب والميزان إلى القائم بالسيف ليحصل القيام بالقسط فإن الظلم من شيم النفوس، وقوله تعالى: وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ أي في معايشهم ومصالحهم إذ ما من صنعة إلا والحديد أو ما يعمل به آلتها للإيماء إلى أن القيام بالقسط كما يحتاج إلى الوازع وهو القائم بالسيف يحتاج إلى ما به قوام التعايش، ومن يوم بذلك أيضا ليتم التمدن المحتاج إليه النوع، وليتم القيام بالقسط، كيف وهو شامل أيضا لما يخص المرء وحده، والجملة الظرفية في موضع الحال، وقوله سبحانه: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ عطف على محذوف يدل عليه السياق أو الحال لأنها متضمنة للتعليل أي لينفعهم وليعلم الله تعالى علما يتعلق به الجزاء من ينصره ورسله باستعمال آلات الحرب من الحديد في مجاهدة أعدائه والحذف للإشعار بأن الثاني هو المطلوب لذاته وأن الأول مقدمة له، وجوز تعلقه بمحذوف مؤخر والواو اعتراضية أي وليعلم إلخ أنزله أو مقدم والواو عاطفة والجملة معطوفة على ما قبلها وقد حذف المعطوف وأقيم متعلقة مقامه، وقوله تعالى: بِالْغَيْبِ حال من فاعل ينصر، أو من مفعوله أي غائبا منهم أو غائبين منه، وقوله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ اعتراض تذييلي جيء به تحقيقا للحق وتنبيها على أن تكليفهم الجهاد وتعريضهم للقتال ليس لحاجته سبحانه في إعلاء كلمته وإظهار دينه إلى نصرتهم بل إنما هو لينتفعوا به ويصلوا بامتثال الأمر فيه إلى الثواب وإلا فهو جل وعلا غني بقدرته وعزته عنهم في كل ما يريد. هذا وذهب الزمخشري إلى أن المراد بالرسل رسل الملائكة عليهم السلام أي أرسلناهم إلى الأنبياء عليهم السلام، وفسر- البينات- كما فسرنا بناء على الملائكة ترسل بالمعجزات كإرسالها بالحجج لتخبر بأنها معجزات وإلا فكان الظاهر الاقتصار على الحجج وإنزال الكتاب أي الوحي مع أولئك الرسل ظاهر، وإنزال الميزان بمعنى الآلة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 188 عنده على حقيقته، قال: روي أن جبريل عليه السلام نزل بالميزان فدفعه إلى نوح عليه السلام، وقال: مر قومك يزنوا به . وفسره كثير بالعدل، وعن ابن عباس في إنزال الحديد نزل مع آدم عليه السلام الميقعة والسندان والكلبتان، وروي أنه نزل ومعه المرّ والمسحاة، وقيل: نزل ومعه خمسة أشياء من الحديد السندان والكلبتان والإبرة والمطرقة والميقعة، وفسرت بالمسن، وتجيء بمعنى المطرقة أو العظيمة منها، وقيل: ما تحدّ به الرحى، وفي حديث ابن عباس نزل آدم عليه السلام من الجنة بالباسنة وهي آلات الصناع، وقيل: سكة الحرث وليس بعربي محض والله تعالى أعلم. واستظهر أبو حيان كون- ليقوم الناس بالقسط- علة لإنزال الميزان فقط وجوز ما ذكرناه وهو الأولى فيما أرى، وقوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ نوع تفصيل لما أجمل في قوله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا وتكرير القسم لإظهار مزيد الاعتناء بالأمر أي وبالله لقد أرسلنا نوحا وإبراهيم. وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ بأن استنبأناهم وأوحينا إليهم الكتب، وقال ابن عباس: الكتاب الخط بالقلم، وفي مصحف عبد الله- والنبية- مكتوبة بالياء عوض الواو فَمِنْهُمْ أي من الذرية وقيل: أي من المرسل إليهم المدلول عليه بذكر الإرسال والمرسلين مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن الطريق المستقيم، ولم يقل- ومنهم- ضال مع أنه أظهر في المقابلة لأن ما عليه النظم الكريم أبلغ في الذم لأن الخروج عن الطريق المستقيم بعد الوصول بالتمكن منه، وعرفته أبلغ من الضلال عنه ولإيذانه بغلبة أهل الضلال على غيرهم ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا أي أرسلنا بعدهم رسولا بعد رسول وأصل التقفية جعل الشيء خلف القفا، وضمير آثارهم لنوح وإبراهيم ومن أرسلا إليهم من قومها. وقيل: لمن عاصرهما من الرسل عليهم السلام. واعترض بأنه لو عاصر رسول نوحا فإما أن يرسل إلى قومه كهارون مع موسى عليهما السلام أو إلى غيرهم كلوط مع إبراهيم عليهما السلام ولا مجال للأول لمخالفته للواقع ولا إلى الثاني إذ ليس على الأرض قوم غيره، وأجيب بأن ذاك توجيه لجمع الضمير وكون لوط مع إبراهيم كاف فيه، وقيل: للذرية، وفيه أن الرسل المقفي بهم من الذرية فلو عاد الضمير عليهم لزم أنهم غيرهم أو اتحاد المقفي والمقفي به وتخصيص الذرية مرجع الضمير بالأوائل منهم خلاف الظاهر من غير قرينة تدل عليه وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ جعلناه بعد. وحاصل المعنى أرسلنا رسولا بعد رسول حتى انتهى الإرسال إلى عيسى عليه الصلاة والسلام وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ بأن أوحينا إليه وليس هو الذي بين أيدي النصارى اليوم أعني المشتمل على قصة ولادته وقصة صلبه المفتراة: وقرأ الحسن «الإنجيل» بفتح الهمزة، وقال أبو الفتح: وهو مثال لا نظير له، قال الزمخشري: وأمره أهون من من أمر البرطيل بفتح الباء والكسر أشهر وهو حجر مستطيل واستعماله في الرشوة مولّد مأخوذ منه بنوع تجوز لأنه عجمي وهذا عربي وهم يتلاعبون بالعجمي ولا يلتزمون فيه أوزانهم، وزعم بعض أن لفظ الإنجيل عربي من نجلت بمعنى استخرجت لاستخراج الأحكام منه وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً أي خلقنا أو صيرنا- ففي قلوب- في موضع المفعول الثاني وأيا ما كان فالمراد جعلنا ذلك في قلوبهم فهم يرأف بعضهم ببعض ويرحم بعضهم بعضا، ونظيره في شأن أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29] والرأفة في المشهور الرحمة لكن قال بعض الأفاضل: إنها إذا ذكرت معها يراد بالرأفة ما فيه درء الشر ورأب الصدع، وبالرحمة ما فيه جلب الخير ولذا ترى في الأغلب تقديم الرأفة على الرحمة وذلك لأن درء المفاسد أهم من جلب المصالح وقرىء رافة على فعالة كشجاعة وَرَهْبانِيَّةً منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر أي وابتدعوا رهبانية. ابْتَدَعُوها فهو من باب الاشتغال، واعترض بأنه يشترط فيه- كما قال ابن الشجري وأبو حيان- أن يكون الجزء: 14 ¦ الصفحة: 189 الاسم السابق مختصا يجوز وقوعه مبتدأ والمذكور نكرة لا مسوغ لها من مسوغات الابتداء، ورد بأنه على فرض تسليم هذا الشرط الاسم هنا موصوف معنى بما يؤخذ من تنوين التعظيم كما قيل في قولهم: شر أهر ذا ناب. ومما يدل عليه من النسبة كما ستسمعه إن شاء الله تعالى أو منصوب بالعطف على ما قبل، وجملة ابْتَدَعُوها في موضع الصفة والكلام على حذف مضاف أي وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة وحب رهبانية مبتدعة لهم، وبعضهم جعله معطوفا على ما ذكر ولم يتعرض للحذف، وقال: الرهبانية من أفعال العباد لأنها المبالغة في العبادة بالرياضة والانقطاع عن الناس، وأصل معناها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان وهو الخائف فعلان من رهب كخشيان من خشي، وأفعال العباد يتعلق بها جعل الله تعالى عند أهل الحق وهي في عين كونها مخلوقة له تعالى مكتسبة للعبد، والزمخشري جوز العطف المذكور وفسر الجعل بالتوفيق كأنه قيل: وفقناهم للتراحم بينهم ولابتداع الرهبانية واستحداثها بناء على مذهبه أن الرهبانية فعل العبد المخلوق له باختياره، وفائدة فِي قُلُوبِ على هذا التصوير على ما قيل، ولا يخفى ما في هذا التفسير من العدول عن الظاهر لكن الإنصاف أنه لا يحسن العطف بدون هذا التأويل أو اعتبار حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه على ما تقدم أو تفسير الرهبانية بما هو من أفعال القلوب كالخوف المفرط المقتضي للغلو في التعبد ويرتكب نوع تجوز في ابتدعوها وما بعده كأن يكون المراد ابتداع أعمالها وآثارها أو ارتكاب استخدام في الكلام بأن يعتبر للرهبانية معنيان الخوف المفرط مثلا، ويراد في جعلنا في قلوبهم رهبانية والأعمال التعبدية الشاقة كرفض الدنيا وشهواتها من النساء وغيرهن، ويراد في ابْتَدَعُوها وما بعده وليس الداعي للتأويل الاعتزال بل كون الرهبانية بمعنى الأعمال البدنية ليست مما تجعل في القلب كالرأفة والرحمة فتأمل. وقرىء «رهبانيّة» بضم الراء وهي منسوبة إلى الرهبان بالضم وهو كما قال الراغب: يكون واحدا وجمعا فالنسبة إليه باعتبار كونه واحدا ومن ظن اختصاص المضموم بالجمع قال: إنه لما اختص بطائفة مخصوصة أعطى حكم العلم فنسبته إليه كما قالوا في أنصار وأنصاري أو أن النسبة إلى رهبان المفتوح وضم الراء في المنسوب من تغييرات النسب كما في دهري بضم الدال، وقوله تعالى: ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ جملة مستأنفة، وقوله سبحانه: إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ استثناء منقطع أي ما فرضناها نحن عليهم رأسا ولكن ابتدعوها وألزموا أنفسهم بها ابتغاء رضوان الله تعالى، وقوله تعالى: فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها أي ما حافظوا عليها حق المحافظة ذم لهم من حيث إن ذلك كالنذر وهو عهد مع الله تعالى يجب رعايته لا سيما إذا قصد به رضاه عز وجل. واستدل بذلك على أن من اعتاد تطوعا كره له تركه، وجوز أن يكون قوله تعالى: ما كَتَبْناها إلخ صفة أخرى لرهبانية والنفي متوجه إلى قيد الفعل لا نفسه كما في الوجه الأول، وقوله سبحانه: إِلَّا ابْتِغاءَ إلخ استثناء متصل من أعم العلل أي ما قضيناها عليهم بأن جعلناهم يبتدعونها لشيء من الأشياء إلا ليبتغوا بها رضوان الله تعالى ويستحقوا بها الثواب، ومن ضرورة ذلك أن يحافظوا عليها ويراعوها حق رعايتها فما رعوها كذلك والوجه الأول مروي عن قتادة وجماعة، وهذا مروي عن مجاهد ولا مخالفة عليه بين ابْتَدَعُوها وما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إلخ حيث إن الأول يقتضي أنهم لم يؤمروا بها أصلا والثاني يقتضي أنهم أمروا بها لابتغاء رضوان الله تعالى لما أشرنا إليه من معنى ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ إلخ، ودفع بعضهم المخالفة بأن يقال: الأمر وقع بعد ابتداعها أو يؤول ابتدعوها بأنهم أول من فعلها بعد الأمر ويؤيد ما ذكره في الدفع أو لا ما أخرجه أبو داود وأبو يعلى والضياء عن أنس «أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد عليه فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ما ابتدعوها ما كتبناها عليهم» يعني الآية، والظاهر أن ضمير فما رعوها الجزء: 14 ¦ الصفحة: 190 لأولئك الذين ابتدعوا الرهبانية، والمراد نفي وقوع الرعاية من كلهم على أن المعنى فما رعاها كلهم بل بعضهم، وليس المراد بالموصول فيما سبق أشخاصا بأعيانهم بل المراد به ما يعم النصارى إلى زمان الإسلام ولا يضر في ذلك أن أصل الابتداع كان من قوم مخصوصين لأن إسناده على نحو الإسناد في- بنو تميم قتلوا زيدا- والقاتل بعضهم. وقال الضحاك وغيره: الضمير في فَما رَعَوْها للاخلاف الذين جاؤوا بعد المبتدعين والأول أوفق بالصناعة، والمراد بالذين آمنوا في قوله تعالى: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ الذين آمنوا إيمانا صحيحا وهو لمن أدرك وقت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الايمان به عليه الصلاة والسلام أي فآتينا الذين آمنوا منهم إيمانا صحيحا بعد رعاية رهبانيتهم أَجْرَهُمْ أي ما يختص به من الأجر وهو الأجر على ما سلف منهم والأجر على الإيمان به عليه الصلاة والسلام، وليس المراد بهم الذين بقوا على رعاية الرهبانية إلى زمان البعثة ولم يؤمنوا لأن رعايتها لغو محض وكفر بحت وإنما لها استتباع الأجر، ويجوز أن يقال: إن الذين لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها هم الذين كذبوه عليه الصلاة والسلام، قال الزجاج: قوله تعالى: فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها على ضربين: أحدهما أن يكونوا قصروا فيما ألزموه أنفسهم، والآخر وهو الأجود أن يكونوا حين بعث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ولم يؤمنوا فكانوا تاركين لطاعة الله تعالى فما رعوا تلك الرهبانية، ودليل ذلك قوله تعالى: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ إلخ انتهى، فحمل الذين آمنوا على من أدرك وقته عليه الصلاة والسلام منهم وآمن به صلى الله تعالى عليه وسلم، والفاسقين في قوله تعالى: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ على الذين لم يؤمنوا به صلى الله تعالى عليه وسلم مقتضى حمل الذين آمنوا على ما سمعت أولا حمله على الأعم الشامل لمن خرج عن اتباع عيسى عليه السلام من قبل وحمل الفريقين على من مضى من المراعين لحقوق الرهبانية قبل النسخ والمخلين بها إذ ذاك بالتثليث والقول بالاتحاد وقصد السمعة ونحو ذلك من غير تعرض لإيمانهم برسول الله عليه وسلم وكفرهم به مما لا يساعده المقام. ومن الآثار ما يأباه ففي حديث طويل أخرجه جماعة منهم الحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان من طرق عن ابن مسعود «اختلف من كان قبلنا على ثنتين وسبعين فرقة نجا منها ثلاث وهلك سائرها فرقة وازت الملوك وقاتلتهم على دين الله وعيسى ابن مريم، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك فأقاموا بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى فقتلتهم الملوك ونشرتهم بالمناشر، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بالمقام معهم فساحوا في الجبال وترهبوا فيها وهم الذين قال الله: وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ الذين آمنوا بي وصدقوني وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ الذي جحدوا بي وكفروا بي» وهذا الخبر يؤيد ما استجوده الزجاج، ويعلم منه أيضا سبب ابتداع الرهبانية وليس في الآية ما يدل على ذم البدعة مطلقا، والذي تدل عليه ظاهرا ذم عدم رعاية ما التزموه، وتفصيل الكلام في البدعة ما ذكره الإمام محيي الدين النووي في شرح صحيح مسلم قال العلماء: البدعة خمسة أقسام واجبة ومندوبة ومحرمة ومكروهة ومباحة (1) فمن الواجبة تعلم أدلة المتكلمين للرد على الملاحدة والمبتدعين وشبه ذلك، ومن المندوبة تصنيف كتب العلم وبناء المدارس والربط وغير ذلك، ومن المباحة التبسط في ألوان الاطعمة وغير ذلك، والحرام والمكروه ظاهران، فعلم أن قوله صلى الله تعالى عليه وسلم «كل بدعة ضلالة» من العام المخصوص.   (1) هذا التقسيم لا يصح أن يكور للبدع بالمعنى الشرعي إذا ما ذكره دل عليه الكتاب والسنة وإنما يصح للبدع بالمعنى اللغوي وقد أشبع الكلام على ذلك الاعتصام فراجعه اه إدارة الطباعة النيرية. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 191 وقال صاحب جامع الأصول: الابتداع من المخلوقين إن كان في خلاف ما أمر الله تعالى به ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فهو في حيز الذم والإنكار وإن كان واقعا تحت عموم ما ندب الله تعالى إليه وحض عليه أو رسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فهو في حيز المدح وإن لم يكن مثاله موجودا كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف، ويعضد ذلك قول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في صلاة التراويح: نعمت البدعة هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا استظهر أبو حيان كون الخطاب لمن آمن من أمته صلى الله تعالى عليه وسلم غير أهل الكتاب والآثار تؤيد ذلك، أخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قالا: إن أربعين من أصحاب النجاشي قدموا على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فشهدوا معه أحدا فكانت فيهم جراحات ولم يقتل منهم أحد فلما رأوا ما بالمؤمنين من الحاجة قالوا: يا رسول الله إنّا أهل ميسرة فأذن لنا نجيء بأموالنا نواسي بها المسلمين فأنزل الله تعالى فيهم الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ إلى قوله سبحانه: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا [القصص: 52- 54] فجعل لهم أجرين فلما نزلت هذه الآية قالوا: يا معشر المسلمين أما من آمن منا بكتابكم فله أجران ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الآية أي أي رادا عليهم قولهم: ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم. وفي الكشاف إن قائل ذلك من لم يكن آمن من أهل الكتاب قالوه حين سمعوا تلك الآية يفخرون به على المسلمين، والمعنى يا أيها الذين اتصفوا بالإيمان اتَّقُوا اللَّهَ اثبتوا على تقواه عز وجل فيما نهاكم عنه. وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ وأثبتوا على الإيمان برسوله الذي أرسله إليكم وهو محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وفي التعبير عنه بذلك ما لا يخفى من الدلالة على جلالة قدره عليه الصلاة والسلام يُؤْتِكُمْ بسبب ذلك. كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ قال أبو موسى الأشعري: ضعفين بلسان الحبشة، وقال غير واحد: نصيبين، والمراد إيتاؤهم أجرين كمؤمني أهل الكتاب كأنه قيل: يؤتكم ما وعد من آمن من أهل الكتاب من الأجرين لأنكم مثلهم في الإيمان بالرسل المتقدمين وبخاتمهم صلى الله تعالى عليه وسلم عليهم أجمعين لا تفرقوا بين أحد من رسله. وقال الراغب: الكفل الحظ الذي فيه الكفاية كأنه تكفل بأمره، والكفلان هما المرغوب فيهما بقوله تعالى رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً [البقرة: 201] ولا دلالة على التخصيص. وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ يوم القيامة وهو النور المذكور في قوله تعالى: يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ [الحديد: 12] وَيَغْفِرْ لَكُمْ ما سلف منكم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي مبالغ في المغفرة والرحمة فلا بدع إذا فعل سبحانه ما فعل، وقوله تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ قيل: متعلق بمضمون الجملة الطلبية المتضمنة لمعنى الشرط إذ التقدير إن تتقوا الله وتؤمنوا برسوله يؤتكم كذا وكذا لئلا إلخ، وقيل: متعلق بالأفعال الثلاثة قبله على التنازع، أو بمقدر كفعل ذلك وأعلمهم ونحوه و (لا) مزيدة مثلها في قوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف: 12] ويجوز زيادتها مع القرينة كثيرا و (أن) مخففة من الثقيلة واسمها المحذوف ضمير أهل الكتاب أي إنهم، وقيل: ضمير الشأن وما بعد خبرها والجملة في حيز النصب على أنها مفعول يعلم أي ليعلم أهل الكتاب القائلون من آمن بكتابكم منا فله أجران ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم أنهم لا ينالون شيئا من فضل الله من الأجرين وغيرهما ولا يتمكنون من نيله ما لم يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلم وحاصله الإعلام بأن إيمانهم بنبيهم لا ينفعهم شيئا ما لم يؤمنوا بالنبي عليه الصلاة والسلام فقولهم: من لم يؤمن بكتابكم فله أجر باطل. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: لما نزلت أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا [القصص: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 192 54] فخر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فقالوا: لنا أجران ولكم أجر فاشتد ذلك على أصحابه عليه الصلاة والسلام فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ فجعل لهم سبحانه أجرين مثل ما لمؤمني أهل الكتاب، وقال الثعلبي: فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ الآية فجعل لهم أجرين وزادهم النور ثم قال سبحانه: لِئَلَّا يَعْلَمَ إلخ، وحاصله على هذا ليعلموا أنهم ليسوا ملاك فضله عز وجل فيزوره عن المؤمنين ويستبدوا به دونهم، وقوله تعالى: وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ عطف على أن لا يقدرون داخل معه في حيز العلم، وقوله سبحانه: يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ خبر ثان لأن أو هو الخبر وما قبله على ما قيل: حال لازمة أو استئناف، وقوله عز وجل: وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله. وذهب بعض إلى أن الخطاب لمن آمن من أهل الكتاب اليهود والنصارى أو لمن لم يؤمن منهم بعد: فالمعنى يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى عليهما السلام آمنوا بمحمد صلّى الله تعالى عليه وسلم أي اثبتوا على الإيمان به أو أحدثوا الايمان به عليه الصلاة والسلام يؤتكم نصيبين من رحمته نصيبا على إيمانكم بمن آمنتم به أولا ونصيبا على إيمانكم بمحمد صلّى الله تعالى عليه وسلم آخرا ليعلم الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب أنهم لا ينالون شيئا مما يناله المؤمنون منهم ولا يتمكنون من نيله حيث لم يأتوا بشرطه الذي هو الإيمان برسوله صلّى الله عليه وسلم. وأيد ذلك بما في صحيح البخاري «من كانت له أمة علمها فأحسن تعليمها وأدبها فأحسن تأديبها وأعتقها وتزوجها فله أجران، وأيما رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي فله أجران، وأيما مملوك أدى حق الله تعالى وحق مواليه فله أجران» ولا إشكال في ذلك بالنسبة إلى النصارى، ولذا قيل: الخطاب لهم لأن ملتهم غير منسوخة قبل ظهور الملة المحمدية ومعرفتهم بها فيثابون على العمل بها حتى يجب عليه الإيمان بالنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فإذا آمنوا أثيبوا أيضا فكان لهم ثوابان، نعم قد يستشكل بالنسبة إلى غيرهم لأن مللهم منسوخة بملة عيسى عليه السلام والمنسوخ لا ثواب في العمل به، ويجاب بأنه لا يبعد أن يثابوا على العمل بملتهم السابقة وإن كانت منسوخة ببركة الإسلام. وأجاب بعضهم أن الإثابة على نفس إيمان ذلك الكتابي بنبيه وإن كان منسوخ الشريعة فإن الإيمان بكل نبي فرض سواء كان منسوخ الشريعة أم لا، وقيل: إن (لا) في لِئَلَّا يَعْلَمَ غير مزيدة وضمير لا يقدرون للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم والمؤمنين أي فعلنا ما فعلنا لئلا يعتقد أهل الكتاب أن الشأن لا يقدر النبي صلّى الله عليه وسلم والمؤمنون به على شيء من فضل الله تعالى الذي هو عبارة عما أوتوه من سعادة الدارين ولا ينالونه، أو أنهم أي النبي عليه الصلاة والسلام والمؤمنون لا يقدرون إلخ، على أن عدم علمهم بعدم قدرتهم على ذلك كناية عن علمهم بقدرتهم عليه فيكون قوله سبحانه: وَأَنَّ الْفَضْلَ إلخ معطوفا على- أن لا يعلم- داخلا معه في حيز التعليل دون أن لا يقدر فكأنه قيل: فعلنا ما فعلنا لئلا يعتقدوا كذا ولأن الفضل بيد الله فيكون من عطف الغاية على الغاية بناء على المشهور ولتكلف هذا القيل مع مخالفته لبعض القراءات لم يذهب إليه معظم المفسرين، وقرأ خطاب بن عبد الله- لأن لا يعلم- بالإظهار، وعبد الله بن مسعود وابن عباس وعكرمة والجحدري وعبد الله بن سلمة على اختلاف ليعلم، وقرأ الجحدري أيضا- ولييعلم- على أن أصله لئن يعلم فقلبت الهمزة ياء لكسرة ما قبلها وأدغمت النون في الياء بغير غنة، وروى ابن مجاهد عن الحسن- ليلا- مثل ليلى اسم المرأة «يعلم» بالرفع، ووجه بأن أصله- لأن لا- بفتح لام الجر وهي لغة عليه قوله: أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل سبيل فحذفت الهمزة اعتباطا وأدغمت النون في اللام فصار- للا- فاجتمعت الأمثال وثقل النطق بها فأبدلوا من اللام الجزء: 14 ¦ الصفحة: 193 المدغمة ياء نظير ما فعلوا في قيراط ودينار حيث إن الأصل قراط ودنار فأبدوا أحد المثلين فيهما ياء للتخفيف فصار- ليلا- ورفع الفعل لأن أن هي المخففة من الثقيلة لا الناصبة للمضارع، وروى قطرب عن الحسن أيضا- ليلا- بكسر اللام ووجهه كالذي قبله إلا أن كسر اللام على اللغة الشهيرة في لام الجر وعن ابن عباس كي يعلم، وعنه أيضا لكيلا يعلم، وعن عبد الله وابن جبير وعكرمة لكي يعلم. وقرأ عبد الله أن لا يقدروا بحذف النون على أن إن هي الناصبة للمضارع، والله تعالى أعلم. ومما ذكره المتصوفة قدست أسرارهم في بعض آياتها هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ قالوا: هو إشارة إلى وحدانية ذاته سبحانه المحيطة بالكل، وقالوا في قوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ إشارة إلى أنهم لا وجود لهم في جميع مراتبهم بدون وجوده عز وجل، وقوله تعالى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ إشارة إلى ظهور تجلي الجلال في تجلي الجمال وبالعكس وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ إشارة للمشايخ الكاملين إلى تربية المريدين بإفاضة ما يقوي استعدادهم مما جعلهم الله تعالى متمكنين فيه من الأحوال والملكات. وقال سبحانه: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها لئلا يقنط القاسي من رحمته تعالى ويترك الاشتغال بمداواة القلب الميت فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها أوردها الصوفية في باب الرعاية وقسموها إلى رعاية الأعمال والأحوال والأوقات- ويرجع ما قالوه فيها- على ما قيل- إلى حفظها عن إيقاع خلل فيها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ أي نصيبين نصيبا من معارف الصفات الفعلية ونصيبا من معارف الصفات الذاتية وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً من نور ذاته عز وجل وهو على ما قيل: إشارة إلى البقاء بعد الفناء، وقيل: هذا النور إشارة إلى نور الكشف والمشاهدة رتب سبحانه جعله للمؤمن على تقواه وإيمانه برسوله الأعظم صلّى الله تعالى عليه وسلم، وقيل: هو نور العلم النافع الذي يتمكن معه من السير في الحضرات الإلهية كما يشير إليه وصفه بقوله عز وجل: تَمْشُونَ بِهِ وفي بعض الآثار «من عمل بما علم علمه الله تعالى علم ما لم يعلم» وقال سبحانه: اتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وكل ذلك في الحقيقة فضل الله تعالى والله عز وجل ذو الفضل العظيم نسأله سبحانه أن لا يحرمنا من فضله العظيم ولطفه العميم وأن يثبتنا على متابعة حبيبه الكريم عليه من الله تعالى أفضل الصلاة وأكمل التسليم. تم بعونه تعالى وتوفيقه الجزء السابع والعشرون، ويليه الجزء الثامن والعشرون أوله سورة المجادلة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 194 روح المعاني الجزء الثامن والعشرون الجزء: 14 ¦ الصفحة: 195 سورة المجادلة بفتح الدال وكسرها، والثاني هو المعروف، وتسمى سورة- قد سمع- وسميت في مصحف أبيّ رضي الله تعالى عنه الظهار، وهي على ما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم مدنية وقال الكلبي وابن السائب إلا قوله تعالى: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ [المجادلة: 7] ، وعن عطاء: العشر الأول منها مدني وباقيها مكي، وقد انعكس ذلك على البيضاوي، وأنها إحدى وعشرون في المكي والمدني الأخير، واثنتان وعشرون في الباقي، وفي التيسير هي عشرون وأربع آيات وهو خلاف المعروف في كتاب العدد. ووجه مناسبتها لما قبلها أن الأولى ختمت بفضل الله تعالى وافتتحت هذه بما هو من ذلك، وقال بعض الأجلة في ذلك: لما كان في مطلع الأولى ذكر صفاته تعالى الجليلة، ومنها الظاهر والباطن، وقال سبحانه: يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [الحديد: 4] افتتح هذه بذكر أنه جل وعلا سمع قول المجادلة التي شكت إليه تعالى، ولهذا قالت عائشة فيما رواه النسائي وابن ماجة والبخاري تعليقا حين نزلت: «الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم تكلمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول فأنزل الله تعالى قَدْ سَمِعَ [المجادلة: 1] » إلخ، وذكر سبحانه بعد ذلك أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ الآية، وهي تفصيل لإجمال قوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وبذلك تعرف الحكمة في الفصل بها بين الحديد والحشر مع تواخيهما في الافتتاح- بسبح- إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتأمل. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ بإظهار الدال، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وابن محيصن بإدغامها في السين، قال خلف بن هشام البزار: سمعت الكسائي يقول: من قرأ قد سمع فبين الدال فلسانه أعجمي ليس بعربي، ولا يلتفت إلى هذا فكلا الأمرين فصيح متواتر بل الجمهور على البيان قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها الجزء: 14 ¦ الصفحة: 197 أي تراجعك الكلام في شأنه وفيما صدر عنه في حقها من الظهار، وقرىء- تحاورك- والمعنى على ما تقدم وتحاولك أي تسائلك وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ عطف على تُجادِلُكَ فلا محل للجملة من الإعراب، وجوز كونها حالا أي تجادلك شاكية حالها إلى الله تعالى، وفيه بعد معنى، ومع هذا يقدر معها مبتدأ أي وهي تشتكي لأن المضارعية لا تقترن بالواو في الفصيح فيقدر معها المبتدأ لتكون اسمية، واشتكاؤها إليه تعالى إظهار بثها وما انطوت عليه من الغم والهم وتضرعها إليه عز وجل وهو من الشكو، وأصله فتح الشكوة وإظهار ما فيها، وهي سقاء صغير يجعل فيه الماء ثم شاع في ذلك، وهي امرأة صحابية من الأنصار اختلف في اسمها واسم أبيها، فقيل: خولة بنت ثعلبة بن مالك، وقيل: بنت خويلد، وقيل: بنت حكيم، وقيل: بنت الصامت، وقيل: خويلة بالتصغير بنت ثعلبة، وقيل: بنت مالك بن ثعلبة، وقيل: جميلة بنت الصامت، وقيل: غير ذلك، والأكثرون على أنها خولة بنت ثعلبة بن مالك الخزرجية، وأكثر الرواة على أن الزوج في هذه النازلة أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت، وقيل: هو سلمة بن صخر الانصاري، والحق أن لهذا قصة أخرى، والآية نزلت في خولة وزوجها أوس، وذلك أن زوجها أوسا كان شيخا كبيرا قد ساء خلقه فدخل عليها يوما فراجعته بشيء فغضب، قال: أنت علي كظهر أمي، وكان الرجل في الجاهلية إذا قال ذلك لامرأته حرمت عليه- وكان هذا أول ظهار في الإسلام- فندم من ساعته فدعاها فأبت، وقالت: والذي نفس خولة بيده لا تصل إليّ وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم فينا، فأتت رسول الله عليه الصلاة والسلام فقالت: يا رسول الله إن أوسا تزوجني وأنا شابة مرغوب في فلما خلا سني ونثرت بطني- أي كثر ولدي- جعلني عليه كأمه وتركني إلى غير أحد فإن كنت تجد لي رخصة يا رسول الله تنعشني بها وإياه فحدثني بها؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «والله ما أمرت في شأنك بشيء حتى الآن» ، وفي رواية «ما أراك إلا قد حرمت عليه» قالت: ما ذكر طلاقا، وجادلت رسول الله عليه الصلاة والسلام مرارا ثم قالت: اللهم إني أشكو إليك شدة وحدتي وما يشق علي من فراقه، وفي رواية قالت: أشكو إلى الله تعالى فاقتي وشدة حالي وإن لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إلي جاعوا، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول: اللهم إني أشكو إليك اللهم فأنزل على لسان نبيك وما برحت حتى نزل القرآن فيها، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: «يا خولة أبشري قالت: خيرا؟ فقرأ عليه الصلاة والسلام عليها قَدْ سَمِعَ اللَّهُ الآيات» وكان عمر رضي الله تعالى عنه يكرمها إذا دخلت عليه ويقول: قد سمع الله تعالى لها. وروى ابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات أنها لقيته رضي الله تعالى عنه وهو يسير مع الناس فاستوقفته فوقف لها ودنا منها وأصغى إليها ووضع يده على منكبيها حتى قضت حاجتها وانصرفت، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين حبست رجال قريش على هذه العجوز قال: ويحك أتدري من هذه؟ قال: لا. قال: هذه امرأة سمع الله تعالى شكواها من فوق سبع سماوات هذه خولة بنت ثعلبة، والله لو لم تنصرف حتى أتى الليل ما انصرفت حتى تقضي حاجتها، وفي رواية للبخاري في تاريخه أنها قالت له: قف يا عمر فوقف فأغلظت له القول، فقال رجل: يا أمير المؤمنين ما رأيت كاليوم فقال رضي الله تعالى عنه: وما يمنعني أن أستمع إليها وهي التي استمع الله تعالى لها فأنزل فيها ما أنزل قَدْ سَمِعَ اللَّهُ الآيات، والسماع مجاز عن القبول والإجابة بعلاقة السببية أو كناية عن ذلك، وقَدْ للتحقيق أو للتوقع، وهو مصروف إلى تفريج الكرب لا إلى السمع لأنه محقق أو إلى السمع لأنه مجاز أو كناية عن القبول، والمراد توقع المخاطب ذلك، وقد كان صلّى الله عليه وسلم يتوقع أن ينزل الله تعالى حكم الحادثة ويفرج عن المجادلة كربها، وفي الأخبار ما يشعر بذلك والسمع في قوله تعالى: وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما على ما هو المعروف فيه من الجزء: 14 ¦ الصفحة: 198 كونه صفة يدرك بها الأصوات غير صفة العلم، أو كونه راجعا إلى صفة العلم، والتحاور المرادة في الكلام، وجوز أن يراد به الكلام المردد، ويقال: كلمته فما رجع إلي حوارا وحويرا ومحورة أي ما رد علي بشيء، وصيغة المضارع للدلالة على استمرار السمع حسب استمرار السمع حسب استمرار التحاور وتجدده، وفي نظمها في سلك الخطاب تغليبا تشريف لها من جهتين، والجملة استئناف جار مجرى التعليل لما قبله فإن إلحافها في المسألة ومبالغتها في التضرع إلى الله تعالى ومدافعته عليه الصلاة والسلام إياها وعلمه عز وجل بحالهما من دواعي الاجابة، وقيل: هي حال كالجملة السابقة، وفيه أيضا بعد، وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ تعليل لما قبله بطريق التحقيق أي إنه تعالى يسمع كل المسموعات ويبصر كل المبصرات على أتم وجه وأكمله ومن قضية ذلك أن يسمع سبحانه تحاورهما، ويرى ما يقارنه من الهيئات التي من جملتها رفع رأسها إلى السماء وسائر آثار التضرع، والاسم الجليل في الموضعين لتربية المهابة وتعليل الحكم بما اشتهر به الاسم الجليل من وصف الألوهية وتأكيد استقلال الجملتين، وقوله عز وجل: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ شروع في بيان شأن الظهار في نفسه وحكمه المترتب عليه شرعا، وفي ذلك تحقيق قبول تضرع تلك المرأة وإشكاؤها بطريق الاستئناف. والظهار لغة مصدر ظاهر وهو مفاعلة من الظهر، ويراد به معان مختلفة راجعة إلى الظهر معنى ولفظا باختلاف الأغراض، فيقال: ظاهر زيد عمرا أي قابل ظهره بظهره حقيقة وكذا إذا غايظه، وإن لم يقابل حقيقة باعتبار أن المغايظة تقتضي هذه المقابلة، وظاهره إذا نصره باعتبار أنه يقال: قوي ظهره إذا نصره، وظاهر بين ثوبين إذا لبس أحدهما فوق الآخر باعتبار جعل ما يلي به كل منهما الآخر ظهرا للثوب وظاهر من امرأته إذا قال لها: أنت علي كظهر أمي، وغاية ما يلزم كون لفظ الظهر في بعض هذه التراكيب مجازا، وهو لا يمنع الاشتقاق منه ويكون المشتق مجازا أيضا، وهذا الأخير هو المعنى الذي نزلت فيه الآيات. وعرفه الحنفية شرعا بأنه تشبيه المنكوحة أو عضوا منها يعبر به عن الكل كالرأس أو جزء شائع منها كالثلث بقريب محرم عليه على التأييد أو بعضو منه يحرم عليه النظر إليه. وحكي عن الشافعية أنه تشبيهها أو عضو منها بمحرم من نسب أو رضاع أو مصاهرة أو عضو منه لا يذكر للكرامة كاليد والصدر، وكذا العضو الذي يذكر لها كالعين والرأس إن قصد معنى الظهار، وهو التشبيه بتحريم نحو الأم لا أن قصد الكرامة أو أطلق في الأصح، وتخصيص المحرم بالأم قول قديم للشافعي عليه الرحمة، وتفصيل ذلك في كتب الفقه للفريقين، وكان الظهار بالمعنى السابق طلاقا في الجاهلية قيل: وأول الإسلام. وحكى بعضهم أنه كان طلاقا يوجب حرمة مؤبدة لا رجعة فيه، وقيل: لم يكن طلاقا من كل وجه بل لتبقى معلقة لا ذات زوج ولا خلية تنكح غيره، وذكر بعض الأجلة أنهم كانوا يعدونه طلاقا مؤكدا باليمين على الاجتناب، ولذا قال الشافعية: إن فيه الشائبتين، وسيأتي إن شاء الله تعالى الإشارة إلى حكمه الشرعي وعدي بمن مع أنه يتعدى بنفسه لتضمنه معنى التبعيد ولما سمعت أنه كان طلاقا وهو مبعد، والظهر في قولهم: أنت علي كظهر أمي قيل: مجاز عن البطن لأنه إنما يركب البطن- فكظهر أمي- أي كبطنها بعلاقة المجاورة، ولأنه عموده لكن لا يظهر ما هو الصارف عن الحقيقة من النكات، وقيل: خص الظهر لأنه محل الركوب والمرأة مركوب الزوج، ومن ثم سمي المركوب ظهرا، وقيل: خص ذلك لأن إتيان المرأة من ظهرها في قبلها كان حراما فإتيانه أمه من ظهرها أحرم فكثر التغليظ، وإقحام مِنْكُمْ في الآية للتصوير والتهجين لأن الظهار كان مخصوصا بالعرب، ومنه يعلم أنه ليس من مفهوم الصفة ليستدل به على عدم صحة ظهار الذمي كما حكي عن المالكية، ومن هنا قال الشافعية: يصح من الذمي الجزء: 14 ¦ الصفحة: 199 والحربي لعموم الآية، وكذا الحنابلة والحنفية يقولون: لا يصح منهما، وفي رواية عن أبي حنيفة صحته من الذمي، والرواية المعول عليها عدم الصحة لأنه ليس من أهل الكفارة، وشنع على الشافعية في قولهم بصحته منه مع اشتراطهم النية في الكفارة والإيمان في الرقبة، وتعذر ملكه لها لأن الكافر لا يملك المؤمن، وقال بعض أجلتهم إن في الكفارة شائبة الغرامات ونيتها في كافر كفر بالإعتاق للتمييز كما في قضاء الديون لا الصوم لأنه لا يصح منه لأنه عبادة بدنية لا ينتقل عنه للإطعام لقدرته عليه بالإسلام فإن عجز انتقل ونوى للتمييز أيضا، ويتصور ملكه للمسلم بنحو إرث أو إسلام قنه، أو يقول لمسلم: أعتق قنك عن كفارتي، فيجيب فإن لم يمكنه شيء من ذلك وهو مظاهر موسر منع من الوطء لقدرته على ملكه بأن يسلم فيشتريه انتهى. وفي كتاب بعض الأصحاب كالبحر وغيره كلام مع الشافعية في هذه المسألة فيه نقض وإبرام لا يخلو عن شيء والسبب في ذلك قلة تتبع معتبرات كتبهم، وقرأ الحرميان وأبو عمرو- يظهرون- بشد الظاء والهاء، والأخوان وابن عامر «يظاهرون» مضارع اظاهر، وأبي «يتظاهرون» مضار تظاهر، وعنه أيضا- يتظهرون- مضارع تظهر، والموصول مبتدأ خبره محذوف أي مخطئون، وأقيم دليله وهو قوله تعالى: ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ مقامه أو هو الخبر نفسه أي ما نساؤهم أمهاتهم على الحقيقة فهو كذب بحت. وقرأ المفضل عن عاصم «أمهاتهم» بالرفع على لغة تميم، وقرأ ابن مسعود- بأمهاتهم- بزيادة الباء، قال الزمخشري: في لغة من ينصب أي بما الخبر- وهم الحجازيون- يعني أنهم الذين يزيدون الباء دون التميميين وقد تبع في ذلك أبا علي الفارسي، ورد بأنه سمع خلافه كقول الفرزدق وهو تميمي: لعمرك ما معن بتارك حقه ... ولا منسىء معن ولا متيسر إِنْ أُمَّهاتُهُمْ أي ما أمهاتهم على الحقيقة إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ فلا يشبه بهن من الحرمة إلا من ألحقها الله تعالى بهن كالمرضعات ومنكوحات الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم فدخلن في حكم الأمهات، وأما الزوجات فأبعد شيء من الأمومة إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ ينكره الشرع والعقل والطبع أيضا كما يشعر به التنكير، ومناط التأكيد كونه منكرا، وإلا فصدور القول عنهم أمر محقق وَزُوراً أي وكذبا باطلا منحرفا عن الحق، ووجه كون الظهار كذلك عند من جعله إخبارا كاذبا- علق عليه الشارع الحرمة والكفارة- ظاهر، وأما عند من جعله إنشاء لتحريم الاستمتاع في الشرع- كاطلاق على ما هو الظاهر- فوجهه أن ذلك باعتبار ما تضمنه من إلحاق الزوجة بالأم المنافي لمقتضى الزوجية وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ أي مبالغ في العفو والمغفرة فيغفر ما سلف منه ويعفو عمن ارتكبه مطلقا أو بالتوبة، ويعلم من الآيات أن الظهار حرام بل قالوا: إنه كبير لأن فيه إقداما على إحالة حكم الله تعالى وتبديله بدون إذنه، وهذا أخطر من كثير من الكبائر إذ قضيته الكفر لولا خلو الاعتقاد عن ذلك، واحتمال التشبيه لذلك وغيره، ومن ثم سماه عز وجل مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً، وإنما كره- على ما ذكره بعض الشافعية أنت على حرام- لأن الزوجية ومطلق الحرمة يجتمعان بخلافها مع التحريم المشابه لتحريم نحو الأم، ومن ثم وجب هنا الكفارة العظمى. وثم على ما قالوا: كفارة يمين، وقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا إلخ تفصيل لحكم الظهار بعد بيان كونه أمرا منكرا بطريق التشريع الكلي المنتظم لحكم الحادثة انتظاما أوليا، والموصول مبتدأ، وقوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مبتدأ آخر خبره مقدر أي فعليهم تحرير رقبة، أو فاعل فعل مقدر أي فيلزمهم تحرير، أو خبر مبتدأ مقدر أي فالواجب عليهم «تحرير» ، وعلى التقادير الثلاثة الجملة خبر الموصول ودخلته الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، وما- موصولة أو مصدرية، واللام متعلقة ب يَعُودُونَ وهو يتعدى بها كما يتعدى- بإلى. وبفي- الجزء: 14 ¦ الصفحة: 200 فلا حاجة إلى تأويله بأحدهما كما فعل البعض، والعود لما قالوا على المشهور عند الحنفية العزم على الوطء كأنه حمل العود على التدارك مجازا لأن التدارك من أسباب العود إلى الشيء، ومنه المثل عاد غيث على ما أفسد أي تداركه بالإصلاح، فالمعنى والذين يقولون ذلك القول المنكر ثم يتداركونه ينقضه وهو العزم على الوطء فالواجب عليهم إعتاق رقبة. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا أي كل من المظاهر والمظاهر منها- والتماس- قيل: كناية عن الجماع فيحرم قبل التكفير على ما تدل عليه الآية، وكذا دواعيه من التقبيل ونحوه عندنا، قيل: وهو قول مالك والزهري والأوزاعي والنخعي، ورواية عن أحمد فإن الأصل أنه إذا حرم حرم بدواعيه إذ طريق المحرم محرم، وعدم اطراد ذلك في الصوم والحيض لكثرة وجودهما فتحريم الدواعي يفضي إلى مزيد الحرج، وقال العلامة ابن الهمام: التحقيق أن الدواعي منصوص على منعها في الظهار فإنه لا موجب لحمل التماس في الآية على المجاز لإمكان الحقيقة، ويحرم الجماع لأنه من أفراد التماس كالمس والقبلة، وقال غيره: تحرم أقسام الاستمتاع قبل التكفير لعموم لفظ التماس فيشملها بدلالة النص، ومقتضى التشبيه في قوله: كظهر أمي فإن المشبه به لا يحل الاستمتاع به بوجه من الوجوه فكذا المشبه، ويحرم عند الشافعية أيضا الجماع قبله، وكذا يحرم لمس ونحوه من كل مباشرة لا نظر بشهوة في الأظهر كما في المحرر، وقال الإمام النووي عليه الرحمة: الأظهر الجواز لأن الحرمة ليست لمعنى يخل النكاح فأشبه الحيض، ومن ثم حرم الاستمتاع فيه فيما بين السرة والركبة، وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام في هذا المقام. وحكى البيضاوي عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أن نقض القول المراد بالعود بإباحة التمتع بها ولو بنظرة بشهوة، وحمل ذلك على استباحة التمتع بمباشرته بوجه ما دون عدّه مباحا من غير مباشرة. ولعله أريد بالمباشرة بوجه ما مباشرة ليست من التماس الذي قالوا بحرمته قبل التكفير، وأيا ما كان فظاهر تعليق الحكم بالموصول يدل على علية ما في حيز الصلة أعني الظهار والعود له فهما سببان للكفارة وهذا أحد أقوال في المسألة. قال العلامة ابن الهمام: اختلف في سبب وجوبها فقال في النافع: تجب بالظهار والعود لأن الظهار كبيرة فلا يصلح سببا للكفارة لأنها عبادة، أو المغلب فيها معنى العبادة ولا يكون المحظور سببا للعبادة فعلق وجوبها بهما ليخف معنى الحرمة باعتبار العود الذي هو إمساك بمعروف فيكون دائرا بين الحظر والإباحة، وعليه فيصلح سببا للكفارة الدائرة بين العبادة والعقوبة، وقيل: سبب وجوبها العود والظهار شرطه، ولفظ الآية أي المذكور يحتملهما فيمكن كون ترتيبها عليهما، أو على الأخير لكن إذا أمكن البساطة صير إليها لأنها الأصل بالنسبة إلى التركيب فلهذا قال في المحيط: سبب وجوبها العزم على الوطء والظهار شرطه، وهو بناء على أن المراد من العود في الآية العزم على الوطء، واعترض بأن الحكم يتكرر بتكرر سببه لا شرطه والكفارة متكررة بتكرر الظهار لا العزم، وكثير من مشايخنا على أنه العزم على إباحة الوطء بناء على إرادة المضاف في الآية أي يعودون لضد ما قالوا أو لتداركه، ويرد عليه ما يرد على ما قبله، ونص صاحب المبسوط على أن بمجرد العزم لا تتقرر الكفارة حتى لو أبانها أو ماتت من بعد العزم فلا كفارة فهذا دليل على أنها غير واجبة لا بالظهار ولا بالعود إذ لو وجبت لما سقطت بل موجب الظهار ثبوت التحريم، فإذا أراد رفعه وجب عليه في رفعه الكفارة كما تقول لمن أراد الصلاة النافلة: يجب عليك إن صليتها أن تقدم الوضوء انتهى. ولا يخفى أن إرادة المضاف غير متعين بناء على ما نقل عن الكثير من المشايخ، وأن ظاهر الآية يفيد السببية كما ذكرنا آنفا، ويكون الموجب للكفارة الأمران، وبه صرح بعض الشافعية وجعل ذلك قياس كفارة اليمين، ثم قال: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 201 ولا ينافي ذلك وجوبها فورا مع أن أحد سببيها- وهو العود- غير معصية لأنه إذا اجتمع حلال وحرام ولم يمكن تميز أحدهما عن الآخر غلب الحرام، وظاهر كلام الإمام النووي عليه الرحمة أن موجبها الظهار والعود شرط فيه وهو بعكس ما نقل عن المحيط، ثم إن من جعل السبب العزم أراد به العزم المؤكد حتى لو عزم ثم بدا له أن لا يطأها لا كفارة عليه لعدم العزم المؤكد لا أنها وجبت بنفس العزم. ثم سقطت- كما قال بعضهم- لأنها بعد سقوطها لا تعود إلا بسبب جديد كذا في البدائع، وذكر ابن نجيم في البحر عن التنقيح أن سبب الكفارة ما نسبت إليه من أمر دائر بين الحظر والإباحة، ثم قال: إن كون كفارة الظهارة كذلك على قول من جعل السبب مركبا من الظهار والعود ظاهر لكون الظهار محظورا والعود مباحا لكونه إمساكا بالمعروف ونقضا للزور. وأما على القول بأن المضاف- إليه وهو الظهار سبب- وهو قول الأصوليين فكونه دائرا بين الحظر والإباحة مع أنه منكر من القول وزور باعتبار أن التشبيه يحتمل أن يكون للكرامة فلم يتمحض كونه جناية، واستظهر بعد أنه لا ثمرة للاختلاف في سببها معللا بأنهم اتفقوا على أنه لو عجلها بعد الظهار قبل العود جاز ولو كرر الظهار تكررت الكفارة وإن لم يتكرر العزم، ولو عزم ثم ترك فلا وجوب، ولو عزم ثم أبانها سقطت ولو عجلها قبل الظهار لم يصح، ثم إنه لا استحالة في جعل المعصية سببا للعبادة التي حكمها أن تكفر المعصية وتذهب السيئة خصوصا إذا صار معنى الزجر فيها مقصودا وإنما المحال أن تجعل سببا للعبادة الموصلة إلى الجنة انتهى، ولا يخلو عن حسن ما عدا توجيه كون الظهار دائرا بين الحظر والإباحة فإنه كما ترى. وفسر بعضهم العود بالرجوع واللام بعن كما نقل عن الفراء أي ثم يرجعون عما قالوا: فيريدون الوطء، قال الزيلعي: وهذا تأويل حسن لأن الظهار موجبه التحريم المؤبد فإذا قصد وطأها وعزم عليه فقد رجع عما قال: ولا يخفى أن جعل اللام بمعنى عن خلاف الظاهر، وقيل: العود الرجوع، والمراد بما قالوا ما حرموه على أنفسهم بلفظ الظهار وهو التماس تنزيلا للقول منزلة المقول فيه نحو ما ذكر في قوله تعالى: وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ [مريم: 80] والمعنى ثم يريدون العود للتماس، وفيه تجوزان، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن معنى ثُمَّ يَعُودُونَ ثم يندمون ويتوبون أي يعزمون على التوبة، وكأنه حمل العود على التدارك والتائب متدارك لما صدر عنه بالتوبة. واعترض بأنه يقتضي أنه إذا لم يندم لا تلزمه الكفارة وإذا جعلت الكفارة نفس التوبة فأين معنى العود؟ وأيضا لا معنى لقول القائل ثم يعزمون على الكفارة فَتَحْرِيرُ إلخ، والعود عند الشافعية يتحقق في غير مؤقت ورجعية بأن يمسكها على الزوجية ولو جهلا ونحوه بعد فراغ ظهاره ولو مكرر للتأكيد وبعد علمه بوجود الصفة في المعلق وإن نسي أو جنّ عند وجودها زمن إمكان فرقة شرعا فلا عود في نحو حائض إلا بالإمساك بعد انقطاع دمها لأن تشبيهها بالمحرم يقتضي فراقها فبعدم فعله صار ناقضا له متداركا لما قال، فلو اتصل بلفظ الظهار فرقه بموت أو فسخ بنحو ردة قبل وطء أو طلاق بائن أو رجعي، ولم يراجع أو جن أو أغمي عليه عقب اللفظ ولم يمسكها بعد الإفاقة فلا عود للفرقة أو تعذرها أولا عنها في الأصح بشرط سبق القذف، والرفع للقاضي ظهاره في الأصح ولو راجع من ظاهر منها رجعية أو من طلقها رجعيا عقب الظهار أو ارتد متصلا وهي موطوءة ثم أسلم، فالمذهب أنه عائد بالرجعة لأن المقصود بها استباحة الوطء لا بالإسلام لأن المقصود به العود للدين الحق والاستباحة أمر يترتب عليه إلا إذا أمسكها بعده زمنا يسع الفرقة، وفي الظهار المؤقت الواقع كما التزم على الصحيح لخبر صحيح فيه الأصح أن العود لا يحصل بإمساك بل بوطء مشتمل على تغييب الحشفة أو قدرها من مقطوعها في المدة للخبر أيضا ولأن الحل منتظر بعدها، فالإمساك يحتمل كونه لانتظاره أو للوطء فيها فلم يتحقق الإمساك لأجل الوطء إلا بالوطء فيها فكان المحصل للعود. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 202 واعترض ما قالوه بأن ثُمَّ تدل على التراخي الزماني والإمساك المذكور معقب لا متراخ فلا يعطف- بثم- بل بالفاء، ورد بأن مدة الإمساك ممتدة، ومثله يجوز فيه العطف- بثم- والعطف بالفاء باعتبار ابتدائه وانتهائه، وعلى هذا لا حاجة إلى القول بأنها للدلالة على أن العود أشد تبعة وأقوى إثما من نفس الظهار حتى يقال عليه: إنه غير مسلم، ولا إلى قول الإمام أنه مشترك الإلزام بين الشافعية والحنفية القائلين: بأن العود استباحة الاستمتاع فيمنع أيضا لأن الاستباحة المذكورة عقب الظهار- قولا- نادرة فلا يتوجه ذلك على الحنفية. واعترض أيضا بأن الظهار لم يوجب تحريم العقد حتى يكون العود إمساكها، ومن تعليل الشافعية السابق يعلم ما فيه، وفي التفريع لابن الجلاب المالكي أنه روي عن الامام مالك في المراد بالعود روايتان: إحداهما أنه العزم على إمساكها بعد الظهار منها، والرواية الأخرى أنه العزم على وطئها، ثم قال: ومن أصحابنا من قال: العود في إحدى الروايتين عن مالك هو الوطء نفسه، والصحيح عندي ما قدمته انتهى من مدونه. وابن حجر نسب القول: بأنه العزم على الوطء إلى الإمام مالك والإمام أحمد، والقول: بأنه الوطء نفسه إلى الإمام أبي حنيفة، وذكر أنهما قولان للإمام الشافعي في القديم، وما حكاه عن الإمام أبي حنيفة لم يحكه عنه فيما نعلم أحد من أصحابه، وحكاه الزيلعي عن الامام مالك، ولم يحك عنه غيره، وحكاه أبو حيان في البحر عن الحسن وقتادة وطاوس والزهري وجماعة، وأفاد أنه إحدى روايتين عن مالك، ثانيتهما أنه العزم على الإمساك والوطء. واعترض القول به ممن كان وكذا القول: بأنه العزم على الوطء بأن الآية لما نزلت، وأمر صلّى الله عليه وسلم المظاهر بالكفارة لم يسأله هل وطئ أو عزم على الوطء؟ والأصل عدم ذلك، والوقائع القولية كهذه يعممها الاحتمال، وأنها ناصة على وجوب الكفارة قبل الوطء فيكون العدو سابقا عليه، فكيف يكون هو الوطء؟! وأجاب القائل: بأنه العزم على الوطء عن ترك السؤال بأن ذلك لعلمه عليه الصلاة والسلام به من خولة، فقد أخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي من طريق يوسف بن عبد الله بن سلام قال: حدثتني خولة بنت ثعلبة قالت: فيّ وفي أوس بن الصامت أنزل الله تعالى صدر سورة المجادلة كنت عنده وكان شيخا كبيرا قد ساء خلقه فدخل علي يوما فراجعته بشيء فغضب فقال: أنت علي ظهر أمي، ثم رجع فجلس في نادي قومه ساعة ثم دخل علي فإذا هو يريدني عن نفسي قلت: كلا والذي نفس خولة بيده لا تصل إلي وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله تعالى ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم فينا، ثم جئت إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فذكرت له ذلك فما برحت حتى نزل القرآن الخبر، فإن ظاهر قولها: فذكرت له ذلك أنها ذكرت كل ما وقع، ومنه طلب أوس وطأها المكنى عنه بيريدني عن نفسي، وذكر ذلك له عليه الصلاة والسلام أهم لها من ذكرها إياه ليوسف بن عبد الله بن سلام. وأجيب من جهة القائل: بأنه الوطء عن الأخير بأن المراد من الآية عند ذلك القائل من قبل أن يباح التماس شرعا، والوطء أولا حرام موجب للتفكير- وهو كما ترى- ونقل عن الثوري ومجاهد أن معنى الآية والذين كانت عادتهم أن يقولوا هذا القول المنكر فقطعوه بالإسلام ثم يعودون لمثله فكفارة من عاد أن يحرر رقبة ثم يماس المظاهر منها فحملا العود والقول على حقيقتهما، ثم اعتبار العادة دلالة على أن العدول إلى المضارع في الآية للاستمرار فيما مضى وقتا فوقتا. وأخذ القطع من دلالة ثُمَّ على التراخي وليصح على وجه لا يلزم تعليق وجوب الكفارة بتكرار لفظ الظهار كما سيأتي إن شاء الله تعالى حكايته. وتعقب ذلك بأن فيه أن الاستمرار ينافي القطع، ثم إنهم ما كانوا قطعوه بالإسلام لأن الشرع لم يكن ورد بعد بتحريمه، وظاهر النظم الجليل أنه مظاهرة بعد الإسلام لأنه مسوق لبيان حكمه فيه وعليه ينطبق سبب النزول وهو الجزء: 14 ¦ الصفحة: 203 يقتضي أن يكون مجرد الظهار من غير عود موجبا للكفارة، وهو خلاف ما عليه علماء الأمصار وأجيب عن هذا الأخير بأنهما إن نقل عنهما ذلك اجتهادا فلا يلزمهما موافقة غيرهما وهو المصرح به في كتاب الأحكام وغيره، وإن لم ينقل عنهما غير تفسير العود في الآية بما أشير إليه، فيجوز أن يشترطا لوجوب الكفارة شيئا مما مر لكن لا يقولان: إنه المراد بالعود فيها، وقال أهل الظاهر: المعنى الذين يقولون هذا القول المنكر ثم يعودون له فيكررونه بأن يقول أحدهم: أنت علي كظهر أمي ثم يعود له ويقوله ثانيا فكفارته تحرير رقبة إلخ فحملوا العود والقول على حقيقتهما أيضا. وروي ذلك عن أبي العالية وبكير بن عبد الله بن الأشج والفراء أيضا، وحكاه أبو حيان رواية عن الإمام أبي حنيفة، ولا نعلم أحدا من أصحابه رواه عنه، وتعقب بأنه لو أريد ذلك لقيل: يعودون له فانه أخصر ولا يبقى لكلمة ثُمَّ حسن موقع، هذا ولا فقه فيه من حيث المعنى، والمنزل فيه- أعني قصة خولة- يدفعه إذ لم ينقل التكرار، ولا سأل عنه صلّى الله تعالى عليه وسلم، وهذا الدفع قوي، وأما ما قيل: فقد أجيب عنه بأنه يحتمل أن يكون الفقه فيه أنه ليس صريحا في التحريم فلعله يسبق لفظه به من غير قصد لمعناه. فإذا كرره تعين أنه قصده وأن العدول عن له إلى لِما قالُوا لقصد التأكيد بالإظهار، وأن العطف- بثم- لتراخي رتبة الثاني وبعده عن الأول لأنه الذي تحقق به الظهار، وقول الزيلعي في الاعتراض عليه: إن اللفظ لا يحتمله- لأنه لو أريد ذلك لقيل: يعيدون القول الأول بضم الياء وكسر العين من الإعادة لا من العود- جهل من قلة العود لكلام الفصحاء والرجوع إلى محاوراتهم، وقال أبو مسلم الأصفهاني: معنى العود أن يحلف أولا على ما قال من الظهار بأن يقول: والله أنت علي كظهر أمي وهو عود لما قال وتكرار له معنى لأن القسم لكونه مؤكدا للمقسم عليه يفيد ذلك فلا تلزم الكفارة في الظهار من غير قسم عنده، وهذا القول إلغاء للظهار معنى لأن الكفارة لحلفه على أمر كذب فيه، وأيضا المنزل فيه يدفعه إذ لم ينقل الحلف ولا سأل عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم والأصل عدمه، وقيل: عوده تكراره الظهار معنى بأن يقول: أنت علي كظهر أمي إن فعلت كذا ثم يفعله فإنه يحنث وتلزمه الكفارة، وتعد مباشرته ذلك تكريرا للظهار وليس بشيء كما لا يخفى، وأما تعليق الظهار فقد ذكر الشافعية أنه يصح لأنه لاقتضاء التحريم كالطلاق والكفارة كاليمين وكلاهما يصح تعليقه، فإذا قال: إن دخلت الدار فأنت علي كظهر أمي فدخلت ولو في حال جنونه أو نسيانه صح لكن لا عود عندهم في الصورة المفروضة حتى يمسكها عقب الإفاقة أو تذكره وعلمه بوجود الصفة قدر إمكان طلاقها ولم يطلقها، وقد أطالوا في تفاريع التعليق الكلام بما لا يسعه هذا المقام. وعندنا أيضا يصح تعليقه وكذا تقييده بيوم أو شهر، ولا يبقى بعد مضي المدة، نعم لو ظاهر واستثني يوم الجمعة مثلا لم يجز ولو علق الظهار بشرط ثم أبانها ثم وجد الشرط في العدة لا يصير مظاهرا بخلاف الإبانة المعلقة كما بين في محله، وقال الأخفش: في الآية تقديم وتأخير وتقديرها- والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة لما قالوا: ثم يعودون إلى نسائهم- ولا يذهب إليه إلا أخفش أو أعشى أو أعمش، وفي قوله تعالى: مِنْ نِسائِهِمْ دليل لنا وكذا للشافعي وأحمد وجمع كثير من الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عليهم أجمعين على أنه لو ظاهر من أمته الموطوءة أو غيرها لا يصح، وبيان ذلك أنه يتناول نساءنا والأمة، وإن صح إطلاق لفظ نسائنا عليها لغة لكن صحة الإطلاق لا تستلزم الحقيقة لأن حقيقة إضافة النساء إلى رجل أو رجال إنما تتحقق مع الزوجات (1) دون الإماء لأنه   (1) قوله: إنما تتحقق مع الزوجات إلخ، واستدل الإمام على عدم دخول الإماء في النساء المضاف بقوله تعالى: «أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن» للعطف اه منه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 204 المتبادر حتى يصح أن يقال: هؤلاء جواريه لا نساؤه، وحرمة بنت الأمة ليس لأن أمها من نسائنا مرادة بالنص بل لأنها موطوءة وطأ حلالا عند الجمهور، وبلا هذا القيد عندنا على أنه لو أريد بالنساء هناك ما تصح به الإضافة حتى يشتمل المعنى الحقيقي وهن الزوجات والمجازي- أعني الإماء بعموم المجاز- لأمكن للاتفاق على ثبوت ذلك الحكم في الإماء كثبوته في الزوجات أما هنا فلا اتفاق ولا لزوم عندنا أيضا ليثبت بطريق الدلالة لأن الإماء لسن في معنى الزوجات لأن الحل فيهن تابع غير مقصود من العقد ولا من الملك حتى يثبتا مع عدمه في الأمة المجوسية والمراضعة بخلاف عقد النكاح لا يصح في موضع لا يحتمل الحل، واستدل أيضا بأن القياس شأنه أن لا يوجب هذا التشبيه الذي في الظهار سوى التوبة، وورد الشرع بثبوت التحريم فيه في حق من لها الاستمتاع ولا حق للأمة فيه فيبقى في حقها على أصل القياس، وبأن الظهار كان طلاقا فنقل عنه إلى تحريم مغيّا بالكفارة ولا طلاق في الأمة، وهذا ليس بشيء للمتأمل. ونقل عن مالك والثوري صحة الظهار في الأمة مطلقا، وعن سعيد بن جبير وعكرمة وطاوس والزهري صحته في الموطوءة، ثم إن الشرط كونها زوجة في الابتداء فلو ظاهر من زوجته الأمة ثم ملكها بقي الظهار فلا يجوز له وطؤها حتى يكفر كما صرحوا به، والمراد بالزوجة المنكوحة التي يصح إضافة الطلاق إليها فلا فرق بين مدخول بها وغيرها فلا يصح الظهار من مبانة، ومنه ما سمعت آنفا ولا من أجنبية إلا إذا أضافه إلى التزوج كأن قال لها: إن تزوجتك فأنت علي كظهر أمي ثم تزوجها فإنه يكون مظاهرا، نعم في التاتارخانية: لو قال إذا تزوجتك فأنت طالق، ثم قال: إذا تزوجتك فأنت علي كظهر أمي فتزوجها يقع الطلاق، ولا يلزم الظهار في قول أبي حنيفة، وقال صاحباه: لزماه جميعا، وعن مالك أنه إذا ظاهر من أجنبية ثم نكحها لزم الظهار أضافه إلى التزويج أم لا. وقال بعض العلماء لا يصح ظهار غير المدخول بها، وقال المزني: لا يصح ظهار المطلقة الرجعية، وظاهر الَّذِينَ يُظاهِرُونَ يشمل العبد فيصح ظهاره، وقد ذكر أصحابنا أنه يصح ظهار الزوج البالغ العاقل المسلم ويكفر العبد بالصوم، ولا ينصف لما فيه من معنى العبادة كصوم رمضان، ومثله المحجور عليه بالسفه على قولهما المفتي به. وحكى الثعلبي عن مالك أنه لا يصح ظهار العبد، ولا تدخل المرأة في هذا الحكم فلو ظاهرت من زوجها لم يلزم شيء كما نقل ذلك عن التاتارخانية عن أبي يوسف، وقال أبو حيان: قال الحسن بن زياد: تكون مظاهرة، وقال الأوزاعي وعطاء وإسحاق وأبو يوسف: إذا قالت المرأة لزوجها: أنت عليّ كظهر فلانة فهي يمين تكفرها، وقال الزهري: أرى أن تكفر كفارة الظهار ولا يحول قولها هذا بينها وبين زوجها أن يصيبها انتهى، والرقبة من الحيوان معروفة، وتطلق على المملوك، وذلك من تسمية الكل باسم الجزء كما في المغرب، وهو المراد هنا. وفي الهداية هي عبارة عن الذات المرموق من كل وجه فيجزى في الكفارة إعتاق الرقبة الكافرة والمؤمنة والذكر والأنثى والكبير والصغير- ولو رضيعا- لأن الاسم ينطلق على كل ذلك، ومقتضى ذلك إجزاء إعتاق المرتد والمرتدة والمستأمن والحربي، وفي التاتارخانية أن المرتد يجوز عند بعض المشايخ، وعند بعضهم لا يجوز، والمرتدة تجوز بلا خلاف أي لأنها لا تقتل، وفي الفتح إعتاق الحربي في دار الحرب لا يجزيه في الكفارة، وإعتاق المستأمن يجزيه، وفي التاتارخانية لو أعتق عبدا حربيا في دار الحرب إن لم يخل سبيله لا يجوز وإن خلي سبيله ففيه اختلاف المشايخ، فبعضهم قالوا: لا يجوز- وشمل الرقبة الصحيح والمريض فيجزي كل منهما- واستثنى في الخانية مريضا لا يرجى برؤه فإنه لا يجوز لأنه ميت حكما، وفي جواز إعتاق حلال الدم كلام: فحكي في البحر أنه إذا أعتق عبدا حلال الجزء: 14 ¦ الصفحة: 205 الدم قد قضي بدمه ثم عفى عنه (1) فلو كان أبيض العينين فزال البياض أو كان مرتدا فأسلم لا يجوز. وفي جامع الفقه جاز المديون والمرهون ومباح الدم، ويجوز إعتاق الآبق إذا علم أنه حي، ولا بد أن تكون الرقبة غير المرأة المظاهر منها لما في الظهيرية والتاتارخانية أمة تحت رجل ظاهر منها ثم اشتراها وأعتقها كفارة ظهارها قيل: تجزي، وقيل: لا تجزي في قول أبي حنيفة ومحمد خلافا لأبي يوسف، ويجوز الأصم استحسانا إذا كان بحيث إذا صحيح عليه يسمع، وفي رواية النوادر لا يجوز ولا تجزى العمياء ولا المقطوعة اليدين أو الرجلين، وكذا مقطوع إبهام اليدين ومقطوع إحدى اليدين وإحدى الرجلين من جانب واحد والمجنون الذي لا يعقل، ولا يجوز إعتاق المدبر وأم الولد، وكذا المكاتب الذي أدى بعض المال وإن اشترى أباه أو ابنه ينوي بالشراء الكفارة جاز عنها، وإن أعتق نصف عبد مشترك وهو موسر فضمن قيمة باقية لم يجز عند الإمام، وجاز عند صاحبيه، وإن أعتق نصف عبده عن كفارته ثم جامع ثم أعتق باقيه لم يجزه عنده لأن الإعتاق يتجزأ عنده، وشرط الإعتاق أن يكون قبل المسيس بالنص، وإعتاق النصف حصل بعده، وعندهما إعتاق النصف إعتاق الكل فحصل الكل قبل المسيس، واشترط الشافعي عليه الرحمة كون الرقبة مؤمنة ولو تبعا لأصل أو دار أو ساب حملا للمطلق في هذه الآية على المقيد في آية القتل بجامع عدم الإذن في السبب. وقال الحنفية: لا يحمل المطلق على المقيد إلا في حكم واحد في حادثة واحدة لأنه حينئذ يلزم ذلك لزوما عقليا إذا الشيء لا يكون نفسه مطلوبا إدخاله في الوجود مطلقا ومقيدا كالصوم في كفارة اليمين. ورد مطلقا ومقيدا بالتتابع في القراءة المشهورة التي تجوز القراءة بمثلها، والكلام في تحقيق هذا الأصل في الأصول. وقالوا على تقدر التنزل إلى أصل الشافعية من الحمل مطلقا: إنه لا يلزم من التضييق في كفارة الأمر الأعظم وهو القتل ثبوت مثله فيما هو أخف منه ليكون التقييد فيه بيانا في المطلق، وما ذكروه من الجامع لا يكفي، ووافقوا في كثير مما عدا ذلك، وخالفوا أيضا في كثير فقالوا: يشترط في الرقبة أن تكون بلا عيب يخل بالعمل والكسب فيجزىء صغير ولو عقب ولادته وأقرع وأعرج يمكنه من غير مشقة لا تحتمل عادة تتابع المشي وأعور لم يضعف نظر سليمته حتى أخل بالعمل إخلالا بيّنا وأصم وأخرس يفهم إشارة غيره ويفهم غيره إشارته مما يحتاج إليه وأخشم وفاقد أنفه وأذنيه وأصابع رجليه وأسنانه وعنين ومجبوب ورتقاء وقرناء وأبرص ومجذوم وضعيف بطش ومن لا يحسن صنعة وولد زنا وأحمق- وهو من يضع الشيء في غير محله مع علمه بقبحه- وآبق ومغصوب وغائب علمت حياته أو بانت وإن جهلت حالة العتق لازمنه وجنين وإن انفصل لدون ستة أشهر من الإعتاق أو فاقد يد أو رجل أو أشل أحدهما أو فاقد خنصر وبنصر معا من يد أو أنملتين من غيرهما أو أنملة إبهام- كما قال النووي عليه الرحمة- ولا هرم عاجز ولا من هو في أكثر وقته مجنون ولا مريض لا يرجى عند العتق برء مرضه- كسلال- فإن برأ بعد إعتاقه بان الإجزاء في الأصح ولا من قدم لقتل بخلاف من تحتم قتله في المحاربة قبل الرفع للإمام، ولا يجزى شراء أو تملك قريب أصل أو فرع بنية كفارة ولا عتق أم ولد ولا ذو كتابة صحيحة قبل تعجيزه، ويجزى مدبر ومعلق عتقه بصفة غير التدبير، وقالوا: لو أعتق معسر نصفين له من عبدين عن كفارة فالأصح الإجزاء إن كان باقيهما أو باقي أحدهما حرّا إلى غير ذلك. وفي الإتيان بالفاء في قوله تعالى: فَتَحْرِيرُ إلخ دلالة على ما قال بعض الأجلة: على تكرر وجوب التحرير بتكرر الظهار، فإذا كان له زوجتان مثلا فظاهر من كل منهما على حدة لزمه كفارتان.   (1) هكذا في خط المؤلف، ولعل هنا سقطا فحرر اه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 206 وفي التلويح لو ظاهر من امرأته مرتين أو ثلاثا في مجلس واحد أو مجالس متفرقة لزمه بكل ظهار كفارة، وفي إطلاقه بحث، فقد ذكر بعضهم أنه لو قصد التأكيد في المجلس الواحد لم تتعدد، وفي شرح الوجيز للغزالي ما محصله: لو قال لأربع زوجات: أنتن علي كظهر أمي فإن كان دفعة واحدة ففيه قولان، وإن كان بأربع كلمات فأربع كفارات، ولو كررها- والمرأة واحدة- فإما أن يأتي بها متوالية أولا، فعلى الأول إن قصد التأكيد فواحدة وإلا ففيه قولان: القديم- وبه قال أحمد- واحدة كما لو كرر اليمين على شيء واحد، والقول الجديد التعدد- وبه قال أبو حنيفة ومالك- وإذا لم تتوال أو قصد بكل واحدة ظهارا أو أطلق ولم ينو التأكيد فكل مرة ظهار برأسه، وفيه قول: إنه لا يكون الثاني ظهارا إن لم يكفر عن الأول، وإن قال: أردت إعادة الأول ففيه اختلاف بناء على أن الغالب في الظهار أن معنى الطلاق أو اليمين لما فيه من الشبهين انتهى. وظاهر بعض عبارات أصحابنا أنه لو قيد الظهار بعدد اعتبر ذلك العدد، ففي التتارخانية لو قال لأجنبية: إن تزوجتك فأنت علي كظهر أمي مائة مرة فعليه- أي إذا تزوجها- لكل كفارة، وتدل الآية على أن الكفارة المذكورة قبل المسيس فإن مس أثم ولا يعاود حتى يكفّر، فقد روى أصحاب السنن الأربعة عن ابن عباس أن رجلا- وهو سلمة ابن صخر الانصاري كما في حديث أبي داود والترمذي وغيرهما- ظاهر من امرأته فوقع عليها قبل أن يكفر فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: «ما حملك على ذلك؟! فقال: رأيت خلخالها في ضوء القمر- وفي لفظ بياض ساقها- قال عليه الصلاة والسلام: فاعتزلها حتى تكفّر» ولفظ ابن ماجة «فضحك رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وأمره أن لا يقربها حتى يكفّر» قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب، وفي كونه صحيحا ردّه المنذري في مختصره بأنه صححه الترمذي ورجاله ثقات مشهور سماع بعضهم من بعض. وروى الترمذي وقال: حسن غريب عن ابن إسحاق بالسند إلى سلمه المذكور عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال في المظاهر يواقع قبل أن يكفر: «كفارة واحدة تلزمه ، ويردّ به على مجاهد في قوله: يلزمه كفارة أخرى، ونقل هذا عن عمرو بن العاص، وقبيصة وسعيد بن جبير والزهري وقتادة، وعلى من قال تلزمه ثلاث كفارات، ونقل ذلك عن الحسن والنخعي، وبه، وبما تقدم يردّ على ما قيل: من أنه تسقط الكفارة الواجبة عليه ولا يلزمه شيء ولا ترتفع حرمة المسيس إلا بها لا بملك ولا بزوج ثان حتى لو طلقها من بعد الظهار ثلاثا فعادت إليه من بعد زوج آخر أو كانت أمة فملكها بعد ما ظاهر منها لا يحل قربانها حتى يكفر، وهو واجب على التراخي- على الصحيح- لكون الأمر الدالة عليه الآية مطلقا حتى لا يأثم بالتأخير عن أول أوقات الإمكان، ويكون مؤديا لا قاضيا، ويتعين في آخر عمره، ويأثم بموته قبل الأداء، ولا تؤخذ من تركته إن لم يوص ولو تبرع الورثة في الاعتاق، وكذا في الصوم لا يجوز- كذا في البدائع- فإن أوصى كان من الثلث، وفي التاتارخانية لو كان مريد التكفير مريضا فأعتق عبده عن كفارته وهو لا يخرج من ثلث ماله فمات من ذلك المرض لا يجوز عن كفارته وإن أجازت الورثة، ولو أنه برىء من مرضه جاز، وللمرأة مطالبته بالوطء والتكفير وعليها أن تمنعه من الاستمتاع بها حتى يكفّر، وعلى القاضي أن يجبره على التكفير دفعا للضرر عنها بحبس فإن أبى ضربه ولو قال: قد كفرت صدّق ما لم يكن معروفا عند الناس بالكذب. هذا وبقيت مسائل أخر مذكورة في كتب الفقه ذلِكُمْ الاشارة إلى الحكم بالكفارة والخطاب للمؤمنين الموجودين عند النزول أو لهم ولغيرهم من الأمة تُوعَظُونَ بِهِ أي تزجرون به عن ارتكاب المنكر، فإن الغرامات مزاجر عن تعاطي الجنايات، والمراد بيان أن المقصود من شرع هذا الحكم ليس تعريضكم للثواب بمباشرتكم لتحرير الرقبة الذي هو علم في استتباع الثواب العظيم بل هو ردعكم وزجركم عن مباشرة ما يوجبه كذا في الإرشاد، وهو الجزء: 14 ¦ الصفحة: 207 ظاهر في كون الكفارة عقوبة محضة، وقد تقدم القول بأنها دائرة بين العبادة والعقوبة، وكلام الزيلعي يدل على أن جهة العبادة فيها أغلب، وفي شرح منهاج النووي لابن حجر في كتاب كفارة الظهار الكفارة من الكفر وهو الستر لسترها الذنب بمحوه أو تخفيف إثمه بناء على أن الكفارات زواجر كالتعازير أو جوابر للخلل، ورجح ابن عبد السلام الثاني لأنها عبادة لافتقارها للنية أي فهي كسجود السهو. والفرق بينها- على الثاني- وبين الدفن الكفارة للبصق على ما هو المقرر فيه أنه يقطع دوام الإثم أن الدفن مزيل لعين ما به المعصية فلم يبق بعده شيء يدوم إثمه بخلافها هنا فإنها ليست كذلك، وعلى الأول الممحو هو حق الله تعالى من حيث هو حقه، وأما بالنظر لنحو الفسق بموجبها فلا بد فيه من التوبة نظير نحو الحد انتهى. ومتى قيل: بأن الإعتاق المذكور كفارة وأن الكفارة تستر الذنب بمحوه أو تخفيف إثمه لم يكن بدّ من استتباعه الثواب وكون ذلك لا يعدّ ثوابا لا يخلو عن نظر ولعل المراد أن المقصود الأعظم من شرع هذا الحكم الردع والزجر عن مباشرة ما يوجبه دون التعريض للثواب، وإن تضمنه في الجملة فتأمل وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من الأعمال كالتكفير وما يوجبه من جناية الظهار خَبِيرٌ أي عالم بظواهرها وبواطنها ومجاريكم بها فحافظوا على حدود ما شرع لكم ولا تخلوا بشيء منها. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا أي فمن لم يجد رقبة فالواجب عليه صيام شهرين متتابعين من قبل التماس، والمراد- بمن لم يجد- من لم يملك رقبة ولا ثمنها فاضلا عن قدر كفايته لأن قدرها مستحق الصرف فصار كالعدم، وقدر الكفاية من القوت للمحترف قوت يوم. وللذي يعمل قوت شهر- على ما في البحر- ومن له عبد يحتاج لخدمته واجد فلا يجزئه الصوم، وهذا بخلاف من له مسكن لأنه كلباسه ولباس أهله، وعند الشافعية المراد به من لم يملك رقبة أو ثمنها فاضلا كل منهما عن كفاية نفسه وعياله العمر الغالب نفقة وكسوة وسكنى وأثاثا لا بد منه، وعن دينه ولو مؤجلا. وقالوا: إذا لم يفضل القنّ أو ثمنه عما ذكر لاحتياجه لخدمته لمنصب يأبى خدمته بنفسه أو ضخامة كذلك بحيث يحصل له بعتقه مشقة شديدة لا تحتمل عادة ولا أثر لفوات رفاهية أو مرض به أو بموته فلا عتق عليه لأنه فاقد شرعا- كمن وجد ماء وهو يحتاجه لعطش- وإلى اعتبار كون ذلك فاقدا- كواجد الماء المذكور- ذهب الليث أيضا. والفرق عندنا على ما ذكره الرازي في أحكام القرآن أن الماء مأمور بإمساكه لعطشه واستعماله محظور عليه بخلاف الخادم، واليسار والإعسار معتبران وقت التكفير والأداء، وبه قال مالك، وعن الشافعي أقوال في الجزء: 14 ¦ الصفحة: 208 وقتها أظهرها كما هو عندنا، قالوا: لأن الكفارة أعني الاعتاق عبادة لها بدل من غير جنسها كوضوء وتيمم وقيام صلاة وقعودها فاعتبر وقت أدائها، وغلب الثاني كمذهب أحمد والظاهرية شائبة العقوبة فاعتبر وقت الوجوب- كما لو زنى قنّ ثم عتق فإنه يحدّ حدّ القنّ- والثالث الأغلظ من الوجوب إلى الأداء، والرابع الأغلظ منهما، وأعرض عما بينهما. ومن يملك ثمن رقبة إلا أنه دين على الناس فإن لم يقدر على أخذه من مديونه فهو فاقد فيجزئه الصوم وإن قدر فواجد فلا يجزئه وإن كان له مال ووجب عليه دين مثله فهو فاقد بعد قضاء الدين، وأما قبله فقيل فاقد أيضا بناء على قول محمد أنه تحل له الصدقة المشير إلى أن ماله لكونه مستحقا الصرف إلى الدين ملحق بالعدم حكما، وقيل: واجد لأن ملك المديون في ماله كامل بدليل أنه يملك جميع التصرفات فيه. وفي البدائع لو كان في ملكه رقبة صالحة للتكفير فعليه تحريرها سواء كان عليه دين أو لم يكن لأنه واجد حقيقة، وحاصله أن الدين لا يمنع تحرير الرقبة الموجودة، ويمنع وجوب شرائها بما عنده من مثل الدين على أحد القولين، والظاهر أن الشراء متى وجب يعتبر فيه ثمن المثل، وصرح بذلك النووي وغيره من الشافعية فقالوا: لا يجب شراء الرقبة بغبن أي زيادة على ثمن مثلها نظير ما يذكر في شراء الماء للطهارة، والفرق بينهما بتكرير ذلك ضعيف، وعلى الأول- كما قال الأذرعي وغيره نقلا عن الماوردي واعتمدوه- لا يجوز العدول للصوم بل يلزمه الصبر إلى الوجود بثمن المثل، وكذا لو غاب ماله فيكلف الصبر إلى وصوله أيضا، ولا نظر إلى تضررهما بفوات التمتع مدة الصبر لأنه الذي ورط نفسه فيه انتهى. وما ذكروه فيما لو غاب ماله موافق لمذهبنا فيه ولو كان عليه كفارتا ظهار لامرأتين وفي ملكه رقبة فقط فصام عن ظهار إحداهما، ثم أعتق عن ظهار الأخرى ففي المحيط في نظير المسألة يقتضي عدم إجزاء الصوم عن الأولى قال: عليه كفارتا يمين، وعنده طعام يكفي لإحداهما فصام عن إحداهما ثم أطعم عن الأخرى لا يجوز صومه لأنه صام وهو قادر على التكفير بالمال فلا يجزئه، ويعتبر الشهر بالهلال فلا فرق بين التام والناقص فمن صام بالأهلّة واتفق أن كل شهر تسعة وعشرون حتى صار مجموع الشهرين ثمانية وخمسين أجزاه ذلك وإن غم الهلال اعتبر- كما في المحيط- كل شهر ثلاثين وإن صام بغير الأهلة فلا بدّ من ستين يوما كما في الفتح القدير، ويعتبر الشهر بالهلال عند الشافعية أيضا، وقالوا: إن بدأ في أثناء شهر حسب الشهر بعده بالهلال لتمامه وأتم الأول من الثالث ثلاثين لتعذر الهلال فيه بتلفقه من شهرين، وعلى هذا يتفق كون صيامه ستين وكونه تسعة وخمسين، ولا يتعين الأول كما لا يخفى فلا تغفل، وإن أفطر يوما من الشهرين ولو الأخير بعذر من مرض أو سفر لزم الاستئناف لزوال التتابع وهو قادر عليه عادة، وقال أبو حيان: إن أفطر بعذر كسفر فقال ابن المسيب والحسن وعطاء وعمرو بن دينار والشعبي ومالك والشافعي في أحد قوليه: يبني اه، وإن جامع التي ظاهر منها في خلال الشهرين ليلا عامدا أو نهارا ناسيا استأنف الصوم عند أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: لا يستأنف لأنه لا يمنع التتابع إذ لا يفسد به الصوم وهو الشرط، ولهما أن المأمور به صيام شهرين متتابعين لا مسيس فيهما فإذا جامعها في خلالها لم يأت بالمأمور به، وإن جامع زوجة أخرى غير المظاهر منها ناسيا لا يستأنف عند الإمام أيضا كما لو أكل ناسيا لأن حرمة الأكل والجماع إنما هو للصوم لئلا ينقطع التتابع ولا ينقطع بالنسيان فلا استئناف بخلاف حرمة جماع المظاهرة فإنه ليس للصوم بل لوقوعه قبل الكفارة، وتقدمها على المسيس شرط حلها، فبالجماع ناسيا في أثنائه يبطل حكم الصوم المتقدم في حق الكفارة، ثم إنه يلزم في الشهرين أن لا يكون فيهما صوم رمضان لأن التتابع منصوص عليه وشهر رمضان لا يقع عن الظهار الجزء: 14 ¦ الصفحة: 209 لما فيه من إبطال ما أوجب الله تعالى، وأن لا يكون فيهما الأيام التي نهى عن الصوم فيها وهي يوما العيدين وأيام التشريق لأن الصوم فيها ناقص بسبب النهي عنه فلا ينوب عن الواجب الكامل. وفي البحر: المسافر في رمضان له أن يصومه عن واجب آخر، وفي المريض روايتان، وصوم أيام نذر معينة في أثناء الشهرين بنية الكفارة لا يقطع التتابع، ومن قدر على الإعتاق في اليوم الأخير من الشهرين قبل غروب الشمس وجب عليه الإعتاق لأن المراد استمرار عدم الوجود إلى فراغ صومهما وكان صومه حينئذ تطوعا، والأفضل إتمام ذلك اليوم وإن أفطر لاقضاء عليه لأنه شرع فيه مسقطا لا ملتزما خلافا لزفر. وفي تحفة الشافعية لو بان بعد صومهما أن له مالا ورثه ولم يكن عالما به لم يعتدّ بصومه على الأوجه اعتبارا بما في نفس الأمر أي وهو واجد بذلك الاعتبار، وليس في بالي حكم ذلك عند أصحابنا، ومقتضى ظاهر ما ذكروه فيمن تيمم وفي رحله ماء وضعه غيره ولم يعلم به من صحة تيممه الاعتداد بالصوم هاهنا، وقد صرح الشافعية فيمن أدرج في رحله ماء ولم يقصر في طلبه أو كان بقربه بئر خفية الآثار بعدم بطلان تيممه فلينظر الفرق بين ما هنا وما هناك، ولعله التغليظ في أمر الكفارة دون التيمم فليراجع فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أي صيام شهرين متتابعين، وذلك بأن لم يستطع أصل الصيام أو بأن لم يستطع تتابعه لسبب من الأسباب ككبر أو مرض لا يرجى زواله كما قيده بذلك ابن همام. وغيره- وعليه أكثر الشافعية- وقال الأقلون منهم- كالإمام ومن تبعه- وصححه في الروضة: يعتبر دوامه في ظنه مدة شهرين بالعادة الغالبة في مثله أو بقول الأطباء، قال ابن حجر: ويظهر الاكتفاء بقول عدل منهم، وصرح الشافعية بأن من تلحقه بالصيام أو تتابعه مشقة شديدة لا تحتمل عادة وإن لم تبح التيمم فيما يظهر غير مستطيع، وكذا من خاف زيادة مرض، وفي حديث أوس على ما ذكر أبو حيان أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قال: «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ فقال: والله يا رسول الله إني إذا لم آكل في اليوم والليلة ثلاث مرات كل بصري وخشيت أن تغشو عيني» الخبر ، وعدّوا من أسباب عدم الاستطاعة الشبق وهو شدة الغلمة. واستدل له بما أخرج الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وغيرهم عن سلمة ابن صخر قال: كنت رجلا قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري فلما دخل رمضان ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان فرقا من أن أصيب منها في ليلي فأتتابع في ذلك ولا أستطيع أن أنزع حتى يدركني الصبح فبينما هي تخدمني ذات ليلة إذ تكشف لي منها شيء فوثبت عليها- إلى أن قال- فخرجت فأتيت رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فأخبرته بخبري فقال: «أنت بذاك؟ قلت: أنا بذاك؟ فقال: أنت بذاك؟ قلت: أنا بذاك وها أنا ذا فامض في حكم الله تعالى فإني صابر لذلك قال: أعتق رقبة فضربت صفحة عنقي بيدي فقلت: لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها، قال: فصم شهرين متتابعين، فقلت: وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام، قال: فأطعم ستين مسكينا» الحديث فإنه أشار بقوله: «وهل أصابني» إلخ إلى شدة شبقه الذي لا يستطيع معه صيام شهرين متتابعين، وإنما لم يكن عذرا في صوم رمضان قال ابن حجر: لأنه لا بدل له، وذكر أن غلبة الجوع ليست عذرا ابتداء لفقده حينئذ فيلزمه الشروع في الصيام فإذا عجز عنه أفطر وانتقل عنه للإطعام بخلاف الشبق لوجوده عند الشروع فيدخل صاحبه في عموم قوله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ. فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً لكل مسكين نصف صاع من بر أو صاع من تمر أو شعير، ودقيق كل كأصله، وكذا السويق، وذلك لأخبار ذكرها ابن الهمام في فتح القدير، والصاع أربعة أمداد. وقال الشافعية: لكل مسكين مدّ لأنه صح في رواية، وصح في الأخرى صاع، وهي محمولة على بيان الجواز الجزء: 14 ¦ الصفحة: 210 الصادق بالندب لتعذر النسخ (1) فتعين الجمع بما ذكر مما يكون فطرة بأن يكون من غالب قوت محل المكفر في غالب السنة كالأقط- ولو للبلدي- فلا يجزىء نحو دقيق مما لا يجزي في الفطرة عندهم، ومذهب مالك كما قال أبو حيان مدّ وثلث بالمدّ النبوي، وروى عنه ابن وهب مدّان. وقيل: مدّ وثلثا مدّ، وقيل: ما يشبع من غير تحديد، ولا فرق بين التمليك والإباحة عندنا فإن غدى الستين وعشاهم أو غدّاهم مرتين أو عشاهم كذلك أو غداهم وسحرهم أو سحرهم مرتين وأشبعهم بخبز بر أو شعير أو نحوه كذرة بإدام أجزأه، وإن لم يبلغ ما شبعوا به المقدار المعتبر في التمليك، ويعتبر اتحاد الستين فلو غدّى مثلا ستين مسكينا وعشى ستين غيرهم لم يجز إلا أن يعيد على إحدى الطائفتين غداء أو عشاء، ولو أطعم مائة وعشرين مسكينا في يوم واحد أكلة واحدة مشبعة لم يجز إلا عن نصف الإطعام فإن أعاده على ستين منهم أجزاه، واشترط الشافعية التمليك اعتبارا بالزكاة وصدقة الفطر، وهذا لأن التمليك أدفع للحاجة فلا ينوب منابه الإباحة، ونحن نقول: المنصوص عليه هنا هو الإطعام وهو حقيقة من التمكين من الطعم، وفي الإباحة ذلك كما في التمليك، وفي الزكاة الإيتاء، وفي صدقة الفطر الأداء، وهما للتمليك حقيقة- كذا في الهداية- قال العلامة ابن الهمام: لا يقال: اتفقوا على جواز التمليك فلو كان حقيقة الإطعام ما ذكر كان مشتركا معمما أو فى حقيقته ومجازه لأنا نقول: جواز التمليك عندنا بدلالة النص، والدلالة لا تمنع العمل بالحقيقة كما في حرمة الشتم والضرب مع التأفيف فكذا هذا فلما نص على دفع حاجة الأكل فالتمليك الذي هو سبب لدفع كل الحاجات التي من جملتها الأكل أجوز فإنه حينئذ دافع لحاجة الأكل وغيره، وذكر الواني أن الإطعام جعل الغير طاعما أي آكلا لأن حقيقة طعمت الطعام أكلته، والهمزة تعدية إلى المفعول الثاني أي جعلته آكلا، وأما نحو أطعمتك هذا الطعام فيكون هبة وتمليكا بقرينة الحال، قالوا: والضابط أنه إذا ذكر المفعول الثاني فهو للتمليك وإلا فللإباحة، هذا والمذكور في كتب اللغة أن الإطعام إعطاء الطعام وهو أعم من أن يكون تمليكا أو إباحة انتهى فلا تغفل. ويجوز الجمع بين الإباحة والتمليك لبعض المساكين دون البعض كما إذا ملك ثلاثين وأطعم ثلاثين غداء وعشاء وكذا لرجل واحد في إحدى روايتين كأن غداه مثلا وأعطاه مدّا وإن أعطى مسكينا واحدا ستين يوما أجزأه وإن أعطاه في يوم واحد لم يجزه إلا عن يومه لأن المقصود سدّ خلة المحتاج، والحاجة تتجدد في كل يوم، فالدفع إليه في اليوم الثاني كالدفع إليه في غيره، وهذا في الإباحة من غير خلاف، وأما التمليك من مسكين واحد بدفعات فقد قيل: لا يجزيه، وقيل: يجزيه لأن الحاجة إلى التمليك قد تتجدد في يوم واحد بخلاف ما إذا دفع بدفعة لأن التفريق واجب بالنص، وخالف الشافعية، فقالوا: لا بد من الدفع إلى ستين مسكينا حقيقة فلا يجزىء الدفع لواحد في ستين يوما، وهو مذهب مالك، والصحيح من مذهب أحمد- وبه أكثر العلماء- لأنه تعالى نص على ستين مسكينا، ويتكرر الحاجة في مسكين واحد لا يصير هو ستين فكان التعليل بأن المقصود سدّ خلة المحتاج إلخ مبطلا لمقتضى النص فلا يجوز، وأصحابنا أشدّ موافقة لهذا الأصل، ولذا قالوا: لا يجزي الدفع لمسكين واحد وظيفة ستين بدفعة واحدة معللين له بأن التفريق واجب بالنص مع أن تفريق الدفع غير مصرح به، وإنما هو مدلول التزامي لعدد المساكين فالنص على العدد أولى لأنه المستلزم، وغاية ما يعطيه كلامهم أنه بتكرر الحاجة يتكرر المسكين حكما فكان تعددا حكما، وتمامه موقوف على أن ستين مسكينا في الآية مراد به الأعم من الستين حقيقة أو حكما.   (1) قوله: لتعذر النسخ فيه تأمل انتهى منه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 211 ولا يخفى أنه مجاز فلا مصير إليه بموجبه، فإن قلت: المعنى الذي باعتباره يصير اللفظ مجازا ويندرج فيه التعدد الحكمي ما هو؟ قلت: هو الحاجة فيكون ستين مسكينا مجازا عن ستين حاجة، وهو أعم من كونها حاجات ستين أو حاجات واحد إذا تحقق تكررها إلا أن الظاهر إنما هو عدد معدوده ذوات المساكين مع عقلية أن العدد مما يقصد لما في تعميم الجميع من بركة الجماعة وشمول المنفعة واجتماع القلوب على المحبة والدعاء- قاله في فتح القدير- وهو كلام متين يظهر منه ترجيح مذهب الجمهور، وذهب الأصحاب إلى أنه لا يشترط اتحاد نوع المدفوع لكل من المساكين فلو دفع لواحد بعضا من الحنطة وبعضا من الشعير مثلا جاز إذا كان المجموع قدر الواجب كأن دفع ربع صاع من بر ونصف صاع من شعير، وجاز نحو هذا التكميل لاتحاد المقصود- وهو الإطعام- ولا يجوز دفع قيمة القدر الواجب من منصوص عليه، وهو البر والشعير ودقيق كلّ وسويقه والزبيب والتمر إذا كانت من منصوص عليه آخر إلا أن يبلغ المدفوع الكمية المقدرة شرعا فلو دفع نصف صاع تمر يبلغ قيمة نصف صاع بر لا يجوز، فالواجب عليه أن يتم للذين أعطاهم القدر المقدر من ذلك الجنس الذي دفعه إليهم فإن لم يجدهم بأعيانهم استأنف في غيرهم، ومن غير المنصوص كالأرز والعدس يجوز كما إذا دفع ربع صاع من أرز يساوي قيمة نصف صاع من بر مثلا، وذلك لأنه لا اعتبار لمعنى النص في المنصوص عليه وإنما الاعتبار في غير المنصوص عليه، ونقل في ذلك خلاف الشافعي رحمه الله تعالى فلا يجوز دفع القيمة عنده مطلقا، ولا يجوز في الكفارة إعطاء المسكين أقل من نصف صاع من البر مثلا فقط، ففي التاتارخانية لو أعطى ستين مسكينا كل مسكين مدّا من الحنطة لم يجز، وعليه أن يعيد مدّا آخر على كل فإن لم يجد الأولين فأعطى ستين آخرين كلا مدّا لم يجز، ولو أعطى كلا من المساكين مدّا ثم استغنوا ثم افتقروا فأعاد على كل مدّا لم يجز، وكذا لو أعطى المكاتبين مدّا مدّا ثم ردوا إلى الرق ومواليهم أغنياء ثم كوتبوا ثانيا ثم أعاد عليهم لم يجز لأنهم صاروا بحال لا يجوز دفع الكفارة إليهم فصاروا كجنس آخر، وعليه فالمراد- بستين مسكينا- ستون مسكينا لم يعرض لهم في أثناء الإطعام ما ينافي ذلك، والظاهر أن فاعل إطعام هو المظاهر الغير المستطيع للصيام، ولا فرق بين أن يباشر ذلك أو يأمر به غيره، فإن أمر غيره فأطعم أجزاه لأنه استقراض معنى، فالفقير قابض له أولا ثم يتحقق تملكه ثم تمليكه، والمراد بالمسكين ما يعم الفقير، وقد قالوا: المسكين والفقير إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، ويشترط أن لا يكون المطعم أصله أو فرعه أو زوجته أو مملوكه أو هاشميا لمزيد شرفه فيجل عن هذه الغسالة، ولا حربيا ولو مستأمنا لمزيد خسته فليس أهلا لأدنى منفعة، ويجوز أن يكون ذميا ولو دفع بتحرّ فبان أنه ليس بمصرف أجزاه عندهما خلافا لأبي يوسف كما في البدائع. واستنبط الشافعية من التعبير بعدم الوجود عند الانتقال إلى الصوم، وبعدم الاستطاعة عند الانتقال إلى الإطعام أنه لو كان له مال غائب ينتظره ولا يصوم ولو كان مريضا يرجى برؤه يطعم ولا ينتظر الصحة ليصوم، وهو موافق لمذهبنا في الصوم لا في الإطعام كما سمعت، ثم هذا الحكم في الأحرار أما العبد فلا يجوز له إلا الصوم لأنه لا يملك وإن ملك والإعتاق والإطعام شرطهما الملك فإن أعتق عنه المولى أو أطعم لم يجز ولو بأمره، ويجب تقديم الإطعام على المسيس فإن قرب المظاهر المظاهرة في خلاله إثم ولم يستأنف لأنه عز وجل ما شرط أن يكون قبل المسيس كما شرط فيما قبل، ونحن لا نحمل المطلق على المقيد وإن كانا في حادثة واحدة بعد أن يكونا حكمين، والوجوب قيل: لم يثبت إلا لتوهم وقوع الكفارة بعد التماس بيانه أنه لو قدر على العتق أو الصيام في خلال الإطعام أو قبله يلزمه التكفير بالمقدور عليه فلو جوز للعاجز عنهما القربان قبل الإطعام، ثم اتفق قدرته فلزم التكفير به لزم أن يقع العتق بعد التماس، والمفضي إلى الممتنع ممتنع. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 212 وتعقب بأن فيه نظرا فإن القدرة حال قيام العجز بالفقر والكبر والمرض الذي لا يرجى زواله أمر موهوم، وباعتبار الأمور الموهومة لا تثبت الأحكام ابتداء بل يثبت الاستحباب ورعا فالأولى الاستدلال على حرمة المسيس قبل الإطعام لمن يتعين كفارة له بما ورد من حديث «اعتزلها حتى تكفر» ونحوه، وما ذكر من أنه لو قدر على العتق مثلا خلال الإطعام لزم التكفير به خالف فيه الشافعية. قال ابن حجر عليه الرحمة: لا أثر لقدرته على صوم أو عتق بعد الإطعام ولو لمدّ كما لو شرع في صوم يوم من الشهرين فقدر على العتق، وأجاز بعض المسيس في خلال الإطعام من غير إثم، ونقل ذلك عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وهو توهم نشأ من عدم إيجابه الاستئناف، وقد صرح في الكشاف بأنه لا فرق عند أبي حنيفة بين الكفارات الثلاث في وجوب تقديمها على المساس وإن ترك ذكره عند الإطعام للدلالة على أنه إذا وجد في خلال الإطعام لم يستأنف كما يستأنف الصوم. وجعل بعضهم ذكر القيد فيما قبل وتركه في الإطعام دليلا لأبي حنيفة في قوله: بعدم الاستئناف أي مع الإثم. وتعقبه ابن المنير في الانتصاف بأن لقائل أن يقول لأبي حنيفة: إذا جعلت الفائدة في ذكر عدم التماس في بعضها وإسقاطه من بعضها الفرق بين أنواعها فلم جعلته مؤثرا في أحد الحكمين دون الآخر؟ وهل التخصيص إلا نوع من التحكم؟ ثم قال: وله أن يقول: اتفقنا على التسوية بين الثلاث في هذا الحكم أعني حرمة المساس قبل التكفير، وقد نطقت الآية بالتفرقة فلم يمكن صرفها إلى ما وقع الاتفاق على التسوية فيه فتعين صرفه إلى الآخر، هذا منتهى النظر مع أبي حنيفة وأطال الكلام في هذا المقام بما لا يخلو عن بحث على أصول الإمام. وإذا عجز المظاهر عن الجميع قال الشافعية: استقرت في ذمته فإذا قدر على خصلة فعلها ولا أثر لقدرته على بعض عتق أو صوم بخلاف بعض الطعام ولو بعض ما يجب لواحد من المساكين فيخرجه، ثم الباقي إذا أيسر، والظاهر بقاء حرمة المسيس إلى أن يؤدي الكفارة تماما ولم يبال بإضرار المرأة بذلك لأن الإيسار مترقب كزوال المرض المانع من الجماع، ولم أراجع حكم المسألة في الظهار عند الحنفية، وأما في الجماع في نهار رمضان الموجب للكفارة فقد قال ابن الهمام بعد نقل حديث الأعرابي الواقع على امرأته فيه العاجز عن الخصال الثلاثة، وفيه: «فأتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بعرق فيه تمر فقال: تصدق به، فقال: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ فو الله ما بين لابيتها أفقر مني ولا أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك صلّى الله تعالى عليه وسلم حتى بدت نواجذه ثم قال: خذه فأطعمه أهلك» في لفظ لأبي داود- زاد الزهري- وإنما كان هذا رخصة له خاصة، ولو أن رجلا فعل ذلك اليوم لم يكن له بدّ من التكفير، وجمهور العلماء على قوله، وذكر النووي في شرح صحيح مسلم أن للشافعي في هذا العاجز قولين: أحدهما لا شيء عليه- واحتج له بحديث الأعرابي المذكور لأنه عليه الصلاة والسلام لم يقل له: إن الكفارة ثابته في ذمته بل أذن له في إطعام عياله- والثاني- وهو الصحيح عند أصحابنا وهو المختار- أن الكفارة لا تسقط بل تستقر في ذمته حتى يتمكن قياسا على سائر الديون والحقوق والمؤاخذات كجزاء الصيد وغيره، وأما الحديث فليس فيه نفي استقرار الكفارة بل فيه دليل لاستقرارها لأنه أخبر النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم بالعجز عن الخصال ثم أتى عليه الصلاة والسلام بعرق التمر فأمره بإخراجه في الكفارة فلو كانت تسقط بالعجز لم يكن عليه شيء فلم يأمره بالإخراج فدل على ثبوتها في ذمته، وإنما أذن له في إطعام عياله لأنه محتاج إلى الانفاق عليهم في الحال والكفارة واجبة على التراخي، وإنما لم يبين عليه الصلاة والسلام بقاءها في ذمته لأن تأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز عند جماهير الأصوليين فهذا هو الصواب في معنى الحديث، وحكم المسألة وفيها أقوال وتأويلات أخر ضعيفة انتهى. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 213 ومن الناس من قال: لم يكن هناك تأخير بيان وإنما اكتفى صلّى الله تعالى عليه وسلم بفهم الأعرابي عن التصريح له بالاستقرار، والأخبار في وقوع مثل ذلك للمظاهر مضطربة كما لا يخفى على من راجع الدر المنثور للسيوطي. ومسائل الظهار كثيرة والمذاهب في ذلك مختلفة، ومن أراد كمال الاطلاع فليرجع إلى كتب الفروع، ولولا التأسي ببعض الأجلة لما ذكرنا شيئا منها، ومع هذا لا يخلو أكثره عن تعلق بتفسير الآية والله تعالى أعلم. ذلِكَ إشارة إلى ما مر من البيان والتعليم، ومحله إما الرفع على الابتداء أو النصب بمضمر معلل بما بعده أي ذلك واقع أو فعلنا ذلك لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وتعلموا بشرائعه التي شرعها لكم وترفضوا ما كنتم عليه في جاهليتكم وَتِلْكَ الأحكام المذكورة حُدُودُ اللَّهِ التي لا يجوز تعديها فالزموها وقفوا عندها وَلِلْكافِرِينَ أي الذين يتعدونها ولا يعملون بها عَذابٌ أَلِيمٌ على كفرهم وأطلق الكافر على متعدي الحدود تغليظا لزجره، ونظير ذلك قوله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ [آل عمران: 97] . إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي يعادونهما ويشاقونهما لأن كلا من المتعاديين في حدّ وجهة غير حدّ الآخر وجهته كما أن كلا منهما في عدوة وشق غير عدوة الآخر وشقه، وقيل: إطلاق ذلك على المتعاديين باعتبار استعمال الحديد لكثرة ما يقع بينهما في المحاربة بالحديد كالسيوف والنصال وغيرها والأول أظهر وفي ذكر المحادّة في أثناء ذكر حدود الله تعالى دون المعاداة والمشاقة حسن موقع جاوز الحد، وقال ناصر الدين البيضاوي: أو يضعون أو يختارون حدودا غير حدود الله تعالى ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم ومناسبته لما قبله في غاية الظهور. قال المولى شيخ الإسلام سعد الله جبلي: وعلى هذا ففيه وعيد عظيم للملوك وأمراء السوء الذين وضعوا أمورا خلاف ما حده الشرع وسموها اليسا والقانون (1) ، والله تعالى المستعان على ما يصفون اه، وقال شهاب الدين الخفاجي بعد نقله: وقد صنف العارف بالله الشيخ بهاء الدين قدس الله تعالى روحه رسالة في كفر من يقول: يعمل بالقانون والشرع إذا قابل بينهما، وقد قال الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: 3] وقد وصل الدين إلى مرتبة من الكمال لا يقبل التكميل، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، ولكن أين من يعقل؟! انتهى. وليتني رأيت هذه الرسالة ووقفت على ما فيها فإن إطلاق القول بالكفر مشكل عندي فتأمل، ثم إنه لا شبهة في أنه لا بأس بالقوانين السياسية (2) وإذا وقعت باتفاق ذوي الآراء من أهل الحل والعقد على وجه يحسن   (1) قوله: اليسا هو بياء مثناة تحتية وسين مهملة وضع قانون للمعاملة، ويقال: يسق لفظ غير عربي كذا قاله الشهاب، ورأيت في بعض كتب اللغة التركية أن يصاق بفتح الياء والصاد المهملة بعدها ألف بعدها قاف معناه المنع اه منه. (2) أرسل إلينا الفاضل الأديب الأستاذ الشيخ محمد بهجة الأثري مقالة تتعلق بالقوانين السياسية، وأخبرنا أنه وجدها بهامش نسخة الأصل المخطوطة بخط أحد تلاميذ المؤلف رحمه الله تعالى فوضعناها في مكانها إتماما للفائدة. يقول محمد بهجة الأثري البغدادي: قوله: ثم إنه لا شبهة في أنه لا بأس بالقوانين السياسية- إلى قوله- كما لا يخفى على العارف النبيه ليس للمؤلف وإنما وجدته الجزء: 14 ¦ الصفحة: 214   على هامش الأصل بخط أحد تلاميذه وقد كتبه عوضا عن بحث نفيس لصاحب التفسير في «القانون والشرع» لم تسمح السلطة الغاشمة بنشره وإليك نص ذلك نقلا عن خطه، قال: وليتني رأيت هذه الرسالة ووقفت على ما فيها فإن إطلاق القول بالكفر مشكل عندي. نعم لا شك في كفر من يستحسن القانون ويفضله على الشرع ويقول: هو أوفق بالحكمة وأصلح للأمة، ويتميز غيظا ويتقصف غضبا إذا قيل له في أمر: أمر الشرع فيه كذا كما شاهدنا ذلك في بعض من خذلهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم، وهذا القانون الذي ذكروه قد نقصت منه اليوم أمور وزيدت فيه أمور وسمي بالأصول، وألفت فيها رسائل وطبعت ونشرت وفرقت وألزم العمل بما حوتها كل أمير ومأمور وعقدت مجالس الشورى عليها، ورجع في أحكام الأحكام إليها ومن خالفها نكل تنكيلا، وربما حبس حبسا طويلا، وكم قد قال لي بعض الولاة: إياك أن تقول في مجلسنا: المسألة شرعا كذا، وقد أصابني منه عامله الله بعدله لعدولي عن قوله مزيد الأذى، واتفق أن قال لي بعض خاصته يوما: أرى ثلثي الشرع شرا، فقلت له- وإن كنت عالما أن في أذنيه وقرا.: نعم ظهر الشر لما أذهبتم من الشرع العين، ولم تأخذوا من اسمه سوى حرفين فتأمل العبارة وتغير وجهه لما فهم الاشارة، والذي ينبغي أن يقال في ذلك: إن ما يرجع من تلك الأصول إلى ما يتعلق بسوق الجيوش وتعبئتهم وتعليمهم ما يلزم في الحرب مما يغلب على الظن الغلبة به على الكفرة وما يتعلق بأحكام المدن والقلاع ونحو ذلك لا بأس في أكثره على ما نعلم، وكذا ما يتعلق بجزاء ذوي الجنايات التي لم يرد فيها عن الشارع حد مخصوص بل فرض التأديب عليها إلى رأي الإمام كأنواع التعازير، وللإمام أن يستوفي ذلك وإن عفا المجني عليه لأن الساقط به حق الآدمي والذي يستوفيه الإمام حق الله تعالى للمصلحة كما نص على ذلك العلامة ابن حجر في شرح المنهاج، والقواعد لا تأباه، نعم ينبغي أن يجتنب في ذلك الإفراط والتفريط، وقد شاهدنا في العراق مما يسمونه «جزاء» ما القتل أهون منه بكثير. ومثل ذلك ظلم عظيم وتعد كبير. وأما ما يتعلق بالحدود الإلهية كقطع السارق. ورجم الزاني المحصن. وما فصل في حق قطاع الطريق من قطع الأيدي والأرجل من خلاف وغيره مما فصل في آيتهم- إلى غير ذلك- فظاهر أمره دخوله في حكم الآية هنا على ما ذكره البيضاوي. وأما ما يتعلق بالمعاملات والعقود فإن كان موافقا لما ورد عن الشارع فيها من الصحة وعدمها سميناه «شرعا» ولا نسميه «قانونا» و «أصولا» وإن لم يكن موافقا لذلك كالحكم في إعطاء الربا مثلا المسمى عندهم- بالكرشته- لزعم أنه تتعطل مصالح الناس لو لم يحكم بذلك فهو حكم بغير ما أنزل الله عز وجل. وأما ما يتعلق بحق بيت المال في الأراضي فما كان موافقا لعمل النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم وخلفائه الراشدين فذاك وما كان مخالفا لعمل الخلفاء الصادر منهم باجتهاد فإن كانت مخالفته إلى ما هو أسهل وأنفع للناس فنظرا إلى زمانهم فهو مما لا بأس فيه، وإن كانت مخالفته إلى ما هو أشق ففيه بأس، ولا يجري هذا التفصيل فيما وصفه رسول الله عليه الصلاة والسلام كالعشر في بعض الأراضي التي فتحت في زمنه الشريف صلّى الله تعالى عليه وسلم فإنه لا تجوز المخالفة فيه أصلا على ما ذكره أبو يوسف في كتاب الخراج وما ليس فيه موافقة ولا مخالفة بحسب الظاهر بأن لم يكن منصوصا عليه كان يندرج في العمومات المنصوص عليها في أمر الاراضي فذاك وإلا فقبوله ورده باعتبار المدخول في العمومات الواردة في الحظر والإباحة فإن دخل في عمومات الإباحة قبل وإن في عمومات الحظر رد، وأمر تكفير العامل بالأصول المذكورة خطر فلا ينبغي إطلاق القول فيه، نعم لا ينبغي التوقف في تكفير من يستحسن ما هو بين المخالفة للشرع منها ويقدمه على الأحكام الشرعية متنقصا لها به، ولقد سمعت بعض خاصة أتباع بعض الولاة يقول: وإن تلك الأحكام أصول وقوانين سياسية كانت حسنة في الأزمنة المتقدمة لما كان أكثر الناس بلها، وأما اليوم فلا يستقيم أمر السياسة بها والأصول الجديدة أحسن وأوفق للعقل منها، ويقول كلما ذكرها: الأصول المستحسنة. وكان يرشح كلامه بنفي رسالة النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم وكذا رسالة الأنبياء عليهم السلام قبله، ويزعم أنهم كانوا حكماء في أوقاتهم توصلوا إلى أغراضهم بوضع ما ادعوا فيه أنه وحي من الله تعالى، فهذا وأمثاله مما لا شك في كفره وفي كفر من يدعي للمرافعة عند القاضي فيأبى إلا المرافعة بمقتضى تلك الأصول عند أهل تلك الأصول راضيا بما يقضون به عليه تردد وإنما لم يجزم بكفره مع قوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [ ..... ] الجزء: 14 ¦ الصفحة: 215 به الانتظام ويصلح أمر الخاص والعام، ومنها تعيين مراتب التأديب والزجر على معاص وجنايات لم ينص الشارع فيها على حد معين بل فوض الأمر في ذلك لرأي الإمام فليس ذلك في المحادّة الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم في شيء بل فيه استيفاء حقه تعالى على أتم وجه لما فيه من الزجر عن المعاصي وهو أمر مهم للشارع عليه الصلاة والسلام. ويرشد إليه ما في تحفة المحتاج أن للإمام أن يستوفي التعزير إذا عفى صاحب الحق لأن الساقط بالعفو هو حق الآدمي، والذي يستوفيه الامام هو حق الله تعالى للمصلحة، وفي كتاب الخراج للإمام أبي يوسف عليه الرحمة إشارة إلى ذلك أيضا ولا يعكر على ذلك ونحوه قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: 3] لأن المراد إكماله من حيث تضمنه ما يدل على حكمه تعالى خصوصا أو عموما، ويرشد إلى هذا عدم النكير على أحد من المجتهدين إذا قال بشيء لم يكن منصوصا عليه بخصوصه، ومن ذلك ما ثبت بالقياس بأقسامه، نعم القانون الذي يكون وراء ذلك بأن كان مصادقا لما نطقت به الشريعة الغراء زائغا عن سنن المحجة البيضاء فيه ما فيه كما لا يخفى على العارف النبيه، وقد يقال في الآية على المعنى الذي ذكره البيضاوي: إن المراد بالموصول الواضعون لحدود الكفر وقوانينه كأئمة الكفر أو المختارون لها العاملون بها كأتباعهم، ثم إن الآية- على ما في البحر- نزلت في كفار قريش كُبِتُوا أي أخزوا كما قال قتادة، أو غيظوا كما قال الفراء أو ردّوا مخذولين- كما قال ابن زيد- أو أهلكوا كما قال أبو عبيدة والأخفش. وعن أبي عبيدة أن تاءه بدل من الدال، والأصل- كبدوا- أي أصابهم داء في أكبادهم وقال السدي: لعنوا، وقيل: الكبت الكب وهو الإلقاء على الوجه، وفسره الراغب هنا بالرد بعنف وتذليل، وذلك إشارة عند الأكثرين إلى ما كان يوم الخندق، وقيل: إلى ما كان يوم بدر، وقيل: معنى كُبِتُوا سيكبتون على طريقة قوله تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النحل: 1] وهو بشارة للمؤمنين بالنصر على الكفار وتحقق كبتهم. كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من كفار الأمم الماضية المحادّين لله عز وجل ورسله عليهم الصلاة والسلام وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ حال من واو كُبِتُوا أي كبتوا لمحادّتهم، والحال أنا قد أنزلنا آيات واضحات فيمن حادّ الله تعالى ورسوله من قبلهم من الأمم وفيما فعلنا بهم، وقيل: آيات تدل على صدق الرسول وصحة ما جاء به وَلِلْكافِرِينَ أي بتلك الآيات أو بكل ما يجب الإيمان به فتدخل فيه تلك الآيات دخولا أوليا عَذابٌ مُهِينٌ يذهب بعزهم وكبرهم يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ منصوب بما تعلق به اللام من الاستقرار، أو- بمهين- أو بإضمار اذكر أي   لأن حكم أكثر القضاة مخالف لحكم الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم في أكثر المسائل، والبلية العظمى انهم يسمون ذلك شرعا ومع ذلك يأخذون عليه ما يأخذون من المال ظلما فلمن لم يرض بالمرافعة عند هؤلاء القضاة العجزة ويرضى بالمرافعة عند أهل الأصول عذر لذلك. ولقد سمعت في كثير أن أحد أسباب وضع الأصول الجديدة هؤلاء القضاة الظلمة حيث اتبعوا الهوى وحكموا بغير ما أنزل المولى جل وعلا ولم يمكن خلاص الشريعة من أيديهم وتطهير المحاكم من أرجاسهم لملاحظات مقبولة أو غير مقبولة فوضعوا ما يهون به في زعم الواضع شرهم ويهن به أمرهم ثم إن باطل أولئك القضاة لا قاعدة له فيتلون تلون الحرباء لأنه تابع لهوى الأنفس وتفاوت الرشا أمور أخرى وباطل غيرهم له قاعدة ما في الأغلب. وقصارى الكلام أن ما خالف الشرع مردود كائنا ما كان ولا فرق في ذلك بين ما عليه أكثر القضاة اليوم بين الأصول المخالفة: فإن لا يكنها أو تكنه فإنه ... أخوها غذته أمه بلبانها وإلى الله تعالى المشتكى، وهو عز وجل حسبنا وكفى. انتهى كلامه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 216 اذكر ذلك اليوم تعظيما له وتهويلا، وقيل منصوب بيكون مضمرا على أنه جواب لمن سأل متى يكون عذاب هؤلاء؟ فقيل له: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ أي يكون يوم إلخ، وقيل: بالكافرين وليس بشيء، وقوله تعالى: جَمِيعاً حال جيء به للتأكيد، والمعنى يبعثهم الله تعالى كلهم بحيث لا يبقى منهم أحد غير مبعوث، ويجوز أن يكون حالا غير مؤكدة أي يبعثهم مجتمعين في صعيد واحد فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا من القبائح ببيان صدورها عنهم أو بتصويرها في تلك النشأة بما يليق بها من الصور الهائلة على رؤوس الاشهاد تخجيلا لهم وتشهيرا بحالهم وزيادة في خزيهم ونكالهم، وقوله تعالى: أَحْصاهُ اللَّهُ استئناف وقع جوابا عما نشأ مما قبله من السؤال إما عن كيفية التنبئة أو عن سببها كأنه قيل: كيف ينبئهم بأعمالهم وهي أعراض متقضية متلاشية؟ فقيل: أحصاه الله تعالى عددا ولم يفته سبحانه منه شيء، وقوله تعالى: وَنَسُوهُ حينئذ حال من مفعول- أحصى- بإضمار قد أو بدونه، أو قيل: لم ينبئهم بذلك؟ فقيل: أحصاه الله تعالى ونسوه فينبئهم به ليعرفوا أن ما عاينوه من العذاب إنما حاق بهم لأجله، وفيه مزيد توبيخ وتنديم لهم غير التخجيل والتشهير وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ لا يغيب عنه أمر من الأمور أصلا، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لإحصائه تعالى أعمالهم، وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ استشهاد على شمول شهادته تعالى أي ألم تعلم أنه عز وجل يعلم ما فيهما من الموجودات سواء كان ذلك بالاستقرار فيهما أو بالجزئية منهما. وقوله تعالى: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إلخ استئناف مقرر لما قبله من سعة علمه تعالى، ويَكُونُ من كان التامة، ومِنْ مزيدة، ونَجْوى فاعل وهي مصدر بمعنى التناجي وهو المسارّة مأخوذة من النجوة وهي ما ارتفع من الأرض لأن المتسارين يخلوان وحدهما بنجوة من الأرض، أو لأن السر يصان فكأنه رفع من حضيض الظهور إلى أوج الخفاء، وقيل: أصل ناجيته من النجاة وهو أن تعاونه على ما فيه خلاصة أو أن تنجو بسرك من أن يطلع عليه وهي مضافة إلى ثَلاثَةٍ أي ما يقع من تناجي ثلاثة نفر وقد يقدر مضاف أي من ذوي نجوى، أو يؤول نجوى بمتناجين- فثلاثة- صفة للمضاف المقدر، أو لنجوى المؤوّل بما ذكر. وجوز أن يكون بدلا أيضا والتأويل والتقدير المذكوران ليتأتى الاستثناء الآتي من غير تكلف، وفي القاموس النجوى السر والمسارون اسم مصدر، وظاهره أن استعماله في كل حقيقة فإذا أريد المسارون لم يحتج إلى تقدير أو تأويل لكن قال الراغب: إن النجوى أصله المصدر كما في الآيات بعد، وقد يوصف به فيقال: هو نجوى، وهم نجوى، قال تعالى: وَإِذْ هُمْ نَجْوى [الإسراء: 47] وعليه يحتمل أن يكون من باب زيد عدل. وقرأ أبو جعفر وأبو حيوة وشيبة- ما تكون- بالتاء الفوقية لتأنيث الفاعل، والقراءة بالياء التحتية قال الزمخشري: على أن النجوى تأنيثها غير حقيقي، ومِنْ فاصلة أو على أن المعنى ما يكون شيء من النجوى، واختار في الكشف الثاني، فقال: هو الوجه لأن المؤنث وحده لم يجعل فاعلا لفظا لوجود مِنْ ولا معنى لأن المعنى شيء منها، فالتذكير هو الوجه لفظا ومعنى، وهو قراءة العامة انتهى، وإلى نحوه يشير كلام صاحب اللوامح، وصرح بأن الأكثر في هذا الباب التذكير، وتعقبه أبو حيان بالمنع وأن الأكثر التأنيث وأنه القياس قال تعالى: وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ [الأنعام: 4] ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها [الحجر: 5، المؤمنون: 43] فتأمل، وقوله سبحانه: إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ استثناء مفرغ من أعم الأحوال، والرابع لإضافته إلى غير مماثله هنا بمعنى الجاعل المصير لهم أربعة أي ما يكونون في حال من الأحوال إلا في حال تصيير الله تعالى لهم أربعة حيث إنه عز وجل يطلع أيضا على نجواهم، وكذا قوله تعالى: وَلا خَمْسَةٍ أي ولا نجوى خمسة إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى أي ولا نجوى أدنى مِنْ ذلِكَ أي مما ذكر كالاثنين والأربعة وَلا أَكْثَرَ كالستة وما فوقها. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 217 إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ يعلم ما يجري بينهم أَيْنَ ما كانُوا من الأماكن، ولو كانوا في بطن الأرض فإن علمه تعالى بالأشياء ليس لقرب مكاني حتى يتفاوت باختلاف الأمكنة قربا وبعدا، وفي الداعي إلى تخصيص الثلاثة والخمسة، وجهان: أحدهما أن قوما من المنافقين تخلفوا للتناجي مغايظة للمؤمنين على هذين العددين ثلاثة وخمسة، فقيل: ما يتناجى منهم ثلاثة ولا خمسة كما ترونهم يتناجون كذلك ولا أدنى من عددهم ولا أكثر إلا والله تعالى معهم يعلم ما يقولون. فالآية تعريض بالواقع على هذا، وقد روي عن ابن عباس أنها نزلت في ربيعة وحبيب ابني عمرو وصفوان بن أمية كانوا يوما يتحدثون فقال أحدهم: أترى أن الله يعلم ما نقول؟ فقال الآخر: يعلم بعضا ولا يعلم بعضا، وقال الثالث: إن كان يعلم بعضا فهو يعلمه كله أي لأن من علم بعض الأشياء بغير سبب فقد علمها كلها لأن كونه عالما بغير سبب ثابت له مع كل معلوم، والثاني أنه قصد أن يذكر ما جرت عليه العادة من أعداد أهل النجوى والجالسين في خلوة للشورى والمنتدبون لذلك إنما هم طائفة مجتباة من أولي الأحلام والنهى، وأول عددهم الاثنان فصاعدا إلى خمسة إلى ستة إلى ما اقتضته الحال، وحكم به الاستصواب، فذكر عز وجل الثلاثة والخمسة، وقال سبحانه: وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ فدل على الاثنين والأربعة، قال تعالى: وَلا أَكْثَرَ فدل على ما يلي هذا العدد ويقاربه كذا في الكشاف. وفي الكشف في خلاصة الوجه الثاني أنه خص العددان على المعتاد من عدد أهل النجوى فإنهم قليلو العدد غالبا فلزم أن يخص بالذكر نحو الثلاثة والأربعة إلى الثمانية والتسعة فأوثر الثلاثة ليكون قوله تعالى: وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ دالا على ما تحتها إذ لو أوثر الأربعة والستة مثلا كان الأدنى الثلاثة دون الاثنين إلا على التوسع ولما أوثرت جيء بالخمسة لتناسب الوترين وكان الأمر دائرا بين الثلاثة والخمسة والأربعة والستة فأوثرا بالتصريح لذلك، ولأنه تعالى وتر يحب الوتر انتهى. وقد يقال: إن التناجي يكون في الغالب للشورى وهي لا تكون إلا بين عدد وأهلها قليلو العدد غالبا، والأليق أن يكون وترا من الأعداد كالثلاثة والخمسة والسبعة والتسعة ليتحقق عند الاختلاف طرف يترجح بالزيادة على الطرف الآخر فيرجع إليه دونه كما هو العادة اليوم عند اختلاف أهل الشورى. وجعل عمر رضي الله تعالى عنه الشورى في ستة لانحصار الأمر فيهم كما يدل على قوله لهم: نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم، ولا يكون هذا الأمر إلا فيكم، وقد قبض رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وهو عنكم راض، ومع هذا أمر ابنه عبد الله رضي الله تعالى عنه أن يحضر معهم وإن لم يكن له من أمر الخلافة شيء، فدار الأمر بعد اعتبار ما ذكر من وترية العدد وقلته بين الثلاثة والخمسة والسبعة والتسعة فاختيرت الثلاثة لأنها أول الأوتار العددية وإذا ضربت في نفسها حصل منتهاها من الآحاد ولا يخلو منها اعتبار كل ممكن حتى أن المطالب الفكرية للمتناجين مثلا لا تتم بدون ثلاثة أشياء: الموضوع والمحمول والحدّ الأوسط بل القضية التي يتناجى لها لا بد فيها من ثلاثة أجزاء، والخمسة لأنها عدد دائر لا تنعدم بالضرب في نفسها، وكذا بضرب الحاصل في نفسه إلى ما لا يتناهى فلها شبه بالثلاثة من حيث إنها دائرة مع مراتب الضرب لا تنعدم أصلا كما أن الثلاثة دائرة مع اعتبارات الممكن لا تنعدم أصلا، ومع ذلك هي عدد المشاعر التي يحتاج إليها التناجي، وكذا عدد الحواس الظاهرة، ويدخل ما عداهما في عموم قوله تعالى: وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ ولا يدخل في العموم الواحد لأن التناجي للمشاورة لا بد فيه من اثنين فأكثر، ومن أدخله لم يعتبر التناجي لها ولا يضر دخول الأشفاع فيه لأن أليقية كون المتناجين وترا إنما كانت نكتة للتصريح بالعددين السابقين ولا تأبى تحقق النجوى في الأشفاع كما لا يخفى. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 218 وادعى ابن سراقة أن النجوى مختصة بما كان بين أكثر من اثنين وأن ما يكون بين اثنين يسمى سرارا، وقال ابن عيسى: كل سرار نجوى، وفي الآية لطائف وأسرار لا يعقلها إلا العالمون فليتأمل. وقرأ ابن أبي عبلة «ثلاثة» و «خمسة» بالنصب على الحال بإضمار يتناجون يدل عليه نجوى، أو على تأويل نجوى بمتناجين ونصبهما من المستكن فيه، وفي مصحف عبد الله- إلا الله رابعهم ولا أربعة إلا الله خامسهم ولا خمسة إلا الله سادسهم ولا أقل من ذلك ولا أكثر إلا الله معهم إذا انتجوا- وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق والأعمش وأبو حيوة وسلام ويعقوب «ولا أكثر» بالرفع قال الزمخشري: على أنه معطوف على محل- لا أدنى- كقولك: لا حول ولا قوة إلا بالله بفتح الحول ورفع القوة، ويجوز أن يعتبر «أدنى» مرفوعا على هذه القراءة ورفعهما على الابتداء، والجملة التي بعد إِلَّا هي الخبر، أو على العطف على محل مِنْ نَجْوى كأنه قيل: ما يكون أدنى ولا أكثر إلا هو معهم، وأَكْثَرَ على قراءة الجمهور يحتمل أن يكون مجرورا بالفتح معطوفا على لفظ نَجْوى كأنه قيل: ما يكون من أدنى ولا أكثر إلا هو معهم، وأن يكون مفتوحا لأن لا لنفي الجنس، وقرأ كل من الحسن ويعقوب أيضا ومجاهد والخليل بن أحمد- ولا أكبر- بالباء الموحدة والرفع وهو على ما سمعت ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ تفضيحا لهم وإظهارا لما يوجب عذابهم. وقرىء «ينبئهم» بالتخفيف والهمز، وقرأ زيد بن علي بالتخفيف وترك الهمز وكسر الهاء. إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لأن نسبة ذاته المقتضي للعلم إلى الكل على السواء، وقد بدأ الله تعالى في هذه الآيات بالعلم حيث قال سبحانه: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ إلخ، وختم جل وعلا بالعلم أيضا حيث قال الله تعالى: أَنَّ اللَّهَ إلخ، ومن هنا قال معظم السلف فيما ذكر في البين من قوله عز وجل: رابِعُهُمْ وسادِسُهُمْ ومَعَهُمْ أن المراد به كونه تعالى كذلك بحسب العلم مع أنهم الذين لا يؤوّلون، وكأنهم لم يعدّوا ذلك تأويلا لغاية ظهوره واحتفافه بما يدل عليه دلالة لا خفاء فيها، ويعلم من هذا أن ما شاع من أن السلف لا يؤولون ليس على إطلاقه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 219 أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: نزلت في اليهود والمنافقين كانوا يتناجون دون المؤمنين وينظرون إليهم ويتغامزون بأعينهم عليهم يوهمونهم عن أقاربهم أنهم أصابهم شر فلا يزالون كذلك حتى تقدم أقاربهم فلما كثر ذلك منهم شكا المؤمنون إلى الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم فنهاهم أن يتناجوا دون المؤمنين فعادوا لمثل فعلهم، وقال مجاهد: نزلت في اليهود. وقال ابن السائب: في المنافقين، والخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام والهمزة للتعجيب من حالهم، وصيغة المضارع للدلالة على تكرر عودهم وتجدده واستحضار صورته العجيبة، وقوله تعالى: وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ عطف عليه داخل في حكمه أي ويتناجون بما هو إثم في نفسه ووبال عليهم وتعدّ على المؤمنين وتواص بمخالفة الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم، وذكره عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة بين الخطابين المتوجهين- وإليه صلّى الله عليه وسلم- لزيادة تشنيعهم واستعظام معصيتهم. وقرأ حمزة وطلحة والأعمش ويحيى بن وثاب ودويس- وينتجون- بنون ساكنة بعد الياء وضم الجيم مضارع انتجى، وقرأ أبو حيوة- العدوان- بكسر العين حيث وقع، وقرىء- معصيات- بالجمع ونسبت فيما بعد إلى الضحاك وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ صح من رواية البخاري ومسلم وغيرها عن عائشة «أن ناسا من اليهود دخلوا على رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم فقال عليه الصلاة والسلام: وعليكم، قالت عائشة: وقلت: عليكم السام ولعنكم الله وغضب عليكم» وفي رواية «عليكم السام والذام واللعنة، فقال عليه الصلاة والسلام: يا عائشة إن الله لا يحب الفاحش ولا المتفحش، فقلت: ألا تسمعهم يقولون: السام؟! فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: أو ما سمعت أقول: وعليكم؟! فأنزل الله تعالى وَإِذا جاؤُكَ» الآية. وأخرج أحمد والبيهقي في شعب الإيمان بسند جيد عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن اليهود كانوا يقولون لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم سام عليك يريدون بذلك شتمه ثم يقولون في أنفسهم: لولا يعذبنا الله بما نقول فنزلت هذه الآية وَإِذا جاؤُكَ إلخ، والسام قال ابن الأثير: المشهور فيه ترك الهمز ويعنون به الموت، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 220 وجاء في رواية مهموزا ومعناه أنكم تسأمون دينكم، وصرح الخفاجي بأنه بمعنى الموت عبراني، ولم يذكر فيه الهمز وتركه. وقال الطبرسي: من قال: السام الموت فهو من سأم الحياة بذهابها وهذا إرجاع له إلى المهموز، وجعل البيضاوي من التحية التي لم يحيه بها الله تعالى تحيتهم له عليه الصلاة والسلام بأنعم صباحا وهي تحية الجاهلية كعم صباحا ولم نقف على أثر في ذلك، وقوله تعالى: وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أي فيما بينهم، وجوّز إبقاؤه على ظاهره لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ أي هلا يعذبنا الله تعالى بسبب ذلك لو كان محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم نبيا- أي لو كان نبيا عذبنا الله تعالى بسبب ما نقول من التحية- أوفق بالأول لأن أنعم صباحا دعاء بخير والعدول إليه عن تحية الإسلام التي حيا الله تعالى بها رسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم، وأشير إليها بقوله تعالى: سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ [الصافات: 181] وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى [النمل: 59] وما جاء في التشهد «السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته» ليس فيه كثير إثم يتوقع معه التعذيب الدنيوي حتى أنهم يقولون ذلك إذا لم يعذبوا اللهم إلا إذا انضم إليه أنهم قصدوا بذلك تحقيرا وإعلانا بعدم الاكتراث، ولعل قائل ذلك هم المنافقون من المشركين وهو أظهر من كون قائله اليهود، وحكم التحية به اليوم أنها خلاف السنة، والقول بالكراهة غير بعيد. وفي تحفة المحتاج لا يستحق مبتدى بنحو صبحك الله بالخير أو قواك الله جوابا ودعاؤه له في نظيره حسن إلا أن يقصد بإهماله له تأديبه لتركه سنة السلام انتهى، وأنعم صباحا نحو صبحك الله بالخير، غاية ما في الباب أنه مجلسه صلّى الله تعالى عليه وسلم، والجمع لتعدده باعتبار من يجلس معه عليه الصلاة والسلام فإن لكل أجد منهم مجلسا، وفي أخبار سبب النزول ما يؤيد كلا، وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان «كان صلّى الله عليه وسلم يوم جمعة في الصفة وفي المكان ضيق وكان عليه الصلاة والسلام يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار فجاء ناس من أهل بدر منهم ثابت بن قيس بن شماس وقد سبقوا إلى المجالس فقاموا حيال رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالوا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته فرد النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم ثم سلموا على القوم فردوا عليهم فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم فلم يفسحوا لهم فشق ذلك على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال لبعض من حوله: قم يا فلان ويا فلان فأقام نفرا مقدار من قدم فشق ذلك عليهم وعرفت كراهيته في وجوههم، وقال المنافقون: ما عدل بإقامة من أخذ مجلسه وأحب قربه لمن تأخر عن الحضور فأنزل الله تعالى هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» إلخ، وكان ذلك ممن لم يفسح تنافسا في القرب من رسول الله صلّى الله عليه وسلم ورغبة فيه ولا تكاد نفس تؤثر غيرها بذلك. وقال الحسن ويزيد بن أبي حبيب: كان الصحابة يتشاحون في مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في الشهادة فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ، والأكثرون على أنها نزلت لما كان عليه المؤمنون من التضام في مجلسه صلّى الله تعالى عليه وسلم والضنة بالقرب منه وترك التفسح لمقبل وأيا ما كان فالحكم مطرد في مجلسه عليه الصلاة والسلام ومصاف القتال وغير ذلك، وقرىء في- المجلس- بفتح اللام، فإما أن يراد به ما أريد بالمكسور والفتح شاذ في الاستعمال، وإما أن يراد به المصدر، والجار متعلق- بتفسحوا- أي إذا قيل لكم توسعوا في جلوسكم ولا تضايقوا فيه فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ أي في رحمته أو في منازلكم في الجنة أو في قبوركم أو في صدوركم أو في رزقكم أقوال. وقال بعضهم: المراد يفسح سبحانه لكم في كل ما تريدون الفسح فيه أي مما ذكر وغيره، وأنت تعلم أن الفسح يختلف المراد منه باختلاف متعلقاته كالمنازل والرزق والصدر فلا تغفل وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا أي انهضوا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 221 للتوسعة على المقبلين فَانْشُزُوا فانهضوا ولا تتثبطوا، وأصله من النشز وهو المرتفع من الأرض فإن مريد التوسعة على المقبل يرتفع إلى فوق فيتسع الموضع، أو لأن النهوض نفسه ارتفاع قال الحسن وقتادة والضحاك: المعنى إذا دعيتم إلى قتال أو صلاة أو طاعة فأجيبوا، وقيل: إذا دعيتم إلى القيام عن مجلس النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فقوموا، وهذا لأنه عليه الصلاة والسلام كان يؤثر أحيانا الانفراد في أمر الإسلام أو لأداء وظائف تخصه صلّى الله تعلى عليه وسلم لا تتأتى أو لا تكمل بدون الانفراد، وعمم الحكم فقيل: إذا قال صاحب مجلس لمن في مجلسه: قوموا ينبغي أن يجاب، وفعل ذلك لحاجة إذا لم يترتب عليه مفسدة أعظم منها مما لا نزاع في جوازه، نعم لا ينبغي لقادم أن يقيم أحدا ليجلس في مجلسه، فقد أخرج مالك والبخاري ومسلم والترمذي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قال: «لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ولكن تفسحوا وتوسعوا» . وقرأ الحسن والأعمش وطلحة وجمع من السبعة- انشزوا فانشزوا- بكسر الشين منهما. يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ جواب الأمر كأنه قيل: إن تنشزوا يرفع عز وجل المؤمنين منكم في الآخرة دعاء كان يستعمل تحية في الجاهلية، نعم تحيتهم به له عليه الصلاة والسلام على الوجه الذي قصدوه حرام بلا خلاف حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ عذابا يَصْلَوْنَها يدخلونها أو يقاسون حرها أو يصطلون بها. فَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي جهنم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ في أنديتكم وفي خلواتكم. فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ كما يفعله المنافقون، فالخطاب للخلّص تعريضا بالمنافقين، وجوز جعله لهم وسموا مؤمنين باعتبار ظاهر أحوالهم. وقرأ الكوفيون والأعمش وأبو حيوة ورويس- فلا تنتجوا- مضارع انتجى، وقرأ ابن محيصن- فلا تناجوا- بإدغام التاء في التاء، وقرىء بحذف إحداهما وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى بما يتضمن خبر المؤمنين والاتقاء عن معصية الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم وَاتَّقُوا فيما تأتون وما تذرون اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ وحده لا إلى غيره سبحانه استقلالا أو اشتراكا تُحْشَرُونَ فيجازيكم على ذلك إِنَّمَا النَّجْوى المعهودة التي هي التناجي بالإثم والعدوان والمعصية مِنَ الشَّيْطانِ لا من غيره باعتبار أنه هو المزين لها والحامل عليها، وقوله تعالى: لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا خبر آخر أي إنما هي ليحزن المؤمنين بتوهمهم أنها في نكبة أصابتهم، وقرىء «ليحزن» بفتح الياء والزاي- فالذين- فاعل وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ أي ليس الشيطان أو التناجي بضار المؤمنين شَيْئاً من الأشياء أو شيئا من الضرر إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي إلا بإرادته ومشيئته عز وجل، وذلك بأن يقضي سبحانه الموت أو الغلبة على أقاربهم وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ولا يبالوا بنجواهم. وحاصله أن ما يتناجى المنافقون به مما يحزن المؤمنين إن وقع فبإرادة الله تعالى ومشيئته لا دخل لهم فيه فلا يكترث المؤمنون بتناجيهم وليتوكلوا على الله عز وجل ولا يحزنوا منه، فهذا الكلام لإزالة حزنهم، ومنه ضعف ما أشار إليه الزمخشري من جواز أن يرجع ضمير- ليس بضارهم- للحزن، وأجيب بأن المقصود يحصل عليه أيضا فإنه إذا قيل: إن هذا الحزن لا يضرهم إلا بإرادة الله تعالى اندفع حزنهم، هذا ومن الغريب ما قيل: إن الآية نازلة في المنامات التي يراها المؤمن في النوم تسوؤه ويحزن منها فكأنها نجوى يناجى بها، وهذا على ما فيه لا يناسب السباق والسياق كما لا يخفى، ثم إن التناجي بين المؤمنين قد يكون منهيا عنه، فقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود عن ابن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس من أجل أن ذلك يحزنه» ومثل التناجي في ذلك أن يتكلم اثنان بحضور ثالث بلغة لا يفهمها الثالث إن كان يحزنه ذلك، ولما نهى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 222 سبحانه عن التناجي والسرار علم منه الجلوس مع الملأ فذكر جل وعلا آدابه بعده بقوله عز من قائل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ إلخ ولما نهى عز وجل عما هو سبب للتباغض والتنافر أمر سبحانه بما هو سبب للتواد والتوافق أي إذا قال لكم قائل كائنا من كان: توسعوا فليفسح بعضكم عن بعض في المجالس ولا تتضاموا فيها، من قولهم: افسح عني أي تنح، والظاهر تعلق فِي الْمَجالِسِ بتفسحوا، وقيل: متعلق- بقيل.. وقرأ الحسن وداود بن أبي هند وقتادة وعيسى- تفاسحوا- وقرأ الأخيران وعاصم في المجالس، والجمهور في- المجلس- بالإفراد، فقيل: على إرادة الجنس لقراءة الجمع، وقيل: على إرادة العهد، والمراد به جزاء للامتثال وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الشرعي دَرَجاتٍ أي كثيرة جليلة كما يشعر به المقام، وعطف- الذين أوتوا العلم- على الَّذِينَ آمَنُوا من عطف الخاص على العام تعظيما لهم بعدّهم كأنهم جنس آخر، ولذا أعيد الموصول في النظم الكريم، وقد أخرج الترمذي وأبو داود والدارمي عن أبي الدرداء مرفوعا «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» . وأخرج الدارمي عن عمر بن كثير عن الحسن قال: قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام فبينه وبين النبيين درجة» وعنه صلّى الله تعالى عليه وسلم «بين العالم والعابد مائة درجة بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة» وعنه عليه الصلاة والسلام «يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء» ، فأعظم بمرتبة بين النبوة والشهادة بشهادة الصادق المصدوق صلّى الله تعالى عليه وسلم، وعن ابن عباس «خيّر سليمان عليه السلام بين العلم والملك والمال فاختار العلم فأعطاه الله تعالى الملك والمال تبعا له» . وعن الأحنف «كاد العلماء يكونون أربابا» وكل عز لم يوطد بعلم فإلى ذل ما يصير، وعن بعض الحكماء: ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم؟ وأي شيء فاته من أدرك العلم؟ والدال على فضل العلم والعلماء أكثر من أن يحصى، وأرجى حديث عندي في فضلهم ما رواه الإمام أبو حنيفة في مسنده عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «يجمع الله العلماء يوم القيامة فيقول: إني لم أجعل حكمتي في قلوبكم إلا وأنا أريد بكم الخير اذهبوا إلى الجنة فقد غفرت لكم على ما كان منكم» . وذكر العارف الياس الكوراني أنه أحد الأحاديث المسلسلة بالأولية، ودلالة الآية على فضلهم ظاهرة بل أخرج ابن المنذر عن ابن مسعود أنه قال: ما خص الله تعالى العلماء في شيء من القرآن ما خصهم في هذه الآية- فضل الله الذين آمنوا وأوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم بدرجات- وجعل بعضهم العطف عليه للتغاير بالذات بحمل الَّذِينَ آمَنُوا على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم، وفي رواية أخرى عنه يا أيها الذين آمنوا افهموا معنى هذه الآية ولترغبكم في العلم فإن الله تعالى يرفع المؤمن العالم فوق الذي لا يعلم. وادعى بعضهم أن في كلامه رضي الله تعالى عنه إشارة إلى أن- الذين أوتوا- معمول لفعل محذوف والعطف من عطف الجمل أي ويرفع الله تعالى الذين أوتوا العلم خاصة درجات، ونحوه كلام ابن عباس فقد أخرج عنه ابن المنذر والبيهقي في المدخل والحاكم وصححه أنه قال في الآية: يرفع الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يؤتوا العلم درجات. وقال بعض المحققين: لا حاجة إلى تقدير العامل، والمعنى على ذلك من غير تقدير، واختار الطيبي التقدير وجعل الدرجات معمولا لذلك المقدر، وقال: يضمر للمذكور أحط منه مما يناسب المقام نحو أن يقال: يرفع الله الجزء: 14 ¦ الصفحة: 223 الذين آمنوا في الدنيا بالنصر وحسن الذكر أو يرفعهم في الآخرة بالإيواء إلى ما يليق بهم من غرف الجنات، ويرفع الذين أوتوا العلم درجات تعظيما لهم، وجوز كون المراد بالموصولين واحدا والعطف لتنزيل تغاير الصفات بمنزلة تغاير الذات، فالمعنى يرفع الله المؤمنين العالمين درجات، وكون العطف من عطف الخاص على العام هو الأظهر، وفي الانتصاف في الجزاء برفع الدرجات مناسبة للعمل المأمور به وهو التفسيح في المجالس وترك ما تنافسوا فيه من الجلوس في أرفعها وأقربها من النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فلما كان الممتثل لذلك يخفض نفسه عما يتنافس فيه من الرفعة امتثالا وتواضعا جوزي على تواضعه برفع الدرجات كقوله: من تواضع لله تعالى رفعه الله تعالى، ثم لما علم سبحانه أن أهل العلم بحيث يستوجبون عند أنفسهم وعند الناس ارتفاع مجالسهم خصهم بالذكر عند الجزاء ليسهل عليهم ترك ما لهم من الرفعة في المجلس تواضعا لله عز وجل. وقيل: إنه تعالى خص أهل العلم ليسهل عليهم ترك ما عرفوا بالحرص عليه من رفعة المجالس وحبهم للتصدير، وهذا من مغيبات القرآن لما ظهر من هؤلاء في سائر الأعصار من التنافس في ذلك. والخفاجي أدرج هذا في نقل كلام صاحب الانتصاف وكلامه على ما سمعته أوفق بالأدب مع أهل العلم، ولا أظن- بالذين أوتوا العلم- المذكورين في الآية أنهم كالعلماء الذين عرّض بهم الخفاجي، نعم إنه عليه الرحمة صادق فيما قال بالنسبة إلى كثير من علماء آخر الزمان كعلماء زمانه وكعلماء زماننا- لكن كثير من هؤلاء- إطلاق اسم العالم على أحدهم مجاز لا تعرف علاقته، ومع ذلك قد امتلأ قلبه من حب الصدر وجعل يزاحم العلماء حقيقة عليه ولم يدر أن محله لو أنصف العجز، هذا واستدل غير واحد بالآية على تقديم العلم ولو باهليا شابا على الجاهل ولو هاشميا شيخا، وهو بناء على ما تقدم من معناها لدلالتها على فضل العالم على غيره من المؤمنين وأن الله تعالى يرفعه يوم القيامة عليه، ويجعل منزلته فوق منزلته فينبغي أن يكون محله في مجالس الدنيا فوق محل الجاهل. وقال الجلال السيوطي في كتاب الأحكام قال قوم: معنى الآية يرفع الله تعالى المؤمنين العلماء منكم درجات على غيرهم فلذلك أمر بالتفسح من أجلهم، ففيه دليل على رفع العلماء في المجالس والتفسح لهم عن المجالس الرفيعة انتهى. وهذا المعنى الذي نقله ظاهر في أن المتعاطفين متحدان بالذات والعطف لجعل تغاير الصفات بمنزلة تغاير الذات وهو احتمال بعيد، ويظهر منه أيضا أنه ظن رفع يرفع على أن الجملة استئناف وقع جوابا عن السؤال عن علة الأمر السابق مع أن الأمر ليس كذلك، ويحتمل أنه علم أنه مجزوم في جواب الأمر لكن لم يعتبر كون الرفع درجات جزاءه الامتثال على نحو كون الفسح قبله جزاءه فتأمله وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ تهديد لمن لم يمتثل بالأمر واستكره، وقرىء بما- يعملون- بالياء التحتانية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ أي إذا أردتم المناجاة معه عليه الصلاة والسلام لأمر ما من الأمور فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً أي فتصدقوا قبلها، وفي الكلام استعارة تمثيلية، وأصل التركيب يستعمل فيمن له يدان أو مكنية بتشبيه النجوى بالإنسان، وإثبات اليدين تخييل، وفي بَيْنَ ترشيح على ما قيل، ومعناه قبل، وفي هذا الأمر تعظيم الرسول صلّى الله عليه وسلم ونفع للفقراء وتمييز بين المخلص والمنافق ومحب الآخرة ومحب الدنيا ودفع للتكاثر عليه صلّى الله تعالى عليه وسلم من غير حاجة مهمة، فقد روي عن ابن عباس وقتادة أن قوما من المسلمين كثرت مناجاتهم للرسول عليه الصلاة والسلام في غير حاجة إلا لتظهر منزلتهم وكان صلّى الله عليه وسلم سمحا لا يرد أحدا فنزلت هذه الآية. وعن مقاتل أن الأغنياء كانوا يأتون النبي صلّى الله عليه وسلم فيكثرون مناجاته ويغلبون الفقراء على المجالس حتى كره عليه الجزء: 14 ¦ الصفحة: 224 الصلاة والسلام طول جلوسهم ومناجاتهم فنزلت ، واختلف في أن الأمر للندب أو للجواب لكنه نسخ بقوله تعالى: أَأَشْفَقْتُمْ إلخ، وهو وإن كان متصلا به تلاوة لكنه غير متصل به نزولا، وقيل: نسخ بآية الزكاة والمعول عليه الاول، ولم يعين مقدار الصدقة ليجزي الكثير والقليل، أخرج الترمذي وحسنه وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: لما نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ إلخ قال لي النبي صلّى الله عليه وسلم: «ما ترى في دينار؟ قلت: لا يطيقونه، قال: نصف دينار؟ قلت: لا يطيقونه، قال: فكم؟ قلت: شعيرة، قال: فإنك لزهيد» فلما نزلت أَأَشْفَقْتُمْ الآية قال صلى الله تعالى عليه وسلم: «خفف الله عن هذه الأمة» ولم يعمل بها على المشهور غيره كرم الله تعالى وجهه، أخرج الحاكم وصححه وابن المنذر وعبد بن حميد وغيرهم عنه كرم الله تعالى وجهه أنه قال: إن في كتاب الله تعالى لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي آية النجوى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ إلخ كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم فكنت كلما ناجيت النبي صلّى الله عليه وسلم قدمت بين يدي نجواي درهما ثم نسخت فلم يعمل بها أحد، فنزلت أَأَشْفَقْتُمْ الآية ، قيل: وهذا على القول بالوجوب محمول على أنه لم يتفق للأغنياء مناجاة في مدة بقاء الحكم، واختلف في مدة بقائه، فعن مقاتل أنها عشرة ليال، وقال قتادة: ساعة من نهار، وقيل: إنه نسخ قبل العمل به ولا يصح لما صح أنفا. وقرىء- صدقات- بالجمع لجمع المخاطبين ذلِكَ أي تقديم الصدقات خَيْرٌ لَكُمْ لما فيه من الثواب وَأَطْهَرُ وأزكى لأنفسكم لما فيه من تعويدها على عدم الاكتراث بالمال وإضعاف علاقة حبه المدنس لها، وفيه إشارة إلى أن في ذلك إعداد النفس لمزيد الاستفاضة من رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم عند المناجاة. وفي الكلام إشعار بندب تقديم الصدقة لكن قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي لمن لم يجد حيث رخص سبحانه له في المناجاة بلا تقديم صدقة أظهر إشعارا بالوجوب. أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ أي أخفتم الفقر لأجل تقديم الصدقات فمفعول أَشْفَقْتُمْ محذوف، وأَنْ على إضمار حرف التعليل، ويجوز أن يكون المفعول أَنْ تُقَدِّمُوا فلا حذف أي أخفتم تقديم الصدقات لتوهم ترتيب الفقر عليه، وجمع الصدقات لما أن الخوف لم يكن في الحقيقة من تقديم صدقة واحدة لأنه ليس مظنة الفقر بل من استمرار الأمر، وتقديم صَدَقاتٍ وهذا أولى مما قيل: إن الجمع لجمع المخاطبين إذ يعلم منه وجه إفراد الصدقة فيما تقدم على قراءة الجمهور فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا ما أمرتم به وشق عليكم ذلك وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بأن رخص لكم المناجاة من غير تقديم صدقة، وفيه على ما قيل: إشعار بأن إشفاقهم ذنب تجاوز الله تعالى عنه لما رؤي منهم من الانقياد وعدم خوف الفقر بعد ما قام مقام نوبتهم و (إذ) على بابها أعني أنها ظرف لما مضى، وقيل: إنها بمعنى- إذ- الظرفية للمستقبل كما قوله تعالى: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ [غافر: 71] . وقيل: بمعنى إن الشرطية كأنه قيل: فإن لم تفعلوا فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ والمعنى على الأول إنكم تركتم ذلك فيما مضى فتداركوه بالمثابرة على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، واعتبرت المثابرة لأن المأمورين مقيمون للصلاة ومؤتون للزكاة، وعدل عن فصلوا إلى فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ليكون المراد المثابرة على توفية حقوق الصلاة ورعاية ما فيه كما لها لا على أصل فعلها فقط، ولما عدل عن ذلك لما ذكر جيء بما بعده على وزانه ولم يقل وزكوا لئلا يتوهم أن المراد الأمر بتزكية النفس كذا قيل فتدبر وَأَطِيعُوا اللَّهَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 225 وَرَسُولَهُ أي في سائر الأوامر، ومنها ما تقدم في ضمن قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا الآيات وغير ذلك. وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ظاهرا وباطنا. وعن أبي عمرو و «يعملون» بالتحتية أَلَمْ تَرَ تعجيب من حال المنافقين الذين كانوا يتخذون اليهود أولياء ويناصحونهم وينقلون إليهم أسرار المؤمنين، وفيه على ما قال الخفاجي: تلوين للخطاب بصرفه عن المؤمنين إلى الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم أي ألم تنظر إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا أي والوا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وهم اليهود ما هُمْ أي الذين تولوا مِنْكُمْ معشر المؤمنين وَلا مِنْهُمْ أي من أولئك القوم المغضوب عليهم أعني اليهود لأنهم منافقون مذبذبون بين ذلك، وفي الحديث «مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين غنمين- أي المترددة بين قطيعين- لا تدري أيهما تتبع» . وجوز ابن عطية أن يكون هُمْ للقوم، وضمير مِنْهُمْ للذين تولوا، ثم قال: فيكون فعل المنافقين على هذا أخس لأنهم تولوا مغضوبا عليهم ليسوا من أنفسهم فيلزمهم ذمامهم ولا من القوم المحقين فتكون الموالاة صوابا: والأول هو الظاهر والجملة عليه مستأنفة، وجوز كونها حالا من فاعل تَوَلَّوْا ورد بعدم الواو، وأجيب بأنهم صرحوا بأن الجملة الاسمية المثبتة أو المنفية إذا وقعت حالا تأتي بالواو فقط وبالضمير فقط وبهما معا، وما هاهنا أتت بالضمير أعني هم، وعلى ما قال ابن عطية: في موضع الصفة لقوم. وذكر المولى سعد الله أن في مِنْكُمْ التفاتا، وتعقب بأنه إن غلب فيه خطاب الرسول صلّى الله عليه وسلم فظاهر أنه لا التفات فيه وإن لم يغلب فكذلك لا التفات فيه إذ ليس فيه مخالفة لمقتضى الظاهر لسبق خطابهم قبله، وفي جعله التفاتا على رأي السكاكي نظر وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ عطف على تَوَلَّوْا داخل في حيز التعجيب، وجوز عطفه على جملة ما هُمْ مِنْكُمْ وصيغة المضارع للدلالة على تكرر الحلف، وقوله تعالى: وَهُمْ يَعْلَمُونَ حال من فاعل- يحلفون- مفيدة لكمال شناعة ما فعلوا فإن الحلف على ما يعلم أنه كذب في غاية القبح، واستدل به على أن الكذب يعم ما يعلم المخبر مطابقته للواقع وما لا يعلم مطابقته له فيرد به على مذهبي النظام والجاحظ إذ عليهما لا حاجة اليه، وبحث فيه أنه يجوز أن يراد بالكذب ما خالف اعتقادهم وَهُمْ يَعْلَمُونَ بمعنى يعلمون خلافه فيكون جملة حالية مؤكدة لا مقيدة، نعم التأسيس هو الأصل لكنه غير متعين، والاحتمال يبطل الاستدلال والكذب الذي حلفوا عليه دعواهم الإسلام حقيقة، وقيل: إنهم ما شتموا النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم بناء على ما روي «أنه كان رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم جالسا في ظل حجرة من حجره وعنده نفر من المسلمين، فقال: إنكم سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان فإذا جاءكم فلا تكلموه فلم يلبثوا أن طلع عليهم رجل أزرق فقال عليه الصلاة والسلام حين رآه: علام تشتمني أنت وأصحابك فقال: ذرني آتك بهم فانطلق فدعاهم فحلفوا» فنزلت، وهذا الحديث أخرجه الإمام أحمد والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل وابن مردويه والحاكم وصححه عن ابن عباس إلا أن آخره «فأنزل الله يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ [المجادلة: 18] » الآية والتي بعدها، ولعله يؤيد أيضا اعتبار كون الكذب دعواهم أنهم ما شتموا. وفي البحر رواية نحو ذلك عن السدي ومقاتل، وهو- أنه عليه الصلاة والسلام قال لأصحابه: يدخل عليكم رجل قلبه قلب جبار وينظر بعيني شيطان فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق أسمر خفيف اللحية فقال صلّى الله عليه وسلم: علام تشتمني أنت وأصحابك فحلف بالله ما فعل فقال له: فعلت فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه- فنزلت ، والله تعالى أعلم بصحته. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 226 وعبد الله هذا هو الرجل المبهم في الخبر الأول، وهو ابن نبتل بفتح النون وسكون الباء الموحدة وبعدها تاء مثناة من فوق ولام ابن الحارث بن قيس الأنصاري الأوسي ذكره ابن الكلبي والبلاذري في المنافقين، وذكره أبو عبيدة في الصحابة فيحتمل كما قال ابن حجر: إنه اطلع على أنه تاب، وأما قوله في القاموس: عبد الله بن نبيل- كأمير- من المنافقين فيحتمل أنه هو هذا، واختلف في ضبط اسم أبيه ويحتمل أنه غيره أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ بسبب ذلك عَذاباً شَدِيداً نوعا من العذاب متفاقما إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ما اعتادوا عمله وتمرنوا عليه اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ الفاجرة التي يحلفون بها عند الحاجة جُنَّةً وقاية وسترة عن المؤاخذة، وقرأ الحسن- إيمانهم- بكسر الهمزة أي إيمانهم الذي أظهروه للنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم وخلص المؤمنين، قال في الإرشاد: والاتخاذ على هذا عبارة عن التستر بالفعل كأنه قيل: تستروا بما أظهروه من الإيمان عن أن تستباح دماؤهم وأموالهم، وعلى قراءة الجمهور عبارة عن إعدادهم لأيمانهم الكاذبة وتهيئتهم لها إلى وقت الحاجة ليحلفوا بها ويخلصوا عن المؤاخذة لا عن استعمالها بالفعل فإن ذلك متأخر عن المؤاخذة المسبوقة بوقوع الجناية، وعن سببها أيضا كما يعرب عنه الفاء في قوله تعالى: فَصَدُّوا أي الناس. عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ في خلال أمنهم بتثبيط من لقوا عن الدخول في الإسلام وتضعيف أمر المسلمين عندهم، وقيل: فصدوا المسلمين عن قتلهم فإنه سبيل الله تعالى فيهم، وقيل: (صدوا) لازم، والمراد فأعرضوا عن الإسلام حقيقة وهو كما ترى فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ وعيد ثان بوصف آخر لعذابهم، وقيل: الأول عذاب القبر وهذا عذاب الآخرة، ويشعر به وصفه بالإهانة المقتضية للظهور فلا تكرار. لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ قد سبق مثله في سورة آل عمران، وسبق الكلام فيه فمن أراده فليرجع إليه يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً تقدم الكلام في نظيره غير بعيد فَيَحْلِفُونَ لَهُ أي لله تعالى يومئذ قائلين: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ في الدنيا أنهم مسلمون مثلكم، والتشبيه بمجرد الحلف لهم في الدنيا وإن اختلف المحلوف عليه بناء على ما قدمنا من سبب النزول وَيَحْسَبُونَ في الآخرة أَنَّهُمْ بتلك الأيمان الفاجرة عَلى شَيْءٍ من جلب منفعة أو دفع مضرة كما كانوا عليه في الدنيا حيث كانوا يدفعون بها عن أرواحهم وأموالهم ويستجرون بها فوائد دنيوية أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ البالغون في الكذب إلى غاية ليس وراءها غاية حيث تجاسروا على الكذب بين يدي علام الغيوب، وزعموا أن أيمانهم الفاجرة تروّج الكذب لديه عز وجل كما تروّجه عند المؤمنين اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ أي غلب على عقولهم بوسوسته وتزيينه حتى اتبعوه فكان مستوليا عليهم، وقال الراغب: الحوذ أن يتبع السائق حاذي البعير أي أدبار فخذيه فيعنف في سوقه يقال: حاذ الإبل يحوذها أي ساقها سوقا عنيفا، وقوله تعالى: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ أي استاقهم مستوليا عليهم، أو من قولهم: استحوذ العير على الأتان أي استولى على حاذيها أي جانبي ظهرها اه. وصرح بعض الأجلة أن الحوذ في الأصل السوق والجمع، وفي القاموس تقييد السوق بالسريع ثم أطلق على الاستيلاء، ومثله الأحواذ والأحوذي، وهو كما قال الأصمعي: المشمر في الأمور القاهر لها الذي لا يشذ عنه منها شيء، ومنه قول عائشة في عمر رضي الله تعالى عنهما كان أحوذيا نسيج وحده مأخوذ من ذلك، واستحوذ مما جاء على الأصل في عدم إعلاله على القياس إذ قياسه استحاذ بقلب الواو ألفا كما سمع فيه قليلا، وقرأ به هنا أبو عمرو فجاء مخالفا للقياس- كاستنوق واستصوب- وإن وافق الاستعمال المشهور فيه، ولذا لم يخلّ استعماله بالفصاحة، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 227 وفي استفعل هنا من المبالغة ما ليس في فعل فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ في معنى لم يمكنهم من ذكره عز وجل بما زين لهم من الشهوات فهم لا يذكرونه أصلا لا بقلوبهم ولا بألسنتهم أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر من القبائح حِزْبُ الشَّيْطانِ أي جنوده وأتباعه. أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ أي الموصوفون بالخسران الذي لا غاية وراءه حيث فوّتوا على أنفسهم النعيم المقيم وأخذوا بدله العذاب الأليم، وفي تصدير الجملة بحرفي التنبيه والتحقيق وإظهار المتضايقين معا في موقع الإضمار بأحد الوجهين، وتوسيط ضمير الفصل من فنون التأكيد ما لا يخفى. إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ استئناف مسوق لتعليل ما قبله من خسران حزب الشيطان عبر عنهم بالموصول ذما لهم بما في حيز الصلة وإشعارا بعلة الحكم أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر فِي الْأَذَلِّينَ أي في جملة من هو أذل خلق الله عز وجل من الأولين والآخرين معدودون في عدادهم لأن ذلة أحد المتخاصمين على مقدار عزة الآخر وحيث كانت عزة الله عز وجل غير متناهية كانت ذلة من حادّه كذلك كَتَبَ اللَّهُ استئناف وارد لتعليل كونهم في الأذلين أي أثبت في اللوح المحفوظ أو قضى وحكم، وعن قتادة قال: وأيا ما كان فهو جار مجرى القسم فلذا قال سبحانه: لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي أي بالحجة والسيف وما يجري مجراه أو بأحدهما، ويكفي في الغلبة بما عدا الحجة تحققها للرسل عليهم السلام في أزمنتهم غالبا فقد أهلك سبحانه الكثير من أعدائهم بأنواع العذاب كقوم نوح وقوم صالح وقوم لوط وغيرهم، والحرب بين نبينا صلّى الله تعالى عليه وسلم وبين المشركين وإن كان سجالا إلا أن العاقبة كانت له عليه الصلاة والسلام وكذا لأتباعهم بعدهم لكن إذا كان جهادهم لأعداء الدين على نحو جهاد الرسل لهم بأن يكون خالصا لله عز وجل لا لطلب ملك وسلطنة وأغراض دنيوية فلا تكاد تجد مجاهدا كذلك إلا منصورا غالبا، وخص بعضهم الغلبة بالحجة لا طرادها وهو خلاف الظاهر، ويبعده سبب النزول، فعن مقاتل لما فتح الله تعالى مكة للمؤمنين والطائف وخيبر وما حولها قالوا: نرجو أن يظهرنا الله تعالى على فارس والروم فقال عبد الله بن أبيّ: أتظنون الروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها، والله إنهم لأكثر عددا وأشد بطشا من أن تظنوا فيهم ذلك فنزلت كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ على نصر رسله عَزِيزٌ لا يغلب على مراده عز وجل. وقرأ نافع وابن عامر «ورسلي» بفتح الياء لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ خطاب للنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم أو لكل أحد يصلح له، وتَجِدُ إما متعد إلى اثنين فقوله تعالى: يُوادُّونَ إلخ مفعوله الثاني، وإما متعد إلى واحد فهو حال من مفعوله لتخصصه بالصفة، وقيل: صفة أخرى له أي قوما جامعين بين الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر وبين موادّة أعداء الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم وليس بذاك، والكلام على ما في الكشاف من باب التخييل خيل أن من الممتنع المحال أن تجد قوما مؤمنين يوادّون المشركين. والغرض منه أنه لا ينبغي أن يكون ذلك وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته والتصلب في مجانبة أعداء الله تعالى، وحاصل هذا على ما في الكشف أنه من فرض غير الواقع واقعا محسوسا حيث نفى الوجدان على الصفة وأريد نفي انبغاء الوجدان على تلك الصفة فجعل الواقع نفي الوجدان، وإنما الواقع نفي الانبغاء فخيل أنه هو (1) فالتصوير في   (1) قيل: يجعل ما لا يليق كالعدم لمشاركته له في عدم الاعتداد به فتأمل اه منه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 228 جعل ما لا يمتنع ممتنعا، وقيل: المراد لا تجد قوما كاملي الإيمان على هذه الحال، فالنفي باق على حقيقته، والمراد بموادة المحادّين موالاتهم ومظاهرتهم، والمضارع قيل: لحكاية الحال الماضية، ومَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ظاهر في الكافر وبعض الآثار ظاهر في شموله للفاسق، والاخبار مصرحة بالنهي عن موالاة الفاسقين كالمشركين بل قال سفيان: يرون أن الآية المذكورة نزلت فيمن يخالط السلطان، وفي حديث طويل أخرجه الطبراني والحاكم والترمذي عن واثلة بن الأسقع مرفوعا «يقول الله تبارك وتعالى: وعزتي لا ينال رحمتي من لم يوال أوليائي ويعاد أعدائي» . وأخرج أحمد وغيره عن البراء بن عازب مرفوعا، أوثق الإيمان الحب في الله والبغض في الله. وأخرج الديلمي من طريق الحسن عن معاذ قال: قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «اللهم لا تجعل لفاجر- وفي رواية- ولا لفاسق علي يدا ولا نعمة فيودّه قلبي فإني وجدت فيما أوحيت إلي لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» وحكى الكواشي عن سهل أنه قال: من صحح إيمانه وأخلص توحيده فإنه لا يأنس إلى مبتدع ولا يجالسه ولا يؤاكله ولا يشاربه ولا يصاحبه ويظهر له من نفسه العداوة والبغضاء، ومن داهن مبتدعا سلبه الله تعالى حلاوة السنن، ومن تحبب إلى مبتدع يطلب عز الدنيا أو عرضا منها أذله الله تعالى بذلك العز وأفقره بذلك الغنى ومن ضحك إلى مبتدع نزع الله تعالى نور الإيمان من قلبه، ومن لم يصدق فليجرب انتهى. ومن العجيب أن بعض المنتسبين إلى المتصوفة- وليس منهم ولا قلامة ظفر- يوالي الظلمة بل من لا علاقة له بالدين منهم وينصرهم بالباطل ويظهر من محبتهم ما يضيق عن شرحه صدر القرطاس، وإذا تليت عليه آيات الله تعالى وأحاديث رسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم الزاجرة عن مثل ذلك يقول: سأعالج قلبي بقراءة نحو ورقتين من كتاب المثنوي الشريف لمولانا جلال الدين القونوي قدس سره وأذهب ظلمته- إن كانت- بما يحصل لي من الأنوار حال قراءته، وهذا لعمري هو الضلال البعيد، وينبغي للمؤمنين اجتناب مثل هؤلاء وَلَوْ كانُوا أي من حادّ الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، والجمع باعتبار معنى من كما أن الإفراد فيما قبل باعتبار لفظها آباءَهُمْ أي الموادين أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ فإن قضية الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر الذي يحشر المرء فيه مع من أحب أن يهجروا الجميع بالمرة، وليس المراد بمن ذكر خصوصهم وإنما المراد الأقارب مطلقا، وقدم الآباء لأنه يجب على أبنائهم طاعتهم ومصاحبتهم في الدنيا بالمعروف، وثنى بالأبناء لأنهم أعلق بهم لكونهم أكبادهم، وثلث بالأخوان لأنهم الناصرون لهم: أخاك أخاك إن من لا أخا له ... كساع إلى الهيجا بغير سلاح وختم بالعشيرة لأن الاعتماد عليهم والتناصر بهم بعد الإخوان غالبا: لو كنت من مازن لم تستبح إبلي ... بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا إذا لقام بنصري معشر خشن ... عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا وقرأ أبو رجاء «وعشائرهم» بالجمع أُولئِكَ إشارة إلى الذين لا يوادّونهم وإن كانوا أقرب الناس إليهم وأمسهم رحما بهم وما فيه من معنى البعد لرفعة درجتهم في الفضل، وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ أي أثبته الله تعالى فيها ولما كان الشيء يراد أولا ثم يقال ثم يكتب عبر عن المبدأ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 229 بالمنتهى للتأكيد والمبالغة، وفيه دليل على خروج العمل من مفهوم- الإيمان- فإن جزء الثابت في القلب ثابت فيه قطعا، ولا شيء من أعمال الجوارح يثبت فيه. وقرأ أبو حيوة والمفضل عن عاصم «كتب» مبنيا للمفعول «الإيمان» بالرفع على النيابة عن الفاعل. وَأَيَّدَهُمْ أي قواهم بِرُوحٍ مِنْهُ أي من عنده عز وجل على أن من ابتدائية، والمراد بالروح نور القلب وهو نور يقذفه الله تعالى في قلب من يشاء من عباده تحصل به الطمأنينة والعروج على معارج التحقيق، وتسميته روحا مجاز مرسل لأنه سبب للحياة الطيبة الأبدية، وجوز كونه استعارة، وقول بعض الأجلة: إن نور القلب ما سماه الأطباء روحا وهو الشعاع اللطيف المتكون من القلب- وبه الإدراك- فالروح على حقيقته ليس بشيء كما لا يخفى، أو المراد به القرآن على الاحتمالين السابقين، واختيرت الاستعارة أو جبريل عليه السلام وذلك يوم بدر، وإطلاق الروح عليه شائع أقوال. وقيل: ضمير مِنْهُ للإيمان، والمراد بالروح الإيمان أيضا، والكلام على التجريد البديعي- فمن- بيانية أو ابتدائية على الخلاف فيها، وإطلاق الروح على الإيمان على ما مر وقوله تعالى: وَيُدْخِلُهُمْ إلخ بيان لآثار رحمته تعالى الأخروية إثر بيان ألطافه سبحانه الدنيوية أي ويدخلهم في الآخرة. جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أبد الآبدين، وقوله تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ استئناف جار مجرى التعليل لما أفاض سبحانه عليهم من آثار رحمته عز وجل العاجلة والآجلة، وقوله تعالى وَرَضُوا عَنْهُ بيان لابتهاجهم بما أوتوه عاجلا وآجلا، وقوله تعالى: أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ تشريف لهم ببيان اختصاصهم به تعالى وقوله سبحانه: أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ بيان لاختصاصهم بسعادة الدارين والكلام في تحلية الجملة- بإلا. وإن- على ما مر في أمثالها، والآية قيل: نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه. أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: حدثت أن أبا قحافة سب النبي صلّى الله عليه وسلم فصكه أبو بكر صكة فسقط فذكر ذلك للنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فقال: أفعلت يا أبا بكر؟ قال: نعم، قال: لا تعد، قال: والله لو كان السيف قريبا مني لضربته- وفي رواية- لقتلته فنزلت لا تَجِدُ قَوْماً الآيات. وقيل: في أبي عبيدة بن عبد الله بن الجراح، أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في سننه عن ابن عباس عن عبد الله بن شوذب قال: جعل والد أبي عبيدة يتصدى له يوم بدر وجعل أبو عبيدة يحيد عنه فلما أكثر قصده أبو عبيدة فقتله فنزلت لا تَجِدُ إلخ، وفي الكشاف أن أبا عبيدة قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم أحد، وقال الواقدي في قصة قتله إياه: كذلك يقول أهل الشام، وقد سألت رجالا من بني فهر فقالوا: توفي أبوه قبل الإسلام أي في الجاهلية قبل ظهور الإسلام انتهى. والحق أنه قتله في بدر، أخرج البخاري ومسلم عن أنس قال: كان- أي أبو عبيدة- قتل أباه وهو من جملة أسارى بدر بيده لما سمع منه في رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم ما يكره ونهاه فلم ينته، وقيل: نزلت فيه حيث قتل أباه. وفي أبي بكر دعا ابنه يوم بدر إلى البراز، وقال لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم: دعني أكون في الرعلة الأولى- وهي القطعة من الخيل- قال: «متعنا بنفسك يا أبا بكر ما تعلم أنك عندي بمنزلة سمعي وبصري» وفي معصب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد وفي عمر قتل خاله العاص بن هشام يوم بدر. وفي علي كرم الله تعالى وجهه وحمزة وعبيدة بن الحارث قتلوا عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر. وتفصيل ذلك ما رواه أبو داود عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: لما كان يوم بدر تقدم عتبة ابن ربيعة ومعه الجزء: 14 ¦ الصفحة: 230 ابنه وأخوه فنادى من يبارز- إلى قوله- فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «قم يا حمزة قم يا علي قم يا عبيدة بن الحارث» فأقبل حمزة إلى عتبة وأقبلت إلى شيبة واختلفت بين عبيدة والوليد ضربتان فأثخن كل منهما صاحبه ثم ملنا على الوليد فقتلناه واحتملنا عبيدة. هذا ورتب بعض المفسرين وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ على قصة أبي عبيدة وأبي بكر ومعصب وعلي كرم الله تعالى وجهه ومن معه، وقيل: إن قوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً إلخ نزل في حاطب ابن أبي بلتعة، والظاهر على ما قيل: إنه متصل بالآي التي في المنافقين الموالين لليهود، وأيا ما كان فحكم الآيات عام وإن نزلت في أناس مخصوصين كما لا يخفى، والله تعالى أعلم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 231 سورة الحشر قال البقاعي: وتسمى سورة- بني النضير- وأخرج البخاري وغيره عن ابن جبير قال: قلت لابن عباس سورة الحشر، قال: قل: سورة بني النضير، قال ابن حجر: كأنه كره تسميتها بالحشر لئلا يظن أن المراد به يوم القيامة وإنما المراد هاهنا إخراج بني النضير. وهي مدنية، وآيها أربع وعشرون بلا خلاف، ومناسبتها لما قبلها أن في آخر تلك كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة: 21] وفي أول هذه فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [الحشر: 2] وفي آخر تلك ذكر من حادّ الله ورسوله، وفي أول هذه ذكر من شاقّ الله ورسوله، وأن في الأولى ذكر حال المنافقين واليهود وتولي بعضهم بعضا، وفي هذه ذكر ما حل باليهود وعدم إغناء تولي المنافقين إياهم شيئا، فقد روي أن بني النضير كانوا قد صالحوا رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم على أن لا يكونوا عليه ولا له فلما ظهر يوم بدر قالوا: هو النبي الذي نعت في التوراة لا تردّ له راية فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة فخالفوا عليه قريشا عند الكعبة فأخبر جبريل عليه السلام الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم بذلك فأمر بقتل كعب فقتله محمد بن سلمة غيلة وهو عروس بعد أن أخذ بفود رأسه أخوه رضاعا أو نائلة سلكان بن سلامة أحد بني عبد الأشهل، وكان عليه الصلاة والسلام قد اطلع منهم على خيانة حين أتاهم يستعينهم في دية المسلمين من بني عامر اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري عند منصرفه من بئر معونة فهموا بطرح الحجر عليه صلى الله تعالى عليه وسلم فعصمه الله تعالى، وبعد أن قتل كعب بأشهر على الصحيح لا على الأثر كما قيل: أمر صلى الله تعالى عليه وسلم بالتهيؤ لحربهم والسير إليهم وكان ذلك سنة أربع في شهر ربيع الأول وكانوا بقرية يقال لها: الزهرة فسار المسلمون معه عليه الصلاة والسلام وهو على حمار مخطوم بليف. وقيل: على جمل واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم حتى إذا نزل صلّى الله تعالى عليه وسلم بهم وجدهم ينوحون على كعب، وقالوا: ذرنا نبكي شجونا ثم ائتمر أمرك فقال: اخرجوا من المدينة فقالوا: الموت أقرب لنا من ذلك فتنادوا بالحرب، وقيل: استمهلوه عليه الصلاة والسلام عشرة أيام ليتجهزوا للخروج ودس المنافقون عبد الله بن أبيّ وأضرابه إليهم أن لا يخرجوا من الحصن فإن قاتلوكم فنحن معكم ولننصرنكم وإن أخرجتم لنخرجن معكم فدربوا على الأزقة وحصنوها ثم أجمعوا على الغدر برسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فقالوا: اخرج في ثلاثين من أصحابك ويخرج منا ثلاثون ليسمعوا منك فإن صدقوك آمنا كلنا ففعل فقالوا: كيف نفهم ونحن ستون اخرج في ثلاثة ويخرج إليك ثلاثة من علمائنا ففعل عليه الصلاة والسلام فاشتملوا على الخناجر وأرادوا الفتك فأرسلت امرأة منهم ناصحة إلى أخيها وكان مسلما فأخبرته بما أرادوا فأسرع إلى الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم فسارّه بخبرهم قبل أن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 232 يصل إليهم فلما كان من الغد غدا عليهم بالكتائب فحاصرهم- على ما قال ابن هشام في سيرته- ست ليال، وقيل: إحدى وعشرين ليلة فقذف الله تعالى في قلوبهم الرعب وأيسوا من نصر المنافقين فطلبوا الصلح فأبى عليه الصلاة والسلام عليهم إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاؤوا من المتاع فجلوا إلى الشام إلى أريحا وأذرعات إلا أهل بيتين منهم آل سلام ابن أبي الحقيق وآل كنانة بن الربيع ابن أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب فلحقوا بخيبر ولحقت طائفة بالحيرة وقبض النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم أموالهم وسلاحهم فوجد خمسين درعا وخمسين بيضة وثلاثمائة وأربعين سيفا وكان ابن أبيّ قد قال لهم: معي ألفان من قومي وغيرهم أمدكم بها وتمدكم قريظة وحلفاؤكم من غطفان فلما نازلهم صلّى الله تعالى عليه وسلم اعتزلتهم قريظة وخذلهم ابن أبيّ وحلفاؤهم من غطفان فأنزل الله تعالى قوله عز وجل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إلى قوله تعالى: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الحشر: 6] وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة في صدر سورة الحديد، وكرر الموصول هاهنا لزيادة التقرير والتنبيه على استقلال كل من الفريقين بالتسبيح، وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ بيان لبعض آثار عزته تعالى وأحكام حكمته عز وجل إثر وصفه تعالى بالعزة القاهرة والحكمة الباهرة على الإطلاق، والمراد- بالذين كفروا- بنو النضير- بوزن الأمير- وهم قبيلة عظيمة من يهود خيبر كبني قريظة، ويقال للحيين: الكاهنان لأنهما من ولد الكاهن بن هارون كما في البحر، ويقال: إنهم نزلوا قريبا من المدينة في فئة من بني إسرائيل انتظارا لخروج الرسول صلّى الله عليه وسلم فكان من أمرهم ما قصه الله تعالى. وقيل: إن موسى عليه السلام كان قد أرسلهم إلى قتل العماليق، وقال لهم: لا تستحيوا منهم أحدا فذهبوا ولم يفعلوا وعصوا موسى عليه السلام فلما رجعوا إلى الشام وجدوه قد مات عليه السلام فقال لهم بنو إسرائيل: أنتم عصاة الله تعالى والله لا دخلتم علينا بلادنا فانصرفوا إلى الحجاز إلى أن كان ما كان، وروي عن الحسن أنهم بنو قريظة وهو وهم كما لا يخفى، والجار الأول متعلق بمحذوف أي كائنين من أهل الكتاب، والثاني متعلق- باخرج- وصحت إضافة الديار إليهم لأنهم كانوا نزلوا برية لا عمران فيها فبنوا فيها وسكنوا، وضمير هُوَ راجع إليه تعالى بعنوان العزة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 233 والحكمة إما بناء على كمال ظهور اتصافه تعالى بهما مع مساعدة تامة من المقام، أو على جعله مستعارا لاسم الإشارة كما في قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ [الأنعام: 46] أي بذلك فكأنه قيل: ذلك المنعوت بالعزة والحكمة الذي أخرج إلخ، ففيه إشعار بأن في الإخراج حكمة باهرة، وقوله تعالى: لِأَوَّلِ الْحَشْرِ متعلق- بأخرج- واللام لام التوقيت كالتي في قولهم: كتبته لعشر خلون. ومآلها إلى معنى- في- الظرفية، ولذا قالوا هنا أي في أول الحشر لكنهم لم يقولوا: إنها بمعنى- في- إشارة إلى أنها لم تخرج عن أصل معناها وأنها للاختصاص لأن ما وقع في وقت اختص به دون غيره من الأوقات، وقيل: إنها للتعليل وليس بذاك، ومعنى أول الحشر أن هذا أول حشرهم إلى الشام أي أول ما حشروا وأخرجوا، ونبه بالأولية على أنهم لم يصبهم جلاء قبل ولم يجلهم بختنصر حين أجلى اليهود بناء على أنهم لم يكونوا معهم إذ ذاك وإن نقلهم من بلاد الشام إلى أرض العرب كان باختيارهم، أو لم يصبهم ذلك في الإسلام، أو على أنهم أول محشورين من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشام، ولا نظر في ذلك إلى مقابلة الأول بالآخر، وبعضهم يعتبرها فمعنى أول الحشر أن هذا أول حشرهم وآخر حشرهم إجلاء عمر رضي الله تعالى عنه إياهم من خيبر إلى الشام، وقيل: آخر حشرهم حشرهم يوم القيامة لأن المحشر يكون بالشام. وعن عكرمة من شك أن المحشر هاهنا يعني الشام فليقرأ هذه الآية، وكأنه أخذ ذلك من أن المعنى الأول حشرهم إلى الشام فيكون لهم آخر حشر إليه أيضا ليتم التقابل، وهو يوم القيامة من القبور، ولا يخفى أنه ضعيف الدلالة وفي البحر عن عكرمة والزهري أنهما قالا: المعنى لأول موضوع الحشر وهو الشام، وفي الحديث أنه صلّى الله عليه وسلم قال لهم: «اخرجوا قالوا: إلى أين؟ قال: إلى أرض المحشر» ولا يخفى ضعف هذا المعنى أيضا، وقيل: آخر حشرهم أن نارا تخرج قبل الساعة فتحشرهم كسائر الناس من المشرق إلى المغرب، وعن الحسن أنه أريد حشر القيامة أي هذا أوله والقيام من القبور آخره، وهو كما ترى، وقيل: المعنى أخرجهم من ديارهم لأول جمع حشره النبي صلّى الله عليه وسلم أو حشره الله عز وجل لقتالهم لأنه صلّى الله تعالى عليه وسلم لم يكن قبل قصد قتالهم، وفيه من المناسبة لوصف العزة ما لا يخفى، ولذا قيل: إنه الظاهر، وتعقب بأن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يكن جمع المسلمين لقتالهم في هذه المرة أيضا ولذا ركب عليه الصلاة والسلام حمارا مخطوما بليف لعدم المبالاة بهم وفيه نظر، وقيل: لأول جمعهم للمقاتلة من المسلمين لأنهم لم يجتمعوا لها قبل، والحشر إخراج جمع سواء كان من الناس لحرب أو لا، نعم يشترط فيه كون المحشور جمعا من ذوي الأرواح لا غير، ومشروعية الإجلاء كانت في ابتداء الإسلام، وأما الآن فقد نسخت، ولا يجوز إلا القتل أو السبي أو ضرب الجزية ما ظَنَنْتُمْ أيها المسلمون أَنْ يَخْرُجُوا لشدة بأسهم ومنعتهم ووثاقة حصونهم وكثرة عددهم وعدتهم. وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ أي ظنوا أن حصونهم مانعتهم أو تمنعهم من بأس الله تعالى- فحصونهم- مبتدأ ومانِعَتُهُمْ خبر مقدم، والجملة خبر أَنْ وكان الظاهر لمقابلة ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وظنوا أن لا يخرجوا والعدول إلى ما في النظم الجليل للإشعار بتفاوت الظنين، وأن ظنهم قارب اليقين فناسب أن يؤتى بما يدل على فرط وثوقهم بما هم فيه فجيء- بمانعتهم. وحصونهم- مقدما فيه الخبر على المبتدأ ومدار الدلالة التقديم لما فيه من الاختصاص فكأنه لا حصن أمنع من حصونهم، وبما يدل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالي معهما بأحد يتعرض لهم أو يطمع في معازتهم، فجيء بضمير- هم- وصير اسما- لأن- وأخبر عنه بالجملة لما في ذلك من التقوى على ما في الكشف وشرح الطيبي، وفي كون ذلك من باب التقوى بحث، ومنع الجزء: 14 ¦ الصفحة: 234 بعضهم جواز الاعراب السابق بناء على أن تقديم الخبر المشتق على المبتدأ المحتمل للفاعلية لا يجوز كتقديم الخبر إذا كان فعلا، وصحح الجواز في المشتق دون الفعل، نعم اختار صاحب الفرائد أن يكون «حصونهم» فاعلا- لمانعتهم- لاعتماده على المبتدأ. وجوز كون مانِعَتُهُمْ مبتدأ خبره حُصُونُهُمْ، وتعقب بأن فيه الاخبار عن النكرة بالمعرفة إن كانت إضافة مانعة لفظية، وعدم كون المعنى على ذلك إن كانت معنوية بأن قصد استمرار المنع فتأمل، وكانت حُصُونُهُمْ على ما قيل أربعة: الكتيبة والوطيح والسلالم والنطاة، وزاد بعضهم الوخدة (1) وبعضهم شقا، والذي في القاموس أنه موضع بخيبر أو واد به فَأَتاهُمُ اللَّهُ أي أمره سبحانه، وقدره عز وجل المتاح لهم مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ولم يخطر ببالهم وهو على ما روي عن السدي وأبي صالح وابن جريج قتل رئيسهم كعب بن الأشرف فإنه مما أضعف قوتهم وقلّ شوكتهم وسلب قلوبهم الأمن والطمأنينة، وقيل: ضمير فَأَتاهُمُ ولَمْ يَحْتَسِبُوا للمؤمنين أي فأتاهم نصر الله من حيث لم يحتسبوا، وفيه تفكيك الضمائر. وقرىء فآتاهم الله، وهو حينئذ متعدّ لمفعولين ثانيهما محذوف. أي فآتاهم الله العذاب أو النصر وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ أي الخوف الشديد من رعبت الحوض إذ ملأته لأنه يتصور فيه أنه ملأ القلب، وأصل القذف الرمي بقوة أو من بعيد، والمراد به هنا للعرف إثبات ذلك وركزه في قلوبهم. يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ ليسدوا بما نقضوا منها من الخشب والحجارة أفواه الأزقة، ولئلا تبقى صالحة لسكنى المسلمين بعد جلائهم ولينقلوا بعض آلاتها المرغوب فيها مما يقبل النقل كالخشب والعمد والأبواب وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ حيث كانوا يخربونها من خارج ليدخلوها عليهم وليزيلوا تحصنهم بها وليتسع مجال القتال ولتزداد نكايتهم، ولما كان تخريب أيدي المؤمنين بسبب أمر أولئك اليهود كان التخريب بأيدي المؤمنين كأنه صادر عنهم، وبهذا الاعتبار عطفت أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ على- أيديهم- وجعلت آلة لتخريبهم مع أن الآلة هي أيديهم أنفسهم- فيخربون- على هذا إما من الجمع بين الحقيقة والمجاز أو من عموم المجاز، والجملة إما في محل نصب على الحالية من ضمير قُلُوبِهِمُ أو لا محل لها من الإعراب، وهي إما مستأنفة جواب عن سؤال تقديره فما حالهم بعد الرعب؟ أو معه أو تفسير للرعب بادعاء الاتحاد لأن ما فعلوه يدل على رعبهم إذ لولاه ما خربوها. وقرأ قتادة والجحدري ومجاهد وأبو حيوة وعيسى وأبو عمرو «يخرّبون» بالتشديد وهو للتكثير في الفعل أو في المفعول، وجوز أن يكون في الفاعل، وقال أبو عمرو بن العلاء: خرب بمعنى هدم وأفسد، وأخرب ترك الموضوع خرابا وذهب عنه، فالإخراب يكون أثر التخريب، وقيل: هما بمعنى عدى خرب اللازم بالتضعيف تارة وبالهمزة أخرى فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ فاتعظوا بما جرى عليهم من الأمور الهائلة على وجه لا تكاد تهتدي إليه الأفكار، واتقوا مباشرة ما أداهم إليه من الكفر والمعاصي، واعبروا من حالهم في غدرهم واعتمادهم على غير الله تعالى- الصائرة سببا لتخريب بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم ومفارقة أوطانهم مكرهين- إلى حال أنفسكم فلا تعولوا على تعاضد الأسباب وتعتمدوا على غيره عز وجل بل توكلوا عليه سبحانه. واشتهر الاستدلال بالآية على مشروعية العمل بالقياس الشرعي، قالوا: إنه تعالى أمر فيها بالاعتبار وهو العبور   (1) قوله: الكتيبة التاء المثناة والتصغير. والوطيح بفتح الواو وكسر الطاء وبالمهملة. والسلالم بضم السين، وقيل: بفتحها. ويقال فيه: السلاليم. والنطاة من النطو. والوخدة بفتح الواو وسكون المعجمة بعدها مهملة اه منه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 235 والانتقال من الشيء إلى غيره، وذلك متحقق في القياس إذا فيه نقل الحكم من الأصل إلى الفرع، ولذا قال ابن عباس في الأسنان: اعتبر حكمها بالأصابع في أن ديتها متساوية، والأصل في الإطلاق الحقيقة وإذ ثبت الأمر- وهو ظاهر في الطلب الغير الخارج عن اقتضاء الوجوب أو الندب- ثبتت مشروعية العمل بالقياس، واعترض بعد تسليم ظهور الأمر في الطلب بأنا لا نسلم أن الاعتبار ما ذكر بل هو عبارة عن الاتعاظ لأنه المتبادر حيث أطلق، ويقتضيه في الآية ترتيبه بالفاء على ما قبله كما في قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ [آل عمران: 13، النور: 44] وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً [النحل: 66] ولأن القائس في الفرع إذا قدم على المعاصي ولم يتفكر في أمر آخرته يقال: إنه غير معتبر، ولو كان القياس هو الاعتبار- لم يصح هذا السلب- سلمنا لكن ليس في الآية صيغة عموم تقتضي العمل بكل قياس بل هي مطلقة- فيكفي في العمل بها العمل بالقياس العقلي- سلمنا لكن العام مخصص بالاتفاق إذ قلتم: إنه إذا قال لوكيله: أعتق غانما لسواده لا يجوز تعديه ذلك إلى سالم، وإن كان أسود، وهو بعد التخصيص لا يبقى حجة فيما عدا محل التخصيص سلمنا غير أن الخطاب مع الموجودين وقته فيختص بهم، وأجيب بأنه لو كان الاعتبار بمعنى الاتعاظ حيث أطلق لما حسن قولهم: اعتبر فاتعظ لما يلزم فيه حينئذ من ترتب الشيء على نفسه وترتيبه في الآية على ما قبله لا يمنع كونه بمعنى الانتقال المذكور لأنه متحقق في الاتعاظ إذ المتعظ بغيره منتقل من العلم بحال ذلك الغير إلى العلم بحال نفسه فكان مأمورا به من جهة ما فيه من الانتقال- وهو القياس. والآيتان على ذلك- ولا يصح غير معتبر في القائس العاصي نظرا إلى كونه قائسا، وإنما صح ذلك نظرا إلى أمر الآخرة، وأطلق النفي نظرا إلى أنه أعظم المقاصد وقد أخل به، والآية إن دلت على العموم فذاك وإن دلت على الإطلاق وجب الحمل على القياس الشرعي لأن الغالب من الشارع مخاطبتنا بالأمور الشرعية دون غيرها، وقد برهن على أن العام بعد التخصيص حجة، وشمول حكم خطاب الموجودين لغيرهم إلى يوم القيامة قد انعقد الإجماع عليه، ولا يضر الخلاف في شمول اللفظ وعدمه على أنه إن عم أو لم يعم هو حجة على الخصوم في بعض محل النزاع، ويلزم من ذلك الحكم في الباقي ضرورة أنه لا يقول بالفرق. هذا وقال الخفاجي في وجه الاستدلال: قالوا: إنا أمرنا في هذه الآية بالاعتبار وهو ردّ الشيء إلى نظيره بأن يحكم عليه بحكمه، وهذا يشمل الاتعاظ والقياس العقلي والشرعي، وسوق الآية الاتعاظ فتدل عليه عبارة وعلى القياس إشارة، وتمام الكلام على ذلك في الكتب الأصولية وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ أي الإخراج أو الخروج عن أوطانهم على ذلك الوجه الفظيع لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا بالقتل كأهل بدر وغيرهم أو كما فعل سبحانه ببني قريظة في سنة خمس إذ الحكمة تقتضيه لو لم يكتب الجلاء عليهم، وجاء أجليت القوم عن منازلهم أي أخرجتهم عنها وأبرزتهم، وجلوا عنها خرجوا أو برزوا، ويقال أيضا: جلاهم وفرق بعضهم بين الجلاء والإخراج بأن الجلاء ما كان مع الأهل والولد، والإخراج قد يكون مع بقاء الأهل والولد. وقال الماوردي: الجلاء لا يكون إلا لجماعة، والإخراج قد يكون لواحد ولجماعة، ويقال فيه: الجلأ مهموزا من غير ألف كالنبأ، وبذلك قرأ الحسن بن صالح وأخوه علي بن صالح وطلحة، وأن مصدرية لا مخففة واسمها ضمير شأن كما توهمه عبارة الكشاف، وقد صرح بذلك الرضي، وقوله تعالى: وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ استئناف غير متعلق بجواب لَوْلا أي إنهم إن نجوا من عذاب الدنيا وهو القتل لأمر أشق عليهم وهو الجلاء لم ينجوا من عذاب الآخرة فليس تمتعهم أياما قلائل بالحياة وتهوين أمر الجلاء على أنفسهم بنافع، وفيه إشارة إلى أن القتل أشدّ من الجلاء لا لذاته بل لأنهم يصلون عنده إلى عذاب النار، وإنما أوثر الجلاء لأنه أشق عندهم وأنهم غير معتقدين لما الجزء: 14 ¦ الصفحة: 236 أمامهم من عذاب النار أو معتقدون ولكن لا يبالون به بالة ولم تجعل حالية لاحتياجها للتأويل لعدم المقارنة. ذلِكَ أي ما نزل بهم وما سينزل بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وفعلوا ما فعلوا من القبائح وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ وقرأ طلحة يشاقق بالفك كما في الأنفال، والاقتصار على ذكر مشاقته عز وجل لتضمنها مشاقته عليه الصلاة والسلام، وفيه من تهويل أمرها ما فيه، وليوافق قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وهذه الجملة إما نفس الجزاء، وقد حذف منه العائد إلى من عند من يلتزمه أي شديد العقاب له أو تعليل للجزاء المحذوف أي يعاقبه الله فإن الله شديد العقاب، وأيا ما كان فالشرطية تكملة لما قبلها وتقرير لمضمونه وتحقيق للسببية بالطريق البرهاني كأنه قيل: ذلك الذي نزل وسينزل بهم من العقاب بسبب مشاقتهم لله تعالى ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم، وكل من يشاق الله تعالى كائنا من كان فله بسبب ذلك عقاب شديد فإذا لهم عقاب شديد ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ هي النخلة مطلقا على ما قال الحسن ومجاهد وابن زيد وعمرو بن ميمون والراغب وهي فعلة من اللون وياؤها مقلوبة من واو لكسر ما قبلها كديمة، وتجمع على ألوان، وقال ابن عباس وجماعة من أهل اللغة: هي النخلة ما لم تكن عجوة، وقال أبو عبيدة وسفيان: ما تمرها لون وهو نوع من التمر، قال سفيان: شديد الصفرة يشف عن نواه فيرى من خارج، وقال أبو عبيدة أيضا: هي ألوان النخل المختلطة التي ليس فيها عجوة ولا برني، وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: هي العجوة ، وقال الأصمعي: هي الدقل، وقيل: هي النخلة القصيرة، وقال الثوري: الكريمة من النخل كأنهم اشتقوها من اللين فتجمع على لين، وجاء جمعها ليانا كما في قول امرئ القيس: وسالفة كسوق الليا ... ن أضرم فيه القويّ السعر وقيل: هي أغصان الأشجار للينها، وهو قول شاذ، وأنشدوا على كونها بمعنى النخلة سواء كانت من اللون أو من اللين قول ذي الرمة: كأن قنودي فوقها عش طائر ... على لينة سوقاء تهفو جنوبها ويمكن أن يقال: أراد باللينة النخلة الكريمة لأنه يصف الناقة بالعراقة في الكرم فينبغي أن يرمز في المشبه به إلى ذلك المعنى، وما شرطية منصوبة- بقطعتم- ومِنْ لِينَةٍ بيان لها، ولذا أنث الضمير في قوله تعالى: أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها أي أبقيتموها كما كانت ولم تتعرضوا لها بشيء ما، وجواب الشرط قوله سبحانه: فَبِإِذْنِ اللَّهِ أي فذلك أي قطعها أو تركها بأمر الله تعالى الواصل إليكم بواسطة رسوله صلّى الله عليه وسلم أو بإرادته سبحانه ومشيئته عز وجل، وقرأ عبد الله والأعمش وزيد بن علي- قوما- على وزن فعل كضرب جمع قائم، وقرىء- قائما- اسم فاعل مذكر على لفظ ما، وأبقى أصولها على التأنيث، وقرىء- أصلها- بضمتين، وأصله أُصُولِها فحذفت الواو اكتفاء بالضمة أو هو كرهن بضمتين من غير حذف وتخفيف. وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ متعلق بمقدر على أنه علة له وذلك المقدر عطف على مقدر آخر أي ليعز المؤمنين وليخزي الفاسقين أي ليذلهم أذن عز وجل في القطع والترك، وجوز فيه أن يكون معطوفا على قوله تعالى: بإذن اللَّهِ وتعطف العلة على السبب فلا حاجة إلى التقدير فيه، والمراد- بالفاسقين- أولئك الذين كفروا من أهل الكتاب، ووضع الظاهر موضع المضمر إشعارا بعلة الحكم، واعتبار القطع والترك في المعلل هو الظاهر وإخزاؤهم بقطع اللينة لحسرتهم على ذهابها بأيدي أعدائهم المسلمين وبتركها لحسرتهم على بقائها في أيدي أولئك الأعداء كذا في الانتصاف. قال بعضهم: وهاتان الحسرتان تتحققان كيفما كانت المقطوعة والمتروكة لأن النخل مطلقا مما يعز على أصحابه فلا تكاد تسمح أنفسهم بتصرف أعدائهم فيه حسبما شاؤوا وعزته على صاحبه الغارس له أعظم من عزته على الجزء: 14 ¦ الصفحة: 237 صاحبه غير الغارس له، وقد سمعت بعض الغارسين يقول: السعفة عندي كأصبع من أصابع يدي، وتحقق الحسرة على الذهاب إن كانت المقطوعة النخلة الكريمة أظهر، وكذا تحققها على البقاء في أيدي أعدائهم المسلمين إن كانت هي المتروكة، والذي تدل عليه بعض الآثار أن بعض الصحابة كان يقطع الكريمة وبعضهم يقطع غيرها وأقرهما النبي صلّى الله عليه وسلم لما أفصح الأول بأن غرضه إغاظة الكفار، والثاني بأنه استبقاء الكريمة للمسلمين، وكان ذلك أول نزول المسلمين على أولئك الكفرة ومحاصرتهم لهم، فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام أمر في صدر الحرب بقطع نخيلهم فقالوا: يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد في الأرض فما بال قطع النخل وتحريقها؟ فنزلت الآية ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ إلخ، ولم يتعرض فيها للتحريق لأنه في معنى القطع فاكتفى به عنه، وأما التعرض للترك مع أنه ليس بفساد عندهم أيضا فلتقرير عدم كون القطع فسادا لنظمه في سلك ما ليس بفساد إيذانا بتساويهما في ذلك. واستدل بالآية على جواز هدم ديار الكفرة وقطع أشجارهم وإحراق زروعهم زيادة لغيظهم، وحاصل ما ذكره الفقهاء في المسألة أنه إن علم بقاء ذلك في أيدي الكفرة فالتخريب والتحريق أولى، وإلا فالإبقاء أولى ما لم يتضمن ذلك مصلحة، وقوله تعالى: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ شروع في بيان حال ما أخذ من أموالهم بعد بيان ما حل بأنفسهم من العذاب العاجل والآجل وما فعل بديارهم ونخيلهم من التخريب والقطع أي ما أعاده الله تعالى إلى رسوله صلّى الله عليه وسلم من أولئك الكفرة- وهم بنو النضير- وما موصولة مبتدأ، والجملة بعدها صلة، والعائد محذوف كما أشرنا إليه، والجملة المتقرنة بالفاء بعد خبر، ويجوز كونها شرطية، والجملة بعد جواب، والمراد بما أفاء سبحانه عليه صلى الله تعالى عليه وسلم منهم أموالهم التي بقيت بعد جلائهم، والمراد بإعادتها عليه الصلاة والسلام تحويلها إليه، وهو إن لم يقتض سبق حصولها له صلّى الله عليه وسلم نظير ما قيل في قوله تعالى: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا [الأعراف: 88، إبراهيم: 13] ظاهر وإن اقتضى سبق الحصول كان فيما ذكر مجازا، وفيه إشعار بأنها كانت حرية بأن تكون له صلّى الله عليه وسلم وإنما وقعت في أيديهم بغير حق فأرجعها الله تعالى إلى مستحقها، وكذا شأن جميع أموال الكفرة التي تكون فيئا للمؤمنين لأن الله عز وجل خلق الناس لعبادته وخلق ما خلق من الأموال ليتوسلوا به إلى طاعته فهو جدير بأن يكون للمطيعين، ولذا قيل للغنيمة التي لا تلحق فيها مشقة: فيء مع أنه من فاء الظل إذا رجع، ونقل الراغب عن بعضهم أنه سمي بذلك تشبيها بالفيء الذي هو الظل تنبيها على أن أشرف أعراض الدنيا يجري مجرى ظل زائل، وأَفاءَ على ما في البحر بمعنى المضارع أما إذا كانت ما شرطية فظاهر، وأما إذا كانت موصوله فلأنها إذا كانت الفاء في خبرها تكون مشبهة باسم الشرط فان كانت الآية نازلة قبل جلائهم كانت مخبرة بغيب، وإن كانت نزلت بعد جلائهم وحصول أموالهم في يد الرسول صلّى الله عليه وسلم كانت بيانا لما يستقبل، وحكم الماضي حكمه، والذي يدل عليه الإخبار أنها نزلت بعد، روي أن بني النضير لما أجلوا عن أوطانهم وتركوا رباعهم وأموالهم طلب المسلمون تخميسها كغنائم بدر فنزل ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ إلخ فكانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم خاصة، فقد أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله تعالى على رسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب وكانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم خاصة فكان ينفق على أهله منها نفقة سنة ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله تعالى. وقال الضحاك: كانت له صلّى الله عليه وسلم خاصة فآثر بها المهاجرين وقسمها عليهم ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا أبا دجانة سماك بن خرشة وسهل بن حنيف والحارث بن الصمة أعطاهم لفقرهم، وذكر نحوه ابن هشام إلا أنه ذكر الجزء: 14 ¦ الصفحة: 238 الأولين ولم يذكر الحارث، وكذا لم يذكره ابن سيد الناس، وذكر أنه أعطى سعد بن معاذ سيفا لابن أبي الحقيق كان له ذكر عندهم، ومعنى ما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ ما أجريتم على تحصيله من الوجيف وهو سرعة السير، وأنشد عليه أبو حيان قول نصيب: ألا ربّ ركب قد قطعت وجيفهم ... إليك ولولا أنت لم توجف الركب وقال ابن هشام: «أوجفتم» حركتم وأتعبتم في السير، وأنشد قول تميم بن مقبل: مذاويد بالبيض الحديث صقالها ... عن الركب أحيانا إذا الركب أوجفوا والمآل واحد، ومِنْ في قوله تعالى: مِنْ خَيْلٍ زائدة في المفعول للتنصيص على الاستغراق كأنه قيل- فما أوجفتم عليه- فردا من أفراد الخيل أصلا وَلا رِكابٍ ولا ما يركب من الإبل غلب فيه كما غلب الراكب على راكبه فلا يقال في الأكثر الفصيح: راكب لمن كان على فرس أو حمار ونحوه بل يقال: فارس ونحوه، وإن كان ذلك عاما لغيره وضعا، وإنما لم يعملوا الخيل ولا الركاب بل مشوا إلى حصون بني النضير رجالا إلا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فإنه كان على الحمار. أو على جمل- كما تقدم- لأنها قريبة على نحو ميلين من المدينة فهي قريبة جدا منها، وكان المراد أن ما حصل لم يحصل بمشقة عليكم وقتال يعتدّ به منكم، ولهذا لم يعط صلّى الله تعالى عليه وسلم الأنصار إلا من سمعت، وأما إعطاؤه المهاجرين فلعله لكونهم غرباء فنزلت غربتهم منزلة السفر والجهاد، ولما أشير إلى نفي كون حصول ذلك بعملهم أشير إلى علة حصوله بقوله عز وجل: وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ أي ولكن سنته عز وجل جارية على أن يسلط رسله على من يشاء من أعدائهم تسليطا خاصا، وقد سلط رسوله محمدا صلّى الله تعالى عليه وسلم على هؤلاء تسليطا غير معتاد من غير أن تقتحموا مضايق الخطوب وتقاسوا شدائد الحروب فلا حق لكم في أموالهم، ويكون أمرها مفوضا إليه صلّى الله تعالى عليه وسلم وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيفعل ما يشاء كما يشاء تارة على الوجوه المعهودة، وأخرى على غيرها، وقيل: الآية في فدك لأن بني النضير حوصروا وقوتلوا دون أهل فدك وهو خلاف ما صحت به الأخبار، والواقع من القتال شيء لا يعتد به. ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ بيان لحكم ما أفاءه الله تعالى على رسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم من قرى الكفار على العموم بعد بيان حكم ما أفاءه من بني النضير كما رواه القاضي أبو يوسف في كتاب الخراج عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عمر بن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 239 الخطاب رضي الله تعالى عنه، ويشعر به كلامه رضي الله تعالى عنه في حديث طويل فيه مرافعة علي كرم الله تعالى وجهه والعباس في أمر فدك أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم فالجملة جواب سؤال مقدر ناشىء مما فهم من الكلام السابق فكأن قائلا يقول: قد علمنا حكم ما أفاء الله تعالى من بني النضير فما حكم ما أفاء عز وجل من غيرهم؟ فقيل: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى إلخ، ولذا لم يعطف على ما تقدم، ولم يذكر في الآية قيد الإيجاف ولا عدمه، والذي يفهم من كتب بعض الشافعية أن ما تضمنته حكم الفيء لا الغنيمة ولا الأعم، وفرقوا بينهما قالوا: الفيء ما حصل من الكفار بلا قتال وإيجاف خيل وركاب كجزية وعشر تجارة، وما صولحوا عليه من غير نحو قتال وما جلوا عنه خوفا قبل تقابل الجيشين أما بعده فغنيمة، وما لمرتد قتل أو مات على ردته، وذمي أو معاهد أو مستأمن مات بلا وارث مستغرق، والغنيمة ما حصل من كفار أصليين حربيين بقتال، وفي حكمه تقابل الجيشين أو إيجاف منا لا من ذميين فإنه لهم ولا يخمس وحكمها مشهور. وصرح غير واحد من أصحابنا بالفرق أيضا نقلا عن المغرب وغيره فقالوا: الغنيمة ما نيل من الكفار عنوة والحرب قائمة وحكمها أن تخمس، وباقيها للغانمين خاصة. والفيء ما نيل منهم بعد وضع الحرب أوزارها وصيرورة الدار دار إسلام، وحكمه أن يكون لكافة المسلمين ولا يخمس أي يصرف جميعه لمصالحهم ونقل هذا الحكم ابن حجر عمن عدا الشافعي رضي الله تعالى عنه من الأئمة الثلاثة، والتخميس عنه استدلالا بالقياس على الغنيمة المخمسة بالنص بجامع أن كلا راجع إلينا من الكفار، واختلاف السبب بالقتال وعدمه لا يؤثر، والذي نطقت به الأخبار الصحيحة أن عمر رضي الله تعالى عنه صنع في سواد العراق ما تضمنته الآية، واعتبرها عامة للمسلمين محتجا بها على الزبير وبلال وسلمان الفارسي وغيرهم حيث طلبوا منه قسمته على الغانمين بعقاره وعلوجه، ووافقه على ما أراد علي وعثمان وطلحة والأكثرون بل المخالفون أيضا بعد أن قال خاطبا: اللهم اكفني بلالا وأصحابه مع أن المشهور في كتب المغازي أن السواد فتح عنوة، وهو يقتضي كونه غنيمة فيقسم بين الغانمين، ولذا قال بعض الشافعية: إن عمر رضي الله تعالى عنه استطاب قلوب الغانمين حتى تركوا حقهم فاسترد السواد على أهله بخراج يؤدونه في كل سنة فليراجع وليحقق، وما جعله الله تعالى من ذلك لمن تضمنه قوله تعالى: فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إلى ابْنِ السَّبِيلِ هو خمس الفيء على ما نص عليه بعض الشافعية، ويقسم هذا الخمس خمسة أسهم: لمن ذكر الله عز وجل وسهمه سبحانه وسهم رسوله واحد، وذكره تعالى- كما روي عن ابن عباس والحسن بن محمد بن الحنفية- افتتاح كلام للتيمن والتبرك فإن لله ما في السماوات وما في الأرض، وفيه تعظيم لشأن الرسول عليه الصلاة والسلام. وقال أبو العالية: سهم الله تعالى ثابت يصرف إلى بناء بيته- وهو الكعبة المشرفة- إن كانت قريبة وإلا فإلى مسجد كل بلدة ثبت فيها الخمس، ويلزمه أن السهام كانت ستة وهو خلاف المعروف عن السلف في تفسير ذلك، وسهم الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم قد كان له في حياته بالإجماع- وهو خمس الخمس- وكان ينفق منه على نفسه وعياله ويدخر منه مؤونة سنة أي لبعض زوجاته ويصرف الباقي في مصالح المسلمين، وسقط عندنا بعد وفاته عليه الصلاة والسلام قالوا: لأن عمل الخلفاء الراشدين على ذلك- وهم أمناء الله تعالى على دينه- ولأن الحكم معلق بوصف مشتق- وهو الرسول- فيكون مبدأ الاشتقاق- وهو الرسالة- علة ولم توجد في أحد بعده، وهذا كما سقط الصفي. ونقل عن الشافعي أنه يصرف للخليفة بعده لأنه عليه الصلاة والسلام كان يستحقه لإمامته دون رسالته ليكون ذلك أبعد عن توهم الأجر على الإبلاغ، والأكثرون من الشافعية أن ما كان له صلّى الله تعالى عليه وسلم من خمس الجزء: 14 ¦ الصفحة: 240 الخمس يصرف لمصالح المسلمين كالثغور، وقضاة البلاد والعلماء المشتغلين بعلوم الشرع وآلاتها ولو مبتدئين، والأئمة والمؤذنين ولو أغنياء، وسائر من يشتغل عن نحو كسبه بمصالح المسلمين لعموم نفعهم، وألحق بهم العاجزون عن الكسب والعطاء إلى رأي الإمام معتبرا سعة المال وضيقه، ويقدم الأهم فالأهم وجوبا وأهمها سد الثغور، ورد سهمه صلّى الله تعالى عليه وسلم بعد وفاته للمسلمين الدال عليه قوله عليه الصلاة والسلام في الخبر الصحيح: «مالي مما أفاء الله تعالى عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم» صادق بصرفه لمصالح المسلمين كما أنه صادق بضمه إلى السهام الباقية فيقسم معها على سائر الأصناف، ولا يسلم ظهوره في هذا دون ذاك، وسهم لذي القربى وسهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل فهذه خمسة أسهم الخمس، والمراد بذي القربى قرابته صلّى الله عليه وسلم، والمراد بهم بنو هاشم وبنو المطلب لأنه صلّى الله عليه وسلم وضع السهم فيهم دون بني أخيهما شقيقهما عبد شمس، ومن ذريته عثمان وأخيهما لأبيهما نوفل مجيبا عن ذلك بقوله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «نحن وبنو المطلب شيء واحد» وشبك بين أصابعه رواه البخاري أي لم يفارقوا بني هاشم في نصرته صلّى الله تعالى عليه وسلم جاهلية ولا إسلاما، وكأنه لمزيد تعصبهم وتواقفهم- حتى كأنهم على قلب رجل واحد- قيل: لذي القربى دون لذوي بالجمع. قال الشافعية: يشترك في هذا السهم الغني والفقير لإطلاق الآية ولإعطائه صلّى الله تعالى عليه وسلم العباس وكان غنيا، بل قيل: كان له عشرون عبدا يتجرون له، والنساء لأن فاطمة وصفية عمة أبيها رضي الله تعالى عنهما كانا يأخذان منه، ويفضل الذكر كالإرث بجامع أنه استحقاق بقرابة الأب فله مثل حظّي الأنثى، ويستوي فيه العالم والصغير وضدهما، ولو أعرضوا عنه لم يسقط كالارث، ويثبت كون الرجل هاشميا أو مطلبيا بالبينة، وذكر جمع أنه لا بد معها من الاستفاضة، وبقول الشافعي قال أحمد، وعند مالك الأمر مفوض إلى الإمام إن شاء قسم بينهم وإن شاء أعطى بعضهم دون بعض وإن شاء أعطى غيرهم وإن كان أمره أهم من أمرهم. وقال المزني والثوري: يستوي الذكر والأنثى ويدفع للقاصي والداني ممن له قرابة، والغني والفقير سواء لإطلاق النص، ولأن الحكم المعلق بوصف مشتق معلل بمبدأ الاشتقاق، وعندنا ذو القربى مخصوص ببني هاشم وبني المطلب للحديث إلا أنهم ليس لهم سهم مستقل ولا يعطون مطلقا، وإنما يعطى مسكينهم ويتيمهم وابن سبيلهم لاندراجه في الْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ لكن يقدمون على غيرهم من هذه الأصناف لأن الخلفاء الثلاثة لم يخرجوا لهم سهما مخصوصا، وإنما قسموا الخمس ثلاثة أسهم: سهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل، وعلي كرم الله تعالى وجهه في خلافته لم يخالفهم في ذلك مع مخالفته لهم في مسائل، ويحمل على الرجوع إلى رأيهم إن صح عنه أنه كان يقول: سهم ذوي القربى على ما حكي عن الشافعي، وفائدة ذكرهم على القول بأن استحقاقهم لوصف آخر غير القرابة كالفقر دفع توهم أن الفقير منهم مثلا لا يستحق شيئا لأنه من قبيل الصدقة ولا تحل لهم، ومن تتبع الأخبار وجد فيها اختلافا كثيرا ومنها ما يدل على أن الخلفاء كانوا يسهمونهم مطلقا، وهو رأي علماء أهل البيت، واختار بعض أصحابنا أن المذكور في الآية مصارف الخمس على معنى أن كلا يجوز أن يصرف له لا المستحقين فيجوز الاقتصار عندنا على صنف واحد كأن يعطى تمام الخمس لابن السبيل وحده مثلا. والكلام مستوفى في شروح الهداية، والمراد باليتامى الفقراء منهم قال الشافعية: اليتيم هو صغير لا أب له وإن كان له جد، ويشترط إسلامه وفقره، أو مسكنته على المشهور أن لفظ اليتيم يشعر بالحاجة، وفائدة ذكرهم مع شمول المساكين لهم عدم حرمانهم لتوهم أنهم لا يصلحون للجهاد وإفرادهم بخمس كامل ويدخل فيهم ولد الزنا، والمنفي لا اللقيط على الأوجه لأنا لم نتحقق فقد أبيه على أنه غني بنفقته في بيت المال، ولا بد في ثبوت اليتيم والإسلام الجزء: 14 ¦ الصفحة: 241 والفقر هنا من البينة، ويكفي في المسكين وابن السبيل قولهما ولو بلا يمين وإن اتهما، نعم يظهر في مدعي تلف مال له عرف أو عيال أنه يكلف بينة انتهى، واشتراط الفقر في اليتيم مصرح به عندنا في أكثر الكتب وليراجع الباقي. هذا والأربعة الأخماس الباقية مصرفها على ما قال صاحب الكشف- وهو شافعي- بعد أن اختار جعل لِلْفُقَراءِ بدلا من ذي الْقُرْبى وما عطف عليه من تضمنه قوله تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا إلى قوله سبحانه: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ على معنى أن له عليه الصلاة والسلام أن يعم الناس بها حسب اختياره، وقال: إنها للمقاتلين الآن على الأصح، وفي تحفة ابن حجر أنها على الأظهر للمرتزقة وقضاتهم وأئمتهم ومؤذنيهم وعمالهم ما لم يوجد تبرع، والمرتزقة الأجناد المرصودون في الديوان للجهاد لحصول النصرة بهم بعده صلّى الله عليه وسلم، وصرح في التحفة بأن الأكثرين على أن هذه الأخماس الأربعة كانت له عليه الصلاة والسلام مع خمس الخمس، فجملة ما كان يأخذه صلى الله تعالى عليه وسلم من الفيء أحد وعشرون سهما من خمسة وعشرين، وكان على ما قال الروياني: يصرف العشرين التي له عليه الصلاة والسلام يعني الأربعة الأخماس للمصالح وجوبا في قول وندبا في آخر، وقال الغزالي: كان الفيء كله له صلّى الله عليه وسلم في حياته، وإنما خمس بعد وفاته. وقال الماوردي: كان له صلّى الله تعالى عليه وسلم في أول حياته ثم نسخ في آخرها، وقال الزمخشري: إن قوله تعالى: ما أَفاءَ اللَّهُ إلخ بيان للجملة الأولى يعني قوله تعالى: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ ولذا لم يدخل العاطف عليها بين فيها لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم ما يصنع بما أفاء الله تعالى عليه وأمره أن يضعه حيث يضع الخمس من الغنائم مقسوما على الأقسام الخمسة، وظاهره أن الجملة استئناف بياني، والسؤال عن مصارف ما أفاء الله تعالى على رسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم من بني النضير الذي أفادت الجملة الأولى أن أمره مفوض إليه صلّى الله تعالى عليه وسلم لا يلزم أن يقسم قسمة الغنائم التي قوتل عليها قتالا معتدا به، وأخذت عنوة وقهرا كما طلب الغزاة لتكون أربعة أخماسها لهم وأن ما يوضع موضع الخمس من الغنائم هو الكل لا أن خمسة كذلك والباقي- وهو أربعة أخماسه- لمن تضمنه قوله تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا إلى قوله سبحانه: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ على ما سمعت سابقا، وأن المراد بأهل القرى هو المراد بالضمير في مِنْهُمْ أعني بني النضير، وعدل عن الضمير إلى ذلك- على ما في الإرشاد- إشعارا بشمول ما في ما أَفاءَ اللَّهُ لعقاراتهم أيضا، واعترض صاحب الكشف ما يشعر به الظاهر من أن الآية دالة على أمره صلّى الله تعالى عليه وسلم بأن يضع الجميع حيث يضع الخمس من الغنائم، ووجه الآية بما أيد به مذهبه، ودقق الكلام في ذلك فليراجع وليتدبر. وقال ابن عطية أَهْلِ الْقُرى المذكورون في الآية هم أهل الصفراء وينبع ووادي القرى، وما هنالك من قرى العرب التي تسمى قرى عرينة وحكمها مخالف لحكم أموال بني النضير فإن تلك كلها له صلّى الله تعالى عليه وسلم خاصة، وهذه قسمها كغيرها، وقيل: المراد بما أفاء الله على رسوله خيبر، وكان نصفها لله تعالى ورسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم ونصفها الآخر للمسلمين فكان الذي لله سبحانه ورسوله عليه الصلاة والسلام من ذلك الكتيبة والوطيح وسلالم ووخدة، وكان الذي للمسلمين الشق، وكان ثلاثة عشر سهما، ونطاة وكانت خمسة أسهم، ولم يقسم عليه الصلاة والسلام من خيبر لأحد من المسلمين إلا لمن شهد الحديبية، ولم يأذن صلّى الله تعالى عليه وسلم لأحد تخلف عنه عند مخرجه إلى الحديبية أن يشهد معه خيبر إلا جابر بن عبد الله بن عمرو الأنصاري، وروي هذا عن ابن عباس، وخص بعضهم ما أفاء الله تعالى بالجزية والخراج. وعن الزهري أنه قال: بلغني أنه ذلك، وأنت قد سمعت أن عمر رضي الله تعالى عنه إنما احتج بهذه الآية على الجزء: 14 ¦ الصفحة: 242 إبقاء سواد العراق بأيادي أهله، وضرب الخراج والجزية عليهم ردا على من طلب قسمته على الغزاة بعلوجه لكن ليس ذلك إلا لأن وصول نفع ما أفاء الله تعالى إلى عامة المسلمين كان بما ذكر دون القسمة فافهم. وفي إعادة اللام في الرسول وذي القربى مع العاطف ما لا يخفى من الاعتناء، وفيه على ما قيل: تأييد ما لمن يذهب إلى عدم سقوط سهميهما، ووجه إفراد ذي القربى- قد ذكرناه غير بعيد- ولما كان أبناء السبيل بمنزلة الأقارب قبل: وَابْنِ السَّبِيلِ بالإفراد كما قيل: وَلِذِي الْقُرْبى وعلى ذلك قوله: أيا جارتا إنا غريبان هاهنا ... وكل غريب للغريب نسيب كَيْ لا يَكُونَ تعليل للتقسيم، وضمير يَكُونَ لما أفاء الله تعالى أي كي لا يكون الفيء دُولَةً هي بالضم، وكذا بالفتح ما يدول أي ما يدور للإنسان من الغناء والجد والغلبة، وقال الكسائي وحذاق البصرة:- الدولة- بالفتح في الملك بالضم، والدولة- بالضم في الملك بالكسر، أو بالضم في المال وبالفتح في النصرة قيل: وفي الجاه وقيل: هي بالضم ما يتداول كالغرفة اسم ما يغترف وبالفتح مصدر بمعنى التداول، والراغب وعيسى بن عمر وكثير أنهما بمعنى واحد، وجمهور القراء قرؤوا بضم الدال والنصب، وبالياء التحتية في يكون على أن اسم يَكُونَ الضمير، ودُولَةً الخبر أي كي لا يكون الفيء جدّا بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ أي بينهم خاصة يتكاثرون به، أو كي لا يَكُونَ دُولَةً وغلبة جاهلية بينكم فإن الرؤساء منهم كانوا يستأثرون بالغنيمة ويقولون من عزيز، وقيل: المعنى كي لا يكون شيئا يتداوله الأغنياء بينهم ويتعاورونه فلا يصيب أحدا من الفقراء. وقرأ عبد الله «تكون» بالتاء الفوقية على أن الضمير على ما باعتبار المعنى إذ المراد بها الأموال، وقرأ أبو جعفر وهشام كذلك ورفع «دولة» بضم الدال على أن كان تامة، و «دولة» فاعل أي كي لا يقع دولة، وقرأ علي والسلمي كذلك أيضا، ونصب «دولة» بفتح الدال على أن كان ناقصا اسمها ما سمعت، «دولة» خبرها، ويقدر مضاف على القول بأنها مصدر إن لم يتجوز فيه، ولم يقصد المبالغة أي كي لا تكون ذات تداول بين الأغنياء لا يخرجونها إلى الفقراء، وظاهر التعليل بما ذكر اعتبار الفقر فيمن ذكر وعدم اتصافه تعالى به ضروري مع أن ذكره سبحانه كان للتيمن عند الأكثرين لا لأن له عز وجل سهما، وكذا يجل رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم عن أن يسمى فقيرا، وما اشتهر من قوله عليه الصلاة والسلام: «الفقر فخري» لا أصل له، وكيف يتوهم مثله والدنيا كلها لا تساوي عند الله تعالى جناح بعوضة، وهو صلّى الله تعالى عليه وسلم أحب خلقه إليه سبحانه حتى قال بعض العارفين: لا يقال له صلى الله تعالى عليه وسلم زاهد لأنه التارك للدنيا وهو عليه الصلاة والسلام لا يتوجه إليها فضلا عن طلبها اللازم للترك، وقيل: إن الخبر لو صح يكون المراد بالفقر فيه الانقطاع عن السوي بالمرة إلى الله عز وجل وهو غير الفقر الذي الكلام فيه واعتباره فيمن بعد لا محذور فيه حتى أنه ربما يكون دليلا على القول بأنه لا يعطى أغنياء ذوي القربى، وإنما يعطى فقراؤهم، وإذا حمل الكلام على ما حملناه عليه كفى في التعليل أن يكون فيمن يدفع إليه شيء من الفيء فقر، ولا يلزم أن كل من يدفع إليه شيء منه فقيرا وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ أي ما أعطاكم من الفيء فَخُذُوهُ لأنه حقكم الذي أحله الله تعالى لكم وَما نَهاكُمْ عَنْهُ أي عن أخذه منه فَانْتَهُوا عنه وَاتَّقُوا اللَّهَ في مخالفته عليه الصلاة والسلام إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ فيعاقب من يخالفه صلّى الله تعالى عليه وسلم، وحمل الآية على خصوص الفيء مروي عن الحسن وكان لذلك لقرينة المقام، وفي الكشاف الأجود أن تكون عامة في كل ما أمر به صلى الله تعالى عليه وسلم ونهى عنه، وأمر الفيء داخل في العموم، وذلك لعموم لفظ ما على أن الواو لا تصح عاطفة فهي اعتراض على سبيل التذييل، ولذلك عقب بقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ تعميما على تعميم فيتناول كل ما الجزء: 14 ¦ الصفحة: 243 يجب أن يتقى ويدخل ما سبق له الكلام دخولا أوليا كدخوله في العموم الأول، وروي ذلك عن ابن جريج. وأخرج الشيخان وأبو داود والترمذي وغيرهم عن ابن مسعود أنه قال: «لعن الله تعالى الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله تعالى» فبلع ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب وكانت تقرأ القرآن: فأتته فقالت: بلغني أنك لعنت كيت وكيت، فقال: مالي لا ألعن من لعن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وهو في كتاب الله عز وجل، فقالت: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته، قال: إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه، أما قرأت قوله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا؟ قالت: بلى، قال: فإنه صلى الله تعالى عليه وسلم قد نهى عنه . وعن الشافعي أنه قال: سلوني عما شئتم أخبركم به من كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال عبد الله بن محمد بن هارون: ما تقول في المحرم يقتل الزنبور؟ فقال: قال الله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا. وحدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن خراش عنه حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» . وحدثنا سفيان بن عيينة عن مسعر بن كدام عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب أنه أمر بقتل الزنبور، وهذا من غريب الاستدلال، وفيه على علاته- ككلام ابن مسعود- حمل ما في الآية على العموم، وعن ابن عباس ما يدل على ذلك أيضا، قيل: والمعنى حينئذ ما آتاكم الرسول من الأمر فتمسكوا به وما نهاكم عن تعاطيه فانتهوا عنه، والأمر جوز أن يكون واحد الأمور وأن يكون واحد الأوامر لمقابلة نهاكم له، قيل: والأول أقرب لأنه لا يقال: أعطاه الأمر بمعنى أمره إلا بتكلف كما لا يخفى، واستنبط من الآية أن وجوب الترك يتوقف على تحقق النهي ولا يكفي فيه عدم الأمر فما لم يتعرض له أمرا ولا نهيا لا يجب تركه لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ قال الزمخشري: بدل من قوله تعالى: لِذِي الْقُرْبى والمعطوف عليه، والذي منع الإبدال من فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وما بعد وإن كان المعنى لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم أن الله عز وجل أخرج رسوله عليه الصلاة والسلام من الفقراء في قوله سبحانه: ويَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وأنه يترفع برسول الله عليه الصلاة والسلام عن التسمية بالفقير، وأن الإبدال على ظاهر اللفظ من خلاف الواجب في تعظيم الله عز وجل، وهذا كما لا يجوز أن يوصف سبحانه بعلامة لأجل التأنيث لفظا لأن فيه سوء أدب انتهى. وعنى أنه بدل كل من كل لاعتبار المبدل منه مجموع ما ذكر، قال الإمام: فكأنه قيل: أعني بأولئك الأربعة هؤلاء الفقراء والمهاجرين، وما ذكر من الإبدال من لِذِي الْقُرْبى وما بعده مبني على قوله الحنفية إنه لا يعطى الغني من ذوي القربى وإنما يعطى الفقير، ومن يرى كالشافعي أنه يعطى غنيهم كما يعطى فقيرهم خص الإبدال باليتامى وما بعده، وقيل: يجوز ذلك أيضا إلا أنه يقول بتخصيص اعتبار الفقر بفيء بني النضير فإنه عليه الصلاة والسلام لم يعط غنيا شيئا منه، والآية نازلة فيه وفيه تعسف ظاهر. وفي الكشف أن لِلْفُقَراءِ ليس للقيد بل بيانا للواقع من حال المهاجرين وإثباتا لمزيد اختصاصهم كأنه قيل: لله وللرسول وللمهاجرين، وقال ابن عطية: لِلْفُقَراءِ إلخ بيان لقوله تعالى: الْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وكررت لام الجر لما كان ما تقدم مجرورا بها لتبيين أن البدل هو منها، وقيل: اللام متعلقة بما دل عليه قوله تعالى: كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ كأنه قيل: ولكن يكون للفقراء المهاجرين. وسيأتي إن شاء الله تعالى ما خطر لنا في ذلك من الاحتمال بناء على ما يفهم من ظاهر كلام عمر بن الخطاب بمحضر جمع من الأصحاب الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ حيث اضطرهم كفار مكة وأحوجوهم إلى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 244 الخروج فخرجوا منها، وهذا وصف باعتبار الغالب، وقيل: كان هؤلاء مائة رجل يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً أي طالبين منه تعالى رزقا في الدنيا ومرضاة في الآخرة، وصفوا أولا بما يدل على استحقاقهم للفيء من الإخراج من الديار والأموال، وقيد ذلك ثانيا بما يوجب تفخيم شأنهم ويؤكده مما يدل على توكلهم التام ورضاهم بما قدره المليك العلّام وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ عطف على يَبْتَغُونَ فهي حال مقدرة أي ناوين لنصرة الله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وسلم أو مقارنة فإن خروجهم من بين الكفار مراغمين لهم مهاجرين إلى المدينة نصرة وأي نصرة أُولئِكَ الموصوفون بما ذكر من الصفات الجليلة هُمُ الصَّادِقُونَ أي الكاملون في الصدق في دعواهم الإيمان حيث فعلوا ما يدل أقوى دلالة عليه مع إخراجهم من أوطانهم وأموالهم لأجله لا غيرهم ممن آمن في مكة ولم يخرج من داره وماله، ولم يثبت منه نحو ما ثبت منهم لنحو لين منه مع المشركين فالحصر إضافي ووجه بغير ذلك. وحمل بعضهم الكلام على العموم لحذف متعلق الصدق وتمسك به لذلك في الاستدلال على صحة إمامة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه لأن هؤلاء المهاجرين كانوا يدعونه بخليفة رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم، والله تعالى قد شهد بصدقهم فلا بد أن تكون إمامته رضي الله تعالى عنه صحيحة ثابتة في نفس الأمر وهو تمسك ضعيف مستغنية عن مثله دعوى صحة خلافة الصديق رضي الله تعالى عنه بإجماع الصحابة، ومنهم علي كرم الله تعالى وجهه، ونسبة التقية إليه بالموافقة لا يوافق الشيعة عليها متق كدعوى الإكراه بل مستغنية بغير ذلك أيضا وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ الأكثرون على أنه معطوف على المهاجرين، والمراد بهم الأنصار، والتبوّؤ النزول في المكان، ومنه المباءة للمنزل، ونسبته إلى الدار والمراد بها المدينة ظاهر، وأما نسبته إلى الايمان فباعتبار جعله مستقرا ومتوطنا على سبيل الاستعارة المكنية التخييلية، والتعريف في الدار للتنويه كأنها الدار التي تستحق أن تسمى دارا وهي التي أعدها الله تعالى لهم ليكون تبوؤهم إياها مدحا لهم. وقال غير واحد: الكلام من باب: علفتها تبنا وماء باردا أي تبوؤوا الدار وأخلصوا الإيمان، وقيل: التبوؤ مجاز مرسل عن اللزوم وهو لازم معناه فكأنه قيل: لزموا الدار والإيمان وقيل: في توجيه ذلك أن أل في الدار للعهد، والمراد دار الهجرة وهي تغني غناء الإضافة. وفي وَالْإِيمانَ حذف مضاف أي ودار الإيمان فكأنه قيل: تبوؤوا دار الهجرة ودار الإيمان على أن المراد بالدارين المدينة، والعطف كما في قولك: رأيت الغيث والليث وأنت تريد زيدا، ولا يخفى ما فيه من التكلف والتعسف، وقيل: إن الإيمان مجاز عن المدينة سمي محل ظهور الشيء باسمه مبالغة وهو كما ترى، وقيل: الواو للمعية والمراد تبوؤوا الدار مع إيمانهم أي تبوؤوها مؤمنين، وهو أيضا ليس بشيء، وأحسن الأوجه ما ذكرناه أولا، وذكر بعضهم أن الدار علم بالغلبة على المدينة كالمدينة، وأنه أحد أسماء لها منها طيبة وطابة ويثرب وجابرة إلى غير ذلك. وأخرج الزبير بن بكار عن زيد بن أسلم حديثا مرفوعا يدل على ذلك مِنْ قَبْلِهِمْ أي من قبل المهاجرين، والجار متعلق بتبوءوا، والكلام بتقدير مضاف أي من قبل هجرتهم فنهاية ما يلزم سبق الإيمان الأنصار على هجرة المهاجرين، ولا يلزم منه سبق إيمانهم على إيمانهم ليقال: إن الأمر بالعكس، وجوز أن لا يقدر مضاف، ويقال: ليس المراد سبق الأنصار لهم في أصل الإيمان بل سبقهم إياهم في التمكن فيه لأنهم لم ينازعوا فيه لما أظهروه. وقيل: الكلام على التقديم والتأخير، والتقدير تبوؤوا الدار من قبلهم والإيمان فيفيد سبقهم إياهم في تبويء الدار فقط وهو خلاف الظاهر على أن مثله لا يقبل ما لم يتضمن نكتة سرية وهي غير ظاهرة هاهنا وقيل: لا حاجة إلى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 245 شيء مما ذكر، وقصارى ما تدل الآية عليه تقدم مجموع تبوؤىء الأنصار وإيمانهم على تبويء المهاجرين وإيمانهم، ويكفي في تقدم المجموع تقدم بعض أجزائه وهو هاهنا تبوؤ الدار، وتعقب بمنع الكفاية ولو سلمت لصلح أن يقال: بتقدم تبويء المهاجرين وإيمانهم على تبويء الأنصار وإيمانهم لتقدم إيمان المهاجرين يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ في موضع الحال من الموصول، وقيل: استئناف، والكلام قيل: كناية عن مواساتهم المهاجرين وعدم الاستثقال والتبرم منهم إذا احتاجوا إليهم، وقيل: على ظاهره أي يحبون المهاجر إليهم من حيث مهاجرته إليهم لحبهم الإيمان وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ أي ولا يعلمون في أنفسهم. حاجَةً أي طلب محتاج إليه مِمَّا أُوتُوا أي مما أعطي المهاجرون من الفيء وغيره، وحاصله أن نفوسهم لم تتبع ما أعطي المهاجرون ولم تطمح إلى شيء منه تحتاج إليه، فالوجدان إدراك علمي وكونه في الصدر من باب المجاز،- والحاجة- بمعنى المحتاج إليه، وهو استعمال شائع يقال: خذ منه حاجتك وأعطاه من ماله حاجته، ومِنْ تبعيضية، وجوز كونها بيانية والكلام على حذف مضاف وهو طلب، وفيه فائدة جليلة كأنهم لم يتصوروا ذلك ولا مرّ في خاطرهم أن ذلك محتاج إليه حتى تطمح إليه النفس. ويجوز أن يكون المعنى- لا يجدون في أنفسهم ما يحصل عليه الحاجة كالحزازة والغيظ والحسد والغبطة لأجل ما أعطي المهاجرون- على أن الحاجة مجاز عما يتسبب عنها، قيل: على أنه كناية عما ذكر لأنه لا ينفك عن الحاجة فأطلق اسم اللازم على الملزوم، وما تقدم أولى، وقول بعضهم: أي أثر حاجة تقدير معنى لا إعراب، ومِنْ في قوله تعالى: مِمَّا أُوتُوا تعليلية وَيُؤْثِرُونَ أي يقدمون المهاجرين عَلى أَنْفُسِهِمْ في كل شيء من الطيبات حتى أن من كان عنده امرأتان كان ينزل عن إحداهما ويزوجها واحدا منهم، ويجوز أن لا يعتبر مفعول- يؤثرون- خصوص المهاجرين، أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن أبي هريرة قال: أتى رجل رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أصابني الجهد فأرسل إليه نسائه فلم يجد عندهن شيئا فقال عليه الصلاة والسلام: «ألا رجل يضيف هذا الرجل الليلة رحمه الله؟ فقال رجل من الأنصار- وفي رواية- فقال أبو طلحة: أنا يا رسول الله فذهب به إلى أهله فقال لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية قال: إذا أراد الصبية العشاء فنوميهم وتعالي فأطفئي السراج ونطوي الليلة لضيف رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم ففعلت ثم غدا الضيف على رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فقال: لقد عجب الله الليلة من فلان وفلانة وأنزل الله تعالى فيهما وَيُؤْثِرُونَ» إلخ. وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم رأس شاة فقال: إن أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذا منا فبعث به إليه فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداوله أهل سبعة أبيات حتى رجع إلى الأول فنزلت وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ أي حاجة من خصاص البيت وهو ما يبقى بين عيدانه من الفرج والفتوح، والجملة في موضع الحال، وقد تقدم وجه ذلك مرارا وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ الشح اللؤم وهو أن تكون النفس كزة حريصة على المنع كما قال: يمارس نفسا بين جنبيه كزة ... إذا همّ بالمعروف قالت له مهلا وأضيف إلى النفس لأنه غريزة فيها، وأما البخل فهو المنع نفسه، وقال الراغب: الشح بخل مع حرص وذلك فيما كان عادة، وأخرج ابن المنذر عن الحسن أنه قال: البخل أن يبخل الإنسان بما في يده، والشح أن يشح على ما في أيدي الناس، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب والحاكم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 246 وصححه وجماعة عن ابن مسعود أن رجلا قال له: إني أخاف أن أكون قد هلكت قال: وما ذاك؟ قال: إني سمعت الله تعالى يقول: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ الآية وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج مني شيء فقال له ابن مسعود: ليس ذاك بالشح ولكنه البخل ولا خير في البخل، وإن الشح الذي ذكره الله تعالى أن تأكل مال أخيك ظلما، وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ليس الشح أن يمنع الرجل ماله ولكنه البخل إنما الشح أن تطمح عين الرجل إلى ما ليس له، ولم أر لأحد من اللغويين شيئا من هذه التفاسير للشح، ولعل المراد أنه البخل المتناهي بحيث يبخل المتصف به بمال غيره أي لا يودّ جود الغير به وتنقبض نفسه منه ويسعى في أن لا يكون، أو بحيث يبلغ به الحرص إلى أن يأكل مال أخيه ظلما أن تطمح عينه إلى ما ليس له ولا تسمح نفسه بأن يكون لغيره فتأمل. وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة «ومن يوقّ» بشدّ القاف، وقرأ ابن عمر وابن عمر وابن أبي عبلة «شحّ» بكسر الشين، وجاء فيه لغة الفتح أيضا، ومعنى الكل واحد، ومعنى الآية ومن يوق بتوفيق الله تعالى ومعونته شح نفسه حتى يخالفها فيما يغلب عليها من حب المال وبغض الإنفاق فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بكل مطلوب الناجون من كل مكروه، والجملة الشرطية تذييل حسن ومدح للأنصار بما هو غاية لتناوله إياهم تناولا أوليا، وفي الإفراد أولا والجمع ثانيا رعاية للفظ من ومعناها وإيماء إلى قلة المتصفين بذلك في الواقع عددا وكثرتهم معنى: والناس ألف منهم كواحد ... وواحد كالألف إن أمر عنا ويفهم من الآية ذم الشح جدا، وقد وردت أخبار كثيرة بذمه، أخرج الحكيم الترمذي وأبو يعلى وابن مردويه عن أنس مرفوعا «ما محق الإسلام محق الشح شيء قط» ، وأخرج ابن أبي شيبة والنسائي والبيهقي في الشعب والحاكم وصححه عن أبي هريرة مرفوعا «لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان نار جهنم في جوف عبد أبدا ولا يجتمع الإيمان والشح في قلب عبد أبدا» . وأخرج أبو داود والترمذي- وقال غريب- والبخاري في الأدب وغيرهم عن أبي سعيد الخدري مرفوعا «خصلتان لا يجتمعان في جوف مسلم البخل وسوء الخلق» وأخرج ابن أبي الدنيا وابن عدي والحاكم والخطيب عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «خلق الله تعالى جنة عدن وغرس أشجارها بيده ثم قال لها: انطقي فقالت: قد أفلح المؤمنون فقال الله عز وجل: وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل ثم تلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وأخرج أحمد والبخاري في الأدب ومسلم والبيهقي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح قد أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم» إلى غير ذلك من الأخبار، لكن ينبغي أن يعلم أن تقوى الشح لا تتوقف على أن يكون الرجل جوادا بكل شيء، فقد أخرج عبد بن حميد وأبو يعلى والطبراني والضياء عن مجمع بن يحيى مرفوعا «بريء من الشح من أدى الزكاة وقرى الضيف وأدى في النائبة» . وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله ما يقرب منه، وكذا ابن جرير والبيهقي عن أنس، وأخرج ابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: من أدى زكاة ماله فقد وقى شح نفسه ، وقوله تعالى: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ عطف عند الأكثرين أيضا على المهاجرين، والمراد بهؤلاء قيل: الذين هاجروا حين قوي الإسلام، فالمجيء حسي وهو مجيئهم إلى المدينة، وضمير مِنْ بَعْدِهِمْ للمهاجرين الأولين، وقيل: هم المؤمنون بعد الفريقين إلى يوم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 247 القيامة، فالمجيء إما إلى الوجود أو إلى الإيمان، وضمير مِنْ بَعْدِهِمْ للفريقين المهاجرين والأنصار، وهذا هو الذي يدل عليه كلام عمر رضي الله تعالى عنه وكلام كثير من السلف كالصريح فيه، فالآية قد استوعبت جميع المؤمنين، وجملة قوله تعالى: يَقُولُونَ إلخ حالية، وقيل: استئناف رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا أي في الدين الذي هو أعز وأشرف عندهم من النسب الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وصفوهم بذلك اعترافا بفضلهم وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا أي حقدا، وقرىء غمرا لِلَّذِينَ آمَنُوا على الإطلاق رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ أي مبالغ في الرأفة والرحمة. فحقيق بأن تجيب دعاءنا، وفي الآية حث على الدعاء للصحابة وتصفية القلوب من بغض أحد منهم، وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وجماعة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم فسبوهم ثم قرأت هذه الآية وَالَّذِينَ جاؤُ إلخ. وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه سمع رجلا وهو يتناول بعض المهاجرين فدعاه فقرأ عليه لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الآية، ثم قال: هؤلاء المهاجرون أفمنهم أنت؟ قال: لا، ثم قرأ عليه وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ الآية، ثم قال: هؤلاء الأنصار أفمنهم أنت؟ قال: لا، ثم قرأ عليه وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ الآية، ثم قال: أفمن هؤلاء أنت؟ قال: أرجو قال: لا والله ليس من هؤلاء من سب هؤلاء. وفي رواية أن ابن عمر رضي الله تعالى عنه بلغه أن رجلا نال من عثمان رضي الله تعالى عنه فدعاه فقرأ عليه الآيات وقال له ما قال، وقال الإمام مالك: من كان له في أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم قول سيء أو بغض فلا حظّ له في الفيء أخذا من هذه الآية، وفيها ما يدل على ذم الغل لأحد من المؤمنين، وفي حديث أخرجه الحكيم الترمذي والنسائي عن أنس رضي الله تعالى عنه «أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: في أيام ثلاثة يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة فطلع فيها رجل من الأنصار فبات معه عبد الله بن عمرو بن العاص ثلاث ليال مستكشفا حاله فلم ير له كثير عمل فأخبره الخبر فقال له: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي غلا لأحد من المسلمين ولا أحسده على خير أعطاه الله تعالى إياه فقال له عبد الله: هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق- وفي رواية- أنه قال: لو كانت الدنيا لي فأخذت مني لم أحزن عليها ولو أعطيتها لم أفرح بها وأبيت وليس في قلبي غل على أحد فقال عبد الله: لكني أقوم الليل وأصوم النهار ولو وهبت لي شاة لفرحت بها ولو ذهبت لحزنت عليها والله لقد فضلك الله تعالى علينا فضلا بيّنا» هذا وذهب بعضهم إلى أن قوله تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا إلخ مبتدأ، وجملة يُحِبُّونَ إلخ خبره، والكلام استئناف مسوق لمدح الأنصار، وجوز كون ذلك معطوفا على أُولئِكَ فيفيد شركة الأنصار للمهاجرين في الصدق، وجملة يُحِبُّونَ إلخ إما استئناف مقرر لصدقهم أو حال من ضمير تَبَوَّؤُا وإلى أن قوله تعالى: وَالَّذِينَ جاؤُ إلخ مبتدأ، وجملة يَقُولُونَ إلخ خبره، والجملة معطوفة على الجملة السابقة مسوقة لمدح هؤلاء بمحبتهم من تقدمهم من المؤمنين ومراعاتهم لحقوق الأخوة في الدين والسبق بالإيمان كما أن ما عطفت عليه من الجملة السابقة لمدح الأنصار. واستدل لعدم عطف الَّذِينَ تَبَوَّؤُا على الْمُهاجِرِينَ بما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام قسم أموال بني النضير على المهاجرين ولم يعط الأنصار إلا ثلاثة كما تقدم، وقال عليه الصلاة والسلام لهم: إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم من هذه الغنيمة وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة فقالوا: بل نقسم لهم- أي للمهاجرين- من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها» فنزلت الآية وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ إلى آخره ، وبعض القائلين بالعطف يقولون: إن قوله تعالى: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 248 وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا إلخ بيان لحكم الأخماس الأربعة على معنى أن له عليه الصلاة والسلام أن يعم الناس بها حسب اختياره وأن الأنصار مصرف من المصارف، ولكن قد اختار صلّى الله تعالى عليه وسلم أن يكون إعطاؤهم بالشرط الذي ذكره عليه الصلاة والسلام لهم، وهم اختاروا ما اختاروا إيثارا منهم، وذلك لا يخرجهم عن كونهم مصرفا بل في قوله تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ رمز إليه على أن في الأخبار ما هو أصح وأصرح في الدلالة على عطفهم على ما تقدم، وأنهم يعطون من الفيء، وكذا عطف- الذين جاؤوا من بعدهم- فقد اخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حيان وغيرهم عن مالك بن أوس بن الحدثان في حديث طويل أن عمر رضي الله تعالى عنه قال- أي في قضاء بين علي كرم الله تعالى وجهه وعمه العباس رضي الله تعالى عنه في فدك، وقد كان عمر دفعها إليهما وأخذ عليهما عهد الله تعالى على أن يعملا فيها بما كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يعمل به فيها فتنازعا- إن الله تعالى قال: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فكانت لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم خاصة، ثم قال سبحانه: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى إلى آخر الآية، ثم والله ما أعطاها هؤلاء وحدهم حتى قال تعالى: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ، ثم والله ما جعلها لهؤلاء وحدهم حتى قال سبحانه: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا إلى قوله تعالى: رَحِيمٌ فقسمها هذا القسم على هؤلاء الذين ذكر، ولئن بقيت ليأتين الرويعي بصنعاء حقه ودمه في وجهه، وظاهر هذا الخبر يقتضي أن للمهاجرين سهما غير السهام السابقة فلا يكون لِلْفُقَراءِ بدل من- لذي القربى- وما بعده ولا مما بعده دونه، وكذا ظاهر ما في مصحف عبد الله وزيد بن ثابت كما أخرجه ابن الأنباري في المصاحف عن الأعمش- ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والمهاجرين في سبيل الله- على أن الإبدال يقتضي ظاهرا كون اليتامى مهاجرين أخرجوا من ديارهم وأموالهم إلى آخر الصفات، وفي صدق ذلك عليهم بعد، وكذا يقتضي كون ابن السبيل كذلك، وفيه نوع بعد أيضا كما لا يخفى فلعله اعتبر تعلقه بفعل محذوف والجملة استئناف بياني، وذلك أنهم كانوا يعلمون أن الخمس يصرف لمن تضمنه قوله تعالى: فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ فلما ذكر ذلك انقدح في أذهانهم أن المذكورين مصرف الخمس ولم يعلموا مصرف الأخماس الأربعة الباقية فكأنهم قالوا: فلمن تكون الأخماس الأربعة الباقية أو فلمن يكون الباقي؟ فقيل: تكون الأخماس الاربعة الباقية أو يكون الباقي لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ إلى آخره ولم أر من تعرض لذلك فتأمل، والله تعالى الهادي إلى أحسن المسالك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 249 أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا حكاية لما جرى بين الكفرة والمنافقين من الأقوال الكاذبة والأحوال الفاسدة وتعجيب منها بعد حكاية محاسن أحوال المؤمنين على اختلاف طبقاتهم. والخطاب لرسول الله عليه الصلاة والسلام أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب والآية كما أخرج ابن إسحاق وابن المنذر وأبو نعيم عن ابن عباس في رهط من بني عوف منهم عبد الله بن أبيّ بن سلول ووديعة بن مالك وسويد وداعس بعثوا إلى بني النضير بما تضمنته الجمل المحكية بقوله تعالى: يَقُولُونَ إلخ. وقال السدي: أسلم ناس من بني قريظة والنضير وكان فيهم منافقون فبعثوا إلى بني النضير ما قص الله تعالى، والمعول عليه الأول، وقوله سبحانه: يَقُولُونَ استئناف لبيان المتعجب منه، وصيغة المضارع للدلالة على استمرار قولهم، أو لاستحضار صورته، واللام في قوله عز وجل: لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ للتبليغ والمراد بإخوتهم الإخوة في الدين واعتقاد الفكرة أو الصداقة، وكثر جمع الأخ مرادا به ما ذكر على إخوان، ومرادا به الأخوة في النسب على إخوة، وقل خلاف ذلك، واللام في قوله تعالى: لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ موطئة للقسم وقوله سبحانه لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ جواب القسم أي والله لئن أخرجتم من دياركم قسرا لنخرجن من ديارنا معكم البتة ونذهبن في صحبتكم أينما ذهبتم وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ في شأنكم أَحَداً يمنعنا من الخروج معكم وهو لدفع أن يكونوا وعدوهم الخروج بشرط أن يمنعوا منه أَبَداً وإن طال الزمان، وقيل: لا نطيع في قتالكم أو خذلانكم، قال في الإرشاد: وليس بذاك لأن تقدير القتال مترقب بعد، ولأن وعدهم لهم على ذلك التقدير ليس مجرد عدم طاعتهم لمن يدعوهم إلى قتالهم بل نصرتهم عليه كما ينطق به قوله تعالى: وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ أي لنعاوننكم على عدوكم على أن دعوتهم إلى خذلان اليهود مما لا يمكن صدوره عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين حتى يدعوا عدم طاعتهم فيها ضرورة أنها لو كانت لكانت عند استعدادهم لنصرتهم وإظهار كفرهم، ولا ريب في أن ما يفعله عليه الصلاة والسلام عند ذلك قتلهم لا دعوتهم إلى ترك نصرتهم، وأما الخروج معهم فليس بهذه المرتبة من إظهار الكفر لجواز أن يدّعوا أن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 250 خروجهم معهم لما بينهم من الصداقة الدنيوية لا للموافقة في الدين، ونوقش في ذلك، وجواب إِنْ محذوف، ولَنَنْصُرَنَّكُمْ جواب قسم محذوف قبل إِنْ الشرطية، وكذا يقال فيما بعد على ما هو القاعدة المشهورة فيما إذا تقدم القسم على الشرط وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في مواعيدهم المؤكدة بالأيمان، وقوله تعالى: لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ إلى آخره تكذيب لهم في كل واحد من أقوالهم على التفصيل بعد تكذيبهم في الكل على الإجمال وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وكان الأمر كذلك، والإخبار عن خلفهم في الميعاد قيل: من الإخبار بالغيب وهو من أدلة النبوة وأحد وجوه الإعجاز، وهذا مبني على أن السورة نزلت قبل وقعة بني النضير، وكلام أهل الحديث والسير على ما قيل: يدل على خلافه. وقال بعض الأجلة: إن قوله تعالى: يَقُولُونَ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ إلخ من باب الإخبار بالغيب بناء على ما روي أن عبد الله بن أبيّ دس إليهم لا يخرجوا فأطلع الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام على ما دسه وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ على سبيل الفرض والتقدير لَيُوَلُّنَّ أي المنافقون الْأَدْبارَ فرارا ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ بعد ذلك أي يهلكهم الله تعالى ولا ينفعهم نفاقهم لظهور كفرهم، أو لَيُوَلُّنَّ أي اليهود المفروضة نصرة المنافقين إياهم ولينهزمن، ثم لا ينفعهم نصرة المنافقين، وقيل: الضمير المرفوع في نَصَرُوهُمْ لليهود، والمنصوب للمنافقين أي ولئن نصر اليهود المنافقين ليولي اليهود الأدبار وليس بشيء، وكأنه دعا قائله إليه دفع ما يتوهم من المنافاة بين لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ على الوجه السابق، وقد أشرنا إلى دفع ذلك من غير حاجة إلى هذا التوجيه الذي لا يخفى حاله لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً أي أشد مرهوبية على أن رَهْبَةً مصدر من المبني للمفعول لأن المخاطبين وهم المؤمنين مرهوب منهم لا راهبون فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ أي رهبتهم منكم في السر أشد مما يظهرونه لكم من رهبة الله عز وجل وكانوا يظهرون لهم رهبة شديدة من الله عز وجل، ويجوز أن يراد أنهم يخافونكم في صدورهم أشد من خوفهم من الله تعالى ولشدة البأس والتشجع ما كانوا يظهرون ذلك، قيل: إن فِي صُدُورِهِمْ على الوجه الأول مبالغة وتصوير على نحو رأيته بعيني ذلِكَ أي ما ذكر من كونكم أشد رهبة في صدورهم من الله تعالى بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ شيئا حتى يعلموا عظمة الله عز وجل فيخشوه حق خشيته سبحانه وتعالى، والمراد بهؤلاء اليهود، وقيل: المنافقون وقيل: الفريقان لا يُقاتِلُونَكُمْ أي اليهود والمنافقون، وقيل: اليهود يعني لا يقتدرون على قتالكم جَمِيعاً أي مجتمعين متفقين في موطن من المواطن إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ بالدروب والخنادق ونحوها أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ يتسترون بها دون أن يصحروا لكم ويبارزوكم لقذف الله تعالى الرعب في قلوبهم ومزيد رهبتهم منكم. وقرأ أبو رجاء والحسن وابن وثاب «جدر» بإسكان الدال تخفيفا، ورويت عن ابن كثير وعاصم والأعمش، وقرأ أبو عمرو وابن كثير في الرواية المشهورة وكثير من المكيين جدار بكسر الجيم وألف بعد الدال وهي مفرد الجدر، والقصد فيه إلى الجنس، أو المراد به السور الجامع للجدر والحيطان. وقرأ جمع من المكيين وهارون عن ابن كثير «جدر» بفتح الجيم وسكون الدال، قال صاحب اللوامح: وهو الجدار بلغة اليمن، وقال ابن عطية: معناه أصل بنيان كسور وغيره، ثم قال: ويحتمل أن يكون من جدر النخل أي من وراء نخلهم إذ هي مما يتقى به عند المصافة بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ استئناف سيق لبيان أن ما ذكر من رهبتهم ليس لضعفهم وجبنهم في أنفسهم فإن بأسهم إذا اقتتلوا شديد وإنما ضعفهم وجبنهم بالنسبة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 251 إليكم بما قذف الله تعالى في قلوبهم من الرعب تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً أي مجتمعين ذوي إلفة واتحاد وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى جمع شتيت أي متفرقة لا إلفة بينها يعني أن بينهم إحنا وعدوات فلا يتعاضدون حق التعاضد ولا يرمون عن قوس واحدة، وهذا تجسير للمؤمنين وتشجيع لقلوبهم على قتالهم. وقرأ مبشر بن عبيد «شتى» بالتنوين جعل الألف ألف الإلحاق، وعبد الله- وقلوبهم أشت- أي أكثر أو أشد تفرقا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ أي ما ذكر من تشتت قلوبهم بسبب أنهم قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ شيئا حتى يعلموا طرق الألفة وأسباب الاتفاق، وقيل: لا يَعْقِلُونَ أن تشتت القلوب مما يوهن قواهم المركوزة فيهم بحسب الخلقة ويعين على تدميرهم واضمحلالهم وليس بذاك، وقوله تعالى: كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ خبر مبتدأ محذوف تقديره مثلهم أي مثل المذكورين من اليهود بني النضير، أو منهم ومن المنافقين كمثل أهل بدر- كما قال مجاهد- أو كبني قينقاع- كما قال ابن عباس- وهم شعب من اليهود الذين كانوا حوالى المدينة غزاهم النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم يوم السبت على رأس عشرين شهرا من الهجرة في شوال قبل غزوة بني النضير حيث كانت في ربيع سنة أربع وأجلاهم عليه الصلاة والسلام إلى أذرعات على ما فصل في كتب السير. وقيل: أي مثل هؤلاء المنافقين كمثل منافقي الأمم الماضية قَرِيباً ظرف لقوله تعالى: ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ أي ذاقوا سوء عاقبة كفرهم في زمن قريب من عصيانهم أي لم تتأخر عقوبتهم وعوقبوا في الدنيا إثر عصيانهم. وقيل: انتصاب قَرِيباً- بمثل- إذ التقدير كوقوع مثل الذين، وتعقب بأن الظاهر أنه أريد أن في الكلام مضافا هو العامل حقيقة في الظرف إلا أنه لما حذف عمل المضاف إليه فيه لقيامه مقامه، ولا يخفى أن المعنى ليس عليه لأن المراد تشبيه المثل بالمثل أي الصفة الغريبة لهؤلاء بالصفة الغريبة للذين من قبلهم دون تشبيه المثل بوقوع المثل، وأجيب بأن الإضافة من إضافة الصفة إلى موصوفها فيرجع التشبيه إلى تشبيه المثل بالمثل فكأنه قيل: مثلهم كمثل الذين من قبلهم الواقع قريبا، وفيه أن ذلك التقدير ركيك وما ذكر لا يدفع الركاكة، والقول بتقدير مضاف في جانب المبتدأ أيضا أي وقوع مثلهم كوقوع مثل الذين من قبلهم قريبا فيكون قد شبه وقوع المثل بوقوع المثل تعسف لا ينبغي أن يرتكب في الفصيح. وقيل: إن العامل فيه التشبيه أي يشبهونهم في زمن قريب، وقيل: متعلق الكاف لأنه يدل على الوقوع، وكلا القولين كما ترى، ولا يبعد تعلقه بما تعلقت به الصلة أعني من قبلهم أي الذين كانوا من قبلهم في زمن قريب فيفيد أن قبليتهم قبلية قريبة، ويلزم من ذلك قرب ما فعل بهم وهو المثل، ويكون هذا مطمح النظر في الإفادة ويتضمن تعييرهم بأنهم كانت لهم في أهل بدر أو بني قينقاع أسوة فبعد لم ينطمس آثار ما وقع بهم وهو كذلك على تقدير الوقوع ونحوه، وجملة ذاقُوا مفسرة للمثل لا محل لها من الإعراب، ويتعين تعلق قَرِيباً بما بعد على تقدير أن يراد بمن قبل منافقو الأمم الماضية فتدبر وَلَهُمْ في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ لا يقادر قدره، والجملة قيل: عطف على الجملة السابقة وإن اختلفا فعلية واسمية، وقيل: حال مقدرة من ضمير ذاقُوا وأيا ما كان فهو داخل في حيز المثل، وقيل: عطف على جملة- مثلهم كمثل الذين من قبلهم- ولا يخفى بعده، وقوله تعالى: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ جعله غير واحد خبر مبتدأ محذوف أيضا أي مثلهم كمثل الشيطان على أن ضمير- مثلهم- هاهنا للمنافقين وفيما تقدم لبني النضير، وقال بعضهم: ضمير- مثلهم- المقدر في الموضعين للفريقين، وجعله بعض المحققين خبرا ثانيا للمبتدأ المحذوف في قوله تعالى: كَمَثَلِ الَّذِينَ على أن الضمير هناك للفريقين إلا أن المثل الأول يخص بني الجزء: 14 ¦ الصفحة: 252 النضير، والثاني يخص المنافقين، وأسند كل من الخبرين إلى ذلك المقدر المضاف إلى ضميرهما من غير تعيين ما أسند إليه بخصوص ثقة بأن السامع يرد كلا إلى ما يليق به ويماثله كأنه قيل: مثل أولئك الذين كفروا من أهل الكتاب في حلول العذاب بهم كمثل الذين من قبلهم ومثل المنافقين في إغرائهم إياهم على القتال حسبما نقل عنهم كمثل الشيطان إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ أي أغراه على الكفر إغراء الآمر للمأمور به فهو تمثيل واستعارة فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ تبرأ منه مخافة أن يشاركه في العذاب ولم ينفعه ذلك كما قال سبحانه: فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها أبد الآبدين وَذلِكَ أي الخلود في النار جَزاءُ الظَّالِمِينَ على الإطلاق دون المذكورين خاصة، والجمهور على أن المراد بالشيطان والإنسان الجنس فيكون التبري يوم القيامة وهو الأوفق بظاهر قوله: إِنِّي أَخافُ إلخ. وذهب بعضهم إلى أن المراد بالشيطان إبليس، وبالإنسان أبو جهل عليهما اللعنة قال له يوم بدر: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم حتى وقعوا فيما وقعوا قال: إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله الآية، وفي الآية عليه مع ما تقدم عن مجاهد لطيفة، وذلك أنه لما شبه أولا حال إخوان المنافقين من أهل الكتاب بحال أهل بدر شبه هنا حال المنافقين بحال الشيطان في قصة أهل بدر، ومعنى اكْفُرْ على تخصيص الإنسان بأبي جهل دم على الكفر عند بعض، وقال الخفاجي: لا حاجة لتأويله بذلك لأنه تمثيل. وأخرج أحمد في الزهد والبخاري في تاريخه والبيهقي في الشعب والحاكم وصححه وغيرهم عن علي كرم الله تعالى وجهه أن رجلا كان يتعبد في صومعته وأن امرأة كانت لها إخوة فعرض لها شيء فأتوه بها فزينت له نفسه فوقع عليها فحملت فجاءه الشيطان فقال: اقتلها فإنهم إن ظهروا عليك افتضحت فقتلها ودفنها فجاؤوه فأخذوه فذهبوا به فبينما هم يمشون إذ جاءه الشيطان فقال: أنا الذي زينت لك فاسجد لي سجدة أنجيك فسجد له أي ثم تبرأ منه وقال له ما قال، فذلك قوله تعالى: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ الآية ، وهذا الرجل هو برصيصا الراهب، وقد رويت قصته على وجه أكثر تفصيلا مما ذكر وهي مشهورة في القصص، وفي البحر إن قول الشيطان: «إني أخاف الله» كان رياء وهو لا يمنعه الخوف عن سوء يوقع فيه ابن آدم وقرىء أنا بريء، وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وسليم ابن أرقم- فكان عاقبتهما- بالرفع على أنه اسم كان، وأنهما إلخ في تأويل مصدر خبرها على عكس قراءة الجمهور. وقرأ عبد الله وزيد بن علي والأعمش وابن أبي عبلة- خالدان- بالألف على أنه خبر إن، وَفِي النَّارِ متعلق به، وقدم للاختصاص، وفيها تأكيد له وإعادة تضميره، وجوز أن يكون «في النار» خبر إن، وخالدان- خبر ثانيا وهو في قراءة الجمهور حال من الضمير في الجار والمجرور يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ في كل ما تأتون وتذرون وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ أي أي شيء قدمت من الأعمال ليوم القيامة عبر عنه بذلك لدنوه دنو الغد من أمسه، أو لأن الدنيا كيوم والآخرة غده يكون فيها أحوال غير الأحوال السابقة، وتنكيره لتفخيمه وتهويله كأنه قيل: «لغد» لا يعرف كنهه لغاية عظمه، وأما تنكير نَفْسٌ فلاستقلال الأنفس النواظر كأنه قيل: ولتنظر نفس واحدة في ذلك، وفيه حث عظيم على النظر وتعيير بالترك وبأن الغفلة قد عمت الكل فلا أحد خلص منها، ومنه ظهر- كما في الكشف- أن جعله من قبيل قوله تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ [التكوير: 14] غير مطابق للمقام أي فهو كما في الحديث «الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة» لأن الأمر بالنظر وإن عم لكن المؤتمر الناظر أقل من القليل، والمقصود بالتقليل هو هذا لأن المأمور لا ينظر إليه ما لم يأتمر، وجوز ابن عطية أن يراد بغد يوم الموت، وليس بذاك، وقرأ أبو حيوة ويحيى بن الحارث- ولتنظر- بكسر اللام، وروي ذلك عن حفص عن عاصم، وقرأ الحسن بكسرها وفتح الراء الجزء: 14 ¦ الصفحة: 253 جعلها لام كي، وكان المعنى ولكي تنظر نفس ما قدمت لغد أمرنا بالتقوى وَاتَّقُوا اللَّهَ تكرير للتأكيد، أو الأول في أداء الواجبات كما يشعر به ما بعده من الأمر بالعمل وهذا في ترك المحارم كما يؤذن به الوعيد بقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي من المعاصي، وهذا الوجه الثاني أرجح لفضل التأسيس على التأكيد، وفي ورود الأمرين مطلقين من الفخامة ما لا يخفى، وقيل: إن التقوى شاملة لترك ما يؤثم ولا وجه وجيه للتوزيع والمقام مقام الاهتمام بأمرها، فالتأكيد أولى وأقوى، وفيه منع ظاهر، وكيف لا والمتبادر مما قدمت أعمال الخير كذا قيل، ولعل من يقول بالتأكيد يقول: إن قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ إلخ يتضمن الوعد والوعيد ويعمم ما قدمت أيضا، ولعلك مع هذا تميل للتأسيس. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ أي نسوا حقوقه تعالى شأنه: وما قدروا الله حق قدره ولم يراعوا مواجب أمره سبحانه ونواهيه عز وجل حق رعايتها فَأَنْساهُمْ الله تعالى بسبب ذلك أَنْفُسَهُمْ أي جعلهم سبحانه ناسين لها حتى لم يسعوا بما ينفعها ولم يفعلوا ما يخلّصها، أو أراهم جل جلاله يوم القيامة من أهوال ما أنساهم أنفسهم أي أراهم أمرا هائلا وعذابا أليما، ونسيان النفس حقيقة قيل: مما لا يكون لأن العلم بها حضوري، وفيه نظر وإن نص عليه ابن سينا وأشياعه أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ الكاملون في الفسوق. وقرأ أبو حيوة- ولا يكونوا- بياء الغيبة على سبيل الالتفات، وقال ابن عطية: كناية عن نفس المراد بها الجنس لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ الذين نسوا لله تعالى فاستحقوا الخلود في النار وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ الذين اتقوا الله فاستحقوا الخلود في الجنة، ولعل تقديم أصحاب النار في الذكر للإيذان من أول الأمر بأن القصور الذي ينبىء عنه عدم الاستواء من جهتهم لا من جهة مقابليهم فإن مفهوم عدم الاستواء بين الشيئين المتفاوتين زيادة ونقصانا وإن جاز اعتباره بحسب زيادة الزائد لكن المتبادر اعتباره بحسب نقصان الناقص، وعليه قوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ [الرعد: 16] إلى غير ذلك. ولعل تقديم الفاضل في قوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9] لأن صفته ملكة لصفة المفضول الإعدام مسبوقة بملكاتها، والمراد بعدم الاستواء عدم الاستواء في الأحوال الأخروية كما ينبىء عنه التعبير عن الفريقين بصاحبية النار وصاحبية الجنة، وكذا قوله تعالى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ فإنه استئناف مبين لكيفية عدم الاستواء بينهما أي هم الفائزون في الآخرة بكل مطلوب الناجون عن كل مكروه، والآية تنبيه للناس وإيذان بأنهم لفرط غفلتهم وقلة فكرتهم في العاقبة وتهالكهم على إيثار العاجلة واتباع الشهوات الزائلة كأنهم لا يعرفون الفرق بين الجنة والنار والبون العظيم بين أصحابهما وأن الفوز مع أصحاب الجنة فمن حقهم أن يعلموا ذلك وينبهوا عليه، وهذا كما تقول لمن عق أباه: هو أبوك تجعله بمنزلة من لا يعرفه فتنبهه على حق الأبوة الذي يقتضي البر والتعطف، ومما ذكر يعلم ضعف استدلال أصحاب الشافعي رضي الله تعالى عنه بالآية على أن المسلم لا يقتل بالكافر، وأن الكفار لا يملكون أموال المسلمين بالقهر، وانتصر لهم بأن لهم أن يقولوا: لما حث سبحانه على التقوى فعلا وتركا وزجر عز وجل عن الغفلة التي تضادها غاية المضادة بذكر غايتها أعني نسيان الله تعالى ترشيحا للتقريع أردفه سبحانه بأن أصحاب التقوى وأصحاب هذه الغفلة لا يستوون في شيء ما، وعبر عنهم بأصحاب الجنة وأصحاب النار زيادة تصوير وتبيين، فالمقام يقتضي التباين في حكمي الدارين وإن كان المقصود بالقصد الأول تباينهم في الدار التي هي المدار، وأنت تعلم أن بيان اقتضاء المقام ذلك في مقابلة قول أصحاب أبي حنيفة. إن المقام يقتضي التخصيص وإلا فالشافعية يقولون: إن العموم مدلول نفي المساواة لغة لأن النفي داخل على مسمى المساواة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 254 فلا بد من انتفائها من جميع الوجوه إذ لو وجدت من وجه لما كان مسماها منتفيا وهو خلاف مقتضى اللفظ، وقول الحنفية: إن الاستواء مطلقا أعم من الاستواء من كل وجه ومن وجه دون وجه، والنفي إنما دخل على الاستواء الأعم فلا يكون مشعرا بأحد القسمين الخاصين. وحاصله أن الأعم لا يشعر بالأخص فيه إن ذلك في الإثبات مسلم وفي النفي ممنوع، ألا ترى أن من قال: ما رأيت حيوانا وكان قد رأى إنسانا مثلا عد كاذبا؟ وتمام ذلك في كتب الأصول، والإنصاف أن كون المراد هنا نفي الاستواء في الأمور الأخروية ظاهر جدا فلا ينبغي الاستدلال بها على ما ذكر. لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ العظيم الشأن المنطوي على فنون القوارع عَلى جَبَلٍ من الجبال أو جبل عظيم لَرَأَيْتَهُ مع كونه علما في القسوة وعدم التأثر مما يصادمه خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أي متشققا منها. وقرأ أبو طلحة مصدعا بإدغام التاء في الصاد، وهذا تمثيل وتخييل لعلو شأن القرآن وقوة تأثير ما فيه من المواعظ والزواجر، والغرض توبيخ الإنسان على قسوة قلبه وقلة تخشعه عند تلاوة القرآن وتدبر ما فيه من القوارع وهو الذي لو أنزل على جبل وقد ركب فيه العقل لخشع وتصدع، ويشير إلى كونه تمثيلا قوله تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فإن الإشارة فيه إلى قوله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا إلخ وإلى أمثاله، فالكلام بتقدير وقوع تلك، أو المراد تلك وأشباهها والأمثال في الأغلب تمثيلات متخيلة هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وحده سبحانه عالِمُ الْغَيْبِ وهو ما لم يتعلق به علم مخلوق وإحساسه أصلا وهو الغيب المطلق وَالشَّهادَةِ وهو ما يشاهده مخلوق. قال الراغب: الشهود والشهادة الحضور مع المشاهدة إما بالبصر أو بالبصيرة، وقد يعتبر الحضور مفردا لكن الشهود بالحضور المجرد أولى والشهادة مع المشاهدة أولى، وحمل الغيب على المطلق هو المتبادر، وأل فيه للاستغراق إذ لا قرينة للعهد، ومقام المدح يقتضيه مع قوله تعالى: عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة: 109، 116، التوبة: 78، سبأ: 48] فيشمل كل غيب واجبا كان أو ممكنا موجودا أو معدوما أو ممتنعا لم يتعلق به علم مخلوق، ويطلق الغيب على ما لم يتعلق به علم مخلوق معين وهو الغيب المضاف أي الغيب بالنسبة إلى ذلك المخلوق وهو على ما قيل: مراد الفقهاء في قولهم: مدعي علم الغيب كافر، وهذا قد يكون من عالم الشهادة كما لا يخفى، وذكر الشهادة مع أنه إذا كان كل غيب معلوما له تعالى كان كل شهادة معلوما له سبحانه بالطريق الأولى من باب قوله عز وجل: لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الكهف: 49] ، وقيل: الغيب ما لا يقع عليه الحس من المعدوم أو الموجود الذي لا يدرك، والشهادة ما يقع عليه الإدراك بالحس. وقال الإمام أبو جعفر رضي الله تعالى عنه: الغيب ما لم يكن والشهادة ما كان ، وقال الحسن: الغيب السر والشهادة العلانية، وقيل: الأول الدنيا بما فيها والثاني الآخرة بما فيها، وقيل: الأول الجواهر المجردة وأحوالها والثاني الأجرام والأجسام وأعراضها، وفيه أن في ثبوت المجردات خلافا قويا، وأكثر السلف على نفيها، وتقديم الغيب لأن العلم به كالدليل على العلم بالشهادة، وقيل: لتقدمه على الشهادة فإن كل شهادة فإن كل شهادة كان غيبا وما برز ما برز إلا من خزائن الغيب، وصاحب القيل الأخير يقول: إن تقديم الغيب لتقدمه في الوجود وتعلق العلم القديم به، واستدل بالآية على أنه تعالى عالم بجميع المعلومات، ووجهه ما أشرنا إليه، وتتضمن على ما قيل: دليلا آخر عليه لأنها تدل على أنه لا معبود إلا هو ويلزمه أن يكون سبحانه خالقا لكل شيء بالاختيار كما هو الواقع في نفس الأمر، والخلق بالاختيار يستحيل بدون العلم، ومن هنا قيل: الاستدلال بها على هذا المطلب أولى من الاستدلال بقوله تعالى: وَاللَّهُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 255 بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة: 282، النساء: 176، النور: 35، 64، الحجرات: 16، التغابن: 11] هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ برحمة تليق بذاته سبحانه، والتأويل وإن ذكره علماء أجلاء من الماتريدية والأشاعرة لا يحتاج إليه سلفي كما حقق في التمييز وغيره. هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كرر لإبراز كمال الاعتناء بأمر التوحيد الْمَلِكُ المتصرف بالأمر والنهي، أو المالك لجميع الأشياء الذي له التصرف فيها، أو الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء ويستحيل عليه الاذلال، أو الذي يولي ويعزل ولا يتصور عليه تولية ولا عزل، أو المنفرد بالعز والسلطان، أو ذو الملك والملك خلقه، أو القادر أقوال حكاها الآمدي، وحكي الأخير عن القاضي أبي بكر الْقُدُّوسُ البليغ في النزاهة عما يوجب نقصانا، أو الذي له الكمال في كل وصف اختص به، أو الذي لا يحدّ ولا يتصور، وقرأ أبو السمال وأبو دينار الأعرابي «القدّوس» بفتح القاف وهو لغة فيه لكنها نادرة، فقد قالوا: فعول بالضم كثير، وأما بالفتح فيأتي في الأسماء- كسمور وتنور وهبود- اسم جبل باليمامة، وأما في الصفات فنادر جدا، ومنه سبوح بفتح السين السَّلامُ ذو السلامة من كل نقص وآفة مصدر وصف به للمبالغة، وعن الجبائي هو الذي ترجى منه السلامة، وقيل: أي الذي يسلم على أوليائه فيسلمون من كل مخوف الْمُؤْمِنُ قيل: المصدق لنفسه ولرسله عليهم السلام فيما بلغوه عنه سبحانه إما بالقول أو بخلق المعجزة، أو واهب عبادة الأمن من الفزع الأكبر أو مؤمنهم منه إما بخلق الطمأنينة في قلوبهم أو بإخبارهم أن لا خوف عليهم، وقيل: مؤمن الخلق من ظلمه، وقال ثعلب: المصدق المؤمنين في أنهم آمنوا، وقال النحاس: في شهادتهم على الناس يوم القيامة وقيل: ذو الأمن من الزوال لاستحالته عليه سبحانه، وقيل: غير ذلك، وقرأ الإمام أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم- وقيل- أبو جعفر المدني «المؤمن» بفتح الميم على الحذف والإيصال كما في قوله تعالى: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الأعراف: 155] أي المؤمن به. وقال أبو حاتم: لا يجوز إطلاق ذلك عليه تعالى لإيهامه ما لا يليق به سبحانه إذ المؤمن المطلق من كان خائفا وآمنه غيره، وفيه أنه متى كان ذلك قراءة ولو شاذة لا يصح هذا لأن القراءة ليست بالرأي الْمُهَيْمِنُ الرقيب الحافظ لكل شيء مفيعل من الأمن بقلب همزته هاء، وإليه ذهب غير واحد، وتحقيقه كما في الكشف أن أيمن على فيعل مبالغة أمن العدو للزيادة في البناء، وإذا قلت: أمن الراعي الذئب على الغنم مثلا دل على كمال حفظه ورقبته، فالله تعالى أمن كل شيء سواه سبحانه على خلقه وملكه لإحاطة علمه وكمال قدرته عز وجل ثم استعمل مجرد الدلالة بمعنى الرقيب والحفيظ على الشيء من ذكر المفعول بلا واسطة للمبالغة في كمال الحفظ كما قال تعالى: وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [المائدة: 48] وجعله من ذاك أولى من جعله من الأمانة نظرا إلى أن الأمين على الشيء حافظ له إذ لا ينبىء عن المبالغة ولا عن شمول العلم والقدرة، وجعله في الصحاح اسم فاعل من آمنه الخوف على الأصل فأبدلت الهمزة الأصلية ياء كراهة اجتماع الهمزتين وقلبت الأولى هاء كما في هراق الماء، وقولهم في إياك: هياك كأنه تعالى بحفظه المخلوقين صيرهم آمنين، وحرف الاستعلاء- كمهيمنا عليه- لتضمين معنى الاطلاع ونحوه، وأنت تعلم أن الاشتقاق على ما سمعت أولا أدل والخروج عن القياس فيه أقل، وظاهر كلام الكشف أنه ليس من التصغير في شيء. وقال المبرد: إنه مصغر، وخطىء في ذلك فإنه لا يجوز تصغير أسمائه عز وجل الْعَزِيزُ الغالب. وقيل: الذي لا مثل له، وقيل: الذي يعذب من أراد، وقيل: الذي عليه ثواب العاملين، وقيل: الذي لا يحط عن منزلته، وقيل: غير ذلك الْجَبَّارُ الذي جبر خلقه على ما أراد وقسرهم عليه: ويقال في فعله: أجبر، وأمثلة المبالغة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 256 تصاغ من غير الثلاثي لكن بقلة، وقيل: إنه من جبره بمعنى أصلحه، ومنه جبرت العظم فانجبر فهو الذي جبر أحوال خلقه أي أصلحها، وقيل: هو المنيع الذي لا ينال يقال للنخلة إذا طالت وقصرت عنها الأيدي: جبارة، وقيل: هو الذي لا ينافس في فعله ولا يطالب بعلة ولا يحجر عليه في مقدوره. وقال ابن عباس: هو العظيم، وقيل: غير ذلك الْمُتَكَبِّرُ البليغ الكبرياء والعظمة لأنه سبحانه بريء من التكليف الذي تؤذن به الصيغة فيرجع إلى لازمه من أن الفعل الصادر عن تأنق أقوى وأبلغ، أو الذي تكبر عن كل ما يوجب حاجة أو نقصانا سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ تنزيه الله تعالى عما يشركون به سبحانه، أو عن إشراكهم به عز وجل إثر تعداد صفاته تعالى التي لا يمكن أن يشارك سبحانه في شيء منها أصلا هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ المقدر للأشياء على مقتضى الحكمة، أو مبدع الأشياء من غير أصل ولا احتذاء، ويفسر الخلق بإيجاد الشيء الْبارِئُ الموجد لها بريئة من تفاوت ما تقتضيه بحسب الحكمة والجبلة، وقيل: المميز بعضها عن بعض بالاشكال المختلفة الْمُصَوِّرُ الموجد لصورها وكيفياتها كما أراد. وقال الراغب: الصورة ما تنتقش بها الأعيان وتتميز بها عن غيرها، وهي ضربان: محسوسة تدركها العامة والخاصة بل الإنسان وكثير من الحيوانات كصورة الفرس المشاهدة. ومعقولة تدركها الخاصة دون العامة كالصورة التي اختص الإنسان بها من العقل والروية والمعاني التي خص بها شيء بشيء، وإلى الصورتين أشار بقوله سبحانه: خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ [الأعراف: 11] إلى آيات أخر انتهى فلا تغفل. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وحاطب بن أبي بلتعة والحسن وابن السميفع «المصور» بفتح الواو والنصب على أنه مفعول للبارىء، وأريد به جنس المصور، وعن علي كرم الله تعالى وجهه فتح الواو وكسر الراء على إضافة اسم الفاعل إلى المفعول نحو الضارب الغلام، وفي الخانية إن قراءة «المصور» بفتح الواو هنا تفسد الصلاة ولعله أراد إذا أجراه حينئذ على الله سبحانه، وإلا ففي دعوى الفساد بعد ما سمعت نظر. لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى الدالة على محاسن المعاني يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الموجودات بلسان الحال لما تضمنته من الحكم والمصالح التي يضيق عن حصرها نطاق البيان، أو بلسان المقال الذي أوتيه كل منها حسبما يليق به على ما قاله كثير من العارفين، وقد تقدم الكلام فيه وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الجامع للكمالات كافة فإنها مع تكثرها وتشعبها راجعة إلى كمال القدرة المؤذن به الْعَزِيزُ بناء على تفسيره بالغالب وإلى كمال العلم المؤذن به الْحَكِيمُ بناء على تفسيره بالفاعل بمقتضى الحكمة، وفي ذلك إشارة إلى التحلية بعد التخلية كما في قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] فتأمل ولا تغفل. ولهذه الآيات فضل عظيم كما دلت عليه عدة روايات، وأخرج الإمام أحمد والدارمي والترمذي وحسنه والطبراني وابن الضريس والبيهقي في الشعب عن معقل بن يسار عن النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم قال: «من قال: حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ثم قرأ الثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي وإن مات ذلك اليوم مات شهيدا ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة» . وأخرج الديلمي عن ابن عباس مرفوعا «اسم الله الأعظم في ست آيات من آخر سورة الحشر» . وأخرج أبو علي عبد الرحمن بن محمد النيسابوري في فوائده عن محمد بن الحنفية أن البراء بن عازب قال لعلي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه: أسألك بالله إلا ما خصصتني بأفضل ما خصك به رسول الله عليه الصلاة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 257 والسلام مما خصه به جبريل مما بعث به الرحمن عز وجل، قال: يا براء إذا أردت أن تدعو الله باسمه الأعظم فاقرأ من أول الحديد عشر آيات وآخر الحشر، ثم قل: يا من هو هكذا وليس شيء هكذا غيره أسألك أن تفعل لي كذا وكذا فو الله يا براء لو دعوت عليّ لخسف بي. وأخرج الديلمي عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن مسعود رضي الله تعالى عنه مرفوعا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال في قوله تعالى: لَوْ أَنْزَلْنا إلى آخر السورة هي رقية الصداع ، وأخرج الخطيب البغدادي في تاريخه قال: أنبأنا أبو عبيد الحافظ أنبأ أبو الطيب محمد بن أحمد بن يوسف بن جعفر المقرئ البغدادي- يعرف بغلام ابن شنبوذ- أنبأ إدريس بن عبد الكريم الحداد قال: قرأت على خلف فلما بلغت هذه الآية لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ قال: ضع يدك على رأسك فإني قرأت على حمزة فلما بلغت هذه الآية قال: ضع يدك على رأسك فإني قرأت على الأعمش فلما بلغت هذه الآية قال: ضع يدك على رأسك فإني قرأت على يحيى بن وثاب فلما بلغت هذه الآية قال: ضع يدك على رأسك فإني قرأت على علقمة والأسود فلما بلغت هذه الآية قالا ضع يدك على رأسك فإنا قرأنا على عبد الله رضي الله تعالى عنه فلما بلغنا هذه الآية قال ضعا أيديكما على رؤوسكما فإني قرأت على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فلما بلغت هذه الآية قال لي: «ضع يدك على رأسك فإن جبريل عليه السلام لما نزل بها إلي قال: ضع يدك على رأسك فإنها شفاء من كل داء إلا السام والسام الموت» إلى غير ذلك من الآثار، والله تعالى أعلم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 258 سورة الممتحنة قال ابن حجر: المشهور في هذه التسمية أنها بفتح الحاء وقد تكسر فعلى الأول هي صفة المرأة التي أنزلت بسببها، وعلى الثاني صفة السورة كما قيل لبراءة: الفاضحة، وفي جمال القراء تسمى أيضا سورة الامتحان وسورة المودة، وأطلق ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم القول بمدنيتها، وذكر بعضهم أن أولها نزل يوم فتح مكة فكونها مدنية إما من باب التغليب أو مبني على أن المدني ما نزل بعد الهجرة، وهي ثلاث عشرة آية بالاتفاق. ومناسبتها لما قبلها أنه ذكر فيما قبل موالاة الذين نافقوا للذين كفروا من أهل الكتاب، وذكر في هذه نهي المؤمنين عن اتخاذ الكفار أولياء لئلا يشابهوا المنافقين، وبسط الكلام فيه أتم بسط وقيل في ذلك أيضا: إن فيما قبل ذكر المعاهدين من أهل الكتاب وفي هذه ذكر المعاهدين من المشركين لأن فيها ما نزل في صلح الحديبية، ولشدة اتصالها بالسورة قبلها فصل بها بينها وبين الصف مع تواخيهما في الافتتاح- بسبح-. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 259 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ نزلت في حاطب بن عمرو أبي بلتعة- وهو مولى عبد الله بن حميد بن زهير بن أسد بن عبد العزى- أخرج الإمام أحمد والبخاري مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها فأتوني به فخرجنا حتى أتينا الروضة فإذا نحن بالظعينة فقلنا: أخرجي الكتاب قالت: ما معي من كتاب قلنا: لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب فأخرجته من عقاصها فأتينا به النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فإذا فيه: من خاطب ابن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فقال النبي عليه الصلاة والسلام ما هذا يا حاطب؟! قال: لا تعجل عليّ يا رسول الله إني كنت امرأ ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسها وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهلهم وأموالهم بمكة فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أصطنع إليهم يدا يحمون بها قرابتي وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني فقال عمر رضي الله تعالى عنه: دعني يا رسول الله أضرب عنقه فقال عليه الصلاة والسلام: إنه شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ» إلخ. وفي رواية ابن مردويه عن أنس أنه عليه الصلاة والسلام بعث عمر وعليا رضي الله تعالى عنهما في أثر تلك المرأة فلحقاها في الطريق فلم يقدرا على شيء معها فأقبلا راجعين ثم قال أحدهما لصاحبه: والله ما كذبنا ولا كذبنا ارجع بنا إليها فرجعا فسلا سيفيهما وقالا: والله لنذيقنك الموت أو لتدفعن الكتاب فأنكرت ثم قالت: أدفعه إليكما على أن لا ترداني إلى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فقبلا ذلك فأخرجته لهما من قرون رأسها ، وفيه- على ما في الدر المنثور- أن المرأة تدعى أم سارة كانت مولاة لقريش، وفي الكشاف يقال لها: سارة مولاة لأبي عمرو بن صيفي ابن هاشم، وفي صحة خبر أنس تردد، وما تضمنه من رجوع الإمامين رضي الله تعالى عنهما بعيد، وقيل: إن المبعوثين في أثرها عمر وعلي وطلحة والزبير وعمار والمقداد وأبو مرثد وكانوا فرسانا، والمعول عليه ما قدمنا، والذين كانوا له في مكة بنوه وإخوته على ما روي عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن حاطب المذكور، وفي رواية لأحمد عن جابر أن حاطبا قال: كانت والدتي معهم فيحتمل أنها مع بنيه وإخوته. وصورة الكتاب- على ما في بعض الروايات- أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل، وأقسم بالله لو سار إليكم وحده لنصره الله عليكم فإنه منجز له ما وعده، وفي الخبر السابق على ما قيل: دليل على جواز قتل الجاسوس لتعليله صلّى الله تعالى عليه وسلم المنع عن قتله بشهوده بدرا- وفيه بحث- وفي التعبير عن المشركين بالعدو مع الإضافة إلى ضميره عز وجل تغليظ لأمر اتخاذهم أولياء وإشارة إلى حلول عقاب الله تعالى بهم، وفيه رمز إلى معنى قوله: إذا صافى صديقك من تعادي ... فقد عاداك وانقطع الكلام والعدو فعول من عدا كعفو من عفا، ولكونه على زنة المصدر أوقع على الجمع إيقاعه على الواحد، ونصب أَوْلِياءَ على أنه مفعول ثان- لتتخذوا- وقوله تعالى: تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ تفسير للموالاة أو لاتخاذها أو استئناف فلا محل لها من الاعراب، والباء زائدة في المفعول كما في قوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195] وإلقاء المودة مجاز عن إظهارها، وتفسيره بالإيصال أي توصلون إليهم المودة لا يقطع التجوز. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 260 وقيل: الباء للتعدية لكون المعنى تفضون إليهم بالمودة، وأفضى يتعدى بالباء كما في الأساس، وقيل: هي للسببية والإلقاء مجاز عن الإرسال أي ترسلون إليهم أخبار النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم بسبب المودة التي بينكم، وعن البصريين أن الجار متعلق بالمصدر الدال عليه الفعل، وفيه حذف المصدر مع بقاء معموله، وجوز كون الجملة حالا من فاعل لا تَتَّخِذُوا أو صفة- لأولياء- ولم يقل- تلقون إليهم أنتم- بناء على أنه لا يجب مثل هذا الضمير مع الصفة الجارية على غير من هي له أو الحال أو الخبر أو الصلة سواء في ذلك الاسم والفعل كما في شرح التسهيل لابن مالك إذا لم يحصل إلباس نحو زيد هند ضاربها أو يضربها بخلاف زيد عمرو ضاربه أو يضربه فإنه يجب معه هو لمكان الإلباس. وزعم بعضهم أن الإبراز في الصفات الجارية على غير من هي له إنما يشترط في الاسم دون الفعل كما هنا ومنع ذلك، وتعقب الوجهان بأنهما يوهمان أنه تجوز الموالاة عند عدم الإلقاء فيحتاج إلى القول بأنه لا اعتبار للمفهوم للنهي عن الموالاة مطلقا في غير هذه الآية، أو يقال: إن الحال والصفة لازمة ولذا كانت الجملة مفسرة وقوله تعالى: وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ حال من فاعل لا تَتَّخِذُوا وهي حال مترادفة إن كانت جملة تُلْقُونَ حالية أيضا أو من فاعل تُلْقُونَ وهي متداخلة على تقدير حاليتها، وجوز كونه حالا من المفعول وكونه مستأنفا. وقرأ الجحدري والمعلى عن عاصم- لما- باللام أي لأجل ما جاءكم بمعنى جعل ما هو سبب للإيمان سبب الكفر يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أي من مكة أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ أي لإيمانكم أو كراهة إيمانكم بالله عز وجل، والجار متعلق- بيخرجون- والجملة قيل: حال من فاعل كَفَرُوا أو استئناف كالتفسير لكفرهم كأنه قيل: كيف كفروا؟ وأجيب بأنهم كفروا أشد الكفر بإخراج الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين لإيمانهم خاصة لا لغرض آخر، وهذا أرجح من الوجه الاول لطباقه للمقام وكثرة فوائده، والمضارع لاستحضار الحال الماضية لما فيها من مزيد الشناعة، والاستمرار غير مناسب للمعنى، وفي تُؤْمِنُوا قيل: تغليب للمؤمنين، والالتفات عن ضمير المتكلم بأن يقال: بي إلى ما في النظم الجليل للإشعار بما يوجب الايمان من الألوهية والربوبية إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي متعلق بقوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا إلخ كأنه قيل: لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي فجواب الشرط محذوف دل عليه ما تقدم، وجعله الزمخشري حالا من فاعل لا تَتَّخِذُوا ولم يقدر له جوابا أي لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء والحال أنكم خرجتم لأجل الجهاد وطلب مرضاتي، واعترض بأن الشرط لا يقع حالا بدون جواب في غير إن الوصلية، ولا بد فيها من الواو وأن ترد حيث يكون ضد المذكور أولى- كأحسن إلى زيد وإن أساء إليك- وما هنا ليس كذلك. وأجيب بأن ابن جني جوزه، وارتضاه جار الله هنا لأن البلاغة وسوق الكلام يقتضيانه فيقال لمن تحققت صداقته من غير قصد للتعليق والشك: لا تخذلني إن كنت صديقي تهييجا للحمية، وفيه من الحسن ما فيه فلا يضر إذا خالف المشهور، ونصب المصدرين على ما أشرنا إليه على التعليل، وجوز كونهما حالين أي مجاهدين ومبتغين، والمراد بالخروج إما الخروج للغزو وإما الهجرة، فالخطاب للمهاجرين خاصة لأن القصة صدرت منهم كما سمعت في سبب النزول، وقوله تعالى: تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ استئناف بياني كأنهم لما استشعروا العتاب مما تقدم سألوا ما صدر عنا حتى عوتبنا؟ فقيل: تُسِرُّونَ إلخ، وجوز أن يكون بدلا من تُلْقُونَ بدل كل من كل إن أريد بالإلقاء الإلقاء خفية، أو بدل بعض إن أريد الأعم لأن منه السر والجهر. وقال أبو حيان: هو شبيه ببدل الاشتمال، وجوز ابن عطية كونه خبر مبتدأ محذوف أي أنتم تُسِرُّونَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 261 والكلام استئناف للإنكار عليهم، وأنت تعلم أن الاستئناف لذلك حسن لكنه لا يحتاج إلى حذف والكلام في الباء هنا على ما يقتضيه ظاهر كلامهم كالباء فيما تقدم، وقوله تعالى: وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ في موضوع الحال، وأَعْلَمُ أفعل تفضيل، والمفضل عليه محذوف أي منكم، وأجاز ابن عطية كونه مضارعا، والعلم قد يتعدى بالباء أو هي زائدة، وما موصولة أو مصدرية، وذكر ما أَعْلَنْتُمْ مع الاستغناء عنه للإشارة إلى تساوي العلمين في علمه عز وجل، ولذا قدم بِما أَخْفَيْتُمْ وفي هذه الحال إشارة إلى أنه لا طائل لهم في إسرار المودة إليهم كأنه قيل: تسرون إليهم بالمودة والحال أني أعلم ما أخفيتم وما أعلنتم ومطلع رسولي على ما تسرون فأي فائدة وجدوى لكم في الإسرار؟ وَمَنْ يَفْعَلْهُ أي الإسرار. وقال ابن عطية وجمع: أي الاتخاذ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي الطريق المستوي والصراط الحق فإضافة سَواءَ من إضافة الصفة إلى الموصوف، ونصبه على المفعول به- لضل- وهو يتعدى كأضل، وقيل: لا يتعدى وسَواءَ ظرف كقوله: كما عسل الطريق الثعلب إِنْ يَثْقَفُوكُمْ أي إن يظفروا بكم، وأصل الثقف الحذق في إدراك الشيء وفعله، ومنه رجل ثقف لقف، وتجوز به عن الظفر والإدراك مطلقا يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً أي عداوة يترتب عليها ضرر بالفعل بدليل قوله تعالى: وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ أي بما يسوءكم من القتل والأسر والشتم فكأنه عطف تفسيري، فوقوع يَكُونُوا إلخ جواب الشرط بالاعتبار الذي أشرنا إليه وإلا فكونهم أعداء للمخاطبين أمر متحقق قبل الشرط بدليل ما في صدر السورة، ومثله قول بعضهم: أي يظهروا ما في قلوبهم من العداوة ويرتبوا عليها أحكامها، وقيل: المراد بذلك لازم العداوة وثمرتها وهو ظهور عدم نفع التودد فكأنه قيل: إن يثقفوكم يظهر لكم عدم نفع إلقاء المودة إليهم والتودد لهم، وقوله تعالى: وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ عطف على الجواب وهو مستقبل معنى كما هو شأن الجواب، ويؤول كما أول سابقه بأن يقال- على ما في الكشف- المراد ودادة يترتب عليها القدرة على الرد إلى الكفر، أو يقال- على ما قال البعض- المراد إظهار الودادة وإجراء ما تقتضيه، والتعبير بالماضي وإن كان المعنى على الاستقبال للإشعار بأن ودادتهم كفرهم قبل كل شيء وأنها حاصلة وإن لم يثقفوهم. وتحقيق ذلك أن الودادة سابقة بالنوع متأخرة باعتبار بعض الأفراد، فعبر بالماضي نظرا للأول وجعلت جوابا متأخرا نظرا للثاني، وآثر الخطيب الدمشقي العطف على مجموع الجملة الشرطية كقوله تعالى: ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ [الحشر: 12] في السورة قبل فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف: 34] عند جمع قال: لأن ودادتهم أن يرتدوا كفارا حاصلة وإن لم يظفروا بهم فلا يكون في التقييد بالشرط فائدة، وإلى ذلك ذهب أبو حيان، وجوابه يعلم مما ذكرنا، وقريب منه ما قيل: إن ودادة كفرهم بعد الظفر لما كانت غير ظاهرة لأنهم حينئذ سبي وخدم لا يعتدّ بهم فيجوز أن لا يتمنى كفرهم فيحتاج إلى الإخبار عنه بخلاف الودادة قبل الظفر فيكون للتقييد فائدة لأنها ودادة أخرى متأخرة. وقال بعض الأفاضل: إن المعطوف على الجزاء في كلام العرب على أنحاء: الأول أن يكون كل منهما جزاء وعلة نحو إن تأتني آتك وأعطك. الثاني أن يكون الجزاء أحدهما وإنما ذكر الآخر لشدة ارتباطه به لكونه مسببا له مثلا نحو إذا جاء الأمير استأذنت وخرجت لاستقباله ونحو حبست غريمي لأستوفي حقي وأخليه. الثالث أن يكون المقصود جمع أمرين وحينئذ لا ينافي تقدم أحدهما نحو كخرجت مع الحجاج لأرافقهم في الذهاب ولا أرافقهم في الإياب. ومنه قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 262 [الفتح: 1، 2] الآية، وما في النظم الجليل هنا قيل: محتمل للأول لاستقبال الودادة من بعض الاعتبارات كما تقدم، وعبر بالماضي اعتبارا للتقدم الرتبي من حيث إن الرد عند الكفرة أشق المضار لعلمهم أن الدين أعز على المؤمنين من أرواحهم لأنهم باذلون لها دونه، وأهم شيء عند العدو أن يقصد أهم شيء عند صاحبه ومحتمل للثالث بأن يكون المراد المجموع بتأويل يريدون لكم مضار الدنيا والآخرة، قيل: وللثاني أيضا بأن يكون الجزاء هو- يبسطوا- وذكرت عداوتهم وودادتهم الرد لشدة الارتباط لما هناك من السببية والمسببية وهو كما ترى وجعل الطيبي المجموع مجازا من إطلاق السبب وإرادة المسبب وهو مضار الدارين، وذكر أن الجواب في الحقيقة مقدر أي يريدوا لكم مضار الدنيا والدين، وما ذكر دليله أقيم مقامه، وقيل: عبر في الودادة بالماضي لتحققها عند المؤمنين أتم من تحقق ما قبلها، وحمل عليه كلام لصاحب المفتاح. وعن بعضهم أن الواو واو الحال لا واو العطف، والجملة في موضع الحال بتقدير قد أو بدونه، ولا يخفى أن العطف هو المتبادر، وكونه على الجزاء أبعد مغزى، وإخراج الشرط والجزاء على نحو ذلك أكثر من أن يحصى. لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ دفع لما عسى أن يتخيلوا كونه عذرا نافعا من أن الداعي للاتخاذ وإلقاء المودّة صيانة الأرحام والأولاد من أذى أولئك. والرحم في الأصل رحم المرأة، واشتهر في القرابة حتى صار كالحقيقة فيها، فإما أن يراد به ذلك أو يجعل مجازا عن القريب، أو يعتبر معه مضاف أي ذوو أرحامكم، ويؤيد التأويل عطف قوله تعالى: وَلا أَوْلادُكُمْ أي لن ينفعكم قراباتكم أو أقاربكم ولا أولادكم الذين توالون المشركين لأجلهم وتتقربون إليهم محاماة عليهم يَوْمَ الْقِيامَةِ بدفع ضر أو جلب نفع يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ استئناف لبيان عدم نفع الأرحام والأولاد يومئذ أي يفرق الله تعالى بينكم بما يكون من الهول الموجب لفرار كل منكم من الآخر حسبما نطق به قوله تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ [عبس: 34] الآية فلا ينبغي أن يرفض حق الله تعالى وتوالي أعداؤه سبحانه لمن هذا شأنه، وما أشرنا إليه من تعلق يوم القيامة بالفعل قبله هو الظاهر، وجوز تعلقه- بيفصل- بعده. وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب- يفصل- بضم الياء وتشديد الصاد مبنيا للفاعل، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة كذلك إلا أنهما خففا، وطلحة والنخعي- نفصل النون مضمومة والتشديد والبناء للفاعل، وهما أيضا وزيد بن علي بالنون مفتوحة مخففا مبنيا للفاعل، وأبو حيوة أيضا بالنون مضمومة. وقرأ الأعرج وعيسى وابن عامر «يفصّل» بالياء والتشديد والبناء للمفعول، وجمهور القراء كذلك إلا أنهم خففوا، ونائب الفعل إما بَيْنَكُمْ وهو مبني على الفتح لإضافته إلى متوغل في البناء كما قيل، وإما ضمير المصدر المفهوم من الفاعل أي يفصل هو أي الفصل وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيكم به. قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ تأكيد لأمر الإنكار عليهم والتخطئة في موالاة الكفار بقصة إبراهيم عليه السلام ومن معه ليعلم أن الحب في الله تعالى والبغض فيه سبحانه من أوثق عرا الإيمان فلا ينبغي أن يغفل عنهما، والأسوة بضم الهمزة وكسرها وهما لغتان، وبالكسر قرأ جميع القراء إلا عاصما وهي بمعنى الائتساء والاقتداء، وتطلق على الخصلة التي من حقها أن يؤتسى ويقتدى بها. وعلى نفس الشخص المؤتسى به، ففي زيد أسوة من باب التجريد نحو: وللضعفاء في الرحمن كاف وفي البيضة عشرون منا حديد وكل من ذلك قيل: محتمل في الآية، ورجح إرادة الخصلة لان الاستثناء الآتي عليها أظهر، ولَكُمْ للبيان متعلق بمحذوف كما في سقيا لك، أو هو متعلق بكان على رأى من الجزء: 14 ¦ الصفحة: 263 يجوز تعلق الظرف بها، وأُسْوَةٌ اسمها وحَسَنَةٌ صفته، وفِي إِبْراهِيمَ خبرها، أو لَكُمْ هو الخبر، وفِي إِبْراهِيمَ صفة بعد صفة- لأسوة- أو خبر بعد خبر- لكان- أو حال من المستكن في لَكُمْ على ما قيل، أو في حَسَنَةٌ ولم يجوز كونه صلة أُسْوَةٌ بناء على أنها مصدر، أو اسمه وهو إذا وصف لا يعمل مطلقا لضعف شبهه بالفعل، قيل: وإذا قلنا: إنها ليست مصدرا ولا اسمه، أو قلنا: إنه يغتفر عمله وإن وصف قبل العمل في الظرف للاتساع فيه جاز ذلك. والظاهر أن المراد- بالذين معه- عليه السلام أتباعه المؤمنون لكن قال الطبري وجماعة: المراد بهم الأنبياء الذين كانوا قريبا من عصره عليه وعليهم الصلاة والسلام لأنه عليه السلام لم يكن معه وقت مكافحته قومه وبراءته منهم أتباع مؤمنون كافحوهم معه وتبرؤوا منهم، فقد روي أنه قال لسارة حين رحل إلى الشام مهاجرا من بلد نمروذ: ما على الأرض من يعبد الله تعالى غيري وغيرك، وأنت تعلم أنه لا يلزم وجود الاتباع المؤمنين في أول وقت المكافحة بل اللازم وجودهم ولو بعد، ولا شك في أنهم وجدوا بعد فليحمل من معه عليهم، ويكون التبري المحكي في قوله تعالى: إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ إلخ وقت وجودهم، وإِذْ قيل: ظرف لخبر كانَتْ والعامل الجار والمجرور أو المتعلق، أو- لكان- نفسها على ما مر، أو بدل من أُسْوَةٌ وبُرَآؤُا جمع بريء كظريف وظرفاء. وقرأ الجحدري «براء» كظراف جمع ظريف أيضا، وقرأ أبو جعفر «برّاء» بضم الباء كتؤام وظؤار، وهو اسم جمع الواحد بريء وتوام وظئر، وقال الزمخشري: إن ذلك على إبدال الضم من الكسر كرخال بضم الراء جمع رخل، وتعقب بأنه ضم أصلي، والصيغة من أوزان أسماء الجموع، وليس ذلك جمع تكسير فتكون الضمة بدلا من الكسرة ورويت هذه القراءة عن عيسى، قال أبو حاتم: زعموا أنه عيسى الهمداني وعنه «براء» على فعال كالذي في قوله تعالى: إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ في [الزخرف: 26] ، وهو مصدر على فعال يوصف به المفرد وغيره، وتأكيد الجملة لمزيد الاعتناء بشأنها، أو لأن قومهم المشركون مستبعدون ذلك شاكون فيه حيث يحسبون أنفسهم على شيء وكأنهم استشعروا ذلك منهم فقالوا لهم: إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ. وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام والكواكب وغيرها كَفَرْنا بِكُمْ بيان لقوله سبحانه: إِنَّا بُرَآؤُا إلى آخره فهو على معنى كفرنا بكم وبما تعبدون من دون الله، ويكون المراد بِكُمْ القوم ومعبوديهم بتغليب المخاطبين، والكفر بذلك مجاز أو كناية عن عدم الاعتداد فكأنه قيل: إنا لا نعتد بشأنكم ولا بشأن آلهتكم وما أنتم عندنا على شيء. وفي الكشف أن الأصل كفرنا بما تعبدون ثم كفرنا بكم وبما تعبدون لأن من كفر بما أتى به الشخص فقد كفر به، ثم اكتفى- بكفرنا بكم- لتضمنه الكفر بجميع ما أتوا به وما تلبسوا به لا سيما وقد تقدمه إِنَّا بُرَآؤُا فسر بأنا لا نعتد إلخ تنبيها على أنه تهكم بهم فإن ذلك لا يسمى كفرا لغة وعرفا وإنما هو اسم يقع على أدخل الأشياء في الاستهجان والذم، وما ذكرناه أقرب، وهو معنى ما في الكشاف دونه، وأما ما قيل: إن في الكلام معطوفا على الجار والمجرور محذوفا أي بكم وبما تعبدون، وحذف اكتفاء بدلالة السياق فليس بشيء. وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً أي هذا دأبنا معكم لا نتركه حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وتتركوا ما أنتم عليه من الشرك فتنقلب العداوة ولاية والبغضاء محبة، وفسر الفيروزآبادي الْبَغْضاءُ بشدة البغض ضد الحب، وأفاد أن العداوة ضد الصداقة، وفسر الصداقة بالمحبة، فالعداوة والبغضاء على هذا متقاربان، وأفاد الراغب أن العداوة منافاة الالتئام قلبا، وقال: البغض نفار النفس عن الشيء الذي ترغب عنه وهو ضد الحب، ثم قال: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 264 يقال: بغض الشيء بغضا وبغضة وبغضاء، وهو نحو كلام الفيروزابادي، والذي يفهم من كلام غير واحد أنه كثيرا ما يعتبر في العداوة التخاذل دون البغضاء فليراجع هذا المطلب. إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ استثناء من قوله تعالى: أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ كما قاله قتادة. وجماعة وهو على تقدير التجريد أو تفسيرا- لأسوة- بالاقتداء منقطع بلا ريب، وأما على تقدير أن يراد بها ما يؤتسى به فقيل: هو متصل وقيل: منقطع، وإليه ذهب الأكثر، وتوجيه الاستثناء إلى العدة بالاستغفار لا إلى نفس الاستغفار المحكي عنه عليه السلام بقوله تعالى: وَاغْفِرْ لِأَبِي [الشعراء: 86] الآية مع أنه المراد قيل: لأنها كانت هي الحاملة له عليه السلام عليه، ويعلم من ذلك استثناء نفس الاستغفار بطريق الأولى، وجعلها بعضهم كناية عن الاستغفار لأن عدة الكريم خصوصا مثل إبراهيم عليه السلام لا سيما إذا أكدت بالقسم يلازمها الإنجاز وليس بلازم كما لا يخفى، وكأن هذه العدة غير العدة السابقة في سورة [مريم: 47] في قوله تعالى حكاية عنه عليه السلام: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي الآية ولعلها وقعت منه عليه السلام بعد تلك تأكيدا لها وحكيت هاهنا على سبيل الاستثناء. وفي الإرشاد تخصيصها بالذكر دون ما وقع في سورة مريم لورودها على طريق التوكيد القسمي، واستثناء ذلك في الأسوة الحسنة قيل: لأن استغفاره عليه السلام لأبيه الكافر بمعنى أن يوفقه الله تعالى للتوبة ويهديه سبحانه للإيمان وإن كان جائزا عقلا وشرعا لوقوعه قبل تبين أنه من أصحاب الجحيم وأنه يموت على الكفر كما دل عليه ما في سورة التوبة لكنه ليس مما ينبغي أن يؤتسى به أصلا إذ المراد به ما يجب الائتساء به حتما لورود الوعيد على الإعراض عنه بقوله تعالى بعد: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ فاستثناؤه عما سبق إنما يفيد عدم وجوب استدعاء الإيمان والمغفرة للكافر المرجوّ إيمانه، وذلك مما لا يرتاب فيه عاقل، وأما عدم جوازه فلا دلالة للاستثناء عليه قطعا، وزعم الإمام علي ما نقل عنه دلالة الآية على ذلك، ولا يلزم أن يكون الاستغفار منه عليه السلام معصية لأن كثيرا من خواص الأنبياء عليهم السلام لا يجوز التأسي به لأنه أبيح لهم خاصة وهو كما ترى إذ هو ظاهر في أن ذلك الاستغفار الذي وقع منه عليه السلام لو فرض واقعا من غيره لكان معصية وليس كذلك بل هو مباح ممن وقع. وعن الطيبي ما حاصله: إن إبراهيم عليه السلام لما أجاب قول أبيه: لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [مريم: 46] بقوله: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي رحمة ورأفة به، ولم يكن عارفا بإصراره على الكفر وفى بوعده، وقال: وَاغْفِرْ لِأَبِي فلما تبين إصراره ترك الدعاء وتبرأ منه، فظهر أن استغفاره لم يكن منكرا، وهو في حياته بخلاف ما نحن فيه فإنه فصل عداوتهم وحرصهم على قطع أرحامهم بقوله تعالى: لَنْ تَنْفَعَكُمْ إلخ وسلاهم عن القطيعة بقصة إبراهيم عليه السلام ثم استثنى منها ما ذكر كأنه قيل: لا تجاملوهم ولا تبدوا لهم الرأفة كما فعل إبراهيم لأنه لم يتبين له كما تبين لكم انتهى، وفيه رمز إلى احتمال أن يكون المستثنى نفس العدة من حيث دلالتها على الرأفة والرحمة، ومآل ذلك استثناء الرأفة والرحمة، وعلل بعض الأجلة عدم كون استغفاره عليه السلام لأبيه الكافر مما لا ينبغي أن يؤتسى به بأنه كان قبل النهي أو لموعدة وعدها إياه وتعقب الثاني بأن الوعد بالمحظور لا يرفع حظره، والأول بأنه مبني على تناول النهي لاستغفاره عليه السلام له مع أن النهي إنما ورد في شأن الاستغفار بعد تبين الأمر، وقد كان استغفاره عليه السلام قبله، ومنبىء عن كون الاستغفار مؤتسى به لو لم ينه عنه مع أن ما يؤتسى به ما يجب الائتساء به لا ما يجوز فعله في الجملة، وأجيب بما لا يرفع القال والقيل فالأولى التعليل بما سبق. واستظهر أبو حيان أن الاستثناء من مضاف لإبراهيم مقدر في نظم الآية الكريمة أي لقد كان لكم أسوة حسنة في مقالات إبراهيم ومحاوراته لقومه إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ إلخ، وجزم باتصال الاستثناء عليه، وكذا جزم الطيبي الجزء: 14 ¦ الصفحة: 265 باتصاله على قول البغوي أي لكم أسوة حسنة في إبراهيم وأموره إلا في استغفاره لأبيه المشرك، ولا يخفى أن التقدير خلاف الظاهر، ومتى ارتكب فالأولى تقدير أمور، بقي أنه قيل: إن الآية تدل على منع التأسي بإبراهيم عليه السلام في الاستغفار للكافر الحي مع أنه بالمعنى السابق أعني طلب الإيمان له لا منع عنه. وأجيب بأنه إنما منع من التأسي بظاهره وظن أنه جائز مطلقا كما وقع لبعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وفيه أنه قد تقدم أن دلالة الآية على أن الاستغفار ليس مما يجب الائتساء به حتما لا على منعه وحرمته، ثم إنه ينبغي أن يعلم أن تبين كون أبيه من أصحاب الجحيم الذي كان الاستغفار قبله كان في الدنيا وكذا التبري منه بعده، وقد تقدم في سورة التوبة قول: بكون ذلك في الآخرة لدلالة ظواهر بعض الاخبار الصحيحة عليه فإنها دالة على أنه عليه السلام يشفع لأبيه يوم القيامة، وهي استغفار أي استغفار فيه، ولو كان تبين أنه يموت كافرا في الدنيا لم يكن ليشفع، ويطلب على أتم وجه المغفرة له ضرورة أنه عليه السلام عالم أن الله تعالى لا يغفر أن يشرك به، وإنكار ذلك مما لا يكاد يقدم عليه عاقل، والذاهبون إلى أن التبين كان في الدنيا كما عليه سلف الأمة- وهو الصحيح الذي أجزم به اليوم- أشكلت عليهم تلك الظواهر من حيث دلالتها على الشفاعة التي هي في ذلك اليوم استغفار، وأتهموا وأنجدوا في الجواب عنها، وقد تقدم جميع ما وجدته لهم فارجع إليه واختر لنفسك ما يحلو. ثم إني أقول الذي يغلب على ظني أن الاستغفار الذي كان منه عليه السلام قبل التبين بالمعنى المشهور لا بمعنى التوفيق للإيمان، والآيات التي في سورة التوبة وما ورد في سبب نزولها تؤيد ظواهرها ذلك. والتزم أن امتناع جواز الاستغفار إنما علم بالوحي لا بالعقل لأنه يجوز أن يغفر الله تعالى للكافر وهو سبحانه الغفور الرحيم، وأنه عليه السلام لم يكن إذ استغفر عالما بالوحي امتناعه، ومعنى الآية- والله تعالى أعلم- إن لكم الاقتداء بإبراهيم عليه السلام والذين معه في البراءة من الكفرة لكن استغفاره للكافر ليس لكم الاقتداء به فيه وما له يجب عليكم البراءة ويحرم عليكم الاستغفار وإبداء الرأفة، فليس لكم الذي اعتبرناه في الاستثناء من باب قوله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة: 113] إلخ، ودلالة ذلك على المنع ظاهرة فتأمل جميع ما قدمناه، ووراءه كلام مبني على قول من قال: ليس لله عز وجل قضاء مبرم، ونقل ذلك عن القطب الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره، وشيد بعض الأجلة أركانه في رسالة مستقلة بسط فيها الأدلة على ذلك لكنها لا تخلو عن بحث والله تعالى أعلم، وقوله سبحانه: وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ من تمام القول المستثنى محله النصب على أنه حال من فاعل لَأَسْتَغْفِرَنَّ ومورد الاستثناء نفس الاستغفار لا قيده فإنه في نفسه من خصال الخير لكون إظهارا للعجز وتفويضا للأمر إلى الله تعالى، فالكلام من قبيل ما رجع فيه النفي للمقيد دون القيد. وفي الكشف أنه وإن كان في نفسه كلاما مطابقا للواقع حسنا أن يجعل أسوة إلا أنه شفع بقوله: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ تحقيقا للوعد كأنه قيل: لأستغفرن لك وما في طاقتي إلا هذا فهو مبذول لا محالة، وفيه أنه لو ملك أكثر من ذلك لفعل، وعلى هذا فهو حقيق بالاستثناء، وقوله عز وجل: رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ إلى آخره جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب متصلة معنى لقبصة إبراهيم عليه السلام ومن معه على أنها بيان لحالهم في المجاهدة لأعداء الله عز وجل وقشر العصا، ثم اللجأ إلى الله تعالى في كفاية شرهم وأن تلك منهم له عز وجل لا لحظ نفسي، وقيل: اتصالها بما تقدم لفظي على أنها بتقدير قوله معطوف على قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا أي وقالوا: ربنا إلخ، وجوز أن يكون المعنى قولوا ربنا أمرا منه تعالى للمؤمنين بأن يقولوه، وتعليما منه عز وجل لهم وتتميما لما وصاهم سبحانه به من قطع العلائق بينهم وبين الكفار والائتساء بإبراهيم عليه السلام وقومه في البراءة منهم وتنبيها على الإنابة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 266 إلى الله تعالى والاستعاذة به من فتنه أهل الكفر والاستغفار مما فرط منهم وهو كما قيل: وجه حسن لا يأباه النظم الكريم، وفيه شمة من أسلوب انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ [النساء: 171] لأنه سبحانه لما حثهم على الائتساء بمن سمعت في الانتهاء عن الكفر وموالاة أهله، ثم قال سبحانه ما يدل على اللجأ إليه تعالى يكون في المعنى نهيا عن الأول وأمرا بالثاني. وجعل بعضهم القول على هذا الوجه معطوفا على لا تَتَّخِذُوا أي وقولوا ربنا إلخ، وأيا ما كان فتقديم الجار والمجرور في المواضع الثلاثة للقصر كأنه قيل: ربنا عليك توكلنا لا على غيرك وإليك أنبنا لا إلى غيرك وإليك المصير لا إلى غيرك رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي لا تسلطهم علينا فيسبوننا ويعذبوننا- قاله ابن عباس- فالفتنة مصدر بمعنى المفتون أي المعذب من فتن الفضة إذا أذابها فكأنه قيل: ربنا لا تجعلنا معذبين للذين كفروا، وقال مجاهد: أي لا تعذبنا بأيديهم، أو بعذاب من عندك فيظنوا أنهم محقون وأنا مبطلون فيفتنوا لذلك. وقال قريبا منه قتادة وأبو مجلز، والأول أرجح، ولم تعطف هذه الجملة الدعائية على التي قبلها سلوكا بهما مسلك الجمل المعدودة، وكذا الجملة الآتية، وقيل: إن هذه الجملة بدل مما قبلها، ورد بعدم اتحاد المعنيين كلا وجزءا ولا مناسبة بينهما سوى الدعاء وَاغْفِرْ لَنا ما فرط منا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الغالب الذي لا يذل من التجأ إليه ولا يخيب رجاء من توكل عليه الْحَكِيمُ الذي لا يفعل إلا ما فيه حكمة بالغة لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أي في إبراهيم عليه السلام ومن معه أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ الكلام فيه نحو ما تقدم، وقوله تعالى: لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ أي ثوابه تعالى أو لقاءه سبحانه ونعيم الآخرة أو أيام الله تعالى واليوم الآخر خصوصا، والرجاء يحتمل الأمل والخوف صلة- لحسنة- أو صفة، وجوز كونه بدلا من لَكُمْ بناء على ما ذهب إليه الأخفش من جواز أن يبدل الظاهر من ضمير المخاطب- وكذا من ضمير المتكلم- بدل الكل كما يجوز أن يبدل من ضمير الغائب، وأن يبدل من الكل بدل البعض وبدل الاشتمال وبدل الغلط. ونقل جواز ذلك الإبدال عن سيبويه أيضا، والجمهور على منعه وتخصيص الجواز ببدل البعض والاشتمال والغلط. وذكر بعض الأجلة أنه لا خلاف في جواز أن يبدل من ضمير المخاطب بدل الكل فيما يفيد إحاطة كما في قوله تعالى: تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا [المائدة: 114] وجعل ما هنا من ذلك وفيه خفاء، وجملة لَقَدْ كانَ إلخ قيل: تكرير لما تقدم من المبالغة في الحث على الائتساء بإبراهيم عليه السلام ومن معه، ولذلك صدرت بالقسم وهو على ما قال الخفاجي: إن لم ينظر لقوله تعالى: إِذْ قالُوا فإنه قيد مخصص فإن نظر له كان ذلك تعميما بعد تخصيص، وهو مأخوذ من كلام الطيبي في تحقيق أمر هذا التكرير. والظاهر أن هذا مقيد بنحو ما تقدم كأنه قيل: لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة إذ قالوا إلخ، وفي قوله سبحانه: لِمَنْ كانَ إلخ إشارة إلى أن من كان يرجو الله تعالى واليوم الآخر لا يترك الاقتداء بهم وإن تركه من مخايل عدم رجاء الله سبحانه واليوم الآخر الذي هو من شأن الكفرة بل مما يؤذن بالكفر كما ينبىء عن ذلك قوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ فإنه مما يوعد بأمثاله الكفرة. عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ أي من أقاربكم المشركين مَوَدَّةً بأن يوافقكم في الدين، وعدهم الله تعالى بذلك لما رأى منهم التصلب في الدين والتشدد في معاداة آبائهم وأبنائهم وسائر أقربائهم ومقاطعتهم إياهم بالكلية تطييبا لقلوبهم، ولقد أنجز الله سبحانه وعده الكريم حين أتاح لهم الفتح فأسلم قومهم فتم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 267 بينهم من التحابّ والتصافي ما تم، ويدخل في ذلك أبو سفيان وأضرابه من مسلمة الفتح من أقاربهم المشركين. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن عدي وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: كانت المودة التي جعل الله تعالى بينهم تزوج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان فصارت أم المؤمنين وصار معاوية خال المؤمنين، وأنت تعلم أن تزوجها كان وقت هجرة الحبشة، ونزول هذه الآيات سنة ست من الهجرة فما ذكر لا يكاد يصح بظاهره، وفي ثبوته عن ابن عباس مقال وَاللَّهُ قَدِيرٌ مبالغ في القدرة فيقدر سبحانه على تقليب القلوب وتغيير الأحوال وتسهيل أسباب المودة وَاللَّهُ غَفُورٌ مبالغ في المغفرة فيغفر جل شأنه لما فرط منكم في موالاتهم رَحِيمٌ مبالغ في الرحمة فيرحمكم عز وجل بضم الشمل واستحالة الخيانة ثقة وانقلاب المقت مقة، وقيل: يغفر سبحانه لمن أسلم من المشركين ويرحمهم، والأول أفيد وأنسب بالمقام. لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ أي لا ينهاكم سبحانه وتعالى عن البر بهؤلاء كما يقتضيه كون أَنْ تَبَرُّوهُمْ بدل اشتمال من الموصول وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ أي تفضوا إليهم بالقسط أي العدل، فالفعل مضمن معنى الإفضاء ولذا عدي بإلى إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أي العادلين. أخرج البخاري وغيره عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما قالت: أتتني أمي راغبة وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فسألت رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم أأصلها؟ فأنزل الله تعالى لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ إلخ، فقال عليه الصلاة والسلام: «نعم صلي أمك» وفي رواية الإمام أحمد وجماعة عن عبد الله بن الزبير قال: قدمت قتيلة بنت عبد العزى على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا. أخرج ابن المنذر والطبراني في الكبير وابن مردويه بسند حسن وجماعة عن ابن عباس أنه قال في كيفية امتحانهن: كانت المرأة إذا جاءت النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم حلفها عمر رضي الله تعالى عنه بالله ما خرجت الجزء: 14 ¦ الصفحة: 268 رغبة بأرض عن أرض. وبالله ما خرجت من بغض زوج وبالله ما خرجت التماس دنيا وبالله ما خرجت إلا حبا لله ورسوله، وفي رواية عنه أيضا كانت محنة النساء أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب فقال: قل لهن إن رسول الله عليه الصلاة والسلام بايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا إلخ اللَّهُ أَعْلَمُ من كل أحد أو منكم بِإِيمانِهِنَّ فإنه سبحانه هو المطلع على ما في قلوبهن، والجملة اعتراض فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ أي ظننتموهن ظنا قويا يشبه العلم بعد الامتحان مُؤْمِناتٍ في نفس الأمر فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ أي إلى أزواجهن الكفرة لقوله تعالى: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ فإنه تعليل للنهي عن رجعهن إليهم، والجملة الأولى لبيان الفرقة الثابتة وتحقق زوال النكاح الأول. والثانية لبيان امتناع ما يستأنف ويستقبل من النكاح، ويشعر بذلك التعبير بالاسم في الأولى والفعل في الثانية. وقال الطيبي في وجه اختلاف التعبيرين: إنه أسندت الصفة المشبهة إلى ضمير المؤمنات في الجملة الأولى إعلاما بأن هذا الحكم يعني نفي الحل ثابت فيهن لا يجوز فيه الإخلال والتغيير من جانبهن، وأسند الفعل إلى ضمير الكفار إيذانا بأن ذلك الحكم مستمر الامتناع في الأزمنة المستقبلة لكنه قابل للتغيير باستبدال الهدى بالضلال، وجوز أن يكون ذلك تكريرا للتأكيد والمبالغة في الحرمة وقطع العلاقة، وفيه من أنواع البديع ما سماه بعضهم بالعكس والتبديل كالذي في قوله تعالى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ [البقرة: 187] ولعل الأول أولى، واستدل بالآية على أن الكفار مخاطبون بالفروع كما في الانتصاف، والقول: بأن المخاطب في حق المؤمنة هي وفي حق الكافر الأئمة بمعنى أنهم مخاطبون بأن يمنعوا ذلك الفعل من الوقوع لا يخفى حاله، وقرأ طلحة- لا هن يحللن لهم- وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا أي وأعطوا أزواجهن مثل ما دفعوا إليهن من المهور قيل: وجوبا، وقيل: ندبا، روي أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم عام الحديبية أمر عليا كرم الله تعالى وجهه أن يكتب بالصلح فكتب: باسمك اللهم هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين تأمن فيه الناس ويكف بعضهم عن بعض على أن من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليه، ومن جاء قريشا من محمد لم يردّوه عليه وأن بيننا عيبة مكفوفة، وأن لا إسلال ولا إغلال، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، فرد رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم أبا جندل بن سهيل ولم يأت رسول الله عليه الصلاة والسلام أحد من الرجال إلا رده في مدّة العهد وإن كان مسلما، ثم جاء المؤمنات مهاجرات، وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وكانت أول المهاجرات، فخرج أخواها عمار، والوليد حتى قدما على رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فكلماه في أمرها ليردها عليه الصلاة والسلام إلى قريش فنزلت الآية فلم يردّها عليه الصلاة والسلام ثم أنكحها صلّى الله تعالى عليه وسلم زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل أنه جاءت امرأة تسمى سبيعة بنت الحارث الأسلمية مؤمنة، وكانت تحت صيفي بن الراهب وهو مشرك من أهل مكة فطلبوا ردها فأنزل الله تعالى الآية، وروي أنها كانت تحت صناب وأقط وسمن وهي مشركة فأبت أسماء أن تقبل هديتها أو تدخلها بيتها حتى أرسلت إلى عائشة رضي الله تعالى عنها أن تسأل رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم عن هذا فسألته فأنزل الله تعالى لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ الآية فأمرها أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها. وقتيلة هذه- على ما في التحرير- كانت امرأة أبي بكر رضي الله تعالى عنه فطلقها في الجاهلية وهي أم أسماء الجزء: 14 ¦ الصفحة: 269 حقيقة، وعن ابن عطية أنها خالتها وسمتها أما مجازا، والأول هو المعول عليه، وقال الحسن وأبو صالح: نزلت الآية في خزاعة وبني الحارث بن كعب وكنانة ومزينة وقبائل من العرب كانوا صالحوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه، وقال قرة الهمداني وعطية العوفي: نزلت في قوم من بني هاشم منهم العباس. وعن عبد الله بن الزبير أنها نزلت في النساء والصبيان من الكفرة، وقال مجاهد: في قوم بمكة آمنوا ولم يهاجروا فكان المهاجرون والأنصار يتحرجون من برهم لتركهم فرض الهجرة، وقيل: في مؤمنين من أهل مكة وغيرها أقاموا بين الكفرة وتركوا الهجرة- أي مع القدرة عليها- وقال النحاس والثعلبي: نزلت في المستضعفين من المؤمنين الذين لم يستطيعوا الهجرة، والأكثرون على أنها في كفرة اتصفوا بما في حيز الصلة، وعلى ذلك قال الكيا: فيها دليل على جواز التصدق على أهل الذمة دون أهل الحرب وعلى وجوب النفقة للأب الذمي دون الحربي لوجوب قتله، ويخطر لي أني رأيت في الفتاوى الحديثية لابن حجر عليه الرحمة الاستدلال بها على جواز القيام لأهل الذمة لأنه من البر والإحسان إليهم ولم ننه عنه، لكن راجعت تلك الفتاوى عند كتابتي هذا البحث فلم أظفر بذلك، ومع هذا وجدته نقل في آخر الفتاوى الكبرى في باب السير عن العز بن عبد السلام أنه لا يفعل القيام لكافر لأنا مأمورون بإهانته وإظهار صغاره فإن خيف من شره ضرر عظيم جاز لأن التلفظ بكلمة الكفر جائز للإكراه فهذا أولى، ولم يتعقبه بشيء، ثم إن في كون القيام من البر مطلقا ترددا، وتخصيص العز جواز القيام للكافر بما إذا خيف ضرر عظيم مخالف لقول ابن وهبان من الحنفية: وللميل أو للمال يخدم كافر ... وللميل للإسلام لو قام يغفر ومن الناس من يجعل كل مصلحة دينية كالميل للإسلام لكن بشرط أن لا يقصد القائم تعظيما، والله تعالى أعلم، ونقل الخفاجي عن الدر المنثور أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: 5] الآية، والاستدلال بها على ما سمعت بتقدير عدم النسخ إن تم إنما يتم على بعض الأقوال فيها. إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ كمشركي مكة، فإن بعضهم سعوا في إخراج المؤمنين وبعضهم أعانوا المخرجين أَنْ تَوَلَّوْهُمْ تدل من الموصول بدل اشتمال أيضا أي إنما ينهاكم سبحانه عن أن تتولوهم وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ لوضعهم الولاية موضع العداوة أو هم الظالمون لأنفسهم بتعريضها للعذاب، وفي الحصر من المبالغة ما لا يخفى. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بيان لحكم من يظهر الإيمان بعد بيان حكم فريقي الكافرين إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ أي بحسب الظاهر مُهاجِراتٍ من بين الكفار، وقرىء «مهاجرات» بالرفع على البدل من الْمُؤْمِناتُ فكأنه قيل: إذا جاءكم «مهاجرات» فَامْتَحِنُوهُنَّ فاختبروهن بما يغلب على ظنكم موافقة قلوبهن لألسنتهن في الإيمان. مسافر المخزومي وأنه أعطي ما أنفق، وتزوجها عمر رضي الله تعالى عنه، وفي رواية أنها نزلت في أميمة بنت بشر امرأة من بني عمرو بن عون كانت تحت أبي حسان بن الدحداحة هاجرت مؤمنة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وطلبوا ردّها فنزلت الآية فلم يردها عليه الصلاة والسلام، وتزوجها سهيل بن صيف فولدت له عبد الله بن سهيل، ولعل سبب النزول متعدد، وأيا ما كان فالآية على ما قيل: نزلت بيانا لأن الشرط في كتاب المصالحة إنما كان في الرجال دون النساء، وتراخي المخصص عن العام جائز عند الجبائي ومن وافقه، ونسب للزمخشري أن ذلك من تأخير بيان المجمل لأنه لا يقول بعموم تلك الألفاظ بل يجعلها مطلقات، والحمل على العموم والخصوص بحسب المقام، والحنفية يجوزونه لا يقال: إنه شبه التأخير عن وقت الحاجة وهو غير جائز عند الجميع لأن وقت الحاجة أي العمل بالخطاب كان بعد الجزء: 14 ¦ الصفحة: 270 مجيء المهاجرات وطلب ردهن لا حين جرت المهادنة مع قريش، وهذا ذهب إليه بعض الشافعية أيضا، ومنهم من زعم أن التعميم كان منه صلّى الله تعالى عليه وسلم عن اجتهاد أثيب عليه بأجر واحد ولم يقر عليه، ومنهم من وافق جمهور الحنفية على النسخ لا التخصيص، فمن جوز منهم نسخ السنة بالكتاب قال: نسخ بالآية، ومن لم يجوز قال: بالسنة أي امتناعه صلّى الله تعالى عليه وسلم من الرد ووردت الآية مقررة لفعله عليه الصلاة والسلام. وعن الضحاك كان بين رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وبين المشركين عهد أن لا تأتيك منا امرأة ليست على دينك إلا رددتها إلينا فإن دخلت في دينك ولها زوج أن ترد على زوجها الذي أنفق عليها، وللنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم من الشرط مثل ذلك، وعليه فالآية موافقة لما وقع عليه العهد لكن أخرج أبو داود في ناسخه وابن جرير وغيرهما عن قتادة أنه نسخ هذا العهد وهذا الحكم يعني إيتاء الأزواج ما أنفقوا براءة، أما نسخ العهد فلما أمر فيها من النبذ، وأما نسخ الحكم فلأن الحكم فرع العهد فإذا نسخ نسخ، والذي عليه معظم الشافعية أن الغرامة لأزواجهن غير ثابتة، وبين ذلك في الكشف على القول بنسخ رد المرأة، والقول بالتخصيص، والقول: بأن التعميم كان عن اجتهاد لم يقر عليه صلّى الله عليه وسلم، ثم قال: وأما على قول الضحاك- أي السابق- فهو مشكل، ووجهه أنه حكم في مخصوصين فلا يعم غير تلك الوقعة على أنه عز وجل خص الحكم بالمهاجرين ولم يبق بعد الفتح هجرة كما ثبت في الصحيح فلا يبقى الحكم وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ أي في نكاحهن حيث حال إسلامهن بينهن وبين أزواجهن الكفار إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي وقت إيتائكم إياهن مهورهن- فإذا- لمجرد الظرفية، ويجوز كونها شرطية وجوابها مقدر بدليل ما قبل، وعلى التقديرين يفهم اشتراط إيتاء المهور في نفي الجناح في نكاحهن، وليس المراد بإيتاء الأجور إعطاءها بالفعل بل التزامها والتعهد بها، وظاهر هذا مع ما تقدم من قوله تعالى: وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا أن هناك إيتاء إلى الأزواج وإيتاء إليهن فلا يقوم ما أوتي إلى الأزواج مقام مهورهن بل لا بد مع ذلك من إصداقهن، وقيل: لا يخلو إما أن يراد بالأجور ما كان يدفع إليهن ليدفعنه إلى أزواجهن فيشترط في إباحة تزويجهن تقديم أدائه، وإما أن يراد أن ذلك إذا دفع إليهن على سبيل القرض ثم تزوجن على ذلك لم يكن به بأس، وإما أن يبين إليهم أن ما أعطي لأزواجهن لا يقوم مقام المهر، وهذا ما ذكرناه أولا من الظاهر وهو الأصح في الحكم، والوجهان الآخران ضعيفان فقها ولفظا. واحتج أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه بالآية على أن أحد الزوجين إذا خرج من دار الحرب مسلما أو بذمة وبقي الآخر حربيا وقعت الفرقة. ولا يرى العدة على المهاجرة ويبيح نكاحها من غير عدة إلا أن تكون حاملا، وهذا للحديث المشهور الذي تجوز بمثله الزيادة على النص «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقين ماءه زرع غيره» ومذهب الشافعي على ما قيل: إنه لا تقع الفرقة إلا بإسلامها، وأما بمجرد الخروج فلا فإن أسلمت قبل الدخول تنجزت الفرقة وبعد الدخول توقفت إلى انقضاء العدة، وتعقب الاحتجاج بأن الآية لا تدل على مجموع ما ذكر، نعم قد احتج بها على عدم العدة في الفرقة بخروج المرأة إلينا من دار الحرب مسلمة، ووجه بأنه سبحانه نفى الجناح من كل وجه في نكاح المهاجرات بعد إيتاء المهر، ولم يقيد جل شأنه بمضي العدة فلولا أن الفرقة بمجرد الوصول إلى دار الإسلام لكان الجناح ثانيا، ومع هذا فقد قيل: الجواب على أصل الشافعية أن رفع الإطلاق ليس بنسخ ظاهر لأن عدم التعرض ليس تعرضا للعدم، وأما على أصل الحنفية فكسائر الموانع، وكونها حاملا بالاتفاق فتأمل وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ جمع كافرة، وجمع فاعلة على فواعل مطرد وهو وصف جماعة الإناث، وقال الكرخي: الْكَوافِرِ يشمل الإناث والذكور، فقال له الفارسي: النحويون لا يرون هذا إلا في الإناث جمع كافرة، فقال: أليس يقال: طائفة كافرة وفرقة كافرة. قال الفارسي: فبهت، وفيه أنه لا يقال: كافرة في وصف الذكور إلا تابعا للموصوف، أو يكون محذوفا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 271 مرادا أما بغير ذلك فلا تجمع فاعلة على فواعل إلا ويكون للمؤنث قاله أبو حيان، وعصم- جمع عصمة وهي ما يعتصم به من عقد وسبب، والمراد نهي المؤمنين عن أن يكون بينهم وبين الزوجات المشركات الباقية في دار الحرب علقة من علق الزوجية أصلا حتى لا يمنع إحداهن نكاح خامسة أو نكاح أختها في العدة بناء على أنه لا عدة لهن قال ابن عباس: من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدن بها من نسائه لأن اختلاف الدارين قطع عصمتها منه، وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر عن إبراهيم النخعي أنه قال: نزل قوله تعالى: وَلا تُمْسِكُوا إلخ في المرأة من المسلمين تلحق بالمشركين فلا يمسك زوجها بعصمتها قد برىء منها. وأخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد وسعيد بن جبير نحوه، وفي رواية أخرى عن مجاهد أنه قال: أمرهم سبحانه بطلاق الباقيات مع الكفار ومفارقتهن، ويروى أن عمر رضي الله تعالى عنه طلق لذلك امرأته فاطمة أخت أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومي فتزوجها معاوية بن أبي سفيان وامرأته كلثوم بنت جرول الخزاعي فتزوجها أبو جهم بن حذيفة العدوي، وكذا طلق طلحة زوجته أروى بنت ربيعة، وتعقب ذلك بأنه بظاهره مخالف لمذهب الحنفية والشافعية، وأما عند الحنفية فلأن الفرقة بنفس الوصول إلى دار الإسلام، وأما عند الشافعية فلأن الطلاق موقوف إن جمعتهما العدة تبين وقوعه من حين اللفظ، وإلا فالبينونة بواسطة بقاء المرأة في الكفر، فظاهر الآية لا يدل على ما في هذه الرواية، وقرأ أبو عمرو ومجاهد بخلاف عنه وابن جبير والحسن والأعرج «تمسكوا» مضارع مسك مشددا، والحسن أيضا وابن أبي ليلى وابن عامر في رواية عبد الحميد وأبو عمرو في رواية معاذ «تمسّكوا» مضارع تمسك محذوف إحدى التاءين، والأصل تتمسكوا. وقرأ الحسن أيضا «تمسكوا» بكسر السين مضارع مسك ثلاثيا وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ أي واسألوا الكفار مهور نسائكم اللاحقات بهم وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا أي وليسألكم الكفار مهور نسائهم المهاجرات إليكم، وظاهره أمر الكفار، وهو من باب وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة: 123] فهو أمر للمؤمنين بالأداء مجازا، وقيل: المراد التسوية ذلِكُمْ الذي ذكر حُكْمُ اللَّهِ أي فاتبعوه، وقوله عز وجل: يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ كلام مستأنف أو حال من حُكْمُ بحذف الضمير العائد إليه، وهو مفعول مطلق أي يحكمه الله تعالى بينكم، أو العائد إليه الضمير المستتر في يَحْكُمُ بجعل الحكم حاكما مبالغة كأن الحكم لقوته وظهوره غير محتاج لحاكم آخر وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ يشرع ما تقتضيه الحكمة البالغة، روي أنه لما تقرر هذا الحكم أدى المؤمنون مما أمروا به من مهور المهاجرات إلى أزواجهن، وأبى المشركون أن يؤدوا شيئا من مهور الكوافر إلى أزواجهن المؤمنين فنزل قوله تعالى: وَإِنْ فاتَكُمْ أي سبقكم وانفلت منكم شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ أي أحد من أزواجكم، وقرىء كذلك، وإيقاع شَيْءٌ موقعه لزيادة التعميم وشمول محقر الجنس نصا، وفي الكشف لك أن تقول: أريد التحقير والتهوين على المسلمين لأن من فات من أزواجهم إلى الكفار يستحق الهون والهوان، وكانت الفائتات ستا على ما نقله في الكشاف وفصله، أو أن فاتَكُمْ شَيْءٌ من مهور أزواجكم على أن شَيْءٌ مستعمل في غير العقلاء حقيقة، ومِنْ ابتدائية لا بيانية كما في الوجه الأول فَعاقَبْتُمْ من العقبة لا من العقاب، وهي في الأصل النوبة في ركوب أحد الرفيقين على دابة لهما والآخر بعده أي فجاءت عقبتكم أي نوبتكم من أداء المهر شبه ما حكم به على المسلمين والكافرين من أداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة وأداء أولئك مهور نساء هؤلاء أخرى، أو شبه الحكم بالأداء المذكور بأمر يتعاقبون فيه كما يتعاقب في الركوب، وحاصل المعنى إن لحق أحد من أزواجكم بالكفار أو فاتكم شيء من مهورهن ولزمكم أداء المهر كما لزم الكفار. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 272 فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا من مهر المهاجرة التي تزوجتموها ولا تؤتوه زوجها الكافر ليكون قصاصا، ويعلم مما ذكرنا أن عاقب لا يقتضي المشاركة، وهذا كما تقول: إبل معاقبة ترعى الحمض تارة وغيره أخرى ولا تريد أنها تعاقب غيرها من الإبل في ذلك، وحمل الآية على هذا المعنى يوافق ما روي عن الزهري أنه قال: يعطى من لحقت زوجته بالكفار من صداق من لحق بالمسلمين من زوجاتهم. وعن الزجاج أن معنى فَعاقَبْتُمْ فغنمتم، وحقيقته فأصبتم في القتال بعقوبة حتى غنمتم فكأنه قيل: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ ولم يؤدوا إليكم مهورهن فغنمتم منهم فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا من الغنيمة وهذا هو الوجه دون ما سبق، وقد كان صلّى الله تعالى عليه وسلم- كما روي عن ابن عباس- يعطي الذي ذهبت زوجته من الغنيمة قبل أن تخمس المهر ولا ينقص من حقه شيئا، وقال ابن جني: روينا عن قطرب أنه قال: فَعاقَبْتُمْ فأصبتم عقبا منهم يقال: عاقب الرجل شيئا إذا أخذ شيئا وهو في المعنى كالوجه قبله. وقرأ مجاهد والزهري والأعرج وعكرمة وحميد وأبو حيوة والزعفراني- فعقّبتم- بتشديد القاف من عقبه إذا قفاه لأن كل واحد من المتعاقبين يفقي صاحبه، والزهري والأعرج وأبو حيوة أيضا والنخعي وابن وثاب بخلاف عنه- فعقبتم- بفتح القاف وتخفيفها، والزهري والنخعي أيضا بالكسر والتخفيف، ومجاهد أيضا- فأعقبتم- أي دخلتم في العقبة وفسر الزجاج هذه القراءات الأربعة بأن المعنى فكانت العقبى لكم أي الغلبة والنصر حتى غنمتم لأنها العاقبة التي تستحق أن تسمى عاقبة وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ فإن الإيمان به عز وجل يقتضي التقوى منه سبحانه وتعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ أي مبايعات لك أي قاصدات للمبايعة عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً أي شيئا من الأشياء أو شيئا من الإشراك وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ أريد به على ما قال غير واحد: وأد البنات بالقرينة الخارجية، وإن كان الأولاد أعم منهن، وجوز إبقاءه على ظاهره فإن العرب كانت تفعل ذلك من أجل الفقر والفاقة، وانظر هل يجوز حمل هذا النهي على ما يعم ذلك، وإسقاط الحمل بعد أن ينفخ فيه الروح، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والحسن والسلمي «ولا يقتّلن» بالتشديد وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ. قال الفراء: كانت المرأة في الجاهلية تلتقط المولود فتقول: هذا ولدي منك فذلك البهتان المفترى بين أيديهن وأرجلهن، وذلك أن الولد إذا وضعته الأم سقط بين يديها ورجليها، وفي الكشاف كني بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن الولد الذي تلصقة بزوجها كذبا لأن بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين وفرجها الذي تلده به بين الرجلين، وقيل: كني بذلك عن الولد الدعي لأن اللواتي كن يظهرن البطون لأزواجهن في بدء الحال إنما فعلن ذلك امتنانا عليهم، وكن يبدين في ثاني الحال عند الطلق حين يضعن الحمل بين أرجلهن أنهن ولدن لهم فنهين عن ذلك الذي هو من شعار الجاهلية المنافي لشعار المسلمات تصويرا لتينك الحالتين وتهجينا لما كن يفعلنه، وأيا ما كان فحمل الآية على ما ذكر هو الذي ذهب إليه الأكثرون، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقال بعض الأجلة: معناه لا يأتين ببهتان من قبل أنفسهن، واليد والرجل كناية عن الذات لأن معظم الأفعال بهما، ولذا قيل للمعاقب بجناية قولية: هذا ما كسبت يداك، أو معناه لا يأتين ببهتان ينشئنه في ضمائرهم وقلوبهن، والقلب مقره بين الأيدي والأرجل، والكلام على الأول كناية عن إلقاء البهتان من تلقاء أنفسهن، وعلى الثاني كناية عن كون البهتان من دخيلة قلوبهن المبنية على الخبث الباطني. وقال الخطابي: معناه لا يبهتن الناس كفاحا ومواجهة كما يقال للأمر بحضرتك: إنه بين يديك، ورد بأنهم وإن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 273 كنوا عن الحاضر بما ذكر لكن لا يقال فيه: هو بين رجليك، وهو وارد لو ذكرت الأرجل وحدها أما إذا ذكرت مع الأيدي تبعا فلا، والكلام قيل: كناية عن خرق جلباب الحياء، والمراد النهي عن القذف، ويدخل فيه الكذب والغيبة، وروي عن الضحاك حمل ذلك على القذف، وقيل: بين أيديهن قبلة أو جسة وأرجلهن الجماع، وقيل: بين أيديهن ألسنتهن بالنميمة، وأرجلهن فروجهن بالجماع، وهو- وكذا ما قبله- كما ترى. وقيل: البهتان السحر، وللنساء ميل إليه جدا فنهين عنه وليس بشيء وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ أي فيما تأمرهن به من معروف وتنهاهن عنه من منكر، والتقييد بالمعروف مع أن الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم لا يأمر إلا به للتنبيه على أنه لا يجوز طاعة مخلوق في معصية الخالق، ويرد به على من زعم من الجهلة أن طاعة أولي الأمر لازمة مطلقا، وخص بعضهم هذا المعروف بترك النياحة لما أخرج الإمام أحمد والترمذي وحسنة وابن ماجة وغيرهم عن أم سلمة الأنصارية قالت امرأة من هذه النسوة: ما هذا المعروف الذي لا ينبغي لنا أن نعصيك فيه؟ فقال صلّى الله تعالى عليه وسلم: «لا تنحن» الحديث ، ونحوه من الأخبار الظاهرة في تخصيصه بما ذكر كثير، والحق العموم، وما ذكر في الأخبار من باب الاقتصار على بعض أفراد العام لنكتة، ويشهد للعموم قول ابن عباس وأنس وزيد بن أسلم: هو النوح وشق الجيوب ووشم الوجوه ووصل الشعر وغير ذلك من أوامر الشريعة فرضها وندبها، وتخصيص الأمور المعدودة بالذكر في حقهن لكثرة وقوعها فيما بينهن مع اختصاص بعضها بهن على ما سمعت أولا فَبايِعْهُنَّ بضمان الثواب على الوفاء بهذه الأشياء، وتقييد مبايعتهن بما ذكر من مجيئهن لحثهن على المسارعة إليها مع كمال الرغبة فيها من غير دعوة لهن إليها وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ زيادة على ما في ضمن المبايعة من ضمان الثواب إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي مبالغ جل شأنه في المغفرة والرحمة فيغفر عز وجل لهن ويرحمهن إذا وفين بما بايعن عليه وهذه الآية نزلت- على ما أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل- يوم الفتح فبايع رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم الرجال على الصفا وعمر رضي الله تعالى عنه يبايع النساء تحتها عن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم، وجاء أنه عليه الصلاة والسلام بايع النساء أيضا بنفسه الكريمة. أخرج الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة والترمذي وصححه وغيرهم عن أميمة بنت رقية قالت: أتيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لنبايعه فأخذ علينا ما في القرآن أن لا نشرك بالله حتى بلغ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فقال: «فيما استطعن وأطقن قلنا: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا يا رسول الله ألا تصافحنا؟ قال: إني لا أصافح النساء إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة» . وأخرج سعيد بن منصور وابن سعد عن الشعبي قال: كان رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم إذا بايع النساء وضع على يده ثوبا وفي بعض الروايات أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم يبايعهن وبين يديه وأيديهن ثوب قطوي ، ومن يثبت ذلك يقول بالمصافحة وقت المبايعة، والأشهر المعول عليه أن لا مصافحة، وأخرج ابن سعد وابن مردويه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء فغمس يده فيه ثم يغمس أيديهن فيه وكأن هذا بدل المصافحة والله تعالى أعلم بصحته. والمبايعة وقعت غير مرة ووقعت في مكة بعد الفتح وفي المدينة وممن بايعنه عليه الصلاة والسلام في مكة هند بنت عتبة زوج أبي سفيان، ففي حديث أسماء بنت يزيد بن السكن كنت في النسوة المبايعات وكانت هند بنت عتبة في النساء فقرأ صلّى الله تعالى عليه وسلم عليهن الآية فلما قال: عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً قالت هند: وكيف نطمع أن يقبل منا ما لم يقبله من الرجال؟ يعني أن هذا بين لزومه فلما قال وَلا يَسْرِقْنَ قالت: والله إني الجزء: 14 ¦ الصفحة: 274 لأصيب الهنة من مال أبي سفيان لا يدري أيحل لي ذلك؟ فقال أبو سفيان: ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال، فضحك رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وعرفها فقال لها: وإنك لهند بنت عتبة؟ قالت: نعم فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك، فقال: وَلا يَزْنِينَ فقالت: أو تزني الحرة؟ تريد أن الزنا في الإماء بناء على ما كان في الجاهلية من أن الحرة لا تزني غالبا وإنما يزني في الغالب الإماء، وإنما قيد بالغالب لما قيل: إن ذوات الرايات كن حرائر، فقال: وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ فقالت: ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا- تعني ما كان من أمر ابنها حنظلة بن أبي سفيان فإنه قتل يوم بدر- فضحك عمر حتى استلقى وتبسم رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم- وفي رواية- أنها قالت: قتلت الآباء وتوصينا بالأولاد؟! فضحك صلّى الله تعالى عليه وسلم، فقال: وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ فقالت: والله إن البهتان لأمر قبيح ولا يأمر الله تعالى إلا بالرشد ومكارم الأخلاق، فقال: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء وكأن هذا منها دون غيرها من النساء لمكان أم حبيبة رضي الله تعالى عنها من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مع أنها حديثة عهد بجاهلية، ويروى أن أول من بايع النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم من النساء أم سعد بن معاذ وكبشة بنت رافع مع نسوة أخر رضي الله تعالى عنهن. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عن الحسن وابن زيد ومنذر بن سعيد أنهم اليهود لأنه عز وجل قد عبر عنهم في غير هذه الآية بالمغضوب عليهم، وروي أن قوما من فقراء المؤمنين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم فنزلت، قيل: هم اليهود والنصارى، وفي رواية عن ابن عباس أنهم كفار قريش. وقال غير واحد: هم عامة الكفرة وهذه الآية على ما قال الطيبي: متصلة بخاتمة قصة المشركين الذين نهي المؤمنون عن اتخاذهم أولياء بقوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ [الممتحنة: 1] وهي قوله سبحانه: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الممتحنة: 9] وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ إلخ مستطرد فإنه لما جرى حديث المعاملة مع الذين لا يقاتلون المسلمين والذين يقاتلونهم وقد أخرجوهم من ديارهم من الأمر بمبرة أولئك والنهي عن مبرة هؤلاء أتى بحديث المعاملة مع نسائهم، ولما فرغ من ذلك أوصل الخاتمة بالفاتحة على منوال رد العجز على الصدر من حيث المعنى، وفي الانتصاف جعل هذه الآية نفسها من باب الاستطراد وهو ظاهر على القول: بأن المراد بالقوم اليهود أو أهل الكتاب مطلقا، وقوله تعالى: قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ استئناف، والمراد قد يئسوا من خير الآخرة وثوابها لعنادهم الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم المنعوت في كتابهم المؤيد بالآيات البينات والمعجزات الباهرات، وإذا أريد بالقوم الكفرة فيأسهم من الآخرة لكفرهم بها. كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ أي الذين هم أصحاب القبور أي الكفار الموتى على أن مِنَ بيانية، والمعنى أن يأس هؤلاء من الآخرة كيأس الكفار الذين ماتوا وسكنوا القبور وتبينوا حرمانهم من نعيمها المقيم، وقيل: كيأسهم من أن ينالهم خير من هؤلاء الأحياء، والمراد وصفهم بكمال اليأس من الآخرة، وكون مِنَ بيانية مروي عن مجاهد وابن جبير وابن زيد، وهو اختيار ابن عطية وجماعة، واختار أبو حيان كونها لابتداء الغاية، والمعنى أن هؤلاء القوم المغضوب عليهم قد يئسوا من الآخرة كما يئسوا من موتاهم أن يبعثوا ويلقوهم في دار الدنيا، وهو مروي عن ابن عباس والحسن وقتادة، فالمراد بالكفار أولئك القوم، ووضع الظاهر موضع ضميرهم تسجيلا لكفرهم وإشعارا بعلة يأسهم، وقرأ ابن أبي الزناد كما يئس الكافر- بالإفراد على إرادة الجنس. هذا «ومن باب الاشارة في بعض الآيات» ما قيل: إن قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي الجزء: 14 ¦ الصفحة: 275 وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ إلخ إشارة للسالك إلى ترك موالاة النفس الإمارة وإلقاء المودة إليها فإنها العدو الأكبر كما قيل: أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك، وهي لا تزال كارهة للحق ومعارضة لرسول العقل نافرة له ولا تنفك عن ذلك حتى تكون مطمئنة راضية مرضية، وإليه الإشارة بقوله تعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وقوله سبحانه: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ إلخ اشارة إلى أنه متى أطاعت النفس وأمن جماحها جاز إعطاؤها حظوظها المباحة، وإليه الإشارة بما روي أن «لنفسك عليك حقا» وفي قوله سبحانه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ إلخ إشارة إلى مبايعة المرشد المريد الصادق ذا النفس المؤمنة وذلك أن يبايعه على ترك الاختيار وتفويض الأمور إلى الله عز وجل وأن لا يرغب فيما ليس له بأهل، وأن لا يلج في شهوات النفس، وأن لا يئد الوارد الإلهامي تحت تراب الطبيعة، وأن لا يفتري فيزعم أن الخاطر السري خاطر الروح وخاطر الروح خاطر الحق إلى غير ذلك، وأن لا يعصي في معروف يفيده معرفة الله عز وجل، وأن يطلب من الله سبحانه في ضمن المبالغة أن يستر صفاته بصفاته ووجوده بوجوده، وحاصله أن يطلب له البقاء بعد الفناء وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 276 سورة الصّفّ وتسمى أيضا سورة الحواريين وسورة عيسى عليه السلام، وهي مدنية في قول الجمهور، وروي ذلك عن ابن الزبير وابن عباس والحسن وقتادة وعكرمة ومجاهد، وقال ابن يسار: مكية، وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد أيضا، والمختار الأول، ويدل له ما أخرجه الحاكم وغيره عن عبد الله بن سلام قال: قعدنا نقرأ من أصحاب رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فتذاكرنا فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله تعالى لعملناه فأنزل الله سبحانه سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ [الصف: 1، 2] قال عبد الله فقرأها علينا رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم حتى ختمها، وروي هذا الحديث مسلسلا يقرأها علينا، وهو حديث صحيح على شرط الشيخين أخرجه الإمام أحمد والترمذي وخلق كثير حتى قال الحافظ ابن حجر: إنه أصح مسلسل يروي في الدنيا إن وقع في المسلسلات مثله في مزيد علوه، وكذا ما روي في سبب النزول عن الضحاك من أنه قول شباب من المسلمين: فعلنا في الغزو كذا ولم يفعلوا، وما روي عن ابن زيد من أنه قول المنافقين للمؤمنين: نحن منكم ومعكم ثم يظهر من أفعالهم خلاف ذلك. وآيها أربع عشرة آية بلا خلاف، ومناسبتها لما قبلها اشتمالها على الحث على الجهاد والترغيب فيه، وفي ذلك من تأكيد النهي عن اتخاذ الكفار أولياء الذي تضمنه ما قبل ما فيه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 277 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الكلام فيه كالكلام المار في نظيره، والنداء بوصف الايمان في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ على ما عدا القول الأخير في سبب النزول ظاهر، وعليه قيل: هو للتهكم بأولئك المنافقين وبإيمانهم، ولِمَ مركبة من اللام الجارة وما الاستفهامية قد حذف ألفها- على ما قال النحاة- للفرق بين الخبر والاستفهام ولم يعكس حرصا على الجواب، وقيل: لكثرة استعمالها معا فاستحق التخفيف وإثبات الكثرة المذكورة أمر عسير، وقيل: لاعتناقهما في الدلالة على المستفهم عنه، وبين بأن قولك: لم فعلت؟ مثلا المستفهم عنه علة الفعل فهو كالمركب من العلة والفعل والعلة مدلول اللام والفعل مدلول- ما- لأنها بمعنى أي شيء، والمفيد لذلك المجموع، وعند عدم الحرف المسئول عنه الفعل وحده وهو كما ترى، والمعنى لأي شيء تقولون ما لا تفعلونه من الخير والمعروف؟! على أن مدار التوبيخ في الحقيقة عدم فعلهم، وإنما وجه إلى قولهم تنبيها على تضاعف معصيتهم ببيان أن المنكر ليس ترك الخير الموعود فقط بل الوعد أيضا، وقد كانوا يحسبونه معروفا، ولو قيل: لم لا تفعلون ما تقولون لفهم منه أن المنكر هو ترك الموعود كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ بيان لغاية قبح ما فعلوه، وكَبُرَ من باب بئس فيه ضمير مبهم مفسر بالنكرة بعده، وأَنْ تَقُولُوا هو المخصوص بالذم، وجوز أن يكون في كَبُرَ ضمير يعود على المصدر المفهوم من قوله سبحانه: لِمَ تَقُولُونَ أي كبر هو أي القول مقتا وأَنْ تَقُولُوا بدل من المضمر أو خبر مبتدأ محذوف، وقيل: قصد فيه كثر التعجب من غير لفظه كما في قوله: وجارة جساس أبأنا بنابها ... كليبا غلت ناب كليب بواؤها ومعنى التعجب تعظيم الأمر في قلوب السامعين، وأسند إلى أَنْ تَقُولُوا ونصب مَقْتاً على تفسيره دلالة على أن قولهم: ما لا يَفْعَلُونَ مقت خالص لا شوب فيه لفرط تمكن المقت منه، واختير لفظ المقت لأنه أشد البغض وأبلغه، ومنه نكاح المقت لتزوج الرجل امرأة أبيه، ولم يقتصر على أن جعل البغض كبيرا حتى جعل أشده وأفحشه، وعند الله أبلغ من ذلك لأنه إذا ثبت كبر مقته عند الله تعالى الذي يحقر دونه سبحانه كل عظيم فقد تم كبره وشدته وانزاحت عنه الشكوك، وتفسير المقت بما سمعت ذهب إليه غير واحد من أهل اللغة، وقال ابن عطية: المقت البغض من أجل ذنب أو ريبة أو دناءة يصنعها الممقوت، وقال المبرد: رجل ممقوت ومقيت إذا كان يبغضه كل واحد، واستدل بالآية على وجوب الوفاء بالنذر وعن بعض السلف أنه قيل له: حدثنا فسكت، فقيل له: حدثنا فقال: وما تأمرونني أن أقول ما لا أفعل؟ فاستعجل مقت الله عز وجل، وقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ بيان لما هو مرضي عنده سبحانه وتعالى بعد بيان ما هو ممقوت عنده جل شأنه، وظاهره يرجح أن ما قالوه عبارة عن الوعد بالقتال دون ما يقتضيه ما روي عن الضحاك أو عن ابن زيد في سبب النزول، ويقتضي أن مناط التوبيخ هو إخلافهم لا وعدهم وصف مصدر وقع موقع اسم الفاعل، أو اسم المفعول، ونصبه على الحال من ضمير يُقاتِلُونَ أي صافين أنفسهم أو مصفوفين، وكَأَنَّهُمْ إلخ حال من المستكن في الحال الأولى أي مشبهين في تلاصقهم ببنيان إلخ، وهذا ما عناه الزمخشري بقوله: هما أي صَفًّا وكَأَنَّهُمْ إلخ حالان متداخلان، وقول ابن المنير: إن معنى التداخل أن الحال الأولى مشتملة على الحال الثانية فإن هيئة الاتصاف هي هيئة الارتصاص خلاف المعروف من التداخل في اصطلاح النحاة، وجوز أن يكون حالا ثانية من الضمير. وقال الحوفي: هو في موضع النعت- لصفا- وهو كما ترى، والمرصوص على ما قال الفراء ومنذر بن سعيد هو المعقود بالرصاص، ويراد به المحكم، وقال المبرد: رصصت البناء لاءمت بين أجزائه وقاربته حتى يصير كقطعة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 278 واحدة، ومنه الرصيص وهو انضمام الأسنان، والظاهر أن المراد تشبيههم في التحام بعضهم ببعض بالبنيان المرصوص من حيث إنهم لا فرجه بينهم ولا خلل، وقيل: المراد استواء نياتهم في الثبات حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص، والأكثرون على الأول، وفي أحكام القرآن فيه استحباب قيام المجاهدين للقتال صفوفا كصفوف الصلاة وأنه يستحب سدّ الفرج والخلل في الصفوف، وإتمام الصف الأول فالأول، وتسوية الصفوف عدم تقدم بعض على بعض فيها، وقال ابن الفرس: استدل به بعضهم على أن قتال الرجالة أفضل من قتال الفرسان لأن التراص إنما يمكن منهم، ثم قال: وهو ممنوع انتهى، ثم إن القتال على هذه الهيئة اليوم من أصول العساكر المحمدية النظامية لا زالت منصورة مؤيدة بالتأييدات الربانية، وأنت تعلم أن للوسائل حكم المقاصد فما يتوصل به إلى تحصيل الاتصاف بذلك مما لا ينبغي أن يتكاسل في تحصيله، وقرأ زيد بن علي يقاتلون بفتح التاء، وقرىء- يقتلون- وقوله تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي كلام مستأنف مقرر لما قبله من شناعة ترك القتال وَإِذْ منصوب على المفعولية بمضمر خوطب به سيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلم بطريق التلوين أي اذكر لهؤلاء المعرضين عن القتال وقت قول موسى عليه السلام لبني إسرائيل حين ندبهم إلى قتال الجبابرة بقوله: يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ [المائدة: 21] فلم يمتثلوا لأمره عليه السلام وعصوه أشد عصيان حيث قالوا: يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ إلى قوله تعالى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [المائدة: 22- 24] وأصروا على ذلك كل الإصرار وآذوه عليه السلام كل الأذية فربخهم على ذلك بقوله: يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي بالمخالفة والعصيان فيما أمرتكم به وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جملة حالية مؤكدة لإنكار الإيذاء ونفي سببه وَقَدْ لتحقيق العلم لا للتقليل ولا للتقريب لعدم مناسبة ذلك للمقام، وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار أي والحال أنكم تعلمون علما قطعيا مستمرا بمشاهدة ما ظهر على يدي من المعجزات الباهرة التي معظمها إهلاك عدوكم وإنجائكم من ملكته أني رسول الله إليكم لأرشدكم إلى خيري الدنيا والآخرة، ومن قضية علمكم بذلك أن تبالغوا في تعظيمي وتسارعوا إلى طاعتي فَلَمَّا زاغُوا أي أصروا على الزيغ والانحراف عن الحق الذي جاء به عليه السلام واستمروا عليه أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ أي صرفها عن قبول الحق والميل والميل إلى الصواب لصرف اختيارهم نحو العمى والضلال، وقيل: أي فلما زاغوا في نفس الأمر وبمقتضى ما هم عليه فيها أزاغ الله تعالى في الخارج قلوبهم إذ الإيجاد على حسب الإرادة، والإرادة على حسب العلم. والعلم على حسب ما عليه الشيء في نفس الأمر، وعلى الوجهين لا إشكال في الترتيب، وقوله تعالى: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله من الإزاغة ومؤذن بعلته أي لا يهدي القوم الخارجين عن الطاعة. ومنهاج الحق المصرين على الغواية هداية موصلة إلى البغية، وإلا فالهداية إلى ما يوصل إليها شاملة للكل، والمراد بهم إما المذكورون خاصة والإظهار في مقام الإضمار لذمهم بالفسق وتعليل عدم الهداية به، أو جنس الفاسقين وهم داخلون في حكمهم دخولا أوليا، قيل: وأيا ما كان فهو ناظر إلى ما في قوله تعالى: فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [المائدة: 25] وقوله سبحانه: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ [المائدة: 26] هذا وقيل: إذ ظرف متعلق بفعل مقدر يدل عليه ما بعد كزاغوا ونحوه، والجملة معطوفة على ما قبلها عطف القصة على القصة. وذهب بعضهم إلى أن إيذاءهم إياه عليه السلام بما كان من انتقاصه وعيبه في نفسه وجحود آياته وعصيانه فيما تعود إليهم منافعه وعبادتهم البقر وطلبهم رؤية الله سبحانه جهرة والتكذيب الذي هو حق الله تعالى وحقه عليه السلام، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 279 وما ذكر أولا هو الذي تقتضيه جزالة النظم الكريم ويرتضيه الذوق السليم وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ إما معطوف على إذ الأولى معمول لعاملها، وإما معمول لمضمر معطوف على عاملها يا بَنِي إِسْرائِيلَ ولعله عليه السلام لم يقل يا قومي كما قال موسى عليه السلام بل قال: يا بَنِي إِسْرائِيلَ لأنه ليس له النسب المعتاد وهو ما كان من قبل الأب فيهم، أو إشارة إلى أنه عامل بالتوراة وأنه مثلهم في أنه من قوم موسى عليه السلام هضما لنفسه بأنه لا أتباع له ولا قوم، وفيه من الاستعطاف ما فيه، وقيل: إن الاستعطاف بما ذكر لما فيه من التعظيم، وقد كانوا يفتخرون بنسبتهم إلى إسرائيل عليه السلام. إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ أي مرسل منه تعالى إليكم حال كوني مصدقا، فنصب مُصَدِّقاً على الحال من الضمير المستتر في رَسُولُ وهو العامل فيه، وإِلَيْكُمْ متعلق به، وهو ظرف لغو لا ضمير فيه ليكون صاحب حال، وذكر هذا الحال لأنه من أقوى الدواعي إلى تصديقهم إياه عليه السلام، وقوله تعالى: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي معطوف على مُصَدِّقاً، وهو داع أيضا إلى تصديقه عليه السلام من حيث إن البشارة بهذا الرسول صلّى الله عليه وسلم واقعة في التوراة كقوله تعالى في الفصل العشرين من السفر الخامس منها: أقبل الله من سينا وتجلى من ساعير وظهر من جبال فاران معه الربوات الأطهار عن يمينه، وقوله سبحانه في الفصل الحادي عشر من هذا السفر: يا موسى إني سأقيم لبني إسرائيل نبيا من إخوتهم مثلك أجعل كلامي في فيه، ويقول لهم ما آمره فيه، والذي لا يقبل قول ذلك النبي الذي يتكلم باسمي أنا أنتقم منه ومن سبطه إلى غير ذلك، ويتضمن كلامه عليه السلام أن دينه التصديق بكتب الله تعالى وأنبيائه عليهم السلام جميعا من تقدم ومن تأخر، وجملة يَأْتِي إلخ في موضع الصفة- لرسول- وكذا جملة قوله تعالى: اسْمُهُ أَحْمَدُ وهذا الاسم الجليل علم لنبينا محمد صلّى الله عليه وسلم، وعليه قول حسان: صلى الإله ومن يحف بعرشه ... والطيبون على المبارك أحمد وصح من رواية مالك والبخاري ومسلم والدارمي الترمذي والنسائي عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إن لي أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي. وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا العاقب» والعاقب الذي ليس بعده نبي وهو منقول من المضارع للمتكلم أو من أفعل التفضيل من الحامدية، وجوز أن يكون من المحمودية بناء على أنه قد سمع أحمد اسم تفضيل منها نحو العود أحمد، وإلا فأفعل من المبني للمفعول ليس بقياسي، وقرىء «من بعدي» بفتح الياء، هذا وبشارته عليه السلام بنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم مما نطق به القرآن المعجز، فإنكار النصارى ذلك ضرب من الهذيان، وقولهم: ولو وقعت لذكرت في الإنجيل الملازمة فيه ممنوعة، وإذا سلمت قلنا: بوقوعها في الإنجيل إلا أن جامعيه بعد رفع عيسى عليه السلام أهملوها اكتفاء بما في التوراة ومزامير داود عليه السلام وكتب شعياء وحبقوق وأرمياء وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام. ويجوز أن يكونوا قد ذكروها إلا أن علماء النصارى بعد- حبا لدينهم أو لأمر ما غير ذلك- أسقطوها كذا قيل، وأنا أقول: الأناجيل التي عند النصارى أربعة: إنجيل متى من الاثني عشر الحواريين جمعه باللغة السريانية بأرض فلسطين بعد رفع عيسى عليه السلام بثماني سنين وعدة إصحاحاته ثمانية وستون إصحاحا، وإنجيل مرقص وهو من السبعين جمعه باللغة الفرنجية بمدينة رومية بعد الرفع باثنتي عشرة سنة وعدة إصحاحاته ثمانية وأربعون إصحاحا، وإنجيل لوقا وهو من السبعين أيضا جمعه بالإسكندرية باللغة اليونانية وعدة إصحاحاته ثلاثة وثمانون إصحاحا، وإنجيل الجزء: 14 ¦ الصفحة: 280 يوحنا وهو حبيب المسيح جمعه بمدينة إقسس من بلاد رومية بعد الرفع بثلاثين سنة وعدة إصحاحاته في النسخ القبطية ثلاثة وثلاثون إصحاحا وهي مختلفة، وفيها ما يشهد الإنصاف بأنه ليس كلام الله عز وجل ولا كلام عيسى عليه السلام كقصة صلبه الذي يزعمونه ودفنه ورفعه من قبره إلى السماء فما هي إلا كتواريخ وتراجم فيها شرح بعض أحوال عيسى عليه السلام ولادة ورفعا ونحو ذلك، وبعض كلمات له عليه السلام على نحو بعض الكتب المؤلفة في بعض الأكابر والصالحين فلا يضر إهمالها بعض الأحوال، والكلمات التي نطق القرآن العظيم بها ككلامه عليه السلام في المهد وبشارته بنبينا صلّى الله تعالى عليه وسلم على أن في إنجيل يوحنا ما هو بشارة بذلك عند من أنصف وسلك الصراط السوي وما تعسف. ففي الفصل الخامس عشر منه قال يسوع المسيح: إن الفارقليط روح الحق الذي يرسله أبي يعلمكم كل شيء، وقال يوحنا أيضا: قال المسيح: من يحبني يحفظ كلمتي وأبي يحبه وإليه يأتي وعنده يتخذ المنزلة كلمتكم بهذا لأني لست عندكم بمقيم، والفارقليط روح القدس الذي يرسله أبي هو يعلمكم كل شيء وهو يذكركم كل ما قلت لكم أستودعكم سلامي لا تقلق قلوبكم ولا تجزع فإني منطلق وعائد إليكم لو كنتم تحبوني كنتم تفرحون بمضيي إلى الأب، وقال أيضا: إن خيرا لكم أن أنطلق لأبي لأني إن لم أذهب لم يأتكم الفارقليط فإذا انطلقت أرسلته إليكم فإذا جاء فهو يوبخ العالم على الخطيئة وإن لي كلاما كثيرا أريد قوله ولكنكم لا تستطيعون حمله لكن إذا جاء روح الحق ذاك الذي يرشدكم إلى جميع الحق لأنه ليس ينطق من عنده بل يتكلم بما يسمع ويخبركم بكل ما يأتي ويعرفكم جميع ما للأب، وقال أيضا: إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي وأنا أطلب من الأب أن يعطيكم فار قليطا آخر يثبت معكم إلى الأبد روح الحق الذي لم يطق العالم أن يقبلوه لأنهم لم يعرفوه ولست أدعكم أيتاما لأني سآتيكم من قريب، والفارقليط لفظ يؤذن بالحمد، وتعين إرادته صلّى الله تعالى عليه وسلم من كلامه عليه السلام مما لا غبار عليه لمن كشف الله تعالى غشاوة التعصب عن عينيه، وقد فسره بعض النصارى بالحماد، وبعضهم بالحامد فيكون في مدلوله إشارة إلى اسمه عليه الصلاة والسلام أحمد، وفسره بعضهم بالمخلص لقول عيسى عليه السلام: فالله يرسل مخلصا آخر فلا يكون ما ذكر بشارة به صلّى الله تعالى عليه وسلم بعنوان الحمد لكنه بشارة به صلّى الله تعالى عليه وسلم بعنوان التخليص، فيستدل به على ثبوت رسالته صلّى الله تعالى عليه وسلم، وإن لم يستدل به على ما في الآية هنا، وزعم بعضهم أن الفارقليط إشارة إلى ألسن نارية نزلت من السماء على التلاميذ ففعلوا الآيات والعجائب، ولا يخفى أن وصفه بآخر يأبى ذلك إذا لم يتقدم لهم غيره فَلَمَّا جاءَهُمْ أي عيسى عليه السلام بِالْبَيِّناتِ أي بالمعجزات الظاهرة. قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ مشيرين إلى ما جاء به عليه السلام، فالتذكير بهذا الاعتبار، وقيل: مشيرين إليه عليه السلام وتسميته سحرا للمبالغة، ويؤيده قراءة عبد الله وطلحة والأعمش وابن وثاب- هذا ساحر- وكون فاعل جاءَهُمْ ضمير عيسى عليه السلام هو الظاهر لأنه المحدث عنه، وقيل: هو ضمير أَحْمَدُ عليه الصلاة والسلام لما فرغ من كلام عيسى تطرق إلى الإخبار عن أحمد صلّى الله تعالى عليه وسلم أي فلما جاء أحمد هؤلاء الكفار بالبينات قالُوا إلخ. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 281 وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ أي الناس أشد ظلما ممن يدعى إلى الإسلام الذي يوصله إلى سعادة الدارين فيضع موضع الاجابة الافتراء على الله عز وجل بتكذيب رسوله وتسمية آياته سحرا فإن الافتراء على الله تعالى يعم نفي الثابت وإثبات المنفي أي لا أظلم من ذلك، والمراد أنه أظلم من كل ظالم، وقرأ طلحة «يدّعي» مضارع- ادعى- مبنيا للفاعل وهو ضميره تعالى: ويُدْعى بمعنى يدعو يقال: دعاه وادعاه نحو لمسه والتمسه، وقيل: الفاعل ضمير المفتري، وادعى يتعدى بنفسه إلى المفعول به لكنه لما ضمن معنى الانتماء والانتساب عدي بإلى أي وهو ينتسب إلى الإسلام مدعيا أنه مسلم وليس بذاك، وعنه «يدّعى» مضارع ادعى أيضا لكنه مبني للمفعول، ومعناه كما سبق، والآية فيمن كذب من هذه الأمة على ما يقتضيه ما بعد، وهي إن كانت في بني إسرائيل الذين جاءهم عيسى عليه السلام ففيها تأييد لمن ذهب إلى عدم اختصاص الإسلام بالدين الحق الذي جاء به نبينا صلّى الله تعالى عليه وسلم. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي لا يرشدهم إلى ما فيه فلاحهم لسوء استعدادهم وعدم توجههم إليه يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ تمثيل لحالهم في اجتهادهم في إبطال الحق بحالة من ينفخ الشمس بفيه ليطفئها تهكما وسخرية بهم كما تقول الناس: هو يطفىء عين الشمس، وذهب بعض الأجلة إلى أن المراد بنور الله دينه تعالى الحق كما روي عن السدي على سبيل الاستعارة التصريحية، وكذا في قوله سبحانه: وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ومُتِمُّ تجريد، وفي قوله تعالى: بِأَفْواهِهِمْ تورية، وعن ابن عباس وابن زيد يريدون إبطال القرآن وتكذيبه بالقول، وقال ابن بحر: يريدون إبطال حجج الله تعالى بتكذيبهم، وقال الضحاك: يريدون هلاك الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم بالأراجيف، وقيل: يريدون إبطال شأن النبي صلّى الله عليه وسلم وإخفاء ظهوره بكلامهم وأكاذيبهم، فقد روي عن ابن عباس أن الوحي أبطأ أربعين يوما فقال كعب بن الأشرف: يا معشر يهود أبشروا أطفأ الله تعالى نور محمد فيما كان ينزل عليه، وما كان ليتم نوره فحزن الرسول صلّى الله عليه وسلم فنزلت يُرِيدُونَ إلى آخره ، وفي يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا مذاهب: أحدها أن اللام زائدة والفعل منصوب بأن مقدرة بعدها، وزيدت لتأكيد معنى الإرادة لما في لام العلة من الإشعار بالإرادة والقصد كما زيدت اللام في: لا أبا لك لتأكيد معنى الإضافة ثانيها أنها غير زائدة للتعليل، ومفعول يُرِيدُونَ محذوف أي يريدون الافتراء لأن يطفئوا ثالثها أن الفعل أعني يُرِيدُونَ حال محل المصدر مبتدأ واللام للتعليل والمجرور بها خبر أي إرادتهم كائنة للإطفاء والكلام نظير- تسمع بالمعيدي خير من أن تراه- من وجه، ورابعها أن اللام مصدرية بمعنى أن غير تقدير والمصدر مفعول به ويكثر ذلك بعد فعل الإرادة والأمر، خامسها أن يُرِيدُونَ منزل منزلة اللازم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 282 لتأويله بيوقعون الإرادة، قيل: وفيه مبالغة لجعل كل إرادة لهم للإطفاء وفيه كلام في شرح المغني. وغيره. وقرأ العربيان ونافع وأبو بكر والحسن وطلحة والأعرج وابن محيصن «متمّ» بالتنوين «نوره» بالنصب على المفعولية لمتم وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ حال من المستكن في مُتِمُّ وفيه إشارة إلى أنه عز وجل متم ذلك إرغاما لهم هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ محمدا صلّى الله عليه وسلم بِالْهُدى بالقرآن، أو بالمعجزة بجعل ذلك نفس الهدى مبالغة وَدِينِ الْحَقِّ والملة الحنيفية لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ليعليه على جميع الأديان المخالفة له، ولقد أنجز الله عز وجل وعده حيث جعله بحيث لم يبق دين من الأديان إلا وهو مغلوب مقهور بدين الإسلام. وعن مجاهد إذا نزل عيسى عليه السلام لم يكن في الأرض إلا دين الإسلام، ولا يضر في ذلك ما روي أنه يأتي على الناس زمان لا يبقى فيه من الإسلام إلا اسمه إذ لا دلالة في الآية على الاستمرار، وقيل: المراد بالإظهار الإعلاء من حيث وضوح الأدلة وسطوع البراهين وذلك أمر مستمر أبدا وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ذلك لما فيه من محض التوحيد وإبطال الشرك، وقرىء هو الذي أرسل نبيه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ جليلة الشأن تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ يوم القيامة، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق والأعرج وابن عامر «تنجّيكم» بالتشديد، وقوله تعالى: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ استئناف بياني كأنه قيل: ما هذه التجارة؟ دلنا عليه: فقيل: تُؤْمِنُونَ إلخ، والمضارع في الموضوعين كما قال المبرد وجماعة خبر بمعنى الأمر أي آمنوا وجاهدوا، ويؤيده قراءة عبد الله كذلك، والتعبير به للإيذان بوجوب الامتثال كأن الإيمان والجهاد قد وقعا فأخبر بوقوعهما، والخطاب إذا كان للمؤمنين الخلّص فالمراد تثبتون وتدومون على الإيمان أو تجمعون بين الإيمان والجهاد أي بين تكميل النفس وتكميل الغير وإن كان للمؤمنين ظاهرا فالمراد تخلصون الإيمان، وأيا ما كان فلا إشكال في الأمر، وقال الأخفش: تُؤْمِنُونَ إلخ عطف بيان على تِجارَةٍ، وتعقب بأنه لا يتخيل إلا على تقدير أن يكون الأصل أن تؤمنوا حتى يتقدر بمصدر، ثم حذف أن فارتفع الفعل كما في قوله: ألا أيهذا الزاجري احضر الوغى يريد أن احضر فلما حذف أن ارتفع الفعل وهو قليل، وقال ابن عطية: تُؤْمِنُونَ فعل مرفوع بتقدير ذلك أنه تؤمنون، وفيه حذف المبتدأ وأن واسمها وإبقاء خبرها، وذلك على ما قال أبو حيان: لا يجوز، وقرأ زيد بن علي- تؤمنوا وتجاهدوا- بحذف نون الرفع فيهما على إضمار لام الأمر أي لتؤمنوا وتجاهدوا، أو ولتجاهدوا كما في قوله: قلت لبواب على بابها ... تأذن لنا إني من أحمائها وكذا قوله: محمد تفد نفسك كل نفس ... إذا ما خفت من أمر تبالا وجوز الاستئناف، والنون حذفت تخفيفا كما في قراءة «ساحران يظاهرا» (1) وقوله: ونقري ما شئت أن تنقري ... قد رفع الفخ فماذا تحذري   (1) سورة: القصص، الآية: 480. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 283 وكذا قوله: أبيت أسري وتبيتي تدلكي ... وجهك بالعنبر والمسك الذكي وأنت تعلم أن هذا الحذف شاذ ذلِكُمْ أي ما ذكر من الإيمان والجهاد خَيْرٌ لَكُمْ على الإطلاق أو من أموالكم وأنفسكم إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي إن كنتم من أهل العلم إذ الجهلة لا يعتدّ بأفعالهم حتى توصف بالخيرية، وقيل: أي إن كنتم تعلمون أنه خير لكم كان خيرا لكم حينئذ لأنكم إذا علمتم ذلك واعتقدتم أحببتم الإيمان والجهاد فوق ما تحبون أموالكم وأنفسكم فتخلصون وتفلحون يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ جواب للأمر المدلول عليه بلفظ الخبر كما في قولهم: اتقى الله تعالى امرؤ وفعل خيرا يثب عليه أو جواب لشرط، أو استفهام دل عليه الكلام، والتقدير أن تؤمنوا وتجاهدوا يغفر لكم. أو هل تقبلون أن أدلكم؟ أو هل تتجرون بالإيمان والجهاد؟ يغفر لكم، وقال الفراء: جواب للاستفهام المذكور أي هل أدلكم، وتعقب بأن مجرد الدلالة لا يوجب المغفرة، وأجيب بأنه كقوله تعالى: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ [إبراهيم: 31] وقد قالوا فيه: إن القول لما كان للمؤمن الراسخ الإيمان كان مظنة لحصول الامتثال فجعل كالمحقق وقوعه فيقال هاهنا: لما كانت الدلالة مظنة لذلك نزلت منزلة المحقق، ويؤيده إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لأن من له عقل إذا دله سيده على ما هو خير له لا يتركه، وادعاء الفرق بمأثمة من الإضافة التشريفية وما هنا من المعاتبة قيل: غير ظاهر فتدبر، والإنصاف أن تخريج الفراء لا يخلو عن بعد، وأما ما قيل: من أن الجملة مستأنفة لبيان أن ذلك خير لهم، ويَغْفِرْ مرفوع سكن آخره كما سكن آخر «أشرب» في قوله: فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثما من الله ولا واغل فليس بشيء لما صرحوا به من أن ذلك ضرورة وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً أي طاهرة زكية مستلذة، وهذا إشارة إلى حسنها بذاتها، وقوله تعالى: فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ إشارة إلى حسنها باعتبار محلها ذلِكَ أي ما ذكر من المغفرة وما عطف عليها الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الذي لا فوز وراءه وَأُخْرى أي ولكم إلى ما ذكر من النعم نعمة أخرى، فأخرى مبتدأ، وهي في الحقيقة صفة للمبتدأ المحذوف أقيمت مقامه بعد حذفه، والخبر محذوف قاله الفراء، وقوله تعالى: تُحِبُّونَها في موضع الصفة، وقوله سبحانه: نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ أي عاجل بدل أو عطف بيان، وجملة المبتدأ وخبره قيل: حالية وفي الكشف إنها عطف على جواب الأمر أعني يغفر من حيث المعنى كما تقول: جاهدوا تؤجروا ولكم الغنيمة وفي تُحِبُّونَها تعبير لهم وكذلك في إيثار الاسمية على الفعلية وعطفها عليها كأن هذه عندهم أثبت وأمكن ونفوسهم إلى نيلها والفوز أسكن. وقيل: أُخْرى مبتدأ خبره نَصْرٌ وقال قوم: هي في موضع نصب بإضمار فعل أي ويعطكم أخرى، وجعل ذلك من باب: علفتها تبنا وماء باردا ومنهم من قدر تحبون أخرى على أنه من باب الاشتغال، ونَصْرٌ على التقديرين خبر مبتدأ محذوف أي ذلك أو هو نَصْرٌ، أو مبتدأ خبره محذوف أي نصر وفتح قريب عنده، وقال الأخفش: هي في موضع جر بالعطف على تِجارَةٍ وهو كما ترى. وقرأ ابن أبي عبلة نصرا وفتحا قريبا بالنصب بأعني مقدرا، أو على المصدر أي تنصرون نصرا ويفتح لكم فتحا، أو على البدلية من أُخْرى على تقدير نصبها وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ عطف على قل مقدرا قبل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، وقيل: على أبشر مقدرا أيضا، والتقدير فأبشر يا محمد وبشر. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 284 وقال الزمخشري: هو عطف على تُؤْمِنُونَ لأنه في معنى الأمر كأنه قيل: آمنوا وجاهدوا يثبكم الله تعالى وينصركم وبشر يا رسول الله المؤمنين بذلك، وتعقبه في الإيضاح بأن فيه نظرا لأن المخاطبين في تُؤْمِنُونَ هم المؤمنون، وفي بَشِّرِ هو النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم، ثم قوله تعالى: تُؤْمِنُونَ بيان لما قبله على طريق الاستئناف فكيف يصح عطف بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه؟ وأجيب بما خلاصته أن قوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا للنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم وأمته كما تقرر في أصول الفقه، وإذ فسر بآمنوا وبشر دل على تجارته عليه الصلاة والسلام الرابحة وتجارتهم الصالحة، وقدم آمَنُوا لأنه فاتحة الكل ثم لو سلم فلا مانع من العطف على جواب السائل بما لا يكون جوابا إذا ناسبه فيكون جوابا للسؤال وزيادة كيف وهو داخل فيه؟ كأنهم قالوا: دلنا يا ربنا فقيل: آمنوا يكن لكم كذا وبشرهم يا محمد بثبوته لهم، وفيه من إقامة الظاهر مقام المضمر وتنويع الخطاب ما لا يخفى نبل موقعه، واختاره صاحب الكشف فقال: إن هذا الوجه من وجه العطف على قل ووجه العطف على فابشر لخلوهما عن الفوائد المذكورة يعني ما تضمنه الجواب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ أي نصرة دينه سبحانه وعونة رسوله عليه الصلاة والسلام، وقرأ الأعرج وعيسى وأبو عمرو والحرميان «أنصارا لله» بالتنوين وهو للتبعيض فالمعنى كونوا بعض أنصاره عز وجل. وقرأ ابن مسعود- على ما في الكشاف- كونوا أنتم أنصار الله، وفي موضح الأهوازي والكواشي- أنتم- دون كُونُوا كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ أن من جندي متوجها إلى نصرة الله تعالى ليطابق قوله سبحانه: قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ وقيل: إِلَى بمعنى مع ونَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ بتقدير نحن أنصار نبي الله فيحصل التطابق، والأول أولى، والإضافة في أَنْصارِي إضافة أحد المتشاركين إلى الآخر لأنهما لما اشتركا في نصرة الله عز وجل كان بينهما ملابسة تصحح إضافة أحدهما للآخر والإضافة في أَنْصارَ اللَّهِ إضافة الفاعل إلى المفعول والتشبيه باعتبار المعنى إذ المراد قل لهم ذلك كما قال عيسى، وقال أبو حيان: هو على معنى قلنا لكم كما قال عيسى. وقال الزمخشري: هو على معنى كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ وخلاصته على ما قيل: إن ما مصدرية وهي مع صلتها ظرف أي كونوا أنصار الله وقت قولي لكم ككون الحواريين أنصاره وقت قول عيسى، ثم قيل: كونوا أنصاره كوقت قول عيسى هذه المقالة، وجيء بحديث سؤاله عن الناصر وجوابهم فهو نظير كاليوم في قولهم: كاليوم رجل أي كرجل رأيته اليوم فحذف الموصوف مع صفته، واكتفى بالظرف عنهما لدلالته على الفعل الدال على موصوفه، وهذا من توسعاتهم في الظروف، وقد جعلت الآية من الاحتباك، والأصل كونوا أنصار الله حين قال لكم النبي صلّى الله عليه وسلم: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ كما كان الحواريون أنصار الله حين قال لهم عيسى عليه السلام مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ فحذف من كل منهما ما دل عليه المذكور في الآخر، وهو لا يخلو عن حسن، والْحَوارِيُّونَ أصفياؤه عليه السلام، والعدول عن ضميرهم إلى الظاهر الاعتناء بشأنهم، وهم أول من آمن به وكانوا اثني عشر رجلا فرقهم- على ما في البحر- عيسى عليه السلام في البلاد، فمنهم من أرسله إلى رومية، ومنهم من أرسله إلى بابل، ومنهم من أرسله إلى إفريقية، ومنهم من أرسله إلى أفسس، ومنهم من أرسله إلى بيت المقدس، ومنهم من أرسله إلى الحجاز، ومنهم من أرسله إلى أرض البربر وما حولها وتعيين المرسل إلى كل فيه، ولست على ثقة من صحة ذلك ولا من ضبط أسمائهم، وقد ذكرها السيوطي أيضا في الإتقان فليلتمس ضبط ذلك في مظانه، واشتقاق الحواريين من الحور- وهو البياض- وسموا بذلك لأنهم كانوا قصارين، وقيل: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 285 للبسهم البياض، وقيل: لنقاء ظاهرهم وباطنهم، وزعم بعضهم أن ما قيل: من أنهم كانوا قصارين إشارة إلى أنهم كانوا يطهرون نفوس الناس بإفادتهم الدين والعلم، وما قيل: من أنهم كانوا صيادين إشارة إلى أنهم كانوا يصطادون نفوس الناس من الحيرة ويقودونهم إلى الحق. وقيل: الحواريون المجاهدون، وفي الحديث «لكم نبي حواري وحواريي الزبير» وفسر بالخاصة من الأصحاب والناصر، وقال الأزهري: الذي أخلص ونقي من كل عيب، وعن قتادة إطلاق الحواري على غيره رضي الله تعالى عنه أيضا، فقد قال: إن الحواريين كلهم من قريش أبو بكر وعمر وعلي وحمزة وجعفر وأبو عبيدة بن الجراح وعثمان بن مظعون وعبد الرحمن بن عوف وسعد ابن أبي وقاص وعثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام رضي الله تعالى عنهم أجمعين. فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ أي بعيسى عليه السلام وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ أخرى فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ وهم الذي كفروا فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ فصاروا غالبين قال زيد بن علي وقتادة: بالحجة والبرهان، وقيل: إن عيسى عليه السلام حين رفع إلى السماء قالت طائفة من قومه: إنه الله سبحانه، وقالت أخرى: إنه ابن الله- تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا- رفعه الله عز وجل إليه، وقالت طائفة: إنه عبد الله ورسوله فاقتتلوا فظهرت الفرقتان الكافرتان على الفرقة المؤمنة حتى بعث النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فظهرت المؤمنة على الكافرتين، وروي ذلك عن ابن عباس، وقيل: اقتتل المؤمنون والكفرة بعد رفعه عليه السلام فظهر المؤمنون على الكفرة بالسيف، والمشهور أن القتال ليس من شريعته عليه السلام، وقيل: المراد فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ بمحمد عليه الصلاة والسلام وكفرت أخرى به صلّى الله تعالى عليه وسلم فأيدنا المؤمنين على الكفرة فصاروا غالبين وهو خلاف الظاهر والله تعالى أعلم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 286 سورة الجمعة مدنية كما روي عن ابن عباس وابن الزبير والحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة وإليه ذهب الجمهور، وقال ابن يسار: هي مكية، وحكي ذلك عن ابن عباس ومجاهد والأول هو الصحيح لما في صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة قال: كنا جلوسا عند النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم حين أنزلت سورة الجمعة الحديث، وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى، وإسلامه رضي الله تعالى عنه بعد الهجرة بمدة بالاتفاق، ولأن أمر الانفضاض الذي تضمنه آخر السورة وكذا أمر اليهود المشار إليه بقوله سبحانه: قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ [الجمعة: 6] إلخ- لم يكن إلا بالمدينة- وآيها إحدى عشرة آية بلا خلاف، ووجه اتصالها بما قبلها أنه تعالى لما ذكر فيما قبل حال موسى عليه السلام مع قومه وأذاهم له ناعيا عليهم ذلك ذكر في هذه السورة حال الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم وفضل أمته تشريفا لهم لينظر فضل ما بين الأمتين، ولذا تعرض فيها لذكر اليهود، وأيضا لما حكي هناك قول عيسى عليه السلام وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف: 6] قال سبحانه هنا: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [الجمعة: 2] إشارة إلى أنه الذي بشر به عيسى، وأيضا لما ختم تلك السورة بالأمر بالجهاد وسماه تِجارَةٍ [الصف: 10] ختم هذه بالأمر بالجمعة وأخبر أن ذلك خير من التجارة الدنيوية. وأيضا في كلتا السورتين إشارة إلى اصطفاف في عبادة، أما في الأولى فظاهر، وأما في هذه فلأن فيها الأمر بالجمعة، وهي يشترط فيها الجماعة التي تستلزم الاصطفاف إلى غير ذلك، وقد كان صلّى الله تعالى عليه وسلم- كما أخرج مسلم- وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن ابن عباس- يقرأ في الجمعة بسورتها- وإِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ [المنافقون: 1] . وأخرج ابن حبان والبيهقي في سننه عن جابر بن سمرة أنه قال: كان رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم يقرأ في صلاة المغرب ليلة الجمعة قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [الكافرون: 1] وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1] وكان يقرأ في صلاة العشاء الأخيرة ليلة الجمعة سورة الجمعة. والمنافقون - وفي ذلك دلالة على مزيد شرف هذه السورة. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 287 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ تسبيحا متجددا على سبيل الاستمرار الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ صفات للاسم الجليل، وقد تقدم معناها، وقرأ أبو وائل، ومسلمة بن محارب، ورؤبة، وأبو الدينار، والأعرابي برفعها على المدح، وحسن ذلك الفصل الذي فيه نوع طول بين الصفة والموصوف، وجاء كذلك عن يعقوب، وقرأ أبو الدينار، وزيد بن علي «القدّوس» بفتح القاف هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ يعني سبحانه العرب لأن أكثرهم لا يكتبون ولا يقرؤون. وقد أخرج البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي عن ابن عمر عن النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم قال: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب» وأريد بذلك أنهم على أصل ولادة أمهم لم يتعلموا الكتابة والحساب فهم على جبلتهم الأولى، فالأمي نسبة إلى الأم التي ولدته، وقيل: نسبة إلى أمة العرب وقيل: إلى أم القرى، والأول أشهر، واقتصر بعضهم في تفسيره على أنه الذي لا يكتب، والكتابة على ما قيل: بدئت بالطائف أخذوها من أهل الحيرة وهم من أهل الأنبار، وقرىء الأمين بحذف ياء النسب رَسُولًا مِنْهُمْ أي كائنا من جملتهم، فمن تبعيضية، والبعضية: إما باعتبار الجنس فلا تدل على أنه عليه الصلاة والسلام أمي، أو باعتبار الخاصة المشتركة في الأكثر فتدل، واختار هذا جمع، فالمعنى رسولا من جملتهم أميا مثلهم يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ مع كونه أميا مثلهم لم يعهد منه قراءة ولا تعلم وَيُزَكِّيهِمْ عطف على يَتْلُوا فهو صفة أيضا- لرسولا- أي يحملهم على ما يصيرون به أزكياء طاهرين من خبائث العقائد والأعمال. وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ صفة أيضا- لرسولا- مترتبة في الوجود على التلاوة. وإنما وسط بينهم التزكية التي هي عبارة عن تكميل النفس بحسب قوتها العملية وتهذيبها المتفرع على تكميلها بحسب القوة النظرية الحاصل بالتعلم المترتب على التلاوة للإيذان بأن كلا من الأمور المترتبة نعمة جليلة على حيالها مستوجبة للشكر، ولو روعي ترتيب الوجود لربما يتبادر إلى الفهم كون الكل نعمة واحدة كما مر في سورة البقرة، وهو السر في التعبير عن القرآن تارة بالآيات وأخرى بالكتاب والحكمة رمزا إلى أنه باعتبار كل عنوان نعمة على حدة. ولا يقدح فيه شمول الحكمة لما في تضاعيف الأحاديث النبوية من الأحكام والشرائع قاله بعض الأجلة، وجوز كون الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ كناية عن جميع النقليات والعقليات كالسماوات والأرض بجميع الموجودات. والأنصار والمهاجرين بجميع الصحابة رضي الله تعالى عنهم وفيه من الدلالة على مزيد علمه صلّى الله تعالى عليه وسلم ما فيه ولو لم يكن له عليه الصلاة والسلام سوى ذلك معجزة لكفاه كما أشار إليه البوصيري بقوله: كفاك بالعلم في الأمي معجزة ... في الجاهلية والتأديب في اليتم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 288 وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ من الشرك وخبث الجاهلية، وهو بيان لشدة افتقارهم إلى من يرشدهم وإن كانت نسبة الضلال إليهم باعتبار الأكثر إذ منهم مهتد كورقة وأضرابه، وفي الكلام إزاحة لما عسى أن يتوهم من تعلمه عليه الصلاة والسلام من الغير وَإِنْ هي المخففة واللام هي الفارقة وَآخَرِينَ جمع آخر بمعنى الغير، وهو عطف على الْأُمِّيِّينَ أي وفي آخرين مِنْهُمْ أي من الأميين، ومن- للتبيين لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي لم يلحقوا بهم بعد وسيلحقون، وهم الذين جاؤوا بعد الصحابة إلى يوم الدين وجوز أن يكون عطفا على المنصوب في وَيُعَلِّمُهُمُ أي ويعلمهم ويعلم آخرين فإن التعليم إذا تناسق إلى آخر الزمان كان كله مستندا إلى أوله فكأنه عليه الصلاة والسلام هو الذي تولى كل ما وجد منه واستظهر الأول، والمذكور في الآية قومه صلّى الله تعالى عليه وسلم، وجنس الذين بعث فيهم، وأما المبعوث إليهم فلم يتعرض له فيها نفيا أو إثباتا، وقد تعرض لإثباته في آيات أخر، وخصوص القوم لا ينافي عموم ذلك فلا إشكال في تخصيص الآخرين بكونهم من الأميين أي العرب في النسب، وقيل: المراد من الأميين في الأمية فيشمل العجم، وبهم فسره مجاهد- كما رواه عنه ابن جرير وغيره- وتعقب بأن العجم لم يكونوا أميين. وقيل: المراد منهم في كونهم منسوبين إلى أمة مطلقا لا في كونهم لا يقرؤون ولا يكتبون، وهو كما ترى إلا أنه لا يشكل عليه- وكذا على ما قبله- ما أخرجه البخاري والترمذي والنسائي وجماعة عن أبي هريرة قال: «كنا جلوسا عند النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم حين أنزلت سورة الجمعة فتلاها فلما بلغ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ قال له رجل: يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا؟ فوضع يده على سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه، وقال: والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لناله رجال من هؤلاء» فإنه صلّى الله تعالى عليه وسلم أشار بذلك إلى أنهم فارس ، ومن المعلوم أنهم ليسوا من الأميين المراد بهم العرب في النسب. وقال بعض أهل العلم: المراد بالأميين مقابل أهل الكتاب لعدم اعتناء أكثرهم بالقراءة والكتابة لعدم كتاب لهم سماوي تدعوهم معرفته إلى ذلك فيشمل الفرس إذ لا كتاب لهم كالعرب، وعلى ذلك يخرج ما أشار إليه الحديث من تفسير الآخرين بالفرس وهو مع ذلك باب التمثيل، والاقتصار على بعض الأنواع بناء على أن بعض الأمم لا كتاب لهم أيضا، وربما يقال: إن- من- في مِنْهُمْ اسمية بمعنى بعض مبتدأ كما قيل في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ [البقرة: 8] وضمير الجمع- لآخرين- وجملة لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ خبر فيشمل آخرين، طوائف الناس الذين يلحقون إلى يوم القيامة من العرب والروم والعجم وغيرهم وبذلك فسره الضحاك وابن حيان ومجاهد في رواية، ويكون الحديث من باب الاقتصار والتمثيل كقول ابن عمر: هم أهل اليمن، وابن جبير هم الروم والعجم فتدبر. وزعم بعضهم أن المراد بقوله تعالى: لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ أنهم لم يلحقوا بهم في الفضل لفضل الصحابة على التابعين ومن بعدهم، وفيه أن لَمَّا منفيها مستمر إلى الحال ويتوقع وقوعه بعده فتفيد أن لحوق التابعين ومن بعدهم في الفضل للصحابة متوقع الوقوع مع أنه ليس كذلك، وقد صرحوا أنه لا يبلغ تابعي وإن جل قدرا في الفضل مرتبة صحابي وإن لم يكن من كبار الصحابة، وقد سئل عبد الله بن المبارك عن معاوية وعمر بن عبد العزيز أيهما أفضل؟ فقال: الغبار الذي دخل أنف فرس معاوية أفضل عند الله من مائة عمر بن عبد العزيز فقد صلّى معاوية خلف رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فقرأ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] إلخ فقال معاوية: آمين، واستدل على عدم اللحوق بما صح من قوله عليه الصلاة والسلام فيهم: «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» على القول بأن الخطاب لسائر الأمة، وأما قوله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «أمتي كالمطر لا يدري الجزء: 14 ¦ الصفحة: 289 أوله خير أم آخره» فمبالغة في خيريتهم كقول القائل في ثوب حسن البطانة: لا يدرى ظهارته خير أم بطانته ذلِكَ إشارة إلى ما تقدم من كونه عليه الصلاة والسلام رسولا في الأميين ومن بعدهم معلما مزكيا وما فيه من معنى البعد للتعظيم أي ذلك الفضل العظيم فَضْلُ اللَّهِ وإحسانه جل شأنه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ من عباده تفضلا، ولا يشاء سبحانه إيتاءه لأحد بعده صلّى الله تعالى عليه وسلم. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ الذي يستحقر دونه نعم الدنيا والآخرة مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ أي علموها وكلفوا العمل بما فيها، والتحميل في هذا شائع يلحق بالحقيقة، والمراد بهم اليهود ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها أي لم يعملوا بما في تضاعيفها التي من جملتها الآيات الناطقة بنبوة رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم. كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً أي كتبا كبارا على ما يشعر به التنكير، وإيثار لفظ السفر وما فيه من معنى الكشف من العلم يتعب بحملها ولا ينتفع بها، ويَحْمِلُ إما حال من- الحمار- لكونه معرفة لفظا والعامل فيه معنى المثل، أو صفة له لأن تعريفه ذهني فهو معنى نكرة فيوصف بما توصف به على الأصح. ونسب أبو حيان للمحققين تعين الحالية في مثل ذلك، ووجه ارتباط الآية بما قبلها تضمنها الإشارة إلى أن ذلك الرسول المبعوث قد بعثه الله تعالى بما نعته به في التوراة وعلى ألسنة أنبياء بني إسرائيل كأنه قيل: هو الذي بعث المبشر به في التوراة المنعوت فيها بالنبي الأمي المبعوث إلى أمة أميين، مثل من جاءه نعته فيها وعلمه ثم لم يؤمن به مثل الحمار، وفي الآية دليل على سوء حال العالم الذي لا يعمل بعلمه، وتخصيص الحمال بالتشبيه به لأنه كالعلم في الجهل، ومن ذلك قوله الشاعر: ذوو أمل للأسفار لا علم عندهم ... بجيدها إلا كعلم الأباعر لعمرك ما يدري البعير إذا غدا ... بأوساقه أو راح ما في الغرائر بناء على نقل عن ابن خالويه أن البعير اسم من أسماء الحمار كالجمل البازل، وقرأ يحيى بن يعمر وزيد بن علي «حملوا» مبنيا للفاعل، وقرأ عبد الله- حمار- بالتنكير، وقرىء «يحمّل» بشد الميم مبنيا للمفعول بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ أي بئس مثل القوم مثل الذين كذبوا فحذف المضاف وهو المخصوص بالذم وأقيم المضاف إليه مقامه، ويجوز أن يكون الَّذِينَ صفة القوم، والمخصوص محذوف أي بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله هو، والضمير راجع إلى مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ، وظاهر كلام الكشاف أن المخصوص هو مَثَلُ المذكور، والفاعل مستتر يفسره تمييز محذوف، والتقدير بئس مثلا مثل القوم إلخ، وتعقب بأن سيبويه نص على أن التمييز الذي يفسر الضمير المستتر في باب نعم لا يجوز حذفه ولو سلم جوازه فهو قليل، وأجيب بأن ذاك تقرير لحاصل المعنى وهو أقرب لاعتبار الوجه الأول، وكان قول ابن عطية التقدير بئس المثل القوم من ذلك الباب، وإلا ففيه حذف الفاعل، وقد قالوا بعدم جوازه إلا في مواضع ليس هذا منها وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي الواضعين للتكذيب في موضع التصديق، أو الظالمين لأنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد بسبب التكذيب. قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا أي تهودوا أي صاروا يهودا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ أي أحباء له سبحانه ولم يضف أولياء إليه تعالى كما في قوله سبحانه: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ قال الطيبي: ليؤذن بالفرق بين مدعي الولاية ومن يخصه عز وجل بها مِنْ دُونِ النَّاسِ حال من الضمير الراجع إلى اسم إِنْ أي متجاوزين عن الناس فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ أي فتمنوا من الله تعالى أن يميتكم وينقلكم من دار البلية إلى محل الكرامة إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه أي إن كنتم صادقين في زعمكم واثقين بأنه حق فتمنوا الموت فإن من الجزء: 14 ¦ الصفحة: 290 أيقن أنه من أهل الجنة أحب أن يتخلص إليها من هذه الدار التي هي قرارة الأنكاد والأكدار، وأمر صلّى الله تعالى عليه وسلم أن يقول لهم ذلك إظهارا لكذبهم فإنهم كانوا يقولون: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 18] ويدّعون أن الآخرة لهم عند الله خالصة ويقولون: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً [البقرة: 111] وروي أنه لما ظهر رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم كتبت يهود المدينة ليهود خيبر: إن اتبعتم محمدا أطعناه وإن خالفتموه خالفناه. فقالوا: نحن أبناء خليل الرحمن ومنا عزير ابن الله والأنبياء ومتى كانت النبوة في العرب نحن أحق بها من محمد ولا سبيل إلى اتباعه فنزلت قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا الآية، واستعمال إِنْ التي للشك مع الزعم وهو محقق للإشارة إلى أنه لا ينبغي أن يجزم به لوجود ما يكذبه. وقرأ ابن يعمر وابن أبي إسحاق وابن السميفع «فتمنّوا الموت» بكسر الواو تشبيها بلو استطعنا، وعن ابن السميفع أيضا فتحها، وحكى الكسائي عن بعض الأعراب أنه قرأ بالهمزة مضمومة بدل الواو وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً إخبار بحالهم المستقبلة وهو عدم تمنيهم الموت، وذلك خاص على ما صرح به جمع بأولئك المخاطبين، وروي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال لهم: «والذي نفسي بيده لا يقولها أحد منكم إلا غص بريقه» فلم يتمنه أحد منهم وما ذلك إلا لأنهم كانوا موقنين بصدقه عليه الصلاة والسلام فعلموا أنهم لو تمنوا لماتوا من ساعتهم ولحقهم الوعيد، وهذه إحدى المعجزات، وجاء نفي هذا التمني في آية أخرى- بلن- وهو من باب التفنن على القول المشهور في أن كلا من- لا- ولن- لنفي المستقبل من غير تأكيد، ومن قال: بإفادة- لن- التأكيد فوجه اختصاص التوكيد عنده بذلك الموضع أنهم ادعوا الاختصاص دون الناس في الموضعين، وزادوا هنالك أنه أمر مكشوف لا شبهة فيه محققة عند الله فناسب أن يؤكد ما ينفيه، والباء في قوله سبحانه: بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ سببية متعلقة بما يدل عليه النفي أي يأبون التمني بسبب ما قدمت، وجوز تعلقه بالانتفاء كأنه قيل: انتفى تمنيهم بسبب ما قدمت كما قيل ذلك في قوله تعالى: ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [القلم: 2] والمراد بما قدمته أيديهم الكفر والمعاصي الموجبة لدخول النار، ولما كانت اليد من بين جوارح الإنسان مناط عامة أفعاله عبر بها تارة عن النفس وأخرى عن القدرة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ أي بهم وإيثار الإظهار على الإضمار لذمهم والتسجيل عليهم بأنهم ظالمون في كل ما يأتون ويذرون من الأمور التي من جملتها ادعاء ما هم عنه بمعزل، والجملة تذييل لما قبلها مقررة لما أشار إليه من سوء أفعالهم واقتضائها العذاب أي والله تعالى عليم بما صدر منهم من فنون الظلم والمعاصي وبما سيكون منهم فيجازيهم على ذلك. قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ ولا تجسرون على أن تمنوه مخافة أن تؤخذوا بوبال أفعالكم فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ البتة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه والجملة خبر إِنَّ والفاء لتضمن الاسم معنى الشرط باعتبار وصفه بالموصول، فإن الصفة والموصوف كالشيء الواحد، فلا يقال: إن الفاء إنما تدخل الخبر إذا تضمن المبتدأ معنى الشرط، والمتضمن له الموصول وليس بمبتدأ، ودخولها في مثل ذلك ليس بلازم كدخولها في الجواب الحقيقي، وإنما يكون لنكتة تليق بالمقام وهي هاهنا المبالغة في عدم الفوت، وذلك أن الفرار من الشيء في مجرى العادة سبب الفوت عليه فجيء بالفاء لإفادة أن الفرار سبب الملاقاة مبالغة فيما ذكر وتعكيسا للحال، وقيل: ما في حيزها جواب من حيث المعنى على معنى الإعلام فتفيد أن الفرار المظنون سببا للنجاة سبب للإعلام بملاقاته كما في قوله تعالى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل: 53] وهو وجه ضعيف فيما نحن فيه لا مبالغة فيه من حيث المعنى، ومنع قوم منهم الفراء دخول الفاء في نحو هذا، وقالوا: هي هاهنا زائدة، وجوز أن يكون الموصول خبر إِنَّ والفاء عاطفة كأنه قيل: إن الموت هو الشيء الذي تفرون منه فيلاقيكم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 291 وقرأ زيد بن علي «إنه ملاقيكم» بدون فاء، وخرج على أن الخبر هو الموصول وهذه الجملة مستأنفة أو هي الخبر والموصول صفة كما في قراءة الجمهور، وجوز أن يكون الخبر مُلاقِيكُمْ وإنه- توكيدا لأن الموت، وذلك أنه لما طال الكلام أكد الحرف مصحوبا بضمير الاسم الذي لأن، وقرأ ابن مسعود «تفرون منه ملاقيكم» بدون الفاء ولا- إنه- وهي ظاهرة ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الذي لا يخفى عليه خافية. فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الكفر والمعاصي بأن يجازيكم بها، واستشعر غير واحد من الآية ذم الفرار من الطاعون، والكلام في ذلك طويل، فمنهم من حرمه- كابن خزيمة- فإنه ترجم في صحيحه- باب الفرار من الطاعون من الكبائر- وأن الله تعالى يعاقب من وقع منه ذلك ما لم يعف عنه، واستدل بحديث عائشة «الفرار من الطاعون كالفرار من الزحف» رواه الإمام أحمد والطبراني وابن عدي وغيرهم، وسنده حسن. وذكر التاج السبكي أن الأكثر على تحريمه، ومنهم من قال: بكراهته كالإمام مالك، ونقل القاضي عياض وغيره جواز الخروج عن الأرض التي يقع بها عن جماعة من الصحابة منهم أبو موسى الأشعري والمغيرة بن شعبة، وعن التابعين منهم الأسود بن هلال ومسروق، وروى الإمام أحمد والطبراني أن عمرو بن العاص قال في الطاعون في آخر خطبته: إن هذا رجز مثل السيل من تنكبه أخطأه ومثل النار من تنكبها أخطأها ومن أقام أحرقته، وفي لفظ إن هذا الطاعون رجس فتفرقوا منه في الشعاب وهذه الأودية فتفرقوا فبلغ ذلك عمر رضي الله تعالى عنه فلم ينكره ولم يكرهه، وعن طارق بن شهاب قال: كنا نتحدث إلى أبي موسى الأشعري وهو في داره بالكوفة فقال لنا وقد وقع الطاعون: لا عليكم أن تنزحوا عن هذه القرية فتخرجوا في فسيح بلادكم حتى يرفع هذا الوباء فإني سأخبركم بما يكره من ذلك، أن يظن من خرج أنه لو أقام فأصابه ذلك أنه لو خرج لم يصبه فاذا لم يظن هذا فلا عليه أن يخرج ويتنزه عنه. وأخرج البيهقي وغيره عنه بسند حسن أنه قال: إن هذا الطاعون قد وقع فمن أراد أن يتنزه عنه فليفعل واحذروا اثنتين أن يقول قائل: خرج خارج فسلم وجلس جالس فأصيب، فلو كنت خرجت لسلمت كما سلم فلان ولو كنت جلست أصبت كما أصيب فلان، ويفهم أنه لا بأس بالخروج مع اعتقاد أن كل مقدر كائن، وكأني بك تختار ذلك، لكن في فتاوى العلامة ابن حجر أن محل النزاع فيما إذا خرج فارا منه مع اعتقاد أنه لو قدر عليه لأصابه وأن فراره لا ينجيه لكن يخرج مؤملا أن ينجو أما الخروج من محله بقصد أن له قدرة على التخلص من قضاء الله تعالى وأن فعله هو المنجي له فواضح أنه حرام بل كفر اتفاقا. وأما الخروج لعارض شغل أو للتداوي من علة طعن فيه أو غير ذلك فهو مما لا ينبغي أن يختلف في جوازه كما صرح به بعض المحققين، ومن ذلك فيما أرى عروض وسوسة طبيعية له لا يقدر على دفعها تضر به ضررا بينا وغلبة ظن عدم دفنه أو تغسيله إذا مات في ذلك المحل قيل: ولا يقاس على الفرار من الطاعون الفرار من غيره من المهالك فإنه مأمور به وقد قال الجلال السيوطي: الفرار من الوباء كالحمى ومن سائر أسباب الهلاك جائز بالإجماع، والطاعون مستثنى من عموم المهالك المأمور بالفرار منها للنهي التحريمي أو التنزيهي عن الفرار منه واختلفوا في علة النهي فقيل: هي أن الطاعون إذا وقع في بلد مثلا عم جميع من فيه بمداخلة سببه فلا يفيد الفرار منه بل إن كان أجله قد حضر فهو ميت وإن رحل وإلا فلا، وإن أقام فتعينت الإقامة لما في الخروج من العبث الذي لا يليق بالعقلاء، واعترض بمنع عمومه إذا وقع في بلد جميع من فيه بمداخلة سببه ولو سلم فالوباء مثله في أن الشخص الذي في بلده إن كان أجله قد حضر فهو ميت وإن رحل وإلا فلا وإن أقام مع أنهم جوزوا الفرار منه، وقيل: هي أن الناس لو تواردوا على الخروج لضاعت المرضى العاجزون عن الخروج لفقد من يتعهدهم والموتى لفقد من يجهزهم، وأيضا في خروج الأقوياء كسرا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 292 لقلوب الضعفاء عن الخروج، وأيضا إن الخارج يقول: لو لم أخرج لمت، والمقيم: لو خرجت لسلمت فيقعان في اللو المنهي عنه، واعترض كل ذلك بأنه موجود في الفرار عن الوباء أيضا، وكذا الداء الحادث ظهوره المعروف بين الناس بأبي زوعة الذي أعيا الأطباء علاجه ولم ينفع فيه التحفظ والعزلة على الوجه المعروف في الطاعون، وقيل: هي إن للميت به وكذا للصابر المحتسب المقيم في محله وإن لم يمت به أجر شهيد، وفي الفرار إعراض عن الشهادة وهو محل التشبيه في حديث عائشة عند بعض، واعترض بأنه قد صح أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم مر بحائط مائل فأسرع ولم يمنع أحد من ذلك. وكذا من الفرار من الحريق مع أن الميت بذلك شهيد أيضا، وذهب بعض العلماء إلى أن النهي تعبدي وكأنه لما رأى أنه لا تسلم علة له عن الطعن قال ذلك، ولهم في هذه المسألة رسائل عديدة فمن أراد استيفاء الكلام فيها فليرجع إليها. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ أي فعل النداء لها أي الأذان، والمراد به على ما حكاه في الكشاف الأذان عند قعود الإمام على المنبر. وقد كان لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم مؤذن واحد فكان إذا جلس على المنبر أذن على باب المسجد فإذا نزل عليه الصلاة والسلام أقام الصلاة، ثم كان أبو بكر وعمر على ذلك حتى إذا كان عثمان وكثر الناس وتباعدت المنازل زاد مؤذنا آخر فأمر بالتأذين الأول على داره التي تسمى زوراء فإذا جلس على المنبر أذن المؤذن الثاني فإذا نزل أقام الصلاة فلم يعب ذلك عليه. وفي حديث الجماعة- إلا مسلما- فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء، وفي رواية للبخاري ومسلم زاد النداء الثاني، والكل بمعنى، وتسمية ما يفعل من الأذان أولا ثانيا باعتبار أنه لم يكن على عهد رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وإنما كان بعد، وتسميته ثالثا لأن الإقامة تسمى أذانا كما في الحديث «بين كل أذانين صلاة» وقال مفتي الحنفية في دار السلطنة السنية الفاضل سعد الله جلبي: المعتبر في تعلق الأمر يعني قوله تعالى الآتي: فَاسْعَوْا هو الأذان الأول في الأصح عندنا لأن حصول الإعلام به لا الأذان بين يدي المنبر، ورد بأن الأول لم يكن على عهد النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم كما سمعت فكيف يقال: المراد الأول في الأصح، وأما كون الثاني لا إعلام فيه فلا يضر لأن وقته معلوم تخمينا ولو أريد ما ذكر وجب بالأول السعي وحرم البيع وليس كذلك. وفي كتاب الأحكام روي عن ابن عمر والحسن في قوله تعالى: إِذا نُودِيَ إلخ قال: إذا خرج الإمام وأذن المؤذن فقد نودي للصلاة انتهى، وهو التفسير المأثور فلا عبرة بغيره كذا قال الخفاجي. وفي كتب الحنفية خلافه ففي الكنز وشرحه: ويجب السعي وترك البيع بالأذان الأول لقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ الآية وإنما اعتبر لحصول الإعلام به، وهذا القول هو الصحيح في المذهب، وقيل: العبرة للأذان الثاني الذي يكون بين يدي المنبر لأنه لم يكن في زمنه إلا هو- وهو ضعيف- لأنه لو اعتبر في وجوب الجزء: 14 ¦ الصفحة: 293 السعي لم يتمكن من السنة القبلية ومن الاستماع بل ربما يخشى عليه فوات الجمعة انتهى، ونحوه كثير لكن الاعتراض عليه قوي فتدبر مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ أي فيه كما في قوله تعالى: أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ [فاطر: 40] أي فيها، وجوز أبو البقاء أيضا كون مِنْ للتبعيض، وفي الكشاف هي بيان- لإذا- وتفسير له، والظاهر أنه أراد البيان المشهور فأورد عليه أن شرط مِنْ البيانية أن يصح حمل ما بعدها على المبين قبلها وهو منتف هنا لأن الكل لا يحمل على الجزء واليوم لا يصح أن يراد به هنا مطلق الوقت لأن يوم الجمعة علم لليوم المعروف لا يطلق على غيره في العرف ولا قرينة عليه هنا وقيل: أراد البيان اللغوي أي لبيان أن ذلك الوقت في أي يوم من الأيام إذا فيه إبهام فيجامع كونها بمعنى في، وكونها للتبعيض وهو كما ترى. والجمعة بضم الميم وهو الأفصح، والأكثر الشائع، وبه قرأ الجمهور وقرأ ابن الزبير وأبو حيوة وابن أبي عبلة وزيد بن علي والأعمش بسكونها، وروي عن أبي عمرو- وهي لغة تميم- وجاء فتحها ولم يقرأ به، ونقل بعضهم الكسر أيضا، وذكروا أن الجمعة بالضم مثل الجمعة بالإسكان. ومعناه المجموع أي يوم الفوج المجموع كقولهم: ضحكة للمضحوك منه، وأما الجمعة: بالفتح فمعناه الجامع أي يوم الوقت الجامع كقولهم: ضحكة لكثير الضحك، وقال أبو البقاء: الجمعة بضمتين وبإسكان الميم مصدر بمعنى الاجتماع. وقيل: في المسكن هو بمعنى المجتمع فيه كرجل ضحكة أي كثير الضحك منه انتهى، وقد صار يوم الجمعة علما على اليوم المعروف من أيام الأسبوع، وظاهر عبارة أكثر اللغويين أن الجمعة وحدها من غير يوم صارت علما له ولا مانع منه، وإضافة العام المطلق إلى الخاص جائزة مستحسنة فيما إذا خفي الثاني كما هنا لأن التسمية حادثة كما ستعلمه إن شاء الله تعالى فليست قبيحة كالإضافة في إنسان زيد، وكانت العرب- على ما قال غير واحد- تسمي يوم الجمعة عروبة، قيل: وهو علم جنس يستعمل بأل وبدونها وقيل: أل لازمة، قال الخفاجي: والأول أصح. وفي النهاية لابن الأثير عروبة اسم قديم للجمعة، وكأنه ليس بعربي يقال: يوم عروبة، ويوم العروبة، والأفصح أن لا يدخلها الألف واللام انتهى، وما ظنه من أنه ليس بعربي جزم به مختصر كتاب التذييل والتكميل مما استعمل من اللفظ الدخيل لجمال الدين عبد الله بن أحمد الشهير بالشيشي فقال: عروبة منكرا ومعرفا هو يوم الجمعة اسم سرياني معرب، ثم قال: قال السهيلي: ومعنى العروبة الرحمة فيما بلغنا عن بعض أهل العلم انتهى وهو غريب فليحفظ. وأول من سماه جمعة قيل: كعب بن لؤي، وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلّى الله عليه وسلم وقبل أن تنزل الجمعة قالت الأنصار: لليهود يوم يجتمعون فيه بكل سبعة أيام وللنصارى مثل ذلك فهلم فلنجعل لنا يوما نجتمع فيه فنذكر الله تعالى ونشكره، فقالوا: يوم السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى فاجعلوه يوم العروبة، وكانوا يسمون يوم الجمعة بذلك فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم فسموه الجمعة حين اجتمعوا إليه فذبح لهم شاة فتغذوا وتعشوا منها وذلك لعامتهم، فأنزل الله تعالى في ذلك بعد يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ الآية، وكون أسعد هذا أول من جمع مروي عن غير ابن سيرين أيضا، أخرج أبو داود وابن ماجة وابن حبان والبيهقي عن عبد الرحمن بن كعب أن أباه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم على أسعد بن زرارة فقلت: يا أبتاه أرأيت استغفارك لأسعد بن زرارة كلما سمعت الأذان للجمعة ما هو؟ قال: لأنه أول من جمع بنا في نقيع الخضمات من حرة بني بياضة قلت: كم كنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلا، وظاهر قوله ابن سيرين: فأنزل الله تعالى في ذلك بعد يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ أن أسعد أقام الجمعة قبل أن تفرض، وكذا قوله: جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلّى الله عليه وسلم وقبل أن تنزل الجمعة، في فتح القدير التصريح بذلك، وقال العلامة ابن حجر الجزء: 14 ¦ الصفحة: 294 في تحفة المحتاج: فرضت- يعني صلاة الجمعة- بمكة ولم نقم بها لفقد العدد، أو لأن شعارها الإظهار، وكان صلى الله تعالى عليه وسلم بها مستخفيا، وأول من أقامها بالمدينة قبل الهجرة أسعد بن زرارة بقرية على ميل من المدينة انتهى، فلعلها فرضت ثم نزلت الآية كالوضوء للصلاة فإنه فرض أولا بمكة مع الصلاة ثم نزلت آيته لكن يعكر على هذا ما أخرجه ابن ماجة عن جابر أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم خطب فقال: «إن الله افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا في يومي هذا في شهري هذا في عامي هذا إلى يوم القيامة فمن تركها استخفافا بها أو جحودا بها فلا جمع الله شمله ولا بارك له في أمره ألا ولا صلاة له ولا زكاة له ولا حج له ولا صوم له ولا بر له حتى يتوب فمن تاب تاب الله عليه» فإن الظاهر أن هذه الخطبة كانت في المدينة بل ظاهر الخبر أنها بعد الهجرة بكثير إذ ظاهر قوله عليه الصلاة والسلام فيه: «لا حج له» أن الحج كان مفروضا إذ ذاك، وهو وإن اختلف في وقت فرضه فقيل: فرض قبل الهجرة، وقيل: أول سنيها، وقيل: ثانيها، وهكذا إلى العاشرة لكن قالوا: إن الأصح أنه فرض في السنة السادسة فإما أن يقدح في صحة الحديث، وإما أن يقال: مفاده افتراض الجمعة إلى يوم القيامة أي بهذا القيد، ويقال: إن الحاصل قبل افتراضها غير مقيد بهذا القيد ثم ما تقدم من كون أسعد أول من جمع بالمدينة يخالفه ما أخرج الطبراني من أبي مسعود الأنصاري قال: أول من قدم من المهاجرين المدينة مصعب بن عمير، وهو أول من جمع بها يوم الجمعة جمع بهم قبل أن يقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهم اثنا عشر رجلا. وأخرج البخاري على ما نقله السيوطي نحوه وكان ذلك بأمره عليه الصلاة والسلام، فقد أخرج الدارقطني عن ابن عباس قال: أذن النبي عليه الصلاة والسلام بالجمعة قبل أن يهاجر ولم يستطع أن يجمع بمكة فكتب إلى مصعب ابن عمير: أما بعد فانظر اليوم الذي تجهر فيه اليهود بالزبور فاجمعوا نساءكم وأبناءكم فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة فتقربوا إلى الله تعالى بركعتين قال: فهو أول من جمع حتى قدم النبي صلّى الله عليه وسلم المدينة فجمع عند الزوال من الظهر وأظهر ذلك فلعل ما يدل على كون أسعد أول من جمع أثبت من هذه الأخبار أو يجمع بأن أسعد أول من أقامها بغير أمر منه صلّى الله تعالى عليه وسلم كما يدل عليه خبر ابن سيرين، وصرح به ابن الهمام ومصعبا أول من أقامها بأمره عليه الصلاة والسلام، أو بأن مصعبا أول من أقامها في المدينة نفسها وأسعد أول من أقامها في قرية قرب المدينة، وقولهم: في المدينة تسامح، وقال الحافظ ابن حجر: يجمع بين الحديثين بأن أسعد كان أميرا، ومصعبا كان إماما وهو كما ترى، ولم يصرح في شيء من الأخبار التي وقفت عليها فيمن أقامها قبل الهجرة بالمدينة بالخطبة التي هي أحد شروطها، وكان في خبر ابن سيرين رمزا إليها بقوله: وذكرهم، وقد يقال: إن صلاة الجمعة حقيقة شرعية في الصلاة المستوفية للشروط، فمتى قيل: إن فلانا أول من صلّى الجمعة كان متضمنا لتحقق الشروط لكن يبعد كل البعد كون ما وقع من أسعد رضي الله تعالى عنه إن كان قبل فرضيتها مستوفيا لما هو معروف اليوم من الشروط، ثم إني لا أدري هل صلّى أسعد الظهر ذلك اليوم أم اكتفى بالركعتين اللتين صلاهما عنها؟ وعلى تقدير الاكتفاء كيف ساغ له ذلك بدون أمره عليه الصلاة والسلام؟! وقصارى ما يظن أن الأنصار علموا فرضية الجمعة بمكة وعلموا شروطها وإغناءها عن صلاة الظهر فأرادوا أن يفعلوها قبل أن يؤمروا بخصوصهم فرغب خواصهم عوامهم على أحسن وجه وجاؤوا إلى أسعد فصلى بهم وهو خلاف الظاهر جدا فتدبر والله تعالى الموفق. وأما ما كان من صلاته عليه الصلاة والسلام إياها فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة مهاجرا نزل قبا على بني عمرو بن عوف وأقام بها يوم الأثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وأسس مسجدهم ثم خرج يوم الجمعة إلى المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم فخطب وصلّى الجمعة وهو أول جمعة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 295 صلاها عليه الصلاة والسلام ، وقال بعضهم: إنما سمي هذا اليوم يوم الجمعة لأن آدم عليه السلام اجتمع فيه مع حواء في الأرض، وقيل: لأن خلق آدم عليه السلام جمع فيه وهو نحو ما أخرجه سعيد بن منصور وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قلت: «يا نبي الله لأي شيء سمي يوم الجمعة؟ فقال: لأن فيها جمعت طينة أبيكم آدم عليه السلام» الخبر، ويشعر ذلك بأن التسمية كانت قبل كعب بن لؤي ويسميه الملائكة يوم القيامة يوم المزيد لما أن الله تعالى يتجلى فيه لأهل الجنة فيعطيهم ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر كما في حديث رواه ابن أبي شيبة عن أنس مرفوعا وهو من أفضل الأيام ، وفي خبر رواه كثيرون منهم الإمام أحمد وابن ماجة عن أبي لبابة بن عبد المنذر مرفوعا «يوم الجمعة سيد الأيام وأعظم عند الله تعالى من يوم الفطر ويوم الأضحى» وفيه أن فيه خلق آدم وإهباطه إلى الأرض وموته وساعة الإجابة- أي للدعاء- ما لم يكن سؤال حرام وقيام الساعة، وفي خبر الطبراني «وفيه دخل الجنة وفيه خرج» . وصحح ابن حبان خبر «لا تطلع الشمس ولا تغرب على يوم أفضل من يوم الجمعة» وفي خبر مسلم «فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها وفيه تقوم الساعة وأنه خير يوم طلعت عليه الشمس» وصح خبر «وفيه تيب عليه وفيه مات» . وأخذ أحمد من خبري مسلم وابن حبان أنه أفضل حتى من يوم عرفة، وفضل كثير من الحنابلة ليلته على ليلة القدر، قيل: ويردهما أن لذينك دلائل خاصة فقدمت، واختلف في تعيين ساعة الإجابة فيه، فعن أبي بردة: هي حين يقوم الإمام في الصلاة حتى ينصرف عنها، وعن الحسن: هي عند زوال الشمس، وعن الشعبي: هي ما بين أن يحرم البيع إلى أن يحل، وعن عائشة: هي حين ينادي المنادي بالصلاة، وفي حديث مرفوع أخرجه ابن أبي شيبة عن كثير ابن عبد الله المزني: هي حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها ، وعن أبي أمامة إني لأرجو أن تكون الساعة التي في الجمعة إحدى هذه الساعات: إذا أذن المؤذن أو جلس الإمام على المنبر، أو عند الإقامة، وعن طاوس ومجاهد: هي بعد العصر، وقيل: غير ذلك، ولم يصح تعيين الأكثرين، وقد أخفاها الله تعالى كما أخفى سبحانه الاسم الأعظم وليلة القدر وغيرها لحكمة لا تخفى. فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ أي امشوا إليه بدون إفراط في السرعة، وجاء في الحديث مقابلة السعي بالمشي، وجعل ذلك في خصائص الجمعة، فقد أخرج الستة في كتبهم عن أبي سلمة من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا» والمراد بذكر الله الخطبة والصلاة، واستظهر أن المراد به الصلاة، وجوز كون المراد به الخطبة- وهو على ما قيل- مجاز من إطلاق البعض على الكل كإطلاقه على الصلاة، أو لأنها كالمحل له، وقيل: الذكر عام يشمل الخطبة المعروفة ونحو التسبيحة، واستدلوا بالآية لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه على أنه يكفي في خطبة الجمعة التي هي شرط لصحتها الذكر مطلقا ولا يشترط الطويل وأقله قدر التشهد كما اشترطه صاحباه، وبينوا ذلك بأنه تعالى ذكر الذكر من غير فصل بين كونه ذكرا طويلا يسمى خطبة أو ذكرا لا يسمى خطبة فكان الشرط هو الذكر الأعم بالقاطع غير أن المأثور عنه صلّى الله تعالى عليه وسلم اختيار أحد الفردين وهو الذكر المسمى بالخطبة والمواظبة عليه فكان ذلك واجبا أو سنة لا أنه الشرط الذي لا يجزىء غيره إذ لا يكون بيانا لعدم الإجمال في لفظ الذكر، والشافعية يشترطون خطبتين: ولهما أركان عندهم، واستدلوا على ذلك بالآثار، وأيا ما كان فالأمر بالسعي للوجوب. واستدل بذلك على فرضية الجمعة حيث رتب فيها الأمر بالسعي لذكر الله تعالى على النداء للصلاة فإن أريد به الجزء: 14 ¦ الصفحة: 296 الصلاة أو هي والخطبة فظاهر، وكذلك إن أريد به الخطبة لأن افتراض السعي إلى الشرط- وهو المقصود لغيره- فرع افتراض ذلك الغير، ألا ترى أن من لم تجب عليه الصلاة لا يجب عليه السعي إلى الجمعة بالإجماع؟ وكذا ثبتت فرضيتها بالسنة والإجماع، وقد صرح بعض الحنفية بأنها آكد فرضية من الظهر وبإكفار جاحدها وهي فرض عين، وقيل: كفاية وهو شاذ، وفي حديث رواه أبو داود وقال النووي: على شرط الشيخين «الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض» . وأجمعوا على اشتراط العدد فيها لهذا الخبر وغيره، وقول القاشاني: تصح بواحد لا يعتد به كما في شرح المهذب لكنهم اختلفوا في مقداره على أقوال: أحدها أنه اثنان أحدهما الإمام- وهو قول النخعي والحسن بن صالح وداود- الثاني: ثلاثة أحدهم الإمام- وحكي عن الأوزاعي وأبي ثور وعن أبي يوسف ومحمد وحكاه الرافعي وغيره عن قول الشافعي القديم- الثالث: أربعه أحدهم الإمام- وبه قال أبو حنيفة والثوري والليث وحكاه ابن المنذر عن الأوزاعي وأبي ثور واختاره، وحكاه في شرح المهذب عن محمد، وحكاه صاحب التلخيص قولا للشافعي في القديم- الرابع: سبعة- حكي عن عكرمة- الخامس: تسعة- حكي عن ربيعة- السادس: اثني عشر- وفي رواية عن ربيعة. وحكاه الماوردي عن محمد والزهري والأوزاعي- السابع: ثلاثة عشر أحدهم الإمام- حكي عن إسحاق بن راهويه- الثامن: عشرون- رواه ابن حبيب عن مالك- التاسع: ثلاثون- في رواية عن مالك- العاشر: أربعون أحدهم الإمام- وبه قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة والإمام الشافعي في الجديد، وهو المشهور عن الإمام أحمد، وأحد القولين المرويين عن عمر بن عبد العزيز- الحادي عشر: خمسون- في الرواية الأخرى عنه- الثاني عشر: ثمانون- حكاه المازري- الثالث عشر: جمع كثير بغير قيد- وهو مذهب مالك- فقد اشتهر أنه قال: لا يشترط عدد معين بل يشترط جماعة تسكن بهم قرية ويقع بينهم البيع، ولا تنعقد بالثلاثة والأربعة ونحوهم. قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري: ولعل هذا المذهب أرجح المذاهب من حيث الدليل، وأنا أقول أرجحها مذهب الإمام أبي حنيفة، وقد رجحه المزني- وهو من كبار الآخذين عن الشافعي- وهو اختيار الجلال السيوطي، ووجه اختياره مع ذكر أدلة أكثر الأقوال بما لها وعليها مذكور في رسالة له سماها ضوء الشمعة في عدد الجمعة، ولولا مزيد التطويل لذكرنا خلاصتها. ومن أراد ذلك فليرجع إليها ليظهر له بنورها حقيقة الحال. وقرأ كثير من الصحابة والتابعين- فامضوا- وحملت على التفسير بناء على أنه لا يراد بالسعي الإسراع في المشي ولم تجعل قرآنا لمخالفتها سواد المصحف المجمع عليه وَذَرُوا الْبَيْعَ أي واتركوا المعاملة على أن البيع مجاز عن ذلك فيعم البيع والشراء والإجارة وغيرها من المعاملات، أو هو دال على ما عداه بدلالة النص ولعله الأولى، والأمر للوجوب فيحرم كل ذلك بل روي عن عطاء حرمة اللهو المباح وأن يأتي الرجل أهله وأن يكتب كتابا أيضا. وعبر بعضهم بالكراهة وحملت على كراهة التحريم، وقول الأكمل في شرح المنار: إن الكراهة تنزيهية مردود وكأنه مأخوذ من زعم القاضي الإسبيجاني أن الأمر في الآية للندب وهو زعم باطل عند أكثر الأئمة، وعامة العلماء على صحة البيع، وإن حرم نظير ما قالوا في الصلاة بالثوب المغصوب أو في الأرض المغصوبة. وقال ابن العربي: هو فاسد، وعبر مجاهد بقوله: مردود ويستمر زمن الحرمة إلى فراغ الإمام من الصلاة، وأوله إما وقت أذان الخطبة- وروي عن الزهري، وقال به جمع- وإما أول وقت الزوال- وروى ذلك عن عطاء والضحاك والحسن- والظاهر أن المأمورين بترك البيع هم المأمورون بالسعي إلى الصلاة. وأخرج عبد بن حميد عن عبد الرحمن بن القاسم أن القاسم دخل على أهله يوم الجمعة وعندهم عطار يبايعونه الجزء: 14 ¦ الصفحة: 297 فاشتروا منه وخرج القاسم إلى الجمعة فوجد الإمام وقد خرج فلما رجع أمرهم أن يناقضوه البيع، وظاهره حرمة البيع إذا نودي للصلاة على غير من تجب عليه أيضا، والظاهر حرمة البيع والشراء حالة السعي. وصرح في السراج الوهاج بعدمها إذا لم يشغله ذلك ذلِكُمْ أي المذكور من السعي إلى ذكر الله تعالى وترك البيع خَيْرٌ لَكُمْ أنفع من مباشرة البيع فإن نفع الآخرة أجلّ وأبقى، وقيل: أنفع من ذلك ومن ترك السعي، وثبوت أصل النفع للمفضل عليه باعتبار أنه نفع دنيوي لا يدل على كون الأمر للندب والاستحباب دون الحتم والإيجاب كما لا يخفى إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الخير والشر الحقيقيين، أو إن كنتم من أهل العلم على تنزيل الفعل منزلة اللازم فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ أي أديت وفرغ منها فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ لإقامة مصالحهم وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أي الربح على ما قيل، وقال مكحول والحسن وابن المسيب: المأمور بابتغائه هو العلم. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال: لم يؤمروا بشيء من طلب الدنيا إنما هو عيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ في الله تعالى، وأخرج نحوه ابن جرير عن أنس مرفوعا، والأمر للإباحة على الأصح فيباح بعد قضاء الصلاة الجلوس في المسجد ولا يجب الخروج، وروي ذلك عن الضحاك ومجاهد. وحكى الكرماني في شرح البخاري الاتفاق على ذلك وفيه نظر، فقد حكى السرخسي القول بأنه للوجوب، وقيل: هو للندب، وأخرج أبو عبيد وابن المنذر والطبراني وابن مردويه عن عبد الله بن بسر الحراني قال: رأيت عبد الله ابن بسر المازني صاحب النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم إذا صلّى الجمعة خرج فدار في السوق ساعة ثم رجع إلى المسجد فصلى ما شاء الله تعالى أن يصلي، فقيل له: لأي شيء تصنع هذا؟ قال: إني رأيت سيد المرسلين صلّى الله تعالى عليه وسلم هكذا يصنع وتلا هذه الآية فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ إلخ. وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال: إذا انصرفت يوم الجمعة فاخرج إلى باب المسجد فساوم بالشيء وإن لم تشتره، ونقل عنه القول بالندبية وهو الأقرب والأوفق بقوله تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً أي ذكرا كثيرا ولا تخصوا ذكره عز وجل بالصلاة لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ كي تفوزوا بخير الدارين، ومما ذكرنا يعلم ضعف الاستدلال بما هنا على أن الأمر الوارد بعد الحظر للإباحة، واستدل بالآية على تقديم الخطبة على الصلاة وكذا على عدم ندب صلاة سنتها البعدية في المسجد، ولا دلالة فيها على نفي سنة بعدية لها، وظاهر كلام بعض الأجلة أن من الناس من نفى أن للجمعة سنة مطلقا فيحتمل على بعد أن يكون استشعر نفي السنة البعدية من الأمر بالانتشار وابتغاء الفضل، وأما نفي القبلية فقد استند فيه إلى ما روي في الصحيح وقد تقدم من أن النداء كان على عهده عليه الصلاة والسلام إذا جلس على المنبر إذ من المعلوم أنه عليه الصلاة والسلام إذا كمل الأذان أخذ في الخطبة وإذا أتمها أخذ في الصلاة، فمتى كانوا يصلون السنة؟ وأجيب عن هذا بأن خروجه عليه الصلاة والسلام كان بعد الزوال بالضرورة فيجوز كونه بعد ما كان يصلي الأربع، ويجب الحكم بوقوع الحكم بهذا المجوز لعموم ما صح من أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم كان يصلي إذا زالت الشمس أربعا، وكذا يجب في حقهم لأنهم أيضا يعلمون الزوال كالمؤذن بل ربما يعلمونه بدخول الوقت ليؤذن، واستدل بقوله تعالى: إِذا نُودِيَ إلخ من قال: إنما يجب إتيان الجمعة من مكان يسمع فيه النداء، والمسألة خلافية فقال ابن عمر وأبو هريرة ويونس والزهري: يجب إتيانها من ستة أميال، وقيل: من خمسة، وقال ربيعة: من أربعة، وروي ذلك عن الزهري وابن المنكدر. وقال مالك والليث: من ثلاثة، وفي بحر أبي حيان وقال أبو حنيفة وأصحابه: يجب الإتيان على من في المصر سمع النداء أو لم يسمع لا على من هو خارج المصر وإن سمع النداء وعن ابن عمر وابن المسيب والزهري وأحمد الجزء: 14 ¦ الصفحة: 298 وإسحاق على من سمع النداء، وعن ربيعة على من إذا سمع وخرج من بيته ماشيا أدرك الصلاة، وكذا استدل بذلك من قال بوجوب الإتيان إليها سواء كان إذن عام أم لا، وسواء أقامها سلطان أو نائبه أو غيرهما أم لا لأنه تعالى إنما رتب وجوب السعي على النداء مطلقا كذا قيل، وتحقيق الكلام على ذلك كله في كتب الفروع المطولة. وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وجماعة عن جابر ابن عبد الله قال: «بينما النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قائما إذ قدمت عير المدينة فابتدرها أصحاب رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم حتى لم يبق منهم إلا اثنا عشر رجلا أنا فيهم وأبو بكر وعمر فأنزل الله تعالى وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً إلى آخر السورة ، وفي رواية ابن مردويه عن ابن عباس أنه بقي في المسجد اثنا عشر رجلا وسبع نسوة فقال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «لو خرجوا كلهم لاضطرم المسجد عليهم نارا» وفي رواية عن قتادة «والذي نفس محمد بيده لو اتبع آخركم أولكم لالتهب الوادي عليكم نارا» ، وقيل: لم يبق إلا أحد عشر رجلا، وهم على ما قال أبو بكر: غالب بن عطية العشرة المبشرة وعمار في رواية وابن مسعود في أخرى، وعلى الرواية السابقة عدوا العشرة أيضا منهم. وعدوا بلالا وجابرا لكلامه السابق، ومنهم من لم يذكر جابرا وذكر بلالا وابن مسعود ومنه من ذكر عمارا بدل ابن مسعود، وقيل: لم يبق إلا ثمانية، وقيل: بقي أربعون، وكانت العير لعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه تحمل طعاما، وكان قد أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر. وأخرج أبو داود في مراسيله عن مقاتل بن حيان قال: كان رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم يصلي الجمعة قبل الخطبة مثل العيدين حتى كان يوم الجمعة والنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم يخطب وقد صلّى الجمعة فدخل رجل فقال: إن دحية بن خليفة قدم بتجارة وكان إذا قدم تلقاه أهله بالدفاف فخرج الناس ولم يظنوا إلا أنه ليس في ترك حضور الخطبة شيء فأنزل الله تعالى وَإِذا رَأَوْا إلخ فقدم النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم الخطبة يوم الجمعة وأخر الصلاة، ولا أظن صحة هذا الخبر، والظاهر أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم لم يزل مقدما خطبتها عليها، وقد ذكروا أنها شرط صحتها وشرط الشيء سابق عليه، ولم أر أحدا من الفقهاء ذكر أن الأمر كان كما تضمنه ولم أظفر بشيء من الأحاديث مستوف لشروط القبول متضمن ذلك، نعم ذكر العلامة ابن حجر الهيتمي أن بعضهم شذ عن الإجماع على كون الخطبة قبلها والله تعالى أعلم، والآية لما كانت في أولئك المنفضين وقد نزلت بعد وقوع ذلك منهم قالوا: إن إِذا فيها قد خرجت عن الاستقبال واستعملت للماضي كما في قوله: وندمان تزيد الكأس طيبا ... سقيت إذا تغورت النجوم ووحد الضمير لأن العطف بأو واختير ضمير التجارة دون اللهو لأنها الأهم المقصود، فإن المراد باللهو ما استقبلوا به العير من الدف ونحوه، أو لأن الانفضاض للتجارة مع الحاجة إليها والانتفاع بها إذا كان مذموما فما ظنك بالانفضاض إلى اللهو وهو مذموم في نفسه؟ وقيل: الضمير للرؤية المفهومة من رَأَوْا وهو خلاف الظاهر المتبادر، وقيل: في الكلام تقدير، والأصل إذا رأوا تجارة انفضوا إليها، أو لهوا انفضوا إليه فحذف الثاني لدلالة الأول عليه، وتعقب بأنه بعد العطف بأو لا يحتاج إلى الضمير لكل منهما بل يكفي الرجوع لأحدهما فالتقدير من غير حاجة، وقال الطيبي: يمكن أن يقال: إن أَوْ في أَوْ لَهْواً مثلها في قوله: بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى ... وصورتها أو أنت في العين أملح فقال الجوهري: يريد بل أنت فالضمير في إِلَيْها راجع إلى اللهو باعتبار المعنى، والسر فيه أن التجارة إذا شغلت المكلف عن ذكر الله تعالى عدت لهوا، وتعدّ فضلا إن لم تشغله كما في قوله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 299 فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ انتهى وليس بشيء كما لا يخفى. وقرأ ابن أبي عبلة- إليه- بضمير اللهو، وقرىء- إليهما- بضمير الاثنين كما في قوله تعالى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما [النساء: 135] وهو متأول لأنه بعد العطف بأو لكونها لأحد الشيئين لا يثنى الضمير وكذا الخبر، والحال والوصف فهي على هذه القراءة بمعنى الواو كما قيل به في الآية التي ذكرناها وَتَرَكُوكَ قائِماً أي على المنبر. واستدل به على مشروعية القيام في الخطبة وهو عند الحنفية أحد سننها، وعند الشافعية هو شرط في الخطبتين إن قدر عليه، وأخرج ابن ماجة وغيره عن ابن مسعود أنه سئل أكان النبي صلّى الله عليه وسلم يخطب قائما أو قاعدا؟ فقال: أما تقرأ وَتَرَكُوكَ قائِماً؟ وكذا سئل ابن سيرين وأبو عبيدة وأجابا بذلك، وأول من خطب جالسا معاوية. ولعل ذلك لعجزه عن القيام، وإلا فقد خالف ما كان عليه رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم، فقد أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة عن ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يخطب خطبتين يجلس بينهما ، وذكر أبو حيان أن أول من استراح في الخطبة عثمان رضي الله تعالى عنه، وكأنه أراد بالاستراحة غير الجلوس بين الخطبتين إذ ذاك ما كان عليه صلّى الله تعالى عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ فإن ذلك نفع محقق مخلد بخلاف ما فيهما من النفع، فإن نفع اللهو ليس بمحقق بل هو متوهم، ونفع التجارة ليس بمخلد، وتقديم اللهو ليس من تقديم العدم على الملكة كما توهم بل لأنه أقوى مذمة، فناسب تقديمه في مقام الذم، وقال ابن عطية: قدمت التجارة على اللهو في الرؤية لأنها أهم، وأخرت مع التفضيل لتقع النفس أولا على الأبين، وهو قريب مما ذكرنا. وقال الطيبي: قدم ما كان مؤخرا وكرر الجار لإرادة الإطلاق في كل واحد، واستقلاله فيما قصد منه ليخالف السابق في اتحاد المعنى لأن ذلك في قصة مخصوصة، واستدل الشيخ عبد الغني النابلسي عفا الله تعالى عنه على حل الملاهي بهذه الآية لمكان أفعل التفضيل المقتضي لإثبات أصل الخيرية للهو كالتجارة، وأنت تعلم أن ذلك مبني على الزعم والتوهم، وأعجب منه استدلاله على ذلك بعطف التجارة المباحة على اللهو في صدر الآية، والأعجب الأعجب أنه ألف رسائل في إباحة ذلك مما يستعمله الطائفة المنسوبة إلى مولانا جلال الدين الرومي دائرة على أدلة أضعف من خصر شادن يدور على محور الغنج في مقابلتهم، ومنها أكاذيب لا أصل لها لن يرتضيها عاقل ولن يقبلها، ولا أظن ما يفعلونه إلا شبكة لاصطياد طائر الرزق والجهلة يظنونه مخلصا من ربقة الرق، فإياك أن تميل إلى ذلك وتوكل على الله تعالى المالك وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فإليه سبحانه اسعوا ومنه عز وجل اطلبوا الرزق. واستدل بما وقع في القصة على أقل العدد المعتبر في جماعة الجمعة بأنه اثنا عشر بناء على ما في أكثر الروايات من أن الباقين بعد الانفضاض كانوا كذلك، ووجه الدلالة منه أن العدد المعتبر في الابتداء يعتبر في الدوام فلما لم تبطل الجمعة بانفضاض الزائد على اثني عشر دل على أن هذا العدد كاف، وفيه أن ذلك وإن كان دالا على صحتها باثني عشر رجلا بلا شبهة لكن ليس فيه دلالة على اشتراط اثني عشر، وأنها لا تصح بأقل من هذا العدد، فإن هذه واقعة عين أكثر ما فيها أنهم انفضوا وبقي اثنا عشر رجلا وتمت بهم الجمعة، وليس فيها أنه لو بقي أقل من هذا العدد لم تتم بهم، وفيما يصنع الإمام إن اتفق تفرق الناس عنه في صلاة الجمعة خلاف: فعند أبي حنيفة إن بقي وحده، أو مع أقل من ثلاثة رجال يستأنف الظهر إذا نفروا عنه قبل الركوع، وعند صاحبيه إذا كبروهم معه مضى فيها، وعند زفر إذا نفروا قبل القعدة بطلت لأن العدد شرط ابتداء فلا بد من دوامه كالوقت، ولهما أنه شرط الانعقاد فلا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 300 يشترط دوامه كالخطبة، وللإمام أن الانعقاد بالشروع في الصلاة ولا يتم ذلك إلا بتمام الركعة لأن ما دونها ليس بصلاة فلا بد من دوامه إلى ذلك بخلاف الخطبة لأنها تنافي الصلاة فلا يشترط دوامها. وقال جمهور الشافعية: إن انفض الأربعون، أو بعضهم في الصلاة ولم يحرم عقب انفضاضهم في الركعة الأولى عدد نحوهم سمع الخطبة بطلت الجمعة فيتمونها ظهرا لنحو ما قال زفر، وفي قول: لا يضر إن بقي اثنان مع الإمام لوجود مسمى الجماعة إذ يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء وتمام ذلك في محله. وطعن الشيعة لهذه الآية الصحابة رضي الله تعالى عنهم بأنهم آثروا دنياهم على آخرتهم حيث انفضوا إلى اللهو والتجارة ورغبوا عن الصلاة التي هي عماد الدين وأفضل كثير من العبادات لا سيما مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وروي أن ذلك قد وقع مرارا منهم، وفيه أن كبار الصحابة كأبي بكر وعمر وسائر العشرة المبشرة لم ينفضوا، والقصة كانت في أوائل زمن الهجرة، ولم يكن أكثر القوم تام التحلي بحلية آداب الشريعة بعد، وكان قد أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر فخاف أولئك المنفضون اشتداد الأمر عليهم بشراء غيرهم ما يقتات به لو لم ينفضوا، ولذا لم يتوعدهم الله تعالى على ذلك بالنار أو نحوها بل قصارى ما فعل سبحانه أنه عاتبهم ووعظهم ونصحهم، ورواية أن ذلك وقع منهم مرارا إن أريد بها رواية البيهقي في شعب الإيمان عن مقاتل بن حيان أنه قال: بلغني- والله تعالى أعلم- أنهم فعلوا ذلك ثلاث مرات فمثل ذلك لا يلتفت إليه ولا يعلو عند المحدثين عليه، وإن أريد بها غيرها فليبين ولتثبت صحته، وأنى بذلك؟! والجملة الطعن بجميع الصحابة لهذه القصة التي كانت من بعضهم في أوائل أمرهم وقد عقبها منهم عبادات لا تحصى سفه ظاهر وجهل وافر. هذا «ومن باب الإشارة» على ما قيل في الآيات: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ إشارة إلى عظيم قدرته عز وجل وأن إفاضة العلوم لا تتوقف على الأسباب العادية، ومنه قالوا: إن الولي يجوز أن يكون أميا كالشيخ معروف الكرخي- على ما قال ابن الجوزي- وعنده من العلوم اللدنية ما تقصر عنها العقول، وقال العز بن عبد السلام: قد يكون الإنسان عالما بالله تعالى ذا يقين وليس عنده علم من فروض الكفايات، وقد كان الصحابة أعلم من علماء التابعين بحقائق اليقين ودقائق المعرفة مع أن علماء التابعين من هو أقوم بعلم الفقه من بعض الصحابة، ومن انقطع إلى الله عز وجل وخلصت روحه أفيض على قلبه أنوار إلهية تهيأت بها لإدراك العلوم الربانية والمعارف اللدنية، فالولاية لا تتوقف قطعا على معرفة العلوم الرسمية كالنحو والمعاني والبيان وغير ذلك، ولا على معرفة الفقه مثلا على الوجه المعروف بل على تعلم ما يلزم الشخص من فروض العين على أي وجه كان من قراءة أو سماع من عالم أو نحو ذلك، ولا يتصور ولاية شخص لا يعرف ما يلزمه من الأمور الشرعية كأكثر من تقبل يده في زماننا، وقد رأيت منهم من يقول- وقد بلغ من العمر نحو سبعين سنة- إذا تشهد لا إله أن الله بأن بدل إلا فقلت له: منذ كم تقول هكذا؟ فقال: من صغري إلى اليوم فكررت عليه الكلمة الطيبة فما قالها على الوجه الصحيح إلا بجهد، ولا أظن ثباته على نحو ذلك، وخبر «لا يتخذ الله وليا جاهلا ولو اتخذه لعلمه» ليس من كلامه عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك لا يفيد في دعوى ولاية من ذكرنا. وذكر بعضهم أن قوله تعالى: وَيُزَكِّيهِمْ بعد قوله سبحانه: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ إشارة إلى الإفاضة القلبية بعد الإشارة إلى الإفادة القالية اللسانية، وقال بحصولها للأولياء المرشدين: فيزكون مريديهم بإفاضة الأنوار على قلوبهم حتى تخلص قلوبهم وتزكو نفوسهم، وهو سر ما يقال له التوجه عند السادة النقشبندية، وقالوا: بالرابطة ليتهيأ ببركتها القلب لما يفاض عليه، ولا أعلم لثبوت ذلك دليلا يعول عليه عن الشارع الأعظم صلّى الله تعالى عليه وسلم، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 301 ولا عن خلفائة رضي الله تعالى عنهم، وكل ما يذكرونه في هذه المسألة ويعدونه دليلا لا يخلو عن قادح بل أكثر تمسكاتهم فيها تشبه التمسك بحبال القمر، ولولا خوف الإطناب لذكرتها مع ما فيها، ومع هذا لا أنكر بركة كل من الأمرين: التوجه والرابطة، وقد شاهدت ذلك من فضل الله عز وجل، وأيضا لا أدعي الجزم بعدم دليل في نفس الأمر، وفوق كل ذي علم عليم، ولعل أول من أرشد إليهما من السادة وجد فيهما ما يعول عليه، أو يقال: يكفي للعمل بمثل ذلك نحو ما تمسك به بعض أجلة متأخريهم وإن كان للبحث فيه مجال ولأرباب القال في أمره مقال، وفي قوله تعالى: وَآخَرِينَ إلخ بناء على عطفه على الضمير المنصوب قيل: إشارة إلى عدم انقطاع فيضه صلّى الله تعالى عليه وسلم عن أمته إلى يوم القيامة، وقد قالوا بعدم انقطاع فيض الولي أيضا بعد انتقاله من دار الكثافة والفناء إلى دار التجرد والبقاء: وفي قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ إلخ إشارة إلى سوء حال المنكرين مع علمهم، وفي قوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا الآية إشارة الى جواز امتحان مدعي الولاية ليظهر حاله بالامتحان فعند ذلك يكرم أو يهان، وفي عتاب الله تعالى المنفضين إشارة إلى نوع من كيفيات تربية المريد إذا صدر منه نوع خلاف ليسلك الصراط السوي ولا يرتكب الاعتساف، وفي الآيات بعد إشارات يضيق عنها نطاق العبارات، «ومن عمل بما علم أورثه الله عز وجل علم ما لم يعلم» . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 302 سورة المنافقون مدنية وعدد آياتها إحدى عشرة آية بلا خلاف، ووجه اتصالها أن سورة الجمعة ذكر فيها المؤمنون، وهذه ذكر فيها أضدادهم وهم المنافقون، ولهذا أخرج سعيد بن منصور والطبراني في الأوسط بسند حسن عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة فيحرض بها المؤمنين. وفي الثانية بسورة المنافقين فيقرّع بها المنافقين ، وقال أبو حيان في ذلك: إنه لما كان سبب الانفضاض عن سماع الخطبة ربما كان حاصلا عن المنافقين واتبعهم ناس كثير من المؤمنين في ذلك لسرورهم بالعير التي قدمت بالميرة إذ كان الوقت وقت مجاعة ذكر المنافقين وما هم عليه من كراهة أهل الإيمان وأتبع بقبائح أفعالهم وأقوالهم، والأول أولى. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ أي حضروا مجلسك، والمراد بهم عبد الله بن أبيّ وأصحابه قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ التأكيد بأن واللام للازم فائدة الخبر وهو علمهم بهذا الخبر المشهود به فيفيد تأكيد الشهادة، ويدل على ادعائهم فيها المواطأة وإن كانت في نفسها تقع على الحق والزور والتأكيد في قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ لمزيد الاعتناء حقيقة بشأن الخبر، أو ليس إلا ليوافق صنيعهم، وجيء بالجملة اعتراضا لإماطة ما عسى أن يتوهم من قوله عز وجل: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ من رجوع التكذيب إلى نفس الخبر المشهود به من أول الأمر، وذكر الطيبي أن هذا نوع من التتميم لطيف المسلك، ونظيره قول أبي الطيب: وتحتقر الدنيا احتقار مجرب ... ترى كل ما فيها وحاشاك فانيا فالتكذيب راجع إلى نَشْهَدُ باعتبار الخبر الضمني الذي دل عليه التأكيد وهو دعوى المواطأة في الشهادة أي والله يشهد إنهم لكاذبون فيما ضمنوه قولهم: نَشْهَدُ من دعوى المواطأة وتوافق اللسان والقلب في هذه الجزء: 14 ¦ الصفحة: 303 الشهادة، وقد يقال: الشهادة خبر خاص وهو ما وافق فيه اللسان القلب، وأما شهادة الزور فتجوز كإطلاق البيع على غير الصحيح فهم كاذبون في قولهم: نَشْهَدُ المتفرع على تسمية قولهم ذلك شهادة، وهو مراد من قال: أي لكاذبون في تسميتهم ذلك شهادة فلا تغفل. وعلى هذا لا يحتاج في تحقق كذبهم إلى ادعائهم المواطأة ضمنا لأن اللفظ موضوع للمواطىء، وجوز أن يكون التكذيب راجعا إلى قولهم: إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ باعتبار لازم فائدة الخبر وهو بمعنى رجوعه إلى الخبر الضمني، وأن يكون راجعا إليه باعتبار ما عندهم أي لكاذبون في قولهم: إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ عند أنفسهم لأنهم كانوا يعتقدون أنه كذب وخبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه، قيل: وعلى هذا الكذب هو الشرعي اللاحق به الذم ألا ترى أن المجتهدين لا ينسبون إلى الكذب وإن نسبوا إلى الخطأ. وجوز العلامة الثاني أن يكون التكذيب راجعا إلى حلف المنافقين، وزعموا أنهم لم يقولوا لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا من حوله ولَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المنافقون: 7، 8] لما ذكر في صحيح البخاري عن زيد بن أرقم أنه قال: كنت في غزاة مع رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فسمعت عبد الله بن أبيّ ابن سلول يقول: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله ولو رجعنا من عنده ليخرجن الأعز منها الأذل فذكرت ذلك لعمي فذكره لنبي الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فدعاني فحدّثته فأرسل رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى عبد الله بن أبي وأصحابه فحلفوا أنهم ما قالوا: فكذبني رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصدقه فأصابني هم لم يصبني مثله قط فجلست في البيت فقال لي عمي: ما أردت إلى أن كذبك رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم ومقتك فأنزل الله إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ فبعث إليّ النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فقرأ فقال: «إن الله صدقك يا زيد» . وجوز بعض الأفاضل أن يكون المعنى إن المنافقين شأنهم الكذب وإن صدقوا في هذا الخبر، وأيا ما كان فلا يتم للنظام الاستدلال بالآية على أن صدق الخبر مطابقته لاعتقاد المخبر ولو كان ذلك الاعتقاد خطأ وكذبه عدمها، وإظهار المنافقين في موقع الإضمار لذمهم والإشعار بعلة الحكم والكلام في إِذا على نحو ما مر آنفا. اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ أي الكاذبة على ما يشير إليه الإضافة جُنَّةً أي وقاية عما يتوجه إليهم من المؤاخذة بالقتل أو السبي أو غير ذلك قال قتادة: كلما ظهر على شيء منهم يوجب مؤاخذتهم حلفوا كاذبين عصمة لأموالهم ودمائهم، وهذا كلام مستقل تعدادا لقبائحهم وأنهم من عادتهم الاستجنان بالأيمان الكاذبة كما استجنوا بالشهادة الكاذبة، ويجوز أن يراد بأيمانهم شهادتهم السابقة، والشهادة وأفعال العلم واليقين أجرتها العرب مجرى القسم وتلقتها بما يتلقى القسم، ويؤكد بها الكلام كما يؤكد به، فلهذا يطلق عليها اليمين، وبهذا استشهد أبو حنيفة على أن أشهد يمين، واعترضه ابن المنير بأن غاية ما في الآية أنه سمي يمينا، والكلام في وجوب الكفارة بذلك لا في إطلاق الاسم، وليس كل ما يسمى يمينا تجب فيه الكفارة، فلو قال: أحلف على كذا لا تجب عليه الكفارة، وإن كان حلفا، والجمع باعتبار تعدد القائلين، والكلام على هذا استئناف يدل على فائدة قولهم ذلك عندهم مع الذم البالغ بما عقبه، وقيل: إن اتَّخَذُوا جواب إِذا وجملة قالُوا السابقة في موضع الحال بتقدير قد أو بدونه وهو خلاف الظاهر، وأبعد منه جعل الجملة حالا وتقدير جواب- لإذا- وقال الضحاك: أي اتخذوا حلفهم بالله إنهم لمنكم جنة عن القتل أو السبي أو نحوهما مما يعامل به الكفار. ومن هنا أخذ الشاعر قوله: وما انتسبوا إلى الإسلام إلا ... لصون دمائهم أن لا تسالا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 304 وعن السدي انهم اتخذوا ذلك جنة من ترك الصلاة عليهم إذا ماتوا، وهو كما ترى وكذا ما قبله. فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي من أراد الدخول في دين الإسلام أو من أراد فعل طاعة مطلقا على أن الفعل متعد، والمفعول محذوف، أو أعرضوا عن الإسلام حقيقة على أن الفعل لازم، وأيا ما كان فالمراد على ما قيل: استمرارهم على ذلك، وحمل بعض الأجلة الأيمان على ما يعم ما حكي عنهم من الشهادة، ثم قال: واتخاذها جنة عبارة عن إعدادهم وتهيئتهم لها إلى وقت الحاجة ليحلفوا بها ويتخلصوا عن المؤاخذة لا عن استعمالها بالفعل فإن ذلك متأخر عن المؤاخذة المسبوقة بوقوع الجناية واتخاذ الجنة لا بد أن يكون قبل المؤاخذة، وعن سببها أيضا كما يفصح عنه الفاء في فَصَدُّوا أي من أراد الإسلام أو الإنفاق كما سيحكى عنهم، ولا ريب في أن هذا الصد متقدم على حلفهم، وقرىء- أي قرأ الحسن- «إيمانهم» بكسر الهمزة أي الذي أظهروه على ألسنتهم فاتخاذه جنة عبارة عن استعماله بالفعل فإنه وقاية دون دمائهم وأموالهم، فمعنى قوله تعالى: فَصَدُّوا فاستمروا على ما كانوا عليه من الصدود والاعراض عن سبيله تعالى انتهى، وفيه ما يعرف بالتأمل فتأمل إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من النفاق وما يتبعه، وقد مر الكلام في ساءَ غير مرة ذلِكَ إشارة إلى ما تقدم من القول الناعي عليهم أنهم أسوأ الناس أعمالا أو إلى ما ذكر من حالهم في النفاق والكذب والاستجنان بالأيمان الفاجرة أو الإيمان الصوري، وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه لما مر مرارا من الاشعار في مثل هذا المقام ببعد منزلته في الشر، وجوز ابن عطية كونه إشارة إلى سوء ما عملوا، فالمعنى ساء عملهم بِأَنَّهُمْ أي بسبب أنهم آمَنُوا أي نطقوا بكلمة الشهادة كسائر من يدخل في الإسلام ثُمَّ كَفَرُوا ظهر كفرهم وتبين بما اطلع عليه من قولهم: إن كان ما يقوله محمد حقا فنحن حمير، وقولهم في غزوة تبوك: أيطمع هذا الرجل أن تفتح له قصور كسرى وقيصر هيهات، وغير ذلك، و «ثم» على ظاهرها، أو لاستبعاد ما بين الحالين، أو ثم أسروا الكفر- فثم- للاستبعاد لا غير، أو نطقوا بالإيمان عند المؤمنين، ثم نطقوا بالكفر عند شياطينهم استهزء بالإسلام، وقيل: الآية في أهل الردة منهم. فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ حتى يموتوا على الكفر فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ حقيقة الإيمان أصلا. وقرأ زيد بن علي «فطبع» بالبناء للفاعل وهو ضميره تعالى، وجوز أن يكون ضميرا يعود على المصدر المفهوم مما قبل- أي فطبع هو- أي تلعابهم بالدين، وفي رواية أنه قرأ فطبع الله مصرحا بالاسم الجليل، وكذا قرأ الأعمش وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ لصباحتها وتناسب أعضائها وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ لفصاحتهم وذلاقة ألسنتهم وحلاوة كلامهم، وكان ابن أبيّ جسيما فصيحا يحضر مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلم في نفر من أمثاله كالجد بن قيس ومتعب بن قشير فكان عليه الصلاة والسلام ومن معه يعجبون من هياكلهم ويسمعون لكلامهم، والخطاب قيل: لكل من يصلح له وأيد بقراءة عكرمة وعطية العوفي- يسمع- بالياء التحتية والبناء للمفعول، وقيل: لسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام، وهذا أبلغ على ما في الكشف لأن أجسامهم إذا أعجبته صلّى الله تعالى عليه وسلم فأولى أن تعجب غيره وكذا السماع لقولهم، وليوافق قوله تعالى: إِذا جاءَكَ والسماع مضمن معنى الإصغاء فليست اللام زائدة، وقوله تعالى: كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ كلام مستأنف لذمهم لا محل له من الإعراب، وجوز أن يكون في حيز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هم كأنهم إلخ والكلام مستأنف أيضا، وأنت تعلم أن الكلام صالح للاستئناف من غير تقدير فلا حاجة إليه، وقيل: هو في حيز النصب على الحال من الضمير المجرور في لِقَوْلِهِمْ أي تسمع لما يقولون مشبهين بخشب مسندة كما في قوله: فقلت: عسى أن تبصريني كأنما ... بني حواليّ الأسود الحوادر الجزء: 14 ¦ الصفحة: 305 وتعقب بأن الحالية تفيد أن السماع لقولهم لأنهم كالخشب المسندة وليس كذلك، وخُشُبٌ جمع خشبة كثمرة وثمر، والمراد به ما هو المعروف شبهوا في جلوسهم مجالس رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم مستندين فيها وما هم إلا أجرام خالية عن الإيمان والخير بخشب منصوبة مسندة إلى الحائط في كونهم أشباحا خالية عن الفائدة لأن الخشب تكون مسندة إذا لم تكن في بناء أو دعامة بشيء آخر، وجوز أن يراد بالخشب المسندة الأصنام المنحوتة من الخشب المسندة إلى الحيطان شبهوا بها في حسن صورهم وقلة جدواهم، وفي مثلهم قال الشاعر: لا يخدعنك اللحى ولا الصور ... تسعة أعشار من ترى بقر تراهم كالسحاب منتشرا ... وليس فيها لطالب مطر في شجر السر ومنهم شبه ... له رواء وما له ثمر وقرأ البراء بن عازب والنحويان وابن كثير «خشب» بإسكان الشين تخفيف خشب المضموم، ونظيره بدنة وبدن، وقيل: جمع خشباء كحمر وحمراء، وهي الخشبة التي نخر جوفها شبهوا بها في فساد بواطنهم لنفاقهم، وعن اليزيدي حمل قراءة الجمهور بالضم على ذلك، وتعقب بأن فعلاء لا يجمع على فعل بضمتين، ومنه يعلم ضعف القيل إذ الأصل توافق القراءات. وقرأ ابن عباس وابن المسيب وابن جبير «خشب» بفتحتين كمدرة ومدر وهو اسم جنس على ما في البحر، ووصفه بالمؤنث كما في قوله تعالى: أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ [الحاقة: 7] يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ أي واقعة عليهم ضارة لهم لجبنهم وهلعهم فكانوا كما قال مقاتل: متى سمعوا بنشدان ضالة أو صياحا بأي وجه كان طارت عقولهم وظنوا ذلك إيقاعا بهم، وقيل: كانوا على وجل من أن ينزل الله عز وجل فيهم ما يهتك أستارهم ويبيح دماءهم وأموالهم ومنه أخذ جرير قوله يخاطب الأخطل: ما زلت تحسب كل شيء بعدهم ... خيلا تكر عليهم ورجالا وكذا المتنبي قوله: وضاقت الأرض حتى ظن هاربهم ... إذا رأى غير شيء ظنه رجلا والوقف على عَلَيْهِمْ الواقع مفعولا ثانيا- ليحسبون- وهو وقف تام كما في الكواشي، وعليه كلام الواحدي، وقوله تعالى: هُمُ الْعَدُوُّ استئناف أي هم الكاملون في العداوة والراسخون فيها فإن أعدى الأعادي العدو المداجي الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداء الدوي ككثير من أبناء الزمان فَاحْذَرْهُمْ لكونهم أعدى الأعادي ولا تغترن بظاهرهم، وجوز الزمخشري كون عَلَيْهِمْ صلة صَيْحَةٍ وهُمُ الْعَدُوُّ والمفعول الثاني- ليحسبون- كما لو طرح الضمير على معنى أنهم يحسبون الصيحة نفس العدو، وكان الظاهر عليه هو أو هي العدو لكنه أتى بضمير العقلاء المجموع لمراعاة معنى الخبر أعني العدو بناء على أنه يكون جمعا ومفردا وهو هنا جمع، وفيه أنه تخريج متكلف بعيد جدا لا حاجة إليه وإن كان المعنى عليه لا يخلو عن بلاغة ولطف، ومع ذلك لا يساعد عليه ترتب فَاحْذَرْهُمْ لأن التحذير منهم يقتضي وصفهم بالعداوة لا بالجبن قاتَلَهُمُ اللَّهُ أي لعنهم وطردهم فإن القتل قصارى شدائد الدنيا وفظائعها، وكذلك الطرد عن رحمة الله تعالى والبعد عن جنابه الأقدس منتهى عذابه عز وجل وغاية نكاله جل وعلا في الدنيا والآخرة، والكلام دعاء وطلب من ذاته سبحانه أن يلعنهم ويطردهم من رحمته تعالى، وهو من أسلوب التجريد فلا يكون من إقامة الظاهر مقام الضمير لأنه يفوت به نضارة الكلام، أو تعليم للمؤمنين أن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 306 يدعو عليهم بذلك فهو على معنى قولوا: قاتلهم الله، وجوز أن لا يكونوا من الطلب في شيء بأن يكون المراد أن وقوع اللعن بهم مقرر لا بد منه، وذكر بعضهم أن قاتله الله كلمة ذم وتوبيخ، وتستعملها العرب في موضع التعجب من غير قصد إلى لعن، والمشهور تعقيبها بالتعجب نحو قاتله الله ما أشعره، وكذا قوله سبحانه هنا: قاتَلَهُمُ اللَّهُ. أَنَّى يُؤْفَكُونَ وهذا تعجيب من حالهم، أي كيف يصرفون عن الحق إلى ما هم عليه من الكفر والضلال؟ فأنى ظرف متضمن للاستفهام معمول لما بعده، وجوز ابن عطية كونه ظرفا- لقاتلهم- وليس هناك استفهام، وتعقبة أبو حيان بأن أَنَّى لا تكون لمجرد الظرفية أصلا، فالقول بذلك باطل. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ أي عطفوها وهو كناية عن التكبر والإعراض على ما قيل وقيل: هو على حقيقته أي حركوها استهزاء، وأخرجه ابن المنذر عن ابن جريج وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ يعرضون عن القائل أو عن الاستغفار وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ عن ذلك. روي أنه لما صدق الله تعالى زيد بن أرقم فيما أخبر به عن ابن أبيّ مقت الناس ابن أبيّ ولامه المؤمنون من قومه، وقال بعضهم له: امض إلى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم واعترف بذنبك يستغفر لك فلوى رأسه إنكارا لهذا الرأي، وقال لهم: لقد أشرتم علي بالإيمان فآمنت، وأشرتم علي بأن أعطي زكاة مالي ففعلت، ولم يبق لكم إلا أن تأمروني بالسجود لمحمد صلّى الله تعالى عليه وسلم، وفي حديث أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن جبير أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم قال له: «تب» فجعل يلوي رأسه فأنزل الله تعالى وَإِذا قِيلَ لَهُمْ إلخ، وفي حديث أخرجه الإمام أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وغيرهم عن زيد بعد نقل القصة إلى أن قال: حتى أنزل الله تعالى تصديقي في إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ ما نصه فدعاهم رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم ليستغفر لهم فلووا رؤوسهم، فجمع الضمائر: إما على ظاهره، وإما من باب بنو تميم قتلوا فلانا، وإذا على ما مر، ويَسْتَغْفِرْ مجزوم في جواب الأمر، ورَسُولُ اللَّهِ فاعل له، والكلام على ما في البحر من باب الأعمال لأن رَسُولُ اللَّهِ يطلبه عاملان: يَسْتَغْفِرْ وتَعالَوْا فأعمل الثاني على المختار عند أهل البصرة ولو أعمل الأول لكان التركيب تعالوا يستغفر لكم إلى رسول الله، وجملة يَصُدُّونَ في موضع الحال، وأتت بالمضارع ليدل على الاستمرار التجددي، ومثلها في الحالية جملة هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ وقرأ مجاهد ونافع وأهل المدينة وأبو حيوة وابن أبي عبلة الجزء: 14 ¦ الصفحة: 307 والمفضل وأبان عن عاصم والحسن ويعقوب- بخلاف عنهما- «لووا» بتخفيف الواو، والتشديد في قراءة باقي السبعة للتكثير، ولما نعى سبحانه عليهم إباءهم عن الإتيان ليستغفر لهم رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وإعراضهم واستكبارهم أشار عز وجل إلى عدم فائدة الاستغفار لهم لما علم سبحانه من سوء استعدادهم واختيارهم بقوله تعالى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ فهو للتسوية بين الأمرين الاستغفار لهم وعدمه، والمراد الاخبار بعدم الفائدة كما يفصح عنه قوله عز وجل شأنه: لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ وتعليله بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ أي الكاملين في الفسق الخارجين عن دائرة الاستصلاح المنهمكين لسوء استعدادهم بأنواع القبائح، فإن المغفرة فرع الهداية، والمراد بهؤلاء القوم إما المحدث عنهم بأعيانهم. والإظهار في مقام الإضمار لبيان غلوهم في الفسق والإشارة إلى علة الحكم أو الجنس وهم داخلون دخولا أوليا، والآية في ابن أبي كسوابقها- كما سمعت- ولواحقها- كما صح- وستسمعه قريبا إن شاء الله تعالى، والاستغفار لهم قيل: على تقدير مجيئهم تائبين معتذرين من جناياتهم، وكان ذلك قد اعتبر في جانب الأمر الذي جزم في جوابه الفعل وإلا فمجرد الإتيان لا يظهر كونه سببا للاستغفار، ويومىء إليه قوله صلّى الله تعالى عليه وسلم في خبر ابن جبير لابن أبيّ: «تب» وترك الاستغفار على تقدير الإصرار على القبائح والاستكبار وترك الاعتذار وحيث لم يكن منهم توبة لم يكن منه عليه الصلاة والسلام استغفار لهم. وحكى مكي أنه صلّى الله عليه وسلم استغفر لهم لأنهم أظهروا له الإسلام أي بعد ما صدر منهم ما صدر بالتوبة، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: لما نزلت آية براءة اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ [التوبة: 80] إلخ قال النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم: «أسمع ربي قد رخص لي فيهم فو الله لأستغفرن لهم أكثر من سبعين مرة لعل الله أن يغفر لهم، فنزلت هذه الآية سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ» إلخ. وأخرج أيضا عن عروة نحوه وإذا صح هذا لم يتأت القول بأن براءة بأسرها آخر ما نزل ولا ضرورة تدعو لالتزامه إلا إن صح نقل غير قابل للتأويل، ولعل هذه الآية إشارة منه تعالى لنبيه صلّى الله تعالى عليه وسلم إلى أن المراد بالعدد هناك التكثير دون التحديد ليكون حكم الزائد مخالفا لحكم المذكور فيكون المراد بالآيتين عند الله تعالى واحدا وهو عدم المغفرة لهم مطلقا، والآية الأولى- فيما اختار- نزلت في اللامزين كما سمعت هناك عن ابن عباس وهو الأوفق بالسياق، وهذه نزلت في ابن أبي وأصحابه كما نطقت به الأخبار الصحيحة ويجمع الطائفتين النفاق، ولذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم ما قال مع اختلاف أعيان الذين نزلتا فيهم، ثم إني لم أقف في شيء مما أعول عليه على أن ابن أبي كان مريضا إذ ذاك، ورأيت في خبر أخرجه عبد بن حميد عن ابن سيرين ما يشعر بأنه بعد قوله: والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل بأيام قلائل اشتكى واشتد وجعه، وفيه أنه قال للنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم وقد ذهب إليه بشفاعة ولده: حاجتي إذا أنا مت أن تشهد غسلي وتكفنني في ثلاثة أثواب من أثوابك وتمشي مع جنازتي وتصلي علي ففعل صلّى الله تعالى عليه وسلم فنزلت الآية وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ [التوبة: 84] ولا يشكل الاستغفار إن كان قد وقع لأحد من المنافقين بعد نزول ما يفيد كونه تعالى لا يهدي القوم الفاسقين إذ لا يتعين اندراج كل منهم إلا بتبين أنه بخصوصه من أصحاب الجحيم كأن يموت على ما هو عليه من الكفر والنفاق، وهذا الذي ذكرته هنا هو الذي ظهر لي بعد كتابة ما كتبت في آية براءة، والمقام بعد محتاج إلى تحقيق فراجع وتأمل والله تعالى ولي التوفيق. وقرأ أبو جعفر- استغفرت- مدة على الهمزة فقيل: هي عوض من همزة الوصل، وهي مثل المدة في قوله الجزء: 14 ¦ الصفحة: 308 تعالى: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ [الأنعام: 143، 144] لكن هذه المدة في الاسم لئلا يلتبس الاستفهام بالخبر ولا يحتاج ذلك في الفعل لأن همزة الوصل فيه مكسورة، وعنه أيضا ضم ميم «عليهم» إذ أصلها الضم ووصل الهمزة وروى معاذ بن معاذ العنبري عن أبي عمرو كسر الميم على أصل التقاء الساكنين، ووصل الهمزة فتسقط في القراءتين واللفظ خبر والمعنى على الاستفهام، وجاء حذف الهمزة ثقة بدلالة أَمْ عليها كما في قوله: بسبع رمين الجمر أم بثمان وقال الزمخشري: قرأ أبو جعفر «آستغفرت» إشباعا لهمزة الاستفهام للإظهار والبيان لا قلبا لهمزة الوصل ألفا كما في «السحر» و «الله» وقال أبو جعفر بن القعقاع: بمدة على الهمزة وهي ألف التسوية. وقرأ أيضا بوصل الألف دون همزة على الخبر، وفي ذلك ضعف لأنه في الأولى أثبت همزة الوصل وقد أغنت عنها همزة الاستفهام، وفي الثانية حذف همزة الاستفهام وهو يريدها، وهذا مما لا يستعمل إلا في الشعر وقوله تعالى: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا استئناف مبين لبعض ما يدل على فسقهم، وجوز أن يكون جاريا مجرى التعليل لعدم مغفرته تعالى لهم وليس بشيء لأن ذاك معلل بما قبل، والقائل رأس المنافقين ابن أبي وسائرهم راضون بذلك، أخرج الترمذي وصححه وجماعة عن زيد بن أرقم قال: غزونا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم وكان معنا ناس من الأعراب فكنا نبتدر الماء وكان الأعراب يسبقونا إليه فيسبق الأعرابي أصحابه فيملأ الحوض ويجعل حوضه حجارة ويجعل النطع عليه حتى يجيء أصحابه فأتى رجل من الأنصار أعرابيا فأرخى زمام ناقته لتشرب فأبى أن يدعه فانتزع حجرا ففاض فرفع الأعرابي خشبة فضرب رأس الأنصاري فشجه فأتى عبد الله بن أبي رأس المنافقين فأخبره وكان من أصحابه فغضب، وقال: لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا من حوله يعني الأعراب، ثم قال لأصحابه: إذا رجعتم إلى المدينة فليخرج الأعز منها الأذل، قال زيد: وأنا ردف عمي فسمعت عبد الله فأخبرت عمي فأخبر رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فأرسل إليه رسول الله عليه الصلاة والسلام فحلف وجحد وصدقه صلّى الله تعالى عليه وسلم وكذبني فجاء عمي إلي فقال: ما أردت إلى أن مقتك وكذبك المسلمون فوقع علي من الهم ما لم يقع على أحد قط فبينا أنا أسير وقد خفضت رأسي من الهم إذ أتاني رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فعرك أذني وضحك في وجهي ثم إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه لحقني فقال: ما قال لك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؟ قلت: ما قال لي شيئا إلا أنه عرك أذني وضحك في وجهي فقال: أبشر فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ حتى بلغ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ وقد تقدم عن البخاري ما يدل على أنه قائل ذلك أيضا. وأخرج الإمام أحمد ومسلم والنسائي نحو ذلك، والأخبار فيه أكثر من أن تحصى وتلك الغزاة التي أشار إليها زيد قال سفيان: يرون أنها غزاة بني المصطلق، وفي الكشاف خبر طويل في القصة يفهم منه أنهم عنوا بمن عند رسول الله فقراء المهاجرين، والظاهر أن التعبير- برسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم- أي بهذا اللفظ وقع منهم ولا يأباه كفرهم لأنهم منافقون مقرّون برسالته عليه الصلاة والسلام ظاهرا. وجوز أن يكونوا قالوه تهكما أو لغلبته عليه صلّى الله تعالى عليه وسلم حتى صار كالعلم لم يقصد منه إلا الذات، ويحتمل أنهم عبروا بغير هذه العبارة فغيرها الله عز وجل إجلالا لنبيه عليه الصلاة والسلام وإكراما، والانفضاض التفرق، وحَتَّى للتعليل أي لا تنفقوا عليهم كي يتفرقوا عنه عليه الصلاة والسلام ولا يصحبوه. وقرأ الفضل بن عيسى الرقاشي «ينفضّوا» من أنفض القوم فني طعامهم فنفض الرجل وعاءه، والفعل مما يتعدى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 309 بغير الهمزة وبالهمزة لا يتعدى، قال في الكشاف: وحقيقته حان لهم أن ينفضوا مزاودهم، وقوله تعالى: وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ردّ وإبطال لما زعموا من أن عدم إنفاقهم على من عند رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم يؤدي إلى انفضاضهم عنه عليه الصلاة والسلام ببيان أن خزائن الأرزاق بيد الله تعالى خاصة يعطي منها من يشاء ويمنع من يشاء وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ ذلك لجهلهم بالله تعالى وبشؤونه عز وجل، ولذلك يقولون من مقالات الكفرة ما يقولون. يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ قائله كما سمعت ابن أبي، وعنى بالأعز نفسه أو ومن يلوذ به، وبالأذل من أعزه الله عز وجل وهو الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم أو هو عليه الصلاة والسلام والمؤمنون، وإسناد المذكور إلى جميعهم لرضائهم به كما في سابقه. وقرأ الحسن وابن أبي عبلة والسبتي في اختياره «لنخرجن» بالنون، ونصب «الأعزّ» و «الأذلّ» على أن «الأعزّ» مفعول به، و «الأذلّ» إما حال بناء على جواز تعريف الحال، أو زيادة أل فيه نحو أرسلها العراك، وأدخلوا الأول فالأول وهو المشهور في تخريج ذلك، أو حال بتقدير مثل وهو لا يتعرف بالإضافة أي مثل الأذل، أو مفعول به لحال محذوفة أي مشبها الأذل، أو مفعول المطلق على أن الأصل إخراج الأذل فحذف المصدر المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فانتصب انتصابه. وحكى الكسائي والفراء أن قوما قرؤوا «ليخرجنّ» بالياء مفتوحة وضم الراء. ورفع «الأعزّ» على الفاعلية. ونصب «الأذلّ» على ما تقدم، بيد أنك تقدر على تقدير النصب على المصدرية خروج، وقرىء «ليخرجنّ» بالياء مبنيا للمفعول، ورفع «الأعزّ» على النيابة عن الفاعل، ونصب «الأذلّ» على ما مر. وقرأ الحسن فيما ذكر أبو عمرو الداني «لنخرجنّ» بنون الجماعة مفتوحة وضم الراء، ونصب «الأعزّ» و «الأذلّ» ، وحكى هذه القراءة أبو حاتم، وخرجت على أن نصب «الأعزّ» على الاختصاص كما في قولهم: نحن العرب أقرى الناس للضيف، ونصب «الأذلّ» على أحد الأوجه المارة فيما حكاه الكسائي والفراء، والمقصود إظهار التضجر من المؤمنين وأنهم لا يمكنهم أن يساكنوهم في دار كذا قيل: وهو كما ترى، ولعل هذه القراءة غير ثابتة عن الحسن، وقوله تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ رد لما زعموه ضمنا من عزتهم وذل من نسبوا إليه الذل، وحاشاه منه أي ولله تعالى الغلبة والقوة ولمن أعزه الله تعالى من رسوله صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين لا للغير، ويعلم مما أشرنا إليه توجيه الحصر المستفاد من تقديم الخبر، وقيل: إن العطف معتبر قبل نسبة الإسناد فلا ينافي ذلك ولا يضر إعادة الجار لأنها ليست لإفادة الاستقلال في النسبة بل لإفادة تفاوت ثبوت العزة فإن ثبوتها لله تعالى ذاتي وللرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم بواسطة الرسالة وللمؤمنين بواسطة الايمان، وجاء من عدة طرق أن عبد الله بن عبد الله بن أبيّ- وكان مخلصا- سل سيفه على أبيه عند ما أشرفوا على المدينة فقال: ولله علىّ أن لا أغمده حتى تقول: محمد الأعز وأنا الأذل فلم يبرح حتى قال ذلك، وفي رواية أنه رضي الله تعالى عنه وقف والناس يدخلون حتى جاء أبوه فقال: وراءك، قال: مالك ويلك؟ قال: والله لا تدخلها أبدا إلا أن يأذن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم ولتعلمن اليوم الأعز من الأذل فرجع حتى لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلم فشكا إليه ما صنع ابنه فأرسل إليه النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم أن خل عنه يدخل ففعل وصح من رواية الشيخين والترمذي وغيرهم عن جابر بن عبد الله أنه لما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما قال ابن أبي قام عمر رضي الله تعالى عنه فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم: «دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه» وفي رواية عن قتادة أنه قال له عليه الصلاة والسلام: يا نبي الله مر معاذا أن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 310 يضرب عنق هذا المنافق، فقال صلّى الله تعالى عليه وسلم ذلك ، وفي الآية من الدلالة على شرف المؤمنين ما فيها، ومن هنا قالت بعض الصالحات وكانت في هيئة رثة: ألست على الإسلام وهو العز الذي لا ذل معه والغنى الذي لا فقر معه. وعن الحسن بن علي على رسول الله وعليهما الصلاة والسلام أن رجلا قال له: إن الناس يزعمون أن فيك تيها قال: ليس بتيه ولكنه عزة وتلا هذه الآية، وأريد بالتيه الكبر ، وأشار العز إلى أن العزة غير الكبر، وقد نص على ذلك أبو حفص السهروردي قدس سره فقال: العزة غير الكبر لأن العزة معرفة الإنسان بحقيقة نفسه وإكرامها أن لا يضعها لأقسام عاجلة كما أن الكبر جهل الإنسان بنفسه وإنزالها فوق منزلتها فالعزة ضد الذلة كما أن الكبر ضد التواضع، وفسر الراغب العزة بحالة مانعة للإنسان من أن يغلب من قولهم: أرض عزاز أي صلبة وتعزز اللحم اشتد كأنه حصل في عزاز يصعب الوصول إليه، وقد تستعار للحمية والأنفة المذمومة وهي بهذا المعنى تثبت للكفرة، وتفسيرها بالقوة والغلبة كما سمعت شائع ولك أن تريد بها هنا الحالة المانعة من المغلوبية فإنها أيضا ثابتة لله تعالى ولرسوله صلّى الله تعالى عليه وسلم وللمؤمنين على الوجه اللائق بكل. وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ من فرط جهلهم وغرورهم فيهذون ما يهذون والفعل هنا منزل منزلة اللازم فلذا لم يقدر له مفعول ولا كذلك الفعل فيما تقدم، وهو ما اختاره غير واحد من الأجلة، وقيل في وجهه: إن كون العزة لله عز وجل مستلزم لكون الأرزاق بيده دون العكس فناسب أن يعتبر الأخلاق في الجملة المذيلة لما يفيد كون العزة له سبحانه قصدا للمبالغة والتقييد للجملة المذيلة لما يفيد كون الأرزاق بيده تعالى، ثم قيل: خص الجملة الأولى ب لا يَفْقَهُونَ والثانية ب لا يَعْلَمُونَ لأن إثبات الفقه للإنسان أبلغ من إثبات العلم له فيكون نفي العلم أبلغ من نفي الفقه فأوتر ما هو أبلغ لما هو أدعى له. وعن الراغب معنى قوله تعالى: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا إلخ أنهم يأمرون بالإضرار بالمؤمنين وحبس النفقات عنهم ولا يفطنون أنهم إذا فعلوا ذلك أضروا بأنفسهم فهم لا يفقهون ذلك ولا يفطنون له، ومعنى الثاني إيعادهم بإخراج الأعز للأذل، وعندهم أن الأعز من له القوة والغلبة على ما كانوا عليه في الجاهلية فهم لا يعلمون أن هذه القدرة التي يفضل بها الإنسان غيره إنما هي من الله تعالى فهي له سبحانه ولمن يخصه بها من عباده، ولا يعلمون أن الذل لمن يقدرون فيه العزة وأن الله تعالى معزّ أوليائه بطاعتهم له ومذل أعدائه بمخالفتهم أمره عز وجل، فقد اختص كل آية بما اقتضاه معناها فتدبر، والإظهار في مقام الإضمار لزيادة الذم مع الاشارة إلى علة الحكم في الموضعين. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ أي لا يشغلكم الاهتمام بتدبير أمورها والاعتناء بمصالحها والتمتع بها عن الاشتغال بذكر الله عز وجل من الصلاة وسائر العبادات المذكرة للمعبود الحق جل شأنه فذكر الله تعالى مجاز عن مطلق العبادة كما يقتضيه كلام الحسن وجماعة، والعلاقة السببية لأن العبادة سبب لذكره سبحانه وهو المقصود في الحقيقة منها. وفي رواية عن الحسن أن المراد به جميع الفرائض، وقال الضحاك وعطاء: الذكر هنا الصلاة المكتوبة، وقال الكلبي: الجهاد مع الرسول صلّى الله تعالى عليه وسلم، وقيل: القرآن، والعموم أولى، ويفهم كلام الكشاف أن المراد بالأموال والأولاد الدنيا، وعبر بهما عنها لكونهما أرغب الأشياء منها قال الله تعالى: الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا [الكهف: 46] فإذا أريد بذكر الله العموم يؤول المعنى إلى لا تشغلنكم الدنيا عن الدين والمراد بنهي الأموال وما بعدها نهي المخاطبين وإنما وجه إليها للمبالغة لأنها لقوة تسببها للهو وشدة مدخليتها فيه جعلت كأنها لاهية، وقد الجزء: 14 ¦ الصفحة: 311 نهيت عن اللهو فالأصل لا تلهوا بأموالكم إلخ، فالتجوز في الإسناد، وقيل: إنه تجوز بالسبب عن المسبب كقوله تعالى: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ [الأعراف: 2] أي لا تكونوا بحيث تلهيكم أموالكم إلخ. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي اللهو بها وهو الشغل، وهذا أبلغ مما لو قيل: ومن تلهه تلك فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ حيث باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني، وفي التعريف بالإشارة والحصر للخسران فيهم، وفي تكرير الإسناد وتوسيط ضمير الفصل ما لا يخفى من المبالغة، وكأنه لما نهي المنافقون عن الانفاق على من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأريد الحث على الانفاق جعل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إلخ تمهيدا وتوطئة للأمر بالإنفاق لكن على وجه العموم في قوله سبحانه: وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ أي بعض ما أعطيناكم وتفضلنا به عليكم من الأموال ادخارا للآخرة مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أي أماراته ومقدماته، فالكلام على تقدير مضاف، ولذا فرع على ذلك قوله تعالى: فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي أي أمهلتني إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أي أمد قصير فَأَصَّدَّقَ أي فأتصدق، وبذلك قرأ أبي وعبد الله وابن جبير، ونصب الفعل في جواب التمني والجزم في قوله سبحانه: وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ بالعطف على موضع فَأَصَّدَّقَ كأنه قيل: إن أخرتني أصدّق وأكن، وإلى هذا ذهب أبو علي الفارسي. والزجاج، وحكى سيبويه عن الخليل أنه على توهم الشرط الذي يدل عليه التمني لأن الشرط غير ظاهر ولا يقدر حتى يعتبر العطف على الموضع كما في قوله تعالى: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ [الأعراف: 186] ويذرهم فيمن قرأ بالجزم وهو حسن بيد أن التعبير بالتوهم هنا ينشأ منه توهم قبيح، والفرق بين العطف على الموضع والعطف على التوهم أن العامل في العطف على الموضع موجود وأثره مفقود، والعامل في العطف على التوهم مفقود وأثره موجود، واستظهر أن الخلاف لفظي فمراد أبي علي والزجاج العطف على الموضع المتوهم أي المقدر إذ لا موضع هنا في التحقيق لكنهما فرا من قبح التعبير. وقرأ الحسن وابن جبير وأبو رجاء وابن أبي إسحاق ومالك بن دينار والأعمش وابن محيصن وعبد الله بن الحسن العنبري. وأبو عمرو «وأكون» بالنصب وهو ظاهر، وقرأ عبد بن عمير «وأكون» بالرفع على الاستئناف والنحويون وأهل المعاني قدروا المبتدأ في أمثال ذلك من أفعال المستأنفة، فيقال هنا: أي وأنا أكون ولا تراهم يهملون ذلك، ووجه بأن ذلك لأن الفعل لا يصلح للاستئناف مع الواو الاستئنافية كما هنا ولا بدونها، وتعقب بأنه لم يذهب إلى عدم صلاحيته لذلك أحد من النحاة وكأنه لهذا صرح العلامة التفتازاني بأن التزام التقدير مما لم يظهر له وجهه، وقيل: وجهه أن الاستئناف بالاسمية أظهر وهو كما ترى، وجوز كون الفعل على هذه القراءة مرفوعا بالعطف على- أصدّق- على نحو القولين السابقين في الجزم، هذا وعن الضحاك أنه قال في قوله تعالى: أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ يعني الزكاة والنفقة في الحج، وعليه قول ابن عباس فيما أخرج عنه ابن المنذر: فَأَصَّدَّقَ أزكي وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ أحج، وأخرج الترمذي وابن جرير والطبراني وغيرهم عنه أيضا أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من كان له مال يبلغه حج بيت ربه أو تجب عليه فيه الزكاة فلم يفعل سأل الرجعة عند الموت» فقال له رجل: يا ابن عباس اتق الله تعالى فإنما يسأل الرجعة الكفار فقال: سأتلو عليكم بذلك قرآنا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ إلى آخر السورة كذا في الدر المنثور. وفي أحكام القرآن رواية الترمذي عنه ذلك موقوفا عليه، وحكي عنه في البحر وغيره أنه قال: إن الآية نزلت في مانع الزكاة، وو الله لو رأى خيرا لما سأل الرجعة، فقيل له: أما تتقي الله تعالى يسأل المؤمنون الكرة؟! فأجاب بنحو ما ذكر، ولا يخفى أن الاعتراض عليه وكذا الجواب أوفق بكونه نفسه ادّعى سؤال الرجعة ولم يرفع الحديث بذلك، وإذا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 312 كان قوله تعالى: لَوْلا أَخَّرْتَنِي إلخ سؤالا للرجعة بمعنى الرجوع إلى الدنيا بعد الموت لم يحتج قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إلى تقدير مضاف كما سمعت آنفا. وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً أي ولن يمهلها إِذا جاءَ أَجَلُها أي آخر عمرها أو انتهى الزمان الممتد لها من أول العمر إلى آخره على تفسير الأجل به وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ فمجاز عليه، وقرأ أبو بكر بالياء آخر الحروف ليوافق ما قبله في الغيبة ونفسا لكونها نكرة في سياق النفي في معنى الجمع، واستدل الكيا بقوله تعالى: وَأَنْفِقُوا إلخ على وجوب إخراج الزكاة على الفور ومنع تأخيرها، ونسب للزمخشري أنه قال: ليس في الزجر عن التفريط في هذه الحقوق أعظم من ذلك فلا أحد يؤخر ذلك إلا ويجوز أن يأتيه الموت عن قريب فيلزمه التحرز الشديد عن هذا التفريط في كل وقت، وقد أبطل الله تعالى قول المجبرة من جهات: منها قوله تعالى: وَأَنْفِقُوا، ومنها أنه كان قبل حضور الموت لم يقدر على الاتفاق فكيف يتمنى تأخير الأجل، ومنها قوله تعالى مؤيسا له في الجواب: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ ولولا أنه مختار لأجيب باستواء التأخير والموت حين التمني، وأجيب بأن أهل الحق لا يقولون بالجبر فالبحث ساقط عنهم على أنه لا دلالة في الأول كما في سائر الأوامر كما حقق في موضعه، والتمني- وهو متمسك الفريق- لا يصح الاستدلال به، والقول المؤيس إبطال لتمنيهم لا جواب عنه إذ لا استحقاق لوضوح البطلان، والله تعالى أعلم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 313 سورة التغابن مدنية في قول الأكثرين، وعن ابن عباس وعطاء بن يسار أنها مكية إلا آيات من آخرها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ [التغابن: 14] إلخ، وعدد آيها تسع عشرة آية بلا خلاف، ومناسبتها لما قبلها أنه سبحانه ذكر هناك حال المنافقين وخاطب بعد المؤمنين، وذكر جل وعلا هنا تقسيم الناس إلى مؤمن وكافر، وأيضا في آخر تلك لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ [المنافقون: 9] وفي هذه نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن: 15] وهذه الجملة على ما قيل: كالتعليل لتلك، وأيضا في ذكر التغابن نوع حث على الإنفاق قبل الموت المأمور به فيما قبل، واستنبط بعضهم عمر النبي صلّى الله عليه وسلم ثلاثا وستين من قوله تعالى في تلك السورة: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها [المنافقون: 10] فإنها رأس ثلاث وستين سورة، وعقبها سبحانه بالتغابن ليظهر التغابن في فقده عليه الصلاة والسلام. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي ينزهه سبحانه وتعالى جميع الجزء: 14 ¦ الصفحة: 314 المخلوقات عما لا يليق بجناب كبريائه سبحانه تسبيحا مستمرا، وذلك بدلالتها على كماله عز وجل واستغنائه تعالى، والتجدد باعتبار تجدد النظر في وجوه الدلالة على ذلك لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ لا لغيره تعالى إذ هو جل شأنه المبدئ لكل شيء وهو القائم به والمهيمن عليه وهو عز وجل المولى لأصول النعم وفروعها وأما ملك غيره سبحانه فاسترعاء منه تعالى وتسليط، وأما حمد غيره تبارك وتعالى فلجريان إنعامه تعالى على يده فكلا الأمرين له تعالى في الحقيقة ولغيره بحسب الصورة، وتقديم لَهُ الْمُلْكُ لأنه كالدليل لما بعده وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لأن نسبة ذاته جل شأنه المقتضية للقدرة إلى الكل سواء فلا يتصور كون بعض مقدورا دون بعض، وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ إلخ بيان لبعض قدرته تعالى العامة، والمراد هو الذي أوجدكم كما شاء وقوله تعالى: فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ أي فبعضكم كافر به تعالى وبعضكم مؤمن به عز وجل، أو فبعض منكم كافر به سبحانه وبعض منكم مؤمن به تعالى تفصيل لما في خَلَقَكُمْ من الإجمال لأن كون بعضهم أو بعض منهم كافرا، وكون بعضهم أو بعض منهم مؤمنا مراد منه فالفاء مثلها في قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ [النور: 45] إلخ فيكون الكفر والإيمان في ضمن الخلق وهو الذي تؤيده الاخبار الصحيحة كخبر البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود عن ابن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم- وهو الصادق المصدوق- «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات: يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح الحديث» وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا مكث المني في الرحم أربعين ليلة أتاه ملك النفوس فعرج به إلى الرب فيقول: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي الله ما هو قاض فيقول: أشقي أم سعيد؟ فيكتب ما هو لاق» . وقرأ أبو ذر من فاتحة التغابن خمس آيات إلى قوله تعالى: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ والجمع بين الخبرين مما لا يخفى على من أوتي نصيبا من العلم، وتقديم الكفر لأنه الأغلب. واختار بعضهم كون المعنى هو الذي خلقكم خلقا بديعا حاويا لجميع مبادئ الكمالات العلمية والعملية، ومع ذلك فمنكم مختار للكفر كاسب له على خلاف ما تستدعيه خلقته، ومنكم مختار للإيمان كاسب له حسبما تقتضيه خلقته، وكان الواجب عليكم جميعا أن تكونوا مختارين للإيمان شاكرين لنعمة الخلق والإيجاد وما يتفرع عليهما من سائر النعم، فما فعلتم ذلك مع تمام تمكنكم منه بل تشعبتم شعبا وتفرقتم فرقا، وهو الذي ذهب إليه الزمخشري، بيد أنه فسر الكافر بالآتي بالكفر والفاعل له والمؤمن بالآتي بالإيمان والفاعل له لأنه الأوفق بمذهبه من أن العبد خالق لأفعاله، وأن الآية لبيان إخلالهم بما يقتضيه التفضل عليهم بأصل النعم الذي هو الخلق والإيجاد من النعم، وأن الآيات بعد في معنى الوعيد على الكفر وإنكار أن يعصى الخالق ولا تشكر نعمته. ثم قال: فما أجهل من يمزج الكفر بالخلق ويجعله من جملته، والخلق أعظم نعمة من الله تعالى على عباده، والكفر أعظم كفران من العباد لربهم سبحانه، وجعل الطيبي الفاء على هذا للترتيب والفرض على سبيل الاستعارة كاللام في قوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص: 8] وهي كالفاء في قوله تعالى: وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ [الحديد: 26] ولم يجعلها للتفصيل كما قيل. واختار في الآية المعنى السابق مؤيدا له بالأحاديث الصحيحة، وبأن السياق عليه مدعيا أن الآيات كلها واردة لبيان عظمة الله تعالى في ملكه وملكوته واستبداده فيهما، وفي شمول علمه تعالى كلها وفي إنشائه تعالى المكونات الجزء: 14 ¦ الصفحة: 315 ذواتها وأعراضها، ووافقه في اختيار ذلك تلميذه المدقق صاحب الكشف، واعترض قول الزمخشري: فما أجهل إلخ بقوله فيه ما مر مرارا كأنه يعني مخالفة النصوص في عدم كون الكفر مخلوقا كغيره على أن خلق الكفر أيضا من النعم العظام فلولا خلقه وتبيين ما فيه من المضار ما ظهر مقدار الإنعام بالإيمان وما فيه من المنافع، ثم إن كونه كفرا باعتبار قيامه بالعبد ومنه جاء القبح لا باعتبار كونه خلقه تعالى على ما حقق في موضعه، ثم قال: ومنه يظهر أن كلفه في قوله تعالى: فَمِنْكُمْ إلخ ليخرجه عن تفصيل المجمل في خَلَقَكُمْ تحريف لكتاب الله تعالى انتهى. ويرجح التفصيل عندي في الجملة قوله تعالى: كافِرٌ ومُؤْمِنٌ دون من يكفر ومن يؤمن، نعم عدم دخول الكفر والإيمان في الخلق أوفق بقوله تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها [الروم: 30] وقوله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة» والإنصاف أن الآية تحتمل كلّا من المعنيين: المعنى الذي ذكر أولا. والمعنى الذي اختاره البعض، والسياق يحتمل أن يحمل على ما يناسب كلا وليس نصا في أحد الأمرين اللذين سمعتهما حتى قيل: إن الآيات واردة لبيان ما يتوقف عليه الوعد والوعيد بعد من القدرة التامة والعلم المحيط بالنشأتين، وقوله تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي فيجازيكم بما يناسب ذلك لا ينافي خلق الكفر والإيمان لأنهما مكسوبان للعبد، وخلق الله تعالى إياهما لا ينافي كونهما مكسوبين للعبد كما بين في الكلام على قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ [الصافات: 96] لكن أكثر الأحاديث تؤيد المعنى الأول، وكأني بل تختار الثاني لأن كون المقام للتوبيخ على الكفر أظهر وهو أوفق به، وعن عطاء بن أبي رباح فَمِنْكُمْ كافِرٌ أي بالله تعالى مؤمن بالكوكب وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ بالله تعالى كافر بالكوكب، وقيل: فَمِنْكُمْ كافِرٌ بالخلق وهم الدهرية وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ به، وعن الحسن أن في الكلام حذفا والتقدير ومنكم فاسق، ولا أراه يصح، وكأنه من كذب المعتزلة عليه، والجملة- على ما استظهر بعض الأفاضل- معطوفة على الصلة، ولا يضره عدم العائد لأن المعطوف بالفاء يكفيه (1) وجود العائد في إحدى الجملتين كما قرروه في نحو الذي يطير فيغضب زيد الذباب، أو يقال: فيها رابط بالتأويل أي منكم من قدر كفره ومنكم من قدر إيمانه، أو فَمِنْكُمْ كافِرٌ به وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ به، ويقدر الحذف تدريجا، وجوز أن يكون العطف على جملة هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ. خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ بالحكمة البالغة المتضمنة للمصالح الدينية والدنيوية، قيل: وأصل الحق مقابل الباطل فأريد به الغرض الصحيح الواقع على أتم الوجوه وهو الحكمة العظيمة. وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ حيث برأكم سبحانه في أحسن تقويم وأودع فيكم من القوى والمشاعر الظاهرة والباطنة ما نيط بها جميع الكمالات البارزة والكامنة وزينكم بصفوة صفات مصنوعاته وخصكم بخلاصة خصائص مبدعاته وجعلكم أنموذج جميع مخلوقاته في هذه النشأة، وقد ذكر بعض المحققين أن الإنسان جامع بين العالم العلوي والسفلي، وذلك لروحه التي هي من عالم المجردات وبدنه الذي هو من عالم الماديات وأنشدوا: وتزعم أنك جرم صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبر ولعمري إن الإنسان أعجب نسخة في هذا العالم قد اشتملت على دقائق أسرار شهدت ببعضها الآثار وعلم ما علم منها ذوو الأبصار، وخص بعضهم الصورة بالشكل المدرك بالعين كما هو معروف، وكل ما يشاهد من الصور   (1) المصرح به أن ذلك فيما إذا كانت الفاء للسببية فلا تغفل اهـ منه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 316 الإنسانية حسن لكن الحسن كغيره من المعاني على طبقات ومراتب فلانحطاط بعضها عن مراتب ما فوقها انحطاطا بينا وإضافتها إلى الموفى عليها لا تستملح وإلا فهي داخلة في حيز الحسن غير خارجة من حده ألا ترى أنك قد تعجب بصورة وتستملحها ولا ترى الدنيا بها ثم ترى أملح وأعلى في مراتب الحسن فينبو عن الأولى طرفك وتستثقل النظر إليها بعد افتتانك بها وتهالكك عليها، وقالت الحكماء: شيئان لا غاية لهما: الجمال والبيان. وقرأ زيد بن علي وأبو رزين «صوركم» بكسر الصاد والقياس الضم كما في قراءة الجمهور. وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ في النشأة الأخرى لا إلى غيره استقلالا أو اشتراكا فاصرفوا ما خلق لكم فيما خلقه لئلا يمسخ ما يشاهد من حسنكم بالعذاب يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الأمور الكلية والجزئية والأحوال الجلية والخفية وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ أي ما تسرونه فيما بينكم وما تظهرونه من الأمور والتصريح به مع اندراجه فيما قبله للاعتناء بشأنه لأنه الذي يدور عليه الجزاء، وقوله تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ اعتراض تذييلي مقرر لما قبله من شمول علمه تعالى لسرهم وعلنهم أي هو عز وجل محيط بجميع المضرات المستكنة في صدور الناس بحيث لا تفارقها أصلا فكيف يخفى عليه تعالى ما يسرونه وما يعلنونه، وإظهار الجلالة للإشعار بعلة الحكم وتأكيد استقلال الجملة، قيل: وتقديم تقرير القدرة على العلم لأن دلالة المخلوقات على قدرته تعالى بالذات وعلى علمه سبحانه لما فيها من الإتقان والاختصاص ببعض الأنحاء. وقرأ عبيد عن أبي عمرو وأبان عن عاصم- ما يسرون وما يعلنون- بياء الغيبة أَلَمْ يَأْتِكُمْ أي أيها الكفرة لدلالة ما بعد على تخصيص الخطاب بهم، وظاهر كلام بعض الأجلة أن المراد بهم أهل مكة فكأنه قيل: ألم يأتكم يا أهل مكة نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ كقوم نوح وهود وصالح وغيرهم من الأمم المصرة على الكفر فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ أي ضرر كفرهم في الدنيا من غير مهلة، وأصل الوبال الثقل والشدة المترتبة على أمر من الأمور، ومنه الوبيل لطعام يثقل على المعدة، والوابل للمطر الثقيل القطار، واستعمل للضرر لأنه يثقل على الإنسان ثقلا معنويا، وعبر عن كفرهم بالأمر للإيذان بأنه أمر هائل وجناية عظيمة وَلَهُمْ في الآخرة عَذابٌ أَلِيمٌ لا يقادر قدره ذلِكَ أي ما ذكر من العذاب الذي ذاقوه في الدنيا وما سيذوقونه في الآخرة بِأَنَّهُ أي بسبب أن الشأن. كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الظاهرة فَقالُوا عطف على كانَتْ. أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا أي قال كل قوم من أولئك الأقوام الذين كفروا في حق رسولهم الذي أتاهم بالمعجزات منكرين لكون الرسول من جنس البشر، أو متعجبين من ذلك أبشر يهدينا كما قالت ثمود: أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ [القمر: 24] ، وقد أجمل في الحكاية فأسند القول إلى جميع الأقوام، وأريد بالبشر الجنس، فوصف بالجمع كما أجمل الخطاب، والأمر في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً [المؤمنون: 51] وارتفاع بَشَرٌ على الابتداء، وجملة يَهْدُونَنا هو الخبر عند الحوفي وابن عطية، والأحسن أن يكون مرفوعا على الفاعلية بفعل محذوف يفسره المذكور لأن همزة الاستفهام أميل إلى الفعل والمادة من باب الاشتغال فَكَفَرُوا بالرسل عليهم السلام وَتَوَلَّوْا عن التأمل فيما أتوا به من البينات، وعن الإيمان بهم وَاسْتَغْنَى اللَّهُ أي أظهر سبحانه غناه عن إيمانهم وعن طاعتهم حيث أهلكهم وقطع دابرهم، ولولا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وقد استغنى الله تعالى عن كل شيء، والأول هو الوجه وَاللَّهُ غَنِيٌّ عن العالمين فضلا عن إيمانهم وطاعتهم حَمِيدٌ يحمده كل مخلوق بلسان الحال الذي هو أفصح من لسان المقال، أو مستحق جل شأنه للحمد بذاته وإن لم يحمده سبحانه حامد زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا الزعم ادّعاء العلم، وأكثر ما يستعمل للادعاء الباطل. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 317 وعن ابن عمر وابن شريح إنه كنية الكذب، واشتهر أنه مطية الكذب، ولما فيه من معنى العلم يتعدى إلى مفعولين، وقد قام مقامهما هنا أَنْ المخففة وما في حيزها، والمراد بالموصول على ما في الكشاف أهل مكة فهو على ما سمعت في الخطاب من إقامة الظاهر مقام المضمر، ويؤيده ظاهرا قوله تعالى: قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ قال في الكشف: ويحتمل التعميم فيتناولهم وأضرابهم لتقدم كفار مكة في الذكر وغيرهم ممن حملوا على الاعتبار بحالهم، وهذا أبلغ أي زعموا أن الشأن لن يبعثوا بعد موتهم قُلْ ردا عليهم وإظهارا لبطلان زعمهم بإثبات ما نفوه بلى تبعثون، وأكد ذلك بالجملة القسمية فهي داخلة في حيز الأمر، وكذا قوله تعالى: ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ أي لتحاسبن وتجزون بأعمالكم، وزيد ذلك لبيان تحقق أمر آخر متفرع على البعث منوط به ففيه أيضا تأكيد له وَذلِكَ أي ما ذكر من البعث والجزاء عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لتحقق القدرة التامة وقبول المادة والفاء في قوله تعالى: فَآمِنُوا مفصحة بشرط قد حذف ثقة بغاية ظهوره أي إذا كان الأمر كذلك فَآمِنُوا بِاللَّهِ الذي سمعتم ما سمعتم من شؤونه عز وجل وَرَسُولِهِ محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وهو القرآن، فإنه بإعجازه بين بنفسه مبين لغيره كما أن النور كذلك، والالتفات إلى نون العظمة لإبراز العناية بأمر الإنزال، وفي ذلك من تعظيم شأن القرآن ما فيه وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من الامتثال بالأمر وتركه خَبِيرٌ عالم بباطنه. والمراد كمال علمه تعالى بذلك، وقيل: عالم بأخباره يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ ظرف لَتُنَبَّؤُنَّ وقوله تعالى: وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وقوله سبحانه: فَآمِنُوا إلى خَبِيرٌ من الاعتراض، فالأول يحقق القدرة على البعث، والثاني يؤكد ما سيق له الكلام من الحث على الإيمان به وبما تضمنه من الكتاب وبمن جاء به، وبالحقيقة هو نتيجة قوله تعالى: لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ قدم على معموله للاهتمام فجرى مجرى الاعتراض، وقوله سبحانه: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ اعتراض في اعتراض لأنه من تتمة الحث على الإيمان كما تقول: اعمل إني غير غافر عنك، وقال الحوفي: ظرف- لخبير- وهو عند غير واحد من الأجلة بمعنى مجازيكم فيتضمن الوعد والوعيد. وجعله الزمخشري بمعنى معاقبكم، ثم جوز هذا الوجه، وتعقب بأنه يرد عليه أنه ليس لمجرد الوعيد بل للحث كيف لا والوعيد قد تم بقوله تعالى: لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ فلم يحسن جعله بمعنى معاقبكم فتدبر، وجوز كونه منصوبا بإضمار اذكر مقدرا، وتعقب بأنه وإن كان حسنا إلا أنه حذف لا قرينة ظاهرة عليه، وجوز كونه ظرفا لمحذوف بقرينة السياق أي يكون من الأحوال والأهوال ما لا يحيط به نطاق المقال يوم يجمعكم، وتعقب بأن فيه ارتكاب حذف لا يحتاج إليه، فالأرجح الوجه الأول، وقرىء «يجمعكم» بسكون العين، وقد يسكن الفعل المضارع المرفوع مع ضمير جمع المخاطبين المنصوب، وروى إشمامها الضم، وقرأ سلام ويعقوب وزيد بن علي والشعبي «نجمعكم» بالنون لِيَوْمِ الْجَمْعِ ليوم يجمع فيه الأولون والآخرون، وقيل: الملائكة عليهم السلام والثقلان، وقيل: غير ذلك، والأول أظهر، واللام قيل: للتعليل، وفي الكلام مضاف مقدر أي لأجل ما في يوم الجمع من الحساب، وقيل: بمعنى في فلا تقدير ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس ومجاهد وقتادة أنهم قالوا: يوم غبن فيه أهل الجنة وأهل النار فالتفاعل فيه ليس على ظاهره كما في التواضع والتحامل لوقوعه من جانب واحد، واختير للمبالغة، وإلى هذا ذهب الواحدي. وقال غير واحد: أي يوم غبن فيه بعض الناس بعضا بنزول السعداء منازل الأشقياء لو كانوا سعداء وبالعكس، ففي الصحيح «ما من عبد يدخل الجنة إلا أرى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا، وما من عبد يدخل النار إلا أرى مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة» وهو مستعار من تغابن القوم في التجارة، وفيه تهكم بالأشقياء لأنهم لا يغبنون الجزء: 14 ¦ الصفحة: 318 حقيقة السعداء بنزولهم في منازلهم من النار، أو جعل ذلك تغابنا مبالغة على طريق المشاكلة فالتفاعل على هذا القول على ظاهره وهو حسن إلا أن التغابن فيه تغابن السعداء والأشقياء على التقابل، والأحسن الإطلاق، وتغابن السعداء على الزيادة ثبت في الصحاح، واختار ذلك محيي السنة حيث قال: التغابن تفاعل من الغبن وهو فوت الحظ، والمراد بالمغبون من غبن في أهله ومنازله في الجنة فيظهر يومئذ غبن كل كافر بترك الإيمان وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان، قال الطيبي: وعلى هذا الراغب حيث قال: الغبن أن يبخس صاحبك في معاملة بينك وبينه بضرب من الإخفاء فإن كان ذلك في مال يقال: غبن فلان بضم الغين وكسر الباء، وإن كان في رأي يقال: غبن بفتح الغين وكسر الباء، ويَوْمُ التَّغابُنِ يوم القيامة لظهور الغبن في المبايعة المشار إليها بقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [البقرة: 207] وقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ [التوبة: 111] وقوله عز وجل: الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا [آل عمران: 77] فعلم أنهم قد غبنوا فيما تركوا من المبايعة وفيما تعاطوه من ذلك جميعا انتهى، والجملة مبتدأ وخبر، والتعريف للجنس، وفيها دلالة على استعظام ذلك اليوم وأن تغابنه هو التغابن في الحقيقة لا التغابن في أمور الدنيا وإن جلت وعظمت. وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً أي عملا صالحا يُكَفِّرْ أي الله تعالى عَنْهُ سَيِّئاتِهِ في ذلك اليوم وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً أي مقدرين الخلود فيها، والجمع باعتبار معنى مَنْ كما أن الإفراد باعتبار لفظه، وقرأ الأعرج وشيبة وأبو جعفر وطلحة ونافع وابن عامر والمفضل عن عاصم وزيد ابن علي والحسن بخلاف عنه- نكفر. وندخله- بنون العظمة فيهما ذلِكَ أي ما ذكر من تكفير السيئات وإدخال الجنات الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الذي لا فوز وراءه لانطوائه على النجاة من أعظم الهلكات والظفر بأجلّ الطلبات. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي النار، وكأن هذه الآية- والتي قبلها لاحتوائهما على منازل السعداء والأشقياء- بيان للتغابن على تفسيره بتغابن الفريقين على التقابل ولما فيه من التفصيل نزل منزلة المغاير فعطف بالواو وكذا على الإطلاق لكنه عليه بيان في الجملة. ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ أي ما أصاب أحدا مصيبة على أن المفعول محذوف، ومِنْ زائدة، ومُصِيبَةٍ فاعل، وعدم إلحاق التاء في مثل ذلك فصيح لكن الإلحاق أكثر كقوله تعالى: ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها [الحجر: 5، المؤمنون: 43] وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ [الأنعام: 4] والمراد- بالمصيبة- الرزية وما يسوء العبد في نفس أو مال الجزء: 14 ¦ الصفحة: 319 أو ولد أو قول أو فعل أي ما أصاب أحدا من رزايا الدنيا أي رزية كانت إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي بإرادته سبحانه وتمكينه عز وجل كأن الرزية بذاتها متوجهة إلى العبد متوقفة على إرادته تعالى وتمكينه جل وعلا، وجوز أن يراد- بالمصيبة- الحادثة من شر أو خير، وقد نصوا على أنها تستعمل فيما يصيب العبد من الخير وفيما يصيبه من الشر لكن قيل: إنها في الأول من الصوب أي المطر، وفي الثاني من إصابة السهم، والأول هو الظاهر، وإن كان الحكم بالتوقف على الإذن عاما. وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ عند إصابتها للصبر والاسترجاع على ما قيل، وعن علقمة للعلم بأنها من عند الله تعالى فيسلم لأمر الله تعالى ويرضى بها، وعن ابن مسعود قريب منه، وقال ابن عباس: يَهْدِ قَلْبَهُ لليقين فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وقيل: يَهْدِ قَلْبَهُ أي يلطف به ويشرحه لازدياد الخير والطاعة، وقرأ ابن جبير وطلحة وابن هرمز والأزرق عن حمزة- نهد- بنون العظمة. وقرأ السلمي والضحاك وأبو جعفر «يهد» بالياء مبنيا للمفعول «قلبه» بالرفع على النيابة عن الفاعل، وقرىء كذلك لكن بنصب «قلبه» ، وخرج على أن نائب الفاعل ضمير مِنْ وقَلْبَهُ منصوب بنزع الخافض أي يهد في قلبه، أو يهد إلى قلبه على معنى أن الكافر ضال عن قلبه بعيد منه، والمؤمن واجد له مهتد إليه كقوله تعالى: لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [ق: 37] فالكلام من الحذف والإيصال نحو اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6] ، وفيه جعل القلب بمنزلة المقصد فمن ضل فقد منع منه ومن وصل فقد هدي إليه، وجوز أن يكون نصبه على التمييز بناء على أنه يجوز تعريفه. وقرأ عكرمة وعمرو بن دينار ومالك بن دينار «يهدأ» بهمزة ساكنة «قلبه» بالرفع أي يطمئن قلبه ويسكن بالإيمان ولا يكون فيه قلق واضطراب، وقرأ عمرو بن فايد- يهدا- بألف بدلا من الهمزة الساكنة، وعكرمة ومالك بن دينار أيضا «يهد» بحذف الألف بعد إبدالها من الهمزة، وإبدال الهمزة في مثل ذلك ليس بقياس على ما قال أبو حيان، وأجاز ذلك بعضهم قياسا، وبني عليه جواز حذف تلك الألف للجازم، وخرج عليه قول زهير بن أبي سلمى: جريء متى يظلم يعاقب بظلمه ... سريعا وإن لا يبد بالظلم يظلم أصله يبدأ فأبدلت الهمزة ألفا ثم حذفت للجازم تشبيها بألف- يخشى- إذا دخل عليه الجازم، وقوله تعالى: وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ من الأشياء التي من جملتها القلوب وأحوالها عَلِيمٌ فيعلم إيمان المؤمن ويهدي قلبه عند إصابة المصيبة فالجملة متعلقة بقوله تعالى: وَمَنْ يُؤْمِنْ إلخ، وجوز أن تكون متعلقة بقوله سبحانه: ما أَصابَ إلخ على أنها تذييل له للتقرير والتأكيد، وذكر الطيبي أن في الكلام الكشاف رمزا إلى أن في الآية حذفا أي فمن لم يؤمن لم يلطف به أو لم يهد قلبه، ومن يؤمن بالله يهد قلبه، وبني عليه أن المصيبة تشمل الكفر والمعاصي أيضا لورودها عقيب جزاء المؤمن والكافر وإردافها بالأمر الآتي وأي مصيبة أعظم منهما؟ وهو كما أشار إليه يدفع في نحر المعتزلة وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ كرر الأمر للتأكيد والإيذان بالفرق بين الاطاعتين في الكيفية، وتوضيح مورد الولي في قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي عن إطاعة الرسول، وقوله تعالى: فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ تعليل للجواب المحذوف أقيم مقامه أي فلا بأس عليه إذ ما عليه إلا التبليغ المبين وقد فعل ذلك بما لا مزيد عليه، وإظهار الرسول مضافا إلى نون العظمة في مقام إضماره لتشريفه عليه الصلاة والسلام، والإشعار بمدار الحكم الذي هو كون وظيفته صلّى الله تعالى عليه وسلم محض البلاغ ولزيادة تشنيع التولي عنه، والحصر في الكلام إضافي واللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الكلام فيها كالكلام في كلمة التوحيد، وقد مر وحلا وَعَلَى اللَّهِ أي عليه تعالى خاصة دون غيره لا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 320 استقلالا ولا اشتراكا فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وإظهار الجلالة في موقع الإضمار للإشعار بعلة التوكل. أو الأمر به فإن الألوهية مقتضية للتبتل إليه تعالى بالكلية، وقطع التعلق بالمرة عما سواه من البرية، وذكر بعض الأجلة أن تخصيص المؤمن بالأمر بالتوكل لأن الإيمان بأن الكل منه تعالى يقتضي التوكل، ومن هنا قيل: ليس في الآيات لمن تأمل في الحث على التوكل أعظم من هذه الآية لإيمائها إلى أن من لا يتوكل على الله تعالى ليس بمؤمن، وهي على ما قال الطيبي: كالخاتمة والفذلكة لما تقدم، وكالمخلص إلى مشرع آخر. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ أي إن بعضهم كذلك فمن الأزواج أزواجا يعادين بعولتهم ويخاصمنهم ويجلبن عليهم، ومن الأولاد أولادا يعادون آباءهم ويعقونهم ويجرعونهم الغصص والأذى، وقد شاهدنا من الأزواج من قتلت زوجها، ومن أفسدت عقله بإطعام بعض المفسدات للعقل، ومن كسرت قارورة عرضه، ومن مزقت كيس ماله- ومن، ومن- وكذا من الأولاد من فعل نحو ذلك فَاحْذَرُوهُمْ أي كونوا منهم على حذر ولا تأمنوا غوائلهم وشرهم، والضمير للعدو فإنه يطلق على الجمع نحو قوله تعالى: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي [الشعراء: 77] فالمأمور به الحذر عن الكل، أو للأزواج، والأولاد جميعا، فالمأمور به إما الحذر عن البعض لأن منهم من ليس بعدو، وإما الحذر عن مجموع الفريقين لاشتمالهم على العدو وَإِنْ تَعْفُوا عن ذنوبهم القابلة للعفو بأن تكون متعلقة بأمور الدنيا، أو بأمور الدين لكن مقارنه للتوبة بأن لم تعاقبوهم عليها وَتَصْفَحُوا تعرضوا بترك التثريب والتعيير وَتَغْفِرُوا تستروها بإخفائها وتمهيد معذرتهم فيها فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ قائم مقام الجواب، والمراد يعاملكم بمثل ما عملتم، ويتفضل عليكم فإنه عز وجل غَفُورٌ رَحِيمٌ ولما كان التكليف هاهنا شاقا لأن الأذى الصادر ممن أحسنت إليه أشد نكاية وأبعث على الانتقام ناسب التأكيد في قوله سبحانه: وَإِنْ تَعْفُوا إلخ، وقال غير واحد: إن عداوتهم من حيث إنهم يحولون بينهم وبين الطاعات والأمور النافعة لهم في آخرتهم، وقد يحملونهم على السعي في اكتساب الحرام وارتكاب الآثام لمنفعة أنفسهم كما روي عنه صلّى الله تعالى عليه وسلم «يأتي زمان على أمتي يكون فيه هلاك الرجل على يد زوجه وولده يعيرانه بالفقر فيركب مراكب السوء فيهلك» . ومن الناس من يحمله حبهم والشفقة عليهم على أن يكونوا في عيش رغد في حياته وبعد مماته فيرتكب المحظورات لتحصيل ما يكون سببا لذلك وإن لم يطلبوه منه فيهلك، وسبب النزول أوفق بهذا القول. أخرج الترمذي والحاكم وصححاه وابن جرير وغيرهم عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ إلخ في قوم من أهل مكة أسلموا وأرادوا أن يأتوا النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم فلما أتوا رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فرأوا الناس قد فقهوا في الدين هموا أن يعاقبوهم فأنزل الله تعالى الآية ومن رواية أخرى عنه أنه قال: كان الرجل يريد الهجرة فيحبسه امرأته وولده فيقول: أما والله لئن جمع الله تعالى بيني وبينكم في دار الهجرة لأفعلنّ ولأفعلنّ فجمع الله عز وجل بينهم في دار الهجرة فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ الآية. وقيل: إنهم قالوا لهم لئن جمعنا الله تعالى في دار الهجرة لم نصبكم بخير فلما هاجروا منعوهم الخير فنزلت، وعن عطاء بن أبي رباح أن عوف بن مالك الأشجعي أراد الغزو مع النبي صلّى الله عليه وسلم فاجتمع أهله وأولاده فثبطوه وشكوا إليه فراقه فرقّ ولم يغز، ثم إنه ندم فهم بمعاقبتهم فنزلت، واستدل بها على أنه لا ينبغي للرجل أن يحقد على زوجه وولده إذا جنوا معه جناية وأن لا يدعو عليهم نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ أي بلاء الجزء: 14 ¦ الصفحة: 321 ومحنة لأنهم يترتب عليهم الوقوع في الإثم والشدائد الدنيوية وغير ذلك، وفي الحديث «يؤتى برجل يوم القيامة فيقال: أكل عياله حسناته» ، وعن بعض السلف العيال سوس الطاعات. وأخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم وصححه عن بريدة قال: «كان النبي صلّى الله عليه وسلم يخطب فأقبل الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله عليه الصلاة والسلام من المنبر فحملهما واحدا من ذا الشق وواحدا من ذا الشق، ثم صعد المنبر فقال: صدق الله نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ إني لما نظرت إلى هذين الغلامين يمشيان ويعثران لم أصبر أن قطعت كلامي ونزلت إليهما» ، وفي رواية ابن مردويه عن عبد الله بن عمر «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بينما هو يخطب الناس على المنبر خرج حسين بن علي على رسول الله وعليهما الصلاة والسلام فوطئ في ثوب كان عليه فسقط فبكى فنزل رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم عن المنبر فلما رآه الناس سعوا إلى حسين يتعاطونه يعطيه بعضهم بعضا حتى وقع في يد رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فقال: قاتل الله الشيطان إن الولد لفتنة، والذي نفسي بيده ما دريت (1) أني نزلت عن منبري» . وقيل: إذا أمكنكم الجهاد والهجرة فلا يفتنكم الميل إلى الأموال والأولاد عنهما قال في الكشف: الفتنة على هذا الميل إلى الأموال والأولاد دون العقوبة والإثم، وقدمت الأموال قيل: لأنها أعظم فتنة كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق: 6، 7] ، وأخرج أحمد والطبراني والحاكم والترمذي وصححه عن كعب بن عياض سمعت رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم يقول: «إن لكل أمة فتنة وإن فتنة أمتي المال» . وأخرج نحوه ابن مردويه عن عبد الله بن أوفى مرفوعا وكأنه لغلبة الفتنة في الأموال والأولاد لم يذكر من التبعيضية كما ذكرت فيما تقدم اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ لمن آثر محبة الله تعالى وطاعته على محبة الأموال والأولاد والسعي في مصالحهم على وجه يخل بذلك فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ أي ابذلوا في تقواه عز وجل جهدكم وطاقتكم كما أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر عن الربيع بن أنس، وحكي عن أبي العالية. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: 102] اشتد على القوم العمل فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم فأنزل الله تعالى تخفيفا على المسلمين فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فنسخت الآية الأولى. وجاء عن قتادة نحو منه، وعن مجاهد المراد أن يطاع سبحانه فلا يعصى، والكثير على أن هذا هو المراد في الآية التي ذكرناها وَاسْمَعُوا مواعظه تعالى وَأَطِيعُوا أوامره عز وجل ونواهيه سبحانه وَأَنْفِقُوا مما رزقكم في الوجوه التي أمركم بالإنفاق فيها خالصا لوجهه جل شأنه كما يؤذن به قوله تعالى: خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وذكر ذلك تخصيص بعد تعميم، ونصب خَيْراً عند سيبويه على أنه مفعول به لفعل محذوف أي وأتوا خيرا لأنفسكم أي افعلوا ما هو خير لها وأنفع، وهذا تأكيد للحث على امتثال هذه الأوامر وبيان لكون الأمور خيرا لأنفسهم من الأموال والأولاد، وفيه شمة من التجريد، وعند أبي عبيد على أنه خبر ليكن مقدرا جوابا للأمر أي يكن خيرا، وعند الفراء والكسائي على أنه نعت لمصدر محذوف أي إنفاقا خيرا، وقيل: هو نصب- بأنفقوا- والخير المال، وفيه بعد من حيث المعنى، وقال بعض الكوفيين: هو نصب على الحال وهو بعيد في المعنى والإعراب وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ وهو البخل مع الحرص.   (1) ليت شعري لو رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم حال الحسين على جده وعليه الصلاة والسلام في واقعة كربلاء ماذا كان يصنع فلعنة الله تعالى وملائكته ورسله والناس أجمعين على من أمر بما كان ومن ألجم وأسرج، أو رضي أو كثر سوادا اه منه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 322 فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بكل مرام إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ تصرفوا المال إلى المصارف التي عينها عز وجل، وفي الكلام استعارة تمثيلية قَرْضاً حَسَناً مقرونا بالإخلاص وطيب النفس يُضاعِفْهُ لَكُمْ يجعل لكم جل شأنه بالواحد عشرا إلى سبعمائة وأكثر، وقرىء- يضعفه- وَيَغْفِرْ لَكُمْ ببركة الانفاق ما فرط منكم من بعض الذنوب وَاللَّهُ شَكُورٌ يعطي الجزيل بمقابلة النزر القليل حَلِيمٌ لا يعاجل بالعقوبة مع كثرة الذنوب عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ لا يخفى عليه سبحانه شيء الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ المبالغ في القدرة والحكمة، وفي الآية من الترغيب بالإنفاق ما فيها لكن اختلف في المراد به فقيل: الإنفاق المفروض يعني الزكاة المفروضة وقد صرح به، وقيل: الإنفاق المندوب، وقيل: ما يعم الكل، والله تعالى أعلم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 323 سورة الطّلاق وتسمى سورة- النساء القصرى- كذا سماها ابن مسعود كما أخرجه البخاري وغيره، وأنكره الداودي، فقال: لا أرى القصرى محفوظا ولا يقال لشيء من سورة القرآن: قصرى ولا صغرى، وتعقبه ابن حجر بأنه رد للاخبار الثابتة بلا مستند والقصر والطول أمر نسبي، وقد أخرج البخاري عن زيد بن ثابت أنه قال: طولى الطوليين، وأراد بذلك سورة الأعراف- وهي مدنية بالاتفاق.. واختلف في عدد آياتها ففي البصري إحدى عشرة آية، وفيما عداه اثنتا عشرة آية، ولما ذكر سبحانه فيما تقدم إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ [التغابن: 14] وكانت العداوة قد تفضي إلى الطلاق ذكر جل شأنه هنا الطلاق وأرشد سبحانه إلى الانفصال منهن على الوجه الجميل، وذكر عز وجل أيضا ما يتعلق بالأولاد في الجملة، فقال عز من قائل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ خص النداء به صلّى الله تعالى عليه وسلم وعم الخطاب بالحكم لأن النبي عليه الصلاة والسلام إمام أمته كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان افعلوا كيت وكيت الجزء: 14 ¦ الصفحة: 324 إظهارا لتقدمه واعتبارا لترؤسه، وأنه المتكلم عنهم والذي يصدرون عن رأيه ولا يستبدون بأمر دونه فكان هو وحده في حكمهم كلهم وسادا مسد جميعهم، وفي ذلك من إظهار جلالة منصبه عليه الصلاة والسلام ما فيه، ولذلك اختير لفظ النَّبِيُّ لما فيه من الدلالة على علو مرتبته صلّى الله تعالى عليه وسلم، وقيل: الخطاب كالنداء له صلّى الله تعالى عليه وسلم إلا أنه اختير ضمير الجمع للتعظيم نظير ما في قوله: ألا فارحموني يا إله محمد وقيل: إنه بعد ما خاطبه عليه الصلاة والسلام بالنداء صرف سبحانه الخطاب عنه لأمته تكريما له صلّى الله تعالى عليه وسلم لما في الطلاق من الكراهة فلم يخاطب به تعظيما، وجعل بعضهم الكلام على هذا بتقدير القول أي قل لأمتك: إِذا طَلَّقْتُمُ، وقيل: حذف نداء الأمة، والتقدير يا أيها النبي وأمة النبي إذا طلقتم، وأيا ما كان فالمعنى إذا أردتم تطليقهن على تنزيل المشارف للفعل منزلة الشارع فيه، واتفقوا على أنه لولا هذا التجوز لم يستقم الكلام لما فيه من تحصيل الحاصل، أو كون المعنى إذا طلقتم فطلقوهن مرة أخرى وهو غير مراد، وقال بعض المحققين: لك أن تقول: لا حاجة إلى ذلك بل هو من تعليق الخاص بالعام وهو أبلغ في الدلالة على اللزوم كما يقال: إن ضربت زيدا فاضربه ضربا مبرحا لأن المعنى إن يصدر منك ضرب فليكن ضربا شديدا، وهو أحسن من تأويله بالإرادة فتدبر انتهى، وأنت تعلم أن المتبادر فيما ذكره كونه على معنى الإرادة أيضا فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ أي لاستقبال عدتهن، واللام للتوقيت نحو كتبته لأربع ليال بقين من جمادى الأولى، أو مستقبلات لها على ما قدره الزمخشري، وتعقبه أبو حيان بما فيه نظر (1) واعتبار الاستقبال- رأي من يرى أن العدة بالحيض وهي القروء في آية البقرة- كالإمام أبي حنيفة- ليكون الطلاق في الطهر وهو الطلاق المأمور به، والمراد بالأمر بإيقاعه في ذلك النهي عن إيقاعه في الحيض. وقد صرحوا جميعا بأن ذلك الطلاق بدعيّ حرام، وقيد الطهر بكونه لم يجامعن فيه، واستدل لذلك، ولاعتبار الاستقبال بما أخرجه الإمامان: مالك والشافعي والشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وآخرون عن ابن عمر «أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر رضي الله تعالى عنه لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فتغيظ فيه رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم ثم قال: ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا قبل أن يمسها فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء. وقرأ النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم- يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن- وكان ابن عمر كما أخرج عنه ابن المنذر وغيره يقرأ كذلك، وكذلك ابن عباس، وفي رواية عنهما أنهما قرآ لقبل عدتهن ومن يرى أن العدة بالاطهار- وهي القروء- في تلك الآية كالإمام الشافعي يعلق لام التوقيت بالفعل ولا يعتبر الاستقبال، واعترض على التأويل بمستقبلات لعدتهن بأنه إن أريد التلبس بأولها فهو الشافعي، ومن يرى رأيه لا عليه وعلى المخالف لا له، وإن أريد المشارفة عادة فخلاف مقتضى اللفظ لأن اللام إذا دخلت الوقت أفادت معنى التأقيت والاختصاص بذلك الوقت لا استقبال الوقت، وعلى الاستدلال بقراءة رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم حسبما تضمنه الحديث السابق بأن قبل الشيء أوله نقيض دبره فهي مؤكدة لمذهب الشافعي لا دافعة له، ويشهد لكون العدة بالأطهار قراءة ابن مسعود- لقبل طهرهن- ومنهم من قال: التقدير لأطهار عدتهن، وتعقب بأنه إن جعلت الإضافة بمعنى- من- دل على   (1) وهو أنه لا يحذف متعلق الظرف إذا كان كونا خاصا، فالصحيح تقدير المضاف، وفيه أنه إذا كانت قرينة جاز حذف كل وإلا امتنع حذف كل اهـ. منه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 325 أن القرء هو الحيض والطهر معا، وإن جعلت بمعنى اللام فيكفي ما في قولك لأطهار الحيض من التنافر ردا مع ما فيه من الإضمار من غير دليل. وفي الكشاف المراد- أي من الآية- أن يطلقن في طهر لم يجامعن فيه، ثم يخلين حتى تنقضي عدتهن وهو أحسن الطلاق وأدخله في السنة وأبعد من الندم، ويدل عليه ما روي عن إبراهيم النخعي أن أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كانوا يستحبون أن لا يطلقها للسنة إلا واحدة ثم لا يطلقوا غير ذلك حتى تنقضي العدة، وكان أحسن عندهم من أن يطلق الرجل ثلاثا في ثلاثة أطهار، وقال مالك: لا أعرف طلاق السنة إلا واحدة وكان يكره الثلاث مجموعة كانت أو مفروقة، وأما أبو حنيفة وأصحابه فإنما كرهوا ما زاد على الواحدة في طهر واحد فأما مفروقا في الاطهار فلا لما روي عن النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم أنه قال لابن عمر حين طلق امرأته وهي حائض: «ما هكذا أمرك الله إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالا وتطلقها لكل قرء تطليقة» وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال لعمر: «مر ابنك فليراجعها ثم ليدعها حتى تحيض ثم تطهر ثم ليطلقها إن شاء» . وعند الشافعي لا بأس بإرسال الثلاث، وقال: لا أعرف في عدد الطلاق سنة ولا بدعة وهو مباح، فمالك يراعي في طلاق السنة الواحدة والوقت، وأبو حنيفة يراعي التفريق والوقت، والشافعي يراعي الوقت انتهى. وفي فتح القدير في الاحتجاج على عدم كراهة التفريق على الاطهار وكونه من الطلاق السني رواية غير ما ذكر عن ابن عمر أيضا، وقد قال فيها ما قال إلا أنه في الآخرة رجح قبولها، والمراد بإرسال الثلاث دفعة ما يعم كونها بألفاظ متعددة كأن يقال: أنت طالق أنت طالق أنت طالق، أو بلفظ واحد كأن يقال: أنت طالق ثلاثا، وفي وقوع هذا ثلاثا خلاف، وكذا في وقوع الطلاق مطلقا في الحيض، فعند الإمامية لا يقع الطلاق بلفظ الثلاث. ولا في حالة الحيض لأنه بدعة محرمة، وقد قال صلّى الله تعالى عليه وسلم: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» ، ونقله غير واحد عن ابن المسيب وجماعة من التابعين، وقال قوم منهم- فيما قيل- طاوس وعكرمة: الطلاق الثلاث بفم واحد يقع به واحدة، وروى هذه أبو داود عن ابن عباس- وهو اختيار ابن تيمية من الحنابلة- وفي الصحيحين أن أبا الصهباء قال لابن عباس: ألم تعلم أن الثلاث كانت تجعل واحدة على عهد رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر قال: نعم، وفي رواية لمسلم أن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم، ومنهم من قال في المدخول بها: يقع ثلاث، وفي الغير واحدة لما في مسلم وأبي داود والنسائي أن أبا الصهباء كان كثير السؤال من ابن عباس قال: أما علمت أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة؟ فقال ابن عباس: بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوا ذلك واحدة على عهد رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر الحديث، والذي ذهب إليه جمهور الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من أئمة المسلمين- ومنهم الأئمة الأربعة- وقوع الثلاث بفم واحد بل ذكر الإمام ابن الهمام وقوع الإجماع السكوتي من الصحابة على الوقوع. ونقل عن أكثر مجتهديهم كعلي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وابن مسعود وأبي هريرة وعثمان بن عفان وعبد الله بن عمرو بن العاص الإفتاء الصريح بذلك، وذكر أيضا أن إمضاء عمر الثلاث عليهم مع عدم مخالفته الصحابة له مع علمهم بأنها كانت واحدة لا يمكن إلا لأنهم قد اطلعوا في الزمان المتأخر على وجود ناسخ، أو لعلمهم بانتهاء الحكم لعلمهم بإناطته بمعان علموا انتهاءها في الزمان المتأخر، واستحسن ابن حجر في التحفة الجواب بالاطلاع الجزء: 14 ¦ الصفحة: 326 على ناسخ بعد نقله جوابين سواه وتزييفه لهما، وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى بعض أخبار مرفوعة يستدل بها على وقوع الثلاث، لكن قيل: إن الثلاث فيها يحتمل أن تكون بألفاظ ثلاثة كأنت طالق أنت طالق أنت طالق، ولعله هو الظاهر لا بلفظ واحد كأنت طالق ثلاثا، وحينئذ لا يصلح ذلك للرد على من لم يوقع الثلاث بهذا اللفظ لكن إذا صح الإجماع ولو سكوتيا على الوقوع لا ينبغي إلا الموافقة والسكوت، وتأويل ما روي عن عمر، ولذا قال بعض الأئمة: لو حكم قاض بأن الثلاث بفم واحد واحدة لم ينفذ حكمه لأنه لا يسوغ الاجتهاد فيه لإجماع الأئمة المعتبرين عليه، وإن اختلفوا في معصية من يوقعه كذلك، ومن قال: بمعصيته استدل بما روى النسائي عن محمود بن لبيد قال: «أخبرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاثا جميعا فقام غضبان فقال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟! حتى قام رجل فقال: يا رسول الله ألا أقتله» وبما أخرجه عبد الرزاق عن عبادة بن الصامت أن أباه طلق امرأة له ألف تطليقة فانطلق عبادة فسأله صلّى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: «بانت بثلاث في معصية الله وبقي تسعمائة وسبعة وتسعون عدوان وظلم إن شاء الله تعالى عذبه وإن شاء غفر له» ويفهم من هذا حرمة إيقاع الزائد أيضا وهو ظاهر كلام ابن الرفعة، ومقتضى قول الروياني- واعتمده الزركشي. وغيره- أنه يعزر فاعله، ووجه بأنه تعاطى نحو عقد فاسد وهو حرام، ونوزع في ذلك بما فيه نظر، وبما في سنن أبي داود عن مجاهد قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إنه طلق زوجته ثلاثا فقال له: عصيت ربك وبانت منك امرأتك إلى غير ذلك. ومن قال بعدمها استدل بما رواه الشيخان من أن عويمرا العجلاني لما لاعن امرأته طلقها ثلاثا قبل أن يخبره صلى الله تعالى عليه وسلم بحرمتها عليه، وقال: إنه لو كان معصية لنهاه عنه لأنه أوقعه معتقدا بقاء الزوجية، ومع اعتقادها يحرم الجمع عند المخالف، ومع الحرمة يجب الإنكار على العالم وتعليم الجاهل ولم يوجدا، فدل على أن لا حرمة وبأنه قد فعله جماعة من الصحابة منهم عبد الرحمن بن عوف طلق زوجته تماضر ثلاثا في موضعه والحسن ابن علي رضي الله تعالى عنهما طلق زوجته شهبانوا ثلاثا لما هنته بالخلافة بعد وفاة علي كرم الله تعالى وجهه، وقال بعض الحنفية في ذلك: إنه محمول على أنهم قالوا: ثلاثا للسنة، وهو أبعد من قول بعض الشافعية فيما روي من الأدلة الدالة على العصيان فيه أنه محمول على أنه كان في الحيض فالمعصية فيه من تلك الحيثية. واستدل على كونه معصية إذا كان في الحيض بما هو أظهر من ذلك كالروايتين السابقتين فيما نقل عن الكشاف، وفي الاستدلال بهما على حرمة إرسال الثلاث بحث، وربما يستدل بالثانية على وجوب الرجعة لكن قد ذكر بعض أجلة الشافعية أنها لا تجب بل تندب في الطلاق البدعي، وإنما لم تجب لأن الأمر بالأمر بالشيء ليس أمرا بذلك الشيء، وليس في- فليراجعها- أمر لابن عمر لأنه تفريع على أمر عمر، فالمعنى فليراجعها لأجل أمرك لكونك والده، واستفادة الندب منه حينئذ إنما هي من القرينة، وإذا راجع ارتفع الإثم المتعلق بحق الزوجة لا في الرجعة قاطعة للضرر من أصله فكانت بمنزلة التوبة ترفع أصل المعصية، وبه فارق دفن البصاق في المسجد فإنه قاطع لدوام ضرره لا لأصله لأن تلويث المسجد به قد حصل، ويندفع بما ذكر ما قيل: رفع الرجعة للتحريم كالتوبة يدل على وجوبها إذ كون الشيء بمنزلة الواجب في خصوصية من خصوصياته لا يقتضي وجوبه، ولا يستدل بما اقتضته الآية من النهي عن إيقاع الطلاق في الحيض على فساد الطلاق فيه إذ النهي عند أبي حنيفة لا يستلزم الفساد مطلقا، وعند الشافعي يدل على الفساد في العبادات وفي المعاملات إذا رجع إلى نفس العقد أو إلى أمر داخل فيه أو لازم له فإن رجع إلى أمر مقارن كالبيع وقت النداء فلا، وما نحن فيه لأمر مقارن وهو زمان الحيض فهو عنده لا يستلزم الفساد هنا أيضا، وأيد ذلك بأمر ابن عمر بالرجعة إذ لو لم يقع الطلاق لم يؤمر بها قيل: وما كان منه من التطليق في الحيض سبب نزول هذه الجزء: 14 ¦ الصفحة: 327 الآية والذي رواه ابن مردويه من طريق أبي الزبير عنه وحكي عن السدي. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال: بلغنا أن قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ الآية نزل في عبد الله بن عمرو بن العاص وطفيل بن الحارث وعمرو بن سعيد بن العاص، وقال بعضهم: فعله ناس منهم ابن عمرو بن العاص. وعتبة بن غزوان فنزلت الآية، وأخرج ابن المنذر عن ابن سيرين أنها نزلت في حفصة بنت عمر طلقها رسول الله صلّى الله عليه وسلم واحدة فنزلت إلى قوله تعالى: يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً فراجعها عليه الصلاة والسلام، ورواه قتادة عن أنس، وقال القرطبي نقلا عن علماء الحديث: إن الأصح أنها نزلت ابتداء لبيان حكم شرعي، وكل ما ذكر من أسباب النزول لها لم يصح، وحكى أبو حيان نحوه عن الحافظ أبي بكر بن العربي، وظاهرها أن نفس الطلاق مباح، واستدل له أيضا بما رواه ابو داود وابن ماجة عنه صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: «إن من أبغض المباحات عند الله عز وجل الطلاق» وفي لفظ «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» لوصفه بالإباحة والحل لأن أفعل بعض ما يضاف إليه، والمراد من كونه مبغوضا التنفير عنه أو كونه كذلك من حيث إنه يؤدي إلى قطع الوصلة وحل قيد العصمة لا من حيث حقيقته في نفسه. وقال البيهقي: البغض على إيقاعه كل وقت من غير رعاية لوقته المسنون، وبطلاقه صلّى الله عليه وسلم حفصة ثم أمره تعالى إياه أن يراجعها فإنها صوامة قوامة، وقال غير واحد: هو محظور لما فيه من كفران نعمة النكاح، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «لعن الله كل مذواق مطلاق» وإنما أبيح للحاجة، قال ابن الهمام: وهذا هو الأصح فيكره إذا لم يكن حاجة، ويحمل لفظ المباح على ما أبيح في بعض الأوقات أعني أوقات تحقق الحاجة المبيحة وهو ظاهر في رواية لأبي داود- ما أحل الله تعالى شيئا أبغض إليه من الطلاق- فإن الفعل لا عموم له في الأزمان، ومن الحاجة الكبر وعدم اشتهائه جماعها بحيث يعجز أو يتضرر بإكراهه نفسه عليه وهي لا ترضى بترك ذلك، وما روي عن الحسن- وكان قيل له في كثرة تزوجه وطلاقه من قوله: أحب الغنى- قال الله سبحانه: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ [النساء: 130] فهو رأي منه إن كان على ظاهره، وكل ما نقل من طلاق الصحابة- كطلاق المغيرة بن شعبة الزوجات الأربع دفعة- فقد قال لهن: أنتن حسنات الأخلاق ناعمات الأطواق طويلات الأعناق اذهبن فأنتن طلاق فمحمله وجود الحاجة، وإن لم يصرح بها، وقال ابن حجر: هو إما واجب كطلاق مول لم يرد الوطء وحكمين رأياه، أو مندوب كأن يعجز عن القيام بحقوقها ولو لعدم الميل إليها، أو تكون غير عفيفة ما لم يخش الفجور بها، ومن ثم أمر صلى الله تعالى عليه وسلم من قال: «إن زوجتي لا ترد يد لامس» أي لا تمنع من يريد الفجور بها على أحد أقوال من معناه بإمساكها خشية من ذلك، ويلحق بخشية الفجور بها حصول مشقة له بفراقها تؤدي إلى مبيح تيمم، وكون مقامها عنده أمنع لفجورها فيما يظهر فيهما، أو سيئة الخلق أي بحيث لا يصبر على عشرتها عادة فيما يظهر، وإلا فغير سيئة الخلق كالغراب الأعصم أو يأمره به أحد والديه أي من غير تعنت كما هو شأن الحمقى من الآباء والأمهات، ومع عدم خوف فتنة أو مشقة بطلاقها فيما يظهر، أو حرام كالبدعي، أو مكروه بأن سلم الحال عن ذلك كله للخبر الصحيح «ليس شيء من الحلال أبغض إلى الله من الطلاق» ولدلالته على زيادة التنفير عنه قالوا: ليس فيه مباح لكن صوره الإمام بما إذا لم يشتهها أي شهوة كاملة ولا تسمح نفسه بمؤنتها من غير تمتع اه. والآية على ما لا يخفى على المنصف لا تدل على أكثر من حرمته في الحيض، والمراد بالنساء فيها المدخول بهن من المعتدات بالحيض على ما في الكشاف، وغيره لمكان قوله سبحانه: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ. وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ واضبطوها وأكملوها ثلاثة قروء كوامل، وأصل معنى الإحصاء العد بالحصى كما كان معتادا قديما ثم صار حقيقة فيما ذكر وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ في تطويل العدة عليهن والإضرار بهن، وفي وصفه تعالى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 328 بربوبيته عز وجل لهم تأكيد للأمر ومبالغة في إيجاب الاتقاء لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ من مساكنهن عند الطلاق إلى أن تنقضي عدتهن، وإضافتها إليهن وهي لأزواجهن لتأكيد النهي ببيان كمال استحقاقهن لسكنا كأنها أملاكهن، وعدم العطف للإيذان باستقلاله بالطلب اعتناء به، والنهي عن الإخراج يتناول عدم إخراجهن غضبا عليهن أو كراهة لمساكنتهن أو لحاجة لهم إلى المساكن أو محض سفه بمنطوقه، ويتناول عدم الإذن لهن في الخروج بإشارته لأن خروجهن محرم بقوله تعالى: وَلا يَخْرُجْنَ أما إذا كانت لا ناهية كالتي قبلها فظاهر، وأما إذا كانت نافية فلأن المراد به النهي، وهو أبلغ من النهي الصريح كما لا يخفى، والإذن في فعل المحرم محرم فكأنه قيل: لا تخرجوهن ولا تأذنوا لهن في الخروج إذا طلبن ذلك ولا يخرجن بأنفسهن إن أردن فهناك دلالة على أن سكونهن في البيوت حق للشرع مؤكد فلا يسقط بالإذن، وهذا على ما ذكره الجلبي مذهب الحنفية، ومذهب الشافعية أنهما لو اتفقا على الانتقال جاز إذ الحق لا يعدوهما، فالمعنى لا تخرجوهن ولا يخرجن باستبدادهن وتعقب الشهاب كون ذلك مذهب الحنفية بقوله: فيه نظر، وقد ذكر الرازي في الاحكام ما يدل على خلافه وأن السكنى كالنفقة تسقط بالإسقاط انتهى. والذي يظهر من كلامهم ما ذكره الجلبي، وقد نص عليه الحصكفي في الدر المختار، وعلله بأن ذلك حق الله تعالى فلا يسقط بالإذن، وفي الفتح لو اختلعت على أن لا سكنى لها تبطل مؤنة السكنى عن الزوج ويلزمها أن تكتري بيته، وأما أن يحل لها الخروج فلا إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ أي ظاهر هي نفس الخروج قبل انقضاء العدة كما أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في سننه وابن مردويه والحاكم وصححه عن ابن عمر، وروي عن السدي وابن السائب والنخعي- وبه أخذ أبو حنيفة- والاستثناء عليه راجع إلى لا يَخْرُجْنَ والمعنى لا يطلق لهن في الخروج إلا في الخروج الذي هو فاحشة، ومن المعلوم أنه لا يطلق لهن فيه فيكون ذلك منعا عن الخروج على أبلغ وجه، وقال الإمام ابن الهمام: هذا كما يقال في الخطابية: لا تزن إلا أن تكون فاسقا ولا تشتم أمك إلا أن تكون قاطع رحم، ونحو ذلك وهو بديع وبليغ جدا، والزنا على ما روي عن قتادة والحسن والشعبي وزيد بن أسلم والضحاك وعكرمة وحماد والليث، وهو قول ابن مسعود وقول ابن عباس وبه أخذ أبو يوسف، والاستثناء عليه راجع إلى لا تخرجوهن على ما يقتضيه ظاهر كلام جمع أي لا تخرجوهن إلا إن زنين فأخرجوهن لإقامة الحد عليهن، وقال بعض المحققين: هو راجع إلى الكل وما يوجب حدا من زنا أو سرقة أو غيرهما- كما أخرجه عبد بن حميد عن سعيد بن المسيب- واختاره الطبري، والبذاء على الأحماء أي أو على الزوج- كما أخرجه جماعة من طرق عن ابن عباس- والاستثناء راجع إلى الأول أي لا تخرجوهن إلا إذا طالت ألسنتهن وتكلمن بالكلام الفاحش القبيح على أزواجهن أو أحمائهن، وأيد بقراءة أبيّ «لا أن يفحشن عليكم» بفتح الياء وضم الحاء، وفي موضح الأهوازي «يفحشن» من أفحش، قال الجوهري: أفحش عليه في النطق أي أتى بالفحش، وفي حرف ابن مسعود- إلا أن يفحشن- بدون عليكم والنشوز، والمراد إلا أن يطلقن على النشوز على ما روي عن قتادة أيضا، والاستثناء عليه قيل: راجع إلى الأول أيضا، وفي الكشف هو راجع إلى الكل لأنه سقط حقها في السكنى حل الإخراج والخروج أيضا، وأيا ما كان فليس في الآية حصر المبيح لفعل المنهي عنه بالإتيان بالفاحشة، وقد بينت المبيحات في كتب الفروع فليراجعها من أراد ذلك. وقرأ ابن كثير وأبو بكر «مبينة» بالفتح وَتِلْكَ إشارة إلى ما ذكر من الأحكام أي تلك الأحكام الجليلة الشأن حُدُودُ اللَّهِ التي عينها لعباده عز وجل وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ أي حدوده تعالى المذكورة بأن أخل بشيء منها على أن الإظهار في موضع الإضمار لتهويل أمر التعدي والإشعار بعلة الحكم في قوله تعالى: فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ أي أضربها كما قال شيخ الإسلام، ونقل عن بعض تفسير الظلم بتعريضها للعقاب، وتعقبه بأنه يأباه قوله سبحانه: لا الجزء: 14 ¦ الصفحة: 329 تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً فإنه استئناف مسوق لتعليل مضمون الشرطية، وقد قالوا: إن الأمر الذي يحدثه الله تعالى أن يقلب قلبه عما فعله بالتعدي إلى خلافه فلا بد أن يكون الظلم عن ضرر دنيوي يلحقه بسبب تعديه ولا يمكنه تداركه، أو عن مطلق الضرر الشامل للدنيوي والأخروي، وخص التعليل بالدنيوي لكون احتراز أكثر الناس منه أشد واهتمامهم بدفعه أقوى. ورد بأن الضرر الدنيوي غير محقق فلا ينبغي تفسير الظلم هاهنا به، وأن قوله تعالى: لا تَدْرِي إلخ ليس تعليلا لما ذكر بل هو ترغيب للمحافظة على الحدود بعد الترهيب، وفيه أنه بالترهيب أشبه منه بالترغيب، ولعل المراد من أضر بها عرضها للضرر، فالظلم هو ذلك التعريض ولا محذور في تفسيره به فيما يظهر، وجملة الترجي في موضع النصب ب لا تَدْرِي، وعد أبو حيان لَعَلَّ من المعلقات، والخطاب في لا تَدْرِي للمتعدي بطريق الالتفات لمزيد الاهتمام بالزجر عن التعدي لا للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم كما قيل، فالمعنى من يتعدى حدود الله تعالى فقد عرض نفسه للضرر فإنك لا تدري أيهما المتعدي عاقبة الأمر لَعَلَّ اللَّهَ تعالى يحدث في قلبك بَعْدَ ذلِكَ الذي فعلت من التعدي أَمْراً يقتضي خلاف ما فعلته فيكون بدل بغضها محبة وبدل الإعراض عنها إقبالا إليها، ولا يتسنى تلافيه برجعة أو استئناف نكاح فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ شارفن آخر عدتهن. فَأَمْسِكُوهُنَّ فراجعوهن بِمَعْرُوفٍ بحسن معاشرة وإنفاق مناسب للحال من الجانبين. أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ بإيفاء الحق واتقاء الضرار مثل أن يراجعها ثم يطلقها تطويلا للعدة. وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ عند الرجعة إن اخترتموها أو الفرقة إن اخترتموها تبريا عن الريبة وقطعا للنزاع، وهذا أمر ندب كما في قوله تعالى: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ [البقرة: 282] ، وقال الشافعي في القديم: إنه للوجوب في الرجعة، وزعم الطبرسي أن الظاهر أنه أمر بالإشهاد على الطلاق وأنه مروي عن أئمة أهل البيت رضوان الله تعالى عليهم أجمعين وأنه للوجوب وشرط في صحة الطلاق وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ أي أيها الشهود عند الحاجة لِلَّهِ خالصا لوجهه تعالى، وفي الآية دليل على بطلان قول من قال: إنه إذا تعاطف أمران لمأمورين يلزم ذكر النداء أو يقبح تركه نحو اضرب يا زيد وقم يا عمرو، ومن خص جواز الترك بلا قبح باختلافهما كما في قوله تعالى: يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ [يوسف: 29] فإن المأمور بقوله تعالى: أَشْهِدُوا للمطلقين وبقوله سبحانه: أَقِيمُوا الشَّهادَةَ للشهود كما أشرنا إليه، وقد تعاطف من غير اختلاف في أفصح الكلام. ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أي لأنه المنتفع بذلك، والإشارة على ما اختاره صاحب الكشاف إلى الحث على إقامة الشهادة لله تعالى، والأولى كما في الكشف أن يكون إشارة إلى جميع ما مر من إيقاع الطلاق على وجه السنة وإحصاء العدة والكف عن الإخراج والخروج وإقامة الشهادة للرجعة أو المفارقة ليكون أشد ملاءمة لقوله عز وجل: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ فإنه اعتراض بين المتعاطفين جيء به لتأكيد ما سبق من الأحكام بالوعد على اتقاء الله تعالى فيها، فالمعنى ومن يتق الله تعالى فطلق للسنة، ولم يضارّ المعتدة، ولم يخرجها من مسكنها واحتاط فأشهد يجعل له سبحانه مخرجا مما عسى أن يقع في شأن الأزواج من الغموم والوقوع في المضايق ويفرج عنه ما يعتريه من الكروب، ويرزقه من وجه لا يخطر بباله ولا يحتسبه، وفي الأخبار عن بعض الصحابة- كعلي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس في بعض الروايات عنه- ما يؤيد بظاهره هذا الوجه، وجوز أن يكون اعتراضا جيء به على نهج الاستطراد عند ذكر قوله تعالى: ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ إلخ، فالمعنى ومن يتق الله تعالى في كل ما يأتي وما يذر يجعل له مخرجا من غموم الدنيا والآخرة وهو أولى لعموم الفائدة، وتناوله الجزء: 14 ¦ الصفحة: 330 لما نحن فيه تناولا أوليا، ولاقتضاء أخبار في سبب النزول وغيره له، فقد أخرج أبو يعلى وأبو نعيم والديلمي من طريق عطاء بن يسار عن ابن عباس قال: قرأ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قوله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ إلخ فقال: مخرجا من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد يوم القيامة ، وأخرج أحمد والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم- في المعرفة- والبيهقي عن أبي ذر قال: «جعل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يتلو هذه الآية وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ فجعل يرددها حتى نعست ثم قال: يا أبا ذر لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم» . وأخرج ابن مردوية من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: «جاء عوف بن مالك الأشجعي فقال: يا رسول الله إن ابني (1) أسره العدو وجزعت أمه فما تأمرني؟ قال: آمرك وإياها أن تستكثرا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله فقالت المرأة: نعم ما أمرك فجعلا يكثران منها فتغفل العدوّ فاستاق غنمهم فجاء بها إلى أبيه فنزلت وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ» الآية ، وفي رواية ابن أبي حاتم عن محمد بن إسحاق مولى آل قيس قال: «جاء عوف بن مالك الأشجعي إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال له: أسر ابن عوف فقال له عليه الصلاة والسلام: أرسل إليه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم يأمرك أن تكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله وكانوا قد شدوه بالقدّ فسقط القدّ عنه فخرج فإذا هو بناقة لهم فركبها فاذا سرح للقوم الذين كانوا شدّدوه فصاح بها فاتبع آخرها أولها فلم يفجأ أبويه إلا وهو ينادي بالباب فأتى أبوه رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخبره فنزلت وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ إلخ. وفي بعض الروايات أنه أصابه جهد وبلاء فشكا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: «اتق الله واصبر فرجع ابنه وقد أصاب أعنزا فذكر ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام فنزلت فقال: هي لك» إلى غير ذلك مما هو مضطرب على ما لا يخفى على المتتبع، وعلى القول بالاستطراد قيل: المعنى من يتق الحرام يجعل له مخرجا إلى الحلال، وقيل: مَخْرَجاً من الشدة إلى الرخاء، وقيل: من النار إلى الجنة. وقيل: مَخْرَجاً من العقوبة وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ من الثواب، وقال الكلبي: مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ عند المصيبة يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً إلى الجنة، والكل كما ترى، والمعول عليه العموم الذي سمعته، وفي الكشف إن تنويع الوعد للمتقي وتكرير الحث عليه بعد الدلالة على أن التقوى ملاك الأمر عند الله تعالى ناط به سبحانه سعادة الدارين يدل على أن أمر الطلاق والعدة من الأمور التي تحتاج إلى فضل تقوى لأنه أبغض المباح إلى الله عز وجل لما يتضمن من الإيحاش وقطع الألفة الممهدة، ثم الاحتياط في أمر النسب الذي هو من جلة المقاصد يؤذن بالتشديد في أمر العدة فلا بد من التقوى ليقع الطلاق على وجه يحمد عليه، ويحتاط في العدة ما يجب فهنالك يحصل للزوجين المخرج في الدنيا والآخرة، وعليه فالزوجة داخلة في العموم كالزوج وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ أي كافيه عز وجل في جميع أموره. وأخرج أحمد في الزهد عن وهب قال: «يقول الرب تبارك وتعالى: إذا توكل عليّ عبدي لو كادته السماوات والأرض جعلت له من بين ذلك المخرج» إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ بإضافة الوصف إلى مفعوله والأصل بالغ أمره بالنصب- كما قرأ به الأكثرون- أي يبلغ ما يريده عز وجل ولا يفوته مراد. وقرأ ابن أبي عبلة في رواية وداود بن أبي هند وعصمة عن أبي عمرو «بالغ» بالرفع منونا «أمره» بالرفع على أنه فاعل- بالغ- الخبر- لأن- أو مبتدأ، وبالِغُ خبر مقدم له، والجملة خبر إِنَّ أي نافذ أمره عز وجل، وقرأ   (1) اسمه سالم اه. منه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 331 المفضل في رواية أيضا بالغا بالنصب «أمره» بالرفع، وخرج ذلك على أن بالغا حال من فاعل جَعَلَ في قوله تعالى: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً لا من المبتدأ لأنهم لا يرتضون مجيء الحال منه، وجملة قَدْ جَعَلَ إلخ خبر إِنَّ، وجوز أن يكون بالغا هو الخبر على لغة من ينصب الجزأين- بإن- كما في قوله: إذا اسود جنح الليل فلتأت ولتكن ... خطاك خفافا إن حراسنا أسدا وتعقب بأنها لغة ضعيفة، ومعنى قَدْراً تقديرا، والمراد تقديره قبل وجوده، أو مقدارا من الزمان، وهذا بيان لوجوب التوكل عليه تعالى وتفويض الأمر إليه عز وجل لأنه إذا علم أن كل شيء من الرزق وغيره لا يكون إلا بتقديره تعالى لا يبقى إلا التسليم للقدر، وفيه على ما قيل: تقرير لما تقدم من تأقيت الطلاق والأمر بإحصاء العدة، وتمهيد لما سيأتي إن شاء الله تعالى من مقاديرها. وقرأ جناح بن حبيش «قدرا» بفتح الدال وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ أي الحيض، وقرىء- ييأسن- مضارعا مِنْ نِسائِكُمْ لكبرهن، وقد قدر بعضهم سن اليأس بستين سنة، وبعضهم بخمس وخمسين، وقيل: هو غالب سن يأس عشيرة المرأة، وقيل غالب سن يأس النساء في مكانها التي هي فيه فإن المكان إذا كان طيب الهواء والماء- كبعض الصحاري- يبطىء فيه سن اليأس، وقيل: أقصى عادة امرأة في العالم، وهذا القول- بالغ درجة اليأس- من أن يقبل إِنِ ارْتَبْتُمْ أي إن شككتم وترددتم في عدتهن، أو إن جهلتم عدتهن فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في سننه. وجماعة عن أبي بن كعب أن ناسا من أهل المدينة لما نزلت هذه الآية التي في البقرة في عدة النساء قالوا: لقد بقي من عدة النساء عدد لم تذكر في القرآن الصغار والكبار اللاتي قد انقطع عنهن الحيض وذوات الحمل، فأنزل الله تعالى في سورة النساء القصرى وَاللَّائِي يَئِسْنَ الآية، وفي رواية أن قوما منهم أبي بن كعب وخلاد بن النعمان لما سمعوا قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: 228] قالوا: يا رسول الله فما عدة من لا قرء لها من صغر أو كبر؟ فنزل وَاللَّائِي يَئِسْنَ إلخ، فقال قائل: فما عدة الحامل؟ فنزل وَأُولاتُ الْأَحْمالِ إلخ. ويعلم مما ذكر أن الشرط هنا لا مفهوم له عند القائلين بالمفهوم لأنه بيان للواقعة التي نزل فيها من غير قصد للتقييد، وتقدير متعلق الارتياب ما سمعت هو ما أشار إليه الطبري وغيره، وقيل: إِنِ ارْتَبْتُمْ في دم البالغات مبلغ اليأس أهو دم حيض أو استحاضة فعدتهن إلخ، وإذا كانت هذه عدة المرتاب بها فغير المرتاب بها أولى بذلك، وقال الزجاج: المعنى إِنِ ارْتَبْتُمْ في حيضهن وقد انقطع عنهن الدم وكن ممن يحيض مثلهن، وقال مجاهد: الآية واردة في المستحاضة أطبق بها الدم لا تدري أهو دم حيض أو دم علة، وقيل: إِنِ ارْتَبْتُمْ أي إن تيقنتم إياسهن، والارتياب من الأضداد والكل كما ترى. والموصول قالوا: إنه مبتدأ خبره جملة فَعِدَّتُهُنَّ إلخ، وإِنِ ارْتَبْتُمْ شرط جوابه محذوف تقديره فاعلموا أنها ثلاثة أشهر، والشرط وجوابه جمل معترضة، وجوز كون فَعِدَّتُهُنَّ إلخ جواب الشرط باعتبار الاعلام والإخبار كما في قوله تعالى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل: 53] والجملة الشرطية خبر من غير حذف وتقير، وقوله تعالى: وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ مبتدأ خبره محذوف أي واللائي لم يحضن كذلك أو عدتهن ثلاثة أشهر، والجملة معطوفة على ما قبلها، وجوز عطف هذا الموصول على الموصول السابق وجعل الخبر لهما من غير تقدير، والمراد- باللائي لم يحضن- الصغار اللائي لم يبلغن سن الحيض. واستظهر أبو حيان شموله من لم يحضن لصغر ومن لا يكون لهن حيض البتة كبعض النساء يعشن إلى أن يمتن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 332 ولا يحضن، ومن أتى عليها زمان الحيض وما بلغت به ولم تحض، ثم قال: وقيل: هذه تعتدّ سنة. وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أي منتهى عدتهن أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ولو نحو مضغة وعلقة ولا فرق في ذلك بين أن يكن مطلقات أو متوفى عنهن أزواجهن كما روي عن عمر وابنه، فقد أخرج مالك والشافعي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن عمر أنه سئل عن المرأة يتوفى عنها زوجها وهي حامل فقال: إذا وضعت حملها فقد حلت فأخبره رجل من الأنصار أن عمر بن الخطاب قال: لو ولدت وزوجها على سريره لم يدفن لحلت، وعن ابن مسعود فقد أخرج عنه أبو داود والنسائي وابن ماجة أنه قال: من شاء لاعنته أن الآية التي في سورة النساء القصرى وَأُولاتُ الحمل إلخ نزلت بعد سورة البقرة بكذا وكذا شهرا وكل مطلقة أو متوفى عنها زوجها فأجلها أن تضع حملها، وفي رواية ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري بسبع سنين ولعله لا يصح، وعن أبي هريرة وأبي مسعود البدري وعائشة- وإليه ذهب فقهاء الأمصار- وروي ذلك عن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم، أخرج عبد بن حميد في زوائد المسند وأبو يعلى والضياء في المختارة وابن مردويه عن أبيّ بن كعب قال: قلت للنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ أهي المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها؟ قال: «هي المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها» وروى جماعة نحوه عنه من وجه آخر، وصح أن سبيعة بنت الحارث الأسلمية كانت تحت سعد بن خولة فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل فوضعت بعد وفاته بثلاثة وعشرين يوما، وفي رواية بخمس وعشرين ليلة، وفي أخرى بأربعين ليلة فاختضبت وتكحلت وتزينت تريد النكاح فأنكر ذلك عليها فسئل النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم فقال: «إن تفعل فقد خلا أجلها» وذهب علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما إلى أن الآية في المطلقات، وأما المتوفى عنها زوجها فعدتها آخر الأجلين، وهو مذهب الإمامية كما في مجمع البيان. وعلى ما تقدم فالآية ناسخة لقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ [البقرة: 234] الآية على رأي أصحاب أبي حنيفة ومن وافقهم من الشافعية لأن العام المطلق المتأخر ناسخ عندهم فأولى أن يكون العام من وجه كذلك، وأما من لم يذهب إليه فمن لم يجوز تأخير بيان العام قال: بالنسخ أيضا لأن العام الأول حينئذ مراد تناوله لإفراده، وفي مثله لا خلاف في أن الخاص المتراخي ناسخ بقدره لا مخصص، ومن جوز ذهب إلى التخصيص بناء على أن التي في القصرى أخص مطلقا، ووجهه أنه ذكر في البقرة حكم المطلقات من النساء وحكم المتوفى عنهن الأزواج على التفريق، ثم وردت هذه مخصصة في البابين لشمول لفظ الأجل العدتين، وخصوص- أولات الأحمال- مطلقا بالنسبة إلى الأرواح، وهذا كما يقول القائل: هندية الموالي لهم كذا وتركيتهم لهم كذا لجنس آخر، ثم يقول: والكهول منهم لهم دون ذلك أو فوقه أو كذا مريدا صنفا آخر يكون الأخير مخصصا للحكمين، ولا نظر إلى اختلاف العطايا لشمول اللفظ الدال على الاختصاص وخصوص الكهول من الموالي مطلقا كذلك فيما نحن فيه لا نظر إلى اختلاف العدتين لشمول لفظ الأجل، وخصوص- أولات الأحمال- بالنسبة إلى الأزواج مطلقا، وإن شئت فقل: بالنسبة إلى المطلقات والمتوفى عنهن رجالهن مطلقا فلا فرق- قاله في الكشف- ثم قال: ومن ذهب إلى أبعد الأجلين احتج بأن النصين متعاضدان لأن بينهما عموما وخصوصا من وجه ولا وجه للإلغاء فيلزم الجمع، وفي القول بذلك يحصل الجمع لأن مدة الحمل إذا زادت فقد تربصت أربعة أشهر وعشرا مع الزيادة وإن قصرت وتربصت المدة فقد وضعت وتربصت فيحصل العمل بمقتضى الآيتين، والجواب أنه إلغاء للنصين لا جمع إذا المعتبر الجمع بين النصين لا بين المدتين وذلك لفوات الحصر والتوقيت الذي هو مقتضى الآيتين اه فتدبر. وقرأ الضحاك «أحمالهن» جمعا وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ في شأن أحكامه تعالى ومراعاة حقوقها: يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 333 يُسْراً بأن يسهل عز وجل أمره عليه، وقيل: اليسر الثواب وَمَنْ قيل: للبيان قدم على المبين للفاصلة، وقيل: بمعنى في، وقيل: تعليلية ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من الأحكام وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد المنزلة في الفضل، وإفراد الكاف- مع أن الخطاب للجمع كما يفصح عنه قوله تعالى: أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ لما أنها لمجرد الفرق بين الحاضر والمنقضي لا لتعيين خصوصية المخاطبين وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ بالمحافظة على أحكامه عز وجل يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ فإن الحسنات يذهبن السيئات وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً بالمضاعفة، وقرأ الأعمش- نعظم- بالنون التفاتا من الغيبة إلى التكلم، وقرأ ابن مقسم- يعظم- بالياء والتشديد مضارع عظم مشددا، وقوله تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ مما قبله من الحث على التقوى كأنه قيل: كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدات؟ فقيل: أَسْكِنُوهُنَّ إلخ، ومِنْ للتبعيض أي أسكنوهن بعض مكان سكناكم، ولتسكن إذا لم يكن إلا بيت واحد في بعض نواحيه كما روي عن قتادة، وقال الحوفي وأبو البقاء: هي لابتداء الغاية، وقوله تعالى: مِنْ وُجْدِكُمْ أي من وسعكم أي مما تطيقونه عطف بيان لقوله تعالى: مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ على ما قاله الزمخشري، ورده أبو حيان بأنه لا يعرف عطف بيان يعاد فيه العامل إنما هذا طريقة البدل مع حرف الجر ولذلك أعربه أبو البقاء بدلا، وتعقب بأن المراد أن الجار والمجرور عطف بيان للجار والمجرور لا المجرور فقط حتى يقال ذلك مع أنه لا يبرد له بسلامة الأمير وأنه لا فرق بين عطف البيان والبدل إلا في أمر يسير، ولا يخفى قوة كلام أبي حيان، وقرأ الحسن والأعرج وابن أبي عبلة وأبو حيوة «من وجدكم» بفتح الواو، وقرأ الفياض بن غزوان، وعمرو بن ميمون ويعقوب بكسرها- وذكرها المهدوي عن الأعرج- والمعنى في الكل الوسع وَلا تُضآرُّوهُنَّ ولا تستعملوا معهن الضرار في السكنى لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ فتلجئوهن إلى الخروج بشغل المكان أو بإسكان من لا يردن السكنى معه ونحو ذلك وَإِنْ كُنَّ أي المطلقات أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فيخرجن عن العدة، وأما المتوفى عنهن أزواجهن فلا نفقة لهن عند أكثر العلماء، وعن علي كرم الله تعالى وجهه وابن مسعود تجب نفقتهن في التركة، ولا خلاف في وجوب سكنى المطلقات أولات الحمل ونفقتهن بت الطلاق أو لم يبت. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 334 واختلف في المطلقات اللاتي لسن أولات حمل بعد الاتفاق على وجوب السكنى لهن إذا لم يكن مبتوتات، فقال ابن المسيب وسليمان بن يسار وعطاء والشعبي والحسن ومالك والأوزاعي وابن أبي ليلى والشافعي وأبو عبيد: للمطلقة الحائل المبتوتة السكنى ولا نفقة لها، وقال الحسن وحماد وأحمد وإسحاق وأبو ثور والإمامية: لا سكنى لها ولا نفقة لحديث فاطمة بنت قيس قالت: طلقني زوجي أبو عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي البتة فخاصمته إلى رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم في السكنى والنفقة فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة وأمرني أن أعتد في بيت ابن أم مكتوم ثم أنكحني أسامة بن زيد ، وقال أبو حنيفة والثوري: لها السكنى والنفقة فهما عنده لكل مطلقة لم تكن ذات حمل، ودليله أن عمر رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم يقول في المبتوتة: «لها النفقة والسكنى» مع أن ذلك جزاء الاحتباس وهو مشترك بين الحائل والحامل، ولو كان جزاء للحمل لوجب في ماله إذا كان له مال ولم يقولوا به. ويؤيد ذلك قراءة ابن مسعود- أسكنوهن من حيث سكنتم وأنفقوا عليهن من وجدكم- ومن خص الإنفاق بالمعتدات أولات الحمل استدل بهذه الآية لمكان الشرط فيها وهو لا يتم على النافين لمفهوم المخالفة مع أن فائدة الشرط هاهنا أن الحامل قد يتوهم أنها لا نفقة لها لطول مدة الحمل فأثبت لها النفقة ليعلم غيرها بالطريق الأولى- كما في الكشاف- فهو من مفهوم الموافقة، وحديث فاطمة بنت قيس قد طعن فيه عمر وعائشة وسليمان بن يسار والأسود بن يزيد وأبو سلمة بن عبد الرحمن وغيرهم فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ أي بعد أن يضعن حملهن فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ على الإرضاع وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ خطاب للآباء والأمهات، والافتعال بمعنى التفاعل، يقال: ائتمر القوم وتآمروا بمعنى، قال الكسائي: والمعنى تشاوروا، وحقيقته ليأمر بعضكم بعضا بمعروف أي جميل في الأجرة والإرضاع ولا يكن من الأب مماسكة ولا من الأم معاسرة، وقيل: المعروف الكسوة والدثار وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ أي تضايقتم أي ضيّق بعضكم على الآخرة بالمشاحة في الأجرة أو طلب الزيادة أو نحو ذلك فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى أي فستوجد ولا تعوز مرضعة أخرى، وفيه على ما قيل: معاتبة للام لأنه كقولك لمن تستقضيه حاجة فتتعذر منه: سيقضيها غيرك أي ستقضي وأنت ملوم. وخص الأم بالمعاتبة على ما قال ابن المنير لأن المبذول من جهتها هو لبنها لولدها وهو غير متمول ولا مضمون به في العرف وخصوصا من الأم على الولد، ولا كذلك المبذول من جهة الأب فإنه المال المضنون به عادة، فالأم إذن أجدر باللوم وأحق بالعتب، والكلام على معنى فليطلب له الأب مرضعة أخرى فيظهر الارتباط بين الشرط والجزاء، وقال بعض الأجلة: إن الكلام لا يخلو عن معاتبة الأب أيضا حيث أسقط في الجواب عن حيز شرف الخطاب مع الإشارة إلى أنه إذا ضايق الأم في الأجر فامتنعت من الإرضاع لذلك فلا بد من إرضاع امرأة أخرى، وهي أيضا تطلب الأجر في الأغلب والأم أشفق فهي به أولى، وبذلك يظهر كمال الارتباط، والأول أظهر فتدبر، وقيل: فَسَتُرْضِعُ خبر بمعنى الأمر أي فلترضع، وليس بذاك، وهذا الحكم إذا قبل الرضيع ثدي أخرى أما إذا لم يقبل إلا ثدي أمه فقد قالوا: تجبر على الإرضاع بأجرة مثلها لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ أي ضيق عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ وإن قل، والمراد لينفق كل واحد من الموسر والمعسر ما يبلغه وسعه، والظاهر أن المأمور بالإنفاق الآباء، ومن هنا قال ابن العربي: هذه الآية أصل في وجوب النفقة على الأب، وخالف في ذلك محمد بن المواز فقال: بوجوبها على الأبوين على قدر الميراث، وحكى أبو معاذ أنه قرىء «لينفق» بلام كي ونصب القاف على أن التقدير شرعنا ذلك لينفق. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 335 وقرأ ابن أبي عبلة «قدّر» مشدد الدال لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها أي إلا بقدر ما أعطاها من الطاقة، وقيل: ما أعطاها من الأرزاق قل أو جل، وفيه تطييب واستمالة لقلب المعسر لمكان عبارة آتاها الخاصة بالإعسار قبل وذكر العسر بعد، واستدل بالآية من قال لا فسخ بالعجز عن الإنفاق على الزوجة وهو ما ذهب اليه عمر ابن عبد العزيز وأبو حنيفة وجماعة وعن أبي هريرة والحسن وابن المسيب ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق يفسخ النكاح بالعجز عن الانفاق ويفرق بين الزوجين، وفيها على ما قال السيوطي: استحباب مراعاة الإنسان حال نفسه في النفقة والصدقة، ففي الحديث «إن المؤمن أخذ عن الله تعالى أدبا حسنا إذا هو سبحانه وسع عليه وسع وإذا هو عز وجل قتر عليه قتر» ، وقوله تعالى: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً موعد لفقراء ذلك الوقت بفتح أبواب الرزق عليهم، أو لفقراء الأزواج إن أنفقوا ما قدروا عليه ولم يقصروا، وهو على الوجهين تذييل إلا أنه على الأول مستقل، وعلى الثاني غير مستقل وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أي كثير من أهل قرية. وقرأ ابن كثير «وكائن» بالمد والهمزة، وتفصيل الكلام فيها قد مر عَتَتْ تجبرت وتكبرت معرضة عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فلم تمتثل ذلك فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً بالاستقصاء والتنقير والمناقشة في كل نقير من الذنوب وقطمير وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً أي منكرا عظيما، والمراد حساب الآخرة وعذابها، والتعبير عنهما بلفظ الماضي للدلالة على تحققهما كما في قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ [الكهف: 99] وغيرها. وقرأ غير واحد «نكرا» بضمتين فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها عقوبة عتوها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً هائلا لا خسر وراءه أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً تكرير للوعيد وبيان لما يوجب التقوى المأمور بها بقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ كأنه قيل: أعد الله تعالى لهم هذا العذاب فليكن لكم ذلك يا أولي الألباب داعيا لتقوى الله تعالى وحذر عقابه، وقال الكلبي: الكلام على التقديم والتأخير، والمراد وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً في الدنيا بالجوع والقحط والسيف وسائر المصائب والبلايا فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً في الآخرة. والظاهر أن قوله تعالى: أَعَدَّ إلخ عليه تكرير للوعيد أيضا، وجوز أن يراد بالحساب الشديد استقصاء ذنوبهم وإثباتها في صحائف الحفظة، وبالعذاب النكر ما أصابهم عاجلا، وتجعل جملة عَتَتْ إلخ صفة لقرية، والماضي في فَحاسَبْناها. وعَذَّبْناها على الحقيقة، وخبر كَأَيِّنْ جملة أَعَدَّ اللَّهُ إلخ، أو تجعل جملة عَتَتْ إلخ هي الخبر، وجملة أَعَدَّ اللَّهُ إلخ استئناف لبيان أن عذابهم غير منحصر فيما ذكر بل لهم بعده عذاب شديد، وقوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا منصوب بإضمار أعني بيانا للمنادى السابق أو نعت له أو عطف بيان، وفي إبداله منه ضعف لعدم صحة حلوله محله قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً هو النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم عبر به عنه لمواظبته عليه الصلاة والسلام على تلاوة القرآن الذي هو ذكر، أو تبليغه والتذكير به، وقوله تعالى: رَسُولًا بدلا منه، وعبر عن إرساله بالإنزال ترشيحا للمجاز، أو لأن الإرسال مسبب عنه فيكون أَنْزَلَ مجازا مرسلا، وقال أبو حيان: الظاهر أن الذكر هو القرآن، والرسول هو محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم فإما أن يجعل نفس الذكر مجازا. أو يكون بدلا على حذف مضاف أي ذا ذكر رَسُولًا فيكون رَسُولًا نعتا لذلك المحذوف أو بدلا، وقيل: رَسُولًا منصوب بمقدر مثل أرسل رسولا دل عليه أنزل. ونحا إلى هذا السدي، واختاره ابن عطية، وقال الزجاج وأبو علي: يجوز أن يكون معمولا للمصدر الذي هو ذكر كما في قوله تعالى: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً [البلد: 14، 15] ، وقول الشاعر: بضرب بالسيوف رؤوس قوم ... أزلنا هامهن عن المقيل الجزء: 14 ¦ الصفحة: 336 أي أَنْزَلَ اللَّهُ تعالى ذكره رَسُولًا على معنى أنزل الله عز وجل ما يدل على كرامته عنده وزلفاه، ويراد به على ما قيل: القرآن وفيه تعسف، ومثله جعل رَسُولًا بدلا منه على أنه بمعنى الرسالة، وقال الكلبي: الرسول هاهنا جبريل عليه السلام، وجعل بدلا أيضا من ذِكْراً وإطلاق الذكر عليه لكثرة ذكره فهو من الوصف بالمصدر مبالغة- كرجل عدل- أو لنزوله بالذكر وهو القرآن، فبينهما ملابسة نحو الحلول، أو لأنه عليه السلام مذكور في السماوات وفي الأمم، فالمصدر بمعنى المفعول كما في درهم ضرب الأمير، وقد يفسر الذكر حينئذ بالشرف كما في قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: 44] فيكون كأنه في نفسه شرف إما لأنه شرف للمنزل عليه، وإما لأنه ذو مجد وشرف عند الله عز وجل كقوله تعالى: عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [التكوير: 20] وفي الكشف إذا أريد بالذكر القرآن وبالرسول جبريل عليه السلام يكون البدل بدل اشتماله، وإذا أريد بالذكر الشرف وغيره يكون من بدل الكل فتدبر. وقرىء رسول على إضمار هو، وقوله تعالى: يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ نعت- لرسولا- وهو الظاهر، وقيل: حال من اسم «الله» تعالى، ونسبة التلاوة إليه سبحانه مجازية كبنى الأمير المدينة، وآياتِ اللَّهِ القرآن، وفيه إقامة الظاهر مقام المضمر على أحد الأوجه، ومُبَيِّناتٍ حال منها أي حال كونها مبينات لكم ما تحتاجون إليه من الأحكام، وقرىء «مبيّنات» أي بينها الله تعالى كقوله سبحانه: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ [آل عمران: 118، الحديد: 170] واللام في قوله تعالى: لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ متعلق- بأنزل- أو- بيتلو- وفاعل يخرج على الثاني ضمير الرسول عليه الصلاة والسلام أو ضميره عز وجل، والمراد بالموصول المؤمنون بعد إنزال الذكر وقبل نزول هذه الآية أو من علم سبحانه وقدر أنه سيؤمن أي ليحصل لهم الرسول أو الله عز وجل ما هم عليه الآن من الإيمان والعمل الصالح، أو ليخرج من علم وقدر أنه يؤمن من أنواع الضلالات إلى الهدى، فالمضي إما بالنظر لنزول هذه الآية أو باعتبار علمه تعالى وتقديره سبحانه الأزلي. وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً حسبما بين في تضاعيف ما أنزل من الآيات المبينات. يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وقرأ نافع وابن عامر- ندخله- بنون العظمة وقوله تعالى: خالِدِينَ فِيها أَبَداً حال من مفعول يُدْخِلْهُ والجمع باعتبار معنى من كما أن الإفراد في الضمائر الثلاثة باعتبار لفظها، وقوله تعالى: قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً حال أخرى منه أو من الضمير في خالِدِينَ بطريق التداخل، وإفراد ضمير لَهُ باعتبار اللفظ أيضا، وفيه معنى التعجيب والتعظيم لما رزقه الله تعالى المؤمنين من الثواب وإلا لم يكن في الإخبار بما ذكرها هنا كثير فائدة كما لا يخفى. واستدل أكثر النحويين بهذه الآية على جواز مراعاة اللفظ أولا. ثم مراعاة المعنى. ثم مراعاة اللفظ، وزعم بعضهم أن ما فيها ليس كما ذكر لأن الضمير في خالِدِينَ ليس عائدا على من كالضمائر قبل، وإنما هو عائد على مفعول- يدخل- وخالِدِينَ حال منه، والعامل فيها- يدخل- لا فعل الشرط وهو كما ترى اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ مبتدأ وخبر وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ أي وخلق من الأرض مثلهن على أن مِثْلَهُنَّ مفعول لفعل محذوف والجملة عطف على الجملة قبلها، وقيل: مِثْلَهُنَّ عطف على سبع سماوات، وإليه ذهب الزمخشري، وفيه الفصل بالجار والمجرور بين حرف العطف والمعطوف وهو مختص بالضرورة عند أبي علي الفارسي، وقرأ المفضل عن عاصم. وعصمة عن أبي بكر مِثْلَهُنَّ بالرفع على الابتداء وَمِنَ الْأَرْضِ الخبر. والمثلية تصدق بالاشتراك في بعض الأوصاف فقال الجمهور: هي هاهنا في كونها سبعا وكونها طباقا بعضها الجزء: 14 ¦ الصفحة: 337 فوق بعض بين كل أرض وأرض مسافة كما بين السماء والأرض وفي كل أرض سكان من خلق الله عز وجل لا يعلم حقيقتهم إلا الله تعالى، وعن ابن عباس أنهم إما ملائكة أو جن، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي- في شعب الإيمان. وفي الأسماء والصفات- من طريق أبي الضحى عنه أنه قال في الآية: سبع أرضين في كل أرض نبي كنبيكم وآدم كآدم ونوح كنوح وإبراهيم كإبراهيم وعيسى كعيسى، قال الذهبي: إسناده صحيح ولكنه شاذ بمرة لا أعلم لأبي الضحى عليه متابعا. وذكر أبو حيان في البحر نحوه عن الحبر وقال: هذا حديث لا شك في وضعه وهو من رواية الواقدي الكذاب. وأقول لا مانع عقلا ولا شرعا من صحته، والمراد أن في كل أرض خلقا يرجعون إلى أصل واحد رجوع بني آدم في أرضنا إلى آدم عليه السلام، وفيه أفراد ممتازون على سائرهم كنوح وإبراهيم وغيرهما فينا. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عمر مرفوعا أن بين كل أرض والتي تليها خمسمائة عام والعليا منها على ظهر حوت قد التقى طرفاه في السماء والحوت على صخرة والصخرة بيد ملك والثانية مسجن الريح والثالثة فيها حجارة جهنم والرابعة فيها كبريتها والخامسة فيها حياتها والسادسة فيها عقاربها والسابعة فيها سقر وفيها إبليس مصفد بالحديد يد أمامه ويد خلفه يطلقه الله تعالى لمن يشاء، وهو حديث منكر- كما قال الذهبي- لا يعول عليه أصلا فلا تغتر بتصحيح الحاكم، ومثله في ذلك أخبار كثيرة في هذا الباب لولا خوف الملل لذكرناها لك لكن كون ما بين كل أرضين خمسمائة سنة كما بين كل سماءين جاء في أخبار معتبرة كما روى الإمام أحمد والترمذي عن أبي هريرة قال: «بينما النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم جالس وأصحابه قال: هل تدرون ما فوقكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها الرقيع سقف محفوظ وموج مكفوف، قال: هل تدرون ما بينكم وبينها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: بينكم وبينها خمسمائة عام، ثم قال: هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: سماء وإن بعد ما بينها خمسمائة سنة، ثم قال كذلك حتى عد سبع سماوات ما بين كل سماءين ما بين السماء والأرض، ثم قال هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: وإن فوق ذلك العرش بينه وبين السماء بعد ما بين السماءين، ثم قال: هل تدرون ما تحتكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إنها الأرض، ثم قال: هل تدرون ما تحت ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إن تحتها أرضا أخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عد صلّى الله تعالى عليه وسلم سبع أرضين ما بين كل أرضين خمسمائة سنة. والأخبار في تقدير المسافة بما ذكر بين كل سماءين أكثر من الأخبار في تقديرها بين كل أرضين وأصح، ومنها ما هو مذكور في صحيح البخاري وغيره من الصحاح، وفيها أيضا أن ثخن كل سماء خمسمائة عام فقول الرازي في ذلك إنه غير معتبر عند أهل التحقيق كلام لا يخفى بشاعته على من سلك من السنة أقوم طريق، نعم ما حكاه من أن السماء الأولى موج مكفوف والثانية صخر والثالثة حديد والرابعة نحاس والخامسة فضة والسادسة ذهب والسابعة ياقوت ليس بمعتبر أصلا ولم يرد بما تضمنه من التفصيل خبر صحيح لكن في قوله: إنه مما يأباه العقل إن أراد به نفي الإمكان عقلا منع ظاهر، وقال الضحاك: هي في كونها سبعا بعضها فوق بعض لا في كونها كذلك مع وجود مسافة بين أرض وأرض، واختاره بعضهم زاعما أن المراد بهاتيك السبع طبقة التراب الصرفة المجاورة للمركز والطبقة الطينية والطبقة المعدنية التي يتكون فيها المعادن والطبقة الممتزجة بغيرها المنكشفة التي هي مسكن الإنسان ونحوه من الحيوان وفيها ينبت النبات وطبقة الأدخنة والطبقة الزمهريرية وطبقة النسيم الرقيق جدا، ولا يخفى أنه أشبه شيء بالهذيان، ومثله ما يزعمه بعض الناظرين في كتب العلوم المسماة بالحكمة الجديدة من أن الأرض انفصلت بسبب الجزء: 14 ¦ الصفحة: 338 بعض الحوادث من بعض الأجرام العلوية صغيرة ثم تكونت فوقها طبقة وهكذا حتى صار المجموع سبعا، وزعم أنهم شاهدوا بين كل طبقة وطبقة آثار من مخلوقات مختلفة، وقال أبو صالح: هي في كونها سبعا لا غير فهي سبع أرضين منبسطة ليس بعضها فوق بعض يفرق بينها البحار، ويظل جميعها السماء، وروي ذلك عن ابن عباس فالنسبة بين أرض وأرض على هذا نحو نسبة أمريقيا إلى آسيا أو أوروبا أو أفريقيا لكن قيل: إن تلك البحار الفارقة لا يمكن قطعها. وقيل: من الأقاليم السبعة وهي مختلفة الحرارة والبرودة والليل والنهار إلى أمور أخر، واختاره بعضهم ولا أظنه شيئا لأن المتبادر اعتبار انفصال أرض عن أرض انفصالا حقيقيا في المثلية، وقيل: المثلية في الخلق لا في العدد ولا في غيره فهي أرض واحدة مخلوقة كالسماوات السبع، وأيد بأن الأرض لم تذكر في القرآن إلا موحدة، ورد بأنه قد صح من رواية البخاري وغيره «اللهم رب السماوات السبع وما أظللن ورب الأرضين السبع وما أقللن» الحديث ، وكذا صح «من غصب قيد شبر من أرض طوقه من سبع أرضين» وأصح الأقوال- كما قال القرطبي- قول الجمهور السابق، وعليه اختلف في مشاهدة أهل ما عدا هذه الأرض السماء واستمدادهم الضوء منها فقيل: إنهم يشاهدون السماء من كل جانب من أرضهم ويستمدون الضياء منها. وقيل: إنهم لا يشاهدون السماء وأن الله عز وجل خلق لهم ضياء يشاهدونه، وروى الإمامية عن بعض الأئمة نحوا مما قاله الجمهور، أخرج العياشي بإسناده عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضا رضي الله تعالى عنه قال: بسط كفه اليسرى ثم وضع اليمنى عليها فقال: «هذه الأرض الدنيا والسماء الدنيا عليها قبة، والأرض الثانية فوق السماء الدنيا والسماء الثانية فوقها قبة، والأرض الثالثة فوق السماء الثانية والسماء الثالثة فوقها قبة حتى ذكر الرابعة والخامسة والسادسة فقال: والأرض السابعة فوق السماء السادسة والسماء السابعة فوقها قبة وعرش الرحمن فوق السماء السابعة، وهو قوله تعالى: سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ إلخ. وأنا أقول بنحو ما قاله الجمهور راجيا العصمة ممن على محور إرادته تدور أفلاك الأمور: هي سبع أرضين بين كل أرض وأرض منها مسافة عظيمة، وفي كل أرض خلق لا يعلم حقيقتهم إلا الله عز وجل ولهم ضياء يستضيئون به، ويجوز أن يكون عندهم ليل ونهار ولا يتعين أن يكون ضياؤهم من هذه الشمس ولا من هذا القمر، وقد غلب على ظن أكثر أهل الحكمة الجديدة أن القمر عالم كعالم أرضنا هذه وفيه جبال وبحار يزعمون أنهم يحسون بها بواسطة أرصادهم وهم مهتمون بالسعي في تحقيق الأمر فيه فليكن ما نقول به من الأرضين على هذا النحو، وقد قالوا أيضا: إن هذه الشمس في عالم هي مركز دائرة وبلقيس مملكته بمعنى أن جميع ما فيه من كواكبهم السيارة تدور عليها فيه على وجه مخصوص ونمط مضبوط، وقد تقرب إليها فيه وتبعد عنها إلى غاية لا يعلمها إلا الله تعالى كواكب ذوات الأذناب، وهي عندهم كثيرة جدا تتحرك على شكل بيضي وأن الشمس بعالمها من توابع كوكب آخر تدور عليه دوران توابعها من السيارات عليها هو فيما نسمع أحد كواكب النجم، ولهم ظن في أن ذلك أيضا من توابع كوكب آخر وهكذا، وملك الله تعالى العظيم عظيم لا تكاد تحيط به منطقة الفكر ويضيق عنه نطاق الحصر، وسماء كل عالم كالقمر عندهم ما انتهى إليه هواؤه حتى صار ذلك الجرم في نحو خلاء فيه لا يعارضه ولا يضعف حركته شيء والجسم متى تحرك في خلاء لا يسكن لعدم المعارض فليكن كل أرض من هذه الأرضين محمولة بيد القدرة بين كل سماءين على نحو ما سمعت عن الرضا على آبائه وعليه السلام، وهناك ما يستضيء به أهلها سابحا في فلك بحر قدرة الله عز وجل ونسبة كل أرض إلى سمائها نسبة الحلقة إلى الفلاة وكذا نسبة السماء إلى السماء التي فوقها، ويمكن أن تكون الأرضون وكذا السماوات أكثر من سبع والاقتصار على العدد المذكور الذي هو عدد تام لا يستدعي نفي الزائد الجزء: 14 ¦ الصفحة: 339 فقد صرحوا بأن العدد لا مفهوم له والسماء الدنيا منتهى دائرة يتحرك فيها أعلى كوكب من السيارات وبينها وبين هذه الأرض بعد بعيد. وقوله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «خمسمائة عام» من باب التقريب للأفهام، ويقرب الأمر إذا اعتبر ذلك بالنسبة إلى الراكب المجد كما وقع في كثير من أخبار فيها تقدير مسافة، وقوله عليه الصلاة والسلام في السماء الدنيا: «موج مكفوف» يمكن أن يكون من التشبيه البليغ في اللطافة ونحوها أو هو على حقيقته والتنوين فيه للنوعية حتى يقوم الدليل العقلي الصحيح على امتناعها، وتزيين هذه السماء بالكواكب لظهورها فيها على ما يشاهد فلا يضر في ذلك كونها كلا أو بعضا فوقها أو تحتها، ولم يقم دليل على أن شيئا من الكواكب مغروز في شيء من السماوات كالفص في الخاتم والمسمار في اللوح، بل في بعض الأخبار ما يدل على خلافة، نعم أكثر الأخبار في أمر السماوات والأرض والكواكب لا يعول عليها كما أشار إليه النسفي في بحر الكلام، وكذا ما قاله قدماء أهل الهيئة ومحدثوهم، وفي كل مما ذهب الفريقان إليه ما يوافق أصولنا وما يخالفه وما شريعتنا ساكتة عنه لم تتعرض له بنفي أو إثبات، وحيث كان من أصولنا أنه متى عارض الدليل العقلي الدليل السمعي وجب تأويل الدليل السمعي للدليل العقلي لأنه أصله ولو أبطل به لزم بطلانه نفسه فالأمر سهل لأن باب التأويل أوسع من فلك الثوابت ولا أرى بأسا في ارتكاب تأويل بعض الظواهر المستبعدة بما لا يستبعد وإن لم يصل الاستبعاد إلى حد الامتناع إذ تضمن ذلك مصلحة دينية ولم يستلزم مصادمة معلوم من الدين بالضرورة، وقد يلتزم الإبقاء على الظاهر وتفويض الأمر إلى قدرة الله تعالى التي لا يتعاصاها شيء رعاية لأذهان العوام المقيدين بالظواهر الذين يعدون الخروج عنها لا سيما إلى ما يوافق الحكمة الجديدة ضلالا محضا وكفرا صرفا ورحم الله تعالى امرأ جب الغيبة عن نفسه. وقد أخرج عبد بن حميد وابن الضريس وابن جرير من طريق مجاهد عن ابن عباس في هذه الآية قال: لو حدثتكم بتفسيرها لكفرتم بتكذيبكم بها. وبالجملة من صدق بسعة ملك الله تعالى وعظيم قدرته عز وجل لا ينبغي أن يتوقف في وجود سبع أرضين على الوجه الذي قدمناه، ويحمل السبع على الأقاليم أو على الطبقات المعدنية والطينية ونحوهما مما تقدم، وليس في ذلك ما يصادم ضروريا من الدين أو يخالف قطعيا من أدلة المسلمين، ولعل القول بذلك التعدد هو المتبادر من الآية، وتقتضيه الأخبار، ومع هذا هو ليس من ضروريات الدين فلا يكفر منكره أو المتردد فيه لكن لا أرى ذلك إلا عن جهل بما هو الأليق بالقدرة والأخرى بالعظمة، والله تعالى الموفق للصواب. يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ أي يجري أمر الله تعالى وقضاؤه وقدره عز وجل بينهن وينفذ ملكه فيهن وأخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة قال: في كل سماء وفي كل أرض خلق من خلقه تعالى وأمر من أمره وقضاء من قضائه عز وجل، وقيل: يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ بحياة وموت وغنى وفقر، وقيل: هو ما يدبره سبحانه فيهن من عجيب تدبيره جل شأنه، وقال مقاتل وغيره: الْأَمْرُ هنا الوحي، وبَيْنَهُنَّ إشارة إلى بين هذه الأرض التي هي أدناها وبين السماء السابعة، والأكثرون على أنه القضاء والقدر كما سبق، وأن بَيْنَهُنَّ إشارة إلى بين الأرض السفلى التي هي أقصاها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها وقرأ عيسى وأبو عمرو في رواية «ينزّل» مضارع نزل مشددا «الأمر» بالنصب أي ينزل الله الأمر لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ متعلق- بخلق- أو- بيتنزل- أو بمضمر يعمهما أي فعل ذلك لتعلموا أن من قدر على ما ذكر قادر على كل شيء، وقيل: التقدير أخبرتكم أو أعلمتكم بذلك لتعلموا، وقرىء- ليعلموا- بياء الغيبة. وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً لاستحالة صدور هذه الأفاعيل ممن ليس كذلك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 340 سورة التّحريم ويقال لها: سورة المتحرم وسورة لم تحرم وسورة النبي صلّى الله عليه وسلم، عن ابن الزبير- سورة النساء- والمشهور أنها مدنية، وعن قتادة أن المدني منها إلى رأس العشر، والباقي مكي، وآيها اثنتا عشرة آية بالاتفاق، وهي متوخية مع التي قبلها في الافتتاح بخطاب النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم، وتلك مشتملة على طلاق النساء، وهذه على تحريم الإماء، وبينهما من الملابسة ما لا يخفى، ولما كانت تلك في خصام نساء الأمة ذكر في هذه خصومة نساء المصطفى صلّى الله تعالى عليه وسلم إعظاما لمنصبهن أن يذكرن مع سائر النسوة فأفردن بسورة خاصة ولذا ختمت بذكر زوجيه صلّى الله تعالى عليه وسلم في الجنة آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران قاله الجلال السيوطي عليه الرحمة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ روى البخاري وابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه عن عائشة «أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلا فتواصيت أنا وحفصة إن أيتنا دخل عليها النبي صلّى الله عليه وسلم فلتقل إني أجد منك ريح مغافير أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما فقالت ذلك له، فقال: لا بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود» وفي رواية الجزء: 14 ¦ الصفحة: 341 «وقد حفلت فلا تخبري بذلك أحدا» فنزلت يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ إلخ، وفي رواية «قالت سودة: أكلت مغافير؟ قال: لا قالت: فما هذه الريح التي أجد منك؟ قال: سقتني حفصة شربة عسل، فقالت: جرست نحلة العرفط» فحرم العسل فنزلت ، وفي حديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن عائشة شرب العسل في بيت حفصة، والقائلة سودة وصفية. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه قال الحافظ السيوطي: بسند صحيح عن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم شرب من شراب عند سودة من العسل فدخل على عائشة فقالت: إني أجد منك ريحا فدخل على حفصة فقالت: إني أجد منك ريحا فقال: أراه من شراب شربته عند سودة والله لا أشربه» فنزلت ، وأخرج النسائي والحاكم وصححه وابن مردويه عن أنس أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم كانت له أمة يطؤها فلم تزل به عائشة وحفصة حتى جعلها على نفسه حراما فأنزل الله تعالى هذه الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ إلخ، ويوافقه ما أخرجه البراز، والطبراني بسند حسن صحيح عن ابن عباس قال: نزلت يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ الآية في سريته. والمشهور أنها مارية وأنه عليه الصلاة والسلام وطئها في بيت حفصة في يومها فوجدت وعاتبته فقال صلّى الله تعالى عليه وسلم: ألا ترضين أن أحرمها فلا أقربها؟ قالت: بلى فحرمها ، وفي رواية أن ذلك كان في بيت حفصة في يوم عائشة، وفي الكشاف روي أن رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم خلا بمارية في يوم عائشة وعلمت بذلك حفصة فقال لها: اكتمي عليّ وقد حرمت مارية على نفسي وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي فأخبرت عائشة وكانتا متصادقتين. وبالجملة الأخبار متعارضة، وقد سمعت ما قيل فيها لكن قال الخفاجي: قال النووي في شرح مسلم: الصحيح أن الآية في قصة العسل لا في قصة مارية المروية في غير الصحيحين، ولم تأت قصة مارية في طريق صحيح ثم قال الخفاجي نقلا عنه أيضا: الصواب أن شرب العسل كان عند زينب رضي الله تعالى عنها، وقال الطيبي فيما نقلناه عن الكشاف: ما وجدته في الكتب المشهورة والله تعالى أعلم. والمغافير: بفتح الميم والغين المعجمة وبياء بعد الفاء- على ما صوبه القاضي عياض- جمع مغفور بضم الميم شيء له رائحة كريهة ينضحه العرفط وهو شجر أو نبات له ورق عريض، وعن المطلع أن العرفط هو الصمغ، والمغفور شوك له نور يأكل منه النخل يظهر العرفط عليه، وكان صلّى الله تعالى عليه وسلم يحب الطيب جدا ويكره الرائحة الكريهة للطافة نفسه الشريفة ولأن الملك يأتيه وهو يكرهها فشق عليه صلّى الله تعالى عليه وسلم ما قيل فجرى ما جرى، وفي ندائه صلّى الله تعالى عليه وسلم- بيا أيها النبي- في مفتتح العتاب من حسن التلطف به والتنويه بشأنه عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى، ونظير ذلك قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: 43] والمراد بالتحريم الامتناع. وبما أحل الله العسل على ما صححه النووي رحمه الله تعالى، أو وطء سريته على ما في بعض الروايات، ووجه التعبير- بما- على هذين التفسيرين ظاهر. وفسر بعضهم ما بمارية والتعبير عنها- بما- على ما هو الشائع في التعبير بها عن ملك اليمين، والنكتة فيه لا تخفى، وقوله تعالى: تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ حال من فاعل تُحَرِّمُ، واختاره أبو حيان فيكون هو محل العتاب على ما قيل، وكأن وجهه أن الكلام الذي فيه قيد المقصود فيه القيد إثباتا أو نفيا، أو يكون التقييد على نحو «أضعافا مضاعفة» على أن التحريم في نفسه محل عتب والباعث عليه كذلك كما في الكشف، أو استئناف الجزء: 14 ¦ الصفحة: 342 نحوي أو بياني، وهو الأولى، ووجهه أن الاستفهام ليس على الحقيقة بل هو معاتبة على أن التحريم لم يكن عن باعث مرضي فاتجه أن يسأل ما ينكر منه وقد فعله غيري من الأنبياء عليهم السلام ألا ترى إلى قوله تعالى: إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ [آل عمران: 93] فقيل: تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ ومثلك من أجل أن تطلب مرضاتهن بمثل ذلك، وجوز أن يكون تفسيرا- لتحرم- بجعل ابتغاء مرضاتهن عين التحريم مبالغة في كونه سببا له، وفيه من تفخيم الأمر ما فيه، والإضافة في أَزْواجِكَ للجنس لا للاستغراق. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فيه تعظيم لشأنه صلّى الله تعالى عليه وسلم بأن ترك الأولى بالنسبة إلى مقامه السامي الكريم يعد كالذنب وإن لم يكن في نفسه كذلك، وأن عتابه صلّى الله تعالى عليه وسلم ليس إلا لمزيد الاعتناء به، وقد زل الزمخشري هاهنا كعادته فزعم أن ما وقع من تحريم الحلال المحظور لكنه غفر له عليه الصلاة والسلام، وقد شن ابن المنير في الانتصاف الغارة في التشنيع عليه فقال ما حاصله: إن ما أطلقه في حقه صلّى الله تعالى عليه وسلم تقول وافتراء والنبي عليه الصلاة والسلام منه براء، وذلك أن تحريم الحلال على وجهين: الأول اعتقاد ثبوت حكم التحريم فيه وهو كاعتقاد ثبوت حكم التحليل في الحرام محظور يوجب الكفر فلا يمكن صدوره من المعصوم أصلا، والثاني الامتناع من الحلال مطلقا أو مؤكدا باليمين مع اعتقاد حله وهذا مباح صرف وحلال محض، ولو كان ترك المباح والامتناع منه غير مباح لاستحالت حقيقة الحلال، وما وقع منه صلّى الله تعالى عليه وسلم كان من هذا النوع وإنما عاتبه الله تعالى عليه رفقا به وتنويها بقدره وإجلالا لمنصبه عليه الصلاة والسلام أن يراعي مرضاة أزواجه بما يشق عليه جريا على ما ألف من لطف الله تعالى به، وتأول بعضهم كلام الزمخشري، وفيه ما ينبو عن ذلك. وقيل: نسبة التحريم إليه صلّى الله تعالى عليه وسلم مجاز، والمراد لم تكون سببا لتحريم الله تعالى عليك ما أحل لك بحلفك على تركه وهذا لا يحتاج إليه، وفي وقوع الحلف خلاف، ومن قال به احتج ببعض الاخبار، وبظاهر قوله تعالى: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ أي قد شرع لكم تحليلها وهو حل ما عقدته الأيمان بالكفارة، فالتحلة مصدر حلل كتكرمة من كرم، وليس مصدرا مقيسا، والمقيس التحليل والتكريم لأن قياس فعل الصحيح العين غير المهموز هو التفعيل، وأصله تحللة فأدغم، وهو من الحل ضد العقد فكأنه باليمين على الشيء لالتزامه عقد عليه وبالكفارة يحل ذلك، ويحل أيضا بتصديق اليمين كما في قوله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «لا يموت لرجل ثلاثة أولاد فتمسه النار إلا تحلة القسم» يعني وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم: 71] إلخ، وتحليله بأقل ما يقع عليه الاسم كمن حلف أن ينزل يكفي فيه إلمام خفيف، فالكلام كناية عن التقليل أي قدر الاجتياز اليسير، وكذا يحل بالاستثناء أي بقول الحالف: إن شاء الله تعالى بشرطه المعروف في الفقه. ويفهم من كلام الكشاف أن التحليل يكون بمعنى الاستثناء ومعناه كما في الكشف تعقيب اليمين عند الإطلاق بالاستثناء حتى لا تنعقد، ومنه حلا أبيت اللعن، وعلى القول بأنه كان منه عليه الصلاة والسلام يمين كما جاء في بعض الروايات وهو ظاهر الآية اختلف هل أعطى صلّى الله تعالى عليه وسلم الكفارة أم لا؟ فعن الحسن أنه عليه الصلاة والسلام لم يعط لأنه كان مغفورا له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وإنما هو تعليم للمؤمنين، وفيه أن غفران الذنب لا يصلح دليلا لأن ترتب الأحكام الدنيوية على فعله عليه الصلاة والسلام ليس من المؤاخذة على الذنب كيف وغير مسلم أنه ذنب، وعن مقاتل أنه صلّى الله تعالى عليه وسلم أعتق رقبة في تحريم مارية، وقد نقل مالك في المدونة عن زيد بن أسلم أنه عليه الصلاة والسلام أعطى الكفارة في تحريمه أم ولده حيث حلف أن لا يقربها، ومثله عن الشعبي، واختلف العلماء في حكم قول الرجل لزوجته: أنت عليّ حرام أو الحلال عليّ حرام ولم يستثن زوجته فقيل: قال الجزء: 14 ¦ الصفحة: 343 جماعة منهم مسروق وربيعة وأبو سلمة والشعبي وأصبغ: هو كتحريم الماء والطعام لا يلزمه شيء، وقال أبو بكر وعمر وزيد وابن مسعود وابن عباس وعائشة وابن المسيب وعطاء وطاوس وسليمان بن يسار وابن جبير وقتادة والحسن والاوزاعي وأبو ثور وجماعة: هو يمين يكفرها، وابن عباس أيضا في رواية، والشافعي في قول في أحد قوليه: فيه تكفير يمين وليس بيمين، وأبو حنيفة يرى تحريم الحلال يمينا في كل شيء، ويعتبر الانتفاع المقصود فيما يحرمه فإذا حرم طعاما فقد حلف على عدم أكله أو أمة فعلى وطئها أو زوجة فعلى الإيلاء منها إذا لم تكن له نية فإن نوى الظهار فظهار وإن نوى الطلاق فطلاق بائن، وكذلك إن نوى اثنتين (1) وإن نوى ثلاثا فكما نوى، وإن قال: نويت الكذب دين بينه وبين الله تعالى، ولكن لا يدين في قضاء الحاكم بإبطال الإيلاء لأن اللفظ إنشاء في العرف، وقال جماعة: إن لم يرد شيئا فهو يمين، وفي التحرير قال أبو حنيفة وأصحابه: إن نوى الطلاق فواحدة بائنة أو اثنتين فواحدة أو ثلاثا فثلاث. أو لم ينو شيئا فمول. أو الظهار فظهار، وقال ابن القاسم: لا تنفعه نية الظهار ويكون طلاقا، وقال يحيى بن عمر: يكون كذلك فإن ارتجعها فلا يجوز له وطؤها حتى يكفر كفارة الظهار، ويقع ما أراد من إعداده فإن نوى واحدة فرجعية وهو قول للشافعي، وقال الأوزاعي وسفيان وأبو ثور: أي شيء نوى به من الطلاق وقع وإن لم ينو شيئا فقال سفيان: لا شيء عليه، وقال الاوزاعي وأبو ثور: تقع واحدة، وقال ابن جبير: عليه عتق رقبة وإن لم يكن ظهارا، وقال أبو قلابة وعثمان وأحمد وإسحاق: التحريم ظهار ففيه كفارته، وعن الشافعي إن نوى أنها محرمة كظهر أمه فظهار، أو تحريم عينها بغير طلاق، أو لم ينو فكفارة يمين، وقال مالك: يقع ثلاث في المدخول بها وما أراد من واحدة أو ثنتين. أو ثلاث في غير المدخول بها، وقال ابن أبي ليلى وعبد الملك ابن الماجشون: تقع ثلاث في الوجهين، وروى ابن خويزمنداد عن مالك، وقاله زيد وحماد بن أبي سليمان: تقع واحدة بائنة فيهما، وقال الزهري وعبد العزيز بن الماجشون: واحدة رجعية، وقال أبو مصعب ومحمد بن عبد الحكم: يقع في التي لم يدخل بها واحدة وفي المدخول بها ثلاث، وفي الكشاف لا يراه الشافعي يمينا ولكن سببا في الكفارة في النساء وحدهن، وأما الطلاق فرجعي عنده، وعن علي كرم الله تعالى وجهه ثلاث، وعن زيد واحدة بائنة، وعن عثمان ظهار، وأخرج البخاري ومسلم وابن ماجة والنسائي عن ابن عباس أنه قال: من حرم امرأته فليس بشيء. وقرأ لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21] وللنسائي أنه أتاه رجل فقال: جعلت امرأتي عليّ حراما قال: كذبت ليست عليك بحرام ثم تلا هذه الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ عليك أغلظ الكفارة عتق رقبة إلى غير ذلك من الأقوال، وهي في هذه المسألة كثيرة جدا، وفي نقل الأقوال عن أصحابها اختلاف كثير أيضا، واحتج بما في هذه الآية من فرض تحليلها بالكفارة إن لم يستثن من رأى التحريم مطلقا، أو تحريم المرأة يمينا لأنه لو لم يكن يمينا لم يوجب الله تعالى فيه كفارة اليمين هنا. وأجيب بأنه لا يلزم من وجوب الكفارة كونه يمينا لجواز اشتراك الأمرين المتغايرين في حكم واحد فيجوز أن تثبت الكفارة فيه لمعنى آخر، ولو سلم أن هذه الكفارة لا تكون إلا مع اليمين فيجوز أن يكون صلّى الله تعالى عليه وسلم أقسم مع التحريم فقال في مارية: «والله لا أطؤها» أو في العسل «والله لا أشربه» وقد رواه بعضهم فالكفارة لذلك اليمين لا للتحريم وحده، والله تعالى أعلم.   (1) قوله: وكذلك إن نوى اثنتين، وقال بعض الحنفية: هذا عند أبي يوسف ومحمد، وعند أبي حنيفة لا يصح نية الثنتين وتقع واحدة اه طيبي اه منه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 344 وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ سيدكم ومتولي أموركم وَهُوَ الْعَلِيمُ فيعلم ما يصلحكم فيشرعه سبحانه لكم الْحَكِيمُ المتقن أفعاله وأحكامه فلا يأمركم ولا ينهاكم إلا حسبما تقتضيه الحكمة وَإِذْ أَسَرَّ أي واذكر إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ هي حفصة على ما عليه عامة المفسرين، وزعم بعض الشيعة أنها عائشة وليس له في ذلك شيعة، نعم رواه ابن مردويه عن ابن عباس وهو شاذ حَدِيثاً هو قوله عليه الصلاة والسلام على ما في بعض الروايات: «لكني كنت أشرب عسلا عند زينب ابنة جحش فلن أعود له وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا» فَلَمَّا نَبَّأَتْ أي أخبرت. وقرأ طلحة- أنبأت- بِهِ أي بالحديث عائشة لأنهما كانتا متصادقتين، وتضمن الحديث نقصان حظ ضرتهما زينب من حبيبهما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حيث إنه عليه الصلاة والسلام- كما في البخاري وغيره- كان يمكث عندها لشرب ذلك وقد اتخذ ذلك عادة- كما يشعر به لفظ- كان فاستخفها السرور فنبأت بذلك وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ أي جعل الله تعالى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ظاهرا على الحديث مطلعا عليه من قوله تعالى: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة: 33، الفتح: 28، الصف: 9] والكلام على ما قيل: على التجوز، أو تقدير مضاف أي على إفشائه، وجوز كون الضمير لمصدر نَبَّأَتْ وفيه تفكيك الضمائر، أو جعل الله تعالى الحديث ظاهرا على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فهو نظير ظهر لي هذه المسألة وظهرت علي إذا كان فيه مزيد كلفة واهتمام بشأن الظاهر فلا تغفل عَرَّفَ أي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حفصة بَعْضَهُ أي الحديث أي أعلمها وأخبرها ببعض الحديث الذي أفشته. والمراد أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال لها: قلت كذا لبعض ما أسره إليها قيل: هو قوله لها: «كنت شربت عسلا عند زينب ابنة جحش فلن أعود» وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ هو على ما قيل قوله عليه الصلاة والسلام: «وقد حلفت» فلم يخبرها به تكرما لما فيه من مزيد خجلتها حيث إنه يفيد مزيد اهتمامه صلى الله تعالى عليه وسلم بمرضاة أزواجه وهو لا يحب شيوع ذلك، وهذا من مزيد كرمه صلى الله تعالى عليه وسلم. وقد أخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه ما استقصى كريم قط، وقال سفيان: ما زال التغافل من فعل الكرام، وقال الشاعر: ليس الغبيّ بسيد في قومه ... لكنّ سيد قومه المتغابي وجوز أن يكون عَرَّفَ بمعنى جاز أي جازاها على بعض بالعتب واللوم أو بتطليقه عليه الصلاة والسلام إياها، وتجاوز عن بعض، وأيد بقراءة السلمي والحسن وقتادة وطلحة والكسائي وأبي عمرو في رواية هارون عنه عرف بالتخفيف لأنه على هذه القراءة لا يحتمل معنى العلم لأن العلم تعلق به كله بدليل قوله تعالى: أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مع أن الإعراض عن الباقي يدل على العلم فتعين أن يكون بمعنى المجازاة. قال الأزهري في التهذيب: من قرأ «عرف» بالتخفيف أراد معنى غضب وجازى عليه كما تقول للرجل يسيء إليك: والله لأعرفن لك ذلك، واستحسنه الفراء، وقول القاموس: هو بمعنى الإقرار لا وجه له هاهنا، وجعل المشدد من باب إطلاق المسبب على السبب والمخفف بالعكس، ويجوز أن تكون العلاقة بين المجازاة والتعريف اللزوم، وأيد المعنى الأول بقوله تعالى: فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ لتعرف هل فضحتها عائشة أم لا؟ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ الذي لا تخفى عليه خافية فإنه أوفق للإعلام، وهذا على ما في البحر على معنى بهذا، وقرأ ابن المسيب وعكرمة- عراف بعضه- بألف بعد الراء وهي إشباع، وقال ابن خالويه: ويقال: إنها لغة يمانية. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 345 وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن أبي حاتم عن مجاهد أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أسر إلى حفصة تحريم مارية وأن أبا بكر وعمر يليان الناس بعده فأسرت ذلك إلى عائشة فعرف بعضه وهو أمر مارية وأعرض عن بعض وهو أن أبا بكر وعمر يليان بعده مخافة أن يفشو، وقيل: بالعكس، وقد جاء إسرار أمر الخلافة في عدة أخبار فقد أخرج ابن عدي وأبو نعيم في فضائل الصدّيق، وابن مردويه من طريق عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس قالا: إن إمارة أبي بكر وعمر لفي كتاب الله وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً قال لحفصة: «أبوك وأبو عائشة واليا الناس بعدي فإياك أن تخبري أحدا» . وأخرج أبو نعيم في فضائل الصحابة عن الضحاك أنه قال: في الآية أسر صلى الله تعالى عليه وسلم إلى حفصة أن الخليفة من بعده أبو بكر ومن بعد أبي بكر عمر، وأخرج ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران نحوه، وفي مجمع البيان للطبرسي من أجل الشيعة عن الزجاج قال: لما حرم عليه الصلاة والسلام مارية القبطية أخبر أنه يملك من بعده أبو بكر وعمر فعرفها بعض ما أفشت من الخبر وأعرض عن بعض أن أبا بكر وعمر يملكان من بعدي، وقريب من ذلك ما رواه العياشي بالإسناد عن عبد الله بن عطاء المكي عن أبي جعفر الباقر رضي الله تعالى عنه إلا أنه زاد في ذلك أن كل واحدة منهما حدثت أباها بذلك فعاتبهما في أمر مارية وما أفشتا عليه من ذلك، وأعرض أن يعاتبهما في الأمر الآخر انتهى. وإذا سلم الشيعة صحة هذا لزمهم أن يقولوا بصحة خلافة الشيخين لظهوره فيها كما لا يخفى، ثم إن تفسير الآية على هذه الأخبار أظهر من تفسيرها على حديث العسل لكن حديثه أصح، والجمع بين الاخبار مما لا يكاد يتأتى. وقصارى ما يمكن أن يقال: يحتمل أن يكون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قد شرب عسلا عند زينب كما هو عادته، وجاء إلى حفصة فقالت له ما قالت فحرم العسل، واتفق له عليه الصلاة والسلام قبيل ذلك أو بعيده أن وطئ جاريته مارية في بيتها في يومها على فراشها فوجدت فحرم صلى الله تعالى عليه وسلم مارية، وقال لحفصة ما قال تطييبا لخاطرها واستكتمها ذلك فكان منها ما كان، ونزلت الآية بعد القصتين فاقتصر بعض الرواة على إحداهما. والبعض الآخر على نقل الأخرى، وقال كل: فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إلخ، وهو كلام صادق إذ ليس فيه دعوى كل حصر علة النزول فيما نقله فإن صح هذا هان أمر الاختلاف وإلا فاطلب لك غيره، والله تعالى أعلم. واستدل بالآية على أنه لا بأس بإسرار بعض الحديث إلى من يركن إليه من زوجة أو صديق، وأنه يلزمه كتمه، وفيها على ما قيل: دلالة على أنه يحسن حسن العشرة مع الزوجات والتلطف في العتب والإعراض عن استقصاء الذنب، وقد روي أن عبد الله بن رواحة- وكان من النقباء- كانت له جارية فاتهمته زوجته ليلة، فقال قولا بالتعريض، فقالت: إن كنت لم تقربها فاقرأ القرآن فأنشد: شهدت فلم أكذب بأن محمدا ... رسول الذي فوق السماوات من عل وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما ... له عمل في دينه متقبل وأن التي بالجزع من بطن نخلة ... ومن دانها كل عن الخير معزل فقالت: زدني، فأنشد: وفينا رسول الله يتلو كتابه ... كما لاح معروف من الصبح ساطع أتى بالهدى بعد العمى فنفوسنا ... به موقنات أن ما قال واقع الجزء: 14 ¦ الصفحة: 346 يبيت يجافي جنبه عن فراشه ... إذا رقدت بالكافرين المضاجع فقالت: زدني، فأنشد: شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا وأن محمدا يدعو بحق ... وأن الله مولى المؤمنينا وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا ويحمله ملائكة شداد ... ملائكة الإله مسومينا فقالت: أما إذ قرأت القرآن فقد صدقتك، وفي رواية أنها قالت- وقد كانت رأته على ما تكره- إذن صدق الله وكذب بصري، فأخبر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فتبسم، وقال: «خيركم خيركم لنسائه» إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ خطاب لحفصة وعائشة رضي الله تعالى عنهما على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب للمبالغة في المعاتبة فإن المبالغ في العتاب يصير المعاتب أولا بعيدا عن ساحة الحضور، ثم إذا اشتد غضبه توجه إليه وعاتبه بما يريد، وكون الخطاب لهما لما أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن حبان وغيره عن ابن عباس قال: لم أزل حريصا أن أسأل عمر رضي الله تعالى عنه عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم اللتين قال الله تعالى: إِنْ تَتُوبا إلخ حتى حج عمر وحججت معه فلما كان ببعض الطريق عدل عمر وعدلت معه بالإداوة فنزل ثم إني صببت على يديه فتوضأ فقلت: يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم اللتان قال الله تعالى: إِنْ تَتُوبا إلخ؟ فقال: وا عجبا لك يا ابن عباس هما عائشة وحفصة ثم أنشأ يحدثني الحديث الحديث بطوله، ومعنى قوله تعالى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما مالت عن الواجب من مخالفته صلى الله تعالى عليه وسلم بحب ما يحبه وكراهة ما يكرهه إلى مخالفته، والجملة قائمة مقام جواب الشرط بعد حذفه. والتقدير إن تتوبا فلتوبتكما موجب وسبب فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما أو فحق لكما ذلك فقد صدر ما يقتضيها وهو على معنى فقد ظهر أن ذلك حق كما قيل في قوله: إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة من أنه بتأويل تبين أني لم تلدني لئيمة، وجعلها ابن الحاجب جوابا من حيث الإعلام كما قيل في: إن تكرمني اليوم فقد أكرمتك أمس، وقيل: الجواب محذوف تقديره يمح إثمكما، وقوله تعالى: فَقَدْ صَغَتْ إلخ بيان لسبب التوبة، وقيل: التقدير فقد أديتما ما يجب عليكما أو أتيتما بما يحق لكما، وما ذكر دليل على ذلك قيل: وإنما لم يفسروا فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما بمالت إلى الواجب أو الحق أو الخبر حتى يصح جعله جوابا من غير احتياج إلى نحو ما تقدم لأن صيغة الماضي- وقد- وقراءة ابن مسعود- فقد زاغت قلوبكما- وتكثير المعنى مع تقليل اللفظ تقتضي ما سلف، وتعقب بأنه إنما يتمشى على ما ذهب إليه ابن مالك من أن الجواب يكون ماضيا وإن لم يكن لفظ كان، فيه نظر، والجمع في قُلُوبُكُما دون التثنية لكراهة اجتماع تثنيتين مع ظهور المراد وهو في مثل ذلك أكثر استعمالا من التثنية والإفراد، قال أبو حيان: لا يجوز عند أصحابنا إلا في الشعر كقوله: حمامة بطن الواديين ترنمي وغلط رحمه الله تعالى ابن مالك في قوله في التسهيل: ويختار لفظ الإفراد على لفظ التثنية وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ بحذف إحدى التاءين وتخفيف الظاء، وهي قراءة عاصم ونافع في رواية، وطلحة والحسن وأبي رجاء، وقرأ الجمهور- تظاهرا- بتشديد الظاء، وأصله تتظاهرا فأدغمت التاء في الظاء، وبالأصل قرأ عكرمة، وقرأ أبو عمرو في الجزء: 14 ¦ الصفحة: 347 رواية أخرى- تظهرا- بتشديد الظاء والهاء دون ألف، والمعنى فإن تتعاونا عليه صلى الله تعالى عليه وسلم بما يسوؤه من الإفراط في الغيرة وإفشاء سره. فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ أي ناصره والوقف على ما في البحر وغيره هنا أحسن، وجعلوا قوله تعالى: وَجِبْرِيلُ مبتدأ، وقوله سبحانه: وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ معطوفا عليه، وقوله عز وجل: بَعْدَ ذلِكَ أي بعد نصرة الله تعالى متعلقا بقوله جل شأنه: ظَهِيرٌ وجعلوه الخبر عن الجميع، وهو بمعنى الجمع أي مظاهرون، واختير الإفراد لجعلهم كشيء واحد، وجوز أن يكون خبرا عن جِبْرِيلُ وخبره ما بعده مقدر نظير ما قالوا في قوله: ومن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيار بها لغريب وجوز أن يكون الوقف على جِبْرِيلُ أي وَجِبْرِيلُ مولاه وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ مبتدأ، وما بعده معطوف عليه، والخبر ظَهِيرٌ، وظاهر كلام الكشاف اختيار الوقف على الْمُؤْمِنِينَ فظهير خبر الملائكة، وعليه غالب مختصريه، وظاهر كلامهم التقدير لكل من جبريل وصالح المؤمنين خبرا وهو إما لفظ مولى مرادا به مع كل معنى من معانيه المناسبة أي وَجِبْرِيلُ مولاه أي قرينه وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ مولاه أي تابعه، أو لفظ آخر بذلك المعنى المناسب وهو قرينه في الأول وتابعه في تابعه، ولا مانع من أن يكون المولى في الجمع بمعنى الناصر كما لا يخفى، وزيادة هُوَ على ما في الكشاف للإيذان بأن نصرته تعالى عزيمة من عزائمه وأنه عز وجل متولي ذلك بذاته تعالى، وهو تصريح بأن الضمير ليس من الفصل في شيء، وأنه للتقوي لا للحصر، والحصر أكثري في المعرفتين على ما نقله في الإيضاح، وإن كان كلام السكاكي موهما الوجوب وهذا والمبالغة محققة على ما نص عليه سيبويه وحقق في الأصول، وأما الحصر فليس من مقتضى اللفظ فلا يرد أن الأولى أن يكون وَجِبْرِيلُ وما بعده مخبرا عنه- بظهير- وإن سلم فلا ينافيه لأن نصرتهم نصرته تعالى فليس من الممتنع على نحو زيد المنطلق وعمرو، كذا في الكشف، ووجه تخصيص جبريل عليه السلام بالذكر مزيد فضله بل هو رأس الكروبيين، والمراد بالصالح عند كثير الجنس الشامل للقليل والكثير، وأريد به الجمع هنا، ومثله قولك: كنت في السامر والحاضر، ولذا عم بالإضافة، وجوز أن يكون اللفظ جميعا، وكان القياس أن يكتب- وصالحوا- بالواو إلا أنها حذفت خطا تبعا لحذفها لفظا، وقد جاءت أشياء في المصحف تبع فيها حكم اللفظ دون وضع الخط نحو- وَيَدْعُ الْإِنْسانُ [الإسراء: 11] ويَدْعُ الدَّاعِ [القمر: 6] وسَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ [العلق: 18] وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ [ص: 21]- إلى غير ذلك، وذهب غير واحد إلى أن الإضافة للعهد فقيل: المراد به الأنبياء عليهم السلام. وروي عن ابن زيد وقتادة والعلاء بن زياد، ومظاهرتهم له قيل: تضمن كلامهم ذم المتظاهرين على نبي من الأنبياء عليهم السلام وفيه من الخفاء ما فيه وقيل: علي كرم الله تعالى وجهه، وأخرجه ابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس، وأخرج ابن مردويه عن أسماء بنت عميس قالت، سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ علي بن أبي طالب وروى الإمامية عن أبي جعفر أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حين نزلت أخذ بيد علي كرم الله تعالى وجهه فقال: يا أيها الناس هذا صالح المؤمنين. وأخرج ابن عساكر عن الحسن البصري أنه قال: هو عمر بن الخطاب، وأخرج هو وجماعة عن سعيد بن جبير قال: وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ نزل في عمر بن الخطاب خاصة، وأخرج ابن عساكر عن مقاتل بن سليمان أنه قال: وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ أبو بكر وعمر وعلي رضي الله تعالى عنهم، وقيل: الخلفاء الأربعة. وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن ابن عمر وابن عباس قالا: نزلت وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ في أبي الجزء: 14 ¦ الصفحة: 348 بكر وعمر، وذهب إلى تفسيره بهما عكرمة وميمون بن مهران وغيرهما، وأخرج الحاكم عن أبي أمامة والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في فضائل الصحابة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ أبو بكر وعمر ، وأخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كان أبي يقرؤها وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ أبو بكر وعمر، ورجح إرادة ذلك بأنه اللائق بتوسيطه بين جبريل والملائكة عليهم السلام فإنه جمع بين الظهير المعنوي والظهير الصوري كيف لا وإن جبريل عليه السلام ظهير له صلّى الله عليه وسلم يؤيده بالتأييدات الإلهية وهما وزيراه وظهيراه في تدبير أمور الرسالة وتمشية أحكامها الظاهرة مع أن بيان مظاهرتهما له عليه السلام أشد تأثيرا في قلوب بنتيهما وتوهينا لأمرهما. وأنا أقول العموم أولى، وهما- وكذا علي كرم الله تعالى وجهه- يدخلان دخولا أوليا، والتنصيص على بعض في الأخبار المرفوعة إذا صحت لنكتة اقتضت ذلك لا لإرادة الحصر، ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن عساكر عن ابن مسعود عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال في ذلك: من صالح المؤمنين أبو بكر وعمر ، وفائدة بَعْدَ ذلِكَ التنبيه على أن نصرة الملائكة عليهم السلام أقوى وجوه نصرته عز وجل وإن تنوعت، ثم لا خفاء في أن نصرة جميع الملائكة- وفيهم جبريل- أقوى من نصرة جبريل عليه السلام وحده. وقيل: الإشارة إلى مظاهرة صالح المؤمنين خاصة فالتعظيم بالنسبة إليها، وفي التنبيه على هذا دفع توهم ما يوهمه الترتيب الذكري من أعظمية مظاهرة المتقدم، وبالجملة فائدة بَعْدَ ذلِكَ نحو فائدة- ثم- في قوله تعالى: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وهو التفاوت الرتبي أي أعظمية رتبة ما بعدها بالنسبة إلى ما قبلها وهذا لا يتسنى على ما نقل عن البحر بل ذلك للإشارة إلى تبعية المذكورين في النصرة والإعانة عز وجل، وأيا ما كان فإن شرطية- وتظاهرا- فعل الشرط، والجملة المقرونة بالفاء دليل الجواب، وسبب أقيم مقامه، والأصل فإن تَظاهَرا عليه فلن يعدم من يظاهره فإن الله مولاه، وجوز أن تكون هي بنفسها الجواب على أنها مجاز أو كناية عن ذلك، وأعظم جل جلاله شأن النصرة لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم على هاتين الضعيفتين إما للإشارة إلى عظم مكر النساء أو للمبالغة في قطع حبال طمعهما لعظم مكانتهما عند رسول الله عليه الصلاة والسلام وعند المؤمنين ولأمومتهما لهم وكرامة له صلّى الله عليه وسلم ورعاية لأبويهما في أن تظاهرهما يجديهما نفعا. وقيل: المراد المبالغة في توهين أمر تظاهرهما ودفع ما عسى أن يتوهمه المنافقون من ضرره في أمر النبوة والتبليغ وقهر أعداء الدين لما أن العادة قاضية باشتغال بال الرجل بسبب تظاهر أزواجه عليه، وفيه أيضا مزيد إغاظة للمنافقين وحسم لأطماعهم الفارغة فكأنه قيل: فإن تظاهرا عليه لا يضر ذلك في أمره فإن الله تعالى هو مولاه وناصره في أمر دينه وسائر شؤونه على كل من يتصدى لما يكرهه وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ مظاهرون له ومعينون إياه كذلك، ويلائم هذا ترك ذكر المعان عليه حيث لم يقل ظهير له عليكما مثلا، وكذا ترك ذكر المعان فيه وتخصيص- صالح المؤمنين- بالذكر، وتقوى هذه الملاءمة على ما روي عن ابن جبير من تفسير- صالح المؤمنين- بمن برىء من النفاق فتأمل. عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أي أن يعطيه عليه الصلاة والسلام بدلكن أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ والخطاب لجميع زوجاته صلى الله تعالى عليه وسلم أمهات المؤمنين على سبيل الالتفات، وخوطبن لأنهن في مهبط الوحي وساحة العز والحضور، ويرشد إلى هذا ما أخرجه البخاري عن أنس قال: قال عمر: اجتمع نساء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في الغيرة عليه فقلت: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ خَيْراً مِنْكُنَّ فنزلت هذه الآية وليس فيها الجزء: 14 ¦ الصفحة: 349 أنه عليه الصلاة والسلام لم يطلق حفصة وأن في النساء خيرا منهن مع أن المذهب على ما قيل: إنه ليس على وجه الأرض خير منهن لأن تعليق طلاق الكل لا ينافي تطليق واحدة والمعلق بما لم يقع لا يجب وقوعه، وجوز أن يكون الخطاب للجميع على التغليب، وأصل الخطاب لاثنتين منهن وهما المخاطبتان أولا بقوله تعالى: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما إلخ فكأنه قيل: عسى ربه إن طلقكما وغيركما أن يبدله خيرا منكما ومن غيركما من الأزواج، والظاهر أن عدم دلالة الآية على أنه عليه الصلاة والسلام لم يطلق حفصة وأن في النساء خيرا من أزواجه صلى الله تعالى عليه وسلم على حاله لأن التعليق على طلاق الاثنتين ولم يقع فلا يجب وقوع المعلق ولا ينافي تطليق واحدة، وقال الخفاجي والتغليب في خطاب الكل مع أن المخاطب أولا اثنتان، وفي لفظة إِنْ الشرطية أيضا الدالة على عدم وقوع الطلاق. وقد روي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم طلق حفصة فغلب ما لم يقع من الطلاق على الواقع وعلى التعميم لا تغليب في الخطاب ولا في إِنْ انتهى، وفيه بحث، ثم إن المشهور أن عَسى في كلامه تعالى للوجوب، وأن الوجوب هنا إنما هو بعد تحقق الشرط، وقيل: هي كذلك إلا هنا، والشرط معترض بين اسم عَسى وخبرها. والجواب محذوف أي إن طلقكن فعسى إلخ، وأَزْواجاً مفعول ثان- ليبدل- وخَيْراً صفته وكذا ما بعد، وقرأ أبو عمرو في رواية عياش «طلقكن» بإدغام القاف في الكاف. وقرأ نافع وأبو عمرو وابن كثير «يبدّله» بالتشديد للتكثير مُسْلِماتٍ مقرات مُؤْمِناتٍ مخلصات لأنه يعتبر في الإيمان تصديق القلب، وهو لا يكون إلا مخلصا، أو منقادات على أن الإسلام بمعناه اللغوي مصدقات قانِتاتٍ مصليات أو مواظبات على الطاعة مطلقا تائِباتٍ مقلعات عن الذنب عابِداتٍ متعبدات أو متذللات لأمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سائِحاتٍ صائمات كما قال ابن عباس وأبو هريرة وقتادة والضحاك والحسن وابن جبير وزيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن، وروي عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، قال الفراء: وسمي الصائم سائحا لان السائح لا زاد معه. وإنما يأكل من حيث يجد الطعام، وعن زيد بن أسلم ويمان مهاجرات، وقال ابن زيد: ليس في الإسلام سياحة إلا الهجرة، وقيل: ذاهبات في طاعة الله تعالى أي مذهب. وقرأ عمرو بن فائد «سيحات» ثَيِّباتٍ جمع ثيب من ثاب يثوب ثوبا، وزنه فيعل كسيد وهي التي تثوب أي ترجع عن الزوج أي بعد زوال عذرتها وَأَبْكاراً جمع بكر من بكر إذا خرج بكرة وهي أول النهار، وفيها معنى التقدم سميت بها التي لم تفتض اعتبارا بالثيب لتقدمها عليها فيما يراد له النساء، وترك العطف في الصفات السابقة لأنها صفات تجتمع في شيء واحد وبينها شدة اتصال يقتضي ترك العطف ووسط العاطف هنا للدلالة على تغاير الصفتين وعدم اجتماعهما في ذات واحدة، ولم يؤت- بأو- قيل: ليكون المعنى أزواجا بعضهن ثيبات وبعضهن أبكار، وقريب منه ما قيل: وسط العاطف بين الصفتين لأنهما في حكم صفة واحدة إذ المعنى مشتملات على الثيبات والأبكار فتدبر، وفي الانتصاف لابن المنير ذكر لي الشيخ ابن الحاجب أن القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني الكاتب كان يعتقد أن الواو في الآية هي الواو التي سماها بعض ضعفة النحاة واو الثمانية لأنها ذكرت مع الصفة الثامنة، وكان الفاضل يتبجح باستخراجها زائدة على المواضع الثلاثة المشهورة قبله: أحدها في التوبة التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ إلى قوله سبحانه: وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة: 112] ، والثاني في قوله تعالى: وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف: 22] ، والثالث في قوله تعالى: وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: 73] إلى أن ذكر ذلك يوما بحضرة أبي الجود النحوي المقرئ فبين له أنه واهم في عدها من ذلك القبيل، وأحال على المعنى الذي ذكره الزمخشري من الجزء: 14 ¦ الصفحة: 350 دعاء الضرورة إلى الإتيان بها هاهنا لامتناع اجتماع الصفتين في موصوف واحد وواو الثمانية إن ثبتت فإنما ترد بحيث لا حاجة إليها إلا الإشعار بتمام نهاية العدد الذي هو السبعة فأنصفه الفاضل واستحسن ذلك منه، وقال: أرشدتنا يا أبا الجود انتهى. وذكر الجنسان لأن في أزواجه صلّى الله تعالى عليه وسلم من تزوجها ثيبا وفيهن من تزوجها بكرا، وجاء أنه عليه الصلاة والسلام لم يتزوج بكرا إلا عائشة رضي الله تعالى عنها وكانت تفتخر بذلك على صواحباتها، وردت عليها الزهراء على أبيها وعليها الصلاة والسلام بتعليم النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم إياها حين افتخرت على أمها خديجة رضي الله تعالى عنها بقولها: إن أمي تزوج بها رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وهو بكر لم يره أحد من النساء غيرها ولا كذلك أنتن فسكتت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً أي نوعا من النار وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ تتقد بهما اتقاد غيرها بالحطب، ووقاية النفس عن النار بترك المعاصي وفعل الطاعات، ووقاية الأهل بحملهم على ذلك بالنصح والتأديب، وروي أن عمر قال حين نزلت: يا رسول الله نقي أنفسنا فكيف لنا بأهلينا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: تنهوهن عما نهاكم الله عنه وتأمروهن بما أمركم الله به فيكون ذلك وقاية بينهن وبين النار» . وأخرج ابن المنذر والحاكم وصححه وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في الآية: علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدبوهم ، والمراد بالأهل على ما قيل: ما يشمل الزوجة والولد والعبد والأمة. واستدل بها على أنه يجب على الرجل تعلم ما يجب من الفرائض وتعليمه لهؤلاء، وأدخل بعضهم الأولاد في الأنفس لأن الولد بعض من أبيه، وفي الحديث «رحم الله رجلا قال: يا أهلاه صلاتكم صيامكم زكاتكم مسكنكم يتيمكم جيرانكم لعل الله يجمعكم معه في الجنة» ، وقيل: إن أشد الناس عذابا يوم القيامة من جهل أهله. وقرىء- وأهلوكم- بالواو وهو عطف على الضمير في قُوا وحسن العطف للفصل بالمفعول، والتقدير عند بعض وليق أهلوكم أنفسهم ولم يرتضه الزمخشري، وذكر ما حاصله أن الأصل قُوا أنتم وأهلوكم أنفسكم وأنفسهم بأن يقي ويحفظ كل منكم ومنهم نفسه عما يوبقها، فقدم أنفسكم، وجعل الضمير المضاف إليه الأنفس مشتملا على الأهلين تغليبا فشملهم الخطاب، وكذا اعتبر التغليب في قُوا، وفيه تقليل للحذف وإيثار العطف المفرد الذي هو الأصل والتغليب الذي نكتته الدلالة على الأصالة والتبعية. وقرأ الحسن ومجاهد «وقودها» بضم الواو أي ذو وقودها، وتمام الكلام في هذه الآية يعلم مما مر في سورة البقرة عَلَيْها مَلائِكَةٌ أي أنهم موكلون عليها يلون أمرها وتعذيب أهلها وهم الزبانية التسعة عشر قيل: وأعوانهم غِلاظٌ شِدادٌ غلاظ الأقوال شداد الأفعال، أو غلاظ الخلق شداد الخلق أقوياء على الأفعال الشديدة، أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن أبي عمران الجوني قال: بلغنا أن خزنة النار تسعة عشر ما بين منكبي أحدهم مسيرة مائة خريف ليس في قلوبهم رحمة إنما خلقوا للعذاب يضرب الملك منهم الرجل من أهل النار الضربة فيتركه طحنا من لدن قرنه إلى قدمه لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ صفة أخرى- لملائكة- وما في محل النصب على البدل أي لا يعصون ما أمر الله أي ما أمره تعالى كقوله تعالى: أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [طه: 93] أو على إسقاط الجار أي لا يعصون فيما أمرهم به وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ أي الذي يأمرهم عز وجل به، والجملة الأولى لنفي المعاندة والاستكبار عنهم صلوات الله تعالى عليهم فيه كقوله تعالى: لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ [الأعراف: 206] ، والثانية لإثبات الكياسة لهم ونفي الكسل عنهم فهي كقوله تعالى: وَلا يَسْتَحْسِرُونَ إلى لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء: 19، 20] ، وبعبارة أخرى إن الأولى لبيان القبول باطنا فإن العصيان أصله المنع والإباء، وعصيان الأمر صفة الباطن الجزء: 14 ¦ الصفحة: 351 بالحقيقة لأن الإتيان بالمأمور إنما يعدّ طاعة إذا كان بقصد الامتثال فاذا نفي العصيان عنهم دل على قبولهم وعدم إبائهم باطنا، والثانية لأداء المأمور به من غير تثاقل وتوان على ما يشعر به الاستمرار المستفاد من يَفْعَلُونَ فلا تكرار، وفي الحصول لا يَعْصُونَ فيما مضى على أن المضارع لحكاية الحال الماضية وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ في الآتي. وجوز أن يكون ذلك من باب الطرد والعكس وهو كل كلامين يقرر الأول بمنطوقه مفهوم الثاني وبالعكس مبالغة في أنهم لا تأخذهم رأفة في تنفيذ أوامر الله عز وجل والغضب له سبحانه. يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ مقول لقول قد حذف ثقة بدلالة الحال عليه يقال لهم ذلك عند إدخال الملائكة إياهم النار حسبما أمروا به، فتعريف اليوم للعهد ونهيهم عن الاعتذار لأنهم لا عذر لهم أو لأن العذر لا ينفعهم إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا من الكفر والمعاصي بعد ما نهيتم عنهما أشد النهي وأمرتم بالإيمان والطاعة على أتم وجه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ من الذنوب. تَوْبَةً نَصُوحاً أي بالغة في النصح فهو من أمثلة المبالغة كضروب وصفت التوبة به على الإسناد المجازي وهو وصف التائبين، وهو أن ينصحوا بالتوبة أنفسهم فيأتوا بها على طريقها، ولعله ما نضمنه ما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس قال: «قال معاذ بن جبل: يا رسول الله ما التوبة النصوح؟ قال: أن يندم العبد على الذنب الذي أصاب فيعتذر إلى الله تعالى ثم لا يعود إليه كما لا يعود اللبن إلى الضرع» وروي تفسيرها بما ذكر عن عمر وابن مسعود وأبي والحسن ومجاهد وغيرهم، وقيل: نصوحا من نصاحة الثوب أي خياطته أي توبة ترفو خروقك في دينك وترم خللك، وقيل: خالصته من قولهم: عسل ناصح إذا خلص من الشمع، وجوز أن يراد توبة تنصح الناس أي تدعوهم إلى مثلها لظهور أثرها في صاحبها، واستعمال الجد والعزيمة في العمل بمقتضياتها، وفي المراد بها أقوال كثيرة أوصلها بعضهم إلى نيف وعشرين قولا: منها ما سمعت. وقرأ زيد بن علي- توبا- بغير تاء، وقرأ الحسن والأعرج وعيسى وأبو بكر عن عاصم وخارجة عن نافع «نصوحا» الجزء: 14 ¦ الصفحة: 352 بضم النون وهو مصدر نصح فإن النصح والنصوح كالشكر والشكور والكفر والكفور أي ذات نصح أو تنصح نصوحا أو توبوا لنصح أنفسكم على أنه مفعول له. هذا والكلام في التوبة كثير وحيث كانت أهم الأوامر الإسلامية وأول المقامات الإيمانية ومبدأ طريق السالكين ومفتاح باب الواصلين لا بأس في ذكر شيء مما يتعلق بها فنقول: هي لغة الرجوع، وشرعا وصفا لنا على ما قال السعد: الندم على المعصية لكونها معصية لأن الندم عليها بإضرارها بالبدن أو إخلالها بالعرض أو المال مثلا لا يكون توبة، وأما الندم لخوف النار أو للطمع في الجنة ففي كونه توبة تردد. ومبناه على أن ذلك هل يكون ندما عليها لقبحها ولكونها معصية أم لا؟ وكذا الندم عليها لقبحها مع غرض آخر، والحق أن جهة القبح إن كانت بحيث لو انفردت لتحقق الندم فتوبة وإلا فلا كما إذا كان الغرض مجموع الأمرين لا كل واحد منهما. وكذا في التوبة عند مرض مخوف بناء على أن ذلك الندم هل يكون لقبح المعصية بل للخوف، وظاهر الإخبار قبول التوبة ما لم تظهر علامات الموت ويتحقق أمره عادة، ومعنى الندم تحزن وتوجع على أن فعل وتمني كونه لم يفعل ولا بد من هذا للقطع بأن مجرد الترك كالماجن إذا مل مجونه فاستروح إلى بعض المباحات ليس بتوبة، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «الندم توبة» وقد يزاد قيد العزم على ترك المعاودة. واعترض بأن فعل المعصية في المستقبل قد لا يخطر بالبال لذهول أو جنون أو نحوه، وقد لا يقدر عليه لعارض آفة كخرس في القذف مثلا أو جب في الزنا فلا يتصور العزم على الترك لما فيه من الاشعار بالقدرة والاختيار. وأجيب بأن المراد العزم على الترك على تقدير الخطور والاقتداء حتى لو سلب القدرة لم يشترط العزم على الترك، وبذلك يشعر كلام إمام الحرمين حيث قال: إن العزم على ترك المعاودة إنما يقارن بالتوبة في بعض الأحوال ولا يطرد في كل حال إذ العزم إنما يصح ممن يتمكن من مثل ما قدمه، ولا يصح من المجبوب العزم على ترك الزنا. ومن الأخرس العزم على ترك القذف، وقال بعض الأجلة: التحقيق أن ذكر العزم إنما هو للبيان والتقرير لا للتقييد والاحتراز إذ النادم على المعصية لقبحها لا يخلو عن ذلك العزم البتة على تقدير الخطور والاقتدار، وعلامة الندم طول الحسرة والخوف وانسكاب الدمع، ومن الغريب ما قيل: إن علامة صدق الندم عن ذنب كالزنا أن لا يرى في المنام أنه يفعله اختيارا إذ يشعر ذلك ببقاء حبه إياه وعدم انقلاع أصوله من قلبه بالكلية وهو ينافي صدق الندم، وقال المعتزلة: يكفي في التوبة أن يعتقد أنه أساء وأنه لو أمكنه رد تلك المعصية لردها ولا حاجة إلى الأسف والحزن لإفضائه إلى التكليف بما لا يطاق. وقال الإمام النووي: التوبة ما استجمعت ثلاثة أمور: أن يقلع عن المعصية وأن يندم على فعلها وأن يعزم عزما جازما على أن لا يعود إلى مثلها أبدا فإن كانت تتعلق بآدمي لزم رد الظلامة إلى صاحبها أو وارثه أو تحصيل البراءة منه، وركنها الأعظم الندم. وفي شرح المقاصد قالوا: إن كانت المعصية في خالص حق الله تعالى فقد يكفي الندم كما في ارتكاب الفرار من الزحف وترك الأمر بالمعروف، وقد تفتقر إلى أمر زائد كتسليم النفس للحد في الشرب وتسليم ما وجب في ترك الزكاة، ومثله في ترك الصلاة وإن تعلقت بحقوق العباد لزم مع الندم، والعزم إيصال حق العبد أو بدله إليه إن كان الذنب ظلما كما في الغصب والقتل العمد، ولزم إرشاده إن كان الذنب إضلالا له، والاعتذار إليه إن كان إيذاء كما في الغيبة إذا بلغته ولا يلزم تفصيل ما اغتابه به إلا إذا بلغه على وجه أفحش، والتحقيق أن هذا الزائد واجب آخر خارج عن التوبة- على ما قاله إمام الحرمين- من أن القاتل إذا ندم من غير تسليم نفسه للقصاص صحت توبته في حق الله تعالى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 353 وكان منعه القصاص من مستحقه معصية متجددة تستدعي توبة ولا يقدح في التوبة عن القتل، ثم قال: وربما لا تصح التوبة بدون الخروج من حق العبد كما في الغصب ففرق بين القتل والغصب، ووجهه لا يخفى على المتأمل، ولم يختلف أهل السنة وغيرهم في وجوب التوبة على أرباب الكبائر، واختلف في الدليل، فعندنا السمع كهذه الآية وغيرها وحمل الأمر فيها على الرخصة والإيذان بقولها ودفع القنوط- كما جوزه الآمدي- احتمالا وبني عليه عدم الإثابة عليها مما لا يكاد يقبل، وعند المعتزلة العقل، وأوجبت الجهمية التوبة عن الصغائر سمعا لا عقلا، وأهل السنة على ذلك، ومقتضى كلام النووي والمازري وغيرهما وجوبها حال التلبس بالمعصية، وعبارة المازري اتفقوا على أن التوبة من جميع المعاصي واجبة، وأنها واجبة على الفور، ولا يجوز تأخيرها سواء كانت المعصية صغيرة أو كبيرة. وفي شرح الجوهرة أن التمادي على الذنب بتأخير التوبة منه معصية واحدة ما لم يعتقد معاودته، وصرحت المعتزلة بأنها واجبة على الفور حتى يلزم بتأخيرها ساعة إثم آخر تجب التوبة عنه وساعتين إثمان وهلم جرا، بل ذكروا أن بتأخير التوبة عن الكبيرة ساعة واحدة يكون له كبيرتان: المعصية وترك التوبة، وساعتين أربع: الأوليان وترك التوبة على كل منهما، وثلاث ساعات ثمان وهكذا، وتصح عن ذنب دون ذنب لتحقق الندم والعزم على عدم العود، وخالف أبو هاشم محتجا بأن الندم على المعصية يجب أن يكون لقبحها وهو شامل لها كلها فلا يتحقق الندم على قبيح مع الإصرار على آخر. وأجيب بأن الشامل للكل هو القبح لا خصوص قبح تلك المعصية وهذا الخلاف في غير الكافر إذا أسلم وتاب من كفره مع استدامته بعض المعاصي أما هو فتوبته صحيحة وإسلامه كذلك بالإجماع ولا يعاقب إلا عقوبة تلك المعصية، نعم اختلف في أن مجرد إيمانه هل يعدّ توبة أم لا بد من الندم على سالف كفره؟ فعند الجمهور مجرد إيمانه توبة، وقال الإمام والقرطبي: لا بد من الندم على سالف الكفر وعدم اشتراط العمل الصالح مجمع عليه عند الأئمة خلافا لابن حزم، وكذا تصح التوبة عن المعاصي إجمالا من غير تعيين المتوب عنه ولو لم يشق عليه تعيينه، وخالف بعض المالكية فقال: إنما تصح إجمالا مما علم إجمالا، وأما ما علم تفصيلا فلا بد من التوبة منه تفصيلا ولا تنتقص التوبة الشرعية بالعود فلا تعود عليه ذنوبه التي تاب منها بل العود والنقض معصية أخرى يجب عليه أن يتوب منها. وقالت المعتزلة: من شروط صحتها أن لا يعاود الذنب فإن عاوده انتقصت توبته وعادت ذنوبه لأن الندم المعتبر فيها لا يتحقق إلا بالاستمرار، ووافقهم القاضي أبو بكر والجمهور على أن استدامة الندم غير واجبة بل الشرط أن لا يطرأ عليه ما ينافيه ويدفعه لأنه حينئذ دائم حكما كالإيمان حال النوم، ويلزم من اشتراط الاستدامة مزيد الحرج والمشقة، وقال الآمدي: يلزم أيضا اختلال الصلوات وسائر العبادات، ويلزم أيضا أن لا يكون بتقدير عدم استدامة الندم وتذكره تائبا، وأن يجب عليه إعادة التوبة وهو خلاف الإجماع، نعم اختلف العلماء فيمن تذكر المعصية بعد التوبة منها، هل يجب عليه أن يجدد الندم؟ وإليه ذهب القاضي منا وأبو علي من المعتزلة زعما منهما أنه لو لم يندم كلما ذكرها لكان مشتهيا لها فرحا بها، وذلك إبطال للندم ورجوع إلى الإصرار، والجواب المنع إذ ربما يضرب عنها صفحا من غير ندم عليها ولا اشتهاء لها وابتهاج بها ولو كان الأمر كما ذكر للزم أن لا تكون التوبة السابقة صحيحة، وقد قال القاضي نفسه: إنه إذا لم يجدد ندما كان ذلك معصية جديدة يجب الندم عليها والتوبة الأولى مضت على صحتها إذ العبادة الماضية لا ينقضها شيء بعد ثبوتها انتهى. وبعدم وجوب التجديد عند ذكر المعصية صرح إمام الحرمين، ويفهم من كلامهم أن محل الخلاف إذا لم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 354 يبتهج عند ذكر الذنب به ويفرح ويتلذذ بذكره أو سماعه، والا وجب التجديد اتفاقا، وظاهر كلامهم أن المعاودة غير مبطلة ولو كانت في مجلس التوبة بل ولو تكررت تكرارا يلتحق بالتلاعب، وفي هذا الأخير نظر فقد قال القاضي عياض: إن الواقع في حق الله تعالى بما هو كفر تنفعه توبته مع شديد العقاب ليكون ذلك زجرا له ولمثله إلا من تكرر ذلك منه وعرف استهانته بما أتى فهو دليل على سوء طويته وكذب توبته انتهى. وينبغي عليه أن يقيد ذلك بأن تكثر كثرة تشعر بالاستهانة وتدخل صاحبها في دائرة الجنون، واختلف في صحة التوبة المؤقتة بلا إصرار كأن لا يلابس الذنوب أو ذنب كذا سنة فقيل: تصح، وقيل: لا، وفي شرح الجوهرة قياس صحتها من بعض الذنوب دون بعض صحتها فيما ذكر، ثم إن للتوبة مراتب من أعلاها ما روي عن يعسوب المؤمنين كرم الله تعالى وجهه أنه سمع أعرابيا يقول: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك فقال: يا هذا إن سرعة اللسان بالتوبة توبة الكذابين، فقال الاعرابي: ما التوبة؟ قال كرم الله تعالى وجهه: يجمعها ستة أشياء: على الماضي من الذنوب الندامة، وللفرائض الإعادة ورد المظالم واستحلال الخصوم وأن تعزم على أن لا تعود وأن تذيب نفسك في طاعة الله كما ربيتها في المعصية وأن تذيقها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعاصي ، وأريد بإعادة الفرائض أن يقضي منها ما وقع في زمان معصيته كشارب الخمر يعيد صلاته قبل التوبة لمخامرته للنجاسة غالبا، وهذه توبة نحو الخواص فلا مستند في هذا الأثر لابن حزم وأضرابه كما لا يخفى، ثم إنه تعالى بين فائدة التوبة بقوله سبحانه: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ قيل: المراد أنه عز وجل يفعل ذلك لكن جيء بصيغة الإطماع للجري على عادة الملوك فإنهم إذا أرادوا فعلا قالوا: عَسى أن نفعل كذا، والإشعار بأن ذلك تفضل منه سبحانه والتوبة غير موجبة له. وأن العبد ينبغي أن يكون بين خوف ورجاء وإن بالغ في إقامة وظائف العبادة، واستدل بالآية على عدم وجوب قبول التوبة لأن التكفير أثر القبول، وقد جيء معه بصيغة الإطماع دون القطع، وهذه المسألة خلافية فذهب المعتزلة إلى أنه يجب على الله تعالى قبولها عقلا وأتوا في ذلك بمقدمات مزخرفات، وقال إمام الحرمين والقاضي أبو بكر: يجب قبولها سمعا ووعدا لكن بدليل ظني إذ لم يثبت في ذلك نص قاطع لا يحتمل التأويل، وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري: بل بدليل قطعي ومحل النزاع بين الأشعري وتلميذيه ما عدا توبة الكافر أما هي فالإجماع على قبولها قطعا بالسمع لوجود النص المتواتر بذلك كقوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ [الأنفال: 38] بخلاف ما جاء في توبة غيره فإنه ظاهر، وليس بنص في غفران ذنوب المسلم بالتوبة كقوله تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر: 53] ، وأما حديث- التوبة تجب ما قبلها- فليس بمتواتر ولأنه إذا قطع بقبول توبة الكافر كان ذلك فتحا لباب الإيمان وسوقا إليه، وإذا لم يقطع بتوبة المؤمن كان ذلك سدا لباب العصيان ومنعا منه، وهذا- وما قبله- ذكرهما القاضي لما قيل له: إن الدلائل مع الشيخ أبي الحسن: وقال ابن عطية: إن جمهور أهل السنة على قول القاضي، والدليل على ذلك دعاء كل أحد من التائبين بقبول توبته ولو كان مقطوعا به لما كان للدعاء معنى، ومثل ذلك وجوب الشكر على القبول فإنه لو كان واجبا لما وجب الشكر عليه. وتعقب ذلك السعد بأنه ربما يدفع بأن المسئول في الدعاء هو استجماعها لشرائط القبول فإن الأمر فيه خطير، ووجوب القبول لا ينافي وجوب الشكر لكونه إحسانا في نفسه كتربية الوالد ولده وقال الإمام النووي: لا يجب على الله تعالى قبول التوبة إذا وجدت بشروطها عند أهل السنة لكنه سبحانه يقبلها كرما منه وتفضلا، وعرفنا قبولها بالشرع والإجماع فلا تغفل، وقرىء «يدخلكم» بسكون اللام، وخرجه أبو حيان على أن يكون حذف الحركة تخفيفا وتشبيها الجزء: 14 ¦ الصفحة: 355 لما هو في كلمتين بالكلمة الواحدة فإنه يقال في قمع: قمع. وفي نطع، نطع وقال: إنه أولى من كونه للعطف على محل عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ، واختاره الزمخشري كأنه قيل: توبوا يرج تكفير أو يوجب تكفير سيئاتكم ويدخلكم يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ ظرف- ليدخلكم- وتعريف النَّبِيَّ للعهد، والمراد به سيد الأنبياء محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم، والمراد بنفي الإخزاء إثبات أنواع الكرامة والعز. وفي القاموس يقال: أخزى الله تعالى فلانا فضحه، وقال الراغب: يقال: خزي الرجل لحقه انكسار إما من نفسه وهو الحياء المفرط ومصدره الخزاية. وإما من غيره وهو ضرب من الاستخفاف، ومصدره الخزي، ويَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ هو من الخزي أقرب، ويجوز أن يكون منهما جميعا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ عطف عليه الصلاة والسلام، وفيه تعريض بمن أخزاهم الله تعالى من أهل الكفر والفسوق، واستحماد على المؤمنين على أن عصمهم من مثل حالهم، والمراد بالإيمان هنا فرده الكامل على ما ذكره الخفاجي، وقوله تعالى: نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ أي على الصراط كما قيل، ومر الكلام فيه جملة مستأنفة، وكذا قوله سبحانه: يَقُولُونَ إلخ، وجوز أن تكون الجملتان في موضع الحال من الموصول، وأن تكون الأولى حالا منه. والثانية حالا من الضمير في يَسْعى، وأن تكون الأولى مستأنفة. والثانية من الضمير، وأن تكون الأولى حالا من الموصول. والثاني مستأنفة أو حالا من الضمير، وجوز أن يكون الموصول مبتدأ خبره معه، والجملتان خبران آخران أو مستأنفتان أو حالان من الموصول، أو الأولى حال منه والثانية حال من الضمير، أو الأولى مستأنفة والثانية حال من الضمير، أو الأولى حال والثانية مستأنفة، أو الأولى خبر بعد خبر والثانية حال من الضمير أو مستأنفة، وجوز أن يكون الموصول مبتدأ خبره قوله تعالى: نُورُهُمْ يَسْعى إلخ، والجملة الأخرى مستأنفة أو حال أو خبر بعد خبر فهذه عدة احتمالات لا يخفى ما هو الأظهر منها. والقول على ما روي عن ابن عباس والحسن: يكون إذا طفىء نور المنافقين أي يقولون إذا طفىء نور المنافقين رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وفي رواية أخرى عن الحسن يدعون تقربا إلى الله تعالى مع تمام نورهم، وقيل: يقول ذلك من يمر على الصراط زحفا وحبوا. وقيل: من يعطي من النور بقدر ما يبصر به موضع قدمه، ويعلم منه عدم تعين حمل الإيمان على فرده الكامل كما سمعت عن الخفاجي، وقرأ سهل بن شعيب السهمي وأبو حيوة «وبإيمانهم» بكسر الهمزة على أنه مصدر معطوف على الظرف أي كائنا بين أيديهم وكائنا بسبب إيمانهم يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ بالسيف وَالْمُنافِقِينَ بالحجة وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ واستعمل الخشونة على الفريقين فيما تجاهدهم به إذا بلغ الرفق مداه. وعن الحسن أكثر ما كان يصيب الحدود في ذلك الزمان المنافقين فأمر عليه الصلاة والسلام أن يغلظ عليهم في إقامة الحدود، وحكى الطبرسي عن الباقر أنه قرأ- جاهد الكفار بالمنافقين - وأظن ذلك من كذب الإمامية عاملهم الله تعالى بعدله وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ أي وسيرون فيها عذابا غليظا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي جهنم أو مأواهم، والعطف قيل: من عطف القصة على القصة ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا ضرب المثل في مثل هذا الموقع عبارة عن إيراد حالة غريبة لتعرف بها حالة أخرى مشاكلة لها في الغرابة أي جعل الله تعالى مثلا لحال الكفرة حالا ومآلا على أن مثلا مفعول ثان لضرب واللام متعلقة به، وقوله تعالى: امْرَأَتَ نُوحٍ واسمها قيل: والعة وَامْرَأَتَ لُوطٍ واسمها قيل: واهلة، وقيل: والهة، وعن مقاتل اسم امرأة نوح والهة. واسم امرأة لوط والعة مفعوله الأول، وأخر عنه ليتصل به ما هو شرح وتفسير لحالهما، ويتضح بذلك حال الكفرة، والمراد ضرب الله تعالى مثلا لحال أولئك حال امْرَأَتَ إلخ، الجزء: 14 ¦ الصفحة: 356 فقوله تعالى: كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ بيانا لحالهما الداعية لهما إلى الخير والصلاح، ولم يقل: تحتهما للتعظيم أي كانتا في عصمة نبيين عظيمي الشأن متمكنتين من تحصيل خير الدنيا والآخرة، وحيازة سعادتهما، وقوله تعالى: فَخانَتاهُما بيان لما صدر عنهما من الخيانة العظيمة مع تحقق ما ينافيها من مرافقة النبي عليه الصلاة والسلام، أما خيانة امرأة نوح عليه السلام فكانت تقول للناس: إنه مجنون، وأما خيانة امرأة لوط فكانت تدل على الضيف رواه جمع وصححه الحاكم عن ابن عباس. وأخرج ابن عدي والبيهقي في شعب الإيمان، وابن عساكر عن الضحاك أنه قال: خيانتهما النميمة، وتمامه في رواية: كانتا إذا أوحى الله تعالى بشيء أفشتاه للمشركين، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال: خيانتهما أنها كانتا كافرتين مخالفتين، وقيل: كانتا منافقتين، والخيانة والنفاق قال الراغب: واحد إلا أن الخيانة تقال اعتبارا بالعهد والأمانة، والنفاق يقال اعتبارا بالدين ثم يتداخلان، فالخيانة مخالفة الحق بنقص العهد في السر ونقيضها الأمانة، وحمل ما في الآية على هذا، ولا تفسر هاهنا بالفجور لما أخرج غير واحد عن ابن عباس «ما زنت امرأة نبي قط» ورفعه اشرس إلى النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم، وفي الكشاف لا يجوز أن يراد بها الفجور لأنه سمج في الطبع نقيصة عند كل أحد بخلاف الكفر فإن الكفر لا يستسمجونه ويسمونه حقا. ونقل ابن عطية عن بعض تفسيرها بالكفر والزنا وغيره، ولعمري لا يكاد يقول بذلك إلا ابن زنا، فالحق عندي أن عهر الزوجات كعهر الأمهات من المنفرات التي قال السعد: إن الحق منعها في الحق الأنبياء عليهم السلام، وما ينسب للشيعة مما يخالف ذلك في حق سيد الأنبياء صلّى الله تعالى عليه وسلم كذب عليهم فلا تعول عليه وإن كان شائعا، وفي هذا على ما قيل: تصوير لحال المرأتين المحاكية لحال الكفرة في خيانتهم لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم بالكفر والعصيان مع تمكنهم التام من الإيمان والطاعة، وقوله تعالى: فَلَمْ يُغْنِيا إلخ بيان لما أدى إليه خيانتهما أي فلم يغن ذانك العبدان الصالحان والنبيان العظيمان عَنْهُما بحق الزواج مِنَ اللَّهِ أي من عذابه عز وجل شَيْئاً أي شيئا من الإغناء، أو شيئا من العذاب. وَقِيلَ لهما عند موتهما أو يوم القيامة، وعبر بالماضي لتحقق الوقوع ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ أي مع سائر الداخلين من الكفرة الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء عليهم السلام. وذكر غير واحد أن المقصود الإشارة إلى أن الكفرة يعاقبون بكفرهم ولا يراعون بما بينهم وبين النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم من الوصلة، وفيه تعريض لأمهات المؤمنين وتخويف لهنّ بأنه لا يفيدهن إن أتين بما حظر عليهن كونهن تحت نكاح النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم وليس في ذلك ما يدل على أن فيهن كافرة أو منافقة كما زعمه يوسف الأوالي من متأخري الإمامية سبحانك هذا بهتان عظيم. وقرأ مبشر بن عبيد «تغنيا» بالتاء المثناة من فوق، وعَنْهُما عليه بتقدير عن نفسهما قال أبو حيان: ولا بد من هذا المضاف إلا أن يجعل- عن- اسما كهي في: دع عنك لأنها إن كانت حرفا كان في ذلك تعدية الفعل الرافع للضمير المتصل إلى ضميره المجرور وهو يجري مجرى الضمير المنصوب وذلك لا يجوز، وفيه بحث وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ أي جعل حالها مثلا لحال المؤمنين في أن وصلة الكفرة لا تضرهم حيث كانت في الدنيا تحت أعدى أعداء الله عز وجل وهي في أعلى غرف الجنة واسمها آسية بنت مزاحم، وقوله تعالى: إِذْ قالَتْ ظرف لمحذوف أي وضرب الله مثلا للذين آمنوا حال امرأة فرعون إذ قالت رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ قيل: أي قريبا من الجزء: 14 ¦ الصفحة: 357 رحمتك لتنزهه سبحانه عن المكان. وجوز في عِنْدَكَ كونه حالا من ضمير المتكلم وكونه حالا من قوله تعالى: بَيْتاً لتقدمه عليه وكان صفة لو تأخر، وقوله تعالى: فِي الْجَنَّةِ بدل أو عطف بيان لقوله تعالى: عِنْدَكَ أو متعلق بقوله تعالى: ابْنِ وقدم عِنْدَكَ لنكتة، وهي كما في الفصوص الإشارة إلى قولهم: الجار قبل الدار، وجوز أن يكون المراد- بعندك- أعلى درجات المقربين لأن ما عند الله تعالى خير، ولأن المراد القرب من العرش، وعِنْدَكَ بمعنى عند عرشك ومقر عزك وهو على ما قيل: على الاحتمالات في إعرابه ولا يلزم كونه ظرفا للفعل وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ أي من نفس فرعون الخبيثة وسلطانه الغشوم وَعَمَلِهِ أي وخصوصا من عمله وهو الكفر وعبادة غير الله تعالى والتعذيب بغير جرم إلى غير ذلك من القبائح والكلام على أسلوب مَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ [البقرة: 98] . وجوز أن يكون المراد نَجِّنِي من عمل فرعون فهو من أسلوب أعجبني زيد وكرمه، والأول أبلغ لدلالته على طلب البعد من نفسه الخبيثة كأنه بجوهره عذاب ودمار يطلب الخلاص منه، ثم طلب النجاة من عمله ثانيا تنبيها على أنه الطامة العظمى، وخص بعضهم عمله بتعذيبه، وعن ابن عباس أنه الجماع، وما تقدم أولى وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ من القبط التابعين له في الظلم قاله مقاتل، وقال الكلبي: من أهل مصر: وكأنه أراد بهم القبط أيضا، والآية ظاهرة في أنها كانت مؤمنة مصدقة بالبعث، وذكر بعضهم أنها عمة موسى عليه السلام آمنت حين سمعت بتلقف العصا الإفك فعذبها فرعون. وأخرج أبو يعلى والبيهقي بسند صحيح عن أبي هريرة أن فرعون وتد لامرأته أربعة أوتاد في يديها ورجليها فكانت إذا تفرقوا عنها أظلتها الملائكة عليهم السلام فقالت: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ فكشف لها عن بيتها في الجنة وهو على ما قيل: من درة، وفي رواية عبد بن حميد عنه أنه وتد لها أربعة أوتاد وأضجعها على ظهرها وجعل على صدرها رحى واستقبل بها عين الشمس فرفعت رأسها إلى السماء فقالت رَبِّ ابْنِ لِي إلى الظَّالِمِينَ ففرج الله تعالى عن بيتها في الجنة فرأته، وقيل: أمر بأن تلقى عليها صخرة عظيمة فدعت الله تعالى فرقى بروحها فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه، وعن الحسن فنجاها الله تعالى أكرم نجاة فرفعها إلى الجنة فهي تأكل وتشرب وتتنعم فيها، وظاهره أنها رفعت بجسدها وهو لا يصح. وفي الآية دليل على أن الاستعاذة بالله تعالى والالتجاء إليه عز وجل ومسألة الخلاص منه تعالى عند المحن والنوازل من سير الصالحين وسنن الأنبياء، وهو في القرآن كثير، وقوله تعالى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ عطف على امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ أي وضرب مثلا للذين آمنوا حالتها وما أوتيت من كرامة الدنيا والآخرة والاصطفاء مع كون أكثر قومها كفارا، وجمع في التمثيل بين من لها زوج ومن لا زوج لها تسلية للأرامل وتطييبا لقلوبهن على ما قيل، وهو من بدع التفاسير كما في الكشاف، وقرأ السختياني- ابنه- بسكون الهاء وصلا أجراه مجرى الوقف الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها صانته ومنعته من الرجال، وقيل: منعته عن دنس المعصية. والفرج ما بين الرجلين وكني به عن السوءة وكثر حتى صار كالصريح، ومنه ما هنا عند الأكثرين فَنَفَخْنا فِيهِ النافخ رسوله تعالى وهو جبريل عليه السلام فالإسناد مجازي، وقيل: الكلام على حذف مضاف أي فنفخ الجزء: 14 ¦ الصفحة: 358 رسولنا، وضمير فِيهِ للفرج، واشتهر أن جبريل عليه السلام نفخ في جيبها فوصل أثر ذلك إلى الفرج. وروي ذلك عن قتادة، وقال الفراء: ذكر المفسرون أن الفرج جيب درعها وهو محتمل لأن الفرج معناه في اللغة كل فرجة بين الشيئين، وموضع جيب درع المرأة مشقوق فهو فرج، وهذا أبلغ في الثناء عليها لأنها إذا منعت جيب درعها فهي للنفس أمنع، وفي مجمع البيان عن الفراء أن المراد منعت جيب درعها عن جبريل عليه السلام، وكان ذلك على ما قيل: قولها إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا [مريم: 18] وأفاد كلام البعض أن أحصنت فرجها على ما نقل أولا عن الفراء كناية عن العفة نحو قولهم: هو نقي الجيب طاهر الذيل. وجوز في ضمير فِيهِ رجوعه إلى الحمل، وهو عيسى عليه السلام المشعر به الكلام، وقرأ عبد الله- فيها- كما في الأنبياء، فالضمير لمريم، والإضافة في قولها تعالى: مِنْ رُوحِنا للتشريف، والمراد من روح خلقناه بلا توسط أصل، وقيل: لأدنى ملابسة وليس بذاك وَصَدَّقَتْ آمنت بِكَلِماتِ رَبِّها بصحفه عز وجل المنزلة على إدريس عليه السلام وغيره، وسماها سبحانه كلمات لقصرها وَكُتُبِهِ بجميع كتبه والمراد به ما عدا الصحف مما في طول، أو التوراة والإنجيل والزبور، وعد المصحف من ذلك وإيمانها به ولم يكن منزلا بعد كالإيمان بالنبي الموعود عليه الصلاة والسلام فقد كان صلّى الله تعالى عليه وسلم مذكورا بكتابه في الكتب الثلاث، وتفسير الكلمات والكتب بذلك هو ما اختاره جمع، وجوز غير واحد أن يراد بالكلمات ما أوحاه الله تعالى إلى أنبيائه عليهم السلام، وبالكتب ما عرف فيها مما يشمل الصحف وغيرها، وقيل: جميع ما كتب مما يشمل اللوح وغيره، وأن يراد بالكلمات وعده تعالى ووعيده أو ذلك وأمره عز وجل ونهيه سبحانه، وبالكتب أحد الأوجه السابقة، وإرادة كلامه تعالى القديم القائم بذاته سبحانه من الكلمات بعيد جدا، وقرأ يعقوب وأبو مجلز وقتادة عصمة عن عاصم «صدقت» بالتخفيف، ويرجع إلى معنى المشدد وفي البحر أي كانت صادقة بما أخبرت به من أمر عيسى وما أظهره الله تعالى لها من الكرامات وفيه قصور لا يخفى. وقرأ الحسن ومجاهد والجحدري- بكلمة- على التوحيد فاحتمل أن يكون اسم جنس، وأن يكون عبارة عن كلمة التوحيد، وأن يكون عبارة عن عيسى عليه السلام فقد أطلق عليه السلام أنه كلمة الله ألقاها إلى مريم، وقد مر شرح ذلك، وقرأ غير واحد من السبعة- وكتابه- على الإفراد فاحتمل أن يراد به الجنس وأن يراد به الإنجيل لا سيما إن فسرت الكلمة بعيسى عليه السلام، وقرأ أبو رجاء «وكتبه» بسكون التاء على ما قال ابن عطية، وبه وبفتح الكاف على أنه مصدر أقيم الاسم على ما قال صاحب اللوامح. وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ أي من عداد المواظبين على الطاعة- فمن- للتبعيض، والتذكير للتغليب، والإشعار بأن طاعتها لم تقصر عن طاعة الرجال حتى عدت من جملتهم فهو أبلغ من قولنا: وكانت من القانتات، أو قانتة، وقيل: مِنْ لابتداء الغاية، والمراد كانت من نسل القانتين لأنها من أعقاب هارون أخي موسى عليهما السلام، ومدحها بذلك لما أن الغالب أن الفرع تابع لأصله وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً [الأعراف: 58] وهي على ما في بعض الأخبار سيدة النساء ومن أكملهن، روى أحمد في مسنده: سيدة نساء أهل الجنة مريم ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية ثم عائشة، وفي الصحيح كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع: آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ومريم ابنة عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد صلّى الله تعالى عليه وسلم وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام وخص الثريد- وهو خبز يجعل في مرق وعليه لحم- الجزء: 14 ¦ الصفحة: 359 كما قيل: إذا ما الخبز تأدمه بلحم ... فذاك أمانة الله الثريد لا اللحم فقط كما قيل لأن العرب لا يؤثرون عليه شيئا حتى سموه بحبوحة الجنة، والسر فيه على ما قال الطيبي: إن الثريد مع اللحم جامع بين الغذاء واللذة والقوة وسهولة التناول وقلة المئونة في المضغ وسرعة المرور في المريء فضرب به مثلا ليؤذن بأنها رضي الله تعالى عنها أعطيت مع حسن الخلق حلاوة المنطق وفصاحة اللهجة وجودة القريحة ورزانة الرأي ورصانة العقل والتحبب للبعل فهي تصلح للبعل والتحدث والاستئناس بها والإصغاء إليها، وحسبك أنها عقلت من النبي صلّى الله عليه وسلم ما لم يعقل غيرها من النساء وروت ما لم يرو مثلها من الرجال، وعلى مزيد فضلها في هذه السورة الكريمة من عتابها وعتاب صاحبتها حفصة رضي الله تعالى عنهما ما لا يخفى، ثم لا يخفى أن فاطمة رضي الله تعالى عنها من حيث البضعية لا يعد لها في الفضل أحد، وتمام الكلام في ذلك في محله. وجاء في بعض الآثار أن مريم وآسية زوجا رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم في الجنة ، أخرج الطبراني عن سعد بن جنادة قال: قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «إن الله زوجني في الجنة مريم بنت عمران وامرأة فرعون وأخت موسى عليه السلام» وزعم نبوتها كزعم نبوة غيرهما من النساء كهاجر وسارة غير صحيح لاشتراط الذكورة في النبوة على الصحيح خلافا للأشعري، وقد نبه على هذا الزعم العلامة ابن قاسم في الآيات البينات وهو غريب فليحفظ، والله تعالى أعلم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 360 سورة الملك وتسمى تبارك والمانعة والمنجية والمجادلة، فقد أخرج الطبراني عن ابن مسعود قال: كنا نسميها على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم المانعة. وأخرج الترمذي وغيره عن ابن عباس قال: ضرب بعض أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم خباءه على قبر وهو لا يحسب أنه قبر فإذا قبر إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها فأتى النبي صلّى الله عليه وسلم فأخبره فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: «هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر» وأخرج الطبراني والحاكم وابن مردويه وعبد بن حميد في مسنده واللفظ له عن ابن عباس أنه قال لرجل: ألا أتحفك بحديث تفرح به؟ قال: بلى قال اقرأ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك: 1] وعلمها أهلك وجميع ولدك وصبيان بيتك وجيرانك فإنها المنجية والمجادلة يوم القيامة عند ربها لقارئها وتطلب له أن تنجيه من عذاب النار وينجو بها صاحبها من عذاب القبر الخبر. وفي جمال القراء تسمى أيضا الواقية المناعة وهي مكية على الأصح. وقيل غير ثلاث آيات منها وأخرج ابن جويبر في تفسيره عن الضحاك عن ابن عباس، وفي قول غريب إنها مدنية وآيها إحدى ثلاثون آية في المكي والمدني الأخير وثلاثون في الباقي وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا ما يرجحه. ووجه مناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ضرب مثلا للكفار بتينك المرأتين المحتوم لهما بالشقاوة وإن كانتا تحت نبيين عظيمين ومثلا للمؤمنين بآسية ومريم وهما محتوم لهما بالسعادة وإن أكثر قومهما كفار، افتتح هذه بما يدل على إحاطته عز وجل وقهره وتصرفه في ملكه على ما سبق به قضاؤه. وقيل إن أول هذه متصل بقوله تعالى آخر الطلاق اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ [الطلاق: 12] لما فيه من مزيد البسط لما يتعلق بذلك وفصل بسورة التحريم لأنها كالقطعة من سورة الطلاق والتتمة لها، وقد جاء في فضلها أخبار كثيرة منها ما مر آنفا ومنها ما أخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم وصححه وغيرهم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن سورة من كتاب الله ما هي إلا ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له» تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ومنها ما جاء في حديث رواه الطبراني وابن مردويه بسند جيد عن ابن مسعود وآخر رواه عنه جماعة وصححه الحاكم: «من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطيب» وأخرج ابن مردويه عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ الم تَنْزِيلُ السجدة وتَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ كل ليلة لا يدعهما سفر ولا حضر ، ولهذا ونحوه قيل يندب قراءتها كل ليلة. والحمد لله الذي وفقني لقراءتها كذلك منذ بلغت سن التمييز إلى اليوم، وأسأل الله تعالى التوفيق لما بعد والقبول. ورأيت في بعض شروح البخاري ندب قراءتها عند رؤية الهلال رجاء الحفظ من المكاره في ذلك الشهر ببركة آيها الثلاثين والله تعالى الموفق. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 3 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ البركة النماء والزيادة حسية كانت أو عقلية وكثرة الخير ودوامه، ونسبتها إلى الله عز وجل على المعنى الأول وهو الأليق بالمقام باعتبار تعاليه جل وعلا عما سواه في ذاته وصفاته وأفعاله وصيغة التفاعل للمبالغة في ذلك كما في نظائره مما لا يتصور نسبته إليه تعالى من الصيغ كالتكبر. وعلى الثاني باعتبار كثرة ما يفيض منه سبحانه على مخلوقاته من فنون الخيرات والصيغة حينئذ يجوز أن تكون لإفادة نماء تلك الخيرات وازديادها شيئا فشيئا وآنا فآنا بحسب حدوثها أو حدوث متعلقاتها. قيل: ولاستقلالها بالدلالة على غاية الكمال وإنبائها عن نهاية التعظيم لم يجز استعمالها في حق غيره سبحانه ولا استعمال غيرها من الصيغ في حقه تبارك وتعالى. وقد مرّ تمام الكلام في هذا المقام وإسنادها إلى الموصول للاستشهاد بما في حيز الصلة على تحقق مضمونها لأن المراد بذلك أنه سبحانه كامل الإحاطة والاستيلاء بناء على أن بيده الملك استعارة تمثيلية لذلك ولا تجوز في شيء من مفرداته، أو أن الملك على حقيقته واليد مجاز عن الإحاطة والاستيلاء كما قيل، ولاستدعاء ذلك استغناء المتصف به مع افتقار الغير إليه في وجوده وكمالات وجوده كان له اختصاص بالموجود وكذلك في العرف العامي لا يطلق الملك على ما ليس كذلك فلذا قيل هنا في بيان معنى الآية: تعالى وتعاظم بالذات عن كل ما سواه ذاتا وصفة وفعلا الكامل الإحاطة الاستيلاء على كل موجود. وقوله تعالى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تكميل لذلك لأن القرينة الأولى تدل على التصرف التام في الموجودات على مقتضى إرادته سبحانه ومشيئته من غير منازع ولا مدافع لا متصرف فيها غيره عز وجل كما يؤذن به تقديم الظرف وهذه تدل على القدرة الكاملة الشاملة، ولو اقتصر على الأولى لأوهم أن تصرفه تعالى مقصور على تغيير أحوال الملك كما يشاهد من تصرف الملاك المجازي، فقرنت بالثانية ليؤذن بأنه عزّ سلطانه قادر على التصرف وعلى إيجاد الأعيان المتصرف فيها الجزء: 15 ¦ الصفحة: 4 وعلى إيجاد عوارضها الذاتية وغيرها، ومن ثم عقب ذلك بالوصف المتضمن للعوارض وهذا ما اختاره العلامة الطيبي، وصاحب الكشاف اختار في القرينة الأولى ما ذكرناه فيها من التخصيص بالموجود فقال: أي تعالى وتعاظم عن صفات المخلوقين الذي بيده الملك على كل موجود لما سمعت، وفي الثانية التخصيص بالمعدوم فقال: وهو على كل ما لم يوجد مما يدخل تحت القدرة قدير ووجهه على ما في الكشف أن الشيء وإن كان عاما في كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه لكن لما قرن بالقدرة اختص بالمعدوم لاستغناء الموجود عن الفاعل عند جمهور المتكلمين القائلين بأن علة الاحتياج الحدوث وعليه الزمخشري وأصحابه، وأما عند القائلين بأن علة الاحتياج الإمكان كالمحققين فلأن الاختيار يستدعي سبق العدم. وجيء بالقرينة الثانية عليه تكميلا أيضا لأن الاختصاص بالموجود فيه إيهام نقص واختار صاحب التقريب أن قوله تعالى: الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ مطلق. وقوله سبحانه وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عام لما وضع له الشيء فيكون قد قصد بيان القدرة أولا وعمومها ثانيا، ولم يرتض صنيع الزمخشري ونظر فيه بأن الشيء إما أن يختص بالموجود أو يشمل الموجود والمعدوم، وعلى المذهبين فلا وجه لتخصيصه بما لم يوجد مع انضمام كل إليه اللهم إلا أن يقال خصصه به ليغاير ما قبله إذ خصصه بالموجود، وفيه أيضا نظر إذ لو عمم الثاني لتحقق التغاير أيضا مع أن اليد مجاز عن القدرة فإن تخصصت به كما هو مذهبه تخصص الأول بالمعدوم وإن لم تتخصص لم يتخصص الثاني بالمعدوم. وادعى صاحب الكشف سقوطه بما نقلناه عنه واعترض عليه وأجيب بما لا يخلو عن نظر فليتأمل. ومن الناس من حمل الْمُلْكُ على الموجودات وجعل إليه مجازا عن القدرة فيكون المعنى في قدرته الموجودة وتعقبه بعضهم بأن فيه ركاكة وأشار إلى أن الخلاص منها إما بجعل اليد مجازا عن التصرف أو بتفسير الملك بالتصرف، وقيل المراد من كون الملك بيده تعالى أنه عز وجل مالكه فمعنى بِيَدِهِ الْمُلْكُ مالك الملك وفسر الراغب الْمُلْكُ في مثل ذلك بضبط الشيء المتصرف فيه بالحكم، وشاع تخصيصه بعالم الشهادة ويقابله حينئذ الملكوت وليس بمراد هنا كما لا يخفى. وقوله تعالى الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ شروع في تفصيل بعض أحكام الملك وآثار القدرة وبيان ابتنائهما على قوانين الحكم والمصالح واستتباعهما لغايات جليلة والموصول بدل من الموصول الأول وصلته كصلته في الشهادة بتعاليه عز وجل. وجوز الطبرسي كونه خبر مبتدأ محذوف أي هو الذي إلخ. والموت على ما ذهب الكثير من أهل السنة صفة وجودية تضاد الحياة، واستدل على وجوديته بتعلق الخلق به وهو لا يتعلق بالعدمي لأزلية الإعدام. وأما ما روي عن ابن عباس من أنه تعالى خلق الموت في صورة كبش أملح لا يمر بشيء إلا مات، وخلق الحياة في صورة فرس بلقاء لا تمر بشيء ولا يجد رائحتها شيء إلا حيي فهو أشبه شيء بكلام الصوفية لا يعقل ظاهره. وقيل: هو وارد على منهاج التمثيل والتصوير وذهب القدرية وبعض أهل السنة إلى أنه أمر عدمي هو عدم الحياة عما هي من شأنه وهو المتبادر الأقرب وأجيب عن الاستدلال بالآية بأن الخلق فيها بمعنى التقدير وهو يتعلق بالعدمي كما يتعلق بالوجودي، أو أن الْمَوْتَ ليس عدما مطلقا صرفا بل هو عدم شيء مخصوص ومثله يتعلق به الخلق والإيجاد بناء على أنه إعطاء الوجود ولو للغير دون إعطاء الوجود للشيء في نفسه، أو أن الخلق بمعنى الإنشاء والإثبات دون الإيجاد وهو بهذا المعنى يجري في العدميات، أو أن الكلام على تقدير مضاف أي خلق أسباب الموت أو أن المراد بخلق الْمَوْتَ وَالْحَياةَ خلق زمان ومدة معينة لهما لا يعلمها إلا الله تعالى فإيجادهما عبارة عن إيجاد زمانهما مجازا ولا يخفى الحال في هذه الاحتمالات. ومن الغريب ما قيل إنه كنى بالموت عن الدنيا إذ هو واقع فيها، وبالحياة عن الآخرة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 5 من حيث لا موت فيها فكأنه قيل الذي خلق الدنيا والآخرة والحق أنهما بمعناهما الحقيقي والموت على ما سمعت والحياة صفة وجودية بلا خلاف وهي ما يصح بوجوده الإحساس أو معنى زائد على العلم والقدرة يوجب للموصوف به حالا لم يكن قبله من صحة العلم والقدرة، وتقديم الموت على تقدير كونه عدما مطلقا أعني عدم الحياة عما هي من شأنه ظاهر لسبقه على الوجود وعلى تقدير كونه العدم اللاحق كما هو الأنسب بالإرادة هنا أعني عدم الحياة عما اتصف بها فلان فيه مزيد عظة وتذكرة وزجر عن ارتكاب المعاصي وحثّ على حسن العمل، ولذا ورد: «أكثروا من ذكر ذم اللذات والحياة» وإن كانت داعية لذلك ضرورة أن من عرف أنها نعمة عظيمة وكان ذا بصيرة عمل شكر الله تعالى عليها لكنها ليست بمثابة الموت في ذلك، فمن زعم أنها لا داعية فيها أصلا وإنما ذكرت باعتبار توقف العمل عليها لم يدقق النظر. وأل في الموضعين عوض عن المضاف إليه أي الذي خلق موتكم الطارئ وحياتكم أيها المكلفون لِيَبْلُوَكُمْ أي ليعاملكم معاملة من يختبركم أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي أصوبه وأخلصه فيجازيكم على مراتب متفاوتة حسب تفاوت مراتب أعمالكم. وأصل البلاء الاختبار ولأنه يقتضي عدم العلم بما اختبره وهو غير صحيح في حقه عز وجل وحمل الكلام على ما ذكر، ويرجع ذلك إلى الاستعارة التمثيلية واعتبار الاستعارة التبعية فيه دونها دون في البلاغة والمراد بالعمل ما يشمل عمل القلب وعمل الجوارح ولذا قال صلّى الله عليه وسلم في الآية: «أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله تعالى وأسرع في طاعة الله عز وجل» أي أيكم أتمّ فهما لما يصدر عن جناب الله تعالى وأكمل ضبطا لما يؤخذ من خطابه سبحانه، وإيراد صيغة التفضيل مع أن الابتلاء شامل للمكلفين باعتبار أعمالهم المنقسمة إلى الحسن والقبيح أيضا لا إلى الحسن والأحسن فقط للإيذان بأن المراد بالذات. والمقصد الأصلي من الابتلاء هو ظهور كمال إحسان المحسنين مع تحقق أصل الإيمان والطاعة في الباقين أيضا لكمال تعاضد الموجبات له، وأما الإعراض عن ذلك فبمعزل من الاندراج تحت لوقوع فضلا عن الانتظام في سلك الغاية أو الفرض عند من يراه لأفعال الله عز وجل وإنما هو عمل يصدر عن عامله لسوء اختياره من غير مصحح له ولا تقريب، وفيه من الترغيب في الترقي إلى معارج العلوم ومدارج الطاعات والزجر عن مباشرة نقائصها ما لا يخفى. وجعل ذلك من باب الزيادة المطلقة أو من باب أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً [مريم: 73] ليس بذاك وأَيُّكُمْ أَحْسَنُ مبتدأ وخبر والجملة في محل نصب على أنها مفعول ثان لِيَبْلُوَكُمْ وذلك على ما في الكشاف لتضمنه معنى العلم، وهل يسمى نحو هذا تعليقا أم لا؟ قيل: فيه خلاف ففي البحر لأبي حيان نقلا عن أصحابه أنه يسمى بذلك قال: إذا عدي الفعل إلى اثنين ونصب الأول وجاءت بعده جملة استفهامية أو مقرونة بلام الابتداء أو بحرف نفي كانت الجملة معلقا عنها الفعل وكانت في موضع نصب كما لو وقعت في موضع المفعولين، وفيها ما يعلق الفعل عن العمل. وفي الكشاف هنا لا يسمى تعليقا إنما التعليق أن يوقع بعد الفعل الذي يعلق ما يسد مسد المفعولين جميعا كقولك: علمت أيهما زيد وعلمت أزيد منطلق، وأما إذا ذكر بعده أحد المفعولين نحو علمت القوم أيهم أفضل فلا يكون تعليقا. والآية من هذا القبيل واعترضه صاحب التقريب بأن العلم مضمر وهو المعلق كما قال الفراء والزجاج ولا يلزم ذكر المفعول معه بل التقدير ليبلوكم فيعلم أيكم أحسن. وأيضا لا تقع الجملة الاستفهامية مفعولا ثانيا لعلمت وإنما تقع موقع المفعولين في علمت أيهم خرج لأن المعنى علمت جواب هذا الاستفهام ولا معنى لتقدير مثله في علمته أيهم خرج وأجيب بأن التضمين يغني عن الإضمار وكون الجملة الاستفهامية لا تقع مفعولا ثانيا ضعيف لأنها إذا وقعت مفعولا أولا في نحو لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ [مريم: 69] على معنى لننزعن الذين يقال فيهم أيهم أشد كما قال الجزء: 15 ¦ الصفحة: 6 الخليل، فلم يمتنع وقوعها مفعولا ثانيا بتأويل ليعلمكم الذين يقال في حقهم أَيُّهُمْ أَحْسَنُ وإليه ذهب الطيبي ثم قال: وقد أنصف صاحب الانتصاف حيث قال: التعليق عن أحد المفعولين فيه خلاف والأصح هو الذي اختاره الزمخشري وهذا النحو عشه فيه يدرج ويدري كيف يدخل ويخرج انتهى. والذي ذكره في سورة هود أن في الآية تعليقا لما في الاختبار من معنى العلم لأنه طريق إليه ومثله بقوله انظر أيهم أحسن وجها فجعلوا بين كلاميه تنافيا وفي الكشف أن كلامه هناك صريح بأن التعليق فيه بمعنى تعليق فعل القلب على ما فيه استفهام وهو بهذا المعنى خاص بفعل القلب من غير تخصيص بالسبعة المتعدية إلى مفعولين. وفي الاستفهام خاصة دون ما فيه لام الابتداء ونحوها صرح به الشيخ ابن الحاجب نصا فلا ينافي ما ذكر في هذه السورة من أنه ليس بتعليق، فإنما نفي التعليق بالمعنى المشهور. وأما الحمل عن الإضمار في آية هود والتضمين في آية الملك للتفنن فلا وجه له بعد تصريحه بأنه استعارة انتهى. وكذا على هذا لا وجه لكون ما هناك اختيارا لمذهب الفراء والزجاج وما هنا اختيار لمذهب آخر فتدبر وتذكر فإنه كثيرا ما يسأل عن ذلك قديما وحديثا والله تعالى الموفق. وَهُوَ الْعَزِيزُ أي الغالب الذي لا يعجزه عقاب من أساء الْغَفُورُ لمن شاء منهم أو لمن تاب على ما اختاره بعضهم لأنه أنسب بالمقام الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ قيل هو نعت للعزيز الغفور أو بيان أو بدل. واختار شيخ الإسلام أنه نصب أو رفع على المدح متعلق بالموصولين السابقين معنى وإن كان منقطعا عنهما إعرابا منتظم معهما في سلك الشهادة بتعاليمه سبحانه وتعالى ومع الموصول الثاني في كونه مدارا للبلاء كما نطق به قوله تعالى وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود: 7] وقوله تعالى طِباقاً صفة لسبع وكون الوصف للمضاف إليه العدد ليس بلازم بل أكثري وهو مصدر طابقت النعل بالنعل إذا خصفتها، وصف به للمبالغة أو على حذف مضاف أي ذات طباق أو بتأويل اسم المفعول أي مطابقة، وجوز أن يكون مفعولا مطلقا مؤكدا لمحذوف أي طوبقت طباقا، والجملة في موضع الصفة. وأن يكون جمع طبق كجمل وجمال أو جمع طبقة كرحبة بفتح الحاء ورحاب والكلام بتقدير مضاف لأنه اسم جامد لا يوصف به أي ذات طباق وقيل يجوز كونه حالا من سَبْعَ سَماواتٍ لقربه من المعرفة بشموله الكل وعدم فرد وراء ذلك، وتعقب بأن قصارى ذلك بعد القيل والقال أن يكون نحو شمس مما انحصر في فرد وهو لا تجيء الحال المتأخرة منه فلا يقال طلعت علينا شمس مشرقة. وأيّا ما كان فالمراد كما أخرج عبد بن حميد بعضها فوق بعض، ولا دليل في ذلك على تلاصقها كما زعمه متقدمو الفلاسفة ومن وافقهم من الإسلاميين مخالفين لما نطقت به الأحاديث الصحيحة وإن لم يكفر منكر ذلك فيما أرى. واختلف في موادها فقيل: الأولى من موج مكفوف، والثانية من درة بيضاء، والثالثة من حديد، والرابعة من نحاس، والخامسة من فضة، والسادسة من ذهب، والسابعة من زمردة بيضاء. وقيل غير ذلك ولا أظنك تجد خبرا يعول عليه فيما قيل ولو طرت إلى السماء، وأظنك لو وجدت لأولت مع اعتقاد أن الله عز وجل على كل شيء قدير. وقوله تعالى ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ صفة أخرى على ما في الكشاف لسبع سماوات وضع فيها خَلْقِ الرَّحْمنِ موضع الضمير الرابط للتعظيم والإشعار بعلة الحكم بحيث يمكن أن يترتب قياس من الشكل الأول ينتج نفي رؤية تفاوت فيها، وبأنه عز وجل خلقها بقدرته القاهرة رحمة وتفضلا، وبأن في إبداعها نعما جليلة. وما ذكره ابن هشام في الباب الرابع من المغني من أن الجملة الموصوف بها لا يربطها إلا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 7 الضمير إما مذكورا وإما مقدرا ليس بحجة على جار الله، والتوفيق بأن ذلك إذا لم يقصد التعظيم ليس بشيء لأنه لا بد له من نكتة سواء كانت التعظيم أو غيره. واستظهر أبو حيان أنه استئناف وإن خلق الرحمن عام للسماوات وغيرها والخطاب لكل أحد ممن يصلح للخطاب. وجوز أن يكون لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلم ولعل الأول أولى ومن لتأكيد النفي أي ما ترى شيئا مِنْ تَفاوُتٍ أي اختلاف وعدم تناسب كما قال قتادة وغيره من الفوت فإن كلا من المتفاوتين يفوت منه بعض ما في الآخر، وفسر بعضهم التفاوت بتجاوز الشيء الحد الذي يجب له زيادة أو نقصا وهو المعنى بالاختلاف وعلى ذلك قول بعض الأدباء: تناسبت الأعضاء فيه فلا ترى ... بهن اختلافا بل أتين على قدر وقال السدي: أي من عيب وإليه يرجع قول من قال أي من تفاوت يورث نقصا وقال عطاء بن يسار: أي من عدم استواء، وقيل أي من اضطراب، وقيل أي من اعوجاج، وقيل أي من تناقض. ومآل الكل ما ذكرنا ومن الغريب ما قاله شيخ الطائفة الكشفية في زماننا من أن بين الأشياء جميعها ربطا وهو نوع من التجاذب لا يفوت يسببه بعضها عن بعض، وحمل الآية على ذلك وإلى نحو هذا ذهب الفلاسفة اليوم فزعموا أن بين الأجرام علويها وسفليها تجاذبا على مقادير مخصوصة به حفظت أوضاعها وارتبط بعضها ببعض، لكن ذهب بعضهم إلى أن ما به التجاذب والارتباط يضعف قليلا قليلا على وجه لا يظهر له أثر إلا في مدد طويلة جدا. واستشعروا من ذلك إلى أنه لا بد من خروج هذا العالم المشاهد عن هذا النظام المحسوس فيحصل التصادم ونحوه بين الأجرام وقالوا إن كان قيامة فهو ذاك ولا يخفى حال ما قاله وما قالوه وإن الآية على ما سمعت بمعزل عن ذلك. وقرأ عبد الله وعلقمة والأسود وابن جبير وطلحة والأعمش «من تفوّت» بشد الواو مصدر تفوت، وحكى أبو زيد عن العرب «في تفاوت» فتح الواو وضمها وكسرها والفتح والكسر شاذان كما في البحر. وقوله تعالى فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ متعلق بما قبله على معنى التسبب أي عن الإخبار بذلك فإنه سبب للأمر بالرجوع دفعا لما يتوهم من الشبهة، فهو في المعنى جواب شرط مقدر أي إن كنت في ريب من ذلك فأرجع البصر حتى يتضح الحال ولا يبقى لك ريب وشبهة في تحقق ما تضمنه ذلك المقال من تناسب خلق الرحمن واستجماعه ما ينبغي له. والفطور قال مجاهد: الشقوق جمع فطر وهو الشق، يقال: فطره فانفطر. والظاهر أن المراد الشق مطلقا لا الشق طولا على ما هو أصله كما قال الراغب. وفي معناه قول أبي عبيدة: الصدوع، وأنشدوا قول عبيد الله بن عقبة بن مسعود: شققت القلب ثم ذررت فيه ... هواك فليط فالتأم الفطور وقول السدي: الخروق، وأريد بكل ذلك على ما يفهم من كلام بعض الأجلة الخلل وبه فسره قتادة وفسره ابن عباس بالوهن وجملة هَلْ تَرى إلخ قال أبو حيان: في موضع نصب بفعل معلق محذوف أي فانظر هل ترى أو ضمن فَارْجِعِ الْبَصَرَ معنى فانظر ببصرك ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ أي رجعتين أخريين في ارتياد الخلل والمراد بالتثنية التكرير والتكثير كما قالوا في لبيك وسعديك أي رجعة بعد رجعة أي رجعات كثيرة بعضها في أثر بعض، وهذا كما أريد بأصل المثنى التكثير في قوله: لوعد قبر وقبر كان أكرمهم ... بيتا وأبعدهم عن منزل الذام فإنه يريد لو عدت قبور كثيرة وقيل هو على ظاهره وأمر برجع البصر إلى السماء مرتين إذ يمكن غلط في الأولى فيستدرك بالثانية أو الأولى ليرى حسنها واستواءها والثانية ليبصر كواكبها في سيرها وانتهائها وليس الجزء: 15 ¦ الصفحة: 8 بشيء. ويؤيد الأول قوله تعالى: يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً فإنه جواب الأمر والجوابية تقتضي الملازمة وما تضمنه لا يلزم من المرتين غالبا، والمعنى يعد إليك البصر محروما من إصابة ما التمسه من إصابة العيب والخلل كأنه طرد عنه طردا بالصغار بناء على ما قيل إنه مأخوذ من خسأ الكلب المتعدي أي طرده على أنه استعارة، لكن في الصحاح يقال: خسا بصره خسا وخسوأ أي سدر والسدر تحير النظر فكان تفسير خاسِئاً بمتحيرا أخذا له من ذلك أقرب، وكأنهم اختاروا ما تقدم لأن فيه مبالغة وبلاغة ظاهرة مع كونه أبعد عن التكرار مآلا مع قوله تعالى وَهُوَ حَسِيرٌ أي كليل من طول المعاودة وكثرة المراجعة. يقال: حسر بعيره يحسر حسورا أي كلّ وانقطع فهو حسير ومحسور. وقال الراغب: الحسر كشف الملبس عما عليه، يقال: حسرت عن الذراع أي كشفت، والحاسر من لا درع عليه ولا مغفر. وناقة حسير انحسر عنها اللحم والقوة، ونوق حسرى، والحاسر أيضا المعنى لانكشاف قواه ويقال له أيضا محسور أما الحاسر فتصور أنه قد حسر بنفسه قواه، وأما المحسور فتصور أن التعب قد حسره وحسير في الآية يصح أن يكون بمعنى حاسر وأن يكون بمعنى محسور، والجملة في موضع الحال كالوصف السابق من البصر ويحتمل أن تكون حالا من الضمير فيه. وقرأ الخوارزمي عن الكسائي «ينقلب» بالرفع، وخرج على أن الجملة في موضع حال مقدرة. وقوله تعالى وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ إلخ كلام مسوق للحث على النظر قدرة وامتنانا. وفي الإرشاد بيان لكون خلق السماوات في غاية الحسن والبهاء إثر بيان خلوّها عن شائبة العيب والقصور وتصدير الجملة بالقسم لإبراز كمال العناية بمضمونها أي وبالله لقد زينا السماء الدُّنْيا منكم أي التي هي أتم دنوا منكم من غيرها فدنوها بالنسبة إلى ما تحت وأما بالنسبة إلى من حول العرش فبالعكس بِمَصابِيحَ جمع مصباح وهو السراج، وتجوز به عن الكوكب ثم جمع أو تجوز بالمصابيح ابتداء عن الكواكب، وفسره بعض اللغويين بمقر السراج فيكون حينئذ تجوزا على تجوز ولا حاجة إليه مع تصريحهم بأن المصباح نفس السراج أيضا وتنكيرها للتعظيم أي بمصابيح عظيمة ليست كمصابيحكم التي تعرفونها. وقيل للتنويع والأول أولى. والظاهر أن المراد الكواكب المضيئة بالليل إضاءة السراج من السيارات والثوابت بناء على أنها كلها في أفلاك ومجار متفاوتة قربا وبعدا في ثخن السماء الدنيا، وكون السماء هي الفلك خلاف المعروف عن السلف وإنما هو قول قاله من أراد الجمع بين كلام الفلاسفة الأولى وكلام الشريعة فشاع فيما بين الإسلام واعتقده من اعتقده. وعن عطاء أن الكواكب في قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور في أيدي ملائكة وعليه ف زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ كقول القائل: زينت السقف بالقناديل وهو ظاهر لكن الخبر لا يكاد يصح. ومن اعتقد أن السماء الدنيا فلك القمر والست الباقية أفلاك السيارات الباقية على الترتيب المشهور وأن للثوابت فلكا مخصوصا يسمى بلسان الشرع بالكرسي، أو جوز أن تكون هذه في فلك زحل وهو السماء السابعة، أو يكون بعضها في فلك وبعضها الآخر في آخر فوقه، أو كل منها في فلك وسماء غير السبع. والاقتصار على العدد القليل لا ينفي الكثير قال: إن تخصيص السماء بالتزيين بها لأنها إنما ترى عليها ولا ترى جرم ما فوقها أو رعاية لمقتضى إفهام العامة لتعذر التمييز بين سماء وسماء عليهم، فهم يرون الكواكب كجواهر متلألئة على بساط الفلك الأزرق الأقرب، ومن اعتبر ما عليه أهل الهيئة اليوم من أن الكواكب فلك عجائب القدرة مواخر في بحر جو الفضاء على وجه مخصوص تقتضيه الحكمة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 9 ومجاريها فيه هي أفلاكها وقد تحركت إذ تحركت في خلاء أو ما يشبهه مع قوى بها تجاذبت وارتبطت ولها حركات على أنفسها وحركات غير ذلك وليست مركوزة كما اشتهر في أجرام صلبة شفافة لا ثقيلة ولا خفيفة تسمى أفلاكا أو سماء وهي متفاوتة قربا وبعدا تفاوتا كليا، وإن رؤيت كلها قريبة لسبب خفي إلى الآن عليهم حتى أن منها ما لا يصل شعاعه إلينا إلا في عدة سنين مع أن شعاع الشمس وبيننا وبينها أربعة وثلاثون مليونا من الفراسخ، والمليون ألف ألف يصل إلينا في ثمان دقائق وثلاث عشرة ثانية إلى آخر ما زعموا فيها. قال: يجوز أن يراد بالسماء الدنيا طبقة مخصوصة في هذا الفضاء، وبالمصابيح كواكب فيها نفسها قد زينت تلك الطبقة بها تزيين فضاء دار بطيور يطرن وحائمات فيه مثلا، أو جميع ما يرى من الكواكب وإن كان فوقها وتزيينها بذلك بإظهاره فيها كما مر. وأنت تعلم أن من تصدى لتطبيق الآيات والأخبار على ما قاله الفلاسفة مطلقا فقد تصدى لأمر لا يكاد يتم له والله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم أحق بالاتباع. نعم تأويل النقلي إنما ينبغي إذا قام الدليل العقلي على خلاف ما دل عليه، وأكثر أدلة الفلاسفة قاعدة على العجز عن إثباتها إثباتا صحيحا ما يخالف أدلة أهل الشرع كما لا يخفى على من استضاء بمصابيحه. وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ الضمير للمصابيح على ما هو الظاهر لا للسماء الدنيا على معنى (جعلنا منها) أي من جهتها كما قيل والرجوم جمع رجم بالفتح، وهو مصدر سمي به ما يرجم به أي يرمى فصار له حكم الأسماء الجامدة ولذا جمع وإن كان الأصل في المصادر أنها لا تجمع. وقيل إنه هنا مصدر بمعنى الرجم أيضا. والمراد بالشياطين مسترقو السمع، ورجمهم على ما اشتهر بانقضاض الشهب المسببة عن الكواكب وإليه ذهب غير واحد من المفسرين وهو مبني على ما قرره الفلاسفة المتقدمون من أن الكواكب نفسها غير منقضة وإنما المنقض شعل نارية تحدث من أجزاء متصاعدة لكرة النار لكنها بواسطة تسخين الكواكب للأرض، فالتجوز في إسناد الجعل إليها أو في لفظها وهو مجاز بوسائط. وقال الشهاب: لا مانع من جعل المنقض نفسه من جنس الكواكب وإن خالف اعتقاد الفلاسفة وأهل الهيئة، ولكن في النصوص الإلهية ما فيه رجوم للشياطين انتهى. وأقول لا يخفى أن ذلك المبنى لا يتم أيضا إلا بثبوت كرة النار الذي لا تراهم يستدلون عليه إلا بحدوث هذه الشهب وسلف الأمة لا يقولون بذلك وكذا أهل الفلسفة الجديدة وهؤلاء لم يحققوا إلى الآن أمر هذه الشهب لكن يميلون إلى أنها أجسام انفصلت عن الكواكب التي يزعمونها عوالم مشتملة على جبال ونحوها اشتمال الأرض على ذلك، وخرجت لبعض الحوادث عن حد القوى الجاذبة لها إلى ما انفصلت عنه ولم تصل إلى حد جذب قوة الأرض لها فبقيت تدور عند منتهى كرة الأرض وما يحيط بها من الهواء، فإذا عرض لها الدخول في هواء الأرض أثناء حركتها احترقت كلا أو بعضا كما تحترق بعض الأجسام المحفوظة عن الهواء إذا صادمها الهواء، وربما تصل في بعض حركاتها إلى حد جذب الأرض فتقع عليها. وبعضهم يزعم في الحجارة الساقطة من الجو التي تسمى عندهم بالأبروليت يعنون حجارة الهواء أنها من تلك الأجسام وكل ذلك حديث خرافة ورجم بظنون فاسدة، وقصارى ما يقال في هذه الشهب أنها تحتمل أن تكون ناشئة من أجرام من جنس الكواكب فيها قوة الإحراق سواء كان كل مضيء محرقا أم لا متكونة في جو هذا الفضاء المشاهد إلا أنها لغاية صغرها لا تشاهد ولو بالنظارات حتى إذا قربت بانقضاضها شوهدت وقد تصادف في انقضاضها أجساما متصاعدة من الأرض فتحرقها، وربما يتصل الحريق إلى ما يقرب من الأرض جدا وربما تكونت الحجارة من ذلك. ثم إن العقل يجوز أن يكون لها دوران على شكل من الأشكال فترجع بعد ما يشاهد الجزء: 15 ¦ الصفحة: 10 لها من الانقضاض، وأن تتلاشى بعد انقضاضها ويخلق الله تعالى غيرها من مادة لا يعلمها إلا هو عز وجل. والضمير المنصوب في جَعَلْناها وإن عاد على المصابيح لكن لم يعد عليها إلا باعتبار الجنس دون خصوصية كونها مزينة بها السماء الدنيا نظير وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ [فاطر: 11] وعندي درهم ونصفه لما أن التزيين باعتبار الظهور ولا ظهور لهذه الأجرام قبل انقضاضها وإن اعتبر في كونها مصابيح أو كواكب أو نجوما ظهورها في نفسها ولمن يقرب منها دون خصوصية ظهورها لنا، وفي كونها زينة للسماء كونها زينة لها لها في الجملة فالأمر ظاهر جدا. ويحتمل أن تكون ناشئة من المصابيح المشاهدة المزين بها بأن ينفصل عنها وهي في محلها شعل هي الشهب وما ذاك إلّا كقبس يؤخذ من نار والنار ثابتة وإليه ذهب الجبائي وكثير وهو محتمل لأن يكون لكل منها قابلية أن ينفصل عنه ذلك، وأن يكون القابلية لبعضها دون بعض وهذا لعدم الاطلاع على حقائق الأجرام العلوية وأحوالها في أنفسها. والكلام نحو قولك أسكن الأمير قبيلة كذا في ثغر كذا وجعلها ترمي بالبنادق من يقرب منه فإنه لا يلزم أن يكون لكل واحد منها قابلية الرمي، ثم لا يلزم أن يكون كل ما يشاهد من الشهب قبسا من المصابيح بل يجوز أن يكون بعضه وهو الذي ترمي به الشياطين منها وبعضه من أمور تحدث في الجو من اصطكاك أو نحوه، وتفاوت الشهب قلة وكثرة يحتمل أن يكون لتفاوت حوادث الجو، وأن يكون لتفاوت الاستراق وليس في الآيات والأخبار ما هو نص في أن الشهب لا تكون إلّا لرمي الشياطين فيحتمل أن يكون أكثر الشهب من الحوادث الجوية وذوات الأذناب منها في رأي المتقدمين، وهي في أنفسها دون أذنابها نجوم كثيرة جدا تدور لا كما يدور غيرها من النجوم فتقرب تارة وتبعد أخرى فتخرج عن مدارات السيارات إلى حيث لا تشاهد أصلا عند فلاسفة العصر ولهم فيها كلام أطول من أذنابها. وقد أورد الإمام الرازي في هذا الفصل أسئلة وشبها أجاب عنها بما أجاب ونحن فعلنا نحو ذلك فيما تقدم على وجه أتم فليتذكر. وقد أطنبنا هناك الكلام فيما يتعلق بهذا المقام إلّا أن بعضا مما ذكرناه هناك فخذ من الموضعين ما صفا ودع ما كدر بعد أن تتأمل حق التأمل وتتدبر. وقيل: معنى الآية وجعلناها ظنونا ورجوما بالغيب لشياطين الإنس وهم المنجمون المعتقدون تأثير النجوم في السعادة والشقاوة ونحوهما وقد رددنا عليهم أي رد فيما تقدم فارجع إليه أن أردته فإنه نفيس جدا. وَأَعْتَدْنا لَهُمْ وهيأنا للشياطين عَذابَ السَّعِيرِ عذاب النار المسعرة المشعلة في الآخرة بعد الإحراق في الدنيا بالشهب، ولا يمنع من ذلك أنهم خلقوا من نار لأنهم ليسوا نارا فقط بل هي أغلب عناصرهم فهي منهم كالتراب من بني آدم فيتأثرون من ذلك على أنه تكون نارا أقوى من نار. واستدل بالآية على أن النار مخلوقة الآن وعلى أن الشياطين مكلفون وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ من غير الشياطين أو منهم ومن غيرهم على أنه تعميم بعد التخصيص لدفع إيهام اختصاص العذاب بهم والجار والمجرور خبر مقدم وقوله تعالى عَذابُ جَهَنَّمَ مبتدأ مؤخر والحصر إضافي بقرينة النصوص الواردة في تعذيب العصاة فلا حجة فيه لمن قال من المرجئة: لا يعذب غير الكفرة. وقرأ الضحاك والأعرج وأسيد بن أسيد المزني وحسن في رواية هارون عنه «عذاب» بالنصب عطفا على عَذابَ السَّعِيرِ أي وأعتدنا للذين كفروا عذاب جهنم وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي جهنم إِذا أُلْقُوا فِيها أي وطرحوا فيها كما يطرح الحطب في النار العظيمة سَمِعُوا لَها أي لجهنم نفسها كما هو الظاهر ويؤيده ما بعد والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من قوله تعالى شَهِيقاً لأنه في الأصل صفته فلما صارت حالا أي سَمِعُوا كائنا لَها شَهِيقاً أي صوتا كصوت الحمير وهو الجزء: 15 ¦ الصفحة: 11 حسيسها المنكر الفظيع، ففي ذلك استعارة تصريحية وجوز أن يكون الشهيق لأهلها ممن تقدم طرحهم فيها ومن أنفسهم كقوله تعالى لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ [هود: 106] والكلام على حذف مضاف أو تجوز في النسبة. واعترض بأن ذلك إنما يكون لهم بعد القرار في النار وبعد ما يقال لهم اخْسَؤُا فِيها [المؤمنون: 108] . وهو بعد ستة آلاف سنة من دخولهم كما في بعض الآثار ورد بأن ذلك إنما يدل على انحصار حالهم حينئذ في الزفير والشهيق لا على عدم وقوعها منهم قبل تَكادُ تَمَيَّزُ أي والحال أنها تغلي بهم غليان المرجل بما فيه وَهِيَ تَفُورُ أي ينفصل بعضها من بعض مِنَ الْغَيْظِ من شدة الغضب عليهم قال الراغب الْغَيْظِ أشد الغضب وقال المرزوقي في الفصيح إنه الغضب أو أسوؤه، وقد شبه اشتعال النار بهم في قوة تأثيرها فيهم وإيصال الضرر إليهم باغتياظ المغتاظ على غيره المبالغ في إيصال الضرر إليه على سبيل الاستعارة التصريحية، ويجوز أن تكون هنا تخييلية تابعة للمكنية بأن تشبه جهنم في شدة غليانها وقوة تأثيرها في أهلها بإنسان شديد الغيظ على غيره مبالغ في إيصال الضرر إليه فتوهم لها صورة كصورة الحالة المحققة الوجدانية وهي الغضب الباعث على ذلك، واستعير لتلك الحالة المتوهمة للغيظ. وجوز أن يكون الإسناد في تَكادُ تَمَيَّزُ إلى جهنم مجازا وإنما الإسناد الحقيقي إلى الزبانية، وأن يكون الكلام على تقدير مضاف أي تميز زبانيتها من الغيظ وقيل إن الله تعالى يخلق فيها إدراكا فتغتاظ عليهم فلا مجاز بوجه من الوجوه وورد في بعض الأخبار ما يؤيد ذلك، وزعم بعضهم أنه لا حاجة لشيء مما ذكر لمكان تَكادُ كما في قوله تعالى يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ [النور: 35] وفيه ما فيه والجملة إما حال من فاعل تَفُورُ أو خبر آخر وقرأ طلحة «تتميّز» بتاءين وأبو عمرو «تكاد تميز» بإدغام الدال في التاء والضحاك «تمايز» على وزن تفاعل وأصله تتمايز بتاءين وزيد بن على وابن أبى عبلة «تميز» من ماز كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ استئناف مسوق لبيان حال أهلها بعد بيان نفسها، وقيل لبيان حال آخر من أحوال أهلها وجوز أن تكون الجملة حالا من ضميرها أي كلما ألقي فيها جماعة من الكفرة سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها وهم مالك وأعوانه عليهم السلام، والسائل يحتمل أن يكون واحدا وأن يكون متعددا وليس السؤال سؤال استعلام بل هو سؤال توبيخ وتقريع، وفيه عذاب روحاني لهم منضم إلى عذابهم الجسماني أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ يتلو عليكم آيات الله وينذركم لقاء يومكم هذا قالُوا اعترافا بأنه عزّ وجلّ قد أزاح عللهم بالكلية بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ وجمعوا بين حرف الجواب ونفس الجملة المجاب بها مبالغة في الاعتراف بمجيء النذير، وتحسرا على ما فاتهم من السعادة في تصديقهم، وتمهيدا لما وقع منهم من التفريط تندما واغتماما على ذلك، أي قال كل فوج من تلك الأفواج قد جاء لها نذير أي واحد حقيقة أو حكما كنذر بني إسرائيل فإنهم في حكم نذير واحد فأنذرنا وتلا علينا ما أنزل الله تعالى من آياته. فَكَذَّبْنا ذلك النذير من جهته تعالى وَقُلْنا في حق ما تلاه من الآيات إفراطا في التكذيب وتماديا في النكير ما نَزَّلَ اللَّهُ على أحد مِنْ شَيْءٍ من الأشياء فضلا عن تنزيل الآيات على بشر مثلكم إِنْ أَنْتُمْ أي ما أنتم في ادعاء ما تدعونه إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ بعيد عن الحق والصواب. وجمع ضمير الخطاب مع أن مخاطب كل فوج نذيره لتغليبه على أمثاله ولو فرضا ليشمل أول فوج أنذرهم نذير. والأصل أنت وأمثالك ممن ادعى أو يدعي دعواك مبالغة في التكذيب وتماديا في التضليل كما ينبىء عنه تعميم المنزل مع ترك ذكر المنزل عليه فإنه ملوح بعمومه حتما، وأما إقامة تكذيب الواحد مقام تكذيب الكل فقيل أمر الجزء: 15 ¦ الصفحة: 12 تحقيقي يصار إليه لتهويل ما ارتكبوه من الجناية لكن لا مساغ لاعتباره من جهتهم ولا لإدراجه تحت عبارتهم. كيف لا وهو منوط بملاحظة اجتماع النذر على ما لا يختلف من الشرائع والأحكام باختلاف العصور والأعوام، وأين هم من ذلك وقد حال الجريض دون القريض؟ هذا إذا جعل ما ذكر حكاية عن كل واحد من الأفواج كما هو الظاهر. وأما إذا جعل حكاية عن الكل فالنذير إما بمعنى الجمع لأنه فعيل وهو يستوي فيه الواحد وغيره، أو مصدر مقدر بمضاف عام أي أهل نذير أو منعوت به للمبالغة فيتفق كلا طرفي الخطاب في الجمعية. ويستشعر من بعض العبارات جواز اعتبار الجمعية بأحد الأوجه المذكورة على الوجه الأول أيضا وفيه بحث. وجوز أن يكون الخطاب من كلام الخزنة للكفار على إرادة القول على أن مرادهم بالضلال ما كانوا عليه في الدنيا أو هلاكهم أو عقاب ضلالهم تسمية له باسم سببه وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى. وكذا ما قيل من جواز كونه من كلام النذير للكفرة حكوه للخزنة وفي الكشف هذا الوجه فيه تكلف بيّن فإما أن يكون مقول قول محذوف يستدعيه قد جاءنا نذير كأنه قيل بلى قد جاءنا نذير قال إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ فكذبنا وقلنا وقدم فكذبنا وقلنا تنبيها على أن التكذيب لم يكن مقصورا على قولهم هذا وإما أن يكون التكذيب واقعا على الجملة أعني إِنْ أَنْتُمْ وقوله سبحانه وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ عطف على (كذبنا) قدم على صلته ليجري مجرى الاعتراض مؤكدا لحكم التكذيب ودالا على عدم القصر أيضا والأول أولى انتهى. واستدل بالآية على أنه لا تكليف قبل البعثة وحمل النذير على ما في العقول من الأدلة مما لا يقبله منصف ذوي العقول وَقالُوا أيضا معترفين بأنهم لم يكونوا ممن يسمع أو يعقل كان الخزنة قالوا لهم في تضاعيف التوبيخ ألم تسمعوا آيات ربكم ولم تعقلوا معانيها فأجابوهم بقولهم لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ كلاما أَوْ نَعْقِلُ شيئا ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ أي في عدادهم ومن جملتهم والمراد بهم قيل الشياطين لقوله تعالى: وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ وقيل الكفار مطلقا واختصاص اعداد السعير ممنوع لقوله تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالًا وَسَعِيراً [الإنسان: 4] . والآية لا تدل على الاختصاص وفيه دغدغة لعلك تعرفها مما يأتي إن شاء الله تعالى قريبا فلا تغفل. ونفيهم السماع والعقل لتنزيلهم ما عندهم منهما لعدم انتفاعهم به منزلة العدم، وفي ذلك مع اعتبار عموم المسموع والمعقول ما لا يخفى من المبالغة، واعتبرهما بعض الأجلة خاصين قال: أي لو كنا نسمع كلام النذير فنقبله جملة من غير بحث وتفتيش اعتمادا على ما لاح من صدقه بالمعجز أو نعقل فنفكر في حكمه ومعانيه تفكر المستبصرين ما كنا إلخ. وفيه إشارة إلى أن السماع والعقل هنا بمعنى القبول والتفكر وأَوْ للترديد لأنه يكفي انتفاء كل منهما لخلاصهم من السعير أو للتنويع فلا ينافي الجمع. وقيل: أشير فيه إلى قسمي الإيمان التقليدي والتحقيقي أو إلى الأحكام التعبدية وغيرها، واستدل بالآية كما قال ابن السمعاني في القواطع من قال بتحكيم العقل. وأنت تعلم أن قصارى ما تشعر به أن العقل يرشد إلى العقائد الصحيحة التي بها النجاة من العسير، وأما أنها تدل على أن العقل حاكم كما يقول المعتزلة فلا. واستدل بها أيضا كما نقل عن ابن المنير على أن السمع أفضل من البصر ومن العجيب استدلال بعضهم بها على أنه لا يقال للكافر عاقل فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ الذي هو كفرهم وتكذيبهم بآيات الله تعالى ونذره عزّ وجلّ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ أي فبعدا لهم من رحمته تعالى وهو دعاء عليهم. وقرأ أبو جعفر والكسائي «فسحقا» بضم الحاء والسحق مطلقا البعد وانتصابه على أنه مصدر مؤكد أي سحقهم الله تعالى سحقا قال الشاعر: يجول بأطراف البلاد مغربا ... وتسحقه ريح الصبا كل مسحق الجزء: 15 ¦ الصفحة: 13 وقيل: هو مصدر إما فعل متعد من المزيد بحذف الزوائد كما في قوله: وإن أهلك فذلك كان قدري أي تقديري والتقدير فأسحقهم الله سحقا أي إسحاقا، أو بفعل مرتب على ذلك الفعل أي فأسحقهم الله تعالى فسحقوا سحقا كما في قوله: وعضة دهر يا ابن مروان لم تدع ... من المال إلا مسحت أو مجلف أي لم تدع فلم يبق إلّا مسحت وإلى أول الوجهين ذهب أبو علي الفارسي والزجاج، وبعد ثبوت الفعل الثلاثي المتعدي كما في البيت وبه قال أبو حيان لا يحتاج إلى ما ذكر. واللام في لِأَصْحابِ للتبيين كما في هَيْتَ لَكَ [يوسف: 23] وسقيا لك وفي الآية على ما قيل تغليب، ولعل وجهه عند القائل وهو أن السوق يقتضي أن يقال فسحقا لهم ولأصحاب السعير فإنه تعالى بيّن أولا أحوال الشياطين حيث قاله سبحانه وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ ثم بيّن أحوال الكفار حيث قال عزّ وجلّ وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ والأوفق بقراءة النصب والأبعد من شبهة التكرار أن يراد بالموصول غير الشياطين ثم قال تعالى شأنه فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ فكان السوق يقتضي فسحقا لهم ولأصحاب السعير لكن لم يقل كذلك لأجل التغليب حيث أطلق أصحاب السعير على الشياطين والكفار جميعا. ولا يضر في هذا دلالة غير آية على عدم اختصاص أصحاب السعير بالشياطين بل يطلق على سائر الكفرة أيضا لأنه يكفي في التغليب الاختصاص المتبادر من السوق هنا ولا توقف له على عدم جواز إطلاق ذلك على غير الشياطين في شيء من المواضع على أنه يمكن أن يقال لا حاجة إلى التزام اختصاص أصحاب السعير بالشياطين أصلا ولو بحسب السوق، بلى يكفي لصحة التوجيه كونهم أصيلا في دخول السعير والكفار ملحقين بهم كما يشعر به قوله تعالى ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ بمعنى في عدادهم وجملتهم فحينئذ يكون الداخل في السعير قسمين. وكان مقتضى الظاهر ذكرهما معا في الدعاء عليهم بالسحق كما يشهد به سياق الآية، لكنه عدل وغلب أصحاب السعير الدال على الأصالة على غيره من التوابع وذكر أن في هذا التغلب إيجازا وهو ظاهر، ومبالغة أي في الإبعاد إذ لو أفرد كل من الفريقين بالذكر لأمكن أن يتوهم تفاوت الإبعادين بأن يكون إبعاد الكفرة دون إبعاد الشياطين على ما يشعر به جعلهم الشياطين أصيلا وأنفسهم ملحقة بهم، فلما ضموا إليهم في الحكم به دل على أن إبعادهم لم يقصر عن إبعاد أولئك وأيضا لما غلب سبحانه وتعالى أصحاب السعير وهم الشياطين على الكفار فقد جعل الكفار من قبيل الشياطين فكأنهم هم بأعيانهم، وفيه من المبالغة ما لا يخفى وتعليلا فإن ترقب الحكم على الوصف وكذا تعلقه به يشعر بعليته له فيشعر ذلك بأن الإبعاد حصل لهم لأجل كونهم أصحاب السعير. وقيل في توجيه التغليب وما فيه من الأمور الثلاثة غير هذا، وقد عدّ ذلك من المشكلات وغدا معتركا لعلماء الروم وغيرهم من العلماء الأعلام ولعل ما ذكرناه أقرب إلى الأفهام وأبعد عن النزاع والخصام فتأمل والله تعالى ولي الأفهام. إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ أي يخافون عذابه غائبا عنهم أو غائبين عنه أو عن أعين الناس غير مرائين أو بما خفي منهم وهو قلوبهم لَهُمْ مَغْفِرَةٌ عظيمة لذنوبهم وَأَجْرٌ كَبِيرٌ لا يقادر قدره وتقديم المغفرة على الأجر لأن درء المضار أهم من جلب المنافع والجملة المذكورة قيل استئناف بياني وقوله تعالى وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ خطاب عام للمكلفين كما في قوله أولا لِيَبْلُوَكُمْ عطف على مقدر قال في الكشف أصل الكلام وللذين كفروا منكم أيها المكلفون المبتلون وللذين يخشون منكم فقطع هذا الثاني الجزء: 15 ¦ الصفحة: 14 جوابا عن السؤال الذي يقطر من بيان حال الكافرين مع أن ذكرهم بالعرض وهو ماذا حال من أحسن عملا ومن خرج ممحصا عند الابتلاء فأجيب بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ إلخ فأثبت لهم كمال العلم إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] . وكمال التقوى لقوله تعالى بِالْغَيْبِ وفي هذا القطع ترشيح للمعنى المرموز إليه في قوله تعالى: أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ المتقي تخصيصا لهم بأنهم المقصودون ولو عطف لدل على التساوي، ثم قيل فاتقوه في السر والعلن ودوموا أنتم أيها الخاشعون على خشيتكم وأنيبوا إلى الخشية والتقوى أيها المغترون، واعتقدوا استواء أسراركم وجهركم في علم ربكم فكونوا على حذر واخشوه حق الخشية فقوله تعالى ذلك عطف على هذا المضمر وجوز أن يجعل قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ إلخ استطراد عقيب ذكر الكفار وجزائهم وقوله سبحانه وَأَسِرُّوا أَوِ اجْهَرُوا على سبيل الالتفات إلى أصحاب السعير لبعد العهد وزيادة الاختصاص عطفا على قوله تعالى وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا كأنه قيل وللكافرين بربهم عذاب جهنم ثم قيل من صفتها كيت وكيت، وإسراركم بالقول وجهركم به أيها الكافرون سيان فلا تفوتوننا جهرتم بالكفر والبغضاء، أو أبطنتموهما فهو من تتمة الوعيد ثم قال والأول املأ بالقبول انتهى ويظهر لي بعد الأول ويؤيد الثاني ما روي عن ابن عباس أنه قال نزلت وَأَسِرُّوا إلخ في المشركين كانوا ينالون من النبي صلّى الله عليه وسلم فيوحى إليه عليه الصلاة والسلام فقال بعضهم لبعض أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ كيلا يسمع رب محمد فقيل لهم أسروا ذلك أو اجهروا به فإن الله تعالى يعلمه وتقديم السر على الجهر للإيذان بافتضاحهم ووقوع ما يحذرونه من أول الأمر، والمبالغة في شمول علمه عزّ وجلّ المحيط بجميع المعلومات كأن علمه تعالى بما يسرونه أقدم منه بما يجهرون به مع كونهما في الحقيقة على السوية، أو لأن مرتبة السر متقدمة على مرتبة الجهر إذ ما من شيء يجهر به إلّا وهو أو مبادئه مضمر في القلب غالبا فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية. وقوله تعالى إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ تعليل لما قبله وتقرير له وفي صيغة الفعيل وتحلية الصدور بلام الاستغراق ووصف الضمائر بصاحبتها من الجزالة ما لا يخفى كأنه قيل إنه عزّ وجلّ مبالغ في الإحاطة بمضمرات جميع الناس وأسرارهم الخفية المستكنة في صدورهم بحيث لا تكاد تفارقها أصلا فكيف لا يعلم ما تسرونه وتجهرون به، ويجوز أن يراد بذات الصدور القلوب التي في الصدور والمعنى أنه تعالى عَلِيمٌ بالقلوب وأحوالها فلا يخفى عليه سر من أسرارها وقوله تعالى أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ إنكار ونفي لعدم إحاطة علمه جل شأنه ومن فاعل يَعْلَمُ أي ألا يعلم السر والجهر من أوجد بموجب حكمته جميع الأشياء التي هما من جملتها. وقوله تعالى وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ حال من فاعل يعلم مؤكدة للإنكار والنفي أي ألا يعلم ذلك والحال أنه تعالى المتوصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن وقيل حال من فاعل خَلَقَ والأول أظهر وقدر مفعول يعلم بما سمعت ولم يجعل الفعل من باب يعطي ويمنع لمكان هذه الحال على ما قيل إذ لو قلت إلا يكون عالما من هو خالق وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ لم يكن معنى صحيحا لاعتماد ألا يعلم على الحال والشيء لا يوقت بنفسه فلا يقال: ألا يعلم وهو عالم، ولكن ألا يعلم كذا وهو عالم كل شيء وأورد عليه أن اللطيف هو العالم بالخفيات فيكون المعنى ألا يكون عالما وهو عالم بالخفيات وهو مستقيم. وأجيب بأن لا يعلم من ذلك الباب وهو على ما قرره السكاكي مستغرق في المقام الخطابي واللَّطِيفُ الْخَبِيرُ من يوصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن فهما سواء في الاستغراق والإطلاق. وتعقب بأن الاستغراق غير الجزء: 15 ¦ الصفحة: 15 لازم كما ذكره الزمخشري في قوله تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ [القصص: 23] . الآية ولو سلم فالوجه مختلف لأن العموم المستفاد من الثاني ليس العموم المستفاد من الأول، فإن اللطف للعلم بالخفايا خاصة ويلزم العلم بالجلايا من طريق الدلالة، ثم إن الغزالي اعتبر في مفهوم اللطيف مع العلم بخفايا الأمور سلوك سبيل الرفق في إيصال ما يصلحها فلا يتكرر مع الخبير بناء على أنه العالم بالخفايا أيضا والوجه في الحاجة إلى التقدير كما قال بعض الأئمة إن قوله تعالى: أَلا يَعْلَمُ تذييل بعد التعليل بقوله سبحانه إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فربط المعنى أن يقال أَلا يَعْلَمُ هذا الخفي أعني قولكم المسر به أو ألا يعلم سركم وجهركم من يعلم دقائق الخفايا وجلائلها جملها وتفاصيلها، ولو قيل ألا يكون عالما بليغ العلم من هو كذا لم يرتبط ولكان فيه عي وقصور وجوز كون من مفعول خلق واستظهره أبو حيان أي ألا يعلم مخلوقه وهذه حاله ورجح الأول بأن فيه إقامة الظاهر مقام الضمير الراجع إلى الرب وهو أدل على المحذوف أعني السر والجهر وتعميم المخلوق المتناول لهما تناولا أوليا ولهذا قدروا من خلق الأشياء دلالة على أن حذف المفعول للتعميم. هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا غير صعبة يسهل جدا عليكم السلوك فيها فهو فعول للمبالغة في الذل من ذل بالضم ويكسر ضد الصعوبة، ويستعمل المضموم فيما يقابل العز كما يقتضيه كلام القاموس. وقال ابن عطية: الذلول فعول بمعنى مفعول أي مذلولة كركوب وحلوب انتهى. وتعقب بأن فعله قاصر وإنما يعدى بالهمزة أو التضعيف فلا يكون بمعنى المفعول، واستظهر أن مذلولة خطأ وقال بعضهم: يقولون للدابة إذا كانت منقادة غير صعبة ذلول من الذل بالكسر وهو سهولة الانقياد وفي الكلام استعارة وقيل تشبيه بليغ وتقديم لكم على مفعولي الجعل مع أن حقه التأخر عنهما للاهتمام بما قدم والتشويق إلى ما أخر فإن ما حقه التقديم إذا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 16 أخر لا سيما عند كون المقدم مما يدل على كون المؤخر من منافع المخاطبين تبقى النفس مترقبة لوروده فيتمكن لديها عند ذكره فضل تمكن. والفاء في قوله تعالى فَامْشُوا فِي مَناكِبِها لترتيب الأمر على الجعل المذكور وزعم بعضهم أنها فصيحة والمراد بمناكبها على ما روي عن ابن عباس وقتادة وغيرهما: جبالها. وقال الحسن: طرقها وفجاجها. وأصل المنكب مجتمع ما بين العضد والكتف، واستعماله فيما ذكر على سبيل الاستعارة التصريحية التحقيقية وهي قرينة المكنية في الأرض حيث شبهت بالبعير كما ذكره الخفاجي، ثم قال: فإن قلت كيف تكون مكنية وقد ذكر طرفها الآخر في قوله تعالى ذَلُولًا قلت هو بتقدير أرضا ذلولا فالمذكور جنس الأرض المطلق، والمشبه هو الفرد الخارجي وهو غير مذكور فيجوز كون ذلولا استعارة، والمكنية حينئذ هي مدلول الضمير لا المصرح بها في النظم الكريم والمانع من الاستعارة ذكر المشبه بعينه لا بما يصدق عليه فتأمل ولا تغفل. وفي الكشاف: المشي في مناكبها مثل لفرط التذليل ومجاوزته الغاية لأن المنكبين وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير وإنباه عن أن يطأه الراكب بقدمه ويعتمد عليه لم يترك بقية من التذليل، والمراد أنه ليس هنا أمر بالمشي حقيقة وإنما القصد به إلى جعله مثلا لفرط التذليل سواء كانت المناكب مفسرة بالجبال أو غيرها وسواء كان ما قبل استعارة أو تشبيها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ انتفعوا بما أنعم جل شأنه وكثيرا ما يعير عن وجوه الانتفاع بالأكل لأنه الأهم الأعم. وفي أنوار التنزيل أي التمسوا من نعم الله سبحانه وتعالى على أن الأكل مجاز عن الالتماس من قبيل ذكر الملزوم وإرادة اللازم، قيل: وهو المناسب لقوله تعالى (امشوا) وجوز بعض إبقاءه على ظاهره على أن ذلك من قبيل الاكتفاء وليس بذاك، واستدل بالآية على ندب التسبب والكسب وفي الحديث «إن الله تعالى يحب العبد المؤمن المحترف» وهذا لا ينافي التوكل. بل أخرج الحكيم الترمذي عن معاوية بن قرة قال مر عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بقوم فقال: من أنتم؟ فقالوا: المتوكلون. قال: أنتم المتاكلون، إنما المتوكل رجل ألقى حبه في بطن الأرض وتوكل على ربه عزّ وجلّ. وتمام الكلام في هذا الفصل في محله. والمشهور أن الأمر في الموضعين للإباحة وجوز كونه لمطلق الطلب لأن من المشي وما عطف عليه ما هو واجب كما لا يخفى. وَإِلَيْهِ النُّشُورُ أي المرجع بعد البعث لا إلى غيره عزّ وجلّ فبالغوا في شكر نعمه التي منها تذليل الأرض وتمكينكم منها وبث الرزق فيها، ومما يقضي منه العجب جواز عود ضمير رزقه على الأرض باعتبار أنها مبدأ أو عنصر من العناصر، أو ذلول وهو يستوي فيه المذكر والمؤنث والإضافة لأدنى ملابسة أي من الرزق الذي خلق عليها، وكذا ضمير إليه أي وإلى الأرض نشوركم ورجوعكم فتخرجون من بيوتكم وقصوركم إلى قبوركم. وجملة إليه النشور قيل عطف على الصلة بعد ملاحظة ما ترتب عليها وقيل حال مقدرة من ضمير المخاطبين المرفوع فتدبر أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ وهو الله عزّ وجلّ كما ذهب إليه غير واحد فقيل على تأويل مَنْ فِي السَّماءِ أمره سبحانه وقضاؤه يعني أنه من التجوز في الإسناد أو أن فيه مضافا مقدرا وأصله من في السماء أمره، فلما حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ارتفع واستتر. وقيل: على تقدير خالق من في السماء وقيل: فِي بمعنى على ويراد العلو بالقهر والقدرة وقيل هو مبني على زعم العرب حيث كانوا يزعمون أنه سبحانه في السماء فكأنه قيل: أَأَمِنْتُمْ من تزعمون أنه فِي السَّماءِ وهو متعال عن المكان وهذا في غاية السخافة فكيف يناسب بناء الكلام في مثل هذا المقام على زعم بعض زعم الجهلة كما لا يخفى على المنصف، أو هو غيره عز شأنه وإليه ذهب بعضهم فقيل: أريد بالموصول الملائكة عليهم السلام الجزء: 15 ¦ الصفحة: 17 الموكلون بتدبير هذا العالم وقيل جبريل عليه السلام وهو الملك الموكل بالخسف، وأئمة السلف لم يذهبوا إلى غيره تعالى والآية عندهم من المتشابه. وقد قال صلّى الله عليه وسلم: «آمنوا بمتشابهه» ولم يقل أولوه فهم مؤمنون بأنه عزّ وجلّ في السماء على المعنى الذي أراده سبحانه مع كمال التنزيه، وحديث الجارية من أقوى الأدلة لهم في هذا الباب وتأويله بما أول ابن الخلف خروج عن دائرة الإنصاف عند أولي الألباب. وفي فتح الباري للحافظ ابن حجر أسند اللالكائي عن محمد بن الحسن الشيباني قال: اتفاق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاءت بها الثقات عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في صفة الرب من غير تشبيه ولا تفسير. وأسند البيهقي بسند صحيح عن أحمد بن أبي الحواري عن سفيان بن عيينة: كل ما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عنه وهذه طريقة الشافعي وأحمد بن حنبل. وقال إمام الحرمين في الرسالة النظامية: اختلف مسالك العلماء في هذه الظواهر فرأى بعضهم تأويلها والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن، وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الله عزّ وجلّ، والذي نرتضيه رأيا وندين الله تعالى به عقيدة اتباع سلف الأمة للدليل القاطع على أن إجماع الأمة حجة، فلو كان تأويل هذه الظواهر حتما لا وشك أن يكون اهتمامهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، إذا انصرم عصر الصحابة والتابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك هو الوجه المتبع انتهى. كلام الإمام وقد تقدم النقل في ذلك عن أهل العصر الثالث وهم فقهاء الأمصار كالثوري والأوزاعي ومالك والليث ومن عاصرهم وكذا من أخذ عنهم من الأئمة، فكيف لا يوثق بما اتفق عليه أهل القرون الثلاثة وهم خير القرون بشهادة صاحب الشريعة عليه الصلاة والسلام؟ انتهى كلام الحافظ على وجه الاختصار. ونقل نصوص الأئمة في إجراء ذلك على الظاهر مع التنزيه من غير تأويل يفضي إلى مزيد بسط وتطويل وقد ألفت فيه كتب معتبرة مطولة ومختصرة. وفي تنبيه العقول لشيخ مشايخنا إبراهيم الكوراني أن إجماع القرون الثلاثة على إجراء المتشابهات على مواردها مع التنزيه ب لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] دليل على أن الشارع صلوات الله تعالى وسلامه عليه أراد بها ظواهرها والجزم بصدقه صلّى الله عليه وسلم دليل على عدم المعارض العقلي الدال على نقيض ما دل عليه الدليل النقلي في نفس الأمر وإن توهمه العاقل في طور النظر والفكر. فمعرفة الله تعالى بهذا النحو من الصفات طور وراء ذلك انتهى. وأنا أقول في التأويل اتباع الظن وقول في الله عزّ وجلّ بغير علم وإلا لاتحد ما يذكرونه من المعنى فيه مع أن الأمر ليس كذلك حيث يذكرون في تأويل شيء واحد وجوها من الاحتمالات وفيما عليه السلف سلامة من ذلك ويكفي هذا في كونه أحسن المسالك. وما عليّ إذا ما قلت معتقدي ... دع الجهول يظن الجهل عدوانا وقرأ نافع «أأمنتم» بتحقيق الهمزة الأولى وتسهيل الثانية وأدخل أبو عمرو وقالون بينهما ألفا. وقرأ قنبل بإبدال الأولى واوا لضم ما قبلها وهو راء النشور وعنه وعن ورش غير ذلك أيضا. وقوله تعالى أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ بدل اشتمال من مَنْ وجوز أن يكون على حذف الجار أي من أن يخسف ومحله حينئذ النصب أو الجر والباء للملابسة والأرض مفعول به ليخسف والخسف قد يتعدى قال الراغب يقال خسفه الله تعالى وخسف هو قال تعالى: فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ [القصص: 81] . أي أأمنتم من أن يذهب الأرض إلى سفل ملتبسة بكم وزعم بعضهم لزوم لزومه وأن الْأَرْضَ نصب بنزع الخافض أي أن يخسف بكم في الأرض وليس كذلك فَإِذا هِيَ حين الخسف تَمُورُ ترتج وتهتز اهتزازا شديدا، وأصل المور التردد في المجيء الجزء: 15 ¦ الصفحة: 18 والذهاب أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً إضراب عن الوعيد بما تقدم إلى الوعيد بوجه آخر أي بل أأمنتم من في السماء أن يرسل إلخ وقد تقدم الكلام في الحاصب والوعيد بالخسف أولا لمناسبة ذكر الأرض في قوله تعالى هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا وقد ذكر المنة في تسهيل المشي في مناكبها وذكر إرسال الحاصب ثانيا وهذا في مقابلة الامتنان بقوله تعالى وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ألا ترى إلى قوله تعالى وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ [الذاريات: 22] قاله في الكشف وفي غرة التنزيل للراغب في وجه تقديم الوعيد بالخسف على التوعد بالحاصب إنه لما كانت الأرض التي مهدها سبحانه وتعالى لهم لاستقرارهم يعبدون فيها خالقها فعبدوا الأصنام التي هي شجرها أو حجرها خوفوا بما هو أقرب إليهم، والتخويف بالحاصب من السماء التي هي مصاعد كلهم الطيبة ومعارج أعمالهم الصالحة لأجل أنهم بدلوهما بسيئات كفرهم وقبائح أعمالهم، ولعل ما أشير إليه أولا أولى فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ أي إنذاري فنذير مصدر مثله في قول حسان: فأنذر مثلها نصحا قريشا ... من الرحمن إن قبلت نذيري وهو مضاف إلى ياء الضمير والقراء مختلفون فيها فمنهم من حذفها وصلا وأثبتها وقفا ومنهم من حذفها في الحالين اكتفاء بالكسرة، والمعنى فستعلمون ما حال إنذاري وقدرتي على إيقاعه عند مشاهدتكم للمنذر به ولكن لا ينفعكم العلم حينئذ وقرىء شاذا «فسيعلمون» بالياء التحتانية وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من قبل كفار مكة من كفار الأمم السالفة قوم نوح وعاد وأضرابهم والالتفات إلى الغيبة لإبرار الإعراض عنهم فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي إنكاري عليهم بإنزال العذاب أي كان على غاية الهول والفظاعة، وهذا هو مورد التأكيد القسمي لا تكذيبهم فقط الكلام في نَكِيرِ كالكلام في نَذِيرِ وفي الكلام من المبالغة في تسلية رسول الله صلّى الله عليه وسلم وتشديد التهديد لقومه ما لا يخفى أَوَلَمْ يَرَوْا أغفلوا ولم ينظروا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها فإنهن إذا بسطنها صففن قوادمها أعني ما تقدم من ريشها صفا ونصب صافَّاتٍ على الحال من الطير أو من ضميرها في فَوْقَهُمْ وهو في موضع الحال فتكون الحال متداخلة وجوز أن يكون ظرفا لصافات أو ليروا ومفعول صافات على الاحتمالات محذوف كما أشرنا إليه، وناسب ذكر الاعتبار بالطير ذكر التوعد بالحاصب لا سيما إذا فسر بالحجارة إذ قد أهلك الله تعالى بذلك أصحاب الفيل حينما رمتهم به الطير، ففي ذلك إذكار قريش بتلك القصة وَيَقْبِضْنَ ويضممن أجنحتهن إذا ضربن بها جنوبهن والعطف على صافَّاتٍ لأن المعنى يصففن ويقبضن، أو صافات وقابضات وعطف الفعل على الاسم في مثله فصيح شائع وعكسه جائز حسن إلّا عند السهيلي فإنه عنده قبيح نحو قوله: بات يعشيها بعضب باتر ... يقصد في أسوقها وجائر فإنه أراد قاصد وجائر ولما كان أصل الطيران هو صف الأجنحة لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء، والأصل فيها مد الأطراف وبسطها وكان القبض طارئا على البسط للاستظهار به على التحرك، جيء بما هو طار غير أصل بلفظ الفعل وبما هو أصل بلفظ الاسم على معنى أنهن صافات ويكون منهن القبض تارة بعد تارة ويتجدد حينا إثر حين كما يكون من السابح ما يُمْسِكُهُنَّ في الجو عند الصف والقبض على خلاف مقتضى طبيعة الأجسام الثقيلة من النزول إلى الأرض والانجذاب إليها إِلَّا الرَّحْمنُ الواسع رحمته كل شيء حيث برأهن عز وجل على أشكال وخصائص وألهمهن حركات قد تأتي منها الجري في الهواء والجملة مستأنفة أو حال من الضمير في يَقْبِضْنَ وقرأ الزهري «ما يمسّكهن» بالتشديد إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ دقيق الجزء: 15 ¦ الصفحة: 19 العلم فيعلم سبحانه وتعالى كيفية إبداع المبدعات وتدبير المصنوعات ومن هذا خلقه عز وجل للطير على وجه تأتي به جريه في الجو مع قدرته تعالى أن يجريه فيه بدون ذلك إلا أن الحكمة اقتضت ربط المسببات بأسبابها، وليس فيما ذكرنا نزوع إلى ما يضر من أقوال أهل الطبيعة لأن كون طبيعة الأجسام الثقيلة ما سمعت أمر محسوس لا ينكره إلا من كابر حسه، ومثله كون الإمساك بالسبب السابق وكونه سببا من آثار رحمته تعالى الواسعة، وأبى ذلك أبو حيان توهما منه أنه نزوع إلى ما يضر من أقوال أهل الطبيعة وقال: نحن نقول إن أثقل الأشياء إذا أراد الله سبحانه إمساكه في الهواء واستعلاءه إلى العرش كان ذلك، وإذا أراد جل شأنه إنزال ما هو أخف سفلا إلى منتهى ما ينزل كان أيضا وليس ذلك لشكل أو ثقل أو خفة ونحن لا ننكر أن الله تعالى على كل شيء قدير وأنه سبحانه فعال لما يريد وأنه لا يتوقف فعله عز وجل على السبب عقلا بيد أنا نقول إنه تعالى اقتضت حكمته في هذا العالم ذلك الربط، وهو أمر عادي اختاره تعالى حكمة وتفضلا ولو شاء جل وعلا غيره لكان كما شاء وتقديم بِكُلِّ شَيْءٍ على بَصِيرٌ للفاصلة أو للحصر ردا على من يزعم عدم شمول علمه تعالى شأنه أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ متعلق عند كثير بقوله سبحانه أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فقال في الإرشاد هو تبكيت لهم بنفي أن يكون لهم ناصر غير الله تعالى كما يلوح به التعرض لعنوان الرحمانية ويعضده قوله تعالى ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ أو ناصر من عذابه تعالى كما هو الأنسب بقوله تعالى بعد أن أمسك رزقه كقوله تعالى أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا [الأنبياء: 43] في المعنيين معا خلا أن الاستفهام هناك متوجه إلى نفس المانع وتحققه وهنا متوجه إلى تعيين الناصر لتبكيتهم بإظهار عجزهم عن تعيينه و (أم) منقطعة مقدرة ببل للانتقال من توبيخهم على ترك التأمل فيما يشاهدونه من أحوال الطير المنبئة عن تعاجيب آثار قدرة الله عز وجل إلى التبكيت بما ذكر والالتفات للتشديد في ذلك، ولا سبيل إلى تقدير الهمزة معها لأن بعدها من الاستفهامية والاستفهام لا يدخل على الاستفهام في المعروف عندهم وهي مبتدأ وهذا خبره وفي الموصول هنا الاحتمالات المشهورة في مثله وجملة يَنْصُرُكُمْ صفة لجند باعتبار لفظه ومِنْ دُونِ الرَّحْمنِ على الوجه الأول أما حال من فاعل يَنْصُرُكُمْ أو نعت لمصدره وعلى الثاني متعلق بينصركم كما في قوله تعالى مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ [هود: 63] فالمعنى من هذا الحقير الذي هو في زعمكم جند لكم ينصركم متجاوزا نصر الرحمن أو ينصركم نصرا كائنا من دون نصره تعالى أو ينصركم من عذاب كائن من عند الله عز وجل وقوله تعالى إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ اعتراض مقرر لما قبله ناع عليهم ما هم فيه من غاية الضلال أي ما هم في زعمهم أنهم محفوظون من النوائب بحفظ آلهتهم لا بحفظه تعالى فقط، وأن آلهتهم تحفظهم من بأس الله تعالى إلا في غرور عظيم وضلال فاحش من جهة الشيطان ليس لهم في ذلك شيء يعتد به في الجملة والالتفات إلى الغيبة للإيذان باقتضاء حالهم الإعراض عنهم وبيان قبائحهم للغير والإظهار في موضع الإضمار لذمهم بالكفر وتعليل غرورهم به والكلام في قوله تعالى: أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ أي الله عز وجل رِزْقَهُ بإمساك المطر وسائر مبادئه كالذي مر وقوله تعالى بَلْ لَجُّوا إلخ منبىء عن مقدر يستدعيه المقام كأنه قيل أثر التبكيت والتعجيز لم يتأثروا بذلك ولم يذعنوا للحق بل لجوا وتمادوا فِي عُتُوٍّ في عناد واستكبار وطغيان وَنُفُورٍ شراد عن الحق لثقله عليهم وجعل ناصر الدين أم من هذا الذين هو إلخ عديلا لقوله تعالى أَوَلَمْ يَرَوْا على معنى ألم ينظروا في الجزء: 15 ¦ الصفحة: 20 أمثال هذه الصنائع من القبض والبسط والإمساك وما شاكل ذلك مما يدل على كمال القدرة فلم يعلموا قدرتنا على تعذيبهم بنحو خسف وإرسال حاصب أم لكم جند ينصركم من دون الله أن أرسل عليكم عذابه. وقال إنه كقوله تعالى أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا إلّا أنه أخرج مخرج الاستفهام عن تعيين من ينصرهم اشعارا بأنهم اعتقدوا هذا القسم وجعل قوله تعالى أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إلخ على معنى أم من يشار إليه ويقال هذا الذي يرزقكم فقيل إنه عليه الرحمة جعل في الأولى (أم) متصلة و (من) استفهامية وجعل في الثانية (أم) منقطعة و (من) موصولة وهذَا الَّذِي مبتدأ وخبر واقع صلة على تقدير القول وقدر لاستهجان أن يقال الذي هذا الذي يرزقكم ويجعل هذا قائما مقام الضمير الراجع إلى الموصول الأول ومن قيل مبتدأ خبره محذوف أي رازق لكم، وكأنه أشار بذلك إلى صحة كل من الأمرين في الموضعين. وحديث لزوم اجتماع الاستفهامين في بعض الصور ودخول الاستفهام على الاستفهام قيل عليه إنه ليس بضائر إذ لا مانع من اجتماع الاستفهامين إذا قصد التأكيد وقد نقل ابن الشجري عن جميع البصريين أن أم المنقطعة أبدا بمعنى بل والهمزة أي ولو دخلت على استفهام نحو أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ [الرعد: 16] وأَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النمل: 84] ومذهب غيرهم أنها قد تأتي بمعنى الاستفهام المجرد وروي ذلك عن أبي عبيدة وأنها قد تأتي للإضراب المجرد وقد تتضمنه والاستفهام الإنكاري أو الطلبي. والزمخشري قال في الموضعين: أم من يشار إليه ويقال هذا الذي وجوز في هذا أن يكون إشارة إلى مفروض وأن يكون إشارة إلى جميع الأوثان لاعتقادهم أنهم يحفظون من النوائب ويرزقون ببركة آلهتهم، فكأنهم الجند والناصر والرازق والآية على هذا ليست متعلقة بقوله تعالى أَوَلَمْ يَرَوْا على ما حققه صاحب الكشف قال بعد أن أوضح كلامه: إذا تقرر ذلك فاعلم أن الذي يقتضيه النظم على هذا التفسير أن يكون قوله تعالى أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ متعلقا بحديث الخسف وقوله سبحانه أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ بحديث إرسال الحاصب على سبيل النشر كأنه لما قيل أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فتضطرب نافرة بعد ما كانت في غاية الذلة عقب بقول أم آمنكم الفوج الذي هو في زعمكم هو جند لكم يمنعكم من عذاب الله تعالى وبأسه على أن (أم) منقطعة والاستفهام تهكم، وكذلك لما قيل أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً بدل ما يرسل عليكم رحمته ذنب بقول أم آمنكم الذي تتوهمون أنه يرزقكم وأما قوله تعالى وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فاعتراض يشد من عضد التحذير وأن في الأمم الماضين المخسوف بهم والمرسل عليهم الحواصب إلى غير ذلك من أنواع عذابه عز وجل ما يسلبهم الطمأنينة والوقار لو اعتبروا، وكذلك قوله سبحانه أَوَلَمْ يَرَوْا تصوير لقدرته تعالى الباهرة وإن من قدر على ذلك كان الخسف وإرسال الحاصب عليه أهون شيء، وفيه كما أنه بعظيم قدرته وشمول رحمته أمسك الطير كذلك إمساكه العذاب وإلا فهؤلاء يستحقون كل نكال، وفي الإتيان بهذا من التحقير الدال على تسفيه رأيهم وتقدير القول الدال على الزعم والتأكيد بالموصولين الدال على تأكد اعتقادهم في ذلك الباطل إن كان إشارة إلى الأصنام أو كمال التهكم بهم كأنهم محققون معلومون إن كان إشارة إلى فوج مفروض لأن حالهم في الأمن يقتضي ذلك وهذا أبلغ ولذا قدمه الزمخشري ما يقضي منه العجب ويلوح الإعجاز التنزيلي كأنه رأي العين ثم قال: فهذا ما هديت إليه مع الاعتراف بأن الاعتراف من تيار كلام الله تعالى له رجال ما أبعد مثلي عنهم ولكن أتسلى بقول إمامنا الشافعي: أحب الصالحين ولست منهم ... انتهى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 21 ولعمري قد أبدع وتبوأ ما قاله من القبول عند ذوي العقول المحل الأرفع ويعجبني طرف تدر دموعه. على فضله العالي فلله دره. وظاهره أن من في الموضعين فاعل لفعل محذوف دل عليه السياق أعني أمنكم لا مبتدأ خبره محذوف كما قيل فيما سبق وقد جوز في الآية غير ما تقدم من أوجه الإعراب وهو أن يكون من خبرا مقدما وهذا مبتدأ ورجح على ما مر من عكسه بأنه سالم عما فيه من الإخبار بالمعرفة عن النكرة فإنه غير جائز عند الجمهور وجوازه مذهب سيبويه إذا كان المبتدأ اسم استفهام أو أفعل تفضيل. وقرأ طلحة في الأولى «أمن» بتخفيف الميم وشدد في الثانية كالجماعة وقوله تعالى أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ مثل ضرب للمشرك والموحد توضيحا لحاليهما في الدنيا وتحقيقا لشأن مذهبيهما والفاء لترتيب ذلك على ما ظهر من سوء حال الكفرة وخرورهم في مهاوي الغروز وركوبهم متن عشواء العتو والنفور، فإن تقدم الهمزة عليها صورة إنما هو لاقتضاء الصدارة، وأما بحسب المعنى فالمعنى بالعكس على ما هو المشهور حتى لو كان مكان الهمزة هل لقيل فهل من يمشي إلخ و (من) موصولة مبتدأ ويَمْشِي صلته ومُكِبًّا حال من الضمير المستتر فيه، وعلى وجهه ظرف لغو متعلق بمكبا أو مستقر حال والأول أولى وأَهْدى خبر (من) و (من) الثانية عطف على الأولى وهو من عطف المفرد على المفرد كما في قولك أزيد أفضل أم عمرو، وقيل: مبتدأ خبره محذوف لدلالة خبر الأولى عليه ولا حاجة إلى ذلك لما سمعت. والمكب الساقط على وجهه يقال: أكب خرّ على وجهه وهو من باب الأفعال، والمشهور أنه لازم وثلاثيه متعد فيقال: كبّه الله تعالى فأكب، وقد جاء ذلك على خلاف القياس وله نظائر يسيرة كأمرت الناقة درت ومر تيها وأشنق البعير رفع رأسه وشنقته، واقشع الغيم وقشعته الريح أي أزالته وكشفته، وأنزفت البئر ونزفتها أخرجت ماءها، وأنسل ريش الطائر ونسلته. وقال بعضهم: التحقيق أن الهمزة فيه للصيرورة فمعنى أكب صار ذا كب ودخل فيه كما في ألأم إذا صار لئيما وانفض إذا صار نافضا لما في مزودته وليست للمطاوعة، ومطاوع كب إنما هو انكب وقد ذهب إلى ذلك ابن سيده في المحكم تبعا للجوهري وغيره، وتبعه ابن الحاجب وأكثر شراح المفصل إلا أن كلام بعض الأجلة ظاهر في التسوية بين المطاوعة والصيرورة، وحكى ابن الأعرابي: كبه الله تعالى وأكبه بالتعدية وفي القاموس ما هو نص فيه وعليه لا مخالفة للقياس، والمعنى أفمن يمشي وهو يعثر في كل ساعة ويخرّ على وجهه في كل خطوة لتوعر طريقه واختلاف أجزائه بانخفاض بعض وارتفاع بعض آخر أهدى وأرشد إلى المقصد الذي يؤمه أم من يمشي قائما سالما من الخبط والعثار على طريق مستوي الأجزاء لا اعوجاج فيه ولا انحراف؟ ولم يصرح بطريق الكافر بل أشير إليه بما دل على توعره وعدم استقامته، أعني مكبا للإشعار بأن ما عليه لا يليق أن يسمى طريقا. وفسر بعضهم السوي بمستوي الجهة قليل الانحراف على أن المكب المتعسف الذي ينحرف هكذا وهكذا وهو غير مناسب هنا لأن قوله تعالى عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يصير كالمكرر وأفعل هنا مثله على ما في البحر في قولك: العسل أحلى من الخل. والآية على ما روي عن ابن عباس نزلت في أبي جهل عليه اللعنة وحمزة رضي الله تعالى عنه والمراد العموم كما روي عن ابن عباس أيضا ومجاهد والضحاك. وقال قتادة: نزلت مخبرة عن حال الكافر والمؤمن في الآخرة فالكفار يمشون فيها على وجوههم والمؤمنون يمشون على استقامة. وروي أنه قيل للنبي صلّى الله عليه وسلم كيف يمشي الكافر على وجهه؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «إن الذي أمشاه في الدنيا على رجليه قادر على أن يمشيه في الآخرة على وجهه» . وعليه فلا تمثيل وقيل المراد بالمكب الأعمى وبالسوي البصير وذلك إما من باب الكناية أو من باب المجاز المرسل وهو لا يأبى جعله بعد تمثيلا لمن سمعت كما هو معلوم في محله. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 22 قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ أي القلوب قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي تلك النعم كان تستعملون السمع في سماع الآيات التنزيلية على وجه الانتفاع بها والإبصار في النظر بها إلى الآيات التكوينية الشاهدة بشؤون الله عز وجل والأفئدة بالتفكر بها فيما تسمعونه وتشاهدونه ونصب قَلِيلًا على أنه صفة مصدر مقدر أي شكرا قليلا وما مزيدة لتأكيد التقليل والجملة حال مقدرة والقلة على ظاهرها أو بمعنى النفي إن كان الخطاب للكفرة وجوز في الجملة أن تكون مستأنفة والأول أولى قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي خلقكم وكثركم فيها لا غيره عز وجل وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ للجزاء لا إلى غيره سبحانه اشتراكا أو استقلالا فابنوا أمركم على ذلك وَيَقُولُونَ من فرط عتوهم ونفورهم مَتى هذَا الْوَعْدُ أي الحشر الموعود كما ينبىء عنه قوله تعالى وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يخاطبون به النبي صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين حيث كانوا مشاركين له عليه الصلاة والسلام في الوعد وتلاوة الآيات المتضمنة له وجواب الشرط محذوف أي إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فيما تخبرونه من مجيء الساعة والحشر فبينوا وقته. قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ أي العلم بوقته عِنْدَ اللَّهِ عز وجل لا يطلع عليه غيره عز وجل كقوله تعالى قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي [الأعراف: 187] وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أنذركم وقوع الموعود لا محالة وأما العلم بوقت وقوعه فليس من وظائف الإنذار والفاء في قوله تعالى فَلَمَّا رَأَوْهُ فصيحة معربة عن تقدير جملتين وترتيب الشرطية عليهما كأنه قيل وقد أتاهم الموعود فرأوه فلما رأوه إلخ، وهذا نظير قوله تعالى فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ [النمل: 40] إلّا أن المقدر هناك أمر واقع مرتب على ما قبله بالفاء وهاهنا أمر منزل منزلة الواقع وارد على طريقة الاستئناف وقوله تعالى زُلْفَةً حال من مفعول رأوه إما بتقدير المضاف أي ذا زلفة وقرب أو على أنه مصدر بمعنى الفاعل أي مزدلفا أو على أنه مصدر نعت به مبالغة أو ظرف أي رأوه في مكان ذي زلفة، وفسر بعضهم الزلفة بالقريب والأمر عليه ظاهر وكذا على ما روي عن ابن زيد من تفسيره بالحاضر. وقال الراغب: الزلفة المنزلة والحظوة وما في الآية قيل معناه زلفة المؤمنين، وقيل زلفة لهم. واستعمل الزلفة في منزلة العذاب كما استعملت البشارة ونحوها من الألفاظ انتهى. ولا زلفة في كلا القولين سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا سامتها رؤيته بأن غشيتها بسبها الكآبة ورهقها القتر والذلة ووضع الموصول موضع ضميرهم لذمهم بالكفر وتعليل الساءة به وأشم أبو جعفر والحسن وأبو رجاء وشيبة وابن وثاب وطلحة وابن عامر ونافع الكسائي كسر سين «سيئت» الضم وَقِيلَ توبيخا لهم وتشديد العذاب بهم هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ أي تطلبونه في الدنيا وتستعجلونه إنكارا واستهزاء على أنه تفتعلون من الدعاء والباء صلة الفعل وقيل هو من الدعوى أي تدعون أن لا بعث ولا حشر فالباء سببية أو للملابسة باعتبار الذكر. وأيد التفسير الأول بقراءة أبي رجاء والضحاك والحسن وقتادة وابن يسار وعبد الله بن مسلم وسلام ويعقوب «تدعون» بسكون الدال وهي قراءة ابن أبي عبلة وأبي زيد وعصمة عن أبي بكر والأصمعي عن نافع وذكر الزمخشري في سورة المعارج أن يدعون مخففا من قولهم دعا بكذا إذا استدعاه وعن الفراء أنه من دعوت أدعو والمعنى هذا الذي كنتم به تستعجلون وتدعون الله تعالى بتعجيله يعني قولهم إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ [الأنفال: 32] إلخ وروي عن مجاهد أن الموعود عذاب يوم بدر وهو بعيد وأما ما قيل من أن الموعود الخسف والحاصب وقد وقعا لأن المراد بالخسف الذل كما في قوله: ولا يقيم على خسف يراد به ... إلا الأذلان عير الحي والوتد الجزء: 15 ¦ الصفحة: 23 وبالحاصب الحصى وقد رمى صلّى الله عليه وسلم به في وجوههم كما في الخبر المشهور، أو لم يقعا بناء على ما عرف أولا من المراد بهما ولا يضر ذلك إذ تخلف الوعيد لا ضير فيه فليس بشيء كما لا يخفى وكان كفار مكة يدعون على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين بالهلاك فقال سبحانه له عليه الصلاة والسلام قُلْ أَرَأَيْتُمْ أي أروني كما هو المشهور وقد مر تحقيقه إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أي من المؤمنين أَوْ رَحِمَنا أي بالنصرة عليكم فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ أي فمن يجيركم من عذاب النار، وأقيم الظاهر مقام المضمر المخاطب دلالة على أن موجب البوار محقق فأنّى لهم الإجارة والظاهر أن جواب الشرط والمعطوف عليه شيء واحد وحاصل المعنى لا مجير لكم من عذاب النار لكفركم الموجب له انقلبنا إلى رحمة الله تعالى بالهلاك كما تمنون لأن فيه الفوز بنعيم الآخرة أو بالنصرة عليكم، والأدلة للإسلام كما نرجو لأن في ذلك الظفر بالبغيتين ويتضمن ذلك حثهم على طلب الخلاص بالإيمان وأن فيما هم فيه شغلا شاغلا عن تمني هلاك النبي عليه الصلاة والسلام ومن معه من المؤمنين، وهذا أوجه أوجه ثلاثة ذكرها الزمخشري. ثانيها أن المعنى أن أهلكنا الله تعالى بالموت ونحن هداتكم والآخذون بحجزكم فمن يجيركم من النار وإن رحمنا بالغلبة عليكم وقتلكم عكس ما تمنون فمن يجيركم لأن المقتول على أيدينا هالك في الدنيا والآخرة، وعلى هذا الجواب متعدد لتعدد موجبه، ورجح الأول بأن فيه تسفيها لرأيهم لطلبهم ما هو سعادة أعدائهم ثم الحث على ما هو أحرى وهو الخلاص مما هم فيه من موجب الهلاك وهذا فيه الأول من حيث إنهم لم يتمنون هلاك من يجيرهم من عذاب بإرشاده والسياق ادعى للأول وثالثها أن المعنى إن أهلكنا الله تعالى في الآخرة بذنوبنا ونحن مسلمون فمن يجير الكافرين وهم أولى بالهلاك لكفرهم وإن رحمنا بالإيمان فمن يجير من لا إيمان له وعلى هذا الجواب متعدد أيضا، والهلاك فيه محمول على المجاز دون الحقيقة كما في سابقه، والغرض الجزم بأنهم لا مجير لهم وأن حالهم إذا ترددت بين الهلاك بالذنب والرحمة بالإيمان وهم مؤمنون فماذا يكون حال من لا إيمان له وهذا فيه بعد قُلْ أي لهم جوابا عن تمنيهم ما لا يجديهم بل يرديهم معرضا بسوء ما هم عليه هُوَ الرَّحْمنُ أي الله الرحمن آمَنَّا بِهِ أي فيجيرنا برحمته عز وجل من عذاب الآخرة ولم نكفر مثلكم حتى لا نجاز البتة ولما جعل الكفر سبب الإساءة في الآية الأولى جعل الإيمان سبب الإجارة في هذه ليتم التقابل ويقع التعريض موقعه ولم يقدم مفعول آمَنَّا لأنه لو قيل به آمنا كان ذهابا إلى التعريض بإيمانهم بالأصنام وكان خروجا عما سيق له الكلام وحسن التقديم في قوله تعالى وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا لاقتضاء التعريض بهم في أمر التوكل ذلك أي وعليه توكلنا ونعم الوكيل فنصرنا لا على العدد والعدد كما أنتم عليه والحاصل أنه لما ذكر فيما قبل الإهلاك والرحمة وفسر برحمة الدنيا والآخرة أكد هاهنا بحصولها لهم في الدارين لإيمانهم وتوكلهم عليه تعالى خاصة، وفي ذلك تحقيق عدم حصولها للكافرين لانتفاء الموجبين ثم في الآية خاتمة على منوال السابقة وتبيين أن أحسن العمل الإيمان والتوكل على الله تعالى وحده وهو حقيقة التقوى وقوله تعالى فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي في الدارين وعيد بعد تلخيص الموجب لكنه أخرج مخرج الكلام المنصف أي من هو منا ومنكم في إلخ وقرأ الكسائي «فسيعلمون» بياء الغيبة نظرا إلى قوله تعالى فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ وقوله سبحانه قُلْ أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً أي غائرا ذاهبا في الأرض بالكلية وعن الكلبي لا تناله الدلاء وهو مصدر وصف به للمبالغة أو مؤول باسم الفاعل. وأيّا ما كان فليس المراد بالماء ماء معينا وإن كانت الآية كما روى ابن المنذر والفاكهي عن ابن الكلبي نازلة في بئر زمزم وبئر ميمون بن الحضرمي فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ أي جار أو ظاهر سهل المأخذ لوصول الأيدي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 24 إليه وهو فعيل من معن أو مفعول من عين وعيد في الدنيا خاصة وأردف الوعيد السابق به تنبيها بالأدنى على الأعلى، وأنكم إذا لم تعبدوه عز وجل للحياة الباقية فاعبدوه للفانية، وتليت هذه الآية عند بعض المستهزئين فلما سمع فَمَنْ يَأْتِيكُمْ إلخ قال تجيء به الفؤوس والمعاول، فذهب ماء عينيه. نعوذ بالله تعالى من الجراءة على الله جل جلاله وآياته وتفسير الآيات على هذا الطرز هو ما اختاره بعض الأئمة وهو أبعد مغزى من غيره والله تعالى أعلم بأسرار كلامه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 25 سورة القلم هي من أوائل ما نزل من القرآن بمكة فقد نزلت على ما روي عن ابن عباس اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1] ثم هذه ثم المزمل ثم المدثر. وفي البحر أنها مكية بلا خلاف فيها بين أهل التأويل وفي الإتقان استثني منها إِنَّا بَلَوْناهُمْ- إلى- يَعْلَمُونَ [القلم: 17- 33] ومن فَاصْبِرْ- إلى- الصَّالِحِينَ [القلم: 48- 50] فإنه مدني حكاه السخاوي وفي جمال القراء وآيها ثنتان وخمسون آية بالإجماع ومناسبتها لسورة الملك على ما قيل من جهة ختم تلك بالوعيد وافتتاح هذه به. وقال الجلال السيوطي في ذلك: إنه تعالى لما ذكر في آخر الملك التهديد بتغوير الماء استظهر عليه في هذه بإذهاب ثمر أصحاب البستان في ليلة بطائف طاف عليهم وهم نائمون فأصبحوا ولم يجدوا له أثرا حتى ظنوا أنهم ضلوا الطريق، وإذا كان هذا في الثمار وهي أجرام كثيفة فالماء الذي هو لطيف أقرب إلى الإذهاب ولهذا قال سبحانه هنا وَهُمْ نائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ [القلم: 19، 20] وقال جل وعلا هنا إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً [الملك: 30] إشارة إلى أنه يسرى عليه في ليلة كما أسرى على الثمر في ليلة انتهى، ولا يخلو عن حسن. وقال أبو حيان فيه: إنه ذكر فيما قبل أشياء من أحوال السعداء والأشقياء وذكر قدرته الباهرة وعلمه تعالى الواسع، وأنه عز وجل لو شاء لخسف بهم الأرض أو لأرسل عليهم حاصبا وكان ما أخبر به سبحانه هو ما أوحى به إلى رسوله صلّى الله عليه وسلم فتلاه عليه الصلاة والسلام وكان الكفار ينسبونه في ذلك مرة إلى الشعر ومرة إلى السحر ومرة إلى الجنون فبدأ جل شأنه هذه السورة الكريمة ببراءته صلّى الله عليه وسلم مما كانوا ينسبونه إليه من الجنون وتعظيم أجره على صبره على أذاهم، وبالثناء على خلقه فقال عز من قائل: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 26 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ن بالسكون على الوقف وقرأ الأكثرون بسكون النون وإدغامها في واو وَالْقَلَمِ بغنة عند بعض وبدونها عند آخرين وقرىء بكسر النون. وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق وعيسى بخلاف عنه بفتحها وكل لالتقاء الساكنين، وجوز أن يكون الفتح بإضمار حرف القسم في موضع الجر كقولهم الله لأفعلن بالجر وأن يكون ذلك نصبا بإضمار اذكر ونحوه لا فتحا وامتناع الصرف للتعريف والتأنيث على أنه علم للسورة ثم إن جعل اسما للحرف مسرودا على نمط التعديد للتحدي على ما اشتهر وبين في موضعه، أو اسما للسورة منصوبا على الوجه المذكور أو مرفوعا على أنه خبر مبتدأ محذوف قالوا وفي قوله تعالى وَالْقَلَمِ للقسم وإن جعل مقسما به فهي للعطف عليه على الشائع واختار السلف أن ن من المتشابه وغير واحد من الخلف أنه هنا من أسماء الحروف. وقالوا: يؤيد ذلك أنه لو كان اسم جنس أو علما لأعرب منونا أو ممنوعا من الصرف ولكتب كما يتلفظ به، وكون كتابته كما ترى لنية الوقف وإجراء الوصل مجراه خلاف الأصل وكون خط المصحف لا يقاس مسلم إلا أن الأصل إجراؤه على القياس ما أمكن وقيل هو اسم لحوت عليه الأرض يقال له اليهموت بفتح الياء المثناة التحتية وسكون الهاء ففي حديث رواه الضياء في المختار والحاكم وصححه. وجمع عن ابن عباس خلق الله تعالى النون فبسطت الأرض عليه فاضطرب النون فمادت الأرض فأثبتت بالجبال ثم قرأ ن وَالْقَلَمِ إلخ. وروي ذلك عن مجاهد وروي عن ابن عباس أيضا والحسن وقتادة والضحاك أنه اسم للدواة وأنكر الزمخشري ورود النون بمعنى الدواة في اللغة أو في الاستعمال المعتد به، وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون لغة لبعض العرب أو لفظه أعجمية عربية وأنشد قول الشاعر: إذا ما الشوق برح بي إليهم ... ألقت النون بالدمع السجوم والأولون منهم من فسر القلم بالذي خط في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة، ومنهم من فسره بقلم الملائكة الكرام الكاتبين، وأل فيه على التفسيرين للعهد والآخرون منهم من فسره بالجنس على أن التعريف فيه جنسي، ومنهم وهم قليل من فسره بما تقدم أيضا لكن الظاهر من كلامهم أن الدواة ليست عبارة عن الدواة المعروفة بل هي دواة خلقت يوم خلق ذلك القلم وعن معاوية بن قرة يرفعه: «إن ن لوح من نور والقلم قلم من نور يجري بما هو كائن إلى يوم القيامة» . وعن جعفر الصادق: إنه نهر من أنهار الجنة. وفي البحر لعله لا يصح شيء من ذلك أي من جميع ما ذكر في ن ما عدا كونه اسما من أسماء الحروف وكأنه إن كان مطلعا على الروايات التي ذكرناها لم يعتبر تصحيح الحاكم فيما روي أولا عن ابن عباس، ولا كون أحد رواته الضياء في المختارة التي هي في الاعتبار قرينة من الصحاح ولا كثرة راوية عنه وهو الذي يغلب على الظن لكثرة الاختلاف فيما روي عنه في تعيين المراد به حتى أنه روي عنه أنه آخر حرف من حروف الرحمن، وأن هذا الاسم الجليل فرق في الر وحم ون ولا يخفى أنه إن أريد الحوت أو نهر في الجنة يصير الكلام من باب كم الخليفة وألف بادنجانة وأما إن أريد الدواة فالتنكير آب عن ذلك أشد الإباء على أنه كما سمعت عن الزمخشري لغة لم تثبت، والرد عليه إنما يتأتى بإثبات ذلك عن الثقات. وأنّى به، وذكر الجزء: 15 ¦ الصفحة: 27 صاحب القاموس لا ينتهض حجة على أنه معنى لغوي، وفي صحة الروايات كلام والبيت الذي أنشده ابن عطية لم يثبت عربيا وكونه بمعنى الحوت أطلق على الدواة مجازا بعلاقة المشابهة فإن بعض الحيتان يستخرج منه شيء أشد سوادا من النقس يكتب به لا يخفى ما فيه من السماجة فإن ذلك البعض لم يشتهر حتى يصح جعله مشبها به مع أنه لا دلالة للمنكر على ذلك الصنف بعينه، وكونه بمعنى الحرف مجازا عنها أدهى وأمر كذا قيل، وللبحث في البعض مجال وللقصاص هذا الفصل روايات لا يعول عليها ولا ينبغي الإصغاء إليها ثم إن استحقاق القلم للإعظام بالإقسام به إذا أريد به قلم اللوح الذي جاء في الأخبار أنه أول شيء خلقه الله تعالى أو قلم الكرام الكاتبين ظاهر، وأما استحقاق ما في أيدي الناس إذا أريد به الجنس لذلك فلكثرة منافعه ولو لم يكن له مزية سوى كونه آلة لتحرير كتب الله عز وجل لكفى به فضلا موجبا لتعظيمه. والضمير في قوله سبحانه وَما يَسْطُرُونَ أي يكتبون إما للقلم مرادا به قلم اللوح وعبر عنه بضمير الجمع تعظيما له أو له مرادا به جنس ما به الخط، فضمير الجمع لتعدده لكنه ليس بكاتب حقيقة بل هو آلة للكاتب فالإسناد إليه إسناد إلى الآلة مجازا، والتعبير عنه بضمير العقلاء لقيامه مقامهم وجعله فاعلا أو للكتبة أو الحفظة المفهومين من القلم أولهم باعتبار أنه أريد بالقلم أصحابه تجوزا أو بتقدير مضاف معه، ولا يخفى ما هو الأوجه من ذلك، وأما كونه لما وهي بمعنى من فتكلف بارد والظاهر فيها أنها إما موصولة أي والذي يسطرونه أو مصدرية أي وسطرهم ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ جواب القسم والباء الثانية مزيدة لتأكيد النفي، ومجنون خبر ما والباء الأولى للملابسة في موضع الحال والعامل مجنون وباؤه لا تمنع العمل لأنها مزيدة، وتعقبه ناصر الدين بأن فيه نظرا من حيث المعنى ووجه بأن محصله على هذا التقدير أنه انتفى عنك الجنون وقت التباسك بنعمة ربك، ولا يفهم منه انتفاء مطلق الجنون عنه صلّى الله عليه وسلم وهل المراد إلّا هذا وقيل عليه لا يخفى أنه وارد على ما اختاره هو أيضا أي وذلك لأن المعنى حينئذ انتفى عنك ملتبسا بنعمة ربك الجنون ولا يفهم منه انتفاؤه عنه عليه الصلاة والسلام في جميع الأوقات وهو المراد، وأجيب بأن تلك الحالة لازمة له صلّى الله عليه وسلم غير منفكة عنه فنفيه عنه فيها مستلزم لنفيه عنه دائما وسائر الحالات وتعقب بأن هذا متأت على كلا التقديرين لا اختصاص له بأحدهما دون الآخر، وأنت خبير بأنه فرق بينهما إذ يصير المعنى على تقدير كون العامل مجنون كما أشير إليه أنه انتفى عنك الجنون الواقع عليك حالة الالتباس المذكور، وهذا يدل على إمكان وقوعه في تلك الحالة بل على تحققه أيضا وهو معنى لاغ إذ كيف يتصور وجود الجنون ووقوعه وقت التباسه صلّى الله عليه وسلم بالنعمة، ومن جملتها الحصافة ولا يرد هذا على التقدير المختار إذ الانتفاء المفهوم حينئذ لا يكون واردا على الجنون المقيد بما ذكر وهو وإن كان مقيدا فيه أيضا لا ضير به لكون قيده لازما لذات المنفي عنه كما عرفت هذا، وقيل: إذا حمل الباء على السببية واعتبر الظرف لغوا يظهر عدم جواز تعلقه بما بعده من حيث المعنى: ظهور نار القرى ليلا على علم ولهم في الجملة الحالية والحال إذا وقعت بعد النفي كلام ذكره الخفاجي وحقق أنه حينئذ إنما يلزم انتفاء مقارنة الحال لذي الحال لا نفيها نفسها فتدبر ولا تغفل. وجوز كون بِنِعْمَةِ رَبِّكَ قسما متوسطا في الكلام لتأكيده من غير تقدير جواب، أو يقدر له جواب يدل عليه الكلام المذكور، واستظهر هذا الوجه أبو حيان والتعرض لوصف الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى معارج الكمال مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لتشريفه صلّى الله عليه وسلم والإيذان بأنه تعالى يتم نعمته عليه ويبلغه في العلو إلى غاية لا غاية وراءها، والمراد تنزيهه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 28 صلّى الله عليه وسلم عما كانوا ينسبونه إليه صلّى الله عليه وسلم من الجنون حسدا وعداوة ومكابرة، فحاصل الكلام أنت منزه عما يقولون وَإِنَّ لَكَ بمقابلة مقاساتك ألوان الشدائد من جهتهم وتحملك أعباء الرسالة لَأَجْراً لثوابا عظيما لا يقادر قدره غَيْرَ مَمْنُونٍ أي مقطوع مع عظمه أو غير ممنون عليك من جهة الناس فإنه عطاؤه تعالى بلا واسطة أو من جهته تعالى لأنك حبيب الله تعالى وهو عز وجل أكرم الأكرمين، ومن شيمة الأكارم أن لا تمنوا بإنعامهم لا سيما إذا كان على أحبابهم كما قال: سأشكر عمرا إن تراخت منيتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلت وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ لا يدرك شأوه أحد من الخلق ولذلك تحتمل من جهتهم ما لا يحتمله أمثالك من أولي العزم. وفي حديث مسلم وأبي داود والإمام أحمد والدارمي وابن ماجة والنسائي عن سعد بن هشام قال قلت لعائشة رضي الله تعالى عنها: يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى قالت: فإن خلق نبي الله كان القرآن وأرادت بذلك على ما قيل إن ما فيه من المكارم كله كان فيه صلّى الله عليه وسلم، وما فيه من الزجر عن سفساف الأخلاق كان منزجرا به عليه الصلاة والسلام لأنه المقصود بالخطاب بالقصد الأول كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ [الفرقان: 32] وربما يرجع إلى هذا قولها كما في رواية ابن المنذر وغيره عن أبي الدرداء أنه سألها عن خلقه عليه الصلاة والسلام فقالت: كان خلقه القرآن يرضى لرضاه ويسخط لسخطه وقال العارف بالله تعالى المرصفي أرادت بقولها: كان خلقه القرآن تخلقه بأخلاق الله تعالى لكنها لم تصرح به تأدبا منها. وفي الكشف أنه أدمج في هذه الجملة أنه صلّى الله عليه وسلم متخلق بأخلاق الله عز وجل بقوله سبحانه عَظِيمٍ وزعم بعضهم أن في الآية رمزا إلى أن الأخلاق الحسنة مما لا تجامع الجنون، وأن كلما كان الإنسان أحسن أخلاقا كان أبعد عن الجنون، ويلزم من ذلك أن سوء الأخلاق قريب من الجنون فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ أي المجنون كما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس وابن المنذر عن ابن جبير وعبد بن حميد عن مجاهد، وأطلق على المجنون لأنه فتن أي محن بالجنون، وقيل لأن العرب يزعمون أن الجنون من تخبيل الجن وهم الفتان للفتاك منهم والباء مزيدة في المبتدأ وجوز ذلك سيبويه أو الفتنة فالمفتون مصدر كالمعقول والمجلود أي الجنون كما أخرجه عبد بن حميد عن الحسن وأبي الجوزاء وهو بناء على أن المصدر يكون على وزن المفعول كما جوزه بعضهم والباء عليه للملابسة أو بأي الفريقين منكم الجنون أبفريق المؤمنين أم بفريق الكافرين أي في أيهما يوجد من يستحق هذا الاسم وهو تعريض بأبي جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهما. والباء على هذا بمعنى في وقدر بأي الفريقين منكم دفعا لما قيل من أن الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وجماعة قريش ولا يصح أن يقال لجماعة وواحد في أيكم زيد، وأيد الاعتراض بأن قوله تعالى فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ خطاب له عليه الصلاة والسلام خاصة وجواب التأييد أن الخطاب بظاهره خص برسول الله صلّى الله عليه وسلم ليجري الكلام على نهج السوابق ولا يتنافر لكنه ليس كالسوابق في الاختصاص حقيقة لدخول الأمة فيه أيضا فيصح تقدير بأي الفريقين، وادعى صاحب الكشف أن هذا أوجه الأوجه لإفادته التعريض وسلامته عن استعمال النادر يعني زيادة الباء في المبتدأ، وكون المصدر على زنة المفعول وإليه ذهب الفراء، ويؤيده قراءة ابن أبي عبلة في «أيكم» وأيّا ما كان فالظاهر أن بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ معمول لما قبله على سبيل التنازع، والمراد فستعلم ويعلمون ذلك يوم القيامة حين يتبين الحق من الباطل، وروي ذلك عن ابن عباس وقيل فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ في الدنيا بظهور عاقبة الأمر بغلبة الإسلام واستيلائك عليهم بالقتل والنهب وصيرورتك الجزء: 15 ¦ الصفحة: 29 مهيبا معظما في قلوب العالمين، وكونهم أذلة صاغرين ويشمل هذا ما كان يوم بدر. وعن مقاتل أن ذلك وعيد بعذاب يوم بدر وقال أبو عثمان المازني: إن الكلام قد تم عند قوله تعالى وَيُبْصِرُونَ ثم استأنف قوله سبحانه بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ على أنه استفهام يراد به الترداد بين أمرين معلوم نفي الحكم عن أحدهم وتعيين وجوده للآخر وهو كما ترى إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ استئناف لبيان ما قبله وتأكيد لما تضمنه من الوعد والوعيد، أي هو سبحانه أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ المؤدي إلى سعادة الدارين وهام في تيه الضلال متوجها إلى ما يقتضيه من الشقاوة الأبدية ومزيد النكال، وهذا هو المجنون الذي لا يفرق بين النفع والضر بل يحسب الضرر نفعا فيؤثره والنفع ضررا فيهجره وَهُوَ عز وجل أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ إلى سبيله، الفائزين بكل مطلوب، الناجين عن كل محذور، وهم العقلاء المراجيح فيجزي كلا من الفريقين حسبما يستحقه من العقاب والثواب. وفي الكشاف إن ربك هو أعلم بالمجانين على الحقيقة وهم الذين ضلوا عن سبيله، وهو أعلم بالعقلاء وهم المهتدون أو يكون وعيدا ووعدا، وأنه سبحانه أعلم بجزاء الفريقين. قال في الكشف هو على الأول تذييل مؤكد لما رمز إليه في السابق من أن المفتون من قرفك به جار على أسلوب المؤكد في عدم التصريح ولكن على وجه أوضح فإن قوله تعالى بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ لا تعيين فيه بوجه وهذا بدل هُوَ أَعْلَمُ بالمجنون. وبالعاقل يدل على أن الجنون بهذا الاعتبار لا بما توهموه وثبت لهم صرف الضلال في عين هذا الزعم، وعلى الثاني هو تذييل أيضا ولكن على سبيل التصريح لأن بِمَنْ ضَلَّ أقيم مقام (بهم) وبِالْمُهْتَدِينَ أقيم مقام (بكم) ولعل ما اعتبرناه أملا بالفائدة، وكأن تقديم الوعيد ليتصل بما أشعر به أولا والتعبير في جانب الضلال بالفعل للإيماء بأنه خلاف ما تقتضيه الفطرة وزيادة هو أعلم لزيادة التقرير مع الإيذان باختلاف الجزاء. والفاء في قوله تعالى فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ لترتيب النهي على ما ينبىء عنه ما قبله من اهتدائه صلّى الله عليه وسلم وضلالهم أو على جميع ما فضل من أول السورة، وهذا تهييج وإلهاب للتصميم على معاصاتهم أي دم على ما أنت عليه من عدم طاعتهم وتصلب في ذلك، وجوز أن يكون نهيا عن مداهنتهم ومداراتهم بإظهار خلاف ما في ضميره صلّى الله عليه وسلم استجلابا لقلوبهم لا عن طاعتهم حقيقة، وينبىء عنه قوله تعالى وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ لأنه تعليل للنهي أو للانتهاء، وإنما عبر عنه بالطاعة للمبالغة في التنفير أي أحبوا لو تلاينهم وتسامحهم في بعض الأمور فَيُدْهِنُونَ أي فهم يدهنون حينئذ أو فهم الآن يدهنون طعما في ادهانك، فالفاء للسببية داخلة على جملة مسببة عما قبلها، وقدر المبتدأ لمكان رفع بالفعل والفرق بين الوجهين أن المعنى على أنهم تمنوا لو تدهن فتترتب مداهنتهم على مداهنتك، ففيه ترتب إحدى المداهنتين على الأخرى في الخارج ولَوْ فيه غير مصدرية، وعلى الثاني هي مصدرية، والترتب ذهني على ودادتهم وتمنيهم، وجوز أن تكون الفاء لعطف يدهنون على تُدْهِنُ على أنه داخل معه في حيز لو متمنى مثله، والمعنى ودوا لو يدهنون عقيب ادهانك وما تقدم أبعد عن القيل والقال، وأيّا ما كان فالمعتبر في جانبهم حقيقة الادهان الذي هو لإظهار الملاينة وإضمار خلافها، وإما في جانبه عليه الصلاة والسلام فالمعتبر بالنسبة إلى ودادتهم هو إظهار الملاينة فقط، وأما إضمار خلافها فليس في حيز الاعتبار بل هم في غاية الكراهة له، وإنما اعتباره بالنسبة إليه عليه الصلاة والسلام وفي بعض المصاحف كما قال هارون «فيدهنوا» بدون نون الرفع، فقيل: هو منصوب في جواب التمني المفهوم من وَدُّوا وقيل إنه عطف على تُدْهِنُ بناء على أن لَوْ بمنزلة أن الناصبة فلا يكون لها جواب، وينسبك منها ومما بعدها مصدر يقع مفعولا لودوا كأنه قبل ودوا أن تدهن فيدهنوا، ولعل هذا مراد من قال إنه عطف على توهم أن، وجمهور النحاة على أن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 30 لَوْ على حقيقتها وجوابها محذوف. وكذا مفعول وَدُّوا أي ودوا ادهانك لو تدهن فيدهنون لسروا بذلك وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ كثير الحلف في الحق والباطل وكفى بهذا مزجرة لمن اعتاد الحلف لأنه جعل فاتحة المثالب وأساس الباقي، وهو يدل على عدم استشعار عظمة الله عز وجل وهو أم كل شر عقدا وعملا، وذكر بعضهم أن كثرة الحلف مذمومة ولو في الحق لما فيها من الجرأة على اسمه جل شأنه، وهذا النهي للتهييج والإلهاب أيضا أي دم على ما أنت عليه من عدم طاعة كل حلاف مَهِينٍ حقير الرأي والتدبير. وقال الرماني: المهين الوضيع لإكثاره من القبيح من المهانة وهي القلة، وأخرج ابن المنذر وعبد بن حميد عن قتادة أنه قال: هو المكثار في الشر. وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أنه الكذاب هَمَّازٍ عياب طعان قال أبو حيان: هو من الهمز وأصله في اللغة الضرب طعنا باليد أو بالعصا ونحوها، ثم استعير للذي ينال بلسانه قال منذر بن سعيد وبعينه وإشارته مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ نقّال للحديث من قوم إلى قوم على وجه الإفساد بينهم، فإن النميم والنميمة مصدران بمعنى السعاية والإفساد. وقيل: النميم جمع نميمة يريدون به الجنس وأصل النميمة الهمس والحركة الخفيفة، ومنه اسكت الله تعالى نامته أي ما ينم عليه من حركته مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ أي بخيل ممسك من منع معروفه عنه إذا أمسكه فاللام للتقوية والخير على ما قيل المال أو مناع الناس الخير وهو الإسلام من منعت زيدا من الكفر إذا حملته على الكف، فذكر الممنوع منه كأنه قيل مناع من الخير دون الممنوع وهو الناس عكس وجه الأول والتعميم هنالك وعدم ذكر الممنوع منه أوقع مُعْتَدٍ مجاوز في الظلم حده أَثِيمٍ كثير الآثام وهي الأفعال البطيئة عن الثواب والمراد بها المعاصي والذنوب عُتُلٍّ قال ابن عباس الشديد الفاتك، وقال الكلبي: الشديد الخصومة بالباطل. وقال معمر وقتادة: الفاحش اللئيم، وقيل: هو الذي يعتل الناس أي يجرهم إلى حبس أو عذاب بعنف وغلظة، ويقال عتنه بالنون كما يقال عتله باللام كما قال ابن السكيت وقرأ الحسن «عتلّ» بالرفع على الذم بَعْدَ ذلِكَ أي المذكور من مثالبه وقبائحه وبَعْدَ هنا كثم الدالة على التفاوت الرتبي فتدل على أن ما بعد أعظم في القباحة وفي الكشف أشعر كلام الزمخشري أنه متعلق بعتل فلزم تباينه من الصفات السابقة وتباين ما بعده أيضا لأنه في سلكه زَنِيمٍ دعي ملحق بقوم ليس منهم كما قال ابن عباس، والمراد به ولد الزنا كما جاء بهذا اللفظ عنه رضي الله تعالى عنه وأنشد الحسان: زنيم تداعته الرجال زيادة ... كما زيد في عرض الأديم الأكارع وكذا جاء عن عكرمة وأنشد: زنيم ليس يعرف من أبوه ... بغيّ الأم ذو حسب لئيم من الزنمة بفتحات وهي ما يتدلى من الجلد في حلق المعز والفلقة من أذنه تشق فتترك معلقة، وإنما كان هذا أشد المعايب لأن الغالب أن النطفة إذا خبثت خبث الناشئ منها ومن ثم قال صلّى الله عليه وسلم: «فرخ الزنا أي ولده لا يدخل الجنة» فهو محمول على الغالب فإنه في الغالب لخباثة نطفته يكون خبيثا لا خير فيه أصلا فلا يعمل عملا يدخل به الجنة. وقال بعض الأجلة: هذا خارج مخرج التهديد والتعريض بالزاني، وحمل على أنه لا يدخل الجنة مع السابقين لحديث الدارمي عن عبد الله بن عمر مرفوعا: «لا يدخل الجنة عاق ولا ولد زنية ولا منان ولا مدمن خمر» فإنه سلك في قرن العاق والمنان ومدمن الخمر ولا ارتياب أنهم عند أهل السنة ليسوا من زمرة من لا يدخل الجنة أبدا. وقيل المراد أنه لا يدخل الجنة بعمل أبويه إذا مات صغيرا بل يدخلها بمحض الجزء: 15 ¦ الصفحة: 31 فضل الله تعالى ورحمته سبحانه كأطفال الكفار عند الجمهور. وروى ابن جبير عن ابن عباس أن الزنيم هو الذي يعرف بالشر كما تعرف الشاة بالزنمة. وفي رواية ابن أبي حاتم عنه هو الرجل يمر على القوم فيقولون رجل سوء والمال واحد وعنه أيضا أنه المعروف بالأبنة ولا يخفى أن المأبون معدن الشرور بل من لم يصل في ذلك الأمر الشنيع إلى تلك المرتبة كذلك في الأغلب ولا حاجة إلى كثرة الاستشهاد في هذا الباب. وفي قول الشاعر الاكتفاء وهو: ولكم بذلت لك المودة ناصحا ... فغدرت تسلك في الطريق الأعوج ولكم رجوتك للجميل وفعله ... يوما فناداني النهي لا ترتج وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه أنه قال: نزل على النبيّ صلّى الله عليه وسلم وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ إلخ فلم يعرف حتى نزل عليه الصلاة والسلام بعد ذلك زَنِيمٍ فعرفناه له زنمة في عنقه كزنمة الشاة، واستشكل هذا بأن الزنيم عليه ليس صفة ذم فضلا عن كونه أعظم فيه من الصفات التي قبل ذلك على ما يفيده بعد ذلك، ولا يكاد يحسن تعليل النهي به على أن من المعلوم أن ليس المراد بالموصوف بهذه الصفات شخصا بعينه لمكان كُلَّ ويحمل ما جاء في الروايات من أنه الوليد بن المغيرة المخزومي وكان دعيا في قريش ليس من سنخهم ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة من مولده، أو الحكم طريد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أو الأخنس بن سريق وكان أصله من ثقيف وعداده في زهرة أو الأسود بن عبد يغوث، أو أبو جهل على بيان سبب النزول وقيل في ذلك أن المراد ذمه بقبح الخلق بعد ذمه بما تقدم وهو كما ترى فتأمل فلعلك تظفر بما يريح البال ويزيح الإشكال. وقوله تعالى أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ بتقدير لام التعليل وهو متعلق بقوله سبحانه لا تُطِعْ أي لا تطع من هذه مثالبه لأن كان متمولا متقويا بالبنين وقوله سبحانه إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ استئناف جار مجرى التعليل للنهي وجوز أن يكون لأن متعلقا بنحو كذب، ويدل عليه الجملة الشرطية ويقدر مقدما دفعا لتوهم الحصر كأنه قيل كذب لأن كان إلخ والمراد أنه بطر نعمة الله تعالى ولم يعرف حقها ولم يجوز تعلقه بقال المذكور بعد لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله، ولعل من يقول باطراد التوسع في الظرف يجوز ذلك وكذا من يجعل إذا هنا ظرفية. وقال أبو علي الفارسي: يجوز تعلقه بعتل وإن كان قد وصف، وتعقبه أبو حيان بأنه قول كوفي ولا يجوز ذلك عند البصريين، وقيل متعلق بزنيم ويحسن ذلك إذا فسر بقبيح الأفعال. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وأبو جعفر وأبو بكر وحمزة وابن عامر «أأن كان» على الاستفهام وحقق الهمزتين حمزة وسهل الثانية باقيهم على ما في البحر. وقال بعض: قرأ أبو بكر وحمزة بهمزتين وابن عامر بهمزة ومدة والمعنى أكذب بها لأن كان ذا مال أو أطيعه لأن كان إلخ. وقرأ نافع في رواية اليزيدي عنه «إن كان» بالكسر على أن شرط الغنى في النهي عن الطاعة كالتعليل بالفقر في النهي عن قتل الأولاد بمعنى النهي في غير ذلك يعلم بالطريق الأولى فيثبت بدلالة النص والشرط والعلة في مثله مما لا مفهوم له، أو على أن الشرط للمخاطب. وحاصل المعنى لا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ إلخ شارطا يساره لأن إطاعة الكافر لغناه بمنزلة اشتراط غناه في الطاعة. وفيه تنزيل المخاطب منزلة من شرط ذلك وحققه زيادة للإلهاب والثبات، وتعريضا بمن يحسب الغنى مكرمة. والظاهر أن الجملة الشرطية بعد استئناف وقيل: هذا مما اجتمع فيه شرطان وليسا من الشروط المترتبة الوقوع فالمتأخر لفظا هو المتقدم، والمتقدم لفظا هو شرط في الثاني فهو كقوله: فإن عثرت بعدها إن وألت ... نفسي من هاتا فقولا لا لعا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 32 وقرأ الحسن «أئذا» على الاستفهام وهو استفهام تقريع وتوبيخ على قوله أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ سَنَسِمُهُ سنجعل له سمة وعلامة عَلَى الْخُرْطُومِ أي على الأنف وهو من باب إطلاق مشفر على شفة غليظة لإنسان كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى، وعبر بذلك عن غاية الإذلال لأن السمة على الوجه شين حتى أنه صلّى الله عليه وسلم نهى عنه في الحيوانات ولعن فاعله فكيف على أكرم موضع منه وهو الأنف لتقدمه، وقد قيل الجمال في الأنف وعليه قول بعض الأدباء: وحسن الفتى في الأنف والأنف عاطل ... فكيف إذا ما الخال كان له حليا وجعلوه مكان العزة والحمية واشتقوا منه الأنفة وقالوا: الأنف في الأنف وحمى أنفه وفلان شامخ العرنين. وقالوا في الذليل: جدع أنفه ورغم أنفه ومنه قول جرير: لما وضعت على الفرزدق ميسمي ... وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل وفي لفظ الْخُرْطُومِ استهانة لأنه لا يستعمل إلّا في الفيل والخنزير، ففي التعبير عن الأنف بهذا الاسم ترشيح لما دل عليه الوسم على العضو المخصوص من الإذلال والمراد سنهينه في الدنيا ونذله غاية الإذلال، وكون الوعيد المذكور في الدنيا هو المروي عن قتادة وذهب إليه جمع إلّا أنهم قالوا: المعنى سنفعل به في الدنيا من الذم والمقت والاشتهار بالشر ما يبقى فيه ولا يخفى، فيكون ذلك كالوسم على الأنف ثابتا بيّنا كما تقول: سأطوقك طوق الحمامة أي أثبت لك الأمر بيّنا فيك، وزاد ذلك حسنا ذكر الْخُرْطُومِ انتهى. وبينه وبين ما تقدم فرق لا يخفى وقال بعض: هو في الآخرة، ومن القائلين بأن هذا وعيد بأمر يكون فيها من قال هو تعذيب بنار على أنفه في جهنم وحكي ذلك عن المبرد وقال آخرون منهم يوسم يوم القيامة على أنفه بسمة يعرف بها كفره وانحطاط قدره. وقال أبو العالية ومقاتل واختاره الفراء المراد يسود وجهه يوم القيامة قبل دخول النار، وذكر الْخُرْطُومِ والمراد الوجه مجازا ومن القائلين بأنه يكون في الدنيا من قال هو وعيد بما أصابه يوم بدر فإنه خطم فيه بالسيف فبقيت سمة على خرطومه، وروي هذا عن ابن عباس، والمعروف في كتب السير والأحاديث أن أبا جهل قتل يوم بدر والباقين ما عدا الحكم ماتوا قبله فلم يسم أحد منهم بذلك الوسم، وكذا الحكم لم يعلم أنه وسم بذلك وإن كان لم يمت قبل. وعن النضر بن شميل أن الخرطوم الخمر وأنشد: تظل يومك في لهو وفي لعب ... وأنت بالليل شراب الخراطيم وإن المعنى سنحده على شربها وتعقب بأنه تنفيه الرواية بأنه أولئك الكفرة هلكوا قبل تحريم الخمر ما عدا الحكم وهو لم يثبت أنه حد على أنهم لم يكونوا ملتزمي الأحكام والدراية أيضا لتعقيد اللفظ وفوات فخامة المعنى إِنَّا بَلَوْناهُمْ أي أصبنا أهل مكة ببلية وهي القحط بدعوة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقوله: «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف» كَما بَلَوْنا أي مثل ما بلونا، فالكاف في محل نصب صفة مصدر مقدر و (ما) مصدرية وقيل بمعنى الذي أي كالبلاء الذي بلوناه أَصْحابَ الْجَنَّةِ المعروف خيرها عندهم كانت بأرض اليمن بالقرب منهم قريبا من صنعاء لرجل كان يؤدي حق الله تعالى منها فمات فصارت إلى ولده فمنعوا الناس خيرها وبخلوا بحق الله تعالى منها، فكان ما ذكره الله تعالى وكانت على ما أخرج ابن المنذر وغيره عن ابن جرير بأرض في اليمن يقال لها صوران بينها وبين صنعاء ستة أميال. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس هم ناس من الحبشة كانت لأبيهم جنة وكان يطعم منها المساكين فمات فقال الجزء: 15 ¦ الصفحة: 33 بنوه: إن كان أبونا لأحمق حين يطعم المساكين فأقسموا على أن لا يطعموا منها مسكينا. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه قال: كانت لشيخ من بني إسرائيل وكان يمسك قوت سنته ويتصدق بالفضل، وكان بنوه ينهونه عن الصدقة فلما مات أقسموا على منع المساكين. وفي رواية أنها كانت لرجل صالح على فرسخين من صنعاء وكان يترك للمساكين ما أخطأه المنجل وما في أسفل الأكداس وما أخطأه القطاف من العنب وما بقي على البساط تحت النخلة إذا صرمت فكان يجتمع لهم شيء كثير فلما مات قال بنوه: إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر ونحن أولو عيال فحلفوا ليصرمنها وقت الصباح خفية عن المساكين كما قال عز وجل إِذْ أَقْسَمُوا معمول لبلونا لَيَصْرِمُنَّها ليقطعن من ثمارها بعد استوائها مُصْبِحِينَ داخلين في الصباح وهذا حكاية لقسمهم لا على منطوقهم وإلا لقيل لنصرمنها بنون المتكلمين وكلا الأمرين جائز في مثله وَلا يَسْتَثْنُونَ قيل أي ولا يقولون إن شاء الله وتسميته استثناء مع أنه شرط من حيث إن مؤداه مؤدى الاستثناء، فإن قولك لأخرجن إن شاء الله تعالى ولا أخرج إلا أن يشاء الله تعالى بمعنى واحد. وقال الإمام أصل الاستثناء من الثني وهو الكف والرد وفي التقييد بالشرط رد لانعقاد ذلك اليمين فإطلاقه عليه حقيقة وقيل أي ولا ينثنون عما هموا به من منع المساكين والظاهر على القولين عطفه على أَقْسَمُوا فمقتضى الظاهر وما استثنوا وكأنه إنما عدل عنه إليه استحضار للصورة لما فيها من نوع غرابة لأن اللائق في الحلف على ما يلزم منه ترك طاعة الاستثناء، وفي الكشف هو حال أي غير مستثنين وفي العدول إلى المضارع نوع تعبير وتنبيه على مكان خطئهم، وفيه رمز إلى ما ذكرنا وقيل: المعنى ولا يستثنون حصة المساكين كما كان يخرج أبوهم وعليه هو معطوف على قوله تعالى لَيَصْرِمُنَّها ومقسم عليه أو على قوله سبحانه مُصْبِحِينَ الحال وهو معنى لا غبار عليه فَطافَ عَلَيْها أي أحاط نازلا على الجنة طائِفٌ أي بلاء محيط فهو صفة لمحذوف، وقول قتادة طائِفٌ أي عذاب بيان لحاصل المعنى ونحوه قول ابن عباس أي أمر وعن الفراء تخصيص الطائف بالأمر الذي يأتي بالليل وكان ذلك على ما قال ابن جريج عنقا من نار خرج من وادي جنتهم وقيل: الطائف هو جبريل عليه السلام اقتلعها وطاف بها حول البلد ثم وضعها قرب مكة حيث مدينة الطائف اليوم ولذلك سميت بالطائف وليس في أرض الحجاز بلدة فيها الماء والشجر والأعناب غيرها ولا يصح هذا عندي كالقول بأن الطائف المدينة المذكورة كانت بالشام فنقلها الله تعالى إلى الحجاز بدعوة إبراهيم عليه السلام وكذا القول بأنها طافت على الماء في الطوفان ولو قيل كل ذلك على ظاهره حديث خرافة لا يعد حديث خرافة وقرأ النخعي «طيف» مِنْ رَبِّكَ مبتدىء من جهته عز وجل وَهُمْ نائِمُونَ في موضع الحال والمراد أتاها ليلا كما روي عن قتادة. وقيل المراد وهم غافلون غفلة تامة عما جرت به المقادير والأول أظهر من جهة السباق واللحاق فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ كالبستان الذي صرمت ثماره بحيث لم يبق فيها شيء ففعيل بمعنى مفعول وقال ابن عباس: كالرماد الأسود وهو بهذا المعنى لغة خزيمة، وعنه أيضا الصريم رملة باليمن معروفة لا تنبت شيئا. وقال مؤرج كالرملة انصرمت من معظم الرمل وهي لا تنبت شيئا ينفع وقال منذر والفراء وجماعة: الصريم الليل، والمراد أصبحت محترقة تشبه الليل في السواد وقال الثوري: كالصبح من حيث ابيضت كالزرع المحصود وقال بعضهم يسمى كل من الليل والنهار صريما لانصرام كل عن صاحبه وانقطاعه عنه فَتَنادَوْا نادى بعضهم بعضا مُصْبِحِينَ لقسمهم السابق أَنِ اغْدُوا أي اخرجوا على أن أَنِ تفسيرية واغْدُوا بمعنى اخرجوا، أو بأن اغدوا على أن أَنِ مصدرية وقبلهما حرف جر مقدر وهي يجوز أن توصل بالأمر على الأصح عَلى حَرْثِكُمْ أي بستانكم إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ أي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 34 قاصدين للصرم وقطع الثمار فاغدوا، وقيل يحتمل أن يكون المراد إن كنتم أهل عزم وإقدام على رأيكم من قولهم سيف صارم وليس بذاك. وظاهر كلام جار الله أن غدا بمعنى بكر يتعدى بإلى وعدي هاهنا بعلى لتضمين الغد، ومعنى الإقبال كما في قولهم يغدى عليه بالجفنة ويراح أي فأقبلوا على حرثكم باكرين ويجوز أن يكون من غدا عليه إذا غار بأن يكون قد شبه غدوهم لقطع الثمار بغدو الجيش على شيء لأن معنى الاستعلاء والاستيلاء موجود فيه وهو الصرم والقطع، ويكون هناك استعارة تبعية وجوز أن تعتبر الاستعارة تمثيلية وقال أبو حيان الذي في حفظي أن غدا يتعدى بعلى كما في قوله: وقد نغدو على ثبة كرام ... نشاوى واجدين لما نشاء وكذا بكر مرادفه كما في قوله: بكرت عليه غدوة فرأيته ... قعودا لديه بالصريم عواذله فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ أي يتشاورون فيما بينهم بطريق المخافتة، وخفى بفتح الفاء وخفت وخفد ثلاثتها في معنى الكتم ومنه الخفدود للخفاش والخفود للناقة التي تلقي ولدها قبل أن يستبين خلقه أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ أي الجنة عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ أن مفسرة لما في التخافت من معنى القول أو مصدرية، والتقدير بأن ويؤيد الأول قراءة عبد الله وابن أبي عبلة بإسقاطها، وعليه قيل هو بتقدير القول وقيل العامل فيه يَتَخافَتُونَ لتضمنه معنى القول وهو المذهب الكوفي فيه وفي أمثاله، وأيّا ما كان فالمراد بنهي المسكين عن الدخول المبالغة في النهي عن تمكينه منه كقولهم لا أرينك هاهنا وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ أي منع كما قال الجزء: 15 ¦ الصفحة: 35 أبو عبيد وغيره من قولهم حاردت الإبل إذا قّلت ألبانها وحاردت السنة قل مطرها وخيرها والجار متعلق بقوله تعالى قادِرِينَ قدم للحصر ورعاية الفواصل أي وغدوا قادرين على منع لا غير والمعنى أنهم عزموا على منع المساكين وطلبوا حرمانهم ونكدهم وهم قادرون على نفعهم فغدوا بحال لا يقدرون فيها إلّا على المنع والحرمان، وذلك أنهم طلبوا حرمان المساكين فتعجلوا الحرمان أو غدوا على محاردة جنتهم وذهاب خيرها بدل كونهم قادرين على إصابة خيرها ومنافعها أي غدوا حاصلين على حرمان أنفسهم مكان كونهم قادرين على الانتفاع، والحصر على الأول حقيقي وعلى هذا إضافي بالنسبة إلى انتفاعهم من جنتهم والحرمان عليه خاص بهم، وجوز أن يكون عَلى حَرْدٍ متعلقا بغدوا، والمراد بالحرد حرد الجنة جيء به مشاكلة للحرث كأنه لما قالوا اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ وقد خبثت نيتهم عاقبهم الله تعالى بأن حاردت جنتهم وحرموا خيرها فلم يغدوا على حرث وإنما غدوا على حرد وقادِرِينَ من عكس الكلام للتهكم أي قادرين على ما عزموا عليه من الصرام وحرمان المساكين. وقيل الحرد الحرد بفتح الراء وقد قرىء به وهو بمعنى الغيظ والغضب كما قال أبو نصر أحمد بن حاتم صاحب الأصمعي وأنشد: إذا جياد الخيل جاءت تردي ... مملوءة من غضب وحرد أي لم يقدروا إلّا على إغضاب بعضهم لبعض كقوله تعالى فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ [القلم: 30] وروي هذا عن سفيان والسدي والحصر حقيقي ادعائي أو إضافي. وقيل بمعنى القصد والسرعة وأنشد: أقبل سيل جاء من أمر الله ... يحرد حرد الجنة المغلة أي غدوا قاصدين إلى جنتهم بسرعة قادرين عند أنفسهم على صرامها وروي هذا عن ابن عباس ف عَلى حَرْدٍ ظرف مستقر حال من ضمير غَدَوْا وقادِرِينَ حال أيضا إلّا أنها حال مقدرة على ما قيل وقيل حال حقيقية بناء على القيد بعند أنفسهم وإنما قيد به لأن ثمار جنتهم هالكة فلا قدرة لهم على صرامها وقد فنيت: وقال الأزهري حَرْدٍ اسم قريتهم وفي رواية عن السدي اسم جنتهم ولا أظن ذلك مرادا وقيل الحرد الانفراد يقال: حرد عن قومه إذا تنحى عنهم ونزل منفردا وكوكب حرود معتزل عن الكواكب والمعنى وغدوا إلى جنتهم منفردين عن المساكين ليس أحد منهم معهم قادرين على صرامها وهو من باب التهكم، وقيل قادرين على هذا القول من التقدير بمعنى التضييق أي مضيقين على المساكين إذ حرموهم ما كان أبوهم ينيلهم منها وهو حال مقدرة فَلَمَّا رَأَوْها أول ما وقع نظرهم عليها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ طريق جنتنا وما هي بها قاله قتادة: وقيل لَضَالُّونَ عن الصواب في غدونا على نية منع المساكين وليس بذاك بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قالوه بعد ما تأملوا ووقفوا على حقيقة الأمر مضربين عن قولهم الأول أي لسنا ضالين بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ حرمنا خيرها بجنايتنا على أنفسنا قالَ أَوْسَطُهُمْ أي أحسنهم وأرجحهم عقلا ورأيا أو أوسطهم سنا أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ أي لولا تذكرون الله تعالى وتتوبون إليه من خبث نيتكم وقد كان قال لهم حين عزموا على ذلك اذكروا الله تعالى وتوبوا إليه عن هذه النية الخبيثة من فوركم وسارعوا إلى حسم شرها قبل حلول النقمة فعصوه فعيرهم ويدل على هذا المعنى قوله تعالى قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ لأن التسبيح ذكر الله تعالى وإِنَّا كُنَّا إلخ ندامة واعتراف بالذنب فهو توبة، والظاهر أنهم إنما تكلموا بما كان يدعوهم إلى التكلم به على أثر مقارفة الخطيئة ولكن بعد خراب البصرة، وقيل المراد بالتسبيح الاستثناء الجزء: 15 ¦ الصفحة: 36 لالتقائهما في معنى التعظيم لله عز وجل لأن الاستثناء تفويض إليه سبحانه والتسبيح تنزيه له تعالى وكل واحد من التفويض والتنزيه تعظيم فكأنه قيل ألم أقل لكم لولا تستثنون أي تقولون إن شاء الله تعالى. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي وابن المنذر عن ابن جريج وحكاه في البحر عن مجاهد وأبي صالح أنهما قالا كان استثناؤهم في ذلك الزمان التسبيح كما نقول نحن إن شاء الله تعالى وجعله بعض الحنفية استثناء اليوم فعنده لو قال لزوجته أنت طالق سبحان الله لا تطلق، ونسب إلى الإمام ابن الهمام وادعى أنه قاله في فتاويه، ووجه بأن المراد بسبحان الله فيما ذكر أنزه الله عز وجل من أن يخلق البغيض إليه وهو الطلاق فإنه قد ورد أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق وأنكر بعض المتأخرين نسبته إلى ذلك الإمام المتقدم ونفى أن يكون له فتاوى. واعترض التوجيه المذكور بما اعترض وهو لعمري أدنى من أن يعترض عليه. وأنا أقول أولى منه قول النحاس في توجيه جعل التسبيح موضع الاستثناء أن المعنى تنزيه الله تعالى أن يكون شيء إلا بمشيئته وقد يقال: لعل من قال ذلك بنى الأمر على صحة ما روي وإن شرع من قبلنا شرع لنا إذا قصه الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم علينا من غير نكير وهذا على علاته أحسن مما قيل في توجيهه كما لا يخفى. وقيل: المعنى لولا تستغفرون ووجه التجوز يعلم مما تقدم فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ يلوم بعضهم بعضا فإن منهم على ما قيل من أشار بذلك ومنهم من استصوبه ومنهم من سكت راضيا به ومنهم من أنكره ولا يأبى ذلك إسناد الأفعال فيما سبق إلى جميعهم لما علم في غير موضع قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ متجاوزين حدود الله تعالى عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا أي يعطينا بدلا منها ببركة التوبة والاعتراف بالخطيئة خَيْراً مِنْها أي من تلك الجنة إِنَّا إِلى رَبِّنا لا إلى غيره سبحانه راغِبُونَ راجون العفو طالبون الخير وإِلى لانتهاء الرغبة أو لتضمنها معنى الرجوع وعن مجاهد أنهم تابوا فأبدلوا خيرا منها وروي أنهم تعاقدوا وقالوا إن أبدلنا الله تعالى خير منها لنصنعن كما صنع أبونا فدعوا الله عز وجل وتضرعوا إليه سبحانه فأبدلهم الله تعالى من ليلتهم ما هو خير منها وقال ابن مسعود: بلغني أن القوم دعوا الله تعالى وأخلصوا وعلم الله تعالى منهم الصدق فأبدلهم بها جنة يقال لها الحيوان فيها عنب يحمل على البغل منها عنقود وقال أبو خالد اليماني رأيت تلك الجنة وكل عنقود منها كالرجل الأسود القائم واستظهر أبو حيان أنهم كانوا مؤمنين أصابوا معصية وتابوا، وحكي عن بعض أنهم كانوا من أهل الكتاب وعن التستري أن المعظم يقولون إنهم تابوا وأخلصوا وتوقف الحسن في إيمانهم فقال: لا أدري أكان قولهم إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ إيمانا أو على حد ما يكون من المشركين إذا أصابتهم الشدة. وسئل قتادة عنهم أهم من أهل الجنة أم من أهل النار؟ فقال للسائل: لقد كلفتني تعنتا وقرأ نافع وأبو عمرو «يبدلنا» مشددا كَذلِكَ الْعَذابُ جملة من مبتدأ وخبر مقدم لإفادة القصر وال للعهد أي مثل ذلك العذاب الذي بلونا به أهل مكة من الجدب الشديد وأصحاب الجنة مما قص عذاب الدنيا، والكلام قيل وارد تحذيرا لهم كأنه لما نهاه سبحانه عن طاعة الكفار وخاصة رؤسائهم ذكر عز وجل أن تمردهم لما أتوه من المال والبنين وعقب جل وعلا بأنهما إذا لم يشكرا المنعم عليهما يؤول حال صاحبهما إلى حال أصحاب الجنة مدمجا فيه أن خبث النية والزوي عن المساكين إذا أفضى بهم إلى ما ذكر فمعاندة الحق تعالى بعناد من هو على خلقه وأشرف الموجودات وقطع رحمه أولى بأن يفضي بأهل مكة إلى البوار وقوله تعالى وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ أي أعظم وأشد تحذير عن العناد بوجه أبلغ وقوله سبحانه لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ نعى عليهم بالغفلة أي لو كانوا من أهل العلم لعلموا أنه أكبر ولأخذوا منه حذرهم إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ أي من الكفر كما في البحر أو منه ومن المعاصي كما في الإرشاد عِنْدَ رَبِّهِمْ أي في الآخرة فإنها مختصة به عز وجل إذ لا يتصرف فيها غيره جل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 37 جلاله أو في جوار قدسه جَنَّاتِ النَّعِيمِ جنات ليس فيها إلا النعيم الخالص عن شائبة ما ينغصه من الكدورات وخوف الزوال وأخذ الحصر من الإضافة إلى النَّعِيمِ لإفادتها التميز من جنات الدنيا لغالب عليها النغص: طبعت على كدر وأنت تريدها ... صفوا من الأقذار والأكدار وقوله تعالى أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ تقرير لما قبله من فوز المتقين ورد لما يقوله الكفرة عند سماعهم بحديث الآخرة وما وعد الله تعالى إن صح أنا نبعث كما يزعم محمد صلّى الله عليه وسلم ومن معه لم يكن حالنا وحالهم إلا مثل ما هي في الدنيا وإلّا لم يزيدوا علينا ولم يفضلونا، وأقصى أمرهم أن يساوونا والهمزة للإنكار والفاء للعطف والعطف على مقدر يقتضيه المقال أي فيحيف في الحكم الحكم فيجعل المسلمين كالكافرين ثم قيل لهم بطريق الالتفات لتأكيد الرد وتشديده ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ تعجبا من حكمهم واستبعادا له وإيذانا بأنه لا يصدر من عاقل إذ معنى ما لَكُمْ أي شيء حصل لكم من خلل الفكر وفساد الرأي أَمْ لَكُمْ كِتابٌ نازل من السماء فِيهِ أي في الكتاب والجار متعلق بقوله تعالى تَدْرُسُونَ أي تقرءون فيه والجملة صفة كتاب وجوز أن يكون فيه متعلقا بمتعلق الخبر أو هو الصفة والضمير للحكم أو الأمر وتَدْرُسُونَ مستأنف أو حال من ضمير الخطاب وقوله تعالى إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ أي للذي تختارونه وتشتهونه يقال: تخير الشيء واختاره أخذ خيره وشاع في أخذ ما يريده مطلقا مفعول تَدْرُسُونَ إذ هو المدروس فهو واقع موقع المفرد وأصله أن لكم فيه ما تخيرون بفتح همزة «أن» وترك اللام في خبرها فلما جيء باللام كسرت الهمزة وعلق الفعل عن العمل ومن هنا قيل إنه لا بد من تضمين تَدْرُسُونَ معنى العلم ليجري فيه العمل في الجمل والتعليق وجوز أن يكون هذا حكاية للمدروس كما هو عليه فيكون بعينه لفظ الكتاب من غير تحويل من الفتح للكسر وضمير فِيهِ على الأول للكتاب وأعيد للتأكيد وعلى هذا يعود لأمرهم أو للحكم فيكون محصل ما خط في الكتاب أو الحكم أو الأمر مفوض لهم فسقط قول صاحب التقريب أن لفظ فِيهِ لا يساعده للاستغناء بفيه أولا من غير حاجة إلى جعل ضمير فِيهِ ليوم القيامة بقرينة المقام أو للمكان المدلول عليه بقوله تعالى عِنْدَ رَبِّهِمْ وعلى الاستئناف هو للحكم أيضا وجوز الوقف على تَدْرُسُونَ على أن قوله تعالى إِنَّ لَكُمْ إلخ استئناف على معنى إن كان لكم كتاب فلكم فيه ما تتخيرون وهو كما ترى. والظاهر أن أَمْ لَكُمْ إلخ مقابل لما قبله نظرا لحاصل المعنى إذ محصله أفسد عقلكم حتى حكمتكم بهذا أم جاءكم كتاب فيه تخييركم وتفويض الأمر إليكم وقرأ طلحة والضحاك «أن لكم» بفتح الهمزة واللام في لَما زائدة كقراءة من قرأ «الا انهم ليأكلون الطعام» (1) بفتح همزة أنهم وقرأ الأعرج «أن لكم» بالاستفهام على الاستئناف أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا أي إقسام، وفسرت بالعهود وإطلاق الإيمان عليها من إطلاق الجزء على الكل أو اللازم على الملزوم بالِغَةٌ أي أقصى ما يمكن، والمراد متناهية في التوكيد. وقرأ الحسن وزيد بن علي «بالغة» بالنصب على الحال من الضمير المستتر في عَلَيْنا أو لَكُمْ وقال ابن عطية من إيمان لتخصيصها بالوصف وفيه بعد إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ متعلق بالمقدر في لَكُمْ أي ثابتة لكم إلى يوم القيامة لا نخرج عن عهدتها إلا يومئذ إذا حكمناكم وأعطيناكم ما تحكمون أو   (1) سورة الفرقان، الآية: 20. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 38 متعلق ببالغة أي إيمان تبلغ ذلك اليوم وتنتهي إليه وافرة لم يبطل منها يمين فإلى على الأول لغاية الثبوت المقدر في الظرف فهو كأجل الدين وعلى الثاني لغاية البلوغ فهي قيد اليمين أي يمينا مؤكدا لا ينحل إلى ذلك اليوم وليس من تأجيل المقسم عليه في شيء إذ لا مدخل لبالغة في المقسم عليه فتأمل وقوله تعالى إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ جواب القسم لأن معنى أم لكم إيمان علينا أم أقسمنا لكم وهو جار على تفسير الإيمان بمعنى العهود لأن العهد كاليمين من غير فرق فيجاب بما يجاب به القسم وقرأ الأعرج «آن لكم» بالاستفهام أيضا سَلْهُمْ تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بإسقاطهم عن رتبة الخطاب أي سلهم مبكتا لهم أَيُّهُمْ بِذلِكَ الحكم الخارجي عن دائرة العقول زَعِيمٌ قائم يتصدى لتصحيحه، والجملة الاستفهامية في موضع المعمول الثاني لسل والفعل عند أبي حيان وجماعة معلق عنها لمكان الاستفهام، وكون السؤال منزلا منزلة العلم لكونه سببا لحصوله أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ يشاركونهم في هذا القول ويذهبون مذهبهم فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ في دعواهم إذ لا أقل من التقليد، وقد نبه سبحانه وتعالى في هذه الآيات على نفي جميع ما يمكن أن يتعلقوا به في تحقيق دعواهم حيث نبه جل شأنه على نفي الدليل العقلي بقوله تعالى ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ وعلى نفي الدليل النقلي بقوله سبحانه أَمْ لَكُمْ كِتابٌ إلخ وعلى نفي أن يكون الله تعالى وعدهم بذلك ووعد الكريم دين بقوله سبحانه أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا إلخ وعلى نفي التقليد الذي هو أوهن من حبال القمر بقوله عز وجل أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ وقيل المعنى أم لهم آلهة عدوها شركاء في الألوهية تجعلهم كالمسلمين في الآخرة. وقرأ عبد الله وابن أبي عبلة «فليأتوا بشركهم» والمراد به ما أريد بشركائهم يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ متعلق بقوله تعالى فَلْيَأْتُوا على الوجهين ويجوز تعلقه بمقدر كاذكر أو يكون كيت وكيت وقيل بخاشعة وقيل بترهقهم وأيّا ما كان فالمراد بذلك اليوم عند الجمهور يوم القيامة، والساق ما فوق القدم وكشفها والتشمير عنها مثل في شدة الأمر وصعوبة الخطب حتى أنه يستعمل بحيث لا يتصور ساق بوجه كما في قول حاتم: أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها ... وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا وقول الراجز: عجبت من نفسي ومن إشفاقها ... ومن طواء الخيل عن أرزاقها في سنة كشفت عن ساقها ... حمراء تبري اللحم عن عراقها وأصله تشمير المخدرات عن سوقهن في الهرب فإنهن لا يفعلن ذلك إلّا إذا عظم الخطب واشتد الأمر فيذهلن عن الستر بذيل الصيانة، وإلى نحو هذا ذهب مجاهد وإبراهيم النخعي وعكرمة وجماعة وقد روي أيضا عن ابن عباس أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات من طريق عكرمة عنه أنه سئل عن ذلك فقال: إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر فإنه ديوان العرب أما سمعتم قول الشاعر: صبرا عناق إنه شر باق ... قد سن لي قومك ضرب الأعناق وقامت الحرب بنا على ساق والروايات عنه رضي الله تعالى عنه بهذا المعنى كثيرة وقيل: ساق الشيء أصله الذي به قوامه كساق الشجر وساق الإنسان والمراد يوم يكشف عن أصل الأمر فتظهر حقائق الأمور وأصولها بحيث تصير عيانا وإليه يشير كلام الربيع بن أنس فقد أخرج عبد بن حميد عنه أنه قال في ذلك يوم يكشف الغطاء وكذا ما أخرجه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 39 البيهقي عن ابن عباس أيضا قال حين يكشف الأمر وتبدو الأعمال وفي الساق على هذا المعنى استعارة تصريحية وفي الكشف تجوز آخر أو هو ترشيح للاستعارة باق على حقيقته وتنكير ساقٍ قيل للتهويل على الأول وللتعظيم على الثاني. وقيل لا ينظر إلى شيء منهما على الأول لأن الكلام عليه تمثيل وهو لا ينظر فيه للمفردات أصلا وذهب بعضهم إلى أن المراد بالساق ساقه سبحانه وتعالى وأن الآية من المتشابه. واستدل على ذلك بما أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن المنذر وابن مردويه عن أبي سعيد قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقا واحدا» وأنكر ذلك سعيد بن جبير أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه أنه سئل عن الآية فغضب غضبا شديدا وقال: «إن أقواما يزعمون أن الله سبحانه يكشف عن ساقه وإنما يكشف عن الأمر الشديد» وعليه يحمل ما في الحديث على الأمر الشديد أيضا وإضافته إليه عز وجل لتهويل أمره وأنه أمر لا يقدر عليه سواه عز وجل وأرباب الباطن من الصوفية يقولون بالظاهر ويدعون أن ذلك عند التجلي الصوري وعليه حملوا أيضا ما أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده والطبراني والدارقطني في الرؤية والحاكم وصححه وابن مردويه وغيرهم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجمع الله الناس يوم القيامة وينزل الله في ظلل من الغمام فينادي مناد يا أيها الناس ألم ترضوا من ربكم الذي خلقكم وصوركم ورزقكم أن يولي كل إنسان منكم ما كان يعبد في الدنيا ويتولى أليس ذلك عدلا من ربكم قالوا: بلى قال: «فلينطلق كل إنسان منكم إلى ما كان يتولى في الدنيا ويتمثل لهم ما كانوا يعبدون في الدنيا ويمثل لمن كان يعبد عيسى عليه السلام شيطان عيسى وكذا يمثل لمن كان يعبد عزيرا حتى تمثل لهم الشجرة والعود والحجر ويبقى أهل الإسلام جثوما فيتمثل لهم الرب عز وجل فيقال لهم ما لكم لم تنطلقوا كما انطلق الناس فيقولون: إن لنا ربا ما رأيناه بعد فيقول فبم تعرفون ربكم إن رأيتموه؟ قالوا: بيننا وبينه علامة إن رأيناه عرفناه، قال: وما هي؟ قالوا يكشف عن ساق فيكشف عند ذلك» . الحديث وهو ونظائره من المتشابه عند السلف. وقرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة يكشف بفتح الياء مبينا للفاعل وهي رواية عن ابن عباس وقرأ ابن هرمز «نكشف» بالنون وقرىء «يكشف» بالياء التحتية مضمونة وكسر الشين من أكشف إذا دخل في الكشف ومنه اكشف الرجل فهو مكشف انقلبت شفته العليا. وقرىء «تكشف» بالتاء الفوقية والبناء للفاعل وهو ضمير الساعة المعلومة من ذكر يوم القيامة أو الحال المعلومة من دلالة الحال وبها والبناء للمفعول وجعل الضمير للساعة أو الحال أيضا وتعقب بأنه يكون الأصل حينئذ يكشف الله الساعة عن ساقها مثلا ولو قيل ذلك لم يستقم لاستدعائه إبداء الساق وإذهاب الساعة كما تقول: كشفت عن وجهها القناع والساعة ليست سترا على الساق حتى تكشف، وأجيب أنها جعلت سترا مبالغة لأن المخدرة تبالغ في الستر جهدها فكأنها نفس الستر فقيل تكشف الساعة وهذا كما تقول كشفت زيدا عن جهله إذا بالغت في إظهار جهله لأنه كان سترا على جهله يستر معايبه فأبنته وأظهرته إظهارا لم يخف على أحد. وقيل عليه إن الإذهاب حينئذ ادعائي ولا يخفى ما فيه من التكلف ولا عبرة بما ذكر من المثال المصنوع وأقل تكلفا منه جعل عَنْ ساقٍ بدل اشتمال من الضمير المستتر في الفعل بعد نزع الخافض منه. والأصل يكشف عنها أي عن الساعة أو الحال فنزع الخافض واستتر الضمير وتعقب بأن إبدال الجار والمجرور من الضمير المرفوع لا يصح بحسب قواعد العربية فهو ضغث على إبالة وتكلف على تكلف وقيل إن عَنْ ساقٍ نائب الفاعل وتعقب بأن حق الفعل التذكير كصرف عن هند ومر بدعد وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ توبيخا وتعنيفا على تركهم إياه في الدنيا وتحسيرا لهم على تفريطهم في ذلك فَلا يَسْتَطِيعُونَ لزوال القدرة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 40 عليه وفيه دلالة على أنهم يقصدونه فلا يتأتى منهم، وعن ابن مسعود تعقم أصلابهم أي ترد عظاما بلا مفاصل لا تنثني عند الرفع والخفض وتقدم في حديث البخاري ومن معه ما سمعت وفي حديث تصير أصلاب المنافقين والكفار كصياصي البقر عظما واحدا. والظاهر أن الداعي الله تعالى أو الملك وقيل هو ما يرونه من سجود المؤمنين واستدل أبو مسلم بهذه الآية على أن يوم الكشف في الدنيا قال لأنه تعالى قال ويدعون إلى السجود ويوم القيامة ليس فيه تعبد ولا تكليف فيراد منه إما آخر أيام الشخص في دنياه حين يرى الملائكة وإما وقت المرض والهرم والمعجزة ويدفع بما أشرنا إليه خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ حال من مرفوع يُدْعَوْنَ على أن أبصارهم مرتفع شديدة وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ في الدنيا والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير، أو لأن المراد به الصلوات المكتوبة كما قال النخعي والشعبي أو جميع الطاعات كما قيل. والدعوة دعوة التكليف وقال ابن عباس وابن جبير: كانوا يسمعون الأذان والنداء للصلاة فلا يجيبون وَهُمْ سالِمُونَ متمكنون منه أقوى تمكن أي فلا يجيبون إليه ويأبونه وترك ذكر هذا ثقة بظهوره فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ أي إذا كان حالهم ما سمعت فكل من يكذب بالقرآن إليّ واستكفنيه فإن في ما يفرغ بالك ويخلي همك وهو من بليغ الكلام يفيد أن المتكلم واثق بأنه يتمكن من الوفاء بأقصى ما يدور حول أمنية المخاطب وبما يزيد عليه، وقد حققه جار الله بما حاصله أن من استكفى أحدا ترك الأمر إليه وإلا كان استعانة لا استكفاء فأقيم الرادف أعني التخلية وإن يذره وإياه مقام الاستكفاء مبالغة وإنباء عن الكفاية البالغة كيف وهذا الكافي طلب الاستكفاء وقيل: قوله (ذرني) وأبرز ترك الاستكفاء في صورة المنع مبالغة على مبالغة فلو لم يكن شديد الوثوق بتمكنه من الوفاء أقصى التمكن وفوق ما يحوم حول خاطر المستكفي لما كان للطلب على هذا الوجه إلّا بلغ وجه ومَنْ في موضع نصب إما عطفا على المنصوب في (ذرني) أو على أنه مفعول معه وقوله تعالى سَنَسْتَدْرِجُهُمْ استئناف مسوق لبيان كيفية التعذيب المستفاد من الكلام السابق إجمالا والضمير لمن والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد في يُكَذِّبُ باعتبار لفظها أي سنستنزلهم إلى العذاب درجة فدرجة بالإمهال وإدامة الصحة وازدياد النعمة مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ أنه استدراج بل يزعمون أن ذلك إيثار لهم وتفضل على المؤمنين مع أنه سبب لهلاكهم وَأُمْلِي لَهُمْ وأمهلهم ليزدادوا إثما وهم يزعمون أن ذلك لإرادة الخير بهم إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ لا يدفع بشيء وتسمية ذلك كيدا وهو ضرب من الاحتيال لكونه في صورته حيث إنه سبحانه يفعل معهم ما هو نفع لهم ظاهرا ومراده عز وجل به الضرر لما علم من خبث جبلتهم وتماديهم في الكفر والكفران أَمْ تَسْأَلُهُمْ على الإبلاغ والإرشاد أَجْراً دنيويا فَهُمْ لأجل ذلك مِنْ مَغْرَمٍ أي غرامة مالية مُثْقَلُونَ مكلفون حملا ثقيلا فيعرضون عنك وهذه الجملة على ما قاله ابن الشيخ معطوفة على قوله تعالى أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ أي المغيبات أو للوح وأطلق الْغَيْبُ عليه مجازا لأنه محل لكتابة المغيبات أو لظهور صورها بناء على الخلاف المعروف فيه والقرينة فَهُمْ يَكْتُبُونَ ما يحكمون به ويستعنون بذلك عن علمك فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وهو إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم. روي أنه صلّى الله عليه وسلم أراد أن يدعو على ثقيف لما آذوه حين عرض عليه الصلاة والسلام نفسه على القبائل بمكة فنزلت وقيل أراد عليه الصلاة والسلام أن يدعو على الذين انهزموا بأحد حين اشتد بالمسلمين الأمر فنزلت وعليه تكون الآية مدنية وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ هو يونس عليه السلام كما أنه المراد من ذي النون إلّا أنه فرق بين ذي وصاحب بأن «ذي» أبلغ من صاحب قال ابن حجر لاقتضائها تعظيم المضاف إليها والموصوف بها بخلافه ومن ثم قال سبحانه في معرض مدح يونس عليه السلام وَذَا النُّونِ [الأنبياء: 87] الجزء: 15 ¦ الصفحة: 41 والنهي عن اتباعه وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ ذا النون لكونه جعل فاتحة سورة أفخم وأشرف من لفظ الحوت ونقل مثل ذلك السرميني عن العلامة السهيلي وفرق بعضهم بغير ذلك مما هو مذكور في حواشينا على رسالة ابن عصام في علم البيان إِذْ نادى في بطن الحوت وَهُوَ مَكْظُومٌ أي مملوء غيظا على قومه إذ لم يؤمنوا لما دعاهم إلى الإيمان وهو من كظم السقاء إذا ملأه ومن استعماله بهذا المعنى قول ذي الرمة: وأنت من حب ميّ مضمر حزنا ... عاني الفؤاد قريح القلب مكظوم والجملة حال من ضمير نادى وعليها يدور النهي لا على النداء فإنه آمر مستحسن ولذا لم يذكر المنادى وإِذْ منصوب بمضاف محذوف أي لا يكن حالك كحاله وقت ندائه أي لا يوجد منك ما وجد منه من الضجر والمغاضبة فتبتلي بنحو بلائه عليه السلام لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ وهو توفيقه للتوبة وقبولها منه وقرىء «رحمة» وتذكير الفعل على القراءتين لأن الفاعل مؤنث مجازي مع الفصل بالضمير. وقرأ عبد الله وابن عباس «تداركته» بتاء التأنيث وقرأ ابن هرمز والحسن والأعمش «تدّاركه» بتشديد الدال وأصله تتداركه فأبدل التاء دالا وأدغمت الدال في الدال والمراد حكاية الحال الماضية على معنى لولا أن كان يقال فيه تتداركه لَنُبِذَ بِالْعَراءِ بالأرض الخالية من الأشجار أي في الدنيا، وقيل بعراء القيامة لقوله تعالى فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات: 143، 144] ولا يخفى بعده وَهُوَ مَذْمُومٌ في موضع الحال من مرفوع نبذ وعليها يعتمد جواب لَوْلا لأن المقصود امتناع نبذه مذموما وإلا فقد حصل النبذ فدل على أن حاله كانت على خلاف الذم والغرض أن حالة النبذ والانتهاء كانت مخالفة لحالة الإلامة والابتداء لقوله سبحانه فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ [الصافات: 142] وفي الإرشاد أن الجملة الشرطية استئناف وارد لبيان كون المنهي عنه أمرا محذورا مستتبعا للغائلة وقوله سبحانه فَاجْتَباهُ رَبُّهُ عطف على مقدر أي فتداركته نعمة من ربه فَاجْتَباهُ أي اصطفاه بأن رد عز وجل إليه الوحي وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون وقيل استنبأه إن صح أنه لم يكن نبيا قبل هذه الواقعة وإنما كان رسولا لبعض المرسلين في أرض الشام فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ من الكاملين في الصلاح بأن عصمه سبحانه من أن يفعل فعلا يكون تركه أولى وظاهر كلام بعضهم أن الجعل من الصالحين تفسير للاجتباء قيل وفسر الصالحين بالأنبياء وهو مبني على أنه لم يكن قبل الواقعة نبيا، واستدل بالآية على خلق الأفعال لأن جعله صالحا بجعل صلاحه وخلقه فيه وهو من جملة الأفعال ولا قائل بالفرق والمعتزلة يؤولون ذلك تارة بالإخبار بصلاحه وأخرى باللطف به حتى صلح على أنه يحتمل أن يراد بالصالحين الأنبياء كما قيل فلا تفيد الآية أكثر من كون النبوة مجعولة وهو مما اتفق عليه الفريقان فتدبر وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ إن هي المخففة واللام دليلها لأنها لا تدخل بعد النافية ولذا تسمى الفارقة على عرف عند النحاة والمعنى أنهم لشدة عداوتهم ينظرون إليك شزرا بحيث يكادون يزلون قدمك فيرمونك من قولهم نظر إليّ نظرا يكاد يصرعني أو يكاد يأكلني أي لو أمكنه بنظره الصرع أو الأكل لفعله وجعل مبالغة في عداوتهم حتى كأنها سرت من القلب والجوارح إلى النظر فعاد يعمل الجوارح وأنشدوا قول الشاعر: يتقارضون إذا التقوا في موطن ... نظرا يزل مواطىء الأقدام أو أنهم يكادون يصيبونك بالعين إذ روي أنه كان في بني أسد عيانون فأراد بعضهم أن يعين رسول الله صلّى الله عليه وسلم فنزلت. وقال الكلبي: كان رجل من العرب يمكث يومين أو ثلاثة لا يأكل ثم يرفع جانب خبائه فيقول لم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 42 أر كاليوم إبلا ولا غنما أحسن من هذه فتسقط طائفة منها وتهلك، فاقترح الكفار منه أن يصيب رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأجابهم وأنشد: قد كان قومك يحسبونك سيدا ... وأخال أنك سيد معيون فعصم الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلم وأنزل عليه هذه الآية، وقد قيل إن قراءتها تدفع ضرر العين وروي ذلك عن الحسن وفي كتاب الأحكام أنها أصل في أن العين حق والأولى الاستدلال على ذلك بما ورد وصح من عدة طرق أن العين تدخل الرجل القبر والجمل القدر وبما أخرجه أحمد بسند رجاله كما قال الهيثمي ثقات عن أبي ذر مرفوعا «إن العين لتولع بالرجل بإذن الله تعالى حتى يصعد حالقا ثم يتردى منه» إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة وذلك من خصائص بعض النفوس ولله تعالى أن يخص ما شاء منها بما شاء وإضافته إلى العين باعتبار أن النفس تؤثر بواسطتها غالبا وقد يكون التأثير بلا واسطتها بأن يوصف للعائن شيء فتتوجه إليه نفسه فتفسده ومن قال إن الله تعالى أجرى العادة بخلق ما شاء عند مقابلة عين العائن من غير تأثير أصلا فقد سد على نفسه باب العلل والتأثيرات والأسباب والمسببات وخالف جميع العقلاء قاله ابن القيم. وقال بعض أصحاب الطبائع إنه ينبعث من العين قوة سمية تؤثر فيما نظره كما فصل في شرح مسلم وهذا لا يتم عندي فيما لم يره ولا في نحو ما تضمنه حديث أبي ذر المتقدم آنفا ولا في إصابة الإنسان عين نفسه كما حكاه المناوي فإنه لا يقتل الصل سمه. ومن ذلك ما حكاه الغساني قال نظر سليمان بن عبد الملك في المرآة فأعجبته نفسه فقال: كان محمد صلّى الله عليه وسلم نبيا، وكان أبو بكر صديقا، وكان عمر فاروقا، وعثمان حييا، ومعاوية حليما، ويزيد صبورا، وعبد الملك سائسا، والوليد جبارا، وأنا الملك الشاب، وأنا الملك الشاب فما دار عليه الشهر حتى مات ومثل ذلك ما قيل إنه من باب التأثير في القوة المعروفة اليوم بالقوة الكهربائية عند الطباعيين المحدثين، فقد صح أن بعض الناس يكرر النظر إلى بعض الأشخاص من فوقه إلى قدمه فيصرعه كالمغشي عليه، وربما يقف وراءه جاعلا أصابعه حذاء نقرة رأسه ويوجه نفسه إليه حتى تضعف قواه فيغشاه نحو النوم ويتكلم إذ ذاك بما لا يتكلم به في وقت آخر، وأنا لا أزيد على القول بأنه من تأثيرات النفوس ولا أكيف ذلك فالنفس الإنسانية من أعجب مخلوقات الله عز وجل وكم طوي فيه أسرار وعجائب تتحير فيها العقول ولا ينكرها إلّا مجنون أو جهول، ولا يسعني أن أنكر العين لكثرة الأحاديث الواردة فيها ومشاهدة آثارها على اختلاف الأعصار ولا أخص ذلك بالنفوس الخبيثة كما قيل فقد يكون من النفوس الزكية والمشهور أن الإصابة لا تكون مع كراهة الشيء وبغضه وإنما تكون مع استحسانه وإلى ذلك ذهب القشيري وكأنه يشير بذلك إلى الطعن في صحة الرواية هاهنا لأن الكفار كانوا يبغضونه عليه الصلاة والسلام فلا تتأتي لهم إصابته بالعين وفيه نظر. وحكم العائن على ما قال القاضي عياض أن يجتنب وينبغي للإمام حبسه ومنعه عن مخالطة الناس كفّا لضرره ما أمكن ويرزقه حينئذ من بيت المال. هذا وقرأ نافع «ليزلقونك» بفتح الياء من زلقه بمعنى أزلقه وقرأ عبد الله وابن عباس والأعمش وعيسى «ليزهقونك» بالهاء بدل اللام أي ليهلكونك لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ أي وقت سماعهم القرآن وذلك لاشتداد بغضهم وحسدهم عند سماعه. ولَمَّا كما أشرنا إليه ظرفية متعلقة بيزلقونك ومن قال إنها حرف وجوب لوجوب ذهب إلى أن جوابها محذوف لدلالة ما قبل عليه أي لما سمعوا الذكر كادوا يزلقونك وَيَقُولُونَ لغاية حيرتهم في أمره عليه الصلاة والسلام ونهاية جهلهم بما في تضاعيف القرآن من عجائب الحكم وبدائع العلوم ولتنفير الناس عنه إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وحيث كان مدار حكمهم الباطل ما سمعوا منه صلّى الله عليه وسلم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 43 رد ذلك ببيان علو شأنه وسطوع برهانه فقيل وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ على أنه حال من فاعل يقولون والرابط الواو فقط أو مع عموم العالمين كما قيل مفيد لغاية بطلان قولهم وتعجيب للسامعين من جراءتهم على التفوه بتلك العظيمة أي يقولون ذلك والحال أنه ذكر للعالمين أي تذكير وبيان لجميع ما يحتاجون إليه من أمور دينهم فأين من أنزل عليه ذلك وهو مطلع على أسراره طرّا ومحيط بجميع حقائقه خيرا مما قالوه وقيل معناه شرف وفضل لقوله تعالى وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: 44] وعموم العالمين لما فيه من الاعتناء بما ينفعهم وقيل الضمير لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وكونه مذكرا وشرفا للعالمين لا ريب فيه ورجح بأن الجملة عليه تكون صريحة في رد دعواهم الباطلة وأنت تعلم أن الأول أولى والله تعالى أعلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 44 سورة الحاقّة مكية وآيها إحدى وخمسون آية بلا خلاف فيهما ويدل للأول ما أخرج الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: خرجت أتعرض لرسول الله صلّى الله عليه وسلم قبل أن أسلم فوجدته قد سبقني إلى المسجد فوقفت خلفه فاستفتح سورة الحاقة فجعلت أعجب من تأليف القرآن هذا والله شاعر فقال وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ [الحاقة: 41] قلت كاهن فقال لا وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ [الحاقة: 42، 43] إلى آخر السورة فوقع الإسلام في قلبي كل موقع ولما وقع في نون ذكر يوم القيامة مجملا شرح سبحانه في هذه السورة الكريمة نبأ ذلك اليوم وشأنه العظيم وضمنه عز وجل ذكر أحوال أمم كذبوا الرسل عليهم السلام وما جرى عليهم ليزدجر المكذبون المعاصرون له عليه الصلاة والسلام فقال عز من قائل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَاقَّةُ أي الساعة أو الحاقة التي يحق ويجب وقوعها أو التي تحقق الجزء: 15 ¦ الصفحة: 45 وتثبت فيها الأمور الحقة من الحساب والثواب والعقاب أو التي تحق فيها الأمور أي تعرف على الحقيقة من حقه يحقه إذا عرف حقيقته وروي هذا عن ابن عباس وغيره وإسناد الفعل لها على الوجهين الأخيرين مجاز وهو حقيقة لما فيها من الأمور أو لمن فيها من أولي العلم وفي الكشف كون الإسناد مجازيا إنما هو على الوجه الأخير وأما على الوجه الثاني فيحتمل الإسناد المجازي أيضا لأن الثبوت والوجوب لما فيها ويحتمل أن يراد ذو الحاقة من باب تسمية الشيء باسم ما يلابسه وهذا أرجح لأن الساعة وما فيها سواء في وجوب الثبوت فيضعف قرينة الإسناد المجازي والتجوز فيه تصوير ومبالغة انتهى. وبحث فيه الجلبي بما فيه بحث فارجع إليه وتدبر وقال الأزهري الْحَاقَّةُ القيامة من حاققته فحققته أي غالبته فغلبته فهي حاقة لأنها تحق كل محاق دين الله تعالى بالباطل أي كل مخاصم فتغلبه وظاهر كلامهم أنها على جميع ذلك وصف حذف موصوفة للإيذان بكمال ظهور اتصافه بهذه الصفة وجريانه مجرى الاسم. وقيل إنها على ما روي عن ابن عباس من كونها من أسماء يوم القيامة اسم جامد لا يعتبر موصوف محذوف وقيل هي مصدر كالعاقبة والعافية وأيّا ما كان فهي مبتدأ خبرها جملة مَا الْحَاقَّةُ على أن مبتدأ والْحَاقَّةُ خبر أو بالعكس ورجح معنى والأول هو المشهور والرابط إعادة المبتدأ بلفظه والأصل ما هي أي أي شيء هي في حالها وصفتها فإن ما قد يطلب بها الصفة والحال فوضع الظاهر موضع المضمر تعظيما لشأنها وتهويلا لأمرها. وقوله تعالى وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ أي أي شيء أعلمك ما هي تأكيد لهولها وفظاعتها ببيان خروجها عن دائرة علوم المخلوقات على معنى أن أعظم شأنها ومدى هولها وشدتها بحيث لا يكاد تبلغه دراية أحد ولا وهمه، وكيفما قدرت حالها فهي وراء ذلك وأعظم وأعظم فلا يتسنى الإعلام ومنه يعلم أن الاستفهام كني به عن لازمه من أنها لا تعلم ولا يصل إليها دراية دار ولا تبلغها الأوهام والأفكار وما في موضع الرفع على الابتداء وإدراك خبره ولا مساغ هاهنا للعكس ومَا الْحَاقَّةُ جملة محلها النصب على إسقاط الخافض لا إن أدري يتعدى إلى المفعول الثاني بالباء كما في قوله تعالى وَلا أَدْراكُمْ بِهِ [يونس: 16] فلما وقعت جملة الاستفهام معلقة له كانت في موضع المفعول الثاني، وتعليق هذا الفعل على ما قيل لما فيه من معنى العلم والجملة أعني ما أدراك إلخ معطوفة على ما قبلها من الجملة الصغرى كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ بالقيامة التي تقرع الناس بالإفزاع والأهوال والسماء بالانشقاق والانفطار والأرض والجبال بالدك والنسف والنجوم بالطمس والانكدار ووضعها موضع ضمير الْحَاقَّةُ للدلالة على معنى القرع وهو ضرب شيء بشيء فيها تشديدا لهولها. والجملة استئناف مسوق لبيان بعض أحوال الحاقة له عليه الصلاة والسلام أثر تقريراته ما أدراه صلّى الله عليه وسلم بها أحد والمبين كونها بحيث يحق إهلاك من يكذب بها كأنه قيل وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ كذبت بها ثمود وعاد فأهلكوا فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا أي أهلكهم الله تعالى. وقرأ زيد بن علي «فهلكوا» بالبناء للفاعل بِالطَّاغِيَةِ أي الواقعة المجاوزة للحد وهي الصيحة لقوله تعالى في [هود: 67] وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ وبها فسرت الصاعقة في حم السجدة أو الرجفة لقوله سبحانه في [الأعراف: 78، 91] فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ وهي الزلزلة المسببة عن الصيحة فلا تعارض بين الآيات لأن الإسناد في بعض إلى السبب القريب وفي بعض آخر إلى البعيد والأول مروي عن قتادة قال: أي بالصيحة التي خرجت عن حد كل صيحة، وقال ابن عباس وأبو عبيدة وابن زيد ما معناه الطاغية مصدر فكأنه قيل بطغيانهم وأيد بقوله تعالى كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها [الشمس: 11] والمعول عليه الأول لمكان قوله تعالى وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ وإيضاح ذلك أن الآية فيها جمع وتفريق، فلو قيل أهلك هؤلاء بالطغيان على أن ذلك سبب جالب وهؤلاء بالريح على أنه سبب آلي لم يكن طباق إذ جاز أن يكون الجزء: 15 ¦ الصفحة: 46 هؤلاء أيضا هلكوا بسبب الطغيان وهذا معنى قول الزمخشري في تضعيف الثاني لعدم الطباق بينها وبين بِرِيحٍ لا أن ذلك لأن أحدهما عين والآخر حدث وما ذكر من التأييد لا يخفى حاله. وكذا يرجح الأول على قول مجاهد وابن زيد أيضا أي بسبب الفعلة الطاغية التي فعلوها وهي عقر الناقة وعلى ما قيل الطاغية عاقر الناقة والهاء فيها للمبالغة كما في رجل راوية وأهلكوا كلهم بسببه لرضاهم بفعله وما قيل أيضا بسبب الفئة الطاغية ووجه الرجحان يعلم مما ذكر ومر الكلام في الصرصر فتذكر وهو صفة ريح وكذا قوله تعالى عاتِيَةٍ أي شديدة العصف أو عتت على عاد فما قدروا على ردها والخلاص منها بحيلة من استتار ببناء أو لياذ بجبل أو اختفاء في حفرة فإنها كانت تنزعهم من مكانهم وتهلكهم والعتو عليهما استعارة وأصله تجاوز الحد وهو قد يكون بالنسبة إلى الغير وقد لا يكون، ومنه يعلم الفرق بين الوجهين وأخرج ابن جرير عن عليّ بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه أنه قال: لم تنزل قطرة إلّا بمكيال على يدي ملك إلّا يوم نوح فإنه أذن للماء دون الخزان فطغى الماء على الخزان فخرج فذلك قوله تعالى إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ [الحاقة: 11] ولم ينزل شيء من الريح إلّا بمكيال على يدي ملك إلّا يوم عاد فإنه أذن لها دون الخزان فخرجت فذلك قوله تعالى بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ عتت على الخزان. وفي صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما ما يوافقه فهو تفسير مأثور. وقد حكي ذلك في الكشاف ثم قال: ولعلها عبارة عن الشدة والإفراط فيها، وخرج ذلك في الكشف على الاستعارة التمثيلية ثم قال: إن المثل إذا صار بحيث يفهم منه المقصود من دون نظر إلى أصل القصة جاز أن يقال إنه كناية عنه كما فيما نحن فيه. وجوز أن يكون هناك تشبيه بليغ من العتو وهو الخروج عن الطاعة وقوله تعالى سَخَّرَها عَلَيْهِمْ إلخ استئناف جيء به بيانا لكيفية إهلاكهم بالريح وجوز أن يكون صفة أخرى وأنه جيء به لنفي ما يتوهم من أنها كانت من اقترانات بعض الكواكب ببعض ونزولها في بعض المنازل إذ لو وجدت الاقترانات المقتضية لبعض الحوادث كان ذلك بتقديره تعالى وتسببه عز وجل لا من ذاتها استقلالا والسبب الذي يذكره الطبائعيون للريح تكاثف الهواء في الجهة التي يتوجه إليها وتراكم بعضه على بعض بانخفاض درجة حرارته فيقل تمدده ويتكاثف ويترك أكثر المحل الذي كان مشغولا به خاليا أو بتجمع فجائي يحصل في الأبخرة المنتشرة في الهواء فتخلو محالها. وعلى التقديرين يجري إلى ذلك المحل الهواء المجاور بقوة ليشغله فيحدث ويستمر حتى يمتلىء ذلك الفضاء ويتعادل فيه الهواء فيسكن عند ذلك ويتفاوت سيرها سرعة وبطأ فتقطع الريح المعتدلة على ما قيل في الساعة الواحدة نحو فرسخ والمتوسط فيها نحو أربعة فراسخ والقوية نحو ثمانية فراسخ وما هي أقوى منها نحو ستة عشر فرسخا وما هي أقوى وتسمى المؤتفكة نحو تسعة وعشرين فرسخا وقد تقطع في ساعة نحو ستة وثلاثين فرسخا وهذا أكثر ما قيل في سرعة الريح. وقد عملوا آلة يزعمون أنها مقياس يستعلم بها قوة هبوب الريح وضعفه وهذا غير بعيد من النوع الإنساني ويقال فيما ذكروه من السبب نحو ما سمعت آنفا ومعنى سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سلطها عز وجل بقدرته عليهم سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً أي متتابعات كما قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة وأبو عبيدة جمع حاسم كشهود جمع شاهد من حسمت الدابة إذا تابعت كيها على الداء كرة بعد أخرى حتى ينحسم فهي مجاز مرسل من استعمال المقيد وهو الحسم الذي هو تتابع الكي في مطلق التتابع وفي الكشف هو مستعار من الحسم بمعنى الكي شبه الأيام بالحاسم والريح لملابستها بها وهبوبها فيها واستمرار وصفها بوصفها في قولهم يوم بارد وحار إلى غير ذلك بفعل الأيام كل هبة منها كية وتتابعها بتتابع الكيات حتى يحصل الانحسام أي استئصال الداء الذي هو المقصود. والمعنى بعد التلخيص متتابعة هبوب الرياح حتى أتت عليهم واستأصلتهم أو نحسات مشؤومات كما الجزء: 15 ¦ الصفحة: 47 قال الخليل قيل والمعنى قاطعات الخير بنحوستها وشؤمها فمعمول حُسُوماً محذوف أو قاطعات قطعت دابرهم وأهلكتهم عن آخرهم كما قال ابن زيد. وقال الراغب الحسم إزالة أثر الشيء يقال: قطعه فحسمه أي أزال مادته وبه سمي السيف حساما وحسم الداء إزالة أثره بالكي وقيل للشؤم المزيل لأثر ما ناله حسوم وحُسُوماً في الآية قيل حاسما أثرهم وقيل حاسما خبرهم وقيل قاطعا لعمرهم وكل ذلك داخل في عمومه فلا تغفل. وجوز أن يكون حسوما مصدرا لا جمع حاسم وانتصابه إما بفعله المقدر حالا أي بحسمهم حسوما بمعنى تستأصلهم استئصالا أو على العلة أي سخرها عليهم لأجل الاستئصال أو على أنه صفة أي ذات حسوم. وأيدت المصدرية بقراءة السدي «حسوما» بفتح الحاء على أنه حال من الريح أي سخرها مستأصلة لتعين كونه مفردا على ذلك وهي كانت أيام العجوز من صبح الأربعاء لثمان بقين من شوال إلى غروب الأربعاء الآخر، وإنما سميت أيام العجوز، لأن عجوزا من عاد توارت في سرب فانتزعتها الريح في اليوم الثامن وأهلكتها، أو لأنها عجز الشتاء فالعجوز بمعنى العجز وأسماؤها الصن والصنبر والوبر والآمر والمؤتمر والمعلل ومطفىء الجمر ومطفىء الظعن ولم يذكر هذا الثامن من قال إنها سبعة لا ثمانية كما هو المختار فَتَرَى الْقَوْمَ أي إن كنت حاضرا حينئذ فالخطاب فيه فرضي فِيها أي في الأيام والليالي وقيل في مهاب الريح وقيل في ديارهم والأول أظهر صَرْعى أي هلكى جمع صريع كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ أي أصول نخيل وقرأ أبو نهيك: «أعجز» على وزن أفعل كضبع وأضبع وحكى الأخفش أنه قرىء «نخيل» بالياء خاوِيَةٍ خلت أجوافها بلى وفسادا وقال ابن شجرة كانت تدخل من أفواههم فتخرج ما في أجوافهم من الحشو من أدبارهم فصاروا كأعجاز النخل الخاوية. وقال يحيى بن سلام خلت أبدانهم من أرواحهم فكانوا كذلك. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: كانوا في سبعة أيام في عذاب ثم في الثامن ماتوا وألقتهم الريح في البحر فذلك قوله تعالى فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ أي بقية على أن الباقية اسم كالبقية لا وصف والتاء للنقل إلى الاسمية أو نفس باقية على أن الموصوف مقدر والتاء للتأنيث وقال ابن الأنباري أي باق والهاء للمبالغة وجوز أن يكون مصدرا كالطاغية والكاذبة أي بقاء والتاء للوحدة وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ ومن تقدمه من الأمم الكافرة كقوم نوح عليه السلام وفيه تعميم بعد التخصيص فإن منهم عادا وثمودا وقرأ أبو رجاء وطلحة والجحدري والحسن بخلاف عنه وعاصم في رواية أبان والنحويان وأبان «ومن قبله» بكسر القاف وفتح الباء أي ومن في جهته وجانبه والمراد ومن عنده من أتباعه وأهل طاعته ويؤيده قراءة أبي وابن مسعود ومن معه وَالْمُؤْتَفِكاتُ أي قرى قوم لوط عليه السلام والمراد أهلها مجازا بإطلاق المحل على الحال أو بتقدير مضاف وعلى الإسناد المجازي والقرينة العطف على من يتصف بالمجيء وقرى الحسن هنا «والمؤتفكة» على الإفراد بِالْخاطِئَةِ أي بالخطأ على أنه مصدر على زنة فاعلة أو بالفعلة أو الأفعال ذات الخطأ العظيم على أن الإسناد مجازي وهو حقيقة لأصحابها واعتبار العظم لأنه لا يجعل الفعل خاطئا إلّا إذا كان صاحبه بليغ الخطأ ويجوز أن تكون الصيغة للنسبة فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ أي فعصى كل أمة رسولها حين نهاها عما كانت تتعاطاه من القبائح، فإفراد الرسول على ظاهره وجوز أن يكون جمعا أو مما يستوي فيه الواحد وغيره لأنه مصدر في الأصل وأريد منه التكثير لاقتضاء السياق له فهو من مقابلة الجمع المقتضي لانقسام الآحاد أو أطلق الفرد عليهم لاتحادهم معنى فيما أرسلوا به والظاهر أن هذا بيان لمجيئهم بالخاطئة فَأَخَذَهُمْ أي الله عز وجل أَخْذَةً رابِيَةً أي زائدة في الشدة كما زادت قبائحهم في القبح من ربا الشيء إذا زاد إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ جاوز حده المعتاد حتى أنه علا على أعلى جبل خمس عشرة ذراعا أو طغى على خزانه على ما سمعت قبيل هذا وذلك بسبب الجزء: 15 ¦ الصفحة: 48 إصرار قوم نوح عليه السلام على فنون الكفر والمعاصي ومبالغتهم في تكذيبه عليه السلام فيما أوحى إليه من الأحكام التي من جملتها أحوال القيامة حَمَلْناكُمْ أي في أصلاب آبائكم أو حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم على أنه بتقدير مضاف وقيل على التجوز في المخاطبين بإرادة آبائهم المحمولين بعلاقة الحلول وهو بعيد فِي الْجارِيَةِ في سفينة نوح عليه السلام والمراد بحملهم فيها رفعهم فوق الماء إلى انقضاء أيام الطوفان لا مجرد رفعهم إلى السفينة كما يعرب عنه كلمة فِي فإنها ليست بصلة للحمل بل متعلقة بمحذوف هو حال من مفعوله أي رفعناكم فوق الماء وحفظناكم حال كونكم في السفينة الجارية بأمرنا وحفظنا وفيه تنبيه على أن مدار نجاتهم محض عصمته عز وجل وإنما السفينة سبب صوري وكثر استعمال الجارية في السفينة وعليه: تسعون جارية في بطن جارية لِنَجْعَلَها أي الفعلة التي هي عبارة عن إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين لَكُمْ تَذْكِرَةً عبرة ودلالة على كمال قدرة الصانع وحكمته وقوة قهره وسعة رحمته وَتَعِيَها أي تحفظها والوعي أن تحفظ الشيء في نفسك، والإيعاء أن تحفظه في غير نفسك من وعاء أُذُنٌ واعِيَةٌ أي من شأنها أن تحفظ ما يجب حفظه بتذكره وإشاعته والتفكر فيه ولا تضيعه بترك العمل به. وعن قتادة الواعية هي التي عقلت عن الله تعالى وانتفعت بما سمعت من كتاب الله تعالى وفي الخبر أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لعلي كرم الله تعالى وجهه: «إني دعوت الله تعالى أن يجعلها أذنك يا علي» قال علي كرم الله تعالى وجهه فما سمعت شيئا فنسيته وما كان لي أن أنسى . وفي جعل الأذن واعية وكذا جعلها حافظة ومتذكرة ونحو ذلك تجوز والفاعل لذلك إنما هو صاحبها ولا ينسب لها حقيقة إلّا السمع والتنكير للدلالة على قلتها وان من هذا شأنه مع قتله بنسيب لنحاة الجم الغفير وإدامة نسلهم وقيل ضمير نجعلها للجارية وجعلها تذكرة لما أنه على ما قال قتادة أدركها أوائل هذه الأمة أي أدركوا ألواحها على الجودي كما قال ابن جريج. بل قيل إن بعض الناس وجد شيئا من أجزائها بعد الإسلام بكثير والله تعالى أعلم بصحته ولا يخفى أن المعول عليه ما قدمناه. وقرأ ابن مصرف وأبو عمرو في رواية هارون وخارجة عنه وقيل بخلاف عنه «وتعيها» بإسكان العين على التشبيه بكتف وكبد كما قيل وقرأ حمزة بإخفاء الكسرة وروي عن عاصم أنه قرأ بتشديد الياء قال في البحر قيل هو خطأ وينبغي أن يتأول على أنه أريد به شد بيان الياء احترازا ممن سكنها لا إدغام حرف في حرف ولا ينبغي أن يجعل ذلك من التضعيف في الوقف ثم أجري الوصل مجرى الوقف وإن كان قد ذهب إليه بعضهم وروي عن حمزة وموسى بن عبد الله العبسي «وتعيها» بإسكان الياء فاحتمل الاستئناف وهو الظاهر واحتمل أن يكون مثل قراءة من أوسط ما تطعمون أهاليكم بسكون الياء وقرأ نافع «أذن» بإسكان الذال للتخفيف فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ شروع بيان نفس الحاقة وكيفية وقوعها إثر بيان عظم شأنها بإهلاك مكذبيها. والمراد بالنفخة الواحدة النفخة الأولى التي عندها خراب العالم كما قال ابن عباس. وقال ابن المسيب ومقاتل هي النفخة الآخرة والأول أولى لأنه المناسب لما بعد وإن كانت الواو لا تدل على الترتيب لكن مخالفة الظاهر من غير داع مما لا حاجة إليه والنفخة قال جار الله في حواشي كشافه: المرة ودلالتها على النفخ اتفاقية غير مقصودة وحدوث الأمر العظيم بها وعلى عقبها إنما استعظم من حيث وقوع النفخ مرة واحدة لا من حيث إنه نفخ فنبه على ذلك بقوله سبحانه واحِدَةٌ وعن ابن الحاجب أن نَفْخَةٌ لم يوضع للدلالة على الوحدة على حيالها وإنما وضع للدلالة على النفخ والدلالة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 49 على الوحدة اتفاقية غير مقصودة، وتعقب بأن هذا بعد التسليم لا يضر لأن الكلام في مقتضى المقام لا أصل الوضع. وقد تقرر أن الذي سيق له الكلام يجعل معتمدا حتى كان غيره مطروح فالمرة هي المعتمدة نظرا للمقام دون النفخ نفسه وإن كان النظر إلى ظاهر اللفظ يقتضي العكس فافهم. وأيّا ما كان فإسناد الفعل إلى نَفْخَةٌ ليس من إسناد الفعل إلى المصدر المؤكد كضرب ضرب وإن لم يلاحظ ما بعده من قوله سبحانه واحِدَةٌ وحسن تذكير الفعل للفصل وكون المرفوع غير حقيقي التأنيث وكونه مصدرا فقد ذكر الجار بردي في شرح الشافية إن تأنيثه غير معتبر لتأويله بأن والفعل والمشهور أن واحِدَةٌ صفة مؤكدة وأطلق عليها بعضهم التوكيد وبعضهم البيان وذكر الطيبي أن التوابع كالبدل وعطف البيان والصفة بيان من وجه للمتبوع عند أرباب المعاني وتمام الكلام في ذلك في المطول. وقرأ أبو السمال «نفخة واحدة» بنصبهما على إقامة الجار والمجرور مقام الفاعل وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ رفعتا من أحيازهما بمجرد القدرة الإلهية من غير واسطة مخلوق أو بتوسط نحو ريح أو ملك قيل أو بتوسط الزلزلة أي بأن يكون لها مدخل في الرفع لا أنها رافعة لهما حاملة إياهما ليقال إنها ليس فيها حمل، وإنما هي اضطراب. وقيل: يجوز أن يخلق الله تعالى من الأجرام العلوية ما فيه قوة جذب الجبال ورفعها عن أماكنها أو أن يكون في الأجرام الموجودة اليوم ما فيه قوة ذلك إلّا أن في البين مانعا من الجذب والرفع وأنه يزول بعد فيحصل الرفع، وكذا يجوز أن يعتبر مثل ذلك بالنسبة إلى الأرض وأن تكون قوتا الجاذبين مختلفتين فإذا حصل رفع كل إلى غاية يريدها الله تعالى حدث في ذلك الجاذب ما لم يبق معه ذلك الجذب من زوال مسامته ونحوه وحصل بين الجبال والأرض ما يوجب التصادم. ويجوز أيضا أن يحدث في الأرض من القوى ما يوجب قذفها للجبال ويحدث للأرض نفسها ما يوجب رفعها عن حيزها وكون القوى منها ما هو متنافر ومنها ما هو متحاب مما لا لا يكاد ينكر، وقيل يمكن أن يكون رفعهما بمصادمة بعض الأجرام كذوات الأذناب على ما قيل فيها جديدا للأرض فتنفصل الجبال وترتفع من شدة المصادمة. ورفع الأرض من حيزها ولا يخفى أن كل هذا على ما فيه لا يحتاج إليه ويكفينا القول بأن الرفع بالقدرة الإلهية التي لا يتعاصاها شيء وقرأ ابن أبي عبلة وابن مقسم والأعمش وابن عامر في رواية يحيى «وحملت» بتشديد الميم وحمل على التكثير وجوز أن يكون تضعيفا للنقل فيكون الأرض والجبال المفعول الأول أقيم مقام الفاعل والمفعول الثاني محذوف أي قدرة أو ريحا أو ملائكة أو يكون المفعول الثاني أقيم مقام الفاعل والأول محذوف وهو أحد المذكورات فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً فضربت الجملتان أثر رفعهما بعضها ببعض ضربة واحدة حتى تفتت وترجع كما قال سبحانه كَثِيباً مَهِيلًا [المزمل: 14] وقيل تتفرق اجزاؤها كما قال سبحانه هَباءً مُنْبَثًّا [الواقعة: 6] وفرقوا بين الدك والدق بأن في الأول تفرق الأجزاء وفي الثاني اختلافها. وقال بعض الأجلة: أصل الدك الضرب على ما ارتفع لينخفض ويلزمه التسوية غالبا فلذا شاع فيها حتى صار حقيقة ومنه أرض دكاء للمتسعة المستوية وبعير أدك وناقة دكاء إذا ضعفا فلم يرتفع سناما هما واستوت خدجتهما مع ظهريهما فالمرادها هنا فبسطتا بسطة واحدة وسويتا فصارتا أرضا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ولعل التفتت مقدمة للتسوية أيضا وقال الراغب الدك الأرض اللينة السهلة وقوله تعالى فَدُكَّتا أي جعلتا بمنزلة الأرض اللينة وهذا أيضا يرجع إلى التسوية كما لا يخفى. وحكي في مجمع البيان أنهما إذا دكتا تتفتت الجبال وتنسفها الريح وتبقى الأرض مستوية وثني الضمير لإرادة الجملتين كما أشرنا إليه فَيَوْمَئِذٍ أي فحينئذ على أن المراد باليوم مطلق الوقت وهو هاهنا متسع يقع فيه ما يقع والتنوين عوض عن المضاف إليه أي فيوم إذ نفخ في الصور وكان كيت وكيت وَقَعَتِ الْواقِعَةُ أي قامت القيامة وتفسير الواقعة بصخرة بيت المقدس الجزء: 15 ¦ الصفحة: 50 واقع عن درجة القبول وَانْشَقَّتِ السَّماءُ تفطرت وتميز بعضها عن بعض. ولعله إشارة إلى ما تضمنه قوله تعالى: يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا [الفرقان: 25] وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال ذلك قوله تعالى: وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً [النبأ: 19] ولا منافاة بينهما وكذا لا منافاة بين كون الانشقاق لنزول الملائكة وكونه لهول يوم القيامة لأن الأمر قد يكون له علل شتى مثل هذه العلل، والمراد بالسماء جنسها وقيل السماوات السبع وأيما كان فلا يشترط لصحة الانشقاق كونها أجساما صلبة إذ يتصف بنحو ذلك ما ليس بصلب أيضا فقد وصف البحر بالانفلاق فَهِيَ أي السماء يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ ضعيفة من وهى الشيء ضعف وتداعى للسقوط وقال ابن شجرة من قولهم وهي السقاء إذا انخرق ومن أمثالهم قول الراجز: خل سبيل من وهى سقاؤه ... ومن هريق بالفلاة ماؤه وَالْمَلَكُ أي الجنس المتعارف بالملك وهو أعم من الملائكة عند الزمخشري وجماعة وقد ذكره الجوهري أيضا وقال أبو حيان: الملك اسم جنس يراد به الملائكة ولا يظهر أنه أعم من الملائكة وتحقيق هذا المقام بما لا مزيد عليه في شرح التلخيص للعلامة الثاني وحواشيه فارجع إن أردت إليه عَلى أَرْجائِها أي جوانبها جمع رجى بالقصر وهو من ذوات الواو، ولذا برزت في التثنية قال الشاعر: كأن لم تري قبلي أسيرا مقيدا ... ولا رجلا يرمي به الرجوان والضمير للسماء والمراد بجوانبها أطرافها التي لم تنشق أخرج ابن المنذر عن ابن جبير والضحاك قال إنهما قالا وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها أي على ما لم ينشق منها، ولعل ذلك التجاء منهم للأطراف مما داخلهم من ملاحظة عظمة الله عزّ وجلّ أو اجتماع هناك للنزول. وأخرج ابن المنذر وعبد بن حميد عن الربيع بن أنس قال وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها أي الملائكة على شقها ينظرون إلى شق الأرض وما أتاهم من الفزع والأول أظهر ولعل هذا الانشقاق بعد موت الملائكة عند النفخة الأولى وإحيائهم وهو يحيون قبل الناس كما تقتضيه الأخبار ويجوز أن يكون ذلك بعد النفخة الثانية والناس في المحشر ففي بعض الآثار ما يشعر بانشقاق كل سماء يومئذ ونزول ملائكتها واليوم متسع كما أشرنا إليه. وقال الإمام يحتمل أنهم يقفون على الأرجاء لحظة ثم يموتون. ويحتمل أن يكون المراد بهم الذين استثناهم الله تعالى في قوله سبحانه إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [النمل: 87، الزمر: 68] . وعلى الوجهين ينحل ما يقال الملائكة يموتون في الصعقة الأولى لقوله تعالى فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [الزمر: 68] فكيف يقال إنهم يقفون على أرجاء السماء وفي أنوار التنزيل لعل قوله تعالى وَانْشَقَّتِ السَّماءُ إلخ تمثيل لخراب العالم بخراب المبنيات وانضواء أهلها إلى أطرافها وإن كان على ظاهره فلعل موت الملائكة إثر ذلك انتهى وأنا لا أقول باحتمال التمثيل وفي البحر عن ابن جبير والضحاك إن ضمير أَرْجائِها للأرض وإن بعد ذكرها قالا إنهم ينزلون إليها يحفظون أطرافها كما روي أن الله تعالى يأمر ملائكة السماء الدنيا فيقفون صفا على حافات الأرض ثم ملائكة الثانية فيصفون حولهم ثم ملائكة كل سماء فكلما ند أحد من الجن والإنس وجد الأرض أحيط بها ولعل ما نقلناه عنهما أولى بالاعتماد وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ أي فوق الملائكة الذين على الأرجاء المدلول عليهم بالملك وقيل فوق العالم كلهم وقيل الضمير يعود على الملائكة الحاملين أي يحمل عرش ربك فوق ظهورهم أو رؤوسهم يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ والمرجع وإن تأخر لفظا لكنه متقدم رتبة وفائدة فوقهم الدلالة على أنه ليس محمولا بأيديهم كالمعلق مثلا وأيد هذا واعتبار الظهور بما أخرج الترمذي وأبو داود وابن ماجة عن العباس بن عبد المطلب في حديث الجزء: 15 ¦ الصفحة: 51 وفوق ذلك ثمانية أو عال بين أظلافهن ووركهن ما بين سماء إلى سماء ثم فوق ظهورهن العرش بين أسفله وأعلاه مثل ما بين السماء إلى السماء والمراد بالأوعال فيه ملائكة على صورة الأوعال كما قال ابن الأثير وغيره وهي جمع وعل بكسر العين تيس الجبل واستدل به على أن المراد ثمانية أشخاص والأخبار الدالة على ذلك كثيرة إلا أن فيها تدافعا من حيث دلالة بعضها على أن بعضهم على صورة الإنسان وبعضهم على صورة الأسد وبعضهم على صورة الثور وبعضهم على صورة النسر ودلالة بعض آخر على أن كل واحد منهم أربعة أوجه وجه ثور ووجه نسر ووجه أسد ووجه إنسان وفيه لكل واحد منهم أربعة أجنحة أما جناحان فعلى وجهه مخافة من أن ينظر إلى العرش فيصعق، وأما جناحان فيطير بهما وأبو حيان لم يقل بصحة شيء من ذلك حيث قال ذكروا في صفات هؤلاء الثمانية أشكالا متكاذبة ضربنا عن ذكرها صفحا. وأخرج عبد بن حميد عن ابن زيد عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «يحمله اليوم أربعة ويوم القيامة ثمانية» . وأخرج عنه ابن أبي حاتم أنه لم يسم من حملة العرش إلّا إسرافيل عليه السلام قال وميكائيل عليه السلام ليس من حملة العرش وعليه فمن زعم أنهما وجبرائيل وعزرائيل عليه السلام من جملة حملته يلزمه إثبات ذلك بخبر يعول عليه. وعن شهر بن حوشب أربعة منهم يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك، وأربعة يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك . وفي خبر عن وهب بن منبه ليس لهم كلام إلّا قولهم قدسوا الله القوي الذي ملأت عظمته السماوات . وأكثر الأخبار في هذا الباب لا يعول عليه وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك أنه قال يقال ثمانية صفوف لا يعلم عدتهم إلا الله عزّ وجلّ. وأخرج هذا القول ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس وقال الحسن: الله تعالى أعلم كم هم أثمانية أصناف أم ثمانية أشخاص وأنت تعلم أن الظاهر المؤيد ببعض الأخبار المصححة أنهم ثمانية أشخاص وأيّا كان فالظاهر أن هناك حملا على الحقيقة وإليه ذهب محيي الدين قدس سره قال: إن لله تعالى ملائكة يحملون العرش الذي هو السرير على كواهلهم هم اليوم أربعة وغدا يكونون ثمانية لأجل الحمل إلى أرض المحشر. وله قدس سره في الباب الثالث عشر من فتوحاته كلام واسع في حملة العرش لا سيما على تفسيره بالملك فليرجع إليه من اتسع كرسي ذهنه لفهم كلامه وجوز أن يكون ذلك تمثيلا لعظمته عزّ وجلّ بما يشاهد من أحوال السلاطين يوم خروجهم على الناس للقضاء العام فالمراد تجليه عزّ وجلّ بصفة العظمة وجعل العرض في قوله تعالى يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ مجازا عن الحساب والمراد يومئذ تحاسبون لكنه شبه ذلك بعرض السلطان العسكر ليعرف أحوالهم فعبر عنه به. وأخرج الإمام أحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن ماجه وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات فأما عرضتان فجدال ومعاذير وأما الثالث فعند ذلك تطاير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله» والجملة المعوض عنها التنوين على ما يدل عليه كلامهم نُفِخَ فِي الصُّورِ وجعل يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ بدلا من فَيَوْمَئِذٍ إلخ وقد سمعت أن الزمان متسع لجميع ما ذكر وغيره وقوله تعالى لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ حال من مرفوع تُعْرَضُونَ أي تعرضون غير خاف عليه عزّ وجلّ سر من أسراركم قبل ذلك أيضا وإنما العرض لإفشاء الحال وإقامة الحجة والمبالغة في العدل أو غير خاف يومئذ على الناس كقوله تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ [الطارق: 9] وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب وطلحة والأعمش وابن مقسم عن عاصم وغيرهم «لا يخفى» بالياء التحتانية فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ تفصيل لأحكام العرض والمراد بكتابه ما كتب الملائكة فيه ما فعله في الدنيا. وقد ذكروا أن أعمال كل يوم وليلة تكتب في صحيفة فتتعدد صحف العبد الواحد فقيل توصل له فيؤتاها موصولة. وقيل ينسخ ما في الجزء: 15 ¦ الصفحة: 52 جميعها في صحيفة واحدة وهذا ما جزم به الغزالي عليه الرحمة وعلى القولين يصدق على ما يؤتاه العبد كتاب وقيل إن العبد يكتب في قبره أعماله في كتاب وهو الذي يؤتاه يوم القيامة وهذا قول ضعيف لا يعول عليه. وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان كيف يؤتى العبد ذلك فَيَقُولُ تبجحا وافتخارا هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ قال الرضي (ها) اسم لخذ وفيه ثمان لغات الأولى بالألف مفردة ساكنة للواحد والاثنين والجمع مذكرا كان أو مؤنثا. الثانية أن تلحق هذه الألف المفردة كاف الخطاب الحرفية كما في ذلك وتصرفها نحو هاك ها كما ها كم ها كن. الثالثة أن تلحق الألف همزة مكان الكاف وتصريفها تصريف الكاف نحوها هاؤها هاؤم هاء هاؤما هاؤن. الرابعة أن تلحق الألف همزة مفتوحة قبل كاف الخطاب وتصرف الكاف الخامسة هاء بهمزة ساكنة بعد الهاء للكل السادسة أن تصرف هذه الجملة تصريف دع السابعة أن تصرفها تصريف خف. ومن ذلك ما حكى الكسائي من قول من قيل له هاء بالفتح الام إهاء وإهاء بفتح همزة المتكلم وكسرها الثامنة أن تلحق الألف همزة وتصرفها تصريف ناد والثلاثة الأخيرة أفعال غير متصرفة لا ماضي لها ولا مضارع وليست بأسماء أفعال قال الجوهري: هاء بكسرة الهمزة بمعنى هات وبفتحها بمعنى خذ وإذا قيل لك هاء بالفتح قلت ما أهاء أي ما آخذ وما أهاء على ما لم يسم فاعله أي ما أعطى وهذا الذي قال مبني على السابعة نحو ما أخاف وما أخاف انتهى. وقال أبو القاسم: فيها لغات أجودها ما حكاه سيبويه في كتابه فقال: العرب تقول: هاء يا رجل بفتح الهمزة وهاء يا امرأة بكسرها، وهاؤما يا رجلان أو امرأتان، وهاؤم يا رجال، وهاؤن يا نسوة فالميم في هاؤم كالميم في أنتم وضمها كضمها في بعض الأحيان وفسر هاهنا بخذوا وهو متعد بنفسه إلى المفعول تعديته والمفعول محذوف دل عليه المذكور أعني كِتابِيَهْ وهو مفعول اقْرَؤُا واختير هذا دون العكس لأنه لو كان مفعول هاؤُمُ لقيل اقرؤوه إذ الأولى إضمار الضمير إذ أمكن كما هنا، وإنما لم يظهر في الأول لئلا يعود على متأخر لفظا ورتبة وهو منصوب مع أن العامل على اللغة الجيدة اسم فعل فلا يتصل به الضمير. وقيل هاؤُمُ بمعنى تعالوا فيتعدى بإلى. وزعم القتبي أن الهمزة بدل من الكاف قيل وهو ضعيف إلّا إن كان قد عنى أنها تحل محلها في لغة كما سمعت فيمكن لا أنه بدل صناعي لأن الكاف لا تبدل من الهمزة ولا الهمزة منها. وقيل: هاؤُمُ كلمة وضعت لإجابة الداعي عند الفرح والنشاط. وفي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام ناداه أعرابي بصوت عال فجاوبه صلّى الله عليه وسلم هاؤم بصولة صوته. وجوز إرادة هذا المعنى هنا فإنه يحتمل أن ينادي ذلك المؤتى كتابه بيمينه أقرباؤه وأصحابه مثلا ليقرؤوا كتابه فيجيبهم لمزيد فرحه ونشاطه بقوله هاؤُمُ وزعم قوم أنها مركبة في الأصل ها أموا أي اقصدوا ثم نقله التخفيف والاستعمال إلى ما ذكر. وزعم آخرون أن الميم ضمير جماعة الذكور والهاء في كِتابِيَهْ وكذا في حِسابِيَهْ ومالِيَهْ [الحاقة: 28] وسُلْطانِيَهْ [الحاقة: 29] وكذا ما هِيَهْ في [القارعة: 10] للسكت لا ضمير غيبة فحقها أن تحذف وصلا وتثبت وقفا لتصان حركة الموقوف عليه، فإذا وصل استغنى عنها ومنهم من أثبتها في الوصل لإجرائه مجرى الوقف أو لأنه وصل بنية الوقف والقراءات مختلفة فقرأ الجمهور بإثباتها وصلا ووقفا. قال الزمخشري اتباعا للمصحف الإمام وتعقبه ابن المنير فقال: تقليل القراءة باتباع المصحف عجيب مع أن المعتقد الحق أن القراءات بتفاصيلها منقولة عن النبي صلّى الله عليه وسلم وأطال في التشنيع عليه وهو كما قال وقرأ ابن محيصن بحذفها وصلا ووقفا وإسكان الياء فيما ذكر ولم ينقل ذلك في ما هِيَهْ فيما وقفت عليه وابن أبي إسحاق والأعمش بطرح الهاء فيهن في الوصل لا في الوقف وطرحها حمزة في مالي وسلطاني وما هي في الوصل لا في الوقف وفتح الياء فيهن وما قاله الزهراوي من أن إثبات الهاء في الوصل لحن لا يجوز عند أحد علمته ليس بشيء فإن ذلك الجزء: 15 ¦ الصفحة: 53 متواتر فوجب قبوله إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ أي عملت ذلك كما قاله الأكثرون بناء على أن الظاهر من حال المؤمن تيقن أمور الآخرة كالحساب، فالمنقول عنه ينبغي أن يكون كذلك لكن الأمور النظرية لكون تفاصيلها لا تخلو عن تردد ما في بعضها مما لا يفوت اليقين فيه كسهولة الحساب وشدته مثلا عبر عن العلم بالظن مجازا للإشعار بذلك. وقيل لما كان الاعتقاد بأمور الآخرة مطلقا مما لا ينفك عن الهواجس والخطرات النفسية كسائر العلوم النظرية نزل منزلة الظن فعبر عنه به لذلك، وفيه إشارة إلى أن ذلك غير قادح في الإيمان وجوز أن يكون الظن على حقيقته على أن يكون المراد من حسابه ما حصل له من الحساب اليسير فإن ذلك مما لا يقين له به وإنما ظنه ورجحه لمزيد وثوقه برحمة الله تعالى عزّ وجلّ ولعل ذلك عند الموت فقد دلت الأخبار على أن اللائق بحال المؤمن حينئذ غلبة الرجاء وحسن الظن. وأما قبله فاستواء الرجاء والخوف وعليه يظهر جدا وقوع هذه الجملة موقع التعليل لما تشعر له الجملة الأولى من حسن الحال فكأنه قيل إني على ما يحسن من الأحوال أو إني فرح مسرور لأني ظننت بربي سبحانه أنه يحاسبني حسابا يسيرا وقد حاسبني كذلك فالله تعالى عند ظن عبده به، وهذا أولى مما قيل يجوز أن يكون المراد إني ظننت أني ملاق حسابي على الشدة والمناقشة لما سلف مني من الهفوات والآن أزال الله تعالى عني ذلك وفرج همي. وقيل: يطلق الظن على العلم حقيقة وهو ظاهر كلام الرضي في أفعال القلوب وفيه نظر. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ قال أبو عبيدة والفراء أي مرضية وقال غير واحد أي ذات رضى على أنه من باب النسبة بالصيغة كلابن وتامر، ومعنى ذات رضى ملتبسة بالرضا فيكون بمعنى مرضية أيضا وأورد عليه أن ما أريد به النسبة لا يؤنث كما صرح به الرضي وغيره وهو هنا مؤنث فلا يصح هذا التأويل إلّا أن يقال التاء فيه للمبالغة وفيه بحث. وقال بعض المحققين الحق أن مرادهم أن ما قصد به النسبة لا يلزم تأنيثه وإن جاء فيه على خلاف الأصل الغالب أحيانا. والمشهور حمل ما ذكر على أنه مجاز في الإسناد والأصل في عيشة راض صاحبها فأسند الرضا إليها لجعلها لخلوصها دائما عن الشوائب كأنها نفسها راضية. وجوز أن يكون فيه استعارة مكنية وتخييلية كما فصل في مطول كتب المعاني فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ مرتفعة المكان لأنها في السماء فنسبة العلو إليها حقيقة ويجوز أن تكون مجازا وهي حقيقة لدرجاتها وما فيها من بناء ونحوه أو يكون هناك مضاف محذوف أي عالية درجاتها أو بناؤها أو أشجارها وفي البحر عالية مكانا وقدرا ولا يخفى ما في استعمال العلو فيهما من الكلام قُطُوفُها جمع قطف بكسر القاف وهو ما يجتنى من الثمر زاد بعضهم بسرعة وكأن ذلك لأنها من شأن القطف بفتح القاف وهو مصدر قطف ولم يجعلوا قطوفها جمعا له لأن المصدر لا يطرد جمعه ولقوله تعالى دانِيَةٌ أي قريبة يتناول الرجل منها وهو قائم كما قال البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه. وقال بعضهم: يدركها القائم والقاعد والمضطجع بفيه من شجرتها وعليه يجوز أن يكون مراد البراء التمثيل وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه قال: دنت فلا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك وفسر الدنو عليه بسهولة التناول كُلُوا وَاشْرَبُوا بإضمار القول أي يقال فيها ذلك وجمع الضمير رعاية للمعنى هَنِيئاً صفة لمحذوف وقع مفعولا به والأصل أكلا وشربا هنيئا أي غير منغصين فحذف المفعول به وأقيمت صفته مقامه وصح جعله صفة لذلك مع تعدده لأن فعيلا يستوي فيه الواحد فما فوقه وجعل بعضهم المحذوف مصدرا وكذا صفته أعني هَنِيئاً ووجه عدم تثنيته بأن المصدر يتناول المثنى أيضا فلا تغفل. وجوز أن يكون نصبا على المصدرية لفعل من لفظه وفعيل من صيغ المصادر كما أنه من صيغ الصفات أي هنئتم هنيئا والجملة في موضع الحال والكلام في مثلها مشهور بِما أَسْلَفْتُمْ بمقابلة ما قدمتم من الأعمال الصالحة فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ أي الماضية وهي أيام الدنيا. وقيل أي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 54 الخالية من اللذائذ أي الحقيقية وهي أيام الدنيا أيضا، وقيل أي التي أخليتموها من الشهوات النفسانية وحمل عليه ما روي عن مجاهد وابن جبير ووكيع من تفسير هذه الأيام بأيام الصيام. وأخرج ابن المنذر عن يعقوب الحنفي قال: بلغني أنه إذا كان يوم القيامة يقول الله تعالى: «يا أوليائي طالما نظرت إليكم في الدنيا وقد قلصت شفاهكم عن الأشربة وغارت أعينكم وخمصت بطونكم فكونوا اليوم في نعيمكم وكُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ» والظاهر أن ما على تفسير الأيام الخالية بأيام الصيام غير محمولة على العموم والعموم في الآية هو الظاهر. وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ لما يرى من قبح العمل وانجلاء الحساب عما يسوءه يا لَيْتَها أي الموتة التي متّها في الدنيا كانَتِ الْقاضِيَةَ أي القاطعة لأمري ولم أبعث بعدها ولم أخلق ما ألقى فالضمير للموتة الدال عليها المقام وإن لم يسبق لها ذكر، ويجوز أن يكون لما شاهده من الحالة أي ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضت علي لما أنه وجدها أمر من الموت فتمناه عندها وقد قيل أشد من الموت ما يتمنى الموت عنده. وقد جوز أن يكون للحياة الدنيا المفهومة من السياق أيضا والمراد بالقاضية الموتة فقد اشتهرت في ذلك أي يا ليت الحياة الدنيا كانت الموتة ولم أخلق حيا وبتفسير الْقاضِيَةَ بما ذكر اندفع ما قيل أنها تقتضي تجدد أمر ولا تجدد في الاستمرار على العدم نعم هذا الوجه لا يخلو عن بعد ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ أي ما أغنى عني شيئا الذي كان لي في الدنيا من المال ونحوه كالاتباع على أن ما في ما أَغْنى نافية. وما في ماليه موصولة فاعل أَغْنى ومفعوله محذوف و (ليه) جار ومجرور في موضع الصلة ويجوز أن يجعل مالِيَهْ عبارة عن مال مضاف إلى ياء المتكلم والأول أظهر شمولا للإتباع ونحوها إذ لا يتأتى اعتبار ذلك على الثاني إلا باعتبار اللزوم ويجوز أن تكون ما في ما أَغْنى استفهامية للإنكار ومالِيَهْ على احتمالية أي أي شيء أغنى عني مالي هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ أي بطلت حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا وبه فسره ابن عباس ومجاهد والضحاك وعكرمة والسدي وأكثر السلف أو ملكي وتسلطي على الناس وبقيت فقيرا ذليلا أو تسلطي على القوى والآلات التي خلقت لي فعجزت عن استعمالها في الطاعات. يقول ذلك تحسرا وتأسفا وإلى هذا ذهب الجزء: 15 ¦ الصفحة: 55 قتادة مشيرا إلى وجه اختياره دون الثاني أخرج عبد بن حميد عنه أنه قال: أما والله ما كل من دخل النار كان أمير قرية ولكن الله تعالى خلقهم وسلطهم على أبدانهم وأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته وبما أشار إليه رجح الأول على الثاني أيضا لكن قيل ما بعد أشد مناسبة له وستطلع إن شاء الله تعالى على ذلك. وعن ابن عباس أنها نزلت في الأسود بن عبد الأشد ويحكى عن فناخسرو الملقب بعضد الدولة ابن بويه أنه لما أنشد قوله: ليس شرب الكأس إلا في المطر ... وغناء من جوار في سحر غانيات سالبات للنهى ... ناعمات في تضاعيف الوتر مبرزات الكأس من مطلعها ... ساقبات الراح من فاق البشر عضد الدولة وابن ركنها ... ملك الأملاك غلاب القدر لم يفلح بعده وجن وكان لا ينطلق لسانه إلا بهذه الآية وفي يتيمة الثعالبي أنه لما احتضر لم ينطلق لسانه إلا بتلاوة ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ نسأل الله تعالى العفو والعافية. وروي عن أبي عمرو أنه أدغم هاء السكت من مالِيَهْ في هاء هَلَكَ وهو ضعيف قياسا لأن هاء السكت لا تدغم لكون الوقف عليها محققا أو مقدرا كما في شرح التوضيح وفيه رواية الإدغام فيما ذكر عن ورش وتعقب بأن المروي عنه إنما هو النقل في كِتابِيَهْ إني والله تعالى أعلم خُذُوهُ بتقدير القول أي فيقول الله تعالى للزبانية خذوه فَغُلُّوهُ أي شدوه بالأغلال ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ أي لا تصلوه إلا الجحيم وهي النار العظيمة الشديدة التأجج لعظم ما أوتي به من المعصية وهي الكفر بالله تعالى العظيم. وقيل حيث كان يتعظم على الناس وهو مبني على اختصاص ما قبل بالسلاطين بقرينة تعظيم أمره وتنصيعن الله تعالى على تعذيبه وأجيب عما يخدشه مما يفهم من كلام قتادة بأنه لا ضير في كونه بيانا لحال بعض من أوتي كتابه بشماله ومثله ما يأتي إن شاء الله تعالى من قوله سبحانه وَلا يَحُضُّ إلخ فكم من أهل الشمال من لا يكون كذلك وأيضا قد ذكروا أن الجحيم اسم لطبقة من النار فتأمل ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها أي قياسها ومقدار طولها سَبْعُونَ ذِراعاً يجوز أن يراد ظاهره من العدد المعروف والله تعالى أعلم بحكمة كونها على هذا العدد. ويجوز أن يراد به التكثير فقد كثر السبعة والسبعون في التكثير والمبالغة ورجح بأنه أبلغ من إبقائه على ظاهره والذراع مؤنث قال ابن الشحنة وقد ذكره بعض عكل فيقال الثوب خمس أذرع وخمسة أذرع والمراد بها المعروفة عند العرب وهي ذراع اليد لأن الله سبحانه إنما خاطبهم بما يعرفون وقال ابن عباس وابن جريج ومحمد بن المنكدر ذراع الملك وأخرج ابن المبارك وجماعة عن نوف البكالي أنه قال وهو يومئذ بالكوفة الذراع سبعون باعا والباع ما بينك وبين مكة ويحتاج إلى نقل صحيح وقال الحسن الله تعالى أعلم بأي ذراع هي والسلسلة حلق تدخل في حلق على سبيل الطول كأنها من تسلسل الشيء اضطرب وتنوينها للتفخيم وروي عن ابن عباس أنه قال لو وضع منها حلقة على جبل لذاب كالرصاص فَاسْلُكُوهُ أي فادخلوه كما في قوله تعالى فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ [الزمر: 21] وإدخاله فيها بأن تلف على جسده وتلوى عليه من جميع جهاته فيبقى مرهقا فيما بينها لا يستطيع حراكا ما وعن ابن عباس أن أهل النار يكونون فيها كالتعلب في الجبة والتعلب طرف خشبة الرمح والجبة الزج. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريح قال قال ابن عباس إن السلسلة تدخل في استه ثم تخرج من فيه ثم ينظمون فيها كما ينظم الجراد في العود ثم يشوى. وفي رواية أخرج عنهم أنها تسلك في دبره حتى تخرج من منخريه ومن هنا قيل إن في الآية قلبا والأصل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 56 فاسلكوها فيه والجمهور على الظاهر والفاء جزائية كما في قوله تعالى وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر: 3] والتقدير مهما يكن من شيء فاسلكوه في سلسلة إلخ فقدم الظرف وما معه عوضا عن المحذوف ولتتوسط الفاء كما هو حقها وليدل على التخصيص كأنه قيل لا تسلكوه إلّا في هذه السلسلة كأنها أفظع من سائر مواضع الإرهاق من الجحيم ويجوز أن يكون التقدير هكذا ثم مهما يكن من شيء ففي سلسلة ذرعها سبعون ذراعا اسلكوه ففيه تقديمان تقديم الظرف على الفعل للدلالة على التخصيص وتقديمه على الفاء بعد حذف حرف الشرط للتعويض وتوسيط الفاء وثُمَّ في الموضعين لتفاوت ما بين أنواع ما يعذبون به من الغل والتصلية والسلك على ما اختاره جمع، وجوز بعضهم كونها على ظاهرها من الدلالة على المهلة ورجح الأول بأنه أنسب بمقام التهديد، وزعم بعض أن ثُمَّ الثانية لعطف قول مضمر على ما أضمر قبل خُذُوهُ إشعارا بتفاوت ما بين الأمرين وفاء فَاسْلُكُوهُ لعطف المقول على المقول لئلا يتوارد حرفا عطف على معطوف واحد ويلزمه أن يكون تقديم السلسلة على الفاء بعد حذف القول لئلا يلزم التوارد المذكور ومبنى هذا التكلف البادر الغفلة عما ذكرناه فلا تغفل ويعلم منه وهن ما قيل إنه ليس في الآية ما يفيد التخصيص لأن فِي سِلْسِلَةٍ ليس معمولا لاسلكوه لئلا يلزم الجمع بين حرفي عطف بل هو معمول لمحذوف فيقدر مقدما على الأصل على أن تقديم الجحيم كالقرينة على كون فِي سِلْسِلَةٍ مقدما على عامله إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ تعليل على طريقة الاستئناف للمبالغة كأنه قيل لم استحق هذا قيل لم استحق هذا فقيل لأنه كان في الدنيا مستمرا على الكفر بالله تعالى العظيم وقيل أي كان في علم الله تعالى المتعلق بالأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر أنه لا يتصف بالإيمان به عزّ وجلّ والأول هو الظاهر، وذكر الْعَظِيمِ للإشارة إلى وجه عظم عذابه، وقيل للإشعار بأنه عزّ وجلّ المستحق للعظمة فحسب فمن نسبها إلى نفسه استحق أعظم العقوبات وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي ولا يحث على بذل طعامه الذي يستحقه في مال الموسر ففيه مضاف مقدر لأن الحث إنما يكون على الفعل، والطعام ليس به ويجوز أن يكون الطعام بمعنى الإطعام بوضع الاسم موضع المصدر كالعطاء بمعنى الإعطاء أي ولا يحث على إطعام المسكين فضلا عن أن يبذل ما له فليس هناك مضاف محذوف. وقيل ذكر الحض للإشعار بأن تارك الحض بهذه المنزلة فكيف بتارك الفعل. وما أحسن قول زينب الطثرية ترثي أخاها يزيد: إذا نزل الأضياف كان عذورا ... على الحي تستقل مراجله تريد حضهم على القرى واستعجلهم وتشاكس عليهم وفيه أوجه من المدح. وكان أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه يحض امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين ويقول: خلعنا نصف السلسلة بالإيمان أفلا نخلع نصفها اقتبس ذلك من الآية فإنه جعل استحقاق السلسلة معللا بعدم الإيمان وعدم الحض وتخصيص الأمرين بالذكر قيل لما أن أقبح العقائد الكفر وأشنع الرذائل البخل وقسوة القلب وفي الآية دلالة على أن الكفار مخاطبون بالفروع كالهول وإلّا لم يعاقبوا على ترك الحض على طعام المسكين فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ قريب مشفق يحميه ويدفع عنه لأن أولياءه يتحامونه ويفرون منه وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ قال اللغويون هو ما يجري من الجراح إذا غسلت فعلين من الغسل وقال ابن عباس في رواية ابن أبي حاتم وابن المنذر من طريق عكرمة عنه أنه الدم والماء الذي يسيل من لحوم أهل النار وفي معناه قوله في روايتهما من طريق علي بن أبي طلحة عنه هو صديد أهل النار. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عنه أنه قال: ما أدري ما الغسلين ولكني أظنه الزقوم والأكثرون على الأول. وأخرج الحاكم وصححه عن أبي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 57 سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلم لو أن دلوا من غسلين يهراق في الدنيا لأنتن بأهل الدنيا وجعله بعضهم متحدا مع الضريع. وقال بعضهم: هما متباينان وسيأتي الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى ولَهُ خبر (ليس) قال المهدوي ولا يصح أن يكون هاهنا ولم يبين ما المانع من ذلك وتبعه القرطبي في ذلك. وقال لأن المعنى يصير ليس هاهنا طعام إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ولا يصح ذلك لأن ثم طعاما غيره وهاهُنا متعلق بما في لَهُ من معنى الفعل انتهى. وتعقب ذلك أبو حيان فقال: إذا كان ثم غيره من الطعام وكان الأكل أكلا آخر صح الحصر بالنسبة إلى اختلاف الأكلين. وأما إن كان الضريع هو الغسلين كما قال بعضهم فلا تناقض بين هذا الحصر والحصر في قوله تعالى لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ [الغاشية: 6] إذ المحصور في الآيتين هو من شيء واحد وإنما يمتنع ذلك من وجه غير ما ذكره وهو إنه إذا جعلنا هاهُنا الخبر كان لَهُ والْيَوْمَ متعلقين بما تعلق به الخبر وهو العامل في هاهُنا وهو عامل معنوي فلا يتقدم معموله عليه فلو كان العامل لفظيا جاز كقوله تعالى وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص: 4] فله متعلق بكفوا وهو خبر ليكن اهـ. وفي إطلاق العامل المعنوي على متعلق الجار والمجرور المحذوف بحث لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ أصحاب الخطايا من خطىء الرجل إذا تعمد الذنب لا من الخطأ المقابل للصواب دون المقابل للعمد والمراد بهم على ما روي عن ابن عباس المشركون. وقرأ الحسن والزهري والعتكي وطلحة في رواية «الخاطيون» بياء مضمومة بدلا من الهمزة وقرأ أبو جعفر وشيبة وطلحة في رواية أخرى ونافع بخلاف عنه «الخاطون» بطرح الهمزة بعد إبدالها تخفيفا على أنه من خطىء كقراءة من همز وعن ابن عباس ما يشعر بإنكار ذلك أخرج الحاكم وصححه من طريق أبي الأسود الدؤلي ويحيى بن يعمر عنه أنه قال: ما الخاطون إنما هو الخاطئون ما الصابئون إنما هو الصائبون وفي رواية ما الخاطون كلنا نخطو كأنه يريد أن التخفيف هكذا ليس قياسا وهو ملبس مع ذلك فلا يرتكب وقيل هو من خطا يخطو فالمراد بهم الذين يتخطون من الطاعة إلى العصيان ومن الحق إلى الباطل ويتعدون حدود الله عزّ وجلّ فيكون كناية عن المذنبين أيضا هذا وظواهر هذه الآيات أن المؤمن الطائع يؤتى كتابه بيمينه والكافر يؤتى كتابه بشماله ولم يعلم منها حال الفاسق الذي مات على فسقه من غير توبة بل قيل ليس في القرآن بيان حاله صريحا وقد اختلف في أمره فجزم الماوردي بأن المشهور أنه يؤتى كتابه بيمينه ثم حكى قولا بالوقف وقال لا قائل بأنه يؤتاه بشماله وقال يوسف بن عمر اختلف في عصاة المؤمنين فقيل يأخذون كتبهم بأيمانهم وقيل بشمالهم، واختلف الأولون فقيل: يأخذونها قبل الدخول في النار ويكون ذلك علامة على عدم خلودهم فيها. وقيل يأخذونها بعد الخروج منها ومن أهل العلم من توقف لتعارض النصوص ومن حفظ حجة على من لم يحفظ والمثبت مقدم على النافي ثم إنه ليس في هذه الآيات تصريح بقراءة العبد كتابه والوارد في ذلك مختلف والذي يجمع الآيات والأحاديث على ما قال اللقاني أن من الآخذين من لم يقرأ كتابه لاشتماله على المخازي والقبائح والجرائم والفضائح فيأخذه بسبب ذلك الدهش والرعب حتى لا يميز شيئا كالكافر ومنهم من يقرؤه بنفسه ومنهم من يدعو أهل حاضره لقراءته إعجابا بما فيه وظواهر النصوص أن القراءة حقيقية وقيل مجازية عبر بها عن العلم وليس بشيء. ولفظ الحسن يقرأ كل إنسان كتابه أميا كان أو غير أمي وظواهر الآثار أن الحسنات تكتب متميزة من السيئات فقيل إن سيئات المؤمن أول كتابه وآخره هذه ذنوبك قد سترتها وغفرتها وإن حسنات الكافر أول كتابه وآخره هذه حسناتك قد رددتها عليك وما قبلتها. وقيل يقرأ المؤمن سيئات نفسه ويقرأ الناس حسناته حتى يقولوا ما لهذا العبد سيئة ويقول ما لي حسنة. وقيل كل يقرأ حسناته وسيئاته وأول سطر من كتاب المؤمن أبيض فإذا قرأه ابيض وجهه والكافر على ضد ذلك وظواهر الآيات والأحاديث عدم اختصاص إيتاء الكتب بهذه الأمة وإن تردد فيه بعض العلماء لما في بعضها مما يشعر بالاختصاص ففي حديث رواه أحمد عن أبي الدرداء أنه عليه الصلاة والسلام قال وقد قال له رجل: كيف تعرف أمّتك الجزء: 15 ¦ الصفحة: 58 من بين الأمم فيما بين نوح عليه السلام إلى أمتك يا رسول الله: «هم غر محجلون من أثر الوضوء ليس أحد كذلك غيرهم وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم» الحديث . وقد تقدم فتذكر والحق أن الجن في هذه الأمور حكمهم حكم الإنس على ما بحثه القرطبي وصرح به غيره نعم الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام لا يأخذون كتابا بل إن السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ومنهم أو بكر رضي الله تعالى عنه لا يأخذون أيضا كتابا وأول من يؤتي كتابه بيمينه فله شعاع كشعاع الشمس عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كما في الحديث وبعده أو سلمة بن عبد الأشد وأول من يأخذ كتابه بشماله أخوه الأسود بن عبد الأشد الذي مر ذكره غير بعيد والآثار في كيفية وصول الكتب إلى أيدي أصحابها مختلفة فقد ورد أن الريح تطيرها من خزانة تحت العرش فلا تخطىء صحيفة عنق صاحبها وورد أن كل أحد يدعي فيعطى كتابه وجمع بأخذ الملائكة عليهم السلام إياها من أعناقهم ووضعهم لها في أيديهم والله تعالى أعلم وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ قد تقدم الكلام في فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ [الواقعة: 75] وما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ المشاهدات والمغيبات وإليه يرجع قول قتادة هو عام في جميع مخلوقاته عزّ وجلّ. وقال عطاء ما تُبْصِرُونَ من آثار القدرة وَما لا تُبْصِرُونَ من أسرار القدرة. وقيل الأجسام والأرواح وقيل الدنيا والآخرة وقيل الإنس والجن والملائكة وقيل الخلق والخالق وقيل النعم الظاهرة والباطنة والأول شامل لجميع ما ذكر وسبب النزول على ما قال مقاتل إن الوليد قال: إن محمدا صلّى الله عليه وسلم ساحر وقال أبو جهل شاعر وقال عتبة كاهن فرد الله تعالى عليهم بقوله سبحانه فَلا أُقْسِمُ إلخ إِنَّهُ أي القرآن لَقَوْلُ رَسُولٍ يبلغه عن الله تعالى فإن الرسول لا يقول عن نفسه كَرِيمٍ على الله عزّ وجلّ وهو النبي صلّى الله عليه وسلم في قول الأكثرين. وقال ابن السائب ومقاتل وابن قتيبة هو جبريل عليه السلام وقوله تعالى وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ إلخ قيل دليل لما قاله الأكثرون لأن المعنى على إثبات أنه عليه الصلاة والسلام رسول لا شاعر ولا كاهن كما يشعر بذلك سبب النزول وتوضيح ذلك أنهم ما كانوا يقولون في جبريل عليه السلام أنه كذا وكذا وإنما كانوا يقولونه في النبي صلّى الله عليه وسلم فلو أريد برسول كريم جبريل عليه السلام لفات التقابل ولم يحسن العطف كما تقول إنه لقول عالم وما هو بقول جاهل ولو قلت وما هو بقول شجاع نسبت إلى ما تكره وتعقبه بعض الأئمة بأن هذا صحيح إن سلم أن المعنى على إثبات رسول لا شاعر ويكون قوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ لا قول شاعر إثباتا للرسالة على طريق الكناية أما إذا جعل المقصود من السياق إثبات حقية المنزل وأنه من الله عزّ وجلّ فإنه تذكرة لهؤلاء وحسرة لمقابليهم وهو في نفسه صدق ويقين لا يحوم حوله شك كما يدل عليه ما بعد. فللقول الثاني أيضا موقع حسن وكأنه قيل إن هذا القرآن لقول جبريل الرسول الكريم وما هو من تلقاء محمد صلّى الله عليه وسلم كما تزعمون وتدعون أنه شاعر وكاهن ويكون قد نفى عنه صلّى الله عليه وسلم الشعر والكهانة على سبيل الإدماج انتهى وهو تحقق حسن قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ أي تصدقون تصديقا قليلا على أن قَلِيلًا صفة للمفعول المطلق لتؤمنون وما مزيدة للتأكيد والقلة بمعناها الظاهر لأنهم لظهور صدقه صلّى الله عليه وسلم لزم تصديقهم له عليه الصلاة والسلام في الجملة وإن أظهروا خلافه عنادا وأبوه تمردا بألسنتهم وحمل الزمخشري القلة على العدم والنفي أي لا تؤمنون البتة ولا كلام فيه سوى أنه دون الأول في الظهور. وقال أبو حيان: لا يراد بقليلا هنا النفي المحض كما زعم فذلك لا يكون إلّا في أقل نحو أقل رجل يقول كذا إلّا زيد وفي قل نحو قل رجل يقول كذا إلّا زيد وقد يكون في قليل وقليلة إذا كانا مرفوعين نحو ما جوزوا في قوله: أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة ... قليل بها الأصوات إلّا بغامها أما إذا كان منصوبا نحو قليلا ضربت أو قليلا ما ضربت على أن تكون ما مصدرية فإن ذلك لا يجوز الجزء: 15 ¦ الصفحة: 59 لأنه في قليلا ضربت منصوب بضربت ولم تستعمل العرب قليلا إذا انتصب بالفعل نفيا بل مقابلا للكثير وأما في قليلا ما ضربت على أن تكون ما مصدرية فيحتاج إلى رفع قليل لأن ما المصدرية في موضع رفع على الابتداء اهـ. وأنت تعلم أن مثل ذلك لا يسمع على مثل الزمخشري بغير دليل فإن الظاهر أنه ما قال ما قال إلّا عن وقوف وهو فارس ميدان العربية وجوز كونه صفة لزمان محذوف أي زمانا قليلا تؤمنون وذلك على ما قيل إذا سئلوا من خلقهم أو من خلق السماوات والأرض فإنهم يقولون حينئذ الله تعالى. وقال ابن عطية نصب قَلِيلًا بفعل مضمر يدل عليه تُؤْمِنُونَ ويحتمل أن تكون ما نافية فينتفي إيمانهم البتة، ويحتمل أن تكون مصدرية وما يتصف بالقلة هو الإيمان اللغوي وقد صدقوا بأشياء يسيرة لا تغني عنهم شيئا ككون الصلة والعفاف اللذين كانا يأمر بهما عليه الصلاة والسلام حقا وصوابا اهـ. وتعقب بأنه لا يصح نصب قَلِيلًا بفعل مضمر دال عليه تُؤْمِنُونَ لأنه إما أن تكون ما المقدرة معه نافية فالفعل المنفي بما لا يجوز حذفه وكذا حذف ما فلا يجوز زيدا ما أضربه على تقدير ما أضرب زيدا ما أضربه وإن كانت مصدرية كانت إما في موضع رفع على الفاعلية بقليلا أي قليلا إيمانكم ويرد عليه لزوم عمله من غير تقدم ما يعتمد عليه ونصبه لا ناصب له وإما في موضع رفع على الابتداء ويرد عليه لزوم كونه مبتدأ بلا خبر لأن ما قبله منصوب لا مرفوع فتأمل. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو بخلاف عنهما والحسن والجحدري «يؤمنون» بالياء التحتية على الالتفات وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ كما تدعون مرة أخرى قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ أي تذكرون تذكرا قليلا فلذلك يلتبس الأمر عليكم وتمام الكلام فيه إعرابا كالكلام فيما قبله وكذا القراءة وذكر الإيمان مع نفي الشاعرية والتذكر مع نفي الكاهنية قيل لما أن عدم مشابهة القرآن الشعر أمر بيّن لا ينكره إلّا معاند فلا عذر لمدعيها في ترك الإيمان وهو أكفر من حمار بخلاف مباينته للكهانة فإنها تتوقف على تذكر أحواله صلّى الله عليه وسلم ومعاني القرآن المنافية لطريق الكهانة ومعاني أقوالهم وتعقب بأن ذلك أيضا مما يتوقف على تأمل قطعا وأجيب بأنه يكفي في الغرض الفرق بينهما أن توقف الأول دون توقف الثاني تَنْزِيلٌ أي هو تنزيل مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ نزله سبحانه على لسان جبريل عليه السلام. وقرأ أبو السمال «تنزيلا» بالنصب بتقدير نزله تنزيلا وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ التقول الافتراء وسمي تقولا لأنه قول متكلف والأقاويل الأقوال المفتراة وهي جمع قول على غير القياس أو جمع أقوال فهو جمع الجمع كأناعيم جمع أنعام، وأبابيت جمع أبيات. وفي الكشاف سمي الأقوال المتقولة أقاويل تصغيرا لها وتحقيرا كقولك الأعاجيب والأضاحيك كأنها جمع أفعولة من القول. وتعقبه ابن المنبر بأن أفعولة من القول غريب عن القياس التصريفي وأجيب بأنه غير وارد لأن مراده أنه جمع لمفرد غير مستعمل لأنه لا وجه لاختصاصة بالافتراء غير ما ذكر والأحسن أن يقال بمنع اختصاصه وضعا وأنه جمع على ما سمعت والتحقير جاء من السياق والمراد لو ادعى علينا شيئا لم نقله لَأَخَذْنا مِنْهُ أي لأمسكناه وقوله تعالى بِالْيَمِينِ أي بيان بيمينه بعد الإبهام كما في قوله سبحانه أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح: 1] ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ أي وتينه وهو كما قال ابن عباس نياط القلب الذي إذا انقطع مات صاحبه وعن مجاهد أنه الحبل الذي في الظهر وهو النخاع. وقال الكلبي هو عرق بين العلباء وهي عصب العنق والحلقوم وقيل عرق غليظ تصادفه شفرة الناحر ومنه قول الشماخ بن ضرار: إذا بلغتني وحملت رحلي ... عرابة فاشرقي بدم الوتين وهذا تصوير للإهلاك بأفظع ما يفعله الملوك بمن يغضبون عليه وهو أن يأخذ القتال بيمينه ويكفحه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 60 بالسيف ويضرب عنقه. وعن الحسن أن المعنى لقطعنا يمينه ثم لقطعنا وتينه عبرة ونكالا والباء عليه زائدة وعن عباس أن اليمين بمعنى القوة والمراد أخذ بعنف وشدة وضعف بأن فيه ارتكاب مجاز من غير فائدة وأنه يفوت فيه التصوير والتفصيل والإجمال ويصير منه زائدا لا فائدة فيه. وقرأ ذكوان وابنه محمد «ولو يقول» مضارع قال وقرىء «ولو تقوّل» مبنيا للمفعول فنائب الفاعل بَعْضَ إن كان قد قرىء مرفوعا وإن كان قد قرىء منصوبا فهو عَلَيْنا فَما مِنْكُمْ أيها الناس مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ أي عن هذا الفعل وهو القتل حاجِزِينَ أي مانعين يعني فما يمنع أحد عن قتله واستظهر عود ضمير عَنْهُ لمن عاد عليه ضمير تَقَوَّلَ والمعنى فما يحول أحد بيننا وبينه والظاهر في حاجِزِينَ أن يكون خبرا لما على لغة الحجازيين لأنه هو محط الفائدة ومِنْ زائدة وأَحَدٍ اسمها ومِنْكُمْ قيل في موضع الحال منه لأنه لو تأخر لكان صفة له فلما تقدم أعرب حالا كما هو الشائع في نعت النكرة إذا تقدم عليها ونظر في ذلك وقيل للبيان أو متعلق بحاجزين كما تقول ما فيك زيد راغبا. ولا يمنع هذا الفصل من انتصاب خبر (ما) وقال الحوفي وغيره إن حاجِزِينَ نعت لأحد وجمع على المعنى لأنه في معنى الجماعة يقع في النفي العام للواحد والجمع والمذكر والمؤنث ومنه لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة: 285] ولَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ [الأحزاب: 32] فأحد مبتدأ والخبر مِنْكُمْ وضعف هذا القول بأن النفي يتسلط على الخبر وهو كينونته منكم فلا يتسلط على الحجز مع أنه الحقيق بتسلطه عليه وَإِنَّهُ أي القرآن لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ لأنهم المنتفعون به وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ فنجازيهم على تكذييهم وقيل الخطاب للمسلمين والمعنى أن منهم ناسا سيكفرون بالقرآن وَإِنَّهُ أي القرآن لَحَسْرَةٌ عظيمة عَلَى الْكافِرِينَ عند مشاهدتهم لثواب المؤمنين وقال مقاتل وإن تكذيبهم بالقرآن لحسرة عليهم فأعادا الضمير للمصدر المفهوم من قوله تعالى مُكَذِّبِينَ والأول أظهر وَإِنَّهُ أي القرآن لَحَقُّ الْيَقِينِ أي لليقين حق اليقين والمعنى لعين اليقين فهو على نحو عين الشيء ونفسه والإضافة بمعنى اللام على ما صرح به في الكشف وجوز أن تكون الإضافة فيه على معنى من أي الحق الثابت من اليقين وقد تقدم في الواقعة ما ينفعك هنا فتذكره وذكر بعض الصوفية قدست أسرارهم أن أعلى مراتب العلم حق اليقين ودونه عين اليقين ودونه علم اليقين فالأول كعلم العاقل بالموت إذا ذاقه والثاني كعلمه به عند معاينة ملائكته عليهم السلام. والثالث كعلمه به في سائر أوقاته وتمام الكلام في ذلك يطلب من كتبهم فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ أي فسبح الله تعالى بذكر اسمه العظيم تنزيها له عن الرضا بالتقول عليه وشكرا على ما أوحى إليك من هذا القرآن الجليل الشأن وقد مر نحو هذا في الواقعة أيضا فارجع إليه إن أردت والله تعالى الموفق. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 61 سورة المعارج وتسمى سورة المواقع وسورة سأل وهي مكية بالاتفاق على ما قال القرطبي وفي مجمع البيان عند الحسن إلا قوله تعالى وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ [المعارج: 24] وآيها ثلاث وأربعون في الشامي واثنتان وأربعون في غيره وهي كالتتمة لسورة الحاقة في بقية وصف القيامة والنار وقد قال ابن عباس إنها نزلت عقيب سورة الحاقة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ أي دعا داع به فالسؤال بمعنى الدعاء ولذا عدي بالباء تعديته بها في قوله تعالى: يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ [الدخان: 55] والمراد استدعاء العذاب وطلبه وليس من التضمين في شيء. وقيل الفعل مضمن معنى الاهتمام والاعتناء أو هو مجاز عن ذلك فلذا عدي بالباء. وقيل إن الباء زائدة وقيل إنها بمعنى عن كما في قوله تعالى فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً [الفرقان: 59] والسائل هو النضر بن الحارث كما روى النسائي وجماعة وصححه الحاكم عن ابن عباس. وروي ذلك عن ابن جريج والسدي والجمهور حيث قال إنكارا واستهزاء اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال: 32] وقيل هو أبو جهل حيث قال فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ [الشعراء: 187] وقيل هو الحارث بن النعمان الفهري وذلك أنه لما بلغه قول رسول الله صلّى الله عليه وسلم في علي كرم الله تعالى وجهه: «من كنت مولاه فعلي مولاه» قال: اللهم إن كان ما يقول محمد صلّى الله عليه وسلم حقا فأمطر علينا حجارة من السماء فما لبث حتى رماه الله تعالى بحجر فوقع على دماغه فخرج من أسفله فهلك من ساعته. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 62 وأنت تعلم أن ذلك القول منه عليه الصلاة والسلام في أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه كان في غدير خم وذلك في أواخر سني الهجرة فلا يكون ما نزل مكيا على المشهور في تفسيره. وقد سمعت ما قيل في مكية هذه السورة وقيل هو الرسول صلّى الله عليه وسلم استعجل عذابهم وقيل هو نوح عليه السلام سأل عذاب قومه. وقرأ نافع وابن عامر «سال» بألف كقال سايل بياء بعد الألف فقيل يجوز أن يكون قد أبدلت همزة الفعل ألفا وهو بدل على غير قياس وإنما قياس هذا بين بين ويجوز أن يكون على لغة من قال سلت أسال حكاها سيبويه وفي الكشاف هو من السؤال وهو لغة قريش يقولون سلت تسال وهما يتسايلان وأراد أنه من السؤال المهموز معنى لا اشتقاقا بدليل وهما يتسايلان وفيه دلالة على أنه أجوف يأتي وليس من تخفيف الهمزة في شيء. وقيل السؤال بالواو الصريحة مع ضم السين وكسرها وقوله يتسايلان صوابه يتساولان فتكون ألفه منقلبة عن واو كما في قال وخاف وهو الذي ذهب إليه أبو علي في الحجة وذكر فيها أن أبا عثمان حكى عن أبي زيد أنه سمع من العرب من يقول هما يتساولان ثم إن في دعوى كون سلت تسال لغة قريش ترددا والظاهر خلاف ذلك وأنشدوا لورود سال قول حسان يهجو هذيلا لما سألوا النبيّ صلّى الله عليه وسلم أن يبيح لهم الزنا: سالت هذيل رسول الله فاحشة ... ضلت هذيل بما قالت ولم تصب وقول آخر: سالتاني الطلاق أن رأتاني ... قل مالي قد جئتماني بنكر وجوز أن يكون سال من السيلان وأيد بقراءة ابن عباس «سال سيل» فقد قال ابن جني السيل هاهنا الماء السائل وأصله المصدر من قولك سال الماء سيلا إلّا أنه أوقع على الفاعل كما في قوله تعالى إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً [الملك: 30] أي غائرا وقد تسومح في التعبير عن ذلك بالوادي فقيل: المعنى اندفع واد بعذاب واقع والتعبير بالماضي قيل للدلالة على تحقيق وقوع العذاب إما في الدنيا وهو عذاب يوم بدر وقد قتل يومئذ النضر وأبو جهل. وإما في الآخرة وهو عذاب النار وعن زيد بن ثابت أن سائلا اسم واد في جهنم وأخرج ابن المنذر وعبد بن حميد عن ابن عباس ما يحتمله لِلْكافِرينَ صفة أخرى لعذاب أي كائن لِلْكافِرينَ أو صلة لواقع واللام للتعليل أو بمعنى على ويؤيده قراءة أبيّ «على الكافرين» وإن صح ما روي عن الحسن وقتادة أن أهل مكة لما خوفهم النبيّ صلّى الله عليه وسلم بعذاب سألوا عنه على ما ينزل وبمن يقع فنزلت كان هذا ابتداء كلام جوابا للسائل أي هو للكافرين وقوله تعالى لَيْسَ لَهُ دافِعٌ صفة أخرى لعذاب أو حال منه لتخصيصه بالصفة أو بالعمل أو من الضمير في لِلْكافِرينَ على تقدير كونه صفة لعذاب على ما قيل أو استئناف أو جملة مؤكدة لهو لِلْكافِرينَ على ما سمعت آنفا فلا تغفل وقوله سبحانه مِنَ اللَّهِ متعلق بدافع ومِنَ ابتدائية أي ليس له دافع يرده من جهته عزّ وجلّ لتعلق إرادته سبحانه به وقيل متعلق بواقع فقيل إنما يصح على غير قول الحسن وقتادة وعليه يلزم الفصل بالأجنبي لأن لِلْكافِرينَ على ذلك جواب سؤال ثم إن التعلق ب واقِعٍ على ما عدا قولهما إن جعل للكافرين من صلته أيضا كان أظهر وإلا لزم الفصل بين المعمول وعامله بما ليس من تتمته لكن ليس أجنبيا من كل وجه ذِي الْمَعارِجِ هي لغة الدرجات والمراد بها على ما روي عن ابن عباس السماوات تعرج فيها الملائكة من سماء إلى سماء ولم يعينها بعضهم فقال أي ذي المصاعد التي تصعد فيها الملائكة بالأوامر والنواهي وقيل هي مقامات معنوية تكون فيها الأعمال والاذكار أو مراتب في السلوك كذلك يترقى فيها المؤمنون السالكون أو مراتب الملائكة عليهم السلام. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 63 تفسيرها بالفضائل والنعم وروى نحوه ابن المنذر وابن أبي عباس وقيل هي الغرف التي جعلها الله تعالى لأوليائه في الجنة والأنسب بما يقتضيه المقام من التهويل ما هو أدل على عزه عزّ وجلّ وعظم ملكوته تعالى شأنه تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ أي جبريل عليه السلام كما ذهب إليه الجمهور أفرد بالذكر لتميزة وفضله بناء على المشهور من أنه عليه السلام أفضل الملائكة. وقيل لمجرد التشريف وإن لم يكن عليه السلام أفضلهم بناء على ما قيل من أن إسرافيل عليه السلام أفضل منه. وقال مجاهد الرُّوحُ ملائكة حفظة للملائكة الحافظين لبني آدم لا تراهم الحفظة كما لا نرى نحن حفظتنا. وقيل خلق هم حفظة الملائكة مطلقا كما أن الملائكة حفظة الناس وقيل ملك عظيم الحلقة يقوم وحدة يوم القيامة صفا ويقوم الملائكة كلهم صفا وقال أبو صالح خلق كهيئة الناس وليسوا بالناس. وقال قبيصة بن ذؤيب: روح الميت حين تقبض ولعله أراد الميت المؤمن وقرأ عبد الله والكسائي وابن مقسم وزائدة عن الأعمش «يعرج» بالياء التحتية إِلَيْهِ قيل أي إلى عرشه تعالى وحيث يهبط منه أو أمره سبحانه وقيل هو من قبيل قول إبراهيم عليه السلام إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي [الصافات: 99] أي إلى حيث أمرني عزّ وجلّ به. وقيل المراد إلى محل بره وكرامته جل وعلا على أن الكلام على حذف مضاف وقيل إلى المكان المنتهى إليه الدال عليه السياق وفسر بمحل الملائكة عليهم السلام من السماء ومعظم السلف يعدون ذلك من المتشابه مع تنزيهه عزّ وجلّ عن المكان والجسمية واللوازم التي لا تليق بشأن الالوهية وقوله تعالى فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ أي من سنينكم الظاهر تعلقه بتعرج، واليوم بمعنى الوقت والمراد به مقدار ما يقوم الناس فيه لرب العالمين إلى أن يستقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار من اليوم الآخر والذي لا نهاية له. ويشير إلى هذا ما أخرج الإمام أحمد وابن حبان وأبو يعلى وابن جرير والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ما أطول هذا اليوم فقال عليه الصلاة والسلام: «والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أهون عليه من الصلاة مكتوبة يصليها في الدنيا» . واختلف في المراد بهذا التقدير على هذا الوجه فقيل الإشارة إلى استطالة ذلك اليوم لشدته لا أنه بهذا المقدار من العدد حقيقة وروي هذا عن ابن عباس والعرب تصف أوقات الشدة والحزن بالطول وأوقات الرخاء والفرح بالقصر ومن ذلك قول الشاعر: من قصر الليل إذا زرتني ... أشكو وتشكين من الطول وقوله: ليلي وليلى نفى نومي اختلافهما ... بالطول والطول يا طوبى لو اعتدلا يجود بالطول ليلي كلما بخلت ... بالطول ليلى وإن جادت به بخلا وقوله: ويوم كظل الرمح قصر طوله ... دم الزق عنا واصطفاق المزاهر إلى ما لا يكاد يحصى وفي قوله عليه الصلاة والسلام في الخبر السابق «إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أهون عليه من صلاة مكتوبة» إشارة إلى هذا وكذا ما روي عن عبد الله بن عمر من قوله: «يوضع للمؤمنين يومئذ كراسي من ذهب ويظلل عليهم الغمام ويقصر عليهم ذلك اليوم ويهون حتى يكون كيوم من أيامكم هذه» ولينظر على هذا القول ما حكمة التنصيص على العدد المذكور وقيل هو على ظاهره وحقيقته وإن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 64 في ذلك اليوم خمسين موطنا كل موطن ألف سنة من سني الدنيا أي حقيقة. وقيل الخمسون على حقيقتها إلّا أن المعنى مقدار ما يقضي فيه من الحساب قدر ما يقضي بالعدل في خمسين ألف سنة من أيام الدنيا وهو مروي عن عكرمة. وأشار بعضهم إلى أن المقدار المذكور عليه مجاز عما يلزمه من كثرة ما يقع فيه من المحاسبات أو كناية فكأنه قيل في يوم يكثر فيه الحساب ويطول بحيث لو وقع من غير أسرع الحاسبين وفي الدنيا طال إلى خمسين ألف سنة وتخصيص عروج الملائكة والروح بذلك اليوم مع أن عروجهم متحقق في غيره أيضا للإشارة إلى عظم هوله وانقطاع الخلق فيه إلى الله عز وجل وانتظارهم أمره سبحانه فيهم أو للإشارة إلى عظم الهول على وجه آخر وأيّا ما كان فالجملة استئناف مؤكد لما سيق له الكلام. وقيل هو متعلق بواقع وقيل بدافع وقيل بسال إذا جعل من السيلان لا به من السؤال لأنه لم يقع فيه. والمراد باليوم على هذه الأقوال ما أريد به فيما سبق وتَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إليه مستطرد عند وصفه عز وجل بذي المعارج وقيل هو متعلق بتعرج كما هو الظاهر إلا أن العروج في الدنيا والمعنى تعرج الملائكة والروح إلى عرشه تعالى ويقطعون في يوم من أيامكم ما يقطعه الإنسان في خمسين ألف سنة لو فرض سيره فيه. وروي عن ابن إسحاق ومنذر بن سعيد ومجاهد وجماعة وهو رواية عن ابن عباس أيضا واختلف في تحديد المسافة فقيل هي من وجه الأرض إلى منتهى العرش. وقيل من قعر الأرض السابعة السفلى إلى العرش وفصل بأن ثخن كل أرض خمسمائة عام وبين كل أرضين خمسمائة عام وبين الأرض العليا والسماء الدنيا خمسمائة عام وثخن كل سماء كذلك وما بين كل سماءين كذلك وما بين السماء العليا ومقعر الكرسي كذلك، ومجموع ذلك أربعة عشر ألف عام ومن مقعر الكرسي إلى العرش مسيرة ست وثلاثين ألف عام فالمجموع خمسون ألف سنة. وفي خبر أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه ولعله لا يصح وإن لم تبعد هذه السرعة من الملائكة عليهم السلام عند من وقف على سرعة حركة الأضواء وعلم أن الله عز وجل على كل شيء قدير. ومن الناس من اعتبر هذه المدة من الأرض إلى العرش عروجا وهبوطا واعتبرها كذلك من الأرض إلى مقعر السماء الدنيا في قوله سبحانه يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ [السجدة: 5] ومن يعتبر أحد الأمرين يعتبر هنا محدب السماء الدنيا والأرض وسيأتي إن شاء الله تعالى ما للمتصوفة في ذلك. وقيل الكلام بيان لغاية ارتفاع تلك المعارج وبعد مداها على سبيل التمثيل والتخييل. والمراد أنها في غاية البعد والارتفاع المعنوي على بعض الأوجه في المعارج أو الحسي كما في بعض آخر. وليس المراد التحديد وعن عكرمة أن تلك المدة هي مدة الدنيا منذ خلقت إلى أن تقوم الساعة إلى أنه لا يدري أحد ما مضى منها وما بقي أي تعرج الملائكة إليه في مدة الدنيا وبقاء هذه البنية وهذا يحتاج إلى نقل صحيح. والظاهر أنه أراد بالدنيا ما يقابل الأخرى ويشمل العرش ونحوه ويرد عليه أن ما ورد عن علي كرم الله تعالى وجهه جوابا لمن سأله متى خلق الله تعالى العرش يكذبه فإنه يدل على أن ما مضى من أول زمن خلقه إلى اليوم يزيد على خمسين ألف سنة بألوف ألوف سنين لا يحصيها إلا الله عز وجل ولعله أولى بالقبول مما قاله عكرمة. والحق أنه لا يعلم مبدأ الخلق ولا مدة بقاء هذه البنية إلا الله عز وجل بيد أنّا نعلم بتوفيق الله تعالى أن هذا العالم حادث حدوثا زمانيا وأنه ستبدل الأرض غير الأرض والسماوات وتبرز الخلائق لله تعالى الواحد القهار فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا متفرع على قوله تعالى سَأَلَ سائِلٌ ومتعلق به تعلقا معنويا لأن السؤال كان عن استهزاء وتعنت وتكذيب بناء على أن السائل النضر وأضرابه وذلك مما يضجره عليه الصلاة والسلام، أو كان عن تضجر واستبطاء للنصر بناء على أنه صلّى الله عليه وسلم هو السائل فكأنه قيل: فاصبر ولا تستعجل فإن الموعود كائن لا محالة. والمعنى على هذا أيضا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 65 على قراءة من قرأ «سال سائل» من السيلان كقراءة «سال سيل» ولا يظهر تفرعه على سأل من السؤال إن كان السائل نوحا عليه السلام والصبر الجميل على ما أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عباس ما لا شكوى فيه إلى أحد غير الله تعالى. وأخرج عن عبد الأعلى بن الحجاج أنه ما يكون معه صاحب المصيبة في القوم بحيث لا يدري من هو إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ أي العذاب الواقع أو اليوم المذكور في قوله تعالى فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ إلخ بناء على أن المراد به يوم الحساب متعلقا بتعرج على ما سمعت أولا أو بدافع أو بواقع أو بسال من السيلان أو يوم القيامة المدلول عليه بواقع على وجه فما يدل عليه كلام الكشاف من تخصيص عود الضمير إلى يوم القيامة بما إذا كان فِي يَوْمٍ متعلقا بواقع فيه بحث ومعنى يَرَوْنَهُ يعتقدونه بَعِيداً أي من الإمكان والمراد أنهم يعتقدون أنه محال أو من الوقوع والمراد أنهم يعتقدون أنه لا يقع أصلا وإن كان ممكنا ذاتا وكلام كفار أهل مكة بالنسبة إلى يوم القيامة والحساب محتمل للأمرين بل ربما تسمعهم يتكلمون بما يكاد يشعر بوقوعه حيث يزعمون أن آلهتهم تشفع لهم فهم متلونون في أمره تلون الحرباء والعذاب إن أريد به عذاب يوم القيامة فهو كيوم القيامة عندهم أو أنه لا يقع بالنسبة إليهم مطلقا لزعمهم دفع آلهتهم إياه عنهم وإن أريد به عذاب الدنيا فالظاهر أنهم لا ينفون إمكانه وإنما ينفون وقوعه ولا تكاد تتم دعوى أنهم ينفون إمكانه الذاتي وَنَراهُ قَرِيباً أي من الإمكان والتعبير به للمشاكلة كما قيل بها في نَراهُ إذ هو ممكن ولا معنى لوصف الممكن بالقرب من الإمكان لدخوله في حيزه والمراد وصفه بالإمكان أي ونراه ممكنا وهذا على التقدير الأول في يَرَوْنَهُ بَعِيداً أو نَراهُ قَرِيباً من الوقوع وهذا على التقدير الثاني فيه وقد يقال كذلك على الأول أيضا على معنى أنهم يَرَوْنَهُ بَعِيداً من الإمكان ونحن نراه قريبا من الوقوع فضلا عن الإمكان ولعله أولى من تقدير الإمكان في الجملتين وجملة إِنَّهُمْ إلخ تعليل للأمر بالصبر وقيل إن كان المستعجل هو النضر وأضرابه فهي مستأنفة بيانا لشبهة استهزائهم وجوابا عنه وإن كان النبي صلّى الله عليه وسلم فهي تعليل لما ضمن الأمر بالصبر من ترك الاستعجال بأن رؤيتنا ذلك قريبا توجب الوثوق وترك الاستعجال وقوله سبحانه يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ قيل متعلق بقريبا أو بمضمر يدل عليه واقِعٍ وهو يقع أو بدل عن فِي يَوْمٍ إن علل به دون تَعْرُجُ والنصب باعتبار أن محل الجار والمجرور ذلك إذ ليس بدلا عن المجرور وحده فاشتراط أبي حيان لمراعاة المحل كون الجار زائدا أو شبهه كرب غير صحيح ولا يحتاج تصحيح البدلية إلى التزام كون حركة يوم بنائية بناء على مذهب الكوفيين المجوزين لذلك وإن أضيف لمعرب وذكر أنه على هذه التقادير الثلاث المراد بالعذاب عذاب القيامة وأما إذا أريد عذاب الدنيا فيتعين أن يكون التقدير يوم تكون السماء يكون كيت وكيت وكأنهم لما استعجلوا العذاب أجيبوا بأزف الوقوع ثم قيل ليهن ذلك في جنب ما أعد لكم يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ فحينئذ يكون العذاب الذي هو العذاب ثم لا يخفى أن البداية ممكنة على تقدير تعلق فِي يَوْمٍ بتعرج أيضا بناء على أن المراد به يوم القيامة أيضا كما قدمنا وأن الأولى عند تعلقه بقريبا أن لا يراد من القرب من الإمكان الإمكان الذاتي لما في تقييده باليوم نوع إيهام. وأن ضميري يَرَوْنَهُ ونَراهُ إذا كانا ليوم القيامة يلزم وقوع الزمان في الزمان في قولنا يقع يوم القيامة يوم تكون كالمهل ويجاب بما لا يخفى. وجوز في البحر كونه بدلا من ضمير نَراهُ إذا كان عائدا على يوم القيامة وفي الإرشاد كونه متعلقا بليس له دافع وبعضهم كونه مفعولا به لا ذكر محذوفا وتعلقه بنراه كما قاله مكي لا نراه وكذا تعلقه بيبصرونهم كما حكاه ومثله ما عسى أن يقال متعلقه بيود الآتي بعد فتأمل والمهل أخرج أحمد والضياء في المختارة وغيرهما عن ابن عباس أنه دردي الزيت وهو ما يكون في قعره. وقال غير واحد: المهل ما أذيب على الجزء: 15 ¦ الصفحة: 66 مهل من الفلزات والمراد يوم تكون السماء واهية وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في الآية أن السماء الآن خضراء وأنها تحول يوم القيامة لونا آخر إلى الحمرة وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ كالصوف دون تقييد أو الأحمر أو المصبوغ ألوانا أقوال واختار جمع الأخير وذلك لاختلاف ألوان الجبال فمنها جدد بيض وحمر وغرابيب سود فإذا بست وطيرت في الجو أشبهت العهن أي المنفوش كما في القارعة إذا طيرته الريح وعن الحسن تسير الجبال مع الرياح ثم ينهد ثم تصير كالعهن ثم تنسف فتصير هباء وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً أي لا يسأل قريب مشفق قريبا مشفقا عن حاله ولا يكلمه لابتلاء كل منهم بما يشغله عن ذلك أخرجه ابن المنذر وعبد بن حميد عن قتادة وفي رواية أخرى عنه لا يسأله عن حاله لأنها ظاهرة وقيل لا يسأله أن يحمل عنه أوزاره شيئا ليأسه عن ذلك وقيل لا يسأله شفاعة وفي البحر لا يسأله نصره ولا منفعته لعلمه أنه لا يجد ذلك عنده. ولعل الأول أبلغ في التهويل وأيّا ما كان فمفعول يَسْئَلُ الثاني محذوف وقيل حَمِيماً منصوب بنزع الخافض أي لا يسأل حميم عن حميم وقرأ أبو حيوة وشيبة وأبو جعفر والبزي بخلاف عن ثلاثتهم «ولا يسأل» مبنيا للمفعول أي لا يطلب من حميم حميم ولا يكلف إحضاره أو لا يسأل منه حاله وقيل لا يسأل ذنوب حميمه ليؤخذ بها يُبَصَّرُونَهُمْ أي يبصر الأحماء الأحماء فلا يخفون عليهم وما يمنعهم من التساؤل إلا اشتغالهم بحال أنفسهم وقيل ما يغني عنه من مشاهدة الحال كبياض الوجه وسواده ولا يخفى حاله ويبصرونهم قيل من بصرته بالشيء إذا أوضحته له حتى يبصره ثم ضمن معنى التعريف أو حذف الصلة إيصالا وجمع الضميرين لعموم الحميم والجملة استئناف كأنه لما قيل لا يَسْئَلُ إلخ قيل لعله لا يبصره فقيل يُبَصَّرُونَهُمْ وجوز أن تكون صفة أي حَمِيماً مبصرين معرفين إياهم وأن تكون حالا إما من الفاعل أو من المفعول أو من كليهما ولا يضر التنكير لمكان العموم وهو مسوغ للحالية ورجحت على الوصفية بأن التقييد بالوصف في مقام الإطلاق والتعميم غير مناسب وليس فيها ذلك فلا تغفل. وقرأ قتادة «يبصرونهم» مخففا مع كسر الصاد أي يشاهدونهم يَوَدُّ الْمُجْرِمُ أي يتمنى الكافر وقيل كل مذنب وقوله تعالى لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ أي العذاب الذي ابتلي به يومئذ بِبَنِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ حكاية لودادتهم ولَوْ في معنى التمني وقيل هي بمنزلة أن الناصبة فلا يكون لها جواب، وينسبك منها ومما بعدها مصدر يقع مفعولا ليود والتقدير يَوَدُّ افتداءه ببنيه إلخ والجملة استئناف لبيان أن اشتغال كل مجرم بنفسه بلغ إلى حيث يتمنى أن يفتدى بأقرب الناس إليه وأعلقهم بقلبه فضلا أن يهتم بحاله ويسأل عنها وجوز أن تكون حالا من ضمير الفاعل على فرض أن يكون هو السائل فإن فرض أن السائل المفعول فهي حال من ضميره وقيل الظاهر جعلها حالا من ضمير الفاعل لأنه المتمني وأيّا ما كان فالمراد يَوَدُّ الْمُجْرِمُ منهم وقرأ نافع والكسائي كما في أنوار التنزيل والأعرج «يومئذ» بالفتح على البناء للإضافة إلى غير متمكن وقرأ أبو حيوة كذلك وبتنوين «عذاب» فيومئذ حينئذ منصوب بعذاب لأنه في معنى تعذيب وَفَصِيلَتِهِ أي عشيرته الأقربين الذين فصل عنهم كما ذكره غير واحد ولعله أولى من قول الراغب عشيرته المنفصلة عنه وقال ثعلب فَصِيلَتِهِ آباؤه الأدنون وفسر أبو عبيدة الفصيلة بالفخذ الَّتِي تُؤْوِيهِ أي تضمنه انتماء إليها لياذا بها في النوائب وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً من الثقلين الإنس والجن أو الخلائق الشاملة لهم ولغيرهم ومن للتغليب ثُمَّ يُنْجِيهِ عطف على يَفْتَدِي والضمير المرفوع للمصدر الذي في ضمن الفعل أي يود لو يفتدي ثم لو ينجيه الافتداء، وجوز أبو حيان عود الضمير إلى المذكور والزمخشري عوده إلى مَنْ فِي الْأَرْضِ وثم الاستبعاد الإنجاء يعني يتمنى لو كان هؤلاء جميعا تحت يده وبذلهم في فداء نفسه ثم ينجيه ذلك وهيهات وقرأ الزهري «تؤويه» و «ينجيه» الجزء: 15 ¦ الصفحة: 67 بضم الهاءين كَلَّا ردع للمجرم عن الودادة وتصريح بامتناع الإنجاء وضمير إِنَّها للنار المدلول عليها بذكر العذاب وقوله تعالى لَظى خبر إن وهي علم لجهنم أو للدركة الثانية من دركاتها منقول من اللظى بمعنى اللهب الخالص ومنع الصرف للعلمية والتأنيث وجوز أن يراد اللهب على المبالغة كأن كلها لهب خالص وحذف التنوين إما لإجراء الوصل مجرى الوقف أو لأنه علم جنس معدول عما فيه اللام كسحر إذا أردت سحرا بعينه وقوله تعالى نَزَّاعَةً لِلشَّوى أي الأطراف كاليد والرجل كما أخرجه ابن المنذر وابن حميد عن مجاهد وأبي صالح وقاله الراغب وغيره وقيل الأعضاء التي ليست بمقتل ولذا يقال رمى فأشوى إذا لم يقتل أو جمع شواة وهي جلدة الرأس وأنشدوا قول الأعشى: قالت قتيلة ما له ... قد جللت شيبا شواته وروي هذا عن ابن عباس وقتادة وقرة بن خالد وابن جبير وأخرجه ابن أبي شيبة عن مجاهد وأخرج هو عن أبي صالح والسدي تفسيرها بلحم الساقين وعن ابن جبير العصب والعقب وعن أبي العالية محاسن الوجه وفسر نزعها لذلك بأكلها له فتأكله ثم يعود وهكذا نصب بتقدير أعني أو أخص وهو مراد من قال نصب على الاختصاص للتهويل وجوز أن يكون حالا والعامل فيها لَظى وإن كان علما لما فيه من معنى التلظي كما عمل العلم في الظرف في قوله: أنا أبو المنهال بعض الأحيان أي المشهور بعض الأحيان قاله أبو حيان وإليه يشير كلام الكشف وقال الخفاجي لَظى بمعنى متلظية والحال من الضمير المستتر فيها لا منها بالمعنى السابق لأنها نكرة أو خبر. وفي مجيء الحال من مثله ما فيه وقيل هو حال مؤكدة كما في قوله: أنا ابن دارة معروفا بها نسبي ... وهل بدارة يا للناس من عار والعامل أحقه أو الخبر لتأويله بمسمى أو المبتدأ لتضمنه معنى التنبيه أو معنى الجملة وارتضاء الرضى وقيل حال من ضمير تدعو قدم عليه وجوز الزمخشري أن يكون ضمير إنها مبهما ترجم عنه الخبر أعني لَظى وبحث فيه بما رده المحققون وقرأ الأكثرون «نزّاعة» بالرفع على أنه خبر ثان لأن أو صفة للظى وهو ظاهر على اعتبار كونها نكرة وكذا على كونها علم جلس لأنه كالمعرف بلام الجنس في إجرائه مجرى النكرة أو هو الخبر ولَظى بدل من الضمير وإن اعتبرت نكرة بناء على أن إبدال النكرة غير منعوتة من المعرفة قد أجازه أبو علي وغيره من النحاة إذا تضمن فائدة كما هنا. وجوز على هذه القراءة أن يكون ضمير إِنَّها للقصة ولَظى مبتدأ بناء على أنه معرفة ونَزَّاعَةً خبره وقوله تعالى تَدْعُوا خبر مبتدأ مقدر أو حال متداخلة أو مترادفة أو مفردة أو خبر بعد خبر على قراءة الرفع فلا تغفل والدعاء على حقيقته وذلك كما روي عن ابن عباس وغيره يخلق الله تعالى فيها القدرة على الكلام كما يخلقه في جلودهم وأيديهم وأرجلهم فتناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم وروي أنها تقول لهم إليّ إليّ يا كافر يا منافق. وجوز أن يراد به الجذب والإحضار كما في قول ذي الرمة يصف الثور الوحشي: أمسى بوهبين مجتازا لمرتعه ... من ذي الفوارس تدعو أنفه الربب ونحوه قوله أيضا: ليالي اللهو يطبيني فأتبعه ... كأنني ضارب في غمرة لعب الجزء: 15 ¦ الصفحة: 68 ولا يبعد أن يقال شبه لياقتها لهم أو استحقاقهم لها على ما قيل بدعائها لهم فعبر عن ذلك بالدعاء على سبيل الاستعارة. وقال ثعلب تدعو تهلك من قول العرب دعاك الله تعالى أي أهلكك وحكاه الخليل عنهم. وفي الأساس دعاه الله تعالى بما يكره أنزله به وأصابتهم دواعي الدهر صروفه ومن ذلك قوله: دعاك الله من رجل بأفعى ... إذا نام العيون سرت عليكا واستظهر أنه معنى حقيقي للدعاء لكنه غير مشهور وفيه تردد وجوز أن يكون الدعاء لزبانيتها وأسند إليها مجازا أو الكلام على تقدير مضاف أي تدعو زبانينها مَنْ أَدْبَرَ في الدنيا عن الحق وَتَوَلَّى أعرض عن الطاعة وَجَمَعَ فَأَوْعى أي جمع المال فجعله في وعاء وكنزه ولم يؤد حقوقه وتشاغل به عن الدين زها باقتنائه حرصا وتأميلا وهذا إشارة إلى كفار أغنياء وما أخوف عبد الله بن عكيم فقد أخرج ابن سعيد عن الحكم أنه قال كان عبد الله بن عكيم لا يربط كيسه ويقول سمعت الله تعالى يقول وَجَمَعَ فَأَوْعى. إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً الهلع سرعة الجزع عند مس المكروه وسرعة المنع عند مس الخير من قولهم ناقة هلوع سريعة السير وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وغيرهما عن عكرمة قال سئل ابن عباس عن الهلوع فقال هو كما قال الله تعالى إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ إلخ وأخرج ابن المنذر عن الحسن أنه سئل عن ذلك أيضا فقرأ الآية وحكي نحوه عن ثعلب قال قال لي محمد بن عبد الله بن طاهر: ما الهلع؟ فقلت: قد فسره الله تعالى ولا يكون تفسير أبين من تفسيره سبحانه يعني قوله تعالى إِذا مَسَّهُ الآية ونظير ذلك قوله: الألمعي الذي يظن بك الظن ... كأن قد رأى وقد سمعا والجملة المؤكدة في موضع التعليل لما قبلها والْإِنْسانَ الجنس أو الكافر قولان أيد ثانيهما بما روى الطستي عن ابن عباس أن الآية في أبي جهل بن هشام ولا يأبى ذاك إرادة الجنس والشر الفقر والمرض ونحوهما وأل للجنس أي إذا مسه جنس الشر جَزُوعاً أي مبالغا في الجزع مكثرا منه. والجزع قال الراغب أبلغ من الحزن فإن الحزن عام والجزع حزن يصرف الإنسان عما هو بصدده ويقطعه عنه. وأصله قطع الحبل من نصفه يقال: جزعه فانجزع ولتصور الانقطاع فيه قيل جزع الوادي لمنقطعه والانقطاع اللون بتغيره قيل للخرز المتلون جزع وعنه استعير قولهم لحم مجزع إذ كان ذا لونين وقيل للبسرة إذا بلغ الإرطاب نصفها الجزء: 15 ¦ الصفحة: 69 مجزعة وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ المال والغنى أو الصحة مَنُوعاً مبالغا في المنع والإمساك وإِذا الأولى ظرف لجزوعا والثانية ظرف لمنوعا والوصفان على ما اختاره بعض الأجلة صفتان كاشفتان لهلوعا الواقع حالا كما هو الأنسب بما سمعت عن ابن عباس وغيره. وقال غير واحد الأوصاف الثلاثة أحوال فقيل مقدرة إن أريد اتصاف الإنسان بذلك بالفعل فإنه في حال الخلق لم يكن كذلك وإنما حصل له ذلك بعد تمام عقله ودخوله تحت التكليف، ومحققة إن أريد اتصافه بمبدأ هذه الأمور من الأمور الجبلية والطبائع الكلية المندرجة فيها تلك الصفات بالقوة ولا مانع عند أهل الحق من خلقه تعالى الإنسان وطبعه سبحانه إياه على ذلك وفي زوالها بعد خلاف فقيل إنها تزول بالمعالجة ولولاه لم يكن للمنع منها والنهي عنها فائدة وهي ليست من لوازم الماهية فالله تعالى كما خلقها يزيلها وقيل: إنها لا تزول وإنما تستر ويمنع المرء عن آثارها الظاهرة كما قيل: والطبع في الإنسان لا يتغير وهذا الخلاف جار في جميع الأمور الطبيعية وقال بعضهم: الأمور التابعة منها لأصل المزاج لا تتغير والتابعة لعرضه قد تتغير. وذهب الزمخشري إلى أن في الكلام استعارة فقال: المعنى أن الإنسان لإيثاره الجزع والمنع وتمكنهما منه ورسوخهما فيه كأنه مجبول عليهما مطبوع وكأنه أمر خلقي وضروري غير اختياري كقوله تعالى خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء: 37] لأنه في البطن والمهد لم يكن به هلع ولأنه ذم والله تعالى لا يذم فعله سبحانه والدليل عليه استثناء المؤمنين الذين جاهدوا أنفسهم وحملوها على المكاره وطلقوها من الشهوات حتى لم يكونوا جازعين ولا مانعين. وتعقب بأنه في المهد أهلع وأهلع فيسرع إلى الثدي ويحرص على الرضاع وإن مسه ألم جزع وبكى وإن تمسك بشيء فزوحم عليه منع بما في قدرته من اضطراب وبكاء وفي البطن لا يعلم حاله وأيضا الاسم يقع عليه بعد الوضع فما بعده هو المعتبر وإن الذم من حيث القيام بالعبد كما حقق في موضعه وإن الاستثناء إما منقطع لأنه لما وصف سبحانه من أدبر وتولى معللا بهلعه وجزعه قال تعالى لكن المصلين في مقابلتهم أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ [المعارج: 35] ثم كر على السابق وقال فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا [المعارج: 36] بالفاء تخصيصا بعد تعميم ورجعا إلى بدء لأنهم من المستهزئين الذين افتتح السورة بذكر سؤالهم أو متصل على أنهم لم يستمر خلقهم على الهلع فإن الأول لما كان تعليلا كان معناه خلقا مستمرا على الهلع والجزع إِلَّا الْمُصَلِّينَ فإنهم لم يستمر خلقهم على ذلك فلا يرد أن الهلع الذي في المهد لو كان مرادا لما صح استثناء المصلين لأنهم كغيرهم في حال الطفولية انتهى وهذا الاستثناء هو ما تضمنه قوله تعالى إِلَّا الْمُصَلِّينَ إلخ وقد وصفهم سبحانه بما ينبىء عن كمال تنزههم عن الهلع من الاستغراق في طاعة الحق عز وجل والإشفاق على الخلق والإيمان بالجزاء والخوف من العقوبة وكسر الشهوة وإيثار الآجل على العاجل فقال عز من قائل الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ أي مواظبون على أدائها لا يخلون بها ولا يشتغلون عنها بشيء من الشواغل وفيه إشارة إلى فضل المداومة على العبادة وقد أخرج ابن حبان عن أبي سلمة قال حدثتني عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «خذوا من العمل ما تطيقون فإن الله تعالى لا يمل حتى تملوا» قالت فكان أحب الأعمال إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما دام عليه وإن قل، وكان إذا صلى صلاة دام عليها وقرأ أبو سلمة الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ وأخرج أحمد في مسنده عنها أنها قالت: كان عمله صلّى الله عليه وسلم ديمة قال جار الله أي ما فعل من أفعال الخير إلّا وقد اعتاد ذلك ويفعله كلما جاء وقته ووجه بأن الفعلة للحال التي يستمر عليها الشخص ثم في جعله نفس الحالة ما لا يخفى من المبالغة والدلالة على أنه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 70 كان ملكة له عليه الصلاة والسلام وقيل دائِمُونَ أي لا يلتفتون فيها ومنه الماء الدائم وروي ذلك عن عمران بن حصين وكذا عن عقبة بن عامر أخرج ابن المنذر عن أبي الخير أن عقبة قال لهم: من الذين هم على صلاتهم دائمون؟ قال: قلنا الذين لا يزالون يصلون، فقال: لا ولكن الذين إذا صلوا لم يلتفتوا عن يمين ولا شمال وإليه ذهب الزجاج فتشعر الآية بذم الالتفات في الصلاة وقد نطقت الأخبار بذلك واستدل بعضهم بها على أنه كبيرة وتحقيقه في الزواجر. وعن ابن مسعود ومسروق أن دوامها أداؤها في مواقيتها وهو كما ترى ولعل ترك الالتفات والأداء في الوقت يتضمنه ما يأتي من المحافظة إن شاء الله تعالى والمراد بالصلاة على ما أخرج عبد بن حميد عن إبراهيم التيمي الصلاة المكتوبة وعن الإمام أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أن المراد بها النافلة وقيل ما أمروا به مطلقا منها وقرأ الحسن «صلواتهم» بالجمع وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ أي نصيب معين يستوجبونه على أنفسهم تقربا إلى الله تعالى وإشفاقا على الناس وهو على ما روي عن الإمام أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه ما يوظفه الرجل على نفسه يؤديه في كل جمعة أو كل شهر مثلا وقيل هو الزكاة لأنها مقدرة معلومة وتعقب بأن السورة مكية والزكاة إنما فرضت وعيّن مقدارها في المدينة وقبل ذلك كانت مفروضة من غير تعيين لِلسَّائِلِ الذي يسأل وَالْمَحْرُومِ الذي لا يسأل فيظن أنه غني فيحرم واستعماله في ذلك على سبيل الكناية ولا يصح أن تراد به من يحرمونه بأنفسهم للزوم التناقض كما لا يخفى وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ المراد التصديق به بالأعمال حيث يتعبون أنفسهم في الطاعات البدنية طمعا في المثوبة الأخروية لأن التصديق القلبي عام لجميع المسلمين لا امتياز فيه لأحد منهم وفي التعبير بالمضارع دلالة على أن التصديق والأعمال تتجدد منهم آنا فآنا وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ خائفون على أنفسهم مع ما لهم من الأعمال الفاضلة استقصارا لها واستعظاما لجنابه عز وجل كقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ [المؤمنون: 60] وقوله سبحانه إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ اعتراض مؤذن بأنه لا ينبغي لأحد أن يأمن عذابه عز وجل وإن بالغ في الطاعة كهؤلاء ولذا كان السلف الصالح وهم هم خائفين وجلين حتى قال بعضهم يا ليتني كنت شجرة تعضد وآخر ليت أمي لم تلدني إلى غير ذلك وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ سبق تفسيره في سورة المؤمنين على وجه مستوفى فتذكره وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ لا يخلّون بشيء من حقوقها وكأنه لكثرة الأمانة جمعت ولم يجمع العهد قبل إيذانا بأنه ليس كالأمانة كثرة وقيل لأنه مصدر ويدل على كثرة الأمانة ما روى الكلبي: كل أحد مؤتمن على ما افترض عليه من العقائد والأقوال والأحوال والأفعال ومن الحقوق في الأموال وحقوق الأهل والعيال وسائر الأقارب والمملوكين والجار وسائر المسلمين. وقال السدي إن حقوق الشرع كلها أمانات قد قبلها المؤمن وضمن أداءها بقبول الإيمان وقيل كل ما أعطاه الله تعالى للعبد من الأعضاء وغيرها أمانة عنده فمن استعمل ذلك في غير ما أعطاه لأجله وأذن سبحانه له به فقد خان الأمانة والخيانة فيها وكذا الغدر بالعهد من الكبائر على ما نص غير واحد. وقد روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر مرفوعا: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» . وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن أنس قال: ما خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلّا قال: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له» . وقرأ ابن كثير «لأمانتهم» بالإفراد على إرادة الجنس وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ مقيمون لها بالعدل غير منكرين لها أو لشيء منها ولا مخفين إحياء لحقوق الناس فيما الجزء: 15 ¦ الصفحة: 71 يتعلق بها وتعظيما لأمر الله عز وجل فيما يتعلق بحقوقه سبحانه، وخص بعضهم الشهادة بما يتعلق بحقوق العباد وذكر أنها مندرجة في الأمانات إلّا أنها خصت بالذكر لإبانة فضلها وجمعها لاختلاف الأنواع ولو لم يعتبر ذلك أفرد على ما قيل لأنها مصدر شامل للقليل والكثير. وقرأ الجمهور بالإفراد على ما سمعت آنفا وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ أي يراعون شرائطها ويكملون فرائضها وسننها ومستحباتها باستعارة الحفظ من الضياع للإتمام والتكميل وهذا غير الدوام فإنه يرجع إلى أنفس الصلوات وهذا يرجع إلى أحوالها فلا يتكرر مع ما سبق من قوله تعالى الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ وكأنه لما كان ما يراعى في إتمام الصلاة وتكميلها مما يتفاوت بحسب الأوقات جيء بالمضارع الدال على التجدد كذا قيل. وقيل إن الإتيان به مع تقديم هم لمزيد الاعتناء بهذا الحكم لما أن أمر التقوى في مثل ذلك أقوى منه في مثل هم محافظون واعتبر هذا هنا دون ما في الصدر لأن المراعاة المذكورة كثيرا ما يفغل عنها. وفي افتتاح الأوصاف بما يتعلق بالصلاة واختتامها به دلالة على شرفها وعلو قدرها لأنها معراج المؤمنين ومناجاة رب العالمين ولذا جعلت قرة عين سيد المرسلين صلّى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين وتكرير الموصولات لتنزيل اختلاف الصفات منزلة اختلاف الذوات إيذانا بأن كان واحد من الأوصاف المذكورة نعت جليل على حياله له شأن خطير مستتبع لأحكام جمة حقيق بأن يفرد له موصوف مستقل ولا يجعل شيء منها تتمة للآخر أُولئِكَ إشارة إلى الموصوفين بما ذكر من الصفات وما فيه من معنى البعد لبعد المشار إليهم إما في الفضل أو في الذكر باعتبار مبدأ الأوصاف المذكورة وهو مبتدأ خبره فِي جَنَّاتٍ أي مستقرون في جنات لا يقادر قدرها ولا يدرك كنهها وقوله تعالى مُكْرَمُونَ خبر آخر أو هو الخبر وفِي جَنَّاتٍ متعلق به قدم عليه للاهتمام مع مراعاة الفواصل أو بمضمر هو حال من الضمير في الخبر أي مكرمون كائنين في جنات فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ أي في الجهة التي تليك مُهْطِعِينَ مسرعين نحوك مادّي أعناقهم إليك مقبلين بأبصارهم عليك ليظفروا بما يجعلونه هزؤا عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ جماعات في تفرقة كما قال أبو عبيدة وأنشدوا قول عبيد بن الأبرص: فجاؤوا يهرعون إليه حتى ... يكونوا حول منبره عزينا وخص بعضهم كل جماعة بنحو ثلاثة أشخاص أو أربعة جمع عزة وأصلها عزوة من العز ولأن كل فرقة تعتزي وتنتسب إلى غير من تعتزي إليه الأخرى فلامها واو وقيل لامها هاء والأصل عزهة وجمعت بالواو والنون كما جمعت سنة وأخواتها وتكسر العين في الجمع وتضم. وقالوا: عزى على فعل ولم يقولوا عزات ونصب عزين على أنه حال من الَّذِينَ كَفَرُوا أو من الضمير في مُهْطِعِينَ على التداخل وعَنِ الْيَمِينِ إما متعلق به لأنه بمعنى متفرقين أو بمهطعين أي مسرعين عن الجهتين أو هو حال أي كائنين عن اليمين روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي عند الكعبة ويقرأ القرآن فكان المشركين يجتمعون حوله حلقا حلقا وفرقا يستمعون ويستهزئون بكلامه عليه الصلاة والسلام ويقولون إن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد صلّى الله عليه وسلم فلندخلها قبلهم فنزلت وفي بعض الآثار ما يشعر بأن الأولى أن لا يجلس المؤمنون عزين لأنه من عادة الجاهلية أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ أي بلا إيمان وهو إنكار لقولهم إن دخل هؤلاء الجنة إلخ وقرأ ابن يعمر والحسن وأبو رجاء وزيد بن علي وطلحة والمفضل عن عاصم «يدخل» بالبناء للفاعل كَلَّا ردع لهم عن ذلك الطمع الفارغ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ قيل هو تعليل للردع والمعنى إنا خلقناهم من أجل ما يعلمون وهو تكميل النفس بالإيمان والطاعة فمن لم يستكملها بذلك فهو بمعزل من أن يتبوأ متبوأ الكاملين فمن أين لهم أن يطمعوا في دخول الجنة وهم مكبون على الكفر والفسوق وإنكار البعث وكون ذلك الجزء: 15 ¦ الصفحة: 72 معلوما لهم باعتبار سماعهم إياه من النبي صلّى الله عليه وسلم وقيل من ابتدائية والمعنى أنهم مخلوقون من نطفة قذرة لا تناسب عالم القدس فمتى لم تستكمل بالإيمان والطاعة ولم تتخلق بأخلاق الملائكة عليهم السلام لم تستعد لدخولها وكلا القولين كما ترى وقال مفتي الديار الرومية إن الأقرب كونه كلاما مستأنفا قد سيق تمهيدا لما بعده من بيان قدرته عز وجل على أن يهلكهم لكفرهم بالبعث والجزاء واستهزائهم برسول الله صلّى الله عليه وسلم وبما نزل عليه عليه الصلاة والسلام من الوحي وادعائهم دخول الجنة بطريق السخرية وينشىء بدلهم قوما آخرين فإن قدرته سبحانه على ما يعلمون من النشأة الأولى حجة بينة على قدرته عز وجل على ذلك كما يفصح عنه الفاء الفصيحة في قوله تعالى فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ أي إذا كان الأمر كما ذكرنا من أن خلقهم مما يعلمون وهو النطفة القذرة فلا أقسم برب المشارق والمغارب إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ أي نهلكهم بالمرة حسبما تقتضيه جناياتهم ونأتي بدلهم بخلق آخرين ليسوا على صفتهم وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ أي بمغلوبين إن أردنا ذلك لكن مشيئتنا المبينة على الحكم البالغة اقتضت تأخير عقوباتهم وفيه نوع بعد ولعل الأقرب كونه في معنى التعليل لكن على وجه قرر به صاحب الكشف كلام الكشاف فقال أراد أنه ردع عن الطمع معلل بإنكارهم البعث من حيث إن ذكر دليله إنما يكون مع المنكر فأقيم علة العلة مقام العلة مبالغة لما حكي عنهم طمع دخول الجنة. ومن البديهي أنه ينافي حال من لا يثبتها فكأنه قيل إنه ينكر البعث فأنّى يتجه طمعه واحتج عليهم بخلقهم أولا وبقدرته سبحانه على خلق مثلهم ثانيا وفيه تهكم بهم وتنبيه على مكان مناقضتهم فإن الاستهزاء بالساعة والطمع في دخول الجنة مما يتنافيان ووجه أقربيته قوة الارتباط كبما سبق عليه وهو في الحقيقة أبعد مغزى ومنه يعلم أن ما قيل في قوله سبحانه إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ إلخ أن معناه إِنَّا لَقادِرُونَ على أن نعطي محمدا صلّى الله عليه وسلم من هو خير منهم وهم الأنصار ليس بذاك وفي التعبير عن مادة خلقهم بما يعلمون مما يكسر سورة المتكبرين ما لا يخفى والمراد بالمشارق والمغارب مشارق الشمس المائة والثمانون ومغاربها كذلك أو مشارق ومغارب الشمس والقمر على ما روي عن عكرمة أو مشارق الكواكب ومغاربها مطلقا كما قيل وذهب بعضهم إلى أن المراد رب المخلوقات بأسرها والكلام في فَلا أُقْسِمُ قد تقدم وقرأ قوم «فلا قسم» بلاء دون ألف وعبد الله بن مسلم وابن محيصن والجحدري «المشرق والمغرب» مفردين فَذَرْهُمْ فخلّهم غير مكترث بهم يَخُوضُوا في باطلهم الذي من جملته ما حكي عنهم وَيَلْعَبُوا في دنياهم حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ هو يوم البعث عند النفخة الثانية لقوله سبحانه يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ أي القبور فإنه بدل من يَوْمَهُمُ وهو مفعول به ليلاقوا، وتفسيره بيوم موتهم أو يوم بدر أو يوم النفخة الأولى وجعل يَوْمَ مفعولا به لمحذوف كاذكر أو متعلقا ب تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مما لا ينبغي أن يذهب إليه وما في الآية من معنى المهادنة منسوخ بآية السيف. وقرأ أبو جعفر وابن محيصن «يلقوا» مضارع لقي وروى أبو بكر عن عاصم أنه قرأ «يخرجون» على البناء للمفعول من الإخراج سِراعاً أي مسرعين وهو حال من مرفوع يَخْرُجُونَ وهو جمع سريع كظريف وظراف كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ وهو ما نصب فعبد من دون الله عز وجل وعده غير واحد مفردا وأنشد قول الأعشى: وذا النصب المنصوب لا تنسكنه ... لعاقبة والله ربك فاعبدا وقال بعضهم: هو جمع نصاب ككتاب وكتب وقال الأخفش جمع نصب كرهن ورهن والأنصاب جمع الجمع. وقرأ الجمهور «نصب» بفتح النون وسكون الصاد وهو اسم مفرد فقيل الصنم المنصوب للعبادة أو العلم المنصوب على الطريق ليهتدي به السالك. وقال أبو عمرو: هو شبكة يقع فيها الصيد فيسارع إليها الجزء: 15 ¦ الصفحة: 73 صاحبها مخافة أن يتفلت الصيد. وقيل: ما ينصب علامة لنزول الملك وسيره. وقرأ أبو عمران الحوفي ومجاهد «نصب» بفتح النون والصاد فعل بمعنى مفعول وقرأ الحسن وقتادة «نصب» بضم النون وسكون الصاد على أنه تخفيف «نصب» بضمتين أو جمع نصب بفتحتين كولد وولد يُوفِضُونَ أي يسرعون وأصل الإيفاض كما قال الراغب أن يعدو من عليه الوفضة وهي الكنانة فتخشخش عليه ثم استعمل في الإسراع وقيل هو مطلق الانطلاق. وروي عن الضحاك والأكثرون على الأول والمراد أنهم يخرجون مسارعين إلى الداعي يسبق بعضهم بعضا. والإسراع في السير إلى المعبودات الباطلة كان عادة للمشركين وقد رأينا كثيرا من إخوانهم الذين يعبدون توابيت الأئمة ونحوهم رضي الله تعالى عنهم كذلك وكذا عادة من ضل الطريق أن يسرع إلى أعلامها وعادة الجند أن يسرعوا نحو منزل الملك خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ لعظم ما تحققوه ووصفت أبصارهم بالخشوع مع أنه وصف الكل لغاية ظهور آثاره فيها تَرْهَقُهُمْ تغشاهم ذِلَّةٌ شديدة ذلِكَ الذي ذكر ما سيقع فيه من الأحوال الهائلة الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ أي في الدنيا. واسم الإشارة مبتدأ والْيَوْمُ خبر والموصول صفته والجملة بعده صلته والعائد محذوف أي يوعدونه وقرأ عبد الرحمن بن خلاذ عن داود بن سالم عن يعقوب والحسن بن عبد الرحمن عن التمار «ذلّة» بغير تنوين مضافا إلى ذلِكَ الْيَوْمُ بالجر هذا واعلم أن بعض المتصوفة في هذا الزمان ذكر في شأن هذا اليوم الذي أخبر الله تعالى أن مقداره خمسون ألف سنة أن المراتب أربع: الملك والملكوت والجبروت واللاهوت وكل مرتبة عليا محيطة بالسفلى وأعلى منها بعشر درجات لأنها تمام المرتبة لأن الله خلق الأشياء من عشر قبضات يعني من سر عشر مراتب الأفلاك التسعة والعناصر في كل عالم بحسبه ولذا ترتبت مراتب الأعداد على الأربع والألف منتهى المراتب وأقصى الغايات ولما كانت النسبة إلى الرب أي إلى وجهة الحق هي الغاية القصوى بالنسبة إلى ما عداها أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النجم: 42] كان اليوم الواحد المنسوب إليه ألفا ولذا كان اليوم الربوبي ألف سنة كما قال سبحانه وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج: 47] فإذا ترقى الكون واقتضت الحكمة ظهور النشأة الأخرى وبروز آثار الاسم الأعظم في مقام الألوهية في رتبة الجامع ظهر الكون والأكوان والمكونات في محشر واحد على مراتبها في الأعيان فظهر سر النون من كلمة كُنْ [البقرة: 117 وغيرها] لظهور فيكون فظهر الخمسون في العود كما نزل في البدء وهو قوله سبحانه كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف: 29] فكان اليوم الواحد عند ظهور الاسم الأعظم في الجهة الجامعة خمسين ألف سنة، فالألف لترقي الواحد ولما كانت المراتب خمسين كان خمسين ألفا والخمسون تفاصيل ظهور اسم الرب عند ظهور اسم الله في عالم الأمر الذي هو أول مراتب التفصيل في قوله تعالى كُنْ وكان أول ظهور التفصيل خمسين لأن التوحيد الظاهر في النقطة والألف والحروف والكلمة التامة والدلالة التي هي تمام الخمسة إنما كانت في عشرة عوالم المراتب التعينات أو لأن الطبائع الأربع مع حصول المزاج بظهور طبيعة خامسة وبها تمام الخمسة إنما كانت في عشرة عوالم يحسبها فكان المجموع خمسين والعوالم العشرة هي عالم الإمكان وعالم الفؤاد وعالم القلب وعالم العقل وعالم الروح وعالم النفس وعالم الطبيعة وعالم المادة وعالم المثال وعالم الأجسام. والخمسون في وجه الرب ووجهة الحق في العالم الأول الذي هو الآخر تكون خمسين ألف سنة انتهى فإن فهمت منه معنى صحيحا تقبله ذوو العقول ولا يأباه المنقول فذاك وإلّا فاحمد الله تعالى على العافية واسأله عز وجل التوفيق للوصول إلى معالم التحقيق وللشيخ الأكبر قدس سره أيضا كلام في هذا المقام فمن أراده فليتتبع كتبه وليسأل الله تعالى الفتوحات وهو سبحانه ولي الهبات. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 74 سورة نوح مكية بالاتفاق وهي ثمان وعشرون آية في الكوفي وتسع في البصري والشامي وثلاثون فيما عدا ذلك ووجه اتصالها بما قبلها على ما قال الجلال السيوطي وأشار إليه غيره أنه سبحانه لما قال في سورة المعارج إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ [المعارج: 4، 41] عقبه تعالى بقصة قوم نوح عليه السلام المشتملة على إغراقهم عن آخرهم بحيث لم يبق منهم في الأرض ديار وبدل خيرا منهم فوقعت موقع الاستدلال والاستظهار لتلك الدعوى كما وقعت قصة أصحاب الجنة في سورة ن موقع الاستظهار لما ختم به تبارك هذا مع تواخي مطلع السورتين في ذلك العذاب الموعد به الكافرون ووجه الاتصال على قول من زعم أن السائل هو نوح عليه السلام ظاهر وفي بعض الآثار ما يدل على أن النبي صلّى الله عليه وسلم يقرؤها على قوم نوح عليه السلام يوم القيامة أخرج الحاكم عن ابن عباس مرفوعا قال: «إن الله تعالى يدعو نوحا وقومه يوم القيامة أول الناس فيقول: ماذا أجبتم نوحا؟ فيقولون: ما دعانا وما بلّغنا ولا نصحنا ولا أمرنا ولا نهانا، فيقول نوح عليه السلام: دعوتهم يا رب دعاء فاشيا في الأولين والآخرين أمة بعد أمة حتى انتهى إلى خاتم النبيين أحمد صلّى الله عليه وسلم فانتسخه وقرأه وآمن به وصدقه فيقول الله عز وجل للملائكة عليهم السلام: ادعوا أحمد وأمته فيدعونهم فيأتي رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأمته يسعى نورهم بين أيديهم فيقول نوح عليه السلام لمحمد صلّى الله عليه وسلم وأمته: هل تعلمون أني بلغت قومي الرسالة واجتهدت لهم بالنصيحة وجهدت أن أستنقذهم من النار سرا وجهارا فلم يزدهم دعائي إلّا فرارا؟ فيقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأمته: فإنّا نشهد بما أنشدتنا أنك في جميع ما قلت من الصادقين. فيقول قوم نوح عليه السلام: وأنى علمت هذا أنت وأمتك ونحن أول الأمم وأنت آخر الأمم، فيقول رسول الله صلّى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ [نوح: 1] حتى يختم السورة، فإذا ختمها قالت أمته نشهد إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم. فيقول الله عز وجل عند ذلك: امتازوا اليوم أيها المجرمون» . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 75 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً هو اسم أعجمي زاد الجواليقي معرب والكرماني معناه بالسريانية الساكن وصرف لعدم زيادته على الثلاثة مع سكون وسطه وليس بعربي أصلا. وقول الحاكم في المستدرك إنما سمي نوحا لكثرة نوحه وبكائه على نفسه، واسمه عبد الغفار لا أظنه يصح وكذا ما ينقل في سبب بكائه من أنه عليه السلام رأى كلبا أجرب قذرا فبصق عليه فأنطقه الله تعالى فقال أتعيبني أم تعيب خالقي فندم وناح لذلك. والمشهور أنه عليه السلام ابن لمك بفتح اللام وسكون الميم بعدها كاف ابن مثوشلخ بفتح الميم وتشديد المثناة المضمومة بعدها واو ساكنة وفتح الشين المعجمة واللام والخاء المعجمة ابن خنوخ بفتح الخاء المعجمة وضم النون الخفيفة وبعدها واو ساكنة ثم خاء معجمة وشاع أخنوخ بهمزة أوله وهو إدريس عليه السلام بن يرد بمثناة من تحت مفتوحة ثم راء ساكنة مهملة ابن مهلاييل بن قينان بن أنوش بالنون والشين المعجمة ابن شيث بن آدم عليه السلام وهذا يدل على أنه عليه السلام بعد إدريس عليه السلام. وفي المستدرك أن أكثر الصحابة رضي الله تعالى عنهم على أنه قبل إدريس وفيه عن ابن عباس كان بين آدم ونوح عليهما السلام عشرة قرون وفيه أيضا مرفوعا بعث الله تعالى نوحا لأربعين سنة فلبث في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما يدعوهم وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا. وذكر ابن جرير أن مولده كان بعد وفاة آدم عليه السلام بمائة وستة وعشرين عاما وفي التهذيب للنوي رحمه الله تعالى أنه أطول الأنبياء عليهم السلام عمرا وقيل إنه أطول الناس مطلقا عمرا فقد عاش على ما قال شداد ألفا وأربعمائة وثمانين سنة ولم يسمع عن أحد أنه عاش كذلك يعني بالاتفاق لئلا يرد الخضر عليه السلام وقد يجاب بغير ذلك وهو على ما قيل أول من شرعت له الشرائع وسنت له السنن وأول رسول أنذر على الشرك وأهلكت أمته، والحق أن آدم عليه السلام كان رسولا قبله أرسل إلى زوجته حواء ثم إلى بنيه وكان في شريعته وما نسخ بشريعة نوح في قول وفي آخر لم يكن في شريعته إلّا الدعوة إلى الإيمان ويقال لنوح عليه السلام شيخ المرسلين وآدم الثاني وكان دقيق الوجه في رأسه طول عظيم العينين غليظ العضدين كثير لحم الفخذين ضخم السرة طويل اللحية والقامة جسيما. واختلف في مكان قبره فقيل بمسجد الكوفة وقيل بالجبل الأحمر وقيل بذيل جبل لبنان بمدينة الكرك. وفي إسناد الفعل إلى الضمير العظمة مع تأكيد الجملة ما لا يخفى من الاعتناء بأمر إرساله عليه السلام إِلى قَوْمِهِ قيل هم سكان جزيرة العرب ومن قرب منهم لا أهل الأرض كافة لاختصاص نبينا صلّى الله عليه وسلم بعموم البعثة من بين المرسلين عليهم السلام، وما كان لنوح بعد قصة الغرق على القول بعمومه أمر اتفاقي واشتهر أنه عليه الصلاة والسلام كان يسكن أرض الكوفة وهناك أرسل أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ أي أي أَنْذِرْ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 76 قَوْمَكَ على أن أَنْ تفسيرية لما في الإرسال من معنى القول دون حروفه فلا محل للجملة من الإعراب أو بأن أنذرهم أي بإنذارهم أو لإنذارهم على أن أَنْ مصدرية وقبلها حرف جر مقدر هو الباء أو اللام وفي المحل بعد الحذف من الجر والنصب قولان مشهوران. ونص أبو حيان على جواز هذا الوجه في بحره هنا ومنعه في موضع آخر. وحكى المنع عنه ابن هشام في المغني وقال: زعم أبو حيان أنها لا توصل بالأمر وإن كل شيء سمع من ذلك فأن فيه تفسيرية واستدل بدليلين أحدهما أنهما إذا قدرا بالمصدر فات معنى الأمر الثاني أنهما لم يقعا فاعلا ولا مفعولا لا يصح أعجبني أن قم ولا كرهت أن قم كما يصح ذلك مع الماضي والمضارع، والجواب عن الأول أن فوات معنى الأمرية عند التقدير بالمصدر كفوات معنى المضي والاستقبال في الموصولة بالمضارع والماضي عند التقدير المذكور ثم إنه يسلم مصدرية المخففة مع لزوم نحو ذلك فيها في نحو قوله تعالى وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها [النور: 9] إذ لا يفهم الدعاء من المصدر إلّا إذا كان مفعولا مطلقا نحو سقيا ورعيا. وعن الثاني أنه إنما منع ما ذكره لأنه لا معنى لتعليق الإعجاب والكراهية بالإنشاء لا لما ذكره ثم ينبغي له أن لا يسلم مصدرية كي لأنها لا تقع فاعلا ولا مفعولا وإنما تقع مخفوضة بلام التعليل، ثم مما يقطع به على قوله بالبطلان حكاية سيبويه كتبت إليه بأن قم واحتمال زيادة الباء كما يقول وهم فاحش لأن حروف الجر مطلقا لا تدخل إلّا على الاسم أو ما في تأويله انتهى. وأجاب بعضهم عن الأول أيضا بأنه عند التقدير يقدر الأمر فيقال فيما نحن فيه مثلا إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ بالأمر بإنذارهم وتعقب بأنه ليس هناك فعل يكون الأمر مصدره كأمرنا أو نأمر ثم إنه يكون المعنى في نحو أمرته بأن قم أمرته بالأمر بالقيام. وأشار الزمخشري إلى جواب ذلك هو أنه إذا لم يسبق لفظ الأمر أو ما في معناه من نحو رسمت فلا بد من تقدير القول لئلا يبطل الطلب فيقال هنا: أرسلناه بأن قلنا له أنذر أي بالأمر بالإنذار وإذا سبقه ذلك لا يحتاج إلى تقديره لأن مآل العبارات أعني أمرته بالقيام وأمرته بأنه قم وأن قم بدون الباء على أنها مفسرة إلى واحد وفي الكشف لو قيل إن التقدير وأرسلناه بالأمر بالإنذار من دون إضمار القول لأن الأمرية ليست مدلول جوهر الكلمة بل من متعلق الأداة فيقدر بالمصدر تبعا وفي أمر المخاطب اكتفى بالصيغة تحقيقا لكان حسنا وهذا كما أن التقدير في أن لا يزني خير له عدم الزنا فيقدر النفي بالمصدر على سبيل التبعية، وأما إذا صرح بالأمر فلا يحتاج إلى تقدير مصدر للطلب أيضا هذا ولو قدر أمرته بالأمر بالقيام أي بأن يأمر نفسه به مبالغة في الطلب لم يبعد عن الصواب ولما فهم منه ما فهم من الأول وأبلغ استعمل استعماله من غير ملاحظة الأصل وأوعى بعضهم أن تقدير القول هنا ليس لئلا يفوت معنى الطلب بل لأن الباء المحذوفة للملابسة وإرسال نوح عليه السلام لم يكن ملتبسا بإنذاره لتأخره عنه وإنما هو ملتبس بقول الله تعالى له عليه السلام أَنْذِرْ ولما كان هذا القول منه تعالى لطلب الإنذار قيل: المعنى أرسلناه بالأمر بالإنذار، وكان هذا القائل لا يبالي بفوات معنى الطلب كما يقتضيه كلام ابن هشام المتقدم آنفا. وبحث الخفاجي فيما ذكروه من الفوات فقال: كيف يفوت معنى الطلب وهو مذكور صريحا في أَنْذِرْ ونحوه وتأويله بالمصدر المسبوك تأويل لا ينافيه لأنه مفهوم أخذوه من موارد استعماله فكيف يبطل صريح منطوقه فما ذكروه مما لا وجه له وإن اتفقوا عليه فاعرفه انتهى. وأقول: لعلهم أرادوا بفوات معنى الطلب فواته عند ذكر المصدر الحاصل من التأويل بالفعل على معنى أنه إذا ذكر بالفعل لا يتحقق معنى الطلب ولا يتحد الكلامان ولم يريدوا أنه يفوت مطلقا كيف وتحققه في المنطوق الصريح كنار على علم، ويؤيد هذا منعهم بطلان اللازم المشار إليه بقول ابن هشام أن فوات معنى الأمرية عند التقدير بالمصدر كفوات المضي والاستقبال إلخ فكأنه قيل لا نسلم أن هذا الفوات الجزء: 15 ¦ الصفحة: 77 باطل لم لا يجوز أن يكون كفوات معنى المضي والاستقبال وفوات معنى الدعاء في نحو أَنَّ غَضَبَ [النور: 9] وقد أجمعوا أن ذلك ليس بباطل لأنه فوات عند الذكر بالفعل وليس بلازم، وليس بفوات مطلقا لظهور أن المنطوق الصريح متكفل به فتدبر. وقرأ ابن مسعود «أنذر» بغير أَنْ على إرادة القول أي قائلين أنذر مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ عاجل وهو ما حل بهم من الطوفان كما قال الكلبي أو آجل وهو عذاب النار كما قال ابن عباس. والمراد أنذرهم من قبل ذلك لئلا يبقى لهم عذر ما أصلا قالَ استئناف بياني كأنه قيل فما فعل عليه الصلاة والسلام بعد هذا الإرسال فقيل قال لهم يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ منذر موضح لحقيقة الأمر واللام في لَكُمْ للتقوية أو للتعليل أي لأجل نفعكم من غير أن أسألكم أجرا وقوله تعالى أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ متعلق بنذير على مصديرية أَنِ وتفسيريتها ومر نظيره في الشعراء وقوله سبحانه يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ مجزوم في جواب الأمر واختلف في مِنْ فقيل ابتدائية وإن لم تصلح هنا لمقارنة إلى وابتداء الفعل من جانبه تعالى على معنى أنه سبحانه يبتدئهم بعد إيمانهم بمغفرة ذنوبهم إحسانا منه عز وجل وتفضلا، وجوز أن يكون من جانبهم على معنى أول ما يحصل لهم بسبب إيمانهم مغفرة ذنوبهم وليس بذاك وقيل بيانية ورجوعها إلى معنى الابتدائية استبعده الرضي ويقدر قبلها مبهم يفسر بمدخولها أي يغفر لكم أفعالكم التي هي الذنوب، وقيل: زائدة على رأي الأخفش المجوز لزيادتها مطلقا وجزم بذلك هنا وقيل تبعيضية أي يغفر لكم بعض ذنوبكم واختاره بعض. واختلف في البعض المغفور فذهب قوم إلى أنه حقوق الله تعالى فقط السابقة على الإيمان وآخرون إلى أنه ما اقترفوه قبل الإيمان مطلقا الظاهر ما ورد من أن الإيمان يجب ما قبله واستشكل ذلك العز بن عبد السلام في الفوائد المنتشرة وأجاب عنه فقال: كيف يصح هذا على رأي سيبويه الذي لا يرى كالأخفش زيادتها في الموجب بل يقول إنها للتبعيض مع أن الإسلام يجب ما قبله بحيث لا يبقى منه شيء والجواب أن إضافة الذنوب إليهم إنما تصدق حقيقة فيما وقع إذا ما لم يقع لا يكون ذنبا لهم وإضافة ما لم يقع على طريق التجوز كما في وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ [المائدة: 89] إذا المراد بها الأيمان المستقبلة وإذا كانت الإضافة تارة تكون حقيقة وتارة تكون مجازا، فسيبويه يجمع بين الحقيقة والمجاز فيها وهو جائز يعني عند أصحابه الشافعية، ويكون المراد من بعض ذنوبكم البعض الذي وقع انتهى ولا يحتاج إلى حديث الجمع من خص الذنوب المغفورة بحقوق الله عز وجل وهاهنا بحث وهو أن الحمل على التبعيض يأباه يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر: 53] وقد نص البعلي في شرح الجمل على أن ذلك هو الذي دعا الأخفش للجزم بالزيادة هنا وجعله ابن الحاجب حجة له ورده بعض الأجلة بأن الموجبة الجزئية من لوازم الموجبة الكلية ولا تناقض بين اللازم والملزوم ومبناه الغفلة عن كون مدلول من التبعيضية هي البعضية المجردة عن الكلية المنافية لها لا الشاملة لما في ضمنها المجتمعة معها وإلّا لما تحقق الفرق بينها وبين من البيانية من جهة الحكم ولما تيسر تمشية الخلاف بين الإمام أبي حنيفة وصاحبيه فيما إذا قال: طلقي نفسك من ثلاث ما شئت بناء على أن من للتبعيض عنده وللبيان عندهما قال في الهداية وإن قال لها طلقي نفسك من ثلاث ما شئت فلها أن تطلق نفسها واحدة وثنتين ولا تطلق ثلاثا عند أبي حنيفة وقالا تطلق ثلاثا إن شاءت لأن كلمة ما محكمة في التعميم وكلمة من قد تستعمل للتمييز فتحمل على تمييز الجنس ولأبي حنيفة أن كلمة من حقيقة في التبعيض وما للتعميم فيعمل بهما انتهى. ولا خفاء في أن بناء الجواب المذكور على كون من للتبعيض إنما يصح إذا كان مدلولها حينئذ البعضية المجردة المنافية للكلية ومن هنا تعجب من صاحب التوضيح في تقرير الخلاف المذكور حيث استدل على أولوية التبعيض بتيقنه ولم يدر أن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 78 البعض المراد قطعا على تقدير البيان البعض العام الشامل لما في ضمن الكل لا البعض المجرد المراد هاهنا. فبالتعليل على الوجه المذكور لا يتم التقريب بل لا انطباق بين التعليل والمعلل على ما قيل. وصوب العلامة التفتازاني حيث قال: علقه على التلويح مستدلا على أن البعضية التي تدل عليها من التبعيضية هي البعضية المجردة المنافية للكلية لا البعضية التي هي أعم من أن تكون في ضمن الكل أو بدونه لاتفاق النحاة على ذلك حيث احتاجوا إلى التوفيق بين قوله تعالى يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً فقالوا لا يبعد أن يغفر سبحانه الذنوب لقوم وبعضها لآخرين أو خطاب البعض لقوم نوح عليه السلام وخطاب الكل لهذه الأمة، ولم يذهب أحد إلى أن التبعيض لا ينافي الكلية ولم يصوب الشريف في رده عليه قائلا وفيه بحث إذ الرضي صرح بعدم المنافاة بينهما حيث قال: ولو كان أيضا خطابا لأمة واحدة فغفران بعض الذنوب لا يناقض غفران كلها بل عدم غفران بعضها يناقض غفران كلها لأن قول الرضي غير مرتضى لما عرفت من أن مدلول التبعيضية البعضية المجردة. واعترض قول النحاة أو خطاب البعض لقوم نوح عليه السلام وخطاب الكل لهذه الأمة بأن الإخبار عن مغفرة البعض ورد في مواضع منها قوله تعالى في سورة [إبراهيم: 10] يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ومنها في سورة [الأحقاف: 31] يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ ومنها ما هنا وهو الذي ورد في قوم نوح عليه السلام، وأما ما ذكر في الأحقاف فقد ورد في الجن، وما ورد في إبراهيم فقد ورد في قوم نوح وعاد وثمود على ما أفصح به السياق فكيف يصح ما ذكروه. وقيل جيء بمن في خطاب الكفرة دون المؤمنين في جميع القرآن تفرقة بين الخطابين ووجه بأن المغفرة حيث جاءت في خطاب الكفار مرتبة على الإيمان وحيث جاءت في خطاب المؤمنين مشفوعة بالطاعة والتجنب عن المعاصي ونحو ذلك، فيتناول الخروج عن المظالم واعترض بأن التفرقة المذكورة إنما تتم لو لم يجىء الخطاب للكفرة على العموم وقد جاء كذلك كما في سورة [الأنفال: 38] قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وقد أسلفنا ما يتعلق بهذا المقام أيضا فتذكر وتأمل وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو الأمد الأقصى الذي قدره الله تعالى بشرط الإيمان والطاعة وراء ما قدره عز وجل لهم على تقدير بقائهم على الكفر والعصيان فإن وصف الأجل بالمسمى وتعليق تأخيرهم إليه بالإيمان والطاعة صريح في أن لهم أجلا آخر لا يجاوزونه إن لم يؤمنوا وهو المراد بقوله تعالى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ أي ما قدره عز وجل لكم على تقدير بقائكم على ما أنتم عليه إِذا جاءَ وأنتم على ما أنتم لا يُؤَخَّرُ فبادروا إلى الإيمان والطاعة قبل مجيئه حتى لا يتحقق شرطه الذي هو بقاؤكم على الكفر والعصيان فلا يجيء ويتحقق شرط التأخير إلى الأجل المسمى فتؤخروا إليه، وجوز أن يراد به وقت إتيان العذاب المذكور في قوله سبحانه مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فإنه أجل مؤقت له حتما وأيّا ما كان لا تناقض بين يُؤَخِّرْكُمْ وإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ كما يتوهم وقال الزمخشري في ذلك ما حاصله أن الأجل أجلان وأجل الله حكمه حكم المعهود والمراد منه الأجل المسمى الذي هو آخر الآجال، والجملة عنده تعليل لما فهم من تعليقه سبحانه التأخير بالأجل المسمى وهو عدم تجاوز التأخير عنه، والأول هو المعول عليه فإن الظاهر أن الجملة تعليل للأمر بالعبادة المستتبعة للمغفرة والتأخير إلى الأجل المسمى فلا بد أن يكون المنفي عند مجيء الأجل هو التأخير الموعود فكيف يتصور أن يكون ما فرض مجيئه هو الأجل المسمى الذي هو آخر الآجال لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي لو كنتم من أهل العلم لسارعتم لما آمركم به لكنكم لستم من أهله في شيء فلذا لم تسارعوا فجواب لَوْ مما يتعلق بأول الكلام ويجوز أن يكون مما يتعلق بآخره أي لو كنتم من أهل العلم لعلمتم ذلك أي عدم تأخير الأجل إذا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 79 جاء وقته المقدر له، والفعل في الوجهين منزل منزلة اللازم ويجوز أن يكون محذوفا لقصد التعميم أي لو كنتم تعلمون شيئا. ورجح الأول بعدم احتياجه للتقدير والجمع بين صيغتي الماضي والمضارع للدلالة على استمرار النفي المفهوم من لَوْ وجعل العلم المنفي هو العلم النظري لا الضروري ولا ما يعمه فإنه مما لا ينفي اللهم إلّا على سبيل المبالغة قالَ أي نوح عليه السلام مناجيا ربه عز وجل وحاكيا له سبحانه بقصد الشكوى وهو سبحانه أعلم بحاله ما جرى بينه وبين قومه من القيل والقال في تلك المدد الأطوال بعد ما بذل في الدعوة غاية المجهود وجاز في الإنذار كل حد معهود وضاقت عليه الحيل وعيت به العلل رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي إلى الإيمان والطاعة لَيْلًا وَنَهاراً أي دائما من غير فتور ولا توان فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً مما دعوتهم إليه وإسناد الزيادة إلى الدعاء من باب الإسناد إلى السبب على حد الإسناد في سرتني رؤيتك وفِراراً قيل تمييز وقيل مفعول ثان بناء على تعدي الزيادة والنقص إلى مفعولين وقد قيل إنه لم يثبت وإن ذكره بعضهم وفي الآية مبالغات بليغة وكان الأصل فلم يجيبوني ونحوه فعبر عن ذلك بزيادة الفرار المسندة للدعاء وأوقعت عليهم مع الإتيان بالنفي والإثبات وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ أي إلى الإيمان فمتعلق الفعل محذوف وجوز جعله منزلا منزلة اللازم والجملة عطف على ما قبلها وليس ذلك من عطف المفصل على المجمل كما توهم حتى يقال إن الواو من الحكاية لا من المحكي لِتَغْفِرَ لَهُمْ أي بسبب الإيمان جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ أي سدوا مسامعهم عن استماع الدعوة فهو كناية عما ذكر ولا منع من الحمل على الحقيقة وفي نسبة الجعل إلى الأصابع وهو منسوب إلى بعضها وإيثار الجعل على الإدخال ما لا يخفى وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ أي بالغوا في التغطي بها كأنهم طلبوا من ثيابهم أن تغشاهم لئلا يروه كراهة النظر إليه من فرط كراهة الدعوة ففي التعبير بصيغة الاستفعال ما لا يخفى من المبالغة وكذا في تعميم آلة الإبصار وغيرها من البدن بالستر مبالغة في إظهار الكراهة، ففي الآية مبالغة بحسب الكيف والكم. وقيل: بالغوا في ذلك لئلا يعرفهم عليه السلام فيدعوهم وفيه ضعف فإنه قيل عليه إنه يأباه ترتبه على قوله كُلَّما دَعَوْتُهُمْ اللهم إلّا أن يجعل مجازا عن إرادة الدعوة وهو تعكيس للأمر وتخريب للنظم وَأَصَرُّوا أي أكبوا على الكفر والمعاصي وانهمكوا وجدوا فيها مستعار من أصر الحمار على العانة إذا صر أذنيه أي رفعهما ونصبهما مستويين وأقبل عليها يكدمها ويطردها وفي ذلك غاية الذم لهم. وعن جار الله لو لم يكن في ارتكاب المعاصي إلا التشبيه بالحمار لكفى به مجزرة كيف والتشبيه في أسوأ أحواله وهو حال الكدم والسفاد وما ذكر من الاستعارة قيل في أصل اللغة وقد صار الإصرار حقيقة عرفية في اللازمة والانهماك في الأمر. وقال الراغب: الإصرار التعقد في الذنب والتشديد فيه والامتناع من الإقلاع عنه وأصله من الصر أي الشد ولعله لا يأبى ما تقدم بناء على أن الأصل الأول الشد والأصل الثاني ما سمعت أولا وَاسْتَكْبَرُوا من اتباعي وطاعتي اسْتِكْباراً عظيما وقيل نوعا من الاستكبار غير معهود والاستكبار طلب الكبر من غير استحقاق له ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً أي دعوتهم مرة بعد مرة وكرة غب كرة على وجوه متخالفة وأساليب متفاوتة وهو تعميم لوجوه الدعوة بعد تعميم الأوقات وقوله ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً يشعر بمسبوقية الجهر بالسر وهو الأليق بمن همه الإجابة لأنه أقرب إليها لما فيه من اللطف بالمدعو فتم لتفاوت الوجوه وإن الجهار أشد من الإسرار والجمع بينهما أغلظ من الإفراد وقال بعض الأجلة ليس في النظم الجليل ما يقتضي أن الدعوة الأولى كانت سرا فقط فكأنه أخذ ذلك من المقابلة ومن تقديم قوله لَيْلًا وذكرهم بعنوان قومه وقوله فِراراً فإن القرب ملائم له. وجوز كون ثُمَّ على معناها الحقيقي وهو التراخي الزماني لكنه باعتبار مبدأ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 80 كل من الإسرار والجهار ومنتهاه، وباعتبار منتهى الجمع بينهما لئلا ينافي عموم الأوقات السابق، ويحسن اعتبار ذلك وإن اعتبر عمومها عرفيا كما في لا يضع العصا عن عاتقه وجِهاراً منصوب بدعوتهم على المصدرية لأنه أحد نوعي الدعاء كما نصب القرفصاء في قعدت القرفصاء عليها لأنها أحد أنواع القعود أو أريد بدعوتهم جاهرتهم أو صفة لمصدر محذوف أي دعوتهم دعاء جهارا أي مجاهرا بفتح الهاء به أو مصدر في موقع الحال أي مجاهرا بزنة اسم الفاعل فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ بالتوبة عن الكفر والمعاصي فإنه سبحانه لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء : 48، 116] وقال ربكم تحريكا لداعي الاستغفار إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً دائم المغفرة كثيرها للتائبين كأنهم تعللوا وقالوا إن كنا على الحق فكيف نتركه وإن كنا على الباطل فكيف يقبلنا، ويلطف بنا جل وعلا بعد ما عكفنا عليه دهرا طويلا فأمرهم بما يمحق ما سلف منهم من المعاصي ويجلب إليهم المنافع ولذلك وعدهم على الاستغفار بأمور هي أحب إليهم وأوقع في قلوبهم من الأمور الأخروية أعني ما تضمنه يُرْسِلِ السَّماءَ إلخ وأجبتهم لذلك لما جبلوا عليه من محبة الأمور الدنيوية. والنفس مولعة بحب العاجل قال قتادة: كانوا أهل حب للدنيا فاستدعاهم إلى الآخرة من الطريق التي يحبونها وقيل لما كذبوه عليه الصلاة والسلام بعد تكرير الدعوة حبس الله تعالى عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة وقيل سبعين سنة فوعدهم أنهم إن آمنوا يرزقهم الله تعالى الخصب ويدفع عنهم ما هم فيه وهو قوله يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً أي كثير الدر ورأى السيلان والسماء السحاب أو المطر ومن إطلاقها على المطر وكذا على النبات أيضا قوله: إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا وجوز أن يراد بها المظلة على ما سمعت غيره مرة وهي تذكر وتؤنث ولا يأبى تأنيثها وصفها بمدرار إلا أن صيغ المبالغة كلها كما صرح به سيبويه يشترك فيها المذكر والمؤنث. وفي البحر أن مفعالا لا تلحقه التاء إلا نادرا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ أي بساتين وَيَجْعَلْ لَكُمْ فيها أو مطلقا أَنْهاراً جارية وأعاد فعل الجعل دون أن يقول يجعل لكم جنات وأنهارا لتغايرهما فإن الأول مما لفعلهم مدخل بخلاف الثاني ولذا قال يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ ولم يعد العامل كذا قيل وهو كما ترى. ولعل الأولى أن يقال إن الإعادة للاعتناء بأمر الأنهار لما أن لها مدخلا عاديا أكثريا في وجود الجنات وفي بقائها مع منافع أخر لا تخفى، ورعاية لمدخليتها في بقائها الذي هو أهم من أصل وجودها مع قوة هذه المدخلية أخرت عنها وإن ترك إعادة العامل مع البنين لأنه الأصل أو لأنه لما كان الإمداد أكثر ما جاء في المحبوب ولا تكمل محبوبية كل من الأموال والبنين بدون الآخر ترك إعادة العامل بينهما للإشارة إلى أن التفضيل بكل غير منغص بفقد الآخر. وتأخير البنين قيل لأن بقاء الأموال غالبا بهم لا سيما عند أهل البادية مع رمز إلى أن الأموال تصل إليهم آخر الأمر وهو مما يسر المتمول كما لا يخفى فتأمل. وقال البقاعي: المراد بالجنات والأنهار ما في الآخرة والجمهور على الأول وروي عن الربيع بن صبيح أن رجلا أتى الحسن وشكا إليه الجدب فقال له: استغفر الله تعالى وأتاه آخر فشكا إليه الفقر فقال له استغفر الله تعالى، وأتاه آخر فقال: ادع الله سبحانه أن يرزقني ابنا فقال له استغفر الله تعالى، وأتاه آخر فشكا إليه جفاف بساتينه فقال له: استغفر الله تعالى فقلنا أتاك رجال يشكون ألوانا ويسألون أنواعا فأمرتهم كلهم بالاستغفار فقال: ما قلت من نفسي شيئا إنما اعتبرت قول الله الجزء: 15 ¦ الصفحة: 81 عزّ وجلّ حكاية عن نبيه نوح عليه الصلاة والسلام إنه قال لقومه اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ الآية ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً إنكار لأن يكون لهم سبب ما في عدم رجائهم لله تعالى وَقاراً على أن الرجاء بمعنى الخوف كما أخرجه الطستي عن ابن عباس مجيبا به سؤال نافع بن الأزرق منشدا قوله أبي ذؤيب: إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ... وحالفها في بيت نوب عواسل أو على أنه بمعنى الاعتقاد كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وجماعة، وعبر به بالرجاء التابع لأدنى الظن مبالغة ولا تَرْجُونَ حال من ضمير المخاطبين، والعامل فيها معنى الاستقرار في لَكُمْ على أن الإنكار متوجه إلى السبب فقط مع تحقق مضمون الجملة الحالية لا إليهما معا ولِلَّهِ متعلق بمضمر وقع حالا من وَقاراً ولو تأخر لكان صفة له، والوقار كما رواه جماعة عن الحبر بمعنى العظمة لأنه على ما نقل الخفاجي عن الانتصاف ورد في صفاته تعالى بهذا المعنى ابتداء أو لأنه بمعنى التؤدة لكنها غير مناسبة له سبحانه فأطلقت باعتبار غايتها وما يتسبب عنها من العظمة في نفس الأمر أو في نفوس الناس أي أي سبب حصل لكم حال كونكم غير خائفين أو غير معتقدين لله تعالى عظمة موجبة لتعظيمه سبحانه بالإيمان به جل شأنه والطاعة له تعالى وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً أي والحال أنكم على حال منافية لما أنتم عليه بالكلية وهو أنكم تعلمون أنه عزّ وجلّ خلقكم مدرجا لكم في حالات عناصر ثم أغذية ثم أخلاطا ثم نطفا ثم علقا ثم مضغا ثم عظاما ولحوما ثم خلقا آخر فإن التقصير في توقير من هذا شأنه في القدرة القاهرة والإحسان التام مع العلم بذلك مما لا يكاد يصدر عن العاقل فالجملة حال من فاعل لا تَرْجُونَ مقررة للإنكار والأطوار الأحوال المختلفة. وأنشدوا قوله: فإن أفاق فقد طارت عمايته ... والمرء يخلق طورا بعد أطوار وحملها على ما سمعت من الأحوال مما ذهب إليه جمع وعن ابن عباس ومجاهد ما يقتضيه وإن اقتصر على ذكر النطفة والعلقة والمضغة وقيل: المراد بها الأحوال المختلفة بعد الولادة إلى الموت من الصبا والشباب والكهولة والشيوخة والقوة والضعف وقيل من الألوان والهيئات والأخلاق والملل المختلفة. وقيل من الصحة والسقم وكمال الأعضاء ونقصانها والغنى والفقر ونحوها هذا وقيل: الرجاء بمعنى الأمل كما هو الأصل المعروف فيه والوقار بمعنى التوقير كالسلام بمعنى التسليم وأريد به التعظيم ولله بيان للموقر المعظم فهو خبر مبتدأ محذوف أي إرادتي لله أو متعلق بمحذوف يفسره المذكور أي وقارا لله ولم يعلق بالمذكور بناء على ما صحح على ما فيه من أن معمول المصدر مطلقا لا يتقدم عليه ولو تأخر لكان صلة له على ما في الكشاف. وفيه أن المعنى ما لكم لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله تعالى إياكم في دار الثواب وحاصله ما لكم لا ترجون أن توقروا وتعظموا على البناء للمفعول فكأنه قيل لمن التوقير أي من الذي يعظمنا ويختص به إعظامه إيانا فقيل لله وفسره بقوله على حال إلخ إشارة إلى أنه ينبغي عليهم اغترارهم كأنه قيل ما لكم مغترين غير راجين. وجعل الحث على الرجاء كناية عن الحث على الإيمان والعمل الصالح لاقتضائه انعقاد الأسباب بخلاف الغرور وهي كناية إيمائية إذ لا واسطة ولو جعلت رمزية لخفاء الفرق بين الرجاء والغرور على الأكثر لكان وجها قاله في الكشف. وتعقب ذلك مفتي الديار الرومية عليه الرحمة بأن عدم رجاء الكفرة لتعظيم الله تعالى إياهم في دار الثواب ليس في حيز الاستبعاد والإنكار مع أن في جعل الوقار بمعنى التوقير من التعسف وفي جعل لله بيانا للموقر ودعوى أنه لو تأخر لكان صلة للوقار من التناقض ما لا يخفى فإن كونه بيانا للموقر الجزء: 15 ¦ الصفحة: 82 يقتضي أن يكون التوقير صادرا عنه تعالى والوقار وصفا للمخاطبين، وكونه صلة للوقار يوجب كون التوقير صادرا عنهم والوقار وصفا له عزّ وجلّ انتهى. وأجيب عن أمر التناقض بأنك إذا قلت ضرب لزيد جاز أن يكون زيد فاعلا وأن يكون مفعولا وكفى شاهدا صحة الإضافتين فعند التأخر يحتمل أن يكون الوقار بمعنى التوقير صادرا منه تعالى فيكون الوقار وصفا للمخاطبين، ويحتمل أن يكون متعلقا به فيكون التوقير صادرا عنهم والوقار وصفا له تعالى. غاية ما في الباب أنه لما قدم لله وامتنع تعلقه بالمصدر المتأخر صار بيانا وعينت القرينة إرادة صدور التوقير عنه عزّ وجلّ وأين هذا من التناقض نعم يبقى الكلام في القرينة ولعلها السياق بناء على أن القوم استبعدوا أن يقبلوا ويلطف الله تعالى بهم إن هم تركوا باطلهم فيكون هذا من تتمة إزالة الشبهة فيما سمعت من قولهم كيف يقبلنا ويلطف بنا إلخ. ويعلم من هذا الجواب عن قوله إن عدم رجاء الكفرة لتعظيم الله تعالى ليس في حيز الاستبعاد كما لا يخفى وعليه وقيل يكون قوله تعالى وَقَدْ خَلَقَكُمْ إلى قوله سبحانه- فِجاجاً للدلالة على أنه جل شأنه لا يزال ينعم عليكم مع كفركم فكيف لا يلطف بكم ويوقركم إذا آمنتم. وتفسر الأطوار بما يعتري الإنسان في أسنانه من الأمور المختلفة كالصبا والشباب والكهولة وغيرها مما يكون بعضه في حال الكفر ويصلح لأن يمتن به ويلتزم كون الإعادة في الأرض من النعم عندهم بناء على أن فيها ستر فظاعة الأبدان على أسهل وجه بعد حلول الموت الضروري في هذه النشأة والإنصاف بعد هذا كله ثم أم لم يتم أن الوجه المذكور متكلف بعيد عن الظاهر بمراحل وقيل: المعنى ما لكم لا تخافوا الله تعالى حلما وترك معاجلة بالعقاب فتؤمنوا فالرجاء بمعنى الخوف والوقار بمعنى الحلم حقيقة كما هو ظاهر كلام الراغب أو استعارة له لاشتراكهما في الثاني أو مجازا إذ لا يتخلف الحلم عن الوقار عادة وفي رواية عن ابن عباس تفسيره بالعاقبة حيث قال أي لا تخافون لله عاقبة وهو من الكناية حينئذ أخذا من الوقار بمعنى الثبات وعن مجاهد والضحاك أن المعنى ما لكم لا تبالون لله تعالى عظمة. قال قطرب: هذه لغة أهل الحجاز وهذيل وخزاعة ومضر يقولون لم أرج أي لم أبال وأظهر المعاني ما ذكرناه أولا ولما ذكر من آيات الأنفس ما ذكر اتبعه بشيء من آيات الآفاق ولبعد أحد الأمرين عن الآخر رتبة لم يأت بالعطف بل قطع فقال أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً أي متطابقة بعضها فوق بعض وتفسير التطابق بالتوافق في الحسن والاشتمال على الحكم وجودة الصنع ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ [الملك: 3] عدول عن الظاهر الذي تطابقت عليه الأخبار من غير داع إليه وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً منور الوجه الأرض في ظلمة الليل وجعله فيهن مع أنه في إحداهن وهي السماء الدنيا كما يقال زيد في بغداد وهو في بقعة منها، والمرجح له الإيجاز والملابسة بالكلية والجزئية وكونها طباقا شفافة وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً يزيل ظلمة الليل ويبصر أهل الدنيا في ضوئها وجه الأرض ويشاهدون الآفاق كما يبصر أهل البيت في ضوء السراج ما يحتاجون إلى إبصاره وتنوينه للتعظيم. وفي الكلام تشبيه بليغ ولكون السراج أعرف وأقرب جعل مشبها به ولاعتبار التعدي إلى الغير في مفهومه بخلاف النور كان أبلغ منه ولعل في تشبيهها بالسراج القائم ضياءه لا بطريق الانعكاس رمزا إلى أن ضياءها ليس منعكسا إليها من كوكب آخر كما أن نور القمر منعكس عليه من الشمس لاختلاف تشكلاته بالقرب والبعد منها مع خسوفه بحيلولة الأرض بينه وبينها، وجزم أهل الهيئة القديمة بذلك وفي رواية أظنها تصح أن ضياء الشمس مفاض عليها من العرش، وأظن أن من يقول إنها تدور على كوكب آخر من أهل الهيئة الجديدة يقول باستفادتها النور من غيرها. ثم الظاهر أن المراد وجعل الشمس فيهن فقيل هي في السماء الدنيا في فلك في ثخنها، وقيل في السماء الرابعة وهو المشهور عند متقدمي أهل الهيئة واستدلوا عليه بما هو الجزء: 15 ¦ الصفحة: 83 مذكور في كتبهم وفي البحر حكاية قول إنها في الخامسة ولا يكاد يصح ومما يضحك الصبيان فضلا عن فحول ذوي العرفان ما حكي فيه أيضا أنها في الشتاء في الرابعة وفي الصيف في السابعة وذهب متأخرو أهل الهيئة إلى أنها مركز للسيارات وعدوا الأرض منها ولم يعدوا القمر لدورانه على الأرض وهو بينها وبين الشمس عندهم وسنعمل إن شاء الله تعالى رسالة في تحقيق الحق والحق عند ذويه أظهر من الشمس. وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً أي أنشاكم منها فاستعير الإنبات للإنشاء لكونه أدل على الحدوث والتكون من الأرض لكونه محسوسا وقد تكرر إحساسه وهم وإن لم ينكروا الحدوث جعلوا بإنكار البعث كمن أنكره ففي الكلام استعارة مصرحة تبعية، ومِنَ ابتدائية داخلة على المبدأ البعيد ونَباتاً قال أبو حيان وجماعة مصدر مؤكد لأنبتكم بحذف الزوائد والأصل إنباتا أو نصب بإضمار فعل أن فنبتم نباتا وفي الكشف أن الإنبات والنبات من الفعل والانفعال وهما واحد في الحقيقة والاختلاف بالنسبة إلى القيام بالفاعل والقابل فلا حاجة إلى تضمين فعل آخر ولا تقديره ثم إن الإنبات إن حمل على معناه الوضعي فلا احتياج إلى التقدير إذ هو في نفسه متضمن للنبات كما أشرنا إليه فيكون نباتا نصبا بالتكتم لهذا التضمن وإن حمل على المتعارف من إطلاقه على مقدمة الإنبات من إخفاء الحب في الأرض مثلا فالوجه الحمل على أن المراد أَنْبَتَكُمْ فنبتّم نَباتاً ليكون فيه إشعار بنحو النكتة التي جرت في قوله تعالى فَانْبَجَسَتْ [الأعراف: 160] من الدلالة على القدرة وسرعة نفاذ حكمها. وجوز أن يكون الأصل أنبتكم من الأرض إنباتا فنبتم نباتا فحذف من الجملة الأولى المصدر ومن الثانية الفعل اكتفاء بما ذكر في الأخرى على أنه من الاحتباك. وقال القاضي: اختصر اكتفاء بالدلالة الالتزامية وفيه على ما قال الخفاجي الاشعار المذكورة فتأمل ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها أي في الأرض بالدفن عند موتكم وَيُخْرِجُكُمْ منها عند البعث والحشر إِخْراجاً محققا لا ريب فيه وعطف يُعِيدُكُمْ بثم لما بين الإنشاء والإعادة من الزمان المتراخي الواقع فيه التكليف الذي به استحقوا الجزاء بعد الإعادة، وعطف يُخْرِجُكُمْ بالواو دون ثم مع أن الإخراج كذلك لأن أحوال البرزخ والآخرة في حكم شيء واحد فكأنه قضية واحدة ولا يجوز أن يكون بعضها محقق الوقوع دون بعض بل لا بد أن تقع الجملة لا محالة وإن تأخرت عن الإبداء وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً تتقلبون عليها كالبساط وليس فيه دلالة على أن الأرض مبسوطة غير كرية كما في البحر وغيره لأن الكرة العظيمة يرى كل من عليها ما يليه مسطحا، ثم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 84 إن اعتقاد الكرية أو عدمها ليس بأمر لازم في الشريعة لكن كريتها كالأمر اليقيني وإن لم تكن حقيقة ووجه توسيط لَكُمُ بين الجعل ومفعوله الصريح يعلم مما مر غير مرة لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا طرقا فِجاجاً واسعات جمع فج فهو صفة مشبهة نعت لسبلا. وقال غير واحد: هو اسم للطريق الواسعة وقيل: اسم للمسلك بين الجبلين فيكون بدلا أو عطف بيان و (من) متعلقة بما قبلها لتضمنه معنى الاتخاذ وإلّا فهو يتعدى بفي أو بمضمر هو حال من سُبُلًا أي سبلا كائنة من الأرض ولو تأخر لكان صفة لها قالَ نُوحٌ أعيد لفظ الحكاية لطول العهد بحكاية مناجاته لربه عزّ وجلّ أي قال عليه السلام مناجيا له تعالى شاكيا إليه عزّ وجلّ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي أي داموا على عصياني فيما أمرتهم به مع ما بالغت في إرشادهم بالعظة والتذكير وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً أي واستمروا على اتباع رؤسائهم الذين أبطرتهم أموالهم وغرتهم أولادهم وصار ذلك سببا لزيادة خسارهم في الآخرة فصاروا أسوة لهم في الخسار والظاهر أن اتباع عامتهم وسفلتهم لأولئك الرؤساء وفي وصفهم بذلك إشعار بأنهم اتبعوهم لوجاهتهم الحاصلة لهم بسبب الأموال والأولاد لا لما شاهدوا فيهم من شبهة مصححة للاتباع في الجملة. وقرأ ابن الزبير والحسن والنخعي والأعرج ومجاهد والأخوان وابن كثير أبو عمرو ونافع في رواية خارجة عنه «وولده» بضم الواو وسكون اللام فقيل هو مفرد لغة في ولد بفتحهما كالحزن والحزن وقيل جمع له كالأسد والأسد وفي القاموس الولد محركة وبالضم والكسر والفتح واحد وجمع وقد يجمع على أولاد وولدة والدة بكسرها وولد بالضم انتهى. وقرأ بالكسر والسكون الحسن أيضا والجحدري وقتادة وذر وطلحة وابن أبي إسحاق وأبو عمرو في رواية وَمَكَرُوا عطف على صلة مَنْ والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد في الضمائر الأول باعتبار لفظها وكان فيه إشارة إلى اجتماعهم في المكر ليكون أشد وأعظم. وقيل عطف على عَصَوْنِي والأول أنسب لدلالته على أن المتبوعين ضموا إلى الضلال الإضلال وهو الأوفق بالسياق فإن المتبادر أن ما بعده من صفة الرؤساء أيضا واعتبار ذلك العطف على أن المعنى مكر بعضهم ببعض وقال بعضهم لبعض خلاف المتبادر مَكْراً كُبَّاراً أي كبيرا في الغاية فهو من صيغ المبالغة قال عيسى بن عمر: هي لغة يمانية وعليها قول الشاعر: بيضاء تصطاد القلوب وتستبي ... بالحسن قلب المسلم القراء وقوله: والمرء يلحقه بفتيان الندى ... خلق الكريم وليس بالوضاء وقد سمع بعض الأعراب الجفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية فقال: ما أفصح ربك يا محمد وإذا اعتبر التنوين في مكرا للتفخيم زاد أمر المبالغة في مكرهم أي كبيرا في الغاية وذلك احتيالهم في الدين وصدهم للناس عنه وإغراءهم وتحريضهم على أذية نوح عليه السلام. وقرأ عيسى وابن محيصن وأبو السمال «كبارا» بتخفيف الباء وهو بناء مبالغة أيضا إلّا أنها دون المبالغة في المشدد ومثل كبار في ذلك حسان وطوال وعجاب وجمال إلى ألفاظ كثيرة وقرأ زيد بن علي وابن محيصن فيما روى عنه وهب بن واضح «كبارا» بكسر الكاف وفتح الباء قال ابن الأنباري هو جمع كبير كأنه جعل مَكْراً مكان ذنوب أو أفاعيل يعني فلذلك وصف بالجمع وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ أي لا تتركوا عبادتها على الإطلاق إلى عبادة رب نوح عليه السلام وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً أي ولا تتركوا عبادة هؤلاء خصوها بالذكر مع اندراجها فيما سبق لأنها كانت أكبر أصنامهم ومعبوداتهم الباطلة وأعظمها عندهم وإن كانت متفاوتة في العظم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 85 فيما بينها بزعمهم كما يومىء إليه إعادة لا مع بعض وتركها مع آخر، وقيل أفرد يعوق ونسر عن النفي لكثرة تكرار لا وعدم اللبس. وقد انتقلت هذه الأصنام إلى العرب. أخرج البخاري وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح عليه السلام في العرب بعد أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، وكانت هذه الأسماء أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إليهم أن انصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها انصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ودرس العلم عبدت وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: كان لآدم عليه السلام خمسة بنين ود وسواع إلخ فكانوا عبادا فمات رجل منهم فحزنوا عليه حزنا شديدا فجاءهم الشيطان فقال: حزنتم على صاحبكم هذا؟ قالوا: نعم، قال: هل لكم أن أصور لكم مثله في قبلتكم إذا نظرتم إليه ذكرتموه؟ قالوا: نكره أن تجعل لنا في قبلتنا شيئا نصلي عليه قال: فأجعله في مؤخر المسجد، قالوا: نعم فصوره لهم حتى مات خمستهم فصور صورهم في مؤخر المسجد فنقصت الأشياء حتى تركوا عبادة الله تعالى وعبدوا هؤلاء فبعث الله تعالى نوحا عليه السلام فدعاهم إلى عبادة الله تعالى وحده وترك عبادتها فقالوا ما قالوا. وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير أن ودا كان أكبرهم وأبرهم وكانوا كلهم أبناء آدم عليه السلام، وروي أن ودا أول معبود من دون الله سبحانه وتعالى. أخرج عبد بن حميد عن أبي مطهر قال: ذكروا عند أبي جعفر رضي الله تعالى عنه يزيد بن المهلب فقال: أما إنه قتل في أول أرض عبد فيها غير الله تعالى ثم ذكر ودا وقال: كان رجلا مسلما وكان محببا في قومه، فلما مات عسكروا حول قبره في أرض بابل وجزعوا عليه فلما رأى إبليس جزعهم تشبه في صورة إنسان ثم قال: أرى جزعكم على هذا فهل لكم أن أصور لكم مثله فيكون في ناديكم فتذكرونه به؟ قالوا: نعم، فصور لهم مثله فوضعوه في ناديهم فجعلوا يذكرونه به فلما رأى ما بهم من ذكره قال: هل لكم أن أجعل لكم في منزل كل رجل منكم تمثالا مثله فيكون في بيته فيذكر به؟ فقالوا: نعم، ففعل فأقبلوا يذكرونه به وأدرك أبناؤهم فجعلوا يرون ما يصنعون به وتناسلوا ودرس أمر ذكرهم إياه حتى اتخذوه إلها يعبدون من دون الله تعالى فكان أول من عبد غير الله تعالى في الأرض ودا وأخرج ابن المنذر وغيره عن أبي عثمان النهدي أنه قال: رأيت يغوث وكان من رصاص يحمل على جمل أجرد ويسيرون معه لا يهيجونه حتى يكون هو الذي يبرك فإذا نزلوا وقالوا قد رضي لكم المنزل فينزلون حوله ويضربون عليه بناء (1) وقيل يبعد بقاء أعيان تلك الأصنام وانتقالها إلى العرب فالظاهر أنه لم يبق إلا الأسماء فاتخذت العرب أصناما وسموها بها وقالوا أيضا عبد ود وعبد يغوث يعنون أصنامهم. وما رآه أبو عثمان منها مسمى باسم ما سلف ويحكى أن ودا كان على صورة رجل وسواعا كان على صورة امرأة ويغوث كان على صورة أسد ويعوق كان على صورة فرس ونسرا كان على صورة نسر وهو مناف لما تقدم أنهم كانوا على صور أناس صالحين وهو الأصح. وقرأ نافع وأبو جعفر وشيبة بخلاف عنهم «ودّا» بضم الواو وقرأ الأشهب العقيلي «ولا يغوثا ويعوقا» بتنوينهما قال صاحب اللوامح جعلهما فعولا فلذلك صرفهما وهما في قراءة الجمهور صفتان من الغوث والعوق يفعل منهما وهما معرفتان فلذلك منعا الصرف لاجتماع الثقلين اللذين هما التعريف ومشابهة   (1) (قوله وقيل يبعد إلخ) قد أخرج الإفرنج في حدود الألف والمائتين والستين أصناما وتماثيل من أرض الموصل كانت منذ نحو من ثلاثة آلاف سنة فلا تغفل اهـ منه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 86 الفعل المستقبل وتعقبه أبو حيان فقال هذا تخبيط أما أولا فلا يمكن أن يكونا فعولا لأن مادة يغث مفقودة وكذلك يعق وأما ثانيا فليسا بصفتين لأن يفعلا لم يجىء اسما ولا صفة وإنما امتنعا من الصرف للعلمية ووزن الفعل إن كانا عربيين وللعلمية والعجمة إن كانا عجميين. وقال ابن عطية: قرأ الأعمش «ولا يغوثا ويعوقا» بالصرف وهو وهم لأن التعريف لازم وكذا وزن الفعل وأنت تعلم أن الأعمش لم ينفرد بذلك وليس بوهم فقد خرجوه على أحد وجهين أحدهما أن الصرف للتناسب كما قالوا في سلاسلا وأغلالا وهو نوع من المشاكلة ومعدود من المحسنات وثانيهما أنه جاء على لغة من يصرف جميع ما لا ينصرف عند عامة العرب وذلك لغة حكاها الكسائي وغيره لكن يرد على هذا أنها لغة غير فصيحة لا ينبغي التخريج عليها وَقَدْ أَضَلُّوا أي الرؤساء كَثِيراً خلقا كثيرا أي قبل هؤلاء الموصين بأن يتمسكوا بعبادة الأصنام فهم ليسوا بأول من أضلوهم ويشعر بذلك المضي والاقتران بقد حيث أشعر ذلك بأن الإضلال استمر منهم إلى زمن الإخبار بإضلال الطائفة الأخيرة، وجوز أن يراد بالكثير هؤلاء الموصين، وكان الظاهر وقد أضل الرؤساء إياهم أي الموصين المخاطبين بقوله لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ فوضع كثيرا موضع ذلك على سبيل التجريد وقال الحسن وقد أضلوا أي الأصنام فهو كقوله تعالى رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [إبراهيم: 36] وضمير العقلاء لتنزيلها منزلتهم عندهم وعلى زعمهم ويحسنه على ما في البحر عود الضمير على أقرب مذكور ولا يخفى أن عوده على الرؤساء أظهر إذ هم المحدث عنهم والمعنى فيهم أمكن والجملة قيل حالية أو معطوفة على ما قبلها وقوله تعالى وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا قيل عطف على رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي على حكاية كلام نوح عليه السلام بعد قالَ والواو النائبة عنه ومعناه قال رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وقال لا تَزِدِ إلخ أي قال هذين القولين على أن الواو من كلام الله تعالى لأنها داخلة في الحكاية وما بعدها هو المحكي وإليه ذهب الزمخشري وإنما ارتكب ذلك فرارا من عطف الإنشاء على الخبر. وقيل عطف عليه والواو من المحكي والتناسب إنشائية وخبرية غير لازم في العطف كما قاله أبو حيان وغيره وفيه خلاف وفي الكشف لك أن تجعله من باب وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [مريم: 46] أي فاخذلهم ولا تزدهم وفي العدول إلى الظَّالِمِينَ إشعار باستحقاقهم الدعاء عليهم وإبداء لعذره عليه السلام وتحذير ولطف لغيرهم، وفيه أنه بعض ما يتسبب من مساوئهم وهو معنى حسن فعنده العطف على محذوف إنشائي ولعل الأولى أن يقال إن العطف على رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي والواو من المحكي والتناسب حاصل. وقال الخفاجي: الظاهر أن الغرض من قوله رَبِّ إِنَّهُمْ إلخ الشكاية وإبداء العجز واليأس منهم. فهو طلب للنصرة عليهم كقوله رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ [الدخان: 22] ولو لم يقصد ذلك تكرر مع ما مر منه عليه السلام فحينئذ يكون كناية عن قوله اخذلهم أو انصرني أو أظهر دينك أو نحوه فهو من عطف الإنشاء على الإنشاء من غير تقدير ويشهد له أن الله تعالى سمى مثله دعاء حيث قال سبحانه فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ [الدخان: 22] فتدبر وهو حسن خال عن التكلف وارتكاب المختلف فيه إلّا أن في الشهادة دغدغة والمراد بالضلال المدعو بزيادته إما الضلال في ترويج مكرهم ومصالح دنياهم فيكون ذلك دعاء عليهم بعدم تيسير أمورهم وإما الضلال بمعنى الهلاك كما في قوله تعالى إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ [القمر: 47] وهو مأخوذ من الضلال في الطريق لأن من ضل فيها هلك فيكون المعنى أهلكهم. وفسره ابن بحر بالعذاب وهو قريب مما ذكر وقيل هو على ظاهره أعني الضلال في الدين والدعاء بزيادته إنما كان بعد ما أوحى إليه عليه السلام أنه لن يؤمن من قومك إلّا من قد آمن ومآله الدعاء عليهم بزيادة عذابهم ويحتاج إلى دليل وبما سمعت ينحل ما يقال إن طلب الضلال ونحوه إما غير جائز مطلقا أو إذا دعي به على وجه الاستحسان وبدونه وإن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 87 كان جائزا لكنه غير ممدوح ولا مرضي فكيف دعا بذلك نوح عليه السلام عليهم مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أي من أجل خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا بالطوفان لا من أجل أمر آخر فمن تعليلية وما زائدة بين الجار والمجرور لتعظيم الخطايا في كونها من كبائر ما ينهى عنه ومن لم ير زيادتها جعلها نكرة وجعل خَطِيئاتِهِمْ بدلا منها. وزعم ابن عطية أن (من) لابتداء الغاية وهو كما ترى. وقرأ أبو رجاء «خطياتهم» بإبدال الهمزة ياء وإدغامها في الياء. وقرأ الجحدري وعبيد عن أبي عمرو «خطيئتهم» على الإفراد مهموزا وقرأ الحسن وعيسى والأعرج بخلاف عنهم وأبو عمرو «خطاياهم» جمع تكسير وقرأ عبد الله «من خطيئاتهم ما أغرقوا» بزيادة «ما» بين خَطِيئاتِهِمْ وأُغْرِقُوا وخرج على أنها مصدرية أي بسبب خطيئاتهم إغراقهم وقرأ زيد بن علي «غرّقوا» بالتشديد بدل الهمزة وكلاهما للنقل فَأُدْخِلُوا ناراً هي نار البرزخ والمراد عذاب القبر ومن مات في ماء أو نار أو أكلته السباع أو الطير مثلا أصابه ما يصيب المقبور من العذاب وقال الضحاك: كانوا يغرقون من جانب ويحرقون بالنار من جانب وأنشد ابن الأنباري: الخلق مجتمع طورا ومفترق ... والحادثان فنون ذات أطوار لا تعجبن لأضداد إذا اجتمعت ... فالله يجمع بين الماء والنار ويجوز أن يراد بها نار الآخرة والتعقيب على الأول ظاهر وهو على هذا لعدم الاعتداد بما بين الإغراق والإدخال فكأنه شبه تخلل ما لا يعتد به بعدم تخلل شيء أصلا، وجوز أن تكون فاء التعقيب مستعارة للسببية لأن المسبب كالمتعقب للسبب وإن تراخى عنه لفقد شرط أو وجود مانع وتنكير النار إما لتعظيمها وتهويلها أو لأنه عزّ وجلّ أعدّ لهم على حسب خطيئاتهم نوعا من النار ولا يخفى ما في أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً من الحسن الذي لا يجارى ولله تعالى در التنزيل فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً أي فلم يجد أحدهم واحدا من الأنصار وفيه تعريض لاتخاذهم آلهة من دونه سبحانه وتعالى وبأنها غير قادرة على نصرهم وتهكم بهم وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً عطف على نظيره السابق وقوله تعالى مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ إلخ اعتراض وسط بين دعائه عليه السلام للإيذان من أول الأمر بأن ما أصابهم من الإغراق والإحراق لم يصبهم إلّا لأجل خطيئاتهم التي عدها نوح عليه السلام وأشار إلى استحقاقهم للهلاك لأجلها لا أنه حكاية لنفس الإغراق والإحراق على طريقة حكاية ما جرى بينه عليه السلام وبينهم من الأحوال والأقوال وإلّا لأخر عن حكاية دعائه هذا قاله مفتي الديار الرومية عليه الرحمة. وما قيل إنه عطف على لم يجدوا أو على جملة مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ إلخ وليس المراد حقيقة الدعاء بل التشفي وإظهار الرضا بما كان من هلاكهم بعيد غاية البعد والمعروف أن هذا الدعاء كان قبل هلاكهم والديار من الأسماء التي لا تستعمل إلّا في النفي العام يقال: ما بالدار ديار أو ديور كقيام وقيوم أي ما بها أحد وهو فيعال من الدار أو من الدور كأنه قيل لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ من يسكن دارا أو لا تذر عليها منهم من يدور ويتحرك وأصله ديوار اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء وليس بفعال وإلّا لكان دوارا إذ لا داعي للقلب حينئذ ومِنَ الْكافِرِينَ حال منه ولو أخر كان صفة له والمراد بالكافرين قومه الذين دعاهم إلى الإيمان والطاعة فلم يجيبوا فإن كان الناس منتشرين في مشارق الأرض ومغاربها نحو انتشارهم اليوم وكانت بعثته لبعض منهم كسكان جزيرة العرب ومن يقرب منهم فذاك وإن كانوا غير منتشرين كذلك بل كانوا في الجزيرة وقريبا منها فإن كانت البعثة لبعضهم أيضا فكذلك وإن كانت لكلهم فقد استشكل بأنه يلزم عموم البعثة وقد قالوا بأنه مخصوص بنبينا صلّى الله عليه وسلم وأجيب بأن ذلك العموم ليس كعموم بعثته صلّى الله عليه وسلم بل لانحصار أهل الأرض في قطعة منها فهو انحصار ضروري وليس عموما من الجزء: 15 ¦ الصفحة: 88 كل وجه، وهذا نحو ما يقال في بعثة آدم عليه السلام إلى زوجته وأولاده فإنهم حينئذ ليسوا إلّا كأهل بيت واحد على أنه قيل لا إشكال ولو قلنا بانتشار الناس إذ ذاك كانتشارهم اليوم وإرساله إليهم جميعا لأن العموم المخصوص بنبينا عليه الصلاة والسلام هو العموم المندرج فيه الإنس والجن إلى يوم القيامة بل الملائكة عليهم السلام بل وبل والمشهور أنه عليه السلام كان مبعوثا لجميع أهل الأرض وأنه ما آمن منهم إلا قليل واستدل عليه بهذا الدعاء وعموم الطوفان وتعقب بأن الأرض كثيرا ما تطلق على قطعة منها فيحتمل أن تكون هنا كذلك سلمنا إرادة الجميع لكن الدعاء على الكافرين وهم من بعث إليهم فدعاهم ولم يجيبوه وكونهم من عدا أهل السفينة أول المسألة والطوفان لا نسلم عمومه وإن سلم لا يقتضي أن يكون كل من غرق به مكلفا بالإيمان به عليه السلام عاصيا بتركه، فالبلاء قد يعم الصالح والطالح لكن يصدرون مصادر شتى كما ورد في حديث خسف البيداء ويرشد إلى هذا أن أولادهم قد أغرقوا على ما قيل معهم. وقد سئل الحسن عن ذلك فقال: علم الله تعالى براءتهم فأهلكهم بغير عذاب. نعم الحكمة في إهلاك هؤلاء زيادة عذاب في آبائهم وأمهاتهم إذا ابصروا أطفالهم يغرقون وزعم بعضهم أن الله تعالى أعقم أرحام نسائهم وأيبس أصلاب رجالهم قبل الطوفان بأربعين أو سبعين سنة فلم يكن معهم صبي حين أغرقوا ويحتاج إلى نقل صحيح وحكم الله عزّ وجلّ لا تحصى فافهم إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ أي على الأرض كلا أو بعضا يُضِلُّوا عِبادَكَ عن طريق الحق ولعل المراد بهم من آمن به عليه السلام وبإضلالهم إياهم ردهم إلى الكفر بنوع من المكر أو المراد بهم من ولد منهم ولم يبلغ زمن التكليف أو من يولد من أولئك المؤمنين ويدعى إلى الإيمان، وبإضلالهم إياهم صدهم عن الإيمان وفي بعض الأخبار أن الرجل منهم كان يأتي بابنه إليه عليه السلام ويقول: احذر هذا فإنه كذاب وإن أبي أوصاني بمثل هذه الوصية فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك قيل ومن هنا قال عليه السلام وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً أي من سيفجر ويكفر فوصفهم بما يصيرون إليه لاستحكام علمه بذلك بما حصل له من التجربة ألف سنة إلّا خمسين عاما ومثله قوله عليه السلام إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وقيل أراد من جبل على الفجور والكفر وقد علم كل ذلك بوحي كقوله سبحانه لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود: 36] وعن قتادة ومحمد بن كعب والربيع وابن زيد أنه عليه السلام ما دعا عليهم إلا بعد أن أخرج الله تعالى كل مؤمن من الأصلاب وأعقم أرحام نسائهم وأيّا ما كان فقوله إِنَّكَ إلخ اعتذار مما عسى أن يقال من أن الدعاء بالاستئصال مع احتمال أن يكون من أخلافهم من يؤمن مما لا يليق بشأن الأنبياء عليهم السلام رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ أراد أباه لمك بن متوشلخ (1) وقد تقدم ضبط ذلك وأمه شمخي بالشين والخاء المعجمتين بوزن سكرى بنت أنوش بالإعجام بوزن أصول وكانا مؤمنين ولولا ذلك لم يجز الدعاء لهما بالمغفرة وقيل أراد بهما آدم وحواء وقرأ ابن جبير والجحدري «ولوالدي» بكسر الدال وإسكان الياء فإما أن يكون قد خص أباه الأقرب أو أراد جميع من ولدوه إلى آدم عليه السلام ولم يكفر كما قال ابن عباس لنوح أب ما بينه وبين أدم عليه السلام وقرأ الحسين بن عليّ كرم الله وجههما ورضي عنهما وزيد بن عليّ بن الحسين رضي الله تعالى عنهم ويحيى بن يعمر والنخعي والزهري «ولولديّ» تثنية ولد يعني ساما وحاما على ما قيل وفي رواية أن ساما كان نبيا وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ قيل أراد منزله وقيل سفينته وقال الجمهور وابن عباس: أراد مسجده وفي رواية عن الحبر أنه أراد شريعته استعار لها اسم البيت كما قالوا قبة الإسلام وفسطاط الدين والمتبادر   (1) قوله وقد تقدم ضبط ذلك لكن قيل في لمك أنه بفتحتين ويقال فيه لا مك كهاجر ومتوشلخ على ما في جامع الأصول بضم الميم وفتح الفوقية وفتح الواو وبسكون الشين المعجمة وكسر اللام وبالخاء المعجمة اهـ منه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 89 المنزل وتخرج امرأته وابنه كنعان بقوله مُؤْمِناً وقيل يمكن أنه لم يجزم بخروج كنعان إلا بعد ما قيل له أنه ليس من أهلك وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أي من كل أمة إلى يوم القيامة وهو تعميم بعد التخصيص واستغفر ربه عزّ وجلّ إظهارا لمزيد الافتقار إليه سبحانه وحبا للمستغفر لهم من والديه والمؤمنين وقيل إنه استغفر لما دعا على الكافرين لأنه انتقام منهم ولا يخفى أن السياق يأباه وكذا قوله وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً أي هلاكا وقال مجاهد خسارا والأول أظهر وقد دعا عليه السلام دعوتين دعوة على الكافرين ودعوة للمؤمنين وحيث استجيبت له الأولى فلا يبعد أن تستجاب له الثانية والله تعالى أكرم الأكرمين ومعظم آيات هذه السورة الكريمة وغيرها نص في أن القوم كفرة هالكون يوم القيامة فالحكم بنجاتهم كما يقتضيه كلام الشيخ الأكبر قدس سره في فصوصه مما يبرأ إلى الله تعالى منه كزعم أن نوحا عليه السلام لم يدعهم على وجه يقتضي إيمانهم مع قوله سبحانه اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: 124] وقصارى ما أقول رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 90 سورة الجن ّ بسم الله الرحمن الرحيم وتسمى قل أوحى إليّ وهي مكية بالاتفاق وآيها بلا خلاف ثمان وعشرون آية ووجه اتصالها قال الجلال السيوطي فكرت فيه مدة فلم يظهر لي سوى أنه سبحانه قال في سورة [نوح: 10، 11] اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وقال عز وجل في هذه السورة لكفار مكة وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً [الجن: 16] وهذا وجه بين في الارتباط انتهى وفي قوله لكفار مكة شيء ستعلمه إن شاء الله تعالى ويجوز أن يضم إلى ذلك اشتمال هذه السورة على شيء مما يتعلق بالسماء كالسورة السابقة وذكر العذاب لمن يعصي الله عز وجل في قوله سبحانه وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً [الجن: 23] فإنه يناسب قوله تعالى أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً [نوح: 25] على وجه وقال أبو حيان في ذلك أنه تعالى لما حكى تمادي قوم نوح في الكفر والعكوف على عبادة الأصنام وكان أول رسول إلى أهل الأرض كما أن محمدا صلّى الله عليه وسلم آخر رسول إلى أهل الأرض والعرب الذين هو منهم صلّى الله عليه وسلم كانوا عباد أصنام كقوم نوح حتى أنهم عبدوا أصناما مثل أصنام أولئك في الأسماء أي أو عينها وكان ما جاء به عليه الصلاة والسلام هاديا إلى الرشد وقد سمعته العرب وتوقف عن الإيمان به أكثرهم أنزل الله تعالى سورة الجن وجعلها إثر سورة نوح تبكيتا لقريش والعرب في كونهم تباطؤوا عن الإيمان وكانت الجن خيرا منهم إذ أقبل للإيمان من أقبل منهم وهم من غير جنس الرسول عليه الصلاة والسلام حتى كادوا يكونون عليه لبدا ومع ذلك التباطي فهم مكذبون له ولما جاء به حسدا وبغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فقال عز من قائل: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 91 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ وقرأ ابن أبي عبلة والعتكي عن أبي عمرو وجؤبة بن عائذ الأسدي «وحّي» بلا همزة وهو بمعنى أوحي بالهمز ومنه قول العجاج: وحي لها القرار فاستقرت وقرأ زيد بن علي وجؤبة فيما روى عنه الكسائي وابن أبي عبلة في رواية «أحي» بإبدال واو وحي همزة كما قالوا في وعد أعد قال الزمخشري وهو من القلب المطلق جوازه في كل واو مضمومة وقد أطلقه المازني في المكسورة أيضا كإشاح وإعاء وإسادة وهذا أحد قولين للمازني والقول الآخر قصر ذلك على السماع وما ذكره من إطلاق الجواز في المضمومة تعقب بأن المضمومة قد تكون أولا وحشوا وآخرا ولكل منها أحكام وفي بعضها خلاف وتفصيل مذكور في كتب النحو فليراجع وزاد بعض الأجلة قلب الواو والمضموم ما قبلها فقال إنه أيضا مقيس مطرد وإنه قد يرد ذلك في المفتوحة كأحد وعلى جميع القراءات الجار متعلق بما عنده ونائب الفاعل أَنَّهُ إلخ على أنه في تأويل المصدر والضمير للشأن اسْتَمَعَ أي القرآن كما ذكر في الأحقاق وقد حذف لدلالة ما بعده عليه نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ النفر في المشهور ما بين الثلاثة والعشرة. وقال الحريري في درته: إن النفر إنما يقع على الثلاثة من الرجال إلى العشرة وقد وهم في ذلك فقد يطلق على ما فوق العشرة في الفصيح وقد ذكره غير واحد من أهل اللغة وفي كلام الشعبي حدثني بضعة عشر نفرا ولا يختص بالرجال بل ولا بالناس لإطلاقه على الجن هنا وفي المجمل الرهط والنفر يستعمل إلى الأربعين والفرق بينهما أن الرهط يرجعون إلى أب واحد بخلاف النفر وقد يطلق على القوم ومنه قوله تعالى وَأَعَزُّ نَفَراً [الكهف: 34] وقول امرئ القيس: فهو لا تنمى (1) رميته ... ما له لا عد من نفره وقال الإمام الكرماني للنفر معنى آخر في العرف وهو الرجل وأراد بالعرف عرف اللغة لأنه فسر به الحديث الصحيح فليحفظ والْجِنِّ واحده جني كروم ورومي وهم أجسام عاقلة تغلب عليها النارية كما يشهد له قوله تعالى وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ [الرحمن: 15] وقيل الهوائية قابلة جميعها أو صنف منها للتشكل بالأشكال المختلفة من شأنها الخفاء، وقد ترى بصور غير صورها الأصلية بل وبصورها الأصلية التي خلقت عليها كالملائكة عليهم السلام وهذا للأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم ومن شاء الله تعالى   (1) قوله تنمى إلخ يقال أنمى إذا توارى اهـ منه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 92 من خواص عباده عز وجل، ولها قوة على الأعمال الشاقة ولا مانع عقلا من أن تكون بعض الأجسام اللطيفة النارية مخالفة لسائر أنواع الجسم اللطيف في الماهية ولها قبول لإفاضة الحياة والقدرة على أفعال عجيب مثلا. وقد قال أهل الحكمة الجديدة بأجسام لطيفة أثبتوا لها من الخواص ما يبهر العقول فلتكن أجسام الجن على ذلك النحو من الأجسام وعالم الطبيعة أوسع من أن تحيط بحصر ما أودع فيه الأفهام وأكثر الفلاسفة على إنكار الجن. وفي رسالة الحدود لابن سينا الجني حيوان هوائي متشكل بأشكال مختلفة وهذا شرح الاسم وظاهره نفي أن يكون لهذه الحقيقة وجود في الخارج ونفي ذلك كفر صريح كما لا يخفى، واعترف جمع عظيم من قدماء الفلاسفة وأصحاب الروحانيات بوجودهم ويسمونهم بالأرواح السفلية والمشهور أنهم زعموا أنها جواهر قائمة بأنفسها ليست أجساما ولا جسمانية وهي أنواع مختلفة بالماهية كاختلاف ماهيات الأعراض فبعضها خيرة وبعضها شريرة ولا يعرف عدد أنواعها وأصنافها إلّا الله عز وجل ولا يبعد على هذا أن يكون في أنواعها ما يقدر على أفعال شاقة عظيمة يعجز عنها البشر بل لا يبعد أيضا على ما قيل أن يكون لكل نوع منها تعلق بنوع مخصوص من أجسام هذا العالم ومن الناس من زعم أن الأرواح البشرية والنفوس الناطقة إذا فارقت أبدانها ازدادت قوة وكمالا بسبب ما في ذلك العالم الروحاني من انكشاف الأسرار الروحانية فإذا اتفق حدوث بدن آخر مشابه لما كان لتلك النفس المفارقة من البدن تعلقت تلك النفس به تعلقا ما وتصير كالمعاونة لنفس ذلك البدن في أفعالها وتدبيرها لذلك البدن فإن اتفقت هذه الحالة في النفوس الخيرة سمي ذلك المعين ملكا وتلك الإعانة إلهاما وإن اتفقت في النفوس الشريرة سمي ذلك المعين شيطانا وتلك الإعانة وسوسة والكل مخالف لأقوال السلف. وظاهر الآيات والأحاديث وجمهور أرباب الملل معترفون بوجودهم كالمسلمين وإن اختلفوا في حقيقتهم وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من آكام المرجان. وفي التفسير الكبير طرف مما يتعلق بذلك فارجع إليه إن أردته. واختلف في عدد المستمعين فقيل سبعة فعن زر ثلاثة من أهل حران وأربعة من أهل نصيبين قرية باليمن غير القرية التي بالعراق، وعن عكرمة أنهم كانوا اثني عشر ألفا من جزيرة الموصل وأين سبعة أو تسعة من اثني عشر ألفا ولعل النفر عليه القوم وفي الكشاف كانوا من الشيصبان وهم أكثر الجن عددا وعامة جنود إبليس منهم، والآية ظاهرة في أنه صلّى الله عليه وسلم علم استماعهم له بالوحي لا بالمشاهدة وقد وقع في الأحاديث أنه عليه الصلاة والسلام رآهم وجمع ذلك بتعدد القصة قال في آكام المرجان ما محصله في الصحيحين في حديث ابن عباس ما قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم وإنما انطلق بطائفة من الصحابة لسوق عكاظ قد حيل بين الجن والسماء بالشهب فقالوا: ما ذاك إلا لشيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فمر من ذهب لتهامة منهم به عليه الصلاة والسلام وهو يصلي الفجر بأصحابه بنخلة فلما استمعوا له قالوا: هذا الذي حال بيننا وبين السماء ورجعوا إلى قومهم وقالوا: يا قومنا إلخ فأنزل الله تعالى عليه قُلْ أُوحِيَ إلخ ثم قال ونفى ابن عباس إنما هو في هذه القصة واستماعهم تلاوته صلّى الله عليه وسلم في الفجر في هذه القصة لا مطلقا ويدل عليه قوله تعالى وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ [الأحقاف: 29] إلخ فإنها تدل على أنه عليه الصلاة والسلام كلمهم ودعاهم وجعلهم رسلا لمن عداهم كما قاله البيهقي وروى أبو داود عن علقمة عن ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أتاني داعي الجن فذهبت معه وقرأت عليهم القرآن قال وانطلق بنا وأرانا آثارهم وآثار نيرانهم» إلخ وقد دلت الأحاديث على أن وفادة الجن كانت ست مرات. وقال ابن تيمية إن ابن عباس علم ما دل عليه القرآن ولم يعلم ما علمه ابن مسعود وأبو هريرة من إتيان الجن له صلّى الله عليه وسلم ومكالمتهم إياه عليه الصلاة والسلام وقصة الجن كانت قبل الهجرة بثلاث سنين. وقال الواقدي كانت سنة إحدى عشرة من الجزء: 15 ¦ الصفحة: 93 النبوة وابن عباس ناهز الحلم في حجة الوداع فقد علمت أن قصة الجن وقعت ست مرات. وفي شرح البيهقي من طرق شتى عن ابن مسعود أن النبي صلّى الله عليه وسلم صلّى العشاء ثم انصرف فأخذ بيدي حتى أتينا مكان كذا فأجلسني وخط عليّ خطا ثم قال: «لا تبرحن خطك» فبينما أنا جالس إذ أتاني رجال منهم كأنهم الزط فذكر حديثا طويلا وأنه صلّى الله عليه وسلم ما جاء إلى السحر قال وجعلت أسمع الأصوات ثم جاء عليه الصلاة والسلام فقلت: أين كنت يا رسول الله؟ فقال: «أرسلت إليّ الجن» فقلت: ما هذه الأصوات التي سمعت؟ قال: «هي أصواتهم حين ودعوني وسلموا علي» وقد يجمع الاختلاف في القلة والكثرة بأن ذلك لتعدد القصة أيضا والله تعالى أعلم. واختلف فيما استمعوه فقال عكرمة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1] وقيل سورة الرحمن فَقالُوا أي لقومهم عند رجوعهم إليهم إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً أي كتابا مقروءا على ما فسره به بعض الأجلة وفسر بذلك للإشارة إلى أن ما ذكروه في وصفه مما يأتي وصف له كله دون المقروء منه فقط، والمراد أنه من الكتب السماوية والتنوين للتفخيم أي قرآنا جليل الشأن عَجَباً بديعا مباينا لكلام الناس في حسن النظم ودقة المعنى وهو مصدر وصف به للمبالغة يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ إلى الحق والصواب وقيل إلى التوحيد والإيمان وقرأ عيسى «الرشد» بضمتين وعنه أيضا فتحهما فَآمَنَّا بِهِ أي بذلك القرآن من غير ريث وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً حسبما نطق به ما فيه من دلائل التوحيد أو حسبما نطق به الدلائل العقلية على التوحيد ولم تعطف هذه الجملة بالفاء قال الخفاجي لأن نفيهم للإشراك إما لما قام عندهم من الدليل العقلي فحينئذ لا يترتب على الإيمان بالقرآن وإما لما سمعوه من القرآن فحينئذ يكفي في ترتبها عليه عطف الأول بالفاء خصوصا والباء في به تحتمل السببية فيعم الإيمان به الإيمان بما فيه فإنك إذا قلت ضربته فتأدب وانقاد لي فهم ترتب الانقياد على الضرب ولو قلت فانقاد لم يترتب على الأول بل على ما قبله. وقيل: عطفت بالواو ولتفويض الترتب إلى ذهن السامع وقد يقال إن مجموع فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ مسبب عن مجموع إِنَّا سَمِعْنا إلخ فكونه قرآنا معجزا يوجب الإيمان به وكونه يهدي إلى الرشد يوجب قلع الشرك من أصله والأول أولى وجوز أن يكون ضمير به لله عز وجل لأن قوله سبحانه بِرَبِّنا يفسره فلا تغفل وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا اختلفوا قراءة في أن هذه وما بعدها إلى وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وتلك اثنتا عشرة فقرأها ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف وحفص بفتح الهمزة فيهن ووافقهم أبو جعفر في ثلاثة ما هنا وأنه كان يقول وإنه كان رجال وقرأ الباقون بكسرها في الجميع واتفقوا على الفتح في أَنَّهُ اسْتَمَعَ وأَنَّ الْمَساجِدَ [الحج: 18] لأن ذلك لا يصح أن يكون من قول الجن بل هو مما أوحى بخلاف الباقي فإنه يصح أن يكون من قولهم ومما أوحى واختلفوا في أنه لما قام فقرأ نافع وأبو بكر بكسر الهمزة والباقون بفتحها كذا فصله بعض الأجلة وهو المعول عليه ووجه الكسر في أن هذه وما بعدها إلى وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ ظاهر كالكسر في إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً لظهور عطف الجمل على المحكي بعد القول ووضوح اندراجها تحته، وأما وجه الفتح ففيه خفاء ولذا اختلف فيه فقال الفراء والزجاج والزمخشري هو العطف على محل الجار والمجرور في فَآمَنَّا بِهِ كأنه قيل صدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا وأنه كان يقول سفيهنا وكذلك البواقي ويكفي في إظهاره المحل إظهار مع المرادف وليس من العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار الممنوع عند البصريين في شيء وإن قيل به هنا بناء على مذهب الكوفيين المجوزين له ولو قيل إنه بتقدير الجار لاطراد حذفه قبل أن وإن لكان سديدا كما في الكشف وضعف مكي العطف على ما في حيز (آمنا) فقال فيه بعد في المعنى لأنهم لم يخبروا أنهم آمنوا بأنهم لما سمعوا الهدى آمنوا به ولا أنهم آمنوا بأنه كان رجال إنما حكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا ذلك مخبرين عن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 94 أنفسهم لأصحابهم وأجيب عن الذاهبين إليه بأن الإيمان والتصديق يحسن في بعض تلك المعطوفات بلا شبهة فيمضي في البواقي ويحمل على المعنى على حد قوله: وزججن الحواجب والعيونا فيخرج على ما خرج عليه أمثاله فيؤول صدقنا بما يشمل الجميع أو يقدر مع كل ما يناسبه وقال أبو حاتم هو العطف على نائب فاعل أوحى أعني أنه استمع كما في أن المساجد على أن الموحى عين عبارة الجن بطريق الحكاية كأنه قيل قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ كيت وكيت وهذه العبارات وتعقب بأن حكاية عباراتهم تقتضي أن تكون أن في كلامهم مفتوحة الهمزة ولا يظهر ذلك إلا أن يكون في كلامهم ما يقتضي الفتح كاسمعوا أو اعلموا أو نخبركم لكنه أسقط وقت الحكاية ولا يظهر لإسقاطه وجه وعلى تقدير الظهور فالفتح ليس لأجل العطف فإن النائب عن الفاعل عليه مجموع كل جملة على إرادة اللفظ دون المنسبك من أن وما بعدها وإلّا لما صح أن يقال الموحى كيت وكيت وهذه العبارات فإن كانت أن في كلامهم مكسورة الهمزة وصحت دعوى أن الحكاية اقتضت فتحها مع صحة إرادة هذه العبارات معه فذاك وإلّا فالأمر كما ترى فافهم وتأمل والجد العظمة والجلال يقال جد في عيني أي عظم وجل أي وصدقنا أن الشأن ارتفع عظمة وجلال ربنا أي عظمت عظمته عز وجل وفيه من المبالغة ما لا يخفى وقال أبو عبيدة والأخفش الملك والسلطان وقيل الغني وهو مروي عن أنس والحسن في الآية والأول مروي عن الجمهور والجد على جميع هذه الأوجه مستعار من الجد الذي هو البخت وقوله عز وجل مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً عليها تفسير للجملة وبيان لحكمها ولذا لم يعطف عليها فالمراد وصفه عز وجل بالتعالي عن الصاحبة والولد لعظمته أو لسلطانه أو لغناه سبحانه وتعالى وكأنهم سمعوا من القرآن ما نبههم على خطأ ما اعتقده كفرة الجن من تشبيهه سبحانه بخلقه في اتخاذ الصاحبة والولد فاستعظموه ونزّهوه تعالى عنه. وقرأ حميد بن قيس «جد» بضم الجيم قال في البحر ومعناه العظيم حكاه سيبويه وإضافته إلى رَبِّنا من إضافة الصفة إلى الموصوف والمعنى تعالى ربنا العظيم وقرأ عكرمة «جد» منونا مرفوعا «ربّنا» بالرفع وخرج على أن الجد بمعنى العظيم أيضا و «ربنا» خبر مبتدأ محذوف أي هو ربنا أو بدل من «جد» وقرأ أيضا «جدا» منونا منصوبا على أنه تميز محول عن الفاعل وقرأ هو أيضا وقتادة «جدا» بكسر الجيم والتنوين والنصب «ربّنا» بالرفع قال ابن عطية نصب «جدا» على الحال والمعنى تعالى ربنا حقيقة ومتمكنا وقال غيره هو صفة لمصدر محذوف أي تعاليا جدا وقرأ ابن السميفع «جدا ربنا» أي جدواه ونفعه سبحانه وكان المراد بذلك الغنى فلا تغفل وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا هو إبليس عند الجمهور وقيل مردة الجن والإضافة للجنس والمراد سفهاؤنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً أي قولا ذا شطط أي بعد عن القصد ومجاوزة الحد أو هو في نفسه شطط لفرط بعده عن الحق وهو نسبة الصاحبة والولد إليه عز وجل وتعلق الإيمان والتصديق بهذا القول بناء على ما يقتضيه العطف على ما في حيز فَآمَنَّا ليس باعتبار نفسه فإنهم كانوا عالمين بقول سفيههم من قبل بل باعتبار كونه شططا كأنه قيل وصدقنا أن ما كان يقول سفيهنا في حقه سبحانه كان شططا وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً اعتذار منهم عن تقليدهم لسفيههم أي كنا نظن أن لن يكذب على الله تعالى أحد فينسب إليه سبحانه الصاحبة والولد ولذلك اعتقدنا صحة قول السفيه ولعل الإيمان متعلق بما يشعر به كلامهم هذا وينساق إليه من خطئهم في ظنهم كأنه قيل وصدقنا بخطئنا في ظننا الذي لأجله اعتقدنا ما اعتقدنا وكَذِباً مصدر مؤكد لتقول لأنه نوع من القول كما الجزء: 15 ¦ الصفحة: 95 في قعدت القرفصاء أو وصف لمصدر محذوف أي قولا كذبا أي مكذوبا فيه لأنه لا يتصور صدور الكذب منه وإن اشتهر توصيفه به كالقائل وجوز أن يكون من الوصف بالمصدر مبالغة وهي راجعة للنفي دون المنفي. وقرأ الحسن والجحدري وعبد الرحمن بن أبي بكرة ويعقوب وابن مقسم «تقول» مضارع تقول وأصله تتقول بتاءين فحذفت إحداهما فكذبا مصدر مؤكد لأن الكذب هو التقول وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ كان الرجل من العرب إذا أمسى في واد قفر وخاف على نفسه نادى بأعلى صوته يا عزيز هذا الوادي أعوذ بك من السفهاء الذين في طاعتك يريد الجن وكبيرهم فإذا سمعوا بذلك استكبروا وقالوا سدنا الجن والإنس وذلك قوله تعالى فَزادُوهُمْ أي زاد الرجال العائذون الجن رَهَقاً أي تكبرا وعتوا فالضمير المرفوع لرجال الإنس إذ هم المحدث عنهم والمنصوب لرجال الجن وهو قول مجاهد والنخعي وعبيد بن عمير وجماعة إلّا أن منهم من فسر الرهق بالإثم وأنشد الطبري لذلك قول الأعشى: لا شيء ينفعني من دون رؤيتها ... لا يشتكي وامق ما لم يصب رهقا فإنه أراد ما لم يغش محرما فالمعنى هنا فزادت الإنس والجن مأثما لأنهم عظموهم فزادوهم استحلالا لمحارم الله تعالى أو فزاد الجن العائذين غيّا بأن أضلوهم حتى استعاذوا بهم فالضميران على عكس ما تقدم وهو قول قتادة وأبي العالية والربيع وابن زيد والفاء على الأول للتعقيب وعلى هذا قيل للترتيب الإخباري. وذهب الفراء إلى أن ما بعد الفاء قد يتقدم إذا دل عليه الدليل كقوله تعالى وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا [الأعراف: 4] وجمهور النحاة على خلافه وقيل في الكلام حذف أي فاتبعوهم فزادوهم. والآية ظاهرة في أن لفظ الرجال يطلق على ذكور الجن كما يطلق على ذكور الإنس. وقيل لا يطلق على ذكور الجن ومِنَ الْجِنِّ في الآية متعلق ب يَعُوذُونَ ومعناها أنه كان رجال من الإنس يعوذون من شر الجن برجال من الإنس وكان الرجل يقول مثلا أعوذ بحذيفة بن بدر من جن هذا الوادي وهو قول غريب مخالف لما عليه الجمهور المؤيد بالآثار، ولعل تعلق الإيمان بهذا باعتبار ما يشعر به من كون ذلك ضلالا موجبا لزيادة الرهق. وقد جاء في بعض الأخبار ما يقال بدل هذه الاستعاذة ففي حديث طويل أخرجه أبو نصر السجزي في الإبانة من طريق مجاهد عن ابن عباس وقال غريب جدا أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «إذا أصاب أحدا منكم وحشة أو نزل بأرض مجنة فليقل أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزها بر ولا فاجر من شر ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل السماء وما يعرج فيها ومن فتن النهار ومن طوارق الليل إلّا طارقا يطرق بخير» وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا أي الإنس كَما ظَنَنْتُمْ أيها الجن على أنه كلام بعضهم لبعض أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً أي من الرسل أحد من العباد وقيل إنه لن يبعث سبحانه أحدا بعد الموت وأيّا ما كان فالمراد وقد أخطؤوا وأخطأتم ولعله متعلق الإيمان وقيل المعنى أن الجن ظنوا كما ظننتم أيها الكفرة أن لن إلخ فتكون هذه الآية من جملة الكلام الموحى به معطوفة على قوله تعالى أَنَّهُ اسْتَمَعَ وعلى قراءة الكسر تكون استئنافا من كلامه تعالى وكذا ما قبلها على ما قيل وفي الكشاف قيل الآيتان يعني هذه وقوله تعالى وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ إلخ من جملة الموحى وتعقب ذلك في الكشف بأن فيه ضعفا لأن قوله سبحانه وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ إلخ من كلام الجن أو مما صدقوه على القراءتين لأن من الموحى إليه فتخلل ما تخلل ما تخلل وليس اعتراضا غير جائز إلّا أن يؤول بأنه يجري مجراه لكونه يؤكد ما حدث عنهم في تماديهم في الكفر أولا ولا يخفى ما فيه من التكلف انتهى. وأبو السعود اختار في جميع الجمل المصدرة بأنا العطف على أَنَّهُ اسْتَمَعَ على نحو ما سمعت عن أبي حاتم وقد سمعت ما فيه آنفا وأن مخففة من الثقيلة اسمها ضمير الشأن والجملة بعدها خبر وجملة أن لن يبعث إلخ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 96 قيل سادة مسد مفعولي ظنوا وجوز أن تكون سادة مسد مفعولي ظننتم ويكون الساد مسد مفعولي الأول محذوفا كما هو المختار في أمثال ذلك ورجح الأول في الآية بأن ظَنُّوا هو المقصود فيها فجعل المعمول المذكور له أحسن وأما كَما ظَنَنْتُمْ فمذكور بالتبع ومنه يعلم أن كون المختار أعمال الثاني في باب التنازع ليس على إطلاقه وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ أي طلبنا بلوغها لاستماع كلام أهلها أو طلبنا خبرها. واللمس قيل مستعار من المس للطلب كالجس يقول لمسه والتمسه وتلمسه كطلبه وأطلبه وتطلبه. والظاهر أن الاستعارة هنا لغوية لأنه مجاز مرسل لاستعماله في لازم معناه والسماع على ظاهرها فَوَجَدْناها أي صادفناها وأصبناها فوجد متعد لواحد وقوله تعالى مُلِئَتْ في موضع الحال بتقدير قد أو بدونه وإن كانت وجد من أفعال القلوب فهذه الجملة في موضع المفعول الثاني وقرأ الأعرج «مليت» بالياء دون همز حَرَساً أي حرسا اسم جمع كخدم كما ذهب إليه جمع لأنه على وزن يغلب في المفردات كبصر وقمر ولذا نسب إليه فقيل حرسي وذهب بعض إلى أنه جمع والصحيح الأول ولذا وصف بالمفرد فقيل شَدِيداً أي قويا ونحوه قوله: ننيته بعصبة من ماليا ... أخشى رجيلا وركيبا عاديا ولو روعي معناه جمع بأن يقال شدادا إلّا أن ينظر لظاهر وزن فعيل فإنه يستوي فيه الواحد والجمع والمراد بالحرس الملائكة عليهم السلام الذين يمنعونهم عن قرب السماء وَشُهُباً جمع شهاب وقد مر الكلام فيه وجوز بعضهم أن يكون المراد بالحرس الشهب والعطف مثله في قوله: وهند أتى من دونها النأي والبعد وهو خلاف الظاهر ودخول أَنَّا لَمَسْنَا إلخ في حيز الإيمان وكذا أكثر الجمل الآتية في غاية الخفاء والظاهر تقدير نحو نخبركم فيما لا يظهر دخوله في ذلك أو تأويل (آمنا) من أول الأمر بما ينسحب على الجميع وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ قبل هذا مِنْها أي من السماء مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ أي مقاعد كائنة للسمع خالية عن الحرس والشهب أو صالحة للترصد والاستماع ولِلسَّمْعِ متعلق بنقعد أي لأجل السمع أو بمضمر هو صفة لمقاعد وكيفية قعودهم على ما قيل ركوب بعضهم فوق بعض وروي في ذلك خبر مرفوع وقيل لا مانع من أن يكون بعروج من شاء منهم بنفسه إلى حيث يسمع منه الكلام فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ قال في شرح التسهيل الْآنَ معناه هنا القرب مجازا فيصح مع الماضي والمستقبل وفي البحر أنه ظرف زمان للحال ويَسْتَمِعِ مستقبل فاتسع في الظرف واستعمل للاستقبال كما قال: سأسعى الآن إذ بلغت أناها فالمعنى فمن يقع منه استماع في الزمان الآتي يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً أي يجد شهابا راصدا له ولأجله يصده عن الاستماع بالرجم فرصد صفة شِهاباً فإن كان مفردا فالأمر ظاهر وإن كان اسم جمع للراصد كحرس فوصف المفرد به لأن الشهاب لشدة منعه وإحراقه جعل كأنه شهب ونظير ذلك وصف المعا وهو واحد الأمعاء بجياع في قول القتامي: كأن قيود رجلي حين ضمت ... حوالب غرزاو معا جياعا وجوز كونه مفعولا له أي لأجل الرصد وقيل يجوز أن يكون اسم جمع صفة لما قبله بتقدير ذوي شهاب فكأنه قيل يجد له ذوي شهاب راصدين بالرجم وهم الملائكة عليهم السلام الذي يرجمونهم بالشهب ويمنعونهم من الاستماع وفيه بعد. وفي الآية رد على من زعم أن الرجم حدث بعد مبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو الجزء: 15 ¦ الصفحة: 97 إحدى آياته عليه الصلاة والسلام حيث قيل فيها ملئت وهو كما قال الجاحظ ظاهر في أن الحادث هو الملء والكثرة وكذا قوله سبحانه نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ على ما في الكشاف فكأنه قيل كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب والآن ملئت المقاعد كلها فَمَنْ يَسْتَمِعِ إلخ ويدل على وجود الشهب قبل ذكرها في شعر الجاهلية قال بشر بن أبي خازم: والعير يرهقها الغبار وجحشها ... ينقض خلفهما انقضاض الكوكب وقال أوس بن حجر: وانقض كالدري يتبعه ... نقع يثور تخاله طنبا وقال عوف بن الخرع يصف فرسا: يرد علينا العير من دون إلفه ... أو الثور كالدري يتبعه الدم فإن هؤلاء الشعراء كلهم كما قال التبريزي جاهلون ليس فيهم مخضرم. وما رواه الزهري عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما عن ابن عباس بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلم جالس في نفر من الأنصار إذ رمى بنجم فاستنار فقال: «ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية» ؟ قالوا: كنا نقول يموت عظيم أو يولد عظيم . وروي عن معمر قلت للزهري: أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال: نعم، قلت: أرأيت قوله تعالى وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ فقال غلظت وشدد أمرها حين بعث النبي صلّى الله عليه وسلم وكأنه أخذ ذلك من الآية أيضا. وقال بعضهم: إن الرمي لم يكن أولا ثم حدث للمنع عن بعض السماوات ثم كثير ومنع به الشياطين عن جميعها يوم تنبأ النبي عليه الصلاة والسلام وجوز أن تكون الشهب من قبل لحوادث كونية لا لمنع الشياطين أصلا والحادث بعد البعثة رمي الشياطين بها على معنى أنهم إذا عرجوا للاستماع رموا بها فلا يلزم أيضا أن يكون كل ما يحدث من الشهب اليوم للرمي بل يجوز أن يكون لأمور أخر بأسباب يعلمها الله تعالى ويجاب بهذا عن حدوث الشهب في شهر رمضان مع ما جاء من أنه تصفد مردة الشياطين فيه ولمن يقول إن الشهب لا تكون إلّا للرمي جواب آخر مذكور في موضعه وذكروا وجدانهم المقاعد مملوءة من الحراس ومنع الاستراق بالكلية قيل بيان لما حملهم على الضرب في البلاد حتى عثروا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم واستمعوا قراءته عليه الصلاة والسلام وقولهم وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ بحراسة السماء أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً أي خيرا كالتتمة لذلك فالحامل في الحقيقة تغير الحال عما كانوا ألفوه والاستشعار أنه لأمر خطير والتشوق إلى الإحاطة به خبرا ولا يخفى ما في قولهم أَشَرٌّ أُرِيدَ إلخ من الأدب حيث لم يصرحوا بنسبة الشر إلى الله عز وجل كما صرحوا به في الخير وإن كان فاعل الكل هو الله تعالى ولقد جمعوا بين الأدب وحسن الاعتقاد وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ أي الموصوفون بصلاح الحال في شأن أنفسهم وفي معاملتهم مع غيرهم المائلون إلى الخير والصلاح حسبما تقتضيه الفطرة السليمة لا إلى الشر والفساد كما هو مقتضى النفوس الشريرة وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ أي قوم دون ذلك المذكور ويطرد حذف الموصوف إذا كان بعض اسم مجرور بمن مقدم عليه والصفة ظرف كما هنا أو جملة كما في قوله منا أقام ومنا ظعن وأرادوا بهؤلاء القوم المقتصدين في صلاح الحال على الوجه السابق لا في الإيمان والتقوى كما قيل فإن هذا بيان لحالهم قبل استماع القرآن كما يعرب عنه قوله تعالى كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً وأما حالهم بعد استماعه فستحكى بقوله تعالى وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى إلى قوله تعالى وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ إلخ وجوز بعضهم كون دُونَ بمعنى غير فيكون دون ذلك شاملا للشرير المحض وأيّا ما الجزء: 15 ¦ الصفحة: 98 كان فجملة كنا إلخ تفسير للقسمة المتقدمة لكن قيل الأنسب عليه كون دون بمعنى غير والكلام على حذف مضاف أي كنا ذوي طرائق أي مذاهب أو مثل طرائق في اختلاف الأحوال أو كانت بطرائقنا طرائق قددا وكون هذا من تلقي الركبان لا يلتفت إليه وعدم اعتبار التشبيه البليغ ليستغني عن تقدير مثل قيل لأن المحل ليس محل المبالغة وجوز الزمخشري كون طَرائِقَ منصوبا على الظرفية بتقدير في أي كنا في طَرائِقَ وتعقب بأن الطريق اسم خاص لموضع يستطرق فيه فلا يقال للبيت أو المسجد طريق على الإطلاق وإنما يقال جعلت المسجد طريقا فلا ينتصب مثله على الظرفية إلا في الضرورة وقد نص سيبويه على أن قوله: كما عسل الطريق الثعلب شاذ فلا يخرج القرآن الكريم على ذلك. وقال بعض النحاة: هو ظرف عام لأن كل موضع يستطرق طريق والقدد المتفرقة المختلفة قال الشاعر: القابض الباسط الهادي بطاعته ... في فتنة الناس إذ أهواؤهم قدد جمع قدة من قد إذا قطع كأن كل طريق لامتيازها مقطوعة من غيرها وَأَنَّا ظَنَنَّا أي علمنا الآن أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ أي إن الشأن لن نعجز الله تعالى كائنين فِي الْأَرْضِ أي أينما كنا من أقطارها وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً أي هاربين منها إلى السماء فالأرض محمولة على الجملة ولما كان وَلَنْ إلخ في مقابلة ما قبل لزم أن يكون الهرب إلى السماء وفيه ترقّ ومبالغة كأنه قيل لن نعجزه سبحانه في الأرض ولا في السماء. وجوز أن لا ينظر إلى عموم ولا خصوص كما في أرسلها العراك ويجعل الفوت على قسمين أخذا من لفظ الهرب والمعنى لن نعجزه سبحانه في الأرض إن أراد بنا أمرا، ولن نعجزه عز وجل هربا إن طلبنا وحاصله إن طلبنا لم نفته وإن هربنا لم نخلص منه سبحانه وفائدة ذكر الأرض تصوير أنها مع هذه البسطة والعراضة ليس فيها منجا منه تعالى ولا مهرب لشدة قدرته سبحانه وزيادة تمكنه جل وعلا ونحوه قول القائل: وإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع وقيل فائدة ذكر الْأَرْضِ تصوير تمكنهم عليها وغاية بعدها عن محل استوائه سبحانه وتعالى وليس بذاك وكون فِي الْأَرْضِ وهَرَباً حالين كما أشرنا إليه هو الذي عليه الجمهور وجوز في هَرَباً كونه تمييزا محولا عن الفاعل أي لن يعجزه سبحانه هربنا وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى أي القرآن الذي هو الهدى بعينه آمَنَّا بِهِ من غير تلعثم وتردد فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ وبما أنزله عز وجل فَلا يَخافُ جواب الشرط ومثله من المنفي بلا يصح فيه دخول الفاء وتركها كما صرح به في شرح التسهيل إلّا أن الأحسن تركها ولذا قدر هاهنا مبتدأ لتكون الجملة اسمية ولزم اقترانها بالفاء إذا وقعت جوابا إلا فيما شذ من نحو: من يفعل الحسنات الله يشكرها معلوم وبعضهم أوجب التقدير لزعمه عدم صحة دخول الفاء في ذلك أي فهو لا يخاف بَخْساً أي نقصا في الجزاء. وقال الراغب: البخس نقص الشيء على سبيل الظلم وَلا رَهَقاً أي غشيان ذلة من قوله تعالى وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ [يونس: 27] وأصله مطلق الغشيان وقال الراغب: رهقه الأمر أي غشيه بقهر وفي الأساس رهقه دنا منه وصبي مراهق مدان للحلم وفي النهاية يقال رجل فيه رهق إذا كان يخف إلى الشر ويغشاه. وحاصل المعنى فلا يخاف أن يبخس حقه ولا أن ترهقه ذلة فالمصدر أعني بَخْساً مقدر باعتبار المفعول وليس المعنى على أن غير المؤمن يبخس حقه بل النظر إلى تأكيد ما ثبت له من الجزاء وتوفيره كملا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 99 وأما غيره فلا نصيب له فضلا عن الكمال وفيه أن ما يجزي به غير المؤمن مبخوس في نفسه وبالنسبة إلى هذا الحق فيه كل البخس وإن لم يكن هناك بخس حق كذا في الكشف أو فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً لأنه لم يبخس أحدا حقا ولا رهقه ظلما فلا يخاف جزاءهما وليس من إضمار مضاف، أعني الجزاء بل ذلك بيان لحاصل المعنى وأن ما ذكر في نفسه مخوف فإنه يصح أن يقال خفت الذنب وخفت جزاءه لأن ما يتولد منه المحذور محذور. وفيه دلالة على أن المؤمن لاجتنابه البخس والرهق لا يخافهما فإن عدم الخوف من المحذور إنما يكون لانتفاء المحذور وجاز أن يحمل على الإضمار وأصل الكلام فمن لا يبخس أحدا ولا يرهق ظلمه فلا يخاف جزاءهما فوضع ما في النظم الجليل موضعه تنبيها بالسبب على المسبب والأول كما قيل أظهر وأقرب مأخذا. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية: لا يخاف نقصا من حسناته ولا زيادة في سيئاته. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه قال: فلا يخاف بخسا ظلما بأن يظلم من حسناته فينتقص منها شيء ولا رهقا ولا أن يحمل عليه ذنب غيره وأخرج نحوه عن الحسن ولعل المعنى الأول أنسب بالترغيب بالإيمان وبلفظ الرهق أيضا نظرا إلى ما سمعت من قوله تعالى وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وقرأ ابن وثاب والأعمش «فلا يخف» بالجزم على أن لا ناهية لا نافية لأن الجواب المقترن بالفاء لا يصح جزمه وقيل الفاء زائدة ولا للنفي وليس بشيء وأيا ما كان فالقراءة الأولى أدل على تحقق أن المؤمن ناج لا محالة وأنه هو المختص بذلك دون غيره وذلك لتقدير هو عليها وبناء الفعل عليه نحو هو عرف ويجتمع فيه التقوى والاختصاص إذا اقتضاهما المقام. وقرأ ابن وثاب «بخسا» بفتح الخاء المعجمة وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ الجائرون على طريق الحق الذي هو الإيمان والطاعة يقال: قسط الرجل إذا جار وأنشدوا: قوم هم قتلوا ابن هند عنوة ... عمرا وهم قسطوا على النعمان فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ الإشارة إلى من أسلم والجمع باعتبار المعنى تَحَرَّوْا توخوا وقصدوا رَشَداً عظيما بلغهم إلى الدار للثواب وقرأ الأعرج «رشدا» بضم الراء وسكون الشين أَمَّا الْقاسِطُونَ الجائرون عن سنن الإسلام كانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً توقد بهم كما توقد بكفرة الإنس واستظهر أن فَمَنْ أَسْلَمَ إلخ من كلام الجن وقال ابن عطية الوجه أن يكون مخاطبة من الله تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلم ويؤيده ما بعد الآيات وفي الكشاف زعم من لا يرى للجن ثوابا أن الله تعالى أوعد قاسطيهم وما وعد مسلميهم وكفى به وعدا أن قال سبحانه فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً فذكر سبب الثواب والله عزّ وجلّ أعدل من أن يعاقب القاسط ولا يثيب الراشد وهو ظاهر في أنه من كلامه عزّ وجلّ وقوله تعالى وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا إلخ معطوف قطعا على قوله سبحانه أَنَّهُ اسْتَمَعَ ولا يضر تقدم المعطوف على غيره على القول به لظهور الحال وعدم الالتباس وأَنْ مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن. وقرأ الأعمش وابن وثاب بضم واو لَوِ والمعنى وأوحى إلى أن الشأن لو استقام الإنس والجن أو كلاهما عَلَى الطَّرِيقَةِ التي هي ملة الإسلام لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً أي كثيرا وقرأ عاصم في رواية الأعمش بكسر الدال والمراد لوسعنا عليهم الرزق وتخصيص الماء الغدق بالذكر لأنه أصل المعاش وكثرته أصل السعة فقد قيل المال حيث الماء ولعزة وجوده بين العرب لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أي لنختبرهم كيف يشكرونه أي لنعاملهم معاملة المختبر وقيل لو استقام الجن على الطريقة المثلى أي لو ثبت أبوهم الجان على ما كان عليه من عبادة الله تعالى وطاعته سبحانه ولم يتكبر عن السجود لآدم ولم يكفر وتبعه ولده على الإسلام لأنعمنا عليهم ووسعنا رزقهم لنختبرهم ويجوز على هذا رجوع الضمير الجزء: 15 ¦ الصفحة: 100 إلى (القاسطين) وهو المروي عن ابن عباس وقتادة ومجاهد وابن جبير واعتبار المثلى قيل لأن التعريف للعهد والمعهود طريقة الجن المفضلة على غيرها وقيل لأن جعلها طريقة وما عداها ليس بطريقة يفهم منه كونه مفضلة. وقيل المعنى أنه لو استقام الجن على طريقتهم وهي الكفر ولم يسلموا باستماع القرآن لوسعنا عليهم الرزق استدراجا لنوقعهم في الفتنة ونعذبهم في كفران النعمة وروي نحو هذا عن الضحاك والربيع بن أنس وزيد بن أسلم وأبي مجلز بيد أنهم أعادوا الضمير على من أسلم وقالوا أي لو كفر من أسلم من الناس لَأَسْقَيْناهُمْ إلخ وهو مخالف للظاهر لاستعمال الاستقامة على الطريقة في الاستقامة على الكفر وكون النعمة المذكورة استدراجا من غير قرينة عليه مع أن قوله تعالى وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا [الأعراف: 96] إلخ يؤيد الأول وزعم الطيبي أن التذييل بقوله عزّ وجلّ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ إلخ ينصر ما قيل قال لأنه توكيد لمضمون السابق من الوعيد أي لنستدرجهم فيتبعوا الشهوات التي هي موجبة للبطر والإعراض عن ذكر الله تعالى وفيه نظر والذكر مصدر مضاف لمفعوله تجوز به عن العبادة أو هو بمعنى التذكير مضاف لفاعله ويفسر بالموعظة وقال بعضهم المراد بالذكر الوحي أن وَمَنْ يُعْرِضْ عن عبادة ربه تعالى أو عن موعظته سبحانه أو عن وحيه عزّ وجلّ يَسْلُكْهُ مضمن معنى ندخله ولذا تعدى إلى المفعول الثاني أعني قوله تعالى عَذاباً صَعَداً بنفسه دون فى أو هو من باب الحذف والإيصال والصعد مصدر وصف به مبالغة أو تأويلا أي ندخله عذابا يعلو المعذب ويغلبه وفسر بشاق يقال فلان في صعد من أمره أي في مشقة ومنه قول عمر رضي الله تعالى عنه ما تصعدني شيء كما تصعدني خطبة النكاح أي ما شق عليّ وكأنه أخذ إنما قال ذلك لأنه كان من عادتهم أن يذكروا جميع ما كان في الخاطب من الأوصاف الموروثة والمكتسبة فكان يشق عليه ارتجالا، أو كان يشق أن يقول الصدق في وجه الخاطب وعشيرته وقيل إنما شق من الوجوه ونظر بعضهم إلى بعض وقال أبو سعيد الخدري وابن عباس: صعد جبل في النار قال الخدري كلما وضعوا أيديهم عليه ذابت وقال عكرمة هو صخرة ملساء في جهنم يكلف صعودها فإذا انتهى إلى أعلاها جدر إلى جهنم فعلى هذا قال أبو حيان: يجوز أن يكون بدلا من عذاب على حذف مضاف أي عذاب صعد ويجوز أن يكون مفعول نَسْلُكُهُ وعَذاباً مفعول من أجله وقرأ الكوفيون يَسْلُكْهُ بالياء وباقي السبعة بالنون وابن جندب بالنون من أسلك وبعض التابعين بالياء كذلك وهما لغتان سلك وأسلك قال الشاعر يصف جيشا مهزومين: حتى إذا أسلكوهم في قتائدة (1) ... شلا كما تطرد الجمالة الشردا   (1) قتائدة ثنية معروفة اهـ منه. [ ..... ] الجزء: 15 ¦ الصفحة: 101 وقرأ قوم «صعدا» بضمتين وابن عباس والحسن بضم الصاد وفتح العين قال الحسن معناه لا راحة فيه وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ عطف على أَنَّهُ اسْتَمَعَ فهو من جملة الموحى والظاهر أن المراد بالمساجد المواضع المعدة للصلاة والعبادة أي وأوحي إليّ أن المساجد مختصة بالله تعالى شأنه فَلا تَدْعُوا أي فلا تعبدوا فيها مَعَ اللَّهِ أَحَداً غيره سبحانه. وقال الحسن المراد كل موضع سجد فيه من الأرض سواء أعد لذلك أم لا إذ الأرض كلها مسجد لهذه الأمة وكأنه ذلك مما في الحديث الصحيح: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» واشتهر أن هذا من خصائص نبينا صلّى الله عليه وسلم أي شريعته فيكون له ولأمته عليه الصلاة والسلام وكان من قبل إنما تباح لهم الصلاة في البيع والكنائس واستشكل بأن عيسى عليه السلام كان يكثر السياحة وغيره من الأنبياء عليهم السلام يسافرون فإذا لم تجز لهم الصلاة في غير ما ذكر لزم ترك الصلاة في كثير من الأوقات وهو بعيد لا سيما في الخضر عليه السلام ولذا قيل المخصوص كونها مسجدا وطهورا أي المجموع ويكفي في اختصاصه اختصاص التيمم وأجيب بأن المراد الاختصاص بالنسبة إلى الأمم السالفة دون أنبيائها عليهم السلام والخضر إن كان حيّا اليوم فهو من هذه الأمة سواء كان نبيا أم لا لخبر لو كان موسى حيا ما وسعه إلّا اتباعي وحكمه قبله نبيا ظاهر والأمر فيه غير نبي سهل وقيل المراد بها المسجد الحرام أي الكعبة نفسها أو الحرم كله على ما قيل والجمع لأن كل ناحية منه مسجد له قبلة مخصوصة أو لأنه لما كان قبلة المساجد فإن كل قبلة متوجهة نحوه جعل كأنه جميع المساجد مجازا وقيل: المراد هو وبيت المقدس فقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس لم يكن يوم نزلت وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ إلخ في الأرض مسجدا لا المسجد الحرام ومسجد إيليا بيت المقدس وأمر الجمع عليه أظهر منه على الأول لا أنه كالأول خلاف الظاهر وما ذكر لا يتم دليلا له. وقال ابن عطاء وابن جبير والزجاج والفراء المراد بها الأعضاء السبعة التي يسجد عليها واحدها مسجد بفتح الجيم وهي القدمان والركبتان والكفان والوجه أي الجبهة والأنف. وروي أن المعتصم سأل أبا جعفر محمد بن عليّ بن موسى الكاظم رضي الله تعالى عنهم عن ذلك فأجاب بما ذكر. وقيل السجدات على أن المسجد بفتح الجيم مصدر ميمي ونقل عن الخليل بن أحمد أن قوله تعالى وَأَنَّ الْمَساجِدَ بتقدير لام التعليل وهو متعلق بما بعد والْمَساجِدَ بمعناها المعروف أي لأن الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً ولما لم تكن الفاء في جواب شرط محقق كانت في الحقيقة زائدة فلا يمتنع تقديم معمول ما بعدها عليها نعم قال غير واحد جيء بها لتضمن الكلام معنى الشرط، والمعنى أن الله تعالى يحب أن يوحد ولا يشرك به أحد فإن لم يوحدوه في سائر المواضع فلا تدعوا معه أحدا في المساجد لأن المساجد له سبحانه مختصة به عزّ وجلّ فالإشراك فيها أقبح وأقبح ونظير هذا قوله تعالى لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا [قريش: 1- 3] على وجه ولا يعد ذلك من الشرط المحقق ويندفع بما ذكر لزوم جعل الفاء لغوا لأنها للسببية ومعناها مستفاد من اللام المقدرة وقيل في دفعه أيضا أنها تأكيد للام أو زائدة جيء بها للإشعار بمعناها وأنها مقدرة والخطاب في تَدْعُوا قيل للجن وأيد بما روي عن ابن جبير قال: إن الجن قالوا يا رسول الله كيف نشهد الصلاة معك على نأينا عنك فنزلت الآية ليخاطبهم على معنى أن عبادتكم حيث كانت مقبولة إذا لم تشركوا فيها. وقيل هو خطاب عام وعن قتادة كان اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله الجزء: 15 ¦ الصفحة: 102 عزّ وجلّ فأمرنا أن نخلص لله تعالى الدعوة إذا دخلنا المساجد يعني بهذه الآية وعن ابن جريج بدل (فأمرنا) إلخ «فأمرهم أن يوحدوه» وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق بذلك أيضا وقرأ كما في البحر ابن هرمز وطلحة «وإن المساجد» بكسر همزة «إن» وحمل ذلك على الاستئناف وَأَنَّهُ بفتح الهمزة عند الجمهور على أنه عطف على أَنَّهُ اسْتَمَعَ كالذي قبله فهو من كلامه تعالى أي وأوحى إليّ أن الشان لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ أي النبي صلّى الله عليه وسلم وقوله تعالى يَدْعُوهُ حال من عَبْدُ أي لما قام عابدا له عزّ وجلّ وذلك قيامه عليه الصلاة والسلام لصلاة الفجر بنخلة كما مر كادُوا أي الجن كما قال ابن عباس والضحاك يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً متراكمين من ازدحامهم عليه تعجبا مما شاهدوا من عبادته وسمعوا من قراءته واقتداء أصحابه به قياما وركوعا وسجودا لأنهم رأوا ما لم يروا مثله وسمعوا ما لم يسمعوا نظيره وهذا كالظاهر في أنهم كانوا كثيرين لا تسعة ونحوها وإيراده عليه الصلاة والسلام بلفظ العبد دون لفظ النبي أو الرسول أو الضمير إما لأنه مقول على لسانه صلّى الله عليه وسلم لأنه أمر أن يقول أوحي كذا فجيء به على ما يقتضيه مقام العبودية والتواضع، أو لأنه تعالى عدل عن ذلك تنبيها على أن العبادة من العبد لا تستبعد، ونقل عليه الصلاة والسلام كلامه سبحانه كما هو رفعا لنفسه عن البين فلا وجود للأثر بعد العين وحيث كان هذا العدول منه جل وعلا إما لكذا أو لكذا لا أنه تصرف من رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يمتنع كما قال بعض الأجلة الجمع بين الحسنيين. وقال الحسن وقتادة ضمير كادُوا لكفار قريش والعرب فيراد بالقيام القيام بالرسالة وبالتلبد التلبد للعداوة والمعنى وأنه لما قام عبد الله بالرسالة يدعو لله تعالى وحده ويذر ما كانوا يدعون من دونه كادوا لتظاهرهم عليه وتعاونهم على عداوته يزدحمون عليه متراكمين وجوز أن يكون الضمير على هذا للجن والإنس. وعن قتادة أيضا ما يقتضيه قال: تلبدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه فأبى الله تعالى إلا أن ينصره على من ناوأه وفي البحر أبعد من قال عبد الله هنا نوح عليه السلام كاد قومه يقتلونه حتى استنقذه الله تعالى منهم قاله الحسن وأبعد منه قول من قال إنه عبد الله بن سلام اهـ ولعمري إنه لا ينبغي القول بذلك ولا أظن له صحة بوجه من الوجوه. وقرأ نافع وأبو بكر كما قدمنا وابن هرمز وطلحة كما في الحبر «وإنه» بكسر الهمزة وحمل على أن الجملة استئنافية من كلامه عزّ وجلّ وجوز أن تكون من كلام الجن معطوفة على جملة إِنَّا سَمِعْنا حكوا فيها لقومهم لما رجعوا إليهم ما رأوا من صلاته صلّى الله عليه وسلم وازدحام أصحابه عليه في ائتمامهم به وحكي ذلك عن ابن جبير وجوز نحو هذا على قراءة الفتح بناء على ما سمعت عن أبي حاتم أو بتقدير ونخبركم بأنه أو نحوه هذا. وفي الكشف الوجه على تقدير أن يكون وَأَنَّ الْمَساجِدَ من جملة الموحي أن يكون فَلا تَدْعُوا خطابا للجن محكيا إن جعل قوله تعالى «وإنه لما قام» على قراءة الكسر من مقول الجن لئلا ينفك النظم لو جعل ابتداء قصة ووحيا آخر منقطعا عن حكاية الجن وكذلك لو جعل ضمير كادُوا للجن على قراءة الفتح أيضا والأصل أن المساجد لله فلا تدعوا أيها الجن مع الله أحدا فقيل قل يا محمد لمشركي مكة أُوحِيَ إِلَيَّ كذا وإذا كان كذلك فيجيء في ضمن الحكاية إثبات هذا الحكم بالنسبة إلى المخاطبين أيضا لاتحاد العلة، وأما لو جعل خطابا عاما فالوجه أن يكون ضمير كادُوا راجعا إلى المشركين أو إلى الجن والإنس وأن يكون على قراءة الكسر جملة استئنافية ابتداء قصة منه جل شأنه في الإخبار عن حال رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو تمهيد لما يأتي من بعد وتوكيد لما ذكر من قبل فكأنه قيل: قل لمشركي مكة ما كان من حديث الجن وإيمان بعضهم وكفر آخرين منهم ليكون حكاية ذلك لطفا لهم في الانتهاء عما كانوا فيه وحثا على الإيمان ثم قيل وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ ويوحده كاد الفريقان من كفرة الجن والإنس يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً دلالة على عدم ارتداعهم مع هذه الدلائل الباهرة والآيات النيرة، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 103 وما أحسن التقابل بين قوله تعالى وَأَنَّ الْمَساجِدَ وبين هذا القول كأنهم نهوا كلهم عن الإشراك ودعوا إلى التوحيد فقابلوا ذلك بعداوة من يوحد الله سبحانه ويدعوه ولم يرضوا بالاباء وحده وهذا من خواص الكتاب الكريم وبديع أسلوبه إذا أخذ في قصة غب قصه جعلهما متناصفتين فيما سيق له الكلام وزاد عليه التآخي بينهما. في تناسب خاتمة الأولى وفاتحة الثانية، ولعل هذا الوجه من الوجاهة بمكان وأما لو فسر بما حكي عن الخليل ولأن المساجد لله فلا تدعوا إلخ فالوجه أن يكون استطرادا ذكر عقيب وعيد المعرض والحمل على هذا على الأعضاء السبعة أظهر لأن فيه تذكيرا لكونه تعالى المنع بها عليهم وتنبها على أن الحكمة في خلقها خدمة المعبود من حيث العدول عن لفظ الأعضاء وأسمائها الخاصة إلى المساجد ودلالة على أن ذلك ينافي الإشراك وحينئذ لا يبقى إشكال في ارتباط ما بعده بما قبله على القراءتين والأوجه والله تعالى أعلم اهـ فتأمل. واللبد بكسر اللام وفتح الباء كما قرأ الجمهور جمع لبدة بالكسر نحو كسرة وكسر وهي الجماعات شبهت بالشيء المتلبد بعضه فوق بعض ويقال للجراد ومنه كما قال الجبائي قول عبد مناف بن ربع الهذلي: صافوا بستة أبيات وأربعة ... حتى كأن عليهم جابيا لبدا وقرأ مجاهد وابن محيصن وابن عامر بخلاف عنه «لبدا» بضم اللام جمع لبدة كزبرة وزبر وعن ابن محيصن أيضا تسكين الباء وضم اللام وقرأ الحسن والجحدري وأبو حيوة وجماعة عن أبي عمرو بضمتين جمع لبد كرهن ورهن أو جمع لبود كصبور وصبر وقرأ الحسن والجحدري أيضا بخلاف عنهما «لبّدا» بضم اللام وتشديد الباء جمع لا بد وأبو رجاء بكسرها وشد الباء المفتوحة قُلْ إِنَّما أَدْعُوا أعبد رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ في العبادة أَحَداً فليس ذلك ببدع ولا مستنكر يوجب التعجب أو الاطباق على عداوتي وقرأ الأكثرون «قال» على أنه حكاية منه تعالى لقوله صلّى الله عليه وسلم للمتراكمين عليه أو حكاية من الجن له عند رجوعهم إلى قومهم فلا تغفل وقراءة الأمر وهي قراءة عاصم وحمزة وأبي عمرو بخلاف عنه أظهر وأوقف لقوله سبحانه قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً أي ولا نفعا تعبيرا باسم السبب عن المسبب، والمعنى لا أستطيع أن أضركم ولا أنفعكم إنما الضار والنافع هو الله عزّ وجلّ أو لا أملك لكم غيّا ولا رشدا على أن الضر مراد به الغي تعبير باسم السبب عن السبب ويدل عليه قراءة أبي «غيّا» بدل ضَرًّا والمعنى لا أستطيع أن أقسركم على الغي والرشد إنما القادر على ذلك هو الله سبحانه وتعالى وجوز أن يكون في الآية الاحتباك والأصل لا أملك لكم ضرا ولا نفعا ولا غيا ولا رشدا فترك من كلا المتقابلين ما ذكر في الآخر. وقرأ الأعرج «رشدا» بضمتين قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ إن أرادني سبحانه بسوء وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً أي معدلا ومنحرفا وقال الكلبي مدخلا في الأرض وقال السدي حرزا وأصله المدخل من اللحد والمراد ملجأ يركن إليه وأنشدوا: يا لهف نفسي ونفسي غير مجدية ... عني وما من قضاء الله ملتحد وجوز فيه الراغب كونه اسم مكان وكونه مصدرا وهذا على ما قيل بيان لعجزه عليه الصلاة والسلام عن شؤون نفسه بعد بيان عجزه صلّى الله عليه وسلم عن شؤون غيره وقيل في الكلام حذف وهو قالوا اترك ما تدعو إليه ونحن نجيرك فقيل له قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي إلخ وقيل هو جواب لقول ورد أن سيد الجن وقد ازدحموا عليه أنا أرحلهم عنك فقال إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي إلخ ذكره الماوردي والقولان ليسا بشيء وقوله تعالى إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ استثناء من مفعول لا أَمْلِكُ كما يشير إليه كلام قتادة وما بينهما اعتراض مؤكد لنفي الاستطاعة فلا اعتراض بكثرة الفصل المبعدة لذلك فإن كان المعنى لا أملك أن أضركم ولا أنفعكم كان استثناء متصلا كأنه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 104 قيل لا أملك شيئا إلّا بلاغا وإن كان المعنى لا أملك أن أقسركم على الغي والرشد كان منقطعا أو من باب: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم كما في الكشف وظاهر كلام بعض الأجلة أنه إما استثناء متصل من رَشَداً فإن الإبلاغ إرشاد ونفع والاستثناء من المعطوف دون المعطوف عليه جائز، وأما استثناء منقطع من مُلْتَحَداً قال الرازي لأن البلاغ من الله تعالى لا يكون داخلا تحت قوله سبحانه مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً لأنه لا يكون من دون الله سبحانه بل منه جل وعلا وبإعانته وتوفيقه. وفي البحر قال الحسن هو استثناء منقطع أي لَنْ يُجِيرَنِي أحد لكن إن بلغت رحمتي بذلك والإجارة مستعارة للبلاغ إذ هو سبب إجارة الله تعالى ورحمته سبحانه وقيل هو على هذا المعنى استثناء متصل. والمعنى لن أجد شيئا أميل إليه وأعتصم به إلّا أن أبلغ وأطيع فيجيرني فيجوز نصبه على الاستثناء من مُلْتَحَداً أو على البدل وهو الوجه لأن قبله نفيا وعلى البدل خرجه الزجاج انتهى. والأظهر ما تقدم وقيل إن إلّا مركبة من أن الشرطية ولا النافية والمعنى أن لا أبلغ بلاغا وما قبله دليل الجواب فهو كقولك إلّا قياما فقعودا وظاهره أن المصدر سد مسد الشرط كمعمول كان ولهم في حذف جملة الشرط مع بقاء الأداة كلام والظاهر إن إطراد حذفه مشروط ببقاء لا كما في قوله: فطلقها فلست لها بكفء ... وإلّا يعل مفرقك الحسام ما لم يسد مسده شيء من معمول أو مفسر ك إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ [التوبة: 6] والناس مجزيون بأعمالهم إن خيرا فخير وهذا الوجه خلاف المتبادر كما لا يخفى وقوله تعالى وَرِسالاتِهِ عطف على بَلاغاً ومِنَ اللَّهِ متعلق بمحذوف وقع صفة له أي بلاغا كائنا من الله وليس بصلة له لأنه يستعمل بعن كما في قوله صلّى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية» والمعنى على ما علمت أولا في الاستثناء لا أملك لكم إلّا تبليغا كائنا منه تعالى ورسالاته التي أرسلني عز وجل بها. وفي الكشف في الكلام إضمار أي بلاغ رسالته وأصل الكلام إلّا بلاغ رسالات الله فعدل إلى المنزل ليدل على التبليغين مبالغة وإن كلا من المعنيين أعني كونه من الله تعالى وكونه بلاغ رسالاته يقتضي التشمر لذلك انتهى. وفي عبارة الكشاف رمز ما إليه لكن قيل عليه لا ينبغي تقدير المضاف فيه أعني بلاغ فإنه يكون العطف حينئذ من عطف الشيء على نفسه إلّا أن يوجه بأن البلاغ من الله تعالى فيما أخذه عنه سبحانه بغير واسطة والبلاغ للرسالات فيما هو بها وهو بعيد غاية البعد فافهم. واستظهر أبو حيان عطفه على الاسم الجليل فقال الظاهر عطف رِسالاتِهِ على اللَّهِ أي إلّا أن أبلغ عن الله وعن رسالاته وظاهره جعل مِنَ بمعنى عن وقد تقدم منه أنها لابتداء الغاية. وقرىء «قال لا أملك» أي قال عبد الله للمشركين أو للجن وجوز أن يكون من حكاية الجن لقومهم. هذا ووجه ارتباط الآية بما قبلها قيل بناء على أن التلبد للعداوة أنهم لما تلبدوا عليه صلّى الله عليه وسلم متظاهرين للعداوة قيل له عليه الصلاة والسلام قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً أي ما أردت إلّا نفعكم وقابلتموني بالإساءة وليس في استطاعتي النفع الذي أردت ولا الضر الذي أكافئكم به إنما ذان إلى الله تعالى وفيه تهديد عظيم وتوكيل إلى الله جل وعلا وأنه سبحانه هو الذي يجزيه بحسن صنيعه وسوء صنيعهم، ثم فيه مبالغة من حيث إنه لا يدع التبليغ لتظاهرهم هذا فإن الذي يستطيعه عليه الصلاة والسلام هو التبليغ ولا يدع المستطاع ولهذا قال إِلَّا بَلاغاً وجعله بدلا من مُلْتَحَداً شديد الطباق على هذا والشرط قريب منه، وأما إن كان الخطاب للجن والتلبد للتعجب الجزء: 15 ¦ الصفحة: 105 فالوجه أنهم لما تلبدوا لذلك قيل له عليه الصلاة والسلام قل لهم ما لكم ازدحمتم علي متعجبين مني ومن تطامن أصحابي على العبادة أني ليس إليّ النفع والضر إنما أنا مبلغ عن الضار النافع فأقبلوا أنتم مثلنا على العبادة ولا تقبلوا على التعجب فإن العجب ممن يعرض عن المنعم المنتقم الضار النافع ولعل اعتبار قوة الارتباط يقتضي أولوية كون التلبد كان للعداوة ومعصية الرسول عليه الصلاة والسلام وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي في الأمر بالتوحيد إذ الكلام فيه فلا يصح استدلال المعتزلة ونحوهم بالآية على تخليد العصاة في النار وجوز أن يراد بالرسول رسول الملائكة عليهم السلام دون رسول البشر فالمراد بعصيانه أن لا يبلغ المرسل إليه ما وصل إليه كما وصل وهو خلاف الظاهر فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أي في النار أو في جهنم وجمع خالِدِينَ باعتبار معنى مِنَ كما أن الإفراد قبل باعتبار لفظها ولو روعي هنا أيضا لقيل خالدا أَبَداً بلا نهاية. وقرأ طلحة «فأن» بفتح الهمزة على أن التقدير كما قال ابن الأنباري وغيره فجزاءه أن له إلخ وقد نص النحاة على أن أن بعد فاء الشرط يجوز فيها الفتح والكسر فقول ابن مجاهد ما قرأ به أحد وهو لحن لأنه بعد فاء الشرط ناشىء من قلة تتبعه وضعفه في النحو وقوله تعالى حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً جملة شرطية مقرونة بحتى الابتدائية وهي وإن لم تكن جارة فيها معنى الغاية فمدخولها غاية لمحذوف دلت عليه الحال من استضعاف الكفار لأنصاره عليه الصلاة والسلام واستقلالهم لعدده كأنه قيل: لا يزالون يستضعفون ويستهزئون حتى إذا رأوا ما يوعدون من فنون العذاب في الآخرة تبين لهم أن المستضعف من هو ويدل على ذلك أيضا جواب الشرط وكذا ما قيل على ما قيل لأن قوله سبحانه قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي تعريض بالمشركين كيفما قدر بل السورة الكريمة من مفتتحها مسوقة للتعريض بحال مشركي مكة وتسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وتسرية عنه عليه الصلاة والسلام وتعبير لهم بقصور نظرهم عن الجن مع ادعائهم الفطانة وقلة إنصافهم ومبادهتهم بالتكذيب والاستهزاء بدل مبادهة الجن بالتصديق والاستهداء، ويجوز جعل ذلك غاية لقوله تعالى يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً إن فسر بالتلبد على العداوة ولا مانع من تخلل أمور غير أجنبية بين الغاية والمغيا فقول أبي حيان أنه بعيد جدا لطول الفصل بينهما بالجمل الكثيرة ليس بشيء كجعله إياه غاية لما تضمنته الجملة قبل يعني فإن له نار جهنم من الحكم بكينونة النار له ومثل ذلك ما قيل من أنه غاية لمحذوف والتقدير دعهم حتى إذا رأوا إلخ والظاهر أن مَنْ استفهامية كما أشرنا إليه وهي مبتدأ وأَضْعَفُ خبر والجملة في موضع نصب بما قبلها وقد علق عن العمل لمكان الاستفهام وجوز كونها موصولة في موضع نصب ب (يعلمون) وأَضْعَفُ خبر مبتدأ محذوف والجملة صلة لمن والتقدير فسيعرفون الذي هو أضعف وحسن حذف صدر الصلة طولها بالتمييز وجوز تفسير ما يُوعَدُونَ بيوم بدر ورجح الأول بأن الظاهر أن قوله سبحانه قُلْ إِنْ أَدْرِي أي ما أدري أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً رد لما قاله المشركون عند سماعهم ذلك، ومقتضى حالهم أنهم قالوا إنكارا واستهزاء متى يكون ذلك الموعود بل روي عن مقاتل أن النضر بن الحارث قال ذلك فقيل قل إنه كائن لا محالة وأما وقته فما أدري متى يكون والأحرى بسؤالهم وهذا الجواب إرادة ما في يوم القيامة المنكرين له أشد الإنكار والخفي وقته عن الخلائق غاية الخفاء والمراد بالأمد الزمان البعيد بقرينة المقابلة بالقريب وإلّا فهو وضعا شامل لهما ولذا وصف ببعيدا في قوله تعالى تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً [آل عمران: 30] وقيل إن معنى القرب ينبىء عن مشارفة النهاية فكأنه قيل لا أدري أهو حال متوقع في كل ساعة أم هو مؤجل ضرب له غاية والأول أولى وأقرب عالِمُ الْغَيْبِ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو سبحانه عالم الغيب وجوز أبو حيان كونه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 106 بدلا من رَبِّي وغيره أيضا كونه بيانا له ويأبى الوجهين الفاء في قوله تعالى فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إذ يكون النظم حينئذ أَمْ يَجْعَلُ له عالم الغيب أَمَداً فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً وفيه من الإخلال ما لا يخفى، وإضافة عالِمُ إلى الْغَيْبِ محصنة لقصد الثبات فيه فيفد تعريف الطرفين التخصيص وتعريف الغيب للاستغراق وفي الرضي أن اسم الجنس أعني الذي يقع على القليل والكثير بلفظ الواحد إذا استعمل ولم تقم قرينة تخصصه ببعض ما يصدق عليه فهو في الظاهر لاستغراق الجنس أخذا من استقراء كلامهم فمعنى التراب يابس والماء بارد كل ما فيه هاتان الماهيتان حاله كذا فلو قلت في قولهم النوم ينقض الطهارة النوم مع الجلوس لا ينقضها لكان مناقضا لذلك اللفظ انتهى. وهو يؤيد إرادة ذلك هنا لأن الغيب كالماء يقع على القليل والكثير بلفظ واحد ولا يضر في ذلك جمعه على غيوب كما لا يضر فيه جمع الماء على المياه وكذا المراد بغيبه جميع غيبه وقد نص عليه عزمي زاده معللا له بكون اسم الجنس المضاف بمنزلة المعرف باللام سيما إذا كان في الأصل مصدرا وعزى إلى شرح المقاصد ما يقتضيه وربما يقال يفهم ذلك أيضا من اعتبار كون الإضافة للعهد وأن المعهود هو الغيب المستغرق أو من اعتبارها للاختصاص وأن الغيب المختص به تعالى بمعنى المختص علمه سبحانه به هو كل غيب واعتناء بشأن الاختصاص جيء بالمظهر موضع المضمر والجملة استئناف لدفع توهم نقص من نفى الدارية والفاء لترتيب عدم الإظهار على تفرده تعالى بعلم الغيب والمراد بالإظهار المنفي الاطلاع الكامل الذي تنكشف به جلية الحال على أتم وجه كما يرشد إليه حرف الاستعلاء فكأنه قيل ما عليّ إذا قلت ما أدري قرب ذلك الموعد الغيب ولا بعده فالله سبحانه وتعالى عالم كل غيب وحده فلا يطلع على ذلك المختص علمه به تعالى اطلاعا كاملا أحدا من خلقه ليكون أليق بالتفرد وأبعد عن توهم مساواة علم خلقه لعلمه سبحانه وإنما يطلع جل وعلا إذا اطلع من شاء على بعضه مما تقتضيه الحكمة التي هي مدار سائر أفعاله عز وجل وما نفيت عني العلم به مما لم يطلعني الله تعالى عليه لما أن الاطلاع عليه مما لا تقتضيه الحكمة التشريعية التي يدور عليها فلك الرسالة بل هو مخل بها وإن شئت فاعتبر الجملة واقعة موقع التعليل لنفي الدراية السابقة ولما كان مساق الكلام مما قد يتوهمون منه أنه عليه الصلاة والسلام لم يطلع على شيء من الغيب عقّب عز وجل الكلام بالاستثناء المنقطع كما روي في البحر عن ابن عباس الذي هو بمعنى الاستدراك لدفع ذلك على أبلغ وجه حيث عمم الأمر في الرسل المرتضين وأقام كيفية الإظهار مقام الإظهار مع الإشارة إلى البعض الذي اطلعوا عليه المناسب لمقام الدعوة فقال عز من قائل إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً أي لكن الرسول المرتضى يظهره جل وعلا على بعض الغيوب المتعلقة برسالته كما يعرب عنه بيان من ارتضى بالرسول تعلقا ما إما لكونه من مبادئها بأن يكون معجزة وإما لكونه من أركانها وأحكامها كعامة التكاليف الشرعية وكيفيات الأعمال وأجزيتها ونحو ذلك من الأمور الغيبية التي بيانها من وظائف الرسالة بأن يسلك من جميع جوانبه عند اطلاعه على ذلك حرسا من الملائكة عليهم السلام يحرسونه من تعرض الشياطين لما أريد اطلاعه عليه اختطافا أو تخليطا لِيَعْلَمَ متعلق ب يَسْلُكُ وعلة له والضمير لمن أي لأجل أن يعلم ذلك المرتضى الرسول ويصدق تصديقا جازما ثابتا مطابقا للواقع أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا أي الشأن قد أبلغ إليه الرصد وهو من قبيل: بنو تميم قتلوا زيدا فإن المبلغ في الحقيقة واحد معهم وهو جبريل عليه السلام كما هو المشهور من أنه المبلغ من بين الملائكة عليهم السلام إلى الأنبياء رِسالاتِ رَبِّهِمْ وهي الغيوب المظهر عليها كما هي من غير اختطاف ولا تخليط، وعلى هذا فليكن من مبتدأ وجملة إنه يَسْلُكُ خبره وجيء بالفاء لكونه اسم موصول وقوله تعالى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 107 وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ أي بما عند الرصد وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ أي مما كان ومما سيكون عَدَداً أي فردا فردا حال من فاعل يَسْلُكُ بتقدير قد أو بدونه جيء به لمزيد الاعتناء بأمر علمه تعالى بجميع الأشياء وتفرده سبحانه بذلك على أتم وجه بحيث لا يشاركه سبحانه في ذلك الملائكة الذين هم وسائط العلم فكأنه قيل لكن المرتضى الرسول يعلمه الله تعالى بواسطة الملائكة بعض الغيوب مما له تعلق ما برسالته والحال أنه تعالى قد أحاط علما بجميع أحوال أولئك الوسائط وعلم جل وعلا جميع الأشياء بوجه جزئي تفصيلي فأين الوسائط منه تعالى أو حال من فاعل أبلغوا جيء به للإشارة إلى أن الرصد أنفسهم لم يزيدوا ولم ينقصوا فيما بلغوا كأنه قيل ليعلم الرسول أن قد أبلغ الرصد إليه رسالات ربه في حال أن الله تعالى قد علم جميع أحوالهم وعلم كل شيء فلو أنهم زادوا أو نقصوا عند الإبلاغ لعلمه سبحانه فما كان يختارهم للرصدية والحفظ هذا ما سنح لذهني القاصر في تفسير هذه الآيات الكريمة ولست على يقين من أمره بيد أن الاستدلال بقوله سبحانه فَلا يُظْهِرُ إلخ على نفي كرامة الأولياء بالاطلاع على بعض الغيوب لا يتم عليه لأن قوله تعالى فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً في قوة قضية سالبة جزئية لدخول ما يفيد العموم في حيز السلب وأكثر استعمالاته لسلب العموم وصرح به فيما هنا في شرح المقاصد لا لعموم السلب وهو سلب جزئي فلا ينافي الإيجاب الجزئي كأن يظهر بعض الغيب على ولي على نحو ما قال بعض أهل السنة في قوله تعالى لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام: 103] ولا يرد أن الاستثناء يقتضي أن يكون المرتضى الرسول مظهرا على جميع غيبه تعالى بناء على أن الاستثناء من النفي يقتضي إيجاب نقيضه للمستثنى ونقيض السالبة الجزئية الموجبة الكلية مع أنه سبحانه لا يظهر أحدا كائنا من كان على جميع ما يعلمه عز وجل من الغيب وذلك لانقطاع الاستثناء المصرّح به ابن عباس وكذا لا يرد أن الله تعالى نفى إظهار شيء من غيبه على أحد إلّا على الرسول فيلزم أن لا يظهر سبحانه أحدا من الملائكة على شيء منه لأن الرسول هنا ظاهر في الرسول البشري لقوله تعالى فَإِنَّهُ يَسْلُكُ إلخ وذلك ليس إلّا فيه كما لا يخفى على من علم حكمة ذلك ويلزم أن لا يظهر أيضا أحدا من الأنبياء الذين ليسوا برسل بناء على إرادة المعنى الخاص من الرسول هنا وذلك لما ذكرنا أولا وكذا لا يرد أنه يلزم أن لا يظهر المرتضى الرسول على شيء من الغيوب التي لا تتعلق برسالته ولا يخل الإظهار عليها بالحكمة التشريعية إذ لا حصر للبعض المظهر فيما يتعلق بالرسالة وإنما أشير إلى المتعلق بها لاقتضاء المقام لذلك وكون كل غيب يظهر عليه الرسول لا يكون إلا متعلقا برسالته محل توقف وللمفسرين هاهنا كلام لا بأس بذكره بما له وما عليه حسب الإمكان ثم الأمر بعد ذلك إليك فنقول لما كان مذهب أكثر أهل السنة القول بكرامة الولي بالاطلاع على الغيب وكان ظاهر قوله تعالى عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ إلخ دالا على نفيها ولذا قال الزمخشري إن في هذا إبطال الكرامات أي في الجملة وهي ما كان من الإظهار على الغيب لأن الذين تضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل، وقد خص الله تعالى الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب وإبطال الكهانة والتنجيم لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط انتهى. أنجدوا وأتهموا وأيمنوا وأشأموا في تفسير الآية على وجه لا ينافي مذهبهم ولا يتم عليه استدلال المعتزلي على مذهبه فقال الإمام ليس في قوله تعالى عَلى غَيْبِهِ صيغة عموم فيكفي في العمل بمقتضاه أن لا يظهر تعالى خلقه على غيب واحد من غيوبه فنحمله على وقت وقوع القيامة فيكون المراد من الآية أنه تعالى لا يظهر هذا الغيب لأحد فلا يبقى في الآية دلالة على أنه سبحانه لا يظهر شيئا من الغيوب لأحد ويؤكد ذلك وقوع الآية بعد قوله تعالى قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ والمراد به وقوع يوم القيامة ثم قال فإن قيل إذا حملتم ذلك على القيامة فكيف الجزء: 15 ¦ الصفحة: 108 قال سبحانه إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ مع أنه لا يظهر هذا الغيب لأحد من رسله قلنا بل يظهره عند القرب من إقامة القيامة وكيف لا وقد قال تعالى يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا [الفرقان: 25] ولا شك أن الملائكة يعلمون في ذلك الوقت وأيضا يحتمل أن يكون هذا الاستثناء منقطعا كأنه قيل عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ المخصوص وهو قيام القيامة أَحَداً ثم قيل إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ حفظة يحفظونه من شر مردة الإنس والجن انتهى. وتعقب بأن في غيبه ما يدل على العموم كما سمعت أولا والسياق لا يأباه اللهم إلا أن يطعن في ذلك. وأيضا ظاهر جوابه الأول عن القيل كون المراد بالرسول في الآية الرسول الملكي ويأباه ما بعد من قوله تعالى فَإِنَّهُ يَسْلُكُ إلخ على أن علم الملائكة بوقت الساعة يوم تشقق السماء ليس من الإظهار على الغيب بل هو من إظهار الغيب وإبرازه للشهادة كإظهار المطر عند نزوله وما في الأرحام عند وضعه إلى غير ذلك، وأيضا الانقطاع على الوجه الذي ذكره بعيد جدا إذ فيه قطع المناسبة بين السابق واللاحق بالكلية اللهم إلّا أن يقال مثله لا يضر في المنقطع وقيل إن الإظهار على الغيب بمعنى الاطلاع عليه على أتم وجه بحيث يحصل به أعلى مراتب العلم والمراد عموم السلب ولا يضر في ذلك دخول ما يفيد العموم في حيز النفي لأن القاعدة أكثرية لا مطردة لقوله تعالى وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ [الحديد: 23] وقوله سبحانه وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [البقرة: 276] وقد نص على ذلك العلامة التفتازاني فيكون المعنى فَلا يُظْهِرُ عَلى شيء من غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فإنه سبحانه يظهره على شيء من غيبه بأن يسلك إلخ ولا يرد كرامة الولي إذ ليست من الإظهار المذكور إذ لا يحصل له أعلى مراتب العلم بالغيب الذي يخبر به وإنما يحصل له ظنون صادقة أو نحوها وكذا شأن غيره من أرباب الرياضات من الكفرة وغيرهم وتعقب بأن من الصوفية من قال كالشيخ محيي الدين قدس سره بنزول الملك على الولي وإخباره إياه ببعض المغيبات أحيانا ويرشد إلى نزوله عليه قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا [فصلت: 30، الأحقاف: 13] الآية وكون ما يحصل له إذ ذاك ظن أو نحوه لا علم كالعلم الحاصل للرسول بواسطة الملك لا يخلو عن بحث بل قد يحصل له بواسطة الإلهام والنفث في الروع نحو ما يحصل للرسول وأيضا يلزم أن لا يظهر الملك على الغيب إذ الرسول المستثنى رسول البشر على ما هو الظاهر والتزام أنه لا يظهر بالمعنى السابق ويظهر بواسطته مما لا وجه له أصلا وأيضا يلزم أن ما يحصل للنبي غير الرسول بالمعنى الأخص المتبادر هنا ليس بعلم بالمعنى المذكور وهو كما ترى وقيل المراد بالغيب في الموضعين الجنس والإظهار عليه على ما سمعت وكذا عدم ورود الكرامة والبحث فيه كالبحث في سابقه وزيادة وقال صاحب الكشف في الرد على الزمخشري الغيب إن كان مفسرا بما فسره في قوله تعالى يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: 3] فالآية حجة عليه لأنه جوز هنالك أن يعلم بإعلامه تعالى أو بنصبه الدليل. وهذا الثاني أعني القسم العقلي تنفيه الآية وترشد إلى أن تهذيب طرق الأدلة أيضا بواسطة الأنبياء عليهم السلام والعقل غير مستقل وأهل السنة عن آخرهم على أن الغيب بذلك المعنى لا يطلع عليه إلّا رسول أو آخذ منهم وليس فيه نفي الكرامة أصلا وإن أراد الغائب عن الحس في الحال مطلقا فلا بد من التخصيص بالاتفاق فليس فيه ما ينفيها أيضا وإن فسر بالمعدوم كما ذكره في قوله تعالى عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ [الأنعام: 73 وغيرها] فلا بد أيضا من التخصيص وكذلك لو فسر بما غاب عن العباد أو بالسر على أن ظاهر الآية أنه تعالى عالم كل غيب وحده لا يظهر على غيبه المختص به وهو يتعلق بذاته تعالى وصفاته عز وجل بدلالة الإضافة إلا رسولا وهو كذلك فإن غيبه تعالى لا يطلع عليه إلّا بالإعلام من رسول ملكي أو بشري ولا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 109 كل غيبه تعالى الخاص مطلع عليه بل بعضه وأقل القليل منه فدل المفهوم على أن غير هذا النوع الخاص من الغيب لا منع من إطلاع الله تعالى غير الرسول عليه فهذا ظاهر الآية دون تعسف ثم لو سلم فالثاني إما مستغرق وإذا قال سبحانه لا يطلع على جميعه أحدا إلا من ارتضى من رسول لم يدل على أنه لا يجوز اطلاع غير الرسول على البعض وإما مطلق ينزل على الكامل منه فيرجع إلى ما اخترناه وتعاضد دلالتا تشريف الإضافة والإطلاق فلا وجه لتعليقه بهذه الآية ومنه يظهر أن الاستدلال من الآية على إبطال الكهانة والتنجيم غير ناهض وإن كان إبطالهما حقا لأنكره فضلا عن تكفير من قال بدلالته على حياة أو موت لأنه كفر بهذه الآية كما نقله شيخنا الطيبي عن الواحدي والزجاج وصاحب المطلع انتهى. وبحث فيه بأن حمل غيبه على الغيب الخاص بمعنى ما يتعلق بذاته تعالى وصفاته عز وجل مما لا يناسب السياق وبأن ظاهر ما قرره على احتمال الاستغراق يقتضي على تقدير اتصال الاستثناء وإيجاب ضد ما نفى للمستثنى أن يظهر الرسول على جميع غيبه تعالى إلى ما يظهر بالتأمل وذكر العلامة البيضاوي أولا ما يفهم منه على ما قيل حمل غيبه على العموم مع الاختصاص أي عموم الغيب المخصوص به علمه تعالى وحمل فلا يظهر على سلب العموم وحمل الرسول على الرسول البشري واعتبار الاستثناء منقطعا على أن المعنى فَلا يُظْهِرُ على جميع غَيْبِهِ المختص به علمه تعالى أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فيظهره على بعض غيبه حتى يكون اخباره به معجزة فلا يتم الاستدلال بالآية على نفي الكرامة. وفسر الاختصاص بأنه لا يعلمه بالذات ولكنه علما حقيقيا يقينيا بغير سبب كاطلاع الغير إلا هو سبحانه وأما علم غيره سبحانه لبعضه فليس علما للغيب إلّا بحسب الظاهر وبالنسبة لبعض البشر وقيل أراد بالغيب المخصوص به تعالى ما لم ينصب عليه دليل ولا يقدح في الاختصاص علم الغير به بإعلامه تعالى إذ هو إضافي بالنسبة إلى من لم يعلم. وقال ثانيا في الجواب عن الاستدلال ولعله أراد الجواب عند القوم ما نصه وجوابه تخصيص الرسول بالملك والإظهار بما يكون بغير توسط وكرامات الأولياء على المغيبات إنما تكون تلقيا من الملائكة أي بالنفث في الروع ونحوه وحاصله أن الاستدلال إنما يتم أن لو تحقق كون المراد بالرسول رسول البشر والملك جميعا أو رسول البشر فقط وبالإظهار الإظهار بواسطة أولا والكل ممنوع إذ يجوز أن يخص الرسول برسول الملك وأن يراد بالإظهار الإظهار بلا واسطة ويكون المعنى فلا يظهر بلا واسطة على غيبه إلّا رسل الملائكة ولا ينافي ذلك إظهار الأولياء على غيبه لأنه لا يكون إلّا بالواسطة وهو جواب بمنع المقدمتين وإن كان يكفي فيه منع أحدهما كما فعل الإمام والتفتازاني في شرح المقاصد وتعقب بأن رسل البشر قد يطلعون بغير واسطة أيضا وفي قصة المعراج وتكليم موسى عليه السلام ما يكفي في ذلك على أنه قد قيل عليه بعد ما قيل وأغرب ما قيل في هذا المقام كون إِلَّا في قوله تعالى إِلَّا مَنِ ارْتَضى للعطف والمعنى فلا يظهر على غيبه أحد ولا من ارتضى من رسول وحاله لا يخفى ثم إن تفسير قوله تعالى فَإِنَّهُ يَسْلُكُ إلخ بما سمعت هو الذي عليه جمهور المفسرين وكانت الحفظة الذين ينزلون مع جبريل عليه السلام على نبينا صلّى الله عليه وسلم على ما أخرج ابن المنذر وجماعة عن ابن جبير أربعة وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: ما أنزل الله تعالى على نبيه صلّى الله عليه وسلم آية من القرآن إلّا ومعها أربعة من الملائكة يحفظونها حتى يؤدونها إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم ثم قرأ عالِمُ الْغَيْبِ الآية وقد يكون مع الوحي أكثر من ذلك ففي بعض الأخبار أنه نزل مع سورة الأنعام سبعون ألف ملك ملك وجاء في شأن آية الكرسي ما جاء وقال ابن كمال لاحت دقيقة بخاطري الفاتر قلما يوجد مثلها في بطون الدفاتر وهي أن المراد مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ في الآية القوى الظاهرة وَمِنْ خَلْفِهِ القوى الباطنة ولذلك قال سبحانه يَسْلُكُ إلخ أي يدخل حفظة من الملائكة يحفظون قواه الظاهرة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 110 والباطنة من الشياطين ويعصمونه من وساوسهم من تينك الجهتين ولو كان المراد حفظة من الجوانب كي لا يقربه الشياطين عند إنزال الوحي فتلقى غير الوحي أو تسمعه فتلقيه إلى الكهنة فتخبر به قبل إخبار الرسول كما ذهب إليه صاحب التيسير وغيره لما كان نظم الكلام على الوجه المذكور فإن عبارة يَسْلُكُ وتخصيص الجهتين المذكورتين إنما يناسب ما ذكرناه لا ما ذكروه انتهى ولا يخفى أنه نحو من الإشارة ولعل التعبير بيسلك على تفسير الجمهور لتصوير الجهات التي تأتي منها الشياطين بالثغور الضيقة والمسالك الدقيقة وفي ذلك من الحسن ما فيه وذهب كثير إلى أن ضمير لِيَعْلَمَ لله تعالى وضمير أَبْلَغُوا إما للرصد أو لمن ارتضى والجمع باعتبار معنى من كما أن الإفراد في الضميرين قبل باعتبار لفظها والمعنى أنه تعالى يسلكهم ليعلم أن الشأن قد أبلغوا رسالات ربهم علما مستتبعا للجزاء وهو أن يعلمه تعالى موجودا حاصلا بالفعل كما في قوله تعالى حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ [محمد: 31] فالغاية في الحقيقة هو الإبلاغ والجهاد وإيراد علمه تعالى لإبراز اعتنائه تعالى بأمرهما والإشعار بترتب الجزاء عليهما والمبالغة في الحث عليهما والتحذير عن التفريط فيهما وقوله تعالى وَأَحاطَ إلخ إما عطف على لا يظهر أو حال من فاعل يَسْلُكُ جيء به لدفع التوهم وتحقيق استغنائه تعالى في العلم بالإبلاغ عما ذكر من سلك الرصد على الوجه المذكور أو عطف كما زعم بعض على مضمر لأن لِيَعْلَمَ متضمن معنى علم فصار المعنى قد علم ذلك وأحاط إلخ وجوز أن يكون ضمير يعلم للرسول الموحى إليه وضمير أَبْلَغُوا للرصد النازلين إليه بالوحي. وروي عن ابن جبير ما يؤيده أو للرسل سواه وَأَحاطَ إلخ عطف على أَبْلَغُوا أو على لا يُظْهِرُ وعن مجاهد ليعلم من كذب وأشرك أن الرسل قد أبلغوا وفيه من البعد ما فيه وعليه لا يقع هذا العلم على ما في البحر إلّا في الآخرة وقيل ليعلم إبليس أن الرسل قد أبلغوا وقيل ليعلم الجن أن الرسل قد أبلغوا ما أنزل إليهم ولم يكونوا هم المتلقين باستراق السمع وكلا القولين كما ترى ونصب عَدَداً عند جمع على أنه تمييز محول عن المفعول به والأصل أحصى عدد كل شيء إلّا أنه قال أبو حيان في كونه ثابتا من لسان العرب خلاف وأنت تعلم أن التحويل في مثله تقديري وجوز أن يكون حالا أي معدودا محصورا ولا يضر تنكير صاحبها للعموم وأن يكون نصبا على المصدر بمعنى إحصاء فتأمل جميع ذلك والله تعالى الموفق لسلوك أحسن المسالك وقرىء «عالم» بالنصب على المدح «وعلم» فعلا ماضيا «الغيب» بالنصب وقرأ ابن عباس وزيد بن علي «ليعلم» بالبناء للمفعول والزهري وابن أبي عبلة «ليعلم» بضم الياء وكسر اللام من الإعلام أي ليعلم الله تعالى من شاء أن يعلمه أن قد أبلغوا إلخ وقرأ أبو حيوة «رسالة» بالإفراد وقرأ ابن أبي عبلة و «أحيط» و «أحصي» كل بالبناء للمفعول في الفعلين. ورفع «كلّ» على النيابة والفاعل هو الله عز وجل فهو سبحانه المحيط بالأحوال علما والمحصي لكل شيء عددا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 111 سورة المزّمّل مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر وقال ابن عباس وقتادة كما ذكر الماوردي الآيتين منها وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ [المزمل: 10] والتي تليها وحكي في البحر عن الجمهور أنها مكية إلا قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ [المزمل: 20] إلى آخرها وتعقبه الجلال السيوطي بعد أن نقل الاستثناء عن حكاية ابن الفرس بقوله ويرده ما أخرجه الحاكم عن عائشة أن ذلك نزل بعد نزول صدر السورة بسنة وذلك حين فرض قيام الليل في أول الإسلام قبل فرض الصلوات الخمس وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق بذلك وآيها ثماني عشرة آية في المدني الأخير وتسع عشرة في البصري وعشرون فيما عداهما ولما ختم سبحانه سورة الجن بذكر الرسل عليهم الصلاة والسلام افتتح عزّ وجلّ هذه بما يتعلق بخاتمهم عليه وعليهم الصلاة والسلام وهو وجه في المناسبة وفي تناسق الدرر لا يخفى اتصال أولها قُمِ اللَّيْلَ [المزمل: 2] إلخ بقوله تعالى في آخر تلك وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن: 19] وبقوله سبحانه وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ [الجن: 18] الآية. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وقال الأخفش: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ أي المتزمل من تزمل بثيابه إذا تلفف الجزء: 15 ¦ الصفحة: 112 بها فأدغم التاء في الزاي وقد قرأ أبيّ على الأصل وعكرمة «المزمل» بتخفيف الزاي وكسر الميم أي المزمل جسمه أو نفسه وبعض السلف «المزمل» بالتخفيف وفتح الميم اسم مفعول ولا تدافع بين القراءات فإنه عليه الصلاة والسلام هو زمل نفسه الكريمة من غير شبهة لكن إذا نظر إلى أن كل أفعاله من الله تعالى فقد زمله غيره ولا حاجة إلى أن يقال إنه صلّى الله عليه وسلم زمل نفسه أولا ثم نام فزمله غيره أو أنه زمله غيره أولا ثم سقط عنه ما زمل به فزمل هو نفسه، والجمهور على أنه صلّى الله عليه وسلم لما جاءه الملك في غار حراء وحاوره بما حاوره رجع إلى خديجة رضي الله تعالى عنها فقال: «زملوني زملوني» فنزلت يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ وعلى أثرها نزلت يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ وأخرج البزار والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الدلائل عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: لما اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا: سموا هذا الرجل اسما تصدر الناس عنه فقالوا كاهن قالوا ليس بكاهن قالوا مجنون قالوا ليس بمجنون قالوا ساحر قالوا ليس بساحر قالوا يفرق بين الحبيب وحبيبه فتفرق المشركون على ذلك فبلغ ذلك النبي صلّى الله عليه وسلم فتزمل في ثيابه وتدثر فيها فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا أيها المزمل يا أيها المدثر ونداؤه عليه الصلاة والسلام بذلك تأنيس له وملاطفة على عادة العرب في اشتقاق اسم للمخاطب من صفته التي هو عليها كقوله صلّى الله عليه وسلم لعلي كرم الله تعالى وجهه حين غاضب فاطمة رضي الله عنها فأتاه وهو نائم لصق بجنبه التراب «قم أبا تراب» قصدا لرفع الحجاب وطي بساط العتاب وتنشيطا له ليتلقى ما يرد عليه بلا كسل: وكل ما يفعل المحبوب محبوب وزعم الزمخشري أنه عليه الصلاة والسلام نودي بذلك تهجينا للحالة التي عليها من التزمل في قطيفة واستعداده للاستثقال في النوم كما يفعل من لا يهمه أمر ولا يعنيه شأن إلى آخر ما قال مما ينادي عليه كما قال الأكثرون بسوء الأدب ووافقه في بعضه من وافقه وقال صاحب الكشف أراد أنه عليه الصلاة والسلام وصف بما هو ملتبس به يذكره تقاعده فهو من لطيف العتاب الممزوج بمحض الرأفة ولينشطه ويجعله مستعدا لما وعده تعالى بقوله سبحانه إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل: 5] ولا يربأ برسول الله صلّى الله عليه وسلم عن مثل هذا النداء فقد خوطب بما هو أشد في قوله تعالى عَبَسَ وَتَوَلَّى [عبس: 1] ومثل هذا من خطاب الإدلال والترؤف لا يتقاعد ما في ضمنه من البر والتقريب عما في ضمن يا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأنفال: 64] وغيرها. يا أَيُّهَا الرَّسُولُ [المائدة: 41، 67] من التعظيم والترحيب انتهى ولا يخفى أنه لا يندفع به سوء أدب الزمخشري في تعبيره فإنه تعالى وإن كان له أن يخاطب حبيبه بما شاء لكنا نحن لا نجري على ما عامله سبحانه به بل يلزمنا الأدب والتعظيم لجنابه الكريم ولو خاطب بعض الرعايا الوزير بما خاطبه به السلطان طرده الحجاب وربما كان العقاب هو الجواب وقيل كان صلّى الله عليه وسلم متزملا بمرط لعائشة رضي الله تعالى عنها يصلي فنودي بذلك ثناء عليه وتحسينا لحاله التي كان عليها ولا يأباه الأمر بالقيام بعد إما لأنه أمر بالمداومة على ذلك والمواظبة عليه أو تعليم له عليه الصلاة والسلام وبيان لمقدار ما يقوم على ما قيل نعم أورد عليه أن السورة من أوائل ما نزل بمكة ورسول الله صلّى الله عليه وسلم إنما بني على عائشة رضي الله عنها بالمدينة مع أن الأخبار الصحيحة متضافرة بأن النداء المذكور كان وهو عليه الصلاة والسلام في بيت خديجة رضي الله تعالى عنها ويعلم منه حال ما روي عن عائشة أنها سئلت ما كان تزميله صلّى الله عليه وسلم قالت كان مرطا طوله أربع عشرة ذراعا نصفه عليّ وأنا نائمة ونصفه عليه وهو يصلي وكان سداه شعرا ولحمته وبرا وتكلف صاحب الكشف فقال الجواب أنه عليه الصلاة والسلام الجزء: 15 ¦ الصفحة: 113 عقد في مكة فلعل المرط بعد العقد صار إليه صلّى الله عليه وسلم نعم دل أنه بعد وفاة خديجة إنما إشكال في قول عائشة نصفه عليّ إلخ وجوابه أنه يمكن أن يكون قد بات صلّى الله عليه وسلم في بيت الصديق رضي الله تعالى عنه ذات ليلة وكان المرط على عائشة وهي طفلة والباقي لطوله على النبيّ عليه الصلاة والسلام فحكت ذلك أم المؤمنين إذ لا دلالة على أنها حكاية ما بعد البناء فهذا ما يتكلف لصحة هذا القول انتهى وأنت تعلم أن هذا الحديث لم يقع في الكتب الصحيحة كما قاله ابن حجر بل هو مخالف لها ومثل الاحتمالات لا يكتفى بها بل قال أبو حيان إنه كذب صريح وعن قتادة كان صلّى الله عليه وسلم قد تزمل في ثيابه للصلاة واستعد لها فنودي بيا أيها المزمل على معنى يا أيها المستعد للعبادة. وقال عكرمة: المعنى يا أيها المزمل للنبوة وأعبائها والزمل كالحمل لفظا ومعنى ويقال ازدمله أي احتمله وفيه تشبيه إجراء مراسم النبوة بتحمل الحمل الثقيل لما فيهما من المشقة وجوز أن يكون كناية عن المتثاقل لعدم التمرن وأورد عليه نحو ما أورد على وجه الزمخشري ومع صحة المعنى الحقيقي واعتضاده بالأحاديث الصحيحة لا حاجة إلى غيره كما قيل قُمِ اللَّيْلَ أي قم إلى الصلاة وقيل داوم عليها وأيّا ما كان فمعمول قُمِ مقدر واللَّيْلَ منصوب على الظرفية وجوز أن يكون منصوبا على التوسع والإسناد المجازي ونسب هذا إلى الكوفيين وما قيل إلى البصريين، وقيل القيام مستعار للصلاة ومعنى قُمِ صل فلا تقدير وقرأ أبو السمال بضم الميم اتباعا لحركة القاف وقرىء بفتحها طلبا للتخفيف والكسر في قراءة الجمهور على أصل التقاء الساكنين إِلَّا قَلِيلًا استثناء من اللَّيْلَ وقوله تعالى نِصْفَهُ بدل من قَلِيلًا بدل الكل والضمير لليل وفي هذا الإبدال رفع الإبهام وفي الإتيان بقليل ما يدل على أن النصف المغمور بذكر الله تعالى بمنزلة الكل والنصف الفارغ وإن ساواه في الكمية لا يساويه في التحقيق أَوِ انْقُصْ مِنْهُ عطف على الأمر السابق والضمير المجرور لليل أيضا مقيدا بالاستثناء لأنه الذي سيق له الكلام وقيل للنصف لقربه قَلِيلًا أي نقصا قليلا أو مقدارا قليلا بحيث لا ينحط عن نصف النصف أَوْ زِدْ عَلَيْهِ عطف كما سبق وكذا الكلام في الضمير ولا يختلف المعنى على القولين فيه وهو تخييره صلّى الله عليه وسلم بين أن يقوم نصف الليل أو أقل من النصف أو أكثر بيد أنه رجح الأول بأن فيه جعل معيار النقص والزيادة النصف المقارن للقيام وهو أولى من جعله للنصف العاري منه بالكلية وإن تساويا كمية وجهل بعضهم الإبدال من الليل الباقي بعد الثنيا والضميرين له وقال في الإبدال من قليل ليس بسديد لهذا ولأن الحقيقي بالاعتناء الذي ينبىء عنه الإبدال هو الجزء الباقي بعد الثنيا المقارن للقيام لا للجزء المخرج العاري عنه ولا يخفى أنه على طرف التمام وكذا اعترض أبو حيان ذلك الإبدال بقوله: إن ضمير نِصْفَهُ حينئذ إما أن يعود على المبدل منه أو على المستثنى منه وهو اللَّيْلَ لا جائز أن يعود على المبدل منه لأنه يكون استثناء مجهول إذ التقدير إلّا قليلا نصف القليل، وهذا لا يصح له معنى البتة ولا جائز أن يعود على المستثنى منه لأنه يلغو فيه الاستثناء إذ لو قيل قم الليل نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه أفاد معناه على وجه أخصر وأوضح وأبعد عن الإلباس وفيه أنا نختار الثاني وما زعمه من اللغوية قد أشرنا إلى دفعه وأوضحه بعض الأجلة بقوله: إن فيه تنبيها على تخفيف القيام وتسهيله لأن قلة أحد النصفين تلازم قلة الآخر وتنبيها على تفاوت ما شعل بالطاعة وما خلا منها الإشعار بأن البعض المشغول بمنزلة الكل مع ما في ذلك من البيان بعد الإبهام الداعي للتمكن في الذهب وزيادة التشويق وتعقب السمين الشق الأول أيضا بأن قوله استثناء مجهول من مجهول غير صحيح لأن اللَّيْلَ معلوم وكذا بعضه من النصف وما دونه وما فوقه ولا ضير في استثناء المجهول من المعلوم نحو فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا [البقرة: 249] بل لا ضمير في إبدال مجهول من مجهول كجاءني جماعة بعضهم مشاة ومع هذا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 114 المعول عليه ما سلف وجوز أن يكون نِصْفَهُ بدلا من اللَّيْلَ بدل بعض من كل والاستثناء منه والكلام على نية التقديم والتأخير والأصل ثم نصف الليل إلا قليلا وضمير منه وعليه للأقل من النصف المفهوم من مجموع المستثنى منه فكأنه قيل قم أقل من نصف الليل بأن تقوم ثلث الليل أو أنقص من ذلك الأقل قليلا بأن تقوم ربع الليل أو زد على ذلك الأقل بأن تقوم النصف فالتخيير على هذا بين الأقل من النصف والأقل من الأقل وإلّا زيد منه وهو النصف بعينه وماله إلى التخيير بين النصف والثلث والربع، فالفرق بين هذا الوجه وما ذكر قيل مثل الصبح ظاهر وفي الكشاف ما يفهم منه على ما قيل إن التخيير فيما وراء النصف أي فيما يقل عن النصف ويزيد على الثلث فلا يبلغ بالزيادة النصف ولا بالنقصان الثلث. قال في الكشف وإنما جعل الزيادة دون النصف والنقصان فوق الثلث لأنهما لو بلغا إلى الكسر الصحيح لكان الأشبه أن يذكر بصريح اسميهما وأيضا إيثار القلة ثانيا دليل على التقريب من ذلك الأقل وما انتهى إلى كسر صحيح فليس بناقص قليل في ذوق هذا المقام وذا القول في جانب الزيادة كيف وقد بنى الأمر على كونه أقل من النصف انتهى وهو وجه متكلف ونحوه فيما أرى ما سمعت قبيله وظاهر كلام بعضهم أن ذكر الثلث والربع والنصف فيه على سبيل التمثيل لا أن الأقل والأنقص والأزيد محصورات فيما ذكر. وجوز أيضا كون الكلام على نية التقديم والتأخير كما مر آنفا لكن مع جعل الضميرين للنصف لا للأقل منه كما في ذلك والمعنى التخيير بين أمرين بين أن يقوم عليه الصلاة والسلام أقل من نصف الليل على البت وبين أن يختار أحد الأمرين وهما النقصان من النصف والزيادة عليه فكأنه قيل قم أقل من نصف الليل على البت أو أنقص من النصف أو زد عليه تخييرا قيل وللاعتناء بشأن الأقل لأنه الأصل الواجب كرر على نحو أكرم إما زيدا وإما زيدا أو عمرا وتعقب بأن فيه تكلفا لأن تقديم الاستثناء على البدل ظاهر في أن البدل من الحاصل بعد الاستثناء لأن في تقدير تأخير الاستثناء عدولا عن الأصل من غير دليل ولأن الظاهر على هذا رجوع الضميرين إلى النصف بعد الاستثناء لأنه السابق لا النصف المطلق وأيضا الظاهر أن النقصان رخصة لأن الزيادة نفل والاعتناء بشأن العزيمة أولى ثم فيه أنه لا يجوز قيام النصف ويرده القراءة الثابتة في السبعة إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ [المزمل: 20] بالجر فإن استدل من جواز الأقل على جوازه لمفهوم الموافقة لزم أن يلغوا التعرض للزيادة على النصف لذلك أيضا ولا يخفى أن بعض هذا يرد على الوجه المار آنفا واعترض قوله الظاهر أن النقصان رخصة بأنه محل نظر إذ الظاهر أنه من قبيل فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ [القصص: 27] فالتخيير ليس على حقيقته وفيه بحث. وجوز أيضا كون الإبدال من قَلِيلًا الثاني بمعنى نصف النصف وهو الربع وضمير عليه لهذا القليل وجعل المزيد على هذا القليل أعني الربع نصف الربع كأنه قيل قم نصف الليل أو أنقص من النصف قليلا نصفه أو زد على هذا القليل قليلا نصفه ومآله قم نصف الليل أو نصف أو زد على نصف النصف نصف نصف النصف فيكون التخيير فيما إذا كان الليل ست عشرة ساعة مثلا بين قيام ثماني ساعات وأربع وست ولا يخفى أن الإطلاق في أو زد عليه ظاهر الإشعار بأنه غير مقيد بقليلا إذ لو كان للاستغناء لاكتفى في أو انقص إلخ بالأول أيضا ومن هنا قيل يجوز أن تجعل الزيادة لكونها مطلقة تتمة للثلث فيكون التخيير بين النصف والثلث والربع وفيه أن جعلها تتمة الثلث لا دليل عليه سوى موافقة القراءة بالجر في نصفه وثلثه بعد. وجوز الإمام أن يراد بقليلا في قوله تعالى إِلَّا قَلِيلًا الثلث وقال إن نِصْفَهُ على حذف حرف العطف فكأنه قيل ثلثي الليل أو قم نصفه أو أنقص من النصف أو زد عليه وأطال في بيان ذلك والذب عنه ومع ذلك لا يخفى حاله وذكر أيضا وجها ثانيا لا يخفى أمره على من أحاط بما تقدم خبرا نعم تفسيره الجزء: 15 ¦ الصفحة: 115 القليل بالثلث مروي عن الكلبي ومقاتل وعن وهب بن منبه تفسيره بما دون المعشار والسدس وهو على ما قدمنا نصف واستدل به من قال بجواز استثناء النصف وما فوقه على ما فصل في الأصول وقال التبريزي الأمر بالقيام والتخيير في الزيادة والنقصان وقع على الثلثين من آخر الليل لأن الثلث الأول وقت العتمة والاستثناء وارد على المأمور به فكأنه قيل قم ثلثي الليل إلّا قليلا ثم جعل نصفه بدلا من قليلا فصار القليل مفسرا بالنصف من الثلثين وهو قليل على ما تقدم أو أنقص منه أي من المأمور به وهو قيام الثلثين قليلا أي ما دون نصفه أو زد عليه فكان التخيير في الزيادة والنقصان واقعا على الثلثين انتهى. وهو كما ترى وقيل الاستثناء من اعداد الليل لا من أجزائه فإن تعريفه للاستغراق إذ لا عهد فيه والضمير راجع إليه باعتبار الأجزاء على أن هناك استخداما أو شبهه والتخيير بين قيام النصف والناقص عنه والزائد عليه وهو بمكان من البعد وبالجملة قد أكثر المفسرون الكلام في هذه الآية حتى ذكروا ما لا ينبغي تخريج كلام الله تعالى العزيز عليه وأظهر الوجوه عندي وأبعدها عن التكلف وأليقها بجزالة التنزيل هو ما ذكرناه أولا والله تعالى أعلم بما في كتابه الجليل الجزيل وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق بالأمر في قوله سبحانه قُمِ اللَّيْلَ إلخ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ أي في أثناء ما ذكر من القيام أي اقرأه على تؤدة وتمهل وتبيين حروف تَرْتِيلًا بليغا بحيث يتمكن السامع من عدها من قولهم ثغر رتل بسكون التاء ورتل بكسرها إذا كان مفلجا لم تتصل أسنانه بعضها ببعض وأخرج العسكري في المواعظ عن عليّ كرم الله تعالى وجهه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية فقال: «بينه تبيينا ولا تنثره نثر الدقل ولا تهذه هذا الشعر قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة» إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ أي سنوحي إليك وإيثار الإلقاء عليه لقوله تعالى قَوْلًا ثَقِيلًا وهو القرآن العظيم فإنه لما فيه من التكاليف الشاقة ثقيل على المكلفين سيما على الرسول صلّى الله عليه وسلم فإنه عليه الصلاة والسلام مأمور بتحملها وتحميلها للأمة وهذه الجملة المؤكدة معترضة بين الأمر بالقيام وتعليله الآتي لتسهيل ما كلفه عليه الصلاة والسلام من القيام كأنه قيل إنه سيرد عليك في الوحي المنزل تكاليف شاقة هذا بالنسبة إليها سهل فلا تبال بهذه المشقة وتمرن بها لما بعدها وادخل بعضهم في الاعتراض جملة وَرَتِّلِ إلخ وتعقب بأنه لا وجه له وقيل معنى كونه ثَقِيلًا أنه رصين لإحكام مبانيه ومتانة معانيه والمراد أنه راجح على ما عداه لفظا ومعنى لكن تجوز بالثقيل عن الراجح لأن الراجح من شأنه أن يكون كذلك وفي معناه ما قيل المراد كلام له وزن ورجحان ليس بالسفساف وقيل معناه أنه ثقيل على المتأمل فيه لافتقاره إلى مزيد تصفيه للسر وتجريد للنظر، فالثقيل مجاز عن الشاق وقيل ثقيل في الميزان والثقل إما حقيقة أو مجاز عن كثرة ثواب قارئه وقال أبو العلية والقرطبي ثقله على الكفار والمنافقين بإعجازه ووعيده وقيل ثقيل تلقّيه يعني يثقل عليه صلّى الله عليه وسلم والوحي به بواسطة الملك فإنه كان يوحي إليه عليه الصلاة والسلام على أنحاء منها أن لا يتمثل له الملك ويخاطبه بل يعرض له عليه الصلاة والسلام كالغشي لشدة انجذاب روحه الشريفة للملأ إلّا على بحيث يسمع ما يوحي به إليه ويشاهده ويحسه هو عليه الصلاة والسلام دون من معه وفي هذه الحالة كان يحس في بدنه ثقلا حتى كادت فخذه صلّى الله عليه وسلم أن ترض فخذ زيد بن ثابت وقد كانت عليها وهو يوحى إليه وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن جرير وابن نصر والحاكم وصححه عن عائشة أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها فما تستطيع أن تتحرك حتى يسري عنه وتلت إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا وروى الشيخان ومالك والترمذي والنسائي عنها أنها قالت ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون ثَقِيلًا صفة لمصدر حذف فأقيم مقامه وانتصب انتصابه أي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 116 إلقاء ثقيلا وليس صفة قَوْلًا وقيل ذلك عن بقائه على وجه الدهر لأن الثقيل من شأنه أن يبقى في مكانه. وقيل ثقله باعتبار ثقل حروفه حقيقة في اللوح المحفوظ فعن بعضهم أن كل حرف من القرآن في اللوح أعظم من جبل قاف، وأن الملائكة لو اجتمعت على الحرف أن يقلوه ما أطاقوه حتى يأتي إسرافيل عليه السلام وهو ملك اللوح فيرفعه ويقله بإذن الله تعالى لا بقوته ولكن الله عزّ وجلّ طوقه ذلك وهذا مما يحتاج إلى نقل صحيح عن الصادق عليه الصلاة والسلام ولا أظن وجوده. والجملة قيل على معظم هذه الأوجه مستأنفة للتعليل فإن التهجد يعد النفس لأن تعالج ثقله فتأمل. واستدل بالآية على أنه لا ينبغي أن يقال سورة خفيفة لما أن الله تعالى سمى فيها القرآن كله قَوْلًا ثَقِيلًا وهذا من باب الاحتياط كما لا يخفى إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ أي إن النفس التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة أي تنهض من نشأ من مكانه ونشر إذ نهض وأنشد قوله: نشأنا إلى خوص برى فيها السرى ... وأشرف منها مشرفات القماحد وظاهر كلام اللغويين أن نشأ بهذا المعنى لغة عربية وقال الكرماني في شرح البخاري هي لغة حبشية عربوها وأخرج جماعة نحوه عن ابن عباس وابن مسعود وحكاه أبو حيان عن ابن جبير وابن زيد وجعل ناشِئَةَ جمع ناشىء فكأنه أراد النفوس الناشئة أي القائمة ووجه الإفراد ظاهر والإضافة إما بمعنى في أو على نحو سيد غضي وهذا أبلغ أو أن قيام الليل على أن الناشئة مصدر نشأ بمعنى قام كالعاقبة وإسنادها إلى الليل مجاز كما يقال: قام ليله وصام نهاره، وخص مجاهد هذا القيام بالقيام من النوم وكذا عائشة ومنعت أن يراد مطلق القيام وكان ذلك بسبب أن الإضافة إلى الليل في قولهم قيام الليل تفهم القيام من النوم فيه أو القيام وقت النوم لمن قال الليل كله أو أن العبادة التي تنشأ أي تحدث بالليل على أن الإضافة اختصاصية أو بمعنى في أو على نحو مَكْرُ اللَّيْلِ [سبأ: 33] وقال ابن جبير وابن زيد وجماعة ناشِئَةَ اللَّيْلِ ساعاته لأنها تنشأ أي تحدث واحدة بعد واحدة أي متعاقبة والإضافة عليه اختصاصية أو ساعاته الأول من نشأ إذا ابتدأ وقال الكسائي ناشئة أوله وقريب منه ما روي عن ابن عمر وأنس بن مالك وعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم هي ما بين المغرب والعشاء هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً أي هي خاصة دون ناشئة النهار أشد مواطأة يواطىء قلبها لسانها إن أريد بالناشئة النفس المتهجدة أو يواطىء فيها قلب القائم لسانه إن أريد بها القيام أو العبادة أو الساعات والإسناد على الأول حقيقي وعلى هذا مجازي واعتبار الاستعارة المكنية ليس بذاك أو أشد موافقة لما يراد من الإخلاص فلا مجاز على جميع المعاني. وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد والعربيان وطاء بكسر الواو وفتح الطاء ممدودا على أنه مصدر واطأ وطاء كقاتل قتالا وقرأ قتادة وشبل عن أهل مكة بكسر الواو وسكون الطاء والهمز مقصورا وقرأ ابن محصن بفتح الواو ممدودا وَأَقْوَمُ قِيلًا أي وأسوأ مقالا أو أثبت قراءة لحضور القلب وهدو الأصوات وقِيلًا عليهما مصدر لكنه على الأول عام للأذكار والأدعية وعلى الثاني مخصوص بالقراءة ونصبه ونصب وطأ على التمييز وأخرج ابن جرير وغيره عن أنس بن مالك أنه قرأ «وأصوب قليلا» فقال له رجل إنا نقرؤها «وأقوم قليلا» فقال إن أصوب وأقوم وأهيأ وأشباه هذا واحد إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا أي تقلبا وتصرفا في مهماتك واشتغالا بشواغلك فلا تستطيع أن تتفرغ للعبادة فعليك بها في الليل وأصل السبح المر السريع في الماء فاستعير للذهاب مطلقا كما قاله الراغب وأنشدوا قول الشاعر: أباحوا لكم شرق البلاد وغربها ... ففيها لكم يا صاح سبح من السبح وهذا بيان للداعي الخارجي إلى قيام الليل بعد بيان ما في نفسه من الداعي وقيل أي إن لك في النهار الجزء: 15 ¦ الصفحة: 117 فراغا وسعة لنومك وتصرفك في حوائجك وقيل إن فاتك من الليل شيء فلك في النهار فراغ تقدر على تداركه فيه فالسبح لفراغ وهو مستعمل في ذلك لغة أيضا لكن الأول أوفق لمعنى قولهم سبح في الماء وأنسب للمقام ثم إن الكلام على هذا إما تتميم للعلة يهون عليه أن النهار يصلح للاستراحة فليغتنم الليل للعبادة وليشكر إن لم يكلف استيعابهما بالعبادة أو تأكيد للاحتفاظ به بأنه إن فات لا بد من تداركه بالنهار ففيه متسع لذلك وفيه تلويح إلى معنى جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً [الفرقان: 62] وقرأ ابن يعمر وعكرمة وابن أبي عبلة «سبخا» بالخاء المعجمة أي تفرق قلب بالشواغل مستعار من سبخ الصوف وهو نقشه ونشر أجزائه وقال غير واحد خفة من التكاليف قال الأصمعي يقال: سبخ الله تعالى عنك الحمى خففها وفي الحديث «لا تسبخي بدعائك» أي لا تخففي ومنه قوله: فسبخ عليك الهم واعلم بأنه ... إذا قدر الرحمن شيئا فكائن وقيل السبخ المد يقال سبخي قطنك أي مديه، ويقال لقطع القطن سبائخ الواحدة سبخة ومنه قول الأخطل يصف قناصا وكلابا: فأرسلوهن يذرين التراب كما ... يذري سبائخ قطن ندف أوتار وقال صاحب اللوامح إن ابن يعمر وعكرمة فسرا «سبخا» بالمعجمة بعد أن قرآ به فقالا معناه نوما أي ينام بالنهار ليستعين به على قيام الليل وقد يحتمل هذه القراءة غير هذا المعنى لكنهما فسراها فلا نتجاوز عنه اهـ ولعل ذلك تفسير باللازم وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ أي ودم على ذكره تعالى ليلا ونهارا على أي وجه كان من تسبيح وتهليل وتحميد وصلاة وقراءة قرآن وغير ذلك وفسر الأمر بالدوام لأنه عليه الصلاة والسلام لم ينسه تعالى حتى يؤمر بذكره سبحانه والمراد الدوام العرفي لا الحقيقي لعدم إمكانه ولأن مقتضى السياق أن هذا تعميم بعد التخصيص كان المعنى على ما سمعت من اعتبار ليلا ونهارا وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ أي وانقطع إليه تعالى بالعبادة وجرد نفسك عما سواه عزّ وجلّ واستغرق في مراقبته سبحانه وكان هذا أمر بما يتعلق بالباطن بعد الأمر بما يتعلق بالظاهر ولتأكيد ذلك قال سبحانه تَبْتِيلًا ونصبه بتبتل لتضمنه معنى بتل على ما قيل وقد تقدم الكلام في تحقيق ذلك عند قوله تعالى وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17] فتذكر فما في العهد من قدم وكيفما كان الأمر ففيه مراعاة الفواصل رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ مرفوع على المدح وقيل على الابتداء خبره لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وقرأ زيد بن عليّ رضي الله تعالى عنهما «ربّ» بالنصب على الاختصاص والمدح وهو يؤيد الأول وقرأ الإخوان وابن عامر وأبو بكر ويعقوب «ربّ» بالجر على أنه بدل من رَبِّكَ وقيل على إضمار حرف القسم وجوابه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وفيه حذف حرف القسم من غير ما يسد مسده وإبقاء عمله وهو ضعيف جدا كما بين في العربية وقد نقل هذا عن ابن عباس وتعقبه أبو حيان بقوله لعله لا يصح عنه إذ فيه إضمار الجار في القسم ولا يجوز عند البصريين إلّا في لفظة الجلالة الكريمة نحو الله لأفعلن كذا ولا قياس عليه ولأن الجملة المنفية في جواب القسم إذا كانت اسمية تنفى بما لا غير ولا تنفى بلا إلا الجملة المصدرة بمضارع كثيرا وبماض في معناه قليلا انتهى وظاهر كلام ابن مالك في التسهيل إطلاق وقوع الجملة المنفية جوابا للقسم وقال في شرح الكافية إن الجملة الاسمية تقع جوابا للقسم مصدرة بلا النافية لكن يجب تكرارها إذا تقدم خبرها أو كان المبتدأ معرفة نحو والله لا في الدار رجل ولا امرأة وو الله لا زيد في الدار ولا عمرو ومنه يعلم أن المسألة خلافية بين هذين الإمامين وقرأ ابن عباس وعبد الله وأصحابه «رب المشارق الجزء: 15 ¦ الصفحة: 118 والمغارب» وبجمعهما وقد تقدم الكلام في وجه الإفراد والجمع. والفاء في قوله تعالى فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا لترتيب الأمر وموجبه على اختصاص الألوهية والربوبية به عزّ وجلّ وجل ووكيل فعيل بمعنى مفعول أي موكول إليه والمراد من اتخاذه سبحانه وكيلا أن يعتمد عليه سبحانه ويفوض كل أمر إليه عزّ وجلّ وذكر أن مقام التوكل فوق مقام التبتل لما فيه من رفع الاختيار وفيه دلالة على غاية الحب له تعالى وأنشدوا: هواي له فرض تعطف أم جفا ... ومنهله عذب تكدر أم صفا وكلت إلى المعشوق أمري كله ... فإن شاء أحياني وإن شاء أتلفا ومن كلام بعض السادة: من رضي بالله تعالى وكيلا وجد إلى كل خير سبيلا وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ مما يؤلمك من الخرافات كقولهم يفرق بين الحبيب وحبيبه على ما سمعت في بعض روايات أسباب النزول وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا بأن تجانبهم وتداريهم ولا تكافئهم وتكل أمورهم إلى ربهم كما يعرب عنه قوله تعالى وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أي خل بيني وبينهم وكل أمرهم إليّ فإن في ما يفرغ بالك ويجلي همك ومر في أن تمام الكلام في ذلك وجوز في المكذبين هنا أن يكونوا هم القائلين ففيه وضع الظاهر موضع المضمر وسما لهم بميسم الذم مع الإشارة إلى علة الوعيد وجوز أن يكونوا بعض القائلين فهو على معنى ذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ منهم والآية قيل نزلت في صناديد قريش المستهزئين وقيل في المطعمين يوم بدر أُولِي النَّعْمَةِ أرباب التنعم وغضارة العيش وكثرة المال والولد فالنعمة بالفتح التنعم وأما بالكسر فهي الإنعام وما ينعم به وأما بالضم فهي المسرة وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا أي زمانا قليلا وهو مدة الحياة الدنيا وقيل المدة الباقية إلى يوم بدر وأيّا ما كان فقليلا نصب على الظرفية وجوز أن يكون نصبا على المصدرية أي إمهالا قليلا والتفعيل لتكثير المفعول إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا جمع نكل بكسر النون وفتحها وهو القيد الثقيل وقيل الشديد وقال الكلبي الأنكال الأغلال الأول أعرف في اللغة وعن الشعبي لم تجعل الأنكال في أرجلهم خوفا من هربهم ولكن إذا أرادوا أن يرتفعوا استفلت بهم والجملة تعليل لقوله تعالى ذَرْنِي وما عطف عليه فكأنه قيل كل أمرهم إلي ومهلهم قليلا لأن عندي ما أنتقم به منهم أشد الانتقام أنكالا وَجَحِيماً نارا شديدة الإيقاد وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ ينشب في الحلوق ولا يكاد يساغ كالضريع والزقوم. وعن ابن عباس شوك من نار يعترض في حلوقهم لا يخرج ولا ينزل وَعَذاباً أَلِيماً يَوْمَ ونوعا آخر من العذاب مؤلما لا يقادر قدره ولا يعرف كنهه إلّا الله عزّ وجلّ كما يشعر بذلك المقابلة والتنكير وما أعظم هذه الآية فقد أخرج الإمام أحمد في الزهد وابن أبي داود في الشريعة وابن عدي في الكامل والبيهقي في الشعب من طريق حمران بن أعين عن أبي حرب بن الأسود أن النبي صلّى الله عليه وسلم سمع رجلا يقرأ إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا إلخ فصعق وفي رواية أنه عليه الصلاة والسلام نفسه قرأ إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا فلما بلغ أَلِيماً صعق وقال خالد بن حسان: أمسى عندنا الحسن وهو صائم فأتيته بطعام فعرضت له هذه الآية إِنَّ لَدَيْنا إلخ فقال أرفعه فلما كانت الليلة الثانية أتيته بطعام فعرضت له أيضا فقال ارفعه وكذلك الليلة الثالثة فانطلق ابنه إلى ثابت البناني ويزيد الضبي ويحيى البكاء فحدثهم بحديثه فجاؤوا معه فلم يزالوا به حتى شرب شربة من سويق. وفي الحديث السابق إذا صح ما يقيم العذر للصوفية ونحوهم الذين يصعقون عند سماع بعض الآيات ويقعد إنكار عائشة رضي الله عنها ومن وافقها عليهم اللهم إلّا أن يقال إن الإنكار ليس إلّا على من يصدر منه ذلك اختيارا وهو أهل لأن ينكر عليه كما لا يخفى أو يقال صعق من الصعق بسكون العين وقد يحرك غشي عليه لا من الصعق بالتحريك شدة الصوت وذلك مما لم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 119 تنكره عائشة رضي الله تعالى عنها ولا غيرها وللإمام في الآية كلام على نحو كلام الصوفية قال اعلم أنه يمكن حمل هذه المراتب الأربعة على العقوبة الروحانية اما الأنكال فهي عبارة عن بقاء النفس في قيد التعلقات الجسمانية واللذات البدنية فإنها في الدنيا لما اكتسبت ملكة تلك المحبة والرغبة فبعد البدن يشتد الحنين مع أن آلات الكسب قد بطلت فصارت تلك كالأنكال والقيود المانعة له من التخلص إلى عالم الروح والصفاء ثم يتولد من تلك القيود الروحانية نيران روحانية فإن شدة ميلها إلى الأحوال البدنية وعدم تمكنها من الوصول إليها توجب حرقة شديدة روحانية كمن تشتد رغبته في وجدان شيء ثم إنه لا يجده فإنه يحترق قلبه عليه فذاك هو الجحيم ثم إنه يتجرع غصة الحرمان وألم الفراق فذاك هو المراد من قوله سبحانه وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ ثم إنه بسبب هذه الأحوال بقي محروما عن تجلي نور الله تعالى والانخراط في سلك القدسيين وذلك هو المراد بقوله عزّ وجلّ وَعَذاباً أَلِيماً وتنكير عَذاباً يدل على أنه أشد مما تقدم وأكمل وأعلم أني لا أقول المراد بالآية ما ذكرته فقط بل أقول إنها تفيد حصول المراتب الأربعة الجسمانية وحصول المراتب الأربعة الروحانية ولا يمتنع الحمل عليهما وإن كان اللفظ بالنسبة إلى المراتب الجسمانية حقيقة وبالنسبة إلى المراتب الروحانية مجازا لكنه مجاز متعارف مشهور انتهى وتعقب بأنه بالحمل عليهما يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز أو عموم المجاز من غير قرينة وليس في الكلام ما يدل عليه بوجه من الوجوه وأنت تعلم أن أكثر باب الإشارة عند الصوفية من هذا القبيل وقوله تعالى تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ قيل متعلق بذرني وقيل صفة عَذاباً وقيل متعلق بأليما واختار جمع أنه متعلق بالاستقرار الذي تعلق به لَدَيْنا أي استقر ذلك العذاب لدينا وظهر يوم تضطرب الأرض والجبال وتتزلزل وقرأ زيد بن علي «ترجف» مبنيا للمفعول وَكانَتِ الْجِبالُ مع صلابتها وارتفاعها كَثِيباً رملا مجتمعا من كثب الشيء إذا جمعه فكأنه في الأصل فعيل بمعنى مفعول ثم غلب حتى صار له حكم الجوامد والكلام على التشبيه البليغ وقيل لا مانع من أن تكون رملا حقيقة مَهِيلًا قيل أي رخوا لينا إذا وطئته القدم زل من تحتها وقيل منثورا من هيل هيلا إذا نثر وأسيل وكونه كثيبا باعتبار ما كان عليه قبل النثر فلا تنافي بين كونه مجتمعا ومنثورا وليس المراد أنه في قوة ذلك وصدده كما قيل إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ خطاب للمكذبين أولي النعمة سواء جعلوا القائلين أو بعضهم ففيه التفات من الغيبة وهو التفات جليل الموقع أي إنا أرسلنا إليكم أيها المكذبون من أهل مكة رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ يشهد يوم القيامة بما صدر منكم من الكفر والعصيان كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا هو موسى عليه السلام وعدم تعيينه لعدم دخله في التشبيه أو لأنه معلوم غني عن البيان فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ المذكور الذي أرسلناه إليه فالتعريف للعهد الذكري والكاف في محل النصب على أنها صفة لمصدر محذوف على تقدير اسميتها أي إرسالا مثل إرسالنا أو الجار والمجرور في موضع الصفة على تقدير حرفيتها أي إرسالا كائنا كما والمعنى أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم فعصيتموه كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصاه وفي إعادة فرعون والرسول مظهرين تفظيع لشأن عصيانه وإن ذلك لكونه عصيان الرسول لا لكونه عصيان موسى وفيه إن عصيان المخاطبين أفظع وأدخل في الدم إذ زاد جل وعلا لهذا الرسول وصفا آخر أعني شاهِداً عَلَيْكُمْ وأدمج فيه أنه لو آمنوا كانت الشهادة لهم وقوله تعالى فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا أي ثقيلا رديء العقبى من قولهم كلأ وبيل وحم لا يستمرأ لثقله والوبيل أيضا العصا الضخمة ومنه الوابل للمطل العظيم قطره خارج عن التشبيه جيء به لإيذان المخاطبين بأنهم مأخوذون بمثل ذلك وأشد وأشد وقوله تعالى فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً مراتب على الإرسال فالعصيان ويَوْماً مفعول به لتتقون ما بتقدير مضاف الجزء: 15 ¦ الصفحة: 120 أي عذاب أو هول يوم أو بدونه إلّا أن المعنى عليه وضمير يَجْعَلُ لليوم والجملة صفته والإسناد مجازي وقال بعض الضمير لله تعالى والإسناد حقيقي والجملة صفة محذوفة الرابط أي يجعل فيه كما في قوله تعالى وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ [البقرة: 48] وكان ظاهر الترتيب أن يقدم على قوله تعالى كَما أَرْسَلْنا إلا انه أخر إلى هنا زيادة على زيادة في التهويل فكأنه قيل هبوا أنكم لا تؤخذون في الدنيا أخذة فرعون وأضرابه فكيف تقون أنفسكم هول القيامة وما أعد لكم من الأنكال إن دمتم على ما أنتم عليه ومتم في الكفر وفي قوله سبحانه إِنْ كَفَرْتُمْ وتقديره تقدير مشكوك في وجوده ما ينبه على أنه لا ينبغي أن يبقى مع إرسال هذا الرسول لأحد شبهة تبقيه في الكفر فهو النور المبين وجوز أن يكون يوما ظرفا لتتقون على معنى فكيف لكم بالتقوى في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا والكلام حينئذ للحث على الإقلاع من الكفر والتحذير عن مثل عاقبة آل فرعون قبل أن لا ينفع الندم وجوز أيضا أن ينتصب بكفرتم على تأويل جحدتم والمعنى فكيف يرجى إقلاعكم عن الكفر واتقاء الله تعالى وخشيته وأنتم جاحدون يوم الجزاء كأنه لما قيل يوم ترجف عقب بقوله تعالى فَكَيْفَ تَتَّقُونَ الله إِنْ كَفَرْتُمْ به فأعيد ذكر اليوم بصفة أخرى زيادة في التهويل والوجه الأول أولى قاله في الكشف وقال العلامة الطيبي في الوجه الأخير أعني انتصاب يَوْماً بكفرتم أنه أوفق للتأليف يعني خوفناكم بالإنكال والجحيم وأرسلنا إليكم رسولا شاهدا يوم القيامة بكفركم وتكذيبكم وأنذرناكم بما فعلنا بفرعون من العذاب الوبيل والأخذ الثقيل فما نجع فيكم ذلك كله ولا اتقيتم الله تعالى فكيف تتقونه وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة والجزاء وفيه أن ملاك التقوى والخشية الإيمان بيوم القيامة انتهى. ولا يخفى أن جزالة المعنى ترجح الأول وذهب جمع إلى أن الخطاب في إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ عام للأسود والأحمر فالظاهر أنه ليس من الالتفات في شيء وأيّا ما كان فجعل الولدان شيبا أي شيوخا جمع أشيب قيل حقيقة فتشيب الصبيان وتبيض شعورهم من شدة يوم القيامة وذلك على ما أخرج ابن المنذر عن ابن مسعود حين يقول الله تعالى لآدم عليه السلام قم فأخرج من ذريتك بعث النار فيقول يا رب لا علم لي إلّا ما علمتني فيقول الله عزّ وجلّ أخرج بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين فيخرجون ويساقون إلى النار سوقا مقرنين زرقا كالحين قال ابن مسعود فإذا خرج بعث النار شاب كل وليد وفي حديث الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس نحن ذلك وقيل مثل في شدة الهول من غير أن يكون هناك شيب بالفعل فإنهم يقولون في اليوم الشديد يوم يشيب نواصي الأطفال والأصل في ذلك أن الهموم إذا تفاقمت على المرء أضعفت قواه وأسرعت فيه الشيب ومن هنا قيل الشيب نوار الهموم وحديث البعث لا يأبى هذا وجوز الزمخشري أن يكون ذلك وصفا لليوم بالطول وأن الأطفال يبلغون فيه أو أن الشيخوخة والشيب وليس المراد به التقدير الحقيقي بل وصف بالطول فقط على ما تعارفوه وإلّا فهو أطول من ذاك وأطول فلا اعتراض لكنه مع هذا ليس بذلك والظاهر عموم الولدان وقال السدي هم هنا أولاد الزنا وقيل هم أولاد المشركين وقرأ زيد بن علي «يوم» بغير تنوين «نجعل» بالنون فالظرف مضاف إلى جملة نجعل إلخ السَّماءُ مُنْفَطِرٌ أي منشق وقرىء «متفرط» أي متشقق بِهِ أي بذلك اليوم والباء للآلة مثلها في قولك فطرت العود بالقدوم فانفطر به يعني أن السماء على عظمها وإحكامها تنفطر بشدة ذلك اليوم وهوله كما ينفطر الشيء بما يفطر به فما ظنك بغيرها من الخلائق وجوز أن يراد السماء مثقلة به الآن أثقالا يؤدي إلى انفطارها لعظمه عليها وخشيتها من وقوعه كقوله تعالى ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ [الأعراف: 187] فالكلام من باب التخييل والانفطار كناية عن المبالغة في ثقل ذلك اليوم والمراد إفادة أنه الآن على هذا الوصف والأول أظهر وأوفق لأكثر الآيات وكان الظاهر السماء منفطرة بتأنيث الخبر لأن المشهور أن السماء الجزء: 15 ¦ الصفحة: 121 مؤنثة لكن اعتبر إجراء ذلك على موصوف مذكر فذكر أي شيء منفطر به والنكتة فيه التنبيه على أنه تبدلت حقيقتها وزال عنها اسمها ورسمها ولم يبق منها إلّا ما يعبر عنه بالشيء. وقال أبو عمرو بن العلاء وأبو عبيدة والكسائي وتبعهم منذر بن سعيد التذكير لتأويل السماء بالسقف وكان النكتة فيه تذكير معنى السقفية والإضلال ليكون أمر الانفطار أدهش وأهول وقال أبو عليّ الفارسي التقدير ذات انفطار كقولهم امرأة مرضع أي ذات رضاع فجرى على طريق النسب وحكي عنه أيضا أن هذا من باب الجراد المنتشر والشجر الأخضر وأعجاز نخل منقعر يعني أن السماء من باب اسم الجنس الذي بينه وبين مفرده تاء التأنيث وأن مفرده سماءة واسم الجنس يجوز فيه التذكير والتأنيث فجاء منفطر على التذكير وقال الفراء السماء يعني المظلة تذكر وتؤنث فجاء مُنْفَطِرٌ على التذكير ومنه قوله الشاعر: فلو رفع السماء إليه قوما ... لحقنا بالسماء وبالسحاب وعليه لا حاجة إلى التأويل وإنما تطلب نكتة اعتبار التذكير مع أن الأكثر في الاستعمال اعتبار التأنيث ولعلها ظاهرة لمن له أدنى فهم وحمل الباء في بِهِ على الآلة هو الأوفق لتهويل أمر ذلك اليوم وجوز حملها على الظرفية أي السماء منفطر فيه وعود الضمير المجرور على اليوم هو الظاهر الذي عليه الجمهور وقال مجاهد يعود على الله تعالى أي بأمره سبحانه وسلطانه عزّ وجلّ فهو عنده كالضمير في قوله تعالى كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا فإنه له تعالى لعلمه من السباق والمصدر مضاف إلى فاعله ويجوز أن يكون لليوم كضمير به عند الجمهور والمصدر مضاف إلى مفعوله إِنَّ هذِهِ إشارة إلى الآيات المنطوية على القوارع المذكورة تَذْكِرَةٌ أي موعظة فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا بالتقرب إليه تعالى بالإيمان والطاعة فإنه المنهاج الموصل إلى مرضاته عزّ وجلّ ومفعول شاءَ محذوف والمعروف في مثله أن يقدر من جنس الجواب أي فمن شاء اتخاذ سبيل إلى ربه تعالى اتخذ إلخ وبعض قدره الاتعاظ لمناسبة ما قبل أي فمن شاء الاتعاظ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا والمراد من نوى أن يحصل له الاتعاظ تقرب إليه تعالى لكن ذكر السبب وأريد مسببه فهو الجزاء في الحقيقة واختار في البحر ما هو المعروف وقال إن الكلام على معنى الوعد والوعيد. إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ أي زمانا أقل منهما استعمل فيه الأدنى وهو اسم تفضيل من دنا إذا قرب لما أن المسافة بين الشيئين إذا دنت قل ما بينهما من الأحياز فهو فيه مجاز مرسل لأن القرب يقتضي قلة الاحياز بين الشيئين فاستعمل في لازمه أو في مطلق القلة وجوز اعتبار التشبيه بين القرب والقلة ليكون هناك استعارة والإرسال أقرب وقرأ الحسن وشيبة وأبو حيوه وابن السميفع وهشام وابن مجاهد عن قنبل فيما ذكر صاحب الكامل «ثلثي» بإسكان اللام وجاء ذلك عن نافع وابن عامر فيما ذكر صاحب اللوامح وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ بالنصب عطفا على أَدْنى كأنه قيل يعلم أنك تقوم من الليل أقل من ثلثيه وتقوم نصفه وتقوم ثلثه وقرأ العربيان ونافع ونصفه وثلثه بالجر عطفا على ثُلُثَيِ اللَّيْلِ أي تقوم أقل من الثلثين وأقل من الجزء: 15 ¦ الصفحة: 122 النصف وأقل من الثلث والأول مطابق لكون التخيير فيما مر بين قيام النصف بتمامه وبين قيام الناقص منه وهو الثلث وبين قيام الزائد عليه وهو الأدنى من الثلثين والثاني مطابق لكون التخيير بين النصف وهو أدنى من الثلثين وبين الثلث وهو أدنى من النصف وبين الربع وهو أدنى من الثلث كذا قال غير واحد فلا تغفل واستشكل الأمر بأن التفاوت بين القراءتين ظاهر فكيف وجه صحة علم الله تعالى لمدلولها وهما لا يجتمعان وأجيب بأن ذلك بحسب الأوقات فوقع كل في وقت فكانا معلومين له تعالى واستشكل أيضا هذا المقام على تقدير كون الأمر واردا بالأكثر بأنه يلزم إما مخالفة النبيّ صلّى الله عليه وسلم لما أمر به أو اجتهاده والخطأ في موافقة الأمر وكلاهما غير صحيح أنا الأول فظاهر لا سيما على كون الأمر للوجوب وأما الثاني فلأن من جوز اجتهاده عليه الصلاة والسلام والخطأ فيه يقول إنه لا يقر عليه الصلاة والسلام على الخطأ وأجيب بالتزام أن الأمر وارد بالأقل لكنهم زادوا حذرا من الوقوع في المخالفة وكان يشق عليهم وعلم الله سبحانه أنهم لو لم يأخذوا بالأشق وقعوا في المخالفة فنسخ سبحانه الأمر كذا قيل فتأمل فالمقام بعد محتاج إليه وقرأ ابن كثير في رواية شبل «وثلثه» بإسكان اللام وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ عطف على الضمير المستتر في تَقُومُ وحسنه الفصل بينهما أي وتقوم معك طائفة من أصحابك وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يعلم مقادير ساعاتهما كما هي إلّا الله تعالى فإن تقديم اسمه تعالى مبتدأ مبينا عليه يقدر دال على الاختصاص على ما ذهب إليه جار الله ويؤيده قوله تعالى عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فإن الضمير لمصدر يقدر لا للقيام المفهوم من الكلام والمعنى علم أن الشأن لن تقدروا على تقدير الأوقات ولن تستطيعوا ضبط الساعات ولا يتأتى لكم حسابها بالتعديل والتسوية إلّا أن تأخذوا بالأوسع للاحتياط وذلك شاق عليكم بالغ منكم فَتابَ عَلَيْكُمْ أي بالترخيص في ترك القيام المقدر ورفع التبعة عنكم في تركه فالكلام على الاستعارة حيث شبه الترخيص بقبول التوبة في رفع التبعة واستعمل اللفظ الشائع في المشبه به في المشبه كما في قوله تعالى فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ [البقرة: 187] وزعم بعضهم أنه على ما يتبادر منه فقال فيه دليل على أنه كان فيهم من ترك بعض ما أمر به وليس بشيء فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ أي فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل عبر عن الصلاة بالقراءة كما عبر عنها بسائر أركانها. وقيل الكلام على حقيقته من طلب قراءة القرآن بعينها وفيه بعد عن مقتضى السياق ومن ذهب أي الأول قال إن الله تعالى افترض قيام مقدار معين من الليل في قوله سبحانه قُمِ اللَّيْلَ إلخ ثم نسخ بقيام مقدار ما منه في قوله سبحانه فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا الآية فالأمر في الموضعين للوجوب إلّا أن الواجب أولا كان معينا من معينات وثانيا كان بعضا مطلقا ثم نسخ وجوب القيام على الأمة مطلقا بالصلوات الخمس ومن ذهب إلى الثاني قال: إن الله تعالى رخص لهم في ترك جميع القيام وأمر بقراءة شيء من القرآن ليلا فكأنه قيل فتاب عليكم ورخص في الترك فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ إن شق عليكم القيام فإن هذا لا يشق وتنالون بهذه القراءة ثواب القيام وصرح جمع أن فَاقْرَؤُا على هذا أمر ندب بخلافه على الأول هذا واعلم أنهم اختلفوا في أمر التهجد فعن مقاتل وابن كيسان أنه كان فرضا بمكة قبل أن تفرض الصلوات الخمس ثم نسخ بهن إلّا ما تطوعوا به ورواه البخاري ومسلم في حديث جابر، وروى الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والدارمي وابن ماجة والنسائي عن سعد بن هشام قال قلت لعائشة: يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى قالت: فإن خلق نبي الله تعالى القرآن قال: فهممت أن أقوم ولا أسأل أحدا عن شيء حتى أموت ثم بدا لي فقلت أنبئيني عن قيام رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالت: ألست تقرأ يا أيها المزمل؟ قلت: بلى، قالت: فإن الله تعالى افترض قيام الليل في أول هذه السورة فقام نبي الله وأصحابه حولا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 123 وأمسك الله تعالى خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء حتى أنزل الله تعالى في آخر السورة التخفيف وصار قيام الليل تطوعا . وفي رواية عنها أنه دام ذلك ثمانية أشهر وعن قتادة دام عاما أو عامين وعن بعضهم أنه كان واجبا وإنما وقع التخيير في المقدار ثم نسخ بعد عشر سنين وكان الرجل كما قال الكلبي يقوم حتى يصبح مخافة أن لا يحفظ ما بين النصف والثلث والثلثين وقيل كان نفلا بدليل التخيير في المقدار وقوله تعالى وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ [الإسراء: 79] حكاه غير واحد وبحثوا فيه لكن قال الإمام صاحب الكشف لم يرد هذا القائل إن التخيير ينافي الوجوب بل استدل بالاستقراء وإن الفرائض لها أوقات محدودة متسعة كانت أو ضيقة لم يفوض التحديد إلى رأي الفاعل وهو دليل حسن. وأما القائل بالفرضية فقد نظر إلى اللفظ دون الدليل الخارجي ولكل وجه وأما قوله ولقوله تعالى وَمِنَ اللَّيْلِ إلخ فالاستدلال بأنه فسر نافِلَةً لَكَ أن معناه زائدة على الفرائض لك خاصة دون غيرك لأنها تطوع لهم وهذا القائل لا يمنع الوجوب في حقه عليه الصلاة والسلام وإنما يمنعه في حق غيره صلّى الله عليه وسلم والآية تدل عليه فلا نظر فيه ثم إنه لما ذكر سبحانه في تلك السورة وَمِنَ اللَّيْلِ أي خص بعض الليل دون توقيت وهاهنا وقت جل وعلا ودل على مشاركة الأمة له عليه الصلاة والسلام قوله تعالى وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ نزل ما ثم على الوجوب عليه صلّى الله عليه وسلم خاصة وهاهنا على التنفل في حقه وحق الأمة وهذا قول سديد إلّا أن قوله تعالى عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ يؤيد الأول انتهى وعنى بالأول القول بالفرضية عليه عليه الصلاة والسلام وعلى الأمة وظواهر الآثار الكثيرة تشهد له لكن في البحر أن قوله تعالى وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ دليل على أنه لم يكن فرضا على الجميع إذ لو كان فرضا عليهم لكان التركيب (والَّذِينَ مَعَكَ) إلّا أن أعتقد أنه كان منهم من يقوم في بيته ومنهم من يقوم معه فيمكن إذ ذاك الفرضية في حق الجميع انتهى وأنت تعلم أنه لا يتعين كون مِنْ تبعيضية بل تحتمل أن تكون بيانية ومن يقول بالفرضية على الكل صدر الإسلام بحملها على ذلك دون البعضية باعتبار المعية فإنها ليست بذاك والله تعالى أعلم. وأفادت الآية على القول الأخير في قوله سبحانه فَاقْرَؤُا إلخ ندب قراءة شيء من القرآن ليلا وفي بعض الآثار من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن وفي بعضها من قرأ مائة آية كتب من القانتين وفي بعض خمسين آية والمعول عليه من القولين فيه القول الأول وقد سمعت أن الأمر عليه للإيجاب وأنه كان يجب قيام شيء من الليل ثم نسخ وجوبه عن الأمة بوجوب الصلوات الخمس فهو اليوم في حق الأمة سنة وفي البحر بعد تفسير فَاقْرَؤُا يصلوا وحكاية ما قيل من النسخ وهذا الأمر عند الجمهور أمر إباحة وقال الحسن وابن سيرين قيام الليل فرض ولو قدر حلب شاة وقال ابن جبير وجماعة هو فرض لا بد منه ولو بمقدار خمسين آية انتهى. وظاهر سياقه أن هؤلاء قائلون بوجوبه اليوم وأنه لم ينسخ الوجوب مطلقا وإنما نسخ وجوب معين وهذا خلاف المعروف فعن ابن عباس سقط قيام الليل عن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصار تطوعا وبقي ذلك فرضا على رسول الله عليه الصلاة والسلام وأظن الأمر غنيا عن الاستدلال فلنطو بساط القيل والقال نعم كان السلف الصالح يثابرون على القيام مثابرتهم على فرائض الإسلام لما في ذلك من الخلوة بالحبيب والأنس به وهو القريب من غير رقيب نسأل الله تعالى أن يوفقنا كما وفقهم ويمن علينا كما منّ عليهم بقي هنا بحث وهو أن الإمام أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه استدل بقوله تعالى فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ على أن الفرض في الصلاة مطلق القراءة لا الفاتحة بخصوصها وهو ظاهر على القول بأنه عبر فيه عن الصلاة بركنها وهو القراءة كما عبر عنها بالسجود والقيام والركوع في مواضع وقدر ما تيسر بآية على ما حكاه عنه الماوردي وبثلث على ما حكاه عنه ابن العربي والمسألة مقررة في الفروع وخص الشافعي ومالك ما تيسر الجزء: 15 ¦ الصفحة: 124 بالفاتحة واحتجوا على وجوب قراءتها في الصلاة بحجج كثيرة منها ما نقل أبو حامد الأسفرايني عن ابن المنذر بإسناده عن أبي هريرة عنه عليه الصلاة والسلام «لا تجزي صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب» ومنها ما روي أيضا عن أبي هريرة عنه صلّى الله عليه وسلم: «كل صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج فهي خداج» أي نقصان للمبالغة أو ذو نقصان واعترض بأن النقصان لا يدل على عدم الجواز وأجيب بأنه يدل لأن التكليف بالصلاة قائم والأصل في الثابت البقاء خالفناه عند الإتيان بها على صفة الكمال فعند النقصان وجب أن يبقى على الأصل ولا يخرج عن العهدة وأكد بقول أبي حنيفة بعدم جواز صوم يوم العيد قضاء عن رمضان مع صحة الصوم فيه عنده مستدلا عليه بأن الواجب عليه الصوم الكامل والصوم في هذا اليوم ناقص فلا يفيد الخروج عن العهدة ومنها قوله صلّى الله عليه وسلم: «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» وهو ظاهر في المقصود إذ التقدير لا صلاة صحيحة إلّا بها واعترض بجواز أن يكون التقدير لا صلاة كاملة فإنه لما امتنع نفي مسمى الصلاة لثبوته دون الفاتحة لم يكن بد من صرفه إلى حكم من أحكامها وليس الصرف إلى الصحة أولى من الصرف إلى الكمال وأجيب بأنّا لا نسلم امتناع دخول النفي على مسماها لأن الفاتحة إذا كانت جزءا من ماهية الصلاة تنفي الماهية عند عدم قراءتها فيصح دخوله على مسماها وإنما يمتنع لو ثبت أنها ليست جزءا منها وهو أول المسألة سلمناه لكن لا نسلم أن صرفه إلى الصحة ليس أولى من صرفه إلى الكمال بل هو أولى لأن الحمل على المجاز الأقرب عند تعذر الحمل على الحقيقة أولى بل واجب بالإجماع ولا شك أن الموجود الذي لا يكون صحيحا أقرب إلى المعدوم من الموجود الذي يكون كاملا ولأن الأصل بقاء ما كان وهو التكليف على ما كان ولأن جانب الحرمة أرجح لأنه أحوط ومنها أن الصلاة بدون الفاتحة توجب فوات الفضيلة الزائدة من غير ضرورة للإجماع على أن الصلاة معها أفضل فلا يجوز المصير إليه لأنه قبيح عرفا فيكون قبيحا شرعا لقوله عليه الصلاة والسلام: «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن. وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح» ومنها أن قراءتها توجب الخروج عن العهدة بيقين فتكون أحوط فوجب القول بوجوبها لنص: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» وللمعقول وهو دفع ضرر الخوف عن النفس فإنه واجب. وكون اعتقاد الوجوب يورث الخوف لجواز كوننا مخطئين معارض باعتقاد عدمه فيتقابلان وأما في العمل فالقراءة لا توجب الخوف وتركها يوجبه فالأحوط القراءة إلى غير ذلك وأجاب ساداتنا الحنفية بما أجابوا واستدلوا على أن الواجب ما تيسر من القرآن لا الفاتحة بخصوصها بأمور منها ما روى أبو عثمان النهدي عن أبي هريرة أنه قال: أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن أخرج وأنادي لا صلاة إلّا بقراءة ولو بفاتحة الكتاب ودفع بأنه معارض بما نقل عن أبي هريرة أنه قال: أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن أخرج وأنادي لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب وبأنه يجوز أن يكون المراد من قوله ولو بفاتحة الكتاب هو أنه لو اقتصر على الفاتحة لكفى ويجب الحمل عليه جمعا بين الأدلة وفيه تعسف ولعل الأول في الجواب جواز كون المراد ولو بفاتحة الكتاب ما هو السابق إلى الفهم من قول القائل لا حياة إلّا بقوت ولو الخبز كل يوم أوقية وهو أن هذا القدر لا بد منه وعليه يصير الحديث من أدلة الوجوب ومنها أنه لو وجبت الفاتحة لصدق قولنا كلما وجبت القراءة وجبت الفاتحة ومعناه مقدمة صادقة وهي أنه لو لم تجب الفاتحة لوجبت القراءة لوجوب مطلق القراءة بالإجماع فتنتج المقدمتان لو لم تجب الفاتحة لوجبت الفاتحة وهو باطل وأجيب بمنع الصغرى أي لا نسلم صدق قولنا لو لم تجب الفاتحة لوجبت القراءة لأن عدم وجوب الفاتحة محال والمحال جاز أن يستلزم المحال وهو رفع وجوب مطلق القراءة الثابت بالإجماع سلمناها لكن لا نسلم استحالة قولنا لو لم تجب الفاتحة لوجبت الفاتحة لما ذكر آنفا وجعل بعض القياس حجة على الحنفية لأن كل ما استلزم عدمه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 125 وجوده ثبت وجوده ضرورة ورد بأن هذا إنما يلزم لو كانت الملازمة وهي قولنا لو لم تجب الفاتحة لوجبت ثابتة في نفس الأمر وليس كذلك بل هي ثابتة على تقدير وجوب قراءة الفاتحة فلهذا لا يصير حجة عليهم وتمام الكلام على ذلك في موضعه وأنت تعلم أنه على القول الثاني في الآية لا يظهر الاستدلال بها على فرضية مطلق القراءة في الصلاة إذ ليس فيها عليه أكثر من الأمر بقراءة شيء من القرآن قل أو أكثر بدل ما افترض عليهم من صلاة الليل فليتنبه وقوله تعالى عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى استئناف مبين لحكمة أخرى غير ما تقدم من عسرة إحصاء تقدير الأوقات مقتضية للترخيص والتخفيف أي علم أن الشأن سيكون منكم مرضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يسافرون فيها للتجارة يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وهو الربح وقد عمم ابتغاء الفضل لتحصيل العلم والجملة في موضع الحال وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني المجاهدين وفي قرن المسافرين لابتغاء فضل الله تعالى بهم إشارة إلى أنهم نحوهم في الأجر أخرج سعيد بن منصور والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهما عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: ما من حال يأتيني عليه الموت بعد الجهاد في سبيل الله أحب إليّ من أن يأتيني وأنا بين شعبتي جبل ألتمس من فضل الله تعالى وتلا هذه الآية وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ إلخ وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما من جالب يجلب طعاما إلى بلد من بلدان المسلمين فيبيعه لسعر يومه إلّا كانت منزلته عند الله» ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم «وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» والمراد أنه عزّ وجلّ علم أن سيكون من المؤمنين من يشق عليه القيام كما علم سبحانه عسر إحصاء تقدير الأوقات وإذا كان الأمر كما ذكر وتعاضدت مقتضيات الترخيص فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ أي من القرآن من غير تحمل المشاق وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أي المفروضة وَآتُوا الزَّكاةَ كذلك وعلى هذا أكثر المفسرين والظاهر أنهم عنوا بالصلاة المفروضة الصلوات الخمس وبالزكاة المفروضة أختها المعروفة واستشكل بأن السورة من أوائل ما نزل بمكة ولم تفرض الصلوات الخمس إلا بعد الإسراء والزكاة إنما فرضت بالمدينة وأجيب بأن الذاهب إلى ذلك يجعل هذه الآيات مدنية وقيل إن الزكاة فرضت بمكة من غير تعيين للأنصباء والذي فرض بالمدينة تعيين الأنصباء فيمكن أن يراد بالزكاة الزكاة المفروضة في الجملة فلا مانع عن كون الآيات مكية لكن يلتزم لكونها نزلت بعد الإسراء وحكمها على صلاة الليل السابقة حيث كانت مفروضة تنافي الترخيص وقيل يجوز أن تكون الآية مما تأخر حكمه عن نزوله وليس بذاك وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أريد به الانفاقات في سبيل الخيرات أو أداء الزكاة على أحسن الوجوه وأنفعها للفقراء وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ أي خير كان مما ذكر ومما لم يذكر تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً أي من الذي تؤخرونه إلى الوصية عند الموت وخَيْراً ثاني مفعولي تَجِدُوهُ وهو تأكيد لضمير تَجِدُوهُ وإن كان بصورة المرفوع والمؤكد منصوب لأن هو يستعار لتأكيد المجرور والمنصوب كما ذكره الرضي أو ضمير فصل وإن لم يقع بين معرفتين فإن أفعل من حكم المعرفة ولذا يمتنع من حرف التعريف كالعلم وجوز أبو البقاء البدلية من ضمير تَجِدُوهُ ووهمه أبو حيان بأن الواجب عليها إياه وقرأ أبو السمال باللام العدوي وأبو السماك بالكاف الغنوي وأبو السميفع هو «خير وأعظم» برفعهما على الابتداء والخبر وجعل الجملة في موضع المفعول الثاني قال أبو زيد هي لغة بني تميم يرفعون ما بعد الفاصلة يقولون كان زيد هو الفاعل بالرفع وعليه قول قيس بن ذريح: تحن إلى لبنى وأنت تركتها ... وكنت عليها بالملا أنت أقدر الجزء: 15 ¦ الصفحة: 126 فقد قال أبو عمرو الجرمي أنشده سيبويه شاهدا للرفع والقوافي مرفوع ويروى أقدرا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ في كافة أحوالكم فإن الإنسان قلما يخلو مما يعد تفريطا بالنسبة إليه وعد من ذلك الصوفية رؤية العابد عبادته قيل ولهذا الإشارة أمر بالاستغفار بعد الأوامر السابقة بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإقراض الحسن إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فيغفر سبحانه ذنب من استغفره ويرحمه عزّ وجلّ وفي حذف المعمول دلالة على العموم وتفصيل الكلام فيه معلوم نسأل الله تعالى عظيم مغفرته ورحمته لنا ولوالدينا ولكافة مؤمني بريته بحرمة سيد خليقته وسند أهل صفوته صلّى الله عليه وسلم وصحبه وشيعته. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 127 سورة المدّثر مكية قال ابن عطية بإجماع وفي التحرير قال مقاتل إلّا آية وهي وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً [المدثر: 31] إلخ وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يشعر بأن قوله تعالى عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر: 30] مدني بما فيه وآيها ست وخمسون في العراقي والمدني الأول وخمس وخمسون في الشامي والمدني الأخير على ما فصل في محله، وهي متواخية مع السورة قبلها في الافتتاح بنداء النبيّ صلّى الله عليه وسلم وصدر كليهما نازل على المشهور في قصة واحدة وبدئت تلك بالأمر بقيام الليل وهو عبادة خاصة وهذه بالأمر بالإنذار وفيه من تكميل الغير ما فيه. وروى أمية الأزدي عن جابر بن زيد وهو من علماء التابعين بالقرآن أن المدثر نزلت عقب المزمل وأخرج ابن الضريس عن ابن عباس وجعلوا ذلك من أسباب وضعها بعدها والظاهر ضعف هذا القول فقد أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وجماعة عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن فقال: يا أيها المدثر، قلت: يقولون اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق: 1] فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد الله عن ذلك وقلت له مثل ما قلت فقال جابر: لا أحدثك إلّا ما حدثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «جاورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ونظرت خلفي فلم أر شيئا فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فجئثت منه رعبا فرجعت فقلت دثروني فدثروني فنزلت يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر: 1- 3] وفي رواية «فجئت أهلي فقلت: زملوني زملوني زملوني فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ- إلى قوله- فَاهْجُرْ فإن القصة واحدة ولو كانت يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ هي النازلة قبل فيها لذكرت نعم ظاهر هذا الخبر يقتضي أن يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ نزل قبل اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ والمروي في الصحيحين وغيرهما عن عائشة أن ذاك أول ما نزل من قرآن وهو الذي ذهب إليه أكثر الأمة حتى قال بعضهم هو الصحيح، ولصحة الخبرين احتاجوا للجواب فنقل في الإتقان خمسة أجوبة الأول أن السؤال في حديث جابر كان عن نزول سورة كاملة فبين أن سورة المدثر نزلت بكمالها قبل تمام سورة اقْرَأْ فإن أول ما نزل منها صدرها الثاني أن مراد جابر بالأولية أولية مخصوصة بما بعد فترة الوحي لا أولية مطلقة الثالث أن المراد أولية مخصوصة بالأمر بالإنذار، وعبر بعضهم عن هذا بقوله أول ما نزل للنبوة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ وأول ما نزل للرسالة يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ الرابع أن المراد أول ما نزل بسبب متقدم وهو ما وقع من التدثر الناشئ عن الرعب وأما اقرأ فنزلت ابتداء بغير سبب متقدم الخامس أن جابر استخرج ذلك باجتهاده وليس هو من روايته فيقدم عليه ما روت عائشة رضي الله تعالى عنها ثم قال: وأحسن هذه الأجوبة الأول والأخير انتهى وفيه نظر فتأمل ولا تغفل. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 128 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ أصله المتدثر فأدغم وهو على الأصل في حرف أبيّ من تدثر لبس الدثار بكسر الدال وهو ما فوق القميص الذي يلي البدن ويسمى شعارا لاتصاله بالبشرة والشعر. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: «الأنصار شعار والناس دثار» والتركيب على ما قيل دائر مع معنى الستر على سبيل الشمول كان الدثار ستر بالغ مكشوف نودي صلّى الله عليه وسلم باسم مشتق من صفته التي كان عليها تأنيسا له وملاطفة كما سمعت في يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ وتدثره عليه الصلاة والسلام لما سمعت آنفا. وأخرج الطبراني وابن مردويه بسند ضعيف عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاما فلما أكلوا قال: ما تقولون في هذا الرجل؟ فاختلفوا ثم اجتمع رأيهم على أنه سحر يؤثر فبلغ ذلك النبيّ صلّى الله عليه وسلم فحزن وقنع رأسه وتدثر أي كما يفعل المغموم فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ- إلى قوله تعالى- وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ . وقيل المراد بالمدثر المتدثر بالنبوة والكمالات النفسانية على معنى المتحلي بها والمتزين بآثارها، وقيل أطلق الْمُدَّثِّرُ وأريد به الغائب عن النظر على الاستعارة والتشبيه فهو نداء له بما كان عليه في غار حراء. وقيل: الظاهر أن يراد بالمدثر وكذا بالمزمل الكناية عن المستريح الفارغ لأنه في أول البعثة فكأنه قيل له عليه الصلاة والسلام قد مضى زمن الراحة وجاءتك المتاعب من التكاليف وهداية الناس وأنت تعلم أنه لا ينافي إرادة الحقيقة وأمر التلطيف على حاله. وقال بعض السادة أي يا أيها الساتر للحقيقة المحمدية بدثار الصورة الآدمية أو يا أيها الغائب عن أنظار الخليقة فلا يعرفك سوى الله تعالى على الحقيقة إلى غير ذلك من العبارات، والكل إشارة إلى ما قالوا في الحقيقة المحمدية من أنها حقيقة الحقائق التي لا يقف على كنهها أحد من الخلائق وعلى لسانها قال من قال: وإني وإن كنت ابن آدم صورة ... فلي فيه معنى شاهد بأبوتي وأنها التعين الأول وخازن السر المقفل وأنها وأنها إلى أمور هيهات أن يكون للعقل إليها منتهى. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 129 أعيا الورى فهم معناه فليس يرى ... في القرب والبعد منه غير منفحم كالشمس تظهر للعينين من بعد ... صغيرة وتكل الطرف من أمم وكيف يدرك في الدنيا حقيقته ... قوم نيام تسلوا عنه بالحلم فمبلغ العلم فيه أنه بشر ... وأنه خير خلق الله كلهم وقرأ عكرمة «المدثّر» بتخفيف الدال وتشديد الثاء المكسورة على زنة الفاعل وعنه أيضا «المدثّر» بالتخفيف والتشديد على زنة المفعول من دثره وقال دثرت هذا الأمر وعصب بك أي شد والمعنى أنه المعول عليه فالعظائم به منوطة وأمور حلها وعقدها به مربوطة فكأنه قيل يا من توقف أمور الناس عليه لأنه وسيلتهم عند الله عز وجل قُمْ من مضجعك أو قم قيام عزم وتصميم، وجعله أبو حيان على هذا المعنى من أفعال الشروع كقولهم: قام زيد يفعل كذا وقوله: علام قام يشتمني لئيم وقام بهذا المعنى من أخوات كاد وتعقب بأنه لا يخفى بعده هنا لأنه استعمال غير مألوف وورود الأمر منه غير معروف مع احتياجه إلى تقدير الخبر فيه وكله تعسف فَأَنْذِرْ أي فافعل الإنذار أو أحدثه فلا يقصد منذر مخصوص، وقيل يقدر المفعول خاصا أي فأنذر عشيرتك الأقربين لمناسبته لابتداء الدعوة في الواقع، وقيل يقدر عاما أي فأنذر جميع الناس لقوله تعالى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً [سبأ: 28] ولم يقل هنا وبشر لأنه كان في ابتداء النبوة والإنذار هو الغالب إذ ذاك أو هو اكتفاء لأن الإنذار يلزمه التبشير وفي هذا الأمر بعد ذلك النداء إشارة عند بعض السادة إلى مقام الجلوة بعد الخلوة. قالوا: وإليهما الإشارة أيضا في حديث: «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف» إلخ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ واخصص ربك بالتكبير وهو وصفه تعالى بالكبرياء والعظمة اعتقادا وقولا. ويروى أنه لما نزل قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الله أكبر» فكبرت خديجة وفرحت وأيقنت أنه الوحي وذلك لأن الشيطان لا يأمر بذلك والأمر بالنسبة إليه صلّى الله عليه وسلم غني عن الاستدلال وجوز أن يحمل على تكبير الصلاة فقد أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قلنا يا رسول الله كيف نقول إذا دخلنا في الصلاة؟ فأنزل الله تعالى وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ فأمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن نفتح الصلاة بالتكبير . وأنت تعلم أن نزول هذه الآية كان حيث لا صلاة أصلا فهذا الخبر إن صح مؤول والفاء هنا وفيما بعد لإفادة معنى الشرط فكأنه قيل: وما كان أي أي شيء حدث فلا تدع تكبيره عز وجل، فالفاء جزائية وهي لكونها على ما قيل مزحلقة لا يضر عمل ما بعدها فيما قبلها وقيل إنها دخلت في كلامهم على توهم شرط فلما لم تكن في جواب شرط محقق كانت في الحقيقة زائدة فلم يمتنع تقديم معمول ما بعدها عليها لذلك ثم إن في ذكر هذه الجملة بعد الأمر السابق مقدمة على سائر الجمل إشارة إلى مزيد الاهتمام بأمر التكبر وإيماء على ما قيل إلى أن المقصود الأول من الأمر بالقيام أن يكبر ربه عز وجل وينزهه من الشرك، فإن أول ما يجب معرفة الله تعالى ثم تنزيهه عما لا يليق بجنابه والكلام عليه من باب: إياك أعني واسمعي يا جارة وقد يقال: لعل ذكر هذه الجملة كذلك مسارعة لتشجيعه عليه الصلاة والسلام على الإنذار وعدم مبالاته بما سواه عز وجل حيث تضمنت الإشارة إلى أن نواصي الخلائق بيده تعالى وكل ما سواه مقهور تحت كبريائه تعالى وعظمته، فلا ينبغي أن يرهب إلّا منه ولا يرغب إلّا فيه فكأنه قيل قم فأنذر واخصص ربك بالتكبير فلا يصدنك شيء عن الإنذار فتدبر وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ تطهير الثياب كناية عن تطهير النفس عما تذم به من الأفعال وتهذيبها عما يستهجن من الأحوال لأن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 130 من لا يرضى بنجاسة ما يماسه كيف يرضى بنجاسة نفسه يقال: فلان طاهر الثياب نقي الذيل والأردان إذا وصف بالنقاء من المعايب ومدانس الأخلاق، ويقال: فلان دنس الثياب وكذا دسم الثياب للغادر ولمن قبح فعله ومن الأول قول الشاعر: ويحيى ما يلام بسوء خلق ... ويحيى طاهر الأثواب حر ومن الثاني قوله: قوله لا هم إن عامر بن جهم ... أو ذم حجا في ثياب دسم وكلمات جمهور السلف دائرة على نحو هذا المعنى في الآية الكريمة. أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة أنه قال فيها يقول طهرها من المعاصي وهي كلمة عربية كانت العرب إذا نكث الرجل ولم يف بعهد قالوا إن فلانا لدنس الثياب وإذا وفى وأصلح قالوا: إن فلانا لطاهر الثياب، وأخرج ابن المنذر عن أبي مالك أنه قال فيها عنى نفسه، وأخرج هو وجماعة عن مجاهد أنه قال: أي وعملك فأصلح ونحوه عن أبي رزين والسدي. وأخرج هو أيضا وجماعة منهم الحاكم وصححه عن ابن عباس أنه قال وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ أي من الإثم. وفي رواية من الغدر أي لا تكن غدارا وفي رواية جماعة عن عكرمة أن ابن عباس سئل عن قوله تعالى وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ فقال لا تلبسها على غدرة ولا فجرة ثم قال ألا تسمعون قول غيلان بن سلمة: فإني بحمد الله لا ثوب فاجر ... لبست ولا من غدرة أتقنع ونحوه عن الضحاك وابن جبير وعن الحسن والقرطبي أي وخلقك فحسن، وأنشدوا للكناية عن النفس بالثياب قول عنترة: فشككت بالرمح الطويل ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم وفي رواية عن الحبر وابن جبير أنه كنى بالثياب عن القلب كما في قول امرئ القيس: فإن تك قد ساءتك مني خليقة ... فسلي ثيابي من ثيابك تنسل وقيل كنى بها عن الجسم كما في قول ليلى وقد ذكرت إبلا ركبها قوم وذهبوا بها: رموها بأثواب خفاف فلا نرى ... لها شبها إلّا النعام المنفرا وطهارة الجسم قد يراد بها أيضا نحو ما تقدم. ومناسبة هذه المعاني لمقام الدعوة مما لا غبار عليه وقيل على كون تطهير الثياب كناية عما مر يكون ذلك أمرا باستكمال القوة العلمية بعد الأمر باستكمال القوة النظرية والدعاء إليه، وقيل: إنه أمر له صلّى الله عليه وسلم بالتخلق بالأخلاق الحسنة الموجبة لقبول الإنذار بعد أمره عليه الصلاة والسلام بتخصيصه ربه عز وجل بالتكبير الذي ربما يوهم إباءه خفض الجناح لما سواه عز وجل واقتضاءه عدم المبالاة والاكتراث بمن كان فضلا عن أعداء الله جل وعلا فكان ذكره لدفع ذلك التوهم، وقيل على تفسير المدثر بالتدثر بالنبوة والكمالات النفسانية المعنى طهر دثارات النبوة وآثارها وأنوارها الساطعة من مشكاة ذاتك عما يدنسها من الحقد والضجر وقلة الصبر، وقيل الثياب كناية عن النساء كما قال تعالى هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ [البقرة: 187] وتطهيرهن من الخطايا والمعايب بالوعظ والتأديب كما قال سبحانه قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً [التحريم: 6] وقيل تطهيرهن اختيار المؤمنات العفائف منهن وقيل وطؤوهن في القبل لا في الدبر وفي الطهر لا في الحيض حكاه ابن بحر وأصل القول فيما أرى بعيد عن السياق ثم رأيت الفخر صرح الجزء: 15 ¦ الصفحة: 131 بذلك وذهب جمع إلى أن الثياب على حقيقتها فقال محمد بن سيرين: أي اغسلها بالماء إن كانت متنجسة وروي نحوه عن ابن زيد وهو قول الشافعي رضي الله تعالى عنه، ومن هنا ذهب غير واحد إلى وجوب غسل النجاسة من ثياب المصلي وأمر صلّى الله عليه وسلم بذلك على ما روي عن ابن زيد مخالفة للمشركين لأنهم ما كانوا يصونون ثيابهم عن النجاسات. وقيل ألقي عليه صلّى الله عليه وسلم سلا شاة فشق عليه فرجع إلى بيته حزينا فتدثر فقيل له يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ ولا تمنعنك تلك السفاهة عن الإنذار وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ عن أن لا ينتقم منهم وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ عن تلك النجاسات والقاذورات وإرادة التطهير من النجاسة للصلاة بدون ملاحظة قصة قيل خلاف الظاهر ولا تناسب الجملة عليها ما قبلها إلّا على تقدير أن يراد بالتكبير التكبير للصلاة وبعض من فسر الثياب بالجسم جوز إبقاء التطهير على حقيقته. وقال أمر عليه الصلاة والسلام بالتنظيف وقت الاستنجاء لأن العرب ما كانوا ينظفون أجسامهم أيضا عن النجاسة وكان كثير منهم يبول على عقبه وقال بعض الأمر لمطلق الطلب فإن تطهير ما ليس بطاهر من الثياب واجب في الصلاة ومحبوب في غيرها، وقيل تطهيرها تقصيرها وهو أيضا أمر له عليه الصلاة والسلام برفض عادات العرب المذمومة فقد كانت عادتهم تطويل الثياب وجرهم الذيول على سبيل الفخر والتكبر قال الشاعر: ثم راحوا عبق المسك بهم ... يلحفون الأرض هداب الأزر وفي الحديث: «أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه ولا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين وما كان أسفل من ذلك ففي النار» . واستعمال التطهير في التقصير مجاز للزومه له فكثيرا ما يفضي تطويلها إلى جر ذيولها على القاذورات، ومن الناس من جل التقصير بعد إرادته من التطهير كناية عن عدم التكبر والخيلاء ويكون ذلك أمرا له صلّى الله عليه وسلم بالتواضع والمداومة على ترك جر ذيول التكبر والخيلاء بعد أمره بتخصيص الكبرياء والعظمة به تعالى قولا واعتقادا فكأنه قيل وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وأنت لا تتكبر ليتسنى لك أمر الإنذار وبعض من يرى جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز حمل التطهير على حقيقته ومجازه أعني التقصير والتوصل إلى إرادة مثل ذلك عند من لا يرى جواز الجمع سهل، وجوز أن يراد بالتطهير إزالة ما يستقذر مطلقا سواء النجس أو غيره من المستقذر الطاهر ومنه الأوساخ فيكون ذلك أمرا صلّى الله عليه وسلم بتنظيف ثيابه وإزالة ما يكون فيها من وسخ وغيره من كل ما يستقذر فإنه منفر لا يليق بمقام البعثة، ويستلزم هذا بالأولى تنظيف البدن من ذلك ولذا صلّى الله عليه وسلم أنظف الناس ثوبا وبدنا وربما يقال باستلزام ذلك بالأولى أيضا الأمر بالتنزه عن المنفر القولي والفعلي كالفحش والفظاظة والغلظة إلى غير ذلك فلا تغفل وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ قال القتبي الرُّجْزَ العذاب وأصله الاضطراب وقد أقيم مقام سببه المؤدي إليه من المآثم فكأنه قيل اهجر المآثم والمعاصي المؤديان إلى العذاب أو الكلام بتقدير مضاف أي أسباب الرجز أو التجوز في النسبة على ما قيل ونحو هذا قول ابن عباس الرُّجْزَ السخط وفسر الحسن الرُّجْزَ بالمعصية والنخع بالإثم وهو بيان للمراد. ولما كان المطالب بهذا الأمر هو النبيّ صلّى الله عليه وسلم وهو البريء عن ذلك كان من باب: إياك أعني واسمعي. أو المراد الدور والثياب على هجر ذلك وقيل الرجز اسم لصنمين إساف ونائلة وقيل للأصنام عموما وروي ذلك عن مجاهد وعكرمة والزهري والكلام على ما سمعت آنفا. وقيل الرُّجْزَ اسم للقبيح المستقذر والرجز فاهجر كلام جامع في مكارم الأخلاق كأنه قيل اهجر الجفاء والسفه وكل شيء يقبح ولا تتخلق بأخلاق هؤلاء المشركين وعليه يحتمل أن يكون هذا أمرا بالثياب على تطهير الباطن بعد الأمر بالثياب على تطهير الظاهر بقوله سبحانه وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وقرأ الأكثرون «الرّجز» بكسر الراء الجزء: 15 ¦ الصفحة: 132 وهي لغة قريش ومعنى المكسور والمضموم واحد عند جمع، وعن مجاهد أن المضموم بمعنى الصنم والمكسور بمعنى العذاب. وقيل المكسور النقائص والفجور ذو المضموم اساف ونائل وفي كتاب الخليل «الرّجز» بضم الراء عبادة الأوثان وبكسرها العذاب. ومن كلام السادة أي الدنيا فاترك وهو مبني على أنه أريد بالرجز الصنم والدنيا من أعظم الأصنام التي حبها بين العبد وبين مولاه وعبدتها أكثر من عبدتها فإنها تعبد في البيع والكنائس والصوامع والمساجد وغير ذلك أو أريد بالرجز القبيح المستقذر والدنيا عند العارف في غاية القبح والقذارة فعن الأمير كرم الله تعالى وجهه أنه قال: الدنيا أحقر من ذراع خنزير ميت بال عليها كلب في يد مجذوم وقال الشافعي: وما هي إلّا جيفة مستحيلة ... عليها كلاب همهن اجتذابها فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها ... وإن تجتذبها نازعتك كلابها ويقال كل ما ألهى عن الله عز وجل فهو رجز يجب على طالب الله تعالى هجره إذ بهذا الهجر ينال الوصال وبذلك القطع يحصل الاتصال ومن أعظم لاه عن الله تعالى النفس، ومن هنا قيل أي نفسك فخالفها والكلام في كل ذلك من باب: إياك أعني. أو القصد فيه إلى الدوام والثياب كما تقدّم وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ أي ولا تعط مستكثرا أي طالبا للكثير ممن تعطيه قاله ابن عباس، فهو نهي عن الاستغزار وهو أن يهب شيئا وهو يطمع أن يتعوض من الموهوب له أكثر من الموهوب وهذا جائز. ومنه الحديث الذي رواه ابن أبي شيبة موقوفا على شريح المستغزر يثاب من هبته وإلّا صح عند الشافعية أن النهي للتحريم وأنه من خواصه عليه الصلاة والسلام لأن الله تعالى اختار له عليه الصلاة والسلام أكمل الصفات وأشرف الأخلاق فامتنع عليه أن يهب لعوض أكثر وقيل هو نهي تنزيه للكل أو ولا تعط مستكثرا أي رائيا لما تعطيه كثيرا فالسين للوجدان لا للطلب كما في الوجه الأول الظاهر والنهي عن ذلك لأنه نوع إعجاب وفيه بخل خفي. وعن الحسن والربيع: لا تَمْنُنْ بحسناتك على الله تعالى مستكثرا لها أي رائيا إياها كثيرة فتنقص عند الله عز وجل وعد من استكثار الحسنات بعض السادة رؤية أنها حسنات وعدم خشية الرد والغفلة عن كونها منه تعالى حقيقة. وعن ابن زيد لا تمنن بما أعطاك الله تعالى من النبوة والقرآن مستكثرا به أي طالبا كثير الأجر من الناس وعن مجاهد لا تضعف عن عملك مستكثرا لطاعتك فتمنن من قولهم حبل منين أي ضعيف، ويتضمن هذا المعنى ما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال: أي لا تقل قد دعوتهم فلم يقبل مني عد فادعهم. وقرأ الحسن وابن أبي عبلة «تستكثر» بسكون الراء وخرج على أنه جزم والفعل بدل من تَمْنُنْ المجزوم بلا الناهية كأنه قيل ولا تمنن لا تستكثر لأن من شأن المانّ بما يعطي أن يستكثره أي يراه كثيرا ويعتد به وهو بدل اشتمال، وقيل بدل كل من كل على دعاء الاتحاد. وفي الكشف الأبدال من تَمْنُنْ على أن المن هو الاعتداد بما أعطى لا الإعطاء نفسه فيه لطيفة لأن الاستكثار مقدمة المن فكأنه قيل: لا تستكثر فضلا عن المن. وجوز أن يكون سكون وقف حقيقة أو بإجراء الوصل مجراه أو سكون تخفيف على أن شبه ثرو بعضد فسكن الراء الواقعة بين الثاء وواو وَلِرَبِّكَ كما سكنت الضاد وليس بذاك والجملة عليه في موضع الحال وقرأ الحسن أيضا والأعمش «تستكثر» بالنصب على إضمار أن كقولهم مره يحفرها أي أن يحفرها وقوله: ألا أيهذا الزاجري احضر الوغى ... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي في رواية نصب أحضر وقرأ ابن مسعود «أن تستكثر» بإظهار أن فالمن بمعنى الإعطاء والكلام على إرادة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 133 التعليل أي ولا تعط لأجل أن تستكثر أي تطلب الكثير ممن تعطيه وأيد به إرادة المعنى الأول في قراءة الرفع، وجوز الزمخشري في تلك القراءة أن يكون الرفع لحذف أن وإبطال عملها كما روي أحضر الوغى بالرفع فالجملة حينئذ ليست حالية، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يجوز حمل القرآن على ذلك إذ لا يجوز ما ذكر إلّا في الشعر ولنا مندوحة عنه مع صحة معنى الحال، ورد بأن المخالف للقياس بقاء عملها بعد حذفها، وأما الحذف والرفع فلا محذور فيه وقد أجازه النحاة ومنه: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه. وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ قيل على أذى المشركين وقيل على أداء الفرائض. وقال ابن زيد: على حرب الأحمر والأسود وفيه بعد إذ لم يكن جهاد يوم نزولها. وعن النخعي على عطيتك كأنه وصله بما قبله وجعله صبرا على العطاء من غير استكثار والوجه كما قال جار الله أن يكون أمرا بنفس الفعل والمعنى لقصد جهته تعالى وجانبه عز وجل فاستعمل الصبر فيتناول لعدم تقدير المتعلق المفيد للعموم كل مصبور عليه ومصبور عنه ويراد الصبر على أذى المشركين لأنه فرد من أفراد العام لا لأنه وحده هو المراد. وعن ابن عباس الصبر في القرآن على ثلاثة أوجه صبر على أداء الفرائض وله ثلاثمائة درجة، وصبر عن محارم الله تعالى وله ستمائة درجة، وصبر على المصائب عند الصدمة الأولى وله تسعمائة درجة وذلك لشدته على النفس وعدم التمكن منه إلّا بمزيد اليقين ولذلك قال صلّى الله عليه وسلم: «أسألك من اليقين ما تهون به عليّ مصائب الدنيا» وذكروا أن للصبر باعتبار حكمه أربعة أقسام فرض كالصبر عن المحظورات وعلى أداء الواجبات ونفل كالصبر عن المكروهات والصبر على المسنونات ومكروه كالصبر عن أداء المسنونات والصبر على فعل المكروهات وحرام كالصبر على من يقصد حريمه بمحرم وترك التعرض له مع القدرة إلى غير ذلك وتمام الكلام عليه في محله وفضائل الصبر الشرعي المحمود مما لا تحصى. ويكفي في ذلك قوله تعالى إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [الزمر: 10] وقوله صلّى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى إذا وجهت إلى عبد من عبيدي مصيبة في بدنه أو ماله أو ولده ثم استقبل ذلك بصبر جميل استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزانا أو أنشر له ديوانا» . فَإِذا نُقِرَ أي نفخ فِي النَّاقُورِ في الصور وهو فاعول من النقر بمعنى التصويت وأصله القرع الذي هو سببه ومنه منقار الطائر لأنه يقرع به ولهذه السببية تجوز به عنه وشاع ذلك وأريد به النفخ لأنه نوع منه، والفاء للسببية كأنه قيل اصبر على أذاهم فبين أيديهم يوم هائل يلقون فيه عاقبة أذاهم وتلقى عاقبة صبرك عليه والعامل في «إذا» ما دل عليه قوله تعالى فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ فالمعنى إذا نقر في الناقور عسر الأمر على الكافرين والفاء في هذا للجزاء وذلك إشارة إلى وقت النقر المفهوم من فَإِذا نُقِرَ وما فيه من المعنى البعد مع قرب العهد لفظا بالمشار إليه للإيذان ببعد منزلته في الهول والفظاعة ومحله الرفع على الابتداء ويَوْمَئِذٍ قيل بدل منه مبني على الفتح لإضافته إلى غير متمكن والخبر يَوْمٌ عَسِيرٌ فكأنه قيل فيوم النقر يوم عسير وجوز أن يكون يَوْمَئِذٍ ظرفا مستقرا ل يَوْمٌ عَسِيرٌ أي صفة له، فلما تقدم عليه صار حالا منه والذي أجاز ذلك على ما في الكشاف أن المعنى فذلك وقت النقر وقوع يوم عسير لأن يوم القيامة يأتي ويقع حين ينقر في الناقور فهو على منوال زمن الربيع العيد فيه أي وقوع العيد فيه وماله فذلك الوقوع وقوع يوم إلخ، ومما ذكر يعلم اندفاع ما يتوهم من تقديم معمول المصدر أو معمول ما في صلته على المصدر إن جعل ظرف الوقوع المقدر أو ظرف عسير والتصريح بلفظ وقوع إبراز للمعنى وتفص عن جعل الزمان مظروف الزمان برجوعه إلى الحدث فتدبر وظاهر صنيع الكشاف اختيار هذا الوجه وكذا كلام صاحب الكشف إذ قررة على أتم وجه وادعى فيما سبق تعسفا نعم جوز عليه الرحمة أن يكون يَوْمَئِذٍ معمول ما دل عليه الجزاء أيضا كأنه قيل فإذا نقر في الناقور عسر الأمر على الجزء: 15 ¦ الصفحة: 134 الكافرين يومئذ وأيّا ما كان ف عَلَى الْكافِرِينَ متعلق ب عَسِيرٌ وقيل بمحذوف وهو صفة لعسير أو حال من المستكن فيه وأجاز أبو البقاء تعلقه ب يَسِيرٍ في قوله تعالى غَيْرُ يَسِيرٍ وهو الذي يقتضيه كلام قتادة وتعقبه أبو حيان بأنه ينبغي أن لا يجوز لأن فيه تقديم معمول المضاف إليه على المضاف وهو ممنوع على الصحيح وقد أجازه بعضهم في غير حملا لها على لا فيقول أنا بزيد غير راض وزعم الحوفي أن إذا متعلقة بإنذار والفاء زائدة، وأراد أنها مفعول به لأنذر كأنه قيل قم فأنذرهم وقت النقر في الناقور. وقوله تعالى فَذلِكَ إلخ جملة مستأنفة في موضع التعليل وهو كما ترى. وجوز أبو البقاء تخريج الآية على قول الأخفش بأن تكون «إذا» مبتدأ والخبر فَذلِكَ والفاء زائدة وجعل يَوْمَئِذٍ ظرفا لذلك ولا أظنك في مرية من أنه كلام أخفش. وقال بعض الأجلة إن ذلك مبتدأ وهو إشارة إلى المصدر أي فذلك النقر وهو العامل في يَوْمَئِذٍ ويَوْمٌ عَسِيرٌ خبر المبتدأ والمضاف مقدر أي فذلك النقر في ذلك اليوم نقر يوم وفيه تكلف وعدول عن الظاهر مع أن عسر اليوم غير مقصود بالإفادة عليه، وظاهر السياق قصده بالإفادة وجعل العلامة الطيبي هذه الآية من قبيل ما اتحد فيه الشرط والجزاء نحو: «من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله» إذ جعل الإشارة إلى وقت النقر وقال: إن في ذلك مع ضم التكرير دلالة على التنبيه على الخطب الجليل والأمر العظيم وفيه نظر وفائدة قوله سبحانه غَيْرُ يَسِيرٍ أي سهل بعد قوله تعالى عَسِيرٌ تأكيد عسره على الكافرين فهو يمنع أن يكون عسيرا عليهم من وجه دون وجه يشعر بتيسره على المؤمنين كأنه قيل: عسير على الكافرين غير يسير عليهم كما هو يسير على أضدادهم المؤمنين، ففيه جمع بين وعيد الكافرين وزيادة غيظهم وبشارة المؤمنين وتسليتهم ولا يتوقف هذا على تعلق على الكافرين بيسير، نعم الأمر عليه أظهر كما لا يخفى ثم مع هذا لا يخلو قلب المؤمن من الخوف. أخرج ابن سعيد والحاكم عن بهز بن حكيم قال: أمّنا زارة بن أوفى فقرأ المدثر فلما بلغ فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ خر ميتا فكنت فيمن حمله. وأخرج ابن أبي شيبة والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: لما نزلت فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم القرن وحنى جبهته يستمع متى يؤمر» . قالوا كيف نقول يا رسول الله؟ قال: «قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل وعلى الله توكلنا» واختلف في أن المراد بذلك الوقت يوم النفخة الأولى أو يوم النفخة الثانية، ورجع أنه يوم الثانية لأنه الذي يختص عسره بالكافرين، وأما وقت النفخة الأولى فحكمه الذي هو الإصعاق يعم البر والفاجر وهو على المشهور مختص بمن كان حيا عند وقوع النفخة ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي كما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم، بل قيل كونها فيه متفق عليه وهو يقتضي أن هذه السورة لم تنزل جملة إذ لم يكن أمر الوليد وما اقتضى نزول الآية فيه في بدء البعثة فلا تغفل ووَحِيداً حال إما من الياء في ذَرْنِي وهو المروي عن مجاهد أي ذرني وحدي معه فأنا أغنيك في الانتقام عن كل منتقم أو من التاء في خَلَقْتُ أي خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد فأنا أهلكه لا أحتاج إلى ناصر في إهلاكه أو من الضمير المحذوف العائد على مَنْ على ما استظهره أبو حيان أي ومن خلقته وحيدا فريدا لا مال له ولا ولد، وجوز أن يكون منصوبا بأذم ونحوه فقد كان الوليد يلقب في قومه بالوحيد فتهكم الله تعالى به وبلقبه أو صرفه عن الغرض الذي كانوا يؤمونه من مدحه والثناء عليه إلى جهة ذمه وعيبه فأراد سبحانه وحيدا في الخبث والشرارة أو وحيدا عن أبيه لأنه كان دعيا لم يعرف نسبه للمغيرة حقيقة كما مر في سورة نون وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً مبسوطا كثيرا أو ممدودا بالنساء من مد النهر ومده نهر آخر وقيل كان له الضرع والزرع والتجارة. وعن ابن عباس هو ما كان له بين الجزء: 15 ¦ الصفحة: 135 مكة والطائف من الإبل والنعم والجنان والعبيد وقيل كان له بستان بالطائف لا تنقطع ثماره صيفا وشتاء. وقال النعمان بن بشير المال الممدود هو الأرض لأنها مدت. وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه المستغل الذي يجبي شهرا بعد شهر فهو ممدود لا ينقطع. وعن ابن عباس ومجاهد وابن جبير كان له ألف دينار. وعن قتادة ستة آلاف دينار وقيل تسعة آلاف دينار. وعن سفيان الثوري روايتان أربعة آلاف دينار وألف ألف دينار وهذه الأقوال إن صحت ليس المراد بها تعيين المال الممدود وأنه متى أطلق يراد به ذلك بل بيان أنه كان بالنسبة إلى المحدث عنه كذا وَبَنِينَ شُهُوداً حضورا معه بمكة يتمتع بمشاهدتهم لا يفارقونه للتصرف في عمل أو تجارة لكونهم مكفيين لوفور نعمهم وكثرة خدمهم أو حضورا في الأندية والمحافل لوجاهتهم واعتبارهم أو تسمع شهاداتهم فيما يتحاكم فيه واختلف في عددهم فعن مجاهد أنهم عشرة وقيل ثلاثة عشر وقيل سبعة كلهم رجال الوليد بن الوليد وخالد وهشام وقد أسلم هؤلاء الثلاثة والعاص وقيس وعبد شمس وعمارة واختلف الرواية فيه أنه قتل يوم بدر أو قتله النجاشي لجناية نسبت إليه في حرم الملك والروايتان متفقتان على أنه قتل كافرا ورواية الثعلبي عن مقاتل إسلامه لا تصح ونص ابن حجر على أن ذلك غلط وقد وقع في هذا الغلط صاحب الكشاف وتبعه فيه من تبعه، والعجب أيضا أنهم لن يذكروا الوليد بن الوليد فيمن أسلم مع أن المحدثين عن آخرهم أطبقوا على إسلامه وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً بسطت له الرياسة والجاه العريض فأتممت عليه نعمتي الجاه والمال واجتماعهما هو الكمال عند أهل الدنيا، وأصل التمهيد التسوية والتهيئة وتجوز به عن بسطة المال والجاه وكان لكثرة غناه ونضارة حاله الرائقة في الأعين منظرا ومخبرا يلقب ريحانة قريش. وكذا كانوا يلقبونه بالتوحيد بمعنى المنفرد باستحقاق الرياسة. وعن ابن عباس وسعت له ما بين اليمن إلى الشام. وعن مجاهد مهدت له المال بعضه فوق بعض كما يمهد الفراش ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ على ما أديته وهو استبعاد واستنكار لطمعه وحرصه إما لأنه في غنى تام لا مزيد على ما أوتي سعة وكثرة أو لأنه مناف لما هو عليه من كفران النعم ومعاندة المنعم. وعن الحسن وغيره أنه كان يقول إن كان محمد صادقا فما خلقت الجنة إلّا لي واستعمال ثُمَّ للاستبعاد كثير قيل وهو غير التفاوت الرتبي بل عد الشيء بعيدا غير مناسب لما عطف عليه كما تقول تسيء إليّ ثم ترجو إحساني . وكان ذلك لتنزيل البعد المعنوي منزلة البعد الزماني كَلَّا ردع وزجر له عن طمعه الفارغ وقطع لرجائه الخائب وقوله سبحانه إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً جملة مستأنفة استئنافا بيانا لتعليل ما قبل كأنه قيل لم زجر عن طلب المزيد وما وجه عدم لياقته فقيل إنه كان معاندا لآيات المنعم وهي دلائل توحيده أو الآيات القرآنية حيث قال فيها ما قال والمعاندة تناسب الإزالة وتمنع من الزيادة قال مقاتل: ما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقص من ماله وولده حتى هلك سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً سأغشيه عقبة شاقة المصعد وهو مثل لما يلقى من العذاب الشاق الصعب الذي لا يطاق شبه ما يسوقه الله تعالى له من المصائب وأنواع المشاق بتكليف الصعود في الجبال الوعرة الشاقة وأطلق لفظه عليه على سبيل الاستعارة التمثيلية وروى أحمد والترمذي والحاكم وصححه وجماعة عن أبي سعيد الخدري مرفوعا: «الصعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفا ثم يهوي فيه كذلك أبدا» وعنه صلّى الله عليه وسلم: «يكلف أن يصعد عقبة في النار كلما وضع عليها يده ذابت وإذا رفعها عادت وإذا وضع رجله ذابت فإذا رفعها عادت» إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ تعليل للوعيد واستحقاقه له أو بيان لعناده لآياته عز وجل فيكون جملة مفسرة لذلك لا محل لها من الإعراب وما بينهما اعتراض وقيل الجملة عليه بدل من قوله تعالى إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً أي إنه فكر ماذا يقول في شأن القرآن وقدر في نفسه ما يقول فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ تعجيب من تقديره وإصابته فيه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 136 المحذور رميه الغرض الذي كان ينتجه قريش فهو نظير قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [التوبة: 30، المنافقون: 4] أو ثناء عليه تهكما على نحو قاتله الله ما أشجعه أو حكاية لما كرروه على سبيل الدعاء عند سماع كلمته الحمقاء فالعرب تقول قتله الله ما أشجعه وأخزاه الله ما أشعره يريدون أنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد ويدعو عليه حاسده بذلك وما له على ما قيل إلى الأول وإن اختلف الوجه روي أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن فكأنه رق له فبلغ ذلك أبا جهل فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا فيعطوكه فإنك أتيت محمدا لتصيب مما عنده قال قد علمت قريش أني من أكثرها مالا قال فقيل فيه قولا يبلغ قومك إنك منكر له وأنك كاره له قال وماذا أقول فو الله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني لا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا وو الله إن لقوله الذي يقوله حلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسلفه وإنه ليعلو ولا يعلى وإنه ليحطم ما تحته قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه قال: دعني حتى أفكر فلما فكر قال ما هو إلّا سحر يؤثر فعجّوا (1) بذلك وقال محيي السنة لما نزل على النبيّ صلّى الله عليه وسلم حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ- إلى قوله تعالى- الْمَصِيرُ [غافر: 1- 3] قام النبي صلّى الله عليه وسلم في المسجد والوليد قريب منه يسمع قراءته، فلما فطن النبيّ عليه الصلاة والسلام لاستماعه أعاد القراءة فانطلق الوليد إلى مجلس قومه بني مخزوم فقال: والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق. وإنه ليعلو وما يعلى. فقالت قريش: صبأ والله الوليد والله لتصبأن قريش كلهم فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه فقعد إليه حزينا وكلمه بما أحماه فقام فأتاهم فقال: تزعمون أن محمدا مجنون فهل رأيتموه يخنق، وتقولون إنه كاهن فهل رأيتموه قط يتكهن، وتزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه يتعاطى شعرا، وتزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه شيئا من الكذب؟ فقالوا في كل ذلك اللهم لا، ثم قالوا فما هو؟ ففكر فقال: ما هو إلّا ساحر أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه وما الذي يقوله إلّا سحر يأثره عن مسيلمة وعن أهل بابل فارتج النادي فرحا وتفرقوا معجبين بقوله متعجبين منه ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ تكرير للمبالغة كما هو معتاد من أعجب غاية الإعجاب والعطف ب ثُمَّ للدلالة على تفاوت الرتبة وإن الثانية أبلغ من الأولى فكأنه قيل قتل بنوع ما من القتل لا بل قتل بأشده وأشده، ولذا ساغ العطف فيه مع أنه تأكيد ونحوه ما في قوله: ومالي من ذنب إليهم علمته ... سوى أنني قد قلت يا سرحة اسلمي ألا يا اسلمي ثم اسلمي ثم اسلمي ... ثلاث تحيات وإن لم تكلمي والإطراء في الإعجاب بتقديره يدل على غاية التهكم به وبمن فرح بمحصول تفكيره. وقال الراغب في غرة التنزيل: كان الوليد بن المغيرة لما سئل عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قدر ما أتى به من القرآن فقال: إن قلنا شاعر كذبتنا العرب إذا عرضت ما أتى به على الشعر وكان يقصد بهذا التقدير تكذيب الرسول صلّى الله عليه وسلم بضرب من الاحتيال فلذلك كان كل تقدير مستحقا لعقوبة من الله تعالى هي كالقتل إهلاكا له فالأول لتقديره على الشعر أي أهلك إهلاك المقتول كيف قدر وقوله تعالى ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ لتقديره الآخر فإنه قدر أيضا. وقال: فإن ادعينا أن ما أتى به من كلام الكهنة كذبتنا العرب إذا رأوا هذا الكلام مخالفا لكلام الكهان فهو في تقديره له على كلام الكهنة مستحق من العقوبة لما هو   (1) فعجّوا: اي ضجّوا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 137 كالقتل إهلاكا له فجاء ذلك لهذا فلم يكن في الإعادة تكرار والأول هو ما ذهب إليه جار الله وجعل الدعاء اعتراضا وقال عليه الطيبي إنه ليس من الاعتراض المتعارف الذي ينحل لتزيين الكلام وتقريره لأن الفاء مانعة من ذلك بل هو من كلام الغير ووقع الفاء في تضاعيف كلامه فأدخل بين الكلامين المتصلين على سبيل الحكاية ثم قال: وهو متعسف وإنما سلكه لأنه جعل الدعاءين من كلام الغير وأما إذا جعلا من كلام الله تعالى استهزاء كما ذكر هو أو دعاء عليه كما ذهب إليه الراغب وعليه تفسير الواحدي على ما قال، ونقل عن صاحب النظم فَقُتِلَ كَيْفَ أي عذب ولعن كَيْفَ قَدَّرَ كما يقال لأضربنه كيف صنع أي على أي حال كانت منه لتكون الأفعال كلها متناسقة مرتبة على التفاوت في التعقيب والتراخي زمانا ورتبة كما يقتضيه المقام كان أحسن وجاء النظم على السنن المألوف من التنزيل إلى آخر ما قال وما تقدم أبعد مغزى والاعتراض من المتعارف وهو يؤكد ما سيق له الكلام أحسن تأكيد والفاء غير مانعة على ما نص عليه جار الله وغيره وجعل من الاعتراض المقرون بها فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ [النحل: 43، الأنبياء: 7] ومنه قوله: واعلم فعلم المرء ينفعه ... أن سوف يأتي كل ما قدرا وقد حقق أنه بالحقيقة نتيجة وقعت بين أجزاء الكلام اهتماما بشأنها فأفادت فائدة الاعتراض وعدت منه، والاعتراض بين قوله تعالى إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ وقوله سبحانه ثُمَّ نَظَرَ للعطف وثُمَّ فيه وفيما بعد على معناها الوضعي وهو التراخي الزماني مع مهلة أي ثم فكر في أمر القرآن مرة بعد أخرى ثُمَّ عَبَسَ قطب وجهه لما لم يجد فيه مطعنا وضاقت عليه الحيل ولم يدر ماذا يقول وقيل ثم نظر في وجوه القوم ثم قطب وجهه وقيل نظر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم قطب في وجهه عليه الصلاة والسلام وَبَسَرَ أي أظهر العبوس قبل أو انه وفي غير وقته فالبسر الاستعجال بالشيء نحو بسر الرجل لحاجة طلبها في غير أوانها وبسر الفحل الناقة ضربها قبل أن تطلب وماء بسر متناول من غديره قبل سكونه وقيل للجبن الذي ينكأ قبل النضج بسر ومنه قيل لما لم يدرك من الثمر بسر، وبهذا فسره الراغب هنا وفسره بعضهم بأشد العبوس من بسر إذا قبض ما بين عينيه كراهة للشيء واسودّ وجهه منه، ويستعمل بمعنى العبوس ومنه قول توبة: قد رابني منها صدود رأيته ... وإعراضها عن حاجتي وبسورها وقول سعد لما أسلمت راغمتني أمي فكانت تلقاني مرة بالبشر ومرة بالبسر فحينئذ يكون ذكر بَسَرَ كالتأكيد ل عَبَسَ ولعله مراد من قال اتباع له وأهل اليمين يقولون بسر المركب وأبسر إذا وقف ولم أر من جز إرادة ذاك هنا ولو على بعد وفي النفس من ثبوت ذلك لغة صحيحة توقف ثُمَّ أَدْبَرَ عن الحق أو عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وَاسْتَكْبَرَ عن اتباعه فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ أي يروى ويتعلم من سحرة بابل ونحوهم، وقيل أي يختار ويرجح على غيره من السحر وليس بمختار، والفاء للدلالة على أن هذه الكلمة الحمقاء لما خطرت بباله تفوه بها من غير تلعثم وتلبث فهي للتعقيب من غير مهلة ولا مخالفة فيه لما مر من الرواية كما لا يخفى. وقوله إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ كالتأكد للجملة الأولى لأن المقصود منهما نفي كونه قرآنا ومن كلام الله تعالى وإن اختلفا معنى ولاعتبار الاتحاد في المقصود لم يعطف عليها وأطلق بعضهم عليه التأكيد من غير تشبيه والأمر سهل وفي وصف إشكاله التي تشكل بها حتى استنبط هذا القول السخيف استهزاء به وإشارة إلى أنه عن الحق الأبلج بمعزل ثم إن الذي يظهر من تتبع أحوال الوليد أنه إنما قال ذلك عنادا وحمية جاهلية لا جهلا بحقيقة الحال وقوله تعالى سَأُصْلِيهِ سَقَرَ بدل من سَأُرْهِقُهُ إلخ بدل اشتمال الجزء: 15 ¦ الصفحة: 138 لاشتمال السقر على الشدائد وعلى الجبل من النار، والوصف الآتي لا ينافي الإبدال على إرادة الجبل بناء على أن المراد به نحو ما في الحديث وقال أبو حيان: يظهر أنهما جملتان اعتقبت كل واحدة منهما على سبيل توعد العصيان الذي قبل كل واحدة منهما فتوعد على كونه عنيدا لآيات الله تعالى بإرهاق صعود وعلى قوله إن القرآن سحر يؤثر بإصلاء سقر وفيه بحث لا يخفى على من أحاط خبرا بما تقدم وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ أي أي شيء أعلمك ما سقر على أن ما الأولى مبتدأ وأَدْراكَ خبره وما الثانية خبر لأنها مفيدة لما قصد إفادته من التهويل والتفظيع وسَقَرُ مبتدأ أي أي شيء هي في وصفها فإن ما قد يطلب بها الوصف وإن كان الغالب أن يطلب بها الاسم والحقيقة وقوله سبحانه لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ بيان لوصفها وحالها فالجملة مفسرة أو مستأنفة من غير حاجة إلى جعلها خبر مبتدأ محذوف وقيل حال من سَقَرُ والعامل فيها معنى التعظيم أي أعظم سقر وأهول أمرها حال كونها لا تُبْقِي إلخ وليس بذاك أي لا تبقي شيئا يلقى فيها إلا أهلكته وإذا هلك لم نذره هالكا حتى يعاد. وقال ابن عباس لا تُبْقِي إذا أخذت فيهم لم تبق منهم شيئا وإذا بدلوا خلقا جديدا لم تَذَرُ أن تعاودهم سبيل العذاب الأول وروي نحوه عن الضحاك بزيادة ولكل شيء فترة وملالة إلّا جهنم. وقيل لا تُبْقِي على شيء ولا تدعه من الهلاك بل كل ما يطرح فيها هالك لا محالة. وقال السدي: لا تبقي لهم لحما ولا تذر عظما وهو دون ما تقدم لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ قال ابن عباس ومجاهد وأبو رزين والجمهور أي مغيرة للبشرات مسودة للجلود، وفي بعض الروايات عن بعض بزيادة «محرقة» والمراد في الجملة ف لَوَّاحَةٌ من لوحته الشمس إذا سودت ظاهره وأطرافه قال: تقول ما لاحك يا مسافر ... يا ابنة عمي لاحني الهواجر والبشر جمع بشرة وهي ظاهر الجلد وفي بعض الآثار أنها تلفح الجلد لفحة فتدعه أشد سوادا من الليل. واعترض بأنه لا يصح وصفها بتسويدها الظاهر الجلود مع قوله سبحانه لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ الصريح في الإحراق وأجيب بأنها في أول الملاقاة تسوده ثم تحرقه وتهلكه أو الأول حالها مع من دخلها وهذا حالها مع من يقرب منها، وأنت تعلم أنه إذا قيل لا يحسن وصفها بتسويد ظاهر الجلود بعد وصفها بأنها لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ لم يحسن هذا الجواب وقد يجاب حينئذ بأن المراد ذكر أوصافها المهولة الفظيعة من غير قصد إلى ترقّ من فظيع إلى أفظع وكونها لَوَّاحَةٌ وصف من أوصافها ولعله باعتبار أول الملاقاة وقيل الإهلاك وفي ذكره من التفظيع ما فيه لما أن في تسويد الجلود مع قطع النظر عما فيه من الإيلام تشويها للخلق ومثلة للشخص فهو من قبيل التتميم وفي استلزام الإهلاك تسويد الجلود تردد وإن قيل به فتدبر، وجوز على تفسير لَوَّاحَةٌ بما ذكر كون البشر اسم جنس بمعنى الناس، ويرجع المعنى إلى ما تقدم وقال الحسن وابن كيسان والأصم لَوَّاحَةٌ بناء مبالغة من لاح إذا ظهر والبشر بمعنى الناس أي تظهر للناس لعظمها وهولها كما قال تعالى وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى وقد جاء أنها تظهر لهم من مسيرة خمسمائة عام. ورفع لَوَّاحَةٌ على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هي لواحة. وقرأ عطية العوفي وزيد بن علي والحسن وابن أبي عبلة «لوّاحة» بالنصب على الاختصاص للتهويل أي أخص أو أعني وجوز أن يكون حالا مؤكدة من ضمير تُبْقِي أو تَذَرُ بناء على زعم الاستلزام وأن يكون حالا من سَقَرُ والعامل ما مر عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ الظاهر ملكا ألا ترى العرب وهم الفصحاء كيف فهموا منه ذلك فقد روي عن ابن عباس أنها لم نزلت عليها تسعة عشر قال أبو جهل لقريش ثكلتكم أمهاتكم أسمع أن ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 139 النار تسعة عشر وأنتم الدهم أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم، فقال له أبو الأشد بن أسيد بن كلدة الجمحي وكان شديد البطش: أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين فأنزل الله تعالى وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً أي ما جعلناهم رجالا من جنسكم يطاقون وأنزل سبحانه في أبي جهل أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى [القيامة: 34، 35] والظاهر أن المراد بأصحاب النار هم التسعة عشر ففيه وضع الظاهر موضع الضمير وكأن ذلك لما في هذا الظاهر من الإشارة إلى أنهم المدبرون لأمرها القائمون بتعذيب أهلها ما ليس في الضمير. وفي ذلك إيذان بأن المراد بسقر النار مطلقا لا طبقة خاصة منها والجمهور على أن المراد بهم النقباء فمعنى كونهم عَلَيْها أنهم يتولون أمرها وإليهم جماع زبانيتها وإلّا فقد جاء: «يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها» . وذهب بعضهم إلى أن التمييز المحذوف صف وقيل صف والأصل عليها تِسْعَةَ عَشَرَ صنفا أو عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ صفا ويبعده ما تقدم في رواية الحبر وكذا قوله تعالى وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا فإن المتبادر أن افتتانهم باستقلالهم لهم واستبعادهم تولي تسعة عشر لتعذيب أكثر الثقلين واستهزائهم بذلك، ومع تقدير الصنف أو الصف لا يتسنى ذلك وقال غير واحد في تعليل جعلهم ملائكة ليخالفوا جنس المعذبين فلا يرقوا لهم ولا يستروحوا إليهم ولأنهم أقوى الخلق وأقومهم بحق الله تعالى وبالغضب له سبحانه وأشدهم بأسا. وفي الحديث: «كأن أعينهم البرق وكأن أقوالهم الصياصي يجرون أشعارهم لهم مثل قوة الثقلين يقبل أحدهم بالأمة من الناس يسوقهم على رقبته جبل حتى يرمي بهم في النار فيرمي بالجبل عليهم» ولا يبعد أن يكون في التنوين إشعار إلى عظم أمرهم ومعنى قوله تعالى وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إلى آخره على ما اختاره بعض الأجلة وما جعلنا عدد أصحاب النار إلّا العدد الذي اقتضى فتنة الذين كفروا بالاستقلال والاستهزاء وهو التسعة عشر فكأن الأصل وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إلّا تسعة عشر فعبر بالأثر وهو فتنة الذين كفروا عن المؤثر وهو خصوص التسعة عشر لأنه كما علم السبب في افتتانهم وقيل إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ تنبيها على أن الأثر هنا لعدم انفكاكه عن مؤثره لتلازمهما كانا كشيء واحد يعبر باسم أحدهما عن الآخر ومعنى جعل عدتهم المطلقة العدة المخصوصة أن يخبر عن عددهم بأنه كذا إذ الجعل لا يتعلق بالعدة إنما يتعلق بالمعدود، فالمعنى أخبرنا أن عدتهم تسعة عشر دون غيرها لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي ليكتسبوا اليقين بنبوته صلّى الله عليه وسلم وصدق القرآن لأجل موافقة المذكورين ذكرهم في القرآن بهذا العدد وفي الكتابين كذلك وهذا غير جعل الملائكة على العدد المخصوص لأنه إيجاد ولا يصح على ما قال بعض المحققين أن يجعل إيجادهم على الوصف علة للاستيقان المذكور لأنه ليس إلّا للموافقة وتكلف بعضهم لتصحيحه بأن الإيجاد سبب للإخبار والإخبار سبب للاستيقان فهو سبب بعيد له والشيء كما يسند لسببه البعيد يسند لسببه القريب لكنه كما قال لا يحسن ذلك وإنما احتيج إلى التأويل بالتعبير بالأثر عن المؤثر ولم يبق الكلام على ظاهره لأن الجعل من دواخل المبتدأ والخبر فما يترتب عليه يترتب باعتبار نسبة أحد المفعولين إلى الآخر كقولك جعلت الفضة خاتما لتزين به، وكذلك ما جعلت الفضة إلّا خاتما لكذا ولا معنى لترتب الاستيقان وما بعده على جعل عدتهم فتنة للكفار ولا مدخل لافتتانهم بالعدد المخصوص في ذلك، وإنما الذي له مدخل العدة بنفسها أي العدة باعتبار أنها العدة المخصوصة والإخبار بها كما سمعت وليس ذلك تحريفا لكتاب الله تعالى ولا مبنيا على رعاية مذهب باطل كما توهم. ومنهم من تكلف لأمر السببية على الظاهر بما تمجه الأسماع فلا نسود به الرقاع. وفي البحر لِيَسْتَيْقِنَ مفعول من أجله وهو الجزء: 15 ¦ الصفحة: 140 متعلق ب جَعَلْنا لا ب فِتْنَةً فليست الفتنة معلولة للاستيقان بل المعلول جعل العدة سبب الفتنة. وفي الانتصاف يجوز أن يرجع قوله تعالى لِيَسْتَيْقِنَ إلى ما قبل الاستثناء أي جعلنا عدتهم سببا لفتنة الكفار ويقين المؤمنين وذكر الإمام في ذلك وجهين الثاني ما قدمناه مما اختاره بعض الأجلة والأول أن التقدير وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً للكافرين وإلا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قال: وهذا كما يقال فعلت كذا لتعظيمك ولتحقير عدوك فالواو العاطفة قد تذكر في هذا الموضع تارة وقد تحذف أخرى. وقال بعض أنه متعلق بمحذوف أي فعلنا ذلك ليستيقن إلخ والكل كما ترى وحمل الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ على أهل الكتابين مما ذهب إليه جمع وقيل المراد بهم اليهود فقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث عن البراء أن رهطا من اليهود سألوا رجلا من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم عن خزنة جهنم فقال الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم أعلم فجاء فأخبر النبيّ صلّى الله عليه وسلم فنزل عليه ساعتئذ عليها تسعة عشر. وأخرج الترمذي وابن مردويه عن جابر قال: قال ناس من اليهود لأناس من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلم: هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم؟ فأخبروا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: «هكذا وهكذا في مرة عشرة وفي مرة تسعة» واستشعر من هذا أن الآية مدنية لأن اليهود إنما كانوا فيها وهو استشعار ضعيف لأن السؤال لصحابي فلعله كان مسافر فاجتمع بيهودي حيث كان وأيضا لا مانع إذ ذاك من إتيان بعض اليهود نحو مكة المكرمة ثم إن الخبرين لا يعينان حمل الموصول على اليهود كما يخفى فالأولى إبقاء التعريف على الجنس وشمول الموصول للفريقين أي لِيَسْتَيْقِنَ أهل الكتاب من اليهود والنصارى وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً أي يزداد إيمانهم كيفية بما رأوا من تسليم أهل الكتاب وتصديقهم أنه كذلك أو كمية بانضمام إيمانهم بذلك إلى إيمانهم بسائر ما أنزل وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ تأكيد لما قبله من الاستيقان وازدياد الإيمان ونفي لما قد يعتري المستيقن من شبهة ما للغفلة عن بعض المقدمات أو طريان ما توهم كونه معارضا في أول وهلة ولما فيه من هذه الزيادة جاز عطفه على المؤكد بالواو لتغايرهما في الجملة، وإنما لم ينظم المؤمنون في سلك أهل الكتاب في نفي الارتياب حيث لم يقل ولا يرتابوا للتنبيه على تباين النفيين حالا فإن انتفاء الارتياب من أهل الكتاب مقارن لما ينافيه من الجحود ومن المؤمنين مقارن لما يقتضيه من الإيمان وكم بينهما وقيل إنما لم يقل ولا يرتابوا بل قيل وَلا يَرْتابَ إلخ للتنصيص على تأكيد الأمرين لاحتمال عود الضمير في ذلك على المؤمنين فقط والتعبير عن المؤمنين باسم الفاعل بعد ذكرهم بالموصول والصلة الفعلية المنبئة عن الحدوث للإيذان بثباتهم على الإيمان بعد ازديادهم ورسوخهم في ذلك وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي شك أو نفاق فيكون بناء على أن السورة بتمامها مكية، والنفاق إنما حدث بالمدينة إخبارا عما سيحدث من المغيبات بعد الهجرة وَالْكافِرُونَ المصرون على التكذيب ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا أي أي شيء أراد الله تعالى أو ما الذي أراد الله تعالى بهذا العدد المستغرب استغراب المثل وعلى الأول ماذا منزّلة منزلة اسم واحد للاستفهام في موضع نصب ب أَرادَ وعلى الثاني هي مؤلفة من كلمة ما اسم استفهام مبتدأ وذا اسم موصول خبره والجملة بعد صلة والعائد فيها محذوف ومَثَلًا نصب على التمييز أو على الحال كما في قوله تعالى هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ [الأعراف: 73، هود: 64] آية والظاهر أن ألفاظ هذه الجملة من المحكي وعنوا بالإشارة التحقير وغرضهم نفي أن يكون ذلك من عند الله عز وجل على أبلغ وجه لا الاستفهام حقيقة عن الحكمة ولا القدح في اشتماله عليها مع اعترافهم بصدور الأخبار بذلك عنه تعالى، وجوز أن يكون أراد الله من الحكاية وهم قالوا ماذا أريد ونحوه وقيل يجوز أن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 141 يكون المثل بمعناه الآخر وهو ما شبه مضربه بمورده بأن يكونوا قد عدوه لاستغرابه مثلا مضروبا ونسبوه إليه عز وجل استهزاء وتهكما. وإفراد قوله بهذا التعليل مع كونه من باب فتنتهم قيل للإشعار باستقلاله في الشناعة وفي الحواشي الشهابية إنما أعيد اللام فيه للفرق بين العلتين إذ مرجع الأولى الهداية المقصودة بالذات ومرجع هذه الضلال المقصود بالعرض الناشئ من سوء صنيع الضالين وتعليل أفعاله تعالى بالحكم والمصالح جائز عند المحققين وجوز في هذه اللام وكذا الأولى كونها للعاقبة كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ ذلك إشارة إلى ما قبله من معنى الإضلال والهداية ومحل الكاف في الأصل النصب على أنها صفة لمصدر محذوف وأصل التقدير يضل الله من يشاء وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إضلالا وهداية كائنين مثل ما ذكر من الإضلال والهداية فحذف المصدر وأقيم وصفه مقام ثم قدم على الفعل لإفادة القصر فصار النظم مثل ذلك الإضلال وتلك الهداية يُضِلُّ اللَّهُ تعالى مَنْ يَشاءُ إضلاله لصرف اختياره حسب استعداده السيء إلى جانب الضلال عند مشاهدته لآيات الله تعالى الناطقة بالهدى وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ هدايته لصرف اختياره حسب استعداده الحسن عند مشاهدة تلك الآيات إلى جانب الهدى لا إضلالا وهداية أدنى منهما، ويجوز أن تكون الإشارة إلى ما بعد كما في قوله تعالى وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143] على ما حقق في موضعه وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ جمع جند اشتهر في العسكر اعتبارا بالغلظة من الجند أي الأرض الغليظة التي فيها حجارة. ويقال لكل جمع أي وما يعلم جموع خلقه تعالى التي من جملتها الملائكة المذكورون على ما هم عليه إِلَّا هُوَ عز وجل إذ لا سبيل لأحد إلى حصر الممكنات والوقوف على حقائقها وصفاتها ولو إجمالا فضلا عن الاطلاع على تفاصيل أحوالها من كم وكيف ونسبة. وهُوَ رد لاستهزائهم يكون الخزنة تسعة عشر لجهلهم وجه الحكمة في ذلك. وقال مقاتل هو جواب لقول أبي جهل أما لرب محمد أعوان إلّا تسعة عشر وحاصله أنه لما قلل الأعوان أجيب بأنهم لا يحصون كثرة إنما الموكلون على النار هؤلاء المخصوصون لا أن المعنى ما يعلم بقوة بطش الملائكة إلّا هو خلافا للطيبي فإن اللفظ غير ظاهر الدلالة على هذا المعنى واختلف في أكثر جنود الله عز وجل فقيل الملائكة لخبر: «أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلّا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد» . وفي بعض الأخبار أن مخلوقات البر عشر مخلوقات البحر والمجموع عشر مخلوقات الجو والمجموع عشر ملائكة السماء الدنيا والمجموع عشر ملائكة السماء الثانية وهكذا إلى السماء السابعة والمجموع عشر ملائكة الكرسي والمجموع عشر الملائكة الحافين بالعرش والمجموع أقل قليل بالنسبة إلى ما لا يعلمه إلّا الله، وقيل المجموع أقل قليل بالنسبة إلى الملائكة المهيمين الذين لا يعلم أحدهم أن الله تعالى خلق أحدا سواء والمجموع أقل قليل بالنسبة إلى ما يعلمه سبحانه من مخلوقاته. وعن الأوزاعي قال: قال موسى عليه السلام: يا رب من معك في السماء؟ قال: ملائكتي، قال: كم عدتهم؟ قال: اثنا عشر سبطا، قال: كم عدة كل سبط؟ قال: عدد التراب . وفي صحة هذا نظر وإن صح فصدره من المتشابه وأنا لا أجزم بأكثرية صف فما يعلم جنود ربك إلّا هو ولم يصح عندي نص في ذلك بيد أنه يغلب على الظن أن الأكثر الملائكة عليهم السلام، وهذه الآية وأمثالها من الآيات والأخبار تشجع على القول باحتمال أن يكون في الأجرام العلوية جنود من جنود الله تعالى لا يعلم حقائقها وأحوالها إلّا هو عز وجل ودائرة ملك الله جل جلاله أعظم من أن يحيط بها نطاق الحصر أو يصل إلى مركزها طائر الفكر فأنّى وهيهات ولو استغرقت القوى والأوقات هذا واختلف في المخصص لهذا العدد أعني تسعة عشر فقيل إن اختلاف النفوس البشرية في النظر والعمل بسبب القوى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 142 الحيوانية الاثنتي عشرة يعني الحواس الخمسة الباطنة والحواس الخمسة الظاهرة والقوة الباعثة كالغضبية والشهوية والقوة المحركة فهذه اثنتا عشرة والطبيعية السبع التي ثلاث منها مخدومة وهي القوة النامية والغادية والمولدة وأربع منها خادمة وهي الهاضمة والجاذبة والدافعة والماسكة وهذا مع ابتنائه على الفلسفة لا يكاد يتم كما لا يخفى على من وقف على كتبها. وقيل: إن لجهنم سبع دركات ست منها لأصناف الكفار وكل صنف يعذب بترك الاعتقاد والإقرار والعمل أنواعا من العذاب تناسبها فيضرب الست في الثلاثة يحصل ثمانية عشر وعلى كل نوع ملك أو صنف يتولاه وواحدة لعصاة الأمة يعذبون فيها بترك العمل نوعا يناسبه ويتولاه ملك أو صنف وبذلك تتم التسعة عشرة. وخصت ست منها بأصناف الكفار وواحدة بأصناف الأمة، ولم يجعل تعذيب الكفار في خمس منها فيبق للمؤمنين اثنتان إحداهما لأهل الكبائر والأخرى لأهل الصغائر أو إحداهما للعصاة منهم والأخرى للعاصيات لأنه حيث أعدت النار للكافرين أولا وبالذات ناسب أن يستغرقوها كلية ويوزعوا على جميع أماكنها بقدر ما يمكن لكن لما تعلقت إرادته سبحانه بتعذيب عصاة الأمة بها أفرزت واحدة منها لهم وقيل: إن الساعات أربع وعشرون خمسة منها مصروفة للصلاة فلم يخلق في مقابلتها زبانية لبركة الصلاة الشاملة لمن لم يصل فيبقى تسعة عشرة، وقيل إن لجهنم سبع دركات ست منها لأصناف الكفار وللاعتناء بأمر عذابهم واستمراره ناسب أن يقوم عليه ثلاثة واحد في الوسط واثنان في الطرفين فهذه ثمانية عشر وواحدة منها لعصاة المؤمنين ناسب أمر عذابهم أن يقوم عليه واحد وبه تتم التسعة عشر وقيل إن العدد على وجهين قليل وهو من الواحد إلى التسعة وكثير وهو من العشرة إلّا ما لا نهاية له فجمع بين نهاية القليل وبداية الكثير وقيل غير ذلك والذي مال إليه أكثر العلماء أن ذلك مما لا يعلم حكمته على التحقيق إلّا الله عز وجل وهو كالمتشابه يؤمن به ويفوض علمه إلى الله تعالى وكل ما ذكر مما لا يعول عليه كما لا يخفى على من وجه أدنى نظره إليه والله تعالى الهادي لصوب الصواب والمتفضل على من شاء يعلم لا شك معه ولا ارتياب. وقرأ أبو جعفر وطلحة بن سليمان «تسعة عشر» بإسكان العين وهو لغة فيه كراهة توالي الحركات فيما هو كاسم واحد. وقرأ أنس بن مالك وابن عباس وابن قطب وإبراهيم بن قتة «تسعة» بضم التاء وهي حركة بناء عدل إليها عن الفتح لتوالي خمس فتحات ولا يتوهم أنها حركة إعراب وإلّا أعرب عشر وقرأ أنس أيضا «تسعة» بالضم «أعشر» بالفتح قال صاحب اللوامح فيجوز أنه جمع العشرة على أعشر ثم أجراه مجرى تسعة عشر وعنه أيضا «تسعة» و «عشر» بالضم وقلب الهمزة واوا خالصة تخفيفا والتاء فيهما مضمومة ضمة بناء لما سمعت آنفا. وعن سليمان بن قتة وهو أخو إبراهيم أنه قرأ «تسعة أعشر» بضم التاء ضمة إعراب والإضافة إلى أعشر وجره منونا وهو على ما قال صاحب اللوامح جمع عشرة وقد صرح بأن الملائكة على القراءة بهذا الجمع معربا أو مبنيا تسعون ملكا. وقال الزمخشري جمع عشير مثل يمين وأيمن. وروي عنه أنه قال أي تسعة من الملائكة كل واحد منهم عشير فهم مع أشياعهم تسعون والعشير بمعنى العشر فدل على أن النقباء تسعة وتعقب بأن دلالته على هذا المعنى غير واضحة ولهذا قال ابن جني لا وجه لتلك القراءة إلّا أن يعني تسعة أعشر جمع العشير وهم والأصدقاء فليراجع وَما هِيَ أي سقر كما يقتضيه كلام مجاهد إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ إلا تذكرة لهم والعطف قيل على قوله تعالى سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إلى هنا اعتراض ووجهه أنه لما قيل عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ زيادة في تهويل أمر جهنم عقب بما يؤكد قوتهم وتسلطهم وتباينهم بالشدة عن سائر المخلوقات ثمّ بما يؤكد الكمية وما أكد المؤكد فهو مؤكد أيضا. وقيل الضمير للآيات الناطقة بأحوال الجزء: 15 ¦ الصفحة: 143 سقر، وقيل لعد خزنتها والتذكير والعظة فيها من جهة أن في خلقه تعالى ما هو في غاية العظمة حتى يكون لقليل منهم معذبا ومهلكا لما لا يحصى دلالة على أنه عز وجل لا يقدر حق قدره ولا توصف عظمته ولا تصل الأفكار إلى حرم جلاله. وقيل الضمير للجنود وقيل لنار الدنيا وهذا أضعف الأقوال وأقواها على ما قيل ما تقدم. وبين «البشر» هاهنا و «البشر» فيما سبق أعني قوله تعالى لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ على تفسير الجمهور تجنيس تام لفظي وخطي وقل من تذكر له. كَلَّا ردع لمن أنكرها وقيل زجر عن قول أبي جهل وأصحابه إنهم يقدرون على مقاومة خزنة جهنم. وقيل: ردع عن الاستهزاء بالعدة المخصوصة وقال الفراء: هي صلة للقسم وقدرها بعضهم بحقا وبعضهم بألا الاستفتاحية. وقال الزمخشري إنكار بعد أن جعلها سبحانه ذكرى أن يكون لهم ذكرى وتعقبه أبو حيان بأنه لا يسوغ في حقه تعالى أن يخبر أنها ذكرى للبشر ثم ينكر أن يكون لهم ذكرى وأجيب بأنه لا تناقض لأن معنى كونها ذكرى أن شأنها أن تكون مذكرة لكل أحد ومن لم يتذكر لغلبة الشقاء عليه لا يعد من البشر ولا يلتفت لعدم تذكره كما أن حلاوة العسل لا يضرها كونها مرة في فم منحرف المزاج المحتاج إلى العلاج وحال حسن الوقف على كلا وعدم حسنه هنا يعلم من النظر إلى المراد بها وصرح بعضهم بذلك فقال: إن كانت متعلقة بالكلام السابق يحسن الوقف عليها، وإن كانت متعلقة بالكلام اللاحق لا يحسن ذلك أي كما أنها كانت بمعنى ألا الاستفتاحية فالوقت حينئذ تام على للبشر ويستأنف كَلَّا وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ أي ولى وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وعطاء وابن يعمر وأبو جعفر وشيبة وأبو الزناد وقتادة وعمر بن عبد العزيز والحسن وطلحة والنحويان والابنان وأبو بكر «إذا» ظرف زمان مستقبل «دبر» بفتح الدال وهو بمعنى أدبر المزيد كقبل وأقبل والمعروف المزيد وحسن الثلاثي هنا مشاكلة أكثر الفواصل وقيل دبر من دبر الليل النهار إذا خلفه والتعبير بالماضي مع إذا التي للمستقبل للتحقيق ويجوز أن يقال إنها تقلبه مستقبلا. وقرأ أبو رزين وأبو رجاء والأعمش ومطر ويونس بن عبيد وهي رواية عن الحسن وابن يعمر والسلمي وطلحة «إذا» بالألف أَدْبَرَ بالهمز وكذا هو في مصحف عبد الله وأبيّ وهو أنسب بقوله تعالى وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ أي أضاء وانكشف على قراءة الجمهور وقرأ ابن السميفع وعيسى بن الفضل «سفر» ثلاثيا وفسر بطرح الظلمة عن وجهه إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ جواب للقسم وجوز أن يكون كَلَّا ردعا لمن ينكر أن تكون إحدى الكبرى لما علم من أن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 144 أن واللام من الكلام الإنكاري في جواب منكر مصر وهذا تعليل ل كَلَّا والقسم معترض للتأكيد لا جواب له أو جوابه مقدر يدل عليه كَلَّا وفي التعليل نوع خفاء فتأمل. وضمير إِنَّها لسقر والْكُبَرِ جمع الكبرى جعلت ألف التأنيث كتائها فكما جمعت فعلة على فعل جمعت فعلى عليها ونظيرها السوافي في جمع السافياء والقواصع في جمع القاصعاء فإن فاعلة تجمع على فواعل باطراد لا فاعلاء لكن حمل فاعلاه على فاعلة لاشتراك الألف والتاء في الدلالة على التأنيث وضعا فجمع فيهما على فواعل وقول ابن عطية الْكُبَرِ جمع كبيرة وهم كما لا يخفى أي إن سقر لإحدى الدواهي الكبر على معنى أن البلايا الكبيرة كثيرة وسقر واحدة منها قيل فيكون في ذلك إشارة إلى أن بلاءهم غير محصور فيها بل تحل بهم بلايا غير متناهية أو أن البلايا الكبيرة كثيرة وسقر من بينهم واحدة في العظم لا نظير لها وهذا كما يقال فلان أحد الأحدين وهو واحد الفضلاء وهي إحدى النساء وعلى هذا اقتصر الزمخشري. ورجح الأول بأنه أنسب بالمقام ولعله لما تضمن من الإشارة وقيل المعنى إنها لإحدى دركات النار الكبر السبع لأنها جهنم ولظى والحطمة وسقر والسعير والجحيم والهاوية. ونقل عن صاحب التيسير وليس بذاك أيضا وقيل ضمير إِنَّها يحتمل أن يكون للنذارة وأمر الآخرة. قال في البحر فهو للحال والقصة وقيل هو للساعة فيعود على غير مذكور. وقرأ نصر بن عاصم وابن محيصن ووهب بن جرير عن ابن كثير «لحدى الكبرى» بحذف همزة إحدى وهو حذف لا ينقاس وتخفيف مثل هذه الهمزة أن تجعل بين بين نَذِيراً لِلْبَشَرِ قيل تمييز لَإِحْدَى الْكُبَرِ على أن نَذِيراً مصدر بمعنى إنذارا كالنكير بمعنى الإنكار أي إنها لإحدى الكبر إنذارا والمعنى على ما سمعت عن الزمخشري أنها لأعظم الدواهي إنذارا وهو كما تقول هي إحدى النساء عفافا. وقال الفراء: هو مصدر نصب بإضمار فعل أي إنذار إنذارا وذهب غير واحد إلى أنه اسم فاعل بمعنى منذرة فقال الزجاج حال من الضمير في أنها وفيه مجيء الحال من اسم أن وقيل حال من الضمير في لَإِحْدَى واختار أبو البقاء كونه حالا مما دلت عليه الجملة والتقدير عظمت أو كبرت نذيرا وهو على ما قال أبو حيان قول لا بأس به وجوزت هذه الأوجه على مصدريته أيضا بتأويله بالوصف وقال النحاس: حذفت الهاء من نَذِيراً وإن كان للنار على معنى النسب يعني ذات إنذار وقد يقال في عدم إلحاق الهاء فيه غير ذلك مما قيل في عدم إلحاقها في قوله تعالى إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف: 56] وقال أبو رزين: المراد بالنذير هنا هو الله تعالى فهو منصوب بإضمار فعل أي ادع نذيرا أو نحوه. وقال ابن زيد: المراد به النبيّ صلّى الله عليه وسلم قيل فهو منصوب بإضمار فعل أي ادع نذيرا أو نحوه. وقال ابن زيد: المراد به النبي صلّى الله عليه وسلم قيل فهو منصوب بإضمار فعل أيضا أي ناد أو بلغ أو أعلن وهو كما ترى ولو جعل عليه حالا من الضمير المستتر في الفعل لكان أولى وكذا لو جعل منادى والكلام نظير قولك إن الأمر كذا يا فلان وقيل إنه على هذا حال من ضمير قُمْ أول السورة وفيه خرم النظم الجليل ولذا قيل هو من بدع التفاسير. وقرأ أبيّ وابن أبي وابن عبلة «نذير» بالرفع على أنه خبر بعد خبر لأن أو خبر لمبتدأ محذوف أي هي نذير على ما هو المعول عليه من أنه وصف النار وأما على القول بأنه وصف الله تعالى أو الرسول عليه الصلاة والسلام فهو خبر لمحذوف لا غير أي هو نذير لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ الجار والمجرور بدل من الجار والمجرور فيما سبق أعني «البشر» وضمير شاءَ للموصول أي نذيرا للمتمكنين منكم من السبق إلى الخير والتخلف عنه. وقال السدي أن يتقدم إلى النار المتقدم ذكرها أو يتأخر عنها إلى الجنة وقال الزجاج: أن يتقدم إلى المأمورات أو يتأخر عن المنهيات وفسر بعضهم التقدم بالإيمان والتأخر بالكفر وقيل: ضمير شاء الله تعالى أي نذيرا لمن شاء الله تعالى منكم تقدمه أو تأخره وجوز أن يكون لمن خبرا مقدما وأن يتقدم أو الجزء: 15 ¦ الصفحة: 145 يتأخر مبتدأ كقولك لمن توضأ أن يصلي ومعناه مطلق لمن شاء التقدم أي السبق إلى الخير أو التأخر أي التخلف عنه أن يتقدم ويتأخر فيكون كقوله تعالى فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف: 29] ولا يخفى أن اللفظ يحتمله لكنه بعيد جدا كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ مرهونة عند الله تعالى بكسبها والرهينة مصدر بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم لا صفة وإلّا لقيل رهين لأن فعيلا بمعنى مفعول لا يدخله التاء ويستوي فيه المذكر والمؤنث ومنه قول عبد الرحمن بن زيد وقد قتل أبوه وعرض عليه سبع ديات فأبى أن يأخذها: أبعد الذي بالنعف نعف كويكب ... رهينة رمس ذي تراب وجندل أذكر بالبقيا على من أصابني ... وبقياي أني جاهد غير مؤتل واختير على رهين مع موازنته لليمين وعدم احتياجه للتأويل لأن المصدر هنا أبلغ فهو أنسب بالمقام فلا يلتفت للمناسبة اللفظية فيه، وقيل الهاء في رَهِينَةٌ للمبالغة واختار أبو حيان أنها مما غلب عليه الاسمية كالنطيحة وإن كانت الأصل فعيلا بمعنى مفعول وهو وجه أيضا وادعى أن التأنيث في البيت على معنى النفس إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ وهم المسلمون المخلصون كما قال الحسن وابن كيسان والضحاك ورواه ابن المنذر عن ابن عباس فإنهم فاكّون رقابهم بما أحسنوا من أعمالهم كما يفك الراهن رهنه بأداء الدين. وأخرج ابن المنذر وابن جرير وجماعة عن عليّ كرم الله تعالى وجهه أنهم أطفال المسلمين وأخرجوه أيضا عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ونقل بعضهم عن ابن عباس أنهم الملائكة فإنهم غير مرهونين بديون التكاليف كالأطفال وتعقب بأن إطلاق النفس على الملك غير معروف وبأنهم لا يوصفون بالكسب أيضا على أن الظاهر سباقا وسياقا أن يراد بهم طائفة من البر المكلفين والكثير على تفسيرهم بما سمعت. وقيل هم الذين سبقت لهم من الله الحسنى وقيل الذين كانوا عن يمين آدم عليه السلام يوم الميثاق وقيل الذين يعطون كتبهم بأيمانهم ولا تدافع بين هذه الأقوال كما لا يخفى والاستثناء على ما تقدم، وكذا هذه الأقوال متصل وأما على قول الأمير كرم الله تعالى وجهه وما نقل عن ابن عمه فقال أبو حيان: هو استثناء منقطع وقيل يجوز الاتصال والانقطاع بناء على أن الكسب مطلق العمل أو ما هو تكليف فلا تغفل فِي جَنَّاتٍ خبر مبتدأ محذوف والتنوين للتعظيم والجملة استئناف وقع جواب عن سؤال نشأ مما قبله من استثناء أصحاب اليمين كأنه قيل ما بالهم؟ فقيل: هم في جنات لا يكتنه كنههما ولا يدرك وصفها وجوز أن يكون الظرف في موضع الحال من أَصْحابَ الْيَمِينِ أو من ضميرهم في قوله تعالى يَتَساءَلُونَ قدم للاعتناء مع رعاية الفاصلة. وقيل ظرف للتساؤل وليست المراد بتساؤلهم أن يسأل بعضهم بعضا على أن يكون كل واحد منهم سائلا ومسؤولا معا بل وقوع السؤال منهم مجردا عن وقوعه عليهم فإن صيغة التفاعل وإن وضعت في الأصل للدلالة على صدور الفعل عن المتعدي ووقوعه عليه معا بحيث يصير كل واحد من ذلك فاعلا ومفعولا معا كما في قولك تشاتم القوم أي شتم كل واحد منهم الآخر لكنها قد تجرد عن المعنى الثاني ويقصد بها الدلالة على الأول فقط ويكون الواقع عليه شيئا آخر كما في قولك: تراه والهلال. قال جار الله: إذا كان المتكلم مفردا يقول: دعوته وإذا كان جماعة يقول: تداعيناه، ونظيره رميته وتراميناه ورأيت الهلال وتراءيناه ولا يكون هذا التفاعل من الجانبين وعلى هذا فالمسؤول محذوف أعني المجرمين والتقدير يَتَساءَلُونَ المجرمين عنهم أي يسألون المجرمين عن أحوالهم فغير إلى ما في النظم الجليل وقيل يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ والمعنى على ذلك وحذف المسئول لكونه غير المسئول عنه وقوله تعالى ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ بيان للتساؤل من غير حاجة إلى إضمار قول أو هو مقدر بقول وقع حالا من فاعل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 146 يَتَساءَلُونَ أي يسألونهم قائلين أي شيء أدخلكم في سقر وقيل المسئول غير المجرمين كجماعة من الملائكة عليهم السلام وما سَلَكَكُمْ إلخ حكاية قول المسئولين عنهم أي لما سأل أصحاب اليمين الملائكة عن حال المجرمين قالوا لهم نحن سألنا المجرمين عن ذلك وقلنا لهم ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ إلى الآخر وكان يكفيهم أن يقولوا حالهم كيت وكيت لكن أتى بالجواب مفصلا حسب ما سألوه ليكون أثبت للصدق وأدل على حقيقة الأمر ففي الكلام حذف واختصار. وجوز أن تكون صيغة التفاعل على حقيقتها أي يسأل بعضهم بعضا عن المجرمين وما سَلَكَكُمْ حكاية قول المسئول عنهم أيضا ولا يخفى ما في اعتبار الحكاية من التكلف فليس ذاك بالوجه وإن كان الإيجاز نهج التنزيل والحذف كثيرا في كلامه تعالى الجليل، والظاهر أن السؤال سؤال توبيخ وتحسير وإلّا فهم عالمون ما الذي أدخلهم النار ولو كانوا الأطفال فيما أظن لانكشاف الأمر ذلك اليوم. وروى عبد الله بن أحمد وجماعة عن ابن الزبير أنه يقرأ «يتساءلون عن المجرمين يا فلان ما سلككم» ورويت عن عمر أيضا وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عن ابن مسعود أنه قرأ «يا أيها الكفار ما سلككم في سقر» قالُوا أي المجرمون مجيبين للسائلين لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ للصلاة الواجبة وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ أي نعطيه ما يجب إعطاؤه والمعنى على استمرار النفي الاستمرار. واستدل بالآية على أن الكفار مخاطبون بفروع العبادات لأنهم جعلوا عذابهم لترك الصلاة فلو لم يخاطبوا بها لم يؤاخذوا وتفصيل المسألة في الأصول وتعقب هذا الاستدلال بأنه لا خلاف في المؤاخذة في الآخرة على ترك الاعتقاد فيجوز أن يكون المعنى من المعتقدين للصلاة ووجوبها فيكون العذاب على ترك الاعتقاد، وأيضا المضلين يجوز أن يكون كناية عن المؤمنين، وأيضا ذاك من كلام الكفرة فيجوز كذبهم أو خطؤهم فيه وأجيب بأن ذلك عدول عن الظاهر يأباه قوله تعالى وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ إلخ والمقصود من حكاية السؤال والجواب التحذير فلو كان الجواب كذبا أو خطأ لم يكن في ذكره فائدة وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ أي نشرع في الباطل مع الشارعين فيه والخوض في الأصل ابتداء الدخول في الماء والمرور فيه واستعماله في الشروع في الباطل من المجاز المرسل أو الاستعارة على ما قرروه في المشفر ونحوه. وعن بعضهم أنه اسم غالب في الشر وأكثر ما استعمل في القرآن بما يذم الشروع فيه وأريد بالباطل ما لا ينبغي من القول والفعل وعد من ذلك حكاية ما يجري بين الزوجين في الخلوة مثلا وحكاية أحوال الفسقة بأقسامهم على وجه الالتذاذ والاستئناس بها ونقل الحروب التي جرت بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم لغير غرض شرعي بل لمجرد أن يتوصل به إلى طعن وتنقيص والتكلم بالكلمة يضحك بها الرجل جلساءه سواء كانت مباحة في نفسها أم لا نعم التكلم بالكلمة المحرمة لذلك باطل على باطل إلى غير ذلك مما لا يحصى وكان ذكر مَعَ الْخائِضِينَ إشارة إلى عدم اكتراثهم بالباطل ومبالاتهم به فكأنهم قالوا وكنا لا نبالي بباطل وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ أي بيوم الجزاء أضافوه إلى الجزاء مع أن فيه من الدواهي والأهوال ما لا غاية له لأنه أدهاها وأهولها وأنهم ملابسوه وقد مضت بقية الدواهي وتأخير جنايتهم هذه مع كونها أعظم من الكل لتفخيمها كأنهم قالوا وكنا بعد ذلك كله مكذبين بيوم القيامة ولبيان كون تكذيبهم به مقارنا لسائر جناياتهم المعدودة مستمرا إلى آخر عمرهم حسبما نطق به قولهم حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ أي الموت ومقدماته كما ذهب إليه جل المفسرين وقال ابن عطية الْيَقِينُ عندي صحة ما كانوا يكذبون به من الرجوع إلى الله تعالى والدار الآخرة وقول المفسرين هو الموت متعقب عندي لأن نفس الموت يقين عند الكافر وهو حي فلم يريدوا باليقين إلّا الشيء الذي كانوا يكذبون به وهم أحياء في الدنيا فتيقنوه بعد الموت انتهى وفيه نظر. ثم الظاهر أن مجموع ما ذكروه سبب لدخول مجموعهم النار فلا يضر في ذلك أن من أهل النار من لم يكن وجب عليه إطعام مسكين كفقراء الكفرة المعدمين. وفي الكشاف يحتمل الكلام أن يكون دخول كل منهم النار لمجموع الأربعة ويحتمل أن يكون دخول بعضهم لبعضها كان يكون الجزء: 15 ¦ الصفحة: 147 ذلك لمجرد ترك الصلاة أو ترك الإطعام وفيه دسيسة اعتزال وهو تخليد مرتكب الكبيرة من المؤمنين كتارك الصلاة في النار وأنت تعلم أن الآية في الكفار لا في أعم منهم فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ لو شفعوا لهم جميعا فالكلام على الفرض واشتهر أنه من باب: ولا ترى الضب بها ينجحر وحمل التعريف على الاستغراق أبلغ وأنسب بالمقام والفاء في قوله فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ لترتيب إنكار إعراضهم عن القرآن بغير سبب على ما قبلها من موجبات الإقبال عليه والاتعاظ به من سوء حال المكذبين ومُعْرِضِينَ حال لازمة من الضمير في الجار الواقع خبرا لما الاستفهامية أعني لهم وهي المقصودة من الكلام وعَنِ متعلقة بها والتقديم للعناية مع رعاية الفاصلة أي فإذا كان حال المكذبين به على ما ذكر فأي شيء حصل لهم معرضين عن القرآن مع تعاضد موجبات الإقبال عليه وتأخذ الدواعي إلى الإيمان به وجوز أن يراد بالتذكرة ما يعم القرآن وما بعد يرجح الأول وهو مصدر بمعنى التذكير أصل على ما ذكر مبالغة وقوله تعالى كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ حال من المستكن في معرضين بطريق التداخل والحمر جمع حمار والمراد به كما قال ابن عباس حمار الوحش لأنه بينهم مثل بالنفار وشدة الفرار ومُسْتَنْفِرَةٌ من استنفر بمعنى نفر كعجب واستعجب كما قيل والأحسن أن استفعل للمبالغة كأن الحمر لشدة العدو تطلب النفار من نفسها والمعنى مشبهين بحمر نافرة جدا فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ أي أسد وهي فعولة من القسر وهو القهر والغلبة وأخرج ذلك ابن جرير وعبد بن حميد وغيرهما عن أبي هريرة، وأخرجه ابن المنذر عن ابن عباس أيضا بيد أنه قال هو بلسان العرب «الأسد» وبلسان الحبشة قَسْوَرَةٍ وفي رواية أخرى عنه إنها الرجال الرماة القنص وروي نحوه عن مجاهد وعكرمة وابن جبير وعطاء بن أبي رباح وفي رواية أخرى عنه أخرجها ابن عيينة في تفسيره أنه ركز الناس أي أصواتهم وعنه أيضا حبال الصيادين وعن قتادة النبل وقال ابن الأعرابي وثعلب القسورة أول الليل أي فرت من ظلمة الليل وجمهور اللغويين على أنه الأسد وأيّا ما كان فقد شبهوا في إعراضهم عن القرآن واستماع ما فيه من المواعظ وشرادهم عنه بحمر وحشية جدت في نفارها مما أفزعها وفي تشبيههم بالحمر مذمة ظاهرة وتهجين لحالهم بني كما في قوله سبحانه كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً [الجمعة: 5] أو شهادة عليهم بالبله وقلة العقل. وقرأ الأعمش «حمر» بإسكان الميم وقرأ نافع وابن عامر والمفضل عن عاصم «مستنفرة» بفتح الفاء أي استنفرها فزعها من القسورة وفرت يناسب الكسر فعن محمد بن سلام قال سألت أبا سرار الغنوي وكان أعرابيا فصيحا فقلت: كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ ماذا فقال مسنفرة طردها قسورة ففتح الفاء فقلت إنما هو فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ قال أفرت؟ قلت: نعم، قال فمستنفرة إذن فكسر الفاء وقوله تعالى بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً عطف على مقدر يقتضيه المقام كأنه قيل لا يكتفون بتلك التذكرة ولا يرضون بها بل يريد كل واحد منهم أن يؤتى قراطيس تنشر وتقرأ كالكتب التي يتكاتب بها وجوز أن يراد كتبا كتبت في السماء ونزلت بها الملائكة ساعة كتبت منشرة على أيديها غضة رطبة لم تطو بعد وفيه بعد وذلك على الوجهين أنهم قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم إن سرك أن نتابعك فأت كل واحد منا بكتب من السماء عنوانها من رب العالمين إلى فلان بن فلان نؤمر فيها باتباعك فنزلت ونحوه قوله تعالى لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [الإسراء: 93] وقال وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ [الأنعام: 7] الآية وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن السدي عن أبي صالح قال: قالوا إن كان محمد صادقا فليصبح تحت رأس كل رجل منا صحيفة فيه براءة وأمنة من النار وقيل كانوا يقولون بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح مكتوبا على رأسه ذنبه وكفارته فأتنا بمثل ذلك وهذا من الصحف المنشرة بمعزل إلّا أن يراد بالصحف الجزء: 15 ¦ الصفحة: 148 المنشرة الكتابات الظاهرة المكشوفة ونحوه ما روي عن أبي صالح فمآلهما إلى واحد لاشتراكهما في أن المنشر لم يبق على أصله وأن لكل صحيفة مخصوصة به إما لخلاصه من الذنب وإما لوجه خلاصة فالمعمول عليه ما تقدم وهو مروي عن الحسن وقتادة وابن زيد. وقرأ سعيد بن جبير «صحفا» بإسكان الحاء «منشرة» بالتخفيف على أن أنشر الصحف ونشرها واحد كأنزل ونزله وفي البحر المحفوظ في الصحيفة والثوب نشر مخففا ثلاثيا ويقال في الميت أنشره الله تعالى ونشره ويقال: أنشره الله تعالى فنشر هو أي أحياه فحيي كَلَّا ردع عن إرادتهم تلك وزجر لهم عن اقتراح الآيات بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ فلذلك يعرضون عن التذكرة لا لامتناع إيتاء الصحف وحصول مقترحهم كما يزعمون وقرأ أبو حيوة «تخافون» بتاء الخطاب التفاتا كَلَّا ردع لهم عن إعراضهم إِنَّهُ أي القرآن أو التذكرة السابقة في قوله تعالى فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ وكذا الضمير الآتي وذكر لأنه بمعنى القرآن أو الذكر تَذْكِرَةٌ وأي تذكرة فَمَنْ شاءَ أن يذكره ذَكَرَهُ وحاز بسببه سعادة الدارين والوقف على كَلَّا على ما سمعت في الموضعين وعلى مُنَشَّرَةً والْآخِرَةَ إن جعلت كما في الحواشي بمعنى إلّا وَما يَذْكُرُونَ أي بمجرد مشيئتهم للذكر كما هو المفهوم من ظاهر قوله تعالى فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ إذ لا تأثير لمشيئة العبد وإرادته في أفعاله وهو قوله سبحانه إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ استثناء مفرغ من أعم العلل أو من أعم الأحوال أي وما يذكرون بعلة من العلل أو في حال من الأحوال إلّا بأن يشاء الله تعالى أو حال إن يشاء الله ذلك وهذا تصريح بأن أفعال العباد بمشيئة الله عز وجل بالذات أو بالواسطة فيه رد على المعتزلة وحملهم المشيئة على مشيئة القسر والإلجاء خروج عن الظاهر من غير قسر وإلجاء. وقرأ نافع وسلام ويعقوب «تذكرون» بتاء الخطاب التفاتا مع إسكان الذال وروي عن أبي حيوة «يذّكرون» بياء الغيبة وشد الذال وعن أبي جعفر «تذكرون» بالتاء الفوقية وإدغامها في الذال هُوَ أَهْلُ التَّقْوى حقيق بأن يتقى عذابه ويؤمن به ويطاع فالتقوى مصدر المبني للمفعول وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ حقيق بأن يغفر جل وعلا لمن آمن به وأطاعه فالمغفرة مصدر المبني للفاعل وأخرج أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه والنسائي وابن ماجة وخلق آخرون عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ فقال: «قد قال ربكم أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها آخر فأنا أهل أن أغفر له» . وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن دينار عن أبي هريرة وابن عمر وابن عباس مرفوعا ما يقرب من ذلك. وفي حديث أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن الحسن قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى إني لأجدني أستحي من عبدي يرفع يديه إليّ ثم يردهما من غير مغفرة، قالت الملائكة: إلهنا ليس لذلك بأهل قال الله تعالى لكني أهل التقوى وأهل المغفرة أشهدكم أني قد غفرت له» وكأن الجملة لتحقيق الترهيب والترغيب اللذين أشعر بهما الكلام السابق كما لا يخفى على المتذكر وعن بعضهم أنه لما سمع قوله تعالى هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ قال: «اللهم اجعلني من أهل التقوى وأهل المغفرة على أن أول الثاني كثاني الأول مبنيا للفاعل وثاني الثاني كأول الأول مبنيا للمفعول وإلّا فلا يحسن الدعاء وإن تكلف لتصحيحه فافهم والله تعالى أعلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 149 سورة القيمة ويقال لها سورة لا أقسم وهي مكية من غير حكاية خلاف ولا استثناء واختلف في عدد آيها ففي الكوفي أربعون وفي غيره تسع وثلاثون والخلاف في لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة: 16] ولما قال سبحانه وتعالى في آخر ال مدثر كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ [المدثر: 53] بعد ذكر الجنة والنار وكان عدم خوفهم إياها لإنكارهم البعث ذكر جلا وعلا في هذه السورة الدليل عليه بأتم وجه ووصف يوم القيامة وأهواله وأحواله ثم ذكر ما قبل ذلك من خروج الروح من البدن ثم ما قبل من مبدأ الخلق على عكس الترتيب الواقعي فقال عز من قائل عظيم: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ إدخال لا النافية صورة على فعل القسم مستفيض في كلامهم وأشعارهم قال امرؤ القيس: لا وأبيك ابنة العامري ... لا يدعي القوم أني أفر وقول غوية بن سلمى يرثي: ألا نادت أمامة باحتمال ... لتحزنني فلا بك ما أبالي وملخص ما ذهب إليه جار الله في ذلك أن لا هذه إذا وقعت في خلال الكلام كقوله تعالى فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ [النساء: 65] فهي صلة تزاد لتأكيد القسم مثلها في قوله تعالى لِئَلَّا يَعْلَمَ [الحديد: 29] لتأكيد العلم وأنها إذا وقعت ابتداء كما في هذه السورة وسورة البلد فهي للنفي لأن الصلة إنما تكون في وسط الجزء: 15 ¦ الصفحة: 150 الكلام ووجهه أن إنشاء القسم يتضمن الإخبار عن تعظيم المقسم به فهو نفي لذلك الخبر الضمني على سبيل الكناية، والمراد أنه لا يعظم بالقسم لأنه في نفسه عظيم أقسم به أولا ويترقى من هذا التعظيم إلى تأكيد المقسم عليه إذ المبالغة في تعظيم المقسم به تتضمن المبالغة فيه فما يختلج في بعض الخواطر من أنه يلزم أن يكون على هذا إخبارا لا إنشاء فلا يستحق جوابا، وأن المعنى على تعظيم المقسم عليه لا المقسم به مدفوع، ووراء ذلك أقوال فقيل إنها لنفي الإقسام لوضوح الأمر. وقال الفراء: لنفي كلام معهود قبل القسم ورده فكأنهم هنا أنكروا البعث فقيل لا أي الأمر كذلك ثم قيل أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ وقدح الإمام فيه بإعادة حرف النفي بعد وقيل إنها ليس لا وإنما اللام أشبعت فتحتها فظهر من ذلك ألف والأصل «لأقسم» كما قرأ به قنبل وروي عن البزي والحسن وهي لام الابتداء عند بعض والأصل «لأنا أقسم» وحذف المبتدأ للعلم به ولام التأكيد دخلت على الفعل المضارع كما في إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ [النحل: 124] والأصل إني لأقسم عند بعض، ولام القسم ولم يصحبها نون التوكيد لعدم لزوم ذلك وإنما هو أغلبي على ما حكي عن سيبويه مع الاعتماد على المعنى عند آخرين. وقال الجمهور: إنها صلة واختاره جار الله في المفصل وما ذكر من الاختصاص غير مسلم لأن الزيادة إذا ثبتت في القسم فلا فرق بين أول الكلام وأوسطه لا أنه مسلم لكن القرآن في حكم سورة واحدة متصل بعضه ببعض لأن كونه كذلك بالنسبة إلى التناقض ونحوه لا بالنسبة إلى مثل هذا الحكم ثم فهم ما ذكره في توجيه النوفي من اللفظ بعيد وحال سائر الأقوال غير خفي وقد مر بعض الكلام في ذلك فتذكر والكلام في قوله تعالى وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ على ذلك النمط بيد أنه قبل على قراءة لأقسم فيما قبل أن المراد هنا النفي على معنى «أني لأقسم بيوم القيامة» لشرفه وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ لخستها. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة ما يقتضيه وحكاه في البحر عن الحسن وقال قتادة في هذه النفس هي الفاجرة الجشعة اللوامة لصاحبها على ما فاته من سعي الدنيا وأغراضها وجاء نحوه في رواية عن ابن عباس والحق أنه تفسير لا يناسب هذا المقام ولذلك قيل هي النفس المتقية التي تلوم النفوس يوم القيامة على تقصيرهن في التقوى والمبالغة بكثرة المفعول. وقال مجاهد: هي التي تلوم نفسها على ما فات وتندم على الشر لم فعلته وعلى الخير لم لم تستكثر منه فهي لم تزل لائمة وإن اجتهدت في الطاعات فالمبالغة في الكيف باعتبار الدوام وقيل المراد «بالنفس اللوامة» جنس النفس الشاملة للتقية والفاجرة لما روي أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «ليس من نفس برة ولا فاجرة إلّا وتلوم نفسها يوم القيامة إن عملت خيرا قالت كيف لم أزد منه، وإن عملت شرا قالت ليتني قصرت» . وضمها إلى يوم القيامة لأن المقصود من إقامتها مجازاتها وبعثها فيه، وضعف بأن هذا القدر من اللوم لا يكون مدارا للإعظام بالإقسام وإن صدر عن النفس المؤمنة المسيئة فكيف من الكافرة المندرجة تحت الجنس وأجيب بأن القسم بها حينئذ بقطع النظر عن الصفة والنفس من حيث هي شريفة لأنها الروح التي هي من عظيم أمر الله عز وجل، وفيه أنه لا يظهر لذكر الوصف حينئذ فائدة والإمام أوقف الخبر على ابن عباس واعترضه بثلاثة أوجه، وأجاب عنها بحمل اللوم على تمني الزيادة وتمني إن لم يكن ما وقع من المعصية واقعا وما ذكر من توجيه الضم لا يخص هذا الوجه كما لا يخفى وقيل المراد بها نفس آدم عليه السلام فإنها لم تزل تلوم نفسها على فعلها الذي خرجت به من الجنة وأكثر الصوفية على أن النفس اللوامة فوق الأمارة وتحت المطمئنة، وعرفوا الأمارة بأنها هي التي تميل إلى الطبيعة البدنية وتأمر باللذات والشهوات الحسية وتجذب القلب إلى الجهة السفلية، وقالوا هي مأوى الشرور ومنبع الأخلاق الذميمة. وعرفوا اللوامة بأنها هي التي تنورت بنور القلب قدر ما تنبهت عن سنة الغفلة فكلما صدر عنها سيئة بحكم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 151 جبلّتها الظلمانية أخذت تلوم نفسها ونفرت عنها. وعرفوا المطمئنة بأنها التي تم تنورها بنور القلب حتى انخلعت عن صفاتها الذميمة وتخلقت بالأخلاق الحميدة وسكنت عن منازعة الطبيعة ومنهم من قال في اللَّوَّامَةِ هي المطمئنة اللائمة للنفس الأمارة ومنهم من قال هي فوق المطمئنة وهي التي ترشحت لتأديب غيرها إلى غير ذلك والمشهور عنهم تقسيم مراتب النفس إلى سبع منها هذه الثلاثة وفي سير السلوك إلى ملك الملوك كلام نفيس في ذلك فليراجعه من شاء وجواب القسم ما دل عليه قوله تعالى أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ وهو ليبعثن وقيل هو أَيَحْسَبُ إلخ وقيل بَلى قادِرِينَ وكلاهما ليسا بشيء أصلا كزعم عدم الاحتياج إلى جواب لأن المراد نفي الأقسام والمراد بالإنسان الجنس والهمزة لإنكار الواقع واستقباحه والتوبيخ عليه و (إن) مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف أي أيحسب أن الشأن لن نجمع بعد التفرق عظامه، وحاصله لم يكون هذا الحسبان الفارغ عن الإمارة المنافي لحق اليقين وصريحه والنسبة إلى الجنس لأن فيه من يحسب ذلك بل لعله الأكثرون وجوز أن يكون التعريف للعهد والمراد بالإنسان عدي ابن أبي ربيعة وختن الأخنس بن شريق وهما اللذان كان النبي صلّى الله عليه وسلم يقول فيهما: «اللهم اكفني جاريّ السوء» فقد روي أنه جاء إليه عليه الصلاة والسلام فقال: يا محمد حدثني عن يوم القيامة متى يكون وكيف يكون أمره؟ فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد ولم أومن به أو يجمع الله تعالى هذه العظام فنزلت . وقيل أبو جهل فقد روي أنه كان يقول: أيزعم محمد أن يجمع الله تعالى هذه العظام بعد بلائها وتفرقها فيعيدها خلقا جديدا فنزلت وليس كإرادة الجنس وسبب النزول لا يعنيه وذكر العظام وأن المعنى على إعادة الإنسان وجمع أجزائه المتفرقة لما أنها قالب الخلق. وقرأ قتادة «تجمع بالتاء الفوقية مبينا للمفعول «عظامه» بالرفع على النيابة بَلى أي نجمعها بعد تفرقها ورجوعها رميما ورفاتا في بطون البحار وفسيحات القفار وحيثما كانت حال كوننا قادِرِينَ فقادرين حال من فاعل الفعل المقدر بعد بَلى وهو قول سيبويه وقيل منصوب على أنه خبر كان أي بلى كنا قادرين في البدء أفلا نقدر في الإعادة وهو كما ترى. وقيل انتصب لأنه وقع في موضع نقدر إذ التقدير بلى نقدر فلما وضع موضع الفعل نصب حكاه مكي وقال إنه بعيد من الصواب يلزم عليه نصب قائم في قولك مررت برجل قائم لأنه في موضع يقوم فتأمل. وقرأ ابن أبي عبلة وابن السميفع «قادرون» أي نحن قادرون عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ هي اسم جنس جمعي واحده بنانة وفسرها الراغب بالأصابع ثم قال قيل سميت بذلك لأن بها صلاح الأحوال التي يمكن للإنسان أن يبين بها ما يريد أي يقيم غيره بما صغر من عظام الأطراف كاليدين والرجلين وفي القاموس البنان الأصابع أو أطرافها فالمعنى نجمع العظام قادرين على تأليف جمعها وإعادتها إلى التركيب الأول وإلى أن نسوي أصابعه التي هي أطرافه وآخر ما يتم به خلقه، أو على أن نسوي ونضم سلامياته على صغرها ولطافتها بعضها إلى بعض كما كانت أولا من غير نقصان ولا تفاوت بكيف بكبار العظام وما ليس في الأطراف منها؟ وفي الحال المذكورة أعني قادِرِينَ عَلى إلخ بعد الدلالة على التقييد تأكيد لمعنى الفعل لأن الجمع من الأفعال التي لا بد فيه من القدرة فإذا قيد بالقدرة البالغة فقد أكد والوجه الأول من المعنى يدل على تصوير الجمع وأنه لا تفاوت بين الإعادة والبدء في الاشتمال على جميع الأجزاء التي كان بها قوام البدن أو كماله، والثاني يدل على تحقيق الجمع التام فإنه إذا قدر على جمع الألطف الأبعد عادة عن الإعادة فعلى جمع غيره أقدر ولعله الأوفق بالمقام. ويعلم منهما نكتة تخصيص البنان بالذكر وقيل المعنى بلى نجمعها ونحن قادرون على أن نسوي أصابع يديه ورجليه أن نجعلها مستوية شيئا واحدا كخف البعير وحافر الحمار ولا نفرق بينها فلا يمكنه أن يعمل بها شيئا مما يعمل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 152 بأصابعه المفرقة ذات المفاصل والأنامل من فنون الأعمال والبسط والقبض والتأتي لما يريد من الحوائج وروي هذا عن ابن عباس وقتادة ومجاهد وعكرمة والضحاك ولعل المراد نجمعها ونحن قادرون على التسوية وقت الجمع فالكلام يفيد المبالغة السابقة لكن من وجه آخر وهو أنه سبحانه إذا قدر على إعادته على وجه يتضمن تبديل بعض الأجزاء فعلى الاحتذاء بالمثال الأول في جميعه أقدر وأبو حيان حكى هذا المعنى عن الجمهور لكن قيد التسوية فيه بكونها في الدنيا وقال: إن في الكلام عليه توعدا ثم تعقب ذلك بأنه خلاف الظاهر المقصود من سوق الكلام والأمر كما قال لو كان كما فعل فلا تغفل. ولا يخفى أن في الإتيان بلا أولا وحذف جواب القسم والإتيان بقوله سبحانه أَيَحْسَبُ ورعاية أسلوب: وثناياك إنها إغريض في القسم بيوم البعث والمبعوث فيه ثم إيثار لفظ الحسبان والإتيان بهمزة الإنكار مسندا إلى الجنس وبحرف الإيجاب والحال بعدها من المبالغات في تحقيق المطلوب وتفخيمه وتهجين المعرض عن الاستعداد له ما تبهر عجائبه ثم الحسن كل الحسن في ضمن حرف الإضراب في قوله سبحانه بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ وهو عطف على أَيَحْسَبُ جي للإضراب عن إنكار الحسبان إلى الإخبار عن حال الإنسان الحاسب بما هو أدخل في اللوم والتوبيخ من الأول كأنه قيل دع تعنيفه فإنه أشط من ذلك وأنّى يرتدع وهو يريد ليدوم على فجوره فيما بين يديه من الأوقات وفيما يستقبله من الزمان لا ينزع عنه، أو هو عطف على يَحْسَبُ منسجما عليه الاستفهام أو على أَيَحْسَبُ مقدرا فيه ذلك أي بل أريد جيء به زيادة إنكار في إرادته هذه وتنبيها على أنها أفظع من الأول للدلالة على أن ذلك الحسبان بمجرده إرادة الفجور كما نقول في تهديد جمع عاثوا في البلد أيحسبون أن لا يدخل الأمير بل يريدون أن يتملكوا فيه لم تقل هذه إلّا وأنت مترق في الإنكار منزل عبثهم منزلة إرادة التملك وعدم العبء بمكان الأمير، وإلى هذين الوجهين أشار جار الله على ما قرر في الكشف والوجه الأول أبلغ لأن هذا على الترقي والأول إضراب عن الإنكار وإيهام أن الأمر أطم من ذلك وأطم، وفيهما إيماء إلى أن ذلك الإنسان عالم بوقوع الحشر ولكنه متغاب واعتبر الدوام في لِيَفْجُرَ لأنه خبر عن حال الفاجر بأنه يريد ليفجر في المستقبل على أن حسبانه وإرادته هما عين الفجور، وقيل لأن أَمامَهُ ظرف مكان استعير هنا للزمان المستقبل فيفيد الاستمرار وفي إعادة المظهر ثانيا ما لا يخفى من التهديد والنعي على قبيح ما ارتكبه وأن الإنسانية تأبى هذا الحسبان والإرادة وعود ضمير أَمامَهُ على هذا المظهر هو الأظهر. وعن ابن عباس ما يقتضي عوده على يوم القيامة والأول هو الذي يقتضيه كلام كثير من السلف لكنه ظاهر في عموم الفجور قال مجاهد والحسن وعكرمة وابن جبير والضحاك والسدي في الآية إن الإنسان إنما يريد شهواته ومعاصيه ليمضي فيها أبدا قدما راكبا رأسه ومطيعا أمله ومسوفا لتوبته وهو حسن لا يأبى ذلك الإضراب، وفيه إشارة إلى أن مفعول يُرِيدُ محذوف دل عليه لِيَفْجُرَ وقال بعضهم وهو منزل منزلة اللام ومصدره مقدر بلام الاستغراق أي يوقع جميع إرادته لِيَفْجُرَ وعن الخليل وسيبويه ومن تبعهما في مثله أن الفعل مقدر بمصدر مرفوع بالابتداء وليفعل خبر فالتقدير هنا بل إرادة الإنسان كائنة ليفجر يَسْئَلُ سؤال استهزاء أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ أي متى يكون، والجملة قيل حال وقيل تفسير لِيَفْجُرَ وقيل بدل منه. واختار المحققون أنه استئناف بياني جيء به تعليلا لإرادة الدوام على الفجور إذ هو في معنى لأنه أنكر البعث واستهزأ به، وفيه أن من أنكر البعث لا محالة يرتكب أشد الفجور وطرف من قوله تعالى هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما الجزء: 15 ¦ الصفحة: 153 تُوعَدُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا [المؤمنون: 36] فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ تحير فزعا وأصله من برق الرجل إذا نظر إلى البرق فدهش بصره ومنه قول ذي الرمة: ولو أن لقمان الحكيم تعرضت ... لعينيه ميّ سافرا كاد يبرق ونظيره قمر الرجل إذا نظر إلى القمر فدهش بصره، وكذلك ذهب وبقر للدهش من النظر إلى الذهب والبقر فهو استعارة أو مجاز مرسل لاستعماله في لازمه أو في المطلق. وقرأ نافع وزيد بن ثابت وزيد بن علي وأبان عن عاصم وهارون ومحبوب كلاهما عن أبي عمرو وخلق آخرون «برق» بفتح الراء فقيل هي لغة في «برق» بالكسر وقيل هو من البريق بمعنى لمع من شدة شخوصه. وقرأ أبو السمال «بلق» باللام عوض الراء أي انفتح وانفرج يقال بلق الباب أبلقته وبلقته فتحته هذا قول أهل اللغة إلّا الفراء فإنه يقول بلقه وأبلقه إذا أغلقه وخطأه ثعلب وزعم بعضهم أنه من الأضداد والظاهر أن اللام فيه أصلية وجوز أن تكون بدلا من الراء فهما يتعاقبان في بعض الكلم نحو نتر ونتل ووجر ووجل وَخَسَفَ الْقَمَرُ ذهب ضوءه وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وزيد بن علي ويزيد بن قطيب «خسف القمر» على البناء للمفعول وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ حيث يطلعهما الله تعالى من المغرب على ما روي عن ابن مسعود ولا ينافيه الخسوف إذ ليس المراد به مصطلح أهل الهيئة وهو ذهاب نور القمر لتقابل النيرين وحيلولة الأرض بينهما بل ذهاب نوره لتجلّ خاص في ذلك اليوم أو لاجتماعه مع الشمس وهو المحاق، وجوز أن يكون الخسوف بالمعنى الاصطلاحي ويعتبر في وسط الشهر مثلا ويعتبر الجمع في آخره إذ لا دلالة على اتحاد وقتيهما في النظم الجليل، وأنت تعلم أن هذا خسوف يزري بحال أهل الهيئة ولا يكاد يخطر لهم ببال كالجمع المذكور. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عطاء بن يسار قال: يجمعان ثم يقذفان في البحر فيكون نار الله الكبرى وتوسعة البحر أو تصغيرهما مما لا يعجز الله عز وجل وأحوال يوم القيامة على خلاف النمط الطبيعي وحوادثه أمور وراء الطبيعة فلا يقال أين البحر من جرم القمر فضلا عن جرم الشمس الذي هو بالنسبة إليها كالبعوضة بالنسبة إلى الفيل ولا كيف يجمعان ويقذفان، وقيل: يجمعان أسودين مكورين كأنهما ثوران عقيران في النار وعن عليّ كرم الله تعالى وجهه وابن عباس يجمعان ويجعلان في نور الحجب وقيل يجمعان ويقربان من الناس فيلحقهم العرق لشدة الحر وقيل جمعا في ذهاب الضوء وروي عن مجاهد وهو اختيار الفراء والزجاج فالجمع مجاز عن التساوي صفة وفيه بعد إذ كان الظاهر عند إرادة ذلك أن يقال من أول الأمر وخسف الشمس والقمر ولا غبار في نسبة الخسوف إليهما لغة وكذا الكسوف ولم يلحق الفعل علامة التأنيث لتقدمه وكون الشمس مؤنثا مجازيا وفي مثله يجوز الأمران وكان اختيار ترك الإلحاق لرعاية حال القمر المعطوف. وقال الكسائي: إن التذكير حمل على المعنى والتقدير جمع النوران أو الضياءان وليس بذاك يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ يوم إذ تقع هذه الأمور أَيْنَ الْمَفَرُّ أي الفرار يأسا منه وجوز إبقاؤه على حقيقة الاستفهام لدهشته وتحيره وقرأ الحسن ريحانة رسول الله صلّى الله عليه وسلم والحسن بن زيد وابن عباس ومجاهد وعكرمة وجماعة كثيرة «المفرّ» بفتح الميم وكسر الفاء اسم مكان قياسي من يفر بالكسر أي أين موضع الفرار وجوز أن يكون مصدرا أيضا كالمرجع. وقرأ الحسن البصري بكسر الميم وفتح الفاء ونسبها ابن عطية للزهري أي الجيد الفرار وأكثر ما يستعمل هذا الوزن في الآلات وفي صفات الخيل ومنه قوله: مكر مفر مقبل مدبر معا ... كجلمود صخر حطه السيل من عل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 154 واختلف في هذا اليوم فالأكثرون على أنه يوم القيامة وهو المنصور، وأخرج ابن المنذر وغيره عن مجاهد أنه قال: فإذا برق البصر عند الموت والاحتضار وخسف القمر وجمع الشمس والقمر أي كور يوم القيامة وجوز أن يكون الأخيران عند الموت أيضا ويفسر الخسوف بذهاب ضوء البصر منه وجمع الشمس والقمر باستتباع الروح حاسة البصر في الذهاب والتعبير بالشمس عن الروح وبالقمر عن حاسة البصر على نهج الاستعارة فإن نور البصر بسبب الروح كما أن نور القمر بسبب الشمس أو يفسر الخسوف بما سمعت، وجمع الشمس والقمر بوصول الروح الإنسانية إلى من كانت تقتبس منه نور العقل وهم الأرواح القدسية المنزهة عن النقائص فالقمر مستعار للروح والشمس لسكان حظيرة القدس والملأ الأعلى لأن الروح تقتبس منهم الأنوار اقتباس القمر من الشمس. ووجه الاتصال بما قبل على جعل الكل عند الموت أنه إذ ذاك ينكشف الأمر للإنسان فيعلم على أتم وجه حقيقة ما أخبر به وأنت تعلم أن هذا على علاته أقرب إلى باب الإشارة على منزع الصوفية وإذا فتح هذا الباب فلا حصر فيما ذكر من الاحتمال عند ذوي الألباب كَلَّا ردع عن طلب المفر وتمنيه لا وَزَرَ لا ملجأ وأصله الجبل المنيع وقد كان مفرا في الغالب لفرار العرب واشتقاقه من الوزر وهو الثقل ثم شاع وصار حقيقة لكل ملجأ من جبل أو حصن أو سلاح أو رجل أو غير ذلك ومنه قوله: لعمرك ما للفتى من وزر ... من الموت يدركه والكبر إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ أي إليه جل وعلا وحده استقرار العباد أي لا ملجأ ولا منجى لهم غيره عز وجل أو إلى حكمه تعالى استقرار أمرهم لا يحكم فيه غير سبحانه أو إلى مشيئته تعالى موضع قرارهم من جنة أو نار فمن شاء سبحانه أدخله الجنة ومن شاء أدخله النار. فتقديم الخير لإفادة الاختصاص وإن اختلف وجهه حسب اختلاف المراد بمستقر وكَلَّا لا وَزَرَ يحتمل أن يكون من كلامه تعالى يقال للقائل أين المفر يوم يقوله أو هو مقول اليوم على معنى ليرتدع عن طلب الفرار وتمنيه ذلك اليوم ويحتمل أن يكون من تمام قول الإنسان كأنه بعد أن يقول أَيْنَ الْمَفَرُّ يعود على نفسه فيستدرك ويقول كَلَّا لا وَزَرَ وأيّا ما كان فالظاهر أن قوله تعالى إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ استئناف كالتعليل للجملة قبله أو تحقيق وكشف لحقيقة الحال والخطاب فيه لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلم ولا يحسن أن يكون من جملة ما يخاطب به القائل ذلك اليوم، ولا مما يقوله لنفسه فيه لمكان يَوْمَئِذٍ وفي البحر الظاهر أن قوله تعالى كَلَّا لا وَزَرَ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ من تمام قول الإنسان وقيل هو من كلام الله تعالى لا حكاية عن الإنسان انتهى وفيه بحث وجوز أن تكون كَلَّا بمعنى ألا الاستفتاحية أو بمعنى حقا فتأمل ولا تغفل يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ أي يخبر يَوْمَئِذٍ وذلك على ما عليه الأكثر عند وزن الأعمال بِما قَدَّمَ أي بما عمل من عمل خيرا كان أو شرا فيثاب بالأول ويعاقب على الثاني وَأَخَّرَ أي ترك ولم يعمل خيرا كان أو شرا فيعاقب بالأول ويثاب بالثاني، أو بما قدم من حسنة أو سيئة وبما أخر ما سنه من حسنة أو سيئة يعمل بها بعده، أخرج ذلك ابن المنذر وعبد بن حميد وغيرهما عن ابن مسعود وهو رواية عن ابن عباس. وقال زيد بن أسلم: بما قدم من ماله لنفسه فتصدق به في حياته وبما أخر منه للوارث وزيد أو وقفه أو أوصى به. وقال مجاهد والنخعي بأول عمله وآخره، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس بما قم من المعصية وأخر من الطاعة وأخرج نحوه عن قتادة وعبد بن حميد نحوه أيضا عن عكرمة وعليه فالظاهر أنه عنى بالإنسان الفاجر وفصل هذه الجملة عما قبلها لاستقلال كل منها ومن قوله تعالى يَقُولُ إلخ في الكشف عن شدة الأمر أو عن سوء حال الإنسان بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 155 بَصِيرَةٌ أي حجة بينة واضحة على نفسه شاهدة بما صدر عنه من الأعمال السيئة كما يؤذن به كلمة عَلى والجملة الحالية بعد ف الْإِنْسانُ مبتدأ وعَلى نَفْسِهِ متعلق ب بَصِيرَةٌ بتقدير أعمال أو المعنى عليه من غير تقدير وبَصِيرَةٌ بصير خيبر وهي مجاز عن الحجة البينة الواضحة أو بمعنى بينة وهي صفة لحجة مقدرة هي الخبر، وجعل الحجة بصيرة لأن صاحبها بصير بها فالإسناد مجازي أو هي بمعنى دالة مجازا وجوز أن يكون هناك استعارة مكنية وتخييلية والتأنيث للمبالغة أو لتأنيث الموصوف أعني حجة وقيل ذلك لإرادة الجوارح أي جوارحه على نفسه بصيرة أي شاهدة ونسب إلى القتبي، وجوز أن يكون التقدير عين بصيرة وإليه ذهب الفراء وأنشد: كأن على ذي العقل عينا بصيرة ... بمجلسه أو منظر هو ناظره يحاذر حتى يحسب الناس كلهم ... من الخوف لا يخفى عليهم سرائره وعليه قيل الْإِنْسانُ مبتدأ أول وبَصِيرَةٌ بتقدير عين بصيرة مبتدأ ثان وعَلى نَفْسِهِ خبر المبتدأ والثاني والجملة خبر المبتدأ الأول واختار أبو حيان أن تكون بَصِيرَةٌ فاعلا بالجار والمجرور وهو الخبر عن الإنسان وعمل بالفاعل لاعتماده على ذلك وأمر التأنيث ظاهر وبَلِ للترقي على الوجهين إرادة حجة بصيرة وإرادة عين بصيرة، والمعنى عليهما يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ بأعماله بل فيه ما يجزي عن الإنباء لأنه عالم بتفاصيل أحواله شاهد على نفسه بما عملت لأن جوارحه تنطق بذلك يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [النور: 24] وفي كلا الوجهين كما قيل شائبة التجريد وهي في الثاني أظهر وقوله تعالى وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ أي ولو جاء بكل معذرة يمكن أن يعتذر بها عن نفسه حال من المستكن في بَصِيرَةٌ أو من مرفوع يُنَبَّؤُا أي هو على نفسه حجة وهو شاهد عليها ولو أتى بكل عذر في الذب عنها ففيه تنبيه على أن الذب لا رواج له أو ينبأ بأعماله ويجازى ويعاقب لا محالة ولو أتى بكل عذر فهو تأكيد لما يفهم من مجموع قوله تعالى يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ إلخ والمعاذير جمع معذرة بمعنى العذر على خلاف القياس والقياس معاذر بغير ياء وأطلق عليه الزمخشري اسم الجمع كعادته في إطلاق ذلك على الجموع المخالفة للقياس وإلّا فهو ليس من أبنية اسم الجمع. وقال صاحب الفرائد: يمكن أن يقال الأصل فيه معاذر فحصلت الياء من إشباع الكسرة وهو كما ترى أو جمع معذار على القياس وهو بمعنى العذر، وتعقب بأنه بهذا المعنى لم يسمع من الثقات نعم قال السدي والضحاك: المعاذير الستور بلغة اليمن واحدها معذار وحكي ذلك عن الزجاج أي ولو أرخى ستوره، والمعنى أن احتجابه في الدنيا واستتاره لا يغني عنه شيئا لأن عليه من نفسه بصيرة وفيه تلويح إلى معنى قوله تعالى وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ [فصلت: 22] الآية وقيل البصيرة عليه الكاتبان يكتبان ما يكون من خير أو شر، فالمعنى بل الإنسان عليه كاتبان يكتبان أعماله ولو تستر بالستور ولا يكون في الكلام على هذا شائبة تجريد كما تقدم، والإلقاء على إرادة الستور ظاهر وأما على إرادة الأعذار فقيل شبه المجيء بالعذر بإلقاء الدلو في البئر للاستقاء به فيكون فيه تشبيه ما يراد بذلك بالماء المروي للعطش ويشير إلى هذا قول السدي في ذلك ولو أدلى بحجة وعذر وقيل المعنى ولو رمى بأعذاره وطرحها واستسلم وقيل ولو أحال بعضهم على بعض كما يقول بعضهم لبعض لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ [سبأ: 31] ولَوْ على جميع هذه الأقوال إما أن يكون معنى الشرطية منسلخا عنها كما قيل فلا جواب لها، وإما أن يكون باقيا فيها فالجواب محذوف يدل عليه ما قبل. واستظهر الخفاجي الأول وفي الآية على بعض الجزء: 15 ¦ الصفحة: 156 وجوهها دليل كما قال ابن العربي على قبول إقرار المرء على نفسه وعدم قبول الرجوع عنه والله تعالى أعلم. أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وعبد بن حميد والطبراني وأبو نعيم والبيهقي معا في الدلائل وجماعة عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة فكان يحرك به لسانه وشفتيه مخافة أن ينفلت منه يريد أن يحفظه فأنزل الله تعالى لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ إلخ فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل عليه السلام أطرق وفي لفظ استمع فإذا ذهب قرأه كما وعد الله عز وجل فالخطاب في قوله تعالى لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ للنبيّ صلّى الله عليه وسلم والضمير للقرآن لدلالة سياق الآية نحو إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1] أي لا تحرك بالقرآن لسانك عند إلقاء الوحي من قبل أن يقضي إليك وحيه لِتَعْجَلَ بِهِ أي لتأخذه على عجلة مخافة أن ينفلت منك على ما يقتضيه كلام الحبر. وقيل لمزيد حبك له وحرصك على أداء الرسالة روي عن الشعبي ولا ينافي ما ذكر والباء عليهما للتعدية إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ في صدرك بحيث لا يذهب عليك شيء من معانيه وَقُرْآنَهُ أي إثبات قراءته في لسانك بحيث تقرأه متى شئت فالقرآن هنا وكذا فيما بعد مصدر كالرجحان بمعنى القراءة كما في قوله: ضحوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطع الليل تسبيحا وقرآنا مضاف إلى المفعول وثم مضاف مقدر وقيل قُرْآنَهُ أي تأليفه والمعنى إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ أي حفظه في حياتك وتأليفه على لسانك. وقيل: قُرْآنَهُ تأليفه وجمعه على أنه مصدر قرأت أي جمعت ومنه قولهم للمرأة التي لم تلد ما قرأت سلى قط وقول عمرو بن كلثوم: ذراعي بكرة أدماء بكر ... هجان اللون لم تقرأ جنينا ويراد من جَمْعَهُ الأول جمعه في نفسه ووجوده الخارجي ومن قُرْآنَهُ بهذا المعنى جمعه في ذهنه صلّى الله عليه وسلم وكلا القولين لا يخفى حالهما وإن نسب الأول إلى مجاهد فَإِذا قَرَأْناهُ أي أتممنا قراءته عليك بلسان جبريل عليه السلام المبلغ عنا فالإسناد مجازي وفي ذلك مع اختيار نون العظمة مبالغة في إيجاب التأتي فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ فكن مقفيا له لا مباريا، وقيل: أي فإذا قرأناه فاتبع بذهنك وفكرك قرآنه أي فاستمع وأنصت وصح هذا من رواية الشيخين وغيرهما عن ابن عباس وعنه أيضا وعن قتادة والضحاك أي فاتبع في الأوامر والنواهي قرآنه وقيل اتبع قرآنه بالدرس على معنى كرره حتى يرسخ في ذهنك ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ أي بيان ما أشكل عليك من معانيه وأحكامه على ما قيل واستدل به القاضي أبو الطيب ومن تابعه على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب لمكان ثُمَّ وتعقب بأنه يجوز أن يراد بالبيان الإظهار لا بيان المجمل وقد صح من رواية الشيخين وجماعة عن الحبر أنه قال في ذلك ثم إن علينا أن نبينه بلسانك وفي لفظ علينا أن تقرأه، ويؤيد ذلك أن المراد بيان جميع القرآن والمجمل بعضه كَلَّا إرشاد لرسوله صلّى الله عليه وسلم وأخذ به عن عادة العجلة وترغيب له عليه الصلاة والسلام في الأناة وبالغ سبحانه في ذلك لمزيد حبه إياه باتباعه قوله تعالى بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ تعميم الخطاب للكل كأنه قيل بل أنتم يا بني آدم لما خلقتم من عجل وجبلتم عليه تعجلون في كل شيء ولذا تحبون العاجلة وتذرون الآخرة ويتضمن استعجالك لأن عادة بني آدم الاستعجال ومحبة العاجلة، وفيه أيضا أن الإنسان وإن كان مجبولا على ذلك إلّا أن مثله عليه الصلاة والسلام ممن هو في أعلى منصب النبوة لا ينبغي أن يستفزه مقتضى الطباع البشرية وأنه إذا نهي صلّى الله عليه وسلم عن العجلة في طلب العلم والهدى فهؤلاء ديدنهم حب العاجلة وطلب الردى كأنهم نزلوا منزلة من لا ينجع فيهم النهي فإنما الجزء: 15 ¦ الصفحة: 157 يعاتب الآدمي ذو البشرة ومنه يعلم أن هذا متصل بقوله سبحانه بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ فإنه ملوح إلى معنى بَلْ تُحِبُّونَ إلخ وقوله عز وجل لا تُحَرِّكْ إلخ متوسط بين حبي العاجلة: حبها الذي تضمنه بل يريد تلويحا وحبها الذي آذن به بل تحبون تصريحا لحسن التخلص منه إلى المفاجأة والتصريح. ففي ذلك تدرج ومبالغة في التقريع والتدرج وإن كان يحصل لو لم يؤت بقوله سبحانه لا تُحَرِّكْ إلخ في البين أيضا إلا أنه يلزم حينئذ فوات المبالغة في التقريع وأنه إذا لم تجز العجلة في القرآن وهو شفاء ورحمة فكيف فيما هو فجور وثبور ويزول ما أشير إليه من الفوائد فهو استطراد يؤدي مؤدى الاعتراض وأبلغ وأطلق بعضهم عليه الاعتراض. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ومجاهد والحسن وقتادة والجحدري «يحبون» و «يذرون» بياء الغيبة فيهما وأمر الربط عليها كما تقدم وهي أبلغ من حيث إن فيها التفاتا وإخراجا له عليه الصلاة والسلام من صريح الخطاب بحب العاجلة مضمنا طرفا من التوبيخ على سبيل الرمز لطفا منه تعالى شأنه في شأنه صلّى الله عليه وسلم. وأما القراءة بالتاء ففيها تغليب المخاطب والالتفات وهو عكس الأول هذا خلاصة ما رمز إليه جار الله على ما أفيد. وقد اندفع به قول بعض الزنادقة وشرذمة من قدماء الرافضة أنه لا وجه لوقوع لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ إلخ في أثناء أمور الآخرة ولا ربط في ذلك بوجه من الوجوه، وجعلوا ذلك دليلا لما زعموه من أن القرآن قد غيّر وبدّل وزيد فيه ونقص منه وللعلماء حماة المسلمين وشهب سماء الدين في دفع كلام كثير منه ما تقدم وللإمام أوجه فيه منها الحسن ومنها ما ليس كذلك بالمرة وقال الطيبي إن قوله تعالى كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ متصل بقوله تعالى وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ أي يقال للإنسان عند إلقاء معاذيره كلا إن أعذارك غير مسموعة فإنك فجرت وفسقت وظننت أنك تدوم على فجورك وأن لا حشر ولا حساب ولا عقاب وذلك من حبك العاجلة والإعراض عن الآخرة، وكان من عادة الرسول صلّى الله عليه وسلم أنه إذا لقن القرآن أن ينازع جبريل عليه السلام القراءة وقد أنفق عند التلقين للآيات السابقة ما جرت به عادته من العجلة فلما وصل إلى قوله تعالى وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ أوحى إلى جبريل عليه السلام بأن يلقي إليه عليه الصلاة والسلام ما يرشده إلى أخذ القرآن على أكمل وجه فألقى تلك الجمل على سبيل الاستطراد ثم عاد إلى تمام ما كان فيه بقوله تعالى كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ إلخ مثاله الشيخ إذا كان يلقن تلميذه درسا أو يلقي إليه فصلا ورآه في أثناء ذلك يعجل ويضطرب يقول له لا تعجل ولا تضطرب فإني إذ فرغت إن كان لك إشكال أزيله أو كنت تخاف فوتا فأنا أحفظه ثم يأخذ الشيخ في كلامه ويتممه انتهى. فما في البين مناسب لما وقع في الخارج دون المعنى الموحى به، وخصه بعضهم لهذا بالاستطراد وأطلق آخر عليه الاعتراض بالمعنى اللغوي وهذا عندي بعيد لم يتفق مثله في النظم الجليل ولا دليل لمن يراه على وقوع العجلة في أثناء هذه الآيات سوى خفاء المناسبة. وقال أبو حيان يظهر أن المناسبة بين هذه الآية وما قبلها أنه سبحانه لما ذكر منكر القيامة والبعث معرضا عن آيات الله تعالى ومعجزاته وأنه قاصر شهواته على الفجور غير مكترث بما يصدر منه ذكر حال من يثابر على تعلم آيات الله تعالى وحفظها وتلقنها والنظر فيها وعرضها على من ينكرها رجاء قبوله إياها ليظهر بذلك تباين من يرغب في تحصيل آيات الله تعالى ومن يرغب عنها: وبضدها تتبين الأشياء انتهى وفيه أن هذا إنما يحسن بعد تمام ما يتعلق بذلك المنكر والظاهر أن لا تُحَرِّكْ إلخ وقع في البين وقال القفال قوله تعالى لا تُحَرِّكْ إلخ خطاب للإنسان المذكور في قوله تعالى يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ وذلك الجزء: 15 ¦ الصفحة: 158 حال إنبائه بقبائح أفعاله يعرض عليه كتابه فيقال له اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء: 14] فإذا أخذ في القراءة تلجلج لسانه من شدة الخوف وسرعة القراءة فقيل له لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ فإنه يجب علينا بحكم الوعد أو بحكم الحكمة أن نجمع أعمالك وأن نقرأها عليك فإذا قرأناه عليك فاتبع قراءته بالإقرار بأنك فعلت تلك الأفعال أو التأمل فيه ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ أي بيان أمره وشرح عقوبته، والحاصل على هذا أنه تعالى يوقف الكافر على جميع أعماله على التفصيل وفيه أشد الوعيد في الدنيا والتهويل في الآخرة انتهى. فضمير بِهِ وكذا الضمائر بعد للكتاب المشعر به قوله تعالى يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ وكذا قوله تعلى بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ على قول من فسّر البصيرة بالكتابين، ولعل الجملة على هذا الوجه في موضع الحال من مفروع يُنَبَّأْ بتقدير القول كأنه قيل يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ عند أخذ كتابه بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ مقولا له لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ إلخ فالربط عليه ظاهر جدا ومن هنا اختاره البلخي ومن تبعه لكنه مخالف للصحيح المأثور الذي عليه الجمهور من أن ذلك خطاب له صلّى الله عليه وسلم. والظاهر أن التحريك قبل النهي إنما صدر منه عليه الصلاة والسلام بحكم الإباحة الأصلية فلا يتم احتجاج من جوز الذنب على الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية. وقال الإمام: لعل ذلك الاستعجال إن كان مأذونا فيه عليه الصلاة والسلام إلى وقت النهي وكأنه أراد بالإذن الإذن الصريح المخصوص وفيه بعد ما وعن الضحاك أن النبي صلّى الله عليه وسلم كان يخاف أن ينسى القرآن فكان يدرسه حتى غلب ذلك وشق عليه فنزل لا تُحَرِّكْ بِهِ إلخ وليس بالثبت ولعل ظاهر الآية لا يساعده ثم إنه ربما يتخيل في الآية وجه غير ما ذكر عن القفال الربط عليه ظاهر أيضا وهو أنه يكون الخطاب في لا تُحَرِّكْ إلخ لسيد المخاطبين حقيقة أو من باب إياك أعني واسمعي أو لكل من يصلح له وضمير بِهِ ونظائره ليوم القيامة والجملة اعتراض جيء به لتأكيد تهويله وتفظيعه مع تقاضي السباق له فكأنه لما ذكر سبحانه مما يتعلق بذلك اليوم الذي فتحت السورة بعظامه ما يتعلق قوي داعي السؤال عن توقيته وأنه متى يكون وفي أي وقت يبين لا سيما وقد استشعر أن السؤال عن ذلك إذا لم يكن استهزاء مما لا بأس به فقيل لا تُحَرِّكْ بِهِ أي بطلب توقيته لسانك وهو نهي عن السؤال على أتم وجه كما يقال لا تفتح فمك في أمر فلان لتعجل به لتحصل علمه على عجلة إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ ما يكون فيه من الجمع وَقُرْآنَهُ ما يتضمن شرح أحواله وأهواله من القرآن. فَإِذا قَرَأْناهُ ما يتعلق به فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ بالعمل بما يقتضيه من الاستعداد له ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ إظهاره وقوعا بالنفخ في الصور وهو الطامة الكبرى وحاصله لا تسأل عن توقيت ذلك اليوم العظيم مستعجلا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 159 معرفة ذلك فإن الواجب علينا حكمة حشر الجمع فيه وإنزال قرآن يتضمن بيان أحواله ليستعد له وإظهاره بالوقوع الذي هو الداهية العظمى وما عدا ذلك من تعيين وقته فلا يجب علينا حكمة بل هو مناف للحكمة فإذا سألت فقد سألت ما ينافيها فلا تجاب انتهى. وفيه ما فيه وما كنت أذكره لولا هذا التنبيه واللائق بجزالة التنزيل ولطيف إشاراته ما أشار إليه ذو اليد الطولى جار الله تجاوز الله تعالى عن تقصيراته فتأمل فلا حجر على فضل الله عز وجل. ولما ردع سبحانه عن حب العاجلة وترك الآخرة عقب ذلك بما يتضمن تأكيد هذا الردع مما يشير إلى حسن عاقبة حب الآخرة وسوء مغبة العاجلة فقال عز من قائل وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ أي وجوه كثيرة وهي وجوه المؤمنين المخلصين يوم إذ تقوم القيامة بهية متهللة من عظيم المسرة يشاهد عليها نضرة النعيم على أن وُجُوهٌ مبتدأ وناضِرَةٌ خبره ويَوْمَئِذٍ منصوب ب ناضِرَةٌ وناظِرَةٌ في قوله تعالى إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ خبر ثان للمبتدأ أو نعت ل ناضِرَةٌ وإِلى رَبِّها متعلق ب ناظِرَةٌ وصح وقوع النكرة مبتدأ لأن الموضع موضع تفصيل كما في قوله: فيوم لنا ويوم علينا ... ويوم نساء ويوم نسرّ لا على أن النكرة تخصصت بيومئذ كما زعم ابن عطية لأن ظرف الزمان لا يكون صفة للجثث ولا على أن ناضِرَةٌ صفة لها والخبر ناظِرَةٌ كما قيل لما أن المشهور الغالب كون الصفة معلومة الانتساب إلى الموصوف عند السامع وثبوت النظرة للوجوه ليس كذلك فحقه أن يخبر به نعم ذكر هذا غير واحد احتمالا في الآية وقال فيه أبو حيان هو قول سائغ. ومعنى كونها ناظرة إلى ربها أنها تراه تعالى مستغرقة في مطالعة جماله بحيث تغفل عما سواه وتشاهده تعالى على ما يليق بذاته سبحانه ولا حجر على الله عز وجل وله جل وعلا لتنزه الذاتي التام في جميع تجلياته. واعترض بأن تقديم المعمول يعني إِلى رَبِّها يفيد الاختصاص كما في نظائره في هذه السورة وغيرها وهو لا يتأتى لو حمل ذلك على النظر بالمعنى المذكور ضرورة أنهم ينظرون إلى غيره تعالى. وحيث كان الاختصاص ثابتا كان الحمل على ذلك باطلا وفيه أن التقديم لا يتمحض للاختصاص كيف والموجب من رعاية الفاصلة والاهتمام قائم ثم لو سلم فهو باق بمعنى أن النظر إلى غيره تعالى في جنب النظر إليه سبحانه لا يعد نظرا كما قيل في نحو ذلك الكتاب على أن ذلك ليس في جميع الأحوال بل في بعضها وفي ذلك لالتفات إلى ما سواه جل جلاله فقد أخرج مسلم والترمذي عن صهيب عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تعالى تريدون شيئا أزيدكم فيقولون ألم تبيض وجوهنا ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار قال فيكشف الله تعالى الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم» . وفي حديث جابر وقد رواه ابن ماجة: «فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم» . ومن هنا قيل: فينسون النعيم إذا رأوه ... فيا خسران أهل الاعتزال وكثيرا ما يحصل نحو ذلك للعارفين في هذه النشأة فيستغرقون في بحار الحب وتستولي على قلوبهم أنوار الكشف فلا يلتفتون إلى شيء من جميع الكون: فلما استبان الصبح أدرج ضوءه ... بإسفاره أنوار ضوء الكواكب وقيل الكلام على حذف مضاف أي إلى ملك أو رحمة أو ثواب ربها ناظرة والنظر على معناه المعروف أو على حذف مضاف والنظر بمعنى الانتظار فقد جاء لغة بهذا المعنى أي إلى أنعام ربها منتظرة وتعقب بأن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 160 الحذف خلاف الظاهر وما زعموا من الداعي مردود في محله وبأن النظر بمعنى الانتظار لا يتعدى بإلى بل بنفسه وبأنه لا يسند إلى الوجه فلا يقال وجه زيد منتظر، والمتبادر من الإسناد إسناد النظر إلى الوجوه الحقيقية وهو يأني إرادة الذات من الوجه وتفصّى الشريف المرتضى في الدرر عن بعض هذا بأن إِلى اسم بمعنى النعمة واحد الآلاء وهو مفعول به ل ناظِرَةٌ بمعنى منتظرة فيكون الانتظار قد تعدى بنفسه وفيه من البعد ما فيه والزمخشري إذا تحققت كلامه رأيته لم يدع أن النظر بمعنى الانتظار ليتعقب عليه بما تعقب، بل أراد أن النظر بالمعنى المتعارف كناية عن التوقع والرجاء، فالمعنى عنده أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلّا من ربهم كما كانوا في الدنيا لا يخشون ولا يرجون إلّا إياه سبحانه وتعالى. ويرد عليه أنه يرجع إلى إدارة الانتظار لكن كناية والانتظار لا يساعده المقام إذ لا نعمة فيه وفي مثله قيل الانتظار موت أحمر والذي يقطع الشغب ويدق في فروة من أخس الطلب ما أخرجه الإمام أحمد والترمذي والدارقطني وابن جرير وابن المنذر والطبراني والبيهقي وعبد بن حميد وابن أبي شيبة وغيرهم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية» ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» فهو تفسير منه عليه الصلاة والسلام: ومن المعلوم أنه أعلم الأولين والآخرين لا سيما بما أنزل عليه من كلام رب العالمين ومثل هذا فيما ذكر ما أخرجه الدارقطني والخطيب في تاريخه عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلم أقرأه وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ فقال: «والله ما نسخها منذ أنزلها يزورون ربهم تبارك وتعالى فيطعمون ويسقون ويطيبون ويحلون ويرفع الحجاب بينه فينظرون إليه وينظر إليهم عز وجل» وهذا الحجاب على ما قال السادة من قبلهم لا من قبله عز وجل وأنشدوا: وكنا حسبنا أن ليلى تبرقعت ... وأن حجابا دونها يمنع اللثما فلاحت فلا والله ما ثم حاجب ... سوى أن طرفي كان عن حسنها أعمى ثم إن أجهل الخلق عندهم المعتزلة وأشدهم عمى وأدناهم منزلة حيث أنكروا صحة رؤية من لا ظاهر سواه بل لا موجود على الحقيقة إلّا إياه وأدلة إنكارهم صحة رؤيته تعالى مذكورة مع ردودها في كتب الكلام وكذا أدلة القدوم على الصحة وكأني بك بعد الإحاطة وتدقيق النظر تميل إلى أنه سبحانه وتعالى يرى لكن لا من حيث ذاته سبحانه البحت ولا من حيث كل تجل حتى تجليه بنوره الشعشعاني الذي لا يطاق. وقرأ زيد بن عليّ «وجوه يومئذ نضرة» بغير ألف وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ أي شديدة العبوس وباسل أبلغ من باسر فيما ذكر لكنه غلب في الشجاع إذا اشتدت كلوحته فعدل عنه لإيهامه غير المراد وعنى بهذه الوجوه وجوه الكفرة تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ أي داهية عظيمة تقصم فقار الظهر من فقره أصاب فقاره وقال أبو عبيدة فاقِرَةٌ من فقرت البعير إذا وسمت أنفه بالنار وفاعل تَظُنُّ ضمير (الوجوه) بتقدير مضاف أي تظن أربابها وجوز أن يكون الضمير راجعا إليها على أن الوجه بمعنى الذات استخداما وفيه بعد. والظن قيل أريد به اليقين واختاره الطيبي وأن المصدرية لا تقع بعد فعل التحقيق الصرف دون فعل الظن أو ما يؤدي معنى العلم فتقع بعده كالمشددة والمخففة على ما نص عليه الرضي وقيل هو على معناه الحقيقي المشهور والمراد تتوقع ذلك واختاره من اختاره ولا دلالة فيه بواسطة التقابل على أن يكون النظر ثم بالمعنى المذكور كما زعمه من زعمه وتحقيق ذلك أن ما يفعل بهم في مقابلة النظر إلى الرب سبحانه لكون ذلك غاية النعمة وهذا غاية النقمة وجيء الجزء: 15 ¦ الصفحة: 161 بفعل الظن هاهنا دلالة على أن ما هم فيه وإن كان غاية الشر يتوقع بعده أشد منه وهكذا أبدا وذلك لأن المراد بالفاقرة ما لا يكننه من العذاب فكل ما يفعل به من أشده استدل منه على آخر وتوقع أشد منه وإذا كان ظانا كان أشد عليه مما إذا كان عالما موطنا نفسه على الأمر على أن العلم بالكائن واقع لا بما يتجدد آنا فآنا فهذا وجه الإتيان بفعل الظن ولم يؤت في المقابل بفعل ظن أو علم لأنهم وصلوا إلى ما لا مطلوب وراءه وذاقوه ثم بعد ذلك التفاوت في ذلك النظر قوة وضعفا بالنسبة إلى الرائي على ما قرره فلعل هذا حجة على الزاعم لا له أسبغ الله علينا برؤيته فضله كَلَّا ردع عن إيثار العاجلة على الآخرة كأنه قيل ارتدعوا عن ذلك وتنبهوا لما بين أيديكم من الموت الذي تنقطع عنده ما بينكم وبين العاجلة من العلاقة إِذا بَلَغَتِ أي النفس أو الروح الدال على سياق الكلام كما في قول حاتم: أماويّ ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر ونحو قول العرب أرسلت يريدون جاء المطر ولا تكاد تسمعهم يقولون أرسلت السماء نعم قد يصرح فيما هنا بالفاعل فيقال بلغت النفس التَّراقِيَ أي أعالي الصدر وهي العظام المكتنفة ثغرة النحر عن يمين وشمال جمع ترقوة وأنشدوا لدريد بن الصمة: ورب عظيمة رافعت عنهم ... وقد بلغت نفوسهم التراقي وَقِيلَ مَنْ راقٍ أي قال من حضر صاحبها من يرقيه وينجيه مما هو فيه من الرقية وهي ما يستشفى به الملسوع والمريض من الكلام المعد لذلك ومنه آيات الشفاء ولعلة أريد به مطلق الطبيب أعم من أن يطب بالقول أو بالفعل وروي عن ابن عباس والضحاك وأبو قلابة وقتادة ما هو ظاهر فيه والاستفهام عند بعض حقيقي وقيل هو استفهام استبعاد وإنكار أي قد بلغ مبلغا لا أحد يرقيه كما يقال عند اليأس من ذا الذي يقدر أن يرقى هذا المشرف على الموت وروي ذلك عن عكرمة وابن زيد وقيل هو من كلام ملائكة الموت أي أيكم يرقى بروحه أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب من الرقي وهو العروج وروي هذا عن ابن عباس أيضا وسليمان التيمي والاستفهام عليه حقيقي وتعقب بأن اعتبار ملائكة الرحمة يناسب قوله تعالى بعد فَلا صَدَّقَ إلخ ودفع بأن الضمير للإنسان والمراد به الجنس والاقتصار بعد ذلك على أحوال بعض الفريقين لا ينافي العموم فيما قبل ووقف حفص رواية عن عاصم على من وابتدأ راقٍ وأدغم الجمهور قال أبو علي: لا أدري ما وجه قراءته وكذلك قرأ بَلْ رانَ [المطففين: 14] وقال بعضهم كأنه قصد أن لا يتوهم أنها كلمة واحدة فسكت سكتة لطيفة ليشعر أنهما كلمتان وإلّا فكان ينبغي أن يدعم في مَنْ راقٍ فقد قال سيبويه إن النون تدغم في الراء وذلك نحو من راشد والإدغام بغنة وبغير غنة ولم يذكر الإظهار ويمكن أن يقال لعل الإظهار رأي كوفي فعاصم شيخ حفص يذكر أنه كان عالما بالنحو، وأما بَلْ رانَ فقد ذكر سيبويه في ذلك أيضا أن إظهار اللام وإدغامها مع الراء حسنان، فلعل حفصا لما أفرط في إظهار الإظهار فيه صار كالوقف القليل واستدل بقوله تعالى إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ على أن النفس جسم لا جوهر مجرد إذ لا يتصف بالحركة والتحيز وأجاب بعض بأن هذه النفس المسند إليها بلوغ التراقي هي النفس الحيوانية لا الروح الأمرية وهي الجوهر المجرد دون الحيوانية وآخر بأن المراد ببلوغها التراقي قرب انقطاع التعلق وهو مما يتصف به المجرد إذ لا يستدعي حركة ولا تحيزا ولا نحوهما مما يستحيل عليه. وزعم أنه لا يمكن إرادة الحقيقة ولو كانت النفس جسما ضرورة أن بلوغها التراقي لا يتحقق إلّا بعد مفارقتها القلب وحينئذ يحصل الموت ولا يقال مَنْ راقٍ كما هو ظاهر الجزء: 15 ¦ الصفحة: 162 على الوجه الأول فيه ولا يتأنى أيضا ما يذكر بعد على ما ستعلمه إن شاء الله تعالى فيه والذي عليه جمهور الأمة سلفا وخلفا أن النفس وهي الروح الأمرية جسم لطيف جدا ألطف من الضوء عند القائل بجسميته والنفس الحيوانية مركب لها وهي سارية في البدن نحو سريان ماء الورد في الورد والنار في الفحم وسريان السيال الكهربائي عند القائل به في الأجسام والأدلة على جسميتها كثيرة وقد استوفاها الشيخ ابن القيم في كتاب الروح وأتى فيه بالعجب ثم الظاهر أن المراد ببلوغ التراقي مشارفة الموت وقرب خروج الروح من البدن سلمت الضرورة التي في كلام ذلك الزاعم أم لم تسلم لقوله تعالى وَقِيلَ مَنْ راقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ أي وظن الإنسان المحتضر أن ما نزل به الفراق من حبيبته الدنيا ونعيمها وقيل فراق الروح الجسد، والظن هنا عند أبي حيان على بابه وأكثر المفسرين على تفسيره باليقين قال الإمام ولعله إنما سمي اليقين هاهنا بالظن لأن الإنسان ما دامت روحه متعلقة ببدنه يطمع في الحياة لشدة حبه لهذه الحياة العاجلة ولا ينقطع رجاؤه عنها فلا يحصل له يقين الموت بل الظن الغالب مع رجاء الحياة أو لعله سماه بالظن على سبيل التهكم وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ أي التفّت ساقه بساقه والتوت عليها عند هلع الموت وقلبه كما روي عن الشعبي وقتادة وأبي مالك وقال الحسن وابن المسيب هما ساقا الميت عند ما لفا في الكفن وقيل المراد بالتفافهما انتهاء أمرهما وما يراد فيهما يعني موتهما وقيل يبسهما بالموت وعدم تحرك إحداهما عن الأخرى حتى كأنهما ملتفتان فهما أول ما يخرج الروح منه فتبردان قبل سائر الأعضاء وتيبسان فالساق بمعناها الحقيقي وأل فيها عهدية أو عوض عن المضاف إليه وقال ابن عباس والربيع بن أنس وإسماعيل بن أبي خالد. وهو رواية عن الحسن أيضا الْتَفَّتِ شدة فراق الدنيا لشدة إقبال الآخرة واختلطتا ونحوه قول عطاء: اجتمع عليه بشدة مفارقة المألوف من الوطن والأهل والولد والصديق وشدة القوم على ربه جل شأنه لا يدري بماذا يقدم عليه، فالساق عبارة عن الشدة وهو مثل في ذلك والتعريف للعهد وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الضحاك الْتَفَّتِ أسوق حاضريه من الإنس والملائكة هؤلاء يجهزون بدنه إلى القبر وهؤلاء يجهزون روحه إلى المساء فكأنهم للاختلاف في الذهاب والإياب والتردد في الأعمال قد التفّت أسوقهم وهذا الالتفاف على حد اشتباك الأسنة إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ أي إلى الله تعالى وحكمه سوقه لا إلى غيره على أن المساق مصدر ميمي كالمقال وتقدم الخير للحصر والكلام على تقدير مضاف هو حكم وقيل هو موعد والمراد به الجنة والنار وقيل ليس هناك مضاف مقدر على أن الرب جل شأنه هو السائق أي سوق هؤلاء مفوض إلى ربك لا إلى غيره والظاهر ما تقدم ثم إن كان هذا في أن الفاجر أو فيما يعمه والبر يراد بالسوق السوق المناسب للمسوق وهذه الآية لعمري بشارة لمن حسن ظنه بربه وعلم أنه الرب الذي سبقت رحمته غضبه: قالوا غدا نأتي ديار الحمى ... وينزل الركب بمغناهم فقلت لي ذنب فما حيلتي ... بأي وجه أتلقاهم قالوا أليس العفو من شأنهم ... لا سيما عمن ترجاهم ثم إن جواب إِذا محذوف دل عليه ما ذكر أي كان ما كان أو انكشفت للمرء حقيقة الأمر أو وجد الإنسان ما عمله من خير أو شر فَلا صَدَّقَ أي ما يجب تصديقه من الله عز وجل والرسول صلّى الله عليه وسلم والقرآن الذي أنزل عليه وَلا صَلَّى ما فرض عليه أي لم يصدق ولم يصل فلا داخلة على الماضي كما في قوله: إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما والضمير في الفعلين للإنسان المذكور في قوله تعالى أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ والجملة عطف على قوله سبحانه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 163 يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ على ما ذهب إليه الزمخشري فالمعنى بناء على ما علمت من أن السؤال سؤال استهزاء واستبعاد استبعد البعث وأنكره فلم يأت بأصل الدين وهو التصديق بما يجب تصديقه به ولا بأهم فروعه وهو الصلاة ثم أكد ذلك بذكر ما يضاده بقوله تعالى وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى نفيا لتوهم السكوت أو الشك أي ومع ذلك أظهر الجحود والتولي عن الطاعة ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى يتبختر افتخارا بذلك ومن صدر عنه مثل ذلك ينبغي أن يخاف من حلول غضب الله تعالى به فيمشي خائفا متطامنا لا فرحا متبخترا فثم للاستبعاد ويَتَمَطَّى من المط فإن المتبختر يمد خطاه فيكون أصله يتمطط قلبت الطاء فيه حرف علة كراهة اجتماع الأمثال كما قالوا تظني من الظن وأصله تظنن أو من المطا وهو الظهر فإن المتبختر يلوي مطاه تبخترا فيكون معتلا بحسب الأصل وفي الحديث «إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمتهم فارس والروم فقد جعل بأسهم بينهم وسلط شرارهم على خيارهم» وجعل الطيبي عطف هذه الجملة للتعجب على معنى يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ وما استعد له إلّا ما يوجب دماره وهلاكه. وقال إن قوله تعالى فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ إلخ جواب عن السؤال أقحم بين المعطوف والمعطوف عليه لشدة الاهتمام وأن قوله سبحانه لا تُحَرِّكْ إلخ استطراد على ما سمعت وجعل صَدَّقَ من التصدق هو المروي عن قتادة وقال قوم: هو من التصديق أي فلا صدّق ماله ولا زكاه. قال أبو حيان: وهذا الذي يظهر نفي عنه الزكاة والصلاة وأثبت له التكذيب كما في قوله تعالى قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [المدثر: 43- 46] وحمله على نفي التصديق يقتضي أن يكون ولكن كذب تكرارا ولزم أن يكون استدراكا بعد وَلا صَلَّى لا بعد فَلا صَدَّقَ لأنهما متوافقان وفيه نظر يعلم مما قررناه ثم إنه استبعد العطف على قوله تعالى يَسْئَلُ إلخ وذكر أن الآية نزلت في أبي جهل وكادت تصرح به في قوله تعالى يَتَمَطَّى فإنها كانت مشيته ومشية قومه بني مخزوم وكان يكثر منها ولم يبين حال العطف على هذا وأنت تعلم أن العطف لا يأبي حديث النزول في أبي جهل وقد قيل إن قوله تعالى أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ نازل فيه أيضا والحكم على الجنس بأحكام لا يضر فيه تعين بعض أفراده في حكم منها نعم لا شك في بعد هذا العطف لفظا لكن في بعده معنى مقال ولعل فيما بعد ما يقوي جانب العطف على ذاك أَوْلى لَكَ فَأَوْلى من الولي بمعنى القرب فهو للتفضيل في الأصل غلب في قرب الهلاك ودعاء السوء كأنه قيل هلاكا أولى لك بمعنى أهلكك الله تعالى هلاكا أقرب لك من كل شر، وهلاك وهذا كما غلب بعدا وسحقا في الهلاك وفي الصحاح عن الأصمعي قاربه ما يهلكه أي نزل به وأنشد: فعادى بين هاديتين منها ... وأولى أن نزيد على الثلاث أي قارب ثم قال قال ثعلب: ولم يقل أحد في أَوْلى أحسن مما قاله الأصمعي وعلى هذا أَوْلى فعل مستتر فيه ضمير الهلاك بقرينة السياق واللام مزيدة على ما قيل وقيل هو فعل ماض دعائي من الولي أيضا إلّا أن الفاعل ضميره تعالى واللام مزيدة أي أولاك الله تعالى ما تكرهه أو غير مزيدة أي أدنى الله الهلاك لك وهو قريب مما ذكر عن الأصمعي وعن أبي علي أن أَوْلى لَكَ علم للويل مبني على زنة أفعل من لفظ الويل على القلب وأصله أويل وهو غير منصرف للعلمية والوزن فهو مبتدأ ولَكَ خبره وفيه أن الويل غير منصرف فيه ومثل يوم أيوم مع أنه غير منقاس لا يفرد عن الموصوف البتة وأن القلب على خلاف الأصل لا يرتكب إلّا بدليل وإن علم الجنس شيء خارج عن القياس مشكل التعقل خاصة فيما نحن فيه، وقيل اسم فعل مبني ومعناه ويلك شر بعد شر. واختار جمع أنه أفعل تفضيل بمعنى الأحسن والأحرى خبر لمبتدأ محذوف يقدر كما يليق بمقامه فالتقدير هنا النار أولى لك أي أنت أحق بها وأهل لها فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى تكرير للتأكيد وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر. والظاهر أن الجملة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 164 تذييل للدعاء لا محل لها من الإعراب، وجوز أن تكون في موضع الحال بتقدير القول كأنه قيل ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى مقولا له أَوْلى لَكَ إلخ ويؤيده ما أخرج النسائي والحاكم وصححه وعبد بن حميد وابن جرير ابن المنذر وغيرهم عن سعيد بن جبير قال: سألت ابن عباس عن قول الله تعالى أَوْلى لَكَ فَأَوْلى أشيء قاله رسول الله صلّى الله عليه وسلم من نفسه أم أمره الله تعالى به؟ قال: بل قال من قبل نفسه ثم أنزله الله تعالى واستدل بقوله سبحانه فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى إلخ. على أن الكفار مخاطبون بالفروع فلا تغفل أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أي مهملا فلا يكلف ولا يجزى وقيل أن يترك في قبره فلا يبعث ويقال: إبل سدى أي مهملة ترعى حيث شاءت بلا راع وأسديت الشيء أي أهملته وأسديت حاجتي ضيعتها ولم أعتن بها. قال الشاعر: فأقسم بالله جهد اليم ... ين ما خلق الله شيئا سدى ونصب سُدىً على الحال من ضمير يُتْرَكَ وأَنْ يُتْرَكَ في موضع المفعولين ليحسب والاستفهام إنكاري وكان تكريره بعد قوله تعالى أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ لتكرير إنكار الحشر قيل مع تضمن الكلام الدلالة على وقوعه حيث إن الحكمة تقتضي الأمر بالمحاسن والنهي عن القبائح والرذائل والتكليف لا يتحقق إلّا بمجازاة وهي قد لا تكون في الدنيا فتكون في الآخرة وجعل بعضهم هذا استدلالا عقليا على وقوع الحشر وفيه بحث لا يخفى وقوله تعالى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى إلخ استئناف وارد لإبطال الحسبان المذكور فإن مداره لما كان استبعادهم للإعادة دفع ذلك ببدء الخلق. وقرأ الحسن «ألم تك» بباء الخطاب على سبيل الالتفات وقرأ الأكثر «تمنى» بالتاء الفوقية فالضمير للنطفة أي يمنيها الرجل ويصبها في الرحم وعلى قراءة الياء وهي قراءة حفص وأبي عمرو بخلاف عنه ويعقوب وسلام والجحدري وابن محيصن للمني ثُمَّ كانَ عَلَقَةً أي بقدرة الله تعالى كما قال تعالى ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً [المؤمنون: 14] فَخَلَقَ أي فقدر الله عز وجل بأن جعلها سبحانه مخلقة فَسَوَّى فعدل وكمل فَجَعَلَ مِنْهُ أي من الإنسان وقيل من المني الزَّوْجَيْنِ أي الصنفين الذَّكَرَ وَالْأُنْثى بدل من الزوجين والخنثى لا يعدوهما. وقرأ زيد بن علي الزوجان بالألف على لغة بني الحارث بن كعب ومن وافقهم من العرب من كون المثنى بالألف في جميع حالاته أَلَيْسَ ذلِكَ العظيم الشأن الذي أنشأ هذا الإنشاء البديع بِقادِرٍ أي قادرا وقرأ زيد «يقدر» مضارعا عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى وهو أهون من البدء في قياس العقل. وقرأ طلحة بن سليمان والفيض بن غزوان «على أن يحيي» بسكون الياء وأنت تعلم أن حركاتها حركة إعراب لا تنحذف إلّا في الوقف وقد جاء في الشعر حذفها بدونه وعن بعضهم «يحيي» بنقل حركة الياء إلى الحاء وإدغام الياء في الياء قال ابن خالويه: لا يجيز أهل البصرة سيبويه وأصحابه إدغام يحيي قالوا لسكون الياء الثانية ولا يعتدون بالفتحة فيها لأنها حركة إعراب غير لازمة، والفراء أجاز ذلك واحتج بقوله تمشي بشدة فتعي يريد فتعيا، وبالجملة القراءة شاذة وجاء في عدة أخبار أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال: «سبحانك اللهم وبلى» وفي بعضها «سبحانك فبلى» وأخرج أحمد وأبو داود والترمذي وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ منكم والتين والزيتون فانتهى إلى آخرها أليس الله بأحكم الحاكمين فليقل بلى وأنا على ذلكم من الشاهدين، ومن قرأ لا أقسم بيوم القيامة فانتهى إلى أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى فليقل بلى، ومن قرأ والمرسلات فبلغ فبأي حديث بعده يؤمنون فليقل آمنا بالله» . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 165 سورة الإنسان وتسمى سورة الدهر والأبرار والأمشاج وهل أتى وهي مكية عند الجمهور على ما في البحر وقال مجاهد وقتادة مدنية كلها وقال الحسن وعكرمة والكلبي مدنية إلا آية واحدة فمكية وهي ولا تطع منهم آثما أو كفورا وقيل مدنية إلّا من قوله تعالى فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ [الإنسان: 24] إلى آخرها فإنه مكي وعن ابن عادل حكاية مدنيتها على الإطلاق عن الجمهور وعليه الشيعة وآيها إحدى وثلاثون آية بلا خلاف والمناسبة بينها وبين ما قبلها في غاية الوضوح. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً أصله على ما قيل أهل على أن الاستفهام للتقرير أي الجمل على الإقرار بما دخلت عليه والمقرر به من ينكر البعث وقد علم أنهم يقولون نعم قد مضى على الإنسان حين لم يكن كذلك فيقال فالذي أوجده بعد إن لم يكن كيف يمتنع عليه إحياؤه بعد موته وهَلْ بمعنى قد وهي للتقريب أي تقريب الماضي من الحال فلما سدت هَلْ مسد الهمزة دلت على معناها ومعنى الهمزة معا ثم صارت حقيقة في ذلك فهي للتقرير والتقريب واستدل على ذلك الأصل بقول زيد الخيل: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 166 سائل فوارس يربوع بشدتنا ... أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم وقيل هي للاستفهام ولا تقريب وجمعها مع الهمزة في البيت للتأكيد كما في قوله: ولا للملبهم أبدا دواء بل التأكيد هنا أقرب لعدم الاتحاد لفظا على أن السيرافي قال: الرواية الصحيحة أم هل رأونا على أن أم منقطعة بمعنى بل وقال السيوطي في شرح شواهد المغني الذي رأيته في نسخة قديمة من ديوان زيد فهل رأونا بالفاء وعن ابن عباس وقتادة هي هنا بمعنى قد وفسرها بها جماعة من النحاة كالكسائي وسيبويه والمبرد والفراء وحملت على معنى التقريب، ومن الناس من حملها على معنى التحقيق وقال أبو عبيدة: مجازها قد أتى على الإنسان وليس باستفهام وكأنه أراد ليس باستفهام حقيقة وإنما هي للاستفهام التقريري ويرجع بالآخرة إلى قد أتى ولعل مراد من فسرها بذلك كابن عباس وغيره ما ذكر لا أنها بمعنى قد حقيقة وفي المغني ما تفيدك مراجعته بصيرة فراجعه والمراد بالإنسان الجنس على ما أخرجه ابن المنذر عن ابن عباس، والحين طائفة محدودة من الزمان شاملة للكثير والقليل والدَّهْرِ الزمان الممتد الغير المحدود ويقع على مدة العالم جميعها وعلى كل زمان طويل غير معين والزمان عام للكل والدهر وعاء الزمان كلام فلسفي وتوقف الإمام أبو حنيفة في معنى الدهر منكر أي في المراد به عرفا في الإيمان حتى يقال بماذا يحنث إذا قال: والله لا أكلمه دهرا والمعرف عنده مدة حياة الحالف عند عدم النية وكذا عند صاحبيه والمنكر عندهما كالحين وهو معرفا ومنكرا كالزمان ستة أشهر إن لم تكن نية أيضا وبها ما نوي على الصحيح وما اشتهر من حكاية اختلاف فتاوى الخلفاء الأربعة في ذلك على عهده عليه الصلاة والسلام مستدلا كل بدليل. وقوله صلّى الله عليه وسلم بعد الرفع إليه: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» إلّا أنه اختار فتوى الأمير كرم الله تعالى وجهه بأن الحين يوم وليلة لما فيه من التيسير لا يصح كما لا يخفى على الناقد البصير ولو صح لم يعدل عن فتوى الأمير معدن البسالة والفتوة بعد أن اختارها مدينة العلم ومفخر الرسالة والنبوة والمعنى هنا قد أتى أو هَلْ أَتى عَلَى جنس الْإِنْسانِ قبل زمان قريب طائفة محدودة مقدرة كائنة من الزمان الممتد لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً بلى كان شيئا غير مذكور بالإنسانية أصلا أي غير معروف بها على أن النفي راجع إلى القيد والمراد أنه معدوم لم يوجد بنفسه بل كان الموجود أصله مما لا يسمى إنسانا ولا يعرف بعنوان الإنسانية وهو مادته البعيدة أعني العناصر أو المتوسطة وهي الأغذية أو القريبة وهي النطفة المتولدة من الأغذية المخلوقة من العناصر وجملة لَمْ يَكُنْ إلخ حال من الإنسان أي غير مذكور وجوز أن تكون صفة لحين بحذف العائد عليه أي لم يكن فيه شيئا مذكورا كما في قوله تعالى وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [البقرة: 123] وإطلاق الْإِنْسانِ على مادته مجاز بجعل ما هو بالقوة منزلا منزلة ما هو بالفعل أو هو من مجاز الأول وقيل المراد بالإنسان آدم عليه السلام وأيد الأول بقوله تعالى إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فإن الإنسان فيه معرفة معادة فلا يفترقان كيف وفي إقامة الظاهر مقام المضمر فضل التقرير والتمكين في النفس فإذا اختلفا عموما وخصوصا فاتت الملايمة ولا شك أن الحمل على آدم عليه السلام في هذا ولا وجه له ولا نقض به على إرادة الجنس بناء على أنه لا عموم فيه ولا خصوص. نعم دل قوله سبحانه مِنْ نُطْفَةٍ على أن المراد غيره أو هو تغليب وقيل يجعل ما للأكثر للكل مجازا في الإسناد أو الطرف ورويت إرادته عن قتادة والثوري وعكرمة والشعبي وابن عباس أيضا وقال في رواية أبي صالح عنه مرت به أربعون سنة قبل أن ينفخ فيه الروح وهو ملقى بين مكة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 167 والطائف. وفي رواية الضحاك عنه أنه خلق من طين فأقام أربعين سنة ثم من حمأ مسنون فأقام أربعين سنة ثم من صلصال فأقام أربعين سنة فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة ثم نفخ فيه الروح. وحكى الماوردي عنه أن الحين المذكور هاهنا هو الزمن الطويل الممتد الذي لا يعرف مقداره. وروي نحوه عن عكرمة فقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه أنه قال إن من الحين حينا لا يدرك وتلا الآية فقال: والله ما يدري كم أتى عليه حتى خلقه الله تعالى. ورأيت لبعض المتصوفة أن هل للاستفهام الإنكاري فهو في معنى النفي أي ما أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا وظاهره القول بقدم الإنسان في الزمان على معنى أنه لم يكن زمان إلّا وفيه إنسان وهو القدم النوعي كما قال به من قال من الفلاسفة وهو كفر بالإجماع ووجه بأنهم عنوا شيئية الثبوت لقدم الإنسان عندهم بذلك الاعتبار دون شيئية الوجود ضرورة أنه بالنسبة إليها حادث زمانا ويرشد إلى هذا قول الشيخ محيي الدين في الباب 358 من الفتوحات المكية لو لم يكن في العالم من هو على صورة الحق ما حصل المقصود من العلم بالحق أعني العلم الحادث في قوله سبحانه: «كنت كنزا لم أعرف فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق وتعرفت إليهم فعرفوني» فجعل نفسه كنزا والكنز لا يكون إلّا مكتنزا في شيء فلم يكن كنز الحق نفسه إلّا في صورة الإنسان الكامل في شيئية ثبوته هناك كان الحق مكنوزا فلما ألبس الحق الإنسان شيئية الوجود ظهر الكنز بظهوره فعرفه الإنسان الكامل بوجوده وعلم أنه كان مكنوزا فيه في شيئية ثبوته وهو لا يشعر به انتهى ولا يخفى أن الأشياء كلها في شيئية الثبوت قديمة لا الإنسان وحده، ولعلهم يقولون الإنسان هو كل شيء لأنه الإمام المبين وقد قال سبحانه وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ [يس: 12] والكلام في هذا المقام طويل ولا يسعنا أن نطيل بيد أنّا نقول كون هَلْ هنا للإنكار منكر وأن دعوى صحة ذلك لإحدى الكبر والذي فهمه أجلة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم من الآية الإخبار الإيجابي. أخرج عبد بن حميد وغيره عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه سمع رجلا يقرأ «هل أتى على الإنسان شيء من الدهر لم يكن شيئا مذكورا» فقال ليتها تمت. وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه سمع رجلا يتلو ذلك فقال يا ليتها تمت فعوقب في قوله هذا فأخذ عمودا من الأرض فقال يا ليتني كنت مثل هذا أَمْشاجٍ جمع مشج بفتحتين كسبب وأسباب، أو مشج بفتح فكسر ككتف وأكتاف، أو مشيج كشهيد وأشهاد ونصير وأنصار أي أخلاط جمع خلط بمعنى مختلط ممتزج، يقال: مشجت الشيء إذا خلطته ومزجته فهو مشيج وممشوج، وهو صفة لنطفة ووصف بالجمع وهي مفردة لأن المراد بها مجموع ماء الرجل والمرأة والجمع قد يقال على ما فوق الواحد أو باعتبار الأجزاء المختلفة فيهما رقة وغلظا وصفرة وبياضا وطبيعة وقوة وضعفا حتى اختص بعضها ببعض الأعضاء على ما أراده الله تعالى بحكمته فخلقه بقدرته. وفي بعض الآثار أن ما كان من عصب وعظم وقوة فمن ماء الرجل، وما كان من لحم ودم فمن ماء المرأة، والحاصل أنه نزل الموصوف منزلة الجمع ووصف بصفة أجزائه وقيل هو مفرد جاء على أفعال كأعشار وأكياش في قولهم برمة أعشار أي متكسرة وبرد أكيش أي مغزول غزله مرتين. واختاره الزمخشري والمشهور عن نص سيبويه وجمهور النحاة أن أفعالا لا يكون جمعا وحكي عنه أنه ذهب إلى ذلك في العام ومعنى نطفة مختلطة عند الأكثرين نطفة اختلط وامتزج فيها الماءان، وقيل: اختلط فيها الدم والبلغم والصفراء والسوداء وقيل الأمشاج نفس الأخلاط التي هي عبارة عن هذه الأربعة فكأنه قيل من نطفة هي عبارة عن أخلاط أربعة. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد أنه قال: أمشاج أي ألوان أي ذات ألوان فإن ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اختلطا ومكثا في قعر الرحم اخضرّا كما يخضر الماء بالمكث، وروي عن الكلبي وأخرج عن زيد بن أسلم أنه قال: الأمشاج العروق التي في النطفة، وروي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 168 ذلك عن ابن مسعود أي ذات عروق، وروي عن عكرمة وكذا ابن عباس أنه قال «أمشاج» أطوار أي ذات أطوار فإن النطفة تصير علقة ثم مضغة وهكذا إلى تمام الخلقة ونفخ الروح وقوله تعالى نَبْتَلِيهِ حال من فاعل خلقنا والمراد مريدين ابتلاءه واختباره بالتكليف فيما بعد على أن الحال مقدرة أو ناقلين له من حال إلى حال ومن طور إلى طور على طريقة الاستعارة لأن المنقول يظهر في كل طهور ظهورا آخر كظهور نتيجة الابتلاء والامتحان بعده. وروي نحوه عن ابن عباس وعلى الوجهين ينحل ما قيل إن الابتلاء بالتكليف وهو يكون بعد جعله سَمِيعاً بَصِيراً لا قبل فكيف يترتب عليه قوله سبحانه فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً وقيل الكلام على التقديم والتأخير والجملة استئناف تعليلي أي فجعلناه سميعا بصيرا لنبتليه وحكي ذلك عن الفراء وعسف لأن التقديم لا يقع في حاق موقعه لا لفظا لأجل الفاء ولا معنى لأنه لا يتجه السؤال قبل الجعل والأوجه الأول، وهذا الجعل كالمسبب عن الابتلاء لأن المقصود من جعله كذلك أن ينظر الآيات الآفاقية والأنفسية ويسمع الأدلة السمعية فلذلك عطف على الخلق المقيد به بالفاء ورتب عليه قوله تعالى إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ لأنه جملة مستأنفة تعليلية في معنى لأنا هديناه أي دللناه على ما يوصله من الدلائل السمعية كالآيات التنزيلية والعقلية كالآيات الأفاقية والأنفسية وهو إنما يكون بعد التكليف والابتلاء إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً حالان من مفعول هدينا وإما للتفصيل باعتبار تعدد الأحوال مع اتحاد الذات أي هديناه ودللناه على ما يوصل إلى البغية في حالتيه جميعا من الشكر والكفر أو للتقسيم للمهدي باختلاف الذوات والصفات أي هديناه السبيل مقسوما إليها بعضهم شاكر بالاهتداء للحق وطريقه بالأخذ فيه وبعضهم كفور بالأعراض عنه وحاصله دللناه على الهداية والإسلام فمنهم مهتد مسلم ومنهم ضال كافر وقيل حالان من السبيل أي عرفناه السبيل إما سبيلا شاكرا وإما سبيلا كفورا على وصف السبيل بوصف سالكه مجازا والمراد به لا يخفى وعن السدي أن السبيل هنا سبيل الخروج من الرحم وليس بشيء أصلا وقرأ أبو السمال وأبو العاج (1) أما بفتح الهمزة في الموضعين وهي لغة حكاها أبو زيد عن العرب وهي التي عدها بعض الناس على ما قال أبو حيان في حروف العطف وأنشدوا: تلقحها إما شمال عرية ... وإما صبا جنح العشي هبوب وجعلها الزمخشري أما التفصيلية المتضمنة معنى الشرط على معنى إِمَّا شاكِراً فبتوفيقنا وَإِمَّا كَفُوراً فبسوء اختياره وهذا التقدير إبراز منه للمذهب قيل ولا عليه أن يجعله من باب يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً [البقرة: 26] كأنه قيل إِمَّا شاكِراً فبهدايتنا أي دعائنا أو أقدارنا على ما فسر به الهداية وَإِمَّا كَفُوراً فبها أيضا لاختلاف وجه الدعاء لأن الهداية هاهنا ليست في مقابلة الضلال وهذا جار على المذهبين وسالم عن حذف ما لا دليل عليه، وجوز في الانتصاف أن يكون التقدير إِمَّا شاكِراً فمثاب وَإِمَّا كَفُوراً فمعاقب وإيراد الكفور بصيغة المبالغة لمراعاة الفواصل والإشعار بأن الإنسان قلما يخلو من كفران ما، وإنما المؤاخذ عليه الكفر المفرط إِنَّا أَعْتَدْنا هيأنا لِلْكافِرِينَ من أفراد الإنسان الذي هديناه السبيل سَلاسِلَ بها يقادون وَأَغْلالًا بها يقيدون وَسَعِيراً بها يحرقون وتقديم وعيدهم مع تأخرهم للجمع بينهما في الذكر كما في قوله تعالى يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ [آل عمران: 106] الآية ولأن الإنذار أنسب بالمقام وحقيق بالاهتمام ولأن تصدير الكلام وختمه بذكر المؤمنين أحسن على أن وصفهم تفصيلا ربما يخل تقديمه بتجارب أطراف النظم الكريم. وقرأ نافع   (1) قوله وأبو العاج وهو كثير بن عبد الله السلمي شامي ولي البصرة لهشام بن عبد الملك. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 169 والكسائي وأبو بكر والأعمش «سلاسلا» بالتنوين وصلا وبالألف المبدلة منه وقفا وقال الزمخشري وفيه وجهان أحدهما أن تكون هذه النون بدلا عن حرف الإطلاق ويجري الوصل مجرى الوقف. والثاني أن يكون صاحب القراءة ممن ضرى برواية الشعر ومرن لسانه على صرف غير المنصرف. وفي الأول أن الإبدال من حروف الإطلاق في غير الشعر قليل كيف وضم إليه إجراء للوصل مجرى الوقف. وفي الثاني تجويز القراءة بالتشهي دون سداد وجهها في العربية والوجه أنه لقصد الازدواج والمشاكلة فقد جوزوا لذلك صرف ما لا ينصرف لا سيما الجمع فإنه سبب ضعيف لشبهه بالمفرد في جمعه كصواحبات يوسف ونواكسي الأبصار ولهذا جوز بعضهم صرفه مطلقا كما قيل. والصرف في الجمع أتى كثيرا ... حتى ادعى قوم به التخييرا وحكى الأخفش عن قوم من العرب أن لغتهم صرف كل ما لا ينصرف إلّا أفعل من وصرف «سلاسلا» ثابت في مصاحف المدينة ومكة والكوفة والبصرة وفي مصحف أبيّ وعبد الله بن مسعود وروى هشام عن ابن عامر «سلاسل» في الوصل وسلاسلا بألف دون تنوين في الوقف إِنَّ الْأَبْرارَ شروع في بيان حسن حال الشاكرين إثر بيان حال سوء الكافرين وإيرادهم بعنوان البر للإشعار بما استحقوا به ما نالوه من الكرامة السنية مع تجديد صفة مدح لهم والأبرار جمع بر كربّ وأرباب أو بار كشاهد وأشهاد بناء على أن فاعلا يجمع على أفعال والبر المطيع المتوسع في فعل الخير وقيل من يؤدي حق الله تعالى ويوفي بالنذر وعن الحسن هو الذي لا يؤذي الذر ولا يرضى الشر يَشْرَبُونَ في الآخرة مِنْ كَأْسٍ هي كما قال الزجاج الإناء إذا كان فيه الشراب فإذا لم يكن لم يسم كأسا وقال الراغب: الكأس الإناء بما فيه من الشراب ويسمى كل واحد منهما بانفراده كأسا والمشهور أنها تطلق حقيقة على الزجاجة إذا كانت فيها خمر ومجازا على الخمر بعلاقة المجاورة والمراد بها هاهنا قيل الخمر فمن تبعيضية أو بيانية وقيل الزجاجة التي فيها الخمر ف مِنْ ابتدائية وقوله تعالى كانَ مِزاجُها كافُوراً أظهر ملاءمة للأول والظاهر أن هذا على منوال كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [النساء: 17 وغيرها] والمجيء بالفعل للتحقيق الدوام، وقيل كانَ تامة من قوله تعالى كُنْ فَيَكُونُ [البقرة: 117 وغيرها] والمزاج ما يمزج به كالحزام لما يحزم به فهو اسم آلة، وكافور على ما قال الكلبي علم عين في الجنة ماؤها في بياض الكافور وعرفه وبرده وصرف لتوافق الآي والكلام على حذف مضاف أي ماء كافور والجملة صفة كَأْسٍ وهذا القول خلاف الظاهر ولعله إن لم يصح فيه خبر لا يقبل. وقرأ عبد الله «قافورا» بالقاف بدل الكاف وهما كثيرا ما يتعاقبان في الكلمة كقولهم عربي قح وكح وقوله تعالى عَيْناً بدل من كافور وقال قتادة يمزج لهم بالكافور ويختم لهم بالمسك وذلك لبرودة الكافور وبياضه وطيب رائحته، فالكافور بمعناه المعروف وقيل إن خمر الجنة قد أودعها الله تعالى إذ خلقها أوصاف الكافور الممدوحة فكونه مزاجا مجاز في الإنصاف بذلك فعينا على هذين القولين بدل من محل كَأْسٍ على تقدير مضاف أي يشربون خمرا خمر عين أو نصب على الاختصاص بإضمار أعني أو أخص كما قال المبرد وقيل على الحال من ضمير مِزاجُها وقيل من كَأْسٍ وساغ لوصفه وأريد بذلك وصفها بالكثرة والصفاء وقيل منصوب بفعل يفسره ما بعد أعني قوله تعالى يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ على تقدير مضاف أيضا أي يشربون ماء عين يشرب بها إلخ. وتعقب بأن الجملة صفة عَيْناً فلا يعمل فعلها بها وما لا يعمل لا يفسر عاملا وأجيب بمنع كونها صفة على هذا الوجه والتركيب عليه نحو رجلا ضربته نعم هي صفة عين على غير هذا الوجه والباء للإلصاق، وليست للتعدية وهي متعلقة معنى بمحذوف أي يشرب الخمر ممزوجة بها أي بالعين عِبادُ اللَّهِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 170 وهو كما تقول شربت الماء بالعسل هذا إذا جعل كافور علم عين في الجنة وأما على القولين الآخرين فقيل وجه الباء أن يجعل الكلام من باب: يجرح في عراقيبها نصلي لإفادة المبالغة. وقيل: الباء للتعدية وضمن يَشْرَبُ معنى يروى فعدي بها وقيل هي بمعنى من، وقيل: هي زائدة والمعنى يشربها كما في قول الهزلي: شربن بماء البحر ثم ترفعت ... متى لحج خضر لهن نئيج ويعضد هذا قراءة ابن أبي عبلة «يشربها» وقيل ضمير بِها للكأس، والمعنى يشربون العين بتلك الكأس وعليه يجوز أن يكون عَيْناً مفعولا ليشرب مهدما عليه وعِبادُ اللَّهِ المؤمنون أهل الجنة يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً صفة أخرى لعينا أي يجرونها حيث شاؤوا من منازلهم إجراء سهلا لا يمتنع عليهم على أن التنكير للتنويع. أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن ابن شوزب أنه قال: معهم قضبان ذهب يفجرون بها فيتبع الماء قضبانهم. وفي بعض الآثار أن هذه العين في دار رسول الله صلّى الله عليه وسلم تفجر إلى دور الأنبياء عليهم السلام والمؤمنين يُوفُونَ بِالنَّذْرِ استئناف مسوق لبيان ما لأجله يرزقون هذا النعيم مشتمل على نوع تفصيل لما ينبىء عنه اسم الأبرار إجمالا كأنه قيل: ماذا يفعلون حتى ينالوا تلك المرتبة العالية؟ فقيل: يوفون إلخ، وأفيد أنه استئناف للبيان ومع ذلك عدل عن أوفوا إلى المضارع للإستحضار والدلالة على الاستمرار والوفاء بالنذر كناية عن أداء الواجبات كلها العلم ما عداه بالطريق الأولى وإشارة النص فإن من أوفى بما أوجبه على نفسه كان إيفاء ما أوجبه الله تعالى عليه أهم له وأحرى، وجعل ذلك كناية هو الذي يقتضيه ما روي عن قتادة وعن عكرمة ومجاهد إبقاؤه على الظاهر قالا: أي إذا نذروا طاعة فعلوها وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ عذابه مُسْتَطِيراً فاشيا منتشرا في الأقطار غاية الانتشار من استطار الحريق والفجر وهو أبلغ من طار لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، وللطلب أيضا دلالة على ذلك لأن ما يطلب من شأنه أن يبالغ فيه. وفي وصفهم بذلك إشعار بحسن عقيدتهم واجتنابهم عن المعاصي وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ أي كائنين على حب الطعام أي مع اشتهائه والحاجة إليه فهو من باب التتميم ويجاوبه من القرآن قوله تعالى لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92] وروي عن ابن عباس ومجاهد أو على حب الإطعام بأن يكون ذلك بطيب نفس وعدم تكلف، وإليه ذهب الحسن بن الفضل وهو حسن أو كائنين على حب الله تعالى أو إطعاما كائنا على حبه تعالى ولوجهه سبحانه وابتغاء مرضاته عز وجل وإليه ذهب الفضيل بن عياض وأبو سليمان الداراني. ف عَلى حُبِّهِ من باب التكميل وزيفه بعضهم وقال الأول هو الوجه ويجاوبه القرآن على أن في قوله تعالى لوجه الله بعد غنية عن قوله سبحانه لوجه الله وفيه نظر بل لعله الأنسب لذاك، وذكر الطعام مع أن الإطعام يغني عنه لتعيين مرجع الضمير على الأول، ولأن الطعام كالعلم فيما فيه قوام البدن واستقامة البنية وبقاء النفس ففي التصريح به تأكيد لفخامة فعلهم على الأخيرين ويجوز أن يعتبر على الأول أيضا ثم الظاهر أن المراد بإطعام الطعام حقيقته. وقيل هو كناية عن الإحسان إلى المحتاجين والمواساة معهم بأي وجه كان وإن لم يكن ذلك بالطعام بعينه فكأنه ينفعون بوجوه المنافع مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً قيل أي أسير كان، فعن الحسن أنه صلّى الله عليه وسلم كان يؤتى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين فيقول: «أحسن إليه» فيكون عنده اليومين والثلاثة فيؤثره على نفسه وقال قتادة: كان أسيرهم يومئذ المشرك وأخوك المسلم أحق أن تطعمه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 171 وأخرج ابن عساكر عن مجاهد أنه قال: لما صدر النبيّ صلّى الله عليه وسلم بالأسارى من بدر أنفق سبعة من المهاجرين أبو بكر وعمر وعلي والزبير وعبد الرحمن وسعد وأبو عبيدة بن الجراح على أسارى مشركي بدر، فقالت الأنصار: قتلناهم في الله وفي رسوله صلّى الله عليه وسلم وتعينونهم بالنفقة؟ فأنزل الله تعالى فيهم تسعة عشرة آية إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ- إلى قوله تعالى- عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا [الإنسان: 5- 18] ففيه دليل على أن إطعام الأسارى وإن كانوا من أهل الشرك حسن ويرجى ثوابه، والخبر الأول قال ابن حجر لم يذكره من يعتمد عليه من أهل الحديث. وقال ابن العراقي: لم أقف عليه، والخبر الثاني لم أره لفرد غير ابن عساكر ولا وثوق لي بصحته وهو يقتضي مدنية هذه الآيات وقد علمت الخلاف في ذلك نعم عند عامة العلماء يجوز الإحسان إلى الكفار في دار الإسلام ولا تصرف إليهم الواجبات. وقال ابن جبير وعطاء: هو الأسير من أهل القبلة. قال الطيبي هذا إنما يستقيم إذا اتفق الإطعام في دار الحرب من المسلم لأسير في أيديهم. وقيل هو الأسير المسلم ترك في بلاد الكفار رهينة وخرج لطلب الفداء. وروى محيي السنة عن مجاهد وابن جبير وعطاء أنهم قالوا: هو المسجون من أهل القبلة وفيه دليل على أن إطعام أهل المحبوس المسلمين حسن، وقد يقال: لا يحسن إطعام المحبوس لوفاء دين يقدر على وفائه إنما امتنع عنه تعنتا ولغرض من الأغراض النفسانية. وعن أبي سعيد الخدري هو المملوك والمسجون وتسمية المسجون أسيرا مجاز لمنعه عن الخروج، وأما تسمية المملوك فمجاز أيضا لكن قيل باعتبار ما كان وقيل باعتبار شبهه به في تقييده بأسار الأمر وعدم تمكنه من فعل ما يهوى وعد الغريم أسيرا لقوله صلّى الله عليه وسلم: «غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك» وهو على التشبيه البليغ إلّا أنه قيل في هذا الخبر ما قيل في الخبر الأول وقال أبو حمزة اليماني: هي الزوجة وضعّفه هاهنا ظاهر إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ على إرادة قول هو في موضع الحال من فاعل يُطْعِمُونَ أي قائلين ذلك بلسان الحال لما يظهر عليهم من إمارات الإخلاص وعن مجاهد إما إنهم ما تكلموا به ولكن علمه الله تعالى منهم فأثنى سبحانه به عليهم ليرغب فيه راغب أو بلسان المقال إزاحة لتوهم المن المبطل للصدقة وتوقع المكافأة المنقصة للأجر وعن الصديقة رضي الله تعالى عنها أنها كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت ثم تسأل الرسول ما قالوا فإذا ذكر دعاء دعت لهم بمثله ليبقى لها ثواب الصدقة خالصا عند الله عز وجل. وجوز أن يكون قولهم هذا لهم لطفا وتفقيها وتنبيها على ما ينبغي أن يكون عليه من أخلص لله تعالى وليس بذاك وقوله سبحانه لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً بالأفعال وَلا شُكُوراً ولا شكرا وثناء بالأقوال تقرير وتأكيد لما قبله إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً أي عذاب يوم فهو على تقدير مضاف أو أن خوفه كناية عن خوف ما فيه عَبُوساً تعبس فيه الوجوه على أنه من الإسناد المجازي كما في نهاره صائم فقد روي عن ابن عباس أن الكافر يعبس يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران أو يشبه الأسد العبوس على أنه من الاستعارة المكنية التخييلية لكن لا يخفى أن العبوس ليس من لوازم الأسد وإنما اشتهر وصفه به ففي التخييلية ضعف ما وقيل إنه من التشبيه البليغ قَمْطَرِيراً شديد العبوس ويقال شديدا صعبا كأنه التف شره ببعضه وقيل طويلا وهو رواية عن ابن عباس وجاء قماطر وأنشدوا لأسد بن ناغصة: واصطليت الحروب في كل يوم ... باسل الشر فمطرير الصباح بني عمنا هل تذكرون بلاءنا ... عليكم إذا ما كان يوم قماطر الجزء: 15 ¦ الصفحة: 172 وقول آخر: وإلى الأول ذهب الزجاج فقال: القمطرير الذي يعبس حتى يجتمع ما بين عينيه، ويقال: اقمطرت الناقة إذا رفعت ذنبها وزمت بأنفها وجمعت قطريها أي جانبيها كأنها تفعل ذلك إذا لحقت كبرا. وقيل: لتضع حملها فاشتقاقه عنده على ما قيل من قطر بالاشتقاق الكبير والميم زائدة وهذا لا يلزم الزجاج فيجوز أن يكون مشتقا كذلك من القمط، ويقال: قمطه إذا شده وجمع أطرافه وفي البحر يقال: اقمطر فهو مقمطر وقمطرير وقماطر إذا صعب واشتد واختلف في هذا الوزن وأكثر النحاة لا يثبتون افمعل في أوزان الأفعال وهذه الجملة جوز أن تكون علة لإحسانهم وفعلهم المذكور كأنه قيل نفعل بكم ما نفعل لأنّا نخاف يوما صفته كيت وكيت، فنحن نرجو بذلك أن يقينا ربنا جل وعلا شره، وأن تكون علة لعدم إرادة الجزاء والشكور أي إنّا لا تريد منكم المكافأة لخوف عقاب الله تعالى على طلب المكافأة بالصدفة وإلى الوجهين أشار في الكشاف وقال في الكشف: الثاني أوجه ليبقى قوله لوجه الله خالصا غير مشوب بحظ النفس من جلب نفع أو دفع ضر ولو جعل علة للإطعام المعلل على المعنى إنما خصصنا الإحسان لوجهه تعالى لأنّا نخاف يوم جزائه ومن خافه لازم الإخلاص لكان وجها فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ بسبب خوفهم وتحفظهم عنه. وقرأ أبو جعفر «فوقّاهم» بشد القاف وهو أوفق بقوله تعالى وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً أي أعطاهم بدل عبوس الفجار وحزنهم نضرة في الوجوه وسرورا في القلوب وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا بصبرهم على مشاق الطاعات ومهاجرة هوى النفس في اجتناب المحرمات وإيثار الأموال مأكلا وملبسا جَنَّةً بستانا عظيما يأكلون منه ما شاؤوا وَحَرِيراً يلبسونه ويتزينون به ومن رواية عطاء عن ابن عباس أن الحسن والحسين مرضا فعادهما جدهما محمد صلّى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما وعادهما من عادهما من الصحابة فقالوا لعلي كرم الله تعالى وجهه: يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما إن برآ مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيام شكرا فألبس الله تعالى الغلامين ثوب العافية. وليس عند آل محمد قليل ولا كثير فانطلق علي كرم الله تعالى وجهه إلى شمعون اليهودي الخيبري فاستقرض منه ثلاثة أصوع من شعير فجاء بها فقامت فاطمة رضي الله تعالى عنها إلى صاع فطحنته وخبزت منه خمسة أقراص على عددهم وصلى علي كرم الله تعالى وجهه مع النبي صلّى الله عليه وسلم المغرب ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه فوقف بالباب سائل فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد صلّى الله عليه وسلم، أنا مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله تعالى من موائد الجنة، فآثروه وباتوا لم يذوقوا شيئا إلّا الماء وأصبحوا صياما، ثم قامت فاطمة رضي الله تعالى عنها إلى صاع آخر فطحنته وخبزته وصلى علي كرم الله تعالى وجهه مع النبي صلّى الله عليه وسلم المغرب ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه فوقف يتيم بالباب، وقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد صلّى الله عليه وسلم، يتيم من أولاد المهاجرين أطعموني أطعمكم الله تعالى من موائد الجنة، فآثروه ومكثوا يومين وليلتين لم يذوقوا شيئا إلّا الماء القراح وأصبحوا صياما فلما كان يوم الثالث قامت فاطمة رضي الله تعالى عنها إلى الصاع الثالث وطحنته وخبزته وصلى علي كرم الله تعالى وجهه مع النبي صلّى الله عليه وسلم المغرب فأتى المنزل فوضع الطعام بين يديه فوقف أسير بالباب فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد صلّى الله عليه وسلم، أنا أسير محمد عليه الصلاة والسلام أطعموني أطعمكم الله، فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلّا الماء القراح. فلما أصبحوا أخذ علي كرم الله تعالى وجهه الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ورآهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع قال: «يا أبا الحسن ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم» وقام فانطلق معهم إلى فاطمة رضي الله الجزء: 15 ¦ الصفحة: 173 تعالى عنها فرآها في محرابها قد التصق بطنها بظهرها وغارت عيناها من شدة الجوع فرق لذلك صلّى الله عليه وسلم وساءه ذلك فهبط جبريل عليه السلام فقال: خذها يا محمد هنّاك الله تعالى في أهل بيتك قال: «وما آخذ يا جبريل» فاقرأه هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ السورة وفي رواية ابن مهران فوثب النبي صلّى الله عليه وسلم حتى دخل على فاطمة فأكب عليها يبكي فهبط جبريل عليه السلام بهذه الآية إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ إلى آخره وفي رواية عن عطاء أن الشعير كان عن أجرة سقي نخل وأنه جعل في كل يوم ثلث منه عصيدة فآثروا بها وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في قوله سبحانه وَيُطْعِمُونَ إلخ نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه وفاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعليهم وسلم ولم يذكر القصة والخبر مشهور بين الناس وذكره الواحدي في كتاب البسيط وعليه قول بعض الشيعة: إلا إلام وحتى متى ... أعاتب في حب هذا الفتى وهل زوجت غيره فاطم ... وفي غيره هل أتى هل أتى وتعقب بأنه خبر موضوع مفتعل كما ذكره الترمذي وابن الجوزي وآثار الوضع ظاهرة عليه لفظا ومعنى، ثم إنه يقتضي أن تكون السورة مدنية لأن بناء علي كرم الله تعالى وجهه على فاطمة رضي الله تعالى عنها كان بالمدينة وهي عند ابن عباس المروي هو عنه على ما أخرج النحاس مكية وكذا عند الجمهور في قول. وأقول أمر مكيتها ومدنيتها مختلف فيه جدا كما سمعت فلا جزم فيه بشيء وابن الجوزي نقل الخبر في تبصرته ولم يتعقبه على أنه ممن يتساهل في أمر الوضع حتى قالوا إنه لا يعول عليه في هذا الباب فاحتمال أصل النزول في الأمير كرم الله تعالى وجهه وفاطمة رضي الله تعالى عنها قائم ولا جزم بنفي ولا إثبات لتعارض الأخبار ولا يكاد يسلم المرجح عن قيل وقال، نعم لعله يترجح عدم وقوع الكيفية التي تضمنتها الرواية الأولى، ثم إنه على القول بنزولها فيهما لا يتخصص حكمها بهما بل يشمل كل من فعل مثل ذلك كما ذكره الطبرسي من الشيعة في مجمع البيان راويا له عن عبد الله بن ميمون عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه وعلى القول بعدم النزول فيهما لا يتطامن مقامهما ولا ينقص قدرهما إذ دخولهما في الأبرار أمر جلي بل هو دخول أولى فهما هما وماذا عسى يقول امرؤ فيهما سوى أن عليا مولى المؤمنين ووصي النبي وفاطمة البضعة الأحمدية والجزء المحمدي وأما الحسنان فالروح والريحان وسيدا شباب الجنان وليس هذا من الرفض بشيء بل ما سواه عندي هو الغيّ: أنا عبد الحق لا عبد الهوى ... لعن الله الهوى فيمن لعن ومن اللطائف على القول بنزولها فيهم أنه سبحانه لم يذكر فيها الحور العين وإنما صرح عز وجل بولدان مخلدين رعاية لحرمة البتول وقرة عين الرسول لئلا تثور غيرتها الطبيعية إذا أحست بضرة وهي في أفواه تخيلات الطباع البشرية ولو في الجنة مرة. ولا يخفى عليك أن هذا زهرة ربيع ولا تتحمل الفرك ثم التذكير على ذلك أيضا من باب التغليب. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه «جازاهم» على وزن فاعل مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ حال من (هم) في جَزاهُمْ والعامل جزى وخص الجزاء بهذه الحالة لأنها أتم حالات المتنعم ولا يضر في ذلك قوله تعالى بِما صَبَرُوا لأن الصبر في الدنيا وما تسبب عليه في الآخرة وقيل صفة الجنة ولم يبرز الضمير مع أن الصفة جارية على غير من هي عليه فلم يقل متكئين هم فيها لعدم الإلباس كما في قوله: قومي ذري المجد بانوها وقد علمت ... بكنه ذلك عدنان وقحطان الجزء: 15 ¦ الصفحة: 174 وأنت تعلم هذا رأي الكوفية ومذهب البصرية وجوب إبراز الضمير في ذلك مطلقا وفي البيت كلام وقيل يجوز كونه حالا مقدرة من ضمير صَبَرُوا وليس بذاك والْأَرائِكِ جمع أريكة وهي السرير في الحجلة من دونه ستر ولا يسمى مفردا أريكة وقيل هو كل ما اتكئ عليه من سرير أو فراش أو منصة وكان تسميته بذلك لكونه مكانا للإقامة أخذا من قولهم أرك بالمكان أروكا أقام، وأصل الأروك الإقامة على رعي الأراك الشجر المعروف ثم استعمل في غيره من الإقامات وقوله تعالى لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً إما حال ثانية من الضمير أو حال من المستكن في مُتَّكِئِينَ وجوز فيه كونه صفة لجنة أيضا والمراد من ذلك أن هواءها معتدل لا حر شمس يحمي ولا شدة برد يؤذي. وفي الحديث: «هواء الجنة سجسج لا حر ولا قر» فقصد بنفي الشمس نفيها ونفي لازمها معا لقوله سبحانه وَلا زَمْهَرِيراً فكأنه قيل لا يرون فيها حرا ولا قرا. وقيل الزمهرير القمر وعن ثعلب أنه في لغة طيىء وأنشد: وليلة ظلامها قد اعتكر ... قطعتها والزمهرير ما زهر وليس هذا لأن طبيعته باردة كما قيل لأنه في حيز المنع بل قيل إنه برهن على أن الأنوار كلها حارة فيحتمل أن ذلك للمعانه أخذا له من ازمهر الكوكب لمع، والمعنى على هذا القول أن هواءها مضيء بذاته لا يحتاج إلى شمس ولا قمر. وفي الحديث: إن الجنة لا خطر بها هي ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانة تهتز وقصر مشيد الحديث ثم إنها مع هذا قد يظهر فيها نور أقوى من نورها كما تشهد به الأخبار الصحيحة. وفي بعض الآثار عن ابن عباس بينا أهل الجنة في الجنة إذ رأوا ضوءا كضوء الشمس وقد أشرقت الجنان به فيقول أهل الجنة: يا رضوان ما هذا وقد قال ربنا لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً فيقول لهم رضوان: ليس هذا بشمس ولا قمر ولكن علي وفاطمة رضي الله تعالى عنهما ضحكا فأشرقت الجنان من نور ثغريهما. وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها عطف على الجملة وحالها حالها أو صفة لمحذوف معطوف على جنة فيما سبق أي وجنة أخرى دانية عليهم ظلالها على أنهم وعدوا جنتين كما في قوله تعالى وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 175 جَنَّتانِ [الرحمن: 46] وقرأ أبو حيوة «دانية» بالرفع وخرج على أن دانية خبر مقدم لظلالها والجملة في حيز الحال على أن الواو عاطفة أو حالية أو في حيز الصفة على أن الواو عاطفة أيضا أو للإلصاق على ما يراه الزمخشري. وقال الأخفش «ظلالها» مرفوع بدانية على الفاعلية واستدل بذلك على جواز عمل اسم الفاعل من غير اعتماد نحو قائم الزيدون وقد علمت أنه لا يصلح للاستدلال لقيام ذلك الاحتمال على أنه يجوز أن يكون خبر المبتدأ مقدر فيعتمد أي وهي دانية عليهم ظلالها. وقرأ أبيّ «ودان» كقاض ولا يتم الاستدلال به للأخفش أيضا وإن كان بينه وبين ما تقدم فرق ما. وقرأ الأعمش «ودانيا عليهم» نحو خاشعا أبصارهم والمراد أن ظلال أشجار الجنة قريبة من الأبرار مظلة عليهم زيادة في نعيمهم وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا أي سخرت ثمارها لمتناولها وسهل أخذها من الذل وهو ضد الصعوبة. قال قتادة ومجاهد وسفيان: إن كان الإنسان قائما تناول الثمر دون كلفة، وإن كان قاعدا أو مضطجعا فكذلك فهذا تذليلها لا يرد اليد عنها بعد ولا شوك، والجملة حال من ضمير دانِيَةً أي تدنو ظلالها عليهم مذللة لهم قطوفها أو معطوفة على ما قبلها وهي فعلية معطوفة على اسمية في قراءة «دانية» بالرفع ونكتة التخالف أن استدامة الظل مطلوبة هنالك والتجدد في تذليل القطوف على حسب الحاجة وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ جمع إناء ككساء وأكسية، وهو ما يوضع فيه الشيء والأواني جمع الجمع مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ جمع كوب وهو قدح لا عروة له كما قال الراغب وفي القاموس: كوز لا عروة له أو لا خرطوم له، وقيل: الكوز العظيم الذي لا أذن له ولا عروة كانَتْ أي تلك الأكواب قَوارِيرَا جمع قارورة وهي إناء رقيق من الزجاج يوضع فيه الأشربة ونصبه على الحال فإن كان تامة وهو كما تقول خلقت قوارير وقوله تعالى قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ بدل والكلام على التشبيه البليغ فالمراد تكونت جامعة بين صفاء الزجاجة وشفيفها ولين الفضة وبياضها. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور والبيهقي عن ابن عباس قال: لو أخذت فضة من فضة الدنيا فضربتها حتى جعلتها مثل جناح الذباب لم ير الماء من ورائها ولكن قوارير الجنة ببياض الفضة مع صفاء القوارير. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال: ليس في الجنة شيء إلّا قد أعطيتم في الدنيا شبهه إلّا قوارير من فضة. وقرأ نافع والكسائي وأبو بكر بتنوين «قوارير» في الموضعين وصلا وإبداله ألفا وقفا وابن كثير يمنع صرف الثاني ويصرف الأول لوقوعه في الفاصلة وآخر الآية، وقف عليه بألف مشاكلة لغيره من كلمات الفواصل والتنوين عند الزمخشري في الأول بدل من ألف الإطلاق كما في قوله: يا صاح ما هاج العيون الذرفن وفي الثاني للاتباع فتذكر والقراءة بمنع صرفهما لحفص وابن عامر وحمزة وأبي عمرو وقرأ الأعمش الثاني «قوارير» بالرفع أي هي قوارير قَدَّرُوها تَقْدِيراً أي قدروا تلك القوارير في أنفسهم فجاءت حسب ما قدروا لا مزيد على ذلك ولا يمكن أن يقع زيادة عليه، وفي معناه قول الطائي: ولو صورت نفسك لم تزدها ... على ما فيك من كرم الطباع فإنه ينبىء عن كون نفسه خلقت على أتمّ ما ينبغي من مكارم الصفات بحيث لا مزيد على ذلك فضمير قَدَّرُوها للأبرار المطاف عليهم أو قدروا شرابها على قدر الري وهو ألذ للشارب. قال ابن عباس: أتوا بها على الحاجة لا يفضلون شيئا ولا يشتهون بعدها شيئا وعن مجاهد تقديرها أنها ليست بالملأى التي تفيض ولا بالناقصة التي تغيض، فالضمير على ما هو الظاهر للسقاة الطائفين بها المدلول عليه بقوله تعالى يُطافُ عَلَيْهِمْ. وقد روى عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس أنه قال قدرتها السقاة وقيل: المعنى قدروها الجزء: 15 ¦ الصفحة: 176 بأعمالهم الصالحة فجاءت على حسبها والضمير على هذا قيل للملائكة وقيل للسقاة. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس والسلمي والشعبي وقتادة وزيد بن علي والجحدري والأصمعي عن أبي عمرو وابن عبد الخالق عن يعقوب وغيرهم «قدروها» على البناء للمفعول واختلف في تخريجها فقال أبو علي: كان اللفظ قدروا عليها، وفي المغني قلب لأن حقيقته أن يقال قدرت عليهم فهو نحو قوله تعالى ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ [القصص: 76] وقول العرب إذا طلعت الجوزاء ارتقى العود على الحرباء. وقال الزمخشري: وجه ذلك أن يكون من قدرت الشيء بالتخفيف أي بينت مقداره فنقل إلى التفعيل فتعدى لاثنين أحدهما الضمير النائب عن الفاعل، والثاني ها والمعنى جعلوا قادرين لها كما شاؤوا وأطلق لهم أن يقدروا على حسب ما اشتهوا وقال أبو حاتم: قدرت الأواني على قدر ريهّم ففسر بعضهم هذا بأن في الكلام حذفا وهو أنه كان قدر على قدر ريهم إياها فحذف على فصار قدر نائب الفاعل ثم حذف فصار ريهم نائب الفاعل ثم حذف وصاروا والجمع نائب الفاعل واتصل المفعول الثاني بقدر فصار قدرها وقال أبو حيان الأقرب أن يكون الأصل قدر ريهم منها تقديرا فحذف المضاف وهو الري وأقيم الضمير مقامه فصار قدروا منها ثم اتسع في الفعل فحذفت من ووصل الفعل إلى الضمير بنفسه فصار قَدَّرُوها فلم يكن فيه إلّا حذف مضاف واتساع في المجرور. ولا يخفى أن القلب زيف وما قرره البعض تكلف جدا وفي كون ما اختاره أبو حيان أقرب مما اختاره جار الله نظر ولعله أكثر تكلفا منه. وقوله تعالى وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا يجري فيه معظم ما جرى في قوله تعالى يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً إلخ من الأوجه والزنجبيل قال الدينوري نبت في أرض عمان وهو عروق تسري في الأرض وليس بشجرة ومنه ما يحمل من بلاد الزنج والصين وهو الأجود وكانت العرب تحبه لأنه يوجب لذعا في اللسان إذا مزج بالشراب فيلتذون ولذا يذكرونه في وصف رضاب النساء قال الأعشى: كأن القرنفل والزنجبيل ... باتا بفيها وأريا مسورا وقال عمرو المسيب بن علس: وكان طعم الزنجبيل به ... إذ ذقته وسلافة الخمر وعده بعضهم في المعربات وكون الزنجبيل اسما لعين في الجنة مروي عن قتادة وقال: يشرب منها المقربون صرفا وتمزج لسائر أهل الجنة، والظاهر أنهم تارة يشربون من كأس مزاجها كافور وتارة يسقون من كأس مزاجها زنجبيل، ولعل ذكر يُسْقَوْنَ هنا دون يَشْرَبُونَ لأنه الأنسب بما تقدمه من قوله تعالى وَيُطافُ عَلَيْهِمْ إلخ ويمكن أن يكون فيه رمز إلى أن هذه الكأس أعلى شأنا من الكأس الأولى. وعن الكلبي يسقى بجامين الأول مزاجه الكافور والثاني مزاجه الزنجبيل، والسلسبيل كالسلسل والسلسال قال الزجاج: ما كان من الشراب غاية في السلاسة وسهولة الانحدار في الحلق. وقال ابن الأعرابي: لم أسمع السلسبيل إلّا في القرآن وكأن العين إنما سميت بذلك لسلاستها وسهولة مساغها قال عكرمة: عين سلسل ماؤها، وقال مجاهد: حديدة الجري سلسلة سهلة المساغ، وقال مقاتل: عين يتسلسل عليهم ماؤها في مجالسهم كيف شاؤوا وهي على ما روي عن قتادة عين تنبع من تحت العرش من جنة عدن تتسلسل إلى الجنان. وفي البحر الظاهر أن هذه العين تسمى سلسبيلا بمعنى توصف بأنها سلسة الانسياغ سهلة في المذاق ولا يحمل سلسبيل على أنه اسم حقيقة لأنه إذ ذاك كان ممنوع الصرف للتأنيث والعلمية وقد روي عن طلحة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 177 أنه قرأه بغير ألف جعله علما لها فإن كان علما فوجه قراءة الجمهور بالتنوين المناسب للفواصل كما قيل في «سلاسلا» «وقواريرا» وزعم الزمخشري أن الباء زيدت فيه حتى صارت الكلمة خماسية، فإن عنى أنها زيدت حقيقة فليس بجيد لأن الباء ليست من حروف الزيادة المعهودة وإن عنى أنها حرف جاء في سنح الكلمة وليس في سلسل ولا في سلسال صح ويكون مما اتفق معناه وكان مختلفا في المادة انتهى. وفي الكشف لا يريد الزيادة المصطلحة ألا ترى إلى قوله حتى صارت خماسية وهو أيضا من الاشتقاق الأكبر فلا تغفل. وقال بعض المعربين سَلْسَبِيلًا أمر للنبي صلّى الله عليه وسلم ولأمته بسؤال السبيل إليها وعزوه إلى علي كرم الله تعالى وجهه وهو غير مستقيم بظاهره إلّا أن يراد أن جملة قول القائل سَلْسَبِيلًا جعلت اسما للعين كما قيل تأبط شرا وذرى حبا، وسميت بذلك لأنه لا يشرب منها إلّا من سال إليها سبيلا بالعمل الصالح وهو مع استقامته في العربية تكلف وابتداع، وعزوه إلى مثل الأمير كرم الله تعالى وجهه أبدع ونص بعضهم على أنه افتراء عليه كرم الله تعالى وجهه وفي شعر ابن مطران الشاشي: سلسبيلا فيها إلى راحة النفس ... براح كأنها سلسبيل وفيه الجناس الملفق واستعمله غير واحد من المحدثين وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ أي للخدمة وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ أي دائمون على ما هم فيه من الطراوة والبهاء وقيل مقرطون بخلدة وهي ضرب من القرطة وجاء في حديث أخرجه ابن مردويه عن أنس مرفوعا: «إنهم ألف خادم» وفي بعض الآثار أضعاف ذلك: والجود أعظم والمواهب أوسع ويختلف ذلك قلة وكثرة باختلاف أعمال المخدومين إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً لحسنهم وصفاء ألوانهم وإشراق وجوههم وانبثاثهم في مجالسهم ومنازلهم وانعكاس أشعة بعضهم إلى بعض، وقيل شبهوا باللؤلؤ الرطب إذا نثر من صدفه لأنه أحسن وأكثر ماء وعليه هو من تشبيه المفرد لأن الانبثاث غير ملحوظ والخطاب في رَأَيْتَهُمْ للنبي صلّى الله عليه وسلم أو لكل واقف عليه وكذا في قوله تعالى وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ أي هناك يعني في الجنة وهو في موضع النصب على الظرف، ورأيت منزل منزلة اللازم فيفيد العموم في المقام الخطابي فالمعنى أن بصرك أينما وقع في الجنة رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً عظيم القدر لا تحيط به عبارة وهو يشمل المحسوس والمعقول. وقال عبد الله بن عمرو الكلبي: عريضا واسعا يبصر أدناهم منزلة في الجنة في ملك مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه وذلك لما يعطي من حدة النظر أو هو من خصائص الجنة. وقال مجاهد: هو استئذان الملائكة عليهم السلام فلا يدخلون عليهم إلّا بإذن. وقال الترمذي: وأظنه كما ظن أبو حيان الحكيم لا أبا عيسى المحدث صاحب الجامع هو ملك التكوين والمشيئة إذا أرادوا شيئا كان، وقيل هو النظر إلى الله عز وجل وقيل غير ذلك وقيل الملك الدائم الذي لا زوال له. وزعم الفراء أن المعنى وَإِذا رَأَيْتَ ما ثَمَّ رَأَيْتَ إلخ وخرج على أنه أراد أن ثَمَّ ظرف لمحذوف وقع صلة لموصول محذوف هو مفعول رَأَيْتَ والتقدير وَإِذا رَأَيْتَ ما ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً إلخ فحذف ما كما حذف في قوله تعالى لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الأنعام: 94] أي ما بينكم وتعقبه الزجاج ثم الزمخشري بأنه خطأ لأنه لا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة وأنت تعلم أن الكوفيين يجيزون ذلك ومنه قوله: فمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء الجزء: 15 ¦ الصفحة: 178 أراد ومن يمدحه فحذف الموصول وأبقى صلته وقد يقال إن ذلك إنما يرد لو أراد أن الموصول مقدر أما لو أراد المعنى وأن الظرف يغني غناء المفعول به فهو كلام صحيح لأن الظرف والمرئي كليهما الجنة. وقرأ حميد الأعرج «ثمّ» بضم الثاء حرف عطف وجواب إِذا على هذا المحذوف يقدر بنحو تحيّر فكرك أو بنحو رأيت عاملا في نَعِيماً عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ قيل عالِيَهُمْ ظرف بمعنى فوقهم على أنه خبر مقدم وثِيابُ مبتدأ مؤخر والجملة حال من الضمير المجرور في عالِيَهُمْ فهي شرح لحال الأبرار المطوّف عليهم. وقال أبو حيان: إن عالي نفسه حال من ذلك الضمير وهو اسم فاعل وثِيابُ مرفوع على الفاعلية به ويحتاج في إثبات كونه ظرفا إلى أن يكون منقولا من كلام العرب عاليك ثوب مثلا ومثله فيما ذكر عالية. وقيل: حال من ضمير لقاهم أو من ضمير جزاهم وقيل من الضمير المستتر في مُتَّكِئِينَ والكل بعيد وجوز كون الحال من مضاف مقدر قبل نَعِيماً أو قبل مُلْكاً أي رأيت أهل نعيم أو أهل ملك عاليهم إلخ وهو تكلف غير محتاج إليه. وقيل: صاحب الحال الضمير المنصوب في حَسِبْتَهُمْ فهي شرح لحال الطائفين ولا يخفى بعده لما فيه من لزوم التفكيك ضرورة أن ضمير سَقاهُمْ فيما بعد كالمتعين عوده على الأبرار وكونه من التفكيك مع القرينة المعينة وهو مما لا بأس به ممنوع. واعترض أيضا بأن مضمون الجملة يصير داخلا تحت الحسبان وكيف يكون ذلك وهم لابسون الثياب حقيقة بخلاف كونهم لؤلؤا فإنه على طريق التشبيه المقتضي لقرب شبههم باللؤلؤ أن يحسبوا لؤلؤا. وأجيب بأن الحسبان في حال من الأحوال لا يقتضي دخول الحال تحت الحسبان ورفع خُضْرٌ على أنه صفة ثِيابُ وإِسْتَبْرَقٌ على أنه عطف على ثِيابُ والمراد وثياب إستبرق. والسندس قال ثعلب: ما رق من الديباج، وقيل: ما رق من ثياب الحرير والفرق أن الديباج ضرب من الحرير المنسوج يتلون ألوانا. وقال الليث: هو ضرب من البزيون يتخذ من المرعز وهو معرب بلا خلاف بين أهل اللغة على ما في القاموس وغيره. وزعم بعض أنه مع كونه معربا أصله سندي بياء النسبة لأنه يجلب من السند فأبدلت الياء سينا كما قال في سادي سادس وهو كما ترى. والإستبرق قيل: ما غلظ من ثياب الحرير، وقال أبو إسحاق: الديباج الصفيق الغليظ الحسن، وقال ابن دريد: ثياب حرير نحو الديباج. وعن ابن عبادة هو بردة حمراء وقيل هو المنسوج من الذهب وهو اسم أعجمي معرب عند جمع أصله بالفارسية استبره، وفي القاموس معرب استروه وحكي ذلك عن ابن دريد وأنه قال: إنه سرياني وقيل معرب استفره وما في صورة الفاء ليست فاء خالصة وإنما هي بين الفاء والباء، وقيل: عربي وافقت لغة العرب فيه لغة غيرهم واستصوبه الأزهري وكما اختلفوا فيه هل هو معرب أو عربي اختلفوا هل هو نكرة أو علم جنس مبني أو معرب أو ممنوع من الصرف وهمزته همزة قطع أو وصل، والصحيح على ما قال الخفاجي أنه نكرة معرب مصروف مقطوع الهمزة كما يشهد به القراءة المتواترة، وسيعلم إن شاء الله تعالى حال ما يخالفها وفي جامع التعريب أن جمعه أبارق وتصغيره أبيرق حذفت السين والتاء في التكسير لأنهما زيدتا معا فأجري مجرى الزيادة الواحدة وفي المسألة خلاف أيضا مذكور في محله ولم يذكر لون هذا الإستبرق. وأشار ناصر الدين إلى أنه الخضرة ف خُضْرٌ وإن توسط بين المعطوف والمعطوف عليه فهو لهما وعلى كل حال هذه الثياب لباس لهم وربما تشعر الآية بأن تحتها ثيابا أخرى وقيل على وجه الحالية من ضمير مُتَّكِئِينَ أن المراد فوق حجالهم المضروبة عليهم ثياب سندس إلخ. وحاصله أن حجالهم مكللة بالسندس والإستبرق. وقرأ ابن عباس بخلاف عنه والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن ونافع وحمزة «عاليهم» بسكون الياء وكسر الهاء وهي رواية أبان عن عاصم فهو مرفوع بضمة مقدرة على الياء على الجزء: 15 ¦ الصفحة: 179 أنه مبتدأ «وثياب» خبره وعند الأخفش فاعل سد مسد الخبر وقيل على أنه خبر مقدم «وثياب» مبتدأ مؤخر وأخبر به عن النكرة لأنه نكرة وإضافته لفظية وهو في معنى الجماعة كما في سامِراً تَهْجُرُونَ [المؤمنون: 67] على ما صرح به مكي ولا حاجة إلى التزامه على رأي الأخفش. وقيل: هو باق على النصب والفتحة مقدرة على الياء وأنت تعلم أن مثله شاذ أو ضرورة فلا ينبغي أن يخرج عليه القراءة المتواترة. وقرأ ابن مسعود والأعمش وطلحة وزيد بن علي «عاليتهم» بالياء والتاء مضمومة وعن الأعمش أيضا وأبان عن عاصم فتح التاء الفوقية وتخريجهما كتخريج «عاليهم» بالسكون والنصب. وقرأ ابن سيرين ومجاهد في رواية وقتادة وأبو حيوة وابن أبي عبلة والزعفراني وأبان أيضا «عليهم» جارا ومجرورا فهو خبر مقدم وثِيابُ مبتدأ مؤخر. وقرأت عائشة «علتهم» بتاء التأنيث فعلا ماضيا «فثياب» فاعل. وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة «ثياب سندس» بتنوين «ثياب» ورفع «سندس» على أنه وصف لها وهذا كما نقول ثوب حرير تريد من هذا الجنس. وقرأ العربيان ونافع في رواية «وإستبرق» بالجر عطفا على «سندس» . وقرأ ابن كثير وأبو بكر بجر «خضر» صفة ل «سندس» وهو في معنى الجمع. وقد صرحوا بأن وصف اسم الجنس الذي يفرق بينه وبين واحده بتاء التأنيث بالجمع جائز فصيح وعليه يُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ [الرعد: 12] والنَّخْلَ باسِقاتٍ [ق: 10] وقد جاء «سندسة» في الواحدة كما قاله غير واحد وجوز كونه صفة لثياب وجره للجوار وفيه توافق القراءتين معنى إلّا أنه قليل. وقرأ الأعمش وطلحة والحسن وأبو عمرو بخلاف عنهما وحمزة والكسائي «خضر وإستبرق» بجرهما وقرأ ابن محيصن «وإستبرق» بوصل الألف وفتح القاف كما في عامة كتب القراءات ويفهم من الكشاف أنه قرأ بالقطع والفتح وأن غيره قرأ بما تقدم وهو خلاف المعروف، وخرج الفتح على المنع من الصرف للعلمية والعجمة وغلظ بأنه نكرة يدخله حرف التعريف فيقال: الإستبرق وقيل إن ذاك كذا والوصل مبني على أنه عربي مسمى باستفعل من البريق يقال برق وإستبرق كعجب واستعجب فهو في الأصل فعل ماض ثم جعل علما لهذا النوع من الثياب فمنع من الصرف للعلمية ووزن الفعل دون العجمة وتعقب بأن كونه معربا مما لا ينبغي أن ينكر. وقيل هو مبني منقول من جملة فعل وضمير مستتر وحاله لا يخفى. واختار أبو حيان أن «إستبرق» على قراءة ابن محيصن فعل ماض من البريق كما سمعت وأنه باق على ذلك لم ينقل ولم يجعل علما للنوع المعروف من الثياب وفيه ضمير عائد على السندس أو على الأخضر الدال عليه خُضْرٌ كأنه لما وصف بالخضرة وهي مما يكون فيها لشدتها دهمة وغيش أخبر أن في ذلك اللون بريقا وحسنا يزيل غبشه فقيل وَإِسْتَبْرَقٌ أي برق ولمع لمعانا شديدا ثم قال معرضا بمن غلطه كأبي حاتم والزمخشري وهذا التخريج أولي من تلحين قارئ جليل مشهور بمعرفة العربية وتوهيم ضابط ثقة قد أخذ عن أكابر العلماء انتهى. وقيل: الجملة عليه معترضة أو حال بتقدير قد أو بدونه وَحُلُّوا أَساوِرَ جمع سوار وهو معروف وذكر الراغب أنه معرب دستواره مِنْ فِضَّةٍ هي فضة لائقة بتلك الدار، والظاهر أن هذا عطف على يَطُوفُ عَلَيْهِمْ واختلافهما بالمضي والمضارعة لأن الحالية مقدمة على الطواف المتجدد ولا ينافي ما هنا قوله تعالى أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ 21 [الكهف: 31، الحج: 23، فاطر: 33] لإمكان الجمع بتعدد الأساور لكل والمعاقبة بلبس الذهب تارة الفضة أخرى، والتبعيض بأن يكون أساور بعض ذهبا وبعض فضة لاختلاف الأعمال. وقيل: هو حال من ضمير عالِيَهُمْ بإضمار قد أو بدونه فإن كان الضمير للطائفين على أن يكون عالِيَهُمْ حالا من ضمير حسبتهم جاز أن يقال الفضة للخدم والذهب للمخدومين. وجوز أن يكون المراد بالأساور الأنوار الفائضة على أهل الجنة المتفاوتة لتفاوت الأعمال تفاوت الذهب والفضة والتعبير عنها بأساور الأيدي لأنه جزاء ما عملته أيديهم، ولا يخفى أن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 180 هذا مما لا يليق بالتفسير. وحري أن يكون من باب الإشارة ثم إن التحلية إن كانت للولدان فلا كلام ويكونون على القول الثاني في مُخَلَّدُونَ مسورين (مقرطين) وهو من الحسن بمكان وإن كانت لأهل الجنة المخدومين فقد استشكل بأنها لا تليق بالرجال وإنما تليق بالنساء والوالدان، وأجيب بأن ذلك مما يختلف باختلاف العادات والطبائع ونشأة الآخرة غير هذه النشأة ومن المشاهد في الدنيا أن بعض ملوكها يتحلون بأعضادهم وعلى تيجانهم وعلى صدورهم ببعض أنواع الحلي مما هو عند بعض الطباع أولى بالنساء وللصبيان ولا يرون ذلك بدعا ولا نقصا كل ذلك لمكان الإلف والعادة، فلا يبعد أن يكون من طباع أهل الجنة في الجنة الميل إلى الحلي مطلقا لا سيما وهم جرد مرد أبناء ثلاثين. وقيل إن الأساور إنما تكون لنساء أهل الجنة والصبيان فقط لكن غلب في اللفظ جانب التذكير وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً هو نوع آخر يفوق النوعين السابقين، وهما ما مزج بالكافور وما مزج بالزنجبيل كما يرشد إليه إسناد سقيه إلى رب العالمين ووصفه بالطهورية. قال أبو قلابة: يؤتون بالطعام والشراب فإذا كان آخر ذلك أتوا بالشراب الطهور فيطهر بذلك قلوبهم وبطونهم ويفيض عرقا من جلودهم مثل ريح المسك. وعن مقاتل هو ماء عين على باب الجنة من ساق شجرة من شرب منه نزع الله تعالى ما كان في قلبه من غش وغل وحسد وما كان في جوفه من قذر وأذى أي إن كان فالطهور عليهما بمعنى المطهر وقد تقدم في ذلك كلام فتذكر. وقال غير واحد أريد أنه في غاية الطهارة لأنه ليس برجس كخمر الدنيا التي هي في الشرع رجس لأن الدار ليست دار تكليف أو لأنه لم يعصر فتمسه الأيدي الوضرة وتدوسه الأقدام الدنسة. ولم يجعل في الدنان والأباريق التي لم يعن بتنظيفها أو لأنه لا يؤول إلى النجاسة لأنه يرشح عرقا من أبدانهم له ريح كريح المسك، وقيل: أريد بذاك الشراب الروحاني لا المحسوس وهو عبارة عن التجلي الرباني الذي يسكرهم عما سواه: صفاء ولا ماء ولطف ولا هوا ... ونور ولا نار وروح ولا جسم ولعل كل ما ذكره ابن الفارض في خمريته التي لم يفرغ مثلها في كأس إشارة إلى هذا الشراب وإياه عنى بقوله: سقوني وقالوا لا تغنّ ولو سقوا ... جبال حنين ما سقوني لغنت ويحكى أنه سئل أبو يزيد عن هذه الآية فقال سقاهم شرابا طهرهم به عن محبة غيره ثم قال: إن الله تعالى شرابا ادخره لأفاضل عباده يتولى سقيهم إياه فإذا شربوا طاشوا وإذا طاشوا طاروا وإذا طاروا وصلوا وإذا وصلوا اتصلوا فهم فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر: 55] وحمل بعضهم جميع الأشربة على غير المتبادر منها، فقال: إن الأنوار الفائضة من جواهر أكابر الملائكة وعظمائهم عليهم السلام على هذه الأرواح مشبهة بالماء العذب الذي يزيل العطش ويقوي البدن، وكما أن العيون متفاوتة في الصفاء والكثرة والقوة فكذا ينابيع الأنوار العلوية مختلفة فبعضها كافورية على طبع البرد واليبس ويكون صاحب ذلك في الدنيا في مقام الحزن والبكاء والانقباض، وبعضها يكون زنجبيليا على طبع الحر واليبس ويكون صاحبه قليل الالتفات إلى السوي قليل المبالاة بالأجسام والجسمانيات ثم لا يزال الروح البشري منتقلا من ينبوع إلى ينبوع ومن نور إلى نور ولا شك أن الأسباب والمسببات متناهية في ارتقائها إلى واجب الوجود الذي هو النور المطلق جل جلاله، فإذا وصل إلى ذلك المقام وشرب ذلك الشراب انهضمت تلك الأشربة المتقدمة بل فنيت لأن نور ما سوى الله يضمحل في مقابلة نور جلال الله سبحانه وكبريائه وذلك آخر سير الصديقين ومنتهى درجاتهم في الارتقاء الجزء: 15 ¦ الصفحة: 181 والكمال، ولهذا ختم الله تعالى ذكر ثواب الأبرار بقوله جل وعلا وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً إِنَّ هذا الذي ذكر من فنون الكرامات الجليلة الشأن كانَ لَكُمْ جَزاءً بمقابلة أعمالكم الصالحة التي اقتضاها حسن استعدادكم واختياركم، والظاهر أن المجيء بالفعل للتحقيق والدوام وجوز أن يكون المراد كان في علمي وحكمي وكذا في قوله تعالى وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً أي مرضيا مقبولا أو مجازى عليه غير مضيع، والكلام على ما روي عن ابن عباس على إضمار القول أي ويقال لهم بعد دخولهم الجنة ومشاهدتهم ما أعد لهم إن هذا إلخ والغرض أن يزداد سرورهم فإنه يقال للمعاقب هذا بعملك الرديء فيزداد غمه وللمثاب هذا بطاعتك وعملك الحسن فيزداد سروره ويكون ذلك تهنئة له، وجوز أن يكون خطابا من الله تعالى في الدنيا كأنه سبحانه بعد أن شرح ثواب أهل الجنة قال: إن هذا كان في علمي وحكمي جزاء لكم يا معشر عبادي وكان سعيكم مشكورا، وقيل: وهو لا يغني عن الإضمار ليرتبط بما قبله وقد ذكر سبحانه من الجزاء ما تهش له الألباب وأعقبه جل وعلا بما يدل على الرضا الذي هو أعلى وأغلى لدى الأحباب: إذا كنت عني يا منى القلب راضيا ... أرى كل من في الكون لي يتبسم وروي من طرق أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قرأ هذه السورة وقد أنزلت عليه وعنده رجل من الحبشة أسود، فلما بلغ صفة الجنان زفر زفرة خرجت نفسه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أخرج نفس صاحبكم الشوق إلى الجنة» . ولما ذكر سبحانه أولا حال الإنسان وقسمه إلى الطائع والعاصي وأمعن جل شأنه فيما أعده للطائع مشيرا إلى عظم سعة الرحمة ذكر ما شرف به نبيه صلّى الله عليه وسلم إزالة لوحشته وتقوية لقلبه فقال عز قائلا إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا أي أنزلناه مفرقا منجما في نحو ثلاث وعشرين سنة لحكم بالغة مقتضية له لا غيرنا كما يعرب عنه تكرير الضمير مع أن سواء كان المنفصل تأكيدا أو فصلا أو مبتدأ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ بتأخير نصرك على الكفار فإن له عاقبة حميدة وَلا تُطِعْ قلة صبر منك على أذاهم وضجرا من تأخر نصرك مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً قيل إن أَوْ لأحد الشيئين في جميع مواقعها، ويعرض لها معان أخر كالشك والإباحة وغيرهما فيكون أصل المعنى هنا وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ أحد النوعين ولما كان أحد الأغلب عليه في غير الإثبات العموم واحتمال غيره احتمال مرجوح صار المعنى على النهي عن إطاعة هذا وهذا، ولم يؤت بالواو لاحتمال الكلام عليه النهي عن المجموع ويحصل امتثاله بالانتهاء عن واحد دون الآخر، فلا يرد أن لا تطلع أحد النوعين يحصل الامتثال به بترك إطاعة واحد من إطاعة الآخر إذ يقال لمن فعل ذلك إنه لم يطع أحدهما، ومن هنا قيل إن أَوْ في الإثبات تفيد أحد الأمرين، وفي النفي تفيد نفي كلا الأمرين جميعا، ولعل ما ذكر في معنى كلام ابن الحاجب حيث قال: إن وضع أَوْ لإثبات الحكم لأحد الأمرين إلّا أنه إن حصلت قرينة يفهم معها أن أحد الأمرين غير حاجز عن الآخر مثل قولك جالس الحسن أو ابن سيرين سمي إباحة وإن حجر فهو لأحد الأمرين. واستشكل بعضهم وقوعها في النهي ك لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً إذا لو انتهى عن أحدهما لم يمتثل. ومن ثم حملها بعضهم يعني أبا عبيدة على أنها بمعنى الواو والأول أن تبقى على بابها وإنما جاء التعميم فيها من وراء ذلك وهو النهي الذي فيه معنى النفي لأن المعنى قبل وجود النهي تطيع آثما أو كفورا أي واحدا منهما، فإذا جاء النهي ورد على ما كان ثابتا في المعنى فيصير المعنى ولا تطع واحدا منهما فيجيء التعميم فيهما من جهة النهي وهي على بابها فيما ذكر لأنه لا يحصل الانتهاء عن أحدهما حتى ينتهي عنهما بخلاف الإثبات فإنه قد يفعل أحدهما دون الآخر انتهى. وعليه ما قيل إن إفادة العموم في النفي والنهي الذي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 182 في معناه لما أن تقيض الإيجاب الجزئي السلب الكلي. وقريب من ذلك قول الزجاج إن أَوْ هاهنا أوكد من الواو لأنك إذا قلت لا تطع زيدا وعمرا فأطاع أحدهما كان غير عاص، فإذا أبدلتها بأو فقد دللت على أن كل واحد منهما أهل لأن يعصي ويعلم منه النهي عن إطاعتهما معا كما لا يخفى. وأفاد جار الله أن أَوْ باقية على حقيقتها وأن النهي عن إطاعتهما جميعا إنما جاء من دلالة النص وهي المسمى مفهوم الموافقة بقسميه الأولي والمساوي فتأمل. والمراد بالآثم والكفور جنسهما وتعليق النهي بذلك مشعر بعلية الوصفين له فلا بد أن يكون النهي عن الإطاعة في الإثم والكفر لا فيما ليس بإثم ولا كفر، والمراد ولا تطع مرتكب الإثم الداعي لك إليه أو مرتكب الكفر الداعي إليه أي لا تتبع أحدا من الآثم إذا دعاك إلى الإثم، ومن الكفور إذا دعاك إلى الكفر فإنه إذا قيل لا تطع الظالم فهم منه لا تتبعه في الظلم إذا دعاك إليه ومنع هذا الفهم مكابرة فلا يتم الاستدلال بالآية على عدم جواز الاقتداء بالفاسق إذا صلى إماما ثم إن التقسيم باعتبار ما يدعوان إليه من الكفر والإثم المقابل له لا باعتبار الذوات حتى يكون بعضهم آثما وبعضهم كفورا فيقال: كيف ذلك وكلهم كفرة والمبالغة في «كفور» قيل لموافقة الواقع وهذا كقوله تعالى لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً [آل عمران: 130] واعتبار رجوعها إلى النهي كاعتبار رجوعها إلى النفي على ما قيل في قوله تعالى وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] كما ترى، وقيل الآثم المنافق والكفور المشرك المجاهر. وقيل الآثم عتبة بن ربيعة، والكفور الوليد بن المغيرة لأن عتبة كان ركابا للمآثم متعاطيا لأنواع الفسوق، وكان الوليد غاليا في الكفر شديد الشكيمة في العتو وعن مقاتل أنهما قالا له صلّى الله عليه وسلم: ارجع عن هذا الأمر ونحن نرضيك بالمال والتزويج فنزلت. وقيل الكفور أبو جهل والآية نزلت فيه والأولى ما تقدم. وفي النهي مع العصمة إرشاد لغير المعصوم إلى التضرع إلى الله تعالى والرغبة إليه سبحانه في الحفظ عن الوقوع فيما لا ينبغي وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا وداوم على ذكره سبحانه في جميع الأوقات أو دم على صلاة الفجر والظهر والعصر فإن الأصيل قد يطلق على ما بعد الزوال إلى المغرب فينتظمهما وَمِنَ اللَّيْلِ أي بعضه فَاسْجُدْ فصلّ لَهُ عز وجل على أن السجود مجاز عن الصلاة بذكر الجزء وإرادة الكل وحمل ذلك على صلاة المغرب والعشاء وتقديم الظرف للاعتناء والاهتمام لما في صلاة الليل. من مزيد كلفة وخلوص وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا وتهجد له تعالى قطعا من الليل طويلا فهو أمر بالتهجد على ما اختار له بعضهم. وتنوين لَيْلًا للتبعيض وأصل التسبيح التنزيه ويطلق على مطلق العبادة القولية والفعلية. وعن ابن زيد وغيره أن ذلك كان فرضا ونسخ فلا فرض اليوم إلّا الخمس وقال قوم: هو محكم في شأنه عليه الصلاة والسلام. وقال آخرون: هو كذلك مطلقا على وجه الندب وفي تأخير الظرف قيل دلالة على أنه ليس بفرض كالذي قبله وكذا في التعبير عنه بالتسبيح وفيه نظر وقال الطيبي: الأقرب من حيث النظم أنه تعالى لما نهى حبيبه صلّى الله عليه وسلم عن إطاعة الآثم والكفور وحثه على الصبر على أذاهم وإفراطهم في العداوة، وأراد سبحانه أن يرشده إلى متاركتهم عقب ذلك بالأمر باستغراق أوقاته بالعبادة ليلا ونهارا بالصلوات كلها من غير اختصاص وبالتسبيح بما يطيق على منوال قوله تعالى وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [الحجر: 97، 98] انتهى. وهو حسن إِنَّ هؤُلاءِ الكفرة يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وينهمكون في لذاتها الفانية وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ أي أمامهم يَوْماً ثَقِيلًا هو يوم القيامة وكونه أمامهم ظاهر أو يذرون وراء ظهورهم يوما ثقيلا لا يعبئون به فالظرف قيل على الأول حال من يَوْماً وعلى هذا ظرف يَذَرُونَ ولو جعل على وتيرة واحدة في التعلق صح أيضا ووصف اليوم بالثقيل لتشبيه شدته وهو له بثقل شيء قادح باهظ لحامله بطريق الاستعارة، والجملة كالتعليل لما أمر به ونهى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 183 عنه كأنه قيل لا نطعمهم واشتغل بالأهم من العبادة لأن هؤلاء تركوا الآخرة للدنيا فاترك أنت الدنيا وأهلها للآخرة وقيل: إن هذا يفيد ترهيب محب العاجل وترغيب محب الآجل والأول علة للنهي عن إطاعة الآثم والكفور والثاني علة للأمر بالعبادة نَحْنُ خَلَقْناهُمْ لا غيرنا وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ أي أحكمنا ربط مفاصلهم بالأعصاب والعروق والأسر في الأصل الشد والربط وأطلق على ما يشد به ويربط كما هنا، وإرادة الأعصاب والعروق لشبهها بالحبال المربوط بها ووجه الشبه ظاهر ومن هنا قد يقول العارف من كان أسره من ذاته وسجنه دنياه في حياته فليشك مدة عمره وليتأسف على وجوده بأسره والمراد شدة الخلق وكونه موثقا حسنا. ومنه فرس ما سور الخلق إذا كان موثقه حسنا. وعن مجاهد الأسر الشرج وفسر بمجرى الفضلة وشد ذلك جعله بحيث إذا خرج الأذى انقبض. ولا يخفى أن هذا داخل في شدة الخلق وكونه موثقا حسنا وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ أي أهلكناهم وبدلنا أمثالهم في شدة الخلق تَبْدِيلًا بديعا لا ريب فيه يعني البعث والنشأة الأخرى فالتبديل في الصفات لأن المعاد هو المبتدأ ولكون الأمر محققا كائنا جيء بإذا وذكر المشيئة لإبهام وقته ومثله شائع كما يقول العظيم لمن يسأله الإنعام إذا شئت أحسن إليك ويجوز أن يكون المعنى وإذا شئنا أهلكناهم وبدلنا غيرهم ممن يطيع فالتبديل في الذوات وإذا التحقق قدرته تعالى عليه وتحقق ما يقتضيه من كفرهم المقتضي لاستئصالهم فجعل ذلك المقدور المهدد به كالمحقق وعبر عنه بما يعبر به عنه ولعله الذي أراده الزمخشري بما نقل عنه من قوله إنما جاز ذلك لأنه وعيد جيء به على سبيل المبالغة كان له وقتا معينا ولا يعترض عليه بقوله تعالى وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ [محمد: 38] لأن النكات لا يلزم اطرادها فافهم. والوجه الأول أوفق بسياق النظم الجليل إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ إشارة إلى السورة أو الآيات القرآنية فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أي فمن شاء أن يتخذ إليه تعالى سبيلا أي وسيلة توصله إلى ثوابه اتخذه أي تقرب إليه بالطاعة فهو توصل أيضا السبيل للمقاصد وَما تَشاؤُنَ أي شيئا أو اتخاذ السبيل إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي إلّا وقت مشيئة الله تعالى لمشيئتكم. وقال الزمخشري: أي وَما تَشاؤُنَ الطاعة إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ تعالى قسركم عليها وهو تحريف للآية بلا دليل، ويلزمه على ما في الانتصاف أن مشيئة العبد لا يوجد إلّا إذا انتفت وهو عن مذهب الاعتزال بمعزل وأبعد منزل. والظاهر ما قررنا لأن المفعول المحذوف هو المذكور أولا كما تقول: لو شئت لقتلت زيدا أي لو شئت القتل لا لو شئت زيدا ولا يمكن للمعتزلة أن ينازعوا أهل الحق- في ذلك لأن المشيئة ليست من الأفعال الاختيارية وإلّا لتسلسلت بل الفعل المقرون بها منها فدعوى استقلال العبد مكابرة وكذلك دعوى الجبر المطلق مهاترة والأمر بين الأمرين لإثبات المشيئتين وحاصله على ما حققه الكوراني أن العبد مختار في أفعاله وغير مختار في اختياره والثواب والعقاب لحسن الاستعداد النفس الأمري وسوئه فكل يعمل على شاكلته وسبحان من أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. وفي التفسير الكبير هذه الآية من الآيات التي تلاطمت فيها أمواج القدر والجبر فالقدري يتمسك بالجملة الأولى ويقول إن مفادها كون مشيئة العبد مستلزمة للفعل وهو مذهبي والجبري يتمسك بضم الجملة الثانية ويقول إن مفادها أن مشيئة الله تعالى مستلزمة لمشيئة العبد فيتحصل من الجملتين أن مشيئة الله تعالى مستلزمة لمشيئة العبد وأن مشيئة العبد مستلزمة لفعل العبد كما تؤذن به الشرطية فإذن مشيئة الله تعالى مستلزمة لفعل العبد لأن مستلزم المستلزم مستلزم وذلك هو الجبر وهو صريح مذهبي وتعقب بأن هذا ليس بالجبر المحض المسلوب معه الاختيار بالكلية بل يرجع أيضا إلى أمر بين أمرين وقدر بعض الأجلة مفعول يَشاءَ الاتخاذ والتحصيل ردا للكلام على الصدر. فقال: إن قوله سبحانه وَما تَشاؤُنَ إلخ تحقيق للحق ببيان أن مجرد مشيئتهم غير كافية في الجزء: 15 ¦ الصفحة: 184 اتخاذ السبيل كما هو المفهوم من ظاهر الشرطية أي وما تشاؤون اتخاذ السبيل ولا تقدرون على تحصيله في وقت من الأوقات إلّا وقت مشيئته تعالى اتخاذه وتحصيله لكم إذ لا دخل لمشيئة العبد إلّا من الكسب وإنما التأثير والخلق لمشيئة الله عز وجل وفيه نوع مخالفة للظاهر كما لا يخفى. نعم قيل إن ظاهر الشرطية أن مشيئة العبد مطلقا مستلزمة للفعل فيلزم أنه متى شاء فعلا فعله مع أن الواقع خلافه فلا بد مما قاله هذا البعض، وجعل الجملة الثانية تحقيقا للحق وأجيب بأنها للتحقيق على وجه آخر وذلك أن الأولى أفهمت الاستلزام والثانية بينت أن هذه المشيئة المستلزمة لا تتحقق إلّا وقت مشيئة الله تعالى إياها فكأنه قيل: وما تشاؤون مشيئة تستلزم الفعل إلّا وقت أن يشاء الله تعالى مشيئتكم تلك فتأمل. وأنت تعلم أن هذه المسألة من محار الأفهام ومزال أقدام أقوام بعد أقوام وأقوى شبه الجبرية أنه قد تقرر أن الشيء ما لم يجب لم يوجد فإن وجب صدور الفعل فلا اختيار وإلّا فلا صدور وبعبارة أخرى أن جميع ما يتوقف عليه الفعل إذا تحقق فإما أن يلزم الفعل فيلزم الاضطرار أولا فيلزم جواز تخلف المعلول عن علته التامة بل مع الصدور الترجح بلا مرجح فقد قيل إنها نحو شبهة ابن كمونة في التوحيد يصعب التفصي عنها وللفقير العاجز جبر الله تعالى فقره ويسّر أمره عزم على تأليف رسالة إن شاء الله تعالى في ذلك سالكا فيها بتوفيقه سبحانه أحسن المسالك وإن كان الكوراني قدس سره لم يدع فيها مقالا وأوشك أن يدع كل من جاء بعد فيها بشيء عليه عيالا والله تعالى الموفق. وقرأ العربيان وابن كثير «وما يشاؤون» بياء الغيبة وقرأ ابن مسعود «إلّا ما يشاء الله» وما فيه مصدرية كأن في قراءة الجماعة وقد أشرنا إلى أن المصدر في محل نصب على الظرفية بتقدير المضاف الساد هو مسده وهو ما اختاره غير واحد وتعقبة أبو حيان بأنهم نصوا على أنه لا يقوم مقام الظرف إلّا المصدر المصرح فلا يجوز أجيئك أن يصيح الديك أو ما يصيح الديك وإنما يجوز أجيئك صياح الديك وكأنه لهذا قيل إن أَنْ يَشاءَ بتقدير حرف الجر والاستثناء من أعلم الأسباب أي وَما تَشاؤُنَ بسبب من الأسباب إلا بأن يشاء الله تعالى إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً مبالغا في العلم فيعلم مشيئات العباد المتعلقة بالأفعال التي سألوها بألسنة استعداداتهم حَكِيماً مبالغا في الحكمة فيفيض على كما هو الأوفق باستعداده وما هو عليه في نفس الأمر من المشيئة أو أنه تعالى مبالغ في العلم والحكمة فيعلم ما يستأهله كل أحد من الطاعة وخلافها فلا يشاء لهم إلّا ما يستدعيه علمه سبحانه وتقتضيه حكمته عز وجل وقيل عَلِيماً أي يعلم ما يتعلق به مشيئة العباد من الأعمال حَكِيماً لا يشاء إلّا على وفق حكمته وهو أن يشاء العبد فيشاء الرب سبحانه وتعالى لا العكس ليتأتى التكليف من غير انفراد لأحد المشيئتين عن الأخرى وفيه بحث وقوله تعالى يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ إلخ بيان لما تضمنته الجملة قيل أي يدخل سبحانه في رحمته من يشاء أن يدخله فيها وهو الذي علم فيه الخير حيث يوفقه لما يؤدي إلى دخول الجنة من الإيمان والطاعة وَالظَّالِمِينَ أي لأنفسهم وهم الذين علم فيهم الشر أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً متناهيا في الإيلام ونصب الظَّالِمِينَ بإضمار فعل يفسره أعد إلخ وقدر يعذب وقد يقدر أو عد أو كافأ أو شبه ذلك ولم يقدر أعد لأنه لا يتعدى باللام. وقرأ ابن الزبير وأبان بن عثمان وابن أبي عبلة «والظالمون» على الابتداء وقراءة الجمهور أحسن. وإن أوجبت تقديرا للطباق فيها وذهابه في هذه إذ الجملة عليها اسمية والأولى فعلية. ولا يقال زيادة التأكيد في طرف الوعيد مطلوبة لأنّا نقول الأمر بالعكس لو حقق لسبق الرحمة الغضب. وقرأ عبد الله «وللظالمين» بلام الجر فقيل متعلق بما بعد على سبيل التوكيد. وقيل هو بتقدير أعد للظالمين أَعَدَّ لَهُمْ والجمهور على الأول ثم إن هذه السورة وإن تضمنت من سعة رحمة الله عز وجل ما تضمنت إلّا أنها أشارت من عظيم جلاله سبحانه وتعالى إلى ما أشارت الجزء: 15 ¦ الصفحة: 185 أخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجة والضياء في المختارة والحاكم وصححه وغيرهم عن أبي ذر قال: قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حتى ختمها ثم قال: «إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله تعالى والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز وجل» . وهذا كالظاهر فيما قلنا نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الأبرار والمقربين الأخيار فيرزقنا جنة وحريرا ويجعل سعينا لديه مشكورا بحرمة النبيّ صلّى الله عليه وسلم وأهل بيته المطهرين من الرجس تطهيرا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 186 سورة المرسلات وتسمى سورة العرف وهي مكية فقد أخرج البخاري ومسلم والنسائي وابن مردويه عن ابن مسعود قال: بينما نحن مع النبيّ صلّى الله عليه وسلم في غار بمنى إذ نزلت عليه سورة وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فإنه ليتلوها وإني لأتلقاها من فيه وإن فاه لرطب بها إذ خرجت علينا حية فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «اقتلوها» فابتدرناها فسبقتنا، فدخلت جحرها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «وقيت شركم كما وقيتم شرها» . وعن ابن عباس وقتادة ومقاتل إن فيها آية مدنية وهي وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ [المرسلات: 48] وظاهر حديث ابن مسعود هذا عدم استثناء ذلك وأظهر منه ما أخرجه الحاكم وصححه وابن مردويه عنه أيضا قال: كنا مع النبيّ صلّى الله عليه وسلم في غار فنزلت عليه والمرسلات، فأخذتها من فيه وإن فاه لرطب بها فلا أدري بأيهما ختم فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [المرسلات: 50] وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ وآيها خمسون آية بلا خلاف ومناسبتها لما قبلها أنه سبحانه لما قال فيما قبل يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ [الإنسان: 31] إلخ افتتح هذه بالإقسام على ما يدل على تحقيقه وذكر وقته وأشراطه وقيل إنه سبحانه أقسم على تحقيق جميع ما تضمنته السورة قبل من وعيد الكافرين الفجار ووعد المؤمنين الأبرار فقال عز من قائل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً وَالنَّاشِراتِ نَشْراً فَالْفارِقاتِ فَرْقاً الجزء: 15 ¦ الصفحة: 187 فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً قيل أقسم سبحانه بمن اختاره من الملائكة عليهم السلام على ما أخرجه عبد بن حميد عن مجاهد، فقيل المرسلات والعاصفات طوائف، والناشرات والفارقات والملقيات طوائف أخرى فالأولى طوائف أرسلن بأمره تعالى وأمرن بإنفاذه فعصفن في المضي وأسرعن كما تعصف الريح تخففا في امتثال الأمر وإيقاع العذاب بالكفرة إنقاذا للأنبياء عليهم السلام ونصرة لهم والثانية طوائف نشرن أجنحتهن في الجو عنده انحطاطهن بالوحي ففرقن بين الحق والباطل فألقين ذكرا إلى الأنبياء عليهم السلام، ولعل من يلقي الذكر لهم غير مختص بجبريل عليه السلام بل هو رئيسهم ويرشد إلى هذا الحديث الرصد وفي بعض الآثار «نزل إليّ ملك بألوكة من ربي فوضع رجلا في السماء وثنى الأخرى بين يدي» فالمرسلات صفة لمحذوف، والمراد وكل طائفة مرسلة وكذا النَّاشِراتِ ونصب عُرْفاً على الحال والمراد متتابعة، وكان الأصل والمرسلات متتابعة كالعرف وهو عرف الدابة كالفرس والضبع أعني الشعر المعروف على قفاها فحذف متتابعة لدلالة التشبيه عليه، ثم حذف أداة التشبيه مبالغة ومن هذا قولهم جاؤوا عرفا واحدا إذا جاؤوا يتبع بعضهم بعضا وهم عليه كعرف الضبع إذا تألبوا عليه. ويؤخذ من كلام بعض أن العرف في الأصل ما ذكر ثم كثر استعماله في المعنى التتابع فصار فيه حقيقة عرفية أو على أنه مفعول له على أنه بمعنى العرف الذي هو نقيص النكر أي وَالْمُرْسَلاتِ للإحسان والمعروف ولا يعكر على ذلك أن الإرسال لعذاب الكفار لأن ذلك إن لم يكن معروفا لهم فإنه معروف للأنبياء عليهم السلام والمؤمنين الذين انتقم الله تعالى لهم منهم. وعطف النَّاشِراتِ على ما قبل بالواو ظاهر للتغاير بالذات بينهما وعطف «العاصفات» على «المرسلات» و «الفارقات» على «الناشرات» وكذا ما بعد بالفاء لتنزيل تغاير الصفات منزلة تغاير الذات كما في قوله: يا لهف زيادة للحارث الصابح فالغانم فالآيب وهي للدلالة على ترتيب معاني الصفات في الوجود أي الذي صبح فغنم فآب، وترتيب مضي الأمر على الإرسال به والأمر بإنقاذه ظاهر، وأما ترتيب إلقاء الذكر إلى الأنبياء عليهم السلام على الفرق بين الحق والباطل مع ظهور تأخر الفرق عن الإلقاء فقيل لتأويل الفرق بإرادته فحينئذ يتقدم على الإلقاء، وقيل لتقدم الفرق على الإلقاء من غير حاجة إلى أن يؤول بإرادته لأنه بنفس نزولهم بالوحي الذي هو الحق المخالف للباطل الذي هو الهوى ومقتضى الرأي الفاسد وإنما العلم به متأخر. ومن هذا يظهر ترتيب الفرق على نشر الأجنحة إذ الحاصل عليه نشرن أجنحتهن للنزول فنزلن فألقين وهو غير ظاهر على ما قبله لأن إرادة الفرق تجامع النشر وكذا إرادته إذا أول أيضا بحسب الظاهر بل ربما يقال إن تلك الإرادة قبل، وقيل: إن الفاء في ذلك للترتيب الرتبي ضرورة أن إرادة الفرق أعلى رتبة من النشر، وقيل: إنها فيه وفيما بعده لمجرد الإشعار بأن كلا من الأوصاف المذكورة أعني النشر والفرق مستقل بالدلالة على استحقاق الطوائف الموصوفة بها للتفخيم والإجلال بالإقسام بهن فإنه لو جيء بها على ترتيب الوقوع لربما فهم أن مجموع الثلاثة المترتبة هو الموجب لما ذكر من الاستحقاق. واستعمال «العاصفات» بمعنى المسرعات سرعة الريح مجاز على سبيل الاستعارة ولا يبعد أن يراد بالعاصفات المذهبات المهلكات بالعذاب الذي أرسلن به من أرسلن إليه على سبيل الاستعارة أيضا أو المجاز المرسل. وعُذْراً ونُذْراً في قوله تعالى عُذْراً أَوْ نُذْراً جوز أن يكونا مصدرين من عذر إذا أزال الإساءة، ومن أنذر إذا خوف جاءا على فعل كالشكر والكفر والأول ظاهر لأن فعلا من مصادر الثلاثي، وأما الثاني فعلى خلاف القياس مصدر أفعل الأفعال، وقيل هو اسم المصدر كالطاقة أو مصدر نذر بمعنى أنذر الجزء: 15 ¦ الصفحة: 188 وتسومح فيما تقدم وإن يكونا جمع عذير بمعنى المعذرة ونذير بمعنى الإنذار وانتصابهما على العلية والعامل فيهما «الملقيات» أو ذِكْراً وهو بمعنى التذكير والعظة بالترغيب والترهيب أي فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً لأجل العذر للمحقين أو لأجل النذر للمبطلين أو على الحالية من «الملقيات» أو الضمير المستتر فيها على التأويل أي عاذرين أو منذرين أو على البدلية من ذِكْراً على أن المراد به الوحي فيكونان بدل بعض أو التذكير والعظة فيكونان بدل كل وإن يكونا وصفين بمعنى عاذرين ومنذرين فنصبهما على الحالية لا غير. وأَوْ في جميع ذلك للتنويع لا للترديد ومن ثم قال الدينوري في مشكل القرآن إنها بمعنى الواو، وقيل الثانية طوائف نشرن الشرائع في الأرض إلى آخر ما تقدم، ووجه العطف بأن المراد أردن النشر فنزلن فألقين واحتيج للتأويل لمكان الإلقاء إلى الأنبياء عليهم السلام وإلّا فهو لا يحتاج إليه في النشر والفرق لظهور ترتب الفرق على النشر كذا قيل فلا تغفل، وقيل طوائف نشرن النفوس الموتى بالكفر الجهل بما أوحين ففرقن إلخ والنشر على هذا بمعنى الإحياء وفيما قبله بمعنى الإشاعة. وقيل لا مغايرة بين الكل إلّا بالصفات وهم جميعا من الملائكة على الأقوال السابقة بيد أنه لم يعتبر هذا القائل تفسير النشر بنشر الأجنحة فقال: أقسم سبحانه بطوائف من الملائكة أرسلهن عز وجل بأوامره متتابعة فعصفن عصف الرياح في الامتثال ونشرن الشرائع في الأرض أو نشرن النفوس الموتى بالجهل بما أوحين من العلم ففرقن بين الحق والباطل فألقين إلى الأنبياء ذكرا، وظاهره أيضا أن الإرسال للأنبياء بالشرائع من الأمر والنهي بناء على أن الأوامر جمع جمع مخصوص بالأمر مقابل النهي، ففي كلامه الاكتفاء. وخص الأمر بالذكر قيل لأنه أهم مع أنه لا يؤدي ما يراد من النهي بصيغته كدع مثلا. وقيل في عطف النَّاشِراتِ بالواو دون الفاء وعطف «الفارقات» به أن النشر عليه بمعنى الإشاعة للشرائع وهو يكون بعد الوحي والدعوة والقبول، ويقتضي زمانا فلذا جيء بالواو ولم يقرن بالفاء التعقيبية. وإذا حصل النشر ترتب عليه الفرق من غير مهلة ولا يتوهم أنه كان حق النَّاشِراتِ حينئذ ثم لأنه لا يتعلق القصد هاهنا بالتراخي ويبقى الكلام في وجه تقديم نشر الشرائع أو نشر النفوس والفرق على الإلقاء مع أنهما بعده في الواقع فقيل الإيذان بكونهما غاية للإلقاء حقيقة بالاعتناء أو الإشعار بأن كلا من الأوصاف مستقل بالدلالة على استحقاق التعظيم كما سمعت على أن باب التأويل واسع فتذكر. وقيل: أقسم سبحانه بأفراد نوعين من الرياح فيقدر للمرسلات موصوف وللناشرات موصوف آخر، ويراد بالمرسلات الرياح المرسلة للعذاب لأن الإرسال شاع فيه، وبالناشرات رياح رحمة وحاصله أنه جل وعلا أقسم برياح عذاب أرسلهن فعصفن ورياح رحمة نشرن السحاب في الجو ففرقنه على البقاع فألقين ذكرا إما عُذْراً للذين يعتذرون إلى الله تعالى بتوبتهم واستغفارهم إذا شاهدوا آثار رحمته تعالى في الغيث. وإما (إنذارا) للذين يكفرون ذلك وينسبونه إلى الأنواء ونحوها وإسناد إلقاء الذكر إليهن لكونهن سببا في حصوله إذا شكرت النعمة فيهن أو كفرت فالتجوز في الإسناد، والمراد ب عُرْفاً متتابعة أو الناشرات رياح رحمة نشرن النبات وأبرزنه أي صرن سببا لذلك بنشر السحاب وإدراره ففرقن كل صنف منه عن سائر الأصناف بالشكل واللون وسائر الخواص فتسببن ذِكْراً إما عُذْراً للشاكرين وإما نُذْراً للكافرين. وقيل أقسم سبحانه أولا بالرياح وثانيا بسحائب نشرن الموات ففرقن بين من يشكر وبين من يكفر كقوله تعالى لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [الجن: 16، 17] فتسببن ذِكْراً إما وإما وقيل: أقسم جل وعلا بآيات القرآن المرسلة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فضلا وإحسانا أو شيئا بعد شيء لأنها نزلت منجّمة فعصفن وأذهبن سائر الكتب بالنسخ ونشرن آثار الهدى في مشارق الأرض ومغاربها وفرقن بين الحق والباطل فألقين ذكر الحق في أكتاف العالمين. وقيل: أقسم جل جلاله برسله من البشر أرسلوا إحسانا وفضلا كما هو المذهب الجزء: 15 ¦ الصفحة: 189 الحق لا وجوبا كما زعم من زعم فاشتدوا وعظم أمرهم ونشروا دينهم وما جاؤوا به ففرقوا بين الحق والباطل والحلال والحرام فألقوا ذكرا بين المكلفين، ويجوز أن يراد على هذا بعرفا متتابعة. وقيل: أقسم تبارك وتعالى بالنفوس الكاملة أي المخلوقة على صفة الكمال والاستعداد لقبول ما كلفت به وخلقت لأجله المرسلة إحسانا إلى الأبدان لاستكمالها فعصفن وأذهبن ما سوى الحق بالنظر في الأدلة الحقة ففرقن بين الحق المتحقق بذاته الذي لا مدخل للغير فيه وهو واجب الوجود سبحانه وبين الباطل المعدوم في نفسه فرأين كل شيء هالكا إلّا وجهه فألقين في القلوب والألسنة ومكن فيها ذكره تعالى فليس في قلوبها وألسنتها إلّا ذكره عز وجل، أو طرحن ذكر غيره سبحانه عن القلوب والألسنة فلا ذكر فيها لما عداه. وقيل: الثلاثة الأول الرياح والأخيرتان الملائكة عليهم السلام وقيل بالعكس، والمناسبة باللطافة وسرعة الحركة وقيل الأولتان الملائكة إلّا أن المرسلات ملائكة الرحمة، والعاصفات ملائكة العذاب، والثلاثة الأخيرة آيات القرآن النازلة بها الملائكة. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر من وجه عن أبي صالح أنه قال: الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً الرسل ترسل بالمعروف، فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً الريح والنَّاشِراتِ نَشْراً المطر، فَالْفارِقاتِ فَرْقاً الرسل ومن وجه آخر الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً الملائكة فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً الرياح العواصف وَالنَّاشِراتِ نَشْراً الملائكة ينشرون الكتب أي كتب الأعمال كما جاء مصرحا به في بعض الروايات فَالْفارِقاتِ فَرْقاً الملائكة يفرقون بين الحق والباطل فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً الملائكة أيضا يجيئون بالقرآن والكتاب عُذْراً أَوْ نُذْراً منه تعالى إلى الناس وهم الرسل يعذرون وينذرون. وعن أبي صالح روايات أخر في ذلك وكذا عن أجلة الصحابة والتابعين، فعن ابن مسعود وأبي هريرة ومقاتل الْمُرْسَلاتِ الملائكة أرسلت بالعرف ضد النكر وهو الوحي. وفي أخرى عن ابن مسعود أنها الرياح وفسر العاصفات بالشديدات الهبوب. وروي تفسير الْمُرْسَلاتِ بذلك عن ابن عباس ومجاهد وقتادة. وفي أخرى عن ابن عباس أنها جماعة الأنبياء أرسلت إفضالا من الله تعالى على عباده وعن أبي مسعود النَّاشِراتِ الرياح تنشر رحمة الله تعالى ومطره. وروي عن مجاهد وقتادة وقال الربيع: الملائكة تنشر الناس من قبورهم، قال الضحاك: الصحف تنشر على الله تعالى بأعمال العباد وعليه تكون النَّاشِراتِ على معنى النسب. وعن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد والضحاك «الفارقات» الملائكة تفرق بين الحق والباطل والحلال والحرام. وقال قتادة والحسن وابن كيسان: آيات القرآن فرّقت بين ما يحل وما يحرم. وعن مجاهد أيضا الرياح تفرق بين السحاب فتبدده. وعن ابن عباس وقتادة والجمهور «الملقيات» الملائكة تلقي ما حملت من الوحي إلى الأنبياء. وعن الربيع آيات القرآن ومن الناس من فسر «العاصفات» بالآيات المهلكة كالزلازل والصواعق وغيرها، ومنهم من فسر «الفارقات» بالسحائب الماطرة على تشبيهها بالناقة الفاروق وهي الحامل التي تجزع حين تضع، ومنهم من فسرها بالعقول تفرق بين الحق والباطل والصحيح والفاسد إلى غير ذلك من الروايات والأقوال التي لا تكاد تنضبط والذي أخاله أظهر كون المقسم به شيئين «المرسلات العاصفات والناشرات الفارقات الملقيات» لشدة ظهور العطف بالواو في ذلك وكون الكل من جنس الريح لأنه أوفق بالمقام المتضمن لأمر الحشر والنشر لما أن الآثار المشاهدة المترتبة على الرياح ترتبا قريبا وبعيدا تنادي بأعلى صوت حتى يكاد يشبه صوت النفخ في الصور على إمكان ذلك وصحته ودخوله في حيطة مشيئة الله تعالى وعظيم قدرته ومع هذا الأقوال كثيرة لديك وأنت غير مجحود عليك فاختر لنفسك ما يحلو. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 190 وقرأ عيسى «عرفا» بضمتين نحو نكر في نكر وقرأ ابن عباس «فالملّقيات» بالتشديد من التلقية وقيل وهي كالإلقاء إيصال الكلام إلى المخاطب، يقال: لقيته الذكر فتلقاه. وذكر المهدوي أنه رضي الله عنه قرأ «فالملقّيات» بفتح اللام وتشديد القاف اسم مفعول أي ملقية من الله عز وجل. وقرأ زيد بن ثابت وابن خارجة وطلحة وأبو جعفر وأبو حيوة وعيسى والحسن بخلاف والأعمش عن أبي بكر «عذرا أو نذرا» بضم الذالين. وقرأ الحرميان وأبو عامر وأبو بكر وزيد بن علي وشيبة وأبو جعفر أيضا بسكون الذال في «عذرا» وضمها في «نذرا» وقرأ إبراهيم التيمي «ونذرا» بالواو. وقوله تعالى إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ جواب للقسم وما موصولة وإن كتبت موصولة والعائد محذوف أي إن الذي توعدونه من مجيء القيامة كائن لا محالة، وجوز أن يراد بالموصول جميع ما تضمنته السورة السابقة وهو خلاف الظاهر جدا فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ أزيل أثرها بإزالة نورها أو بإعدام ذاتها وإذهابها بالكلية وكل من الأمرين سيكون وليس من المحال في شيء وما زعمه الفلاسفة المتقدمون في أمر تلك الأجرام واستحالة التحلل والعدم عليها أوهن من بيت العنكبوت، وما زعمه المعاصرون منهم فيها وإن كان غير ثابت عندنا إلّا أن إمكان الطمس عليه في غاية الظهور وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ شقت كما قال سبحانه إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق: 1] ويَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ [الفرقان: 25] وقيل فتحت كما قال سبحانه وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً [النبأ: 19] وأنشد سيبويه: الفارجي باب الأمير المبهم ولا مانع من ذلك أيضا سواء كانت السماء جسما صلبا أو جسما لطيفا، وأدلة استحالة الخرق والالتئام فيها خروق لا تلتئم وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ جعلت كالحب الذي ينسف بالمنسف ونحوه وبست الجبال بسا وكانت الجبال كثيبا مهيلا قال في البحر: فرقتها الرياح وذلك بعد التسيير وقيل ذلك جعلها هباء وقيل نسفت أخذت من مقارها بسرعة من انتسفت الشيء إذا اختطفته، وقرأ عمرو بن ميمون «طمّست» و «فرّجت» بتشديد الميم والراء وذكر في الكشاف أن الأفعال الثلاثة قرئت بالتشديد. وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ أي بلغت ميقاتها الذي كانت تنتظره وهو يوم القيامة وجوز أن يكون المعنى عيّن لها الوقت الذي تحضر فيه للشهادة على الأمم وذلك عند مجيئه وحصوله والوجه هو الأول كما قال جار الله وتحقيقه كما في الكشف أن توقيت الشيء تحديده وتعيين وقته فإيقاعه على الذوات بإضمار لأن المؤقت هو الأحداث لا الجثث، ويجيء بمعنى جعل الشيء منتهيا إلى وقته المحدود وعلى هذا يقع عليها دون إضمار إذا كان بينها وبين ذلك الوقت ملابسة وإنما كان الوجه لأن القيامة ليست وقتا يتبين فيه وقت الرسل الذي يحضرون فيه للشهادة بل هي نفس ذلك الوقت وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ يقتضي ذلك لأنك إذا قلت إذا أكرمتني أكرمتك اقتضى أن يكون زمان إكرام المخاطب للمتكلم هو ما دل عليه إِذَا سواء جعل الظرف معموله أو معمول الجزاء أي فلا بد من التأويل، وقد أشير إليه في ضمن التفسير. وقرأ النخعي والحسن وعيسى وخالد «أقتت» بالهمزة وتخفيف القاف وقرأ أبو الأشهب وعمرو بن عبيد وأبو عمرو وعيسى أيضا «وقّتت» بالواو على الأصل لأن الهمزة مبدلة من الواو المضمومة ضمة لازمة وهو أمر مطرد كما بيّن في محله. وقال عيسى: وقتت لغة سفلى مضر. وقرأ عبد الله بن الحسن وأبو جعفر «وقتت» بواو واحدة وتخفيف القاف. وقرأ الحسن أيضا «ووقتت» بواوين على وزن فوعلت وإِذَا في جميع ما تقدم شرطية. وقوله تعالى لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ قيل مقول لقول مقدر هو جواب إِذَا أي يقال لِأَيِّ يَوْمٍ إلخ وجعل التأجيل بمعنى التأخير من قولهم دين مؤجل في مقابل الحال والضمير لما الجزء: 15 ¦ الصفحة: 191 يشعر به الكلام والاستفهام للتعظيم والتعجيب من هول ذلك اليوم أي إذا كان كذا وكذا يقال: لأي يوم أخرت الأمور المتعلقة بالرسل من تعذيب الكفرة وإهانتهم وتنعيم المؤمنين ورعايتهم وظهور ما كانت الرسل عليهم السلام تذكره من الآخرة وأحوالها وفظاعة أمورها وأهوالها. وجوز أن يكون الضمير للأمور المشار إليها فيما قبل من طمس النجوم وفرج السماء ونسف الجبال وتأقيت الرسل وأن يكون للرسل إلّا أن المعنى على نحو ما تقدم. وقيل أن يكون القول المقدر في موضع الحال من مرفوع أُقِّتَتْ أي مقولا فيها لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ وأن تكون الجملة نفسها من غير تقدير قول في موضع المفعول الثاني لأقتت على أنه بمعنى أعلمت كأنه قيل: وإذا الرسل أعلمت وقت تأجيلها أي بمجيئه وحصوله. وجواب إِذَا على الوجهين قيل قوله تعالى الآتي وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وجاء حذف الفاء في مثله. وقيل محذوف لدلالة الكلام عليه أي وقع الفصل أو وقع ما توعدون. واختار هذا أبو حيان ويجوز على احتمال كون الجواب وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أو تقدير المقدر مؤخرا كون جملة لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ اعتراضا لتهويل شأن ذلك اليوم. وقوله تعالى لِيَوْمِ الْفَصْلِ بدل من لِأَيِّ يَوْمٍ مبين له، وقيل: متعلق بمقدر تقديره أجلت ليوم الفصل بين الخلائق وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ أي أي شيء جعلك داريا ما هو على أن ما الأولى مبتدأ وأَدْراكَ خبره، وما الثانية خبر مقدم ويَوْمُ مبتدأ مؤخر لا بالعكس كما اختاره سيبويه لأن محط الفائدة بيان كون يَوْمُ الْفَصْلِ أمرا بديعا لا يقادر قدره ولا يكتنه كنهه كما يفيده خبرية ما لا بيان كون أمر بديع من الأمور يوم الفصل كما يفيده عكسه. ووضع الظاهر موضع الضمير لزيادة التفظيع والتهويل المقصودين من الكلام وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي في ذلك اليوم الهائل ووَيْلٌ في الأصل مصدر بمعنى هلاك وكان حقه النصب بفعل من لفظه أو معناه إلّا أنه رفع على الابتداء للدلالة على ثبات الهلاك ودوامه للمدعو عليه ويَوْمَئِذٍ ظرفه أو صفته فمسوغ الابتداء به ظاهر والمشهور أن مسوغ ذلك كونه للدعاء كما في سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرعد: 24] أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ كقوم نوح وعاد وثمود. وقرأ قتادة «نهلك» بفتح النون على أنه من هلكه بمعنى أهلكه ومنه هالك بمعنى مهلك كما هو الظاهر في قول العجاج: ومهمه هالك من تعرجا ... هائلة أهواله من أدرجا لئلا يلزم حذف الضمير مع حرف الجر أعني به أو فيه وليناسب ما في الشطر الثاني ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ بالرفع على الاستئناف وهو وعيد لأهل مكة وإخبار عما يقع بعد الهجرة كبدر كأنه قيل: ثم نحن نفعل بأمثالهم من الآخرين مثل ما فعلنا بالأولين ونسلك بهم سبيلهم لأنهم كذبوا مثل تكذيبهم. ويقويه قراءة عبد الله «ثم سنتبعهم» بسين الاستقبال وجوز العطف على قوله تعالى أَلَمْ نُهْلِكِ إلى آخره. وقرأ الأعرج والعباس عن أبي عمرو «نتبعهم» بإسكان العين فحمل على الجزم والعطف على نُهْلِكِ فيكون المراد بالآخرين المتأخرين هلاكا من المذكورين كقوم لوط وشعيب وموسى عليهم السلام دون كفار أهل مكة لأنهم بعد ما كانوا قد أهلكوا والعطف على نُهْلِكِ يقتضيه. وجوز أن يكون قد سكن تخفيفا كما في وَما يُشْعِرُكُمْ [الأنعام: 109] فهو مرفوع كما في قراءة الجمهور إلّا أن الضمة مقدرة كَذلِكَ مثل ذلك الفعل الفظيع نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أي بكل من أجرم والمراد أن سنتنا جارية على ذلك وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ أهلكناهم لِلْمُكَذِّبِينَ بآيات الله تعالى وأنبيائه عليهم السلام وليس فيه تكرير لما أن الويل الأول لعذاب الآخرة وهذا لعذاب الدنيا. وقيل: لا تكرير لاختلاف متعلق المكذبين في الموضعين بأن يكون متعلقة هنا ما الجزء: 15 ¦ الصفحة: 192 سمعت وفيما تقدم يوم الفصل ونحوه وكذا يقال فيما بعد. وجوز اعتبار الاتحاد والتأكيد أمر حسن لا ضير فيه أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ من نطفة قذرة مهينة وليس فيه دليل على نجاسة المني فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ هو الرحم إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ أي مقدار معلوم عند الله تعالى من الوقت قدره سبحانه للولادة تسعة أشهر أو أقل منها أو أكثر فَقَدَرْنا أي فقدرنا ذلك تقديرا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ أي فنعم المقدرون له نحن. وجوز أن يكون المعنى فقدرنا على ذلك فنعم القادرون عليه نحن والأول أولى لقراءة عليّ كرم الله تعالى وجهه ونافع والكسائي «فقدّرنا» بالتشديد ولقوله تعالى مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ [عبس: 19] ولقوله سبحانه إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ فزاده تفخيما بأن جعلت الغاية مقصودة بنفسها، فقيل: فقدنا ذلك تقديرا أي تقديرا دالا على كمال القدرة وكمال الرحمة على أن حديث القدرة قد تم في قوله تعالى أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ وقول الطيبي في ترجيح الثاني إثبات القدرة أولى لأن الكلام مع المنكرين لا وجه له إذ لا أحد ينكر هذه القدرة ولو سلم فقد قرروا بها بقوله تعالى أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ فتأمل. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي بقدرتنا على ذلك أو الإعادة أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً الكفات اسم جنس أو اسم آلة لما يكفت أي يضم ويجمع من كفت الشيء إذا ضمه وجمعه كالضمام والجماع لما يضم ويجمع، وأنشدوا قول الصمصامة بن الطرماح: فأنت اليوم فوق الأرض حي ... وأنت غدا تضمك في كفات وعن أبي عبيدة تفسيره بالوعاء وقوله تعالى أَحْياءً وَأَمْواتاً مفعول محذوف لا «لكفاتا» لأن اسم الجنس وكذا اسم الآلة كما صرح به النحاة لا يعمل أي ألم نجعلها كفاتا تكفت وتجمع أحياء كثيرة على ظهرها وأمواتا غير محصورة في بطنها. وقيل: هو مصدر كالقتال نعت به للمبالغة فلا يحتاج إلى تقدير فعل. وقيل: جمع كافت كصيام وصائم فلا يحتاج إلى تقدير أيضا، أو جمع كفت بكسر الكاف وسكون الفاء وهو الوعاء كقدح وقداح وأجرى على الأرض مع جمعه وإفرادها باعتبار أقطارها. وجوز انتصاب الجمعين على الحالية من مفعول كِفاتاً المحذوف والتقدير كفاتا إياهم أو إياكم أو كفاتا الأنس أَحْياءً وَأَمْواتاً أو من مفعول حذف مع فعله أي كِفاتاً تكفتهم أو تكفتكم أو تكفت الإنس أَحْياءً وَأَمْواتاً وأن يكون انتصابهما على المفعولية لنجعل بتقدير مضاف أي ذات أحياء وأموات أو على أن المراد بأمواتا الأرض الموات على ما أخرجه ابن أبي حاتم عن مجاهد، وبأحياء ما يقابلها. وانتصاب كِفاتاً على الحالية من الأرض وأنت تعلم أن انتصابهما على المفعولية أظهر وبعده انتصابهما على الحالية من محذوف وتنوينهما على ما سمعت أولا للتكثير وجوز أن يكون للتبعيض بإرادة أحياء الإنس وأمواتهم وهم ليسوا بجميع الأحياء والأموات ولا ينافي ذلك التفخيم نظرا إلى أنه بعض غير محصور كثير في نفسه فلا تغفل. واستدل الكيا بالآية على وجوب مواراة الميت ودفنه. وقال ابن عبد البر: احتج ابن القاسم بها على قطع النباش لأنه تعالى جعل القبر للميت كالبيت للحيّ فيكون حرزا ولا يخفى ضعف الاستدلالين. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 193 وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ أي جبالا ثوابت شامِخاتٍ مرتفعات، ومنه شمخ بأنفه. ووصف جمع المذكر بجمع المؤنث في غير العقلاء مطرد ك أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ [البقرة: 197] وتنكيرها للتفخيم أو للإشعار بأن في الأرض جبالا لم تعرف ولم يوقف عليها، فأرض الله تعالى واسعة وفيها ما لم يعلمه إلّا الله عز وجل. وقيل للإشعار بأن في الجبال ما لم يعرف وهو الجبال السماوية وهو مما يوافق أهل الفلسفة الجديدة إذ قالوا بوجود جبال كثيرة في القمر وظنوا وجودها في غيره وتعقب بأنه تفسير بما لم يعرف وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً أي عذبا وذلك بأن خلقناه في أصولها وأجريناه لكم منها في أنهار وأنبعناه في منابع تستمد مما استودعناه فيها وقد يفسر بما هو أعم من ذلك والماء المنزل من السماء وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بأمثال هذه النعم العظيمة انْطَلِقُوا أي يقال لهم يومئذ للتوبيخ والتقريع انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ في الدنيا من العذاب انْطَلِقُوا أي خصوصا فليس تكرارا للأول وقيل هو تكرار له وإن قيد بقوله تعالى إِلى ظِلٍّ هو ظل دخان جهنم كما قاله جمهور المفسرين فهو كقوله تعالى وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ [الواقعة: 43] وفيه استعارة تهكمية، وقرأ رويس عن يعقوب «انطلقوا» بصيغة الماضي وهو استئناف بياني كأنه قيل فما كان بعد الأمر فقيل انطلقوا إلى ظل ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ متشعب لعظمه ثلاث شعب كما هو شأن الدخان العظيم تراه يتفرق تفرق الذوائب. وفي بعض الآثار يخرج لسان من النار فيحيط بالكفار كالسرادق ويتشعب من دخانها ثلاث شعب فتظلهم حتى يفرغ من حسابهم والمؤمنون في ظل العرش. وخصوصية الثلاث قيل إما لأن حجاب النفس عن أنوار القدس الحس والخيال والوهم أو لأن المؤدي إلى هذا العذاب هو القوة الوهمية الشيطانية الحالّة في الدماغ والقوة الغضبية السبعية التي عن يمين القلب والقوة الشهوية البهيمية التي عن يساره، ولذلك قيل تقف شعبة فوق الكافر وشعبة عن يمينه وشعبة عن يساره. وقيل لأن تكذيبهم بالعذاب يتضمن تكذيب الله تعالى وتكذيب رسوله صلّى الله عليه وسلم فهناك ثلاثة تكذيبات. واعتبر بعضهم التكذيب بالعذاب أصلا والشعب الثلاث التكذيبان المذكوران وتكذيب العقل الصريح فتأمل. وعن ابن عباس يقال ذلك لعبدة الصليب فالمؤمنون في ظل الله عز وجل وهم في ظل معبودهم وهو الصليب له ثلاث شعب لا ظَلِيلٍ أي لا مظلل وهو صفة ثانية لظل ونفى كونه مظللا عنه والظل لا يكون إلّا مظللا للدلالة على أن جعله ظلا تهكم بهم ولأنه ربما يتوهم أن فيه راحة لهم فنفى هذا الاحتمال بذلك وفيه تعريض بأن ظلهم غير ظل المؤمنين وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ وغير مفيد في وقت من الأوقات من حر اللهب شيئا وعدّي يغني بمن لتضمنه معنى يبعد واشتهر أن هذه الآية تشير إلى قاعدة هندسية وهي أن الشكل المثلث لا ظل له فانظر هل تتعقل ذلك إِنَّها أي النار الدال عليها الكلام وقيل الضمر للشعب تَرْمِي بِشَرَرٍ هو ما تطاير من النار سمّي بذلك لاعتقاد الشر فيه وهو اسم جنس جمعي واحده شررة كَالْقَصْرِ كالدار الكبيرة المشيدة والمراد كل شررة كذلك في العظم ويدل على إرادة ذلك ما بعد ويؤيده قراءة ابن عباس وابن مقسم «بشرار» بكسر الشين وألف بين الراءين فإن الظاهر أنه جمع شررة كرقبة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 194 ورقاب فيدل على أن المشبه بالقصر الواحدة وكذا قراءة عيسى «بشرار» بفتح الشين وألف بين الراءين أيضا فقد قيل إنه جمع لشرارة لا مفرد وجوز على قراءة الكسر أن يكون جمع شر غير أفعل التفضيل كخيار جمع خير وهو حينئذ صفة أقيمت مقام موصوفها أي ترمي بقوم شرار وهو خلاف الظاهر. وقيل القصر الغليظ من الشجر واحده قصرة نحو جمرة وجمر. وقيل قطع من الخشب قدر الذراع وفوقه ودونه يستعد به للشتاء واحده كذلك فالتشبيه من تشبيه الجمع بالجمع من غير احتياج للتأويل بما مر إلّا أن التهويل على القول الأخير دونه على غيره. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن جبير والحسن وابن مقسم «كالقصر» بفتح القاف والصاد وهي أصول النخل وقيل أعناقها واحدها قصرة كشجرة وشجر وفي كتاب النبات الحبة لها قشرتان التحتية تسمى قشرة والفوقية تسمى قصرة ومنه قوله تعالى كَالْقَصْرِ وهو غريب. وقرأ ابن مسعود «كالقصر» بضمتين جمع قصر كرهن ورهن وفي البحر كأنه مقصور من القصور كالنجم من النجوم وهو مخالف للظاهر لأن مثله ضرورة أو شاذ نادر. وقرأ ابن جبير والحسن أيضا «كالقصر» بكسر القاف وفتح الصاد جمع قصرة بفتحتين كحلقة من الحديد وحلق وحاجة وحوج وبعض القراء «كالقصر» بفتح القاف وكسر الصاد وهو بمعنى القصر في قراءة الجمهور كَأَنَّهُ أي الشرر جِمالَتٌ بكسر الجيم كما قرأ به حمزة والكسائي وحفص وأبو عمرو في رواية الأصمعي وهارون عنه وهو جمع جمل والتاء لتأنيث الجمع كما في البحر يقال جمل وجمال وجمالة أو اسم جمع له كما قيل في حجر وحجارة والتنوين للتكثير صُفْرٌ فإن الشرار لما فيه من النارية والهوائية يكون أصفر فالصفرة على معناها المعروف. وقيل سود والتعبير بصفر لأن سواد الإبل يضرب إلى الصفرة شبه الشرر حين ينفصل من النار في عظمه بالقصر وحين يأخذ فقيل الارتفاع والانبساط لانشقاقه عن أعداد غير محصورة بالجمال لتصور الانشقاق والكثرة والصفرة والحركة المخصوصة. وقد روعي الترتيب في التشبيه رعاية لترتيب الوجود وأفيد أن القصور والجمال يشبه بعضها ببعض ومنه قوله: فوقفت فيها ناقتي وكأنها ... فدن (1) لأقضي حاجة المتلوم فالتشبيه الثاني بيان للتشبيه الأول على معنى أن التشبيه بالقصر كان المتبادر منه إلى الفهم العظم فحسب فلما قيل كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ وهو قائم مقام التخصيص في القصر تكثر وجه الشبه كأنه قيل كأنه قصر من شأنه كذا وكذا، والتشبيه بالجمال في الكثرة والتتابع وسرعة الحركة أيضا والأول هو التحقيق على ما في الكشف وعلى الوجهين ليس التشبيه الثاني من البداء في شيء ولا حاجة في شيء منهما إلى اعتبار كون ضمير كأنه للقصر وقد ألم بشيء من حسن ما وقع في الآية من التشبيه وأبو العلاء المعري في قوله في مرثية واحد من الأشراف: الموقدي نار القرى الآصال ... والإسحار بالإهضام والإشعاف حمراء ساطعة الذوائب في الدجى ... ترمي بكل شرارة كطراف وإن كان قد قصد بذلك المعارضة للآية يكون قد أعمى الله تعالى بصيرته عما فيها من المزية كما أعمى سبحانه بصره. وقرأ الجمهور ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه «جمالات» بكسر الجيم وبالألف والتاء جمع جمال أو جمالة بكسر الجيم فيهما فيكون جمع الجمع أو جمع اسم الجمع والمعنى   (1) فدن كلبن القصر جمعه أفدان اهـ منه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 195 على ما سمعت. وقرأ ابن عباس وقتادة وابن جبير والحسن وأبو رجاء بخلاف عنهم كذلك إلا أنهم ضموا الجيم على أنه جمع جمالة على ما في الكشاف وقال في البحر هي حبال السفن الواحد منها جملة لكونه جملة من الطاقات ثم جمع على جمل وجمال ثم جمع جمال ثانيا جمع صحة فقالوا جمالات. وقيل هي قلوس الجسور أي حبالها التي تشد بها وروي ذلك عن ابن عباس وابن جبير قالا إنها إذا اجتمعت مستديرة بعضها إلى بعض جاء منها أجرام عظام. وعن ابن عباس أيضا هي قطع النحاس الكبار والظاهر أن التشبيه على هذا باعتبار اللون وعلى ما سبق باعتبار الامتداد والالتفاف وقرأ ابن عباس أيضا والسلمي والأعمش وأبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة ورويس «جمالة» كقراءة حفص ومن معه إلّا أنهم ضموا الجيم وهي عند الزمخشري اسم مفرد بمعنى القلس وجمع صُفْرٌ لإرادة الجنس وقرأ الحسن «صفر» بضم الفاء وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ الإشارة إلى وقت دخولهم النار أي هذا يوم لا ينطقون فيه بشيء لعظم الدهشة وفرط الحيرة، ولا ينافي هذا ما ورد في موضع آخر من النطق لأن يوم القيامة طويل له مواطن ومواقيت ففي بعضها ينطقون وفي بعضها لا ينطقون، وجوز أن يكون المراد هذا يوم لا ينطقون بشيء ينفعهم وجعل نطقهم لعدم النفع كلا نطق. وقرأ الأعمش والأعرج وزيد بن عليّ وعيسى وأبو حيوة وعاصم في رواية «هذا يوم» بالفتح فقيل هو فتح إعراب على أن هذا إشارة إلى ما ذكر و «يوم» منصوب على الظرفية متعلق بمحذوف وقع خبرا لهذا أي هذا الذي ذكر من الوعيد واقع في يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وقيل هو فتح بناء ويَوْمُ في محل رفع على الخبرية وبني لإضافته للجملة ولما حقه البناء وعن صاحب اللوامح قال عيسى بناء «يوم» على الفتح مع لا لغة سفلى مضر لأنهم جعلوه معها كالاسم الواحد وأنت تعلم أن الجملة المصدرة بمضارع مثبت أو منفي لا يجيز البصريون في الظرف المضاف إليها البناء بوجه وأن ما ذكر مذهب كوفي وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ قيل في النطق مطلقا أو في الاعتذار. وقرأ زيد بن عليّ كما حكى عنه أبو علي الأهوازي بالبناء للفاعل أي «ولا يأذن- الله تعالى- لهم» فَيَعْتَذِرُونَ عطف على يُؤْذَنُ منتظم معه في سلك النفي والفاء للتعقيب بين النفيين في الأخبار في قول ولترتب النفي الثاني نفسه على الأول في آخر ونظر فيه ولم يقل فيعتذروا بالنصب في جواب النفي قيل ليفيد الكلام نفي الاعتذار مطلقا إذ لا عذر لهم ولا يعتذرون بخلاف ما لو نصب وجعل جوابا فإنه يدل على أن عدم اعتذارهم لعدم الإذن فيوهم ذلك أن لهم عذرا لكن لم يؤذن لهم فيه. وقال ابن عطية إنما لم ينصب في جواب النفي للمحافظة على رؤوس الآي والوجهان جائزان وظاهره استواء المعنى عليهما وهو مخالف لكلامهم لقولهم بالسببية في النصب دون الرفع نعم ذهب أبو الحجاج الأعلم إلى أنه قد يرفع الفعل ويكون معناه على قلة معنى المنصوب بعد الفاء وأن النحويين إنما جعلوا معنى الرفع غير معنى النصب رعيا للأكثر في كلام العرب وجعل دليله على ذلك هذه الآية، ورد عليه ذلك ابن عصفور وغيره فتدبر. والظاهر أن نفي الاعتذار باعتبار بعض المواطن والمواقيت كنفي النطق وجوز أن يكون المنفي حقيقة الاعتذار النافع فلا منافاة بين ما هنا وقوله تعالى يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ [غافر: 52] وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ هذا يَوْمُ الْفَصْلِ بين المحقّ والمبطل جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ أي من تقدمكم من الأمم والكلام تقرير وبيان للفصل لأنه لا يفصل بين المحق والمبطل إلّا إذا جمع بينهم فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ فإن جميع من كنتم تقلدونهم وتقتدون بهم حاضرون وهذا تقريع لهم على كيدهم للمؤمنين في الدنيا وإظهار لعجزهم وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ حيث ظهر أن لا حول لهم ولا حيلة في التخلص مما هم فيه إِنَّ الْمُتَّقِينَ من الكفر والتكذيب لوقوعه في مقابلة المكذبين بيوم الدين فيشمل عصاة المؤمنين فِي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 196 ظِلالٍ جمع ظل ضد الضح وهو أعم من الفيء فإنه يقال ظل الليل وظل الجنة ويقال لكل موضع لم تصل إليه الشمس ظل ولا يقال الفيء إلا لما زال عنه الشمس ويعبر به أيضا عن الرفاهة وعن العزة والمناعة وعن هذا المعنى حمل الراغب ما في الآية والمتبادر منه ما هو المعروف، ويؤيده ما تقدم في المقابل انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ إلخ وقراءة الأعمش في «ظلل» جمع ظلة وأيّا ما كان فالمراد من قوله تعالى إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ أنهم مستقرون في فنون الترفه وأنواع التنعم كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ مقدر بقول هو حال من ضمير الْمُتَّقِينَ في الخبر كأنه قيل مستقرون في ذلك مقولا لهم كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا من العمل الصالح بالإيمان وغير ذلك إِنَّا كَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء العظيم نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ لا جزاء أدنى منه، والمراد بالمحسنين المتقون السابق ذكرهم إلّا أنه وضع الظاهر موضع الضمير مدحا لهم بصفة الإحسان أيضا مع الإشعار بعلة الحكم، وجوز أن يراد بالمتقين والمحسنين الصالحون من المؤمنين ولا دليل فيه للمعتزلة على خلود العصاة أهل الكبائر في النار وغاية الأمر عدم التعرض لحالهم وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ حيث نال أعداؤهم هذا الثواب العظيم وهم بقوا في العذاب الأليم كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ حال من المكذبين على ما ذهب إليه غير واحد من الأجلة أي الويل ثابت لهم في حال ما يقال لهم ذلك تذكيرا لما كان يقال لهم في الدنيا ولما كانوا أحقاء بأن يخاطبوا به حيث تركوا الحظ الكثير إلى النزر الحقير فيفيد التحسير والتخسير وعلى طريقته قوله: إخوتي لا تبعدوا أبدا ... وبلى والله قد بعدوا فهو دعاء لإخوته بعدم الهلكة بعد هلاكهم تقريرا بأنهم كانوا أحقاء بذلك الدعاء في حياتهم وأن هلاكهم لحينونة الأجل المسمى لا لأنهم كانوا أحقاء بالدعاء عليهم. وذهب أبو حيان إلى أنه كلام مستأنف خوطب به المكذبون في الدنيا والأمر فيه أمر تحسير وتهديد وتخسير، ولم يعتبر التهديد على الأول لأنه غير مقصود في الآخرة ورجح بأنه أبعد من التعسف وأوفق لتأليف النظم وفيه نظر. والظاهر أن قوله سبحانه إِنَّكُمْ إلخ في موضع التعليل وفيه دلالة على أن كل مجرم نهايته تمتع أيام قليلة ثم يبقى في عذاب وهلاك أبدا وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا أي أطيعوا الله تعالى واخشعوا وتواضعوا له عز وجل بقبول وحيه تعالى واتباع دينه سبحانه وارفضوا هذا الاستكبار والنخوة لا يَرْكَعُونَ لا يخشعون ولا يقبلون ذلك ويصرون على ما هم عليه من الاستكبار، وقيل: أي إذا أمر بالصلاة أو بالركوع فيها لا يفعلون إذ روي عن مقاتل أن الآية نزلت في ثقيف قالوا للرسول عليه الصلاة والسلام: حط عنا الصلاة فإنّا لا نجبى فإنها مسبة علينا، فقال عليه الصلاة والسلام: «لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود» ورواه أيضا أبو داود والطبراني وغيرهما . وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال هذا يوم القيامة يدعون إلى السجود فلا يستطيعون السجود من أجل أنهم لم يكونوا يسجدون في الدنيا. واتصال الآية على ما نقل عن الزمخشري بقوله تعالى لِلْمُكَذِّبِينَ كأنّه قيل ويل يومئذ للذين كذبوا والذين إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون، وجوز أن يكون أيضا بقوله سبحانه إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ على طريقة الالتفات كأنه قيل هم أحقاء بأن يقال لهم كُلُوا وَتَمَتَّعُوا ثم علل ذلك بكونهم مجرمين وبكونهم إذا قيل لهم صلّوا لا يصلّون واستدل به على أن الأمر للوجوب وإن الكفار مخاطبون بالفروع وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ أي بعد القرآن الناطق بأحاديث الدارين وأخبار النشأتين الجزء: 15 ¦ الصفحة: 197 على نمط بديع معجز مؤسس على حجج قاطعة وبراهين ساطعة يُؤْمِنُونَ إذ لم يؤمنوا به والتعبير ببعده دون غيره للتنبيه على أنه لا حديث يساويه في الفضل أو يدانيه فضلا أو يفوته ويعاليه فلا حديث أحق بالإيمان منه فالبعدية للتفاوت في الرتبة كما قالوا في عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ [القلم: 13] وكان الفاء لما أن المعنى إذا كان الأمر كذلك وقد اشتمل القرآن على البيان الشافي والحق الواضح فما بالهم لا يبادرون الإيمان به قبل الفوت وحلول الويل وعدم الانتفاع بعسى ولعل وليت. وقرأ يعقوب وابن عامر في رواية «تؤمنون» على الخطاب هذا ولما أوجز في سورة الإنسان في ذكر أحوال الكفار في الآخرة وأطنب في وصف أحوال المؤمنين فيها عكس الأمر في هذه السورة فوقع الاعتدال بذلك بين هذه السورتين والله تعالى أعلم. تم والحمد لله تعالى الجزء التاسع والعشرون ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثلاثين وأوله (سورة النبأ) الجزء: 15 ¦ الصفحة: 198 روح المعاني الجزء الثلاثين الجزء: 15 ¦ الصفحة: 199 بسم الله الرحمن الرحيم سورة النّبإ وتسمى سورة عم وعم يتساءلون والتساؤل والمعصرات وهي مكية بالاتفاق وآيها إحدى وأربعون في المكي والبصري وأربعون في غيرهما. ووجه مناسبتها لما قبلها اشتمالها على إثبات القدرة على البعث الذي دلّ ما قبل على تكذيب الكفرة به وفي تناسق الدرر وجه اتصالها بما قبل تناسبها معها في الجمل فإن في تلك أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ [المرسلات: 16] أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [المرسلات: 20] أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً [المرسلات: 25] إلخ وفي هذه أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً [النبأ: 6] إلخ مع اشتراكها والأربع قبلها في الاشتمال على وصف الجنة والنار وما وعد المدثر أيضا في سورة المرسلات لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ [المرسلات: 13] وفي هذه إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً [النبأ: 17] إلخ ففيها شرح يوم الفصل المجمل ذكره فيا قبلها اهـ. وقيل إنه تعالى لما ختم تلك بقوله سبحانه فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [المرسلات: 25] وكان المراد بالحديث فيه القرآن افتتح هذه بتهويل التساؤل عنه والاستهزاء به وهو مبني على ما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة أن المراد بالنبإ العظيم القرآن والجمهور على أنه البعث وهو الأنسب بالآيات بعد كما ستعرفه إن شاء الله تعالى. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَمَّ أصله عما على أنه حرف جر دخل على ما الاستفهامية فحذفت الألف وعلل بالتفرقة بينها وبين الخبرية والإيذان بشدة الاتصال وكثرة الدوران وحال العلل النحوية معلوم. وقد قرأ عبد الله وأبيّ وعكرمة وعيسى بالألف على الأصل وهو قليل الاستعمال وقال ابن جنّي إثبات الألف أضعف اللغتين الجزء: 15 ¦ الصفحة: 201 وعليه قوله: علام قام يشتمني لئيم ... كخنزير تمرغ في رماد والاستفهام بالإيذان بفخامة شأن المسئول عنه وهو له وخروجه عن حدود الأجناس المعهودة أي عن أي شيء عظيم الشأن يَتَساءَلُونَ الضمير لأهل مكة وإن لم يسبق ذكرهم للاستغناء عنه بحضورهم حسا مع ما في الترك على ما قيل من التحقير والإهانة لإشعاره بأن ذكرهم مما يصان عنه ساحة الذكر الحكيم ولا يتوهم العكس لمنع المقام عنه، وكانوا يتساءلون عن البعث فيما بينهم ويخوضون فيه إنكارا واستهزاء لكن لا على طريقة التساؤل عن حقيقته ومسماه بل عن وقوعه الذي هو حال من أحواله ووصف من أوصافه. «وما» كما مر غير مرة وإن اشتهرت في طلب حقائق الأشياء ومسميات أسمائها لكنها قد يطلب بها الصفة والحال فيقال ما زيد ويجاب بعالم أو طبيب وقيل كانوا يتساءلون الرسول صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين استهزاء فالتساؤل متعد ومفعوله مقدر هنا وحذف لظهوره أو لأن المستعظم السؤال بقطع النظر عمن سأل أو لصون المسئول عن ذكره مع هذا السائل وتحقيق ذلك على ما في الإرشاد أن صيغة التفاعل في الأفعال المتعدية لإفادة صدور الفعل عن المتعدد ووقوعه عليه بحيث يصير كل واحد من ذلك فاعلا ومفعولا معا لكنه يرفع المتعدد على الفاعلية ترجيحا لجانب فاعليته وتحال مفعوليته على دلالة الفعل كما في قولك تراءى القوم، أي رأى كل واحد منهم الآخر وقد تجرد عن المعنى الثاني فيراد بها مجرد صدور الفعل عن المتعدد عاريا عن اعتبار وقوعه عليه فيذكر للفعل حينئذ مفعول كما في قولك تراؤوا الهلال وقد يحذف كما فيما نحن فيه فالمعنى عن أي شيء يسأل هؤلاء القوم الرسول صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين وربما تجرد عن صدور الفعل عن المتعدد أيضا فيراد بها تعدده باعتبار تعدد متعلقة مع وحدة الفاعل كما في قوله تعالى فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى [النجم: 55] وذكر بعض المحققين أنه قد يكون لصيغة التفاعل على الوجه الأول مفعول أيضا لكنه غير الذي فعل به مثل فعله كما في تعاطيا الكأس وتفاوضا الحديث، وعليه قول امرئ القيس: فلما تنازعنا الحديث وأسمحت ... هصرت بغصن ذي شماريخ ميال فمن قال إن تفاعل لا يكون إلّا من اثنين ولا يكون إلّا لازما فقط غلط كما قال البطليوسي في شرح أدب الكاتب إن أراد ذلك على الإطلاق وليت شعري كيف يصح ذلك مع أن مجيء تفاعل بمعنى فعل غير متعدد الفاعل كتوانى زيد وتدانى الأمر وتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [النمل: 63] كثير جدا وكذا مجيئه متعديا إلى غير الذي فعل به مثل فعله كما سمعت، وجوز أن يكون ضمير يَتَساءَلُونَ للناس عموما سواء كانوا كفار مكة وغيرهم من المسلمين وسؤال المسلمين ليزدادوا خشية وإيمانا، وسؤال غيرهم استهزاء ليزدادوا كفرا وطغيانا وهو خلاف ما يقتضيه ظاهر الآيات بعد. وقيل كان التساؤل عن القرآن وتعقب بأن قوله تعالى أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ إلخ ظاهر في أنه كان عن البعث وهو مروي عن قتادة أيضا لأنه من أدلته، وأجيب بأن تساؤلهم عنه واستهزاؤهم به واختلافهم فيه بأنه سحر أو شعر كان لاشتماله على الإخبار بالبعث فبعد أن ذكر ما يفيد استعظام التساؤل عنه تعرض الدليل ما هو منشأ لذلك التساؤل وفيه بعد وقوله تعالى عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ بيان لشأن المسئول عنه أثر تفخيمه بإبهام أمره وتوجيه أذهان السامعين نحوه وتنزيلهم منزلة المستفهمين فإنّ إيراده على طريقة الاستفهام من علام الغيوب للتنبيه على أنه لانقطاع قرينه وانعدام نظيره خارج عن دائرة علوم الخلق خليق بأن يعتني بمعرفته ويسأل عنه كأنه قيل عن أي شيء يتساءلون هل أخبركم به ثم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 202 قيل بطريق الجواب عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ على منهاج لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16] فعن متعلقة بما يدل عليه المذكور من مضمر حقه على ما قيل أن يقدر بعدها مسارعة إلى البيان ومراعاة لترتيب السؤال وإلى تعلقه بما ذكر ذهب الزجاج وهو الذي تقتضيه جزالة التنزيل. وقال مكي إن ذلك بدل من ما الاستفهامية بإعادة حرف الجر وتعقبه في الكشف بأنه لا يصح فإن معنى الأول عن النبأ العظيم أم عن غيره والبدل لا يطابقه أعيد الاستفهام أولا. وقال الخفاجي: البدلية جائزة ولا يلزم إعادة الاستفهام لأنه غير حقيقي ولا أن يكون البدل عين الأول لجواز كونه بدل بعض. وقيل هو متعلق ب يَتَساءَلُونَ المذكور وعَمَّ متعلق بمضمر مفسر به وأيد ذلك بقراءة الضحاك ويعقوب وابن كثير في رواية «عمه» بهاء السكت ووجهه أنه على الوقف وهو يدل على أنه غير متعلق بالمذكور لأنه لا حسن الوقف بين الجار والمجرور ومتعلقه لعدم تمام الكلام، ولعل من ذهب إلى الأول يقول إن إلحاق الهاء مبني على إجراء الوصل مجرى الوقف وقيل عن الأولى للتعليل وهي والثانية متعلقتان ب يَتَساءَلُونَ المذكور كأنه قيل لم يتساءلون عن النبأ العظيم. ونقله ابن عطية عن أكثر النحاة وقيل عَنِ النَّبَإِ متعلق بمحذوف وهناك استفهام مضمر كأنه قيل عَمَّ يَتَساءَلُونَ أيتساءلون عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ووصف النبأ وهو الخبر الذي له شأن بالعظيم لتأكيد خطره ووصفه بقوله سبحانه الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ للمبالغة في ذلك والإشعار بمدار التساؤل عنه وفِيهِ متعلق ب مُخْتَلِفُونَ قدم عليه اهتماما به ورعاية للفواصل وجعل الصلة جملة اسمية للدلالة على الثبات أي هم راسخون في الاختلاف فيه فمن جازم باستحالته يقول إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا [المؤمنون: 37] إلخ وشاك يقول ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ [الجاثية: 32] وقيل منهم من ينكر المعادين معا كهؤلاء ومنهم من ينكر المعاد الجسماني فقط كجمهور النصارى. وقد حمل الاختلاف على الاختلاف في كيفية الإنكار فمنهم من ينكره لإنكاره الصانع المختار تعالى شأنه، ومنهم من ينكره بناء على استحالة إعادة المعدوم بعينه وقيل الاختلاف بالإقرار والإنكار أو بزيادة الخشية والاستهزاء على أن ضمير يَتَساءَلُونَ وضميرهم للناس عامة وقيل: يجوز أن يكون الاختلاف بالإقرار والإنكار على كون ضمير يَتَساءَلُونَ للكفار أيضا بأن يجعل ضميرهم للسائلين والمسئولين والكل كما ترى وإن تفاوتت مراتب الضعف والمعول عليه الأول. وقال مفتي الديار الرومية: الذي يقتضيه التحقيق ويستدعيه النظر الدقيق أن يحمل اختلافهم في البعث على مخالفتهم للنبيّ صلّى الله عليه وسلم بأن يعتبر في الاختلاف محض صدور الفعل عن المتعدد حسبما قيل في التساؤل فإن الافتعال والتفاعل صيغتان متآخيتان كالاستباق والتسابق والانتضال والتناضل يجري في كل منهما ما يجري في الأخرى لا على مخالفة بعضهم لبعض على أن يكون كل من الجانبين مخالفا اسم فاعل ومخالفا اسم مفعول لأن الكل وإن استحق ما يذكر بعد من الردع والوعيد لكن استحقاق كل جانب لهما ليس لمخالفته للجانب الآخر إذ لا حقية في شيء منهما حتى يستحق من يخالفه المؤاخذة بل لمخالفته عليه الصلاة والسلام فكأنه قيل «الذي هم فيه مخالفون» للنبي صلّى الله عليه وسلم انتهى. وفيه أنه خلاف الظاهر وما ذكره من التعليل لا يخلو عن شيء، وقرأ عبد الله وابن جبير «تسّاءلون» بغير ياء وشد السين على أن أصله تتساءلون بتاء الخطاب فأدغمت التاء الثانية في السين. كَلَّا ردع عن التساؤل على الوجهين المتقدمين فيه وقيل عنه وعن الاختلاف بمعنى مخالفة الرسول صلّى الله عليه وسلم في أمر البعث، وتعقب بأن الجملة التي تضمنته لم تقصد لذاتها فيبعد اعتبار الردع إلى ما فيها. وقوله الجزء: 15 ¦ الصفحة: 203 سبحانه سَيَعْلَمُونَ وعيد لأولئك المتسائلين المستهزئين بطريق الاستئناف وتعليل للردع والسين للتقرب والتأكيد ومفعول «يعلمون» محذوف وهو ما يلاقونه من فنون الدواهي والعقوبات والتعبير عن لقائه بالعلم لوقوعه في معرض التساؤل، والمعنى ليرتدعوا عما هم عليه فإنهم سيعلمون عما قليل حقيقة الحال إذا حل بهم العذاب والنكال ومثل هذا تقدير المفعول جزاء التساؤل. وقيل: هو ما ينبىء عنه الظاهر وهو وقوع ما يتساءلون عنه على معنى سيعلمون ذلك فيخجلون من تساؤلهم واستهزائهم بين يديّ ربهم عزّ وجلّ وإلّا لم يظهر كون ما ذكر وعيدا ومن جعل ضمير يَتَساءَلُونَ للناس عامة جعل ما هنا من باب التغليب لأنه لغير المؤمنين بالبعث الجازمين به، وجوز بعضهم كون كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ردعا ووعدا على الارتداع والمراد ليرتدعوا فإنهم سيعلمون مثوبات الارتداع، وأنت تعلم أن ذلك شائع في الوعيد وهو المتبادر منه في أمثال هذه المقامات. وقوله تعالى ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ قيل تكرير لما قبله من الردع والوعيد للمبالغة. وثُمَّ للتفاوت في الرتبة فكأنه قيل لهم يوم القيامة ردع وعذاب شديدان بل لهم يومئذ أشد وأشد وبهذا الاعتبار صار كأنه مغاير لما قبله فعطف عليه وابن مالك يقول في مثله إنه من التوكيد اللفظي وإن توسط حرف العطف فلا تغفل. وقيل: الأول إشارة إلى ما يكون عند النزع وخروج الروح من زجر ملائكة الموت عليهم السلام وملاقاة كربات الموت وشدائده وانكشاف الغطاء، والثاني إشارة إلى ما يكون في القيامة من زجر ملائكة العذاب عليهم السلام وملاقاة شديد العقاب فثم في محلها لما بينهما من البعد الزماني ولا تكرار فيه. والظاهر أن العطف على هذا وما قبله على مجموع كَلَّا سَيَعْلَمُونَ وتوهم بعضهم من كلام بعض الأجلة أن العطف على سَيَعْلَمُونَ وأورد عليه أن ثُمَّ إذا كانت للتراخي الزماني يلزم الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بأجنبي بخلاف ما إذا كانت للتراخي الرتبي ووجه لدفع التخصيص بلا مخصص أنه على الثاني يفهم تفاوت الرتبة بين الردعين كتفاوتها بين الوعيدين لتبعية الردع للوعيد فلا تكون كَلَّا الثانية أجنبية بخلاف الأول فإن التراخي عليه إنما يتحقق فيما يتحقق فيه الزمان وليس هو إلّا سَيَعْلَمُونَ دون كَلَّا فتكون هي أجنبية ثم قال ذلك المتوهم ولا يبعد أن يقال الردع الأول عن التساؤل والثاني عن الإنكار أي الصريح، وتفاوت ما بينهما يقتضي العطف بثم والكل كما ترى. وقيل: متعلق العلم في الأول البعث وفي الثاني الجزاء على إنكاره، وثُمَّ في محلها أي كَلَّا سَيَعْلَمُونَ حقيقة البعث إذا بعثوا ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ الجزاء على إنكاره إذا دخلوا النار وعوقبوا. وجوز أن يكون المتعلق مختلفا وثُمَّ للتراخي الرتبي بأن يكون المعنى سيعلم الكفار أحوالهم ثم سيعلمون أحواله المؤمنين، والأول إشارة إلى العذاب الجسماني والثاني إلى العذاب الروحاني الذي هو أشد وأخزى، وأن يكون فاعل سيعلم في الموضعين مختلفا بناء على أن ضمير يَتَساءَلُونَ للناس عامة وثُمَّ لذلك أيضا بأن يكون المعنى سيعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم، ثم سيعلم الكفار عاقبة تكذيبهم فيكون الأول وعدا للمؤمنين والآخر وعيدا للكافرين وهما متفاوتان رتبة، ولا يخفى عليك ما في ذلك. وقرأ مالك بن دينار وابن مقسم والحسن وابن عامر «ستعلمون» في الموضعين بالتاء الفوقية على نهج الالتفات إلى الخطاب الموافق لما بعده من الخطابات تشديدا للردع والوعيد لا على تقدير قل لهم كلا ستعلمون إلخ فإنه ليس بذاك وإن كان فيه نوع سن على تقدير كون المراد يسألون النبي صلّى الله عليه وسلم. وعن الضحاك. أنه قرأ الأول بتاء الخطاب والثاني بياء الغيبة. وقوله تعالى أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً إلخ استئناف مسوق لتحقيق النبأ المتساءل عنه بتعداد بعض الشواهد الناطقة بحقيته إثر ما نبه عليها بما ذكر من الردع، وجوز أن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 204 يكون بتقدير قل كأنه قيل قل كيف تنكرون أو تشكّون في البعث وقد عاينتم ما يدل عليه من القدرة التامة والعلم المحيط والحكمة الباهرة المقتضية أن لا يكون ما خلق عبثا وفيه أن من كان عظيم الشأن باهر القدرة ينبغي أن يخاف ويخشى ويتأثر من زجره ووعيده والهمزة للتقرير بما بعد النفي و (المهاد) الفراش الموطأ. وفي القاموس المهد الموضع الذي يهيأ للصبي كالمهاد وعليه فالمهد والمهاد بمعنى ويؤيده قراءة مجاهد وعيسى الهمداني «مهدا» وفي الآية حينئذ تشبيه بليغ وكل منهما مصدر سمّي به ما يمهد وجوز أن يكون باقيا على المصدرية والوصف بالمصدر كثير، أو لتقدير ذات مهاد أو مهد. وقيل: كما يمكن أن يكون المهاد مصدرا سمّي المفعول يحتمل أن يكون فعالا أي اسما على زنته يؤخذ للمفعول كالإله والإمام وجعل الأرض مهادا إما في أصل الخلقة أو بعدها، وأيّا ما كان فلا دلالة في الآية على ما ينافي كريتها كما هو المشهور من عدة مذاهب أهل الهيئة المحدثين أنها مسطحة عند القطبين لأنها كانت لينة جدا في مبدأ الأمر لظهور غاية الحرارة الكامنة فيها اليوم فيها إذ ذاك وقد تحركت على محورها فاقتضى مجموع ذلك صيرورتها مسطحة عندهما عندهم، وأهل الشرع لا يقولون بذلك ولا يتم للقائل به دليل حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها وَالْجِبالَ أَوْتاداً أي كالأوتاد ففيه تشبيه بليغ أيضا والمراد أرسينا الأرض بالجبال كما يرسى البيت بالأوتاد قال الأفوه: والبيت لا يبتنى إلا له عمد ... ولا عماد إذا لم ترس أوتاد وفي الحديث: «خلق الله تعالى الأرض فجعلت تميد فوضع عليها الجبال فاستقرت فقالت الملائكة: ربنا هل خلقت خلقا أشد من الجبال؟ قال: نعم الحديد، فقالت: ربنا هل خلقت خلقا أشد من الحديد؟ قال: نعم النار، فقالوا: ربنا هل خلقت خلقا أشد من النار؟ قال: نعم الماء، فقالوا: ربنا هل خلقت خلقا أشد من الماء؟ قال: نعم الهواء، فقالوا: ربنا هل خلقت خلقا أشد من الهواء؟ قال: نعم ابن آدم يتصدق بيمينه فيخفي ذلك عن شماله» . وظاهره كغيره أن خلق الجبال به خلق الأرض وإليه ذهب الفلاسفة المتقدمون والمحدثون وهي متفاوتة عندهم في الحدوث تقدما وتأخرا وجاء في حديث رواه الحاكم وصححه عن ابن عباس إن أول جبل أبو قبيس وفي كيفية حدوثها منذ حدثت خلاف عندهم وقد يتلاشى ما حدث منها بطول الزمان: إن الجديدين إذا ما استو ... ليا على جديد أسلماه للبلى وربما يشاهد حدوث بعض تلاع حجرية من انجماد بعض المياه واستشكل احتياجها للإرساء بالجبال مع طلبها للمركز بثقلها المطلق، وأجيب بأنه قد علم الله تعالى أنها ستكون ويكون عليها من الأثقال ما يكون، ومن المعلوم أنها حينئذ يكون لها مركزان مركز حجم ومركز ثقل والذي ينطبق منهما على مركز العالم إنما هو مركز الثقل فيلزم من تحرك ثقيل إلى جهة المشرق أو المغرب مثلا عليها تحركها لاختلاف مركز ثقلها ولزوم انطباقه على مركز العالم فيحصل الميد ولم تكن إذ ذاك بحيث لا يكون لما يكون عليها من أثقال سكنتها قدر يحس به فوضعت عليها الجبال وانطبق مركز ثقلها على مركز العالم وصار مجموع الأرض والجبال بحيث لا يظهر للمتحرك بعد قدر يحس به. وقيل: إنها كانت لخفتها بحيث يحركها أمواج البحر المحيط بها فيحصل الميد فثقلت بالجبال مع ما في الجبال من المنافع الجمة التي لم تخلق الأرض لأجلها بحيث لا تحركها الأمواج. وتمام الكلام في ذلك حسبما كنا واقفين عليه قد مر فتذكر. وحكي عن بعض أن جعلها كذلك بمعنى جعلها سببا لانتظام أهل الأرض بما أودع فيها من المنافع ولولاها لمادت بهم أي لما تهيأت الجزء: 15 ¦ الصفحة: 205 للانتفاع بها ولاختل أمر سكناهم إياها وهو تأويل مناف للظواهر لا يحتاج إليه ما لم يقم الدليل القطعي على محالية إرادة الظاهر. نعم قيل: إن هذا أقرب للتقرير فإن جعلها أوتادا بهذا المعنى أظهر من جعله كذلك بذلك المعنى وأقرب إلى العلم به، وربما يقال إنه أوفق لترك إعادة العامل ومن لا يراه يجعل النكتة فيه قوة ما بين الأرض والجبال من الاشتراك والارتباط فافهم. وَخَلَقْناكُمْ عطف على المضارع المنفي بلم داخل في حكمه فإنه في قوة إما جعلنا إلخ أو على ما يقتضيه الإنكار التقريري فإنه في قوة أن يقال قد جعلنا إلخ والالتفات إلى الخطاب هنا بناء على القراءة المشهورة في سَيَعْلَمُونَ للمبالغة في الإلزام والتبكيت أَزْواجاً قال الزجاج وغيره مزدوجين ذكرا وأنثى ليتسنى التناسل وينتظم أمر المعاش، وقيل: أصنافا في اللون والصورة واللسان، وقيل: يجوز أن يكون المراد من الخلق أزواجا الخلق من منيين مني الرجل ومني المرأة خلقنا كل واحد منكم أزواجا باعتبار مادته التي هي عبارة عن منيين فيكون خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً من قبيل مقابلة الجمع بالجمع وتوزيع الأفراد على الأفراد وهو خلاف الظاهر جدا ولا داعي إليه وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً أي كالسبات ففي الكلام تشبيه بليغ كما تقدم، والمراد بالسبات الموت وقد ورد في اللغة بهذا المعنى ووجه تشبيه النوم به ظاهر وعلى ذلك قوله تعالى وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الأنعام: 60] وهو على بناء الأدواء مشتق من السبت بمعنى القطع لما فيه من قطع العمل والحركة، ويقال: سبت شعره إذا حلقه وأنفه إذا اصطلمه. وزعم ابن الأنباري كما في الدرر أنه لم يسمع السبت بمعنى القطع وكأنه كان أصم. وقيل: أصل السبت التمدد كالبسط يقال سبت الشعر إذا حل عقاصه وعليه تفسير السبات بالنوم الطويل الممتد والامتنان به لما فيه من عدم الانزعاج، وجوز بعضهم حمله على النوم الخفيف بناء على ما في القاموس من إطلاقه عليه على أن المعنى جعلنا نومكم نوما خفيفا غير ممتد فيختل به أمر معاشكم ومعادكم وفي البحر سباتا أي سكونا وراحة. يقال: سبت الرجل إذا استراح. وزعم ابن الأنباري أيضا عدم سماع سبت بهذا المعنى ورد عليه المرتضى بأنه أريد الراحة اللازمة للنوم وقطع الإحساس فإن في ذلك راحة القوى الحيوانية مما عراها في اليقظة من الكلال، ومنه سمّي اليوم المعروف سبتا لفراغ وراحة لهم فيه، وقيل: سمّي بذلك لأن الله تعالى ابتدأ بخلق السماوات والأرض يوم الأحد فخلقها في ستة أيام كما ذكر عز وجل فقطع عمله سبحانه يوم السبت فسمّي بذلك واختار المحققون كون السبات هنا بمعنى الموت لأنه أنسب بالمقام كما لا يخفى وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ الذي يقع فيه النوم غالبا لِباساً يستركم بظلامه كما يستركم اللباس، ولعل المراد بهذا اللباس المشبه به ما يستتر به عند النوم من اللحاف ونحوه فإن شبه الليل به أكمل واعتباره في تحقيق المقصد أدخل. واختار غير واحد إرادة الأعم وأن المعنى جعلناه ساترا لكم عن العيون إذا أردتم هربا من عدو أو بياتا له أو خفاء ما لا تحبون الاطّلاع عليه من كثير من الأمور. وقد عد المتنبي من نعم الليل البيات على الأعداء والفوز بزيارة المحبوب واللقاء مكذبا ما اشتهر من مذهب المانوية من أن الخير منسوب إلى النور والشر إلى الظلمة بالمعنى المعروف فقال: وكم لظلام الليل عندي من يد ... تخبر أن المانوية تكذب وقاك ردى الأعداء تسري إليهم ... وزارك فيه ذو الدلال المحجب وقال بعضهم: يمكن أن يحمل كون الليل كاللباس على كونه كاللباس لليوم في سهولة إخراجه ومنه ولا يخفى بعده ومما يقضي منه العجب استدلال بعضهم بهذه الآية على أن من صلّى عريانا في ليل أو ظلمة فصلاته صحيحة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 206 ولعمري لقد أتى بعري عن لباس التحقيق كما لا تخفى على من أشرق عليه ضياء الحق الحقيق وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً مصدر ميمي بمعنى العيش وهو الحياة المختصة بالحيوان على ما قال الراغب دون العامة لحياة الملك مثلا ووقع هنا ظرفا كما قيل في نحو: أتيتك خفوق النجم وطلوع الفجر، وجوز أن يكون اسم زمان وتعقب بأنه لم يثبت مجيئه كذلك في اللغة. والمعنى وجعلنا النهار وقت معاش أي حياة تبعثون فيه من نومكم الذي هو أخو الموت وكأنه لما جعل سبحانه النوم موتا مجازا جعل جل شأنه اليقظة معاشا كذلك لكن أوثر النهار ليناسب المتوسط. وقيل: المعنى وجعلنا النهار وقت معاش تتقلبون فيه لتحصيل ما تعيشون به وهو أنسب بجعل السبات فيما تقدم بمعنى القطع عن الحركة على ما قيل، ولا يخفى حسن ذكر جعل الليل لباسا بعد جعل النوم سباتا وهو مشير إلى حكمة جعل النوم ليلا أيضا لأن النائم معطل الحواس فكان محتاجا لساتر عما يضره فهو أحوج ما يكون للدثار وضرب خيام الاستتار. وفي الكشف أن المطابقة بين قوله تعالى وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وقوله سبحانه وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً مصرحة وفيه مطابقة معنوية أيضا مع قوله تعالى وجعلنا النوم من حيث إن النهار وقت اليقظة والمعاش في مقابلة السبات لأنه حركة الحيّ ومنه علم أن قوله تعالى وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً غير مستطرد ووجه النظم أنه لما ذكر خلقهم أزواجا استوفى أحوالهم مقترنين ومفترقين اه. وفيه تعريض بالطيبي حيث زعم الاستطراد إذا أريد بالمعاش اليقظة وبالسبات الموت وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً أي سبع سماوات قوية الخلق محكمة لا يسقط منها ما يمنعكم المعاش والتعبير عن خلقها بالبناء للإشارة إلى تشبيهها بالقباب المبنية على سكنتها. وقيل: للإشارة إلى أن خلقها على سبيل التدريج وليس بذاك. وفيه أن السماء خيمية لا سطح مستو وفي الآثار ما يشهد له ولا يأباه جعلنا سقفا في آية أخرى. وقد صح في العرس ما يشهد بخيمية أيضا والفلاسفة السالفون على استدارتها ويطلقون عليها اسم الفلك واستدلوا على ذلك حسب أصولهم بعد الاستدلال على استدارة السطح الظاهر من الأرض ولا يكاد يتم لهم دليل عليه قالوا الذي يدل على استدارة السماء هو أنه متى قصدنا عدة مساكن على خط واحد من عرض الأرض وحصلنا الكواكب المارة على سمت الرأس في كل واحدة منها ثم اعتبرنا أبعاد ممرات تلك الكواكب في دائرة نصف النهار بعضها من بعض وجدناها على نسب المسافات الأرضية بين تلك المساكن. كذلك وجدنا ارتفاع القطب فيها متفاضلا بمثل تلك النسب فتحدب السماء في العرش مشابه لتحدب الأرض فيه، لكن هذا التشابه موجود في كل خط من خطوط العرض وكذا في كل خط من خطوط الطول، فسطح السماء بأسره مواز لسطح الظاهر من الأرض بأسره وهذا السطح مستدير حسّا فكذا سطح السماء الموازي له وأيضا أصحاب الأرصاد دونوا مقادير أجرام الكواكب وأبعاد ما بينها في الأماكن المختلفة في وقت واحد كما في أنصاف نهار تلك الأماكن مثلا متساوية وهذا يدل على تساوي أبعاد مراكز الكواكب عن مناظر الأبصار المستلزم لتساوي أبعادها عن مركز العالم لاستدارة الأرض المستلزم لكون السماء كرية، وزعموا أن هذين أقرب ما يتمسك بهما في الاستدارة من حيث النظر التعليمي وفي كل مناقشة أما الثاني فالمناقشة فيه أنه إنما يصح لو كان الفلك عندهم ساكنا والكواكب متحركا إذ لو كان السماء متحركا جاز أن يكون مربعا ويكون مساواة أبعاد مراكز الكواكب عن مناظر الأبصار وتساوي مقادير الأجرام للكواكب حاصلا. وأما الأول فالمناقشة فيه أنه إنما يصح لو كان الاعتدال المذكور موجودا في كل خط من خطوط الطول والعرض وهو غير معلوم، وأما غير ما ذكر من أدلتهم فمذكور مع ما فيه في نهاية الإدراك في دراية الأفلاك فارجع إليه إن أردته. بقي هاهنا بحث وهو أن العطف إذا كان على الفعل المنفي بلم داخلا في حكمه يلزم أن يكون بناء سبع سماوات شداد فوق معلوما للمخاطبين وهم مشركو مكة المنكرون للعبث كما سمعت ليتأتى تقريرهم به كسائر الأمور السابقة واللاحقة، فيقال: إن كون السماوات سبعا مما لا يدرك بالمشاهدة وهم المكذبون بالنبيّ صلّى الله عليه وسلم فلا يصدقونه بمثل ذلك مما معرفته بحسب الظاهر إنما هي من طريق الوحي، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 207 وأجيب بأنهم علموا ذلك بواسطة مشاهدتهم اختلاف حركات السيارات السبع مع اختلاف أبعادها بعضها عن بعض وذلك أنهم علموا السيارات واختلاف حركاتها وعلموا أن بعضها فوق بعض لخسف بعضها بعضا فقالوا في بادىء النظر بسبع سماوات كل سماء لكوكب من هاتك الكواكب ولا يلزمنا البحث عما قالوا الثوابت وفي المحرك لها وللسبع بالحركة اليومية إذ هو وراء ما نحن فيه. واعترض بأن هذا لا يتم إلّا إذا كانوا قائلين بأن السماء عبارة عن الفلك وأنها تتحرك على الاستدارة ويكون أوجها حضيضا وحضيضها أوجا، ولعلهم لا يقولون بذلك وإنما يقولون كبعض السلف من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن السماء ساكنة والكوكب متحرك والفلك إنما هو مجراه وحينئذ فيجوز أن تكون السبع على اختلاف حركاتها وأبعادها في ثخن سماء واحدة تجري في أفلاك ومجار لها على الوجه المحسوس ويجوز أيضا غير ذلك كما لا يخفى وأيضا لو كان علمهم بذلك مما ذكر لقالوا بالتداوير ونحوها أيضا كما قال بذلك أهل الهيئة السالفون لأن اختلاف الحركات يقتضيه بزعمهم لا سيما في المتحيرة، ولو كان العرب قائلين به لوقع في أشعارهم بل لا يبعد أنه لو ذكر لهم ذاكر التداوير والمتممات الحاوية والمحوية مثلا لنسبوه إلى ما يكره. وقيل إنهم ورثوا علم ذلك عن أسلافهم السامعين له ممن يعتقدون صدقه كإسماعيل عليه السلام ويجوز أن يكونوا سمعوه من أهل الكتاب ولما لم يروه منافيا لما هم عليه اعتقدوه ويكفي في صحة التقرير هذا المقدار من العلم وتعقب بأنه على هذا لا تنتظم المتعاطفات المقرر بها في سلك واحد من العلم والأمر فيه سهل، وقيل: نزلوا منزلة العالمين به لظهور دليله وهو إخبار من دلت المعجزة على صدقه به وفيه بعد. وقيل الخطاب للناس مؤمنيهم ومشركيهم وغلب المؤمنون على غيرهم في التقرير المقتضي لسابقية العلم وهو كما ترى. واختار بعض أن العطف على ما يقتضيه الإنكار التقريري فيكون الكلام في قوة قد جعلنا الأرض إلى آخره وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً وهو حينئذ ابتداء إخبار منه عزّ وجلّ بالبناء المذكور فلا يقتضي سابقية علم وتعقب بأن العطف على الفعل المنفي ب «لم» أوفق بالاستدلال بالمذكورات على صحة البعث كما لا يخفى فتأمل. وتقديم الظرف على المفعول للتشويق إنه مع مراعاة الفواصل. وَجَعَلْنا أي أنشأنا وأبدعنا سِراجاً وَهَّاجاً مشرقا متلألئا من وهجت النار إذا أضاءت أو بالغا في الحرارة من الوهج. والمراد به الشمس والتعبير عنها بالسراج من روادف التعبير عن خلق السماوات بالبناء. ونصب سِراجاً على المفعولية ووَهَّاجاً على الوصفية له، وجوز بعضهم أن يكونا مفعولين للجعل على أنه هنا ما يتعدى إليهما، وتعقب بأنه مخالف للظاهر للتنكير فيهما وإن قيل السراج الشمس وهي لانحصارها في فرد كالمعرفة. واختلف في موضع الجعل والمشهور أنه في السماء الرابعة ولم نر فيه أثرا سوى ما في البحر من عبد الله بن عمرو بن العاص. قال: الشمس في السماء الرابعة إلينا ظهرها ولهبها يضطرم علوا. والمذكور في كتب القوم أنهم جعلوا سبعة أفلاك للسيارات السبع على ترتيب خسف بعضها بعضا أقصاها لزحل والذي تحته للمشتري ثم للمريخ والأدنى للقمر والذي فوقه لعطارد ثم للزهرة إذ وجدوا القمر يكسف الست من السيارات وكثيرا من الثوابت المحاذية لطريقته في ممر البروج، وعلى هذا الترتيب وجدوا الأدنى يكسف الأعلى والثوابت تنكسف بالكل ويعلم الكاسف من المنكسف باختلاف اللون فأيهما ظهر لونه عند الكسف فهو كاسف، وأيهما خفي لونه فهو منكسف. وبقي الشك في أمر الشمس إذ لم يعرف انكساف شيء من الكواكب بها لاضمحلال نورها في ضيائها عند القرب منها ولا انكسافها بشيء من الكواكب غير القمر، فذهب بعض القدماء إلى أن فلكي الزهرة وعطارد فوق فلكها مستدلين عليه بأنهما لا يكسفاتها كما يكسفها القمر وهو باطل إذ من شرط كسف السافل العالي أن يكونا معا والبصر على خط واحد مستقيم وإلّا لم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 208 يكسفه كما في أكثر اجتماعات القمر وإذا كان كذلك فمن المحتمل أن يكون مدارهما بين الشمس والأبصار ولأن جرميهما عندهم صغيران غير مظلمين كجرم القمر حتى يكسفاها ولأنه إذا كسف القمر من جرم الشمس ما مساحته مساوية لجرم أحد هذين الكوكبين أو أكثر لا يظهر المنكسف للأبصار على ما نص عليه بطليموس في الاقتصاص. وذهب بعض من تقادم عهدهم إلى أنهما تحت فلك الشمس وإن لم تكسف بهما استحسانا لما في ذلك من حسن الترتيب وجودة النظام على ما بيّن في موضعه ومال إليه بطليموس. قال في المجسطي: ونحن نرى ترتيب من تقادم عهده أقرب إلى الإقناع لأنه أشبه بالأمر الطبيعي لتوسط الشمس بين ما يبعد عنها كل البعد وبين ما لا يعبد عنها إلا يسيرا، ثم قوي عزمه لما رأى بعد الشمس المعلوم من الأرض مناسبا لهذا الموضع لأن لما وجد بين أبعد بعد القمر وأقرب قرب الشمس بعدا يمكن أن يوجد فيه فلكا الزهرة وعطارد وأبعادهما المختلفة. قال في الاقتصاص: مثل هذا الفضاء لا يحسن أن يترك عطلا ولا يحسن أن يكون فيه المريخ فضلا عن غيره فليكونا فيه وتأكد هذا عند بعض المتأخرين بأنه شوهدت الزهرة على قرص الشمس في وقتين بينهما نيف وعشرون سنة وكانت أول الحالين في ذروة التدوير، وفي الثاني في أسفله، ويبطل به ما ظن من كون عطارد والزهرة مع الشمس في كرة ومركز تدويرهما لاستحالة أن ترى الزهرة في الذروة على هذا الوجه وهذه أمور ضعيفة بعضها خطابي إقناعي وبعضها مبين ما فيه في محله. وقد زعم بعض الناس أنه كما وجد في وجه القمر محو فكذا في وجه الشمس فوق مركزها بقليل نقطة سوداء، وأهل الإرصاد اليوم على ما سمعنا من غير واحد جازمون بأن في قرصها سوادا وعلامات مختلفة ولهم في ذلك كلام مذكور في كتبهم وعليه ففي تشبيههما بالسراج من الحسن ما فيه وعن بعضهم أن النور كخيمة عليها ورأيت في بعض كتبهم أنه ينشق من حوالى جرمها والكلام في مقدار جرمها وبعدها عن الأرض عند كل المتقدمين والمعاصرين من الفلاسفة مما لا حاجة لنا به في هذا المقام مع ما في ذلك من الاختلاف المفضي بيانه بما له وعليه إلى مزيد تطويل وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ هي السحائب على ما روي عن ابن عباس وأبي العالية والربيع والضحاك ولما كانت معصرة اسم مفعول لا معصرة اسم فاعل قيل إنها جمع معصرة من أعصر على أن الهمزة فيه للحينونة أي حانت وشارفت أن تعصرها الرياح فتمطر والأفعال يكون بهذا المعنى كثيرا كما جزر إذا حان وقت جزاره، وأحصد إذا شارفت وقت حصاده ومنه أعصرت الجارية إذا دنت أن تحيض. قال أبو النجم العجلي: تمشي الهوينا مائلا خمارها ... قد عصرت أو قد دنا إعصارها وجوز على تقدير كون الهمزة للحينونة أن يكون المعنى حان لها أن تعصر أي تغيث، ومنه العاصر المغيث ولذا قال ابن كيسان: سميت السحائب بذلك لأنها تغيث فهي من العصرة كأنه في الأصل بمعنى حان أن تعصر بتخييل أن الدم يحصل منها بالعصر، وقيل: إنها جمع لذلك أيضا إلا أن الهمزة لصيرورة الفاعل ذا المأخذ كأيسر وأعسر وألحم أي صار ذا يسر وصار ذا عسر وصار ذا لحم. وعن ابن عباس أيضا ومجاهد وقتادة أنه الرياح لأنها تعصر السحاب فيمطر، وفسّرها بعضهم بالرياح ذوات الأعاصير على أن صيغة اسم الفاعل للنسبة إلّا الإعصار بالكسر وهي ريح تثير سحابا ذا رعد وبرق ويعتبر التجريد عليه على ما قيل والمازني اعتبر النسبة أيضا إلّا أنه قال: المعصرات السحائب ذوات الأعاصير فإنها لا بد أن تمطر معها، وأيد تفسيرها بالرياح بقراءة ابن الزبير وابن عباس وأخيه الفضل وعبد الله بن يزيد وعكرمة وقتادة «بالمعصرات» بباء السببية والآلية الجزء: 15 ¦ الصفحة: 209 فإنها ظاهرة في الرياح فإن بها ينزل المال من السحاب ولهذه القراءة جعل بعضهم من في قراءة الجمهور وتفسير الْمُعْصِراتِ بالرياح للتعليل. وذهب غير واحد إلى أنها للتعليل ابتدائية فإن السحاب كالمبدأ الفاعل للإنزال وتعقب بأن ورود من كذلك قليل وعن أبي الحسن وابن جبير وزيد بن أسلم ومقاتل وقتادة أيضا أنها السماوات، وتعقب بأن السماء لا ينزل منها الماء بالعصر فقيل في تأويله أن الماء ينزل من السماء إلى السحاب فكأن السماوات يعصرن أي يحملن على عصر الرياح السحاب، ويمكن منه وتعقب بأنه مع بعده إنما يتم لو جاء المعصر بمعنى العاصر أي الحامل على العصر، ولو قيل المراد بالمعصر الذي حان له أن يعصل كان تكلفا على تكلف والذي في الكشف أن الهمزة على التأويل المذكور للتعدية فتدبر ولا تغفل ماءً ثَجَّاجاً أي منصبا بكثرة، يقال: ثج الماء إذا سال بكثرة، وثجه أي أساله فثجّ. ورد لازما ومتعديا واختير جعل ما في النظم الكريم من اللازم لأنه الأكثر في الاستعمال وجعله الزجاج من المتعدي كأن الماء المنزل لكثرته يصب نفسه ومن المتعدي ما في قوله صلّى الله عليه وسلم: «أفضل الحج العج والثج» أي رفع الصوت بالتلبية وصب ماء الهدي والمراد أفضل أعمال الحج التلبية والنحر ولا يأبى الكثرة كون الماء من المعصرات وظاهره أنه بالعصر وهو لا يحصل منه إلّا القليل لأن ذلك غير مسلم ولو سلم فالقلة نسبية. وقرأ الأعرج «ثجاجا» بجيم ثم حاء مهملة ومثاجج الماء: مصابه. لِنُخْرِجَ بِهِ أي بذلك الماء وهو على ظاهره عند السلف ومن اقتدى بهم وقالت الأشاعرة أي عنده حَبًّا وَنَباتاً ما يقتات به كالحنطة والشعير ويعتلف كالحشيش والتبن وتقديم الحب مع تأخره عن النبات في الإخراج لأصالته وشرفه لأن غالبه غذاء الإنسان وَجَنَّاتٍ جمع جنة وهي كل بستان ذي شجر يستره بأشجاره الأرض من الجن وهو الستر. وقال الفراء: الجنة ما فيه النخيل والفردوس ما فيه الكرم وقد تسمى الأشجار الساترة جنة وعليه حمل قوله زهير: من النواضح تسقي جنة سحقا وهو المراد هنا وقوله تعالى أَلْفافاً أي ملتفة تداخل بعضها ببعض قيل لا واحد له كالأوزاع والأخياف للجماعات المتفرقة المختلفة اختاره الزمخشري. وقال ابن قتيبة: جمع لف بضم اللام جمع لفاء فهو جمع الجزء: 15 ¦ الصفحة: 210 الجمع، واستبعد بأنه لم يجىء في نظائره ذلك فقد جاء خضر جمع خضراء وحمر جمع حمراء ولم يجىء أخضار جمع خضر ولا أحمار جمع حمر وجمع الجمع لا ينقاس ووجود نظيره في المفردات لا يكفي كذا قيل. وقال الكسائي جمع لفيف بمعنى ملفوف وفعيل يجمع على أفعال كشريف وأشراف وإنما اختلف النحاة في كونه جمعا لفاعل وفي الكشاف لو قيل هو جمع ملتفة بتقدير حذف الزوائد لكان قولا وجيها انتهى. وإنما يقدر حذف الزوائد وهو الذي يسميه النحاة في مثل ذلك ترخيما لأن قياس جمع ملتفة ملتفات لا ألفاف واعترضه في الكشف فقال فيه إنه لا نظير له لأن تصغير الترخيم ثابت (1) أما جمعه فلا لكن قيل إن هذا غير مسلم فإنه وقع في كلامهم ولم يتعرضوا له لقلته والحق أنه وجه متكلف وجمهور اللغويين على أنه جمع لف بالكسر وهو صفة مشبهة بمعنى ملفوف وفعل يجمع على أفعال باطراد كجذع وأجذاع وعن صاحب الاقليد أنه قال: أنشدني الحسن بن علي الطوسي: جنة لف وعيش مغدق ... وندامى كلهم بيض زهر وجوز في القاموس أن يكون جمع لف بالفتح هذا وفيما ذكر من أفعاله تعالى شأنه دلالة على صحة البعث وحقيته من أوجه ثلاثة على ما قيل الأول باعتبار قدرته عزّ وجلّ فإن من قدر على إنشاء تلك الأمور البديعة من غير مثال يحتذيه ولا قانون ينتحيه كان على الإعادة أقدر وأقوى. الثاني باعتبار علمه وحكمته فإن من أبدع هذه المصنوعات على نمط رائع مستتبع لغايات جليلة ومنافع جميلة عائدة إلى الخلق يستحيل حكمة أن لا يجعل لها عاقبة الثالث باعتبار نفس الفعل فإن اليقظة بعد النوم أنموذج للبعث بعد الموت يشاهده كل واحد وكذا إخراج الحب والنبات من الأرض يعاين كل حين فكأنه قيل قد فعلنا أو ألم نفعل هذه الأفعال الآفاقية الدالة بفنون الدلالة على حقية البعث الموجبة للإيمان به فما لكم تخوضون فيه إنكارا وتسألون عنه استهزاء. وقوله تعالى إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً شروع في بيان سر تأخير ما يتساءلون عنه ويستعجلون به قائلين مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [النمل: 71، سبأ: 39، يس: 48، الملك: 25] ونوع تفصيل لكيفية وقوعه وما سيلقونه عند ذلك من فنون العذاب حسبما جرى به الوعيد إجمالا. وقال بعض الأجلة إنه لما أثبت سبحانه صحة البعث كان مظنة السؤال عن وقته فقيل: إِنَّ إلخ وأكد لأنه مما ارتابوا فيه وليس بذاك أي إن يوم فصل الله تعالى شأنه بين الخلائق كان في علمه عز وجل ميقاتا وميعادا لبعث الأولين والآخرين وما يترتب عليه من الجزاء ثوابا وعقابا لا يكاد يتخطاه بالتقدم والتأخر وقيل حدا توقت به الدنيا وتنتهي إليه أو حدا للخلائق ينتهون إليه لتمييز أحوالهم والأول أوفق بالمقام على أن الدنيا تنتهي على ما قيل عند النفخة الأولى وأيّا ما كان فالمضي في كان باعتبار العلم وجوز أن يكون بمعنى يكون وعبر عن المستقبل بالماضي لتحقق وقوعه يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ أي النفخة الثانية ويَوْمَ بدل من يَوْمَ الْفَصْلِ أو عطف بيان مفيد لزيادة تفخيمه وتهويله ولا ضير في تأخر الفصل عن النفخ فإنه زمان ممتد يقع في مبدئه النفخ وفي بقيته الفصل ومبادئه وآثاره وتقدم الكلام في الصور. وقرأ أبو عياض «في الصّور» بفتح الواو جمع صورة وقد مر الكلام في ذلك أيضا. والفاء في قوله تعالى فَتَأْتُونَ فصيحة تفصح عن جملة قد حذفت ثقة بدلالة الحال عليها وإيذانا بغاية   (1) قوله أما جمعه فلا واللواقح والطوائح ليسا منه على ما قيل اه منه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 211 سرعة الإتيان كما في قوله تعالى فقلنا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [الشعراء: 63] أي فتحيون فتبعثون من قبوركم فتأتون إلى الموقف عقيب ذلك من غير لبث أصلا أَفْواجاً أي أمما كل أمة بإمامها كما قال سبحانه يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ [الإسراء: 71] أو زمرا وجماعات مختلفة الأحوال متباينة الأوضاع حسب اختلاف الأعمال وتباينها. واستدل لهذا بما خرج ابن مردويه عن البراء بن عازب أن معاذ بن جبل قال: يا رسول الله ما قول الله تعالى يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا؟ فقال: «يا معاذ سألت عن عظيم من الأمور» ثم أرسل عينيه ثم قال عليه الصلاة والسلام: «عشرة أصناف قد ميّزهم عز وجل من جماعة المسلمين فبدل صورهم، فبعضهم على صورة القردة، وبعضهم على صورة الخنازير، وبعضهم منكسين أرجلهم فوق وجوههم أسفل يسحبون عليها، وبعضهم عمي يترددون، وبعضهم صمّ بكم لا يعقلون، وبعضهم يمضغون ألسنتهم وهي مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم لعابا يتقذرهم أهل الجمع، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم، وبعضهم مصلبون على جذوع من نار، وبعضهم أشد نتنا من الجيف، وبعضهم ملبسون جبابا سابغة من قطران لازقة بجلودهم، فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس، وأما الذين على صورة الخنازير فأكلة السحت، وأما المنكسون على وجوههم فأكلة الربا، وأما العمي فالذين يجورون في الحكم، وأما الصم البكم فالمعجبون بأعمالهم، وأما الذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصاص الذين خالف أقوالهم أعمالهم، وأما الذين قطعت أيديهم وأرجلهم فهم الذين يؤذون الجيران، وأما المصلبون على جذوع من نار فالساعون بالناس إلى السلطان، وأما الذين هم أشد نتنا من الجيف فالذين يتمتعون بالشهوات واللذات ويمنعون حق الله تعالى من أموالهم، وأما الذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والخيلاء والفخر» . وهذا كما قال ابن حجر حديث موضوع وآثار الوضع لائحة عليه، وعليه قيل لا بد من التغليب في قوله تعالى «تأتون» . إذ لا يمكن الإتيان للمصلوب والمسحوب على الوجه ولا لمن قطعت يداه ورجلاه، وتعقب بأنه ليس بشيء فإن أمور الآخرة لا تقاس على أمور الدنيا، والقادر على البعث قادر على جعلهم ماشين بلا أيد وأرجل وأن تمشي بهم عمد النار التي صلبوا عليها مع أنه لا يلزم أن يأتوا بأنفسهم لجواز أن تأتي بهم الزبانية وَفُتِحَتِ السَّماءُ عطف على يُنْفَخُ على ما قيل وصيغة الماضي للدلالة على التحقق. وعن الزمخشري أنه معطوف على فَتَأْتُونَ وليس بشرط أن يتوافقا في الزمان كما يظن من ليس بنحوي وأقره في الكشف وقال: الشرط في حسنه أن يكون مقربا من الحال أو يكون المضارع حكاية حال ماضية وما نحن فيه مضارع جيء به بلفظ الماضي تفخيما وتحقيقا لوقوعه فهو أقرب قريب منه. ولو جعل حالا على معنى فتأتون وقد فتحت السماء لكان وجها. وقرأ الجمهور أي من عدا الكوفيين «فتحت» بالتشديد قيل وهو الأنسب بقوله تعالى فَكانَتْ أَبْواباً وفسر الفتح بالشق لقوله تعالى إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق: 1] وقوله سبحانه إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار: 1] إلى غير ذلك والقرآن يفسر بعضه بعضا. وجاء الفتح بهذا المعنى كفتح الجسور وما ضاهاها ولعل نكتة التعبير به عنه الإشارة إلى كمال قدرته تعالى حتى كان شق هذا الجرم العظيم كفتح الباب سهولة وسرعة وكان معنى صار ولدلالتها على الانتقال من حال إلى أخرى وكون السماء بالشق لا تصير أبوابا حقيقة قالوا إن الكلام على التشبيه البليغ أي فصارت شقوقها لسعتها كالأبواب أو فصارت من كثرة الشقوق كأن الكل أبواب أو بتقدير مضاف أي فصارت ذات أبواب، وقيل الفتح على ظاهره الكلام بتقدير مضاف إلى السماء أي فتحت أبواب السماء فصارت كأن كلها أبواب ويجامع ذلك شقها فتشق وتفتح أبوابها، وتعقب بأن شقها لنزول الملائكة كما قال تعالى وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا [الفرقان: 25] فإذا شققت لا يحتاج لفتح الأبواب وأيضا فتح أبوابها ليس الجزء: 15 ¦ الصفحة: 212 من خواص يوم الفصل وفيه بحث نعم إن الوجه الأول أولى وقيل المعنى بفتح مكان السماء بالكشط فتصير كلها طرقا لا يسدها شيء وفيه بعد. وعلى ما تقدم في الآية رد على زاعمي امتناع الخرق على السماء وفيها على هذا رد لزاعمي كشطها كما هو المشهور عن الفلاسفة المتقدمين وإن حقق الملا صدرا في الأسفار أن أساطنتهم على خلاف ذلك والفلاسفة اليوم ينفون السماء المعروفة عند المسلمين ولم يأتوا بشيء تؤول له الآيات والأخبار الصحيحة في صفتها كما لا يخفى على الذكي المنصف. وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ أي في الجو على هيئتها بعد تفتتها وبعد قلعها من مقارها كما يعرب عنه قوله تعالى وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ [النمل: 88] وأدمج فيه تشبيه الجبال بحبال السحاب في تخلخل الأجزاء وانتفاشها كما ينطق به قوله تعالى وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة: 5] فَكانَتْ سَراباً أي فصارت بعد تسييرها مثل سراب فترى بعد تفتتها وارتفاعها في الهواء كأنها جبال وليست بجبال بل غبار غليظ متراكم يرى من بعيد كأنه جبل كالسراب يرى كأنه بحر مثلا وليس به فالكلام على التشبيه البليغ والجامع أن كلّا من الجبال والسراب يرى على كل شيء وليس هو بذلك الشيء، وجوز أن يكون وجه الشبه التخلخل إذ تكون بعد تسييرها غبارا منتشرا كما قال تعالى وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا [الواقعة: 5، 6] والمستفاد من الأزهار البديعة في علم الطبيعة لمحمد الهراوي أن السراب هواء تسخنت طبقته السفلى التي تلي الأرض لتسخن الأرض من حر الشمس فتخلخلت وصعد جزء منها إلى ما فوقها من الطبقات فكان أكثف مما تحته وخرج بذلك التسخن عن موقعه الطبيعي من الأرض ولانعكاس الأشعة الضوئية وانكسارها فيه على وجه مخصوص مبين في الكتاب المذكور مع انعكاس لون السماء يظن ماء وترى فيه صورة الشيء منقلبة، وقد ترى فيه صور سابحة كقصور وعمد ومساكن جميلة مستغربة وأشباح سائرة تتغير هيئتها في كل لحظة وتنتقل عن محالها ثم تزول وما هي إلّا صور حاصلة من انعكاس صور مرئية بعيدة جدا أو متراكبة في طبقات الهواء المختلفة الكثافة فاعتبار التخلخل فقط في وجه الشبه لا يخلو عن نظر وأيا ما كان فهذا بعد النفخة الثانية عند حشر الخلق فالله عز وجل يسير الجبال ويجعلها هباء منبثا ويسوي الأرض يومئذ كما نطق به قوله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ [طه: 105- 108] وقوله تعالى يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم: 48] فإن اتّباع الداعي الذي هو إسرافيل عليه السلام وبروز الخلق لله تعالى لا يكون إلّا بعد النفخة الثانية، وأما اندكاك الجبال وانصداعها فعند النفخة الأولى. وقيل: إن تسييرها وصيرورتها سرابا عند النفخة الأولى أيضا ويأباه ظاهر الآية. نعم لو جعلت الجملة حالية أي فتأتون أفواجا وقد سيرت الجبال فكانت سرابا لكان ذلك محتملا والظاهر أنها تصير سرابا لتسوية الأرض ولا يبعد أن يكون فيه حكم أخرى وقول بعضهم إنها تجري جريان الماء وتسيل سيلانه كالسراب فيزيد ذلك في اضطراب متعطشي المحشر وغلبة شوقهم إلى الماء خلاف الظاهر. إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً شروع في تفصيل أحكام الفصل الذي أضيف إليه اليوم إثر بيان هوله والمرصاد اسم مكان كالمضمار للموضع الذي تضمر فيه الخيل ومفعال يكون كذلك على ما صرح به الراغب والجوهري وغيرهما، كما يكون اسم آلة وصفة مشبهة للمبالغة والظاهر أنه حقيقة في الجميع أي موضع رصد وترقب ترصد فيه خزانة النار الكفار ليعذبوهم. وقيل: ترصد فيه خزنة الجنة المؤمنين ليحرسوهم من فيحها في الجزء: 15 ¦ الصفحة: 213 مجازهم عليها. وقيل: ترصد فيه الملائكة عليهم السلام الطائفتين لتعذب (1) إحداهما وهي المؤمنة وتعذب الأخرى وهي الكافرة وجوز أن يكون صيغة مبالغة كمتحار أي مجدة في ترصد الكفرة لئلا يشذ منهم واحد أو مجدة في ترصد المؤمنين لئلا يتضرر أحد منهم من فيحها أو مجدة في ترصد الطائفتين على نحو ما سمعت آنفا، وإسناد ذلك إليها مجاز أو على سبيل التشبيه. وفي البحر إن مِرْصاداً معنى النسب أي ذات رصد وقد يفسر المرصاد بمطلق الطريق وهو أحد معانيه فيكون للطائفتين ومن هنا قال الحسن كما أخرج عنه ابن جرير وابن المنذر وعبد بن حميد في الآية، لا يدخل الجنة أحد حتى يجتاز النار. وقال قتادة كما أخرج هؤلاء عنه أيضا اعلموا أنه لا سبيل إلى الجنة حتى تقطع النار. وقوله تعالى لِلطَّاغِينَ أي المتجاوزين الحد فيه الطغيان متعلق بمضمر إما نعت ل مِرْصاداً أي كائنا للطاغين وإما حال من قوله تعالى مَآباً قدم عليه لكونه نكرة ولو تأخر لكان صفة له أي كانت مرجعا ومأوى كائنا لهم يرجعون إليه ويأوون لا محالة، وجوز أن يكون خبرا آخر لكانت أو متعلقا بمآبا أو بمرصاد، وعليه قيل معنى مِرْصاداً لهم معدة لهم من قولهم أرصدت له أي أعدت وكافأته بالخير أو بالشر ومَآباً قيل بدل من مِرْصاداً على جميع الأوجه بدل كل من كل وقيل: هو خبر ثان لكانت أو صفة لمرصادا، ولِلطَّاغِينَ متعلق به أو حال منه على بعض التفاسير السابقة في كانَتْ مِرْصاداً فتأمل. وقرأ أبو عمر والمنقري وابن يعمر «أن جهنم» بفتح الهمزة بتقدير لام جر لتعليل قيام الساعة المفهوم من الكلام والمعنى كان ذلك لإقامة الجزاء، وتعقب بأنه ينبغي حينئذ أن يكون «أن للمتقين» أيضا بالفتح ومعطوفا على ما هنا لأنه بكليهما يتم التعليل بإقامة الجزاء إلّا أن يقال ترك العطف للإشارة إلى استقلال كل من الجزاءين في استدعاء قيام الساعة وفيه نظر لأنه بذاك يتم الجزاء وأما نفس إقامته فيكفي في تعليلها ما ذكر على أنه لو كان المراد فيما سبق كانت مرصادا للفريقين على ما سمعت لا يتسنى هذا الكلام أصلا وقوله تعالى لابِثِينَ فِيها أي مقيمين في جهنم ملازمين لها حال مقدرة من المستكن في لِلطَّاغِينَ. وقرأ عبد الله وعلقمة وزيد بن عليّ وابن وثاب وعمرو بن شرحبيل وابن جبير وطلحة والأعمش وحمزة وقتيبة وسورة وروح «لبثين» بغير ألف بعد اللام وفيه من المبالغة ما ليس في لابِثِينَ وقال أبو حيان إن فاعلا يدل على من وجد منه الفعل وفعلا يدل على من شأنه ذلك كحاذر وحذر. وقوله تعالى أَحْقاباً ظرف للبثهم وهو وكذا أحقب جمع حقب بالضم وبضمتين وهو على ما روي عن الحسن بزمان غير محدود ونحوه تفسير بعض اللغويين له بالدهر. وأخرج سعيد بن منصور والحاكم وصححه عن ابن مسعود أنه قال: الحقب الواحد ثمانون سنة وأخرج نحوه البزار عن أبي هريرة وابن جرير عن ابن عباس وابن المنذر عن ابن عمر. وروي عن جمع من السلف بيد أنهم قالوا إن كل يوم منه أي هنا مقدار ألف سنة من سني الدنيا. وأخرج البزار وابن مردويه والديلمي عن ابن عمر مرفوعا أنه بضع وثمانون سنة كل سنة ثلاثمائة وستون يوما واليوم ألف سنة مما تعدون وقيل أربعون سنة. وأخرج ابن مردويه عن عبادة بن الصامت فيه حديثا مرفوعا وقال بعض اللغويين سبعون ألف سنة. واختار غير واحد تفسيره بالدهر وأيّا ما كان فالمعنى لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً متتابعة كلما مضى حقب تبعه حقب آخر وإفادة التتابع في الاستعمال بشهادة الاشتقاق فإنه من الحقيبة وهي ما يشد خلف   (1) قوله لتعذب إحداهما وهي المؤمنة هكذا في خط المؤلف ولعل صوابه لتنقذ وانظره اه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 214 الراكب والمتتابعات يكون أحدها خلف الآخر فليس في الآية ما يدل على خروج الكفرة من النار وعدم خلودهم فيها لمكان فهم التتابع في الاستعمال، وصيغة القلة لا تنافي عدم التناهي إذ لا فرق بين تتابع الأحقاب الكثيرة إلى ما لا يتناهى، وتتابع الأحقاب القليلة كذلك. وقيل: إن الصيغة هنا مشتركة بين القلة والكثرة إذ ليس للحقب جمع كثرة فليرد بها بمعونة المقام جمع الكثرة وتعقب بثبوت جمع الكثرة له وهو الحقب كما ذكر الراغب والذي رأيته في مفرداته أن الحقب أي بكسر الحاء وفتح القاف الحقبة المفسرة بثمانين عاما نعم قيل إنه ينافيه ما ورد أنه يخرج أناس من أهل النار من النار ويقربون من الجنة حتى إذا استنشقوا ريحها ورأوا ما أعد الله تعالى لعباده المؤمنين فيها نودوا أن اصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها فيردون إلى النار بحسرة ما رجع الأولون والآخرون بمثلها وتعقب بأنه إن صح إنما ينافيه لو كان الخروج حقبا تاما، أما لو كان في بعض أجزاء الحقب فلا لبقاء تتابع الأحقاب جملة سلمنا لكن هذا الإخراج الذي يستعقب الرد لزيادة التعذيب كاللبث في النار أشد والكلام من باب التغليب وليس فيه الجمع بين الحقيقة والمجاز. ثم إن وجد أن في الآية ما يقتضي الدلالة على التناهي والخروج من النار ولو بعد زمان طويل فهو مفهوم معارض بالمنطوق الصريح بخلافه كآيات الخلود. وقوله تعالى وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ [المائدة: 37] إلى غير ذلك وإن جعل قوله تعالى لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً حالا من المستكن في لابِثِينَ فيكون قيدا للبث فيحتمل أن يلبثوا فيها أحقابا غير ذائقين إلا حميما وغساقا، ثم يكون لهم بعد الأحقاب لبث على حال آخر من العذاب. وكذا إن جعل أَحْقاباً منصوبا ب لا يَذُوقُونَ قيدا له إلّا أن فيه بعدا ومثله لو جعل لا يَذُوقُونَ فِيها إلخ صفة ل أَحْقاباً وضمير فِيها لها لا لجهنم لكنه أبعد من سابقه. وقيل المراد بالطاغين ما يقابل المتقين فيشمل العصاة والتناهي بالنظر إلى المجموع وهو كما ترى. وقوله مقاتل إن ذلك منسوخ بقوله تعالى فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً فاسد كما لا يخفى. وجوز أن يكون أَحْقاباً جمع حقب كحذر من حقب الرجل إذا أخطأه الرزق، وحقب العام إذ قل مطره وخيره. والمراد محرومين من النعيم وهو كناية عن كونهم معاقبين فيكون حالا من ضمير لابِثِينَ وقوله تعالى لا يَذُوقُونَ صفة كاشفة أو جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب وهو على ما ذكر أولا جملة مبتدأة خبر عنهم. والمراد بالبرد ما يروحهم وينفس عنهم حر النار فلا ينافي أنهم قد يعذبون بالزمهرير، والشراب معروف، والحميم الماء الشديد الحرارة، والغساق ما يقطر من جلود أهل النار من الصديد أي لا يذوقون فيه شيئا ما من روح ينفس عنهم حر النار ولا من شراب يسكن عطشهم لكن يذوقون ماء حارا وصديدا. وفي الحديث «إن الرجل منهم إذا أدنى ذلك من فيه سقط فروة وجهه حتى يبقى عظاما تقعقع» وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن البرد الشراب البارد المستلذ. ومنه قول حسان بن ثابت: يسقون من ورد البريص عليهم ... بردا (1) يصفق بالرحيق السلسل وقول الآخر: أمانيّ من سعدى حسان كأنما ... سقتك بها سعدى على ظما بردا فيكون وَلا شَراباً من نفي العام بعد الخاص. وقال أبو عبيدة والكسائي والفضل بن خالد ومعاذ   (1) قوله بردا النحويون ينشدون بيت حسان بردى بفتح الراء والدال بعدها ألف التأنيث وهو نهر بدمشق اه منه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 215 النحوي: البرد النوم، والعرب تسميه بذلك لأنه يبرد سورة العطش ومن كلامهم منع البرد وقال الشاعر: فلو شئت حرمت النساء سواكم ... وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا أي وهو مجاز في ذلك عند بعض. ونقل في البحر عن كتاب اللغات في القرآن أن البرد هو النوم بلغة هذيل. وعن ابن عباس وأبي العالية: الغساق الزمهرير وهو على ما قيل مستثنى من بَرْداً إلا أنه أخر لتوافق رؤوس الآي فلا تغفل. وقرأ غير واحد من السبعة «غساقا» بالتخفيف جَزاءً أي جوزوا بذلك جزاء ف جَزاءً مفعول مطلق منصوب بفعل مقدر وجعله خبرا آخر لكانت ليس بشيء وقوله تعالى وِفاقاً مصدر وافقه صفة له بتقدير مضاف أي ذا وفاق أو بتأويله باسم الفاعل أو لقصد المبالغة على ما عرف في أمثاله وأيّا ما كان فالمراد جزاء موافقا لأعمالهم على معنى أنه بقدرها في الشدة والضعف بحسب استحقاقهم كما يقتضيه عدله وحكمته تعالى، والجملة من الفعل المقدر ومعموله جملة حالية أو مستأنفة وجوز أن يكون وِفاقاً مصدرا منصوبا بفعل مقدر أيضا أي وافقها وفاقا وهذه الجملة في موضع الصفة لجزاء. وقال الفراء: هو جمع وفق ولا يخفى ما في جعله حينئذ صفة لجزاء من الخفاء. وقرأ أبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة «وفّاقا» بكسر الواو وتشديد الفاء من وفقه يفقه كورثه يرثه وجده موافقا لحاله. وفي الكشف وفقه بمعنى وافقه وليس وصف الجزاء به وصفا بحال صاحبه كما لا يخفى. وحكى ابن القوطية وفق أمره أي حسن وليس المعنى عليه إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً تعليل لاستحقاق العذاب المذكور أي كانوا لا يخافون أن يحاسبوا بأعمالهم وَكَذَّبُوا بِآياتِنا الناطقة بذلك أو به وبغيره مما يجب الإيمان به كِذَّاباً أي تكذيبا مفرطا وفعال بمعنى تفعيل في مصدر فعل مصدر شائع في كلام فصحاء العرب. وعن الفراء أنه لغة يمانية فصيحة وقال لي أعرابي على جبل المروة يستفتيني آلحلق أحب إليك أم القصار ومن تلك اللغة قول الشاعر: لقد طال ما ثبطتني عن صحابتي ... وعن حاجة قضاؤها من شفائيا وقال ابن مالك في التسهيل: إنه قليل. وقرأ عليّ كرم الله تعالى وجهه وعوف الأعرابي وأبو رجاء والأعمش وعيسى بخلاف عنه في التخفيف. قال صاحب اللوامح: وذلك لغة اليمن يجعلون مصدر كذب مخففا كذابا بالتخفيف مثل كتب كتابا فكذابا بمعنى كذبا وعليه قول الأعشى: فصدقتها وكذبتها ... والمرء ينفعه كذابه والكلام هنا عليه من باب أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17] ففعله الثلاثي أما مقدر أي كذبوا بأياتنا وكذبوا كذابا، أو هو مصدر للفعل المذكور باعتبار تضمنه معنى كذب الثلاثي فإن تكذيبهم الحق الصريح يستلزم أنهم كاذبون، وأيّا ما كان يدل على كذبهم في تكذيبهم، وجوز أن يكون بمعنى مكاذبة كقتال بمعنى مقاتلة فهو من باب المفاعلة على معنى أن كلّا منهم ومن المسلمين اعتقد كذب الآخر بتنزيل ترك الاعتقاد منزلة الفعل لا على معنى أن كلّا كذب الآخر حقيقة. ويجوز أن تكون المفاعلة مجازا مرسلا بعلاقة اللزوم عن الجد والاجتهاد في الفعل، ويحتمل الاستعارة فإنهم كانوا مبالغين في الكذب مبالغة المغالبين فيه وعلى المعنيين كونه بمعنى الكذب وكونه بمعنى المكاذبة يجوز أن يكون حالا بمعنى كاذبين أو مكاذبين على اعتبار المشاركة وعدم اعتبارها. وقرأ عمر بن عبد العزيز والماجشون «كذّابا» بضم الكاف وتشديد الذال وخرج على أنه جمع كاذب كفساق جمع فاسق فيكون حالا أيضا وكذبوا في حال كذبهم نظير إذا جاء حين يأتي على ما قيل في قوله طرفة: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 216 إذا جاء ما لا بد منه فمرحبا ... به حين يأتي لا كذاب ولا علل وفيه بحث ظاهر وجوز أن يكون مفردا صيغة مبالغة ككبار وحسان فيكون صفة لمصدر محذوف أي تكذيبا كذابا فيفيد المبالغة والدلالة على الإفراط في الكذب لأنه كليل أليل وظلام مظلم والإسناد فيه مجازي وَكُلَّ شَيْءٍ من الأشياء التي من جملتها أعمالهم. وقال أبو حيان: أي كل شيء مما يقع عليه الثواب والعقاب فهو عام مخصوص وانتصابه بمضمر يفسره أَحْصَيْناهُ أي حفظناه وضبطناه. وقرأ أبو السمال بالرفع على الابتداء كِتاباً مصدر مؤكد ل أَحْصَيْناهُ فإن الإحصاء والكتب يتشاركان في معنى الضبط فأما أن يؤول أَحْصَيْناهُ بكتبناه أو كِتاباً بإحصاء، وجوز الاحتباك على الحذفين من الطرفين أو حال بمعنى مكتوبا في اللوح أو صحف الحفظة. والظاهر أن الكلام على حقيقته. وقال بعضهم: الظاهر أنه تمثيل لصورة ضبط الأشياء في علمه تعالى بضبط المحصي المجد المتقن للضبط بالكتابة وإلّا فهو عز وجل مستغن عن الضبط بالكتابة وهذا التمثيل لتفهيمنا وإلّا فالانضباط في علمه تعالى أجل وأعلى من أن يمثل بشيء والمشهور عند أهل السنة ما قدمنا وليس ذلك للاحتياج وإنما هو لحكم تقصر عنها العقول والجملة اعتراض لتأكيد الوعيد السابق بأن ذلك كائن لا محالة لا حق بهم لأنّ معاصيهم مضبوطة مكتوبة يكفحون بها يوم الجزاء. وقيل لتأكيد كفرهم وتكذيبهم بالآيات بأنهما محفوظان للجزاء وليس بذاك. وقال البعض: الأوجه عندي أن كل شيء منصوب بالعطف على اسم إن في إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً وأَحْصَيْناهُ كِتاباً عطف على خبره والرفع على العطف على محل اسم إن، والجمل بيان لكون الجزاء المذكور موافقا لأعمالهم لأن الجزاء الموافق إنما يكون لصدور أفعال موجبة له عنهم وضبطها وعدم فوتها على المجازي فالجملتان الأوليان لإفادة صدور الموجب وهو الكفر المعبر عنه بعدم رجاء الحساب والتكذيب بالآيات لما أن ذلك كالعلم فيه والأخيرة لإفادة الضبط وعدم الفوت أي مع إدماج الإشارة إلى باقي المعاصي فيها وليست اعتراضا انتهى. ولا يخفى ما فيه من التكلف فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً مسبب عن كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات وتسبب الذوق والأمر به في غاية الظهور. وقيل: الأظهر أنه مرتبط بقوله تعالى: لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً إلخ أي إذا ذاقوا الحميم والغساق فيقال لهم فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إلخ. وحينئذ الجمل بينهما اعتراضية وفيه أنه في غاية البعد مع ما فيه من كثرة الاعتراض ومجيئه على طريق الالتفات للمبالغة لتقدير إحضارهم وقت الأمر ليخاطبوا بالتقريع والتوبيخ وهو أعظم في الإهانة والتحقير ولو قدر القول فيه لم يكن هناك التفات. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن الحسن قال: سألت أبا برزة الأسلمي عن أشد آية في كتاب الله تعالى على أهل النار، فقال: قول الله تعالى فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً ووجه الأشدية على ما قيل إنه تقريع في يوم الفصل وغضب من أرحم الراحمين وتأييس لهم مع ما في لن أي على القول بإفادتها التأبيد من أن ترك الزيادة كالمحال الذي لا يدخل تحت الصحة. وقيل: يحتمل أن يكون المراد أنه أشد حجج القرآن على أهل النار فإنه إذا بلغهم في الدنيا هذا الوعيد ولم يخافوا منه فقد قبلوا العذاب الأبدي في مقابلة الكفر فلا عذر لهم يوم القيامة في الحكم عليهم بخلود النار، وفيه من البعد ما فيه. واستشكل أمر زيادة العذاب بمنافاتها كون الجزء موافقا للأعمال وأجيب بأنها لحفظ الأصل إذ لولاها لألفوا ما أصابهم من العذاب أول مرة ولم يتألموا به وهو كما ترى. وقيل: إن العذاب لما كان للكفر والمعاصي وهي متزايدة في القبح في كل آن فالكفر مثلا في الزمن الثاني أقبح منه في الزمن الأول وهكذا، وعلم الله تعالى منهم لسوء استعدادهم استمرارهم على ذلك اقتضى ذلك زيادة العذاب وشدته يوما فيوما وقيل: لما كان كفرهم أعظم كفر اقتضى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 217 أشد عذاب والعذاب المزاد يوما فيوما من أشد العذاب وقيل غير ذلك فليتأمل. إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً شروع في بيان محاسن أحوال المؤمنين أثر بيان سوء أحوال الكافرين ومَفازاً مصدر ميمي أو اسم مكان أي إن للذين يتقون عمل الكفر فوزا وظفرا بمساعيهم أو موضع فوز وقيل نجاة مما فيه أولئك أو موضع نجاة حَدائِقَ بدل اشتمال من مَفازاً على الأول وبدل البعض على الثاني والرابط مقدر وتقديره حدائق فيه أو هي في محله أو نحو ذلك، وجوز أن يكون بدل كل على الادعاء أو منصوبا بأعني مقدرا وهو جمع حديقة بستان فيها أنواع الشجر المثمر زاد بعضهم والرياحين والزهر. وقال الراغب: قطعة من الأرض ذات ماء سميت بذلك تشبيها بحدقة العين في الهيئة وحصول الماء فيها وكأنه أراد ذات ماء وشجر وَأَعْناباً جمع عنب ويقال للكرم نفسه ولثمرته والمتبادر عطفه على حدائق قبله وهو بعض منها إذا أريد به الكروم وبها الأشجار وموضعها وخص بالذكر اعتناء به، وأما إن أريد به الكروم وبها الموضع فقط فلا ويتعين الاشتمال كما إذا أريد به ثمرات الكروم وجوز أن يكون هو وكذا ما بعد عطفا على مَفازاً وَكَواعِبَ جمع كاعب وهي المرأة التي تكعّب ثدياها واستدار مع ارتفاع يسير ويكون ذلك في سن البلوغ وأحسن التسوية أَتْراباً أي لدات ينشأن معا تشبيها في التساوي والتماثل بالترائب التي هي ضلوع الصدر أو لوقوعهن معا على التراب أي الأرض. وفي بعض التفاسير نساء الجنة كلهن بنات ست عشرة سنة ورجالهن أبناء ثلاث وثلاثين وَكَأْساً دِهاقاً أي مترعة. يقال: دهق فلان الحوض وأدهقه أي ملأه وروي عن ابن عباس أنه فسره بذلك وأنشد قوله الشاعر: أتانا عامر يبغي قرانا ... فأترعنا له كأسا دهاقا وفي البحر الدهاق الملأى مأخوذ من الدهق وهو ضغط الشيء وشده باليد كأنه لامتلائه انضغط. وعن مجاهد وجماعة تفسيره بالمتتابعة، وصحح الحاكم عن ابن عباس ما رواه غير واحد أنه قال: هي الممتلئة المترعة المتتابعة وربما سمعت العباس يقول: يا غلام اسقنا وادهق لنا. وأخرج ابن جرير عن عكرمة أنه قال: أي صافية ولا يخلو عن كدر والجمهور على الأول لا يَسْمَعُونَ فِيها أي في الجنة وقيل في الكأس وجعلت الفاء للسببية لَغْواً هو ما لا يعتد به من الكلام وهو على ما قال الراغب الذي يورد لا عن روية وفكر فيجري مجرى اللغا وهو صوت العصافير ونحوها من الطير وقد يسمى كل كلام قبيح لغوا وكذا ما لا يعتد به مطلقا وَلا كِذَّاباً أي تكذيبا وقرىء بالتخفيف أي «كذابا» أو «مكاذبة» وقد تضمنت هذه المذكورات أنواعا من الذات الحسية كما لا يخفى جَزاءً مِنْ رَبِّكَ مصدر مؤكد منصوب بمعنى إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً فإنه في قوة أن يقال جازى المتقين بمفازا جزاء كائنا من ربك، والتعرض لعنوان الربوبية للإشارة إلى أن ذلك حصل بترتيبه وإرشاده تعالى وإضافة الرب إلى ضميره عليه الصلاة والسلام دونهم لتشريفه صلّى الله تعالى عليه وسلم. وقيل: لم يقل: «من ربهم» لئلا يحمله المشركون على أصنامهم وهو بعيد جدا ويعلم مما ذكرنا وجه ترك مِنْ رَبِّكَ فيما تقدم من قوله تعالى جَزاءً وِفاقاً وعدم التعرض هناك لنسبة الجزاء إليه تعالى بعنوان آخر قيل من باب: «اللهم إن الخير بيديك والشر ليس إليك» وقوله تعالى عَطاءً أي تفضلا وإحسانا منه عز وجل إذ لا يجب عليه سبحانه شيء بدل من جزاء، فمعنى كونه جزاء أنه كذلك بمقتضى وعده جل وعلا. وجوز أن يكون نصبا بجزاء نصب المفعول به. وتعقبه أبو حيان بأن جَزاءً مصدر مؤكد لمضمون الجملة والمصدر المؤكد لا يعمل بلا خلاف لعلمه عند النحاة لأنه لا ينحل لفعل وحرف مصدري ورد بأن ذلك إذا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 218 كان الناصب للمفعول المطلق مذكورا أما إذا حذف مطلقا ففيه خلاف هل هو العالم أو الفعل. وقال الشهاب: الحق ما قال أبو حيان لأن المذكور هنا هو المصدر المؤكد لنفسه أو لغيره والذي اختلف فيه النحاة هو المصدر الآتي بدلا من اللفظ بفعله: كندل زريق المال ندل الثعالب وقوله: يا قابل التوب غفرانا مآثم قد ... أسلفتها أنا منها خائف وجل فليعرف. وقوله تعالى حِساباً صفة عطاء بمعنى كافيا على أنه مصدر أقيم مقام الوصف أو بولغ فيه أو هو على تقدير مضاف وهو مأخوذ من قولهم أحسبه الشيء إذا كفاه حتى قال: حسبي، وقيل على حسب أعمالهم أي مقسطا على قدرها. وروي ذلك عن مجاهد وكأن المراد مقسطا بعد التضعيف على ذلك فيندفع ما قيل إنه غير مناسب لتضعيف الحسنات ولذا لم يقل وِفاقاً كما في السابق. ودفع أيضا بأن هذا بيان لما هو الأصل لا للجزاء مطلقا وقيل: المعنى عطاه مفروغا عن حسابه لا كنعم الدنيا وتعقب بأنه بعيد عن اللفظ مع ما فيه من الإيهام. وقرأ ابن قطيب «حسّابا» بفتح الحاء وشد السين قال ابن جني بنى فعالا من أفعل كدراك من أدرك فمعناه محسبا أي كافيا. ومنع بعضهم مجيء فعالا من الأفعال ودراك من درك فليحرر. وقرأ شريح بن يزيد الحمصي وأبو البرهسم بكسر الحاء وشد السين على أن مصدر ككذاب. وقرأ ابن عباس «حسنا» بالنون من الحسن وحكى المهدوي «حسبا» بفتح الحاء وسكون السين والباء الموحدة نحو قولك حسبك كذا أي كافيك رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا بدل من لفظ رَبِّكَ وفي إبداله تعظيم لا يخفى وإيماء على ما قيل إلى ما روي في كتب الصوفية من الحديث القدسي: «لولاك لما خلقت الأفلاك» وقوله تعالى الرَّحْمنِ صفة لربك أو لرب السماوات على الأصح عند المحققين من جواز وصف المضاف إلى ذي اللام بالمعرف بها وجوز أن يكون عطف بيان وهل يكون بدلا من لفظ رَبِّكَ؟ قال في البحر: فيه نظر لأن الظاهر أن البدل لا يتكرر. وقوله تعالى لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً استئناف مقرر لما إفادته الربوبية العامة من غاية العظمة واستقلالا له تعالى بما ذكر من الجزاء والعطاء من غير أن يكون لأحد قدرة عليه والقراءة كذلك مروية عن عبد الله وابن أبي إسحاق والأعمش وابن محيصن وابن عامر وعاصم. وقرأ الأعرج وأبو جعفر وشيبة وأبو عمرو والحرميان برفع الاسمين فقيل على أنهما خبران لمبتدأ مضمر أي هو رب السماوات إلخ. وقيل الأول هو الخبر والثاني صفة له أو عطف بيان وقيل الأول مبتدأ والثاني خبره ولا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خبر آخر أو هو الخبر والثاني نعت للأول أو عطف بيان وقيل لا يَمْلِكُونَ حال لازمة. وقيل: الأول مبتدأ أول، والثاني مبتدأ ثان ولا يَمْلِكُونَ خبره والجملة خبر للأول وحصل الربط بتكرير المبتدأ بمعناه على رأي من يقول به، واختير أن يكون كلاهما مرفوعا على المدح أو يكون الثاني صفة للأول ولا يَمْلِكُونَ استئنافا على حاله لما في ذلك من توافق القراءتين معنى. وقرأ الأخوان والحسن وابن وثاب والأعمش وابن محيصن بخلاف عنهما بجر الأول على ما سمعت ورفع الثاني على الابتداء والخبر ما بعده أو على أنه خبر لمبتدأ مضمر وما بعده استئناف أو خبر ثان، وضمير لا يَمْلِكُونَ لأهل السماوات والأرض ومِنْهُ بيان ل خِطاباً مقدم عليه أي لا يملكون أن يخاطبوه تعالى من تلقاء أنفسهم كما ينبىء عنه لفظ الملك خطابا ما في شيء ما والمراد نفي قدرتهم على أن يخاطبوه عز وجل بشيء من نقص العذاب أو زيادة الثواب من غير إذنه تعالى على الجزء: 15 ¦ الصفحة: 219 أبلغ وجه وآكده، وجوز أن يكون منه صلة يَمْلِكُونَ ومن ابتدائية والمعنى لا يملكون من الله تعالى خطابا واحدا أي لا يملكهم الله تعالى ذلك فلا يكون في أيديهم خطاب يتصرفون فيه تصرف الملاك فيزيدون في الثواب أو ينقصون من العقاب، وهذا كما تقول: ملكت منه درهما وهو أقل تكلفا وأظهر من جعل مِنْهُ حالا من خِطاباً مقدما وإضمار مضاف أي خطابا من خطاب الله تعالى فيكون المعنى لا يملكون خطابا واحدا من جملة ما يخاطب به الله تعالى ويأمر به في أمر الثواب والعقاب. وظاهر كلام البيضاوي حمل الخطاب على خطاب الاعتراض عليه سبحانه في ثواب أو عقاب ومنه على ما سمعت منا أولا لا يملكون خطابه تعالى والاعتراض عليه سبحانه في ثواب أو عقاب لأنهم مملوكون له عز وجل على الإطلاق فلا يستحقون عليه سبحانه اعتراضا أصلا. وأيّا ما كان فالآية لا تصلح دليلا على نفي الشفاعة بإذنه عز وجل. وعن عطاء عن ابن عباس أن ضمير لا يَمْلِكُونَ للمشركين وعدم الصلاحية عليه أظهر. يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا قيل الرُّوحُ خلق أعظم من الملائكة وأشرف منهم وأقرب من رب العالمين، وقيل: هو ملك ما خلق الله عز وجل بعد العرش خلقا أعظم منه. عن ابن عباس أنه إذا كان يوم القيامة قام هو وحده صفا والملائكة صفا. وعن الضحاك أنه لو فتح فاه لوسع جميع الملائكة عليهم السلام. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «الروح جند من جنود الله تعالى ليسوا ملائكة لهم رؤوس وأيد وأرجل» . وفي رواية: «يأكلون الطعام» ثم قرأ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا وقال: «هؤلاء جند وهؤلاء جند» وروي القول بهذا عن مجاهد وأبي صالح. وقيل: هم أشراف الملائكة وقيل: هم حفظة الملائكة، وقيل: ملك موكل على الأرواح قال في الأحياء: الملك الذي يقال له الروح هو الذي يولج الأرواح في الأجسام فإنه يتنفس فيكون في كل نفس من أنفاسه روح في جسم وهو حق يشاهده أرباب القلوب ببصائرهم. وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك أنه جبريل عليه السلام وهو قول لابن عباس فقد أخرج هو عنه أيضا أنه قال: إن جبريل عليه السلام يقوم القيامة لقائم بين يديّ الجبار ترعد فرائصه فرقا من عذاب الله تعالى يقول: سبحانك لا إله إلّا أنت ما عبدناك حق عبادتك وإن ما بين منكبيه كما بين المشرق والمغرب أما سمعت قول الله تعالى يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا وفي رواية البيهقي في الأسماء والصفات عنه أن المراد به أرواح الناس وأن قيامها مع الملائكة فيما بين النفختين قبل أن ترد إلى الأجساد وهو خلاف الظاهر في الآية جدا ولعله لا يصح عن الحبر. وقيل: القرآن وقيامه مجاز عن ظهور آثاره الكائنة عن تصديقه أو تكذيبه وفيه الجمع بين الحقيقة والمجاز مع ما لا يخفى ولم يصح عندي فيه هنا شيء ويَوْمَ ظرف لـ لا يَمْلِكُونَ وصَفًّا حال أي مصطفين قيل هما صفان الروح صف واحد أو متعدد والملائكة صف آخر، وقيل صفوف وهو الأوفق لقوله تعالى وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22] وقيل يوم يقوم الروح والملائكة الكل صفا واحدا وجوز أن يكون ظرفا لقوله تعالى لا يَتَكَلَّمُونَ وقوله سبحانه إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً بدل من ضمير لا يَتَكَلَّمُونَ وهو عائد إلى أهل السماوات والأرض الذين من جملتهم الروح والملائكة وذكر قيامهم مصطفين لتحقيق عظمة سلطانه تعالى وكبرياء ربوبيته عز وجل وتهويل يوم البعث الذي عليه مدار الكلام من مطلع السورة الكريمة إلى مقطعها. والجملة استئناف مقرر لمضمون قوله تعالى لا يَمْلِكُونَ إلخ ومؤكد له على معنى أن أهل السماوات والأرض إذا لم يقدروا حينئذ أن يتكلموا بشيء من جنس الكلام إلّا من أذن الله تعالى له منهم في التكلم مطلقا وقال ذلك المأذون له بعض. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 220 الإذن في مطلق التكلم قولا صوابا أي حقا من الشفاعة لمن ارتضى فكيف يملكون خطاب رب العزة جل جلاله مع كونه أخص من مطلق الكلام وأعز منه مراما. وجوز أن يكون ضمير لا يَتَكَلَّمُونَ إلى الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ والكلام مقرر لمضمون قوله تعالى لا يَمْلِكُونَ إلخ أيضا لكن على معنى أن الروح والملائكة مع كونهم أفضل الخلائق وأقربهم من الله تعالى إذا لم يقدروا أن يتكلموا بما هو صواب من الشفاعة لمن ارتضى إلا بإذنه فكيف يملكه غيرهم وذكر بعض أهل السنة فتعقب بأنه مبني على مذهب الاعتزال من كون الملائكة عليهم السلام أفضل من البشر مطلقا. وأنت تعلم أن من أهل السنة أيضا من ذهب إلى هذا كأبي عبد الله الحليمي والقاضي أبي بكر الباقلاني والإمام الرازي. ونسب إلى القاضي البيضاوي وكلامه في التفسير هنا لا يخلو عن إغلاق وتصدي من تصدى لتوجيهه وأطالوا في ذلك على أن الخلاف في أفضليتهم بمعنى كثرة الثواب وما يترتب عليها من كونهم أكرم على الله تعالى وأحبهم إليه سبحانه لا بمعنى قرب المنزلة ودخول حظائر القدس ورفع ستارة الملكوت بالاطلاع على ما غاب عنا. والمناسبة في النزاهة وقلة الوسائط ونحو ذلك فإنهم بهذا الاعتبار أفضل بلا خلاف وكلام ذلك البعض يحتمل أن يكون مبنيا عليه وهذا كما نشاهده من حال خدام الملك وخاصة حرمه فإنهم أقرب إليه من وزرائه والخارجين من أقربائه وليسوا عنده بمرتبة واحدة وإن زادا في التبسط والدلال عليه. وعن ابن عباس أن ضمير لا يَتَكَلَّمُونَ للناس وجوز أن يكون إِلَّا مَنْ أَذِنَ إلخ منصوبا على أصل الاستثناء والمعنى لا يتكلمون إلّا في حق شخص أذن له الرحمن. وقال ذلك الشخص في الدنيا صوابا أي حقا هو التوحيد وقول لا إله إلا الله كما روي عن ابن عباس وعكرمة وعليه قيل: يجوز أن يكون قالَ صَواباً في موضع الحال ممن بتقدير قد أو بدونه لا عطفا على أَذِنَ ومن الناس من جوز الحالية على الوجه الأول أيضا لكن من ضمير يَتَكَلَّمُونَ باعتبار كل واحد أو باعتبار المجموع وظن أن قول بعضهم المعنى لا يتكلمون بالصواب إلّا بإذنه لا يتم بدون ذلك وفيه ما فيه. وقيل: جملة لا يَتَكَلَّمُونَ حال من الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ أو من ضميرهم في صَفًّا والجمهور على ما تقدم وإظهار الرحمن في موقع الإضمار للإيذان بأن مناط الإذن هو الرحمة البالغة لا أن أحدا يستحقه عليه سبحانه وتعالى كما أن ذكره فيما تقدم بالإشارة إلى أن الرحمة مناط تربيته عز وجل. ذلِكَ إشارة إلى يوم قيامهم على الوجه المذكور وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان بعلو درجته وبعد منزلته في الهول والفخامة ومحله الرفع على الابتداء خبره قوله تعالى الْيَوْمُ الموصوف بقوله سبحانه الْحَقُّ أو هو الخير واليوم بدل أو عطف بيان والمراد بالحق الثابت المتحقق أي ذلك اليوم الثابت الكائن لا محالة والجملة مؤكدة لما قبل ولذا لم تعطف والفاء في قوله عز وجل فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً فصيحة تفصح عن شرط محذوف، ومفعول المشيئة محذوف دل عليه الجزاء وإِلى رَبِّهِ متعلق بما تقدم عليه اهتماما به ورعاية للفواصل كأنه قيل وإذا كان الأمر كما ذكر من تحقق الأمر المذكور لا محالة فمن شاء أن يتخذ مرجعا إلى ثواب ربه الذي ذكر شأنه العظيم فعل ذلك بالإيمان والطاعة وقال قتادة فيما رواه عنه عبد بن حميد وعبد الرزاق وابن المنذر مَآباً أي سبيلا وتعلق الجار به لما فيه من معنى الإفضاء والإيصال والأول أظهر. وتقدير المضاف أعني الثواب قيل لاستحالة الرجوع إلى ذاته عز وجل وقيل لأن رجوع كل أحد إلى ربه سبحانه ليس بمشيئته إذ لا بد منه شاء أم لا، والمعلق بالمشيئة الرجوع إلى ثوابه تعالى فإن العبد مختار في الإيمان والطاعة ولا ثواب بدونهما وقيل لتقدم قوله تعالى لِلطَّاغِينَ مَآباً فإن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 221 لهم مرجعا لله تعالى أيضا لكن للعقاب لا للثواب ولكل وجهة إنَّا أَنْذَرْناكُمْ:أي بما ذكر في السورة من الآيات الناطقة بالبعث بما فيه وما بعده من الدواهي أو بها وبسائر القوارع الواردة في القرآن العظيم عذاباً قَرِيباً: هو عذاب الآخرة وقربه لتحقق إتيانه فقد قيل ما أبعد ما فات وما أقرب ما هو آت أو لأنه قريب بالنسبة إليه عز وجل، أو يقال: البرزخ داخل في الآخرة ومبدؤه الموت وهو قريب حقيقة كما لا يخفى على من عرف القرب والبعد. وعن قتادة هو عقوبة الذنب لأنه أقرب العذابين. وعن مقاتل هو قتل قريش يوم بدر وتعقب بأنه يأباه قوله تعالى "يوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ " فإن الظاهر أنه ظرف لمضمر هو صفة عذاباً أي عذابا كائنا يوم إلخ. وليس ذلك اليوم إلّا يوم القيامة وكذا على ما قيل من أنه بدل من عذاباً أو ظرف لـ قرِيباً وعلى هذا الأخير قيل لا حاجة إلى توجيه القرب لأن العذاب في ذلك اليوم قريب لا فاصل بينه وبين المرء، ونظر فيه بأن الظاهر جعل المنذر به قريبا في وقت الإنذار لأنه المناسب للتهديد والوعيد إذ لا فائدة في ذكر قربه منهم يوم القيامة فإذا تعلق به فالمراد بيان قرب اليوم نفسه فتأمل. والظاهر أنْ المَرْءُ عام للمؤمن والكافر و"ما" موصولة منصوبة بـ ينْظُرُ والعائد محذوف والمراد يوم يشاهد المكلف المؤمن والكافر ما قدمه من خير أو شر وجوز أن تكون ما استفهامية منصوبة بـ قدَّمَتْ أي ينظر أي شيء قدمت يداه والجملة معلق عنها لأن النظر طريق العلم والكلام في قوله ينْظُرُ جواب ما قدمت يداه وفي الكلام على ما ذكره العلامة التفتازاني تغليب ما وقع بوجه مخصوص على ما وقع بغير هذا الوجه حيث ذكر اليدان لأن أكثر الأعمال تزاول بهما فجعل الجميع كالواقع بهما تغليبا. وقرأ ابن أبي إسحاق «المرء» بضم الميم وضعفها أبو حاتم ولا ينبغي أن تضعف لأنها لغة بعض العرب يتبعون حركة الهمزة فيقولون مرء ومرأ ومرء على حسب الإعراب ويَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً تخصيص لأحد الفريقين اللذين تناولهما المرء فيما قبل منه بالذكر وخص قول الكافر دون المؤمن لدلالة قوله على غاية الخيبة ونهاية التحسر ودلالة حذف قول المؤمنين على غاية التبجح ونهاية الفرح والسرور. وقال عطاء "الْمَرْءُ" هنا الكافر لقوله تعالى: إ نَّا أَنْذَرْناكُمْ وكان الظاهر عليه الضمير فيما بعد إلّا أنه وضع الظاهر موضعه لزيادة الذم. وفيه أن تناول الفريقين هو المطابق لما سبق من صف يوم مفصل لما اشتمل على حالهما وهم الوجه لقوله تعالى فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً و"إنَّا أَنْذَرْناكُمْ " لا يخص الكافر لأن الإنذار عام للفريقين أيضا فلا دلالة على الاختصاص. وقال ابن عباس وقتادة والحسن: المراد به المؤمن، قال الإمام دل عليه قول الكافر فيما كان هذا بيانا لحال الكافر وجب أن يكون الأول بيانا لحال المؤمن، ولا يخفى ما فيه من الضعف كاستدلال الرياشي بالآية على أن المرء لا يطلق إلّا على المؤمن وأراد الكافر بقوله هذا يا ليْتَنِي كُنْتُ تُراباً في الدنيا فلم أخلق ولم أكلف، أو ليتني كنت ترابا في هذا اليوم فلم أبعث. وعن ابن عمر وأبي هريرة ومجاهد أن الله تعالى يحضر البهائم فيقتص لبعضها من بعض ثم يقول سبحانه لها كوني ترابا فيعود جميعها ترابا فإذا رأى الكافر ذلك تمنى مثله. وإلى حشر البهائم والاقتصاص لبعضها من بعض ذهب الجمهور وسيأتي الكلام في ذلك في سورة التكوير إن شاء الله تعالى. وقيل: الكافر في الآية إبليس عليه اللعنة لما شاهد آدم عليه الصلاة والسلام ونسله المؤمنين وما لهم من الثواب تمنى أن يكون ترابا لأنه احتقره لما قال "خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ" [الأعراف: 12، ص: 76] وهو بعيد عن السياق وإن كان حسنا. والتراب على جميع ما ذكر بمعناه المعروف والكلام على ظاهره وحقيقته وجوز لا سيما على الأخير أن يكون المراد بقول ليتني كنت في الدنيا متواضعا لطاعة الله تعالى لا جبارا ولا متكبرا والمعول عليه ما تقدم كما لا يخفى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 222 سورة النّازعات وتسمى سورة الساهرة والطامة وهي مكية بالاتفاق وعدد آيها ست وأربعون في الكوفي وخمس وأربعون في غيره. وعن ابن عباس أنها نزلت عقب سورة عم وأولها يشبه أن يكون قسما لتحقيق ما في آخر عم أو ما تضمنته كلها وفي البحر لما ذكر سبحانه في آخر ما قبلها الإنذار بالعذاب يوم القيامة أقسم عز وجل في هذه على البعث ذلك اليوم فقال جل شأنه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً إقسام من الله تعالى بطوائف من ملائكة الموت عليهم السلام الذين ينزعون الأرواح من الأجساد على الإطلاق كما في رواية عن ابن عباس ومجاهد، أو أرواح الكفرة على ما أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه وجويبر في تفسيره عن الحبر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود وعبد بن حميد عن قتادة. وروي عن سعيد بن جبير ومسروق وينشطونها أي يخرجونها من الأجساد من نشط الدلو من البئر إذا أخرجها ويسبحون في إخراجها سبح الذي يخرج من البحر ما يخرج فيسبقون ويسرعون بأرواح الكفرة إلى النار وبأرواح المؤمنين إلى الجنة فيدبرون أمر عقابها وثوابها بأن يهيئوها لإدراك ما أعد لها من الآلام واللذات. ومال بعضهم إلى تخصيص النزع بأرواح الكفار والنشط والسبح بأرواح المؤمنين لأن النزع جذب الجزء: 15 ¦ الصفحة: 223 بشدة وقد أردف بقوله تعالى غَرْقاً وهو مصدر مؤكد بحذف الزوائد أي إغراقا في النزع من أقاصي الأجساد. وقيل: هو نوع، والنزع جنس أي في هذا المحل وذلك أنسب بالكفار. وقال ابن مسعود: تنزع الملائكة روح الكفار من جسده من تحت كل شعرة ومن تحت الأظافر وأصول القدمين ثم تغرقها في جسده ثم تنزعها حتى إذا كادت تخرج يردها في جسده وهكذا مرارا فهذا عملها في الكفار. والنشط الإخراج برفق وسهولة وهو أنسب بالمؤمنين وكذا السبح ظاهر في التحرك برفق ولطافة. قال بعض السلف: إن الملائكة يسلون أرواح المؤمنين سلا رقيقا ثم يتركونها حتى تستريح رويدا ثم يستخرجونها برفق ولطف كالذي يسبح في الماء فإنه يتحرك برفق لئلا يغرق فهم يرفقون في ذلك الاستخراج لئلا يصل إلى المؤمن ألم وشدة وفي التاج إن النشط حل العقدة برفق ويقال كما في البحر: أنشطت العقال ونشطته إذا مددت أنشوطته فانحلت، والأنشوطة عقدة يسهل انحلالها إذا جذبت كعقدة التكة فإذا جعلت النَّاشِطاتِ من النشط بهذا المعنى كان أوفق للإشارة إلى الرفق والعطف مع اتحاد الكل لتنزيل التغاير العنواني منزلة التغاير الذاتي كما مر غير مرة للإشعار بأن كل واحد من الأوصاف المعدودة من معظمات الأمور حقيق بأن يكون على حياله مناطا لاستحقاق موصوفة للإجلال والإعظام بالإقسام به من غير انضمام الأوصاف الأخر إليه. ولو جعلت النَّازِعاتِ ملائكة العذاب والنَّاشِطاتِ ملائكة الرحمة كان العطف للتغاير الذاتي على ما هو الأصل والفاء في الأخيرين للدلالة على ترتبهما على ما قبلهما بغير مهلة. وانتصاب نَشْطاً وسَبْحاً وسَبْقاً على المصدرية كانتصاب غَرْقاً وأما انتصاب أَمْراً فعلى المفعولية للمدبرات لا على نزع الخافض أي بأمر منه تعالى كما قيل. وزعم أنه الأولى وتنكيره للتهويل والتفخيم. وجوز أن يكون غَرْقاً مصدرا مؤولا بالصفة المشبهة ونصبه على المفعولية أيضا للنازعات أو صفة للمفعول به لها أي نفوسا غرقة في الأجساد. وحمل بعضهم غرقها فيها بشدة تعلقها بها وغلبة صفاتها عليها وكان ذلك مبني على تجرد الأرواح كما ذهب إليه الفلاسفة وبعض أجلة المسلمين. هذا ولم نقف على نص في أن الملائكة حال قبض الأرواح وإخراجها هل يدخلون في الأجساد أم لا. وظاهر تفسير النَّاشِطاتِ أنهم حالة النزع خارج الجسد كالواقف والسَّابِحاتِ دخولهم فيه لإخراجها على ما قيل وأنت تعلم أن السبح ليس على حقيقته ولا مانع من أن يراد به مجرد الاتصال ونحوه مما لا توقف له على الدخول. وجوز أن يكون المراد بالسابحات وما بعدها طوائف من الملائكة يسبحون في مضيهم فيسبقون فيه إلى ما أمروا به من الأمور الدنيوية والأخروية فيدبرون أمره من كيفيته وما لا بد منه فيه ويعم ذلك ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، والعطف عليه لتغاير الموصوفات كالصفات، وأيّا ما كان فجواب القسم محذوف يدل عليه ما بعد من أحوال القيامة ويلوح إليه الأقسام المذكورة والتقدير والنَّازِعاتِ إلخ لتبعثن وإليه ذهب الفراء وجماعة. وقيل: إقسام بالنجوم السيارة التي تنزع أي تسير من نزع الفرس إذا جرى من المشرق إلى المغرب غرقا في النزع وجدّا في السير بأن تقطع الفلك على ما يبدو للناس حتى تنحط في أقصى الغرب وتنشط من برج إلى برج أي تخرج من نشط الثور إذا خرج من مكان إلى مكان آخر ومنه قول هميان بن قحافة: أرى همومي تنشط المناشطا ... الشام بي طورا وطورا واسطا وتسبح في الفلك فيسبق بعضها في السير لكونه أسرع حركة فتدبر أمرا نيط بها كاختلاف الفصول وتقدير الأزمنة وظهور مواقيت العبادات والمعاملات المؤجلة ولما كانت حركاتها من المشرق إلى المغرب الجزء: 15 ¦ الصفحة: 224 سريعة قسرية وتابعة لحركة الفلك الأعظم ضرورة وحركاتها من برج إلى برج بإرادتها من غير قسر لها وهي غير سريعة أطلق على الأولى النزع لأنه جذب بشدة، وعلى الثانية النشط لأنه برفق وروي حمل النَّازِعاتِ على النجوم عن الحسن وقتادة والأخفش وابن كيسان وأبي عبيدة وحمل الناشطات عليها عن ابن عباس والثلاثة الأول وحمل السَّابِحاتِ عليها عن الأولين وحملها أبو روق على الليل والنهار والشمس والقمر منها والمدبرات عليها من معاذ وإضافة التدبير إليها مجاز وقيل: إقسام بالنفوس الفاضلة حالة المفارقة لا بد أنها بالموت فإنها تنزع عن الأبدان غرقا أي نزعا شديدا من أغرق النازع في القوس إذا بلغ غاية المدى حتى ينتهي إلى النصل لعسر مفارقتها إياها حيث ألفنه وكان مطية لها لاكتساب الخير ومظنة لازدياده فتنشط شوقا إلى عالم الملكوت وتسبح به فتسبق به إلى حظائر القدس فتصير لشرفها وقوتها من المدبرات أي ملحقة بالملائكة أو تصلح هي لأن تكون مدبرة كما قال الإمام إنها بعد المفارقة قد تظهر لها آثار وأحوال في هذا العالم فقد يرى المرء شيخه بعد موته فيرشده لما يهمه. وقد نقل على جالينوس أنه مرض مرضا عجز عن علاجه الحكماء فوصف له في منامه علاجه فأفاق وفعله فأفاق وقد ذكره الغزالي ولذا قيل: وليس بحديث كما توهم «إذا تحيرتم في الأمور فاستعينوا من أصحاب القبور» أي أصحاب النفوس الفاضلة المتوفين ولا شك في أنه يحصل لزائرهم مدد روحاني ببركتهم، وكثيرا ما تنحل عقد الأمور بأنامل التوسل إلى الله تعالى بحرمتهم. وحمله بعضهم على الأحياء منهم الممتثلين أمر موتوا وقبل أن تموتوا. وتفسير النَّازِعاتِ بالنفوس مروي عن السدّي إلّا أنه قال: هي جماعة النفوس تنزع بالموت إلى ربها والنَّاشِطاتِ بها عن ابن عباس أيضا إلّا أنه قال: هي النفوس المؤمنة تنشط عند الموت للخروج والسابقات بها عن ابن مسعود إلّا أنه قال: هي أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة عليهم السلام الذين يقبضونها وقد عاينت السرور شوقا إلى لقاء الله تعالى وقيل: إقسام بالنفوس حال سلوكها وتطهير ظاهرها وباطنها بالاجتهاد في العبادة والترقي في المعارف الإلهية فإنها تنزع عن الشهوات وتنشط إلى عالم القدس فتسبح في مراتب الارتقاء فتسبق إلى الكمالات حتى تصير من المكملات للنفوس الناقصة. وقيل: إقسام بأنفس الغزاة أو أيديهم تنزع القسي بإغراق السهام وتنشط بالسهم للرمي وتسبح في البر والبحر فتسبق إلى حرب العدو فتدبر أمرها. وإسناد السبح وما بعده إلى الأيدي عليه مجاز للملابسة وحمل النَّازِعاتِ على الغزاة مروي عن عطاء إلّا أنه قال: هي النازعات بالقسي وغيرها، وقيل: بصفات خيلهم فإنها تنزع في أعنتها غرقا أي تمد أعنتها مدّا قويا حتى تلصقها بالأعناق من غير ارتخائها فتصير كأنها انغمست فيها، وتخرج من دار الإسلام إلى دار الكفر وتسبح في جريها فتسبق إلى العدو فتدبر أمر الظفر وإسناد التدبير إليها إسناد إلى السبب. وحمل السَّابِحاتِ على الخيل مروي عن عطاء أيضا وجماعة، ولا يخفى أن أكثر هذه الأقوال لا يليق بشأن جزالة التنزيل وليس له قوة مناسبة للمقام ومنها ما فيه قول بما عليه أهل الهيئة المتقدمون من الحركة الإرادية للكوكب وهي حركته الخاصة ونحوها مما ليس في كلام السلف ولم يتم عليه برهان. ولذا قال بخلافه المحدثون من الفلاسفة وفي حمل «المدبرات» على النجوم إيهام صحة ما يزعمه أهل الأحكام وجهلة المنجمين وهو باطل عقلا ونقلا كما أوضحنا ذلك فيما تقدم وكذا في حملها على النفوس الفاضلة المفارقة إيهام صحة ما يزعمه كثير من سخفة العقول من أن الأولياء يتصرفون بعد وفاتهم بنحو شفاء المريض وإنقاذ الغريق والنصر على الأعداء وغير ذلك مما يكون في عالم الكون والفساد على معنى أن الله تعالى فوض إليهم ذلك، ومنهم من خص ذلك بخمسة من الأولياء والكل جهل وإن كان الثاني أشد جهلا. نعم لا ينبغي التوقف في أن الله تعالى قد يكرم من شاء من أوليائه بعد الموت كما يكرمه قبله بما شاء فيبرىء الجزء: 15 ¦ الصفحة: 225 سبحانه المريض وينقذ الغريق وينصر على العدو وينزل الغيث وكيت وكيت كرامة له وربما يظهر عز وجل من يشبهه صورة فتفعل ما سئل الله تعالى بحرمته مما لا إثم فيه استجابة للسائل، وربما يقع السؤال على الوجه المحظور شرعا فيظهر سبحانه نحو ذلك مكرا بالسائل واستدراجا له. ونقل الإمام في هذا المقام عن الغزالي أنه قال: إن الأرواح الشريفة إذا فارقت أبدانها ثم اتفق إنسان مشابه للإنسان الأول في الروح والبدن فإنه لا يبعد أن يحصل للنفس المفارقة تعلق بهذا البدن حتى تصير كالمعاونة للنفس المتعلقة بذلك البدن على أعمال الخير فتسمى تلك المعاونة إلهاما. ونظيره في جانب النفوس الشريرة وسوسة انتهى. ولم أر ما يشهد على صحته في الكتاب والسنة وكلام سلف الأمة وقد ذكر الإمام نفسه في الباحث المشرقية استحالة تعلق أكثر من نفس ببدن واحد وكذا استحالة تعلق نفس واحدة بأكثر من بدن ولم يتعقب ما نقله هنا فكأنه فهم أن التعلق فيه غير التعلق المستحيل فلا تغفل. وقال في وجه حمل المذكورات على الملائكة أن الملائكة عليهم السلام لها صفات سلبية وصفات إضافية أما الأولى فهي أنها مبرأة عن الشهوة والغضب والأخلاق الذميمة والموت والهرم والسقم والتركيب والأعضاء والأخلاط والأركان بل هي جواهر روحانية مبرأة عن هذه الأحوال «فالنازعات غرقا إشارة إلى كونها منزوعة عن هذه الأحوال نزعا كليا من جميع الوجوه على أن الصيغة للنسبة وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً إشارة إلى أن خروجها عن ذلك ليس كخروج البشر على سبيل الكلفة والمشقة بل بمقتضى الماهية، فالكلمتان إشارتان إلى تعريف أحوالهم السلبية وأما صفاتهم الإضافية فهي قسمان: الأول شرح قوتهم العاقلة وبيان حالهم في معرفة ملك الله تعالى وملكوته سبحانه والاطلاع على نور جلاله جل جلاله فوصفهم سبحانه في هذا المقام بوصفين أحدهما وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً فهم يسبحون من أول فطرتهم في بحار جلاله تعالى ثم لا منتهى لسبحهم لأنه لا منتهى لعظمة الله تعالى وعلو صمديته ونور جلاله وكبريائه فهم أبدا في تلك السباحة. وثانيهما فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً وهو إشارة إلى تفاوت مراتبهم في درجات المعرفة وفي مراتب التجلّي والثاني شرح قوتهم العاملة وبيان حالهم فيها فوصفهم سبحانه في هذا المقام بقوله تعالى فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً ولما كان التدبير لا يتم إلّا بعد العلم قدم شرح القوة العاقلة على شرح القوة العاملة انتهى. وهو على ما في بعضه من المنع ليس بشديد المناسبة للمقام. ونقل غير واحد أقوالا غير ما ذكر في تفسير المذكورات فعن مجاهد النَّازِعاتِ المنايا تنزع النفوس. وحكى يحيى بن سلام أنها الوحش تنزع إلى الكلأ. وعن الأول تفسير النَّاشِطاتِ بالمنايا أيضا وعن عطاء تفسيرها بالبقر الوحشية وما يجري مجراها من الحيوان الذي ينشط من قطر إلى قطر. وعنه أيضا تفسير السَّابِحاتِ بالسفن وعن مجاهد تفسيرها بالمنايا تسبح في نفوس الحيوان وعن بعضهم تفسيرها بالسحاب وعن آخر تفسيرها بدواب البحر. وعن بعض تفسير «السابقات» بالمنايا على معنى أنها تسبق الآمال وعن غير واحد تفسير «المدبرات» بجبريل يدبر الرياح والجنود والوحي وميكال يدبر القطر والنبات وعزرائيل يدبر قبض الأرواح وإسرافيل يدبر الأمر النزل عليهم لأنه ينزل به ويدبر النفخ في الصور والأكثرون تفسيرها بالملائكة مطلقا بل قال ابن عطية لا أحفظ خلافا في أنها الملائكة وليس في تفسير شيء مما ذكر خبر صحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فيما أعلم وما ذكرته أولا هو المرجح عندي نظرا للمقام والله تعالى أعلم. وقوله سبحانه يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ منصوب بالجواب المضمر والمراد ب الرَّاجِفَةُ الواقعة أو النفخة التي ترجف الأجرام عندها على أن الإسناد إليها مجازي لأنها سبب الرجف أو التجوز في الطرف بجعل سبب الجزء: 15 ¦ الصفحة: 226 الرجف راجفا. وجوز أن تفسر الراجفة بالمحركة ويكون ذلك حقيقة لأن رجف يكون بمعنى حرك وتحرك كما في القاموس وهي النفخة الأولى. وقيل: المراد بها الأجرام الساكنة التي تشتد حركتها حينئذ كالأرض والجبال لقوله تعالى يوم تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ [المزمل: 14] وتسميتها راجفة باعتبار الأول ففيه مجاز مرسل وبه يتضح فائدة الإسناد وقوله تعالى: تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ أي الواقفة أو النفخة التي تردف وتتبع الأولى وهي النفخة الثانية. وقيل الأجرام التابعة وهي السماء والكواكب فإنها تنشق وتنتشر بعد والجملة حال من الرَّاجِفَةُ مصححة لوقوع اليوم ظرفا للبعث لإفادتها امتداد الوقت وسعته حيث أفادت أن اليوم زمان الرجفة المقيدة بتبعية الرادفة لها وتبعية الشيء الآخر فرع وجود ذلك الشيء فلا بد من امتداد اليوم إلى الرادفة واعتبار امتداده مع أن البعث لا يكون عند الرادفة أعني النفخة الثانية، وبينها وبين الأولى أربعون لتهويل اليوم ببيان كونه موقعا لداهيتين عظيمتين. وقيل: يَوْمَ تَرْجُفُ منصوب باذكر فتكون الجملة استئنافا مقرر المضمون الجواب المضمر كأنه قيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلم اذكر لهم يوم النفختين فإنه وقت بعثهم وقيل هو منصوب بما دل عليه قوله تعالى قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ أي يوم ترجف وجفت القلوب أي اضطربت، يقال: وجف القلب وجيفا اضطرب من شدة الفزع وكذلك وجب وجيبا. وروي عن ابن عباس أن واجِفَةٌ بمعنى خائفة بلغة همدان. وعن السدّي زائلة عن مكانها ولم يجعل منصوبا بواجفة لأنه نصب ظرفه أعني يَوْمَئِذٍ والتأسيس أولى من التأكيد فلا يحمل عليه كيف، وحذف المضاف وإبدال التنوين مما يأباه أيضا ورفع قُلُوبٌ على الابتداء ويَوْمَئِذٍ متعلق ب واجِفَةٌ وهي الخبر على ما قيل وهو الأظهر كما في قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ [القيامة: 22- 24] . وجاز الابتداء بالنكرة لأن تنكيرها للتنويع وهو يقوم مقام الوصف المخصص. نعم التنويع في النظير أظهر لذكر المقابل بخلاف ما نحن فيه ولكن لا فرق بعد ما ساق المعنى إليه وإن شئت فاعتبر ذلك للتكثير كما اعتبر في: شرّ أهرّ ذا ناب وقيل: واجِفَةٌ صفة قُلُوبٌ مصححة للابتداء بها. وقوله تعالى: أَبْصارُها خاشِعَةٌ أي أبصار أهلها ذليلة من الخوف ولذلك أضافها إليها فالإضافة لأدنى ملابسة، وجوز أن يراد بالأبصار البصائر أي صارت البصائر ذليلة لا تدرك شيئا فكنى بذلها عن عدم إدراكها لأن عز البصيرة إنما هي بالإدراك، وبحث في كون القلوب غير مدركة يوم القيامة وأجيب بأن المراد شدة الذهول والحيرة جملة من مبتدأ وخبر في محل رفع على الخبرية لقلوب. وتعقب بأنه قد اشتهر أن حق الصفة أن تكون معلومة الانتساب إلى الموصوف عند السامع حتى قال غير واحد: إن الصفات قبل العلم بها أخبار والأخبار بعد العلم بها صفات، فحيث كان ثبوت الوجيف وثبوت الخشوع لأبصار أصحاب القلوب سواء في المعرفة والجهالة كان جعل الأول عنوان الموضوع مسلم الثبوت مفروغا عنه، وجعل الثاني مخبرا به مقصود الإفادة تحكما بحتا على أن الوجيف الذي هو عبارة عن اضطراب القلب وقلقه من شدة الخوف والوجل أشد من خشوع البصر وأهول فجعل وأهول الشرين عمدة وأشدهما فضلة مما لا عهد له في الكلام، وأيضا فتخصيص الخشوع بقلوب موصوفة بصفة معينة غير مشعرة بالعموم والشمول تهوين للخطب في موقع التهويل انتهى. وأنت تعلم أن المشتهر وما قاله غير واحد غير مجمع على اطّراده وأن بعض ما اعترض به يندفع على ما يفهمه كلام بعض الأجلّة من جواز جعل المفرد خبرا والجملة بعد صفة لكنه بعيد وما قيل على الأول من أن جعل التنوين للتنويع مع إلباسه مخالف للظاهر وكونه كالوصف معنى تعسف خروج عن الإنصاف. وزعم ابن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 227 عطية أن النكرة تخصصت بقوله تعالى يَوْمَئِذٍ وتعقب بأنه لا تتخصص بالأجرام بظروف الزمان وقدر عصام الدين جواب القسم ليأتين وقال: نحن نقدره كذلك ونجعل يوم ترجف فاعلا له مرفوع المحل ونجعل تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ صفة للراجفة بجعلها في حكم النكرة لكون التعريف للعهد الذهني نحو: أمرّ على اللئيم يسبني وفيه ما فيه وقيل إن الجواب تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ويَوْمَ منصوب به ولام القسم محذوفة أي ليوم كذا تتبعها الرادفة ولم تدخل نون التأكيد لأنه قد فصل بين اللام المقدرة والفعل وليس بذاك. وقال محمد بن عليّ الترمذي: إن جواب القسم إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى وهو كما ترى ومثله ما قيل هو هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى لأنه في تقدير قد أتاك وقال أبو حاتم على التقديم والتأخير كأنه قيل فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ والنازعات وخطأه ابن الأنباري بأن الفاء لا يفتتح بها الكلام وبالجملة الوجه الوجيه هو ما قدمنا. وقوله تعالى يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ حكاية لما يقوله المنكرون للبعث المكذبون بالآيات الناطقة به إثر بيان وقوعه بطريق التوكيد القسمي وذكر مقدماته الهائلة وما يعرض عند وقوعها للقلوب والأبصار أي يقولون إذا قيل لهم إنكم تبعثون منكرين له متعجبين منه أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ بعد موتنا فِي الْحافِرَةِ أي في الحالة الأولى يعنون الحياة كما قال ابن عباس وغيره. وقيل إنه تعالى شأنه لما أقسم على البعث وبيّن ذلّهم وخوفهم ذكر هنا إقرارهم بالبعث وردهم إلى الحياة بعد الموت فالاستفهام لاستغراب ما شاهدوه بعد الإنكار والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لما يقولون إذ ذاك. والظاهر ما تقدم وإن القول في الدنيا وأيّا ما كان فهو من قولهم رجع فلان في حافرته أي طريقته التي جاء فيها فحفرها أي أثر فيها بمشيه والقياس المحفورة فهي إما بمعنى ذا حفر أو الإسناد مجازي أو الكلام على الاستعارة المكنية بتشبيه القابل بالفاعل وجعل الحافرية تخييلا. وذلك نظير ما ذكروا في عِيشَةٍ راضِيَةٍ [القارعة: 7] ويقال لكل من كان في أمر فخرج منه ثم عاد إليه رجع إلى حافرته وعليه قوله: أحافرة على صلع وشيب ... معاذ الله من سفه وعار يريد أأرجع إلى ما كنت عليه في شبابي من الغزل والتصابي بعد أن شبت معاذ الله من ذاك سفها وعارا. ومنه المثل: النقد عند الحافرة، فقد قيل الحافرة فيه بمعنى الحالة الأولى وهي الصفقة أي النقد حال العقد لكن نقل الميداني عن ثعلب أن معناه النقد عند السبق وذلك أن الفرس إذا سبق أخذ الرهن والحافرة الأرض التي حفرها السابق بقوائمه على أحد التأويلات. وقيل الْحافِرَةِ جمع الحافر بمعنى القدم أي يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ أحياء نمشي على أقدامنا ونطأ بها الأرض ولا يخفى أن أداء اللفظ هذا المعنى غير ظاهر. وعن مجاهد الْحافِرَةِ القبور المحفورة أي لمردودون أحياء في قبورنا. وعن زيد بن أسلم هي النار وهو كما ترى. وقرأ أبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة «في الحفرة» بفتح الحاء وكسر الفاء على أنه صفة مشبهة من حفر اللازم كعلم مطاوع حفر بالبناء للمجهول يقال: حفرت أسنانه فحفرت حفرا بفتحتين إذا أثر الأكال في أسنانها وتغيرت، ويرجع ذلك إلى معنى المحفورة وقيل هي الأرض المنتنة المتغيرة بأجساد موتاها وقوله تعالى أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً تأكيدا لإنكار البعث بذكر حالة منافية له. والعامل في إِذا مضمر يدل عليه «مردودون» أي: أئذا كنا عظاما بالية نرد ونبعث مع كونه أبعد شيء من الحياة. وقرأ نافع وابن عامر «إذا كنا» بإسقاط همزة الاستفهام، فقيل: يكون خبر استهزاء بعد الاستفهام الإنكاري، واستظهر أنه متعلق بمردودون. وقرأ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 228 عمر وأبيّ وعبد الله وابن الزبير وابن عباس ومسروق ومجاهد والأخوان وأبو بكر «ناخرة» بالألف وهو كنخرة من نخر العظم أي بلي وصار أجوف تمر به الريح فيسمع له نخير أي صوت وقراءة الأكثرين أبلغ فقد صرحوا بأن فعلا أبلغ من فاعل وإن كانت حروفه أكثر وقولهم زيادة المبني تدل على زيادة المعنى أغلبي أو إذا اتحد النوع لا إذا اختلف كأن كان فاعل اسم فاعل وفعل صفة مشبهة. نعم تلك القراءة أوفق برؤوس الآي واختيارها لذلك لا يفيد اتحادها مع الأخرى في المبالغة كما وهم وإلى الأبلغية ذهب المعظم. وفسرت النخرة عليه بالأشد بلى. وقال عمرو بن العلاء: النخرة التي قد بليت، والناخرة التي لم تنخر بعد. ونقل اتحاد المعنى عن الفراء وأبي عبيدة وأبي حاتم وآخرين. وقوله تعالى قالُوا حكاية لكفر آخر لهم متفرع على كفرهم السابق ولعل توسيط قالوا بينهما للإيذان بأن صدور هذا الكفر عنهم ليس بطريق الاطّراد والاستمرار مثل كفرهم السابق المستمر صدوره عنهم في كافة أوقاتهم حسبما ينبىء عنه حكايته بصيغة المضارع أي قالوا بطريق الاستهزاء مشيرين إلى ما أنكروه من الرد في الحافرة مشعرين بغاية بعده عن الوقوع تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ أي ذات خسر أو خاسر أصحابها أي إذا صحت تلك الرجعة فنحن خاسرون لتكذيبنا بها وأبرزوا ما قطعوا بانتفائه واستحالته في صورة ما يغلب على الظن وقوعه لمزيد الاستهزاء وقال الحسن: خاسِرَةٌ كاذبة أي بكائنة فكان المعنى تلك إِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً كرة ليست بكائنة وقوله تعالى فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ تعليل لمقدر يقتضيه إنكارهم ذلك فإنه لما كان مداره استصعابهم الكرة رد عليهم ذلك فقيل لا تحسبوا تلك الكرة صعبة فإنما هي صيحة واحدة أي حاصلة بصيحة واحدة وهي النفخة الثانية عبر عنها بها تنبيها على كمال اتصالها بها كأنها عينها، وقيل: هي راجع إلى الرادفة. وقوله تعالى: فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ حينئذ بيان لترتب الكرة على الزجرة مفاجأة أي فإذا هم أحياء على وجه الأرض بعد ما كانوا أمواتا في بطنها. وعلى الأول بيان لحضورهم الموقف عقيب الكرة التي عبر عنها بالزجرة والساهرة قيل وجه الأرض والفلاة وأنشدوا قول أمية بن أبي الصلت: وفيها لحم ساهرة وبحر ... وما فاهوا به أبدا مقيم وفي الكشاف الأرض البيضاء أي التي لا نبات فيها المستوية، سميت بذلك لأن السراب يجري فيها من قولهم: عين ساهرة جارية الماء وفي ضدها نائمة. قال الأشعث بن قيس: وساهرة يضحي السراب مجللا ... لأقطارها قد جبتها متلثما أو لأن سالكها لا ينام خوف الهلكة وفي الأول مجاز على المجاز، وعلى الثاني السهر على حقيقته والتجوز في الإسناد وحكى الراغب فيها قولين الأول أنها وجه الأرض، والثاني أنها أرض القيامة ثم قال: وحقيقتها التي يكثر الوطء بها فكأنها سهرت من ذلك إشارة إلى نحو ما قال الشاعر: تحرك يقظان التراب ونائمه وروى الضحاك عن ابن عباس أن الساهرة أرض من فضة لم يعص الله تعالى عليها قط يخلقها عز وجل حينئذ، وعنه أيضا أنها أرض مكة وقيل: وهي الأرض السابعة يأتي الله تعالى بها فيحاسب الخلائق عليها وذلك حين تبدل الأرض غير الأرض. وقال وهب بن منبه: جبل بالشام يمده الله تعالى يوم القيامة لحشر الناس. وقال أبو العالية وسفيان: أرض قريبة من بيت المقدس، وقيل: الساهرة بمعنى الصحراء على شفير جهنم، وقال قتادة: وهي جهنم لأنه لا نوم لمن فيها. وقوله تعالى هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى كلام مستأنف وارد لتسلية رسول الله صلّى الله عليه وسلم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 229 من تكذيب قومه وتهديدهم عليه بأن يصيبهم مثل ما أصاب من كان أقوى منهم وأعظم. ومعنى هَلْ أَتاكَ أن اعتبر أن هذا أول ما أتاه عليه الصلاة والسلام من حديثه عليه السلام ترغيب له صلّى الله عليه وسلم في استماع حديثه كأنه قيل: هل أتاك حديثه أنا أخبرك به وإن اعتبر إتيانه قبل هذا وهو المتبادر من الإيجاز في الاقتصاص أليس قد أتاك حديثه وليس هل بمعنى قد على شيء من الوجهين. وقوله تعالى إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً ظرف للحديث لا للإتيان لاختلاف وقتيهما وجوز كونه مفعول اذكر مقدرا. وتقدم الكلام في الواد المقدس واختلاف القراء في طُوىً اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ على إرادة القول والتقدير وقال له أو قائلا له اذْهَبْ إلخ. وقيل: هو تفسير للنداء أي ناداه اذهب وقيل: هو على حذف أن المفسرة يدل عليه قراءة عبد الله أن اذهب لأن في النداء معنى القول وجوز أن يكون بتقدير المصدرية قبلها حرف جر إِنَّهُ طَغى تعليل للأمر أو لوجوب الامتثال به فَقُلْ بعد ما أتيته هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى أي هل لك ميل إلى أن تتزكى فلك في موضع الخبر لمبتدأ محذوف وإِلى أَنْ تَزَكَّى متعلق بذلك المبتدأ المحذوف ونحوه قول الشاعر: فهل لكم فيها إليّ فإنني ... بصير بما أعيا النطاسي حذيما قد يقال هل لك في كذا فيؤتى بفي ويقدر المبتدأ رغبة ونحوه مما يتعدى بها، ومنهم من قدره هنا رغبة لأنها تعدى بها أيضا وقال أبو البقاء: لما كان المعنى أدعوك جيء بإلى ولعله جعل الظرف متعلقا بمعنى الكلام أو بمقدر يدل عليه وتَزَكَّى بحذف إحدى التاءين أي تتطهر من دنس الكفر والطغيان وقرأ الحرميان وأبو عمر بخلاف «تزّكّى» بتشديد الزاي وأصله كما أشرنا إليه تتزكى فأدغمت التاء الثانية في الزاي وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ أي أرشدك إلى معرفته عز وجل فتعرفه فَتَخْشى إذ الخشية لا تكون إلّا بعد معرفته قال الله تعالى إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] وجعل الخشية غاية للهداية لأنها ملاك الأمر من خشي الله تعالى أتى منه كل خير، ومن أمن اجترأ على كل شر. ومنه قوله صلّى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي عن أبي هريرة: «من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل» . وفي الاستفهام ما لا يخفى من التلطف في الدعوة والاستنزال عن العتو وهذا ضرب تفصيل لقوله تعالى فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه: 44] وتقديم التزكية على الهداية لأنها تخلية. والفاء في قوله تعالى فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى فصيحة تفصح عن جمل قد طويت تعويلا على تفصيلها في موضع آخر كأنه قيل فذهب وكان كيت وكيت فأراه. واقتصر الزمخشري في الحواشي على تقدير جملة فقال: إن هذا معطوف على محذوف والتقدير فذهب فأراه لأن قوله تعالى اذْهَبْ يدل عليه فهو على نحو اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ والإراءة إما بمعنى التعريف فإن اللعين حين أبصرها عرفها، وادعاء سحريتها إنما كان وادعاء سحريتها إنما كان إظهارا للتجلد ونسبتها إليه عليه الصلاة والسلام بالنظر إلى الظاهر كما أن نسبتها إلى نون العظمة في قوله تعالى وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا [طه: 56] بالنظر إلى الحقيقة والمراد بالآية الكبرى على ما روي عن ابن عباس قلب العصا حية فإنها كانت المقدمة والأصل والأخرى كالتبع لها، وعلى ما روي عن مجاهد ذلك واليد البيضاء فإنهما باعتبار الدلالة كالآية الواحدة وقد عبر عنهما بصيغة الجمع في قوله تعالى اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي [طه: 42] باعتبار ما في تضاعيفهما من بدائع الأمور التي كل منها آية بينة لقوم يعقلون وجوز أن يراد بها مجموع معجزاته عليه السلام والوحدة باعتبار ما ذكر والفاء لتعقيب أولها أو مجموعها باعتبار أولها، وكونها كبرى باعتبار معجزات من قبله من الرسل عليهم السلام أو هو للزيادة المطلقة ولا يخفى بعده، ويزيده بعدا ترتيب حشر السحر بعد فإنه لم يكن إلّا على إراءة تينك الآيتين وإدباره الجزء: 15 ¦ الصفحة: 230 عن العمل بمقتضاهما وإما ما عداهما من التسع فإنما ظهر على يده عليه السلام بعد ما غلب السحرة على مهل في نحو من عشرين سنة. وزعم غلاة الشيعة أن الآية الكبرى عليّ كرم الله تعالى وجهه أراه إياه متطورة روحه الكريمة بأعظم طور وهو هذيان وراء طور العقل وطور النقل فَكَذَّبَ بموسى عليه السلام وسمى معجزته سحرا وَعَصى الله تعالى بالتمرد بعد ما علم صحة الأمر ووجوب الطاعة أشد عصيان وأقبحه حيث اجترأ على إنكار وجود رب العالمين رأسا وكان اللعين وقومه مأمورين بعبادته عز وجل وترك العظمة التي يدعيها الطاغية ويقبلها منه فئته الباغية لا بإرسال بني إسرائيل من الأسر والقسر فقط، وفي جعل متعلق التكذيب موسى عليه السلام ومتعلق العصيان الله عز وجل ما ليس في جعلهما موسى كما قيل فكذب موسى عصاه من الذم كما لا يخفى. ثُمَّ أَدْبَرَ تولى عن الطاعة يَسْعى أي ساعيا مجتهدا في إبطال أمره عليه السلام ومعارضة الآية وثم لأن إبطال ذلك ونقضه يقتضي زمانا طويلا، وجوز أن يكون الإدبار على حقيقته أي ثم انصرف عن المجلس ساعيا في إبطال ذلك، وقيل: أدبر يسعى هاربا من الثعبان فإنه روي أنه لما ألقى العصا انقلبت ثعبانا أشعر فاغرا فاه بين لحييه ثمانون ذراعا فوضع لحيه الأسفل على الأرض والأعلى على سور القصر فهرب فرعون وأحدث وانهزم الناس مزدحمين فمات منهم خمسة وعشرون ألفا من قومه. وفي بعض الآثار أنها انقلبت حية وارتفعت في السماء قدر ميل ثم انحطت مقبلة نحو فرعون وجعلت تقول: يا موسى مرني بما شئت، يقول فرعون: أنشدك بالذي أرسلك إلّا أخذته فأخذه فعاد عصى، وأنت تعلم أن هذا إن كان بعد حشر السحرة للمعارضة كما هو المشهور فلا تظهر صحة إرادته هاهنا إذا أريد بالحشر بعد حشرهم وإن كان بعد التكذيب والعصيان وقبل الحشر فلا يظهر تراخيه عن الأولين نعم قيل إن ثم عليه للدلالة على استبعاد إدباره مرعوبا مسرعا مع زعمه الإلهية وقيل: أريد بقوله سبحانه ثُمَّ أَدْبَرَ ثم أقبل يفعل أي أنشأ لكن جعل الإدبار موضع الإقبال تلميحا وتنبيها على أنه كان عليه دمارا وإدبارا فَحَشَرَ أي فجمع السحرة لقوله تعالى فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ [الشعراء: 53] وقوله سبحانه فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى [طه: 60] أي ما يكاد به من السحرة وآلاتهم وقيل جمع جنوده وجوز أن يراد جمع أهل مملكته فَنادى في المجمع نفسه أو بواسطة المنادي وأيد الأول بقوله تعالى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى وعلى الثاني فيه تقدير أي فقال: يقول فرعون أَنَا رَبُّكُمُ إلخ مع ما في الثاني من التجوز وفي بعض الآثار أنه قام فيهم خطيبا فقال تلك العظيمة وأراد اللعين تفضيل نفسه على كل من يلي أمورهم فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى النكال بمعنى التنكيل كالسلام بمعنى التسليم وهو التعذيب الذي ينكل من رآه أو سمعه ويمنعه من تعاطي ما يفضي إليه وهو نصب على أنه مصدر مؤكد ك وَعْدَ اللَّهِ [النساء: 122 وغيرها] وصِبْغَةَ اللَّهِ [البقرة: 138] كأنه قيل نكل الله تعالى به نكال الآخرة والأولى وهو الإحراق في الآخرة والإغراق والإذلال في الدنيا، وجوز أن يكون نصبا على أنه مفعول مطلق لأخذ أي أخذه الله تعالى أخذ نكال الآخرة إلخ. وأن يكون مفعولا له أي أخذه لأجل نكال إلخ. وأن يكون نصبا بنزع الخافض أي أخذه بنكال الآخرة والأولى وإضافته إلى الدارين باعتبار وقوع نفس الأخذ فيهما لا باعتبار أن ما فيه من معنى المنع يكون فيهما فإن ذلك لا يتصور في الآخرة بل في الدنيا فإن العقوبة الأخروية تنكل من سمعها وتمنعه من تعاطي ما يؤدي إليها فيها وأن يكون في تأويل المشتق حالا وإضافته على معنى في أي منكلا لمن رآه أو سمع به في الآخرة والأولى، وجوز أن تكون الإضافة عليه لامية وحمل الآخرة والأولى على الدارين هو الظاهر. وروي عن الحسن وابن زيد وغيرهما وعن ابن عباس وعكرمة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 231 والضحاك والشعبي أن الآخرة قولته أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى والأولى قولته ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص: 38] وقيل بالعكس فهما كلمتان وكان بينهما على ما قالوا أربعون سنة. وقال أبو رزين الْأُولى حالة كفره وعصيانه والْآخِرَةِ قولته أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى وعن مجاهد أنهما عبارتان عن أول معاصيه وآخرها أي نكل بالجميع والإضافة على جميع ذلك من إضافة المسبب إلى السبب ومآل من يقول بقبول إيمان فرعون إلى هذه الأقوال، وجعل ذلك النكال الإغراق في الدنيا وقد قدمنا الكلام في هذا المقام. إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر من قصة فرعون وما فعل وما فعل به لَعِبْرَةً عظيمة لِمَنْ يَخْشى أي لمن شأنه أن يخشى وهو من من شأنه المعرفة وهذا إما لأن من كان في خشية لا يحتاج للاعتبار أو ليشمل من يخشى بالفعل ومن كان من شأنه ذلك على ما قيل. وقوله تعالى أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً خطاب للمخاطبين في جواب القسم أعني لتبعثن من أهل مكة المنكرين للبعث بناء على صعوبته في زعمهم بطريق التوبيخ والتبكيت بعد ما بيّن كمال سهولته بالنسبة إلى قدرة الله تعالى بقوله سبحانه فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ [الصافات: 89، النازعات: 13] ونصب خَلْقاً على التمييز وهو محول عن المبتدأ أي أخلقكم بعد موتكم أَشَدُّ أي أشق وأصعب في تقديركم أَمِ السَّماءُ أي أم خلق السماء على عظمها وانطوائها على تعاجيب البدائع التي تحار العقول عن ملاحظة أدناها وقوله تعالى: بَناها إلخ بيان وتفصيل لكيفية خلقها المستفاد من قوله تعالى أَمِ السَّماءُ وفي عدم ذكر الفاعل فيه وفيما عطف من الأفعال من التنبيه على تعيينه وتفخيم شأنه عز وجل ما لا يخفى. وقوله سبحانه رَفَعَ سَمْكَها بيان للبناء أي جعل مقدار ارتفاعها من الأرض وذهابها إلى سمت العلو مديدا رفيعا، وجوز أن يفسر السمك بالثخن فالمعنى جعل ثخنها مرتفعا في جهة العلو. ويقال للثخن سمك لما فيه من ارتفاع السطح الأعلى عن السطح الأسفل وإذا لوحظ هذا الامتداد العلو للسفل قيل له عمق ونظير ذلك الدرج والدرك وقد جاء في الأخبار الصحيحة أن ارتفاع السماء الدنيا عن الأرض خمسمائة عام وارتفاع كل سماء عن سماء وثخن كل كذلك، والظاهر تقدير ذلك بالسير المتعارف وأن المراد بالعدد المذكور التحديد دون التكثير ونحن مع الظاهر إلّا أن يمنع عنه مانع فَسَوَّاها أي جعلها سواء فيما اقتضته الحكمة فلم يخل عز وجل قطعة منها عما تقتضيه الحكمة فيها، ومن ذلك تزيينها بالكواكب وقيل تسويتها جعلها ملساء ليس في سطحها انخفاض وارتفاع. وقيل: جعلها بسيطة متشابهة الأجزاء والشكل فليس بعضها سطحا وبعضها زاوية وبعضها خطا وهو قول بكريتها الحقيقية وإليه ذهب كثير. وقالوا: وحكاه الإمام لما ثبت أنها محدثة مفتقرة إلى فاعل مختار فأي ضرر في الدين ينشأ من كونها كرية وقيل تسويتها الجزء: 15 ¦ الصفحة: 232 تتميمها بما يتم به كمالها من الكواكب والمتممات والتداوير وغيرها مما بيّن في علم الهيئة من قولهم: سوّى أمره أي أصلحه أو من قولهم: استوت الفاكهة إذا نضجت، وأنت تعلم أن هذا مع بنائه على اتحاد السماوات والأفلاك غير معروف في الصدر الأول من المسلمين لعدم وروده عن صاحب المعراج رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعدم ظهور الدليل عليه والأدلة التي يذكرها الهيئة لتلك الأمور لا يخفى حالها ولذا لم يقل بما تقتضيه مخالفوهم من أهل الهيئة اليوم والله تعالى أعلم بحقيقة الحال وَأَغْطَشَ لَيْلَها أي جعله مظلما، يقال: غطش الليل وأغطشه الله تعالى كما يقال: ظلم وأظلمه، ويقال أيضا: أغطش الليل كما يقال أظلم وجاء ليلة غطشاء وليل أغطش وغطش. قال الأعشى: عقرت لهم ناقتي موهنا ... فليلهم مدلهم غطش وفي البحر عن كتاب اللغات في القرآن أَغْطَشَ أظلم بلغة أنمار وأشعر وَأَخْرَجَ ضُحاها أي أبرز نهارها، والضحى في الأصل على ما يفهم من كلام الراغب انبساط الشمس وامتداد النهار ثم سمّي به الوقت المعروف وشاع في ذلك وتجوز به عن النهار بقرينة المقابلة. وقيل: الكلام على حذف مضاف أي ضحى شمسها أي ضوء شمسها وكنى بذلك عن النهار والأول أقرب، وعبر عن النهار بالضحى لأنه أشرف أوقاته وأطيبها وفيه من انتعاش الأرواح ما ليس في سائرها فكان أوفق لمقام تذكير الحجة على منكري البعث وإعادة الأرواح إلى أبدانها. وقيل: إنه لذلك كان أحق بالذكر في مقام الامتنان وإضافة الليل والضحى إلى السماء لأنهما يحدثان بسبب غروب الشمس وطلوعها وهي سماوية أو وهما إنما يحصلان بسبب حركتها على القول بحركتها لاتحادها مع الفلك أو وهما إنما يحصلان بسبب حركة الشمس في فلكها فيها على القول بأن السماء والفلك متغايران والمتحرك إنما هو الكوكب في الفلك كما يقتضيه ظاهر قوله تعالى كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء: 33، يس: 40] وإن الفلك ليس إلّا مجرى الكوكب في السماء، وقيل: أضيفا إليها لأنهما أول ما يظهران منها إذ أول الليل بإقبال الظلام من جهة المشرق، وأول النهار بطلوع الفجر وإقبال الضياء منه. وفي الكشاف أضيف الليل والشمس إلى السماء لأن الليل ظلها والشمس هي السراج المثقب في جوّها، واعترض بأن الليل ظل الأرض وأجيب بأنه اعتبار بمرأى الناظر كذلك كما أن زينة السماء الدنيا أيضا اعتبار بمرأى الناظر. وقيل إضافتهما إليها باعتبار أنهما إنما يحدثان تحتها وشملا بهذا الاعتبار ما لم يكد يخطر في أذهان العرب من ليل ونهار طول كل منهما ستة أشهر وهما ليل ونهار عرض تسعين حيث الدور رحوي وتعقب بأنهم قالوا: إن ظل الأرض المخروطي ينتهي إلى فلك الزهرة وهي في السماء الثالثة فالحصر غير تام وفيه نظر فتأمل، وبالجملة الإضافة لأدنى ملابسة. وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ الظاهر أنه إشارة إلى ما تقدم من خلق السماء وإغطاش الليل وإخراج النهار دون خلق السماء فقط، وانتصاب الْأَرْضَ بمضمر قيل على شريطة التفسير وقيل تقديره تذكر أو تدبر أو اذكر وستعلم ما في ذلك إن شاء الله تعالى. ومعنى قوله تعالى دَحاها بسطها ومدها لسكنى أهلها وتقلبهم في أقطارها من الدحو أو الدحي بمعنى البسط وعليه قول أمية بن أبي الصلت: وبث الخلق فيها إذ دحاها ... فهم قطانها حتى التنادي وقيل: دَحاها سواها. وأنشدوا قول زيد بن عمرو بن نفيل: وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له الأرض تحمل صخرا ثقالا دحاها فلما استوت شدها ... بأيد وأرسى عليها الجبالا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 233 والأكثرون على الأول. وأنشد الإمام بيت زيد فيه والظاهر أن دحوها بعد خلقها وقيل مع خلقها فالمراد خلقها مدحوة وروي الأول عن ابن عباس ودفع به توهم تعارض بين آيتين. أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أن رجلا قال له: آيتان في كتاب الله تعالى تخالف إحداهما الأخرى، فقال: إنما أتيت من قبل رأيك اقرأ قال قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ- حتى بلغ- ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ [فصلت: 9- 11] وقوله تعالى وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها قال: خلق الله تعالى الأرض قبل أن يخلق السماء، ثم خلق السماء ثم دحا الأرض بعد ما خلق السماء، وإنما قوله سبحانه دَحاها بسطها وتعقبه الإمام بأن الجسم العظيم يكون ظاهره كالسطح المستوي ويستحيل أن يكون هذا الجسم العظيم مخلوقا ولا يكون ظاهره مدحوا مبسوطا. وأجيب أنه لعل مراد القائل بخلقها أولا ثم دحوها ثانيا خلق مادتها أولا ثم تركيبها وإظهارها على هذه الصورة والشكل مدحوة مبسوطة وهذا كما قيل في قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [البقرة: 29] إن السماء خلقت مادتها أولا ثم سويت وأظهرت على صورتها اليوم. وعن الحسن ما يدل على أنها كانت يوم خلقت قبل الدحو كهيئة الفهر ويشعر بأنها لم تكن على عظمها اليوم وتعقبه بعضهم بشيء آخر وهو أنه يأبى ذلك قوله تعالى خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ [البقرة: 29] الآية فإنه يفيد أن خلق ما في الأرض قبل خلق السماوات، ومن المعلوم أن خلق ما فيها إنما هو بعد الدحو فكيف يكون الدحو بعد خلق السماوات. وأجيب بأن خَلَقَ في الآية بمعنى قدر أو أراد الخلق ولا يمكن أن يراد به فيها الإيجاد بالفعل ضرورة أن جميع المنافع الأرضية يتجدد إيجادها أولا فأولا سلمنا أن المراد الإيجاد بالفعل لكن يجوز أن يكون المراد خلق مادة ذلك بالفعل، ومن الناس من حمل ثُمَّ على التراخي الرتبي لأن خلق السماء أعجب من خلق الأرض. وقال عصام الدين إن بَعْدَ ذلِكَ هنا كما في قوله تعالى عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ [القلم: 13] يعني فعل بالأرض ما فعل بعد ما سمعت في السماء. والمراد التأخير في الأخبار فخلق الأرض ودحوها وإخراج مائها ومرعاها وإرساء الجبال عليها عنده قبل خلق السماء كما يقتضيه ظاهر آية البقرة وظاهر آية الدخان، وأيد حمل البعدية على ما ذكر بأن حملها على ظاهرها مع حمل الإشارة على الإشارة إلى مجموع ما تقدم مما سمعت يلزم عليه أن إغطاش الليل وإبراز النهار كانا قبل خلق الأرض ودحوها وذلك مما لا يتسنى على تقدير أنها غير مخلوقة أصلا ومما يبعد على تقدير أنها مخلوقة غير عظيمة، وأيضا قيل لو لم تحمل البعدية ما ذكر وقيل بنحو ما قال ابن عباس من تأخر الدحو عن خلق السماء مع تقدم خلق الأرض من غير دحو على خلقها لم تنحسم مادة الإشكال إذ آية الدخان ظاهرة في أن جعل الرواسي في الأرض قبل خلق السماء وتسويتها، وهذه الآية إلى آخرها ظاهرة في أن جعل الرواسي بعد وبالجملة أنه قد اختلف أهل التفسير في أن خلق السماء مقدم على خلق الأرض أو مؤخر؟ فقال ابن الطاشكبري: نقل الواحدي عن مقاتل أن خلق السماء مقدم على خلق الأرض واختاره جمع لكنهم قالوا إن خلق ما فيها مؤخر وأجابوا عما هنا وآية البقرة بأن الخلق فيها بمعنى التقدير أو بمعنى الإيجاد وتقدير الإرادة، وأن البعدية هاهنا لإيجاد الأرض وجميع ما فيها وعما هنا وآية الدخان بنحو ذلك فقدروا الإرادة في قوله تعالى خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت: 9] وكذا في قوله سبحانه وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وقالوا: يؤيد ما ذكر قوله تعالى فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: 11] فإن الظاهر أن المراد ائْتِيا في الوجود ولو كانت الأرض موجودة سابقة لما صح هذا فكأنه قال سبحانه: أئنكم لتكفرون بالذي أراد إيجاد الأرض وما فيها من الرواسي والأقوات في أربعة أيام ثم قصد إلى السماء فتعلقت إرادته بإيجاد السماء والأرض فأطاعا لأمر التكوين فأوجد سبع الجزء: 15 ¦ الصفحة: 234 سماوات في يومين، وأوجد الأرض وما فيها في أربعة أيام ونكتة تقديم خلق الأرض وما فيها في الظاهر في سورتي البقرة والدخان على خلق السماوات والعكس هاهنا أن المقام في الأولين مقام الامتنان وتعداد النعم على أهل الكفر والإيمان فمقتضاه تقديم ما هو نعمة بالنظر إلى المخاطبين من الفريقين فكأنه قال سبحانه هو الذي دبر أمركم قبل السماء ثم خلق السماء. والمقام هنا مقام بيان كمال القدرة فمقتضاه تقديم ما هو أدل انتهى. وفي الكشف أطبق أهل التفسير أنه تم خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام ثم خلق السماء في يومين إلّا ما نقل الواحدي في البسيط عن مقاتل أن خلق السماء مقدم على إيجاد الأرض فضلا عن دحوها. والكلام مع من فرق بين الإيجاد والدحو وما قيل إن دحو الأرض متأخر عن خلق السماء لا عن تسويتها يرد عليه بعد ذلك فإنه إشارة إلى السابق وهو رفع السمك والتسوية والجواب بتراخي الرتبة لا يتم لما نقل من إطباق المفسرين فالوجه أن يجعل الْأَرْضَ منصوبا بمضمر نحو تذكر وتدبر واذكر الأرض بعد ذلك وإن جعل مضمرا على شريطة التفسير جعل بعد ذلك إشارة إلى المذكور سابقا من ذكر خلق السماء لا خلق السماء نفسه ليدل على أنه متأخر في الذكر عن خلق السماء تنبيها على أنه قاصر في الدلالة عن الأول لكنه تتميم كما تقول جملا ثم تقول بعد ذلك كيت وكيت، وهذا كثير في استعمال العرب والعجم وكان بعد ذلك بهذا المعنى عكسه إذا استعمل لتراخي الرتبة وقد تستعمل ثُمَّ بهذا المعنى وكذا الفاء وهذا لا ينافي قول الحسن إنه تعالى خلق الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليها دخان ملتزق بها ثم أصعد الدخان وخلق منه السماوات وأمسك الفهر في موضعها وبسط منها الأرض وذلك قوله تعالى كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما [الأنبياء: 30] الآية فإنه يدل على أن كون السماء دخانا سابق على دحو الأرض وتسويتها وهو كذلك بل ظاهر قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ [فصلت: 11] يدل على ذلك وإيجاد الجوهرة النورية والنظر إليها بعين الجلال المبطن بالرحمة والجمال وذوبها وامتياز لطيفها عن كثيفها وصعود المادة الدخانية اللطيفة وبقاء الكثيف هذا كله سابق على الأيام الستة، وثبت في الخبر الصحيح ولا ينافي الآيات وأما ما نقله الواحدي عن مقاتل واختاره الإمام فلا إشكال فيه ويتعين ثم في سورتي البقرة والسجدة على تراخي الرتبة وهو أوفق لمشهور قواعد الحكماء لكن لا يوافق ما روي أنه تعالى خلق جرم الأرض يوم الأحد ويوم الاثنين، ودحاها وخلق ما فيها يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء، وخلق السماوات وما فيها في يوم الخميس والجمعة، وفي آخر يوم الجمعة ثم خلق آدم عليه السلام انتهى. والذي أميل إليه أن تسوية السماء بما فيها سابقة على تسوية الأرض بما فيها لظهور أمر العلية في الأجرام العلوية وأمر المعلولية في الأجرام السفلية ويعلم تأويل ما ينافي ذلك مما سمعت. وأما الخبر الأخير ففي صحته مقال والله تعالى أعلم بحقيقة الحال وقد مر شيء مما يتعلق بهذا المقام وإنما أعدنا الكلام فيه تذكيرا لذوي الأفهام فتأمل والله تعالى الموفق لتحصيل المرام. وقوله تعالى أَخْرَجَ مِنْها ماءَها بأن فجّر منها عيونا وأجرى أنهارا وَمَرْعاها يقع على الرعي بالكسر وهو الكلأ والرعي بالفتح وهو المصدر وكذا على الموضع والزمان، وزعم بعضهم أنه في الأصل للموضع ولعله أراد أنه أشهر معانيه والمناسب للمقام المعنى الأول لكنه قيل إنه خاص بما يأكله الحيوان غير الإنسان وتجوز به عن مطلق المأكول للإنسان وغيره فهو مجاز مرسل من قبيل المرسن. وقال الطيبي: يجوز أن يكون استعارة مصرحة لأن الكلام مع منكري الحشر بشهادة أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً كأنه قيل أيها المعاندون الملزوزون في قرن البهائم في التمتع بالدنيا والذهول عن الآخرة بيان وتفسير لدحاها وتكملة له فإن السكنى لا تتأتى بمجرد البسط والتمهيد بل لا بد من تسوية أمر المعاش من المأكل والمشرب أو حال من فاعله بإضمار قد أو بدونه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 235 وكلا الوجهين مقتض لتجريد الجملة عن العاطف. وقوله تعالى وَالْجِبالَ منصوب بمضمر يفسره قوله سبحانه أَرْساها أي أثبتها وفيه تنبيه على أن الرسو المنسوب إليها في مواضع كثيرة من التنزيل ليس من مقتضيات ذاتها وللفلاسفة المحدثين كلام في أمر الأرض وكيفية بدئها لا مستند لهم فيه إلّا آثار أرضية يزعمون دلالتها على ذلك هي في أسفل الأرض عن ساحة القبول. وقرأ عيسى برفع «الأرض» والحسن وأبو حيوة وعمرو بن عبيد وابن أبي عبلة وأبو السمال برفع «الأرض» «والجبال» وهو على ما قيل على الابتداء، وتعقبه الزجاج بأن ذلك مرجوح لأن العطف على فعلية وأورد عليه أن قوله تعالى بَناها بيان لكيفية خلق السماء وقوله سبحانه رَفَعَ سَمْكَها بيان للبناء وليس لدحو الأرض وما بعده دخل في شيء من ذلك فكيف يعطف عليه ما هو معطوف على المجموع عطف القصة على القصة والمعتبر فيه تناسب القصتين وهو حاصل هنا فلا ضير في الاختلاف بل فيه نوع تنبيه على ذلك. وقيل: إن جملة قوله تعالى وَالْأَرْضَ إلخ على القراءتين ليست معطوفة على قوله سبحانه رَفَعَ سَمْكَها لأنها لا تصلح بيانا لبناء السماء فلا بد من تقدير معطوف عليه وحينئذ يقدر جملة فعلية على قراءة الجمهور أي فعل ما فعل في السماء، وجملة اسمية على قراءة الآخرين أي السماء وما يتعلق بها مخلوق له تعالى. وجوز عطف «الأرض» بالرفع على «السماء» من حيث المعنى كأنه قيل السماء أشد خلقا والأرض بعد ذلك أي والأرض بعد ما ذكر من السماء أشد خلقا فيكون وزان قوله تعالى دَحاها إلخ وزان قوله تعالى بَناها إلخ وحينئذ فلا يكون بعد ذلك مشعرا بتأخر دحو الأرض عن بناء السماء. وقوله تعالى مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ قيل مفعول له أي فعل ذلك تمتيعا لكم ولأنعامكم لأن فائدة ما ذكر من الدحو وإخراج الماء والمرعى واصلة إليهم ولأنعامهم فإن المرعى كما سمعت مجاز عما يأكله الإنسان وغيره، وقيل: مصدر مؤكد لفعله المضمر أي متعكم بذلك متاعا أو مصدر من غير لفظه فإن قوله تعالى أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها في معنى متع بذلك وأورد على الأول أن الخطاب لمنكري البعث والمقصود هو تمتيع المؤمنين فلا يلائم جعل تمتيع الآخرين كالغرض فالأولى ما بعده. وأجيب بأن خطاب المشافهة وإن كان خاصا بالحاضرين إلّا أن حكمه عام كما تقرر في الأصول فالمآل إلى تمتيع الجنس وأيضا النصب على المصدرية بفعله المقدر لا يدفع المحذور لكونه استئنافا لبيان المقصود ولا يخفى أن كون المقصود هو تمتيع المؤمنين محل بحث. وقوله سبحانه فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى إلخ شروع في بيان معادهم إثر بيان أحوال معاشهم بقوله عز وجل مَتاعاً إلخ والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها على ما قيل كما ينبىء عنه لفظ المتاع، والطامة أعظم الدواهي لأنه من طم بمعنى علا كما ورد في المثل: جرى الوادي فطمّ على القرى، وجاء السيل فطمّ الركيّ. وعلوها على الدواهي غلبتها عليها فيرجع لما ذكر قيل، فوصفها «بالكبرى» للتأكيد ولو فسر كونها طامة بكونها غالبة للخلائق لا يقدرون على دفعها لكان الوصف مخصصا، وقيل كونها طامة باعتبار أنها تغلب وتفوق ما عرفوه من دواهي الدنيا وكونها كبرى باعتبار أنها أعظم من جميع الدواهي مطلقا وقيل غير ذلك. وأنت تعلم أن الطَّامَّةُ الْكُبْرى صارت كالعلم للقيامة وروي كونها اسما من أسمائها هنا عن ابن عباس وعنه أيضا وعن الحسن أنها النفخة الثانية. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن القاسم بن الوليد الهمداني أنها الساعة التي يساق فيها أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار. وأخرجا عن عمرو بن قيس الكندي أنها ساعة يساق أهل النار إلى النار وفي معناه قول مجاهد هي إذا دفعوا إلى مالك خازن جهنم يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى بدل كل أو بعض من إذا جاءت على ما قيل، وقيل: بدل من الطَّامَّةُ الْكُبْرى فيكون مرفوع المحل وفتح لإضافته إلى الفعل على رأي الكوفيين الجزء: 15 ¦ الصفحة: 236 وتكون الطامة حقيقة التذكر البروز لأن حسن العمل يغلب كل لذة وسواه كل مشقة وكذا بروز الجحيم مع الابتلاء به يغلب كل مشقة ومع النجاة عنه كل لذة إلا يخفى تعسفه. وقيل: ظرف ل جاءَتِ وعليه الطبرسي واستظهر أنه منصوب بأعني تفسيرا للطامة الكبرى وما موصولة وسَعى بمعنى عمل والعائد مقدر أي له والمراد يوم يتذكر كل أحد ما عمله من خير أو شر بأن يشاهده مدوّنا في صحيفته وقد كان نسيه من فرط الغفلة أو طول الأمد أو شدة ما لقي أو كثرته التي تعجز الحافظ عن الضبط لقوله تعالى أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة: 6] ويمكن أن يكون تذكره بوجه آخر، وجوّز أن تكون ما مصدرية أي يتذكر فيه سعيه. وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ عطف على جاءَتِ وقيل على يَتَذَكَّرُ وقيل حال من الإنسان بتقدير قد أو بدونه، والموصول بعد مغن عن العائد، وكلا القولين على ما في الإرشاد على تقدير الجواب يتذكر الإنسان ونحوه وسيأتي إن شاء الله تعالى فلا تغفل. ومعنى بُرِّزَتِ أظهرت إظهارا بيّنا لا يخفى على أحد لِمَنْ يَرى كائنا من كان يروي أنه يكشف عنها فتتلظى فيراها كل ذي بصر وخص بعض من بالكافر وليس بشيء. وقرأت عائشة وزيد بن علي وعكرمة ومالك بن دينار «وبرزت» مبنيا للفاعل مخففا لمن ترى بالتاء الفوقية على أن فيه ضمير جهنم كما في قوله تعالى إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [الفرقان: 12] وإسناد الرؤية لها مجازا وهو حقيقة على أن يخلق الله تعالى ذلك فيها، ويجوز أن تكون خطابا لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلم أو لكل راء كقوله تعالى وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ [السجدة: 12] أي لمن تراه من الكفار. وقرأ أبو نهيك وأبو السمال وهارون عن أبي عمرو «وبرزت» مبنيا للمفعول مخففا وقوله تعالى فَأَمَّا مَنْ طَغى إلخ جواب «إذا» على أنها شرطية لا ظرفية كما جوز على طريقة قوله تعالى فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً [البقرة: 38، طه: 123] الآية. وقولك إذا جاءك بنو تميم فأما العاصي فأهنه وأما الطائع فأكرمه. واختاره أبو حيان وقيل: جوابها محذوف كأنه قيل فإذا جاءت وقع ما لا يدخل تحت الوصف. وقوله سبحانه فَأَمَّا إلخ تفصيل لذلك المحذوف وفي جعله جوابا غموض وهو وجه وجيه بيد أنه لا غموض في ذاك بعد تحقق استقامة أن يقال فإذا جاءت فإن الطاغي الجحيم مأواه وغيره في الجنة مثواه وزيادة أما لم تفد إلّا زيادة المبالغة وتحقيق الترتب والثبوت على كل تقدير، وقيل: هو محذوف لدلالة ما قبل والتقدير ظهرت الأعمال ونشرت الصحف أو يتذكر الإنسان ما سعى أو لدلالة ما بعد والتقدير انقسم الراؤون قسمين وليس بذاك أي فأما من عتا وتمرد عن الطاعة وجاوز الحد في العصيان حتى كفر وَآثَرَ أي اختار الْحَياةَ الدُّنْيا الفانية التي هي على جناح الفوات فانهمك فيما متع به فيها ولم يستعد للحياة الآخرة الأبدية بالإيمان والطاعة فَإِنَّ الْجَحِيمَ التي ذكر شأنها هِيَ الْمَأْوى أي مأواه على ما رآه الكوفيون من أن أل في مثله عوض عن المضاف إليه الضمير وبها يحصل الربط أو المأوى له على رأي البصريين من عد كونها عوضا ورابطا، وهذا الحذف هنا للعلم بأن الطاغي هو صاحب المأوى وحسنه وقوع المأوى فاصلة وهو الذي اختاره الزمخشري. وهي إما ضمير فصل لا محل له من الإعراب أو ضمير جهنم مبتدأ والكلام دال على الحصر أي كأنه قيل فإن الجحيم هي مأواه أو المأوى له لا مأوى له سواها. وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ أي مقامه بين يدي مالك أمره يوم الطامة الكبرى يوم يتذكر الإنسان ما سعى على أن الإضافة مثلها في رقود حلب أو وأما من خاف ربه سبحانه على أن لفظ مَقامَ مقحم والكلام معه كناية عن ذلك وإثبات للخوف من الرب عز وجل بطريق برهاني بليغ نظير ما قيل في قوله الجزء: 15 ¦ الصفحة: 237 تعالى أَكْرِمِي مَثْواهُ [يوسف: 21] . وتمام الكلام في ذلك قد تقدم في سورة الرحمن وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى أي زجرها وكفها عن الهوى المردي وهو الميل إلى الشهوات وضبطها بالصبر والتوطين على إيثار الخيرات ولم يعتد بمتاع الدنيا وزهرتها ولم يغتر بزخارفها وزينتها علما بوخامة عاقبتها. وعن ابن عباس ومقاتل إنه الرجل يهم بالمعصية فيذكر مقامه للحساب بين يديّ ربه سبحانه فيخاف فيتركها، وأصل الهوى مطلق الميل وشاع في الميل إلى الشهوة وسمي بذلك على ما قال الراغب لأنه يهوي بصاحبه في الدنيا إلى كل واهية وفي الآخرة إلى الهاوية ولذلك مدح مخالفه. قال بعض الحكماء: إذا أردت الصواب فانظر هواك فخالفه. وقال الفضيل: أفضل الأعمال مخالفة الهوى وقال أبو عمران الميرتلي: فخالف هواها واعصها إن من يطع ... هوى نفسه تنزع به شر منزع ومن يطع النفس اللجوجة ترده ... وترم به في مصرع أي مصرع إلى غير ذلك. وقد قارب أن يكون قبح موافقة الهوى وحسن مخالفته ضروريين إلّا أن السالم من الموافقة قليل قال سهل: لا يسلم من الهوى إلّا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبعض الصديقين فطوبى لمن سلم منه. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى له لا غيرها، والظاهر أن هذا التفصيل عام في أهل النار وأهل الجنة. وعن ابن عباس أن الآيتين نزلتا في أبي عزير بن عمير وأخيه مصعب بن عمير رضي الله تعالى عنه كان الأول طاغيا مؤثر الحياة الدنيا وكان مصعب خائفا مقام ربه ناهيا النفس عن الهوى وقد وقى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بنفسه يوم أحد حين تفرق الناس عنه حتى نفذت المشاقص أي السهام في جوفه فلما رآه عليه الصلاة والسلام متشحطا في دمه قال: «عند الله تعالى احتسبك» وقال لأصحابه: «لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما وإن شراك نعله من ذهب ولما أسر أخوه أبو عزيز ولم يشد وثاقه إكراما له وأخبر بذلك قال: ما هو لي بأخ شدوا أسيركم فإن أمه أكثر أهل البطحاء حليا ومالا. وفي الكشاف أنه قتل أخاه أبا عزيز يوم أحد وعن ابن عباس أيضا أنهما نزلتا في أبي جهل وفي مصعب وقيل نزلت الأولى في النضر وابنه الحارث المشهورين بالغلو في الكفر والطغيان. يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها أي متى إرساؤها أي إقامتها يريدون متى يقيمها الله تعالى ويكونها ويثبتها، فالمرسى مصدر ميمي من سار بمعنى ثبت ومنه الجبال الرواسي وحاصل الجملة الاستفهامية السؤال عن زمان ثبوتها ووجودها، وجوز أن يكون المرسى بمعنى المنتهى أي متى منتهاها ومستقرها كما أن مرسى السفينة حيث تنتهي إليه وتستقر فيه كذا قيل. وتقدير الاستفهام بمتى يقتضي أن المرسى اسم زمان وقوله: كما أن إلخ ظاهر في أنه اسم مكان ولذا قيل الكلام على الاستعارة يجعل اليوم المتباعد فيه كشخص سائر لا يدرك ويوصل إليه ما لم يستقر في مكان فجعل الظاهر على ما قيل. وقوله تعالى كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها إما تقرير وتأكيد لما ينبىء عنه الإنذار من سرعة مجيء المنذر به لا سيما على الوجه الثاني والمعنى كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا بعد الإنذار إلّا قليلا، وإما رد لما أدمجوه في سؤالهم فإنهم كانوا يسألون عنها بطريق الاستبطاء مستعجلين بها وإن كان على نهج الاستهزاء بها وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يونس: 48، النمل: 71، سبأ: 29، يس: 48، الملك: 25] والمعنى كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا بعد الوعيد بها إلّا عشية إلخ. وهذا الكلام على ما نقل عن الزمخشري له أصل وهو لم يلبثوا إلّا ساعة من نهار عشيته أو ضحاه فوضع هذا المختصر موضعه وإنما أفادت الإضافة ذلك كما في الكشف من حيث الجزء: 15 ¦ الصفحة: 238 إنك إذا قلت «لم يلبثوا إلّا عشية أو ضحى» احتمل أن تكون العشية من يوم والضحى من آخر فيتوهم الاستمرار من ذلك الزمان إلى مثله من اليوم الآخر، أما إذا قلت عشيته أو ضحاه لم يحتمل ذلك البتة وفي قولك ضحى تلك العشية ما يغني عن قولك عشية ذلك النهار أو ضحاه. وقال الطيبي: إنه من المحتمل أن يراد بالعشية أو الضحى كل اليوم مجازا، فلما أضيف أفاد التأكيد ونفي ذلك الاحتمال وجعله من باب رأيته بعيني وهو حسن ولكن السابق أبعد من التكلف ولا منع من الجمع وزاد الإضافة حسنا كون الكلمة فاصلة واعتبر جمع كون اللبث في الدنيا وبعضهم كونه في القبور وجوز كونه فيهما واحتار في الإرشاد ما قدمنا وقال: إن الذي يقتضيه المقام اعتبار كونه بعد الإنذار أو بعد الوعيد تحقيقا للإنذار وردا لاستبطائهم والجملة على الوجه الأول حال من الموصول كأنه قيل: تنذرهم مشبهين يوم يرونها في الاعتقاد بمن لم يلبث بعد الإنذار بها إلّا تلك المدة اليسيرة، وعلى الثاني مستأنفة لا محل لها من الإعراب، هذا ولا يخفى عليك أن الوجه الثاني وإن كان حسنا في نفسه لكنه مما لا يتبادر إلى الفهم وعليه يحسن الوقف على فِيمَ ثم يستأنف أنت من ذكراها لئلا يلبس وقيل إن قوله تعالى فِيمَ إلخ متصل بسؤالهم على أنه بدل من جملة يسألونك إلخ أو هو بتقدير القول أي يسألونك عن زمان قيام الساعة ويقولون لك في أي مرتبة أَنْتَ مِنْ ذِكْراها أي علمها أي ما مبلغ علمك فيها أو يسألونك عن ذلك قائلين لك في أي مرتبة أنت إلخ. والجواب عليه قوله تعالى إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها ولا يخفى ضعف ذلك. وأخرج البزار وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والحاكم وصححه عن عائشة قالت: ما زال رسول الله صلّى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة حتى أنزل الله تعالى عليه فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها فانتهى عليه الصلاة والسلام فلم يسأل بعدها . وأخرج النسائي وغيره عن طارق بن شهاب قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يكثر ذكر الساعة حتى نزلت فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها فكف عنها وعلى هذا فهو تعجيب من كثرة ذكره صلّى الله عليه وسلم لها كأنه قيل في أي شغل واهتمام أنت من ذكرها والسؤال عنها، والمعنى أنهم يسألونك عنها فلحرصك على جوابهم لا تزال تذكرها وتسأل عنها ونظر فيه ابن المنير بأن قوله عز وجل يَسْئَلُونَكَ كأنك وقت إدراكه مستقرا له فتدبر. وقوله تعالى فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إنكار ورد لسؤال المشركين عنها أي في أي شيء أنت من أن تذكر لهم وقتها وتعلمهم به حتى يسألوك بيانها كقوله تعالى يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها [الأعراف: 187] فالاستفهام للإنكار وفِيمَ خبر مقدم وأَنْتَ مبتدأ مؤخر ومِنْ ذِكْراها على تقدير مضاف أي ذكرى وقتها متعلق بما تعلق به الخبر وقيل فِيمَ إنكار لسؤالهم وما بعده استئناف تعليل للإنكار وبيان لبطلان السؤال أي فيم هذا السؤال ثم ابتدئ فقيل أَنْتَ مِنْ ذِكْراها أي إرسالك وأنت خاتم الأنبياء المبعوث في نسم الساعة علامة من علامتها ودليل يدلهم على العلم بوقوعها عن قريب فحسبهم هذه المرتبة من العلم، فمعنى قوله تعالى إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها على هذا الوجه إليه تعالى يرجع منتهى علمها أي علمها بكنهها وتفاصيل أمرها ووقت وقوعها لا إلى أحد غيره سبحانه وإنما وظيفتهم أن يعلموا باقترابها ومشارفتها وقد حصل لهم ذلك بمبعثك فما معنى سؤالهم عنها بعد ذلك؟ وأما على الوجه الأول فمعناه إليه عز وجل انتهاء علمها ليس لأحد منه شيء كائنا ما كان فلأي شيء يسألونك عنها. وقوله تعالى إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها عليه تقرير لما قبل من قوله سبحانه فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها وتحقيق لما هو المراد منه وبيان لوظيفته عليه الصلاة والسلام في ذلك الشأن فإن إنكار كونه صلّى الله عليه وسلم في شيء من ذكراها مما يوهم بظاهره أن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 239 ليس له عليه الصلاة والسلام ان يذكرها بوجه من الوجوه فأزيح ذلك ببيان أن المنفي عنه صلّى الله عليه وسلم ذكراها لهم بتعيين وقتها حسبما كانوا يسألونه عنها، فالمعنى إنما أنت منذر من يخشاها ويخاف أهوالها وظيفتك الامتثال بما أمرت به من بيان اقترابها وتفصيل ما فيها من فنون الأهوال كما تحيط به لا معلم بتعيين وقتها الذي لم يفوض إليك فما لهم يسألونك عما لم تبعث له ولم يفوض إليك أمره، وعلى الوجه الثاني هو تقرير لقوله تعالى أَنْتَ مِنْ ذِكْراها ببيان أن إرساله عليه الصلاة والسلام وهو خاتم الأنبياء عليهم السلام منذر بمجيء الساعة كما ينطق به قوله صلّى الله عليه وسلم: «بعثت أنا والساعة كهاتين إن كادت لتسبقني» والظاهر على الأول أن القصر من قصر الموصوف على الصفة والمعنى ما أنت إلّا منذر لا معلم بالوقت مبين له. وإنما ذكر صلة المنذر إظهارا لكونها ذات مدخل في القصر لكون الكلام في القصر على منذر خاص ونفي إعلام خاص يقابله وكونه من قصر الصفة على الموصوف بناء على ما يتبادر إلى الفهم من كلام السكاكي أن المعنى إنما أنت منذر الخاشي دون من لا يخشى، أي ما أنت منذر إلّا من يخشى دون غيره مناسب للمقام على أنه قيل عليه إن من يخشى مَنْ صلة مُنْذِرُ ليس من متعلق إنما في شيء ليجعل الجزء الأخير المقصور عليه الإنذار وهذا إن صح استلزم عدم صحة ما قرر لكن في صحته مقال إذ يستلزم أيضا أن لا يصح إنما هو غلام زيد لا عمرو وإنما هو ضارب عمرا لا زيدا مع شهرة استعمال ذلك من غير نكير فتأمل. والظاهر على الثاني أن إِنَّما لمجرد التأكيد زيادة في الاعتناء بشأن الخبر وليست للحصر إذ لا يتعلق به غرض عليه بحسب حَفِيٌّ عَنْها يرده إذ المراد أنك لا تحتفي بالسؤال عنها ولا تهتم بذلك وهم يسألونك كما يسأل الحفي عن الشيء أي الكثير السؤال عنه، وأجيب بأنه يحتمل أنه لم يكن منه صلّى الله عليه وسلم أو لا احتفاه ثم كان وإن سؤالهم هذا ونزول الآية بعد وقوع الاحتفاء وأنت تعلم ما في ذلك من البعد. وقرأ أبو جعفر وشيبة وخالد الحذّاء وابن هرمز وعيسى وطلحة وابن محيصن وابن مقسم وأبو عمرو في رواية «منذر» بالتنوين والإعمال وهو الأصل في مثله بعد اعتبار المشابه والإضافة للتخفيف فلا ينافي أن الأصل في الأسماء عدم الإعمال والإعمال عارض للشبه والوصف عند إعماله وإضافته للتخفيف صالح للحال والاستقبال، وإذا أريد الماضي فليس إلّا الإضافة كقولك: هو منذر زيد أمس وهو هنا على ما قيل للحال لمقارنة «يخشى» ولا ينافي أنه صلّى الله عليه وسلم منذر في الماضي والمستقبل حتى يقال المناسب لحال الرسالة الاستمرار ومثله ويجوز فيه الإعمال وعدمه ثم المراد بالحال حال الحكم لا حال التكلم وفي ذلك كلام في كتب الأصول فلا تغفل والله تعالى أعلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 240 سورة عبس وتسمى سورة الصاخة وسورة السفرة وسميت في غير كتاب سورة الأعمى وهي مكية لا خلاف وآيها اثنتان وأربعون في الحجازي والكوفي، وإحدى وأربعون في البصري، وأربعون في الشامي والمدني الأول ولما ذكر سبحانه فيما قبلها إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النازعات: 45] ذكر عز وجل في هذه من ينفعه الإنذار ومن لم ينفعه فقال عز من قائل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى إلخ روي أن ابن أم مكتوم وهو ابن خال خديجة واسمه عمرو بن قيس بن زائدة بن جندب بن هرم بن رواحة بن حجر بن معيص بن عامر بن لؤي القرشي وقيل عبد الله بن عمرو وقيل عبد الله بن شريح بن مالك بن أبي ربيعة الفهري والأول أكثر وأشهر كما في جامع الأصول وأم مكتوم كنية أمه واسمها عاتكة بنت عبد الله المخزومية، وغلط الزمخشري في جعلها في الكشاف جدته وكان أعمى وعمي بعد نور وقيل ولد أعمى ولذا قيل لأمه أم مكتوم. أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وعنده صناديد قريش عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل والعباس بن عبد المطلب وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة يناجيهم ويدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم فقال: يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله تعالى وكرر ذلك ولم يعلم تشاغله بالقوم، فكره رسول الله صلّى الله عليه وسلم قطعه لكلامه وعبس وأعرض عنه فنزلت. فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يكرمه ويقول إذا رآه: «مرحبا بمن عاتبني فيه ربي» ويقول: «هل لك من حاجة» . واستخلفه صلّى الله عليه وسلم على المدينة فكان يصلي بالناس ثلاث عشرة مرة كما رواه ابن عبد البر في الاستيعاب عن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 241 أهل العلم بالسير ثم استخلف بعده أبا لبابة وهو من المهاجرين الأولين هاجر على الصحيح قبل النبيّ صلّى الله عليه وسلم ووهم القرطبي في زعمه أنه مدني وأنه لم يجتمع بالصناديد المذكورين من أهل مكة وموته قيل بالقادسية شهيدا يوم فتح المدائن أيام عمر رضي الله تعالى عنه، ورآه أنس يومئذ وعليه درع وله راية سوداء وقيل رجع منها إلى المدينة فمات بها رضي الله تعالى عنه. وضمير عَبَسَ وما بعده للنبيّ صلّى الله عليه وسلم وفي التعبير عنه عليه الصلاة والسلام بضمير الغيبة إجلال له صلّى الله عليه وسلم لإيهام أن من صدر عنه ذلك غيره لأنه لا يصدر عنه صلّى الله عليه وسلم مثله كما أن في التعبير عنه صلّى الله عليه وسلم بضمير الخطاب في قوله سبحانه وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ذلك لما فيه من الإيناس بعد الإيحاش والإقبال بعد الإعراض والتعبير عن ابن أم مكتوم بالأعمى للإشعار بعذره في الإقدام على قطع كلام الرسول صلّى الله عليه وسلم وتشاغله بالقوم. وقيل: إن الغيبة أولا والخطاب ثانيا لزيادة الإنكار وذلك كمن يشكو إلى الناس جانيا جنى عليه ثم يقبل على الجاني إذا حمى على الشاكية مواجها بالتوبيخ وإلزام الحجة وفي ذكر الأعمى نحو من ذلك لأنه وصف يناسب الإقبال عليه والتعطف. وفيه أيضا دفع إيهام الاختصاص بالأعمى المعين وإيماء إلى أن كل ضعيف يستحق الإقبال من مثله على أسلوب «لا يقضي القاضي وهو غضبان» وإن بتقدير حرف الجر أعني لام التعليل وهو معمول لأول الفعلين على مختار الكوفيين وثانيهما على مختار البصريين وكليهما معا على مذهب الفراء نعم هو بحسب المعنى علة لهما بلا خلاف أي عبس لأن جاءه الأعمى وأعرض لذلك. وقرأ زيد بن علي «عبّس» بتشديد الباء للمبالغة لا للتعدية وهو والحسن وأبو عمران الجوني وعيسى «آن» بهمزة ومدة بعدها وبعض القراء بهمزتين محققتين والهمزة في القرائتين للاستفهام الإنكاري ويوقف على تَوَلَّى والمعنى إلّا أن جاء الأعمى فعل ذلك وضمير لَعَلَّهُ للأعمى والظاهر أن الجملة متعلقة بفعل الدراية على وجه سد مسد مفعوله أي أي شيء يجعلك داريا بحال هذا الأعمى لعله يتطهر بما يتلقن من الشرائع من بعض أوضار الإثم. أَوْ يَذَّكَّرُ أي يتعظ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى أي ذكراك وموعظتك والمعنى أنك لا تدري ما هو مترقب منه من تزك أو تذكر ولو دريت لما كان الذي كان والغرض نفي دراية أنه يزكى أو يذكر والترجي راجع إلى الأعمى أو إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم على ما قيل دلالة على أن رجاء تزكية أو كونه ممن يرجى منه ذلك كاف في الامتناع من العبوس والإعراض كيف وقد كان استزكاؤه محققا، ولما هضم من حقه في تعلق الرجاء به لا التحقق اعتبر متعلق التزكي بعض الأوضار ترشيحا لذلك وفيه إظهار ما يقتضي مقام العظمة هاهنا من إطلاق التزكي وحمله على ما ينطلق عليه الاسم لا الكامل. وقال بعضهم: متعلق الدراية محذوف أي ما يدريك أمره وعاقبة حاله ويطلعك على ذلك. وقوله سبحانه لَعَلَّهُ إلخ استئناف وارد لبيان ما يلوح به ما قبله فإنه مع إشعاره بأن له شأنا منافيا للإعراض عنه خارجا عن دراية الغير ودرائه مؤذن بأنه تعالى يدريه ذلك. واعتبر في التزكي الكمال فقال: أي لعله يتطهر بما يقتبس منك من أوضار الإثم بالكلية أو يتذكر فتنفعه موعظتك إن لم تبلغ درجة التزكي التام، ولعل الأول أبعد مغزى. وقدم التزكي على التذكر لتقدم التخلية على التحلية وخص بعضهم الثاني بما إذا كان ما يتعلمه من النوافل والأول بما إذا كان سوى ذلك وهو كما ترى وفي الآية تعريض وإشعار بأن من تصدى صلّى الله عليه وسلم لتزكيتهم وتذكيرهم من الكفرة لا يرجى منهم التزكي والتذكر أصلا فهي كقولك لمن يقرر مسألة لمن لا يفهمها وعنده آخر قابل لفهمها: لعل هذا يفهم ما تقرر فإنه يشعر بأنه قصد تفهيم غيره وليس بأهل لما قصده، وقيل: جاء التعريض من جهة أن المحدث عنه كان متزكيا من الآثام متعظا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 242 وقيل ضمير لَعَلَّهُ للكافر والترجي راجع إلى الرسول صلّى الله عليه وسلم أي إنك طمعت في تزكيه بالإسلام وتذكره بالموعظة ولذلك أعرضت عن غيره فما يدريك أن ما طمعت فيه كائن وضعف بعدم تقدم ذكر الكافر وبإفراد الضمير والظاهر جمعه أي بناء على المشهور في أن من تشاغل عليه الصلاة والسلام به كان جمعا وجاء في بعض الروايات أنه كان واحدا. وقرأ الأعرج وعاصم في رواية «أو يذكر» بسكون الذال وضم الكاف وقرأ الأكثر «فتنفعه» بالرفع عطفا على يَذَّكَّرُ وبالنصب قرأ عاصم في المشهور والأعرج وأبو حيوة وابن أبي عبلة والزعفراني وهو عند البصريين بإضمار أن بعد الفاء وعند الكوفيين في جواب الترجي وهو كالتمني عندهم ينصب في جوابه. وفي الكشف أن النصب يؤيد رجوع ضمير لعله على الكافر لإشمام الترجي معنى التمني لبعد المرجو من الحصول أي بالنظر إلى المجموع إذ قد حصل من العباس وعلى السابق وجهه ترشيح معنى الهضم فتذكر أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى أي عن الإيمان وعما عندك من العلوم والمعارف التي ينطوي عليها القرآن وفي معناه ما قيل استغنى بكفره عما يهديه وقيل: أي وأما من كان ذا ثروة وغنى وتعقب بأنه لو كان كذلك لذكر الفقر في مقابله وأجيب بما ستعمله إن شاء الله تعالى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى أي تتصدى وتتعرض بالإقبال عليه والاهتمام بإرشاده واستصلاحه وفيه مزيد تنفير له صلّى الله عليه وسلم عن مصاحبتهم فإن الإقبال على المدبر مخل بالمروءة، ومن هنا قيل: لا أبتغي وصل من لا يبتغي صلتي ... ولا ألين لمن لا يبتغي ليني والله لو كرهت كفي مصاحبتي ... يوما لقلت لها عن صحبتي بيني وقرأ الحرميان «تصدّى» بتشديد الصاد على أن الأصل تتصدى فقلبت التاء صادا وأدغمت وقرأ أبو جعفر «تصدّى» بضم التاء وتخفيف الصاد مبنيا للمعفول أي تعرض ومعناه يدعوك إلى التصدّي والتعرض له داع من الحرص ومزيد الرغبة في إسلامه، وأصل تَصَدَّى على ما في البحر تصدد من الصدد وهو ما استقبلك وصار قبالتك يقال داري صدد داره أي قبالتها، وقيل من الصدى وهو العطش وقيل من الصدى وهو الصوت المعروف وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وليس عليك بأس في أن لا يتزكى بالإسلام حتى يبعثك الحرص على إسلامه إلى الإعراض عمن أسلم فما نافية والجملة حال من ضمير تَصَدَّى والممنوع عنه في الحقيقة الإعراض عمن أسلم لا الإقبال على غيره والاهتمام بأمره حرصا على إسلامه، ويجوز أن تكون ما استفهامية للإنكار أي أي شيء عليك في أن لا يتزكى ومآله النفي أيضا وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى أي حال كونه مسرعا طالبا لما عندك من أحكام الرشد وخصال الخير وَهُوَ يَخْشى أي يخاف الله تعالى وقيل أذية الكفار في الإتيان وقيل العثار والكبوة إذ لم يكن معه قائد والجملة حال من فاعل يَسْعى كما أن جملة يَسْعى حال من فاعل جاءَكَ واستظهر بعض الأفاضل أن النظم الجليل من الاحتباك ذكر الغنى أولا للدلالة على الفقر ثانيا، والمجيء والخشية ثانيا للدلالة على ضدهما أولا وكأنه حمل استغنى على ما نقل أخيرا واستشعر ما قيل عليه فاحتاج لدفعه إلى هذا التكلف وعدم الاحتياج إليه على ما نقلناه في غاية الظهور فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى تتشاغل يقال لهى عنه كرضى ورمى والتهى وتلهى. وفي تقديم ضميره عليه الصلاة والسلام على الفعلين تنبيه على أن مناط الإنكار خصوصيته عليه الصلاة والسلام وتقديم له وعنه قيل للتعريض بالاهتمام بمضمونها وقيل للعناية لأنهما منشأ العتاب وقيل للفاصلة وقيل للحصر وذكر التصدي في المستغني دون الاشتغال به وهو المقابل للتلهي عن المسرع الخاشي والتلهي عنه دون عدم التصدي له وهو المقابل للتصدي لذلك قيل للإشعار الجزء: 15 ¦ الصفحة: 243 بأن العتاب للاهتمام بالأول لا للاشتغال به إذ الاشتغال بالكفار غير ممنوع وعلى الاشتغال عن الثاني لا لأنه لا اهتمام له صلّى الله عليه وسلم في أمره إذ الاهتمام غير واجب لأنه عليه الصلاة والسلام ليس إلّا منذرا. وقرأ البزي عن ابن كثير «عنهو تلهى» بإدغام تاء المضارعة في تاء تفعل وأبو جعفر «تلهّى» بضم التاء مبنيا للمفعول أي يشغلك الحرص على دعاء الكافر للإسلام وطلحة «تتلهى» بتاءين وعنه بتاء واحدة وسكون اللام كَلَّا مبالغة في إرشاده صلّى الله عليه وسلم إلى عدم معاودة ما عوقب عليه صلّى الله عليه وسلم، وقد نزل ذلك كما في خبر رواه ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس بعد أن قضى عليه الصلاة والسلام نجواه وذهب إلى أهله، وجوز كونه إرشادا بليغا إلى ترك المعاتب عليه عليه الصلاة والسلام بناء على أن النزول في أثناء ذلك وقبل انقضائه. وفي بعض الآثار أنه صلّى الله عليه وسلم بعد ما عبس في وجه فقير ولا تصدى لغني وتأدب الناس بذلك أدبا حسنا فقد روي عن سفيان الثوري أن الفقراء كانوا في مجلسه أمراء. والضمير في قوله تعالى إِنَّها للقرآن العظيم والتأنيث لتأنيث الخبر أعني قوله سبحانه تَذْكِرَةٌ أي موعظة يجب أن يتعظ بها ويعمل بموجبها وكذا الضمير في قوله عز وجل فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ والجملة والمؤكدة تعليل لما أفادته كلا ببيان علو رتبة القرآن العظيم الذي استغنى عنه من تصدى عليه الصلاة والسلام له والجملة الثانية اعتراض جيء به للترغيب في القرآن والحث على حفظه أو الاتعاظ به واقتران الجملة المعترض بها بالفاء قد صرح به ابن مالك في التسهيل من غير نقل اختلاف فيه وكلام الزمخشري في الكشاف عند الكلام على قوله تعالى فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ [النحل: 43، الأنبياء: 7] نص في ذلك نعم قيل إنه قيل له فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ اعتراض فقال لا لأن الاعتراض شرطه أن يكون بالواو أو بدونه فأما بالفاء فلا أي وهو استطراد لكن تعقب بأن النقل لمنافاته ذلك ليس بثبت، ويمكن أن يكون في القوم من ينكر ذلك فوافقه تارة وخالفه أخرى، وما ألطف قول السعد في التلويح الاعتراض يكون بالواو والفاء: فاعلم فعلم المرء ينفعه هذا وقيل الضمير الأول للسورة أو للآيات السابقة والثاني للتذكرة والتذكير لأنها بمعنى الذكر والوعظ أو لمرجع الأول والتذكير باعتبار كون ذلك قرآنا ورجح بعدم ارتكاب التأويل قبل الاحتياج إليه وتعقب بأنه ليس بذاك فإن السورة أو الآيات وإن كانت متصفة بما سيأتي إن شاء الله تعالى من الصفات الشريفة لكنها ليست مما ألقى على من استغنى عنه واستحق بسبب ذلك ما سيأتي إن شاء الله تعالى من الدعاء عليه والتعجب من كفره المفرط لنزولها بعد الحادثة وجوز كون الضميرين للمعاتبة الواقعة وتذكير الثاني لكونها عتابا وفيه أنه يأباه الوصف بالصفات الآتية وإن كان باعتبار أن العتاب وقع بالآيات المذكورة قبل وهي متصفة بما ذكر جاء ما سمعت آنفا وقيل لك أن تجعلهما للدعوة إلى الإسلام وتذكير الثاني لكونها دعاء وهذا على ما فيه مما يأباه المقام. وقوله تعالى فِي صُحُفٍ متعلق بمضمر هو صفة لتذكرة أو خبر ثان لأن أي كائنة أو مثبتة في صحف والمراد بها الصحف المنتسخة من اللوح المحفوظ. وعن ابن عباس هي اللوح نفسه وهو غير ظاهر وقيل الصحف المنزلة على الأنبياء عليهم السلام كقوله تعالى وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [الشعراء: 196] وقيل: صحف المسلمين على أنه إخبار بالغيب فإن القرآن بمكة لم يكن في الصحف وإنما كان متفرقا في الدفاف والجريد ونحوهما، وأول ما جمع في صحيفة في عهد أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وهو كما ترى مُكَرَّمَةٍ عند الله عز وجل مَرْفُوعَةٍ أي في السماء السابعة كما قال يحيى بن سلام أو مرفوعة القدر كما الجزء: 15 ¦ الصفحة: 244 قيل مُطَهَّرَةٍ منزهة عن مساس أيدي الشياطين أو عن كل دنس على ما روي عن الحسن، وقيل: عن الشبه والتناقص والأول قيل مأخوذ من مقابلته بقوله تعالى: بِأَيْدِي سَفَرَةٍ أي كتبة من الملائكة عليهم السلام كما قال مجاهد وجماعة فإنهم ينسخون الكتب من اللوح وهو جمع سافر أي كاتب والمصدر السفر كالضرب. وعن ابن عباس هم الملائكة المتوسطون بين الله تعالى وأنبيائه عليهم السلام على أن جمع سافر أيضا بمعنى سفير أي رسول وواسطة، والمشهور في مصدره بهذا المعنى السفارة بكسر السين وفتحها وجاء فيه السفر أيضا كما في القاموس. وقيل: هم الأنبياء عليهم السلام لأنهم سفراء بين الله تعالى والأمة أو لأنهم يكتبون الوحي ولا يخفى بعده فإن الأنبياء عليهم السلام وظيفتهم التلقي من الوحي لا الكتب لما يوحى على أن خاتمهم صلّى الله عليه وسلم لم يكن يكتب القرآن بل لم يكتب أصلا على ما هو الشائع وقد مر تحقيقه وكذا وظيفتهم إرشاد الأمة بالأمر والنهي وتعليم الشرائع والأحكام لا مجرد السفارة إليهم. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن وهب بن منبه أنهم أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم قيل لأنهم سفراء ووسائط بينه عليه الصلاة والسلام وبين سائر الأمة، وقيل: لأن بعضهم يسفر إلى بعض في الخير والتعليم والتعلم وفي رواية عن قتادة أنهم القراء وكان القولين ليس بالمعول عليه وقد قالوا هذه اللفظة مختصة بالملائكة عليهم السلام لا تكاد تطلق على غيرهم وإن جاز الإطلاق بحسب اللغة ومادتها موضوعة بجميع تراكيبها لما يتضمن الكشف كسفرت المرأة إذا كشفت القناع عن وجهها والباء قيل متعلقة ب مُطَهَّرَةٍ وقيل بمضمر هو صفة أخرى ل صُحُفٍ كِرامٍ أي أعزاء على الله تعالى معظمين عنده عز وجل فهو من الكرامة بمعنى التوقير أو متعطفين على المؤمنين يستغفرون لهم ويرشدونهم إلى ما فيه الخير بالإلهام وينزلون بما فيه تكميلهم من الشرائع فهو من الكرم ضد اللؤم بَرَرَةٍ أي أتقياء وقيل مطيعين الله تعالى من قولهم فلان يبر خالقه أي يطيعه وقيل صادقين من بر في يمينه وهو جمع بر لا غير، وأما أبرار فيكون جمع بر كرب وأرباب وجمع بار كصاحب وأصحاب وإن منعه بعض النحاة لعدم اطّراده واختص على ما قيل الجمع الأول بالملائكة والثاني بالآدميين في القرآن ولسان الشارع صلّى الله عليه وسلم وكان ذلك لأن الأبرار من صيغ القلة دون البررة، ومتقو الملائكة أكثر من متقي الآدميين فناسب استعمال صيغة القلة وإن لم ترد حقيقتها في الآدميين دونهم. وقال الراغب. خص البررة بهم من حيث إنه أبلغ من أبرار فإنه جمع بر وأبرار جمع بار، وبر أبلغ من بار كما أن عدلا أبلغ من عادل وكأنه عنى أن الوصف ببر أبلغ لكونه من قبيل الوصف بالمصدر من الوصف ببار لكن قد سمعت أن أبرارا يكون جمع بر كما يكون جمع بار وأيضا في كون الملائكة أحق بالوصف بالأبلغ بالنسبة إلى الآدميين مطلقا بحث. وقيل: إن الأبرار أبلغ من البررة إذ هو جمع بار والبررة جمع بر وبار أبلغ منه لزيادة بنيته ولما كانت صفات الكمال في بني آدم تكون كاملة وناقصة وصفوا بالأبرار إشارة إلى مدحهم بأكمل الأوصاف، وأما الملائكة فصفات الكمال فيهم لا تكون ناقصة فوصفوا بالبررة لأنه يدل على أصل الوصف بقطع النظر عن المبالغة فيه لعدم احتياجهم لذلك وإشارة لفضيلة البشر لما في كونهم أبرارا من المجاهدة وعصيان داعي الجبلة وفيه ما لا يخفى ومن استعمال البررة في الملائكة ما أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأه وهو عليه شاق له أجران» . قُتِلَ الْإِنْسانُ دعاء عليه بأشنع الدعوات وأفظعها ما أَكْفَرَهُ تعجيب من إفراطه في الكفران وبيان لاستحقاقه الدعاء عليه والمراد به إما من استغنى عن القرآن الكريم الذي ذكرت نعوته الجليلة الموجبة للإقبال الجزء: 15 ¦ الصفحة: 245 عليه والإيمان به، وإما الجنس باعتبار انتظامه له ولأمثاله من أفراده ورجح هذا بأن الآية نزلت على ما أخرج ابن للمنذر عن عكرمة في عتبة بن أبي لهب غاضب أباه فأسلم ثم استصلحه أبوه وأعطاه مالا وجهزه إلى الشام، فبعث إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم إنه كافر برب النجم إذا هوى فقال صلّى الله عليه وسلم: «اللهم ابعث عليه كلبك حتى يفترسه» فلما كان في أثناء الطريق ذكر الدعاء فجعل لمن معه ألف دينار إن أصبح حيا فجعلوه وسط الرفقة والمتاع حوله فأقبل أسد إلى الرحال ووثب فإذا هو فوقه فمزقه فكان أبوه يندبه ويبكي عليه ويقول: ما قال محمد صلّى الله عليه وسلم شيئا قط إلّا كان وسيأتي إن شاء الله تعالى خبر في هذه القصة أطول من هذا الخبر فلا تغفل ثم إن هذا كلام في غاية الإيجاز. وقد قال جار الله: لا ترى أسلوبا أغلظ منه ولا أدل على سخط ولا أبعد شوطا في المذمة مع تقارب طرفيه ولا أجمع للأئمة على قصر متنه حيث اشتمل على ما سمعت من الدعاء مرادا إذ لا يتصور منه تعالى لازمه وعلى التعجب المراد به لاستحالته عليه سبحانه التعجيب لكل سامع. وقال الإمام: إن الجملة الأولى تدل على استحقاقهم أعظم أنواع العقاب عرفا، والثانية تنبيه على أنهم اتصفوا بأعظم أنواع القبائح والمنكرات شرعا ولم يسمع ذلك قبل نزول القرآن وما نسب إلى امرئ القيس من قوله: يتمنى المرء في الصيف الشتا ... فإذا جاء الشتا أنكره فهو لا يرضى بحال واحد ... قتل الإنسان ما أكفره لا أصل له ومن له أدنى معرفة بكلام العرب لا يجهل أن قائل ذلك مولد أراد الاقتباس لا جاهلي، وجوز بعضهم أن يكون قوله تعالى قُتِلَ الْإِنْسانُ خبرا عن أنه سيقتل الكفار بإنزال آية القتال وعبر بالماضي مبالغة في أنه سيتحقق ذلك وليس بشيء ونحوه ما قيل إن ما استفهامية أي أي شيء أكفره أي جعله كافرا بمعنى لا شيء يسوغ له أن يكفر. وقوله تعالى مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ شروع في بيان إفراطه في الكفران بتفصيل ما أفاض عز وجل عليه من مبدأ فطرته إلى منتهى عمره من فنون النعم الموجبة لأن تقابل بالشكر والطاعة مع إخلاله والاستفهام قيل للتحقير وذكر الجواب أعني قوله تعالى مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ لا يقتضي أنه حقيقي لأنه ليس بجواب في الحقيقة بل على صورته وهو بدل من قوله سبحانه مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وجوز أن يكون للتقرير والتحقير مستفاد من شيء المنكر وقيل التحقير يفهم. أيضا من قوله سبحانه مِنْ نُطْفَةٍ إلخ أي من أي شيء حقير مهين خلقه من نطفة مذرة خلقه فَقَدَّرَهُ فهيأه لما يصلح له ويليق به من الأعضاء والأشكال فالتقدير بمعنى التهيئة لما يصلح ولذا ساغ عطفه بالفاء دون التسوية لأن الخلق بمعنى التقدير بهذا المعنى أو يتضمنه فلا تصلح الفاء وجوز أن يكون هذا تفصيلا لما أجمل أولا في قوله تعالى مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ أي فقدره أطوار إلى أن أتم خلقه ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ أي ثم سهل مخرجه من البطن كما جاء في رواية عن ابن عباس بأن فتح فم الرحم ومدد الأعصاب في طريقه ونكس رأسه لأسفل بعد أن كان في جهة العلو. وعن ابن عباس أيضا وقتادة وأبي صالح والسدّي المراد ب السَّبِيلَ سبيل النظر القويم المؤدي إلى الإيمان وتيسيره له هو هبة العقل وتمكينه من النظر. وقال مجاهد والحسن وعطاء وهو رواية عن الحبر أيضا: هو سبيل الهدى والضلال أي سهل له الطريق الذي يريد سلوكه من طريق الخير والهدى وطريق الشر والضلال بأن أقدره عز وجل على كل ومكنه منه والإقدار على المراد نعمة ظاهرة بقطع النظر عن خيريته وشريته فلا يرد عليه أنه كيف يعد تسهيل طريق الشر والضلال من النعم وقل إنه عد منها لأنه لو لم يكن مسهلا كسبيل الخير لم يستحق المدح والثواب بالإعراض عنه وتركه مبني على القول بأن ترك المحرم كالزنا مع عدم القدرة عليه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 246 لعنة مثلا لا يثاب عليه وقيل يثاب ويمدح عليه إذا قدر التارك في نفسه أنه لو تمكن لم يفعل. وقال بعضهم: العجز عن الشر نعمة وأنشد: جكونه شكر ابن نعمت كزارم ... كه زور مردم آزارى ندارم ونصب السبيل بمضمر يفسره الظاهر وفيه مبالغة في التيسير وتمكين في النفس بسبب التكرير. قيل: وفي تعريفه باللام دون الإضافة إشعار بعمومه فإنه لو قيل سبيله أوهم أنه على التوزيع وإن لكل إنسان سبيلا يخصه وخص بعضهم هذه النكتة بالمعنى الأخير للسبيل فتدبر. وعلى هذا المعنى قيل إن فيه إيماء إلى أن الدنيا طريق المقصد غيرها لما أشعرت به الآية من أن الميسر سبيل المكلفين الذي يترتب عليه الثواب والعقاب وفيه خفاء وأيّا ما كان فالضمير المنصوب في يَسَّرَهُ للسبيل وليس في التفكيك لبس حتى يكون نقصا في البيان ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ أي جعله ذا قبر توارى فيه جيفته تكرمة له ولم يجعله مطروحا على الأرض يستقذره من يراه وتقتسمه السباع والطير إذا ظفرت به كسائر الحيوان والمراد من جعله إذا قبر أمره عز وجل بدفنه يقال: قبر الميت إذا دفنه بيده، ومنه قول الأعشى: لو أسندت ميتا إلى نحرها ... عاش ولم ينقل إلى قابر وأقبره إذا أمر بدفنه أو مكّن منه ففي الآية إشارة إلى مشروعية دفن الإنسان وهي مما لا خلاف فيه وأما دفن غيره من الحيوانات فقيل هو مباح لا مكروه وقد يطلب لأمر مشروع يقتضيه كدفع أذى جيفته مثلا وعد الإماتة من النعم لأنها وصلة في الجملة إلى الحياة الأبدية والنعيم المقيم، وخصت هذه النعم بالذكر لما فيها من ذكر أحوال الإنسان من ابتدائه إلى انتهائه وما تتضمن من النعم التي هي محض فضل من الله فإذا تأمل ذلك العاقل علم قبح الكفر وكفران نعم الرب سبحانه وتعالى فشكره جل وعلا بالإيمان والطاعة ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ أي إذا شاء إنشاره أنشره على القاعدة المعروفة في حذف مفعول المشيئة وفي تعليق الإنشار بمشيئته تعالى إيذان بأن وقته غير معين أصلا بل هو تابع لها وهذا بخلاف الإماتة فإن وقتها معين إجمالا على ما هو المعهود في الأعمار الطبيعية وكذا الحال في وقت الإقبار بل هو أظهر في ذلك. وقرأ شعيب بن الحجاب كما في كتاب اللوامح وابن أبي حمزة كما في تفسير ابن عطية «نشره» بدون همزة وهما لغتان في الإحياء وقوله تعالى كَلَّا ردع للإنسان عما هو عليه من كفران النعم البالغ نهايته وقوله سبحانه لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ بيان لسبب الردع ولَمَّا نافية جازمة ونفيها غير منقطع وما موصولة وضمير أَمَرَهُ إما للإنسان كالمستتر في يقض والعائد إلى الموصول محذوف أي به أو للموصول على الحذف والإيصال والعائد إلى الإنسان محذوف أي إياه قيل والثاني أحسن لأن حذف المفعول أهون من حذف العائد إلى الموصول والمراد بما أمره جميع ما أمره والمعنى على ما قال غير واحد لم يقض من أول زمانه تكليفه إلى زمان أمانته وإقباره أو من لدن آدم عليه السلام إلى هذه الغاية مع طول المدى وامتداده جميع ما أمره فلم يخرج من جميع أوامره تعالى إذ لا يخلو أحد عن تقصير ما، ونقل هذا عن مجاهد وقتادة وفيه حمل عدم القضاء على نفي العموم وتعقب بأنه لا ريب في أن مساق الآيات الكريمة لبيان غاية عظم جناية الإنسان وتحقيق كفرانه المفرط المستوجب للسخط العظيم وظاهر أن ذلك لا يتحقق بهذا القدر من نوع تقصير لا يخلو عنه أحد من أفراده واختير أن يحمل عدم القضاء على عموم النفي إما على أن المحكوم عليه هو الإنسان المستغني أو هو الجنس لكن لا على الإطلاق بل على أن مصداق الحكم بعدم القضاء بعض أفراده وقد أسند إلى الكل كما في قوله الجزء: 15 ¦ الصفحة: 247 تعالى إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34] وإما على أن مصداقه الكل من حيث هو كمل بطريق رفع الإيجاب الكلي دون السلب الكلي فالمعنى لما يقض جميع أفراده ما أمره بل أخل به بعضها بالكفر والعصيان مع أن مقتضى ما فصل من فنون النعماء الشاملة للكل أن لا يختلف عنه أحد. وعن الحسن أن كَلَّا بمعنى حقا فيتعلق بما بعده أي حقا لم يعمل بما أمره به. وقال ابن فورك: الضمير في يَقْضِ لله تعالى أي لم يقض الله تعالى لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان بل أمره إقامة للحجة عليه لما يقض له ولا يخفى بعده. والظاهر عليه أن كَلَّا بمعنى حقا أيضا وقوله سبحانه فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ على معنى إذا كان هذا حال الإنسان وهو أنه إلى الآن لم يقض ما أمره مع أن مقتضى النعم السابقة القضاء فلينظر إلى طعامه إلخ لعله يقضي. وفي الحواشي العصامية لا يخفى ما في قوله تعالى لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ من كمال تهييج الإنسان وتحريضه على امتثال ما يعقبه من الأمر بالنظر وتفريع الأمر عليه مبني على أن الائتمار كما ينبغي أن يتيسر بعد الارتداع عما هو عليه، والظاهر أن المراد بالإنسان هنا نحو ما أريد به في قوله تعالى قُتِلَ الْإِنْسانُ ولما جوز صاحب الحواشي المذكورة حمل عدم القضاء على السلب الكلي وجعل الكلام في الإنسان المبالغ في الكفر قال: فالمراد بضمير يَقْضِ غير الإنسان الذي أمر بالنظر فإنه عام فلذا أظهر وتضمن ما مر ذكر النعم الذاتية أي ما يتعلق بذات الإنسان من الذات نفسها ولوازمها، وهذا ذكر النعم الخارجية المقابلة لذلك وقيل: الأولى نعم خاصة والثانية نعم عامة. وقيل: تلك نعم متعلقة بالحدوث وهذه نعم متعلقة بالبقاء وفيه نظر. والظاهر أن المراد بالطعام المطعوم بأنواعه واقتصر عليه ولم يذكر المشروب لأن آثار القدرة فيه أكثر من آثارها في المشروب واعتبار التغليب لا يخفى ما فيه. وقوله تعالى أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ بدل منه بدل اشتمال فإنه لكونه من أسباب تكونه كالمشتمل عليه والعائد محذوف أي صببنا له، وجوز كونه بدل كل من كل على معنى فلينظر الإنسان إلى إنعامنا في طعامه إنا صببنا إلخ وهو كما ترى وأيّا ما كان فالمقصود بالنظر هو البدل وبذلك يضعف ما روي عن أبيّ وابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم أن المعنى فلينظر إلى طعامه إذا صار رجيعا ليتأمل عاقبة الدنيا وما تهالك عليه أهلها، ولعمري إن هذا بعيد الإرادة عن السياق ولا أظن أنه وقع على صحة روايته عن هؤلاء الأجلّة الاتفاق. وظاهر الصب يقتضي تخصيص الماء بالغيث وهو المروي عن ابن عباس وجوز بعضهم إرادة الأعم. وقال: إن في كل ماء صبا من الله تعالى بخلق أسبابه على أصول النباتات وأنت تعلم أن إيصال الماء إلى أصول النباتات يبعد تسميته صبا وتأكيد الجملة للاعتناء بمضمونها مع كونها مظنة لإنكار القاصر لعدم الإحساس بفعل من الله تعالى وإنما يعرف الاستناد إليه عز وجل بالنظر الصحيح. وقرأ الأكثر «إنّا» بالكسر على الاستئناف البياني كأنه لما أمر سبحانه بالنظر إلى ما رزقه جل وعلا من أنواع المأكولات قيل كيف أحدث ذلك وأوجد بعد أن لم يكن فقيل أَنَّا صَبَبْنَا إلخ وقرأ الإمام الحسين ابن أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجههما ورضي سبحانه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 248 عنهما «أنى صببنا» بفتح الهمزة والإمالة على معنى فلينظر الإنسان كيف صببنا الماء صَبًّا عجيبا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ أي بالنبات كما قال ابن عباس شَقًّا بديعا لائقا بما يشقها من النبات صغرا وكبرا وشكلا وهيئة. وقيل: شقها بالكراب وإسناده إلى ضميره تعالى مجاز من باب الإسناد إلى السبب وإن كان الله تعالى عز وجل هو الموجد حقيقة فقد تبين في موضعه أن إسناد الفعل حقيقة لمن قام به لا من صدر عنه إيجادا ولهذا يشتق اسم الفاعل له وتعقب بأنه يأباه كلمة ثم والفاء في قوله تعالى فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا فإن الشق بالمعنى المذكور لا ترتب بينه وبين الإمطار أصلا ولا بينه وبين إنبات الحب بلا مهلة فإن المراد بالنبات ما نبت من الأرض إلى أن يتكامل النمو وينعقد الحب فإن انشقاق الأرض بالنبات لا يزال يتزايد ويتسع إلى تلك المرتبة على أن مساق النظم الكريم لبيان النعم الفائضة من جنابه تعالى على وجه بديع خارج عن العادات المعهودة كما ينبىء منه إرداف الفعلين بالمصدرين فتوسيط فعل المنعم عليه في حصول تلك النعم مخل بالمرام وللبحث فيه مجال. وقيل عليه أيضا إن الشق بالكراب لا يظهر في العنب والزيتون والنخل وأجيب بأنه ليس من لوازم العطف تقييد المعطوف بجميع ما قيد به المعطوف عليه ويحتمل أن يكون ذكر الكراب في القيل على سبيل التمثيل، أو أريد به ما يشمل الحفر وجوز أن يكون المراد شقها بالعيون على أن المراد بصب الماء إمطار المطر وبهذا إجراء الأنهار، وتعقب بأنه يأباه ترتب الشق على صب الماء بكلمة التراخي وأيضا ترتيب الإنبات على مجموع الصب والشق بالمعنى المذكور لا يلائم قوله تعالى وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا [النبأ: 14، 15] الآية لإشعارة باستقلال الصب وإنزال الغيث في ذلك، ودفعا بأن ماء العيون من المطر لا من الأبخرة المحتبسة في الأرض ولا يخفى على ذي عين أن هذا الوجه بعيد متكلف. والمراد بالحب جنس الحبوب التي يتقوت بها وتدخر كالحنطة والشعير والذرة وغيرها وَعِنَباً معروف وَقَضْباً أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال هو الفصفصة وقيدها الخليل بالرطبة وقال: إذا يبست فهي القت وسميت بمصدر قضبه أي قطعة مبالغة كأنها لتكرر قطعها وتكثره نفسه القطع، وضعف هذا من فسر الأب بما يشمل ذلك وقيل هو كل ما يقضب ليأكله ابن آدم غضا من النبات كالبقول والهليون. وفي البحر عن الحبر إنه الرطب وهو يقضب من النخل واستأنس له بذكره مع العنب ولا يخفى ما فيه وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا هما معروفان وَحَدائِقَ رياضا غُلْباً أي عظاما وأصله جمع أغلب وغلباء صفة العنق وقد يوصف به الرجل لكن الأول هو الأغلب ومنه قول الأعشى: يمشي بها غلب الرقاب كأنهم ... بزل كسين من الكحيل (1) جلالا ووصف الحدائق بذلك على سبيل الاستعارة شبه تكاثف أوراق الأشجار وعروقها بغلظ الأوداج وانتفاخ الأعصاب مع اندماج بعضها في بعض في غلظ الرقبة إلا أن الغلظ في الأشجار أقوى لأن الأمر بالعكس نظرا إلى الاندماج وتقوّي البعض بالبعض حتى صارت شيئا واحدا، وجوز أن يكون هناك مجاز مرسل كما في المرسن بأن يراد بالأغلب الغليظ مطلقا، وتجوز في الإسناد أيضا لأن الحدائق نفسها ليست غليظة بل الغليظ أشجارها. وقال بعض: المراد بالحدائق نفس الأشجار لمكان العطف على ما في حيز أنبتنا فلا تغفل وَفاكِهَةً قيل هي الثمار كلها وقيل بل هي الثمار ما عدا العنب والرمان وأيّا ما كان فذكر ما يدخل فيها   (1) الكحيل مصغر وهو النفط يطلى به الجرب اهـ منه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 249 أولا للاعتناء بشأنه وَأَبًّا عن ابن عباس وجماعة إنه الكلأ والمرعى من أنّه إذا أمّه وقصده لأنه يؤم ويقصد أو من أب لكذا إذا تهيأ له لأنه متهىء المرعى ويطلق على نفس مكان الكلأ ومنه قوله: جذمنا (1) قيس ونجد دارنا ... ولنا الأب بها والمكرع وذكر بعضهم أن ما يأكله الآدميون من النبات يسمى الحصيدة والحصيد، وما يأكله غيرهم يسمى الأب وعليه قول بعض الصحابة يمدح النبي صلّى الله عليه وسلم: له دعوة ميمونة ريحها الصبا ... بها ينبت الله الحصيدة والأبا وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك أنه التبن خاصة وقيل هو يابس الفاكهة لأنها تؤب وتهيأ للشتاء للتفكه بها. وأخرج أبو عبيد في فضائله وعبد بن حميد عن إبراهيم التيمي قال: سئل أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه عن الأب ما هو؟ فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله تعالى ما لا أعلم. وأخرج ابن سعد وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وغيرهم عن أنس أن عمر رضي الله تعالى عنه قرأ على المنبر فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباً- إلى قوله- وَأَبًّا فقال: كل هذا قد عرفناه فما الأب ثم رفع عصا كانت في يده فقال هذا لعمر الله هو التكلف فما عليك يا ابن أم عمر أن لا تدري ما الأب ابتغوا ما بيّن لكم من هذا الكتاب فاعملوا به وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربه وفي صحيح البخاري من رواية أنس أيضا أنه قرأ ذلك وقال: فما الأب؟ ثم قال: ما كلفنا أو ما أمرنا بهذا. ويتراءى من ذلك النهي عن تتبع معاني القرآن والبحث عن مشكلاته. وفي الكشاف لم يذهب إلى ذلك ولكن القوم كانت أكبر همتهم عاكفة على العمل وكان التشاغل بشيء من العلم لا يعمل به تكلفا فأراد رضي الله تعالى عنه أن الآية مسوقة في الامتنان على الإنسان بمطمعه واستدعاء شكره وقد علم من فحواها أن الأب بعض ما أنبت سبحانه للإنسان متاعا له أو لأنعامه فعليك بما هو أهم من النهوض بالشكر له عز وجل على ما تبين لك، ولم يشكل مما عدد من نعمته تعالى ولا تتشاغل عنه بطلب معنى الأب ومعرفة النبات الخاص الذي هو اسم له واكتف بالمعرفة الجملية إلى أن يتبين لك في غير هذا الوقت، ثم وصى الناس بأن يجروا على هذا السنن فيما أشبه ذلك من مشكلات القرآن انتهى. وهو قصارى ما يقال في توجيه ذلك لكن في بعض الآثار عن الفاروق كما في الدر المنثور ما يبعد فيه إن صح هذا التوجيه بقي شيء وهو أنه ينبغي أن خفاء تعيين المراد من الأب على الشيخين رضي الله تعالى عنهما ونحوها من الصحابة وكذا الاختلاف فيه لا يستدعي كونه غريبا مخلا بالفصاحة وأنه غير مستعمل عند العرب العرباء وقد فسره ابن عباس لابن الأزرق بما تعتلف منه الدواب واستشهد به بقول الشاعر: ترى به الأب واليقطين مختلطا ووقع في شعر بعض الصحابة كما سمعت ومن تتبع وجد غير ذلك. مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ قيل إما مفعول له أي فعل ذلك تمتيعا لكم ولمواشيكم فإن بعض النعم المعدودة طعام لهم وبعضها علف لدوابهم ويوزع وينزل كل على مقتضاه والالتفات لتكميل الامتناع، وإما مصدر مؤكد لفعله المضمر بحذف الزوائد أي متعكم بذلك متاعا أو لفعل مرتب عليه أي فتمتعتم بذلك متاعا أي تمتعا أو مصدر من غير لفظه فإن ما ذكر   (1) جذمنا بكسر الجيم أي أصلنا اهـ منه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 250 من الأفعال الثلاثة في معنى التمتيع وقد مر الكلام في نظيره فتذكر فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ شروع في بيان أحوال معادهم بعد بيان ما يتعلق بخلقهم ومعاشهم والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما يشعر به لفظ المتاع من سرعة زوال هاتيك النعم وقرب اضمحلالها. والصَّاخَّةُ هي الداهية العظيمة من صخ بمعنى أصاخ أي استمع والمراد بها النفخة الثانية، ووصفت بها لأن الناس يصخون لها فجعلت مستمعة مجازا في الظرف أو الإسناد. وقال الراغب الصَّاخَّةُ شدة صوت ذي النطق، يقال: صخ يصخ فهو صاخ فعليه هي بمعنى الصائحة مجازا أيضا. وقيل: مأخوذة من صخه بالحجر أي صكه. وقال الخليل: هي صيحة تصخ الآذان صخا أي تصمها لشدة وقعتها، ومنه أخذ الحافظ أبو بكر بن العربي قوله الصَّاخَّةُ هي التي تورث الصمم وإنها لمسمعة وهو من بديع الفصاحة كقوله: أصم بك الداعي وإن كان أسمعا ثم قال: ولعمر الله تعالى إن صيحة القيامة مسمعة تصم عن الدنيا وتسمع أمور الآخرة. والكلام في جواب (إذا) وفي يَوْمَ من قوله تعالى يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ أي زوجته وَبَنِيهِ على نحو ما تقدم في النازعات فتذكره فما في العهد من قدم أي يوم يعرض عنهم ولا يصاحبهم. ولا يسأل عن حالهم كما في الدنيا لاشتغاله بحال نفسه كما يؤذن به قوله تعالى لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ فإنه استئناف وارد لبيان سبب الفرار وجعله جواب فَإِذا والاعتذار عن عدم التصدير بالفاء بتقدير الماضي بغير قد أو المضارع المثبت أو بالفاء إبدال يوم يفر المرء عنه إياه لأن البدل لا يطلب جزاء لا يخفى حاله على من شرط الإنصاف على نفسه أي لكل واحد من المذكورين شغل شاغل وخطب هائل يكفيه في الاهتمام به. وأخرج الطبراني وابن مردويه والبيهقي والحاكم وصححه عن أم المؤمنين سودة بنت زمعة قالت: قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا قد ألجمهم العرق وبلغ شحوم الآذان» قلت: يا رسول الله وا سوأتاه ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: «شغل الناس عن ذلك» وتلا يَوْمَ يَفِرُّ الآية . وجاء في رواية الطبراني عن سهل بن سعد أنه قيل له عليه الصلاة والسلام: ما شغلهم؟ فقال صلّى الله عليه وسلم: «نشر الصحائف فيها مثاقيل الذر ومثاقيل الخردل» . وقيل يفر منهم لعلمه أنهم لا يغنون عنه شيئا وكلام الكشاف يشعر بذلك ويأباه ما سمعت وكذا ما قيل يفر منهم حذرا من مطالبتهم بالتبعات يقول الأخ لم تواسني بمالك، والأبوان قصرت في برنا، والصاحبة أطعمتني الحرام وفعلت وصنعت، والبنون لم تعلمنا ولم ترشدنا ويشعر بذلك ما أخرج أبو عبيد وابن المنذر عن قتادة قال: ليس شيء أشد على الإنسان يوم القيامة من أن يرى من يعرفه مخافة أن يكون يطلبه بمظلمة. ثم قرأ يَوْمَ يَفِرُّ الآية وذكر المرء بناء على أنه الرجل لا الإنسان ليعلم منه حال المرأة من باب أولى. وقيل: هو من باب التغليب وفيه نظر وجعل القاضي ذكر المتعاطفات على هذا النمط من باب الترقي على اعتبار الأب على الأم سابقا على عطفهما على الأخ فيكون المجموع معطوفا عليه وكذا في صاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ فقال: تأخير الأحب فالأحب للمبالغة كأنه قيل: يفر من أخيه بل من أبويه بل من صاحبته وبنيه، ولا يخفى تكلفه مع اختلاف الناس والطباع في أمر الحب ولعل عدم مراعاة ترق أو تدل لهذا الاختلاف مع الرمز إلى أن الأمر يومئذ أبعد من أن يخطر بالبال فيه ذلك. وروي عن ابن عباس أنه يفر قابيل من أخيه هابيل، ويفر النبي صلّى الله عليه وسلم من أمه، ويفر إبراهيم عليه السلام من أبيه، ويفر نوح عليه السلام من ابنه، ويفر لوط عليه السلام من امرأته. وفي خبر رواه ابن عساكر عن الحسن نحو ذلك وفيه فيرون أن هذه الآية أعني يوم يفر الجزء: 15 ¦ الصفحة: 251 إلخ نزلت فيهم وكلا الخبرين لا يعول عليهما ولا ينبغي أن يلتفت إليهما كما لا يخفى والذي أدين الله تعالى به نجاة أبويه صلّى الله عليه وسلم وقد ألفت رسائل في ذلك رغما لأنف علي القاري ومن وافقه وأعتقد أن جميع آبائه عليه الصلاة والسلام لا سيما من ولداه بلا واسطة أوفر الناس حظا مما أوتي هناك من السعادة والشرف وسمو القدر: كم من أب قد سما بابن ذرى شرف ... كما سما برسول الله عدنان وقرأ ابن محيصن وابن أبي عبلة وحميد وابن السميفع «يعنيه» بفتح الياء وبالعين المهملة أي يهمه من عناه الأمر إذا أهمه أي أوقعه في الهم ومنه قوله صلّى الله عليه وسلم: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» لا من عناه إذا قصده كما زعمه أبو حيان. وقوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ بيان لمآل أمر المذكورين وانقسامهم إلى السعداء والأشقياء بعد ذكر وقوعهم في داهية دهياء ف وُجُوهٌ مبتدأ وسوغ الابتداء به كونه في حيز التنويع كما مر ومُسْفِرَةٌ خبره ويَوْمَئِذٍ متعلق به أي مضيئة متهللة من أسفر الصبح إذا أضاء وعن ابن عباس إن ذلك من قيام الليل. وعن الضحاك من آثار الوضوء فيختص ذلك بهذه الأمة أي لأن الوضوء من خواصهم قيل أي بالنسبة إلى الأمم السابقة فقط لا مع أنبيائهم عليهم السلام وقيل من طول ما اغبرّت في سبيل الله تعالى ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ أي مسرورة بما تشاهد من النعيم المقيم والبهجة الدائمة وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ أي غبار وكدورة تَرْهَقُها أي تعلوها وتغشاها قَتَرَةٌ أي سواد وظلمة ولا ترى أوحش من اجتماع الغرة والسواد في الوجه وسوّى الفيروزآبادي والجوهري بين الغبرة والقترة فقيل المراد بالقترة الغبار حقيقة، وبالغبرة ما يغشاهم من العبوس من الهم. وقيل: هما على حقيقتهما والمعنى أن عليها غبارا وكدورة فوق غبار وكدورة. وقال زيد بن أسلم: الغبرة ما انحطت إلى الأرض والقترة ما ارتفع إلى السماء، والمراد وصول الغبار إلى وجوههم من فوق ومن تحت والمعول عليه ما تقدم. وقرأ ابن أبي عبلة «قترة» بسكون التاء أُولئِكَ إشارة إلى أصحاب تلك الوجوه وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجتهم في سوء الحال أي أولئك الموصوفون بما ذكر هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ أي الجامعون بين الكفر والفجور فلذلك جمع الله تعالى لهم بين الغبرة والقترة وكان الغبرة للفجور والقترة للكفور نعوذ بالله عز وجل من ذلك. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 252 سورة التّكوير ويقال سورة كورت وسورة إذا الشمس كورت وهي مكية بلا خلاف وآيها تسع وعشرون آية، وفي التيسير ثمان وعشرون، وفيها من شرح حال يوم القيامة الذي تضمنه آخر السورة قبل ما فيها وقد أخرج الإمام أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ إذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقت» أي السور الثلاث وكفى بذلك مناسبة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ أي لفّت من كورت العمامة إذا لففتها وهو مجاز عن رفعها (1) وإزالتها من مكانها بعلاقة اللزوم فإن الثوب إذا أريد رفعه يلف لفا ويطوى ثم يرفع ونحوه قوله تعالى يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ [الأنبياء: 104] ويجوز أن يراد لف ضوئها المنبسط في الآفاق المنتشر في الأقطار، إما على أن الشمس مجاز عن الضوء فإنه شائع في العرف، أو على تقدير المضاف، أو على التجوز في الإسناد ويراد من لفه إذهابه مجازا بعلاقة اللزوم كما سمعت آنفا، أو رفعه وستره استعارة كما قيل، وقد اعتبر تشبيه الضوء بالجواهر والأمور النفسية التي إذا رفعت لفّت في ثوب ثم تعتبر الاستعارة ويجعل التكوير بمعنى اللف قرينة ليكون هناك استعارة مكنية تخييلية. وكون المراد إذهاب ضوئها مروي عن الحسن وقتادة ومجاهد وهو ظاهر ما رواه جماعة عن ابن عباس من تفسيره كُوِّرَتْ بأظلمت، والظاهر أن ذاك مع بقاء جرمها كالقمر في خسوفه وفي الآثار ما يؤيد ذلك، وقيل: إن ذاك عبارة عن إزالة نفس الشمس والذهاب بها للزوم العادي واستلزام زوال اللازم لزوال الملزوم، ويجوز أن يكون المراد ب كُوِّرَتْ ألقيت عن فلكها   (1) ولعل القرينة النسبة اهـ منه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 253 وطرحت من طعنه فحوره وكوره أي ألقاه مجتمعا على الأرض وإلقاؤها في جهنم مع عبدتها كما يدل عليه بعض الأخبار المرفوعة ويذهب إذا ذاك نورها كما صرح به القرطبي أو في البحر كما يدل عليه خبر ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن ابن عتيك. وفيه أن الله تعالى يبعث ريحا دبورا فتنفخه أي البحر حتى يرجع نارا، وعظم جرم الشمس اليوم لا يقتضي استحالة إلقائها في البحر ذلك اليوم لجواز اختلاف الحال في الوقتين والله عز وجل على كل شيء قدير لكن جاء في الأخبار الصحيحة أن الشمس تدنو يوم القيامة من الرؤوس في المحشر حتى تكون قدر ميل ويلجم الناس العرق يومئذ والأبحر حينئذ لتلقى فيه بعد فلا تقفل وعن أبي صالح كُوِّرَتْ نكست. وفي رواية عن ابن عباس تكويرها إدخالها في العرش. وعن مجاهد أيضا اضمحلت، ومدار التركيب على الإدارة والجمع هذا ولم نقف لأحد من السلف على إرادة لفها حقيقة، وللمتأخرين في جواز إرادته خلاف فقيل: لا تجوز إرادته لأن الشمس كرية مصمتة وغاية اللف هي الإدارة وهي حاصلة فيها، وقيل: تجوز لأن كون الشمس كذلك مما لا يثبته أهل الشرح وعلى تسليمه يجوز أن يحدث فيها قابلية اللف بأن يصيرها سبحانه منبسطة ثم يلفها وله عز وجل في ذلك ما له من الحكم، ويبعد إرادة الحقيقة فيما أرى كونها كيفما كانت من الأجرام التي لا تلف كالثياب نعم القدرة في كل وقت لا يتعاصاها شيء، وارتفاع الشمس بفعل مضمر يفسره المذكور عند جمهور البصريين لاختصاص إذا الشرطية عندهم بالفعل وعلى الابتداء عند الأخفش والكوفيين لعدم الاختصاص عندهم وكون التقدير خلاف الأصل. وكذا يقال في قوله تعالى وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ أي انقضت وسقطت كما أخرجه عبد بن حميد عن مجاهد وقتادة، ومنه: انكدر البازي إذا نزل بسرعة على ما يأخذه. قال العجاج يمدح عمر بن عمر التميمي: إذا الكرام ابتدروا الباع بدر ... تقضّي البازي إذا البازي كسر دانى جناحيه من الطود فمر ... أبصر خربان فضاء فانكدر وهذا إحدى روايتين عن ابن عباس. وروي عنه أنه قال: لا يبقى يومئذ نجم إلّا سقط في الأرض. وعنه أيضا أن النجوم قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور بأيدي ملائكة من نور، فإذا مات من في السماوات والأرض تساقطت من أيديهم. وظاهر هذا أن النجوم ليست في جرم أفلاك لها كما يقول الفلاسفة المتقدمون بل معلقة في فضاء ويقرب منه من وجه قول الفلاسفة المحدثين فإنهم يقولون بكونها في فضاء أيضا لكن بقوى متجاذبة لا معلقة بسلاسل بأيدي ملائكة وليس وراء ما يشاهد منها إلا سماء بمعنى جهة علو لا سماء بالمعنى المعروف، وإن صح خبر الحبر وهو في حكم المرفوع لم نعدل عن ظاهره إلّا إن ظهر استحالته وهيهات ذلك وحينئذ فالأمر سهل. وقد ذكر بعض متأهلين أن الملائكة قد تطلق على الأرباب النورية كما في خبر: «إن لكل شيء ملكا وإن كل قطرة من قطرات المطر ينزل معها ملك» . وخبر «أتاني ملك الجبال وملك البحار» وتسمى المثل الأفلاطونية وهي أنوار مجردة قائمة بنفسها مدبرة بإذن الله تعالى للمربوبات حافظة إياها وهي المنمية والغاذية والمولودة في النباتات والحيوانات ويقال في السلاسل إنه أريد بها القوى التي بها حفظ الأوضاع أو نحو ذلك. وقيل: انكدرت تغيرت وانطمس. نورها كما في هو في الرواية الأخرى عن ابن عباس من كدرت الماء فانكدر ففيه تشبيه انطماس نورها بتكدر الماء الذي لا يبقى معه صفاؤه ورونق منظره، وتكون هي حينئذ على ما في بعض الآثار مع عبدتها في النار وظاهر أن النجوم لا تشمل الشمس وقيل تشملها وذكرها بعدها تعميم بعد تخصيص فلا تغفل وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ أي أزيلت عن أماكنها من الأرض الجزء: 15 ¦ الصفحة: 254 بالرجفة الحاصلة على أن التسيير مجاز عن ذلك، وقيل: سيرت بعد رفعها في الجو كما قال تعالى وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ [النمل: 88] . وهذا إنما يكون بعد النفخة الثانية وَإِذَا الْعِشارُ جمع عشراء كنفاس جمع نفساء وهي الناقة التي أتى عليها من يوم أرسل فيها الفحل عشرة أشهر ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع، وقد يقال لها ذلك بعد ما تضع أيضا وهي أنفس ما يكون عند أهلها وأعز شيء عليهم عُطِّلَتْ تركت مهملة لا راعي لها ولا طالب، وقيل: عطلها أهلها عن الحلب والصر، وقيل عن أن يرسل فيها الفحول وذلك إذا كان قبيل قيام القيامة لاشتغال أهلها بما عراهم مما يكون إذا ذاك. وقيل: إن هذا التعطيل يوم القيامة، فقال القرطبي: الكلام على التمثيل إذ لا عشار حينئذ والمعنى أنه لو كانت عشار لعطلها أهلها واشتغلوا بأنفسهم، وقيل على الحقيقة أي إذا قاموا من القبور وشاهدوا الوحوش والأنعام والدواب محشورة ورأوا عشارهم التي كانت كرائم أموالهم فيها لم يعبؤوا بها لشغلهم بأنفسهم وهو كما ترى. وقيل: المراد بالعشار السحاب على تشبيه السحابة المتوقع مطرها بالناقة العشراء القريب وضع حملها وفيه استعارة لطيفة مع المناسبة التامة بينه وبين ما قبله فإن السحب تنعقد على رؤوس الجبال وترى عندها وإلّا ينافيه كونه مناسبا لما بعده على الأول فإنه معنى حقيقي مرجح بنفسه، وتعطيلها مجاز عن عدم ارتقاب مطرها لأنهم في شغل عنه. وقيل عن عدم إمطارها وقيل: هي الديار تعطل فلا تسكن، وقيل: الأرض التي يعشر زرعها تعطل فلا تزرع. وقرأ مضر اليزيدي «عطلت» بالتخفيف والبناء للمجهول ونقله في اللوامح عن ابن كثير ثم قال: هو وهم إنما «عطلت» بفتحتين بمعنى تعطلت لأن تشديده للتعدية، يقال: عطلت الشيء وأعطلته فعطل بنفسه وعطلت المرأة فهي عاطل إذا لم يكن عليها حلي فلعل هذه القراءة لغة استوى فيها فعلت وأفعلت أي في التعدي، وقيل: الأظهر أنه عدّي بالحرف ثم حذف وأوصل الفعل بنفسه. وَإِذَا الْوُحُوشُ جمع وحش وهو حيوان البر الذي ليس في طبعه التأنس ببني آدم والمراد به ما يعم البهائم مطلقا حُشِرَتْ أي جمعت من كل جانب وذلك قبيل النفخة الأولى حين تخرج نار تفر الناس والأنعام منها حتى تجتمع، وقيل أميتت من قولهم: إذا أجحنت السنة الناس حشرتهم، ونحوه ما أخرج عبد بن حميد عن مجاهد أنه قال: حشرها موتها، وعن ابن عباس تفسير الحشر بالجمع إلّا أنه قال كما أخرجه جماعة وصححه الحاكم جمعت بالموت فلا تبعث ولا يحضر في القيامة غير الثقلين، وقيل: بعثت للقصاص فيحشر كل شيء حتى الذباب وروي ذلك عن ابن عباس أيضا وعن قتادة وجماعة. وفي رواية عن الحبر تحشر الوحوش حتى يقتص من بعضها لبعض فيقتص للجماء من القرناء ثم يقال لها موتي فتموت، وقيل: إذا قضي بينها ردت ترابا فلا يبقى منها إلّا ما فيه سرور لبني آدم وإعجاب بصورته كالطاووس والظبي. وقيل: يبقى كل ما لم ينتفع به إلّا المؤمن كشاة لم يأكل منها إلّا هو ويدخل ما يبقى الجنة على حال لائقة بها. وذهب كثير إلى بعث جميع الحيوانات ميلا إلى هذه الأخبار ونحوها فقد أخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة في هذه الآية قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لتؤذن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجماء من الشاة القرناء» . وزاد أحمد بن حنبل: «وحتى الذرة من الذرة» ومال حجة الإسلام الغزالي وجماعة إلى أنه لا يحشر غير الثقلين لعدم كونه مكلفا إلّا أهلا للكرامة بوجه وليس في هذا الباب نص من كتاب أو سنة معول عليها يدل على حشر غيرهما من الوحوش وخبر مسلم والترمذي وإن كان صحيحا لكنه لم يخرج مخرج التفسير للآية، ويجوز أن يكون كناية عن العدل التام وإلى هذا القول أميل ولا أجزم بخطأ القائلين بالأول لأن لهم ما يصلح مستندا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 255 في الجملة والله تعالى أعلم. وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون «حشّرت» بالتشديد للتكثير. وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ أي أحميت بأن تغيض مياهها وتظهر النار في مكانها ولذا ورد على ما قيل إن البحر غطاء جهنم، أو ملئت بتفجير بعضها إلى بعض حتى يكون مالحها وعذبها بحرا واحدا من سجر التنور إذا ملأه بالحطب ليحميه، وقيل: ملئت نيرانا تضطرم لتعذيب أهل النار، وقيل: ملئت ترابا تسوية لها بأرض المحشر وليس له مستند أثر عن السلف. ونقل في البحر عن كتاب لغات القرآن أن سُجِّرَتْ بمعنى جمعت لغة خثعم ولعل جمعها عليه بالتفجير. وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون المعنى ملكت وقيد اضطرابها حتى لا يخرج عن الأرض من الهول فيكون ذلك مأخوذا من ساجور الكلب وهو خشبة تجعل في عنقه، ويقال: سجره إذا شده به. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «سجّرت» بالتخفيف وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ أي قرنت كل نفس بشكلها. أخرج جماعة منهم الحاكم وصححه عن النعمان بن بشير عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن ذلك فقال: يقرن الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنة، ويقرن الرجل السوء مع الرجل السوء في النار فذلك تزويج الأنفس. وفي حديث مرفوع رواه النعمان أيضا ما يقتضي ظاهره ذلك وقال بعض هذا في الموقف أن يقرن بين الطبقات الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل. وقال مقاتل بن سليمان: تقرن نفوس المؤمنين بأزواجهم من الحور وغيرهن، ونفوس الكافرين بالشياطين. وقيل: تقرن كل نفس بكتابها وقيل بعملها وجوز أن يراد تقرن كل نفس بخصمها فلا يمكنها الفرار منه وأنت تعلم أن كون كل نفس ذا خصم بين الانتفاء وأيّا ما كان فالنفس بمعنى الذات والتزويج جعل الشيء زوجا أي مقارنا. وقال عكرمة والضحاك والشعبي: تقرن النفوس بأزواجها وذلك عند البعث والنفس عليه بمعنى الروح. وقرأ عاصم «زوجت» على فوعلت. وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ وهي البنت التي تدفن حية من الوأد وهو الثقل كأنها سميت بذلك لأنها تثقل بالتراب حتى تموت. وقيل: هو مقلوب الأوتد وحكاه المرتضى في درره عن بعض أهل اللغة وهو غير مرتضى عند أبي حيان وكانت العرب تئد البنات مخافة لحوق العار بهم من أجلهن، وقيل: مخافة الإملاق ولعله بالنسبة إلى بعضهم ومنهم من يقول: الملائكة بنات الله سبحانه عما يقولون فألحقوا البنات به تعالى فهو عز وجل أحق بهن. وذكر غير واحد أنه كان الرجل منهم إذا ولدت له بنت فأراد أن يستحييها ألبسها جبة من صوف أو شعر ترعى له الإبل والغنم في البادية وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية فيقول لأمها طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها وقد حفر لها بئرا في الصحراء فيبلغ بها البئر فيقول لها: انظري فيها، ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب حتى تستوي البئر بالأرض. وقيل: كانت الحامل إذا قربت حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة فإذا ولدت بنتا رمت بها فيها، وإن ولدت ابنا حبسته ورأيت إذ أنا يافع في بعض الكتب أن أول قبيلة وأدت من العرب ربيعة وذلك أنهم أغير عليهم فنهبت بنت لأمير لهم فاستردها بعد الصلح فخيرت برضا منه بين أبيها ومن هي عنده فاختارت من هي عنده وآثرته على أبيها فغضب وسن لقوله الوأد ففعلوه غيرة منهم ومخافة أن يقع لهم بعد مثل ما وقع، وشاع في العرب غيرهم والله تعالى أعلم بصحة ذلك. وقرأ البزي في رواية الموؤدة» كمعونة فاحتمل أن يكون الأصل الْمَوْؤُدَةُ كقراءة الجمهور فنقل حركة الهمزة إلى الواو قبله وحذفت ثم همزت تلك الواو واحتمل أن يكون اسم مفعول من آد والأصل المأوودة فحذفت أحد الواوين فصارت الموءودة كما حذفت من مقوول فصار مقولا. وقرىء «الموودة» بضم الواو الأولى وتسهيل الهمزة أعني التسهيل بحذفها ونقل حركتها إلى ما قبلها. وفي مجمع البيان والعهدة عليه روي عن أبي جعفر وأبي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 256 عبد الله وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أنهم قرؤوا «المودّة» بفتح الميم والواو والمراد بها الرحم والقرابة وعن أبي جعفر قرابة الرسول صلّى الله عليه وسلم ويراد بقتلها قطعها أو هو على حقيقته والإسناد مجازي والمراد قتل المتصف بها. وتوجيه السؤال إلى الموءودة في قوله تعالى سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ دون الوائد مع أن الذنب له دونها لتسليتها وإظهار كمال الغيظ والسخط لوائدها وإسقاطه عن درجة الخطاب والمبالغة في تبكيته فإن المجني عليه إذا سئل بمحضر الجاني ونسبت إليه الجناية دون الجاني كان ذلك بعثا للجاني على التفكر في حال نفسه وحال المجني عليه، فيرى براءة ساحته وأنه هو المستحق للعتاب والعقاب، وهذا نوع من الاستدراج واقع على طريق التعريض كما في قوله تعالى أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ [المائدة: 116] . وقرأ أبيّ وابن مسعود والربيع بن خيثم وابن يعمر «سألت» أي خاصمت أو سألت الله تعالى أو قاتلها وإنما قيل قُتِلَتْ لما أن الكلام إخبار عنها لا حكاية لما خوطبت به حين سئلت ليقال قتلت على الخطاب ولا حكاية لكلامها حين سألت ليقال قتلت على الحكاية عن نفسها وقد قرأ كذلك علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وابن مسعود أيضا وجابر بن يزيد وأبو الضحى ومجاهد. وقرأ الحسن والأعرج «سيلت» بكسر السين وذلك على لغة من قال سال بغير همز. وقرأ أبو جعفر بشد الياء لأن الموءودة اسم جنس فناسب التكثير باعتبار الأشخاص وفي الآية دليل على عظم جناية الوأد. وقد أخرج البزار والحاكم في الكنى والبيهقي في سننه عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال: جاء قيس بن عاصم التميمي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: إني وأدت ثمان بنات لي في الجاهلية، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «أعتق عن كل واحدة رقبة» قال: إني صاحب إبل قال: «فاهد عن كل واحدة بدنة» . وكان لأمر للندب لا للوجوب لتوقف صحة التوبة عليه فإن الإسلام يجب ما قبله من مثل ذلك وفيه تعظيم أمر الوأد وكان من العرب من يستقبحه كصعصعة بن ناجية المجاشعي جد الفرزدق كان يفتدي الموءودات من قومه بني تميم وبه افتخر الفرزدق في قوله: وجدي الذي منع الوائدات ... فأحيا الوئيد فلم توأد وأخرج الطبراني عنه قال: قلت يا رسول الله إني عملت أعمالا في الجاهلية فهل فيها من أجر؟ أحييت ثلاثمائة وستين من الموءودة اشتري كل واحدة منهن عشراوين وجمل فهل لي في ذلك من أجر؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «لك أجره إذ منّ الله تعالى عليك بالإسلام» . وعد من الوأد العزل لما أخرج الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والطبراني وابن مردويه عن خذامة بنت وهب قالت: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن العزل فقال: «ذلك الوأد الخفي» ومن هنا قيل بحرمته وأنت تعلم أن المسألة خلافية فقد قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم: العزل وهو أن يجامع فإذا قارب الانزال نزع وأنزل خارج الفرج مكروه عندنا في كل حال امرأة سواء رضيت أم لا لأنه طريق إلى قطع النسل. وأما التحريم فقد قال أصحابنا- يعني الشافعية- لا يحرم في مملوكته ولا في زوجته الأمة سواء رضيت أم لا لأن عليه ضررا في مملوكته بمصيرها أم ولد وامتناع بيعها، وعليه ضرر في زوجته الرقيقة بمصير ولده رقيقا تبعا لأمه، وأما زوجته الحرة فإن أذنت فيه لم يحرم وإلّا فوجهان أصحهما لا يحرم ثم الأحاديث التي ظاهرها التعارض في هذا المطلب يجمع بينها بأن ما ورد منها في النهي محمول على كراهة التنزيه، وما ورد في الإذن في ذلك محمول على أنه ليس بحرام وليس معناه نفي الكراهة انتهى. وأجيب على الحديث السابق بأن تسميته بالوأد الخفي لا يدل على أن حكمه حكم الوأد الظاهر فقد صح أن الرياء شرك خفي ولم يقل أحد بأن حكمه حكمه، ولا يبعد أن يكون الاستمناء باليد كالعزل وأدا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 257 خفيا. وذكر بعضهم أنه إذا لم يخش الزنا حرام وإن خشي لم يحرم وكذا لا يبعد أن يكون التفخيذ مع من يحل له وطؤها كذلك ولم أر قائلا بحرمته وتمام الكلام في هذا المقام في كتب الفقه فلتراجع. واستدل الزمخشري بالآية على أن أطفال المشركين لا يعذبون وعلى أن العذاب لا يستحق إلّا الذنب، أما الأول فلأن تبكيت قاتلها يباين تعذيبها لأن استحقاق التبكيت لبراءتها من الذنب فمتى بكّت سبحانه الكافر ببراءتها من الذنب كيف يكر سبحانه عليها فيفعل بها ما ينسى عنده فعل المبكت من العذاب السرمدي. وأما الثاني فلإشارة قوله تعالى بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ إلى أن القتل إنما يصار إليه بذنب وأنه لا يستحسن ارتكابه دونه، ومعلوم أن في معناه كل تعذيب. ثم الآية لما دلت على أن الموءودة لا ذنب لها ليتم التبكيت تضمنت عدم استحقاقها العقاب. وزعم أن ابن عباس سئل عن ذلك فاحتج بهذه الآية وتعقب بأن مبنى ما ذكره التحسين والتقبيح، وقد بيّن ما فيهما في موضعه. وعلى التسليم نمنع انحصار سبب التبكيت في البراءة على أن القتل للباعث المذكور في القرآن بمعنى خشية الإملاق رذيلة يستحق بها التبكيت استحق بها المقتول التعذيب الأخروي أولا، وإشارة الآية على أن باعثهم على القتل لم يكن الذنب لا إلى أن الذنب أعني ما تستحق به الموءودة التعذيب معدوم من كل وجه، وما روي عن ابن عباس لا نسلم صحته وفي الأخبار ما ينافيه. أخرج الإمام أحمد والنسائي وغيرهما عن سلمة بن يزيد الجعفي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «الوائدة والموءودة في النار» إلّا أن تدرك الوائدة الإسلام فيعفو الله تعالى عنها» . وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين، فقال: «الله تعالى إذ خلقهم أعلم بما كانوا عاملين» وتفسيره على ما قيل ما روى أبو داود عن عائشة قلت: يا رسول الله ذراري المؤمنين؟ فقال «من آبائهم» قلت: بلا عمل؟ قال: الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين» قلت يا رسول الله فذراري المشركين؟ فقال: «من آبائهم» قلت: بلا عمل؟ قال: «الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين» . وفي مسند الإمام أحمد سألت خديجة عن ولدين ما بالهما في الجاهلية فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «هما في النار وأنت تعلم أن في مسألة الأطفال من هذه الحيثية ما عدا أطفال الأنبياء عليهم السلام فإنهم أجمع على كونهم من أهل الجنة كما قال اللقاني خلافا فقد قال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم أجمع من يعتد به من علماء المسلمين على أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة لأنه ليس مكلفا، وتوقفت فيه بعض من لا يعتد به لحديث عائشة: توفي صبي من الأنصار فقالت: طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه قال صلّى الله عليه وسلم: «أو غير ذلك يا عائشة إن الله تعالى خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم» . وأجاب العلماء عنه بأنه لعله عليه الصلاة والسلام نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع ويحتمل أنه عليه الصلاة والسلام قال هذا قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة، فلما علم صلّى الله عليه وسلم قال ذلك في قوله صلّى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يموت له ثلاث من الولد لم يبلغوا الحنث إلّا أدخله الله تعالى الجنة بفضله ورحمته إياهم» وغير ذلك من الأحاديث. وأما أطفال المشركين ففيهم ثلاثة مذاهب قال الأكثرون: هم في النار تبعا لآبائهم لحديث سئل عن أولاد المشركين من يموت منهم صغيرا فقال عليه الصلاة والسلام: «الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين» أي وغير ذلك. وتوقف طائفة فيهم وقالت الثالثة وهو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون أنهم من أهل الجنة ويستدل له بأشياء منها حديث إبراهيم الخليل عليه السلام حين رآه النبي صلّى الله عليه وسلم في الجنة حوله أولاد الناس، قالوا: يا رسول الله وأولاد المشركين قال: «وأولاد الجزء: 15 ¦ الصفحة: 258 المشركين» رواه البخاري في صحيحه ومنها قوله تعالى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] ولا يتوجه على المولود التكليف ويلزمه قول الرسول حتى يبلغ وهذا متفق عليه والجواب عن حديث «الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين» أنه ليس فيه تصريح بأنهم في النار، وحقيقة لفظة: «الله تعالى أعلم بما كانوا يعملون» لو بلغوا ولم يبلغوا والتكليف لا يكون إلّا بالبلوغ انتهى. وتعقب ما ذكره من الاحتمال في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها بأنه يأباه ما ذكره من حديث إبراهيم عليه السلام فإن حديث عائشة كان بالمدينة لأنه في صبي من الأنصار وبناؤه عليه الصلاة والسلام عليها إنما كان فيها، وحديث إبراهيم عليه السلام كان بمكة لأن الظاهر أن تلك الرؤية كانت ليلة المعراج وهو قد كان فيها، ومنه يعلم أنه صلّى الله عليه وسلم قد علم أن الأطفال كلهم في الجنة يومئذ فكيف يحتمل أن يكون ما قاله بعد قاله قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة، وأيضا إذا كان حديث إبراهيم عليه السلام في مكة يضعف الجواب الأول عن حديث عائشة باحتمال أن تكون قالت ما قالت لأنه بلغها ذلك الحديث. ثم ما ذكر من أن المذاهب في أطفال المشركين ثلاثة الظاهر أنه مبني على ما وقف عليه وإلّا فهي غير منحصرة فيها بل منها أنهم في برزخ بين الجنة والنار ومنها أنهم يمتحنون بدخول النار يوم القيامة فمن كتب له السعادة أطاع بدخولها فيرد إلى الجنة، ومن كتب له الشقاوة امتنع فيسحب إلى النار كما جاء في بعض الروايات فلا يحكم على معين منهم بجنة ولا نار وعليه حمل الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين وفي اختيارات الشيخ ابن تيمية أن هذا أحسن الأجوبة فيهم. وقال الجلال السيوطي هو الصحيح المعتمد ومنها ما ذكره هذا الجلال واختاره الإمام الرباني الفاروقي السرهندي قدس سره أنهم يحشرون ثم يصيرون ترابا كالوحوش وإن أريد مما تقدم من أنهم في الجنة كونهم فيها كسائر أهلها فهناك قول آخر وهو أنهم فيها خدما لأهلها وقد نقله النسفي في بحر الكلام على أهل السنة والجماعة وفيه أحاديث جمة. والظاهر أن المراد بأطفال المشركين الأطفال الذين ولدوا لهم وهم مشركون ولو آمنوا بعد ويدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: «السابق في ولدي خديجة هما في النار» وهو يعكر على من يقول: أطفال الذين ماتوا مشركين في النار وأطفال المشركين الذين آمنوا بعد موتهم في الجنة إكراما لهم. والذي أختاره القول بأن الأطفال مطلقا وكذا فرخ الزنا ومن جن قبل البلوغ في الجنة فهو الأخلق بكرم الله تعالى وواسع رحمته عز وجل والأوفق للحكمة بحسب الظاهر والأكثر تأيدا بالآيات ولا بعد في ترجح الأخبار الدالة على ذلك بما ذكر على الأخبار الدالة على خلافه والقول بأن ما تضمنته هاتيك الأخبار كان منه عليه الصلاة والسلام قبل علمه صلّى الله عليه وسلم بأن الأطفال في الجنة بعيد عندي. نعم جوز أن يكون قد أخبر صلّى الله عليه وسلم بأنهم من أهل النار بناء على أخبار الوحي به كأخباره بالوعيدات التي يعفو الله تعالى عنها من حيث إنه مقيد بشرط كان لم يشملهم الفضل مثلا لكنه لم يذكر معه كما لم يذكر معها لحكمة ثم أخبر عليه الصلاة والسلام بأنهم من أهل الجنة بناء على أخبار الوحي به أيضا ويكون متضمنا للأخبار بأن شرط كونهم من أهل النار لا يتحقق فضلا من الله تعالى وكرما ويكون ذلك كالعفو عما يقتضيه الوعيد ومثل ذلك أخباره بما ذكر بناء على مشاهدة كونهم في الجنة عند إبراهيم عليه السلام فتأمل. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 259 وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ أي صحف الأعمال. أخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال: إذا مات الإنسان طويت صحيفته ثم تنشر يوم القيامة فيحاسب بما فيها، وقيل: نشرت أي فرقت بين أصحابها عن مرثد بن وداعة إذا كان يوم القيامة تطايرت الصحف من تحت العرش فتقع صحيفة المؤمن في يده في جنة عالية، وتقع صحيفة الكافر في يده في سموم وحميم أي مكتوب فيها ذلك وهي صحف غير صحف الأعمال. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي «نشّرت» بالتشديد للمبالغة في النشر بمعنييه أو لكثرة الصحف أو لشدة التطاير وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ قلعت وأزيلت كما يكشف الإهاب عن الذبيحة والغطاء عن الشيء المستور به فأصل الكشط السلخ واستعير هنا للإزالة. وقرأ عبد الله «قشطت» بالقاف مكان الكاف واعتقابهما غير عزيز كالكافور. والقافور وعربي قح وكح وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ أي أوقدت إيقادا شديدا قال قتادة: سعرها غضب الله تعالى وخطايا بني آدم. وقرأ جمع منهم علي كرم الله تعالى وجهه «سعرت» بالتخفيف وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ أي قربت من المتقين كقوله تعالى وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ [ق: 31] أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن أبي العالية أنه قال: ست آيات من هذه السورة في الدنيا والناس ينظرون، وست في الآخرة إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ- إلى- وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ هذه في الدنيا وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ- إلى- وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ هذه في الآخرة. وأخرج ابن أبي الدنيا وابن جرير وابن أبي حاتم عن أبيّ بن كعب أنه قال: ست آيات قبل يوم القيامة بينما الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس فبينما هم كذلك إذ تكدرت النجوم، فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض فتحركت واضطربت ففزعت الجن إلى الإنس والإنس إلى الجن واختلطت الدواب والطير والوحش فماجوا بعضهم في بعض وأهملت العشار وقال الجنس للإنس: نحن نأتيكم بالخبر فانطلقوا إلى البحر فإذا هو نار تأجج فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض صدعة واحدة فبينما هم كذلك إذ جاءتهم ريح فأماتتهم وقال بعضهم: إن الست الأول فيما بين النفختين وإنه مراد من قال إنها في الدنيا، وقيل: هي فيما قبل النفخة الأولى وما بعدها إلى النفخة الثانية فلا تغفل. عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ جواب إِذَا على أن المراد بها زمان واحد ممتد يشع الأمور المذكورة مبدؤه قبيل النفخة الأولى أو هي ومنتهاه فصل القضاء بين الخلائق لكن لا بمعنى إن النفس تعلم ما تعلم في كل جزء من أجزاء ذلك الوقت المديد أو عند وقوع داهية من تلك الدواهي بل عند نشر الصحف إلّا أنه لما كان بعض تلك الدواهي من مباديه وبعضها من روادفه نسب علمها بذلك إلى زمان وقوع كلها تهويلا للخطب وتفظيعا للحال، والمراد ب ما أَحْضَرَتْ أعمالها من الخير والشر، وبحضور الأعمال أما حضور صحائفها كما يعرب عنه نشرها وأما حضور أنفسها على ما قالوا من أن الأعمال الظاهرة في هذه النشأة بصور عرضية تبرز في النشأة الآخرة بصور جوهرية مناسبة لها في الحسن والقبح على كيفيات مخصوصة وهيئات معينة حتى أن الذنوب والمعاصي تتجسم هنالك وتتصور وحمل على ذلك نحو قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً [النساء: 10] وعن ابن عباس ما يؤيده ويؤيده أيضا حديث ذبح الموت ونحوه، قيل: ولا بعد في ذلك ألا يرى أن العلم يظهر في عالم المثال على صورة اللبن كما لا يخفى على من له خبرة بأحوال الحضرات الخمس، وقد حكي عن بعض الأكابر أنهم يشاهدون في هذه النشأة الأعمال عند العروج بها إلى السماء وكان ذلك بنوع من التجسد وأيا ما كان فإسناد إحضارها إلى النفس مع أنها تحضر بأمر الله تعالى كما يؤذن به قوله تعالى يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً [آل عمران: 30] الجزء: 15 ¦ الصفحة: 260 الآية لأنها لما عملتها في الدنيا فكأنها أحضرتها في الموقف ومعنى علمها بها على التقدير الأول اطلاعها عليها مفصلة في الصحف بحيث لا يشذ عنها منها شيء كما ينبىء عنه قولهم مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الكهف: 49] . وعلى التقدير الثاني أنها تشاهدها على ما هي عليه في الحقيقة فإن كانت صالحة تشاهدها على صور أحسن مما كانت تدركها في الدنيا لأن الطاعات لا تخلو فيها عن نوع مشقة، وإن كانت سيئة تشاهدها على خلاف ما كانت عندها في الدنيا كانت مزينة لها موافقة لهواها، وتنكير نفس المفيد لثبوت العلم لفرد من النفوس أو لبعض منها للإيذان بأن ثبوته لجميع أفرادها قاطبة من الظهور والوضوح بحيث لا يكاد يحوم حوله شائبة قطعا يعرفه كل أحد، ولو جيء بعبارة تدل على خلافه وللرمز إلى أن تلك النفوس العالمة بما ذكر مع توفر أفرادها وتكثر أعدادها مما تستقل بالنسبة إلى جناب الكبرياء والعظمة الذي أشير إلى بعض بدائع شؤونه المنبئة عن عظم سلطانه عز وجل. وفي الكشاف إن هذا من عكس كلامهم الذي يقصدون فيه الإفراط فيما يعكس عنه ومنه قوله تعالى رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ [الحجر: 2] ومعناه كم وأبلغ وقول القائل: قد أترك القرم مصفرا أنامله ... كأن أثوابه مجّت بفرصاد وتقول لبعض قواد العساكر كم عندك من الفرسان فيقول: رب فارس عندي، أو لا تعدم عندي فارسا وعنده المقانب وقصده بذلك التمادي في تكثير فرسانه ولكنه أراد إظهار براءته من التزيد وإنه ممن يقلل كثير ما عنده فضلا أن يتزيد فجاء بلفظ التقليل ففهم منه معنى الكثرة على الصحة واليقين وبين بالكشف أنه يفيد ذلك مع ما في خصوص كل موقف من فائدة خاصة، وذكر أن من الفوائد هاهنا تهويل اليوم بتقليل الأنفس العالمة وإن كن جميعها وإظهار أنه كلام من غاية العظمة والكبرياء وأن من يغير هذه الأجرام العظام ويبدلها صفات وذوات تستقل الأنفس الإنسانية في جنب قدرته سبحانه أيما استقلال وتعقب ذلك أبو السعود بما لا يخلو عن نظر كما لا يخفى على ذي نظر جليل فضلا عن ذي نظر دقيق. وجوز أن يكون ذلك للإشعار بأنه إذا علمت حينئذ نفس من النفوس ما أحضرت وجب على كل نفس إصلاح عملها مخافة أن تكون هي تلك التي عملت ما أحضرت فكيف وكل نفس تعلمه على طريقة قولك لمن تنصحه لعلك ستندم على ما فعلت وربما ندم الإنسان على ما فعل فإنك لا تقصد بذلك أن ندمه مرجو الوجود لا متيقن به أو نادر الوجود بل تريد أن العاقل يجب عليه أن يجتنب أمرا يرجى منه الندم أو قل ما يقع فيه فكيف إذا كان قطعي الوجود كثير الوقوع، واشتهر أن النكرة هنا في معنى العموم وهي قد تعم في الإثبات إذا اقتضى المقام أو نحوه ذلك ومنه قول ابن عمر لبعض أهل الشام وقد سأله عن المحرم إذا قتل جرادة أيتصدق بتمرة فدية لها تمرة خير من جرادة، قيل: ولهذا العموم ساغ الابتداء بالنكرة فيه وقول بعض إنه لا عموم فيها بل العموم جاء من تساوي نسبة الجزء إلى أفراد الجنس قيل مبني على ظن منافاة العموم للوحدة والإفراد وأنت تعلم أن ذلك إنما ينافي العموم الشمولي دون البدلي وقال بعض: لا يبعد أن يقال استفيد العموم بجعلها في حيز النفي معنى لأن عَلِمَتْ نَفْسٌ في معنى لم تجهل نفس لأن الحكم بالشيء يستلزم نفي ضده ليس بشيء وإلّا لعمت كل نكرة في الإثبات بنحو هذا التأويل. وعن عبد الله بن مسعود أن قارئا قرأ هذه السورة عنده فلما بلغ عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ قال وانقطاع ظهرياه. فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ جمع خانس من الخنوس وهو الانقباض والاستخفاء الْجَوارِ جمع جارية من الجري وهو المر السريع وأصله لمر الماء ولما يجري بجريه الْكُنَّسِ جمع كانس وكانسة من كنس الوحش إذا دخل كناسه وهو بيته الذي يتخذه من أغصان الشجر والمراد بها على ما أخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 261 حميد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه من طريق عن علي كرم الله تعالى وجهه الكواكب أي جميعها ، فقيل لأنها تخنس بالنهار فتغيب عن العيون وتكنس بالليل أي تطلع في أماكنها كالوحش في كنسها. وفي تفسير تكنس بتطلع خفاء وقيل لأنها تخنس نهارا وتخفى عن العيون مع طلوعها وكونها فوق الأفق وتكنس بعد طلوعها في المغيب وتدخل فيه كما تكنس الظباء في الكنس فتكون تحت الأفق بعد أن كانت فوقه. وروي تفسيرها بالكواكب عن الحسن وقتادة أيضا. وأخرج ابن أبي حاتم عن الأمير كرم الله تعالى وجهه أنه قال: هي خمسة أنجم زحل وعطارد والمشتري وبهرام يعني المريخ والزهرة والخنس الرواجع من خنس إذا تأخر ، ووصفت بما ذكر في الآية لأنها تجري مع الشمس والقمر وترجع حتى تخفى تحت ضوء الشمس فخنوسها رجوعها بحسب الرؤية وكنوسها اختفاؤها تحت ضوئها، وتسمى المتحيرة لاختلاف أحوالها في سيرها فيما يشاهد فلها استقامة ورجعة وإقامة فبينما تراها تجري إلى جهة إذا بها راجعة تجري إلى خلاف تلك الجهة، وبينما تراها تجري إذا بها مقيمة لا تجري وسبب ذلك على ما قال المتقدمون من أهل الهيئة كونها في تداوير في حوامل مختلفة الحركات على ما بيّن في موضعه وللمحدثين منهم النافين لما ذكر غير ذلك مما هو مذكور في كتبهم وهي مع الشمس والقمر يقال لها السيارات السبع لأن سيرها بالحركة الخاصة مما لا يكاد يخفى على أحد بخلاف غيرها من الثوابت. وأخرج الخطيب في كتاب النجوم وابن مردويه عن ابن عباس أنها المرادة هنا ووصفها بِالْخُنَّسِ بمعنى الرواجع قيل من باب التغليب إذ لا رجعة للشمس ولا للقمر وبالخنس لاختفائها في مغيبها. وقيل: الوصفان باعتبار أنها تغيب عن العيون وتطلع في أماكنها على نحو ما تقدم على تقدير أن يكون المراد بها الكواكب جميعها وكون السيارات هي هذه السبع هو المعروف عند المتقدمين من المنجمين. وأما اليوم فقد ضموا إليها كواكب أخرى يقال لها وستا وزونو وبالاس وسرس وأورنوس ويسمى هرسل وهو اسم المنجم الذي ظفر به بالرصد، وبينوا مقدار أقطارها وأبعادها وحركاتها ولولا مخافة التطويل لذكرت ذلك. وعدوا من جملة السيارات الأرض بناء على زعمهم أن لها حركة حول الشمس واشتهر أنهم لم يعدوا القمر منها لكونه من توابع الأرض بزعمهم. وأخرج الحاكم وصححه وجماعة من طرق عن ابن مسعود أنها بقر الوحش، وأخرج نحوه ابن أبي حاتم عن ابن عباس وعبد بن حميد عن مجاهد وأبي ميسرة والحسن وحكاه في البحر عن النخعي وجابر بن زيد وجماعة. وأخرج ابن جرير عن الحبر أنها الظباء وروي ذلك أيضا عن ابن جبير والضحاك قالوا: و «الخنس» تأخر الأنف عن الشفة مع ارتفاع قليل من الأرنبة وتوصف به بقر الوحش والظباء ومنه قول بعض المولدين: ما سلم الظبي على حسنه ... كلا ولا البدر الذي يوصف فالظبي فيه خنس بيّن ... والبدر فيه كلف يعرف وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ أي أدبر ظلامه أو أقبل وكلاهما مأثوران عن ابن عباس وغيره وهو من الأضداد عند المبرد. وقال الراغب: العسعسة والعساس رقة الظلام وذلك في طرفي الليل فهو من المشترك المعنوي عنده وليس من الأضداد. وفسر عَسْعَسَ هنا بأقبل وأدبر معا وقال ذلك في مبدأ الليل ومنتهاه. وقال الفراء: أجمع المفسرون على أن معنى عَسْعَسَ أدبر وعليه العجاج يصف الخمر أو المفازة: حتى إذا الصبح لها تنفسا ... وانجاب عنها ليلها وعسعسا وقيل: هي لغة قريش خاصة وقيل كونه بمعنى أقبل ظلامه أوفق بقوله تعالى: وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ فإنه أول النهار فيناسب أول الليل، وقيل: كونه بمعنى أدبر أنسب بهذا لما بين إدبار الليل وتنفس الصبح من الملاصقة فيكون بينهما مناسبة الجوار. والمراد من تنفس الصبح على ما ذكر غير واحد إضاءته وتبلجه وفي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 262 الكشاف أن إذا أقبل الصبح أقبل بإقباله روح ونسيم فجعل ذلك نفسا له على المجاز وقيل: تنفس الصبح وعنى بالمجاز الاستعارة لأنه لما كان النفس ريحا خاصا يفرج عن القلب انبساطا وانقباضا شبه ذلك النسيم بالنفس وأطلق عليه الاسم استعارة وجعل الصبح متنفسا لمقارنته له ففي الكلام استعارة مصرحة وتجوز في الإسناد. وظاهر كلام بعضهم أنه بعد الاستعارة يكون ذلك كناية عن الإضاءة وجوز أن يكون هناك مكنية وتخييلية بأن يشبه الصبح بماش وآت من مسافة بعيدة ويثبت له التنفس المراد به هبوب نسيمه مجازا على طريق التخييل كما في ينقضون عهد الله. وقال الإمام: النهار يغشيان الليل المظلم كالمكروب وكما أنه يجد راحة بالتنفس كذلك تخلص الصبح من الظلام وطلوعه كأنه تخلص من كرب إلى راحة وهذا أدق مما عنى الكشاف كما لا يخفى، وجوز أن يقال: إن الليل لما غشى النهار ودفع به إلى تحت الأرض فكأنه أماته ودفنه فجعل ظهور ضوئه كالتنفس الدال على الحياة وهو نحو مما نقل عن الإمام. وقيل: تنفس أي توسع وامتد حتى صار نهارا، والظاهر أن التنفس في الآية إشارة إلى الفجر الثاني الصادق وهو المنتشر ضوءه معترضا بالأفق بخلاف الأول الكاذب وهو ما يبدو مستطيلا وأعلاه أضوأ من باقيه ثم يعدم وتعقبه ظلمة أو يتناقص حتى ينغمر في الثاني على زعم بعض أهل الهيئة أو يختلف حاله في ذلك تارة وتارة بحسب الأزمنة والعروض على ما قيل، وسمي هذا الكاذب عارضا ففي خبر مسلم: «لا يغرنكم أذان بلال ولا هذا العارض لعمود الصبح حتى يستطير» أي ينتشر ذلك العموم في نواحي الأفق. وكلام بعض الأجلة يشعر بأنه فيها إشارة إلى الكاذب حيث قال: يؤخذ من تسمية الفجر الأول عارضا للثاني أنه يعرض للشعاع الناشئ عنه الفجر الثاني انحباس قرب ظهوره كما يشعر به التنفس في قوله تعالى وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ فعند ذلك الانحباس يتنفس منه شيء من شبه كوة. والمشاهد في المنحبس إذا خرج بعضه دفعه أن يكون أوله أكثر من آخره، ويعلم من ذلك سبب طول العمود وإضاءة أعلاه إلى آخر ما قال وفيه بحث. ثم الظاهر أن تنفس الصبح وضياءه بواسطة قرب الشمس إلى الأفق الشرقي بمقدار معين وهو في المشهور ثمانية عشر جزءا. وقول الإمام إنه يلزم على ذلك بناء على كريّة الأرض واستضاءة أكثر من نصفها من الشمس دائما ظهور الضياء وتنفس الصبح إذا فارقت الشمس سمت القدم من دائرة نصف النهار وذلك بعيد نصف الليل والواقع خلافه تشكيك فيما يقرب أن يكون بديهيا وفيه غفلة عن أحوال ظل الأرض وانعكاس الأشعة من أبصار سكنة أقطارها فتأمل. ولا تغفل. والواو في قوله تعالى وَالصُّبْحِ وَاللَّيْلِ على ما نقل عن ابن جني للعطف وإِذا ليس معمولا لفعل القسم لفساد المغني إذا التقييد بالزمان غير مراد حالا كان أو استقبالا وإنما هو على ما اختاره غير واحد معمول مضاف مقدر من نحو العظمة لأن الإقسام بالشيء إعظام له كأنه قيل: ولا أقسم بعظمة الليل زمان عسعس وبعظمة النهار زمان تنفس على نحو قولهم عجبا من الليث إذا سطا فإنه ليس المعنى على تقييد التعجب من هوله وعظمته في ذلك الزمان وقال عصام الدين: ينبغي أن يجعل تقييدا للمقسم به أي أقسم بالليل كائنا إذا عسعس والحال مقدرة أي مقدرا كونه في ذلك الوقت. وصرح العلامة التفتازاني في التلويح في مثله أن إِذا بدل من اللَّيْلِ إذ ليس المراد تعليق القسم وتقييده بذلك الوقت ولهذا منع المحققون كونه حالا من الليل لأنه أيضا يفيد تقييد القسم بذلك الوقت وسيأتي إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الشمس ما يتعلق بهذا المقام أيضا. إِنَّهُ أي القرآن الجليل الناطق بما ذكر من الدواهي الهائلة وجعل الضمير للإخبار عن الحشر والنشر تعسف لَقَوْلُ رَسُولٍ هو كما قال ابن عباس وقتادة والجمهور جبريل عليه السلام ونسبته إليه عليه السلام الجزء: 15 ¦ الصفحة: 263 لأنه واسطة فيه وناقل له عن مرسله وهو الله عز وجل كَرِيمٍ أي عزيز على الله سبحانه وتعالى وقيل متعطف على المؤمنين ذِي قُوَّةٍ أي شديد كما قال سبحانه شَدِيدُ الْقُوى [النجم: 5] وجاء في قوته أنه عليه السلام بعث إلى مدائن لوط وهي أربع مدائن وفي كل مدينة أربعمائة ألف مقاتل سوى الذراري فحملها بمن فيها من الأرض السفلى حتى سمع أهل السماء أصوات الدجاج ونباح الكلاب ثم هوى بها فأهلكها. وقيل: المراد القوة في أداء طاعة الله تعالى وترك الإخلال بها من أول الخلق إلى آخر زمان التكليف. وقيل: لا يبعد أن يكون المراد قوة الحفظ والبعد عن النسيان والخلط عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ أي ذي مكانة رفيعة وشرف عند الله العظيم جل جلاله عندية إكرام وتشريف لا عندية مكان فالظرف متعلق بمكين وهو فعيل من المكانة وقد كثر استعمالها كما في الصحاح حتى ظن أن الميم من أصل الكلمة واشتق منه تمكن كما اشتق من المسكنة تمسكن. وجوز أن يكون مصدرا ميميا من الكون وأصله مكون بكسر الواو فصار بالنقل والقلب مكينا وأريد بالكون الوجود كأنه من كمال الوجود صار عين الوجود والأول هو الظاهر. وقيل: إن الظرف متعلق بمحذوف وقع صفة أخرى لرسول أي كائن عند ذي العرش الكينونة اللائقة وهو كما ترى مُطاعٍ فيما بين الملائكة المقربين عليهم السلام يصدرون عن أمره ويرجعون إلى رأيه ثَمَّ ظرف مكان للبعيد وهو يحتمل أن يكون ظرفا لما قبله وجعل إشارة إلى عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ والمراد بكونه مطاعا هناك كونه مطاعا في ملائكته تعالى المقربين كما سمعت ويحتمل أن يكون ظرفا لما بعده أعني قوله سبحانه أَمِينٍ والإشارة بحالها وأمانته على الوحي وفي رواية عنه عليه السلام أنه قال: «أمانتي أني لم أومر بشيء فعدوته إلى غيره» ولأمانته أنه عليه السلام يدخل الحجب كما في بعض الآثار بغير إذن. وقرأ أبو جعفر وأبو حيوة وأبو البرهسم وابن مقسم «ثمّ» بضم الثاء حرف عطف تعظيما للأمانة وبيانا لأنها أفضل صفاته المعدودة. وقال صاحب اللوامح هي بمعنى الواو لأن جبريل عليه السلام كان بالصفتين معا في حال واحدة ولو ذهب ذاهب إلى الترتيب والمهلة في هذا العطف بمعنى مطاع في الملأ الأعلى عليّ ثم أمين عند انفصاله عنهم حال وحيه إلى الأنبياء عليهم السلام لجاز أن ورد به أثر انتهى. والمعول عليه ما سمعت والمقام يقتضي تعظيم الأمانة لأن دفع كون القرآن افتراء منوط بأمانة الرسول. وَما صاحِبُكُمْ هو رسول الله صلّى الله عليه وسلم بِمَجْنُونٍ كما تبهته الكفرة قاتلهم الله تعالى. وفي التعرض لعنوان الصحبة مضافة إلى ضميرهم على ما هو الحق تكذيب لهم بألطف وجه إذ هو إيماء إلى أنه عليه الصلاة والسلام نشأ بين أظهركم من ابتداء أمره إلى الآن فأنتم أعرف به وبأنه صلّى الله عليه وسلم أتم الخلق عقلا وأرجحهم قيلا وأكملهم وصفا وأصفاهم ذهنا فلا يسند إليه الجنون إلّا من هو مركب من الحمق والجنون. واستدل الزمخشري بالمبالغة في ذكر جبريل عليه السلام وتركها في شأن النبي صلّى الله عليه وسلم على أفضليته عليه السلام على النبي صلّى الله عليه وسلم وأجابوا بما بحث فيه والوجه في الجواب على ما في الكشف أن الكلام مسوق لحقية المنزل دلالة على صدق ما ذكر فيه من أهوال القيامة وقد علمت أن من شأن البليغ أن يجرد الكلام لما ساق له لئلا يعد الزيادة لكنة وفضولا ولا خفاء أن وصف الآتي بالقول يشدّ من عضد ذلك أبلغ شد، وأما وصف من أنزل عليه فلا مدخل له في البين إلّا إذا كان الغرض الحث على اتباعه فلهذا لم تدل المبالغة في شأن جبريل عليه السلام وعد صفاته الكوامل وترك ذلك في شأن نبينا عليه أفضل الصلوات والتسليمات على تفضيله بوجه. وقال بعضهم: إن المبالغة في وصف جبريل عليه السلام مدح بليغ في حق النبي صلّى الله عليه وسلم لأن الملك إذا أرسل لأحد من هو معزز معظم مقرب لديه دل على أن المرسل إليه بمكانه عنده ليس فوقها الجزء: 15 ¦ الصفحة: 264 مكانة، وقد علمت أن المقام ليس للمبالغة في مدح المنزل عليه وقيل المراد بالرسول هو نبينا صلّى الله تعالى عليه وسلم كالمراد بالصاحب وهو خلاف الظاهر الذي عليه الجمهور. وَلَقَدْ رَآهُ أي وبالله تعالى لقد رأى صاحبكم رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم الرسول الكريم جبريل عليه السلام على كرسي بين السماء والأرض بالصورة التي خلقه الله تعالى عليها له ستمائة جناح بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ وهو الأفق الأعلى من ناحية المشرق كما روي عن الحسن وقتادة ومجاهد وسفيان وفي رواية عن مجاهد أنه صلى الله تعالى عليه وسلم رآه عليه السلام نحو جياد وهو مشرق مكة وقيل: إن المراد به مطلع رأس السرطان فإنه أعلى المطالع لأهل مكة، وهذه الرؤية كانت فيها بعد أمر غار حراء. وحكى ابن شجرة أنه أفق السماء الغربي وليس بشيء. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال في الآية رآه في صورته عند سدرة المنتهى والأفق على هذا قيل بمعنى الناحية وقيل سمّي ذلك أفقا مجازا وَما هُوَ أي رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم عَلَى الْغَيْبِ على ما يخبر به من الوحي إليه وغيره من الغيوب بِضَنِينٍ من الضنّ بكسر الضاد وفتحها بمعنى البخل أي ببخيل لا يبخل بالوحي ولا يقصر في التبليغ والتعليم ومنح كل ما هو مستعد له من العلوم على خلاف الكهنة فإنهم لا يطلعون على ما يزعمون معرفته إلّا بإعطاء حلوان. وقرأ ابن مسعود وابن عباس وزيد بن ثابت وابن عمر وابن الزبير وعائشة وعمر بن عبد العزيز وابن جبير وعروة وهشام بن جندب ومجاهد وغيرهم ومن السبعة النحويان وابن كثير «بظنين» بالظاء أي بمتهم من الظنّة بالكسر بمعنى التهمة وهو نظير الوصف السابق ب أَمِينٍ. وقيل معناه بضعيف القوة على تبليغ الوحي من قولهم: بئر ظنون إذا كانت قليلة الماء والأول أشهر. ورجحت هذه القراءة عليه بأنها أنسب بالمقام لاتهام الكفرة له صلّى الله تعالى عليه وسلم ونفي التهمة أول من نفي البخل وبأن التهمة تتعدى بعلى دون البخل فإنه لا يتعدى بها إلّا باعتبار تضمينه معنى الحرص ونحوه لكن قال الطبري بالضاد خطوط المصاحف كلها ولعله أراد المصاحف المتداولة فإنهم قالوا بالظاء خط مصحف ابن مسعود ثم إن هذا لا ينافي قول أبي عبيدة أن الظاء والضاد في الخط القديم لا يختلفان إلّا بزيادة رأس إحداهما على الأخرى زيادة يسيرة قد تشتبه كما لا يخفى. والفرق بين الضاد والظاء مخرجا أن الضاد مخرجها من أصل حافة اللسان وما يليها من الأضراس من يمين اللسان أو يساره ومنهم من يتمكن من إخراجها منهما، والظاء مخرجها من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا. واختلفوا في إبدال إحداهما بالأخرى هل يمتنع وتفسد به الصلاة أم لا؟ فقيل: تفسد قياسا ونقله في المحيط البرهاني عن عامة المشايخ ونقله في الخلاصة عن أبي حنيفة ومحمد، وقيل: لا استحسانا ونقله فيها عن عامة المشايخ كأبي مطيع البلخي ومحمد بن سلمة وقال جمع: إنه إذا أمكن الفرق بينهما فتعمد ذلك وكان مما لم يقرأ به كما هنا وغير المعنى فسدت صلاته وإلّا فلا لعسر التمييز بينهما خصوصا على العجم وقد أسلم كثير منهم في الصدر الأول ولم ينقل حثهم على الفرق وتعليمه من الصحابة ولو كان لازما لفعلوه ونقل وهذا هو الذي ينبغي أن يعود عليه ويفتى به وقد جمع بعضهم الألفاظ التي لا يختلف معناها ضادا وظاء في رسالة صغيرة ولقد أحسن بذلك فليراجع فإنه مهم. وَما هُوَ أي القرآن بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ أي بقول بعض المسترقة للسمع لأنها هي التي ترجم وهو نفي لقولهم إنه كهانة فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ استضلال لهم فيما يسلكونه في أمر القرآن العظيم كقولك لتارك الجادة الذاهب في بنيات الطريق أين تذهب والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها من ظهور أنه وحي إِنْ هُوَ أي ما هو إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ موعظة وتذكير عظيم لمن يعلم وضمير هُوَ للقرآن أيضا وجوز كون الضميرين للرسول عليه الصلاة والسلام أي وما هو ملتبس بقول شيطان رجيم كما هو شأن الكهنة إن هو إلّا مذكر الجزء: 15 ¦ الصفحة: 265 للعالمين وقوله تعالى فَأَيْنَ إلخ استضلال لهم فيما يسلكونه في أمره صلّى الله تعالى عليه وسلم وهو كما ترى قوله سبحانه لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ بدل من العالمين بدل بعض من كل والبدل هو المجرور وأعيد معه العامل على المشهور، وقيل: هو الجار والمجرور وجوز أن يكون بدل كل من كل لإلحاق من لم يشأ بالبهائم ادعاء وهو تكلف. وقوله تعالى أَنْ يَسْتَقِيمَ مفعول شاءَ أي لمن شاء منكم الاستقامة بتحري الحق وملازمة الصواب وإبداله من العالمين لأنهم المنتفعون بالتذكير وَما تَشاؤُنَ أي الاستقامة بسبب من الأسباب إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي إلا بأن يشاء الله تعالى مشيئتكم فمشيئتكم بسبب مشيئة الله تعالى رَبُّ الْعالَمِينَ أي ملك الخلق ومربيهم أجمعين أو ما تشاؤون الاستقامة مشيئة نافعة مستتبعة لها إلّا بأن يشاءها الله تعالى فله سبحانه الفضل والحق عليم باستقامتكم إن استقمتم. روي عن سليمان بن موسى والقاسم بن مخيمرة أنه لما نزلت لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ قال أبو جهل: جعل الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم، فأنزل الله تعالى وَما تَشاؤُنَ الآية وأن وما معها هنا على ما ذكرنا في موضع خفض بإضمار باء السببية، وجوز أن تكون للمصاحبة وذهب غير واحد إلى أن الاستثناء مفرغ من أعم الأوقات أي وما تشاؤون الاستقامة في وقت من الأوقات إلّا وقت أن يشاء الله تعالى شأنه استقامتكم وهو مبني على ما نقل عن الكوفيين من جواز نيابة المصدر المؤول من أَنْ والفعل عن الظرف وفي الباب الثامن من المعنى أن أَنْ وصلتها لا يعطيان حكم المصدر في النيابة عن ظرف الزمان تقول: جئتك صلاة العصر ولا يجوز جئتك أن تصلي العصر فالأولى ما ذكرنا أولا وإليه ذهب مكي وذهب القاضي إلى الثاني. وقد اعترض عليه أيضا بأن ما لنفي الحال وأَنْ خاصة للاستقبال فيلزم أن يكون وقت مشيئته تعالى المستقبل ظرفا لمشيئة العبد الحالية وأجيب بأنا لا نسلم أن ما مختصة بنفي الحال ومن ادعى اختصاصها بذلك اشترط انتفاء القرينة على خلافه ولم تنتف هاهنا لمكان أَنْ في حيزها أو بأن كون أَنْ للاستقبال مشروط بانتفاء قرينة خلافه وهاهنا قد وجدت لمكان ما قبلها فهي لمجرد المصدرية. وقيل: يندفع الاعتراض بجعل الاستثناء منقطعا فليجعل كذلك وإن كان الأصل فيه الاتصال وليس بشيء وقد أورد على وجه السببية الذي ذكرناه نحو ذلك وهو أنه يلزم من كون ما لنفي الحال وللاستقبال سببية المتأخر للمتقدم ومما ذكر يعلم الجواب كما لا يخفى فتأمل جميع ذلك والله تعالى الهادي لأوضح المسالك. وقال بعض أهل التأويل: الشمس شمس الروح، والنجوم نجوم الحواس، والجبال جبال القوالب وهي تسير كل وقت إلّا أنه يظهر ذلك للمحجوب إذا كشف له الغطاء والعشار عشار القوى القالبية، والوحوش وحوش الأخلاق الذميمة النفسانية، والبحار بحار العناصر الطبيعية والنفوس القوى النفسانية وتزويجها قرن كل قوة بعملها، والموءودة الخواطر الإلهامية التي ترد على السالك فيئدها في قبر القالب ويظلمها والصحف على ظاهرها، والسماء سماء الصدر، والجحيم جحيم النفس وتسعيرها بنيران الهوى والجنة جنة القلب والخنس الأنوار المودعة في القوى القلبية، والليل الأنوار الجلالية، والصبح الأنوار الجمالية إلى آخر ما قال. ويستدل بحال البعض على البعض وقد حكى أبو حيان شيئا من نحو ذلك وعقبه بتشنيع فظيع وهو لا يتم إلّا إذا أنكر إرادة الظاهر وأما إذا لم تنكر وجعل ما ذكره ونحوه من باب الإشارة فلا يتم أمر التشنيع كما حقق ذلك في موضعه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 266 سورة الانفطار وتسمى سورة انفطرت وسورة المنفطرة ولا خلاف في أنها مكية ولا في أنها تسع عشرة آية ومناسبتها لما قبلها معلومة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ أي انشقت لنزول الملائكة كقوله تعالى يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا [الفرقان: 25] والكلام في ارتفاع السماء كما مر في ارتفاع الشمس وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ أي تساقطت متفرقة وهو استعارة لإزالتها حيث شبهت بجواهر قطع سلكها وهي مصرحة أو مكنية وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ فتحت وشققت جوانبها فزال ما بينها من البرزخ واختلط العذاب بالأجاج وصارت بحرا واحدا. وروي أن الأرض تنشف الماء بعد امتلاء البحار فتصير مستوية أي في أن لا ماء وأريد أن البحار تصير واحدة أولا ثم تنشف الأرض جميعا فتصير بلا ماء، ويحتمل أن يراد بالاستواء بعد النضوب عدم بقاء مغايض الماء لقول تعالى لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً [طه: 107] وقرأ مجاهد والربيع بن خيثم والزعفراني والثوري «فجرت» بالتخفيف مبنيا للمفعول وعن مجاهد أيضا «فجرت» به مبنيا للفاعل بمعنى نبعت لزوال البرزخ من الفجور نظرا إلى قوله تعالى لا يَبْغِيانِ [الرحمن: 20] لأن البغي والفجور أخوان وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ قلب ترابها الذي حثي على موتاها وأزيل وأخرج من دفن فيها على ما فسر به غير الجزء: 15 ¦ الصفحة: 267 واحد. وأصل البعثرة على ما قيل تبديد التراب ونحوه وهو إنما يكون لإخراج شيء تحته فقد يذكر ويراد معناه ولازمه معا وعليه ما سمعت. وقد يتجوز به عن البعث والإخراج كما في العاديات حيث أسند فيها لما في القبور دونها كما هنا وزعم بعض أنه مشترك بين النبش والإخراج وذهب بعض الأئمة كالزمخشري والسهيلي إلى أنه مركب من كلمتين اختصارا ويسمى ذلك نحتا وأصل بعثر بعث وأثير ونظيره بسمل وحمدل وحوقل ودمعز أي قال بسم الله والحمد لله تعالى ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى وأدام لله تعالى عزه إلى غير ذلك من النظائر وهي كثيرة في لغة العرب، وعليه يكون معناه النبش والإخراج معا واعترضه أبو حيان بأن الراء ليست من أحرف الزيادة وهو توهم منه فإنه فرق بين التركيب والنحت من كلمتين والزيادة على بعض الحروف الأصول من كلمة واحدة كما فصل في الزهر نقلا عن أئمة اللغة. نعم الأصل عدم التركيب. عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ جواب إِذَا لكن لا على أنها تعلمه عند البعث بل عند نشر الصحف لما عرفت أن المراد بها زمان واحد مبدؤه قبيل النفخة الأولى أو هي ومنتهاه الفصل بين الخلائق لا أزمنة متعددة بحسب كلمة إذا وإنما كررت لتهويل ما في حيزها من الدواهي والكلام فيه كالذي مر في نظيره. ومعنى «ما قدم وأخر» ما أسلف من عمل خير أو شر وأخّر من سنة حسنة أو سيئة يعمل بها بعده قاله ابن عباس وابن مسعود. وعن ابن عباس أيضا ما قدم معصية وأخر من طاعة وهو قول قتادة. وقيل: ما عمل ما كلف به وما لم يعمل منه وقيل ما قدم من أمواله لنفسه وما أخر لورثته وقيل: أول عمله وآخره ومعنى علمها بهما علمها التفصيلي حسبما ذكر فيما قدم يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ أي أي شيء خدعك وجرأك على عصيانه تعالى وارتكاب ما لا يليق بشأنه عز شأنه وقد علمت ما بين يديك وما سيظهر من أعمالك عليك والتعرض لعنوان كرمه تعالى دون قهره سبحانه من صفات الجلال المانعة ملاحظتها عن الاغترار للإيذان بأنه ليس مما يصلح أن يكون مدارا لاغتراره حسبما يغويه الشيطان ويقول له افعل ما شئت فإن ربك كريم قد تفضل عليك في الدنيا وسيفعل مثله في الآخرة، أو يقول له نحو ذلك مما مبناه الكرم كقول بعض شياطين الإنس: تكثّر ما استطعت من الخطايا ... ستلقى في غد ربّا غفورا تعض ندامة كفيك مما ... تركت مخافة الذنب السرورا فإنه قياس عقيم وتمنية باطلة بل هو مما يوجب المبالغة في الإقبال على الإيمان والطاعة والاجتناب عن الكفر والعصيان دون العكس، ولذا قال بعض العارفين: لو لم أخف الله تعالى لم أعصه، فكأنه قيل: ما حملك على عصيان ربك الموصوف بما يزجر عنه وتدعو إلى خلافه؟ وقيل إن هذا تلقين للحجة وهو من الكرم أيضا فإنه إذا قيل له ما غرك إلخ. يتفطن للجواب الذي لقنه ويقول كرمه كما قيل يعرف حسن الخلق والإحسان بقلة الآداب في الغلمان ولم يرتض ذلك الزمخشري وكان الاغترار بذلك في النظر الجليل وإلّا فهو في النظر الدقيق كما سمعت. وعن الفضيل أنه قال: غره ستره تعالى المرخي وقال محمد بن السماك: يا كاتم الذنب أما تستحي ... والله في الخلوة رائيكا غرك من ربك إمهاله ... وستره طول مساويكا وقال بعضهم: يقول مولاي ألا تستحي ... مما أرى من سوء أفعالك فقلت يا مولاي رفقا فقد ... جرّأني كثرة أفضالك الجزء: 15 ¦ الصفحة: 268 وقال قتادة: غره عدوه المسلط عليه. وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلم قرأ الآية فقال: «الجهل» وقاله عمر رضي الله تعالى عنه وقرأ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا [الأحزاب: 72] والفرق بين هذا وبين ما ذكروا لا يخفى على ذي علم. واختلف في الْإِنْسانُ المنادى فقيل الكافر، بل عن عكرمة أنه أبيّ بن خلف وقيل الأعم الشامل للعصاة وهو الوجه لعموم اللفظ، ولوقوعه بين المجمل ومفصله أعني عَلِمَتْ نَفْسٌ وإِنَّ الْأَبْرارَ وإِنَّ الْفُجَّارَ وأما قوله تعالى بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ [الانفطار: 9] ففي الكشف إما أن يكون ترشيحا لقوة اغترارهم بإيهام أنهم أسوأ حالا من المكذبين تغليظا، وإما لصحة خطاب الكل بما وجد فيما بينهم. وقرأ ابن جبير والأعمش: «ما أغرك» بهمزة فاحتمل أن يكون تعجبا وأن تكون ما استفهامية كما في قراءة الجمهور و «أغرك» بمعنى أدخلك في الغرة. وقوله سبحانه الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ صفة ثانية مقررة للربوبية مبينة للكرم مومية إلى صحة ما كذب من البعث والجزاء موطئة لما بعد حيث نبهت على أن من قدر على ذلك بدأ أقدر عليه إعادة، والتسوية جعل الأعضاء سوية سليمة معدة لمنافعها وهي في الأصل جعل الأشياء على سواء فتكون على وفق الحكمة ومقتضاها بإعطائها ما تتم به وعدلها بعضها ببعض بحيث اعتدلت من عدل فلانا بفلان إذا ساوى بينهما أو صرفها عن خلقة غير ملائمة لها من عدل بمعنى صرف. وذهب إلى الأول الفارسي وإلى الثاني الفراء. وقرأ غير واحد من السبعة «عدّلك» بالتشديد أي صيرك معتدلا متناسب الخلق من غير تفاوت فيه ونقل القفال عن بعضهم أن عدل وعدّل بمعنى واحد فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ أي ركبك ووضعك في أي صورة اقتضتها مشيئته تعالى وحكمته جل وعلا من الصور المختلفة في الصور المختلفة في الطول والقصر ومراتب الحسن ونحوها، فالجار والمجرور متعلق ب رَكَّبَكَ وأَيِّ للصفة مثلها في قوله: أرأيت أي سوالف وخدود ... برزت لنا بين اللّوى وزرود ولما أريد التعميم لم يذكر موصوفها وجملة شاءَ صفة لها والعائد محذوف وما مزيدة وإنما لم تعطف الجملة على ما قبلها لأنها بيان لعدلك. وجوز أن يكون الجار والمجرور في موضع الحال أي ركبك كائنا في أي صورة شاءها، وقيل أَيِّ موصولة صلتها جملة شاءها كأنه قيل ركبك في الصورة التي شاءها. وفيه أنه صرح أبو علي في التذكرة بأن أيا الموصولة لا تضاف إلى نكرة وقال ابن مالك في الألفية: واخصصن بالمعرفة موصولة أيا وفي شرحها للسيوطي مع اشتراط ما سبق يعني كون المعرفة غير مفردة فلا تضفها إلى نكرة خلافا لابن عصفور، ويجوز أن تجعل أَيِّ شرطية والماضي في جوابها في معنى المستقبل إذا نظر إلى تعلق المشيئة وترتب التركيب عليه فجيء بصورة إلى الماضي نظر إلى المشيئة وأداة الشرط نظرا إلى المتعلق والترتب، ويجوز أن يكون الجار متعلقا «بعدلك» وحينئذ يتعين في أي الصفة كأنه قيل فَعَدَلَكَ في صورة أي صورة في صورة عجيبة ثم حذف الموصوف زيادة للتفخيم والتعجيب وأَيِّ هذه منقولة من الاستفهامية لكنها لانسلاخ معناها عنها بالكلية عمل فيها ما قبلها، ويكون ما شاءَ رَكَّبَكَ كلاما مستأنفا وما أما موصولة أو موصوفة مبتدأ أو مفعولا مطلقا لركبك، أي ما شاء من التركيب ركبك فيه أو تركيبا شاء ركبك. وجوز أن تكون شرطية وشاءَ فعل الشرط ورَكَّبَكَ جزاؤه أي إن شاء تركيبك في أي صورة غير هذه الصورة ركبك فيها والجملة الشرطية في موضع الصفة لصورة والعائد محذوف، ولم يجوزوا على هذا الوجه تعلق الظرف بركبك لأن معمول ما في حيز الشرط لا يجوز تقديمه عليه كَلَّا ردع عن الاغترار بكرم الله تعالى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 269 وجعله ذريعة إلى الكفر والمعاصي مع كونه موجبا للشكر والطاعة. وقوله تعالى بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ إضراب عن جملة مقدرة ينساق إليها الكلام كأنه قيل بعد الردع بطريق الاعتراض وأنتم لا ترتدعون عن ذلك بل تجترئون على أعظم منه حيث تكذبون بالجزاء والبعث رأسا أو بدين الإسلام اللذين هما من جملة أحكامه فلا تصدقون سؤالا ولا جوابا ولا ثوابا ولا عقابا وفيه ترقّ من الأهون إلى الأغلظ. وعن الراغب بل هنا لتصحيح الثاني وإبطال الأول كأنه قيل: ليس هنا مقتض لغرورهم ولكن تكذيبهم حملهم على ما ارتكبوه، وقيل تقدير الكلام أنكم لا تستقيمون على ما توجبه نعمي عليكم وإرشادي لكم بل تكذبون إلخ. وقيل إن كَلَّا ردع عما دل عليه هذه الجملة من نفيهم البعث وبَلْ إضراب عن مقدر كأنه قيل ليس الأمر كما تزعمون من نفي البعث والنشور ثم قيل: لا تتبينون بهذا البيان بل تكذبون إلخ. وأدغم خارجة عن نافع رَكَّبَكَ كَلَّا كأبي عمرو في ادغامه الكبر وقرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة وأبو بشر «يكذبون» بياء الغيبة وقوله تعالى وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ حال من فاعل تُكَذِّبُونَ مفيدة لبطلان تكذيبهم وتحقيق ما يكذبون به من الجزاء على الوجهين في الدين أي تكذبون بالجزاء والحال أن عليكم من قبلنا لحافظين لأعمالكم كِراماً لدينا كاتِبِينَ لها يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ من الأفعال قليلا كان أو كثيرا ويضبطونه نقيرا أو قطميرا وليس ذلك للجزاء وإقامة الحجة وإلّا لكان عبثا ينزه عنه الحكيم العليم. وقيل: جيء بهذه الحال استبعادا للتكذيب معها وليس بذاك. وفي تعطيم الكاتبين بالثناء عليهم تفخيم لأمر الجزاء وأنه عند الله عز وجل من جلائل الأمور حيث استعمل سبحانه فيه هؤلاء الكرام لديه تعالى ثم إن هؤلاء الحافظين غير المعقبات في قوله تعالى لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد: 11] . فمع الإنسان عدة ملائكة. روي عن عثمان أنه سأل النبي صلّى الله عليه وسلم كم من ملك على الإنسان؟ فذكر عليه الصلاة والسلام عشرين ملكا. قال المهدوي في الفيصل: وقيل إن كل آدمي يوكل به من حين وقوعه نطفة في الرحم إلى موته أربعمائة ملك ومن يكتب الأعمال ملكان كاتب الحسنات وهو في المشهور على العاتق الأيمن وكاتب ما سواها وهو على العاتق الأيسر والأول أمين على الثاني فلا يمكنه من كتابة السيئة إلّا بعد مضي ست ساعات من غير مكفر لها، ويكتبان كل شيء حتى الاعتقاد والعزم والتقرير وحتى الأنين في المرض وكذا يكتبان حسنات الصبي على الصحيح ويفارقان المكلف عند الجماع ولا يدخلان مع العبد الخلاء. وأخرج البزار عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى ينهاكم عن التعري فاستحيوا من ملائكة الله الذين معكم الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى ثلاث حاجات الغائط والجنابة والغسل» . ولا يمنع ذلك من كتبهما ما يصدر عنه ويجعل الله تعالى لهما أمارة على الاعتقاد القلبي ونحوه ويلزمان العبد إلى مماته فيقومان على قبره يسبحان ويهللان ويكبران ويكتب ثوابه للميت إلى يوم القيامة إن كان آمنا ويلعنانه إلى يوم القيامة إن كان كافرا. واستظهر بعضهم أنهما اثنان بالشخص وقيل بالنوع وقيل: كاتب الحسنات يتغير دون كاتب السيئات ونصوا على أن المجنون لا حفظة عليه وورد في بعض الآثار ما يدل على أن بعض الحسنات ما يكتبها غير هذين الملكين والظواهر تدل على أن الكتب حقيقي وعلم الآلة وما يكتب فيه مفوض إلى الله عز وجل. وقوله سبحانه إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ استئناف مسوق لبيان نتيجة الحفظ والكتب من الثواب والعقاب. وفي تنكير النعيم والجحيم ما لا يخفى من التفخيم والتهويل. وقوله تعالى يَصْلَوْنَها إما صفة للجحيم أو حال من ضمير الْفُجَّارَ في الخبر أو استئناف مبني على سؤال نشأ من الجزء: 15 ¦ الصفحة: 270 تهويلها كأنه قيل: ما حالهم فيها؟ فقيل: يقاسون حرّها. وقرأ ابن مقسم «يصلونها» مشددا مبنيا للمفعول يَوْمَ الدِّينِ يوم الجزاء الذي كانوا يكذبون به استقلالا أو في ضمن تكذيبهم بالإسلام وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ طرفة عين فإن المراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار وهو كقوله تعالى وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها [المائدة: 37] في الدلالة على سرمدية العذاب وأنهم لا يزالون محسين بالنار. وقيل معناه وما كانوا غائبين عنها قبل ذلك بالكلية بل كانوا يجدون سمومها في قبورهم حسبما قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «القبر روضة من رياض الجنة- أو- حفرة من حفر النار» على أن غائبين من حكاية الحال الماضية والجملة قيل على الوجهين في موضع الحال لكنها على الأول حال مقدرة وعلى الثاني من باب جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [النساء: 90] وقيل إنها على الأول حالية دون الثاني لانفصال ما بين صلي النار وعذاب القبر بالبعث وما في موقف الحساب بل هي عليه معطوفة على ما قبلها، ويحتمل اسم الفاعل فيها أعني غائبين على الحال أي وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ الآن لتغاير المعطوف عليه الذي أريد به الاستقبال. والكلام على ما عرف في أخباره تعالى من التعبير عن المستقبل بغيره لتحققه فلا يرد أن بعض الفجار في زمرة الأحياء بعد وبعضهم لم يخلق كذلك وعذاب القبر بعد الموت فكيف يحمل غائبين على الحال. وقوله تعالى وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ تفخيم لشأن يوم الدين الذي يكذبون به إثر تفخيم وتعجيب منه بعد تعجيب والخطاب فيه عام، والمراد أن كنه أمره بحيث يدركه دراية داري وقيل الخطاب لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلم وقيل للكافر والإظهار في موضع الإضمار تأكيد لهول يوم الدين وفخامته وقد تقدم الكلام في تحقيق كون الاستفهام في مثل ذلك مبتدأ أو خبرا مقدما فلا تغفل. وقوله سبحانه يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ بيان إجمالي لشأن يوم الدين أثر إبهامه وإفادة خروجه عن الدائرة الدراية قيل بطريق إنجاز الوعد فإن نفي الإدراء مشعر بالوعد الكريم بالإدراء على ما روي عن ابن عباس من أنه قال: كل ما في القرآن من قوله تعالى ما أَدْراكَ فقد أدراه وكل ما فيه من قوله عز وجل ما يُدْرِيكَ [الأحزاب: 63، الشورى: 17، عبس: 3] فقد طوى عنه. ويَوْمَ منصوب بإضمار اذكر كأنه قيل بعد تفخيم أمر يوم الدين وتشويقه صلّى الله عليه وسلم إلى معرفته اذكر يوم لا تملك نفس من النفوس لنفس من النفوس مطلقا لا للكفارة فقط كما روي عن مقاتل شيئا من الأشياء إلخ فإنه يدريك ما هو أو مبني، على الفتح محله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف على رأي من يرى جواز بناء الظرف إذا أضيف إلى غير متمكن وهم الكوفيون أي هو يوم لا تملك إلخ. وقيل هو نصب على الظرفية بإضمار يدانون أو يشتد الهول أو نحوه مما يدل عليه السياق، أو هو مبني على الفتح محله الرفع على أنه بدل من يَوْمُ الدِّينِ وكلاهما ليسا بذاك لخلوهما عن إفادة ما أفاده ما قبل. وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى وابن جندب وابن كثير وأبو عمرو «يوم» بالرفع بلا تنوين على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو يوم لا بدل لما سمعت آنفا. وقرأ محبوب عن أبي عمرو «يوم» بالرفع والتنوين فجملة لا تَمْلِكُ إلخ في موضع الصفة له والعائد محذوف أي فيه والأمر كما قال في الكشف واحد الأوامر لقوله تعالى لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر: 16] فإن الأمر من شأن الملك المطاع واللام للاختصاص أي الأمر له تعالى لا لغيره سبحانه لا شركة ولا استقلالا أي إن التصرف جميعه في قبضة قدرته عز وجل لا غير. وفي تحقيق قوله تعالى لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً لدلالته على أن الكل مسوسون مطيعون مشتغلون بحال أنفسهم مقهورون بعبوديتهم لسطوات الربوبية، وقيل واحد الأمور أعني الشأن وليس بذاك. وقول قتادة فيما أخرجه عند عبد بن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 271 حميد وابن المنذر أي ليس ثم أحد يقضي شيئا ولا يصنع شيئا غير رب العالمين تفسير الحاصل المعنى لا إيثار لذلك هذا وقوله وحده ليس بحجة يترك له الظاهر والمنازعة في الظهور مكابرة وأيّا ما كان فلا دلالة في الآية على نفي الشفاعة يوم القيامة كما لا يخفى والله تعالى أعلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 272 سورة المطفّفين ويقال لها سورة المطففين ، واختلف في كونها مكية أو مدنية فعن ابن مسعود والضحاك أنها مكية، وعن الحسن وعكرمة أنها مدنية وعليه السدّي، قال: كان بالمدينة رجل يكنى أبا جهينة له مكيالان يأخذ بالأوفى ويعطي بالأنقص فنزلت. وعن ابن عباس روايات فأخرج ابن الضريس عنه أنه قال: آخر ما نزل بمكة سورة المطففين، وأخرج ابن مردويه والبيهقي عنه أنه قال: أول ما نزل بالمدينة وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ويؤيد هذه الرواية ما أخرجه النسائي وابن ماجة والبيهقي في شعب الإيمان بسند صحيح وغيرهم عنه قال: لما قدم النبي صلّى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأنزل الله تعالى وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ فأحسنوا الكيل بعد ذلك وفي رواية عنه أيضا وعن قتادة أنها مكية إلّا ثمان آيات من آخرها إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا [المطففين: 29] إلخ وقيل: إنها مدنية إلّا ست آيات من أولها وبعض من يثبت الواسطة بين المكي والمدني يقول إنها ليست أحدهما بل نزلت بين مكة والمدينة ليصلح الله تعالى أمر أهل المدينة قبل ورود رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليهم، وآيها ست وثلاثون بلا خلاف والمناسبة بينها وبين ما قبلها أنه سبحانه لما ذكر فيما قبل السعداء والأشقياء ويوم الجزاء وعظم شأنه ذكر عز وجل هنا ما أعد جل وعلا لبعض العصاة وذكر سبحانه بأخس ما يقع من المعصية وهو التطفيف الذي لا يكاد يجدي شيئا في تثمير المال وتنميته، مع اشتمال هذه السورة من شرح حال المكذبين المذكورين هناك على زيادة تفصيل كما لا يخفى. وقال الجلال السيوطي: الفصل بهذه السورة بين الانفطار والانشقاق التي هي نظيرتها من أوجه لنكتة لطيفة ألهمنيها الله تعالى وذلك أن السور الأربع هذه والسورتان قبلها والانشقاق لما كانت في صفة حال يوم القيامة ذكرت على ترتيب ما يقع فيه فغالب ما وقع في التكوير وجميع ما وقع في الانفطار يقع في صدر يوم القيامة ثم بعد ذلك يكون الموقف الطويل ومقاساة الأهوال فذكره في هذه السورة بقوله تعالى يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [المطففين: 6] ثم بعد ذلك تحصل الشفاعة العظمى فتنشر الصحف فآخذ باليمين وآخذ بالشمال وآخذ ما وراء ظهره ثم بعد ذلك يقع الحساب كما ورد بذلك الآثار فناسب تأخر سورة الانشقاق التي فيها إيتاء الكتب والحساب عن السورة التي فيها ذكر الموقف والسورة التي فيها ذكره عن السورة التي فيها ذكر مبادئ أحوال اليوم ووجه آخر وهو أنه جل جلاله لما قال في الانفطار وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ [الانفطار: 10، 11] وذلك في الدنيا ذكر سبحانه في هذه الحال ما يكتبه الحافظون وهو مرقوم يجعل في عليين أو سجين وذلك أيضا في الدنيا كما تدل عليه الآثار فهذه حالة ثانية للكتاب ذكرت في السورة الثانية وله حالة ثالثة متأخرة عنهما وهي إيتاؤه صاحبه باليمين أو غيرها وذلك يوم القيامة فناسب تأخير السورة التي فيها ذلك عن السورة التي فيها الحالة الثانية انتهى. وهو وإن لم يخل عن لطافة للبحث فيه مجال فتذكر. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 273 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ قيل الويل شدة الشر، وقيل: الحزن والهلاك، وقيل العذاب الأليم، وقيل جبل في جهنم وأخرج ذلك عن عثمان مرفوعا ابن جرير بسند فيه نظر. وذهب كثير إلى أنه واد في جهنم. فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره» . وفي صحيحي ابن حبان والحاكم بلفظ: «واد بين جبلين يهوي فيه الكافر» إلخ وروى ابن أبي حاتم عن عبد الله أنه واد في جهنم من قبح. وفي كتاب المفردات للراغب قال الأصمعي: ويل قبوح وقد يستعمل للتحسر، ومن قال: ويل واد في جهنم لم يرد أن ويلا في اللغة موضوع لهذا، وإنما أراد من قال الله تعالى فيه ذلك فقد استحق مقرا من النار وثبت ذلك له انتهى. والظاهر أن إطلاقه على ذلك كإطلاقه جهنم على ما هو المعروف فيها فلينظر من أي نوع ذلك الإطلاق وأيّا ما كان فهو مبتدأ وإن كان نكرة لوقوعه في موقع الدعاء، ولِلْمُطَفِّفِينَ خبره، والتطفيف البخس في الكيل والوزن لما أن ما يبخس في كيل أو وزن واحد شيء طفيف أي نزر حقير، والتفعيل فيه للتعدية أو للتكثير ولا ينافي كونه من الطفيف بالمعنى المذكور لأن كثرة الفعل بكثرة وقوعه وهو بتكراره لا بكثرة متعلقه. وعن الزجاج أنه من طف الشيء جانبه. وقوله تعالى الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ إلخ صفة مخصصة للمطففين الذين نزلت فيهم الآية، أو صفة كاشفة لحالهم شارحة لكيفية تطفيفهم الذي استحقوا به الويل أي إذا أخذوا من الناس ما أخذوا بحكم الشراء ونحوه كيلا يأخذونه وافيا وافرا، وتبديل كلمة على هنا بمن قيل لتضمين (الاكتيال) معنى الاستيلاء، أو للإشارة إلى أنه اكتيال مضر للناس لا على اعتبار الضرر من حيث الشرط الذي يتضمنه إذا لإخلاله بالمعنى بل في نفس الأمر بموجب الجواب بناء على أن المراد بالاستيفاء ليس أخذ الحق وافيا من غير نقص بل مجرد الأخذ الوافي الوافر حسبما أرادوا بأي وجه يتيسر من وجوه الحيل، وكانوا يفعلونه بكبس المكيل ودعدعة المكيال إلى غير ذلك. وقيل: إن ذلك لاعتبار أن اكتيالهم لما لهم من الحق على الناس فعن الفراء أن من وعلى يعتقبان في هذا الموضع، فيقال: اكتلت عليه أي أخذت ما عليه كيلا واكتلت منه أي استوفيت منه كيلا وتعقب بأنه مع اقتضائه لعدم شمول الحكم لاكتيالهم قبل أن يكون لهم على الناس شيء بطريق الشراء ونحوه مع أنه الشائع فيما بينهم يقتضي أن يكون معنى الاستيفاء أخذ ما لهم على الناس وافيا من غير نقص إذ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 274 هو المتبادر منه عند الإطلاق في معرض الحق فلا يكون مدارا لذمهم والدعاء عليهم، وحمل ما لهم عليهم على معنى ما سيكون لهم عليهم مع كونه بعيدا جدا مما لا يجدي نفعا فإن اعتبار كون المكيل لهم حالا كان أو مآلا يستدعي كون الاستيفاء بالمعنى المذكور حتما انتهى. وأقول: إن قطع النظر عن كون الآية نازلة في مطففين صفتهم أخذ مكيل الناس إذا اكتالوا وافرا حسبما يريدون فلا بأس بحملها على ما يدل على أن المأخوذ حق حالا أو مآلا وكون المتبادر حينئذ من الاستيفاء أخذ مالهم وافيا من غير نقص مسلم لكنه لا يضر قوله فلا يكون مدارا لذمهم والدعاء عليهم. قلنا: مدار الذم ما تضمنه مجموع المتعاطفين والكلام كقولك: فلان يأخذ حقه من الناس تاما ويعطيهم حقهم ناقصا وهي عبارة شائعة في الذم بل الذم بها أشد من الذم بنحو يأخذ ناقصا ويعطي ناقصا وكونه دون الذم بنحو قولك يأخذ زائدا ويعطي ناقصا لا يضر كما لا يخفى. ثم قد يقال: إن الأغلب في اكتيال الشخص من شخص كون المكيل حقا له بوجه من الوجوه، ولعل مبنى كلام الفراء على ذلك فتأمل. وجوز على أن تكون عَلَى متعلقة ب يَسْتَوْفُونَ ويكون تقديمها على الفعل لإفادة الخصوصية أي يستوفون على الناس خاصة، فأما أنفسهم فيستوفون لها. وتعقب بأن القصر بتقديم الجار والمجرور إنما يكون فيما يمكن تعلق الفعل بغير المجرور أيضا حسب تعلقه به فيقصد بالتقديم قصره عليه بطريق القلب أو الإفراد أو التعيين حسبما يقتضيه المقام. ولا ريب في أن الاستيفاء الذي هو عبارة عن الأخذ الوافي مما لا يتصور أن يكون على أنفسهم حتى يقصد بتقديم الجار والمجرور قصره على الناس على أن الحديث واقع في الفعل لا فيما وقع عليه انتهى. وأجيب المراد بالاستيفاء المعدى بعلى على ذلك الإضرار، فكأنه قيل: إذا اكتالوا يضرون الناس خاصة ولا يضرون أنفسهم بل ينفعونها. والقصر بطريق القلب والإضرار مما يمكن أن يكون لأنفسهم كما يمكن أن يكون للناس وإن كان ما به الإضرار مختلفا حيث إن إضرارهم أنفسهم بأخذ الناقص وإضرارهم الناس بأخذ الزائد ثم إن خصوصية ما وقع عليه الفعل هو مدار الذم والدعاء بالويل وبه يجاب عما في حيّز العلاوة انتهى ولا يخفى ما فيه فتدبر. والضمير المنفصل في قوله تعالى وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ للناس وما تقدم في الأخذ من الناس وهذا في الإعطاء، فالمعنى وإذا كالوا لهم أو وزنوا لهم للبيع ينقصون. وكال تستعمل مع المكيل باللام وبدونه فقد جاء في اللغة على ما قيل كال له وكاله بمعنى كال له وجعل غير واحد كاله من باب الحذف والإيصال على أن الأصل كال له فحذف الجار وأوصل الفعل كما في قوله: ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا ... ولقد نهيتك عن بنات الأوبر وقولهم في المثل: الحريص يصيدك لا الجواد، أي جنيت لك ويصيد لك وجوز أن يكون الكلام على حذف المضاف وهو مكيل وموزون وإقامة المضاف مقامه والأصل وإذا كالوا مكيلهم أو وزنوهم (1) وعن عيسى بن عمر وحمزة: إن المكيل له والموزون له محذوف، وهم ضمير مرفوع تأكيد للضمير المرفوع وهو الواو وكانا يقفان على الواوين وقيفة يبينان بها ما أرادوا. وقال الزمخشري: لا يصح كون الضمير مرفوعا للمطففين لأنه يكون المعنى عليه إذا أخذوا من الناس استوفوا وإذا تولوا الكيل أو الوزن هم على الخصوص اخسروا وهو كلام متنافر لأن الحديث واقع في الفعل لا في المباشر وذلك على ما في الكشف لأن التأكيد اللفظي يدفعه   (1) قوله وإقامة المضاف إلى قوله أو وزنوهم هكذا بخط المؤلف ولعل فيه سقطا من قلمه اه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 275 المقام فليس المراد أن يحقق أن الكيل صدر منهم لا من عبيدهم مثلا والتقوى وحده يدفعه ترك الفاء في جواب إِذا لأن الفصيح إذ ذاك فهم يخسرون فيتعين الحمل على التخصيص ويظهر العذر في ترك الفاء إذ المعنى لا يخسر الأهم ويلزم التنافر وفوات المقابلة هذا وهم أولا في كالُوهُمْ مانع من هذا التقدير أشد المنع والحمل على حذف الخبر من أحدهما وهو شطر الجزاء لا نظير له، وقيل إنه يبعد كون الضمير مرفوعا عدم إثبات الألف بعد الواو. وقد تقرر في علم الخط إثباتها بعدها في مثل ذلك وجرى عليه رسم المصحف العثماني في نظائره وكونه هنا بالخصوص مخالفا لما تقرر ولما سلك في النظائر بعيد كما لا يخفى. ولعل الاقتصار على الاكتيال في صورة الاستيفاء وذكر الكيل والوزن في صورة الإخسار أن المطففين كانوا لا يأخذون ما يكال ويوزن إلّا بالمكاييل دون الموازين لتمكنهم بالاكتيال من الاستيفاء والسرقة، وإذا أعطوا كالوا ووزنوا لتمكنهم من البخس في النوعين جميعا، والحاصل أنه إنما جاء النظم الجليل هكذا ليطابق من نزل فيهم فالصفة تنعى عليهم ما كانوا عليه من زيادة البخس والظلم، وهذا صحيح جعلت الصفة مخصصة لهؤلاء المطففين كما هو الأظهر أو كاشفة لحالهم فقد أريد بالأول معهود ذهني. وقال شيخ مشايخنا العلامة السيد صبغة الله الحيدري في ذلك: إن التطفيف في الكيل يكون بشيء قليل لا يعبأ به في الأغلب دون التطفيف في الوزن، فإن أدنى حيلة فيه يفضي إلى شيء كثير وأيضا الغالب فيما يوزن ما هو أكثر قيمة مما يكال، فإذا أخبرت الآية بأنهم لا يبقون على الناس ما هو قليل مهين من حقوقهم علم أنهم لا يبقون عليهم الكثير الذي لا يتسامح به أكثر الناس بل أهل المروءات أيضا إلا نادرا بالطريق الأولى بخلاف ما إذا ذكر أنهم يخسرون الناس بالأشياء الجزئية كما يفهم من ذكر الإخسار في الكيل فإنه لا يعلم منه أنهم يخسرونهم بالشيء الكثير أيضا بل ربما يتوهم من تخصيص الجزئية بالذكر أنهم لا يتجرؤون على إخسارهم بكليات الأموال فلا بد في الشق الثاني من ذكر الإخسار في الوزن أيضا فتكون الآية منادية على ذميم أفعالهم ناعية عليهم بشنيع أحوالهم انتهى. وتعقب بأنه لا يحسم السؤال لجواز أن يقال لم لم يقل إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ليعلم من القرينتين أنهم يستوفون الكثير ويخسرون بالنزر الحقير بالطريق الأولى ويكون في الكلام ما هو من قبيل الاحتباك. وقال الزجاج: المعنى إذا اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل وكذلك إذا اتزنوا استوفوا الوزن، ولم يذكر إذا اتزنوا لأن الكيل والوزن بهما الشراء والبيع فيما يكال ويوزن ومراده على ما نص عليه الطيبي أنه استغنى بذكر إحدى القرينتين عن الأخرى لدلالة القرينة الآتية عليها وهو كما ترى. وقيل: إن المطففين باعة وهم في الغالب يشترون الشيء الكثير دفعة ثم يبيعونه متفرقا في دفعات وكم قد رأينا منهم من يشتري من الزراعين مقدارا كثيرا من الحبوب مثلا في يوم واحد فيدخره ثم يبيعه شيئا فشيئا في أيام عديدة، ولما كانت العادة الغالبة أخذ الكثير بالكيل ذكر الاكتيال فقط في صورة الاستيفاء ولما كان ما يبيعونه مختلفا كثرة وقلة ذكر الكيل والوزن في صورة الإعطاء أو لما كان اختيار ما به تعيين المقدار مفوضا إلى رأي من يشتري منهم ذكرا معا في تلك الصورة إذ منهم من يختار الكيل ومنهم من يختار الوزن، وأنت تعلم أن كون العادة الغالبة أخذ الكثير في الكيل غير مسلم على الإطلاق ولعله في بعض المواضع دون بعض، وأهل بلدنا مدينة السلام اليوم لا يكتالون ولا يكيلون أصلا وإنما عادتهم الوزن والاتزان مطلقا وعدم التعرض للمكيل والموزون في الصورتين على ما قال غير واحد لأن مساق الكلام لبيان سوء معاملة المطففين في الأخذ والإعطاء لا في خصوصية المأخوذ والمعطى. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 276 أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ استئناف وارد لتهويل ما ارتكبوه من التطفيف والهمزة للإنكار والتعجيب ولا نافية، فليست أَلا هذه الاستفتاحية أو التنبيهية بل مركبة من همزة الاستفهام ولا النافية، والظن على معناه المعروف، وأُولئِكَ إشارة إلى المطففين ووضعه موضع ضميرهم للإشعار بمناط الحكم الذي هو وصفهم فإن الإشارة إلى الشيء متعرضة له من حيث اتصافه بوصفه، وأما الضمير فلا يتعرض للوصف وللإيذان بأنهم ممتازون بذلك الوصف القبيح عن سائر الناس أكمل امتياز نازلون منزلة الأمور المشار إليها إشارة حسية وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد درجتهم في الشرارة والفساد. أي لا يظن أولئك الموصوفون بذلك الوصف الشنيع الهائل أنهم مبعوثون لِيَوْمٍ عَظِيمٍ لا يقادر قدر عظمه فإن من يظن ذلك وإن كان ظنا ضعيفا لا يكاد يتجاسر على أمثال هذه القبائح فكيف بمن يتيقنه. ووصف اليوم بالعظم لعظم ما فيه كما أن جعله علة للبعث باعتبار ما فيه وقدر بعضهم مضافا أي لحساب يوم وقيل: الظن هنا بمعنى اليقين والأول أولى وأبلغ. وعن الزمخشري أنه سبحانه جعلهم أسوأ حالا من الكفار لأنه أثبت جل شأنه للكفار ظنا حيث حكى سبحانه عنهم إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا [الجاثية: 32] ولم يثبته عز وجل لهم. والمراد أنه تعالى نزلهم منزلة من لا يظن ليصح الإنكار وقوله تعالى يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أي لحكمه تعالى وقضائه عز وجل منصوب بإضمار أعني، وجوز أن يكون معمولا لمبعوثون أو مرفوع المحل خبرا لمبتدأ مضمر أي هو أو ذلك يوم، أو مجرور كما قال الفراء بدلا من يوم عَظِيمٍ وهو على الوجهين مبني على الفتح لإضافته إلى الفعل وإن كان مضارعا كما هو رأي الكوفيين وقد مر غير مرة. ويؤيد الوجهين قراءة زيد بن علي «يوم» بالرفع قراءة بعضهم كما حكى أبو معاذ «يوم» بالجر وفي هذا الإنكار والتعجيب وإيراد الظن والإتيان باسم الإشارة ووصف يوم قيامهم بالعظمة وإبدال يَوْمَ يَقُومُ إلخ منه على القول به ووصفه تعالى بربوبية العالمين من البيان البليغ لعظم الذنب وتفاقم الإثم في التطفيف ما لا يخفى وليس ذلك نظرا إلى التطفيف من حيث هو تطفيف بل من حيث إن الميزان قانون العدل الذي قامت به السماوات والأرض فيعم الحكم التطفيف على الوجه الواقع من أولئك المطففين وغيره. وصح من رواية الحاكم والطبراني وغيرهما عن ابن عباس وغيره مرفوعا خمس بخمس، قيل: «يا رسول الله وما خمس بخمس؟ قال: ما نقض قوم العهد إلّا سلط الله تعالى عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله تعالى إلّا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلّا فشا فيهم الموت، ولا ظففوا الكيل إلّا منعوا النبات وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر» وعن ابن عمر أنه كان يمر بالبائعة فيقول: اتق الله تعالى وأوف الكيل فإن المطففين يوقفون يوم القيامة لعظمة الرحمن حتى إن العرق ليلجمهم. وعن عكرمة أشهد أن كل كيال ووزان في النار فقيل له: إن ابنك كيال ووزان فقال: أشهد أنه في النار، وكأنه أراد المبالغة لما علم أن الغالب فيهم التطفيف. ومن هذا القبيل ما روي عن أبيّ رضي الله تعالى عنه: لا تلتمس الحوائج ممن رزقه في رؤوس المكاييل وألسن الموازين والله تعالى أعلم. واستدل بقوله تعالى يَوْمَ يَقُومُ إلخ على منع القيام للناس لاختصاصه بالله تعالى، وأجاب عنه الجلال السيوطي بأنه خاص بالقيام للمرء بين يديه أما القيام له إذا قدم ثم الجلوس فلا. وأنت تعلم أن الآية بمعزل عن أن يستدل بها على ما ذكر ليحتاج إلى هذا الجواب وأرى الاستدلال بها على ذلك من العجب العجاب. وقوله تعالى كَلَّا ردع عما كانوا عليه من التطفيف والغفلة عن البعث والحساب إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ إلخ تعليل للردع أو وجوب الارتداع بطريق التحقيق وكِتابَ قيل بمعنى مكتوب أي ما الجزء: 15 ¦ الصفحة: 277 يكتب من أعمال الفجار لَفِي إلخ وقيل مصدر بمعنى الكتابة وفي الكلام مضاف مقدر أي كتابة عمل الفجار لفي إلخ، والمراد ب الفُجَّارِ هنا على ما قال أبو حيان الكفار، وعلى ما قال غير واحد ما يعمهم والفسقة فيدخل فيهم المطففون وسِجِّينٍ قيل صفة كسكير واختار غير واحد أنه علم لكتاب جامع وهو ديوان الشر دوّن فيه أعمال الفجرة من الثقلين كما قال تعالى: وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ كِتابٌ مَرْقُومٌ فإن الظاهر أن كِتابٌ بدل من سِجِّينٌ أو خبر مبتدأ محذوف هو ضمير راجع إليه أي هو كتاب، وأصله وصف من السّجن بفتح السين لقب به الكتاب لأنه سبب الحبس فهو في الأصل فعيل بمعنى فاعل، أو لأنه ملقى كما قيل تحت الأرضين في مكان وحش كأنه مسجون فهو بمعنى مفعول ولا يلزم على جعله علما لما ذكر كون الكتاب ظرفا للكتاب لما سمعت من تفسير كتاب الفجار، وعليه يكون الكتاب المذكور ظرفا للعمل المكتوب فيه أو ظرفا للكتابة. وقيل: الكتاب على ظاهره والكلام نظير أن تقول: إن كتاب حساب القرية الفلانية في الدستور الفلاني لما يشتمل على حسابها وحساب أمثالها في أن الظرفية فيه من ظرفية الكل للجزء. وعن الإمام لا استبعاد في أن يوضع أحدهما في الآخر حقيقة أو ينقل ما في أحدهما للآخر. وعن أبيّ على أن قوله تعالى كِتابٌ مَرْقُومٌ أي موضع كتاب، فكتاب على ظاهره وسِجِّينٌ موضع عنده ويؤيده ما أخرجه ابن جرير عن أبي هريرة مرفوعا: «إن الفلق جب في جهنم مغطى، وسجين جب فيها مفتوح» وعليه يكون سجين لشر موضع في جهنم. وجاء في آثار عدة أنه موضع تحت الأرض السابعة ولا منافاة بين ذلك وبين الخبر المذكور بناء على القول بأن جهنم تحت الأرض. وفي الكشف لا يبعد أن يكون سجين علم الكتاب وعلم الموضع أيضا جمعا بين ظاهر الآية وظواهر الأخبار وبعض من ذهب إلى أنه في الآية علم الموضع قال «وما أدراك سجين» على حذف مضاف أي وما أدراك ما كتاب سجين. وقال ابن عطية: من قال بذلك فكتاب عنده مرفوع على أنه خبر إِنَّ والظرف الذي هو لَفِي سِجِّينٍ ملغى، وتعقب بأن إلغاءه لا يتسنى إلّا إذا كان معمولا للخبر أعني كِتابٌ أو لصفته أعني مَرْقُومٌ وذلك لا يجوز لأن كِتابٌ موصوف فلا يعمل، ولأن مَرْقُومٌ الذي هو صفته لا يجوز أن تدخل اللام في معموله ولا يجوز أن يتقدم معموله على الموصوف وفيه نظر. وقيل: كِتابٌ خبر ثان لإن، وقيل: خبر كمبتدأ محذوف هو ضمير راجع إلى كِتابَ الفُجَّارِ ومناط الفائدة الوصف، والجملة في البين اعتراضية وكلا القولين خلاف الظاهر. وعن عكرمة إن سِجِّينٌ عبارة عن الخسار والهوان كما تقول: بلغ فلان الحضيض إذا صار في غاية الخمول. والكلام في وَما أَدْراكَ إلخ عليه يعلم مما ذكرنا وهذا خلاف المشهور. وزعم بعض اللغويين أن نونه بدل من لام وأصله سجيل فهو كجبرين في جبريل فليس مشتقا من السجن أصلا. ومَرْقُومٌ من رقم الكتاب إذا أعجمه وبيّنه لئلا يلغو أي كتاب بيّن الكتابة أو من رقم الكتاب إذا جعل له رقما أي علامة أي كتاب معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه. وقال ابن عباس والضحاك مَرْقُومٌ مختوم بلغة حمير وذكر بعضهم أنه يقال: رقم الكتاب بمعنى ختمه ولم يخصه بلغة دون لغة. وفي البحر مَرْقُومٌ أي مثبت كالرقم لا يبلى ولا يمحى وهو كما ترى. وشاع الرقم في الكتابة قال أبو حيان: وهو أصل معناه، ومنه قول الشاعر: سأرقم في الماء القراح إليكم ... على بعدكم إن كان للماء راقم وأما الرقم المعروف عند أهل الحساب فالظاهر أنه بمعنى العلامة وخص بعلامة العدد فيما بينهم وقوله تعالى وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ متصل بقوله تعالى يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وما بينهما اعتراض والمراد الجزء: 15 ¦ الصفحة: 278 للمكذبين بذلك اليوم فقوله تعالى الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ إما مجرور على أنه صفة ذامة للمكذبين أو بدل منه أو مرفوع أو منصوب على الذم وجوز أن يكون صفة كاشفة موضحة، وقيل: هو صفة مخصصة فارقة على أن المراد المكذبين بالحق والأول أظهر لأن قوله تعالى وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ إلخ يدل على أن القصد إلى المذمة أي وما يكذب بيوم الدين إلّا كل متجاوز حدود النظر والاعتبار غال في التقليد حتى جعل قدرة الله تعالى قاصرة عن الإعادة وعلمه سبحانه قاصرا عن معرفة الأجزاء المتفرقة التي لا بد في الإعادة منها فعدّ الإعادة محالة عليه عز وجل أَثِيمٍ أي كثير الآثام منهمك في الشهوات المخدجة الفانية بحيث شغلته عما وراءها من اللذات التامة الباقية وحملته على إنكارها إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا الناطقة بذلك قالَ من فرط جهله وإعراضه عن الحق الذي لا محيد عنه أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي هي حكايات الأولين يعني هي أباطيل جاء بها الأولون وطال أمد الإخبار بها ولم يظهر صدقها، أو أباطيل ألقيت على آبائنا الأولين وكذبوها ولسنا أول مكذب بها حتى يكون التكذيب منا عجلة وخروجا عن طريق الحزم والاحتياط والأول أظهر. والآية قيل نزلت في النضر بن الحارث وعن الكلبي أنها نزلت في الوليد بن المغيرة وأيا ما كان فالكلام على العموم. وقرأ أبو حيوة وابن مقسم «إذا يتلى» بتذكير الفعل وقرىء إذا تتلى على الاستفهام الإنكاري كَلَّا ردع للمعتدي الأثيم عن ذلك القول الباطل وتكذيب له فيه وقوله عز وجل بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ بيان لما أدى بهم إلى التفوه بتلك العظيمة أي ليس في آياتنا ما يصحح أن يقال في شأنها مثل تلك المقالة الباطلة بل ركب قلوبهم وغلب عليها ما استمروا على اكتسابه من الكفر والمعاصي حتى صار كالصدأ في المرآة فحال ذلك بينهم وبين معرفة الحق فلذلك قالوا ما قالوا والرين في الأصل الصدأ يقال: ران عليه الذنب وغان عليه رينا وغينا ويقال: ران فيه النوم أي رسخ فيه وفي البحر أصل الرين الغلبة يقال: رانت الخمر على عقل شاربها أي غلبت، وران الغشي على عقل المريض أي غلب. وقال أبو زيد: يقال رين بالرجل يران به رينا إذا وقع فيما لا يستطيع منه الخروج، وأريد به حب المعاصي الراسخ بجامع أنه كالصدأ المسود للمرآة والفضة مثلا المغيّر عن الحالة الأصلية. وأخرج الإمام أحمد والترمذي والحاكم وصححاه والنسائي وابن ماجة وابن حبان وغيرهم عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن العبد إذا أذنب ذنبا نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه» فذلك الران الذي ذكر الله تعالى في القرآن كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يكسبون وأخرج ابن المنذر وغيره عن مجاهد أنه قال: كانوا يرون أن الرين هو الطبع وذكروا له أسبابا وفي حديث أخرجه عبد بن حميد من طريق خليد بن الحكم عن أبي المجبر أنه عليه الصلاة والسلام قال: «أربع خصال مفسدة للقلوب مجاراة الأحمق فإن جاريته كنت مثله وإن سكت عنه سلمت منه، وكثرة الذنوب مفسدة للقلوب وقد قال الله تعالى بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ، والخلوة بالنساء والاستمتاع بهن والعمل برأيهن، ومجالسة الموتى» قيل: يا رسول الله من هم؟ قال: «كل غني قد أبطره غناه» . وقرىء بإدغام اللام في الراء وقال أبو جعفر بن الباذش أجمعوا يعني القرّاء على إدغام اللام في الراء إلّا ما كان من وقف حفص على بل وقفا خفيفا يسيرا لتبيين الإظهار وليس كما قال من الإجماع ففي اللوامح عن قالون من جميع طرقه إظهار اللام عند الراء نحو قوله تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء: 158] بَلْ رَبُّكُمْ [الأنبياء: 56] وفي كتاب ابن عطية وقرأ نافع بَلْ رانَ غير مدغم وفيه أيضا وقرأ نافع أيضا بالإدغام والإمالة وقال سيبويه في اللام مع الراء نحو أشغل رحمه البيان، والإدغام حسنان وقال أيضا: فإذا كانت يعني اللام غير لام التعريف نحو لام هل وبل فإن الإدغام أحسن فإن لم تدغم فهي لغة لأهل الحجاز وهي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 279 عربية جائزة وفي الكشاف قرىء بإدغام اللام في الراء وبالإظهار والإدغام أجود وأميلت الألف وفخمت فليحفظ. كَلَّا ردع وزجر عن الكسب الرائن أو بمعنى حقا إِنَّهُمْ أي هؤلاء المكذبين عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ لا يرونه سبحانه وهو عز وجل حاضر ناظر لهم بخلاف المؤمنين فالحجاب مجاز عن عدم الرؤية لأن المحجوب لا يرى ما حجب أو الحجب المنع والكلام على حذف مضاف أي عن رؤية ربهم لممنوعون فلا يرونه سبحانه. واحتج بالآية مالك على رؤية المؤمنين له تعالى من جهة دليل الخطاب وإلّا فلو حجب الكل لما أغنى هذا التخصيص. وقال الشافعي: لما حجب سبحانه قوما بالسخط دل على أن قوما يرونه بالرضا. وقال أنس بن مالك: لما حجب عز وجل أعداءه سبحانه فلم يروه تجلى جل شأنه لأوليائه حتى رأوه عز وجل، ومن أنكر رؤيته تعالى كالمعتزلة قال: إن الكلام تمثيل للاستخفاف بهم وإهانتهم لأنه لا يؤذن على الملوك إلا للوجهاء المكرمين لديهم، ولا يحجب عنهم إلا الأدنياء المهانون عندهم كما قال: إذا اعتروا باب ذي عبية رجبوا ... والناس من بين مرجوب ومحجوب أو هو بتقدير مضاف أي عن رحمة ربهم مثلا لمحجوبون. وعن ابن عباس وقتادة ومجاهد تقدير ذلك وعن ابن كيسان تقدير الكرامة لكنهم أرادوا عموم المقدر للرؤية وغيرها من ألطافه تعالى. والجار والمجرور متعلق «بمحجوبون» وهو العالم في يَوْمَئِذٍ والتنوين فيه تنوين عوض والمعوض عنه هنا يقوم الناس السابق كأنه قيل إنهم لمحجوبون عن ربهم يوم إذ يقوم الناس لرب العالمين ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ مقاسو حرها على ما قال الخليل. وقيل: داخلون فيها وثُمَّ قيل لتراخي الرتبة لكن بناء على ما عندهم فإن صلي الجحيم عندهم أشد من حجابهم عن ربهم عز وجل، وأما عند المؤمنين لا سيما الوالهين به سبحانه منهم فإن الحجاب عذاب لا يدانيه عذاب. ثُمَّ يُقالُ لهم تقريعا وتوبيخا من جهة الخزنة أو أهل الجنة هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ فذوقوا عذابه كَلَّا تكرير للردع السابق في قوله تعالى كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ إلخ ليعقب بوعد الأبرار كما عقب ذاك بوعيد الفجار إشعارا بأن التطفيف فجور والإيقاء بر، وقيل ردع عن التكذيب فلا تكرار إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ الكلام نحو ما مر في نظيره بيد أنهم اختلفوا في عِلِّيِّينَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 280 على وجه آخر غير اختلافهم في سِجِّينٍ فقال غير واحد: هو علم لديوان الخبر الذي دوّن فيه كل ما عملته الملائكة وصلحاء النقلين منقول من جمع على فعيل من العلو كسجين من السجن، سمّي بذلك إما لأنه سبب الارتفاع إلى أعالي درجات الجنان أو لأنه مرفوع في السماء السابعة أو عند قائمة العرش اليمنى مع الملائكة المقربين عليهم الاسم تعظيما له. وقيل: هو المواضع العلية واحده عليّ وكان سبيله أن يقال علية كما قالوا للغرفة علية فلما حذفوا التاء عوضوا عنها الجمع بالواو والنون وحكي ذلك عن أبي الفتح بن جني وقيل هو وصف للملائكة ولذلك جمع بالواو والنون. وقال الفراء: هو اسم موضوع على صيغة الجمع ولا واحد له من لفظة كعشرين وثلاثين. والعرب إذا جمعت جمعا ولم يكن له بناء واحد ولا تثنية أطلقوه في المذكر والمؤنث بالواو والنون يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ صفة أخرى لكتاب أي يحضرونه على أن يشهد من الشهود بمعنى الحضور وحضوره كناية عن حفظه في الخارج أو يشهدون بما فيه يوم القيامة على أنه من الشهادة، وعلى الوجهين المراد بالمقربين جمع من الملائكة عليهم السلام كذا قالوا. وأخرج عبد بن حميد من طريق خالد بن عرعرة وأبي عجيل أن ابن عباس سأل كعبا عن هذه الآية فقال: إن المؤمن يحضره الموت ويحضره رسل ربه عز وجل، فلا هم يستطيعون أن يؤخروه ساعة ولا يعجلوه حتى تجيء ساعته، فإذا جاءت ساعته قبضوا نفسه فدفعوه إلى ملائكة الرحمة فأروه ما شاء الله تعالى أن يروه من الخير ثم عرجوا بروحه إلى السماء فيشيعه من كل سماء مقربوها حتى ينتهوا به إلى السماء السابعة فيضعونه بين أيديهم ولا ينتظرون به صلاتكم عليه فيقولون: اللهم هذا عبدك فلان قبضنا نفسه ويدعون له بما شاء الله تعالى أن يدعو له، فنحن نحب أن تشهدنا اليوم كتابه فينشر كتابه من تحت العرش فيثبتون اسمه فيه وهم شهود فذلك قوله تعالى: كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ وسأله عن قوله تعالى إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ الآية فقال: إن العبد الكافر يحضره الموت ويحضره رسل ربه سبحانه فإذا جاءت ساعته قبضوا نفسه فدفعوه إلى ملائكة العذاب فأروه ما شاء الله تعالى أن يروه من الشر ثم هبطوا به إلى الأرض السفلى وهو سجين وهي آخر سلطان إبليس فأثبتوا كتابه فيها الحديث وفي بعض الأخبار ما ظاهره أن نفس العمل يكون في سجن ويكون في عليين، فقد أخرج ابن المبارك عن صخر بن حبيب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن الملائكة يرفعون أعمال العبد من عباد الله تعالى يستكثرونه ويزكونه حتى يبلغوا به إلى حيث شاء الله تعالى من سلطانه، فيوحي الله تعالى إليهم إنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه، إن عبدي هذا لم يخلص لي عمله فاجعلوه في سجين، ويصعدون بعمل العبد يستقلونه ويستحقرونه حتى يبلغوا به إلى حيث شاء الله تعالى من سلطانه فيوحي الله تعالى إليهم إنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه إن عبدي هذا أخلص لي عمله فاجعلوه في عليين» وبأدنى تأويل يرجع إلى ما تضمنته الآية فلا تغفل. وقوله تعالى إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ شروع في بيان محاسن أحوالهم إثر بيان حال كتابهم والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه قيل: هذا حال كتابهم فما حالهم؟ فأجيب بما ذكر أي إنهم لفي نعيم عظيم عَلَى الْأَرائِكِ أي على الأسرّة في الحجال وقد تقدم تمام الكلام فيها يَنْظُرُونَ أي إلى ما شاؤوا من رغائب مناظر الجنة وما تحجب الحجال أبصارهم. وقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد: إلى ما أعد الله تعالى لهم من الكرامات. وقال مقاتل: إلى أهل النار أعدائهم ولم يرتضه بعض ليكون ما في آخر السورة تأسيسا وقيل: ينظر بعضهم إلى بعض فلا يحجب حبيب عن حبيبه وقيل: النظر كناية عن سلب النوم فكأنه قيل لا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 281 ينامون وكأنه لدفع توهم النوم من ذكر الأرائك المعدة للنوم غالبا، وفيه إشارة إلى أنه لا نوم في الجنة كما وردت في الأخبار لما فيه من زوال الشعور وغفلة الحواس إلى غير ذلك مما لا يناسب ذلك المقام. وعليه يكون قوله سبحانه تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ أي بهجة النعيم ورونقه لنفي ما يوهمه سلب النوم من الضعف وتغير بهجة الوجه كما في الدنيا وهو وجه لا يعرف فيه الناظر نضرة التحقيق والخطاب في تعرف لكل من له حظ من الخطاب للإيذان بأن ما لهم من آثار النعمة وأحكام البهجة بحيث لا يختص براء دون راء. وقرأ أبو جعفر وابن أبي إسحاق وطلحة وشيبة ويعقوب «تعرف» مبنيا للمفعول «نضرة» رفعا على النيابة عن الفاعل، وجوز بعضهم أن يكون نائب فاعل تَعْرِفُ ضمير الْأَبْرارَ وفِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ مبتدأ وخبر كأنه قيل تعرف الأبرار بأن في وجوههم نضرة النعيم وليس بشيء كما لا يخفى. وقرأ زيد بن علي كذلك إلا أنه قرأ «يعرف» بالياء إذ تأنيث نَضْرَةَ مجازي يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ قال الخليل: هو أجود الخمر وقال الأخفش والزجاج: الشراب الذي لا غش فيه، قال حسان: يسقون من ورد البريص عليهم ... بردى يصفق بالرحيق السلسل وفسرها هنا بالشراب الخالص مما يكدر حتى الغول مَخْتُومٍ خِتامُهُ مِسْكٌ أي مختوم أوانيه وأكوابه بالمسك مكان الطين كما روي عن مجاهد وذكر أن طين الجنة مسك معجون. والظاهر أن الختام ما يختم به وأن الختم على حقيقته وكذا إسناده. وقولنا: مختوم أوانيه إلخ ليس لأن الإسناد مجازي بل لأن الختم على الشيء أعني الاستيثاق منه بالختم طريقه ذلك وختم اعتناء به وإظهارا لكرامة شاربه وكان ذلك بما هو على هيئة الطين ليكون على النهج المألوف. ويجوز أن يكون ذلك تمثيلا لكمال نفاسته وإلّا فليس ثمة غبار أو ذباب أو خيانة ليصان على ذلك بالختم. وقال ابن عباس وابن جبير والحسن: المعنى خاتمته ونهايته رائحة مسك إذا شرب أي يجد شاربه ذلك عند انتهاء شربه وكان ذلك لأن اشتغال الذائقة بكمال لذته تمنع عن إدراك الرائحة فإذا انقطع الشرب أدركت وإلّا فالرائحة لا تختص بالانتهاء. وقيل: المعنى ذو نهاية نهايته وما يبقى بعد شربه ويشرب في أوانيه مسك وليس كشراب الدنيا نهايته. وما يرسب في إنائه طين أو نحوه وهو كما ترى. وقيل: إن الرحيق يمزج بالكافور ويختم مزاجه بالمسك، فالمعنى ذو ختام ختام مزاجه مسك وهو مع كونه خلاف الظاهر وفيما بعد ما يبعده في الجملة يحتاج إلى نقل يعول عليه وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والنخعي والضحاك وزيد بن علي وأبو حيوة وابن أبي عبلة والكسائي «خاتمه» بألف بعد الخاء وفتح التاء والمراد ما يختم به أيضا فإن فاعلا بالفتح يكون أيضا اسم آلة كالقالب والطابع لكنه سماعي. وعن الضحاك وعيسى وأحمد بن جبير الأنطاكي عن الكسائي كسر التاء أي آخره رائحة مسك، والجمل السابقة أعني عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ وتَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ إلخ ويُسْقَوْنَ إلخ قيل أحوال مترادفة، وقيل مستأنفات كجملة إِنَّ الْأَبْرارَ إلخ وقعت أجوبة للسؤال عن حالهم والفصل للتنبيه على استقلال كل في بيان كرامتهم. وَفِي ذلِكَ إشارة إلى الرحيق وهو الأنسب بما بعد أو إلى ما ذكر من أحوالهم وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو مرتبته وبعد منزلته، وجوز أن يكون لكونه في الجنة والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى: فَلْيَتَنافَسِ وقدم للاهتمام أو للحصر أي فليتنافس وليرغب فيه لا في خمور الدنيا أو لا في غيره من ملاذها ونعيمها الْمُتَنافِسُونَ أي الراغبون في المبادرة إلى طاعة الله تعالى، وقيل: أي فليعمل لأجله أي لأجل تحصيله خاصة والفوز به العاملون كقوله تعالى لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ [الصافات: 61] أي فليستبق في الجزء: 15 ¦ الصفحة: 282 تحصيل ذلك المتسابقون، وأصل التنافس التغالب في الشيء النفيس وأصله من النفس لعزتها. قال الواحدي: نفست الشيء أنفسه نفاسة، والتنافس تفاعل منه كأن واحد من الشخصين يريد أن يستأثر به. وقال البغوي: أصله من الشيء النفيس الذي تحرص عليه نفوس الناس ويريده كل أحد لنفسه، ويقال: نفست عليه بالشيء أنفس نفاسة إذا بخلت به عليه. وفي مفردات الراغب: المنافسة مجاهدة النفس للتشبه بالأفاضل واللحوق بهم من غير إدخال ضرر على غيره وهي بهذا المعنى من شرف النفس وعلو الهمة، والفرق بينها وبين الحسد أظهر من أن يخفى، واستشكل ذلك التعلق بأنه يلزم عليه دخول العاطف على العاطف إذ التقدير و «فليتنافس في ذلك» وأجيب بأنه بتقدير القول أي يقولون لشدة التلذذ من غير اختيار من ذلك فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ أي في الدنيا على معنى أنه كان اللائق بهم أن يتنافسوا في ذلك، وقيل: الكلام على تقدير حرف الشرط والفاء واقعة في جوابه أي وإن أريد تنافس فليتنافس في ذلك المتنافسون، وتقديم الظرف ليكون عوضا عن الشرط في شغل حيزه وهو أنفس مما تقدم. وقوله تعالى: وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عطف على خِتامُهُ مِسْكٌ صفة أخرى لرحيق مثله وما بينهما اعتراض مقرر لنفاسته، وتَسْنِيمٍ علم لعين بعينها في الجنة كما روي عن ابن مسعود وعن حذيفة بن اليمان أنه قال: عين من عدن سميت بالتسنيم الذي هو مصدر سنمه إذا رفعه إما لأن شرابها أرفع شراب في الجنة على ما روي عن ابن عباس، أو لأنها تأتيهم من فوق على ما روي عن الكلبي، وروي أنها تجري في الهواء متسنمة فتنصب في أوانيهم. وقيل: سميت بذلك لرفعة من يشرب بها ولا يلزم من كونه علما لما ذكر منع صرفه للعلمية والتأنيث لأن العين مؤنثة إذ هي قد تذكر بتأويل الماء أو نحوه ومِنْ بيانية أو تبعيضية أي ما يمزج به ذلك الرحيق هو تسنيم أي ماء تلك العين أو بعض ذلك وجوز أن تكون ابتدائية. عَيْناً نصب على المدح. وقال الزجاج: على الحال من تسنيم قيل وصح كونه حالا مع جموده لوصفه بقوله تعالى يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ أو لتأويله بمشتق كجارية وأنت تعلم أن الاشتقاق غير لازم، والباء إما زائدة أي يشربها أو بمعنى من أي يشرب منها، أو على تضمين يشرب معنى يروى أي يشرب راوين بها أو يروى بها شاربين المقربون أو صلة الالتذاذ أي يشرب ملتذا بها، أو الامتزاج أي يشرب الرحيق ممتزجا بها، أو الاكتفاء أي يشرب مكتفين بها أوجه ذكروها، وفي كونها صلة الامتزاج مقال فقد قال ابن مسعود وابن عباس والحسن وأبو صالح: يشرب بها المقربون صرفا وتمزج للأبرار ومذهب الجمهور أن الأبرار هم أصحاب اليمين وأن المقربين هم السابقون كأنهم إنما كان شرابهم صرف التسنيم لاشتغالهم عن الرحيق المختوم بمحبة الحي القيوم فهي الرحيق التي لا يقاس بها رحيق، والمدامة التي تواصى على شربها ذو والأذواق والتحقيق: على نفسه فليبك من ضاع عمره ... وليس له منها نصيب ولا سهم وقال قوم الأبرار والمقربون في هذه السورة بمعنى واحد يشمل كل من نعم في الجنة. وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا إلخ حكاية لبعض قبائح مشركي قريش أبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأشياعهم جيء بها تمهيدا لذكر بعض أحوال الأبرار في الجنة كانُوا أي في الدنيا كما قال قتادة مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ كانوا يستهزئون بفقرائهم كعمار وصهيب وخباب وبلال وغيرهم من الفقراء. وفي البحر روي أن عليا كرم الله تعالى وجهه وجمعا من المؤمنين معه مروا بجمع من كفار مكة فضحكوا منهم واستخفوا بهم فنزلت إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا إلخ قبل أن يصل علي كرم الله تعالى وجهه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وفي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 283 الكشاف حكاية ذلك عن المنافقين وأنهم قالوا: ربنا اليوم الأصلع أي سيدنا يعنون عليا كرم الله تعالى وجهه، وإنما قالوه استهزاء ولعل الأول أصح وتقديم الجار والمجرور إما للقصر إشعارا بغاية شناعة ما فعلوا أي كانوا من الذين آمنوا يضحكون مع ظهور عدم استحقاقهم لذلك على منهاج قوله تعالى أَفِي اللَّهِ شَكٌّ [إبراهيم: 10] لمراعاة الفواصل وَإِذا مَرُّوا أي المؤمنون بِهِمْ أي بالذين أجرموا وهم في أنديتهم يَتَغامَزُونَ أي يغمز بعضهم بعضا ويشيرون بأعينهم استهزاء بالمؤمنين وإرجاع ضمير مَرُّوا للمؤمنين وضمير بِهِمْ للمجرمين هو الأظهر الأوفق بحكاية سبب النزول. واستظهر أبو حيان العكس معللا له بتناسق الضمائر وَإِذَا انْقَلَبُوا أي المجرمون ورجعوا من مجالسهم إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ ملتذين باستخفافهم بالمؤمنين. وكان المراد بذلك الإشارة إلى أنهم يعدون صنيعهم ذلك من أحسن ما اكتسبوه في غيبتهم عن أهلهم أو إلى أن له وقعا في قلوبهم ولم يفعلوه مراعاة لأحد وإنما فعلوه لحظ أنفسهم. وقيل: فيه إشارة إلى أنهم كانوا لا يفعلون ذلك بما رأى من المارين بهم ويكتفون حينئذ بالتغامز. وقرأ الجمهور «فاكهين» بالألف قيل هما بمعنى، وقيل فكهين أشرين، وقيل فرحين وفاكهين قيل متفكهين وقيل ناعمين وقيل مادحين وَإِذا رَأَوْهُمْ وإذا رأوا المؤمنين أينما كانوا قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ يعنون جنس المؤمنين مطلقا لا خصوص المرئيين منهم والتأكيد لمزيد الاعتناء بسبهم وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ جملة حالية من ضمير قالوا أي قالوا ذلك والحال أنهم ما أرسلوا من جهة الله تعالى على المؤمنين موكلين بهم يحفظون عليهم أحوالهم ويهيمنون على أعمالهم ويشهدون برشدهم وضلالهم وهذا تهكم واستهزاء بهم وإشعار بأن ما جرؤوا عليه من القول من وظائف من أرسل من جهته تعالى، وجوز أن يكون من جملة قول المجرمين والأصل وما أرسلوا علينا حافظين إلّا أنه قيل عليهم نقلا بالمعنى على نحو قال زيد ليفعلن كذا وغرضهم بذلك إنكار صدّ المؤمنين إياهم عن الشرك ودعائهم إلى الإيمان فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا أي المعهودون من الفقراء مِنَ الْكُفَّارِ أي من المعهودين وجوز التعميم من الجانبين يَضْحَكُونَ حين يرونهم أذلاء مغلولين قد غشيتهم فنون الهوان والصغار بعد العز والكبر ورهقهم ألوان العذاب بعد التنعم والترفه. والظرف والجار والمجرور متعلقان ب يَضْحَكُونَ وتقديم الجار والمجرور قيل للقصر تحقيقا للمقابلة أي واليوم هم من الكفار يضحكون لا الكفار منهم كما كانوا يفعلون في الدنيا. وقوله تعالى عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ حال من فاعل يَضْحَكُونَ أي يضحكون منهم ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من سوء الحال. وقيل: يفتح للكفار باب إلى الجنة فيقال لهم: هلم هلم، فإذا وصلوا إليها أغلق دونهم يفعل ذلك مرارا حتى أن أحدهم يقال له: هلم هلم فما يأتي من إياسه ويضحك المؤمنون منهم. وتعقب بأن قوله تعالى هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ يأباه فإنه صريح في أن ضحك المؤمنين منهم جزاء لضحكهم منهم في الدنيا فلا بد من المجانسة والمشاكلة حتما والحق أنه لا إباء كما لا يخفى والتثويب والإثابة المجازاة. ويقال: ثوّبه وأثابه إذا جازاه، ومنه قول الشاعر: سأجزيك أو يجزيك عني مثوب ... وحسبك أن يثنى عليك وتحمدي وظاهر كلامهم إطلاق ذلك على المجازاة بالخير والشر، واشتهر بالمجازاة بالخير وجوز حمله عليه هنا على أن المراد التهكم كما قيل به في قوله تعالى فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: 21، التوبة: 34، الانشقاق: 24] وذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان: 49] كأنه تعالى يقول للمؤمنين هل أثبنا هؤلاء على ما كانوا يفعلون كما أثبناكم على ما كنتم تعلمون فيكون هذا القول زائدا في سرورهم لما فيه من الجزء: 15 ¦ الصفحة: 284 تعظيمهم والاستخفاف بأعدائهم. والجملة الاستفهامية حينئذ معمولة لقول محذوف وقع حالا من ضمير يَضْحَكُونَ أو من ضمير يَنْظُرُونَ أي يضحكون أو ينظرون مقولا لهم هَلْ ثُوِّبَ إلخ. ولم يتعرض لذلك الجمهور. وفي البحر الاستفهام لتقرير المؤمنين والمعنى قد جوزي الكفار ما كانوا إلخ. وقيل هَلْ ثُوِّبَ متعلق ب يَنْظُرُونَ والجملة في موضع نصب به بعد إسقاط حرف الجر الذي هو إلى انتهى وما مصدرية أو موصولة والعائد محذوف أي يفعلونه، والكلام بتقدير مضاف أي ثواب أو جزاء ما كانوا إلخ. وقيل هو بتقدير باء السببية أي هل ثوب الكفار بما كانوا وقرأ النحويان وحمزة وابن محيصن بإدغام اللام في التاء والله تعالى أعلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 285 سورة الانشقاق ويقال سور انشقت وهي مكية بلا خلاف وآيها ثلاث وعشرون آية في البصري والشامي وخمس وعشرون في غيرهما، ووجه مناسبتها لما قبلها يعلم مما نقلناه عن الجلال السيوطي فيما قبل وأوجز بعضهم في بيان وجه ترتيب هذه السور الثلاث فقال: إن في انفطرت التعريف بالحفظة الكاتبين وفي المطففين مقر كتبهم وفي هذه عرضها في القيامة. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ أي بالغمام كما روي عن ابن عباس وذهب إليه الفرّاء والزجّاج كما في البحر ويشهد له قوله تعالى وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ [الفرقان: 25] فالقرآن يفسر بعضه بعضا، وقيل: تنشق لهول يوم القيامة لقوله تعالى وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ [الحاقة: 16] وبحث فيه بأنه لا ينافي أن يكون الانشقاق بالغمام. وأخرج ابن أبي حاتم عن علي كرم الله تعالى وجهه أنها تنشق من المجرة وفي الآثار إنها باب السماء وأهل الهيئة يقولون إنها نجوم صغار متقاربة جدا غير متميزة في الحسن ويظهر ذلك ظهورا بيّنا لمن نظر إليها بالأرصاد ولا منافاة على ما قيل من أن المراد بكونها باب السماء أن مهبط الملائكة عليهم السلام ومصعدهم من جهتها وذلك بجامع كونها نجوما صغارا متقاربة غير متميزة في الحسن. وخبر إن النبي صلّى الله عليه وسلم أرسل معاذا إلى أهل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 286 اليمن فقال له: «يا معاذ إنهم سائلوك عن المجرة، فقل هي لعاب حية تحت العرش» ومنه قيل إنها في البحر المكفوف تحت السماء لا يكاد يصح. والقول المذكور لا ينبغي أن يحكى إلّا لينبّه على حاله. وقرأ عبيد بن عقيل عن أبي عمرو «انشقت» وكذا ما بعد من نظائره بإشمام التاء مكسرا في الوقف. وحكى عنه أيضا الكسر أبو عبيد الله بن خالويه وذلك لغة طيىء على ما قيل. وعن أبي حاتم: سمعت أعرابيا فصيحا في بلاد قيس يكسر هذه التاء أي تاء التأنيث اللاحقة للفعل وهي لغة، ولعل ذلك لأن الفواصل قد تجري مجرى القوافي فكما أن هذه التاء تكسر في القوافي كما في قول كثير عزة من قصيدة: وما أنا بالداعي لعزة بالردى ... ولا شامت إن قيل عزة ذلت إلى غير ذلك من أبيات تلك القصيدة تكسر في الفواصل وإجراء الفواصل في الوقف مجرى القوافي مهيع معروف كقوله تعالى الظُّنُونَا والرَّسُولَا في سورة [الأحزاب: 10، 66] وحمل الوصل على حالة الوقف موجود أيضا في الفواصل وَأَذِنَتْ لِرَبِّها أي استمعت له تعالى، يقال: أذن إذا سمع. قال الشاعر: صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به ... وإن ذكرت بشرّ عندهم أذنوا وقال قعنب: إن يأذنوا ريبة طاروا بها فرحا ... وإن هم أذنوا من صالح دفنوا والاستماع هنا مجاز عن الانقياد والطاعة أي انقادت لتأثير قدرته عز وجل حين تعلقت إرادته سبحانه بانشقاقها انقياد المأمور المطواع إذا ورد عليه أمر الآمر المطاع، والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إليها للإشعار بعلة الحكم، وهذه الجملة ونظيرتها بعد قيل بمنزلة قوله تعالى أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: 11] في الإنباء عن كون ما نسب إلى السماء والأرض من الانشقاق والمد وغيرهما جاريا على مقتضى الحكمة على ما قرروه وَحُقَّتْ أي جعلت حقيقة بالاستماع والانقياد لكن لا بعد أن لم تكن كذلك بل في نفسها وحد ذاتها من قولهم هو محقوق بكذا وحقيق به، وحاصل المعنى انقادت لربها وهي حقيقة وجديرة بالانقياد لما أن القدرة الربانية لا يتعاصاها أمر من الأمور لا لأمر اختصت به من بين الممكنات. وذكر بعضهم أن أصل الكلام حق الله تعالى عليها بذلك أي حكم عليها بتحتم الانقياد على معنى أراده سبحانه منها إرادة لا نقض لها. وقيل: المعنى وحق لها أن تنشق لشدة الهول والجملة على ما اختاره بعض الأجلّة اعتراض مقرر لما قبلها، وقيل معطوفة عليه وليس بذاك وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ قال الضحاك: بسطت باندكاك جبالها وآكامها وتسويتها فصارت قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا وقال بعضهم: زيدت سعة وبسطة من مده بمعنى أمدّه أي زاده ونحوه ما قيل جرت فزاد انبساطها وعظمت سعتها. وأخرج الحاكم بسند جيد عن جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «تمد الأرض يوم القيامة مد الأديم ثم لا يكون لابن آدم منها إلّا موضع قدميه» . وَأَلْقَتْ ما فِيها أي رمت ما في جوافها من الموتى والكنوز كما أخرج ذلك عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة وإليه ذهب الزجاج. واقتصر بعضهم كابن جبير وجماعة على الموتى بناء على أن إلقاء الكنوز إذا خرج الدجال وكأن من ذهب إلى الأول لا يسلم إلقاء الكنوز يومئذ، ولو سلم يقول: يجوز أن لا يكون عاما لجميع الكنوز وإنما يكون كذلك يوم القيامة والقول بأن يوم القيامة متسع يجوز أن يدخل فيه وقت خروج الدجال ينبغي أن يلقى ولا يلتفت إليه وَتَخَلَّتْ أي وخلت عما فيها غاية الخلو حتى لم يبق فيها شيء من ذلك كأنها تكلفت في ذلك أقصى جهدها فصيغة التفعل للتكلف والمقصود منه المبالغة كما في قولك: تحلم الحليم، وتكرم الكريم. وقيل تَخَلَّتْ ممن على ظهرها من الأحياء، وقيل: مما على ظهرها من جبالها وبحارها وكلا القولين كما ترى. وقد أخرج أبو القاسم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 287 الحبيلي في الديباج عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أنا أول من تنشق عنه الأرض فأجلس جالسا في قبري وإن الأرض تحرك بي فقلت لها مالك؟ فقالت: إن ربي أمرني أن ألقي ما في جوفي وأن أتخلى فأكون كما كنت إذ لا شيء فيّ» وذلك قوله تعالى وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّها في الإلقاء وما بعده وَحُقَّتْ الكلام فيه نظير ما تقدم، وفيه إشارة إلى أن ما ذكر وإن أسند إلى الأرض فهو بفعل الله تعالى وقدرته عز وجل وتكرير كلمة إذا لاستقلال كل من الجملتين بنوع من القدرة يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ أي جاهد ومجد جدا في عملك من خير وشر إِلى رَبِّكَ كَدْحاً أي طول حياتك إلى لقاء ربك أي إلى الموت وما بعده من الأحوال الممثلة باللقاء والكدح جهد النفس في العمل حتى يؤثر فيها، من كدح جلده إذا خدشه قال ابن مقيل: وما الدهر إلّا تارتان فمنهما ... أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح وقال آخر: ومضت بشاشة كل عيش صالح ... وبقيت أكدح للحياة وأنصب فَمُلاقِيهِ أي فملاق له عقيب ذلك لا محالة من غير صارف يلويك عنه، والضمير له عز وجل أي فملاقي جزائه تعالى. وقيل: هو للكدح أي فملاقي جزاء الكدح وبولغ فيه على نحو: «إنما هي أعمالكم ترد إليكم» والظاهر أن «ملاقيه» معطوف على كادِحٌ على القولين. وقال ابن عطية بعد ذكره الثاني فألقاه على هذا عاطفة جملة الكلام على الجملة التي قبلها، والتقدير فأنت ملاقيه، ولا يظهر وجه التخصيص والمراد بالإنسان الجنس كما يؤذن به التقسيم بعد وقال مقاتل: المراد به الأسود بن هلال المخزومي جادل أخاه أبا سلمة في أمر البعث فقال أبو سلمة إي والذي خلقك لتركبن الطبقة ولتوافين العقبة، فقال الأسود: فأين الأرض والسماء وما حال الناس؟ وكأنه أراد أنها نزلت فيه وهي تعم الجنس، وقيل: المراد أبيّ بن خلف كان يكدح في طلب الدنيا وإيذاء الرسول صلّى الله عليه وسلم والإصرار على الكفر، ولعل القائل أراد ذلك أيضا وأبعد غاية الإبعاد من ذهب إلى أنه الرسول عليه الصلاة والسلام على أن المعنى إنك تكدح في إبلاغ رسالات الله عز وجل وإرشاده عباده سبحانه واحتمال الضرر من الكفار، فأبشر إنك تلقى الله تعالى بهذا العمل وهو غير ضائع عنده جل شأنه وجواب إِذَا قيل قوله تعالى فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً إلخ كما في قوله تعالى فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 38] وقوله تعالى يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إلخ اعتراض، وقيل: هو محذوف للتهويل أي كان ما كان مما يضيق عنه نطاق البيان، وقدره بعضهم نحو ما صرح به في سورتي التكوير والانفطار، وقيل: هو ما دل عليه يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إلخ وتقديره لاقى الإنسان كدحه، وقيل: هو نفسه على حذف الفاء والأصل فيا أيها الإنسان أو بتقدير يقال. وقال الأخفش والمبرد: هو قوله تعالى فَمُلاقِيهِ بتقدير فأنت ملاقيه ليكون مع المقدر جملة، وعلى هذا جملة يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إلخ معترضة. وقال ابن الأنباري والبلخي هو وَأَذِنَتْ على زيادة الواو كما قيل في قوله تعالى حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: 71، 73] وعن الأخفش أن إذا هنا لا جواب لها لأنها ليست بشرطية بل هي في إذا السماء متجردة عنها مبتدأ، وفي وإذا الأرض خبر والواو زائدة أي وقت انشقاق السماء وقت مد الأرض وقيل لا جواب لها لأنها ليست بذلك بل متجردة عن الشرطية واقعة مفعولا لأذكر محذوفا، ولا يخفى ما في بعض هذه الأقوال من الضعف ولعل الأولى منها الأولان والحساب اليسير السهل الذي لا مناقشة فيه كما قيل وفسره عليه الصلاة والسلام بالعرض وبالنظر في الكتاب مع التجاوز، فقد الجزء: 15 ¦ الصفحة: 288 أخرج الشيخان والترمذي وأبو داود عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «ليس أحد يحاسب إلّا هلك» قلت: يا رسول الله، جعلني الله تعالى فداك أليس الله تعالى يقول فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً؟ قال: «ذلك العرض يعرضون ومن نوقش الحساب هلك» وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن مردويه والحاكم وصححه عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول في بعض صلاته: «اللهم حاسبني حسابا يسيرا فلما انصرف عليه الصلاة والسلام قلت: يا رسول الله ما الحساب اليسير؟ قال: «أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه» وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً أي عشيرته المؤمنين مبتهجا بحاله قائلا هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ [الحاقة: 19] وقيل أي فريق المؤمنين مطلقا وإن لم يكونوا عشيرته إذ كل المؤمنين أهل للمؤمن من جهة الاشتراك في الإيمان، وقيل: أي إلى خاصته ومن أعده الله تعالى له في الجنة من الحور والغلمان، وأخرج هذا ابن المنذر عن مجاهد. وقرأ زيد بن علي «ويقلب» مضارع قلب مبنيا للمفعول. وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ أي يؤتاه بشماله من وراء ظهره، قيل: تغل يمناه إلى عنقه وتجعل شماله وراء ظهره فيؤتى كتابه بشماله. وروي أن شماله تدخل في صدره حتى تخرج من وراء ظهره فيأخذ كتابه بها فلا تدافع بين ما هنا وما في سورة الحاقة حيث لم يذكر فيه الظهر ثم هذا إن كان في الكفرة وما قبله في المؤمنين المتقين فلا تعرض هنا للعصاة كما استظهره في البحر. وقيل: لا بعد في إدخال العصاة في أهل اليمين إما لأنهم يعطون كتبهم باليمين بعد الخروج من النار كما اختاره ابن عطية أو لأنهم يعطونها بها قبل لكن مع حساب فوق حساب المتقين ودون حساب الكافرين، ويكون قوله تعالى فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً من وصف الكل بوصف البعض، وقيل: إنهم يعطونها بالشمال وتمييز الكفرة بكون الإعطاء من وراء ظهورهم ولعل ذلك لأن مؤتي الكتب لا يتحملون مشاهدة وجوههم لكمال بشاعتها أو لغاية بغضهم إياهم أو لأنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً يطلبه ويناديه ويقول: يا ثبوراه تعالى فهذا أوانك والثبور الهلاك وهو جامع لأنواع المكاره وَيَصْلى سَعِيراً يقاسي حرها أو يدخلها، وقرأ أكثر السبعة وعمر بن عبد العزيز وأبو الشعثاء والحسن والأعرج «يصلّى» بضم الياء وفتح الصاد واللام مشددة من التصلية لقوله تعالى وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ [الواقعة: 94] وقرأ أبو الأشهب وخارجة عن نافع وأبان عن عاصم والعتكي وجماعة عن أبي عمرو «يصلى» بضم الياء ساكن الصاد مخفف اللام مبنيا للمفعول من الإصلاء لقوله تعالى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ [النساء: 115] إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ في الدنيا مَسْرُوراً فرحا بطرا مترفا لا يخطر بباله أمور الآخرة ولا يتفكر في العواقب ولم يكن حزينا متفكرا في حاله ومآله كسنة الصلحاء والمتقين، والجملة استئناف لبيان علة ما قبلها. وقوله تعالى إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ تعليل لسروره في الدنيا أي ظن أن لن يرجع إلى الله تعالى تكذيبا للمعاد، وقيل: ظن أن لن يرجع إلى العدم أي ظن أنه لا يموت وكان غافلا عن الموت غير مستعد له وليس بشيء، والحور الرجوع مطلقا ومنه قول الشاعر: وما المرء إلّا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعد إذ هو ساطع والتقييد هنا بقرينة المقام وأَنْ مخففة من الثقيلة سادّة مع ما في حيزها مسد مفعولي الظن على المشهور بَلى إيجاب لما بعد لَنْ وقوله تعالى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً تحقيق وتعليل له أي بلى يحور البتة أن ربه عز وجل الذي خلقه كان به وبأعماله الموجبة للجزاء بصيرا بحيث لا تخفى عليه سبحانه منها خافية فلا بد من رجعة وحسابه ومجازاته فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ هي الحمرة التي تشاهد في أفق المغرب الجزء: 15 ¦ الصفحة: 289 بعد الغروب وأصله من رقة الشيء، يقال: شيء شفق أي لا يتماسك لرقته ومنه أشفق عليه رق قلبه والشفقة من الإشفاق وكذلك الشفق قال الشاعر: تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا ... والموت أكرم نزّال على الحرم وقيل: البياض الذي يلي تلك الحمرة ويرى بعد سقوطها، وفي تسمية ذلك شفقا خلاف فالجمهور على أنه لا يسمى به وأبو هريرة وعمر بن عبد العزيز وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنهم على أنه يسمى. وروى أسد ابن عمرو عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه رجع عن ذلك إلى ما عليه الجمهور وتمام الكلام عليه في شروح الهداية. وأخرج عبد ابن حميد عن مجاهد وعكرمة أنه هنا النهار كله. وروي ذلك عن الضحاك وابن أبي نجيح وكأنه شجعهم على ذلك عطف الليل عليه وعن عكرمة أيضا أنه ما بقي من النهار والفاء في جواب شرط مقدر أي إذا عرفت هذا أو تحققت الحور بالبعث فلا أقسم بالشفق وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ وما ضم وجمع يقال: وسقه فاتسق واستوسق أي جمعه فاجتمع، ويقال: طعام موسوق أي مجموع وإبل مستوسقة أي مجتمعة. قال الشاعر: إن لنا قلائصا حقائقا ... مستوسقات لم يجدن سائقا ومن الوسق الأصواع المجتمعة وهي ستون صاعا أو حمل بعير لاجتماعه على ظهره وما تحتمل المصدرية والموصولة والجمهور على الثاني والعائد محذوف، أي والذي وسقه والمراد به ما يجتمع بالليل ويأوي إلى مكانه من الدواب وغيرها. وعن مجاهد ما يكون فيه من خير أو شر وقيل ما ستره وغطى عليه بظلمته وقيل: ما جمعه من الظلمة. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن جبير أنه قال وَما وَسَقَ وما عمل فيه ومنه قوله: فيوما ترانا صالحين وتارة ... تقوم بنا كالواسق المتلبب وقيل: وسق بمعنى طرد أي وما طرده إلى أماكنه من الدواب وغيرها أو ما طرده من ضوء النهار ومنه الوسيقة قال في القاموس وهي من الإبل كالرفقة من الناس فإذا سرقت طردت معا وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ أي اجتمع نوره وصار بدرا لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ خطاب لجنس الإنسان المنادى أولا باعتبار شموله لأفراده والمراد بالركوب الملاقاة والطبق في الأصل ما طابق غيره مطلقا وخص في العرف بالحال المطابقة لغيرها ومنه قول الأقرع بن حابس: إني امرؤ قد حلبت الدهر أشطره ... وساقني طبق منه إلى طبق وعَنْ للمجاوزة. وقال غير واحد: هي بمعنى بعد كما في قولهما: سادوك كابرا عن كابر وقوله: ما زلت أقطع منهلا عن منهل ... حتى أنخت بباب عبد الواحد والمجاوزة والبعدية متقاربان والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لطبقا أو حالا من فاعل (تركبن) والظاهر أن نصب طَبَقاً على أنه مفعول به أي لتلاقن حالا مجاوزة لحال أو كائنة بعد حال أو مجاوزين لحال أو كائنين بعد حال كل واحدة مطابقة لأختها في الشدة والهول، وجوز كون الركوب على حقيقته وتجعل الحال مركوبة مجازا. وقيل نصب طَبَقاً على التشبيه بالظرف أو الحالية وقال جمع الطبق جمع طبقة كتخم وتخمة وهي المرتبة ويقال إنه اسم جنس جمعي واحده ذلك والمعنى لتركبن أحوالا بعد أحوال هي طبقات في الشدة بعضها أرفع من بعض وهي الموت وما بعده من مواطن القيامة وأهوالها، ورجحه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 290 الطيبي فقال: هذا الذي يقتضيه النظم وترتب الفاء في فَلا أُقْسِمُ على قوله تعالى بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً وفسر بعضهم الأحوال بما يكون في الدنيا من كونهم نطفة إلى الموت وما يكون في الآخرة من البعث إلى حين المستقر في إحدى الدارين. وقيل: يمكن أن يراد بطبقا عن طبق الموت المطابق للعدم الأصلي والإحياء المطابق للإحياء السابق، فيكون الكلام قسما على البعث بعد الموت ويجري فيه ما ذكره الطيبي. وأخرج نعيم بن حماد وأبو نعيم عن مكحول أنه قال في الآية تكونون في كل عشرين سنة على حال لم تكونوا على مثلها. وفي رواية ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في كل عشرين عاما تحدثون أمرا لم تكونوا عليه، فالطبق بمعنى عشرين عاما وقد عد ذلك في القاموس من جملة معانيه وما ذكر بيان للمعنى المراد. وقيل: الطبق هنا القرن من الناس مثله في قول العباس بن عبد المطلب يمدح رسول الله صلّى الله عليه وسلم: وأنت لما ولدت أشرقت الأر ... ض وضاءت بنورك الأفق تنقل من صالب إلى رحم ... إذا مضى عالم بدا طبق وإن المعنى لتركبن سنن من مضى قبلكم قرنا بعد قرن، وكلا القولين خلاف الظاهر. وقرأ عمر وابن مسعود وابن عباس ومجاهد والأسود وابن جبير ومسروق والشعبي وأبو العالية وابن وثاب وطلحة وعيسى والأخوان وابن كثير «لتركبنّ» بتاء الخطاب وفتح الباء وروي عن ابن عباس وابن مسعود أنهما أيضا كسرا تاء المضارعة وهي لغة بني تميم على أنه خطاب للإنسان أيضا لكن باعتبار اللفظ لا باعتبار الشمول. وأخرج البخاري عن ابن عباس أن الخطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلم، وروي ذلك عن جماعة وكأن من ذهب إلى أنه عليه الصلاة والسلام هو المراد بالإنسان فيما تقدم يذهب إليه وعليه يراد لَتَرْكَبُنَّ أحوالا شريفة بعد أخرى من مراتب القرب أو مراتب من الشدة في الدنيا باعتبار ما يقاسيه صلّى الله عليه وسلم من الكفرة ويعانيه في تبليغ الرسالة أو الكلام عدة بالنصر أي لتلاقن فتحا بعد فتح ونصرا بعد نصر وتبشيرا بالمعراج، أي لتركبن سماء بعد سماء كما أخرجه عبد بن حميد عن ابن عباس وابن مسعود وأيّد بالتوكيد بالجملة القسمية والتعقيب بالإنكارية وأخرج ابن المنذر وجماعة عن ابن مسعود أنه قال في ذلك يعني السماء تنفطر ثم تنشق ثم تحمر، وفي رواية السماء تكون كالمهل وتكون وردة كالدهان وتكون واهية وتشقق فتكون حالا بعد حال فالتاء للتأنيث والضمير الفاعل عائد على السماء. وقرأ عمر وابن عباس أيضا «ليركبن» بالياء آخر الحروف وفتح الباء على الالتفات من خطاب الإنسان إلى الغيبة. وعن ابن عباس يعني نبيكم عليه الصلاة والسلام فجعل الضمير له صلّى الله عليه وسلم والمعنى على نحو ما تقدم. وقيل الضمير الغائب يعود على القمر لأنه يتغير أحوالا من سرار واستهلال وإبدار. وقرأ عمر أيضا «ليركبن» بياء الغيبة وضم الباء على أن ضمير الجمع للإنسان باعتبار الشمول. وقرىء بالتاء الفوقية وكسر الباء على تأنيث الإنسان المخاطب باعتبار النفس وأمر التقدير الحالية المشار إليها فيما مر على هذه القراءات لا يخفى. والفاء في قوله تعالى فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ جوز أن تكون لترتيب ما بعدها من الإنكار والتعجب على ما قبلها من أحوال يوم القيامة وأهوالها المشار إليها بقوله تعالى لَتَرْكَبُنَّ إلخ على بعض الأوجه الموجبة للإيمان والسجود أي إذا كان حالهم يوم القيامة كما أشير إليه فأي شيء لهم حال كونهم غير مؤمنين، أي أي شيء يمنعهم من الإيمان بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم وسائر ما يجب الإيمان به مع تعاضد موجباته من الأهوال التي تكون لتاركه يومئذ، وجوز أن يكون لترتيب ذلك على ما قيل من عظيم شأنه عليه الصلاة والسلام المشار إليه بقوله سبحانه لَتَرْكَبُنَّ إلخ على بعض آخر من الأوجه السابقة فيه أي إذا كان حاله وشأنه صلّى الله عليه وسلم ما أشير الجزء: 15 ¦ الصفحة: 291 إليه فأي شيء يمنعهم من الإيمان به عليه الصلاة والسلام وجوز أن يكون لترتيب ذلك على ما تضمنه قوله سبحانه فَلا أُقْسِمُ إلخ مما يدل على صحة البعث من التغييرات العلوية والسفلية الدالة على كمال القدرة وإليه ذهب الإمام أي إذا كان شأنه تعالى شأنه كما أشير إليه من كونه سبحانه وتعالى عظيم القدرة واسع العلم فأي شيء يمنعهم عن الإيمان بالبعث الذي هو من جملة الممكنات التي تشملها قدرته عز وجل ويحيط بها علمه جل جلاله. وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ عطف على الجملة الحالية فهي حالية مثلها، أي فأي مانع لهم حال عدم سجودهم عند قراءة القرآن والسجود مجاز عن الخضوع اللازم له على ما روي عن قتادة أو المراد به الصلاة. وفي قرن ذلك بالإيمان دلالة على عظم قدرها كما لا يخفى أو هو على ظاهره. فالمراد بما قبله قرىء القرآن المخصوص أو وفيه آية سجدة وقد صح عنه صلّى الله عليه وسلم أنه سجد عند قراءة هذه الآية . أخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن أبي هريرة قال: سجدنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ واقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ وأخرج الشيخان وأبو داود والنسائي وعن أبي رافع قال: صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ فسجد فقلت له، فقال: سجدت خلف أبي القاسم صلّى الله عليه وسلم فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه عليه الصلاة والسلام . وفي ذلك رد على ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حيث قال: ليس في المنفصل وهو من سورة محمد صلّى الله عليه وسلم وقيل من الفتح وقيل هو قول الأكثر من الحجرات سجدة وهي سنة عند الشافعي وواجبة عند أبي حنيفة. قال الإمام: روي أنه صلّى الله عليه وسلم قرأ ذات يوم وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق: 19] فسجد هو ومن معه من المؤمنين وقريش تصفق فوق رؤوسهم وتصفر فنزلت هذه الآية. واحتج أبو حنيفة على وجوب السجدة بهذا من وجهين: الأول أن فعله عليه الصلاة والسلام يقتضي الوجوب لقوله تعالى فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام: 153، 155] الثاني أنه تعالى ذم من يسمعه ولا يسجد وحصول الذم عند الترك يدل على الوجوب انتهى. وفيه بحث مع أن الحديث كما قال ابن حجر لم يثبت بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ أي بالقرآن وهو انتقال عن كونهم لا يسجدون عند قراءته إلى كونهم يكذبون به صريحا ووضع الموصول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بالكفر والإشعار بعلة الحكم. وقرأ الضحاك وابن أبي عبلة «يكذبون» مخففا وبفتح الياء وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ أي بالذي يضمرونه في صدورهم من الكفر والحسد والبغضاء والبغي فما موصولة والعائد محذوف وأصل الإيعاء جعل الشيء في وعاء. وفي مفردات الراغب الإيعاء حفظ الأمتعة في وعاء ومنه قوله: والشر أخبث ما أوعيت من زاد وأريد به هنا الإضمار مجازا وهو المروي عن ابن عباس ولا يلزم عليه كون الآية في حق المنافقين مع كون السورة مكية كما لا تخفى، وفسره بعضهم بالجمع وحكي عن ابن زيد وجوز أن يكون المعنى والله تعالى أعلم بما يجمعونه في صحفهم من أعمال السوء وأيّا ما كان فعلم الله تعالى بذلك كناية عن مجازاته سبحانه عليه. وقيل: المراد الإشارة إلى أن لهم وراء التكذيب قبائح عظيمة كثيرة يضيق عن شرحها نطاق العبارة. وقال بعضهم: يحتمل أن يكون المعنى والله تعالى أعلم بما يضمرونه في أنفسهم من أدلة كونه أي القرآن حقا فيكون المراد المبالغة في عتادهم وتكذيبهم على خلاف علمهم، والظاهر أن الجملة على هذا حال من ضمير يُكَذِّبُونَ وكونها كذلك على ما قيل من الإشارة خلاف الظاهر. وقرأ أبو رجاء «بما يعون» من وعى يعي فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ مرتب على الأخبار بعلمه تعالى بما يوعون مرادا به مجازاتهم به وقيل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 292 على تكذيبهم، وقيل: الفاء فصيحة أي إذا كان حالهم ما ذكر فبشرهم إلخ والتبشير في المشهور الإخبار بسار والتعبير به هاهنا من باب: تحية بينهم ضرب وجيع وجوز أن يكون ذلك على تنزيلهم لانهماكهم في المعاصي الموجبة للعذاب وعدم استرجاعهم عنها منزلة الراغبين في العذاب حتى كأن الأخبار به تبشيرا وإخبارا بسار، والفرق بين الوجهين يظهر بأدنى تأمل وأبعد جدا من قال إن ذلك تعريض بمحبة نبي الرحمة صلّى الله عليه وسلم البشارة فيستعار لأمره عليه الصلاة والسلام بالإنذار لفظ البشارة تطييبا لقلبه صلّى الله عليه وسلم إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ استثناء منقطع من الضمير المنصوب في فَبَشِّرْهُمْ وجوز أن يكون متصلا على أن يراد بالمستثنى من آمن وعمل الصالحات من آمن وعمل بعد منهم أي من أولئك الكفرة والمضي في الفعلين باعتبار علم الله تعالى أو هما بمعنى المضارع، ولا يخفى ما فيه من التكلف مع أن الأول أنسب منه بقوله تعالى لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ لأن الأجر المذكور لا يخص المؤمنين منهم بل المؤمنين كافة، وكون الاختصاص إضافيا بالنسبة إلى الباقين على الكفر منهم خلاف الظاهر على أن إيهام الاختصاص بالمؤمنين منهم يكفي في الغرض كما لا يخفى. والتنوين في أَجْرٌ للتعظيم ومعنى غَيْرُ مَمْنُونٍ غير مقطوع من منّ إذا قطع أو غير معتد به ومحسوب عليهم من منّ عليه إذا اعتد بالصنيعة وحسبها وجعل بعضهم المن بهذا المعنى من منّ بمعنى قطع أيضا لما أنه يقطع النعمة ويقتضي قطع شكرها والجملة على ما قيل استئناف مقرر لما أفاده الاستثناء من انتفاء العذاب عن المذكورين ومبين لكيفيته ومقارنته للثواب العظيم الكثير. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 293 سورة البروج لا خلاف في مكيتها ولا في كونها اثنتين وعشرين آية، ووجه مناسبتها لما قبلها باشتمالها كالتي قبل على وعد المؤمنين ووعيد الكافرين مع التنويه بشأن القرآن وفخامة قدره. وفي البحر أنه سبحانه لما ذكر أنه جل وعلا أعلم بما يجمعون لرسول الله صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين من المكر والخداع وإيذاء من أسلم بأنواع من الأذى كالضرب والقتل والصلب والحرق بالشمس وإحماء الصخر ووضع أجساد من يريدون أن يفتنوه عليه، ذكر سبحانه أن هذه الشنشنة كانت فيمن تقدم من الأمم فكانوا يعذبون بالنار وأن المعذبين كان لهم من الثبات في الإيمان ما منعهم أن يرجعوا عن دينهم وأن الذين عذبوهم ملعونون فكذلك الذين عذبوا المؤمنين من كفار قريش فهذه السورة عظة لقريش وتثبيت لمن يعذبونه من المؤمنين انتهى وهو وجه وجيه. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ أي القصور كما قال ابن عباس وغيره، والمراد بها عند جمع البروج الاثنا عشر المعروفة وأصل البرج الأمر الظاهر ثم صار حقيقة للقصر العالي لأنه ظاهر للناظرين، ويقال لما ارتفع من سور المدينة برج أيضا وبروج السماء بالمعنى المعروف وإن التحقت بالحقيقة فهي في الأصل استعارة فإنها شبهت بالقصور لعلوها ولأن النجوم نازلة فيها كسكانها فهناك استعارة مصرحة تتبعها مكنية، وقيل: شبهت السماء بسور المدينة فأثبت لها البروج وقيل: هي منازل القمر وهذا راجع إلى القول الأول لأن البروج منقسمة إلى ثمانية وعشرين منزلا وقد تقدم الكلام فيها. وقال مجاهد والحسن وعكرمة وقتادة: هي النجوم. وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه فيه حديثا مرفوعا بلفظ الكواكب بدل النجوم والله تعالى أعلم بصحته. وأخرج ابن المنذر وعبد بن حميد عن أبي صالح أنه قال: هي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 294 النجوم العظام وعليه إنما سميت بروجا لظهورها وكذا على ما قبله وإن اختلفت الظهور ولم يظهر شموله جميع النجوم، وقيل: هي أبواب السماء وسميت بذلك لأن النوازل تخرج من الملائكة عليهم السلام منها فجعلت مشبهة بقصور العظماء النازلة أو أمرهم منها أو لأنها لكونها مبدأ للظهور وصفت به مجازا في الطرف، وقيل في النسبة والبروج الاثنا عشر في الحقيقة على ما ذكره محققو أهل الهيئة معتبرة في الفلك الأعلى المسمى بفلك الأفلاك والفلك الأطلس، وزعموا أنه العرش بلسان الشرع لكنها لما لم تكن ظاهرة حسا دلوا عليها بما سامتها وقت تقسيم الفلك الأعلى من الصور المعروفة كالحمل والثور وغيرهما التي هي في الفلك الثامن المسمى عندهم بفلك الثوابت وبالكرسي في لسان الشرع على ما زعموا فبرج الحمل مثلا ليس إلا جزءا من اثني عشر جزءا من الفلك الأعلى سامتته صورة الحمل من الثوابت وقت التقسيم، وبرج الثور ليس إلّا جزءا من ذلك سامتته صورة الثور منها ذلك الوقت أيضا وهكذا وإنما قيل وقت التقسيم لأن كل صورة قد خرجت لحركتها وإن كانت بطيئة عما كانت مسامتة له من تلك البروج حتى كاد يسامت الحمل اليوم برج الثور والثور برج الجوزاء وهكذا، فعلى هذا وكون المراد بالبروج البروج الاثني عشر أو المنازل قيل المراد بالسماء الفلك الأعلى وقيل الفلك الثامن لظهور الصور الدالة على البروج فيه، ولذا يسمى فلك البروج وقيل: السماء الدنيا لأنها ترى فيها بظاهر الحس نظير ما قيل في قوله تعالى وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ [الملك: 5] وقيل الجنس الشامل لكل سماء لأن السماوات شفافة فيشارك العليا فيما فيها السفلى لأنه يرى فيها ظاهرا، وإذا أريد بالبروج النجوم فقيل المراد بالسماء الفلك الثامن لأنها فيه حقيقة وقيل: السماء الدنيا وقيل الجنس على نحو ما مر ولا يراد على ما قيل الفلك الأطلس أعني الفلك الأعلى لأنه كاسمه غير مكوكب وإذا أريد بها الأبواب فقيل المراد بالسماء ما عدا فلك الأفلاك المسمى بلسان الشرع بالعرش فإنه لم يرد أن له أبوابا، هذا وأنت تعلم أن أكثر ما ذكر مبني على كلام أهل الهيئة المتقدمين وهو لا يصح له مستند شرعا ولا يكاد تسمع فيه إطلاق السماء على العرش أو الكرسي لكن لما سمع بعض الإسلاميين من الفلاسفة أفلاكا تسعة وأراد تطبيق ذلك على ما روي في الشرع زعم أن سبعة منها هي السماوات السبع والاثنين الباقيين هما الكرسي والعرش ولم يدر أن في الأخبار ما يأبى ذلك وكون الدليل العقلي يقتضيه محل بحث كما لا يخفى. ومن رجع إلى كلام أهل الهيئة المحدثين ونظر في أدلتهم على ما قالوه في أمر الأجرام العلوية وكيفية ترتيبها قوي عنده وهن ما ذهب إليه المتقدمون في ذلك فالذي ينبغي أن يقال: البروج هي المنازل للكواكب مطلقا التي يشاهدها الخواص والعوام وما علينا في أي سماء كانت أو الكواكب أنفسها أينما كانت أو أبواب السماء الواردة في لسان الشرع والأحاديث الصحيحة وهي لكل سماء ولم يثبت للعرش ولا للكرسي منها شيء ويراد بالسماء جنسها أو السماء الدنيا في غير القول الأخير على ما سمعت فيما تقدم فلا تغفل. وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ أي الموعود به وهو يوم القيامة باتفاق المفسرين، وقيل: لعله اليوم الذي يخرج الناس فيه من قبورهم فقد قال سبحانه يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ [المعارج: 43، 44] أو يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الأنبياء: 104] وقيل يمكن أن يراد به يوم شفاعة النبي صلّى الله عليه وسلم على ما أشار إليه قوله تعالى عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الإسراء: 79] ولا يخفى أن جميع ذلك داخل في يوم القيامة وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ أي ومن يشهد بذلك اليوم ويحضره من الخلائق المبعوثين فيه وما يحضر فيه من الأهوال الجزء: 15 ¦ الصفحة: 295 والعجائب فيكون الله عز وجل قد أقسم سبحانه بيوم القيامة وما فيه تعظيما لذلك اليوم وإرهابا لمنكريه، وتنكير الوصفين للتعظيم أي وشاهد ومشهود لا يكتنه وصفهما أو للتكثير كما قيل في عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ [التكوير: 14] وأخرج الترمذي وجماعة عن أبي هريرة مرفوعا: «الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة» وروي ذلك عن أبي مالك الأشعري وجبير بن مطعم رضي الله تعالى عنهما مرفوعا أيضا وأخرجه جماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه وغيره من الصحابة والتابعين . وأخرج الحاكم وصححه عنه مرفوعا أيضا: «الشاهد يوم عرفة ويوم الجمعة والمشهود يوم القيامة» وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه: «الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم النجم» . وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما وكرم وجههما أن رجلا سأله عن ذلك فقال: هل سألت أحدا قبلي؟ قال: نعم، سألت ابن عمر وابن الزبير فقالا يوم الذبح ويوم الجمعة ، قال: لا ولكن الشاهد محمد. وفي رواية جدي رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم قرأ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء: 41] والمشهود يوم القيامة. ثم قرأ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود: 103] وروى النسائي وجماعة من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه والشاهد الله عز وجل والمشهود يوم القيامة. وعن مجاهد وعكرمة وعطاء بن يسار الشاهد آدم عليه السلام وذريته والمشهود يوم القيامة. وعن ابن المسيب الشاهد يوم التروية والمشهود يوم عرفة. وعن الترمذي الشاهد الحفظة والمشهود أي عليه الناس. وعن عبد العزيز بن يحيى هما رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأمته عليه الصلاة والسلام، وعنه أيضا هما الأنبياء عليهم السلام وأممهم. وعن ابن جبير ومقاتل هما الجوارح وأصحابها وقيل هما يوم الاثنين ويوم الجمعة، وقيل هما الملائكة المتعاقبون عليهم السلام وقرآن الفجر، وقيل هما النجم والليل والنهار وقيل الشاهد الله تعالى والملائكة وأولو العلم المشهود به الوحدانية وإن الدين عند الله تعالى الإسلام وقيل الشاهد مخلوقاته تعالى والمشهود به الوحدانية وقيل هما الحجر الأسود والحجيج، وقيل الليالي والأيام وبنو آدم فعن الحسن ما من يوم إلّا ينادي إني يوم جديد وإني على ما يعمل فيّ شهيد فاغتنمني فلو غابت شمسي لم تدركني إلى يوم القيامة. وقيل: أمة النبي صلّى الله عليه وسلم وسائر الأمم. وجوز أن يراد بهما المقربون والعليون لقوله تعالى كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ [المطففين: 20، 21] وأن يراد بالشاهد الطفل الذي قال: يا أماه اصبري فإنك على الحق كما سيجيء إن شاء الله تعالى. والمشهود له أمه والمؤمنون لأنه إذا كانت أمه على الحق فسائر المؤمنين كذلك. وقيل: وجميع الأقوال في ذلك على ما وقفت عليه نحو من ثلاثين قولا والوصف على بعضها من الشهادة بمعنى الحضور ضد المغيب، وعلى بعضها الآخر من الشهادة على الخصوم أوله شهادة الجوارح بأن ينطقها الله تعالى الذي أنطق كل شيء وكذا الحجر الأسود ولا بعد في حضوره يوم القيامة للشهادة للحجيج، وأما شهادة اليوم فيمكن أن تكون بعد ظهوره في صورة كظهور القرآن على صورة الرجل الشاحب إذ يتلقى صاحبه عند قيامه من قبره وظهور الموت في صورة كبش يوم القيامة حتى يذبح بين الجنة والنار إلى غير ذلك. وقال الشهاب: الله تعالى قادر على أن يحضر اليوم ليشهد ولم يبيّن كيفية ذلك فإن كانت كما ذكرنا فذاك وإن كانت شيئا آخر بأن يحضر نفس اليوم في ذلك اليوم فالظاهر أنه يلزم أن يكون للزمان زمان وهو إن جوزه من جوزه من المتكلمين لكن في الشهادة بلسان القال عليه خفاء ومثلها نداء اليوم الذي سمعته آنفا عن الحسن إن كان بلسان القال أيضا دون لسان الحال كما هو الأرجح عندي. واختار أبو حيان من الأقوال على تقدير أن يراد بالشهادة الشهادة بالمعنى الثاني القول بأن الشاهد من يشهد في ذلك اليوم أعني اليوم الموعود يوم القيامة وأن المشهود من يشهد عليه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 296 فيه، وعلى تقدير أن يراد بها الشهادة بالمعنى الأول القول بأن الشاهد الخلائق الحاضرون للحساب وأن المشهود اليوم ولعل تكرير القسم به وإن اختلف العنوان لزيادة تعظيمه فتأمل. وجواب القسم قيل هو قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا [البروج: 10] وقال المبرد هو قوله تعالى إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج: 120] وصرح به ابن جريج وأخرج ابن المنذر والحاكم وصححه عن ابن مسعود ما يدل عليه وقال غير واحد هو قوله تعالى قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ على حذف اللام منه للطول والأصل لقتل كما في قوله: حلفت لها بالله حلفة فاجر ... لناموا فما إن من حديث ولا صالي وقيل: على خدف اللام وقد والأصل لقد قتل وهو مبني على ما اشتهر من أن الماضي المثبت المتصرف الذي لم يتقدم معموله تلزمه اللام وقد، ولا يجوز الاقتصار على أحدهما إلّا عند طول الكلام كما في قوله سبحانه قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها [الشمس: 9] بعد قوله تعالى وَالشَّمْسِ وَضُحاها [الشمس: 1] إلخ والبيت المذكور ولا يجوز تقدير اللام بدون قد لأنها لا تدخل على الماضي المجرد منها، وتمام الكلام في محله كشروح التسهيل وغيرها وأيّا ما كان فالجملة خبرية. وقال بعض المحققين: إن الأظهر أنها دعائية دالة على الجواب كأنه قيل: أقسم بهذه الأشياء أن كفار قريش لملعونون أحقاء بأن يقال فيها قتلوا كما هو شأن أصحاب الأخدود لما أن السورة وردت لتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الإيمان وتصبيرهم على أذية الكفرة وتذكيرهم بما جرى ممن تقدمهم من التعذيب لأهل الإيمان وصبرهم على ذلك حتى يأنسوا بهم ويصبروا على ما كانوا يلقون من قومهم ويعلموا أنهم مثل أولئك عند الله عز وجل في كونهم ملعونين مطرودين، فالقتل هنا عبارة عن أشد اللعن والطرد لاستحالة الدعاء منه سبحانه حقيقة فأريد لازمه من السخط والطرد عن رحمته جل وعلا. وقال بعضهم: الأظهر أن يقدر أنهم لمقتولون كما قتال أصحاب الأخدود فيكون وعدا له صلّى الله عليه وسلم بقتل الكفرة المتردين لإعلاء دينه، ويكون معجزة بقتل رؤوسهم في غزوة بدر انتهى. وظاهرة إبقاء القتل على حقيقته واعتبار الجملة خبرية وهو كما ترى وحكي في البحر أن الجواب محذوف وتقديره لتبعثن ونحوه وليس بشيء كما لا يخفى والْأُخْدُودِ الخد وهو الشق في الأرض ونحوهما بناء ومعنى الخق والأخقوق ومنه ما جاء في خبر سراقة حين تبع رسول الله صلّى الله عليه وسلم فساخت قوائمه أي قوائم فرسه في أخاقيق جرذان. أخرج مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم من حديث صهيب يرفعه: «كان ملك من الملوك وكان لذلك الملك كاهن يكهن له فقال له ذلك الكاهن: انظروا لي غلاما فهما فأعلمه علمي هذا فإني أخاف أن أموت فينقطع منكم هذا العلم ولا يكون فيكم من يعلمه، فنظروا له غلاما على ما وصف فأمروه أن يحضر ذلك الكاهن وأن يختلف إليه، فجعل الغلام يختلف إليه وكان على طريق الغلام راهب في صومعة فجعل الغلام يسأل ذلك الراهب كلما مر به فلم يزل به حتى أخبره فقال: إنما أعبد الله تعالى. فجعل الغلام يمكث عند الراهب ويبطىء على الكاهن فأرسل الكاهن إلى أهل الغلام إنه لا يكاد يحضرني فأخبر الغلام الراهب بذلك فقال له الراهب: إذا قال لك الكاهن أين كنت فقل عند أهلي، وإذا قال لك أهلك أين كنت فأخبرهم أنك كنت عند الكاهن، فبينما الغلام على ذلك إذ مر بجماعة من الناس كثيرة قد حبستهم دابة يقال كانت أسدا، فأخذ الغلام حجرا فقال: اللهم إن كان ما يقول الراهب حقا فأسألك أن أقتل هذه الدابة وإن كان ما يقوله الكاهن حقا فأسألك أن لا أقتلها ثم رمى فقتل الدابة، فقال الناس من قتلها؟ فقالوا: الغلام ففزع الناس وقالوا قد علم هذا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 297 الغلام علما لم يعلمه أحد، فسمع أعمى فجاءه فقال له: إن أنت رددت بصري فلك كذا وكذا، فقال الغلام: لا أريد منك هذا ولكن أرأيت إن رجع عليك بصرك أتؤمن بالذي رده عليك؟ قال نعم، فرد عليه بصره فآمن الأعمى فبلغ الملك أمرهم فبعث إليهم فأتى بهم فقال لأقتلن كل واحد منكم قتلة لا أقتل بها صاحبه فأمر بالراهب والرجل الذي كان أعمى فوضع المنشار على مفرق أحدهما فقتله وقتل الآخر بقتلة أخرى، ثم أمر بالغلام فقال: انطلقوا به إلى جبل كذا وكذا فألقوه من رأسه فانطلقوا به إلى ذلك الجبل فلما انتهوا به إلى ذلك المكان الذي أرادوا أن يلقوه منه جعلوا يتهافتون من ذلك الجبل ويتردّون حتى لم يبق منهم إلّا الغلام، ثم رجع الغلام فأمر به الملك أن ينطلقوا به إلى البحر فيلقوه فيه فانطلق به إلى البحر ففرق الله تعالى الذين كانوا معه وأنجاه الله تعالى، فقال الغلام للملك: إنك لا تقتلني حتى تصلبني وترميني وتقول: بسم الله رب الغلام، فأمر به فصلب ثم رماه وقال: بسم الله رب الغلام فوضع الغلام يده على صدغه حين رمي ثم مات. فقال الناس: لقد علم هذا الغلام علما ما علمه أحد فإنا نؤمن برب هذا الغلام فقيل للملك: أجزعت إن خالفك ثلاثة فهذا العالم كلهم قد خالفوك فخدّ أخدودا ثم ألقى فيها الحطب والنار ثم جمع الناس فقال: من رجع عن دينه تركناه ومن لم يرجع ألقيناه في هذه النار، فجعل يلقيهم في تلك الأخدود، فقال: يقول الله تعالى قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ- حتى بلغ- الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، وفيه فأما الغلام فإنه دفن ثم أخرج فيذكر أنه خرج في زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وإصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل وفي بعض رواياته فجاءت امرأة بابن لها صغير فكأنها تقاعست أن تقع في النار فقال الصبي: يا أمه اصبري فإنك على الحق. وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن نجيّ قال: شهدت عليا كرم الله تعالى وجهه وقد أتاه أسقف نجران فسأله عن أصحاب الأخدود فقص عليه القصة، فقال عليّ كرم الله تعالى وجهه: أنا أعلم بهم منك بعث نبي من الحبش إلى قومه ثم قرأ رضي الله تعالى عنه وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غافر: 78] فدعاهم فتابعه الناس فقاتلهم فقتل أصحابه وأخذ فأوثق فانفلت فأنس إليه رجال فقاتلهم وقتلوا، وأخذ فأوثق فخددوا أخدودا وجعلوا فيها النيران وجعلوا يعرضون الناس فمن تبع النبي رمي به فيها ومن تابعهم ترك. وجاءت امرأة في آخر من جاء ومعها صبي فجزعت فقال الصبي: يا أمه اصبري ولا تماري، فوقعت . وأخرج عبد بن حميد عنه كرم الله تعالى وجهه أنه قال: كان المجوس أهل كتاب وكانوا متمسكين بكتابهم وكانت الخمرة قد أحلت لهم فتناول منها ملك من ملوكهم فغلبته على عقله فتناول أخته أو ابنته فوقع عليها، فلما ذهب عنه السكر ندم وقال لها: ويحك ما هذا الذي أتيت وما المخرج منه؟ قالت: المخرج منه أن تخطب الناس فتقول: أيها الناس إن الله تعالى أحل نكاح الأخوات أو البنات، فقال الناس جماعتهم معاذ الله تعالى أن نؤمن بهذا أو نقر به أو جاء به نبي أو نزل علينا في كتاب، فرجع إلى صاحبته وقال: ويحك إن الناس قد أبوا عليّ ذلك، قالت: إن أبوا عليك فابسط فيهم السوط فبسط فيهم السوط فأبوا أن يقروا، قالت: فجرد فيهم السيف فأبوا أن يقروا، قالت: فخدّ لهم الأخدود ثم أوقد فيها النيران فمن تابعك خل عنه فأخدّ لهم أخدودا وأوقد فيها النيران وعرض أهل مملكته على ذلك فمن أبى قذفه في النار ومن لم يأب خلى عنه. وقيل: وقع إلى نجران رجل ممن كان على دين عيسى عليه السلام فأجابوه فسار إليهم ذو نواس اليهودي بجنود من حيمر فخيّرهم بين النار واليهودية فأبوا فأحرق منهم اثني عشر ألفا في الأخاديد وقيل سبعين ألفا، وذكر أن طول الأخدود أربعون ذراعا وعرضه اثني عشر ذراعا، ولاختلاف الأخبار في القصة اختلفوا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 298 في موضع الأخدود فقيل بنجران لهذا الخبر الأخير، وقيل بأرض الحبشة لخبر ابن نجيّ السابق. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان بمذراع اليمن أي قراه وهذا لا ينافي كونه بنجران لأنه بلد باليمن ، وكذا اختلفوا في أصحاب الأخدود لذلك فحكي فيه ما يزيد على عشرة أقوال منها أنهم حبشة، ومنها أنهم من النبط وروي عن عكرمة، ومنها أنهم من بني إسرائيل وروي عن ابن عباس، وأصح الروايات عندي في القصة ما قدمناه عن صهيب رضي الله تعالى عنه والجمع ممكن، فقد قال عصام الدين: لعل جميع ما روي واقع والقرآن شامل له فلا تغفل. وقرأ الحسن وابن مقسم «قتّل» بالتشديد وهو مبالغة في لعنهم لعظم ما أتوا به وقد كان صلّى الله عليه وسلم على ما أخرج ابن أبي شيبة عن عوف وعبد بن حميد عن الحسن إذا ذكر أصحاب الأخدود تعوذ من جهد البلاء. النَّارِ بدل اشتمال من الأخدود والرابط مقدر أي فيه أو أقيم إلى مقام الضمير، أو لأنه معلوم اتصاله به فلا يحتاج لرابط وكذا كل ما يظهر ارتباطه فيما قبل. وجوز أبو حيان كونه بدل كل من كل على تقدير محذوف أي أخدود النار وليس بذاك. وقرأ قوم «النّار» بالرفع فقيل على معنى قتلتهم النار كما في قوله تعالى يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ [النور: 36] على قراءة «يسبّح» بالبناء للمفعول وقوله: ليبك يزيد ضارع لخصومة ويكون أصحاب الأخدود إذ ذاك المؤمنين وليس المراد بالقتل اللعن، وجوز أن يراد بهم الكفرة والقتل على حقيقته بناء على ما قال الربيع بن أنس والكلبي وأبو العالية وأبو إسحاق من أن الله تعالى بعث على المؤمنين ريحا فقبضت أرواحهم وخرجت النار فأحرقت الكافرين الذي كانوا على حافتي الأخدود، وأنت تعلم أن قول هؤلاء مخالف لقول الجمهور ولما دلت عليه القصص التي ذكروها فلا ينبغي أن يعول عليه، وإن حمل القتل على حقيقته غير ملائم للمقام ولعل الأولى في توجيه هذه القراءة أن النَّارِ خبر مبتدأ محذوف أي هي أو هو النار ويكون الضمير راجعا على الأخدود وكونه النار خارج مخرج المبالغة كأنه نفس النار ذاتِ الْوَقُودِ وصف لها بعناية العظمة وارتفاع اللهب وكثرة ما يوجبه ووجه إفادته ذلك أنه لم يقل موقدة بل جعلت ذات وقود أي مالكته وهو كناية عن زيادته زيادة مفرطة لكثرة ما يرتفع به لهبها وهو الحطب الموقد به لأن تعريفه استغراقي وهي إذا ملكت كل موقود به عظم حريقها ولهبها وليس ذلك لأنه لا يقال ذو كذا إلّا لمن كثر عنده كذا لأنه غير مسلم، وذو النون يأباه وكذا ذو العرش. وقرأ الحسن وأبو رجاء وأبو حيوة وعيسى «الوقود» بضم الواو وهو مصدر بخلاف مفتوحه فإنه ما يوقد به. وقد حكى سيبويه أنه مصدر كمضمونه. وقوله تعالى: إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ ظرف لقتل أي لعنوا حين أحدقوا بالنار قاعدين حولها في مكان قريب منها مشرفين عليها من حافات الأخدود كما في قول الأعشى: تشب لمقرورين يصطليانها ... وباب على النار الندى والمحلق وقيل الكلام بتقدير مضاف أي على حافاتها أو نحوه، والجمهور على أن المراد ذلك من غير تقدير وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ أي يشهد بعضهم لبعض عند الملك بأن أحدا لم يقصر فيما أمر به، أو يشهدون عنده على حسن ما يفعلون واشتماله على الصلاح ما قيل أو يشهد بعضهم على بعض بذلك الفعل الشنيع يوم القيامة، أو يشهدون على أنفسهم بذلك يوم تشهد عليهم جوارحهم بأعمالهم. وقيل عَلى بمعنى مع والمعنى وهم مع ما يفعلون بالمؤمنين من العذاب حضور لا يرقّون لهم لغاية قسوة قلوبهم، ومن زعم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 299 أن الله تعالى نجّى المؤمنين وإنما أحرق سبحانه الكافرين يقول هنا المراد وهم على ما يريدون فعله بالمؤمنين شهود، وأيّا ما كان ففي المؤمنين تغليب والمراد بِالْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات ومن الغريب الذي لا يلتفت إليه ما قيل إن أصحاب الأخدود عمرو بن هند المشهور بمحرق ومن معه حرق مائة من بني تميم وضمير هُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ لكفار قريش الذين كانوا يفتنون المؤمنين والمؤمنات وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ أي ما أنكروا منهم وما عابوا. وفي مفردات الراغب يقال: نقمت الشيء إذا أنكرته بلسانك أو بعقوبة. وقرأ زيد بن علي وأبو حيوة وابن أبي عبلة «وما نقموا» بكسر القاف والجملة عطف على الجملة الاسمية وحسن ذلك على ما قيل كون تلك الاسمية لوقوعها في حيز إذ ماضوية فكان العطف عطف فعلية على فعلية. وقيل إن هذه الفعلية بتقدير وهم ما نقموا منهم إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ استثناء مفصح عن براءتهم عما يعاب وينكر بالكلية على منهاج قوله: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب وكون الكفرة يرون الإيمان أمرا منكرا والشاعر لا يرى الفلول كذلك لا يضر على ما أرى في كون ذلك منه عز وجل جاريا على ذلك المنهاج من تأكيد المدح بما يشبه الذم، ثم إن القوم إن كانوا مشركين فالمنكر عندهم ليس هو الإيمان بالله تعالى بل نفي ما سواه من معبوداتهم الباطلة وإن كانوا معطّلة فالمنكر عندهم ليس إلّا إثبات معبود غير معهود لهم لكن لما كان مآل الأمرين إنكار المعبود بحق الموصوف بصفات الجلال والإكرام عبر بما ذكر مفصحا عما سمعت فتأمل. ولبعض الأعلام كلام في هذا المقام قد رده الشهاب فإن أردته فارجع إليه. وفي المنتخب إنما قال سبحانه إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا لأن التعذيب إنما كان واقعا على الإيمان في المستقبل ولو كفروا فيه لم يعذبوا على ما مضى فكأنه قال عز وجل: إلّا أن يدوموا على إيمانهم انتهى. وكأنه حمل النقم على الإنكار بالعقوبة، ووصفه عز وجل بكونه عزيزا غلبا يخشى عقابه وحميدا منعما يرجى ثوابه، وتأكيد ذلك بقوله سبحانه الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ للإشعار بمناط إيمانهم. وقوله تعالى وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ وعد لهم ووعيد لمعذبيهم فإن علم الله جل شأنه الجامع لصفات الجلال والجمال بجميع الأشياء التي من جملتها أعمال الفريقين يستدعي توفير جزاء كل منهما ولكونه تذييلا لذلك واللائق به الاستقلال جيء فيه بالاسم الجليل دون الضمير إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أي محنوهم في دينهم ليرجعوا عنه والمراد بالذين فتنوا وبالمؤمنين والمؤمنات المفتونين، أما أصحاب الأخدود والمطروحون فيه خاصة وأما الأعم، ويدخل المذكورون دخولا أوليا وهو الأظهر. وقيل: المراد بالموصول كفار قريش الذين عذبوا المؤمنين والمؤمنات من هذه الأمة بأنواع من العذاب وقوله تعالى ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا قال ابن عطية: يقوي أن الآية في قريش لأن هذا اللفظ فيهم أحكم منه في أولئك الذين قد علم أنهم ماتوا على كفرهم، وأما قريش فكان فيهم وقت نزولها من تاب وآمن، وأنت تعلم أن هذا على ما فيه لا يعكر على أظهرية العموم والظاهر أن المراد ثم لم يتوبوا من فتنهم فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ أي بسبب فتنهم ذلك وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ وهو نار أخرى زائدة الإحراق كما تنبىء عنه صيغة فعيل لعدم توبتهم ومبالاتهم بما صدر منهم. وقال بعض الأجلة: أي فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ بسبب كفرهم فإن فعلهم ذلك لا يتصور من غير الكافر وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ بسبب فتنهم المؤمنين والمؤمنات وفي جعل ذلك جزاء الفتن من الحسن ما لا يخفى. وتعقب بأن عنوان الكفر لم يصرح به في جانب الصلة وإنما المصرح به الفتن وعدم التوبة فالأظهر اعتبارهما الجزء: 15 ¦ الصفحة: 300 سببين في جانب الخبر على الترتيب، وقيل: أي فلهم جهنم في الآخرة ولهم عذاب الحريق في الدنيا بناء على ما روي عن الربيع ومن سمعت أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم وقد علمت حاله وتعقبه أبو حيان بأن ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا يأبى عنه لأن أولئك المحرقين لم ينقل لنا أن أحدا منهم تاب بل الظاهر أنهم لم يلعنوا إلّا وهم قد ماتوا على الكفر وفيه نظر، وعليه إنما أخر وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ ورعاية للفواصل أو للتتميم والترديف كأنه قيل ذلك وهو العقوبة العظمى كائن لا محالة وهذا أيضا لا يتجاوزونه. وفي الكشف الوجه أن عذاب جهنم وعذاب الحريق واحد وصف بما يدل على أنه للمعبودين جدا عن رحمته عز وجل، وعلى أنه عذاب هو محض الحريق وهو الحرق البالغ وكفى به عذابا. والظاهر أنه اعتبر الحريق مصدرا والإضافة بيانية ولا بأس بذلك إلّا أن الوحدة التي ادعاها خلاف ظاهر العطف. وقال بعضهم: لو جعل من عطف الخاص على العام للمبالغة فيه لأن عذاب جهنم بالزمهرير والإحراق وغيرهما كان أقرب، ولعل ما ذكرناه أبعد عن القال والقيل. وجملة فَلَهُمْ عَذابُ إلخ وقعت خبرا لأن أو الخبر الجار والمجرور وعذاب مرتفع به على الفاعلية وهو الأحسن والفاء لما في المبتدأ من معنى الشرط ولا يضر نسخه بأن وإن زعمه الأخفش. واستدل بالآية على بعض أوجهها على أن عذاب الكفار يضاعف بما قارنه من المعاصي. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ على الإطلاق من المفتونين وغيرهم لَهُمْ بسبب ما ذكر من الإيمان والعمل الصالح جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إن أريد بالجنات الأشجار فجريان الأنهار من تحتها ظاهر، وإن أريد بها الأرض المشتملة عليها فالتحتية باعتبار جزئها الظاهر فإن أشجارها ساترة لساحتها كما يعرب عنه اسم الجنة وفصل الجملة، قيل لأنها كالتأكيد لما أشعرت به الآية قبل من اختصاص العذاب بالذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا ذلِكَ إشارة إلى كون ما ذكر لهم وحيازتهم إياه وقيل للجنات الموصوفة والتذكير لتأويلها بما ذكر وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو الدرجة وبعد المنزلة في الفضل والشرف ومحله الرفع على الابتداء خبره الْفَوْزُ الْكَبِيرُ الذي يصغر عنده الفوز بالدنيا وما فيها من الرغائب والفوز النجاة من الشر والظفر بالخير فعلى الوجه الثاني في الإشارة هو مصدر أطلق على المفعول مبالغة وعلى الأول مصدر على حاله إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ استئناف خوطب به النبي صلّى الله عليه وسلم إيذانا بأن لكفار قومه نصيبا موفورا من مضمونه كما ينبىء عنه التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام والبطش الآخذ بصولة وعنف وحيث وصف بالشدة فقد تضاعف وتفاقم وهو بطشه عز وجل بالجبابرة والظلمة، وأخذه سبحانه إياهم بالعذاب والانتقام إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ أي إنه عز وجل هو يبدأ الخلق بالإنشاء وهو سبحانه يعيده بالحشر يوم القيامة كما قال ابن زيد والضحاك، أو يبدىء كل ما يبدي ويعيد كل ما يعاد كما قال ابن عباس من غير دخل لأحد في شيء منهما، ومن كان كذلك كان بطشه في غاية الشدة. أو يبدىء البطش بالكفرة في الدنيا ثم يعيده في الآخرة وعلى الوجهين الجملة في موضع التعليل لما سبق الجزء: 15 ¦ الصفحة: 301 ووجهه على الثاني ظاهر وعلى الأول قد أشرنا إليه، وقيل: وجهه عليه أن الإعادة للمجازاة فهي متضمنة للبطش وليس بذاك. وعن ابن عباس يبدىء العذاب بالكفار ويعيده عليهم فتأكلهم النار حتى يصيروا فحما ثم يعيدهم عز وجل خلقا جديدا وفيه خفاء وإن كان أمر الجملة عليه في غاية الظهور. واستعمال يبدىء مع يعيد حسن وإن لم يسمع أبدا كما بين في محله. وحكى أبو زيد أنه قرىء «يبدأ» من بدأ ثلاثيا وهو المسموع لكن القراءة بذلك شاذة وَهُوَ الْغَفُورُ لمن يشاء من المؤمنين وقيل لمن تاب وآمن والتخصيص عند من يرى رأي أهل السنة إما لمناسبة مقام الإنذار أو لما في صيغة الغفور من المبالغة فأصل المغفرة لا يتوقف على التوبة وزيادتها بها لا يعلمه إلّا الله تعالى للتائبين الْوَدُودُ المحب كثيرا لمن أطاع ففعول صيغة مبالغة في الواد اسم فاعل ومحبة الله تعالى ومودته عند الخلف بإنعامه سبحانه وإكرامه جل شأنه، ومن هنا فسر الودود بكثير الإحسان، وعن ابن عباس أي المتودد إلى عباده تعالى شأنه بالمغفرة. وقيل: هو فعول بمعنى مفعول كركوب وحلوب أي يوده ويحبه سبحانه عباده الصالحون وهو خلاف الظاهر. وحكى المبرد عن القاضي إسماعيل بن إسحاق أن الودود هو الذي لا ولد له، وأنشد قوله: وأركب في الروع عريانة ... ذلول الجماح لقاحا ودودا أي لا ولد لها تحن إليه وحمله مع الغفور على هذا المعنى غير مناسب كما لا يخفى ذُو الْعَرْشِ أي صاحبه والمراد مالكه أو خالقه وهو أعظم المخلوقات. وعن عليّ كرم الله تعالى وجهه: لو جمعت مياه الدنيا ومسح بها سطح العرش الذي يلينا لما استوعب منه إلّا قليل . وجاء في الأخبار من عظمه ما يبهر العقول. وقال القفال ذُو الْعَرْشِ ذو الملك والسلطان كأنه جعل العرش بمعنى الملك بطريق الكناية والتجوز، وجوز أن يبقى العرش على حقيقته ويراد بذي العرش الملك لأن ذا العرش لا يكون إلا ملكا. وقرأ ابن عامر في رواية «ذي العرش» بالياء على أنه صفة ل رَبِّكَ وحينئذ يكون قوله تعالى إِنَّهُ هُوَ إلخ جملة معترضة لا يضر الفصل بها بين الصفة والموصوف، وكذا لا يضر الفصل بينهما بخبر المبتدأ لأنه ليس بأجنبي فإن الموصوف هنا من تتمة المبتدأ. وقد قال ابن مالك في التسهيل: يجوز الفصل بين التابع والمتبوع بما لا يتمحض مباينته. نعم قال ابن الحاجب الفصل بين الصفة والموصوف بخبر المبتدأ شاذ كما في قوله: وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلّا الفرقدان الْمَجِيدُ العظيم في ذاته عز وجل وصفاته سبحانه فإنه تعالى شأنه واجب الوجوب تام القدرة كامل الحكمة. وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وابن وثاب والأعمش والمفضل عن عاصم والأخوان «المجيد» بالجر صفة للعرش ومجده علوه وعظمته وحسن صورته وتركيبه، فإنه قيل العرش أحسن الأجسام صورة وتركيبا وليس من مجده كون الحوادث الكونية بتوسط أوضاعه كما يزعمه المنجمون فإن ذلك باطل شرعا وعقلا على ما تقتضيه أصولهم. وجاز على قراءة «ذي العرش» بالياء أن يكون صفة ل ذي وجوز كونه صفة ل رَبِّكَ وليس بذلك لأن الأصل عدم الفصل بين التابع والمتبوع فلا يقال به ما لم يتعين فَعَّالٌ لما يريد بحيث لا يتخلف عن إرادته تعالى من أفعاله سبحانه وأفعال غيره عز وجل فما للعموم وفي التنكير من التفخيم ما لا يخفى وفيه رد ظاهر على المعتزلة في قولهم إنه سبحانه وتعالى إيمان الكافر وطاعة العاصي ويتخلفان عن إرادته سبحانه والمرفوعات كلها على ما استحسنه أبو حيان أخبار لهو في قوله تعالى هُوَ الْغَفُورُ وجوز أن يكون الْوَدُودُ وذُو الْعَرْشِ والْمَجِيدُ صفات ل (غفور) ومن لم يجوز تعدد الخبر لمبتدأ واحد يقول بذلك أو بتقدير مبتدءات للمذكورات. وأطلق الزمخشري القول بأن فَعَّالٌ خبر لمبتدأ محذوف أي هو الجزء: 15 ¦ الصفحة: 302 فعال فقال صاحب الكشف إنما لم يحمله على أنه خبر السابق أعني هو في قوله تعالى هُوَ الْغَفُورُ لأن قوله سبحانه فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ تحقيق للصفتين البطش بالأعداء والغفر والود للأولياء، ولو حمل عليه لفاتت هذه النكتة اه. وهو تدقيق لطيف. وقوله تعالى هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ استئناف فيه تقرير لكونه تعالى فعالا لما يريد وكذا لشدة بطشه سبحانه بالظلمة العصاة والكفرة العتاة وتسلية له صلّى الله عليه وسلم بالإشعار بأنه سيصيب كفرة قومه ما أصاب الجنود وهو جمع جند يقال للعسكر اعتبارا بالغلظة من الجند أي الأرض الغليظة وكذا للأعوان، ويقال لصنف من الخلق على حدة وكذا لكل مجتمع والمراد ب الْجُنُودِ هاهنا الجماعات الذين تجندوا على أنبياء الله تعالى عليهم السلام واجتمعوا على أذيتهم فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بدل من الْجُنُودِ بدل كل من كل على حذف مضاف أي جنود فرعون أو على أن يراد بفرعون هو وقومه، واكتفى بذكره عنهم لأنهم أتباعه. وقيل: البدل هو المجموع لا كل من المتعاطفين وهو خلاف الظاهر. وقال السمين: يجوز كونه منصوبا بأعني لأنه لما لم يطابق ما قبله وجب قطعه، وتعقب بأنه تفسير للجنود حينئذ فيعود الإشكال. وأجيب بأن المفسر حينئذ المجموع وليس اعتباره مع أعني كاعتباره مع الإبدال والمراد بحديثهم ما صدر عنهم من التمادي في الكفر والضلال وما حل بهم من العذاب والنكال، والمعنى قد أتاك حديثهم وعرفت ما فعلوا وما فعل بهم فذكر قومك بأيام الله تعالى وشؤونه سبحانه، وأنذرهم أن يصيبهم مثل ما أصاب أمثالهم وقوله تعالى بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا أي من قومك فِي تَكْذِيبٍ إضراب انتقالي عن مماثلتهم لهم وبيان لكونهم أشد منهم في الكفر والطغيان كما ينبىء عنه العدول عن يكذبون إلى فِي تَكْذِيبٍ المفيد لإحاطة التكذيب بهم إحاطة الظرف بمظروفه أو البحر بالغريق فيه مع ما في تنكيره من الدلالة على تعظيمه وتهويله. فكأنه قيل: ليسوا مثلهم بل هم أشد منهم فإنهم غرقى مغمورون في تكذيب عظيم للقرآن الكريم فهم أولى منهم في استحقاق العذاب، أو كأنه قيل: ليست جنايتهم مجرد عدم التذكر والاتعاظ بما سمعوا من حديثهم بل هم مع ذلك في تكذيب عظيم للقرآن الناطق بذلك وكونه قرآنا من عند الله تعالى مع وضوح أمره وظهور حاله بالبينات الباهرة وقوله تعالى وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ جوز أن يكون اعتراضا تذليليا وأن يكون حالا من الضمير في الجار والمجرور السابق، والكلام تمثيل لعدم نجاتهم من بأس الله تعالى بعدم فوت المحاط المحيط كما قال غير واحد، وكان المعنى أنه عز وجل عالم بهم وقادر عليهم وهم لا يعجزونه ولا يفوتونه سبحانه وتعالى. وذكر عصام الدين أن في ذلك تعويضا وتوبيخا للكفار بأنهم نبذوا الله سبحانه وراء ظهورهم وأقبلوا على الهوى والشهوات بكليتهم ولعل ذلك من العدول عن ربهم إلى من ورائهم. وقوله تعالى بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ رد لكفرهم وإبطال لتكذيبهم وتحقيق للحق أي بل هو كتاب شريف عالي الطبقة فيما بين الكتب الإلهية في النظم والمعنى لا يحق تكذيبه والكفر به. وقيل: إضراب وانتقال عن الإخبار بشدة تكذيبهم وعدم ارعوائهم عنه إلى وصف القرآن للإشارة إلى أنه لا ريب فيه ولا يضره تكذيب هؤلاء، والأول أولى. وزعم بعضهم أن الإضراب الأول عن قصة فرعون وثمود إلى جميع الكفار والمعنى عليه أن جميع الكفار في تكذيب ولم يكن نبي فارغا عن تكذيبهم والله تعالى لا يهمل أمرهم، وفيه من تسليته صلّى الله عليه وسلم ما فيه ويبعده إرداف ذلك بهذا الإضراب. وقرأ ابن السميفع «قرآن مجيد» بالإضافة قال ابن خالويه: سمعت ابن الأنباري يقول: معناه بل هو قرآن رب مجيد كما قال الشاعر: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 303 ولكن للغنى رب غفور أي غنى رب غفور وقال ابن عطية: قرأ اليماني بالإضافة على أن يكون المجيد هو الله تعالى وهو محتمل للتقدير وعدمه، وجوز أن يكون من إضافة الموصوف لصفته قال أبو حيان: وهذا أولى لتوافق القراءتين فِي لَوْحٍ أي كائن في لوح مَحْفُوظٍ أي ذلك اللوح من وصول الشياطين إليه وهذا هو اللوح المحفوظ المشهور وهو على ما روي عن ابن عباس والعهدة على الراوي لوح من درة بيضاء طوله ما بين السماء والأرض، وعرضه ما بين المشرق والمغرب، وحافتاه الدر والياقوت، ودفتاه ياقوتة حمراء، وقلمه نور وهو معقود بالعرش، وأصله في حجر مالك يقال له ساطريون لله عز وجل فيه في كل يوم ثلاثمائة وستون لحظة يحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء، وأنه كتب في صدره لا إله إلّا الله وحده لا شريك له دينه الإسلام ومحمد عبده ورسوله، فمن آمن بالله عز وجل وصدق بوعده واتبع رسله أدخله الجنة. وقال مقاتل: إن اللوح المحفوظ عن يمين العرش وجاء فيه إخبار غير ذلك ونحن نؤمن به ولا يلزمنا البحث عن ماهيته وكيفية كتابته ونحو ذلك. نعم نقول إن ما يزعمه بعض الناس من أنه جوهر مجرد ليس في حيّز وإنه كالمرآة للصور العليّة مخالف لظواهر الشريعة وليس له مستند من كتاب ولا سنة أصلا. وقرأ ابن يعمر وابن السميفع «لوح» بضم اللام، وأصله في اللغة الهواء والمراد به هنا مجازا ما فوق السماء السابعة. وقرأ الأعرج وزيد بن علي وابن محيصن ونافع بخلاف عنه «محفوظ» بالرفع على أنه صفة لقرآن وفِي لَوْحٍ قيل متعلق به، وقيل صفة أخرى لقرآن. وتعقب بأن فيه تقديم الصفة المركبة على المفردة وهو خلاف الأصل والمعنى عليه قيل محفوظ بعد التنزيل من التغيير والتبديل والزيادة والنقص كما قال سبحانه إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] وقيل محفوظ في ذلك اللوح عن وصول الشياطين إليه والله تعالى أعلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 304 سورة الطّارق مكية بلا خلاف وهي سبع عشرة آية على المشهور وفي التيسير ست عشرة، ولما ذكر سبحانه فيما قبلها تكذيب الكفار للقرآن نبه تعالى شأنه هنا على حقارة الإنسان ثم استطرد جل وعلا منه إلى وصف القرآن ثم أمر سبحانه نبيه صلّى الله عليه وسلم بإمهال أولئك المكذبين فقال عز قائلا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَالسَّماءِ هي المعروفة على ما عليه الجمهور، وقيل المطر هنا وهو أحد استعمالاتها ومنه قوله: إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا ولا يخفى حاله والطَّارِقِ وهو في الأصل اسم فاعل من الطرق بمعنى الضرب بوقع أشده يسمع لها صوت ومنه المطرقة والطريق لأن السابلة تطرقها، ثم صار في عرف اللغة اسما لسالك الطريق لتصور أنه يطرقها بقدمه واشتهر فيه حتى صار حقيقة ثم اختص بالآتي ليلا لأنه في الأكثر يجد الأبواب مغلقة فيطرقها، ثم اتسع في كل ما يظهر بالليل كائنا ما كان حتى الصور الخيالية البادية فيه والعرب تصفها بالطروق كما في قوله: طرق الخيال ولا كليلة مدلج ... سدكا (1) بأرحلنا ولم يتعرج والمراد به هاهنا عند الجمهور الكوكب البادي بالليل إما على أنه اسم جنس أو كوكب معهود كما ستعلمه إن شاء الله تعالى. وقوله تعالى وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ تنويه بشأنه إثر تفخيمه بالإقسام وتنبيه على أن   (1) سدكا بفتح فكسر أي مونعا اه منه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 305 رفعة قدره بحيث لا ينالها إدراك الخلق فلا بد من تلقيها من الخلاق العليم ف ما الأولى مبتدأ وأَدْراكَ خبره وما الثانية خبر والطَّارِقُ مبتدأ على ما اختاره بعض المحققين أي أي شيء أعلمك ما الطارق. وقوله سبحانه النَّجْمُ الثَّاقِبُ خبر مبتدأ محذوف والجملة استئناف وقع جوابا عن استفهام نشأ عما قبل كأنه قيل: ما هو؟ فقيل: هو النجم إلخ والثَّاقِبُ في الأصل الخارق ثم صار بمعنى المضيء لتصور أنه يثقب الظلام، وقد يخص بالنجوم والشهب لذلك. وتصور أنها ينفذ ضوءها في الأفلاك ونحوها. وقال الفراء الثَّاقِبُ المرتفع، يقال: ثقب الطائر أي ارتفع وعلا، والمراد بالنجم الثاقب الجنس عند الحسن فإن لكل كوكب ضوءا ثاقبا لا محالة وكذا كل كوكب مرتفع ولا يضرب التفاوت في ذلك، وذهب غير واحد إلى أن المراد به معهود، فعن ابن عباس أنه الجدي. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد أنه الثريا وهو الذي تطلق العرب عليه اسم النجم، وروي عنه أيضا أنه زحل وهو أبعد السيارات وأرفعها وما يثقبه ضوؤه من الأفلاك أكثر فيما يزعم المنجمون المتقدمون، وإنما قلنا أبعد السيارات لأن الجدي والثريا عندهم أبعد منه بكثير وكذا عند المحدثين وعن الفراء أنه القمر لأنه آية الليل وأشد الكواكب ضوءا فيه وهو زمان سلطانه، وأنت تعلم أن إطلاق النجم عليه ولو موصوفا غير شائع وقيل هو النجم الذي يقال له كوكب الصبح. وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه نجم في السماء السابعة لا يسكنها فميّزه فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء هبط فكان معها ثم يرجع إلى مكانه من السماء السابعة فهو طارق حين ينزل وطارق حين يصعد ، ولا يخفى أن المعروف أن الذي يسكن السماء السابعة أعني الفلك السابع وحده هو زحل فيكون ذلك قولا بأن النجم الثاقب هو لكن لا يعرف له نزول ولا صعود بالمعنى المتبادر وأيضا لا يعقل له نزول إلى حيث تكون النجوم أعني الثوابت لأن المعروف عندهم أنها في الفلك الثامن ويجوز عقلا أن يكون بعضها في أفلاك فوق ذلك بل نص المحدثون لما قام عندهم على تفاوتها في الارتفاع ولم يشكوا في أن كثيرا منها أبعد من زحل بعدا عظيما وإذا اعتبرت الظواهر وقلنا بأنها في السماء الدنيا وإن تفاوتت في الارتفاع فذلك أيضا مما يأباه أن النجوم قد تأخذ أمكنتها من السماء وليس معها زحل. وبالجملة ما يعكر على هذا الخبر كثير وكونه كرم الله تعلى وجهه أراد كوكبا آخر هذا شأنه لا يخفى حاله والذي يقتضيه الإنصاف وترك التعصب أن الخبر مكذوب على الأمير رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه، وجوز على إرادة الجنس أن يراد به جنس الشهب التي يرجم بها وليس بذاك وما روي أن أبا طالب كان عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم فانحط نجم فامتلأ ماء ثم نور ففزع أبو طالب فقال: أي شيء هذا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «هذا نجم رمي به وهو آية من آيات الله تعالى» فعجب أبو طالب فنزلت لا يقتضي ذلك على ما لا يخفى. وزعم ابن عطية أن المراد ب الطَّارِقِ جميع ما يطرق من الأمور والمخلوقات فيعم النجم الثاقب وغيره، ويكون معنى وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ حق الطارق بأن تكون أل في مَا الطَّارِقُ مثلها في أنت الرجل وما أدري ما الطارق على هذا الرجل حتى ركب هذا الطريق الوعر في التفسير وفي إيراد ذلك عند الإقسام به بوصف مشترك بينه وبين غيره ثم الإشارة إلى أن ذلك الوصف غير كاشف عن كنه أمره وأن ذلك مما لا يبلغه أفكار الخلائق، ثم تفسيره بالنجم الثاقب من تفخيم شأنه وإجلال محله ما لا يخفى على ذي نظر ثاقب، ولإرادة ذلك لم يقل ابتداء والنَّجْمُ الثَّاقِبُ مع أنه أخصر وأظهر ولله عز وجل أن يفخم شأن ما شاء من خلقه لما شاء ولا دلالة فيه هاهنا على شيء مما يزعمه المنجمون في أمر النجوم زحل وغيره من التأثير في سعادة أو شقاوة أو نحوهما وجواب القسم قوله تعالى. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 306 إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ وما بينهما اعتراض جيء به لما ذكر من تأكيد فخامة المقسم به المستتبع لتأكيد مضمون الجملة المقسم عليها، وقيل جوابه قوله سبحانه إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ وما في البين اعتراض وهو كما ترى وإِنْ نافية ولَمَّا بمعنى إلّا ومجيئها كذلك لغة مشهورة كما نقل أبو حيان عن الأخفش في هذيل وغيرهم يقولون: أقسمت عليك أو سألتك لما فعلت كذا يريدون إلا وفعلت، وبهذا رد على الجوهري المنكر لذلك. وقال الرضي: لا تجيء إلّا بعد نفي ظاهر أو مقدر ولا تكون إلا في المفرغ أي بخلاف. إلّا وكُلُّ لتأكيد العموم لتحقق أصله من وقوع النكرة في سياق النفي وهو مبتدأ والخبر على المشهور حافِظٌ وعَلَيْها متعلق به وعلى ما سمعت عن الرضي محذوف أي ما كل نفس كائنة في حال من الأحوال إلا في حال أن يكون عليها حافظ أي مهيمن ورقيب وهو الله عز وجل كما في قوله تعالى وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً [الأحزاب: 52] . إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل ... خلوت ولكن قل عليّ رقيب وقيل: هو من يحفظ عملها من الملائكة عليهم السلام ويحصي عليها ما تكسب من خير أو شر كما في قوله تعالى وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ [الانفطار: 10، 11] الآية. وروي ذلك عن ابن سيرين وقتادة وغيرهما وخصصوا النفس بالمكلفة، وقيل: هو ومن وكل على حفظها والذب عنها من الملائكة كما في قوله تعالى لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد: 11] وعن أبي أمامة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «وكل بالمؤمن مائة وستون ملكا يذبّون عنه كما يذب عن قصعة العسل الذباب، ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين» . وقيل: هو العقل يرشد المرء إلى مصالحه ويكفه عن مضاره. وقرأ الأكثر لما بالتخفيف، فعند الكوفيين إِنْ نافية كما سبق واللام بمعنى إلّا، وما زائدة. وصرحوا هنا بأن كُلُّ وحافِظٌ مبتدأ وخبر فلا تغفل. وعند البصريين إن مخففة من الثقيلة وكُلُّ مبتدأ و (ما) زائدة واللام هي الداخلة للفرق بين إن النافية وإن المخففة وحافِظٌ خبر المبتدأ وعَلَيْها متعلق به وقدر لأن ضمير الشأن وتعقب بأنه لا حاجة إليه لأنه في غير المفتوحة ضعيف لعدم العمل مع أنه مخل بإدخال اللام الفارقة لأنه إذا كان الخبر جملة فالأولى إدخال اللام على الجزء الأول كما صرح به في التسهيل، وإدخالها على الجزء الثاني كما صرح به بعض الأفاضل في حواشيه عليه، ولعل من قال أي إن الشأن كل نفس لعليها حافظ لم يرد تقدير الضمير وإنما أراد بيان حاصل المعنى. وحكى هارون أنه قرىء «إنّ» بالتشديد «وكلّ» بالنصب و «لما» بالتخفيف فاللام هي الداخلة في خبر «إن» و «ما» زائدة وعلى جميع القراءات أمر الجوابية ظاهر لوجود ما يتلقى به القسم وتلقيه بالمشددة مشهور وبالمخففة تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ [الصافات: 56] وبالنافية وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما [فاطر: 41] وقوله تعالى فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ متفرع على ما قبله وليست الفاء بفصيحة خلافا للطيبي إذ لا يحتاج إلى حذف في استقامة الكلام إما على تقدير أن يكون الحافظ هو الله عز وجل أو الملك الذي وكله تعالى شأنه للحفظ على الوجه الذي سمعت فلأنه لما أثبت سبحانه أن عليه رقيبا منه تعالى حثه على النظر المعرف لذلك مع أوصافه، كأنه قيل فليعرف المهيمن عليه بنصبه الرقيب أو بنفسه، وليعلم رجوعه إليه تعالى، وليفعل ما يسر به حال الرجوع. وعبر عن الأول بقوله تعالى فَلْيَنْظُرِ ليبين طريقه المعرفة فهو بسط فيه إيجاز وأدمج فيه الأخيران وإما على تقدير أن يكون المراد به العقل فلأنه لما أثبت سبحانه أن له عقلا يرشد إلى المصالح ويكف عن المضار حثه على استعماله فيما ينفعه وعدم تعطليه وإلغائه كأنه قيل: فلينظر بعقله وليتفكر به في مبدأ خلقه حتى يتضح له قدرة واهبه وأنه إذا قدر الجزء: 15 ¦ الصفحة: 307 على إنشائه من مواد لم تشم رائحة الحياة قط فهو سبحانه على إعادته أقدر وأقدر فيعمل بما يسر به حين الإعادة وقد يقرر التفريع على جميع الأوجه بنحو واحد فتأمل ومِمَّ خُلِقَ استفهام ومن متعلقة بخلق والجملة في موضع نصب بينظر وهي معلقة بالاستفهام. وقوله تعالى خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ استئناف وقع جوابا عن استفهام مقدر كأنه قيل: مم خلق؟ فقيل خُلِقَ مِنْ ماءٍ إلخ وظاهر كلام بعض الأجلّة أنه جواب الاستفهام المذكور مع تعلق الجار بينظر. وفيه مسامحة، وكأن المراد أنه على صورة الجواب وجعله جوابا له حقيقة على أنه مقطوع عن ينظر ليس بشيء عند من له نظر. والدفق صب فيه دفع وسيلان بسرعة، وأريد بالماء الدافق المني، ودافِقٍ قيل بمعنى مدفوق على تأويل اسم الفاعل بالمفعول. وقد قرأ بذلك زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما. وقال الخليل وسيبويه هو على النسب كلابن وتامر أي ذي دفق وهو صادق على الفاعل والمفعول. وقيل: هو اسم فاعل وإسناده إلى الماء مجاز وأسند إليه ما لصاحبه مبالغة أو هو استعارة مكنية وتخييلية كما ذهب إليه السكاكي أو مصرحة بجعله دافقا لأنه لتتابع قطراته كأنه يدفق أي يدفع بعضه بعضا. وقد فسر ابن عطية الدفق بالدفع، فقال: الدفق دفع الماء بعضه ببعض يقال: تدفق الوادي والسيل إذا جاء يركب بعضه بعضا ويصح أن يكون الماء دافقا لأن بعضه يدفع بعضا فمنه دافق ومنه مدفوق، وتعقبه أبو حيان بأن الدفق بمعنى الدفع غير محفوظ في اللغة بل المحفوظ أنه الصب، ونقل عن الليث أن دفق بمعنى انصبّ بمرة فدافق بمعنى منصب فلا حاجة إلى التأويل، وتعقب بأنه مما تفرد به الليث كما في القاموس وغيره وقيل: من ماء مع أن الإنسان لا يخلق إلّا من ماءين ماء الرجل وماء المرأة، ولذا كان خلق عيسى عليه السلام خارقا للعادة لأن المراد به الممتزج من الماءين في الرحم وبالامتزاج صارا ماء واحدا، ووصفه بالدفق قيل باعتبار أحد جزأيه وهو مني الرجل، وقيل باعتبار كليهما ومني المرأة دافق أيضا إلى الرحم ويشير إلى إرادة الممتزج على ما قيل. قوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ أي من بين أجزاء صلب كل رجل أي ظهره وَالتَّرائِبِ أي ومن بين ترائب كل امرأة أي عظام صدرها جمع تريبة، وفسرت أيضا بموضع القلادة من الصدر. وروي عن ابن عباس وهو لكل امرأة واحد إلا أنه يجمع كما في قوله امرئ القيس: مهفهفة بيضاء غير مفاضة ... ترائبها مصقولة كالسجنجل باعتبار ما حوله على ما في البحر وجاء في المفرد تريب كما في قول المثقب العبدي: ومن ذهب يبين على تريب ... كلون العاج ليس بذي غضون وحمل الآية على ما ذكر مروي عن سفيان وقتادة إلّا أنهما قالا: أي يخرج من بين صلب الرجل وترائب المرأة، وظاهره كالآية أن أحد الطرفين للبينية الصلب والآخر الترائب وهو غير ما قلناه، وعليه قيل: هو كقولك يخرج من بين زيد وعمرو خير كثير على معنى أنهما سببان فيه، وقيل إن ذلك باعتبار أن الرجل والمرأة يصيران كالشيء الواحد فكان الصلب والترائب لشخص واحد فلا تغفل. ثم إن ما تقدم مبني إما على أن الترائب مخصوصة بالمرأة كما هو ظاهر كلام غير واحد، وإما على حمل تعريفها على العهد وقال الحسن وروي عن قتادة أيضا: أن المعنى يخرج من بين صلب كل واحد من الرجل والمرأة وترائب كل منهما، ولم يفسر الترائب فقيل عظام الصدر، وقيل ما بين الثديين، وقيل ما بين المنكبين والصدر، وقيل التراقي، وقيل أربع أضلاع من يمنة الصدر وأربع من يسرته. وعن ابن جبير الأضلاع التي هي أسفل الصلب وحكى مكي عن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 308 ابن عباس أنها أطراف المرء رجلاه ويداه وعيناه والأشهر أنها عظام الصدر وموضع القلادة منه، وطعن في ذلك على ما قال الإمام بعض الملاحدة خذلهم الله تعالى بأن المني إنما يتولد من فضلة الهضم الرابع وينفصل من جميع أجزاء البدن فيأخذ من كل عضو طبيعة وخاصية مستعدا لأن يتولد منه تلك الأعضاء وإن كان المراد أن معظم أجزاء المني تتولد في ذينك الموضعين فهو ضعيف لأن معظمه إنما يتولد في الدماغ ألا ترى أنه في صورته يشبه الدماغ والمكثر منه يظهر الضعف أولا في دماغه وعينيه وإن كان المراد أن مستقره هناك فهو ضعيف أيضا لأن مستقره عروق يلتف بعضها بالبعض عند البيضتين وتسمى أوعية المني وإن كان المراد أن مخرجه هناك فهو أيضا كذلك لأن الحس يدل على خلافه. وأجاب رحمه الله تعالى بأن لا شك أن أعظم الأعضاء معونة في توليد المني الدماغ وخليفته النخاع في الصلب وشعب نازلة إلى مقدم البدن وهي التربية فلذا خصّا بالذكر على أن كلامهم في أمر المني وتولده محض الوهم والظن الضعيف وكلام الله تعالى المجيد لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فهو المقبول والمعول عليه اهـ. وفي الكشف أقول النخاع بين الصلب والترائب ولا يحتاج إلى تخصيص التريبة بالنساء فقد يمنع الشعب النازلة على أن تلك الشعب إن كانت فهي أعصاب لا ذات تجاويف، والوجه والله تعالى أعلم أن النخاع والقوى الدماغية والقلبية والكبدية كلها تتعاون في إبراز ذلك الفضل على ما هو عليه قابلا لأن يصير مبدأ الشخص على ما بيّن في موضعه. وقوله سبحانه مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ عبارة مختصرة جامعة لتأثير الأعضاء الثلاثة، فالترائب يشمل القلب والكبد وشمولها للقلب أظهر، والصلب النخاع وبتوسطه الدماغ ولعله لا يحتاج إلى التنبيه على مكان الكبد لظهوره ذلك لأنه دم نضيج وإنما احتيج إلى ما خفي وهو أمر الدماغ والقلب في تكون ذلك الماء فنبه على مكانهما وقيل: ابتداء الخروج منه كما أن انتهاءه بالإحليل انتهى. وقيل: لو جعل ما بين الصلب والترائب كناية عن البدن كله لم يبعد وكان تخصيصهما بالذكر لما أنهما كالوعاء للقلب الذي هو المضغة العظمى فيه وأمر هذه الكناية على ما حكى مكي عن ابن عباس في الترائب أظهر. وزعم بعضهم جواز كون الصلب والترائب للرجل أي يخرج من بين صلب كل رجل وترائبه فالمراد بالماء الدافق ماء الرجل فقط، وجعل الكلام إما على التغليب أو على أنه لا ماء للمرأة أصلا فضلا عن الماء الدافق كما قيل به ولا يخفى ما فيه، والقول بأن المرأة لا ماء لها تكذبه الشريعة وغيرها. وقرأ ابن أبي عبلة وابن مقسم «يخرج» مبنيا للمفعول وهما أهل مكة وعيسى «الصلب» بضم الصاد واللام واليماني بفتحهما وروي على اللغتين قول العجاج: ريا العظام فخمة المخدم ... في صلب مثل العنان المؤدم وفيه لغة رابعة وهي صالب كما في قول العباس: تنقل من صالب إلى رحم وهي قليلة الاستعمال واستشهد بعض الأجلة بقوله تعالى خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ على أن الإنسان هو الهيكل المخصوص كما ذهب إليه جمهور المتكلمين النافين للنفس الناطقة الإنسانية المجردة التي ليست داخل البدن ولا خارجه. وقال إنه شاهد قوي على ذلك وتأويله على حذف المضاف أي خلق بدن الإنسان لا يسمع ما لم يقم برهان على امتناع ظاهره انتهى. وأنت تعلم أن القائلين بالنفس الناطقة المجردة قد أقاموا فيما عندهم براهين على إثباتها نعم إن فيها أبحاثا للنافين وتحقيق ذلك بما لا مزيد عليه في كتاب الروح للعلامة ابن القيم عليه الرحمة إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ الضمير الأول للخالق تعالى شأنه وكما فخم أولا بترك الفاعل في قوله تعالى مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 309 إذ لا يذهب إلى خالق سواه عز وجل فخم بالإضمار ثانيا، والضمير الثاني للإنسان أي إن ذلك الذي خلقه ابتداء مما ذكر على إعادته بعد موته لبين القدرة وهذا كما في قوله: لئن كان تهدي برد أنيابها العلى ... لأفقر مني إنني لفقير فإنه أراد لبين الفقر وإلّا لم يصح إيراده في مقابلة لأفقر مني والتأكيد البالغ لفظا لما قام عليه البرهان الواضح معنى، ولذا فسر (قادر) هنا يبين القدرة كما في الكشاف واعتبر فيه أيضا الاختصاص، فقال: أي على إعادته خصوصا وكأن ذلك لأن الغرض المسوق له الكلام ذلك فكأن ما سواه مطرح بالنسبة إليه وحينئذ يراد ما ذكر جعل الجار من صلة لقادر أو مدلولا على موصوله به على المذهبين، وفصل الجملة عما سبق لكونه جواب الاستفهام دونها. وقال مجاهد وعكرمة: الضمير الثاني للماء أي إنه تعالى على رد الماء في الإحليل أو في الصلب لقادر وليس بشيء ومثله كون المعنى على تقدير كونه للإنسان أنه جل وعلا رده من الكبر إلى الشباب لقادر كما روي عن الضحاك وما ذكرناه أولا مروي عن ابن عباس يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ أي يتعرف ويتصفح ما أسر في القلوب من العقائد والنيات وغيرها ومما أخفى من الأعمال ويميز بين ما طاب منها وما خبث، وأصل الابتلاء الاختبار وإطلاقه على ما ذكر إطلاق على اللازم وحمل السرائر على العموم هو الظاهر. وأخرج ابن المنذر عن عطاء ويحيى بن أبي كثير أنها الصوم والصلاة والغسل من الجنابة. وأخرج البيهقي في الشعب عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ضمن الله تعالى خلقه أربعا الصلاة والزكاة وصوم رمضان والغسل من الجنابة وهن السرائر التي قال الله تعالى يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ» وفي البحر ضم التوحيد إليها ولعل المراد بيان عظيمها على سبيل المبالغة لا حقيقة الحصر وسمع الحسن من ينشد قول الأحوص: سيبقى لها في مضمر القلب والحشا ... سريرة ود يوم تبلى السرائر فقال: ما أغفله عما في السَّماءِ وَالطَّارِقِ وكأنه حمل البقاء فيه على عدم التعرف أصلا فليفهم ويوم عند جمع من الحذاق ظرف لمحذوف يدل عليه أي يرجعه يوم إلخ. وقال الزمخشري وجماعة: ظرف لرجعه واعترض بأن فيه فصلا بين المصدر ومعموله بأجنبي وأجيب تارة بأنه جائز لتوسعهم في الظروف وأخرى بأن الفاصل هنا غير أجنبي لأنه إما تفسير أو عامل على المذهبين وقال عصام الدين: إن الفصل بهذا الأجنبي كلا فصل لأن المعمول في نية التقديم عليه وإنما أخّر لرعاية الفاصلة وفيه ما لا يخفى. وقيل: ظرف لناصر بعد وتعقبه أبو حيان بأنه فاسد لأن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها وكذلك ما النافية على المشهور المنصور وقيل معمول لأذكر محذوفا وهو كما ترى، ويتعين هو أو ما قبله على رأي مجاهد وعكرمة ورأى الضحاك السابقين آنفا وجوز الطبرسي تعلقه بقادر ولم يعلقه جمهور المعربين به لأنه يوهم اختصاص قدرته عز وجل بيوم دون يوم كما قال غير واحد. وقال ابن عطية: فروا من أن يكون العامل لَقادِرٌ للزوم تخصيص القدرة في ذلك اليوم وحده وإذا تؤمل المعنى وما يقتضيه فصيح كلام العرب جاز أن يكون العامل وذلك أنه تعالى قال عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ على الإطلاق أو وآخرا وفي كل وقت ثم ذكر سبحانه من الأوقات الوقت الأعظم على الكفار لأنه وقت الجزاء والوصول إلى العذاب ليجتمع الناس على حذره والخوف منه انتهى وهو على ما فيه لا يدفع الإيهام فَما لَهُ أي الإنسان مِنْ قُوَّةٍ في نفسه يمتنع بها وَلا ناصِرٍ ينتصر به وَالسَّماءِ وهي المظلة في قول الجمهور ذاتِ الرَّجْعِ أي المطر في قولهم أيضا كما في قوله الخنساء: يوم الوداع ترى دموعا جاريه ... كالرجع في (1) المدجنة السارية   (1) كذا في خط المؤلف وليحرر الوزن اه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 310 وأصله مصدر رجع المتعدي واللازم أيضا في قول ومصدره الخاص به الرجوع سموا به المطر كما سموه بالأب مصدر آب ومنه قوله: رياء شماء لا يأوي لقلتها ... إلا السحاب وإلا الأوب والسبل ليرجع أو لأن السحاب يحمله من بحار الأرض ثم يرجعه إلى الأرض، وبنى هذا غير واحد على الزعم وفيه بحث وعن أو المراد به فيه النحل لأن الله تعالى يرجعه حينا فحينا، وقال الحسن: لأنه يرجع بالرزق كل عام أو أرادوا بذلك التفاؤل. ابن عباس ومجاهد تفسير السماء بالسحاب والرجع بالمطر وقال ابن زيد السَّماءِ هي المعروفة والرَّجْعِ رجوع الشمس والقمر والكواكب من حال إلى حال ومن منزلة إلى منزلة فيها وقبل رجوعها نفسها فإنها ترجع في كل دورة إلى الموضع الذي تتحرك منه وهذا مبني على أن السماء والفلك واحد فهي تتحرك ويصير أوجها حضيضا وحضيضها أوجا وقد سمعت فيما تقدم أن ظاهر كلام السلف أن السماء غير الفلك وأنها لا تدور ولا تتحرك والذي ذكر رأي الفلاسفة ومن تابعهم. وقيل الرَّجْعِ الملائكة عليهم السلام سموا بذلك لرجوعهم بأعمال العباد وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ هو ما تتصدع عنه الأرض من النبات وأصله الشق سمّي به النبات مجازا، أو هو مصدر من المبني للمفعول فالمراد تشققها بالنبات وروي ذلك عن عطية وابن زيد، وقيل: تشققها بالعيون، وتعقب بأن وصف السماء والأرض عند الإقسام بهما على حقيقة القرآن الناطق بالبعث بما ذكر من الوصفين للإيماء إلى أنهما في أنفسهما من شواهده، وهو السر في التعبير عن المطر بالرجع وذلك في تشقق الأرض بالنبات المحاكي للنشور حسبما ذكر في مواضع من التنزيل لا في تشققها بالعيون، ويعلم منه ما في تفسير الرجع بغير المطر وكذا ما في قوله مجاهد الصَّدْعِ ما في الأرض من شقاق وأودية وخنادق وتشقق بحرث وغيره وما روي عنه أيضا الصَّدْعِ الطرق تصدعها المشاة وقيل ذات الأموات لانصداعها عنهم للنشور إِنَّهُ أي القرآن الذي من جملته هذه الآيات الناطقة بمبدأ حال الإنسان ومعاده وهو أولى من جعل الضمير راجعا لما تقدم أي ما أخبرتكم به من قدرتي على حيائكم لأن القرآن يتناول ذلك تناولا أوليا. وقوله تعالى لَقَوْلٌ فَصْلٌ أنسب به والمراد لقول فاصل بين الحق والباطل قد بلغ الغاية في ذلك حتى كأنه نفس الفصل وقيل مقابلة الفصل بالهزل بعد يستدعي أن يفسر بالقطع أي قول مقطوع به والأول أحسن وَما هُوَ بِالْهَزْلِ أي ليس في شيء منه شائبة هزل بل كله جد محض فمن حقه أن يهتدي به الغواة وتخضع له رقاب العتاة. وفي حديث أخرجه الترمذي والدارمي وابن الأنباري عن الحارث الأعور عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إنها ستكون فتنة» قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: «كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم هو الذي لا تزيغ فيه الأهواء ولا تشبع منه العلماء ولا تلتبس به الألسن ولا يخلق عن الرد، ولا تنقضي عجائبه هو الذي لم تلته الجن لما سمعته عن أن قالوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ [الجن: 1، 2] من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر ومن هدى به هدي إلى صراط مستقيم» وفي هذا من الرد على الذين نبذوه وراء ظهورهم ما فيه. إِنَّهُمْ أي كفار مكة يَكِيدُونَ يعملون المكايد في إبطال أمره وإطفاء نوره أو في إبطال أمر الله الجزء: 15 ¦ الصفحة: 311 تعالى وإطفاء نور الحق والأول أتم انتظاما وهذا قيل أملأ فائدة كَيْداً أي عظيما حسبا تفي به قدرتهم، والجملة تحتمل أن تكون استئنافا بيانيا كأنه قيل: إذا كان حال القرآن ما ذكر فما حال هؤلاء الذين يقولون فيه ما يقولون فقيل إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً أي أقابلهم بكيد متين لا يمكن رده حيث استدرجهم من حيث لا يعلمون أو أقابلهم بكيدي في إعلاء أمره وإكثار نوره من حيث لا يحتسبون والفصل لهذا، وقيل لئلا يتوهم عطفها على جواب القسم مع أنها غير مقسم عليها فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ فلا تشتغل بالانتقام منهم ولا تدع عليهم بالهلاك أو تأن وانتظر الانتقام منهم ولا تستعجل، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن الإخبار بتوليه تعالى لكيدهم بالذات وعدم إهمالهم مما يوجب إمهالهم وترك التصدي لمكايدتهم قطعا ووضع الظاهر موضع الضمير لذمهم بأبي الخبائث وأمها، وقيل للإشعار بعلة ما تضمنه الكلام من الوعيد وقوله تعالى أَمْهِلْهُمْ بدل من مهل على ما صرح به في الإرشاد وقوله سبحانه رُوَيْداً إما مصدر مؤكد لمعنى العامل أو نعت لمصدره المحذوف أي أمهلهم إمهالا رويدا أي قريبا كما أخرج ابن المنذر وابن جرير عن ابن عباس أو قليلا كما روي عن قتادة. وأخرج ابن المنذر عن السدّي أنه قال أي أمهلهم حتى آمر بالقتال ولعله المراد بالإمهال القريب أو القليل. واختار بعضهم أن يكون المراد إلى يوم القيامة لأن ما وقع بعد الأمر بالقتال كالذي وقع يوم بدر وفي سائر الغزوات لم يعم الكل وما يكون يوم القيامة يعمهم والتقريب باعتبار أن كل آت قريب وعلى هذا النحو التقليل على أن من مات فقد قامت قيامته، والظاهر ما قال السدي وقد عراهم بعد الأمر بالقتال ما عراهم وعدم العموم الحقيقي لا يضر وهو في الأصل على ما قال أبو عبيدة تصغير رود بالضم وأنشد: كأنها ثمل تمشي على رود اي على مهل وقال أبو حيان وجماعة تصغير إرواد مصدر رود يرود بالترخيم وهو تصغير تحقير وتقليل وله في الاستعمال وجهان آخران كونه اسم فعل نحو ريدا زيد أي أمهله وكونه حالا نحو سار القوم رويدا أي متمهلين غير مستعجلين، ولم يذكر أحد احتمال كونه اسم فعل هنا وصرح ابن الشيخ بعدم جريانه وعلل ذلك بأن الأوامر بمعنى فكأنه قيل: أمهل الكافرين أمهلهم وفائدة التأكيد تحصل بالثاني فيلغو الثالث وفي التعليل نظر فقد يسلك في التأكيد بألفاظ متحدة لفظا ومعنى نحو ذلك ففي الحديث: «أيما امرأة أنكحت نفسها بدون ولي فنكحها باطل باطل باطل» ولا فرق بين الجمل والمفردات نعم هو خلاف الظاهر جدا. وجوز رحمه الله كونه حالا أي أمهلهم غير مستعجل، والظاهر أنه حال مؤكدة كما في قوله تعالى لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [البقرة: 60] فلا تغفل وهو أيضا بعيد وظاهر كلام أبي حيان وغيره أن الأمر الثاني توكيد للأول قالوا: والمخالفة بين اللفظين في البنية لزيادة تسكينه صلّى الله عليه وسلم وتصبيره عليه الصلاة والسلام، وإنما دلت الزيادة من حيث الإشعار بالتغاير كأن كلّا كلام مستقل بالأمر بالتأني فهو أوكد من مجرد التكرار وقرأ ابن عباس «مهّلهم» بفتح الميم وشد الهاء وموافقة للفظ الأمر الأول. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 312 سورة الأعلى وتسمى سورة سبح، والجمهور على أنها مكية وحكى ابن الفرس عن بعضهم أنها مدنية لذكر صلاة العيد وزكاة الفطر فيها، ورده الجلال السيوطي بما أخرج البخاري وابن سعد وابن أبي شيبة عن البراء بن عازب قال: أول من قدم علينا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم فجعلا يقرآن القرآن ثم جاء عمار وبلال وسعد ثم جاء عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه في عشرين ثم جاء النبي صلّى الله عليه وسلم فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم به عليه الصلاة والسلام حتى رأيت الولائد والصبيان يقولون: هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد جاء فما جاء عليه الصلاة والسلام حتى قرأت سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى في سور مثلها ثم أن ذكر صلاة العيد وزكاة الفطر فيها غير مسلم ولو سلم فلا دلالة فيه على ذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى تفصيله، وهي تسع عشرة آية بلا خلاف ووجه مناسبتها لما قبلها أنه ذكر في سورة الطارق خلق الإنسان وأشير إلى خلق النبات بقوله تعالي وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ [الطارق: 12] وذكرا هاهنا في قوله تعالى خَلَقَ فَسَوَّى [الأعلى: 2] وقوله سبحانه أَخْرَجَ الْمَرْعى فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى [الأعلى: 4، 5] وقصة النبات هنا أوضح وأبسط كما أن قصة خلق الإنسان هناك كذلك، نعم إن ما في هذه السورة أعم من جهة شموله للإنسان وسائر المخلوقات وكان صلّى الله عليه وسلم يحبها. أخرج الإمام أحمد والبزار وابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يحب هذه السورة سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وجاء في حديث أخرجه أبو عبيد عن أبي تميم أنه عليه الصلاة والسلام سماها أفضل المسبحات . وأخرج أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم وصححه والبيهقي عن عائشة قالت: كان النبي صلّى الله عليه وسلم يقرأ في الوتر في الركعة الأولى سَبِّحِ وفي الثانية قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ وفي الثالثة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ والمعوذتين وفي حديث أخرجه المذكورون وغيرهم إلّا الترمذي عن أبيّ بن كعب نحو ذلك بيد أنه ليس فيه المعوذتان. وأخرج ابن أبي شيبة والإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ وإن وافق يوم الجمعة قرأهما جميعا . وأخرج الطبراني عن عبد الله بن الحارث قال: آخر صلاة صلاها رسول الله صلّى الله عليه وسلم المغرب فقرأ في الركعة الأولى بسبح اسم ربك الأعلى وفي الثانية بقل يا أيها الكافرون. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 313 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى أي نزه أسماءه عز وجل عما لا يليق فلا تؤول مما ورد منها اسما من غير مقتض ولا تبقه على ظاهره إذا كان ما وضع له مما لا يصح له تعالى ولا تطلقه على غيره سبحانه أصلا إذا كان مختصا كالاسم الجليل أو على وجه يشعر بأنه تعالى والغير فيه سواء إذ لم يكن مختصا فلا تقل لمن أعطاك شيئا مثلا: هذا رازقي على وجه يشعر بذلك، وصنه عن الابتذال والتلفظ به في محل لا يليق به كالخلاء وحالة التغوط وذكره لأعلى وجه الخشوع والتعظيم، وربما يعد مما لا يليق ذكره عند من يكره سماعه من غير ضرورة إليه. وعن الإمام مالك رضي الله تعالى عنه أنه كان إذا لم يجد ما يعطي السائل يقول: ما عندي ما أعطيك أو ائتني في وقت آخر أو نحو ذلك، ولا يقول نحو ما يقول الناس يرزقك الله تعالى أو يبعث الله تعالى لك أو يعطيك الله تعالى أو نحوه، فسئل عن ذلك فقال: إن السائل أثقل شيء على سمعه وأبغضه إليه قول المسئول له، ما يفيده رده وحرمانه، فأنا أجلّ اسم الله سبحانه من أن أذكره لمن يكره سماعه ولو في ضمن جملة وهذا منه رضي الله تعالى عنه غاية في الورع. وما ذكر من التفسير مبني على الظاهر من أن لفظ اسم غير مقحم، وذهب كثير إلى أنه مقحم وهو قد يقحم لضرب من التعظيم على سبيل الكناية ومنه قوله لبيد: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما فالمعنى نزه ربك عما لا يليق به من الأوصاف واستدل لهذا بما أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة وغيرهم عن عقبة بن عامر الجهني قال: لما نزلت فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة: 74] قال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «اجعلوها في ركوعكم» فلما نزلت سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال: «اجعلوها في سجودكم» . ومن المعلوم أن المجهول فيهما سبحان ربي العظيم وسبحان ربي الأعلى وبما أخرج الإمام أحمد وأبو داود والطبراني والبيهقي في سننه عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان إذا قرأ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قال: «سبحان ربي الأعلى» وروى عبد بن حميد وجماعة أن عليا كرم الله تعالى وجهه قرأ ذلك فقال سبحان ربي الأعلى وهو في الصلاة فقيل له أتزيد في القرآن قال لا إنما أمرنا بشيء ففعلته. وفي الكشاف تسبيح اسمه تعالى تنزيهه عما لا يصح فيه من المعاني التي هي إلحاد في أسمائه سبحانه كالجبر والتشبيه مثلا وأن يصان عن الابتذال والذكر لا على وجه الخشوع والتعظيم فجعل المعنيين على ما قيل راجعين إلى الاسم وإن كان الأول بالحقيقة راجعا إليه عز وجل لكن كما يصح أن يقال نزه الذات عما لا يصح له من الأوصاف أن يقال أيضا نزه أسماءه تعالى الدالّة على الكمال عما لا يصح فيه من خلافه وليس المعنى الأول مبنيا على أن لفظ اسم مقحم ولا على أن المراد به المسمى إطلاقا لاسم الدال على المدلول نعم قال به بعضهم هنا وهو إن كان للأخبار السابقة كما في دعوى الإقحام فلا بأس، وإن كان لظن أن التسبيح لا يكون للألفاظ الموضوعة له تعالى فليس بشيء لفساد هذا الظن بظهور أن التسبيح يكون لها كما سمعت وقد قال الإمام إنه كما يجب تنزيه ذاته تعالى وصفاته حلّ وعلا عن النقائص يجب تنزيه الألفاظ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 314 الموضوعة لذلك عن الرفث وسوء الأدب، ومن هذا يعلم ما في التعبير عنه تعالى شأنه بنحو ليلى ونعم كما يدعي ذلك في قول ابن الفارض قدس سره: أبرق بدا من جانب الغور لامع ... أم ارتفعت عن وجه ليلى البراقع وقوله: إذا أنعمت نعم عليّ بنظرة ... فلا أسعدت سعدى ولا أجملت جمل إلى غير ذلك من أبياته وقد عاب ذلك بعض الأجلّة وعدّه من سوء الأدب ومخالفا لقوله تعالى وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها [الأعراف: 180] الآية وأجاب بعضهم بأن ذلك ليس من الوضع في شيء وفهم الحضرة الإلهية من تلك الألفاظ إنما هو بطريق الإشارة كما قالوا في فهم النفس الأمارة من البقرة مثلا في قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة: 67] والمنكر لا يقنع بهذا والأظهر أن يقال: إن الكلام المورد فيه ذلك من قبيل الاستعارة التمثيلية ولا نظر فيها إلى تشبيه المفردات بالمفردات فليس فيه التعبير عنه عز وجل بليلى ونحوها، واستعمال الاستعارة التمثيلية في شأنه تعالى مما لا بأس به حتى إنهم قالوه في البسملة كما لا يخفى على من تتبع رسائلهم فيها هذا ولعل عندهم خيرا منه. وقال جمع: الاسم بمعنى التسمية والمعنى نزه تسمية ربك بأن تذكره وأنت له سبحانه معظم ولذكره جل شأنه محترم، وأنت تعلم أن هذا يندرج في تسبيح الاسم كما تقدم. وعن ابن عباس أن المعنى صل باسم ربك الأعلى كما تقول: ابدأ باسم الله تعالى، وحذف حرف الجر حكاه في البحر ولا أظن صحته. وقال عصام الدين: لا يبعد أن يراد الاسم الأثر أي سبح آثار ربك الأعلى عن النقصان فإن أثره تعالى دال عليه سبحانه كالاسم فيكون منعا عن عيب المخلوقات أي من حيث إنها مخلوقة له تعالى على وجه ينافي قوله تعالى ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ [الملك: 3] ولا يخفى بعده وإن كان فيما بعد من الصفات ما يستأنس به له، وأنا أقول إن كان سَبِّحِ بمعنى نزه فكلا الأمرين من كون اسم مقحما وكونه غير مقحم وتعلق التسبيح به على الوجه الذي سمعت محتمل غير بعيد، وإذا كان معناه قل سبحان كما هو المعروف فيما بينهم فكونه مقحما متعين إذ لم يسمع سلفا وخلفا من يقول سبحان اسم ربي الأعلى أو سبحان اسم الله، والأخبار ظاهرة في ذلك وحمل ما فيها على اختيار الأخصر المستلزم لغيره كما ترى ويؤيد هذا قراءة أبيّ بن كعب كما في خبر سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن ابن جبير «سبحان ربي الأعلى» وأما ما قيل من أن الاسم عين المسمى واستدل عليه بهذه الآية ونحوها فهو مما لا يعول عليه أصلا وقد تقدم الكلام أول الكتاب فارجع إليه إن أردته والْأَعْلَى صفة للرب وأريد بالعلو القهر والاقتدار لا بالمكان لاستحالته عليه سبحانه والسلف وإن لم يؤولوه بذلك لكنهم أيضا يقولون باستحالة العلو المكاني عليه عز وجل وجوز جعله صفة لاسم وعلوه ترفعه عن أن يشاركه اسم في حقيقة معناه. واستشكل بأن قوله تعالى الَّذِي خَلَقَ إلخ إن كان صفة للرب كما هو الظاهر لزم الفصل بين الموصوف وصفته بصفة غيره وهو لا يجوز فلا يقال: رأيت غلام هند العاقل الحسنة، وإن كان صفة لاسم أيضا اختل المعنى إذ الاسم لا يتصف بالخلق وما بعده. وأجيب باختيار الثاني ولا اختلال إما لأن الاسم بمعنى المسمى، أو لأنه لما كان مقحما كان اسْمَ رَبِّكَ بمنزلة ربك فصح وصفه بما يوصف به الرب عز وجل وفيه نظر والجواب المقبول أن الَّذِي على ذلك التقدير إما مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو منصوب على المدح، ومفعول خَلَقَ محذوف ولذا قيل بالعموم أي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 315 الذي خلق كل شيء فَسَوَّى أي فجعله متساويا وهو أصل معناه والمراد فجعل خلقه كما تقتضيه حكمته سبحانه في ذاته وصفاته وفي معناه ما قيل أي فجعل الأشياء سواء في باب الأحكام والإتقان لا أنه سبحانه أتقن بعضا دون بعض، وردّ بما دلت عليه الآية من العموم على المعتزلة في زعمهم أن العبد خالق لأفعاله والزمخشري مع أن مذهبه مذهبهم قال هنا بالعموم ولعله لم يرد العموم الحقيقي أو أراده لكن على لمعنى خلق كل شيء إما بالذات أو بالواسطة، وجعل ذلك في أفعال العباد بأقداره سبحانه وتمكينهم على خلقها باختيارهم وقدرهم الموهوبة لهم، وعن الكلبي خلق كل ذي روح فسوّى بين يديه وعينيه ورجليه. وعن الزجاج خلق الإنسان فعدّل قامته ولم يجعله منكوسا كالبهائم وفي كل تخصيص لا يقتضيه ظاهر الحذف وَالَّذِي قَدَّرَ أي جعل الأشياء على مقادير مخصوصة في أجناسها وأنواعها وأفرادها وصفاتها وأفعالها وآجالها فَهَدى فوجه كل واحد منها إلى ما يصدر عنه وينبغي له طبعا أو اختيارا ويسره لما خلق له بخلق الميول والإلهامات ونصب الدلائل وإنزال الآيات، فلو تتبعت أحوال النباتات والحيوانات لرأيت في كل منها ما تحار فيه العقول وتضيق عنه دفاتر النقول. وأما فنون هداياته سبحانه وتعالى للإنسان على الخصوص ففوق ذلك بمراحل وأبعد منه ثم أبعد وأبعد بألوف من المنازل وهيهات أن يحيط بها فلك العبارة والتحرير ولا يكاد يعلمها إلّا اللطيف الخبير: أتزعم أنك جرم صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبر وقيل أي والذي قدر الخلق على ما خلقهم فيه من الصور والهيئات، وأجرى لهم أسباب معاشهم من الأرزاق والأقوات، ثم هداهم إلى دينه ومعرفة توحيده بإظهار الدلالات والبينات. وقيل قدر أقواتهم وهداهم لطلبها. وعن مقاتل والكلبي قدرهم ذكرانا وإناثا وهدى الذكر كيف يأتي الأنثى وعن مجاهد قدر الإنسان والبهائم وهدى الإنسان للخير والشر والبهائم للمراتع. وعن السدّي قدر الولد في البطن تسعة أشهر أو أقل أو أكثر وهداه للخروج منه للتمام وقيل قدر المنافع في الأشياء وهدى الإنسان لاستخراجها والأولى ما ذكر أولا ولعل ما في سائر الأقوال من باب التمثيل لا التخصيص. وزعم الفرّاء أن في الآية اكتفاء والأصل فهدى وأضل وليس بشيء. وقرأ الكسائي «قدر» بالتخفيف من القدرة أو التقدير وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى أي أنبت ما ترعاه الدواب غضا رطبا يرف فَجَعَلَهُ غُثاءً هو ما ما يقذف به السيل على جانب الوادي من الحشيش والنبات، وأصله على ما في المجمع الأخلاط من أجناس شتى والعرب تسمى القوم إذا اجتمعوا من قبائل شتى أخلاطا وغثاء، ويقال: غثاء بالتشديد وجاء جمعه على أغثاء وهو غريب من حيث جمع فعال على فعال والمراد به هنا اليابس من النبات أي فجعله بعد ذلك يابسا أَحْوى من الحوة وهي كما قيل السواد. وقال الأعلم لون يضرب إلى السواد وفي الصحاح الحوّة السمرة فالمراد بأحوى أسود أو أسمر والنبات إذا يبس اسودّ أو أسمر فهو صفة مؤكدة للغثاء وتفسر الحوة بشدة الخضرة وعليه قول ذي الرمة: لمياه في شفتيها حوة لعس ... وفي اللثات وفي أنيابها شنب ولا ينافي ذلك تفسيرها بالسواد لأن شدة الخضرة ترى في بادىء النظر كالسواد، وجوز كونه حالا من المرعى أي أخرج المرعى حال كونه طريا غضا شديد الخضرة فجعله غثاء، والفصل بالمعطوف بين الحال وصاحبها ليس فصلا بأجنبي لا سيما وهو حال يعاقب الأول من غير تراخ. وسر التقديم المبالغة في استعقاب حالة الجفاف حالة الرفيف والغضارة كأنه قبل أن يتم رفيقه وغضارته يصير غثاء ومع هذا هو خلاف الظاهر وهذه الأوصاف على ما قيل يتضمن كل منها التدريج ففي الوصف بها تحقيق لمعنى التربية وهي تبليغ الشيء كماله شيئا فشيئا وقوله تعالى سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى بيان لهدايته تعالى شأنه الخاصة برسوله صلّى الله عليه وسلم إثر بيان الجزء: 15 ¦ الصفحة: 316 هدايته عز وجل العامة لكافة مخلوقاته سبحانه وهي هدايته عليه الصلاة والسلام لتلقي الوحي وحفظ القرآن الذي هو هدى للعالمين وتوفيقه صلّى الله عليه وسلم لهداية الناس أجمعين. والسين إما للتأكيد وإما لأن المراد إقراء ما أوحي إليه صلّى الله عليه وسلم حينئذ وما سيوحى إليه عليه الصلاة والسلام بعد فهو وعد كريم باستمرار الوحي في ضمن الوعد بالإقراء وإسناد الإقراء إليه تعالى مجازي أي سنقرئك ما نوحي إليك الآن وفيما بعد على لسان جبريل عليه السلام فإنه عليه السلام الواسطة في الوحي على سائر كيفياته فلا تنسى أصلا من قوة الحفظ والإتقان مع أنك أمي لم تكن تدري ما الكتاب وما القراءة ليكون ذلك لك آية مع ما في تضاعيف ما تقرؤه من الآيات البينات من حيث الإعجاز ومن حيث الأخبار بالمغيبات، وجوز أن يكون المعنى سنجعل قارئا بإلهام القراءة أي في الكتاب من دون تعليم أحد كما هو العادة فقد روي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ الكتابة ولا يكتب . ويكون المراد بقوله تعالى فَلا تَنْسى نفي النسيان مطلقا عنه عليه الصلاة والسلام وامتنانا عليه صلّى الله عليه وسلم بأنه أوتي قوة الحفظ وفيه أنه مع كونه خلاف المأثور عن السلف في الآية تأباه فاء التفريع. وجوز أيضا أن يكون المراد نفي نسيان المضمون أي سنقرئك القرآن فلا تغفل عنه فتخالفه في أعمالك ففيه وعد بتوفيقه عليه الصلاة والسلام لالتزام ما فيه من الأحكام وهو كما ترى. وقيل: فلا تنسى نهي والألف لمراعاة الفاصلة كما في قوله تعالى فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا [الأحزاب: 67] وفيه أن النسيان ليس بالاختيار فلا ينهى عنه إلا أن يراد مجازا ترك أسبابه الاختيارية أو ترك العمل بما تضمنه المقروء وفيه ارتكاب تكلف من غير داع، وأيضا رسمه بالياء يقتضي أنها من البنية لا للإطلاق وكون رسم المصحف مخالفا تكلف أيضا نعم قيل: رسمت ألف الإطلاق ياء الموافقة غيرها من الفواصل وموافقة أصلها مع أن الإمام المرزوقي صرح بأنه عند الإطلاق ترد المحذوفة، وقيل هو نهي لكن لم تحذف الألف فيه إذ قد لا يحذف الجازم حرف العلة وحسن ذلك هنا مراعاة الفاصلة وفيه أيضا ما فيه والأهون للطالب معنى النهي أن يقول هو خبر أريد به النهي على أحد التأويلين السابقين آنفا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ استثناء مفرغ من أعم المفاعيل أي لا تنسى أصلا مما سنقرئكه شيئا من الأشياء إلا ما شاء الله أن تنساه، قيل: أي أبدا قال الحسن وقتادة وغيرهما: وهذا مما قضى الله تعالى نسخه وأن يرتفع حكمه وتلاوته، والظاهر أن النسيان على حقيقته وفي الكشاف أي إلا ما شاء الله فذهب به عن حفظك برفع حكمه وتلاوته وجعل النسيان عليه بمعنى رفع الحكم والتلاوة وكناية عنه لأن ما رفع حكمه وتلاوته يترك فينسى فكأنه قيل بناء على إرادة المعنيين في الكنايات سنقرئك القرآن فلا تنسى شيئا منه ولا يرفع حكمه وتلاوته إلا ما شاء الله فتنساه ويرفع حكمه وتلاوته أو نحو هذا، وأنا لا أرى ضرورة إلى اعتبار ذلك. والباء في برفع إلخ للسببية والمراد إما بيان السبب العادي البعيد للذهاب الله تعالى به عن الحفظ فإن رفع الحكم والتلاوة يؤدي عادة في الغالب إلى ترك التلاوة لعدم التعبد بها وإلى عدم إخطاره في البال لعدم بقاء حكمه وهو يؤدي عادة في الغالب أيضا إلى النسيان أو بيان السبب الدافع لاستبعاد الذهاب به عن حفظه عليه الصلاة والسلام رهو كالسبب المجوز لذلك، وأيّا ما كان فلا حاجة إلى جعل معنى فَلا تَنْسى فلا تترك تلاوة شيء منه والعمل به فتأمل. ثم إنه لا يلزم من كون ما شاء الله تعالى نسيانه مما قضى سبحانه أن يرتفع حكمه وتلاوته أن يكون كل ما ارتفع حكمه وتلاوته قد شاء الله تعالى نسيان النبي صلّى الله عليه وسلم له فإن من ذلك ما يحفظه العلماء إلى اليوم فقد أخرج الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها كان فيما أنزل عشر رضعات معلومات فنسخن بخمس معلومات الحديث. وكونه صلّى الله عليه وسلم نسي الجميع بعد تبليغه وبقي ما بقي عند بعض من سمعه منه عليه الصلاة والسلام فنقل حتى وصل إلينا بعيد وإن أمكن عقلا، وقيل: كان صلّى الله عليه وسلم يعجل بالقراءة إذا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 317 لقنه جبريل عليه السلام فقيل: لا تعجل فإن جبريل عليه السلام مأمور أن يقرأه عليك قراءة مكررة إلى أن تحفظه ثم لا تنساه إلّا ما شاء الله تعالى ثم تذكره بعد النسيان، وأنت تعلم أن الذكر بعد النسيان وإن كان واجبا إلّا أن العلم به لا يستفاد من هذا المقام. وقيل: إن الاستثناء بمعنى القلة وهذا جار في العرف كأنه قيل إلّا ما لا يعلم لأن المشيئة مجهولة وهو لا محالة أقل من الباقي بعد الاستثناء فكأنه قيل فلا تنسى شيئا إلّا شيئا قليلا. وقد جاء في صحيح البخاري وغيره أنه صلّى الله عليه وسلم أسقط آية في قراءته في الصلاة وكانت صلاة الفجر فحسب أبي أنها نسخت فسأله عليه الصلاة والسلام، فقال: نسيتها ثم إنه عليه الصلاة والسلام لا يقر على نسيانه القليل أيضا بل يذكره الله تعالى أو ييسر من يذكره، ففي البحر أنه صلّى الله عليه وسلم قال حين سمع قراءة عباد بن بشير: «لقد ذكرني كذا وكذا آية في سورة كذا وكذا» . وقيل: الاستثناء بمعنى القلة وأريد بها النفي مجازا كما في قولهم قل من يقول كذا قيل والكلام عليه باب: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم البيت والمعنى فلا تنسى إلا نسيانا معدوما. وفي الحواشي العصامية على أنوار التنزيل أن الاستثناء على هذا الوجه لتأكيد عموم النفي لا لنقض عمومه. وقد يقال الاستثناء من أعم الأوقات فلا تنسى في وقت من الأوقات إلا وقت مشيئة الله تعالى نسيانك لكنه سبحانه لا يشاء وهذا كما قيل في قوله تعالى في أهل الجنة خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ [هود: 107] وقد قدمنا ذلك وإلى هذا ذهب الفراء فقال إنه تعالى ما شاء أن ينسى النبي صلّى الله عليه وسلم شيئا إلا أن المقصود من الاستثناء بيان أنه تعالى لو أراد أن يصيره عليه الصلاة والسلام ناسيا لذلك لقدر عليه كما قال سبحانه وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [الإسراء: 86] ثم إنّا نقطع بأنه تعالى ما شاء ذلك وقال له صلّى الله عليه وسلم لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] مع أنه عليه الصلاة والسلام لم يشرك البتة، وبالجملة ففائدة هذا الاستثناء أن يعرف الله تعالى قدرته حتى يعلم صلّى الله عليه وسلم أن عدم النسيان من فضله تعالى وإحسانه لا من قوته، أي حتى يتقوى ذلك جدا أو ليعرف غيره ذلك وكأن نفي أن يشاء الله تعالى نسيانه عليه الصلاة والسلام معلوم من خارج ومنه آية لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة: 16] الآية. وقد أشار أبو حيان إلى ما قاله الفراء وإلى الوجه الذي قبله وأباهما غاية الإباء لعدم الوقوف على حقيقتهما وقال: لا ينبغي أن يكون ذلك في كلام الله تعالى بل ولا في كلام فصيح وهو مجازفة منه عفا الله تعالى عنه، ثم إن المراد من نفي نسيان شيء من القرآن نفي النسيان التام المستمر مما لا يقر عليه صلّى الله عليه وسلم كالذي تضمنه الخبر السابق ليس كذلك. وقد ذكروا أنه عليه الصلاة والسلام لا يقر على النسيان فيما كان من أصول الشرائع والواجبات وقد يقر على ما ليس منها أو منها وهو من الآداب والسنن ونقل هذا عن الإمام الرازي عليه الرحمة فليحفظ. والالتفات إلى الاسم الجليل على سائر الأوجه لتربية المهابة والإيذان بدوران المشيئة على عنوان الألوهية المستتبعة لسائر الصفات، وربط الآية بما قبلها على الوجه الذي ذكرناه هو الذي اختاره في الإرشاد وقال أبو حيان: إنه سبحانه لما أمره صلّى الله عليه وسلم بالتسبيح وكان لا يتم إلّا بقراءة ما أنزل عليه من القرآن وكان صلّى الله عليه وسلم يتفكر في نفسه مخافة أن ينسى أزال سبحانه عنه ذلك بأنه عز وجل يقرئه وأنه لا ينسى إلا ما شاء أن ينسيه لمصلحة وفيه نظر لا يخفى ولو قيل إن سَنُقْرِئُكَ استئناف واقع موقع التعليل للتسبيح أو للأمر به فيفيد جلالة الإقراء وأنه مما ينبغي أن يقابل بتنزيه الله تعالى وإجلاله كان أهون مما ذكر ونحوه كونه في موقع التعليل على معنى هيىء نفسك للإفاضة عليك بتسبيح الله تعالى لأنّا سنقرئك فلا تنسى إلّا ما الجزء: 15 ¦ الصفحة: 318 شاء الله. ويتضمن ذلك الإشارة إلى فضل التسبيح وقد وردت أخبار كثيرة في ذلك وذكر الثعلبي بعضا منها ونقله ابن الشيخ في حواشيه على تفسير البيضاوي والله تعالى أعلم بصحته. إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى تعليل لما قبله والْجَهْرَ هنا ما ظهر قولا أو فعلا أو غيرهما وليس خاصا بالأقوال بقرينة المقابلة أي إنه تعالى يعلم ما ظهر وما بطن من الأمور التي من جملتها حالك وحرصك على حفظ ما يوحى إليك بأسره فيقرئك ما يقرئك ويحفظك عن نسيان ما شاء منه وينسيك ما شاء منه مراعاة لما نيط بكل من المصالح والحكم التشريعية، وقيل توكيد لجميع ما تقدمه وتوكيد لما بعده، وقيل توكيد لقوله تعالى سَنُقْرِئُكَ إلخ على أن الجهر ما ظهر من الأقوال أي يعلم سبحانه جهرك بالقراءة مع جبريل عليه السلام وما دعاك إليه من مخافة النسيان فيعلم ما فيه الصلاح من إبقاء وإنساء أو فلا تخف فإني أكفيك ما تخاف وقيل إنه متعلق بقوله تعالى سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وهذا ليس بشيء كما ترى وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى عطف على سَنُقْرِئُكَ كما ينبىء عنه الالتفات إلى الحكاية وما بينهما اعتراض وارد لما سمعت وتعليق التيسير به صلّى الله عليه وسلم مع أن الشائع تعليقه بالأمور المسخرة للفاعل كما في قوله تعالى وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي [طه: 26] للإيذان بقوة تمكينه عليه الصلاة والسلام من اليسرى والتصرف فيها بحيث صار ذلك ملكة راسخة له كأنه عليه الصلاة والسلام جبل عليها أي نوفقك توفيقا مستمرا للطريقة اليسرى في كل باب من أبواب الدين علما وتعليما واهتداء وهداية فيندرج فيه تيسير تلقى طريقي الوحي والإحاطة بما فيه من أحكام الشريعة السمحة والنواميس الإلهية مما يتعلق بتكميل نفسه الكريمة صلّى الله عليه وسلم وتكميل غيره كما يفصح عنه الفاء فيما بعد كذا في الإرشاد. وقيل: المراد باليسرى الطريقة التي هي أيسر وأسهل في حفظ الوحي، وقيل هي الشريعة الحنيفية السهلة، وقيل الأمور الحسنة في أمر الدنيا والآخرة من النصر وعلو المنزلة والرفعة في الجنة وضم إليها بعض أمر الدين وهو مع هذا الضم تعميم حسن وظاهر عليه أيضا أمر الفاء في قوله تعالى فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى أي فذكر الناس حسبما يسرناك بما يوحى إليك واهدهم إلى ما في تضاعيفه من الأحكام الشرعية كما كنت تفعله. وقيل: أي. فذكر بعد ما استتب أي استقام وتهيأ لك الأمر فإن أراد فدم على التذكير بعد ما استقام لك الأمر من إقرائك الوحي وتعليمك القرآن بحيث لا تنسى منه إلّا ما اقتضت المصلحة نسيانه وتيسيرك للطريقة اليسرى في كل باب من أبواب الدين فذاك وإلّا فليس بشيء، وتقييد التذكير بنفع الذكرى لما أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان قد ذكر وبالغ فيه فلم يدع في القوس منزعا وسلك فيه كل طريق فلم يترك مضيفا ولا مهيعا حرصا على الإيمان وتوحيد الملك الديان وما كان يزيد ذلك بعض الناس إلّا كفرا وعنادا وتمردا وفسادا، فأمره صلّى الله عليه وسلم تخفيفا عليه حيث كاد الحرص على إيمانهم يوجه سهام التلف إليه كما قال تعالى فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف: 6] بأن يخص التذكير بمواد النفع في الجملة بأن يكون من يذكره كلّا أو بعضا ممن يرجى منه التذكر ولا يتعب نفسه الكريمة في تذكير من لا يورثه التذكير إلّا عتوا ونفورا وفسادا وغرورا من المطبوع على قلوبهم كما في قوله تعالى فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [ق: 45] وقوله سبحانه فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا [النجم: 29] وعلمه صلّى الله عليه وسلم بمن طبع على قلبه بإعلام الله تعالى إياه عليه الصلاة والسلام به فهو صلّى الله عليه وسلم بعد التبليغ وإلزام الحجة لا يجب عليه تكرير التذكير على من علم أنه مطبوع على قلبه فالشرط على هذا على حقيقته، وقيل إنه ليس كذلك وإنما هو استبعاد النفع بالنسبة إلى هؤلاء المذكورين نعيا عليهم بالتصميم كأنه قيل: افعل ما أمرت به لتؤجر وإن لم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 319 ينتفعوا به وفيه تسلية له صلّى الله عليه وسلم، ورجح الأول بأن فيه إبقاء الشرط على حقيقته مع كونه أنسب بقوله تعالى سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى أي سيذكر بتذكيرك من من شأنه أن يخشى الله تعالى حق خشيته أو من يخشى الله تعالى في الجملة فيزداد ذلك التذكير فيتفكر في أمر ما تذكره به فيقف على حقيقته فيؤمن به وقيل إن إِنْ بمعنى إذ كما في قوله تعالى وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 139] أي إذ كنتم لأنه سبحانه لم يخبرهم بكونهم الأعلون إلّا بعد إيمانهم وقوله صلّى الله عليه وسلم في زيارة أهل القبور: «وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون» وأثبت هذا المعنى لها الكوفيون احتجاجا بما ذكر ونظائره وأجاب النافون عن ذلك بما في المغني وغيره وقيل هي بمعنى قد، وقد قال بهذا المعنى قطرب. وقال عصام الدين: المراد أن التذكير ينبغي أن يكون بما يكون مهما لمن له التذكير فينبغي تذكير الكافرين بالإيمان لا بالفروع كالصلاة والصوم والحج إذ لا تنفعه بدون الإيمان، وتذكير المؤمن التارك للصلاة بها دون الإيمان مثلا وهكذا فكأنه قيل: ذكر كل واحد بما ينفعه ويليق به. وقال الفرّاء والنحاس والجرجاني والزهراوي: الكلام على الاكتفاء والأصل فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى وإن لم تنفع كقوله تعالى سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] والظاهر أن الذين لا يقولون بمفهوم المخالفة سواء كان مفهوم الشرط أو غيره لا يشكل عليهم أمر هذه الآية كما لا يخفى. يَتَجَنَّبُهَا أي ويتجنب الذكرى ويتحاماهاَْشْقَى وهو الكافر المصرّ على إنكار المعاد ونحوه الجازم بنفي ذلك مما يقتضي الخشية بوجه وهو أشقى أنواع الكفرة. وقيل: المراد به الكافر المتوغل في عداوة الرسول صلّى الله عليه وسلم كالوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة. وقد روي أن الآية نزلت فيهما فإنه أشقى من غير المتوغل. وقيل: المراد به الكافر مطلقا فإنه أشقى من الفاسق وقيل المفضل عليه كفرة سائر الأمم فإنه حيث كان المؤمن من هذه الأمة أسعد من مؤمنيهم كان الكافر منها أشقى من كافريهم والأوجه عندي في المراد بالأشقى ما تقدم الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى أي الطبقة السفلى من أطباق النار كما قال الفراء ولا بعد في تفاضل نار الآخرة وكون بعض منها أكبر من بعض وأشد حرارة. وقال الحسن الْكُبْرى نار الآخرة، والصغرى نار الدنيا ففي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا: «ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم» . وفي رواية للإمام أحمد عنه مرفوعا أيضا: «إن هذه النار جزء من مائة جزء من جهنم» فلعل السبعين وارد مورد التكثير وهو كثير ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها فيستريح وَلا يَحْيى أي حياة تنفعه، وقيل: إن روح أحدهم تصير في حلقه فلا تخرج فيموت ولا ترجع إلى موضعها من الجسد فيحيا وهو غير غني عن التقييد بنحو حياة كاملة على أنه بعد لا يخلو عن بحث وثم للتراخي في الرتبة فإن هذه الحالة أفظع وأعظم من نفس المصلي. وقال عصام الدين: يحتمل أن يكون هذا الكلام كناية عن عدم النجاة لأن النجاة عن العذاب إنما يكون بالعمل في دار يموت فيها العامل ويحيا، والنظم أقرب إلى هذا المعنى كيف واللائق بالمعنى السابق ثم لا يكون ميتا فيها ولا حيا فتأمل انتهى. وفي كون اللائق بالمعنى السابق ما ذكره دون ما في النظم الجليل منع ظاهر والظاهر أنه لائق به مع تضمنه رعاية الفواصل وكذا في توجيه كون ما ذكر كناية عن عدم النجاة خفاء وكأنه لذلك أمر بالتأمل وقد يقال: إن مثل ذلك الكلام يقال لمن وقع في شدة واستمر فيها فلا يبعد أن يكون فيه إشارة إلى خلودهم في العذاب وأمر التراخي الرتبي عليه ظاهر أيضا لظهور أن الخلود في النار الكبرى أفظع من دخولها وصليها. واعلم أن عدم الموت في النار على ما صرح به غير واحد مخصوص بالكفرة وأما عصاة المؤمنين الذين يدخلونها فيموتون فيها، واستدل لذلك بما أخرجه مسلم عن أبي سعيد عن النبي صلّى الله عليه وسلم: «أما الجزء: 15 ¦ الصفحة: 320 أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم- أو قال- بخطاياهم فأماتهم الله تعالى إماتة حتى إذا كانوا فحما أذن في الشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم من الماء فينبتون نبات الحبة في حميل السيل» قال الحافظ ابن رجب: إنه يدل على أن هؤلاء يموتون حقيقة وتفارق أرواحهم أجسادهم، وأيد بتأكيد الفعل بالمصدر في قوله عليه الصلاة والسلام «فأماتهم الله تعالى إماتة» وأظهر منه ما أخرجه البزار عن أبي هريرة مرفوعا: «إن أدنى أهل الجنة حظا أو نصيبا قوم يخرجهم الله تعالى من النار فيرتاح لهم الرب تبارك وتعالى وذلك أنهم كانوا لا يشركون بالله تعالى شيئا فينبذون بالعراء فينبتون كما ينبت البقل، حتى إذا دخلت الأرواح أجسادهم فيقولون ربنا كما أخرجتنا من النار وأرجعت الأرواح إلى أجسادنا فاصرف وجوهنا عن النار، فينصرف وجوههم عن النار» وهذه الإماتة على ما اختاره غير واحد بعد أن يذوقوا ما يستحقونه من عذابها بحسب ذنوبهم كما يشعر به حديث مسلم وإبقاؤهم فيها ميتين إلى أن يؤذن بالشفاعة لإيجابه تأخير دخولهم الجنة تلك المدة كان تتمة لعقوبتهم بنوع آخر فتكون ذنوبهم قد اقتضت أن يعذبوا بالنار مدة ثم يحسبوا فيها من غير عذاب مدة فهم كمن أذنب في الدنيا فضرب وحبس بعد الضرب جزاء لذنبه ولم يبقوا أحياء فيها من غير عذاب كخزنتها إما ليكون أبعد عن أن يهولهم رؤيتها، أو لتكون الإماتة وإخراج الروح من تتمة العقوبة أيضا. وقال القرطبي: يجوز أن تكون إماتتهم عند إدخالهم فيها ويكون إدخالهم وصرف نعيم الجنة عنهم مدة كونهم فيها عقوبة لهم كالحبس في السجن بلا غل ولا قيد مثلا، ويجوز أن يكونوا متألمين حالة موتهم نحو تألم الكافر بعد موته وقبل قيام الساعة ويكون ذلك أخف من تألمهم لو بقوا أحياء كما أن تألم الكافر بعد موته في قبره أخف من تألمه إذا أدخل النار بعد البعث وهو كما ترى. وفي مطامح الأفهام يجوز أن يراد بالإماتة المذكورة وفي الحديث الإنامة وقد سمى الله تعالى النوم وفاة لأن فيه نوعا من عدم الحسن. وفي الحديث المرفوع: «إذا أدخل الله تعالى الموحدين النار أماتهم فيها فإذا أراد سبحانه أن يخرجوا أمسهم العذاب تلك الساعة» انتهى. والمعول عليه ما ذكرناه وأولا والله تعالى أعلم. قَدْ أَفْلَحَ أي نجا من المكروه وظفر بما يرجوه مَنْ تَزَكَّى أي تطهر من الشرك بتذكره واتعاظه بالذكرى وحمله على ذلك مروي عن ابن عباس وغيره. وأخرج البزار وابن مردويه عن جابر بن عبد الله عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال في ذلك: «من شهد أن لا إله إلّا الله وخلع الأنداد وشهد أني رسول الله» واعتبر بعضهم أمرين فقال: أي تطهر من الكفر والمعصية وعليه يجوز أن يكون ما تقدم من باب الاقتصار على الأهم، وقيل تزكى أي تكثر من التقوى والخشية من الزكاء وهو النماء، وقيل تطهر للصلاة، وقيل آتى الزكاة وروي هذا عن أبي الأحوص وقتادة وجماعة وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ بلسانه وقلبه لا بلسانه مع غفلة القلب إذ مثل ذلك لا ثواب فيه فلا ينبغي أن يدخل فيما يترتب عليه الفلاح والذكر القلبي باستحضار اسمه تعالى في القلب وإن كان ممدوحا بلا شبهة إلّا أن إرادته بخصوصه مما ذكر خلاف الظاهر وحكاه في مجمع البيان عن بعض. وما روي عن ابن عباس من قوله أي ذكر معاده وموقفه بين يدي ربه عز وجل ظاهر فيه وفي إقحام لفظ اسْمَ وذهب بعض الحنفية إلى أن المراد بهذا الذكر تكبيرة الافتتاح كأنه قيل وكبر للافتتاح فَصَلَّى أي الصلوات الخمس كما أخرجه ابن المنذر وغيره عن ابن عباس وروي ذلك في حديث مرفوع وقيل: الصلاة المفروضة وما أمكن من النوافل، واحتج بذلك على وجوب التكبيرة حيث نيط به الفلاح ووقع بين واجبين بل فرضين الجزء: 15 ¦ الصفحة: 321 التزكي من الشرك والصلاة مع أن الاحتياط في العبادات واجب فلا يضر الاحتمال وعلى أن الافتتاح جائز بكل اسم من أسمائه عز وجل وهو ظاهر، وعلى أن التكبيرة شرط لا ركن للعطف بالفاء وعطف الكل على الجزء كعطف العام على الخاص وإن جاز لا يكون بها مع أنه لو سلم صحته بتكلف فلا بد له من نكتة ليدعي وقوعه في الكلام المعجز فحيث لم تظهر لم يصح ادعاؤه وبناء الركنية عليه والانصاف أنه مع ما سمعت احتجاج ليس بالقوي، وقيل هو خصوص بسم الله الرحمن الرحيم قبل الصلاة وليس بشيء. وعن علي كرم الله تعالى وجهه تَزَكَّى أي تصدق صدقة الفطر وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ كبّر يوم العيد. فَصَلَّى صلاة العيد . وعن جماعة من السلف ما يقتضي ظاهره ذلك، وتعقب بأن الصلاة مقدمة على الزكاة في القرآن وأن السورة مكية ولم يكن حينئذ عيد ولا فطر، ورد بأن ذلك إذا ذكرت باسمها أما إذا ذكرت بفعل فتقديمها غير مطدر ومنه فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى [القيامة: 31] على أنه يجوز أن تكون مخالفة العادة هاهنا للإرشاد إلى أن هذه الزكاة المقدمة قولا ينبغي تقديمها فعلا على الصلاة ولهذا كانوا يخرجونها قبل أن يصلوا العيد كما جاء في الآثار، وكون السورة مكية غير مجمع عليه وعلى القول بمكيتها الذي هو الأصح يكون ذلك مما تأخر حكمه عن نزوله. وأقول أن يقال تَزَكَّى أي تطهر من الشرك بأن آمن بقلبه وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ أي قال لا إله إلا الله فَصَلَّى أي الصلاة المفروضة وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس ما يؤيده فيكون تَزَكَّى إشارة إلى التصديق بالجنان وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ إلى النطق باللسان فَصَلَّى إلى العمل بالأركان لما أن الصلاة عماد الدين وأفضل الأعمال البدنية وناهية عن الفحشاء والمنكر فلا بدع أن تذكر فيراد جميع الأعمال البدنية والعبادات القلبية وقد يقال: اقتصر على ذكر الصلاة لأن الفرائض والواجبات البدنية لم تكن تامة يوم نزول السورة وكانت الصلاة أهم ما نزل إن كان نزل غيرها. وقد روى عطاء عن ابن عباس ويزيد النحوي عن عكرمة والحسن بن أبي الحسن أن أول ما نزل من القرآن بمكة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ثم ن ثم المزمل ثم المدثر ثم تَبَّتْ ثم إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ثم سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ ثم إن من رداف لا إله إلا الله محمد رسول الله وكان ذكر الله تعالى المطلوب هو مجموع الجملتين فلا بعد في أن يراد من ذكره تعالى في الآية وإذا اعتبر الإتيان باسمه عز وجل في الجملة الثانية على الوجه الذي أتى به ذكرا له تعالى كان أمر الإرادة أقرب وهذا الوجه لا يخلو عن حسن. وكلمة قَدْ لما أنه عند الإخبار بسوء حال المتجنب عن الذكر في الآخرة يتوقع السامع الإخبار بحسن حال المتذكر فيها. ولا يبعد أن تكون الجملة مستأنفة استئنافا جوابا لسؤال نشأ عن بيان حال المتجنب والسكوت عن حال المتذكر الذي يخشى فكأنه قيل: ما حال من تذكر؟ فقيل قَدْ أَفْلَحَ إلى آخره وكان الظاهر قد أفلح من تذكر إلا أنه وضع مَنْ تَزَكَّى إلى آخره موضع من تذكر إشارة إلى بيان المتذكر بسماته. وقوله تعالى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا إضراب عن مقدر ينساق إليه الكلام كأنه قيل إثر بيان ما يؤدي إلى الفلاح لا تفعلون ذلك بَلْ تُؤْثِرُونَ إلخ ولعله مراد من قال إنه إضراب عن قَدْ أَفْلَحَ إلخ وقيل إضراب عن بيان حال المتذكر والمتجنب إلى بيان أنه لا ينفع هذا البيان وأضعافه المتمردين على وجه يتضمن بيان سبب عدم النفع وهو إيثار الحياة الدنيا، والخطاب على هذا للكفرة الأشقين من أهل مكة وعلى الأول يحتمل أن يكون لهم فالمراد بإيثار الحياة الدنيا هو الرضاء والاطمئنان بها والإعراض عن الآخرة بالكلية كما في قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها [يونس: 7] الآية ويحتمل أن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 322 يكون لجميع الناس على سبيل التغليب فالمراد بإيثارها إنما هو أعم مما ذكر وما لا يخلو عنه الناس غالبا من ترجيح جانب الدنيا على الآخرة في السعي وترتيب المبادئ. وعن ابن مسعود ما يقتضيه والالتفات على الأول لتشديد التوبيخ وعلى الثاني. كذلك في حق الكفرة ولتشديد العتاب في حق المسلمين، وقيل لا التفات لأنه بتقدير قل. وقرأ عبد الله وأبو رجاء والحسن والجحدري وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو عمرو والزعفراني وابن مقسم «يؤثرون» بياء الغيبة وقوله تعالى وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى حال من فاعل تؤثرون مؤكدة للتوبيخ والعتاب أي تؤثرونها على الآخرة والحال أن الآخرة خير في نفسها لما أن نعيمها مع كونه في غاية ما يكون من اللذة خالص عن شائبة الغائلة أبدي لا انصرام له، وعدم التعرض لبيان تكدر نعيم الدنيا بالمنغصات وانقطاعه عما قليل لغاية الظهور إِنَّ هذا إشارة على ما أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد إلى قوله تعالى وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى وروي ذلك عن قتادة. وقال غير واحد: إشارة إلى ما ذكر من قوله سبحانه قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى إلخ وسيأتي إن شاء الله تعالى في الحديث ما يشهد له. وقال الضحاك: إشارة إلى القرآن فالآية كقوله تعالى وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [الشعراء: 196] وعن ابن عباس وعكرمة والسدّي إشارة إلى ما تضمنته السور جميعا وفيه بعد لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى أي ثابت فيها معناه. وقرأ الأعمش وهارون وعصمة كلاهما عن أبي عمرو بسكون الحاء وكذا فيما بعد وهي لغة تميم على ما في اللوامح صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى بدل من الصُّحُفِ الْأُولى وفي إبهامها ووصفها بالقدم ثم بيانها وتفسيرها من تفخيم شأنها ما لا يخفى، وكانت صحف إبراهيم عشرة وكذا موسى صحف عليه السلام، والمراد بها ما عدا التوراة أخرج عبد بن حميد وابن مردويه وابن عساكر عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله كم أنزل الله تعالى من كتاب؟ قال: «مائة كتاب وأربعة كتب، أنزل على شيث خمسين صحيفة، وعلى إدريس ثلاثين صحيفة، وعلى إبراهيم عشر صحائف، وعلى موسى قبل التوراة عشر صحائف، وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان» . قلت: يا رسول الله فما كانت صحف إبراهيم؟ قال: «أمثال كلها أيها الملك المتسلط على المبتلى المغرور لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها إلى بعض ولكن بعثتك لترد عني دعوة المظلوم فإني لا أردها ولو كانت من كافر، وعلى العاقل ما لم يكن مغلوبا على عقله أن يكون له ثلاث ساعات ساعة يناجي فيها ربه وساعة يحاسب فيها نفسه ويتذكر فيما صنع وساعة يخلو فيها لحاجته من الحلال فإن في هذه الساعة عونا لتلك الساعات واجتماعا للقلوب وتفريغا لها، وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه مقبلا على شأنه حافظا للسانه فإن من حسب كلامه من عمله أقل الكلام إلّا فيما يعنيه، وعلى العاقل أن يكون طالبا لثلاث مرمة لمعاش أو تزود لمعاد أو تلذذ في غير محرم» . قلت: يا رسول الله فما كانت صحف موسى؟ قال: «كانت عبرا كلها: عجبت لمن أيقن بالموت ثم يفرح، ولمن أيقن بالنار ثم يضحك، ولمن يرى الدنيا وتقلبها بأهلها ثم يطمئن إليها، ولمن أبقى بالقدر ثم يغضب ولمن أيقن بالحساب ثم لا يعمل» . قلت يا رسول الله هل أنزل عليك شيء مما كان في صحف إبراهيم وموسى؟ قال: «يا أبا ذر نعم قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى» والله تعالى أعلم بصحة الحديث. وقرأ أبو رجاء «إبرهم» بحذف الألف والياء وبالهاء مفتوحة ومكسورة وعبد الرحمن ابن أبي بكرة بكسرها لا غير. وقرأ أبو موسى الأشعري وابن الزبير «ابراهام» بألفين في كل القرآن. وقرأ مالك بن دينار «ابراهم» بألف وفتح الهاء وبغير ياء. وجاء كما قال ابن خالويه «إبرهم» بضم الهاء بلا ألف ولا ياء وهذا من تصرفات العرب في الأسماء الأعجمية فإن إبراهيم على الصحيح منها. وحكى الكرماني في عجائبه أنه اسم عربي مشتق من البرهمة وهي شدة النظر ونسبه قد تقدم وكذا نسب موسى صلّى الله عليه وسلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 323 سورة الغاشية مكية بلا خلاف وعدة آياتها ست وعشرون كذلك وكان صلّى الله عليه وسلم كما أخرج مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن النعمان بن بشير يقرؤها في الجمعة مع سورتها ولما أشار سبحانه فيما قبل إلى المؤمن والكافر والجنة والنار إجمالا بسط الكلام هاهنا فقال عز قائلا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ قيل هَلْ بمعنى قد وهو ظاهر كلام قطرب حيث قال: أي قد جاءك يا محمد حديث الغاشية، والمختار أنه للاستفهام وهو استفهام أريد به التعجيب مما في حيّزه والتشويق إلى استماعه والإشعار بأنه من الأحاديث البديعة التي حقها أن تتناقلها الرواة ويتنافس في تلقنها الوعاة. وأخرج ابن أبي حاتم عن عمرو بن ميمون قال: مر النبي صلّى الله عليه وسلم على امرأة تقرأ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ فقام عليه الصلاة والسلام يستمع ويقول: «نعم قد جاءني» والْغاشِيَةِ القيامة كما قال سفيان. والجمهور وأطلق عليها ذلك لأنها تغشى الناس بشدائدها وتكتنفهم بأهوالها. وقال محمد بن كعب وابن جبير: هي النار من قوله تعالى وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [ابراهيم: 50] وقوله سبحانه وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ [الأعراف: 41] وليس بذاك فإن ما سيرى من حديثها ليس مختصا بالنار وأهلها بل ناطق بأحوال أهل الجنة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 324 أيضا وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ المرفوع مبتدأ وجاز الابتداء به وإن كان نكرة لوقوعه في موضع التنويع، وقيل لأن تقدير الكلام أصحاب وجوه والخبر ما بعد والظرف متعلق به والتنوين عوض عن جملة أشعرت بها الْغاشِيَةِ أي يوم إذا غشيت. والجملة إلى قوله تعالى مَبْثُوثَةٌ استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ من الاستفهام التشويقي كأن قيل من جهته عليه الصلاة والسلام ما أتاني حديثها ما هو؟ فقيل وُجُوهٌ إلخ. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: لم يكن أتاه صلّى الله عليه وسلم حديثها فأخبره سبحانه عنها فقال جل وعلا وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ والمراد بخاشعة ذليلة ولم توصف بالذل ابتداء لما في وصفها بالخشوع من الإشارة إلى التهكم وإنها لم تخشع في وقت ينفع فيه الخشوع، وكذا حال وصفها بالعمل في قوله سبحانه عامِلَةٌ على ما قيل وهو وقوله تعالى ناصِبَةٌ خبران آخران لوجوه إذ المراد بها أصحابها وفي ذلك الاحتمالات أخر ستأتي إن شاء الله تعالى أي عاملة في ذلك اليوم تعبة فيه، وذلك في النار على ما روي عن ابن عباس والحسن وابن جبير وقتادة، وعملها فيها على ما قيل جر السلاسل والأغلال والخوض فيها خوض الإبل في الوحل والصعود والهبوط في تلالها ووهادها وذلك جزاء التكبر عن العمل وطاعة الله تعالى في الدنيا وعن زيد بن أسلم أنه قال: أي عامِلَةٌ في الدنيا ناصِبَةٌ فيها لأنها على غير هدى فلا ثمرة لها إلّا النّصب وخاتمته النار وجاء ذلك في رواية أخرى عن ابن عباس وابن جبير أيضا. والظاهر أن الخشوع عند هؤلاء باق على كونه في الآخرة وعليه فيومئذ لا تعلق له بالوصفين معنى بل متعلقهما في الدنيا ولا يخفى ما في هذا الوجه من البعد وظهور أن العمل لا يكون في الآخرة بعد تسليمه لا يجدي نفعا في دفع بعده. وقال عكرمة عامِلَةٌ في الدنيا ناصِبَةٌ يوم القيامة والظاهر أن الخشوع على ما مر ولا يخفى ما في جعل المحاط باستقبالين ماضويا من البعد، وقيل: الأوصاف الثلاثة في الدنيا والكلام على منوال: إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة أي ظهر لهم يومئذ أنها كانت خاشعة عاملة ناصبة في الدنيا من غير نفع وأما قبل ذلك اليوم فكانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعا وهؤلاء النساك من اليهود والنصارى كما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس ويشمل غيرهم مما شاكلهم من نساك أهل الضلال وهذا الوجه أبعد من أخويه. وقوله تعالى تَصْلى ناراً حامِيَةً متناهية في الحر من حميت النار إذا اشتد حرها خبر آخر ل وُجُوهٌ وقيل خاشِعَةٌ صفة لها وما بعد أخبار، وقيل: الأولان صفتان والأخيران خبران، وقيل: الثلاثة الأول صفات وهذه الجملة هي الخبر والكل كما ترى. وجوز أن يكون هذا وما بعده من الجملتين استئنافا مبينا لتفاصيل أحوالها. وقرأ ابن كثير في رواية شبل وحميد وابن محيصن «عاملة ناصبة» بالنصب على الذم. وقرأ أبو رجاء وابن محيصن ويعقوب وأبو عمرو وأبو بكر «تصلى» بضم التاء وقرأ خارجة «تصلّى» بضم التاء وفتح الصاد مشدد اللام للمبالغة تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ بلغت اناها أي غايتها في الحر فهي متناهية فيه كما في قوله تعالى وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن: 44] وهو التفسير المشهور. وقد روي عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقال ابن زيد أي حاضرة لهم من قولهم أنى الشيء حضر وليس بذاك لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ بيان لطعامهم إثر بيان شرابهم، والضريع كما أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس الشبرق اليابس وهي على ما قاله عكرمة شجرة ذات شوك لاطئة بالأرض. وقال غير واحد: هو جنس من الشوك ترعاه الإبل رطبا فإذا يبس تحامته وهو سم قاتل. قال أبو ذؤيب: رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى ... وصار ضريعا بان عنه النحائص الجزء: 15 ¦ الصفحة: 325 وقال ابن غرارة الهذلي يذكر إبلا وسوء مرعى: وحبسن في هزم الضريع فكلها ... حدباء دامية اليدين حرود وقال بعض اللغويين: الضريع يبيس العرفج إذا انحطم. وقال الزجاج: نبت كالعوسج. وقال الخليل: نبت أخضر منتن الريح يرمي به البحر. والظاهر أن المراد ما هو ضريع حقيقة وقيل هو شجرة نارية تشبه الضريع وأنت تعلم أنه لا يعجز الله تعالى الذي أخرج من الشجر الأخضر نارا أن ينبت في النار شجر الضريع. نعم يؤيد ما قيل ما حكاه في البحور الزاخرة عن البغوي عن ابن عباس يرفعه: «الضريع شيء في النار شبه الشوك أمرّ من الصبر، وأنتن من الجيفة، وأشد حرا من النار» فإن صح فذاك. وقال ابن كيسان: هو طعام يضرعون عنده ويذلون ويتضرعون إلى الله تعالى طلبا للخلاص منه فسمي بذلك وعليه يحتمل أن يكون شجرا وغيره. وعن الحسن وجماعة أنه الزقوم. وعن ابن جبير أنه حجارة في النار، وقيل: هو واد في جهنم أي ليس لهم طعام إلّا من ذلك الموضع، ولعله هو الموضع الذي يسيل إليه صديد أهل النار وهو الغسلين وعليه يكون التوفيق بين هذا الحصر والحصر في قوله تعالى وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ [الحاقة: 36] ظاهرا بأن يكون طعامهم من ذلك الوادي هو الغسلين الذي يسيل إليه، وكذا إذا أريد به ما قاله ابن كيسان واتحد به وقد يتحد بهما عليه أيضا الزقوم واتحاده بالضريع على القول بأنه شجرة قريب. وقيل في التوفيق إن الضريع مجازا أو كناية أريد به طعام مكروه حتى للإبل وغيرها من الحيوانات التي تلتذ رعي الشوك فلا ينافي كونه زقوما أو غسلينا، وقيل: إنه أريد أن لا طعام لهم أصلا لأن الضريع ليس بطعام للبهائم فضلا عن الناس كما يقال: ليس لفلان إلّا ظل إلّا الشمس أي لا ظل له وعليه يحمل قوله تعالى وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ وقوله تعالى إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ [الدخان: 43، 44] فلا مخالفة أصلا. وقيل: إن الغسلين وهو الصديد في القدرة الإلهية أن تجعله على هيئة الضريع والزقوم فطعامهم الغسلين والزقوم اللذان هما الضريع ولا يخفى تعسفه على الرضيع. وقد يقال في التوفيق على القول بأن الثلاثة متغايرة بالذات أن العذاب ألوان والمعذبون طبقات فمنهم أكلة الزقوم، ومنهم أكلة الغسلين، ومنهم أكلة الضريع لكل باب منهم جزء مقسوم لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ إما في محل جر صفة لضريع والمعنى أن طعامهم من شيء ليس من مطاعم الإنس وإنما هو شوك والشوك مما ترعاه الإبل وتتولع به وهذا نوع منه تنفر عنه ولا تقربه ومنفعتا الغذاء منفيتان عنه وهما إماطة الجوع وإفادة القوة والسمن في البدن، وإن شئت فقل إنه من شيء مكروه يضرع عنده ويتضرع إلى الله تعالى ويطلب منه سبحانه الخلاص عنه وليس فيه منفعتا الغذاء أصلا، وإما في محل رفع صفة لطعام المقدر إذ التقدير ليس لهم طعام إلّا طعام من ضريع. والمعنى قريب مما ذكر ولا يجوز كونه صفة للمذكور إذ لا يدل حينئذ على أن طعامهم منحصر في الضريع بل يدل على أن ما لا يسمن ولا يغني من طعامهم منحصر فيه ويفسد المعنى. وأما لا محل له من الإعراب على أنه مستأنف والأول أظهر. ويروى أن كفار قريش قالوا لما سمعوا صدر الآية: إن الضريع لتسمن عليه إبلنا. فنزلت لا يُسْمِنُ إلخ. قيل: فلا يخلو إما أن يتكذبوا أو يتعنتوا بذلك وهو الظاهر فيرد قولهم بنفي السمن والشبع وإما أن يصدقوا فيكون المعنى أن طعامهم من ضريع ليس من جنس ضريعكم إنما هو غير مسمن ولا مغن من جوع. وعلى الأول هو صفة مؤكدة ردا لما زعموه لا كاشفة إذ لا خفاء وعلى الثاني هو صفة مخصصة وأيّا ما كان فتنكير الجوع للتحقير أي لا يغني من جوع ما، وتأخير نفي الإغناء عنه لمراعاة الفواصل والتوسل به إلى التصريح بنفي كلا الأمرين إذ لو قدم لما احتيج إلى ذكر نفي الاسمان ضرورة استلزام الجزء: 15 ¦ الصفحة: 326 نفي الإغناء عن الجوع إياه ولذلك كرر لا لتأكيد النفي. وفي الإرشاد إن نفي الأمرين عنه ليس على أن لهم استعدادا للشبع والسمن إلّا أنه لا يفيد شيئا منهما بل على أنه لا استعداد من جهتهم ولا إفادة من جهته، وتحقيق ذلك أن جوعهم وعطشهم ليسا من قبيل ما هو المعهود منهما في هذه النشأة من حالة عارضة للإنسان عند استدعاء الطبيعة لبدل ما يتحلل من البدن مشوقة له إلى المطعوم والمشروب بحيث يلتذ بهما عند الأكل والشرب ويستغنى بهما عن غيرهما عند استقرارهما في المعدة ويستفيد منهما قوة وسمنا عند انهضامهما بل جوعهم عبارة عن اضطرارهم عند اضطرام النار في أحشائهم إلى إدخال شيء كثيف يملؤها ويخرج ما فيها من اللهب، وأما أن يكون لهم شوق إلى مطعوم ما والتذاذ به عند الأكل واستغناء به عن الغير واستفادة قوة فهيهات. وكذا عطشهم عبارة عن اضطرارهم عند أكل الضريع والتهابه في بطونهم إلى شيء مائع بارد ليطفئوه من غير أن يكون لهم التلذذ بشربه أو استفادة قوة به في الجملة وهو المعنى بما روي أنه تعالى يسلط عليهم الجوع بحيث يضطرون إلى أكل الضريع، فإذا أكلوه سلّط عليهم العطش فاضطروا إلى شرب الحميم فيشوي وجوههم ويقطع أمعاءهم أعاذنا الله تعالى وسائر المسلمين من ذلك انتهى. وهو خلاف الظاهر ومثله لا يقال عن الرأي وليس له فيما وقفنا عليه مستند يؤول لأجله الظواهر، فالحق أن لهم جوعا وعطشا وشهوة إلى الطعام والشراب كما أن للجائع والعطشان في الدنيا شهوة إليهما لكنهما لهم هناك قد بلغا الغاية بتسليط الله تعالى عز وجل بدون سبب عادي على نحو ما في الدنيا فيضطرون لذلك إلى الضريع والحميم كما يضطر من أفرط فيه الجوع والعطش في الدنيا إلى تناول الكريه البشع من المطعوم والمشروب لكنهم لا ينتفعون بما يتناولونه بل يزدادون به عذابا فوق العذاب. نسأل الله تعالى العفو والعافية بمنه وكرمه. وقوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ شروع في رواية حديث أهل الجنة وتقديم حكاية أهل النار لأنه أدخل في تهويل الغاشية وتفخيم حديثها ولأن حكاية حسن حال أهل الجنة بعد حكاية سوء حال أهل النار مما يزيد المحكي حسنا وبهجة، والكلام في إعرابه نظير ما تقدم وإنما لم تعطف هذه الجملة على تلك الجملة إيذانا بكمال تباين مضمونيهما. والناعمة إما من النعومة وكنى بها عن البهجة وحسن المنظر أي وجوه يومئذ ذات بهجة وحسن كقوله تعالى تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين: 24] أو من النعيم أي وجوه يومئذ متنعمة لِسَعْيِها أي لعملها الذي عملته في دار الدنيا وهو متعلق بقوله تعالى راضِيَةٌ والتقديم للاعتناء مع رعاية الفاصلة واللام ليست للتعليل بل مثلها في رضيت بكذا، فكأنه قيل راضية بسعيها. وذكر بعض المحققين أنها مقوية لتعدي الوصف بنفسه ولذا قال سفيان في ذلك كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم: رضيت عملها ورضاها به كناية أو مجاز عن أنه محمود العاقبة مجازى عليه أعظم الجزاء وأحسنه. وقيل في الكلام مضاف مقدر أي لثواب سعيها راضية وجوز كون اللام للتعليل أي لأجل سعيها في طاعة الله تعالى راضية حيث أوتيت وما أتيت من الخير وليس بذاك فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ مرتفعة المحل أو علية القدر فالعلو إما حسّي أو معنوي وجمع أبو حيان بينهما لا تَسْمَعُ خطاب لكل من يصلح للخطاب أو هو مسند إلى ضمير الغائبة المؤنثة وهو راجع للوجوه على أن المراد بها أصحابها أو الإسناد مجازي وكذا يقال فيما قبل وأشار بعض إلى أن في الآية صنعة الاستخدام اختيارا لأن المراد بالوجوه أولا حقيقتها وعند إرجاع الضمير إليها ثانيا أصحابها فهم الذين لا يسمعون فِيها لاغِيَةً أي لغوا فهي مصدر بمعناه ويجوز كونها صفة كلمة محذوفة على أنها للنسب أي كلمة ذات لغو، وجوز على تقدير كونها صفة كون الإسناد مجازيا لأن الكلمة ملغو بها الجزء: 15 ¦ الصفحة: 327 لا لاغية، ويجوز أن تكون صفة نفس محذوفة أي لا تسمع فيها نفسا لاغية وجعلها مسموعة لوصفها بما يسمع كما تقول: سمعت زيدا يقول كذا، وجوز أن يكون ذلك على المجاز في الإسناد أيضا. وقرأ الأعرج وأهل مكة والمدينة ونافع وابن كثير وأبو عمرو بخلاف عنهم «لا تسمع» بتاء التأنيث مبنيا للمفعول «لاغية» بالرفع وابن محيصن وعيسى وابن كثير وأبو عمرو كذلك إلّا أنهم قرؤوا بالياء التحتية لأن التأنيث مجازي مع وجود الفاصل والجحدري كذلك إلّا أنه نصب «لاغية» على معنى لا يسمع فيها أي أحد لاغية من قولك أسمعت زيدا فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ قيل يجري ماؤها ولا ينقطع وعدم الانقطاع إما من وصف العين لأنها الماء الجاري فوصفها بالجريان يدل على المبالغة كما في ناراً حامِيَةً وإما من اسم الفاعل فإنه للاستمرار بقرينة المقام والتنكير للتعظيم واختار الزمخشري كونه للتكثير كما في عَلِمَتْ نَفْسٌ [التكوير: 14، الانفطار: 5] أي عيون كثيرة تجري مياهها فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ رفيعة السمك أو المقدار وقيل مخبوءة من رفعت لك كذا أي خبأته وَأَكْوابٌ وقداح لا عرا لها مَوْضُوعَةٌ أي بين أيديهم وقيل على حافات العيون وجوز أن يراد موضوعة عن حد الكبار أوساط بين الصغر والكبر كقوله تعالى قَدَّرُوها تَقْدِيراً [الإنسان: 16] ولا يخفى بعده وَنَمارِقُ ووسائد قال زهير: كهولا وشبانا حسانا وجوههم ... على سرر مصفوفة ونمارق جمع نمرقة بضم النون والراء وبكسرهما وفتحهما وبغير هاء مَصْفُوفَةٌ صف بعضها إلى جنب بعض للاستناد إليها والاتكاء عليها. وقال الكلبي: وسائد موضوعة بعضها إلى جنب بعض كالشيء الذي جعل صفا أينما أراد أن يجلس المؤمن جلس على واحدة واستند إلى أخرى وعلى رأسه وصائف كأنهن الياقوت والمرجان وَزَرابِيُّ وبسط فاخرة كما قال غير واحد وقال الفرّاء: هي الطنافس التي لها خمل رقيق. وقال الراغب: إنها في الأصل ثياب محبرة منسوبة إلى موضع ثم استعيرت للبسط واحدها زربية مثلثة الزاي ولم يفرق في الصحاح بين الزرابي والنمارق، والظاهر الفرق. نعم قيل قد جاء نمارق بمعنى الزرابي ومنه: نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق لظهور أن الوسائد لا يمشى عليها عادة مَبْثُوثَةٌ مبسوطة أو مفرقة في المجالس أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ استئناف مسوق لتقرير ما فصل من حديث الغاشية وما هو مبني عليه من البعث الذي هم فيه مختلفون بالاستشهاد عليه بما لا يستطيعون إنكاره. وأخرج عبد بن حميد وغيره عن قتادة قال: لما نعت الله تعالى ما في الجنة عجب من ذلك أهل الضلالة فأنزل سبحانه وتعالى أَفَلا يَنْظُرُونَ إلخ ويرجع هذا في الآخرة إلى إنكار. البعث كما لا يخفى والهمزة للإنكار والتوبيخ والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام، وكلمة كَيْفَ منصوبة بما بعدها على أنها حال من مرفوع خُلِقَتْ كما في قوله تعالى كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ [البقرة: 28] معلقة لفعل النظر والجملة بدل اشتمال من الإبل وقد تبدل الجملة وفيها الاستفهام من الاسم الذي قبلها كقولهم عرفت زيدا أبو من هو على أصح الأقوال على أن العرب قد أدخلت إلى على كيف بلا واسطة إبدال كما أدخلت عليها على فحكي عنهم أنهم قالوا: انظر إلى كيف يصنع كما حكي عنهم أنهم قالوا على كيف تبيع الأحمرين. وذكر أبو حيان في البحر والتذكرة وغيرهما أنه إذا علق الفعل عما فيه الاستفهام لم يبق الاستفهام على حقيقته. وقيل كيف بدل من الإبل وتعقبه في المغني بما في بعضه نظر، وجوز في مجمع البيان كونها في موضع نصب على المصدر وهو كما ترى والإبل يقع على البعران الكثيرة ولا واحد له من الجزء: 15 ¦ الصفحة: 328 لفظه وهو مؤنث ولذا إذا صغر دخلته التاء فقالوا أبيلة وقالوا في الجمع آبال وقد اشتقوا من لفظه، فقالوا: أبل وتأبل الرجل وتعجبوا من هذا الفعل على غير قياس فقالوا: ما آبل زيدا ولم يحفظ سيبويه فيما قيل اسما جاء على فعل بكسر الفاء والعين وغير ابل أي أينكرون ما أشير إليه من البعث وأحكامه ويستبعدون وقوعه من قدرة الله عز وجل فلا ينظرون إلى الإبل التي هي نصب أعينهم يستعملونها كل حين كيف خلقت خلقا بديعا معدولا به عن سنن خلق أكثر أنواع الحيوانات في عظم جثتها وشدة قوتها وعجيب هيئاتها اللائقة بتأتّي ما يصدر عنها من الأفاعيل الشاقة كالنوء بالأوقار الثقيلة وهي باركة وإيصالها الأثقال الفادحة إلى الأقطار النازحة وفي صبرها على الجوع والعطش حتى إن ظمأها ليبلغ العشر بكسر فسكون وهو ثمانية أيام بين الوردين وربما يجوز ذلك وتسمى حينئذ الحوازي بالحاء المهملة والزاي واكتفائها بالسير ورعيها لكل ما يتيسر من شوك وشجر وغير ذلك مما لا يكاد يرعاه سائر البهائم، وفي انقيادها مع ذلك للإنسان في الحركة والسكون والبروك والنهوض حيث يستعملها في ذلك كيف يشاء ويقتادها بقطارها كل صغير وكبير، وفي تأثرها بالصوت الحسن على غلظ أكبادها إلى غير ذلك، وخصت بالذكر لأنها أعجب ما عند العرب من الحيوانات التي هي أشرف المركبات وأكثرها صنعا ولهم على أحوالها أتم وقوف. وعن الحسن أنها خصت بالذكر لانها تأكل النوى والقتّ وتخرج اللبن، وقيل له الفيل أعظم في الأعجوبة، فقال: العرب بعيدة العهد بالفيل ثم هو خنزير لا يؤكل لحمه ولا يركب ظهره أي على نحو ما يركب ظهر البعير من غير مشقة في تربيضه ولا يحلب دره. وقال أبو العباس المبرد: الإبل هنا السحاب لأن العرب قد تسميها بذلك إذ تأتي أرسالا كالإبل وتزجى كما تزجى الإبل وهي في هيئاتها أحيانا تشبه الإبل يعني أن إرادته منها هنا على طريق التشبيه والمجاز وكأنه كما قال الزمخشري لم يدع القائل بذلك إلّا طلب المناسبة بين المتعاطفات على ما يقتضيه قانون البلاغة وهي حاصلة مع بقاء الإبل في عطنها. قال الإمام: التناسب فيها أن الكلام مع العرب وهم أهل أسفار على الإبل في البراري فربما انفردوا فيها والمنفرد يتفكر لعدم رفيق يحادثه وشاغل يشغله فيتفكر فيما يقع عليه طرفه فإذا نظر لما معه رأى الإبل، وإذا نظر لما فوقه رأى السماء، وإذا نظر يمينا وشمالا رأى الجبال، وإذا نظر لأسفل رأى الأرض فأمر بالنظر في خلوته لما يتعلق به النظر من هذه الأمور فبينها مناسبة بهذا الاعتبار. وقال عصام الدين: إن خيال العرب جامع بين الأربعة لأن ما لهم النفيس الإبل ومدار السقي لهم على السماء ورعيهم في الأرض وحفظ مالهم بالجبال، وما ألطف ذكر الإبل بعد ذكر الضريع فإن خطورها بعده على طرف الثمام، وإذا صح ما روي من كلام قريش عند نزول تلك الآية كان ذكرها ألطف وألطف. وقرأ الأصمعي عن أبي عمرو «إلى الإبل» بسكون الباء وقرأ علي كرّم الله تعالى وجه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما «إبلّ» بتشديد اللام ورويت عن أبي عمرو وأبي جعفر والكسائي وقالوا: إنها السحاب عن قوم من أهل اللغة. وَإِلَى السَّماءِ التي يشاهدونها ليلا ونهارا كَيْفَ رُفِعَتْ رفعا سحيق المدى بلا عماد ولا مساك بحيث لا يناله الفهم والإدراك وَإِلَى الْجِبالِ التي ينزلون في أقطارها وينتفعون بمائها وأشجارها كَيْفَ نُصِبَتْ وضعت وضعا ثابتا يتأتى معه ارتقاؤها فلا تميل ولا تميد ويمكن الرقي إلى دارها وَإِلَى الْأَرْضِ التي يضربون فيها ويتقلبون عليها كَيْفَ سُطِحَتْ سفحا بتوطئة وتمهيد وتسوية وتوطيد حسبما يقتضيه صلاح أمور أهلها ولا ينافي ذلك القول بأنها قريبة من الكرة الحقيقية لمكان عظمها. وقرأ عليّ كرم الله تعالى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 329 وجهه وأبو حيوة وابن أبي عبلة «خلقت» «رفعت» «نصبت» «سطحت» بتا المتكلم مبنيا للفاعل والمفعول ضمير محذوف وهو العائد إلى المبدل منه بدل اشتمال أي خلقتها رفعتها نصبتها سطحتها. وقرأ الحسن وهارون الرشيد سُطِحَتْ بتشديد الطاء والمعنى أفلا ينظرون نظر التدبر والاعتبار إلى كيفية خلق هذه المخلوقات الشاهدة بحقية البعث والنشور ليرجعوا عما هم عليه من الإنكار والنفور ويسمعوا إنذارك ويستعدوا للقائه بالإيمان والطاعة. وجوز أن يحمل النظر على الإبصار ويكون فيه دعوى ظهور المطلوب بحيث يظهر بمجرد إبصار هذه المخلوقات وهو خلاف الظاهر. والفاء في قوله تعالى فَذَكِّرْ لترتيب الأمر بالتذكير على ما ينبىء عنه الإنكار السابق من عدم النظر أي فاقتصر على التذكير ولا تلح عليهم ولا يهمنك أنهم لا ينظرون ولا يتذكرون. وقوله تعالى إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ تعليل للأمر. وقوله سبحانه لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ تقرير له وتحقيق لمعنى الإنذار أي لست بمتسلط عليهم تجبرهم على ما تريد كقوله تعالى وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ [ق: 45] وقرأ الجمهور «بمصيطر» بالصاد وكسر الطاء والأصل السين والصاد بدل منه فإنه من السطر بمعنى التسلط يقال: سطر عليه إذا تسلط وقرأ حمزة في رواية بإشمام الصاد زايا وهارون بفتح الطاء وهي لغة تميم وسيطر متعد عندهم ويدل عليه قولهم تسيطر لمكان المطاوعة. وقوله تعالى إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ قيل استثناء منقطع وإِلَّا فيه بمعنى لكن ومَنْ موصولة مبتدأ وما بعدها صلة والعائد الضمير المستتر فيه. وقوله سبحانه فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ خبر المبتدأ والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط نحو: الذي يأتيني فله درهم، وجعل من شرطية يبعده وجود الفاء فيما يصلح لجوابيتها بدونها وتقدير فهو يعذبه تكلف مستغنى عنه وأيّا ما كان فمن المنقطع ما يقع بعد إلّا فيه جملة أي لكن من أعرض وأقام على الكفر منهم يعذبه الله تعالى العذاب الأكبر وهذا عذاب الآخرة في النار فإنه الأكبر وعذاب الدنيا بالنسبة إليه أصغر. وجعل الزمخشري الانقطاع على معنى لست بمستول عليهم لكن من تولى وكفر منهم فإن لله تعالى الولاية عليه والقهر فيعذبه في نار جهنم ولم يجعل على ما قيل متصلا لأنه يلزم عليه كونه صلّى الله عليه وسلم مستوليا على من تولى وقد حصرت الولاية به تعالى، وجوز اتصاله بأن يكون من ضمير عَلَيْهِمْ فيكون من في محل جر تابعا له وتسلطه صلّى الله عليه وسلم على المتولي باعتبار جهاده وقتله الذي وعد به عليه الصلاة والسلام ولا ينافي حصر الولاية به تعالى لأنه بأمره عز وجل فكأنه قيل: لست عليهم بمسيطر إلّا على من تولى وأقام على الكفر فإنك متسلط عليه بما يؤذن لك من جهاده وقتله وسبيه وأسره وبعده ذلك يعذبه الله تعالى في جهنم، فيكون في الآية إيعاد لهم بالجهاد في الدنيا وعذاب النار في الآخرة. وجوز أن يكون إيعادا بالجهاد فقط على أن المراد بالعذاب الأكبر القتل وسبي النساء والأولاد وسائر ما يترتب على الجهاد من البلايا فيكون فيه إشارة إلى أن هذه الأمة أكبر عذابهم في الدنيا ذلك لا ما كان في الأمم السابقة من الخسف والمسخ ونحوهما وأقيم فَيُعَذِّبُهُ إلخ مقام فتكون عليه متسلطا إيذانا بأن ذلك من قبله عز وجل حتى كأنه صلّى الله عليه وسلم لا دخل له فيه وقال عصام الدين في كون الاستثناء منقطعا إشكال لأن المستثنى المنقطع هو المذكور بعدا لا غير مخرج عن متعدد قبله لعدم دخوله فيه مخالف له في الحكم وليس من تولى وكفر خارجا عن قوله تعالى عَلَيْهِمْ وليس حكمهم مخالفا له. ثم أجاب بأن الاستثناء المنقطع قد يكون لدفع توهم ناشىء مما سبق من غير أن يخالف المستثنى منه في الحكم فالواجب ذكر حكم له ليعلم أنه ليس حكمه مخالفا لحكم المستثنى منه فكأنه هاهنا لدفع توهم التعذيب فتأمل. وجوز كون الاستثناء متصلا من قوله تعالى فَذَكِّرْ ومَنْ موصولة لا غير والمراد بالعذاب استحقاق العذاب أي فذكر إلا من انقطع طمعك من إيمانه وتولى فاستحق العذاب الأكبر. وقوله إِنَّما أَنْتَ إلخ على هذا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 330 اعتراض ورجح الانقطاع بأن ابن عباس وزيد بن علي وقتادة وزيد بن أسلم قرؤوا «ألا» حرف تنبيه واستفتاح. وقوله تعالى إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ تعليل لتعذيبه تعالى إياهم بالعذاب الأكبر وإياب مصدر آب أي رجع أي إن إلينا رجوعهم بالموت والبعث لا إلى أحد سوانا لا استقلالا ولا اشتراكا، وجمع الضمير فيه وفيما بعده باعتبار معنى من كما أن إفراده فيما سبق باعتبار لفظها. وقرأ أبو جعفر وشيبة «إيّابهم» بتشديد الياء قال البطليوسي في كتاب المثلثات: هذه القراءة تحتمل تأويلين أحدهما أن يكون إيّاب بالتشديد فعالا من أوب على زنة ككذب كذابا وأصله أواب فلم يعتد بالواو الأولى حاجزا لضعفها بالسكون فأبدل من الواو الثانية ياء لانكسار الهمزة فصار في التقدير أويابا ثم قبلت الأولى ياء أيضا لاجتماع ياء وواو وسكون إحداهما، ولأن الواو الأولى إذا لم تمنع من الانقلاب الثانية فهي أجدر بالانقلاب، والثاني أن يكون فيعالا وأصله أيوابا فاعل إعلال سيد وفعله على هذا أيب على وزن فيعل كحوقل حيقالا من الإياب وأصله أيوب فاعل كما ذكرنا، والوجه الأول أقيس لأنهم قالوا في مصدره التأويب والتفعيل مصدر فعل لا فيعل ومع ذلك فقد قالوا هو سريع الأوبة والأيبة فكأنهم آثروا الياء لخفتها انتهى. وقد ذكر هذين الوجهين الزمخشري إلّا أنه في الأول منهما يجوز أن يكون أصله أوابا فعالا من أوب ثم قيل أيوابا كديوان في دوان ثم فعل به ما فعل بأصل سيد، وظاهره أن الواو الأول هي التي قلبت أولا ياء، واعترض بأن المقرر أن الواو الأولى إذا كانت موضوعة على الإدغام وجاء ما قبلها مكسورا لا تقلب ياء لأجل الكسر كما في اخرواط مصدر اخروط وإن ديوانا إذا كان مذكورا للقياس عليه لا للتنظير لا يصلح لذلك لنصهم على شذوذه وكأن البطليوسي عدل إلى ما عدل لذلك. وفي الكشف: لو جعل مصدر فاعل من الأوب فقد جاء فيه فيعال حتى قال بعضهم إن فعالا مخفف عنه لكان أظهر لأن فيعل لا يثبت إلّا بثبت والأول كالمنقاس، ومعنى الفاعلة حينئذ إما المبالغة وإما مسابقة بعضهم بعضا في الأوب وأما جعله فعالا على ما قرر الزمخشري فأبعد إلى آخر كلامه وكونه من فاعل جوزه ابن عطية أيضا لكنه قال: ويصح أن يكون من آوب فيجيء إيوابا سهلت همزته وكان اللازم في الإدغام يردها أوابا لكن استحسنت فيه الياء على غير قياس فاعترضه أبو حيان بأن قوله: وكان اللازم إلخ ليس بصحيح بل اللازم إذا اعتبر الإدغام أن يكون إيابا لأنه قد اجتمعت ياء وهي المبدلة من الهمزة بالتسهيل وواو وهي عين الكلمة وإحداهما ساكنة فتقلب الواو ياء وتدغم فيها الياء فيصير إيابا فلا تغفل. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ في المحشر لا على غيرنا وثُمَّ للتراخي الرتبي لا الزماني فإن الترتيب الزماني بين إيابهم وحسابهم لا بين كون إيابهم إليه تعالى وحسابهم عليه سبحانه فإنهما أمران مستمران. وفي تصدير الجملتين بأن وتقديم خبرها والإتيان بضمير العظمة وعطف الثانية على الأولى بثم المفيدة لبعد منزلة الحساب في الشدة من الإنباء عن غاية السخط الموجب لشديد العذاب ما لا يخفى. وفي الآية رد على كثير من الشيعة حيث زعموا أن حساب الخلائق على الأمير كرّم الله تعالى وجهه واستدلوا على ذلك بما افتروه عليه وعلى أهل بيته رضي الله تعالى عنهم أجمعين من الأخبار ومعنى قوله كرم الله تعالى وجهه: أنا قسيم الجنة والنار إن صح أن الناس من هذه الأمة فريقان فريق معي فهم على هدى وفريق عليّ فهم على ضلال فقسم معي في الجنة وقسم في النار» ولعلهم عنوا أن عليّا كرم الله تعالى وجهه يحاسب الخلائق بأمره عز وجل كما يقول غيرهم بأن الملائكة عليهم السلام يحاسبونهم بأمره جل وعلا وهو معنى لا ينافي الحصر الذي تقتضيه الآية لكنه لم يثبت، وأي خصوصية في الأمير كرم الله تعالى وجهه من بين جميع الأنبياء والمرسلين الجزء: 15 ¦ الصفحة: 331 والملائكة المقربين عليهم الصلاة والسلام أجمعين نقتضيه ولا نقص له كرم الله وجهه في نفي ذلك عنه ويكفيه رضي الله تعالى عنه من ظهور شرفه يوم القيامة أنه يزف إلى الجنة بين النبيّ وإبراهيم عليهما وعليه الصلاة والسلام كما جاء في الحديث إلى غير ذلك مما يظهر في ذلك اليوم والله تعالى أعلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 332 سورة الفجر مكية في قول الجمهور. وقال علي بن أبي طلحة: مدنية وآيها اثنتان وثلاثون آية في الحجازي، وثلاثون في الكوفي والشامي، وتسع وعشرون في البصري. ولما ذكر سبحانه فيما قبلها وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ [الغاشية: 3] ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ [الغاشية: 8] أتبعه تعالى بذكر الطوائف المكذبين من المتجبرين الذين وجوههم خاشعة، وأشار جل شأنه إلى الصنف الآخر الذين وجوههم ناعمة بقوله سبحانه فيها يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ [الفجر: 27] وأيضا فيها مما يتعلق بأمر الغاشية ما فيها. وقال الجلال السيوطي: لم يظهر لي في وجهه ارتباطها سوى أن أولها كالإقسام على صحة ما ختم به السورة التي قبلها أو على ما يتضمنه من الوعد والوعيد هذا مع أن جملة أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ [الفجر: 6] مشابهة لجملة أَفَلا يَنْظُرُونَ [الغاشية: 17] وها كما ترى. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 333 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْفَجْرِ أقسم سبحانه بالفجر كما أقسم عز وجل بالصبح في قوله تعالى وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ [التكوير: 18] فالمراد به الفجر المعروف كما روي عن عليّ كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وابن الزبير وغيرهم رضي الله تعالى عنهم. وقيل: المراد عموده وضوءه الممتد وأصله شق الشيء شقا واسعا، وسمي الصبح فجرا لكونها فاجرا لليل وهو كاذب لا يتعلق به حكم الصوم والصلاة وصادق به يتعلق حكمهما وقد تكلموا في سبب كل بما يطول وتقدم بعض منه، ولعل المراد به هنا الصادق فهو أحرى بالقسم به والمراد عند كثير جنس الفجر لا فجر يوم مخصوص. وعن ابن عباس ومجاهد فجر يوم النحر، وعن عكرمة فجر يوم الجمعة، وعن الضحاك فجر ذي الحجة، وعن مقاتل فجر ليلة جمع. وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي في الشعب عن ابن عباس أنه قال: هو فجر المحرم فجر السنة، وروي نحوه عن قتادة وعن الحبر أيضا أنه النهار كله. وأخرج ابن جرير عنه أيضا أنه قال: يعني صلاة الفجر وروي نحوه عن زيد بن أسلم فهو إما على تقدير مضاف أو على إطلاقه على الصلاة مجازا وهو شائع. وقيل: المراد فجر العيون من الصخور وغيرها وَلَيالٍ عَشْرٍ هن العشر الأولى من الأضحى كما أخرج الحاكم وصححه وجماعة عن ابن عباس، وروي عن ابن الزبير ومسروق ومجاهد وقتادة وعكرمة وغيرهم وأخرج ذلك أحمد والنسائي والحاكم وصححه والبزار وابن جرير وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن جابر يرفعه، ولها من الفضل ما لها. وقد أخرج أحمد والبخاري عن ابن عباس مرفوعا: «ما من أيام فيهن العمل أحب إلى الله عز وجل وأفضل من أيام العشر» قيل: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل جاهد في سبيل الله بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء» وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنهن العشر الأواخر من رمضان. وروي أيضا عن الضحاك بل زعم التبريزي الاتفاق على أنهن هذه العشر وأنه لم يخالف فيه أحد واستدل له بعضهم بالحديث المتفق على صحته. قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا دخل العشر- تعني العشر الأواخر من رمضان- شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله وتعقبه بعضهم بأن ذلك محتمل لأن يحظى عليه الصلاة والسلام بليلة القدر لأنها فيها لا لكونه العشر المرادة هنا. وعن ابن جريج أنهن العشر الأول من رمضان، وعن يمان وجماعة أنهن العشر الأول من المحرم وفيها يوم عاشوراء وقد ورد في فضله ما ورد. أخرج الشيخان وغيرهما عن ابن عباس قال: قدم النبي صلّى الله عليه وسلم المدينة واليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال عليه الصلاة والسلام: «ما هذا اليوم الذي تصومونه» ؟ قالوا: يوم عظيم أنجى الله تعالى فيه موسى وأغرق آل فرعون فيه، فصامه موسى عليه السلام شكرا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فنحن أحق بموسى منكم» فصامه صلّى الله عليه وسلم وأمر بصيامه . وصح في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام أرسل غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة «من كان أصبح صائما فليتمّ يومه، ومن كان أصبح مفطرا فليصم بقية يومه» فكان الصحابة بعد ذلك يصومونه ويصوّمونه صبيانهم الصغار ويذهبون بهم إلى المسجد ويجعلون لهم اللعبة من العهن فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطوه إياها حتى يكون الإفطار . وأخرج أحمد وغيره عن الحبر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «صوموا يوم عاشوراء وخالفوا فيه اليهود وصوموا قبله يوما وبعده يوما» وجاء في الأمر بالتوسعة فيه على العيال عدة أحاديث ضعيفة لكن قال البيهقي هي وإن كانت ضعيفة إذا ضم بعضها إلى بعض أحد قوة وأيّا ما كان فتنكيرها للتفخيم وقل للتبعيض لأنها بعض ليالي السنة أو الشهر والتفخيم أولى. قيل: ولولا قصد ما ذكر كان الجزء: 15 ¦ الصفحة: 334 الظاهر تعريفها كأخواتها لأنها ليال معهودة معينة، وقدر بعضهم على إرادة صلاة الفجر فيما مر مضافا هنا أي وعبادة ليال ويقال نحوه فيما بعد على بعض الأقوال فيه وليس بلازم ولا أثر فيه. وقرأ ابن عباس بالإضافة فضبطه بعضهم وَلَيالٍ عَشْرٍ بلازم دون ياء وبعضهم «وليالي عشر» بالياء وهو القياس والمراد وليالي أيام عشر فحذف الموصوف وهو المعدود وفي مثل ذلك يجوز التاء وتركها في العدد ومنه واتبعه بست من شوال وما حكاه الكسائي ضمنا من الشهر خمسا والمرجح للترك هاهنا وقوعه فاصلة وجوز أن تكون بالإضافة بيانية وهو خلاف الظاهر. وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ هما على ما في حديث جابر المرفوع الذي أشرنا إليه فيما تقدم يوم النحر ويوم عرفة. وقال الطيبي: روينا عن الإمام أحمد والترمذي عن عمران بن حصين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سئل عن الشفع والوتر فقال: «الصلاة بعضها شفع وبعضها وتر» ثم قال: «هذا هو التفسير الذي لا محيد عنه» انتهى. وقد رواه عن عمران أيضا عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه وابن أبي حاتم وصححه، لكن في البحر أن حديث جابر أصح إسنادا من حديث عمران بن حصين ووراء ذلك أقوال كثيرة، فأخرج عبد بن حميد عن الحسن أنه قال: «أقسم ربنا بالعدد كله منه الشفع ومنه الوتر» وأخرج عبد الرزاق عن مجاهد أنه قال «الخلق كله شفع ووتر فأقسم سبحانه بخلقه» وأخرج ابن المنذر وجماعة عنه أنه قال: الله تعالى الوتر وخلقه سبحانه الشفع الذكر والأنثى» وروي نحوه عن أبي صالح ومسروق وقرآ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ [الذاريات: 49] وقيل: المراد شفع تلك الليالي ووترها، وقيل الشفع أيام عاد والوتر لياليها. وقيل: الشفع أبواب الجنة والوتر أبواب النار وقيل غير ذلك. وقد ذكر في كتاب التحرير والتحبير مما قيل فيهما ستا وثلاثين قولا وفي الكشاف: قد أكثروا في الشفع والوتر حتى كادوا يستوعبون أجناس ما يقعان فيه وذلك قليل الطائل جدير بالتلهي عنه. وقال بعض الأفاضل: لا إشعار للفظ الشفع والوتر بتخصيص شيء مما ذكروه وتعيينه بل هو إنما يدل على معنى كلّي متناول لذلك، ولعل من فسّرهما بما فسرهما لم يدع الانحصار فيما فسر به بل أفرد بالذكر من أنواع مدلولهما ما رآه أظهر دلالة على التوحيد أو مدخلا في الدين أو مناسبة لما قبل أو لما بعد أو أكثر منفعة موجبة للشكر أو نحو ذلك من النكات، وإذا ثبت من الشارع عليه الصلاة والسلام تفسيرهما ببعض الوجوه فالظاهر أنه ليس مبنيا على تخصيص المدلول بل وارد على طريق التمثيل بما رأى في تخصيصه بالذكر فائدة معتدا بها فحينئذ يجوز للمفسر أن يحمل اللفظ على بعض آخر من محتملاته لفائدة أخرى انتهى. وهو ميل إلى أن أل فيهما للجنس لا للعهد، والظاهر أن ما تقدم من الحديثين من باب القطع بالتعيين دون التمثيل لكن يشكل أمر التوفيق بينهما حينئذ وإذا صح ما قال في البحر كان المعول عليه حديث جابر رضي الله تعالى عنه والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. وقرأ حمزة والكسائي والأغر عن ابن عباس وأبو رجاء وابن وثاب وقتادة وطلحة والأعمش والحسن بخلاف عنه «والوتر» بكسر الواو وهي لغة تميم والجمهور على فتحها وهي لغة قريش وهما لغتان كالحبر والحبر بمعنى العالم على ما قال صاحب المطلع في الوتر المقابل للشفع وأما في الْوَتْرِ بمعنى الترة أي الحقد فالكسر هو المسموع وحده والأصمعي حكى فيه أيضا اللغتين وقرأ يونس عن أبي عمرو بفتح الواو وكسر التاء وهو إما لغة أو نقل حركة الواو في الوقف لما قبلها. وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ أي يمضي كقوله تعالى وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ [المدثر: 33] واللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ [التكوير: 17] والظاهر أنه مجاز مرسل أو استعارة ووجه الشبه كالنهار وإِذا على ما صرح به العلامة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 335 التفتازاني في التلويح بدل من اللَّيْلِ وخروجها عن الظرفية مما لا بأس به، أو ظرف متعلق بمضاف مقدر وهو العظمة على ما اختاره بعضهم، والإقسام بذلك الوقت أو تقييد العظمة به لما فيه من وضوح الدلالة على كمال القدرة ووفور النعمة أو يسري فيه على ما نقل أبو حيان عن الأخفش وابن قتيبة، كقولهم: صلى المقام أي صلى فيه على أنه تجوز فيه الإسناد بإسناد ما للشيء للزمان كما يسند للمكان، وأيّا ما كان فالمراد بالليل جنسه. وقال مجاهد وعكرمة والكلبي: المراد به ليلة النحر وهي يسري الحاج فيها إلى المزدلفة بعد الإفاضة من عرفات وليس بذاك، والإقسام والتقييد على الوجه الأخير لما في السير في الليل من نعمة الحفظ من حر الشمس وشر قطاع الطريق غالبا وحذفت الياء عند الجمهور وصلا ووقفا من آخر يَسْرِ مع أنها لام مضارع غير مجزوم اكتفاء عنها بالكسرة للتخفيف ولتتوافق رؤوس الآي ولذا وسمت كذلك في المصاحف، ولا ينبغي أن يقال إنها حذفت لسقوطها في خطها فإنه يقتضي أن القراءة باتباع الرسم دون رواية سابقة عليه وهو غير صحيح. وخص نافع وأبو عمرو في رواية هذا الحذف بالوقف لمراعاة الفواصل ولم يحذف مطلقا ابن كثير ويعقوب. وفي تفسير البغوي سئل الأخفش عن علة سقوط ياء يَسْرِ فقال: الليل لا يسري ولكن يسرى فيه وهو تعليل كثيرا ما يسأل عنه لخفائه والجواب أنه أراد أنه لما عدل عن الظاهر في المعنى وغيرهما كان حقه معنى غير لفظه لأن الشيء يجر جنسه لإلفه به: إن الطيور على أمثالها تقع وهذا كما قيل في قوله تعالى ما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [مريم: 28] أنه لما عدل عن باغية أسقطت منه التاء ولم يقل بغية، ومثله من بدائع اللغة العربية ويمكن التعليل بنحوه على تفسير يَسْرِ بيمضي لما فيه من العدول عن الظاهر في المعنى أيضا علمت من أنه مجاز في ذلك. وقرأ أبو الدينار الأعرابي و «الفجر» و «الوتر» و «يسر» بالتنوين في الثلاثة. قال ابن خالويه: هذا كما روي عن بعض العرب أنه وقف على أواخر القوافي بالتنوين وإن كانت أفعالا أو فيها أل نحو قوله: أقلي اللوم عاذل والعتابن ... وقولي إن أصبت لقد أصابن انتهى. وهذا كما قال أبو حيان ذكره النحويون في القوافي المطلقة يعني المحركة إذا لم يترنم الشاعر وهو أحد وجهين للعرب إذا لم يترنموا، والوجه الآخر الوقوف فيقولون: العتاب وأصاب كحالهم إذا وقفوا على الكلمة في النثر، وهذا الأعرابي أجرى الفواصل مجرى الوقف وعاملها معاملة القوافي المطلقة ويسمى هذا التنوين تنوين الترنم ولا اختصاص له بالاسم، ويغلب على ظني أنه قيل يكتب نونا بخلاف أقسام التنوين المختصة بالاسم. وقوله تعالى هَلْ فِي ذلِكَ إلخ تحقيق وتقرير لفخامة الأشياء المذكورة المقسم بها وكونها مستحقة لأن تعظم بالإقسام بها فيدل على تعظيم المقسم عليه وتأكيده من طريق الكناية فذلك إشارة إلى المقسم به وما فيه من معنى البعد لزيارة تعظيمه أي هل فيما ذكر من الأشياء قَسَمٌ أي مقسم به لِذِي حِجْرٍ أي هل يحق عنده أن يقسم به إجلالا وتعظيما، والمراد تحقيق أن الكل كذلك وإنما أوثرت هذه الطريق هضما للحق وإيذانا بظهور الأمر، وهذا كما يقول المتكلم بعد ذكر دليل واضح الدلالة على مدعاة هل دل هذا على ما قلناه. وجوز أن يكون التحقيق أن ذوي الحجر يؤكدون بمثل ذلك المقسم عليه فيدل أيضا على تعظيمه وتأكيده فذلك إشارة إلى المصدر أعني الإقسام هل في إقسامي بتلك الأشياء إقسام لذي حجر مقبول عنده يعتد به ويفعل مثله ويؤكد به المقسم عليه؟ وحاصل الوجهين فيما يرجع إلى تأكيد المقسم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 336 عليه واحد إلّا أن الوجه مختلف كما لا يخفى، ولعل الأول أظهر والحجر العقل لأنه يحجر صاحبه أي يمنعه من التهافت فيما لا ينبغي، كما سمي عقلا ونهية لأنه يعقل وينهى وحصاة من الإحصاء وهو الضبط. وقال الفرّاء: يقال إنه لذو حجر إذا كان قاهرا لنفسه ضابطا لها والمقسم عليه محذوف وهو ليعذبن كما ينبىء عنه قوله تعالى شأنه أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إلخ فإنه استشهاد بعلمه صلّى الله عليه وسلم بما يدل عليه من تعذيب عاد وأضرابهم المشاركين لقومه عليه الصلاة والسلام في الطغيان والفساد على طريقة أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ [البقرة: 258] الآية وقوله سبحانه أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ [الشعراء: 225] وقال أبو حيان: الذي يظهر أنه محذوف يدل عليه ما قبله من آخر سورة [الغاشية: 25، 26] وهو قوله تعالى إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ وتقديره لإيابهم إلينا وحسابهم علينا. وأخرج ابن المنذر عن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قرأ وَالْفَجْرِ- إلى قوله سبحانه- إِذا يَسْرِ فقال: هذا قسم على أن ربك لبالمرصاد وإلى أنه هو المقسم عليه ذهب ابن الأنباري. وعن مقاتل أنه هل في ذلك إلخ وهل بمعنى أن وهو باطل رواية ودراية إذ يبقى عليه قسم بلا مقسم عليه. والمراد بعاد أولاد عاد بن عاص بن أرم بن سام بن نوح عليه السلام قوم هود عليه السلام سموا باسم أبيهم كما سمّي بنو هاشم هاشما وإطلاق الأب على نسله مجاز شائع حتى ألحق بعضه بالحقيقة وقد قيل لأوائلهم عاد الأولى، ولأواخرهم عاد الآخرة. قال عماد الدين بن كثير: كلما ورد في القرآن خبر عاد فالمراد بعاد فيه عاد الأولى إلّا ما في سورة الأحقاف، ويقال لهم أيضا إرم تسمية لهم باسم جدهم والتسمية بالجد شائعة أيضا وهو اسم خاص بالأولى وعليه قول ابن الرقيات: مجدا تليدا بناه أوله ... أدرك عادا وقبلها إرما ونحوه قوله زهير: وآخرين ترى الماذي عدتهم ... من نسج داود أو ما أورثت إرما فقوله تعالى إِرَمَ عطف بيان لعاد للإيذان بأنهم عاد الأولى تجوز أن يكون بدلا، ومنع من الصرف للعلمية والتأنيث باعتبار القبيلة، وصرف عاد باعتبار الحي، وقد يمنع من الصرف باعتبار القبيلة أيضا. وقرأ الضحاك بذلك في إحدى الروايتين عنه ورجح اعتبار الصرف فيه بخفته لسكون وسطه، وقدر بعضهم مضافا في الكلام أي سبط إرم وجعل إرم عليه اسم أمهم وهو قول فيه حكاه في القاموس. ووجه منع الصرف فيه ظاهر، وأبى بعضهم إلّا جعله اسم جدهم ومعنى كونهم سبطه أنهم ولد ولده ولا يظهر على هذا علة منع صرفه ولعل ذلك هو الذي دعا إلى جعله اسم أمهم، لكن رأيت في تعليقات بعض الأفاضل على الحواشي العصامية على تفسير البيضاوي أن إرم إنما منع من الصرف سواء كان اسما للقبيلة أم لجدها للعلمية والعجمة، وقال إنهما موجودتان في عاد أيضا إلا أنه لكونه ثلاثيا ساكن الوسط يجوز فيه الأمران الصرف وعدمه، وزعم أن هذا هو الحق وبكونه اسم القبيلة قال مجاهد وقتادة وابن إسحاق ولا حاجة معه إلى تقدير مضاف، فقوله تعالى ذاتِ الْعِمادِ صفة ل إِرَمَ نفسها والمراد ذات القدود الطوال على تشبيه قاماتهم بالأعمدة، ومنه قولهم رجل معمد وعمدان إذا كان طويلا وروي هذا عن ابن عباس ومجاهد واشتهر أنه كان قد أحدهم اثني عشر ذراعا وأكثر. وفي تفسير الكواشي قالوا: كان طول الطويل منهم أربعمائة ذراع، وكان أحدهم يأخذ الصخرة العظيمة فيقلبها على الحي فيهلكهم. عن قتادة وابن عباس في رواية عطاء المراد ذات الخيام والأعمدة وكانوا سيارة في الربيع، فإذا هاج النبت رجعوا إلى منازلهم. وقال غير واحد: كانوا بدويين أهل عمدة وخيام يسكنونها حلا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 337 وارتحالا. وقيل: المراد ذات الرفعة أو ذات الوقار أو ذات الثبات وطول العمر والكل على الاستعارة. وقوله تعالى الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ صفة أخرى لها أي لم يخلق مثلهم في عظم الأجرام والقوة في بلاد الدنيا، وقد سمعت ما نقل عن الكواشي آنفا وما ذكر فيه من أنه كان أحدهم إلخ. جاء في حديث مرفوع أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن المقدام بن معد يكرب. وقيل: إرم اسم مدينة لهم قال محمد بن كعب هي الإسكندرية. وقال ابن المسيب والمقبري: هي دمشق، وقيل اسم أرضهم وهي بين عمان وحضرموت وهي أرض رمال وأحقاف فقد قال سبحانه وتعالى وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ [الأحقاف: 21] وبهذا اعترض القول بأن مدينتهم الإسكندرية، والقول بأنها دمشق حيث إنهما ليستا من بلاد الأحقاف والرمال إلا أن يقال ما هنا عاد الأولى، وما في آية الأحقاف عاد الآخرة، ويلتزم عدم اتحاد منازلهما. وعلى القول بكونه اسم مدينتهم أو اسم أرضهم فهو بتقدير مضاف لتصحيح التبعية أي أهل إرم. وقيل: يقدر مضاف في جانب المتبوع أي بمدينة أو بأرض عاد إرم وهو كما ترى ومنع الصرف على الوجهين لما سمعت، والأكثرون على أنها اسم مدينة عظيمة في أرض اليمن والوصفان لها، والمراد ذات البناء الرفيع أو ذات الأساطين التي لم يخلق مثلها سعة وحسن بيوت وبساتين في بلاد الدنيا، ويروى أنه كان لعاد ابنان شداد وشديد فملكا وقهرا ثم مات شديد وخلص الأمر لشداد فملك الدنيا ودانت له ملوكها فسمع بذكر الجنة فقال: أبني مثلها فبنى إرم في بعض صحارى عدن في ثلاثمائة سنة وكان عمره تسعمائة سنة وهي مدينة عظيمة قصورها من الذهب والفضة وأساطينها من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الأشجار والأنهار المطردة. ولما تم بناؤها سار إليها بأهل مملكته، فلما كان منها مسيرة يوم وليلة بعث الله تعالى عليهم صيحة من السماء فهلكوا. وعن عبد الله بن قلابة أنه خرج في طلب إبل له فوقع عليها فحمل ما قدر عليه مما ثمّ، وبلغ خبره معاوية فاستحضره فقصّ عليه فبعث إلى كعب فسأله، فقال: هي إرم ذات العماد وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عقبه خال، يخرج في طلب إبل له، ثم التفت فأبصر ابن قلابة، فقال: هذا والله ذلك الرجل. وخبر شداد المذكور أخوه في الضعف بل لم تصح روايته كما ذكره الحافظ ابن حجر فهو موضوع كخبر ابن قلابة. وروي عن مجاهد أن إِرَمَ مصدر أرم يأرم إذا هلك، فأرم بمعنى هلاك منصوب على نحو نصب المصدر التشبيهي مضاف إلى ذاتِ والَّتِي صفة ل ذاتِ الْعِمادِ مرادا بها المدينة وكيف فعل في قوة كيف أهل فكأنه قيل: ألم تر كيف أهلك ربك عادا كهلاك ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وهو قول غريب غير قريب. وقرأ الحسن «يعاد رام» بإضافة عاد إلى إرم فجاز أن يكون إرم جدا والوصفان لعاد، وأن يكون مدينة والوصفان لازم وجوز أن يكون لعاد. وقرأ ابن الزبير «بعاد أرم» بالإضافة أيضا إلّا أن أرم بفتح الهمزة وكسر الراء، قيل: وهي لغة في المدينة لا غير. وعن الضحاك أنه قرأ «بعاد» مصروفا وغير مصروف «أرم» بفتح الهمزة وسكون الراء للتخفيف وأصله أرم كفخذ. وقرىء «إرم ذات» بإضافة إرم إلى ذات فقيل الإرم عليه العلم والمعنى بعاد أعلام ذات العماد وهي مدينتهم، والَّتِي صفة ل ذاتِ الْعِمادِ على الأظهر. وعن ابن عباس أنه قرأ «أرم» بالتشديد فعلا ماضيا ذات بالنصب على المفعول به أي جعل الله تعالى ذات العماد رميما، ويكون أرم على ما في البحر بدلا من فعل أو تبيينا له، والمراد بذات العماد عليه إما عاد نفسها ويكون فيه وضع المظهر موضع المضمر والنكتة فيه ظاهرة، وإما مدينتهم ويكون جعلها رميما أي إهلاكها كناية عن جعلهم كذلك. وقرأ ابن الزبير «لم يخلق» مبنيا للفاعل وهو ضميره عز وجل مثلها بالنصب على المفعولية، وعنه أيضا «لم نخلق» بنون العظمة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 338 وَثَمُودَ عطف على (عاد) وهي قبيلة مشهورة سميت باسم جدهم ثمود أخي جديس وهما ابنا عابر بن أرم بن سام بن نوح عليه السلام، كانوا عربا من العاربة يسكنون الحجر بين الحجاز وتبوك، وكانوا يعبدون الأصنام ومنع الصرف للعملية والتأنيث. وقرأ ابن وثاب بالتنوين صرفه باعتبار الحي كذا قالوا، وظاهره أنه عربي. وقد صرح بذلك فقيل هو فعول من الثمد وهو الماء القليل الذي لا مادة له ومنه قيل: فلان مثمود ثمدته النساء أي قطعن مادة مائه لكثرة غشيانه لهن، ومثمود إذا كثر عليه السؤال حتى نفدت مادة ماله. وحكى الراغب أنه عجمي فمنع الصرف للعلمية والعجمة الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ أي قطعوا صخر الجبال واتخذوا فيها بيوتا نحتوها من الصخر كقوله تعالى وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً [الشعراء: 149] قيل أول من نحت الحجارة والصخور والرخام ثمود وبنوا ألفا وسبعمائة مدينة كلها بالحجارة، ولا أظن صحة هذا البناء بِالْوادِ هو وادي القرى، وقرىء بالياء آخر الحروف، والباء للظرفية، والجار والمجرور متعلق بجابوا أو بمحذوف هو حال من الفاعل أو المفعول. وقيل: الباء للآلة أو السببية متعلقة بجابوا أي جابوا الصخر بواديهم أو بسببه، أي قطعوا الصخر وشقوه وجعلوه واديا ومحلا لمائهم فعل ذوي القوة والآمال وهو خلاف الظاهر وأيّا ما كان فالجواب القطع والظاهر أنه حقيقة فيه تقول جبت البلاد أجوبها إذا قطعتها. قال الشاعر: ولا رأيت قلوصا قبلها حملت ... ستين وسقا ولا جابت بها بلدا ومنه الجواب لأنه يقطع السؤال. وقال الراغب: الجوب قطع الجوبة وهي الغائط من الأرض ثم يستعمل في قطع كل أرض، وجواب الكلام هو ما يقطع الجوب فيصل من فم القائل إلى سمع المستمع لكنه خص بما يعود من الكلام دون المبتدأ من الخطاب انتهى. فاختر لنفسك ما يحلو وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ وصف بذلك لكثرة جنوده وخيامهم التي يضربون أوتادها في منازلهم أو لأنه كان يدق المعذب أربعة أوتاد ويشده بها مبطوحا على الأرض فيعذبه بما يريد من ضرب أو إحراق أو غيره وقد تقدم الكلام في ذلك الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ إما مجرور على أنه صفة للمذكورين عاد ومن بعده أو منصوب أو مرفوع على الذم أي طغى كل طاغية منهم في البلاد، وكذا الكلام في قوله تعالى فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ أي بالكفر وسائر المعاصي فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ أي أنزل سبحانه إنزالا شديدا على كل طائفة من أولئك الطوائف عقيب ما فعلت من الطغيان والفساد سَوْطَ عَذابٍ أي سوطا من عذاب على أن الإضافة بمعنى من، والعذاب بمعنى المعذب به، والمراد بذلك ما حل بكل منهم من فنون العذاب التي شرحت في سائر السور الكريمة. والسوط في الأصل مصدر من ساط يسوط إذا خلط، قال الشاعر: أحارث إنا لو تساط دماؤنا ... تزايلن حتى لا يمس دم دما وشاع في الجلد المضفور والذي يضرب به، وسمي به لكونه مخلوط الطاقات بعضها ببعض، أو لأنه يخلط اللحم بالدم والتعبير عن إنزاله بالصب للإيذان بكثرته وتتابعه واستمراره فإنه عبارة عن إراقة شيء مائع أو جار مجراه في السيلان كالحبوب والرمل وإفراغه بشدة وكثرة واستمرار، ونسبته إلى السوط مع أنه على ما سمعت ليس من هذا القبيل باعتبار تشبيهه في سرعة نزوله بالشيء المصبوب، وتسمية ما أنزل سوطا قيل للإيذان بأنه على عظمه بالنسبة إلى ما أعد لهم في الآخرة كالسوط بالنسبة إلى سائر ما يعذب به في الكشف أن إضافة السوط إلى العذاب تقليل لما أصابهم منه، ولا يأبى ذلك التعبير بالصب المؤذن بالكثرة لأن القلة والكثرة من الأمور النسبية. وجوز أن يراد بالعذاب التعذيب والإضافة حينئذ على معنى اللام وأمر التعبير بالصب الجزء: 15 ¦ الصفحة: 339 والتسمية بالسوط على ما تقدم. والآية من قبيل قوله تعالى فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ [النحل: 112] وجوز أن تكون الإضافة كالإضافة في لجين الماء أي فصب عليهم ربك عذابا كالسوط على معنى أنواعا من العذاب مخلوطا بعضها ببعض اختلاط طاقات السوط بعضها ببعض، وأن يكون السوط مصدرا بمعنى المفعول والإضافة كالإضافة في جرد قطيفة أي فصب عليهم ربك عذابا مسوطا أي مخلوطا، ومآله فصب أنواعا من العذاب خلط بعضها ببعض. وفي الصحاح سَوْطَ عَذابٍ أي نصيب عذاب ويقال شدته لأن العذاب قد يكون بالسوط، وأراد أن الغرض التصوير والأليق بجزالة التنزيل ما تقدم إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ تعليل لما قبله وإيذان بأن كفار قومه صلّى الله عليه وسلم سيصيبهم مثل ما أصاب أضرابهم المذكورين من العذاب كما ينبىء عنه التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام، والمرصاد المكان الذي يقوم به الرصد ويترقبون فيه مفعال من رصده كالميقات من وقته. وفي الكلام استعارة تمثيلية شبه كونه تعالى حافظا لأعمال العصاة على ما روي عن الضحاك مترقبا لها ومجازيا على نقيرها وقطميرها بحيث لا ينجو منه سبحانه أحد منهم بحال من قعد على الطريق مترصدا لمن يسلكها ليأخذه فيوقع به ما يريد، ثم أطلق لفظ أحدهما على الآخر والآية على هذا وعيد للعصاة مطلقا. وقيل: هي وعيد للكفرة وقيل: وعيد للعصاة ووعد لغيرهم وهو ظاهر قول الحسن، أي يرصد سبحانه أعمال بني آدم. وجوز ابن عطية كون المرصاد صيغة مبالغة كالمطعام والمطعان، وتعقبه أبو حيان بأنه لو كان كما زعم لم تدخل الباء لأنها ليست في مكان دخولها لا زائدة ولا غير زائدة، وأجيب بأنها على ذلك تجريدية نعم يلزمه إطلاق المرصاد على الله عز وجل وفيه شيء. وقوله تعالى فَأَمَّا الْإِنْسانُ إلخ متصل بما عنده كأنه قيل إنه سبحانه لبالمرصاد من أجل الآخرة فلا يطلب عز وجل إلّا السعي لها، فأما الإنسان فلا يهمه إلّا الدنيا ولذاتها، فإن نال منها شيئا رضي الله وإلّا سخط وكان اللائق أن لا يهمه إلا ما يطلبه الله عز وجل ولا يكون حاله ذلك. وقيل: هو متصل به متفرع عليه على معنى فالإنسان يؤاخذ لا محالة لأنه بين غنى مهلك موجب للتكبر والافتخار بالدنيا، وبين فقر لا يصبر عليه ويكفر لأجله بالجزع والقول بما لا ينبغي وهو كما ترى إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ أي عامله معاملة من يبتليه بالغنى واليسار ليرى هل يشكر أم لا. والفاء في قوله سبحانه فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ تفسيرية فإن الإكرام والتنعيم عين المراد بالابتلاء، ولما كان الإكرام والتنعيم في حكم شيء واحد اقتصر على قوله أَكْرَمَنِ في قوله سبحانه فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ولم يضم إليه ونعمتي. وهذه الجملة خبر للمبتدأ الذي هو الإنسان، والفاء لما في أما من معنى الشرط والظرف أعني إذا متعلق بيقول وهو على نية التأخير ولا تمنع الفاء من ذلك كما صرح به الزمخشري وغيره من متقدمي النحاة وتبعهم من بعدهم كأبي حيان والسمين والسفاقسي مع جمع غفير من المفسرين، وهو كما قال الشهاب الحق الذي لا محيد عنه، وخالفهم في ذلك الرضي ومن تبعه كالبدر الدماميني في شرح المغني، فقالوا: إنما يجوز تقديم ما بعد الفاء عليها إذا كان المقدم هو الفاصل بين أما والفاء لما يتعلق بتقديمه من الأغراض فإن كان ثمت فاصل آخر امتنع تقديم غيره فيمتنع أما زيد طعامك فآكل وإن جاز أما طعامك فزيد آكل، وقالوا في ذلك أنهم لما التزموا حذف الشرط لزم دخول أداته على فاء الجواب وهو مستكره فدعت الضرورة للفصل بينهما بشيء مما بعد الفاء والفاصل الواحد كاف فيه فيجب الاقتصار عليه. وزعم الجلبي محشي المطول أن هذا متفق عليه فرد به على المفسرين إعرابهم السابق وقال إنه خطأ، والصواب أن يجعل الظرف متعلقا بمقدر وهو ابتدأ في الحقيقة، والتقدير فأما شأن الإنسان إذا إلخ. فالظرف الجزء: 15 ¦ الصفحة: 340 من تتمة الجزء المفصول وبه ليس فاصلا ثانيا كقولك: أما احسان زيد إلى الفقير فحسن، ويريد على تقديره أنه لا يصح وقوع جملة يقول خبرا عن الشأن إلّا بتعسف كأن يكون الفعل بتأويل المصدر وإن لم تكن معه في اللفظ أن المصدرية كما قيل في: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه وهو فرار من السحاب إلى الميزاب وذهب أبو البقاء إلى أن إِذا شرطية وقوله تعالى فَيَقُولُ جوابها والجملة الشرطية خبر الإنسان ويلزمه حذف الفاء بدون القول وقد قيل إنه ضرورة. وقوله عز وجل وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ عامله معاملة من يبتليه ويختبره بالحاجة والفقر ليرى هل يصبر أم لا فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ بتقدير وأما هو أي الإنسان إذا ما ابتلاه إلخ ليصح التفصيل ويتم التوازن، وبقية الكلام فيه كما في سابقه. والظاهر أن كلتا الجملتين متضمنة لإنكار قول الإنسان الذي تضمنته وإنكار قوله إذا ضيق عليه رزقه رَبِّي أَهانَنِ لدلالته على قصور نظره وسوء فكره حيث حسب أن تضييق الرزق إهانة مع أنه قد يؤدي إلى كرامة الدارين ولعدم كونه إهانة أصلا لم يقل سبحانه في تفسير الابتلاء فأهانه «وقدر عليه رزقه» نظير ما قال سبحانه أولا فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ وإنكار قوله إذا أكرم ربي أكرمني مع قوله تعالى فَأَكْرَمَهُ أولا من حيث إنه أثبت إكرام الله تعالى له على خلاف ما أثبت الله تعال وهو قصد أن الله تعالى أعطاه ما أعطاه إكراما له مستحقا ومستوجبا قصدا جاريا على ما كانوا عليه من افتخارهم وزعمهم جلالة أقدارهم. والحاصل أن المنكر كونه عن استحقاق لحسب أو نسب في المفصل ما يدل على أن أصل الإكرام منكر لا كونه عن استحقاق، وإنكار أصل الإهانة يعضده. ووجهه ما أثبته تعالى من الإكرام أن الله عز وجل أثبت الإكرام بإيتاء المال والتوسعة وهو جعله إكراما كليا مثبتا للزلفى عنده تعالى فأنكر أنه ليس من ذلك الإكرام في شيء، وجوز أن يكون الإنكار للإهانة فقط يعني أنه إذا تفضل عليه بالخير وأكرم به اعترف بتفضل الله تعالى وإكرامه، وإذا لم يتفضل عليه سمى ترك التفضل هوانا وليس به قيل، ويعضده ذكر الإكرام في قوله تعالى فَأَكْرَمَهُ وفي الآية مع ما بعد شمة من أسلوب قوله تعالى إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً [المعارج: 19- 21] ولا يخفى أن الوجه هو الأول. وقرأ ابن كثير «أكرمني» و «أهانني» بإثبات الياء فيهما ونافع بإثباتها وصلا وحذفها وقفا وخير في الوجهين أبو عمرو وحذفها باقي السبعة فيهما وصلا ووقفا من حذفها وقفا سكن النون فيه. وقرأ أبو جعفر وعيسى وخالد والحسن بخلاف عنه وابن عامر «فقدّر» بتشديد الدال للمبالغة. كَلَّا ردع للإنسان عن قوليه المحكيين وتكذيب له فيهما لا عن الأخير فقط كما في الوجه الأخير، وقد نص الحسن على ما قلنا وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: المعنى لم أبتله بالغنى لكرامته عليّ ولم أبتله بالفقر لهوانه عليّ بل ذلك لمحض القضاء والقدر. وقوله سبحانه بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ إلخ انتقال وترق من ذمه بالقبيح من القول إلى الأقبح من الفعل والالتفات إلى الخطاب لتشديد التقريع وتأكيد التشنيع. وقيل: هو بتقدير قل فلا التفات. نعم فيه من الإشارة إلى تنقيصهم ما فيه والجمع باعتبار معنى الإنسان إذ المراد هو الجنس أي بل لكم أفعال وأحوال أشد شرا مما ذكر وأدل على تهالككم على المال حيث يكرمكم الله تعالى بكثرة المال فلا تؤدون ما يلزمكم فيه من إكرام اليتيم بالمبرة به والإحسان إليه. وفي الحديث «أحب البيوت إلى الله تعالى بيت فيه يتيم مكرم» . وقرأ الحسن ومجاهد وأبو رجاء وقتادة والجحدري وأبو الجزء: 15 ¦ الصفحة: 341 عمرو «لا يكرمون» بياء الغيبة وَلا تَحَاضُّونَ بحذف إحدى التاءين من تتحاضون أي ولا يحض ويحث بعضكم بعضا عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي على إطعامه فالطعام مصدر بمعنى الإطعام كالعطاء بمعنى الإعطاء. وزعم أبو حيان أن الأولى أن يراد به الشيء المطعوم، ويكون الكلام على حذف مضاف أي على بذل طعام المسكين، والمراد بالمسكين ما يعم الفقير. وقرأ عبد الله وعلقمة وزيد بن عليّ وعبد الله بن المبارك والشيرزي عن الكسائي كقراءة الجماعة إلّا أنهم ضموا تاء «تحاضون» من المحاضة. وقرأ أبو عمرو ومن سمعت الحسن ومن معه «ولا يحضون» بياء الغيبة ولا ألف بعد الحاء، وباقي السبعة بتاء الخطاب كذلك وكذا الفعلان بعد والفعل على القراءتين جوز أن يكون متعديا ومفعوله محذوف. فقيل أنفسهم أو أنفسكم، وقيل أهليهم أو أهليكم، وقيل أحدا. وجوز وهو الأولى أن يكون منزلا منزلة اللازم للتعميم. وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أي الميراث وأصله وارث فأبدلت الواو تاء كما في تخمنة وتكأة ونحوهما أَكْلًا لَمًّا أي ذا لمّ أو هو نفس اللم على المبالغة واللم الجمع، ومنه قوله النابغة: ولست بمستبق أخا لا تلمّه ... على شعث أي الرجال المهذب والمراد به هنا الجمع بين الحلال والحرام وما يحمد وما لا يحمد، ومنه قول الحطيئة: إذا كان لما يتبع الذم ربه ... فلا قدس الرحمن تلك الطواحنا يعني إنكم تجمعون في أكلكم بين نصيبكم من الميراث ونصيب غيركم. ويروى أنهم كانوا لا يورّثون النساء ولا صغار الأولاد فيأكلون نصيبهم. ويقولون: لا يأخذ الميراث إلّا من يقاتل ويحمي الحوزة هذا وهم يعلمون من شريعة إسماعيل عليه السلام أنهم يرثون فاندفع ما قيل إن السورة مكية وآية المواريث مدنية ولا يعلم الحل والحرمة إلّا من الشرع، فإن الحسن والقبح العقليين ليسا مذهبا لنا. وقيل يعني تأكلون ما جمعه الميت الموروث من حلال وحرام عالمين بذلك فتلمون في الأكل بين حلاله وحرامه. وفي الكشاف يجوز أن يذم الوارث الذي ظفر بالمال سهلا مهلا من غير أن يعرق فيه جبينه فيسرف في إنفاقه ويأكله أكلا واسعا جامعا بين ألوان المشتهيات من الأطعمة والأشربة والفواكه ونحوها كما يفعله الورّاث الباطلون، وتعقب بأنه غير مناسب للسياق. وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا أي كثيرا كما قال ابن عباس وأنشد قول أمية: إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما والمراد أنكم تحبونه مع حرص وشره كَلَّا ردع لهم عن ذلك وقوله تعالى إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا إلى آخره استئناف جيء به بطريق الوعيد تعليلا للردع. والدك قال الخليل: كسر الحائط والجبل ونحوها وتكريره للدلالة على الاستيعاب فليس الثاني تأكيد للأول بل ذلك نظير الحال في نحو قولك: جاؤوا رجلا رجلا، وعلمته الحساب بابا بابا أي إذا دكت الأرض دكا متتابعا حتى انكسر وذهب كل ما على وجهها من جبال وأبنية وقصور وغيرها حين زلزلت المرة بعد المرة وصارت هباء منثورا. وقال المبرد: الدك حط المرتفع بالبسط والتسوية، واندكّ سنام البعير إذا افترش في ظهره، وناقة دكّاء إذا كانت كذلك، والمعنى عليه إذا سويت تسوية بعد تسوية ولم يبق على وجهها شيء حتى صارت كالصخرة الملساء، وأيّا ما كان فهو على ما قيل عبارة عما عرض للأرض عند النفخة الثانية وَجاءَ رَبُّكَ قال منذر بن سعيد: معناه ظهر سبحانه للخلق هنالك وليس ذلك بمجيء نقلة وكذلك مجيء الطامة والصاخة. وقيل: الكلام على حذف المضاف للتهويل، أي وجاء أمر ربك وقضاؤه سبحانه واختار جمع أنه تمثيل لظهور آيات اقتداره تعالى وتبين آثار قدرته الجزء: 15 ¦ الصفحة: 342 عز وجل وسلطانه عز سلطانه مثلت حاله سبحانه في ذلك بحال الملك إذا حضر بنفسه ظهر لمحضوره من آثار الهيبة والسياسة ما لا يظهر بحضور عساكره ووزرائه وخواصه عن بكرة أبيهم، وأنت تعلم ما للسلف في المتشابه من الكلام وَالْمَلَكُ أي جنس الملك فيشتمل جمع ملائكة السماوات عليهم السلام صَفًّا صَفًّا أي مصطفين أو ذوي صفوف فإنه قيل: ينزل يوم القيامة ملائكة كل سماء فيصطفون صفا بعد صف بحسب منازلهم ومراتبهم محدقين بالجن والإنس، وقيل: يصطفون بحسب أمكنة أمور تتعلق بهم وهو قريب مما ذكر. وروي أن ملائكة كل سماء تكون صفا حول الأرض فالصفوف سبعة على ما هو الظاهر. وقال بعض الأفاضل: الظاهر أن الملك أعم من ملائكة السماوات وغيرها وتعريفه للاستغراق وادعى أن اصطفافهم بحسب مراتبهم اصطفاف أهل الدنيا في الصلاة وظاهره أنه اصطفاف من غير تحديق ورأيت غير أثر في أنهم يصطفون محدقين وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ قيل هو كقوله تعالى وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ [الشعراء: 91] لمن يرى على أن يكون مجيئها متجوزا به عن إظهارها واختبر أنه على حقيقته فقد أخرج مسلم والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها» . وفي رواية بزيادة «حتى تنصب عن يسار العرش لها تغيظ وزفير» وجاء في بعض الآثار أن جبريل عليه السلام جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فناجاه ثم قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم الصلاة والسلام منكسر الطرف فسأله عليّ كرم الله وجهه تعالى فقال صلّى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل عليه السلام بهذه الآية كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ الآية. فقال له عليّ كرم الله تعالى وجهه: كيف يجاء بها؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «تقاد بسبعين ألف زمام كل زمام يقوده سبعون ألف ملك، فبينما هم كذلك إذ شردت عليهم شردة انفلتت من أيديهم فلولا أنهم أدركوها فأخذوها لأحرقت من في الجمع» وفي رواية لولا أن الله تعالى حسبها لأحرقت السماوات والأرض، وتأويل كل ما ذكر ونحوه مما ورد وحمله على المجاز لا يدعو إليه إلا استحالة الانتقال الذي يقتضيه المجيء الحقيقي على جهنم وهو لعمري غير مستحيل، فيجوز أن تخرج وتنتقل من محلها في المحشر ثم تعود إليه، والحال في ذلك اليوم وراء ما تتخيله الأذهان. يَوْمَئِذٍ بدل من إِذا دُكَّتِ وظاهر كلام الزمخشري أن العامل فيه هو العامل نفسه في المبدل منه أعني قوله تعالى يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وهو قول قد نسب إلى سيبويه. وفي البحر المشهور خلافه وهو أن البدل على نية تكرار العامل والظاهر عندي الأول ويتذكر من الذكر ضد النسيان أي يتذكر الإنسان ما فرط فيه بتفاصيله بمشاهدة آثاره وأحكامه، أو بإحضار الله تعالى إياه في ذهنه وإخطاره له وإن لم يشاهد بعد أثرا أو بمعاينة عينه بناء على أن الأعمال تتجسم في النشأة الآخرة فتبرز بما يناسبها من الصور حسنا وقبحا أو من التذكر بمعنى الاتعاظ، أي يتعظ بما يرى من آثار قدرة الله عز وجل وعظيم عظمته تعالى وشأنه. وقوله تعالى وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى اعتراض جيء به لتحقيق أنه ليس بتذكر حقيقة لعرائه عن الجدوى لعدم وقوعه في أوانه وأَنَّى خبر مقدم والذِّكْرى مبتدأ ولَهُ متعلق بما تعلق به الخبر، أي ومن أين تكون له الذكرى وقد فات أوانها، وقيل: هناك مضاف محذوف أي وأنى له منفعة الذكرى ولا بد من تقديره لئلا يكون تناقض وقد علمت أن هذا يتحقق بما قرر أولا على أنه إذا جعل اختصاص اللام مقتصرا على النافع استقام من غير تقدير، ويكون إنكار أن تكون الذكرى له لا عليه. وأما كونه حكاية لما كان عليه في الدنيا من عدم الاعتبار والاتعاظ فليس بشيء. واستدل بالآية على أن التوبة من حيث هي توبة غير واجبة القبول عقلا كما زعم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 343 المعتزلة بناء على وجوب الأصلح عندهم، وقيل في توجيهه إنه لو وجب قبولها لوجب قبول هذا التذكر فإنه توبة إذ هي كما بيّن محله في الندم على المعصية من حيث هي معصية، والعزم على أن لا يعود لها إذا قدر عليها ولم يعتبر أحد في تعريفها كونها في الدنيا وإن كانت النافعة منها لا تكون إلّا فيها وهذا التذكر هو عين الندم المذكور. وقد صرح الضحاك كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم بأنه توبة ولم تقبل لعدم ترتب المنفعة عليه التي هي من لوازم القبول، واعترض بأن المعتزلة إنما يقولون بوجوب قبولها بشرط عدم رفع التكاليف وقيل إن تذكره ليس من التوبة في شيء فإنه عالم بأنها إنما تكون في الدنيا كما يعرب عنه قوله تعالى يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي ويعلم ما فيه مما تقدم من توجيه الاستدلال فلا تغفل. وهذه الجملة بدل اشتمال من يتذكر أو استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ منه كأنه قيل: ماذا يقول عند تذكره؟ فقيل: يقول يا ليتني إلخ. واللام للتعليل والمراد بحياته حياته في الآخرة، ومفعول قَدَّمْتُ محذوف فكأنه قال: يا ليتني قدمت لأجل حياتي هذه أعمالا صالحة انتقع بها فيها. وقيل: اللام للتعليل إلّا أن المعنى يا ليتني قدمت أعمالا صالحة لأجل أن أحيا حياة نافعة، وقال ذلك لأنه لا يموت ولا يحيا حينئذ وهو كما ترى. ويجوز أن تكون اللام توقيتية مثلها في نحو كتبته لخمس عشرة ليلة مضين من المحرم، وجئت لطلوع الشمس ويكون المراد بحياته حياته في الدنيا أي يا ليتني قدمت وعملت أعمالا صالحة وقت حياتي في الدنيا لأنتفع بها اليوم، وليس في هذا التمني شائبة دلالة على استقلال العبد بفعله وإنما يدل على اعتقاد كونه متمكنا من تقديم الأعمال الصالحة، وإما أن ذلك بمحض قدرته تعالى أو بخلق الله عز وجل عند صرف قدرته الكاسبة إليه فكلا وزعمه الزمخشري دليلا على الاستقلال ورد به على المجبرة وهم عنده غير المعتزلة زعما منه المنافاة بين التمني والحجر. وقد علمت أنه لا دلالة على ذلك. وفي الكشف أن التمني قد يقع على المستحيل على أنه حالتئذ كالغريق هذا وأهل الحق لا يقولون بسلب الاختيار بالكلية. فَيَوْمَئِذٍ أي يوم إذ يكون ما ذكر من الأحوال والأقوال لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ الهاء إما لله عز وجل أي لا يتولى عذاب الله تعالى ووثاقه سبحانه أحد سواه عز وجل وكأنه قيل: لا يفعل عذاب الله تعالى ووثاقه ولا يباشرهما أحد، وذلك لأن الفعل في ضمن كل فعل خاص واستعمل ذلك استعمالا شائعا في مثل: وقد حيل بين العير والنزوان وإن نظن إلّا ظنا فالعذاب مفعول به وكذا الوثاق، وفيه تعظيم عذاب الله تعالى ووثاقه سبحانه لهذا الإنسان الذي شرح من أحواله ما شرح على طريق الكناية. فما ادعاه ابن الحاجب من عدم قوة المعنى على تقدير عود الضمير إليه تعالى بناء على فوات التعظيم الذي يقتضيه السياق للغفول عن نكتة الكناية، وإما للإنسان الموصوف والإضافة إلى المفعول أي لا يعذب ولا يوثق أحد من الزبانية أحدا من أهل النار مثل ما يعذبونه ويوثقونه كأنه أشدهم عذابا ووثاقا لأنه أشدهم سيئات أفعال وقبائح أحوال وهو وجه حسن بل هو أرجح من الأول على ما سنشير إليه إن شاء الله تعالى. وقرأ ابن سيرين وابن أبي إسحاق وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو بحرية وسلام والكسائي ويعقوب وسهل وخارجة عن أبي عمرو: «لا يعذب» «ولا يوثق» بالبناء للمفعول فالهاء في عذابه ووثاقه للإنسان الموصوف أي لا يعذب أحد مثل عذابه ولا يوثق بالسلاسل والأغلال مثل وثاقه لتناهيه في كفره وشقاقه ونصب العذاب على المصدرية واقع موقع التعذيب إما لأنه بمعناه في الأصل كالسلام بمعنى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 344 التسليم، ثم نقل إلى ما يعذب به أو لأنه وضع موضعه كما يوضع العطاء موضع الإعطاء وكذلك الوثاق. وجوز أن يكون المعنى لا يحمل عذاب الإنسان أحد ولا يوثق وثاقه أحد كقوله تعالى وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: 164، الإسراء: 15، فاطر: 18، الزمر: 7] والعذاب عليه جار على المتعارف والنصب على تضمين التعذيب معنى التحميل والأول أنسب بمقام التغليظ على هذا الإنسان المفرط أو أن التمكن والوجه الثاني للقراءة الأولى مطابق لهذا كما لا يخفى، والمراد من أنه لا يعذب أحد مثل عذابه أنه لا يعذب أحد من جنسه كالعصاة كذلك فلا يلزم كونه أشد عذابا من إبليس ومن في طبقته، ثم إن الظاهر أن المراد جنس المتصف بما ذكر وقيل: المراد به أمية بن خلف وقيل أبيّ بن خلف وهو خلاف الظاهر وإن قيل إن الآية نزلت فيمن ذكر وأما القول بأن هذا العذاب الموثق إبليس عليه اللعنة فليس بشيء إذ لا يقال له إنسان، وكون الضمير له وإن لم يسبق له ذكر لا للإنسان المذكور في قوله تعالى يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ إلخ مما لا ينبغي أن يلتفت إليه. وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع بخلاف عنه «وثاقه» بكسر الواو وقوله تعالى: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ إلخ حكاية لأحوال من اطمأن بذكر الله تعالى وطاعته عز وجل إثر حكاية من اطمأن بالدنيا وسكن إليها. وذكر أن على إرادة القول أي يقول الله تعالى يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ إلخ. إما بالذات كما كلم سبحانه موسى عليه السلام أو على لسان الملك واستظهر أن ذل القول عند تمام الحساب. ولينظر التفاوت ما بين ذلك الإنسان وهذه النفس ذاك يقول يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي وهذه يقول الله تعالى لها يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ إلخ وكأنه للإيذان بغاية التباين لم يذكر القول وتعطف الجملة على الجملة السابقة. والنفس قيل بمعنى الذات ووصفت بالاطمئنان بذلك لأنها لترقى بقوتها العاقلة في معارج الأسباب والمسببات إلى المبدأ المؤثر بالذات جلت صفاته وأسماؤه فتضطرب وتقلق قبل الوصول إلى معرفته تعالى، فإذا وصلت إليه عز وجل اطمأنت واستغنت به سبحانه عن وجودها وسائر شؤونها ولم تلتفت إلى ما سواه جل وعلا بالكلية وقيل: هي النفس المؤمنة المطمئنة إلى الحق الواصلة إلى ثلج اليقين وبرودته بحيث لا يخالطها شك ما ولا يمازجها سخونة اضطراب القلب في الحق أصلا وهو وجه حسن والارتباط عليه أن هذه النفس هي المتعظة الذاكرة على خلاف الإنسان الموصوف فيما قبل فإن التذكر على قدر قوة اليقين، ألا ترى إلى قوله تعالى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ [الزمر: 9] وقيل هي الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن يوم القيامة، أعني النفس المؤمنة اليوم المتوفاة على الإيمان. وأيد بقراءة أبيّ يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة وكأنه لأن الوصفين يعتبر تناسبهما في الأكثر وهي على هذا تقابل السابق وهو المتحسر والمتحزن. وقرأ زيد بن علي «يا أيها» بغير تاء وذكر صاحب البديع أن أيا قد تذكر مع المنادى المؤنث قيل ولذلك وجه من القياس وذلك أنها كما لم تثن ولم تجمع في نداء المثنى والمجموع فكذلك لم تؤنث في نداء المؤنث، واعتبار النفس هاهنا مذكرة ثم مؤنثة مما لا تلتفت إليه النفس المطمئنة ارْجِعِي أي من حيث حوسبت إِلى رَبِّكِ أي إلى محل عنايته تعالى وموقف كرامته عز وجل لك أولا وهذا لأن للسعداء قبل الحساب كما يفهم من الأخبار موقفا في المحشر مخصوصا يكرمهم الله تعالى به لا يجدون فيه ما يجده غيرهم في مواقفهم من النصب، ومنه ينادي الواحد بعد الواحد للحساب فمتى كان هذا القول عند تمام الحساب اقبضي أن يكون المعنى ما ذكر الواحد بعد الواحد للحساب فمتى كان هذا القول عند تمام الحساب اقبضي أن يكون المعنى ما ذكر ويجوز أن يكون المعنى ارجعي بتخلية القلب عن الأعمال والالتفات إليها والاهتمام بأمرها أتقبل أم لا، أي إلى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 345 ملاحظة ربّك والانقطاع إليه وترك الالتفات إلى ما سواه عز وجل كما كنت أولا كان النفس المطمئنة لما دعيت للحساب شغل فكرها، وإن كانت مطمئنة بمقتضى الطبيعة وحال اليوم بأمر الحساب وما ينتهي إليه وأنه ماذا يكون حال أعمالها أتقبل أم لا، فلما تم حسابها وقبلت أعمالها قيل لها ذلك تطييبا لقلبها بأن الأمر قد انتهى. وفرغ منه وليس بعد إلا كل خير. ونداؤها بعنوان الاطمئنان لتذكيرها بما يقتضي الرجوع نظير قولك لشجاع مشهور بالشجاعة أحجم في بعض المواقف يا أيها الشجاع أقدم ولا تحجم، والظاهر أنه على الأول لا يناسبها ولا يخفى ما في قوله سبحانه إِلى رَبِّكِ على الوجهين من مزيد اللطف بها ولذا لم يقل نحو ارجعي إلى الله تعالى أو إليّ راضِيَةً أي بما تؤتينه من النعم التي لا تتناهى وقد يقال راضية بما نلتيه من خفة الحساب وقبول الأعمال وليس بذاك مَرْضِيَّةً أي عند الله عز وجل قيل: المراد راضية عن ربك مرضية عنده، وزعم أنه الأظهر واعترض بأنه غير مناسب للسياق وفيه نظر. والوصفان منصوبان على الحال والظاهر أن الحال الأولى مقدرة وقيل مقارنة، وذكر الحال الثانية من باب الترقي فقد قال سبحانه وتعالى رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة: 72] . فَادْخُلِي فِي عِبادِي في زمرة عبادي الصالحين المخلصين لي وانتظمي في سلكهم وكوني في جملتهم وَادْخُلِي جَنَّتِي عطف على الجملة قبلها داخلة معها في حيّز الفاء المفيدة لكون ما بعدها عقيب ما قبلها من غير تراخ وكأن الأمر بالدخول في جملة عباد الله تعالى الصالحين إشارة إلى السعادة الروحانية لكمال استئناس النفس بالجليس الصالح، والأمر بدخول الجنة إشارة إلى السعادة الجسمانية ولفضل الأولى على الثانية قدم الأمر الأول وجيء بالثاني على وجه التتميم. ونكتة الالتفات فيهما ظاهرة بأدنى التفات. وتعدى الدخول أولا بفي وثانيا بدونها قال أبو حيان: لأن المدخول فيه إن كان غير ظرف حقيقي تعدى إليه في الاستعمال بفي، تقول: دخلت في الأمر ودخلت في غمار الناس وإذا كان ظرفا حقيقيا تعدى إليه في الغالب بغير وساطتها فلا تغفل. وقيل المراد ارجعي إلى موعد ربك واستظهر أن المراد بموعده تعالى على تقدير كون القول المذكور بعد تمام الحساب ما وعده سبحانه من الجنة والكون مع عباده تعالى الصالحين والفاء تفسيرية، واستشكل عليه الأمر بالرجوع إذ يقتضي أن تكون الجنة مقرا للنفس قبل ذلك، وأجيب بتحقق هذا المقتضى بناء على وجودها بالقوة في ظهر آدم عليه السلام حين كان في الجنة وقد قيل نحو هذا في قوله تعالى إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [القصص: 85] على ما روي عن أمير المؤمنين عليّ كرم الله تعالى وجهه. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن المراد بالمعاد الجنة دون مكة وأنت تعلم أن هذا على ما فيه لا يتم إلّا على القول بأن جنة آدم عليه السلام هي الجنة التي يدخلها المؤمنون يوم القيامة لا جنة أخرى كانت في الأرض، والخلاف في ذلك قوي كما لا يخفى على من راجع كتاب مفتاح السعادة للعلامة ابن القيم واطلع على أدلة الطرفين. وقيل: المراد ارجعي إلى أمر ربك، واستظهر أن المراد بالأمر على ذلك التقدير واحد الأمور ويفسر بمعاملة الله تعالى إياها بما ليس فيه ما يشغل بالها أو بتمييزها بموقف كريم أو بنحو ذلك مما يتحقق معه ما يقتضيه ظاهر الرجوع، وقيل: المراد ارجعي إلى كرامة ربك ويراد جنس كرامته سبحانه والرجوع إليه باعتبار أنها كانت بعد الموت في البرزخ أو بعد البعث وقبل الحساب في نوع منه والفاء عليه قيل تفسيرية أيضا. وعن عكرمة والضحاك أن ذلك القول عند البعث، فقيل النفس بمعنى الذات أيضا، والمراد بالرب هو الله عز وجل والكلام على حذف مضاف ولا يقدر محل كرامته تعالى مرادا به الجزء: 15 ¦ الصفحة: 346 الموقف الخاص على ما سمعت لأنه إنما يكون لها بعد. وقيل النفس بمعنى الروح، والمراد بالرب الصاحب وفسر بالجسد وباقي الآية على حالة أي ارجعي إلى جسدك كما كنت في الدنيا فادخلي بعد الرجوع إليه في جملة عبادي وادخلي دار ثوابي، وقيل المراد بالنفس والرب ما ذكر وقوله تعالى فِي عِبادِي على حذف مضاف أي فادخلي في أجساد عبادي وجاء هذا في رواية عن ابن عباس وابن جبير، ولا يضر الإفراد أولا والجمع ثانيا لأن المعنى على الجنس. وقال ابن زيد وجماعة إن ذلك القول عند الموت وأيّد بما أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن ابن جبير قال: قرئت عند النبي صلّى الله عليه وسلم يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ الآية فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: إن هذا لحسن فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أما إن الملك سيقولها لك عند الموت» وجاء نحو هذا من رواية الحكيم الترمذي في نوادر الأصول من طريق ثابت بن عجلان عن سليم بن عامر عن الصديق رضي الله تعالى عنه . والنفس عليه بمعنى الروح والمعنى على ما قيل ارجعي بالموت إلى عالم قدس ربك راضية بما تؤتين من النعيم أو راضية عن ربك مرضية عنده تعالى، فادخلي في زمرة عبادي المقربين سكنة حظائر القدس، وادخلي جنتي التي أعددتها لذوي النفوس المطمئنة، وهذان الدخولان يعقبان الرجوع إلّا أن الدخول الأول يعقبه بلا تراخ قبل يوم القيامة، والثاني يعقبه بتراخ لأنه يوم القيامة إن أريد الدخول الجنة دخولها على وجه الخلود إلا أن الأمر لتحققه يجوز تعقيبه بالفاء، وجوز أن يكون تعقيب الأمرين على هذا النمط إن أريد بالدخول في عبادة تعالى انتظامها في سلك العباد الصالحين المخلصين من جنسها، ويجوز على إرادة هذا التعقيب أن يراد فادخلي في أجساد عبادي. وجوز أن يكون تعقيب الأمرين بلا تراخ إن أريد بالدخول في العباد الدخول في زمرة المقربين من سكنة حظائر القدس وبالدخول في الجنة الدخول لا على وجه الخلود بل لنوع من التنعم إلى أن تقوم الساعة، ففي الحديث أن أرواح المؤمنين في حواصل طيور في الجنة ، وفي بعض الآثار إذا مات المؤمن أعطي نصف الجنة أي نصف جنته التي وعد دخولها يوم القيامة وذكر في وجه إدخالها مع الأرواح القدسية كالمرايا المصقولة فإذا انضم بعضها إلى بعض تعاكست أشعة أنوار المعارف فيظهر لكل منها ما يكملها فيكون سببا أنها لتكامل السعادات وتعاظم الدرجات وهو عندي كلام خطابي، وعن بعض السلف ما يؤيد بعض هذه الأوجه. أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي صالح أنه قال في الآية ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ هذا عنوان الموت، ورجوعها إلى ربها خروجها من الدنيا فإذا كان يوم القيامة قيل لها ادخلي في عبادي وادخلي جنتي وقيل: إن هذا القول بعد الموت وقبل القيامة، والمراد برجوعها إلى ربها رجوعها إلى جسدها لسؤال الملكين. أخرج ابن المنذر عن محمد بن كعب القرظي أنه قال في الآية إن المؤمن إذا مات أري منزله من الجنة فيقول تبارك وتعالى: يا أيتها النفس المطمئنة عندي ارجعي إلى جسدك الذي خرجت منه راضية بما رأيت من ثوابي مرضيا عنك حتى يسألك منكر ونكير، وقيل إنه في مواطن ثلاثة. أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أنه قال في الآية: بشرت بالجنة عند الموت وعند البعث ويوم الجمع وتفسر عليه بما ينطبق على الجميع. وقيل: يجوز أن يكون ذلك في سائر أوقات النفس في حياتها الدنيا والمراد بالأمر بالرجوع إلى الرب الأمر بالرجوع إليه تعالى في كل أمر من الأمور، والمراد بالأمر بالدخول في العباد الأمر بالدخول في زمرة العباد الخلص الذي ليس للشيطان عليهم سلطان بالإكثار من العمل الصالح، وبالأمر بالدخول في الجنة الأمر بالدخول فيها بالقوة القريبة فكأنه سبحانه بعد أن بالغ جل وعلا في سوء حال الامارة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 347 ووعيدها خاطب المطمئنة بذاك وأرشدها سبحانه إلى ما فيه صلاحها ونجاتها ولا يخفى ما فيه فلا ينبغي أن يعد وجها، وأيّا ما كان من الأوجه فالظاهر العموم فيها وإن أخرج ابن أبي حاتم من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه حين اشترى بئر رومة وجعلها سقاية للناس، وقيل: إنها نزلت في حمزة بن عبد المطلب، وقيل نزلت في خبيب بن عدي الذي صلبه أهل مكة وجعلوا وجهه إلى المدينة، فقال: اللهم إن كان لي عندك خير فحول وجهي نحو قبلتك فحول الله تعالى وجهه نحوها فلم يستطع أحد أن يحوله بعد. فتفسير النفس المذكورة بأحد هؤلاء المذكورين كما نقل عن بعض من باب التمثيل وأن صورة السبب قطعية الدخول وينبغي أن يتحمل قول ابن عباس في تلك النفس كما أخرجه عنه ابن مردويه هو النبي صلّى الله عليه وسلم على نحو ذلك، وأشعرت الآية على بعض أوجهها بأن الأرواح مخلوقة قبل الأبدان ومقرها إذ ذاك في عالم الملكوت، والخلاف في المسألة شهير وجمهور المتكلمين على أنها مخلوقة عند استعداد الأبدان لها وكذا أفلاطون وأصحابه. وقرأ ابن عباس وعكرمة والضحاك ومجاهد وأبو جعفر وأبو صالح وأبو شيخ واليماني في «عبدي» على الإفراد واستظهر أن المراد الجنس كما في النفس. وللسادة الصوفية قدست نفوسهم كلام طويل في تقسيم مراتب النفس وقالوا إن الآية متضمنة لمراتب ثلاث منها المطمئنة والراضية والمرضية وفسروا كلا بما فسروه فمن أراده فليرجع إليه في كتبهم، وأنا أقول كما علم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعض الصحابة على ما أخرج الطبراني وابن عساكر عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه: «اللهم إني أسألك نفسا مطمئنة تؤمن بلقائك وترضى بقضائك وتقنع بعطائك» . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 348 سورة البلد مكية في قوله الجمهور بتمامها، وقيل مدنية بتمامها، وقيل مدنية إلّا أربع آيات من أولها. واعترض كلا القولين بأنه يأباهما قوله تعالى بِهذَا الْبَلَدِ [البلد: 1، 2] قيل ولقوة الاعتراض ادعى الزمخشري الإجماع على مكيتها وسيأتي إن شاء الله تعالى أن في بعض الأخبار ما هو ظاهر في نزول صدرها بمكة بعد الفتح، وهي عشرون آية بلا خلاف. ولما ذم سبحانه فيما قبلها من أحب المال وأكل التراث أكلا لمّا ولم يحض على طعام المسكين ذكر جل وعلا فيها الخصال التي تطلب من صاحب المال من فك الرقبة وإطعام في يوم ذي مسغبة وكذا لما ذكر عز وجل النفس المطمئنة هناك ذكر سبحانه هاهنا بعض ما يحصل به الاطمئنان فقال عز قائلا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ أقسم سبحانه بالبلد الحرام أعني مكة فإنه المراد بالمشار إليه بالإجماع وما عطف عليه على الإنسان خلق مغمورا في مكابدة المشاق ومعاناة الشدائد. وقوله تعالى وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ على ما اختاره في الكشاف اعتراض بين القسم وجوابه وفيه تحقيق مضمونه بذكر بعض المكابدة على نهج براعة الاستهلاك وادماج لسوء صنيع المشركين ليصرح بذمهم على أن الحل بمعنى المستحل بزنة المفعول الذي لا يحترم، فكأنه قيل ومن المكابدة أن مثلك على عظم حرمته يستحل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 349 بهذا البلد الحرام ولا يحترم كما يستحل الصيد في غير الحرم عن شرحبيل بن سعد يحرمون أن يقتلوا به صيدا ويعضدوا شجره ويستحلون إخراجك وقتلك، وفي تأكيد كون الإنسان في كيد بالقسم تثبيت لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وبعث على أن يطأ من نفسه الكريمة على احتماله فإن ذلك قدر محتوم، وجوز أن يكون الحل بمعنى الحلال ضد الحرام قال ابن عباس فيما أخرجه عنه ابن جرير وغيره: وأنت يا محمد يحل لك أن تقاتل به. وأما غيرك فلا. وقال مجاهد: أحله الله تعالى له عليه الصلاة والسلام ساعة من نهار وقال سبحانه له ما صنعت فيه من شيء فأنت في حل لا تؤاخذ به، وروي نحو ذلك عن أبي صالح وقتادة وعطية وابن زيد والحسن والضحاك ولفظه: يقول سبحانه أنت حل بالحرم فاقتل إن شئت أو دع وذلك يوم الفتح، وقد قتل صلّى الله عليه وسلم يومئذ عبد الله بن خطل وهو الذي كانت قريش تسميه ذا القلبين قدمه أبو برزة سعيد بن حرب الأسلمي فضرب بأمره صلّى الله عليه وسلم عنقه وهو متعلق بأستار الكعبة وكان قد أظهر الإسلام وكتب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم شيئا من الوحي فارتد وشنع على رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأن ما يمليه من القرآن منه عليه الصلاة والسلام لا من الله تعالى وقتل غيره أيضا كما هو مذكور في كتب السير، ثم قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله تعالى حرّم مكة يوم خلق السماوات والأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة لا تحل لأحد قبلي ولن تحل لأحد بعدي ولم تحل لي إلّا ساعة من نهار، فلا يعضد شجرها ولا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلّا لمنشد» فقال العباس: يا رسول الله إلّا الإذخر فإنه لقيوننا وقبورنا وبيوتنا فقال عليه الصلاة والسلام: «إلّا الإذخر» وتقديم المسند إليه على هذا للاختصاص كما أشير إليه في خبر ابن عباس. وحِلٌّ على معنى الاستقبال بناء على أن نزول السورة قبل الهجرة التي هي قبل الفتح بكثير وفي خبر رواه عبد بن حميد عن ابن جبير ما هو ظاهر في أن الآية نزلت بعد أن ضرب أبو برزة عنق ابن خطل يوم الفتح فإن صح لا يكون في معنى الاستقبال لكن الجمهور على الأول، وفي تعظيم المقسم به وتوكيد المقسم عليه بالإقسام توكيد لما سيق له الكلام وهو على ما ذكر أن عاقبة الاحتمال والمكابدة إلى الفتح والظفر والغرض تسليته صلّى الله عليه وسلم ثم ترشيحها بالتصريح بما سيكون من الغلبة وتعظيم البلد يدل على تعظيم من أحل له وفي الإقسام به توطئة للتسلية لأن تعظيم البلد مما يقترفه أهله من المآثم متحرج بريء منها والمعنى في الإقسام بالبلد تعظيمه، وفي الاعتراض ترشيح التعظيم والتشريف بكون مثله صلّى الله عليه وسلم في جلالة القدر ومنصب النبوة ساكنا فيه مباينا لما عليه الغاغة والهمج والفائدة فيه تأكيد المقسم عليه بأنهم من أهل الطبع فلا ينفعهم شرف مكان والمتمكن فيه كأنه قيل: أقسم بهذا البلد الطيب بنفسه وبمن سكن فيه أن أهله لفي مرض قلب وشك لا يقادر قدره. وقيل: الحل صفة أو مصدر بمعنى الحال يقال حل أي نزل يحل حلا وحلولا ويقال أيضا هو حل بموضع كذا كما يقال حال به والقول بأن الصفة من الحلول حال لا حل ومصدر حل بمعنى نزل الحلول، والحل بفتح الحاء والحلل فقط ناشىء من قلة التتبع. والاعتراض لتشريفه صلّى الله عليه وسلم بجعل حلوله عليه الصلاة والسلام مناطا لإعظام البلد بالإقسام به وجعل بعض الأجلّة الجملة على هذا الوجه حالا من هذا البلد وكذا جعلها بعضهم حالية على الوجهين قبل إلّا أن الحال على ثانيهما مقارنة وعلى أولهما مقدرة أو مقارنة إن قيل إن النزول ساعة أحلت مكة وجعلها ابن عطية حالا على الوجه الأول أيضا أعني كون الحل بمعنى المستحل لكن قيده بكون لا نافية غير زائدة فتأمل وأيّا ما كان ففي الإشارة وإقامة الظاهر مقام الضمير من تعظيم البلد ما فيهما. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 350 وَوالِدٍ عطف على هذا البلد المقسم به وكذا قوله تعالى وَما وَلَدَ والمراد بالأول آدم عليه السلام وبالثاني جميع ولده على ما أخرج الحاكم وصححه من طريق مجاهد عن ابن عباس ورواه جماعة أيضا عن مجاهد وقتادة وابن جبير. وقيل: المراد آدم عليه السلام والصالحون من ذريته، وقيل نوح عليه السلام وذريته، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي عمران أنهما إبراهيم عليه السلام وجميع ولده وقيل إبراهيم عليه السلام ولده إسماعيل عليه السلام والنبي صلّى الله عليه وسلم ادعى أنه ينبىء عن ذلك المعطوف عليه فإنه حرم إبراهيم ومنشأ إسماعيل ومسقط رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليهن أجمعين. وقال الطبري والماوردي: يحتمل أن يكون الوالد النبي صلّى الله عليه وسلم لتقدم ذكره، وما ولد أمته لقوله عليه الصلاة والسلام «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد» ولقراءة عبد الله وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم وفي القسم بذلك مبالغة في شرفه عليه الصلاة والسلام وهو كما ترى وقيل المراد كل والد وولده من العقلاء وغيرهم، ونسب ذلك لابن عباس. وأخرج ابن أبي حاتم وغيره من طريق عكرمة عنه أنه قال: الوالد الذي يلد وما ولد العاقر الذي لا يلد من الرجال والنساء، ونسب إلى ابن جبير أيضا فما عليه نافية فيحتاج إلى تقدير موصول يصح به المعنى الذي أريد كأنه قيل وَوالِدٍ والذي ما ولد وإضمار الموصول في مثله لا يجوز عند البصريين ومع هذا هو خلاف الظاهر، ولعل ظاهر اللفظ عدم التعيين في المعطوفين وظاهر العطف على هذا البلد إرادة من له دخل فيه وشهرة بنسبة البلد إليه أو المشهور في ذلك إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وتنكير والِدٍ على ما اختاره غير واحد للتعظيم وإيثار ما على من بناء على أن المراد ب ما وَلَدَ العاقل لإرادة الوصف فتفيد التعظيم في مقام المدح وأنه مما لا يكتنه كنهه لشدة إبهامها ولذا أفادت التعجب أو التعجيب وإن لم تكن استفهامية كما في قوله تعالى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ [آل عمران: 36] أي أي مولود عظيم الشأن وضعته، والتعظيم والتعجيب على تقدير أن يراد بما ولد ذرية آدم عليه السلام مثلا قيل باعتبار التغليب وقيل باعتبار الكثرة. وما خص به الإنسان من خواص البشر كالعقل وحسن الصورة ومن تأمل في شؤون الإنسان من حيث هو إنسان يعلم أنه من تلك الحيثية معظّم يتعجب منه لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ أي في تعب ومشقة فإنه لا يزال يقاسي فنون الشدائد من وقت نفخ الروح إلى حين نزعها وما وراءه يقال: كبد الرجل كبدا فهو أكبد إذا وجعته كبده وانتفخت فاتسع فيه حتى استعمل في كل تعب ومشقة ومنه اشتقت المكابدة لمقاساة الشدائد، كما قيل: كبته بمعنى أهلكه وأصله كبده إذا أصاب كبده. قال لبيد يرثي أخاه: يا عين هل بكيت أربد إذ ... قمنا وقام الخضوم في كبد أي في شدة الأمر وصعوبة الخطب. وعن ابن عمر يكابد الشكر على السراء ويكابد الصبر على الضراء وعن ابن عباس وعبد الله بن شداد وأبي صالح والضحاك ومجاهد أنهم قالوا أي خلقناه منتصب القامة واقفا ولم نجعله منكبا على وجهه. وقال ابن كيسان: أي منتصبا رأسه في بطن أمه فإذا أذن له في الخروج قلب رأسه إلى قدمي أمه وهذه الأقوال كلها ضعيفة لا يعول عليها بخلاف الأول وقد رواه الحاكم وصححه وجماعة عن ابن عباس، وروي عن غير واحد من السلف نعم جوز أن يكون المعنى لقد خلقناه في مرض شاق وهو مرض القلب وفساد الباطن، وهذا بناء على الوجه الثالث من الأوجه الأربعة السابقة في قوله تعالى لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ والمراد بالإنسان عليه الذين علم الله تعالى منهم حين خلقهم أنهم لا يؤمنون ولا يعملون الصالحات. والظاهر أن المراد على ما عداه جنس الإنسان مطلقا. وقال ابن زيد: المراد بالإنسان الجزء: 15 ¦ الصفحة: 351 آدم عليه السلام، وبالكبد السماء وشاع في وسط السماء كالكبيداء والكبيداة والكبداء وأكبد بفتح فسكون وليس بشيء أصلا. والضمير في قوله تعالى أَيَحْسَبُ على ما عدا ذلك راجع إلى ما دل عليه السياق مما يكابد منه صلّى الله عليه وسلم ما يكابد من كفار قريش وينتهك حرمة البيت وحرمته عليه الصلاة والسلام. وعليه للإنسان والتهديد مصروف لمن يستحقه وقيل على إرادة البعض هو أبو الأشد أسيد بن كلدة الجمحي وكان شديد القوة مغترا بقوته وكان يبسط له الأديم العكاظي فيقوم عليه ويقول: من أزالني عنه فله كذا، فيجذبن عشرة فينقطع قطعا ويبقى موضع قدميه، وقيل عمرو بن عبد ود، وقيل الوليد بن المغيرة، وقيل أبو جهل بن هشام، وقيل الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف. ويجوز أن يكون كل من هؤلاء سبب النزول فلا تغفل. وجعل عصام الدين الاستفهام للتعجيب على معنى أيظن أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أي على الانتقام منه ومكافأته بما هو عليه أَحَدٌ مع أنه لا يتخلص من المكابدة ومقاساة الشدائد وأن مخففة من الثقيلة ولعل في ذلك إدماج عدم إيمان بالقيامة يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً أي كثيرا من تلبد الشيء إذا اجتمع، أي يقول ذلك وقت الاغترار فخرا ومباهاة وتعظما على المؤمنين وأراد بذلك ما أنفقه رياء وسمعة وعبر عن الاتفاق بالإهلاك إظهارا لعدم الاكتراث وأنه لم يفعل ذلك رجاء نفع فكأنه جعل المال الكثير ضائعا وقيل: يقول ذلك إظهارا لشدة عداوته لرسول الله صلّى الله عليه وسلم مريدا بالمال ما أنفقه في معاداته عليه الصلاة والسلام وقيل: يقول ذلك إيذاء له عليه الصلاة والسلام، فعن مقاتل أن الحارث بن نوفل كان إذا أذنب استفتى الرسول صلّى الله عليه وسلم فيأمره عليه الصلاة والسلام بالكفارة. فقال: لقد أهلكت مالا لبدا في الكفارات والتبعات منذ أطعت محمدا صلّى الله عليه وسلم. وقيل: المراد ما تقدم أولا إلّا أن هذا القول وقت الانتقام منه وذلك يوم القيامة، والتعبير عن الإنفاق بالإهلاك لما أنه لم ينفعه يومئذ. وقرأ أبو جعفر «لبّدا» بشد الباء وعنه وعن زيد بن علي «لبدا» بسكون الباء وقرأ مجاهد وابن أبي الزناد «لبدا» بضم اللام والباء. أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ أي حين كان ينفق ما ينفق رئاء الناس أو حرصا على معاداته صلّى الله عليه وسلم يعني أن الله تعالى كان يراه وكان سبحانه عليه رقيبا فهو عز وجل يسأله عنه ويجازيه عليه. وفي الحديث: «لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيم أفناه، وعن ماله مم جمعه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به» . وجوز أن يكون المعنى إن لم يجده أحد على أن المراد بالرؤية الوجدان اللازم له، ولَمْ بمعنى لن وعبر بها لتحقق الوقوع يعني أنه تعالى يجده يوم القيامة فيحاسبه على ذلك. وعن الكلبي أن هذا القائل كان كاذبا لم ينفق شيئا فقال تعالى: أيظن أن الله تعالى ما رأى ذلك منه فعل أو لم يفعل أنفق أو لم ينفق بل رآه عز وجل وعلم منه خلاف ما قال وقرر سبحانه القدرة على مجازاته ومحاسبته والاطلاع على حاله بقوله جل وعلا أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ يبصر بهما وَلِساناً يفصح به عما في ضميره وَشَفَتَيْنِ يستر بهما فاه ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب والنفخ وغير ذلك والمفرد شفة وأصلها شفهة حذفت منها الهاء ويدل عليه شفيهة وشفاه وشافهت وهي مما لا يجوز جمعه بالألف والتاء وإن كان فيه تاء التأنيث على ما في البحر وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ أي طريقي الخير والشر كما أخرجه الحاكم وصححه والطبراني وغيرهما عن ابن مسعود وأخرجه عبد بن حميد وابن جرير عن ابن عباس وروي عن عكرمة والضحاك وآخرين وأخرجه الطبراني عن أبي أمامة مرفوعا والنجد مشهور في الطريق المرتفع قال امرؤ القيس: فريقان منهم جازع بطن نخلة ... وآخر منهم قاطع نجد كبكب الجزء: 15 ¦ الصفحة: 352 وسميت نجد به لارتفاعها عن انخفاض تهامة والامتنان المحدث عنه بأن هداه سبحانه وبيّن له تعالى شأن ما إن سلكه نجا وما إن سلكه هلك، ولا يتوقف الامتنان على سلوك طريق الخير. وقد جعل الإمام هذه الآية كقوله تعالى إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان: 3] ووصف سبيل الخير بالرفعة والنجدية ظاهر بخلاف سبيل الشرفان فيه هبوطا من ذروة الفطرة إلى حضيض الشقاوة فهو على التغليب أو على توهم المتخيلة له صعودا ولذا استعمل الترقي في الوصول إلى كل شيء وتكميله كذا قيل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس أنهما الثديان وروي ذلك عن ابن المسيب أي ثديي الأم لأنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه والارتفاع فيهما ظاهر والبطن تحتهما كالغور، والعرب تقسم بثديي الأم فتقول: أما ونجديها ما فعلت. ونسب هذا التفسير لعليّ كرم الله تعالى وجهه أيضا. والمذكور في الدر المنثور من رواية الفريابي وعبد بن حميد وكذا في مجمع البيان عنه كرم الله تعالى وجهه أن أناسا يقولون: إن النجدين الثديان، فقال: لا هما الخير والشر. ولعل القائل بذلك رأى أن اللفظ يحتمله مع ظهور الامتنان عليه جدا فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ الاقتحام الدخول بسرعة وضغط وشدة ويقال: قحم في الأمر قحوما رمى نفسه فيه من غير روية. والعقبة الطريق الوعر في الجبل وفي البحر هي ما صعب منه وكان صعودا، والجمع عقب وعقاب وهي هنا استعارة لما فسرت به من الأعمال الشاقة المرتفعة القدر عند الله تعالى والقرينة ظاهرة وإثبات الاقتحام المراد به الفعل والكسب ترشيح، ويجوز أن يكون قد جعل فعل ما ذكر اقتحاما وصعودا شاقا وذكره بعد النجدين جعل الاستعارة في الذروة العليا من البلاغة والمراد ذم المحدث عنه بأنه مقصر مع ما أنعم الله تعالى به عليه من النعم العظام والأيادي الجليلة الجسام كأنه قيل فقصر ولم يشكر تلك النعم العظيمة والأيادي الجسيمة بفعل الأعمال الصالحة بل غمط النعمة وكفر بالمنعم واتبع هوى نفسه. وقوله تعالى وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ أي أي شيء أعلمك ما هي تعظيم لشأن العقبة المفسرة بقوله سبحانه فَكُّ رَقَبَةٍ إلخ وتفسيرها بذلك بناء على الادعاء والمجاز وهو مما لا شبهة في صحته وإن لم يتحد العقبة والفك حقيقة فلا حاجة إلى تقدير مضاف كما زعمه الإمام ليصح التفسير، أي وما أدراك ما اقتحام العقبة فك إلخ وقال بعضهم: يحتمل أن يراد بالعقبة نفس الشكر عبر بها عنه لصعوبته ولا يأباه وما أَدْراكَ إلخ لأنه بمنزلة ما أدراك ما الشكر فَكُّ رَقَبَةٍ وهو كما ترى. وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وابن أبي شيبة عن ابن عمر أن العقبة جبل زلال في جهنم. وأخرج ابن جرير عن الحسن نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنها النار وفي رواية عبد بن حميد عنه أنها عقبة بين الجنة والنار، وعن مجاهد والضحاك والكلبي أنها الصراط وقد جاء في صفته ما جاء، ولعل المراد بعقبة بين الجنة والنار هذا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي رجاء أنه قال: بلغني أن العقبة التي ذكر الله تعالى في القرآن مطلعها سبعة آلاف سنة ومهبطها سبعة آلاف سنة، وهذه الأقوال إن صحت يتعين عليها أن يراد بالاقتحام المرور والجواز بسرعة وأن يقدر المضاف أي وما أدراك ما اقتحام العقبة فك إلخ. وجعل الفك وما عطف عليه نفس الاقتحام على سبيل المبالغة في سببيته له حتى كأنه نفسه، ومآل المعنى فلا فعل ما ينجو به ويجوز بسببه العقبة الكؤود يوم القيامة وبهذا يندفع ما نقله الإمام عن الواحدي بعد نقله تفسيرها بجبل زلال في جهنم وبالصراط ونحو ذلك وهو قوله. وفي هذا التفسير نظر لأن من المعلوم أن هذا الإنسان وغيره لم يقتحموا عقبة جهنم ولا جاوزوها فحمل الآية عليه يكون إيضاحا للواضحات ثم قال: ويدل عليه أنه لما قال سبحانه وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فسرها جل شأنه بفك الرقبة والإطعام انتهى. نعم أنا لا أقول بشيء من ذلك حتى تصح فيه تفسيرا للآية رواية مرفوعة. والفك تخليص شيء من شيء قال الشاعر: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 353 فيا رب مكروب كررت وراءه ... وعان فككت الغل منه ففداني وهو مصدر فك وكذا الفكاك بفتح الفاء كما نص عليه الفرّاء والمشهور أن المراد به هنا تخليص رقبة الرقيق من وصف الرقبة بالإعتاق. وأخرج أحمد وابن حبان وابن مردويه والبيهقي عن البراء رضي الله تعالى عنه أن «أعرابيا قال: يا رسول الله علمني عملا يدخلني الجنة، قال: «أعتق النسمة وفك الرقبة» قال: أو ليسا بواحد؟ قال: «لا إن عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في عتقها» الحديث. وعليه يكون نفي العتق عن المحدث عنه متحققا من باب أولى، ومن الفك بهذا المعنى إعطاء المكاتب ما يصرفه في جهة فكاك نفسه. وجاء في فضل الإعتاق أخبار كثيرة منها ما أخرجه أحمد والشيخان والترمذي وغيرهم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار حتى الفرج بالفرج» . وهو أفضل من الصدقة عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وعند صاحبيه الصدقة أفضل والآية على ما قيل أدل على قول الإمام لمكان تقديم الفك على الإطعام. وعن الشعبي تفضيل العتق أيضا على الصدقة على ذي القرابة فضلا عن غيره. وقال الإمام: في الآية وجه آخر حسن وهو أن يكون المراد أن يفك المرء رقبة نفسه بما يكلفه من العبادة التي يصير بها إلى الجنة فهي الحرية الكبرى وعليه قيل يكون ما بعد من قبيل التخصيص بعد التعميم وفيه بعد كما لا يخفى أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ مصدر ميمي بمعنى السغب قال أبو حيان: وهو الجوع العام، وقد يقال: سغب الرجل إذا جاع. وقال الراغب: هو الجوع مع التعب وربما قيل في العطش مع التعب وفسره ابن عباس هنا بالجوع من غير قيد. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن إبراهيم أنه قال في يوم فيه الطعام عزيز وليس بتفسير بالمعنى الموضوع له. ووصف اليوم بذي مسغبة نحو ما يقول النحويون في قولهم هم ناصب ذو نصب، وليل نائم ذو نوم، ونهار صائم ذو صوم يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أي قرابة فهو مصدر ميمي أيضا من قرب في النسب، يقال: فلان ذو قرابتي وذو مقربتي بمعنى. قال الزجاج: وفلان قرابتي قبيح لأن القرابة مصدر. قال: يبكي الغريب عليه ليس يعرفه ... وذو قرابته في الحي مسرور وفيه بحث. وفي إِطْعامٌ هذا جمع بين الصدقة والصلة وفيهما من الأجر ما فيهما. وقيل: إنه لا يخص القريب نسبا بل يشمل من له قرب بالجوار أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ أي افتقار وهو مصدر ميمي كما تقدم من ترب إذا افتقر ومعناه التصق بالتراب، وأما أترب فاستغنى أي صار ذا مال كالتراب في الكثرة كما قيل أثرى. وعن ابن عباس أنه فسره هنا بالذي لا يقيه من التراب شيء. وفي رواية أخرى هو المطروح على ظهر الطريق قاعدا على التراب لا بيت له وهو قريب مما أخرجه ابن مردويه عن ابن عمر مرفوعا: «هو الذي مأواه المزابل» فإن صح لا يعدل عنه. وفي رواية أخرى عن ابن عباس هو الذي يخرج من بيته ثم يقلب وجهه إليه مستيقنا أنه ليس فيه إلّا التراب. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه إنه قال في ذلك يعني بعيد التربة أي بعيدا من وطنه وهو بعيد، والصفة على بعض هذه التفاسير صفة كاشفة وبعض آخر مخصصة واو على ما في البحر للتنويع. وقد استشكل عدم تكرار لا هنا مع أنها دخلت على الماضي وهم قالوا يلزم تكرارها حينئذ كما في قوله تعالى فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى [القيامة: 31] وقول الحطيئة: وإن كانت النعماء فيهم جزوا بها ... وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا وشذ قوله: لا هم إن الحارث بن جبله ... جنى على أبيه ثم قتله الجزء: 15 ¦ الصفحة: 354 وكان في جاراته لا عهد له ... فأي أمر سيىء لا فعله وأجيب بأن اللازم تكرارها لفظا أو معنىّ، وهي هنا مكررة معنى لأن تفسير العقبة بما فسرت به من الأمور المتعددة يلزم منه تفسير الاقتحام فيكون: فلا اقتحم العقبة في معنى فلا فك رقبة ولا أطعم يتيما إلخ. وقد يقال في البيت نحو ذلك بأن يقال إن العموم فيه قائم مقام التكرار ويلزمه على ما قيل جواز لا جاءني زيد وعمرو لأنه في معنى لا جاءني زيد ولا جاءني عمرو ومنعه الزجاج والفرّاء: يجوز أن يكون منه قوله تعالى ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا فإنه عطف على المنفي أعني اقْتَحَمَ فكأنه قيل فلا اقتحم ولا آمن، ولا يلزم منه كون الإيمان غير داخل في مفهوم العقبة لأنه يكفي في صحة العطف والتكرار كونه جزءا أشرف خص بالذكر عطفا فجاءت صورة التكرار ضرورة إذ الحمل على غير ذلك مفسد للمعنى، ويلزمه جواز لا أكل زيد وشرب على العطف على المنفي والبعض المتقدم يمنعه. وقيل: إن لا للدعاء والكلام دعاء على ذلك الكافر أن لا يرزقه الله تعالى ذلك الخير. وقيل لا مخفف إلا للتخضيض كهلا، فكأنه قيل: فهلا اقتحم أو الاستفهام محذوف والتقدير أفلا اقتحم ونقل ذلك عن ابن زيد والجبائي وأبي مسلم. وفيه أنه لم يعرف تخفيف ألا التحضيضية وأنه كما قال المرتضى يقبح حذف حرف الاستفهام في مثل هذا الموضع، وقد عيب على عمر بن أبي ربيعة قوله: ثم قالوا تحبها قلت بهرا ... عدد الرمل والحصى والتراب وقولهم: لو أريد النفي لم يتصل الكلام بشيء لظهور كان تحت النفي واتصال الكلام عليه، قيل الكلام إخبار عن المستقبل فليس مما يلزم فيه التكرير أي فلا يقتحم العقبة لأن ماضيه معلوم بالمشاهدة فالأهم الإخبار عن حاله في الاستقبال لكي لتحقق الوقوع عبر بالماضي. ونقل الطيبي عن أبي علي الفارسي عدم وجوب تكريرها رادا على الزجاج في زعمه ذلك. وقال: هي كلم والتكرر في نحو فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى لا يدل على الوجوب كما في لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا [الفرقان: 67] وعلى عدم التكرار جاء قول أمية السابق: إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك لا ألما والمتيقن عندي أكثرية التكرر وأما وجوبه فليس بمتيقن والله تعالى أعلم. وقرأ ابن كثير والنحويان «فكّ» فعلا ماضيا «رقبة» بالنصب «أو أطعم» فعلا ماضيا أيضا وعلى هذه القراءة ففك مبدلة من اقتحم وما بينهما اعتراض. ومعناه أنك لم تدركنه صعوبتها على النفس وكنه ثوابها عند الله عز وجل وقرأ أبو رجاء كذلك إلّا أنه قرأ «ذا مسبغة» بالألف على أن «ذا» منصوب على المفعولية بأطعم أي أطعم في يوم من الأيام إنسانا ذا مسغبة، ويكون يتيما بدلا منه أو صفة له. وقرأ هو أيضا والحسن «أو إطعام في يوم ذا» بالألف أيضا على أنه مفعول ب للمصدر. وقرأ بعض التابعين «فكّ رقبة» بالإضافة «أو أطعم» فعلا ماضيا وهو معطوف على المصدر لتأويله به. والتراخي المفهوم من ثُمَّ في قوله تعالى ثُمَّ كانَ إلخ رتبي فالإيمان فوق جميع ما قبله لأنه يستقل بكونه سببا للنجاة وشكرا بدون الأعمال كما فيمن آمن بشرطه ومات في يومه قبل أن يجب عليه شيء من الأعمال فإن ذلك ينفعه ويخلصه بخلاف ما عداه فإنه لا يعتد به بدونه. وقوله سبحانه وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ عطف على آمنوا أي أوصى بعضهم بعضا بالصبر على الإيمان والثبات عليه أو بذلك والصبر على الطاعات أو به، والصبر على المعاصي وعلى المحن التي يبتلى بها الإنسان وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أي بالرحمة على عباده عز وجل ومن ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو تواصوا بأسباب رحمة الله تعالى وما يؤدي إليها من الجزء: 15 ¦ الصفحة: 355 الخيرات على أن المرحمة مجاز عن سببها أو الكلام على تقدير مضاف. وذكر أن تَواصَوْا بِالصَّبْرِ إشارة إلى تعظيم أمر الله تعالى وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ إشارة إلى الشفقة على خلق الله تعالى وهما أصلان عليهما مدار الطاعة وهو الذي قاله بعض المحققين الأصل في التصوف أمر أن اصدق مع الحق وخلق مع الخلق أُولئِكَ إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيّز صلته وما فيه من معنى البعد مع قرب المشار إليه لما مر غير مرة، أي أولئك الموصوفون بالنعوت الجليلة المذكورة أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ أي جهة اليمين التي فيها السعداء أو اليمن لكونهم ميامين على أنفسهم وعلى غيرهم وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا بما نصبناه دليلا على الحق من كتاب وحجة أو بالقرآن هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ أي جهة الشمال التي فيها الأشقياء أو الشؤم على أنفسهم وعلى غيرهم عَلَيْهِمْ نارٌ عظيمة مُؤْصَدَةٌ مطبقة من آصدت الباب إذا غلقته وأطبقته وهي لغة قريش على ما روي عن مجاهد. وظاهر كلام ابن عباس عدم الاختصاص بهم، ومن ذلك قول الشاعر: تحن إلى أجبال مكة ناقتي ... ومن دونها أبواب صنعاء مؤصده ويجوز أن يكون من أوصدت بمعنى غلقت أيضا وهمز على حد من قرأ بالسؤق مهموزا وقرأ غير واحد من السبعة موصدة بغير همز. فيظهر أنه من أوصدت وقيل: يجوز أن يكون من آصدت وسهلت الهمزة وقال الشاعر: قوما يعالج قملا أبناؤهم ... وسلاسلا ملسا وبابا موصدا والمراد مغلقة أبوابها، وإنما أغلقت لتشديد العذاب والعياذ بالله تعالى عليهم. وصرح بوعيدهم ولم يصرح بوعد المؤمنين لأنه الأنسب بما سيق له الكلام، والأوفق بالغرض والمرام ولذا جيء بضمير الفصل معهم لإفادة الحصر واعتبروا غيبا كأنهم بحيث لا يصلحون بوجه من الوجوه لأن يكونوا مشارا إليهم ولم يسلك نحو هذا المسلك في الجملة الأولى التي في شأن المؤمنين. ونقل عن الشمني أنه قال: الحكمة في ترك ضمير الفصل في الأولين والإتيان بدله باسم الإشارة أن اسم الإشارة يؤتى به لتمييز ما أريد به أكمل تمييز كقوله: هذا أبو الصقر فردا في محاسنه ... من نسل شيبان بين الضال والسلم ولا كذلك الضمير فإن اسم الإشارة البعيد يفيد التعظيم لتنزيل رفعة محل المشار به إليه منزلة بعد درجته فاسم الإشارة للتعظيم والإشارة إلى تمييزهم واستحقاقهم كمال الشهرة بخلاف أصحاب المشأمة والضمير لا يفيد ذلك انتهى. وفيه أن اسم الإشارة كما يفيد التعظيم يفيد التحقير كما في قوله تعالى فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ [الماعون: 2] وكمال الشهرة كما يكون في الخير يكون في الشر، فأي مانع من اعتبار استحقاقهم كمال الشهرة في الشر. وبالجملة ما ذكره ليس بشيء ولعل ما ذكرناه هو الأولى فتدبر. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 356 سورة الشمس مكية بلا خلاف وآيها ست عشرة آية في المكي والمدني الأول وخمس عشرة في الباقية. ولما ختم سبحانه السورة المتقدمة بذكر أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة أعاد جل شأنه في هذه السورة الفريقين على سبيل الفذلكة بقوله سبحانه قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشمس: 9، 10] وفي هذه فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها [الشمس: 8] وهو كالبيان لقوله تعالى في الأولى وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: 10] على أول التفسيرين وختم سبحانه الأولى بشيء من أحوال الكفرة في الآخرة، وختم جل وعز هذه بشيء من أحوالهم في الدنيا فقال عز من قائل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالشَّمْسِ وَضُحاها أي ضوءها كما أخرجه الحاكم وصححه عن ابن عباس، والمراد إذا أشرقت وقام سلطانها. وقال بعض المحققين: حقيقة الضحى تباعد الشمس عن الأفق الشرقي المرئي وبروزها للناظرين ثم صار حقيقة في وقته، ثم إنه قيل لأول الوقت ضحوة ولما يليه ضحى ولما بعده إلى قريب الزوال ضحاء بالفتح والمد، فإذا أضيف إلى الشمس فهو مجاز عن إشراقها كما هنا، ونقل عن المبرد أن الضحى مشتق من الضح وهو نور الشمس والألف مقلوبة من الحاء الثانية وكذلك الواو من ضحوة مقلوبة منها، وتعقبه أبو حيان بقوله: لعله مختلق عليه لأن المبرد أجلّ من أن يذهب إلى هذا وهذان مادتان مختلفتان لا تشتق إحداهما من أخرى. وأجيب بأنه لم يرد الاشتقاق الصغير ولا يخفى حاله على الصغير والكبير. وعن مقاتل أن ضحاها حرها وهو تفسير باللازم وعن مقاتل المراد به النهار كله وفيه أنه تعالى أقسم به بعيد ذلك وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها أي تبعها فقيل باعتبار طلوعه وطلوعها أي إذا تلا طلوعه طلوعها بأن طلع من الجزء: 15 ¦ الصفحة: 357 الأفق الشرقي بعد طلوعها وذلك أول الشهر، فإن الشمس إذا طلعت من الأفق الشرقي أول النهار يطلع بعدها القمر لكن لا سلطان له فيرى بعد غروبها هلالا ومناسبة ذلك للقسم به لأنه وصف له بابتداء أمره، فكما أن الضحى كشباب النهار فكذا غرة الشهر كولادته. وقيل باعتبار طلوعه وغروبها أي إذا تلا طلوعه غروبها وذلك في ليلة البدر رابع عشر الشهر فإنه حينئذ في مقابلة الشمس والبعد بينهما نصف دور الفلك فإذا كانت في النصف الفوقاني منه أعني ما يلي رؤوسنا كان القمر في التحتاني منه أعني ما يلي أقدامنا، فإذا غربت طلع من الأفق الشرقي وهو المروي عن قتادة. وقولهم: سمي بدرا لأنه يسبق طلوعه غروب الشمس فكأنه بدرها بالطلوع لا ينافيه لأنه مبني على التقريب، ومناسبة ذلك للقسم به لأنه وقت ظهور سلطانه فيناسب تعظيم شأنه. وقال ابن زيد: تبعها في الشهر كله ففي النصف الأول تبعها بالطلوع وفي الآخر بالغروب، ومراده ما ذكر في القولين. وقيل: المراد تبعها في الإضاءة بأن طلع وظهر مضيئا عند غروبها آخذا من نورها وذلك في النصف الأول من الشهر فإنه فيه يأخذ كل ليلة منه قدرا من النور بخلافه في النصف الثاني وهو مروي عن ابن سلام واختاره الزمخشري. وقال الحسن والفرّاء كما في البحر: أي تبعها في كل وقت لأنه يستضيء منها فهو يتلوها لذلك، وأنكر بعض الناس ذهاب أحد من السلف إلى أن نور القمر مستفاد من ضوء الشمس وزعم أنه رأي المنجمين لا غير وما ذكر حجة عليه والحجة عن أصل المسألة أظهر من الشمس وهي اختلاف تشكلاته النورية قربا وبعدا منها مع ذهاب نوره عند حيلولة الأرض بينه وبينها. وكون الاختلاف لاحتمال أن يكون أحد نصفيه مضيئا والنصف الآخر غير مضيء وأنه يتحرك على محوره حركة وضعية حتى يرى كل نصف منهما تدريجا، وكون ذهاب النور عند الحيلولة لاحتمال حيلولة جسم كثيف بيننا وبينه لا نراه أضعف من حبال القمر كما لا يخفى. وقال الزجاج وغيره تَلاها معناه امتلأ واستدار فكان تابعا لها في الاستدارة وكمال النور. وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها أي جلى النهار الشمس أي أظهرها فإنها تنجلي وتظهر إذا انبسط النهار ومضى منه مدة، فالإسناد مجازي كالإسناد في نحو صام نهاره. وقيل: الضمير المنصوب يعود على الأرض وقيل على الدنيا والمراد بها وجه الأرض وما عليه، وقيل: يعود على الظلمة وجلاها حينئذ بمعنى أزالها وعدم ذكر المرجع على هذه الأقوال للعلم به والأول أولى الذكر المرجع واتساق الضمائر. وجوز بعضهم أن يكون الضمير المرفوع المستتر في جَلَّاها عليه عائدا على الله عز وجل كأنه قيل والنهار إذا جل الله تعالى الشمس فيكون قد أقسم سبحانه بالنهار في أكمل حالاته وهو كما ترى وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها أي الشمس فيغطي ضوءها والإسناد كما مر. وقيل أي الأرض وقيل أي الدنيا. وجيء بالمضارع هنا دون الماضي كما في السابق بأن يقال إذا غشيها، قال أبو حيان: رعاية للفاصلة ولم يقل غشاها لأنه يحتاج إلى حذف أحد المفعولين لتعديه إليهما فإنه يقال: غشيته كذا كما قال الراغب كذا قيل. وقال بعض الأجلّة: جيء بالمضارع للتنبيه على استواء الأزمنة عنده تعالى شأنه. وقال الخفاجي: الأول أن يقال المراد بالليل الظلمة الحادثة بعدم الضوء لا العدم الأصلي والظلمة الأصلية فإن هذه أظهر في الدلالة على القدرة وهي مستقبلة بالنسبة لما قبلها فلا بد من تغيير التعبير ليدل على المراد. واستصعب الزمخشري الأمر في نصب إِذا بأن ما سوى الواو الأولى إن كانت عاطفة لزم العطف على معمولي عاملين مختلفين كعطف النهار مثلا على الشمس المعمول لحرف القسم، وعطف الظرف أعني إِذا في إِذا جَلَّاها على نظيرتها في إِذا تَلاها المعمولة لفعل القسم وإن كانت الجزء: 15 ¦ الصفحة: 358 قسمية لزم اجتماع المقسمات المتعددة على جواب واحد وقد استكرهه الخليل وسيبويه وأجاب باختيار الشق الأول ونفي ما لزمه، فقال: إن واو القسم مطرح معها إبراز الفعل اطراحا كليا فكان لها شأن خلاف شأن الباء حيث أبرز معها الفعل تارة وأضمر أخرى، فكانت الواو قائمة مقام فعل القسم وباؤه سادة مسدهما معا والواوات العواطف نوائب عن هذه الواو فهي عاملة الجر وعاملة النصب، فالعطف من قبيل العطف على معمولي عامل واحد وهذا كما تقول: ضرب زيد عمرا وبكر خالدا فترفع بالواو وتنصب لقيامها مقام ضرب الذي هو عاملها انتهى. وأنت تعلم أن أول الواوات العواطف هاهنا ليس معها ما تعمل فيه النصب فلعله أراد أنها تعمل ذلك إن كان هناك منصوب أو هي عاملة باعتبار أن معنى وَالشَّمْسِ وَضُحاها والشمس وضوءها إذا أشرقت وفيه أيضا أنه لم يقل أحد بأن الحروف العواطف عوامل. وأيضا الإشكال مبني على امتناع العطف على معمولي عاملين مطلقا حتى لو جوّز مطلقا أو بشرط كون المعطوف مجرورا على ما ذهب إليه جمع كما في قولك: في الدار زيد والحجرة عمرو لم يكن إشكال، وأيضا هو مبني على قبول هذا الاستكراه وعدم إمكان التخلص من الاجتماع بتقدير جواب لكل من المقسمات حتى إذا لم يقبل أو قبل وقدر لكل جواب لم يبق إشكال. وأيضا هو مبني على أن إذا ظرفية وهو ممنوع لجواز أن تكون قد تجردت عن الظرفية وحينئذ تكون بدلا مما بعد الواو كما قيل في قوله: وبعد غد يا لهف نفسي من غد ... إذا راح أصحابي ولست برائح أن إذا بدل من غد وعلى تسليم أنها ظرفية يجوز أن يقدر مع كل مضاف تتعلق به، كأن يقدر وتلو القمر إذا تلاها، وتجلية النهار إذا جلاها، وغشيان الليل إذا يغشاها أو تجعل متعلقة بمحذوف وقع حالا مقدرة مما تليه أي أقسم بالقمر كائنا إذا تلاها، وبالليل كائنا إذا جلاها كما زعمه بعضهم وفيه بحث وأيضا يردّ على الزمخشري مثل قوله تعالى وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ [التكوير: 17، 18] لأن الواو هنالك عاطفة وقد تقدم صريح فعل القسم كما ذكره الشيخ ابن الحاجب على أن التحقيق كما قال بعض المحققين أن الظرف ليس معمولا لفعل القسم لفساد المعنى إذ التقييد بالزمان غير مراد حالا كان أو استقبالا وإنما هو معمول مضاف مقدر من نحو العظمة لأن الإقسام بالشيء إعظام له فكأنه أقسم بعظمة زمان كذا، وما قيل عليه من أن إقسامه تعالى بشيء مستعار لإظهار عظمته وإبانة شرفه فيجوز تقييده باعتبار جزء المعنى المراد يعني الإظهار، وأيضا إذا كان الإقسام إعظاما لغا تقديره فلو سلم فالاستعارة إما تبعية أو تمثيلية، وعلى كل حال فليس ثمت ما يكون متعلقا بحسب الصناعة والتقدير ليتعلق به وليظهر ما أريد منه مؤكدا فلا لغوية وَالسَّماءِ وَما بَناها أي ومن بناها وإيثار ما على من لإرادة الوصفية تفخيما على ما تقدم في وَما وَلَدَ [البلد: 3] كأنه قيل والقادر العظيم الشأن الذي بناها ودل على وجوده وكمال قدرته بناؤهما والمراد به إيجادها بحيث تدل على ذلك ويستدل بها عليه وهو أولى من تفسيره ببانيها لإشعاره بالمراد من البناء. وكذا الكلام في قوله تعالى وَالْأَرْضِ وَما طَحاها أي بسطها من كل جانب ووطأها كدحاها، ويكون طحا بمعنى ذهب كقول علقمة: طحا بك قلب في الحسان طروب ... بعيد الشباب عصر حان مشيب وبمعنى أشرف وارتفع ومن أيمانهم لا والقمر الطاحي. ويقال: طحا يطحو طحوا وطحى يطحي طحيا. وقوله سبحانه وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها أي أنشأها وأبدعها مستعدة لكمالها وذلك بتعديل أعضائها وقواها الظاهرة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 359 والباطنة والتنكير للتكثير، وقيل للتفخيم على أن المراد بالنفس آدم عليه السلام والأول أنسب بجواب القسم الآتي، ومن ذهب إلى ذلك جعله من الاستخدام. وذهب الفراء والزجاج والمبرد وقتادة وغيرهم إلى أن ما في المواضع الثلاثة مصدرية أي وبنائها وطحوها وتسويتها. وتعقبه الزمخشري بأنه ليس بالوجه لقوله تعالى فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها وما يؤدي إليه من فساد النظم وذلك على ما في الحواشي لما يلزم من عطف الفعل على الاسم وأنه لا يكون له فاعل لا ظاهر وهو ظاهر ولا مضمر لعدم مرجعه. واعترض بأن الأخير منتقض بالأفعال السابقة أعني بَناها وطَحاها سَوَّاها على أن دلالة السياق كافية في صحة الإضمار، وأما الأول ففيه أن عطف الفعل على الاسم ليس بفاسد وإن كان خلاف الظاهر على أنه على ما بعد ما كأنه قيل: ونفس وتسويتها فإلهامها فجورها وتقواها. واعترض هذا بأن الفاء يدل على الترتيب من غير مهلة، والتسوية قبل نفخ الروح والإلهام بعد البلوغ وأجيب بأن التسوية تعديل الأعضاء والقوى ومنها المفكرة والإلهام عبارة عن بيان كيفية استعمالها في النجدين في هذا المحل وهو غير مفارق عنه منذ سوى نعم يزداد بحسب ازدياد القوى كيفية لا وجودا على أن المهلة في نحوها عرفي وقد يعد متعقبا دون تراخ ثم إنه مشترك الإلزام ولا معنى لقول الطيبي النظم السري يوجب موافقة القرائن فلا يجوز، ونفس وتسويتها فألهمها الله فهي حاصلة وإنما ذلك بناء على توهم أن قوله تعالى فَأَلْهَمَها جملة وبالجملة لا يلوح فساد هذا الوجه. وأبى القاضي عبد الجبار إلّا المصدرية دون الموصولية قال لما يلزم منها تقديم الإقسام بغير الله تعالى على إقسامه سبحانه بنفسه عز وجل. وأجاب عنه الإمام بأن أعظم المحسوسات الشمس فذكرها الله تعالى مع أوصافها الأربعة الدالة على عظمها ثم ذكر سبحانه ذاته المقدسة ووصفها جل وعلا بصفات ثلاث ليحظى العقل بإدراك جلال الله تعالى وعظمته سبحانه كما يليق به جل جلاله ولا ينازعه الحس فكان ذلك طريقا إلى جذب العقل من حضيض عالم المحسوسات إلى بيداء أوج كبريائه جل شأنه، وجوز أن تكون ما عبارة عن الأمر الذي له بنيت السماء وطحيت الأرض وسويت النفس من الحكم والمصالح التي لا تحصى، ويكون إسناد الأفعال إليها مجازا، وفاعل ألهمها يجوز أن يكون ذلك أمر ويكون الإسناد مجازا أيضا وهو كما ترى والفجور والتقوى على ما أخرج عبد بن حميد وغيره عن الضحاك المعصية والطاعة مطلقا قلبيين كانا أو قالبيين وإلهامهما النفس على ما أخرج هو وابن جرير وجماعة عن مجاهد تعريفهما إياها بحيث تميز رشدها من ضلالها، وروي ذلك عن ابن عباس كما في البحر، وقريب منه قول ابن زيد ألهمها فُجُورَها وَتَقْواها بيّنهما لها. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وغيرهما نحوه عن قتادة والآية على ذلك نظير قوله تعالى وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: 10] وقدم الفجور على التقوى لأن إلهامه بهذا المعنى من مبادئ تجنبه وهو تخلية والتخلية مقدمة على التحلية وقيل: قدم مراعاة للفواصل وأضيفا إلى ضمير النفس قيل إشارة إلى أن الملهم للنفس فجور وتقوى قد استعدت لهما فهما لها بحكم الاستعداد، وقيل رعاية للفواصل أيضا. وقوله تعالى قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها جواب القسم على ما أخرجه الجماعة عن قتادة وإليه ذهب الزجاج وغيره، وحذف اللام كثير لا سيما عند طول الكلام المقتضى للتخفيف أو لسدّه مسدها. وفاعل زَكَّاها ضمير من والضمير المنصوب للنفس وكذا في قوله تعالى وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها وتكرير قَدْ فيه لإبراز الاعتناء بتحقيق مضمونه والإيذان بتعلق القسم به أصالة، والتزكية التنمية والتدسية الإخفاء وأصل دسى دسس فأبدل من ثالث التماثلات ياء ثم أبدلت ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وأطلق بعضهم فقال: أبدل من ذلك حرف علة كما قالوا في تقضض تقضى ودسس مبالغة في دس بمعنى أخفى قال الشاعر: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 360 ودسست عمرا في التراب فأصبحت ... حلائله منه أرامل ضيّعا وفي الكشاف: التزكية الإنماء والإعلاء، والتدسية النقص والإخفاء أي لقد فاز بكل مطلوب ونجا من كل مكروه من أنمى نفسه وأعلاها بالتقوى علما وعملا ولقد خسر من نقصها وأخفاها بالفجور جهلا وفسوقا. وجوز أن تفسر التزكية بالتطهير من دنس الهيولى والتدسية بالإخفاء فيه والتلوث به وأيّا ما كان ففي الوعد والوعيد المذكورين مع إقسامه تعالى عليهما بما أقسم به مما يدل على العلم بوجوده تعالى ووجوب ذاته سبحانه وكمال صفاته عز وجل ويذكر عظائم آلائه وجلائل نعمائه جلا وعلا من اللطف بعباده ما لا يخفى. وقوله تعالى كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها استئناف وارد لتقرير مضمون قوله تعالى وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها وجعل الزمخشري قوله تعالى قَدْ أَفْلَحَ إلخ تابعا لقوله تعالى فَأَلْهَمَها إلخ على سبيل الاستطراد وأبى أن يكون جواب القسم وجعل الجواب محذوفا مدلولا عليه بهذا كأنه قيل: ليدمن من الله تعالى على كفار مكة لتكذيبهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم كما دمدم على ثمود لتكذيبهم صالحا عليه السلام، فقيل: إن ذلك لما يلزم من حذف اللام وأنه لا يليق بالنظم المعجز أن يجعل أدنى الكمالين أعني التزكية لاختصاصها بالقوة العملية المقصودة بالإقسام ويعرض عن أعلاهما أعني التحلية بالعقائد اليقينية التي هي لب الألباب وزبدة ما مخضته الأحقاب، ولو سلم عدم الاختصاص فهي مقدمة التحلية في البابين وأما حذف المقسم عليه فكثير شائع لا سيما في الكتاب العزيز. وتعقب بأن حذف اللام كثير لا سيما مع الطول وهو أسهل من حذف الجملة بتمامها وقد ذكره في قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون: 1] فما حدا مما بدا وأن التزكية مرادا بها الإنماء لا اختصاص لها وليست مقدمة بل مقصودة بالذات ولو سلم فلا مانع من الاعتناء ببعض المقدمات أحيانا لتوقف المقاصد عليها فتدبر. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه قال في فَأَلْهَمَها ألزمها وأخرجه الديلمي عن أنس مرفوعا وعلى ذلك قال الواحدي وصاحب المطلع الإلهام أن يوقع في القلب التوفيق والخذلان فإذا أوقع سبحانه في قلب عبد شيئا منهما فقد ألزمه سبحانه ذلك الشيء ويزيد ذلك قوة ما أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود عن عمران بن حصين أن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس ويكدحون فيه أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «لا بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها» ولا يقتضي ذلك أن لا يكون لقدرة العبد واختياره مدخل في الفجور والتقوى بالكلية وإن قيل إن ما له إلى خلق الله تعالى إياهما ليقال يأباه حينئذ قوله تعالى قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها إلخ حيث جعل فيه العبد فاعل التزكية بالتقوى والتدسية بالفجور لأن الإسناد يقتضي قيام المسند ويكفي فيه المدخلية المذكورة ولا يتوقف صحة الإسناد حقيقة إلى العبد على كون فعله الإيجاد فالاستدلال بهذا الإسناد على كونه متمكنا من اختيار ما شاء من الفجور والتقوى وإيجاده إياه بقدرة مستقلة فيه على خلاف ما يقوله الجماعة ليس بشيء على أن الضمير المستتر في زَكَّاها وكذا في دَسَّاها لله عز وجل والبارز لمن بتأويل النفس. فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في ذلك يقول الله تعالى قد أفلح من زكى الله تعالى نفسه فهداه وقد خاب من دسى الله تعالى نفسه فأضله. بل أخرج عنه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي أنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 361 يقول في قوله تعالى قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها الآية: «أفلحت نفس زكاها الله تعالى وخابت نفس خيبها الله من كل خير» . وأخرج الإمام أحمد وابن أبي شيبة ومسلم والنسائي عن زيد بن أرقم قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها» . وفي رواية الطبراني وغيره عن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام إذا تلا هذه الآية وقف وقال ذلك . ولهذه الأخبار ونحوها قال بعضهم: إن ذلك هو المرجح، ورجحه صاحب الانتصاف بأن الضمائر في وَالسَّماءِ وَما بَناها إلخ تكون عليه متسقة عائدة كلها إلى الله تعالى وبأن قوله تعالى قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [الأعلى: 14] أوفق به لأن تزكى مطاوع زكى فيكون المعنى قد أفلح من زكاه الله تعالى فتزكى، ومع هذا كله لا ينبغي أن ينكر أن المعنى السابق هو السابق إلى الذهن وما ذكر من الأخبار ليس نصا في تعيين المعنى الآخر، نعم هو نص في تكذيب الزمخشري في زعمه أنه من تعكيس القدرية يعني بهم أهل السنة والجماعة فتأمل. والطغوى مصدر من الطغيان بمعنى تجاوز الحد في العصيان فصلوا بين الاسم والصفة في فعلي من بنات الياء بأن قلبوا الياء واوا في الاسم وتركوا القلب في الصفة فقالوا في الصفة امرأة صديا وخزيا وفي الاسم تقوى وطغوى كذا في الكشاف وغيره وكلام الراغب يدل على أن طغى وأوى ويأتي حيث قال: يقال طغوت وطغيت طغوانا وطغيانا فلا تغفل. والباء عند الجمهور للسببية أي فعلت التكذيب بسبب طغيانها كما تقول: ظلمني الخبيث بجراءته على الله تعالى. وجعلها الزمخشري للاستعانة والأمر سهل، وجوز أن تكون صلة للتكذيب على معنى كذبت بما أوعدت به في لسان نبيها من العذاب ذي الطغوى أي التجاوز عن الحد والزيادة، ويوصف العذاب بالطغيان بهذا المعنى كما في قوله تعالى فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [الحاقة: 5] وقد يوصف بالطغوى مبالغة كما يوصف بسائر المصادر لذلك فلا يكون هناك مضاف محذوف. وقرأ الحسن ومحمد بن كعب وحماد بن سلمة «طغواها» بضم الطاء وهو مصدر أيضا كالرجعى والحسنى في المصادر إلا أنه قيل كان القياس الطغيا كالسقيا لأن فعلى بالضم لا يفرق فيه بين الاسم والصفة كأنهم شذوا فيه فقلبوا الياء واوا، وأنت تعلم أن الواو عند من يقول طغوت أصلية. إِذِ انْبَعَثَ متعلق بكذبت أو بطغوى وانْبَعَثَ مطاوع بعثه بمعنى أرسله والمراد إذ ذهب لعقر الناقة أَشْقاها أي أشقى تمود وهو قدار بن سالف أو هو ومن تصدى معه لعقرها من الأشقياء اثنان على ما قال الفراء أو أكثر، فإن أفعل التفضيل إذا أضيف إلى معرفة يصلح للواحد والمتعدد والمذكر والمؤنث وفضل شقاوتهم على من عداهم لمباشرتهم العقر مع اشتراك الكل في الرضا به ولخبائث غير ذلك يعلمها الله تعالى فيهم هي فوق خبائث من عداهم فَقالَ لَهُمْ أي لثمود أو لأشقاها على ما قيل بناء أن المراد به جمع ولا يأباه وَسُقْياها كما لا يخفى رَسُولُ اللَّهِ هو صالح عليه السلام وعبر عنه بعنوان الرسالة إيذانا بوجوب طاعته وبيانا لغاية عتوهم وتماديهم في الطغيان وهو السر في إضافة الناقة إليه تعالى في قوله سبحانه ناقَةَ اللَّهِ وهو نصب على التحذير وشرطه ليس تكرير المحذر منه أو كونه محذرا بما بعده فقط ليقال هو منصوب بتقدير ذروا أو احذروا لا على التحذير، بلى شرطه ذاك أو العطف عليه كما هنا على ما نص عليه مكي والكلام على حذف مضاف أي احذروا عقر ناقة الله أو المعنى على ذلك وإن لم يقدر في نظم الكلام وجوز أن يكون التقدير عظموا أو الزموا ناقة الله وليس بشيء وَسُقْياها أي واحذروا سقياها فلا تتعرضوا بمنعها عنها في نوبتها ولا تستأثروا بها عليها وقيل الواو للمعية والمراد ذروا ناقة الله مع سقياها ولا تحولوا بينهما وهو كما ترى وقرأ زيد بن علي ناقة الله بالرفع فقيل أي همكم ناقة الله وسقياها فلا تعقروها ولا تستأثروا بالسقيا عليها الجزء: 15 ¦ الصفحة: 362 فَكَذَّبُوهُ أي في وعيده إياهم كما حكي عنه بقوله تعالى وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [الأعراف: 73] فالتكذيب لخبر مقدر ويجوز أن يكون لخبر تضمنه الأمر التحذيري السابق وهو الخبر بحلول العذاب إن فعلوا ما حذرهم منه وقيل: إن ما قاله لهم من الأمر قاله ناقلا له عن الله تعالى كما يؤذن بذلك التعبير عنه عليه السلام بعنوان الرسالة، ومآل ذلك أنه قال لهم إنه قال الله تعالى ناقة الله وسقياها فالتكذيب لذلك وهو وجه لا بأس به فَعَقَرُوها أي فنحروها أو فقتلوها وضمير الجمع للأشقى وجمعه على تقدير وحدته لرضا الكل بفعله. قال قتادة: بلغنا أنه لم يعقرها حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم. فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ فأطبق عليهم العذاب وقالوا: دمدم عليه القبر أي أطبقه وهو مما تكرر فيه الفاء فوزنه فعفل لا فعلل من قولهم: ناقة مدمومة إذا لبسها الشحم وغطاها. وقال في القاموس: معناه أتمّ العذاب عليهم. وقال مؤرخ: الدمدمة إهلاك باستئصال. وفي الصحاح: دمدمت الشيء ألزقته بالأرض وطحطحته. وقرأ ابن الزبير «فدهدم» بهاء بين الدالين والمعنى كما تقدم بِذَنْبِهِمْ بسبب ذنبهم المحكي والتصريح بذلك مع دلالة الفاء عليه للإنذار بعاقبة الذنب ليعتبر به كل مذنب فَسَوَّاها الضمير للدمدمة المفهومة من دمدم أي فجعل الدمدمة سواء بينهم أو جعلها عليهم سواء فلم يفلت سبحانه منهم أحدا لا صغيرا ولا كبيرا أو هو لثمود والتأنيث باعتبار القبيلة كما في (طغواها) وأَشْقاها والمعنى ما ذكر أيضا أو فسواها بالأرض وَلا يَخافُ أي الرب عز وجل عُقْباها أي عاقبتها وتبعتها كما يخاف المعاقبون من الملوك عاقبة ما يفعلونه وتبعته. وهو استعارة تمثيلية لإهانتهم وأنهم أذلاء عند الله جل جلاله والواو للحال أو للاستئناف، وجوز أن يكون ضمير لا يَخافُ للرسول والواو للاستئناف لا غير على ما هو الظاهر، أي ولا يخاف الرسول عقبى هذه الفعلة بهم إذ كان قد أنذرهم وحذرهم. وقال السدّي والضحاك ومقاتل والزجاج وأبو علي: الواو للحال والضمير عائد على أَشْقاها أي انبعث لعقرها وهو لا يخاف عقبى فعله لكفره وطغيانه وهو أبعد مما قبله بكثير. وقرأ أبيّ والأعرج ونافع وابن عامر «فلا يخاف» بالفاء وقرىء «ولم يخف» بواو وفعل مجزوم بلم. هذا واختلف في هؤلاء القوم هل آمنوا ثم كفروا أو لم يؤمنوا أصلا فالجمهور على الثاني وذهب بعض إلى أنهم آمنوا وبايعوا صالحا مدة ثم كذبوه وكفروا فأهلكوا بما فصّل في موضع آخر. وقال الشيخ الأكبر محيي الدين قدس سره في فصوصه: إنهم وقوم لوط عليه السلام لا نجاة لهم يوم القيامة بوجه من الوجوه ولم يساو غيرهم من الأمم المكذبة المهلكة في الدنيا كقوم نوح عليه السلام بهم. ولكلامه قدس سره أهل يفهمونه فارجع إليهم في فهمه إن وجدتهم. وذكر بعض أهل التأويل أن الشَّمْسِ إشارة إلى ذات واجب الوجود سبحانه وتعالى وَضُحاها إشارة إلى الحقيقة المحمدية وَالْقَمَرِ إشارة إلى ماهية الممكن المستفيدة للوجود من شمس الذات وَالنَّهارِ إشارة إلى العالم بسائر أنواعه الذي ظهرت به صفات جمال الذات وجلاله وكماله وَاللَّيْلِ إشارة إلى العالم بسائر أنواعه الذي ظهرت بر صفات جمال الذات وجلاله وكماله وَاللَّيْلِ إلى وجود ما يشاهد من أنواع الممكنات الساتر في أعين المحجوبين للوجود الحق وَالسَّماءِ إشارة إلى عالم العقل وَالْأَرْضِ إشارة إلى عالم الجسم والنفس معلومة وناقَةَ اللَّهِ إشارة إلى راحلة الشوق الموصولة إلى سبحانه وَسُقْياها إشارة إلى مشربها من عين الذكر والفكر وقال بعض: آخر الشمس إشارة إلى الوجود الحق الذي هو عين الواجب تعالى فهو أظهر من الشمس الله نور السماوات والأرض. وقال شيخ مشايخنا البندنيجي قدس سره: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 363 ظاهر أنت ولكن لا ترى ... لعيون حجبتها النقط وَضُحاها إشارة إلى أول التعينات بأي اسم سميته وَالْقَمَرِ إشارة إلى الأعيان الثابتة المفاضة بالفيض الأقدس أو الشَّمْسِ إشارة إلى الذات وَضُحاها إشارة إلى وجودها والإضافة للتغاير الاعتباري وَالْقَمَرِ إشارة إلى أول التعينات وَالنَّهارِ إشارة إلى الممكنات المفاضة بالفيض المقدس وَاللَّيْلِ إشارة إليها أيضا باعتبار نظر المحجوبين أو النهار إشارة إلى صفة الجمال والليل إشارة إلى صفة القهر والجلال وَالسَّماءِ إشارة إلى عالم اللطافة وذكر النفس بعد مع دخولها في هذا العالم للاعتناء بشأنها وَالْأَرْضِ إشارة إلى عالم الكثافة وناقَةَ اللَّهِ إشارة إلى الطريقة وَسُقْياها مشربها من عين الشريعة وقيل غير ذلك والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 364 سورة الليل لا خلاف في أنها إحدى وعشرون آية، واختلف في مكيتها ومدنيتها فالجمهور على أنها مكية، وقال علي ابن أبي طلحة مدنية، وقيل بعضها مكي وبعضها مدني. وكذا اختلف في سبب نزولها فالجمهور على أنها نزلت في شأن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وروي ذلك بأسانيد صحيحة عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما وقال السدّي إنها نزلت في أبي الدحداح الأنصاري وذلك أنه كان في دار منافق نخلة يقع منها في دار يتامى في جواره بعض بلح فيأخذه منهم، فقال له صلّى الله عليه وسلم: «دعها لهم ولك بدلها محل في الجنة» فأبى فاشتراها أبو الدحداح بحائطها فقال للنبيّ صلّى الله عليه وسلم: «أهبها لهم بالنخلة التي في الجنة» . فقال صلّى الله عليه وسلم: «افعل» فوهبها فنزلت وروى نحوه مطولا مبهما فيه أبو الدحداح ابن أبي حاتم عن ابن عباس بسند ضعيف كما نص عليه الحافظ السيوطي. وذكر بعضهم أن قوله تعالى فيها وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى [الليل: 17] إلخ نزل في أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وسكت عما عداه. ونقل عن بعض المفسرين أن هذا مجمع عليه وإن زعم بعض الشيعة أنه نزل في الأمير كرم الله تعالى وجهه وسيأتي إن شاء الله تعالى شرح ما له نزل. ولما ذكر سبحانه فيما قبلها قَدْ أَفْلَحَ [الشمس: 9] إلخ ذكر سبحانه فيها من الأوصاف ما يحصل به الفلاح وما يحصل به لخيبة ففيها نوع تفصيل لذلك لا سيما وقد عقب جل وعلا ذلك بشيء من أنواع الفلاح وأنواع الخيبة والعياذ بالله تعالى. فقال عز من قائل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى أي حين يغشى الشمس كقوله تعالى وَاللَّيْلِ إِذا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 365 يَغْشاها [الشمس: 4] أو النهار كقوله تعالى يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ [الأعراف: 54، الرعد: 3] أو كل ما يواريه في الجملة بظلامه والمقسم به في الأوجه الثلاث الليل كله وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى ظهر بزوال ظلمة الليل أو تبين وانكشف بطلوع الشمس والأول على تقدير كون المغشي النهار أو كل ما يوارى إذ مآلهما اعتبار وجود الظلام. والثاني على تقدير كونه الشمس إذ مآله اعتبار غروبها فيحسن التقابل بين القرينتين على ذلك واختلاف الفعلين مضيا واستقبالا قد تقدم الكلام فيه. وقرأ عبد الله بن عبيد بن عمير «تتجلى» بتاءين على أن الضمير للشمس وقرىء «تجلى» بضم التاء وسكون الجيم على أن الضمير لها أيضا وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى أي والقادر العظيم القدرة الذي خلق صنفي الذكر والأنثى من الحيوان المتصف بذلك وقيل من بني آدم. وقال ابن عباس والحسن والكلبي: المراد بالذكر آدم عليه السلام، وبالأنثى حواء رضي الله تعالى عنها وأيّا ما كان فما موصولة بمعنى من وأوثرت عليها لإرادة الوصفية على ما سمعت وتحتمل المصدرية وليس بذاك. وقرىء «والذي خلق» . وقرأ ابن مسعود «والذكر والأنثى» وتبعه ابن عباس كما أخرج ذلك ابن النجار في تاريخ بغداد من طريق الضحاك عنه ونسبت لعليّ كرم الله تعالى وجهه . وأخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم من علقمة أنه قدم الشام فجلس إلى أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه فقال له أبو الدرداء ممّن أنت؟ فقال: من أهل الكوفة قال: كيف سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى؟ قال علقمة: «والذكر والأنثى» فقال أبو الدرداء: أشهد أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرأ هكذا وهؤلاء يريدوني على أن أقرأ وما خلق الذكر والأنثى والله لا أتابعهم وأنت تعلم أن هذه قراءة شاذة منقولة آحادا لا تجوز القراءة بها لكنها بالنسبة إلى من سمعها من النبيّ عليه الصلاة والسلام في حكم المتواترة نجوز قراءته بها وذكر ثعلب أن من السلف من قرأ «وما خلق الذكر» بجر الراء وحكاها الزمخشري عن الكسائي وخرجوا ذلك على البدل من ما بمعنى وما خلقه الله أي ومخلوق الله الذكر والأنثى. قيل: وقد يخرج على توهم المصدر بناء على مصدرية ما أي وخلق الذكر والأنثى كما في قوله: تطوف العفاة بأبوابه ... كما طاف بالبيعة الراهب بجر الراهب على توهم النطق بالمصدر أي كطواف الراهب بالبيعة. إِنَّ سَعْيَكُمْ أي مساعيكم فإن المصدر المضاف يفيد العموم فيكون جمعا معنى ولذا أخبر عنه بجمع أعني قوله تعالى لَشَتَّى فإنه جمع شتيت بمعنى متفرق، ويجوز أن لا يعتبر سعيكم في معنى الجمع ويكون شتى مصدرا مؤنثا كذكرى وبشرى خبرا له بتقدير مضاف أي ذو شتى أو بتأويله بالوصف أي شتيت أو بجعله عين الافتراق مبالغة. وأيّا ما كان فالجملة جواب القسم كما أخرجه ابن جرير عن قتادة. وجوز أن يكون الجواب مقدرا كما مرّ غير مرة والمراد بتفرق المساعي اختلافها في الجزاء. وقوله تعالى فَأَمَّا مَنْ أَعْطى إلخ تفصيل مبين لتفرقها واختلافها في ذلك، وجوز أن يراد باختلافها كون البعض طالبا لليوم المتجلي والبعض طالبا لليل الغاشي وبعضها مستعانا بالذكر وبعضها مستعانا بالأنثى فيكون الجواب شديد المناسبة بالقسم ولا يخفى بعده وركاكته. والظاهر أن المراد بالإعطاء بذل المال ومن هنا قال ابن زيد: المراد إنفاق ماله في سبيل الله تعالى. قتادة: المعنى أعطى حق الله تعالى وظاهره الحقوق المالية وَاتَّقى أي واتقى الله عز وجل كما قال ابن عباس، وفي معناه قول قتادة واتقى ما نهي عنه. وفي رواية محارم الله تعالى. وقال مجاهد: واتقى البخل وهو كما ترى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى أي بالكلمة الحسنى وهي كما قال أبو عبد الرحمن السلمي وغيره وروي ذلك عن ابن عباس: لا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 366 إله إلا الله، أو هي ما دلت على حق كما قال بعضهم: وتدخل كلمة التوحيد دخولا أوليا أو بالملة الحسنى وهي ملة الإسلام. وقال عكرمة وجماعة: وروي عن ابن عباس أيضا هي المثوبة بالخلف في الدنيا مع المضاعفة وقال مجاهد: الجنة، وقيل: المثوبة مطلقا ويترجح عندي أن الإعطاء إشارة إلى العبادة المالية، والاتقاء إشارة إلى ما يشمل سائر العبادات من فعل الحسنات وترك السيئات مطلقا والتصديق بالحسنى إشارة إلى الإيمان بالتوحيد أو بما يعمه وغيره مما يجب الإيمان به وهو تفصيل شامل للمساعي كلها، وتقديم الإعطاء لما أنه سبب النزول ظاهرا فقد أخرج الحاكم وصححه عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: قال أبو قحافة لأبي بكر رضي الله تعالى عنه: أراك تعتق رقابا ضعافا فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالا جلدا يمنعونك ويقيمون دونك. فقال: يا أبه إنما أريد ما أريد، فنزلت فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى إلى وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن عساكر عن ابن مسعود قال: إن أبا بكر اشترى بلالا من أمية بن خلف ببردة وعشرة أواق فأعتقه فأنزل الله تعالى وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى - إلى قوله سبحانه- إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى وكذا على القول بأنها نزلت في أبي الدحداح. ولما كان الإيمان أمرا معتنى به في نفسه أخر عن الاتقاء ليكون ذكره بعده من باب ذكر الخاص بعد العام مع ما في ذلك من رعاية الفاصلة. وقيل: المراد أعطى الطاعة واتقى المعصية وصدق بالكلمة الدالّة على الحق ككلمة التوحيد. وفيه أن المعروف في الإعطاء تعلقه بالمال خصوصا وقد وقع في مقابلة ذكر البخل والمال وأمر تأخير الإيمان عليه بحاله وقيل أخر لأن من جملة إعطاء الطاعة بالإصغاء لتعلم كلمة التوحيد التي لا يتم الإيمان إلّا بها. ومن جملة الاتقاء عن الإشراك وهما متقدمان على ذلك وليس بشيء فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى فسنهيئه للخلصة التي تؤدي إلى يسر وراحة كدخول الجنة ومباديه، من يسر الفرس للركوب إذا أسرجها وألجمها. ووصفها باليسرى إما على الاستعارة المصرحة أو المجاز المرسل أو التجوز في الإسناد. وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ بماله فلم يبذله في سبيل الخير وقيل أي بخل بفعل ما أمر به وفيه ما فيه وَاسْتَغْنى أي وزهد فيما عنده عز وجل كأنه مستغنى عنه سبحانه فلم يتقه جل وعلا أو استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم العقبى لأنه في مقابلة واتقى. كما أن قوله تعالى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى في مقابلة وصدق بالحسنى والمراد بالحسنى فيه ما مر في الأقوال قبل فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى أي للخصلة المؤدية إلى العسر والشدة كدخول النار ومبادئه ووصفها بالعسرى على نحو ما ذكر، وأصل التيسير من اليسر بمعنى السهولة لكن أريد التهيئة والإعداد للأمر أعني ما يفضي إلى راحة وما يفضي إلى شدة. والسين في فَسَنُيَسِّرُهُ قيل للتأكيد وقيل للدلالة على أن الجزاء الموعود معظمه يكون في الآخرة التي هي أمر منتظر متراخ، وتقديم البخل فالاستغناء فالتكذيب يعلم وجهه مما تقدم. وفي الإرشاد لعل تصدير القسمين بالإعطاء والبخل مع أن كلّا منهما أدنى رتبة مما بعد في استتباع التيسير لليسرى والتعسير للعسرى للإيذان بأن كلّا منهما أصيل فيما ذكر لما بعدهما من التصديق والتقوى والتكذيب والاستغناء. وقيل التيسير أولا بمعنى اللطف وثانيا بمعنى الخذلان، واليسرى والعسرى الطاعة لكونها أيسر شيء على المتقي وأعسره على غيره، والمعنى أما من أعطى فسنلطف به ونوفقه حتى تكون الطاعة عليه أيسر الأمور وأهونها من قوله تعالى فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الأنعام: 125] وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ إلخ فسنخذله ونمنعه الإلطاف حتى تكون الطاعة أعسر شيء عليه وأشد من قوله تعالى يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ [الأنعام: 125] ، وأصل هذا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 367 فسنيسره للطاعة العسرى ثم أريد ما ذكر على أن الوصف هو المقصود بتعلق التيسير أعني التعسير لا الموصوف أعني الطاعة، ومع هذا إطلاق التيسير للعسرى مشاكلة. وجوز أن يراد باليسرى طريق الجنة وبالعسرى طريق النار وبالتيسير في الموضعين معنى الهداية وهو في الآخرة وعدا ووعيدا وأمر المشاكلة فيه على حاله. وجوز أن يراد بالتيسير التهيئة والإعداد واليسرى والعسرى الطاعة والمعصية ومبادئهما من الصفات المحمودة والمذمومة وهو وجه حسن غير بعيد عن الأول وكلاهما حسن الطباق لما صح في الأخبار أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في جنازة فقال: «ما منكم من أحد إلّا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار» فقالوا: يا رسول الله أفلا نتكل؟ فقال: «اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فييسر لعمل أهل الشقاء» ثم قرأ عليه الصلاة والسلام «فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى» الآيتين وكان حاصل ما أراده صلّى الله عليه وسلم بقوله: «اعملوا» إلخ عليكم شأن العبودية وما خلقتم لأجله وأمرتم به وكلوا أمور الربوبية المغيبة إلى صاحبها فلا عليكم بشأنها. وأيّا ما كان فالمراد بمن أعطى إلخ وبمن بخل إلخ المتصف بعنوان الصلة مطلقا وإن كان السبب خاصا إذا العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. نعم هو قطعي الدخول وقيل من أعطى أبو بكر رضي الله تعالى عنه، ومن بخل أمية بن خلف. وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس أن الأول أبو بكر رضي الله تعالى عنه والثاني أبو سفيان بن حرب ونحوه عن عبد الله بن أبي أوفى وفي هذا نظر لأن أبا سفيان أسلم وقوي إسلامه في آخر أمره عند أهل السنة. وفي رواية الطستي عنه أن وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ إلخ نزل في أبي جهل ولعل كل ما قيل من التخصيص فهو من باب التنصيص على بعض أفراد العام لتحقق دخوله فيه عند من خصص. وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ أي ولا يغني عنه على أن ما نافية أو أي شيء يغني عنه ماله الذي يبخل به على أنها استفهامية إِذا تَرَدَّى أي هلك تفعل من الردى وهو الهلاك قاله مجاهد. وقيل تردى في حفرة القبر. وقال قتادة وأبو صالح: تردى في جهنم أي سقط وقال قوم تردى بأكفانه من الرداء وهو كناية عن موته وهلاكه إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى استئناف مقرر لما قبله أي إن علينا بموجب قضائنا المبني على الحكم البالغة حيث خلقنا الخلق للعبادة أي ندلهم ونرشدهم إلى الحق أو أن نبين لهم طريق الهدى وما يؤدي إليه من طريق الضلال وما يؤدي إليه وقد فعلنا ذلك بما لا مريد عليه فلا يتم الاستدلال بالآية على الوجوب عليه عز وجل بالمعنى الذي يزعمه المعتزلة. وقيل: المراد أن الهدى موكول علينا لا على غيرنا كما قال سبحانه إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص: 56] وليس المعنى أن الهدى يجب علينا حتى يكون بظاهره دليلا على وجوب الأصلح عليه تعالى عن ذلك علوا كثيرا. وفيه أن تعلق الجار بالكون الخاص أعني موكولا خلاف الظاهر ومثله ما قيل إن المراد ثم إن علينا طريقة الهدى على معنى أن من سلك الطريقة المبينة بالهدى والإرشاد إليها يصل إلينا كما قيل في قوله تعالى وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ [النحل: 9] أي من سلك السبيل القصد أي المستقيم وصل إليه سبحانه وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى أي التصرف الكلي فيهما كيفما نشاء فنفعل فيهما ما نشاء من الأفعال التي من جملتها ما ذكرنا فيمن أعطى وفيمن بخل أو أن لنا ذلك فنثيب من اهتدى وأنجع فيه هدانا أو أن لنا كل ما في الدارين فلا يضرنا ترككم الاهتداء وعدم انتفاعكم بهدانا، أو فلا ينفعنا اهتداؤكم كما لا يضرنا ضلالكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 368 عليها فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى قيل متفرع على كون الهدى عليه سبحانه أي فهديتكم بالإنذار وبالغت في هدايتكم وتَلَظَّى بمعنى تلتهب وأصله تتلظى بتاءين فحذفت منه إحداهما. وقد قرأ بذلك ابن الزبير وزيد بن علي وطلحة وسفيان بن عيينة وعبيد بن عمير لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى المراد به الكافر فإنه أشقى من الفاسق ويفصح بذلك وصفه بقوله تعالى الَّذِي كَذَّبَ أي بالحق وَتَوَلَّى وأعرض عن الطاعة وَسَيُجَنَّبُهَا أي سيبعد عنها الْأَتْقَى المبالغ في اتقاء الكفر والمعاصي فلا يحوم حولها. واستشكل بأن صلى النار دخولها أو مقاساة حرها وهو لازم دخولها على المشهور فالحصر السابق يقتضي أن لا يصلى المؤمن العاصي النار لأنه ليس داخلا في عموم الأشقى الموصوف بما ذكر وأن سيجنبها الأتقى يقتضي بمفهومه أن غير الأتقى أعني التقي في الجملة وهو المؤمن العاصي لا يجنبها بل يصلاها، فبيّن الحصرين مخالفة. وأجيب بأن الصلى ليس مطلق دخول النار ولا مطلق مقاساة حرها بل هو مقاساته على وجه الأشدية، فقد نقل ابن المنير عن أئمة اللغة أن الصلى أن يحفروا حفيرة فيجمعوا فيها جمرا كثيرا ثم يعمدوا إلى شاة فيدسوها وسطه بين أطباقه فالمعنى لا يعذب بين أطباقها ولا يقاسي حرها على وجه الأشدية إلا الأشقى وسيبعد عنها الأتقى فلا يدخلها فضلا عن مقاساة ذلك فيلزم من الأول أن غير الأشقى وهو المؤمن العاصي لا يعذب بين أطباقها ولا يقاسي حرها على وجه الأشدية، ولا يلزم منه أن لا يدخلها ولا يعذب بها أصلا فيجوز أن يدخلها ويعذب بها على وجهها عذابا دون ذلك العذاب. ويلزم من الثاني أن غير الأتقى لا يجنبها ولا يلزم منه أن غيره أعني التقي في الجملة وهو المؤمن العاصي يصلاها ويعذب بين أطباقها أشد العذاب، بل غايته أنه لا يجنبها فيجوز أن يدخلها ويعذب بها على وجهها عذابا ليس بالأشد فلا مخالفة بين الحصرين واعتبر بعضهم في الصلى الأشدية لما ذكر واللزوم هنا لمقابلته بقوله تعالى وَسَيُجَنَّبُهَا كذا قيل. واستحسن جعل السين للتأكيد ليكون المعنى يجنبها الأتقى ولا بد فيفيد على القول بالمفهوم أن غيره وهو المؤمن العاصي لا يجنبها ولا بد على معنى أنه يجوز أن يجنبها، ويجوز أن لا يجنبها بل يدخلها غير صال بها. وقرر الزمخشري الاستشكال بأنه قد علم أن كل شقي يصلاها وكل تقي يجنبها لا يختص الصلى بأشقى الأشقياء ولا التجنب والنجاة بأتقى الأتقياء وظاهر الجملتين وذلك. وأجاب بما حاصله أن الحصر حيث كانت الآية واردة للموازنة بين حالتي عظيم من المشركين وعظيم من المؤمنين ادعائي مبالغة لا حقيقي كان غير هذا الأشقى غير صال وغير هذا الأتقى غير مجنب بالكلية، واستحسنه في الكشف فقال: هو معنى حسن وأنت تعلم أن مبنى ما قاله على الاعتزال وتخليد العصاة في النار. وقال القاضي: إن قوله تعالى لا يَصْلاها لا يدل على أنه تعالى لا يدخل النار إلّا الكفار كما يقول المرجئة وذلك لأنه تعالى نكر النار فيها، فالمراد أن نارا من النيران لا يصلاها إلّا من هذه حاله والنار دركات على ما علم من الآيات فمن أين عرف أن هذه النار لا يصلاها قوم آخرون. وتعقبه الزمخشري بأنه ما يصنع عليه بقوله تعالى وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى فقد علم أن أفسق المسلمين يجنب تلك النار المخصوصة لا الأتقى منهم خاصة، وأجيب بأنه لعل هذا القائل لا يقول بمفهوم الصفة ونحوها فلا تفيد الآية المذكورة عنده الحصر ويكون تمييز هذا الأتقى عنده بمجموع التجنب وما سيذكر بعد، ولعل كل من لا يقول بالمفهوم لا يشكل عليه الأمر إلا أمر الحضر في لا يصلاها إلخ فإنه كالنص في بادىء النظر فيها يدعيه المرجئة لحملهم الصلى فيه على مطلق الدخول. وأيدوه بما أخرج الإمام أحمد وابن ماجة وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا يدخل النار إلّا من شقي» قيل: ومن الشقي؟ قال: «الذي لا يعمل لله تعالى طاعة ولا يترك لله تعالى معصية» . وهذا الخبر ونحوه من الأخبار مما يستندون إليه في تحقيق دعواهم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 369 وأهل السنة يؤولون ما صح من ذلك للنصوص الدالة على تعذيب بعض ممن ارتكب الكبيرة على ما بيّن في موضعه. وقيل في الجواب أن المراد بالأشقى والأتقى الشقي والتقي وشاع أفعل في مثل ذلك ومنه قول طرفة: تمنى رجال أن أموت فإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد فإنه أراد بواحد واعترض بأنه لا يحسم مادة الإشكال إذ ذلك الشقي في الآية ليس إلّا الكافر فيلزم الحصر أن لا يدخل النار أو لا يعذب بها غيره من أنه خلاف المذهب الحق، وأيضا أن ذلك التقي فيها قد وصف بما وصف فعلى القول بالمفهوم يلزم أن لا يجنبها التقي الغير الموصوف بذلك كالتقي الذي لا مال له وكغيره والمكلفين من الأطفال والمجانين مع أن الحق أنهم يجتنبونها وقيل غير ذلك. ولعلك بعد الاطلاع عليه وتدقيق النظر في جميع ما قيل واستحضار ما عليه الجماعة في أهل الجمع تستحسن إن قلت بالمفهوم ما استحسنه صاحب الكشف مما مر عن الزمخشري وإن لم تكن ممن يقول بتخليد أهل الكبائر من المؤمنين فتأمل. وجنب يتعدى إلى مفعولين فالضميرها هنا المفعول الثاني، والأتقى المفعول الأول وهو النائب عن الفاعل. ويقال: جنب فلان خيرا وجنب شرا، وإذا أطلق فقيل جنب فلان فمعناه على ما قال الراغب أبعد عن الخير وأصل جنبته كما قيل جعلته على جانب منه، وكثيرا ما يراد منه التبعيد ومنه ما هنا ولذا قلنا أي سيبعد عنها الأتقى. الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ أي يعطيه ويصرفه يَتَزَكَّى طالبا أن يكون عند الله تعالى زاكيا ناميا لا يريد به رياء ولا سمعة أو متطهرا من الذنوب فالجملة نصب على الحال من ضمير يؤتي، وجوز أن تكون بدلا من الصلة فلا محل لها من الإعراب، وجوز أيضا أن يكون الفعل وحده بدلا من الفعل السابق وحده واعترض كلا الوجهين بأن البدل من قسم التابع المعرف بكل ثان أعرب بإعراب سابقه ولا إعراب للصلة حتى يثبت لها تابع فيه. وسبب الإعراب وهو الرفع في الفعل متوفر مع قطع النظر عن التبعية وهو على المشهور تجرده عن الناصب والجازم فليس معربا بإعراب سابقه لظهور ذلك في كون إعرابه للتبعية وهو هنا ليس لها بل للتجرد. وأجيب مع الإغماض عما في ذلك التعريف مما نبّه على بعضه الرضي أما عن الأول فبأن المراد أعرب بإعراب سابقه إن كان له إعراب أو بأن المراد أعرب بإعراب سابقه وجودا وعدما وقيل إطلاق التابع على ذلك ونحوه من الحرف والفعل الغير المعرب مجاز من حيث إنه مشابه للتابع لموافقته لسابقه فيما له وأما عن الثاني فبأن الشيء قد يقصد لشيء وإن كان متحققا قبل ذلك الشيء لأمر آخر كألف التثنية وواو الجمع فإنه يؤتى بهما للدلالة على التثنية والجمع فيتحققان، ويأتي عامل الرفع على المثنى والمجموع وهما فيهما قبله فيقصدان له وقال السيد عيسى: المراد بقولهم كل ثان أعرب إلخ كل ثان أعرب لو لم يكن معربا فتدبر ولا تغفل. وجوز أن يكون يَتَزَكَّى بتقدير لأن يتزكى متعلقا بيؤتي علة له ثم حذفت اللام وحذفها من أن وأن شائع ثم حذفت أن فارتفع الفعل أو بقي منصوبا كما في قول طرفة: ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى فقد روي برفع أحضر وبنصبه وقيل إنه بتقدير لأن أو عن أن أحضر فصنع فيه نحو ما سمعت. وأيّا ما كان يدل الكلام على أن المراد بإيتائه صرفه في وجوه البر والخير. وقرأ الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم «يزكى» بإدغام التاء في الزاي وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى استئناف مقرر لما أفاده الكلام السابق من كون إيتائه للتزكي خالصا لله تعالى أي ليس لأحد عنده نعمة من الجزء: 15 ¦ الصفحة: 370 شأنها أن تجزى وتكافأ فيقصد بإيتاء ما يؤتى مجازاتها ويعلم مما ذكر أن بناء تُجْزى للمفعول لأن القصد ليس لفاعل معين وقيل إن ذلك لكونه فاصلة وأصله يجز به إياها أو يجزيها إياه إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى منصوب على الاستثناء المنقطع من نعمة لأن الابتغاء لا يندرج فيها فالمعنى لكنه فعل ذلك لابتغاء وجه ربه سبحانه وطلب رضاه عز وجل لا لمكافأة نعمة. وقرأ يحيى بن وثاب «ابتغاء» بالرفع على البدل من محل «من نعمة» فإنه الرفع إما على الفاعلية أو على الابتداء ومن مزيدة والرفع في مثل ذلك لغة تميم وعليها قوله: وبلدة ليس بها أنيس ... إلّا اليعافير وإلّا العيس وروي بالرفع والنصب على ما في البحر قول بشر بن أبي حازم: أضحت خلاء قفارا لا أنيس بها ... إلا الجآذر والظلمان تختلف وجوز أن يكون نصبه على أنه مفعول له على المعنى لأن معنى الكلام لا يؤتى ما له لأجل شيء من الأشياء إلّا لأجل طلب رضا ربه عز وجل لا لمكافأة نعمة فهو استثناء مفرغ من أعم العلل والأسباب، وإنما أول لأن الكلام أعني يُؤْتِي مالَهُ موجب والاستثناء المفرغ يختص بالنفي عند الجمهور لكنه لما عقب بقوله تعالى وَما لِأَحَدٍ وقد قال سبحانه أو لا يَتَزَكَّى متضمنا نفي الرياء والسمعة دل على المعنى المذكور. وقرأ ابن أبي عبلة «إلا ابتغا» مقصور وفيه احتمال. النصب والرفع. وهذه الآيات على ما ما سمعت نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه لما أنه كان يعتق رقابا ضعافا فقال له أبوه ما قال وأجابه هو بما أجاب، وقد أوضحت ما أبهمه رضي الله تعالى عنه في قوله فيه إنما أريد ما أريد. وفي رواية ابن جرير وابن عساكر أنه قال: أي أبه إنما أريد ما عند الله تعالى. وفي رواية عطاء والضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه اشترى بلالا وكان رقيقا لأمية بن خلف يعذبه لإسلامه برطل من ذهب فأعتقه فقال المشركون: ما أعتقه أبو بكر إلّا ليد كانت له عنده فنزلت وهو رضي الله تعالى عنه أحد الذين عذبوا لإسلامهم فاشتراهم الصديق وأعتقهم. فقد أخرج ابن أبي حاتم عن عروة أن أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أعتق سبعة كلهم يعذب في الله عز وجل بلال وعامر بن فهيرة والنهدية وابنتها ودنيرة وأم عبيس وأمة بني المؤمل وفيه نزلت وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى إلى آخر السورة واستدل بذلك الإمام على أنه رضي الله تعالى عنه أفضل الأمة وذكر أن في الآيات ما يأبى قول الشيعة أنها في علي كرم الله تعال وجهه وأطال الكلام في ذلك وأتى بما لا يخلو عن قيل وقال وقوله تعالى وَلَسَوْفَ يَرْضى جواب قسم مضمر أي وبالله لسوف يرضى والضمير فيه للأتقى المحدث عنه وهو وعد كريم بنيل جميع ما يبتغيه على أكمل الوجوه وأجملها إذ به يتحقق الرضا وجوز الإمام كون الضمير للرب تعالى حيث قال بعد أن فسر الجملة على رجوعه للأتقى وفيه عندي وجه آخر وهو أن المراد أنه ما أنفق إلّا لطلب رضوان الله تعالى ولسوف يرضى الله تعالى عنه وهذا عندي أعظم من الأول لأن رضا الله سبحانه عن عبده أكمل للعبد من رضاه عن ربه عز وجل، وبالجملة فلا بد من حصول الأمرين كما قال سبحانه راضِيَةً مَرْضِيَّةً [الفجر: 28] انتهى. والظاهر هو الأول وقد قرىء «ولسوف يرضى» بالبناء للمفعول من الإرضاء وما أشار إليه في معنى راضِيَةً مَرْضِيَّةً غير متعين كما سمعت وفي هذه الجملة كلام يعلم مما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 371 سورة الضّحى مكية وآيها إحدى عشرة آية بلا خلاف. ولما ذكر سبحانه فيما قبلها وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى [الليل: 17] وكان سيد الأتقين رسول الله صلّى الله عليه وسلم، عقب سبحانه ذلك بذكر نعمه عز وجل عليه صلّى الله عليه وسلم وقال الإمام: لما كانت الأولى سورة أبي بكر رضي الله تعالى عنه وهذه سورة رسول الله صلّى الله عليه وسلم عقب جل وعلا بها ولم يجعل بينهما واسطة ليعلم أن لا واسطة بين رسوله صلّى الله عليه وسلم والصديق رضي الله تعالى عنه، وتقديم سورة الصديق على سورته عليه الصلاة والسلام لا يدل على أفضليته منه صلّى الله عليه وسلم ألا ترى أنه تعالى أقسم أولا بشيء من مخلوقاته سبحانه ثم أقسم بنفسه عز وجل في عدة مواضع منها السورة السابقة على ما علمت، والخدم قد تتقدم بين يدي السادة وكثير من السنن أمر بتقديمه على فروض العبادة ولا يضر النور تأخره عن أغصانه ولا السنان كونه في أطراف مرّانه ثم إن ما ذكره زهرة ربيع لا تتحمل الفرك كما لا يخفى. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالضُّحى تقدم الكلام فيه والمراد به هنا وقت ارتفاع الشمس الذي يلي وقت بروزها للناظرين دون ضوئها وارتفاعها لأنه أنسب بما بعد. وتخصيصه بالإقسام به لأنه شباب النهار وقوله فيه قوة غير قريبة من ضدها. ولذا عد شرفا يوميا للشمس وسعدا ولأنه على ما قالوا الساعة التي كلم الله تعالى فيها موسى عليه السلام وألقى فيه السحرة سجدا لقوله تعالى وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى [طه: 59] ففيه مناسبة للمقسم عليه وهو أنه تعالى لم يترك النبي صلّى الله عليه وسلم ولم يفارقه إلطافه تعالى وتكليمه سبحانه. وقيل المراد به النهار كما في قوله تعالى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى [الأعراف: 98] واعتراض بالعرق فإنه وقع هناك في مقابلة البيات وهو مطلق الليل، وهنا في مقابلة الليل مقيدا معنى باشتداد ظلمته فالمناسب أن يراد به وقت ارتفاعه وقوة إضاءته. وأجيب بمنع دلالة القيد على الاشتداد وستسمع إن شاء الله تعالى ما في ذلك وأيّا ما كان فالظاهر أن المراد الجنس أي وجنس الضحى وَاللَّيْلِ أي وجنس الليل إِذا سَجى أي سكن أهله الجزء: 15 ¦ الصفحة: 372 على أنه من السجو وهو السكون مطلقا كما قال غير واحد والإسناد مجازي أو هو على تقدير المضاف كما قيل، ونحوه ما روي عن قتادة أي سكن الناس والأصوات فيه وهذا يكون في الغالب فيما بين طرفيه أو بعد مضي برهة من أوله أو ركد ظلامه من سجا البحر سكنت أمواجه. قال الأعشى: وما ذنبنا أن جاش بحر ابن عمكم ... وبحرك ساج لا يواري الدعامصا فالسجو قيل على هذا في الأصل سكون الأمواج ثم عم، والمراد بسكون ظلامه عدم تغيره بالاشتداد والتنزيل أي فيما يحس ويظهر وذلك إذا كمل حسا بوصول الشمس إلى سمت القدم وقبيله وبعيده. وصرح باعتبار الاشتداد ابن الأعرابي حيث قال: سجا الليل اشتد ظلامه. وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن جبير أنه قال: أي إذا أقبل فغطى كل شيء. وأخرج ابن جرير وابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس تفسير سجا بأقبل بدون ذكر التغطية، وأخرجاهما وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا أنه قال: سجا إذا ذهب، وكلا التفسيرين خلاف المشهور. وشاع ليل ساكن أو ساج لما لا ريح فيه ووصفه بذلك أعني السكون قيل على الحقيقة كما إذا قيل: ليل لا ريح فيه، ولا يقال إن الساكن هو الريح بالحقيقة لأن السكون عليها حقيقة محال لأنه هواء متحرك ثم إنهم يقولونه لما لا ريح فيه لا لما سكن ريحه والتحقيق أن يقال إن السكون على تفسيريه أعني عدم الحركة عما من شأنه الحركة أو كونين في حيّز واحد لا يصح على الليل لأنه زمان خاص، لكن لما كان سكون الهواء بمنزلة عدم له في العرف العامي لعدم الإحساس أو لتضمنه عدم الريح لا الهواء قيل ليل ساج وساكن. وصف الليل على الحقيقة أي لا إسناد فيه إلى غير ملائم على أنه يحتمل أن يجعل السكون بهذا المعنى حقيقة عرفية، وجوز حمل ما في الآية على هذا الشائع ولعل التقييد بذلك لأن الليل الذي لا ريح فيه أبعد عن الغوائل. وقد ذكر بعض الفقهاء أن الريح الشديدة ليلا عذر من أعذار الجماعة. ونقل عن قتادة ومقاتل أن المراد بالضحى هو الضحى الذي كلم الله تعالى فيه موسى عليه السلام، وبالليل ليلة المعراج. ومن الناس من فسر الضحى بوجهه صلّى الله عليه وسلم بشعره عليه الصلاة والسلام كما ذكر الإمام، وقال: لا استبعاد فيه وهو كما ترى. ومثله ما قيل: الضحى ذكور أهل بيته عليه الصلاة والسلام والليل إناثهم وقال الإمام يحتمل أن يقال الضحى رسالته صلّى الله عليه وسلم والليل زمان احتباس الوحي فيه لأن في حال النزول حصل الاستئناس وفي زمان الاحتباس حصل الاستيحاش، أو الضحى نور علمه تعالى الذي يعرف المستور من الغيوب والليل عفوه تعالى الذي به يستر جميع العيوب، أو الضحى إقبال الإسلام بعد أن كان غريبا والليل إشارة إلى أنه سيعود غريبا، أو الضحى كمال العقل والليل حال الموت، أو الضحى علانيته عليه الصلاة والسلام التي لا يرى الخلق عليها عيبا والليل سره صلّى الله عليه وسلم لا يعلم عالم الغيب عليها عيبا انتهى. ولا يخفى أنه ليس من التفسير في شيء وباب التأويل والإشارة يدخل فيه أكثر من ذلك. وتقديم الضحى على الليل بناء على ما قلنا أولا لرعاية شرفه لما فيه من ظهور زيادة النور وللنور شرف ذاتي على الظلمة لكونه وجوديا أو لكثرة منافعه أو لمناسبته لعالم الملائكة فإنها نورانية، وتقديم الليل في السورة السابقة لما فيه من الظلمة التي هي لعدميتها أصل للنور الحادث بإزالتها لأسباب حادثة، وقيل تقديمه هناك لأن السورة في أبي بكر وهو قد سبقه كفر، وتقديم الضحى هنا لأن السورة في رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو صلّى الله عليه وسلم لم يسبقه ذلك. وتخصيصه تعالى الوقتين بالإقسام قيل ليشير سبحانه بحالهما إلى حال ما وقع له عليه الصلاة والسلام ويؤيد عز وجل نفي ما توهم فيه فكأنه تعالى يقول: الزمان ساعة فساعة ساعة ليل وساعة نهار ثم تارة تزداد ساعات الليل وتنقص ساعات النهار وأخرى بالعكس فلا الزيادة لهوى ولا النقصان لقلى بل كل لحكمة، وكذا أمر الوحي مرة إنزال وأخرى حبس فلا كان الإنزال عن هوى ولا الحبس عن قلى بل كل لحكمة. وقيل ليسلّي عز وجل بحالهما حبيبه عليه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 373 الصلاة والسلام كأنه سبحانه يقول: انظر إلى هذين المتجاورين لا يسلم أحدهما من الآخر بل الليل يغلب تارة والنهار أخرى فكيف تطمع أن تسلم من الخلق؟ والقولان مبنيان على أن المراد بالضحى النهار كله وبالليل إذا سجى جميع الليل وتخصيص الضحى على ما سمعت أولا لما سمعت وتخصيص الليل بناء على أن المراد وقت اشتداد الظلمة قيل لأنه وقت خلو المحب بالمحبوب والأمن من كل واش ورقيب. وقال الطيبي طيب الله تعالى ثراه في ذلك: أنه تعالى أقسم له صلّى الله عليه وسلم بوقتين فيهما صلاته عليه الصلاة والسلام التي جعلت قرة عينه وسبب مزيد قربه وأنسه، أما الضحى فلما رواه الدارقطني في المجتبى عن ابن عباس مرفوعا: «كتب عليّ النحر ولم يكتب عليكم، وأمرت بصلاة الضحى ولم تؤمروا بها» . وأما الليل فلقوله تعالى وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ [الإسراء: 79] إرغاما لأعدائه وتكذيبا لهم في زعم قلاه وجفائه فكأنه قيل وحق قربك لدينا وزلفاك عندنا إنّا اصطفيناك وما هجرناك وقليناك فهو كقوله: وثناياك إنها إغريض وهو مما تستطيبه أهل الأذواق ويمكن أن يكون الإقسام بالليل على ما نقل عن قتادة من باب وثناياك أيضا وكذا الإقسام بهما على بعض الأوجه المارة كما لا يخفى. وعلى كون المراد بالضحى الوقت المعروف من النهار وبالليل جميعه قيل إن التفرقة للإشارة إلى أن ساعة من النهار توازي جميع الليل كما أن النبيّ عليه الصلاة والسلام يوازي جميع الأنبياء عليهم السلام وللإشارة لكون النهار وقت السرور والليل وقت الوحشة والغم إلى أن هموم الدنيا وغمومها أدوم من سرورها. وقد روي أن الله تعالى لما خلق العرش أظلت عن يساره غمامة فنادت: ماذا أمطر؟ فأمرت أن تمطر الغموم والأحزان فأمطرت مائة سنة ثم انكشفت فأمرت مرة أخرى بذلك، وهكذا إلى إتمام ثلاثمائة سنة ثم أظلت عن يمين العرش غمامة بيضاء فنادت: ماذا أمطر؟ فأمرت أن تمطر السرور ساعة فلذا ترى الغموم والأحزان أدوم من المسار في الدنيا والله تعالى أعلم بصحة الخبر وقيل غير ذلك. وقوله تعالى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ إلخ جواب القسم وودع من التوديع وهو في الأصل من الدعة وهو أن تدعو للمسافر بأن يدفع الله تعالى عنه كآبة السفر وأن يبلغه الدعة وخفض العيش كما أن التسليم دعاء له بالسلامة، ثم صار متعارفا في تشييع المسافر وتركه ثم استعمل في الترك مطلقا وفسر به هنا أي ما تركك ربك. وفي البحر والكشاف: التوديع مبالغة في الودع أي الترك لأن من ودعك مفارقا فقد بالغ في تركك، قيل: وعليه يلزم أن يكون المنفي الترك المبالغ فيه دون أصل الترك مع أن الظاهر نفي ذلك فلا بد من أن يقال إنه إنما نفى ذلك لأنه الواقع في كلام المشركين الذي نزلت له الآية، أو أن المبالغة تعود على النفي فيكون المراد المبالغة في النفي لا نفي المبالغة، وقد ذكروا نظير هذين الوجهين في قوله تعالى وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] فتدبر. وقيل: إن المعنى ما قطعك قطع المودع على أن التوديع مستعارة تبعية للترك وفيه من اللطف والتعظيم ما لا يخفى فإن الوداع إنما يكون بين الأحباب ومن تعز مفارقته كما قال المتنبي: حشاشة نفس ودعت يوم ودعوا ... فلم أدر أي الظاعنين أشيّع وحقيقة التوديع المتعارف غير متصورة هاهنا، وتعقب بأنه على هذا لا يكون ردّا لما قاله المشركون لأنهم لم يقولوا ودعه ربه على هذا المعنى كيف وهم بمعزل عن اعتقاد كونه عليه الصلاة والسلام بالمحل الذي هو صلّى الله عليه وسلم فيه من ربه سبحانه؟ وقيل في الجواب: إنه يجوز أن يدل ودعه ربه على ذلك إلّا أنهم قاتلهم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 374 الله تعالى قالوه على سبيل التهكم والسخرية، وحين رد عليهم قصد ما يشعر به اللفظ على التحقيق. وقيل: إن الترك مطلق في كلامهم والظاهر من حالهم أنهم لم يريدوا الماهية من حيث هي ولا من حيث تحققها في ضمن ما لا يخل بشريف مقامه عليه الصلاة والسلام بل الماهية من حيث تحققها في ضمن ما يخل بذلك، ولما كان المقصود إيناسه صلّى الله عليه وسلم وإزالة وحشته عليه الصلاة والسلام جيء بما يتضمن نفي ما زعموه على أبلغ وجه كأنه قيل: إن هذا النوع الغير المخل بمقامك من الترك لم يكن فضلا عما زعموه من الترك المخل بعزيز مقامك وعندي أن الظاهر أن ذلك القول بأي معنى كان صادر على سبيل التهكم إذا كان المراد بالرب هو الله عز وجل وكان القائل من المشركين كما لا يخفى على المتأمل. وقرأ عروة بن الزبير وابنه هشام وأبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة «ما ودعك» بالتخفيف وهي على ما قال ابن جني قراءة النبيّ صلّى الله عليه وسلم وخرجت على أن ودع مخفف ودع ومعناه معناه. قال في القاموس: ودعه كوضعه وودع بمعنى، وقيل: ليس بمخففة بل هو فعل برأسه بمعنى ترك وأنه يعكر على قول النحاة أماتت العرب ماضي يدع ويذر ومصدرهما واسم فاعلهما واسم مفعولهما واستغنوا بما ليترك من ذلك. وفي المغرب أن النحاة زعموا أن العرب أماتت ذلك والنبي صلّى الله عليه وسلم أفصحهم وقد قال عليه الصلاة والسلام: «لينتهين أقوام عن ودعهم الجماعات» وقرأ ما وَدَّعَكَ وقال أبو الأسود: ليت شعري عن خليلي ما الذي ... غاله في الحب حتى ودعه ومثله قول آخر: وثم ودعنا آل عمرو وعامر ... فرائس أطراف المثقفة السمر وهو دليل أيضا على استعمال ودع وهو بمعنى ترك المتعلق بمفعولين فلا تغفل. وفي الحديث: «اتركوا الترك ما تركوكم ودعوا الحبشة ما ودعكم» وفي المستوفى أن كل ذلك قد ورد في كلام العرب ولا عبرة بكلام النحاة. وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. نعم وروده نادر وقال الطيبي: بعد أن ذكر وروده نظما ونثرا إنما حسن هذه القراءة الموافقة بين الكلمتين يعني هذه وما بعدها كما في حديث الترك والحبشة لأن رد العجز على الصدر وصنعة الترصيع قد جبرا منه. وقيل: إن القائلين إنما قالوا «ودعه ربه» بالتخفيف فنزلت فيكون المحسن له قصد المشاكلة لما قالوه وهم تكلموا بغير المعروف طيرة منهم كان غير المعروف من اللفظ مما يتشاءم به من الفأل الرديء أو أنهم لما قصدوا السخرية حسن استعمال اللفظ وقد قالوا يحسن استعمال الألفاظ الغريبة ونحوها في الهجاء فلا يبعد أن يكون في السخرية كذلك. والحق أنه بعد ثبوت وروده لا يحتاج إلى تكليف محسن له، والظاهر أن المراد بالرب هو الله عز وجل وفي التعبير عنه بعنوان الربوبية وإضافته إلى ضميره صلّى الله عليه وسلم من اللطف ما لا يخفى فكأنه قيل ما تركك المتكفل بمصلحتك والمبلغ لك على سبيل التدريج كما لك اللائق بك وَما قَلى أي وما أبغضك، وحذف المفعول لئلا يواجه عليه الصلاة والسلام بنسبة القلى وإن كانت في كلام منفي لطفا به صلّى الله عليه وسلم وشفقة عليه عليه الصلاة والسلام أو لنفي صدوره عنه عز وجل بالنسبة إليه صلّى الله عليه وسلم ولأحد من أصحابه ومن أحبه صلّى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، أو للاستغناء عنه بذكره من قبل مع أن فيه مراعاة للفواصل. واللغة المشهورة في مضارع قلى يقلي كيرمي وطيىء تقول: يقل بفتح العين كيرضى وتفسير القلى بالبغض شائع. وفي القاموس من الواوي قلا زيدا قلا وقلاه أبغضه ومن اليائي قلاه كرماه ورضيه قلى وقلاه مقيلة أبغضه وكرهه غاية الكراهة فتركه أو قلاه في الهجر وقليه في البغض. وفي مفردات الجزء: 15 ¦ الصفحة: 375 الراغب القلى شدة البغض يقال: قلاه يقلوه ويقليه فمن جعله من الواوي فهو من القلو أي الرمي من قولهم: قلت الناقة براكبها قلوا وقلوت بالقلة فكان المقلو هو الذي يقذفه القلب من بغضه فلا يقبله، ومن جعله من اليائي فمن قليت البسر والسويق على المقلاة انتهى وبينهما مخالفة لا تخفى. وعلى اعتبار شدة البغض فالظاهر أن ذلك في الآية ليس إلّا لأنه الواقع في كلامهم قال المفسرون: أبطأ جبريل عليه السلام على النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فقال المشركون: قد قلاه ربه وودعه، فأنزل الله تعالى ذلك. وأخرج الحاكم عن زيد بن أرقم قال لما نزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [المسد: 1] إلخ قيل لامرأة أبي لهب أم جميل إن محمدا صلّى الله عليه وسلم قد هجاك فأتته عليه الصلاة والسلام وهو صلّى الله عليه وسلم جالس في الملأ فقالت: يا محمد علام تهجوني؟ قال: «إني والله ما هجوتك ما هجاك إلّا الله تعالى» فقالت: هل رأيتني أحمل حطبا أو في جيدي حبلا من مسد؟ ثم انطلقت فمكث رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا ينزل عليه فأتته فقالت: ما أرى صاحبك إلّا قد ودعك وقلاك، فأنزل الله تعالى ذلك. وأخرج الترمذي وصححه وابن أبي حاتم واللفظ له عن جندب البجلي قال: رمي صلّى الله عليه وسلم بحجر في أصبعه فقال: ما أنت إلا أصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت فمكث ليلتين أو ثلاثا لا يقوم فقالت له امرأة: ما أرى شيطانك إلّا قد تركك . وفي رواية للترمذي أيضا والإمام أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وجماعة بلفظ: اشتكى النبي صلّى الله عليه وسلم فلم يقم ليلتين أو ثلاثا فأنزل الله تعالى وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى وليس فيه حديث المرأة ولا الحجر والرجز وذلك لا يطعن في صحته. وقال جمع من المفسرين: إن اليهود سألوه عليه الصلاة والسلام عن أصحاب الكهف، وعن الروح، وعن قصة ذي القرنين فقال عليه الصلاة والسلام: «سأخبركم غدا» ولم يستثن فاحتبس عنه الوحي فقال المشركون ما قالوا فنزلت. وقيل إن عثمان أهدى إليه صلّى الله عليه وسلم عنقود عنب وقيل عذق تمر فجاء سائل فأعطاه ثم اشتراه عثمان بدرهم فقدمه إليه عليه الصلاة والسلام ثانيا، ثم عاد السائل فأعطيه وهكذا ثلاث مرات فقال عليه الصلاة والسلام ملاطفا لا غضبان: «أسائل أنت يا فلان أم تاجر؟» فتأخر الوحي أياما فاستوحش فنزلت ، ولعلهم أيضا قالوا ما قالوا. وأخرج ابن أبي شيبة في مسنده والطبراني وابن مردويه من حديث خولة وكانت تخدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم إن جروا دخل تحت سرير رسول الله صلّى الله عليه وسلم فمات ولم نشعر به، فمكث رسول الله صلّى الله عليه وسلم أربعة أيام لا ينزل عليه الوحي فقال: «يا خولة ما حدث في بيت رسول الله عليه الصلاة والسلام جبريل لا يأتيني» فقلت: يا نبي الله ما أتى علينا يوم خير منا اليوم، فأخذ برده فلبسه وخرج فقلت في نفسي لو هيأت البيت وكنسته فأهويت بالمكنسة تحت السرير فإذا بشيء ثقيل فلم أزل به حتى بدا لي الجر وميتا فأخذته بيدي فألقيته خلف الدار، فجاء النبيّ صلّى الله عليه وسلم ترعد لحيته وكان إذا نزل عليه الوحي أخذته الرعدة فقال: يا خولة دثريني، فأنزل الله تعالى وَالضُّحى وَاللَّيْلِ- إلى قوله سبحانه- فَتَرْضى وهذه الرواية تدل على أن الانقطاع كان أربعة أيام. وعن ابن جريج أنه كان اثني عشر يوما، وعن الكلبي خمسة عشر يوما وقيل بضعة عشر يوما، وعن ابن عباس خمسة وعشرين يوما، وعن السدّي ومقاتل أربعين يوما وأنت تعلم أن مثل ذلك مما يتفاوت العلم بمبدئه ولا يكاد يعلم على التحقيق إلّا منه عليه الصلاة والسلام والله تعالى أعلم. وفي بعض الروايات ما يدل على أن قائل ذلك هو النبيّ عليه الصلاة والسلام. فعن الحسن أنه قال: أبطأ الوحي على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال لخديجة: «إن ربي ودعني وقلاني» يشكو إليها، فقالت: كلا والذي بعثك بالحق ما ابتدأك الله تعالى بهذه الكرامة إلّا وهو سبحانه يريد أن يتمها لك فنزلت . واستشكل هذا بأنه لا يليق بالرسول الجزء: 15 ¦ الصفحة: 376 صلّى الله عليه وسلم أن يظن أن الله تعالى شأنه ودعه وقلاه وهل إلّا نحو من العزل وعزل النبيّ عن النبوة غير جائز في حكمته عز وجل، والنبيّ عليه الصلاة والسلام أعلم بذلك ويعلم صلّى الله عليه وسلم أيضا أن إبطاء الوحي وعكسه لا يخلو كل منهما عن مصلحة وحكمة. وأجيب بأن مراده عليه الصلاة والسلام إن صح أن يجربها ليعرف قدر علمها أو ليعرف الناس ذلك فقال ما قال صلّى الله عليه وسلم بضرب من التأويل كأن يكون قد قصد إن ربي ودعني وقلاني بزعم المشركين، أو أن معاملته سبحانه إياي بإبطاء الوحي تشبه صورة معاملة المودع والقالي. وأنت تعلم أن هذه الرواية شاذة لا يعول عليها ولا يلتفت إليها فلا ينبغي إتعاب الذهن بتأويلها. ونحوها ما دل على أن قائل ذاك خديجة رضي الله تعالى عنها. أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عروة قال: أبطأ جبريل عليه السلام عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم فجزع جزعا شديدا فقالت خديجة: أرى ربك قد قلاك مما أرى من جزعك فنزلت وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إلى آخرها، والقول بأنها رضي الله تعالى عنها أرادت أن هذا الجزع لا ينبغي أن يكون إلّا من قلى ربك إياك وحاشى أن يقلاك فما هذا الجزع بعيد غاية البعد والمعول ما عليه الجمهور وصحت به الأخبار أن القائل هم المشركون وأنه عليه الصلاة والسلام إنما أحزنه بمقتضى الطبيعة البشرية تعبيرهم وعدم رؤية جبريل عليه السلام مع مزيد حبه إياه. وفي بعض الآثار أنه صلّى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه السلام: «ما جئتني حتى اشتقت إليك» فقال جبريل عليه السلام: كنت أنا إليك أشوق ولكني عبد مأمور وتلا وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مريم: 64] وفي رواية أنه عاتبه عليهما الصلاة والسلام فقال أما علمت أنّا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة. وراوي هذا يروي أن السبب في إبطاء الوحي وجود جرو في بيته عليه الصلاة والسلام والروايات في ذلك مختلفة، وجوز بعضهم أن يكون الإبطاء لتجمع الأسباب ثم إنه قد زعم بعض بناء على بعض الروايات السابقة جواز أن يكون المراد بربك في ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ دون ما بعد صاحبك والمراد به جبريل عليه السلام وهو كما ترى. وحيث تضمن ما سبق من نفي التوديع والقلى أنه عز وجل لا يزال يواصله عليه الصلاة والسلام بالوحي والكرامة في الدنيا بشر صلّى الله عليه وسلم بأن ما سيؤتاه في الآخرة أجل وأعظم من ذلك فقيل: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى لما أنها باقية صافية عن الشوائب على الإطلاق وهذه فانية مشوبة بالمضار وما أوتي عليه الصلاة والسلام من شرف النبوة وإن كان مما لا يعادله شرف ولا يدانيه فضل لكنه لا يخلو في الدنيا عن بعض العوارض القادحة في تمشية الأحكام مع أنه عند ما أعدّ له عليه الصلاة والسلام في الآخرة من السبق والتقدم على كافة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام يوم الجمع يوم يقوم الناس لرب العالمين، وكون أمته صلّى الله عليه وسلم شهداء على سائر الأمم، ورفع درجات المؤمنين وإعلاء مراتبهم بشفاعته صلّى الله عليه وسلم وغير ذلك من الكرامات السنية التي لا تحيط بها العبارات وتقصر دونها الإشارات بمنزلة بعض المبادئ بالنسبة إلى المطالب كذا في الإرشاد والاختصاص الذي تقتضيه اللام قيل إضافي على معنى اختصاصه عليه الصلاة والسلام بخيرية الآخرة دون من آذاه وشمت بتأخير الوحي عنه صلّى الله عليه وسلم، ولا مانع من عمومه لجميع الفائزين كيف وقد علم بالضرورة أن الخير المعدّ له عليه الصلاة والسلام خير من المعدّ لغيره على الإطلاق، ويكفي في ذلك اختصاص المقام المحمود به صلّى الله عليه وسلم على أن اختصاص اللام ليس قصريا كما قرر في موضعه، وحمل الآخرة على الدار الآخرة المقابلة للدنيا والأولى على الدار الأولى وهي الدنيا هو الظاهر المروي عن أبي إسحاق وغيره. وقال ابن عطية وجماعة: يحتمل أن يراد بهما نهاية أمره صلّى الله عليه وسلم وبدايته فاللام فيهما للعهد أو عوض عن المضاف إليه أي لنهاية أمرك خير من بدايته لا تزال تتزايد قوة وتتصاعد رفعة. وفي بعض الأخبار المرفوعة ما هو أظهر في الأول أخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «عرض عليّ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 377 ما هو مفتوح لأمتي بعدي فسرني» فأنزل الله تعالى وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى ثم إن ربط الآية بما قبلها على الوجه الذي سمعت هو ما اختاره غير واحد من الأجلّة وجوز أن يقال فيه إنه لما نزل ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى حصل له عليه الصلاة والسلام به تشريف عظيم فكأنه صلّى الله عليه وسلم استعظم ذلك فقيل له وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى على معنى أن هذا التشريف وإن كان عظيما إلّا أن ما لك عند الله تعالى في الآخرة خير وأعظم. وجوز أيضا أن يكون المعنى أن انقطاع الوحي لا يجوز أن يكون لما يتوهمون لأنه عزل عن النبوة وهو مستحيل في الحكمة بل أقصى ما في الباب أن يكون ذلك لأنه حصل الاستغناء عن الرسالة وذلك أمارة الموت فكأنه تعالى قال: انقطاع الوحي متى حصل دل على الموت لكن الموت خير لك فإن ما لك عند الله تعالى في الآخرة أفضل مما لك في الدنيا، وهذا كما ترى دون ما قبله بكثير والمتبادر مما قرروه أن الجملة مستأنفة واللام فيها ابتدائية. وقد صرح جمع بأنها كذلك في قوله تعالى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى وقالوا: فائدتها تأكيد مضمون لجملة وبعدها مبتدأ محذوف أي ولأنت سوف يعطيك إلخ وأورد عليه أن التأكيد يقتضي الاعتناء والحذف ينافيه ولذا قال ابن الحاجب: إن المبتدأ المؤكد باللام لا يحذف وإن اللام مع المبتدأ كقد مع الفعل وإن مع الاسم فكما لا يحذف الفعل والاسم ويبقيان بعد حذفهما كذلك لا يحذف المبتدأ وتبقى اللام وإنه يلزم التقدير والأصل عدمه وأن اللام لتخلص المضارع الذي في حيزها للحال كتأكيد مضمون الجملة وهو هنا مقرون بحرف التنفيس والتأخير فيلزم التنافي. وردّ بأن المؤكد الجملة لا المبتدأ وحده حتى ينافي تأكيده حذفه وكلام ابن الحاجب ليس حجة على الفارسي وأمثاله وأن يحذف معها الاسم كثيرا كما ذكره النحاة وكذا قد يحذف بعدها الفعل كقوله: أزف الترحل غير أن ركابنا ... لما تزل برحالنا وكأن قد مع أنه لو سلم فقد يفرق كما قال الطيبي بين أن وقد وهذه اللام بأنهما يؤثران في المدخول عليه مع التأكيد بخلاف هذه اللام فإن مقتضاها أن تؤكد مضمون الجملة لا غير وهو باق، وإن حذف المبتدأ فالقياس قياس مع الفارق والنحويون يقدرون كثيرا في الكلام كما قدروا المبتدأ في نحو قمت وأصك عينه وهو لأجل الصناعة دون المعنى كما فيما نحن فيه واللام المؤكدة لا نسلم أنها لتخليص المضارع للحال أيضا بل هي لمطلق التأكيد فقط ويفهم معها الحال بالقرينة لأنه أنسب بالتأكيد. وعلى تسليم أنها لتخليصه للحال أيضا يجوز أن يقال إنها تجردت للتأكيد هنا بقرينة ذكر سوف بعدها، والمراد تأكيد المؤخر أعني الإعطاء لا تأكيد التأخير فالمعنى أن الإعطاء كائن لا محالة وإن تأخر لحكمة وعلى تسليم أنها للأمرين ولا تجرد يجوز أن يقال نزل المستقبل أعني الإعطاء الذي يعقبه الرضا لتحقق وقوعه منزلة الواقع الحالي نظير ما قيل في قوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [النحل: 124] وقيل يحسن هذا جدا فيما نحن فيه على القول بأن الإعطاء قد شرع فيه عند نزول الآية بناء على أحد أوجهها الآتية بعد أن شاء الله تعالى، وذهب بعضهم بأن اللام الأولى للقسم وكذا هذه اللام وبقسميتها جزم غير واحد فالواو عليه للعطف فكلا الوعدين داخل في المقسم عليه، ويكون الله تعالى قد أقسم على أربعة أشياء اثنان منفيان واثنان مثبتان وهو حسن في نظري، واعترض بأن لام القسم لا تدخل على المضارع إلّا مع النون المؤكدة فلو كانت للقسم لقيل «لسوف يعطيك ربك» ولا يخفى أن هذا أحد مذهبين للنحاة والآخر أنه يستثنى ما قرن بحرف تنفيس كما هنا، ففي المغني أنه تجب اللام وتمتنع النون فيه كقوله: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 378 فوربي لسوف يجزى الذي ... أسلف المرء سيئا أو جميلا وكذا مع فصل معمول بين اللام والفعل نحو وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ [آل عمران: 158] ومع كون الفعل للحال نحو «لا قسم» وقد يمتنعان وذلك مع الفعل المنفي نحو تَاللَّهِ تَفْتَؤُا [يوسف: 85] وقد يجبان وذلك فيما بقي نحو تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ [الأنبياء: 57] وعليه لا يتجه الاعتراض مع أن الممنوع بدون النون في جواب القسم لا في المعطوف عليه كما هنا فإنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع، وإنما ذكرت اللام تأكيدا للقسم وتذكيرا به، وبالجملة هذا الوجه أقل دغدغة من الوجه السابق ولا يحتاج فيه إلى توجيه جميع اللام مع سوف إذ لم يقل أحد من علماء العربية بأن اللام القسمية مخلصة المضارع للحال كما لا يخفى على من تتبع كتبهم. وظاهر كلام الفاضل الكلنبوي أن كلّا من اللامين موضوع للدلالة على الحال ووجه الجمع على تقدير كونها في الآية قسمية بأنها محمولة على معناها الحقيقي، وسوف محمولة على تأكيد الحكم ولذا قامت مقام إحدى النونين عند أبي علي الفارسي وقد أطال رحمه الله تعالى الكلام فيما يتعلق بهذا المقام وأتى على غزارة فضله بما يستبعد صدوره من مثله. وقال عصام الدين: الأظهر أن جملة ما وَدَّعَكَ حالية أي ما ودعك ربك وما قلاك، والحال أن الآخرة خير لك من الأولى وأنت تختارها عليها، ومن حاله كذلك لا يتركه ربه ففيه إرشاد للمؤمنين إلى ما هو ملاك قرب العبد إلى الرب عز وجل وتوبيخ للمشركين بما هم فيه من التزام أمر الدنيا والإعراض عن الآخرة، وحينئذ معنى قوله سبحانه وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ أنه سوف يعطيك الآخرة ولا يخفى حينئذ كمال اشتباك الجمل انتهى. وفيه أن دخول اللام عليها مع دخوله على الجملة بعدها وسبقهما بالقسم يبعد الحالية جدا، وأيضا المعنى ذكره على تقديرها غير ظاهر من الآية وكان الظاهر عليه عندك بدل لك كما لا يخفى عليك واختلف في قوله تعالى وَلَسَوْفَ إلخ فقيل: هو عدة كريمة شاملة لما أعطاه الله عز وجل في الدنيا من كمال النفس وعلوم الأولين والآخرين وظهور الأمر وإعلاء الدين بالفتوح الواقعة في عصره صلّى الله عليه وسلم وفي أيام خلفائه عليه الصلاة والسلام وغيرهم من الملوك الإسلامية وفشو الدعوة والإسلام في مشارق الأرض ومغاربها. ولما ادّخر جل وعلا له عليه الصلاة والسلام في الآخرة من الكرامات التي لا يعلمها إلا هو جل جلاله وعم نواله وقيل عدة بما أعطاه سبحانه وتعالى في الدنيا من فتح مكة وغيره والجمهور على أنه عدة أخروية فأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال هي الشفاعة، وروي نحوه عن بعض أهل البيت رضي الله تعالى عنهم. أخرج ابن المنذر وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية من طريق حرب بن شريح قال: قلت لأبي جعفر محمد بن عليّ بن الحسين على جدهم وعليهم الصلاة والسلام: أرأيت هذه الشفاعة التي يتحدث بها أهل العراق أحق هي؟ قال: أي والله حدثني محمد بن الحنفية عن عليّ كرم الله تعالى وجهه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «أشفع لأمتي حتى ينادي ربي أرضيت يا محمد؟ فأقول: نعم يا رب رضيت» ثم أقبل عليّ فقال إنكم تقولون يا معشر أهل العراق إن أرجى آية في كتاب الله تعالى يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر: 35] قلت إنا لنقول ذلك قال فكلنا أهل البيت نقول: إن أرجى آية في كتاب الله تعالى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى وقال: هي الشفاعة .. وقيل: هي أعم من الشفاعة وغيرها ويرشد إليه ما أخرجه العسكري في المواعظ وابن مردويه وابن النجار عن جابر بن عبد الله قال: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلم على فاطمة وهي تطحن بالرحا وعليها كساء من جلد الإبل فلما نظر إليها قال: «يا فاطمة تعجلي مرارة الدنيا بنعيم الآخرة غدا» فأنزل الله تعالى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى . وقال أبو حيان: الأولى العموم لما في الدنيا والآخرة على اختلاف الجزء: 15 ¦ الصفحة: 379 أنواعه والخبر المذكور لو سلم صحته لا يأبى ذلك. نعم عطايا الآخرة أعظم من عطايا الدنيا بكثير فقد روى الحاكم وصححه وجماعة عن ابن عباس أنه قال أعطاه الله تعالى في الجنة ألف قصر من لؤلؤ ترابه المسك في كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم. وأخرج ابن جرير عنه أنه قال في الآية من رضا محمد صلّى الله عليه وسلم أن لا يدخل أحد من أهل بيته النار. وأخرج البيهقي ففي شعب الإيمان عنه أنه قال: رضاه صلّى الله عليه وسلم أن يدخل أمته كلهم الجنة. وفي رواية الخطيب في تلخيص المتشابه من وجه آخر عنه لا يرضى محمد صلّى الله عليه وسلم وأحد من أمته في النار وهذا ما تقتضيه شفقته العظيمة عليه الصلاة والسلام على أمته فقد كان صلّى الله عليه وسلم حريصا عليهم رؤوفا بهم مهتما بأمرهم. وقد أخرج مسلم كما في الدر المنثور عن ابن عمر أنه صلّى الله عليه وسلم تلا قول الله تعالى في إبراهيم عليه السلام فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي [إبراهيم: 36] وقوله تعالى في عيسى إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ [المائدة: 118] الآية فرفع عليه الصلاة والسلام يديه وقال: «اللهم أمتي أمتي» وبكى فقال الله تعالى: يا جبريل اذهب إلى محمد صلّى الله عليه وسلم فقل له إنا سنرضيك في أمتك يخفى ولا نسوؤك. وفي إعادة اسم الرب مع إضافته إلى ضميره عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى أيضا من اللطف به صلّى الله عليه وسلم. وقوله تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى تعديل لما أفاض صلّى الله عليه وسلم من أول أمره إلى وقت النزول من فنون النعماء العظام ليستشهد بالخاص الموجود على المترقب الموعود فيزداد قلبه الشريف وصدره الرحيب طمأنينة وسرورا وانشراحا وحبورا ولذا فصلت الجملة. والهمزة لإنكار النفي وتقرير النفي على أبلغ وجه كأنه قيل قد وجدك إلخ. ووجدته على ما قال الرضي بمعنى أصبته على صفة ويراد بالوجود فيه العلم مجازا بعلاقة اللزوم. وفي مفردات الراغب لوجود اضرب وجود بالحواس الظاهرة ووجود بالقوى الباطنة ووجود بالعقل وما نسب إلى الله تعالى من الوجود فبمعنى العلم المجرد إذ كان الله تعالى منزها عن الوصف بالجوارح والآلات، وقد فسره بعضهم هنا بالعلم وجعل مفعوله الأول الضمير ومفعوله الثاني يَتِيماً وبعضهم بالمصادفة وجعله متعديا لواحد ف يَتِيماً حالا وأنت تعلم أن المصادفة لا تصح في حقه تعالى لأنها ملاقاة ما لم يكن في علمه سبحانه وتقديره جل شأنه، فلا بد من التجوز بها عن تعلق علمه عز وجل بذلك. واليتم انقطاع الصبي عن أبيه قبل بلوغه، والإيواء ضم الشيء إلى آخر يقال: آوى إليه فلانا أي ضمّه إلى نفسه أي ألم يعلمك طفلا لا أبا لك فضمك إلى من قام بأمرك. روي أن عبد المطلب بعث ابنه عبد الله أبا رسول الله صلّى الله عليه وسلم يمتار تمرا من يثرب فتوفي ورسول الله صلّى الله عليه وسلم جنين قد أتت عليه ستة أشهر فلما وضعته كان في حجر جده مع أمه فماتت وهو عليه الصلاة والسلام ابن ست سنين، ولما بلغ عليه الصلاة والسلام ثماني سنين مات جده فكفله عمه الشفيق الشقيق أبو طالب بوصية من أبيه عبد المطلب وأحسن تربيته صلّى الله عليه وسلم. وفي الكشاف ماتت أمه عليه الصلاة السلام وهو ابن ثماني سنين فكفله عمه وكان شديد الاعتناء بأمره إلى أن بعثه الله تعالى وكان يرى منه صلّى الله عليه وسلم في صغره ما لم ير من صغير روي أنه قال يوما لأخيه العباس: ألا أخبرك عن محمد صلّى الله عليه وسلم بما رأيت منه. فقال: بلى. قال: إني ضممته إليّ فكنت لا أفارقه ساعة من ليل ولا نهار ولم ائتمن عليه أحدا حتى أني كنت أنومه في فراشي، فأمرته ليلة أن يخلع ثيابه وينام معي فرأيت الكراهية في وجهه وكره أن يخالفني فقال: يا عماه اصرف وجهك عني حتى أخلع ثيابي إني لا أحب أن تنظر إلى جسدي، فتعجبت من قوله وصرفت بصري حتى دخل الفراش فلما دخلت معه الفراش إذا بيني وبينه ثوب والله ما أدخلته في فراشي فإذا هو في غاية اللين وطيب الراحة كأنه غمس في المسك، فجهدت لأنظر إلى جسده فما كنت أرى شيئا وكثيرا ما الجزء: 15 ¦ الصفحة: 380 كنت أفقده من فراشي فإذا قمت لأطلبه ناداني ها أنا يا عم فارجع، وكنت كثيرا ما أسمع منه كلاما يعجبني وذلك عند ما مضى بعض الليل وكنا لا نسمي على الطعام والشراب ولا نحمد وكان يقول في أول الطعام: بسم الله الأحد، فإذا فرغ من طعامه قال: الحمد لله، فكنت أعجب منه ولم أر منه كذبة ولا ضحكا ولا جاهلية ولا وقف مع الصبيان وهم يلعبون وهذا لعمري غيض من فيض: في المهد يعرب عن سعادة جده أثر النجابة ساطع البرهان وقيل: المعنى ألم يجدك يتيما أبتك المراضع فآواك من مرضعة تحنو عليك بأن رزقها بصحبتك الخير والبركة حتى أحبتك وتكفلتك، والأول هو الظاهر، وقيل غير ذلك مما ستعلمه بعد إن شاء الله تعالى. ومن بدع التفاسير على ما قال الزمخشري أن يتيما من قولهم درة يتيمة والمعنى ألم يجدك واحدا في قريش عديم النظير فآواك والأولى عليه أن يقال ألم يجدك واحدا عديم النظير في الخليقة لم يحو مثلك صدف الإمكان فآواك إليه وجعلك في حق اصطفائه. وقرأ أبو الأشعث «فأوى» ثلاثيا فجوز أن يكون من أواه بمعنى آواه وأن يكون من أوى له أي رحمه ومصدره أياواية وماويّة وماوية وتحقيقه على ما قال الراغب أي رجع إليه بقلبه ومنه قوله: أو أني ولا كفران لله أية وقوله تعالى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى عطف على ما يقتضيه الإنكار السابق كما أشير إليه أو على المضارع المنفي بلم داخل في حكمه كأنه قيل: أما وجدك يتيما فآوى ووجدك غافلا عن الشرائع التي لا تهتدي إليها العقول كما في قوله تعالى ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ [الشورى: 52] وقوله سبحانه وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ [يوسف: 3] فهداك إلى مناهجها في تضاعيف ما أوحي إليك من الكتاب المبين وعلمك ما لم تكن تعلم، وعلى هذا كما قال الواحدي أكثر المفسرين وهو اختيار الزجاج. وروى سعيد بن المسيب أنه صلّى الله عليه وسلم سافر مع عمه أبي طالب إلى الشام فبينما هو راكب ناقة ذات ليلة ظلماء وهو نائم جاءه إبليس فأخذ بزمام الناقة فعدل به عن الطريق فجاءه جبريل عليه الصلاة والسلام فنفخ إبليس نفخة وقع منها بالحبشة ورده إلى القافلة، فما في الآية إشارة إلى ذلك على ما قيل. وقيل إشارة إلى ما روي عن ابن عباس من أنه صلّى الله عليه وسلم ضل وهو صغير عن جده في شعاب مكة فرآه أبو جهل منصرفا من أغنامه فردّه لجده وهو متعلق بأستار الكعبة يتضرع إلى الله تعالى في أن يرد إليه محمدا، وذكر له أنه لما رآه أناخ الناقة وأركبه من خلفه فأبت أن تقوم فأركبه أمامه فقامت فكانت الناقة تقول: يا أحمق هو الإمام فكيف يقوم خلف المقتدي. وفي إرجاعه عليه الصلاة والسلام إلى أهله على يد أبي جهل وقد علم سبحانه منه أنه فرعونه يشبه إرجاع موسى عليه السلام إلى أمه على يد فرعون. وقيل: ضل عليه الصلاة والسلام مرة أخرى وطلبوه فلم يجدوه فطاف عبد المطلب بالكعبة سبعا وتضرع إلى الله تعالى فسمعوا مناديا ينادي من السماء: يا معشر الناس لا تضجوا فإن لمحمد ربا لا يخذله ولا يضيعه وإن محمدا بوادي تهامة عند شجرة السمر، فسار عبد المطلب وورقة بن نوفل فإذا النبي صلّى الله عليه وسلم قائم تحت شجرة يلعب بالأغصان والأوراق. وقيل: أضلته مرضعته حليمة عند باب مكة حين فطمته وجاءت به لترده على عبد المطلب فضالا على هذه الروايات من ضل في طريقه إذا سلك طريقا غير موصولة لمقصده وضعف حمل الآية على ذلك بأن مثله بالنسبة إلى ما تقدم لا يعد من نعم الله تعالى على مثل نبيه صلّى الله عليه وسلم التي يمتن سبحانه بها عليه. وقيل: الضال الشجرة المنفردة في البيداء ليس حولها شجر والمراد الجزء: 15 ¦ الصفحة: 381 أما وجدك وحدك ليس معك أحد فهدى الناس إليك ولم يتركك منفردا. وقال الجنيد قدس سره: أي وجدك متحيرا في بيان الكتاب المنزل عليك فهداك لبيانه وفيه قرب ما من الأول. وقال بعضهم: وجدك غافلا عن قدر نفسك فأطلعك على عظيم محلك. وقيل: وجدك ضالا عن معنى محض المودة فسقاك كأسا من شراب القربة والمودة فهداك به إلى معرفته عز وجل. وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: كنت ضالا عن محبتي لك في الأزل فمننت عليك بمعرفتي وهو قريب من سابقه . وقال الحريري: أي وجدك مترددا في غوامض معاني المحبة فهداك لها وهو أيضا كذلك وكل ذلك منزع صوفي. ورأى أبو حيان في منامه أن الكلام على حذف مضاف والمعنى ووجد رهطك ضالا فهدى بك وهو كما ترى في يقظتك. وقوله تعالى وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى على نمط سابق والعائل المفتقر من عال يعيل عيلا وعيلة وعيولا ومعيلا افتقر أي وجدك عديم المقتنيات فأغناك بما حصل لك من ربح التجارة وذلك في سفره صلّى الله عليه وسلم مع ميسرة إلى الشام وبما وهبته لك خديجة رضي الله تعالى عنها من المال وكانت ذا مال كثير فلما تزوجها عليه الصلاة والسلام وهبته جميعه له صلّى الله عليه وسلم لئلا يقول قائل ما يثقل على سمعه الشريف عليه الصلاة والسلام وبمال أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وكان أيضا ذا مال فأتى به كله رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام: «ما تركت لعيالك» ؟ فقال: تركت الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلم. وقيل بما أفاء عليك من الغنائم وفيه أن السورة مكية والغنائم إنما كانت بعد الهجرة وقيل المراد قنعك وأغنى قبلك فإن غنى القلب هو الغنى، وقد قيل من عدم القناعة لم يفده المال غنى، وقيل أغناك به عز وجل عما سواه وهذا الغنى بالافتقار إليه تعالى. وفي الحديث «اللهم أغنني بالافتقار إليك ولا تفقرني بالاستغناء عنك» وبهذا ألمّ بعض الشعراء فقال: ويعجبني فقري إليك ولم يكن ... ليعجبني لولا محبتك الفقر وشاع حديث «الفقر فخري» وحمل الفقر فيه على هذا المعنى وهو على ما قال ابن حجر باطل موضوع وأشد منه وضعا وبطلانا ما يذكره بعض المتصوفة إذا تمّ الفقر فهو الله سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا وقد خاضوا في بيان المراد به بما لا يدفع بشاعته بل لا يقتضي استقامته. وقيل عائِلًا أي ذا عيال من عال يعول عولا وعيالة كثير عياله، ويحتمل المعنيين قول جرير: الله نزل في الكتاب فريضة ... لابن السبيل وللفقير العائل ولعل الثاني فيه أظهر ورجح الأول في الآية بقراءة ابن مسعود «عديما» وأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن ذا عيال في أول أمره صلّى الله عليه وسلم. وقرأ اليماني «عيلا» كسيدا بشدا الياء المكسورة هذا وذكر عصام الدين في هذه الآيات أنه يحتمل أن يراد باليتيم فاقد المعلم فإن الآباء ثلاثة من علمك ومن زوجك ومن ولدك، ويناسبه حمل الضلال على الضلال عن العلم، وحمل العيال أي على تفسير عائِلًا بذا عيال على عيال الأمة الطالبة منه معرفة مصالح الدين مع احتياجه إلى المعرفة فأغناه الله تعالى بالوحي إليه عليه الصلاة والسلام ولا يخفى ما فيه. وحذف المفعول في الأفعال الثلاثة لظهور المراد مع رعاية الفواصل. وقيل: ليدل على سعة الكرم والمراد آواك وآوى لك وبك وهداك ولك وبك وأغناك ولك وبك وظاهر الفاء مع تلك الأفعال تأبى ذلك. وأطال الإمام الكلام في الآيات وأتى فيها بغث وسمين ولولا خشية الملل لذكرنا ما فيه. فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ فلا تستذله كما قال ابن سلام وقريب منه قول مجاهد لا تحتقر. وقال سفيان: لا تظلمه بتضييع ماله وفي معناه ما قيل لا تغلبه على ماله، ولعل التقييد لمراعاة الغالب والأولى حمل القهر الجزء: 15 ¦ الصفحة: 382 على الغلبة والتذليل معابان يراد التسلط بما يؤذي أو باستعمال المشترك في معنييه على القول بجوازه وفي مفردات الراغب القهر الغلبة والتذليل معا ويستعمل في كل واحد منهما، وقرأ ابن مسعود والشعبي وإبراهيم التيمي «فلا تكهر» بالكاف بدل القاف ومعناه على ما في البحر فلا تقهر. وفي تهذيب الأزهري الكهر القهر والكهر عبوس الوجه والكهر الشتم واختار بعضهم هنا أوسطها فالمعنى فلا تعبس في وجهه وهو نهي عن الشتم والقهر على ما سمعت من معناه من باب الأولى وأيّا ما كان ففي الآية دلالة على الاعتناء بشأن اليتيم. وعن ابن مسعود مرفوعا «من مسح على رأس يتيم كان له بكل شعرة تمر عليها يده نور يوم القيامة» وعن عمر رضي الله تعالى عنه مرفوعا أيضا «إن اليتيم إذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن فيقول الله تعالى لملائكته: يا ملائكتي من أبكى هذا اليتيم الذي غيب أبوه في التراب؟ فيقول الملائكة: أنت أعلم. فيقول الله تعالى: يا ملائكتي إني أشهدكم أن عليّ لمن أسكته وأرضاه أن أرضيه يوم القيامة» فكان عمر رضي الله تعالى عنه إذا رأى يتيما مسح رأسه وأعطاه شيئا ولم يصح في كيفية مسحه شيء والرواية عن ابن عباس في ذلك قد قيل فيها ما قيل. وروي عنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «أنا وكافل اليتيم كهاتين إذا اتقى الله عز وجل» وأشار بالسبابة والوسطى إلى غير ذلك من الأخبار. وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ أي فلا تزجره ولكن تفضل عليه بشيء أورده بقول جميل وأريد به عند جمع السائل المستجدي الطالب لشيء من الدنيا، وتدل الآية على الاعتناء بشأنه أيضا وعن إبراهيم بن أدهم نعم القوم السؤّال يحملون زادنا إلى الآخرة. وعن إبراهيم النخعي: السائل يريد الآخرة يجيء إلى باب أحدكم فيقول: أتبعثون إلى أهليكم بشيء وشاع حديث «للسائل حق وإن جاء على فرس» وقد قال فيه الإمام أحمد كما في تمييز الطيب من الخبيث لا أصل له وأخرجه أبو داود عن الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما موقوفا وسكت عنه، وقال العراقي سنده جيد وتبعه غيره، وقال ابن عبد البر إنه ليس بالقوي وعوّل كثير على ما قال الإمام أحمد وفي معناه احتمالان كل منهما يؤذن بالاهتمام بأمر السائل. وروي من طرق عن عائشة وغيرها: لو صدق السائل ما أفلح من رده. وهو أيضا على ما قال ابن المديني لا أصل له، وقال ابن عبد البر جميع أسانيده ليست بالقوية. نعم أخرج الطبراني في الكبير عن أبي أمامة مرفوعا ما يقرب منه وهو «لولا أن المساكين يكذبون ما أفلح من ردهم» ولم أقف على من تعقبه. ثم النهي على النهر على ما قالوا إذا لم يلح في السؤال فإن ألح ولم ينفع الرد اللين فلا بأس بالزجر. وقال أبو الدرداء والحسن وسفيان وغيرهم: المراد بالسائل هنا السائل عن العلم والدين لا سائل المال ولعل النهي عن زجره على القول الأول يعلم بالأولى ويشهد للأولوية أنه لا وعيد على ترك إعطاء المستجدي لمن يجد ما يستجديه بخلاف ترك جواب سائل العلم لمن يعلم ففي الحديث «من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار» وسيأتي إن شاء الله تعالى ما قيل من أن الظاهر الثاني من القولين. وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ فإن التحدث بها شكر لها كما قال عمر بن عبد العزيز والحسن وقتادة والفضيل بن عياض. وأخرج البخاري في الأدب وأبو داود والترمذي وحسنه وأبو يعلى وابن حبان والبيهقي والضياء عن جابر بن عبد الله مرفوعا: «من أعطي عطاء فوجد فليجز به فإن لم يجد فليثن به فمن أثنى به فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره، ومن تحلى بما لم يعط كان كلابس ثوبي زور» ولذا استحب بعض السلف التحدث بما عمله من الخير إذ لم يرد به الرياء والافتخار وعلم الاقتداء به بل بعض أهل البيت رضي الله تعالى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 383 عنهم حمل الآية على ذلك. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقسم قال: لقيت الحسن بن عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما وأرضاهما فقلت أخبرني عن قول الله تعالى وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ فقال: الرجل المؤمن يعمل عملا صالحا فيخبر به أهل بيته. وأخرج ابن أبي حاتم عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال فيها إذا أصبت خيرا فحدث إخوانك والظاهر أن المراد بالنعمة ما أفاضه الله تعالى على نبيه صلّى الله عليه وسلم من فنون النعم التي من جملتها ما تقدم. وأخرج ابن المنذر وغيره عن مجاهد تفسيرها بالنبوة ورووا عنه أيضا تفسيرها بالقرآن ووافقه في الأول محمد بن إسحاق وفي الثاني الكلبي، وعليهما المراد بالتحديث التبليغ ولا يخفى أن كلا التفسيرين غير مناسب لما قبل وهذه الجمل الثلاث مرتبة على ما قبلها فقيل على اللف والنشر المشوش وحاصل المعنى أنك كنت يتيما وضالا وعائلا فآواك وهداك وأغناك فمهما يكن من شيء فلا تنس نعمة الله تعالى عليك في هذه الثلاث واقتد بالله تعالى فتعطف على اليتيم وترحم على السائل فقد ذقت اليتم والفقر. وقوله تعالى وَأَمَّا بِنِعْمَةِ إلخ في مقابلة قوله سبحانه وَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى لعمومه وشموله لهدايته عليه الصلاة والسلام من الضلال بتعليم الشرائع وغير ذلك من النعم، ولم يراع الترتيب لتقديم حقوق العباد على حقه عز وجل فإنه سبحانه وتعالى غني عن العالمين، وقيل لتقديم التخلية على التحلية أو للترقي أو لمراعاة الفواصل ونظر في كل ذلك. وقال الطيبي: الظاهر أن المراد بالسائل طالب العلم لا المستجدي وعليه لا مانع من كون التفصيل على الترتيب فيقال إنه تعالى ذكر أحواله صلّى الله عليه وسلم على وفق الترتيب الخارجي بأن يراد بهدايته عليه الصلاة والسلام ما يعم توفيقه للنظر الصحيح في صباه فقد كان صلّى الله عليه وسلم موفقا لذلك ولذا لم يعبد عليه الصلاة والسلام صنما أو يراد بإغنائه ما كان بعد البعثة ثم فصّل سبحانه على ذلك الترتيب فجعل عدم قهر اليتيم في مقابلة إيوائه تعالى له عليه الصلاة والسلام في يتمه، وعدم زجر السائل طالب العلم والمتعلم منه في مقابلة هدايته له، والتحدث بالنعمة في مقابلة الغنى وإن كانت النعمة شاملة له ولغيره. وآثر سبحانه فَحَدِّثْ على «فخبر» قيل ليكون ذكر النعمة عليه الصلاة والسلام حديثا لا ينساه ويوجده ساعة غب ساعة والله تعالى أعلم. وندب التكبير عند خاتمة هذه السورة الكريمة وكذا ما بعدها إلى آخر القرآن العظيم فقد أخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب من طريق أبي الحسن البزي المقري قال: سمعت عكرمة بن سليمان يقول: قرأت على إسماعيل بن قسطنطين فلما بلغت وَالضُّحى قال: كبّر عند خاتمة كل سورة حتى تختم فإني قرأت على عبد الله بن كثير فلما بلغت وَالضُّحى قال: كبّر حتى تختم، وأخبره عبد الله بن كثير أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك وأخبره أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أمره بذلك وأخبره أن أبيّ بن كعب رضي الله تعالى عنه أمره بذلك، وأخبره أن النبي صلّى الله عليه وسلم أمره بذلك وكان ذلك منه عليه الصلاة والسلام فرحا بنزول الوحي بعد تأخره وبطئه حتى قيل ما قيل هذا وعلى ذلك عمل الناس اليوم والحمد لله رب العالمين. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 384 سورة الشرح وتسمى سورة الشرح وهي كما روي عن ابن الزبير وعائشة مكية، وأخرج ذلك ابن الضريس والنحاس والبيهقي وابن مردويه عن ابن عباس. وفي رواية عنه زيادة نزلت بعد الضحى وزعم البقاعي أنها عنده مدنية، وفي حديث طويل أخرجه ابن مردويه عن جابر بن عبد الله ما هو ظاهر في أن قوله تعالى فيها فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الشرح: 5، 6] نزل بالمدينة لكن في صحة الحديث توقف. وآيها ثمان بالاتفاق وهي شديدة الاتصال بسورة الضحى حتى أنه روي عن طاوس وعمر بن عبد العزيز أنهما كانا يقولان هما سورة واحدة، وكانا يقرآنهما في الركعة الواحدة وما كانا يفصلان بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم وعلى ذلك الشيعة كما حكاه الطبرسي منهم. قال الإمام: والذي دعا إلى ذلك هو أن قوله تعالى أَلَمْ نَشْرَحْ [الشرح: 1] كالعطف على قوله تعالى أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً [الضحى: 6] وليس كذلك لأن الأول كان عند اغتمام الرسول صلّى الله عليه وسلم من إيذائه الكفرة وكانت الحالة حال محنة وضيق صدر، والثاني يقتضي أن يكون حال النزول منشرح الصدر طيب القلب فأنى يجتمعان وفيه نظر، والحق أن مدار مثل ذلك الرواية لا الدارية والمتواتر كونهما سورتين والفصل بينهما بالبسملة. نعم هما متصلتان معنى جدا ويدل عليه ما في حديث الإسراء الذي أخرجه ابن أبي حاتم أن الله تعالى قال له عليه الصلاة والسلام: «يا محمد ألم أجدك يتيما فآويت، وضالا فهديت، وعائلا فأغنيت، وشرحت لك صدرك، وحططت عنك وزرك، ورفعت لك ذكرك، فلا أذكر إلّا ذكرت معي» الحديث. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ الشرح في الأصل الفسح والتوسعة وشاع استعماله في الإيضاح، ومنه: شرح الكتاب إذا أوضحه لما أن فسح الشيء وبسطه مستلزم لإظهار باطنه وما خفي منه، وكذا شاع في سرور النفس حتى لو قيل إنه حقيقة عرفية فيه لم يبعد وذلك إذا تعلق بالقلب كان قيل شرح قلبه بكذا أي سره به لما أن القلب كالمنزل للنفس، ويلزم عادة من فسح المنزل وتوسعته سرور الجزء: 15 ¦ الصفحة: 385 النازل فيه وكذا إذا تعلق بالصدر الذي هو محل القلب وربما يؤذن ذلك بسعة القلب لما أن العادة كالمطردة في أن توسعة ما حوالى المنزل إنما تكون إذا كان المنزل واسعا فيوسع ما حواليه لتحصيل زيادة بهجة ونحوها فيه فينتقل منه إلى سرور النفس بالواسطة. وقد يراد به إذا تعلق بالقلب أو الصدر أيضا تكثير ما فيه من المعلومات فقيل: يتخيل أنها تحتاج إلى فضاء تكون فيه وأن ذلك محل لها، فمتى كانت كثيرة اقتضت أن يكون محلها واسعا ليسعها. وقد يراد بها تكثير ما في النفس من ذلك فقيل أيضا بتخيل أن تكثير معلوماتها يستدعي توسيعها وتوسيعها يستدعي توسيع ذلك لتنزيله منزلة محلها، وقد يراد به تأييد النفس بقوة قدسية وأنوار إلهية بحيث تكون ميدانا لمواكب المعلومات، وسماء لكواكب الملكات، وعرشا لأنواع التجليات، وفرشا لسوائم الواردات، فلا يشغله شأن عن شأن، ويستوي لديه يكون وكائن وكان. ووجه نسبته إلى الصدر على نحو ما مر وإرادة القلب من الصدر والنفس من القلب بعلاقة المحلية ونحوها مما لا تميل إليه النفس وإرادة كل مما ذكر بقرينة المقام والأنسب بمقام الامتنان هنا إرادة هذا المعنى الأخير. وجوز غيره فالمعنى ألم نفسح صدرك حتى حوى عالمي الغيب والشهادة وجمع بين ملكتي الاستفادة والإفادة فما صدك الملابسة بالعلائق الجسمانية عن اقتباس أنوار الملكات الروحانية، وما عاقك التعلق بمصالح الخلق عن الاستغراق في شؤون الحق. وقيل المعنى ألم نزل همك وغمك باطلاعك على حقائق الأمور وحقارة الدنيا فهان عليك احتمال المكاره في الدعاء إلى الله تعالى. ونقل عن الجمهور أن المعنى ألم نفسحه بالحكمة وتوسعه بتيسيرنا لك تلقي ما يوحى إليك بعد ما كان يشق عليك. وعن ابن عباس وجماعة أنه إشارة إلى شق صدره الشريف في صباه عليه الصلاة والسلام وقد وقع هذا الشق على ما في بعض الأخبار وهو عند مرضعته حليمة فقد روي عنها أنها قالت في شأنه عليه الصلاة والسلام: لم نزل نتعرف من الله تعالى الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته فكان يشب شبابا لا يشبه الغلمان، فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاما جفرا، فقدمنا به على أمه ونحن أحرص شيء على بقائه عندنا لما نرى من بركته، فقلنا لأمه: لو تركتيه عندنا حتى يغلظ فإنّا نخشى عليه وباء مكة، فلم نزل بها حتى ردته معنا فرجعنا به، فو الله إنه لبعد مقدمنا به بشهر أو ثلاثة مع أخيه من الرضاعة لغي بهم لنا خلف بيوتنا جاء أخوه يشتد فقال: ذاك أخي القرشي قد جاءه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه وشقا بطنه، فخرجت أنا وأبوه نشتد نحوه فوجدناه قائما منتقعا لونه فاعتنقه أبوه وقال: أي بني ما شأنك؟ قال: جاءني رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاني فشقا بطني ثم استخرجا منه شيئا، فطرحاه ثم رداه كما كان فرجعنا به معنا. فقال أبوه: يا حليمة لقد خشيت أن يكون ابني قد أصيب فانطلقي فرديه إلى أهله قبل أن يظهر به ما نتخوفه، قالت: فاحتملناه إلى أمه، فقالت: ما رد كما به فقد كنتما حريصين عليه؟ قلنا: نخشى الاختلاف والأحداث. فقالت ما ذاك بكما فأصدقاني شأنكما؟ فلم تدعنا حتى أخبرناها خبره. فقالت: أخشيتما عليه الشيطان لا والله ما للشيطان عليه سبيل، وإنه لكائن لابني هذا شأن فدعاه عند كما. وفي حديث لأبي يعلى وأبي نعيم وابن عساكر ما يدل على تكرر وقوع ذلك له عليه الصلاة والسلام وهو عند حليمة وقد وقع له صلّى الله عليه وسلم أيضا بعد بلوغه صلّى الله عليه وسلم ففي الدر المنثور أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند عن أبيّ بن كعب أن أبا هريرة قال: يا رسول الله، ما أول ما رأيت من أمر النبوة؟ فاستوى رسول الله صلّى الله عليه وسلم جالسا، وقال: «لقد سألت أبا هريرة إني لفي صحراء ابن عشرين سنة وأشهر إذا بكلام فوق رأسي وإذا رجل يقول لرجل: أهو هو، فاستقبلاني بوجوه لم أرها بخلق قط، وأرواح لم أجدها من خلق قط، وثياب لم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 386 أجدها على أحد قط، فأقبلا إليّ يمشيان حتى إذا دنيا أخذ كل واحد منهما بعضدي لا أجد لأخذهما مسا، فقال أحدهما لصاحبه: افلق صدره، فهوى أحدهما إلى صدري ففلقه فيما أرى بلا دم ولا وجع، فقال له: أخرج الغل والحسد، فأخرج شيئا كهيئة العلقة ثم نبذها، فقال له: أدخل الرأفة والرحمة، فإذا مثل الذي أخرج شبه الفضة، ثم حز إبهام رجلي اليمنى وقال: اغد واسلم، فرجعت أغدو بها رأفة على الصغير ورحمة على الكبير» . والذي رأيته في شرح الهمزية لابن حجر المكي رواية هذا الخبر بلفظ آخر وفيه «إني لفي صحراء واسعة ابن عشر حجج إذا أنا برجلين فوق رأسي يقول أحدهما لصاحبه: أهو هو» إلى آخر ما فيه فيكون الشق عليه قبل البلوغ أيضا والله تعالى أعلم. ثم إنه على الروايتين ليس نصا على نفي وقوع شق قبله لجواز أن يكون الذي استشعر منه النبوة هو هذا لا ما قبله، ووقع له عليه الصلاة والسلام أيضا عند مجيء جبريل عليه السلام بالوحي في غار حراء وممن روى ذلك الطيالسي والحارث في مسنديهما وكذا أبو نعيم ولفظه أن جبريل وميكائيل عليهما السلام شقا صدره وغسلاه ثم قال اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1] الآيات ووقع أيضا مرة أخرى تواترات بها الروايات خلافا لمن أنكرها ليلة الإسراء به صلّى الله عليه وسلم روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن قتادة قال: حدثنا أنس ابن مالك عن مالك بن صعصعة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان فأتيت بطست من ذهب فيها ماء زمزم، فشرح صدري إلى كذا وكذا» قال قتادة: قلت- يعني لأنس- ما تعني قال إلى أسفل بطني؟ قال: «فاستخرج قلبي فغسل بماء زمزم ثم أعيد مكانه ثم حشي إيمانا وحكمة، ثم أتي بدابة دون البغل وفوق الحمار البراق فانطلقت مع جبريل عليه السلام حتى أتينا السماء الدنيا» الحديث. وطعن القاضي عبد الجبار في ذلك بما حاصله أنه يلزم على وقوعه في الصغر وقبل النبوة تقدم المعجزة على النبوة وهو لا يجوز ووقوعه بعد النبوة وإن لم يلزم عليه ما ذكر إلّا أن ما ذكر معه من حديث الغسل وإدخال الرأفة والرحمة وحشو الإيمان والحكمة يرد عليه أن الغسل مما لا أثر له في التكميل الروحاني وإنما هو لإزالة أمر جسماني، وأنه لا يصح إدخال ما ذكر وحشوه فإنما هو شيء يخلقه الله تعالى في القلب وليس بشيء فإن تقدم الخارق على النبوة جائز عندنا ونسميه إرهاصا، والأخبار كثيرة في وقوعه له عليه الصلاة والسلام قبل النبوة، والغسل بالماء كان لإزالة أمر جسماني ولا يبعد أن يكون أزاله وغسل المحل بماء مخصوص كماء زمزم على ما صح في بعض الروايات ولذا قال البلقيني: إنه أفضل من ماء الكوثر موجبا لتبديل المزاج وهو مما له دخل في التكميل الروحاني ولذا يأمر المشايخ السالكين لديهم بالرياضة التي يحصل بها تبديل المزاج ويرشد إلى ذلك تغير أحوال النفس وأخلاقها صبا وكهولة وشيخوخة. والمراد من إدخال الرأفة وحشو الإيمان مثلا إدخال ما به يحصل كمال ذلك وكثيرا ما يسمى المسبب باسم السبب مجازا، ويحتمل أن يكون على حقيقته وتجسم المعاني جائز. وقال العارف بن أبي جمرة كما في المواهب اللدنية للعسقلاني ما حاصله: إن ما دل كلام النبي صلّى الله عليه وسلم على جوهريته وجسميته من أعيان المخلوقات التي ليس للحواس إلى إدراكها سبيل هو كما دل عليه كلامه عليه الصلاة والسلام في نفس الأمر، وأن الحكم من المتكلم أو نحوه عليها بالعرضية إنما هو باعتبار ما ظهر له بعقله، وللعقل حر يقف عنده والحقيقة في الحقيقة ما دلّ عليه خبر الشارع المؤيد بالوحي الإلهي والنور القدسي المحلق بجناحيهما في جو الحقائق إلى حيث لا يسمع لنحلة العقل دندنة ولا للرواة عنه عنعنة فالإيمان والحكمة ونحوهما مما دل عليه كلام النبي صلّى الله عليه وسلم على جوهريتها جواهر محسوسة لا معان وإن حسبها من حسبها كذلك انتهى. والأمر فيه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 387 اعتقادا وإنكارا إليك ولا ألزمك الاعتقاد فما أريد أن أشق عليك. وقال بعض الأجلّة: لعل ذلك من باب التمثيل إذ تمثيل المعاني قد وقع كثيرا كما مثل له عليه الصلاة والسلام الجنة والنار في عرض حائط مسجده الشريف، وفائدته كشف المعنوي بالمحسوس وهو ميل إلى عدم الوقوع حقيقة. وقد قال غير واحد: جميع ما ورد من الشرق وإخراج القلب وغيرهما يجب الإيمان به وإن كان خارقا للعادة ولا يجوز تأويله لصلاحية القدرة له، ومن زعم ذلك وقع في هوة المعتزلة في تأويلهم نصوص سؤال الملكين وعذاب القبر ووزن الأعمال والصراط وغير ذلك بالتشهي، وأما حكمة ذلك مع إمكان إيجاد ما ترتب عليه بدونه فقد أطالوا الكلام في بأنها في موضعه. نعم حمل الشرح في الآية على ذلك الشق ضعيف عند المحققين والتعبير عن ثبوت الشرح بالاستفهام الإنكاري عن انتفائه للإيذان بأن ثبوته من الظهور بحيث لا يقدر أحد أن يجيب عنه بغير بلى، وإسناد الفعل إلى ضمير العظمة للإيذان بعظمته وجلالة قدره وزيادة الجار والمجرور مع توسيطه بين الفعل ومفعوله للإيذان من أول الأمر بأن الشرح من منافعه عليه الصلاة والسلام ومصالحه مسارعة إلى إدخال المسرة في قلبه الشريف صلّى الله عليه وسلم وتشويقا له عليه الصلاة والسلام إلى ما يعقبه ليتمكن عنده وقت وروده فضل تمكن. وقرأ أبو جعفر المنصور «ألم نشرح» بفتح الحاء وخرجه ابن عطية وجماعة على أن الأصل «ألم نشرحن» بنون التأكيد الخفيفة فأبدل من النون ألفا ثم حذفها تخفيفا كما في قوله: اضرب عنك الهموم طارقها ... ضربك بالسيف قونس الفرس ولا يخفى أن الحذف هنا أضعف مما في البيت لأن ذلك في الأمر وهذا في النفي، ولهذا روى ابن جني في المنتفى عن أبي مجاهد أنه غير جائز أصلا فنون التوكيد أشبه شيء به الإسهاب والإطناب لا الإيجاز والاختصار، والبيت يقال إنه مصنوع والأولى في التمثيل ما أنشده أبو زيد في نوادره: من أي يومي من الموت أفر ... أيوم لم يقدر أم يوم قدر وقال غير واحد: لعل أبا جعفر بيّن الحاء وأشبعها في مخرجها فظن السامع أنه فتحها. وفي البحر أن لهذه القراءة تخريجا أحسن مما ذكر وهو أن الفتح على لغة بعض العرب من النصب بلم، فقد حكى اللحياني في نوادره أن منهم من ينصب بها ويجزم بلن عكس المعروف عند الناس، وعلى ذلك قول عائشة بنت الأعجم تمدح المختار بن أبي عبيد: في كل ما همّ أمضى رأيه قدما ... ولم يشاور في الأمر الذي فعلا وخرجها بعضهم على أن الفتح لمحاورة ما بعدها كالكسر في قراءة الحمد لله بالجر وهو لا يتأتى في بيت عائشة ويتأتى فيما عداه مما مر. وقوله تعالى وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ عطف على ما أشير إليه من مدلول الجملة السابقة كأنه قيل قد شرحنا لك صدرك ووضعنا إلخ. وعَنْكَ متعلق ب وَضَعْنا وتقديمه على المفعول الصريح لما مر من القصد إلى تعجيل المسرة والتشويق إلى المؤخر، ولما أن في وصفه نوع طول فتأخير الجار والمجرور عنه مخل بتجاوب أطراف النظم الكريم، والوزر الحمل الثقيل أي وحططنا عنك حملك الثقيل الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ أي حمله على النقيض وهو صوت الانتقاض والانفكاك أعني الصرير ولا يختص بصوت المحامل والرجال بل يضاف إلى المفاصل فيقال: نقيض المفاصل ويراد صوتها فنقيض الظهر ما يسمع من مفاصله من الصوت لثقل الحمل وعليه قول عباس بن مرداس: وأنقض ظهري ما تطويت منهم ... وكنت عليهم مشفقا متحننا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 388 وإسناد الإنقاض للحمل إسناد للسبب الحامل مجازا والمراد بالحمل المنقض هنا ما صدر منه صلّى الله عليه وسلم قبل البعثة مما يشق عليه صلّى الله عليه وسلم تذكره لكونه في نظره العالي دون ما هو عليه الصلاة والسلام بعد، أو غفلته عن الشرائع ونحوها مما لا يدرك إلّا بالوحي مع تطلبه صلّى الله عليه وسلم له أو حيرته عليه الصلاة والسلام في بعض الأمور كأداء حق الرسالة أو الوحي وتلقيه فقد كان يثقل صلّى الله عليه وسلم في ابتداء أمره جدا أو ما كان يرى صلّى الله عليه وسلم من ضلال قومه مع العجز عن إرشادهم لعدم طاعتهم له وإذعانهم للحق، أو ما كان يرى من تعديهم في إيذائه عليه الصلاة والسلام أو همه عليه الصلاة والسلام من وفاة أبي طالب وخديجة بناء على نزول السورة بعد وفاتهما، ويراد بوضعه على الأول مغفرته، وعلى الثاني إزالته غفلته عليه الصلاة والسلام عنه بتعليمه إياه بالوحي ونحوه، وعلى الثالث إزالة ما يؤدي للحيرة، وعلى الرابع تيسيره له صلّى الله عليه وسلم بتدربه واعتياده له، وعلى الخامس توفيق بعضهم للإسلام كحمزة وعمر وغيرهما، وعلى السادس تقويته صلّى الله عليه وسلم على التحمل، وعلى السابع إزالة ذلك برفعه إلى السماء حتى لقيه كل ملك وحياه وفوزه بمشاهدة محبوبة الأعظم ومولاه عز وجل. وأيّا ما كان ففي الكلام استعارة تمثيلية والوضع ترشيح لها وليس فيه دليل لنا في العصمة كما لا يخفى. واختار أبو حيان كون وضع الوزر كناية عن عصمته صلّى الله عليه وسلم عن الذنوب وتطهيره من الأدناس. عبر عن ذلك بالوضع على سبيل المبالغة في انتفاء ذلك كما يقول القائل: رفعت عنك مشقة الزيارة لمن لم يصدر منه زيارة على طريق المبالغة في انتفاء الزيارة منه له والتمثيل عليه بحاله على ما قيل. وقيل المراد وزر أمتك وإنما أضيف إليه صلّى الله عليه وسلم لاهتمامه بشأنه وتفكره في أمره، والمراد بوضعه رفع غائلته في الدنيا من العذاب العاجل ما دام صلّى الله عليه وسلم فيهم وما داموا يستغفرون فقد قال سبحانه وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال: 33] ولا يخفى بعد هذا الوجه. وقرأ أنس «وحططنا» و «حللنا» مكان وَضَعْنا. وقرأ ابن مسعود «وحللنا عنك وقرك» . وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ بالنبوة وغيرها وأي رفع مثل أن قرن اسمه عليه الصلاة والسلام باسمه عز وجل في كلمتي الشهادة، وجعل طاعته طاعته، وصلى عليه في ملائكته، وأمر المؤمنين بالصلاة عليه، وخاطبه بالألقاب ك يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر: 1] يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [المزمل: 1] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأنفال: 64 وغيرها] يا أَيُّهَا الرَّسُولُ [المائدة: 41، 67] وذكره سبحانه في كتب الأولين، وأخذ على الأنبياء عليهم السلام وأممهم أن يؤمنوا به صلّى الله عليه وسلم. وروي عن مجاهد وقتادة ومحمد بن كعب والضحاك والحسن وغيرهم أنهم قالوا في ذلك: «لا أذكر إلا ذكرت معي» . وفيه حديث مرفوع أخرج أبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «أتاني جبريل عليه السلام، فقال: إن ربك يقول: أتدري كيف رفعت ذكرك؟ قلت: الله تعالى أعلم، قال: إذا ذكرت ذكرت معي» . وكان ذلك من الاقتصار على ما هو أعظم قدرا من إفراد رفع الذكر، ويشير إلى عظم قدره قول حسان: أغر عليه للنبوة خاتم ... من الله مشهود يلوح ويشهد وضم الإله اسم النبي إلى اسمه ... إذا قال في الخمس المؤذن أشهد ولا يخفى لطف ذكر الرفع بعد الوضع والكلام في العطف وزيادة لَكَ كالذي سلف، والفاء في قوله عز وجل فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً على ما في الكشاف فصيحة. والكلام وعد له صلّى الله عليه وسلم مسوق للتسلية والتنفيس. قال: كان المشركون يعيرون رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين بالفقر والضيقة حتى سبق إلى ذهنه الشريف عليه الصلاة والسلام أنهم رغبوا عن الإسلام لافتقار أهله واحتقارهم، فذكره سبحانه ما أنعم به عليه من جلائل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 389 النعم ثم قال تعالى شأنه إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً كأنه قال سبحانه: خولناك ما خولناك فلا تيأس من فضل الله تعالى فإن مع العسر الذي أنتم فيه يسرا وهو ظاهر في أن أل في العسر للعهد، وأما التنوين في يسرا فللتفخيم كأنه قيل إن مع العسر يسرا عظيما، وأي يسر والمراد به ما تيسر لهم من الفتوح في أيام رسول الله صلّى الله عليه وسلم أو يسر الدنيا مطلقا. وقوله تعالى إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً يحتمل أن يكون تكريرا للجملة السابقة لتقرير معناها في النفوس وتمكينها في القلوب كما هو شأن التكرير ويحتمل أن يكون وعدا مستأنفا وأل والتنوين على ما سبق بيد أن المراد باليسر هنا ما تيسر لهم في أيام الخلفاء أو يسر الآخرة. واحتمال الاستئناف هو الراجح لما علم من فضل التأسيس على التأكيد كيف وكلام الله تعالى محمول على أبلغ الاحتمالين وأوفاهما والمقام كما تقدم مقام التسلية والتنفيس والاستئناف نحوي وتجرده عن الواو أكثر من أن يحصى، ولا يحتاج إلى بيان نكتة لأنه الأصل، وقال عصام الدين: لا يبعد أن تكون نكتة الفصل كونه في صورة التكرير فاحفظه فإنه من البدائع وتعقب بنحو ما ذكرنا وكان الظاهر على ما سمعت من المراد باليسر تعريفه إلّا أنه أوثر التنكير للتفخيم. وقد يقال: إن فائدته الظهور في التأسيس لأن النكرة المعادة ظاهرها التغاير والإشعار بالفرق بين العسر واليسر، ويظهر مما ذكر وجه ما أخرجه عبد الرزاق وابن جرير والحاكم والبيهقي عن الحسن قال: خرج رسول الله عليه الصلاة والسلام فرحا مسرورا وهو يضحك ويقول: «لن يغلب عسر يسرين إن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا» وأفاد بعض الأجلّة أن الكلام تقرير لما قبله وعدة له صلّى الله عليه وسلم بتيسير كل عسير. فالفاء قيل سببية ودخلت على السبب وإن تعارف دخولها على المسبب لتسبب ذكره عن ذكره فإن ذكر أحدهما يستدعي ذكر الآخر، وأل في العسر للاستغراق فيدخل فيه سبب النزول. والتنوين في يُسْراً على ما سبق كأنه قيل: فعلنا لك كذا وكذا لأن مع كل عسر كضيق الصدر والوزر المنقض للظهر والخمول يسرا عظيما كالشرح والوضع ورفع الذكر فلا تيأس من روح الله تعالى إذا عراك ما يغمك. وقال بعضهم: الفاء للتفريع وهو من قبيل تفريع الحكم على الدليل في صورة الاستدلال بالجزئي على الكلي وذلك كما تقول: أما ترى إلى الإنسان والفرس والغنم كلها تحرك الفك الأسفل عند المضغ، فاعلم بذلك أن كل حيوان يفعل كذلك فتدبر. وفي الجملة الثانية الاحتمالان السابقان والاستئناف أيضا هو الراجح لما تقدم. وعلى اتحاد العسر وتعدد اليسر يكون الحاصل من الجملتين أن مع كل عسر يسرين عظيمين، والظاهر أن المراد بذينك اليسرين يسر دنيوي ويسر أخروي. وقيل: الظاهر أن الجملة الثانية تكرير للأولى وتأكيد لها فاليسر فيها عين اليسر في الأولى كما أن العسر كذلك، والكلام نظير قولك إن مع الفارس رمحا إن مع الفارس رمحا وهو ظاهر في وحدة الفارس والرمح «ولن يغلب عسر يسرين» ليس نصا في الحمل على الاستئناف إذ يصح على التأكيد أيضا بأن يكون مبنيا على كون التنوين في يُسْراً للتفخيم فحمل لقوة الرجاء على يسر الدارين وذلك يسران في الحقيقة، ويشهد لذلك أنه ليس في مصحف ابن مسعود الجملة الثانية مع أنه جاء عنه أيضا: «لن يغلب عسر يسرين» وقيل يمكن أن يحمل الخبر على أنه لن يغلب فرد من أفراد العسر ذكر اليسر مرتين وتكريره في مقام الوعد وهو كما ترى. والمشهور على جميع الأوجه أنه شبه التقارب بالتقارن فاستعير لفظ مَعَ لمعنى بعد وذلك للمبالغة في معاقبة اليسر العسر واتصاله به. واستشكل أمر الاستغراق بأن من العسر ما لا يعقبه يسر دنيوي كالفقر والمرض الدائمين إلى الموت ولا أراك ترضى القول بأن الموت يسر دنيوي وإن من العسر ما لا يعقبه يسر أخروي أيضا كعسر الكافر والجواب بأن الحكم بالنسبة للمؤمنين كما يقتضيه مقام التسلية والتنفيس ويشعر به ما رواه مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم قال: كتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما يذكر له جموعا من الروم وما الجزء: 15 ¦ الصفحة: 390 يتخوف منهم فكتب إليه عمر رضي الله تعالى عنه: أما بعد فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن شدة يجعل الله تعالى بعده فرجا ولن يغلب عسر يسرين، لا يحسم الإشكال إذ يبقى معه أن من عسر المؤمن ما لا يعقبه يسر دنيوي كما هو ظاهر بل منه ما لا يعقبه يسر أخروي أيضا وذلك كعسر المؤمن الجازع فإنه لا يثاب عليه في الآخرة. والظاهر من اليسر الأخروي هو الثواب فيها على ذلك العسر وإرادة المؤمن الصابر يبقى معها أن من عسره أيضا ما لا يعقبه اليسر الدنيوي وأجاب بعض على الوجه التأكيد بأن الاستغراق عرفي، ويكفي فيه أن العسر في الغالب يعقبه يسر. وعلى وجه التأسيس بهذا مع كون الحكم بالنسبة للمؤمنين الصابر وآخر بأن الحكم مشروط بمشيئته تعالى وأن لم تذكر قيل: ويشعر بذلك ما أخرجه عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في الآية قال: ذكر لنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بشر بهذه الآية أصحابه فقال عليه الصلاة والسلام: «لن يغلب عسر إن شاء الله تعالى يسرين» . ويفهم من كلام بعض الأفاضل أنه يجوز على وجه التأكيد أن يكون مع على ظاهرها والتنوين في يُسْراً للنوعية ولا إشكال في الاستغراق إذ لا يخلو المرء في حال العسر عن نوع من اليسر وأقله دفع ما هو أعظم مما أصابه عنه. ويجوز أن يكون التنوين للتفخيم أيضا ويكون اليسر العظيم المقارن للعسر هو دفع ذلك الأعظم وما من عسر إلّا وعند الله تعالى أعظم منه وأعظم وأنه لا يأبى ذلك لن يغلب عسر يسرين، إما لأن المعنى لن يغلب فرد من أفراد العسر ذكر اليسر مرتين في مقام التسلية، أو لأن الآية أفادت أن مع العسر يسرا وقد علم أن بعده آخر على ما جرت به العادة الغالبة أو فهم من قوله تعالى سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً [الطلاق: 7] إن كان نزوله متقدما. وذكر بعضهم أن المعية على حقيقتها عند الخاصة على معنى أن كل ما فعل المحبوب محبوب كما يشير إليه قول الشيخ عمر بن الفارض قدس سره: وتعذيبكم عذب لديّ وجوركم ... عليّ بما يقضي الهوى لكم عدل وقول الآخر: بر جانم از تو هر جه رسد جاي منت است ... گر ناوك جفاست وگر خنجر ستم وتسمية ذلك عسرا لأنه في نفسه وعند العامة كذلك لا بالنسبة إلى من أصابه من المحبين المستعذبين له والكل كما ترى، ثم إنه يبعد إرادة المعية الحقيقية ما أخرج البزار وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والحاكم والبيهقي في الشعب عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم جالسا وحياله حجر فقال عليه الصلاة والسلام: «لو جاء العسر فدخل هذا الحجر لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه» . فأنزل الله تعالى إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إلخ. ولفظ الطبراني وتلا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً وإرادة العهد أسلم من القيل والقال، وكأن من اختاره اختاره لذلك مع الاستئناس له بسبب النزول، لكن الذي يقتضيه الظواهر ومقاماتها الخطابية الاستغراق فإذا قيل به فلا بد من التقييد بكون من أصابه العسر واثقا بالله تعالى حسن الرجاء به عز وجل منقطعا إليه سبحانه أو بنحو ذلك من القيود فتدبر والله تعالى الميسر لكل ما يتعسر. وقرأ ابن وثاب وأبو جعفر وعيسى «العسر» و «يسرا» في الموضعين بضم السين. فَإِذا فَرَغْتَ أي من عبادة كتبليغ الوحي فَانْصَبْ فاتعب في عبادة أخرى شكرا لما عددنا عليك من النعم السالفة ووعدناك من الآلاء الآنفة كأنه عز وجل لما عدد عليه ما عدد ووعده صلّى الله عليه وسلم بما وعد بعثه على الشكر والاجتهاد في العبادة وأن لا يخلي وقتا من أوقاته منها فإذا فرغ من عبادة أتبعها بأخرى وَإِلى رَبِّكَ وحده فَارْغَبْ فاحرص بالسؤال ولا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 391 تسأل غيره تعالى فإنه القادر على الإسعاف لا غيره عز وجل. وأخرج ابن جرير وغيره من طرق عن ابن عباس أن قال أي إذا فَرَغْتَ من الصلاة فَانْصَبْ في الدعاء وروي نحوه عن الضحاك وقتادة. وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود أي إذا فَرَغْتَ من الفرائض فَانْصَبْ في قيام الليل. وعن الحسن أي إذا فَرَغْتَ من الغزو فاجتهد في العبادة. وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم نحوه، وأخرج ابن نصر وجماعة عن مجاهد أي إذا فرغت من أسباب نفسك وفي لفظ من دنياك فصلّ، وفي رواية أخرى عنه نحو ما روي عن ابن عباس والأنسب حمل الآية على ما تقدم. وأما قول ابن عباس ومن معه فهو تخصيص لبعض العبادات فراغا وشغلا إما مثالا لأن اللفظ خاص وهو الأظهر وكذا يقال فيما روي عن ابن مسعود، وإما لأن الصلاة أم العبادات البدنية والدعاء مخ العبادة فهما هما. وقول الحسن فيه ما شاع من قوله صلّى الله عليه وسلم: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» وهو قريب إلّا أنه قيل عليه أن السورة مكية والأمر بالجهاد بعد الهجرة ولعله يقول بمدنيتها أو مدنية هذه الآية أو أنها مما تأخر حكمه عن نزوله كآيات أخر. وقول مجاهد نظر فيه إلى أن الفراغ أكثر ما يستعمل في الخلو عن الأشغال الدنيوية كما في قوله صلّى الله عليه وسلم: «اغتنم فراغك قبل شغلك» . وهو أضعف الأقوال لبعده عما يقتضيه السياق وتؤذن به الفاء. وقال عصام الدين: الأنسب أن يراد فَإِذا فَرَغْتَ من يسر فَانْصَبْ بعسر آخر طلبا لليسرين، فإذا كنت كذلك فكن راغبا إلى ربك يعني لا تتحمل عسر الدنيا طمعا في يسرين فيها، بل تحمل عسر طلب الرب وقربه جل شأنه لليسرين انتهى. ولعمري إنه خلاف ما يفهمه من لا سقم في ذهنه من اللفظ. وأشعرت الآية بأن اللائق بحال العبد أن يستغرق أوقاته بالعبادة أو بأن يفرغ إلى العبادة بعد أن يفرغ من أمور دنياه على ما سمعت من قول مجاهد فيها، وذكروا أن قعود الرجل فارغا من غير شغل أو اشتغاله بما لا يعنيه في دينه أو دنياه من سفه الرأي وسخافة العقل واستيلاء الغفلة. وعن عمر رضي الله تعالى عنه: إني لأكره أن أرى أحدكم فارغا سبهللا لا في عمل دنياه ولا في عمل آخرته. وروي أن شريكا مرّ برجلين يصطرعان فقال: ما بهذا أمر الفارغ. وقرأ أبو السمال «فرغت» بكسر الراء وهي لغة قال الزمخشري ليست بفصيحة. وقرأ قوم «فانصبّ» بشد الباء مفتوحة من الانصباب، والمراد فتوجه إلى عبادة أخرى كل التوجه. ونسب إلى بعض الإمامية أنه قرأ «فانصب» بكسر الصاد فقيل أي فَإِذا فَرَغْتَ من النبوة فَانْصَبْ عليا للإمامة، وليس في الآية دليل على خصوصية الفعول فللسني أن يقدره أبا بكر رضي الله تعالى عنه فإن احتج الإمامي بما وقع في غدير خم منع السني دلالته على ما ثبت عنده على النصب وصحته على ما يرويه الإمامي. واحتج لما قدره بقوله صلّى الله عليه وسلم: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» وقال إنه أوفق بإذا فرغت لما أنه صدر منه عليه الصلاة والسلام في مرض وفاته قبل وفاته صلّى الله عليه وسلم بخلاف ما كان في الغدير فإنه لا يظهر أن زمانه فراغ من النبوة ظهور كون زمان الأمر كذلك وإن رجع. وقال: المراد فَإِذا فَرَغْتَ من الحج فَانْصَبْ عليا ورد عليه أمر مكية السورة مع ما لا يخفى. وقال في الكشاف: لو صح ذلك للرافضي لصح للناصبي أن يقرأ هكذا ويجعله أمرا بالنصب الذي هو بغض عليّ كرم الله تعالى وجهه وعداوته وفيه نظر. ومن الناس من قدر المفعول خليفة والأمر فيه هين. وقال ابن عطية: إن هذه القراءة شاذة ضعيفة المعنى لم تثبت عن عالم. وقرأ زيد بن عليّ وابن أبي عبلة «فرغّب» أمر من رغب بشد الغين أي فرغب الناس إلى طلب ما عنده عز وجل. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 392 سورة التّين ويقال لها سورة التين بلا واو مكية في قول الجمهور. وعن قتادة أنها مدنية وكذا عن ابن عباس على ما في البحر ومجمع البيان برواية المعدل. وأخرج عنه ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي ما يوافق قول الجمهور ويؤيده إشارة الحضور في قوله تعالى وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ [التين: 3] فإن المراد به مكة بإجماع المفسرين فيما نعلم. وآيها ثمان آيات في قولهم جميعا. ولما ذكر سبحانه في السورة السابقة حال أكمل النوع الإنساني بالاتفاق بل أكمل خلق الله عز وجل على الإطلاق صلّى الله عليه وسلم ذكر عز وجل في هذه السورة حال النوع وما ينتهي إليه أمره وما أعد سبحانه لمن آمن منه. بذلك الفرد الأكمل وفخر هذا النوع المفضل صلّى الله عليه وسلم وشرف وعظم وكرم فقال عز قائلا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ إقسام ببقاع مباركة شريفة على ما ذهب إليه كثير، فأما البلد الأمين فمكة حماها الله تعالى بلا خلاف. وجاء في حديث مرفوع «وهو مكان البيت الذي هو هدى للعالمين» ومولد رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومبعثه والْأَمِينِ فعيل إما بمعنى فاعل أي الآمن من أمن الرجل- بضم الميم- أمانة فهو أمين، وجاء أمان أيضا كما جاء كريم وكرام ولم يسمع آمن اسم فاعل وسمع على معنى النسب كما في قوله تعالى حَرَماً آمِناً [القصص: 57، العنكبوت: 67] بمعنى ذي أمن، وأمانته أن يحفظ من دخله كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه ففيه تشبيه بالرجل الأمين وإما بمعنى مفعول أي المأمون من أمنه أي لم يخفه. ونسبته إلى البلد مجازية. والمأمون حقيقة الناس أي لا تخاف غوائلهم فيه أو الكلام على الحذف والإيصال أي المأمون فيه من الغوائل. وإقحام اسم الإشارة للتعظيم. وأما طُورِ سِينِينَ فالجبل الذي كلم الله تعالى شأنه موسى عليه السلام ويقال له طور سيناء- بكسر السين والمد وبفتحها والمد- وقد قرأ بالأول هنا بدل سِينِينَ عمر بن الخطاب وعبد الله وطلحة والحسن وبالثاني عمر أيضا وزيد بن علي و «طور سينين» بفتح السين وهي لغة بكر وتميم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 393 وقد قرأ بها ابن أبي إسحاق وعمرو بن ميمون وأبو رجاء. وفي البحر أنه لم يختلف في أنه جبل بالشام وتعقبه الشهاب بأنه خلاف المشهور فإن المعروف اليوم بطور سينا ما هو بقرب التيه بين مصر والعقبة. وسِينِينَ قيل اسم للبقعة التي فيها الجبل أضيف إليه الطور ويعامل في الإعراب معاملة بيرون ونحوه فيعرب بالواو والياء ويقر على الياء وتحرك النون بحركات الإعراب. وقال الأخفش سِينِينَ جمع بمعنى شجر واحدته سينة، فكأنه قيل طور الأشجار. وأخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر وعبد بن حميد عن ابن عباس أن قال سِينِينَ هو الحسن. وأخرج عبد بن حميد نحوه عن الضحاك وكذلك أخرج هو وجماعة عن عكرمة بزيادة بلسان الحبشة. وأخرج هو أيضا وابن جرير وابن عساكر وغيرهما عن قتادة أنه قال سينين مبارك حسن ذو شجر، والإضافة على ما ذكر من إضافة الصفة إلى الموصوف. وأما التِّينِ وَالزَّيْتُونِ فروى جماعة عن قتادة أن الأول منهما الجبل الذي عليه دمشق، والثاني الجبل الذي عليه بيت المقدس. ويقال على ما أخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم عن أبي حبيب الحارث بن محمد للأول طور تينا، وللثاني طور زيتا، وذلك لأنهما منبتا التين والزيتون وكان الكلام على هذا إما على حذف مضاف أو على التجوز بأن يكون قد تجوز التين والزيتون عن منبتيهما وشاع ذلك. وأخرج عبد بن حميد عن أبي عبد الله الفارسي أن التين مسجد دمشق والزيتون بيت المقدس، ولعل إطلاقهما عليهما لأن فيهما شجرا من جنسهما. وعن كعب الأحبار أنهما دمشق وإيلياء بلد بيت المقدس وكأن تسميتها بذلك من تسمية المحل باسم الحال فيه. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب أنهما مسجد أصحاب الكهف ومسجد إيلياء. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس أنهما مسجد نوح عليه السلام الذي بني على الجودي وبيت المقدس. وعن شهر بن حوشب أنهما الكوفة والشام وتعقب بأن الكوفة بلدة إسلامية مصرها سعد بن أبي وقاص في أيام أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه ولعله أراد الأرض التي تسمى اليوم بالكوفة فقد كانت كما في القاموس وغيره منزل نوح عليه السلام. وقال بعضهم: إن الكوفة بلد كانت قبل لكنها خربت فجددت في أيام عمر رضي الله تعالى عنه، وقيل هما جبال ما بين حلوان وهمذان وجبال الشام لأنهما منابتهما وأيّا ما كان فالمتعاطفات متناسبة في أن المراد بها أماكن مخصوصة. وقيل المراد بهما الشجران المعروفان. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس أن قال التِّينِ وَالزَّيْتُونِ الفاكهة التي يأكلها الناس. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن مجاهد نحوه وحكاه في البحر أيضا عن إبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح وجابر بن زيد ومقاتل والكلبي وعكرمة والحسن وخصهما الله تعالى على هذا القول بالإقسام بهما من بين الثمار لاختصاصهما بخواص جليلة، فإن التين فاكهة طيبة لا فضل لها وغذاء لطيف سريع الانهضام بل قيل إنه أصح الفواكه غذاء إذا أكل على الخلاء ولم يتبع بشيء وهو دواء كثير النفع يفتح السدد ويقوي الكبد ويذهب الطحال وعسر البول وهزال الكلى والخفقان والربو وعسر النفس والسعال وأوجاع الصدر وخشونة القصبة إلى غير ذلك. وعن علي الرضا بن موسى الكاظم على جدهما وعليهما السلام أنه يزيل نكهة الفم ويطول الشعر وهو أمان من الفالج. وروى أبو ذر أنه أهدى إلى النبي صلّى الله عليه وسلم طبق من تين فأكل منه وقال لأصحابه: «كلوا فلو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوها فإنها تقطع البواسير وتنفع من النقرس» . ولم أقف للمحدثين على شيء في هذا الحديث لكن قال داود الطبيب بعد سرد نبذة من خواص التين وفي نفعه من البواسير حديث حسن، وذكر أن نفعه من النقرس إذا دق مع دقيق الشعير أو القمح أو الحلبة وذكر أنه حينئذ ينفع من الأورام الغليظة وأوجاع المفاصل وله مفردا ومركبا خواص أخرى كثيرة وكذا لشجرته كما لا يخفى على من راجع كتب الطب وما أشبه شجرته بمؤثر على نفسه وبكريم يفعل ولا يقول. وأما الزيتون فهو إدام ودواء وفاكهة فيما قيل، وقالوا إن المكلس منه لا شيء مثله الجزء: 15 ¦ الصفحة: 394 في الهضم والتسمين وتقوية الأعضاء ويكفيه فضلا دهنه الذي عم الاصطباح به في المساجد ونحوها مع ما فيه من المنافع كتحسين الألوان وتصفية الأخلاط وشد الأعصاب وكفتح السدد وإخراج الدود والإدرار وتفتيت الحصى وإصلاح الكلى شربا بالماء الحار وكقلع البياض وتقوية البصر اكتحالا إلى غير ذلك، وشجرته من الشجرة المباركة المشهود لها في التنزيل وإذا تتبعت خواص أجزائها ظهر لك أنها أجدى من تفاريق العصا. وعن معاذ بن جبل أنه مر بشجرة زيتون فأخذ منها سواكا فاستاك به وقال: سمعت النبيّ صلّى الله عليه وسلم يقول: «نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة يطيب الفم ويذهب بالحفرة» . وسمعته عليه الصلاة والسلام يقول: «هو سواكي وسواك الأنبياء عليهم السلام قبلي» . وقال بعضهم: إن تفسيرهما بما ذكر هو الصحيح وكأن المراد عليه تين تلك الأماكن المقدسة وزيتونها، والغرض من القسم بتلك الأشياء الإبانة عن شرف البقاع المباركة وما ظهر فيها من الخير والبركة، ويرجع إلى القسم بالأرض المباركة وبالبلد الأمين، وفيه رمز إلى فضل البلد كما يشعر به كلام صاحب الكشاف وبيّن ذلك في الكشف بقوله: وذلك أنه فصل بركتي الأرض المقدسة الدنيوية والدينية بذكر الشجرتين أو تمرتيهما، والطور الذي نودي منه موسى عليه السلام وناب المجموع مناب والأرض المباركة على سبيل الكناية، فظهر التناسب في العطف على وجه بين إذ عطف البلد على مجموع الثلاثة لأنها كالفرد بهذا الاعتبار كأنه قيل: والأرض التي باركنا فيها دينا ودنيا، والبلد الآمن من دخله في الدارين وذلك بركة يتضاءل دونها كل بركة، ويتضمن ذلك أن شرف تلك البقاع بمناجاة موسى عليه السلام ربه عز وجل أياما معدودة، وكم نوجيت في البلد الأمين ثم قال: والحمل على الظاهر أريد (1) المنابت أو الشجر أن يفوته المناسبة بين الأولين والبلد الأمين لأن مناسبة طور سينين للبلد غير مناسبته لهما، والكلام مسوق للأول انتهى فتأمل فإنه دقيق. وأيّا ما كان فجواب القسم قوله تعالى لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ إلخ وأريد بالإنسان الجنس فهو شامل للمؤمن والكافر لا مخصوص بالثاني، واستدل عليه بصحة الاستثناء وأن الأصل فيه الاتصال. وقوله تعالى فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ في موضع الحال من الإنسان أي كائنا في تقويم أحسن تقويم والتقويم التثقيف والتعديل وهو فعل الله عز وجل، فمعنى كون الإنسان كائنا في ذلك على ما قيل إنه ملتبس به نظير قولك فلان في رضا زيد بمعنى أنه مرضي عنه. وقال الخفاجي: هو مؤول بمعنى القوام أو المقوم، وفيه مضاف مقدر أي قوام أحسن تقويم أو في زائدة وما بعدها في موضع المفعول المطلق وقد ناب فيه عن المصدر صفته. والتقدير قومناه تقويما أحسن تقويم والمراد بذلك جعله على أحسن ما يكون صورة ومعنى فيشمل ما له من انتصاب القامة وحسن الصورة والإحساس وجودة العقل وغير ذلك. ومن أمعن نظره في أمره وأجال فكره في دقائق ظاهره وسره رآه كما قال بعض الأجلّة مجمع الغيب والشهادة ومطلع نيري فلكي الإفادة والاستفادة والنسخة الجامعة لما في رسائل إخوان الصفا وسائر المتون والشارح بطور طروس العجائب الإلهية المودعة فيه لما كان وسيكون وظهر له صدق ما قيل ونسب لعلي كرم الله تعالى وجهه: دواؤك فيك ولا تشعر ... وداؤك منك وما تبصر وتزعم أنك جرم صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبر ومما يدل على أحسنية تقويمه أن الله تعالى رسم فيه من الصفات ما تذكره صفاته عز وجل وتدلّه عليها فجعله عالما مريدا قادرا إلى غير ذلك. وقال تعالى: «تخلقوا بأخلاق الله لئلا يتوهم أن ما للسيد على العبد حرام» . ويكفي في هذا الباب وهو القول الفصل أن الله تعالى خلقه بيديه وأمر سبحانه ملائكته عليهم السلام بالسجود له وهم المكرمون   (1) قوله والحمل على إلخ كذا في النسخ ولعله على الظاهر إذا أريد أو حيث اه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 395 لديه. وجاء أن الله تعالى خلق آدم على صورته وفي رواية على صورة الرحمن وهي تأبى احتمال عود الضمير على آدم على معنى خلقه غير متنقل في الأطوار كبنيه ولكونه النسخة الجامعة. قال يحيى بن معاذ الرازي: من عرف نفسه فقد عرف ربه. والناس يزعمونه حديثا وليس كما قال النووي بثابت. وعن يحيى بن أكثم وبعض الحنفية أنهما أفتيا من قال لزوجته: إن لم تكوني أحسن من القمر فأنت طالق بعدم وقوع الطلاق، واستدلا بهذه الآية في قصة مشهورة. وللشعراء في تفضيل معشوقهم على القمر ليلة تمه ما يضيق عنه نطاق الحصر والحق أن الفرق مثل الصبح ظاهر. وثم في قوله تعالى ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ للتراخي الزماني أو الرتبي والرد إما بمعنى الجعل فينصب مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر كما في قوله: فرد شعورهن السود بيضا ... ورد وجوههن البيض سودا فأسفل مفعول ثان له هنا والمعنى ثم جعلناه من أهل النار الذين هم أقبح من كل قبيح، وأسفل من كل سافل خلقا وتركيبا لعدم جريه على موجب ما خلقناه عليه من الصفات. وجوز أن يكون المراد بالرد تغيير الحال فهو متعد لواحدة. وأَسْفَلَ حال من المفعول أي رددناه حال كونه أقبح من قبح صورة وأشوهه خلقة وهم أصحاب النار، وأن يكون الرد بمعناه المعروف وأَسْفَلَ منصوب بنزع الخافض وجعل الأسفل عليه صفة لمكان. وأريد بالسافلين الأمكنة السافلة أي رددناه إلى مكان أسفل الأمكنة السافلة وهو جهنم أو الدرك الأسفل من النار، ويعكر على هذا جمعها جمع العقلاء وكونه للفاصلة أو التنزيل منزلة العقلاء ليس مما يهتش له. ولعل الأولى على ذلك أن يراد إلى أسفل من سفل من أهل الدركات. وقال عكرمة والضحاك والنخعي وقتادة في رواية: المراد بذلك رده إلى الهرم وضعف القوى الظاهرة والباطنة أي ثم رددناه بعد ذلك التقويم والتحسين أسفل من سفل في حسن الصورة والشكل حيث نكسناه في خلقه فقوس ظهره بعد اعتداله، وابيض شعره بعد سواده، وتشنن جلده وكان بضا، وكلّ سمعه وبصره وكانا حديدين، وتغير كل شيء منه فمشيه دليف وصوته خفات وقوته ضعف وشهامته خرف. والآية على هذا نظير قوله تعالى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ [النحل: 70، الحج: 5] وقوله سبحانه وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ [يس: 68] وهو باعتبار الجنس فلا يلزم أن يكون كل الإنسان. كذلك. وفي إعراب أَسْفَلَ قيل الأوجه السابقة والأوجه منه غير خفي ثم المتبادر من السياق الإشارة إلى حال الكافر يوم القيامة وأنه يكون على أقبح صورة وأبشعها بعد أن كان على أحسن صورة وأبدعها لعدم شكره تلك النعمة، وعمله بموجبها وإرادة ما ذكر لا يلائمه ومن هنا قيل: إنه خلاف الظاهر والظاهر ما لاءم ذلك كما هو المروي عن الحسن ومجاهد وأبي العالية وابن زيد وقتادة أيضا. وقرأ عبد الله «السافلين» مقرونا بأل. وقوله تعالى إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ على ما تقدم استثناء متصل من ضمير رددناه العائد على الإنسان فإنه في معنى الجمع فالمؤمنون لا يردون أسفل سافلين يوم القيامة ولا تقبح صورهم بل يزدادون بهجة إلى بهجتهم وحسنا إلى حسنهم. وقوله تعالى فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أي غير مقطوع أو غير ممنون به عليهم مقرر لما يفيده الاستثناء من خروجهم عن حكم الردّ ومبين لكيفية حالهم وعلى الأخير الاستثناء منقطع والموصول مبتدأ وجملة لهم أَجْرٌ خبره والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط والكلام على معنى الاستدراك كأنه قيل: لكن الذين آمنوا لهم أجر إلخ. وهو لدفع ما يتوهم من أن التساوي في أرذل العمر يقتضي التساوي في غيره فلا يرد أنه كيف يكون منقطعا، والمؤمنون داخلون في المردودين إلى أرذل العمر غير مخالفين لغيرهم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 396 في الحكم. وقال بعض المحققين: الانقطاع لأنه لم يقصد إخراجهم من الحكم وهو مدار الاتصال والانقطاع كما صرح به في الأصول لا الخروج والدخول فلا تغفل. وحمل غير واحد هؤلاء المؤمنين على الصالحين من الهرمى كأنه قيل: لكن الذين كانوا صالحين من الهرمى لهم ثواب دائم غير منقطع أو غير ممنون به عليهم لصبرهم على ما ابتلوا به من الهرم والشيخوخة المانعين إياهم عن النهوض لأداء وظائفهم من العبادة. أخرج أحمد والبخاري وابن حبان عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إذا مرض العبد أو سافر كتب الله تعالى له من الأجر مثل ما كان يعمل صحيحا مقيما» . وفي رواية عنه ثم قرأ صلّى الله عليه وسلم فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أخرج الطبراني عن شداد بن أوس قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إن الله تبارك وتعالى يقول إذا ابتليت عبدا من عبادي مؤمنا فحمدني على ما ابتليته فإنه يقوم من مضجعه كيقوم ولدته أمه من الخطايا ويقول الرب عز وجل إني أنا قيدت عبدي هذا وابتليته فأجروا له ما كنتم تجرون له قبل ذلك» . وهو صحيح. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية: إذا كبر العبد وضعف عن العمل كتب له أجر ما كان يعمل في شبيبته، ومن الناس من حملهم على قراء القرآن وجعل الاستثناء متصلا مخرجا لهم عن حكم الرد إلى أرذل العمر بناء على ما أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن الحبر قال: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر وذلك قوله تعالى ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا قال: إلا الذين قرؤوا القرآن. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عكرمة نحوه وفيه أنه لا ينزل تلك المنزلة يعني الهرم كي لا يعلم من بعد علم شيئا أحد من قراء القرآن ولا يخفى أن تخصيص الَّذِينَ آمَنُوا بما خصص به خلاف الظاهر. وفي كون أحد من القراء لا يرد إلى أرذل العمر توقف فليتتبع. والخطاب في قوله تعالى فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ عند الجمهور للإنسان على طريقة الالتفات لتشديد التوبيخ والتبكيت، والفاء لتفريع التوبيخ عن البيان السابق، والباء للسببية. والمراد بالدين الجزاء بعد البعث أي فما يجعلك كاذبا بسبب الجزاء وإنكاره بعد هذا الدليل، والمعنى أن خلق الإنسان من نطفة وتقويمه على وجه يبهر الأذهان ويضيق عنه نطاق البيان أو هذا مع تحويله من حال إلى حال من أوضح الدلائل على قدرة الله عز وجل على البعث والجزاء فأي شيء يضطرك أيها الإنسان بعد هذا الدليل القاطع إلى أن تكون كاذبا بسبب تكذيبه، فإن كل مكذب بالحق فهو كاذب. وقال قتادة والأخفش والفراء: الخطاب للرسول صلّى الله عليه وسلم أي فأي شيء يكذبك بالجزاء بعد ظهور دليله، وهو من باب الإلهاب والتعريض بالمكذبين أي أنه لا يكذبك شيء ما بعد هذا البيان بالجزاء لا كهؤلاء الذين لا يبالون بآيات الله تعالى ولا يرفعون بها رأسا فالاستفهام لنفي التكذيب وإفادة أنه عليه الصلاة والسلام لاستمرار الدلائل وتعاضدها مستمر على ما هو عليه من عدم التكذيب. وفيه من اللطف ما ليس في الأول. وجوز على هذا الوجه كون الباء بمعنى في وكونها للسببية وتقدير مضاف عليهما والمعنى أي شيء ينسبك إلى الكذب في إخبارك بالجزاء أو بسبب إخبارك به بعد هذا الدليل، وكونها صلة التكذيب والدين بمعناه والمعنى أي شيء يجعلك مكذبا بدين الإسلام، وروي هذا عن مجاهد وقتادة والاستفهام على ما سمعت وجوز كون الدين بمعناه على الوجه الأول أيضا وبعض من ذهب إلى كون الخطاب لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلم جعل ما بمعنى من لأن المعنى عليه أظهر، وضعف بأنه خلاف المعروف في ما فلا ينبغي ارتكابه مع صحة بقائها على المعروف فيها. أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ أي أليس الذي فعل ما ذكر بأحكم الحاكمين صنعا وتدبيرا حتى يتوهم عدم الإعادة والجزاء وحيث استحال عدم كونه سبحانه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 397 أحكم الحاكمين تعين الإعادة والجزاء. والجملة تقرير لما قبلها وقيل الحكم بمعنى القضاء فهي وعيد للكفار وأنه عز وجل يحكم عليهم بما هم أهله من العذاب وأيّا ما كان فالاستفهام على ما قيل تقرير بما بعد النفي ويدل على ذلك ما أخرجه الترمذي وأبو داود وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ منكم والتين والزيتون فانتهى إلى قوله تعالى أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ فليقل بلى وأنا على ذلك من الشاهدين» . وجاء في بعض الروايات «أنه صلّى الله عليه وسلم كان يقول إذا أتى على هذه الآية: سبحانك فبلى» وقد تقدم ما يتعلق بهذا في تفسير سورة لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ [القيامة: 1] فتذكر. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 398 سورة العلق وتسمى سورة اقرأ، لا خلاف في مكيتها وإنما الخلاف في عدد آيها ففي الحجازي عشرون آية، وفي العراقي تسع عشرة، وفي الشامي ثماني عشرة، وفي أنها أول نازل أو لا فذهب كثير إلى أنها أول نازل، فقد أخرج الطبراني في الكبير بسنده على شرط الصحيح عن أبي رجاء العطاردي قال: كان أبو موسى الأشعري يقرئنا فيجلسنا حلقا عليه ثوبان أبيضان فإذا تلا هذه السورة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: 1] قال: هذه أول سورة أنزلت على محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقد أخرج الحاكم في المستدرك والبيهقي في الدلائل وصححاه عن عائشة نحوه. وأخرج غير واحد عن مجاهد قال: أول ما نزل من القرآن اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ثم ن وَالْقَلَمِ [القلم: 1] وروى الشيخان عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: سألت جابر بن عبد الله أي القرآن أنزل أولا؟ قال: يا أيها المدثر، قلت: يقولون اقرأ باسم ربك قال: أحدثكم بما حدثنا به رسول الله صلّى الله عليه وسلم ، فساق الحديث مستدلا به على ما ادعاه وأجاب عنه الأولون بعدة أجوبة مر ذكرها وقيل الفاتحة. واحتج له بحديث مرسل رجاله ثقات أخرجه البيهقي في الدلائل والواحدي من طريق يونس بن بكير عن يونس بن عمر عن أبيه عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل، وأجيب عنه بأن ما فيه يحتمل أن يكون خبرا عما نزل بعد اقرأ ويا أيها المدثر، مع أن غيره أقوى منه رواية وجزم جابر بن زيد بأن أول ما نزل اقرأ، ثم ن، ثم يا أيها المزمل، ثم يا أيها المدثر، ثم الفاتحة. وقيل أول ما نزل صدرها إلى ما لم يعلم في غار حراء ثم نزل آخرها بعد ذلك بما شاء الله تعالى وهو ظاهر ما أخرجه الإمام أحمد والشيخان وعبد بن حميد وعبد الرزاق وغيرهم من طريق ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة في حديث بدء الوحي، وفيه: «فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ» فرجع بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم ترجف بوادره إلى أن قالت: ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي ، وفي آخر ما رووا قال ابن شهاب: وأخبرني أبو سلمة عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه: «بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه فرجعت، فقلت: زملوني زملوني، فأنزل الله تعالى يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر: 1- 5] فحمي الوحي وتتابع» . ويعلم منه ضعف الاستدلال على كون سورة المدثر أول نازل من القرآن على الإطلاق بما روي أولا عن جابر المذكور كما لا يخفى على الواقف عليه، وقد ذكرناه صدر الكلام في سورة المدثر لقوله فيه وهو يحدث عن فترة الوحي وقوله: «فإذا الملك الذي جاءني بحراء» وقوله «فحمي الوحي وتتابع» أي بعد فترته الجزء: 15 ¦ الصفحة: 399 وبالجملة الصحيح كما قال البعض وهو الذي أختاره أن صدر هذه السورة الكريمة هو أول ما نزل من القرآن على الإطلاق كيف وقد ورد حديث بدء الوحي المروي عن عائشة من أصح الأحاديث وفيه فجاءه الملك فقال اقرأ فقال قلت «ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد» إلخ. والظاهر أن ما فيه نافية بل قال النووي هو الصواب وذلك إنما يتصور أولا وإلّا لكان الامتناع من أشد المعاصي ويطابقه ما ذكره الأئمة في باب تأخير البيان وسنشير إليه إن شاء الله تعالى. وفي الكشف الوجه حمل قول جابر على السورة الكاملة وفي شرح صحيح مسلم الصواب أن أول ما نزل اقْرَأْ أي مطلقا، وأول ما نزل بعد فترة الوحي يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ وأما قول من قال من المفسرين أول ما نزل الفاتحة فبطلانه أظهر من أن يذكر انتهى. وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله والله تعالى أعلم. ولما ذكر سبحانه في سورة التين خلق الإنسان في أحسن تقويم بيّن عز وجل هنا أنه تعالى خلق الإنسان من علق فكان ما تقدم كالبيان للعلة الصورية، وهذا كالبيان للعلة المادية. وذكر سبحانه هنا أيضا من أحواله في الآخرة ما هو أبسط مما ذكره عز وجل هناك فقال سبحانه وتعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ أي ما يوحى إليك من القرآن فالمفعول مقدّر بقرينة المقام كما قيل وليس الفعل منزلا منزلة اللازم ولا أن مفعوله قوله تعالى بِاسْمِ رَبِّكَ على أن الباء زائدة كما قال أبو عبيدة وزعم أن المعنى اذكر ربك، بل هي أصلية ومعناها الملابسة وهي متعلقة بما عندها أو بمحذوف وقع حالا كما روي عن قتادة. والمعنى اقْرَأْ مبتدئا أو مفتتحا بِاسْمِ رَبِّكَ أي قل بسم الله ثم اقرأ وهو ظاهر في أنه لو افتتح بغير اسمه عز وجل لم يكن ممتثلا، واستدل بذلك على أن البسملة جزء من كل سورة وفيه بحث وكذا الاستدلال به على أنها ليست من القرآن للمقابلة إذ لقائل أن يقول إنها تخصص القرآن المقدر مفعولا بغيرها. وبعضهم استدل على أنها ليست بقرآن في أوائل السور بأنها لم تذكر فيما صح من أخبار بدء الوحي الحاكية لكيفية نزول هذه الآيات كذا أفاده النووي عليه الرحمة، ثم قال: وجواب المثبتين أنها لم تنزل أولا بل نزلت في وقت آخر كما نزل باقي السورة كذلك وهذا خلاف ما أخرج الواحدي عن عكرمة والحسن أنهما قالا: أول ما نزل من القرآن بسم الله الرحمن الرحيم، وأول سورة اقرأ. وكذا خلاف ما أخرجه ابن جرير وغيره من طريق الضحاك عن ابن عباس أنه قال: أول ما نزل جبريل عليه السلام على النبي صلّى الله عليه وسلم قال: يا محمد استعذ. ثم قل بسم الله الرحمن الرحيم، وقد عد القول بأنها أول ما نزل أحد الأقوال في تعيين أول منزل من القرآن . وقال الجلال السيوطي: إن هذا القول لا يعد عندي قولا برأسه فإنه من ضرورة نزول السورة نزول الجزء: 15 ¦ الصفحة: 400 البسملة معها فهي أول آية نزلت على الإطلاق وفيه منع ظاهر كما لا يخفى. وجوز كون الباء للاستعانة متعلقة بما عندها أو بمحذوف وقع حالا ورجحت الملابسة بسلامتها عن إيهام كون اسمه تعالى آلة لغيره وقد تقدم ما يتعلق بذلك أول الكتاب. ثم إنه ليس في الأمر المذكور تكليف بما لا يطاق سواء دل الأمر على الفور أم لا لأنه صلّى الله عليه وسلم علم أن ما أوحى قرآن فهو المكلف بقراءته عليه الصلاة والسلام ولا محذور في كون اقرأ إلخ مأمورا بقراءته لصدق المأمور بقراءته عليه، وهذا كما تقول لشخص: اسمع ما أقول لك، فإنه مأمور بسماع هذا اللفظ أيضا. وقد ذكر جمع من الأصوليين أن هذا بيان للمأمور به في قول جبريل عليه السلام اقْرَأْ المذكور في حديث بدء الوحي المتفق عليه. قال الآمدي عند ذكر أدلة جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب الذي ذهب إليه جماعة من الحنفية وغيرهم: ومن الأدلة ما روي أن جبريل عليه السلام قال للنبيّ صلّى الله عليه وسلم اقْرَأْ قال: «وما اقرأ» ؟ كرر عليه ثلاث مرات ثم قال له اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ فأخر بيان ما أمره به أولا مع إجماله إلى ما بعد ثلاث مرات من أمر جبريل عليه السلام وسؤال النبي صلّى الله عليه وسلم مع إمكان بيانه أولا وذلك دليل جواز التأخير إلى آخر ما قال سؤالا وجوابا لا يتعلق بهما غرضنا، ولا يخفى أن يكون هذا بيانا للمراد على الوجه الذي ذكرناه ظاهر وكونه كذلك بجعل اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ إلى آخر ما نزل أو بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ إلخ ما ادعاه الجلال معمولا لاقرأ المكرر في كلام جبريل عليه السلام مما لا أظن أن أصوليا يقول به، ومثله كونه كذلك بحمل الآية على ما سمعت عن أبي عبيدة. وأما بناء الاستدلال على ما في بعض الآثار من أن جبريل عليه السلام جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وهو بحراء بنمط من ديباج مكتوب فيه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ- إلى- ما لَمْ يَعْلَمْ فقال له: اقرأ فقال عليه الصلاة السلام «ما أنا بقارئ» قال: اقرأ باسم ربك بأن يكون اقرأ إلخ بيانا وتلاوة من جبريل عليه السلام لما في النمط المنزل لعدم العلم بما فيه وإن كان مشاهدا منزلة المجمل الغير المعلوم فلا يخفى حاله فتأمل. ثم إن في كلام الآمدي من حيث رواية الخبر ما فيه فلا تغفل. والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التربية والتبليغ إلى الكمال اللائق شيئا فشيئا مع الإضافة إلى ضميره صلّى الله عليه وسلم للإشعار بتبليغه عليه الصلاة والسلام إلى الغاية القاصية من الكمالات البشرية بإنزال الوحي المتواتر. ووصف الرب بقوله تعالى الَّذِي خَلَقَ لتذكيره عليه الصلاة والسلام أول النعماء الفائضة عليه صلّى الله عليه وسلم منه سبحانه مع ما في ذلك من التنبيه على قدرته تعالى على تعليم القراءة بألطف وجه، وقيل: لتأكيد عدم إرادة غيره تعالى من الرب فإن العرب كانت تسمي الأصنام أربابا لكنهم لا ينسبون الخلق إليها والفعل إما منزل اللازم أي الذي له الخلق، أو مقدر مفعوله عاما أي الذي خلق كل شيء. والأول يفيد العموم أيضا فعلى الوجهين يكون وجه تخصيص الإنسان بالذكر في قوله تعالى خَلَقَ الْإِنْسانَ أنه أشرف المخلوقات وفيه من بدائع الصنع والتدبير ما فيه فهو أدل على وجوب العبادة المقصودة من القراءة مع أن التنزيل إليه، ويجوز أن يراد خلق الإنسان إلّا أنه لم يذكر أولا وذكر ثانيا قصدا لتفخيمه بالإبهام ثم التفسير. وعن الزمخشري أن المناسب أن يراد خلق الإنسان بعد الأمر بقراءة القرآن تنبيها على أنه تعالى خلقه للقراءة والدراية كما أن ذكر خلق الإنسان عقيب تعليم القرآن أول سورة الرحمن لنحو ذلك. وقوله تعالى مِنْ عَلَقٍ أي دم جامد لبيان كمال قدرته تعالى بإظهار ما بين حالتيه الأولى والآخرة من التباين البين، وأتى به دالا على الجمع لأن الإنسان مراد به الجنس فهو في معنى الجمع فأتى بما خلق منه كذلك ليطابقه مع ما في ذلك من رعاية الفواصل، ولعله على ما قيل السر في تخصيص هذا الطور من بين سائر أطوار الفطرة الإنسانية من كون النطفة والتراب الجزء: 15 ¦ الصفحة: 401 أدل على كمال القدرة لكونهما أبعد منه بالنسبة إلى الإنسانية. وفي البحر لم يذكر سبحانه مادة الأصل آدم يعني آدم عليه السلام وهو التراب لأن خلقه من ذلك لم يكن متقررا عند الكفار فذكر مادة الفرع وخلقه منها وترك مادة أصل الخلقة تقريبا لإفهامهم وهو على ما فيه لا يحسم مادة السؤال. وقيل: خص هذا الطور تذكيرا له عليه الصلاة والسلام لما وقع من شرح الصدر قبل النبوة وإخراج العلق منه ليتهيأ تهيئا تاما لما يكون له بعد فكأنه قيل الذي خلق الإنسان من جنس ما أخرجه من صدرك الشريف ليهيئك بذلك لمثل ما يلقى إليك الآن وبهذا تقوى مناسبة هذه السورة لسورة الشرح قبلها أتم مناسبة لا سيما على تفسير الشرح بالشق فتدبره. ومن الناس من زعم أن المراد بالإنسان آدم عليه السلام وأن المعنى خلق آدم من طين يعلق باليد وهو مما لا تعلق به يد القبول، ولما كان خلق الإنسان أول النعم الفائضة عليه منه تعالى وأقدم الدلائل الدالّة على وجوده عز وجل وكمال قدرته وعلمه وحكمته سبحانه وصف ذاته تعالى بذلك أولا ليستشهد عليه الصلاة والسلام به على تمكينه تعالى له من القراءة. ثم كرر جل وعلا الأمر بقوله تعالى اقْرَأْ أي افعل ما أمرت به تأكيدا للإيجاب وتمهيدا لما يعقبه من قوله تعالى: وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ إلخ فإنه كلام مستأنف وأراد لإزاحة ما بيّنه صلّى الله عليه وسلم من العذر بقوله عليه السلام لجبريل عليه الصلاة والسلام حين قال له اقرأ فقال: «ما أنا بقارئ» يريد أن القراءة شأن من يكتب ويقرأ وأنا أمي فقيل وَرَبُّكَ الذي أمرك بالقراءة مفتتحا ومبتدأ باسمه الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ أي علم ما علم بواسطة القلم لا غيره تعالى، فكما علم سبحانه القارئ بواسطة الكتابة بالقلم يعلمك بدونها. وحقيقة الكرم إعطاء ما ينبغي لا لغرض فهو صفة لا يشاركه تعالى في إطلاقها أحد فافعل للمبالغة وجوز أن لا يكون اقرأ هذا تأكيدا للأول وإنما ذكر ليوصل به ما يزيح العذر. فجملة وَرَبُّكَ إلخ في موضع الحال من الضمير المستتر فيه. وقوله تعالى عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ بدل اشتمال من علم بالقلم أي علمه به وبدونه من الأمور الكلية والجزئية والجلية والخفية ما لم يخطر بباله، في حذف المفعول أولا وإيراده بعنوان عدم المعلومية ثانيا من الدلالة على كمال قدرته تعالى وكمال كرمه عز وجل والإشعار بأنه تعالى يعلمه عليه الصلاة والسلام من العلوم ما لا يحيط به العقول ما لا يخفى قاله في الإرشاد. وقدر بعضهم مفعول علم الخط وجعل بالقلم متعلقا به وأيد بقراءة ابن الزبير الذي علم الخط بالقلم حيث صرح فيها بذلك وقال الجبائي إن اقْرَأْ الأول أمر بالقراءة لنفسه وقيل مطلقا والثاني أمر بالقراءة للتبليغ، وقيل في الصلاة المشار إليها فيما بعد. وجملة وَرَبُّكَ إلخ تحتمل الحالية والاستئنافية، وحاصل المعنى على إرادة القراءة للتبليغ في قول بلغ قومك وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الذي يثيبك على عملك بما يقتضيه كرمه ويقويك على حفظ القرآن لتبلغه. وأولى الأوجه وأظهرها التأكيد وأبعد بعضهم جدا فزعم أن بسم في البسملة متعلق باقرأ الأول، وباسم ربك متعلق باقرأ الثاني ليفيد التقديم اختصاص اسم الله تعالى بالابتداء. وجوز أيضا أن يبقى باسم الله على ما هو المشهور فيه واقرأ أمر بإحداث القراءة وباسم ربك متعلق باقرأ الثاني لذلك ولا يخفى أن الظاهر تعلق باسم ربك بما عنده وتقديم الفعل هاهنا أوقع لأن السورة المذكورة على ما سبق من التصحيح أول سورة نزلت فالقراءة فيها أهم نظرا للمقام. وقيل إنه لو سلم كون غيرها نازلا قبلها لا يضر في حسن تقديم الفعل لأن المعنى كما سمعت عن قتادة اقرأ مفتتحا باسم ربك أي قل باسم الله ثم اقرأ فلو افتتح بغير البسملة لم يكن ممتثلا فضلا عن أن يفتتح بما يضادها من أسماء الأصنام، ولو قدم أفاد معنى آخر وهو أن المطلوب عند القراءة أن يكون الافتتاح باسم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 402 الله تعالى لا باسم الأصنام ولا تكون القراءة في نفسها مطلوبة لما علم أن مقتضى التقديم أن يكون أصل الفعل مسلما على ما هو عليه من زمان طلبا كان أو خبرا. وأجاب من علق الجار بالثاني بأن مطلوبية القراءة في نفسها استفيدت من اقرأ الأول فلا تغفل. والظاهر أن المعلم بالقلم غير معين وقيل هو كل نبي كتب. وقال الضحاك هو إدريس عليه السلام وهو أول من خط. وقال كعب: هو آدم عليه السلام وهو أول من كتب. وقد نسبوا لآدم وإدريس عليهما السلام نقوشا مخصوصة في كتابة حروف الهجاء الذي يغلب على الظن عدم صحة ذلك، وقد أدمج سبحانه وتعالى التنبيه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة ونيل الرتب الفخيمة ولولاه لم يقم دين ولم يصلح عيش ولو لم يكن على دقيق حكمة الله تعالى ولطيف تدبيره سبحانه دليل إلّا أمر القلم والخط لكفى به وقد قيل فيه: لعاب الأفاعي القاتلات لعابه ... وأري الجنى اشتارته أيد عواسل ومما نسبه الزمخشري في ذلك لبعضهم وعنى على ما قيل نفسه: ورواقم رقش كمثل أراقم ... قطف الخطى نيالة أقصى المدى سود القوائم ما يجد مسيرها ... إلّا إذا لعبت بها بيض المدى ولهم في هذا الباب كلام فصل يضيق عنه الكتاب، وظاهر الآثار أن الكتابة في الأمم غير العرب قديمة وفيهم حادثة لا سيما في أهل الحجاز، وذكر غير واحد أن الكتابة نقلت إليهم من أهل الحيرة وأنهم أخذوها من أهل الأنبار، وذكر الكلبي والهيثم بن عدي أن الناقل للخط العربي من العراق إلى الحجاز حرب بن أمية وكان قد قدم الحيرة فعاد إلى مكة به، وأنه قيل لابنه أبي سفيان ممن أخذ أبوك هذا الخط؟ فقال: من أسلم بن أسدرة. وقال: سألت أسلم ممن أخذت هذا الخط؟ فقال: من واضعه مرامر بن مرة. وقيل: كان لحمير كتابة يسمونها المسند منفصلة غير متصلة وكان لها شأن عندهم فلا يتعاطاها إلّا من أذن له في تعلمها، وأصناف الكتابة كثيرة. وزعم بعضهم أن جل كتابات الأمم اثنا عشر صنفا العربية والحميرية والفارسية والعبرانية واليونانية والرومية والقبطية والبربرية والأندلسية والهندية والصينية والسريانية ولعل هذا إن صح باعتبار الأصول وإلّا فالفروع توشك أن لا يحصيها قلم كما لا يخفى والله تعالى أعلم ولم ير بعض العلماء من الأدب وصف غيره تعالى بالأكرم كما يفعله كثير من الناس في رسائلهم فيكتبون إلى فلان الأكرم ومع هذا يعدونه وصفا نازلا ويستهجنونه بالنسبة للملوك ونحوهم من الأكابر وقد يصفون به اليهودي والنصراني ونحوهما مع أنه تعالى يقول وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ فعلى العبد أن يراعي الأدب مع مولاه شاكرا كرمه الذي أولاه. كَلَّا ردع لمن كفر من جنس الإنسان بنعمة الله تعالى عليه بطغيانه وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه وذلك لأن مفتتح السورة إلى هذا المقطع يدل على عظيم منته تعالى على الإنسان فإذا قيل كَلَّا كان ردعا للإنسان الذي قابل تلك النعم الحلائل بالكفران وبالطغيان، وكذلك التعليل بقوله تعالى إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أي ليتجاوز الحد في المعصية واتباع هوى النفس ويستكبر على ربه عز وجل. وقال الكلبي: أي ليرتفع عن منزلة إلى منزلة في اللباس والطعام وغيرهما وليس بذاك، وقدر بعضهم بعد قوله تعالى ما لَمْ يَعْلَمْ ليشكر تلك النعم الجليلة فطغى وكفر كَلَّا وقيل كلا بمعنى حقا لعدم ما يتوجه إليه الردع والزجر ظاهرا فقوله سبحانه إِنَّ الْإِنْسانَ إلخ بيان لما أريد إحقاقه وهذا إلى آخر السورة قيل نزل في أبي جهل بعد زمان من نزول الآيات السابقة وهو الظاهر، ومع نزوله في ذلك اللعين المراد بالإنسان الجنس. وقوله سبحانه أَنْ رَآهُ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 403 اسْتَغْنى مفعولا من أجله أي يطغى لأن رأى نفسه مستغنيا على أن جملة اسْتَغْنى مفعول ثان لرأى لأنه بمعنى علم ولذلك ساغ كون فاعله ومفعوله ضميري واحد نحو علمتني فقد قالوا إن ذلك لا يكون في غير أفعال القلوب وفقد وعدم، وذهب جماعة إلى أن رأى البصرية قد تعطى حكم القلبية في ذلك وجعلوا منه قول عائشة: لقد رأيتنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم وما لنا طعام إلّا الأسودان. وأنشدوا: ولقد أراني للرماح دريئة ... من عن يميني تارة وأمامي فإذا جعلت رأى هنا بصرية فالجملة في موضع الحال، وتعليل طغيانه برؤيته لا بنفس الاستغناء كما ينبىء عنه قوله تعالى وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ [الشورى: 27] للإيذان بأن مدار طغيانه زعمه الفاسد على الأول ومجرد رؤيته ظاهر الحال من غير روية وتأمل في حقيقته على الثاني، وعلى الوجهين المراد بالاستغناء الغنى بالمال أعني مقابل الفقر المعروف. وقيل المراد أن رأى نفسه مستغنيا عن ربه سبحانه بعشيرته وأمواله وقوته وهو خلاف الظاهر، ويبعده ظاهر ما روي أن أبا جهل قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: أتزعم أن من استغنى طغى فاجعل لنا جبال مكة ذهبا وفضة لعلنا نأخذ منها فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك. فنزل جبريل عليه السلام فقال: إن شئت فعلنا ذلك ثم إن لم يؤمنوا فعلنا بهم ما فعلنا بأصحاب المائدة، فكف رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الدعاء إبقاء عليهم. وقرأ قنبل بخلاف عنه «أن رأه» بحذف الألف التي بعد الهمزة وهي لام الفعل وروى ذلك عنه ابن مجاهد وغلطه فيه وقال: إن ذلك حذف لا يجوز وفي البحر ينبغي أن لا يغلطه بل يتطلب له وجها وقد حذفت الألف في نحو من هذا قال: وصاني العجاج فيمن وصني يريد وصاني فحذف الألف وهي لام الفعل وقد حذفت في مضارع رأى في قولهم أصاب الناس جهد لو تر أهل مكة، وهو حذف لا ينقاس لكن إذا صحت الرواية وجب القبول فالقراءات جاءت على لغة العرب قياسها وشاذها. وقوله تعالى إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى تهديد للطاغي وتحذير له من عاقبة الطغيان، والخطاب قيل للإنسان والالتفات للتشديد في التهديد وجوز أن يكون الخطاب لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلم. والمراد أيضا تهديد الطاغي وتحذيره ولعله الأظهر نظرا إلى الخطابات قبله والرجعى مصدر بمعنى الرجوع كالبشرى والألف فيها للتأنيث، وتقديم الجار والمجرور عليه للقصر أي إن إلى ربك رجوع الكل بالموت والبعث لا إلى غيره سبحانه استقلالا أو اشتراكا فترى حينئذ عاقبة الطغيان. وفي هذه الآيات على ما قيل إدماج التنبيه على مذمة المال كما أن في الآيات الأول إدماج التنبيه على مدح العلم وكفى ذلك مرغبا في الدين والعلم ومنفرا عن الدنيا والمال. وقوله تعالى أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى ذكر لبعض آثار الطغيان ووعيد عليها. ولم يختلف المفسرون كما قال ابن عطية في أن العبد المصلي هو رسول الله صلّى الله عليه وسلم، والناهي هو اللعين أبو جهل. فقد أخرج أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم عن أبي هريرة أن أبا جهل حلف باللات والعزى لئن رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي ليطأن على رقبته وليعفرن وجهه، فأتى رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو يصلي ليفعل فما فجأهم منه إلّا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه، فقيل له: ما لك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقا من نار وهولا وأجنحة. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا» وأنزل الله تعالى كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ إلى آخر السورة . وقول الحسن هو أمية بن خلف كان ينهى سلمان عن الصلاة لا يكاد يصح لأنه لا خلاف في أن إسلام سلمان رضي الله تعالى عنه كان بالمدنية بعد الهجرة كما أنه لا خلاف في أن السورة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 404 مكية. نعم حكم الآية عام فإن كان ما حكي عن أمية واقعا فحكمها شامل له والصلاة التي أشارت إليها الآية كانت على ما حكى أبو حيان صلاة الظهر، وحكى أيضا أنها كانت تصلى جماعة وهي أول جماعة أقيمت في الإسلام وأنه كان معه عليه الصلاة والسلام أبو بكر وعلي رضي الله تعالى عنهما فمر أبو طالب ومعه ابنه جعفر فقال له: يا بني صل جناح ابن عمك، وانصرف مسرورا وأنشأ يقول: إن عليا وجعفرا ثقتي ... عند ملم الزمان والكرب والله لا أخذل النبي ولا ... يخذله من يكون من حسبي لا تخذلا وانصرا ابن عمكما ... أخي لأمي من بينهم وأبي وفي هذا نظر لأن الصلاة فرضت ليلة الإسراء بلا خلاف، وادعى ابن حزم الإجماع على أنه كان قبل الهجرة بسنة، وجزم ابن فارس بأنه كان قبلها بسنة وثلاثة أشهر، وقال السدي بسنة وخمسة أشهر، وموت أبي طالب كان قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين لأنه كان قبل وفاة خديجة بثلاثة وقيل بخمسة أيام، وكانت وفاتها بعد البعثة بعشر سنين على الصحيح، فأبو طالب على هذا لم يدرك فرضية الصلاة. نعم حكى القاضي عياض عن الزهري ورجحه النووي والقرطبي أن الإسراء كان بعد البعث بخمس سنين لكن قيل عليه ما قيل فليراجع. والنهي قيل بمعنى المنع وعبر به إشارة إلى عدم اقتدار اللعين على غير ذلك. وفي بعض الأخبار ما ظاهره أنه حصل منه نهي لفظي، فقد أخرج أحمد والترمذي وصححه وغيرهما عن ابن عباس قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلم يصلي فجاء أبو جهل فقال: ألم أنهك عن هذا؟ ألم أنهك عن هذا الحديث والتعبير بما يفيد الاستقبال لاستحضار الصورة الماضية لنوع غرابة والرؤية قيل قلبية وكذا في قوله تعالى أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى وقوله عز وجل: أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى والمفعول الأول للأول الموصول وللثاني والثالث محذوف وهو ضمير يعود عليه أو اسم إشارة يشار به إليه، والمفعول الثاني للثالث قوله سبحانه أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى والأولان متوجهان إليه أيضا وهو مقدر عندهما، وترك إظهاره اختصارا ونظير ذلك أخبرني عن زيد إن وفدت عليه، أخبرني عنه إن استخبرته، أخبرني عنه إن توسلت إليه أما يوجب حقي وليس ذلك من التنازع لأن الجمل لا يصح إضمارها وإنما هو من الطلب المعنوي والحذف في غير التنازع، وجواب الشرط في الجملتين محذوف لدلالة ألم يعلم عليه ويقدر حسبما تقتضيه الصناعة، وقيل يدل عليه أَرَأَيْتَ مرادا به ما سيذكر قريبا إن شاء الله تعالى ويقدر كذلك، والكلام عليه أيضا نظير ما مر آنفا، والضمائر المستترة في كان وما بعد من الأفعال للناهي والمراد من أَرَأَيْتَ أخبرني فإن الرؤية لما كانت سببا للعلم أجرى الاستفهام عنها مجرى الاستخبار عن متعلقها والاستفهام الواقع موقع المفعول الثاني هو متعلق الاستخبار هنا وهذا الإجراء على ما يفهم من كلام بعض الأئمة يكون مع الرؤية البصرية والرؤية القلبية وللنحاة فيه قولان، والخطاب في الكل على ما اختاره جمع لكل من يصلح أن يكون مخاطبا ممن له مسكة وقيل للإنسان كالخطاب في إِلى رَبِّكَ وتنوين عَبْداً على ما هو ظاهر كلام البعض للتنكير، وتقييد النهي بالظرف يشعر بأن النهي عن الصلاة حال التلبس بها وفصل بين الجمل للاعتناء بأمر التشنيع والوعيد حيث أشعر أن كل جملة مقصودة على حيالها فشنع سبحانه على الناهي أولا بنهيه عن الصلاة، وأوعد عليه مطلقا بقوله تعالى أَرَأَيْتَ الَّذِي إلخ أي أخبرني يا من له أدنى تمييز أو أيها الإنسان عمن ينهى عن الصلاة بعض عباد الله تعالى ألم يعلم بأن الله تعالى يرى ويطلع فيجازيه على ذلك النهي. وشنع سبحانه عليه ثانيا بنهيه عن ذلك وأوعده عليه أيضا على تقدير أنه على الجزء: 15 ¦ الصفحة: 405 زعمه على هدى ورشد في نفس النهي أو أنه أمر بواسطته بالتقوى لأن النهي عن الشيء أمر بضده أو مستلزم له فقال تعالى شأنه أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ إلخ أي أخبرني عن ذلك الناهي ألم يعلم أن الله يطلع فيجازيه إن كان على هدى ورشد في نفس النهي أو كان أمرا بواسطته بالتقوى كما يزعم. وشنع جل شأنه عليه ثالثا بذلك وأوعده عليه أيضا على تقدير أنه في نفس الأمر وفيما يقوله تعالى مكذبا بحقية الصلاة متوليا عنها معرضا عن فعلها بقوله تعالى أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ إلخ أي أخبرني عن ذلك الناهي ألم يعلم بأن الله تعالى يطلع على أحواله إن كذب بحقية ما نهى عنه وأعرض عن فعله على ما نقوله نحن، والحاصل أنه تعالى شنع وأوعد على النهي عن الصلاة بدون تعرض لحال الناهي الزعمي أو الحقيقي، ثم شنع وأوعد جل وعلا عليه مع التعرض لحاله الزعمي، ثم شنع عز وجل وأوعد عليه مع التعرض لحاله الحقيقي وهذا كالترقي في التشنيع. والجمهور على عدم تقييد ما في حيّز الشرطيتين بما ذكرنا حيث قالوا: إن كان على طريقة سديدة فيما ينهى عنه من عبادة الله تعالى أو كان أمرا بالمعروف والتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يزعم أو كان مكذبا للحق ومتوليا عن الصواب كما نقول، وذكر أن الشرط الثاني تكرار للأول لأن معنى الأول أنه ليس على الهدى، وأوضح بأن إدخال حرف الشرط في الأول لإرخاء العنان صورة والتهكم حقيقة إذ لا يكون في النهي عن عبادته تعالى والأمر بعبادة الأصنام هدى البتة، وفي الثاني لذلك والتهكم على عكس الأول إذ لا شك أنه مكذب متولّ فما لهما إلى واحد. وقيل: إن الرؤية في الجملة الأولى بصرية فلا تحتاج إلى مفعول ثان، وفي الثانية والثالثة قلبية والمفعول الأول على ما تقدم والمفعول الثاني سد مسده الجملة الشرطية الأولى بجوابها وهو في الأخيرة أَلَمْ يَعْلَمْ إلخ لمذكور وفيما قبلها محذوف دل هو عليه، ولم تعطف الأخيرة على ما قبلها للإيذان باستقلالها بالوقوع في نفس الأمر وباستتباع الوعيد الذي ينطق به الجواب، وأما قبلها فأمر الشرط فيه ليس إلّا لتوسيع الدائرة وهو السر في تجريده عن الجواب والإحالة به على جواب الشرطية بعده، والخطاب في الكل لمن يصلح له والتنوين في عَبْداً لتفخيمه عليه الصلاة والسلام واستعظام النهي وتأكيد التعجيب منه والمعنى أخبرني عن ذلك الناهي إن كان على الهدى فيما ينهى عنه من عبادة الله تعالى إلخ ما ذكر آنفا ألم يعلم أن الله يرى ويطلع على أحواله فيجازيه بها حتى اجترأ على ما فعل. وقيل إن أَرَأَيْتَ في الجمل الثلاث من الرؤية القلبية، والمفعول الأول للأولى الموصول، ومفعولها الثاني الجملة الشرطية الأولى بجوابها المحذوف اكتفاء عنه بجواب الشرطية الثانية إذ علم من ضرورة التقابل. وأَ رَأَيْتَ الثانية تكرارا للأولى، وأَ رَأَيْتَ الثالثة ومفعولها الأول محذوف للقرينة مستقلة لأنها تقابل الأولى للتقابل بين الشرطين يعني قوله تعالى إِنْ كانَ إلخ، وقوله سبحانه إِنْ كَذَّبَ إلخ. وفي الإتيان بالجملة الأخيرة من دون العطف ترشيح للكلام المبكت وتنبيه على حقية الشرط، ولهذا صرح بجوابه ليتمحض وعيدا والخطاب على ما تقدم أولا والكلام من قبيل الكلام المنصف وإرخاء العنان ولذا قيل عَبْداً ولم يقل نبيا مجتبى فكأنه قيل أخبرني يا من له أدنى تمييز عن حال هذا الذي ينهى بعض عباد الله تعالى فضلا عن النبي المجتبى عن صلاته إن كان ذلك الناهي على هدى فيما ينهى عنه من عبادة الله تعالى أو كان آمرا بالتقوى فيما يأمر به من عبادة الأصنام كما يزعم، وكذلك إن كان على التكذيب للحق والتولي عن الدين الصحيح كما تقول أَلَمْ يَعْلَمْ إلخ. وقيل أَرَأَيْتَ في الجملتين الثانية والثالثة تكرار للأولى والشرطيتان بجوابهما سادتان مسد المفعول الثاني للأولى، وأَ لَمْ يَعْلَمْ إلخ جواب الشرط الثاني وجواب الأول محذوف لدلالته عليه ولم يقل أو إن كذب إلخ لأنه ليس بقسيم لما قبله على ما قيل. والمعنى على نحو ما سمعت وأورد على جميع هذه الأقوال أن في تجويز الجزء: 15 ¦ الصفحة: 406 الإتيان بالاستفهام في جزاء الشرط من غير الفاء وإن صرح به الزمخشري في كشافه وارتضاه الرضي واستشهد له بقوله تعالى قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ [الأنعام: 47] بحثا لأن ظاهر نقل الزمخشري نفسه في المفصل ونقل غيره وجوب الفاء إذا كان الجزاء جملة إنشائية والاستفهام وإن لم يبق على الحقيقة لم يخرج على ما في الكشف من الإنشاء. وقال أبو حيان: إن وقوع جملة الاستفهام جوابا للشرط بغير فاء لا أعلم أحدا أجازه بل نصوا على وجوب الفاء في كل ما اقتضى طلبا بوجه ما ولا يجوز حذفها إلّا في ضرورة أو شعر. وقال الدماميني في شرح التسهيل: إن جعل هل يهلك جزاء مشكل لعدم اقترانه بالفاء والاقتران بها في مثل ذلك واجب. واعترض أيضا جعل الجملة الشرطية في موضع المفعول الثاني لأرأيت بأن مفعولها الثاني لا يكون إلّا جملة استفهامية كما نص عليه أبو حيان وجماعة، أو قسمية كما في الإرشاد. وقال الخفاجي: إن جعل الشرطية في موقع المفعول والجملة الاستفهامية في موقع جواب الشرط إما على ظاهره أو على أنهما لدلالتهما على ذلك جعلا كأنهما كذلك لسدهما مسد المفعول والجواب وبما ذكر صرح الرضي والدماميني في شرح التسهيل في باب اسم الإشارة فما قيل من أن المفعول الثاني لأرأيت لا يكون جملة استفهامية مخالف لما صرحوا بأنه مختار سيبويه فلا يلتفت إليه، ولم يجعلوا فيما ذكر الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلم ولا للكافر الناهي لأن السياق مقتض لخروج الناهي والمنهي عن مورد الخطاب. واستظهر في البحر جعله للنبي وجوز غيره جعله للكافر. والمراد تصوير الحال بعنوان كلي وهو كما ترى. وقيل الضميران في إِنْ كانَ وأَمَرَ للعبد المصلي والضمائر في كَذَّبَ وَتَوَلَّى ويَعْلَمْ للذي ينهى. وحاصل المعنى على ما قال الفراء أرأيت الذي ينهى عبدا يصلي والمنهي على الهدى وآمر بالتقوى والناهي مكذب متول فما أعجب من ذا. والظاهر أن جواب الشرط عليه محذوف وهو فما أعجب من ذا بقرينة أَرَأَيْتَ فإنه يفيد التعجب والرؤية فيه قيل علمية، والمفعول الثاني محذوف نحو هذا الجواب وقيل بصرية وأَ لَمْ يَعْلَمْ إلخ جملة مستأنفة لتقرير ما قبلها وتأكيده، وأو تقسيمية بمعنى الواو. وقيل الخطاب في أَرَأَيْتَ الثانية للكافر وفي الثانية للنبي صلّى الله عليه وسلم فهو عز وجل كالحاكم الذي حضر الخصمان يخاطب هذا مرة والآخر أخرى وكأنه سبحانه قال: يا كافر أخبرني إن كانت صلاته هدى ودعاؤه إلى الله تعالى أمرا بالتقوى أتنهاه، وأخبرني أيها الرسول إن كان الناهي مكذبا بالحق متوليا عن الدين الصحيح ألم يعلم بأن الله تعالى يجازيه. وسكت هذا القائل عن الخطاب في أَرَأَيْتَ الأول فقيل: لكل من يصلح له وقيل للإنسان، وقيل للنبي صلّى الله عليه وسلم كالخطاب في الثالث. وقوله أتنهاه يحتمل أنه جعله مفعولا لرأيت، ويحتمل أنه جواب الشرط أو كما في سابقه ولعل ذكر الأمر بالتقوى في الجملة الثانية لأن النهي على ما قيل كان عن الصلاة والأمر بها وكان الظاهر عليه أن يذكر في الجملة الأولى أيضا بأن يقال أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى أو أمر بالتقوى لكنه حذف اكتفاء بذكره في الثانية، واقتصر على ذكر الصلاة ولم يعكس لأن الأمر بالتقوى دعوة قولية، والصلاة دعوة فعلية والفعل أقوى من القول. وإنما كانت دعوة وأمرا لأن المقتدى به إذا فعل فعلا كان في قوة قوله افعلوا هذا. وقيل المذكور أولا ليس النهي عن الصلاة بل النهي حين الصلاة وهو محتمل أن يكون لها أو لغيرها، وعامة أحوال الصلاة لما انحصرت في تكميل نفس المصلي بالعبادة وتكميل غيره بالدعوة فنهيه في تلك الحالة يكون عن الصلاة والدعوة معا فلذا ذكر في الجملة الثانية انتهى. فلا تغفل. وجوز الإمام كون الخطاب في الكل له عليه الصلاة والسلام وقال في بيان معنى أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ الجزء: 15 ¦ الصفحة: 407 إلخ أرأيت إن صار على الهدى واشتغل بأمر نفسه، أما كان يليق به ذلك إذ هو رجل عاقل ذو ثروة، فلو اختار الرأي الصائب والاهتداء والأمر بالتقوى أما كان ذلك خيرا له من الكفر بالله تعالى والنهي عن خدمته سبحانه وطاعته عز وجل؟ كأنه تعالى يقول: تلهف عليه كيف فوت على نفسه المراتب العلية وقنع بالمراتب الردية. واعتبر عصام الدين هذه الجملة توبيخا على تفويت ما ينفع وما بعدها توبيخا على كسب ما يضر فقال: إن قوله تعالى أَرَأَيْتَ الَّذِي إلخ استشهاد لطغيان الإنسان إن رآه مستغنيا والرؤية بمعنى الإبصار، أي أشاهدت الذي ينهى عبدا إذا صلى وعرفت طغيان الإنسان المستغني وأنه لا يكفي بكفرانه ويتجاوز إلى تكليف العبد الذي أرسل للمنع عن الكفران بالكفران. وقوله سبحانه أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ إلخ توبيخ له على فوت ما لا يعلم كنهه بفوت الهدى والأمر بالتقوى، يعني أعلمت أنه على أي فور إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى وقوله عز وجل أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ إلخ توبيخ له بما كسب من استحقاق العذاب والبعد عن رب الأرباب أي أعلمت أنه على أي عقوبة ومؤاخذة. وقوله تعالى أَلَمْ يَعْلَمْ إلخ تهديد ووعيد شديد بعد التوبيخ على كسب حال الشقي وفوت حال السعيد انتهى. وهو كما ترى فتأمل جميع ما تقدم والله تعالى بمراده أعلم. ثم إن الآية وإن نزلت في أبي جهل عليه اللعنة لكن كل من نهى عن الصلاة ومنع منها فهو شريكه في الوعيد ولا يلزم على ذلك المنع عن النهي عن الصلاة في الدار المغصوبة والأوقات المكروهة لأن المنهي عنه في الحقيقة ليس عن الصلاة نفسها بل عن وصفها المقارن وأشهد الاحتياط تحاشي بعضهم عن النهي مطلقا فروي عن أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه أنه رأى في المصلى أقواما يصلون قبل صلاة العيد، فقال: ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فقيل له رضي الله تعالى عنه: ألا تنهاهم؟ فقال رضي الله تعالى عنه: أخشى أن أدخل تحت وعيد قوله تعالى أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى وفي رواية لا أحب أن أنهى عبدا إذا صلى، ولكن أحدثهم بما رأيت من رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقد سلك نحو هذا المسلك أبو حنيفة عليه الرحمة فقد روي أن أبا يوسف قال له: أيقول المصلي حين يرفع رأسه من الركوع اللهم اغفر لي؟ فقال: يقول ربنا لك الحمد ويسجد. ولم يصرح بالنهي ويقاس على النهي عن الصلاة النهي عن غيرها من أنواع العبادة، ولا فرق بين النهي القالي والنهي الحالي، ومنه أن يشغل المرء المرء عن ذلك وقد ابتلي به كثير من الناس. كَلَّا ردع للناهي اللعين وزجر له. واللام في قوله تعالى لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ موطئة للقسم أي والله لئن لم ينته عما هو عليه ولم ينزجر لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ أي لنأخذن بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار يوم القيامة والسفع قال المبرد الجذب بشدة وسفع بناصية فرسه جذب. قال عمرو بن معد يكرب: قوم إذ كثر الصياح رأيتهم ... ما بين ملجم مهره أو سافع وقال مؤرج: السفع الأخذ بلغة قريش. والناصية شعر الجبهة وتطلق على مكان الشعر وأل فيها للعهد، واكتفي بها عن الإضافة وهو معنى كونها عوضا عن المضاف إليه في مثله والكلام كناية عن سحبه إلى النار وقول أبي حيان إنه عبر بالناصية عن جميع الشخص لا يخفى ما فيه وقيل: المراد لنسحبنه على وجهه في الدنيا يوم بدر وفيه بشارة بأنه تعالى يمكن المسلمين من ناصيته حتى يجروه إن لم ينته وقد فعل عز وجل فقد روي أنه لما نزلت سورة الرحمن قال صلّى الله عليه وسلم: «من يقرؤها على رؤساء قريش» ؟ فقام ابن مسعود وقال: أنا يا رسول الله، فلم يأذن له عليه الصلاة والسلام لضعفه وصغر جثته حتى قالها ثلاثا وفي كل مرة كان ابن مسعود يقول: أنا يا رسول الله، فأذن له صلّى الله عليه وسلم فأتاهم وهم مجتمعون حول الكعبة فشرع في القراءة فقام أبو جهل فلطمه وشق أذنه وأدماه، فرجع وعيناه تدمعان فنزل جبريل عليه السلام ضاحكا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 408 فقال له صلّى الله عليه وسلم في ذلك، فقال عليه السلام «ستعلم» فلما كان يوم بدر قال عليه الصلاة والسلام: التمسوا أبا جهل في القتلى فرآه ابن مسعود مصروعا يخور فارتقى على صدره ففتح عينه فعرفه، فقال: لقد ارتقيت مرتقى صعبا يا رويعي الغنم، فقال ابن مسعود: الإسلام يعلو ولا يعلى عليه. فعالج قطع رأسه فقال اللعين: دونك فاقطعه بسيفي. فقطعه ولم يقدر على حمله فشق أذنه وجعل فيها خيطا وجعل يجره حتى جاء به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فجاء جبريل عليه السلام يضحك ويقول: يا رسول الله أذن بأذن والرأس زيادة، وكأن تخصيص الناصية بالذكر لأن اللعين كان شديد الاهتمام بترجيلها وتطييبها، أو لأن السفع بها غاية الإذلال عند العرب إذ لا يكون إلّا مع مزيد التمكن والاستيلاء ولأن عادتهم ذلك في البهائم. وقرأ محبوب وهارون كلاهما عن أبي عمرو «لنسفعنّ» بالنون الشديدة. وقرأ ابن مسعود «لأسفعن» كذلك مع إسناد الفعل إلى ضمير المتكلم وحده، وكتبت النون الخفيفة في قراءة الجمهور ألفا اعتبارا بحال الوقف فإنه يوقف عليها بالألف تشبيها لها بالتنوين وقاعدة الكتابة مبنية على حال الوقف والابتداء ومن ذلك قوله: ومهما تشأ منه فزارة تمنعا وقوله: يحسبه الجاهل ما لم يعلما وقوله تعالى ناصِيَةٍ بدل من الناصية وجاز إبدالها عن المعرفة وهي نكرة لأنها وصفت بقوله سبحانه كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ فاستقلت بالإفادة وقد ذكر البصريون أنه يشترط لإبدال النكرة من المعرفة الإفادة لا غير، ومذهب الكوفيين أنها تبدل منها بشرطين اتحاد اللفظ ووصف النكرة وليشمل بظاهره كل ناصية هذه صفتها وهذا مما يتأتى على سائر المذاهب، ووصف الناصية بما ذكر مع أنه صفة صاحبها للمبالغة حيث يدل على وصفه بالكذب والخطأ بطريق الأولى، ويفيد أنه لشدة كذبه وخطئه كأن كل جزء من أجزائه يكذب ويخطأ وهو كقوله تعالى تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ [النحل: 116] وقولهم وجهها يصف الجمال. فالإسناد مجازي من إسناد ما للكل إلى الجزء، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وزيد بن علي «ناصية كاذبة خاطئة» بنصب الثلاثة على الشتم والكسائي في رواية برفعها أي هي ناصية إلخ فَلْيَدْعُ نادِيَهُ النادي المجلس الذي ينتدي فيه القوم أي يجتمعون للحديث ويجمع على أندية، والكلام على تقدير المضاف أي فليدع أهل ناديه أو الإسناد فيه مجازي أو أطلق اسم المحل على من حل فيه ومثله في هذا المجلس ونحوه كما قال جرير أو ذو الرمة: لهم مجلس صهب السبال أذلة ... سواسية أحرارها وعبيدها وقال زهير: وفيهم مقامات حسان وجوههم ... وأندية ينتابها القول والفعل وهذا إشارة إلى ما صح من أن أبا جهل مر برسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو يصلي فقال: ألم أنهك فأغلظ عليه الصلاة والسلام له، فقال: أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي ناديا والأمر على ما في البحر للتعجيز والإشارة إلى أنه لا يقدر على شيء سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ أي ملائكة العذاب ليجروه إلى النار وهو في الأصل الشرط أي أعوان الولاة. واختلف فيه فقيل جمع لا واحد له من لفظه كعباديد. وقال أبو عبيدة: واحده زبنية- بكسر فسكون- كعفرية. وقال الكسائي: واحده زبنى- بالكسر- كأنه نسب إلى الزبن- بالفتح- وهو الدفع ثم غير للنسب، وكسر أوله كإنسي وأصل الجمع زبانى فقيل زبانية بحذف إحدى ياءيه وتعويض التاء عنها. وقال عيسى بن عمر والأخفش واحده زابن والعرب قد تطلق هذا الاسم على من اشتد بطشه وإن لم يكن من أعوان الولاة ومنه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 409 قوله: مطاعم في القصوى مطاعين في الوغى ... زبانية غلب عظام حلومها وسمي ملائكة العذاب بذلك لدفعهم من يعذبونه إلى النار. وهذا الدعاء في الدنيا بناء على ما روي من أنه لو دعا ناديه لأخذته الزبانية عيانا والظاهر أن سَنَدْعُ مرفوع لتجرده عن الناصب والجازم ورسم في المصاحف بدون واو لاتباع الرسم للفظ فإنها محذوفة فيه عن الوصل لالتقاء الساكنين أو لمشاكلة فَلْيَدْعُ وقيل إنه مجزوم في جواب الأمر وفيه نظر. وقرأ ابن أبي عبلة «سيدعى» الزبانية بالبناء للمفعول ورفع «الزبانية» كَلَّا ردع لذلك اللعين بعد ردع وزجر له إثر زجر لا تُطِعْهُ أي دم على ما أنت عليه من معاصاته وَاسْجُدْ وواظب غير مكترث به على سجودك وهو على ظاهره أو مجاز عن الصلاة وَاقْتَرِبْ وتقرب بذلك إلى ربك. وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة مرفوعا: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء» . وفي الصحيح وغيره أيضا من حديث ثوبان مرفوعا: «عليك بكثرة السجود فإنه لا تسجد لله تعالى سجدة إلّا رفعك الله تعالى بها درجة وحط عنك بها خطيئة» . ولهذه الأخبار ونحوها ذهب غير واحد إلى أن السجود أفضل أركان الصلاة، ومن الغريب أن العز بن عبد السلام من أجلّة أئمة الشافعية قال بوجوب الدعاء فيه وفي البحر ثبت في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام سجد في إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق: 1] وفي هذه السورة وهي من العزائم عند علي كرم الله تعالى وجهه، وكان مالك يسجد فيها في خاصة نفسه والله تعالى الموفق. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 410 سورة القدر قال أبو حيان مدنية في قول الأكثر، وحكى الماوردي عكسه، وذكر الواحدي أنها أول سورة نزلت بالمدينة. وقال الجلال في الإتقان: فيها قولان والأكثر على أنها مكية، ويستدل لكونها مدنية بما أخرجه الترمذي والحاكم عن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلم أري بني أمية على منبره فساءه ذلك. فنزلت إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر: 1] ونزلت إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1] الحديث وهو كما قال المزني حديث منكر انتهى. وقد أخرج الجلال هذا الحديث في الدر المنثور عن ابن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل أيضا من رواية يوسف بن سعد، وذكر فيه أن الترمذي أخرجه وضعفه، وأن الخطيب أخرج عن ابن عباس نحوه وكذا عن ابن المسيب بلفظ قال نبي الله صلّى الله عليه وسلم: «أريت بني أمية يصعدون منبري فشق ذلك عليّ» فأنزلت إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ففي قول المزني هو منكر تردد عندي وأيّا ما كان فقد استشكل وجه دلالته على كون السورة مدنية وأجيب بأنه يحتمل أن يكون ذلك لقوله فيه على منبره. والظاهر أن يكون المنبر موجودا زمن الرؤيا وهو لم يتخذ إلّا في المدينة وآيها ست في المكي والشامي وخمس فيما عداهما. وجاء في حديث أخرجه محمد بن نصر عن أنس مرفوعا «أنها تعدل ربع القرآن» وذكر غير واحد من الشافعية أنه يسن قراءتها بعد الوضوء. وقال بعض أئمتهم ثلاثا ووجه مناسبتها قبلها أنها كالتعليل للأمر بقراءة القرآن المتقدم فيه كأنه قيل: اقرأ القرآن لأن قدره عظيم وشأنه فخيم. وقال الخطابي: المراد بالكتابة في قوله تعالى فيها إِنَّا أَنْزَلْناهُ الإشارة إلى قوله تعالى اقْرَأْ [العلق: 1] ولذا وضعت بعد وارتضاه القاضي أبو بكر بن العربي وقال: هذا بديع جدا والظاهر أنه أراد أن الضمير المنصوب. في ذاك لاقرأ إلخ على ما ستسمعه إن شاء الله تعالى. وكونه أراد أنه للمقروء المفهوم من اقرأ فيكون في معنى رجوعه للقرآن خلاف الظاهر فلا تغفل. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ الضمير عند الجمهور للقرآن وادعى الإمام فيه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 411 إجماع المفسرين وكأنه لم يعتد بقول من قال منهم برجوعه لجبريل عليه السلام أو غيره لضعفه، قالوا: وفي التعبير عنه بضمير الغائب مع عدم تقدم ذكره تعظيم له أي تعظيم لما أنه يشعر بأنه لعلو شأنه كأنه حاضر عند كل أحد فهو في قوة المذكور وكذا في إسناد إنزاله إلى نون العظمة مرتين وتأكيد الجملة. وأشار الزمخشري إلى إفادة الجملة اختصاص الإنزال به سبحانه بناء على أنها من باب أنا سعيت في حاجتك مما قدم فيه الفاعل المعنوي على الفعل، وتعقب بأن ما ذكروه في الضمير المنفصل دون المتصل كما في اسم إن هنا نعم الاختصاص يفهم من سياق الكلام. وفيه أنهم لم يصرحوا باشتراط ما ذكر في تفخيم وقت إنزاله بقوله تعالى وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لما فيه من الدلالة على أن علوها خارج عن دائرة دراية الخلق لا يعلم ذلك ولا يعلم به إلّا علام الغيوب كما يشعر به قوله سبحانه لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ فإنه بيان إجمالي لشأنها أثر تشويقه عليه الصلاة والسلام إلى درايتها فإن ذلك معرب عن الوعد بادرائها. وعن سفيان بن عيينة أن كل ما في القرآن من قوله تعالى ما أَدْراكَ [الانفطار: 17 وغيرها] أعلم الله تعالى به نبيه صلّى الله عليه وسلم وما فيه من قوله سبحانه وَما يُدْرِيكَ [الأحزاب: 63، الشورى: 17، عبس: 3] لم يعلمه عز وجل به. وقد مر بيان كيفية إعراب الجملتين وفي إظهار ليلة القدر في الموضعين من تأكيد التعظيم والتفخيم ما لا يخفى. والمراد بإنزاله فيها إنزاله كله جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، فقد صح عن ابن عباس أنه قال: أنزل القرآن في ليلة القدر جملة واحدة إلى السماء الدنيا وكان بمواقع النجوم. وكان الله تعالى ينزله على رسوله صلّى الله عليه وسلم بعضه في أثر بعض. وفي رواية بدل وكان بمواقع إلخ ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة، وفي رواية أخرى عنه أيضا أنزل القرآن جملة واحدة حتى وضع في بيت العزة في السماء ونزل به جبريل عليه السلام على محمد صلّى الله عليه وسلم بجواب كلام العباد وأعمالهم. وفي أخرى أنه أنزل في رمضان ليلة القدر جملة واحدة ثم أنزل على مواقع النجوم رسلا في الشهور والأيام. وكون النزول بعد في عشرين سنة قول لهم وقال بعضهم وهو الأشهر في ثلاث وعشرين. وقال آخر: في خمس وعشرين وهذا للخلاف في مدة إقامته صلّى الله عليه وسلم بمكة بعد البعث. وقال الشعبي: المراد ابتدأنا بإنزاله فيها. والمشهور أن أول ما نزل من الآيات اقْرَأْ وأنه كان نزولها بحراء نهارا. نعم في البحر روى أن نزول الملك في حراء كان في العشر الأواخر من رمضان، فإن صح وكان المراد كان ليلا فذاك وإلّا فظاهر كلام الشعبي غير مستقيم اللهم إلّا أن يقال إنه أراد ابتداء إنزاله إلى السماء الدنيا فيها ولا يلزم أن يتحد ذلك، وابتداء إنزاله عليه صلّى الله عليه وسلم في الزمان ثم إن في أَنْزَلْناهُ على ما ذكر تجوزا في الإسناد لأنه أسند فيه ما للجزء إلى الكل أو مجازا الطرف أو تضمينا. وقيل: المراد إنزاله من اللوح إلى السماء الدنيا مفرقا في ليالي قدر على أن المراد بليلة الجنس فقد قيل إن القرآن أنزل إلى السماء الدنيا في عشرين ليلة قدر أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين، وكان ينزل في كل ليلة ما يقدر الله تعالى إنزاله في كل السنة ثم ينزله سبحانه منجما في جميع السنة. وهذا القول ذكره الإمام احتمالا ونقله القرطبي كما قال ابن كثير عن مقاتل لكنه مما لا يعول عليه، والصحيح المعتمد عليه كما قال ابن حجر في شرح البخاري أنه أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا بل حكى بعضهم الإجماع عليه. نعم لا يبعد القول بأن السفرة هناك نجموه لجبريل عليه السلام في الليالي المذكورة. وأجاب السيد عيسى الصفوي بأنه محذور في ذلك بناء على جواز مثل أتكلم مخبرا به عن التكلم بقولك أتكلم، وفي ذلك اختلاف بين الدواني وغيره ذكره في رسالته التي ألفها في الجواب عن مسألة الحذر الأصم، أو يقال يرجع الضمير للقرآن باعتبار جملته وقطع النظر عن أجزائه فيخبر عن الجملة بإنّا أنزلناه وإن كان من جملته إِنَّا أَنْزَلْناهُ المندرج في جملته من غير الجزء: 15 ¦ الصفحة: 412 نظير له بخصوصه. وقد ذكروا أن الجزء من حيث هو مستقل مغاير له من حيث هو في ضمن الكل وفي الإتقان عن أبي شامة فإن قلت إنا أنزلناه إن لم يكن من جملة القرآن الذي نزل جملة فما نزل جملة، وإن كان من الجملة فما وجه هذه العبارة؟ قلت لها وجهان أحدهما أن يكون المعنى إنّا حكمنا بإنزاله في ليلة القدر وقضينا به وقدّرناه في الأزل والثاني أن لفظ أنزلناه ماض ومعناه على الاستقبال أي تنزله جملة في ليلة القدر انتهى. ولم يظهر لي في كلا وجهيه رحمه الله تعالى شامة حسن فأجل في ذلك نظرا فلعلك ترى. وقيل المعنى: إنّا أنزلناه في فضل ليلة القدر أو في شأنها وحقها، فالكلام على تقدير مضاف أو الظرفية مجازية كما في قول عمر رضي الله تعالى عنه: خشيت أن ينزل فيّ قرآن، وقول عائشة رضي الله تعالى عنها: لأنا أحقر في نفسي من أن ينزل فيّ قرآن. وجعل بعضهم في ذلك للسبية والضمير قيل للقرآن بالمعنى الدائر بين الكل والجزء. وقيل بمعنى السورة ولا يأباه كون إنا أنزلناه فيها لما مر آنفا فلا حاجة إلى أن يقال المراد بها ما عدا إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وقيل: يجوز أن يراد به المجموع لاشتماله على ذلك وأيّا ما كان فحمل الآية على هذا المعنى غير معول عليه وإنما المعول عليه ما تقدم. والمراد بالإنزال إظهار القرآن من عالم الغيب إلى عالم الشهادة أو إثباته لدى السفرة هناك أو نحو ذلك مما لا يشكل نسبته إلى القرآن. واختلفوا في تلك الليلة فقيل إنها لخبر في ذلك وهو كما قال الكرماني غلط لأن آخر الخبر يرده والمراد برفع تعيينها فيه. وعن عكرمة أنها ليلة النصف من شعبان وهو قول شاذ غريب كما في تحفة المحتاج. وظاهر ما هنا مع ظاهر قوله تعالى شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة: 185] يرده وعن ابن مسعود أنها تنتقل في ليالي السنة فتكون في كل سنة في ليلة، ونسبه النووي إلى أبي حنيفة وصاحبيه والأكثرون على أنها في شهر رمضان. فعن ابن رزين أنها الليلة الأولى منه. وعن الحسن البصري السابعة عشرة لأن وقعة بدر كانت في صبيحتها. وحكي عن زيد بن أرقم وابن مسعود أيضا وعن أنس مرفوعا التاسعة عشرة. وحكي موقوفا على ابن مسعود أيضا وعن محمد بن إسحاق الحادية والعشرون لما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري أنه عليه الصلاة والسلام قال: «قد رأيت هذه الليلة- يعني ليلة القدر- ثم نسيتها، وقد رأيتني أسجد من صبيحتها في ماء وطين» . قال أبو سعيد: فمطرت السماء من تلك الليلة فوكف المسجد فأبصرت عيناي رسول الله على جبهته وأنفه أثر الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين. وفي مسلم من صبيحة ثلاث وعشرين، ومنه مع ما قبله مال الشافعي عليه الرحمة إلى أنها الليلة الحادية أو الثالثة والعشرون. وأخرج أحمد ومسلم وغيرهما عن عبد الله بن أنيس أنه سئل عن ليلة القدر فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «التمسوها الليلة» وتلك الليلة ليلة ثلاث وعشرين. وأخرج أحمد وأبو داود وابن جرير وغيرهم عن بلال قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ليلة القدر ليلة أربع وعشرين» . وفي الإتقان وغيره أنها الليلة التي أنزل فيها القرآن. وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي ذر أنه سئل عن ليلة القدر فقال: كان عمر وحذيفة وناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم لا يشكون أنها ليلة سبع وعشرين. وأخرج ابن نصر وابن جرير في تهذيبه عن معاوية قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «التمسوا ليلة القدر في آخر ليلة من رمضان» . وفي رواية أحمد عن أبي هريرة مرفوعا أنه آخر ليلة. وقيل: هي في العشر الأوسط تنتقل فيه قيل في أوتاره وقيل في أشفاعه. وأخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من شهر رمضان» . وفي حديث أخرجه أحمد وجماعة عن عبادة ابن الصامت مرفوعا وحديثين أخرجهما ابن جرير وغيره الجزء: 15 ¦ الصفحة: 413 عن جابر بن سمرة وعن عبد الله بن جابر كذلك ما يدل على ما ذكر أيضا بل الأخبار الصحيحة الدالة عليه كثيرة، وبالجملة الأقوال فيها مختلفة جدا إلا أن الأكثرين على أنها في العشر الأواخر لكثرة الأحاديث الصحيحة في ذلك، وأكثرهم على أنها في أوتارها لذلك أيضا وكثير منهم ذهب إلى أنها الليلة السابعة من تلك الأوتار. وصح من رواية الإمام أحمد ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن حبان وغيرهم أن زر بن حبيش سأل أبيّ بن كعب عنها فحلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين فقال له: بم تقول ذلك يا أبا المنذر؟ فقال: بالآية والعلامة التي قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «إنها تصبح من ذلك اليوم تطلع الشمس ليس لها شعاع» وبعض الأخبار عن ابن عباس ظاهرة في ذلك، وفي بعض الاستئناس له بما يدل على جلالة شأن السبعة التي قالوا فيها إنها عدد تام من كون السماوات سبعا والأرضين سبعا والأيام سبعا والجمار سبعا والطواف بالبيت سبعا والسجود على سبع إلى غير ذلك مما ذكره لما علمت من الأخبار الصحيحة المتضافرة وهو زمان ضعف البدن وفيه يزيد أجر العمل ووقت قوة الاستعداد للتجليات لمزيد التصفية وأنها في الأوتار أرجى للأحاديث أيضا مع أن الله تعالى وتر يحب الوتر. وقال ابن حجر الهيتمي: اختار جمع أنها لا تلزم ليلة بعينها من العشر الأواخر بل تنتقل في لياليه فعاما أو أعواما تكون وترا إحدى أو ثلاثا أو غيرهما، وعاما أو أعواما تكون شفعا اثنتين أو أربعا أو غيرهما قالوا: ولا تجتمع الأحاديث المتعارضة فيها إلّا بذلك. وكلام الشافعي رضي الله تعالى عنه في الجمع بين الأحاديث يقتضيه انتهى. ولا يخفى أن الجمع بذلك بين الأحاديث المتعارضة فيها مطلقا مما لا يتسنى وإنما يتسنى الجمع بذلك بين الأحاديث المتعارضة فيها بالنظر إلى العشر، وقيل في الجمع مطلقا أنها تنتقل وما صح من التعيين في الجملة أو على التحقيق محمول على ليلة قدر في شهر رمضان مخصوص بأن يكون قد علم صلّى الله عليه وسلم أنها في أول شهر رمضان فرض ليلة كذا. فقال عليه الصلاة والسلام: «هي ليلة كذا» . أي في هذا الشهر رمضان المخصوص، وعلم عليه الصلاة والسلام أنها في شهر رمضان بعده ليلة كذا غير تلك الليلة التي ذكرها قبل فقال صلّى الله عليه وسلم: «هي ليلة كذا» وعلم صلّى الله عليه وسلم أنها في آخره في العشر الأخير منه فقال: «هي في العشر الأخير» أي من هذا الشهر المخصوص وهكذا وهو كما ترى. وعلى القول بانتقالها ادعى بعضهم أنه إذا كان أول الشهر ليلة كذا فهي الليلة السابعة والعشرون، وإن كانت ليلة كذا فهي الليلة الحادية والعشرون إلى آخر ما قال. وقد ذكرناه مع نظمه في الطراز المذهب وليس في ذلك ما يقوم حجة على الغير. وفي بعض الأخبار ذكر علامات لها ففي حديث الإمام أحمد والبيهقي وغيرهما عن عبادة بن الصامت من أماراتها أنها ليلة بلجة صافية ساكنة لا حارة ولا باردة كأن فيها قمرا ساطعا، لا يرمى فيها بنجم حتى الصباح. وأخرج نحوا منه ابن جرير في تهذيبه وابن مردويه عن جابر بن عبد الله مرفوعا وحمل ذلك إن صح على ليلة قدر من شهر رمضان مخصوص كالمتعين لعدم اطراده ولا أغلبيته فيما يظهر والحكمة في إخفائها أن يجتهد من يطلبها في العبادة في غيرها ليصادفها كأن يحيي ليالي شهر رمضان كلها كما كان دأب السلف، وللإمام في هذا المقام كلام يجلّ مثله عن التكلم بمثله ولعمري لقد سها فيه سهوا بينا وأتى فيه بما يوشك أن يدل على جهله ومعنى ليلة القدر ليلة التقدير وسميت بذلك لما روي عن ابن عباس وغيره أنه يقدر فيها ويقضي ما يكون في تلك السنة من مطر ورزق وإحياء وإماتة إلى السنة القابلة، والمراد إظهار تقديره تعالى ذلك للملائكة عليهم السلام المأمورين بالحوادث الكونية وإلّا فتقديره تعالى جميع الأشياء أزلي قبل خلق السماوات والأرض لكن قال بعض الأجلّة كون التقدير في هذه الليلة يشكل عليه قول كثير أنه ليلة النصف من شعبان الجزء: 15 ¦ الصفحة: 414 وهي المراد بالليلة، والمباركة التي قال الله تعالى فيها فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان: 4] وأجاب بأن هاهنا ثلاثة أشياء الأول نفس تقدير الأمور أي تعيين مقاديرها وأوقاتها، وذلك في الأزل، والثاني إظهار تلك المقادير للملائكة عليهم السلام بأن تكتب في اللوح المحفوظ وذلك في ليلة النصف من شعبان، والثالث إثبات تلك المقادير في نسخ وتسليمها إلى أربابها من المدبرات فتدفع نسخة الأرزاق والنباتات والأمطار إلى ميكائيل عليه السلام ونسخة الحروب والرياح والجنود والزلازل والصواعق والخسف إلى جبريل عليه السلام، ونسخة الأعمال إلى إسرافيل عليه السلام، ونسخة المصائب إلى ملك الموت وذلك في ليلة القدر. وقيل يقدر في ليلة النصف الآجال والأرزاق، وفي ليلة القدر الأمور التي فيها الخير والبركة والسلامة. وقيل: يقدر في هذه ما يتعلق به إعزاز الدين وما فيه النفع العظيم للمسلمين وفي ليلة النصف يكتب أسماء من يموت ويسلم إلى ملك الموت والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. وقال الزهري: المعنى ليلة العظمة والشرف من قولهم: رجل له قدر عند فلان أي منزلة وشرف. وسميت بذلك لأن من أتى بفعل الطاعات فيها صار ذا قدر وشرف عند الله عز وجل أو لأن الطاعات لها فيها ذلك. وقيل لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر بواسطة ملك ذي قدر على رسول الله ذي قدر لأمة ذات قدر. وقيل لأنه يتنزل فيها ملائكة ذوات قدر. وقال الخليل بن أحمد: المعنى ليلة الضيق من قدر عليه رزقه ضيق وسميت بذلك لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة عليهم السلام وخيريتها من ألف شهر باعتبار العبادة عند الأكثرين على معنى أن العبادة فيها خير من العبادة في ألف شهر، ولا يعلم مقدار خيريتها منها إلّا هو سبحانه وتعالى وهذا تفضل منه تعالى وله عز وجل أن يخص ما شاء بما شاء، ورب عمل قليل خير من عمل كثير. ولا ينافي هذا قاعدة أن كل ما كثر وشق كان أفضل لخبر مسلم أنه صلّى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله تعالى عنها: «أجرك على قدر نصبك» لأنها أغلبية على ما قال غير واحد، ولا شك أن العمل القليل قد يفضل الكثير باعتبار الزمان وباعتبار المكان وباعتبار كيفية الأداء كصلاة واحدة أديت بجماعة فإنها تعدل خمسا وعشرين مرة صلاة مثلها أديت على الانفراد إلى غير ذلك. نعم هذه الأفضلية قد تعقل في بعض وقد لا كما فيما نحن فيه ولا حجر على الله عز وجل ولا يعلم ما عنده سبحانه إلّا هو جل شأنه. وتخصيص الألف بالذكر قيل إما للتكثير كما في قوله تعالى يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ [البقرة: 96] وكثيرا ما يراد بالأعداد ذلك. وفي البحر حكاية أن المعنى عليه خير من الدهر كله، أو لما أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن مجاهد أن النبي صلّى الله عليه وسلم ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله تعالى ألف شهر، فعجب المسلمون من ذلك وتقاصرت إليهم أعمالهم فأنزل الله تعالى السورة. وأخرج ابن أبي حاتم عن علي بن عروة قال: ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوما أربعة من بني إسرائيل عبدوا الله تعالى ثمانين عاما لم يعصوه طرفة عين فذكر أيوب وزكريا وحزقيل بن العجوز ويوشع بن نون، فعجب أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم من ذلك، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا محمد عجبت أمتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة فقد أنزل الله تعالى عليك خيرا من ذلك. فقرأ عليه إِنَّا أَنْزَلْناهُ إلخ ثم قال: هذا أفضل مما عجبت أنت وأمتك منه فسرّ بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم . وقيل: إن الرجل فيما مضى ما كان يقال له عابد حتى يعبد الله تعالى ألف شهر فأعطوا ليلة إن أحيوها كانوا أحق بأن يسموا عابدين من أولئك العباد. وقال أبو بكر الوراق: كان ملك كل من سليمان وذي القرنين خمسمائة شهر فجعل الله تعالى العمل في هذه الليلة لمن أدركها خيرا من ملكهما، وفي هذا نظر لأنه إن أريد بذي القرنين الأول فهو على القول به قد ملك أكثر من ذلك بكثير، وإن أريد به الثاني أعني قاتل دارا فهو قد ملك أقل من ذلك بكثير. وقيل: أري صلّى الله عليه وسلم أعمار الأمم كافة فاستقصر أعمار أمته فخاف عليه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 415 الصلاة والسلام أن لا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر فأعطاه الله تعالى ليلة القدر وجعلها خيرا من ألف شهر لسائر الأمم وذكره الإمام مالك في الموطأ وقد سمعت ما يدل على أن الألف إشارة إلى ملك بني أمية وكان على ما قال القاسم بن الفضل ألف شهر لا يزيد يوم ولا ينقص يوم على ما قيل ثمانين سنة وهي ألف شهر تقريبا لأنها ثلاثة وثمانون سنة وأربعة أشهر، ولا يعكر على ذلك ملكهم في جزيرة الأندلس بعد لأنه ملك يسير في بعض أطراف الأرض وآخر عمارة العرب ولذا لم يعد من ملك منهم هناك من خلفائهم. وقالوا بانقراضهم بهلاك مروان الحمار. وطعن القاضي عبد الجبار في كون الآية إشارة لما ذكر بأن أيام بني أمية كانت مذمومة أي باعتبار الغالب فيبعد أن يقال في شأن تلك الليلة إنها خير من ألف شهر مذمومة: ألم تر أن السيف ينقص قدره ... إذا قيل إن السيف خير من العصا وأجيب بأن تلك الأيام كانت عظيمة بحسب السعادات الدنيوية فلا يبعد أن يقول الله تعالى: أعطيتك ليلة في السعادات الدينية أفضل من تلك في السعادات الدنيوية فلا تبقى فائدة، واختلف في أن تلك الليلة تستتبع يومها أم لا. فقال الشعبي: نعم يومها مثلها، وقيل لعل الوجه فيه أن ذكر الليالي يستتبع الأيام ومنه إذا نذر اعتكاف ليلتين لزمتاه بيوميهما والكثير لا لكن قيل يسن الاجتهاد في يومها كما يسن فيها. ولذا جاء في وصفها أن الشمس تطلع صبيحتها وليس لها شعاع كما تقدم أي لعظم أنوار الملائكة الصاعدين والنازلين فيها فإنه لا فائدة فيه سوى معرفة يومها ولا فائدة فيها لو لم يسن الاجتهاد فيه. ومنع بأنه يجوز أن تكون الفائدة معرفتها نفسها ليجتهد فيها من قابل بناء على أنها لا تنتقل، وظاهر الآية أنها أفضل من ليلة الجمعة والمسألة خلافية وأكثر الأئمة على أنها أفضل منها للآية، ولأن الله تعالى أنزل فيها القرآن وهو هو ولم ينزله في غيرها، ولأنه سبحانه أمر بطلبها. فعن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [البقرة: 187] ليلة القدر ولأنه عز وجل جعلها ليلة الفرق والحكم فقال جل شأنه فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان: 4] وسماها جل وعلا ليلة القدر أي التقدير ولما روي عن كعب أنه قال: إن الله تعالى اختار الساعات فاختار ساعات أوقات الصلاة، واختار الأيام فاختار يوم الجمعة، واختار الشهور فاختار شهر رمضان، واختار الليالي فاختار ليلة القدر فهي أفضل ليلة في أفضل شهر، ولأنه صلّى الله عليه وسلم حثّ على العمل فيها فقد صح: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه» . وفي رواية «وما تأخر» ونهي عليه الصلاة والسلام أن يخص ليلة الجمعة بقيام ويومها بصيام ولأنه سبحانه وتعالى أخفاها ولم يعينها كما أخفى سبحانه أعظم أسمائه عز وجل، وكما أخفى جل شأنه أفضل الصلوات وهي الصلاة الوسطى إلى غير ذلك. وذهب أكثر الحنابلة كأبي الحسن الجزري وعبد الله بن بطة وأبي حفص البرمكي وغيرهم إلى أن ليلة الجمعة أفضل لما أخرج مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يغفر الله تعالى ليلة الجمعة لأهل الإسلام أجمعين، وهذه فضيلة لم تجىء لغيرها» . ونحوه ما روي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما من ليلة جمعة إلّا وينظر الله تعالى إلى خلقه ثلاث مرات فيغفر لمن لا يشرك بالله تعالى شيئا ولأنه روى ابن بشكوال في كتابه القربة إلى رب العالمين بسنده إلى عمر رضي الله تعالى عنه أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «أكثروا الصلاة عليّ في الليلة الغرّاء واليوم الأزهر ليلة الجمعة ويوم الجمعة» والغرة من الشيء خياره ولأنه قد روى كثيرون منهم الإمام أحمد أن يومها سيد الأيام وأعظمها وأعظم عند الله تعالى من يوم الفطر ويوم الأضحى، وصحح ابن حبان خبر: «لا تطلع الشمس ولا تغرب على يوم أفضل من يوم الجمعة» . فهي لذلك سيدة الليالي وأعظمها وأفضلها ولأنها معينة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 416 مشهودة يشهدها الخاص والعام من ذكر وأنثى وصغير وكبير بصير وضرري، وتصل بركتها إلى الأحياء والأموات وليلة القدر غير معينة فلا ينتفع بها إلّا قليل إلى غير ذلك. وأجاب هؤلاء عن الآية بأنه لما أريد فيها أنها خير من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر كما قال قتادة وغيره فليرد أيضا أنها خير من ألف شهر ليس فيها ليلة جمعة، ويدل للأمرين أن أكثر أسباب النزول السابقة تدل على أن المراد بالشهور شهور من تقدمنا وهي ليس فيها ليلة قدر ولا ليلة جمعة. وعن سائر المستندات بأن بعضها معارض وبعضها لا يدل على أكثر من فضلها وهو ما لم ينكره أحد والأولون أجابوا عن مستنداتهم بنحو ما أجابوا وللتعارض قال أحمد بن الحسين بن يعقوب بن قاسم المقري من الحنابلة: إن القولين في المسألة قولان شائعان بين الأصحاب ولكل دلائل تدل على صوابيته فلا ينبغي لأحد أن يطلق الخطأ على قائل كل منهما، وأنت بعد التأمل في أدلة الطرفين والوقوف على أحوالها يتعين عندك أفضلية ليلة القدر وتعين ليلة الجمعة، وهاهنا قول متوسط بين القولين حكى القاضي أبو يعلى أن أبا الحسن التميمي من الحنابلة أيضا كان يقول: ليلة القدر التي أنزل فيها القرآن أفضل من ليلة الجمعة لما حصل فيها من الخير الكثير الذي لم يحصل في غيرها، فأما أمثالها من ليالي القدر فليلة الجمعة أفضل منها، وقيل نظيره في ليلة المعراج مع ليلة الجمعة ونحوها. ثم إن ظاهر كلام بعض الحنفية كصاحب الجوهرة أن ليلة النحر أفضل من ليلة القدر وسائر ليالي السنة، ويرد عليه ظاهر الآية أيضا ولعله يجيب بنحو ما سبق آنفا. ونقل الطحاوي عليه الرحمة في حواشي المختار عن بعض الشافعية أن أفضل الليالي ليلة مولده عليه الصلاة والسلام ثم ليلة القدر ثم ليلة الإسراء والمعراج ثم ليلة عرفة ثم ليلة الجمعة ثم ليلة النصف من شعبان ثم ليلة العيد وأنا لا أرى أن له ما يعول عليه في ذلك والله تعالى أعلم وما أشير إليه من كونها من خصائص هذه الأمة هو الذي يقتضيه أكثر الأخبار الواردة في سبب النزول وصرح به الهيتمي وغيره. وقال القسطلاني: إنه معترض بحديث أبي ذر عند النسائي حيث قال فيه: يا رسول الله أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رفعت؟ قال: «بل هي باقية» . ثم ذكر أن عمدة القائلين بذلك الخبر الذي قدمناه في سبب النزول من رؤيته صلّى الله عليه وسلم تقاصر أعمار أمته عن أعمار الأمم وتعقبه بقوله: هذا محتمل للتأويل فلا يدفع الصريح في حديث أبي ذر كما قاله الحافظان ابن كثير في تفسيره وابن حجر في فتح الباري انتهى. والحق الأول والصراحة في حيّز المنع. وقد أخرج الديلمي عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى وهب لأمتي ليلة القدر لم يعطها من كان قبلهم» . فتأمل ولا تغفل. وقوله تعالى تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها استئناف مبين لمناط فضلها على تلك المدة المديدة فضمير فيها لليلة وزعم بعضهم أن الجملة صفة لألف شهر والضمير لها وليس بشيء، وجوّز بعضهم كون الضمير للملائكة على أن الرُّوحُ مبتدأ لا معطوف على الْمَلائِكَةُ وفِيها خبره لا متعلق ب تَنَزَّلُ والجملة حال من الْمَلائِكَةُ وهو خلاف الظاهر. والروح عند الجمهور هو جبريل عليه السلام، وخص بالذكر لزيادة شرفه مع أنه النازل بالذكر. وقيل ملك عظيم لو التقم السماوات والأرض كان ذلك له لقمة واحدة، وذكر في التيسير من وصفه ما يبهر العقول والله تعالى أعلم بصحة الخبر. وقال كعب ومقاتل: الروح طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلّا تلك الليلة كالزهاد الذين لا نراهم إلّا يوم العيد أو الجمعة. وقيل: حفظة على الملائكة كالملائكة الحفظة علينا. وقيل: خلق من خلق الله تعالى يأكلون ويلبسون ليسوا من الملائكة ولا من الإنس ويخلق ما لا تعلمون وما يعلم جنود ربك إلا هو ولعلهم على ما قيل خدم أهل الجنة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 417 وقيل: هو عيسى عليه السلام ينزل لمطالعة هذه الأمة وليزور النبي صلّى الله عليه وسلم وقيل: أرواح المؤمنين ينزلون لزيارة أهليهم. وقيل: الرحمة كما قرىء لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ [يوسف: 87] بالضم وعلى الأول المعول والظاهر الذي تشهد له الأخبار أن التنزل إلى الأرض، فقيل: إن ذلك لما ذكر الله تعالى بعد وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام فيه وقيل ينزلون إليها للتسليم على المؤمنين. وقيل: لأن الله تعالى جعل فضيلة هذه الليلة في الاشتغال بطاعته في الأرض فهم ينزلون إليها لتصير طاعاتهم أكثر ثوابا كما أن الرجل منا يذهب إلى مكة لتصير طاعته كذلك فيكون المقصود من الإخبار بذلك ترغيب الإنسان في الطاعة. وقال عصام الدين: يحتمل أن يكون تنزلهم لإدراكها إذ ليس في السماء ليل، والجملة حينئذ مقررة لما سبق لا مبينة لمناط الفضل وفيه نظر لا يخفى. وقيل غير ذلك مما سنشير إليه إن شاء الله تعالى. وقيل: المراد تنزلهم إلى السماء الدنيا وهو خلاف المتبادر وأنزل منه بكثير كون المراد بتنزلهم تنزلهم عن مراتبهم العلية من الاشتغال بالله تعالى والاستغراق بمطالعة جلاله عز وجل ليسلموا على المؤمنين. واستظهر أن المراد بالملائكة عليهم السلام جميعهم واستشكل بأن لهم كثرة عظيمة لا تتحملها الأرض وكذا السماء الدنيا لأنها قبل نزولهم مملوءة «أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلّا وفيه ملك ساجد أو راكع أو قائم» . وأجيب بأنهم ينزلون فوجا فوجا فمن نازل وصاعد كالحجاج فإنهم على كثرتهم يدخلون الكعبة مثلا بأسرهم لكن لا على وجه الاجتماع بل هم بين داخل وخارج. وفي التعبير بتنزل المفيد للتدريج دون نزل رمز إليه وقيل إنهم لكونهم أنوارا لا تزاحم بينهم فالنور إذا ملأ حجرة مثلا لا يمنع من إدخال ألف نور عليه وهو كما ترى. ومن الناس من خصّ الملائكة ببعض فرقهم وهم سكان سدرة المنتهى أو بعض منهم. وفي الغنية للقطب الرباني الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس سره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: إذا كان ليلة القدر يأمر الله تعالى جبريل عليه السلام أن ينزل إلى الأرض ومعه سكان سدرة المنتهى سبعون ألف ملك، ومعهم ألوية من نور فإذا هبطوا إلى الأرض ركّز جبريل عليه السلام لواءه والملائكة عليهم السلام ألويتهم في أربعة مواطن عند الكعبة وقبر النبي صلّى الله عليه وسلم ومسجد بيت المقدس ومسجد طور سيناء، ثم يقول جبريل عليه السلام: تفرقوا فيتفرقون ولا يبقى دار ولا حجر ولا بيت ولا سفينة فيها مؤمن أو مؤمنة إلّا دخلته الملائكة عليهم السلام إلّا بيتا فيه كلب أو خنزير أو خمر أو جنب من حرام أو صورة تماثيل فيسبحون ويقدسون ويهللون ويستغفرون لأمة محمد صلّى الله عليه وسلم حتى إذا كان وقت الفجر ثم يصعدون إلى السماء فيستقبلهم سكان سماء الدنيا فيقولون لهم: من أين أقبلتم؟ فيقولون: كنا في الدنيا لأن الليلة ليلة القدر لأمة محمد صلّى الله عليه وسلم، فيقول سكان السماء الدنيا: ما فعل الله تعالى بحوائج أمة محمد صلّى الله عليه وسلم؟ فيقول جبريل عليه السلام: إن الله تعالى غفر لصالحهم وشفعهم في طالحهم. فترفع ملائكة سماء الدنيا أصواتهم بالتسبيح والتقديس والثناء على رب العالمين شكرا لما أعطى الله تعالى هذه الأمة من المغفرة والرضوان، ثم تشيعهم ملائكة السماء الدنيا إلى الثانية كذلك وهكذا إلى السابعة، ثم يقول جبريل عليه السلام: يا سكان السماوات ارجعوا. فيرجع ملائكة كل سماء إلى مواضعهم فإذا وصلوا إلى سدرة المنتهى يقول لهم سكانها: أين كنتم؟ فيجيبونهم مثل ما أجابوا أهل السماوات، فيرفع سكان سدرة المنتهى أصواتهم بالتسبيح والتهليل والثناء فتسمع جنة المأوى ثم جنة النعيم وجنة عدن والفردوس، ويسمع عرش الرحمن فيرفع العرش صوته بالتسبيح والتهليل والثناء على رب العالمين شكرا لما أعطى هذه الأمة. ويقول: إلهي بلغني عنك أنك غفرت البارحة لصالحي أمة محمد صلّى الله عليه وسلم وشفعت الجزء: 15 ¦ الصفحة: 418 صالحها. فيقول الله عز وجل: صدقت يا عرشي ولأمة محمد عليه الصلاة والسلام عندي من الكرامة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر . وفي رواية عن كعب: نزول جميع ملائكة سدرة المنتهى مع جبريل عليهم السلام ولا يعلم عددهم إلّا الله تعالى وأن جبريل عليه السلام لا يدع أحدا من الناس إلّا صافحه. وفي رواية لا يدع مؤمنا ولا مؤمنة إلّا سلم عليه إلّا مدمن الخمر وآكل لحم الخنزير والمتضمخ بالزعفران، وإن علامة مصافحته عليه السلام اقشعرار الجلد ورقة القلب ودمع العينين. وروي في نزوله مع الملائكة عليهم السلام وعروجه معهم غير ذلك، وقد ذكر بعضا من ذلك الإمام وغيره ونسأل الله تعالى صحة الأخبار. وذكر بعضهم أن جبريل عليه السلام يقسم تلك الليلة ما ينزل من رحمة الله تعالى يستغرق أحياء المؤمنين فيقول: يا رب بقي من الرحمة كثير فما أصنع به؟ فيقول الله عز وجل: قسم على أموات أمة محمد صلّى الله عليه وسلم. فيقسم حتى يستغرقهم فيقول: يا رب بقي من الرحمة كثير فما أصنع به؟ فيقول سبحانه وتعالى قسمه على الكفار فيقسمه عليهم فمن أصابه منهم شيء من تلك الرحمة مات على الإيمان. بِإِذْنِ رَبِّهِمْ متعلق بتنزل أو بمحذوف هو حال من فاعله أي ملتبسين بإذن ربهم أي بأمره عز وجل، والتقييد بذلك لتعظيم أمر تنزلهم. وقيل الإشارة إلى أنهم يرغبون في أهل الأرض من المؤمنين ويشتاقون إليهم فيستأذنون فيؤذن لهم وفيه نوع ترغيب في الاجتهاد في الطاعة. واستشكل أمر هذه الرغبة مع كثرة المعاصي، وأجيب بأنهم غير واقفين على تفاصيلها أو لم يعتبروها مانعة من ذلك لأنهم يرون من أنواع الطاعات ما لا يرونه في السماء، أو ليسمعوا أنين العصاة التائبين. ففي الحديث القدسي: «لأنين المذنبين أحب إليّ من زجل المسبحين» . أو ليجتمعوا مع من بينه وبينهم مناسبة من الصديقين أداء لمراسم المحبة فإن أرواح الصديقين المتجردة عن جلابيب الأبدان لم تزل تزور الملائكة عليهم السلام في مواضعهم بعروجها إليهم، فناسب أن تزورهم ولملائكة عليهم السلام في زواياهم وإن اقتضى ذلك الاجتماع مع غيرهم ممن ليسوا كذلك فإنه أمر تبعي. ولأجل عين ألف عين تكرم مِنْ كُلِّ أَمْرٍ أي من أجل كل أمر تعلق به التقدير في تلك السنة إلى قابل، وأظهره سبحانه وتعالى لهم قاله غير واحد فمن بمعنى اللام التعليلية متعلقة بتنزل. قال عصام الدين: فإن قلت المقدرات لا تفعل في تلك الليلة بل في تمام السنة فلماذا تنزل الملائكة عليهم السلام فيها لأجل تلك الأمور؟ قلت: لعل تنزلهم لتعيين إنفاذ تلك الأمور لهم وتنزلهم لأجل كل أمر ليس على معنى تنزل كل واحد لأجل كل أمر، ولا تنزل كل واحد لأمر بل على معنى تنزل الجميع لأجل جميع الأمور حتى يكون في الكلام تقسيم العلل على المعلولات، انتهى. وأقول: يمكن أن يكون تنزلهم لإعداد القوابل لقبول ما أمروا به، وأشار بما ذكره من التقسيم إلى أنه يجوز أن يكون نزول الواحد منهم لعدة أمور وقولهم من أجل كل أمر تعلق إلخ قد تقدم ما فيه من البحث فتذكر. وقال أبو حاتم: مِنْ بمعنى الباء أي تنزل بكل أمر، فقيل: أي من الخير والبركة، وقيل: من الخير والشر. وجعلت الباء عليه للسببية فيرجع المعنى إلى نحو ما مرّ. ومنهم من جعلها للملابسة والمراد بملابستهم له ملابستهم للأمر به فكأنه قيل: تنزل الملائكة وهم مأمورون بكل أمر يكون في السنة، وكونهم يتنزلون وهم كذلك لا يستدعي فعلهم جميع ما أمروا به في تلك الليلة والظاهر على ما قالوا أن المراد بالملائكة المدبرات إذ غيرهم لا تعلق له في الأمور التي تعلق بها التقدير ليتنزلوا لأجلها على المعنى السابق الجزء: 15 ¦ الصفحة: 419 وهو خلاف ما تدل عليه الآثار من عدم اختصاصهم بالمدبرات فتدبر وكأنه لذلك قيل إن مِنْ كُلِّ أَمْرٍ متعلق بقوله تعالى سَلامٌ وهو مصدر بمعنى السلامة خبر مقدم. وقوله تعالى هِيَ مبتدأ أي هي سلام من كل أمر مخوف وتعلقه بذلك على التوسع في الظرف وإلّا فمعمول المصدر لا يتقدم عليه في المشهور. وقيل: هو متعلق بمحذوف مقدم يفسره المذكور من وقف على كلام العلامة التفتازاني في أوائل شرح التلخيص في مثل ذلك استغن عما ذكر. وقيل مِنْ كُلِّ أَمْرٍ متعلق ب تَنَزَّلُ لكن على معنى تنزل إلى الأرض منفصلة من كل أمر لها في السماء وتاركة له. وفيه إشارة إلى مزيد الاهتمام بالتنزل إلى الأرض. وفيه من البعد ما فيه. وتقديم الخبر للحصر كما في تميمي أنا والأخبار بالمصدر للمبالغة أي ما هي إلّا سالمة جدا حتى كأنه عين السلامة قال الضحاك في معنى ذلك إنه تعالى لا يقدّر ولا يقضي فيها إلّا السلامة، قيل: أي لا ينفذ تقديره تعالى ويتعلق قضاؤه إلّا بذلك. وحاصله لا يوجد إلّا ذلك. وقال مجاهد: إنها سالمة من الشيطان وأذاه. وروي أن الشيطان لا يخرج في ليلة القدر حتى يضيء فجرها ولا يستطيع أن يصيب فيها أحدا بخبل أو داء أو ضرب من ضروب الفساد ولا ينفذ فيها سحر ساحر. ولعل ما يصدر من المعاصي على هذا من النفس الأمّارة بالسوء لا بواسطة الشيطان. واستشكل كلام الضحاك بناء على ما قيل فيه بأنه لا تخلو ليلة من الشر والأمر المخوف ولا موجد إلّا الله عز وجل، فلعله أراد ما تقدم نقله غير بعيد من أن الله تعالى إنما يقدر في هذه الليلة السلامة والخير أي لا يظهر سبحانه للملائكة عليهم السلام إلّا تقديره عز وجل وقيل ما هي إلّا سلامة على نحو: ما رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلّا رحمة والمراد أنها سبب تام للسلامة والنجاة من المهالك يوم القيامة حيث إن من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. وقيل السلام مصدر بمعنى التسليم أي ما هي إلّا تسليم لكثرة التسليم والمسلمين من الملائكة على المؤمنين فيها. وروي ذلك عن الشعبي ومنصور وجعلها عين التسليم للمبالغة أيضا. وقوله تعالى حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ غاية تبين تعميم السلامة أو التسليم كل الليلة فالجار متعلق ب سَلامٌ ومَطْلَعِ اسم زمان وقد صرحوا أنه من يفعل، ويفعل بفتح العين وضمها على مفعل مفتوح العين وجوز كونه مصدرا ميميا بمعنى الطلوع ويحتاج إلى تقدير مضاف قبله هو وقت أو ما في معناه لتتحد الغاية والمغيا فيكونان من جنس واحد. وصح تعلق الجار بذلك مع الفصل لأنه ليس بمصدر نظرا للحقيقة. وأفاد الطبرسي وغيره أنه لا بد من تأويله بسالمة أو مسلمة ليصح التعلق أما لو أبقى على مصدريته فلا يصح للزوم الفصل بين الصلة والموصول. وذهب بعضهم إلى أن الفصل بين المصدر ومعموله بالمبتدأ مغتفر، وجوز أن تتعلق الغاية بتنزل على معنى أنه لا ينقطع تنزلهم فوجا بعد فوج إلى وقت طلوع الفجر، وتعقب بأنه تعسف لأن سَلامٌ هي أجنبي وليس باعتراض فلا يحسن الفصل به وجعله حالا من الضمير المجرور في قوله تعالى فِيها أي ذات سلامة أو سلام لا يخفى حاله. وقيل يجوز أن يكون الوقف على سَلامٌ وهو خبر لمحذوف ومِنْ كُلِّ أَمْرٍ متعلق به وهِيَ مبتدأ وحَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ خبره. ولم يجوز ذلك الطيبي والطبرسي وغيرهما قالوا: لعدم الفائدة بالأخبار عنها بأنها حتى مطلع الفجر إذ كل ليلة بهذه الصفة. وأجيب بأنه لما أخبر عنها بأنها خير من ألف شهر وفهم أنها مخالفة لسائر الليالي في الصفة وكان ذلك مظنة توهم أن ذاتها في المقدار مغايرة لذوات الليالي فيه أيضا دفع ذلك بقوله تعالى هي حتى مطلع الفجر، أي لم تخالف سائر الليالي في ذلك وإن خالفتها في الفضل والخيرية. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 420 وقرأ ابن عباس وعكرمة والكلبي «من كل امرئ» بهمز في آخره أي تنزل من أجل كل إنسان أي من أجل ما يتعلق به مما قدر في تلك الليلة، ويرجع إلى نحو ما تقدم أو من أجل مصلحته من الاستغفار له ونحوه على أن المراد بذلك كل امرئ مؤمن على ما قيل. وقيل الجار متعلق ب سَلامٌ والمراد «بكل امرئ» الملائكة عليهم السلام أي سلام وتحية هي على المؤمنين من كل ملك، وأنكر كما قال ابن جني هذه القراءة أبو حاتم وقرأ أبو رجاء والأعمش وابن وثاب وطلحة وابن محيصن والكسائي وأبو عمرو بخلاف عنه «مطلع» بكسر اللام على أنه مصدر كالمرجع ويقدر مضاف كما سمعت أو اسم زمان على غير قياس كالمشرق فإن مفعلا بالكسر قياس يفعل مكسور العين. وفي البحر قيل «مطلع ومطلع» بالفتح والكسر مصدران في لغة تميم. وقيل: المصدر بالفتح وموضع الطلوع بالكسر عند أهل الحجاز انتهى. وإرادة الموضع هاهنا لا موضع لها كما لا يخفى هذا. واعلم أنه يسن الدعاء في هذه الليلة المباركة وهي أحد أوقات الإجابة. وأخرج الإمام أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة وغيرهم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قلت: يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر فما أقول؟ قال: «قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني» . ويجتهد فيها بأنواع العبادات من صلاة وغيرها. وقال سفيان الثوري: الدعاء في تلك الليلة أحبّ من الصلاة، ثم أفاد أنه إذا قرأ ودعا كان حسنا وكان صلّى الله عليه وسلم يجتهد في ليالي شهر رمضان ويقرأ فيها قراءة مرتلة لا يمر بآية رحمة إلّا سأل ولا بآية عذاب إلّا تعوذ. وذكر ابن رجب أن الأكمل الجمع بين الصلاة والقراءة والدعاء والتفكر، وقد كان عليه الصلاة والسلام يفعل ذلك كله لا سيما في العشر الأواخر ويحصل قيامها على ما قال البعض بصلاة التراويح. وأخرج البيهقي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من صلى المغرب والعشاء في جماعة حتى ينقضي شهر رمضان فقد أصاب من ليلة القدر بحظ وافر» . وأخرج مالك وابن شيبة وابن زنجويه والبيهقي عن سعيد بن المسيب قال: «من شهد العشاء ليلة القدر في جماعة فقد أخذ بحظه منها. وفي تحفة المحتاج لابن حجر الهيتمي عليه الرحمة يسن لرائيها كتمها ولا ينال فضلها أي كماله إلا من أطلعه الله تعالى عليها انتهى. والظاهر أنه عنى برؤيتها رؤية ما يحصل به العلم له بها مما خصت به من الأنوار وتنزل الملائكة عليهم السلام أو نحوا من الكشف المفيد للعلم مما لا يعرف حقيقته إلّا أهله وهو كالنص في أنها يراها من شاء الله تعالى من عباده. وقال أبو حفص بن شاهين على ما حكاه ابن رجب: إن الله تعالى لم يكشفها لأحد من الأولين والآخرين ولا النبيين والمرسلين في يوم ولا ليلة إلّا نبينا صلّى الله عليه وسلم فإنه لما أنزلها عليه وعرفه قدرها أراه عليه الصلاة والسلام إياها في منامه وعرفه في أي ليلة تكون فأصبح عالما بها، وأراد أن يخبر بها الناس لسروره فتلاحى بين يديه رجلان فأنسيها صلّى الله عليه وسلم وأمر بطلبها في ليالي العشر الأواخر لأنهم لا يرونها مكاشفة أبدا ولا يراها أحد بعده صلّى الله عليه وسلم أصلا فأمروا بذلك ليلتمس فضلها في الليالي المسماة انتهى. وحديث أنه صلّى الله عليه وسلم رآها ونسيها قد رواه الإمام مالك والإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم وهو مما لا تردد في صحته، لكن في دلالته على أنه لم يعلم عليه الصلاة والسلام بها ولم يرها بعد ولا يراها أحد من أمته صلّى الله عليه وسلم أبدا ترددا، ولعل الأمر بالتماسه في العشر الأواخر مثلا يشير إلى رجاء رؤيتها فيها إذا ما لا يرجى في زمان أو مكان لا يحسن أن يؤمر أحد بالتماسها فيه عادة وفي بعض الأخبار ما يدل على أن رؤيتها مناما وقعت لغيره صلّى الله عليه وسلم ففي صحيح مسلم وغيره عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رجالا من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر» وحكي نحو قول ابن شاهين عن غيره أيضا وغلط. ففي شرح الصحيح للنووي: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 421 اعلم أن ليلة القدر موجودة وأنها ترى ويتحققها من شاء الله تعالى من بني آدم كل سنة في رمضان كما تظاهرت عليه الأحاديث وأخبار الصالحين بها، ورؤيتهم لها أكثر من أن تحصى. وأما قول القاضي عياض عن المهلب بن أبي صفرة لا يمكن رؤيتها حقيقة فغلط فاحش نبهت عليه لئلا يغتر به انتهى. بقي في الكلام على هذه الليلة بحث مهم وهو أنه على قول المعتبرين لاختلاف المطالع يلزم القول بتعددها في رمضان وكونها وترا من لياليه عند قوم وشفعا عند آخرين فلا يصح إطلاق القول بأحدهما وكذا لا يصح إطلاق القول بأنها ليلة كذا كليلة السابع والعشرين أو الحادي والعشرين مثلا من الشهر على ذلك أيضا. بل لا يصح إطلاق القول بأن وقت التقدير وتنزل الملائكة ليلة فالليلة عند قوم نهار في الجهة المسامتة لأقدامهم وهي قد تكون مسكونة ولو بواسطة سفينة تمر فيها، وربما يكون زمان الليل عند قوم بعضه ليلا وبعضه نهارا عند آخرين كأهل بعض العروض البعيدة عن خط الاستواء، بل قد تنقضي أشهر بليل ونهار على قوم ولم ينقض يوم واحد في بعض العروض بل لا يصح أيضا إطلاق القول بأنها في رمضان وأنها الليلة الأولى أو الأخيرة منه إذ الشهر دخولا وخروجا مختلف بالنسبة إلى سكان البسيطة وأجاب بعض بالتزام أن ما أطلق من القول فيها ليس على إطلاقه فيكون القول بوتريتها بالنسبة إلى قوم وبشفعيتها بالنسبة إلى آخرين وهكذا القول بأنها ليلة كذا من الشهر وبالتزام أنها ليلة بالنسبة إلى قوم نهار بالنسبة إلى آخرين، وإن التعبير بالليلة لرعاية مكان المنزل عليه القرآن عليه الصلاة والسلام وغالب المؤمنين به كأن ما هو سمت أقدامهم مما ليلهم نهاره لم يعمر بالمسلمين بل لا يكاد يعمر بهم حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها. وقال: إنها حيث كانت نهارا عند قوم لا يبعد أن يعطي الله تعالى أجرها من اجتهد من غيرهم في ليلة ذلك النهار وأن يعطي سبحانه ذلك أيضا من اجتهد منهم ليلا وهي عندهم نهار وعلى نحو هذا يقال في الصور التي ذكرت في البحث. وادعى أن هذا نوع من الجمع بين الأحاديث المتعارضة وأن في قولهم يسن الاجتهاد في يومها رمز إما لشيء من ذلك وهو كما ترى. وأجاب آخر بما يستحي القلم من ذكره ويرى تركه هو الحري بقدره. وسمعت من بعض أحبابي أن الشيخ إسماعيل العجلوني عليه الرحمة تعرض فيما شرح من صحيح البخاري لشيء من هذا البحث والجواب عنه ولم أقف عليه، وعندي أن البحث قوي والأمر مما لا مجال لعقلي فيه ومثل ليل القدر فيما ذكر وقت نزوله سبحانه وتعالى إلى السماء الدنيا من الليل كما صحت به الأخبار وكذا ساعة الإجابة من يوم الجمعة إلى أمثال أخر. وللشيخ ابن تيمية رحمه الله تعالى كلام طويل في الأول لم يحضرني منه الآن ما يروي الغليل، ولغيره كابن حجر كلام مختصر في الثاني وهو مشهور وربما يقال إنها لكل قوم ليلتهم وإن اختلفت دخولا وخروجا بالنسبة إلى آفاقهم كسائر لياليهم فتدخل الليلة مطلقا في بغداد مثلا عند غروب الشمس فيها وبعد نصف ساعة منه تدخل في إستامبول مثلا وذلك أول وقت الغروب فيها وهكذا، والخروج على عكس ذلك فكأن الليلة راكب يسير إلى جهة فيصل إلى كل منزل في وقت ويلتزم أن تنزل الملائكة حسب سيرها ولا يبعد أن يتنزل عند كل قوم ما شاء الله تعالى منهم عند أول دخولها عندهم ويعرجون عند مطلع فجرها عندهم أيضا أو يبقى المتنزل منهم هناك إلى أن تنقضي الليلة في جميع المعمورة فيعرجون معا عند انقضائها ويلتزم القول بتعدد التقدير حسب السير أيضا بأن يقدر الله تعالى في أي جزء شاء سبحانه منها بالنسبة إلى من هي عندهم أمورا تتعلق بهم، ومناط الفضل لكل قوم تحققها بالنسبة إليهم وقيامهم فيها ومثل هذه الليلة فيما ذكر سائر أوقات العبادة كوقت الظهر والعصر وغيرهما وهذا غاية ما يخطر بالبال فيما يتعلق الجزء: 15 ¦ الصفحة: 422 بهذا الإشكال وأمر ما يعكر عليه من أخبار الآحاد سهل على أن الكثير منها في صحته مقال فتأمل في ذاك والله عز وجل يتولى هداك. ثم إن ليلة القدر عند السادة الصوفية ليلة يختص فيها السالك بتجل خاص يعرف به قدره ورتبته بالنسبة إلى محبوبه وهي وقت ابتداء وصول السالك إلى عين الجمع ومقام البالغين في المعرفة، وما ألطف قول الشيخ عمر بن الفارض قدس سره: وكل الليالي ليلة القدر إن دنت ... كما كل أيام اللقا يوم جمعة هذا والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 423 سورة البيّنة وتسمى سورة القيامة وسورة البلد وسورة المنفكين وسورة البرية وسورة لم يكن. قال في البحر: مكية في قول الجمهور. وقال ابن الزبير وعطاء بن يسار: مدنية قاله ابن عطية، وفي كتاب التحرير مدنية وهو قول الجمهور، وروى أبو صالح عن ابن عباس أنها مكية واختاره يحيى بن سلام انتهى. وقال ابن الفرس: الأشهر أنها مكية ورواه ابن مردويه عن عائشة وجزم ابن كثير بأنها مدنية، واستدل على ذلك بما أخرجه الإمام أحمد وابن قانع في معجم الصحابة والطبراني وابن مردويه عن أبي خيثمة البدري قال: لما نزلت لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إلى آخرها قال جبريل عليه السلام: يا رسول الله إن ربك يأمرك أن تقرئها أبيا فقال النبي صلّى الله عليه وسلم لأبي رضي الله تعالى عنه: «إن جبريل عليه السلام أمرني أن أقرئك هذه السورة» فقال أبي: أو قد ذكرت ثم يا رسول الله؟ قال: «نعم» فبكى وهذا هو الأصح. وآيها تسع في البصري وثمان في غيره. وجاء في فضلها ما أخرجه أبو موسى المديني في المعرفة عن إسماعيل بن أبي حكيم عن مطر المزني أو المدني عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى يسمع قراءة لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا فيقول: أبشر عبدي فوعزتي لا أسألك على حال من أحوال الدنيا والآخرة ولأمكنن لك في الجنة حتى ترضى» . ووجه مناسبتها لما قبلها أن قوله تعالى فيها لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ إلخ كالتعليل لإنزال القرآن كأنه قيل: إنّا أنزلناه لأنه لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى يأتيهم رسول يتلو صحفا مطهرة وهي ذلك المنزل فلا تغفل. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 424 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أي اليهود والنصارى وإيرادهم بذلك العنوان قيل لإعظام شناعة كفرهم، وقيل: للإشعار بعلة ما نسب إليهم من الوعد باتباع الحق فإن مناط ذلك وجدانهم له في كتابهم وهو مبني على وجه يأتي إن شاء الله تعالى في الآية بعد. وإيراد الصلة فعلا لما أن كفرهم حادث بعد أنبيائهم عليهم السلام بالآحاد في صفات الله عز وجل ومن للتبعيض كما قال علم الهدى الشيخ أبو منصور الماتريدي في التأويلات لا للتبيين لأن منهم من لم يكفر بعد نبيه وكان على الاعتقاد الحق حتى توفاه الله تعالى، وعد من ذلك الملكانية من النصارى فقيل إنهم كانوا على الحق قبل بعثة رسول الله صلّى الله عليه وسلم والتبيين يقتضي كفر جميعهم قبل البعث والظاهر خلافه. وأيد إرادة التبعيض بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن المراد بأهل الكتاب اليهود الذين كانوا بأطراف المدينة من بني قريظة والنضير وبني قينقاع، وقال بعض: لا نسلم أن التبيين يقتضي كفر جميعهم قبل البعث لجواز أن يكون التعبير عنهم بالذين كفروا باعتبار حالهم بعد البعثة كأنه قيل لم يكن هؤلاء الكفرة وبينوا بأهل الكتاب. وَالْمُشْرِكِينَ وهم من اعتقدوا لله سبحانه شريكا صنما أو غيره، وخصهم بعض بعبدة الأصنام لأن مشركي العرب الذين بمكة والمدينة وما حولهما كانوا كذلك وهم المقصودون هنا على ما روي عن الحبر. وأيّا ما كان فالعطف على أهل الكتاب ولا يلزم على التبعيض أن لا يكون بعضهم كافرين ليجب العدول عنه للتبيين لأنهم بعض من المجموع كما أفاده بعض الأجلّة. واحتمال أن يراد بالمشركين أهل الكتاب وشركهم لقولهم المسيح ابن الله وعزير ابن الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. والعطف لمغايرة العنوان ليس بشيء. وقرىء «والمشركون» بالرفع عطفا على الموصول وحمل قراءة الجمهور على ذلك واعتبار أو الجر للجوار لا يخفى حاله. والجار والمجرور في موضع الحال من ضمير كَفَرُوا وقوله تعالى مُنْفَكِّينَ خبر يكن والانفكاك في الأصل افتراق الأمور الملتحمة بنوع مزايلة وأريد به المفارقة لما كانوا عليه مما ستعرفه إن شاء الله تعالى فالوصف اسم فاعل من انفك التامة دون الناقصة الداخلة على المبتدأ والخبر. وزعم بعض النحاة أنه وصف منها والخبر محذوف أي واعدين اتباع الحق أو نحوه. وتعقب مع كونه خلاف الظاهر بأن خبر كان وأخواتها لا يجوز حذفه في السعة لا اقتصارا وحين ليس مجير أي في الدنيا ضرورة. وقوله تعالى حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ متعلق بمنفكين والبينة صفة بمعنى اسم الفاعل أي المبين للحق أو هي بمعناها المعروف وهو الحجة المثبتة للمدعي ويراد بها المعجز وعلى الوجهين. فقوله تعالى رَسُولٌ بدل منها بدل كل من كل أو خبر لمقدر أي هي رسول وتنوينه للتفخيم والمراد به نبينا صلّى الله عليه وسلم وقوله سبحانه مِنَ اللَّهِ في موضع الصفة له مفيد للفخامة الإضافية فهو مؤكد لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية. وقوله تعالى يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً صفة أخرى له أو حال من الضمير في صفته الأولى كما أن قوله سبحانه فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ صفة ثانية ل صُحُفاً أو حال من الضمير في صفتها الأولى أعني مُطَهَّرَةً ويجوز أن يكون الصفة أو الحال هنا الجار والمجرور فقط وكتب مرتفعا على الفاعلية وإطلاق البينة عليه عليه الصلاة والسلام على المعنى الأول ظاهر، وعلى المعنى الأخير باعتبار أن أخلاقه وصفاته صلّى الله عليه وسلم كانت بالغة حد الإعجاز كما قال الغزالي في المنقذ من الضلال. وأشار إليه البوصيري بقوله: كفاك بالعلم في الأمي معجزة ... في الجاهلية والتأديب في اليتم ويعلم منه حكمة جعله عليه الصلاة والسلام يتيما أو باعتبار كثرة معجزاته صلّى الله عليه وسلم غير ما ذكر وظهورها. وجوز أن يراد بالبينة القرآن لأنه مبين للحق أو معجز مثبت للمدعى، وروي ذلك عن قتادة وابن زيد، و الجزء: 15 ¦ الصفحة: 425 رَسُولٌ عليه قيل بدل اشتمال أو بدل كل من كل أيضا بتقدير مضاف أي بينة أو وحي أو معجز أو كتاب رسول أو هو خبر مبتدأ مقدر أي هي رسول ويقدر معه مضاف كما سمعت، وجوز أن يكون رَسُولٌ مبتدأ لوصفه وخبره جملة يَتْلُوا إلخ. وجملة المبتدأ وخبره مفسرة للبينة. وقيل اعتراض لمدحها وقيل صفة لها مرادا بها القرآن ويراد بالصحف المطهرة البينة وقد وضعت موضع ضميرها فكانت الرابط. وقرأ أبي وعبد الله «رسولا» بالنصب على الحالية من البينة، والصحف جمع صحيفة وكذا الصحاف القراطيس التي يكتب فيها وأصلها المبسوط من الشيء، والمراد بتطهيرها تنزيهها عن الباطل على سبيل الاستعارة المصرحة. ويجوز أن يكون في الكلام استعارة مكنية أو تطهير من يمسها على التجوز في النسبة فكأنه قيل صحفا لا يمسها إلّا المطهرون والمراد بالكتب المكتوبات وبالقيمة المستقيمة واستقامتها نطقة بالحق. وفي التيسير هي كتب الأنبياء عليهم السلام والقرآن مصدق لها فكأنها فيه ووصفه عليه الصلاة والسلام بتلاوة الصحف المذكورة بناء على المشهور من أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يقرأ الكتاب كما أنه صلّى الله عليه وسلم لم يكن يكتب من باب التجوز في النسبة إلى المفعول لأنه صلّى الله عليه وسلم لما قرأ ما فيها فكأنه قرأها. وقيل على تقدير مضاف أي مثل صحف وقيل في ضمير استعارة مكنية بتشبيهه عليه الصلاة والسلام لتلاوته مثل ما فيها بتاليها أو الصحف مجاز عما فيها بعلاقة الحلول. ففي ضمير فِيها استخدام لعوده على الصحف بالمعنى الحقيقي. وقيل المراد بالرسول جبريل عليه السلام، وبالصحف صحف الملائكة عليهم السلام المنتسخة من اللوح المحفوظ، وبتطهيرها ما سبق، والمراد بتلاوته عليه الصلاة والسلام إياها ظاهر وجعلها مجازا عن وحيه إياها غير وجيه والأولى حمل الرسول على النبي صلّى الله عليه وسلم وهو المروي عن ابن عباس ومقاتل وغيرهما. وقد اختلفوا في المعنى المراد بالآية اختلافا كثيرا حتى قال الواحدي في كتاب البسيط: إنها من أصعب ما في القرآن نظما وتفسيرا وبيّن ذلك بناء على أن الكفر وصف لكل من الفريقين قبل البعثة بأن الظاهر أن المعنى لم يكن الذين كفروا من الفريقين منفكين عما هم عليه من الكفر حتى يأتيهم الرسول صلّى الله عليه وسلم، وحَتَّى لانتهاء الغاية فتقتضي أنهم انفكوا عن كفرهم عند إتيان الرسول صلّى الله عليه وسلم وهو خلاف الواقع ويناقضه قوله تعالى وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ فإنه ظاهر في أن كفرهم قد زاد عند ذلك فقال جار الله: كان الكفار من الفريقين يقولون قبل المبعث لا ننفك عما نحن فيه من ديننا حتى يبعث الله تعالى النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل وهو محمد صلّى الله عليه وسلم فحكى الله تعالى ما كانوا يقولونه، ثم قال سبحانه وَما تَفَرَّقَ إلخ يعني أنهم كانوا يعدون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول ثم ما فرقهم عن الحق وأقرهم على الكفر إلّا مجيئه ونظيره في الكلام أن يقول الفقير الفاسق لمن يعظه: لست بمنفك مما أنا فيه حتى يرزقني الله تعالى الغنى فيرزقه الله عز وجل ذلك فيزداد فسقا، فيقول واعظه: لم تكن منفكا عن الفسق حتى توسر وما غمست رأسك في الفسق إلّا بعد اليسار يذكره ما كان يقوله توبيخا وإلزاما. وحاصله أن الأول من باب الحكاية لزعمهم وقوله سبحانه وَما تَفَرَّقَ إلخ إلزام عليهم حكى الله تعالى كلامهم على سبيل التوبيخ والتعيير فقال: هذا هو الثمرة. وظاهره أنه أراد بتفرقهم عن الحق وحمل على الكفر والباطل لاستلزامه إياه وعدم التعرض للمشركين في قوله تعالى وَما تَفَرَّقَ إلخ لعلم حالهم من حال الذين أوتوا الكتاب بالأولى. وقيل وهو قريب من ذاك من وجه وفيه إيضاح له من وجه أي لم يكونوا منفكين عما كانوا عليه من الوعد باتباع الحق والإيمان بالرسول المبعوث في آخر الزمان إلى أن أتاهم ما جعلوه ميقاتا للاجتماع والاتفاق فاجعلوه ميقاتا للانفكاك والافتراق كما قال سبحانه وَما تَفَرَّقَ إلخ. وفي التعبير ب مُنْفَكِّينَ إشارة إلى وكادة وعدهم وهو الجزء: 15 ¦ الصفحة: 426 من أهل الكتاب مشهور حتى أنهم كانوا يستفتحون ويقولون: اللهم افتح علينا وانصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان، ويقولون لأعدائهم من المشركين: قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم. ومن المشركين لعله وقع من متأخريهم بعد ما شاع من أهل الكتاب واعتقدوا صحته مما شاهدوا مثلا من بعض من يوثق به بينهم من قومهم كزيد بن عمرو بن نفيل فقد كان يتطلب نبيا من العرب ويقول: قد أظل زمانه وإنه من قريش بل من بني هاشم بل من بني عبد المطلب، ويشهد لذلك أنهم قبيل بعثته عليه الصلاة والسلام سمى منهم غير واحد ولده بمحمد رجاء أن يكون النبي المبعوث والله أعلم حيث يجعل رسالته. والتعبير عن إتيانه بصيغة المضارع باعتبار حال المحكي لا باعتبار حال الحكاية كما في قوله تعالى وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ [البقرة: 102] أي تلت. وقوله تعالى وَما تَفَرَّقَ إلخ كلام مسوق لمزيد التشنيع على أهل الكتاب خاصة ببيان أن ما نسب إليهم من الانفكاك لم يكن لاشتباه في الأمر بل بعد وضوح الحق وتبين الحال وانقطاع الأعذار بالكلية وهو السر في وصفهم بإيتاء الكتاب المنبئ عن كمال تمكنهم من مطالعته والإحاطة بما في تضاعيفه من الأحكام والأخبار التي من جملتها ما يتعلق بالنبي عليه الصلاة والسلام وصحة بعثته بعد ذكرهم فيما سبق بما هو جار مجرى اسم الجنس للطائفتين. ولما كان هؤلاء والمشركون باعتبار اتفاقهم على الرأي المذكور في حكم فريق واحد عبّر عما صدر منهم عقيب الاتفاق عند الإخبار بوقوعه بالانفكاك، وعند بيان كيفية وقوعه بالتفرق اعتبار الاستقلال كل من فريقي أهل الكتاب وإيذانا بأن انفكاكهم عن الرأي المذكور ليس بطريق الاتفاق على رأي آخر بل بطريق الاختلاف القديم. وتعقب التقريران بأنه ليس في الكلام ما يدل على أنه حكاية إلّا على إرادة منفكين عن الوعد باتباع الحق. وقال القاضي عبد الجبار: المعنى لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم وإن جاءتهم البينة وتعقبه الإمام بأن تفسير لفظ حتى بما ذكر ليس من اللغة في شيء، ولعله أراد أن المراد استمرار النفي وأن في الكلام حذفا أي لم يكونوا منفكين عن كفرهم في وقت من الأوقات حتى وقت أن تأتيهم البينة إلّا أنه عبّر بما ذكر لأنه أخصر، وفيه أيضا ما لا يخفى. وقيل: المعنى لم يكونوا منفكين عن ذكر الرسول صلّى الله عليه وسلم بالمناقب والفضائل إلى أن أتاهم فحينئذ تفرقوا فيه وقال كل منهم فيه عليه الصلاة والسلام قولا زورا، وتعقب بأنه لا دلالة على إرادة ما قدر متعلق الانفكاك. وقيل المعنى لم يكونوا منفكين عن كفرهم إلى وقت مجيء الرسول صلّى الله عليه وسلم، فلما جاءهم تفرقوا فمنهم من آمن ومنهم من أصرّ على كفره ويكفي ذلك في العمل بموجب حتى. وتعقب بأن ظاهر وَما تَفَرَّقَ إلخ ذمّ لجميعهم وتشنيع عليهم ويؤيده قوله سبحانه بعد إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إلخ ويبعد ذلك على حمل التفرق على إيمان بعض وإصرار بعض. وقيل: المعنى لم يكونوا منفكين عن كفرهم بأن يترددوا فيه بل كانوا جازمين به معتقدين حقيته إلى أن أتاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم فعند ذلك اضطربت خواطرهم وأفكارهم وتشكك كل في دينه ومقالته وفيه ما لا يخفى. وقيل: معنى مُنْفَكِّينَ هالكين من قولهم انفك صلا المرأة عند الولادة وهو أن ينفصل فلا يلتئم، والمعنى لم يكونوا معذبين ولا هالكين إلّا بعد قيام الحجة علهيم بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وقريب منه معنى ما قيل لم يكونوا منفكين عن الحياة بأن يموتوا ويهلكوا حتى تأتيهم البينة وهو كما ترى. وقيل المراد أنهم لم ينفكوا عن دينهم حقيقة إلى مجيء الرسول التالي للصحف المبينة نسخه وبطلانه ولما جاء وتبين ذلك انفكوا عنه حقيقة وإن بقوا عليه صورة وفيه ما فيه. وقال أبو حيان: الظاهر أن المعنى لم يكونوا منفكين أي منفصلا بعضهم عن بعض بل كان كل منهم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 427 مقرا الآخر على ما هو عليه مما اختاره لنفسه هذا من اعتقاده بشريعته وهذا من اعتقاده بأصنامه، وحاصله أنه اتصلت مودتهم واجتمعت كلمتهم إلى أن أتتهم البينة وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا أي من المشركين وانفصل بعضهم من بعض فقال كل ما يدل عنده على صحة قوله إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وكان يقتضي عند مجيئها أن يجتمعوا على اتباعها ولا يخفى أن قوله (بل كان كل منهم) إلخ في حيّز المنع. وأيضا حمل وَما تَفَرَّقَ على ما حمله عليه غير ظاهر. وقال ابن عطية: هاهنا وجه بارع المعنى وذلك أن يكون المراد لم يكن هؤلاء القوم منفكين من أمر الله تعالى وقدرته ونظره سبحانه حتى يبعث عز وجل إليهم رسولا منذرا يقيم تعالى عليهم به الحجة ويتم على من آمن به النعمة فكأنه قال: ما كانوا ليتركوا سدى ولهذا نظائر في كتاب الله جل جلاله هذا ما ظفرنا به سؤالا وجوابا وجرحا وتعديلا. ثم إني أقول ما تقدم في تقرير الإشكال مبني على مذهب القائلين بمفهوم الغاية وهم أكثر الفقهاء وجماعة من المتكلمين كالقاضي أبي بكر والقاضي عبد الجبار وأبي الحسين البصري وغيرهم دون مذهب الغير القائلين به وهم أصحاب الإمام أبي حنيفة وجماعة من الفقهاء والمتكلمين، واختاره الآمدي واستدل عليه بما استدل ورد ما يعارضه من أدلة المخالف وعليه يمكن أن يقال إنه سبحانه وتعالى بيّن أولا حال الذين كفروا من الفريقين إلى وقت إتيان الرسول صلّى الله عليه وسلم بقوله عز وجل لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ أي عما هم عليه من الدين حسب اعتقادهم فيه إلى أن يأتيهم الرسول، ولما لم يتعرض في ذلك على ذلك المذهب لحالهم بعد إتيان الرسول عليه الصلاة والسلام بيّنه سبحانه بقوله جل وعلا وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إلخ أي وما تفرقوا فعرف بعض منهم الحق وآمن وعرفه بعض آخر منهم وعاند فلم يؤمن في وقت من الأوقات إلّا من بعد ما جاءتهم البينة. وطوى سبحانه ذكر حال المشركين لعلمه بالأولى من حالهم ثم إنه تعالى ذكر بعد حال كل من الفريقين المؤمن والكافر وما له في الآخرة بقوله سبحانه إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إلخ وقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا إلخ والذي أميل إليه مما تقدم كون الانفكاك عن الوعد باتباع الحق، ولعل القرينة على اعتباره حالية ويحتمل نحوا آخر من التوجيه وذلك بأن يجعل الكلام من باب الأعمال فيقال: إن مُنْفَكِّينَ يقتضي متعلقا هو المنفك عنه وتَأْتِيَهُمُ يقتضي فاعلا وليس في الكلام سوى البينة فكل منهما يقتضيه فأعمل فيه تَأْتِيَهُمُ وحذف معمول مُنْفَكِّينَ لدلالته عليه فكأنه قيل: لم يكن الذين كفروا من الفريقين منفكين عن البينة حتى تأتيهم البينة، وحيث كان المراد بالبينة الرسول كان الكلام في قوة لم يكونوا منفكين عن الرسول حتى يأتيهم. ويراد بعدم الانفكاك عن الرسول حيث لم يكن موجودا إذ ذاك عدم الانفكاك عن ذكره والوعد باتباعه ويكون باقي الكلام في الآية على نحو ما سبق على تقدير إرادة مُنْفَكِّينَ عما كانوا عليه من الوعد باتباع الحق وإن شئت قلت في قوله تعالى وَما تَفَرَّقَ إلخ أنه على معنى وما تفرق الذين أوتوا الكتاب عن الرسول وما انفكوا عنه بالإصرار على الكفر إلّا من بعد ما جاءهم فتأمل جميع ما أتيناك به والله تعالى أعلم بأسرار كتابه. وقوله تعالى وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ جملة حالية مفيدة لغاية قبح ما فعلوا والمراد بالأمر مطلق التكليف ومتعلقه محذوف واللام للتعليل، والكلام في تعليل أفعاله تعالى شهير والاستثناء مفرغ من أعم العلل أي والحال أنهم ما كلفوا في كتابهم بما كلفوا به لشيء من الأشياء إلا لأجل عبادة الله تعالى. وقال الفرّاء: العرب تجعل اللام موضع أن في الأمر كأمرنا لنسلم وكذا في الإرادة كيريد الله ليبين لكم فهي هنا بمعنى أن الجزء: 15 ¦ الصفحة: 428 أي إلّا بأن يعبدوا الله وأيّد بقراءة عبد الله إلّا أن يعبدوا فيكون عبادة الله تعالى هي المأمور بها والأمر على ظاهره والأول هو الأظهر وعليه قال علم الهدى أبو منصور الماتريدي: هذه الآية علم منها معنى قوله تعالى وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] أي إلا لأمرهم بالعبادة فيعلم المطيع من العاصي وهو كما قال الشهاب كلام حسن دقيق. مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي جاعلين دينهم خالصا له تعالى فلا يشركون به عز وجل فالدين مفعول لمخلصين، وجوز أن يكون نصبا على إسقاط الخافض ومفعول مُخْلِصِينَ محذوف أي جاعلين أنفسهم خالصة له تعالى في الدين. وقرأ الحسن «مخلصين» بفتح اللام وحينئذ يتعين هذا الوجه في الدين ولا يتسنى الأول. نعم جوز أن يكون نصبا على المصدر والعامل لِيَعْبُدُوا أي ليدينوا الله تعالى بالعبادة الدين حُنَفاءَ أي مائلين عن جميع العقائد الزائغة إلى الإسلام وفيه من تأكيد الإخلاص ما فيه، فالحنف الميل إلى الاستقامة وسمي مائل الرجل إلى الاعوجاج أحنف للتفاؤل أو مجاز مرسل بمرتبتين. وعن ابن عباس تفسير حنفاء هنا بحجاجا. وعن قتادة بمختتنين محرمين لنكاح الأم والمحارم وعن أبي قلابة بمؤمنين بجميع الرسل عليهم السلام. وعن مجاهد بمتبعين دين إبراهيم عليه السلام، وعن الربيع بن أنس بمستقبلين القبلة بالصلاة وعن بعض بجامعين كل الدين وحال الأقوال لا يخفى وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ إن أريد بهما ما في شريعتهم من الصلاة والزكاة فالأمر بهما ظاهر وإن أريد ما في شريعتنا فمعنى أمرهم بهما في كتابهم أن أمرهم باتباع شريعتنا أمر لهم بجميع أحكامها التي هما من جملتها وَذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من عبادة الله تعالى بالإخلاص وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وما فيه من البعد للإشعار بعلو رتبته وبعد منزلته في الشرف دِينُ الْقَيِّمَةِ أي الكتب القيمة فأل للعهد إشارة إلى ما تقدم في قوله تعالى فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ وإليه ذهب محمد بن الأشعث الطالقاني. وقال الزجاج: أي الأمة القيمة أي المستقيمة. وقال غير واحد: أي الملة القيمة والتغاير الاعتباري بين الدين والملة يصحح الإضافة، وبعضهم لم يقدر موصوفا ويجعل الْقَيِّمَةِ بمعنى الملة وقيل أي الحجج القيمة. وقرأ عبد الله رضي الله تعالى عنه «الدين القيمة» فقيل التأنيث على تأويل الدين بالملة وقيل الهاء للمبالغة. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ قيل بيان لحال الفريقين في الآخرة بعد بيان حالهم في الدنيا، وذكر المشركين لئلا يتوهم اختصاص الحكم بأهل الكتاب حسب اختصاص مشاهدة شواهد النبوة في الكتاب بهم، فالمراد بهؤلاء الذين كفروا هم المتقدمون في صدر السورة وفي ذلك احتمال أشرنا إليه فلا تغفل. ومعنى كونهم في نار جهنم أنهم يصيرون إليها يوم القيامة لكن لتحقق ذلك لم يصرح به. وجيء بالجملة اسمية أو يقدر متعلق الجار بمعنى المستقبل أو أنهم فيها الآن على إطلاق نار جهنم على ما يوجبها من الكفر مجازا مرسلا بإطلاق اسم المسبب على السبب. وجوزت الاستعارة وقيل إن ما هم فيه من الكفر والمعاصي عين النار إلّا أنها ظهرت في هذه النشأة بصورة عرضية وستخلعها في النشأة الآخرة وتظهر بصورتها الحقيقية وقد مر نظيره غير مرة خالِدِينَ فِيها حال من المستكن في الخبر واشتراك الفريقين في دخول النار بطريق الخلود لا ينافي تفاوت عذابهما في الكيفية فإن جهنم والعياذ بالله تعالى دركات وعذابها ألوان، فيعذب أهل الكتاب في درك منها نوعا من العذاب، والمشركون في درك أسفل منه بعذاب أشد لأن كفرهم أشد من كفر أهل الكتاب، وكون أهل الكتاب كفروا بالرسول الله صلّى الله عليه وسلم مع علمهم بنعوته الشريفة وصحة رسالته من كتابهم ولم يكن للمشركين علم بذلك كعلمهم لا يوجب كون عذابهم أشد من عذاب الجزء: 15 ¦ الصفحة: 429 المشركين ولا مساويا له فإن الشرك ظلم عظيم. وقد انضم إليه من أنواع الكفر في المشركين مما ليس عند أهل الكتاب وقد استدل بالآية على خلود الكفار مطلقا في النار أُولئِكَ إشارة إليهم باعتبار اتصافهم بما هم فيه من القبائح المذكورة وما فيه من معنى البعد لبعد منزلتهم في الشر أي أولئك البعداء المذكورون هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ أي الخلقية وقيل أي البشر، والمراد قيل هم شر البرية أعمالا فتكون الجملة في حيّز التعليل لخلودهم في النار. وقيل شرها مقاما ومصيرا فتكون تأكيدا لفظاعة حالهم، ورجح الأول بأنه الموافق لما سيأتي إن شاء الله تعالى في حق المؤمنين. وأيّا ما كان فالعموم على ما قيل مشكل فإن إبليس وجنوده شر منهم أعمالا ومقاما وكذا المشركون والمنافقون حيث ضموا إلى الشرك النفاق وقد قال سبحانه إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء: 145] وقال بعض: لا يبعد أن يكون في كفار الأمم من هو شر منهم كفرعون وعاقر الناقة. وأجاب بأن المراد بالبرية المعاصرون لهم ولا يخفى أنه يبقى معه الإشكال بإبليس ونحوه. وأجيب بأن ذلك إذا كان الحصر حقيقيا وأما إذا كان إضافيا بالنسبة إلى المؤمنين بحسب زعمهم فلا إشكال إذ يكون المعنى أولئك هم شر البرية لا غيرهم من المؤمنين كما يزعمون مآلا أو حالا. وقيل: يراد بالبرية البشر. ويراد بشريتهم شريتهم بحسب الأعمال ولا يبعد أن يكونوا بحسب ذلك هم شر جميع البرية لما أن كفرهم مع العلم بصحة رسالته عليه الصلاة والسلام ومشاهدة معجزاته الذاتية والخارجية ووعد الإيمان به عليه الصلاة والسلام ومع إدخالهم به الشبهة في قلوب من يأتي بعدهم وتسببهم به ضلال كثير من الناس إلى غير ذلك مما تضمنه واستلزمه من القبائح شر كفر وأقبحه لا يتسنى مثله لأحد من البشر إلى يوم القيامة، وكذا سائر أعمالهم من تحريف الكلم عن مواضعه وصد الناس عنه صلّى الله عليه وسلم ومحاربتهم إياه عليه الصلاة والسلام، وكون كفر فرعون وعاقر الناقة وفعلهما بتلك المثابة غير مسلم ويلتزم دخول المنافقين في عموم الذين كفروا أو كون كفرهم وأعمالهم دون كفر وأعمال المذكورين وفيه شيء لا يخفى فتأمل. وقيل: ليس المراد بأولئك الذين كفروا أقواما مخصوصين وهم المحدث عنهم أولا بل الأعم الشامل لهم ولغيرهم من سالف الدهر إلى آخره وهو على ما فيه لا يتم بدون حمل البرية على البشر فلا تغفل. وقرأ الأعرج وابن عامر ونافع «البريئة» هنا وفيما بعد بالهمزة فقيل هو الأصل من برأهم الله تعالى بمعنى ابتدأهم واخترع خلقهم فهي فعيلة بمعنى مفعولة، لكن عامة العرب إلّا أهل مكة التزموا تسهيل الهمزة بالإبدال والإدغام فقالوا: البرية كما قالوا الذرية والخابية. وقيل: ليس بالأصل وإنما البرية بغير همز من البرى المقصور يعني التراب فهو أصل برأسه والقراءتان مختلفتان أصلا ومادة ومتفقتان معنى في رأي وهو أن يكون المراد عليهما البشر، ومختلفان فيه أيضا في رأي آخر وهو أن يكون المراد بالمهموز الخليفة الشاملة للملائكة والجن كالبشر، وبغير المهموز البشر المخلوقون من التراب فقط وأيّا ما كان فليست القراءة بالهمز خطأ كيف وقد نقلت عمن ثبتت عصمته مع أن الهمز لغة قوم من أنزل عليه الكتاب صلّى الله عليه وسلم. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بيان لمحاسن أحوال المؤمنين إثر بيان سوء حال الكفرة جريا على السنة القرآنية من شفع الترهيب بالترغيب أو هو على ما أشرنا إليه سابقا. وقال عصام الدين: إن قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إلخ كالتأكيد لقوله تعالى ذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ إذا لا تحقيق لكونها الملة القيمة فوق أن يكون جزاء المعرض هذا وجزاء الممتثل ذلك إلّا أن ذلك اقتضى قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا إلخ وكأنه فصل لتخييل عدم المناسبة بين الجملتين لا في المسند إليه ولا في المسند أُولئِكَ أي المنعوتون بما هو الجزء: 15 ¦ الصفحة: 430 الغاية القاصية من الشرف والفضيلة من الإيمان والطاعة هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ وقرأ حميد وعامر بن عبد الواحد «هم خيار البرية» وهو جمع خير كجياد وجيد جَزاؤُهُمْ بمقابلة ما لهم من الإيمان والطاعات عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً تقدمت نظائره. وفي تقديم مدحهم بخير البرية وذكر الجزاء المؤذن يكون ما منح في مقابلة ما وصفوا به وبيان كونه من عنده تعالى والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التربية والتبليغ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضميرهم وجمع الجنات وتقييدها بالإضافة وبما يزيدها نعيما، وتأكيد الخلود بالأبد من الدلالة على غاية حسن حالهم ما لا يخفى. والظاهر أن جملة هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ خبر اسم الإشارة وكذا ما بعد وزعم بعض الأجلّة أن الأنسب بالعديل السابق أن تجعل معترضة ويكون الخبر ما بعدها وفيه نظر. وقوله تعالى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ استئناف نحوي وإخبار عمل تفضل عز وجل به زيادة على ما ذكر من أجزية أعمالهم، ويجوز أن يكون بيانيا جوابا لمن يقول ألهم فوق ذلك أمر آخر وجوز أن يكون خبرا بعد خبر أو حالا بتقدير قد أو بدونه، وجوز أن يكون دعاء لهم من ربهم وهو مجاز عن الإيجاد مع زيادة التكريم وهو خلاف الظاهر ويبعده عطف قوله تعالى وَرَضُوا عَنْهُ عليه وعلل رضاهم بأنهم بلغوا من المطالب قاصيتها ومن المآرب ناصيتها، وأتيح لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ذلِكَ أي ما ذكره من الجزاء والرضوان لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ فإن الخشية ملاك السعادة الحقيقية والفوز بالمراتب العلية إذ لولاها لم تترك المناهي والمعاصي ولا استعد ليوم يؤخذ فيه بالأقدام والنواصي. وفيه إشارة إلى أن مجرد الإيمان والعمل الصالح ليس موصلا إلى أقصى المراتب ورضوان من الله أكبر، بل الموصل له خشية الله تعالى وإِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] ولذا قال الجنيد قدس سره: الرضا على قدر قوة العلم والرسوخ في المعرفة وقال عصام الدين: الأظهر أن ذلك إشارة إلى ما يترتب عليه الجزاء والرضوان من الإيمان والعمل الصالح، وتعقب بأن فيه غفلة عما ذكر وعن أنه لا يكون حينئذ لقوله تعالى ذلِكَ إلخ كبير فائدة والتعرض لعنوان الربوبية المعربة عن المالكية والتربية للإشعار بعلة الخشية والتحذير من الاغترار بالتربية. واستدل بقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا إلخ على أن البشر أفضل من الملك لظهور أن المراد بالذين آمنوا المؤمنون من البشر، وفي الآثار ما يدل على ذلك. أخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة مرفوعا: «أتعجبون لمنزلة الملائكة من الله تعالى والذي نفسي بيده لمنزلة العبد المؤمن عند الله تعالى يوم القيامة أعظم من منزلة الملك واقرؤوا إن شئتم إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ. وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله من أكرم الخلق على الله تعالى؟ قال: يا عائشة أما تقرئين إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ» وأنت تعلم أن هذا ظاهر في أن المراد بالبرية الخليقة مطلقا ليتم الاستدلال ثم إنه يحتاج أيضا إلى إدخال الأنبياء عليهم السلام في عموم الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأن لا يراد بهم قوم بخصوصهم إذ لو لم يدخلوا لزم تفضيل عوام البشر أي الذين ليسوا بأنبياء منهم على خواص الملائكة أعني رسلهم عليهم السلام وذلك مما لم يذهب إليه أحد من أهل السنة بل هم يكفرون من يقول به فليتفطن. والإمام قد ضعف الاستدلال في تفسيره بما لا يخلو عن بحث، ولعل الأبعد عن القيل والقال جعل الحصر إضافيا بالنسبة إلى ما يزعمه أهل الكتاب والمشركون قالا أو حالا من أنهم هم خير البرية وكذا يجعل الحصر السابق بالنسبة إلى ما يزعمونه من أن المؤمنين هم شر البرية وصحة ما سبق من الآثار في حيّز المنع. ثم الظاهر أن المراد ب الَّذِينَ آمَنُوا إلخ مقابل الَّذِينَ كَفَرُوا والأقوم من الذين الجزء: 15 ¦ الصفحة: 431 أنصفوا بما في حيّز الصلة بخصوصهم وزعم بعضهم أنهم مخصوصون. فقد أخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ألم تسمع قول الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ؟ هم أنت وشيعتك وموعدي وموعدكم الحوض إذا جثت الأمم للحساب يدعون غرا محجلين» وروى نحوه الإمامية عن يزيد بن شراحيل الأنصاري كاتب الأمير كرم الله تعالى وجهه . وفيه أنه عليه الصلاة والسلام قال ذلك له عند الوفاة ورأسه الشريف على صدره رضي الله تعالى عنه. وأخرج ابن مردويه أيضا عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا إلخ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لعلي رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه: «هو أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين» . وذلك ظاهر في التخصيص وكذا ما ذكره الطبرسي الإمامي في مجمع البيان عن مقاتل ابن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس أنه قال في الآية: نزلت في عليّ كرم الله تعالى وجهه وأهل بيته. وهذا إن سلمت صحته لا محذور فيه إذ لا يستدعي التخصيص بل الدخول في العموم وهم بلا شبهة داخلون فيه دخولا أوليا وأما ما تقدم فلا تسلم صحته فإنه يلزم عليه أن يكون علي كرم الله تعالى وجهه خيرا من رسول الله صلّى الله عليه وسلم والإمامية وإن قالوا إنه رضي الله تعالى عنه خير من الأنبياء حتى أولي العزم عليهم السلام ومن الملائكة حتى المقربين عليهم السلام لا يقولون بخيريته من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإن قالوا بأن البرية على ذلك مخصوصة بمن عداه عليه الصلاة والسلام للدليل الدال على أنه صلّى الله عليه وسلم خير منه كرم الله تعالى وجهه قيل إنها مخصوصة أيضا بمن عدا الأنبياء والملائكة ومن قال أهل السنة بخيريته للدليل الدال على خيرتيهم. وبالجملة لا ينبغي أن يرتاب في عدم تخصيص الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالأمير كرم الله تعالى وجهه وشيعته ولا به رضي الله تعالى عنه وأهل بيته وإن دون إثبات صحة تلك الأخبار خرط القتاد والله تعالى أعلم. ثم إن الروايات في أن هذه السورة قد نسخ منها كثير كثيرة منها أخرج الإمام أحمد والترمذي والحاكم وصححه عن أبيّ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى أمرني أن أقرأ عليك القرآن» فقرأ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ فقرأ فيها: «ولو أن ابن آدم سأل واديا من مال فأعطيه يسأل ثانيا، ولو سأل ثانيا فأعطيه يسأل ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب ويتوب الله على من تاب وإن الدين عند الله الحنيفية غير المشركة ولا اليهودية ولا النصرانية ومن يفعل ذلك فلن يكفره» . وفي بعض الآثار أن النبي صلّى الله عليه وسلم اقرأه هكذا ما كان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة إن أقوم الدين الحنيفية مسلمة غير مشركة ولا يهودية ولا نصرانية ومن يعمل صالحا فلن يكفره وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلّا من بعد ما جاءتهم البينة إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وفارقوا الكتاب لما جاءهم أولئك عند الله شر البرية ما كان الناس إلّا أمة واحدة ثم أرسل الله النبيين مبشرين ومنذرين يأمرون الناس يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويعبدون الله وحده أولئك عند الله خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه . أخرج ذلك ابن مردويه عن أبيّ رضي الله تعالى عنه وهو مخالف لما صح عنه فلا يعول عليه كما لا يخفى على العارف بعلم الحديث. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 432 سورة الزّلزلة ويقال سورة إذا زلزلت وهي مكية في قول ابن عباس ومجاهد وعطاء، ومدنية في قول قتادة ومقاتل. واستدل له في الإتقان بما أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، قال: لما نزلت فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ [الزلزلة: 7] إلخ قلت: يا رسول الله إني لراء عملي؟ قال: «نعم» قلت: تلك الكبار الكبار؟ قال: «نعم» قلت: الصغار الصغار؟ قال: «نعم» . قلت: وا تكل أمي؟ قال: «أبشر يا أبا سعيد فإن الحسنة بعشر أمثالها» الحديث . وأبو سعيد لم يكن إلّا بالمدينة ولم يبلغ إلا بعد أحد. وآيها ثمان في الكوفي والمدني الأول وتسع في الباقية وصح في حديث الترمذي والبيهقي وغيرهما عن ابن عباس مرفوعا: «إذا زلزلت تعدل نصف القرآن» . وجاء في حديث آخر تسميتها ربعا ووجه ما في الأول بأن أحكام القرآن تنقسم إلى أحكام الدنيا وأحكام الآخرة وهذه السورة تشتمل على أحكام الآخرة إجمالا وزادت على القارعة بإخراج الأثقال وبحديث الأخبار وما في الآخر بأن الإيمان بالبعث الذي قررته هذه السورة ربع الإيمان في الحديث الذي رواه الترمذي: «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالموت، ويؤمن بالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر» . وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق بهذا المقام، وكأنه لما ذكر عز وجل في السورة السابقة جزاء الفريقين المؤمنين والكافرين كان ذلك كالمحرك للسؤال عن وقته فبينه جل شأنه في هذه السورة فقال عز من قائل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ أي حركت تحريكا عنيفا متداركا متكررا زِلْزالَها أي الزلزال المخصوص بها الذي تقتضيه بحسب المشيئة الإلهية للبنية على الحكم البالغة وهو الزلزال الشديد الذي ليس بعده زلزال فكأن ما سواه ليس زلزالا بالنسبة إليه أو زلزالها العجيب الذي لا يقادر قدره، فالاضافة على الوجهين للعهد،. ويجوز أن يراد الاستغراق لأن زلزالا مصدر مضاف فيعم أي زلزالها كله وهو استغراق الجزء: 15 ¦ الصفحة: 433 عرفي قصد به المبالغة وهو مراد من قال أي زلزالها الداخل في حيّز الإمكان أو عنى بذلك العهد أيضا. وقرأ الجحدري وعيسى «زلزالها» بفتح الزاي وهو عند ابن عطية مصدر كالزلزال بالكسر. وقال الزمخشري المكسور مصدر والمفتوح اسم للحركة المعروفة، وانتصب هاهنا على المصدر تجوزا لسده مسد المصدر. وقال أيضا: ليس في الأبنية فعلال بالفتح إلّا في المضاعف وذكروا أنه يجوز في ذلك الفتح والكسر إلّا أن الأغلب فيه إذا فتح أن يكون بمعنى اسم الفاعل كصلصال بمعنى مصلصل وقضقاض بمعنى مقضقض ووسواس بمعنى موسوس وليس مصدرا عند ابن مالك، وأما في غير المضاعف فلم يسمع إلّا نادرا سواء كان صفة أو اسما جامدا، وبهرام وبسطام معربان إن قيل بصحة الفتح فيهما ومن النادر خزعال بمعجمتين وهو الناقة التي بها ظلع ولم يثبت بعضهم غيره. وزاد ثعلب قهقازا وهو الحجر الصلب، وقيل: هو جمع وقيل هو لغة ضعيفة والفصيحة قهقر بتشديد الراء. وزاد آخر قسطالا وهو الغبار وهذا الزلزال على ما ذهب إليه جمع عند النفخة الثانية لقوله تعالى: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها فقد قال ابن عباس: أي موتاها. وقال النقاش والزجاج ومنذر بن سعيد: أي كنوزها وموتاها. وروي عن ابن عباس أيضا: وهذه الكنوز على هذا القول غير الكنوز التي تخرج أيام الدجال على ما وردت به الأخبار وذلك بأن تخرج بعضا في أيامه وبعضا عند النفخة الثانية ولا بعد في أن تكون بعد الدجال كنوز أيضا فتخرجها مع ما كان قد بقي يومئذ. وقيل: هو عند النفخة الأولى وأثقالها ما في جوفها من الكنوز أو منها ومن الأموات ويعتبر الوقت ممتدا وقيل: يحتمل أن يكون إخراج الموتى كالكنوز عند النفخة الأولى وإحياؤها في النفخة الثانية وتكون على وجه الأرض بين النفختين، وأنت تعلم أنه خلاف ما تدل عليه النصوص وقيل إنها تزلزل عند النفخة الأولى فتخرج كنوزها وتزلزل عند الثانية فتخرج موتاها. وأريد هنا بوقت الزلزال ما يعم الوقتين. واقتصر بعضهم على تفسير الأثقال بالكنوز مع كون المراد بالوقت وقت النفخة الثانية وقال: تخرج الأرض كنوزها يوم القيامة ليراها أهل الموقف فيتحسر العصاة إذا نظروا إليها حيث عصوا الله تعالى فيها ثم تركوها لا تغني عنهم شيئا. وفي الحديث تلقي الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوانات من الذهب والفضة فيجيء القاتل فيقول: في هذا قتلت ويجيء القاطع فيقول: في هذا قطعت رحمي ويجيء السارق فيقول: في هذا قطعت يدي ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئا وقيل إن ذلك لتكوى بها جباه الذين كنزوا وجنوبهم وظهورهم. وأيّا ما كان فالأثقال جمع ثقل بالتحريك وهو على ما في القاموس متاع المسافر وكل نفيس مصون، وتجوز به هاهنا على سبيل الاستعارة عن الثاني ويجوز أن يكون جمع ثقل بكسر فسكون بمعنى حمل البطن على التشبيه والاستعارة أيضا كما قال الشريف المرتضى في الدرر، وأشار إلى أنه لا يطلق على ما ذكر إلّا بطريق الاستعارة ومنهم من فسر الأثقال هاهنا بالأسرار وهو مع مخالفته للمأثور بعيد وإظهار الأرض في موقع الإضمار لزيادة التقرير وقيل للإيماء إلى تبديل الأرض غير الأرض، أو لأن إخراج الأرض حال بعض أجزائها. والظاهر أن إخراجها ذلك مسبب عن الزلزال كما ينفض البساط ليخرج ما فيه من الغبار ونحوه وإنما اختيرت الواو على الفاء تفويضا لذهن السامع كذا قيل. ولعل الظاهر أنه لم ترد السببية والمسببية بل ذكر كل مما ذكر من الحوادث من غير تعرض لتسبب شيء منها على الآخر. وَقالَ الْإِنْسانُ أي كل فرد من أفراد الإنسان لما يبهرهم من الطامة التامة ويدهمهم من الداهية العامة ما لَها وزلزلت هذه المرتبة من الزلزال وأخرجت ما فيها من الأثقال استعظاما لما شاهدوه من الأمر الهائل وقد سيرت الجبال في الجو وصيرت هباء. وذهب غير واحد إلى أن المراد بالإنسان الكافر غير المؤمن بالبعث الجزء: 15 ¦ الصفحة: 434 والأظهر هو الأول على أن المؤمن يقول ذلك بطريق الاستعظام والكافر بطريق التعجب يَوْمَئِذٍ بدل من إذا وقوله تعالى تُحَدِّثُ أَخْبارَها أي الأرض واحتمال كون الفاعل المخاطب كما زعم الطبرسي لا وجه له عامل فيهما. وقيل: العامل مضمر يدل عليه مضمون الجمل بعد والتقدير يحشرون إذا زلزلت ويَوْمَئِذٍ متعلق ب تُحَدِّثُ وإِذا عليه لمجرد الظرفية. وقيل هي نصب على المفعولية لا ذكر محذوفا أي اذكر ذلك الوقت فليست ظرفية ولا شرطية، وجوز أن تكون شرطية منصوب بجواب مقدر أي يكون ما لا يدرك كنهه أو نحوه والمراد يوم إذا زلزلت زلزالها وأخرجت أثقالها وقال الإنسان ما لها تحدث الخلق ما عندها من الأخبار وذلك بأن يخلق الله تعالى فيها حياة وإدراكا وتتكلم حقيقة فتشهد بما عمل عليها من طاعة أو معصية وهو قول ابن مسعود والثوري وغيرهما ويشهد له الحديث الحسن الصحيح الغريب. أخرج الإمام أحمد والترمذي عن أبي هريرة قال: قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم هذه الآية يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها ثم قال: «أتدرون ما أخبارها» ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها تقول عمل يوم كذا كذا فهذه أخبارها» والباء في قوله تعالى بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها للسببية أي تحدث بسبب إيحاء ربك لها وأمره سبحانه إياها بالتحديث واللام بمعنى إلى أي أوحى إليها لأن المعروف تعدي الوحي بها كقوله تعالى وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل: 68] لكن قد يتعدى باللام كما في قول العجاج يصف الأرض: أوحى لها القرار فاستقرّت ... وشدها بالراسيات الثّبّت ولعل اختيارها لمراعاة الفواصل. وجوز أن تكون اللام للتعليل أو المنفعة لأن الأرض بتحديثها بعمل العصاة يحصل لها تشف منهم بفضحها إياهم بذكر قبائحهم والموحى إليه هي أيضا، والوحي يحتمل أن يكون وحي إلهام وأن يكون وحي إرسال بأن يرسل سبحانه إليها رسولا من الملائكة بذلك. وقال الطبري وقوم: التحديث استعارة أو مجاز مرسل لمطلق دلالة حالها والإيحاء إحداث ما تدل به فيحدث عز وجل فيها من الأحوال ما يكون به دلالة تقوم مقام التحديث باللسان حتى ينظر من يقول ما لها إلى تلك الأحوال فيعلم لم زلزلت ولم لفظت الأموات وإن هذا ما كانت الأنبياء عليهم السلام ينذرونه ويحذرون منه وما يعلم هو أخبارها. وقيل: الإيحاء على تقدير كون التحديث حقيقيا أيضا مجاز عن إحداث حالة ينطقها سبحانه بها كإيجاد الحياة وقوة التكلم والإخبار على ما سمعت آنفا. وقال يحيى بن سلام: تحدث بما أخرجت من أثقالها ويشهد له ما في حديث ابن ماجة في سننه: «تقول الأرض يوم القيامة يا رب هذا ما استودعتني» . وعن ابن مسعود تحدث بقيام الساعة إذا قال الإنسان ما لها فتخبر أن أمر الدنيا قد انقضى وأمر الآخرة قد أتى فيكون ذلك جوابا لهم عند سؤالهم. وقال الزمخشري: يجوز أن يكون المعنى تحدث بتحديث أن ربك أوحى لها أخبارها على أن تحديثها بأن ربك أوحى لها تحديث بإخبارها كما تقول نصحتني كل نصيحة بأن نصحتني في الدين فأخبارها عليه هو أن ربك أوحى لها والباء تجريدية مثلها في قولك لئن لقيت فلانا لتلقين به رجلا متناهيا في الخير. وكان الظاهر تحدث بخبرها بالإفراد وكذا على ما قبله من الوجهين لكن جمع للمبالغة كما يشير إليه المثال ونحوه قول الشاعر: فأنالني كلّ المنى بزيارة ... كانت مخالسة كخطفة طائر فلو استطعت خلعت على الدّجى ... لتطول ليلتنا- سواد الناظر ولا يخفى بعده. وبالغ أبو حيان في الحط عليه، فقال: هو عفش ينزه القرآن عنه. وأراد بالعفش- بعين الجزء: 15 ¦ الصفحة: 435 مهملة وفاء وشين معجمة- ما يدنس المنزل من الكناسة وهي كلمة تستعملها في ذلك عوام أهل المغرب وليس كما قال. وجوز أيضا أن يكون بِأَنَّ رَبَّكَ إلخ بدلا من أَخْبارَها كأنه قيل يومئذ تحدث بأن ربك أوحى لها لأنك تقول حدثته كذا وحدثته بكذا فيصح إبدال بِأَنَّ إلخ من أَخْبارَها وأن أحدهما مجرور والآخر منصوب لأنه يحل محله في بعض الاستعمالات وليس ذلك في الامتناع خلافا لأبي حيان كاستغفرت الذنب العظيم بنصب الذنب وجر العظيم على أنه نعت له باعتبار قولهم: استغفرت من الذنب لأن البدل هو المقصود فهو في قوة عامل آخر بخلاف النعت. نعم هو أيضا خلاف الظاهر وبعد كل ذلك اللائق أن لا يعدل عن المأثور لا سيما إذا صح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بقي هاهنا بحث وهو أنهم اختلفوا في نحو: حدثت هل هو متعد إلى مفعول واحد أو إلى أكثر؟ فذهب الزمخشري وغيره ونقل عن سيبويه إلى الثاني وهو عندهم ملحق بأفعال القلوب فينصب مفعولين كحدثت زيدا الخبر، أو ثلاثة كحدثته عمرا قائما فأخبارها عليه هو المفعول الثاني والمفعول الأول محذوف كما أشرنا إليه ولم يذكر لأنه لا يتعلق بذكره غرض إذا الغرض تهويل اليوم وأنه مما ينطق فيه الجماد بقطع النظر عن المحدث كائنا من كان. وقال الشيخ ابن الحاجب: إنما هو متعدّ لواحد وما جاء بعده لتعين المفعول المطلق فعمرا قائما في حدثت زيدا عمرا قائما منصوب لوقوعه موقع المصدر لا لكونه مفعولا ثانيا وثالثا ولا يقال كيف يصح أن يقع ما ليس بفعل في المعنى أعني عمرا قائما مصدرا لأنه لم يكن مصدرا باعتبار كونه عمرا قائما ولكن باعتبار كونه حديثا مخصوصا فالوجه الذي صحح الإخبار به عن الحديث إذا قلت: حديث زيد عمرو قائم هو الذي صحح وقوعه مصدرا فإخبارها عليه في موقع المفعول والمفعول به محذوف لما تقدم، بل قال بعضهم: إنك إذا قلت حدثته حديثا أو خبرا فلا نزاع في أنه مفعول مطلق، والظاهر أن الإخبار في زعمه كذلك وتعقب ذلك في الكشف بأن ما ذكره الشيخ غير مسلم فإنه لم يفرق بين التحديث والحديث والأول هو المفعول المطلق كيف وهو يجر بالباء فتقول: حدثته الخبر وبالخبر ومعلوم أن ما دخل عليه الباء لا يجوز أن يكون مفعولا مطلقا وقد يقال كون الشيخ لم يفرق في حيّز المنع وكيف يخفى مثل ذلك على مثله لكنه قائل بأن أثر المصدر ومتعلقه قد سدّ مسده فيما ذكر كما سد مسده آلته في نحو ضربته سوطا ولعل ما قرره في غير ما دخلته الباء. وقال الطيبي: يمكن أن يقال إن حدث وأخواتها متعديات إلى مفعول واحد حقيقة وجعلها متعديات إلى ثلاثة أو إلى اثنين تجوز أو تضمين لمعنى الإعلام واستأنس له بكلام نقله عن المفصل وكلام نقله عن صاحب الإقليد فتأمل. وقرأ ابن مسعود «تنبىء أخبارها» وسعيد بن جبير «تنبىء» بالتخفيف. يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ ما ذكر وهو يقع ظرفا لقوله تعالى يَصْدُرُ النَّاسُ يخرجون من قبورهم بعد أن دفنوا فيها إلى موقف الحساب أَشْتاتاً متفرقين بحسب طبقاتهم بيض الوجوه آمنين وسود الوجود فزعين وراكبين وماشين ومقيدين بالسلاسل وغير مقيدين. وعن بعض السلف متفرقين إلى سعيد وأسعد وشقي وأشقى. وقيل: إلى مؤمن وكافر وعن ابن عباس: أهل الإيمان على حدة وأهل كل دين على حدة وجوز أن يكون المراد كل واحد وحده لا ناصر له ولا عاضد كقوله تعالى وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى [الأنعام: 94] وقيل متفرقين بحسب الأقطار لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ أي ليبصروا جزاء أعمالهم خيرا كان أو شرا فالرؤية بصيرية والكلام على حذف مضاف أو على أنه تجوز بالأعمال عما يتسبب عنها من الجزاء وقدر بعضهم كتب أو صحائف وقال آخر: لا حاجة إلى التأويل والأعمال تجسم نورانية وظلمانية بل يجوز رؤيتها مع عرضيتها وهو كما ترى. وقيل المراد ليعرفوا أعمالهم ويوقفوا عليها تفصيلا عند الحساب فلا يحتاج إلى ما ذكر أيضا. وقال النقاش الجزء: 15 ¦ الصفحة: 436 الصدور مقابل الورود فيردون المحشر ويصدرون منه متفرقين فقوم إلى الجنة وقوم إلى النار ليروا جزاء أعمالهم من الجنة والنار وليس بذاك. وأيّا ما كان فقوله تعالى لِيُرَوْا متعلق ب يَصْدُرُ وقيل: هو متعلق ب أَوْحى لَها وما بينهما اعتراض. وقرأ الحسن والأعرج وقتادة وحماد بن سلمة والزهري وأبو حيوة وعيسى ونافع في رواية «ليروا» بفتح الياء. وقوله تعالى فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ تفصيل ليروا والذرة نملة صغيرة حمراء رقيقة ويقال إنها تجري إذا مضى لها حول وهي علم في القلة. قال امرؤ القيس. من القاصرات الطرف لو دب محول ... من الذر فوق الإتب منها لأثرا وقيل: الذر ما يرى في شعاع الشمس من الهباء. وأخرج هناد عن ابن عباس أنه أدخل يده في التراب ثم رفعها ثم نفخ فيها. وقال: كل واحدة من هؤلاء مثقال ذرة وانتصاب خَيْراً وشَرًّا على التمييز لأن مثقال ذرة مقدار. وقيل على البدلية من مِثْقالَ والظاهر أن مَنْ في الموضعين عامة للمؤمن والكافر وأن المراد من رؤية ما يعادل مثقال ذرة من خير أو شر مشاهدة جزائه بأن يحصل له ذلك. واستشكل بأن ذلك يقتضي إثابة الكافر بحسناته وما يفعله من الخير مع أنهم قالوا: أعمال الكفرة محبطة وادعى في شرح المقاصد الإجماع على ذلك كيف وقد قال سبحانه وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان: 23] وقال عز وجل أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [هود: 16] وقال تعالى مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ الآية. [إبراهيم: 18] وكون خيرهم الذي يرونه تخفيف العذاب يدفعه قوله تعالى فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ [البقرة: 86، النحل: 85] وقوله سبحانه زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ [النحل: 88] ويقتضي أيضا عقاب المؤمن بصغائره إذا اجتنب الكبائر مع أنهم قالوا إنها مكفرة حينئذ لقوله تعالى إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [النساء: 31] وقول ابن المنير: إن الاجتناب لا يوجب التكفير عند الجماعة بل التوبة أو مشيئة الله تعالى ليس بشيء لأن التوبة والاجتناب سواء في حكم النص ومشيئة الله تعالى هي السبب الأصيل فالتزم بعضهم كون المراد بمن الأولى السعداء، وبمن الثانية الأشقياء بناء على أن فَمَنْ يَعْمَلْ إلخ تفصيل ل يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً وكان مفسرا بما حاصله فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى: 70] فالمناسب أن يرجع كل فقرة إلى فرقة لتطابق المفصل المجمل ولأن الظاهر قوله سبحانه فَمَنْ يَعْمَلْ وَمَنْ يَعْمَلْ بتكرير أداة الشرط يقتضي التغاير بين العاملين وقال آخرون بالعموم إلّا أن منهم من قال: في الكلام قيد مقدر ترك لظهوره والعلم به من آيات أخر. فالتقدير: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره إن لم يحبط ومن يعلم مثقال ذرة شرا يره إن لم يكفر. ومنهم من جعل الرؤية أعم مما تكون في الدنيا وما تكون في الآخرة، فالكافر يرى جزاء خيره في الدنيا وجزاء شره في الآخرة والمؤمن يرى جزاء شره في الدنيا وجزاء خيره في الآخرة فقد روى البغوي وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: فمن يعمل مثقال ذرة من خير وهو كافر فإنه يرى ثواب ذلك في الدنيا في نفسه وأهله وماله حتى يبلغ الآخرة وليس عليه فيها خير، ومن يعمل مثقال ذرة من شر وهو مؤمن كوفىء ذلك في الدنيا في نفسه وأهله وماله حتى يبلغ الآخرة وليس عليه فيها شر. وأخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب وابن أبي حاتم وجماعة عن أنس قال: بينما أبو بكر الجزء: 15 ¦ الصفحة: 437 الصديق رضي الله تعالى عنه يأكل مع النبي صلّى الله عليه وسلم إذ نزلت عليه فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ الآية فرفع أبو بكر يده وقال: يا رسول الله إني لراء ما عملت من مثقال ذرة من شر؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «يا أبا بكر أرأيت ما ترى في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذر الشر ويدخر لك مثاقيل ذر الخير حتى توفاه يوم القيامة» . وفي رواية ابن مردويه عن أبي أيوب أنه صلّى الله عليه وسلم قال له إذ رفع يده: «من عمل منكم خيرا فجزاؤه في الآخرة، ومن عمل منكم شرا يره في الدنيا مصيبات وأمراضا، ومن يكن فيه مثقال ذرة من خير دخل الجنة» . ومنهم من قال: المراد من رؤية ما يعادل ذلك من الخير والشر مشاهدة نفسه عن غير أن يعتبر معه الجزاء ولا عدمه بل يفوض كل منهما إلى سائر الدلائل الناطقة بعفو صغائر المؤمن المجتذب عن الكبائر وإثباته بجميع حسناته وبحبوط حسنات الكافر ومعاقبته بجميع معاصيه وبه يشعر ما أخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي في البعث عن ابن عباس من قوله في الآية ليس مؤمن ولا كافر عمل خيرا وشرا في الدنيا إلّا أراه الله تعالى إياه فأما المؤمن فيرى حسناته وسيئاته فيغفر له من سيئاته ويثيبه بحسناته، وأما الكافر فيريه حسناته وسيئاته فيردّ حسناته ويعذبه بسيئاته. واختار هذا الطيبي فقال إنه يساعده النظم والمعنى والأسلوب أما النظم فإن قوله تعالى فَمَنْ يَعْمَلْ إلخ تفصيل لما عقب به من قوله سبحانه يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ فيجب التوافق والأعمال جمع مضاف يفيد الشمول والاستغراق ويصدر الناس مقيد بقوله عز وجل أَشْتاتاً فيفيد أنهم على طرائق شتى للنزول في منازلهم من الجنة والنار بحسب أعمالهم المختلفة ومن ثم كانت الجنة ذات درجات والنار ذات دركات. وأما المعنى فإنها وردت لبيان الاستقصاء في عرض الأعمال والجزاء عليها كقوله تعالى وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ [الأنبياء: 47] وأما الأسلوب فإنها من الجوامع الحاوية لفوائد الدين أصلا وفرعا روينا عن البخاري ومسلم عن أبي هريرة سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن الحمر أي عن صدقتها قال: «لم ينزل عليّ فيها شيء إلّا هذه الآية الجامعة الفاذة» أي المتفردة في معناها فتلاها عليه الصلاة والسلام. وروى الإمام أحمد عن صعصعة بن معاوية عم الفرزدق أنه أتى النبي صلّى الله عليه وسلم فقرأ عليه الآية فقال: «حسبي لا أبالي أن لا أسمع من القرآن غيرها» انتهى. وأقول الظاهر عموم من وكون المراد رؤية الجزاء كما تقدم وكذا الظاهر كون ذلك في الآخرة ولا إشكال وذلك لأن الفقرة الأولى وعد والثانية وعيد، ومذهبنا أن الوعد لازم الوقوع تفضلا وكرما والوعيد ليس كذلك فيفوض أمر الشر في الثانية على الدلائل وهي ناطقة بأنه إن كان كفرا لا يغفر وإن كان صغيرة من مؤمن مجتنب الكبائر يكفر، وإن كان كبيرة من مؤمن أو صغيرة منه وهو غير مجتنب الكبائر فتحت المشيئة. وخبرا أنس وأبي أيوب السابقان لا يأبيان ذلك بعد التأمل ولا يبعد فيما أرى أن يكون ما عدا الكفر من الكافر كذلك. وأما أمر الخير فباق على ما يقتضيه الظاهر وهو بالنسبة إلى المؤمن ظاهر، وأما بالنسبة إلى الكافر فتخفيف العذاب للأحاديث الصحيحة فقد ورد أن حاتما يخفف الله تعالى عنه لكرمه، وأن أبا لهب كذلك لسروره بولادة النبي صلّى الله عليه وسلم وإعتاقه لجاريته ثويبة حين بشرته بذلك، والحديث في تخفيف عذاب أبي طالب مشهور وما يدل على عدم تخفيف العذاب فالعذاب فيه محمول على عذاب الكفر بحسب مراتبه فهو الذي لا يخفف، والعذاب الذي دلت الأخبار على تخفيفه غير ذلك، ومعنى إحباط أعمال الكفار أنها لا تنجيهم من العذاب المخلد كأعمال غيرهم وهو معنى كونها سرابا وهباء. ودعوى الإجماع على إحباطها بالكلية غير تامة كيف وهم مخاطبون بالتكاليف في المعاملات والجنايات اتفاقا. والخلاف إنما هو في خطابهم في غيرها من الفروع ولا شك أنه لا معنى للخطاب بها إلا عقاب تاركها وثواب فاعلها. وأقله التخفيف وإلى هذا ذهب العلامة شهاب الدين الجزء: 15 ¦ الصفحة: 438 الخفاجي عليه الرحمة ثم قال: وما في التبصرة وشرح المشارق وتفسير الثعلبي من أن أعمال الكفرة الحسنة التي لا يشترط فيها الإيمان كإنجاء الغريق وإطفاء الحريق وإطعام ابن السبيل يجزون عليها في الدنيا ولا تدخر لهم في الآخرة كالمؤمنين بالإجماع للتصريح به في الأحاديث، فإن عمل أحدهم في كفره حسنات ثم أسلم اختلف فيه هل يثاب عليها في الآخرة أم لا بناء على أن اشتراط الإيمان في الاعتداد بالأعمال وعدم إحباطها هل هو بمعنى وجود الإيمان عند العمل أو وجوده ولو بعد لقوله صلّى الله عليه وسلم في الحديث: «أسلمت على ما سلف لك من خير» غير مسلم ودعوى الإجماع فيه غير صحيحة لأن كون وقوع جزائهم في الدنيا دون الآخرة كالمؤمنين مذهب لبعضهم، وذهب آخرون إلى الجزاء بالتخفيف وقال الكرماني: إن التخفيف واقع لكنه ليس بسبب عملهم بل لأمر آخر كشفاعة النبي صلّى الله عليه وسلم ورجائه ومنه ما يكون لأبي لهب كما قال الزركشي انتهى. ولقائل أن يقول إن الشفاعة من آثار عمل المشفوع الخير أيضا فتأمل. وسبب نزول الآية على ما أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه لما نزل وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ [الإنسان: 8] كان المسلمون يرون أنهم لا يؤجرون على الشيء القليل إذا أعطوه فيجيء المسكين إلى أبوابهم فيستقلون أن يعطوه التمرة والبسرة فيردونه ويقولون: ما هذا بشيء إنما نؤجر على ما نعطي ونحن نحبه، وكان آخرون يرون أنهم لا يلامون على الذنب اليسير الكذبة والنظرة والغيبة وأشباه ذلك ويقولون إنما وعد الله تعالى النار على الكبائر فنزلت الآية ترغبهم في القليل من الخير أن يعملوه، وتحذرهم اليسير من الشر أن يعملوه. وفيها من دلالة الخطاب ما لا يخفى وقد كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم بعدها يتصدقون بما قل وكثر. فقد روي أن عائشة رضي الله تعالى عنها بعث إليها ابن الزبير بمائة ألف وثمانين ألف درهم في غرارتين فدعت بطبق وجعلت تقسمها بين الناس فلما أمست قالت جاريتها: هلمي وكانت صائمة، فجاءت بخبز وزيت فقالت: ما أمسكت لنا درهما نشتري به لحما نفطر عليه. فقالت: لو ذكرتيني لفعلت. وجاء في عدة روايات أنها أعطت سائلا يوما حبة من عنب، فقيل لها في ذلك. فقالت: هذه أثقل من ذر كثير ثم قرأت الآية. وروي نحو هذا عن عمر وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن مالك رضي الله تعالى عنهم وكان غرضهم تعليم الناس أنه لا بأس بالتصدق بالقليل ولهم بذلك أسوة برسول الله صلّى الله عليه وسلم. فقد أخرج الزجاجي في أماليه عن أنس بن مالك أن سائلا أتى النبي صلّى الله عليه وسلم فأعطاه تمرة، فقال السائل: نبي من الأنبياء تصدق بتمرة. فقال عليه الصلاة والسلام: «أما علمت فيها مثاقيل ذر كثيرة» وجاء أنه عليه الصلاة والسلام قال: «اتقوا النار ولو بشق تمرة» ثم قرأ الآية. وتقديم عمل الخير لأنه أشرف القسمين والمقصود بالأصالة لا يخفى حسن موقعه ويعلم منه أن هذا الإحصاء لا ينافي كرمه عز وجل المطلق وما يحكى من أن أعرابيا أخر خيرا يره فقيل له قدمت وأخرت فقال: خذا بطن هرشى أو قفاها فإنه ... كلا جانبي هرشى لهن طريق فغفل عن اللطائف القرآنية أو لعله أراد أنه فيما يتعلق بالعمل لا بأس به قدم أو أخر لا أن القراءة به جائزة. وقرأ الحسين بن علي على جده وعليهما الصلاة والسلام وابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعبد الله بن مسلم وزيد بن علي وأبو حيوة والكلبي وخليد بن نشيط وأبان عن عاصم والكسائي في رواية حميد بن الربيع عنه «يره» بضم الياء في الموضعين. وقرأ هشام وأبو بكر «يره» بسكون الهاء فيها وأبو عمرو بضمها مشبعة وباقي السبعة بالإشباع في الأول والسكون في الثاني والإسكان في الوصل لغة حكاها الأخفش ولم يحكها سيبويه وحكاها الكسائي أيضا عن بني كلاب وبني عقيل. وقرأ عكرمة «يراه» بالألف فيهما وذلك على لغة من الجزء: 15 ¦ الصفحة: 439 يرى الجزم بحذف الحركة المقدرة على حرف العلة كما حكى الأخفش أو على ما يقال في غير القرآن من توهم أن من موصولة لا شرطية كما قيل في قوله تعالى إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ [يوسف: 9] في قراءة من أثبت ياء يتق وجزم يصبر. وجوز أن تكون الألف للإشباع والوجه الأول أولى والله تعالى أعلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 440 سورة العاديات مكية في قول ابن مسعود وجابر والحسن وعكرمة وعطاء، مدنية في قول أنس وقتادة وإحدى الروايتين عن ابن عباس، وقد أخرج عنه البزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والدارقطني في الافراد وابن مردويه أنه قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم خيلا فاستمرت شهرا لا يأتيه منها خبر، فنزلت وَالْعادِياتِ إلخ. وآيها احدى عشرة آية بلا خلاف. وأخرج أبو عبيد في فضائله من مرسل الحسن أنها تعدل بنصف القرآن. وأخرج ذلك محمد بن نصر من طريق عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس مرفوعا ولم أقف على سره. ولما ذكر سبحانه فيما قبلها الجزاء على الخير والشر وأتبع ذلك فيها بتعنيت من اثر دنياه على آخرته ولم يستعد لها بفعل الخير. ولا يخفى ما في قوله تعالى هناك وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها [الزلزلة: 2] وقوله سبحانه هنا إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ [العاديات: 9] من المناسبة أو العلاقة على ما سمعت من أن المراد بالأثقال ما في جوفها من الأموات أو ما يعمهم والكنوز. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعادِياتِ الجمهور على أنه قسم بخيل الغزاة في سبيل الله تعالى التي تعدو أي تجري بسرعة نحو العدو، وأصل العاديات العادوات بالواو فقلبت ياء لانكسار ما قبلها. وقوله تعالى ضَبْحاً مصدر منصوب بفعله المحذوف أي تضبح أو يضبحن ضبحا والجملة في موضع الحال، وضبحها صوت أنفاسها عند عدوها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس: الخيل إذا عدت قالت اح اح فذلك ضبحها. وأخرج ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه: الضبح من الخيل الحمحمة ومن الإبل التنفس. وفي البحر تصويت جهير عند العدو الشديد ليس بصهيل ولا رغاء ولا نباح بل هو غير الصوت المعتاد من صوت الحيوان الذي ينسب هو إليه وعن ابن عباس: ليس يضبح من الحيوان غير الخيل والكلاب ولا يصح عنه فإن العرب استعملت الضبح في الإبل والأسود من الحيات واليوم والأرنب والثعلب وربما تسنده إلى القوس. أنشد أبو حنيفة في صفتها. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 441 حنانة من نشم أو تالب ... تضبح في الكف ضباح الثعلب وذكر بعضهم أن أصله للثعلب فاستعير للخيل كما في قول عنترة: والخيل تكدح حين تض ... بح في حياض الموت ضبحا وإنه من ضبحته النار غيّرت لونه ولم تبالغ فيه. ويقال انضبح لونه تغير إلى السواد قليلا. وقال أبو عبيدة: الضبح وكذا الضبع بمعنى العدو الشديد وعليه قيل إنه مفعول مطلق للعاديات وليس هناك فعل مقدر. وجوز على تفسيره بما تقدم أن يكون نصبا على المصدرية به أيضا لكن باعتبار أن العدو مستلزم للضبح فهو في قوة فعل الضبح. ويجوز أن يكون نصبا على الحال مؤولا باسم الفاعل بناء على أن الأصل فيها أن تكون غير جامدة أي والعاديات ضابحات فَالْمُورِياتِ قَدْحاً الإيراء إخراج النار والقدح هو الضرب والصك المعروف يقال: قدح فأورى إذا أخرج النار، وقدح فأصلد إذا قدح ولم يخرجها والمراد بها الخيل أيضا أي فالتي توري النار من صدم حوافرها للحجارة وتسمى تلك النار نار الحباحب وهو اسم رجل بخيل كان لا يوقد إلّا نارا ضعيفة مخافة الضيفان، فضربوا بها المثل حتى قالوا ذلك لما تقدحه الخيل بحوافرها والإبل بأخفافها. وانتصاب قَدْحاً كانتصاب ضَبْحاً على ما تقدم. وجوز كونه على التمييز المحول عن الفاعل أي فالمورى قدحها ولعله أمير وأبعد عن القدح. وعن قتادة: الموريات مجاز في الخيل توري نار الحرب وتوقدها وهو خلاف الظاهر فَالْمُغِيراتِ من أغار على العدو هجم عليه بغتة بخيله لنهب أو قتل أو إسار، فالإغارة صفة أصحاب الخيل وإسنادها إليها إما بالتجوز فيه أو بتقدير المضاف والأصل فالمغير أصحابها أي فالتي يغير أصحابها على العدو عليها وقيل بسببها صُبْحاً أي في وقت الصبح فهو نصب على الظرفية وذلك هو المعتاد في الغارات كانوا يعدون ليلا لئلا يشعر بهم العدو ويهجمون صباحا ليروا ما يأتون وما يذرون وكانوا يتحمسون بذلك ومنه قوله: قومي الذين صبحوا الصباحا ... يوم النخيل غارة ملحاحا فَأَثَرْنَ بِهِ من الإثارة وهي التهييج وتحريك الغبار ونحوه. والأصل أثورن نقلت حركة الواو إلى ما قبلها وقلبت ألفا وحذفت لاجتماع الساكنين، والفعل عطف على الاسم قبله وهو العاديات، أو ما بعده لأنه اسم فاعل وهو في معنى الفعل خصوصا إذا وقع صلة فكأنه قيل: فاللاتي عدون فأورين فأغرن فأثرن. ولا شذوذ في مثله لأن الفعل تابع فلا يلزم دخول أل عليه ولا حاجة إلى أن يقال هو معطوف على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه. والحكمة في مجيء هذا فعلا بعد اسم فاعل على ما قال ابن المنير تصوير هذه الأفعال في النفس فإن التصوير يحصل بإيراد الفعل بعد الاسم لما بينهما من التخالف وهو أبلغ من التصوير بالأسماء المتناسقة وكذلك التصوير بالمضارع بعد المضارع كقول ابن معد يكرب: بأني قد لقيت الغول يهوي ... بشهب كالصحيفة صحصحان فآخذه فأضربه فخرت ... صريعا لليدين وللجران وخص هذا المقام من الفائدة على ما قال الطيبي أن الخيل وصفت بالأوصاف الثلاثة ليرتب عليها ما قصد من الظفر بالفتح فجيء بهذا الفعل الماضي وما بعده مسببين عن أسماء الفاعلين فأفاد ذلك أن تلك المداومة أنتجت هاتين البغيتين، ويفهم منه أن الفاء لتفريع ما بعدها عما قبلها وجعله مسببا عنه وسيأتي الكلام فيها قريبا إن شاء الله تعالى وضمير بِهِ للصبح والباء ظرفية أي فهيجن في ذلك الوقت نَقْعاً أي غبارا وتخصيص إثارته بالصبح لأنه لا يثور أو لا يظهر ثورانه بالليل وبهذا يظهر أن الإيراء الذي لا يظهر في النهار الجزء: 15 ¦ الصفحة: 442 واقع في الليل. وفي ذكر إثارة الغبار إشارة بلا غبار إلى شدة العدو وكثرة الكر والفر وكثيرا ما يشيرون به إلى ذلك ومنه قول ابن رواحة: عدمت بنيتي إن لم تروها ... تثير النقع من كنفي كداء وقال أبو عبيدة: النقع رفع الصوت ومنه قول لبيد: فمتى ينقع صراخ صادق ... يحلبوه ذات جرس وزجل وقول عمر رضي الله تعالى عنه وقد قيل له يوم توفي خالد بن الوليد إن النساء قد اجتمعن يبكين على خالد: ما على نساء بني المغيرة أن يسفكن على أبي سليمان دموعهن وهن جلوس ما لم يكن نقع ولا لقلقة. والمعنى عليه فهيجن في ذلك الوقت صياح وهو صياح من هجم عليه وأوقع به. والمشهور المعنى الأول وجوز كون ضمير به للعدو الدال عليه العاديات أو للإغارة الدال عليها المغيرات والتذكير لتأويلها بالجري ونحوه والباء للسببية أو للملابسة وجوز كونها ظرفية أيضا والضمير للمكان الدال عليه السياق والأول أظهر وألطف. ومثله ضمير بِهِ في قوله عز وجل فَوَسَطْنَ بِهِ أي فتوسطن في ذلك الوقت جَمْعاً من جموع الأعداء وجوز فيه وفي بائه نحو ما تقدم في به قبله وجوز أيضا كون الضمير للنقع والباء للملابسة أي فتوسطن ملتبسات بالنقع جمعا أو هي على ما قيل للتعدية إن أريد أنها وسطت الغبار والفاءات كما في الإرشاد للدلالة على ترتيب ما بعد كل منها على ما قبله فتوسط الجمع مترتب على الإثارة المترتبة على الإيراء المترتب على العدو. وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة «فأثّرن» و «فوسّطن» بتشديد الثاء والسين. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وزيد بن علي وقتادة وابن أبي ليلى الأول كالجمهور والثاني كذين. والمعنى على تشديد الأول فأظهرن به غبارا لأن التأثير فيه معنى الإظهار وعلى تشديد الثاني على نحو ما تقدم. فقد نقلوا أن وسط مخففا ومثقلا بمعنى واحد وأنهما لغتان. وقال ابن جني المعنى ميزن به جمعا أي جعلنه شطرين أي قسمين وشقين. وقال الزمخشري: التشديد فيه للتعدية والباء مزيدة للتأكيد كما في قوله تعالى «وأتوا به» في قراءة وهي مبالغة في وسّطن وجوز أن يكون قلب ثورن إلى وثرن ثم قلبت الواو همزة فالمعنى على ما مرّ وهو تمحل مستغنى عنه. وعن السدي ومحمد بن كعب وعبيد بن عمير أنهم قالوا العاديات هي الإبل تعدو ضبحا من عرفة إلى المزدلفة ومن المزدلفة إلى منى. ونسب إلى عليّ كرم الله تعالى وجهه فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري في كتاب الأضداد وابن مردويه والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: بينما أنا في الحجر جالس إذ أتاني رجل فسألني عن الْعادِياتِ ضَبْحاً فقلت: الخيل حين تغير في سبيل الله تعالى ثم تأوي إلى الليل فيصنعون طعامهم ويورون نارهم، فانفتل عني فذهب إلى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وهو جالس تحت سقاية زمزم، فسأله عن العاديات ضبحا فقال سألت عنها أحدا قبلي؟ قال: نعم سألت عنها ابن عباس. فقال: هي الخيل حين تغير في سبيل الله تعالى فقال: اذهب فادعه لي فلما وقفت على رأسه قال: تفتي الناس بما لا علم لك به، والله إن كانت لأول غزوة في الإسلام لبدر وما كان معنا إلّا فرسان فرس للزبير وفرس للمقداد بن الأسود فكيف تكون العاديات ضبحا؟ إنما العاديات ضبحا الإبل تعدو من عرفة إلى المزدلفة فإذا أووا إلى المزدلفة أوروا النيران فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً من المزدلفة إلى منى فذلك جمع. وأما قوله تعالى فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فهو نقع الأرض حين تطؤها بخفافها. قال ابن عباس: فنزعت عن قولي إلى قول عليّ كرم الله تعالى وجهه ورضي الله تعالى عنه. واستشكل رده كرم الله تعالى وجهه كون المراد بها الخيل بما كان من أمر غزوة بدر بأن ابن عباس لم يدع أن أل في العاديات للعهد وأنها إشارة إلى عاديات بدر، ولا أن السورة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 443 نزلت في شأن تلك الغزوة ليلزم تحقق ذلك فيها ودخولها تحت العموم بل ظاهر كلامه حمل ذلك على جنس الخيل التي تعدو في سبيل الله عز وجل وإن حملت على العهد. وقيل: إن المعهود هو الخيل التي بعثها عليه الصلاة والسلام للغزو على ما سمعت صدر السورة وكذا على ما روي من أنه عليه الصلاة والسلام بعث إلى أناس من بني كنانة سرية واستعمل عليها المنذر بن عمرو الأنصاري وكان أحد النقباء فأبطأ صلّى الله عليه وسلم خبرها شهرا، فقال المنافقون: إنهم قتلوا، فنزلت السورة إخبارا له عليه الصلاة والسلام بسلامتها وبشارة له صلّى الله عليه وسلم بإغارتها على القوم لم يبعد، وأجيب بأنه كرم الله تعالى وجهه أراد أن غزوة بدر هي أفضل غزوات الإسلام وبدرها الذي ليس فيه انثلام فيتعين أن لا تكون المراد ذلك. ويسلك في الآية ما يناسبها من المسالك ولا يخفى أن هذا الجواب لا يتحمل لمزيد ضعفه الإغارة عليه وإطلاق أعنّة عاديات الأفكار إليه والأحرى أن الخبر لا صحة له وتصحيح الحاكم محكوم عليه عند أهل الأثر بكثرة التساهل فيه وأنه غير معتبر ثم إن النقل عنه رضي الله تعالى عنه في المراد بالعاديات متعارض بما تقدم أنه إبل الحجاج. ونقل صاحب التأويلات أنه كرم الله تعالى وجهه فسرها بإبل بدر وأن ابن مسعود هو الذي فسرها بإبل الحجاج. ويرجح إرادة الخيل أن إثارة النقع فيها أظهر منها في الإبل ثم إن ذلك الخبر يقتضي أن للقسم به نوعان الخيل والإبل وجماعة الغزاة أو الحجاج الموقدة نارا لطعامها أو نحوه. وفي بعض الآثار عن ابن عباس ما هو أصرح مما تقدم في تفسير الموريات بما يغاير العاديات بالذات ففي البحر عنه أنها الجماعة التي توري نارها بالليل لحاجتها وطعامها. وفي رواية أخرى عنه تلك جماعة الغزاة تكثر النار إرهابا ورويت المغايرة عن آخرين أيضا. فعن مجاهد وزيد بن أسلم وهي رواية أخرى عن ابن عباس هي الجماعة تمكر في الحرب فالعرب تقول إذا أرادت المكر بالرجل: والله لأورين له، ومن الغريب ما روي عن عكرمة أنها ألسنة الرجال توري النار من عظيم ما يتكلم به ويظهر من الحجج والدلائل وإظهار الحق وإبطال الباطل وهو كما ترى. ومن البطون والإشارات أن يكون المقسم به النفوس العادية إثر كمالهن الموريات بأفكارهن أنوار المعارف والمغيرات على الهوى والعادات إذا ظهر لهن مثل أنوار القدس فأثرن به شوقا فوسطن بذلك الشوق جمعا من جموع العليين. ومثله ما قيل إن ذلك قسم بالهمم القالبية التي تعدو في سبيل الله تعالى خارجا من جوف اشتياقها صوت الدعاء من شدة العدو وغاية الشوق بحيث يسمع الروحانيون ضجيج دعائها وتضرعها والتماسها تسهيل سلوك الطريق الوعر الذي يتعلق بجبال القالب الموريات بحوافر الذكر نار الهداية المستكنة في حجر القالب وقت تخمير اللطيفة والمغيرات بعد سلوكها في جبال القالب الراسية في ظلام الليل القالبي وعبورها عنها إلى أفق عالم النفس وتنفس صبح النفس على الخواطر النفسية وشؤونها فهيجن بذلك الجري غبار الخواطر وأثرنه لئلا يختفي خاطر من الخواطر، فوسطن بذلك جمعا من جنود القوى القلبية وحزب الخواطر الذكرية التي هي حزب الرحمن في وسط عالم النفس ولهم في هذا الباب غير ذلك. وأيّا ما كان فالمقسم عليه قوله تعالى إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ أي لكفور جحود من كند النعمة كفرها ولم يشكرها وأنشدوا: كنود لنعماء الرجال ومن يكن ... كنودا لنعماء الرجال يبعد وعن ابن عباس ومقاتل: الكنود بلسان كندة وحضرموت العاصي، وبلسان ربيعة ومضر الكفور، وبلسان كنانة البخيل السيّء الملكة، ومنه الأرض الكنود الذي لا تنبت شيئا. وقال الكلبي نحوه إلّا أنه قال: وبلسان بني مالك البخيل ولم يذكر حضرموت بل اقتصر على كندة وتفسيره بالكفور هنا مروي عن ابن عباس الجزء: 15 ¦ الصفحة: 444 والحسن وأخرجه ابن عساكر عن أبي أمامة مرفوعا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم . وفي رواية أخرى عن الحسن أنه قال: هو اللائم لربه عز وجل يعد السيئات وينسى الحسنات. وروى الطبراني وغيره بسند ضعيف عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أتدرون ما الكنود» ؟ قالوا الله تعالى ورسوله أعلم. قال: «هو الكفور الذي يضرب عبده ويمنع رفده ويأكل وحده» . وأخرجه البخاري في الأدب المفرد والحكيم الترمذي وغيرهما تفسيره بالذي يمنع رفده وينزل وحده ويضرب عبده موقوفا على أبي أمامة. والجمهور على تفسيره بالكفور وكل مما ذكر لا يخلو عن كفران والكفران المبالغ فيه يجمع صنوفا منه. وأل في الْإِنْسانَ للجنس والحكم عليه بما ذكر باعتبار بعض الافراد. وقيل: المراد به كافر معين لما روي عن ابن عباس أنها نزلت في قرط بن عبد الله بن عمرو بن نوفل القرشي وأيد بقوله تعالى بعد أَفَلا يَعْلَمُ إلخ لأنه لا يليق إلّا بالكافر. وفي الأمرين نظر وقيل المراد به كل الناس على معنى أن طبع الإنسان يحمله على ذلك إلّا إذا عصمه الله تعالى بلطفه وتوفيقه من ذلك واختاره عصام الدين وقال: فيه مدح للغزاة لسعيهم على خلاف طبعهم. ولِرَبِّهِ متعلق بكنود واللام غير مانعة من ذلك، وقدم للفاصلة مع كونه أهم من حيث إن الذم البالغ إنما هو على كنود نعمته عز وجل وقيل للتخصيص على سبيل المبالغة. وَإِنَّهُ أي الإنسان كما قال الحسن ومحمد بن كعب عَلى ذلِكَ أي على كنوده لَشَهِيدٌ لظهور أثره عليه فالشهادة بلسان الحال الذي هو أفصح من لسان المقال. وقيل: هي بلسان المقال لكن في الآخرة. وقيل: شهيد من الشهود لا من الشهادة بمعنى أنه كفور مع علمه بكفرانه وعمل السوء مع العلم به غاية المذمة والظاهر الأول. وقال ابن عباس وقتادة: ضمير إِنَّهُ عائد على الله تعالى أي وإن ربه سبحانه شاهد عليه فيكون الكلام على سبيل الوعيد واختاره التبريزي فقال: هو الأصح لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب مذكور قبله. وفيه أن الوجوب ممنوع واتساق الضمائر وعدم تفكيكها يرجح الأول فإن الضمير السابق أعني ضمير لِرَبِّهِ للإنسان ضرورة وكذا الضمير اللاحق أعني الضمير في قوله تعالى وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ أي المال وورد بهذا المعنى في القرآن كثيرا حتى زعم عكرمة أن الخير حيث وقع في القرآن هو المال وخصه بعضهم بالمال الكثير وفسر به في قوله تعالى إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ [البقرة: 180] وإطلاق كونه خيرا باعتبار ما يراه الناس وإلّا فمنه ما هو شر يوم القيامة واللام للتعليل أي أنه لأجل حب المال لَشَدِيدٌ أي لبخيل كما قيل وكما يقال للبخيل شديد يقال له متشدد كما في قول طرفة: أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي ... عقيلة مال الفاحش المتشدد وشديد فيه يجوز أن يكون بمعنى مفعول كأن البخيل شد عن الإفضال، ويجوز أن يكون بمعنى فاعل كأنه شد صرته فلا يخرج منها شيئا. وجوز غير واحد أن يراد بالشديد القوي ولعله الأظهر وكأن اللام عليه بمعنى في أي وإنه لقوي مبالغ في حب المال. والمراد قوة حبه له. وقال الزمخشري: المعنى وإنه لحب المال وإيثار الدنيا وطلبها قوي مطيق وهو لحب عبادة الله تعالى وشكر نعمته سبحانه ضعيف متقاعس تقول هو شديد لهذا الأمر وقوي له إذا كان مطيقا له ضابطا. وجعل النيسابوري اللام على هذا للتعليل وليس بظاهر فتأمل. وقال الفراء: يجوز أن يكون المعنى وإنه لحب الخير لشديد الحب يعني أنه يحب المال ويحب كونه محبا له إلّا أنه اكتفى بالحب الأول عن الثاني كما قال تعالى اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ [إبراهيم: 18] أي في يوم عاصف الريح فاكتفى بالأول عن الثاني. وقال قطرب: أي إنه شديد لحب الخير كقولك إنه لزيد ضروب في إنه ضروب لزيد. وظاهر التمثيل أنه اعتبر حب الخير مفعولا به لشديد وإن شديد اسم فاعل جيء الجزء: 15 ¦ الصفحة: 445 به على فعيل للمبالغة وأن اللام في لِحُبِّ للتقوية وفيه ما فيه. وقيل يجوز أن يعتبر أن شديدا صفة مشبهة كانت مضافة إلى مرفوعها وهو حب المضاف إلى الخير إضافة المصدر إلى مفعوله ثم حول الاسناد وانتصب المرفوع على التشبيه بالمفعول به، ثم قدم وجر باللام وفيه مع قطع النظر عن التكلف أن تقدم معمول الصفة عليها لا يجوز وكونه مجرورا في مثل ذلك لا يجدي نفعا إذ ليس هو فيه نحو زيد بك فرح كما لا يخفى. ويفهم من كلام الزمخشري في الكشاف جواز أن يراد به ما هو عنده تعالى من الطاعات على أن المعنى إنه لحب الخيرات غير هش منبسط ولكنه شديد منقبض. وقوله تعالى أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ إلخ تهديد ووعيد والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام ومفعول يعلم محذوف وهو العامل في إذا وهي ظرفية أي أيفعل ما يفعل من القبائح أو ألا يلاحظ فلا يعلم الآن مآله إذا بعثر من في القبور من الموتى وإيراد ما لكونهم إذ ذاك بمعزل من رتبة العقلاء. وقال الحوفي: العامل في إِذا الظرفية يَعْلَمُ وأورد عليه أنه لا يراد منه العلم في ذلك الوقت بل العلم في الدنيا. وأجيب بأن هذا إنما يرد إذا كان ضمير يَعْلَمُ راجعا إلى الإنسان وذلك غير لازم على هذا القول لجواز أن يرجع إليه عز وجل ويكون مفعولا يعلم محذوفين. والتقدير أفلا يعلمهم الله تعالى عاملين بما عملوا إذا بعثر على أن يكون العلم كناية عن المجازاة والمعنى أفلا يجازيهم إذا بعثر ويكون الجملة المؤكدة بعد تحقيقا وتقريرا لهذا المعنى وهو كما ترى. وقيل: إن إذا مفعول به ليعلم على معنى أفلا يعلم ذلك الوقت ويعرف تحققه وقل إن العالم فيها بعثر بناء على أنها شرطية غير مضافة قالوا: ولم يجوز أن يعمل فيها لخبير لأن ما بعد إن لا يعمل فيما قبلها وأوجه الأوجه ما قدمناه وتعدي العلم إذا كان بمعنى المعرفة لواحد شائع وتقدم تحقيق معنى البعثرة فتذكر. وقرأ عبد الله «بحثر» بالحاء والثاء المثلثة. وقرأ الأسود بن زيد «بحث» بهما. بدون راء وقرأ نصر بن عاصم «بحثر» كقراءة عبد الله لكن بالبناء للفاعل. وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ أي جمع ما في القلوب من العزائم المصممة وأظهر كإظهار اللب من القشر وجمعه أو ميّز خيره من شره فقد استعمل حصل الشيء بمعنى ميزه من غيره كما في البحر. وأصل التحصيل إخراج اللب من القشر كإخراج الذهب من حجر المعدن والبر من التبن وتخصيص ما في القلوب لأنه الأصل لأعمال الجوارح ولذا كانت الأعمال بالنيات وكان أول الفكر آخر العمل فجميع ما عمل تابع له فيدل على الجميع صريحا وكناية. وقرأ ابن يعمر ونصر بن عاصم ومحمد بن أبي معدان «وحصّل» مبنيا للفاعل وهو ضميره عز وجل. وقرأ ابن يعمر ونصر أيضا «حصل» مبنيا للفاعل خفيف الصاد فما عليه هو الفاعل إِنَّ رَبَّهُمْ أي المبعوثين كنى عنهم بعد الإحياء الثاني بضمير العقلاء بعد ما عبّر عنهم قبل ذلك بما بناء تفاوتهم في الحالين بِهِمْ بذواتهم وصفاتهم وأحوالهم بتفاصيلها يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ يكون ما عدّ من بعث ما في القبور وتحصيل ما في الصدور والظرفان متعلقان بقوله تعالى لَخَبِيرٌ أي عالم بظواهر ما عملوا وبواطنه علما موجبا للجزاء متصلا به كما ينبىء عنه تقييده بذلك اليوم وإلّا فمطلق علمه عز وجل بما كان وما سيكون. وقرأ أبو السمال والحجاج «أن ربهم بهم يومئذ خبير» بفتح همزة أن وإسقاط لام التأكيد فأن وما بعدها في تأويل مصدر معمول ليعلم على ما استظهره بعضهم، وأيد به كون يعلم معلقة عن العمل في أن ربهم إلخ على قراءة الجمهور لمكان اللام وإذا على هذا لا يجوز تعلقها بخبير أيضا لكونه في صفة أن المصدرية فلا يتقدم معموله عليها. ويعلم أمره مما تقدم وقيل الكلام على تقدير لام التعليل وهي متعلقة بحصل كأنه قيل وحصل ما في الصدور لأن ربهم بهم يومئذ خبير والأول أظهر والله تعالى أعلم وأخبر. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 446 سورة القارعة مكية بلا خلاف وآيها إحدى عشرة آية في الكوفي وعشر في الحجازي وثمان في البصري والشامي ومناسبتها لما قبلها أظهر من أن تذكر. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ الجمهور على أنها القيامة نفسها ومبدؤها النفخة الأولى ومنتهاها فصل القضاء بين الخلائق وقيل صوت النفخة. وقال الضحاك: هي النار ذات التغيظ والزفير وليس بشيء. وأيّا ما كان فهي من القرع وهو الضرب بشدة بحيث يحصل منه صوت شديد وقد تقدم الكلام فيها وكذا ما يعلم منه إعراب ما ذكر في الكلام على قوله تعالى الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ [الحاقة: 1- 3] وقرأ عيسى «القارعة» بالنصب وخرج على أنه بإضمار فعل أي اذكر القارعة وقوله تعالى يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ قيل أيضا منصوب بإضمار اذكر كأنه قيل بعد تفخيم أمر القارعة وتشويقه عليه الصلاة والسلام إلى معرفتها اذكر يوم يكون الناس إلخ فإنه يدريك ما هي. وقال الزمخشري: ظرف لمضمر دلت عليه القارعة أي تقرع يوم. وقال الحوفي: ظرف تأتى مقدرا وبعضهم قدر هذا الفعل مقدما على القارعة وجعلها فاعلا له أيضا. وقال ابن عطية: ظرف للقارعة نفسها من غير تقدير ولم يبين أي القوراع أراد. وتعقبه أبو حيان بأنه إن أراد اللفظ الأول ورد عليه الفصل بين العامل وهو في صلة أل والمعمول بالخبر وهو لا يجوز وإن أراد الثاني أو الثالث فلا يلتئم معنى الظرف معه. وأيد بقراءة زيد بن علي «يوم» بالرفع على ذلك وقدر بعضهم المبتدأ وقتها والفراش قال في الصحاح: جمع فراشة التي تطير وتهافت في النار وهو المروي عن قتادة. وقيل: هو طير رقيق يقصد النار ولا يزال يتقحم على المصباح ونحوه حتى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 447 يحترق. وقال الفرّاء: هو غوغاء الجراد الذي ينتشر في الأرض ويركب بعضه بعضا من الهول وقال صاحب التأويلات: اختلفوا في تأويله على وجوه لكن كلها ترجع إلى معنى واحد وهو الإشارة إلى الحيرة والاضطراب من هول ذلك اليوم واختار غير واحد ما روي عن قتادة وقالوا: شبهوا في الكثرة والانتشار والضعف والذلة والمجيء والذهاب على غير نظام والتطاير إلى الداعي من كل جهة حين يدعوهم إلى المحشر بالفراش المتفرق المتطاير قال جرير: إن الفرزدق ما علمت وقومه ... مثل الفراش غشين نار المصطلي وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ أي الصوف مطلقا أو المصبوغ كما قيده الراغب به وقد تقدم الكلام فيه في المعارج وكان بمعنى صار أي وتصير جميع الجبال كالعهن الْمَنْفُوشِ المفرق بالأصبع ونحوها في تفرق أجزائها وتطايرها في الجو حسبما ينطق به غير آية. وقوله تعالى فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ إلى آخره بيان إجمالي لتحزب الناس حزبين وتنبيه على كيفية الأحوال الخاصة بكل منهما إثر بيان الأحوال الشاملة للكل. وهذا إشارة إلى وزن الأعمال وهو مما يجب الإيمان به حقيقة ولا يكفره منكره ويكون بعد تطاير الصحف وأخذها بالأيمان والشمائل وبعد السؤال والحساب كما ذكره الواحدي وغيره. وجزم به صاحب كنز الأسرار بميزان له لسان وكفتان كإطباق السماوات والأرض والله تعالى أعلم بماهيته. وقد روي القول به عن ابن عباس والحسن البصري وعزاه في شرح المقاصد لكثير من المفسرين ومكانه بين الجنة والنار كما في نوادر الأصول وذكر يتقبل به العرش يأخذ جبريل عليه السلام بعموده ناظرا إلى لسانه وميكائيل عليه السلام أمين عليه والأشهر الأصح أنه ميزان واحد كما ذكرنا لجميع الأمم ولجميع الأعمال فقوله تعالى مَوازِينُهُ وهو جمع ميزان وأصله موزان بالواو لكن قلبت ياء لسكونها وانكسار ما قبلها قيل للتعظيم كالجمع في قوله تعالى كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء: 123] في وجه أو باعتبار أجزائه نحو شابت مفارقه أو باعتبار تعدد الأفراد للتغاير الاعتباري كما قيل في قوله: لمعان برق أو شعاع شموس وزعم الرازي على ما نقل عنه أن فيه حديثا مرفوعا. وقال آخرون: توزن نفس الأعمال فتصور الصالحة بصور حسنة نورانية ثم تطرح في كفة النور وهي اليمنى المعدة للحسنات فتثقل بفضل الله تعالى، وتصور الأعمال السيئة بصور قبيحة ظلمانية ثم تطرح في كفه الظلمة وهي الشمال فتخفف بعدل الله تعالى وامتناع قلب الحقائق في مقام خرق العادات ممنوع أو مقيد ببقاء آثار الحقيقة الأولى. وقد ذهب بعضهم إلى أن الله تعالى يخلق أجساما على عدد تلك الأعمال من غير قلب لها وادعى أن فيه أثرا. والظاهر أن الثقل والخفة مثلهما في الدنيا فما ثقل نزل إلى أسفل ثم يرتفع إلى عليين وما خف طاش إلى أعلى ثم نزل إلى سجين وبه صرح القرطبي وقال بعض المتأخرين: هما على خلاف ما في الدنيا وأن عمل المؤمن إذا رجح صعد وثقلت سيئاته وأن الكافر تثقل كفته لخلو الأخرى من الحسنات ثم تلا وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: 10] وفي كونه دليلا نظر وذكر بعضهم أن صفة الوزن أن يجعل جميع أعمال العباد في الميزان مرة واحدة الحسنات في كفة النور عن يمين العرش جهة الجنة، والسيئات في كفة الظلمة جهة النار، ويخلق الله تعالى لكل إنسان علما ضروريا يدرك به خفة أعماله وثقلها. وقيل نحو إلّا أن علامة الرجحان عمود من نور يثور من كفة الحسنات حتى يكسو كفة السيئات وعلامة الخفة عمود ظلمة يثور من كفة السيئات حتى يكسو كفة الحسنات الجزء: 15 ¦ الصفحة: 448 فالكيفيات أربع وستظهر حقيقة الحال بالعيان وهو كما قال القرطبي لا يكون في حق كل أحد لما في الحديث الصحيح «فيقال: يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن» الحديث. وأحرى الأنبياء عليهم السلام وقوله سبحانه يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ [الرحمن: 41] وإنما يبقى الوزن لمن شاء الله تعالى من الفريقين وذكر القاضي منذر بن سعيد البلوطي أن أهل الصبر لا توزن أعمالهم وإنما يصب لهم الأجر صبا. والظاهر أنه يدرج المنافق في الكافر والحق أن أعمالهم مطلقا توزن لظواهر الآيات والأحاديث الكثيرة. والمراد في الآية وزنا نافعا. والصحيح أن الجن مؤمنهم وكافرهم كالإنس في هذا الشأن كما قرر في محله. والتقسيم فيما نحن فيه على ما سمعت عن القرطبي بالنسبة إلى من توزن أعماله لا بالنسبة إلى الناس مطلقا. وأنكر المعتزلة الوزن حقيقة وجماعة من أهل السنة والجماعة منهم مجاهد والضحاك والأعمش قالوا: إن الأعمال أعراض إن أمكن بقاؤها لا يمكن وزنها فالوزن عبارة عن القضاء السوي والحكم العادل، وجوزوا فيما هنا أن تكون الموازين جمع موزون وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله تعالى وأن معنى ثقلها رجحانها وروي هذا عن الفراء أي فمن ترجحت مقادير حسناته ورتبها فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ المشهور جعل ذلك من باب النسب أي ذات رضا. وجوز أن تكون راضِيَةٍ بمعنى المفعول أي مرضية على التجوز في الكلمة نفسها وأن يكون الإسناد مجازيا وهو حقيقة إلى صاحب العيشة. وجوز أن يكون في الكلام استعارة مكنية وتخييلية على ما قرر في كتب المعاني لكن ذكر بعض الأجلّة هاهنا كلاما نفيسا وهو أن ما كان للنسب يؤول بذي كذا فلا يؤنث لأنه لم يجر على موصوف فألحق بالجوامد ونقل عن السيرافي أنه قال: يقدح فيما عللوا به سقوط الهاء في عِيشَةٍ راضِيَةٍ وفيه وجهان أحدهما أن تكون بمعنى أنها راضية أهلها فهي ملازمة لهم راضية بهم. والآخر أن تكون الهاء للمبالغة كعلامة ورواية ووجه بأن الهاء لزمت لئلا تسقط الياء فيخل بالبنية كناقة مشلية وكلبة مجرية وهم يقولون ظبية مطفل ومشدان وباب مفعل ومفعال لا يؤنث. وقد ادخلوا الهاء في بعضه كمصكة انتهى ثم قال: إن هذا حقيق بالقبول ومحصله الجواب بوجوه أحدهما أن راضِيَةٍ هنا فيه ليس من باب النسب بل هو اسم فاعل أريد به لازم معناه لأن من شاء شيئا ورضي به لازمه فهو مجاز مرسل أو استعارة. ويجوز أن يراد أنه مجاز في الإسناد وما ذكر بيان لمعناه الثاني أن الهاء للمبالغة ولا تختص بفعال ولذا مثل برواية أيضا والثالث أنه يجوز إلحاق الهاء في المعتل لحفظ البنية ومصكة إما شاذا ولتشبيه المضاعف بالمعتل انتهى. فاحفظه فإنه نفيس خلا عنه أكثر الكتب. وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ بأن لم يكن له حسنة يعتد بها أو ثقلت سيئاته على حسناته فَأُمُّهُ أي فمأواه كما قال ابن زيد وغيره هاوِيَةٌ أريد بها النار كما يؤذن به قوله تعالى وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ فإنه تقرير لها بعد إبهامها والإشعار بخروجها عن المعهود للتفخيم والتهويل. وذكر أن إطلاق ذلك عليها لغاية عمقها وبعد مهواها، فقد روي أن أهل النار تهوي فيها سبعين خريفا وخصها بعضهم بالباب الأسفل من النار وعبر عن المأوى بالأم على التشبيه بها فالأم مفزع الولد ومأواه وفيه تهكم به. وقيل: شبه النار بالأم في أنها تحيط به إحاطة رحم الولد بالأم. وعن قتادة وأبي صالح وعكرمة والكلبي وغيرهم: المعنى فأم رأسه هاوية في قعر جهنم لأنه يطرح فيها منكوسا. وفي رواية أخرى عن قتادة هو من قولهم إذا دعوا على الرجل بالهلكة: هوت أمه لأنه إذا هوى أي سقط وهلك فقد هوت أمه ثكلا وحزنا ومن ذلك قول كعب بن سعد الغنوي: هوت أمه ما يبعث الصبح غاديا ... وماذا يرد الليل حين يؤوب الجزء: 15 ¦ الصفحة: 449 وفي الكشف أن هذا أحسن ليطابق قوله سبحانه فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وما فيه من المبالغة. وقال الطيبي: إنه الأظهر وللبحث فيه مجال. والضمير أعني هي عليه للداهية التي دل عليها الكلام وعلى ما قدمنا لهاوية وعلى الوجه الثاني لما يشعر به الكلام كأنه قيل: فأم رأسه هاوية في نار وما أدراك ماهيه إلخ. والهاء الملحقة في هِيَهْ هاء السكت وحذفها في الوصل ابن أبي إسحاق والأعمش وحمزة وأثبتها الجمهور. ورفع نارٌ على أنها خبر مبتدأ محذوف أي هي نار، وحامِيَةٌ نعت لها وهو من الحمى اشتداد الحر قال في القاموس: حمى الشمس والنار حميا وحميا وحموا اشتد حرهما. وجعله بعضهم على ما قيل من حميت القدر فهي محمية ففسره بذات حمى وهو كما ترى. وقرأ طلحة «فإمه» بكسر الهمزة قال ابن خالويه وحكى ابن دريد أنها لغة وأما النحويون فيقولون لا يجوز كسر الهمزة إلا أن يتقدمها كسرة أو ياء والله تعالى أعلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 450 سورة التّكاثر وكان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم كما أخرج ابن أبي حاتم عن سعد بن أبي هلال يسمونها المقبرة وهي مكية. قال أبو حيان عند جميع المفسرين. وقال الجلال السيوطي: على الأشهر ويدل لكونها مدنية وهو المختار ما أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي بريدة فيها. قال: نزلت في قبيلتين من قبائل الأنصار في بني حارثة وبني الحارث تفاخروا وتكاثروا فقالت إحداهما: فيكم مثل فلان وفلان؟ وقال الآخرون مثل ذلك تفاخروا بالأحياء ثم قالوا: انطلقوا بناء إلى القبور فجعلت إحدى الطائفتين تقول فيكم مثل فلان؟ تشير إلى القبر ومثل فلان، وفعل الآخرون مثل ذلك فأنزل الله تعالى أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ إلخ. وأخرج البخاري وابن جرير عن أبي بن كعب قال: كنا نرى هذا من القرآن «لو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى واديا ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب ثم يتوب الله على من تاب» حتى نزلت ألهاكم التكاثر. إلخ. وأخرج الترمذي وابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن عليّ كرم الله تعالى وجهه ما زلنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ وعذاب القبر لم يذكر إلّا في المدينة كما في الصحيح في قصة اليهودية انتهى. ولقوة الأدلة على مدنيتها قال بعض الأجلّة إنه الحق. وآيها ثمان بالاتفاق وهي تعدل ألف آية من القرآن. أخرج الحاكم والبيهقي في الشعب عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ألا يستطيع أحدكم أن يقرأ ألف آية في كل يوم؟» قالوا: ومن يستطيع أن يقرأ ألف آية؟ قال: «أما يستطيع أحدكم أن يقرأ ألهاكم التكاثر» ؟ وأخرج الخطيب في المتفق والمفترق والديلمي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ في ليلة ألف آية لقي الله تعالى وهو ضاحك في وجهه» فقيل: يا رسول الله من يقوى على ألف آية؟ فقرأ سورة ألهاكم التكاثر إلى آخرها ثم قال عليه الصلاة والسلام: «والذي نفسي بيده إنها لتعدل ألف آية» . وذكر ناصر الدين بن الميلق في سر ذلك أن القرآن ستة آلاف ومائتا آية وكسر، فإذا تركنا الكسر كان الألف سدس القرآن وهذه السورة تشتمل على سدس من مقاصد القرآن فإنها على ما ذكره الغزالي ستة ثلاثة مهمة وهي تعريف المدعو إليه وتعريف الصراط المستقيم وتعريف الحال عند الرجوع إليه عز وجل، وثلاثة متمة وهي تعريف أحوال المطيعين وحكاية أقوال الجاحدين وتعريف منازل الطريق وأحدها معرفة الآخرة المشار إليه بتعريف الحال عند الرجوع إليه تعالى المشتمل عليه السورة. والتعبير على هذا المعنى بألف آية أفخم وأجل من التعبير بالسدس انتهى. والأمر والله تعالى أعلم وراء ذلك ومناسبتها لما قبلها ظاهرة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 451 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلْهاكُمُ أي شغلكم وأصل اللهو الغفلة ثم شاع في كل شاغل وخصّه العرف بالشاغل الذي يسر المرء وهو قريب من اللعب ولذا ورد بمعناه كثيرا. وقال الراغب: اللهو ما يشغلك عما يعني ويهم وقيل: وليس بذاك المراد به هنا الغفلة والمعنى جعلكم لاهين غافلين التَّكاثُرُ أي التباري في الكثرة والتباهي بها بأن يقول هؤلاء نحن أكثر وهؤلاء نحن أكثر حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ حتى إذا استوعبتم عدد الأحياء صرتم إلى المقابر وانتقلتم إلى ذكر من فيها فتكاثرتم بالأموات فالغاية داخلة في المغيا، وقد تقدم من سبب النزول ما يوضح ذلك. وعن الكلبي ومقاتل أن بني عبد مناف وبني سهم تفاخروا أيهم أكثر عددا فكثرتهم بنو عبد مناف فقالت بنو سهم: إن البغي أهلكنا في الجاهلية فعادونا بالأحياء والأموات فكثرتهم بنو سهم وزيارة المقابر على ما تقدم على ظاهرها، وأما على هذا فقد عبّر بها عن بلوغهم ذكر الموتى كناية أو مجازا واستحسن جعله تمثيلا وفي الكشاف عبّر بذلك عما ذكر تهكما بهم ووجه بعض بأنه كأنه قيل أنتم في فعلكم هذا كمن يزور القبور من غير غرض صحيح وبعض آخر بأن زيارة القبور للاتعاظ وتذكر الموت وهم عكسوا فجعلوها سببا للغفلة وهذا أولى. والمعنى ألهاكم ذلك وهو لا يعنيكم ولا يجدي عليكم في دنياكم وآخرتكم عما يعنيكم من أمر الدين الذي هو أهم وأعنى من كل مهم، وحذف الملهي عنه للتعظيم المأخوذ من الإبهام بالحذف والمبالغة في الذم حيث أشار إلى أن ما يلهي مذموم فضلا عن الملهي عن أمر الدين. وقيل: المراد ألهاكم التكاثر بالأموال والأولاد إلى أن متم وقبرتم منفقين أعماركم في طلب الدنيا والاشتياق إليها والتهالك عليها إلى أن أتاكم الموت لا هم لكم غيرها عما هو أولى بكم من السعي لعاقبتكم والعمل لآخرتكم، وصدره قد أخرجه ابن المنذر عن ابن عباس وهو وابن أبي حاتم وابن أبي شيبة عن الحسن وزيارة المقابر عليه عبارة عن الموت كما قال الشاعر: إني رأيت الضمد شيئا نكرا ... لن يخلص العام خليل عشرا ذاق الضماد أو يزور القبرا وقال جرير: زار القبور أبو مالك ... فأصبح ألأم زوارها وفي ذلك إشارة إلى تحقق البعث. يحكى أن أعرابيا سمع ذلك فقال: بعث القوم للقيامة ورب الكعبة فإن الزائر منصرف لا مقيم. وعن عمر بن عبد العزيز أنه قال: لا بد لمن زار أن يرجع إلى جنة أو نار وفيه أيضا إشارة إلى قصر زمن اللبث في القبور والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع أو لتغليب من مات أولا أو لجعل موت آبائهم بمنزلة موتهم. ومما يقضي منه العجب قول أبي مسلم: إن الله عز وجل يتكلم بهذه السورة يوم القيامة تعييرا للكفار وهم في ذلك الوقت قد تقدمت منهم زيارة القبور. وقيل: هذا تأنيب على الإكثار من الجزء: 15 ¦ الصفحة: 452 زيارة القبور تكثرا بمن سلف ومباهاة وتفاخرا به لا اتعاظا وتذكرا للآخرة كما هو المشروع، ويشير إليه خبر أبي داود: «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة» ولا يخفى أن الآية بمعزل عن ذلك نعم لا كلام في ذم زيارة القبور للتفاخر بالمزور أو للتباهي بالزيارة كما يفعل كثير من الجهلة المنتسبين إلى المتصوفة في زياراتهم لقبور المشايخ عليهم الرحمة هذا مع ما لهم فيها من منكرات اعتقدوها طاعات وشنائع اتخذوها شرائع إلى أمور تضيق عنها صدور السطور. وقرأ ابن عباس وعائشة ومعاوية وأبو عمران الجوني وأبو صالح ومالك بن دينار وأبو الجوزاء وجماعة: «آلهاكم» بالمد على الاستفهام. وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وابن عباس أيضا والشعبي وأبي العالية وابن أبي عبلة والكسائي في رواية «أألهاكم» بهمزتين والاستفهام للتقرير كَلَّا ردع عن الاشتغال بما لا يعنيه عما يعنيه وتنبيه على الخطأ فيه لأن عاقبته وخيمة سَوْفَ تَعْلَمُونَ سوء مغبة ما أنتم عليه إذا عاينتم عاقبته والعلم بمعنى المعرفة المتعدية لواحد ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ تكرير للتأكيد وثم للدلالة على أن الثاني أبلغ كما يقول العظيم لعبده أقول لك ثم أقول لك لا تفعل قيل ولكونه أبلغ نزل منزلة المغايرة فعطف، وإلّا فالمؤكد لا يعطف على المؤكد لما بينهما من شدة الاتصال وأنت تعلم أن المنع هو رأي اللغويين وقد صرح المفسرون والنحاة بخلافه. وقال علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه الأول في القبور والثاني في النشور فلا تكرير والتراخي على ظاهره ولا كلام في العطف. وقال الضحاك: الزجر الأول ووعيده للكافرين وما بعد للمؤمنين، وهو خلاف الظاهر. كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ أي لو تعلمون ما بين أيديكم علم الأمر المتيقن أي كعلمكم ما تستيقنونه من الأمور فالعلم مضاف للمفعول واليقين بمعنى المتيقن صفة لمقدر، وجوز أبو حيان كون الإضافة من إضافة الموصوف إلى صفته أي العلم اليقين وفائدة الوصف ظاهرة بناء على أن العلم يطلق على غير اليقين وجواب لَوْ محذوف للتهويل أي لو تعلمون كذلك لفعلتم ما لا يوصف ولا يكتنه أو لشغلكم ذلك عن التكاثر وغيره أو نحو ذلك. وقوله تعالى لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ جواب قسم مضمر أكّد به الوعيد وشدد به التهديد وأوضح به ما أنذروه بعد إبهامه تفخيما ولا يجوز أن يكون جواب لو الامتناعية لأنه محقق الوقوع وجوابها لا يكون كذلك. وقيل: يجوز ويكون المعنى سوف تعلمون الجزاء ثم قال سبحانه: لو تعلمون الجزاء علم اليقين الآن لترون الجحيم يعني تكون الجحيم دائما في نظركم لا تغيب عنكم وهو كما ترى ثُمَّ لَتَرَوُنَّها تكرير للتأكيد وثم للدلالة على الأبلغية، وجوّز أن تكون الرؤية الأولى إذا رأتهم من بعيد والثاني إذا وردوها أو إذا دخلوها أو الأولى إذا وردوها والثانية إذا دخلوها، أو الأولى المعرفة والثانية المشاهدة والمعاينة وقيل يجوز أن يكون المراد لترون الجحيم غير مرة إشارة إلى الخلود وهذا نحو التثنية في قوله تعالى ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الملك: 4] وهو خلاف الظاهر جدا عَيْنَ الْيَقِينِ أي الرؤية التي هي نفس اليقين فإن الانكشاف بالرؤية والمشاهدة فوق سائر الانكشافات فهو أحق بأن يكون عين اليقين فعين بمعنى النفس مثله في نحو جاء زيد نفسه وهو صفة مصدر مقدر أي رؤية عين اليقين، والعامل فيه لَتَرَوُنَّها وجوز أن يكون متنازعا فيه للفعلين قبله وفي إطلاقه كلام لا أظنه يخفى عليك. واليقين في اللغة على ما قال السيد السند العلم الذي لا شك فيه وفي الاصطلاح اعتقاد الشيء أنه كذا مع اعتقاد أنه لا يمكن إلّا كذا اعتقادا مطابقا للواقع غير ممكن الزوال. وقال الراغب: اليقين من صفة العلم فوق المعرفة والدراية وإخوتهما يقال: علم يقين ولا يقال معرفة يقين وهو سكون النفس مع ثبات الفهم. وفسّر السيد اليقين بما سمعت ونقل عن أهل الحقيقة عدة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 453 تفسيرات فيه وعلم اليقين بما أعطاه الدليل من إدراك الشيء على ما هو عليه، وعين اليقين بما أعطاه المشاهدة والكشف وجعل وراء ذلك حق اليقين وقال على سبيل التمثيل علم كل عاقل بالموت علم اليقين وإذا عاين الملائكة عليهم السلام فهو عين اليقين وإذا ذاق الموت فهو حق اليقين ولهم غير ذلك ومبنى أكثر ما قالوه على الاصطلاح فلا تغفل. وقرأ ابن عامر والكسائي «لترون» بضم التاء وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن كثير في رواية وعاصم كذلك بفتحها في «لترون» وضمها في «لترونها» ومجاهد وأشهب وابن أبي عبلة بضمها فيهما. وروي عن الحسن وأبي عمرو بخلاف عنهما أنهما همزا الواوين ووجه بأنهم استثقلوا الضمة على الواو فهمزوا للتخفيف كما همزوا في وقت وكان القياس ترك الهمز لأن الضمة حركة عارضة لالتقاء الساكنين فلا يعتد بها لكن لما لزمت الكلمة بحيث لا تزول أشبهت الحركة الأصلية فهمزوا وقد همزوا من الحركة العارضة التي تزول في الوقف نحو «اشترؤا الضلالة» فالهمز من هذه أولى. ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قيل الخطاب للكفار وحكي ذلك عن الحسن ومقاتل واختاره الطيبي. والنَّعِيمِ عام لكل ما يتلذذ به من مطعم ومشرب ومفرش ومركب وكذا قيل في الخطابات السابقة. وقد روي عن ابن عباس أنه صرح بأن الخطاب في لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ للمشركين، وحملوا الرؤية عليه على رؤية الدخول وحملوا السؤال هنا على سؤال التقريع والتوبيخ لما أنهم لم يشركوا ذلك بالإيمان به عز وجل، والسؤال قيل: يجوز أن يكون بعد رؤية الجحيم ودخولها كما يسألون كذلك عن أشياء أخر على ما يؤذن به قوله تعالى كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ [الملك: 8] وقوله سبحانه ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [المدثر: 42] وذلك لأنه إذ ذاك أشد إيلاما وادعى للاعتراف بالتقصير، فثم على ظاهرها وأن يكون في موقف الحساب قبل الدخول فتكون ثُمَّ للترتيب الذكري وقيل الخطاب مخصوص بكل من ألهاه دنياه عن دينه، والنعيم مخصوص بما شغله عن ذلك لظهور أن الخطاب في أَلْهاكُمُ إلخ للملهين فيكون قرينة على ما ذكر وللنصوص الكثيرة كقوله تعالى قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ [الأعراف: 32] وكُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ [المؤمنون: 51] وهذا أيضا يحمل السؤال على سؤال التوبيخ ويدخل فيما ذكر الكفار وفسقة المؤمنين. وقيل: الخطاب عام وكذا السؤال يعم سؤال التوبيخ وغيره، والنعيم خاص واختلف فيه على أقوال. فأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن ابن مسعود مرفوعا: «هو الأمن والصحة وأخرج البيهقي عن الأمير علي كرم الله تعالى وجهه قال: النعيم العافية . وأخرج ابن مردويه عن أبي الدرداء مرفوعا: أكل خبز البر والنوم في الظل وشرب ماء الفرات مبردا» . وأخرج ابن جرير عن ثابت البناني مرفوعا «النعيم المسئول عنه يوم القيامة كسرة تقوته وماء يرويه وثوب يواريه» . وأخرج الخطيب عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يفسره قال: «الخصاف والماء وفلق الكسر» وروي عنه وعن جابر أنه ملاذ المأكول والمشروب. وقال الحسين بن الفضل: هو تخفيف الشرائع وتيسير القرآن. ويروى عن جابر الجعفي من الإمامية قال: دخلت على الباقر رضي الله تعالى عنه فقال: ما يقول أرباب التأويل في قوله تعالى لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ؟ فقلت: يقولون الظل والماء البارد. فقال: لو أنك أدخلت بيتك أحدا وأقعدته في ظل وسقيته أتمن عليه؟ قلت: لا. فقال: فالله تعالى أكرم من أن يطعم عبده ويسقيه ثم يسأله عنه. قلت: ما تأويله قال: النعيم هو رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنعم الله تعالى به على أهل العالم فاستنقذهم به من الضلالة، أما سمعت قوله تعالى لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا [آل عمران: 164] ومن رواية العياشي من الإمامية أيضا أن أبا عبد الله رضي الله تعالى عنه قال لأبي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 454 حنيفة رضي الله تعالى عنه في الآية: ما النعيم عندك يا نعمان؟ فقال: القوت من الطعام والماء البارد. فقال أبو عبد الله: لئن أوقفك الله تعالى بين يديه حتى يسألك عن كل أكلة أكلتها أو شربة شربتها ليطولن وقوفك بين يديه. فقال أبو حنيفة: فما النعيم؟ قال: نحن أهل البيت النعيم أنعم الله تعالى بنا على العباد وبنا ائتلفوا بعد أن كانوا مختلفين، وبنا ألف الله تعالى بين قلوبهم وجعلهم إخوانا بعد أن كانوا أعداء وبنا هداهم إلى الإسلام وهو النعمة التي لا تنقطع والله تعالى سائلهم عن حق النعيم الذي أنعم سبحانه به عليهم وهو محمد وعترته عليه وعليهم الصلاة والسلام. وكلا الخبرين لا أرى لهما صحة وفيهما ما ينادي عن عدم صحتهما كما لا يخفى على من ألقى السمع وهو شهيد والحق عموم الخطاب والنعيم بيد أن المؤمن لا يثرب عليه في شيء ناله منه في الدنيا بل يسأل غير مثرب وإنما يثرب على الكافر كما ورد ذلك في حديث رواه الطبراني عن ابن مسعود. ويدل على عموم الخطاب ما أخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وآخرون عن أبي هريرة قال: خرج النبي صلّى الله عليه وسلم ذات يوم فإذا هو بأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فقال: «ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة» ؟ قالا: الجوع يا رسول الله، قال: «والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما فقوموا» فقاموا معه عليه الصلاة والسلام فأتى رجلا من الأنصار فإذا هو ليس في بيته فلما رأته صلّى الله عليه وسلم المرأة قالت: مرحبا. فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «أين فلان» ؟ قالت: انطلق يستعذب لنا الماء، إذ جاء الأنصاري فنظر إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وصاحبيه فقال: الحمد لله ما أحد اليوم أكرم أضيافا مني فانطلق فجاء بعذق فيه بسر وتمر، فقال: كلوا من هذا وأخذ المدية فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إياك والحلوب» فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا فلما شبعوا ورووا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: «والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة» وفي رواية ابن حبان وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلم وصاحبيه انطلقوا إلى منزل أبي أيوب الأنصاري فقالت امرأته: مرحبا بنبيّ الله صلّى الله عليه وسلم ومن معه، فجاء أبو أيوب فقطع عذقا فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «ما أردت أن تقطع لنا هذا ألا جنيت من تمره؟» قال: أحببت يا رسول الله أن تأكلوا من تمره وبسره ورطبه. ثم ذبح جديا فشوى نصفه وطبخ نصفه فلما وضع بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلم أخذ من الجدي فجعله في رغيف. وقال: «يا أبا أيوب أبلغ هذا فاطمة رضي الله تعالى عنها فإنها لم تصب مثل هذا منذ أيام، فذهب به أبو أيوب إلى فاطمة رضي الله تعالى عنها فلما أكلوا وشبعوا قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «خبز ولحم وتمر وبسر ورطب» ودمعت عيناه عليه الصلاة والسلام ثم قال «والذي نفسي بيده إن هذا لهو النعيم الذي تسألون عنه قال الله تعالى ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ فهذا النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة» فكبر ذلك على أصحابه فقال عليه الصلاة والسلام: «بلى إذا أصبتم مثل هذا فضربتم بأيديكم فقولوا بسم الله فإذا شبعتم فقولوا الحمد لله الذي أشبعنا وأنعم علينا وأفضل فإن هذا كفاف بذاك» وليس المراد في هذا الخبر حصر النعيم مطلقا فيما ذكر بل حصر النعيم بالنسبة إلى ذلك الوقت الذي كانوا فيه جياعا وكذا فيما يصح من الأخبار التي فيها الاقتصار عل شيء أو شيئين أو أكثر فكل ذلك من باب التمثيل ببعض أفراد خصت بالذكر لأمر اقتضاه الحال، ويؤيد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في غير رواية عند ذكر شيء من ذلك: «هذا من النعيم الذي تسألون عنه بمن التبعيضية. وفي التفسير الكبير الحق أن السؤال يعم المؤمن والكافر عن جميع النعم سواء كان ما لا بد منه أو لا لأن كل ما يهب الله تعالى يجب أن يكون مصروفا إلى طاعته سبحانه لا إلى معصيته عز وجل فيكون السؤال واقعا عن الكل ويؤكده قوله عليه الصلاة والسلام: «لا تزول قدما العبد حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به» لأنّ كل نعيم داخل فيما ذكره عليه الصلاة والسلام، ويشكل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 455 عليه ما أخرجه عبد الله ابن الإمام أحمد في زوائد الزهد والديلمي عن الحسن قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ثلاث لا يحاسب بهن العبد: ظل خص يستظل به، وكسرة يشد بها صلبه، وثوب يواري به عورته» وأجيب بأنه إن صح فالمراد لا يناقش الحساب بهن. وقيل: المراد ما يضطر العبد إليه من ذلك لحياته فتأمل. ورأيت في بعض الكتب أن الطعام الذي يؤكل مع اليتيم لا يسأل عنه وكان ذلك لأن في الأكل معه جبرا لقلبه وإزالة لوحشته فيكون ذلك بمنزلة الشكر فلا يسأل عنه سؤال تقريع. وفي القلب من صحة ذلك شيء والله تعالى أعلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 456 سورة العصر مكية في قول ابن عباس وابن الزبير والجمهور، ومدنية في قول مجاهد وقتادة ومقاتل. وآيها ثلاث بلا خلاف وهي على قصرها جمعت من العلوم ما جمعت فقد روي عن الشافعي عليه الرحمة أنه قال: لو لم ينزل غير هذه السورة لكفت الناس لأنها شملت جميع علوم القرآن. وأخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب عن أبي حذيفة وكانت له صحبة، قال: كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة والعصر ثم يسلم أحدهما على الآخر. وفيها إشارة إلى حال من لم يلهه التكاثر ولذا وضعت بعد سورته. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ قال مقاتل: أقسم سبحانه بصلاة العصر لفضلها لأنها الصلاة الوسطى عند الجمهور لقوله عليه الصلاة والسلام: «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر» . ولما في مصحف حفصة «والصلاة الوسطى صلاة العصر» وفي الحديث: «من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله» . وروي أن امرأة كانت تصيح في سكك المدينة دلوني على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فرآها عليه الصلاة والسلام فسألها ماذا حدث؟ فقالت: يا رسول الله إن زوجي غاب فزنيت فجاءني ولد من الزنا فألقيت الولد في دن خل فمات ثم بعث ذلك الخل فهل لي من توبة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أما الزنا فعليك الرجم بسببه، وأما القتل فجزاؤه جهنم، وأما بيع الخل فقد ارتكبت كبيرا لكن ظننت أنك تركت صلاة العصر» ذكره الإمام وهو لعمري إمام في نقل مثل ذلك مما لا يعول عليه عند أئمة الحديث فإياك والاقتداء به. وخصت بالفضل لأن التكليف في أدائها أشق لتهافت الناس في تجاراتهم ومكاسبهم آخر النهار واشتغالهم بمعايشهم. وقيل: أقسم عز وجل بوقت تلك الصلاة لفضيلة صلاته أو لخلق آدم أبي البشر عليه السلام فيه من يوم الجمعة وإلى هذا ذهب قتادة فقد روي عنه أنه قال: العصر العشي أقسم سبحانه به كما أقسم بالضحى لما فيهما من دلائل القدرة. وقال الزجاج: العصر اليوم والعصر الليلة وعليه قول حميد بن ثور: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 457 ولم يلبث العصران يوم وليلة ... إذا طلبا أن يدركا ما تيمما وقيل: العصر بكرة والعصر عشية وهما الإبرادان وعليه وعلى ما قبله يكون القسم بواحد من الأمرين غير معين. وقيل: المراد به عصر النبوة وكأنه عنى به وقت حياته عليه الصلاة والسلام كأنه أشرف الأعصار لتشريف النبيّ صلّى الله عليه وسلم. وقيل: هو زمان حياته صلّى الله عليه وسلم وما بعده إلى يوم القيامة ومقداره فيما مضى من الزمان مقدار وقت العصر من النهار ويؤذن بذلك ما رواه البخاري عن سالم بن عبد الله عن أبيه أنه سمع النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «إنما بقاؤكم فيمن سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس» وشرفه لكونه زمان النبي صلّى الله عليه وسلم وأمته التي هي خير أمة أخرجت للناس ولا يضره تأخيره كما لا يضر السنان تأخره عن أطراف مرانه والنور تأخره عن أطراف أغصانه. وقال ابن عباس: هو الدهر أقسم عز وجل به لاشتماله على أصناف العجائب ولذا قيل له أبو العجب وكأنه تعالى يذكر بالقسم به ما فيه من النعم وأضدادها لتنبيه الإنسان المستعد للخسران والسعادة ويعرض عز وجل لما في الإقسام به من التعظيم بنفي أن يكون له خسران أو دخل فيه كما يزعمه من يضيف الحوادث إليه وفي إضافة الخسران بعد ذلك للإنسان إشعار بأنه صفة له لا للزمان كما قيل: يعيبون الزمان وليس فيه ... معايب غير أهل للزمان وتعقب بأن استعمال العصر بذلك المعنى غير ظاهر إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ أي خسران في متاجرهم ومساعيهم وصرف أعمارهم في مباغيهم التي لا ينتفعون بها في الآخرة بل ربما تضرّ بهم إذا حلوا الساهرة. والتعريف للاستغراق بقرينة الاستثناء والتنكير قيل للتعظيم أي في خسر عظيم ويجوز أن يكون للتنويع أي نوع من الخسر غير ما يعرفه الإنسان إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فإنهم في تجارة لن تبور حيث باعوا الفاني الخسيس واشتروا الباقي النفيس. واستبدلوا الباقيات الصالحات بالغاديات الرائحات فيا لها من صفقة ما أربحها ومنفعة جامعة للخير ما أوضحها. والمراد بالموصول كل من اتصف بعنوان الصلة لا عليّ كرم الله تعالى وجهه وسلمان الفارسي رضى الله تعالى عنه فقط كما يتوهم من اقتصار ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في الذكر عليهما بل هما داخلان في ذلك دخولا أوليا ومثل ذلك اقتصاره في الإنسان الخاسر على أبي جهل وهو ظاهر. وهذا بيان لتكميلهم لأنفسهم. وقوله تعالى وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ إلخ بيان لتكميلهم لغيرهم أي وصى بعضهم بعضا بالأمر الثابت الذي لا سبيل إلى إنكاره ولا زوال في الدارين لمحاسن آثاره وهو الخير كله من الإيمان بالله عز وجل واتباع كتبه ورسله عليهم السلام في كل عقد وعمل وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ عن المعاصي التي تشتاق إليها النفس بحكم الجبلة البشرية وعلى الطاعات التي يشق عليها أداؤها وعلى ما يبتلي الله تعالى به عباده من المصائب والصبر المذكور داخل في الحق، وذكر بعده مع إعادة الجار والفعل المتعلق هو به لإبراز كمال العناية به ويجوز أن يكون الأول عبارة رتبة العبادة التي هي فعل ما يرضى الله تعالى، والثاني عبارة رتبة العبودية التي هي الرضا بما فعل الله تعالى فإن المراد بالصبر ليس مجرد حبس النفس عما تتوق إليه من فعل أو ترك بل هو تلقي ما ورد منه عز وجل بالجميل والرضا به باطنا وظاهرا. وقرأ سلام وهارون وابن موسى عن أبي عمرو «والعصر» بكسر الصاد «والصبر» بكسر الباء قال ابن عطية: وهذا لا يجوز إلّا في الوقف على نقل الحركة. وروي عن أبي عمرو بالصبر بكسر الباء إشماما وهذا كما قال لا يكون أيضا إلّا في الوقف وقال صاحب اللوامح: قرأ عيسى البصرة «بالصبر» بنقل حركة الراء إلى الباء لئلا يحتاج إلى أن يؤتى ببعض الحركة في الوقف ولا إلى أن يسكن فيجمع بين ساكنين وذلك لغة شائعة وليست بشاذة بل مستفيضة، وذلك دلالة على الإعراب وانفصال الجزء: 15 ¦ الصفحة: 458 من التقاء الساكنين وتأدية حق الموقوف عليه من السكون انتهى. ومن هذا كما في البحر قوله: أنا جرير كنيتي أبو عمرو ... أضرب بالسيف وسعد في العصر وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن عليّ كرم الله تعالى وجهه أنه كان يقرأ: «والعصر ونوائب الدهر إن الإنسان لفي خسر وإنه لفيه إلى آخر الدهر . وأخرج عبد بن حميد وابن أبي داود في المصاحف عن ميمون بن مهران أنه قرأ «والعصر إن الإنسان لفي خسر وإنه لفيه إلى آخر الدهر إلا الذين آمنوا» وذكر أنها قراءة ابن مسعود هذا. واستدل بعض المعتزلة بما في هذه السورة على أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار لأنه لم يستثن فيها عن الخسر إلّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات إلخ. وأجيب عنه بأنه لا دلالة في ذلك على أكثر من كون غير المستثنى في خسر، وأما على كونه مخلدا في النار فلا كيف والخسر عام فهو إما بالخلود إن مات كافرا، وإما بالدخول النار إن مات عاصيا ولم يغفروا ما بفوت الدرجات العاليات إن غفر وهو جواب حسن. وللشيخ الماتريدي رحمه الله تعالى في التقصي عن ذلك تكلفات مذكورة في التأويلات فلا تغفل. وفي السورة من الندب إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن يحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه ما لا يخفى. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 459 سورة الهمزة مكية وآيها تسع بلا خلاف في الأمرين. ولما ذكر سبحانه فيما قبلها أن الإنسان سوى من استثنى في خسر بيّن عز وجل فيها أحوال بعض الخاسرين فقال عز من قائل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ تقدم الكلام على إعراب مثل هذه الجملة والهمزة الكسر كالهزم واللمز الطعن كاللهز شاعا في الكسر من أعراض الناس والغض منهم واغتيابهم والطعن فيهم، وأصل ذلك كان استعارة لأنه لا يتصور الكسر والطعن الحقيقيان في الأجسام فصار حقيقة عرفية ذلك وبناء فعلة يدل على الاعتياد فلا يقال: ضحكة ولعنة إلا للمكثر المتعود قال زيادة الأعجم: إذا لقيتك عن شحط تكاشرني ... وإن تغيبت كنت الهامز اللمزه وأخرج ابن جرير وابن المنذر وجماعة عن ابن عباس أنه سئل عن ذلك فقال: هو المشاء بالنميمة المفرق بين الجمع المغري بين الإخوان. وأخرج ابن أبي حاتم وعبد بن حميد وغيرهما عن مجاهد: الهمزة الطعان في الناس واللمزة الطعان في الأنساب. وأخرج عبد بن حميد عن أبي العالية الهمز في الوجه واللمز في الخلف، وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن جريج الهمز بالعين والشدق واليد واللمز باللسان. وقيل غير ذلك وما تقدم أجمع. وقرأ الباقر رضي الله تعالى عنه «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ» بسكون الميم فيهما على البناء الشائع في معنى المفعول وهو المسخرة الذي يأتي بالأضاحيك فيضحك منه ويشتم ويهمز ويلمز ونزل ذلك على ما أخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن إسحاق عن عثمان بن عمر في أبيّ بن خلف، وعلى ما أخرج عن السدي في أبيّ بن عمر والثقفي الشهير بالأخنس بن شريق فإنه كان مغتابا كثير الوقيعة وعلى ما قال ابن إسحاق في أمية بن خلف الجمحي وكان يهمز النبي صلّى الله عليه وسلم ويعيبه، وعلى ما أخرج ابن جرير وغيره عن مجاهد في جميل بن عامر، وعلى ما قيل في الوليد بن المغيرة واغتيابه لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وغضه منه، وعلى قول في الجزء: 15 ¦ الصفحة: 460 العاص بن وائل ويجوز أن يكون نازلا في جميع من ذكر لكن استشكل نزولها في الأخنس بأنه على ما صححه ابن حجر في الإصابة أسلم وكان من المؤلفة قلوبهم فلا يتأتى الوعيد الآتي في حقه فإما أن لا يصح ذلك أو لا يصح إسلامه. وأيضا استشكلت قراءة الباقر رضي الله تعالى عنه بناء على ما سمعت في معناها وكون الآية نازلة في الوليد بن المغيرة ونحوه من عظماء قريش وبه اندفع ما في التأويلات من أنه كيف عيب الكافر بهذين الفعلين مع أن فيه حالا أقبح منهما وهو الكفر وأما ما أجاب به من أن الكفر غير قبيح لنفسه بخلافهما فلا يخفى ضعفه لأن فوت الاعتقاد الصحيح أقبح من كل شيء قبيح. وقوله تعالى الَّذِي جَمَعَ مالًا بدل كل بدل من كل، وقيل بدل بعض من كل وقال الجاربردي: يجوز أن يكون صفة له لأنه معرفة على ما ذكره الزمخشري في قوله تعالى وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق: 21] إذ جعل جملة معها سائق حالا من كل نفس لذلك ولا يخفى ما فيه. ويجوز أن يكون منصوبا أو مرفوعا على الذم وتنكير مالًا للتفخيم والتكثير، وقد كان عند القائلين أنها نزلت في الأخنس أربعة آلاف دينار وقيل عشرة آلاف وجوز أن يكون للتحقير والتقليل باعتبار أنه عند الله تعالى أقل وأحقر شيء. وقرأ الحسن وأبو جعفر وابن عامر والأخوان «جمّع» بشد الميم للتكثير وهو أوفق بقوله تعالى وَعَدَّدَهُ أي عده مرة بعد أخرى حبا له وشغفا به. وقيل: جعله أصنافا وأنواعا كعقار ونقود حكاه في التأويلات. وقال غير واحد: أي جعله عدة ومدخرا لنوائب الدهر ومصائبه. وقرأ الحسن والكلبي «وعدده» بالتخفيف فقيل معناه وعده فهو فعل ماض فكّ إدغامه على خلاف القياس كما في قوله: مهلا أعاذل هل جربت من خلقي ... إني أجود لأقوام وإن ضننوا وقيل: هو اسم بمعنى العدد المعروف معطوف على مالَهُ أي جمع ماله وضبط عدده وأحصاه وليس ذلك على ما في الكشف من باب: علفتها تبنا وماء باردا، لأن جمع العدد عبارة عن ضبطه وإحصائه فلا يحتاج إلى تكلف. وعلى الوجهين أيّد بالقراءة المذكورة المعنى الأول لقراءة الجمهور. وقيل هو اسم بمعنى الأتباع والأنصار يقال: فلان ذو عدد وعدد إذا كان له عدد وافر من الأنصار وما يصلحهم وهو معطوف على ماله أيضا أي جمع ماله وقومه الذين ينصرونه. يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ جملة حالية أو استئنافية وأخلده وخلده بمعنى أي تركه خالدا أي ماكثا مكثا لا يتناهى أو مكثا طويلا جدا والكلام من باب الاستعارة التمثيلية، والمراد أن المال طول أمله ومناه الأماني البعيدة فهو يعمل من تشييد البنيان وغرس الأشجار وكري الأنهار ونحو ذلك عمل من يظن أن ماله أبقاه حيا، والإظهار في مقام الإضمار لزيادة التقرير والتعبير بالماضي للمبالغة في المعنى المراد. وجوز أن يراد أنه حاسب ذلك حقيقة لفرط غروره واشتغاله بالجمع والتكاثر عما أمامه من قوارع الآخرة أو لزعمه أن الحياة والسلامة عن الأمراض والآفات تدور على مراعاة الأسباب الظاهرة، وأن المال هو المحور لكرتها والملك المطاع في مدينتها. وقيل: المراد أنه يحسب المال من المخلدات ولا نظر فيه إلى أن الخلود دنيوي أو أخروي ذكرا أو عينا إنما النظر في إثبات هذه الخاصة للمال والغرض منه التعريض بأن ثم مخلدا ينبغي للعاقل أن يكب عليه وهو السعي للآخرة وهو بعيد جدا ولذا لم يجعل بعض الأجلّة التعريض وجها مستقلا. وزعم عصام الدين أنه يحتمل أن يكون فاعل أخلد الحاسب ومفعوله المال، أي يظن أن يحفظ ماله أبدا ولا يعرف أنه معرض للحوادث أو للمفارقة بالموت كما قيل: بشر مال البخيل بحادث أو وارث وهو لعمري مما لا عصام له كَلَّا ردع له عن ذلك الحسبان الباطل أو عنه وعن جمع المال وحبه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 461 المفرط على ما قيل، واستظهر أنه ردع عن الهمز واللمز وتعقب بأنه بعيد لفظا ومعنى وأنا لا أرى بأسا في كون ذلك ردعا له عن كل ما تضمنته الجمل السابقة من الصفات القبيحة. وقوله تعالى لَيُنْبَذَنَّ جواب قسم مقدر والجملة استئناف مبين لعلة الردع أي والله ليطرحن بسبب أفعاله المذكورة فِي الْحُطَمَةِ أي في النار التي من شأنها أن تحطم كل من يلقى فيها، وبناء فعلة لتنزيل الفعل لكونه طبيعيا منزلة المعتاد. والحطم كسر الشيء كالهشم ثم استعمل لكل كسر متناه وأنشدوا: إنا حطمنا بالقضيب مصعبا ... يوم كسرنا أنفه ليغضبا ويقال: رجل حطمة أي أكول تشبيها له بالنار ولذا قيل في أكول كأنما في جوفه تنور وفسر الضحاك الحطمة هنا بالدرك الرابع من النار. وقال الكلبي: هي الطبقة السادسة من جهنم. وحكى القشيري عنه أنها الدرك الثاني. وقال الواحدي: هي باب من أبواب جهنم، وزعم أبو صالح أنها النار التي في قبورهم وليس بشيء. وقوله تعالى وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ لتهويل أمرها ببيان أنها ليست من الأمور التي تنالها عقول الخلق. وقرأ عليّ كرم الله تعالى وجهه والحسن بخلاف عنه وابن محيصن وحميد وهارون عن أبي عمرو «لينبذان» بضمير الاثنين العائد على الهمزة وماله. وعن الحسن أيضا «لينبذن» بضم الذال وحذف ضمير الجمع فقيل هو راجع لكل همزة باعتبار أنه متعدد وقيل له ولعدده أي اتباعه وأنصاره بناء على ما سمعت في قراءته هناك. وعن أبي عمرو «لننبذنه» بنون العظمة وهاء النصب ونون التأكيد. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنه «في الحاطمة وما أدراك ما الحاطمة» نارُ اللَّهِ خبر مبتدأ محذوف والجملة لبيان شأن المسئول عنها أي هي نار الله الْمُوقَدَةُ بأمر الله عز وجل وفي إضافتها إليه سبحانه ووصفها بالإيقاد من تهويل أمرها ما لا مزيد عليه الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ أي تعلو أوساط القلوب وتغشاها وتخصيصها بالذكر لما أن الفؤاد ألطف ما في الجسد وأشده تألما بأدنى أذى يمسه، أو لأنه محل العقائد الزائغة والنيات الخبيثة والملكات القبيحة ومنشأ الأعمال السيئة فهو أنسب بما تقدم من جميع أجزاء الجسد. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب أنه قال في الآية: تأكل كل شيء منه حتى تنتهي إلى فؤاده فإذا بلغت فؤاده ابتدأ خلقه، وجوز أن يراد الاطلاع العلمي والكلام على سبيل المجاز وذلك أنه لما كان لكل من المعذبين عذاب من النار على قدر ذنبه المتولد من صفات قلبه قيل إنها تطالع الأفئدة التي هي معادن الذنوب فتعلم ما فيها فتجازي كلّا بحسب ما فيه من الصفة المقتضية للعذاب. وأرباب الإشارة يقولون: إن ما ذكر إشارة إلى العذاب الروحاني الذي هو أشد العذاب إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ أي مطبقة وتمام الكلام مر في سورة البلد فِي عَمَدٍ جمع عمود كما قال الراغب والفرّاء. وقال أبو عبيدة: جمع عماد وفي البحر وهو اسم جمع الواحد عمود. وقرأ الأخوان وأبو بكر عمد بضمتين وهارون عن أبي عمرو بضم العين وسكون الميم وهو في القراءتين جمع عمود بلا خلاف. وقوله تعالى مُمَدَّدَةٍ صفة عمد في القراءات الثلاث أي طوال، والجار والمجرور في موضع الحال من الضمير المجرور في عَلَيْهِمْ أي كائنين في عمد ممددة أي موثقين فيها مثل المقاطر وهي خشب أو جذوع كبار فيها خروق يوضع فيها أرجل المحبوسين من اللصوص ونحوهم، أو خبر لمبتدأ محذوف أي هم كائنون في عمد موثقون فيها وهي والعياذ بالله تعالى على ما روي عن ابن زيد عمد من حديد. وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أنها من نار. واستظهر بعضهم أن العمد تمدد على الجزء: 15 ¦ الصفحة: 462 الأبواب بعد أن تؤصد عليهم تأكيدا ليأسهم واستيثاقا في استيثاق. وفي حديث طويل أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي هريرة مرفوعا: أن الله تعالى بعد أن يخرج من النار عصاة المؤمنين وأطولهم مكثا فيها من يمكث سبعة آلاف سنة يبعث عز وجل إلى أهل النار ملائكة بأطباق من نار ومسامير من نار وعمد من نار، فيطبق عليهم بتلك الأطباق ويشد بتلك المسامير وتمدد تلك العمد ولا يبقى فيها خلل يدخل فيه روح ولا يخرج منه غم، وينساهم الجبار عز وجل على عرشه ويتشاغل أهل الجنة بنعيمهم ولا يستغيثون بعدها أبدا وينقطع الكلام فيكون كلامهم زفيرا وشهيقا» . وفيه فذلك قوله تعالى إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ اللهم أجرنا من النار يا خير مستجار. وعلى هذا يكون الجار والمجرور متعلقا بمؤصدة حالا من الضمير فيها كما قال صاحب الكشف وحكاه الطيبي. وفي الإرشاد عن أبي البقاء أنه صفة لمؤصدة. وقال بعض: لا مانع عليه أن يكون صلة مؤصدة على معنى الأبواب أوصدت بالعمد وسدت بها وأيد بما أخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال في الآية أدخلهم في عمد وتمددت عليهم في أعناقهم السلاسل فسدت بها الأبواب ثم إن ما ذكر لإشعاره بالخلود وأشدية العذاب يناسب كون المحدث عنهم كفارا همزوا ولمزوا خير البشر صلّى الله عليه وسلم وما تقدم من حمل العمد على المقاطر قيل يناسب العموم لأن المغتاب كأنه سارق من اعراض الناس فيناسب أن يعذب بالمقاطر كاللصوص فلا يلزم الخلود. وقد يقال: من تأمل في هذه السورة ظهر له العجب العجاب من التناسب فإنه لما بولغ في الوصف في قوله تعالى هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ قيل الْحُطَمَةُ للتعادل ولما أفاد ذلك كسر الأعراض قوبل بكسر الأضلاع المدلول عليه بالحطمة وجيء بالنبذ المنبئ عن الاستحقار في مقابلة ما ظن الهامز اللامز بنفسه من الكرامة ولما كان منشأ جمع المال استيلاء حبه على القلب جيء في مقابله تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ولما كان من شأن جامع المال المحب له أن يأصد عليه قيل في مقابله إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ ولما تضمن ذلك طول الأمل قيل في مقابله عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ وقد صرح بذلك بعض الأجلّة فليتأمل والله تعالى أعلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 463 سورة الفيل مكية وآيها خمس بلا خلاف فيهما، وكأنه لما تضمن الهمز واللمز من الكفرة نوع كيد له عليه الصلاة والسلام عقب ذلك بقصة أصحاب الفيل للإشارة إلى أن عقبى كيدهم في الدنيا تدميرهم فإن عناية الله عز وجل برسوله صلّى الله عليه وسلم أقوى وأتم من عنايته سبحانه بالبيت، فالسورة مشيرة إلى مآلهم في الدنيا إثر بيان مآلهم في الأخرى، ويجوز أن تكون كالاستدلال على ما أشير إليه فيما قبلها من أن المال لا يغني من الله تعالى شيئا، أو على قدرته عز وجل على إنفاذ ما توعد به أولئك الكفرة في قوله سبحانه لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ [الهمزة: 4] إلخ. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ الظاهر أن الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم والهمزة لتقرير رؤيته عليه الصلاة والسلام بإنكار عدمها وهي بصرية تجوز بها عن العلم على سبيل الاستعارة التبعية أو المجاز المرسل لأنها سببية، ويجوز جعلها علمية من أول الأمر إلّا أن ذاك أبلغ وعلمه صلّى الله عليه وسلم بذلك لما أنه سمعه متواترا. وكَيْفَ في محل نصب على المصدرية بفعل، والمعنى أي فعل فعل. وقيل على الحالية من الفاعل والكيفية حقيقة للفعل ب أَلَمْ تَرَ لمكان الاستفهام، والجملة سادة مسد المفعولين لتر. وجوز بعضهم نصب كَيْفَ بتر لإنسلاخ معنى الاستفهام عنه كما في شرح المفتاح الشريفي. وصرح أبو حيان بامتناعه لأنه يراعي صدارته إبقاء لحكم أصله وتعليق الرؤية بكيفية فعله تعالى شأنه لا بنفسه بأن يقال ألم تر ما فعل ربك إلخ. لتهويل الحادثة والإيذان بوقوعها على كيفية هائلة وهيئة عجيبة دالّة على عظم قدرة الله تعالى وكمال علمه وحكمته وغريبته وشرف رسوله صلّى الله عليه وسلم فإن ذلك كما قال غير واحد من الإرهاصات لما روي أن القصة وقعت في السنة التي ولد فيها النبي صلّى الله عليه وسلم. قال إبراهيم بن المنذر شيخ البخاري: لا يشك في ذلك أحد من العلماء وعليه الإجماع وكل ما خالفه وهم أي من أنها كانت قبل بعشر سنين أو بخمس عشرة سنة أو بثلاث وعشرين سنة أو بثلاثين سنة أو بأربعين سنة أو بسبعين سنة الأقوال المذكورة في كتب السير وعلى الأول الجزء: 15 ¦ الصفحة: 464 المرجح الذي عليه الجمهور قيل ولادته عليه الصلاة والسلام في اليوم الذي بعث الله تعالى فيه الطير على أصحاب الفيل من ذلك العام وهو المذكور في تاريخ ابن حبان وهو ظاهر قول ابن عباس: ولد عليه الصلاة والسلام يوم الفيل. وذهب السهيلي أنه صلّى الله عليه وسلم ولد بعدها بخمسين يوما وكانت في المحرم والولادة في شهر ربيع الأول. وقال الحافظ الدمياطي: بخمسة وخمسين يوما، وقيل بأربعين، وقيل بشهر. والمشهور ما ذهب إليه السهيلي. وفي قوله تعالى رَبُّكَ نوع رمز إلى الإرهاص وكون ذلك لشرف البيت ودعوة الخليل عليه السلام لا ينافي الإرهاص وكذا لا ينافيه قوله صلّى الله عليه وسلم في الحديبية لما بركت ناقته وقال الناس: خلأت أي حرنت: «ما خلأت ولكن حبسها حابس الفيل» إذ لم يدع أن ما كان للإرهاص لا غير ومثل هذه العلل لا يضر تعددها، ويؤيد الإرهاص قصة القرامطة وغيرهم. وتفصيل القصة أن أبرهة الأشرم بن الصباح الحبشي كما قال ابن إسحاق وغيره وهو الذي يكنى بأبي يكسوم بالسين المهملة ولا يأباه التسمية بأبرهة بناء على أن معناه بالحبشة الأبيض الوجه كما لا يخفى. وقيل: إنه الحميري خرج على أرباط ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي- بكسر النون- بعد سنتين من سلطانه فتبارزا وقد أرصد الأشرم خلفه غلامه عتورة فحمل عليه أرباط بحربة فضربه يريد يافوخه فوقعت على جبهته فشرمت حاجبه وأنفه وعينه وشفته ولذا سمي الأشرم، فحمل عتورة من خلف أبرهة فقتله وملك مكانه، فغضب النجاشي فاسترضاه فرضي فأثبته. ثم إنه بنى بصنعاء كنيسة لم ير مثلها في زمانها سمّاها القليس بقاف مضمومة ولام مفتوحة مشددة كما في ديوان الأدب أو مخففة كما قيل وبعدها ياء مثناة سفلية ثم سين مهملة، وكان ينقل إليها الرخام المجزع والحجارة المنقوشة بالذهب على ما يقال من قصر بلقيس زوج سليمان عليه السلام، وكتب إلى النجاشي: إنني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها قبلك ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب. فلما تحدثت العرب بكتابه ذلك غضب رجل من النساءة أحد بني فقيم بن عدي من كنانة فخرج حتى أتاها فقعد فيها أي أحدث ولطخ قبلتها بحدثه ثم خرج ولحق بأرضه، فأخبر أبرهة، فقال: من صنع هذا؟ فقيل: رجل من أهل هذا البيت الذي تحج إليه العرب بمكة غضب لما سمع قولك أصرف إليها حج العرب ففعل ذلك، فاستشاط أبرهة غضبا وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه. وقيل: أججت رفقة من العرب نارا حولها فحملتها الريح فأحرقتها فغضب لذلك فأمر الحبشة فتهيأت وتجهزت، فخرج في ستين ألفا على ما قيل منهم ومعه فيل اسمه محمود وكان قويا عظيما واثنا عشر فيلا غيره وقيل ثماني وروي ذلك عن الضحاك، وقيل ألف فيل وقيل معه محمود فقط وهو قول الأكثرين الأوفق بظاهر الآية، فسمعت العرب بذلك فأعظموه وقلقوا به ورأوا جهاده حقا عليهم، فخرج إليه رجل من أشراف اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر بمن أطاعه من قومه وسائر العرب فقاتله فهزم وأخذ أسيرا فأراد قتله فقال: أيها الملك لا تقتلني فعسى أن يكون بقائي معك خيرا لك من قتلي، فتركه وحبسه عنده حتى إذا كان بأرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب الخثعمي بمن معه من قومه وغيرهم فقاتله فهزم وأخذ أسيرا فهم بقتله فقال نحو ما سبق فخلى سبيله وخرج به يدله حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معيب بن مالك الثقفي في رجال من ثقيف فقال له: أيها الملك إنما نحن عبيدك سماعون لك مطيعون ليس لك عندنا خلاف وليس بيتنا هذا الذي تريد يعنون بيت اللات إنما تريد البيت الذي بمكة ونحن نبعث معك من يدلك عليه، فتجاوز عنهم فبعثوا معه أبا رغال فخرج ومعه أبو رغال حتى أنزله المغمس- كمعظم- موضع بطريق الطائف معروف، فلما نزله مات أبو رغال ودفن هناك فرجمت قبره العرب كما قال ابن إسحاق. وقيل القبر الذي هناك لأبي رغال رجل من ثمود وهو أبو ثقيف كان بالحرم يدفع عنه فلما خرج منه أصابته النقمة التي أصابت قومه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 465 بالمغمس فدفن فيه واختاره صاحب القاموس ذاكرا فيه حديثا رواه أبو داود في سننه وغيره عن ابن عمر مرفوعا وقال فيما تقدمه بعد نقله عن الجوهري ليس بجيد، وجمع بعض بجواز أن يكون قبران لرجلين كل منهما أبو رغال ثم إن أبرهة بعث وهو بالمغمس رجلا من الحبشة يقال له الأسود بن مقصور حتى انتهى إلى مكة فساق أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم وأصاب فيها مائتي بعير وقيل أربعمائة بعير لعبد المطلب وكان يومئذ سيد قريش، فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بالحرم بحربه فعرفوا أن لا طاقة لهم به فكفوا. وبعث أبرهة حياطة الحميري إلى مكة وقال: قل لسيد أهل هذا البلد إن الملك يقول: إني لم آت لحربكم إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تعرضوا دونه بحرب فلا حاجة لي بدمائكم، فإن هو لم يرد حربي فأتني به. فلما دخل حياطة دل على عبد المطلب فقال له ما أمر به فقال عبد المطلب: والله ما نريد حربه وما لنا به طاقة، هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم عليه السلام فإن يمنعه منه فهو بينه وحرمه، وإن يخل بينه وبينه فو الله ما عندنا دفع عنه. ثم انطلق معه عبد المطلب ومعه بعض بنيه حتى أتى العسكر فسأل عن ذي نفر وكان صديقه فدخل عليه فقال له: هل عندك من غناء فيما نزل بنا؟ فقال: وما غناء رجل أسير بيدي ملك ينتظر أن يقتله غدوا وعشيا ما عندي غناء في شيء مما نزل بك إلّا أن أنيسا سائس الفيل سأرسل إليه فأوصيه بك وأعظم عليه حقك وأسأله أن يستأذن لك على الملك فتكلمه بما بدا لك ويشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك. فقال: حسبي، فبعث إليه فقال له: إن عبد المطلب سيد قريش وصاحب عين مكة ويطعم الناس بالسهل والوحوش في رؤوس الجبال وقد أصاب الملك له مائتي بعير فاستأذن له عليه وأنفعه عنده بما استطعت. فقال: أفعل. فكلم أبرهة ووصف عبد المطلب بما وصفه به ذو نفر فأذن له، وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم، فلما رآه أكرمه عن أن يجلس تحته وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه فنزل عن سريره فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه والقول بأنه أعظمه لما رأى من نور النبوة الذي كان في وجهه ضعيف لما فيه من الدلالة على كون القصة قبل ولادة عبد الله وهو خلاف ما علمت من القول المرجح اللهم إلّا أن يقال إنه تجلى فيه ذلك النور وإن كان قد انتقل. ثم قال لترجمانه: قل له ما حاجتك؟ فقال: حاجتي أن يرد عليّ الملك إبلي. فقال أبرهة لترجمانه: قل له قد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم قد زهدت فيك حين كلمتني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه فلا تكلمني فيه. فقال عبد المطلب إني رب الإبل وإن للبيت ربا سيمنعه. قال ما كان ليمنع مني قال: أنت وذاك. وفي رواية أنه دخل عليه مع عبد المطلب ثفانة بن عدي سيد بني بكر وخويلد بن واثلة سيد هذيل فعرضا عليه ثلث أموال أهل تهامة على أن يرجع ولا يهدم البيت فأبى فرد الإبل على عبد المطلب فانصرف إلى قريش فأخبرهم الخبر فتحرزوا في شعف الجبال تخوفا من معرة الجيش ثم قام فأخذ بحلقة باب الكعبة ومعه نفر من قريش يدعون الله عز وجل ويستنصرونه فقال وهو آخذ بالحلقة: لا هم إن المرء يم ... نع رحله فامنع حلالك وانصر على آل الصلي ... ب وعابديه اليوم آلك لا يغلبن صليبهم ... ومحالهم غدوا محالك جروا جموع بلادهم ... والفيل كي يسبوا عيالك عمدوا حماك بكيدهم ... جهلا وما رقبوا جلالك الجزء: 15 ¦ الصفحة: 466 إن كنت تاركهم وكعب ... تنا فأمر ما بدا لك وقال أيضا: يا رب لا أرجو لهم سواكا ... يا رب فامنع عنهم حماكا إن عدو البيت من عاداكا ... امنعهم أن يخربوا فناكا ثم أرسل الحلقة وانطلق هو ومن معه إلى شعف الجبال ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها، فلما أصبح تهيأ للدخول وعبى جيشه وهيأ الفيل، فلما وجهوه إلى مكة أقبل نفيل بن حبيب حتى قام إلى جنبه فأخذ بأذنه، فقال: ابرك محمود وارجع راشدا من حيث جئت فإنك في بلد الله الحرام، ثم أرسل أذنه فبرك أي سقط وخرج نفيل يشتد حتى أصعد في الجبل فضربوا الفيل وأوجعوه ليقوم فأبى ووجهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول إلى الشام ففعل مثل ذلك، فوجهوه إلى مكة فبرك، فسقوه الخمر ليذهب تمييزه فلم ينجع ذلك. وقيل: إن عبد المطلب هو الذي عرك أذنه وقال له ما ذكر وكان ذلك عند وادي محسر، وأرسل الله تعالى طيرا من البحر قيل سودا وقيل خضرا وقيل بيضا مثل الخطاطيف مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها حجر في منقاره وحجران في رجليه أمثال الحمص والعدس لا تصيب أحدا منهم إلّا هلك، ويروى أنه يلقيها على رأس أحدهم فتخرج من دبره ويتساقط لحمه، فخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي منه جاؤوا يسألون عن نفيل ليدلهم على الطريق إلى اليمن فقال نفيل حين رأى ما نزل بهم: أين المفر والإله الطالب ... والأشرم المغلوب ليس الغالب وقال أيضا: ألا حييت عنا يا ردينا ... نعمناكم عن الإصباح عينا ردينة لو رأيت ولا تريه ... لدى جنب المحصب ما رأينا إذا لعذرتني وحمدت أمري ... ولا تأسي على ما فات بينا فكل القوم تسأل عن نفيل ... كأن عليه للحبشان دينا وجعلوا يتساقطون بكل طريق ويهلكون في كل منهل، وأصيب أبرهة في جسده وخرجوا به معهم تسقط أنملة أنملة كلما سقطت أنملة تبعها منه مدة ثم دم وقيح حتى قدموا صنعاء وهو مثل فرح الطائر، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه وقد أشار إلى ذلك ابن الزبعرى بقوله من أبيات يذكر فيها مكة: سائل أمير الحبش عنا ما ترى ... ولسوف ينبي الجاهلين عليمها ستون ألفا لم يؤوبوا أرضهم ... بل لم يعش بعد الإياب سقيمها ولهم في ذلك شعر كثير ذكر ابن هشام جملة منه في سيره، وفيها أن الطير لم تصب كلهم وذكر بعضهم أنه لم ينج منهم غير واحد دخل على النجاشي فأخبره الخبر والطير على رأسه، فلما فرغ ألقي عليه الحجر فخرقت البناء ونزلت على رأسه فألحقته بهم. وقيل: إن سائس الفيل وقائده تخلفا في مكة فسلما. فعن عائشة أنها قالت: أدركت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان الناس. وعن عكرمة أن من أصابه الحجر جدرته وهو أول جدري ظهر أي بأرض العرب، فعن يعقوب بن عتبة أنه حدث أن أول ما رئيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام وأنه أول ما رئي بها مرائر الشجر الحرمل والحنظل والعشر ذلك العام أيضا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 467 ويروى أن عبد المطلب لما ذهب إلى شعف الجبال بمن معه بقي ينتظر ما يفعل القوم وما يفعل بهم، فلما أصبح بعث أحد أولاده على فرس له سريع ينظر ما لقوا فذهب فإذا القوم مشدخين جميعا فرجع رافعا رأسه كاشفا عن فخذه، فلما رأى ذلك أبوه قال: ألا إن ابني أفرس العرب وما كشف عن عورته إلّا بشيرا أو نذيرا، فلما دنا من ناديهم قالوا: ما وراءك؟ قال: هلكوا جميعا فخرج عبد المطلب وأصحابه إليهم فأخذوا أموالهم وقال عبد المطلب: أنت منعت الحبش والأفيالا ... وقد رعوا بمكة الأحبالا وقد خشينا منهم القتالا ... وكل أمر منهم معضالا شكرا وحمدا لك ذا الجلالا هذا ومن أراد استيفاء القصة على أتم مما ذكر فعليه بمطولات كتب السير. وقرأ السلمي «ألم تر» بسكون الراء جدا في إظهار أثر الجازم لأن جزمه بحذف آخره فإسكان ما قبل الآخر للاجتهاد في إظهار أثر الجازم، قيل: والسر فيه هنا الإسراع إلى ذكر ما يهم من الدلالة على أمر الألوهية والنبوة أو الإشارة إلى الحثّ في الإسراع بالرؤية إيماء إلى أن أمرهم على كثرتهم كان كلمح البصر من لم يسارع إلى رؤيته لم يدركه حق إدراكه، وتعقب هذا بأن تقليل البنية يدل على قلة المعنى وهو الرؤية لا على قلة زمانه. وقيل لعل السر فيه الرمز من أول الأمر إلى كثرة الحذف في أولئك القوم فتدبر. وقوله تعالى أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ إلخ بيان إجمالي لما فعل الله تعالى بهم والهمزة للتقرير كما سبق ولذلك عطف على الجملة الاستفهامية ما بعدها كأنه قيل قد جعل كيدهم في تعطيل الكعبة وتخريبها وصرف شرف أهلها لهم في تضييع وإبطال بأن دمرهم أشنع تدمير، وأصل التضليل من ضل عنه إذا ضاع فاستعير هنا للإبطال، ومنه قيل لامرىء القيس الضليل لأنه ضلل ملك أبيه وضيعه. وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ أي جماعات جمع إبّالة بكسر الهمزة وتشديد الباء الموحدة، وحكى الفراء إبالة مخففا وهي حزمة الحطب الكبيرة شبهت بها الجماعة من الطير في تضامها وتستعمل أيضا في غيرها ومنه قوله: كادت تهد من الأصوات راحلتي ... إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل وقيل واحده أبول مثل عجول، وقيل إبيل مثل سكين وقيل أبال. وقال أبو عبيدة والفرّاء: لا واحد له من لفظه كعباديد الفرق من الناس الذاهبون في كل وجه، والشماطيط القطع المتفرقة وجاءت هذه الطير على ما روي عن جمع من جهة البحر ولم تكن نجدية ولا تهامية ولا حجازية. وزعم بعض أن حمام الحرم من نسلها ولا يصح ذلك، ومثله ما نقل عن حياة الحيوان من أنها تعشش وتفرخ بين السماء والأرض وقد تقدم الخلاف في لونها. وعن عكرمة كأن وجوهها مثل وجوه السباع لم تر قبل ذلك ولا بعده تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ صفة أخرى لطير، وعبر بالمضارع لحكاية الحال واستحضار تلك الصورة البديعة. وقرأ أبو حنيفة وأبو يعمر وعيسى وطلحة في رواية: «يرميهم» بالياء التحتية والضمير المستتر للطير أيضا والتذكير لأنه اسم جمع وهو على ما حكى الخفاجي لازم التذكير فتأنيثه لتأويله بالجماعة، وقيل يجوز الأمران وهو ظاهر كلام أبي حيان. وقيل الضمير عائد على ربك وليس بذاك، ونسبة القراءة المذكورة لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه حكاها في البحر وعن صاحب النشر أنه رضي الله تعالى عنه لا قراءة له وأن القراءات المنسوبة له موضوعة مِنْ سِجِّيلٍ صفة حجارة أي كائنة من طين متحجر معرب سنك كل وقيل: هو عربي من السجل بالكسر وهو الدلو الكبيرة، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 468 ومعنى كون الحجارة من الدلو أنها متتابعة كثيرة كالماء الذي يصب من الدلو ففيه استعارة مكنية وتخييلية. وقيل من الإسجال بمعنى الإرسال والمعنى من مثل شيء مرسل، ومِنْ في جميع ذلك ابتدائية وقيل من السجل وهو الكتاب أخذ منه السجين وجعل علما للديوان الذي كتب فيه عذاب الكفار، والمعنى من جملة العذاب المكتوب المدون فمن تبعيضيه. واختلف في حجم تلك الطير وكذا في حجم تلك الحجارة فمر أنها مثل الخطاطيف وأن الحجارة أمثال الحمص والعدس. وأخرج أبو نعيم عن نوفل بن أبي معاوية الديلمي أنه قال: رأيت الحصى التي رمي بها أصحاب الفيل حصى مثل الحمص وأكبر من العدس حمر بحتمة (1) كأنها جزع ظفار. وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس أنه قال: حجارة مثل البندق. وفي رواية ابن مردويه عنه مثل بعر الغنم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن عبيد بن عمير أنه قال في الاية: هى طير خرجت من قبلة البحر كأنها رجال السند معها حجارة أمثال الإبل البوارك وأصغرها مثل رؤوس الرجال لا تريد أحدا منهم إلا أصابته ولا أصابته إلا قتلته، والمعول عليه أن الطير في الحجم كالخطاطيف، وأن الحجارة منها ما هو كالحمصة ودوينها وفويقها. وروى ابن مردويه وأبو نعيم عن أبي صالح أنه مكتوب على الحجر اسم من رمي به واسم أبيه وأنه رأى ذلك عند أم هانىء فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ كورق زرع وقع فيه الأكال وهو أن يأكله الدود أو أكل حبه فبقى صفرا منه، والكلام على هذا على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، أو على الإسناد المجازي والتشبيه بذلك لذهاب أرواحهم وبقاء أجسادهم، أو لأن الحجر بحرارته يحرق أجوافهم. وذهب غير واحد إلى أن المعنى كتبن أكلته الدواب وراثته والمراد كروث إلا أنه لم يذكر بهذا اللفظ لهجنته فجاء على الآداب القرآنية فشبه تقطع أوصالهم بتفرق أجزاء الروث، ففيه إظهار تشويه حالهم وقيل: المعنى كتبن تأكله الدواب وتروثه والمراد جعلهم في حكم التبن الذي لا يمنع عنه الدواب أي مبتذلين ضائعين لا يلتفت إليهم أحد ولا يجمعهم ولا يدفنهم كتبن في الصحراء تفعل به الدواب ما شاءت لعدم حافظ له إلّا أنه وضع مأكول موضع أكلته الدواب لحكاية الماضي في صورة الحال وهو كما ترى. وكأنه لما أن مجيئهم لهدم الكعبة ناسب إهلاكهم بالحجارة ولما أن الذي أثار غضبهم عذرة الكناني شبههم فيما فعل سبحانه بهم على القول الأخير بالروث أو لما أن الذي أثاره احتراقها بما حملته الريح من نار العرب على ما سمعت شبههم عز وجل فيما فعل جل شأنه بهم بعصف أكل حبه على ما أشرنا إليه أخيرا. وقرأ أبو الدرداء فيما نقل ابن خالويه «مأكول» بفتح الهمزة اتباعا لحركة الميم وهو شاذ وهذا كما أتبعوا في قولهم «محموم» بفتح الحاء لحركة الميم والله تعالى أعلم.   (1) قوله بحتمة بالضم السواد اه منه. [ ..... ] الجزء: 15 ¦ الصفحة: 469 سورة قريش ويقال سورة لإيلاف قريش، وهي مكية في قول الجمهور مدنية في قول الضحاك وابن السائب، وآيها خمس في الحجازي وأربع في غيره، ومناسبتها لما قبلها أظهر من أن تخفى بل قالت طائفة إنهما سورة واحدة واحتجوا عليه بأن أبيّ بن كعب لم يفصل بينهما في مصحفه بالبسملة بما روي عن عمرو بن ميمون الأزدي قال: صليت المغرب خلف عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقرأ في الركعة الأولى والتين، وفي الثانية ألم تر ولإيلاف قريش من غير أن يفصل بالبسملة، وأجيب بأن جمعا أثبتوا الفصل في مصحف أبيّ والمثبت مقدم على النافي، وبأن خبر ابن ميمون إن سلمت صحته محتمل لعدم سماعه ولعله قرأها سرا، ويدل على كونها سورة مستقلة ما أخرج البخاري في تاريخه والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الخلافيات عن أم هانىء بنت أبي طالب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «فضل الله تعالى قريشا بسبع خصال لم يعطها أحد قبلهم ولا يعطاها أحد بعدهم: أني فيهم وفي لفظ النبوة فيهم، والخلافة فيهم، والحجابة فيهم، والسقاية فيهم، ونصروا على الفيل، وعبدوا الله تعالى سبع سنين. وفي لفظ عشر سنين لم يعبده سبحانه أحد غيرهم، ونزلت فيهم سورة من القرآن لم يذكر فيها أحد غيرهم لإيلاف قريش» . وجاء نحو هذا الأخير في خبرين آخرين أحدهما عن الزبير بن العوام يرفعه والثاني عن سعيد بن المسيب عنه صلّى الله عليه وسلم ويؤيد الاستقلال كون آيها ليست على نمط آي ما قبلها وأنت تعلم أنه بعد ثبوت تواتر الفصل لا يحتاج إلى شيء مما ذكر. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ الإيلاف على ما قال الخفاجي مصدر ألفت الشيء وآلفته من الإلف وهو كما قال الراغب اجتماع مع التئام. وقال الهروي في الغريبين: الإيلاف عهود بينهم وبين الملوك فكان هاشم يؤالف ملك الشام والمطلب كسرى وعبد شمس ونوفل يؤالفان ملك مصر والحبشة. قال: ومعنى يؤالف يعاهد ويصالح، وفعله آلف على وزن فاعل، ومصدره إلاف بغير ياء بزنة قبال أو ألف الثلاثي ككتب كتابا، ويكون الفعل منه أيضا على وزن أفعل مثل آمن ومصدره إيلاف كإيمان، وحمل الإيلاف على العهود الجزء: 15 ¦ الصفحة: 470 خلاف ما عليه الجمهور كما لا يخفى على المتتبع. وفي البحر إيلاف مصدر آلف رباعيا وإلاف مصدر ألف ثلاثيا يقال: ألف الرجل الأمر ألفا وآلافا وآلف غيره إياه وقد يأتي آلف متعديا لواحد كألف ومنه قوله: من المؤلفات الرمل أدماء حرة ... شعاع الضحى في جيدها يتوضح وسيأتي إن شاء الله تعالى ما في ذلك من القراءات وقريش ولد النضر بن كنانة وهو أصح الأقوال وأثبتها عند القرطبي. قيل: وعليه الفقهاء لظاهر ما روي أنه عليه الصلاة والسلام سئل من قريش فقال: «من ولد النضر» وقيل ولد فهر ابن مالك بن النضر وحكي ذلك عن الأكثرين، بل قال الزبير بن بكار أجمع النسابون من قريش وغيرهم على أن قريشا إنما تفرقت عن فهر واسمه عند غير واحد قريش وفهر لقبه ويكنى بأبي غالب. وقيل ولد مخلد بن النضر وهو ضعيف. وفي بعض السير أنه لا عقب للنضر بن كنانة إلّا مالك وأضعف من ذلك بل هو قول رافضي يريد به نفي حقية خلافة الشيخين أنهم ولد قصي بن حكيم، وقيل: عروة المشهور بلقبه كلاب لكثرة صيده أو لمكالبته أي مواثبته في الحرب للأعداء. نعم قصي جمع قريشا في الحرم حتى اتخذوه مسكنا بعد أن كانوا متفرقين في غيره وهذا الذي عناه الشاعر بقوله: أبونا قصي كان يدعى مجمعا ... به جمع الله القبائل من فهر فلا يدل على ما زعمه أصلا وهو في الأصل تصغير قرش بفتح القاف اسم لدابة في البحر أقوى دوابه تأكل ولا تؤكل وتعلو ولا تعلى وبذلك أجاب ابن عباس معاوية لما سأله: لم سميت قريش قريشا؟ وتلك الدابة تسمى قرشا كما هو المذكور في كلام الحبر، وتسمى قريشا وعليه قول تبع كما حكاه عنه أبو الوليد الأزرقي وأنشده أيضا الحبر لمعاوية إلّا أنه نسبه للجمحي: وقريش هي التي تسكن البح ... ر بها سميت قريش قريشا تأكل الغث والسمين ولا تت ... رك يوما لذي جناحين ريشا هكذا في البلاد حي قريش ... يأكلون البلاد أكلا كميشا ولهم آخر الزمان نبي ... يكثر القتل فيهم والخموشا وقال الفرّاء: هو من التقرش بمعنى التكسب، سموا بذلك لتجارتهم. وقيل من التقريش وهو التفتيش ومنه قول الحارث بن حلزة: أيها الشامت المقرش عنا ... عند عمرو فهل لنا إبقاء سموا بذلك لأن أباهم كان يفتش عن أرباب الحوائج ليقضي حوائجهم وكذا كانوا هم يفتشون على ذي الخلة من الحاج ليسدوها، وقيل من التقرش وهو التجمع ومنه قوله: إخوة قرشوا الذنوب علينا ... في حديث من دهرهم وقديم سموا بذلك لتجمعهم بعد التفرق والتصغير إذا كان من المزيد تصغير ترخيم وإذا كان من ثلاثي مجرد فهو على أصله وأيّا ما كان فهو للتعظيم مثله في قوله: وكل أناس سوف تدخل بينهم ... دويهية تصفر منها الأنامل والنسبة إليه قرشي وقريشي كما في القاموس وأجمعوا على صرفه هنا راعوا فيه معنى الحي، ويجوز منع صرفه ملحوظا فيه معنى القبيلة للعلمية والتأنيث وعليه قوله: وكفى قريش المعضلات وسادها الجزء: 15 ¦ الصفحة: 471 وعن سيبويه أنه قال في نحو معد وقريش وثقيف هذه للأحياء أكثر أو إن جعلت أسماء للقبائل فجائز حسن، واللام في لِإِيلافِ للتعليل والجار والمجرور متعلق عند الخليل بقوله لْيَعْبُدُوا والفاء لما في الكلام من معنى الشرط إذ المعنى أن نعم الله تعالى غير محصورة، فإن لم يعبدوا لسائر نعمه سبحانه فليعبدوا لهذه النعمة الجليلة، ولما لم تكن في جواب شرط محقق كانت في الحقيقية زائدة فلا يمتنع تقديم معمول ما بعدها عليها. وقوله تعالى إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ بدل من (إيلاف) قريش ورِحْلَةَ مفعول به لإيلافهم على تقدير أن يكون من الألفة، أما إذا كان من المؤالفة بمعنى المعاهدة فهو منصوب على نزع الخافض أي معاهدتهم على أو لأجل رحلة إلخ. وإطلاق لإيلاف ثم إبدال المقيد منه للتفخيم. وروي عن الأخفش أن الجار متعلق بمضمر أي فعلنا ما فعلنا من إهلاك أصحاب الفيل لإيلاف قريش. وقال الكسائي والفرّاء كذلك إلّا أنهما قدرا الفعل بدلالة السياق أعجبوا كأنه قيل أعجبوا لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف وتركهم عبادة الله تعالى الذي أعزهم ورزقهم وآمنهم فلذا أمروا بعبادة ربهم المنعم عليهم بالرزق والأمن عقبه وقرن بالفاء التفريعية: وعن الأخفش أيضا أنه متعلق بجعلهم كعصف في السورة قبله والقرآن كله كالسورة الواحدة فلا يضر الفصل بالبسملة خلافا لجمع. والمعنى أهلك سبحانه من قصدهم من الحبشة ولم يسلطهم عليهم ليبقوا على ما كانوا عليه من إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ أو أهلك عز وجل من قصدهم ليعتبر الناس ولا يجترىء عليهم أحد فيتم لهم الأمن في رحلتهم، ولا ينافي هذا كون إهلاكهم لكفرهم باستهانة البيت لجواز تعليله بأمرين فإن كلّا منهما ليس علة حقيقية ليمتنع التعدد. وقال غير واحد: إن اللام للعاقبة وكان لقريش رحلتان رحلة في الشتاء إلى اليمن، ورحلة في الصيف إلى بصرى من أرض الشام كما روي عن ابن عباس، وكانوا في رحلتيهم آمنين لأنهم أهل حرم الله تعالى وولاة بيته العزيز فلا يتعرض لهم والناس بين متخطف ومنهوب. وعن ابن عباس أيضا أنهم كانوا يرحلون في الصيف إلى الطائف حيث الماء والظل، ويرحلون في الشتاء إلى مكة للتجارة وسائر أغراضهم وأفردت الرحلة مع أن المراد رحلتا الشتاء والصيف لأمن اللبس وظهور المعنى ونظيره قوله: حمامة بطن الواديين ترنمي حيث لم يقل بطني الواديين وقوله: كلوا في بعض بطنكم تعفوا ... فإن زمانكم زمن خميص حيث لم يقل بطونكم بالجمع لذلك. وقول سيبويه إن ذلك لا يجوز إلّا في الضرورة فيه نظر. وقال النقاش: كانت لهم أربع رحل، وتعقبه ابن عطية بأنه قول مردود. وفي البحر: لا ينبغي أن يرد فإن أصحاب الإيلاف كانوا أربعة إخوة وهم: بنو عبد مناف: هاشم كان يؤالف ملك الشام أخذ منه خيلا فأمن به في تجارته إلى الشام، وعبد شمس يؤالف إلى الحبشة، والمطلب إلى اليمن، ونوفل إلى فارس فكان هؤلاء يسمون المتجرين فيختلف تجر قريش بخيل هؤلاء الإخوة فلا يتعرض لهم. قال الأزهري: الإيلاف شبه الإجارة بالخفارة فإن كان كذلك جاز أن يكون لهم رحل أربع باعتبار هذه الأماكن التي كانت التجارة في خفارة هؤلاء الأربعة فيها فيكون رحلة هنا اسم جنس يصلح للواحد وللأكثر، وفي هؤلاء الإخوة يقول الشاعر: يا أيها الرجل المحول رحله ... هلا نزلت بآل عبد مناف الآخذون العهد من آفاقها ... والراحلون لرحلة الإيلاف والرائشون وليس يوجد رائش ... والقائلون هلم للأضياف والخالطون غنيهم بفقيرهم ... حتى يصير فقيرهم كالكافي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 472 انتهى. وفيه مخالفة لما نقلناه سابقا عن الهروي، ثم إن إرادة ما ذكر من الرحل الأربع غير ظاهرة كما لا يخفى. وقرأ ابن عامر «لإلاف قريش» بلا ياء. ووجه ذلك ما مر. ولم تختلف السبعة في قراءة إِيلافِهِمْ بالياء كما اختلف في قراءة الأول، ومع هذا رسم الأول في المصاحف العثمانية بالياء، ورسم الثاني بغير ياء كما قاله السمين وجعل ذلك أحد الأدلة على أن القراء يتقيدون بالرواية سماعا دون رسم المصحف وذكر في وجه ذلك أنها رسمت في الأول على الأصل، وتركت في الثاني اكتفاء بالأول وهو كما ترى فتدبر. وروي عن أبي بكر عن عاصم أنه قرأ بهمزتين فيهما الثانية ساكنة وهذا شاذ وإن كان الأصل وكأنهم إنما أبدلوا الهمزة التي هي فاء الكلمة لثقل اجتماع همزتين. وروى محمد بن داود النقار عن عاصم «إئيلافهم» بهمزتين مكسورتين بعدهما ياء ساكنة ناشئة عن حركة الهمزة الثانية لما أشبعت، والصحيح رجوعه عن القراءة بهمزتين وأنه قرأ كالجماعة. وقرأ أبو جعفر فيما حكى الزمخشري «لإلف قريش» وقرأ فيما حكى ابن عطية إلفهم وحكيت عن عكرمة وابن كثير، وأنشدوا: زعمتم أن إخوتكم قريش ... لهم إلف وليس لكم إلاف وعن أبي جعفر أيضا وابن عامر «إلافهم» على وزن فعال. وعن أبي جعفر أيضا «ليلاف» بياء ساكنة بعد اللام ووجهه بأنه لما أبدل الثانية ياء حذف الأولى حذفا على غير قياس. وعن عكرمة «لتألف قريش» على صيغة المضارع المنصوب بأن مضمرة بعد اللام ورفع قريش على الفاعلية، وعنه أيضا لتأليف على الأمر وعنه وعن هلال بن فتيان بفتح لام الأمر. والظاهر أن إيلافهم على جميع ذلك منصوب على المصدرية ولم أر من تعرض له. وقرأ أبو السمال «رحلة» بضم الراء وهي حينئذ بمعنى الجهة التي يرحل إليها وأما مكسور الراء فهو مصدر على ما صرح به في البحر. لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ هو الكعبة التي حميت من أصحاب الفيل. وعن عمر أنه صلى بالناس بمكة عند الكعبة فلما قرألْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ جعل يومي بإصبعه إليها وهو في الصلاة بين يدي الله تعالى الَّذِي أَطْعَمَهُمْ بسبب تينك الرحلتين اللتين تمكنوا منهما بواسطة كونهم من جيرانه مِنْ جُوعٍ شديد كانوا فيه قبلهما وقيل أريد به القحط الذي أكلوا فيه الجيف والعظام وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ عظيم لا يقادر قدره وهو خوف أصحاب الفيل أو خوف التخطف في بلدهم ومسايرهم أو خوف الجذام كما أخرج ذلك ابن جرير وغيره عن ابن عباس، فلا يصيبهم في بلدهم فضلا منه تعالى كالطاعون. وعنه أيضا أنه قال: أطعمهم من جوع بدعوة إبراهيم عليه السلام حيث قال وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ [إبراهيم: 73] وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ حيث قال إبراهيم عليه السلام رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً [إبراهيم: 53] . ومِنْ قيل تعليلية أي أنعم عليهم وأطعمهم لإزالة الجوع عنهم. ويقدر المضاف لتظهر صحة التعليل أو يقال: الجوع علة باعثة ولا تقدير. وقيل بدلية مثلها في قوله تعالى أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ [التوبة: 38] وحكى الكرماني في غرائب التفسير أنه قيل في قوله تعالى وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ أن الخلافة لا تكون إلّا فيهم وهذا من البطلان بمكان كما لا يخفى، وقرأ المسيبي عن نافع «من خوف» بإخفاء النون في الخاء، وحكي ذلك عن سيبويه وكذا إخفاؤها مع العين نحو من على مثلا والله تعالى أعلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 473 سورة الماعون وتسمى سورة أرأيت والدين والتكذيب. وهي مكية في قول الجمهور وأخرجه ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير كما في الدر المنثور. وفي البحر أنها مدنية في قول ابن عباس وقتادة وحكي ذلك أيضا عن الضحاك. وقال هبة الله المفسر الضرير: نزل نصفها بمكة في العاص بن وائل، ونصفها في المدينة في عبد الله بن أبي المنافق. وآيها سبع في العراقي وست في الباقية. ولما ذكر سبحانه في سورة قريش أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ [قريش: 4] ذم عز وجل هنا من لم يحض على طعام المسكين ولما قال تعالى هناك لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ [قريش: 3] ذم سبحانه هنا من سها عن صلاته أو لما عدد نعمة تعالى على قريش وكانوا لا يؤمنون بالبعث والجزاء أتبع سبحانه امتنانه عليهم بتهديدهم بالجزاء وتخويفهم من عذابه فقال عز قائل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ استفهام أريد به تشويق السامع إلى تعرف المكذب وأن ذلك مما يجب على المتدين ليحترز عنه وعن فعله، وفيه أيضا تعجيب منه والخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح له، والرؤية بمعنى المعرفة المتعدية لواحد. وقال الحوفي: يجوز أن تكون بصرية، وعلى الوجهين يجوز أن يتجوز بذلك عن الإخبار فيكون المراد بأرأيت أخبرني وحينئذ تكون متعدية لاثنين أولهما الموصول وثانيهما محذوف تقديره من هو أو أليس مستحقا للعذاب. والقول بأنه لا تكون الرؤية المتجوز بها إلّا بصرية فيه نظر وكذا إطلاق القول بأن كاف الخطاب لا تلحق البصرية إذ لا مانع من ذلك بعد التجوز فلا يرجح كونها علمية قراءة عبد الله «أرأيتك» بكاف الخطاب المزيدة لتأكيد التاء. و (الدين) الجزاء وهو أحد معانيه ومنه كما تدين تدان. وفي معناه قول مجاهد الحساب أو الإسلام كما هو الأشهر ولعله مراد من فسره بالقرآن. وكذا من فسره كابن عباس بحكم الله عز وجل. وقرأ الكسائي: أريت بحذف الهمزة كأنه حمل الماضي في حذف همزته على مضارعه المطرد فيه حذفها وهذا كما ألحق تعد بيعد في الإعلال ولعل تصدير الفعل هنا بهمزة الاستفهام الجزء: 15 ¦ الصفحة: 474 سهل أمر الحذف فيه لمشابهته للفظ المضارع المبدوء بالهمزة ومن هنا كانت هذه القراءة أقوى توجيها مما في قوله: صاح هل ريت أو سمعت براع ... رد في الضرع ما قرى في العلاب وقيل: ألحق بعد همزة الاستفهام بأرى ماضي الأفعال لشدة مشابهته به وعدم التفاوت إلّا بفتحة هي لخفتها في حكم السكون وليس بذاك وإن زعم أنه الأوجه. والفاء في قوله تعالى فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ قيل للسببية وما بعدها مسبب عن التشويق الذي دل عليه الكلام السابق. وقيل واقعة في جواب شرط محذوف على أن ذلك مبتدأ والموصول خبره. والمعنى هل عرفت الذي يكذب بالجزاء أو بالإسلام إن لم تعرفه فذلك الذي يكذب بذلك هو الذي يدع اليتيم أي يدفعه دفعا عنيفا ويزجره زجرا قبيحا. ووضع اسم الإشارة موضع الضمير للدلالة على التحقير، وقيل للإشعار بعلة الحكم أيضا وفي الإتيان بالموصول من الدلالة على تحقق الصلة ما لا يخفى. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والحسن وأبو رجاء واليماني «يدع» بالتخفيف أي يترك اليتيم لا يحسن إليه ويجفوه وَلا يَحُضُّ أي ولا يبعث أحدا من أهله وغيرهم من الموسرين عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ أي بذل طعام المسكين وهو ما يتناول من الغذاء، والتعبير بالطعام دون الإطعام مع احتياجه لتقدير المضاف كما أشرنا إليه للإشعار بأن المسكين كأنه مالك لما يعطى له كما في قوله تعالى فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات: 19] فهو بيان لشدة الاستحقاق. وفيه إشارة للنهي عن الامتنان. وقيل الطعام هنا بمعنى الإطعام وكلام الراغب محتمل لذلك فلا يحتاج إلى تقدير لمضاف. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «لا يحاض» مضارع حاضت وهذه الجملة عطف على جملة الصلة داخلة معها في حيّز التعريف للمكذب، فيكون سبحانه وتعالى قد جعل علامته الإقدام على إيذاء الضعيف وعدم بذل المعروف على معنى أن ذلك من شأنه ولوازم جنسه. فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ أي غافلون غير مبالين بها حتى تفوتهم بالكلية أو يخرج وقتها أو لا يصلونها كما صلاها رسول الله صلّى الله عليه وسلم والسلف ولكن ينقرونها نقرا ولا يخشعون وينجدون فيها ويتهمون وفي كل واد من الأفكار الغير المناسبة لها. يهيمون فيسلم أحدهم منها ولا يدري ما قرأ فيها إلى غير ذلك مما يدل على قلة المبالاة بها. وللسلف أقوال كثيرة في المراد بهذا السهو ولعل كل ذلك من باب التمثيل، فعن أبي العالية هو الالتفات عن اليمين واليسار، وعن قتادة عدم مبالاة المرء أصلى أم لم يصل، وعن ابن عباس وجماعة تأخيرها عن وقتها وفيه حديث أخرجه غير واحد عن سعد بن أبي وقاص مرفوعا وقال الحاكم والبيهقي وقفه أصح، وعن أبي العالية هو أن لا يدري المرء عن كم انصرف عن شفع أو عن وتر. وفسر بعضهم السهو عنها بتركها وقال: المراد بالمصلين المتسمون بسمة أهل الصلاة إن أريد بالترك الترك رأسا وعدم الفعل بالكلية أو المصلون في الجملة إن أريد بالترك الترك أحيانا الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ الناس فيعملون حيث يروا الناس ويرونهم طلبا للثناء علهم وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ أي الزكاة كما جاء عن علي كرم الله تعالى وجهه وابنه محمد بن الحنفية وابن عباس وابن عمر وزيد بن أسلم والضحاك وعكرمة ومنه قول الراعي: أخليفة الرحمن إنّا معشر ... حنفاء نسجد بكرة وأصيلا عرب نرى الله من أموالنا ... حق الزكاة منزلا تنزيلا قوم على الإسلام لما يمنعوا ... ما عونهم ويضيعوا التهليلا وعن محمد بن كعب والكلبي المعروف كله. وأخرج جماعة عن ابن مسعود تفسيره بما يتعاوره الناس الجزء: 15 ¦ الصفحة: 475 بينهم من القدر والدلو والفأس ونحوها من متاع البيت وجاء ذلك عن ابن عباس أيضا في خبر رواه عنه الضياء في المختارة والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم ورووا فيه عدة أحاديث مرفوعة، ومنع ذلك قد يكون محظورا في الشريعة كما إذا استعير عن اضطرار وقبيحا في المروءة كما إذا استعير في غير حال الضرورة وهو على ما أخرج ابن أبي شيبة عن الزهري المال بلسان قريش. وقال أبو عبيدة والزجاج والمبرد: هو في الجاهلية كل ما فيه منفعة من قليل أو كثير وأريد به في الإسلام الطاعة. واختلف في أصله فقال قطرب: أصله فاعول من المعن وهو الشيء القليل، وقالوا ما له معنة أي شي قليل. وقيل أصله معونة والألف عوض من الهاء فوزنه مفعل في الأصل كمكرم فتكون الميم زائدة، ووزنه بعد زيادة الألف عوضا ما فعل. وقيل هو اسم مفعول من أعان يعين وأصله معوون فقلب فصارت عينه مكان فائه فصار موعون، ثم قلبت الواو ألفا فصار ماعونا مفعول بتقديم العين على الفاء. والفاء في قوله تعالى فَوَيْلٌ إلخ جزائية والكلام ترق من ذلك المعرف إلى معرف أقوى أي إذا كان دع اليتيم والحض بهذه المثابة فما بال المصلي الذي هو ساه عن صلاته التي هي عماد الدين؟ والفارق بين الإيمان والكفر مركتب للرياء في أعماله الذي هو شعبة من الشرك، ومانع للزكاة التي هي شقيقة الصلاة وقنطرة الإسلام أو مانع لإعارة الشيء الذي تعارف الناس إعارته فضلا عن إخراج الزكاة من ماله فذاك العلم على التكذيب الذي لا يخفى، والمعرف له الذي لا يوفى والغرض التغليظ في أمر هذه الرذائل التي ابتلي بها كثير من الناس وأنها لما كانت من سيماء المكذب بالدين كان على المؤمن المعتقد له أن يبعد عنها بمراحل ويتبين أن أم كل معصية التكذيب بالدين، والمراد بالمكذب على هذا الجنس والإشارة لا تمنع منه كما لا يخفى. وقيل هو أبو جهل وكان وصيا ليتيم فأتاه عريانا يسأله من مال نفسه فدفعه دفعا شنيعا. وقال ابن جريج: هو أبو سفيان نحر جزورا فسأله يتيم لحما فقرعه بعصاه. وقيل الوليد بن المغيرة وقيل العاص بن وائل وقيل عمرو بن عائذ وقيل منافق بخيل، وعلى جميع هذه الأقوال يكون معينا وحينئذ فالقول بأن الساهين عن الصلاة المرائين أيضا معرف. قال صاحب الكشف: غير ملائم بل يكون شبه استطراد مستفاد من الوصف المعرف أعني دع اليتيم على معنى أن الدع إذا كان حاله أنه علم المكذب فما حال السهو عن الصلاة وما عطف عليه وهما أشد من ذلك وأشد؟ وإنما جعل شبه استطراد على ما قال لأن الكلام في التكذيب لا في التحذير من الدع بالأصالة، والمراد الجنس الصادق بالجمع وكون ذلك تكلفا واضحا كما قيل غير واضح فكأنه قيل أخبرني ما تقول فيمن يكذبون بالدين وفيمن يؤذون اليتيم أحسن حالهم وما يصنعون أم قبيح؟ والغرض بت القول بالقبح على أسلوب قوله تعالى فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة: 91] ثم قيل فويل للمصلين على معنى إذا علم أن حالهم قبيح فويل لهم فوضع المصلين موضع الضمير دلالة على أنهم مع الاتصاف بالتكذيب متصفون بهذه الأشياء أيضا. وجعل بعضهم الفاء في فَوَيْلٌ على العطف المذكور للسببية وهذا الوجه يقتضي اتحاد المصلين والمكذبين، وعليه قيل المراد بهم المنافقون بل روي إطلاق القول بأنهم المرادون عن ابن عباس ومجاهد والإمام مالك. وقال في البحر: يدل عليه الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ ويصح أن يراد بالمصلين على الاتحاد المكلفون بالصلاة ولو كفارا غير منافقين وبسهوهم عن الصلاة تركهم إياها بالكلية، ويلتزم القول بأن الكفار مكلفون بالفروع مطلقا. واعترض أبو حيان ذلك الوجه بأن التركيب عليه تركيب غريب وهو كقولك أكرمت الذي يزورني فذاك الذي يحسن إليّ، والمتبادر إلى الذهن منه أن فَذلِكَ مرفوع بالابتداء وعلى تقدير النصب بالعطف يكون التقدير أكرمت الذي يزورني فأكرمت ذلك الذي يحسن إليّ، واسم الإشارة فيه غير متمكن تمكن ما هو فصيح إذ لا حاجة إليه بل الفصيح أكرمت الذي يزورني فالذي الجزء: 15 ¦ الصفحة: 476 يحسن إليّ، أو أكرمت الذي يزورني فيحسن إليّ، وقيل إن اسم الإشارة هنا مقحم للإشارة إلى بعد المنزلة في الشر والفساد فتأمل. وجوز أيضا أن يكون العطف عطف ذات على ذات فالاستخبار عن حال المكذبين وحال الداعين أحسن هو أم قبيح على قياس ما مر. وتعقبه في الكشف بأنه لا يلائم المقام رجوع الضمير إلى الطائفتين حتى يوضع موضع المصلين فافهم. وقرأ ابن إسحاق والأشهب «يرؤون» بالقصر وتشديد الهمزة وفي رواية أخرى عن ابن إسحاق أنه قرأ بالقصر وترك التشديد والله تعالى أعلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 477 سورة الكوثر وتسمى كما قال البقاعي سورة النحر. وهي مكية في قول ابن عباس والكلبي ومقاتل، ونسب في البحر إلى الجمهور، مدنية في قول الحسن وعكرمة وقتادة ومجاهد، وفي الإتقان أنه الصواب ورجحه النووي عليه الرحمة في شرح صحيح مسلم لما أخرج الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي والبيهقي في سننه وغيرهم عن أنس بن مالك قال: أغفى رسول الله صلّى الله عليه وسلم إغفاءة فرفع رأسه متبسما فقال: «إنه أنزل عليّ آنفا سورة» فقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ حتى ختمها الحديث. وفي أخبار سبب النزول ما يقتضي كلّا من القولين وستسمع بعضا منها إن شاء الله تعالى. ومن هنا استشكل أمرها وذكر الخفاجي أن لبعضهم تأليفا صحح فيه أنها نزلت مرتين وحينئذ فلا إشكال. وآيها ثلاث بلا خلاف وليس في القرآن كما أخرج البيهقي عن ابن شبرمة سورة آيها أقل من ذلك بل قد صرحوا بأنها أقصر سورة في القرآن. وقال الإمام: هي كالمقابلة للتي قبلها لأن السابقة وصف الله تعالى فيها المنافق بأربعة أمور البخل وترك الصلاة والرياء ومنع الزكاة فذكر عز وجل في هذه السورة في مقابلة البخل إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر: 1] أي الخير الكثير، وفي مقابلة ترك الصلاة فَصَلِّ [الكوثر: 2] أي دم على الصلاة، وفي مقابلة الرياء لِرَبِّكَ [الكوثر: 2] أي لرضاه لا للناس وفي مقابلة منع الماعون وَانْحَرْ [الكوثر: 3] وأراد به سبحانه التصدق بلحوم الأضاحي. ثم قال: فاعتبر هذه المناسبة العجيبة انتهى فلا تغفل. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ وقرأ الحسن وطلحة وابن محيصن والزعفراني «أنطيناك» بالنون وهي على ما قال التبريزي لغة العرب العرباء من أولى قريش، وذكر غيره أنها لغة بني تميم وأهل اليمن وليست من الإبدال الصناعي في شيء. ومن كلامه صلّى الله عليه وسلم: «اليد العليا المنطية واليد السفلى المنطاة» وكتب عليه الصلاة والسلام لوائل: «أنطوا الثبجة- أي الوسط- في الصدقة» . الْكَوْثَرَ فيه أقوال كثيرة. فذهب أكثر المفسرين إلى أنه نهر في الجنة لقوله صلّى الله عليه وسلم في آخر الحديث المتقدم آنفا المروي عن الإمام أحمد ومسلم ومن معهما: «هل تدرون ما الكوثر؟» قالوا: الله تعالى ورسوله أعلم. قال: «هو نهر أعطانيه ربي في الجنة عليه خير كثير ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد الكواكب يختلج العبد منهم فأقول: يا رب إنه من أمتي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدث بعدك» الجزء: 15 ¦ الصفحة: 478 وقوله عليه الصلاة والسلام على ما أخرجه الإمام أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة وآخرون عن أنس عنه صلّى الله عليه وسلم: «دخلت الجنة فإذا أنا بنهر حافتاه خيام اللؤلؤ، فضربت بيدي إلى ما يجري فيه الماء فإذا مسك أذفر، قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاكه الله تعالى» . وجاء في حديث عن أنس أيضا قال: دخلت على رسول الله فقال: «قد أعطيت الكوثر» قلت: «يا رسول الله وما الكوثر؟ قال: «نهر في الجنة عرضه وطوله ما بين المشرق والمغرب لا يشرب منه أحد فيظمأ ولا يتوضأ منه أحد فيشعث أبدا، لا يشرب منه من أخفر ذمتي ولا من قتل أهل بيتي» . وروي عن عائشة أنها قالت: هو نهر في الجنة عمقه سبعون ألف فرسخ ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل، شاطئاه الدر والياقوت والزبرجد، خص الله تعالى به نبيه محمد صلّى الله عليه وسلم من بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وقالت: ليس أحد يدخل أصبعيه في أذنيه إلّا سمع خرير ذلك النهر . وهو على التشبيه البليغ. وقيل: هو حوض له عليه الصلاة والسلام في المحشر. وقول بعضهم الاختلاف في الروايات سببه ملاحظة اختلاف سرعة السير وعدمها وهو قبل الميزان والصراط عند بعض وبعدهما قريبا من باب الجنة حيث يحبس أهلها من أمته صلّى الله عليه وسلم ليتحاللوا من المظالم التي بينهم عند آخرين، ويكون على هذا في الأرض المبدلة. وقيل له صلّى الله عليه وسلم حوضان حوض قبل الصراط وحوض بعده ويسمى كل منهما على ما حكاه القاضي زكريا كوثرا وصحح رحمه الله تعالى أنه بعد الصراط، وأن الكوثر في الجنة وأن ماءه ينصب فيه ولذا يسمى كوثرا وليس هو من خواصه عليه الصلاة والسلام كالنهر السابق بل يكون لسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يرده مؤمنو أممهم. ففي حديث الترمذي: «إن لكل نبي حوضا وإنهم يتباهون أيهم أكثر واردة، وإني أرجو أن أكون أكثرهم واردة» . وهو كما قال حديث حسن غريب. وهذه الحياض لا يجب الإيمان بها كما يجب الإيمان بحوضه عليه الصلاة والسلام عندنا خلافا للمعتزلة النافين له لكون أحاديثه بلغت مبلغ التواتر بخلاف أحاديثها فإنها آحاد بل قيل: لا تكاد تبلغ الصحة. ورأيت في بعض الكتب أن الكوثر هو النهر الذي ذكره أولا وهو الحوض وهو على ظهر ملك عظيم يكون مع النبيّ صلّى الله عليه وسلم حيث يكون فيكون في المحشر إذ يكون عليه الصلاة والسلام فيه، وفي الجنة إذ يكون عليه الصلاة والسلام فيها، ولا يعجز الله تعالى شيء. وقيل: هو أولاده عليه الصلاة والسلام لأن السورة نزلت ردا على من عابه صلّى الله عليه وسلم وهم والحمد لله تعالى كثيرون قد ملؤوا البسيطة. وقال أبو بكر بن عباس ويمان بن وثاب: أصحابه وأشياعه صلّى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، وقيل: علماء أمته صلّى الله عليه وسلم وهم أيضا كثيرون في كل قطر وإن كانوا اليوم في بعض الأقطار والأمر لله تعالى أقل قليل. وعن الحسن أنه القرآن وفضائله لا تحصى. وقال الحسين بن الفضل: هو تيسير القرآن وتخفيف الشرائع. وقيل: هو الإسلام. وقال هلال: هو التوحيد. وقال عكرمة: هو النبوة. وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: هو نور قلبه صلّى الله عليه وسلم . وقيل هو العلم والحكمة. وقال ابن كيسان: هو الإيثار. وقيل هو الفضائل الكثيرة المتصف بها عليه الصلاة والسلام. وقيل المقام المحمود وقيل غير ذلك. وقد ذكر في التحرير ستة وعشرين قولا فيه وصحح في البحر قول النهر وجماعة أنه الخير الكثير والنعم الدنيوية والأخروية من الفضائل والفواضل، ورواه ابن جرير وابن عساكر عن مجاهد وهو المشهور عن الحبر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وقد أخرج البخاري وابن جرير والحاكم من طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: الكوثر الخير الذي أعطاه الله تعالى إياه عليه الصلاة والسلام. قال أبو بشر: قلت لسعيد فإن ناسا يزعمون أنه نهر في الجنة. قال: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله عز وجل إياه صلّى الله عليه وسلم. وحكي هذا الجواب عن ابن عباس نفسه أيضا وفيه إشارة إلى أن ما صح في الأحاديث من تفسيره صلّى الله عليه وسلم إياه بالنهر من باب التمثيل والتخصيص لنكتة وإلا فبعد أن صح الجزء: 15 ¦ الصفحة: 479 الحديث في ذلك بل كاد يكون متواترا كيف يعدل عنه إلى تفسير آخر؟ وكذا يقال في سائر ما في الأقوال السابقة وغيرها. وهو فوعل من الكثرة صيغة مبالغة الشيء الكثير كثرة مفرطة. قيل لأعرابية رجع ابنها من السفر: بم آب ابنك؟ قالت: بكوثر. وقال الكميت: وأنت كثير يا ابن مروان طيب ... وكان أبوك ابن العقائل كوثرا وفي حذف موصوفه ما لا يخفى من المبالغة على ما أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، وفي إسناد الإعطاء إليه دون الإيتاء إشارة إلى أن ذلك إيتاء على جهة التمليك فإن الإعطاء دونه كثيرا ما يستعمل في ذلك ومنه قوله تعالى لسليمان عليه السلام هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ [ص: 39] بعد قوله هَبْ لِي مُلْكاً [ص: 35] . وقيل فيه إشارة إلى أن المعطى وإن كان كثيرا في نفسه قليل بالنسبة إلى شأنه عليه الصلاة والسلام بناء على أن الإيتاء لا يستعمل إلّا في الشيء العظيم كقوله تعالى وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ [البقرة: 251] وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا [سبأ: 10] وآتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر: 87] والإعطاء يستعمل في القليل والكثير كما قال تعالى أَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى [النجم: 34] ففيه من تعظيمه عليه الصلاة والسلام ما فيه، وقيل التعبير بذلك لأنه بالتفضل أشبه بخلاف الإيتاء فإنه قد يكون واجبا ففيه إشارة إلى الدوام والتزايد أبدا لأن التفضل نتيجة كرم الله تعالى الغير المتناهي. وفي جعل المفعول الأول ضمير المخاطب دون الرسول أو نحوه إشعار بأن الإعطاء غير معلل بل هو من محض الاختيار والمشيئة. وفيه أيضا من تعظيمه عليه الصلاة والسلام بالخطاب ما لا يخفى. وجوز أن يكون في إسناد الإعطاء إلى «نا» إشارة إلى أنه مما سعى فيه الملائكة والأنبياء المتقدمون عليهم السلام، وفي التعبير بالماضي قيل إشارة إلى تحقق الوقوع، وقيل إلى إشارة تعظيم الإعطاء وأنه أمر مرعي لم يترك إلى أن يفعل بعد. وقيل: إشارة إلى بشارة أخرى كأن قيل: إنا هيأنا أسباب سعادتك قبل دخولك في الوجود فكيف نهمل أمرك بعد وجودك واشتغالك بالعبودية؟ وقيل: إشارة إلى أن حكم الله تعالى بالإغناء والإفقار والإسعاد والإشقاء ليس أمرا محدثا بل هو حاصل في الأزل. وبني الفعل على المبتدأ للتأكيد والتقوي، وجوز أن يكون للتخصيص على بعض الأقوال السابقة في الكوثر وفي تأكيد الجملة بأن ما لا يخفى من الاعتناء بشأن الخبر وقيل لرد استبعاد السامع الإعطاء لما أنه لم يعلل والمعطى في غاية الكثرة وجوز أن يكون لرد الإنكار على بعض الأقوال في الكوثر أيضا. والفاء في قوله تعالى فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن إعطاءه تعالى إياه عليه الصلاة والسلام ما ذكر من العطية التي لم يعطها أحدا من العالمين مستوجب للمأمور به أي استجاب أي فدم على الصلاة لربك الذي أفاض عليك ما أفاض من الخير خالصا لوجهه عز وجل خلاف الساهين عنها المرائين فيها أداء لحق شكره تعالى على ذلك فإن الصلاة جامعة لجميع أقسام الشكر، ولذا قيل فَصَلِّ دون «فاشكر» وَانْحَرْ البدن التي هي خيار أموال العرب باسمه تعالى وتصدق على المحاويج خلافا لمن يدعهم ويمنع منهم الماعون كذا قيل. وجعل السورة عليه كالمقابلة لما قبلها كما فعل الإمام، ولم يذكروا مقابل التكذيب بالدين. وقال الشهاب الخفاجي: إن الكوثر بمعنى الخير الكثير الشامل للأخروي يقابل ذلك لما فيه من إثباته ضمنا وكذا إذا كان بمعنى النهر والحوض والأمر على تفسيره بالإسلام وتفسير الدين به أيضا في غاية الظهور، والمراد بالصلاة عند أبي مسلم الصلاة المفروضة. وأخرج ذلك ابن جرير وابن أبي حاتم عن الضحاك وأخرجه الأول وابن المنذر عن ابن عباس، وذهب جمع إلى أنها جنس الصلاة. وقيل: المراد بها صلاة العيد الجزء: 15 ¦ الصفحة: 480 وبالنحر التضحية. أخرج ابن جرير وابن مردويه عن سعيد بن جبير قال: كانت هذه الآية يوم الحديبية أتاه جبريل عليهما الصلاة والسلام فقال انحر وارجع، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم فخطب خطبة الأضحى ثم ركع ركعتين ثم انصرف إلى البدن فنحرها فذلك قوله تعالى فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ واستدل به على وجوب تقديم الصلاة على التضحية وليس بشيء وأخرج عبد الرزاق وغيره عن مجاهد وعطاء وعكرمة أنهم قالوا: المراد صلاة الصبح بمزدلفة والنحر بمنى والأكثرون على أن المراد بالنحر نحر الأضاحي واستدل به بعضهم على وجوب الأضحية لمكان الأمر مع قوله تعالى فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام: 153، 155] وأجيب بالتخصص بقوله صلّى الله عليه وسلم: «ثلاث كتبت عليّ ولم تكتب عليكم: الضحى والأضحية والوتر» وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي الأحوص أنه قال وَانْحَرْ أي استقبل القبلة بنحرك وإليه ذهب الفرّاء وقال: يقال منازلهم تتناحر أي تتقابل، وأنشد قوله: أبا حكم هل أنت عم مجالد ... وسيد أهل الأبطح المتناحر وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: لما نزلت هذه السورة على النبي صلّى الله عليه وسلم إِنَّا أَعْطَيْناكَ إلخ قال رسول الله عليه الصلاة والسلام لجبريل عليه السلام: «ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي» ؟ فقال: إنها ليست بنحيرة ولكن يأمرك إذا تحرمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبرت وإذا ركعت وإذا رفعت رأسك من الركوع فإنها صلاتنا وصلاة الملائكة الذين هم في السماوات السبع، وإن لكل شيء زينة وزينة الصلاة رفع اليدين عند كل تكبيرة . وأخرج ابن جرير عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أنه قال في ذلك: ترفع يديك أول ما تكبر في الافتتاح. وأخرج البخاري في تاريخه والدارقطني في الافراد وآخرون عن الأمير كرم الله تعالى وجهه أنه قال: ضع يدك اليمنى على ساعد اليسرى ثم ضعهما على صدرك في الصلاة. وأخرج نحوه أبو الشيخ والبيهقي في سننه عن أنس مرفوعا ورواه جماعة عن ابن عباس- وروي عباس- وروي عن عطاء أن معناه: اقعد بين السجدتين حتى يبدو نحرك. وعن الضحاك وسليمان التيمي أنهما قالا: معناه ارفع يديك عقيب الصلاة عند الدعاء إلى نحرك ولعل في صحة الأحاديث عند الأكثرين مقالا وإلّا فما قالوا الذي قالوا وقد قال الجلال السيوطي في حديث عليّ كرم الله تعالى وجهه الأول أنه أخرجه ابن أبي حاتم والحاكم في المستدرك بسند ضعيف وقال فيه ابن كثير إنه حديث منكر جدا بل أخرجه ابن الجوزي في الموضوعات. وقال الجلال في الحديث الآخر عن الأمير كرم الله تعالى وجهه: أخرجه ابن أبي حاتم والحاكم بسند لا بأس به، ويرجع قول الأكثرين إن لم يصح عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم ما يخالفه أن الأشهر استعمال النحر في نحر الإبل دون تلك المعاني وأن سنة القرآن ذكر الزكاة بعد الصلاة وما ذكر بذلك المعنى قريب منها بخلافه على تلك المعاني، وأن ما ذكروه من المعاني يرجع إلى آداب الصلاة أو أبعاضها فيدخل تحت فَصَلِّ لِرَبِّكَ ويبعد عطفه عليه دون ما عليه الأكثر مع أن القوم كانوا يصلون وينحرون للأوثان فالأنسب أن يؤمر صلّى الله عليه وسلم في مقابلتهم بالصلاة والنحر له عز وجل، هذا واعتبار الخلوص في فصل إلخ كما أشرنا إليه لدلالة السياق عليه، وقيل لدلالة لام الاختصاص. وفي الالتفات عن ضمير العظمة إلى خصوص الرب مضافا إلى ضميره عليه الصلاة والسلام تأكيد لترغيبه صلّى الله عليه وسلم في أداء ما أمر به على الوجه الأكمل. إِنَّ شانِئَكَ أي مبغضك كائنا من كان هُوَ الْأَبْتَرُ الذي لا عقب له حيث لا يبقى منه نسل ولا حسن ذكر، وأما أنت فتبقى ذريتك وحسن صيتك وآثار فضلك إلى يوم القيامة ولك في الآخرة ما لا يندرج تحت البيان. وأصل البتر القطع وشاع في قطع الذنب وقيل لمن لا عقب له أبتر على الاستعارة شبه الولد الجزء: 15 ¦ الصفحة: 481 والأثر الباقي بالذنب لكونه خلفه فكأنه بعده وعدمه بعدمه وفسره قتادة بالحقير الذليل وليس بذاك كما يفصح عنه سبب النزول وفيها عليه دلالة على أن أولاد البنات من الذرية كما قال غير واحد، واسم الفاعل أعني شانىء هاهنا قيل بمعنى الماضي ليكون معرفة بالإضافة فيكون الأبتر خبره ولا يشكل بمن كان يبغضه عليه الصلاة والسلام قبل الإيمان من أكابر الصحابة رضي الله تعالى عنهم ثم هداه الله تعالى للإيمان وذاق حلاوته فكان صلّى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه وأعز عليه من روحه ولم يكن أبتر لما أن الحكم على المشتق يفيد علية مأخذه فيفيد الكلام أن الأبترية معللة بالبغض فتدور معه، وقد زال في أولئك الأكابر رضي الله تعالى عنهم. واختار بعضهم في دفع ذلك حمل اسم الفاعل على الاستمرار فهم لم يستمروا على البغض والظاهر أنه انقطع نسل كل من كان مبغضا له عليه الصلاة والسلام حقيقة وقيل انقطع حقيقة أو حكما لأن من أسلم من نسل المبغضين انقطع انتفاع أبيه منه بالدعاء ونحوه لأنه لا عصمة بين مسلم وكافر. وما أشرنا إليه من أن هو ضمير فصل هو الأظهر وجوز أن يكون مبتدأ خبره الْأَبْتَرُ والجملة خبر شانِئَكَ وحينئذ يجوز صناعة أن يكون بمعنى الحال أو الاستقبال وحمل شانِئَكَ على الجنس هو الظاهر وخصه بعضهم بمن جاء في سبب النزول واحدا أو متعددا وفيه روايات أخرج ابن سعد وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كان أكبر ولد رسول الله صلّى الله عليه وسلم القاسم ثم زينب ثم عبد الله ثم أم كلثوم ثم فاطمة ثم رقية، فمات القاسم عليه السلام وهو أول ميت من ولده عليه الصلاة والسلام بمكة، ثم مات عبد الله عليه السلام فقال العاص بن وائل السهمي: قد انقطع نسله فهو ابتر فأنزل الله تعالى إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير عن شمر بن عطية قال: كان عقبة بن أبي معيط يقول إنه لا يبقى للنبي صلّى الله عليه وسلم عقب وهو أبتر، فأنزل الله تعالى فيه إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي أيوب قال: لما مات إبراهيم ابن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مشى المشركون بعضهم إلى بعض فقالوا: إن هذا الصابىء قد بتر الليلة، فأنزل الله تعالى إِنَّا أَعْطَيْناكَ السورة. وأخرج عبد بن حميد وغيره عن ابن عباس أنه قال في الآية هو أبو جهل أي لأنها نزلت فيه وهذا المقدار في الرواية عن ابن عباس لا بأس به، وحكاية عنه أنه لما مات إبراهيم ابن رسول الله صلّى الله عليه وسلم خرج أبو جهل إلى أصحابه فقال: بتر محمد عليه الصلاة والسلام، فأنزل الله تعالى إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ لا تكاد تصح لأن هلاك اللعين أبي جهل على التحقيق قبل وفاة إبراهيم عليه السلام. وعن عطاء أنها نزلت في أبي لهب والجمهور على نزولها في العاصي بن وائل وأيّا ما كان فلا ريب في ظهور عموم الحكم والجملة كالتعليل لما يفهمه الكلام فكأنه قيل: إنا أعطيناك ما لا يدخل تحت الحصر من النعم فصل وانحر خالصا لوجه ربك ولا تكترث بقول الشانئ الكريه فإنه هو الأبتر لا أنت. وتأكيدها قيل للاعتناء بشأن مضمونها وقيل هو مثله في نحو قوله تعالى وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ [المؤمنون: 27] وذلك لمكان فلا تكترث إلخ المفهوم من السياق. وفي التعبير بالأبتر دون المبتور على ما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ما لا يخفى من المبالغة وعمم هذا الشيخ عليه الرحمة كلا من جزأي الجملة، فقال: إنه سبحانه يبتر شانىء رسول الله صلّى الله عليه وسلم من كل خير فيبتر أهله وماله فيخسر ذلك في الآخرة، ويبتر حياته فلا ينتفع بها ولا يتزود فيها صالحا لمعاده، ويبتر قلبه فلا يعي الخير ولا يؤهله لمعرفته تعالى ومحبته والإيمان برسله عليهم السلام، ويبتر أعماله فلا يستعمله سبحانه في طاعته، ويبتره من الأنصار فلا يجد له ناصرا ولا عونا، ويبتره من جميع القرب فلا يذوق لها طعما ولا يجد لها حلاوة وإن باشرها بظاهره فقلبه شارد عنها وهذا جزاء كل من شنأ ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلم لأجل هواه كمن تأول آيات الصفات أو أحاديثها على غير مراد الله تعالى ومراد رسوله عليه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 482 الصلاة والسلام أو تمنى أن لا تكون نزلت أو قيلت. ومن أقوى العلامات على شنآنه نفرته عنها إذا سمعها حين يستدل بها السلفي على ما دلت عليه من الحق وأي شنآن للرسول عليه الصلاة والسلام أعظم من ذلك، وكذلك أهل السماع الذين يرقصون على سماع الغناء والدفوف والشبابات فإذا سمعوا القرآن يتلى أو قرىء في مجلسهم استطالوه واستثقلوه، وكذلك من آثر كلام الناس وعلومهم على القرآن والسنة إلى غير ذلك ولكل نصيب من الانتبار على قدر شنآنه انتهى وفي بعضه نظر لا يخفى. وقرأ ابن عباس «شنيك» بغير ألف فقيل مقصور من شاني كما قالوا برد في بارد وبر في بار، وجوز أن يكون بناء على فعل. هذا وأعلم أن هذه السورة الكريمة على قصرها وإيجازها قد اشتملت على ما ينادى على عظيم إعجازها، وقد أطال الإمام فيها الكلام وأتى بكثير مما يستحسنه ذو والأفهام وذكر أن قوله تعالى وَانْحَرْ متضمن الاخبار بالغيب وهو سعة ذات يده صلّى الله عليه وسلم وأمته وقيل مثله في ذلك إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ. وذكر أنه روي أن مسيلمة الكذاب عارضها بقوله إنا أعطيناك الزماجر فصل لربك وهاجر إن مبغضك رجل كافر. ثم بيّن الفرق من عدة أوجه وهو لعمري مثل الصبح ظاهر، ومن أراد الاطلاع على أزيد مما ذكر فليرجع إلى تفسير الإمام والله تعالى ولي التوفيق والإنعام. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 483 سورة الكافرون وتسمى المقشقشة كما أخرجه ابن أبي حاتم على زرارة بن أوفى وهو من قشقش المريض إذا صح وبرأ أي المبرئة من الشرك والنفاق. وتسمى أيضا كما في جمال القراء سورة العبادة وكذا تسمى سورة الإخلاص وهي عند ابن عباس والجمهور مكية. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير أنها مدنية وحكاه في البحر عن قتادة على خلاف ما في مجمع البيان من أنه قائل بمكيتها وأيّا ما كان فقول الدواني إنها مكية بالاتفاق ليس في محله. وآيها ست بلا خلاف وفيها إعلان ما فهم مما قبلها من الأمر بإخلاص العبادة له عز وجل ويكفي ذلك في المناسبة بينهما. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لجبلة بن حارثة وهو أخو زيد بن حارثة وقد قال له عليه الصلاة والسلام علمني شيئا أقوله عند منامي نحو ذلك كما في حديث أخرجه الإمام أحمد والطبراني في الأوسط، وأمر صلّى الله عليه وسلم أنسا بأن يقرأها عند منامه أيضا معللا لذلك بما ذكر كما أخرجه البيهقي في الشعب وأمر عليه الصلاة والسلام خبابا بذلك أيضا كما في حديث أخرجه البزار وابن مردويه. وأخرج أبو يعلى والطبراني عن ابن عباس مرفوعا «ألا أدلكم على كلمة تنجيكم من الإشراك بالله تعالى تقرءون قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [الكافرون: 1] عند منامكم» . وروى الديلمي عن عبد الله بن جراد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «المنافق لا يصلي الضحى ولا يقرأ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ ويسن قراءتها أيضا مع سورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1] في ركعتي سنة الفجر التي هي عند الأكثرين أفضل السنن الرواتب وكذا في الركعتين بعد المغرب (1) وهي حجة على من قال من الأئمة إنه لا يسن في سنة الفجر ضم سورة إلى الفاتحة. وجاء في حديث أخرجه الطبراني في الأوسط عن ابن عمر مرفوعا وفي آخر أخرجه في الصغير عن سعد بن أبي وقاص كذلك أنها تعدل ربع القرآن ووجه ذلك الإمام بأن القرآن مشتمل على الأمر بالمأمورات والنهي عن المحرمات وكل منهما إما أن يتعلق بالقلب أو بالجوارح فيكون أربعة أقسام وهذه السورة مشتملة على النهي عن المحرمات المتعلقة بالقلب فتكون كربع   (1) قوله وهي حجة الضمير عائد على مضروب عليه في نسخة المؤلف نصه، فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجة وابن حبان وغيرهم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: رمقت النبي صلّى الله عليه وسلم خمسا وعشرين مرة- وفي لفظ شهرا- فكان يقرأ في الركعتين قبل الفجر والركعتين بعد المغرب ب قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وفي حديث أخرجه ابن ماجة وابن حبان عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه عليه الصلاة والسلام كان يقول: «نعم السورتان مما يقرآن في الركعتين قبل الفجر قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ إلى غير ذلك من الأخبار وهي حجة إلخ اه منه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 484 القرآن، وتعقب بأن العبادة أعم من القلبية والقالبية والأمر والنهي المتعلقان بها لا يختصان بالمأمورات والمنهيات القلبية والقالبية، وأن مقاصد القرآن العظيم لا تنحصر في الأمر والنهي المذكورين بل هو مشتمل على مقاصد أخرى كأحوال المبدأ والمعاد ومن هنا قيل لعل الأقرب أن يقال إن مقاصد القرآن التوحيد والأحكام الشرعية وأحوال المعاد والتوحيد عبارة عن تخصيص الله تعالى بالعبادة وهو الذي دعا إليه الأنبياء عليهم السلام أولا بالذات والتخصيص إنما يحصل بنفي عبادة غيره تعالى وعبادة الله عز وجل إذ التخصيص له جزآن النفي عن الغير والإثبات للمخصص به، فصارت المقاصد بهذا الاعتبار أربعة. وهذه السورة تشتمل على ترك عبادة غيره سبحانه والتبري منها فصارت بهذا الاعتبار ربع القرآن ولكونها ليس فيها التصريح بالأمر بعبادة الله عز وجل كما أن فيها التصريح بترك عبادة غيره تعالى لم تكن كنصف القرآن وقيل: إن مقاصد القرآن صفاته تعالى والنبوات والأحكام والمواعظ وهي مشتملة على أساس الأول وهو التوحيد ولذا عدلت ربعه، وذكر بعض أجلّة أحبابي المعاصرين أوجها في ذلك أحسنها فيما أرى أن الدين الذي تضمنه القرآن أربعة أنواع: عبادات ومعاملات وجنايات ومناكحات، والسورة متضمنة للنوع الأول فكانت ربعا. وتعقب بأنه أراد فكانت ربعا من القرآن فلا نسلم صحة تفريعه على كون الدين الذي تضمنه القرآن أربعة أنواع وإن أراد فكانت ربعا من الدين فليس الكلام فيه إنما الكلام في كونها تعدل ربعا من القرآن إذ هو الذي تشعر به الأخبار على اختلاف ألفاظها والتلازم بينهما غير مسلم على أن المقابلة الحقيقية بين ما ذكر من الأنواع غير تامة. وأجيب باحتمال أنه أراد أن مقاصد القرآن هي تلك الأربعة التي هي الدين ولا يبعد أن يكون ما تضمن واحدا منها عدل القرآن كله مقاصده وغيرها. ولا يرد على الحصر أن من مقاصده أحوال المبدأ والمعاد فبدخول ذلك في العبادات بنوع عناية وعدم التقابل الحقيقي لا يضر إذ يكفي في الغرض عدّ أهل العرف تلك الأمور متقابلة ولو بالاعتبار فتأمل جميع ذلك والله تعالى الهادي لأقوم المسالك. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ قال أجلة المفسرين: المراد بهم كفرة من قريش مخصوصون قد علم الله تعالى أنهم لا يتأتى منهم الإيمان أبدا. أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف عن سعيد بن ميناء مولى أبي البختري قال: لقي الوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل والأسود بن المطلب وأمية بن خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد هلم فلتعبد ما نعبد ونعبد ما تعبد ونشترك نحن وأنت في أمرنا كله، فإن كان الذي نحن عليه أصح من الذي أنت عليه كنت قد أخذت منه حظا، وإن كان الذي أنت عليه أصح من الذي نحن عليه كنا قد أخذنا منه حظا، فأنزل الله تعالى قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ حتى انقضت السورة . وفي رواية أن رهطا من عتاة قريش قالوا له صلّى الله عليه وسلم: هلم فاتبع ديننا ونتبع دينك تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة. فقال عليه الصلاة والسلام: «معاذ الله تعالى أن أشرك بالله سبحانه غيره» . فقالوا: فاستلم بعض آلهتنا نصدقك ونعبد إلهك، فنزلت فعدا صلّى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش فقام عليه الصلاة والسلام على رؤوسهم فقرأها عليهم فأيسوا . ولعل نداءهم «بيا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 485 أيها» للمبالغة في طلب إقبالهم لئلا يفوتهم شيء مما يلقى إليهم، «وبالكافرون» دون الذين كفروا لأن الكفر كان دينهم القديم ولم يتجدد لهم، أو لأن الخطاب مع الذين يعلم استمرارهم على الكفر فهو كاللازم لهم أو للمسارعة إلى ذكر ما يقال لهم لشدة الاعتناء به وبه دون المشركين مع أنهم عبدة أصنام والأكثر التعبير عنهم بذلك لأن ما ذكر أنكى لهم فيكون أبلغ في قطع رجائهم الفارغ. وقيل: هذا للإشارة إلى أن الكفر كله ملة واحدة ولا يبعد أن يكون في هذه الإشارة إنكاء لهم أيضا وفي ندائه عليه الصلاة والسلام بذلك في ناديهم ومكان بسطة أيديهم دليل على عدم اكتراثه عليه الصلاة والسلام بهم إذ المعنى قل يا محمد، والمراد حقيقة الأمر خلافا لصاحب التأويلات للكافرين يا أيها الكافرون لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ يتراءى أن فيه تكرارا للتأكيد، فالجملة الثالثة المنفية على ما في البحر توكيد للأولى على وجهه أبلغ لاسمية المؤكدة، والرابعة توكيد للثانية وهو الذي اختاره الطيبي وذهب إليه الفرّاء وقال: إن القرآن نزل بلغة العرب ومن عادتهم تكرار الكلام للتأكيد والإفهام، فيقول المجيب: بلى بلى والممتنع لا لا. وعليه قوله تعالى كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ [التكاثر: 3] وأنشد قوله: كائن وكم عندي لهم من صنيعة ... أيادي سنوها عليّ وأوجبوا وقوله: نعق الغراب ببين ليلى غدوة ... كم كم وكم بفراق ليلى ينعق وقوله: هلا سألت جموع كن ... دة يوم ولوا أين أينا وهو كثير نظما ونثرا، وفائدة التأكيد هاهنا قطع أطماع الكفار وتحقيق أنهم باقون على الكفر أبدا. واعترض بأن تأكيد الجمل لا يكون مع العاطف إلّا بثم وكأن القائل بذاك قاس الواو على ثم، والظاهر أن من قال بالتأكيد جعل الجملة الرابعة معطوفة على الثالثة، وجعل المجموع معطوفا على مجموع الجملتين الأوليين فهناك مجموعان متعاطفان يؤكد ثانيهما أولهما ولمغايرة الثاني للأول بما فيه من الاستمرار عطف عليه بالواو فلا يرد ما ذكر، ويتضمن ذلك معنى تأكيد الجزء الأول من الثاني للجزء الأول من الأول وتأكيد الجزء الثاني من الثاني للجزء الثاني من الأول، وإلّا فظاهر ما في البحر مما لا يكاد يجوز كما لا يخفى والذي عليه الجمهور أنه لا تكرار فيه لكنهم اختلفوا فقال الزمخشري لا أَعْبُدُ أريد به نفي العبادة فيما يستقبل لأن لا لا تدخل إلّا على مضارع في معنى الاستقبال كما أن ما لا تدخل إلّا على مضارع في معنى الحال، والمعنى لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم، ولا أنتم فاعلون فيه ما أطلب منكم من عبادة إلهي، وما كنت عابدا قط فيما سلف ما عبدتم فيه، وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته. والظاهر أنه اعتبر في الجملة الأخيرة استمرار النفي وأنه حمل المضارع فيها على إفادة الاستمرار والتصوير، وفي الثانية استغرق النفي للأزمنة الماضية. وقال الطيبي: إنه جعل القرينتين للأوليين للاستقبال والأخريين للماضي، واعترض عليه بأن الحصرين اللذين ذكرهما في لا وما غير صحيح وإن كانا يشعر بهما ظاهر كلام سيبويه. وقال الخفاجي: ما ذكر أغلبي أو مقيد بعدم القرينة القائمة على ما يخالفه، أو هو كلي ولا حجر في التجوز والحمل على غيره لمقتض كدفع التكرار هنا وإن قيل بتحقق الاستغراب على القول باشتراطه في الحكاية في عابد الأول وعدم ضرر فقده في الثاني لأن النصب به للمشاكلة وقيل: القرينتان الأوليان للاستقبال كما مر، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 486 والأخريان للحال واختاره أبو حيان أي ولست في الحال بعابد معبوديكم، ولا أنتم في الحال بعابدي معبودي. وقيل بالعكس وعليه كلام الزجاج ومحيي السنة. وقيل الأوليان للماضي والأخريان للمستقبل نقله ابن كثير عن حكاية البخاري وغيره، ونقل أيضا عن شيخ الإسلام ابن تيمية أن المراد بقوله سبحانه لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ نفي الفعل لأنها جملة فعلية وبقوله تعالى وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ نفي قبوله صلّى الله عليه وسلم لذلك بالكلية لأن النفي بالجملة الاسمية آكد فكأنه نفى الفعل وكونه عليه الصلاة والسلام قابلا لذلك ومعناه نفي الوقوع ونفي إمكانه الشرعي، ونوقش في إفادة الجملة الاسمية نفي القبول ولا يبعد أن يقال إن معنى الجملة الفعلية نفي الفعل في زمان معين، والجملة الاسمية معناها نفي الدخول تحت هذا المفهوم مطلقا من غير تعرض للزمان كأنه قيل: أنا ممن لا يصدق عليه هذا المفهوم أصلا وأنتم ممن لا يصدق عليه ذلك المفهوم فتدبر. وقيل: الأوليان لنفي الاعتبار الذي ذكره الكافرون، والأخريان للنفي على العموم أي لا أعبد ما تعبدون رجاء أن تعبدوا الله تعالى، ولا أنتم عابدون رجاء أن أعبد صنمكم. ثم قيل: ولا أنا عابد صنمكم لغرض من الأغراض بوجه من الوجوه، وكذا أنتم لا تعبدون الله تعالى لغرض من الأغراض وإيثار ما في ما أعبد قيل على جميع الأقوال السابقة على من لأن المراد الصفة كأنه قيل ما أعبد من المعبود العظيم الشأن الذي لا يقادر قدر عظمته، وجوز أن يقال لما أطلقت ما على الأصنام أولا وهو إطلاق في محزه أطلقت على المعبود بحق للمشاكلة ومن يقول إن ما يجوز أن تقع على من يعلم ونسب إلى سيبويه لا يحتاج إلى ما ذكر وقال أبو مسلم: ما في الأوليين بمعنى الذي مفعول به، والمقصود المعبود أي لا أعبد الأصنام ولا تعبدون الله تعالى. وفي الأخريين مصدرية أي ولا أنا عابد مثل عبادتكم المبنية على الشك وإن شئت قلت على الشرك المخرج لها عن كونها عبادة حقيقة ولا أنتم عابدون مثل عبادتي المبنية على اليقين وإن شئت قلت على التوحيد والإخلاص، وعليه لا يكون تكرار أيضا. وقال بعض الأجلّة في هذا المقام إن قوله تعالى لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وقوله سبحانه وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ إما كلاهما نفي الحال أو كلاهما نفي الاستقبال، أو أحدهما للحال والآخر للاستقبال، وعلى التقادير فلفظ ما إما مصدرية في الموضعين وإما موصولة أو موصوفة فيهما، وإما مصدرية في أحدهما وموصولة أو موصوفة في الآخر وهذه ستة احتمالات حاصلة من ضرب الثلاثة في الاثنين. ولم يلتفت إلى تقسيم صورة الاختلاف إلى الفرق بين الأولى والأخرى، ولا إلى الفرق بين الموصولة والموصوفة لتكثر الأقسام لأن صور الاختلاف متساوية الاقدام في دفع التكرار، ومؤدى الموصولة والموصوفة متقاربان فيكتفى بإحداهما وكذا الحال في قوله تعالى وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ في الموضعين ومعلوم أنه لا تكرار في صورة الاختلاف سواء كان باعتبار الحال والاستقبال أو باعتبار كون ما في أحدهما موصولة أو موصوفة وفي الآخر مصدرية ونفي عبادتهم في الحال أو الاستقبال معبوده عليه الصلاة والسلام بناء على عدم الاعتداد بعبادتهم لله تعالى مع الإشراك المحبط لها وجعلها هباء منثورا كما قيل: إذا صافى صديقك من تعادي ... فقد عاداك وانقطع الكلام ومن هنا قال بعض الأفاضل في إخراج الآية عن التكرار: يحتمل أن يكون المراد من قوله تعالى لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ نفي عبادة الأصنام، ومن قوله تعالى وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ نفي عبادة الله تعالى من غير تعرض لشيء آخر، ولما كان مظنة أن يقولوا لغفلة عن المراد أو نحوها كيف يسوغ لك أن تنفي عنك عبادة ما نعبد وعنا عبادة ما تعبد ونحن أيضا نعبد الله تعالى غاية ما في الباب أنا نعبد معه غيره، أردف ذلك الجزء: 15 ¦ الصفحة: 487 بقوله سبحانه وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ إلخ للإشارة إلى أنهم ما عبدوا الله حقيقة وإنما عبدوا شيئا قالوا إنه الله، والله عز وجل وراء ذلك أي ولا أنا عابد في وقت من الأوقات الإله الذي عبدتم لأنكم عبدتم شيئا تخيلتموه وذلك بعنوان ما تخيلتم ليس بالإله الذي أعبده، ولا أنتم عابدون في وقت من الأوقات ما أنا على عبادته لأني إنما أعبد الإله المتصف بالصفات التي قام البرهان على أنها صفات الإله. النفس الأمري ويعلم منه وجه غير ما تقدم للتعبير بالكافرون دون المشركون وكأنه لم يؤت بالقرينتين الأوليين بهذا المعنى ويكتفى بهما عن الأخريين لأنهما أوفق بجوابهم مع أن هذا الأسلوب أنكى لهم فلا تغفل. ومن الناس من اختار كون ما في القرينتين الأوليين موصولة مفعولا به لما قبلها والمراد بها أولا آلهتهم وثانيا إلهه عليه الصلاة والسلام، والمراد نفي العبادة ملاحظا معها التعلق بما تعلقت به من المفعول بل هو المقصود ومحط النظر كما يقتضي ذلك وقوع القرينتين في الجواب، ويعتبر الاستقبال رعاية للغالب في استعمال لا داخلة على المضارع مع كونه أوفق بالجواب أيضا، ويكون قد تم بهم فكأنه قيل لا أعبد في المستقبل ما تعبدون في الحال من الآلهة أي لا أحدث ذلك حسبما تطلبونه مني وتدعوني إليه، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد في الحال وكونها في الأخريين مصدرية مؤولة مع ما بعدها بمصدر وقع مفعولا مطلقا لما قبل كما فعل أبو مسلم ليتضمن الكلام الإشارة إلى بيان حال العبادة في نفسها من غير نظر إلى تعلقها بالمفعول وإن كانت لا تخلو عنه في الواقع إثر الإشارة إلى بيان حالها مع ملاحظة تعلقها بالمفعول، ويراد استمرار النفي في كلتيهما كما في قول تعالى لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 62 وغيرها] وفي ذلك من إنكائهم ما ليس في الاقتصار على ما تم به الجواب، فكأنه قيل: ولا أنا عابد على الاستمرار عبادة مثل عبادتكم التي أذهبتم بها أعماركم لأن عبادتي مأمور بها وعبادتكم منهي عنها، ولا أنتم عابدون على الاستمرار عبادة مثل عبادتي التي أنا مستمر عليها لأنكم الذين خذلهم الله تعالى وختم على قلوبهم وإني الحبيب المبعوث بالحق، فلا زلتم في عبادة منهي عنها ولا زلت في عبادة مأمور بها ولك أن تعتبر الفرق بين العبادتين بوجه آخر، واعتبار الاستمرار في ما أَعْبُدُ يشعر به العدول عن ما عبدت الذي يقتضيه ما عبدتم قبله إليه، وعن العدول في الثانية إلى ذلك لأن أنواع عبادته عليه الصلاة والسلام لم تكن تامة بعد بل كانت تتجدد لها أنواع أخر فأتى بما يفيد الاستمرار التجددي للإشارة إلى حقية جميع ما يأتي به صلّى الله عليه وسلم من ذلك. وقال الزمخشري: لم يقل ما عبدت كما قيل ما عبدتم لأنهم كانوا يعبدون الأصنام قبل البعث وهو عليه الصلاة والسلام لم يكن يعبد الله تعالى في ذلك الوقت، وتعقب بأن فيه نظرا لما ثبت أنه عليه الصلاة والسلام كان يتحنث في غار حراء قبل البعثة. ونص أبو الوفاء على ابن عقيل على أنه صلّى الله عليه وسلم كان متدينا قبل بعثه بما يصح عنه أنه من شريعة إبراهيم عليه السلام، وأما بعد البعث فقال ابن الجوزي في كتاب الوفاء: فيه روايتان عن الإمام أحمد إحداهما أنه كان متعبدا بما صح من شرائع من قبله بطريق الوحي لا من جهتهم ولا نقلهم ولا كتبهم المبدلة، واختارها أبو الحسن التميمي وهو قول أصحاب أبي حنيفة الثانية إن لم يكن متعبد إلّا بما يوحى إليه من شريعته وهو قول المعتزلة والأشعرية، ولأصحاب الشافعي وجهان كالروايتين، والقائلون بأنه عليه الصلاة والسلام متعبد بشرع من قبله اختلفوا في التعيين فقيل: كان متعبدا بشريعة إبراهيم عليه السلام وعليه أصحاب الشافعي، وقيل بشريعة موسى عليه السلام إلا ما نسخ في شرعنا. وظاهر كلام أحمد أنه صلّى الله عليه وسلم كان متعبدا بكل ما صح أنه شريعة لنبي قبله ما لم يثبت نسخه لقوله تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 90] وقال ابن قتيبة: لم تزل العرب على بقايا دين إسماعيل عليه السلام كالحج والختان وإيقاع الطلاق الثلاث والدية والغسل من الجزء: 15 ¦ الصفحة: 488 الجنابة وتحريم المحرم بالقرابة والصهر، وكان عليه الصلاة والسلام على ما كانوا عليه من الإيمان بالله تعالى والعمل بشرائعهم انتهى. والمعتزلة لم يجوزوا ذلك لزعمهم أن فيه مفسدة وهو إيجاب النفرة. نعم من أصولهم وجوب التعبد العقلي بالنظر في آيات الله تعالى وأدلة توحيده سبحانه ومعرفته عز وجل ولا يمكن أن يخلى صلّى الله عليه وسلم بذلك. وفي الكشف العبادة قد تطلق على أعمال الجوارح الواقعة على سبيل القربة فالإيمان والنية والإخلاص شروط ومنه لفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد. واختلف أنه عليه الصلاة والسلام كان متعبدا بهذا المعنى قبل نبوته بشر أو لا فميل الإمام فخر الدين وجماعة من الشافعية وأبي الحسين البصري وأتباعه إلى أنه صلّى الله عليه وسلم لم يكن متعبدا، وأجابوا عن الطواف والتحنث وغيرهما من المكارم أنها لا تحرم من غير شرع حتى يقال الآتي بها لا بد أن يكون متعبدا بل هي من اقتضاء العادات المستمرة والمكارم الغريزية دون نظر إلى قربة، والزمخشري اختار ذلك القول وعليه بنى تفسيره. وقد ظهر أنه لم يخالف أصله في وجوب التعبد العقلي بالنظر في الآيات وأدلة التوحيد والمعرفة، ثم قال: والظاهر حمل ما أَعْبُدُ على إفادة الاستمرار والتصوير على أنهم ما كانوا ينكرون ما كان عليه صلّى الله عليه وسلم فيما مضى عبادة كانت أو لا، بل كانوا يعظمونه ويلقبونه بالأمين إنما كان المنكر ما كان عليه بعد النبوة فلذلك قيل ثانيا وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ إذ لو قيل ما عبدت لم يطابق المقام، وفيه أن ما كانوا يتوهمونه من موافقته عليه الصلاة والسلام قبل النبوة لم يكن صحيحا بل إنما كان ذلك لأنه لم يكن صلّى الله عليه وسلم مأمورا بالدعوة انتهى. فتدبره. وزعم بعضهم أن تغاير الأساليب في هذه السورة لتغاير أحوال الفريقين وليس بشيء، وفي تكليف مثل هؤلاء المخاطبين بما ذكر على القول بإفادته الاستمرار على الكفر بالإيمان بحث مذكور في كتب الأصول إن أردته فارجع إليه وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة تبت إشارة ما إلى ذلك. وقوله تعالى لَكُمْ دِينُكُمْ هو عند الأكثرين تقرير لقوله تعالى لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وقوله تعالى وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ كما أن قوله تعالى وَلِيَ دِينِ عندهم تقرير لقوله تعالى وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ والمعنى أن دينكم وهو الإشراك مقصور على الحصول لكم لا يتجاوزه إلى الحصول كما تطمعون فيه فلا تعلقوا به أمانيكم الفارغة فإن ذلك من المحالات، وأن ديني الذي هو التوحيد مقصور على الحصول لي لا يتجاوزه إلى الحصول لكم أيضا لأن الله تعالى قد ختم على قلوبكم لسوء استعدادكم أو لأنكم علقتموه بالمحال الذي هو عبادتي لآلهتكم أو استلامي لها، أو لأن ما وعدتموه عين الإشراك وحيث إن مقصودهم شركة الفريقين في كلتا العبادتين كان القصر المستفاد من تقديم المسند قصر إفراد حتما. وجوز أن يكون هذا تقريرا لقوله تعالى وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ والآية على ما ذكر محكمة غير منسوخة كما لا يخفى أو المراد المتاركة على معنى إني نبي مبعوث إليكم لأدعوكم إلى الحق والنجاة، فإذا لم تقبلوا مني ولم تتبعوني فدعوني كفافا ولا تدعوني إلى الشرك فهي على هذا كما قال غير واحد منسوخة بآية السيف. وفسر الدين بالحساب أي لكم حسابكم ولي حسابي لا يرجع إلى كل منا من عمل صاحبه أثر. وبالجزاء أي لكم جزاؤكم ولي جزائي. قيل: والكلام على الوجهين استئناف بياني كأنه قيل فما يكون إذا بقينا على عبادة آلهتنا وإذا بقيت على عبادة إلهك؟ فقيل لَكُمْ إلخ. والمراد يكون لهم الشر ويكون له عليه الصلاة والسلام الخير، لكن أتى باللام في لَكُمْ للمشاكلة وعليه لا نسخ أيضا، ويحتمل أن يكون المراد غير ذلك مما تكون عليه الآية منسوخة ولعله لا يخفى. وقد يفسر الدين بالحال كما هو أحد معانيه حسبما ذكره القالي في أماليه وغيره الجزء: 15 ¦ الصفحة: 489 أي لكم حالكم اللائق بكم الذي يقتضيه سوء استعدادكم، ولي حالي اللائق بي الذي يقتضيه حسن استعدادي والجملة عليه كالتعليل لما تضمنه الكلام السابق فلا نسخ. والأولى أن تفسر بما لا تكون عليه منسوخة لأن النسخ خلاف الظاهر فلا يصار إليه إلّا عند الضرورة وللإمام الرازي أوجه في تفسيرها لا يخلو بعضها عن نظر. وذكر عليه الرحمة أنه جرت العادة بأن الناس يتمثلون بهذه الآية عند المتاركة وذلك لا يجوز لأن القرآن ما أنزل ليتمثل به بل ليهتدى به، وفيه ميل إلى سد باب الاقتباس والصحيح جوازه فقد وقع في كلامه عليه الصلاة والسلام وكلام كثير من الصحابة والأئمة والتابعين، وللجلال السيوطي رسالة وافية كافية في إزالة الالتباس عن وجه جواز الاقتباس وما ذكر من الدليل فأظهر من أن ينبه على ضعفه. وقرأ سلام ويعقوب «ديني» بياء وصلا ووقفا وحذفها القراء السبعة والله تعالى أعلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 490 سورة النّصر وتسمى سورة إذا جاء. وعن ابن مسعود أنها تسمى سورة التوديع لما فيها من الإيماء إلى وفاته عليه الصلاة والسلام وتوديعه الدنيا وما فيها. وجاء في عدة روايات عن ابن عباس وغيره أنه صلّى الله عليه وسلم قال حين نزلت: «نعيت إليّ نفسي» وفي رواية للبيهقي عنه أنه لما نزلت دعا عليه الصلاة والسلام فاطمة رضي الله تعالى عنها وقال: «إنه قد نعيت إليّ نفسي» فبكت ثم ضحكت، فقيل لها فقالت: أخبرني أنه نعيت إليه بنفسه فبكيت، ثم أخبرني بأنك أول أهلي لحاقا بي فضحكت . وقد فهم ذلك منها عمر رضي الله تعالى عنه وكان يفعل عليه الصلاة والسلام بعدها فعل مودع. وهي مدنية على القول الأصح في تعريف المدني، فقد أخرج الترمذي في مسنده والبيهقي من حديث موسى بن عبيدة وعبد الله بن دينار وصدقة بن بشار عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: هذه السورة نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم أوسط أيام التشريق بمنى وهو في حجة الوداع إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر: 1] حتى ختمها الخبر، وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وغيرهما، لكن قال الحافظ ابن رجب بعد أن أخرجه عن الأولين إن إسناده ضعيف جدا، وموسى بن عبيدة قال أحمد لا تحل الرواية عنه وعليه إن صح يكون نزولها قريبا جدا من زمان وفاته صلّى الله عليه وسلم، فإن ما بين حجة الوداع وإجابته عليه الصلاة والسلام داع الحق ثلاثة أشهر ونيف. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة أنه قال: والله ما عاش صلّى الله عليه وسلم بعد نزول إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ قليلا سنتين ثم توفي عليه الصلاة والسلام. وفي البحر إن نزولها عند منصرفه صلّى الله عليه وسلم من خيبر، وأنت تعلم أن غزوة خيبر كانت في سنة سبع أواخر المحرم فيكون ما في البين أكثر من سنتين ويدل على مدنيتها أيضا ما أخرجه مسلم وابن أبي شيبة وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال: آخر سورة نزلت في القرآن جميعا إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وآيها ثلاث بالاتفاق، وفيها إشارة إلى اضمحلال ملة الأصنام وظهور دين الله عز وجل على أتم وجه وهو وجه مناسبتها لما قبلها. ويحتمل غير ذلك وهي على ما أخرج الترمذي وغيره من حديث أنس إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ربع القرآن ولم أظفر بوجه ذلك وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق به. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 491 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ أي إعانته تعالى وإظهاره إياك على عدوك وهذا معنى النصر المعدى بعلى، وفسر به لأنه أوفق بقوله تعالى وَالْفَتْحُ وجوز أن يراد به المعدى بمن ومعناه الحفظ والفتح يتضمن النصر بالمعنى الأول فحينئذ يكون الكلام مشتملا على إفادة النصرين والأول هو الظاهر. وإِذا منصوب بسبح والفاء غير مانعة على ما عليه الجمهور في مثل ذلك وأبو حيان على أنها معمولة للفعل بعدها وليست مضافة إليه وسيأتي إن شاء الله تعالى قول آخر. والمراد بهذا النصر ما كان في أمر مكة من غلبته عليه الصلاة والسلام على قريش، وذكر النقاش عن ابن عباس أن النصر هو صلح الحديبية وكان في آخر سنة ست، وأما الفتح فقد أخرج جماعة عنه وعن عائشة أن المراد به فتح مكة وروي ذلك عن مجاهد وغيره وصححه الجمهور وكان في السنة الثامنة، وقال ابن شهاب: لثلاث عشرة بقيت من شهر رمضان على رأس ثمان سنين ونصف من الهجرة. وخرج عليه الصلاة والسلام على ما أخرجه أحمد بسند صحيح عن أبي سعيد لليلتين خلتا من شهر رمضان، وفي رواية أخرى عن أحمد لثمان عشرة، وفي أخرى لثنتي عشرة وعند مسلم لست عشرة. وقال الواقدي خرج صلّى الله عليه وسلم يوم الأربعاء لعشر خلون من رمضان بعد العصر، وضعفه القسطلاني وكان المسلمون في تلك الغزوة عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وطوائف من العرب. وفي الإكليل اثني عشر ألفا وجمع بأن العشرة خرج بها عليه الصلاة والسلام من المدينة ثم تلاحق الألفان، والأولى أن يحمل النصر على ما كان مع الفتح المذكور فإن كانت السورة الكريمة نازلة قبل ذلك فالأمر ظاهر وتتضمن الإعلام بذلك قبل كونه وهو من أعلام النبوة، وإذا كانت نازلة بعده فقال الماتريدي في التأويلات: إن إِذا بمعنى إذ التي للماضي، ومجيئها بهذا المعنى كثير في القرآن وعليه تكون متعلقة بمقدر ككمل الأمر أو أتم النعمة على العباد أو نحو ذلك لا بسبح لأن الكلام حينئذ نحو أضرب زيدا أمس. وقال بعض الأجلّة: هي لما يستقبل كما هو الأكثر في استعمالها، وحينئذ لم يكن بد من أن يجعل شيء من ذلك مستقبلا مترقيا باعتبار أن فتح مكة كان أم الفتوح والدستور لما يكون من بعده فهو مترقب باعتبار ما يدل عليه، وإن كان متحققا باعتباره في نفسه وجوز أن يكون الاستقبال باعتبار مجموع ما في حيّز إِذا فمنه ما هو مستقبل وهو ما تضمنه قوله سبحانه وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً ولو باعتبار آخر داخل وهو مما لا بأس به إن لم يكن النزول بعد تمام الدخول. وقيل: المراد جنس نصر الله تعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام والمؤمنين وجنس الفتح فيعم ما كان في أمر مكة زادها الله تعالى شرفا وغيره وأمر الاستقبال عليه ظاهر، وأيّا ما كان فالمراد بالمجيء الحصول وهو حقيقة فيه على ما يقتضيه ظاهر كلام الراغب. وقال القاضي: مجاز، والظاهر أن الخطاب في رَأَيْتَ للنبيّ عليه الصلاة والسلام والرؤية بصرية أو علمية متعدية لمفعولين، والنَّاسَ العرب ودِينِ اللَّهِ ملة الإسلام التي لا دين له تعالى يضاف إليه غيرها، والأفواج جمع فوج وهو على ما قال الراغب: الجماعة المارة المسرعة ويراد به مطلق الجماعة. قال الحوفي: وقياس جمعه أفوج ولكن استثقلت الضمة على الواو فعدل إلى أفواج. وفي البحر قياس فعل صحيح العين أن يجمع على أفعل لا على أفعال ومعتل العين بالعكس فالقياس فيه أفعال كحوض وأحواض، وشذ فيه أفعل كثوب وأثوب. ونصب أَفْواجاً على الحال من ضمير يَدْخُلُونَ وأما جملة يَدْخُلُونَ فهي حال من الناس على الاحتمال الأول في الرؤية ومعفول ثان على الاحتمال الثاني فيها، وكونها حالا أيضا بجعل رأيت بمعنى عرفت كما قال الزمخشري تعقبه أبو حيان بقوله: لا نعلم أن رأيت جاءت بمعنى عرفت، فيحتاج في ذلك إلى استثبات والمراد بدخول الناس في دينه تعالى أفواجا أي جماعات كثيرة إسلامهم من غير قتال وقد كان ذلك بين فتح مكة وموته عليه الصلاة والسلام، وكانوا قبل الفتح يدخلون فيه واحدا واحدا واثنين اثنين. أخرج البخاري عن عمرو بن سلمة قال: لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وكانت الأحياء تتلوم بإسلامها فتح مكة فيقولون دعوه وقومه فإن ظهر عليهم فهو نبي. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 492 وعن الحسن قال: لما فتح رسول الله صلّى الله عليه وسلم مكة قالت الأعراب: أما إذا ظفر بأهل مكة وقد أجارهم الله تعالى من أصحاب الفيل فليس لكم به يدان، فدخلوا في دين الله تعالى أفواجا. وقال أبو عمر بن عبد البر: لم يتوقف رسول الله صلّى الله عليه وسلم وفي العرب رجل كافر بل دخل الكل في الإسلام بعد حنين والطائف منهم من قدم، ومنهم من قد وافده وتأول ذلك ابن عطية فقال: المراد والله تعالى أعلم العرب عبدة الأوثان فإن نصارى بني تغلب ما أراهم أسلموا في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولكن أعطوا الجزية. ونص بعضهم على أنهم لم يسلموا إذ ذاك فالمراد بالناس عبدة الأوثان من العرب كأهل مكة والطائف واليمن وهوازن ونحوهم. وقال عكرمة ومقاتل: المراد بالناس أهل اليمن وفد منهم سبعمائة رجل وأسلموا واحتج له بما أخرجه ابن جرير من طريق الحصين بن عيسى عن معمر عن الزهري عن أبي حازم عن ابن عباس قال: بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المدينة إذ قال: «الله أكبر الله أكبر جاء نصر الله والفتح وجاء أهل اليمن» قيل: يا رسول الله وما أهل اليمن؟ قال «قوم رقيقة قلوبهم لينة طاعتهم الإيمان والفقه يمان والحكمة يمانية» وأخرج أيضا من طريق عبد الأعلى عن معمر عن عكرمة مرسلا. وقوله عليه الصلاة والسلام «الايمان يمان» جاء في حديث أخرجه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ «أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوبا، الإيمان يمان والحكمة يمانية» فقيل: قال صلّى الله عليه وسلم ذلك لأن مكة يمانية ومنها بعث صلّى الله عليه وسلم وفشا الإيمان. وقيل أراد عليه الصلاة والسلام مدح الأنصار لأنهم يمانون وقد تبوءوا الدار والإيمان. وقول ابن عباس في الخبر في المدينة يعارض قول من قال إن ذلك إنما قاله صلّى الله عليه وسلم بتبوك وكان بينه وبين اليمن مكة والمدينة وهما دارا الإيمان ومظهراه ويحتمل تكرار القول، والظاهر أنه ثناء على أهل اليمن لإسراعهم إلى الإيمان وقبولهم له بلا سيف، ويشمل الأنصار من أهل اليمن وغيرهم، فكأن الإيمان كان في سنخ قلوبهم فقبلوه كما أنهى إليهم كمن يجد ضالته ومثله في الثناء عليهم قوله عليه الصلاة والسلام: «أجد نفس ربكم من قبل اليمن» . وقال عصام الدين: يحتمل أن يكون الخطاب في رَأَيْتَ النَّاسَ عاما لكل مؤمن ثم قال: وما يختلج في القلب أن المناسب بقوله تعالى يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً أن يحمل قوله سبحانه وَالْفَتْحُ على فتح باب الدين عليهم انتهى. وكلا الأمرين كما ترى. وقرأ ابن عباس كما أخرج أبو عبيدة وابن المنذر عنه «إذا جاء فتح الله والنصر» وقرأ ابن كثير في رواية يَدْخُلُونَ بالبناء للمفعول. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي فنزهه تعالى بكل ذكر يدل على التنزيه حامدا له جل وعلا زيادة في عبادته والثناء عليه سبحانه لزيادة إنعامه سبحانه عليك، فالتسبيح التنزيه لا التلفظ بكلمة سبحان الله، والباء للملابسة، والجار والمجرور في موضع الحال والحمد مضاف إلى المفعول. والمعنى على الجمع بين تسبيحه تعالى وهو تنزيهه سبحانه عما لا يليق به عز وجل من النقائص وتحميده وهو إثبات ما يليق به تعالى من المحامد له لعظم ما أنعم سبحانه به عليه عليه الصلاة والسلام. وقيل: أي نزهه تعالى عن العجز في تأخير ظهور الفتح وأحمده على التأخير، وصفه تعالى بأن توقيت الأمور من عنده ليس إلا لحمكة لا يعرفها إلّا هو عز وجل وهو كما ترى، وأيّد ذلك بما في الصحيحين عن مسروق عن عائشة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي» يتأول القرآن تعني هذا مع قوله تعالى وَاسْتَغْفِرْهُ أي اطلب منه أن يغفر لك وكذا بما في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم عن عائشة أيضا قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يكثر في آخر أمره من قول: «سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه» وقال: «إن ربي أخبرني أن سأرى علامة في أمتي وأمرني إذا رأيتها أن أسبح بحمده وأستغفره» إلخ. وروى ابن جرير من طريق حفص بن عاصم عن الشعبي عن أم سلمة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلّا قال: «سبحان الله وبحمده» قال: «إني أمرت بها» وقرأ السورة وهو غريب. وفي المسند عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلم إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ كان الجزء: 15 ¦ الصفحة: 493 يكثر إذا قرأها وركع أن يقول: «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي إنك أنت التواب الرحيم» ثلاثا . وجوز أن تكون الباء للاستعانة والحمد مضاف إلى الفاعل أي سبحانه بما حمد سبحانه به نفسه. قال ابن رجب: إذ ليس كل تسبيح بمحمود، فتسبيح المعتزلة يقتضي تعطيل كثير من الصفات وقد كان بشر المريسي يقول: سبحان ربي الأسفل تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. والظاهر الملابسة وجوز أن يكون التسبيح مجازا عن التعجب بعلاقة السببية فإن من رأى أمرا عجيبا قال: سبحان الله، أي فتعجب لتيسير الله تعالى ما لم يخطر ببالك وبال أحد من أن يغلب أحد على أهل الحرم، وأحمده تعالى على صنعه وهذا التعجب تعجب متأمل شاكر يصح أن يؤمر به وليس الأمر بمعنى الخبر بأن هذه القصة من شأنها أن يتعجب منها كما زعم ابن المنير. والتعليل بأن الأمر في صيغة التعجب ليس أمرا بين السقوط. نعم هذا الوجه ليس بشيء والأخبار دالة على أن ذلك أمر له صلّى الله عليه وسلم بالاستعداد للتوجه إلى ربه تعالى والاستعداد للقائه بعد ما أكمل دينه وأدى ما عليه من البلاغ. وأيضا ما ذكرناه من الآثار آنفا لا يساعد عليه. وقيل: المراد بالتسبيح الصلاة لاشتمالها عليه ونقله ابن الجوزي عن ابن عباس أي فصل له تعالى حامدا على نعمه. وقد روى صلّى الله عليه وسلم لما دخل مكة صلى في بيت أم هانىء ثمان ركعات، وزعم بعضهم أنه صلاها داخل الكعبة وليس بالصحيح. وأيّا ما كان فهي صلاة الفتح وهي سنّة وقد صلاها سعد يوم فتح المدائن وقيل: الضحى، وقيل أربع منها للفتح وأربع للضحى وعلى كل ليس فيها دليل على أن المراد بالتسبيح الصلاة والأخبار أيضا تساعد على خلافه واستغفاره صلّى الله عليه وسلم قيل لأنه كان دائما في الترقي فإذا ترقى إلى مرتبة استغفر لما قبلها. وقيل مما هو في نظره الشريف خلاف الأولى بمنصبه المنيف. وقيل: عما كان من سهو ولو قيل النبوة وقيل لتعليم أمته صلّى الله عليه وسلم، وقيل هو استغفار لأمته عليه الصلاة والسلام أي واستغفره لأمتك وجوز بعضهم كون الخطاب في رَأَيْتَ عاما وقال: هاهنا يجوز حينئذ أن يكون الأمر بالاستغفار لمن سواه عليه الصلاة والسلام وإدخاله صلّى الله عليه وسلم في الأمر تغليب وهذا خلاف الظاهر جدا، وأنت تعلم أن كل أحد مقصر عن القيام بحقوق الله تعالى كما ينبغي وأدائها على الوجه اللائق بجلاله جل جلاله وعظمته سبحانه وإنما يؤديها على قدر ما يعرف، والعارف يعرف أن قدر الله عز وجل أعلى وأجلّ من ذلك فهو يستحي من عمله ويرى أنه مقصر، وكلما كان الشخص بالله تعالى أعرف كان له سبحانه أخوف وبرؤية تقصيره أبصر وقد كان كهمس يصلي كل يوم ألف ركعة، فإذا صلى أخذ بلحيته ثم يقول لنفسه: قومي يا مأوى كل سوء فو الله ما رضيتك لله عز وجل طرفة عين. وعن مالك بن دينار: لقد هممت أن أوصي إذا متّ أن ينطلق بي كما ينطلق بالعبد الآبق إلى سيده فإذا سألني قلت: يا رب إني لم أرض لك نفسي طرفة عين فيمكن أن يكون استغفاره عليه الصلاة والسلام لما يعرف من عظيم جلال الله تعالى وعظمته سبحانه فيرى أن عبادته وإن كانت أجل من عبادة جميع العابدين دون ما يليق بذلك الجلال وتلك العظمة التي هي وراء ما يخطر بالبال فيستحيي ويهرع إلى الاستغفار. وقد صح أنه عليه الصلاة والسلام كان يستغفر الله في اليوم والليلة أكثر من سبعين مرة، وللإشارة إلى قصور العابد عن الإتيان بما يليق بجلال المعبود وأن بذل المجهود شرع الاستغفار بعد كثير من الطاعات فذكروا أنه يشرع لمصلي المكتوبة أن يستغفر عقبها ثلاثا وللمتهجد في الأسحار أن يستغفر ما شاء الله تعالى، وللحاج أن يستغفر بعد الحج فقد قال تعالى ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة: 199] وروي أنه يشرع لختم الوضوء، وقالوا: يشرع لختم كل مجلس وقد كان صلّى الله عليه وسلم يقول إذا قام من المجلس: «سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك» ففي الأمر بالاستغفار رمز من هذا الوجه على ما قيل إلى ما فهم من النعي، والمشهور أن ذلك للدلالة على مشارفة تمام أمر الدعوة وتكامل أمر الدين والكلام وإن كان مشتملا على التعليق وتقديم التسبيح ثم الحمد على الاستغفار قيل على طريقة النزول من الخالق إلى الخلق كما قيل: ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله تعالى قبله الجزء: 15 ¦ الصفحة: 494 لأن جميع الأشياء مرايا لتجليه جل جلاله وذلك لأن في التسبيح والحمد توجها بالذات لجلال الخالق وكماله، وفي الاستغفار توجها بالذات لحال العبد وتقصيراته ويجوز أن يكون تأخير الاستغفار عنهما لما أشرنا إليه في مشروعية تعقيب العبادة بالاستغفار وقيل في تقديمها عليه تعليم أدب الدعاء وهو أن لا يسأل فجأة من غير تقديم الثناء على المسئول منه. إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً أي منذ خلق المكلفين أي مبالغا في قبول توبتهم فليكن المستغفر التائب متوقعا للقبول فالجملة في موضع التعليل لما قبلها، واختيار تَوَّاباً على غفارا مع أنه الذي يستدعيه استغفره ظاهرا للتنبيه كما قال بعض الأجلّة على أن الاستغفار إنما ينفع إذا كان مع التوبة. وذكر ابن رجب أن الاستغفار المجرد هو التوبة مع طلب المغفرة بالدعاء والمقرون بالتوبة فأستغفر الله تعالى وأتوب إليه سبحانه هو طلب المغفرة بالدعاء فقط. وقال أيضا: إن المجرد طلب وقاية شر الذنب الماضي بالدعاء والندم عليه ووقاية شر الذنب المتوقع بالعزم على الإقلاع عنه وهذا الذي يمنع الإصرار كما جاء: «ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة، ولا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار» . والمقرون بالتوبة مختص بالنوع الأول فإن لم يصحبه الندم على الذنب الماضي فهو دعاء محض، وإن صحبه ندم فهو توبة انتهى. والظاهر أن ذلك الدعاء المحض غير مقبول وفيه من سوء الأدب مع الله تعالى ما فيه. وقال بعض الأفاضل إن في الآية احتباكا والأصل واستغفره إنه كان غفارا وتب إليه إنه كان توابا وأيّد بما قدمناه من حديث الإمام أحمد ومسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها وحمل الزمان الماضي على زمان خلق المكلفين هو ما ارتضاه غير واحد. وقال الماتريدي في التأويلات: أي لم يزل توابا لا أنه سبحانه تواب بأمر اكتسبه وأحدثه على ما يقوله المعتزلة من أنه سبحانه صار توابا إذ أنشأ الخلق فتابوا فقبل توبتهم، فأما قبل ذلك فلم يكن توابا. وردّ عليه بأن قبول التوبة من الصفات الإضافية ولا نزاع في حدوثها. واختار بعضهم ما ذهب إليه الماتريدي على أن المراد أنه تعالى لم يزل بحيث يقبل التوبة ومآله قدم منشأ قبولها من الصفات اللائقة به جل شأنه وفي ذلك مما يقوي الرجاء به عز وجل ما فيه. وصح «لو لم تذنبوا لذهب الله تعالى بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم. وفي الاستغفار خير الدنيا والآخرة» أخرج الإمام أحمد من حديث عطية عن أبي سعيد مرفوعا: «من قال حين يأوي إلى فراشه أستغفر الله الذي لا إله إلّا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفر له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر، وإن كانت مثل رمل عالج، وإن كانت عدد ورق الشجر» . وأخرج أيضا من حديث ابن عباس: «من أكثر من الاستغفار جعل الله تعالى له من كل هم فرجا» . وأنا أقول سبحان الله وبحمده أستغفر الله تعالى وأتوب إليه وأسأله أن يجعل لي من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا بحرمة كتابه وسيد أحبابه صلّى الله عليه وسلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 495 سورة المسد وتسمى سورة المسد، وهي مكية وآيها خمس بلا خلاف في الأمرين. ولما ذكر سبحانه فيما قبل دخول الناس في ملة الإسلام عقبه سبحانه بذكر هلاك بعض ممن لم يدخل فيها وخسرانه. على نفسه فليبك من ضاع عمره ... وليس له منها نصيب ولا سهم كذا قيل في وجه الاتصال، وقيل هو من اتصال الوعيد بالوعد وفي كل مسرة له عليه الصلاة والسلام وقال الإمام في ذلك إنه تعالى لما قال لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون: 6] فكأنه صلّى الله عليه وسلم قال: «إلهي فما جزائي» فقال الله تعالى: لك النصر والفتح فقال: «فما جزاء عمي الذي دعاني إلى عبادة الأصنام» فقال: تبت يداه. وقدم الوعد على الوعيد ليكون النصر متصلا بقوله تعالى وَلِيَ دِينِ والوعيد راجعا إلى قوله تعالى لَكُمْ دِينُكُمْ على حد يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ [آل عمران: 106] الآية. فتأمل هذه المجانسة الحاصلة بين هذه السور مع أن سورة النصر من آخر ما نزل بالمدينة، وتبت من أوائل ما نزل بمكة لتعلم أن ترتيبها من الله تعالى وبأمره عز وجل ثم قال: ووجه آخر وهو أنه لما قال لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ فكأنه قيل: إلهي ما جزاء المطيع؟ قال: حصول النصر والفتح. ثم قيل: فما جزاء العاصي؟ قال: الخسار في الدنيا والعقاب في العقبى كما دلت عليه سورة تبت انتهى وهو كما ترى. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبَّتْ أي هلكت كما قال ابن جبير وغيره ومنه قولهم أشابة أم تابة يريدون أم هالكة من الهرم والتعجيز أي خسرت كما قال ابن عباس وابن عمر وقتادة، وعن الأول أيضا خابت، وعن يمان بن وثاب صفرت من كل خير وهي على ما في البحر أقوال متقاربة. وقال الشهاب: إن مادة التباب تدور على القطع وهو مؤد إلى الهلاك ولذا فسر به. وقال الراغب: هو الاستمرار في الخسران ولتضمنه الاستمرار قيل استتب لفلان كذا أي استمر ويرجع هذا المعنى إلى الهلاك يَدا أَبِي لَهَبٍ هو عبد العزّى بن عبد المطلب عم رسول الله صلّى الله عليه وسلم وكان شديد المعاداة والمناصبة له عليه الصلاة والسلام ومن ذلك ما في الجزء: 15 ¦ الصفحة: 496 المجمع عن طارق المحاربي قال: بينا أنا بسوق ذي المجاز إذا أنا برجل حديث السن يقول: أيها الناس قولوا لا إله إلّا الله تفلحوا، وإذا رجل خلفه يرميه قد أدمى ساقيه وعرقوبيه ويقول: يا أيها الناس إنه كذاب فلا تصدقوه، فقلت: من هذا؟ فقالوا: هو محمد صلّى الله عليه وسلم يزعم أنه نبي، وهذا عمه أبو لهب يزعم أنه كذاب وأخرج الإمام أحمد والشيخان والترمذي عن ابن عباس قال: لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] صعد النبي صلّى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي: «يا بني فهر يا بني عدي» لبطنون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش فقال: «أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي» ؟ قالوا: نعم ما جربنا عليك إلّا صدقا. قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» فقال أبو لهب: تبا لك سائر الأيام ألهذا جمعتنا؟ فنزلت . ويروى أنه مع ذلك القول أخذ بيديه حجرا ليرمي بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومن هذا يعلم وجه إيثار التباب على الهلاك ونحوه مما تقدم وإسناده إلى يديه وكذا مما روى البيهقي في الدلائل عن ابن عباس أيضا أن أبا لهب قال لما خرج من الشعب وظاهر قريشا: إن محمدا يعدنا أشياء لا نراها كائنة يزعم أنها كائنة بعد الموت، فماذا وضع في يديه ثم نفخ في يديه ثم قال تبا لكما ما أرى فيكما شيئا مما يقول محمد صلّى الله عليه وسلم فنزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ ومما روي عن طارق يعلم وجه الثاني فقط فاليدان على المعنى المعروف والكلام دعاء بهلاكهما. وقوله سبحانه وَتَبَّ دعاء بهلاك كله وجوز أن يكونا إخبارين بهلاك ذينك الأمرين والتعبير بالماضي في الموضعين لتحقق الوقوع. وقال الفرّاء: الأول دعاء بهلاك جملته على أن اليدين إما كناية عن الذات والنفس لما بينهما من اللزوم في الجملة، أو مجاز من إطلاق الجزء على الكل كما قال محيي السنة والقول في رده أنه يشترط أن يكون الكل يعدم بعدمه كالرأس والرقبة واليد ليست كذلك غير مسلم لتصريح فحول بخلافه هنا، وفي قوله تعالى وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195] أو المراد على ما قيل بذلك الشرط يعدم حقيقة أو حكما كما في إطلاق العين على الربيئة واليد على المعطي أو المتعاطي لبعض الأفعال فإن الذات من حيث اتصافها بما قصد اتصافها به تعدم يعدم ذلك العضو، والثاني إخبار بالحصول أي وكان ذلك وحصل كقول النابغة: جزاني جزاه الله شر جزائه ... جزاء الكلاب العاويات وقد فعل واستظهر أن هذه الجملة حالية وقد مقدرة على المشهور كما قرأ به ابن مسعود. وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس في سبب النزول فنزلت هذه السورة «تبت يدا أبي لهب وقد تب» وعلى هذه القراءة يمتنع أن يكون ذلك دعاء لأن «قد» لا تدخل على أفعال الدعاء. وقيل: الأول إخبار عن هلاك عمله حيث لم يفده ولم ينفعه لأن الأعمال تزاول بالأيدي غالبا. والثاني إخبار عن هلاك نفسه. وفي التأويلات اليد بمعنى النعمة وكان يحسن إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وإلى قريش ويقول إن كان الأمر لمحمد فلي عنده يد، وإن كان لقريش فكذلك، فأخبر أنه خسرت يده التي كانت عند النبيّ صلّى الله عليه وسلم بعناده له ويده التي عند قريش أيضا بخسران قريش وهلاكهم في يد النبي عليه الصلاة والسلام فهذا معنى تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ والمراد بالثاني الإخبار بهلاكه نفسه وذكر بكنيته لاشتهاره بها وقد أريد تشهيره بدعوة السوء وأن تبقى سمة له وذكره بأشهر علميه أوفق بذلك. ويؤيد ذلك قراءة من قرأ «يدا أبو لهب» كما قيل عليّ بن أبو طالب ومعاوية بن أبو سفيان لئلا يغير منه شيء فيشكل على السامع، أو لكراهة ذكر اسمه القبيح أو لأنه كما روي عن مقاتل كان يكنى بذلك لتلهب وجنتيه وإشراقهما فذكر بذلك تهكما به وبافتخاره بذلك، أو لتجانس ذات لهب ويوافقه لفظا ومعنى. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 497 والقول بأنه ليس بتجنيس لفظي لأنه ليس في الفاصلة وهم فإنهم لم يشترطوه فيه أو لجعله كناية عن الجهنمي فكأنه قيل: تبت يدا جهنمي، وذلك لأن انتسابه إلى اللهب كانتساب الأب إلى الولد يدل على ملابسته له وملازمته إياه كما يقال: هو أبو الخير وأبو الشر وأخو الفضل وأخو الحرب لمن يلابس هذه الأمور ويلازمها، وملازمته لذلك تستلزم كونه جهنميا لزما عرفيا فإن اللهب الحقيقي هو لهب جهنم، فالانتقال من أبي لهب إلى جهنمي انتقال من الملزوم إلى اللازم أو بالعكس على اختلاف الرأيين في الكناية فإن التلازم بينهما في الجملة متحقق في الخارج والذهن إلّا أن هذا اللزوم إنما هو بحسب الوضع الأول أعني الإضافي دون الثاني أعني العلمي، وهم يعتبرون في الكنى المعاني الأصلية. فأبو لهب باعتبار الوضع العلمي مستعمل في الشخص المعين وينتقل منه باعتبار وضعه الأصلي إلى ملابس اللهب وملازمه لينتقل منه إلى أنه جهنمي فهو كناية عن الصفة بالواسطة وهذا ما اختاره العلامة الثاني فعنده كناية بلا واسطة لأن معناه الأصلي أعني ملابس اللهب ملحوظ مع معناه العلمي وأحق مع العلامة لأن أبا لهب يستعمل في الشخص المعين والمتكلم بناء على اعتبارهم المعاني الأصلية في الكنى ينتقل منه إلى المعنى الأصلي ثم ينتقل منه إلى الجهنمي ولا يلاحظ معه معناه الأصلي وإلّا لكان لفظ أبي لهب في الآية مجازا سواء لوحظ معه معناه الأصلي بطريق الجزئية أو التقييد لكونه غير موضوع للمجموع، وما قيل إن المعنى الحقيقي لا يكون مقصودا في الكناية وأن مناط الفائدة والصدق والكذب فيها هو المعنى الثاني. وهاهنا قصد الذات المعين فليس بشيء لأن الكناية لفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادته معه فيجوز هاهنا أن يكون كلا المعنيين مرادا. وفي المفتاح تصريح بأن المراد في الكناية هو المعنى الحقيقي ولازمه جميعا وزعم السيد أيضا أن الكناية في أبي لهب لأنه اشتهر بهذا الاسم وبكونه جهنميا فدل اسمه على كونه جهنميا دلالة حاتم على أنه جواد فإذا أطلق وقصد به الانتقال إلى هذا المعنى يكون كناية عنه، وفيه أنه يلزم منه أن تكون الكناية في مثله موقوفة على اشتهار الشخص بذلك العلم وليس كذلك فإنهم ينتقلون من الكنية إلى ما يلزم مسماها باعتبار الأصل من غير توقف على الشهرة قال الشاعر: قصدت أنا المحاسن كي أراه ... لشوق كاد يجذبني إليه فلما أن رأيت رأيت فردا ... ولم أر من بنيه ابنا لديه على أن فيه بعد ما فيه. وقرأ ابن محيصن وابن كثير «أبي لهب» بسكون الهاء وهو من تغيير الاعلام على ما في الكشاف. وقال أبو البقاء: الفتح والسكون لغتان وهو قياس على المذهب الكوفي ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ أي لم يغن عنه ماله حين حل به التباب على أن ما نافية، ويجوز أن تكون استفهامية في محل نصب بما بعدها على أنها مفعول به أو مفعول مطلق أي أي إغناء أو أي شيء أغنى عنه ماله وَما كَسَبَ أي والذي كسبه على أن ما موصولة، وجوز أن تكون مصدرية أي وكسبه وقال أبو حيان: إذا كان ما الأولى استفهامية فيجوز أن تكون هذه كذلك أي وأي شيء كسب أي لم يكسب شيئا. وقال عصام الدين: يحتمل أن تكون نافية، والمعنى ما أغنى عنه ماله مضرة وما كسب منفعة، وظاهره أنه جعل فاعل كَسَبَ ضمير المال وهو كما ترى. واستظهر في البحر موصوليتها فالعائد محذوف أي ولذي كسبه به من الأرباح والنتائج والمنافع والوجاهة والاتباع، أو ما أغنى عنه ماله الموروث من أبيه والذي كسبه بنفسه أو ماله والذي كسبه من عمله الخبيث الذي هو كيده في عداوة النبيّ صلّى الله عليه وسلم كما قال الضحاك، أو من عمله الذي يظن أنه منه على الجزء: 15 ¦ الصفحة: 498 شيء كقوله تعالى وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان: 23] كما قال قتادة، وعن ابن عباس ومجاهد ما كسب من الولد أخرج أبو داود عن عائشة مرفوعا: «إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه» وروي أنه كان يقول: إن كان ما يقول ابن أخي حقا فأنا أفتدي منه نفسي بمالي وولدي وكان له ثلاثة أبناء عتبة ومعتب وقد أسلما يوم الفتح، وسرّ النبي عليه الصلاة والسلام بإسلامهما ودعا لهما، وشهدا حنينا والطائف وعتيبة بالتصغير ولم يسلم. وفي ذلك يقول صاحب كتاب الألباء: كرهت عتيبة إذ أجرما ... وأحببت عتبة إذ أسلما كذا معتب مسلم فاحترز ... وخف أن تسب فتى مسلما وكانت أم كلثوم بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عند عتيبة ورقية أختها عند أخيه عتبة، فلما نزلت السورة قال أبو لهب لهما: رأسي ورأسكما حرام إن لم تطلقا ابنتي محمد صلّى الله عليه وسلم فطلقاهما إلا أن عتيبة المصغر كان قد أراد الخروج إلى الشام مع أبيه فقال: لآتين محمدا عليه الصلاة والسلام وأوذينه فأتاه فقال: يا محمد إني كافر بالنجم إذا هوى وبالذي دنا فتدلى، ثم تفل تجاه رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولم يصبه عليه الصلاة والسلام شيء وطلق ابنته أم كلثوم فأغضبه عليه الصلاة والسلام بما قال وفعل. فقال صلّى الله عليه وسلم: «اللهم سلط عليه كلبا من كلابك» . وكان أبو طالب حاضرا فكره ذلك وقال له: ما أغناك يا ابن أخي عن هذه الدعوة. فرجع إلى أبيه ثم خرجوا إلى الشام فنزلوا منزلا فأشرف عليهم راهب من دير وقال لهم: إن هذه أرض مسبعة فقال أبو لهب: أغيثوني يا معشر قريش في هذه الليلة فإني أخاف على ابني دعوة محمد صلّى الله عليه وسلم فجمعوا جمالهم وأناخوها حولهم خوفا من الأسد، فجاء أسد يتشمم وجوههم حتى أتى عتيبة فقتله وفي ذلك يقول حسان: من يرجع العام إلى أهله ... فما أكيل السبع بالراجع وهلك أبو لهب نفسه بالعدسة بعد وقعة بدر لسبع ليال فاجتنبه أهله مخافة العدوي وكانت قريش تتقيها كالطاعون، فبقي ثلاثا حتى أنتن فلما خافوا العار استأجروا بعض السودان فاحتملوه ودفنوه، وفي رواية حفروا له حفرة ودفعوه بعود حتى وقع فيها فقذفوه بالحجارة حتى واروه وفي أخرى أنهم لم يحفروا له وإنما أسندوه لحائط وقذفوا عليه الحجارة من خلفه حتى توارى فكان الأمر كما أخبر به القرآن. وقرأ عبد الله «وما اكتسب» بناء الافتعال سَيَصْلى ناراً سيدخلها لا محالة في الآخرة ويقاسي حرها والسين لتأكيد الوعيد والتنوين للتعظيم أي نارا عظيمة ذاتَ لَهَبٍ ذات اشتعال وتوقد عظيم وهي نار جهنم، وجملة ما أَغْنى إلخ قال في الكشف: استئناف جوابا عما كان يقول أنا أفتدي بمالي، ويتوهم من صدقه وفيه تحسير له وتهكم بما كان يفتخر به من المال والبنين، وهذه الجملة تصوير للهلاك بما يظهر معه عدم إغناء المال والولد وهو ظاهر على تفسير ما كسب بالولد. وقال بعض الأفاضل: الأولى إشارة لهلاك عمله وهذه إشارة لهلاك نفسه، وهو أيضا على بعض الأوجه السابقة فتذكر ولا تغفل. وقوله تعالى وَامْرَأَتُهُ عطف على المستكن في سَيَصْلى لمكان الفصل بالمفعول. وقوله تعالى حَمَّالَةَ الْحَطَبِ نصب على الشتم والذم وقيل على الحالية بناء على أن الإضافة غير حقيقية للاستقبال على ما ستسمعه إن شاء الله تعالى وهي أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان. أخرج ابن عساكر عن جعفر الصادق عن أبيه محمد الباقر رضي الله تعالى عنهما أن عقيل بن أبي طالب دخل على معاوية فقال معاوية له: أين ترى عمك أبا لهب من النار؟ فقال له عقيل: إذا دخلتها فهو على يسارك مفترش عمتك حمالة الحطب والراكب خير من المركوب ولا أظن صحة هذا الخبر الجزء: 15 ¦ الصفحة: 499 عن الصادق لأن فيه ما فيه وكانت على ما في البحر عوراء، ووسمت بذلك لأنها على ما أخرج ابن أبي حاتم وابن جرير عن ابن زيد كانت تأتي بأغصان الشوك تطرحها بالليل في طريق رسول الله صلّى الله عليه وسلم.، وقيل: كانت تحمل حزمة الشوك والحسك والسعدان فتنشرها بالليل في طريقه عليه الصلاة والسلام، وكان رسول الله يطؤه كما يطأ الحرير. وروي عن قتادة أنها مع كثرة مالها كانت تحمل الحطب على ظهرها لشدة بخلها فعيرت بالبخل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه وعن مجاهد أنها كانت تمشي بالنميمة. وأخرجه ابن أبي حاتم عن الحسن أيضا. وروي عن ابن عباس والسدي ويقال لمن يمشي بها يحمل الحطب بين الناس أي يوقد بينهم النائرة ويؤرث الشر، فالحطب مستعار للنميمة وهي استعارة مشهورة ومن ذلك قوله: من البيض لم تصطد على ظهر لامة ... ولم تمش بين الحي بالحطب الرطب وجعله رطبا ليدل على التدخين الذي هو زيادة في الشر ففيه إيغال حسن وكذا قول الراجز: إن بني الأدرم حمالو الحطب ... هم الوشاة في الرضاء والغضب وقال ابن جرير: حمالة الخطايا والذنوب من قولهم فلان يحطب على ظهره إذا كان يكتسب الآثام والخطايا، والظاهر أن الحطب عليه مستعار للخطايا بجامع أن كلّا منهما مبدأ للإحراق. وقيل: الحطب جمع حاطب كحارس وحرس أي تحمل الجناة على الجنايات وهو محمل بعيد. وقرأ أبو حيوة وابن مقسم: «سيصلّى» بضم الياء وفتح الصاد وشد اللام «ومريئته» بالتصغير والهمز وقرىء «ومريته» بالتصغير وقلب الهمزة ياء وإدغامها. وقرأ الحسن وابن إسحاق «سيصلى» بضم الياء وسكون الصاد واختلس حركة الهاء في «امرأته» أبو عمر. وفي رواية وقرأ أبو قلابة «حاملة الحطب» على وزن فاعلة مضافا. وقرأ الأكثرون حَمَّالَةَ الْحَطَبِ بالرفع والإضافة وقرىء «حمالة للحطب» بالتنوين رفعا ونصبا وبلام الجر في الحطب وقوله تعالى فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ جملة من خبر مقدم ومبتدأ مؤخر في موضع الحال من الضمير في حَمَّالَةَ وقيل من امْرَأَتُهُ المعطوف على الضمير. وقيل: الظرف حال منها وحَبْلٌ مرتفع به على الفاعلية. وقيل له خبر لامرأته وهي مبتدأ لا معطوفة على الضمير، وحَبْلٌ فاعل. وعلى قراءة حَمَّالَةَ بالرفع قيل امْرَأَتُهُ مبتدأ وحَمَّالَةَ خبر. وفِي جِيدِها حَبْلٌ خبر ثان أو حال من ضمير حَمَّالَةَ أو الظرف كذلك وحَبْلٌ مرتفع به على الفاعلية أو امْرَأَتُهُ مبتدأ وحَمَّالَةَ صفته لأنه للماضي فيتعرف بالإضافة والخبر على ما سمعت أو امْرَأَتُهُ عطف على الضمير وحَمَّالَةَ خبر مبتدأ محذوف أي هي حمالة وما بعد خبر ثان أو حال من ضمير حمالة على نظير ما مر. وفي التركيب غير ذلك من أوجه الاعراب سيذكر إن شاء الله تعالى وبعض ما ذكرناه هاهنا غير مطرد على جميع الأوجه في معنى الآية كما لا يخفى عند الاطلاع عليها على المتأمل. والمسد ما مسد أي فتل من الحبال فتلا شديدا من ليف المقل على ما قال أبو الفتح ومن أي ليف على ما قيل، وقيل من لحاء شجر باليمن يسمى المسد وروي ذلك عن ابن زيد وقد يكون كما في البحر من جلود الإبل أو أوبارها ومنه قوله: ومسد أمر من أيانق ... ليست بأنياب ولا حقائق أي في عنقها حبل مما مسد من الحبال، والمراد تصويرها بصور الحطابة التي تحمل الحزمة وتربطها في جيدها تخسيسا لحالها وتحقيرا لها لتمتعض من ذلك ويمتعض بعلها إذ كانا في بيت العز والشرف وفي منصب الثروة والجدة. ولقد عيّر بغض الناس الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب بحمالة الحطب فقال: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 500 ماذا أردت إلى شتمي ومنقصتي ... أم ما تعير من حمالة الحطب غراء شادخة في المجد غرتها ... كانت سليلة شيخ ثاقب الحسب وقد أغضبها ذلك، فيروى أنها لما سمعت السورة أتت أبا بكر رضي الله تعالى عنه وهو مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم في المسجد وبيدها فهر، فقالت: بلغني أن صاحبك هجاني ولأفعلن وأفعلن وإن كان شاعرا فأنا مثله أقول: مذمما أبينا ... ودينه قلينا وأمره عصينا وأعمى الله تعالى بصرها عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فروي أن أبا بكر قال لها: هل ترين معي أحدا؟ فقالت: أتهزأ بي لا أرى غيرك. فسكت أبو بكر ومضت وهي تقول: قريش تعلم أني بنت سيدها. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لقد حجبني عنها ملائكة فما رأتني وكفى الله تعالى شرها» . وقيل: إن ذلك ترشيح للمجاز بناء على اعتباره في حمالة الحطب. وفي الكشاف يحتمل أن يكون المعنى تكون في نار جهنم على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل حزمة الشوك فلا تزال على ظهرها حزمة من حطب النار من شجرة الزقوم أو من الضريع وفي جيدها حبل مما مسد من سلاسل النار كما يعذب كل مجرم بما يجانس حاله في جرمه، وعليه فالحبل مستعار للسلسلة وروي هذا عن عروة بن الزبير ومجاهد وسفيان. وأمر الاعراب على ما في الكشف أنه إن نصب حَمَّالَةَ يكون حالا هو والجملة أعني فِي جِيدِها حَبْلٌ عن المعطوف على الضمير سَيَصْلى أي ستصلى امرأته على هذه الحالة أو يكون حَمَّالَةَ نصبا على الذم والجملة وحدها حالا أو امرأته في جيدها حبل جملة وقعت حالا عن الضمير، ويحتمل عطف الجملة على الجملة على ضعف. وعلى الرفع يحتمل أن تكون الجملة حالا وأن يكون امْرَأَتُهُ عطفا على الفاعل، وحَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِها جملة لا محل لها من الإعراب وقعت بيانا لكيفية صليها، أي هي حمالة الحطب انتهى فتأمل ولا تغفل. وعلى جميع الأوجه والاحتمالات إنما لم يقل سبحانه في عنقها والمعروف أن يذكر العنق مع الغل ونحوه مما فيه امتهان كما قال تعالى فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا [يس: 8] والجيد مع الحلي كقوله: أو أحسن من جيد المليحة حليها ولو قال عنقها كان غثا من الكلام. قال في الروض الآنف: لأنه تهكم نحو فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: 21، التوبة: 34، الانشقاق: 24] أي لا جيد لها فيحلى، ولو كان لكانت حليته هذه. ولتحقيرها قيل امْرَأَتُهُ ولم يقل زوجه انتهى. وهو بديع جدا إلّا أنه يعكر على آخره قوله تعالى وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ [هود: 71] ولعله استعان هاهنا على ما قال بالمقام. وعن قتادة أنه كان في جيدها قلادة من ودع وفي معناه قول الحسن من خرز. وقال ابن المسيب: كانت قلادة فاخرة من جوهر وأنها قالت: واللات والعزّى لأنفقنها على عداوة محمد صلّى الله عليه وسلم، ولعل المراد على هذا أنها تكون في نار جهنم ذات قلادة من حديد ممسود بدل قلادتها التي كانت تقول فيها لأنفقنها إلخ. وعلى ما قبله تهجين أمر قلادتها لتأكيد ذمها بالبخل الدال عليه قوله تعالى: حَمَّالَةَ الْحَطَبِ على ما نقلناه سابقا عن قتادة ويحتمل غير ذلك، ووجه التعبير بالجيد على ما ذكر مما لا يخفى. وزعم بعضهم أن الكلام يحتمل أن يكون دعاء عليها بالخنق بالحبل وهو من الذهن مناط الثريا. نعم ذكر أنها ماتت يوم ماتت مخنوقة بحبل حملت به حزمة حطب لكن هذا لا يستدعي حمل ما ذكر على الدعاء هذا. واستشكل أمر تكليف أبي لهب بالإيمان مع قوله تعالى سَيَصْلى إلخ بأنه بعد أن أخبر الله تعالى عنه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 501 بأنه سيصلى النار لا بد أن يصلاها ولا يصلاها إلّا الكافر فالإخبار بذلك يتضمن الإخبار بأنه لا يؤمن أصلا فمتى كان مكلفا بالإيمان بما جاء به النبيّ صلّى الله عليه وسلم ومنه ما ذكر لزم أن يكون مكلفا بأن يؤمن بأن لا يؤمن أصلا وهو جمع بين النقيضين خارج عن حد الإمكان. وأجيب عنه بأن ما كلفه هو الإيمان بجميع ما جاء به النبيّ عليه الصلاة والسلام إجمالا لا الإيمان بتفاصيل ما نطق به القرآن الكريم حتى يلزم أن يكلف الإيمان بعدم إيمانه المستمر ويقال نحو هذا في الجواب عن تكليف الكافرين المذكورين في قوله تعالى قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [الكافرون: 1] إلخ بالإيمان بناء على تعينهم مع قوله تعالى وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ [الكافرون: 3] إلخ بناء على دلالته على استمرار عدم عبادتهم ما يعبد عليه الصلاة والسلام. وأجاب بعضهم بأن قوله تعالى سَيَصْلى إلخ ليس نصا في أنه لا يؤمن أصلا فإن صلي النار غير مختص بالكفار فيجوز أن يفهم أبو لهب منه أن دخوله النار لفسقه ومعاصيه لا لكفره، ولا يجري هذا في الجواب عن تكليف أولئك الكافرين بناء على فهمهم السورة إرادة الاستمرار. وأجاب بعض آخر بأن من جاء فيه مثل ذلك وعلم به مكلف بأن يؤمن بما عداه مما جاء به صلّى الله عليه وسلم. وأجاب الكعبي وأبو الحسين البصري وكذا القاضي عبد الجبار بغير ما ذكر مما رده الإمام وقيل في خصوص هذه الآية إن المعنى سيصلى نارا ذات لهب ويخلد فيها إن مات ولم يؤمن فليس ذلك مما هو نص في أنه لا يؤمن، وما لهذه الأجوبة وما عليها يطلب من مطولات كتب الأصول والكلام، واستدل بقوله تعالى وَامْرَأَتُهُ على صحة أنكحة الكفار والله تعالى أعلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 502 سورة الإخلاص وسميت بها لما فيها من التوحيد ولذا سميت أيضا بالأساس فإن التوحيد أصل لسائر أصول الدين. وعن كعب كمال قال الحافظ ابن رجب: أسست السماوات السبع والأرضون السبع على هذه السورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. ورواه الزمخشري عن أبي وأنس مرفوعا ولم يذكره أحد من المحدثين المعتبرين كذلك، وكيف كان فالمراد به كما قال: ما خلقت السماوات والأرضون إلّا لتكون دلائل على توحيد الله تعالى ومعرفة صفاته التي تضمنتها هذه السورة. وقيل: معنى تأسيسها عليها أنها إنما خلقت بالحق كما قال تعالى وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ [الأنبياء: 16] ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الدخان: 39] وهو العدل والتوحيد وهو إن لم يرجع إلى الأول لا يخلو عن نظر. وقيل: المراد أن مصحح إيجادهما أي بعد إمكانهما الذاتي ما أشارت إليه السورة من وحدته عز وجل واستحالة أن يكون له سبحانه شريك إذ لولا ذلك لم يمكن وجودهما لإمكان التمانع كما قرره بعض الأجلّة في توجيه برهانية قوله تعالى لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] وفيه بعد. وتسمى أيضا سورة قل هو الله أحد كما هو مشهور يشير إليه الأثر أيضا، والمقشقشة لما سمعت في تفسير سورة الكافرون، وسورة التوحيد، وسورة التفريد، وسورة التجريد، وسورة النجاة، وسورة الولاية، وسورة المعرفة لأن معرفة الله تعالى إنما تتم بمعرفة ما فيها. وفي أثر أن رجلا صلى فقرأها فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إن هذا عبد عرف ربه» . وسورة الجمال قيل لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إن الله جميل يحب الجمال» فسألوه صلّى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: «أحد صمد لم يلد ولم يولد» ولا أظن صحة الخبر، وسورة النسبة لورودها جوابا لمن قال: انسب لنا ربك على ما ستسمعه إن شاء الله تعالى. وقيل لما أخرجه الطبراني من طريق عثمان بن عبد الرحمن الطرايفي عن الوازع بن نافع عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لكل شيء نسبة ونسبة الله تعالى قل هو الله أحد الله الصمد» وهو كما قال الحافظ ابن رجب ضعيف جدا وعثمان يروي المناكير. وفي الميزان أنه موضوع، وسورة الصمد، وسورة المعوذة لما أخرج النسائي والبزار وابن مردويه بسند صحيح عن عبد الله بن أنيس قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم وضع يده على صدري ثم قال: «قل» فلم أدر ما أقول، ثم قال: «قل هو الله أحد» فقلت حتى فرغت منها ثم قال: «قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق» فقلت حتى فرغت منها، ثم قال: «قل أعوذ برب الناس» فقلت حتى فرغت منها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «هكذا فتعوذ وما تعوذ المتعوذون بمثلهن قط» . وسورة المانعة قيل لما روى ابن عباس أنه تعالى قال لنبيه صلّى الله عليه وسلم حين عرج به أعطيتك سورة الإخلاص وهي من ذخائر كنوز عرشي وهي المانعة تمنع كربات القبر ونفحات النيران. والظاهر عدم صحة هذا الخبر، ويعارضه ما أخرجه ابن الضريس عن أبي أمامة: «أربع آيات نزلت من الجزء: 15 ¦ الصفحة: 503 كنز العرش لم ينزل منه غيرهن أم الكتاب وآية الكرسي وخاتمة سورة البقرة والكوثر» . وحكمه حكم المرفوع بل أخرجه الشيخ ابن حبان والديلمي وغيرهما بالسند عن أبي أمامة مرفوعا وسورة المحضر قيل لأن الملائكة عليهم السلام تحضر لاستماعها إذا قرئت، وسورة المنفرة قيل لأن الشيطان ينفر عند قراءتها، وسورة البراءة قيل لما روي أنه عليه الصلاة والسلام رأى رجلا يقرؤها فقال: «أما هذا فقد برىء من الشرك» ولم أدر من روى ذلك. نعم روى أبو نعيم من طريق عمرو بن مرزوق عن شعبة عن مهاجر قال: سمعت رجلا يقول: صحبت النبي صلّى الله عليه وسلم في سفر فسمع رجلا يقرأ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ فقال: «قد برىء من الشرك» ، وسمع آخر يقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فقال «غفر له» وعليه فألحق بهذا الاسم سورة الكافرون ولعل الأولى أن يقال: سميت بذلك لما في حديث الترمذي عن أنس: «من أراد أن ينام على فراشه فنام على يمينه ثم قرأ قل هو الله أحد مائة مرة كتب الله تعالى له براءة من النار» . وسورة المذكرة لأنها تذكر خالص التوحيد، وسورة النور قيل لما روي من قوله صلّى الله عليه وسلم: «إن لكل شيء نورا ونور القرآن قل هو الله أحد» . وسورة الإيمان لأنه لا يتم بدون ما تضمنته من التوحيد وقد ذكر معظم هذه الأسماء الإمام الرازي وبين وجه التسمية بها بما بيّن، والرجل رحمه الله تعالى ليس بإمام في معرفة أحوال المرويات لا يميز غثها من سمينها أو لا يبالي بذلك فيكتب ما ظفر به وإن عرف شدة ضعفه وهي مكية في قول عبد الله والحسن وعكرمة وعطاء ومجاهد وقتادة مدنية في قول ابن عباس ومحمد بن كعب وأبي العالية والضحاك قاله في البحر. وخبر ابن عباس السابق إن صح ظاهر في أنها عنده مكية. وفي الإتقان فيها قولان لحديثين في سبب نزولها متعارضين وجمع بعضهم بينهما بتكرر نزولها ثم ظهر لي ترجيح أنها مدنية اه. وعلى ما في الكتابين لا يخفى ما في قول الدواني إنها مكية بالاتفاق من الدلالة على قلة الاطلاع. وآيها خمس في المكي والشامي، أربع في غيرهما. ووضعت هنا قيل للوزان في اللفظ بين فواصلها ومقطع سورة المسد وقيل وهو الأولى أنها متصلة بقل يا أيها الكافرون في المعنى فهما بمنزلة كلمة التوحيد في النفي والإثبات ولذا يسميان المقشقشتين، وقرن بينهما في القراءة في صلوات كثيرة ما قاله بعض الأئمة كركعتي الفجر والطواف والضحى وسنة المغرب وصبح المسافر ومغرب ليلة الجمعة إلّا أنه فصل بينهما بالسورتين لما تقدم من الوجه ونحوه وكان في إيلائها سورة تبت ردا على أبي لهب بخصوصه وجاء فيها أخبار كثيرة تدل على مزيد فضلها منها ما تقدم آنفا. وروى مبارك بن فضالة عن أنس أن رجلا قال: يا رسول الله إني أحب هذه السورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1] قال: «إن حبك إياها أدخلك الجنة» . وأخرجه الإمام أحمد في المسند عن أبي النضر عن مبارك المذكور عن أنس. وذكر البخاري أن حبها يوجب دخول الجنة تعليقا. وروى مالك عن عبد الله بن عبد الرحمن قال: سمعت أبا هريرة يقول: أقبلت مع النبيّ صلّى الله عليه وسلم فسمع رجلا يقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «وجبت» قلت: وما وجبت؟ قال: «الجنة» . وأخرجه النسائي والترمذي وقال حديث صحيح لا نعرفه إلّا من حديث مالك. وأخرج أبو داود وابن ماجة والترمذي وقال حسن غريب عن بريدة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول: إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى» . وفي المسند عن محجن بن الأدرع أن النبي صلّى الله عليه وسلم دخل المسجد فإذا هو برجل قد قضى صلاته وهو يتشهد ويقول: إني أسألك يا الله الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 504 أحد أن تغفر لي ذنوبي إنك أنت الغفور الرحيم. فقال نبي الله صلّى الله عليه وسلم ثلاث مرات: «قد غفر له قد غفر له قد غفر له» . وأخرج البخاري ومالك وأبو داود والنسائي عن أبي سعيد أن رجلا سمع رجلا يقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يرددها، فلما أصبح جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فذكر ذلك له وكان الرجل يتقالها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن» . وأخرج أحمد والنسائي في اليوم والليلة من طريق هشيم عن أبيّ بن كعب أو رجل من الأنصار قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ قل هو الله أحد فكأنما قرأ بثلث القرآن» . وفي رواية يوسف بن عطية الصفار بسنده عن أبيّ مرفوعا: «من قرأ قل هو الله أحد فكأنما قرأ ثلث القرآن. وكتب له من الحسنات بعدد من أشرك بالله تعالى وآمن به» . وجاء أنها تعدل ثلث القرآن في عدة أخبار مرفوعة وموقوفة. وفي المسند من طريق ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد عن أبي الهيثم عن أبي سعيد قال: بات قتادة بن النعمان يقرأ الليلة كله بقل هو الله أحد فذكر ذلك للنبيّ صلّى الله عليه وسلم فقال: «والذي نفسي بيده إنها لتعدل نصف القرآن أو ثلثه» وحمل على الشك من الراوي والروايات تعين الثلث. واختلف في المراد بذلك فقيل: المراد أنها باعتبار معناها ثلث من القرآن المجزأ إلى ثلاثة لا أن ثواب قراءتها ثلث ثواب القرآن وإلى هذا ذهب جماعة لكنهم اختلفوا في بيان ذلك فقيل إن القرآن يشتمل على قصص وأحكامها وعقائد وهي كلها مما يتعلق بالعقائد فكانت ثلثا بذلك الاعتبار. وقال الغزالي في الجواهر ما حاصله: هي عدل ثلثه باعتبار أنواع العلوم الثلاثة التي هي أم ما في القرآن علم المبدأ وعلم المعاد وعلم ما بينهما أعني الصراط المستقيم. وقال الجوني: المطالب التي في القرآن معظمها الأصول الثلاثة التي بها يصح الإسلام ويحصل الإيمان وهي معرفة الله تعالى والاعتراف بصدق رسوله صلّى الله عليه وسلم واعتقاد القيام بين يديه وهذه السورة تفيد الأصل الأول فهي ثلثه من هذا الوجه. وقيل القرآن قسمان خبر وإنشاء والخبر قسمان خبر عن الخالق وخبر عن المخلوق فهذه ثلاثة أثلاث، وسورة الإخلاص أخلصت الخبر عن الخالق فهي بهذا الاعتبار ثلث وهذا كما ترى. وأيّا ما كان قيل لا تنافي بين رواية الثلث ورواية عدل القرآن كله المذكورة في الكشاف على تقدير ثبوتها لجواز أن يقال هي عدل القرآن باعتبار أن المقصود التوحيد وما عداه ذرائع إليه. ويؤيد اعتبار الأجزاء أنفسها دون الثواب ما في صحيح مسلم من طريق قتادة عن أبي الدرداء أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «أيعجز أحدكم أن يقرأ كل يوم ثلث القرآن» ؟ قالوا: نعم. قال: «فإن الله تعالى جزأ القرآن ثلاثة أجزاء فقل هو الله أحد ثلث القرآن» . وقيل المراد تعدل الثلث ثوابا لظواهر الأحاديث. وضعف ذلك ابن عقيل وقال: لا يجوز أن يكون المعنى فله أجر ثلث القرآن لقوله صلّى الله عليه وسلم: «من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات» فيكون ثواب قراءة القرآن بتمامه أضعافا مضاعفة بالنسبة لثواب قراءة هذه السورة، والدواني أورد هذا إشكالا على هذا القول ثم أجاب بأن للقارىء ثوابين تفصيليا بحسب قراءة الحروف وإجماليا بسبب ختمه القرآن فثواب قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يعدل ثلث ثواب الختم الإجمالي لا غيره، ونظيره إذا عيّن أحد لمن يبني له دارا في كل يوم دنانير وعيّن له إذا أتمه جائزة أخرى غير أجرته اليومية. وفي شرح البخاري للكرماني فإن قلت المشقة في قراءة الثلث أكثر منها في قراءتها فكيف يكون حكمه حكمها؟ قلت: يكون ثواب قراءة الثلث بعشر وثواب قراءتها بقدر ثواب مرة منها لأن التشبيه في الأصل دون الزائد وتسع منها في مقابلة زيادة المشقة. وقال الخفاجي بعد أن قال ليس فيما ذكر ما يثلج الصدر ويطمئن له البال والذي عندي في ذلك أن للناظر في معنى كلام الله تعالى المتدبر لآياته ثوابا وللتالي له وإن لم يفهمه ثواب آخر، فالمراد أن من تلاها مراعيا حقوق أدائها فاهما دقيق معانيها كانت تلاوته لها مع تأملها وتدبرها تعدل ثواب تلاوة ثلث القرآن من غير نظر في معانيه أو ثلث ليس فيه ما يتعلق بمعرفة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 505 الله تعالى وتوحيده. ولا بدع في أشرف المعاني إذا ضم لبعض من أشرف الألفاظ أن يعدل من جنس تلك الألفاظ مقدارا كثيرا كلوح ذهب زنته عشرة مثاقيل مرصع بأنفس الجواهر يساوي ألف مثقال ذهبا فصاعدا انتهى. ولا أرى له كثير امتياز على غيره مما تقدم. والذي اختاره أن يقال لا مانع من أن يخص الله عز وجل بعض العبادات التي ليس فيها كثير مشقة بثواب أكثر من ثواب ما هو جنسها وأشق منها بأضعاف مضاعفة وهو سبحانه الذي لا حجر عليه ولا يتناهى جوده وكرمه فلا يبعد أن يتفضل جل وعلا على قارئ القرآن بكل حرف عشر حسنات ويزيد على ذلك أضعافا مضاعفة جدا لقارىء الإخلاص بحيث يعدل ثوابه ثواب قارئ ثلث منه غير مشتمل على تلك السورة، ويفوض حكمة التخصيص إلى علمه سبحانه وكذا يقال في أمثالها وهذا مراد من جعل ذلك من المتشابه الذي استأثر الله تعالى بعلمه وليس هذا بأبعد ولا أبدع من تخصيص بعض الأزمنة والأمكنة المتحدة الماهية بأن للعبادة منه ولو قليلة من الثواب ما يزيد أضعافا مضاعفة على ثواب العبادة في مجاوره مثلا ولو كثيرة بل قد خص سبحانه بعض الأزمنة والأمكنة بوجوب العبادة فيه وبعضها بحرمتها فيه وله سبحانه في كل ذلك من الحكم ما هو به أعلم. وقال ابن عبد البر السكوت في هذه المسألة أفضل من الكلام فيها وأسلم (1) ، وكذلك حديث معاوية بن معاوية الليثي الذي افتتح به الإمام الكلام في هذه السورة الكريمة خرجه الطبراني وأبو يعلى من طرق كلها ضعيفة والأحاديث الصحيحة الواردة فيها تكفي في فضلها، بل قيل لذلك إنها أفضل سورة في القرآن ومنهم من استدل عليه بما روى الدارمي في مسنده عن أبي المغيرة عن صفوان الكلاعي قال: قال رجل: يا رسول الله أي سور القرآن أعظم؟ قال: «قل هو الله أحد» . وفي المسند من طريقي معاذ بن رفاعة وأسيد بن عبد الرحمن عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ألا أعلمك خير ثلاث سور أنزلت في التوراة والإنجيل والزبور والقرآن العظيم» ؟ قلت: بلى. قال: فأقرأني قل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس. ثم قال: «يا عقبة لا تنساهن ولا تبت ليلة حتى تقرأهن» . وروى الترمذي بعض هذا الحديث وحسّنه ولا يدل على أنها أفضل سور القرآن مطلقا بل على أنها من الأفضل. وقال ابن الحصاد: العجب ممن ينكر الاختلاف في الفضل مع كثرة النصوص الواردة فيه، واختلف القائلون بالتفضيل فقال بعضهم: الفضل راجع إلى عظم ومضاعفة الثواب بحسب انتقالات النفس وخشيتها وتدبرها عند أوصاف العلا. وقيل: بل يرجع لذات اللفظ فإن تضمنته سورة الإخلاص مثلا من الدلالة على الوحدانية وصفاته تعالى ليس موجودا في تبت مثلا، فالتفضيل إنما هو بالمعاني العجيبة وكثرتها. ونقل الحليمي عن البيهقي أن معنى التفضيل بين الآيات   (1) قوله السكوت في هذه المسألة أفضل من الكلام فيها وأسلم وكذلك حديث معاوية إلخ كذا في النسخ لكن في نسخة المؤلف بعد قوله وأسلم ما نصه ثم أسند إلى إسحاق بن منصور قلت لأحمد بن حنبل قوله صلّى الله عليه وسلم قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن ما وجهه فلم يقم فيها على أمر ثم ذكر عن الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه أنهما وهما إمامان بالسنة ما قاما ولا قعدا في هذه المسألة وقد سئلا عنها ومراده من ذلك تأييد ما ادعي من أن السكوت أسلم وهو كذلك لكن على الوجه الذي قررناه وقد ورد في تكرار قراءتها خمسين مرة أو أكثر من ذلك وعشر مرات عقيب كل صلاة أحاديث كثيرة فيها كما قال الحافظ ابن رجب ضعف وكذلك حديث إلخ لكنه مضروب عليه في نسخته ولا يخفى عليك الحال في كلا الأمرين اه منه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 506 والسور يرجع إلى أشياء أحدها أن يكون العمل بها أولى من العمل بأخرى وأعود على الناس وعلى هذا يقال في آيات الأمر والنهي والوعد والوعيد خير من آيات القصص لأنه إنما أريد بها تأكيد الأمر والنهي والإنذار والتنشير ولا غنى للناس عن هذه الأمور وقد يستغنون عن القصص فكان ما هو أعود عليهم وأنفع لهم مما يجري مجرى الأصول خير لهم مما يجعل تبعا لما لا بد منه. الثاني أن يقال الآيات التي تشتمل على تعديد أسماء الله تعالى وبيان صفاته والدلالة على عظمته عز وجل أفضل بمعنى أنها أسنى وأجلّ قدرا مما لا تشتمل على ذلك. الثالث أن يقال سورة خير من سورة، أو آية خير من آية بمعنى أن القارئ يتعجل له بقراءتها فائدة سوى الثواب الآجل ويتأدى منه بتلاوتها عبادة كآية الكرسي والإخلاص والمعوذتين فإن قارئها يتعجل بقراءتها الاحتراز مما يخشى والاعتصام بالله تعالى، ويتأدى بتلاوتها عبادة الله سبحانه لما فيها من ذكره تعالى بالصفات العلا على سبيل الاعتقاد لها وسكون النفس إلى فضل ذلك الذكر وبركته. وأما آيات الحكم فلا يقع بنفس تلاوتها إقامة حكم وإنما يقع بها علم. وقد يقال إن سورة أفضل من سورة لأن الله تعالى جعل قراءتها كقراءة أضعافها مما سواها وأوجب بها من الثواب ما لم يوجب سبحانه لغيرها وإن كان المعنى الذي لأجله بلغ بها هذا المقدار لا يظهر لنا وهذا نظير ما يقال في تفضيل الأزمنة والأمكنة بعضها على بعض على ما سمعت آنفا. وبالجملة التفضيل بأحد هذه الاعتبارات لا ينافي كون الكل كلام الله عز وجل ومتحد النسبة إليه سبحانه كما لا يخفى والله تعالى أعلم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ المشهور أن هو ضمير الشأن ومحله الرفع على الابتداء خبره الجملة بعده ومثلها لا يكون لها رابط لأنها عين المبتدأ في المعنى، والسر في تصديرها به التنبيه من أول الأمر على فخامة مضمونها مع ما فيه من زيادة التحقيق والتقرير فإن الضمير لا يفهم منه من أول الأمر إلّا شأن مبهم له خطر جليل فيبقى الذهن مترقبا لما أمامه مما يفسره ويزيل إبهامه فيتمكن عند وروده له فضل تمكن. وقول الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز: إن له مع إن حسنا بل لا يصح بدونها غير مسلّم. نعم قال الشهاب القاسمي: إن هاهنا إشكالا لأنه إن جعل الخبر مجموع معنى الجملة المبين في باب القضية أعني مجموع الله ومعنى أَحَدٌ والنسبة بينهما ففيه أن الظاهر أن ذلك المجموع ليس هو الشأن وإنما الشأن مضمون الجملة الذي هو مفرد أعني الوحدانية وإن جعل مضمون الجملة الذي هو مفرد فتخصيص عدم الرابط بالجملة المخبر بها عن ضمير الشأن غير متجه إذ كل جملة كذلك لأن الخبر لا بد من اتحاده بالمبتدأ بحسب الذات، ولا يتحد به كذلك إلّا مضمون الجملة الذي هو مفرد. وأجيب باختيار الشق الأول كما يرشد إليه تعبيرهم عن هذا الضمير أحيانا بضمير القصة ضرورة أن مضمون الجملة الذي هو مفرد ليس بقصة، وإنما القصة معناها المبين في باب القضية، وأيضا هم يعدون مثل قوله صلّى الله عليه وسلم: «أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد» من الجمل التي هي عين المبتدأ في المعنى الغير المحتاجة إلى الضمير لذلك. ومن المعلوم أن يقال ليس المضمون الذي هو مفرد بل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 507 هو الجملة بذلك المعنى، ولذا تراهم يوجبون كسر همزة إن بعد القول وكذا تمثيلهم لها بنطقي الله حسبي وكفى أي منطوقي الذي أنطق به ذلك إذ من الظاهر أن ما نطق به هو الجملة بالمعنى المعروف، وقد دل كلام ابن مالك في التسهيل على المراد بكون الجملة التي لا تحتاج إلى رابط عين المبتدأ أنها وقعت خبرا عن مفرد مدلوله جملة وهو ظاهر فيما قلنا أيضا، وكون ذلك شأنا أي عظيما من الأمور باعتبار ما تضمنه ووصف الكلام بالعظم ومقابله بهذا الاعتبار شائع ذائع. وقال العلامة أحمد الغنيمي: إن أريد أنها عينه بحسب المفهوم فهو مشكل لعدم الفائدة، وإن أريد عينه بحسب المصدق مع التغاير في المفهوم كما هو شأن سائر الموضوعات مع محمولاتها فقد يقال إنه مشكل أيضا إذ ما صدق ضمير الشأن أعم من الله أحد والخاص لا يحمل على العام في القضايا الكلية، ودعوى الجزئية في هذا المقام ينبو عنه تصريحهم بأن ضمير الشأن لا يخلو عن إبهام. وبعبارة أخرى وهي إن ما صدق عليه ضمير الشأن مفرد وما صدق الجملة مركب ولا شيء من المفرد بمركب، ولذا تراهم يؤولون الجملة الواقعة خبرا بمفرد صادق على المبتدأ ليصح وقوعها خبرا والتزام ذلك في الجملة الواقعة خبرا عن ضمير الشأن ينافيه تصريحهم بأنها غير مؤولة بالمفرد وإن كانت في موقعه. وأجيب بأن معنى قولهم هو ضمير الشأن أنه ضمير راجع إليه وموضوع موضعه وإن لم يسبق له ذكر للإيذان بأن من الشهرة والنباهة بحيث يستحضره كل أحد وإليه يشير كل مشير وعليه يعود كل ضمير، وقولهم في عد الضمائر التي ترجع إلى متأخر لفظا ورتبة منها ضمير الشأن فإنه راجع إلى الجملة بعده مسامحة ارتكبوها لأن بيان الشأن وتعيين المراد به بها فما صدق الضمير هو بعينه ما صدق الشأن الذي عاد هو عليه فيختار الشق الثاني، فإما أن يراد بالشأن الشأن المعهود ادعاء وتجعل القضية شخصية نظير هذا زيد، وإما أن يراد المعنى الكلي وتجعل القضية مهملة وهي في قوة الجزئية كأنه قيل بعض الشأن الله أحد. وجاء الإبهام الذي ادعي تصريحهم به من عدم تعين البعض قبل ذكر الجملة وحملها عليه وما صدق عليه الشأن كما يكون مفردا يكون جملة فليكن هنا كذلك، واستمجد الأول واحتمال الكلية مبالغة نحو كل الصيد في جوف الفرا كما ترى فليتأمل. وجوزوا أن يكون هو ضمير المسئول عنه أو المطلوب صفته أو نسبته، فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده والبخاري في تاريخه والترمذي والبغوي في معجمه وابن عاصم في السنة والحاكم وصححه وغيرهم عن أبيّ بن كعب أن المشركين قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلم: يا محمد انسب لنا ربك؟ فأنزل الله تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ السورة . وأخرج ابن جرير وابن المنذر والطبراني في الأوسط والبيهقي بسند حسن وآخرون عن جابر قال: جاء أعرابي إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم فقال: انسب لنا ربك، فأنزل الله تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ إلخ. وفي المعالم عن ابن عباس أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أتيا النبي صلّى الله عليه وسلم فقال عامر: إلام تدعونا يا محمد؟ قال: «إلى الله» قالا: صفه لنا أمن ذهب هو أم من فضة أو من حديد أو من خشب؟ فنزلت هذه السورة فأهلك الله تعالى أربد بالصاعقة وعامرا بالطاعون . وأخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس أن اليهود جاءت إلى النبيّ عليه الصلاة والسلام منهم كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب فقالوا: يا محمد صف لنا ربك الذي بعثك، فأنزل الله تعالى السورة . وكون السائلين اليهود مروي عن الضحاك وابن جبير وقتادة ومقاتل وهو ظاهر في أن السورة مدنية. وجاز رجوع الضمير إلى ذلك للعلم به من السؤال وجرى ذكره فيه وهُوَ عليه مبتدأ، والاسم الجليل خبره، وأَحَدٌ خبر بعد خبر. وأجاز الزمخشري أن يكون بدلا من الاسم الجليل على ما هو المختار من جواز إبدال النكرة من المعرفة، وأن يكون الجزء: 15 ¦ الصفحة: 508 خبر مبتدأ محذوف أي هو أحد. وأجاز أبو البقاء أن يكون الاسم الأعظم بدلا من هُوَ وأَحَدٌ خبره واللَّهُ تعالى وتقدس علم على الذات الواجب الوجود كما ذهب إليه جمهور الأشاعرة وغيرهم خلافا للمعتزلة حيث قالوا: العلم في حقه سبحانه محال لأن أحدا لا يعلم ذاته تعالى المخصوص بخصوصية حتى يوضع له وإنما يعلم بمفهومات كلية منحصرة في فرد، فيكون اللفظ موضوعا لأمثال تلك المفهومات الكلية فلا يكون علما، ورد بأنه تعالى عالم بخصوصية ذاته فيجوز أن يضع لفظا بإزائه بخصوصه فيكون علما وهذا على مذهب القائلين بأن الوضع هو الله تعالى ظاهر إلّا أنه يلزم أن يكون ما يفهم من لفظ الله غير ما وضع له إذ لا يعلم غيره تعالى خصوصية ذاته تعالى التي هي الموضوع له على هذا التقدير، والقول بأنه يجوز أن يكون المفهوم الكلي آلة للوضع ويكون الموضوع له هو الخصوصية التي يصدق عليها المفهوم الكلي كما قيل في هذا ونظائره يلزم عليه أيضا أن يكون وضع اللفظ لما لا يفهم منه فإنّا لا نفهم من أسمائه تعالى إلّا تلك المفهومات الكلية. والظاهر أن الملائكة عليهم السلام كذلك لاحتجاب ذاته عز وجل عن غيره سبحانه ومن هنا استظهر بعض الأجلّة ما نقل عن حجة الإسلام أن الأشبه أن الاسم الجليل جار في الدلالة على الموجود الحق الجامع لصفات الإلهية المنعوت بنعوت الربوبية المنفرد بالوجود الحقيقي مجرى الإعلام، أي وليس بعلم وقد مر ما يتعلق بذلك أول الكتاب فارجع إليه، بقي في هذا المقام بحث وهو أن الاعلام الشخصية كزيد إما أن يكون كل منها موضوعا للشخص المعين كما هو المتبادر المشهور، فإذا أخبر أحد بتولد ابن له فسماه زيدا مثلا من غير أن يبصره يكون ذلك اللفظ اسما للصورة الخيالية التي حصلت في مخيلته، وحينئذ إذا لم يكن المولود بهذه السورة لم يكن إطلاق الاسم عليه بحسب ذلك الوضع، ولو قيل بكونه موضوعا للمفهوم الكلي المنحصر في ذلك الفرد لم يكن علما كما سبق. ثم إذا سمعنا علما من تلك الأعلام الشخصية ولم نبصر مسماه أصلا فإنّا لا نفهم الخصوصية التي هو عليها بل ربما تخيلناه على غير ما هو عليه من الصور، وإما أن يكون جميع تلك الصور الخالية موضوعا له فيكون من قبيل الألفاظ المشتركة بين معان غير محصورة، وإما أن يكون الموضوع له هو الخصوصية التي هو عليها فقط فيكون غيرها خارجا عن الموضوع له فيكون فهم غيرها من الخصوصيات منه غلطا، فإما أن يترك دعوى كون تلك الأعلام جزئيات حقيقية ويقال إنها موضوعات للمفهومات الكلية المنحصرة في الفرد، أو يلتزم أحد الاحتمالات الأخر وكلا الوجهين محل تأمل كما ترى فتأمل. وأَحَدٌ قالوا همزته مبدلة من الواو وأصله وحد وإبدال الواو المفتوحة همزة قليل ومنه قولهم: امرأة أناة يريدون وناة لأنه من الونى وهو الفتور وهذا بخلاف أحد الذي يلازم النفي ونحوه. ويراد به العموم كما في قوله تعالى فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الحاقة: 47] وقوله عليه الصلاة والسلام: «أحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي» وقوله تعالى هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ [مريم: 98] وقوله سبحانه فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً [الجن: 18] وقوله عز وجل وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ [التوبة: 6] فإن همزته أصلية. وقيل الهمزة فيه أصلية كالهمزة في الآخر، والفرق بينهما قال الراغب إن المختص بالنفي منهما لاستغراق جنس الناطقين ويتناول القليل والكثير على طريق الاجتماع والافتراق نحو ما في الدار أحد أي لا واحد ولا اثنان فصاعدا لا مجتمعين ولا مفترقين، ولهذا لم يصح استعماله في الإثبات لأن نفي المتضادين يصح ولا يصح إثباتهما. فلو قيل: في الدار أحد، لكان فيه إثبات واحد منفرد مع إثبات ما فوق الواحد مجتمعين ومفترقين وذلك ظاهر الإحالة ولتناول ذلك ما فوق الواحد يصح أن يقال ما من أحد فاضلين وعليه الآية المذكورة آنفا. والمستعمل في الإثبات على ثلاثة أوجه: الأول أن يضم إلى العشرات نحو أحد عشر وأحد وعشرون. والثاني أن يستعمل مضافا أو مضافا إليه بمعنى الأول كما في الجزء: 15 ¦ الصفحة: 509 قوله تعالى أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً [يوسف: 41] وقولهم يوم الأحد أي يوم الأول. والثالث أن يستعمل مطلقا وصفا وليس ذلك إلّا في وصف الله تعالى وهو وإن كان أصله واحدا إلّا أن أحدا يستعمل في غيره سبحانه نحو قول النابغة: كأن رحلي وقد زال النهار بنا ... بذي الجليل على مستأنس وحد انتهى. وقال مكي: أصل أحد واحد فأبدلوا الواو همزة فاجتمع ألفان لأن الهمزة تشبه الألف فحذفت إحداهما تخفيفا. وفرق ثعلب بين أحد وواحد بأن أحدا لا يبنى عليه العدد ابتداء فلا يقال أحد واثنان كما يقال واحد واثنان، ولا يقال رجل أحد كما يقال رجل واحد ولذلك اختص به سبحانه وفرق بعضهم بينهما أيضا بأن الأحد في النفي نص في العموم بخلاف الواحد فإنه محتمل للعموم وغيره، فيقال: ما في الدار أحد ولا يقال بل اثنان. ويجوز أن يقال ما في الدار واحد بل اثنان ونقل عن بعض الحنفية أنه قال في التفرقة بينهما إن الأحدية لا تحتمل الجزئية والعددية بحال، والواحدية تحتملها لأنه يقال مائة واحدة وألف واحد ولا يقال مائة أحد إلّا ألف أحد وبني على ذلك مسألة الإمام محمد بن الحسن التي ذكرها في الجامع الكبير إذا كان لرجل أربع نسوة فقال: والله لا أقرب واحدة منكن صار موليا منهن جميعا ولم يجز أن يقرب واحدة منهن إلّا بكفارة، ولو قال: والله لا أقرب إحداهما كن لم يصر موليا إلّا من إحداهن والبيان إليه. وفرق الخطابي بأن الأحدية لتفرد الذات والواحدية لنفي المشاركة في الصفات، ونقل عن المحققين التفرقة بعكس ذلك ولما لم ينفك في شأنه تعالى أحد الأمرين من الآخر قيل الواحد الأحد في حكم اسم واحد، وفسر الأحد هنا ابن عباس وأبو عبيدة كما قال الجوزي بالواحد وأيد بقراءة الأعمش «قل هو الله الواحد» . وفسر بما لا يتجزأ ولا ينقسم. وقال بعض الأجلّة: إن الواحد مقول على ما تحته بالتشكيك، فالمراد به هنا حيث أطلق المتصف بالواحدية التي لا يمكن أن يكون أزيد منها ولا أكمل فهو ما يكون منزه الذات عن أنحاء التركيب والتعدد خارجا وذهنا وما يستلزم أحدهما كالجسمية والتحيز والمشاركة في الحقيقة وخواصها كوجوب الوجود والقدرة الذاتية والحكمة التامة المقتضية للألوهية، وهو مأخوذ من كلام الرئيس أبي علي بن سينا في تفسيره السورة الجليلة حيث قال إن أحدا دال على أنه تعالى واحد من جميع الوجوه وأنه لا كثرة هناك أصلا لا كثرة معنوية (1) وهي كثرة المقومات والأجناس والفصول وكثرة الأجزاء الخارجية المتمايزة عقلا كما في المادة والصورة، والكثرة الحسية بالقوة أو بالفعل كما في الجسم وذلك يتضمن لكونه سبحانه منزها عن الجنس والفصل والمادة والصورة والأعراض والأبعاض والأعضاء والأشكال والألوان وسائر ما يثلم الوحدة الكاملة والبساطة الحقة اللائقة بكرم وجهه عز وجل عن أن يشبهه شيء أو يساويه سبحانه شيء. وقال ابن عقيل الحنبلي: الذي يصح لنا من القول مع إثبات الصفات أنه تعالى واحد في إلهيته لا غير. وقال غيره من السفليين كالحافظ ابن رجب: هو سبحانه الواحد في إلهيته وربوبيته فلا معبود ولا رب سواه عز وجل، واختار بعد وصفه تعالى بما ورد له سبحانه من الصفات أن المراد الواحدية الكاملة وذلك على الوجهين كون الضمير للشأن وكونه للمسؤول عنه، ولا يصح أن يراد الواحد بالعدد أصلا إذ يخلو الكلام عليه من الفائدة. وذكر بعضهم أن الاسم الجليل يدل على جميع   (1) قوله لا كثرة معنوية إلخ كذا في النسخ ولعله سقط من قلم المؤلف ولا كثرة حسية وهي كثرة الأجزاء الخارجية وليحرر المنقول عن ابن سينا اه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 510 صفات الكمال وهي الصفات الثبوتية. ويقال لها صفات الإكرام أيضا. والأحد يدل على جميع صفات الجلال وهي الصفات السلبية ويتضمن الكلام على كونهما خبرين الإخبار بكون المسئول عنه متصفا بجميع الصفات الجلالية والكمالية. وتعقب بأن الإلهية جامعة لجميع ذلك بل كل واحد من الأسماء الحسنى كذلك لأن الهوية إلهية لا يمكن التعبير عنها لجلالتها وعظمتها إلّا بأنه هو هو، وشرح تلك الهوية بلوازم منها ثبوتية ومنها سلبية واسم الله تعالى متناول لهما جميعا فهو إشارة إلى هويته تعالى والله سبحانه كالتعريف لها فلذا عقب به، وكلام الرئيس ينادي بذلك وسنشير إليه إن شاء الله تعالى. وقرأ عبد الله وأبي «هو الله أحد» بغير «قل» وقد اتفقوا على أنه لا بد منها في قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [الكافرون: 1] ولا تجوز في تبت، فقيل: لعل ذلك لأن سورة الكافرين مشاقة الرسول صلّى الله عليه وسلم، أو موادعته عليه الصلاة والسلام لهم ومثل ذلك يناسب أن يكون من الله تعالى لأنه صلّى الله عليه وسلم مأمور بالإنذار والجهاد، وسورة تبت معاتبة لأبي لهب والنبي عليه الصلاة والسلام على خلق عظيم وأدب جسيم، فلو أمر بذلك لزم مواجهته به وهو عمه صلّى الله عليه وسلم وهذه السورة توحيد وهو يناسب أن يقول به تارة ويؤمر بأن يدعو إليه أخرى. وقيل في وجه قل في سورة الكافرون إن فيها ما لا يصح أن يكون من الله تعالى ك لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ [الكافرون: 3] فلا بد فيها من ذكر قل وفيه نظر لأنه لا يلزم ذكره بهذا اللفظ فافهم. وقال الدواني في وجه ترك قل في تبت: لا يبعد أن يقال إن القول بمعاتبة أبي لهب إذا كان من الله تعالى كان أدخل في زجره وتفضيحه. وقيل: فيه رمز إلى أنه لكونه على العلات عمه صلّى الله عليه وسلم لا ينبغي أن يهينه بمثل هذا الكلام إلّا الذي خلقه إذ لا يبعد أن يتأذى مسلم من أقاربه لو سبه أحد غيره عز وجل فقد أخرج ابن أبي الدنيا وابن عساكر المنقول عن جعفر بن محمد عن أبيه رضي الله تعالى عنهما قال: مرت درة ابنة أبي لهب برجل، فقال: هذه ابنة عدو الله أبي لهب. فأقبلت عليه فقالت: ذكر الله تعالى أبي بنباهته وشرفه وترك أباك بجهالته ثم ذكرت ذلك للنبيّ صلّى الله عليه وسلم فخطب فقال: «لا يؤذين مسلم بكافر» ثم إن إثبات قل على قراءة الجمهور في المصحف والتزام قراءتها في هذه السورة ونظائرها مع أنه ليس من دأب المأمور بقل أن يتلفظ في مقام الائتمار إلّا بالمقول. قال الماتريدي في التأويلات: لأن المأمور ليس المخاطب به فقط بل كل أحد ابتلي بما ابتلى به المأمور فأثبت ليبقى على مر الدهور منّا على العباد. وقيل يمكن أن يقال المخاطب بقل نفس التالي كأنه تعالى أعلم به أن كل أحد عند مقام هذا المضمن ينبغي أن يأمر نفسه بالقول به وعدم التجاوز عنه فتأمل والله تعالى الموفق. وقوله تعالى اللَّهُ الصَّمَدُ مبتدأ وخبر وقيل الصَّمَدُ نعت والخبر ما بعده وليس بشيء. والصَّمَدُ قال ابن الأنباري لا خلاف بين أهل اللغة أنه السيد الذي ليس فوقه أحد الذي يصمد إليه الناس في حوائجهم وأمورهم. وقال الزجاج: هو الذي ينتهي إليه السؤدد ويصمد إليه أي يقصده كل شيء وأنشدوا: لقد بكر الناعي بخير بني أسد ... بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد وقوله: علوته بحسام ثم قلت له ... خذها خزيت فأنت السيد الصمد وعن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال: هو السيد الذي قد كمل في سؤدده، والشريف الذي قد كمل في شرفه، والعظيم الذي قد كمل في عظمته، والحليم الذي قد كمل في حلمه، والعليم الذي قد كمل في علمه، والحكيم الذي قد كمل في حكمته، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد وعن أبي هريرة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 511 هو المستغني عن كل أحد المحتاج إليه كل أحد، وعن ابن جبير هو الكامل في جميع صفاته وأفعاله، وعن الربيع هو الذي لا تعتريه الآفات، وعن مقاتل بن حيان هو الذي لا عيب فيه، وعن قتادة هو الباقي بعد خلقه ونحوه قول معمر هو الدائم وقول مرة الهمداني: هو الذي لا يبلى ولا يفنى، وعنه أيضا: هو الذي يحكم ما يريد ويفعل ما يشاء لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: لا أعلمه إلّا قد رفعه قال: «الصمد الذي لا جوف له» وروي عن الحسن ومجاهد ومنه قوله: شهاب حروب لا تزال جياده ... عوابس يعلكن الشكيم المصمدا وعن أبي عبد الرحمن السلمي عن ابن مسعود قال: الصمد الذي ليس له أحشاء وهو رواية عن ابن عباس وعن عكرمة هو الذي لا يطعم. وفي رواية أخرى الذي لم يخرج منه شيء. وعن الشعبي هو الذي لا يأكل ولا يشرب. وعن طائفة منهم أبي بن كعب والربيع بن أنس أنه الذي لم يلد ولم يولد كأنهم جعلوا ما بعده تفسير إله والمعول عليه تفسيرا بالسيد الذي يصمد إليه الخلق في الحوائج والمطالب، وتفسيره بالذي لا جوف له وما عداهما إما راجع إليهما أو هو مما لا تساعد عليه اللغة. وجعل معنى كونه تعالى سيد أنه مبدأ الكل وفي معناه تفسيره بالغنى المطلق المحتاج إليه ما سواه. وقال: يحتمل أن يكون كلا المعنيين مرادا فيكون وصفا له تعالى بمجموع السلب والإيجاب وهو ظاهر في جواز استعمال المشترك في كلا معنييه كما ذهب إليه الشافعي، والذي اختاره تفسيره بالسيد الذي يصمد إليه الخلق وهو فعل بمعنى مفعول من صمد بمعنى قصد فيتعدى بنفسه وباللام، وإطلاق الصمد بمعنى السيد عليه تعالى مما لا خلاف فيه وإن كان في إطلاق السيد نفسه خلاف والصحيح إطلاقه عليه عز وجل كما في الحديث: «السيد الله» . وقال السهيلي: لا يطلق عليه تعالى مضافا فلا يقال سيد الملائكة والناس مثلا وقصد الخلق إياه تعالى بالحوائج أعم من القصد الإرادي والقصد الطبيعي والقصد بحسب الاستعداد الأصلي الثابت لجميع الماهيات إذ هي كلها متوجهة إلى المبدأ تعالى في طلب كمالاتها منه عز وجل وتعريفه دون أحد قيل: لعلمهم بصمديته تعالى دون أحديته. وتعقب بأنه لا يخلو عن كدر لأن علم المخاطب بمضمون الخبر لا يقتضي تعريفه بل إنما يقتضي أن لا يلقى إليه إلا بعد تنزيله منزلة الجاهل لأن إفادة لازم فائدة الخبر بمعزل عن هذا المقام، فالأولى أن يقال إن التعريف لإفادة الحصر كقولك: زيد الرجل ولا حاجة إليه في الجملة السابقة بناء على أن مفهوم أحد المنزه عن أنحاء التركيب والتعدد مطلقا إلى آخر ما تقدم مع أنهم لا يعرفون أحديته تعالى ولا يعترفون بها. واعترض بأنه يقتضي أن الخبر إذا كان معلوما للمخاطب لا يخبر به إلّا بتنزيله منزلة الجاهل أو إفادته. لازم فائدة الخبر أو إذا قصد الحصر وهو ينافي ما تقرر في المعاني من أن كون المبتدأ والخبر معلومين لا ينافي كون الكلام مفيدا للسامع فائدة مجهولة لأن ما يستفيده السامع من الكلام هو انتساب أحدهما للآخر، وكونه هو هو فيجوز أن يقال هنا إنهم يعرفونه تعالى بوجه ما ويعرفون معنى المقصود سواء كان هو الله سبحانه أو غيره عندهم ولكن لا يعرفون أنه هو سواء كان بمعنى الفرد الكامل أو الجنس فعينه الله تعالى لهم. وقيل: إن أحد في غير النفي والعدد لا يطلق على غيره تعالى فلم يحتج إلى تعريفه بخلاف الصمد فإنه جاء في كلامهم إطلاقه على غيره عز وجل، أي كما في البيتين السابقين فلذا عرف. وتكرار الاسم الجليل دون الإتيان بالضمير قيل للإشعار بأن من لم يتصف بالصمدية لم يستحق الألوهية وذلك على ما صرح به الدواني مأخوذ من إفادة تعريف الجزأين الحصر، فإذا قلت: السلطان العادل، أشعر بأن من لم يتصف بالعدل لم يستحق السلطنة، وقيل ذلك لأن تعليق الصمد الجزء: 15 ¦ الصفحة: 512 بالله يشعر بعلية الألوهية بناء على أنه في الأصل صفة وإذا كانت الصمدية نتيجة للألوهية لم يستحق الألوهية من لم يتصف بها، وبحث فيه بأن الألوهية فيما يظهر للصمدية لأنه إنما يعبد لكونه محتاجا إليه دون العكس إلّا أن يقال المراد بالألوهية مبدأها وما تترتب عليه لا كونه معبودا بالفعل، وإنما لم يكتف بمسند إليه واحد لأحد، والصمد هو الاسم الجليل بأن يقال الله الأحد الصمد للتنبيه على أن كلّا من الوصفين مستقل في تعيين الذات، وترك العاطف في الجملة المذكورة لأنها كالدليل عليه فإن من كان غنيا لذاته محتاجا إليه جميع ما سواه لا يكون إلّا واحد أو ما سواه لا يكون إلّا ممكنا محتاجا إليه، أو لأنها كالنتيجة لذلك بناء على أن الأحدية تستلزم الصمدية والغنى المطلق. وبالجملة هذه الجملة من وجه تشبه الدليل ومن وجه تشبه النتيجة فهي مستأنفة أو مؤكدة. وقرأ أبان بن عثمان وزيد بن عليّ ونصر بن عاصم وابن سيرين والحسن وابن أبي إسحاق وأبو السمال وأبو عمر وفي رواية يونس ومحبوب والأصمعي واللؤلؤي وعبيد أحد الله بحذف التنوين لالتقائه مع لام التعريف وهو موجود في كلام العرب، وأكثر ما يوجد في الشعر كقول أبي الأسود الدؤلي: فألفيته غير مستعتب ... ولا ذاكر الله إلّا قليلا وقول الآخر عمرو الذي هشم الثريد لضيفه ... ورجال مكة مسنتون عجاف والجيد هو التنوين وكسره لالتقاء الساكنين. وقوله تعالى لَمْ يَلِدْ إلخ على نحو ما سبق ونفى ذلك عنه تعالى لأن الولادة تقتضي انفصال مادة منه سبحانه وذلك يقتضي التركيب المنافي للصمدية والأحدية، أو لأن الولد من جنس أبيه ولا يجانسه تعالى أحد لأنه سبحانه واجب وغيره ممكن لأن الولد على ما قيل يطلبه العاقل إما لإعانته أو ليخلفه بعده وهو سبحانه دائم باق غير محتاج إلى شيء من ذلك والاقتصار على الماضي دون أن يقال لن يلد لوروده ردا على من قال إن الملائكة بنات الله سبحانه أو المسيح ابن الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. ويجوز أن يكون المراد استمرار النفي، وعبر بالماضي لمشاكلة قوله تعالى وَلَمْ يُولَدْ وهو لا بد أن يكون بصيغة الماضي ونفي المولودية عنه سبحانه لاقتضائها المادة فيلزم التركيب المنافي للغنى المطلق والأحدية الحقيقية أو لاقتضائها سبق العدم ولو بالذات أو لاقتضائها المجانسة المستحيلة على واجب الوجود وقدم نفي الولادة لأنه الأهم لأن طائفة من الكفار توهموا خلافه بخلاف نفي المولودية أو لكثرة متوهمي خلاف الأول دون خلاف الثاني بناء على أن النصارى يلزمهم بواسطة دعوى الاتحاد القول بالولادة والمولودية فيمن يعتقدونه إلها وذلك على ما تضمنته كتبهم أنهم يقولون الأب هو الأقنوم الأول من الثالوث، والابن هو الثاني الصادر منه صدورا أزليا مساويا بالأزلية له، وروح القدس هو الثالث الصادر عنهما كذلك، والطبيعة الإلهية واحدة وهي لكل من الثلاثة وكل منها متحد معها ومع ذلك هم ثلاثة جواهر لا جوهر واحد، فالأب ليس هو الابن، والابن ليس هو الأب، وروح القدس ليس هو الأب ولا الابن وهما ليسا روح القدس ومع ذا هم إله واحد إذ لهم لاهوت واحد وطبيعة واحدة وجوهر واحد وكل منهم متحد مع اللاهوت وإن كان بينهم تمايز، والأول هو الوجود الواجب الجوهري، والثاني هو العقل الجوهري ويقال له العلم، والثالث هو الإدارة الجوهرية ويقال لها المحبة، فالله ثلاثة أقانيم جوهرية وهي على تمايزها تمايزا حقيقيا وقد يطلقون عليه إضافيا أي بإضافة بعضها إلى بعض جوهر وطبيعة واحدة هو الله وليس يوجد فيه غيره بل كل ما هو داخل فيه عين ذاته، ويقولون إن فيه تعالى عما يقولون أربع إضافات أولاها فاعلية التعقيل في الأقنوم الأول، ثانيتها الجزء: 15 ¦ الصفحة: 513 مفعولية التعقل في الأقنوم الثاني الذي هو صورة عقل الأب، ثالثتها فاعلية الانبثاق في الأقنوم الأول والثاني اللذين لهما الإرادة، رابعتها مفعولية هذا الانبثاق في الأقنوم الثالث الذي هو حب الإرادة الإلهية التي للأقنوم الأول والثاني وزعموا أن التعبير بالفاعلية والمفعولية في الأقانيم الإلهية على سبيل التوسع وليست الفاعلية في الأب نحو الابن إلّا الأبوة وفيه وفي الابن نحو روح القدس ليست إلّا بدء صدوره منهما وليست المفعولية في الابن وروح القدس إلّا البنوة في الابن والانبثاق في الروح ويقولون كل ذلك مما يجب الإيمان به وإن كان فوق الطور البشري، ويزعمون أن لتلك الأقانيم أسماء تلقوها من الحواريين فالأقنوم الأول في الطبع الإلهي يدعى أبا، والثاني ابنا وكلمة وحكمة ونورا وضياء وشعاعا، والثالث روح القدس ومغريا وهو معنى قولهم باليونانية أراكليط. وقالوا في بيان وجه الإطلاق: إن ذلك لأن الأقنوم الأول بمنزلة ينبوع ومبدأ أعطى الأقنوم الثاني الصادر عنه بفعل يقتضي شبه فاعله وهو فعل العقل طبيعته وجوهره كله حتى أن الأقنوم الثاني الذي هو صورة الأول الجوهرية الإلهية مساو له كمال المساواة وحد الإيلاد هو صدور حي من حي بآلة ومبدأ مقارن يقتضي شبه طبيعته وهنا كذلك بل أبلغ لأن للثاني الطبيعة الإلهية نفسها فلا بدع إذا سمي الأول أبا والثاني ابنا، وإنما قيل للثاني كلمة لأن الإيلاد ليس على نحو إيلاد الحيوان والنبات بل يفعل العقل أي يتصور الأب لا هوته وفهمه ذاته ولا شك أن تلك الصورة كلمة لأنها مفهومية العقل ونطقه، وقيل لها حكمة لأنه كان مولودا من الأب بفعل عقله الإلهي الذي هو حكمة، وقيل له نور وشعاع وضياء لأنه حيث كان حكمة كان به معرفة حقائق الأشياء وانكشافها كالمذكورات ، وقيل للثالث روح قدس لأنه صادر من الأب والابن بفعل الإرادة التي هي واحدة للأب والابن، ومنبثق منهما بفعل هو كهيجان الإرادة بالحب نحو محبوبها فهو حب الله والله نفسه هو الروح الصرف والتقدس عينه، ولكل من الأول والثاني وجه لأن يدعى روحا لمكان الاتحاد لكن لما دعي الأول باسم يدل على رتبته وإضافته إلى الثاني والثاني كذلك اختص الثالث بالاسم المشاع ولم يدع ابنا وإن كان له طبيعة الأب وجوهره كالابن لأنه لم يصدر من الأب بفعل يقتضي شبه فاعله، يعني بفعل العقل، بل صدر منه فعل الإرادة فالثاني من الأول كهابيل من آدم، والثالث كحواء منه والكل حقيقة واحدة لكن يقال لهابيل ابن ولا يقال لها بنت، وقيل له مغزى لأنه كان عتيدا لأن يأتي الحواريين فيغريهم لفقد المسيح عليه السلام وأما الفاعلية والمفعولية فلأنهما غير موجودين حقيقة والأبوة والنبوة هاهنا لا تقتضيهما كما في المحدثات ولذا لا يقال هنا للأب علة وسبب لابنه وإن قيل هناك فالثلاثة متساوية في الجوهر والذات واستحقاق العبادة والفضل من كل وجه. ثم إنهم زعموا تجسد الأقنوم الثاني وهو الكلمة واتحاده بأشرف أجزاء البتول من الدم بقوة روح القدس فكان المسيح عليه السلام المركب من الناسوت والكلمة، والكلمة مع اتحادها لم تخرج عن بساطتها ولم تتغير لأنها الحد الذي ينتهي إليه الاتحاد فلا مانع في جهتها من الاتحاد وكذا لا مانع في جانب الناسوت فلا يتعاصى الله تعالى شيء. زعموا أن المسيح عليه السلام كان إلها تاما وإنسانا تاما ذا طبيعتين ومشيئتين قائمتين بأقنوم إلهي وهو أقنوم الكلمة ومن ثم تحمل عليه الصفات الإلهية والبشرية معا لكن من حيثيتين، ثم إنهم زادوا في الطنبور رنة وقالوا: إن المسيح أطعم يوما الحواريين خبزا وسقاهم خمرا فقال: أكلتم لحمي وشربتم دمي فاتحدتم معي وأنا متحد مع الأب. إلى رنات أخر هي أشهر من أن تذكر. ويعلم مما ذكرنا أنه لا فرق عندهم بين أن يقال إن الله تعالى هو المسيح وبين أن يقال إن المسيح ابنه وبين أن يقال إنه سبحانه ثالث ثلاثة ولذا جاء في التنزيل كل من هذه الأقوال منسوبا إليهم ولا حاجة إلى جعل كل قول لقوم منهم كما قال غير واحد من المفسرين والمتكلمين، ثم لا يخفى منافاة ما ذكروه للأحدية والصمدية الجزء: 15 ¦ الصفحة: 514 وقولهم إن الأقانيم مع كونها ثلاث جواهر متمايزة تمايزا حقيقيا جوهر واحد لبداهة بطلانه لا يسمن ولا يغني. وما يذكرونه من المثال لإيضاح ذلك فهو عن الإيضاح بمعزل وبعيد عن المقصود بألف ألف منزل وكنا ذكرنا في ضمن هذا الكتاب ما يتعلق ببعض عقائدهم مع رده إلّا أنه كان قبل النظر في كتبهم وقد اعتمدنا فيه ما ذكره المتكلمون عنهم واليوم لنا عزم على تأليف رسالة تتضمن تحرير اعتقاداتهم في الواجب تعالى وذكر شبههم العقلية والنقلية التي يستندون إليها ويعولون في التثليث عليها حسبما وقفنا عليه في كتبهم، مع ردها على أكمل وجه إن شاء الله تعالى ونسأل الله تعالى التوفيق لذلك وأن يسلك سبحانه بنا في جميع أمورنا أقوم المسالك فهو سبحانه الجواد الأجود الذي لم يجبه من توجه إليه بالرد. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ أي لم يكافئه أحد ولم يماثله ولم يشاكله من صاحبة وغيرها. وقيل هو نفي للكفاءة المعتبرة بين الأزواج وهو كما ترى. ولَهُ صلة كُفُواً على ما ذهب إليه المبرد وغيره والأصل أن يؤخر إلّا أنه قدم للاهتمام لأن المقصود نفي المكافأة عن ذاته عز وجل، وللاهتمام أيضا قدم الخبر مع ما فيه من رعاية الفواصل. قيل له إن الظرف هنا (1) وإن لم يكن خيرا مبطل سقوطه معنى الكلام لأنك لو قلت لم يكن كفوا أحد لم يكن له معنى، فلما احتيج إليه صار بمنزلة الخبر فحسن ذلك. وقال أبو حيان: كلام سيبويه في الظرف الذي يصلح أن يكون خبرا وهو الظرف التام وما هنا ليس كذلك. وقال ابن الحاجب قدم الظرف للفواصل ورعايتها ولم يقدم على أحد لئلا يفصل بين المبتدأ وخبره وفيه نظر ظاهر، وجوز أن يكون الظرف حالا من أَحَدٌ قدم عليه رعاية للفاصلة ولئلا يلتبس بالصفة أو الصلة وأن يكون خبرا ليكن، ويكون كُفُواً حالا من أَحَدٌ قدم عليه لكونه نكرة أو حالا من الضمير في الظرف الواقع خبرا، وهذا الوجه نقله أبو علي في الحجة عن بعض النحاة ورد بأنه كما سمعت آنفا عن أبي حيان ظرف ناقص لا يصح أن يكون خبرا، فإن قدر له متعلق خاص وهو مماثل ونحوه مما تتم به الفائدة يكون كُفُواً زائدا ولعل وقوع الجمل الثلاث متعاطفة دون ما عداها من هذه السورة لأنها سيقت لمعنى وغرض واحد وهو نفي المماثلة والمناسبة عنه تعالى بوجه من الوجوه وما تضمنته أقسامها لأن المماثل إما ولد أو والد أو نظير غيرهما فلتغاير الأقسام واجتماعها في المقسم لزم العطف فيها بالواو كما هو مقتضى قواعد المعاني. وفي كُفُواً لغات ضم الكاف وكسرها وفتحها مع سكون الفاء وضم الكاف مع ضم الفاء. وقرأ حمزة ويعقوب ونافع في رواية «كفؤا» بالهمز والتخفيف وحفص بالحركة وإبدال الهمزة واوا وباقي السبعة بالحركة مهموزا، وسهل الهمزة الأعرج وأبو جعفر وشيبة ونافع في رواية، وفي أخرى عنه «كفى» من غير همز نقل حركة الهمزة إلى الفاء وحذف الهمزة. وقرأ سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس «كفاء» بكسر الكاف وفتح الفاء والمد كما في قول النابغة: لا تقذفني بر كن لا كفاء له أي لا مثل له كما قال الأعلم، وهذه السورة الجليلة قد انطوت مع تقارب قطرها على أشتات المعارف   (1) قوله من رعاية الفواصل قيل له إن إلخ في نسخة المؤلف بعد رعاية الفواصل وعن سيبويه أنه اختار أن لا يقدم الظرف إذ لم يكن خبرا وفي شرح الكتاب للسيرافي إن قال قائل قد اختار سيبويه أن لا يقدم الظرف إذا لم يكن خبرا وكتاب الله تعالى أولى بأفصح اللغات قيل له إلخ لكنه مضروب عليه وهو كما لا يخفى محتاج إليه اه منه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 515 الإلهية والعقائد الإسلامية، ولذا جاء فيها ما جاء من الأخبار وورد ما ورد من الآثار، ودل على تحقيق معنى الآلهة بالصمدية التي معناها وجوب الوجود أو المبدئية لوجود كل ما عداه من الموجودات، ثم عقب ذلك ببيان أنه لا يتولد عنه غيره لأنه غير متولد عن غيره، وبيّن أنه تعالى وإن كان إلها لجميع الموجودات فياضا للوجود عليها فلا يجوز أن يفيض الوجود على مثله كما لم يكن وجوده من غيره، ثم عقب ذلك ببيان أنه ليس في الوجود ما يساويه في قوة الوجود فمن أول السورة إلى الصَّمَدُ في بيان ماهيته تعالى ولوازم ماهيته ووحدة حقيقته وإنه غير مركب أصلا ومن قوله تعالى لَمْ يَلِدْ إلى أَحَدٌ في بيان أنه ليس ما يساويه من نوعه ولا من جنسه لا بأن يكون سبحانه متولدا، ولا بأن يكون متولدا عنه، ولا بأن يكون متوازي في الوجود، وبهذا المبلغ يحصل تمام معرفة ذاته عز وجل انتهى. وأشار فيه إلى أنه وَلَمْ يُولَدْ كالتعليل لما قبله وكأن قد قال قبل إن كل ما كان ماديا أو كان له علاقة بالمادة يكون متولدا من غيره فيصير تقدير الكلام لم يلد لأنه لم يتولد، والإشارة إلى دليله بهو أول السورة فإنه لما لم يكن له ماهية واعتبار سوى أنه هو لذاته وجب أن لا يكون متولدا عن غيره وإلّا لكانت هويته مستفادة عن غيره فلا يكون هو لذاته، وظاهر العطف يقتضي عدم اعتبار ما أشار إليه من العلية وقد علمت فيما سبق وجه ذكره وجعل بعضهم العطف فيه قريبا من عطف لا يستقدمون على لا يستأخرون. وأشار بعض السلف إلى أن ذكر ذلك لأنه جاء في سبب النزول أنهم سألوا النبي صلّى الله عليه وسلم عن ربه سبحانه من أي شيء هو أمن كذا أم من كذا وممن ورث الدنيا ولمن يورثها؟ وقال الإمام: إن هو الله أحد ثلاثة ألفاظ، وكل واحد منها إشارة إلى مقام من مقامات الطالبين، فالمقام الأول مقام المقربين وهو أعلى مقامات السائرين إلى الله تعالى، وهؤلاء نظروا بعيون عقولهم إلى ماهيات الأشياء وحقائقها من حيث هي فما رأوا موجودا سوى الحق لأنه الذي يجب وجوده لذاته وما عداه ممكن لذاته فهو من حيث ذاته ليس، فقالوا: هو إشارة إلى الحق إذ ليس هناك في نظرهم موجود يرجع إليه سواه عز وجل ليحتاج إلى التمييز والمقام الثاني لأصحاب اليمين هؤلاء شاهدوا الحق سبحانه موجودا وكذا شاهدوا الخلق فحصلت كثرة في الموجودات في نظرهم فلم يكن هو كافيا في الإشارة إلى الحق بل لا بد من مميز فاحتاجوا إلى أن يقرنوا لفظة الله بلفظ فقيل لأجلهم هو الله. والمقام الثالث مقام أصحاب الشمال الذين يجوزون أن يكون واجب الوجود أكثر من واحد والإله كذلك فجيء بأحد ردا عليهم وإبطالا لمقالتهم انتهى. وبعض الصوفية عد لفظة هو من عداد الأسماء الحسنى بل قال إن هاء الغيبة هي اسمه تعالى الحقيقي لدلالته على الهوية المطلقة مع كونه من ضروريات التنفس الذي به بقاء حياة النفس وإشغار رسمه بالإحاطة ومرتبته من العدد إلى دوامه وعدم فنائه. ونقل الدواني عن الإمام أنه قال: علمني بعض المشايخ يا هو يا من هو يا من لا إله إلّا هو وعلى ذلك اعتقاد أكثر المشايخ اليوم ولم يرد ذلك في الأخبار المقبولة عند المحدثين والله تعالى أعلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 516 سورة الفلق مكية في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر ورواية كريب عن ابن عباس، مدنية في قول ابن عباس في رواية أبي صالح وقتادة وجماعة وهو الصحيح لأن سبب نزولها سحر اليهود كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وهم إنما سحروه عليه الصلاة والسلام بالمدينة كما جاء في الصحاح فلا يلتفت لمن صحح كونها مكية وكذا الكلام في سورة الناس وآيها الخمس بلا خلاف. ولما شرح أمر الإلهية في السورة قبلها جيء بها بعدها شرحا لما يستعاذ منه بالله تعالى من الشر الذي في مراتب العالم ومراتب مخلوقاته، وهي والسورة التي بعدها نزلتا معا كما في الدلائل للبيهقي فلذلك قرنتا مع ما اشتركتا فيه من التسمية بالمعوذتين ومن الافتتاح بقل أعوذ. وأخرج مسلم والترمذي والنسائي وغيرهما عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أنزلت عليّ الليلة آيات لم أر مثلهن قط قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس» . وأخرج البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن عائشة أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ثم تمسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات. وجاء في الحديث أن من قرأهما مع سورة الإخلاص ثلاثا حين يمسي وثلاثا حين يصبح كفته من كل شيء. وفي فضلهما أخبار كثيرة غير ما ذكر. وعن ابن مسعود أنه أنكر قرآنيتهما. أخرج الإمام أحمد والبزار والطبراني وابن مردويه من طرق صحيحة عنه أنه كان يحك المعوذتين من المصحف ويقول: لا تخلطوا القرآن بما ليس منه إنهما ليستا من كتاب الله تعالى إنما أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلم أن يتعوذ بهما. وكان ابن مسعود لا يقرأ بهما قال البزار: لم يتابع ابن مسعود أحد من الصحابة وقد صح عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قرأ بهما في الصلاة وأثبتتا في المصحف. وأخرج الإمام أحمد والبخاري والنسائي وابن حبان وغيرهم عن زر بن حبيش قال: أتيت المدينة فلقيت أبيّ بن كعب فقلت له: يا أبا المنذر إني رأيت ابن مسعود لا يكتب المعوذتين في مصحفه. فقال: أما والذي بعث محمدا صلّى الله عليه وسلم بالحق لقد سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عنهما وما سألني عنهما أحد منذ سألت غيرك. فقال: قيل لي قل فقلت فقولوا فنحن نقول كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم . وبهذا الاختلاف قدح بعض الملحدين في إعجاز القرآن قال: لو كانت بلاغة ذلك بلغت حد الإعجاز لتميز به غير القرآن فلم يختلف في كونه منه، وأنت تعلم أنه قد وقع الإجماع على قرآنيتهما وقالوا إن إنكار ذلك اليوم كفر، ولعل ابن مسعود رجع عن ذلك وفي شرح المواقف أن اختلاف الصحابة في بعض سور القرآن مروي بالآحاد المفيدة للظن ومجموع القرآن منقول بالتواتر المفيد لليقين الذي يضمحل الظن في مقابلته، فتلك الآحاد مما لا يلتفت إليه ثم إن سلمنا اختلافهم فيما ذكر قلنا إنهم لم يختلفوا في نزوله على النبيّ صلّى الله عليه وسلم ولا الجزء: 15 ¦ الصفحة: 517 في بلوغه في البلاغة حد الإعجاز بل في مجرد كونه من القرآن وكذلك لا يضر فيما نحن بصدده انتهى. وعكس هذا القول في السورتين المذكورتين قيل في سورتي الخلع والحفد وفي ألفاظهما روايات منها ما يقنت به الحنفية، فقد روي أنهما في مصحف أبيّ بن كعب وفي مصحف ابن عباس وفي مصحف ابن مسعود فهما إن صح أنهما كلام الله تعالى منسوخا التلاوة وليسا من القرآن كما لا يخفى. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. قُلْ أَعُوذُ أي ألتجئ وأعتصم وأتحرز بِرَبِّ الْفَلَقِ فعل بمعنى مفعول صفة مشبهة كقصص بمعنى مقصوص من فلق شق وفرّق وهو يعم جميع الموجودات الممكنة فإنه تعالى فلق بنور الإيجاد عنها سيما ما يخرج من أصل كالعيون من الجبال والأمطار من السحاب والنبات من الأرض والأولاد من الأرحام، وخص عرفا بالصبح وإطلاقهم المفلوق عليه مع قولهم فلق الله تعالى الليل عن الصبح على نحو إطلاق المسلوخ على الشاة مع قولهم: سلخت الجلد من الشاة وتفسيره بالمعنى العام أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس. ولفظه الْفَلَقِ الخلق وأخرج الطستي عنه أنه فسره بالصبح. وأنشد رضي الله تعالى عنه قول زهير: الفارج الهم مسد ولا عساكره ... كما يفرج غم الظلمة الفلق وهو مروي عن جابر بن عبد الله ومجاهد وقتادة وابن جبير والقرطبي وابن زيد، وعليه فتعليق العياذ باسم الرب المضاف إلى الفلق المنبئ عن النور عقيب الظلمة والسعة بعد الضيق والفتق بعد الرتق عدة كريمة بإعاذة العائذ مما يعوذ منه وإنجائه منه وتقوية لرجائه بتذكير بعض نظائره ومزيد ترغيب له في الجلد والاعتناء بقرع باب الالتجاء إليه عز وجل، وقيل: إن في تخصيص الْفَلَقِ بالذكر لأنه أنموذج من يوم القيامة فالدور كالقبور والنوم أخو الموت، والخارجون من منازلهم صباحا منهم من يذهب لنضرة وسرور، ومنهم من يكون من مطالبة ديون في غموم وشرور إلى أحوال أخر تكون للعباد هي أشبه شيء بما يكون لهم في المعاد، وفي تفسير القاضي: إن لفظ الرب هاهنا أوقع من سائر الأسماء أي التي يجوز إضافتها إلى الفلق على ما قيل لأن الإعاذة من المضار تربية وهو على تعميم الفلق ظاهر لشموله للمستعيذ والمستعاذ منه، وعلى تخصيصه بالصبح قيل لأنه مشعر بأنه سبحانه قادر مغيّر للأحوال مقلق للأطوار فيزيل الهموم والأكدار. وقال الرئيس ابن سينا بعد أن حمل الفلق على ظلمة العدم المفلوقة بنور الوجود: إن في ذكر الرب سرا لطيفا من حقائق العلم وذلك أن المربوب لا يستغني في شيء من حالاته عن الرب كما يشاهد في الطفل ما دام مربوبا، ولما كانت الماهيات الممكنة غير مستغنية عن إفاضة المبدأ الأول لا جرم ذكر لفظ الرب للإشارة إلى ذلك وفيه إشارة أخرى من خفيات العلوم وهو أن العوذ والعياذ في اللغة عبارة عن الالتجاء إلى الغير، فلما أمر بمجرد الالتجاء إلى الغير وعبّر عنه بالرب دل ذلك على أن عدم الحصول ليس لأمر يرجع إلى المستعاذ به المفيض للخيرات، بل لأمر يرجع إلى قابلها فإن من المقرر أنه ليس شيء من الكمالات وغيرها مبخولا به من جانب المبدأ الأول سبحانه، الجزء: 15 ¦ الصفحة: 518 بل الكل حاصل موقوف على أن يصرف المستعد جهة قبوله إليه وهو المعني بالإشارة النبوية: «إن لربكم في أيام دهرهكم نفحات من رحمته ألا فتعرضوا لها» بين أن نفحات الألطاف دائمة وإنما الخلل من المستعد انتهى. وفي رواية عن ابن عباس أيضا وجماعة من الصحابة والتابعين أن الفلق جب في جهنم. وأخرج ابن مردويه والديلمي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ قال: «هو سجن في جهنم يحبس فيه الجبارون والمتكبرون، وإن جهنم لتعوذ بالله تعالى منه» . وأخرج ابن مردويه عن عمرو بن عنبسة قال: صلى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقرأ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ فقال: «يا ابن عنبسة أتدري ما الفلق» ؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «بئر في جهنم فإذا سعرت البئر فمنها تسعر جهنم لتتأذى منه كما يتأذى ابن آدم من جهنم» . وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن كعب قال: الفلق بيت في جهنم إذا فتح صاح أهل النار من شدة حره وعن الكلبي أنه واد في جهنم وقيل هو جهنم وهو على ما في الكشاف من قولهم لما اطمأن من الأرض الفلق والجمع فلقان كخلق وخلقان وتخصيصه بالذكر قيل لأنه مسكن اليهود فعن بعض الصحابة أنه قدم الشام فرأى دور أهل الذمة وما هم فيه من خفض العيش وما وسع عليهم من دنياهم فقال: لا أبالي أليس من ورائهم الفلق وفسر بما روي آنفا عن كعب ومنهم الذي سحر النبيّ صلّى الله عليه وسلم ففي تعليق العياذ بالرب مضافا إليه عدة كريمة بإعاذته صلّى الله عليه وسلم من شرهم. ولا يخفى أن هذا مما لا يثلج الصدر وأظن ضعف الأخبار السالفة ويترجح في نظري المعنى الأول للفلق. مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ أي من شر الذي خلقه من الثقلين وغيرهم كائنا ما كان من ذوات الطباع والاختيار، والظاهر عموم الشر للمضار البدنية وغيرها. وزعم بعضهم أن الاستعاذة هاهنا من المضار البدنية وأنها تعم الإنسان وغيره مما ليس بصدد الاستعاذة، ثم جعل عمومها مدار إضافة الرب إلى الفلق بالمعنى العام وهو كما ترى. نعم الذي يتبادر إلى الذهن أن عمومه لشرور الدنيا وقال بعض الأفاضل: هو عام لكل شر في الدنيا والآخرة وشر الإنس والجن والشياطين وشر السباع والهوام وشر النار وشر الذنوب والهوى وشر النفس وشر العمل، وظاهره تعميم ما خلق بحيث يشمل نفس المستعيذ ولا يأبى ذلك نزول السورة ليستعيذ بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وجوز بعضهم جعل ما مصدرية مع تأويل المصدر باسم المفعول وهو تكلف مستغنى عنه، وإضافة الشر إلى ما خَلَقَ قيل لاختصاصه بعالم الخلق المؤسس على امتزاج المواد المتباينة المستتبعة للكون والفساد وأما عالم الأمر الذي أوجد بمجرد أمر كن من غير مادة فهو خير محض منزه عن شوائب الشر بالمرة، والظاهر أنه عنى بعالم الأمر عالم المجردات وهم الملائكة عليهم السلام. وأورد عليه بعد غض الطرف عن عدم ورود ذلك في لسان الشرع أن منهم من يصدر منه شر كخسف البلاد وتعذيب العباد وأجيب بأن ذلك بأمره تعالى فلم يصدر إلّا لامتثال الأمر لا لقصد الشر من حيث هو شر فلا إيراد نعم يرد أن كونهم مجردين خلاف المختار الذي عليه سلف الأمة ومن تبعهم، بل هم أجسام لطيفة نورية ولو سلم تجردهم قلنا بعدم حصر المجردات فيهم كيف وقد قال كثير بتجرد الجن فقالوا: إنها ليست أجساما ولا حالة فيها بل هي جواهر مجردة قائمة بأنفسها مختلفة بالماهية بعضها خيرة وبعضها شريرة وبعضها كريمة حرة محبة للخيرات وبعضها دنية خسيسة محبة للشرور والآفات، وبالجملة ما خلق أعم من المجرد على القول به وغيره والكل مخلوق له تعالى أي موجد بالاختيار بعد العدم إلّا أن المراد الاستعاذة مما فيه شر من ذلك. وقرأ عمرو بن فائد على ما في البحر «من شر» بالتنوين وقال ابن عطية: هي قراءة عمرو بن عبيد وبعض المعتزلة القائلين بأن الله تعالى لم الجزء: 15 ¦ الصفحة: 519 يخلق الشر. وحملوا ما على النفي وجعلوا الجملة في موضع الصفة أي من شر ما خلقه الله تعالى ولا أوجده وهي قراءة مردودة مبنية على مذهب باطل انتهى. وأنت تعلم أن القراءة بالرواية ولا يتعين في هذه القراءة هذا التوجيه بل يجوز أن تكون ما بدلا من شَرِّ على تقدير محذوف قد حذف لدلالة ما قبله عليه أي من شر شر ما خلق. وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ تخصيص لبعض الشرور بالذكر مع اندراجه فيما قبل لزيادة مساس الحاجة إلى الاستعاذة منه لكثرة وقوعه، ولأن تعيين المستعاذ منه أدل على الاغتناء بالاستعاذة وادعى إلى الإعاذة والغاسق الليل إذا اعتكر ظلامه، وأصل الغسق الامتلاء يقال: غسقت العين إذا امتلأت دمعا. وقيل: هو السيلان وغسق الليل انصباب ظلامه على الاستعارة وغسق العين سيلان دمعها وإضافة الشر إلى الليل لملابسته له لحدوثه فيه على حدّ نهاره صائم. وتنكيره لعموم شمول الشر لجميع أفراده ولكل أجزائه إِذا وَقَبَ أي إذا دخل ظلامه في كل شيء وأصل الوقب النقرة والحفرة ثم استعمل في الدخول، ومنه قوله: وقب العذاب عليهم فكأنهم ... لحقتهم نار السموم فأخمدوا وكذا في المغيب لما أن ذلك كالدخول في الوقب أي النقرة والحفرة وقد فسر هنا بالمجيء أيضا والتقييد بهذا الوقت لأن حدوث الشر فيه أكثر والتحرز منه أصعب وأعسر، ومن أمثالهم الليل أخفى للويل وتفسير الغاسق بالليل والوقوب بدخول ظلامه. أخرجه ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس ومجاهد وابن أبي حاتم عن الضحاك. وروي عن الحسن أيضا وإليه ذهب الزجاج إلّا أنه جعل الغاسق بمعنى البارد وقال: أطلق على الليل لأنه أبرد من النهار. وقال محمد بن كعب: هو النهار، ووَقَبَ بمعنى دخل في الليل وهو كما ترى، وقيل القمر إذا امتلأ نورا على أن الغسق الامتلاء ووقوبه دخوله في الخسوف واسوداده. وقيل: التعبير عنه بالغاسق لسرعة سيره وقطعه البروج على أن الغسق مستعار من السيلان، وقيل التعبير عنه بذلك لأن جرمه مظلم وإنما يستنير من ضوء الشمس ووقوبه على القولين المحاق في آخر الشهر والمنجمون يعدونه نحسا ولذلك لا تشتغل السحرة بالسحر المورث للمرض إلّا في ذلك الوقت. قيل: وهو المناسب لسبب نزول واستدل على تفسيره بالقمر بما أخرجه الإمام أحمد والترمذي والحاكم وصححه وغيرهم عن عائشة قالت: نظر رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوما إلى القمر لما طلع فقال: «يا عائشة استعيذي بالله تعالى من شر هذا فإن هذا الغاسق إذا وقب» . ومن سلم صحة هذا لا ينبغي له العدول إلى تفسير آخر. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب أنه قال: الغاسق إذا وقب الشمس إذا غربت، وكأن اطلاق الغاسق عليها لامتلائها نورا. ونقل ابن زيد عن العرب أن الغاسق الثريا ووقوبها سقوطها وكانت الأسقام والطواعين تكثر عند ذلك، وروى تفسيره بذلك غير واحد عن أبي هريرة مرفوعا وفي الحديث: «إذا طلع النجم ارتفعت العاهة» . وفي بعض الروايات زيادة عن جزيرة العرب وفي بعضها: «ما طلع النجم ذات غداة إلّا رفعت كل آفة أو عاهة أو خفت» . وفيه روايات أخر فليراجع شرح المناوي الكبير للجامع الصغير. وقيل أريد بذلك الحية إذا لدغت وإطلاق الغاسق عليها لامتلائها سما وقتل، أريد سمها إذا دخل في الجسد، وأطلق عليه الغاسق لسيلانه من نابها وكلا القولين لا يعول عليه. وقيل هو كل شر يعتري الإنسان، والشر يوصف بالظلمة والسواد، ووقوبه هجومه. وذكر المجد الفيروزآبادىّ في القاموس في مادة وقب قولا في معنى الآية زعم أنه حكاه الغزالي وغيره عن ابن عباس ولا أظن صحة نسبته إليه لظهور أنه عورة بين الأقوال وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ أي ومن شر النفوس السواحر اللاتي يعقدن عقدا في خيوط وينفثن عليها، فالنفاثات صفة للنفوس واعتبر ذلك لمكان التأنيث مع أن تأثير السحر إنما هو من جهة النفوس الخبيثة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 520 والأرواح الشريرة وسلطانه منها. وقدر بعضهم النساء موصوفا والأول أولى ليشمل الرجال ويتضمن الإشارة السابقة ويطابق سبب النزول، فإن الذي سحره صلّى الله عليه وسلم كان رجلا على المشهور كما ستسمع إن شاء الله تعالى. وقيل: أعانه بعض النساء ولكون مثل ذلك من عمل النساء وكيدهن غلب المؤنث على المذكر هنا وهو جائز على ما فصله الخفاجي في شرح درة الغواص. والنفث النفخ مع ريق كما قال الزمخشري. وقال صاحب اللوامح: هو شبه النفخ يكون في الرقية ولا ريق معه فإن كان يريق فهو تفل والأول هو الأصح لما نقله ابن القيم من أنهم إذا سحروا واستعانوا على تأثير فعلهم بنفس يمازجه بعض أجزاء أنفسهم الخبيثة. وقرأ الحسن «النّفّاثات» بضم النون وقرأ هو أيضا وابن عمر وعبد الله بن القاسم ويعقوب في رواية «النافثات» وأبو الربيع والحسن أيضا «النفثات» بغير ألف كالحذرات، وتعريفها إما للعهد أو للإيذان بشمول الشر لجميع أفرادهن وتمحضهن فيه وتخصيصه بالذكر لما روى البخاري ومسلم وابن ماجة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: سحر رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى إنه ليخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يكن فعله، حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة دعا الله ثم دعا ثم دعا ثم قال: «أشعرت يا عائشة أن الله تعالى قد أفتاني فيما استفتيته فيه؟» قلت: وما ذاك يا رسول الله؟ فقال: «جاءني رجلان فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال الذي عند رأسي للذي عند رجلي أو الذي عند رجلي للذي عند رأسي: ما وجه الرجل؟ قال: مطبوب. قال: من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم. قال: في أي شيء؟ قال: في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر. قال: فأين هو؟ قال في بئر ذي أروان» . قالت: فأتاها رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه ثم قال: «يا عائشة والله لكأن ماءها نقاعة الحناء، ولكأن نخلها رؤوس الشياطين» . قالت: فقلت يا رسول الله أفلا أحرقته؟ قال: «لا أما أنا فقد عافاني الله تعالى وكرهت أن أثير على الناس شرا فأمرت بها فدفنت» . وهذان الملكان على ما يدل عليه رواية ابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس هما جبريل وميكائيل عليهما السلام، ومن حديثهما في الدلائل للبيهقي بعد ذكر حديث الملكين فما أصبح رسول الله صلّى الله عليه وسلم غدا ومعه أصحابه إلى البئر فدخل رجل فاستخرج جف طلعة من تحت الراعوفة فإذا فيها مشط رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومن مشاطة رأسه، وإذا تمثال من شمع تمثال رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وإذا فيها إبر مغروزة وإذا وتر فيه إحدى عشرة عقدة، فأتاه جبريل عليه السلام بالمعوذتين فقال: يا محمد قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وحل عقدة مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ وحل عقدة حتى فرغ منهما وحل العقد كلها وجعل لا ينزع إلّا وجد لها ألما ثم يجد بعد ذلك راحة، فقيل: يا رسول الله لو قتلت اليهودي؟ قال: «قد عافاني الله تعالى وما يراه من عذاب الله تعالى أشد» . وفي رواية إن الذي تولى السحر لبيد بن الأعصم وبناته، فمرض النبيّ صلّى الله عليه وسلم فنزل جبريل بالمعوذتين وأخبره بموضع السحر وبمن سحره وبم سحره، فأرسل صلّى الله عليه وسلم عليا كرم الله تعالى وجهه والزبير وعمارا فنرحوا ماء البئر وهو كنقاعة الحناء ثم رفعوا راعوثة البئر فأخرجوا أسنان المشط ومعها وتر قد عقد فيه إحدى عشرة عقدة مغرزة بالإبر، فجاؤوا بها النبي صلّى الله عليه وسلم فجعل يقرأ المعوذتين عليها فكان كلما قرأ آية انحلت عقدة، ووجد عليه الصلاة والسلام خفة حتى انحلت العقدة الأخيرة عند تمام السورتين. فقال صلّى الله عليه وسلم كأنما أنشط من عقال الخبر. والرواية الأولى أصح من هذه. وقال الإمام المازري: قد أنكر ذلك الحديث المبتدعة من حيث إنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها، وإن تجويزه يمنع الثقة بالشرع، وأجيب بأن الحديث صحيح وهو غير مراغم للنص ولا يلزم عليه حط منصب النبوة والتشكيك فيها لأن الكفار أرادوا بقولهم مسحور أنه مجنون وحاشاه، ولو سلم إرادة ظاهره فهو كان قبل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 521 هذه القصة أو مرادهم أن السحر أثر فيه وأن ما يأتيه من الوحي من تخيلات السحر وهو كذب أيضا لأن الله تعالى عصمه فيما يتعلق بالرسالة، وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث عليه الصلاة والسلام بسببها وهي مما يعرض للبشر فغير بعيد أن يخيل إليه من ذلك ما لا حقيقة له، وقد قيل إنه إنما كان يخيل إليه أنه وطئ زوجاته وليس بواطىء وقد يتخيل الإنسان مثل هذا في المنام فلا يبعد تخيله في اليقظة، وقيل إنه يخيل أنه فعله وما فعله ولكن لا يعتقد صحة ما تخيله فتكون اعتقاداته عليه الصلاة والسلام على السداد. وقال القاضي عياض: قد جاءت روايات حديث عائشة مبينة أن السحر إنما تسلط على جسده الشريف صلّى الله عليه وسلم وظواهر جوارحه لا على عقله عليه الصلاة والسلام وقلبه واعتقاده، ويكون معنى ما في بعض الروايات حتى يظن أنه يأتي أهله ولا يأتيهن، وفي بعض أنه يخيل إليه أنه إلخ: أنه يظهر له من نشاطه ومتقدم عادته القدرة عليهن فإذا دنا منهن أخذته أخذة السحر فلم يأتهن ولم يتمكن من ذلك كما يعتري المسحور، وكل ما جاء في الروايات من أنه عليه الصلاة والسلام يخيل إليه فعل شيء ولم يفعله ونحوه فمحمول على التخيل بالبصر لا لخلل تطرق إلى العقل وليس في ذلك ما يدخل لبسا على الرسالة ولا طعنا لأهل الضلالة انتهى. وبعضهم أنكر أصل السحر ونفى حقيقته وأضاف ما يقع منه إلى خيالات باطلة لا حقائق لها، ومذهب أهل السنة وعلماء الأمة على إثباته وأن له حقيقة كحقيقة غيره من الأشياء لدلالة الكتاب والسنة على ذلك ولا يستنكر في العقل أن الله تعالى يخرق العادة عند النطق بكلام ملفق أو تركيب أجسام مخصوصة. والمزج بين قوى على ترتيب لا يعرفه إلّا الساحر وإذا شاهد الإنسان بعض الأجسام منها قاتلة كالسموم ومنها مسقمة كالأدوية الحادة ومنها مضرة كالأدوية المضادة للمرض لم يستبعد عقله أن ينفرد الساحر بعلم قوى قتالة أو كلام مهلك أو مؤد إلى التفرقة ومع ذلك لا يخلو من تأثير نفساني، ثم إن القائلين به اختلفوا في القدر الذي يقع به فقال بعضهم: لا يزيد تأثيره على قدر التفرقة بين المرء وزوجه لأن الله تعالى إنما ذكر ذلك تعظيما لما يكون عنده وتهويلا له، فلو وقع به أعظم منه لذكره لأن المثل لا يضرب عند المبالغة إلّا بأعلى أحوال المذكور، ومذهب الأشاعرة أنه يجوز أن يقع به أكثر من ذلك وهو الصحيح عقلا لأنه لا فاعل إلّا الله وما يقع من ذلك فهو عادة أجراها الله تعالى، ولا تفترق الأفعال في ذلك وليس بعضها بأولى من بعض، ولورود الشرع بقصوره عن مرتبة لوجب المصير إليه ولكن لا يوجد شرع قاطع يوجب الاقتصار على ما قاله القائل الأول. وذكر التفرقة بين الزوجين في الآية ليس بنص في منع الزيادة وإنما النظر في أنه ظاهر أم لا، والفرق بين الساحر وبين النبيّ والولي على قول الأشاعرة بأنه يجوز خرق العادة على يد الساحر مبين في الكتب الكلامية وغيرها من شروح الصحاح. وقيل في الآية المراد بالنفث في العقد إبطال عزائم الرجال بالحيل مستعار من تليين العقد بنفث الريق ليسهل حلها وهو يقرب من بدع التفاسير وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ أي إذا أظهر ما في نفسه من الحسد وعمل بمقتضاه بترتيب مقدمات الشر ومبادي الإضرار بالمحسود قولا وفعلا ومن ذلك على ما قيل النظر إلى المحسود وتوجيه نفسه الخبيثة نحوه على وجه الغضب فإن نفس الحاسد حينئذ تتكيف بكيفية خبيثة ربما تؤثر في المحسود بحسب ضعفه وقوة نفس الحاسد شرا قد يصل إلى حد الإهلاك، ورب حاسد يؤذي بنظره بعين حسده نحو ما يؤذي بعد الحيات بنظرهن. وذكروا أن العائن والحاسد يشتركان في أن كلّا منهما تتكيف نفسه وتتوجه نحو من تريد أذاه إلّا أن العائن تتكيف نفسه عند مقابلة العين والمعاينة والحاسد يحصل حسده في الغيبة والحضور. وأيضا العائن قد يعين من لا يحسده من حيوان وزرع وإن كان لا ينفك من حسد صاحبه والتقييد بذلك إذ لا ضرر، بل قيل إن ضرر الحسد إنما يحيق بالحاسد لا غير كما قال علي كرم الله تعالى الجزء: 15 ¦ الصفحة: 522 وجهه: لله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله. وقال ابن المعتز: اصبر على حسد الحسو ... د فإن صبرك قاتله فالنار تأكل بعضها ... إن لم تجد ما تأكله وليعلم أن الحسد يطلق على تمني زوال نعمة الغير وعلى تمني استصحاب عدم النعمة ودوام ما في الغير من نقص أو فقر أو نحوه، والإطلاق الأول هو الشائع والحاسد بكلا الإطلاقين ممقوت عند الله تعالى وعند عباده عز وجل آت بابا من الكبائر على ما اشتهر بينهم، لكن التحقيق أن الحسد الغريزي الجبلي إذا لم يعمل بمقتضاه من الأذى مطلقا بل عامل المتصف به أخاه بما يحب الله تعالى مجاهدا نفسه لا إثم فيه بل يثاب صاحبه على جهاد نفسه وحسن معاملته أخاه ثوابا عظيما لما في ذلك من مشقة مخالفة الطبع كما لا يخفى ويطلق الحسد على الغبطة مجازا وكان ذلك شائعا في العرف الأول وهي تمني أن يكون له مثل ما لأخيه من النعمة من غير تمني زوالها وهذا مما لا بأس به، ومن ذلك ما صح من قوله صلّى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله تعالى مالا وسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله تعالى الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس» . وقال أبو تمام: هم حسدوه لا ملومين مجده ... وما حاسد في المكرمات بحاسد وقال أيضا: وأعذر حسودك فيما قد خصصت به ... إن العلا حسن في مثلها الحسد هذا وقال الرئيس ابن سينا: الغاسق القوة الحيوانية فهي ظلمة غاسقة منكدرة على خلاف النفس الناطقة التي هي المستعيذة فإنها خلقت في جوهرها نقية صافية مبرأة عن كدورات المادة وعلائقها قابلة لجميع الصور والحقائق، وإنما تتلوث من الحيوانية والنفاثات في العقد إشارة إلى القوى النباتية من حيث إنها تزيد في المقدار من جميع جهاته الطول والعرض والعمق فكأنها تنفث في العقد الثلاث، ولما كانت العلاقة بين النفس الإنسانية والقوى النباتية بواسطة الحيوانية لا جرم قد ذكر القوى الحيوانية على القوى النباتية والشر اللازم من هاتين القوتين في جوهر النفس هو استحكام علائق البدن وامتناع تغذيها بالغذاء الموافق لها واللائق بجوهرها وهو الإحاطة بملكوت السماوات والأرض والانتقاش بالنقوش الباقية. وعنى بقوله تعالى وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ النزاع الحاصل بين البدن وقواه وبين النفس، فالحاسد هو البدن من حيث له القوتان والمحسود هو النفس فالبدن وبال عليها فما أحسن حالها عند الإعراض عنه وما أعظم لذتها بالمفارقة إن لم تكن تلوثت منه. وقيل: الغاسق إشارة إلى المعدن والنفاثات إلى النباتات والحاسد إلى الحيوان، ولما كان الإنسان لا يتضرر عن الأجسام الفلكية وإنما يتضرر عن الأجسام العنصرية وهي إما معدن أو نبات أو حيوان أمر بالاستعاذة من شر كل منها وكلا القولين كما ترى والله تعالى أعلم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 523 سورة النّاس وتسمى مع ما قبلها كما أشرنا إليه قبل بالمعوذتين بكسر الواو والفتح خطأ وكذا بالمقشقشتين وتقدم الكلام في أمر مكيتها ومدنيتها وهي ست آيات لا سبع وإن اختاره بعضهم. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ وقرىء في السورتين بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى اللام كما قرىء فخذ أربعة بِرَبِّ النَّاسِ أي مالك أمورهم ومربيهم بإفاضة ما يصلحهم ودفع ما يضرهم، وأمال الناس هنا أبو عمرو والدوري عن الكسائي وكذا في كل موضع وقع فيه مجرورا مَلِكِ النَّاسِ عطف بيان على ما اختاره الزمخشري جيء به لبيان أن تربيته تعالى إياهم ليست بطريق تربية سائر الملاك لما تحت أيديهم من مماليكهم بل بطريق الملك الكامل والتصرف الكلي والسلطان القاهر وكذا قوله تعالى إِلهِ النَّاسِ فإنه لبيان أن ملكه تعالى ليس بمجرد الاستيلاء عليهم والقيام بتدبير أمور سياستهم والتولي لترتيب مبادئ حفظهم وحمايتهم كما هو قصارى أمر الملوك بل هو بطريق المعبودية المؤسسة على الألوهية المقتضية للقدرة التامة على التصرف الكلي فيهم إحياء وإماتة وإيجادا وإعداما. وجوزت البدلية أيضا وأنت تعلم أنه لا مانع منه عقلا ثم ما هنا وإن لم يكن جامدا فهو في حكمه، ولعل الجزالة دعت إلى اختياره وتخصيص الإضافة إلى الناس مع انتظامهم جميع العالم في سلك ربوبيته تعالى وملكوته وألوهيته على ما في الإرشاد للإرشاد إلى منهاج الاستعاذة الحقيقية بالإعاذة فإن توسل العائذ بربه وانتسابه إليه بالمربوبية والمملوكية والعبودية في ضمن جنس هو فرد من أفراده من دواعي مزيد الرحمة والرأفة، وأمره تعالى بذلك من دلائل الوعد الكريم بالإعاذة لا محالة ولأن المستعاذ منه شر الشيطان المعروف بعداوتهم ففي التنصيص على انتظامهم في سلك عبوديته تعالى وملكوته رمز إلى إنجائهم من ملكة الشيطان وتسلطه عليهم حسبما ينطق به قوله تعالى إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الحجر: 42] واقتصر بعض الأجلة في بيان وجه التخصيص على كون الاستعاذة هنا من شر ما يخص النفوس البشرية وهي الوسوسة كما قال تعالى مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ وبحث فيه بعد الإغماض عما فيه الجزء: 15 ¦ الصفحة: 524 من القصور في توفية المقام حقه بأن شر الموسوس كما يلحق النفوس يلحق الأبدان أيضا وفيه شيء سنشير إن شاء الله تعالى إليه. واختار هذا الباحث في ذلك أنه لما كانت الاستعاذة فيما سبق من شر كل شيء أضيف الرب إلى كل شيء أي بناء على عموم الفلق، ولما كانت هنا من شر الوسواس لم يضف إلى كل شيء وكان النظر إلى السورة السابقة يقتضي الإضافة إلى الوسواس لكنه لم يضف إليه حطا لدرجته عن إضافة الرب إليه بل إلى المستعيذ، وكان في هذا الحط رمزا إلى الوعد بالإعاذة وهو الذي يجعل لما ذكر حظا في أداء حق المقام.، وربما يقال إن في إضافة الرب إلى الناس في آخر سورة من كتابه تذكير الأول أمر عرفوه في عالم الذر وأخذ عليهم العهد بالإقرار به فيما بعد كما أشار إليه قوله تعالى وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الأعراف: 172] الآية فيكون في ذلك تحريض على الاستعاذة من شر الوسواس لئلا يتدنس أمر ذلك العهد، وفيه أيضا رمز إلى الوعد الكريم بالإعاذة. وذكر القاضي أن في النظم الجليل إشعارا بمراتب الناظر المتوجه لمعرفة خالقه فإنه يعلم أولا بما يرى عليه من النعم الظاهرة والباطنة أن له ربا ثم يتغلغل في النظر حتى يتحقق أنه سبحانه غني عن الكل وذات كل شيء له ومصارف أمره منه فهو الملك الحق، ثم يستدل به على أنه المستحق للعبادة لا غير. ويندرج في وجوه الاستعاذة المعتادة تنزيلا لاختلاف الصفات منزلة اختلاف الذات فإن عادة من ألم به هم أن يرفع أمره لسيده ومربيه كوالديه فإن لم يقدر على رفعه رفعه لملكه وسلطانه فإن لم يزل ظلامته شكاه إلى ملك الملوك ومن إليه المشتكى والمفزع، وفي ذلك إشارة إلى عظم الآفة المستعاذ منها. ولابن سينا هاهنا كلام تتحرج منه الأقلام كما لا يخفى على من ألم به وكان له بالشريعة المطهرة أدنى إلمام. وتكرير المضاف إليه لمزيد الكشف والتقرير والتشريف بالإضافة وقيل لا تكرار فإنه يجوز أن يراد بالعام بعض أفراده فالناس الأول بمعنى الأجنة والأطفال المحتاجين للتربية، والثاني الكهول والشبان لأنهم المحتاجون لمن يسوسهم، والثالث الشيوخ المتعبدون المتوجهون لله تعالى وهو على ما فيه يبعده حديث إعادة الشيء معرفة وإن كان أغلبيا. والوسواس عند الزمخشري اسم مصدر بمعنى الوسوسة والمصدر بالكسر وهو صوت الحلي والخمس الخفي، ثم استعمل في الخطرة الردية وأريد به هاهنا الشيطان، سمي بفعله مبالغة كأنه نفس الوسوسة أو الكلام على حذف مضاف أي ذي الوسواس. وقال بعض أئمة العربية: إن فعلل ضربان صحيح كدحرج وثنائي مكرر كصلصل ولهما مصدران مطردان فعللة وفعلال بالكسر وهو أقيس، والفتح شاذ لكنه كثر في المكرر كتمتام وفأفأة، ويكون للمبالغة كفعال في الثلاثي كما قالوا وطواط للضعيف وثرثار للمكثر، والحق أنه صفة فليحمل عليه ما في الآية الكريمة من غير حاجة إلى التجوز أو حذف المضاف. وقد تقدم في سورة الزلزال ما يتعلق بهذا المبحث فتذكر فما في العهد من قدم والظاهر أن المراد الاستعاذة من شر الوسواس من حيث هو وسواس، ومآله إلى الاستعاذة من شر وسوسته وقيل المراد الاستعاذة من جميع شروره ولذا قيل من شر الوسواس ولم يقل من وسوسة الوسواس قيل: وعليه يكون القول بأن شره يلحق البدن كما يلحق النفس أظهر منه على الظاهر وعد من شره أنه كما في صحيح البخاري يعقد على قافية رأس العبد إذ هو نام ثلاث عقد مراده بذلك منعه من اليقظة وفي عد هذا من الشر البدني خفاء، وبعضهم عد منه التخبط إذا لحق عند أهل السنة أنه قد يكون من مسه كما تقدم في موضعه. وقوله تعالى الْخَنَّاسِ صيغة مبالغة أو نسبة أي الذي عادته أن يخنس ويتأخر إذا ذكر الإنسان ربه عز الجزء: 15 ¦ الصفحة: 525 وجل. أخرج الضياء في المختارة والحاكم وصححه وابن المنذر وغيرهم عن ابن عباس قال: ما من مولود يولد إلّا على قلبه الوسواس فإذا عقل فذكر الله تعالى خنس، فإذا غفل وسوس، وله على ما روي عن قتادة خرطوم كخرطوم الكلب، ويقال إن رأسه كرأس الحية. وأخرج ابن شاهين عن أنس قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إن للوسواس خطما كخطم الطائر، فإذا غفل ابن آدم وضع ذلك المنقار في أذن القلب يوسوس فإن ذكر الله تعالى نكص وخنس فلذلك سمي الوسواس الخناس» . الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ قيل أريد قلوبهم مجازا. وقال بعضهم: إن الشيطان يدخل الصدر الذي هو بمنزلة الدهليز فيلقي منه ما يريد إلقاءه إلى القلب ويوصله إليه ولا مانع عقلا من دخوله في جوف الإنسان وقد ورد السمع به كما سمعت فوجب قبوله والإيمان به، ومن ذلك «إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم» . ومن الناس من حمله على التمثيل وقال في الآية إنها لا تقتضي الدخول كما ينادي عليه البيان الآتي. وقال ابن سينا: الوسواس القوة التي توقع الوسوسة وهي القوة المتخيلة بحسب صيرورتها مستعملة للنفس الحيوانية ثم إن حركتها تكون بالعكس فإن النفس وجهتها إلى المبادئ المفارقة فالقوة المتخيلة إذا أخذتها إلّا الاشتغال بالمادة وعلائقها فتلك القوة تخنس أي تتحرك بالعكس وتجذب النفس الإنسانية إلى العكس فلذلك تسمى خناسا، ونحوه ما قيل إنه القوة الوهمية فهي تساعد العقل في المقدمات فإذا آل الأمر إلى النتيجة خنست وأخذت توسوسه وتشككه، ولا يخفى أن تفسير كلام الله تعالى بأمثال ذلك من شر الوسواس الخناس. والقاضي ذكر الأخير عن سبيل التنظير لا على وجه التمثيل والتفسير بناء على حسن الظن به ومحل الموصول، إما الجر على الوصف وإما الرفع والنصب على الذم والشتم، ويحسن أن يقف القارئ على أحد هذين الوجهين على الْخَنَّاسِ وأما على الأول ففي الكواشي أنه لا يجوز الوقف وتعقبه الطيبي بأن في عدم الجواز نظر للفاصلة وفي الكشف أنه إذا كان صفة فالحسن غير مسلم اللهم إلّا على وجه وهو أن الوقف الحسن شامل لمثله في فاصلة خاصة مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ بيان للذي يوسوس على أنه ضربان جني وإنسي كما قال تعالى شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الأنعام: 112] أو متعلق بيوسوس، ومِنَ لابتداء الغاية، أي يوسوس في صدورهم من جهة الجن مثل أن يلقي في قلب المرء من جهتهم أنهم ينفعون ويضرون، ومن جهة الناس مثل أن يلقي في قلبه من جهة المنجمين والكهان وأنهم يعلمون الغيب. وجوز فيه الحالية من ضمير يُوَسْوِسُ والبدلية من قوله تعالى مِنْ شَرِّ بإعادة الجار وتقدير المضاف والبدلية من الوسواس على أن مِنَ تبعيضية. وقال الفرّاء وجماعة: هو بيان للناس بناء على أنه يطلق على الجن أيضا فيقال كما نقل عن الكلبي: ناس من الجن كما يقال نفر ورجال منهم، وفيه أن المعروف عند الناس خلافه مع ما في ذلك من شبه جعل قسم الشيء قسيما له ومثله لا يناسب بلاغة القرآن وإن سلم صحته، وتعقب أيضا بأنه يلزم عليه القول بأن الشيطان يوسوس في صدور الجن كما يوسوس في صدور الإنس ولم يقم دليل عليه. ولا يجوز جعل الآية دليلا لما لا يخفى وأقرب منه على ما قيل أن يراد بالناس الناسي بالياء مثله في قراءة بعضهم مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ [البقرة: 199] بالكسر ويجعل سقوط الياء كسقوطها في قوله تعالى يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ [القمر: 6] ثم يبين بالجنة والناس فإن كل فرد من أفراد الفريقين مبتلى بنسيان حق الله تعالى إلّا من تداركه شوافع عصمته وتناوله واسع رحمته. جعلنا الله ممن نال من عصمته الحظ الأوفى وكال له مولاه من رحمته فأوفى. ثم إنه قيل إن حروف هذه السورة غير المكرر اثنان وعشرون حرفا وكذا حروف الفاتحة وذلك بعدد السنين التي أنزل فيها القرآن فليراجع، وبعد أن يوجد الأمر كما ذكر لا يخفى أن كون سني النزول اثنتين وعشرين سنة قول لبعضهم. والمشهور أنها ثلاث وعشرون اه. ومثل هذا الرمز ما قيل الجزء: 15 ¦ الصفحة: 526 إن أول حروفه الباء وآخرها السين كأنه قيل «بس» أي حسب ففيه إشارة إلى أنه كاف عما سواه ورمز إلى قوله تعالى ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 38] وقد نظم ذلك بعض الفرس فقال: أول وآخر قرآن زجه با آمد وسين ... يعني اندر دو جهان رهبر ما قرآن بس ومثله من الرموز كثير لكن قيل لا ينبغي أن يقال إنه مراد الله عز وجل. نعم قد أرشد عز وجل في هذه السورة إلى الاستعانة به تعالى شأنه كما أرشد جل وعلا إليها في الفاتحة بل لا يبعد أن يكون مراده تعالى على القول بأن ترتيب السور بوحيه سبحانه من ختم كتابه الكريم بالاستعاذة به تعالى من شر الوسواس الإشارة كما في الفاتحة إلى جلالة شأن التقوى والرمز إلى أنها ملاك الأمر كله وبها يحصل حسن الخاتمة، فسبحانه من ملك جليل ما أجل كلمته ولله در التنزيل ما أحسن فاتحته وخاتمته. وبعد فهذا والحمد لله تأويل رؤياي من قبل، قد جعلها ربي حقا، فأسعدني وله الشكر بالتوفيق لتفسير كتابه العزيز الذي لا يذل من لاذ به ولا يشقى، فإذ وفقتني يا إلهي لتفسير عبارته، ووفقتني على ما شئت من مضمر إشارته، فاجعلني يا رباه ممن يعتصم بمحكم حبله، ويتمسك بعروته الوثقى، ويأوي من المتشابهات إلى حرز معقله، ويستظل بظلال كهفه الأوفى، وأعذني به من وساوس الشيطان ومكائده، ومن الارتباك بشباك غروره ومصائده، واجعله وسيلة لي إلى أشرف منازل الكرامة وسلما أعرج فيه إلى محل السلامة، فطالما يا إلهي أسهرتني آياته، حتى خفقت برأسي سنة الكرى، فلم أفق إلّا وقد لطمتني من صفاح صحائف سورة ذات سوار. وكم وكم سرت بي يا مولاي عباراته، حتى حققت لي دعوى عند الصباح يحمد القوم السرى. فلم أشعر إلّا وقد تلفعت نواعس السوادي من فضل مئزر مهاة الصبح بخمار، ولم أزل أسود الأوراق في تحرير ما أفضت عليّ حتى بيض نسخة عمري المشيب، وأجدد النظر بتحديق الأحداق، فيما أفيضت به من المشايخ إليّ حتى بلي برد شبابي القشيب. هذا مع ما قاسيته من خليل غادر، وجليل جائر، وزمان غشوم، وغيوم وابلها غموم، إلى أمور أنت بها يا إلهي أعلم، ولم يكن لي فيها سواك من يرحم. وأكثر ذلك يا إلهي قد كانت حيث أهلتني لخدمة كتابك، ومننت عليّ من غير حد بالفحص عن مستودعات خطابك فاكفني اللهم بحرمته مؤنة معرة العباد، وهب لي أمن يوم المعاد وأعذني بلطفك وأعذني بنعمتك ووفقني للتي هي أزكى، واستعملني بما هو أرضى، واسلك بي الطريقة المثلى، وذودني مطيات الهدى وزودني باقيات التقى، وأصلح ذريتي، وبلغني بهم أمنيتي، واجعلهم علماء عاملين وهداة مهديين، وكن لي ولهم في جميع الأمور واحفظني واحفظهم من فتن دار الغرور وأيّد اللهم خليفتك في خليقتك، ووفقه بحرمة كلامك لإعلاء كلمتك، وصل وسلم على روح معاني الممكنات على الإطلاق وروح معاني قلوب المؤمنين والمؤمنات في سائر الآفاق وعلى آله وأصحابه، وكل من سلك سنن سنته واقتفى وقال في ظلال ظليل شريعته قائلا حسبي ذلك وكفى. وقد صادف تسليم القلم ركوعه وسجوده، في ظلم دياجي المداد، واضطجاعه في بيت الدواة، بعد قيامه على ساق الخدمة لكتاب رب العباد، ليلة الثلاثاء لأربع خلون من شهر ربيع الآخر سنة ألف ومائتين وسبع وستين، من هجرة سيد الأوائل والأواخر، صلّى الله عليه وسلم، وجاء تاريخه (أكمل تفسيري روح المعاني) والحمد لله باطنا وظاهرا وله سبحانه الشكر أولا وآخرا. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 527